مرآة الزمان في تواريخ الأعيان

سبط ابن الجوزي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ دار الرسالة العالمية جميع الحقوق محفوظة يمنع طبع هذا الكتاب أو أي جزء منه بجميع طرق الطبع والتطوير والنقل والترجمة والتسجيل المرئي والمسموع والحاسوبي وغيرها إلا بإذن خطي من: شركة الرسالة العالمية م. م. الإدارة العامة دمشق - الحجاز شارع مسلم البارودي بناء خولي وصلاحي بريد: 2625 تليفون: 2212773 - 11 (963) فاكس: 2234305 - 11 (963) جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1434 هـ - 2013 م

كلمة الناشر

كلمة الناشر "مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزي كتاب كنت أحلم بتحقيقه منذ أمد بعيد؛ لأنه مرجع مهم من كتب التاريخ يسعى إليه المؤرخون ليوثِّقوا ما يكتبون. ولما عَرض عليَّ الأخ (أبو منصور الحافظ) صورًا لبعض مخطوطات الكتاب صوَّرها من مكتبات إستانبول، تعزَّزت لديَّ أهمية الكتاب فسارعت للعمل على تحقيقه. تعاقدتُ مع المرحوم الدكتور إحسان عباس لهذا الغرض، وبدأ العمل فيه لكنه توقف بعد سنة وثمانية أشهر لمشاغل كثيرة أحاطت به؛ لذا عقدت العزم على أن يقوم مكتب تحقيق مؤسستنا في دمشق بتحقيق الكتاب. فاستكملنا المخطوطات، ووضعنا منهج التحقيق، ثم انطلقت المسيرة فأمضينا في تحقيقه سنين طويلة نيَّفتْ على العشرين عامًا حتى رأى النور، وبذلنا في سبيل ذلك من المال ما الله به عليم. كان العمل شاقًّا؛ لأن هدفنا إصدار الكتاب بأفضل صورة على عِلَّات النسخ الخطية الكثيرة؛ من نُدْرةٍ ونقص واختصار وتحريف وتصحيف. ولكنْ ذَلَّلَ الصعاب عزمٌ صادق من محققين حملوا المسؤولية، وصدقوا العزم مما جعل الكتاب -بعد لَأْيٍ- يرى النور. فللمحققين الأفاضل الأساتذة: إبراهيم الزيبق، محمد رضوان عرقسوسي، عمار ريحاوي، محمد بركات، معتز كريم الدين، فادي المغربي، محمد أنس الخن أقدم خالص شكري، وكذلك للأستاذ كامل محمد الخراط الذي بذل جهدًا كبيرًا في مراجعة كثير من أجزاء الكتاب.

ولكل من معدات الفهارس الآنسات: ندا العسلي، زينة العوا، رشا المكاري، رزان الفحام. وفي الختام .... أشكر الأستاذ خير الدين حبِّي على ما أبداه من ملاحظات قيمة حول التحقيق في بعض الأجزاء، وعلى الدور الذي قام به من حيث الإشراف العام والتنسيق بين العاملين في هذا المشروع العلمي الكبير من محققين ومنضدين ومقابلين ومخرجين. إنها مسؤولية نحملها جميعًا نأمل أن نكون قد أديناها بأحسن صورة، بوضعنا هذا السفر الجليل بين أيدي الباحثين في التاريخ، ليكون منارًا للعاملين في تحقيق تراثنا التاريخي، كما كان منهلًا لكثير من مؤرخي الأيام الخوالي: كابن كثير، وابن رجب الحنبلي، وابن تغري بردي. والله الموفق رضوان دعبول * * *

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على نبينا محمدٍ المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد؛ فقد حَرصَت مؤسسةُ الرسالة خلال مسيرتها الطويلة في عالم الطباعة والنشر على التصدي لتحقيق ونَشر كتب التراث الضخمة التي تزخَرُ بها مكتبتُنا الإسلاميةُ العامرة، إيمانًا منها بأهمية نَشر العلم النافع، وطلبًا لما وراء ذلك من الأجر والمثوبة من الله عزَّ وجل. وهي اليوم تُقدم إلى كل طالب علمٍ كتابًا من أمهات كتب التراث، طالما تمنى طلابُ العلم أن تكتحلَ عيونُهم برؤيته، فقد كانوا يرون في كتب التاريخ التي بين أيديهم نقولاتٍ كثيرة عنه، دون أن يَقفوا له على أثر، فلذلك هَفَتْ نفوسُهم إليه، وتَلهَّفَت قرائحهم للاطلاع عليه، ألا وهو كتابُ (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان) لأبي المُظفَّر يوسف بن قُز أوغلي بن عبد الله، المعروف بسبطِ ابن الجوزي، المتوفى سنة (654 هـ). هذا الكتاب الذي أرادَ مصنفُه -رحمه الله- أن يكون له مِن اسمِه نصيب، حيث قال في مُقدمته: "وسمَّيتُه: (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان) ليكون اسمًا يوافق مُسمًّى، ولفظًا يُطابق معنًى". ولعَمري لقد كان له ما أراد، فالناظر في هذا الكتاب كأنما ينظر من خلال مرآةٍ زمانيةٍ تعكسُ له مُجرياتِ أحداثِ الأمم السالفة، ووقائعَ العصورِ الغابرة، فكأنه يرأها رأيَ العين، وقد غَبطَه الإمام الصلاحُ الصفدي المتوفى سنة (764) هـ على هذه التسمية، فقال: "وأنا ممَّن حَسَدهُ على تَسميته، فإنها لائقةٌ بالتاريخ، كأنَّ الناظر فيها يُعاينُ من ذُكِرَ فيه". وأكَّدَ هذا المعنى العلامةُ قطب الدين اليونيني المتوفى سنة (736) هـ، وهو قد اختصر كتابَ المرآة وذيَّلَ عليه، فأوضح سبب اختصاره قائلًا: " ... وصنَّفَ الناسُ في ذلكَ كُتبًا،

وساروا بأفكارهم، فجلَبوا من أخبار الأُمم حَطبًا وذَهبًا، ولما وقفتُ على بعضِ ما نَصُّوه، وتأمَّلت ما أَنبأوا به عن السالفين وقَصُّوه، رأيت أجمَعها مَقصدًا، وأعذَبها مَوردًا، وأحسنَها بيانًا، وأصحَّها روايةً، يكادُ خَبَرُها يكون عِيانًا؛ الكتابَ المعروف بمرآة الزمان، تأليف الشيخ الإمام شمسِ الدين أبي المظفر يوسف سبط الإمام ابن الجوزي رحمه الله، الذي ضمنه ما علا قَدرُه على كلِّ نَبيه، وفاقَ به على مَن يُناويه ... ". ويَعجَبُ المرءُ كيف يبقى مثلُ هذا الكتاب القَيِّم حَبيسَ أَرْفُفِ مكتبات المخطوطات ردحًا طويلًا من الزمن، حيث لم يصدر منه غير جزءٍ واحد من أوله بتحقيق الدكتور إحسان عباس طبع بدار الشروق سنة (1985) م، وجزء وحيدٍ من آخره طبع بحيدر آباد الدكن سنة (1952) م، ولكن هذا العجبَ يتلاشى أمامَ معرفة المشاق والصِّعاب التي تَقفُ دون الحصولِ على نُسَخهِ الخطية، إذ ليس للكتابِ نسخةٌ خطيةٌ كاملةٌ وسَليمة، وإنما هي أجزاء متفرقة من نُسخٍ متعددة لم تَخلُ من السقوطات والتصحيفات، وأصاب بَعضَها خَرمٌ في أولها أو في آخرها أو في أثنائها، وبَعضُها فيه الكثير من الصفحات المطموسة، وبعضها مختصر -كما سنُبيِّن ذلك بعد قليل- ولهذا بذلَ الإخوةُ المحققون -جزاهم اللهُ خيرًا- جُهدًا مُضنيًا في التوفيق بين هذه النسخ والمؤالفة بينها، لاستخراج النصِّ الصحيح واستكماله، وإثباتِه على الوجه الأكمل الذي أراد المصنف أن يكون عليه، وهذا الجهد لا يُقَدِّرُ قَدرَهُ، ولا يعَرفُ مبَلْغَه إلامن عانىَ مِهنةَ التحقيق وخاضَ غِمارَها. ولا بد لي هنا من قَولةِ حَقٍّ أقولُها، وهي: إنه لولا جهودُ الأستاذ رضوان إبراهيم دعبول -صاحب المؤسسة ومديرها- وإصرارُه ودَأبُه المتواصل في سبيل إخراج هذا الكتاب لما خرج إلى النور، فهو منذ عام 1992 م حينما وصلت إلى يدِه بعضُ مخطوطات الكتاب أَوْكَلَ إلى الأستاذ عمر القيّام مهمةَ البدء بتحقيقه بإشراف الدكتور إحسان عباس، ولكنه بعد عام ونصف اعتذرَ عنه، لما يحتاجه هذا العمل من جهدٍ ووقتٍ كبيرين، فلم يَكِلَّ ولم يَمَلَّ، ولكنه بَذلَ الغالي والنفيسَ وضاعفَ الجهدَ في البحثٍ عن بقيةِ نسخ الكتاب الخطية، والسَّعي في تحصيلها سعيًا حثيثًا، حتى تكامل

منها ما يوفي بالغرض، عندها بدأت عملية المقابلة، ثم وُزِّعت الأجزاءُ على الإخوة المحققين الأكارم الذين مارسوا تحقيقَ كتبِ التراث منذ أمدٍ بعيدٍ أنجزوا خلاله الكثيرَ من الكتب التي أشادَ بها أهلُ العلم والفضل، فَصبّوا كلَّ جهدهم في تحقيق الكتاب، وعانوا في سبيل ذلك ما عانوه، فكم من ساعةٍ أمضَوها في استكمال نصٍ لم يجدوا بقيته فيما بين أيديهم من مخطوطات، أو في البحث عن رَسْمِ كلمةٍ محرفةٍ لا تستقيم بها العبارة. وغيرِ ذلك من عقباتٍ كثيرةٍ واجهتهم في تحقيق هذا الكتاب أعانهم اللهُ على تَخَطِّيها. وقد أَوكلَ إليَّ الأستاذ رضوان دعبول مدير المؤسسة مهمةَ مراجعة عددٍ من أجزاء الكتاب التي تبيَّن أنها تحتاج إلى مراجعة، فبذلتُ الوُسْعَ واستفرغتُ الجهدَ، وأعانني المولى تبارك وتعالى بمَنٍّ منه وفضل، فاستدركتُ بعض سُقوطاتٍ نَدَّت هنا وهناك، وصححت عددًا من الكلمات المصحَّفَة والمحرَّفَة، وأفدتُ من قراءتي المتوالية ربطَ العديد من المَواطن في الكتاب وإحالةَ بعضها على بعض. ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى عددٍ من الأمور التي تَبدَّت من خلال العمل في هذا الكتاب: أولًا: أن كتابَ (مرآةِ الزمان) يُعدُّ -وبحق- موسوعةً تاريخيةً كبيرةً لاشتماله على أحداثِ فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ تمتد من ذكر بدْءِ الخَلق إلى أحداث ووفيات سنة (654) هـ، وهي سنة وفاةِ مصنِّفه رحمه الله، فهو بهذا من المراجع المهمة التي لا غِنى عنها لكل باحث لما يتضمنه من أحداثٍ موثقةٍ وأخبارٍ موسعةٍ لا توجد في غيره من المصادر. ثانيًا: أن الاعتقادَ السائد بأن السِّبطَ ضَمَّنَ كتابَه كتابَ جَدِّه (المنتظم) وبنى عليه بعد انتهائه، اعتقادٌ غير صحيح، ويتلاشى بمقارنةٍ سريعةٍ لأي سنةٍ من السنوات المشتركة بينهما، ليظهر الفرقُ الشاسعُ والبَونُ الواسع بين الكتابين من حيثُ الأحداثُ الواردةُ والتراجمُ المذكورة، صحيحٌ أن السِّبط أفادَ من كتاب جَدِّه، ولكنه لم يقتصر على ما فيه، بل جمع إليه من المصادر الكثيرة التي بين يديه الشيء الكثير.

ثالثًا: لم يقتصر أبو المظفَّر على النَّقل فحسب، ولكنه كان يدلي بآرائِه ووجهةِ نظره، وتَجلّى ذلك من خلالِ تَنقيداتٍ لطيفةٍ انتقدَ بها سابِقيه، أو تعليقاتٍ طريفةٍ علَّق بها على بعض الأخبار، أو إضافاتٍ سديدةٍ كان يضيفها إذا ما رأى حاجةً تدعو إلى ذلك، فعلى سبيل المثال؛ عندما ذكرَ قصة سُليمان - عليه السلام - (2/ 222) ووردَ فيها أن بلقيس أرسلت إليه بخمس مئة غلام، وخمس مئةٍ جارية، وألبست الغلمان ثيابَ الجواري، والجواري ثيابَ الغِلمان لكي تختبره، مَيَّزَ سليمان - عليه السلام - بينهم من طريقتهم في الوضوء، فعلَّقَ أبو المظفَّر قائلًا: "والعجبُ من حكاية مثلِ هذا، وقد اتفقوا أن القوم كانوا يعبدونَ الشمس، وأخبرهم اللهُ على لسان الهُدهدِ بذلك، فمن أينَ كانوا يعرفونَ الوضوء؟ وإنما ميَّز بينهم بالوحي جبريل". وكذلك في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن حسن (12/ 142) ذُكرَ أنه خرَجَ هو وأخوه محمد على أبي جعفرٍ المنصور، فطلبهما أشدَّ الطلب، ثم أُتِيَ بمرآةٍ كانت لآدم - عليه السلام - ينظر فيها فيرى عدوَّه، فنظر فيها أبو جعفر فعرف مكانهما، فأرسل في طلبهما، عندها قال أبو المظفَّر: "وليس العجبُ من الطبري، فإن من عادته أن يأتي بالعجائب والغرائب، وإنما العجبُ من جَدّي أن يحكيَ مثلَ هذا في المنتظم، وهذا شيءٌ تأباه العقولُ السليمةُ والأذهانُ الصحيحةُ. وفي ترجمةِ المهتدي بالله (15/ 345) أورد قولَ الخطيب والصولي فيه أنه كان كثيرَ العبادةِ والورع، ثم علَّق قائلًا: "مِن أينَ وصفُ الخطيب والصوليِّ وغيرِهما له بالورع، وقد واطأَ على قتل ابن عمه المعتزِّ من غير سببٍ إلا حبُّ الدنيا، وقد كان قادرًا على منع الأتراكِ من قَتله، وهل يَفي دمُ مسلمٍ بعبادة الثَّقَلين؟ ". وفي ترجمةِ أبي داود السِّجستاني صاحب "السُّنَن" 16/ 124) ذكر أنه ضَمَّنَ كتابه "السُّنَن" أربعةَ آلاف وثمان مئة حديث، ويكفي الإنسانَ لدينه من ذلك أربعةُ أحاديث؛ أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمالُ بالنِّيات"، والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ

تركه ما لا يَعنيه"، والثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه"، والرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحلالُ بَيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور متشابهات" فأضاف أبو المظفر قائلًا: ولو أخرج الخامسَ كان أبلغ، وهو قولُه عليه الصلاة والسلام: "المسلمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ من لسانه ويده". وابعًا: استطرد المصنفُ استطراداتٍ كثيرة، أَضْفَتْ غالبيتُها العظمى على الكتابِ رونقًا وبَهاءً، وأخرجته من عباءَتهِ التاريخية، وألبَستْهُ حُلَّة أدبيةً رائعةَ الجمال، والمصنف باستطراداته هذه خالف شرطَه الذي ذكره في مقدمته حينما قال: "ولو مَددتُ فيه أطنابَ الإطناب، وأسبابَ الإسهاب، لانقطعَ سَيرُ السُّرَى وكَلَّ كلُّ الرِّكاب، وخيرُ الكلام ما قلَّ ودَلَّ، ولم يطل فيُمَلّ". غيرَ أنَّ النَّزْرَ اليَسيرَ من هذه الاستطرادات لم يكن في محله، فمثلًا حينما ذَكرَ حِكَمَ أرسطاطاليس (2/ 397) سَردَ مُعظَمها، وذكرَ أخذَ المتنبي لها وصياغَتها في شعره واحدةً واحدة، وكذلك في ترجمة الخرائطي (17/ 152) قال: "روينا كتابه (اعتلال القلوب) وفي آخره لأبي بكر الصنوبري ... " وذكر له بيتين من الشعر، ثم نبذةً عنه، وأتبعها بأشعارٍ كثيرةٍ، وفي ترجمة الحاكم النَّيسابوري المحدِّث (18/ 236) ذكر مصنَّفاته ومنها كتاب (المدخل)، ونقل منه أقسامَ الحديث الصحيح، وأقسام الحديث المختلف في صحتها بالتفصيل، حتى ليُخيَّل للقارئ أنه يقرأ كتابًا في مصطلح الحديث، لا كتابًا في التاريخ والتراجم. خامسًا: إن كثرةَ النُّقول التي أوردها أبو المظفَّر في كتابه هذا، واتساعَها وتَنوعَها يَدلُّ أولًا على سَعَةِ اطّلاعه وتبَحُّرِهِ وتَفنُّنهِ في كثير من العلوم، ويَدلُّ ثانيًا على ضَخامةِ المكتبةِ التي استند إليها في تصنيفه، وتنوُّعِ أبوابها، واشتمالها على فنونٍ كثيرةٍ من العلم، كالتفسيرِ، والحديثِ، والفقهِ، والسيرةِ، والتاريخِ، والجغرافيا، والفلكِ، والطِّبِّ، والأدبِ، واللُّغةِ، والشِّعر، ولا أدلَّ على كثرة مصادره من بعض أخبارٍ

أوردها لم نقف لها على مصدر واحدٍ على كثرة ما بين أيدينا من مصادر، ونقولاتٍ من كُتبٍ مفقودة لم تصل إلينا، كما في 21/ 309، و 22/ 279 حيث نقل عن كتاب ذيل المنتظم لمحمد بن أحمد بن محمد القادسي المتوفى سنة (632 هـ)، وهو من الكتب التي لم تصل إلينا حتى الآن. ولا غَرْوَ إذن أمامَ هذا التنوعِ في المصادر، والاستقصاءِ في إيراد الأخبار أن يكون كتابُ (مرآة الزمان) مَعينًا ثَرًّا، ومنهلًا عذبًا، نَهل منه عددٌ غيرُ قليلٍ من العلماء والمؤرخين من مُعاصِري سبطِ ابن الجوزي أو ممن جاء بعده، فقد أفاد منه العلامةُ أبو شامة المقدسي (665 هـ) في المُذَيَّل على الروضتين، وابنُ خَلِّكان (681 هـ) في وفيات الأعيان، والإمامُ الذهبي (748 هـ) في سير أعلام النبلاء وتاريخ الإسلام، وصلاحُ الدين الصفدي (764 هـ) في الوافي بالوفيات، وابن شاكر الكتبي (764 هـ) في فوات الوفيات، واليافعي (768 هـ) في مرآة الجَنان، والتاجُ السبكي (771 هـ) في طبقات الشافعية، وابنُ كثير (774 هـ) في البدايةِ والنهاية، وابن رجب الحنبلي (795 هـ) في ذيل طبقات الحنابلة، وبدرُ الدين العيني (855 هـ) في عقد الجمان، وابنُ تَغري بَردي (874 هـ) في النجوم الزاهرة، وفي المنهل الصافي، والسيوطي (911 هـ) في تاريخ الخلفاء، والنعيمي (927 هـ) في الدارس في تاريخ المدارس، والعِصامي في (1111 هـ) في سمط النجوم العوالي وغيرهم، والجميع صرَّح بالنقل عنه إما بقوله: "قال سبط ابن الجوزي"، وإما بقوله: "قال صاحب مرآة الزمان"، بل قد صرَّح ابنُ تغري بردي في النجوم الزاهرة باعتماده اعتمادًا كبيرًا على المرآة حيث قال ضمن ترجمته لأبي المظفر 7/ 39: "وله مصنفاتٌ مفيدة، منها تاريخه المسمى مرآة الزمان، وهو من أجلِّ الكتب في معناها، ونقلتُ منه في هذا الكتاب مُعظمَ حوادثه". سادسًا: لم يخلُ الكتاب من أوهام وقعت للمصنف، أو تصحيفات وقعت من نُسّاخ الكتاب، فمن الأوهام التي وقعت للمصنف أحيانًا: نسبةُ حديثٍ إلى غير مُخرِّجه، أو خطأ في إسناده، أو ذكر ترجمة في غير موضعها من السنة الموافقة لوفاة المترجم، أو

خطأ في اسم مترجم، سواء أكان ذلك منه أم من مصادره، إلى غير ذلك من أوهام أشيرَ إليها في مواضعها، وكل ذلك لا يُنقص من مكانه هذا السفر الكبير وقدره، نظرًا إلى حجمه وسعته وتنوعه وكثرة موارده. منهج التحقيق: لقد كان جُلُّ الاهتمام متوجهًا إلى إخراجِ النص أقربَ ما يكون إلى ما أثبتَه عليه المصنف، وكان دونَ ذلك ما دونه من صِعابٍ ومَشاقّ، وما ذلك إلا لعدم وجود نسخةٍ خطية كاملة -كما أسلفنا- ولأن الأجزاء المتوافرة في بعضها خرومٌ عديدة، أو طمسٌ أتى على أسطرٍ أو كلمات، أو بعضها كان أجزاء من مختصر اليونيني، ولا أدلَّ على ذلك مما ورد في آخر ترجمة المتنبي (17/ 371) وهو: "قلتُ: وقد أثبتَ المصنفُ -رحمه الله- في هذه الترجمة جملة وافرةً من شعرِ المتنبي، وشرحَ فيها من الغريب، وهي على حروف المعجم، فأضربتُ عن ذكرِ شيءٍ منها، وذلك لاشتهارِ شعر المتنبي بين الناس، والله أعلم". فكان الشغلُ الشاغل -بعد المقابلة على النسخ الخطية- هو الغوصَ بين فَوارقها لإثبات ما يُوافقُ المعنى ويُناسبُ السِّياق، فإذا ما قَصَّرت النُّسخُ في الإسعاف بإيجادِ البُغيَة، والإنْجادِ بالوصول إلى الغاية، كان لا بد من الرجوع إلى المصدر الذي صرَّح المصنفُ بالنقل عنه، فإن وقَفنا فيه على طَلِبَتنا فبها ونِعْمَت، وإلا وسَّعنا مجال البحث حتى نقف على مصدرٍ يُعينُ على استدراكِ نقصٍ، أو تحرير تحريفٍ، أو تصحيحٍ تَصحيف، وتمَّ وضعُ جميع الزيادات بين حاصرتين، والإشارةُ إلى مصادرها في الحواشي. كما تمَّ ضبطُ النص وترقيمُه وتفصيلُه، وتخريجُ الآيات والأحاديثِ والآثار، وعَزوُ الأخبار والوقائع إلى مصادرها قدر الإمكان، والتعريفُ بالأماكن والمصطلحات التاريخية -على كَثرتها- والترجمةُ الموجزةُ لبعضِ الأعلام، وذكرُ مصادر الأعلام المترجَمين، وتخريجُ الأبيات الشعرية مع ذكر البَحر العَروضي قبلها، ونسبتُها إلى

قائلها إن لم يُذكَر، وشرحُ الغريب من الألفاظ، والتنبيهُ على بعض الأوهام التي وقع فيها المصنف أو تابع فيها مَن سَبقَه، ثم تمَّ إعدادُ الفهارسِ العامة اللازمة لهذا الكتاب، والتي تُسهل الاستفادةَ منه، وتجعله قَريبَ المَأْخَذِ سَهْل المُجتَنَى لكل طالب علم. وخشيةَ الإطالة أفردنا للمصنف ترجمةً موجزةً تليقُ به، وأتبعناها بوصفٍ مفصلٍ للنسخ الخطية المعتمدة مع سَردِ نماذج من بداياتها. وفي الختام؛ نحمدُ اللهَ العليَّ العليم، الذي وفَّقَ وأعانَ على إنجاز هذا السِّفرِ العظيم، وَيَسَّر سُبُلَ تحقيقه وطباعته، لكي يخرجَ إلى النور بطبعته الكاملةِ وحُلَّتهِ القَشيبة، فيأخذَ مكانَه اللائقَ به بين أمّهات كتب التراث. نسألُ اللهَ تعالى أن ينفعَ به، وأن يجعل عملَنا فيه خالصًا لوجهه الكريم، إنه خيرُ مأمولٍ وأكرمُ مسؤول. والحمد لله رب العالمين كتبه كامل محمد الخراط دمشق في غُرة رمضان 1433 هـ الموافق 19 تموز 2012 م

ترجمة المصنف

ترجمة المصنف (*) اسمه ونسبه: هو الشيخُ العالم المُتَفَنِّنُ المؤرّخ الأخباريُّ واعظُ الشامِ شمسُ الدين أبو المظفَّر يوسف ابنُ الأمير حسام الدين قُز أوغلي (¬1) بن عبد الله التركيُّ العَونيُّ الهُبَيريُّ (¬2)، البغداديّ ثم الدمشقيُّ، الحنبليُّ ثم الحنفيُّ، سبطُ الإمام أبي الفرج ابن الجوزي. كان والده حسام الدين من مماليك الوزير يحيى بن هُبيرة، وكان عنده بمنزلة الولد، فأعتقه. وأمه رابعةُ هي إحدى بنات الإمام أبي الفرج ابن الجوزي. ولادته ونشأته: وُلد أبو المظفَّر في بغداد سنة (581 هـ) (¬3)، لأبٍ هو أميرٌ من أمراء الوزير ابن هُبَيرة، ولأُم هي إحدى بنات الشيخ الجليل أبي الفرج ابن الجوزي، ونشأ في بيتٍ أهلُه أهلُ علم وفضل، فَجدُّه العلامةُ ابن الجوزي وحيدُ دَهره وفريد عصره، وهو غنيٌّ عن التعريف، وأخواله أبو بكر عبد العزيز، وأبو القاسم علي، وأبو محمد يوسف، كلٌّ أخذ من العلم بنصيب وافر، ووالدته وخالاته أيضًا كُنَّ على درجةٍ من العلم، فقد قال السِّبطُ في آخر ترجمةِ جَدِّه: "وكان لجدِّي عدة بنات منهنَّ والدتي ¬

_ (*) المذيل على الروضتين 2/ 117، وفيات الأعيان 3/ 142، ذيل مرآة الزمان 1/ 39 - 43، العبر 5/ 220، سير أعلام النبلاء 23/ 296، تاريخ الإسلام (وفيات سنة 654 هـ)، ميزان الاعتدال 4/ 471، الوافي بالوفيات 29/ 276، عيون التواريخ 20/ 103، فوات الوفيات 4/ 356 ومرآة الجنان 4/ 136، البداية والنهاية 13/ 194، الجواهر المضية 3/ 633، نزهة الأنام: 229، السلوك لمعرفة دول الملوك 1/ 132، عقد الجمان 1/ 30، النجوم الزاهرة 7/ 39 لسان الميزان 8/ 565، الدارس في تاريخ المدارس 1/ 478، شذرات الذهب 5/ 266 الفوائد البهية: 230، الأعلام للزركلي 8/ 246، معجم المؤلفين 13/ 324، طبقات المفسرين للأدنروي 1/ 239، فهرس الفهارس 2/ 1138، أبجد العلوم 3/ 93. (¬1) معظم المصادر ذكرت اسم أبيه هكذا، وبعضُها ذكره: "قُز أغلي"، وبعضها "قُزُغْلي" كما ضبطه بالحرف العلامة الكتبي في فوات الوفيات فقال: "بالقاف والزاي والغَين المعجمة واللام"، وممكن أن تحذف القاف من أوله فيقال: "زُغْلي" كما ذكر الذهي في تاريخ الإسلام، وهي لفظة تركية معناها: ابن البنت. (¬2) نسبةً إلى الوزير عون الدين يحيى بن هُبيرة، مولى أبيه. (¬3) وثمة إشارة إلى أن ولادته كانت سنة (582) هـ، وأن أمه أخبرته بذلك. وفيات الأعيان 3/ 142.

رحلته إلى دمشق

رابعة، وشرف النساء، وزينب، وجوهرة، وست العلماء الكبرى، وست العلماء الصغرى، وكلُّهنَّ سمعنَ الحديثَ من جدي وغيره" (¬1). في كنفِ هذه الأسرة العلمية كانت نشأةُ أبي المظفَّر، ويبدو أنَّ جدَّه تلفَحَ فيه مَخايلَ الذكاء والنبوغ منذ صغره، فأولاه رعايةً واهتمامًا كبيرين، وأحضره دروسَه ومجالسَه، فنهلَ أبو المظفَّر من مَعينِ جَدِّه الَّثرّ، واستقى من مَنهلِه العذب، وأفادَ إفادةً كبيرةً من علومه المختلفة، حيث أخذ عنه الفقه، وسمع منه الحديث، وقرأ عليه القرآن، وسَهَّلَ له جَدُّه سُبُلَ أخذ العلم عن عددٍ من شيوخ بغداد المشهورين في ذلك الوقت. رحلته إلى دمشق: بعد وفاة جَدِّه عزمَ أبو المظفَّر على النُّقْلَةِ إلى دمشق، فخرج في بداية سنة (600 هـ) تاركًا بغداد وراءه، مُيَمِّمًا وَجهه شطرَ دمشق، فمرَّ خلال رحلته بدَقوقا، وإربل، والموصل، وحرَّان، وأخذ عن عددٍ من شيوخ تلك البلدان، وحطَّ رحاله في دمشق، ونزل بسفح قاسيون بين المقادِسَة من بني قُدامة، فوجد بصحبتهم الأُنسَ والحبور، وبموطن إقامته الجديد الراحةَ والسرور، وأشبع نَهَمَه العلميَّ بالأخذ عن شيوخ دمشق -ممن سنَسرُد أسماءهم عند ذكر شيوخه- ... وخلال فترةٍ وجيزةٍ لمعَ نَجمُه وذاعَ صيتُه، وصار يُلقب بواعظ الشام، وجذبَ إليه بحلاوة وَعظِه وطلاوةِ لفظِه قلوبَ الملوكِ والأمراءِ والولاةِ قبل قلوب العامة، وأصبح على اتصالٍ بالملك الكامل محمد ابن العادل أبي بكر بن أيوب، وإخوتهِ الملكِ المعظَّم عيسى، والملكِ الأشرف موسى، والملكِ الصالح إسماعيل، وبالملك الناصر داود بن المعظَّم، وبعددِ من الولاة والأمراء، وكوالي الشام المعتمد إبراهيم بن موسى، والأميرِ مبارز الدين سنقر الحلبي الصلاحي وغيرِهم، وكانوا يزورونه في بيته لاستماع مواعظه وكلامه على ما كان يُسمعهم من الإنكار عليهم في بعض الأمور، قال اليونيني: "وكان له الحُرمةُ الوافرةُ، والوجاهةُ العظيمةُ عند الملوكِ وغيرهم من الأمراء والأكابر، ولا ينقطعون عن التردُّدِ إليه، وهو يعاملهم بالفراغِ منهم ومما في أيديهم، ¬

_ (¬1) مرآة الزمان 22/ 118.

ويُنكر عليهم فيما يبدو منهم من الأمور التي يتعيَّن فيها الإنكار، وهم يتطفَّلونَ عليه" (¬1). وليس كلام اليونيني من قبيل المجازفة، بل هو صحيح، وربما أخذه من كلام أبي المظفر نفسه عندما ترجمَ لزوجته زينب بنت أبي القاسم قاضي حماة، فقال: "كانت صالحةً ديِّنةً مُتفقهةً، تعمل ألوانَ الطَّبايخ والحلاوات، وكان الملوك يرغبونَ في صنعتها، ويُعجبهم طعامُها" (¬2)، وهذا يؤكّدُ زيارة الملوك والأمراء له في منزله. وكان أبو المظفَّر يُسخِّرُ صلته بتلك الطبقة لقضاء حوائج الناس ونَفعهم قدر المستطاع، فقد زارهُ العلامةُ ابنُ الصلاح ذاتَ يوم في مَسكنهِ على ثورا، ورجاه أن يطلبَ من الملك المعظَّم عيسى أن يولِّيه مدرستَه، مع علمه أن المعظَّم غير راضٍ عنه، فما كان من أبي المظفَّرِ إلا أن بادر إلى الملك المعظَّم يَستعطفه ويُطيِّبُ خاطره على ابنِ الصلاح حتى وَلّاهُ تلك المدرسة، وكذلك سعى عنده للسيف الآمدي حتى فوَّضَ إليه أمرَ المدرسة العزيزية، وكثيرًا ما كان يَسعى في إطلاق مَن سُجنَ ظلمًا كما فعل مع أمةِ اللطيف خادمة ربيعة خاتون (¬3). وقد تولَّى أبو المظفَّر -إلى جانب عقده مجالسَ الوعظِ في الجامع الأموي وجامع جبل قاسيون- التدريسَ في عددٍ من مدارس دمشق، ففي سنة (615 هـ) فوَّض إليه الملكُ المعظَّمُ تُربةَ بدر الدين حسن -أحدِ أولاد الدَّاية- بسفح جبل قاسيون على نهر ثورا عند جسر كحيل، وكتب بذلك منشورًا، وبعثَ به إليه، فكانت مَسكنَه، ومقرَّ مطالعتِه وتصنيفهِ، يقول العلامة أبو شامة: "وما أكثر ما كنتُ أراهُ جالسًا في شُبّاك التُّربة أو في الصُّفَّةِ الخارجة في النهر، ومعه كتابٌ يُطالع فيه أو يَنسخُ منه" (¬4). وفي سنة (623 هـ) فوض إليه المعظَّم التدريسَ بالمدرسة الشِّبليَّة التي أنشأها شِبلُ الدولة كافور الحُسامي قبالةَ البدرية، وكذلك تولَّى التدريس بالمدرسة العِزِّيةِ البَرَّانيَّة ¬

_ (¬1) ذيل مرآة الزمان: 1/ 40. (¬2) المرآة 22/ 400. (¬3) مرآة الزمان 22/ 391. (¬4) المذيل على الروضتين 1/ 307.

وعظه

التي أنشأها الأمير عز الدين أيبك بالشَّرف الأعلى شمالي ميدان القصر، وبالمدرسة العِزِّية الجوّانية، وبالمدرسة العِزيَّة الحنفيَّة بالجامع الأموي جوار مشهد علي، والتي أوقفها أيضًا عزُّ الدين أيبك رحمه الله (¬1). وفي سنة (645 هـ) فوَّضَ إليه الأمير عز الدين أيبك النظر في أوقافه ومدارسه وأبواب البر، وكذلك فوَّضَ إليه الملك الأشرف موسى جميعَ الخَوانِك التي ببلاده شرقًا وغربًا وبعدًا وقربًا. ولم يتقصر دور أبي المظفر على الوعظ والتدريس والتصنيف، بل تعدى ذلك إلى الجهاد والغزو بنفسه، وتحريض الناس على ذلك، فهاهو يحدثنا بنفسه عن غزوةٍ كانت مع الفِرنج في عكا سنة (607 هـ) فيقول: "وفيها جلستُ بجامع دمشق يوم السبت، وكان الناس من باب مشهدِ زين العابدين إلى باب الناطِفانيِّين وإلى باب الساعات، وكان القيامُ في الصحن أكثر، بحيث امتلأ الجامع، وحُزِروا بثلاثين ألفًا، وكان يومًا لم يُرَ بدمشق مثله ... وخرجنا من باب الفَرَج إلى المصلَّى، وجميع من كان بالجامع بين يديَّ، وسرنا إلى الكُسوة من الغد، ومعنا خلق مثل التراب ... والكلُّ خرجوا احتسابًا ... فسِرنا على الجادة إلى نابلُس، ووصلت أخبارنا إلى عكا، وخرج المعظَّمُ فالتقانا وسُرَّ بنا ... وخرجنا نحو بلاد الفرنج فأخربنا وهَدَمنا، وقطَّعنا أشجارهم، وأسرنا جماعةً، وقُتِلَ جماعةٌ، ولم يَتجاسَروا أن يخرجوا من عكا، فأقمنا أيامًا ثم عدنا سالمين غانمين" (¬2). وعَظُه: ليس في تخصيصنا الحديث عن وعظِ أبي المظفَّر انتقاصٌ لبقية فنونه العلمية، والتي ستأتي في سياق الحديث عن مصنَّفاته، ولكنَّ شهرتَه في مجال الوعظ تفرض علينا أن نُسلِّط الضوءَ على هذا الجانب. وليس بِدْعًا أن يكون للسِّبطِ مثلُ هذه الشهرة في مجال الوعظ، فهو حَفيدُ الفارسِ الذي لا يُشقُّ له غُبار، والفرسِ الذي لا يُجارَى ولا يُبارَى في هذا المضمار، العلامةِ أبي الفرج ¬

_ (¬1) الدارس للنعيمي 1/ 203 و 228 و 236 و 240. (¬2) مرآة الزمان 22/ 172 - 173.

ابن الجوزي، العالمِ والخطيبِ والواعظِ الذي طَبَّقتْ شُهرتُه الآفاق، فلم يكن السِّبطُ ليفَوِّتَ درسًا من دروسِ جدِّه، أو مجلسًا من مجالسِ وَعظهِ، بل كان يحضرها جميعها، ويراقب جَدَّه في كلامه وعباراتِه وحركاته وإشاراته، يظهرُ ذلك في قوله في ترجمة جده: "سمعتُه يقول على المنبر في آخر عمره: كتبتُ بأصبعيَّ هاتين ألفَي مجلَّدة" (¬1). ولم يَكدِ السِّبطُ يبلغُ السادسةَ عشرة من العمر حتى شجعه جدُّه على عقدِ أول مجلسٍ له، ربما ليطمئنَّ على مدى قُدرته وتَمكُّنهِ، وليرى بعينه مدى قبول الناس له، وتحدثَ السبطُ عن هذه التجربة الناجحة عند ذكره لحوادث سنة (596 هـ)، فقال: "وفيها كان ابتداءُ جلوسي عند قبر الإمام أحمد ابن حنبل في يوم الأربعاء، ويجتمع خلقٌ عظيم، ويهبُّ على تلك المجالس من القبول نسيم، ويعرف فيها نضرة النعيم، ويَصحبها كل باردٍ من الطِّيب وكلُّ تكريم، وسلامٌ قولًا من ربٍّ رحيم" (¬2). ولم يكن هذا المجلس الناجحُ إلا الخطوة الأولى حيث توالت بعدَه الخطوات، فعندما توفي جده في السنة التالية وهي سنة (597 هـ)، قال: "وأصبحنا يومَ السبتِ، وعملنا عزاءَه، وتكلمتُ فيه، وحضر خلقٌ عظيم" (¬3). وعندما غادر بغداد متوجهًا نحو دمشق مرَّ في طريقه بحلب والموصل والرُّها وخِلاط وحَرَّان، وعقد في جميعها مجالس وعظٍ لاقت من أهلها القبول والاستحسان، ولم يكد يصلُ دمشق ويعقدُ مجلسَه في الجامع الأموي بُكرَة كلِّ سبتٍ وفي جامع الجبل، حتى صار مجلسُه حديثَ أهلها وشُغلَهم الشاغل، يُمضون سَحابةَ أسبوعهم ما بينَ حديثٍ عن مجلسه السابق -وما كان فيه من عِبَرٍ وعِظات ونوادر وحكايات، وكم مِن عاصٍ تاب، وكم من ذِميٍّ أسلمَ وأناب- وبين انتظارٍ وتَشوُّقٍ لمجلسه القادم، ولقد وصفَ لنا العلامةُ أبو شامةَ المقدسي مجالسه وتَعلُّقَ أهلِ دمشقَ بها خيرَ وصفٍ، فهو كان ملازمًا لها، فقال: "كانت مجالسُ الوعظِ التي للمذكور من ¬

_ (¬1) مرآة الزمان 22/ 94. (¬2) مرآة الزمان 22/ 80. (¬3) مرآة الزمان 22/ 115.

محاسنِ الدُّنيا ولذّاتها، فكأنَّ اللهَ قد جَمع له حُسنَ الصورةِ وطيبَ الصَّوتِ، وظَرافةَ الشمائل في الإيراد والجوابات واللِّباسِ وسائرِ الحَركات، فكان يَزدحمُ في مجلسه ما لا يُحصى من الخلق رجالًا ونساء -والنِّساء بمعزلي عن الرجال- في جامع دمشق وجامع الجبل، حضرتُ مجالسَه في صِغَري وكِبَري في الموضعين مرارًا، وكان لا يُفارقُ أحدٌ مجلسَه إذا انفضَّ إلا وشَوقُه مستمرٌّ إلى عودته في الأسبوع الآخر، فإنه كان يجلس كل سبتٍ، وتُبسَطُ السَّجادات والحُصر والبُسُط في كل المواضع القريبةِ من المنبر ما بينه وبين القُبَّةِ في يوم الجمعة، ويَبيتُ الناسُ ليلةَ كل سبتٍ حِلَقًا يقرؤون القرآنَ بالشموع، كل ذاك فرحًا بالمجلس، ومسابقة إلى الأماكن، وعادةُ الدِّمشقيّين التَّفَرُّجُ في أيام السبت، ويُبَطّلون عن أشغالهم بالمدينة، وينقطعون في بساتينهم، وكانوا لا يُفوِّتونَ حضورَ المجلس، ثم ينصرفون منه إلى فُرَجِهم، فلا ينقضي يومهم إلا بالتَّذاكُرِ لما وقع فيه من المحاسن وإنشادِ الأشعارِ، والتَّحدُّثِ بمن أسلم فيه أو تاب، وإيرادِ ما كان فيه من سؤالٍ وجواب، ولم يزل على ذلك مُدَّة سنين" (¬1). ولم يقتصر الحرصُ على حضور مجالسِه وسماع وعظه على العامّةِ فحسب، بل ربما كان حرصُ الملوكِ على ذلك أكثر، فلقد كان الملأ المعظَّم عيسى يُبكِّر إلى الجامع الأموي ويقعد عند المنبر الذي عند باب المشهد، ويجلس بين العامة (¬2)، وكذلك أخوه الملكُ الأشرفُ موسى حضر مجلسًا عقده السِّبطُ ليلة عرفةَ في جامع التوبة -وذلك بعد عودته من رحلةٍ إلى القدس ونابلس- فتأثَّر الملك الأشرف كثيرًا وبكى، وأعتق مماليكه وجواريه، وقال للسِّبط: "واللهِ إنَّ دمشق تَغارُ عليكَ أن تكونَ في غيرها" (¬3). وكذلك كان شأن العلماء في الحرص على مجالسه ولزومها، فقد كان العماد إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي (614 هـ) يحضر مجالسه في جامع دمشق وقاسيون ¬

_ (¬1) المذيل على الروضتين 1/ 160 - 161. (¬2) مرآة الزمان 22/ 290. (¬3) مرآة الزمان 22/ 354.

ولا ينقطع إلا من عذر، ويقول له بعد مجلسه: "صلاحُ الدين يوسفُ فتحَ الساحل وأظهرَ الإسلامَ، وأنتَ يوسف أحييت السنَّةَ بالشام" (¬1). وكان شيخه موفق الدين عبد الله بن أحمد ابن قدامة المقدسي (620 هـ) يحضر مجالسه دائمًا، ويفرح به، ويقول له: "قد أحيا اللهُ بك السُّنَّة، وقَمعَ البدعة، وهذه البلاد فتوحُكَ كما فتحَ القدسَ يوسفُ سَمِيُّك" (¬2). وكذلك شيخُه تاج الدين الكندي (613 هـ)، كان يداوم على حضور مجالسه ويقول له متفكهًا: "أنا قد أصبحتُ من زبون المجلس" (¬3). لقد أُنزلَ أبو المظفَّر -نتيجةَ وَعظهِ المتميز- منزلةً عاليةً عند الخاصة والعامة، مما جعل الكثيرَ من علماء عصره يبتعد عن هذا المجال ولا يقترب منه وحتى من فكَّر في التصدي للوعظ كان يجدُ من يثني عزمه ويُثَبِّطُ همته، يحدثنا الإمامُ الذهبيُّ في تاريخ الإسلام فيقول: "وحدَّثونا أن ابنَ الصلاح رحمه الله أراد أن يَعِظ، فقال له الملكُ الأشرفُ: لا تَفعل، فإنك لا تقدرُ أن تكون مثل شمسِ الدين ابن الجوزي، ودونَهُ فما يُرضى لك، فترك الوعظَ بعد أن كان تهيَّأَ له" (¬4). ولم يقتصر إعجابُ الناس بوعظ أبي المظفَّر على أهل بغداد ودمشق فحسب، بل ما زار مدينةً وعقد فيها مجلس وعظٍ إلا نال محبةَ أهلها وثِقَتَهم وتعلُّقَهم به، فقد وعظ في حلب، والموصل، والرُّها، وخِلاط، وحَرّان، والكَرك، والقُدس، ونابلس، والقاهرة والإسكندرية، ولقد حصل له بالإسكندرية قبولٌ عظيم، ذكره ضمن حوادث سنة (641 هـ)، فقال: "وكنتُ حينئذٍ بديار مصر، فقدمتُ الإسكندرية في هذه السنة، فوجدتها كما قال الله تعالى: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} معمورةً بالعلماء، مغمورةً بالأولياء، ¬

_ (¬1) مرآة الزمان 22/ 221. (¬2) مرآة الزمان 22/ 266. (¬3) مرآة الزمان 22/ 208. (¬4) تاريخ الإسلام، وفيات سنة (654 هـ).

شيوخه

وسألوني الجلوسَ، فجلستُ بها مجلسين تابَ فيهما نحوٌ من ألفين، فلما عزمتُ على العودِ إلى القاهرة قام بعضُ أفاضلها فأنشد: ذَكرتُمْ فِراقًا فاستهلَّت مدامعي ... وزاد لهيبُ النارِ بينَ ضلوعي فنحنُ ضيوفٌ والقراءُ ثلاثةٌ ... وجودُكَ يا مولى الأنامِ شفيعي فكانَ البيتُ الأخيرُ هو الباعثُ على أن عَزَّزتُ لهم بمجلسٍ ثالثٍ، ولم أقدر أن أسافر عنهم إلا ليلًا، لأنهم وَجِدوا بي ولا كوجدِ المجنونِ بِليلى". (¬1) شيوخه: أخذ أبو المظفر العلم عن عددٍ من شيوخ بغداد والموصل وحَرَّان ودمشق والإسكندرية، ونسرد فيما يلي ما وقَفنا عليه من أسمائهم: 1 - أبو العباس أحمد بن سلمان بن أحمد بن شريك الحربي، الملقَّب بالسُّكَّر، سمع أبو المظفر عليه الحديث بالحربية، توفي سنة 601 هـ. (مرآة الزمان 22/ 144). 2 - أبو طاهر أحمد بن عبد الله بن أحمد الطوسي الموصلي الخطيب، سمع منه أبو المظفر بالموصل الأحاديث النَّقّوريَّة. (مرآة الزمان 22/ 135). 3 - شرف الدين إسماعيل بن إبراهيم بن أحمد الشيباني الحنفي، المعروف بابن الموصلي، قرأ عليه أبو المظفر "الجامع الصغير" و"مقدمةٌ في الفرائض" توفي سنة 629 هـ. (مرآة الزمان 22/ 316). 4 - شمس الدين الحُسين بن هبة الله بن محفوظ بن صَصْرى، أبو القاسم التَّغلبي الدمشقي، توفي سنة 626 هـ. (مرآة الزمان 22/ 302). 5 - أبو البركات داود بن أحمد بن محمد البغدادي الأَزَجيُّ الدمشقي، توفي سنة 616 هـ. (سير أعلام النبلاء 22/ 90). 6 - أبو الخير رَيحان بن تِيكان بن موسك، الحربي المقرئ، قال أبو المظفَّر: قرأتُ عليه القرآن، وسمعتُ الحديث، توفي سنة 616 هـ (مرآة الزمان 22/ 241). ¬

_ (¬1) مرآة الزمان 22/ 378.

7 - أبو اليُمن زيد بن الحَسن بن زيد، تاج الدين الكندي البغداديُّ المولدِ والمنشأ، الدمشقيُّ الدار، قال أبو المظفّر: قرأتُ عليه كتابَ "الصحاح " للجوهري، و"المتنبي" و"الحماسة" و"الإيضاح " و"المُعَرَّب" للجواليقي، توفي سنة 613 هـ. (مرآة الزمان 22/ 208). 8 - أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان، ابن الأستاذ الأسدي الحلبي، سمع منه أبو المظفر بحلب "أسبابَ النزول"، توفي سنة 623 هـ. (سير أعلام النبلاء 22/ 303). 9 - أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، البغداديُّ، القُرشي، جَدُّ أبي المُظَفَّر لأمه، قرأ عليه الحديثَ والفقهَ والقرآن، وأخذ عنه الوعظ، توفي سنة 597 هـ. (مرآة الزمان 22/ 93). 10 - أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن علي، جمال الدين الحَرَستاني الأنصاري، سمع أبو المظفَّر منه أجزاء في مقصورة الخَضِر - عليه السلام - بجامع دمشق، توفي سنة 614 هـ. (مرآة الزمان 22/ 223). 11 - أبو محمد عبد العزيز بن محمود بن المبارك البَزّاز، المعروف بابن الأَخضر توفي سنة 612 هـ. (مرآة الزمان 22/ 202). 12 - أبو محمد عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمن الرُّهاوي الحرَّاني، توفي سنة 612 هـ. (سير أعلام النبلاء 22/ 71). 13 - أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قُدامة، موفَّق الدين المقدسي قرأ عليه أبو المظفَّر كتاب "التوّابين" و"الاعتقاد" له، توفي سنة 620 هـ. (مرآة الزمان 22/ 265). 14 - عبد الله بن أبي بكر بن أحمد الحربي، المعروف بابن السِّنْدان، سمع أبو المظفر منه الحديثَ بالحربية، توفي سنة 613 هـ. (مرآة الزمان 22/ 212). 15 - أبو البَقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله، محب الدين العكبراوي الحنبلي النحوي الضرير، صنف الكثير كـ"إعراب القرآن"، و"شرح المقامات"، قرأ أبو المظفر عليه الأدب، توفي سنة 616 هـ. (مرآة الزمان 22/ 242).

16 - عبد الله بن أبي المجد الحربي، سمع منه أبو المظفر بالحَربيَّة سنةَ 596 هـ مُسنَدَ الإمام أحمد بقراءة محمد بن الحافظ عبد الغني المقدسي (مرآة الزمان 22/ 141). 17 - أبو القاسم عبد المحسن بن عبد الله بن أحمد الطوسي الموصلي الخطيب، سمع منه أبو المظفر بالموصل، توفي سنة 622 هـ. (الكامل لابن الأثير 5/ 336). 18 - افتخار الدين عبد المُطَّلب بن الفضل الهاشمي البَلْخي، نزيلُ حلب، سمع منه أبو المظفر بحلب "شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم -"، توفي سنة 616 هـ. (مرآة الزمان 22/ 242). 19 - أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب الحَرَّاني البغدادي الحنبلي، توفي سنة 596 هـ. (سير أعلام النبلاء 21/ 258). 20 - أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن علي الصوفي، كان يُعرف بابن سُكَينة، توفي سنة 607 هـ. (مرآة الزمان 22/ 174). 21 - أبو الحسن علي بن يحيى بن بركة القَطّان، كان يُعرَف بالمورِّق، توفي سنة 609 هـ. (مرآة الزمان 22/ 194). 22 - أبو علي عمر بن علي بن عمر الواعظ الحربي، يُعرف بابن النَّوَّام، توفي سنة 597 هـ. (مرآة الزمان 22/ 118). 23 - أبو حفص عمر بن محمد بن معمر البغدادي الدارَقَزّي، المعروف بابنِ طَبَرْزَد، توفي سنة 607 هـ. (مرآة الزمان 22/ 174). 24 - أبو بكر المبارك بن المبارك الوجيه الواسطي النحوي، له "مقدمة في النحو" قرأها عليه أبو المُظفَّر، توفي سنة 612 هـ. (مرآة الزمان 22/ 205). 25 - أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسي، شيخ الصالحية والمقادسة، قال أبو المظفَّر: روى لنا الحديثَ وعلَّمني دعاء السَّنَة، توفي سنة 607 هـ. (مرآة الزمان 22/ 175). 26 - أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن محمد، فخر الدين بن تيمية الحرَّاني، سمع منه أبو المظفر بحرَّان، توفي سنة 622 هـ. (مرآة الزمان 22/ 278).

27 - أبو نصر محمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله، ابن مَميل، شمس الدين بن الشيرازي، توفي سنة 635 هـ. (مرآة الزمان 22/ 350). 28 - أبو المحامد محمود بن أحمد بن عبد السَّيد، جمال الدين البخاري الحَصيري الحنفي، قال أبو المظفر: قرأتُ عليه "الجامع الصغير"، و"القُدوري"، وكتبَ لي خَطَّه عليهما بالاعتراف لي بفنون العلم ومعرفة الأحاديث والمذاهب، توفي سنة 636 هـ. (مرآة الزمان 22/ 359). 29 - سِتُّ الكَتَبَةِ نعمة بنت علي بن يحيى بن محمد بن الطَّرّاح، سمع أبو المظفر منها الحديث بدمشق عند قدومه سنة 600 هـ توفيت سنة 604 هـ. (مرآة الزمان 22/ 164). 30 - أبو القاسم هبةُ الله بن الحَسن بن المظفَّر الهَمَذاني، المعروف بابن السِّبط، سمع عليه أبو المظفَّر بباب المراتب، توفي سنة 598 هـ. (مرآة الزمان 22/ 127). 31 - أبو القاسم يحيى بن أسعد بن يحيى بن بَوْش، الخباز البغدادي، سمع أبو المظفر منه الحديث ببغداد، توفي سنة 593 هـ. (مرآة الزمان 22/ 58). 32 - يحيى بن أبي الفتح بن عمر، ابن الطَّبّاخ الحَرّاني الضَّرير، سمع أبو المظفر عليه الحديث بحرَّان، توفي سنة 607 هـ. (مرآة الزمان 22/ 185). 33 - أبو زكريا يحيى بن القاسم بن المفرّج، القاضي التكريتي، قال أبو المظفر: ولي منه إجازة، توفي سنة 616 هـ. (مرآة الزمان 22/ 245). 34 - أبو البركات يحيى بن هبة الله بن الحَسن، شمس الدين القاضي، المعروف بابن سَنيِّ الدولة، توفي سنة 635 هـ. (مرآة الزمان 22/ 357). 35 - أبو الفضل يوسف بن عبد المعطي بن منصور الغساني الإسكندراني، المعروف بابن المَخيلي المالكي، توفي سنة 642 هـ. (سير أعلام النبلاء 23/ 116).

مصنفاته

مُصنَّفاتُه: صنف أبو المظفَّر مصنفات عديدة في فنونٍ مختلفة من العلم، كالحديث والفقه والتاريخ والعقيدة والسلوك، إلا أن أَغلبَ مصنفاته لم يلقَ الاهتمام الذي لقيه كتابه "مرآة الزمان"، ونذكر هنا ما وقفنا عليه من أسماء تلك المصنفات: 1 - "الأحاديث المستَعصِميات الثمانيات" خرَّجها لأمير المؤمنين المستعصم بالله العباسي، ذكرها الكتاني في فهرس الفهارس 1/ 205 وقال: وعندي منها نسخة مسموعة قديمة جدًّا. وكذلك ذكرها بروكلمان في تاريخه 1/ 347. 2 - "الانتصار لإمام أئمة الأمصار"، ويعني به الإمامَ أبا حنيفة رحمهُ اللهُ تعالى، ذكره البغدادي في هدية العارفين: 554، وحاجي خليفة في كشف الظنون 1/ 172. 3 - "الانتصار والترجيح للمذهب الصحيح"، قال الدكتور إحسان عباس في مقدمة الجزء الأول من المرآة الذي صدر بتحقيقه: "طبع بمصر سنة 1360 هـ. وهو كتاب صغير في حوالي ثلاثين صفحة، يتحدث عن مناقب أبي حنيفة وتفضيله على غيره، ثم في تفضيل مذهبه، في ستة أبواب، ولعله صورة موجزة من الكتاب السابق" يعني "الانتصار لإمام أئمة الأمصار"، وقد أشار حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 838 إليه دون ذكر اسمه فقال: "ألف كتابًا في ترجيح مذهبه -يعني أبا حنيفة- على غيره، وذكر فيه أن من قلَّده كان أحوط له وأحفظ لدينه، وذكر الردَّ على من يخالفه، وجاء مشتملًا على نيفٍ وثلاثين بابًا، ليس له نظير فيه". 4 - "إيثار الإنصاف في آثار الخلاف"، هكذا نصَّ أبو المظفر على تسميته في مقدمته، وذكره كثيرًا في المرآة بلفظ: "الخلافيات"، وورد اسمه في بعض المصادر "إيثار الإنصاف في مسائل الخلاف"، وقد طُبع بدار السلام بالقاهرة سنة 1987 م، بتحقيق ناصر العلي الناصر الخليفي، في مجلد، كما طُبع بعنوان"وسائل الأسلاف إلى مسائل الخلاف" بدار الكتب العلمية في بيروت سنة 1998 م بتحقيق سيد مهنى. 5 - "تذكرة خواص الأُمة بذكر خصائص الأئمة"، وهو في ذكر مناقب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وسائر الأئمة، طبع قديمًا في طهران سنة 1285 هـ، وطبع حديثًا بدار الأضواء، ثم بدار الكتب العلمية في بيروت سنة 1426 هـ، بتحقيق خالد عبد الغني محفوظ، كما طُبع بمكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة سنة 2008 م، بتحقيق عامر النجار.

6 - "جوهرة الزمان في تذكرة السلطان"، ذكره أبو المظفَّر في مقدمة كتابه "كنز الملوك"، ونقل عنه ابن خَلِّكان في "وفيات الأعيان" 6/ 302، وهو على ما يبدو من عنوانه في نصائح الملوك وتبيان ضروب السياسة العادلة. 7 - "رياض الأفهام" في فضائل أهل البيت، ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 19/ 328 في ترجمة الإمام الغزالي، وذكر السلامي في تاريخ علماء بغداد: 138 أنه رآه. 8 - "شرح البداية"، وكتاب البداية هو "بداية المبتدي" في الفروع، للإمام أبي الحسن المرغيناني الحنفي (593 هـ)، جمع فيه بين "القدوري" و"الجامع الصغير"، وقد ذكره أبو المظفَّر في مرآة الزمان في مواطن عدة: 1/ 149، و 9/ 100، و 17/ 123. 9 - "شرح الجامع الصغير"، و"الجامع الصغير" للإمام محمد بن الحسن الشيباني في فروع الفقه الحنفي، وقد ذكره أبو المظفر في "مرآة الزمان " في عدة مواضع 2/ 38، و 6/ 489 و 10/ 346. 10 - "شرح الجامع الكبير" لمحمد بن الحسن الشيباني أيضًا، وقد نسبه له الذهبي في "العبر"، وفي "تاريخ الإسلام"، والكتبي في "فوات الوفيات"، واليافعي "في مرآة الجنان"، والعيني في "عقد الجمان"، وابن قطلوبغا في "تاج التراجم" وحاجي خليفة في "كشف الظنون"، والأدنروي في "طبقات المفسرين"، وعمر رضا كحالة في "معجم المؤلفين". 11 - "شرح الحماسة" ذكره بروكلمان في تاريخه 1/ 347، وذكر الدكتور عبد الله عبد الرحيم عسيلان في كتابه "حماسة أبي تمام وشروحها" الصفحة 190 أنه اطلع على نسخةٍ خطيةٍ منه بجامعة اسطنبول بتركيا برقم (778) وعنوانها "مقتضى السياسة في شرح نكت الحماسة" وهي خِلوٌ من اسم المصنف، ولكنه استدل عليه من إحالاته على كتابه مرآة الزمان وغيره من كتبه داخل الشرح. 12 - "شرح روح العارفين"، وروح العارفين للخليفة أبي العباس الناصر لدين الله أحمد بن الحسن بن يوسف العباسي، المتوفى سنة 622 هـ، وهو مَروياته في الحديث عن شيوخه وقد ذكره أبو شامة في المذيَّل على الروضتين 1/ 265، وأبو المظفَّر في

مرآة الزمان 22/ 207 في حوادث سنة 613 هـ، حيث قال: "فيها سافرتُ إلى خِلاط، وبعث الخليفةُ كتاب روح العارفين إلى الأشرف، وعرضه على العلماء الذين هم في خدمته، وأمرهم أن يَشرحوه، فلم يقدروا على شرح حديثٍ واحدٍ، فأشار إليَّ بشَرحِه وتَبيين ما فيه من الفوائد: فشرحتُه، والنسخةُ موقوفةٌ بدار الحديث الأشرفية بدمشق". 13 - "كنز الملوك في كيفية السلوك"، وهو موجَز في السياسة على نمط كتابه "جوهرة الزمان"، وقد ذكر أبو المظفر في مقدمته أنه آثَرَ أن ينسج هذا المختصر على منواله، وقد طُبع بعناية (غوسطا فيتستم) في السويد سنة 1970 م. 14 - "اللَّوامع في أحاديث المختصر والجامع"، ذكره أبو المظفَّر في مقدمة كتابه "إيثار الإنصاف" فقال: "كتابي المسمى بالمختصر اللامع على شرح المختصر والجامع"، وقد نسبه له ابن قطلوبغا في تاج التراجم، والبغدادي في هدية العارفين، وحاجي خليفة في كشف الظنون، والأدنروي في طبقات المفسرين، وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين. 15 - "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان" وهو كتابنا هذا، وهكذا ذكر أبو المظفَّر اسمَه في مقدمته، وقد نسبه له ابن خلكان في وفيات الأعيان 6/ 239 في ترجمة ابن هُبَيرة، وقال: "ورأيته في أربعين مجلدًا، وجميعه بخطِّه"، واليونيني في تذييله عليه، وكذلك ذكره الذهبي في السِّير وتاريخ الإسلام، والكُتبي في فوات الوفيات، وابن كثير في البداية والنهاية، وقال: "من أحسن التواريخ"، وابن تغري بردي في النجوم الزاهرة، وقال: "وهو من أجلِّ الكتب في معناها، ونقلتُ منه في هذا الكتاب معظم حَوادِثه". والكتاني في فهرس الفهارس، وقال: "وهو صاحب كتاب مرآة الزمان، ذلك التاريخ العظيبم الذي ملأ فراغًا عظيمًا في تاريخ الاسلام، واعتنى الحفّاظ به فذيَّلهُ جماعةٌ ... ". وقد ذكرنا سابقًا أنه لم يُطبع من هذا الكتاب إلا جزءٌ من أوله بتحقيق الدكتور إحسان عباس. سنة 1985 م، وجزء من آخره بحيدر آباد الدكن سنة 1952 م فهذه الطبعة

-بحمدِ الله وفَضله- هي طبعته الكاملة الأولى، وقد تحدثنا عن الكتاب في مقدمته، فلا داعي لإعادة ما ذُكر هاهنا. 16 - "معادن الإبريز في تفسير الكتاب العزيز" أشار إليه أبو المظفَّر في "المرآة" دون ذكر اسمه، ففي 1/ 116 عند ذكر العيون والأنهار ذكر معاني العين فقال: "ذكر الجوهري هذه الوجوه وهي ستة عشر، وقد خَرَّجت وجوهًا أُخَر حكاها الخليل بن أحمد وغيره تزيد على خمسين وجهًا، وذكرتها في التفسير"، وكذلك في 2/ 89 عند ذكر صِفة بقرةِ بني إسرائيل قال: "وقد ذكرنا ذلك في التفسير". وفي 2/ 90 عند ذكر طلبِ بني إسرائيل البقرة قال: "وقصتها طويلة، وقد ذكرناها في التفسير". وقد نسبه له كلٌّ من الذهبي في العبر وفي تاريخ الإسلام، وذكر أنه في تسعةٍ وعشرين مجلدًا، وكذلك الكتبي في فوات الوفيات، واليافعي في مرآة الجنان، وابن قطلوبغا في تاج التراجم، والأدنروي في طبقات المفسرين، ووهم حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1723 فقال: "له كتاب معادن الإبريز في 19 مجلدًا في التاريخ"، وتابعه البغدادي في هدية العارفين. 17 - "مناقب أبي حنيفة" ذكره الذهبي في العبر وفي تاريخ الإسلام، وقال: في مجلد، والكتبي في فوات الوفيات، واليافعي في مرآة الجنان، وربما يكون مُستلًّا من كتابه "الانتصار والترجيح للمذهب الصحيح" والله أعلم. 18 - "مناقب علي بن أبي طالب" ذكر السلامي في تاريخ علماء بغداد: 238 أنه رآه بوقف النوريَّة بدمشق في أربعة أجزاء حديثية ضخمة، وربما يكون مجتزأً من كتابه "تذكرة خواص الأمة بذكر خصائص الأئمة"، والله أعلم. 19 - "منتهى السول في سيرة الرسول" نسبه له ابن قطلوبغا في تاج التراجم، وحاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1587، والبغدادي في هدية العارفين، والأدنروي في طبقات المفسرين 1/ 239، وربما يكون مُجتزأً من السيوة النبوية في مرآة الزمان، والله أعلم.

وفاته

20 - "النَّضيد في مسائل التوحيد" ذكره أبو المظفَّر في المرآة 1/ 21 في آخر الفصل الذي عقده لحدَث العالم وإثبات الصانع فقال: "وقد بسطنا القولَ في هذه الفصول في كتابنا المُسمَّى بالنَّضيد في مسائل التوحيد". 21 - "نهاية الصنائع في شرح المختصر والجامع" ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1988، والبغدادي في هدية العارفين. وفاته: بعد حياةٍ عامرةٍ بالعلم والوعظِ والتدريس والتَّصنيف، وافت المَنيَّةُ أبا المظفَّر في دمشق ليلةَ الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر ذي الحجة سنة (654 هـ)، وهو في الثالثة والسبعين من العمر في منزله بجبل قاسيون، ودُفنَ بتُربَته بالجبل إلى جانب زوجته وابنيه عليٍّ وإبراهيم، وكانت جنازته مَهيبةً حافلة، حضرها خَلقٌ عظيم سُلطانُ البلد الملكُ الناصر يوسف بن العزيز ومَن دونه من الأمراء، ورثاهُ الشهابُ أحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن مصعب ارتجالًا بأبيات قال فيها: ذهبَ المؤرِّخُ وانقَضَتْ أيّامُه ... فتكدَّرت مِن بَعدِه الأيامُ قد كان شمسُ الدين نورًا هاديًا ... فقَضى فعمَّ الكائنات ظلامُ كَمْ قَد أتى في وَعظه بفضائلٍ ... في حُسنها تتحيَّرُ الأَفهامُ حَزِنَ العِراقُ لفَقدِه وتأسَّفَت ... مصرٌ وناحَ أسىً عليه الشامُ فَسُقي ثَرىً واراهُ صَوْبَ غمامةٍ ... وتعاهَدته تحيةٌ وسلامُ وقال النُّعيمي في "الدارس" بعد أن ذكر ترجمته: وهو ممن يُنْشَدُ له عند موته قول الشاعر: ما زِلتَ تَكتُبُ في التاريخِ مجتهدًا ... حتى رأيتُكَ في التاريخ مَكتوبا رَحمَ اللهُ تعالى أبا المظفَّرِ رحمةً واسعةً، ونفعه بثوابِ ما تركَ من علمٍ يُنتَفعُ به.

وصف النسخ الخطية المعتمدة

وصف النسخ الخطيَّة المعتمدة تمَّ الاعتماد في تحقيق الكتاب على عددٍ من النسخ الخطية، نذكر وصفها فيما يلي: 1 - النسخة الخزائنية: كانت برسم خزانة محب الدين أحمد بن أحمد بن ينال العلائي الداوداري الحنفي، وهي أكمل النسخ وأتمها، لكن لم تخل من تصحيفات، ورمزنا لها بـ (ح): وهي بخط علي بن عيسى الحيري المرحومي، وعندنا منها الأجزاء التالية: - الجزء الثاني، رقمه (2125) يبدأ بقصة زكريا ويحيى عليهما السلام، وينتهي في أثناء السنة السابعة من الهجرة، عدد أوراقه (247) ورقة. - الجزء الثالث رقمه (2126، يبدأ بحديث الغنائم في أثناء السنة السابعة من الهجرة، وينتهي بنهاية السنة (29 هـ) وعدد أوراقه (248) ورقة. - الجزء الرابع رقمه (2127)، يبدأ بأول سنة (30 هـ)، وينتهي في أثناء السنة (50 هـ) عدد أوراقه (245) ورقة. - الجزء الخامس رقمه (2128)، يبدأ في أثناء السنة (50 هـ) بترجمة جبير بن مطعم وينتهي في أثناء حوادث سنة (74 هـ) عدد أوراقه (246) ورقة. - الجزء السادس رقمه (2129)، يبدأ من أثناء حوادث السنة (74 هـ)، وينتهي في أثناء سنة (111 هـ) عدد أوراقه (248) روقة. - الجزء السابع رقمه (2130)، ويبدأ بترجمة عطية بن سعد العوفي من تراجم سنة (111 هـ) وينتهي بآخر سنة (179 هـ)، عدد أوراقه (254) ورقة. - الجزء الثامن برقم (2131) يبدأ بأول سنة (180 هـ)، وينتهي بنهاية سنة (236 هـ) عدد أوراقه (248) ورقة.

2 - نسخة مكتبة لا له لي

- الجزء التاسع برقم (2132) يبدأ بأول سنة (237 هـ)، وينتهي بآخر سنة (309 هـ) عدد أوراقه (244) ورقة. - الجزء العاشر برقم (2133) يبدأ بأول سنة (310 هـ) وينتهي بآخر سنة (389 هـ)، عدد أوراقه (209) ورقة. - الجزء الحادي عشر برقم (2134) يبدأ بأول سنة (390) هـ وينتهي في أثناء حوادث سنة (463 هـ) عدد أوراقه (263) ورقة. - الجزء الثاني عشر برقم (2135) يبدأ في أثناء حوادث سنة (463 هـ) وينتهي بسنة (516 هـ) عدد أوراقه (276) ورقة. 2 - نسخة مكتبة لا له لي: وهي نسخة نفيسة عندنا منها الجزء الأول يبدأ ببداية الكتاب، وينتهي بشعر عمرو بن جلها في ذكر عذاب قوم شعيب - عليه السلام -، عدد أوراق الجزء (236) ورقة بخط أحمد بن العلم الحكيمي، وتاريخ نسخه سنة (717 هـ)، ورمزنا لها بـ (ل). 3 - نسخة كوبريلى: ورمزنا لها بـ (ك)، وعندنا منها: - الجزء الثاني برقم (1154) يبدأ من عمارة بيت المقدس وينتهي بآخر سنة (6 هـ)، عدد أوراقه (293) ورقة، ليس ثمة اسم ناسخ، وفي أوله فهرس بوقائع الجزء وتملكات عديدة. - الجزء الرابع برقم (1155) يبدأ بقصة رجم ماعز والغامدية من أحداث السنة التاسعة من الهجرة، وينتهي في أثناء السنة (31 هـ)، عدد أوراقه (394) ورقة، عليه تملكات كثيرة، وليس فيه اسم الناسخ أو تاريخ النسخ. وهاتان النسختان فيهما زيادات على نسخة الخزائنية في الأسانيد والتراجم وضعناها بين معكوفين أو حاصرتين تمييزًا لهما عن النسخة المعتمدة.

4 - نسخة أحمد الثالث برقم (2907)، ورمزنا لها بـ (د)، ولدينا منها

4 - نسخة أحمد الثالث برقم (2907)، ورمزنا لها بـ (د)، ولدينا منها: - الجزء الثالث يبدأ بذكر من استشهد من المسلمين يوم بدر، في أحداث السنة الثانية من الهجرة، وينتهي بآخر سنة (21 هـ) وعدد أوراقه (282) ورقة، بخط علي بن حسن السُّروجي الخطيب. - الجزء السادس، يبدأ بأول ست (69 هـ) وينتهي في تراجم سنة (101 هـ)، عدد أوراقه (279) ورقة، وقد فقدت صفحات من أواخره لا يتبين معها تاريخ النسخ واسم الناسخ. - الجزء الثامن، يبدأ من ترجمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عتبة في تراجم سنة (65 هـ)، وينتهي في أثناء حوادث سنة (29 هـ)، عدد أوراقه (338) ورقة. - الجزء العاشر، يبدأ من أول سنة (115 هـ)، وينتهي بآخر سنة (142 هـ)، عدد أوراقه (248) ورقة، بخط أحمد بن العلم الأقسماوي الحكيمي، تاريخ نسخه (718 هـ). - الجزء الثالث عشر، يبدأ من أول سنة (521 هـ) وينتهي بخرم في أثناء حوادث سنة (636 هـ) عدد أوراقه (372) ورقة. 5 - نسخة أيا صوفيا، ولدينا منها الجزء الحادي عشر رقم (3412) يبدأ من أواخر سنة (65 هـ)، وينتهي بآخر سنة (131 هـ)، عدد أوراق (329) ورقة، ليس فيه اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، ورمزنا له بـ (ص). 6 - جزء فيه من سنة (22 هـ) إلى سنة (31 هـ)، لم نعرف مصدره، ولا ناسخه، عدد أوراق (13 ورقة)، رمزنا له بـ (ع). 7 - نسخة مجهولة المصدر، لدينا منها الجزء السادس، يبدأ من سنة (41 هـ)، وينتهي بآخر ترجمة أبي إدريس الخولاني من سنة (80 هـ)، عدد أوراقه (196) ورقة، رمزنا له بـ (م). 8 - نسخة باريس، ومنها نسخة مصورة في مكتبة مجمع اللغة العربية بدمشق، وفيها خروم كثيرة، رمزنا لها بـ (ب)، لدينا منها الأجزاء التالية:

9 - نسخة المتحف البريطاني

- الجزء الأول برقم (3629)، من أول الكتاب إلى فصل في ذكر أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعدد أوراقه (246) ورقة. - جزء برقم (6131) مخروم من أوله وآخره، بدايته من أحداث سنة (50 هـ)، ونهايته في أول ترجمة عمران بن حطان من تراجم سنة (89 هـ)، عدد أوراقه (253) ورقة. - الجزء الخامس مخروم من أوله، بدايته من أثناء ترجمة أيوب من سليمان بن عبد الملك من تراجم سنة (96 هـ)، وينتهي بآخر سنة (149 هـ)، عدد أوراقه (171) ورقة وعليه تملكات كثيرة. - الجزء السادس ورقمه (1505) يبدأ بسنة (190 هـ)، وينتهي بآخر سنة (281 هـ)، وعدد أوراقه (228) ورقة، تاريخ نسخة (971 هـ)، ولا وجود لاسم الناسخ فيه. - الجزء السادس عشر، ورقمه (5866) يبدأ من ذكر ما جرى بن أولاد ناصر الدين من حوادث سنة (358 هـ)، وينتهي بآخر سنة (400 هـ)، عدد أوراقه (244) ورقة، تاريخ نسخة (721 هـ)، بخط أحمد بن العلم بن عبد الله الحكيمي. - الجزء الثاني عشر (كذا) برقم (1506) مخروم الآخر، يبدأ بأول سنة (440 هـ)، وينتهي بأوائل ترجمة الباخرزي من تراجم سنة (467 هـ)، عدد أوراقه (159) ورقة. 9 - نسخة المتحف البريطاني: برقم (3629)، ورمزنا لها بـ (ف) ولدينا منها الأجزاء التالية: - جزء يبدأ بأول سنة (218 هـ)، وينتهي في أثناء حوادث سنة (279 هـ) عدد أوراقه (255) ورقة. - جزء يبدأ من حيث انتهى ما قبله في أثناء حوادث سنة (279 هـ)، وينتهي بآخر سنة (460 هـ) عدد أوراقه (262) ورقة. - جزء يبدأ بسنة (405 هـ) وينتهي بترجمة حسان بن سعيد من تراجم سنة (463 هـ)، لا يوجد فيه اسم ناسخ ولا تاريخ النسخ.

10 - نسخة غير معروفة المصدر

10 - نسخة غير معروفة المصدر، لدينا منها الجزء السابع يبدأ بسنة (282 هـ)، وينتهي بسنة (466 هـ)، عدد أرواقه (222) ورقة، تاريخ النسخ (972)، لا ذكر لاسم الناسخ فيها، رمزنا لها بـ (م). 11 - نسخة مجهولة المصدر، لدينا منها جزء يبدأ بأول سنة (327 هـ)، وينتهي بآخر سنة (449 هـ)، عدد أوراقه (205) ورقة تاريخ نسخة (735 هـ)، ولا اسم للناسخ فيها، ورمزنا لها بـ (م 1). 12 - نسخة شيكاغو، ورمزنا لها بـ (ش)، ولدينا منها الجزء الثامن عشر يبدأ بسنة (495 هـ)، وينتهي بنهاية الكتاب سنة (654)، عدد أرواقه (265) ورقة، تاريخ نسخة (794) بخط أحمد السيفي.

نماذج من صور النسخ الخطية

الصفحة الأولى من الجزء الثاني من النسخة الخزائنية

الصفحة الأخيرة من الجزء الثاني من النسخة الخزائنية

الصفحة الأولى من الجزء الأول من نسخة لا له لي

الصفحة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة لا له لي

غلاف نسخة كوبريلي

صفحة من الجزء الثاني من نسخة كوبريلي

الصفحة الأخيرة من الجزء الثاني من نسخة كوبريلي

الصفحة الأولى من الجزء الثالث من نسخة أحمد الثالث

الصفحة الأخيرة من الجزء الثالث من نسخة أحمد الثالث

الصفحة الأولى من الجزء الحادي عشر من نسخة أياصوفيا

الصفحة الأخيرة من الجزء الحادي عشر من نسخة أياصوفيا

الصفحة الأولى من الجزء الأول من نسخة باريس

الصفحة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة باريس

الصفحة الأولى من نسخة المتحف البريطاني

الصفحة الأخيرة من نسخة المتحف البريطاني

الصفحة الأولى من الجزء السابع من نسخة مجهولة المصدر

الصفحة الأخيرة من الجزء السابع من نسخة مجهولة المصدر

الصفحة الأولى من الجزء الثامن عشر من نسخة شيكاغو

الورقة الأخيرة من الجزء الثامن عشر من نسخة شيكاغو

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [1]

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم الحمد لله الواحد القديم المنَّان، الماجد العظيم الدتان، الدائم لا إلى حدٍّ وأوان، القائم وكلُّ مَن عليها فان، الواجبِ الوجود وما سواه جائز الإمكان، كتب بأقلام الأحكام في ألواح الأرواح آياتِ التوحيد والإيمان, وأوقد قناديلَ القلوب بمصابيح التوفيق والامتنان، واختصَّ من شاء من خلقه بتكميل العقول وتصفية الأذهان، وبعث الرسل بالدلائل الواضحة والبرهان، لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد النبيين المبعوثين في كل عصر وأوان، ووعد وأوعدَ ولا بدَّ من وفاء الضمان، وعدًا عليه حقًّا في التوراة والإنجيل والقرآن، أحمده إذ أنعم وصان، عددَ الأوراق والأغصان، وأُصَلِّي على رسوله محمَّد المبعوث إلى الإنس والجان، الذي ضُربت أطناب سُرادقات نصره في بيداء الدنيا، فانشقَّ من هيبته الإيوان، فصلى الله عليه صلاةً مقرونة بالرضا والرضوان، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، ما حدَّق إنسانُ إنسان، وسلم تسليمًا كثيرًا يدوم بدوام الأزمان. فصل وبعد فإن الفطر السليمة، والفكرَ المستقيمة، تستشرف إلى معرفة البدايات، وتشرئبَّ إلى إدراك المنشآت، ومَن تدبَّر مجاريَ الأقدار، ومبادي (¬1) الليل والنهار، صار كأنه عاصَر تلك العصور، وباشر تلك الأمور، وإليه وقعت الإشارة الإلهية، والأمارة الربَّانية، إلى مَن رَبَا نيَّةً (¬2) بقوله تعالى وهو أصدق القائلين: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)} [هود: 120]. ¬

_ (¬1) في (ط): "مساري". (¬2) رسمت في (ل): "ربى نيه"، وفي (ب) غير مقروءة، والذي في المطبوع: ربا نية، والعبارة غامضة، وقد نقل كلام السبط السخاوي في "الإعلان بالتوبيخ" ص 48 وكتب بدلها: "إلى سيد الأولين والآخرين".

وقال سبحانه في كتابه المجيد: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)} [هود: 100]. في آيات كثيرة وإشارات (¬1) غزيرة. فالله تعالى مَنَّ على نبيّه - صلى الله عليه وسلم - بما قَصَّ عليه من أخبار الأمم في سالف الدهور والأعوام. فصل ومقاصد الناس في ذلك تختلف، على ما قد أُلِف، منهم مَن يؤثر مطالعةَ سِيرِ القدماء والحكماء، ومنهم من يميل إلى سماع أنباء الأنبياء والخلفاء والملوك والوزراء والأدباء والشعراء، ومنهم من يختار النظر في سير الفضلاء والزهاد والعبَّاد والصلحاء، ومنهم مَن مَقصودُه الوقوفُ على سيرة حازم ليستفيد منها حُسن التدبير، أو على آثار مُفَرِّط (¬2) ليحذر من مثلها كلُّ التحذير، وهذا حرف المسألة في معرفة السير، لمن فَهم المعنى وخَبَر الخبر. ولما كان الغالب على التواريخ جمع الغث والسمين، والواهي والمتين، والتكرار الخالي عن الفوائد والفرائد التي يعجز عن جمعها ألفُ رائد، استخرت الله تعالى في تحرير هذا الكتاب، المشتمل على ما أشرتُ إليه من فصول الخطاب، وفنون العلوم والآداب، والسيرة والأنساب، ولو مددت فيه أطنابَ الإطناب، وأسباب الإسهاب، لانقطع سير السُّرى وكَلَّ كُلُّ الرِّكاب، وخيرُ الكلامِ ما قل ودل، ولم يَطُل فيُمل. وشرطُه: أن أبتدئ بما ذكرت في تراجم الأبواب، من أن [في] خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لِأولي الألباب. ثم اتبع ذلك من سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالحوادث في كل عام، ومن توفي من الأعيان والأعلام، وبداية التاريخ بالسنين، من مولد سيد المرسلين، وقلدت مَن سَلَف مِن السلف في الجرح والتعديل؛ لأنه لا يتوقف على الدليل، وسميته: "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، ليكون اسمًا يوافق مسمَّاه، ولفظًا يطابق معناه. وقبل الشروع فيه لا بد من ذكر فصول، تكون لتقرير قواعده كالأصول: ¬

_ (¬1) في (ب): "وآيات". (¬2) في (ب): "مقصر".

الفصل الأول: في معرفة التأريخ، وهل فرقت العرب بينه وبين التوريخ. الفصل الثاني: في عيون التواريخ والآثار وأسمانيد الأخبار. الفصل الثالث: في انقضاء مدة العالم وما تقدم من السنين وتقادم. الفصل الرابع: فيما ينبغي للمؤلف استعماله من الكلام المتسق النظام. الفصل الخامس: في تراجم الأبواب (¬1). * * * ¬

_ (¬1) اقتصر مختصر الكتاب قطب الدين اليونيني على الفصل الأول والثالث، وحذف بقية الفصول.

[فصل في معرفة التاريخ]

الفصل الأول في معرفة التاريخ قرأت على شيخنا العلامة أبي اليُمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي اللغوي رحمه الله تعالى بدمشق في شهور سنة أربع وستمائة كتابَ "المعرَّب من الكلام الأعجمي" تأليف شيخه أبي منصور موهوب بن أحمد بن محمَّد بن الخضر المعروف بابن الجواليقي، وقرأت عليه الكتاب جميعه، وقرأه على مصنفه، قال: يقال: إن التاريخ الذي يؤرخه الناس ليس بعربيٍّ محض، وإنَّ المسلمين أخذوه عن أهل الكتاب، وتاريخ المسلمين أُرِّخَ من سنة الهجرة، كُتب في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فصار تأريخًا إلى اليوم (¬1). وقال أبو نصر الجوهري في "الصحاح": التأريخ تعريف الوقت، والتوريخ (¬2) مثله، وأرَّختُ الكتاب بيوم كذا، وورَّخته بمعنًى، قال: والإِراخُ بقر الوحش (¬3). رواه بالكسر. قلت: وقد فرَّق الأصمعي بيّن اللغتين، فقال: بنو تميم يقولون: وَرَّختُ الكتابَ توريخًا، وقيس تقول. أرخته تأريخًا (¬4). وقال أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب في كتاب "الخراج" له: إنَّ تاريخَ كُل شيء آخره، فيؤرخون بالوقت الذي فيه حوادث مشهورة (¬5). ¬

_ (¬1) "المعرب": ص 137. وقد اقتبس هذا الفصل الدواداري في "كنز الدرر": 1/ 92 - 93. (¬2) في (ب) و (ل): والتعريف، والمثبت من مطبوعة الدكتور إحسان عباس وأشرنا إليها بـ (ط). (¬3) "الصحاح": (أرخ). (¬4) انظر "الإعلان بالتوبيخ" ص 17، و"أدب الكتاب" للصولي ص 178. (¬5) هذا النص مما خرم من كتاب "الخراج". وقد نقله عن قدامة ابن عساكر في "تاريخ دمشق": 1/ 10 (مصورة دار البشير).

وقال ابن عباس: قد ذكر الله التاريخ في كتابه فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. حدثنا عبد الوهاب المقرئ بإسناده عن ابن عباس قال: سأل مُعاذُ بن جَبَلٍ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما بالُ الهلالِ يبدو دقيقًا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويساوي ويستدير، ثم لا يزال ينقصُ ويدقّ حتى يَعودَ كما كان على حال واحد؟ فنزل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} أي: في دينهم وصومهم وفطرهم، وعِدَّة نسائهم، والشروط التي تنتهي إلى أجلٍ معلوم (¬1). وقال قتادة في تفسير الآية: جعلها الله تعالى مواقيتَ لصوم المسلمين وإفطارهم وحجِّهم ومناسكهم وعِدَدِ نسائهم وغير ذلك، والله أعلم بما يصلح خلقه (¬2). وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، حدثنا نافع، عن ابن عمر قال: ذُكِرَ الهلالُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عِدَةَ شعبانَ ثلاثين يومًا ثم صوموا"، أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). واختلفوا في مبدأ التاريخ على أقوال: أحدها: حدثنا جدِّي، حدثنا أبو غالب محمَّد بن الحسن الماوردي بإسناده إلى عبد العزيز بن عمران قال، قال عامر الشعبي: لما أكثر بنو آدم - عليه السلام - في الأرض وانتشروا أَرَّخوا من هبوط آدم، فكان التاريخ إلى الطوفان، ثم إلى نار الخليل عليه السلام، ثم إلى زمان يوسف - عليه السلام -، ثم إلى خروج موسى - عليه السلام - من مصر ببني إسرائيل، ثم إلى زمان داود - عليه السلام -، ثم إلى زمان سليمان - عليه السلام -، ثم إلى زمان عيسى (¬4). وقد رواه محمَّد بن إسحاق عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 10، وانظر "كتر الدرر": 1/ 93. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره": 2/ 185. (¬3) أحمد في "مسنده" (4488)، والبخاري (1906)، ومسلم (1080)، ولفظه عندهم بغير هذا السياق. (¬4) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 15، وانظر "عمدة القاري" 17/ 66، و"الإعلان بالتوبيخ" ص 136.

والثاني: أن التاريخ كان من آدم إلى الطوفان، ثم إلى نار الخليل - عليه السلام -، ثم أرَّخ بنو إسماعيل من بناء البيت، ثم إلى مَعَدِّ بن عدنان، ثم إلى كعب بن لؤي، ثم من كعب إلى عام الفيل، قاله الواقدي. والقول الثالث: أن حِمْيَر تؤرخ بالتَّبابِعة، وغسانَ بالسُّد، وأهلَ صنعاء بظهور الحبشة على اليمن، ثم بغلبة الفرس؛ ثم أرَّخت العرب بالأيام المشهورة، كحرب البسوس وداحس والغبراء، وبيوم ذي قار، والفجارين (¬1) ونحوه، وبين حرب البسوس ومبعث نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - ستون سنة. حكاه محمَّد بن سعد عن ابن الكلبي. والرابع (¬2): أن الفرس أرَّخت بأربعِ طبقات من ملوكها، فالأول: بكيومرت وقيل: طَهْمُورُث بالطاء، ويقال له: "كِل شاه" ومعناه ملك الطين، ويعتقدون أنه آدم، والثاني: بيَزْدَجِرْد، والثالث: أَرْدَشير بن بَابَك، والرابع: بأَنُو شِروان العادل. حكاه هشام بن الكلبي عن أبيه. قال: وأما الروم فأرَّخت بقتل دار ابن دارا إلى ظهور الفرس عليهم. وأما القبلط فأرَّخَتْ ببُخْتَنَصَّر إلى قلابطرة صاحبة مصر، وأما اليهود فأرَّخَت بخراب بيت المقدس. وأما النصارى فبرفع المسيح - عليه السلام -. وقال أبو معشر (¬3): التواريخُ أكثرُها مَدْخول، والفسادُ يعتريها من أجل أنه يأتي ¬

_ (¬1) في (ب) و (ط): "الفجار". (¬2) انظر "الإعلان بالتوبيخ": ص 137. (¬3) هو جعفر بن محمَّد بن عمر البلخي، المنجم المشهور، كان إمام وقته، وكان من أصحاب الحديث، ثم تحول إلى علوم الحساب والهندسة، ثم عدل إلى علم أحكام النجوم، وكان عمره (47) سنة، وتوفي وقد جاوز المئة، وكان فاضلًا حسن الإصابة، ضربه المستعين أسواطًا لأنه أصاب في شيء، فكان يقول: أصبت فعوقبت (ت 272 هـ)، من تصانيفه: "الزيج" و"مواليد الرجال والنساء". انظر ترجمته في "الفهرست" ص 335، و"وفيات الأعيان" 1/ 358.

على سني أمَّة من الأمم زمان من الأزمنة، وتطول أيامه، فإذا نقلوه من كتاب إلى كتاب أو من لسان إلى لسان يقع فيه الغلط، إما بالزيادة فيه أو النقصان منه، كالغلط الذي وقع بين آدم ونوح والأنبياء في السنين، فإن اليهود قد اختلفوا في ذلك اختلافًا متفاوتًا، وكذا ما وقع في تواريخ الفرس مع اتصال ملكهم إلى أن زال، في تخليط كثير. والدَّليل على صحة ما ذَكَر أبو معشر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجاوزوا عدنان، كذب النَّسّابنون" (¬1). وسنذكر الحديث في سيرته - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قلت: وهذا الذي أشرنا إليه يتعلق بالجاهلية، فأما في الإِسلام فقد اختلفت الروايات، فروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر (¬3) رحمه الله تعالى في "تاريخ دمشق" عن أنس بن مالك أنَّه قال: كان التاريخ من مَقْدَمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكذا قال الزهرِي: قَدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة في ربيع الأول، فأرَّخوا. قال الحافظ: المحفوظ أن الأمر بالتاريخ من زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬4). قال ابن عباس: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وليس لهم تاريخ، فكانوا يؤرخون بالشَّهر والشَّهرين من مَقْدمه، فأقاموا على ذلك إلى أن توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانقطع التاريخ, ومضت أيام أبي بكر - رضي الله عنه - على هذا وأربع سنين من خلافة عمر، ثم وضع التاريخ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 56، وابن عساكر في "تاريخه" 1/ 395 عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معدَّ بن عدنان بن أدد، ثم يمسك ويقول: (كذب النسابون، قال الله: {وَقُرُونًا بَينَ ذَلِكَ كَثِيرًا} ". وأخرجه ابن سعد 1/ 56، والطبري في "تفسيره" 13/ 187 عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: {وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إلا اللَّهُ} ثم يقول: كذب النسابون. قال ابن كثير في "البداية والنهاية" 2/ 194: والأصح عن ابن مسعود. (¬2) لم يرد الحديث في سيرته، ولعل المختصر قطب الدين اليونيني قد اختصره، أو سها عنه المؤلف. (¬3) "تاريخ دمشق"1/ 15، 16. (¬4) "تاريخ دمشق": 1/ 16. (¬5) انظر "عمدة القاري" 17/ 66، و"الإعلان بالتوبيخ" ص 134.

واختلفوا (¬1) في سببه: فروى ابن السمرقندي (¬2) أنَّ أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر: إنَّه يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخ، فأرِّخ لتستقيمَ الأحوالُ، فأرَّخ (¬3). وقال أبو اليقظان (¬4): رفع إلى عمر صكٌّ محلّه في شعبان فقال: أيما شعبان؟ هذا الذي نحن فيه أم الماضي أم الذي يأتي (¬5)؟ وقال الهيثم بن عدي (¬6): أول من أرَّخ يعلى بن أمية، كتب إلى عمر من اليمن كتابًا مؤرخًا، فاستحسنه، وشرع في التاريخ (¬7). وقال ابن عباس (¬8): لما عزم عمر على التاريخ جمع الصحابة واستشارهم، فقال سعد بن أبي وقاص: أَرِّخْ لوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال طلحة: أرّخ لمبعثه، وقال عليّ بن أبي طالب: أرِّخ لهجرته، فإنها فرَّقت بين الحقّ والباطل، وقال آخرون: لمولده، وقال قوم: لنبوته. كان هذا في سنة سبع عشرة من الهجرة، وقيل: في سنة ست عشرة، فاتفقوا على هذا. ثم اختلفوا في المشهور: فقال عبد الرحمن بن عوف: أرّخْ لرجب، فإنه أول الأشهر الحرم، وقال طلحة: من رمضان لأنه شهر الأمَّة، وقال عليّ: من المحرّم لأنه أول السنة، وهو من الأشهر الحرم، وقيل: إنما أشار بالمحرم عثمان، والأولُ أصح. ¬

_ (¬1) من هنا بدأ السقط في (ب) إلى قبيل فصل في الفرات ص 120 من هذا الجزء (¬2) هو إسماعيل بن أحمد بن عمر، أبو القاسم، شيخ ابن عساكر وستأتي ترجمته في وفيات سنة (536 هـ). (¬3) انظر "عمدة القاري" 17/ 66، و"الإعلان بالتوبيخ" ص 131. (¬4) هو عامر بن حفص، ويلقب بسحيم، وكان عالمًا بالإنساب والمآثر والمثالب، ثقة فيما يرويه (ت 170 هـ) له تصانيف منها: "أخبار تميم" و"النسب الكبير" انظر ترجمته في "الفهرست" ص 106. (¬5) انظر "عمدة القاري" 17/ 66. (¬6) أبو عبد الرحمن الثُّعَلي المؤرخ، عالم بالشعر والأخبار والمثالب والمآثر والأنساب، توفي في "فم الصلح" قرب واسط سنة (207 هـ) من كتبه: "المعمرين" و"كتاب المثالب" انظر ترجمته في "الفهرست" ص 112، و"سير أعلام النبلاء" 10/ 103. (¬7) انظر "عمدة القاري" 17/ 66، و"الإعلان بالتوبيخ" ص 132. (¬8) الخبر بنحوه في "الإعلان بالتوبيخ" ص 134. وانظر "تاريخ دمشق": 1/ 17 - 18.

قال ابن سيرين وابن المسيب: ثبت التاريخ بمشورة علي؛ وقال الأصمعيّ: إنما أرَّخوا من ربيع الأول شهر الهجرة، وهو وهم، والأول أصح: من المحرم. وقال سفيان الثوري: بالتاريح يتبين كذب الرواة من صدقهم؛ وقال حفص بن غياث: إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين، احسبوا سنَّه وسنَّ من كتب عنه؛ وقال حماد بن زيد: لم يُسْتَعَنْ على الكذابين بمثل التاريخ. * * *

فصل في انقضاء مدة العالم وابتدائه

فصل في انقضاء مدة العالم وابتدائه (¬1) اختلف العلماء في ذلك على أقوال: أحدها: أن عُمْر الدنيا من هبوط آدم إلى الهجرة سبعة آلاف سنة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي جمعة من جُمَعِ الآخرة، قد مضى منها ستة آلاف سنة وبقي ألف سنة (¬2). والثاني: أن عمر الدنيا ستة آلاف سنة (¬3) وسبع مئة سنة. قاله كعب الأحبار ووهب بن منبه. والثالث: أربعة آلاف سنة وست مئة سنة واثنتان وأربعون سنة وهو نص التوراة (¬4). والرابع: خمسة آلاف سنة وخمس مئة واثنتان وثلاثون سنة، وهذا قول النصارى (¬5). والخامس: أربعة آلاف سنة ومئة واثنتان وثمانون سنة. وهذا قول اليونان. والسادس: حكاه أبو جعفر الطبري عن المجوس فقال: وأما المجوس فيزعمون أن قدر مدة الزمان من لدن "كيَومَرت" إلى وقت هجرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة آلاف سنة ومئة وتسع وثلاثون سنة، ولا يذكرون شيئًا فوق كيومرت، وهو آدم عندهم (¬6). قلت: وقد اختار الطبري القولَ الأول، وهو سبعة آلاف سنة، واحتجَّ بأخبار منها ما رواه في "تاريخه" فقال (¬7): حدثنا محمَّد بن بشار بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أجلكم من ¬

_ (¬1) هذا الفصل الثالث من فصول المقدمة، وقد قفز إليه قطب الدين اليونيني متجاوزًا الفصل الثاني، انظر ص 7 من هذا الجزء. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 10. (¬3) في (ط): "ألف سنة"، والمثبت من (ل)، وأخرج خبرهما الطبري في "تاريخه" 1/ 10. (¬4) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 17، و"الكامل" 1/ 14. (¬5) الذي في "تاريخ الطبري" 1/ 18، و"الكامل" 1/ 14: إن من خلق آدم إلى الهجرة خمسة آلاف سنة وتسعمائة واثنتين وتسعين سنة وشهورًا. (¬6) "تاريخ الطبري" 1/ 18. (¬7) "تاريخ الطبري" 1/ 11.

أجلِ مَنْ كان قبلكم، من صلاة العصر إلى مغرب الشمس" انفرد بإخراجه البخاري (¬1). وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى، قلت: وهذا حديث متفق على صحته (¬2). وقولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] وكقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 186 - 187] ونحو ذلك. وروى أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عمر الدنيا سبعة أيام من أيام الآخرة" (¬3). وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) البخاري (3459). (¬2) البخاري (6503)، ومسلم (2950) من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -. وأخرجه -أيضًا- البخاري (6504)، ومسلم (2951) من حديث أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (6505) من حديث أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) أورده الديلمي في "مسند الفردوس" (4151) عن أنس موقوفًا. (¬4) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

فصل في حدث العالم وإثبات الصانع بالدلائل القواطع

فصل في حَدَثِ العالم (¬1) وإثبات الصانع بالدلائل القواطع (¬2) اختلف العلماء في مبلغ العالم على أقوال: أحدها: أنهم ثمانون ألف عالم -قاله مقاتل- أربعون ألفًا في البر، وأربعون ألفًا في البحر، وحكاه عن عبيد بن عمير. والثاني: أربعون ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد، وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء، قاله وهب بن منبه. والثالث: أنه ألف عالم، ست مئة في البحر وأربع مئة في البر، قاله سعيد بن المسيب. والرابع: ثمانية عشر ألف عالم، قاله الحسن. والخامس: أنه لا يقدر أحدٌ أن يحصيهم سوى الله تعالى، وهو الأصح، لقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ} [المدثر: 31]. فأما إثبات الصانع، فقال أحمد بن حنبل رحمه الله -وقد تقدم إسنادنا إليه (¬3) - حدثنا أبو معاوية بإسناده عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبني تميم: "يا بني تميم اقبلوا البشرى" قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، فتغير وجهه وقال: "يا أهلَ اليمن اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم" فقالوا: يا رسول الله قد بشرتنا، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان، فقال: "كان الله ولم يكن شيء -أو قبل كل شيء- وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في اللوح المحفوظ -أو في الذكر- كل شيء". انفرد بإخراجه البخاري (¬4). ¬

_ (¬1) في هامش الأصل: قال أبو العباس أحمد البوني - رضي الله عنه -: من قال يحدث العالم فقد قال بقدمه من حيث لا يشعر. وهذا القول فيه انغلاق. (¬2) هذا الفصل اقتبس أكثره من "مرآة الزمان" الدواداري في "كنز الدرر" 1/ 14 وما بعدها. (¬3) هذا أحد الأدلة على أن الذي بين أيدينا هو مختصر قطب الدين اليونيني، فقد ساق الحديث من "مسند أحمد"، وحذف إسناد سبط بن الجوزي إليه، انظر ص 10 من هذا الجزء. (¬4) أحمد في "مسنده" (19876)، والبخاري (3191).

فصل إذا ثبت هذا فنقول: مذهب جملة المسلمين أن الله تعالى كان ولم يكن معه شيء، وأنه أحدث العالم على غير مثال، ومذهب الأوائل: أنَّ العالم قديم، وأن الفلكَ لم يزل دائرًا بشمسه وقمره. وقال قومٌ من الفلاسفة بقدم العناصر والهيولى الذي هو أصل العالم؛ وقال أصحاب الرَّصَد بأنَّ الأفلاك والنجوم تدبر أمر العالم. ونحن نرى أثر العجز عليها ظاهرًا: أما النجوم فبالخسوف والكسوف والانتقال، وأما الأفلاكُ فبالدوران، وهذا آية القهر، [فالصانع قاهر] (¬1)، وصانع العالم واحد. وقالت المجوس: هما اثنان النور والظلمة، فالنور يقال له: يَزْدان، والظلمة: أهْرِمَن. وهذا شيء اخترعوه من غير أصل، وبطلان قولهم ظاهر، إذ لو كانا اثنين لجاز أن يكون أحدهما مريدًا لحركته والآخر مريدًا لسكونه، فحصلا معًا متضادين ولا يجوز؛ وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. وروينا عن شقيق البلخيّ (¬2) رحمه الله أنه قال: قرأت أربعة وعشرين كتابًا في التوحيد فوجدت معانيها كلها في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. فصل (¬3) ولا يجوز أن يكون له ولد لوجوه: أحدها: أنه لو كان له ولد لاستأثر الأشياءَ كلها لولده فتتعطَّل مصالحُ عباده. والثاني: أن الولدَ نتيجةُ الشهوة، والله تعالى منزَّهٌ عن ذلك. والثالث: لأن الولد بعضُ الوالد، والله منزَّه عن البعضية. * * * ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من "كنز الدرر" 1/ 15. (¬2) هو شقيق بن إبراهيم، ستأتي ترجمته في وفيات سنة (194 هـ). (¬3) انظر "كنز الدرر" 1/ 16.

فصل (¬1) ولا يجوز عليه نوم لوجوه: أحدها: لئلا يرجعَ الداعي عن بابه خائبًا. والثاني: لأنَّ النوم غفلة والباري منزه عنها. والثالث: لأن الله يمسك السماء بغير عمد ولا عِلاقة، فلو نام لوقعت على الأرض؛ وقال أبو إسحاق الثعلبي (¬2) بإسناده عن عكرمة عن أبي هريرة قال: سمعت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن موسى - عليه السلام - على المنبر قال: "وقع في نفس موسى هل ينام الله تعالى؟ فأرسل إليه ملكًا فأَرَّقهُ ثلاثًا وأعطاه قارورتين، في كلِّ يدٍ قارورة، وأمره أن يتحفَّظ بهما، قال: وجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان فيحبس إحداهما على الأخرى، حتى نام نومةً فاصطكت يداه فانكسرت القارورتان؛ قال: فضرب الله مثلًا أنه لو نام لم تستمسك السماوات والأرض" (¬3). والرابع: لأن النوم آفة، ويزيل العقلَ والقوةَ ويقهرهما، والله تعالى لا يجوز عليه ذلك. ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 16. (¬2) هو أحمد بن محمَّد بن إبراهيم، الثعلبي النيسابوري المفسر، من تصانيفه: "التفسير الكبير" و"عرائس المجالس" (ت 427 هـ). انظر ترجمته في "وفيات الأعيان" 1/ 79. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 8، وأبو يعلى في "مسنده" (6669)، والخطيب في "تاريخ بغداد" 1/ 268، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (22، 23) من طريق أمية بن شبل، عن الحكم بن أبيان عن عكرمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 83 وقال: وفيه أمية بن شبل، ذكره الذهبي في "الميزان" ولم يذكر أن أحدًا ضعفه، وإنما ذكر له هذا الحديث وضعفه به. وقال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 308: وهذا حديث غريب جدًّا، والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع، والله أعلم. وقال الخطيب: هكذا رواه أمية بن شبل عن الحكم بن أبيان موصولًا لا مرفوعًا، وخالفه معمر بن راشد فرواه عن الحكم عن عكرمة قوله. وأخرجه الخطيب 1/ 268 من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الحكم، عن عكرمة، موقوفًا عليه. وقال ابن الجوزي في "العلل" 1/ 41: ولا يثبت هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغلط من رفعه والظاهر أن عكرمة رأى هذا في كتب اليهود فرواه، فما يزال عكرمة يذكر عنهم أشياء.

والخامس: لأن النوم استراحة، والله تعالى لا يأخذه تعبٌ فيستريح؛ وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن سفيان الثوري، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أينامُ أهل الجنة؟ قال: "لا، النوم أخو الموت" (¬1). وقال الله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] السِّنَةُ: النوم الخفيف وهي النعاس؛ وقال الزجاج (¬2): هي ريح تجيء من قبل الرأس لينة فتغشي العين، والوسنان بين النائم واليقظان. فإن. قيل: فالملائكة لا تنام فقد شاركت الباري في هذه الحالة؟ ! فالجواب: أن الملائكة لا تنام ويجوز عليها النوم، والباري سبحانه وتعالى لا يجوز عليه ذلك. فصل (¬3) والباري سبحانه ليس بجسم، وقالت الكَرَّامية: هو جسم إلا أنه لا يشبه الأجسام. واحتجوا بما ورد. من آيات الصفات كقوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] وبأخبار الصفات ونحوها، ونحن نقول: الجسم محدود بالطول والعرض ونحوه، والباري ليس بمحدودٍ بالطُول والعرض، وأمّا الآيات والأخبار فمؤوَّلة بما يليق به سبحانه. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البزار (كشف الأستار 3517)، والعقيلي في "الضعفاء"2/ 308، والطبراني في "الأوسط" (923، 8811)، وابن عدي في "الكامل" 4/ 1533، وأبو نعيم في "الحلية" 7/ 90، وابن الجوزي في "العلل" (1553، 1554). وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 415 وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح. وقال الرازي في "العلل" 2/ 219: الصحيح عن ابن المنكدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليس فيه جابر. وأخرجه العقيلي 2/ 301 عن ابن المنكدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. (¬2) هو إبراهيم بن السري، أبو إسحاق البغدادي، نحوي زمانه، من تصانيفه: "معاني القرآن" و"فعلت وأفعلت" (ت. 31 هـ). انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 14/ 360. (¬3) انظر "كنز الدرر" 1/ 16.

فصل (¬1) وهو موصوف بما وصف به نفسه من العلمِ، والقدرة، والحياة، والإرادة، والسَّمع، والبصر، والكلام، ونحوه في كتابه القديم وعلى لسان رسوله الكريم، وقد بسطنا القول في هذه الفصول في كتابنا المسمى بـ "النَّضيد في مسائل التَّوحيد". فصل (¬2) واختلف العلماء في أول المخلوقات على أقوال: أحدها: أن أول المخلوقات القلم، وقال أحمد بن حنبل بإسناده إلى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما خلق الله القلم، فقال له: اجرِ -أو اكتب- فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة" (¬3). وهذا اختيار ابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وعامة العلماء. وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم وقال له: اجرِ بما هو كائن إلى يوم القيامة، جرى على اللوح المحفوظ بذلك؛ وفي رواية عن ابن عباس: فسبَّح الله ومجَّده ألف عام قبل أن يكتب المقدرات. قال: وهو في زمردة خضراء، طوله ألفُ عام، وهو مشقوقٌ بالنور، ولما نظر الله إليه انشقَّ نصفين (¬4) من هيبة الله تعالى. وأما النون، فقد اختلفوا فيه فقال قوم: هو الدَّواة، وهو اختيار الحسن وقتادة والضحاك، ورواية الثمالي عن ابن عباس. وعامةُ المفسِّرين على أنَّ النون الحوت الذي يحمل الأرض، وسنذكره في بابه. * * * ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 18. (¬2) انظر "كنز الدرر" 1/ 24. (¬3) أحمد في "مسنده" (22707). (¬4) في (ل) و (ط): "بنصفين" والمثبت من "كنز الدرر".

فصل وقد أكثر العلماء في وصف القلم، وروي عن ابن المقفع (¬1) أنه قال: الأقلامُ مطايا الفطن (¬2) ورسل الكرام وبيان البنان. وقوام الأمور بشيئين بالقلم والسيف، والقلم فوق السيف (¬3). وأنشد (¬4): [من البسيط] إنْ يخدمِ القلمُ السيفَ الذي خَضَعتْ ... له الرِّقابُ ودانت دونه الأُمَمُ فالموتُ والموتُ لا شيءٌ يخالفه ... ما زال يتبعُ ما يجري به القلمُ كذا قضى الله للأقلام مُذ بُرِيَت ... أنَّ السّيوف لها مذ أرْهِفَتْ خدم وقال أبو إسحاق الثعلبي: أنشدنا أبو القاسم السدوسي، أنشدنا أبو السميع الهاشمي، أنشدنا ابن صغنون لأبي تمام الطَّائي (¬5): [من الكامل] ولَضربةٌ من كاتبٍ ببنانه ... أمضى وأبلغُ من دقيقِ حسامِ قومٌ إذا عزموا عداوةَ حاسدٍ ... سفكوا الدما بأَلسِنَةِ الأَقلام قلت وقد ناقض أبو تمام قوله: [من البسيط] السيفُ أصدق إِنباءً من الكُتُبِ (¬6) ومن أحسن ما قيل في هذا الباب قول البُحْتُري (¬7): [من البسيط] ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن المقفع، ستأتي ترجمته في وفيات سنة (145 هـ). (¬2) وردت هذه العبارة عن عدد من الأعيان منهم عمرو بن مسعدة والعتابي والبحتري، انظر "أدب الكتاب" 67 و 68، و"صبح الأعشى" 2/ 447، وعبارة ابن المقفع في أدب الكتاب: القلم بريد القلب يخبر بالخير وينظر بلا نظر. (¬3) انظر "أدب الكتاب" ص 75. (¬4) في (ل) زيادة بعدها: لأبي الفتح البستي - رضي الله عنه -. ولم أقف على من نسب الأبيات الآتية له، وإنما نسبت إلى علي بن العباس النوبختي أو ابن الرومي، انظر زهر الآداب 431، وديوان المعاني 77، والعمدة 2/ 102، وديوان ابن الرومي 6/ 2294. (¬5) هو حبيب بن أوس، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (283 هـ)، والأبيات في "المحاسن والمساوئ" ص 12، و"معجم الأدباء" 17/ 141، ولم نقف عليهما في ديوانه. (¬6) البيت في ديوانه 1/ 40، وتمامه: "في حده الحدُّ بين الجد واللعبِ". (¬7) هو الوليد بن عبيد، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (284 هـ)، ولم نقف على البيتين في ديوانه، وأوردهما =

قومٌ إذا أخذوا الأقلامَ من غضب ... ثم استمدوا بها ماء المنيّاتِ نالوا بها من أعاديهم وإن كثروا ... ما لا يُنالُ بحدِّ المشرفيّاتِ والقول الثاني: إن أول ما خلق الله الماء. رواه الضحاك عن ابن عباس (¬1)، واحتج بقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، قال: خلق الله جوهرًا فصيَّره ماء. والقول الثالث: النُّور والظُّلمة، قاله محمَّد بن إسحاق، قال: ثم مَيَّزَ (¬2) بينهما فجعل الظُّلمة ليلا وَالنهار مضيئًا. والرابع: العرش والكرسي، قاله وهب بن منبه. والخامس: اللوح، قاله مقاتل. والسادس: نقطة، فنظر إليها فمالت فصيرها ألِفًا فبدأ به المخلوقات. والقول الأول أظهر. فصل (¬3) أول المخلوقات القلم. أول جبل وضع في الأرض أبو قبيس، وقيل: قاف وسنذكره في الجبال. أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام. أول بيت وضع للعبادة الكعبة. أول الأنبياء آدم - عليه السلام -. أول قتيل في الأرض هابيل. أول من خطَّ بالقلم وخاط الثياب إدريس، وكان الناس يلبسون الجلود. أول من اختتن، وأضاف الضيف، واستحدَّ وجز شاربه، وقصَّ أظفاره وَفَرَق رأسه، ¬

_ = الصفدي في "الوافي بالوفيات" 7/ 116 عن المستظهر بالله لنفسه، والوطواط في "غرر الخصائص" ص 150. (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 35. (¬2) في (ل): "خير" والمثبت من (ط). (¬3) انظر "الأوائل" للطبراني (1، 9، 10، 13، 41)، و"الأوائل" للعسكري 1/ 140، 2/ 199، 201، =

ورأى الشَيبَ، ونصب أنصاب الحرم، وَيُكْسَى حُلَّةً يوم القيامة إبراهيم - عليه السلام -. أول من تكلم بالعربية، وركب الخيل إسماعيل. أول من عمل القراطيس يوسف. أول من سرد الدروع وكانت صفائح، وقال: "أما بعد" داود. أول من دخل الحمام وصنعت له النورة وكتب "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وعمل له الصابون سليمان - عليه السلام -. أول من سمي بيحيى: يحيى بن زكريا. فصل (¬1) أول من تجبَّر في الأرض وخُبِز له الرقاق نمرود. أول من خضب بالسواد وقطعَ الأيدي والأرجل من خلاف وصلب فرعون. أول من طبخ الآجرَّ هامان. فصل (¬2) أول من سيَّبَ السوائبَ وبَحَرَ البحائر، وحمى الحامَ، ووصل الوصيلة في الجاهلية عمرو بن لحيّ. أول من قطع في السرقة وقضى بالقسامة ودخل الكعبة حافيًا الوليد بن المغيرة. أول من قسم للذكر مثل حظ الأنثيين، وصبغ بالزعفران عامر بن جشم. أول من قضى في الخنثى من حيث يبول عامر بن الظَّرِب. أول من سبى السبايا سبأ بن يعرب بن قحطان فسمي به، واسمه عامر. أول من حذا النعال جذيمة بن مالك. ¬

_ = و"لطائف المعارف" ص 6 - 7، و"المدهش" ص 52، و "الرسائل إلى معرفة الأوائل" ص 15، 20، 66، 86. (¬1) انظر "الأوائل" للعسكري 2/ 119، و"الوسائل إلى معرفة الأوائل" ص 21، 63، 91. (¬2) انظر "المعارف" ص 626، و"الأوائل" للعسكري 1/ 22، 57، 64، 75، 77، 98، و"لطائف المعارف" ص 11، و"المدهش" ص 52.

أول من سنَّ الديةَ مئة من الإبل عبد المطلب. أول عربية كست الكعبةَ الديباجَ نتيلَة بنت جَناب (¬1) أم العباس بن عبد المطلب. فصل (¬2) أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة. أول ما نزل عليه من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]. أول ما علمه جبريل الوضوء. أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن الصبيان عليّ ومن النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة. أول آية نزلت في القتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]. أول من أسلم من الأنصار جابر بن عبد الله بن رئاب (¬3). أول من هاجر إلى الحبشة حاطب بن عمرو. أول من بايع ليلةَ العقبة أسعد بن زرارة، وقيل: البراء بن معرور. أول من هاجر إلى المدينة مصعب بن عمير، ومن النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. أول من استقبل القبلة قبل أن يُفرَض استقبالها البَراءُ بن معرور. أولُ من جمَّع بالمدينة مصعب بن عُمير، وقيل: أسعد بن زرارة، وهي أول جمعة جمعت في الإِسلام. أول من بنى لله مسجدًا عمار بن ياسر. ¬

_ (¬1) في (ط): "نثيلة ينت حباب"، وانظر "جمهرة أنساب العرب" ص 15، و"توضيح المنتبه" 9/ 30. (¬2) انظر: "المعارف" ص 433، و"لطائف المعارف" ص 12، 15، 18، و"الأوائل" للعسكري 1/ 110، 158، 265، 301، 309، 312، 313، 327، 332، 2/ 30، 50 , 60، 111، 112، 114، 127، و"الأوائل" للطبراني (62)، و"الوسائل إلى معرفة الأوائل" ص 25، 29، 38، 39، 42، 63، 64، 76، 86، 94، 101. (¬3) في (ط) و (ل): "ريان" والمثبت من "الإصابة" 1/ 212، و"توضيح المشتبه" 4/ 108، و"تاج العروس" (رأب).

أول شهيدة في الإِسلام سمية أم عمار. أول من أذَّن بلال. أول من أوصى في الإِسلام بثلث ماله البراء بن معرور. أول من رمى بسهمٍ في سبيل الله سعد بن أبي وقاص. أول من عدا به فرسه في سبيل الله المقداد بن الأسود. أول من سنَّ الصلاة عند القتل خبيب بن عديّ. أول من دُفِنَ بالبقيع عثمان بن مظعون. أول من سُمّي في الإِسلام بمحمد محمَّد بن حاطب. أول مولود وُلِد في الإِسلام بالمدينة من أولاد المهاجرين عبد الله بن الزبير، ومن الأنصار النعمان بن بشير، وبالبصرة عبد الرحمن (¬1) بن أبي بكرة. أول ظِهارٍ كان في الإِسلام ظهار أوس بن الصامت. أول لعانٍ كان في الإِسلام لعان هلال بن أمية. أول خلعٍ كان في الإِسلام خلع ثابت بن قيس بن شماس. أول مرجوم في الإِسلام (¬2) ماعز. أول رايةٍ عقدت في الإِسلام راية عبد الله بن جحش، وهو أول من تسمَّى بأمير المؤمنين (¬3). أول امرأة ضرب على قبرها فسطاط زينب بنت جحش. أول من حُملت في المدينة على نعش فاطمة عليها السلام. أول من جمع القرآن أبو بكر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) في (ط) و (ل): "عبد الله"، والمثبت من "المعارف" ص 289، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 319 - 320. (¬2) من هنا فقدت أوراق من (ل) إلى فصل في ذكر الأقاليم .. الإقليم السابع وسنعتمد مطبوعة الدكتور إحسان عباس. (¬3) في "المدهش" ص 53: هو أول من دعا: يا أمير المؤمنين. وفي "الأوائل" للطبراني (62) عن سعد بن أبي وقاص: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جحش بن رئاب على سرية، وكان أول أمير في الإِسلام.

أول مَنْ مَصَّرَ الأمصارَ ودَوَّنَ الدواوين وفرض الأعطية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. أول من قصَّ في المسجد تميم الداري بإذن عمر. أول من زاد في الأذانِ يومَ الجمعة وجلس في الخطبة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. أول من مات من الصحابة بالكوفة ودفن بظاهرها خباب بن الأرتّ. أول من عمل المقصورة في الجامع معاوية بن أبي سفيان. أول رأس حمل في الإِسلام رأس عمر بن الجون. أول من قدَّم الخطبةَ يومَ العيدِ قبل الصلاة مروان بن الحكم. أول من وُرِثَ في الإِسلام ابن نضلة (¬1)، مات بالحبشة فورثه ابنه النعمان. أول من لبس الطيلسان بالمدينة جبير بن مطعم. أول من ركب ومشى بين يديه الناس الأشعث بن قيس. أول من عمل المحامل (¬2) الحجاج بن يوسف. أول من سمي في الإِسلام عبد الملك، عبد الملك بن مروان. أول من نقَّط المصاحف يحيى بن يعمر. أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي. أول قاضٍ بالمدينة عبد الله بن نوفل بن الحارث، وبالكوفة أبو قُرَّةَ الكندي، وبالبصرة كعب بن سُور، وبالعراق سلمان بن ربيعة، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه. فصل (¬3) واختلفوا في أي شيء خلق الله بعد القلم، فقال قوم: اللوح المحفوظ؛ وروى مجاهد عن ابن عباس قال: اللوح من درة بيضاء، وطوله مثل ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه من الدر والياقوت، وقلمه نور، وهو متصل ¬

_ (¬1) هو عدي بن نضلة. انظر "الإصابة" 2/ 471، و"الوسائل إلى معرفة الأوائل" ص 63. (¬2) في (ط): "المحافل"، والمثبت من "الأوائل" للعسكري 2/ 60، و"تاج العروس" (حمل). (¬3) انظر "كنز الدرر" 1/ 25.

بالعرش، ثم قرأ ابن عباس: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} الآية (¬1) [البروج: 22]. وقد ذكر الثعلبي معناه. وروي أيضًا عن أنس أن اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل (¬2). وقال مقاتل: هو عن يمين العرش. وقال قومٌ: خلقَ بعد القلمِ الكرسيَّ ثم العرش، وسنذكره. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 5/ 135، والطبراني في "الكبير" (10605)، والحاكم 2/ 474، 519 من طريق أبي حمزة الثمالي، وبكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لوددت أن عندي رجلًا من أهل القدر فوجأت رأسه، قالوا: ولم ذاك؟ قال: لأن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ستين وثلاث مئة نظرة، يخلق بمنظرة ويحيي ويميت، ويعز ويدل، ويفعل ما يشاء. قال الحاكم أولًا: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال الذهبي: اسم أبي حمزة ثابت وهو واه بمرة. وقال ثانيًا: هذا حديث صحيح الإسناد فإن أبا حمزة الثمالي لم ينقم عليه إلا الغلو في مذهبه فقط. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 19 أو قال: رواه الطبراني من طريقين ورجال هذه ثقات. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 24/ 287.

فصل في حد الزمان والأيام وما نقل في ذلك عن العلماء والأعلام

فصل في حدّ الزمان والأيام وما نقل في ذلك عن العلماء والأعلام الزمان: اسمٌ لقليلِ الوقتِ وكثيره، وطويلِهِ وقصيرِه، ويُجمع على أزمان وأزمِنة وأَزْمُن. وقد ذكره الجوهري (¬1). ويقال: الزَّمَن أيضًا، وهو عبارة عن حركات الفلك، ويدخل فيه ساعات الليل والنهار، والساعات مقدَّرات بقطع الشمس والقمر درجات الفلك (¬2). فأما اليوم فقال الجوهري: أصله أَيوَام، وجمعه أيام (¬3). ومعياره من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، فإن قيل: إنما يعرف اليوم بطلوع الشمس وغروبها ولم تكن الشمس يومئذ، فالجواب أن الباري سبحانه لا يحتاج إلى طلوع الشمس في مخلوقاته لأنه ليس عنده ليل ولأنهار، بذلك وردت الأخبار والآثار. فالحاصل أنَّ الله خلق السماوات والأرضَ قبل خلقه الأيام والليالي والشمس والقمر، وقد رواه مجاهد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فَقَال لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالتَا أَتَينَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فقال الله سبحانه وتعالى للسماوات: أطلعي شمسي وقمري ونجومي، وقال للأرض: شققي أنهارك وأخرجي ثمارك فأجابتا (¬4). واختلف العلماء في الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض والمخلوقات: هل هي مثل أيام الدنيا المعروفات أو مثل أيام الآخرة (¬5)، كلُّ يوم (¬6) ألفُ سنةٍ، على قولين: أحدهما: أنها مثل أيام الدنيا، قاله مجاهد والحسن البصري؛ لأنها هي المعهودة؛ والثاني: أنها مثل أيام الآخرة، وبه قال ابن عباس وعامة العلماء (¬7)، قال ¬

_ (¬1) "الصحاح" (زمن). (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 22. (¬3) "الصحاح" (يوم). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 24/ 98. (¬5) في (ط): "الأخرى" والمثبت من "كنز الدرر" 1/ 26. (¬6) في كنز الدرر 1/ 26: كل يوم مقداره. (¬7) انظر "البدء والتاريخ" 2/ 52.

الله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5]. فإن قيل: فهلّا خلقها في لحظة واحدة وهو أهونُ عليه؟ فالجوابُ من وجوهٍ: أحدها: أنَّ التثبُّت أبلغُ في القدرة، والتعجيلُ لا تقتضيه الحكمة، قاله ابن عباس. والثاني: أن الله تعالى أراد أن يُظهر في كلِّ وقت أمرًا تستعظمه الملائكة، قاله مجاهد. والثالث: أن الذي يتوهمه المتوهم من إبطاء الخلق في ستة آلاف سنة يتوهمه في ستة أيام عند قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ}. وقال سعيد بن جبير: إن الله تعالى كان قادرًا أن يخلق المخلوقات في لمحة واحدة، وإنما خلقها في ستة أيام تعليمًا لخلقه الرفقَ والتثبت في الأمور. وحكاه عن ابن عباس، وهو معنى القول الأول. واختلفوا في أسماء الأيام: فقال الزجاج والفراء وأبو عبيد، وقد رواه الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنبأنا بذلك جماعة عن أبي القاسم السمرقندي قالوا: كانت العرب العاربة تقول ليوم السبت: شيار، وليوم الأحد: أول، وليوم الاثنين: أهون، وللثلاثاء: جبار، وللأربعاء: دبار، وللخميس: مؤنس، وليوم الجمعة: العروبة؛ وأول من نقل العروبة إلى يوم الجمعة كعب بن لؤي (¬1). وقد ذكر الجوهري هذه الأيام وقال: كانت العرب تسميها في أساميهم القديمة، أنشدني أبو سعيد السيرافي قال: أنشدني ابن دريد لبعض شعراء الجاهلية قال: [من الوافر] أُؤمِّل أن أعيشَ وإنَّ يومي ... بأوَّلَ أو بأهونَ أو جُبارِ أو التالي دبار أم فَيَومي ... بمؤنسٍ أو عَرُوبَةَ أو شِيارِ (¬2) والثاني: أنهم كانوا يسمون يوم السبت: أبا جاد، ويوم الأحد: هوّز، ويوم الاثنين: حطّي، والثلاثاء: كمن، والأربعاء: سعفص، والخميس: قرشت، والجمعة: العروبة. حكاه الضحاك عن زيد بن أرقم (¬3). ¬

_ (¬1) "الأوائل" للعسكري 1/ 47. (¬2) "الصحاح": (هون). (¬3) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 42، وانظر "المنتظم" 1/ 123.

والثالث: ذكره أبو إسحاق الثعلبي عن ابن عباس قال: خلق الله يومًا واحدًا فسمَّاه يومَ الأحد، وخلق يومًا وسماه: يوم الاثنين، وذكر باقي الأيام على هذا (¬1). قلت: والتوفيق بين هذه الأقوال ممكنٌ؛ لأنه يحتمل أنها كانت قديمة ثم تغيرت ونقلت بطول الزمان كما فعلوا بالشهور، لما نذكر. فأما السبت فجمعه: سبوت وأسبت، وقال الجوهري: سمِّي يوم السبت لانقطاع الأيام عنده، قال: والسبت: الراحة، والسبت: الدهر، والسبت: ضرب من سير الإبل وهو العَنَقُ، والسبت: قيام اليهود بأمر سبتها، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} [الأعراف: 163] والمُسبِتُ الذي لا يتحرَّكُ، والسُّباتُ النوم، وأصله الراحة (¬2). وقد ذكر هذه الأسماءَ أبو عبيد فقال: أحد وآحاد واثنين وأثانين، وثلاثاء وثلاثاوات، وأربعاء وأربعاوات، وخميس وأخمسة، وجمعة وجمعات. واختلفوا في أيّ يوم بدأ الله الخَلْقَ على أقوال: أحدها: أنه بدأ بها يوم السبت وكان الفراغ منها يوم الجمعة، قال الإِمام أحمد بن حنبل بإسناده عن عبد الله بن رافع مولى أم سملمة، عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي وقال: "خلق الله التربةَ يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدوابَّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر إلى الليل [في آخر] ساعة من ساعات الجمعة ما بين العصر إلى الليل". انفرد بإخراجه مسلم (¬3). وقد رواه [عكرمة] عن ابن عباس قال: جاءت اليهود فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المخلوقات، فذكر الحديث -إلا أن الطبري ذكر أنه بدأ بالخلق في يوم الأحد لما نذكر- فلما قال: وخلق آدم يوم الجمعة في آخر ساعة، قالت: ثم ماذا؟ فقال: ثم استوى على العرش، فقالوا: لو أتممت: ثم استراح يوم السبت، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبًا ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 42، وانظر "المنتظم" 1/ 123. (¬2) "الصحاح": (سبت). (¬3) أحمد في "مسنده" (8341)، ومسلم (2789).

شديدًا، ثم أنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} الآيات (¬1) [ق: 38 - 39]. وقد ذكره أبو إسحاق الثعلبي في آخر سورة "ق"، وقال فيه: فقالت اليهود: صدقتَ إن تممت، قال: وما ذاك؟ قالوا: ثم استراح يومَ السبتِ واستلقى على العرش. فنزلت الآيات. والثاني: أنه بدأ بالمخلوقات يوم الأحد. قاله كعب الأحبار ومجاهد والضحاك، وحكاه أبو جعفر الطبري عن اليهود (¬2)، ورواه عن ابن عباس. وحكاه الثعلبي أيضًا أنه قال: خلق يومًا واحدًا وسماه: يوم الأحد، وذكره، وكذا هو في التوراة. ولهذا قالوا: استراح يوم السبت، وبه قالت النصارى؛ لأن عيسى - عليه السلام - رفع فيه إلى السماء. [والثالث: يوم الاثنين، قاله محمَّد بن إسحاق. والقول الأول أصح لوجهين، أحدهما: لأجل الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نص عليه، وقد قال أبو هريرة: أخذ رسول الله بيدي، والثاني: لأن فيه مخالفة لليهود لأنهم أبطلوا الخلق يوم السبت وقالوا استراح، ومخالفة النصارى أيضًا] (¬3). فصل (¬4) واختلفوا في خلق السماوات والأرض، أيهما أسبق؟ على قولين: أحدهما الأرض قاله ابن عباس، والثاني: السماوات، قاله مجاهد. وسنحقق القول فيما بعد إن شاء الله تعالى. فصل (¬5) واختلفوا في خلق الليل والنهار أيضًا على قولين: أحدهما: النهار خلق أولًا، قاله ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 1/ 45، والحاكم 2/ 543، وكنز الدرر 1/ 28، وما بين معكوفات منها. (¬2) "تاريخ الطبري" 1/ 44. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة من "كنز الدرر" 1/ 29. (¬4) انظر "كنز الدرر" 1/ 29. (¬5) انظر "كنز الدرر" 1/ 29.

عكرمة ومجاهد؛ لأنه ضياء والنور مقدم على الظلام، والثاني: الليل، وبه قال ابن عباس وعامة العلماء، ولقوله تعالى: {وَلَا اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37] فدلَّ على أن الليل مقدم عليه، ولأن الظلمة أصل والضوء عارض، وهو من إشراق نور الشمس فلا يكون أصلًا، وقد نصَّ عليه ابن عباس فقال: أرأيتم حين كانت السموات والأرض رَتْقًا، ما كان بينهما إلا ظلمة (¬1). فصل وأما السنة، فقال يعقوب بن السكيت: هي واحدة السنين، وأصلها: سَنْهَة وتصغيرها: سُنَيْهة وسُنيَّة، وجمعها: سنون، بكسر السين، وبعضهم يضمها. فصل (¬2) وأما الشهر، فذكر أبو منصور بن الجواليقي في "المعرب" أن أصله شهر بالسين المهملة، فعُرِّب، وقال الفراء: إنما سمي شهرًا لشهرته وظهوره (¬3)، ويسمى الهلال شهرًا لشهرته؟ وقال الفرّاء: أول شهور العرب العاربة: ناجر، وأول شهور المستعربة: المحرم. وقال الجوهري: لما نقلت العربُ أسماءَ الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها. قلت: لم يفسِّر الجوهري معنى هذا الكلام ويحتاج إلى بيان؛ قلت: أما قوله لما نقلتِ العرب: يريد المستعربة، ذلك لأن العرب قسمان، عاربة وهم الخلص الذين لم يخالطوا الحاضرة، ومستعربة وهم الذين خالطوا الحاضرة؛ قال أبو العلاء: العاربة مثلُ طسمٍ وجديس، ومن كان معاصرًا لهم، وأما المستعربة فهم المتأخرون وهم الذين نقلوا أسماء المشهور، فقالوا: المحرّم وصفر إلى ذي الحجة. فأما العرب الأوائل، فقرأت على شيخنا أبي اليُمن زيد بن الحسن الكندي رحمه ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 61. (¬2) انظر "كنز الدرر" 1/ 84 وما بعدها. (¬3) "المعرب" ص 255. وفيه: "وقال ثعلب" بدل: "الفراء".

الله قال: قرأت على شيخنا أبي منصور بن الجواليقي، عن الخطيب أبي زكريا التبريزي، عن أبي العلاء المعري قال: كانت العرب العاربة تسمي هذه الشهور بغير هذه الأسماء فتقول للمحرم: مؤتمِر، ولصفر: ناجِر، ولربيع الأول: خوَّان، ولربيع الآخر: وَبْصان، ولجمادى الأول: رُبَّى، ولجمادى الآخر: حَنين، ولرجب: الأصم، ولشعبان: عازل، ولرمضان: ناتق، ولشوّال: وَعْل، ولذي القعدة: وَرْنَة، ولذي الحجة: بُرَك. تفسيرها: أما مؤتمر، فاشتقاقه من المؤامرة في ترك الحرب احترامًا له، وأما ناجر، فالنجر الأصل، جعلوه أصل الحرب؛ وأما خوَّان: فمن تخوينهم الحرب أي نقضهم، وأما وَبْصان: فمن الوَبْص وهو بريق السلاح، وكانت الغارات تشتد فيه، وأما رُبَّى: فمن قولهم شاة رُبَّى على وزن فُعلى أي كثيرةُ النِّتاج، وكانوا يجمعون فيه الأموال، وأما حنين: فلأن أسفارهم تطول فيحنُّون فيه إلى المنازل والأهل، وأما الأصم: فلأنهم ما كانوا يُغيرون فيه ولا يسمعون قعقعةَ السلاح فسمّي أصمَّ به، ومنهم من يقول: رجب مضر وسنذكره. وأما قولهم ناتق؛ فمن قولهم: نتقت الشاة إذا أكثر ولدها، وأما وَعْل: فالوعل الملجأ، كانوا يلجأون فيه إلى المنازل، وأما وَرْنة؟ فالأَرْن -بإسكان الراء- النشاط، كانوا ينشطون فيه للحج (¬1)، وأما بُرَك؟ فلأنَّ الإبل كانت تبرك فيه في الموسم حتى ينقضي، وقيل: هو من البركة. وأما شهور المستعربة؛ فسمي المحرم لتحريم القتال فيه، كان الرجل يلقى قاتلَ أبيه أو ابنه أو أخيه فلا يعرض له، وكذا في الأشهر الحرم [كلها] , قال الجوهري (¬2): إلا حيّان من العرب خَثعم وطيّئ فإنهم كانوا يستحلون القتال فيه وفي الأشهر الحرم. وأما صفرَ: فلأنَّ المنازل كانت تَصْفَر منهم، أي: تخلو، والصِّفْر الخالي، وقال الجوهري عن ابن دريد: والصَّفَرَان شهران من السنة أحدهما المحرم (¬3). وقيل: لأنهم ¬

_ (¬1) أورده الفيروزآبادي في "القاموس" في مادة (ورن)، وذكر معنى ما ذكره المصنف المرزوقي في "الأزمنة والأمكنة" 1/ 279. (¬2) "الصحاح": (حرم). (¬3) "الصحاح": (صفر).

كانوا ينزلون بلادًا يقال لها: صفر، والأول أصح. وأما شهرا ربيع: فلأنهم كانوا يرتبعون فيهما، وقال الجوهوي: والربيع عند العرب ربيعان: ربيع المشهور وربيع الأزمنة، فربيع المشهور شهران بعد صفر، ولا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر، وأما ربيع الأزمنة فربيعان: الأول منهما: ربيع الكلأ، وهو الفصل الذي تأتي فيه الكمأة والنَّوْر ينضر، والربيع الثاني، وهو الفصل الذي تدرك فيه الثمار (¬1). وأما جُماديان: فلأن الماء كان يجمد فيهما، وهو فُعَالى من الجَمْد. وأما رجب: فمن الترجيب، وهو التعظيم، يقال: رجَّبته أي: عظَّمته، وقال الفراء: ومنه قولهم: نخلة مُرَجَّبة، إذا أكثر حملها أقاموا لها دعائم لئلا تنكسر أغصانها، وفيه لغتان: رجب ورحم؛ لأن الرحمة تنصب فيه صبًّا، ويقال له: رجب مضر أيضًا لأَنَّ مضر كانت تعظمه أكثر من غيرها فنسب إليها، وجمعه: أرجاب؛ وقيل إنما سمي: الاسم؛ لأنه لا يشهد بالقبائح على هذه الأمة. وأما شعبان: فلأن الشَّعْب هو الاجتماع، كانوا يتشعبون فيه بعد الفرقة، وقيل: إنما سمي شعبان؛ لأنه يتشعّب فيه خير كثير لرمضان [أي يتجمع]. وأما رمضان: فاشتقاقه من الرَّمَض، وهو وقع حرِّ الشمس على الرمل، ومنه: الرَّمْضاء، ورمضت الفِصال: إذا وجدت حرَّ الشمس. وأما شوال: فمن الشَّوْل، وهو الارتفاع؛ لأن النوق تشولُ فيه، أي: ترفع أذنابَها للقاح، وقيل: وإن ألبانَ الإِبل كانت تشول فيه، أي: تقل [وجمعه شوالات وشوائل] وهو أول أشهر الحج. وأما ذو القعدة: فلأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال تعظيمًا له [وجمعه ذوات القعدة]. وأما ذو الحجة: فلأنهم يتأهبون فيه للحج ويقصدون مكة من [سائر] الآفاق، [وجمعه ذوات الحجة] (¬2). ¬

_ (¬1) "الصحاح": (ربع). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من "كنز الدرر" 1/ 86.

فصل في شهور الروم

فصل والعرب تسمي كلَّ ثلاثِ ليالٍ من الشهرِ باسمٍ. فصل (¬1) والعرب تؤرخ بالليالي دون الأيام؛ لأن سنيَّهم قمرية، فالعمل فيها على القمر لأنه يرى في الليل عاليًا، فيقال في أول ليلة من الشهر: استهل الهلال، ولا يقال ذلك في النهار، بخلاف سائر الأمم، فإن سنيهم على سير الشمس وهي نهارية؛ ثم العرب تعد السنة ثلاثمائة وأربعة وخمسين يومًا وسدس يوم (¬2)؛ لأن شهرًا يكون تامًّا وشهرًا يكون ناقصًا غالبًا. فصل في شهور الروم (¬3) الروم تعد السنة ثلاث مئة وخمسة وستين يومًا وربع يوم، وشهورهم مختلفة العدد، وأولها: نَيسان، وهو ثلاثون يومًا. وأيار أحد وثلاثون يومًا. ولثماني عشرة منه ترجع الشمس هابطة من الشمال. وحَزِيران ثلاثون يومًا. وتموز أحد وثلاثون يومًا، وكذا آب، فإذا انسلخ آب قلَّ الحر. وأيلول ثلاثون يومًا، ولثلاث عشرة منه عيد الصليب، ولثماني عشرة منه يستوي الليل والنهار. وتِشرين الأول أحد وثلاثون يومًا، وفيه يكون المهرجان، ومعناه: أنه كان في الفرس ملك ظالم جبار اسمه "مهر" فمات في نصف هذا الشهر، و"جان" هو الروح، أي: "مهر" ذهبت روحه. وبين المهرجان والنيروز مئة وستون يومًا، والفرس تسمي هذا ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر"1/ 87. (¬2) في "الفتاوى الكبرى" 25/ 138: وبعض يوم خمس أو سدس. وانظر "التعريفات" ص 161. (¬3) انظر "كنز الدرر" 1/ 87 - 88.

فصل في عدد الفرس

اليوم أول الشتاء. وتشرين الآخر ثلاثون يومًا. وكانون الأول أحد وثلاثون يومًا، ولسبع عشرة منه يكون النهار تسع ساعات (¬1)، ويكون الليل أربع عشرة ساعة، وذلك منتهى طوله؛ وفي الليلة الخامسة والعشرين منه ولد المسيح - عليه السلام -. وكانون الآخر أحد وثلاثون يومًا، وفي أول ليلة منه توقد نار عظيمةٌ بأنطاكية، والنصارى تعظِّم تلك النار (¬2) وتقولُ بأنَّ النصرانية ظهرت من أنطاكية في تلك الليلة بعدما دثرت، وتسميها مدينة الله. وشباط ثمانية وعشرون يومًا وربع يوم في ثلاث سنين متواليات، والسنة الرابعة تسمى: كبيسة، فتكون تسعة وعشرين يومًا يقسم ذلك في أربع سنين، ولسبع ليال منه تسقط الجمرة الأولى، وهي الجَبْهة، ولأربع عشرة منه تسقط الثانية وهي الزُّبْرة، ولإحدى وعشرين منه تسقط الثالثة وهي الصَّرْفة، فينصرف البرد، وفيه يتكامل الجمار؛ واليوم الخامس والعشرون منه أول أيام العجوز (¬3). وآذار ثلاثون يومًا (¬4)، وفي الرابع عشر منه فصل الربيع ونزول الشمس الحمل، ويعتدل الليل والنهار، وفي ذلك اليوم النَّيروز. وقال ابن الجواليقي: ويقال: النَّوروز، وقد تكلمت به العرب (¬5)، والله أعلم. فصل في عدد الفرس السنة عندهم ثلاث مئة وستون يومًا، كل شهر ثلاثون يومًا، وأول شهورهم: فَرْوَرْدين ماه، وأول يوم منه النيروز، والثاني (¬6): أُرْديبِهِشْت ماه، والثالث: خُرْداد ¬

_ (¬1) في "كنز الدرر" زيادة: تسع ساعات ونصفًا وربعًا وهو منتهى قصره. (¬2) في "كنز الدرر" زيادة: والنصارى تعظم تلك الليلة وتلك النار. (¬3) في "عجائب المخلوقات" ص 117: في السادس والعشرين. (¬4) في عجائب المخلوقات 117: آذار أحد وثلاثون يومًا. (¬5) "المعرب" ص 388. (¬6) أي من شهور الفرس.

فصل في عدد القبط

ماه، والرابع: تِير ماه، والخامس: مُرْداد ماه، والسادس: شهر ير ماه (¬1)، والسا بيع: مِهْرْ ماه، وفي الثامن عشر منه يكون المهرجان. والثامن: آبان ماه، والتاسع: آذَر ماه، العاشر: دِي ماه، والحادي عشر: بَهْمن ماه، والثاني عشر: اِسْفَنْدار مد ماه، وهذه أسامي ملوكهم. فصل في عدد القبط السنة عندهم ثلاث مئة وخمسة وستون يومًا، كل شهر ثلاثون يومًا مثل شهور الفرس، إلا أنهم يجعلون بعدها خمسة أيام يسمونها: اللواحق، وتدعى "العمياء" أيضًا، فأول يوم من السنة عندهم هو التاسع والعشرون من آب عندنا، وأول شهورهم: توت، وهو أيلول بالسريانية. والثاني: بابه، وهو تشرين الأول. والثالث: هتور، وهو تشرين الثاني. والرابع: كيهك، وهو كانون الأول. والخامس: طوبه، وهو كانون الآخر. والسادس: أمشير، وهو شباط. والسابع: برمهات، وهو آذار. والثامن: برموده، وهو نيسان. والتاسع: بشنس، وهو أيار. والعاشر: بوونه، وهو حزيران. والحادي عشر: أبيب، وهو تموز. والثاني عشر: مسري، وهو آب، وفيه يتكامل النيل. * * * ¬

_ (¬1) كذا هو في "عجائب المخلوقات" ص 122، وفي "الآثار الباقية" ص 42، و"المعجم الفارسي، (شهر): "شهريور".

فصل في خلق الأرضين ومدة التصوير والتكوين

فصل في خلق الأرضين ومدة التصوير والتكوين (¬1) قال علماء اللغة: إنما سميت الأرض أرضًا؛ لأنَّ الأقدام تدقّها وترضّها. وقال الجوهري: الأرض مؤنثة، وهي اسم جنس، وجمعها أَرَضون، وقد تجمع على أُرُوض، وأما قول ابن عباس: أَزُلْزِلَتِ الأرضُ أَم بيَ أَرْضٌ؟ فإنَّما أراد الرِّعْد والنَّفْضَة (¬2). وروى أبو إسحاق الثعلبي عن ابن عباس قال: أولُ ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السموات، ثم خلق النون وهو الحوت الذي يحمل الأرضَ، فبسطَ الأرض على ظهره، فتحرك النون فمادت الأرض، فأُثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرضِ، ثم قرأ ابن عباس {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم: 1] (¬3). واختلفوا في اسمم هذا الحوت؛ فقال الكلبي ومقاتل: بهموت (¬4). وقال أبو اليقظان والواقدي: ليوثا، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه بلهوت؛ قال الراجز: ما لي أراكمْ كلَّكُم سُكوتا ... واللهُ ربِّي خلَق البلهوتا (¬5) وقال الثعلبي أيضًا: قالت الرواة: لما خلق الله تعالى الأرض وفَتَقها بعث من تحت العرش ملكًا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع، فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب، باسطتين قابضتين على الأرضين السبع حتى ضبطها, فلم يكن لقدمه موضع قرار، فاهبط الله تعالى من الفردوس ثورًا وجعل قرارَ قدَمَي المَلَك على سنامه فلم تستقرَّا، فأَحدَرَ الله ياقوتةً حمراء من الفردوس غلظها مسيرة خمس مئة عام، فوضعها على سنام الثور فاستقرَّت عليها قدماه، وقرون ذلك الثور هي أربعون ألف قرن خارجة من أقطار الأرض، ومنخراه في البحر، فهو يتنفس ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 81. (¬2) "الصحاح" (أرض). (¬3) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 51. (¬4) ضبطه الألوسي في "روح المعاني" 29/ 23: بفتح الياء المثناة التحتية ولكون الهاء. (¬5) أورده القرطبي في "تفسيره" 18/ 224، وفيه: "البهموتا".

كلَّ يوم نفسًا، فإذا تنفس مدَّ البحر، وإذا ردَّ نفَسَه جزر، فلم يكن لقوائمه موضع قرار، فخلق الله صخرةً خضراء كغلظ السموات والأرض، فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} الآية [لقمان: 16] فلم يكن للصخرة مُستَقرٌّ، فخلقَ الله نونًا -وهو الحوت العظيم-، فوضع الصخرة على ظهرِهِ وسائرُ جسدِهِ خال، والحوتُ على البحر، والبحرُ على متنِ الريح، والربح على القدرة تقلُّ الدنيا كلها بما عليها، قال لها الجبار سبحانه: كوني، فكانت (¬1). وقد روى أبو بكر الخطيب بمعناه عن ابن عباس، فقال بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس، وفيه: وكانت الأرضُ تمورُ مورًا تتكفَّأ، كما تتكفأ السفينة، فبعث الله تعالى جبريل، فلم يقدر أن يسكِّنها، فقال: يا إلهي، قد علمتَ أنك لم تقدِّر ذلك على يدي، ولو بعثتَ بعوضةً لسكنتها، قال: فأرسل الله عَزَّ وَجَلَّ ملكًا من تحت العرش، فدخل تحت الأرض وذكره. وفيه: وقرونُ ذلك الثورِ خارجةٌ من أقطار الأرض قد اشتبكت بأقطار السموات إلى العرش، ومنخرا الثور في ثقبين من تلك الصخرة، فهو يتنفس كل يوم نفسين، فإذا تنفس مدَّ البحر وإذا ردَّ نَفَسه جزرت البحار. وفيه: واسم الحوت بلهوت، فانتهى إبليس إلى الحوت فقال: ما خلق الله خلقًا أعظم منك، فَلِمَ تحملُ هذه الأَثقال؟ فهم أن يلقي ما عليه، فبعث الله تعالى بَقَّةً فدخلت في عينه فشغلته عن ذلك، ثم أنبت الله جبل قاف من تلك الياقوتة الخضراء فأحاط بالدنيا، ثم أنبتَ منه الجبال وشبك بعضها ببعض بعروقه كالشجر في الأوتاد، فإذا أراد الله أن يزلزل أرضًا أوحى إلى قاف فحرَّكَ ذلك العرق، وهو حديث طويل اختصرته. وقد أخرجه الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في كتابه المعروف بـ "كتاب الزلازل". وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار: أنَّ إبليسَ تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها فوسوس إليه: أتدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والدوابّ والشجر والجبال وغيرها؟ ولو نفضتهم لاسترحت، فهمَّ لوثيا أن يفعل ذلك فبعث الله إليه دابةً ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 5 - 6.

فدخلت في منخره ووصلت إلى دماغه، فضج الحوت منها إلى الله تعالى، فأَذِنَ لها فخرجت؛ قال كعب: فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همَّ بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت، فلا يزالُ كذلك إلى يوم القيامة (¬1). وروى الحافظ أبو القاسم أيضًا في "كتاب الزلازل" عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُسِّست السمواتُ السبع والأرضون السبع على {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (¬2). قلت: ولا يصحُّ هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو موقوف على أنس (¬3). وذكر ابن قتيبة في "المعارف" عن الثوراة، وقال في السِفر الأول منها: خلق الله السمواتِ وآدمَ وحواء. وذكر ألفاظًا شنيعةً منها: أن الله تعالى يخلق بشرًا على صورته وما أشبه هذا (¬4)، والله تعالى منزَّه عن الصورة لأنَّه ليس بجسم، وإن صحَّ في الأخبار حديثُ الصور (¬5) فَيُحْمَلُ على الصفة، وهو اللائق بالله سبحانه وتعالى. وقال أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لما خلَق الله الأرضَ جَعَلَت تميلُ، فخلَق الجبال وألقاها عليها فاستقرَّت، فتعجبت الملائكةُ من خلْقِ الجبال، فقالت: يا رب، هل من خلقك شيءٌ أشدُّ من الجبالِ؟ قال: نعم، الحديدُ، قالت: يا رب، هل من خلقك شيءٌ أشدُّ من الحديدِ؟ قال: نعم، النارُ، قالت: يا رب، فهل من خلقك شيءٌ أشدُّ من النار؟ قال: نعم، الريحُ، قالت: يا رب، ¬

_ (¬1) "عرائس المجالس" ص 6. (¬2) أورده السيوطي في "الجامع الصغير" (1020) وعزاه لتمام في "فوائده" وفيه موسى بن محمَّد بن عطاء، وهو متهم بالكذب. انظر "الميزان" 4/ 219. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 24/ 738، وأبو الشيخ في "العظمة" (896)، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 383 من حديث كعب الأحبار قولَه. قال الألوسي في تفسيره 29/ 24: وللقصاص في هذا الفصل روايات لا يعول عليها, ولا ينبغي الإصغاء إليها. (¬4) "المعارف" ص 9 - 11. (¬5) أخرجه الحارث كما في (بغية الباحث 872)، وابن أبي عاصم في "السنة" (518)، والطبراني في "الكبير" (13580) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقبحوا الوجه، فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن". وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 106 وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطلقاني، وهو ثقة وفيه ضعف. وانظر الكلام عليه في "فتح الباري" 5/ 183.

فهل من خلقك شيءٌ أشدُّ من الريحِ؟ قال: نعم، ابنُ آدم، يتصدَّقَ صدقة بيمينه، ثم يخفيها عن شماله". وقد أخرجه الترمذي (¬1) في "جامعه" وذكره، وهذا الحديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه. * * * ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (12253)، والترمذي (3369) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وهو حديث ضعيف.

فصل في ذكر البيت الحرام المخصوص بالإجلال والإعظام

فصل في ذكر البيت الحرام المخصوص بالإجلال والإعظام ذكر الجوهري، وقال: الكعبة البيت الحرام، سمي بذلك لتربُّعه (¬1). وقال الخليل بن أحمد: إنما سميت الكعبة كعبةً لارتفاعها وعلوّها واستدارتها. وقال مجاهد: سميت كعبةً للتربيع (¬2). والعرب تسمي كلَّ بيت مربع كعبة، وقال مقاتل: لانفرادها عن البناء، وقال الفراء: سميت كعبة لبنائها مربعةً على موضع رفيع، وسمي: البيتَ الحرام لأن الله تعالى حرّمه وعظَّم حرمته. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانت الكعبة خَشَفَة على رأس الماء عليها ملكان يسبحان الليلَ والنهارَ قبل خلق الأرض بألفي عام (¬3) ". قال أبو عمرو بن العلاء: الخَشَفَة: الأكمة الحمراء. وقال الجوهري: الخَشَفة: الحسُّ والحركة (¬4). ومعناه على هذا أنها كانت تضطرب وتتحرك على الماء. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: وضعت الكعبة على أربعة أركان -قبلَ أن يخلقَ الله الدنيا- على وجه الماء، ثم دحا الأرض من تحتها (¬5). وروى العوفي على أنه قال: أرسل الله تعالى الريح فمسحت الماء حتى حَوَتْ على خشفة، وهي التي تحت الكعبة، ثم إن الله مَدَّ الأرض من تلك الخشفة، حتى بلغت حيث أراد الله في الطول والعرض (¬6). وروي عن كعب الأحبار أنه قال: وجد حجر في أسفل المقام من أيام جُرْهُم ¬

_ (¬1) "الصحاح": (كعب). (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 7/ 76. (¬3) لم نقف عليه في "مسند" أحمد ولا في غيره من مصادر التخريج، وذكره ابن الجوزي في المنتظم 1/ 129 من قول أبي هريرة دون إسناد ولا عزو. والخشفة: حجارة تنبت من الأرض تباتًا. (¬4) "الصحاح": (خشف). (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 548. (¬6) أخرجه الحاكم 2/ 512 من طريق عطاء عن ابن عباس، وذكره ابن الجوزي في المنتظم 1/ 128.

مكتوب فيه: "إني أنا الله ذو بكَّةَ، حرَّمتها يومَ خلقتُ السموات والأرضَ، ويومَ وضعتُ هذين الجبلين، وحففتها بسبعة أملاكٍ حنفاءَ، مَن أَمَّ هذا البيتَ زائرًا عارِفًا بحقِّي، مُقرًّا بالوحدانية، حَرَّمْتُ جَسدَهُ على النار" (¬1). وقال أحمد بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كأنِّي أنظرُ إلى أسودَ أَفْحَجَ ينقضُها حجَرًا حجَرًا" يعني: الكعبةَ. انفرد بإخراجه البخاري (¬2). والأفحج: المتباعد ما بين الفخذين. وسنذكر ما يتعلق بالبيت الحرام في قصة الخليل عليه الصلاة والسلام. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9219) من حديث الزهري، قال: بلغني أنهم وجدوا. وأخرجه ابن أبي شيبة (نشرة العمروي 4/ 286) من حديث مجاهد. وأخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 548 من حديث عطاء بن أبي رباح. (¬2) أحمد في "مسنده" (2010)، والبخاري (1595).

فصل في مساحة الأرض، ومقدار طولها والعرض

فصل في مساحة الأرض، ومقدار طولها والعرض قد أشار جماعة من المهندسين العلماء إلى مثل ذلك: المأمون في "كتاب الجغرافيا" وهو كتابٌ ألفه بطليموس، وابن خُرْداذبه في كتاب "المسالك والممالك"، وابن حَوقل، وأبو معشر، وقد أشار أبو الحسين بن المنادي إلى طَرَفٍ من ذلك. واختلفوا في مساحة الطول والعرض على أقوال: أحدها: أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، اثنا عشر ألفًا للسودان، وثمانية آلاف للروم، وثلاثة آلاف لفارس، وألف للعرب، حكاه جدّي رحمه الله في مصنفاته كالمنتخب وغيرِهِ عن قتادة (¬1). والثاني: أنها مسيرة خمس مئة سنة منها ثلاث مئة عمران، ومئتان خراب، لا ساكنَ بها. قاله ابن مضرّب (¬2). والقول الثالث: أن طولها أربع مئة سنة وعرضها مئتان. قاله مجاهد. والرابع: أن طولها وعرضها مسيرة ثلاث مئة سنة، العمران مئة سنة، والخراب مئة سنة، والبحار مئة سنة. قاله حسَّان بن عطية (¬3). والخامس: أنها ستة وثلاثون ألف فرسخ في مثلها، فالهند والسند اثنا عشر ألف فرسخ، وهم ولد حام بن نوح، والصين ثمانية آلاف فرسخ، وللروم عشرة آلاف، وللعرب أربعة آلاف، وفيما بين ذلك ألفان. قاله السدّي عن أشياخه. والسادس: أنَّ مقدار الدنيا ألف فرسخ، ثلث هواء، وثلث بحار، وثلث للناس والدواب. قاله مغيث بن سُمَيٍّ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 1/ 129. (¬2) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 3/ 173. (¬3) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (936). (¬4) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (947) وفيه: الأرض ثلاثة أنواع: ثلث ... وجاء في "كنز الدرر" 1/ 96: =

وقال في "جغرافيا": الهند والصين والمشرق خمسون ألف فرسخ، ومن حدود الهند إلى العراق أربع مئة فرسخ، وعمل رُومِيَة الروم ثلاثة آلاف فرسخ. وقد ذكره الفزاري. وقال مقاتل: ما العمارة في الخراب إلَّا مثل الفسطاطِ في الصحراء (¬1). وقال أبو الحسين ابن المنادي: لا خلافَ أن الأرض على هيئة الكرة، وهي موضوعة في جوف الفلك كالمُحَّة في البيضة، والنسيمُ محيط بها كالبياض من المُحَّة، وهو جاذبٌ لها من جميع جوانبها، والأرضُ جاذبةٌ لما في الأبدان من الثقل، بمنزلة المغناطيس الذي يجذب الحديد، والفَلَك محيط بالنسيم كإحاطة القشرِ بالبياض، وهي مقسومة بنصفين، وبينهما خطُّ الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهو طول الأرض، وأما عرضها: فمن القطب الشمالي الذي يدور حوله بنات نعش، إلى القطب الجنوبي، وذلك ثلاث مئة وستون درجة، والدرجةُ خمسة وعشرون فرسخًا، والفرسخُ اثنا عشر ألف ذراع، وهو أربعة آلاف خطوة بخطوة البعير، وهو ثلاثةُ أَميال، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا، والإِصبع ستُ شَعِيرات، كلُّ شَعيرةٍ ستُّ شَعرات من شَعر البِرذَون، وهذا الذراع قدَّره المأمون بمحضر من المهندسين والحُسَّاب، وهو بين الطويل والقصير، دون ذراع البحار والذراع الهاشميّ، فعلى هذا التقدير يكون ما بين القطبين تسعة آلاف فرسخ. وقد أشار إلى هذا ابن خرداذبه في كتاب "المسالك والممالك" (¬2). وأشار في "جعرافيا" إلى هذا. وقال ابن حوقل: "كتاب جغرافيا" ذَكَر فيه بطليموس طولَ الأرضِ وعرضها، وجبالها وبحارها وأنهارها، ومدنها، وجميع ما فيها، فنقله المأمون إلى العربية. قال كعب الأحبار: وجدت في التوراة أن الدنيا مثلُ نسر، فالشامُ رأسه، والروم صدره، والمشرق والمغرب جناحاه، واليمن ذنبه، ولا يزال الناس بخير ما لم يفرغ ¬

_ = "ثلاثون" وفي "الدر المنثور" 4/ 43: ثلاثة أثلاث: ثلث ... (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 4/ 75 من حديث وهب بن منبه. (¬2) "انظر المسالك والممالك" ص 4.

الرأس، فإذا فرغ الرأس هلك الناس. وقال ابن حوقل: ما بين يأجوج ومأجوج إلى ناحية البحر المحيط في الشمال براري وقفار، ليس فيها عمارة ولا نبات لشدة البرد بها، وسببه انحراف الشمس عن القطب الشمالي، وكذا ما بين المحيط والسودان براري لا شيء فيها لشدَّة الحرّ، وسببه ميل الشمس إلى ناحية الجنوب (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "صورة الأرض" ص 22.

فصل في ذكر الأقاليم الدالة على حكمة الحكيم

فصل في ذكر الأقاليم الدالة على حكمة الحكيم قال الجوهري: الإقليم واحدُ الأقاليم السبعة (¬1). ولم يبين، قلت: والأصح في حدِّ الإقليم: أنه بُلدان وأماكن تقطعها الشمس في طلوعها وغروبها وارتفاع دَرَجِها. وذكر في "جغرافيا" وقال: الدنيا سبعةُ أقاليم، كلُّ إقليم تسع مئة فرسخ في مثلها، والبحر الأعظم محيط بها، وجبل قاف وراء البحر، وأطراف السماء عليه كأطراف الخيمة على وجه الأرض، وأن خضرة السماء تلونه، ولبعد المسافة تبين أنها زرقاء. ثم رتَّبَ الأقاليم فقال: أولها إقليم الهند، ثم الحجاز، ثم إقليم مصر والشام والمغرب، ثم إقليم بابل، ثم إقليم الروم، ثم إقليم الترك، ثم إقليم الصين (¬2). قلت: وما يُكتفى بهذا، ولا بدَّ من البسط في حدِّ الأقاليم، وقد ذكر أبو معشر وابن حوقل وأبو الحسين بن المنادي طرفًا من ذلك، فنأتي على أقوالهم فنقول: الإقليم الأول (¬3): إقليم الهند: ويبتدئ من المشرق من أقصى بلاد الصين، فيمرُّ على بلاد الهند، ثم على ساحل السِّنْد (¬4) إلى ناحية الجنوب، فيمر على عُمَان، ثم على اليمن وظَفَار وحَضْرَمَوْت وعدَن وصنعاء وَتَبالة وجَرَش، وما إلى تلك البلاد حتى يقطع البحر إلى جزيرة العرب، فيأتي عليها، ثم يقطع بحر القُلْزُم ويمر على بلاد الحبشة، ويقطع نيل مصر ويمر على مدينة الحبشة، وتسمى جَرْمَى (¬5)، وعلى مدينة النُّوبَة وتسمى دُمْقُلَة، ثم يمر في أرض المغرب على جنوب بلاد البَرْبَر، إلى أن ينتهي إلى بحر الغرب الكبير. وهذا الإقليم صحيح الهواء يورث صحة الأجسام والحكمة. قال أبو معشر: وله من البروج الجدي، ومن النجوم زحل. ¬

_ (¬1) "الصحاح": (قلم). (¬2) انظر "المدهش" ص 64. (¬3) انظر الأقاليم السبعة في "معجم البلدان" 1/ 28 - 32، و"كنز الدرر" 1/ 97 - 101. (¬4) جاء في "كنز الدرر" 1/ 98: "ساحل بحر السند". (¬5) في "معجم البلدان" 2/ 129: "جَرْمَة".

قلت. ولما ذكرت في هذا الإقليم جزيرَةَ العرب، ذكرتُ حدودها، وقد اختلفوا فيها: فقال الجوهري: وأما جزيرة العرب هي ما بين حَفْر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن طولًا، وفي العرض ما بين رمل يَبْرِينَ إلى منقطع السَّماوة (¬1). وقال الأصمعي: هي ما بين نَجْران والعُذَيب، يعني نجران اليمن، قال: وإنما سميت جزيرة العرب لإحاطةِ البحرِ بها من كلِّ مكان، فجعل حدَّها من المغرب بحر القُلْزُم، ومن المشرق الفرات لأنَّها تمر على أرض الكوفة، وتصبُّ في البحر. قلت: وجزيرة العرب هي أرض العرب وهي عُشْريَّة، وقد حدَّها أصحابنا فقالوا: هي ما بين العُذَيبِ إلى أقصى حُجْر باليمن، ومَهْرَة إلى حدِّ الشآم. الإقليم الثاني: وهو إقليم الحجاز، يبتدئ من المشرق فيمر على بلاد الصين، ثم يمرُّ على بلاد الهند، ثم على السِّند وفيه مدينة الكافور، ويقال لها: الفنصورة، ثم على الدَّيبُل، ثم على البحر الأخضر، ويقطع جزيرة العرب في أرض نجد وتهامَة، وفيه اليمامة والبحرين وهَجَرُ والمدينة ومكة والطائف وجُدَّة، ثم يقطع بحر القُلْزُم ويمر بصعيد مصر، فيقطع النيل ويمر على أُسْوَان وإخْمِيم، ثم يمتد في أرض المغرب على وسط بلاد أفريقية، ثم يمر على بلاد البربر، وينتهي إلى البحر المحيط. وقال الجوهري: الحجاز بلاد، وسميت بذلك لأنها حجزت بين نجد والغور (¬2). وروي عن الأصمعي أنه قال: إنما سمي الحجاز لأنه احتُجز بالحِرار الخمس: حَرَّة بني سُلَيم، وحَرَّة واقمٍ، ولم يذكر الباقيات (¬3). وقال الجوهري: النجدُ ما ارتفعَ من الأرض، وقال: نجد من بلاد العرب، وهو خلاف الغور، والغور هو تهامة، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد (¬4). ¬

_ (¬1) "الصحاح": (جزر). (¬2) "الصحاح": (حجز). (¬3) وباقي الحرَّات الخمس: حرة شَوْران، وحرة ليلى، وحرة النار. "معجم البلدان" 2/ 219. (¬4) "الصحاح": (نجد).

وقال أبو معشر: ولإقليم الحجاز من البروج العقرب، ومن النجوم الزهرة. الإقليم الثالث: وهو إقليم الشأم ومصر، يبتدئ من المشرق فيمرّ على بلاد الصين، ثم على بلاد الهند، ثم على شمالي بلاد السند، ثم على بلاد كابُل وسِجِسْتان، ثم على سواحل بحر البصرة، وفيه مدينة إصْطَخر ونَسا ونيسابور وشيراز وسيراف، ثم يمر على كُوَر الأهواز والبصرة وبغداد والكوفة والأنبار وهيت، ثم يمر على بلاد الشام: حمص ودمشق وصور وعكا وطبرية وعَسْقلان وغزة والقدس والرملة، ثم يقطع أسفلَ مصر ويمر على تِنِّيس ودمياط والفسطاط والفيوم والإسكندرية، ثم يمر على بلاد المغرب ويدخل سَبتة حتى ينتهي إلى البحر الكبير. قال أبو معشر: وله من البروج الجوزاء ومن النجوم عطارد، وهواؤه غليظ يورث الصفار، ومرض من يسكنه من أهل المغرب الاستسقاء والبَطَن، والغالب على الشأم الدم. وقال الجوهري: الشام بلاد تذكَّر وتؤنَّث (¬1). وحدُّه من العريش إلى الفرات، واختلفوا لِمَ سُمِّي الشام شامًا، قال ابن المقفَّع: سمي الشام بسام بن نوح، وسام اسمه بالسريانية "شام"، وبالعبرانية "شيم". وقال الكلبي: سمي الشام لشامات في جباله حمر وسود وبيض. قلت: والأصح إنما سمي الشام لأنه عن يسار الكعبة، وقول ابن المقفع إنما سمي الشام بِسام، فاتفق الرواة على أنه ما نزله قط. وقد أورد الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" أخبارًا في فضائله فيها مقال: منها ما رواه عن ابن حَوالة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عَليكم بالشَّام فإنَّها صفوةُ الله من بلاده يَسكُنها خيرُ عبادِه، فمَن أبَى، فليَلْحق بالشام، فإنَّ الله قد تَكفَّلَ لي بالشَّام وأهلِه" (¬2). وذكر الحديث من حرف كثير، وروي فيه زيادات ونقص. وقد ذكره جدي رحمه الله في كتاب "الأحاديث الواهية" وقال: هذا حديث لا ¬

_ (¬1) "الصحاح": (شام). (¬2) "تاريخ دمشق" 1/ 24، وأخرجه -أيضًا- أحمد في "مسنده" (20356) وهو حديث صحيح. وفيه: "فليلحق بيمنه".

يصحّ، في إسناده محمد بن كثير خرَّقنا حديثه ولم نرضه، كذا قال أحمد بن حنبل (¬1). وفي "الصحيحين" حديث أخرجاه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم بارِكْ لنا في شامِنا، اللَّهم بارِكْ لنا في يمنِنا"، قالوا: يا رسولَ الله، وفي نجدنا؟ قال في الثالثة: "هُنالِك الزَّلازِلُ والفِتَنُ". وهو حديث طويل أخرجه الحميدي في الفتن (¬2). الإقليم الرابع: وهو إقليم العراق، ويقال له: إقليم بابِل، يبتدئ من المشرق فيمرُّ على بلاد التُّبت، ثم على خُراسان وفَرْغانة وسَمَرقند وبَلْخ وبخارى وهَراة ومَرو وسْرخَسَ وطَبَرِستان وطوس وجُرجان وقُوْمِس وقَزوين والرِّي وأصبهان وقُمَّ وقاشان وهَمَذان ونَهاوَند والدِّينَوَر وحُلوان وشَهِرزور وسُرَّ من رأى والموصل وحرَّان والرَّقة وقَرْقيسيا، ثم يمرّ على حلب وقِنَّسرين وأنطاكيةَ والمَصِّيصة وأَذَنَة وعَمُّوريَّة وطَرْسوس، ثم يمرُّ في البحر على جزيرة قُبرس، ثم يمر ببلاد المغرب على طَنجة وما والاها، ثم ينتهي إلى البحر الكبير. قالوا: وله من البروج القوس، ومن النجوم المشتري. وقال الخليل بن أحمد: إنما سميت بابل؛ لأن الألسن تبلبلت بها، ومدينتها بناها يَرْد بن مَهْلائيل، واختلفوا في حدّ أرض بابل على أقوال: أحدها: أنها الكوفة وسوادها، قاله ابن مسعود، والثاني: من نصيبين إلى رأس العين، قاله قتادة، والثالث: أنها أرض الحلّة، والأول أصحّ. الإقليم الخامس: وهو إقليم الروم، ويبتدئ من المشرق من بلاد يأجوج ومأجوج ثم يمر على شمال حرَّان، وفيه من المدن: خوارزم (¬3) والشاش وأذْرَبيجان وإرْمينيَة، ثم يمر على بلاد الروم بأسرها، ويقطع البحر إلى روميَة الكبرى وجزيرة الأندلس، ثم ¬

_ (¬1) "العلل المتناهية" 1/ 311. (¬2) البخاري (1037)، ولم نقف عليه عند مسلم بهذا اللفظ، وأخرجه مسلم (2905) من حديث ابن عمر: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل المثشق يقول: "ألا إن الفتنة هاهنا، ألا إن الفتنة هاهنا، من حيث يطلع قرن الشيطان". وقد جعل الحميدي هذا الحديث من المتفق عليه عن ابن عمر كما في "الجمع بين الصحيحين" (1270). (¬3) أوله بين الضمة والفتحة، والألف مسترقة مختلسة ليست بألف صحيحة، هكذا يتلفظون بها. "معجم البلدان" 2/ 395.

ينتهي إلى بحر المغرب. قالوا: وله من البروج الدلو، ومن النجوم القمر، وقيل زحل؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. الإقليم السادس: وهو إقليم الترك، يبتدئ من المشرق ويمرُّ على بلاد يأجوج ومأجوج، ثم على بلاد الخَزَر، ثم على القُسطنطينية، ثم ينتهي إلى بلاد المغرب. وله من البروج السرطان، ومن النجوم المريخ، وقيل: القمر، والله أعلم. الإقليم السابع: إقليم الصين، يبتدئ من المشرق على شمال بلاد يأجوج ومأجوج، ثم على بلاد الترك، ثم على سواحل بحر جُرجان، ثم يقطع بحر الروم ويمرُّ على بلاد الصقالبة والقفجاق، ثم بلاد البُلغار وباشْقِرْد وما والاها. وله من البروج الأسد، ومن النجوم الشمس. وقال (¬1) أبو معشر: أعمر هذه الأقاليم وأكثرها خيرًا وأحسنها استقامة وسياسة أربع: إقليم بابل (¬2)، ويقال له: مملكة إيران شَهْر، وكانت الفرس تقدمه على الأقاليم، ويسمى ملكه: شاهنشاه وإيران شاه، ومنزله من العالم منزلةُ القلبِ من الجسد، والواسطةِ من العقد، والقمر من الكواكب. وقال بطليموس: إن الهندَ رسمت الأقاليم كأنها حلقة مستديرة تكتنفها ستُّ دوائر، فالدائرة الوسطى إقليم بابل والأقاليم حوله، وصورته: [رسم توضيحي] ¬

_ (¬1) هنا تعود نسخة (ل) بعد فقدان أوراق منها. (¬2) في "كنز الدرر" 1/ 101: "أربعة أقاليم وهم: بابل، والهند، والحجاز، ومصر، قال: فأما بابل".

قلت: وهذه الدائرة أخذها الخطيبُ من "جغرافيا" وزاد عليها، فقال: ذكر علماء الأوائل أن أقاليم الأرض سبعة، وأن الهند رسمتها فجعلت إقليمَ بابل وسطها على الصفة المحدقة بالدوائر قال: فالإقليم الأول: إقليم الهند، والثاني: إقليم الحجاز، والثالث: إقليم مصر، ولم يذكر الشام، والرابع: إقليم بابل، وقال: وهو أعمرها وأوسطها، وفيه جزيرة العرب، وفيه العراق الذي هو سرة الدنيا، قال: وحدُّ هذا الإقليم مما يلي أرضَ الحجاز وأرضَ نجد الثعلبية من طريقِ مكة، وحدّه مما يلي الشأم وراء مدينة نَصِيبين من ديار ربيعة بثلاثة عشر فرسخًا، وحدُّه مما يلي أرضَ خراسان وراء نهر بلخ، وحدُّه مما يلي الهند خلف الدَّيبُل بستة فراسخ. قال: وبغداد وسط هذا الإقليم؛ قال: والإقليم الخامس: بلاد الروم والشأم، فجعل الشأم من بلاد الروم. قال: والإقليم السادس: بلاد الترك، والسابع: بلاد الصين. وقال الخطيب أيضًا: وبغداد وسط هذا الإقليم وموضعها صفوة الأرض، ولذلك اعتدلت ألوانُ أهله وامتدت أجسامهم، فسلموا من شقرة الروم والصقالبة، ومن سواد الحبش، وغلظ الترك، وجفاء أهلِ الجبال، ودمامةِ أهل الصين، وكلّما (¬1) اعتدلوا في الخلقة لطفوا في الفطنة. ثم إقليم الروم ثم إقليم الهند وإقليم الصين، ومنهم من يفضِّل إقليم الصين على الكلِّ ويقول: هو أعدل الأقاليم وأصحها (¬2). قال أبو معشر: ويأجوج ومأجوج في ناحية الشمال، لهم جبال منيعة يصعد الصاعدُ إلى رأس الجبل في عشرة أيام، وتُحمل غلالهم على المعز. * * * ¬

_ (¬1) في "تاريخ بغداد" 1/ 23: "كما". (¬2) "تاريخ بغداد"1/ 22 - 23.

فصل في ذكر البلدان وما فيها من السكان

فصل في ذكر البلدان وما فيها من السكان ذكر علماء الهيئة أن المسكون من الأرض، على تفاوت أخطاره وبعد أقطاره، مقسوم بين سبع أمم، وهم: أهل الصين، والهند، والسِّند، والروم، والفرس، والترك، والعرب. وروي أن بطليموس أحصى مدنَ الدنيا في زمانه، فكانت أربعة آلاف مدينة ومئتي مدينة (¬1). وذكر خالد بن عبد الله المَرْوَزي: أن مدنَ الدنيا ثمانية آلاف مدينة، ففي الصين ألف مدينة، وفي الهند ألف مدينة، وفي السِّند ألف مدينة، وفي الزنج والنُّوبة ألف مدينة، وباقي المدن مُفرَّقة في الأقاليم. وقال الحسن البصري: الأمصار المعتبرة في الإسلام سبعة: مكة، والمدينة، والبصرة، والكوفة، والجزيرة، والشام، ومصر، وسواد البصرة، والأهواز، وفارس (¬2). ونحن نذكر المشهور من المدن: فصل في الفنصورة، بالفاء وهي من مدائن الصين، وإلى كافورها (¬3) المنتهى، ويمتد رُسْداقها إلى البحر شهرين. وقال الأصمعي: إنما سميت الصين بصين بن نعير، نزلها وكثر نسله بها، فسميت به. قال: وحدُّها من البحر إلى التُّبَّت، وجزائر الوَاق واق (¬4) فيها. وقال بطليموس: من دخل بلاد الصين لم يهنْ عليه الخروجُ منها، لاعتدال هوائها ورقة مائها وكثرة خيرها والذهب والفضة، ولا يزال الإنسان فيها مسرورًا طَرِبًا. ¬

_ (¬1) انظر "المسالك والممالك" ص 5. (¬2) جاء بعدها في "كنز الدرر" 1/ 103: "داخل في الجملة". (¬3) الكافور: نوع من الطيب. انظر "المعتمد في الأدوية المفردة" ص 404. (¬4) كذا هي في (ل)، وفي "معجم البلدان" 5/ 381: الوقواق.

فصل في مدائن الهند والشرق

وقال في "جغرافيا": وفي بلاد الصين أنهار كبار مثل دجلة والفرات، تجري من بلاد التُّرك والتُّبَّت والصُّغْد، وفيها جبال النشاذر، يرتفع منها في الصيف نيوان تُرى من مئة فرسخ في الليل، وفي النهار دخان لغلبة شعاع الشمس (¬1)، وأكثر سلوك الناس إلى الفنصورة والصين من ناحية خراسان في الشتاء لغلبة حرّ النشادر في الصيف، قال: ومن خراسان إلى أول أعمال الصين نحو أربعين يومًا، وقيل: أربعة أشهر، وهناك جبال الصُّغْد. فصل ومنها مدينة تُبَّت. قال الأصمعي: أصلها ثَبَت بالثاء المنقوطة بثلاث، وكانت التبابعة، وهم ملوك حمير واليمن، لما طافوا الدنيا وصلوا التُّبَّت ورتبوا على تلك الحدود رجالًا مخافة العدوّ، فثبتوا هناك، فقال الناس: ثبت، ثم طال العهد، فجعلوا موضع الثاء تاء، والذي فعل ذلك تُبَّع الأول، وسنذكره في التبابعة. وكان ملوك التُّبَّت في قديم الزمان يسمَّون التبابعة، لأنَّ تُبَّعًا وصل إلى هناك، فلما طال الزمان وحال العهدُ وانقرضوا سَموا ملكهم: خاقان (¬2). والمسك التُّبَّتيّ يُنسب إلى هذه البلاد، وسنذكره في الطيب. وقال بَطْلَيموس: من خاصية بلاد التُّبَّت والصين: أن الإنسان لا يعرف فيها الهمَّ والغم، ولو مات جميعُ مَنْ للإنسان لم يحؤن عليه، ولا يكاد يُرى فيها شيخ ولا عجوز، إلا الشباب والكهول. فصل في مدائن الهند والشرق قال في "جغرافيا": ومن مدائن الهند: شامل، ومورين (¬3)، وقالون، وقهنديار (¬4) وقِشْمير، وأقربها إلى بلاد الإسلام غَزْنةَ، وكان تحت يد ملكها ألف فيل، والهند مِلَلٌ ¬

_ (¬1) انظر "عجائب المخلوقات" ص 202. (¬2) انظر "مروج الذهب" 1/ 351 - 353. (¬3) في "المسالك والممالك": هورين. (¬4) في "معجم البلدان" 4/ 402: قُنْدُهار.

كثيرة، وسنذكرهم في بابهم. وبلاد الهند من جنس بلاد الصين في صحة الهواء ورقة الماء وعدم الهم والغم. وقال الأصمعي: ألذُّ مدائن الشرق خُراسان نَيْسابور، وهَراة، وبَلْخ، وهي من بناء الإسكندر، وقال: ومعنى خُراسان: مطلع الشمس بالفارسية. وقيل: إن هَراة بناها الضَّحاك، ومدينة خُراسان مَرْو بناها لُهْرَاسب. حدثنا زيد بن الحسن بإسناده عن عبد المحسن بن محمد بن علي، قال: أنشدنا منصور بن النعمان الصَّيمَري، أنشدنا محمد بن أحمد الكاتب، قال: أنشدنا ابن دريد لنفسه، وكان قد اشتاق إلى خراسان فلما دخلها لم تعجبه فقال: [من الوافر] تمنينا خراسانًا زمانًا ... فلم نعطَ المنى والصبر عنها فلما أن حللناها سراعا ... وجدناها بحذفِ النصفِ منها وقال النضر بن شُميل: أول مدن خُراسان: الرَّيُّ، وهي آخر الجبال منها، وإليها ينسب الرازي. قال: ومدينة مَرْو دارُ خلافة المأمون، ومنها خرج أبو مسلم صاحب الدعوة، والنسبة إليها مَرْوَزي. ومن وراء النهر كابُل: مدينة عظيمة، وفيها الإهْلِيلَج الكابُلي، وفَرْغانة مدينة الصُّغْد، وهم رماةُ الحدق، وإذا مات لهم كبير قطعوا آذانهم احترامًا له (¬1). وقال أبو منصور بن الجواليقي في "المعرب": ومن مدائن العجم دَرابْجِرْد. قال الأصمعي: إن الدَّراوَرْدي الفقيه منسوبٌ إليها، والباء فيها مكسورة (¬2). ومن مدائن المشرق أَذْرَبيجان وأَرْمينيِة. وقال ابن الجواليقي في "المعرب": ومن مدائن خُراسان سِجِسْتان (¬3). وقال أيضًا: وهَراة كُورة من كُوَر العجم وقد تكلمت بها العرب (¬4). ¬

_ (¬1) في (ل): لهم، والمثبت من المطبوع. (¬2) "المعرب" ص 201، والدراوردي هو: عبد العزيز بن محمد، أبو محمد (ت 187 هـ). وذكر السمعاني أن الباء فيه مفتوحة أو ساكنة. "الأنساب" 5/ 292. (¬3) "المعرب" ص 246. (¬4) "المعرب" ص 395.

فصل في مدائن العراق

ومن مدائن الشرق عُمان، وقد ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أحمد بإسناده عن الحسن بن هادية، قال: لقيتُ ابن عمر فقال لي: ممن أنت؟ فقلت: من أهل عُمان، فقال: من أهل عمان؟ قلت: نعم، قال: أفلا أُحدِّثك ما سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: نعم، قال: سمعته يقول: "إنِّي لأَعلَم أرضًا يقال لها: عُمان يَنْضَحُ بجانبها البحرُ، الحَجَّةُ منها أفضلُ من حَجَّتين من غيرها". أخرجه أحمد في "المسند" (¬1). وذكرها الجوهري فقال: وعُمانُ -بالتخفيف- بلد، وأما الذي بالشأم فهو عَمَّانُ -بالفتح والتشديد- بلد (¬2). وسنذكر المدائن التي بناها الإسكندر والفرس بخراسان وغيرها. فصل في مدائن العراق قال الجوهري: العِراق بلاد، يُذكَّر ويُؤنَّث، قال: ويقال هو فارسي مُعرَّب. والعراقان البصرة والكوفة (¬3). وقال الأصمعي: إنما سُمِّيَ عِراقًا لأنه سَفُل عن أرض العرب. قال: وقال أبو عمرو بن العلاء: سُمِّيَ عِراقًا لتواشُج عروق الشجر والنخل فيه (¬4). وقال الخطيبُ بإسناده عن ابن عائشة قال: كتب عمر بن الخطاب إلى كعب الأحبار، يقول: اختَرْ لي المنازلَ، فكتب إليه: يا أمير المؤمنين: بلغنا أن الأشياء اجتمعت، فقال السخاء: أريد اليمن، فقال حسن الخلق: وأنا معك، وقال الجفاء: أريد الحجاز، فقال الفقر: وأنا معك، وقال البأس: أريدُ الشام، فقال السيف: وأنا معك، وقال العلم: أريد العراق، فقال العقل: وأنا معك (¬5)، وقال الغنى: أريد مصر، فقال الذلّ: وأنا معك. فاخترْ لنفسك. فلما وردَ الكتاب على عمر قال: فالعراق إذًا (¬6). ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (4853). (¬2) "الصحاح": (عمن). (¬3) "الصحاح": (عرق). (¬4) انظر "المعرب" ص 279. (¬5) من قوله: وقال العلم ... إلى هنا ليست في (ل)، والمثبت من المطبوع وتاريخ بغداد 1/ 25. (¬6) "تاريخ بغداد" 1/ 25.

فصل ومن مدن العراق مدينة بابل

ومنها: حُلْوان، قال ابن الجواليقي: حلوان مدينة من مدن العجم. وقال ابن الكلبي: إنما سميت بذلك؛ لأنَّ بعضَ ملوكِ الأعاجم أقطعها حلوان بن الحاف بن قضاعة (¬1). وروي عن معاذ بن جبل قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وفي شامنا ويمننا، وفي حجازنا" فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، وفي عراقنا، فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان في اليوم الثاني، قال مثل ذلك، فقام إليه الرجل وقال: يا رسول الله، وفي عراقنا، فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام الرجل إليه في اليوم الثالث فقال مثل ذلك، فأمسك عنه، فولَّى وهو يبكي، فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أمِنْ أهل العراقِ أنت؟ " قال: نعم، قال: "إن أبي إبراهيم همَّ أنْ يدعوَ عليهم فأوحى الله تعالى إليه: لا تفعل، فإني جعلتُ خزائن علمي فيهم، وأسكنتُ الرحمةَ قلوبهم" (¬2). فصل ومن مدن العراق مدينة بابل بناها نُمْرود بن كنعان، ومكانها معروف، وقد ذكرها الله تعالى في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَينِ بِبَابِلَ} الآية [البقرة: 102]. وقال الجوهري: بابِلُ اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر، ولا ينصرف لتأنيثه (¬3). وقد أكثرت فيها الشعراء. وحكى لي جماعةٌ من مشايخنا: عن البلخي الواعظ أنه كان يعظُ بالنظامِيَّة، وبدت منه حركات أوجبت إخراجَهُ من بغداد، فجاءَ إليه بعضُ غلمان الديوان، وهو على المنبر فقال له: قد رُسِمَ بأن تخرجَ من البلد، فأنشد (¬4): [من الطويل] أبابلُ لا واديكِ بالجودِ مُفْعَمٌ ... لديّ ولا ناديكِ بالرفدِ آهلُ لئن ضِقتِ عني فالبلادُ فسيحةٌ ... وحَسْبك عارًا أنَّني عنكِ راحلُ ¬

_ (¬1) "المعرب" ص 169 - 170. وفيه: "حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة". وانظر "جمهرة أنساب العرب" ص 450. (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" 1/ 24 - 25، وابن عساكر في "تاريخه" 1/ 62. (¬3) "الصحاح": (ببل). (¬4) الأبيات لمحمد بن أحمد الأبْيَوَردي في "ديوانه" 1/ 377، وفيه: أبابل لا واديك بالرفد منعم ... لدينا ولا ناديك بالوفد آهل

وإن كنتِ بالسِّحرِ الحرامِ مُدِلَّةً ... فعندي مِنَ السحرِ الحلالِ دلائلُ قَوافٍ تُعيرُ الأَعينَ النُّجْلَ حُسنَها ... فأيُّ مكان خَيَّمَتْ فهو بابلُ وكان ببابلَ عجائب نذكرها في عجائب الدنيا. فصل ومنها الأَنبار، وهي مدينة قديمة ذكرها الجوهري، وقال: وأَنْبار اسم بلدٍ (¬1). وسنذكرها فيما بعدُ. ومن مدائن اليمن صَنْعاء، قال الجوهري: وصَنْعاء -ممدود- قَصَبةُ اليمن، والنسبة إليها صَنْعانيٌّ على غير قياس، كما قالوا في النسبة إلى حَرَّان: حَرْنانيٌّ (¬2). قال: وحَضْرَمَوْتُ: اسم بلد وقبيلة أيضًا، وهما اسمان جُعِلا اسمًا واحدًا، والنسبة إليه: حَضْرَمِيٌّ، وتصغيره حُضَيرُمَوْتٍ، والجمعُ الحَضَارِمة (¬3). قال: وظَفارِ مثل قَطامِ مدينةٌ باليمن، وجَزْعٌ ظَفاريٌّ منسوب إليها، وكذا عودٌ ظَفاريٌّ، للذي يُتبخَّر به، وفي المثل: من دخلَ ظَفارِ حَمَّر (¬4). أي: تكلم بلغة حمير. وسنذكره في الأمثال إن شاء الله تعالى، ونذكر أيضًا عَدَن، ونذكر أيضًا مكة في قصةِ الخليل - عليه السلام -. فصل فأما مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال الجوهري: وَيَثْرِبُ مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وقال عكرمة: وقد سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - يَثْرب، ففي حديث الهجرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رَأيتُ في مَنامي أنِّي أُهاجِر إلى أرضٍ بها نخلٌ فذهَبَ وَهَلي إلى أنَّها اليَمامةُ ¬

_ (¬1) "الصحاح": (نبر). (¬2) في (ل): حراني، والمثبت من "الصحاح": (صنع). (¬3) "الصحاح": (حضر). (¬4) "الصحاح": (ظفر)، وانظر "مجمع الأمثال" 2/ 306. (¬5) "الصحاح": (ثرب).

فصل في مدائن الجزيرة

أو هَجَر، فإذا هيَ المدينةُ يثربُ". متفق عليه (¬1). وسنذكره في الهجرة. وسماها: طابَةَ وطَيبَةَ، من الطِّيب، فأخرج مسلم عن جابر بن سَمُرَة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله تعالى سمَّى المدينةَ طابَةَ" (¬2). وسنذكر قصَّتَها، ومن بناها في باب التَّبابِعة من ملوك اليمن، وفضلَها في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال هشام بن الكلبي: لما أهلك الله قومَ عاد تفرقت القبائل، فنزل قوم بمكة، وقوم بالطائف، وسار يثربُ بن مَهْذيل بن إِرم بن عَبيل وقومُه فنزلوا موضع المدينة (¬3)، فاستخرجوا العيون، وغرسوا النخيل، وأقاموا زمانًا، فأفسدوا، فأهلكهم الله ويبست النخيل، وغارت العيون، حتى مرَّ بها تُبَّع، فبناها لِما نذكر. فصل في مدائِن الجزيرة قال الجوهري: والمَوْصِلُ بلد (¬4). واختلفوا في تسميتها بذلك على قولين، أحدهما: لأنها وصلت ما بين دِجلة والفرات، والثاني: لأنه كان في موضعها راهبٌ طليعةٌ للفرس، يوصل إليهم أخبار الروم. ومن شرقيه المدينة العظمى، ويقال لها: نِينَوىَ، نذكرها في قصة يونس - عليه السلام -. ومنها: نَصِيبين وهي قديمة، وذكرها الجوهري فقال: ونَصِيبِينُ بلد (¬5). ومَيَّافارِقِين أعجمي مُعرَّب، وقد نطقت به العرب (¬6). ¬

_ (¬1) البخاري (3622)، ومسلم (2272) من حديث أبي موسى الأشعري كأنه، و"وهلي" الرواية بفتح الهاء، وكذلك ضبطها الإمام النووي وهو بمعنى الوهم، وأهل اللغة يسكنون الهاء، وبذلك جزم ابن الأثير في "النهاية" انظر "فتح الباري" 12/ 422. (¬2) مسلم (1385). (¬3) جاء في "معجم البلدان" 5/ 430: يثرب بن قانية بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح. وانظر "نهاية الأرب" ص 316 - 317. (¬4) "الصحاح": (وصل). (¬5) "الصحاح": (نصب). (¬6) انظر "المعرب" ص 370.

فصل في مدائن الشأم والسواحل

وآمِدُ من قديم المدن، ولم تتكلم بها العرب، وقيل: تكلمت بها. ومنها حَرَّان، قال الجوهري: وحَرَّانُ اسمُ بلد (¬1). وذكرها ابن الجوَالِيقي فقال: وَحَرَّان اسم البلدة مُعرَّبة، وهي مسماة بـ: هاران بن آزر أخي إبراهيم (¬2). وقال ابن الكلبي: لما خرج نوح من السفينة بناها، وقيل: إنما بناها هاران خال يعقوب - عليه السلام -، فأبدلت العرب الهاءَ حاءً، وكان بها معبدٌ لليونان. فصل في مدائن الشَّأم والسواحل فمنها: حَلَب، وقد ذكرها الجوهري فقال: وحَلبُ مدينة بالشأم (¬3). وقال أبو الحسين ابن المنادي: الشامات خمس كُوَر: الأولى: قِنَّسْرِين، ومدينتها العظمى حَلَب، وقِنَّسْرِين أقدم منها، وبينهما أربعة فراسخ، وفيها آثار الخليل - عليه السلام - ومقامه، وقد نزلها أكابر الملوك، كبني حمدان وغيرهم، قال: ومن رُسْداقِها مَنْبج وهي مدينة قديمة (¬4). وذكرها الجوهري فقال: وَمنْبجُ اسم موضع (¬5). وفي ساحل حلب مدن منها: أنْطاكِيَة، ذكرها ابن الجَواليقي في "المعرب"، وقد تكلمت بها العرب قديمًا، وكانوا إذا أعجبهم شيء نسبوه إليها (¬6). واختلفوا في بانيها فقال قوم: بناها أَنْطُخُس أولُ ملوكِ اليونان، وصيَّرها دارَ ملكه، وحشد إليها الحكماءَ وأصحابَ الرَّصْدِ وأخذَ الطوالعَ بها، ومسافةُ سورها اثنا عشر ميلًا، وعدد أبراجها مئة وستة وثلاثون برجًا، وعدد شُرُفاته أربع وعشرون ألفًا، وهذا السور في السهل والجبل، وقال أبو معشر: بنيت بعد الإسكندر الثاني بمئة سنة، والنصارى تسميها دارَ الله؛ لأن النصرانية ظهرت منها بعدما دثرت. ¬

_ (¬1) "الصحاح": (حرن). (¬2) في (ل): "بهاران ابن أخي ازرع"، والمثبت من "المعرب" ص 171. (¬3) "الصحاح": (حلب). (¬4) انظر "بغية الطلب" 1/ 72. (¬5) "الصحاح": (نبج). (¬6) "المعرب" ص 73.

وقال ابن المنادي: والشَّأم الثانية: حِمْصُ وأعمالها، وكانت مركز ملوك الروم، وكان زيتونها وقنواتها متصلة بتَدمُر وبَعْلَبك، ومن سواحلها طَرابُلُسُ وما والاها، وقد نزلها خَلْقٌ من الصحابة. قال: والشَّأم الثالثة: وهي الغوطة، ومدينتها: دمشق، واختلفوا في الذي بناها على أقوال: القول الأول: نوح - عليه السلام -، لما خرج من السفينة، أقام بثَمانِين (¬1) مدة، ثم جاء إلى الشام، فأشرف من جبال الغوطة على الغوطة فأعجبته، فشرع في بنائها واتخذها دارًا، وهي أولُ مدينةٍ خُطَّت بعد الطوفان. قاله النضر بن شميل. والقول الثاني: بيوراسب، وبنى بعدها صُورَ بالساحل. قاله مجاهد. والقول الثالث: عاد بن عوص، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7]. قاله كعب الأحبار. والرابع: ذو القرنين الإسكندر الأول، لما عاد من المشرق صعد على عَقبة دُمَّر، ومعه غلام اسمه: دمشق، فرأى المياه ضائعة، لنقال له: يا دمشق، ابن هاهنا مدينة، ورسمها له فبناها. حكاه أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخ دمشق" وقال: كان الغلام يقال له: دمشقش بزيادة شين، قال: وكان وادي دمشق كله شجر الأرز، قال أبو القاسم: والأرزة التي وقعت في سنة ثلاث مئة وثلاث عشرة من ذلك الأرز، وبنى مكان الجامع معبدًا يَعبد الله فيه (¬2). والقول الخامس: غلام للخليل - عليه السلام -، يقال له: العازَر، وهبه له نمرود لما خرج من النار سالمًا. حكاهُ وهب بن منبه (¬3). والقول السادس: سليمان - عليه السلام -. وبَرِيد وجَيْرون اللذان ينسب إليهما باب البَرِيد وباب جَيرون، هما شيطانان في قول ¬

_ (¬1) ثمانين: بليدة عند جبل الجودي، فوق الموصل. "معجم البلدان" 2/ 84. (¬2) "تاريخ ابن عساكر" 1/ 6 - 7. (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 1/ 5.

أبي الحسن المدائني، كانا على عهد سليمان، وفي قول كعب الأحبار: هما أخوان، وأبوهما سعد بن لقمان بن عاد لما نذكر بعد هذا. وقيل: كان موضع جَيْرون وباب البَرِيد مدينة صغيرة، وهما من بعض أبوابها. وإنما سُمي: البابَ الصَّغير، لأنَّه كان أصغَرَ أبوابها لما بنيت. وباب كيسان: منسوب إلى كيسان مولى معاوية. وباب تُوما: ينسب إلى عظيم من الروم يقال له: تُوما. وباب الفَرادِيس: منسوب إلى محلة كانت في ظاهره يقال لها: الفَرادِيس. وباب الفَرَج: فتحه نور الدين محمود بن زَنْكي رحمه الله؛ تفاؤلًا باسمه وما فتح عليه من الفتوح ببلاد الفرنج. وباب الجابيَة: منسوب إلى قرية الجابيَة، وكانت مدينة عظيمة في الجاهلية (¬1). وفي السور أبوابٌ صغار تفتح عند الحاجة إليها (¬2). وذكر أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خُرْداذْبه: أنَّ أصحابَ الرَّسِّ كانوا باليمن، فأرسل الله تعالى إليهم حنظلةَ بن صفوان نبيًّا فقتلوه، فسار عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح بولده من الرَّسِّ، فنزل الأحقاف، وأهلك الله أصحابَ الرَّسِّ، وانتشر ولد عاد في بلاد اليمن، ثم خرجوا إلى الشام، فنزل جَيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح دمشق، وبنى مدينتها وسماها: جَيرون، وهي إرَم ذاتُ العماد، فبعث الله هود بن عبد الله بن رياح بن خالد بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح نبيًّا إلى قوم عاد بالأحقاف، فكذبوه فأهلكهم الله. وسنذكر قصتهم في موضعها إن شاء الله تعالى. وقال بعضُ الأوائل: إنها بنيت على الكواكبِ السبعة، وكان لها سبعة أبواب، على كُلِّ باب صورة (¬3)، فالباب الشرقي للشمس، وباب توما للزُّهَرَةِ، وباب السَّلامة ¬

_ (¬1) جاء بعدها في "كنز الدرر" 1/ 112: وباب السلامة: سمته العرب، لأنه لم يكن من جهته قتال في وقت فتوحها في خلافة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -. (¬2) انظر "تاريخ ابن عساكر" 1/ 365 - 366. (¬3) جاء بعدها في "كنز الدرر" 1/ 113: "الكوكب المختص به".

فصل في فضل دمشق

للقمر، وباب الفَراديس لعُطاردِ، وباب الجابية للمِرِّيخ، والباب الصغير للمُشتَري، وباب كَيسان لزُحَل. وقال الجوهري: ويقال: إن صورة زُحَل باقية عليه إلى الآن (¬1). ودمشق قَصَبَةُ الشَّام، قال: ودمشق من صفات النُّوق (¬2). واختلفوا في لفظة جِلِّق، فقال الجوهري: جِلِّقُ موضع بقرب دمشق (¬3). وقد جاء في الشعر الفصيح، قال حسان (¬4) [من الكامل]: للهِ دَرُّ عِصابةٍ نادمتُها ... يومًا بِجِلِّقَ في الزَّمانِ الأولِ قال: وقيل إنه صورة امرأة، كان الماء يجري من فيها في قرية من قرى دمشق (¬5). وقال الهيثم: بنيت دمشق في خمس مئة سنة، وأصل مياهها من عين في مرج الزَّبَدانيِّ عند قرية يقال لها: بَرَدى، ثم يجتمع من عين الفِيجة وينقسم سبعةَ أنهار، وفي بَرَدى يقول بعض القدماء (¬6) [من البسيط]: وما ذَكرتكمُ إلا وَضَعتُ يَدِي ... على حَرارةِ قَلبٍ قلَّ ما بَردا وما تَذكَّرْتكم والدمعُ يَشرَقُ بي ... إلّا تحدَّر من عينيَّ ما بَرَدى فصل في فضل دمشق روى وهب بن منبِّه أنه قال: بلغني عن ابن عباس أنه قال: أقدمُ حائط على وجه الأرض حائط قبلةِ دمشق، وفيه قبرُ هود - عليه السلام -. وفي روايةٍ عن كعب أنه قال: أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حَرَّان ودمشق وبابِل (¬7). ¬

_ (¬1) لم نقف على كلام الجوهري في "الصحاح". (¬2) "الصحاح": (دمشق). (¬3) "الصحاح": (جلق). (¬4) في "ديوانه" ص 364. (¬5) انظر "معجم البلدان" 2/ 154. (¬6) وهو إبراهيم بن أبي بكر بن عبد العزيز، أبو إسحاق الجزري الكتبي المعروف بـ"فاشوشة" وكان من المعمرين (602 - 700 هـ) والبيتان له. انظر "عقد الجمان"4/ 150، و"شذرات الذهب" 5/ 456. (¬7) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 1/ 4.

وذكر مجاهد عن ابن عباس في تأويلِ قوله تعالى: {وَآوَينَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] قال: هي دمشق (¬1)، وكذا في قوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7] إنها دمشق. ورُوي عن ابن عباس موقوفًا عليه ومرفوعًا أنه قال: قد وكل الله بكلِّ بلد مَلَكًا يحرسه، إلَّا دمشق فإنه يتولاها بنفسه. والموقوف أصح (¬2). وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن عبد الرحمن بن جبيرِ بن نفير عن أبيه، قال: حدثنا أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سَتُفتح عليكم الشَّام، فإذا تَخيَّرتُم المنازلَ فيها، فعليكم بمدينةٍ يُقال لها: دِمشقُ، فإنَّها مَعقِلُ المُسلمين مِنَ الملاحِم، وفُسْطاطُهم بأرضٍ يقال لها: الغوطة" (¬3)، إلا أنَّ جَدي رحمه الله ضعَّف هذا الحديث وذكره في "الأحاديث الواهية" وقال: قال يحيى بن معين: في إسناده أبو بكر بن أبي مريم ليس بشيء (¬4). قلت: وقد أخرج مسلم عن النَّوَّاس بن سمعان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ينزِل عيسى بنُ مريمَ عندَ المَنارةِ البيضاءِ، شرقيَّ دِمشقَ بين مَهْرودَتَين، واضعًا كَفَّيه على أجنحَةِ مَلَكَين" (¬5). وهو حديث طويل. والمَهْرودَة: المصبوغة. وروى وَهب بن منبِّه قال: كان الخضِر - عليه السلام - يطرقها، فأتاها مرة فوجدها بحيرةً، فغاب عنها خمس مئة سنة، ثم أتاها فإذا هي عامرة، فغاب عنها خمس مئة سنة أخرى وأتاها، فإذا هي مقصبة، ثم عاد إليها فوجدها عامرة، فعل ذلك مرارًا، وهذا يدل على أنها قديمة. وحكى الحافظُ أبو القاسم في "تاريخه": أنه كان بدمشق رجلٌ صالح، وكان يقصده الخضِر - عليه السلام -، وذلك في زمان معاوية بن أبي سفيان، فبلغ معاوية، فجاء إلى الرجل وقال له: اجمع بيني وبين الخَضِر عندك، قال: نعم، فجاء الخضر على ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 1/ 91، من حديث عكرمة عن ابن عباس. (¬2) لم نقف عليه. (¬3) أحمد في "مسنده" (17470). (¬4) "العلل المتناهية" 1/ 307. (¬5) صحيح مسلم (2937). والمهرودتان: ثوبان مصبوغان بورس ثم بزعفران. انظر: شرح النووي 18/ 67.

عادته، فأخبره بما قال معاوية، فقال: ليس لي إلى ذلك سبيل، فقال: فأخبر معاوية بما قال، فقال له معاوية: قل له: قد قعدنا مع من هو خير منك، وحدثناه وخاطبناه، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكن اسأله عن ابتداء بناء دمشق، كيف كان، فقال: نعم، وذكر بمعناه (¬1). وذكر الحافظ أيضًا عن أبي الحسين الرازي والد تَمَّام، ذكر في "تاريخه": أن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس لما حاصر دمشق وهدم سورها، وقع منه حجر عليه منقوش باليوناني، فترجم بالعربية وكان: ويكِ إرم (¬2) الجبابرة، من رامك بسوء قصمه الله، ويلك من خمسة أعين، ينقض سورك على يديه بعد أربعة آلاف سنة، فنظر فإذا هو عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ففعل بها ما فعل (¬3). وقد ورد في فضائل دمشق أخبار، للمحدثين فيها نظر، فلذلك عَدَّينا عنها. وقد ذكرها أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه" وليس فيها ما يثبت إلا النادر. وذكر الحافظ أبو القاسم أيضًا في أخبار دمشق: أن أبا الفتح المسلّم بن هبة الله، أَلَّفَ (¬4) رسالة في تفضيلِ دمشق على الدنيا، وكان فاضلًا، وهو القائل: [من الطويل] وما ذقتُ طَعْمَ الماء إلا وَجدتُهُ ... كأن ليس بالماءِ الذي كنتُ أعرفُ وما سرَّ صَدْري مذ تناءَتْ بيَ النوى ... أنيسٌ ولا مالٌ ولا مُتَصَرَّفُ وما أحضرُ اللَّذَّاتِ إلَّا تكلُّفًا ... وأيُّ سُرورٍ يَقتضيهِ التَّكلُّفُ وروي عن كعب الأحبار: أنه رأى رجلًا من أهل الشام، فقال: من أين أنت؟ فقال: من دمشق، فقال: أنت من الذين يُعرَفونَ في الجنَّةِ بالثيابِ الخضر (¬5). وحكى جماعة عن مشايخ دمشق: أنَّ بالغوطة مئة ألف ونيفًا وثلاثين ألف بستان، ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 1/ 5 - 6. (¬2) في (ل): "أم" والمثبت من "تاريخ دمشق". (¬3) "تاريخ دمشق" 1/ 7، والخمسة أعين، هي أول حرف من اسم هذا الرجل واسم آبائه، و"بن عبد المطلب" مستدرك من "تاريخ دمشق". (¬4) في النسخ: "صنف ألف"، والمثبت من تاريخ دمشق 67/ 205. (¬5) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 1/ 123 - 124.

وسنذكر أنهارها فيما بعد. وقد أكثرت الشعراء في وصف دمشق، فمنهم أحمد بن منير الطرابلسي. أنبأنا أبو البركات الدمشقي عن جماعة من أشياخه، قالوا: أنبأنا ابن منير، قال: [من البسيط] حَيِّ الدِّيارَ على عَلْياءِ جَيْرون ... مَهْوى الهوى ومغاني الخُرَّدِ العِينِ مُرادَ لَهْويَ إذْ كَفِّي مُصَرِّفةٌ ... أَعِنَّةَ العيس في فِيحِ الميادينِ فالنَّيربَين فَمَقْرى فالرياض فَجَمْـ ... رايا فَجَوِّ حواشي جسر جِسْرِينِ فالقَصْر فالْمَرْج فالمَيدان فالشَّرَف الـ ... أعلى فسَطْرا فَجَرْمانا فقُلْبِينِ تلك المنازل لا وادي الأَراكِ ولا ... رمْلُ المصلَّى ولا أَثْلاتُ يَبْرِينِ واهًا لطيبِ غُديَّاتِ الرَّبيعِ بها ... وبردِ أنفاس آصالِ التشارينِ وَطابَ تَغْرِيدُ قَيناتِ الغُصون وأَغْـ ... ـنَتْها الحَنَاجِر عن شَدِّ الدَّساتِينِ (¬1) وقد وازنها أبو عبد الله محمد بن محمد، الملقب بالعماد الكاتِب الأصبهاني، ولي منه إجازة، قال (¬2): [من البسيط] أهدَى النَّسيمُ لنا ريَّا الرَّياحينِ ... أم طيبَ أخلاقِ جيراني بِجَيرونِ هَبَّت لنا نفحةٌ في جِلَّقٍ سَحَرًا ... باحتْ بِسرٍّ من الفردوسِ مكنونِ ومنها: [من البسيط] دمشقُ عنديَ لا تُحْصَى فضائلُها ... عَدًّا وحَصْرًا ويُحْصَى رملُ يَبْرينِ وما أرى بلدةً أخرى تُماثِلُها ... في الحُسنِ من مِصرَ حتى مُنتهى الصِّينِ وإنَّ من باع كلَّ العُمر مُقتنعًا ... بساعةٍ في ذُراها غيرُ مَغْبونِ لما عَلَتْ هِمَّتي صَيَّرْتُها وطني ... وليس يَقنعُ غيرُ الدُّونِ بالدُّونِ ترى جواسِقَها (¬3) في الجوِّ شاهقةً ... كأنَّهنَّ قصورٌ للسلاطينِ ¬

_ (¬1) هذا البيت زيادة من (ل)، والدساتين: هي الرِّباطات التي توضع الأصابع عليها في آلة العود. مفاتيح العلوم 1/ 45. (¬2) الأبيات في "الخريدة" "قسم شعراء دمشق" ص 30 - 34. (¬3) الجواسق: القصور.

دارُ النَّعيم ومِنْ أدنى محاسِنِها ... ثمارُ تمُّوزَ في أيامِ كانونِ نَعيمُها غيرُ مَمنوعٍ لساكِنها ... كالخُلْدِ والمنُّ فيها غيرُ ممنونِ أزهارُها أبدًا في الرَّوض مونِقَةٌ ... فَحُسنُ نَيسانَ مَوصولٌ بتِشرينِ وللحمائمِ في الأسحارِ أدعيةٌ ... مرفوعةٌ شُفِعَتْ منَّا بتأمينِ خافتْ على الرَّوضِ من عينِ مُطَوَّقة ... أضحتْ تُعَوِّذُهُ منها بياسينِ مِن كلِّ مُطْرِبِ صوتٍ غيرِ مُضطَربٍ ... وكلِّ مُعْربِ لفظٍ غيرِ ملحونِ وللبساتينِ أنهارٌ جَداولُها ... تَسْتَنُّ في الجَرْي أمثال الثَّعابينِ وقد تراءَتْ بها الأشجارُ تحسِبُها ... صفوفَ خَيلٍ صفونٍ (¬1) في الميادينِ يا صاحبيَّ أفيقا فالزَّمانُ صحا ... ولانَ من بعد تشديدٍ وتخشينِ دارُ المقامةِ قد أضحت مَحَلَّكما ... ونِلتُما العزَّ في أمنٍ من الهُونِ وقال ابن منير أيضًا (¬2): [من البسيط] سَقى دمشقَ ومغنًى للهوى فيها ... حَيًا تهزُّ له أعطافَها تِيها لا زال للدَّوحِ عطَّارًا يُراوحُها ... وللسَّحائب خمَّارًا يُغاديها دارٌ هي الجنَّة المحبورُ ساكِنُها ... فإن تَكُنْها وإلَّا فَهْيَ تَحْكيها تَباركَ الله كم مِن مَنظَرٍ بَهِجٍ ... يَستوقِفُ الطَّرْفَ في بطحاءِ واديها من أبيات. وقال محمد بن القَيسَراني: [من البسيط]: أرضٌ تحلُّ الأماني من محاسنها ... بحيث تَجتمعُ الدُّنيا وتَفترقُ إذا شدا الطَّيرُ في أغصانِها وقَفَتْ ... على حدائقها الأَسماعُ والحَدَقُ وقال فيها أيضًا أشعارًا كثيرة. وقال القاضي أحمد بن كامل: لما قدِمها البُحتري مع المتوكِّل، وشاهد أنهارها وأشجارها وأطيارها وقصورها وولدانها وحورها، قال: ارتفعت دمشق عن الوصف فهي كما قيل: ¬

_ (¬1) في (ل): "صفوف" والمثبت من "الخريدة"، وصفن الفرس: قام على ثلاث قوائم وطرف حافر الرابعة. (¬2) الأبيات في "ديوانه" ص 206.

في كلِّ ناحيةٍ من وجهها قمر (¬1) ثم قال (¬2): [من البسيط] العيشُ في ليلِ داريَّا إذا بَرَدا ... والرَّاحُ نَمزُجُها بالماء من بَرَدى أمَّا دمشقُ فقد أبْدَتْ محالسِنها ... وقد وَفَى لك مُطريها بما وَعَدا من أبيات. وللعماد الكاتب في مدحها قصائد عديدة ذكرها في "الخريدة" (¬3). وقال ابن الكلبي: دمشق كورة من كُوَرِ الشام، ومن أعمالها: البَلْقاء، منسوبة إلى بالق. وعَمَّان -بالتشديد- سميت بذلك لأن عَمَّان بن لوط عمرها وأقام بها. وزُغَر ومَآب باسم ابنتي لوطٍ - عليه السلام -، وقيل: مآب بن لوط والرية بنت لوط - عليه السلام -. وقيل: وسميت صَيْدا بصَيدون بن كنعان بن نوح - عليه السلام -. وأَريحا: بأرِيحا بن مالك بن أَرْفَخشذ بن سام بن نوح. وسميت: الكُسْوة، لأنَّ رسل ملك الروم باتوا بها، فسرقت ثيابهم، فأصبحوا عُراة، وقيل: لأن غسان قتلتهم واقتسمت ثيابهم وكسوتهم. والجابيَة: الحوض. قال: وصُور وعَكَّة من أعمال دمشق، وقال الجوهري: عَكَّه -بالهاء- قال: وهي اسم بلد بالثُّغور (¬4). ويقال: عكَّا بالمَدّ، بدليل أنك إذا نسبت إليها قلتَ: رجل عَكَّاوي، وصُور من صار إذا مال، وهي مائلة في البحر. ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت لبشار بن برد وصدره: "كأنما أفرغت في جوف لؤلؤة" وعزاه إليه أسامة بن منقذ في "البديع في البديع"، ولم نقف عليه في ديوانه. (¬2) البيتان في ديوانه 2/ 709 - 710. (¬3) "الخريدة" "شعراء دمشق" ص 19 - 34. (¬4) "الصحاح": (عكك).

ومنها: الرَّبْوَة، كان عيسى - عليه السلام - وأمه يأويان إليها، ومنه قوله تعالى: {وَآوَينَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50]. ومنها: قاسِيُون، وسنذكره في الجبال. وبظاهر دمشق أماكن مباركة، منها: مقبرة باب الفَرادِيس، كان كعب الأحبار يقول: يبعث الله منها سبعين ألف شهيد، يشفعون في سبعين ألف إنسان (¬1). وقال كعب: بِطَرَسُوس عشرة من قبور الأنبياء، وبالمَصِّميصَة خمسة، وبأَنْطاكِيَة قبر حبيب النجار، وبِحِمْصَ ثلاثون نبيًّا، وبدمشق خمس مئة، وبالسواحل ألف نبي، وببيت المقدس ألف نبي، وبالعَرِيش عَشرة. وروى مكحول عن ابن عباس قال: من أراد أن ينظرَ إلى قبور الأنبياء فعليه بالشام (¬2). قلت: وقد ذكر أبو القاسم ابن عساكر آثارًا في أماكن بظاهر دمشق، منها: قرية بَرْزَة، فروى بإسناده إلى ابن عباس: قال: ولد إبراهيم في غوطة دمشق، بقرية يقال لها: بَرْزَة، في جبل يقال له: قاسِيون (¬3). ثم ذكر بعده: أن إبراهيم قدم إلى الشام، وجاهدَ ملك النَّبَط، وجاءَ فصلَّى في المقام (¬4). قلت: لا خلاف بين علماء السير أن إبراهيم ولد بالعراق، ما اختلف فيه اثنان (¬5). ثم روى بعد هذا: أن جبل بَرْزَة هو الذي رأى منه إبراهيم الكواكب، وقال: هذا ربي وهذا تناقض، ثم قال: والشقُّ الذي في المسجد هو الذي اختبأ فيه إبراهيم من نُمرود (¬6)، ثم روى بعد هذا حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "وبالغوطة جبلٌ يقال له: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 1/ 366. (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 1/ 366. (¬3) "تاريخ دمشق" 1/ 331. (¬4) "تاريخ دمشق" 1/ 332. (¬5) وسيذكر المصنف الاختلاف فيه عند مولده - صلى الله عليه وسلم -، وقد نص ابن عساكر في "تاريخه" 2/ 313 على ما اعتمده المصنف أنه ولد بالعراق. (¬6) "تاريخ دمشق" 1/ 332.

قاسِيون، فيه قتل ابنُ آدَم أخاه" (¬1). وهذا الحديثُ لا يصحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا قتل قابيل أخاه بالشام، بل في الهند، وسنذكره فيما بعد. وذكر أيضًا أن الدم الذي على قاسِيون دمُ هابيل، وأن الملائكة نزلت عَزَّتْ آدمَ في الكهف الذي بقاسِيون، وحكاه عن كعب الأحبار وغيره (¬2). قلت: ما ورد عن كعب الأحبار في هذا الباب، فقد توقَّفَ الناسُ في رواية كعب، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يضربه بالدِرَّة ويقول: دعنا من يهوديتك، ومع هذا أجاز روايته بعضُهم إذا لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أسلم على يدِ عمر، فالرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب فيها وهنٌ عظيم إذا لم توافق السننَ والأصول. فروى أبو القاسم في فضل دمشق والغوطة حديثًا عن عائشة - رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلق الله عزَّ وجلَّ جمجمة جبريل على قدر الغوطة" (¬3). وهذا مما لا توافقه عليه قضايا العقول، لأنه قد ثبتَ في الصحيح أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خلق الله تعالى الملائكة من نور" (¬4). والنور روحاني فكيف يكون جسمًا، وفي رواية: "من نور العرش" (¬5) ولما سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يظهر له في صورته، ظهر فسدَّ أحدُ جناحيه ما بين المشرق والمغرب (¬6)، وسنذكره في ليلة المعراج. عدنا إلى قول ابن المنادي: والشام الرابعة: الأُردُنُّ ومدينةُ طبريَّة على ساحل البحيرة، ويقال: إنها من بناء سليمان - عليه السلام -، وأن قبره على شاطئ البحيرة. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 1/ 333. (¬2) "تاريخ دمشق" 1/ 334، دون قصة تعزية الملائكة لآدم. (¬3) "تاريخ دمشق" 1/ 339. (¬4) أخرجه مسلم (2996) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬5) أورده ابن كثير في "تفسيره" 3/ 392، وعزاه إلى ابن مردويه. (¬6) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 1/ 358، والخطيب في "موضح أوهام الجمع" 1/ 471 من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - وفيه إدريس بن سنان قال ابن عدي: أرجو أنه من الضعفاء الذين يكتب حديثهم. وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص 74 من حديث ابن شهاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، ورؤيته - صلى الله عليه وسلم - لجبريل في الصحيحين البخاري (4855)، ومسلم (177) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

فصل في مدائن الروم

قال: والشام الخامسة: الرَّمْلَة، ومدينتها فلسطين والبيت المقدس وعَسْقَلان وغَزَّة والبلاد الساحلية. قلت: وقد أشار الجوهري إلى ما ذكر ابن المنادي، فإنه قال: الشام خمسة أجناد: دمشق، وحِمْص، وقِنسْرين، والأُردن، وفلسطين، يقال: لكل مدينة جند (¬1). وقال ابن الجَواليقي: وشَيْزَر اسم موضع لا أحسبه عربيًّا صحيحًا (¬2). وقال في "الصحاح": وشيزر بلدٌ (¬3). وقد ذكر امرؤ القيس حماة في شعره، فدلَّ على أنها قديمة، والشعر الذي ذكر حماة فيه (¬4): [من البسيط] تَقَطَّعُ أَسبابُ اللُّبانةِ والهوى ... عَشيَّةَ جاوزنا حماةَ وشَيْزَرا وقال أبو عبيد: ومن الناس من يبتدئ بالرملة فيجعلها للشام الأعلى وبعدها فلسطين، ثم دمشق، ثم حمص، ثم حلب. فصل في مدائن الروم منها قَيْساريَّة: وهي من المدن القديمة، وقد مرَّ بها امرؤ القيس لما دخل الروم. ويقال: إن قبره على جبل قريب منها يقال له: عَسِيب. وسنذكره في ترجمته (¬5). عَمُّوريَّة: وكان ملكها يركب في مئة ألف فارس، وكان حولها ألف عمود ومئتا عمود، على كل عمود راهبٌ لا ينزل منه إلا بالموت، وكانت مركز قيصر، ومنها كان يستعدُّ للغارات على بلاد المسلمين: الشام والجزيرة وغيرهما، ففتحها المعتصم، لما نذكر. ومنها القُسطنطينية: وهي المدينة العظمى، بناها قسطنطين الملك، وهو أول من ¬

_ (¬1) "الصحاح": (جند). (¬2) "المعرب" ص 254. (¬3) "الصحاح": (شزر). (¬4) البيت في "ديوانه" ص 62. (¬5) سيذكره المصنف في الجبال والهضاب، عند وصفه لجبل عسيب، ولم يذكره في ترجمة امرئ القيس.

أظهر دينَ النصرانية، لما نذكر، قالوا: ولها سبعة أسوار، وسُمك سورها الكبير أحد وعشرون ذراعًا، وفيه مئة باب، وسمك فصيلها (¬1) الصغير عشرة أذرع، وهي على خليج يصبُّ في البحر الرومي، وهي متصلة ببلاد رُومِيَة والأندلس، لما نذكر في باب البحار. وقد جاء في ذكرها (¬2)، قال مسلم بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سمعتُم بمدينةٍ جانبٌ منها في البرِّ، وجانبٌ منها في البحر"؟ قالوا: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقومُ الساعةُ حتى يَغزوها سبعونَ ألفًا من ولدِ إسحاقَ، فإذا جاؤوها نزلوا، لم يقاتِلوا بسلاحٍ، ولم يَرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبَيها، ثم يقولون: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط الجانب الآخر، فيقولون الثالثةَ كذلك، فيفرَّج لهم، فيدخلونها فيغنمون ما فيها، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخُ: أنَّ الدجّال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون". وهذا حديث طويل وفيه أمارات الساعة، وانفرد بإخراجه مسلم (¬3). وقال ثور بن يزيد: هي القسطنطينية. قال أحمد بإسناده إلى أبي قَبيل قال: كنا عند عمرو بن العاص وسئل: أيُّ المدينتَين تُفتح أولًا: قسطنطينية أو رومِيَة؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مدينة هرقل" يعني القُسطنطينية (¬4). قال: ومنها مدينة رومِيَة. ذكر ابن خُرْداذْبُه في كتاب "المسالك والممالك": أن طولها من الباب الغربي إلى الباب الشرقي ثمانية وعشرون ميلًا، ولها سوران من حجارة بينهما مقدار ستين ذراعًا فضاء، سمك السور الأول اثنان وسبعون ذراعًا، وسمك الثاني اثنان وأربعون ذراعًا، وبين السورين نهرٌ مُغطًّى ببلاطٍ من نحاس، طولُ كلِّ بلاطةٍ سبعة وأربعون ذراعًا. ¬

_ (¬1) الفصيل: حائط قصير دون سور المدينة والحصن "الصحاح": (فصل). (¬2) بعدها في "كنز الدرر" 1/ 121: "حديث". (¬3) مسلم (2920). (¬4) أحمد في "مسنده" (6645).

فصل في مدائن مصر وما والاها

قال: والنهر الذي يدخل فيها من البحر، تدخل فيه المراكب بقلوعها (¬1)، فتقف على حوانيتِ التجار تبيع وتشتري. وفي داخلها كنيسةٌ بُنيت على اسم بطرسَ وبولصَ الحوارِيَّيْنِ، وهما فيها في جُرنٍ من الرخام مدفونين، وطولُ هذه الكنيسة ثلاثة آلاف ذراع، وعرضها ثلاث مئة ذراع، وقيل: ألف ذراع، وهي مبنية على قناطِرَ من صُفْرٍ ونحاس، وكذا أركانها وسقوفها وحيطانها، وهي من العجائب. قالوا: وفيها كنيسة مثل البيت المقدَّس على عرضه وطوله، مُرصَّعةٌ باليواقيت والجواهر والزُّمرُّد، وطول مَذْبَحِها عشرون ذراعًا من الزمرد الأخضر، وعرضه ستة أذرع، يحملها اثنا عشر تمثالًا من الذهب الإبريز، طول كلِّ تمثالي ذراعان ونصف، ولكل تمثالٍ عينان من الياقوت الأحمر تضيء الكنيسة منهما، ولها ثمانيةٌ وعشرون بابًا، وطولُ الكنيسة ميلٌ، وأبوابها من الذهب. قالوا: ولرومِيَة ألفُ بابٍ من النحاس الأصفر، سوى العود والصنوبر والخشب والآبنوس المنقوش، الذي لا يُدْرَى ما قيمته، قالوا: وبها ألفٌ ومئتا كنيسة، وأربعون ألف حمام (¬2). وفيها طِلَّسْماتٌ للحيات، والعقارب لا تدخل إليها، وطِلَّسْمٌ يمنع الغريبَ من الدخول إليها، وملكها يقال له: "الباب"، وهو الحاكمُ على دين النصرانية (¬3)، بمنزلةِ الخليفة في المسلمين، وفي وسطها سوق يباع فيه الطير مقدار فرسخ، وقد ذكرنا أن مملكتها مسيرة ثلاثة آلاف فرسخ، وبها عجائب نذكرها في فصل العجائب. فصل في مدائن مصر وما والاها أما الفُسْطَاط فسنذكره عند فتوح مصر وكذا القاهرة عند بنائها. وذكر ابن حَوْقل في "كتاب الأقاليم" فقال: وأما مصر فلها حدٌّ يأخذ من بحر الروم ¬

_ (¬1) القِلْع: الشراع. (¬2) "المسالك والممالك" ص 113 - 115. (¬3) بعدها في "كنز الدرر" 1/ 123: "كلها برها وبحرها، ومنزلته".

من الإسكندرية، إلى بَرْقَة في البرية، ثم إلى ظهر الواحات، ويمتد إلى بلاد النُّوبَة، ثم يعطف على حدِّ أسوان إلى أرض البجاة وينتهي إلى بحر القُلْزُم إلى طور سَيناء، ثم يعطف على تيه بني إسرائيل مارًّا في الجِفار إلى بحر الروم خلف العَريش إلى رَفَح، ثم يعود على ساحِل البحر الروميِّ إلى الإسكندرية (¬1). ومن مدائنها القديمة: مدينة فرعون، واسمها مَنْفُ، وقيل: عين شمس، وكان قد بالغ في بنائها وجعل لها سبعين بابًا، وبنى حيطانها بالصُّفر والنحاس، وزخرفها بالذهب والفضة، وأجرى الأنهار تحت قصورها، وأجرى الماء تحت سريره ونصبه على الماء، وافتخر وقال: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزحْرف: 51] وبالغ فيما فعل (¬2). وسنذكره في قصته مع موسى - عليه السلام -. ومنها: الإسكندريَّة، واختلفوا في بانيها على أقوال: أحدها: شدَّاد بن عاد. قاله وهب. والثاني: الإِسكندر الأول ذو القرنين، وهو المقَدُوني. قال الهيثم بن عدي: ومَقَدُونية هي أرض مصر، وإنما سميت مصر بمصر بن حام بن نوح - عليه السلام -، وكان مصر بن حام لما انفصل عن بابل نزلها، فنسبت إليه، وقسمها بين أولاده الأربعة، وهم قفط وأشمون وأقرن وصا، وكان قفط هو الأكبر، وسمى كل مكان باسم ولد. وقال الهيثم: مرَّ بها ذو القرنين فأعجبه مكانها وصحةُ هوائها، فأمر بعمارتها، فلما شرع وجد أثر البنيان، ومرمرأ ورخامًا وعمودًا عليه بالقلم المسند من أقلام حِمير، فحلَّه فإذا هو: أنا الملك شدَّادُ بن عاد، شددت بساعدي البلاد، وقطعت الأطواد، وبنيت إرم ذات العماد، التي لم يكن مثلها في البلاد، وأردت أن أبني هنا مثل إرم، وأنقل إليها كل ذي قدم، من جميع الأمم، لا خوف ولا هرم، ولا غم ولا سقم، فرماني الدهر بسهمه، فأصاب مقتلي، وأخرجني من داري ووطني، فمن رآني فلا يغترَّ بالدنيا بعدي. ¬

_ (¬1) "صورة الأرض" ص 126. (¬2) انظر "المسالك والممالك" ص 161.

فلما قرأ الإسكندر ما على اللوح، قوي عزمه على بنائها، فجمع الحكماء والمهندسين وأربابَ الرصد، وهيَّأ الأخشاب والحجارة، وقال للمنجمين: خذوا طالع الوقت، وهيَّأ على الأخشاب أجراسًا عند الأساس، وقال للمنجمين: إذا أخذتم الطالع، فحرِّكوا الأجراس لتضعوا الأساس، وذلك برأي مني، واتفق أن الإسكندر نام في تلك الساعة والمنجمون يرصدون، فغفلوا فجاء غراب فقعد على الجرس الأكبر وحركه، فتحركت الأجراس دفعة واحدة، فوضع الصناع الأساس، وصاحوا صيحةً انتبه لها الإسكندر، فلما رأى الغراب قاعدًا على الجرس فهم القصةَ، فقال: أردنا أمرًا وأراد الله غيره، وأمر بإتمام البناء، فلما تمَّ السور خرجت في الليل من البحر دوابٌّ على صورة الشياطين فأخربته فأعاد البناء مرارًا وهي تهدم السور، فجمع الحكماء والمهندسين حتى تُحَقِّقَ صورهم وإذا بهم شياطين، فعملوا طِلَّسماتٍ من نحاس على صورهم، وجعلوها على أعمدة من نحاس، فلما خرجت الجن ورأت صورها على الأعمدة ولَّت منهزمة ولم تعد. وبنى عليها سبعةَ أسوارٍ بين كلِّ سورين خندقٌ، فتم بناؤها في مئة سنة. والثالث: أنَّ الذي بناها الملكة دلوكة لتجعلها مرقبًا من ناحية الروم، لأنَّ الروم إنما ملكت مصرَ منها. قاله النُّوبَختي. والرابع: أن الذي بنى الأهرام بناها، وإنما أُضيفتْ إلى الإسكندر لأنه سكنها. قال النُّوبَختي: مكث أهلها سبعين سنةً لا يمشون بالنهار إلا وعلى وجوههم خرقٌ سودٌ على عيونهم لشدة بياض حيطانها وصقالها. ذكر منارتها: ذكر صاحب "المسالك والممالك": أن المنارة على سرطان من زجاج في البحر صنعه الإسكندر (¬1). قلت: وليس كما ذكر، وإنما هي على جبل في البحر قد أكل الماءُ معظمَهُ وقد شاهدته في سنة أربعين وست مئة وصعدتُ على رأسها، والمنارة على خطر. وقيل: إن الإسكندر لما مات كسروا آنيةَ طعامِهِ وشرابه وجمعوا جواهره وذخائره ¬

_ (¬1) "المسالك والممالك" ص 160.

وجعلوا الجميع في سرطان من زجاج ودفنوه في أساس المنارة، وهذا أصح. وذكر جدي رحمه الله في "المنتظم": أنه كان على رأس المنارة مرآة إذا نظر الناظر فيها قبل طلوع الشمس رأى مَنْ يَكونُ بالقسطنطينية وبينهما عرض البحر (¬1). قلت: وهذا إنما نقله من كتاب "المسالك والممالك" (¬2) وليس كما ذكر صاحب المسالك، فإن مسافة ما بين القسطنطينية والإسكندرية نيفًا وأربعين يومًا إذا طابت الريح، على ما حكاه لي مشايخ الإسكندرية، وإن ما بين الإسكندرية وقبرس إذا طاب الهواء مسيرة ثلاثة أيام، فكأن الناظر قبل طلوع الشمس ينظر فيها إلى المراكب وقد أقلعت من قبرس فيخبر أهل البلد فيستعدُّون للحرب، فتحَيَّلَ ملوكُ الفرنج حتى قلعوا المرآة من المنارة. واختلفوا في أي زمانٍ قُلِعَتْ المرآة على قولين: أحدهما في زمان الوليد بن عبد الملك بن مروان، وكان الإسكندر صنع هذه المرآة حفظًا للبلد من العدوِّ، فكان في عزم ملوك الروم، قصد مصحر فلم يتأتَّ لهم ذلك، وكان لهم ملكٌ داهية فأظهر الغضب على خادم له وكان خصيصًا به وكان الخادم باقعة (¬3) ذا مكرٍ وخديعة، فأعطاه أموالًا عظيمة وجواهر، وأسرَّ إليه ما يصنع، فخرج إلى بلاد الإسلام ودفن تلكَ الأموال والجواهر في أماكنَ متفرقة، وجاء إلى الوليد فأسلم على يده، وقال: أنا خادم الملك الفلاني، وقد رغبت في الإسلام، وقد وقع لي كتابٌ فيه أسماء المطالب التي بالشام ومصر فساعدني بالمال والرجالِ لترى ما أصنع، وكان الوليد شَرِهًا فأمدَّه بما طلب، فصار يحفر تلك الأماكن التي أودع فيها الأموال والجواهر ويحملها إلى الوليد، فسرَّ به واستولى عليه وملك قلبه وأخذ منه من الأموال أضعاف ما كان يحمل إليه، وكان يبعث بها إلى ملك الروم أولًا فأولًا سرًّا، فقال الخادم للوليد: إن تحت منارة الإسكندرية دفائنَ الإسكندر وذخائره وذخائر شداد بن عاد وملوك مصر لا يعلمها إلا الله، فابعثْ معي رجلًا لنهدمَ المنارة، وكان طولها ألف ذراع، والمرآة على رأسها، ¬

_ (¬1) "المنتظم" 1/ 164. (¬2) "المسالك والممالك" ص 115. (¬3) الباقعة: الرجل الداهية، والذكي العارف لا يفوته شيء ولا يدهى.

فصل في بلاد المغرب

فبعث معه الرجال فهدم جانبًا منها فثار المسلمون وأرادوا قتلَ الخادم وقالوا: تهدم هذه المنارة بقول علج؟ ! فأمهل الخادم إلى الليل وقد أعدَّ مركبًا للهرب، وصعد إلى المرآة نصف الليل وحده فقلعها ورمى بها في البحر، وركبَ المركبَ الذي أعَدَّهُ وتمَّتِ الحيلة، ذكره المسعودي (¬1). والثاني: أن الواقعة كانت في زمان الحاكم، بعث بعض ملوك الروم راهبًا فأظهر الإسلام وأقام يتعبد في المنارة حتى وجد فرصة فقلعها في الليل ورمى بها في البحر وهرب، ذكره أبو سعيد بن يونس (¬2) في "تاريخ مصر". وذكر جدي رحمه الله في "المنتظم" وقال: كان بالإسكندرية ست مئة ألف يهودي ونصراني خَوَلًا لأهلها (¬3). قلت: وهذا يحتمل أنه كان في قديم الزمان، أما اليوم فلا يبلغ أهلها هذا العدد المذكور. وحكى ابن عساكر في "تاريخه" في حرف الهمزة في من اسمه أسامة بن زيد بن عدي أبو عيسى الكاتب التنوخي قال: كان بالإسكندرية صنم يقال له: شراحيل، على حَشَفَة من حَشَف البحر وهي في الجزيرة، وكان مستقبلًا بإصبعه القسطنطينية، لا يُدرى أكان مما عمله سليمان أو الإسكندر، فكانت الحيتان تجتمع عنده وتدور حوله فتصاد، فكتب أسامة إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان يخبره بخبر الصنم ويقول: الفلوس عندنا قليلة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقلعَ الصنمَ ويضربَهُ فلوسًا، فأرسل إليه الوليد رجالًا أمناء، فأنزلوا الصنم من الحشفة، فوجدوا عينيه ياقوتتين حمراوين ليس لهما قيمة، فذهبت الحيتان فلم تعد إلى ذلك المكان، وضربه فلوسًا (¬4). فصل في بلاد المغرب وأشهرها: طُلَيْطُلَة مدينة الأندلس العظمى، وهي قصبة الأندلس، ودار مملكة ¬

_ (¬1) "مروج الذهب" 2/ 434. (¬2) هو عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، الصدفي (ت 347 هـ). (¬3) "المنتظم" 1/ 135. (¬4) "تاريخ ابن عساكر" 2/ 699 - 70، والحشفة: صخرة تكون في البحر.

الفِرَنج، وملكها يقال له: الفنش، كما يقال: كسرى وقيصر، ويشقها نهر عظيم يسمى باجه يخرج من بلاد الجلالقة، وهم أمَّة عظيمة يحاربون أهل الأندلس، وفي أرض طُليطلة قنطرة عظيمة على البحر يقال لها: قنطرة السيف (¬1)، من البنيان الموصوف، يقال: إن الإسكندر بناها، وقيل: سليمان - عليه السلام -. وكانت طُليطلة قد افتتحت في أيام الوليد بن عبد الملك، ثم عصى أهلُها، فلما دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ويسمى: الداخل، افتتحها في سنة ست وثلاثين ومائة، فهدم بعضها، وجعل دار ملكه قُرطبة، وبنى بها جامعًا ضاهى به جامع دمشق. وكانت قرطبة في العلم واجتماع العلماء بها مثل دمشق وبغداد، وبين قرطبة وطُليطلة عشر مراحل، وبين قرطبة والبحر ثلاثة أيام. وقال هشام بن الكلبي: في جزيرة الأندلس نحو من أربعين مدينة، منها: إفراغة وطرطوشة ولشبونة ولاردة وغيرها (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في (ل): "السلّيف"، والمثبت من "معجم البلدان" 4/ 406. (¬2) في النسخ: الإفرنجة وطرسوسة ولذبونية وغيرها، والمثبت من (ط).

فصل في ذكر الجبال والهضاب والقلاع والرمال

فصل في ذكر الجبال والهضاب والقلاع والرمال (¬1) ذكر أبو الحسين بن المنادي، وقدامة الكاتب، وأبو معشر: أن عدد الجبال المشهورة مئة وثمانية وأربعون جبلًا. قال قدامة: ففي الإقليم الأول: تسعة عشر جبلًا، وفي الإقليم الثاني: سبعة وعشرون جبلًا، وفي الثالث: أحد وثلاثون جبلًا، وفي الرابع: أربعة وعشرون جبلًا، وفي الخامس: تسعة وعشرون جبلًا، وفي السادس: ستة وثلاثون جبلًا، وفي السابع: اثنان وثلاثون جبلًا. ولم يذكر قدامة أسامي جبال كلِّ إقليم، وقد ذكرتُ المشاهير التي في الأقاليم، وبينتها على الحروف، ميلًا إلى الاصطلاح المعروف. أجَأ: جبل طَيِّئ، ذكره الجوهري في أول "الصحاح" فقال: أَجَأ -على وزن فَعَلَ بالتحريك- أحد جبلي طَيِّئ والآخر سَلْمَى، وينسب إليها الأجَئيون، مثال: الأجعيون (¬2). ووقع في عامة النسخ: أجأ، مصروف، ووقع في نسخة بخط الجوهري غير مصروف. أُحُد: وهو الذي كانت الوقعة عنده، من جبال المدينة، قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُحُد جبل يُحبُّنا ونُحِبُّه". انفرد بإخراجه البخاري (¬3)، وقد رواه أبو هريرة أيضًا (¬4)، وقال الزُهْري: وإنما أراد أهلَ المدينة، وهم الأنصار، أي: أهلَ أُحد. إِضَم: جبل بالحجاز. ذكره الجوهري (¬5). وقد ذكرته الشعراء في أشعارها. تِعار -بكسر التاء- من جبال الحجاز مشهور، والعرب تقول: ما أفعلُ كذا ما قام تِعار. ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 129. (¬2) "الصحاح": (أجأ). (¬3) أحمد (12421)، والبخاري (4083)، وأخرجه أيضًا مسلم (1393). (¬4) أخرجه أحمد (8450). (¬5) "الصحاح": (أضم).

ثَبِير: وهو بمِنى، ويقال له: جبل الكَبْش، قال ابن عباس: فُديَ إسماعيل عنده، وفيه المَنْحَر، وكانت العرب تعظمه في الجاهلية، قال الجوهري: كانوا إذا انقضى الموسم، وقفوا عنده وقالوا: أَشْرِقْ ثَبِير كيما نُغير (¬1). الثنين: من جبال أنطاكية، ويقال له الأقرع، لأنه لا ينبت إلا في أماكن، وعليه حيَّات كبار. جبل الثَّلج: شامخ يُرى من مسيرة ثلاثة أيام في السَّهل، وهو من جبال الشام في أرض بانياس غربي دمشق، وعليه الثلج لا يذهب دائمًا، وكان مسكونًا وعليه آثار عمارة، وكان في المدينة رجل كبير قد قرأ الكتب، فقال لأهله: متى أصبح هذا المكان وعليه نداوةٌ فارحلوا، ومات، فأصبحوا ذات يوم وعلى ظهور دوابِّهم الندى، فارتحلوا، فنزل عليه الثلج في اليوم الثاني، فطمَّهُ واستمر. جبل ثَوْر: من جبال مكة، وفيه الغار الذي اختفى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكره الجوهري فقال: وثور جبل بمكة، وفيه الغار المذكور في القرآن، ويقال له: ثور أَطْحَل، قال: وقال بعضهم: اسم الجبل أَطْحَل، نسب إليه ثور بن عبد مناة لأنه نزله (¬2). وسنذكره في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثَهْلان: من جبال الحجاز، وهو مشتق من الثَّهَل، وهو الانبساط على وجه الأرض، لأنه يمتد. جُمْدان: -بجيم- بين قُدَيْد والجُحْفَة. الجُوديُّ: وهو الذي رسَت عليه سفينة نوح - عليه السلام -، وذكره الجوهري فقال: والجودي جبل بأرض الجزيرة، استوت عليه السفينة (¬3). وقال: وموضعه ببلاد ماسورين، وتحته ضيعة يقال لها: ثمانين، نزل بها نوح ومن كان معه في السفينة، وهي أول ضيعة بنيت على وجه الأرض بعد الطوفان، وسنذكرها ¬

_ (¬1) "الصحاح": (ثبر). (¬2) "الصحاح": (ثور). (¬3) إلى هنا انتهى كلام الجوهري في "الصحاح": (جود).

في قصة نوح - عليه السلام -، وهي من أعمال الموصل، وبين هذا الجبل ودجلة ثماني فراسخ، وآثار السفينة عليه باقية، إلى هَلُمَّ جرًّا على ما قيل. حُبْشي: قال الجوهري: وحُبْشي -بالضم- جبل بمكة أسفل منها، يقال: منه سمِّيَ أحابيش قريش، لأنهم اجتمعوا عنده، وتحالفوا في حِلْفِ الفُضول (¬1). لما نذكر. الحَجُون: وهو الجبل المشرف على مسجد البيعة عند العقبة، قال الجوهري: وهو مقبرة أهل مكة (¬2). حِراء -بالمد- قال الجوهري: يذكَّر ويؤنَّث (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعبد في غار حراء ويخلو فيه (¬4). وقال مسلم: وهو الجبل الذي تحرَّك لما صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عليه (¬5). وقال البخاري: إنما كان ذلك على جبل أحُد (¬6)، لما نذكر. خَزازَى: من جبال الحجاز، وكانت عنده وقعة مشهورة بين نزار واليمن. حَضَن: هو بأعلى نجد قال الجوهري: وفي المثل: "أَنجدَ من رأى حَضَنًا"، قال ومعناه: من عاين هذا الجبلَ فقد دخل في ناحية نجد (¬7). أي: ارتفع، ومن عظم هذا الجبل ضرب به المثل، فقالوا: "لو ركن حضن لا يحتضن". خِيَم: من جبال الحجاز، قال: جرير: [من الرجز] أَقبلنَ من نَجْرانَ أَو جَنْبَيْ خِيَمْ (¬8) ¬

_ (¬1) "الصحاح": (حبش). (¬2) "الصحاح": (حجن). (¬3) "الصحاح": (حري). (¬4) أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬5) مسلم (2417) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء، هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اهدأ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد". (¬6) البخاري (3675) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان". (¬7) "الصحاح": (حضن). (¬8) أورد هذا البيت المبرد في "الكامل" 2/ 647 وروايته: "أقبَلْنَ من ثَهْلان أو وادي خِيَم" ورواية الديوان =

جبل دُنْباوَنْد: وهو بالمشرق ببلاد طبرستان، يُرى من مئة فرسخ، لارتفاعه وذهابه في الجوِّ، ويرتفع من أعاليه دخان، والثلوجُ تترادف عليه، ويخرج من أسفله نهر عظيم أصفر كبريتي ذهبي اللون، ومسافة صعود هذا الجبل ثلاثة أيام ولياليها، ورأسه مُدوَّر مقدار ألف ذراع، يُرى من أسفله مثل القبة المخروطة، وفي أعلاه رمل أحمر تغوص فيه الأقدام، ولا يصل إليه شيء من الوحوش والطيور، لشدة الرياح به والبرد، وفي أعاليه ثلاثون نَقْبًا يخرج منها الدخان العظيم، يُسمع لخروجه دويٌّ شديد مثل الرعد، وذلك صوت تلهُّب النار في باطنه، وفي رأسه الكبريت الأحمر الذي يُعمل منه الكيمياء على ما قالوا، وبين هذا الجبل وَطَبرِسْتان عشرون فرسخًا، ويقال: إن الضحَّاك محبوسٌ فيه لما نذكر في سيرة الضحاك (¬1). دمان ووَرِقان (¬2): جبلان مشهوران بالحجاز، وهما شامخان أسودان، وفيهما أنواع الثمر والسُّمَّاق والرُّمَّان والقَرَظ، وهما لمُزَينة، وهم قوم صدق. رأس الجُمْجُمَة: وهو جبل عظيم، أوله باليمن من ناحية الشِّحْرِ والأحقاف، ويمتد في البحر إلى الهند، ومنه تطلق المراكب من بحر فارس، ويمتد إلى المشرق، ولا يُدرى أين غايته في البحر. رَحْرَحان: قال الجوهري: هو قريب من عُكاظ (¬3). رَضْوَى: من جِبال تِهامَة، بينه وبين المدينة سبع مراحل، وهو من اليَنْبُع على يوم، قال الجوهري: وهو من جبال المدينة، والنسبة إليه رَضَوي (¬4). وهذا الجبل تزعم الكَيسانيَّة أن فيه محمد بن الحنفية، وأنه دخل في شِعب من شعابه ومعه أصحابه، وهم فيه أحياء يُرزقون. وسنذكره في ترجمة محمد بن الحنفية. وقال قُدامة بن جعفر الكاتب: وبحذاء رَضْوَى جبل يقال له: عَزْوَر، يضاهي ¬

_ = 1/ 512: "أقبَلْنَ من جنْبَي فِتاخ وإضَمْ". (¬1) ستأتي قصته في الصفحة 337. (¬2) في (ل): ودورقان، والمثبت من (ط) ومعجم البلدان. (¬3) في (ل): وحرجان، والمثبت من (ط) و"الصحاح": (رحح). وجاء بعد هذا الكلام في "كنز الدرر" 1/ 133: "ومنه يوم حرب كان لبني عامر علي بني تميم، وهو من أيام العرب المشهورة". (¬4) "الصحاح": (رضي).

رَضْوَى في ارتفاعه ومياهه وشجره ومراعيه، ويسكن في الجبلين نَهْد وجُهَينَة، في الوَبَر دون المَدَر. ساتي دَما: واختلفوا فيه: فقال قُدامة: هو من جبال تِهَامة، وقيل: من اليمن، وقيل: من الشام. وقال الجوهري: وساتي دَما اسم جبل سُمي بذلك، لأنه ليس من يوم إلا ويُسفك عليه دم، كأنهما اسمان جُعلا واحدًا (¬1). جبل السِّتار -بالسين المهملة المكسورة-: في الحجاز، وقد ذكره الجوهري في شعر امرئ القيس وقال: هما جبلان، قال امرؤ القيس (¬2): [من الطويل] علا قَطَنًا بالشَّيْمِ أَيمنُ صَوْبِهِ ... وأيسرُهُ على السِّتارِ ويَذْبُلِ قلت: فصاروا ثلاثة، قَطَنًا والسِّتارَ وَيذْبُل. سَلْع: جبل بالمدينة. شَابَة -بالشين المعجمة-: جبل بنجد، ذكره الجوهري. شعبان: جبل من جبال اليمن، ويقال له: شَعْب، وقال الجوهري: ويقال له: ذو شَعَبين؛ نزله حسان بن عمرو الحِمْيَرِي وولده فنسبوا إليه، فمن كان منهم بالكوفة يقال لهم: شَعْبِيُّون، منهم عامر بن شَراحيل الشعبيّ، وعداده في همدان، ومن كان منهم بالشام يقال لهم: الشعبانيون، ومن كان منهم باليمن يقال: هم آل ذي شَعَبين، ومن كان منهم بمصر والمغرب يقال لهم: الأُشْعُوب (¬3) وهم جميعًا بنو حسان بن عمرو، وهذا لفظ الجوهري. والشين مفتوحة في الجميع، وكذا ذكر محمد بن سعد وابن الكلبي وقدامة وغيرهم. قال ابن سعد بإسناده إلى أشياخ من شعبان منهم محمد بن أبي أمية: إن مَطرًا أصابَ اليمنَ فاسترقَّ موضعًا فأبدى عن أَزَجٍ عليه بابٌ من الحجارة، فكسر الغلق، ودُخِلَ فإذا بهوٌ عظيم فيه سرير من ذهب عليه رجل مسجًّى، فشبرناه فإذا طوله اثنا عشر ¬

_ (¬1) "الصحاح": (دمي). (¬2) البيت من معلقته الشهيرة، وهو في ديوانه ص 26. (¬3) "الصحاح": (شعب).

شبرًا، وعليه جباب من وشيٍ منسوجة بالذهب، وإلى جنبه مِحْجَنٌ من ذهب، وعلى رأسه تاج من ذهب فيه ياقوتة حمراء وهو أبيض الرأس واللحية له ضفيرتان. وإلى جانبه لوح من ذهب مكتوبٌ فيه بالحميرية "باسمك اللهم، ربَّ حمير، أنا حسان بن عمرو القَيْل، إذ لا قيلَ إلا الله، عشت بأملٍ ومت بأجل هلك فيه اثنا عشر ألف قَيل فكنت آخرهم، فأتيت جبل ذي شعبين ليجيرني من الموت فأخفرَني". قال: وإلى جانبه سيف عليه مكتوب بالحميرية: "أنا قُبار بي يُدْرَك الثار" (¬1). شَامة: جبل قريب من مكة وكذا طَفِيل، وقد أشار إليهما بلال، قال: وهل يبدون لي شامة وطَفيلُ (¬2) شَمَام: من جبال الحجاز. شَعْران: -بفتح الشين- ذكره الجوهري، وقال: سمي بذلك لكثرة شجره (¬3). وهو من جبال الموصل. ضَجَنان: قال الجوهري: هو جبل بناحية مكة (¬4). وهو الذي كان يرعى عنده عمر بن الخطاب غنم أبيه. الظهران (¬5): وهو أقرب إلى مكة، وقد نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية والفتح. عاقِل: من جبال الحجاز بين بني جشم وجديلة، وقيل: بين جشم وبني حنظلة. ولهم عنده وقائع، وذكروه في أشعارهم. جبل العَرْج -بإسكان الراء-: من جبال الحجاز بين مكة والمدينة، قال الجوهري: هو منزل، وإليه ينسب العرجيُّ الشاعر، واسمه عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬6). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 6/ 246. (¬2) صدره: وهل أردَن يومًا مياه مَجنَّةٍ، وهو ضمن حديث عائشة - رضي الله عنها - في حمى المدينة، أخرجه البخاري (1889). (¬3) "الصحاح": (شعر). (¬4) "الصحاح": (ضجن). (¬5) جاء في "كنز الدرر" 1/ 136: "بفتح الظاء: جبل بين مكة والمدينة، وهو إلى مكة أقرب" والذي بقرب مكة، ونزله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو واد يقال له: مر الظهران. انظر "معجم البلدان" 4/ 63، 5/ 104. (¬6) "الصحاح": (عرج).

وقال قدامة الكاتب: وهذا الجبل يتصل بالشام، فبعضه يتصل بلبنان وبعضه بجبل الثلج من أرض دمشق ويمتدُّ إلى الروم. وقال النَّضْر بن شُمَيل: يأتي إلى الشام من ناحية أَيلة ثم إلى الطُّور ثم إلى بيت المقدس ثم إلى طبرية، ويمر بالبقاع وبَعْلَبَكَّ، ويمتد غربيَّ حمص وحلب حتى يتصلَ باللُّكَّام، ثم يمتد إلى مَلَطْيَة وإلى بحر الخزَر وفيه القلاع والحصون الكثيرة والمدن. عَسِيب: من جبال الحجاز، قال الجوهري: هو جبل بني هذيل (¬1). قلت: وقد رأيت ببلد الروم عند قيسارية جبلًا يقال له: عسيب، وعليه قبر يقال: إنه قبر امرئ القيس، وهو أقرب إلى الصحة لأنَّ امرأ القيس مات بالروم، لما نذكر في سيرته. فأما عُشَيب -بضم العين والشين معجمة- فجبل بالحجاز لقريش. عَيْر: جبل بالحجاز، والعين مفتوحة. وفي "الصحيحين" من حديث عليِّ بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين عَيْرٍ إلى ثور (¬2). وهذا يدلُّ على أن بالمدينة جبلًا اسمه ثور، وأرباب السير لا يعرفون ذلك، وإنما ثور جبل بمكة وفيه الغار، ولعله اشتبه على الكاتب أو على الراوي فجعل مكان أحد جبل ثور، وقد أشار بعضهم إلى هذا فقال: قال أبو عبيد: يرى أصل الحديث أنه حرم ما بين عَيْر إلى أحُد (¬3). قال: وقال غيره: كأنه جعل المدينةَ مضافة إلى مكة في التحريم. قلت: هذا القول ضعيفٌ لأنَّ حدودَ مكة لا تدخل في حدود المدينة، لما نذكر، فكأنَّ القول الأول أصحُّ (¬4). عَيْنَيْن (¬5): من جبال المدينة، بات به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة وقعة أُحُد لما نذكر، وسنذكر جبل عرفات. غُرَّب -بغين معجمة- بين المدينة والشام في بلاد كلب، قال الجوهري: وعنده عينٌ ¬

_ (¬1) "الصحاح": (عسب)، ولم يذكر فيه: "بني هذيل". (¬2) البخاري (6755)، ومسلم (1370). (¬3) "غريب الحديث" 1/ 315. (¬4) قلت: وقد تكلم الأستاذ فؤاد عبد الباقي في تعليقه على صحيح مسلم على هذا الحديث؛ فانظر كلامه. (¬5) ويقال له: "عينان" انظر "معجم البلدان" 4/ 173، 180.

تسمى غُرَّبة (¬1). غَزْوان: جبل بالطائف وعليه ديار بني سعد، وليس بالحجاز مكان يبرد فيه الماء ويجمد سواه. جبل الفتح: وهو من أعظم جبال الدنيا، وفيه أمم كثيرة وممالك، وفيه اثنتان وسبعون أمة، كل أمة لها لسان وملك، وفيه شعاب وأودية، ومدينة باب الأبواب على أحد شعابه، بناها كسرى أنو شروان وجعلها حدًّا فاصلًا بينه وبين الخزر، وجعل حدَّ السور ومبدأه من البحر إلى أعالي الجبل وذلك نحوًا من أربعين فرسخًا حتى ينتهي إلى طبرستان، وجعل على كل ثلاثة أميال من هذا الجبل بابًا من الحديد وعنده حَفَظَة، وأسكن هناك أممًا مختلفة ليحفظوا الحدَّ من العدو، مثل: الخزر والترك واللَّان وغيرهم، ومسافة هذا الجبل على البحر مدة شهرين، وفيه قلعة باب الأبواب، وبينها وبين بغداد أربع مئة فرسخ، وهذه القلعة على وادٍ عظيم من هذا الجبل لا سبيل لأحدٍ على العبور إلا من تحتها، وهي على جبل مدوَّر يخرج من وسطها عينُ ماء، وفي جبلها قرود يقفُ القرد على رأس الملك فإن كان الطعامُ مسمومًا غمز القردُ الملكَ فامتنع منه، والذي بناها أنوشروان، وقيل: اِسفَنْديار من ولد لُهراسف من الفرس الأُول، ورتَّب فيها رجالًا. ويقال: إنَّ هذه القلعة فتحت في أيام عبد الملك بن مروان، ورتَّب فيها رجالًا مسلمين من العرب، وهم إلى هلم جرا يتوارثونها، وينقل إليهم الموادَّ من تَفْليس ونواحيها، وبينها وبين تفليس عشرةُ أيام، وأهل تفليس يساعدونهم خوفًا من العدوِّ على بلادهم. ووراء هذا السور قومٌ من العرب يتكلمون بالقحطانية، وبينهم وبين هذه القلعة ثلاثة أيام، ثم يلي هذا السور من ناحية المشرق أممٌ كثيرة خزر وترك ولان، ولهم ملوك، منهم ملك السرير ويدعى "قيلان شاه" نصراني، وإنما سمي ملك السرير لأنَّ يَزْدَجِرد لما أحسَّ بزوال دولتهم في آخر أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعث سريرًا من الذهب وأموالًا عظيمة إلى تلك الناحية، وهلك يَزْدَجِرد في أيام عثمان - رضي الله عنه - قبل أن ¬

_ (¬1) "الصحاح": (غرب).

يصل إلى تلك الناحية، فأخذ السرير رجل من نسل بهرام جور وملك تلك الناحية، وفيها اثنا عشر ألف قرية؛ ثم يلي هذه المملكة ممكلة اللَّان، ويقال لملكهم: "كرجناح" وله مدينة يقال لها: "ماعص" وعسكره ثلاثون ألفًا، ومما يلي هذه الممالك جبالٌ فيها قرود على صور بني آدم. قاف: ذكر أبو إسحاق الثعلبي في تفسير قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] عن ابن عباس: أنه جبل من زمردةٍ خضراءَ محيطٌ بالدنيا، وخضرة السماء منه، وعليه كتف الدنيا، وما وجد الناسُ من الزمرد فهو مما يتساقط منه. وقال وهب بن منبه: لما مرَّ عليه ذو القرنين رأى حوله جبالًا صغارًا فناداه يا قاف ما هذه الجبال التي حولك؟ فقال: عروقي، ليس في الدنيا مدينة إلا وفيها عرق منها، فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل أرضًا أمرني فحركت ذلك العرق فتتزلزل تلك الأرض، فقال له الإسكندر: فهل وراءك شيء؟ قال: نعم أرض طولها خمس مئة عام في خمس مئة عام، فيها جبال من ثلج تحطم بعضها بعضًا، ولولا ذلك الثلج لاحترقت من حرِّ جهنم (¬1). وقد ذكره الجوهري فقال: قاف جبل محيط بالدنيا (¬2). قُدْس -بإسكان الدال-: جبل عظيم بأرض نجد، وقد ذكرته العرب. قاسِيُون: جبل شمالي دمشق فيه أثارات كثيرة: مغارة الدم، ومغارة الجوع، ومسجد الكهف، وقبور الزهاد والعلماء، والنفس ترتاح إلى المقام به، ومَنْ سَكَنَهُ لا يطيبُ له سكنى غيرِهِ غالبًا. وجاءت فيه آثار: منها ما حدثني به الشيخ الصالح أبو عمر المقدسي رحمه الله قال: بلغني عن كعب الأحبار أنه قال: أوحى الله إلى قاسيون هَبْ ظِلَّكَ وبركتك لجبالِ بيت المقدس، ففعل، فأوحى الله إليه لن تذهَبَ الأَيامُ والليالي حتى أردَّ عليك خيرك ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 6. قال ابن كثير في تفسيره ردًّا على هذه الأخبار وأمثالها: وكأن هذا والله أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ... وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم يلبسون به على الناس أمر دينهم ... (¬2) "الصحاح": (قوف)، وفيه: "بالأرض".

وظلَّك وبركتك، ويبْنَى لي في كنفك بيتٌ أُعبَدُ فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة قال: فقاسيون من الله بمنزلة العبد الخاضع المتواضع المستكين. وذكر أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه" هذا الأثر عن القاسم بن عبد الرحمن ولم ينسبه، وذكر البيتَ وقال: هو جامع دمشق (¬1) وأن رجلًا سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن دمشق فقال: "بها جبل يقال له: قَاسِيُون فيه قَتلَ ابنُ آدمَ أخاه، وفي أسفله غارٌ من الغربِ فيه وُلد إبراهيم - عليه السلام -". وذكر حديثًا فيه أماكن (¬2). قلت: العجب من رواية مثل هذا الحديث الذي ألفاظه تنطق بوضعه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أحدًا من العلماء لم يذهب إلى أن قابيل قتل هابيل بالشام، ولا أنَّ الخليلَ - عليه السلام - ولد بالشام، وإنما ولد ببابل، لما نذكر في بابه. وإنما المنقول في هذا عن كعب الأحبار، فإن نوفًا البكالي روى أن كعبًا قدم الشام ومعاوية بن أبي سفيان أمير بها من قبل عثمان - رضي الله عنه -، وكان معاوية لما بلغه قدومُ كعبٍ إلى القدس في سنة ثلاثين قال: يا ليت لنا من يخبرنا بفضائل دمشق، وبلغ كعبًا، فلما نزل من عقبة شحورا نظر إلى قاسيون فقال: لا إله إلا الله، هذا مكان قتل فيه ابنُ آدمَ أخاه، كذا وجدته في التوراة، وهذا الكهف الذي عزَّتْ فيه الملائكة آدم، وهذا الغار الذي ولد فيه إبراهيم، وأشار إلى برزة، وهذا مكان كذا وكذا، وبلغ معاويةَ فبعث إليه بمالٍ كثير. ومعلوم أنَّ عمر بن الخطاب كان يعلو كعبًا بالدرة دائمًا ويقول: دعنا من يهوديتك. وإنما تزار هذه الأماكن بحسن الظن، فإن الأعمال بالنيات، وقد طرقها خلقٌ كثير من السادات. قَطَن: كانت عنده وقعة لعبس وذبيان بالحجاز، وقد ذكروه في أشعارهم. جبل القَمَر: الذي يخرج منه نيل مصر، يبتدئ من الظلمات ويقطع البحر الحبشيَّ ولا يعلم أين منتهاه، وليس في الدنيا بعد قاف جبل أكبر منه، وسنذكر النيل فيما بعد إن شاء الله. ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن عساكر" 1/ 300. (¬2) "تاريخ ابن عساكر" 1/ 333.

جبل لُبْنان: وهو بالشام، من أعظم الجبال وأبركها، وأصله من الحجاز يأتي من العَرْج ويتصل بالجبال التي على ساحل البحر الشرقي على الطُّور وأَيلة، وبتصل بجبال بيت المقدس، ثم يمتدُّ على البقاع وبلد حمص وحلب والثغور، ويمتدُّ إلى الروم واللُّكَّام، وفيه العيون الباردة، والأشجار المثمرة، والمباحات الكثيرة، والحشائش التي تدخل في الدِّرياق. ويقال: إن فيه حشيشة الكيمياء، وفيه الصالحون والأبدال، وفيه جبل يقال له: جبل الدير مطلٌّ على ساحل بيروت، يقال: إنَّه الجبل الذي قال فيه كنعان بن نوح: {قَال سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43] وبسفحه قرية يقال لها: الكَرْك، فيها قبر يقال: إنه قبر نوح - عليه السلام -، وفي سفحه أيضًا قبر شيبان الراعي، وقصته مع ذي النون المصري معروفة، وسنذكرها. وحكى ابن الكلبي عن كعب الأحبار قال: قدم الخليل - عليه السلام - الشام فاشتاق إلى بيت المقدس فقال: يا رب أرني الأرضَ المقدسة، فقيل له: اصعدْ على لبنان وانظرْ إلى أيِّ مكان انتهى بصرك فهو مقدَّس. وروي عن شقيق البلخي أنه قال: ما اتخذ الله وليًّا حتى يسحب ذيله على لبنان. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: بنى إبراهيم الكعبةَ من خمسة أجبل: أبي قبيس، وطور سِينا، وطور زَيتا -وهو جبل ببيت المقدس- والجُودي، ولُبنان (¬1). وقد روينا عن جماعة من المشايخ أنهم شاهدوا الأبدال فيه، وسنذكر حكاية ذي النون المصري مع شيبان الراعي في ترجمة ذي النون المصري. وذكر الحافظ أبو القاسم ابن عساكر حكاية جرت فيه لبعض السياحين نذكرها في السنة الثامنة عشرة وثلاث مئة. لَعْلَع: من جبال الحجاز، ذكره الجوهري وقال: كانت عنده وقعة مشهورة، وأنشد: [من الطويل] لقَد ذاقَ منَّا عامِرٌ يَومَ لَعْلَعٍ ... حسامًا إذا ما هُزَّ بالكفِّ صَمَّما (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 1/ 124 من حديث عطاء. (¬2) "الصحاح": (لعع)، والبيت لحميد بن ثور في ديوانه ص 31.

اللُّكَّام: وقد ذكره ابن حوقل في كتاب "الأقاليم" فقال: جبل اللُّكَّام هو الفاصل بين الثغرين، يعني: الشام والجزيرة، لأنَّ كلَّ ما كان وراء الفرات من الشام، ومن مَلَطْيَة إلى مرعش جزيرة؛ قال: واللُكَّام داخل في بلاد الروم، ويقال: إنه ينتهي إلى نحو من مئتي فرسخ ويمر على مَرْعش وعين زَرْبَة والهارُونيَّة وإلى ها هنا يسمى اللكام، إلى أن يجاوز اللاذقية، فيسمى جبل بهراء وتنوخ إلى حمص، ويتصل بلبنان ويمر على فلسطين حتى ينتهي إلى بحر القلزم ويتصل بالمقطَّم جبل مصر، قال: وأوله بالمشرق في بلد الصين خارجًا من البحر المحيط، فيقطع بلاد التُّبَّت وفَرغانة، ثم يمرُّ بسمرقَنْد على شمال الصُّغْد ويقطع نهر جَيحون إلى الخَزَر، ويكون عن يمين القاصد من خراسان إلى العراق، ومنه تتشعب جبال جُرجان وطَبَرِستان والدَّيلم، ويتصل بجبال أذْرَبيجان والرَّي ثم يعود إلى هَمَذان وخلوان وشَهرَزور، ويقطع دجلة بنواحي تكريت إلى حَديثة الموصل، ثم إلى الجُودي، ثم إلى آمد، ومنه تتشعب جبال أَرمينيَة، ثم يمرُّ إلى جبل الفتح (¬1) وباب الأبواب إلى بحر الخَزَر إلى بلاد يأجوج ومأجوج، ثم يتشعب منه جبل يأخذ إلى الفرات ويتصل بسُمَيساط إلى مَرْعش الذي ابتدأنا ذكره منها. قال: وإذا وصل إلى المقطَّم قطع النيل ثم مضى إلى بَرْقة وأقصى المغرب ثم البحر المحيط (¬2). فالحاصل: أن ابن حوقل قال: إنه يخرج من البحر المحيط بالصين وينتهي إلى البحر المحيط بالغرب، وهذا تخليط ظاهر لأنه جعله أولًا الفاصل بين الشام والجزيرة فينبغي أن ينقطع عند الفرات بأرض مَلَطْيَة، ثم خلطه بجبال طَبَرِستان والشرق ولبنان ومصر، وأين جبال مصر من جبال الشام وما وجه الاتصال بها وإنما كلُّ جبل على حدةٍ له حدٌّ. وذكره غير ابن حوقل وقال: اللُّكَّام جبل مبارك، فيه الأبدال والمباحات والعيون، وحدُّه: من مَرْعش إلى مَلَطْيَة عرضًا، ويمتدُّ في بلاد الروم طولًا إلى حيث يعلم الله عز وجل، وأما الجبل الذي يقطع دجلةَ بنواحي تكريت فهو جبل حُمْرين (¬3) مشهور بالعراق. ¬

_ (¬1) في "صورة الأرض" ص 156: "قبق". (¬2) "صورة الأرض" ص 154 - 157. (¬3) وهو الجبل الذي يقال له: "بارِمَّا" بين تكريت والموصل. انظر "معجم البلدان" 1/ 320.

المُحَصَّب: هو من جبال مكة يشرف على ذي طُوَى؛ قال الجوهري: هو موضع الجمار بمنى (¬1). ويقال له: قوس قزح، لأنه أول ما رؤي عليه قوس قزح، والعامة تقول: قوس قَدَح -بالدال- وهو خطأ، وذكره الجوهري فقال: قوس قُزَح التي في السماء غير مصروفة، قال: وقُزَح أيضًا جبل بالمزدلفة (¬2). مُخاشِن: جبل بالحجاز. المُقَطَّم -بالميم-: جبل بأرض مصر، والقرافة تحته، وهو مطلٌّ عليها ويمتدُّ إلى النُّوبة. جبلا نَعْمَان: ونَعْمان وادٍ في طريق الطائف يخرج إلى عرفات، ذكره الجوهري قال: يقال له: نَعْمان الأراك (¬3). وقال ابن قتيبة: ونَعْمان جبل بالقرب من عرفة ويتصل بوادي القرى ونواحيه، قال: وفي الحديث: "خُلِق آدمُ من دَحْنا، ومَسَح ظَهْره بنَعْمان السَّحاب" (¬4) ونسبه إلى السحاب لأنه يشرف على جبلي نعمان ويعلوهما (¬5). وَاسِم: وهو جبل سَرَنْدِيب الذي أُهبط عليه آدم - عليه السلام -، ويقال له: برد، وعليه أثر قدم آدم، وشبيه البرق لا يذهبُ شتاء ولا صيفًا (¬6)، ويرى في البحر من مسيرة ثلاثة أيام؛ ومسح موضع قدم آدم فكان سبعة أذرع، وقيل: سبعون ذراعًا، وحوله الياقوت المختلف الألوان، وفي واديه جميع الطيب من الورقة التي نزلت مع آدم، وفيه الطواويس ودابَّة الزباد، وسنذكره في سيرة آدم. يَذْبُل: جبل بين اليمامة والبصرة، كذا ذكره الجوهري (¬7). ¬

_ (¬1) "الصحاح": (حصب). (¬2) "الصحاح": (قزح). (¬3) "الصحاح": (نعم). (¬4) هما حديثان أما الأول: -وهو قوله: "خلق آدم من دحنا" - فأخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 25 - 26، وابن عساكر في "تاريخه" 2/ 617 من حديث سعيد بن جبير، ودحنا: بالقصر والمد. أما الثاني: فأخرجه الفاكهي في: "أخبار مكة" (2911) من حديث سعيد بن جبير أيضًا. (¬5) "غريب الحديث" 2/ 285. (¬6) في "معجم البلدان " 3/ 216 في مادة: (سرنديب): "ويقال له: الرَّهون، ويرى على هذا الجبل في كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب ولا غيم". (¬7) "الصحاح": (ذبل).

يَلَمْلَم: هو ميقات أهل اليمن في الإحرام. أبو قُبَيس: جبل مشهور بمكة، ذكره في "الصحاح" (¬1)، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: هو أول جبلٍ وضع في الأرض (¬2). وكان يقال له في الجاهلية: الأمين، لأن ركن البيت كان مستودعًا فيه أيام الطوفان (¬3). وهو أحد الأخشَبَين المطلَّين على مكة، هذا مشرفٌ على الصفا والآخر يقال له: الأحمر والأعرف (¬4). وفي الحديث: "لا تزول مكة حتى يزول أخشباها" (¬5)، والأخشب الجبل العظيم. قلت (¬6): وفي الأقاليم جبال شوامخ وعرة في ناحية الشمال، النهار عند أهلها ساعة ونصف، لأن الشمس منحرفة عندهم. وفي المغرب جبال وعرة يسكنها البربر ويعصون فلا يقدر أحد عليهم. وفي الأندلس جبال فيها حجارة تتقد في الليل ويظهر منها الدخان في النهار. وذكر جدي رحمه الله في "المنتظم" وقال: وفي اليمن جبلان عظيمان بينهما في السهل مسيرة ثلاثة أيام، ورأساهما متقاربان بحيث يناول الرجلُ الرجلَ من رأس الجبل ما يريد لضيق ما بينهما (¬7). * * * ¬

_ (¬1) "الصحاح": (قبس). (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 512. (¬3) انظر "أخبار مكة" 4/ 47. (¬4) كان يعرف بهذا الاسم بالجاهلية. انظر "معجم البلدان" 1/ 117. (¬5) أخرجه الأزرقي في "أخبار مكة" من حديث ابن عباس موقوفًا بلفظ: "وجد في حجر في الحجر كتاب من خلقة الحجر: أنا الله ذو بكة الحرام، وضعتها يوم صنعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى تزول أخشباها، مبارك لأهلها في اللحم والماء". (¬6) انظر "كنز الدرر" 1/ 153. (¬7) "المنتظم" 1/ 139 - 140.

فصل في الهضاب والقلاع والرمال

فصل في الهضاب والقلاع والرمال (¬1) حكى سيبويه عن الخليل بن أحمد أنه قال: الهضْبَة اسم لما دون الجبل , وقال في "الصحاح" هي الجبل المنبسط على وجه الأرض (¬2). وكذا التّلْعَة , وذلك لا يحصى. وأما العقاب (¬3) فكثيرة , منها: عَقَبَة سرنديب , الهند ,الصين , عقبه ساوة وهمذان وحُلوان , وفي خراسان عقاب كثير , وفي الرّي والجبال , وفي الحجاز عقبة هَرْشَى, ذكرها الجوهري فقال: وهَرْشَى ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها البحر , ولها طريقان , فكلُّ من سلكها كان مصيبًا (¬4). وفي الشام عقبة فِيق وابريق (¬5). وفي الحجاز أيضًا من ناحية مصر عقبة أَيلَة. وفي اليمن عقاب كثيرة , وفي لبنان أيضًا. وأما الرمال فكثيرة , ومنها الأحقاف , وهي ديار عاد وبها الرمل الكثير, قال الجوهري: الحِقْفُ: المعوجُّ من الرمل (¬6). ومنها رمل عالِج , موضع بالبادية , وقد ذكره ابن عباس في مسألة العولِ فقال: والذي أحصى عدد رملِ عالج (¬7). ومل زَرُود بين مكة والعراق. ومنها الرمل التي بين مصر والشام وتنتهي إلى تِيه بني إسرائيل , وتتصل بالطُّور ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 153. (¬2) "الصحاح" (هضب). (¬3) العقبة: مرقى صعب من الجبال , أو الجبل الطويل يعرض للطريق , فيأخذ فيه , وهو طويل صعب شديد "تاج العروس": (عقب). (¬4) "الصحاح": (هرش). (¬5) لم نقف على موضعها , وفي "معجم ما استعجم "1/ 96: إبريق على وزن افعيل , موضع ذكره المطرَّز. ورسمت في (ل): "إبزيق". (¬6) "الصحاح": (حقف). (¬7) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (36) , والبيهقي 6/ 253.

والبحر والحجاز، وقد ذكرها ابن حَوقل فقال: والرمل المعروف بالهَبير هو الذي طوله من وراء جبلي طييّء إلى أن يتصل بالجفار من أرض مصر، وعرضه من الشقوق إلى الأَجْفُر، ويقطع النيلَ إلى المغرب، ويمتد في أرض سِجِلْماسة إلى البحر المحيط، وله عرق يضرب إلى البحرين وعمان، ويقطع البحر الشرقي إلى جَيحون وخُوارِزم وسَمَرقند، ويتصل بالعين فيه ألوان من الرمل مختلفة: أصفر وأحمر وأبيض وأسود. وقال قدامة: وفي وسط البحر الشرقي يعني الحبشي كثيبُ رملٍ أحمر بعيد المسافة وفيه أمَّة سود الألوان عظام الأجسام. وأما القلاع فأبلغ من أن تحصى، فمن قلاع (¬1) المشرق قلعة سليمان - عليه السلام - باصطخر، وقلعة بفارس بناها زياد بن أبيه، وقُفُّ، وانطرور وديول (¬2) وكردكوه. وفي خراسان حصون كثيرة، وكذا في ما وراء النهر، ومن أحصَن قلاع خُراسان قلعة نيزك، وهي قلعة عظيمة فتحها يزيد بن المهلب بن أبي صُفْرة في سنة أربع وثمانين، وقد مدحها الشعراء. وليس في الشرق أحصَنَ من قلعة باب الأبواب، وقد ذكرناها في جبل الفتح، وفي بلاد أرمينية قلاع كثيرة. ومن قلاع الجزيرة قلعة ماردين، ذكر جدي في "المنتظم" عن أبي الحسين المنادي أنه قال: أُسستْ قلعةُ ماردين على مصابرة العدو أربعين سنة، فلو نزل عليها ملك بجيشه لما افتتحها عَنوة، قال: وفيها من العيون العذبة عشرة أعين (¬3). قلت: وقد وهم ابن المنادي، فإن المعتضد افتتحها عَنوة في مدة يسيرة لما نذكر في أيامه (¬4)، والعادل أبو بكر بن أيوب (¬5) أقام عليها تسعة أشهر ولم يبقَ إلا أن يفتحها، فجاءه خبر وفاة ابن أخيه العزيز عثمان فرحل عنها (¬6). ¬

_ (¬1) "صورة الأرض" ص 42. (¬2) رسمت في (ل): "وانظر وزددبوك"، ولم نقف عليهما، والمثبت من "كنز الدرر" 1/ 156. (¬3) "المنتظم" 1/ 151، وفيه: "عشرات كثيرة" بدل: "عشرة أعين". (¬4) في سنة (281 هـ). (¬5) هو محمد بن أيوب، اشتهر بكنيته، وستأتي ترجمته في سنة وفاته (615 هـ). (¬6) سيأتي الخبر في سنة (594 هـ).

وأما قوله: إن فيها عشرة أعين، فإن في القلعة عينًا واحدة وهي يسيرة فإني شاهدتها. وقد ذكرها ابن حوقل فقال: وجبل ماردين من قرار الأرض إلى ذروته مسيرة فرسخين أو نحو فرسخين، وعليه قلعة لحمدان بن الحسن بن عبد الله بن حمدان تعرف بالبازي الأشهب لا يستطاع فتحها عنوة، وفي الجبل جوهر الزجاج وحيَّات عظام (¬1). وفي الجملة فهي أحصنُ قلاع الجزيرة وأمنعها وأعلاها وأرفعها. وبالشام قلاع كثيرة: منها قلعة حلب، وتسمى: الشهباء، فإن ملك الروم نزل عليها، وفتح البلد، ولم يقدر على فتحها وقتل عليها ابن أخته لما نذكر في زمان سيف الدولة (¬2)، وكان سيف الدولة يفتخر بها ويقول: معقلي حلب وشاعري المتنبِّي. وبقلعة حلب آثار الخليل - عليه السلام -، ويقال: إنه أوى إليها عند دخوله إلى الشام. ومن قلاع الشام قلعة حمص وحماة وتدمر وبَعْلَبَك وصَرْخَد وعَجْلون والكَرْك والشَّوْبَك، وكان بالساحل قلاع أُخربت كالقدس وكَوْكَب والطُّور وتِبْنين وهُوْنين وبانيَاس وغير ذلك، لما نذكر إن شاء الله تعالى. * * * ¬

_ (¬1) "صورة الأرض" ص 194. (¬2) سيأتي الخبر في سنة (351 هـ).

فصل في ذكر المعادن التي هي كالخزائن

فصل في ذكر المعادن التي هي كالخزائن قال الجوهري: سمي المعدِن مَعْدِنًا -بكسر الدال- لأنَّ الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء، ومركز كلِّ شيء معدنه (¬1). وقال الخليل بن أحمد: ومنه قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي: مواضع إقامة (¬2). وقال الهيثم بن عدي: المعادن كثيرة غير أن المشهور منها سبع مئة منها: معادنُ الذهب والفضة، والنحاس والصُّفْر، والزِّئبَق والرَّصاص، والنِّفط والقارُ والزِّفت، والمُرْداسَنْج (¬3) والزِّرْنيخ، والجصُّ والنُّورة والملح ونحوه، قال: ولا ينعقد الملح إلا في السَّبَخ، ولا الجصُّ إلا في الرمل، يعني في الغالب. وهذه المعادن مفرقة في الأقاليم، والغالب على معادن الذهب والفضة أن يكونا بالمغرب وبجزائر الفرَنْج، والغالب على الياقوت والجوهر واللآلئ بالمشرق، والنحاس والصُّفر والزِّفت والقارُ بالجزيرة. فصل في حكم المعدن قال محمد رحمه الله: معدن ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو صفر وُجِد في أرض خَرَاجٍ أو عُشْر، ففيه الخُمُس (¬4). ولا بد من تفسير هذا فنقول: المال الموجود في الأرض له ثلاثة أسامي: الكنزُ والمعدنُ والرِّكاز، فالكنز: اسمٌ لما دفنه بنو آدم، والمعدِن اسم لما خلقه الله تعالى في الأرض يومَ خلقَها، والرِّكاز اسمٌ لهما جميعًا. فإن وجد معدِنًا فلا يخلو إما أن يجده في دار الإسلام أو في دار الحرب، فإن وجد في دار الإسلام في أرض غير مملوكة فهو للواجد كائنًا من كان، غيرَ الحربيِّ فإنه يُستردُّ منه إلا إذا كان الإمام قد قاطعه عليه، فإن كان الموجود مما يذاب بالإذابة وينطبع ¬

_ (¬1) "الصحاح": (عدن). (¬2) "كتاب العين" 2/ 42. (¬3) مردارسنج أو مرداسنج: فارسي معرب معناه: الحجر الميت. "تاج العروس": (مردرسنج). (¬4) "الجامع الصغير" ص 106، ومحمد هو ابن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه.

بالحيلة كالذهب والفضة والنحاس ونحوه ففيه الخُمُس، قليلًا كان أو كثيرًا، لقوله عليه السلام: "وفي الرِّكازِ الخُمُسُ" متفقٌ عليه (¬1). وأراد به المعدن. وإن كان مما لا يذوب بالإذابة كالفصوص والجواهر واليواقيت، فلا خُمُسَ فيه عندنا لأنه حجر، ولا خمس في حجر، بالحديث (¬2). وإن وجد المعدن في أرض مملوكة فهو لمالكِ الأرض لأنه جزء من أجزائها وقد ملكها بأجزائها. واختلفت الروايات في وجوب الخمس فيه: فروي عن أبي حنيفة أنه لا يُخَمَّس، سواء وجده في أرضٍ أو دار، وهي رواية كتاب الزكاة من "الأصل". وذكر في "الجامع الصغير" عنه: أنه إن وجده في الدار لا يُخَمّس وإن وجده في الأرض يخمّس، وعند أبي يوسف ومحمد يخمَّس في الأحوال كلها (¬3). وهو قول باقي الفقهاء لقوله - عليه السلام -: "وفي الرِّكازِ الخُمُسُ" من غير فصل. وجه رواية كتاب الزكاة: أن المعدن من تراب الأرض وجزء من أجزائها فلا يخمَّس، والحديث محمولٌ على ما إذا وجده في أرض غير مملوكة. ووجه الفرق بين الدار والأرض على رواية "الجامع": أن الدار ملكها بشرط قطع الحقوق عنها، ولهذا لا يجب فيها عشر ولا خراج، والأرض لم تملك بشرط قطع الحقوق عنها، ولهذا يجب فيها العشر، فجاز أن يجب فيها الخمس، وعلى رواية كتاب الزكاة: لا فرق بين الأرض والدار عنده. * * * ¬

_ (¬1) البخاري (1499)، ومسلم (1710) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 5/ 1681، والبيهقي 4/ 146 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا زكاة في حجر". (¬3) "الجامع الصغير" ص 106 - 107.

فصل في ذكر البحار وما فيها من عجائب الآثار

فصل في ذكر البحار وما فيها من عجائب الآثار قال أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا العوَّام بن حَوْشَب، حدثنا شيخٌ كان مرابطًا بساحل البحر قال: لقيت أبا صالح مولى عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - فقال: حدثني عمرُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليسَ مِن ليلَةٍ إلَّا والبحرُ يُشرِفُ على الأرضِ، يَسْتأذِنُ رَبَّه ثلاثًا هل يَنْفَضِخُ على الأرضِ فيَكفُّه الله تعالى" (¬1). قلت: وقد ذكر جدي رحمه الله هذا الحديث في "الواهية"، وقال: العوَّام بن حَوْشب ضعيف، والشيخ الذي في الحديث مجهول (¬2). قلت: أما العوَّام بن حَوْشب فهو شيخ شيخ أحمد بن حنبل وقد أخرج عنه في "المسند" أحاديثَ، وأما الشيخ المجهول فلا يقدح في الحديث، فقد أخرج الحُميديُّ في آخر "الجمع بين الصحيحين" عن رجلٍ مجهول وغيره، وإنما الحديث الذي ضعَّفوه رواه أبو هريرة وغيره: "إنَّ الله تعالى كلَّمَ البحرَ الشاميَّ فقال: يا بَحرُ، ألم أخلقْكَ، وأكثرتُ ماءَكَ" وهو حديث طويل، قال جدي في "الواهية": في طريقه عبد الرحمن العمري اتفقوا على تركه. وذكر غيره وقال: إنما هو من كلام كعب الأحبار (¬3). فإن قيل: فلم سمي بحرًا؟ قلنا: لعمقه وسعته، وقال الجوهري: البحر خلاف البر، قال: وكلُّ نهرٍ عظيم بحرٌ، ويسمَّى الفَرَسُ الواسعُ الجري بحرًا بالحديث (¬4). واختلفوا في عدد البحار على أقوال: أحدها: أنها سبعة أبحر، منها ستة ظاهرة وواحد محيط بالدنيا مظلم ومنه تستمد، قاله ابن عباس. ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (303)، وينفضخ: ينفتح ويسيل. (¬2) "العلل المتناهية" (37). (¬3) "العلل المتناهية" (33). (¬4) وهو ما أخرجه البخاري (2627)، ومسلم (2307) من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسًا من أبي طلحة - يقال له: المندوب، فركب فلما رجع قال: "ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرًا". وانظر "الصحاح": (بحر).

فصل في البحر الشرقي

والثاني: أنها خمسة أبحر، قاله مقاتل. والثالث: أربعة، قاله مجاهد. والأول أصح لقوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27] لأن السموات سبع، والأرضين سبع، والنجومَ السيارةَ سبعٌ، والأيام سبع، وخلق الإنسان من سبع لقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالةٍ مِنْ طِينٍ (12)} الآية [المؤمنون: 12] ورزق من سبع لقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} الآية [عبس: 24]، ومن قال بالأربع والخمس فهي داخلة في السبع. وذكر في "جغرافيا": أنها مختلفة المقادير، فمنها ما هو على صورة الطيلسان، ومنها ما هو على هيئة الشَّابورَة (¬1)، ومنها ما هو على صورة التدوير، والغالب عليها الاستدارة. وقال ابن حوقل في "كتاب الأقاليم": وأشهرها بحر فارس والروم، وهما خليجان متقابلان يأخذان من البحر المحيط، وأفسحهما طولًا وعرضًا بحر فارس، يعني الشرقي. قال: والمحيط يقال له: "قنطش" والبحار تستمد منه، وهي بالنسبة إليه كالخلجان، ولا يتأتَّى فيه الركوب، ولا يعيش فيه حيوان إما لشدة برد مائه أو لحرارته، ولا تجري فيه المراكب لما فيه من حجارة المغناطيس، ومن القلزم إلى الصين على خط مستقيم، يعني على وجه الأرض، نحو من مئتي مرحلة، وأما من أراد قطع هذه المسافة من القلزم إلى الصين في البحر طالت عليه المسافة لكثرة المعاطف في البحار والتواء الطرق (¬2). فصل في البحر الشرقي قال علماء الهندسة: إنه يأخذ من البحر المحيط الكبير المظلم بالمغرب وينتهي إلى أقصى الهند والصين، وذلك ثمانية آلاف ميل، وعرضه ألفان وسبعمائة ميل، وقد يختلف عرضه باختلاف الأماكن في الضيق والسعة. ¬

_ (¬1) في تكملة المعاجم العربية لدوزي 6/ 234 أنها فيما يظهر مرادف الخليج الذي ينتهي بزاوية منحرفة، أو أراد تشبيهها بالسمك الجربيدي، فإن شكل الفم يشبه فم السمكة. (¬2) "صورة الأرض" ص 20 - 21.

وقال أبو الحسين بن المنادي: طول هذا البحر من القُلْزُم إلى الواق واق أربعة آلاف وخمس مئة فرسخ، وفيه خلجان عظيمة، منها خليجٌ يتصل بأرض الحبشة ويمتد إلى بلاد الزَّنج إلى مكان يقال له: بربرا، طوله خمس مئة ميل وعرضه مئة ميل، وليس هذا "بربرا" الموضع المعروف بالمغرب من أرض إفريقية، وإنما هو مكان آخر في أقصى الحبشة يسمى بهذا الاسم. وقال أبو معشر: وليس في البحار أعظم من موجه، يرتفع مثل الجبال ثم ينخفض حتى يصير أوديةً عميقة. وذكر أحمد بن محمد بن إسحاق في كتاب "البلدان" وقال: ليس في العالم أكبر من هذا البحر، يعني غير البحر المحيط، قال: فإنه يأخذ من المغرب وينتهي إلى الصين، فيمرُّ على النُّوبة والحَبَشة ثم على القُلْزُم ثم إلى وادي القرى وجُدَّة وزَبيد وعَدَن والشِّحْر وحَضْرَمَوت وعُمان والدَّيْبُل وفارس إلى المشرق (¬1). وجميع بلاد السند والهند عليه، صيفهم شتاؤنا وشتاؤنا صيفهم، فكانون وكانون وشباط مثل حَزِيران وتَمُّوز وآب عندنا، وعللوا ذلك بقرب الشمس من الأقاليم وبُعدها. قال: وذَكَر مَنْ له خبرة به أنَّ عمق الماء فيه في مواضع مئة باع وأكثر. وقال أبو معشر: قد قسم أرباب الهيئة هذا البحر الشرقي في سبعة أقسام: فالأول: بحر القلزم، ويمرُّ على النُّوبة والحبشة واليمن إلى عُمان، وطول هذا الخليج ألف وأربع مئة ميل، وعليه القُصَير وعَيذاب، وبين مدينة القُلْزم والفُسطاط ثلاثة أيام. والقسم الثاني: بحر فارس، وأوله من الأُبُلَّة والبَصرة والبَحرين عند الخشبات، وهي علامات منصوبة من خشب في البحر يستدل بها أهل المراكب، وطول هذا الخليج أربع مئة فرسخ حتى يتصل ببحر الهند عند جبل يقال له: رأس الجُمْجُمة، وأول هذا الجبل من اليمن من ناحية الشِّحْر الأحقاف وآخره في الهند، وقد ذكرناه في الجبال، ولا يدرى أين غايته في البحر، وعلى هذا الخليج الذي يسمى بحر فارس من ¬

_ (¬1) "مختصر كتاب البلدان" ص 11.

البلاد: البَحرين وعُمان وسيراف وكرمان، ومن عُمان إلى سِيراف ستون ومئة فرسخ، ومن سِيراف إلى البصرة أربعون ومائة فرسخ، وفيه من الأمم والجزائر ما لا يحصى، وفيه مغاص اللؤلؤ في جزيرة كِيْش، ولا يكون ذلك في جميع السنة بل في أول يوم من نَيسان إلى آخر أَيلول لا غير. وقد اختلفوا في اللؤلؤ على قولين (¬1): أحدهما: أنه من حيوان يقال له: البلبل وفيه لحم، ويخاف على ما فيه من الدّر من الغاصة كما تخاف المرأة على جنينها. القول الثاني: أنه يتولَّد من الأمطار إذا وقع المطر في نَيسان ارتفع الصدف إلى وجه الماء فتفتح أفواهها فيقع فيها القطر، فمن الصدف ما يضمُّ على ما وقع فيه فيغوص ويقيم طول السنة يحفظ نفسه من استنشاق الهواء حتى يأتي نَيسان وقد انعقد اللؤلؤ في باطنه، ومن الصدف ما يشتاق إلى النسيم فيصعد على وجه الماء فيفتح فاه ويستنشق الهواء فيفسد ما فيه. والأول أصحُّ، لأن الغواصين يستخرجون هذا الحيوان من البحر ويأكلون لحمه ويأخذون اللؤلؤ من جوفه، ويحتمل أن اللؤلؤ يتولَّد من هذا الحيوان والمطر جميعًا. والقسم الثالث من هذا البحر يقال له: بلاذري، وليس في البحر الحبشي أعظم مجرًى للماء منه. والرابع: كندرلاوي، وفيه العنبر، والخامس: كلاه بار. والسادس: كرديج، وهو بحر الصين، والسابع: مملكة المهراج. وقال في "المسالك": ووراء بحر الصين مفاوز ورمال تجري فيها السفن. وقال النُّوبختي: إن بين الهند والصين على هذا البحر ثلاثين مَلِكًا، أصغر ملك منهم يملك مثل ملك العرب. وفي هذا البحر الشرقي عجائب، منها: أن فيه سمكًا طول كل سمكة خمس مئة ذراع وأقل وأكثر، بذراع أهل البحر، ويقال له: العُمَري، وهو ذراع طويل، ترفع ¬

_ (¬1) انظر "نخب الذخائر في أحوال الجواهر" ص 27 - 28.

فصل في البحر الرومي

السمكة جناحها فيكون كالقلع العظيم، وتخرج رأسها من الماء ثم تنفخ فيذهب الماء في الهواء أكثر من السهم، وأهل المراكب يخافونها فيضربون الدبادبَ لتنفر، وتبلع السمك الصغار فيُسمع لها دويّ، ولهذه السمكة آفة وهي سمكة صغيرة مقدار الذراع يقال لها: الكشنك، فإذا أراد الله هلاك الكبيرة جاءت الصغيرة فالتصقت بأصل أذنها وعضَّتها، فتغوصُ الكبيرة في الماء من شدَّة العضة إلى قرار البحر، وتضربُ نفسها بالأرض حتى تموت، وتطفو على رأس الماء كالجبل العظيم (¬1). ونظير هذه السمكة الصغيرة الدويبةُ التي تقتل التمساح، لما نذكره (¬2). ومنها: أنَّ في هذا البحر سمكًا يبلع المراكبَ، وفيه سمك طيار وسمك على صور الجمال وجوههم كأنها البوم، وسمكٌ على صُوَرِ البقر يعمل من جلودها الدَّرَق، وفيه سمك في بطن كل سمكة مثلها وفي بطن الأخرى مثلها إلى عدة طبقات. وفيه سلاحف، استدارةُ ظهرِ السلحفاة عشرون ذراعًا وأكثر، وفي بطنها ألف بيضة، وفيه المعادن بأسرها. قال ابن المنادي: وعليه مدينة في الهند يقال لها. مل، تنبت الفلفل، وعلى كل عنقود من عناقيد الفلفل ورقة تُكِنُّه من المطر، فإذا مضى زمان المطر ارتفعت الورقة وإذا عاد عادت. فصل في البحر الرومي (¬3) ذكر ابن حوقل في كتاب "الأقاليم" قال: وأما بحر الروم فإنَّه يأخذ من البحر المحيط من المغرب في الخليج الذي بين المغرب والأندلس حتى ينتهي إلى الثغور الشامية، ومقداره في المسافة نحو من أربعة أشهر، وهو أحسن استقامةً واستواء من بحو فارس، وذلك لأنَّك إذا أخذت من فم هذا الخليج أَدَّتْكَ ريحٌ واحدةٌ إلى أكثر هذا البحر. قال: وبين القُلْزم الذي هو لسان بحر فارس وبين بحو الروم على سمت الفَرَمَا أربع مراحل (¬4). قال: ويزعم بعض المفسرين في قوله تعالى: {بَينَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)} ¬

_ (¬1) انظر الخبر في "نزهة المشتاق" 1/ 65، وفيه: "للشنك"، ومروج الذهب 1/ 231 - 243. (¬2) سيذكره المصنف قريبًا في عجائب نهر النيل. (¬3) انظر "كنز الدرر" 1/ 167. (¬4) في "صورة الأرض": "ثلاث مراحل".

[الرحمن: 20] أنه هذا الموضع. والله أعلم (¬1). وقال أبو معشر: بحر الرومي يأخذ من خليج يخرج من البحر المحيط، ويسمى ذلك البحر: قنطش، وأضيق مكان في الخليج من ساحل طَنْجَة ويعرف بالزُّقاق عند سَبْتة. قال: وبدايةُ البحر الرومي من مكان يقال له: أصنام النحاس، ليس وراءه شيء، وعرض الزُّقاق ستة أميال، وقيل: إنَّ هذا البحر مثل البِركة، ولهذا إن ما بين الأندلس وبين القُسطنطينية مئة ميل، وهذا البحر يمتدُّ إلى أقصى المغرب وبلاد الفِرَنجِ وعليه طَرابُلُس الغرب، ثم يمتدُّ إلى الإسكندريَّة، ودِمياط، والفَرَما، وغَزَّة، وعَسْقَلان، ويافا، وقَيسَاريَّة، وحَيفا، وعَكَّة، وصُور، وصَيدا، وبَيروت، وجبَيْل، وأطْرابُلُس الشام، وأَنْطَرطُوس، وأَذَنَة، والمَصِّيصة، وجَبَلة، واللَّاذِقِيَّة، وبلد أنْطاكِيَّة، ثم يمرُّ على بلد الأرمن والروم إلى خليج القُسطنطينية. وقيل: طوله ستة آلاف ميل وعرضه من الست مئة إلى مئة بحسب اختلاف الأماكن في الضيق والسعة، وفيه جزائر نذكرها. وقيل: إنَّ ذا القرنين هو الذي فتح هذا الزُّقاق عند سَبْتة لأنَّ مكان البحر كان واديًا عظيمًا فيه أمم كثيرة، ومدن وحصون، ومزارع وقرى، وآثارها باقية فيه، وكان أهلها عصاةً على الإسكندر، فأقام ينذرهم أربعين سنة فلم يطيعوه فأرسل عليهم الماء من الزقاق فغرقوا. ويتشعب منه خليج طوله خمس مئة ميل، ويتصل بمدينة روميَة، ويسمى: أروس. وقد زعم قوم أن البحر الرومي متصل بالبحر الشرقي، واحتجوا بأنه وصل في الزمان القديم قوم إلى جزيرة الأندلس في مراكب، فأغاووا عليها ووجدوا في مراكبهم النَّارَجيل (¬2)، وهو شجر لا يكون إلا في البحر الشرقي يشبه شجر المُقْل، وليفُه يعمل به مراكب البحر الشرقي، لأنَّ مراكب البحر الرومي مسمَّرة بالمسامير، والبحر الشرقي كثير جبال المغناطيس فيشدون المراكبَ بليف النَّارَجيل. قلت: وهذا القول بعيد لما بين البحر الشرقي والغربي من المسافات والبحار والجبال وغير ذلك. ¬

_ (¬1) "صورة الأرض" ص 21. (¬2) النَّارَجيل: هو جوز الهند.

فصل في خليج القسطنطينية

فصل في خليج القُسْطَنطِينيَّة قد توهم قوم أنَّ خليج القُسطنطينية إنما يأخذ من البحر الرومي ويصبُّ في بحر باب الأبواب، والأمر بالعكس، لأنَّ علماء الهيئة ذكروا أنَّ في ناحية الشمال بحرًا يقال له: نيطس (¬1)، طوله ألف ميل وعرضه ثلاث مئة ميل، وهو أحد البحور السبعة، ومصبه من ناحية الشمال من بحر آخر أكبر منه، وعلى سواحله خلق عظيم من ولد يافث بن نوح، يمتدُّ إلى خليج القُسطنطينية، وطول خليج القُسطنطينية ثلاث مئة ميل وعرضه عشرة أميال، والقسطنطينية على جانبه من ناحية الشمال، وهو خليج عسر كثير الأمواج سريع العَطَب. وقال أبو الحسين بن المنادي: البحر المعروف بنيطس من وراء القُسطنطينية يجيء من بحر الخَزَر، وعرض فُوَّهته ستة أميال، يمرُّ على القُسطنطينية ثم يصبُّ في بحر الروم، ويمرُّ ببلاد الأندلس فإذا انتهى إليها صار بين جبلين، ويضيقُ حتى يصير عرضه مقدار السهم. فصل في بحر باب الأبواب قال علماء الهيئة: هذا البحر مستدير الشكل، إلا أنَّه إلى الطول أقرب. وطوله ثمان مئة ميل وعرضه ست مئة ميل، وعليه الخَزَر والدَّيلَم وجُرْجان وطَبَرِسْتان والتُّرك وأمم كثيرة، وفيه التِّنِّين، واختلفوا فيه على قولين: أحدهما أنه دابة تكون في البحر فتعظم فتؤذي دوابَّ البحر، فيبعث الله عليها ريحًا فتخرجها إلى وجه الماء، فتتعلق بها السحب فتلقيها إلى الأرض. والثاني: أنها ريح سوداء تكون في قعر البحر فتظهر إلى ظاهر البحر ثم ترتفع إلى الجو وتلحق بالسحاب كالزوبعة إذا ثارت من الأرض واستدارت وثار معها الغبار, فيتوهم الناس أنها حيات سود خرجت من البحر، والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬

_ (¬1) جاء في "معجم البلدان" 1/ 500: "بُنْطُس" بضم الطاء والسين المهملة. وضبطه القلقشندي في "صبح الأعشى" 3/ 35: بنون مكسورة وياء مثناة تحت ساكنة وطاء مهملة مكسورة وشين معجمة في الآخر، وهو المعروف ببحر القرم.

فصل في مبادي البحار

فصل في مبادي البحار (¬1) واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنها من الاستقصَّات (¬2) الأربع، خلقها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض كما في جميع المياه. والثاني: أنها بقية طوفان قوم نوح - عليه السلام -. قاله ابن عباس والمفسرون. والثالث: أنها من عَرَقِ الأرض لما ينالها من حرارة الشمس. والرابع: أنها من مياه الأرض، فالملح ينحدرُ إلى الأماكن المنخفضة فينعقد غليظًا كدرًا وتختلط به الأجزاء النارية. فأما المياه العذبة فترتفع في أيام الشتاء إلى الجو فيحدثُ منها المطر بإذن الله تعالى، فلا تزال العينُ قائمة أبدًا، وهذا قول علماء الهيئة. وأما ابن عباس فقد روى عنه عكرمة أنه قال: البحر المظلم من ورائه بحر آخر يقال له: الباكي، وماؤه عذب، وإنما سمي الباكي، لأنه يبكي من خشية الله تعالى، وليس بعده شيء. وقال علماء الهيئة: هذه البحار بأسرها داخلة في الفَلَك، لأنَّه محيط بالأرض كلها. فصل ثم هذه البحار ينتقل بعضها على ممر السنين والدهور، فيصير موضع البحر برًّا وعلى العكس، وعلَّةُ ذلك جريانُ الماءِ، فإنَّ لموضع جريانه شبابًا وهرمًا، وحياة وموتًا، ونشأة، كما يكون في الحيوان والنبات، وقد رأينا ذلك عِيانًا في الأنهار العظام كالنِّيل والفُرات ودِجلةَ والنَّجَف بالكوفة، فإنَّه كان بحرًا تأتي فيه السفن من الهند، فاستحال الماء عنه إلى موضع آخر، وكذا ببغداد في دجلة العَوْراء فإنها استحالت فراسخَ فأخربت قرًى كثيرة، وهي اليوم قد استحالت أيضًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 170. (¬2) لعلها الاسطِقِسَّات: وهو لفظ يوناني يعني: "الأصل" والاستقسات: الماء والأرض والهواء والنار وهي أصول المركبات. "التعريفات" ص 39.

فصل في ذكر الجزائر وما فيها من الغرائب والجواهر

فصل في ذكر الجزائر وما فيها من الغرائب والجواهر (¬1) فصل في جزائر البحر الشرقي: وهي أبلغ من أن تحصى، فنذكر الجزائر المشهورة فنقول: ذكر العلماء بأخبار الأوائل أن جزائر الوقواق ستة آلاف، فيها جزيرة يستوي فيها الليل والنهار. وجزيرة يقال لها: جزيرة الراهب يخصى بها الخدم، وملكتها امرأة تجلس على سرير من الذهب، وعلى رأسها تاج من ذهب مرصع بالجواهر، وهي عريانة، وعلى رأسها أربعة آلاف وصيفة كلهن عراة، وقد شاهدهنَّ التجارُ الذين يسلكون تلك البلاد. ومنها: جزيرة قنبلو (¬2)، يركب الناس منها إلى صُحار، وصُحار قصبة عمان، قال الجوهري: وصُحار -بالضم- قصبة عمان مما يلي الجبل، وتُؤَام قصبتها مما يلي الساحل (¬3). ومنها: جزيرة سَرَنْدِيب، وهي ثمانون فرسخًا في ثمانين، إذا مات لهم أحد أحرقوه بالنار، وإن كان ملكًا تهافت خواصُّهُ وأهله حتى يحرقوا نفوسهم معه، وفيها الياقوت والبِلَّور وسائر أنواع الطيب. ومنها: جزيرة أهلها سود عراة حفاة، مأواهم رؤوس الشجر، لا يُفهم كلامهم، يهربون من الناس. ومنها: جزيرة فيها أشجار يسيل منها الكافور مثل الصمغ، تُظل الشجرةُ منها مئةَ فارس. ومنها: جزيرة لهم أليات كليَّات (¬4) الغنم، وهم سود يأكلون الوجال دون النساء، ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 172. (¬2) ويقال: قنبلة، وهي جزيرة للزنج في البحر الشرقي "صبح الأعشى" 3/ 244. (¬3) " الصحاح": (صحر). (¬4) الألية: جمعها أليات وألايا، ولا تقل إلية ولا لية "القاموس المحيط": (ألي).

وجزيرة يأكلون النساء دون الرجال. ومنها: جزيرة الرَّامي (¬1)، وبها البَقَّم (¬2) وعرقه ينفع من سمّ ساعة. ومنها: جزيرة فيها الرصاص القَلْعي، وجزيرة فيها قرود مثل الجواميس، وسنانير لها أجنحة، وفي هذه الجزائر الكَرْكَدنّ، وهو دابة دون الفيل وفوق الجاموس، يأكل الحشيشَ، وله قرن واحد طوله ذراع وغلظه قبضتان، وفيه صورة من أول القرن إلى آخره، فإذا انشقَّ القرنُ ظهرت الصورة بيضاء في سواد كالشبح: صورة إنسان أو دابة أو طاووس أو طائر أو سمكة ونحو ذلك (¬3). يتخذ أهل الصين من ذلك القرن مناطق تبلغ المنطقة أربع مئة دينار، وملوك جزائر الكَرَكَدَّن مخرمو الآذان. وقال في "جغرافيا": وحصى هذه الجزائر الياقوت والمَرْجان وأصناف الجواهر، وبين الجزيرة والجزيرة ميل وأقل وأكثر، يعني: جزائر الوقواق، وعندهم النارَجيل، لا يفقد من النخل غير الثمر، وقيل: هو المقل، قالوا: والنارَجيل فيه خاصية، وذلك لأنَّ بيوت أموال ملكة جزائر الوقواق الوَدَع، فإذا قلَّ قطعوا من سعف النارَجيل بخُوصه فيطرحونه على وجه الماء فيخرج منه حيوان فيتراكب فيتولَّد منه الوَدَع، فيطرحونه على ساحل البحر ويلقون عليه الرمل فتحرق الشمسُ ما فيه من الحيوان، ويبقى الوَدَع وحده فيملؤون منه بيوتَ الأموال. وقال النُّوبختي: وآخر هذه الجزائر جزيرة سَرَنْديب، وبين هذه الجزائر خليج فيه حيات تبلع المراكب، قال: وبعد سَرَنْديب مما يلي المشرق ألف جزيرة في ألف فرسخ فيها ممالك ومعادن، ثم يليها جزائر فَنْصورة، وهي مملكة المهراج، ولا تضبط جنوده لسعة مملكته، وفي مملكته خمسون ألف فيل يقاتل عليها، ومعنى المهراج: ملك الملوك، وعنده الكافور الفنصوري، وقيل: هو عيون في الجزيرة. ¬

_ (¬1) وهي التي تسمى: "سَيَلان". انظر "معجم البلدان" 3/ 298، و"الروض العطار" ص 264. (¬2) هو خشب شجر عظام، تنبت بأرض الهند والزنج، وورقه مثل ورق اللوز الأخضر، وساقه وأفنانه حمر. "المعتمد في الأدوية المفردة" ص 31، وفيه أنه إذا شرب من أصله مسحوقًا قدرٌ ما، قتل صاحبه. وما في "الروض العطار" ص 264 موافق لما عند المصنف. (¬3) انظر "الحيوان" للجاحظ 7/ 129.

ومنها: جزيرة يسمع منها صوت الطبول والملاهي والرقص دائمًا والتصفيق، واسم هذه الجزيرة: برطاييل، يقال: إنَّ الدَّجَّال فيها. وفي مملكة المهراج جزيرة دورها أربع مئة فرسخ، عمائر متصلة، وفيها البُزاة والصقور والشواهين. قال: وفيها جزيرة فيها عين يقال لمائها: ماء العقل، من شرب منه ازداد عقله وفهمه. وفيها: جزيرة يقال لها: سُقُطْرَى، لا يوجد الصَّبِر الأُسقطوي إلّا فيها. وذكر في "المسالك": أنه ليس وراء الصين مسلك إلا رمال تجري فيها السفن، وبعدها مدينة قوم موسى الذين يقضون بالحقِّ وبه يعدلون. وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي عن السُّدي قال: هم قوم بينك وبينهم نهر من شهد، وحكى أيضًا عن ابن جريج قال: لما قَتل بنو إسرائيل أنبياءهم وكفروا كانوا اثني عشر سِبطًا، تبرأ منهم سِبط مما صنعوا واعتذروا إلى الله تعالى وسألوه أن يفرق بينهم، ففتح لهم نفقًا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفًا حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا (¬1). وحكى أيضًا عن الربيع والضحاك وعطاء فيما رواه عنهم الكلبي قال: هم قوم خلف الصين على نهر يجري الرمل فيه يسمى نهر: أوداف، وليس لأحدٍ منهم مال دون صاحبه، يُمْطَرون بالليل ويصحون بالنهار ويزرعون، لايصل إليهم منا أحد ولا منهم إلينا، وهم على الحق. قال الكلبي: وذكر أنَّ جبريل - عليه السلام - مرَّ بالنَّبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم ليلة الإسراء فسلَّم عليهم فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا، قال: هذا محمد - صلى الله عليه وسلم - النبيّ الأمي، فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله إن موسى أوصانا وقال: من أدرك منكم أحمد فليقره مني السلام، ثم أمرهم بالصلاة والزكاة، وكانوا يسبتون فأمرهم بترك السبت وإقامة الجمعة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجهما الطبري في تفسيره 13/ 173 - 174، وقال ابن كثير: خبر عجيب. ورد الألوسي هذين الخبرين وما بعدهما.

فصل في جزائر البحر الرومي

فصل وفي بحر باب الأبواب جزائر كثيرة فيها بُزاة بيض وهي أفخر البُزاة، وهذه الجزيرة قريبة من جُرجان، والبُزاة الشهب هناك كثيرة لكثرة الثلج بها. وأول من لعب بالبُزاة والشواهين والصقور من العرب، الحارث بن معاوية الكندي، ومن ملوك الروم قُسْطنطين الذي بنى القسطنطينية، ومن الفرس يَزْدَجِرد. فصل في جزائر البحر الرومي قال النُّوبختي: فيه جزائر كثيرة أعظمها جزيرة الأندلس، ولا يعلم مساحتها إلا الله تعالى، وهي مجاورة لأمم كثيرة من الفَرَنج والجلالقة وغيرهم. وقد ذكرها الحكيم بن زهر المغربي وقال: فيها معادن الذهب والفضة والزئبق والنحاس والصفر وجميع ما يوجد في المعادن، وفيها الكافور والمسك والعنبر ومعادن الياقوت والجوهر، وفي أرضها غابة تنبت الذهب، وفيها جميع ما يوجد في بلاد الهند والصين من الطيب ونحوه. وذكرها ابن حوقل في "كتاب الأقاليم" وقال: وأما الأندلس فجزيرة كبيرة فيها عامر وغامر، وطولها دون الشهر وعرضها نيف وعشرون مرحلة، وفيها المياه الجارية والأشجار المثمرة، وتنتهي إلى الجلالقة، ومدينتهم يقال لها: سَمُّورَة، وتنتهي إلى البحر المحيط، وذكر ما فيها وما حولها من الأمم، قال: ومن أعظم مدائنها قرطبة وكانت مقرُّ الخلائف من بني مروان، وبها جامع مثل جامع دمشق، وبمثل بغداد ودمشق ومصر في اجتماع العلماء بها (¬1). وقد ذكرناه. ومنها: جزيرة صِقِلِّيَّة وكانت لبني عبَّاد، وبها الحصون والقلاع، وآثار الإسلام باقية فيها إلى هلمَّ جرًّا، وهي الآن بيد الأنبرور (¬2)، وحاشيتُهُ كلُهم مسلمون. وبين صِقِلِّيَّة والإسكندرية إذا طابت الريح ثمانية عشر يومًا. ¬

_ (¬1) "صورة الأرض" ص 104 وما بعدها بتصرف. (¬2) هو ملك الفرنج، دخل صقلية سنة 620 هـ، انظر "التاريخ المنصوري" ص 99.

فصل في ذكر المسك والعنبر، وهل هو حشيش أو مما يدسر؟

وقد ذكرها ابن حوقل فقال: وأما جزيرة صقِلِّيَّة فطولها سبعة أيام وعرضها أربعة أيام، والغالب عليها الجبال والقلاع والحصون، ومدينتها تسمى: بَلَرْم، وكان بها المسجد الأكبر وكان بيعة للروم، وفيها هيكل عظيم يزعم أرباب المنطق أن أرسطاطاليس حكيم اليونان معلق في خشبة في هذا الهيكل الذي اتخذه المسلمون مسجدًا، وكانت النصارى تعظمه وتستسقي به لما رأوا عليه اليونان من تعظيمه (¬1). ومنها جزيرة قُبْرس ودورها عشرة أيام في مثلها، وفيها المعادن المنبوعة واللَّاذَن والزَّاج وغيره، وبينها وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، وقيل: بينها وبين اللَّاذقية يوم وليلة، وثلاثة أيام بينها وبين الإسكندرية، وقد ذكرناه. وفي جزائر البحر الرومي البُزاة والشواهين والصقور والعِقْبان. وحكى النُّوبختي قال: أهدى ملك الروم إلى كسرى عُقابًا وقال: إنه يصيد أكثر من البازي، فاستشار كسرى وزراءه في قبوله فقالوا: لا حاجةَ لك به فإنَّ خيره لا يقوم بشرَّه، فخالفهم وأرسله على غزالٍ فأخذه فأعجب به وسفَّه آراء وزرائه، ثم جوَّعه أيامًا ليصيد به فوثب على ابن صغير لكسرى فقتله، فقال كسرى: وَتَرَنا قيصر، لأنه كان قد غزا بلاده فقتل وسبى، وكتم كسرى أمر العقاب وأهدى لقيصر نمرًا وقال: إنه يصيد السبع، فأقام عنده فوثب يومًا على ولد لقيصر فقتله، فقال قيصر: قد صدنا كسرى قبل أن يصيدنا. وفي البحر الرومي جزائر كثيرة كإفريقيَّة وأقْريطش والنوكبردية والجنوية والبيازية وغيرهم، وكلهم أجناسٌ في جزائر. فصل في ذكر المسك والعنبر، وهل هو حشيش أو مما يُدْسَر؟ قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المِسْكُ أَطيَبُ الطِّيبِ". انفرد بإخراجه مسلم (¬2). ¬

_ (¬1) "صورة الأرض" ص 113. (¬2) أحمد في "مسنده" (11269)، ومسلم (2252).

وثبت أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُحِبُّ الطِّيبَ (¬1). وذكر العلماء بأخبار الهند والصين أنَّ المسك من غزلان الصين، وأن التُّبَّتي أذكى، لطيب مراعي غزلان التُّبَّت، وعلامة غزلان التُّبَّت الأنياب، فإن لكلِّ واحد نابين كنابيِّ الفيل خارجة من الفكين نحو شبر، فتنصبُ لها الأشراك وتُرمى بالسهام، فإذا صرعوها قطعوا عنها نوافجها والدمُ في سررها خام لم ينضج، فيكون له رائحة زَهِكة (¬2)، فيبقى زمانًا حتى تذهب عنه تلك الرائحة بالهواء. وأما المسك الخالص فيأتي الغزال وقد استحكم في سرَّته المسكُ ودفعت الطبيعة موادَّ إلى سرَّته وقد قلق من ذلك، فيحتكُّ بالصخر مع شدةِ حرارة الشمس فتنفجر وتسيل على الصخور كما ينفجر الدُّمَّل إذا نضج ما فيه، فيفرغ ما في نافِجته -والنافِجة بالفارسية هي السرَّة (¬3) - فيخرج الصيادون وقد أعدوا له الأوعية، وتسمى: النوافج، فيأخذونه من الصخور، وهو أفضل المسك وأطيبه ولا يكون له زَهَكة. وأما العنبر، فقد اختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنه عين في البحر الشرقي، قاله مجاهد. والثاني: أنه خِثْي دابةٍ من دواب البحر، قاله الهيثم بن عدي. والثالث: أنه حشيش ينبت في جزائر البحر عند الواقواق فتبلعه دواب البحر ثم تلقيه. والرابع: أن البحر يهيج فيقذف بالعنبر من قعره كأمثال الجبال، فيبلعه الحيوان المعروف بالأوال، فإذا حصل في جوفه قتله، فيموت ويطفو على الماء، فيجذبونه بالكلاليب فيأخذونه، فما لقي في ظهر الحوت منه كان جيِّدًا، وما لقي في بطنه كان سهكًا فيبقى فيه أثره، قاله مقاتل. واختلف الفقهاء في وجوب الخُمس في العنبر: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25003) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) زهك وسهك: الريح الكريهة ممن عرق "القاموس المحيط": (زهك وسهك). (¬3) انظر "المعجم الذهبي": (نافه).

فصل في الجزر والمد، وهل لهما أمد أو حد

قال علي وابن مسعود وابن عباس: لا خمس فيه. وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد. وقال عمر: فيه الخمس، وبه أخذ أبو يوسف ومالك والشافعي وأحمد، لما روي أن عمر سئل عنه فقال: فيه الخمس وفي كل ما يستخرج من البحر. ولنا إجماع مَن سمَّينا من الصحابة، فإنهم قالوا: لا خمس فيه لأنه شيء دَسَرهُ البحر، وما روي عن عمر فقد خالفه فيه مَن سَمَّينا من الصحابة، ولو سلم كان محمولًا على ما وجد في خزائن البحر وبه نقول. وقيل: إن أجود العنبر ما وقع ببحر فارس قريبًا من رأس الجُمجمة عند بلاد الشَّحْر باليمن لخاصية في تلك البقعة، فإن هناك قومًا من قُضاعة يجعلون الشين المعجمة كافًا (¬1)، ولهم نُجُبٌ معدَّة على ساحل البحر لهذا، فإذا قذف البحر العنبرَ أخذوه. وأما الكافور، فقد ذكرناه. وأما العود، فقال الجوهري: عود قَماري منسوب إلى موضع ببلاد الهند (¬2). قال جدي رحمه الله في كتاب له يسمى "تقويم اللسان": قَماري منسوب إلى قَمار، مدينة باليمن. فأمَّا النَّدُّ، فقال الجوهري: والنَّدُّ من الطيب ليس بعربي (¬3). والله أعلم. فصل في الجَزْر والمدِّ، وهل لهما أمَد أو حدٌّ (¬4) فأما المدُّ فمُضيُّ الماءِ بجريته، والجَزْرُ رجوعه عن ذلك، وقال علماء الهيئة: البحار ثلاثة أصناف: منها: ما يكون فيه المدُّ والجزر ويظهر فيه ظهورًا بَيِّنًا، كالبحر الحَبَشي عند البصرة، وهذا مشاهد محسوس. والثاني: يظهر فيه في وقت دون وقت كما في البحر الأعظم، فإنه يمدُّ ستة أشهر ¬

_ (¬1) النص في مروج الذهب 1/ 333، وكنز الدرر 1/ 183 أوضح مما هنا فانظره. (¬2) "الصحاح"": (قمر). (¬3) "الصحاح": (ندد). (¬4) انظر مروج الذهب 1/ 244، وكنز الدرر 1/ 180.

فيقلُّ الماءُ في موضع ويكثر في موضع. والصنف الثالث: لا يظهر فيه المدُّ أصلًا، كغير الحَبَشي. واختلفوا في علَّة المدِّ والجزر: أما علماء الهيئة فقد اختلفوا فيه: قال بعضهم: علته القمر، لأنه مجانس لعلة الماء وهو يسخِّنه فينبسط، ومثَّلوه بِقِدْرٍ فيها ماءٌ مقدار نصفها، فإذا غلى على النار ارتفع الغليان حتى يفور ويصعد، فإذا برد الماء نقص، لأنَّ من شرط الحرارة أن تبسط الأجسام ومن شرط البرودة أن تضغطها، فإذا امتلأ القمر حميت أرض البحر فانبسط الماء وارتفع، وإذا نقص نقص الماء. وقال بعضهم: علَّته الأبخرة المتولدة في باطن الأرض، فإنها لا تَزال تتولد حتى تكثر وتكثف فيرد (¬1) ماء البحر بكثافتها، فإذا انقطعت الموادُّ بقلة الكثافة عاد ماء البحر إلى قعره. والمختار عندي: أنَّ المدَّ والجزر من آيات الله تعالى، وأنَّه من آثار قدرته في العالم، لأنَّ كلَّ ما لا يوجد له قياس في الوجود فهو فعل إلهي يستدلُّ به على عظمة الباري سبحانه وقدرته، وليس للمدِّ والجزر قياس في العالم. وقال أحمد بن حنبل بإسناده قال: سُئل ابن عباس عن المدِّ والجزر فقال: قد وكَّل الله بقاموس البحر ملكًا، فإذا وضع رجله فيه فاض البحر، وإذا رفعها غاض (¬2). وقد ذكره الجوهري فقال: وقاموس البحر وسطه ومعظمه (¬3). وروي عن مجاهد عن ابن عباس قال: الملك الموكل بالبحار يضع عقبه في بحر الصين فيكون منه المدُّ، ثم يرفع عقبه فيكون منه الجزر. وقال مجاهد: وهذا ظاهر محسوس، فإن الإنسان لو وضع قدمه في إناء فيه ماء فإن الماء يرتفع إلى رأس الإناء، فإذا رفعها رجع الماء إلى حدِّه. ¬

_ (¬1) في (ط): فبرد، والمثبت من (ل) وكنز الدرر 1/ 180، وفي مروج الذهب 1/ 249 (وعنه ينقل): حتى تكثف وتكثر فتدفع حينئذ ماء هذا البحر لكثافتها ... (¬2) أحمد في "مسنده" (23238). (¬3) "الصحاح": (قمس).

فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون الجزر والمدّ في جميع البحار، قلنا: قد ذهب قومٌ إلى هذا، وإنما لم يظهر في غير بحر البصرة لوجهين: أحدهما: لبعد المسافة واتساع البحار، ومن لجَّجَ من المسافرين في البحار يذكر أنه شاهده، والثاني: فلأنَّ مكان المدّ والجزر في البصرة تحت خط الاستواء واعتدال الليل والنهار وعليه الكواكب الثابتة، وهذا المعنى لا يوجد في غيره. وأما قول من علَّل بزيادة القمر ونقصانه، فغير صحيح، لأنه لو كان كذلك لتعلَّق بزمان مخصوص، فإن القمر يزيد في أول الشهر وينقص في آخره، والمدُ والجزر يكون في كلِّ يوم وليلة فافترقا. وأما من قال بأنه من الأبخرة في قلَّتها وكثرتها فباطلٌ، لأنه يحتاج إلى زمان طويل يجتمع فيه، وهذا يوجد في كل يوم وليلة. * * *

فصل في ذكر العيون والأنهار وما ورد فيها من فنون الأخبار والآثار

فصل في ذكر العيون والأنهار وما ورد فيها من فنون الأخبار والآثار ذكر الجوهري أن العين على وجوه: أحدها: عين الماء، وعين الرُّكبة، والعين: حاسة الرؤية، والعين: عين الشمس، والعين: الدينار، والعين: المال النَّاضُّ، والعين: الدَّيدَبان (¬1) والجاسوس، وعين الشيء: خياره، وعين الشيء: نفسه، والعين: ما عن يمين قبلةِ العراق، والعين: مطرُ أيامٍ لا يُقلع، وأسود العين: جبل، وأنشد الجوهري (¬2): [من الطويل] إذا زالَ عنكم أسودُ العينِ كنتمُ ... كرامًا وأنتم ما أقام أَلائمُ ورأس عين: بلدة، وفي الميزان عين إذا لم يكن مستويًا، والعينُ: من حروف المعجم (¬3). ذكر الجوهري هذه الوجوه وهي ستة عشر، وقد خرَّجت وجوهًا أُخَر حكاها الخليل بن أحمد وغيره تزيد على خمسين وجهًا، وذكرتها في التفسير. وجمع العين أعين وعيون، قال الجوهري: وأعيان. وأما النهر فيسمَّى نهرأ لاتِّساعه. واختلفوا في بدوِّ الأنهار: فروى عطاء عن ابن عباس: أن جميع المياه من تحت صخرة بيت المقدس ومن هناك تتفرق في الدنيا. وقد ذكر جدي رحمه الله حديثًا مرفوعًا في هذا المعنى في "فضائل القدس" فقال: حدثنا أبو المعمر الأنصاري بإسناده عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الأنهار والسحاب والبحار والرياح من تحت صخرة بيت المقدس" (¬4). قلت: والموقوف في هذا على ابن عباس أصح. وروى مجاهد عن ابن عباس أن جميع الأنهار من البحر الذي خلف المحيط، ¬

_ (¬1) الديدبان: هو الربيئة، وهو الطليعة قدام العسكر "تاج العروس" (ددب). (¬2) نسبه الجوهري إلى الفرزدق، ولم نجده في ديوانه المطبوع. (¬3) "الصحاح": (عين). (¬4) "فضائل القدس" ص 141، و"الموضوعات" 2/ 309، وقال: هذا حديث لا أصل له.

فصل في ذكر النيل

وماؤه عذب، ويسمى: الباكي. وقد ذكرناه. وروى العوفي عن ابن عباس: أنَّ العيون في الأرض كالعروق في البدن. وذكر مقاتل: أنَّ العيون تتولد من الأبخرة وتجمع في الأماكن المنخفضة، فإذا انتشرت في أعماق الأرض طلبت التنفس، فتنشق الأرض فتتفجَّر العيون. قال: والأرض على الماء مثل الشباك، فإذا أراد الله أن يفجِّر بعضَ العيون في أماكن مخصوصة نظرًا لعباده تنفست الأرضُ فانفجرت. ومذهب الأوائل أن الماء من الاستقصات الأربع. فنبتدئ بالأنهار الكبار، كالنيل، والفرات ودجلة، وجَيحون وسَيحون، ونحوها، ومطارحِها، ومقدار جريانها على الأرض: وقد ذُكر النيل والفرات في الصحيح، فقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أنس بن مالك بن صَعْصَعة، حدَّثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث المعراج، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثم رُفِعتُ إلى سِدرَة المُنْتَهى، وإذا أربعةُ أنهارٍ: نهرانِ باطِنانِ ونهرانِ ظاهِرانِ، فقلتُ يا جبريلُ، ما هذا؟ فقال: أما الباطِنانِ: فنهران في الجنَّةِ، وأما الظاهِرانِ: فالنِّيلُ والفراتُ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وقد ذُكر سَيحان وجَيحان في الصحيح، أيضًا، فقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيْحان وجَيْحان والنِّيلُ والفُراتُ كلٌّ من أنهارِ الجنَّة" انفردِ بإخراجه مسلم (¬2). فصل في ذكر النِّيل أصل النيل: الفيض، قال الجوهري: والنيل فيض مصر (¬3). واتفقوا على أن مبدأه من جبل القمر، فذكره في "جغرافيا" وصوَّره أنه ينبع من اثنتي عشرة عينًا، وأن العيون تصبُّ في بحيرة مثل البَطائح (¬4) خلفَ خطِّ الاستواء يجتمع فيها ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (17833)، والبخاري (3207)، ومسلم (164). (¬2) أحمد في "مسنده" (7886)، ومسلم (2839). (¬3) "الصحاح": (نيل). (¬4) البطائح: جمع أبطح، وهو مسيل واسع فيه دقاق الحصى. "القاموس المحيط": (بطح).

الماء ويجري على رمال هناك وبين جبال، ثم يخرق أرضَ السودان ثم يصبُّ في بحر الزَّنْج، وفي هذا البحر قنبلو وهي عامرة، وفيها قوم مسلمون لغتهم زَنْجية غلبوا على أهل الجزيرة عند انقراض مُلْك بني أمية وابتداء الدولةِ العباسية، ومن ذلك البحر الذي فيه قنبلو يصبُّ في بحرِ عُمان. ومن جبل القمر إلى هذه الجزيرة مسيرة خمس مئة فرسخ ويقوى جريانُ مصبِّه في هذا البحر أيامَ زيادةِ النيل، فيجري جريانًا عظيمًا ويتكدَّر موضع العيون، حتى قيل: إن الماء يؤثِّر لونه في لون البحر ويكون ماؤه أحلى من العسل. وقال كعب الأحبار: وجدت في التوراة أنَّ النيل نهر العسل من الجنَّة، وأنه يجري على بلاد الحبشة في قِفار ومَفاوز ومهامه (¬1) ليس فيها مسلك. وذكر أحمد بن بختيار وقال: العين التي هي أصلُ النيل هي أولُ العيون من جبل القمر، ثم ينبعث منها عشرةُ أنهار، نيل مصر أحدها، قال: والنيل يقطع الإقليمَ الأول ثم يجاوزه إلى الثاني، ومن ابتدائه من جبل القمر إلى انتهائه إلى البحر الرومي ثلاثة آلاف فرسخ يجري في عامر وغامر، فإذا تعدَّى الفسطاط انقسم قسمين: قسم يمر إلى دمياط وقسم يمر إلى رشيد، فيصبان في بحر الروم، وقيل: إنه لا يعلم مسافة جريانه إلا الله عزَّ وجلَّ. ويبتدئ بالزيادة في نصف حَزيران وينتهي في أيلول، واختلفوا في سبب زيادته ونقصانه: فقال قوم: لا يعلم ذلك إلا الله تعالى، وقال آخرون: سببه زيادةُ عيونِهِ ونقصانها، وقال آخرون: الظاهر أن سبب زيادته كثرةُ المطر والسيولِ، تمطر بلاد الحبشة والنوبة فيزيد، وإنما يتأخر وصوله إلى الصيف لبعد المسافة، وقد ردَّ قوم هذا وقالوا بأنَّ عيونه التي تحت جبل القمر تتكدر في أيام زيادته، فدلَّ على أنه فعل الله تعالى من غير زيادة بالمطر. وجميع المياه تجري إلى القبلة إلَّا هو؛ لأنه خارج عن خطِّ الاستواء، فيجري إلى ناحية الشمال، وكذا العاصي بالشام يجري إلى غير القبلة، قالوا: وفي الهند أنهار ¬

_ (¬1) المهمهة: المفازة البعيدة والبلد المقفر. "القاموس المحيط": (مهه).

كثيرة تجري إلى غير القبلة، لما نذكر. ومتى بلغ ستة عشر ذراعًا استحق السلطانُ الخراجَ، وإذا بلغ ثمانيةَ عشر ذراعًا قالوا: يحدث بمصر وباء عظيم، وإذا بلغ عشرين ذراعًا مات ملك مصر، والله أعلم. وبمصر تُرَع كثيرة منها ترعة سُنْباط، وترعة ذنب التمساح، وتُرَع في الصعيد، وخليج سردوس، وخليج ابن منجا، وخليج القاهرة، وخليج الفيوم، حفره يوسف - عليه السلام - زمان القحط، وإنما سمي الفيوم لأنَّ أصله ألف يوم، كانت كل قرية منه تقوم بأهل مصر يومًا، وذكر الجوهري الفيوم فقال: والفيوم من أرض مصر، قُتل بها مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية (¬1). قلت: والصحيح أن مروان قتل ببُوصِير -لما نذكر (¬2). وفيه خليج الإسكندرية وغيره. وفي النيل عجائب، منها التمساح، قالوا: ولا يوجد إلا فيه وله أسامي، في مصر التمساح، وفي بلاد النُّوبة الوَرَل، ووراء النُّوبة الشوشمار. وقال الجوهري: والتمساح دابة من دوابّ الماء معروف (¬3). وقال الجاحظ في كتاب "عجائب البلدان": إن مهران السند من نيل مصر، قال: لأن التمساح فيه. قلت: وقد وهم الجاحظ، لأنَّ مهران السند يخرج من جبال المُوْلْتان، وهي في المشرق داخلة تحت خط الاستواء والاعتدال، والنيل يخرج من جبل القمر من ناحية الجنوب وهو خارج عن خط الاستواء، وبين مهران وبين الحبشة والنُّوبة البحر الشرقي، فكيف يكون منه؟ ! فإن وجد التمساح في مهران فقد وجد فيه كما يوجد في النيل. قالوا: والتمساح لا دُبر له وما يأكله يتكوَّن في بطنه دودًا، فإذا آذاه ذلك خرج إلى البرية وفتح فاه فينقضُّ عليه طائر الماء كالطَّيطَوي ونحوها من أنواع الطيور ممن اعتاد ¬

_ (¬1) "الصحاح": (فوم). (¬2) سيذكر الخبر المصنف في سنة (132 هـ). (¬3) "الصحاح": (مسح).

ذلك، فيأكل ما بين أسنانه وما يظهر من الدود، فإذا أكل أطبق عليه التمساح في بعض الأوقات فمه فيبلعه، فضربت العرب المثلَ به فقالت: مكافأة التمساح. وآفة التمساح دُويبة تكون في سواحل النيل وجزائره تكمن له في الرمل، فإذا فتح فاه وثَبَت فدخلت فمه ونزلتْ إلى جوفه فيضرب الأرض بنفسه ويغوصُ في الماء فتخرق الدويبة بطنه فيموت، وربما قتل نفسه قبل أن تخرج منه فتخرج بعد موته، وهذه الدويبة نحو من ذراع على صورة ابن عِرْس ولها قوائم شتى ومخاليب، فهي آفة التمساح، كالسمكة الصغيرة التي تقتل (¬1) الكبيرة في البحر الشرقي، وقد ذكرناها. وذكر ابن حوقل: أنَّ في نيل مصر أماكنَ لا يضرُّ التمساحُ فيها، كعدوة بوصير والفسطاط، قال: وفي نيل مصر السَّقَنْقُور يصلح للجماع، ويكون عند أسوان وفي حدودها. وفي النيل السمك الرعَّاد إذا وقعتِ السمكةُ في شبكة الصياد لا تزال ترتعد يداه ورجلاه حتى يلقيها أو تموت، وهي نحو الذراع (¬2). وقال جالينوس: إذا وضع منها على رأس مَنْ به الصداع زال، وقيل: إنما الخاصية أنْ توضع على الرأس وهي في حالة الحياة (¬3). وفيه سمك على صورة الفرس، والمكان الذي تكون فيه لا يقربه التمساح، وتخرجُ من الماء ليلًا فترعى الزرعَ فتفسده، فيطرحون لها التُّرمُس فتأكله ثم تشرب الماء فيرِمُ جوفُها فتموت، وهي على صورة الفرس إلا أنه ليس لها حافرٌ ولا ذنب. وفيه شيخ البحر، سمكة على صورة آدمي وله لحية طويلة، والغالب أنه يكون بنواحي دِمياط، وهو مشؤوم فإذا رُئي في مكان دلَّ على القحط والموت والفتن، ويقال: إنَّ دمياط ما تنكب حتى يظهر عندها. وفيه المقياس يعرف به زيادة النيل ونقصانه، وأول من بناه يوسف - عليه السلام - ¬

_ (¬1) هنا ينتهي السقط في (ب)، وانظر مروج الذهب 1/ 235 - 236. (¬2) "صورة الأرض" ص 139 - 141. (¬3) انظر "عجائب الخلوقات" ص 187.

فصل في الفرات

بمَنْف، وبنت دلوكة الملكة مقياسًا بإخْمِيم، وفي أيامها عُملت الطِّلَّسْمات بمصر. فأما المقاييس التي بنيت بمصر في الإسلام فأولُ من بنى مقياسًا عبد العزيز بن مروان بن الحكم لما ولي مصر، بناه بحُلوان فوق الفسطاط، وهذا المقياس الظاهر بناه المأمون، وقيل: إنما بناه أسامة بن زيد التَّنوخي ودثر، فجدده المأمون، وأسامة بناه في أيام سليمان بن عبد الملك بن مروان، وبنى أحمد بن طولون مقياسين أحدهما بقُوص وهو قائم اليوم، والآخر بالجيزة وقد انهدم. فصل في الفرات وأصلها من الفَرْت وهو الشق، قال الجوهري: والفرات اسم نهر بالكوفة، والفراتان: الفرات ودُجَيل. والفرات: الماء العذب. يقال: ماء عذبٌ فرات (¬1). واختلفوا في مخرجها على قولين: أحدهما: أنها من جبل ببلد الروم يقال له: افرذهخش، بينه وبين قاليقلا مسيرة يوم، والثاني: أنها تخرج من أطراف أرمينية ثم تجري إلى بلاد الروم. ويجتمع إليها أعين كثيرة ويصبُّ إليها خليج من بحيرة المازريون، وليس ببلاد الروم بحيرة أكبر منها، دَوْرها أكثر من شهو، ثم يمرُّ الفراتُ بأرضِ مَلَطْيَة على مسيرة ميلين منها، ثم يمرُّ على صُمَيصات (¬2) وقلعة الروم والبيرة وجسر مَنْبِج وبالِس وقلعة جَعبر والرَّقة والرَّحْبَة (¬3) وقَرْقيسِيا وعانَة والحَدِيثَة وهِيت والأنبار. ومن تحت الأنبار يأخذ منها نهر عيسى، ونهر الملك، فيصبان في دجلة، ثم يمر الفرات بالطفوف، ثم بالحلة، ثم بالكوفة، وينتهي إلى البطائح، ويصب في البحر الشرقي. قالوا: ومقدار جريانها على وجه الأرض أربع مئة فرسخ، وقد كانت تمر ببلاد الحِيرة، ونهرها بيَّن إلى هلمَّ جرَّا، ويعرف بالعتيق، وعنده كانت وقعة القادسية، وكان ¬

_ (¬1) "الصحاح": (فرت). (¬2) في "معجم البلدان": "سُمَيساط". (¬3) وهي رحبة مالك بن طوق. "معجم البلدان" 3/ 34.

البحر المعروف بالنَّجَف في ذلك الوقت جاريًا، وكان مرسى السفن من الهند والصين إلى ذلك المكان، تحمل فيه الأمتعة إلى ملوك الحيرة لما كانت عامرة، ولما استحال الماء وانقطع عن مصبه في النجف صار ذلك البحرُ برًّا، وصار بين الحيرة والبحر مسافة. والنَّجَفُ -بالتحريك- المكانُ الذي لا يعلوه الماء، ويقال: إن اسم هذا المكان نج وكان أهل الحيرة يستقون منه الماء، فأصبحت امرأة لتستسقي فرأته يابسًا فقالت: نج جف، ثم خفَّفوه. وقد روي في فضل الفرات حديث: حدثنا جدي رحمه الله قال حدثنا إسماعيل بن السمرقندي بإسناده عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ما مِن يَومٍ إلَّا وَينزِلُ مَثاقيلُ من بركاتِ الجنَّة في الفُراتِ". قال جدي (¬1) في "الأحاديث الواهية": هذا الحديث لا يصحُّ؛ في إسناده الربيع بن بدر، تركوا حديثه (¬2). قلت: وقد ذكر الزهريُّ ما يدلُّ على صحته، لأنَّه قال: ومصداقُ هذا الحديث أنَّ الفراتَ مدَّتْ في بعض السنين فجاءت برمَّانٍ كلُّ رمَّانةٍ مثلُ البعير، فكانوا يرون أنه من الجنة. وقال البخاري بإسناده عن أبي هريرة: قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يُوشِكُ أنْ يَحسِر الفرات عن كنزٍ من ذَهب، فمَنْ حَضَره، فلا يأخُذ منه شيئًا"، وفي رواية: "عن جبل من ذهب". أخرجاه في الصحيحين (¬3). ولمسلم عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقومُ السَّاعةُ حتَّى يَحسِر الفُراتُ عن جبَلٍ مِن ذَهَبٍ، يَقتتِلُ النَّاسُ عليه، فيُقتَلُ مِن كلِّ مئةٍ تِسعةٌ وتسعُونَ، ويقولُ كلُّ رَجُلٍ منهم: لعلِّي أنْ أكونَ أنا الذِي أَنجُو" (¬4). وروي أن دانيال حفرها مع دجلة، وسنذكره. ¬

_ (¬1) في (ب): "قال حدثني جدي". (¬2) "العلل المتناهية" (38). (¬3) البخاري (7119)، ومسلم (2894) (30). (¬4) مسلم (2894).

فصل في دجلة

فصل في دجلة قال الجوهري: دِجلَةُ نهر بغداد (¬1). وذكر أبو بكر الخطيب أن دانيال حفرها مع الفرات فقال: حدثنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد مولى بني هاشم بإسناده عن عثمان بن عطاء، عن أبيه قال: أوحى الله إلى دانيال أن احفرْ لي سَيبَين بالعراق، فقال: يا رب بأيِّ مكاتلَ وبأيِّ مساحيَّ وبأيَّ رجالٍ؟ فأوحى الله إليه أن أعدَّ سكة حديد وعرِّضها واجعلها في خشبة وأَلقِهَا خلفَ ظهرك فإني باعثٌ إليك ملائكة يعينونك على حفرهما، ففعل، فكان إذا انتهى إلى أرضِ أرملةٍ أو يتيمٍ حاد عنها حتى حفر دجلة والفرات. وقال الخطيب بإسناده عن ابن عباس قال: أوحى الله تعالى إلى دانيال أنْ فجِّر لعبادي نهرين عظيمين، واجعلْ مفيضَهما إلى البحر، فقد أمرتُ الأرضَ أن تطيعك، فأخذ قناةً فجعل يخدُّ في الأرض، والماء يتبعه -وفي رواية: فأخذ قصبةً- وكان إذا وصل إلى أرض شيخ كبير أو يتيم ناشده الله فيحيد عن أرضه، فعواقيل دجلة والفرات من ذلك (¬2). قال الجوهري: العاقول من النهر والوادي: ما اعوَجَّ منه (¬3). وقال أرباب العلم بهذا الشأن: مبدأ دجلة من بلاد آمِد وديار بكر وميَّافارِقِين وأرمينيَة، تجتمع العيون ثم تمر ببلاد حِصن كَيْفا والجزيرة والموصل، وتستمد من الزابين الأعلى والأسفل، وهما من عيونٍ ببلاد أرمينية، ثم تمر ببلاد تَكْريت وبغداد وواسِط، وتنقسم عدة أودية، ثم تصب في البَطائح وتختلط بالفرات، ثم تصبُّ في البحر الشرقي. قالوا: ومقدار جريانها على وجه الأرض ثلاث مئة فرسخ، وقيل: إن الذي ¬

_ (¬1) "الصحاح": (دجل). (¬2) "تاريخ بغداد" 1/ 56، وهذان خبران منكران، في إسنادهما الهيثم بن عدي وأبو صالح والكلبي وعثمان بن عطاء. (¬3) "الصحاح": (عقل)، وفيه: "المعوج منه".

فصل في سيحون

حفرهما أفريدون الملك، وليس بصحيح، والله أعلم. فصل في سَيْحون وهو نهر الهند، ويقال: هو مِهْرَان السند، وقال الجوهري: وسَيحون نهر بالهند، وسَيحان نهر بالشام، وساحِين نهر بالبصرة، وانساح أي: اتسع (¬1). ومخرج سيحون من جبال ماسَبَذَان وينتهي إلى بلاد المُولتان، وتفسيره: مرج الذهب، ثم ينتهي إلى الفنصورة، ثم يصبُّ في البحر الشرقي، ومقدار جريانه على وجه الأرض ست مئة فرسخ، والتماسيح في خلجانه على ما ذكر الجاحظ، ولا توجد في غيره وغير النيل، وقد ذكرناه. فصل في جَيحون وهو نهر بلخ، ومنبعه من عيونٍ ببلاد التُّبَّت، ويمر ببَلْخ والتِّرمِذ وأَسْفَرَايِين وخُوارِزم، ويمضي حتى يصبَّ في بحر جُرجان، ثم يمر على بلاد التُّرك. قالوا: ومقدار جريانه على الأرض مقدارء ثلاث مئة فرسخ، وقيل: إنه يصب في مِهْران، وليس كذلك، بينهما مسافة بعيدة، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جَيحون" في الحديث الذي روينا. فصل وفي العالم أنهار كثيرة، ذكر أحمد بن بختيار أن بالصين جزيرة الفضة يخرج منها ثلاثة أنهار، مثل: جَيحون والنيل والفرات. قلت: وقد وهم، لو جعل مكان النيل دجلة كان. ومنها: نهر إِتِل يأتي من المشرق فيصب في بحر الخَزَر، ويقال: إنه يتشعب منه نيف وسبعون نهرًا، وهو أكبر من جَيحون. ومنها: نهر الهِنْدَمَنْد، ومخرجه من جبال خراسان ويصب في البحر الشرقي. ¬

_ (¬1) "الصحاح": (سيح).

وذكر في "جغرافيا": أن العيون الكبار التي تنبع في الأرض مئتا عين وثلاثون عينًا دون الصغار، وعدد الأنهار الكبار الجارية في الأقاليم السبعة على الدوام مائتان وتسعون نهرًا. وقال ابن المنادي: في الإقليم الأول من الأنهار والعيون ثلاثة وعشرون عينًا ونهرًا، وفي الإقليم الثاني تسعة وعشرون، وفي الإقليم الثالث أربعة وعشرون، وفي الإقليم الرابع ستون، منها دجلة والفرات، وفي الإقليم الخامس عشرون، وفي الإقليم السادس ستة وعشرون، وفي الإقليم السابع الباقي. وجميع ما ذكرنا من العيون والأنهار داخل في الأقاليم السبعة إلا العيون التي في جبل القمر فإنها خارجةٌ عن ذلك، لأنها ليست في خط الاستواء. وقيل: إنها في أطراف إقليم الهند وهو الأول. وذكر صاحب "المسالك": أن ببلاد المشرق تَلًّا حوله ألف عين تجري إلى المشرق وتسمى بركون، أي: الماء المقلوب، وصيده ذَراريح سود (¬1). قلت: وقد روى أبو بكر الخطيب في "تاريخه" حديثًا يأتي على سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، فقال بإسناده عن ابن عباس: قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنزَلَ اللهُ إلى الأرضِ خمسةَ أنهارٍ: سَيحُون وهو نهر الهندِ، وجَيحُون وهو نهر بَلْخ، ودِجلةَ والفرات: وهما نهرانِ بالعراقِ، والنيل نهر بمصرَ، أنزَلها اللهُ من عينٍ واحدةٍ من عُيونِ الجنَّةِ من أسفلِ دَرَجاتِها على جَناحَي جبريلَ - عليه السلام -، واستودَعَها الجبال، وأَجْراها في الأرضِ، وجَعَل فيها منافعَ للنَّاسِ، فذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ (18)} [المؤمنون: 18] فإذا حَانَ خروجُ يأجُوجَ ومأجوجَ، أرسَلَ اللهُ جبريلَ - عليه السلام - فرفعَ من الأرضِ هذه الأنهار الخمسة والقرآن والعلم والحجر والركن والمقام وتابوت موسى - عليه السلام - بما فيه، يرفع الكلَّ إلى السماء، فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} [المؤمنون: 18] فإذا ¬

_ (¬1) "المسالك والممالك" ص 28، وجاء فيه: "بركو آب".

فصل في سيحان وجيحان

رُفِعَتْ هذه الأشياءُ مِنَ الأرضِ فُقِدَ خيرُ الدينِ والدُّنيا" (¬1). إلا أن هذا الحديث غريب، والأصحُّ أنه موقوف على ابن عباس - رضي الله عنه -. فصل في سَيحان وجَيحان قال النُّوبختي: هما في بلد الروم، فأما سَيحان: فيخرج من عيون بينها وبين مَلَطْية ثلاثة أيام، ويمتد إلى ناحية الغرب، وعليه أَذَنة (¬2)، فيصب في البحر الرومي. وأما جيحان: فيخرج من عيون بينها وبين مَرْعَش ثلاثة أيام وعليه المَصِّيصة، ويصب في البحر الرومي. والنهر الأسود: الذي غرق فيه ملك الألمان قريبٌ من بلد الروم. فصل في البحيرات وهي كثيرة: منها بحيرة سَاوَه وسنذكرها في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله تعالى. وبحيرة أرمينية، وبحيرة الروم، وقد ذكرناها، وأما الشام فبحيرة قدس بحمص، وبحيرة فامية وبحيرة دمشق. وبحيرة طبرية ودَوْرها ثلاثة وثلاثون ميلًا ومصبُّ الماء إليها من حولةِ بانياس، ويخرج منها النهر المعروف بالأردنَّ، وبمرُّ من الغَوْر إلى بحيرة زَغَر من أرض الكَرَك. وقال الجوهري: والأردنُّ اسم نهرٍ وكورة بأعلى الشام، قال: والأردن أيضًا -بالضم والتشديد- النعاس (¬3). وذكر جدي رحمه الله في "المنتظم": أن بحيرة طبرية تصبُّ في نهر أنطاكية. والظاهر أنه قلَّد من لا يعرف، وأين بحيرة طبرية وأنطاكية؟ ! بحيرة طبرية في الشام الأسفل، وأنطاكية في الشام الأعلى، وإنما يصبُّ نهر أنطاكية في بحيرة فامية. ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 1/ 57 - 58، قال ابن عدي في الكامل 6/ 2316 بعد إخراجه مع حديث آخر: وهذان الحديثان جميعًا غير محفوظين بل هما منكرا المتن. (¬2) اسم بلدة. (¬3) "الصحاح": (ردن).

فصل في أنهار الشام

ومنها بحيرة تِنِّيس عند دِمياط، وكانت قرًى ومزارعَ لم يكن بمصر مثلها، فغلب عليها ماءُ البحر. فصل في أنهار الشام أما دمشق فأصل مياها بردى وعين الفِيْجة، يجتمع بردى عند عين الفيجة ثم ينحدر إلى قرية يقال لها: الهامة، فينفصلُ منه نهر يزيد، ويمتد في قاسيون وينتهي إلى دُوْمَة، وقد كان يمتد في الزمان القديم إلى الماطِرون، وذَنبَة والقناطر في لحفِ الجبل باقيةٌ إلى الآن وكذا الآثار، وهو منسوب إلى يزيد الرومي، فأما يزيد بن معاوية فإنه وسَّعه وعمَّقه فنسب إليه. وأما ثَوْرا فيأخذ من فوق الرَّبوة ويمتد إلى قريب القُصَيْر، ويقال: إنَّ عليه ثلاث مئة وستين ماصية. وباناس وهو نهر الجامع، والقنوات ونهر المِزَّة وقناتها، ويتفرع من هذه أنهار عدة. وأما العاصي: فأصله من جبل لبنان، ومن قرية يقال لها: اللبوة، ثم ينزل الماء إلى بحيرة قَدَس، ويخرج العاصي منها فيمر بأرض حمص وحماة وشَيزَر وفامِيَة، ثم يصب في البحر الرومي قريبًا من أنطاكية، وقيل: إنما سمي العاصي، لأنه يجري على غير القبلة، ومسافة جريانه ثلاثة أيام. ومنها قُوَيْق: نهر حلب، يخرج من قرية يقال لها: سينات (¬1)، على سبعة أميال من حلب، ثم يمر على حلب وقِنَّسرين، وينتهي إلى المرج الأحمر، وماؤه موصوف بالرّقة والخفة، وقيل: إن أوله وَخِم فإذا امتدَّ طاب. فصل في أنهار الجزيرة منها: البَلِيْخ بين حرَّان والرَّقة، ويقال: إن الخليل - عليه السلام - نزل بذلك المكان وقال له: أبلِخ، فتفجَّر، وعنده مقام إبراهيم، وكانت عليه منا زل الوليد بن عقبة بن أبي معيط. ¬

_ (¬1) في "معجم البلدان" 4/ 417: "سبتات"، وقال: سألت عنها بحلب، فقالوا: لا نعرف هذا الاسم إنما مخرجه من شناذر، قرية على ستة أميال من دابق، وفي الروض المعطار 486، وبغية الطلب 1/ 347: سنياب.

فصل في أنهار العراق

ومنها: الجُلَّاب نهر حرَّان، وماؤه خفيف، ويقال: إن أوله وَخِمٌ ثم يصحُّ، وأوله من عين ببلد الرُّها. ومنها: الهِرْماس وهو نهر نَصيبين، ويقال: إنه يسقي ثلاثين ألف بستان، ومبدأه من جبل نصيبين. ومنها: الخابُور، وهما خابوران: خابور رأس العين، ويمتد منها إلى الفرات فيصب فيها تحت قَرْقِيسِيا، وعليه المِجْدَل وقرى كثيرة غيرها، وأما الخابور الثاني: ففي ديار بكر عند قَرْدَى وبازَبْدَى، وهي ديار بني حمدان الذين ملكوا المَوصل والجزيرة، ومخرجه من بلاد أرمينيَة ويصب في دِجلة، وماؤه عذب، قال الشاعر [من الطويل] بقَرْدَى وبازَبْدَى مَصِيفٌ ومَرْبَعٌ ... وعذب يُحاكي السَّلسبيلَ برودُ وبغدادُ ما بغدادُ أمَّا تُرابُها ... فجمٌّ وأمَّا حرُّها فشديدُ فصل في أنهار العراق حكى الخطيب عن الأوائل أن ملوك الأردوان وهم النَّبَط، كانوا في السواد قَبْل فارس، وهم الذين استنبطوا المياه وحفروا الأنهار العِظام بالعراق وصرَّفوا دجلة والفرات بالسكور وقسموا المياه، ويقال لهم: ملوك الطوائف (¬1). وإنما سموا نَبَطًا، لأنهم أنبطوا المياه، أي: استخرجوها، وذكرهم الجوهري فقال: النَّبَط والنَّبيط قوم ينزلون بالبَطائح بين العراقين (¬2). وقال ابن قتيبة: ملكوا العراق ألف سنة. وقال ابن المنادي: كان ملكهم من عانَات وكور دجلة والبصرة، وكانوا يصرِّفون الفرات ودجلة كيف ما شاؤوا، وما فضل يصرِّفونه إلى البحر الشرقي فلهذا سُمُّوا نبطًا. وحكى الخطيب عن الهيثم بن عدي، عن عبد الله بن عياش المنتوف قال: كان حدُّ ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 1/ 56 - 57. (¬2) "الصحاح": (نبط).

مُلْكِ النَّبَط الأنبار إلى عاناتِ كَسْكَر إلى ما والاها من كُور دجلة إلى جوخى (¬1) والسواد، وكان في أيدي النَّبَط سُرَّة الدنيا، وكانت الفرات ودجلة لا ينتفع بهما حتى يأتيان بلادهم فيفجرونهما في كل موضع ويسوقونهما إلى البحر، وحفروا الصَّراة العظمى ونهر سُورا. وقيل: إنما حفر الصَّراة ملوك فارس، ثم وليت الفرس فحفروا الأنهار، مثل نهر المَلِك، والخالِص، ودَيَالِي، وفمِ الصِّلح، والنيل. وقيل: إنما حفر نهر المَلِك أقفورشة آخر ملوك النَّبَط، وملَكَ مئتي سنة (¬2). وقيل: إنما حفره سليمان - عليه السلام -. وقيل: إنما حفر فمَ الصِّلح خالد بن عبد الله القَسْري، وفم الصِّلْحِ أقطعه المأمون الحسنَ بن سهل. وأما النيل الذي بأرض العراق، فيقال: إن الحجاج حفره، وهو قريب من واسط. واختلفوا في الذي حفر نهر عيسى الذي يأخذ من الفرات ويصب ببغداد، وعليه المُحَوَّل وغيرها، على أقوال: أحدها سليمان - عليه السلام -، والثاني: أقفورشة آخر ملوك النَّبَط، والثالث: ملوك الفرس، وقيل. عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس، وليس كما قيل، وإنما بنى عليه قصرًا فأضيف إليه. فأما الصَّراة فقديمة آيضًا، وقال الجوهري: والصَّراة -بالفتح- نهر بالعراق وهي العظمى والصغرى، وصريَ الماء إذا طال مكثه وتغير (¬3). وأما دُجيل فاختلفوا فيه، قال الهيثم بن عدي: أمر سليمان الشياطين فحفرته وألقت ترابه بين قصر شيرين وخانِقِين، وقيل: إن بعض ملوك الفرس حفره. * * * ¬

_ (¬1) في (ب): "خوصا". (¬2) "تاريخ بغداد" 1/ 57. (¬3) "الصحاح": (صري).

فصل في ذكر ما في الدنيا من العجائب وما أودع فيها من الغرائب

فصل في ذكر ما في الدنيا من العجائب وما أودع فيها من الغرائب (¬1) فصل في عجائب المشرق ذكر العلماء بأخبار العالم أن بالهند عجائب: منها: هيكل عظيم من أعظم الهياكل، يقال له: بلاذري، مستدير الشكل، له سبعة أبواب وفيه قبة شاهقة في الهواء على سبعة أعمدة، وفي رأسها جوهرة بمقدار رأس الفحل، تضيء منها جميع أقطار ذلك الهيكل، وأن جماعة من الملوك حاولوا أخذ تلك الجوهرة فهلكوا، وكلُّ مَن دنا منها خرَّ ميتًا. وفي القبة صنم من ذهب وزنه مئة ألف مثقال تزعم الهند أنه نزل من السماء، يقصدونه من الآفاق، وكلُّ مَن تَعرَّضَ لهذا الهيكل مات. وأساسه من حجارة المغناطيس، وبني على سير الكواكب السبعة بالحركات السماوية. وفيه بئر عليها طوقٌ من الحديد الصيني، مكتوب عليه بالقلم المسند: "هذه البئر فيها علوم السماوات والأرض وما مضى وما يأتي، وفيها خزائن لا يصل إليها من العالم إلا من وازت قدرته قدرتنا واتصل علمه بعلمنا وساوت حكمته حكمتنا"، وكل من نظر في البئر وقع على أُمِّ رأسه ميتًا، وكلُّ من نظر إلى هذا الهيكل خاف وارتعد وضعف قلبه في أول وهلة، وعلى هذا الهيكل أوقاف كثيرة منها مدينةٌ برسداقها، وحول هذا الهيكل ألف مقصورةٍ فيها جواري لمن يقدم زائرًا لهذا الهيكل يتمتع بهن. ومنها: غدير عظيم في مملكة المهراج، عليه قصرٌ شاهقٌ في الهواء، ويتصل بخليج إلى البحر من خلجان الزَّابج، والغدير مملوءٌ لَبِنًا من ذهب، وكلُّ ملكٍ يلي أمر المهراج يضرب كل يوم لبنًا ويلقيه فيه، وهذا الخليج يمد ويجزر كلَّ يوم، فإذا جزر ظهر اللَّبِنُ يقابله شعاعُ الشمس يلمعُ الغدير لمعانًا تبرق منه الأبصار، فإذا مات الملك وقام بعده آخر جمع ما في الغدير من اللَّبِن وفرَّقه في أهل المملكة، في الخواص أولًا ثم في العوام، فإن فضل شيء فرَّقه في المساكين، ثم يكتب عددَ اللبن ووزنه في اللوح، وأن ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 209.

فلانًا عاش في الملك كذا وكذا سنة، وخلف في غدير الذهب كذا وكذا لبنة. وكانوا يتوارثون ذلك ويفتخرون بمن تطولُ أيامه ويكثر لبنه. ومنها: أَطَمة (¬1) بساحل الهند بين مملكة شروان والمهراج، يخرج منها نفط أبيض وليس في العالم نفط أبيض لممواه، وعندها نار لا تخمد ليلًا ولا نهارًا، وليس في آطام الأرضِ أعظم منها، وتضيء في الليل منها نارٌ تُرى في البحر الشرقي من مئة فرسخ، وتقذف بجمرٍ كالجبال وقطعٍ من الصخور في الهواء، ثم تنعكس سفلًا فتهوي في قعرها وهي سود وحمر لما نالها من الحوارة. وقال الجوهري: والأُطُم (¬2) مثل الأُجُم -جمع أَجَمة. ومنها: بطة من نحاس على عمود من نحاس بين الهند والصين في أرضٍ يقال لها: كثار. حكى جدي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إذا كان يوم عاشوراء مدَّت عنقها إلى نهر تحتها فتشرب منه ثم تعود إلى مكانها وتفتح منقارها فيفيض منه من الماء ما يكفي ساكني تلك البلاد وزروعهم ومواشيهم إلى مثل عاشوراء مثل ذلك اليوم في السنة القابلة (¬3). ومنها: قنطرة بين السوس وجندي سابور، ذكرها في "المسالك" وقال: هي على وادي منه أنهار جندي سابور والسوس، وطول القنطرة أربع مئة ذراع بناها سابور، وأساسها في الأرض ثلاثون ذراعًا، وارتفاعها في الهواء مئة ذراع، وبين صخورها الرصاص مصبوب، وفيها نيف وعشرون طاقًا، كلّ طاقٍ عشرة أذرع، يخرج من تحت القنطرة نيف وثلاثون نهرًا تسقي رستاق السوس وجندي سابور ولا ينقص الماء (¬4). ومنها: ما ذكره ابن حوقل في "صفة الدنيا" فإنه قال: الخزر اسم إقليم، وقصبته تسمى: إتل، وإتل أيضًا اسم النهر الذي يجري إليها من الروس وبلغار ويصبّ في بحر الخزر، وقد ذكرناه، واسم ملكهم أيضًا إتل، وقصره مبني بالجصّ والآجر، ولا يسمح ¬

_ (¬1) الأطمة مثل الأجمة: الحصن. "تاج العروس" (أطم). (¬2) في (ب) و (ل): والأطمة، والمثبت من (ط) و"الصحاح": (أطم). (¬3) "المنتظم" 1/ 164 - 165، و"التبصرة" 2/ 189. (¬4) "المسالك والممالك" ص 43.

فصل في عجائب العراق

لأحدٍ من رعيته في البناء بهما، وهو يهودي وعسكره اثنا عشر ألفًا كلهم يهود، وحاشيته أربعة آلاف، وفي بلاده مسلمون ويهود ونصارى ومجوس وعبدة الأوثان، وللملك سبعة من الحكام من هذه الأصناف التي ذكرنا يقضون بين الناس ولا يصل أحدٌ إلى الملك إلّا في النادر. وذكر ابن حوقل حكايةً طويلة اختصرتها، حاصلها: أن رجلًا وُلدَ له ولد، وكان له غلامٌ يتّجر بماله، فمات الرجل وتنازع الولد والغلام في المال، فالولد يقول: هو مال أبي، والغلام يقولُ: بل المال لي والرجلُ أبي، وأقاما يتحاكمان عند الحكام سنة، وأقام كلُّ واحدٍ منهما البينة، ومن عادتهم إذا امتدت الحكومةُ سنةً ولم تنفصل حالٌ تولَّى الملكُ الأمر بنفسه، فأحضرهما الملك وأعيدت عليه الدعاوى، فلم يجدْ ما يقتضي الترجيحَ بين البيِّنتين فأفكر ساعة وقال للابن: أتعرف قبر أبيك؟ فقال: كنت غائبًا لما مات، ولما قدمتُ قالوا: هذا قبر أبيك، فقال للغلام المدَّعي البنوَّة: أتعرف قبر أبيك؟ قال نعم: أنا توليتُ دفنه، فقال عليَّ برِمَّةٍ منه -رمة بكسر الراء: عظم بالٍ- فأحضرَت، فقال: افصدوا الغلامَ على هذه الرمة ففصدوه فكان الدم يحيد عنها يمينًا وشمالًا لا يعلَق بها منه شيء، ثم قال: افصدوا الابنَ عليها، ففصدوه فعلق الدم بالرَّمة وشربته جميعه، فسلَّم المال إلى الابن وأَدَّبَ الغلامَ ونكَّلَ به (¬1). فصل في عجائب العراق حكى جدي رحمه الله عن حميد الدَّهْقان، دهقان (¬2) الفلوجة السفلى، قال: كان ببابل سبع مدائن، في كل مدينة أعجوبة ليست في الأخرى. فكان في المدينة الأولى هيئة مثال الأرض كلها وفيها صورة أنهارها، فإذا التوى بعضُ أهل المملكة خرق أنهارها فغرق أهلها فلا يستطيعون سدَّها حتى يطيعونه وينقادون إليه. ¬

_ (¬1) "صورة الأرض" ص 330 - 332. (¬2) الدهقان: -بالكسر والضم- رئيس الإقليم، ومقدم قرية وصاحبها في خراسان والعراق. "تاج العروس" (دهقن).

فصل في عجائب الموصل

وكان في المدينة الثانية حوضٌ من رخام، فإذا أراد الملك أن يجمعهم لطعامه يأتي منهم من أراد بما يحب من الأشربة فيصبونه في الحوض فيختلط الجميع، ثم يقوم السقاة فيصبونه في الأواني، فمن صُبَّ في إنائه شراب كان شرابه الذي أتى به. وكان في المدينة الثالثة طبل إذا غاب أحدٌ من أهلها غيبةً منقطعة وأرادوا أن يعلموا أحيٌّ هو أو ميت ضربوا الطبلَ، فإن صَوَّتَ فهو حيّ، وإن لم يصوِّت فهو ميت. وكان في المدينة الرابعة مرآة من حديد إذا غاب رجل وأراد أهله أن يعلموا الحالة التي هو عليها نظروا في المرآة فأبصروه على ما هو عليه. وكان في المدينة الخامسة إوزَّة من نحاس على بابها، فإذا دخل المدينةَ غريبٌ صَوَّتَتْ صوتًا يسمعه أهل البلد فيعلمون أن قد دخلها غريب. وكان في المدينة السادسة قاضيان جالسان على الماء، فإذا تقدم إليهما خصمان يمشي المحقُّ على الماء ويغوص المبطل. المدينة السابعة كان فيها شجرة عظيمة، فإن جلس تحتها ألفُ رجلٍ أظلتهم، وإن زادوا واحدًا جلسوا كلّهم في الشمس (¬1). ومن عجائب العراق إيوان كسرى، وسنذكره في سير الأكاسرة. فصل في عجائب المَوصل في أرض الموصل جبل قريب منها من ناحية المشرق عليه ديرٌ يقال له: دير الخَنافس، للنصارى فيه عيد في ليلة من السنة، حكى لي جماعة من أهل الموصل قالوا: تصعد إليه جميع الخنافس التي في الدنيا، ويبيت فيه ألوفٌ من الناس يمشون عليها طول الليل (¬2)، وكذا الدواب، فإذا طلع الصباح لم يوجد للخنافس أثر، وبأرض الغرب مثله. ¬

_ (¬1) "المنتظم" 1/ 167. (¬2) في (ب): "الليل كله".

فصل في عجائب اليمن

فصل في عجائب اليمن ذكر النُّوبختي قال: ما بين الشِّحْر وحَضْرَموت رجلٌ من نحاس على عمود من نحاس مادًّا يده إلى وراء كأنه يشير إلى أنه ليس وراءه مسلك. وهي أرض رجراجة لا تستقيم عليها الأقدام، يقال: إن ذا القرنين وصل إليها فخرج عليهم نملٌ كالبَخاتيِّ فكانت النملةُ تصرع الفارسَ، فرجع، وقد حكاه جدي عن عبد الله بن عمرو بن العاص (¬1). ومنها: وادي بَرَهُوت بحضرموت، وفيه جُبُّ فيه أرواحُ الفجَّار، وفي هذا الوادي أَطَمَةٌ تقذفُ بالجمر، كالتي في الهند. وحكى جدي رحمه الله تعالى في مجالس وعظه، وقد سمعته، وذكرها في بعض مصنفاته وقال: قدم بغدادَ رجلٌ من خراسان حاجا وكان معه مالٌ، فأودع بعضَه عند بعض الزهاد ومضى إلى الحج، فلما عاد وجد الزاهدَ قد مات، فسأل أهلَهُ هل أوصى بمالٍ؟ قالوا: لا، فاهتمَّ فسال بعض العلماء عن الطريق إلى كشف الحال، فقال له: ما ثمَّ إلا أنْ ترجعَ إلى مكة وتقفَ على زمزم وتنادي باسمه يافلان، فإن أجابك، وإلا فاذهب إلى بَرَهوت، فيه بئر فيها أرواحُ الفحَّار، وفي زمزم أرواح المؤمنين. فرجع الرجل إلى مكة ووقف على زمزم ونادى يا فلان، فلم يجبه، فخرج إلى اليمن ووقف على وادي بَرَهوت وناداه، وإذا هو جُبٌّ عميق مظلم يطلع منه الدخان واللهب، فأجابه وقال: لبيك. فقال: وأين مالي؟ قال: تحت الدرجة الفلانية، اذهب إلى أولادي وعرِّفْهُمْ فهم يعطونك إياه، فقال: ألستَ الزاهدَ العابدَ، فما الذي أوقعك ها هنا؟ فقال: كانت أعمالي لغير الله تعالى. وعاد الرجل إلى بغداد، وعرَّف أهله، فحفروا المكان وأعطوه إياه. فصل في عجائب الشام ومصر والمغرب حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: من عجائب الدنيا حمَّام طبرية ¬

_ (¬1) حكاه ابن الجوزي في "التبصرة" 2/ 189، وانظر "المنتظم" 1/ 164.

ومنارة الإسكندرية. وقال آخر: نهر الذهب وجبُّ الكلب وقلعة حلب، فأما جب الكلب فيقال: إنه في الروم، وماؤه يبرئ من الكَلَب، وأما نهر الذهب فيقال: هو نهر بُزاعة فإنه يسقي البساتين والأراضي وما يفضل منه يصير في البرية ملحًا. ومنها: بمصر بئر البلسم التي تسقي شعجر دهن البَلَسان. ومنها: الهَرَمان، وسُمْكُ كلِّ واحد منهما خمس مئة ذراع في ارتفاع مثلها، وكلما ارتفع البناء، دقَّ رأسها حتى يصيرَ مثل مفرش حصير، وهما من المرمر، وعليهما جميع الأقلام اليونانية والعبرانية والسُّريانية والمسندية والحميرية والرومية والفارسية. وحكى بعض علماء مصر قال: إنهم حلوا بعض الأقلام فوجدوه: "إني بنيتها بملكي، فمن ادَّعى قوةً فليهدمها، فإن الهدْم أيسرُ من البناء". وحكى جدي عن ابن المنادي في "المنتظم" أنه قال: فحسبوا خراجَ الدنيا مرارًا فلم يفِ بهدمها (¬1). قلت: وقد وهم ابن المنادي، فإن صلاح الدين رحمه الله أمر أن تؤخذ منها حجارةٌ يبنوا بها قنطرة، فهموا منها شيئًا كثيرًا فبنوا جسرًا قريبًا منها يُمْشَى عليه في زمان زيادة النيل إلى الإسكندرية، وهو جسرٌ عظيم تولَّى عمارته قَرافوش الخادم. وإنما في هدمها كلفةٌ لكونِ الحجارةِ ذَكَرًا في أنثى، وقد شاهدتُ الهرمين مرارًا، وأحدهما مسدودٌ والآخرُ فيه بابٌ تدخلُ الناسُ فيه، وحكى لي مَن دخله أنه وجد فيه قبرًا وأن فيه مهالك، وربما خرج منه الإنسان في سراديب إلى الفيوم، والظاهر أنها قبور الملوك الأوائلِ وعليها أساميهم وأسرارُ الفلك والسحرِ وغير ذلك. واختلفوا في مَن بنى الأهرام، قال بعضهم: يوسف الصدِّيق، وقال آخرون: بناها نمرود، وقيل: دلوكة الملكة، وقال قوم: إنما بناها القبط قبل الطوفان، وكانوا يرون أنه كائن، فبنوها ونقلوا ذخائرهم إليها، وجاء الطوفان فما أغنى ذلك عنهم شيئًا، وقيل: إنه لا يُعْرَفُ من بناها، وهو الظاهر. ¬

_ (¬1) "المنتظم" 1/ 166.

وحكى بعض شيوخ مصر: أنَّ بعضَ من يعرفُ لسانَ اليونان حلَّ بعضَ الأقلامِ التي عليها ونقلها إلى العربية فإذا هي: "بناء هذان الهرمان، والنسرُ الواقع في السرطان" قال: ومن ذلك الوقت إلى زمان نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ستة وثلاثون ألف سنة، وقيل: اثنان وسبعون ألفًا. وقيل: إن القلم الذي عليهما تاريخه قبل بناء مصر بأربعة آلاف سنة، ولا يعرفه أحد. وحكي لي أنه قِيسَ عرضُ الهرمِ الشرقي فكان خمس مئة ذراع، وسطحه تسعة أذرع، وطوله في الهواء ستة وخمسون ذراعًا، وهو مئة وثمانون صفًّا، كلُّ حجرٍ عرضه ثلاثة أذرع، وعرض الهرم الغربي أربع مئة وستون ذراعًا، وبالقرب منهما صخرةٌ عظيمة قد صوروا منها رأس آدمي سموه: أبا الهول، وحولها أهرام صغار. ويقال: إن ملك اليونان واسمه: سوريد بن سهلوف رأى في منامه كأنَّ الأرض انقلبت والكواكبَ تتساقط، ولها أصوات منكَرة، فهاله ذلك، فجمع حكماءه وأخبرهم، فقال واحدٌ: لا بدَّ من هولين عظيمين يحزن منهما العالم، أحدهما ناري والثاني مائي، فأمر ببناء الأهرام ونقل إليها علومهم وكنوزهم، وجعل عمقها في الأرض كارتفاعها في الهواء، فإن كانت الآفةُ مائيةً صعدوا إلى أعلاها، وإن كانت ناريةً نزلوا إلى أسفلها إلى السراديب. وصوَّر فيها الكواكبَ والبحورات والروحانيات والأقلامَ وصُوَرَ العقاقير وغيرها. وكان كلَّما مات حكيم جعلوا كتبه عند رأسه، وكانوا يقولون بالرجعة. وجعلوا بابَ الهرمِ الشرقيِّ من ناحية الجنوب في الأرض بأزج معقودٍ طوله مئة وخمسون ذراعًا، وبابَ الغربيِّ من الشمال كذلك. وقيل: ابتداء بنائها والنسرُ الطائرُ في الحَمَل. ولما تمَّ بناؤها ذبحوا لها الذبائحَ وكسوها الديباج، وكتبوا على ظاهرها: "نحن بنيناها في ست سنين فاهدموها في ستين سنة". ووجدوا فيها دنانير وزن كل دينار أوقية (¬1). ¬

_ (¬1) في (ب): "دنانير وزن أوقية".

وقيل: إن روحانيّ الهرم الشرقي في صورة امرأة عريانة لها ذوائب، فإذا أرادت أن تستهوي أحدًا ضحكتْ ودعته إلى نفسها، فيدنو منها فيهيم على وجهه فيهلك، وقد رآها جماعة تدور حول الهوم وقت القائلة. قالوا: وروحانيّ الهرمِ الغربيِّ غلام أمرد عريان أصفر اللون، وقد رؤي وقت المغوب وهو يدور حول الهرم. وهناك هرم مُلَوَّن وروحانيّه شيخٌ نوبي عليه بُوْطُل (¬1) وبيده مبخرة، وقد رُؤي ليلًا حول الهرم. ولما ملك ابن طولون (¬2) مصرَ حفر على أبواب الأهرام فلم تعرف، فوجدوا في الحفر قطعةَ مرجان مكتوب عليها سطور باليوناني، فأحضر من يعرف ذلك القلم، وإذا هي أبيات شعر فترجمت فكان فيها: أنا بانيُ الأهرامِ في مصرَ كلها ... ومالكها قدمًا بها والمقدَّمُ تركتُ بها آثارَ علمي وحكمتي ... على الدهرِ لا تبلى ولا تتثلَّمُ وفيها كنوزٌ جمَّة وعجائبٌ ... وللدّهرِ لينٌ مرةً وتهجُّمُ وفيها علُومي كلُّها غيرَ أنني ... أرى قبلَ هذا أَن أموتَ فتعلمُ سَتُفْتَحُ أقفالي وتبدو عجائبي ... وفي ليلةٍ في آخرِ الدهرِ تنجم ثمانٍ وتسعٌ واثنتانِ وأربعٌ ... وتسعون من بعد المئين تسلم ومن بعد هذا جزء تسعين برهة ... وتلقى البرابي تستحرّ وتهدم تدبَّرْ مقالي في صخورٍ قطعتها ... بسيفي وأَفْنَى قبلها ثم تُعْدَم فجمع ابن طولون الحكماءَ وأمرهم بحساب هذه المدة فلم يقدورا على تحقيق ذلك فيئس وزال الطمع. ومنها: المطالب، وهي كثيرة بمصر، إلا أنَّ الغالبَ عليها أنَّ لها طِلسماتٍ تمنعُ من الوصول إليها. وحكى الهيثم بن عدي وغيره، أنَّ رجلًا جاء إلى عبد العزيز بن مروان وهو على ¬

_ (¬1) البُرطل: القلنسوة. "القاموس المحيط": (برطل). (¬2) كان تملك أحمد بن طولون مصر سنة (254 هـ) كما سيذكر ذلك المصنف.

مصر من قبل أبيه مروان بن الحكم، فقال له: أيها الأمير إني قد وجدتُ كتابًا قديمًا يشير إلى بعض الأماكن، أنَّ فيه كنزًا فيه أموالٌ وجواهر لا تحصى، فخرج معه إلى ظاهر مصر على أميال، وجاء به إلى تلٍّ عظيم فقال: تحت هذا التلّ، فقال: ومن أين لك هذا؟ فقال: إذا كشفنا هذه التلَّ ظهر لنا بلاطٌ مختلفُ الألوان، ثم نحفر فيظهر لنا بابٌ من الصُّفْرِ ففيه المطلب، فأزالوا بعضَ التل فظهر البلاط والباب، فأزالوا عنه التراب وإذا عليه أقفالٌ عجيبةٌ، فعالجوها حتى فتحوها، فإذا بدرجٍ يأخذ إلى بهوٍ عظيم فيه قناطر ومجالس عليها أبواب الذهب مرصعة بالجواهر، وفيها من الأموال والياقوت والجوهر ما لا يحصى، وإذا بالدَّرج من نحاس مشبك، وفي أول درجةٍ عمودٌ من ذهب، وفي أعلاه ديك عيناه ياقوتتان تساويان خراجَ الدنيا، وجناحاه من زمرد، فضرب بعضهم رأس الديك فلمع شيء كالبرق الخاطف، وهو ما في عيني الديك من الياقوت فبانت الدرج بأسرها والبهو، فبادر واحدٌ فوضع قدمه على أول درجة، فلما استقرتْ قدماه عليها ظهر سيفان عظيمان عاديان من عن يمين الدرجة وشمالها، فالتقيا على الرجل فقدَّاه نصفين، فأهوى جسمه على الدرج، فلما استقرَّ على بعضها اهتزَّ العمود وصَفَر الديك صفرةً عظيمةً أسمعت من كان بعيدًا، وحَرَّكَ جناحيه، وظهرتْ أصواتٌ مزعجة قد عملت على الكواكب بالحركات ينزعج لها السامع، وتقدم آخر فالتقت عليه السيفان فقدَّته نصفين، ثم آخر وآخر حتى قتلت ألف رجل، فقال عبد العزيز: حسبنا، هذا أمرٌ لا يُدْرَكُ ولا يوصلُ إليه، ثم أمر بردِّ الترابِ على الموتى فكانت الحفيرةُ قبورهم. ومنها: جبل الطير بصعيد مصر، فيه شقٌّ، فإذا كان يومٌ مُعيَّن من السنة جمع عنده زرازير الدنيا، فيأتي كلُّ زَرزور فيدخل منقاره في الشقِّ ثم يخرجه ويطير، ويأتي آخر فيفعل كذلك، طولَ النهار يأتي زَرزور ويذهب زَرزور إلى وقت الغروب، فيأتي آخر الزرازير فيدخل منقاره في الشقِّ فينضمُّ عليه ويبقى معلَّقًا طول العام إلى ذلك اليوم، فينفتح الشقّ ويسقط ذلك الزرزور ويأتي غيره. ومنها: عمود السواري بالإسكندرية، وليس في الدنيا مثله، وقد شاهدته، ويقال: إن أخاه بأسوان.

ومن عجائب المغرب: نار في جزيرة صقلية تشتعلُ فيها حجارةٌ ولا تمكن أحدًا من الوقود منها، قالوا: وليس بصقلية نملة. ومنها حجارة بالقيروان تقذفها النيران بالليل، وفي النهار دخان، وهي في جبل يقال له: البركان. ومنها: بيتان بالأندلس يعرفان بالملوك، فلما فتحت الأندلس في زمان الوليد بن عبد الملك بن مروان وجدوا هذين البيتين، ففتحوا أحدهما فإذا فيه أربعة وعشرون تاجًا، على كل تاج اسم صاحبه مكتوبٌ عليه ومبلغُ سنِّهِ، وما ملك من السنين، ووجدوا فيه مائدة سليمان - عليه السلام - وهي من الذهب، وقيل من الياقوت، وعليه أطواق الجوهر الثمين، فحملت إلى الوليد، ووجدوا على باب البيت الآخر أربعة وعشرين قفلًا، كان كلَّما ملكَ واحدٌ منهم تلك البلاد زاد قفلًا، ولا يعلمون ما في البيت، فقال لهم بعض الرهبان: إنّ آخر ملوك الأندلس يُفْتَحُ على يديه، قالوا: لا بد من فتحه، فنهاه الحكماء فخالفهم وفتحه، فإذا رجال من العرب قد صُوّروا على خيولهم، وعليهم العمائم والأسلحة، فدخلت العربُ جزيرةَ الأندلس في السنة التي فتح فيها الباب. ومنها: ما حكاه جدي عن عبد الله بن عمرو بن العاص في "كتاب التبصرة" قال: ومن العجائب سوداني من نحاس على قضيب من نحاس على الباب الشرقي برومية، فإذا كان أوانُ الزيتون صفَّر ذلك السوداني فلا تبقى سودانية تطير إلا جاءت بثلاث زيتونات: زيتونةً في منقارها وزيتونتان في رجليها، فألقته على ذلك السوداني، فيحمله أهلُ رومية فيعصرون منه ما يكفيهم لِسُرُجِهِمْ وإدامهم إلى العام المقبل (¬1). * * * ¬

_ * * * (¬1) "التبصرة" 2/ 188 - 189.

فصل في الطبائع

فصل في الطبائع قال علماء الأوائل: العالم وما فيه أربعة أجزاء: فالربع الأول: المشرق، وجميع ما فيه حارّ رطبٌ، وله الهواء والدم، وله ريح الجنوب، وزمانه ربيعٌ، ويختصُّ من الكواكب بالقمرِ والزهرة، وله من البروج الحمل والثور والجوزاء. والربع الثاني: المغرب، وجميع ما فيه رطب، وله الماء والبلغم، وله من الريح الدَّبور، وله الشتاء، ومن الكواكب عطارد والمشتري، ومن البروج الجدي والدلو والحوت. والربع الثالث: اليمن، وجميع ما فيه حارٌّ يابس، وريحه الصَّبا، وله المِرَّة الصفراء والصيف، ومن الكواكب الشمس، ومن البروج الأسد والسرطان والسنبلة. والربع الرابع: شمالي (¬1) له ريح الشمال، وله الخريف، ومن الكواكب زحل والمِريخ، ومن البروج الميزان والعقرب والقوس. قلت: وهذا تقسيمُ بعضِ الأوائل، والأصحُّ أنَّ الشمس تختصُّ بالمشرق، وكذا المريخ يختص بالترك، وأن العقرب يختص بأرض الحجاز. قالوا: والطبائع أربع: فالأولى: طبيعة النار، وهي حارة يابسة، والثانية: طبيعة الهواء، وهي حارة رطبة، والثالثة: طبيعة الماء، وهي باردة رطبة، والرابعة: طبيعة الأرض، وهي باردة يابسة، فاثنتان منها يذهبان الصعداء وهما النار والهواء، واثنتان يرسبان سفلًا وهما الأرض والماء. * * * ¬

_ (¬1) جاء بعدها في "كنز الدرر" 1/ 229: "وجميع ما فيه يابس، وله التراب وله المرة السوداء".

فصل في ذكر سكانها وما ورد في قطانها

فصل في ذكر سكانها وما ورد في قطانها (¬1) روى مجاهد عن ابن عباس قال: كان في الأرض أمم قبل آدم أيضًا (¬2). وقال الجوهري: الحنُّ حيٌّ من الجن، قال: ويقال الحنّ خلق بين الإنس والجن (¬3). وروى مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أولُ من سكن الأرضَ أمةٌ يقال لهم: الحنّ والبن، ثم سكنها الجنّ، فأقاموا يعبدون الله تعالى زمانًا، فطال عليهم الأمد فأفسدوا، فأرسل الله إليهم نبيًّا منهم يقال له: يوسف، فلم يطيعوه وقاتلوه، فأرسل الله الملائكة فأجلتهم إلى البحار، وكان مدة إقامتهم في الأرض ألفَ عام (¬4). قلت: وقد ضعَّف العلماءُ رواياتِ مقاتل، فإن الله تعالى لم يبعث نبيًّا قبل آدم، وإنما قيل: بأنَّ يوسفَ كان ملكًا لهم فعصوه. حدثنا عبد القادر الرُّهاوي بإسناده عن وهب بن منبه عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ بالمَغْربِ أَرضًا بيضاءَ تَسيرُ الشَّمسُ فيها أربعِين سنةً، بها أمَّةٌ منَ النَّاس لم يَعْصوا الله طَرْفَةَ عَينٍ" قالوا: يا رسول الله، فأينَ الشيطانُ منهم؟ قال: "ما يَدرُون هل خُلِقَ الشَّيطانُ أم لا" قالوا: فمن بني آدم هم؟ قال: "ما يَدْرُون خُلِقَ آدمُ أم لا" (¬5). قلت: والأصحُّ أنه موقوف على ابن بريدة عن أبيه. * * * ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 230. (¬2) في "كنز الدرر": "كان في الأرض أمم قبل الحن والبن فانقرضوا، وقبل آدم أيضًا". (¬3) "الصحاح": (حنن). (¬4) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 58، عن ابن عباس، ولم يذكر فيه: الحن والبن، وانظر "المنتظم" 1/ 169. (¬5) وأخرجه -أيضًا- أبو الشيخ في "العظمة" (958) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

فصل في ذكر من ملكها، وقطع سبلها وسلكها

فصل في ذكر من ملكها، وقطع سبلها وسلكها حدثنا عبد العزيز بن محمود البزار بإسناده عن سعيد بن المسيب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ملك الأرضَ أربعةٌ: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان ذو القرنين وسليمان، والكافران نمرود وبختنصر، وسيملكها خامسٌ من أهل بيتي" (¬1). وقيل: إنه موقوف على ابن عباس، والمراد به العمران من الأرض، فإن الخراب مفاوز ومهالك وقفار وبحار. وقال أبو الحسين بن المنادي: ملك الأرض من الجنّ والإنس ثمانية: ثلاثة من الجن وخمسة من الإنس، فمن الجن طَهْمُورُث وكيَوْمَرث وأوشنج، ومن الإنس جمشاد من ولد قابيل، كان يقطع الدنيا في يوم كما تقطعها الشمس، ونمرود وبيوراسب، وهو الضحاك، والإسكندر وسليمان. قلت: وقد وهم ابنُ المنادي فإن كيَوْمَرث وطَهْمُورُث وأوشنج من ولد آدم، حتى إن طائفة تزعم أن كيَوْمَرث هو آدم. ولم يوافق ابن المنادي أحذ على أن هؤلاء الثلاثة من الجنّ. وأما ما ذكره عن جمشاد ففي غاية البعد، والعقولُ السليمةُ تأباه، ولا خلاف بين علماء السير أن الله طرد ولدَ قابيل إلى جبال الهند ولعنهم، ولم يكن في نسل قابيل ملكٌ ولا رئيس، وأنهم هلكوا في زمان الطوفان، لما نذكر، والاعتماد في هذا الباب على ما روينا عن ابن عباس. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم 2/ 589 موقوفًا على معاوية. ولم أقف عليه من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. وانظر المنتظم 1/ 171، وكنز الدرر 1/ 231.

فصل في ذكر من تحتها من السكان، وهل هو ريح أو جماد أو حيوان

فصل في ذكر من تحتها من السكان، وهل هو ريح أو جماد أو حيوان (¬1) روى السُّدي عن أشياخه: أنَّ لكلِّ أرض سكانًا، فسكان الأرض الثانية: الريح العقيم، وهي التي أهلكت قوم عاد، وسكان الثالثة: حجارةُ جهنَّم التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (24)} [البقرة: 24]، وفي الرابعة: كبريت جهنَّم، وفي الخامسة: حيَّات جهنم، وفي السادسة: عقاربها، كالبغال الدُّهم وأذنابها مثل الرماح، وسكان السابعة: إبليسُ وجنوده. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: في كلِّ أرض آدم كآدمكم (¬2). وهذا القول بعيد (¬3) لم يرد به خبر ولا أثر، وإنما هو آدم واحد، وهو أبو البشر، وقد أخذ على أبي العلاء المعري قوله (¬4): [الطويل] وما آدمٌ في مَذهَبِ العَقْل واحدٌ ... ولكنه عندَ القِياسِ أَوادِمُ ومذهبُ الأوائل أن الأرض على صفةٍ واحدة كالمُحَّة في البيضة، وإنما تختلف أجناسها، وليس تحتها سوى الماء. * * * ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 268. (¬2) أخرجه الحاكم 2/ 493، وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وقال البيهقي (كما في فتح الباري 9/ 476): إسناده صحيح، إلا أنه شاذ بمرة. (¬3) في (ب): "ضعيف". (¬4) البيت في "لزوم ما لا يلزم" 3/ 1388.

فصل في ذكر النار، التي أعدها الله للفجار

فصل في ذكر النار، التي أعدّها الله للفجار (¬1) قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: كنَّا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعنا وَجْبَة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا حَجَرٌ أُرسِل في جهنَّم سبعينَ خريفًا والآن انتهى إلى قَعْرِها". انفرد بإخراجه مسلم (¬2). الوَجْبَة: السقطة مع هَدَّةٍ. وهذا الحديث يدل على أنَّ النارَ في الأرض، وقد نص عليه ابن سلام، وقال: كذا هو في التوراة، فإن قيل: ففي حديثِ المعراج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآها تلك الليلة في السماء (¬3)، فالجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ورأيت الجنةَ والنار، ولم يقل: رأيتُ النار في السماء. وأنبأنا جدي بإسناده عن قتادة -وفي رواية ابن أبي الدنيا: عن شعبة- قال: أخبرني من رأى عبادةَ بن الصامت على حائط بيت المقدس الشرقيِّ يبكي ويقول: من ها هنا أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه رأى جهنَّم ليلةَ المعراج، قال: ولذلك سمي وادي جهنم (¬4). ويحتمل أن الله تعالى أراه إياها في تلك الليلة كما جلَّى له بيتَ المقدس، وذلك أبلغُ في إظهار القدرة، ولأنَّ النارَ حبس، والحبسُ يكون في جهة السفل، بخلافِ الجنة لأنها بستان، والبستان يكون في جهة العلوِّ. روى مجاهد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر: 44] قال: هي دركات بعضها فوق بعض، فأولها جهنم، ثم لظى، ثم الحُطَمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر"1/ 265. (¬2) أحمد في "مسنده" (8839)، ومسلم (2844). (¬3) الحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (23285) من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، وانظر تفصيل الكلام على مكان جهنم في كتاب "التخويف من النار" لابن رجب، باب في ذكر مكان جهنم ص 62 - 68، وانظر المنتظم 1/ 181. (¬4) "فضائل بيت المقدس"ص 120 - 121. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 14/ 35 من حديث ابن جريج.

قلت. قرأت على شيخنا أبي اليُمن زيد بن الحسن الكندي رحمه الله تعالى: قال قرأت على شيخنا أبي منصور بن الجواليقي قال: اشتقاق جهنم من قول العرب: ركيَّةٌ جِهنَّام -بكسر الجيم- إذا كانت بعيدةَ القعر (¬1). وكذا قال في "الصحاح": جهنم اسمٌ من أسماء النار التي يعذب الله تعالى بها عباده. وأما لظى، فقال الجوهري: هي اسم من أسماء النار، وأصلها من التلهب. وأما الحُطَمَة، فمن الحَطْم، وهو الكسر، لأنها تحطِمُ ما يُلْقَى فيها. وأما السعير، فمن التسعُّر، وهو التوقد. وأما سقر، فمن البعد، ومُصْمَقِرّ (¬2): شديد الحر. وأما الجحيم، فقال الجوهري: كلُّ نارٍ عظيمة في مهواة فهي جحيم، من قوله تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)} [الصافات: 97]، والجاحم: المكانُ الشديدُ الحرِّ. قال الجوهري: وأما الهاوية، فإنما يقال: هاوية بغير ألف ولام، قال الله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاويَةٌ (9)} [القارعة: 9] أي مستقرَّة في النار، قال: والنار تجمع الكل (¬3). وقد جاءت في ذكر النار أحاديث: قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نارُكُم هذه ما يُوقِدُ بَنو آدَمَ جُزءُ واحد من سبعينَ جُزءًا مِن حر جَهَنَم" قالوا: يا رسول الله، والله إنَّها لكافية، فقال: "إنَّها فُضِّلَتْ عليها بتسعةٍ وسِتينَ جُزءًا كُلُهنَّ مِثلُ حرِّها". أخرجاه في الصحيحين أيضًا بهذا الإسناد (¬4). ¬

_ (¬1) "المعرب" ص 155. (¬2) في (ل): ومصقر، وجاء في (ب) مكانها بياض، والمثبت من الصحاح (سقر). (¬3) "الصحاح": (جهنم، لظى، حطم، جحم، هوي). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (8126)، ومسلم (2843) من طريق عبد الرزاق، عن معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (3265)، ومسلم (2843)، وأحمد (7327) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، ولفظ أحمد: "إن ناركم هي جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد".

[وفي الصحيحين أيضًا] عن أبي هريرة قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشتَكَت النَّارُ إلى ربِّها فقالت: يا ربِّ، أكلَ بعضي بَعْضًا فَنَفِّسني، فأَذِنَ لها أن تَتَنفَّس نَفَسين: نَفَسًا في الشِّتاءِ ونَفَسًا في الصَّيفِ، فأشدُّ ما تَجدُون من الحرِّ فمن حرِّ جَهَنَّم، وأشدُّ ما تجدونَ من البَرْد فمن زَمْهَريرِها (¬1) ". في أخبار كثيرة. قال أحمد بن حنبل: حدثنا أبو اليمان بإسناده عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لجبريل: "مَا لي لم أَرَ مِيكَائيلَ ضَاحِكًا قطُّ، فقال: مُنذ خَلَق الله النَّارَ لم يَضْحكْ"، أخرجه أحمد في "المسند" (¬2). وقال أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذكر النار: "أهلُ النَارِ كل جَعْظَريٍّ جَوَّاظٍ مُستَكبِرٍ جَمَّاع مَنَّاع (¬3) ". الجَعْظَري: الفظُّ الغليظ، ذكره الجوهري، وقال: قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا كان قصيرًا غليظًا: جِعْظارة، بكسر الجيم (¬4). والجوَّاظ: الجَمُوع المَنُوع، وقال الجوهري: الجظ: الرجل الضخم، قال: وفي الحديث: "أهل النارِ كلّ جظٍّ مستكبر" قال: وكذا الجعظ (¬5). فصل ومذهب أهل الحقّ أن النار مخلوقة، وقالت المعتزلة والجهمية: لم تُخلق بعدُ، لأنها دارُ تعذيب وجزاء، وليس هذا وقته. ولنا قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] والمُعَدُّ ما يكونُ موجودًا، وما ذكره فنقول: جهنم حبسُ العصاةِ، فوجودها أبلغُ في الزجر من عدمها، وعلى هذا الخلاف الجنة، لما نذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3260)، ومسلم (617). وما بين معقوفين زيادة من "كنز الدرر" 1/ 267. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (13343). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (6580). (¬4) "الصحاح": (جعظر). (¬5) "الصحاح": (جظظ) و (جعظ).

فصل في خلق الجن والشياطين وأصلهم إبليس اللعين

فصل في خلق الجن والشياطين وأصلهم إبليس اللعين قال علماء اللغة: أصل الجن من الاستتار، ومنه: الجنين، لأنه مستتر في بطن أمه. وقال الجوهري: إنما سموا بذلك لأنهم لا يُرون (¬1). قال الجوهري (¬2) أيضًا: الشيطان كلُّ عاتٍ متجبر من الجنّ والإنس والدواب، ومَن بَعُدَ غَورُهُ في الشرِّ. واختلفوا في اشتقاقه على قولين، أحدهما: مِنْ شَطَنَ، أي: بَعُدَ عن الخير. والقول الثاني: أنه من شاط يشيط إذا احترق، ومنه شاطت القِدر. وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِق الجانُّ من مارجٍ من نار" (¬3). وقد فسَّره ابن عباس فقال: المارجُ هو لسانُ النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت (¬4). وقال الجوهري: المارجُ نارٌ لا دخانَ لها خُلِقَ منها الشيطان (¬5). واختلفت الرواية عن ابن عباس: هل الجانُّ إبليس أم غيره؟ فروى عنه عكرمة أنه قال: إبليس أصل الجانِّ والشياطين، وهو أبو لكلِّ. وروى مجاهد عنه أنه قال: الجانُّ اسمه سُومان، وهو أبو لجنّ كلّهم كما أن آدم أبو لبشر. وروى سعيد بن جبير عنه أنه قال: هذا الفن خمسة أنواع: جانٌّ، وجنٌّ وشيطان، وعفريت، ومارد، وأضعفها الجانُّ وهو مسيخ الجنِّ، كما أن القردة والخنازير مسيخ الإنس، وأقواها المارد (¬6). ¬

_ (¬1) "الصحاح": (جنن). (¬2) في (ل): وأما الشيطان فقال الجوهري. وانظر "الصحاح": (شطن). (¬3) أحمد في "مسنده" (25194). (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 27/ 126. (¬5) "الصحاح": (مرج). (¬6) جاء بعدها في (ب): "وأضعفها الجن".

وقال الحسن البصريّ: الشياطين أولاد إبليس، لا يموتون إلا معه، والجنّ يموتون قبله. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خلق الله الجانَّ قبل آدم بألفي سنة. وقد روي مرفوعًا والموقوف أصح. وحكى السدي عن أشياخه قالوا: في الجنِّ: المؤمن والكافرُ والقدريةُ والمعتزلة والجهمية والشيعة وجميع الفرق. وحكى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: هم على أصناف، على صور الحياتِ والعقارب والأُسد والذئاب والثعالب ونحوها. وقال الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة: الحيةَ والعقرب". ورواه أبو داود، وفيه: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلهما (¬1). قلت: وعامة العلماء على جواز قتل الحية والعقرب في الصلاة، وكرهه إبراهيم النخعي لأنه عمل كثير، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يُؤْذَنوا قبل قتلهم، فقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه بإسناده عن جرير بن عبد الله قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه إذا ظهروا في مكان أن يُؤذَنوا بالانصراف قبل قتلهم (¬2). يقال: خلِّ الطريق ومرَّ بإذن الله، يعني إذا تصور الجنُّ في صورة الحيّات والعقارب. وقال ابن أبي ليلى: الحية البيضاء التي تمشي مستويةً هي الجانُّ، فتلك التي تُنذر قبل قتلها، أما غيرها فلا تنذر بل تقتل. قال أبو جعفر الطحاوي: والمختار عند أصحابنا: قتل الجميع بغير إنذار، لحديث أبي هريرة الذي روينا، فإنه مطلق في حقِّ الكلّ، قال: لأنه بلغنا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد ليلةَ ¬

_ (¬1) الترمذي (390)، وأبو داود (921)، وهو عند أحمد في "مسنده" (7178). (¬2) حديث إيذان حيات البيوت قبل قتلهن ليس هو من حديث جرير بن عبد الله، ولم نقف عليه في "مسند أحمد"، والحديث مروي عن أبي سعيد الخدري عند مسلم (2236) مطولًا وفيه قصة، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان". وأخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (11369).

الجنّ وأكد عليهم العهودَ والمواثيقَ أنهم لا يدخلون بيوتَ أمَّته ولا يظهرون، فإن ظهروا قُتلوا، فإذا ظهروا فقد نقضوا العهدَ فيجب قتلهم. ولكن الأولى هو الإنذار عملًا بالروايات كلها، فإن لم يرجع قتله. وروى عروة أن عائشة - رضي الله عنه - قتلت حيّةً فأُتيتْ في منامها فقيل لها: أقتلتِ مسلمًا؟ فقالت: لو كان مسلمًا لما دخل بيوتَ أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل لها: هل كان يدخلُ عليكِ إلّا وعليكِ ثيابك؟ فأصبحتْ فزعة، فتصدقت باثني عشر ألفًا (¬1). وروى مجاهد عن ابن عباس: أن الكلابَ من ضعفاء الجن، وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكلب الأسود شيطان"، انفرد بإخراجه مسلم (¬2)، وفيه: الكلب الأسود البهيم. وبهذا الحديث يحتجُّ أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه: أنّ الكلبَ الأسود البهيم يقطعُ الصلاة، وهو قول أهل الظاهر. وروي عن أحمد أنه قال: الذي لا أشك فيه أن الكلب البهيم يقطعُ الصلاة، ويروى عن معاذ وطاووس ومجاهد، قال أحمد: وفي نفسي من المرأة والحمار شيء. وعند أهل الظاهر يقطع الصلاةَ مرورُ الكل. قلت: ومذهب أصحابنا ومالك والشافعي وعامة الفقهاء أنه لا يقطع الصلاةَ مرورُ شيء من ذلك، لقوله - عليه السلام -: "لا يقطعُ الصلاةَ مرورُ شيء" (¬3)، وحديث أبي ذرّ لا حجَّة فيه وقد بيَّنا هذا في "شرح البداية". وقال الحسن البصري: الجن ثلاثة أصناف: صنف في البرّ، وصنف في البحر، وصنف في الهواء. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: هم أربعون جيلًا، كلُّ جيل ست مئة ألف، وهم مأمورون ومنهيون. ¬

_ (¬1) أورده ابن عبد البر في "الاستذكار" 8/ 526، وأبو الشيخ في العظمة (1066). (¬2) أحمد "مسنده" (21323)، ومسلم (510). (¬3) أخرجه أبو داود (719) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.

واختلفوا هل بعث فيهم نبيٌّ أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه بعث إليهم نبي اسمه يوسف، لقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68] فعلى هذا هم يُحشرون ويحاسبون. والقول الثاني: أنه لم يبعثْ فيهم نبي وإنما كان فيهم النذر، بدليل قوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، قاله مجاهد. وقال الضحاك والكلبي: كانت الرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - يبعثون إلى الإنس والجنِّ جميعًا. * * *

فصل في ذكر إبليس وجنوده، وأولاده وحشوده

فصل في ذكر إبليس وجنوده، وأولاده وحشوده (¬1) اختلفوا في اشتقاقه، قال علماء التفسير: اشتقاقه من الإبلاس وهو الإياس، وإبليس قد يئس من رحمة الله، قال الجوهري: يقال أَبْلَس فلان إذا سكت غمًّا. واختلفوا في اسمه، فقال الجوهري: كان اسمه عزازيل (¬2). وهو قول ابن عباس، وروي عن ابن عباس أن اسمه: الحارث. واختلفوا في كنيته على قولين: أحدهما: أبو مرة، والثاني: أبو الغمر. واختلفوا هل كان من الملائكة أو من الجنِّ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان من الملائكة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنه كان من الشياطين، قاله الحسن البصري، قال: ولم يكن من الملائكة قط، واحتج بقوله تعالى: {إلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]. الثالث: أنه لا من الملائكة ولا من الجن، بل هو خلق مفردٌ خلقه الله تعالى من النارِ كما خلق آدمَ من الطين، قاله مقاتل (¬3). وقد رجَّحَ علماءُ التفسير قول ابنِ عباس أنه كان من الملائكة، واحتجّوا بقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34، الكهف: 50] وهذا استثناء متصلٌ، فدلَّ على أنه منهم. وأما قول الحسن: إنه كان من الجن، وما احتجَّ به من الآية فقد فسَّره ابن عباس وقال: أشرافُ الملائكةِ وأكرمهم يقال لهم: الجنُّ، لأنهم استتروا عن أعين الملائكة لشرفهم، وكان إبليس منهم، قال: وكان له سلطانُ السماءِ الدنيا وسلطانُ الأرض، وكان يسمَّى: طاووسَ الملائكةِ، وليس في سماء الدنيا مكانٌ إلا وقد سجد عليه، ولما عصتِ الجنُّ في الأرض بعثه الله في طائفةٍ من الملائكة فطردوهم إلى الجزائر وأطرافِ ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر"1/ 244. (¬2) "الصحاح": (بلس). (¬3) أخرجه أحمد في "الزهد" ص 96. وانظر "تلبيس إبليس" ص 27.

الجبال فاغترَّ في نفسه، وقال: مَنْ مِثلي. ولم يسجد لآدم، فمسخه الله تعالى شيطانًا. قلت: وظاهر الآيات يقتضي التعارض فينبغي التوقف، وقد قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] وإذا كان مخلوقًا في الأصل من النار، فكيف يُخْلَقُ من النور، لأن الملائكة خُلِقوا من النور لما نذكر. وذكر أبو جعفر الطبري (¬1): أن إبليس بُعِثَ حاكمًا في الأرضِ، فقضى بين الجنِّ ألفَ سنة، ثم عرَج إلى السماء فأقام يتعبّد حتى خُلِقَ آدم. وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين يعملون في الأرض بالفساد، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء. وقال قتادة: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] خرج عن طاعته، والفسقُ الخروج، من قولهم: فسقتِ الرُّطَبة إذا خرجتْ من قشرها. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده عن ثابت البناني قال: بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى - عليه السلام -، فرأى عليه معاليقَ من كل شيء، فقال له: ويحكَ ما هذه المعاليق؟ فقال: الشهواتُ التي أُصيبُ بها بني آدم، قال: فهل لي فيها من شيء؟ قال: ربما شبعتَ فتثقلُ عن الصلاة وتُغْلَبُ على الذكر، فقال يحيى: فللَّه عليَّ أن لا أملأَ بطني من طعام أبدًا. فقال إبليس: ولله عليَّ أن لا أنصحَ مسلمًا أبدًا (¬2). وبه، قال ابن عباس: قال: كان إبليس يأتي يحيى بن زكريا طمعًا أن يفتنه، وعرف ذلك يحيى منه، وكان يأتيه في صور شتَّى، فقال له: أحبُّ أن تأتيني في صورتك التي أنت عليها، فأتاه عليها فإذا هو مشوَّه الخلق كريهُ المنظر، جسدُهُ جسدُ خنزير، ووجههُ وجهُ قرد، وعيناه مشقوقتان طولًا، وأسنانُه كلُّها عظمٌ واحد، وليس له لحية، ويداه في منكبيه، وله يدان أخريان في جانبيه، وأصابعه حلقة (¬3) واحدة، وعليه لباس المجوسِ واليهود والنصارى، وفي وسطه مِنْطَقةٌ من جلودِ السباع فيها كيزان معلَّقة، وعليه جلاجل، وفي يده (¬4) جرسٌ عظيم، وعلى رأسه بيضةٌ من حديد معوجة كالخُطَّاف، ¬

_ (¬1) في تاريخه 1/ 88، وانظر 1/ 79 - 88، والمنتظم 1/ 176 - 179، وكنز الدرر 1/ 244 فما بعدها. (¬2) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 2/ 328 - 329، وانظر تلبيس إبليس 27. (¬3) في (ل) و (ب): يدان أخراواتان .... خلقه، والمثبت من (ط). (¬4) في (ب): "وسطه".

فقال يحيى: ويحك ما الذي شوَّه خلقتك؟ فقال: كنتُ طاووس الملائكة فعصيتُ الله فمسخني في أخسِّ صورة، وهي ما ترى، قال: فما هذه الكيزان؟ فقال: شهوات بني آدم، قال: فما هذا الجرس؟ قال: صوت المعازف والنوح، قال: فما هذه الخطاطيف؟ قال: أخطف (¬1) بها عقولهم، قال: فأين تسكن؟ قال: في صدورهم وأجري في عروقهم (¬2)، قال: فما الذي يعصمهم منك؟ قال: بغضُ الدنيا وحب الآخرة (¬3). وقال جدي رحمه الله بإسناده إلى عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءَ رجلٌ أقبحُ الناسِ وجهًا وثيابًا وأنتنهم ريحًا، حافيًا يتخطَّى رقابَ الناس، فجلس بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: مَنْ خلقك؟ قال: "اللهُ"، قال: فمن خلق السماء والأرض؟ قال: "اللهُ"، قال: فمن خلق الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا إبْليسُ جَاء يُشكككم في دينكم" (¬4)، قال جدّي: هذا حديث لا أصلَ له، وفي إسناده عبد الله بن جعفر، ضعيفٌ يتهم في الأحاديث. وروي عن أبي الحسين ابن المنادي قال: يجيء الشيطان الذي يقال له: القَرْقَفَنَّة (¬5) في صورة طائر، وفي رواية: يجيء الشيطان في صورة طائر يقال له: القَرْقَفَنَّة، فيخفق بجناحيه على عينِ الرجل الذي يقرّ أهله على الفاحشة فلا يُنكرها بعد ذلك. وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن جابرِ بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَضعُ إبليسُ عَرشَهُ على الماءِ، ثم يبعثُ سراياه، فأَدناهُم عنده مَنزلةً أعظَمُهم فِتنةً، يجيءُ أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعْتَ شيئًا، ويجيء أحدُهم فيقولُ: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينَه وبينَ أهلِه، فيُدْنيه منه ويلتزمُه ويقول: نعمْ، أنْتَ أنْتَ" انفرد بإخراجه مسلم (¬6). وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن ابن مسعود: إن الشيطان إذا طاف بأهل ¬

_ (¬1) في (ب): وأختطف. (¬2) في (ب): "عقولهم". (¬3) انظر "عمدة القاري" 15/ 168. (¬4) "العلل المتناهية" (1). (¬5) في (ل) و (ب): "القرقية"، والمثبت من "النهاية في غريب الحديث" 2/ 465 ومصادر اللغة. (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (14377)، ومسلم (2813) (67).

فصل في ذكر أولاده

مجلسِ ذِكرٍ ليفتِنَهم فلم يقدرْ على التفرقةِ بينهم، فأغرى بين مجلس آخر فاقتتلوا، فقام أهل الذكر فحجزوا بينهم حتى تفرقوا (¬1). وذكر عبد الله أيضًا عن قتادة قال: إن لإبليس شيطانًا يقال له: قبقب، يجمّه أربعين سنة، فإذا دخل الغلامُ في هذه الطرق قال له: دونك وإيّاه، فإنما أجممتك لمثل هذا، أَجْلبْ عليه وافتنه (¬2). وقال أحمد بإسناده عن أنس بن مالك: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أوّلُ من يُكْسَى حلةً من النَّار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويَسحبُها من خلفِه، وذريتُه من بَعدِه، وهو يُنادي يا ثُبُوراه، وينادون: يا ثُبُورَهم، حتى يقفُوا على النّارِ فيقول: يا ثبُورَه، ويقولون: يا ثبورَهم، فيقالُ لهم: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14} [الفرقان: 14] أخرجه أحمد في "المسند" (¬3)، والثبُور: الهلاك والخسران. وقال أحمد بإسناده عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشَّيطانَ قد يَئِسَ أنْ يَعْبُدَه المُصَلُّونَ، ولكنْ في التَّحريشِ بَينَهم" انفرد بإخراجه مسلم (¬4). ولمسلم، عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أَذَّنَ المؤذنُ هَرَبَ الشَّيطانُ حتى يكونَ بالرَّوْحاءِ" من المدينةِ ثلاثونَ ميلًا (¬5). فصل في ذكر أولاده قال الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: بلغنا أن لإبليسَ أولادًا كثيرين، واعتماده على خمسةٍ منهم: ثَبْر والأَعور ومِسْوَط وداسم وزَلَنْبُور. وقال مقاتل: لإبليس ألفُ ولدٍ، ينكح نفسه ويلدُ ويبيضُ كلَّ يوم ما أراد (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "الزهد" ص 196. (¬2) أخرجه ابن الجوزي في "ذم الهوى" ص 176 - 177، و "تلبيس إبليس" ص 27 من طريق عبد الله بن أحمد. (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" (12536). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (14366)، ومسلم (2812). (¬5) صحيح مسلم (388). (¬6) قال ابن الجوزي في المنتظم 1/ 179: وهذا من أبعد الأقوال.

وقال كعب الأحبار: ومِن أولاده المُذْهَب وخَنْزَب وهفاف ومُرَّة والولهان والمتقاضي. فأما ثَبْر: فصاحب المصائب، يأمر بلطم الخدود وشقِّ الجيوب ودعوى الجاهلية. وأما الأعوَر: فصاحب الزنا يُزينه إلى الذكور والإناث. وأما مِسْوَط: فصاحب الكذب والنميمة. وأما داسم: فيري الرجلَ عيوبَ أهله فيبغِّضهم إليه. وأما زَلَنْبُور: فيركز رايته في الأسواق ويأمرهم بالتطفيف والخيانة. وأما المُذْهَب: فموكل بالعلماء يردُّهم إلى البدع. وخَنْزَب: موكَّل بالمصلين يلقي عليهم النوم والسبات، وقد روي في خَنْزَب حديث فقال أحمد بإسناده إلى أبي العلاء بن الشخِّير، أن عثمان بن أبي العاصي الثقفي قال: يا رسولَ الله، حال الشَيطانُ بَيني وبينَ صَلاتي وبينَ قراءتي، قال: "ذاك الشَّيطانُ يقالُ له: خَنْزَب، فإذا أَحْسَسْته فتعوَّذْ بالله منه، واتفُلْ على يَساركَ ثلاثًا" قال: ففعلتُ ذلك فأذهبه الله عني. انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وهفاف: صاحب الخمرة. ومُرَّةُ: صاحب اللواط. والولهان: يوسوس في الوضوء، وقد ورد فيه حديث، قال الترمذي بإسناده عن أبيِّ بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ للوُضُوءِ شَيطانًا يَقال له: الوَلْهان، فهو وَسْواسُ الماءِ" إلا أن هذا الحديث فيه مقال، قال الترمذي: هذا الحديثُ ليس بالقويّ، لا نعلم أحدَّا أَسنده غير خارجة بن مصعب، وخارجةُ ليس بالقويّ عند أصحابنا (¬2). وذكره جدي رحمه الله في "الواهية (¬3) ". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (17897)، ومسلم (2203). (¬2) الترمذي (57)، وفيه: "فاتقوا وسواس الماء". (¬3) "العلل المتناهية" (567).

وأما المتقاضي: فإن الإنسانَ إذا عمل عملًا في السرِّ تقاضاه حتى يتحدث به في العلانية. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: أول دينار وجد في الأرض أخذه إبليس وقبَّله ووضعه على عينيه، وقال: أنت قرة عيني وثمرة فؤادي، لا أبالي بابن آدم، إذا أحبَّك هو عبدي حقًّا. وقد رواه عكرمة عن ابن عباس وقال فيه: فوضع الدينار في يده اليمنى والدرهمَ في اليسرى وقال: سمَّيتكما نَجيحًا ومُنْجِحًا. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده عن عبد العزيز بن رفيع قال: بلغني أنه إذا عُرِجَ بروح المؤمن إلى السماء تقول الملائكة: سبحان الله مَن نجَّى هذا العبدَ من الشيطان؟ أو: يا ويحه كيف نجا (¬1)؟ . حدثنا أبو اليمن الكندي بإسناده عن الحسن قال: جاء إبليس إلى حكيم فقال له: ويحك لِمَ تُضِلُّ الناس؟ فقال له: إلى ها هنا انتهتْ حكمتك؟ وهل أقدرُ على إضلال من خلقه الله سعيدًا؟ قال فبينما هو يحدثه إذ مرّت امرأة بيدها جرَّةُ عسل، فوقعت فانكسرت، فجلس الناسُ يلعقونَ العسلَ ويلعنون إبليس، فقال إبليس للحكيم: انظر إلى جهلهم يأكلون العسل ويلعنونني، فإن نسبوه إلى فعلي كفروا حيث جعلوا الحكم لي، وإن كان فعلَ الله فما ذنبي؟ وبه: قال الحسن: كان عابدٌ في بني إسرائيل جليل القدر في زمان عيسى عليه السلام، وكان مجتهدًا في العبادة، فاجتهد إبليس أن يفتنهُ فلم يقدر عليه، فجاءه في ليلة كثيرةِ المطر والثلج، فوقف تحت صومعته وناداهُ يا راهبُ، فقال: من أنت؟ فقال: عيسى بن مريم، افتحْ لي، ما ترى هذا البرد؟ ! فقال: لا حاجةَ لي بلقائك، إنك أمرتنا أن نعبدَ الله وحده ونبالغَ في العبادة وإن موعدنا يوم القيامة، فاذهبْ فلا تشغلني عن العبادة، ولم يفتح له. وسنذكر من أخبار إبليس طرفًا في قصة آدم - عليه السلام -، إن شاء الله تعالى. * * * ¬

_ (¬1) الزهد ص 210.

فصل في خلق السماوات والآثار العلويات

فصل في خلق السماوات والآثار العلويات (¬1) أظهر الله سبحانه في السماء دلائل على ربوبيته ووسائل إلى قدرته: منها: أنه جعلها سقفًا مرفوعًا لتكونَ ظلًّا. ومنها: أنها بغير عمد تحتها ولا علاقة فوقها. ومنها: سعتها والنفع بزيادة التصرف فيها وكونها زينةً للناظرين. ومنها: استواؤها {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَينِ} [الملك: 3، 4] بالنظر والاستدلال، وقيل: بالنزهة والاعتبار. ومنها: لونُها الذي لم يتغير على مرورِ الزمان وتقلُّبِ الحَدَثان، ثم هو أحسنُ الألوان، وأقوى للبصر، وأحدُّ للنظر، والأطباءُ إنما يأمرون بإدمان النظر إلى الخضرة ليقوى البصر. وقيل: هي بيضاء ولكنْ مِن بُعدِها تُرى خضراء. ومنها: إمساكها بيد القدرة {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41]. ومنها: أنها ظلٌّ لبني آدم لقوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)} [الطور: 5]. ومنها: أن الخلقَ يضعونَ الأساسَ أوَّلًا ثم السقفَ بعد ذلك، والله تعالى أفعاله خلاف أفعالِ العباد. ومنها: أن بناءَ أهلِ الدنيا تحته أوسعُ من الفوق، وبناءُ الله على ضدِّه. ومنها: أن بناءَ الخلقِ ينهدمُ على طول الأيام، وبناءُ الله تعالى لا ينهدم ولا يتغير ولا يسقط منه شيء. إذا عرفنا هذا قلنا: قال الجوهري: كل ما علاك فأَظلَّكَ فهو سماء، ومنه قيل: لسقف البيت سماء، ويقال للسحاب: سماء، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] ويسمَّى المطرُ: سماء، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 30.

إذا نزلَ السماءُ بأرضِ قوم ... رَعَيناهُ وإنْ كانُوا غِضَابا هذا كلام الجوهري (¬1). وقال الفراء والزجَّاج: لفظُ السماواتِ واحدٌ ومعناه الجمع، بدليل قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (¬2) [البقرة: 29]. وقال أبو حنيفة أحمد بن داود الدِّينوري في "كتاب الأنواء" في السماوات: قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَينَاهَا بِأَيدٍ} [الذاريات: 47] وقال في موضع آخر: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] قلت: وما ذكروه من معنى السموّ والارتفاع والمطر وغيره فإنما هو مجاز، أما الحقيقة، فيرادُ به السماءُ المعروفة. وقد ورد في السماء أخبارٌ وآثار: قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي ذرٍّ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي أرى ما لا تَرَوْن، وأَسمعُ ما لا تَسْمَعون: أَطَّتِ السماءُ وحُقَّ لها أنْ تَئِطَّ، ما فيها مَوضعُ أربعِ أصابعَ إلا وعليه مَلَكٌ ساجدٌ" (¬3). قال الجوهري: الأطيط: صوتُ الرَّحْلِ والإبل من ثِقَل أحمالها (¬4). وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أراد الله خَلْقَ المخلوقات خلق الماء فثار منه دخان، فارتفع فخَلَقَ منه السماء وجعلها سماءٌ واحدة، ثم فتقها فجعلها سبعًا {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] أي ما قَدَّرَ أنْ يكونَ فيها من الملائكة والنجوم وغير ذلك. وروى عنه عكرمة في تفسير قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيفَ بَنَينَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] قال: الفروج: الشقوق وكذا الفطور، قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (¬5): ¬

_ (¬1) "الصحاح": (سما)، والبيت لمعاوية بن مالك، وانظر "المفضليات" ص 359. (¬2) انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 107. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (21516). (¬4) "الصحاح": (أطط). (¬5) البيت في "الأغاني" 9/ 151.

فصل في أبوابها

شَقَقْتِ القلبَ ثم ذَرَرْتِ فيه ... هواكِ فَلِيمَ فالْتَام الفطورُ وقال الربيع بن أنس: السماءُ الأولى من مَوج مكفوف، والثانية من صخرة، والثالثة من حديد، والرابعةُ من صُفْر أو نحاس، والخامسةُ من ذهب، والسادسة من فضة، والسابعة من الياقوت الأحمر (¬1). وروى الوالبيُّ عن ابن عباس قال: الأولى من زمردة خضراء، والثانية من فضة، والثالثة من ذهب، والرابعة من لؤلؤ، والخامسة من الياقوت، والسادسة من المرجان، والسابعة من النور. قال: وأما سماءُ الدنيا فهي الرقيع، وقال أبو حنيفة الدِّينَوري: الرقيعُ اسمُ علمِ للسماء، وفي الحديث: "من سبعة أرقعة" (¬2). وقال مقاتل: والثانية ركماء، والثالثة جوفاء، والرابعة طرفة، والخامسة أدماء، والسادسة عروبين، والسابعة عروبًا. فصل في أبوابها روي عن ابن عباس أنه قال: لها أبوابٌ كثيرة منها بابُ المطر، ومن قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11]، وباب الرزق {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} [فاطر: 2]، وباب النزول {تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت: 30] وباب الوحي {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2]، وباب صعود الأعمال {إِلَيهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. وحكى جدّي في "كتاب التبصرة" وقال: قال أبو الحسين بن المنادي: لا خلاف بين العلماء أن السماءَ على الأرض مثل القبة، وأن العالمَ مثل الكرة، وأنها تدور بما فيه من الكواكب على قطبين ثابتين غير متحركين، أحدهما في ناحية الشمال، والآخر في ناحية الجنوب مطلعَ سهيل، وأن كرةَ الأرضِ مثبتةٌ وسط كرة السماء كالنقطة من ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 1/ 183، و"التبصرة" 2/ 173. (¬2) هو قطعة من حديث حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام 2/ 240 من حديث علقمة بن وقاص الليثي، وأصّل القصة عند البخاري (4121)، ومسلم (1868)، وانظر "مسند" أحمد (11168) من حديث أبي سعيد الخدري. وسيذكر المصنف الخبر في السنة الخامسة للهجرة.

الدائرة، إلى ها هنا ذكر جدي (¬1). ورأيت في كتاب ابن المنادي تمامَ هذا الفصل قال: والأرضُ على نَمَطٍ واحدٍ من جميع الجهات، والأفلاكُ تدورُ على محورين وقطبين ثابتين، ومَن كان مسكنه وسط الأرض عند استواء ساعات الليل والنهار رأى المحورين والقطبين، ومَن كان في بلاد الشمال يرى القطبَ الشمالي، ومَن كان في بلاد الجنوب يرى القطبَ الجنوبيَّ (¬2). وقال جالينوس: العالم شبه البيضة، والسماءُ موضعُ القشر، والهواء موضع البياض، والأرض موضع المُخِّ. فصل واختلفوا هل الأفلاك هي السماوات أم هي غيرها؟ على قولين: أما مذهبُ الأوائل فإنها هي بعينها، وأما مذهب المتشرعين (¬3) فهي غيرها، وقد رواه العوفي عن ابن عباس واحتج بقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأعراف: 54] وقال في آية أخرى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]. وسمِّي الفلَكُ فَلَكًا لاستدارته، ومنه: فَلْكة المغزل، بفتح الفاء لاستدارتها، وأما الفُلْكُ -بالضم- فالسفينة، قال الله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119]. وقال قوم بانَّ الفَلَكَ هو القطبُ، وليس بشيء، لأن القطبَ لا يزولُ ولا يتغير كما لا يزول قطب الرحى. فصل ومذهب جملة المسلمين أنَّ السمواتِ سبع، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [الطلاق: 12]. ومذهب الأوائل والمنجمين أنها تسعة أفلاك، فأولها أقربُها إلى الأرض وهو ¬

_ (¬1) "التبصرة"2/ 173. (¬2) جاء بعدها في "كنز الدرر" 1/ 33: "قال الجوهري: والمحور العود الذي تدور عليه البكرة، وربما كان من حديد، وسنذكر القطب والجدي في موضعه" وانظر "الصحاح": (حور). (¬3) في (ل): "المشرعين".

أصغرها وهو فَلك القمر، ثم الذي يليه فلَك عُطارد، ثم فَلك الزُّهرة، ثم فلَك الشمس، ثم فَلك المِرِّيخ، ثم فلَك المُشْتَري، ثم فلَك زُحَل وهو السابع، والثامن فلك البروج وفيه سائر الكواكب الثابتة، والتاسع الفلك الأعظم الحاكم على جميع الأفلاك وله أسام منها: الأثير، لأنه يؤثِّر في غيره وغير لا يؤثّر فيه، ومنها: القسريُّ، لأنه يدير الأفلاك دورةً قسرية في كلِّ يوم وليلة دورة واحدة، ومنها: فلك الاستواء، ومنها: المستقيم، ومنها: الأطلس، ويزعمون أنه ليس وراءَهُ شيءٌ ولا فيه كوكب ولا غيره، ويدير الأفلاك على القطبين الثابتين الذين ذكرناهما، قالوا: وبينه وبين الأرض خمسون ألف سنة، ويسمى المحيطَ أيضًا، لأنه يُحيط بكلِّ شيء ولا يحيط به شيء. قال بَطْلَيمُوس: وهو أخفُّ الأفلاكِ وأضوؤها، لأنه منها في جوهره كذلك، ولهذا ارتفع على الكل، قال: والذي من دونه يقال له: فلك البروج، وفلك الأفلاك، لأنه يدور بأفلاك الكواكب، ثم دونه أفلاكُ الكواكب السبعة. ومنهم من يقول: هي أفلاك كثيرة (¬1)، وهذه الأفلاك من طبيعةٍ أخرى بخلاف الطبائع الأربع التي بدون فلك القمر من النار والهواء والتراب والماء، لأنها لو كانت من هذه لزمها ما يلزم هذه من الكون والفساد والاستحالة والزيادة والنقصان، فالفلك وما فيه طبيعة خامسة ولم يخبروا عن ماهيَّتها بأكثر من هذا. وقال بَطْلَيمُوس أيضًا: صورة الفلك وهيئات بروجه على مثال البطيخة المخططة، أعلاها وأسفلها كالنقطتين، وكلّ بيتٍ بين خطين بمنزلة البرج، واتساقُ بروجه على مثال اتساقِ بيوتها وخطوطها. وقال أفلاطن: الأفلاكُ كهيئة الأُكَرِ، بعضُها فوقَ بعض، والفلك التاسع محيطٌ بجميع الطبائع والمخلوقات، وليس فيه كوكب، وهو يدير الكلَّ من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة واحدة، والأفلاكُ الثمانيةُ تدورُ من المغربِ إلى المشرقِ. وشبَّهوا ذلك بسفينةٍ تجري مع الماءِ وفيها رَجُل يمشي مُصْعِدًا. ولهم في هذا بحث طويل. ¬

_ (¬1) جاء بعدها في "كنز الدرر" 1/ 34: "ومنهم من قال: إن الفلك حي مميز بجميع ما فيه، ذو صورة وكذلك جميع ما فيه بهذه المنزلة".

واستدلوا أيضًا على ذلك بأنّ الشمس والقمر يدوران في اليوم والليلة دورةً واحدةً، قال: والبروجُ نصفُ سُدْسِ الفلك، وفلكُ البروج وما فيه من الكواكب يدور على القطبين اللذين ذكرنا غير قطبي الفلك الأعظم، وعرضُ الأرضِ من القطبِ الشمالي إلى القطبِ الجنوبي الذي هو مطلع سهيل في موضع خط الاستواء ثلاث مئة وستون درجة فيكون الجملة تسعة آلاف فرسخ. قلت: وينبغي أن يكون هذا على وجه التقريب والظنِّ والتخمين لا على وجه القطع واليقين. ونُقِلَ عن فيثاغورس أنه قال: العالم الأرضيُّ متصلٌ بالعالم السماوي، والفلكُ يتحرك حركةً مستديرة دائمة، فتتحرك الكواكبُ بتحريكه، وحركة الكواكب على هذا العالم تفعل فيه الاستحالة ويحدث فيه الكون والفساد، وفسادُ كلِّ شيء بكون شيء آخر، وأن حركات الكواكب الدائمة توجب الكونَ الطبيعي الدائم، وليس في الحركات حركةٌ تامة غير المستديرة، لأن المتحرك بها لا يسكن لأنه لا نهايةَ لحركتها، بخلاف الحركات المختلفات لأنها غير تامة (¬1)، ولهم في هذا اصطلاح عجيب. ويقال: إن هذا كلَّه كلامُ أفلاطن لأنه أقام يرصد الأفلاكَ سبعين سنة، وسنذكره في باب الحكمة إن شاء الله تعالى. * * * ¬

_ (¬1) جاء بعدها في "كنز الدرر" 1/ 36: "ولها نهايات، فإذا انتهت سكتت وضربوا لها مثلًا فقالوا: وحركة النار إلى فوق وحركة الماء والتراب إلى أسفل".

فصل في البروج ومطالعها

فصل في البروج ومطالعها قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)} [الحجر: 16] وقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61] وقال عزَّ من قائل: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)} [البروج: 1]. وقال الجوهري: والبرج واحدُ بروجِ السماء، وبرجُ الحصنِ ركنه، قال: وربما سمي الحصن به، قال الله تعالى: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] هذا كلام الجوهري (¬1). وقال الحسن البصري: البروجُ القصورُ، وفي السماء قصورٌ مثل قصور الأرض. وقال أبو إسحاق الثعلبيّ في تفسير قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قال: يعني منازلَ الكواكبِ السبعة السيارة، وهي اثنا عشر برجًا: الحمل والثور والجَوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجَدي والدلو (¬2) والحوت. فالحمل والعقرب: بيتا المِرِّيخ، والثور والميزان: بيتا الزُّهرة، والجوزاء (¬3) والسنبلة: بيتا عُطارد، والسرطان: بيت القمر، والأسد: بيت الشمس، والقوس والحوت: بيتا المشتري، والجدي والدلو: بيتا زُحل. قال: فهذه البروجُ مقسومةٌ على الطبائع الأربع، فيكون نصيبُ كلّ واحدٍ منها ثلاثة بروج، وتسمى المثلثات، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. قال: واختلف أهل التفسير في معنى البروج، فروي عن عطية العوفي في تفسير الآية قال: هي قصور فيها الحرس (¬4)، دليله قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} ¬

_ (¬1) "الصحاح": (برج). (¬2) في (ب): "والدالي". (¬3) في (ب): "الجوزة". (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 8/ 2716.

وقال مجاهد وقتادة: هي النجوم (¬1). وقال عطاء: هي السُّرُج، وهي أبواب السماء التي تسمى المجرة. هذا كلام الثعلبي. قلت: وقد نصَّ ابنُ عباس في رواية الوالبي عنه أنها البروج المعروفة التي أشرنا إليها. وقال أبو حنيفة الدِّينَوري: الناس مُجمِعونَ على أنها اثنا عشر برجًا لا يختلفون في ذلك، وأن الله تعالى قسمها ترابيع وتثاليث، وهي مقسومةٌ على الكواكب السبعة كما ذكرنا، قال الدِّينَوَري: وتسميها كلُّ أمةٍ بلسانها ويتفقون في المعنى، وكلهم يبتدئ بالحمل على الترتيب المذكور. وقال أبو محمد عبد الجبار المعروف بالخَرَقي في "كتاب التبصرة" (¬2) له: فالحَمَلُ ثلاثة عشر كوكبًا، والخارج عن الصورة خمسة كواكب، وصورته صورة كبش مُقَدَّمُهُ إلى جهة المغرب ومؤخره إلى جهة المشرق، وهو ملتفتٌ إلى خلفه حتى صار خَطْمه (¬3) على ظهره، ومن كواكبه الشَرَطَين من منازل القمر. والبرج الثاني: الثور ثلاثة وثلاثون كوكبًا، والخارج عن الصورة أحد عشر كوكبًا، وهو على صورةِ النصفِ المقدَّم من الثور، قد نَكَّسَ رأسَهُ للنَطْحِ، وقد قُطع بنصفين، على سرته، مقدَّمُه إلى المشرق ومؤخَرُه إلى المغرب، من كواكبه الثريا والدَّبَران وهما من منازل القمر. والبرجُ الثالث: التوأمان، وبعرف بالجوزاء: ثمانية عشر كوكبًا، والخارج عن الصورة سبعة كواكب، وصورته صورة صبيين قائمين واحدهما قد وضع يده على منكب الآخر، ورأسهما وسائر كواكبهما في الشمال والمشرق على طرف المجرة، وأرجلهما إلى المغرب. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 3/ 70 عن قتادة. (¬2) وهم المصنف في نسبة الكتاب إلى عبد الجبار بن عبد الجبار، أبي محمد المتوفى (553) هـ، وإنما هو لأبي بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن أبي بشر المروزي الخَرَقي -بفتح الخاء والراء- المتوفى سنة (533) هـ واسم الكتاب: "التبصرة في الهيئة" وقد ذكر الزركلي له نسختين خطيتين 5/ 317، وانظر كشف الظنون 1/ 338. (¬3) الخطم في الدابة: مقدم أنفها وفمها.

والبرج الرابع: السَّرطان سبعة كواكب، والخارج عن الصورة أربعة كواكب، مقدَّمُه إلى ناحية المشرق، ومؤخره إلى المغرب والجنوب على أثر التوأمين فإنهما مائلان إلى الجنوب في نفس المجرة. والبرج الخامس: الأسد سبعة وعشرون كوكبًا، والخارجُ عن الصورة ثمانيةُ كواكب، وصورته تامة ومن كواكبه قلبُ الأسد كوكب نيِّر. والبرج السادس: السُّنبُلة، ويعرف بالعذراء: ستة وعشرون كوكبًا، والخارج عن الصورة ستة كواكب، وصورتها صورةُ جاريةٍ ذات جناحين قد أرسلت ذيلها، ورأسها على الصَّرْفة: وهي كوكب نيِّر، ومن كواكبها السِّماكُ الأعزل كوكب نيِّر على كتفها الأيسر. والبرج السابع: الميزان ثمانية كواكب وصورته كاسمه، والخارج عن الصورة تسعة كواكب. والبرج الثامن: العقرب أحد وعشرون كوكبًا، والخارج عن الصورة ثلاثة كواكب، وصورتها تامة، ومن كواكبها قلب العقرب، كوكب نيِّر. والبرج التاسع: القوس ويسمى الرامي، أحد وثلاثون كوكبًا خلف كواكب العقرب، وصورته صورة حيوان تركَبَ من إنسان وفرس كأنه جسد دابَّة إلى العنق، ثم يبرز من مغرز العنق نصفُ رجل قد وضع السهمَ في قوسه وأَغْرَقَ في النزع. والبرج العاشر: الجدي ثمانية وعشرون كوكبًا، وهو على النصف على صورة النصف المقدم من جدي، والثاني من مؤخر سمكة إلى ذنبها. والبرج الحادي عشر: الدَّلو، يعرف بساكب الماء: اثنان وأربعون كوكبًا، الخارج عن الصورة ثلاثة كواكب، وصورته صورة رجل قائم مادِّ اليدين بأحدهما كوزٌ قد قلبه وانصبَّ الماء إلى مقام رجليه وجرى الماء من تحتها إلى الجنوب، ويسمى الدالي (¬1) أيضًا. والبرج الثاني عشر: الحُوت أربعة وثلاثون كوكبًا، والخارج عن الصورة أربعة ¬

_ (¬1) في (ب): "الدالي".

فصل في ما لكل برج من البلدان

كواكب، وصورته صورة سمكتين قد وُصِلَ ذنبُ إحداهما بذنبِ الأخرى بخيط يسمى خيط الكَتَّان. قال الخَرَقي: فجملةُ هذه الكواكب ثلاث مئة، وفي قول عنه: أنها ثلاث مئة وأربعون كوكبًا. قلت: وقد ذكر الجوهري هذه البروج وأخلَّ بالبعض، فقال: الحَمَلُ: أول البروج (¬1). والثَّور: برج في السماء (¬2). والجوزاء: نجم يقال إنها تعترض في جوز السماء، أي: وسطها، وجوز كلِّ شيء وسطه (¬3). قال: والسَّرطان برج في السماء (¬4). ولم يذكر الأسد، قال: والسُّنبُلة برج في السماء (¬5). ولم يذكر الميزان. قال: والعقرب: برج في السماء (¬6). وكذا القوس (¬7) والجدي والدلو (¬8) والحوت (¬9)، قال: والجدي نجم إلى جانب القطب تعرف به القبلة (¬10). ولم يتعرض الجوهري لعدد الكواكب وصورها. فصل في ما لكلِّ برج من البلدان قال علماء الهيئة: للحَمَل بابل وفارس وأَذْرَبِيجان، وللثور: هَمَذَان والأكراد، وللجوزاء: جُرجان وكِيلان (¬11) ومُوْقان، وللسرطان: الصين وشوقي خُراسان، ¬

_ (¬1) "الصحاح": (حمل). (¬2) "الصحاح": (ثور). (¬3) "الصحاح": (جوز). (¬4) "الصحاح": (سرط). (¬5) "الصحاح": (سبل). (¬6) "الصحاح": (عقرب). (¬7) "الصحاح": (قوس). (¬8) "الصحاح": (دلو). (¬9) "الصحاح: (حوت). (¬10) الصحاح: (جدي). (¬11) كيلان ويقال لها: كِيل بلد وراء طبرستان، ثم عربت فصارت جيل. "اللباب" 1/ 324. و"معجم البلدان" 2/ 201.

فصل في قسمة الزمان

وللأسد: التُّرك والصُّغْد وما والاها، وللسُّنبُلة الشام والجزيرة ودجلة والفرات، وللميزان: الروم إلى إفريقية وصعيد مصر والحبشة، وللعقرب: الحجاز واليمن وتِهامة، وللقوس: بغداد إلى أصبهان، وللجدي: نهر مُكْران وعُمان والبحرين والهند، وللدَّلو: الكوفة وبعض الحجاز، وللحوت: طبرستان وله شركة في الروم والجزيرة والشآم ومصر والإسكندرية، وقد ذكرنا طرفًا من هذا في الأقاليم. فصل في قسمة الزمان وهو أربعة أقسام: الأول: الربيع، وهو عند بعض الناس الخريف، وإنما سمته العرب: ربيعًا، لأن الربيع يكون فيه، وسماه بعضهم: خريفًا، لأنَّ الثمارَ تُخْتَرَفُ فيه، ودخوله عند حلول الشمس رأسَ الميزان. ثم الشتاءُ: ودخوله عند حلول الشمس رأسَ الجدي. ثم الصيفُ: ودخوله عند حلولِ الشمسِ رأسَ الحمل، وهو عند الناس الربيع. ثم القيظ: وهو عند الناس الصيفُ، ودخوله عند حلولِ الشمس رأس السرطان. فصل في الرياح وأولها: ريح الشَّمال، قال الجوهري: والشَّمال الريح التي تهب من ناحية القطب (¬1). وثانيها: الصَّبا، قال: ومهبها المستوي من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، ونَيِّحَتُها (¬2) الدَّبور، قال: وتزعم العربُ أنَّ الدَّبور تزعج السحاب وتُشْخِصُهُ في الهواء، ثم تسوقه، فإذا علا كشفت عنه واستقبلته الصَّبا فردَّت (¬3) يعضه فوق بعض حتى يصيرَ كثيفًا واحدًا، والجنوب تلْحِقُ روادفَه به وتمده، والشمال تمزّقُ السحابَ. ¬

_ (¬1) "الصحاح": (شمل). (¬2) أي: مُقابلتُها. (¬3) في (ب) و (ل): فودعت، والمثبت من (ط) و"الصحاح": (صبو).

فصل فيما بين كل سماء وسماء، وما ورد في ذلك من الأنباء

والثالثة: الجنوب، قال: وهي التي تقابل الشمال (¬1). قال: والدَّبور الريح التي تقابل الصَّبا (¬2). فصل فيما بين كلِّ سماء وسماء، وما ورد في ذلك من الأنباء قد ذكرنا مذهبَ الأوائل في صور الأفلاك وما يتعلق بها، وأما على مذهب المتشرعين فهي السماوات عندهم، وقد ورد في الجهة أخبار [عن العباس وأبي ذر وأبي هريرة رضوان الله عنهم فأما حديث] العباس (¬3): فقال أحمد بن حنبل: بإسناده عن العباس بن عبد المطلب قال: كنّا جلوسًا عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالبَطْحاء، فمرت سحابة فقال: "أَتدرُون ما هذه؟ " قلنا: السحاب، قال: "والمُزْن"، قلنا: والمُزْن، قال: "والعَنَان" قلنا: والعَنَان، قال وسكتنا، فقال: "هل تَدْرُون كم بينَ السَّماءِ والأرضِ؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "بَينَهما مَسيرةُ خَمسِ مئةِ سنةٍ، وبين كلِّ سَماء وسَماء مَسيرةُ خمسِ مئةِ سنةٍ، وكِثَفُ كلِّ سَماء خَمْسُ مئة سنةٍ، وفوقَ السَّماء السَّابعةِ بحرٌ بينَ أعلاهُ وأسفلِه كما بينَ السَّموات والأرضِ، ثم فوق ذلك ثمانية أَوْعال بين رُكَبهن وأَظْلافهن كما بين السَّماء والأرضِ (¬4)، واللهُ تعالى فوقَ ذلك، وليسَ يَخفَى عليه شيءٌ مِن أعمَالِ بَنِي آدمَ" (¬5). وأما حديث أبي ذر: فأنبأنا جدي، قال: أنبأنا زاهر بن طاهر النيسابوري بإسناده عن أبي نَضْرة، عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بينَ الأرضِ إلى السماءِ مَسيرةُ خمسِ مئةِ عامٍ، وغِلَظ كلِّ سماءٍ خمسُ مئة عامٍ، والأَرَضُون مثل ذلك؛ وما بين السماء السابعةِ إلى العَرْشِ مثلُ جميع ذلك، ولو حَفرتم لصاحِبِكم ثم دَلَّيتُمُوه لوجدتم اللهَ ثمةَ" (¬6). ¬

_ (¬1) "الصحاح": (جنب). (¬2) "الصحاح": (دبر). (¬3) ما بين معكوفين من كنز الدرر 1/ 43. (¬4) بعدها في "المسند": "ثم فوق العرش، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض". (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (1770) وإسناده ضعيف جدًّا. (¬6) "العلل المتناهية" (7) وهو منكر، وسيأتي الكلام عليه عند المصنف.

وأما حديثُ أبي هريرة: فقال أحمد بن حنبل: حدثنا سُريج بن يونس بإسناده عن أبي هريرة قال: بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ مرت سحابة فقال: "أتَدْرون ما هذه؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم (¬1)، قال: "الرَّقيع موج مَكفوفٌ وسَقفٌ مَحفُوظٌ، أَتدرونَ كم بينها وبينكم"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. ثم ذكر السماوات والأرض وعدَّ ما بين كلِّ واحدة خمس مئة عام، بمعنى حديث أبي ذرٍّ، وقال في آخره: "ولو حَفَرتُم لصَاحِبِكم ودَلَّيتُمُوه بحبلٍ إلى الأرض السابعةِ لَهَبطَ على اللهِ، ثم قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] (¬2). قلت: ليس في هذه الأخبار حديث سالم من الطعن، أما الحديثُ الأول وهو حديث العباس، فإن في طريقه يحيى بن العلاء كذّاب، كذَّبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما، وفيه لفظ الفوقية، وقد فسَّرها أبو سليمان الخطّابي فقال: معنى الفوقية القهر والغلبة. وأما حديث أبي ذر فقال جدي في "الواهية" أيضًا: هذا حديث منكر، وكان الأعمش يروي عن الضعفاء ويدلِّسُ. قال: وأما حديث أبي هريرة فلا يصحُّ عن رسول - صلى الله عليه وسلم -، والحَسَنُ لم يسمعْ من أبي هريرة، وقيل للحسن: من أين تروي هذه الأحاديث؟ فقال: من كتاب عندنا سمعناه من رجل، وكان الحسن يروي عن الضعفاء. وقال أحمد بن حنبل: قد رواه أبو جعفر الرازي عن قتادة، وأبو جعفر الرازي مضطرب. قال: ومقتضى حديث العباس أن الأرض تكون كذلك في الكثافة والبعد، والدليل عليه قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] فيكون مسافة الجميع أربعةَ عشر ألف سنة سوى ما في السماوات من الحجب والكرسي والعرش. قال الخطابي: وهذا على مقدار سير بني آدم، أما المَلك فإنه يخرقُ الجميعَ في ¬

_ (¬1) بعدها في "المسند": "قال: العَنان، وروايا الأرض، يسوقه الله إلى من لا يشكره من عباده ولا يدعونه، أتدرون ما هذه فوقكم؟ " قلنا الله ورسوله أعلم". (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (8828)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (8).

ساعة (¬1) وفي لحظة واحدة، وكذا الشيطان في الأرض. وروى مجاهد عن ابن عباس، أنه سئل فقيل له: كم بين كل سماء وسماء؟ فقال: الله أعلم. وروى أبو راكة عن عليّ - عليه السلام -: أنه سئل كم بين السماء والأرض؟ فقال: دعوة مستجابة، قيل له: كم بين المشرقِ والمغرب؟ فقال: مسيرة يوم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) لفظ "ساعة" ليس في (ب). (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 32/ 393 ضمن خبر طويل فيه سؤال ابن الكواء لسيدنا علي - رضي الله عنه -.

فصل في ذكر الشمس والقمر والنجوم السيارة والثابتة والرجوم

فصل في ذكر الشمس والقمر والنجوم السيارة والثابتة والرجوم (¬1) فصل في الشمس قال الجوهري: الشمس معروفة (¬2). ذكر خلق الشمس: روي عن كعب الأحبار قال: في التوراة، لما أراد الله أن يخلقَ الشمسَ والقمر قال للسماء: أخرجي شمسك وقمرك. وعن علي - رضي الله عنه - موقوفًا عليه قال: خُلِقَتِ الشمسُ والقمر من نور العرش (¬3). وقد روي فيما يتعلقُ بالشمسِ أخبار وآثار، فأما الأخبار فلا يثبت منها إلا حديث واحد: قال البخاري بإسناده عن أبي ذرٍّ قال: كنتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد حين وجبتِ الشمس فقال: "يا أبا ذرٍّ، أَتدري أينَ تذهبُ هذه الشَّمسُ"؟ قلتُ: اللهُ ورسُولُه أعلمُ، قال: "إنَّها تَذهَبُ حتَّى تَسْجدَ بينَ يَدَي ربِّها فتستأذنُ في الرُّجوعِ فيُؤْذَن لها". أخرجاه في الصحيحين (¬4). وأخرج البيهقي عن ابن عمر بمعناه، وفيه: نظر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الشمس قد غابت فقال: "في عَينِ اللهِ الحاميَةِ، لولا ما يَزَعُها مِن أمرِ اللهِ لأَهْلَكَتْ ما على وَجْهِ الأرضِ (¬5) ". ومعنى يزعها: يكفّها ويردعها. ومعنى الحديث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن مغيبها في النار الحامية، لا أنه دعا ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 44. (¬2) جاء بعدها في "كنز الدرر": "ويقال لها: ذكاء، لأنها تذكو كما تذكو النار، ولذلك يسمى النهار: ابن ذكاء، قال: وهي ممدودة غير مصروفة لا تدخلها الألف ولا اللام" وانظر "الصحاح": (ذكي). (¬3) لم نقف عليه عن علي، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (6062) من حديث أنس مرفوعًا. (¬4) البخاري (3199)، ومسلم (159). (¬5) لم نقف عليه فيما بين أيدينا من كتب البيهقي، وأخرجه أحمد في "مسنده" (6934) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

عليها (¬1). وأما الأخبار الواهية: فمنها ما أنبأنا به جدي رحمه الله بإسناده إلى أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد وكَّلَ الله بالشَّمسِ سبعة أملاكٍ يَقذِفُونَها بالثَّلجِ، ولولا ذلك ما أَتَت على شي إلا أحرَقَته" (¬2). ومنها: ما أنبأنا به جدي رحمه الله بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّمسُ والقَمَر ثَوْرَان عَقيران من النَّار" (¬3) وفي رواية: "يؤتى بهما يوم القيامة فيكوّران في النار". والعقير: المجروح. ومنها ما ذكره أبو جعفر الطبري في "تاريخه" فقال: حدثني محمد بن أبي منصور بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس، قال عكرمة: كنت جالسًا عنده إذ جاءه رجلٌ فقال: يا ابنَ عباس سمعتُ كعبَ الأحبارِ يقول: إنَّ الشمس والقمر يكوّران يومَ القيامةِ وَيُلْقَيانِ في النار، وكان ابن عباس متكئًا فاحتفز -أي: جلس واجتمع- وقال: كذب كعبٌ -ثلاثًا- بل هي يهوديَّته يريدُ إدخالها في الإسلام، الله أجَلُّ وأكرمُ من أن يعذبَ أحدًا على طاعته، ألم تسمع إلى قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينِ} [إبراهيم: 33] أي: طائعين (¬4)، فكيف يعذِّبُ مَن أثنى عليه؟ ثم قال: ألا أحدِّثكم بما سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعته يقول: "لما أبرم خَلْقَه غَيرَ آدم خَلَقَ شمسَين من نورِ عرشِه، فأمَّا ما كان في سابق علمه أن يَدعها شمسًا فإنَّه خَلَقها مثلَ الدنيا ما بينَ مشارِقِها ومغارِبها، وأمَّا ما كان في سَابقِ عِلمِه أن يَطْمِسَها ويحوِّلها قمرًا فإنَّه دونَ الشَّمْس في العِظَم وإنما يُرى صغيرًا لشدةِ ارتفاعِ السماءِ وبُعدِها من الأرضِ، فلو تَرَك اللهُ الشَّمسَ كما كان خَلَقها لم يُعْرَفِ الليلُ من النَّهار، ولا النَّهارُ من الليل، وكان لا يَدْري الأَجيرُ إلى متى يعملُ ومتى يأخذُ أجرتَه، ولا يدري الصَّائم إلى متى يَصُومُ، ولا تَدْري المرأةُ كيف تَعتدُّ، ولا يَدْري المسلِمونَ متى وقتُ ¬

_ (¬1) المنتظم 1/ 186. (¬2) "العلل المتناهية" (29). (¬3) "العلل المتناهية" (30)، و"الموضوعات" (291)، و "المنتظم" 1/ 187. (¬4) في (ب): مطيعين.

الحجِّ، ولا متى تحِلُّ دُيونهم؛ فنَظَرَ الله تعالى لعبادِه، فأرسَلَ جبريلَ فأَمَرَّ جناحَه على وَجْه القَمَر فَطَمسَ عنه الضَّوءَ وبقيَ فيه النُّورُ، فذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيلَ وَالنَّهَارَ آيَتَينِ} [الإسراء: 12] فالسوادُ الذي ترونه في القمر شبهُ الخطوطِ فهو أثر المحْو. قال: ثم خَلَق اللهُ للشمسِ عَجَلةً من نورِ العرشِ لها ثلاث مئة وسِتون عُرْوَة، ووكَّل بالشَّمسِ وعَجَلَتِها ثلاث مئة وستين مَلَكًا، قد تَعَلَّق كلُّ واحدٍ منهم بعُروةٍ، وخَلَق للقَمَرِ أيضًا كذلك، وخَلَق لهما مشارقَ ومغاربَ ثمانين ومئة عينٍ في المغرب طينةً سوداءَ فذلك قوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَينٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] [وثمانين ومئة عينٍ في المشرق مثل ذلك] تفور كغَلَيان القدرِ، فكل يومٍ وليلةٍ لهما مطلعٌ جديدٌ ومغربٌ جديدٌ، فذلك قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَينِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَينِ} [الرحمن: 17] ثم جمع فقال: {الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40]. قال: وخَلَق اللهُ مجرىً دونَ السماءِ، يعني: بحرًا، مقدارَ ثلاثةِ فراسخَ، وهو موجٌ مكفُوفٌ قائمٌ في الهواءِ كأنَّه جبلٌ ممدودٌ، فتجري فيه الشَّمسُ والقَمَرُ والخُنَّس، فذلك قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]. والذي نفسُ محمدٍ بيدِه، لو بَدَتِ الشَّمس من ذلك البحرِ لأَحرَقَتْ كلَّ شيءٍ في الأرضِ حتى الصُّخور والحِجارة، ولو بَدا القمرُ من ذلك البحرِ لافتَتَن أهلُ الأرضِ به حتى يعبدوه من دون الله". قال ابن عباس: وكان علي بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - حاضرًا فقال له: يا رسولَ الله ذكرتَ الخُنَّس فما هنَّ؟ فقال: "خمسة كواكبَ، البِرْجِيس وزُحل وعطارد وبهرام والزهرة، جاريات طالعاتٌ كالشَّمسِ والقَمَرِ، فأمَّا سائرُ الكواكِبِ فمعلَّقاتٌ في السَّماء كالقنادِيل في المساجِدِ" (¬1). قال: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خلق الله مدينتين: إحداهما بالمشرق، والأخرى بالمغرب، جابرسا وجابلقا، لكل واحدةٍ منهما عشرةُ آلافِ باب، وعلى كلِّ بابٍ عشرةُ آلاف فارس ووراءهم أُمم يقال لهم: منسك وتاريس وتاويل، ومن ورائهم يأجوج ومأجوج. وذكر ابن جرير حديثًا طويلًا مقدار كرّاسة، وفيه: طلوعُ الشمس من مغربها ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري " 1/ 62، و"العظَمة" لأبي الشيخ (627) وما بين حاصرتين منهما.

وبابُ التوبة، فقال له عمر بن الخطاب: وما باب التوبة؟ ففسَّره، وقال: "من المصراع إلى المصراع مسيرةُ أربعين سنة للراكب المجدّ" وذكر الصور، فقال له حذيفة بن اليمان: يا رسول الله، وما الصور؟ ففسَّره، وفي آخر الحديث: فبلغ كعبًا فأتى إلى ابن عباس يعتذر ويقول: إنما حدّثتُ من كتاب دارس تداولته الأيدي، وأنت حدثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر كلامًا طويلًا (¬1). قلت: أما حديث أبي أمامة فقال جدي في "الواهية": في إسناده مسلمة بن علي، قال: قال ابن مَعين والنسائي: ليس بشيء، وتركاه (¬2). وأمّا حديث أنس ففي إسناده درست بن زياد عن يزيد الرقاشي، وهما ضعيفان، قال ابن حبّان وابن معين: لا يحلّ الاحتجاجُ بحديثِ درست (¬3). وأما الحديث الذي رواه ابنُ جرير الطبري عن ابن عباس فالعجب من ابن جرير مع معرفته بالأحاديث كيف أورد مثل هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ولم يشغله نزوع حديثه وروايته وقصده تبسط كتابه عن ذكر مثل هذه الألفاظ التي تنفر منها العقول السليمة وتقشعرّ منها الجلود، ومَن وقفَ على الحديث من "تاريخه" فهمَ ما قلت. ثم هذا الحديث الذي رواه يعرف بحديث حذيفة بن اليمان، وقد ذكره جدي في "الموضوعات" فقال: حدثنا محمد بن ناصر بإسناده إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وحذيفة وابن عباس: أنهم كانوا جلوسًا ذاتَ يوم، فجاء رجلٌ فقال: إني سمعت العَجَبَ، فقال له حذيفة: وما ذاك؟ قال: سمعت رجالًا يقولون: يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم، فقال عليّ وابن عباس وحذيفة: كذبوا، الله تعالى أجلّ وأكرم أن يعذب على طاعته، فقال حذيفة: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سئل عن ذلك فقال: "إنَّ الله لما أَبرَم خَلْقه فلم يبقَ مِن خَلْقه غيرُ آدم، خَلَق شمسين من نور عرشِه، فأمَّا التي كان في سابق عِلمه أن يَطمسها ويحوِّلها قمرًا فإنَّه خلقها دون الشمس في الضوء". قال جدي وذكر حديثًا طويلًا نحوًا من جزء، ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري"1/ 65 - 75. (¬2) "العلل المتناهية"1/ 46. (¬3) "العلل المتناهية" 1/ 47.

وفيه: "أنَّ اللَّيلة التي تَطْلُع الشَّمسُ من مَغْرِبها في صبيحتِها (¬1) ومعها القمر ثم يعادان". ثم قال: وهذا حديث موضوع على رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - وفي إسناده ضعفاء ومجهولون. وعمر بن صبح كان يضع الأحاديث وذكر غيره (¬2). قلت: والمنقول مثل هذه الألفاظ عن ابن عباس فلو وقفوه عليه كان أولى، وإنَّما رفعوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحوشي منصبه الكريم عن مثله، وواضعه ما قصد به إلَّا شَيْنَ الشريعة، وإلَّا فمن أين في الدنيا مدينة يقال لها: جابرسا، لها عشرةُ آلاف باب، بين كل بابين فرسخ، وفي كلّ باب عشرة آلاف حارس، وما أشبه ذلك. * * * وأمّا الآثار: فروى مجاهد عن ابن عباس قال: للشمس ثلاث مئة وستّون مشرقًا ومغربًا، وكذا القمر، فذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] (¬3) فأَمَّا قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَينِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَينِ} [الرحمن: 17] فإنما أرادَ مشرقَ كلِّ واحدٍ منهما ومغربه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: لا تطلع الشمس كلَّ يوم إلّا وهي كارهةٌ تقول: يا إلهي لا تُطْلعني على عباد يَعْصُونك، حتَّى إنها لتقفُ عند الطلوع فيدفعها ثلاث مئة وستّون ملكًا حتى تطلع (¬4). وذكر الثعلبي عن ابن عبّاس قال: تطلع الشمس كلَّ سنة في ثلاث مئة وستين كوّة، لا ترجع إلى تلك الكوّة إلى ذلك اليوم من العام القابل (¬5). قلت: وفي الشمس دلائل ومنافع، فمن الدلائل: أنها واحدة، ونورها يضيء على جميع العالم، كذلك البارئ سبحانه وتعالى واحد ¬

_ (¬1) جاء بعدها في "الموضوعات": "تكون بقدر ثلاث ليال، ولا يعرف طولها سوى المتعبدين فيستغيث بعضهم إلى بعض، وإن الشمس تطلع من مغربها". (¬2) "الموضوعات" (290). (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 23/ 283 من طريق عكرمة. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 23/ 283 من طريق عكرمة أيضًا. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 23/ 283 - 284.

فصل في القمر

وهو يُدبِّر العالم. والثاني: أنّ ذات الشمس مِنَّا بعيدة وضوءها قريب، كذلك الله سبحانه وتعالى بعيد من الخلق بالذات قريبٌ بالإجابة. والثالث: أنَّ ضوءَها غير ممنوع عن أحد، كذلك رزق الله تعالى لا يمتنع عن أحد. والرابع: أنَّ كسوفَها دليل على وجود القيامة، وغروبها يدلُّ على ظلمتها. والخامس: أنَّ السَّحاب يغطِّيها، وكذا المعاصي غطاء المعرفة. فأمَّا منافعها فكثيرة: أحدها: أنَّها سراج العالم، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16]. والثانية: أنها طَبَّاخ لأطعمتهم من غير كلفة ومنضجٌ لثمارهم. والثالثة: تسير من المشرق إلى المغرب لمصالحهم. والرابعة: أنها لا تقف في مكان واحد لئلَّا تضرَّ بالخلق. والخامسة: أنَّها تكون في الشتاء في أسفل البروج وفي الصيف في أعلاها لمنافع العالم. والسادسة: أنها لا تجتمع مع القمر في سلطانه لئلَّا يُبْطِلَ كلُّ واحدٍ منهما ضوءَ الآخر. فإن قيل: فهي في الفلك الرابع فلِمَ لم تحجبها السماوات ويحجبها الغيم؟ قلنا: السَّماوات جواهرُ لطيفةٌ شفّافة، والغيم كثيفٌ لأنَّه يتصاعدُ من الأرض. وقد حدَّ أفلاطون الشمس فقال: هي فلكٌ محشوٌّ نارًا يخرج منه اللَّهب. فصل في القمر قال علماء اللغة كالزّجاج والفراء والأصمعي وغيرهم: إنما سمي القمر: قمرًا لبياضه، والأَقْمَر الأبيض، وليلة قَمْراء أي: مُضيئة، قال ابن قتيبة (¬1): يقال له في الليلة ¬

_ (¬1) جاء بعدها في كنز الدرر" 1/ 50: "والهلال أول ليلة، والثانية والثالثة، ثم هو قمر بعد ذلك إلى آخر الشهر، وتصغيره قمير، وجمعه أقمار".

الرابعة عشرة: بدر، لتمامه، ومنه البَدْرَة، وكل شيء تمَّ فهو بدرٌ مجازًا، وفي القمر حقيقة (¬1). وقال الجوهري: إنما سمي بدرًا لمبادرته الشمس بالطلوع، كأنه يُعْجِلها المغيب (¬2). وقال الفرّاء: هو في أول ليلة هلال ثم قمير ثم قمر ثم بدر. حديث ضُرب المثل به: قال البخاري بإسناده عن أبي هريرة قال: قال الناس: يا رسول الله، هل نَرَى ربَّنا يومَ القيامة؟ فقال: "هَلْ تُمارُون في القَمَر ليلةَ البَدْر ليسَ دونَه سَحَاب؟ " قالوا: لا، قال: "فَهَل تُمارُون في الشَّمسِ ليس دونَها سَحَاب؟ " قالوا: لا، قال: "فإنَّكم ترَونَه كذلك". أخرجاه في "الصحيحين (¬3) ". وهو حديث طويل. وقد رواه جماعة من الصحابة بأَلفاظٍ مختلفة (¬4). فإن قيل: فهلا ضُرب المثل بالشمس وهي أضوأ وأتمُّ نورًا فإنَّ نور القمر منها، فالجواب من وجوه: أحدها: أن نور الشمس يغلبُ على الأبصار فلا تتمكَّن من النظر، فيفوت المقصود، بخلاف القمر فإنَّ العيون تتمكن من النظر إليه. والثاني: لأنَّ من انكسر لأجل الحقِّ سبحانه فعليه جبره، ولما طَمَس جبريل ضوءَ القمر بجناحيه انكسر قلبه لأنه كان يضاهي ضوءَ الشمس، فجبره الله تعالى بشيئين: أحدهما: أنه جَعَل العيون تنظر إليه في الدنيا في أوّل كلّ شهر، والثاني: أنه أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأن يضرب به المثل في أَعظم الأشياء وأعلاها. فإنْ قيل: فقد قال الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] قلنا: إننا لا ندَّعي أنَّ الأبصار تدركه بمعنى تحيط به، وإنما المدرَك ¬

_ (¬1) "أدب الكاتب" ص 88 - 89. (¬2) "الصحاح": (بدر). (¬3) البخاري (806)، ومسلم (182). (¬4) منها ما أخرجه البخاري (4581) ومسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وانظر للتوسع كتاب "الرؤية" للدارقطني.

فصل في منازل القمر

نفسُ النظر، لأنّ الباري سبحانه يستحيل عليه الحدود. وفي القمر فوائد منها: أنَّه سراج للخلق بالليل ومعجزةُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] وقدَّرهُ منازل ليُعْرَفَ بها المواقيت، ومحا من نوره تسعة وتسعين جزءًا لقوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] ولولا ذلك لانبسط الناس في معاشهم ليلًا ونهارًا فآذى الحريصَ كدُّه. وقد ذكر الطبري معنى هذا عن علي - رضي الله عنه - فقال: حدثنا ابن حميد بإسناده عن أبي الطفيل قال: قال ابن الكوَّاء لعلي: يا أمير المؤمنين ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال: ويحك أما تقرأ {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيلِ} فهذه مَحْوُهُ (¬1). وفيه عيوب: منها أن النَّوم فيه منكشفًا يورث البرص، ومنها: أنه يبلي الكتَّان، إلى غير ذلك. وقيل: إنَّ نوره من الشمس، وهو الظاهر. فصل في منازل القمر قال الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] وقد ذكر ابن قتيبة وغيره منازلَ القمر فقالوا: هي ثمانية وعشرون منزلًا من أول الشهر إلى أن يستسرَّ، وتسميها العرب نجومَ الأخْذ، لأن القمر يأخذ كل ليلةٍ منها في منزل، وأسماؤها: الشَّرَطان، والبَطين، والثُّريَّا، والدَّبَران، والهَقْعَة، والهَنْعَة، والذِّراع، والنَّثْرَة، والطَّرْف، والجَبْهة، والزُّبْرَةُ، والصَّرْفَةُ، والسِّمَاك، والعَوَّاء، والغَفْرُ، والزُّبانَى، والإكلِيل، والقَلْبُ، والشَّوْلة، والنَّعائم، والبَلْدَة، وسَعْد السُّعود، وسَعد الذَّابح، وسَعد الأَخْبِيَة، وسَعد بُلَع، وفَرْغ الدَّلو المقدَّم، وفَرْغ الدَّلْو المؤخَّر، والرِّشاء، وهو الحوت (¬2). تفسير هذه المنازل أوّلها: الشُّرطين، كذا ذكر ابن قتيبة بضم الشين، والشَّرْط العلامة، لأنها علامة ¬

_ (¬1) الطبري 1/ 75. (¬2) "أدب الكاتب" ص 86 - 87.

ابتداء الأمطار. وقال أبو معشر: الشَّرَطَين كوكبان مفترقان، أحدهما في ناحية الجنوب والآخر في ناحية الشمال، وهما قرنا الحَمَل، ويسمَّى أضوأهما النَّاطِح، وفي رأي العين إذا توسَّطا السَّماء كان بينهما مقدار عشرة أذرع، وقريب من السِّماك كوكب صغير يقدُمهما أحيانًا وهذه صورته: [رسم توضيحي] وأمَّا البَطين، فقال الجوهريّ: هو ثلاث كواكب صغار طمسٌ مستوية التثليث، وهي بطن الحَمَل، وإنما صغر لأنَّ الحمل نجومٌ كثيرة على صورة الحمل، فالبَطين بطنه، والثريَّا أليته، والشَّرَطَين قَرناه. وصورة البَطِين: [رسم توضيحي] وأما الثريا: فسبعة أنجم، ستة منها ظاهرة وواحد خفيٌّ، يمتحن به الناس أبصارهم. وقال أبو معشر: إنما سميت الثريّا من الثروة، وهي كثيرة النَّدى والبَلَل، ولها أسامي منها النجم وإن كان في العدد نجومًا. وذكر أبو إسحاق الثعلبي أن المراد بقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1] أنه الثريا في أحد الأقوال، وحكاه عن ابن عباس. والعرب تسمّي الثّريَّا نجمًا، وإن كان نجومًا في العدد، وسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجمًا: أنبأنا جدي، أنبأنا أبو القاسم الحريري بإسناده عن سَمُرة بن جُندب قال: قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا طَلَع النَّجم ارتَفَعت العَاهَة يعني الثُّريَّا (¬1) " وأراد عن الثمار. ومنها: العنقود والقدم، وقال امرؤ القيس (¬2): إذا ما الثُّريَّا في السماءِ تعَرضت ... يراها صغير (¬3) العين سبعةَ أَنجمِ على كبدِ الجرباء وهي كأنها ... جبيرةُ دُرٍّ ركبت فوقَ معصم وصورة الثُّريا: [رسم توضيحي] قال ابن قتيبة: والكفّ الخَضِيبُ كف الثُّريّا المبسوطة، ولها كفّ أخرى يقال لها: الجَذْماءُ، وهي أسفل من الشَّرَطَين (¬4). وقال الجوهري: والعَيُّوق نجم أحمرُ مضيء من طرف المجرة الأيمن يتلو الثُّريَّا لا يتقدَّمها، وأصله فيعُول (¬5). وقال ابن قتيبة: العَيوق نجم كبير مضيء وقَّاد وعلى أثره ثلاثة كواكب يقال لها: الأَعْلَامُ، وهي توابع العيُّوق، وأسفل العَيُّوق نجم يقال له: رِجْلُ العَيُّوق، وليس العَيُّوق من منازل القمر. وإنما ذكرناه هاهنا لقربه من الثُّريَّا. وأما الدَّبَران: فألية الحمل، وقيل: إنما سمِّي به لأنه استدبر الثريّا. ¬

_ (¬1) لم نقف عليه في أي من كتب ابن الجوزي التي بين أيدينا، ولم نجد من أخرج هذا الحديث عن حمرة بن جندب، وأخرجه أحمد في "مسنده" (8495) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) البيتان في "الأزمنة والأمكنة" 2/ 306، و"نهاية الأرب" 1/ 67، منسوبين إلى المبرد. وورد في ديوان امرئ القيس الشطر الأول من البيتين فقط ص 14، وهو من معلقته المشهورة، وتمامه: تعرض أثناء الوشاح المفصل. (¬3) في المصادر السابقة: "الحديد". (¬4) "أدب الكاتب" ص 92. (¬5) "الصحاح": (عوق).

وقال ابن قتيبة: هي خمسةُ كواكب في الثور يقال: إنها سنامه. وكذا الجوهري (¬1). قال ابن قتيبة: وصورته: [رسم توضيحي] وقال غيره: هو كوكب أحمر وصورته: [رسم توضيحي] ويسمَّى الدَّبَران: الفنيق، وهو الجمل العظيم، وقدامه كواكب صغار تسمَّى القِلاص، وهي النوق الصغار، فإذا اجتمعت صارت في الصورة كأنها رأس بقرة، وهي تعقب الثُّريا. وأمّا الهَقْعَة: فقال الجوهري: هي ثلاثة أنجم نيِّرة بعضها قريب من بعض، وهي رأس الجوزاء (¬2)، كأنها ثلاثة أصابع مجتمعة، وصورته: [رسم توضيحي] وقيل: هي الدائرة التي تكون في جنب الدَّابة عند رِجل الفارس. وسئل ابن عباس عن مَنْ طلَّق امرأته عدد نجوم السماء فقال: يكفيه هَقْعَة الجوزاء. وهي نور عظيم. وأمَّا الهَنْعَة: فقال الجوهري: هي منكِب الجوزاء الأيسر، وهي خمسة أنجم مصطفَّة (¬3). وقيل: هي كوكبان كبيران بينهما ثلاثة صغار، والظاهر أنها خمسة وصورتها: ¬

_ (¬1) "الصحاح": (دبر). (¬2) "الصحاح": (هقع). (¬3) "الصحاح": (هنع).

[رسم توضيحي] وإنما سميت: الهَنْعَة لأنَّ كل واحدٍ منها ينعطف على صاحبه، يُقال: هَنَعْتُ الشيءَ، أي: عطفتُه. وأمَّا الذراع: فقال الجوهري: هو ذراع الأسد، وهما كوكبان نيِّران (¬1). وقال غيره: كوكبان بينهما كواكب صغار يقال لها: الأظفار، كأنَّها مخاليب الأسد، بينهما في رأي العين قيد شَوْطٍ، وهما ذراعان إحداهما مبسوطة والأخرى مقبوضة ليست على سمت الذراع الأخرى كأنَّها منقبضة عنها، والمبسوطة أرفع في الشمال، يقال للنيِّر منها: الشِّعرى الغُمَيصَاء لأنها لما عجزت عن عبور المجرَّة واللحاق بصاحبتها وهي الشِّعرى العَبُور بكت حتَّى غمصت، وقيل: إنما بكت لأنها لم تلحق بسهيل. وأمَّا النَّثرة: فقال الجوهري: هما كوكبان بينهما قدر شبر، وفيهما لطخُ بياض كأنه قطعة من سحاب، وهي أنف الأسد (¬2). وقيل: هي ثلاث كواكب، وصورته: [رسم توضيحي] وهي بين فم الأسد ومنخريه، ويقال له: مخطة الأسد. وأمَّا الطَّرف: فقال الجوهري: هما كوكبان يقدمان الجبهة وهما عينا الأسد (¬3). وقيل: بينهما قدر قامة، صورتهما: ¬

_ (¬1) "الصحاح": (ذرع). (¬2) "الصحاح": (نثر). (¬3) "الصحاح": (طرف).

[رسم توضيحي] وأما الجَبْهة: قال الجوهري: هي جبهة الأسد، وهي أربعة أنجم (¬1). وقال غيره: أحدها نجم براق، وهو اليماني، بين كل كوكبين في رأي العين قدر شوط، ويقال لها: نوء الأسد، وهي تعقب الطَّرْف، وصورتها: [رسم توضيحي] وأمَّا الزُّبْرة: فقال الجوهري: هما كوكبان نيِّران، هما كاهلا الأسد (¬2). وقال غيره: هما موضع الشعر من أكتافه، وبينهما في رأي العين مقدار شوط، وصورتهما: [رسم توضيحي] وأما الصَّرْفة: فقال الجوهري: هي نجم واحد نيِّر تلقاء الزُّبْرة (¬3). وقال غيره: هي قلب الأسد، وإنما سمي صرفة لانصراف البرد بها وإقبال الحرّ، وقيل: وبطلوعها ينصرف الحرّ، وصورته: [رسم توضيحي] وأمَّا العَوَّاء: فقال الجوهري: هي خمسة أنجم، يقال: إنها ورك الأسد (¬4). ¬

_ (¬1) "الصحاح": (جبه). (¬2) "الصحاح": (زبر). (¬3) "الصحاح": (صرف). (¬4) "الصحاح": (عوى).

وصورته: [رسم توضيحي] وأما السِّماك: فقال الجوهري: هما سِماكان نيِّران: سماك الأعزل، وهو من منازل القمر، وسماك الرَّامح، وليس من منازل القمر، وهما كوكبان، ويقال إنهما رِجْلا الأسد (¬1). وقال أبو معشر: الرامح أحد ساقي الأسد، والآخر الساق الآخر، ومع الرامح كوكب قدامه هو رمحه، والأعزل معتزل عن الكواكب ليس يقاربه كوكب، وسمي: الأعزل، لأنه لا رمح له، وسمِّي سِماكًا، لأنه سمَك في السماء أي: ارتفع. وصورة الأعزل: [رسم توضيحي] وصورة الرامح: [رسم توضيحي] قال: وخلف الرامح نجم يقال له: الفَكَّة، وهو كواكب مستديرة، ويسمَّى قصعة المساكين. وقال ابن قتيبة: إنما الفَكَّة قدَّام الرَّامح. قال الجوهري: وعرش السِّماك أربعة كواكب صغار أسفل من العَوَّاء، يقال لها: ¬

_ (¬1) "الصحاح": (سمك).

عجز الأسد (¬1). وقال ابن قتيبة: السِّماك الأعزل حدُّ ما بين الكواكب اليمانيَّة والشَّاميَّة. وأمَّا الغَفْر: فقال الجوهري: هو ثلاثة أنجم صغار ينزلها القمر، وهي من الميزان (¬2). وقال غيره: هي مأخوذة من الغفرة، وهي الشعرة التي في طرف ذنب الأسد، وصورته: [رسم توضيحي] وأمَّا الزَّبَّانى: فقال الجوهري: وزبانيا العقرب قرناها (¬3) وقال النوبختي: هما كوكبان نيران: [رسم توضيحي] وأما الإكليل: فأربعة أنجم مصطفَّة، وهذه صورته: [رسم توضيحي] كذا قال الجوهري (¬4)، وقال غيره: هو ثلاثة، وهو رأس العقرب كأنَّه الإكليل على الرأس. وأمَّا القلب: فقلب العقرب، وهو كوكب نيِّر، وإلى جانبه كوكبان، وصورته: [رسم توضيحي] ¬

_ (¬1) "الصحاح": (عرش). (¬2) "الصحاح": (غفر). (¬3) "الصحاح": (زبن). (¬4) "الصحاح": (كلل).

وأمَّا الشَّولة: فقال الجوهري أيضًا: هي كوكبان نيّران متقاربان يقال لهما: حُمَة العقرب (¬1): [رسم توضيحي] وقال النُّوبَختي: هما ذنب العقرب مأخوذ من الشَّول، وهو الارتفاع، كأنَّها شائلة أي: مرتفعة. وأمَّا النَّعائم: فقال الجوهري: هي ثمانية أنجم كأنها سرير معوجّ، أربعة صادرة وأربعة واردة (¬2). وقال أبو معشر: هي خارجة عن المجرة كأنها شربت ثم صدرت. وقال النُّوبَختي: هي شبيهة بالخشبات التي تكون معلَّقة على رأس البئر يُعَلَّقُ فيها البكرة والحبال، وتسمَّى النَّعائم. وأمَّا البَلْدة: فقال الجوهري: هي ستَّة أنجم من القوس تنزلها الشمس في أقصر يوم من السنة (¬3). وقال النُّوبختي: البَلْدة الفرجة بين الحاجبين، وصورتها: [رسم توضيحي] وأمَّا سعد الذابح: فقال الجوهري: هما كوكبان نيِّران بينهما مقدار ذراع، وفي نحر كلِّ واحد منهما نجم صغير قريب منه، كأنه يذبحه فسمّي ذابحًا لذلك (¬4). وصورته: ¬

_ (¬1) "الصحاح": (شول). (¬2) "الصحاح": (نعم). (¬3) "الصحاح": (بلد). (¬4) "الصحاح": (ذبح).

[رسم توضيحي] وأمَّا سعد السُّعود: فكوكب واحد نيِّر مفرد يتنزَّل بالسّعادة، وصورته: [رسم توضيحي] وأمَّا سعد بُلَع: فكوكب واحد كأنه فم مفتوح يريد أن يبلع شيئًا، وصورته: وأمَّا سعد الأَخْبِيَة: فثلاثة أنجم كأنها أثافي، ونجم رابع تحت واحد منهنَّ وصورته: وقيل: هما كوكبان. ومنهم من قال: أوَّل السعود، سعد السُّعود، ثم سعد الذَّابح، ثم سعد الأخبية، ثم سعد بُلَع. وقال الجوهري: وسعود النجوم عشرة، أربعة منها في برج الجدي (¬1) ينزلها القمر وذكر الأربعة، قال: وأمّا الستّة التي ليست من منازل القمر فسعد ناشِرَة، وسعد الملِك وسعد البِهام وسعد الهُمَام وسعد البَارع وسعد مَطَر. قال: وكل سعد من هذه السّتّة كوكبان، بين كل كوكبين في رأي العين مقدار ذراع، وهي متناسقة (¬2). ¬

_ (¬1) جاء بعدها في "الصحاح": "والدلو". (¬2) "الصحاح": (سعد).

وأمَّا فَرْغ الدلو المقدَّم والمؤخَّر: فكل واحد منهما كوكبان، بين كل كوكب مقدار خمسة أذْرع في رأي العين، كأنهما يفرغان من الدّلاء. وقال الجوهري: والفرغ مخرج الماء من الدلو بين العَراقي، قال: ومنه يسمّى الفرغان (¬1). وأمّا الرِّشاء: فقال الجوهري: هي كواكب كثيرة صغار على صورة السّمكة يقال لها: بطن الحوت، وفي سرّتها كوكب نيِّر، ينزله القمر (¬2). فهذه منازل القمر يقطعها في كل شهر، ويكون القمر في كل ليلة حذاء واحد منها أو قريبًا منه ثمَّ ينتقل في الليلة الثانية إلى ما بعده، ويكون منها فيما بين طلوع الشمس إلى غروبها أربعة عشر، وفيما بين غروبها وطلوعها أربعة عشر (¬3)، وفي وقت الفجر منزلان منها، وكلها تطلع من المشرق وتغرب في المغرب، وتكون وقت طلوعها إلى يسرة المصلي، ووقت غروبها على يمينه، بحسب اختلاف الأقاليم. والشمس أيضًا تنزل هذه المنازل. فصل والعرب تسمِّي هذه المنازل الأَنواء: وقال ابن قتيبة: إنما سمّي النوء نوءًا لأنه إذا سقط الغارب ناء الطالع (¬4). أي: نهض. وقال الجوهري: والنَّوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كلّ ليلة إلى ثلاثة عشر يومًا، وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السّنة، ما خلا الجبهة فإنّ لها أربعة عشر يومًا. قال: وقال أبو عبيد: لم يسمع في النوء أنه السقوط إلّا في هذا الموضع، وكانت العرب تضيف إليها الأمطار والرياح والبرد والحرّ، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: مطرنا بنوءِ كذا (¬5). ¬

_ (¬1) "الصحاح": (فرغ). (¬2) "الصحاح": (رشو). (¬3) في (ب): "أربعة وعشرون". (¬4) "أدب الكاتب" ص 87. (¬5) "الصحاح": (نوأ)، و"غريب الحديث" 1/ 321. ولم يذكرا القول عن سيدنا عمر بن الخطاب، إنما ذكراه حكاية عن قول العرب.

فصل في مطالعها

فصل في مطالعها قال النُّوبختي: طلوع الشَّرَطين (¬1) لتسع عشرة خلت من نيسان، وتنزل الشمس يومئذ الإكليل، وطلوع البُطَين لليلة إن بقيت منه. وطلوع الثّريَّا لثلاث عشرة من أيار وتستسرُّ بعد ما سقط عند المغرب خمسين ليلة، ثم تظهر بالغداة من المشرق، فإذا توسَّطت السَّماء مع غروب الشمس اشتدَّ البرد وترتفع العاهات عن الثمار، وقد روينا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذَا طَلَع النَّجْم ارتَفَعَت العَاهَةُ" (¬2). وطلوع الدَّبَران لستّ وعشرين من أيَّار. وطلوع الهَقْعَة لثمان خلون من حَزِيران (¬3). وطلوع الهَنْعَة لإحدى وعشرين منه (¬4). وطلوع الذراع لأربع خلَون من تَمُّوز. وطلوع النَّثرة لسبع عشرة ليلة خلت منه مع طلوع الشعرى العبور. وطلوع الطَّرف لأوَّل ليلة من آب. وطلوع الجَبْهَة لأربع عشرة ليلة خلت منه. وطلوع الزُّبرة لتسع وعشرين منه (¬5). وطلوع الصَّرْفة لثمان خلَون من أَيلول (¬6). وطلوع الغَفْر لتسع عشرة ليلة خلت منه (¬7). وطلوع الزَّبَّانى لليلتين إن بقيتا منه (¬8). وطلوع الإكليل لاثنتي عشرة من تشرين الأول (¬9). وطلوع القلب لخمس وعشرين منه (¬10). وطلوع الشَّولة لثمان (¬11) من تشرين الثاني. وطلوع النعائم لإحدى وعشرين منه (¬12). وطلوع البلدة لثلاث خلون من كانون ¬

_ (¬1) في (ب) و (ل): "البطين" والمثبت من (ط)، وانظر الأنواء ص 18. (¬2) تقدم تخريجه عند الكلام على الثريا ص 180. (¬3) في "الأنواء" ص 41: لتسع ليال. (¬4) في "الأنواء" ص 42: لاثنتين وعشرين ليلة. (¬5) في "الأنواء" ص 59: لأربع ليال يبقين من آب. (¬6) في "الأنواء" ص 59: لتسع ليال تخلو من أيلول. (¬7) في "الأنواء" ص 67: لثماني عشرة ليلة تخلو من تشرين الأول. (¬8) في "الأنواء" ص 68: آخر ليلة من تشرين الأول. (¬9) في "الأنواء" ص 69: لثلاث عشرة ليلة تخلو من تشرين الآخر. (¬10) في "الأنواء" ص 70: لست وعشرين ليلة تخلو من تشرين الآخر. (¬11) في (ب): "لثماني عشرة"، وفي "الأنواء" ص 72: لتسع ليال تخلو من كانون الأول. (¬12) في "الأنواء" ص 74: لاثنتين وعشرين ليلة تخلو من كانون الأول.

فصل في انقسام هذه المنازل على فصول السنة

الأول (¬1). وطلوع الذراع لستّ عشرة ليلة خلت منه (¬2). وطلوع سعد السعود لتسع وعشرين منه (¬3). وطلوع سعد الذابح لإحدى عشرة ليلة (¬4) خلت من كانون الثاني، وقيل: لأربع وعشرين خلت منه، وطلوع سعد الأَخْبيَة لست خلون من شباط (¬5). وطلوع سعد بُلَع لثمان عشرة خلون منه (¬6). وطلوع الفَرْغ المقدَّم لليلتين خلتا من آذار (¬7). وطلوع المؤخر لأربع عشرة ليلة خلت منه (¬8). وطلوع الرِّشاء لأربع من نيسان (¬9). فصل في انقسام هذه المنازل على فصول السنة قال ابن قتيبة: لفصل الربيع: الشَرَطين (¬10)، والبُطَين، والثُّريَّا، والدَّبَران، والهَقْعَة، والهَنْعَة، والذِّراع. ولفصل الصيف: النَّثرة، والطَّرْف، والجَبْهَة، والزُّبْرَة، والصَّرْفة، والسِّماك، والعَوَّاء. ولفصل الخريف: الغَفْر، والزُّبَّانى، والإكليل، والقلب، والشَّولة، والنَّعائم، والبَلْدة. ولفصل الشتاء: سعد السُّعود، وسعد الذابح، وسعد الأَخبية، وسعد بُلَع، والفَرْغان المقدَّم والمؤخَّر، والرِّشاء (¬11). فلكلِّ فصل سبع منازل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "الأنواء" ص 76: لأربع ليال تخلو من كانون الآخر. (¬2) في "الأنواء" ص 49: وسقوطها لأربع ليال تخلو من كانون الآخر. (¬3) في "الأنواء" ص 79: لاثنتي عشرة ليلة تمضي من شباط. (¬4) في (الأنواء) ص 76: لسبع عشرة ليلة. (¬5) في "الأنواء" ص 80: لخمس وعشرين ليلة تخلو من شباط. (¬6) في "الأنواء" ص 78: لليلة تبقى من كانون الآخر. (¬7) في "الأنواء" ص 82: لتسع ليال تخلو من آذار. (¬8) في "الأنواء" ص 83: لاثنتين وعشرين ليلة تمضي من آذار. (¬9) ويسمى الحوت كما في "الأنواء" ص 84 - 85. (¬10) كذا في النسخ والمطبوع، وصوابها: الشرطان. (¬11) "الأنواء" ص 100 - 102، وانظر "أدب الكاتب" ص 86 - 87.

فصل في أسجاع العرب المتعلقة بهذه المنازل، وما نقل فيها عن الأوائل

فصل في أسجاع العرب المتعلقة بهذه المنازل، وما نقل فيها عن الأوائل (¬1) قرأت على شيخنا أبي اليُمن الكِندي رحمه الله، قال: قرأت على أبي منصور بن الجواليقي قال: بلغني عن أبي بكر محمد بن المنادي أنه قال: العرب تقول: إذا طلع الشرطين، استوى الزُّمَين. وأمَّا قول من يقول "الشرطان" فقال أبو حنيفة الدينوري: استوى الزمان، وخَضرت الأعطان (¬2)، وعمرت الأوطان، وتهادت الجيران، وبات الفقير بكل مكان. وإذا طلع البُطين اقتُضي الدَّين. وإذا طلعت الثريَّا عشيَّا، بع لراعيك كسيّا، فإن طلعت غُدَيّا ابتغ له سقيَّا. وإذا طلع الدَّبَران، توقَّدت الحرَّتان، ويبست الغدران. وإذا طلعت الهَقْعَة، رجع الناس عن النُّجْعة. وإذا طلعت الهَنْعَة، انعطفوا إلى المنعة. وإذا طلع الذراع، حسرت الشمس القناع، واشتعل في الأفق (¬3) الشعاع، وترقرق السَّراب بكل قاع. وإذا طلعت النَّثرة، جُني النخل بكثرة، ولم يترك في ذات دَرٍّ قطرة. وإذا طلع الطَّرْف، سهل أمر الضَّيف وخف. وإذا طلعت الجَبْهة، توجَّه المسافر في كلِّ وجهة. وإذا طلعت الصَّرفة احتال كلُّ ذي حرفة. وإذا طلعت العَوَّاء، ضُرب الخباء، وطاب الهواء. وإذا طلع السِّماك، كثر على الماء اللِّكاك، يعني الزِّحام. ¬

_ (¬1) أورد ابن قتية في "الأنواء" هذه الأسجاع مفرقة كل في موضعه، وانظر "المخصص" 9/ 15 - 17، و "الأزمنة والأمكنة" 2/ 249 - 254. (¬2) في (ب): "خضرت الأغصان". (¬3) في (ب): "الأرض".

وإذا طلع الغَفْر، عاد السَّفْر. وإذا طلعت الزُّبانى، أخذ كلُّ ذي عيال شانا. إذا طلع الإكليل بطلت التعاليل. إذا طلع القلب، لان كلُّ صعب. إذا طلعت الشَّولة، أعجلت الشيخَ البولة. إذا طلعت النَّعائم، خلص البرد إلى كل قائم. إذا طلعت البلدة، أكلت القِشْدَة -وهي ما يخرج من الزبد والسّمن في أسفل القدر- وفي رواية ابن فارس: أكلت الجعدة، وهي نبت معروف. إذا طلع سعد السعود اخضرَّ العود، ولانت الجلود، وكره في الشمس القعود. إذا طلع الذابح، حمى أهلَهُ النَّابح. إذا طلع الأخبية، حنّ الناس إلى لبس الأقبية. إذا طلع بُلَع، اقتحم الرُّبُع (¬1) -أي قوي على المشي- وصار في الأرض لُمع -أي بدَّر الكلأ. إذا طلع المقدَّم، فاخدم وإلا تندم. إذا طلع المؤخَّر، فأسرع ولا تتأخر. إذا طلعت السمكة، أمكنت الحركة، وتعلقت (¬2) الحسكة، أي: حسك السَّعدان. * * * ¬

_ (¬1) الرُّبُع: الناقة المعتادة بأن تنتج في الربيع. "القاموس المحيط": (ربع). (¬2) جاء بعدها في "الأنواء" ص 85: "بالثوب".

فصل في النجوم

فصل في النجوم قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وقال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّه قال: علم النجوم نافع عجز عنه الناس، ووددت أني علمته. أشار إلى معرفة نفس النجوم، لا إلى الأحكام. واتفقوا على أن نور القمر من نور الشمس. واختلفوا في نور الكواكب، هل هو من نور الشمس أم من نور آخر، على قولين: قال الخَرَقي والنُّوبختي وأبو معشر وغيرهم: الكواكب المعروفة ألف واثنان (¬1) وعشرون كوكبًا: منها الجَدْي، وهو أدلُّها على القبلة. قال الجوهري: والجدي نجم إلى جنب القُطب تُعْرَفُ به القبلة (¬2). قال: والقُطب كوكب بين الجدي والفَرْقَدَين يدور عليه الفَلَك (¬3). وقال النُّوبختي: الجدي إلى جانب القطب الشمالي حوله أنجم دائرة كفراشة الرَّحى، في أحد طرفيها الفَرْقَدَان، وفي الطرف الآخر نجم مضيء يقابلها، وبين ذلك أنجم صغار، ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل، تدور حول الجدي والقطب دوران فراشة الرحى حول سَفُّودها، وحولها بنات نَعْش تدور والجدي والقطب لا يَبْرحان من مكانهما، وإنما يُستدل بالجدي على القطب. وقال أبو معشر: الجدي قطب هذه الفراشة، وقيل: القطب قطبها، ويستدل عليه بالجدي إذا لم يكن قمر، فإذا قوي ضوء القمر خفي مكانه فلا يراه إلا الحديدُ النظر. والسُّها إلى جانبه، وهو نجم خفي يَمتحن به الناس أبصارهم. ¬

_ (¬1) في (ب): "ومئتان"، وانظر "عجائب المخلوقات" ص 60. (¬2) "الصحاح": (جدي). (¬3) "الصحاح": (قطب).

وقال ابن قتيبة في "أدب الكاتب": الجدي الذي تعرف به القبلة هو جدي بنات نَعْش الصغرى، وبناتُ نَعْش الصغرى بقرب الكبرى على مثال تأليفها، أربعة منها نَعْش وثلاث بنات، فمن الأربعة الفَرْقَدَان وهما المتقدِّمان، ومن البنات الجدي وهو آخرها. قال: والسُّها الذي يمتحن الناس به أبصارهم كوكب خفيٌّ في بنات نَعْش. وفي المثل: أُريها السُّها وتُريني القمر (¬1). وكيفية معرفة القبلة بالجدي: أنك إذا جعلته وراء ظهرك في أرض الشام كنت مستقبل القبلة، وفي أرض العراق تجعله مقابل ظهر أذنك اليمنى على علوِّها فتكون مستقبلًا باب البيت إلى المقام، ومتى استدبَرْتَ الفَرْقَدَين أو بنات نَعْش كنت مستقبلًا جهة الكعبة. وأمَّا الفَرْقَدان فنجمان مضيئان قريبان من القطب وهما ندمانا جَذيمة (¬2). وقال الجوهري: وبنات نَعْش الكبرى سبعة كواكب، أربعة منها نَعْش وثلاث بنات، وكذا بنات نَعْش الصغرى (¬3). وقال أبو حنيفة الدينوري: والقطب الشمالي والجنوبي لا يبلغهما شمس ولا قمر، والقطب الجنوبي عند مطلع سُهيل، لا يظهر إلا في جزيرة العرب. ومنها سُهيل، وهو إلى جانب القطب الجنوبي ومطلعه من مهبِّ الجنوب، ثم يسير نحو المغرب فيصير في قِبلة المصلي وهناك يغيب. وقال ابن قتيبة: سهيل كوكب أحمر منفرد عن الكواكب، ولقربه من الأرض تراه أبدًا كأنه يضطرب، وهو من الكواكب اليمانية (¬4)، ومطلعه عن يسار القبلة (¬5)، ويرى في جميع أرض العرب والعراق والشام، ولا يرى في بلاد أرمينية، وبين طلوعه ¬

_ (¬1) "أدب الكاتب" ص 91 - 92، وانظر "جمهرة الأمثال" 1/ 142، و"مجمع الأمثال" 1/ 291. (¬2) هو جذيمة بن الأبرش، وسيذكر المصنف قصته مع الفرقدين في فصل ذكر ملوك الحيرة. (¬3) "الصحاح": (نعش). (¬4) في (ل): "الثمانية". (¬5) في "أدب الكاتب": "عن يسار مستقبل قبلة العراق".

بالحجاز ورؤيته بالعراق بضع عشرة ليلة (¬1). وذكره الجوهري فقال: وسهيل نجم (¬2)، والعرب تقول: إذا طلع سهيل لا تأمن السَّيل (¬3). وقال أبو معشر: من هذه الكواكب التي هي ألف واثنان (¬4) وعشرون كوكبًا: ثلاث مئة واثنا عشر كوكبًا (¬5) في اثنتي عشرة صورة في طريق الشمس، وهي البروج الاثنا عشر. ومنها ثلاث مئة وستون كوكبًا في إحدى وعشرين صورة، وهي مائلة عن طريق الشمس إلى ناحية الشمال، منها الدبُّ الأكبر والأصغر والتنين وغيرهم. ومنها ثلاث مئة وستة عشر كوكبًا في خمس عشرة صورة مائلة عن طريق الشمس إلى ناحية الجنوب، والاعتماد على الكواكب التي في طريق الشمس لأنها منتقة (¬6) البروج، وما عدا الكواكب التي سمينا لم يُسمها عامة أرباب الهيئة. وذكرها أبو محمد عبد الجبّار المعروف بالخَرَقي في كتابه المسمى بـ "التبصرة في الكواكب الثابتة" (¬7) فقال: فأمَّا الكواكب التي في الصور الشمالية: فمنها الدبُّ الأصغر: وهو على صورة دبٍّ واقف مادٍّ ذنبه، وكواكبه سبعة، وتسمّيها العرب: بنات نَعْش الصغرى، فأربعة هي النَّعْش على شكل مربع، والثلاث على طرف ذنبه، والخارج عن الصورة كوكب واحد، فالذي على طرف ذنبه يسمُّونه: الجدي، وهو الذي يُتَوخى به القبلة، إذ هو أقرب الكواكب المرصودة إلى القطب الشمالي. قال: ومنها الدبُّ الأكبر: وكواكبه سبعة وعشرون كوكبًا، والخارج عن الصورة منها ثمانية كواكب. من جملتها سبعة تسميها العرب بنات نَعْش الكبرى، أربعة على يديه وثلاثة على ذنبه، والذي على طرف ذنبه يسمونه: القائد، ثم العَنَاق، ثم ¬

_ (¬1) "أدب الكاتب" ص 92 - 93. (¬2) "الصحاح": (سهل). (¬3) انظر "الأنواء" ص 154 - 155. (¬4) في (ب): "مئتان". (¬5) جاء بعدها في (ب): "في اثنتي عشر كوكبًا". (¬6) كذا في المخطوطتين، وفي كنز الدرر 1/ 54: متقنة. (¬7) تقدم الكلام على الكتاب ومؤلفه.

الجون (¬1)، وبقرب العَنَاق كوكب صغير يسمونه: السُّها. ومنها التِّنِّين: وهو أحد وثلاثون كوكبًا وصورته حيَّة كبيرة كثيرة العطفات، وابتداؤها من أربعة كواكب على شكل مربع منحرف على رأسه، تسميه العرب: العوائذ. قال الجوهري: والتِّنِّين موضع في السماء، والتِّنين ضرب من الحيَّات (¬2). قال: ومنها الفكة: ويقال له: الإكليل الشِّمالي، ويعرف بقصعة المساكين لاستدارتها، وكواكبها ثمانية، وذكرها الجوهري فقال: والفكة كواكب مستديرة خلف السِّماك الرامح (¬3). ومنها الجاثي على ركبتيه: وصورته تسعة وعشرون (¬4) كوكبًا. ومنها السلياق: ويقال له: اللوزا والصبح الرومي والسلحفاة، وكواكبه عشرة من جملتها كوكب نيِّر يسمُّونه: النَّسر الواقع، سمي بذلك لأن جناحيه مقبوضان. قال الجوهري: وفي النجوم النَّسر الطائر والنَّسر الواقع (¬5). ومنها الدَّجاجة: سبعة عشر كوكبًا، والخارج عن الصورة كوكبان، وأكثر كواكبها في المجرة قريبة من النسر الواقع. ومنها ذات الكرسي: ثلاثة عشر كوكبًا، وصورتها صورة امرأة جالسة على كرسي عليه مسند وقد دلَّتْ رجليها، وهي في نفس المجرة، ومن كواكبها الكف الخضيب على وسط المسند، يعرف بسنام الناقة. ومنها برشاوس: ويسمى حامل رأس الغول، ستة وعشرون كوكبًا، والخارج عن الصورة ثلاثة كواكب، وصورته صورة رجل قائم على رجله اليسرى رافع رجله اليمنى، ¬

_ (¬1) هكذا جاءت في الأصول الخطية، وصوابه: الحَوَر، كما في "القاموس المحيط": (حور). (¬2) "الصحاح": (تنن). (¬3) "الصحاح": (فكك). (¬4) في (ب): "تسع وثلاثون". (¬5) "الصحاح": (نسر).

ويده اليمنى فوق رأسه، وبيده اليسرى رأس مشوَّه الخلق مقطوع، يسمَّى: رأس الغول. ومنها ممسك العَنان: أربعة عشر كوكبًا، وصورته صورة رجل قائم بإحدى يديه سوط، ويده الأخرى قابضة على عنان خلف العَيُّوق. ومنها الحوَّاء: وهي أربعة وعشرون كوكبًا، والخارج عن الصمورة خمسة كواكب، وصورته صورة رجل قائم قد قبض بيديه جميعًا على حية. ومنها حيَّة الحوَّاء: ثمانية عشر كوكبًا قد قبضها الحوَّاء وقد رفعت رأسها وذنبها حتى عليا رأسه. ومنها السَّهم: خمسة كواكب بين منقار الدجاجة والنسر الواقع. ومنها العُقاب: تسعة كواكب، والخارج عن الصورة ستة، ومن كواكبه النَّسر الطائر لأن جناحيه مبسوطان. ومنها الدُّلْفِين: عشرة كواكب مجتمعة خلف النَّسر الطائر، وصورته صورة حيوان بحري يشبه الزِّق المنفوخ، ولم يذكره الجوهري في النجوم، وإنما قال: الدلفين -بالضم- دابَّة في البحر تنجي الغريق (¬1). ومنها قطعة الفرس: أربعة كواكب، ويقال لها: مقَدَّم الفرس، خلف كواكب الدُّلفين. ومنها الفرس الأكبر: وهو ذو الجناح، عشرون كوكبًا، صورة فرس له رأس ويدان وليس له رجلان ولا كِفل. ومنها أندروميدا: ويقال لها: المرأة المسلسلة، اثنان وعشرون كوكبًا، وصورتها: امرأة قائمة ممدودة اليدين، في يديها سلسلة كأنها معلَّقة بها، ويقال: السِّلسلة في رجليها. ومنها المثلث: أربعة كواكب بين كواكب السمكة وبين النِّير الذي على رأس الغول. قال الخَرَقي: فجملة هذه الصور الشمالية ثلاث مئة وستون كوكبًا. فأما الصور ¬

_ (¬1) "الصحاح": (دلف).

الجنوبية فثلاث مئة وستة عشر كوكبًا: منها قيطس: اثنان وعشرون كوكبًا، وصورته صورة حيوان بحريٍّ، ذو رجلين وذنب كذنب الحوت. ومنها الجبَّار: ثمانية وثلاثون كوكبًا، وصورته صورة رجل على كرسيٍّ بيده عصا، وفي وسطه مِنطَقة وسيف، ومن كواكبه يد الجوزاء، وهو كوكب أحمر نيِّر. ومنها النَّهر: أربعة وثلاثون كوكبًا، وشكله شكل جدول كثير العطفات. ومنها الأرنب: اثنا عشر كوكبًا مجتمعة تحت رِجل الجبَّار مشبَّهة بأرنب، ووجهه إلى المغرب ومؤخره إلى المشرق. ومنها الكلب الأكبر: ثمانية عشر كوكبًا، والخارج عن الصورة أحد عشر كوكبًا خلف كواكب الجوزاء أمام السَّفينة، ومن كواكبه الشِّعرى العَبُور، كوكب نيِّر، ويسمَّى الثاني المِرْزَم. قال الجوهري: والشِّعْرى الكوكب الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدَّة الحرِّ، وهما الشِّعريان العَبُور التي في الجوزاء، والشعرى الغُمَيصاء التي في الذراع، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل (¬1). وقال الجوهري: والمِرْزَمان مِرْزَما الشِّعْرَيَين، وهما نجمان أحدهما في الشعرى، والآخر في الذِّراع (¬2). ومنها الكلب الأصغر: وهما كوكبان يسمَّى أحدهما الشِّعرى الشامية والغُمَيصاء، كوكبان نيِّران. ومنها السَّفينة: خمسة وأربعون كوكبًا مجتمعة في ناحية الجنوب تطلع في أثر الكلب الأكبر، من جملتها سُهيل النَّجم الأحمر. ومنها الشُّجاع: خمسة وعشرون كوكبًا، والخارج عن الصورة كوكبان، وصورته صورة حيَّة طويلة كثيرة العطفات، ورأسه على خلقة وجه الفرس من أربعة كواكب، ¬

_ (¬1) "الصحاح": (شعر). (¬2) "الصحاح": (رزم).

فصل في أجرامها

يبتدئ من زُبانى السَّرطان، وهو بين الشِّعرى الشامية وقلب الأسد. ومنها الكأس: سبعة كواكب على شكل مستدير عند ظهر الشُّجاع، ويسمَّى الباطِيَة. ومنها الغراب: سبعة كواكب، ويسمَّى: عرش السِّماك الأعزل، ويسمَّى أيضًا: الخِباء. ومنها قنطورس: سبعة وثلاثون كوكبًا، وصورته صورة حيوان مركَّب من إنسان وفرس، مقدَّمه مقدَّم الإنسان من رأسه إلى ظهره، ومؤخَّره مؤخر فرس من منشأ ظهره إلى ذنبه، قد أخذ بيديه رجلي سبع، وتسمِّيه العرب شماريخ. ومنها السَّبُع: تسعة عشر كوكبًا مجتمعة خلف كواكب قنطورس على جنوب العقرب. ومنها الإكليل الجنوبي: ثلاثة عشر كوكبًا (¬1) وشكلها شكل صنوبري، وتسمّيها العرب: قبَّة. ومنها الحوت الجنوبي: أحد عشر كوكبًا، والخارج عن الصورة ستة كواكب، وصورته صورة سمكة عظيمة كواكبها على جنوب كواكب الدَّلو، ورأسها إلى المشرق، وذنبها إلى المغرب. ومنها المجمّرة (¬2): على جنوب خرزات العقرب. قال الخَرَقي: فهذه جملة الكواكب الشمالية والجنوبية. قلت: وهذا الذي ذكره يختص بالكواكب التي هي غير مشهورة، وأمَّا الكواكب السبعة وما كان في معناها فنذكرها. فصل في أجرامها واختلفوا فيها: ذكر النُّوبختي وأبو مَعشر أن جِرم الشمس بمقدار الدنيا مئة وستة وستين (¬3) مرَّة ونصفًا. وجرم القمر بمقدار الدنيا تسعًا وثلاثين مرَّة، وكذا الزُّهرة ¬

_ (¬1) من قوله: مجتمعة ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) في (ل): المجرة، والمثبت من (ط). (¬3) في (ب): "مئة سنة وستين".

وعُطارد والمِريخ، وجِرم المشتري بمقدار الدنيا اثنتين وثمانين (¬1) مرة. قال الجوهري: ويسمَّى المُشتري الأحور (¬2). وزحل أعظم من الدنيا بتسع وتسعين مرّة. وروي عن النُّوبختي أنه قال: جِرم الشمس خمس عشرة درجة أمامها، وكذا خلفها، وجِرم القمر اثنتا عشرة درجة أمامه، وكذا خلفه، وجِرم المشتري تسع درجات أمامه، وكذا خلفه، وكذا جِرم زحل، وجِرم المِرِّيخ ثمان درجات أمامه وكذا خلفه، وجرم الزهرة سبع درجات أمامها وكذا خلفها، وكذا عطارد. وذكر هارون بن المأمون في تاريخه المسمّى بـ "منهاج الطالبين": أن أصغر كوكب في السماء بمقدار الدنيا مرَّات كثيرة، قال: إلا القمر، فإنه أصغر من الأرض. قلت: أما "قوله أصغر كوكب في السماء بمقدار الدنيا" فنعم، وما ذكر في القمر فلم يوافقه عليه أحد. قال أبو معشر: فأمَّا الكواكب العظام الثابتة كالشِّعرى العَبُور، والسِّماك، والنَّسر الواقع، والطائر، وقلب الأسد، ونحوها، وهي خمسة عشر كوكبًا، فكل كوكب منها بمقدار الأرض أربعًا وتسعين مرّة ونصفًا. وقال ابن قتيبة: النَّسر الواقع ثلاثة أنجم [كأنها أثافي، وبإزائه النسر الطائر وهو ثلاثة أنجم] مصطفَّة: [رسم توضيحي] [وإنما قيل للأول]: الواقع كأنَّهم جعلوا اثنين منها جناحيه قد ضمَّهما إليه كأنه طائر وقع، وكذا الطائر ثلاثة أنجم مصطفَّة يجعلون اثنين منها جناحيه كأنه طائر قد بسطهما (¬3). قال أبو معشر: ويقطع كل واحد منهما الفلك في ستّة وثلاثين ألف سنة. ¬

_ (¬1) في (ب): "تسعة وثلاثين". (¬2) "الصحاح": (حور). (¬3) "أدب الكاتب" ص 92، وما بين معقوفين زيادة منه.

فصل في قطع النجوم السبعة الأفلاك

فصل في قطع النجوم السبعة الأفلاك ذكر أبو حنيفة الدِّينوري: أنَّ القمر يقطع الفلك في تسعة وعشرين يومًا وأقل من ثلث يوم. وقال النُّوبختي: في تسعة وعشرين يومًا. وعُطارد يقطعه في أقل من ثمانية وعشرين يومًا، والزُّهَرة تقطعه في مئتين وأربعة وعشرين يومًا وأشف من ثلثي يوم، والشمس تقطعه في ثلاث مئة وخمسة وستين يومًا وأشف من ربع يوم، والمِرِّيخ يقطعه في ست مئة وثلاثين يومًا، والمُشتري يقطعه في إحدى عشرة سنة وثلاث مئة وسبعة وعشرين يومًا، وزُحل يقطعه في تسع وعشرين سنة فارسيَّة ومئة وستَّة وسبعين يومًا. فصل في مقامات الكواكب في البروج قالوا: مقام القمر في كل برج ليلتان وثلث ليلة، ومقام عطارد في كل برج خمسة عشر يومًا، ومقام الزُّهرة في كل برج خمسة وعشرون يومًا، ومقام الشمس في كل برج شهر، ومقام المِرِّيخ خمسة وأربعون يومًا، ومقام المُشتري سنة، ومقام زُحل في كل برج ثلاثون شهرًا. فصل في شرف الكواكب شرف القمر الثور، شرف عُطارد السُّنبلة، شرف الزُّهَرة الحوت، شرف الشمس الحَمَل، شرف المِرِّيخ الجدي، شرف المُشتري السَّرطان، شرف زُحل الميزان. فصل في المجرة واختلفوا فيها، قال: هي شرج السَّماء، كأنها مجمع النجوم، كشرج القبَّة. وقيل: هي باب السمعاء، وتسمِّيها العرب: أمَّ النجوم، لأنه ليس في السماء بقعة أكثر عددًا من الكواكب فيها.

فصل فيما لكل كوكب من الأيام السبعة

وقد روى أبو بكر الخطيب حديثًا في المجرّة فقال: أخبرني علي بن محمد بن الحسن المالكي بإسناده عن معاذ بن جبل قال: لما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال: "إنْ هُم سَأَلوكَ عن المجرَّةِ فقل: إنَّها من عَرَق الأَفْعى الذي تحتَ العَرْشِ" (¬1). قال جدّي في "الموضوعات": هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي إسناده الشَّاذَكُوني، اسمه سليمان بن داود، كان يضع الحديث ويكذب (¬2). فصل فيما لكل كوكب من الأيام السبعة قالوا: يوم الأحد للشمس، والإثنين للقمر، والثلاثاء للمِرِّيخ، والأربعاء لعُطارد، والخميس للمُشتري، والجمعة للزُّهرة، والسبت لزُحل. فصل في اقتران الكواكب معنى القِران أن يجتمع الكوكبان في برج واحد، فيؤثران بأمر الله تعالى. قالوا: إذا قارن زحل المشتري عمت (¬3) الحروب في الأقاليم ويموت ملك، وكذا إذا قارن المِرِّيخ زُحل، وكذا إذا قارنت الشمس زحل. وإذا قارنت الزُّهَرة زحل دلَّ على غلاء الأسعار والقحط. وإذا قارن زحل عطارد دلَّ على صلاح حال الكتَّاب. وإذا قارن زحل القمر دلَّ على ظهور الجَوْر. وإذا قارن المشتري المِرِّيخ لقي العالم شدائد عظيمة. * * * فصل ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 9/ 44. (¬2) "الموضوعات" (296). (¬3) في (ب): "عملت".

في طبائع الكواكب

في طبائع الكواكب قال أبو معشر وغيره: القمر أنثى بارد رطبٌ بلغميٌّ، وفيه حرارة عرضيَّة، لأن ضوءه من ضوء الشمس، وسلطانه على الطِّحال والرئة، وهو سعد. عطارد يتذكَّر ويتأنَّث، وهو مرَّة سعد ومرَّة نحس، ويستوي في طبيعته الحرُّ والبرد. وسلطانه النطق والكتابة. الزُّهَرة: أنثى ممزوجة، وهي سعد، باردة رطبة لها البلغم، وسلطانها على الفرج والمفاصل، ولها الشهوة ونظم الأكاليل وتأليف الألحان والغناء، واللعب واللهو والضحك. الشمس: ذكر حارَّة يابسة لها المِرَّة الصفراء، وهي سعد بالنظر، نحسٌ بالمقابلة، جوهرها الذهب، وسلطانها على الفؤاد، ولها الشرف والعلوُّ، والفرح والسرور والملك. المِرِّيخ: مؤنَّث ناريٌّ حارٌّ يابس نحس، له المِرَّة الصفراء، وجوهره النحاس، ومذاقته مُرَّة، وسلطانه على الرأس والمعدة، وله الدَّاء القاتل والقتل، وفساد النساء في الحبل. المُشتري: ذكرٌ معتدل روحاني هوائي سعد، وله الدم، وجوهره الرَّصاص، ومذاقته طيِّبة، ولونه أبيض، وسلطانه على الريح الساكنة في القلب، وله العطاء والعبادة والعلوُّ والرياسة. زُحل: ذكرٌ بارد يابس مظلم، له المِرَّة السوداء، وجوهره الحديد، ومذاقته مُرَّة، ولونه أسود، وسلطانه على المذاكير، وله الجسارة والتؤدة والوحدة والقهر والجبريَّة. قلت: وزعم قوم أن هذه البروجَ والأفلاك والكواكب السيَّارة تفعل في العالم التأثير، وأنَّها هي المدبِّرة للعالم، واحتجُّوا بقوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 5] ونحو ذلك. ونحن نقول: قد ورد أن إدريس - عليه السلام - لما صعد السَّماء أُخبر بالبروج والنجوم وغيرها، فما جاء عنه في هذا الباب فمقبول، وما نهى عنه الشرع فلا يُلتَفَت إليه، بل قد

قامت البراهين والأدلة على أن الباري سبحانه وتعالى اخترعها وأنشأها وابتدعها. وأمَّا قولهم: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} فقد قال ابن عباس: هم الملائكة، بعضهم مُوكَّلٌ بالأرزاق، وبعضهم بالرِّياح لما نذكر في خلق الملائكة، ولو كانت مدبِّراتٍ فبإذن الباري سبحانه وتعالى، لأنه القادر العليم القاهر الحكيم. * * *

فصل في ذكر البيت المعمور

فصل في ذكر البيت المعمور وما ورد فيه من النَّص والحديث المشهور (¬1) قال الله تعالى {وَالْبَيتِ الْمَعْمُورِ (4)} [الطور: 4]. روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: [اسمه] الضُّراح. وقد ضبطه الجوهري فقال: والضراح -بضمِّ الضاد المعجمة والحاء المهملة- بيت في السَّماء (¬2)، وهو البيت المعمور، عن ابن عباس (¬3). واختلفوا في أيِّ سماء هو على أقوال: أحدها: في السماء الدنيا، وهو قول ابن عباس ومجاهد والربيع، واحتجوا بحديث عائشة. قال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن أبي الزبير عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمَ مكَّة فأرادَتْ عائشةُ أن تدخل البيتَ -يعني ليلًا- فقال لها بنو شيبة: إنَّ أحدًا لا يدخله ليلًا ولكن نُخليه لكِ نهارًا، فشكَت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّه ليسَ لأحَدٍ أن يدخُلَه ليلًا إنه بحِيال البيتِ المَعْمُور الذي في السَّماء، لو وَقَع حَجرٌ منه لوَقَع على ظهرِ الكعبةِ، وإنَّه يدخله كلَّ يومٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ لا يعودونَ فيه إلى يوم القيامةِ، ولكنِ انطَلِقي أنتِ وصواحِبك فصَلِّينَ في الحِجْرِ" ففعلت، فأصبحت وهي تقول: قد دخلت البيتَ على رغم من رغم (¬4). وروى عكرمة عن ابن عبّاس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعناه، وقال: "حُرمتُه في السَّماءِ ¬

_ (¬1) انظر كنز الدرر 1/ 60. (¬2) "الصحاح": (ضرح). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (8874) من طريق كُريب، عن ابن عباس، وانظر "عمدة القاري" 17/ 28. (¬4) أخرجه الثعلبي في تفسيره 9/ 124 من طريق هارون بن محمد بن هارون، عن إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، عن موسى بن إسماعيل، عن سفيان بن نشيط، عن أبي محمد، عن الزبير، به. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 117 - 118، وعزاه لابن مردويه.

كحُرمةِ الكعبةِ في الأرضِ، فهو مَعمورٌ بكثرةِ الغاشِيَة والأهلِ والعبادةِ، يُصلِّي فيه كلَّ يومٍ سبعونَ ألف مَلَكٍ، لا يعودونَ فيه، وخادِمُه يُقال له: رَزين (¬1). وروي عن ابن عباس أنّه كان من الجنَّة، فلمّا أُهبط آدم إلى الأرض حمل إليه ليستأنس به ثم رفع في أيّام الطوفان. القول الثاني: أنه في السماء السادسة عند شجرة طُوبى. وروي عن عليٍّ عليه السلام (¬2). والثالث: أنه في السماء السابعة، قاله مجاهد والضحاك (¬3). وقد روى البخاري في حديث المعراج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ورَأيتُ البَيتَ المَعْمُور في السَّماءِ السابعةِ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون فيه (¬4) ". قلت: ولا تنافي بين هذه الأقوال، لأنه يحتمل أن الله تعالى رفعه ليلة المعراج إلى السماء السادسة عند سدرة المنتهى ثم إلى السماء السابعة تعظيمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يراه في أماكن، ثم أعاده إلى السماء الدنيا. وذكر الثعلبي عن الحسن البصري أنه قال: {وَالْبَيتِ الْمَعْمُورِ (4)} أنه الكعبة الحرام يعمره الله كلّ سنة بالناس، وهو أوَّل بيت عُمِّر للعبادة. والقول الأوَّل أظهر لما روينا عن عائشة - رضي الله عنهما-، ولأنَّ الكعبة تعمر بالنَّاس في السنة مرة، والبيت المعمور يعمر كلَّ يوم بالملائكة. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة 1/ 49 من طريق كريب، عن ابن عباس. (¬2) انظر "عمدة القاري" 4/ 44. (¬3) انظر "عمدة القاري" 4/ 44. (¬4) أخرجه البخاري (3207)، ومسلم (164) من حديث مالك بن صعصعة.

فصل في سدرة المنتهى التي يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها

فصل في سدرة المنتهى التي يسير الراكب في ظلّها مئة عام لا يقطعها (¬1) قال الجوهري: السِّدر شجر النَّبْق، الواحدة: سِدرة (¬2). واختلفوا لم سمِّيت بهذا الاسم على أقوال: أحدها: لأنّه ينتهي إليها أعمال بني آدم التي تعرج بها الكتبة إلى السماء ثم تُقبض منها، وإليها ينتهي ما يقبض من فوقها فينقبض منها، قاله كعب الأحبار، وذكر أنه في التوراة. كذلك فإنَّ العوفي روى عن ابن عباس قال: سألت كعبًا عن سدرة المنتهى، فقال: هي سدرة في أصل العرش، إليها ينتهي عمل الخلائق فترفع منها، تعرج به الملائكة إليها فتقف عندها، ثم ينزل إليها أمر الله تعالى (¬3). وبه قال ابن مسعود وابن عبَّاس وجماعة من الصحابة. والثاني: أنه ينتهي إليها علم كل عالم، قاله مقاتل. والثالث: أن كل شيء من أوامر الله تعالى يصل إليها فينتهي عندها، ولا يعدوها شيء، قاله الربيع بن أنس. والرابع: لأنَّ الملائكة المقرَّبين تنتهي إليها، فلا يتجاسرون أن يتجاوزوها من مخافة الله تعالى، قاله الضحاك. والخامس: لأنه ينتهي إليها ما يعرج من أرواح المؤمنين، حكاه سفيان الثوري. واختلفوا في أيِّ سماء هي على أقوال: أحدها: في السماء السادسة، قاله ابن مسعود (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 62. (¬2) "الصحاح": (سدر). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 150، والطبري في تفسيره 27/ 52. (¬4) أخرجه مسلم (173).

والثاني: في السماء السابعة، وقد ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتفق عليه من حديث المعراج أنها فيها (¬1). والثالث: أنها بعد السماء السابعة، قاله أبو هريرة، قال: وقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رَأيتُها بعد السَّماءِ السابعةِ، فقيل لي: هذِه سِدرَة المُنتَهى، فإذا شَجَرة يخرجُ من أصلِها أربعةُ أنهارٍ: نهرٌ من ماءٍ غيرِ آسِنٍ، ونهر من لَبَنٍ، ونهرٌ من عَسَل مُصفَّى، ونهرٌ من الكافُورِ، والورقةُ منها تُغطِّي أُمَّة مِن الأُمَمِ (¬2) ". وقال البخاري بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في الجنَّة شجرةً يسيرُ الرَّاكبُ في ظِلِّها مئةَ عامٍ لا يَقطَعُها، واقرَأوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} [الواقعة: 30] متفق عليه (¬3)، ورواه أبو سعيد (¬4) وأبو هريرة (¬5). وقال ابن عباس: ليس في الجنة قصر ولا بيت إلا وفيه غصن من أغصانها. وسئل علي - رضي الله عنه - عنها فقال: هي كالشمس في الدنيا. وسمَّاها عبد الله بن سَلام: شجرة طوبى، قال: وكذا هي في التوراة. وفي القرآن {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]. وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر الصّدِّيق - رضي الله عنهما-، قالت سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر سدرة المنتهى فقال: "يسير الراكب في ظلّ الفَنَن مئة عام، ويستظلّ بالفنن منها مئة ألف راكب، فيها فراش من ذهب كأنّ ثمرها القلال". وسنذكرها في المعراج إن شاء الله تعالى. حدَّثنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد المقدسيّ رحمه الله تعالى بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: سألَ رجل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن شجرة طوبى فقال: "غَرَسَها اللهُ ¬

_ (¬1) البخاري (3207)، ومسلم (164) من حديث مالك بن صعصعة. (¬2) أخرجه الطبري 27/ 54، وليس فيه: رأيتها بعد السماء السابعة. (¬3) صحيح البخاري (3251) دون قوله: "واقرؤا إن شئتم ... " .. وهو من أفراد البخاري، ولم يخرجه مسلم كما في الجمع بين الصحيحين (2048). (¬4) أخرجه البخاري (6553)، ومسلم (2828). (¬5) أخرجه البخاري (3252)، ومسلم (2826).

فصل في ذكر الكرسي والعرش ومقدار ما بينهما وبين الفرش

تعالى بيدِه، ونَفَخَ فيها من رُوحِه، تُنْبِتُ حُليَّ أهلِ الجنَةِ وحُلَلَهم، وأنَّ أغصانَها لَتُرى من وراءِ سُورِ الجنَّة" (¬1). وقال مقاتل: لو أن ورقة منها وقعت في الأرض لأضاءت لأهلها، وهي طوبى التي ذكرها الله في سورة الرعد. فصل في ذكر الكرسي والعرش ومقدار ما بينهما وبين الفرش (¬2) قال الجوهري: الكرسيُّ واحد الكراسي المعروفة (¬3). واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنه الكرسي، وقد فسّر ابن عباس قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] بهذا، قال: ومعنى وَسِعَ أي ملأهما وأحاط بهما. والثاني: أنَّ الكرسيَّ علم الله، ومنه قيل للصَّحيفة فيها العلم: كرَّاسة، ويقال للعلماء: الكراسيُّ، قاله الضحَّاك وروي عن ابن عبَّاس أيضًا. والثالث: قدرة الله وسلطانه وملكه، والعرب تسمِّي المُلك القديم: كرسيًّا، قاله مقاتل. والرابع: سرّه، قال الشاعر: ما لي بأمرك من سرّ أكاتمه ... ولا بكرسيِّ علمِ اللهِ مخلوقُ قاله الحسن. والخامس: أهله، قاله أبو جعفر الطبري، قال: ومعناه وسع عباده أهل السماء والأرض. والسادس: أنَّ الكرسيَّ هو العرش، قاله الحسن (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (11673)، والطبري (20395) بنحوه، وإسناده ضعيف. (¬2) انظر "كنز الدرر" 1/ 63. (¬3) "الصحاح": "كرس". (¬4) انظر الأقوال السابقة في تفسير الطبري 5/ 397 - 403.

والسابع: أنَّه ملك عظيم أضافه إلى نفسه تخصيصًا لينبّه به على عظمته وقدرته، قاله مقاتل بن حيَّان، قال: ومعناه أن خلقًا من خلقي يملأ السَّماوات والأرض فكيف تُقدر قدرتي وتُنال عظمتي. قلت: والأصح أنَّه الكرسيُّ بعينه، وباقي الأقوال مجاز وعدولٌ عن الحقيقة، لأنَّ الأخبار والآثار دالَّة عليه. قال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن أبي ذرٍّ، قال قلت: يا رسول الله، أيُّما أُنزل عليك أعظم؟ قال: "آيةُ الكُرسيِّ" ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذرِّ، ما السَّماواتُ السَّبعُ في الكُرسيِّ إلّا كحَلْقةٍ ملقاةٍ في أرضٍ فلاةٍ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة" (¬1). وروي عن علي (¬2) - عليه السلام - أنه قال: الكرسيُّ من لؤلؤة بيضاء، وهو فوق السماء السابعة بمسيرة خمس مئة عام، وطول كلِّ قائمة منه مثل السماوات السبع والأرضين السبع، وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسيَّ أربعة أملاك، أقدامهم على الصخرة التي تحت الأرض السابعة. وأمَّا ما ذكروه من معنى العلم والقدرة ونحو ذلك، فالعرب لا تعرف الكرسيَّ بمعنى العلم والقدرة والمُلك والأهل، وما استشهدوا به فشاذٌّ لا يعرَّج عليه. وأمَّا العرش، فقال الجوهري: العرش سرير الملِك (¬3). وقال الزجَّاج: سرير الملك يسمّى عرشًا، وأنشد قول أميَّة بنِ أبي الصَّلت (¬4): مجِّدوا الله فَهْو للمجدِ أهلٌ ... ربُّنا في السماء أمسى كَبيرا بالبناء الأعلى الذي لسَبَق النَّا ... س وسوَّى فوقَ السَّماء سَريرا أي: عرشًا. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (361). (¬2) في النسخ: "جبريل" والمثبت من "كنز الدرر" 1/ 64، وانظر تفسير القرطبي 3/ 276. (¬3) "الصحاح": (عرش). (¬4) البيتان في ديوانه ص 399 - 400.

وقال الحسن البصري: العرش هو الكرسي بعينه (¬1). وليس كما ذكر، لأنّ الله تعالى فرَّق بينهما فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، ثم قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] وذكر العرش في عدَّة مواضع. وروى مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: العرش بعد الكرسي، والعرش من ياقوتة حمراء، وتحته بحر تنزل منه أرزاق الحيوانات، يوحي الله إليه فيقطر ما شاء، ثم يقسم بين الخلائق، وبين حملة العرش وحملة الكرسيِّ لسبعون حجابًا من نور، غلظ كلِّ حجابٍ مسيرة خمس مئة سمنة، ولولا ذلك لاحترق حملة الكرسي من نور [حَمَلةِ] العرش. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: للعرش ثلاث مئة وستون ألف برج، في كل برج ثلاث مئة ألف صف من الملائكة، لا يعلم محددهم إلا الله تعالى، يسبِّح كل واحد منهم بلسان لا يعرفه الآخر. فإن قيل: فما الحكمة من خلق العرش، والله أعظم من كل عظيم؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه موضعُ خدمة الملائكة، فهم حافُّون به إلى يوم القيامة كما قال الله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] فهو كبابِ الملِك. والثاني: لأنَّ الله جعله قبلةَ الدَّاعين، وملجأ المكروبين، ومفزع الخائفين، وحرم القاصدين، وجناب اللائذين. والثالث: لأنه سقف الجنان، وتأوي إليه أرواح الشهداء في قناديل من ذهب معلَّقةٍ فيه، على ما ورد به الحديث الصحيح (¬2). والرابع: لأنَّ الله جعله معدن الستر واللطف، فروى عطاء عن ابن عباس قال: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 10. (¬2) أخرجه مسلم (1887) عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئًا، قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يارب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا".

فصل في حملته

حدثني كعب الأحبار قال: قرأت في بعض الكتب: أن ما في الدنيا مؤمن إلا وله تمثال على هيئته تحت العرش، فإذا ركع المؤمن وسجد في الصلاة فعل ذلك التمثال مثل فعله، فتنظر إليه الملائكة فيستغفرون له، وذلك قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]، فإذا ارتكب المؤمنُ خطيئةً أرخى الله عزَّ وجلَّ على ذلك التمثال سترًا لئلا يتطلع عليه الملائكة، فذلك معنى قولهم في الدعاء (¬1): يا مَنْ أظهر الجميل وستر القبيح (¬2). فصل في حَمَلَته أنبأنا جدي بإسناده عن محمّد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُذِنَ لي أن أُحدِّث عن مَلَك من مَلائكةِ الله من حَمَلَة العَرْشِ، ما بَين شَحْمةِ أُذنِه إلى عاتقِه مسيرةُ سبع مئة سَنة". ذكر جدي هذا الحديث في كتاب "تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي" (¬3) في الوعظ. وروى مقاتل عن عليٍّ وابن عباس: أن حملة العرش أعظم الملائكة خِلقةً، وهم اليوم أربعة: أحدهم وجهه وجه رجل يسأل الله الرزقَ لبني آدم، والثاني وجهه وجه نسر يسأل الله الرزق للطيور، والثالث: وجهه وجه ثور يسأل الله الرزق للبهائم، والرابع وجهه وجه أسد يسأل الله الرزق للوحوش. فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية، فذلك قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] وقيل: ثمانية أصناف. وذكر جدي رحمه الله في كتاب "التبصرة" هذا وقال: من أعظم الملائكة خلقة حملة العرش، أحدهم على صورة البشر قد وكِّل (¬4) بالدعاء للنسل الآدمي، وذكر الباقي على هذا. ¬

_ (¬1) في (ب): "الدنيا". (¬2) وقوله: "يا من أظهر الجميل وستر القبيح" هو قطعة من حديث أخرجه الحاكم 1/ 544 - 545 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن رواته كلهم مدنيون ثقات. (¬3) "التبصرة" 2/ 174 - 175، وهو عند أبي داود (4727). (¬4) في (ب): البشر فيسأل الله أو قد وكل، وفي (ل): البشر يسأل الله وقد وكل، وعلى لفظ الجلالة إشارة أنها نسخة، والمثبت من التبصرة 2/ 174.

فإن قيل: فما الحكمة فيه؟ فالجواب أنه قد جاء الحديث أنه إذا نوقش الجبابرة والعصاة الحساب (¬1) يشتدُّ غضبُ الله عليهم فزيد في الحَمَلة لهذا المعنى. وقال بعضهم: هذا ضربُ مَثل لينزجر العصاة عن المعاصي. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما خلق الله العرش خلق له ملائكةً عظامَ الخلقِ: أحدهم من النور، والثاني من النار، والثالث من الماء، والرابع من الرحمة، وأعطاهم قوة جميع الخلائق، وأمرهم بحمل العرش فحملوه فلم يطيقوا حمله، فقال لهم الله تعالى: قولوا سبحان الله، فقالوها، فرفعوا بعضه حتى بلغ إلى ركبهم وضعفوا، فقال الله عزَّ وجلَّ: قولوا الحمد لله، فقالوها، فرفعوه إلى أوساطهم ووقفوا، فقال لهم: وقولوا لا إله إلا الله، فقالوها، فحملوه إلى أكتافهم ووقفوا، فقال لهم: قولوا الله أكبر، فقالوها، فرفعوه على رؤوسهم، فرؤوسهم ناشبة فيه وأقدامهم على الأرض السفلى. قلت: وقد جاءت في العرش والكرسيِّ أخبار وآثار: فقال أحمد بن حنبل بإسناده عن وكيع بن عُدَس عن عمه أبي رَزِين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربُّنا قبل أن يخلق خلقه؟ فقال: "كان في عَمَاء ما تَحتَه هَوَاءٌ، [وما فَوقَه هَواءٌ] ثم خَلَقَ عَرشَه على الماء" (¬2). وقال الجوهري: عُدَسُ -بفتح الدال- اسم رجل، مثال قُثَمَ (¬3). قال: والعَمَاء -بالمدِّ- سحاب رقيق شبه الدخان يركب رؤوس الحيطان (¬4). وذِكرُ الفوقِ والتحت والهواء عائدٌ إلى السحاب لا إلى الله تعالى، لأنه لا يعلوه شيء ولا يحلُّ في شيء. وحكى أبو جعفر الطبري في "تاريخه" عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله تعالى العرش فاستوى عليه (¬5). وروى أيضًا عن ابن عباس أنه قال: أول ما خلق الله تعالى الماء قبل العرش، ثم وضع العرش عليه (¬6). والله أعلم وأحكم بالغيب. ¬

_ (¬1) من قوله: فما الحكمة فيه .. إلى هنا ليس في (ب). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (16188)، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬3) "الصحاح" (عدس). (¬4) "الصحاح": (عمي)، وفيه: "رؤوس الجبال". (¬5) "تاريخ الطبري" 1/ 39. (¬6) "تاريخ الطبري" 1/ 39.

فصل في ذكر الملائكة المقربين والروحانيين والكروبيين

فصل في ذكر الملائكة المقربين والرُّوحانيين والكَرُوبيِّين (¬1) قال الجوهري: المَلَكُ من الملائكة واحد [وجمع] (¬2). والمقرَّبون من التقريب وهو الدنوُّ (¬3). وكذا الكَرُوبيُّون من كرب الشيء، أي: دنا (¬4)، والرُّوحانيون من الرُّوح (¬5). فصل في خلق الملائكة قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنهما - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِقَت الملائكةُ من نُورٍ". انفرد بإخراجه مسلم (¬6). فصل في جبريل - عليه السلام - قال علماء التأويل: جَبْر اسم، وإيل من أسماء الله عزَّ وجلَّ، فجَبْر بمنزلة عبد، وإيل هو الله تعالى، ومعناه: عبد الله. وثبت أن جبريل - عليه السلام - كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دِحيةَ الكلبي لما نذكر في سيرته. وقال ابن عباس: جبريل صاحب الوحي والعذاب، إذا أراد الله أن يهلك قومًا سلطه عليهم، كما فعل بقوم لوط لما نذكر. وقال ابن الكلبي: سأل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جبريل أن يأتيه في صورته التي خلقه الله عليها فقال له: لا تستطيع أن تثبت، فقال: بلى، فظهر له في ست مئة ألف جناح سدَّ الأفقَ ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 68. (¬2) "الصحاح": (ملك). (¬3) "الصحاح": (قرب). (¬4) "الصحاح": (كرب). (¬5) "الصحاح": (روح). (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (25194)، ومسلم (2996).

فصل في ميكائيل - عليه السلام -

جناح منها، فشاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرًا عظيمأ، فصعق، وذلك معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13]. وقال أحمد بإسناده عن ابن مسعود قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل في صورته وله ست مئة جناح، كلُّ جناح منها قد سَدَّ الأُفقَ، يَسقط من جناحِه من التَّهاويل والدرِّ والياقوتِ ما الله به عليمٌ. أخرجه أحمد في "المسند" (¬1). ولفظ الصحيحين عن ابن مسعود: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل له ست مئة جناح لا غير (¬2). والتَّهاويل: الألوان المختلفة. وقال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وَصَفك بالقوَّة والطاعةِ والأمانَةِ، فأخبرني عن ذلك، فقال: أمَّا قوَّتي فإنِّي رفعتُ قُرى قَومِ لوطٍ من تُخومِ الأرض على جناحِي إلى السَّماء حتى سَمع أهلُ السَّماء نُباحَ كِلابهم ثم قَلَبتُها عليهم، وأمَّا طاعة المخلوقاتِ لي فإنَّني آمُرُ رِضوانَ خازنَ الجنَّة متى شِئتُ بفتحِها، وكذا مالكَ خازنَ النارِ، وأمَّا أمانَتي فإنَّ الله تعالى أنزَل من السَّماء مئةَ كتابٍ وأربعةَ كتبٍ لم يأتمِن عليها غيرِي (¬3). وسنذكر جبريل في ليلة المعراج وغيرها. فصل في ميكائيل - عليه السلام - وفيه أيضًا لغات، قال ابن الأنباري: لم يختلفوا أن "ميكا" مثل "جَبْر"، و"إيل" هو الله تعالى. وقال ابن عباس: ميكائيل هو صاحب الرِّزق والرحمة. وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن ثابت البُنَاني، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لجبريل - عليه السلام -: "مَا ليَ لا أَرَى مِيكائيل ضَاحِكًا؟ فقال: ما ضَحِك منذُ خُلِقَت النَّار" (¬4). ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (3748). (¬2) البخاري (3232)، ومسلم (174). (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 14/ 640. (¬4) أحمد في "مسنده" (13343).

فصل في إسرافيل

وقال ابن عباس: أول ما امتنع من الملائكة من الضحك ميكائيل لما خلقت النار. فصل في إسرافيل قال الجوهري: إسرافيلُ اسم أعجميٌّ، كأنه مضاف إلى إيل (¬1). وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: إن زاوية من زوايا العرش على كاهله، ورأسه قد مرق في السماء السابعة (¬2). قال: ولما أمر الله الملائكة بالسجود، أول من سجد لآدم إسرافيل، فأثابه الله بأن كتب القرآن في جبهته (¬3). وقد روي موقوفًا على عمر بن عبد العزيز (¬4) لما نذكر في قصة آدم. قال: ومنذ خُلقت النار لم تجفَّ له دمعة، ومن يُخلق من الملائكة إنما يخلق من دموع إسرافيل، وهو صاحب اللوح المحفوظ والصور. وقال ابن عباس: يَنفخ النفخة الأولى فيموت الخلائق، وتسيَّر الجبال وتكوَّر الشمس والقمر، ثم ينفخ الثانية لقيام الخلق من القبور. وقال الترمذي بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ أَنعَمُ عَيشًا وقد الْتَقمَ صاحِبُ القَرْن القرنَ، وحَنَى جَبهتَه وأَصغَى سَمعَه يَنتَظِر أنْ يُؤْمَر، فَيَنفُخ فيه"؟ فقال المسلمون: فكيف نقول؟ قال: "قُولُوا حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ" (¬5). ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث القرن، والله تعالى يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} [المؤمنون: 101]. قال ابن قتيبة: الصور هو القَرْن في لغة أهل اليمن. وقال ¬

_ (¬1) "الصحاح": (سرف). (¬2) أخرجه أبو الشيخ في العظمة (290)، وأبو نعيم في الحلية 6/ 65 - 66 من طريق شهر بن حوشب، عن بن عباس، وإسناده ضعيف، وانظر المنتظم 1/ 190. (¬3) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (1045) من حديث ضمرة. (¬4) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 2/ 625، وسيذكره المصنف في سجود الملائكة لآدم. (¬5) سنن الترمذي (2431) و (3243)، وهو عند أحمد في "مسنده" (11039)، وكلمة "عيشًا" لم ترد في كتب السنة.

فصل في عزرائيل

مجاهد: هو شبه البوق. وقال الجوهري: قال الكلبي: لا أدري ما الصُّور. وقرأ الحسن: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} (¬1) [طه: 102]. وقد أخرج الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" لفظ الصور في حديث طويل عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: "ثمَّ يُنفَخُ في الصُّورِ فلا يَسْمَعه أحَدٌ إلَّا أصغَى ليتًا" (¬2). واللِّيتُ: صفحة العنق. فصل في عزرائيل وهذه الإضافة مثل جبرائيل ونحوه. وروي عن ابن عباس عن كعب الأحبار قال: وجدت فيما أنزل الله تعالى من الكتب أن ملك الموت جالسٌ في السماء الدنيا، وبين يديه لوح فيه أسامي مَنْ يموت إلى يوم القيامة، فإذا وقع بصره على اسم إنسان مات. وقال مجاهد: له أعوان من الملائكة، فيبعث ملائكة الرحمة إلى المؤمنين وملائكة العذاب إلى الفاجرين. وقيل: في ملك الموت خاصية، إذا رآه إنسان مات. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: هؤلاء الأربعة هم رؤساء الملائكة وهم المُقسِّمات أمرًا، بأمر الله تعالى، وهم مثل ملوك الدنيا، وأقربهم إلى الله جبريل. وقد ذكرنا حملة العرش. فصل في الروح روى عبد خير عن علي - عليه السلام - في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ: 38] قال: هو ملك عظيم له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة، يسبّح الله تعالى بتلك اللغات كلها، يخلق الله من كل ¬

_ (¬1) "الصحاح": (صور)، وانظر "المحتسب" 2/ 59. (¬2) "الجمع بين الصحيحين" (2958) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

فصل في أصناف الملائكة

تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة (¬1). وذكر أبو إسحاق الثعلبي عن ابن مسعود موقوفًا عليه قال: الروح ملك عظيم، أعظم من السماوات والأرض والجبال والملائكة، وهو في السماء الرابعة، يسبِّح كلَّ يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يُخلق من كل تسبيحة ملك، يجيء يوم القيامة صفًّا وحده والملائكة بأسرهم يجيئون صفًّا (¬2). وقال ابن عباس: وهو الذي ينزل ليلة القدر، زعيم الملائكة وبيده لواء طوله ألف عام، فيغرزه على ظهر الكعبة، ولو أذن الله له أن يلتقم السماوات والأرض لفعل (¬3). فصل في أصناف الملائكة قال عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده عن خالد بن معدان قال: إن لله ملائكة أربعة يسبِّحون تحت العرش، فيسبِّح لتسبيحهم أهل السماوات، يقول الأول: سبحان ذي المُلك والملكوت، ويقول الثاني: سبحان ذي العزة والجبروت، ويقول الثالث: سبحان الحيِّ الذي لا يموت، ويقول الرابع: سبحان الذي يُميت الخلائق ولا يموت (¬4). وقال وهب: عبادة أهل السماء الدنيا القيامُ، والثانية الركوعُ، والثالثة السجود، والرابعة القراءة، والخامسة التسبيح، والسادسة الذكر، والسابعة الجلوس في التحيات. وقال سهل بن عبد الله: عبادة أهل السماء الدنيا على الخوف، والثانية على الرجاء، والثالثة على الحياء، والرابعة على الإنابة، والخامسة على الاجتهاد، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 15/ 156، وأبو الشيخ في "العظمة" (410)، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 3/ 61 وقال: هذا أثر غريب عجيب. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 24/ 46 - 47، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 4/ 465 وقال: هذا قول غريب جدًّا. (¬3) انظر "عمدة القاري" 19/ 33. (¬4) أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 194 - 195.

والسادسة على المراقبة، والسابعة على المشاهدة. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} [الصافات: 3]: إنهم الملائكة. وحكى جدي في "التبصرة" عن عبد الله بن سَلَام قال: لمّا خلَق الله الملائكة رفعت رؤوسها إلى السماء، وقالت: يا ربِّ، مع من أنت؟ قال: مع المظلوم حتى يؤدَّى إليه حقه (¬1). ومنهم من يشهد معنا صلاتنا، قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَتَعاقَبُونَ فيكُم ملائِكةُ الليلِ ومَلائِكةُ النَّهار، يجتمعونَ في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العصر، ثم يَعرُجُ إلى اللهِ الذينَ باتُوا فيكم -أو فيهم- فيسألُهم الله وهو أعلمُ: كيف تَرَكتُم عبادي؟ فيقولون: أَتَيناهُم وهم يصلُّون وتَرَكناهُم وهم يصلُّونَ". [متفق عليه (¬2). وفي "الصحيحين" أيضًا عن أبي هريرة قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تَفضُلُ صلاةُ الجميعِ صلاةَ أحدِكم وَحْدَه بخمسٍ وعشرينَ جُزءًا، وتجتَمعُ ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النَّهارِ في صَلاة الفجر"]. قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] متفق عليه (¬3). ومنهم صفوف في السماء كصفوف بني آدم في الصلاة، ومنه قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} [الصافات: 1] قاله ابن عباس. وقال الحسن: تصفُّ أجنحتها في الهواء واقفةً فيه حتى يأمرها الله تعالى بما يريد. ومنهم كتبة على بني آدم، يكتبون أعمال النهار والليل، قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كاتبُ ¬

_ (¬1) "التبصرة" 2/ 175، و"المنتظم" 1/ 192. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (10309)، والبخاري (555)، ومسلم (632). (¬3) البخاري (648)، ومسلم (649) (246)، وما بين معقوفين زيادة استدركناها من الصحيحين لضرورة السياق.

الحَسَناتِ على يمينِ الرجلِ، وكاتبُ السَّيئاتِ عن يسارهِ، وكاتبُ الحَسَناتِ أميرٌ على كاتبِ السَّيئاتِ موكَّلٌ به، فإذا عَمِل الرجلُ حَسَنةً كَتَبها صاحبُ اليمينِ عَشْرًا، وإذا عَمِل سَيِّئةً قال لصاحبِ الشِّمَالِ: دَعْه سبعَ ساعاتٍ لعلَّه يستغفرُ، فيُمسِكُ عنه، فإن استغفَرَ منها لم تُكتبْ، وإن لم يَستغفرْ كُتبَتْ عليه سيئةً واحدةً" (¬1). وقال الثعلبي باسناده عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليّ بن الحسين بن علي، عن أبيه عليّ - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَقعَدُ مَلَكَيكَ منك على ثَنيَّتيك، وقَلمُهُما لسانُكَ، ومِدادُهُما ريقُكَ، وأنتَ تجرِي فيما لا يَعنِيكَ، لا تَستَحيي لا من اللهِ ولا من الملكينِ" (¬2). وعن ابن عباس قال: مقعدهما على الكتفين. وقال الحسن: تحت الشعر الذي على الحنك. والأول أصحّ ولأنه أقرب إلى إحصاء اللفظ. واختلفوا فيما يكتبان، فقال مجاهد: لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه. وقال عطاء: يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه، ولهذا كان طاوس اليماني يكره الأنين في مرضه. وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن الحسن البصري، عن أبي هريرة وأنس قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى في أوَّل الصحيفة خيرًا وفي آخرها خيرًا إلَّا قال الله لملائكته: اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة" (¬3). وقال الثعلبي أيضًا بإسناده عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا مَاتَ العبدُ قال الملكانِ الموكَّلانِ به: يا ربِّ، ماتَ فلانٌ، وهو أعلم، أفَتأذنُ لنا أن نَصْعَدَ إلى السَّماءِ؟ فيقول الله: سمائي مملوءَةٌ من ملائكتي يسبِّحُونَني ويحمدُونَنِي، فيقولان: أفنُقيم في الأرضِ؟ فيقول: إنَّ أرضي مملوءَة من خليقتي يسبِّحونني، فيقولان: فماذا نَصنَع؟ وأين نكونُ؟ فيقولُ: قُوما على قبرِ عبدي فكبِّراني وهَلِّلاني، واكتُبا ذلك لعبدي ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (7787)، (7971). (¬2) أخرجه الثعلبي في تفسيره 5/ 548 من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -، به. (¬3) أخرجه الترمذي (981)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (28) من حديث أنس - رضي الله عنه -. وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح.

إلى يوم القيامة" (¬1). وكان سهل بن عبد الله التُّسْتَري يقولْ يَا ملكاي قد طالت صحبتكما لي فاشفعا لي. ومنهم موكَّل بالشمس، وقد ذكرناه. ومنهم موكَّل بالقطر والرِّياح والنَّبات. حدثنا أبو القاسم علي بن مسلم المَوْصِلي بإسناده عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن قَطْرةٍ تَنزلُ من السَّماءِ إلَّا ومعها مَلَكٌ، وما من رِيحٍ تَهبُّ إلَّا ومَعها مَلَكٌ، وما من حبَّةٍ تَنبُتُ إلَّا ومَعها مَلَكٌ". ومنهم موكَّل بالسَّحاب، قال الله تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)} [الصافات: 2] قال ابن عباس: هي الملائكة تزجر السَّحاب، وقال علي - رضي الله عنه -: الرَّعد صوت مَلَك والبرق مَصْعه -أي ضربه-، يضرب السّحاب بالمخاريق (¬2). ومنهم موكل بصخرة بيت المقدس، قال كعب الأحبار: قد وكل الله بها ملكين. [ومنهم ملكان] يقول أحدهما في صبيحة كل يوم: "اللَّهَمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقُولُ الآخَرُ: اللَّهمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا" (¬3). وقال ابن عباس: يقول أحدهما: ليت الخلائق لم يخلقوا، ويقول الآخر: وليتهم إذ خلقوا لم يبعثوا. ومنهم موكَّل بالمدينة يمنعونها من الدَّجال، قال البخاري بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على أَنقَابِ المدينةِ ملائكةٌ لا يَدخُلُها الطَّاعُونُ ولا الدَّجَّالُ". أخرجاه في الصحيحين (¬4). ومنهم موكَّل بتصوير النُّطَف، قال أحمد بن حنبل: بإسناده، عن حذيفة بن أَسِيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَدخُلُ المَلَكُ على النُّطفَةِ بَعْدَما استَقَرَّت في الرَّحِم أربَعينَ ليلةً، فيقول: يا ربِّ، ماذا؟ أشَقيٌّ أم سَعيدٌ؟ أذَكَرٌ أم أُنثَى؟ فيقولُ: اكتب، فيكتبُ، ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الشعب" (9931). (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 152. (¬3) هو قطعة من حديث أخرجه البخاري (1442)، ومسلم (1010) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وما بين معقوفتين مستدرك من "المنتظم" 1/ 194. (¬4) البخاري (1880)، ومسلم (1379).

ويُكتَبُ عَمَلُه وأَثرُهُ ومُصِيبَتُه ورِزقُه، ثم تُطوى الصَّحِيفةُ فلا يُزادُ على ما فيها ولا يُنقصُ منها" (¬1). وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه (¬2). ومنهم سيَّاحون في الأرض يتَّبعون مجالس الذكر، فإذا رأوا حلقةً فيها قومٌ يذكرون الله جلسوا إليهم، قال البخاري بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ للهِ ملائِكةً يطوفونَ في الطُّرُقِ يَلتمِسُون أهل الذِّكْرِ، فإذا وجَدُوا قَومًا يذكُرونَ الله تَنَادَوا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكم، فَيحفُّونَهم بأجنِحَتِهِم إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيَسألُهمُ ربُّهمُ -وهو أعلمُ بهم- ماذا يقول عِبَادي؟ قالُوا: يُسبِّحُونَكَ ويَحمَدونَك ويُكبِّرونَك ويُمجِّدونَك، قال فيقول الله تعالى: فَهَل رَأَوْني؟ فيقولون: لا، فيقولُ: فلو رَأَوْني؟ فيقولون: لو رَأَوْك لَكانُوا أشدَّ عبادَةً وأشدَّ تَمجيدًا وتَسْبيحًا وتَكْبيرًا، قال فيقول: فما سَألوني -أو يَسْألوني-؟ فيقولون: الجنَّةَ، فيقول: وهل رَأَوْها؟ فيقولون: لا، فيقولُ: فكيفَ لو رَأَوْها؟ فيقولون: [لو رَأوْها لكانوا أشدَّ عليها حِرْصًا، ولها طَلبًا، وأعظمَ رَغْبةً. قال فيقولُ: فمِمَّ يَتَعوَّذون؟ فيقولون: ] من النَّار، فيقول: وهل رَأَوْها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيفَ لو رَأَوْها؟ فيقولون: لَكانوا أشدَّ منها فِرارًا وهَرَبًا، فيقول: أُشهِدُكم أنِّي قد غَفَرتُ لهم، قال فيقول بعض الملائكة: فيهم فُلان ليسَ منهم إنَّما جاءَ لحاجةٍ، فيقول الله تعالى: همُ الجُلَساءُ الذين لا يَشْقَى بهم جَليسُهم". أخرجاه في الصحيحين (¬3). ولمسلم: "همُ السُّعداء" (¬4). ولمسلم (¬5) أيضًا: "إنَّ لله مَلائِكةً سَيَّارةً فُضُلًا يَتَّبعون مَجالسَ الذِّكر" وفيه: "فإذا تَفَرَّقوا عَرَجُوا إلى الله فيَسأَلُهم الله تبارك وتعالى"، وذكره. ومنهم (¬6) ملائكة يبلِّغون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السَّلام، قرأت على أبي المظفَّر يوسف بن عبد المعطي الإسكندري ويعرف بابن المَخِيلي بالإسكندرية، في سنة إحدى وأربعين ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (16142)، أخرجه أيضًا مسلم (2644). (¬2) البخاري (3208)، ومسلم (2643) مطولًا. (¬3) البخاري (6408)، ومسلم (2689)، واللفظ للبخاري. (¬4) لم نقف على هذا اللفظ عند مسلم، وأخرج هذا اللفظ أبو نعيم في "الحلية" 8/ 117. (¬5) صحيح مسلم (2689). (¬6) من هنا بدأ خرم في (ب)، وسنعتمد ما في (ل) والمطبوع.

وست مئة، قال: حدثنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن إبراهيم السِّلفي بإسناده عن عاصم بن عمر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لله في الأرضِ مَلائِكةً يُبلِّغونَنِي السَّلام من أُمَّتي" (¬1). ومنهم من يشهد الحروب معنا، كما جرى يوم بدر (¬2). ومنهم من يستغفر لبني آدم {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]. ومنهم حفَظَة لبني آدم {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الرعد: 11]. ومنهم مبشِّرون عند الموت بالسَّلامة: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيكُمُ} [النحل: 32]. وقال ابن مسعود: إذا احتضر المؤمن جاءه ملك الموت فقال: ربُّك يقرئك السلام. ومنهم مسائِلون في القبور كمنكر ونكير. ومنهم خُزَّان أبواب السماء، بدليل قول الملك ليلة المعراج لجبريل: من معك؟ فقال: معي محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ومنهم خُزَّان الجنان والنيران، كمالك ورضوان. ومنهم من يغرس شجرَ الجنَّة، روي عن الحسن أنه قال: إنَّ في الجنة قيعانًا تغرسها الملائكة حتى إنَّ أحدهم ليفتر من الغرس، فيقول له صاحبه: مالك فترت؟ فيقول: فتر صاحبي من العمل. فكان الحسن يقول: أمدّوهم بالبَذر فهذه أيام الزرع (¬4). ومنهم من يصوغُ حُلِيَّ أهل الجنَّة، روي عن كعب الأحبار أنه قال: إن في الجنَّة ملكًا يصوغ حلي أهل الجنة منذ خُلق إلى يوم القيامة، ولو شئت أن أسميَه لسميته، ولو أن قُلْبًا أُخرج منها إلى الدنيا لردَّ شعاع الشمس (¬5). وفي رواية: إن لله ملائكة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (3666). (¬2) أخرج البخاري (3992) عن رفاعة بن رافع قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: "من أفضل المسلمين" أو كلمة نحوها قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة. وانظر "سيرة ابن هشام" 1/ 633. (¬3) أخرجه البخاري (3887)، ومسلم (164). (¬4) انظر "التبصرة" 2/ 176، و"المنتظم" 1/ 194. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 13/ 115 - 116، وانظر "المنتظم" 1/ 194.

فصل في تفضيل الملائكة على البشر

ومنهم من نصفه نار ونصفه ثلج، وهو في حديث المعراج (¬1). ومنهم خدمُ أهل الجنَّة {سَلَامٌ عَلَيكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. ومنهم خائفون ومحبُّون، وعارفون وروحانيون وكروبيُّون ومشاهدون {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] {وَلَا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] ومنهم من يقذف الشياطين بالشهب، قال الله تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 8، 9] قال ابن عباس: يسترق الشياطين السَّمع من زوايا السَّماء فتقذفهم الملائكة من كل جانب. والدُّحور: الطرد والإبعاد {إلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} [الصافات: 10] أي: مسارقة {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] فيلقي الشيطان الكلمة إلى من هو دونه ويحترق هو. والحكمة في سرعة الرمي أن الشياطين كانوا يلقون أخبار السَّماوات إلى الكهنة، فمنعوا عند مبعث نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، لما نذكر. فصل في تفضيل الملائكة على البشر اختلف أهلُ القبلة في ذلك: فروي عن الحسن البصري أنه قال: جملة الملائكة أفضل من بني آدم، وهو قول المعتزلة (¬2). وقال ابن عباس: جملة بني آدم أفضل من جملة الملائكة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، وعن الشافعي ومالك كالمذهبين. وعندنا في المسألة تفصيل نذكره: وجه قول المعتزلة: قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] فقد فضَّل الملائكة على عيسى لأنه نفيٌ بطريق التأكيد، والشيء إنما يؤكد بما هو أفضل منه وأقوى، ولأن الملائكة خلقوا من النور، وبنو آدم خلقوا من التراب، والنور أفضل، والملائكة لا ¬

_ (¬1) وهو حديث موضوع أخرجه ابن حبان في "المجروحين" 3/ 11 - 12، وابن الجوزي في "الموضوعات" (1353)، وأورده السيوطي بتمامه في "اللآلئ" 1/ 62 - 74. قال ابن الجوزي: المتهم به ميسرة بن عبد ربه. وانظر "المنتظم" 1/ 195، و "التبصرة" 2/ 177. (¬2) هم أتباع واصل بن عطاء لقبوا بذلك عندما اعتزل واصل مجلس الحسن البصري، فقال الحسن: اعتزلنا واصل فلقبوا بذلك، وسيذكر المصنف في ترجمة واصل سنة (131) طرفًا من أخبارهم.

يعصون الله ما أمرهم، وبنو آدم يعصون. وجه قول ابن عباس: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وما كان سجودَ تحيَّةٍ بل لفضلِ المسجود له على الساجد. وأنبأنا جدّي قال: أنبأنا محمّد بن ناصر بإسناده عن عطاء بن يسار، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قالتِ الملائكةُ: أي ربِّ، أعطيتَ بني آدمَ الدُّنيا فأَعطِنا الآخرةَ، فقال الله تعالى: لا أَجْعَل صَالحَ ذرَّيةِ مَنْ خَلَقتُه بيَدِي كمَنْ قلتُ له: كُنْ فكانَ" (¬1). ولأنهم يستغفرون لمن في الأرض، والمخدوم أفضل من الخادم. والجواب: أمَّا الآية التي احتجت بها المعتزلة، فقد قال ابن عباس: إنَّ قومًا عبدوا عيسى والملائكة فنزلت الآية، ومعناها: لن يَستنكفَ المسيح والملائكة من العبادة فكيف يُعبَدان؟ وأمَّا سجود الملائكة لآدم فإنَّما أريد منهم الطاعة، لما نذكر في قصَّة آدم. وأمَّا الحديث الذي احتَجَّ به ابن عباس، فقال جدي في "الواهية": هذا الحديث لا يصحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في إسناده عبد المجيد ابن أبي رَوَّاد، قال ابن حبان: كان يَقلِب الأخبار ويروي المناكير عن المشاهير، فاستحقَّ الترك. وقال الدارقطني: الموقوف أصحُّ (¬2). ولو سُلّم كان معناه: أنَّ الخواصَّ من بني آدم أفضل من خواصِّ الملائكة، فإنَّه المختار عندنا، وقد نصَّ عليه أبو حنيفة فقال: خواصُّ بني آدم كالمرسلين والنبيين أفضل [من جملة الملائكة، لأنَّ لرسل الله فضلًا على الملائكة، لأنَّ الله عصمهم بأعلى مراتب العصمة عن كل وصمة لكونهم حججَ الله على عباده، ومن عُوتب منهم على زلّة فإنما كانت فيما هو مستوي الطرفين في الإمكان والثبوت، قال: وخواصُّ الملائكة كجبريل وميكائيل ونحوهما أفضل من عوام بني آدم لما ذكرت المعتزلة. والمؤمنون من بني آدم أفضل] من عوام الملائكة غير جبريل ونحوه من الرسل، لما ذكر ابن عباس. وقد ابتلي بنو آدم بالإيمان بالغيب، وفيهم أيضًا نوازع الشهوة وهي معدومة في الملائكة، فكان ما ذكره أبو حنيفة رحمه الله أعدل. ¬

_ (¬1) "العلل المتناهية" (32). (¬2) "العلل المتناهية" 1/ 48.

فصل في ذكر الجنة وما لله سبحانه على عباده من خلقها من المنة

فصل في ذكر الجنة وما لله سبحانه على عباده من خلقها من المنّة (¬1) لا خلافَ بين العلماء أنَّها في السماء لقوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 14، 15] ولأنَّها دار نَعيم، فتكون من جهة العلوِّ، بخلاف النار فإنها سجن, والسجن يكون في السفل. وقالت المعتزلة والجهميَّة: إنَّ الجنة لم تخلق بعد، كما قالوا في النار، واحتجُّوا في الجنَّة بقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83] والجعل هو الخَلق، وإنما يخلقها يوم القيامة. ولنا قوله تعالى {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] والمعدُّ ما يكون موجودًا. وما احتجوا به فليس المرادُ من الآية الخَلقَ في المستقبل بل في الماضي، أي: جَعَلَها، لئلا يقع التناقضُ بين الاثنين (¬2). وإذا ثبت أنها موجودة فأهلها يتنعَّمون فيها على الأبد كما في أهل النَّار، فإنهم يُعذَّبون فيها على الأبد. وقال جهم بن صفوان: يبيدان ويفنيان لئلا يصير أهلهما شركاءَ لله تعالى. ولنا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107] في آيات كثيرة. وما ذكره فلا نسلِّم أنه يؤدِّي إلى المشاركة، لأنَّ الله تعالى واجب الوجود واجب البقاء مستحيل العدم، والعبد جائز الوجود جائز البقاء، فعدمت المشاركة. وقد جاءت في فضائل الجنَّة أخبار وآثار منها: قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جِنَانُ الفردَوْسِ أربعٌ ثِنتانِ من ذَهبٍ حِليتُهما وآنيِتُهما وما فيهما، وثِنتانِ من فِضَّة حِليتُهما وآنِيتُهما وما فيهما، وليسَ بين القومِ وبينَ أنْ يَنظُرُوا إلى ربِّهم إلَّا رِداءُ الكِبرياءِ على وَجهِهِ في جنَّةِ عَدْنٍ" أخرجاه في الصحيحين (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "كنز الدرر" 1/ 73. (¬2) هم أصحاب جهم بن صفوان المتوفى سنة (128) هـ وسيذكر المصنف طرفًا من أخباره فيها. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (19731)، والبخاري (4878) ومسلم (180)، واللفظ لأحمد.

وفيهما حديث أبي موسى أيضًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ في الجنَّةِ لَخيمَةً مِن دُرَّةٍ مُجَوَّفةٍ عرضُها سِتُّونَ مِيلًا، وفي كُلِّ زاويةٍ منها أهلٌ ما يَرَونَ الآخرينَ، يطوفُ عليهمُ المُؤمنُ" (¬1). وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ يقولُ: أعدَدتُ لِعبادي الصَّالحينَ مالا عَينٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سمعَت، ولا خَطَرَ على قَلبِ بشرٍ" (¬2). فإن قيل: فأعلى ما في الجنَّة النَّظر، وقد خطر على قلوبنا أننا نراه، فكيف قال: ولا خطر على قلب بشر؟ فالجواب: أنَّنا في وقت النظر يحصل لنا من اللذة والاستغراق ما لم يخطر على قلب بشر. وفي الصحيحين أيضًا: عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أوَّل زُمرةٍ تَلِجُ الجنَّة صورتُهم على صورةِ القَمَر ليلةَ البَدْرِ، لا يَبْصُقون فيها ولا يَمْتَخِطون ولا يَتَغوَّطون، آنيتُهم فيها الذَّهبُ، وأَمشَاطُهم من الذَّهب والفِضَّة، ومَجامِرُهم الأُلُوَّة، ورَشحُهم المِسْكُ، ولكلِّ واحدٍ منهم زوجتان يُرى مخُّ ساقهما من وراء اللَّحم من الحُسنِ، لا اختلافَ بينهم ولا تَباغُضَ، قلوبُهم على قَلبِ رَجُلٍ واحدٍ، يُسبِّحونَ الله بُكرةً وعشيًّا" (¬3). وفيهما من حديث أبي ذرٍّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُدخِلتُ الجنَّةَ فإذا فيها جَنابِذُ اللؤلؤ، وتُرابُها المِسْك" (¬4). والجنابذ: القباب. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أهلَ الجنَّةِ ليَتَراءَوْن أهلَ الغُرَفِ من فوقِهم كما يَتَراءَوْن الكَوْكَبَ الدُّرِّي العائِر في الأفُقِ من المَشرِقِ والمَغْرِب، لتفاضُل ما بينَهم" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4879)، ومسلم (2838). (¬2) أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824). (¬3) أخرجه البخاري (3245)، ومسلم (2834)، ومسلم (2834)، والألوَّة: العود يتبخر به. (¬4) أخرجه البخاري (3342)، ومسلم (163)، وهو قطعة من حديث معراجه - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) أخرجه البخاري (3256)، ومسلم (2831)، وروايتهما: "الغابر" وفي رواية للبخاري (6556): "الكوكب الغارب".

قلت: وقد رويت هذه اللفظة "العائر" وليست بشيء، والمشهور من حديث أبي سعيد الذي أخرجه الحميدي "الغارب في الأفق الشرقي أو الغربي" (¬1) وفي رواية "الكوكب الدرِّي". فأمَّا العائر: فهو السَّهم لا يدرى من رمى به. تمام الحديث: قالوا يا رسول الله، تلك منازلُ الأنبياءِ لا يبلغها غيرهم؟ فقال: "بَلَى، والذِي نَفسِي بيدِه، رجالٌ آمَنُوا بالله وصَدَّقوا المُرسَلين". وفيهما من حديث سهل بن سعد (¬2)، وأبي سعيد (¬3)، وأبي هريرة (¬4)، وأنس (¬5) كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ في الجنَّةِ شَجَرةً يَسيرُ الراكبُ في ظِلِّها مئةَ عامٍ لا يَقطعُها" وقد ذكرنا الحديث (¬6). وأخرج أحمد في "المسند" عن عتبة بن عبدٍ السُّلَمي: "أنَها تُشبه شَجَرة الجَوْزِ بالشَّامِ، قال: تَنبُتُ على ساقٍ واحدٍ ويَنفَرِشُ أَعلاها" (¬7). وقال مسلم بإسناده عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ في الجنَّةِ لَسُوقًا يأتُونَها كلَّ جُمُعَة فتَهُبُّ فيها ريحُ الشَّمال، فتَحثُو في وجوهِهم وثيابِهم، فيَزْدَادوا حُسْنًا وجَمَالًا، فَيَرجِعُون إلى أَهْلِيهم فيقولونَ لهم: والله لقد ازدَدْتُم بَعدَنا حُسنًا وجَمَالًا، فيقولونَ: وأَنْتُم واللهِ لقد ازدَدْتُم بعدنا حُسْنًا وجَمَالًا". انفرد بإخراجه مسلم (¬8). وقال الترمذي بإسناده عن حسَّان بن عطيَّة عن سعيد بن المسيِّب، أنه لقي أبا هريرة، فقال له أبو هريرة: أسألُ الله أن يجمع بيني وبينك في سوقِ الجنَّة، فقال سعيد: أفيها سوق؟ قال: نعم، أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنَّ أهلَ الجنَّةِ إذا دَخلُوها نَزَلوا فيها بفَضل أَعمالِهم، ثم يؤُذَنُ لهم في مِقدَار يومِ الجُمُعة من أيَّام دارِ الدُّنيا، فَيزُورُون ربَّهم، ¬

_ (¬1) "الجمع بين الصحيحين" (921) و (1755). (¬2) البخاري (6552)، ومسلم (2827). (¬3) البخاري (6553)، ومسلم (2828). (¬4) البخاري (3252)، ومسلم (2826). (¬5) البخاري (3251)، وهو من أفراد البخاري كما في "الجمع بين الصحيحين" (2048). (¬6) تقدم الحديث في فصل سدرة المنتهى. (¬7) أخرجه أحمد في "المسند" (17642) مرفوعًا. (¬8) صحيح مسلم (2833).

ويُبرِز لهم عَرشَه، ويَتبَدَّى لهم في رَوضَةٍ من رِياضِ الجنَّةِ، فيُوضَع لهم مَنابرَ من نورٍ، ومَنابرَ من لؤلؤٍ، ومَنابرَ من ياقوتٍ، ومَنابرَ من زَبَرجَدٍ، ومَنابرَ من ذهبٍ ومنابرَ من فضَّةٍ، ويَجلِس أدناهُم -وما فيهم دنيٌّ - على كُثبانِ المِسْك والكافورِ، ما يَرونَ بأنَّ أصحابَ الكراسيِّ أفضَلَ منهم مجلسًا" قال أبو هريرة: قلت: يا رسول الله، وهل نَرَى ربَّنا؟ قال: "نَعم، هلْ تُمارونَ في رؤيةِ الشمسِ والقَمَر ليلةَ البدرِ"؟ قلنا: لا، قال: "كذلك لا تُمارونَ في رؤيةِ ربِّكم، ولا يَبقَى في ذلك المجلس رجلٌ إلَّا حاضَره الله محاضَرةً، حتَّى يقولَ للرجل: يا فلانُ، أتذكرُ يومَ قلتَ كذا وكذا؟ فيُذكِّره بعضَ غدْرَاته في دارِ الدُّنيا، فيقول: يا ربِّ، ألم تَغْفِرْ لي؟ فيقولُ: بَلَى، بسَعةِ مَغفِرَتي بَلَغتَ منزلَتَك هذه. فبينما هم على ذلك غَشِيَتهم سَحابةٌ من فوقِهم، فأمطَرت عليهم طِيبًا لم يَجدُوا مثلَه -أو مثلَ ريحِه- شيئًا قطُّ، ويقولُ ربُّنا: قُوموا إلى ما أعدَدْتُ لكُم من الكرامَةِ فَخُذوا ما اشْتَهيتُم، فَنَأتي سُوقًا قد حَفَّتْ به الملائكةُ، فيه ما لم تَنظُرِ العُيون إلى مثله، ولم تسمعِ الآذانُ، ولم يَخطُر على قلبِ بشرٍ، فيُحملُ إلينا ما اشتَهينا ليسَ يباعُ فيه ولا يُشتَرى، وفي ذلك السُّوقِ أهلُ الجنَّة يَلقَى بعضُهم بعضًا، فيُقبِل الرَّجلُ ذو المنزلةِ المرتفعةِ فيَلقَى من هو دُونه. وما فيهم دُونٌ فيَروعُه ما عليه من اللِّباس، فما ينقضِي حديثُه حتَّى يتخيَّل عليه ما هو أَحسَن منه، وذلك لأنه لا يَنبَغي لأحدٍ أن يَحزَن فيها. ثم نَنْصَرِفُ إلى مَنَازلنا فَيلْقَانا أَزوَاجُنا فيقُلنَ: مَرحَبًا وأَهْلًا لقد جِئتُم وإنَّ عَليكم من الجَمَال أَفضَل مما فارَقتُمُونا عليه، فيقولون: إنَّا جَالسنا اليومَ ربَّنا الجبَّارَ، وبحقِّنا أنْ ننقَلِبَ بمثلِ ما انقَلَبنا" (¬1). وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي المُدِلَّة أنه سمع أبا هريرة يقول: قلنا: يا رسول الله، حدِّثنا عن الجنَّة ما بناؤها؟ فقال: "لبنةٌ من ذَهبٍ ولبنةٌ من فضَّةٍ، ومِلاطُها المِسْك الأَذْفَرُ، وحَصْبَاؤها اللُّؤلؤُ والياقوتُ، وتُرابُها الزعفرانُ، مَن يَدخُلها ينعَمُ لا يَبْؤُسُ، ويَخلُدُ لا يموتُ، لا تَبْلَى ثيابُه ولا يَفنَى شبابُه" (¬2). وحدثنا جدي رحمه الله قال: حدثنا هبة الله بن أحمد الحريري بإسناده عن أبي سعيد ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2549). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (8043).

الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في الجنَّةِ مئةَ درجةٍ، ما بين كلِّ دَرجَتين كما بين السَّماء والأرضِ، وإنَّ جنَّة الفِردَوسِ أوسطُها وأعلاها سماءً، وعليها يُوضعُ العرشُ يومَ القيامةِ، ومنها تتَفجَّر أنهارُ الجنَّةِ" فقال له رجل: بأبي وأُمي أنتَ يا رسول الله، هل فيها خيلٌ؟ قال: "نَعم، والذي نفسِي بيدِه، إنَّ فيها لَخيلًا من ياقوتةٍ حمراءَ، تَرُفُّ بهم بين خلالِ ورقِ الجنَّةِ يَتَزاورُون عليها" فقال له رجل: فهل فيها من إبلٍ؟ قال: "نَعم والذي نفسِي بيدِهِ، إنَّ فيها لإبلًا من ياقُوتةٍ حمراءَ، رحالُها الذهبُ والفضّةُ، عليها نمارقُ الديباجِ، تَرِفُّ بهم بين خِلال وَرقِ الجنَّةِ يَتَزاورُون عليها" فقال له رجل: هل فيها صوت؟ قال: "نَعم، إنَّ الله ليوحِي إلى شَجَرةٍ في الجنَّة: أنْ أَسْمِعي عِبادي هؤلاءِ الذين شَغَلهم ذِكري في الدُّنيا عن عَزفِ المزاهيرِ والمزَاميرِ بالتَّسبيحِ والتَّقديسِ" (¬1). وحدثنا جدي قال: حدثنا ابن ناصر بإسناده عن ابن مسعود قال: أنهارُ الجنَّة تَتفجَّر من جبلِ مِسْكٍ. وفي رواية: وتجري في عين أخدود. وقال ابن عباس: خمر الجنَّة أشدّ بياضًا من اللَّبن. وعن ابن عباس أنه قال: الجنان سبع: دار الجلال، ودار السَّلام، وجنَّة عَدْن، وهي قصبة الجنَّة وهي مُشرفة على الجنان، وجنَّة المأوى، وجنَّة الخلد، وجنَّة الفردوس، وجنَّة النعيم. قال: ونخل الجنَّة جذوعها زمرد أخضر وكَرَبُها ذهبُ أحمر، وسَعَفُها كسوة أهل الجنَّة (¬2). وقال أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق بإسناده عن سهل بن سعد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ في الجنَّة ثمانية أبوابٍ: فيها بابٌ يُسمَّى الرَّيانُ، لا يدخله إلَّا الصائمونَ" أخرجاه في الصحيحين (¬3). وحدثنا عبد الوهاب بن علي الصّوفي بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَدخُل أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ على طُولِ آدمَ ستينَ ذراعًا، وعلى حُسْنِ يُوسفَ، وعلى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سمعون في أماليه (2) من حديث أبي سعيد، وأبو نعيم في صفة الجنة (546) من حديث أبي هريرة، وأورده ابن الجوزي في الياقوتة 1/ 79 من حديث سهل بن سعد. (¬2) أخرجه هناد في "الزهد" (99)، والحاكم 2/ 475. والكرب: أصول السعف الغلاظ العراض. (¬3) أحمد في "مسنده" (22818)، والبخاري (3257) , ومسلم (1152).

مِيلادِ عيسَى ثلاثًا وثلاثين سَنَّةً، وعلى لسانِ مُحمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1) ". وقال ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دَخَلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ يَشْتاقُ الإخْوانُ بعضهم إلى بعضٍ، فيسيرُ سَريرُ هذا إلى سَريرِ هذا وسَريرُ هذا إلى سَريرِ هذا، حتى يَجتمعان، فيَبكي هذا ويَبْكي هذا، فيقول أحدهما لصاحبهْ تَعْلَم متى غُفِرَ لنا؟ فيقولُ صاحِبُه: نعم، يَومَ كذا وكذا في مَوضِع كذا وكذا" (¬2). وقال أحمد بن حنبل: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الملك بن أبجر بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أدنَى أهلِ الجنَّةِ منزلةً ليَنظُرُ في مُلكِه أَلفَي سَنةٍ، يرى أقصاهُ كما يرى أدناهُ، وإنَّ أفضَلَهم مَنزلةً مَن يَنظُرُ إلى وجهِ الله عزَّ وجلَّ في كُلِّ يومٍ مرَّتين" (¬3). فإن قيل فهل في الجنَّة توالد؟ فالجواب: أنّ فيه قولين: أحدهما: أنه لا يكون فيها توالد لأنَّ الولادة محلُّ الأقذار، والجنَّة طاهرة. والثاني: أنه يكون فيها توالد وقد دلَّ عليه الحديث، قال أحمد: حدثنا علي بن عبد الله بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اشْتَهى المؤمنُ الولدَ في الجنَّةِ كان حَمْلُه ووَضعُه وسِنُّه في ساعةٍ واحدةٍ" (¬4). اقتصرنا على هذه الجملة مما يتعلّق بالجنة من الأحاديث والآثار، ولو استقصينا في جمعها لخرج الكتاب عن مقصوده من الاختصار. * * * ¬

_ (¬1) أورده ابن كثير في "تفسيره" 4/ 293 وعزاه إلى بن أبي الدنيا. (¬2) أورده ابن القيم في "حادي الأرواح" 334 عن ابن أبي الدنيا بإسناده عن أنس، وأخرجه البزار في كشف الأستار (3553)، وأبو الشيخ في "العظمة" (612). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (4623). (¬4) أحمد في "مسنده" (11063).

ذكر قصة آدم - عليه السلام -

ذكر قصة آدم - عليه السلام - (¬1) اختلفوا لِمَ سمي آدم على قولين: أحدهما: أنه خُلِقَ من أديم الأرض وهو وجهها، قاله ابن مسعود (¬2)، وزيد بن ثابت، ورواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس (¬3). والثاني: أنه مشتقٌّ من الأُدْمة، وهي سمرة اللون، رواه مجاهد، عن ابن عباس. وذكر أبو إسحاق الثعلبي: أنَّ التراب بلسان العبريَّة يقال له: آدام. وقال الجوهري: آدم أبو البشر (¬4). وآدم اسم عربي، وليس بعجمي. قرأت على شيخنا أبي اليُمن الكندي رحمه الله قال: قرأت على شيخنا أبي منصور بن الجواليقي في كتاب "المعرب" قال: أسماء الأنبياء كلها أعجميَّة، إلا أربعة وهي: آدم، وصالح، وشعيب، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - (¬5). والمشهور من كنيته أنه: أبو البشر، وروى الوَالِبي، عن ابن عباس أنه قال: كنيته أبو محمد، وقال قتادة: ولا يكنى في الجنة إلا آدم، يقال له: يا أبا محمد، إظهارًا لشرف نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ولا ينصرف آدم. وقال سهل بن عبد الله التُّستَري: أَلِفُهُ من الآفة، وداله من الدَّاء، وميمه من الموت. وقيل: إنَّ الله تعالى ذكرَهُ في القرآن في سبعةٍ وعشرين موضعًا. ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ الطبري" 1/ 89 - 164، و"البدء والتاريخ" 2/ 74، و"عرائس المجالس" ص 26 - 50 و"تاريخ دمشق" 2/ 613 - 656، و"المنتظم" 1/ 198 - 228، و"الكامل" 1/ 27 - 53، و"البداية والنهاية" 1/ 99 - 68. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 26، وابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 198 - 199. (¬3) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 90 - 91، وانظر "المنتظم" 1/ 198. (¬4) "الصحاح": (أدم). (¬5) "المعرب" ص 61. (¬6) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 4/ 1368، وهو حديث باطل فيما ذكر ابن عدي وانظر "البداية والنهاية" 1/ 97.

فصل في إعلام الله تعالى الملائكة بخلقه

فصل في إعلام الله تعالى الملائكة بخلقه قال الله تعالى: {وَإِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30)} [البقرة: 30] واختلفوا في الملائكة الذين قال لهم هذا على قولين: أحدهما: أنَّهم جميع الملائكة، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنهم الملائكة الذين كانوا مع إبليس في الأرض خاصة، قاله مجاهد. والأول أصح. واختلف العلماء في المقصود بإعلام الملائكة بخلقه على أقوال: أحدها: أنَّ الله أراد أن يبلو طاعة الملائكة، وهو أعلم بهم، قاله الحسن البصري. والثاني: أنَّه أراد إظهار ما في باطن إبليس من الكبر والحسد، وكان ذلك قد خفي عن الملائكة، لما يرون من تعبُّده واجتهاده وتواضعه، رواه العَوْفي عن ابن عباس. والثالث: أنَّ الملائكة ظنَّت أنه لا يَخلق خلقًا أكرم منهم، فأخبرهم بوجود غيرهم ليوطِّنوا نفوسهم على العزل، قاله مجاهد. والرابع: أنَّه أراد تعظيم آدم بالخلافة قبل وجوده ليعَظِّموه إذا وجد، قاله الرَّبيع بن أنس. والخامس: أنَّه لما خلق النَّار جزعت الملائكة وقالوا: يا ربَّنا، لمن هذه؟ قال: لمن عصاني، قالوا: أَوَيأتي علينا زمان نعصيك فيه؟ فأخبرهم أنه يخلق لها من يعصيه، فاطمأنُّوا، قاله زيد بن أسلم (¬1). والسادس: لأنَّه أراد إظهار عجزهم عن ما يعلم، لأنهم قاسوا على من كان قبل آدم، قاله مقاتل. والسابع: أنَّه أعلمهم بما يكون في المستقبل، ليعلموا علمه بالحوادث، قاله الوَالِبي. والثامن: أنَّ الملائكة لما طردت المفسدين من الأرض، أقاموا يعبدون الله، وذلك قبل خلق آدم، فأخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة غيرهم، قاله مقاتل بن حيَّان. ¬

_ (¬1) في "زاد المسير" 1/ 59، و"التبصرة" 1/ 12: ابن زيد.

فصل في الخليفة

والتاسع: أنَّه أعلمهم أنه يسكن آدم الأرض، وإن كان ابتداء خلقه في الجنَّة، قاله السُّدي (¬1). والعاشر: أنَّه خبرٌ أخبرهم به، وليس بمشورة. وهو أجود. وقيل: إنَّ فيه إشارة إلى إخراج هذا الخليفة من الجنَّة بذنبه قبل أن يسكنها، فدلَّ على أنَّ الكلَّ بقضائه وقدره، قاله أهل المعاني. وروى مجاهد عن ابن عباس بمعناه، فإنَّه قال: أخرج الله آدم من الجنَّة بذنبه قبل أن يُسكنه إيَّاها، ولو لم يرد إخراجه لما نوَّه بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. فصل في الخليفة قال علماء اللغة: الخليفة هو القائم مقام غيره، فهو خَلَف عمَّن تقدمه. وقال الجوهري: ويقال: خلَفَ فلان فلانًا إذا كان خليفته، يقال: خلفه في قومه خلافة، ومنه قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142]، قال: والخليفة السلطان الأعظم (¬2). وقيل: إنَّ الله تعالى ذكر خمسة نفر بالخلافة: آدم في هذه الآية، وداود {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص: 26]، وهارون {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}، وصلحاء هذه الأمة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55]، وصلحاء الأمم {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]. وفي معنى خلافة آدم قولان: أحدهما: أنه خليفة عن الله في إقامة شرعه، روي عن ابن مسعود وابن عباس (¬3). والثاني: أنه خلفٌ عمَّن تقدَّمه في الأرض قبله، وهو مروي عن ابن عباس أيضًا (¬4). والأوّل أظهر، لأن آدم كان بهذه المثابة. ¬

_ (¬1) إلى هنا مستمد من "التبصرة" 1/ 12. (¬2) "الصحاح": (خلف). (¬3) انظر "تفسير" الطبري 1/ 200، و "زاد المسير" 1/ 60، و"التبصرة" 1/ 13. (¬4) انظر "تفسير" الطبري 1/ 199، و "زاد المسير" 1/ 60، و"التبصرة" 1/ 13.

قال أبو إسحاق الثعلبي: سأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - طلحة والزبير وسلمان الفارسي وكعب الأحبار، فقال: أخليفة أنا أو ملك؟ فقال طلحة والزبير: ما ندري، وقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرّعيّة، ويَقسِمُ بينهم بالسَّوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، ويقضي بينهم بكتاب الله (¬1). وفي رواية: إن جَبَيتَ من أرض المسلمين درهمًا ووضعته في غير حقِّه فأنت ملك ولست بخليفة، فبكى عمر، فقال كعب: ما كنت أحسب أنَّ في المجلس من يعرف الخليفةَ من الملك غيري، ولكن الله تعالى ألهم سلمان حكمًا وعلمًا (¬2). قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] الآية. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه استفهام إنكار، وتقديره: كيف تفعل هذا وهو لا يليق بالحكمة؟ وروى يحيى بن أبي كثير عن أبيه قال: الذين قالوا هذا كانوا عشرة آلاف ملك، فأرسل الله عليهم نارًا فأحرقتهم. فإن قيل: فهلَّا أحرق إبليس لما خالف؟ قلنا: لما سبق في الأزل من امتحان بني آدم وقوله: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف: 15] وقال قتادة: غضب الله عليهم فطافوا بالعرش سبع سنين يقولون: لبَّيك اللهم لبَّيك، اعتذارًا إليك، فتاب الله عليهم، فذلك بدء التلبية. والثَّاني: أنَّه استفهام إيجابٍ، تقديره: ستجعل، كقول جرير: ألستم خيرَ من ركِب المطايا (¬3) أي أنتم، قال: أبو عبيدة. والثالث: أنه استفهام استعلام. ثم في مرادهم بذلك أقوال: أحدها: أنَّهم استفهموا وجه الحكمة، فكأنهم قالوا: كيف يعصونك وقد ¬

_ (¬1) أورد الخبر السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 306، وعزاه للثعلبي. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 306. (¬3) البيت في ديوانه 1/ 89. وتمامه: "وأندى العالمين بطون راح"، وانظر "مجاز القرآن" 1/ 35 - 36.

استخلفتَهم، وإنَّما ينبغي أن يسبِّحوا كما نسبِّح نحن. والثاني: أنهم قالوه تعجُّبًا من استخلاف من يُفسد. والثالث: أنهم استفهموا عن حال أنفسهم، وتقديره: أتجعل فيها من يفسد ونحن نسبِّح أم لا، ذكره ابن الأنباري والحسين بن الفضل (¬1). ونظيره: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيلِ} [الزمر: 9] ومعناه: كمن ليس بقانت. فإن قيل: فكيف قطعوا علي بني آدم بالفساد وما رأوهم، وذِكرُ الغائبِ غِيبةٌ، وهل علموا الغَيب حتَّى قالوا ذلك؟ فالجواب من وجوه: أحدها: ما روي عن ابن عباس أنه قال: لمّا قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: ذريَّة يفسدون في الأرض ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضًا، فقالوا عند ذلك: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ}. والثاني: أنهم قاسوا على من تقدَّمهم من الجنِّ الذين أفسدوا في الأرض، فقاسوا بالشاهد على الغائب. والثالث: كان لهم علم التجربة وعلم الفراسة والظنّ فتحقّق ظنّهم. والرابع: أنَّه لما أخبرهم بوجود هذا الخليفة وأنه مخلوق من الطَّبائع الأربع المختلفة، والهوى والغضب إنما يثوران من الحرارة، والهوى يفسد والغضب يسفك، فحكموا بذلك. والمراد بالفساد العمل بالمعاصي. وسفك الدم صبُّه وإراقته، والتسبيح: التنزيه لله من كل سوء، والتقديس: التطهير، والمعنى: ننزّهك ونعظِّمك (¬2). قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: إني أعلم أنه سيكون من ذريته أنبياء وعلماء صالحون، قاله ابن عباس. والثاني: أعلم أنه سيكون من ذريته من يُذنب فيتوب فأغفر له، قاله مقاتل. ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" 1/ 13. (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 13 - 14.

فصل في خلق آدم

والثالث: إنني أعلم بوجوه المصالح في استخلافي إيَّاهم، فلا تعترضوا عليَّ في حكمي وتدبيري، قاله الحسين بن الفضل. والرابع: إني أعلم أنهم يسفكون الدِّماء ولكن من جور رئيسكم. فصل في خلق آدم قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله خَلَق آدَمَ من قَبضَةٍ قَبَضَها مِن جميعِ الأرض فجاءَ بنُوه على قَدرِ ذلك، جاء منهم الأبيضُ والأحمرُ والأسوَدُ وبينَ ذلك، والخبيثُ والطيبُ، والسَّهلُ والحَزْنُ وبَينَ ذلك". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬1). ولهذا اختلفت ألوان بنيه. وروى عكرمة، عن ابن عباس قال: خلق الله الصالحين من عَذْبها، والكافرين من ملحها. وروي عنه أنه قال: الرُّوم والعرب من الأبيض، والترك من الأحمر، والحبش من الأسود. وقال أهل المعاني: الكافر من الأسود، والمنافق من الأحمر، والمؤمن من الأبيض. وقيل: الظالم من الأسود، والمقتصد من الأحمر، والسَّابق من الأبيض. وقال أحمد: بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ يومٍ طَلَعَت فيه الشَّمسُ يومُ الجمعَةِ، فيه خُلِقَ آدمُ وفيه دَخَلَ الجنَّة، وفيه أُخرِجَ منها، ولا تَقُوم الساعةُ إلا في يوم الجمعةِ". انفرد بإخراجه مسلم (¬2). هذا قدر ما أخرج في الصحيحين. وقد روي فيه زيادات من طريق أبي لُبابة بن عبد المنذر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سيِّدُ الأيَّامِ يَومُ الجُمعةِ -وذكره- وفيه ساعةٌ لا يَسأل اللهَ العبدُ فيها شيئًا إلَّا أعطَاهُ إيَّاه، مَا لم يَسألْ إثمًا أو قَطِيعَةَ رَحِمٍ، ومَا مِن مَلَكٍ مُقرَّبٍ ولا جَبَلٍ ولا أَرَضٍ ولا سماءٍ إلَّا وهو مُشفِقٌ من يَومِ الجُمعةِ أن تقومَ فيه السَّاعةُ، وفيه تُوفِّي آدم (¬3). ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ العَصرِ مِن يومِ الجُمُعةِ آخِرَ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (19582)، والترمذي (2955). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (9409)، ومسلم (854) (18). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15548).

الخَلقِ، ما بين العَصرِ إلى اللَّيلِ" (¬1). وقال ابن سعد بإسناده عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّاسُ ولدُ آدَمَ، وآدَمُ مِن التُّرَاب" (¬2). واختلفوا فيمن جاء بالطِّين الذي خلق منه آدم على قولين: أحدهما: إبليس، قاله ابن مسعود (¬3) وابن عباس (¬4)، قال: ولهذا قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] ومعناه: أنا جئت به، فكيف أسجد له؟ والثاني: ملك الموت، فروى السُّدي، عن أشياخه قال: لما أراد الله أن يخلق آدم بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها يخلق منه آدم، فجاء إليها فناشدته الله وقالت: أعوذُ بالله منك أنْ تنقصني وتشينني وتكونَ سببًا لإدخال جزءٍ مني إلى النار، فرقَّ لها جبريل واستحيى ورجع إلى الله وقال: إنها قالت كذا وكذا، واستعاذت بك فأعذتها، فبعث إليها إسرافيلَ، فاستعاذت منه فأَعاذها، فبعث إليها ميكائيلَ ففعلت كذلك، فبعث إليها ملكَ الموت فقالت له كذلك، واستعاذت بالله منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولا أنفِّذ أوامر ربي، فأخذ من وجهها تربة بيضاء وحمواء وسوداء، ولم يأخذ من مكان واحد بل من عذبها وملحها، فكل شيء أخذه من عذبها صار إلى الجنة، وإن كان ابن كافر، وكل شيء أخذه من ملحها صار إلى النار، وإن كان ابن مؤمن، فلما جاء ملك الموت بالطِّين إلى بين يدي ربِّ العالمين، وأخبره بما قالت، وبما قال لها، قال الله تعالى: وعزَّتي لأسلطنَّك عليها إذْ أطعتني وخالفتها (¬5). ولا يختلفون أنه خُلق يوم الجمعة، في آخر ساعة من ساعات النهار، سادس نَيسان، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2789). (¬2) "الطبقات" 1/ 25. (¬3) أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 198 - 199. (¬4) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 90 - 91، وانظر "المنتظم" 1/ 198. (¬5) أخرجه مختصرًا الطبري في "تاريخه" 1/ 90 - 91، وفي "التفسير" 1/ 203، وهو متلقى عن الإسرائيليات. وانظر عرائس المجالس 27 - 28 و"المنتظم" 1/ 198.

واختلفوا كم أقام مصوَّرًا على أقوال: أحدها: أربعين سنة، قاله ابن عباس. والثاني: أربعين ليلة، قاله الضحاك. والثالث: لم يقدَّر بشيء، قاله مقاتل. والأول أظهر، لوجهين: أحدهما: لأنها تمام الخلق ومنتهى الأشدِّ، ولهذا لم يبعث الله نبيًّا إلا بعد أربعين سنة، قاله السُّدي. والثاني: لتدور عليه الأفلاك بالنجوم السبعة المدبِّرات أمرًا، فتستحكم أجزاؤه ويكمل خلقه. وقال بعضهم: أمطر عليه الحزن أربعين سنة، والسرور يومًا واحدًا. وقد نصَّ ابن عباس على أربعين سنة فقال: خمَّر الله طينة آدم قبل التصوير أربعين سنة (¬1). واختلفوا أين صوَّره؟ قال ابن عباس: في السماء على باب الجنة، المدة التي ذكرها. وقال السُّدي: ألقاه بين مكة والطائف، فكان إبليس إذا مرَّ به فزع وضربه برجله فيظهر له صوت وصلصلة فيزداد فزعه. وقال مقاتل: كان يدخل في فيه ويخرج من دبره ويقول: لأمرٍ ما خُلِقت، ولئن فُضِّلت عليَّ لأهلكنَّك. قال مسلم بن الحجَّاج بإسناده عن أبيِّ بن كعب وأنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما صَوَّرَ آدَم تَركَهُ ما شاءَ أن يَترُكَهُ، فَجَعلَ إبليسُ يُطِيفُ به وينظُرُ إليه، فلمَّا رَآهُ أجوَفَ عَرَفَ أنَّه خَلقٌ لا يَتمالك (¬2) ". وقد روي أنه وكَّل به ملك الموت أربعين سنة، ثم أربعين سنة، ثم أربعين سنة حتَّى استحكم في مئة وعشرين سنة، فلذلك يقول الأطبَّاء: العمر الطبيعي مئة وعشرون سنة. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: في موضع: {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصافات: 11] وفي موضع ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 92. (¬2) صحيح مسلم (2611) من حديث أنس، ولم نقف على حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم ولا في غيره من المصادر.

آخر: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]، ومن {حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26]. و {مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ فالجواب: إن الألفاظ وإن اختلفت فالمعاني قد اتَّفقت، لأنه كان أوَّلًا ترابًا ثم صار حَمَأً، ثم جفَّ فصار صلصالًا، والصلصلة: الصوت، كان يُنقر فيطنُّ ويُسمع له صوت، اللَّازب: اللازق، والحمأ المسنون: المتغيِّر المنتن، والسلالة: القليل مما ينسل، وآدم استلّ من الأرضِ. فإن قيلَ: فلمَ خصَّ التراب بخلقه؟ فالجواب: ليكمل به الاستقصَّات الأربع، فيجتمع فيه الطباع المختلفة. ولم يكن قبله خلق من التراب بل من النَّار والماء والريح. وذكر الحافظ أبو القاسم في "تاريخ دمشق" عن سعيد بن جبير قال: خلق الله آدم من دَحْنَا ومسح ظهره بنَعْمان السحاب (¬1). وأخرج ابن سعد بمعناه عن ابن جبير، فذكر أرضًا يقال لها: دحنا، لا غير (¬2). وقد ذكرنا جبلي نعمان في باب الجبال. وقال الحافظ أبو القاسم أيضًا: وفي حديث الحسن البصري أنه خلق جُؤجُؤه من نقا ضَرِيَّة (¬3). ومعناه: خلق صَدرهُ من رمل ضريَّة، وهي منزل بطريق مكَّة من ناحية البصرة واليمامة. وكذا روى ابن سعد عن الحسن (¬4). والجؤجؤ: الصّدر. وقال الجوهري: ضريَّة قرية لبني كلاب على طريق البصرة، وهي إلى مكة أقرب (¬5). وذكر الحافظ أبو القاسم في "تاريخه" عن عليٍّ - عليه السلام - قال: قال رسول الله ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 7/ 281. (¬2) "الطبقات" 1/ 25 - 26. (¬3) "تاريخ دمشق" 7/ 279. (¬4) "الطبقات الكبرى" 1/ 26. (¬5) "الصحاح" (ضري).

- صلى الله عليه وسلم - "أكرمُوا عمَّتَكم النخلة، فإنها حلقَت منَ الطِّينِ الذي خُلقَ منه آدمُ، وليسَ من الشَّجرِ شيءٌ يلقح غيرها، وأطعِموا نساءَكُم الوُلَّد الرُّطبَ، فإن لم يَكن رُطبٌ فالتمرُ، وليسَ منَ الشَّجرِ أكرَمُ على اللهِ من شَجَرةٍ وُلدَت تحتَها مريمُ بنتُ عمرانَ". قلت: وقد ذكر جدي هذا الحديث في "الموضوعات" وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال مسلم بإسناده عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلقَتِ الملائِكةُ منَ النُّورِ، وخُلقَ الجانُّ من مَارجٍ من نارٍ، وخُلقَ آدم مما وصفْتُ لكُم" (¬2) أي من التراب. وحدثنا جدي رحمه الله بإسناده، عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نُفخَ في آدمَ الرُّوحُ، فطَارَتْ فصَارَتْ في رأسِه فعَطَسَ، فقال: الحمدُ للهِ، فقال الله عزَّ وجلَّ: يرحمُكَ الله" (¬3). وأخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال: فلمّا جرى الروح في خياشيمه عطس، فلقنه الله حمده، فحمد ربه (¬4). وقد رواه ابن عباس، وفيه: يرحمك ربّك أبا محمّد. قال مقاتل: وهذا معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنتُ نبيًّا وآدمُ بين الماءِ والطِّينِ" (¬5). وقال سهل بن عبد الله: لما قال له يرحمك الله، علمَ أنَّه سيذنب، لأنَّ الرحمة إنَّما تكون بعد الذنب والزلَّة. وقال السُّدي: لما وصلت الروح إلى عينيه نظر إلى الجنة وما فيها، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه، فذلك قوله تعالى {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] (¬6). ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 7/ 282، "الموضوعات" (385). (¬2) صحيح مسلم (2996). (¬3) "التبصرة" 1/ 14، وأخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" (6165)، والضياء في "المختارة" (1667). (¬4) "الطبقات الكبرى" 1/ 31. (¬5) لا أصل له بهذا اللفظ انظر "المصنوع" (233) وقد ورد من حديث أبي هريرة عند الترمذي (3609) ولفظه قالوا: يا رسول الله، متى وجبت لك النبوة؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬6) انظر "المنتظم" 1/ 201.

وقال ابن سعد بإسناده عن سلمان الفارسي، أن ابن مسعود قال: خمَّر الله طينةَ آدم أربعين ليلة وأربعين يومًا ثم ضرب بيده فيه فخرج كلُّ طيِّب في يمينه، وخرج كلُّ خبيث في يده الأخرى، ثم خلط بينهما، قال: فمن ثمَّ يُخرج الحيَّ من الميت والميت من الحيِّ (¬1). وروى ابن سعد بإسناده عن عبد الصمد بن مغفل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: خلق الله ابنَ آدم كما شاء مما شاء، فتبارك الله أحسن الخالقين، خلق من التراب والماء، فمنه لحمه ودمه وشعره وعظامه وجسده كله، فهذا بدءُ الخلق الذي خلق الله منه ابن آدم (¬2). وقال ابن عباس: أتته النفخة من قبل رأسه، فجعلت لا تجري في شيء إلّا صار لحمًا ودمًا (¬3). وقال ابن سعد بإسناده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ خَلَقَ آدم بيدِهِ" (¬4). فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] فقد رُدَّ العلم إلى الله تعالى. فالجواب من وجهين: أَحدهما: أن اليهود أرادوا امتحان النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فكان سكوته عن الجواب من أمارات معجزاته، لأنهم قالوا: إن أجاب فليس بنبيٍّ. والثاني: أنه لا يسعنا أن نقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم سرَّ الروح مع قوله عليه السلام: "فأورَثَني عِلمَ الأوَّلينَ والآخِرينَ" (¬5) وكان معناه: أنني لا أخبر من ليس بأهل عن هذا السرّ كاليهود، أمّا من هو أهل فنعم. وقال أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 1/ 27. (¬2) "الطبقات الكبرى" 1/ 27. (¬3) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 95. (¬4) "الطبقات الكبرى" 1/ 27 من حديث عبد الله بن الحارث. (¬5) لم نقف عليه بهذا اللفظ، ولكن عند أحمد (3484) من حديث طويل: " ... فعلمت ما في السماوات وما في الأرض ... " وإسناده ضعيف.

فصل في تعليمه الأسماء

- صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله خَلقَ آدمَ على صُورتِه، طولُه ستُّونَ ذراعًا، وقال له: اذهَبْ فسلِّمْ على أولئك النَّفَر من الملائكةِ وهم جُلُوسٌ، واسمع ما يُحيُّونَكَ، فإنَّها تحيَّةُ ذُريَّتِكَ، فجاء فسَلَّم، فقالوا: وَعليك السَّلامُ ورحمةُ الله، فزادوه: ورحمةُ الله، فكلُّ مَن يَدخُلُ الجنَّةَ على صورةِ آدَمَ وطولِه، فلم يَزَلِ الخَلقُ ينقُصُ بعد ذلك" أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وقد تكلَّموا على قوله: "خلق آدم على صورته"، قال قوم: الهاء عائدة إلى آدم، ومعناه: على صورته التي خلقه عليها، ومنهم من حمل الصورة على الصفة، وصفات الله ثابتة من السَّمع والبصر ونحوه. فإن قيل: فقد ورد في حديث "على صورة الرحمن" (¬2) فالجواب: أنه لا تصحُّ هذه الرواية. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: إنَّ عرض آدم كان سبعةَ أذرع، وإنَّ نَفَسه كان يؤذي أهل السماء، وكان رأسه يخطُّ السماء فأورثه ذلك الصَّلع، وإن الله حطَّه إلى ستين ذراعًا (¬3). قلت: هذا قول ضعيف لما ذكرنا من بعد المسافة بين السماء والأرض. فصل في تعليمه الأسماء قال الله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} [البقرة: 31] اختلفوا في الذي علَّمه على أقوال: أحدها: أنها أسماء الملائكة، قاله الربيع بن أنس (¬4). والثاني: أسماء ذريَّته، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (¬5). والثالث: أنه علَّمه جميع الأسماء، فقال: هذا فرس، وهذه دابَّة، هذه قصعة، هذه قصبة، هذا نعل، هذا كذا، حتى أتى على آخرها، قاله ابن عباس (¬6)، وهو الأصح ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (8171)، والبخاري (3326)، ومسلم (2841). (¬2) أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (41) والطبراني في "الكبير" (13580) من حديث ابن عمر. (¬3) ذكره ابن الجوزي في المنتظم 1/ 202 عن مجاهد قوله، وقال عقبه: ليس هذا شيء. (¬4) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 99. (¬5) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 99. (¬6) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 97.

لوجهين: أحدهما لأنَّ لفظه "كل" للعموم. والثاني: ليظهر فضلُ آدم على الملائكة، وفي تعليم البعض نقص. وقد نصَّ ابن عباس على هذا فقال: علَّمه أسماء الخلق والقرى والمدن والجبال وأسماء الطيور والأشجار وما كان ويكون وكلَّ نسميةٍ الله خالقها إلى يوم القيامة. وقال الطّبري في "تاريخه": علَّمه كل شيءٍ حتى الفسوة والضّرطة (¬1). قلت: أما كان في مخلوقات الله ما يعبَّر عنه بعبارة تليق بالله إلا هذه العبارة؟ ! وقال السُّدي: لما قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قالت الملائكة فيما بينهم: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقًا أفضل ولا أكرم عليه منا، وإن كان خيرًا منا فنحن أعلم منه لأنَّا خلقنا قبله ورأينا ما لم يَرَهُ. فلما أُعجبوا بعلمهم وعبادتهم فضَّل عليهم آدم بالعلم فعلَّمه الأسماء كلها. وهذا قول الحسن وقتادة وعامَّة العلماء. وقال أبو القاسم الورّاق: علَّمه ألف حِرفَةٍ ثم قال له: قل لأولادك إن لم يصبروا فليطلبوا الدنيا بهذه الحرَف ولا يطلبوها بالدِّين، فإنَّ الدِّين خالص، وويلٌ لمن طلب الدنيا بالدِّين (¬2). فإن قيل: فلِمَ قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} ولم يقل: "عرضها"؟ فالجواب: أنه أراد الشخوصَ المسمَّيات لأنَّ الأعراض لا تعرض، فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} أي: أخبروني {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] وفيه أقوال: أحدها: أنَّ معناه إن كنتم صادقين أني أخلق خلقًا أعلم منكم وأفضل، قاله الحسن. والثاني: إن كنتم صادقين أنَّ بني آدم يفسدون ويسفكون، رواه السُّدي عن أشياخه. والثالث: أنَّ المراد إبليس لأنه قال: إن فضِّلتُ عليه لأهلكنَّه، فتقديره: إن كنت صادقًا أنك تفعل ذلك، فأنبئني بأسماء هؤلاء، قاله مجاهد (¬3). وقال الزَّجاج: معناه: كيف تدَّعون علم ما لم تشاهدوه من الحكم على الغيب بالفساد، وأنتم لا تعلمون ما تعاينونه وترونه؟ فحينئذ أقرَّت الملائكة بالعجز فقالوا: ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 1/ 97. (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 57/ 5 من حديث عطية بن قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) انظر "التبصرة" 1/ 15.

فصل في سجود الملائكة لآدم

{سُبْحَانَكَ} أي: نزَّهناك، والتسبيح التنزيه لله سبحانه وتعالى من كل سوء {لَا عِلْمَ لَنَا إلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] فقد نزَّهناك عن الاعتراض عليك. فصل في سجود الملائكة لآدم ثم أمرهم الله بالسجود لآدم بقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] قال ابن عباس: لمّا اعترفوا بالعجز أمر الله تعالى آدم بأن يخبرهم بالأسماء، فلما أخبرهم قال: {قَال أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} يا ملائكتي {إِنِّي أَعْلَمُ غَيبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: ما كان فيها وما يكون {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} من الطاعة والخضوع لآدم {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] في أنفسكم له من العداوة. وقال ابن عباس أيضًا: المراد به إبليس، فإنه كان إذا مرَّ على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطَّائف يقول لمن معه من الملائكة: أرأيتم إن فضِّلَ عليكم هذا ماذا تصنعون؟ فيقولون: نطيع أمر ربِّنا، فيقول في نفسه: إلا أنا، والله لئن سلِّطتُ عليه لأهلكنَّه، وإن سلِّط عليَّ لأعصينَّه. واختلفوا في سجودهم لآدم على أقوال: أحدها: أنه سجود تعظيم وتحية لا سجود صلاة وعبادة كقوله في قصة يوسف عليه السَّلام {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100]، وكان ذلك تحية للناس وتعظيم بعضهم بعضًا، ولم يكن وضع الوجه على الأرض، إنما كان انحناءً وإيماءً ووضع اليد على الصدر. وأصل السجود الانحناء والميل، يقال: سجَدَت النخلة إذا مالت. فلمَّا جاء الإسلام أبطل ما كانوا يصنعونه وعوَّضهم بالسَّلام، ولما رَجعَ معاذٌ من اليمن، سَجدَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَتغيَّرَ وَجهُه وقال: "ما هذا يا معاذُ؟ " فقال: رأيتُ اليَهودَ يَسجُدونَ لأحبارِهِم، والنَّصَارى لرُهبانِهم وقِسِّيسيهم، ففعلتُ مِثلَهم، وأنت أولى، فقال: "مَهْ يا معاذُ، كَذَبوا، إنما السُّجود لله تعالى" (¬1). قاله ابن عباس. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم 4/ 172 وفيه: "أنهم كذبوا على أنبيائهم كما حرفوا كتابهم، ولو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظيم حقه عليها .. ". وأخرجه قريبًا منه ابن ماجه (1853)، وابن حبان في "صحيحه" (4171) وعندهم أنه رأى ذلك في الشام.

والثاني: أنه كان سجودًا على الحقيقة لآدم، قاله مجاهد. والثالث: أنه جعل آدم قبلةً لهم وسجودهم لله تعالى، كما جُعلت الكعبة قبلةً لصلاة المؤمنين، والصّلاة لله رب العالمين. وقال ابن مسعود: سجدت الملائكة لآدم، وسجد هو لله تعالى. وقال أبيُّ بن كعب: معنى سجودهم أنَّهم أقرُّوا لآدم أنه خير وأكرم على الله منهم. وحدثنا يحيى بن الأَوَاني، بإسناده عن ضمرة بن ربيعة، عن قادم بن مسور قال: قال عمر بن عبد العزيز: لمّا أمر الله الملائكة بالسُّجود لآدم أوَّل من سجد له إسرافيل، فأثابه الله بأن كتب القرآن في جبهته (¬1). قوله تعالى: {إلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] أي: امتنع وتعظَّم، و"كان" بمعنى صار في علم الله أنه من الذين وجبت عليهم الشقاوة. وقال السُّدي: لما امتنع إبليس من السجود قال له الله: ما منعك أن تسجد له؟ قال: أنا خير منه. قال: بماذا؟ قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] ألستُ الذي استخلفتني في الأرض، وجعلتني حاكمًا عليها وعلى الملائكة، وألبستني الرِّيش، ووشَّحتني بالنور، وتوجتني بالكرامة، وجعلتني خازن السماوات، وعبدتك ثمانين ألف سنة، وكنت من المقرَّبين؟ فقال الله تعالى: {قَال فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} وقال {فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَال فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر: 34 - 35 - 36 - 37]. وقال ابن عباس: قال الله له: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] منهم من أجراه على ظاهره، ومنهم من قال: يد القدرة. وقال أبو إسحاق الثَّعلبي: بإسناده عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قَرأَ ابنُ آدَمَ السَّجدَةَ وسَجدَ اعتزَلَ الشَّيطانُ يَبكِي ويقُولُ: يا وَيلَهُ أُمِرَ ابنُ آدَمَ بالسُّجُودِ فَسجَدَ، فله الجنَّةُ، وأمِرتُ بالسُّجُود فأبَيتُ فليَ النَّارُ" (¬2). ¬

_ (¬1) وأخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 203، وسلف ص 216 من هذا الجزء. (¬2) أخرجه مسلم (81).

فصل في خلق حواء

وذكر محمد بن عبد الكريم الشّهرستاني في أول كتاب "الملل والنحل" وقال: أول شبهة وقعت في الخليقة شبهة إبليس. قال: وتشعب من هذه الشبهة شبهات، منها أنه قال: قد علمت أنه إلهي وإله الخلق، وقد علم ما يصدر مني قبل خلقي، فلِمَ خَلقني وما الحكمة في خلقي؟ وكونه كلَّفني ما لا منفعة فيه له، فإنه لا تنفعه طاعتي ولا يضره معصيتي، ثم إنه سلَّطني على آدم فأخرجته من الجنّة بقضائه وإرادته فطردني ولعنني، وسألته الإنظار فأنظرني، ثم كان عاقبة أمري ما أنا فيه، ولو سجدت لآدم كان ماذا؟ وإنما له إرادة أراد أن يظهرها، قال: فقال الله تعالى للملائكة: قولوا له لو كنت صادقًا أني إلهك لما اعترضت عليَّ ولا خالفتني، لأني إله العالم، لا أُسأل عمَّا أفعل وهم يسألون (¬1). فصل في خلق حوَّاء قال ابن سعد بإسناده عن عكرمة مولى ابن عباس أنه قال: سُمِّيت حواء لأنها أمُّ كل شيء حي (¬2). وروى عطاء عن ابن عباس قال: لما أسكن الله آدم الجنَّة أقام مدةً فاستوحش، فشكا إلى الله الموحدة، فنام فرأى في منامه امرأة حسناء، ثم انتبه فوجدها جالسةً عنده فقال: مَن أنت؟ فقالت: حوَّاء، خلقني الله تعالى لتسكن إليَّ وأسكن إليك (¬3). قال: وخلقت من ضلع آدم، ويقال لها: القُصَيرى. قال الجوهري: القصيرى الضلع التي تلي الشاكلة، وتسمَّى الواهنة في أسفل الأضلاع (¬4). وقال مجاهد: إنما سُمِّيت المرأة مرأة لأنها خلقت من المرء وهو آدم. وقال مقاتل بن سليمان: نام آدم نومة في الجنة فخلقت حوَّاء من قُصَيراه من شقِّه الأيمن من غير أن يتألَّم، ولو تألَّم لم يعطف رجل على امرأة أبدًا. ¬

_ (¬1) "الملل والنحل" 1/ 16 - 18 بشيء من التصرف. (¬2) "الطبقات الكبرى" 1/ 39 - 40. (¬3) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 103. (¬4) "الصحاح": (قصر).

فصل في مقام آدم في الجنة

وقال ابن عباس: لَأمَ الله موضعَ الضلع لحمًا. ولما رآها آدم قال: أثابثا، وتفسيره بالسُّريانية: امرأة (¬1). وأخرجه ابن سعد عن مجاهد قال: ولمَّا خلقت حواء قالت له الملائكة: أتحبها؟ قال: نعم، قالوا لها: أفتحبينه؟ قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه منها، فلو صدقت امرأة في حبِّ زوجها لصدقت حوَّاء (¬2). وفي التوراة: فقال آدم: هذه عظام من عظامي ولحم من لحمي ودم من دمي. قال كعب: ومن أجل ذلك يترك الرجل أُمَّه وأباه ويتبع امرأته. وقال الربيع بن أنس: إنما خلقت حوَّاء من طينة آدم. واحتجَّ بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] ولأن الرجل لم يخلق من المرأة، فكذا المرأة لم تخلق من الرجل. والأول أصح، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] والمراد به آدم، وخلقت حواء من ضلعه، ولقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: 98]. وذكر مقاتل بن سليمان، في "كتاب المبتدأ" له وقال: لما أراد الله أن يزوِّج حواء من آدم قال: يا آدم لا بد من مهر، قال: ياربِّ وما مهرها؟ قال: أن تصلِّي على ولدك محمد - صلى الله عليه وسلم - عشر مرات، فصلى عشرًا (¬3)، قال مقاتل: فذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صَلَّى عليَّ مَرةً صَلَّى الله عليه عشرًا (¬4) ". فصل في مقام آدم في الجنَّة قال الله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] قال الفرَّاء: أهل نجد يقولون لامرأة الرجل: زوجة، ويجمعونها: زوجات، وهي لغة بني تميم. قال: وأهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: زوج، ويجمعونها: الأزواج (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 104 - 105. (¬2) لم نقف عليه في "الطبقات". (¬3) انظر "عرائس المجالس": 31. (¬4) أخرجه مسلم (408) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) انظر "زاد المسير" 1/ 65.

وقال الجوهري: زوج المرأة بعلها، وزوج الرجل امرأته. قال الله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (¬1). والرَّغد: الرزدق الواسع. {حَيثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] أي: كيف ومتى وأين شئتما. واختلفوا في الشجرة على أقوال: أحدها: أنها شجرة البُرِّ، وهي الحنطة، قاله ابن عباس (¬2). والثاني: شجرة الكافور، قاله علي - رضي الله عنه -. والثالث: الكَرمة، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد (¬3)، وحكاه ابن سعد، عن جعدة بن هبيرة قال: ولذلك جعلت فتنةً لولده (¬4). والرّابع: التين، قاله عطاء والحسن ابن جريج (¬5). والخامس: النَّخلة، قاله أبو مالك (¬6). والسَّادس: حيُّ العلم (¬7) -وقيل: إنما هي بكسر العين وفتح اللام- وهي الحنطة بلغة قيس. وهو الأصح، لأن الحنطة ملائمة لجميع بني آدم. وقد نصَّ على أنها الحنطة عامَّة العلماء. وقال وهب: هي شجرة الخلد. وهو وهم لأنَّ الله سمّاها بذلك، وإنما الكلام في جنسها (¬8). فإن قيل: فلِمَ خصَّ الشجرة المشار إليها بالنهي؟ فالجواب: لأنَّ لها ثُقْلًا، والجنَّة ¬

_ (¬1) "الصحاح": (زوج). (¬2) انظر "تفسير الطبري" 1/ 232. (¬3) انظر "تفسير" ابن أبي حاتم 1/ 126، و"تفسير" الطبري 1/ 232. (¬4) "الطبقات الكبرى" 1/ 34. (¬5) انظر "تفسير" ابن أبي حاتم 1/ 127، و"زاد المسير" 1/ 66. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 127، وانظر "زاد المسير" 1/ 66. (¬7) كذا هي في (ل)، وفي "المعتمد في الأدوية المفردة" ص 114: حي العالم: سمي بهذا الاسم لأنه لا يطرح ورقه في وقت من الأوقات، وهو نبات له قضبان طولها نحو من ذراع وأكثر في غلظ الإبهام، فيها شيء من رطوبة تدبق باليد وهي غضة. (¬8) انظر "زاد المسير" 1/ 66.

فصل في احتيال إبليس على دخول الجنة

لا تحتمل الثفل. وقال مجاهد: لما أكل منها لعبت معدته فقال له جبريل: أما تستحيي، أين تضع هذا على السُّرر أو على الفرش أو على شواطئ أنهار الجنَّة من رياض المسك والعنبر والكافور والزّعفران؟ ولكن انزلْ إلى دار يصلح أن يكون فيها هذا. قال: وهذا معنى قول علي - عليه السلام -: الدنيا كنيف يملأ. وقال النَّضر بن شُميل: إنما أكل آدم من الشجرة لأنه مُنع عنها، والآدميُّ حريص على ما مُنعَ منه. وقد ذكرها في التوراة فقال: ونصب الله تعالى شجرة الخير والشرِّ، أو شجرة الحياة، وسط الجنَّة، وقال: يا آدم كُلْ ما شئت إلّا منها، فإنك تموت يوم تأكل منها. وقال الحسن: لم يكن له بدٌّ أن يأكل منها لأنَّه خلق للمقام في الأرض. فصل في احتيال إبليس على دخول الجنَّة قال الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36] قال ابن عباس: أي: حملهما على الزَّلَّة. وقرأ الأعمش: فأَزالهما (¬1)، أي: نحَّاهما عن الطَّاعة والجنَّة، فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم. واختلفوا في كيفية دخوله إلى الجنَّة: قال الحسن البصري: وقف على باب الجنة وناداهما لأنه كان ممنوعًا من دخولها بقوله: {اخْرُجْ مِنْهَا} [الأعراف: 18]. وقال ابن عباس: إنما احتال بطريق الحيَّة وكانت من أحسن الدوابِّ، ولها جناحان كجناحي الطَّاووس، ولون جلدها لون السُّندس والإستبرق، وكانت من خُزَّان الجنَّة تدخل إليها وتخرج، وكانت صديقًا لإبليس، فخرجت ذات يوم فتعرَّض لها وخدعها وقال لها: قد اشتقت إلى الجنَّة، فقالت: أنت مطرود عن الجنَّة، فكيف ¬

_ (¬1) وهي قراءة حمزة بألف بعد زاي ولام مخففة. انظر "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 14، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 176.

أُدخِلُكَ إليها؟ قال: وما يضرُّكِ فإني مطرود عنها حيث لم أسجد لآدم، فأدخلِيني لأسجد له لعلَّ الله أن يرضى عنِّي. ففتحت فاها فوثب فقعد على نابٍ من أنيابها. ومرَّت به على الخَزَنة فأنساهم العلم السَّابق والقَدَر المحتوم أن يفتقدوا ناب الحيَّة، فدخلت به. وكان آدم لما رأى نعيم الجنة قال: لو أنَّ لنا خُلدًا، فأتاه من قبل الخلد، فجاء فوقف بين يدي آدم وحواء، وهما لا يعلمان أنه إبليس، فناح عليهما نياحةً أحزنتهما وبكى، وهو أوَّل من ناح، فقالا له: ما الذي بك وما يبكيك؟ فقال: أبكي عليكما، تموتان وتفارقان هذا النَّعيم. فوقع ذلك في نفوسهما واغتمَّا، ومضى عنهما، ثم جاءهما بعد ذلك فقال: يا آدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] فقال: إنَّ ربي نهاني عنها، {وَقَاسَمَهُمَا} أي: حلف لهما {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] فاغترَّا (¬1). قال ابن عباس: ما ظنَّ آدم أنَّ أحدًا يحلف بالله ويكذب. فبادرت حواء إلى الأكل من الشجرة، ثم ناولت آدم فأكل منها. وقال مقاتل بن سليمان: قال لهما إبليس: ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشجرة إلا حسدًا لكما، لأنه علم أنكما متى أكلتما منها علمتما الغيب، وزاحمتماه في ملكه وغيبه. وقال مجاهد: حلف لهما سبعين يمينًا، فذلك قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]. وقال مقاتل: فأخذت حوَّاء من الشجرة خمس حبَّات، فأكلت اثنتين وأخفت ثلاثًا، قال: فلذلك صار النساء يسرقن. وفي رواية عنه: أنها أخذت سبع حبَّات، فدفعت إلى آدم حبَّتين، وقالت: إنما أخذت واحدة، فلذلك صار للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال مقاتل أيضًا: تقدَّمت إلى الشجرة فأكلت منها ثم قالت: يا آدم، قد أكلت فلم تضرَّني، فتقدَّم فأكل منها. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 110 - 111، و"عرائس المجالس" ص 31.

وحكى أبو إسحاق الثعلبي في "تفسيره" عن سعيد بن المسيَّب: أنه كان يحلف بالله لا يستثني أن آدم ما أكل من الشجرة وهو يعقل، ولكن حوَّاء سقته الخمر حتى سكر، ثم قادته إلى الشجرة فأكل منها (¬1). قلت: والعجب من حكاية الثعلبي مثل هذا عن سعيد بن المسيَّب، وهو إمام وقته في العلم والزهد والورع والتحرُّز في أقواله عن مثل هذا. ثم قد اتفق العلماء على أنَّ خمر الجنَّة لا يسكر ولا يذهب بالعقول، قال الله تعالى {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)} [الواقعة: 19] وقال الله تعالى {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا} [الطور: 23] وهو السكر، والمراد من الخمر إنما هو حصول اللَّذة المطربة، وذلك حاصل في الجنَّة بدون سكر، فإنه مباح لأهل الجنة مع بقاء عقولهم، وبهذا فارق خمرَ الدنيا. وإنما اللَّائق بحال آدم أنه إنما أكل متأوِّلًا للكراهة دون التحريم، وذلك قبل النبوَّة، لأنه نهي عن شجرة فأكل من جنسها ظنًّا منه أنَّ المراد غير تلك التي نهي عنها لا التي أكل منها. على أنَّ الله تعالى قد عذره بكونه أكل ناسيًا فقال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115]. فإن قيل: فإن كان آدم تعمَّد، فمعصيته كبيرة، والكبائر لا تجوز على الأنبياء، وإن كان نسي فالنسيان معفوٌّ عنه، فكيف وقعت المؤاخذة؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّ الأنبياء قد أمروا بتجويد التحفظ، ومثل آدم لا يسامح. والثاني: أنَّه خالف، ومخالف الأمر يعاقب وإن كان ناسيًا، فإنَّ من طلَّق امرأته ناسيًا أو ساهيًا أو هازلًا وقع طلاقه، فالنِّسيان معفوٌّ عنه في رفع الإثم دون المؤاخذة، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "عُفيَ لأمَّتي عنِ الخطأ والنسيانِ وما استُكرهوا عليه" (¬2). والجواب الثالث: أن بعض العلماء قال: إنه أكل متأَوِّلًا للكراهية دون التحريم. وقال قتادة: لما أَكَلا منها بدَت لهما سوآتهما، وولَّى آدم هاربًا يستتر بورق الجنَّة، ¬

_ (¬1) "عرائس المجالس" ص 33، وانظر "تاريخ الطبري" 1/ 11 - 112. (¬2) أخرجه ابن ماجه (2045)، وابن حبان في "صحيحه" (7219) من حديث ابن عباس.

فناداه الله: يا آدم أفرارًا مني؟ قال: لا يا ربِّ، بل حياء منك. فقال: يا آدم اخرج من جواري، فإنَّ من عصاني لا يجاورني في داري. فقال: يا ربّ، هل بعد هذا العتاب رضىً؟ قال: نعم، فقال: الحمد لله (¬1). وقال الربيع بن أنس: امتنع من الخروج من الجنة، فجاءه جبريل فجذب بناصيته للإخراج، فقال: بالأمس تسجدُ لي واليوم تسحبُ بناصيتي؟ ارفق بي، فقال: لا أرفق بمن عصى الله. وذكر في التوراة: قال الله تعالى: يا آدم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها، قال: إنَّ المرأة أطعمتني، وقالت المرأة: إنَّ الحيَّة أطعمتني، يعني أن إبليس كان يخاطبها على لسان الحيَّة وهو قاعد على أنيابها. فقال الله للحيَّة: من أجل فعلك هذا أنت ملعونة، وعلى بطنك تمشين، وتأكلين التراب، وسأغري بينك وبين ولد المرأة فيطأ رأسك وتلدغين عقبه، وقال لآدم: اخرج من مشرق جنة عدن إلى الأرض التي أخذت منها. وقال الله لحوَّاء: أنت غررت الرجلَ، وعزَّتي لأعاقِبنَّك بالحيض والنفاس والولادة ونقصان الشهادة، لا تحملين إلا كرهًا، ولا تضعين إلا كرهًا، ثم مسخ الحيَّة إلى هذه الصورة. وقال وهب: كان لباس آدم في الجنة الظفر يزداد كلَّ يوم جِدَّة وحسنًا، فلما أخرجه من الجنة ألبسه الجلود والصوف. وكان آدم أمرد، فعوقب بإنبات اللحية. وقال أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التَقَى آدم مُوسى، فقال له مُوسى: أنتَ آدمُ الذي أَشقَيتَ النَّاسَ وأخرَجتَهُم من الجنَّة؟ فقال له آدمُ: أنتَ مُوسى الذي اصطَفَاك اللهُ برسالتِه وكلامِه وأنزلَ عليكَ التَّوراةَ؟ قال: نعم، قال: أَتلُومُني على أمر كانَ قد كُتبَ عليَّ قبلَ أنْ أفعَلَه، أو: قَبلَ أنْ أُخلَقَ؟ قال: فَحَجَّ آدمُ موسى" مرَّتين. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). فإن قيل: فلم لم تعاقب حوَّاء قبل آدم عند الأكل؟ فالجواب من وجوه: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 109، وانظر "تاريخ دمشق" 56/ 318. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (7387)، والبخاري (3409)، ومسلم (2652).

أحدها: أنها لو عوقبت في حالة الأكل قبل أن يأكل آدم لتوقَّف عن الأكل، فأخطأ علم الله فيه وإرادته وسره الخفي، فلما وافقها ظهر علم الله فيه. والثاني: لأن حوَّاء كانت ضعيفة فلم تقدر على العقوبة ولم تحتملها، بخلاف آدم بها كان قويًّا. والثالث: أنها عوقبت في ضمن عقوبة آدم بما يليق بها من الحيض والنِّفاس والولادة وترك الصلاة ونقصان الميراث والعدَّة، وبأنها لا تكون حاكمًا بين الناس، ولا تسافر إلا بوليٍّ، ولا تنعقد بها الجمعة والجماعات، وكونها عورة إلى غير ذلك. فإن قيل: فآدم وحوَّاء اشتركا في المعصية فلمَ لم تذكر معه في التوبة؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ العرب إذا كان فعل الاثنين واحدًا جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وكقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] ونحو ذلك. والثاني: فلأن النساء يدخلن في خطاب الرجال على وصف التبعيَّة، لأنهن تبع، فلهذا لم تذكر معه في التوبة، بل قال: {فَتَابَ عَلَيهِ} [البقرة: 37]، وإن كانت هي السبب. وقد قالت المعتزلة وجهم بن صفوان: إنَّ الجنَّة التي أُسكنها آدم إنما كانت بستانًا من بساتين الدنيا في جزيرة سَرَندِيب، ولهذا يسمَّى آدم السَّرنديبي، واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] فمن دخلها يستحيل عليه الخروج منها، ولأنها دار راحة فلا يكون فيها ابتلاء ومحن. ولنا: أنَّ الله عزَّ وجلَّ وصف الجنَّة التي أُخرج منها آدم بأوصاف لا تكون لبساتين الدنيا، على ما ذكرنا فيما تقدَّم، وأمَّا الآية، فآدم ما دخلها للثواب، ومن دخلها للثواب لا يخرج منها أبدًا. ألا ترى أنَّ رضوان وبقيَّة الخُزَّان يدخلونها ويخرجون منها؟ وقولهم: دار راحة، قلنا: ودار تكليف لإجماعنا على أنهم مكلَّفون بها بمعرفة الله تعالى. قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] الهبوط: هو الحُدور من

فصل في المكان الذي أهبطوا إليه

علوٍّ إلى سفل، وهذا الخطاب لآدم وحوَّاء وإبليس والحيَّة، لأنَّه ذكرهم بالواو، وهو للجمع، قاله ابن عباس (¬1). فإن قيل: فقد كرَّر الهبوط في آخر القصَّة بقوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38] فما فائدة هذا التكرار؟ فالجواب: إنهم أُهبطوا إهباطين، أحدهما: من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني: من السماء الدنيا إلى الأرض، حكاه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل: إنما كرَّره لتعظيم الذَّنب، كما يقال للإنسان إذا أذنب ذنبًا عظيمًا: اخرج، اخرج. فكان تأكيدًا في الإخراج. والمستقَر: موضع القرار، والمتاع: البُلغة، وإلى حين: أي إلى حين انقضاء آجالكم ومنتهى أعماركم. وقال الثعلبي فيما حكاه عن إبراهيم بن أدهم أنَّه كان يقول: أورثَتْنا تلك الأكلة حزنًا طويلًا (¬2). وعن ابن عباس قال: لما أُهبِطَ آدم إلى الأرض قال: يا ربِّ، إني كنت جارك في دارك، ليس لي رقيب ولا ربٌّ سواك، آكُلُ منها حيث شئتُ رغدًا، فأهبطتني إلى دار العناء والشَّقاء والنَّصَب والتَّعب، فقال الله: يا آدم، لِشؤم معصيتك، وذكر كلامًا طويلًا (¬3). ولما أُهبِطَ آدم إلى الأرض كان على رأسه إكليل من الجنَّة فيبس وتناثر في الأرض، فكل طيب في الدنيا فمن ذلك الإكليل (¬4). فصل في المكان الذي أهبطوا إليه قال علماء السِّير: أُهبِط آدم بالهند على جبل يقال له: واسِم، وقيل: نُوْذ، وقيل: ¬

_ (¬1) انظر "تفسير" الطبري 1/ 240. (¬2) "عرائس المجالس" ص 33. (¬3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 35 - 36، والطبري في "تاريخه" 1/ 124. (¬4) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 125.

الرَّاهون، وقيل: انحلوس، عند وادي سَرَندِيب. واسم الوادي بهيل بين الدَّهنج والمندل، وهما بلدان بأرض الهند (¬1). قال مقاتل: وهذا الجبل أقرب جبال الأرض إلى السماء. وأُهبطت حوَّاء بجُدَّة من أرض مكة، والحيَّة بنَصِيبِين الجزيرة، وقيل: بأَصبهان، وإبليس بميسان، وقيل: بالأُبلَّة (¬2). قال الجوهري: وميسان اسم كورة بسواد العراق (¬3). قال: والأُبُلَّة -بالضَّمِّ- مدينة إلى جانب البصرة (¬4). وقد ذكرها ابن الجواليقي قال: وهي بلدة قديمة (¬5). وقال أبو عبيد: هي آخر أعمال البصرة. وقال ابن زيد: أهبط إبليس بالبصرة، وكذا قال الحسن البصري. وقال الحسن: ولهذا هي معدن المعتزلة والقدريَّة واليهود. فإن قيل: فقد عَصَوا جملةً واحدة في مكان واحد، فما الحكمة في كونهم أهبطوا متفرقين؟ فالجواب: أنهم لما عصوا في ذلك المكان الشريف بدَّد الله شملهم في أقطار الأرض، وهو أبلغ في العقوبة من اجتماعهم في مكان واحد، ولهذا أُبقِيَ آدم مدَّة حتى اجتمع بحوَّاء بجَمْع، فلذلك سُمِّيت جَمْعًا على قول البعض، ثمَّ ازدُلِفت إليه بالمزدلفة، فسُمِّيت بذلك، ثم التقيا بعرفات فتعارفا، ورجعا إلى الهند، لما نذكر. وحكى الحافظ أبو القاسم في "تاريخ دمشق": أنَّ آدم كان يسكن بيت أبيات، قرية بسفح قاسيُون كانت، وإليه ينسب مسجدها، وأنَّ حوَّاء كانت تسكن بيت لَهيَا (¬6). قلت: ولم يوافقه على هذا القول أحد لإجماعهم على أن آدم كان بالهند ويتردَّد إلى مكة ولم يدخل الشَّام، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 122. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 122، و"التبصرة" 1/ 16. (¬3) "الصحاح": (ميس). (¬4) "الصحاح": (أبل). (¬5) "المعرب": ص 64. (¬6) "تاريخ دمشق" 69/ 101.

فصل في مقدار لبثه في الجنة

فصل في مقدار لبثه في الجنَّة اختلفوا فيه على أقوال: أحدها: ثلاث ساعات من أيام الآخرة، ربع يوم، فيكون مئتين وخمسين سنة من أعوام الدُّنيا، قاله الربيع بن أنس. والثاني: ساعتين، قاله مجاهد، وهو موافق للحديث أنَّه خُلِقَ في آخر نهار الجمعة (¬1). والثالث: ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر من سني الدنيا، رواه مجاهد عن ابن عباس. الرابع: ثلاثًا وأربعين سنة وأربعة أشهر من سني الدنيا، ذكره أبو جعفر الطبري في "تاريخه" (¬2). والخامس: أنه أقام نصف يوم من أيام الآخرة خمس مئة عام، رواه أبو الضحى عن ابن عباس. وقد روى قتادة: أنه دخل الجنَّة ضحوةً وأُخرجَ منها ما بين الظهر والعصر، وهو موافق لما روى أبو الضحى عن ابن عباس. وقال ابن سعد: بإسناده عن ابن عباس قال: أُخرِجَ آدم من الجنة بين الصَّلاتين: صلاة الظهر وصلاة العصر، فأُنزِلَ إلى الأرض، وكان مكثهُ في الجنَّة نصف يوم من أيَّام الآخرة خمس مئة سنة من يوم كان مقداره ألف سنة ممَّا تعدُّون، وهو اثنتا عشرة ساعة (¬3). وقال ابن سعد بإسناده عن خالد الحذَّاء قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، آدم خلق للسَّماء أم للأرض؟ فقال: للأرض، قلت: أرأيتَ لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة؟ فقال: للأرض خلق، فلم يكن له بدٌّ من أن يأكلَ منها (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في: "فصل خلق آدم". (¬2) "تاريخ الطبري" 1/ 119. (¬3) "الطبقات الكبرى" 1/ 34 - 35. (¬4) "الطبقات الكبرى" 1/ 34.

فصل في ذكر ما أهبط معه من الجنة

فصل في ذِكرِ ما أُهبِطَ معه من الجنَّة ذكر الوالِبي عن ابن عباس قال: أُهبِطَ معه الورق الذي خَصفَه من الجنة فتحاتَّ فنبَت منه أنواع الطِّيب والثمار، ففي ذلك الوادي: العود والسنبل والقرنفل والطَّاووس والمسك. وقد ذكرناه في أوَّل الكتاب. وقال مقاتل في "المبتدأ" له: نزل مع آدم صُرَّة فيها حنطة وثلاثون قضيبًا من الجنَّة، عشرة لها قشور وعشرة لها نوى، وعشرة لا قشور لها ولا نوى، فأمَّا التي لها القشور: فالجوز واللَّوز والفستق والبندق والخَشخاشُ والبلُّوط والشاه بلُّوط (¬1) والجوز الهندي والرُّمان والموز. وأمَّا التي لها نوى: فالخوخ والمِشمِشُ والإجَّاص والرُّطبُ والغُبَيراء والنَّبْق والزُّعرُور والعُنَّابُ والمُقْلُ والشاه لُوك (¬2). وأما التي لا قشور لها ولا نوى فالتُّفَّاح والسَّفرجَل والعِنَبُ والكُمَّثْرَى والتُّوتُ والتِّين والأُتْرُجُّ والخَرُّوبُ والخِيَارُ والبِطِّيخُ (¬3). وكان أبو موسى يقول: زوَّد الله آدم من ثمار الجنَّة، فثماركم هذه منها (¬4). وروى عطاء عن ابن عباس قال: كان آدم حين أُخرج من الجنَّة لا يمرُّ بشيء إلا عبث به، فقال الله للملائكة: دعُوه فليتزوَّد منها ما شاء، فأخذ من أوراقها ما أراد وقَدرَ عليه، فعبَقَت أرض الهند وجبالها وشجرها بريح الجنَّة (¬5). وقال قتادة: نزل معه الحجر الأسود، وكان أشدَّ بياضًا من الثلج، والركن والمقام، وهما ياقوتتان من ياقوت الجنة. ونزل معه عصا موسى، وكان من آس الجنة، طولها عشرة أذرع، ومرٌّ ولُبَان (¬6). ¬

_ (¬1) الشاه بلوط: هو البلوط الجبلي الكبير. "المعجم الذهبي" ص 363، وانظر "المعتمد في الأدوية المفردة" ص 256. (¬2) الشاه لوك: هو الإجَّاص الأبيض. انظر "المعتمد في الأدوية" ص 256. (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 128، والعناب: شجر يقارب الزيتون في الارتفاع، لكنه شائك. "تذكرة ابن داود" 1/ 241. (¬4) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 127، وانظر "المنتظم" 1/ 209. (¬5) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 126 عن مجاهد عن ابن عباس، وانظر "المنتظم" 1/ 209. (¬6) في (ل): "ومرواله؟ ". وما أثبتناه من "تاريخ الطبري" 1/ 127، و"المنتظم" 1/ 209.

فصل في ما تجدد بعد نزوله من الحوادث

وروي عن ابن عباس موقوفًا عليه ومرفوعًا قال: لما أُهبِط آدم من الجنة حَزِنَ عليه كلُّ شيء في الجنَّة إلا الذهبَ والفضةَ، فأوحى الله إليهما: جاورَكُما عبدٌ من عبادي فحزِن عليه كلُ شيء إلا أنتما، فقالا: إلهنا، ما كنَّا لنحزنَ على من عصاك. فقال الله تعالى: وعزَّتي لأُعِزَّنكما في الدنيا فلا يُنال شيءٌ إلَّا بكما (¬1). وقال الجوهري: الدِّينار أصله دِنَّار (¬2) بالتشديد. قال: وأمَّا الدرهم ففارسيٌّ معرَّب (¬3). فصل في ما تجدد بعد نزوله من الحوادث حكى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أُهبط آدم إلى الدنيا لم يكن فيها شيءٌ سوى حوتٍ ونسرٍ، فكان النسر يطير نهارًا، ثم يأوي في الليل إلى جانب البحر يستأنس بالحوت، فرأى النسرُ آدمَ فاستغربه، فقال للحوت: قد نزل إلى الأرض حيوان يمشي على قدميه ويبطُش بيديه، فقال الحوت: إن كنت صادقًا فما لي في البحر منه مهرب، ولا لك في البرِّ منه مذهب (¬4). وحكى الطبري وقال: جاع آدم فاستطعم ربَّه، فأتاه جبريل بسبع حبَّاتِ حنطة، فوضعها في يده، فقال: ما أصنع بها؟ فقال: ضعها في الأرض، فوضعها، فأنبتها الله من ساعته، ثم أمره فحصدها وفركها بيده، ثم ذرَّاها وأتاه بحجرين فطحن، وأتاه جبريل بنار، وخَبَزَهُ مَلَّةً، فآدم أول من خبز الملَّة (¬5). وروى سفيان بن عيينة بإسناده عن ابن عباس قال: لما نزل آدم إلى الأرض جاع فقال: يا ربِّ أطعمنِي فأوحى الله إليه دون أن تعمل عملًا يعرق منه جبينك فلا، فخبَزَ خُبْز الملّة. ¬

_ (¬1) لم نقف عليه من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 210 من حديث أنس - رضي الله عنه -، وقال: هذا حديث إسناده حسن، ومتنه غريب. (¬2) "الصحاح": (دنر). (¬3) "الصحاح": (درهم). (¬4) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 4/ 278، وابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 211. (¬5) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 128 - 129، و"المنتظم" 1/ 212، والملة: الرماد الحار.

وقال أبو صالح عن ابن عباس: لما رأى الله عري آدم وحوَّاء أمره أن يذبح كبشًا من الضَّأن من الأزواج الثمانية فذبحه، ثم أخذ صوفه فغزلته حوَّاء ونسجه آدم، فعمل منه جُبَّة لنفسه، ودِرعًا وخمارًا لحوَّاء (¬1)، وهو أول من حاك في الأرض وخاط. ثم أنزل الله عليه الكَلْبَتَين والمِطْرَقة، وكانتا لا يقلهما أحد من الناس، فكان يكسر الأشجار بالمطرقة. وعَمِلَ التَّنور الذي وَرِثه نوح وفار الماء منه (¬2). وقال مجاهد: أتاه جبريل بالجَلَم فجزَّ الشاة وغزلت حواء صوفها، وحاكه آدم عباءتين فلبساهما، ثم جاءه جبريل بثورين فصمدهما، ثم زرع عليهما، ثم حصد ودرس، ثم ذرَّى ثم صفَّى، ثم طَحن وعَجن، ثم خَبز وأكل (¬3). وقال سعيد بن جبير: جاءه جبريل بثور أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه، ويقول لحوَّاء: أنت عملت بي هذا. قال سعيد: فليس أحد من ولد آدم يعمل على ثور إلا ويقول: "حو" (¬4). قال: فحينئذٍ قال آدم: هذا ما وعدني ربي من قوله: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117]. وقال قتادة: جاءه جبريل بنار فأخذها بيده فأحرقت يده فقال: يا جبريل احترقت يدي، ولم تحترق يدك، فقال: لأنَّ يدك خاطئة. قال: وجبريل جاءه بالمقدحة وغيرها. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: لما أُهبِطَ آدم من جبل سَرَندِيب، وفقد كلام أهل السماء وتسبيحهم، ونظر إلى سعة الأرض، استوحش فقال: يا ربِّ، املأ هذه الأرض من يسبِّحك ويقدِّسك، فأوحى الله إليه قد استجبت دعاءك، وسأفعل ذلك (¬5). * * * ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 124. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 27 - 128، والكلبتان: ما يأخذ به الحداد الحديد المحمى. (¬3) انظر "المنتظم" 1/ 212، وتاريخ الطبري 1/ 129 - 130. (¬4) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 7/ 411 - 412. (¬5) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 131 عن وهب.

ومن الحوادث بكاؤه: حدثنا عبد الرحمن بنُ أبي حامد الحربي، بإسناده عن الحسن البصري قال: لما أُهبِطَ آدم من الجنة بكى ثلاث مئة عام لا يرفع إلى السماء رأسه حياءً من الله تعالى، ولا وضع يده على حوَّاء ولا ألِفَها ولا سكن إليها، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يومًا، قال فجاءه جبريل فقال: يا آدم ما هذا الجهد الذي بك؟ وما هذه البليَّة التي أجحفت بك؟ وما هذا البكاء؟ فقال: يا إلهي، كيف لا أجهد وأبكي وقد حوَّلتني من دار البقاء إلى دار الفناء، ومن دار النَّعيم إلى دار الشقاء، ومن دار الراحة إلى دار التعب والعناء؟ وفي رواية ابن أبي الدنيا (¬1) عن الحسن أيضًا قال: سجد آدم على جبل سرنديب ثلاث مئة عام يبكي حتى جرت الأنهار من دموعه، فأنبت الله منها أنواع الطِّيب بأرض سرنديب، واجتمعت الغدران من دمعه، فجاء نسر عظيم فشرب من غدير وجلس إليه، فأنِس به ولم يعلم أنها دموعه، فقال له النسر: من أين هذا الماء؟ ما أطيبه، ما ذقت ألذَّ منه. فازداد آدم بكاء وقال: أيها النسر أتسخر بي؟ ! قال: ولم؟ قال: هذا دمعُ مَن عصى ربَّه، فمن أين له الطِّيب؟ فقال له النَّسر: وأيُّ ماءٍ ألذُّ من دمع عاصٍ ذكر ذنبه، فوجل قلبه، فاستغفر ربه. وحكى الثعلبي عن شهر بن حوشب: أنه أقام مئة سنة لم يقرب حوَّاء. قرأت على شيخنا الإمام الموفَّق عبد الله بنِ أحمدَ المقدسيِّ رحمه الله تعالى بظاهر دمشق بقاسيون في سنة أربع وست مئة، قلت له: أخبركم أبو الفضل مسعود بن عبيد الله بن النَادر (¬2) فأقرَّ به، قال: حدَّثنا أبو بكر محمَّد بن الحسين بإسناده عن عمر بن ذر عن مجاهد قال: لما أكل آدم من الشجرة تساقط عنه جميع ما كان عليه من زينة الجنَّة، فقال لحوَّاء: استعدِّي للخروج من جوار الرحمن، فهذا أوَّل شؤم المعصية، فقالت: يا آدم، ما ظننت أنَّ أحدًا يحلف بالله كاذبًا. ثم هرب آدم في الجنة فتعلقت به شجرة، فظنَّ أنَّه قد عوجل بالعقوبة، فجعل يقول: العفو العفو، فقال الله للملائكة: أَخرِجَا آدم وحوَّاء من جواري، فنزع جبريلُ التَّاجَ عن رأسه والإكليل عن جبينه، فلما هبط من دار ¬

_ (¬1) في الرقة والبكاء (325). (¬2) هو مسعود بن علي بن عبيد الله، سيترجم له المصنف في سنة (586 هـ)، والخبر في التوابين 48.

القدس إلى دار المسغبة، بكى على خطيئته مئة سنة، قد رمى برأسه على ركبتيه حتى نبت العشب من دموعه والأشجار، وامتلأت نُقَرُ الجَلاهم وأَقْعِبَتُها، ثم تاب عليه. والنُّقَر: الحفر. والجُلاهم: جمع جُلْهُمة وهي جانب الوادي، وقوله: وأقعبتها، كذا وقعت هذه الرواية، والصواب: وقعبانها. وقد أخرج الخطيب حديثًا في بكاء آدم فقال بإسناده عن ابن بريدة عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو وُزن دُموعُ آدمَ بجميعِ دموعِ ولدِه لرَجَحَ دُموعُه على الجميعِ" (¬1). قال جدي رحمه الله في "الأحاديث الواهية": في إسناده أحمد بن بشير، قال ابن معين: وهو متروك (¬2). وحكى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: بكى آدم على الجنة سبعين عامًا، وعلى خطيئته سبعين عامًا، وعلى ابنه هابيل حين قتل أربعين عامًا، وأقام بمكّة مئة عام (¬3). وذكر مقاتل بن سليمان في كتاب "المبتدأ" له قال: جاءه جبريل بعد أن بكى مئة سنة فقال له: يا آدم هذا بكاؤك (¬4) لفراق الجنان، فأين بكاؤك لفراق الرحمن؟ فبكى مئتي سنة أخرى، فجرى من إحدى عينيه مثل الفرات، ومن الأخرى مثل دجلة. * * * ومن الحوادث قصد السباع والهوام إيَّاه: روى وهب بن منبِّه قال: لما نزل آدم إلى الأرض كان فيها سباع وهوام، فأتاهم إبليس فقال: قد نزل إليكم حيوان يقصد هلاككم فأهلكوه، فقصدوه من كلِّ جانب، فخاف وقال: يا إلهي اكفنيهم، فأوحى الله إليه: اختر منهم واحدًا يذبُّ عنك، فدعا الكلب ومسح على رأسه، فحمل عليهم فطردهم، فمن ثَمَّ يألف الكلب بني آدم ويحفظ عهدهم. * * * ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 4/ 47. (¬2) "العلل المتناهية" (44). (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 77. (¬4) إلى هنا انتهى الخرم في (ب).

فصل ومن الحوادث توبته

فصل ومن الحوادث توبته قال الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] قال ابن عباس: معنى "تلقَّى": تلقن وحفظ وفهم. واختلفوا في الكلمات على أقوال: أحدها: أنها قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: إن آدم قال. يا ربّ ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: فلم أخرجتني منها؟ قال: بشؤم معصيتك. قال: ياربّ أرأيت إن تبتُ ورجعتُ أَراجعي أنت إليها؟ قال: نعم؛ فتاب عليه، قاله الحسن (¬1). والثالث: أن آدم قال: يا ربّ أرأيت ما أتيتُ به، أشيء ابتدعتُهُ أم شيء قدَّرتَهُ عليَّ ولم أبتدعه من تلقاء نفسي؟ قال: بل بتقديري عليك، فقال: يا ربِّ، فكما قدَّرتَه عليَّ فاغفر لي، فتاب عليه. قاله عبيد بن عمير (¬2). والرابع: أنه قال: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملتُ سوءًا وظلمتُ نفسي فتُبْ عليَّ إنك أنت التوَّاب الرّحيم، فغفر له. قاله محمد بن كعب القُرَظي (¬3). والخامس: أنه نظر إلى ساق العرش فرأى عليه مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال: يا ربِّ، بحقِّ محمد اغفر لي فغفر له، قاله الربيع بن أنس (¬4). والسادس: أنه رأى على ساق العرش مكتوبًا: محمد رسول الله، علي بن أبي طالب، الحسن والحسين، فاطمة. حكاه زيد بن أسلم عن أبيه، وفيه: فقال: يا ربِّ، ¬

_ (¬1) وأخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 243، وفي "تاريخه" عن ابن عباس، وانظر "زاد المسير" 1/ 69. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 244. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 36. (¬4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6502)، والحاكم 2/ 615، وابن عساكر 7/ 437 من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرفوعًا، قال الذهبي في "تلخيص المستدرك": موضوع.

بحرمة هذه الأشباح اغفر لي. والسابع: أنه رأى على ساق العرش مكتوبًا، لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق. حكاه الثعلبي بإسناده إلى عليّ كرّم الله وجهه. والثامن: سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين، قاله وهب. وروى ابن أبي الدُّنيا (¬1) بإسناده عن وهب بن منبه قال: أقام آدم على حاله زمانًا، فاطَّلع الله عليه فرآه حزينًا كئيبًا، فأوحى إليه: ما الذي بك؟ فقال: إلهي عظمَتْ مصيبتي، وأحاطت بي خطيئتي، وأخرجت من ملكوت السماء، فأصبحتُ في دار الهوان بعد الكرامة، والشقاء بعد السعادة، والنَّصَب بعد الخفض والدعة، والظَّعْن بعد القرار والطمأنينة، ودار الذلِّ بعد العزِّ. فقال الله: ألم أصطنِعْكَ لنفسي وأُحلَّك في دارَ كرامتي وأُسجدْ لك ملائكتي، ونفخت فيك من روحي، فعصيت أمري، وضيَّعت عهدي، وخالفت وصيَّتي، ولم تشكر نعمتي، وعزَّتي وجلالي لو ملأت الأرض رجالًا مثلك يسبِّحون الليل والنهار لا يفترون ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين. وإني قد رحمتُ ضعفك وتضرُّعك، وأقلتك عثرتك، وقبلتُ توبتك، فغفرتُ زلَّتك. فألهمه الله أن قال: سبحانك إني كنت من الظالمين. قال وهب: فذلك قوله: {فَتَابَ عَلَيهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]. وذكر جدي رحمه الله في كتاب "التبصرة" عن وهب بن منبه: أنه سجد على جبل الهند مئة عام يبكي حتى جرت دموعه في وادي سرنديب، فأنبت الله من دموعه الدّارصيني والقَرَنْفُل. وذكر بمعنى ما تقدَّم، ثم قال: فجاءه جبريل فقال: ارفعْ رأسك فقد غفر لك، فرفع رأسه وأتى الكعبة فطاف أسبوعًا فما أتمه حتى خاض في دموعه (¬2). ولما تاب عليه أمره بالمسير إلى مكّة فأتى إلى البيت فطاف به، وصلى عند المقام ركعتين. ومعنى عند المقام، أي: موضع المقام. فإن قيل: فلم يكن هناك بيت، فالجواب: إنَّ أهل السِّير قد اختلفوا في بنائه: فروى عكرمة عن ابن عباس: أنَّ الملائكة لما قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ ¬

_ (¬1) الرقة والبكاء (320). (¬2) "التبصرة" 16 - 17.

ومن الحوادث: مسح ظهر آدم وإخراج الذرية منه

خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} [البقرة: 30] أرسل الله عليهم نارًا فأحرقت منهم عشرة آلاف، وبقي رؤساؤهم، فقالوا: يا ربَّنا، كيف نصنع حتى ترضى عنَّا؟ فقال: ابنوا لي في الأرض بيتًا، وطوفوا حوله كما تطوفون حول عرشي، ففعلوا فرضي عنهم. قال جعفر بن محمد الصادق - رضي الله عنه -: فمن ثَمَّ أصل الطواف. وروى سعيد بن المسيِّب عن ابن عباس: أن آدم بناه وكان موضعه ربوة حمراء، فأوحى الله إلى آدم: طُفْ بها، فطاف بها، قال: وكان آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش فأوحى الله إليه: ابنِ هذه الربوة الحمراء بيتًا، فمنها وضعت الدنيا، وطف بها كما رأيت الملائكة تطوف بعرشي، فبناه. وقد رواه أبو صالح أيضًا عن ابن عباس، وروى مجاهد عنه: أن الله تعالى بناه من غير بناء أحد. والظاهر أنَّ آدم بناه، وكان ربوة حمراء، وكان قد نزل معه من الجنَّة ياقوتة، فوضعها فيه، وكان جبريل يأتيه بالحجارة من حراء، وطور سينا، وطور زيتا، والجودي وغير ذلك، وهو يبني. وسنذكره عند بناء الخليل - عليه السلام - البيت. وقال عطاء: لما جاء آدم من الهند ماشيًا صار ما بين قدميه مفاوز، وموضع القدمين عمائر. ثم رجع إلى الهند، واتخذ مغارة فكان يأوي إليها، وكان قد اجتمع بحوَّاء في عرفات فتعارفا فأخذها معه إلى الهند. ومن الحوادث: مسحُ ظهر آدم وإخراج الذرِّيَّة منه قال أحمد بن حنبل بإسناده عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخَذَ الله الميثاقَ من ظهرِ آدمَ بأرضِ نَعْمَان -يعني أرضَ عرفة- فأخرج من صُلبهِ كلَّ ذرِّيَّة ذَرَأها فنَثَرها بينَ يدَيهِ كالذَّرِّ، ثم كلَّمَهم قِبَلًا، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] " (¬1) ومعنى "قِبَلًا" أي: عيانًا. وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (2455).

"إنَّ الله خَلَقَ آدمَ ومسَحَ ظَهرَه بيَمِينِه فاستَخرَجَ منه ذُرِّيَّة، فقال: خَلَقتُ هؤلاءِ للجنَّةِ، وبعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ يَعمَلُون، واستخرج ذرِّيَّة، وقال: خَلَقتُ هؤلاءِ للنَّارِ، وبعَمَلِ أهلِ النَّارِ يَعمَلُون" فقال رجل: ففيمَ العملُ يا رسول الله؟ فقال: "إنَّ الله إذا خَلَقَ العبدَ للجنَّةِ استعمَلَه بعملِ أهلِ الجنَّة، [حتى يموتَ على عملٍ من أعمال أهلِ الجنَّة] فيُدخِلَه به الجنَّة، وإذا خَلَق العبدَ للنَّارِ استَعمَلَه بعملِ أهلِ النَّارِ حتى يموتَ على ذلك، فيُدخِلَه النَّارَ" (¬1). وقال أحمد بإسناده عن أبي الدَّرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَلَقَ الله آدمَ حينَ خَلَقَه فَضَربَ كتِفَه اليُمنى فأخرجَ ذرِّيَّةً بَيضاءَ كأنَّهم الذَّرُّ، وضَرَبَ كتِفَه اليُسرى فأخْرَجَ ذرِّيَّة سَودَاءَ كأنَّهم الحُمَمُ، فقَال للَّذي في يمينهِ: إلى الجنَّةِ ولا أُبالي، وقال: للَّذي في كَفِّه اليُسرى إلى النَّارِ ولا أُبَالِي" (¬2). وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبيِّ بن كعب بمعناه. وفيه: وأَشهَدَ عليهم السَّماواتِ والأرضَ وآدمَ (¬3). ورواه الحسن البصري عن أنس، وفيه: فأخرج من ظهره ذريّة فقال: هؤلاء في الجنّة ولا أُبالي، ثم أخرج ذريّة أخرى فقال: هؤلاء في النّار ولا أبالي، فقيل: يا أبا سعيد لا أُبالي بمن؟ فقال: لا تنفعه طاعة هؤلاء ولا تضره معصية هؤلاء. وروى السُّدي عن أشياخه قالوا: أخرج الله من ظهره من الجانب الأيمن ذريّة بيضاء مثل اللؤلؤ، وقال لهم: ادخلوا الجنّة برحمتي، وأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذريّة سوداء وقال لهم: ادخلوا النّار ولا أبالي. قال: فذلك قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} [الواقعة: 27] الآية، ثم قال لهم الله: اعلموا أني إلهكم لا إله لكم غيري، فلا تشركوا بي شيئًا، وأني مرسل إليكم رسلًا يذكرونكم بعهدي وميثاقي، وأني مُنزل عليكم كُتُبًا، فنطقوا وقالوا: شهدنا بأنَّك ربَّنا وإلهنا لا ربَّ لنا غيرك، ولا إله سواك، فأَقرُّوا كلهم طائعين غير مكرهين، فأخذ مواثيقهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ونوائبهم وأفراحهم وما يكون منهم، فلا تقوم الساعة حتى يولد كلُّ من أخذ ميثاقه، لا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (311)، وما بين حاصرتين منه. (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (27488). (¬3) هو من زوائد عبد الله بن أحمد على المسند، موقوف عليه، "مسند أحمد" (21232).

يزاد فيهم ولا ينقص (¬1). وقال مقاتل: أقرَّت طائفة منهم على وجه التقيَّة، قال: وركَّب الله فيهم العلم فخاطبوه وخاطبهم. وقال السُّدي: نظر إليهم آدم فرآهم متفاوتين، منهم الغني والفقير، والحسن الصورة والقبيح، فقال: يا ربِّ، هلَّا سوَّيت بينهم؟ فقال: إني أحببت أن أُشكر. وقال مقاتل في "المبتدأ": رأى آدم نور بعضهم كنور الشمس، وهم المرسلون، وبعضهم كنور القمر، وهم النبيُّون، وبعضهم كالنجوم، وهم الصِّدِّيقون، وبعضهم كالشمع، وهم الأولياء، وبعضهم كالسرج وهم العلماء، وبعضهم مرضى وأصحاء، فقال: يا ربِّ، لم لم تسوِّ بينهم؟ فقال: لو تركتهم على حالة واحدة لم تعرف المراتب، فقال: يا ربِّ (¬2)، هلَّا خلقتهم صحاحًا؟ فقال: لو خلقتهم صحاحًا لما عرفوا قدر الصحة، ولو خلقتهم كلهم مؤمنين لما عرفوا قدر الإيمان، فقال: يا ربِّ، وأيُّ أرض تتسع لهؤلاء أو لهذه الذريَّة العظيمة؟ فقال: إني أقسمهم أربعة أقسام، قسم في الأصلاب، وقسم في الأرحام، وقسم على وجه الأرض، وقسم في بطنها، فقال: يا ربِّ، كيف يهنيهم عيش بعدما يعاين بعضهم دفن بعض؟ فقال: أركِّب فيهم الغفلة حتى لو دَفَن الواحدُ عشرة من أهل بيته وأقاربه لا يتأثَّر إلا في تلك الساعة. وقال مقاتل أيضًا في "المبتدأ": وخلق الله النِّساء، فجعل الجميلات في أسفل تلِّ، والدَّميمات في أعلاه، ثم قال للرِّجال: خذوهن، فظنَّ الأقوياء أنَّ اللاتي في أعلى التلِّ هن الجميلات، فبادروا إليهنَّ، فأخذوا الدَّميمات، ووقع في قسم الضعفاء الجميلات. قال: ولهذا إنَّ كل من كان أضعف كانت امرأته في الغالب أحسن. وقال مقاتل: جعل الله الذرَّ قسمين: قسم عن يمين العرش، وقال: هؤلاء للجنَّة، وقسم عن شماله، وقال: هؤلاء للنار. قال الحسن البصري: كان عقل آدم في تلك الحال مثل عقل جميع أولاده (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 136. (¬2) من قوله: يا رب لم لم تسو بينهم ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (1035)، وابن عساكر في "تاريخه" 7/ 444.

واختلفوا في أي مكان أخذ عليهم الميثاق على أقوال: أحدها: بأرض نَعمَان: وادٍ إلى جانب عرفة، قاله ابن عباس (¬1)، قال: ولذلك سميت عرفة، إمَّا لأنهم عرفوا ربَّهم هناك، وإمَّا لأنهم عرف بعضهم بعضًا. والثاني: بين مكة والطائف، قاله الكلبي. والثالث: بالدَّهنَاء -موضع بالهند- وفيه أُهبِطَ آدم، وهو رواية ابن عباس. والرابع: بدَحْنا (¬2). وحكى الطبري عن السُّديِّ: أنَّ الله أخرج ذريَّة آدم في السماء قبل أن يَهبط إلى الأرض، وبعد أن أخرجه من الجنَّة (¬3). والأوَّل أصحُّ، لأنَّ حديث ابن عباس قد نصَّ عليه (¬4). واختلفوا في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]: قال الفراء: هو سؤال تقرير. فإن قيل: فلو قالوا: نعم، هل يكون إقرارًا؟ فالجواب: لو قالوا: "نعم" لكفروا، لأنه يكون جحدًا، وذلك لأنَّ "نعم" جوابُ التصديق، وبلى جواب التحقيق، فإذا قالوا: "نعم" صار معناه: لستَ ربنا، ألا ترى أنه لو قال رجل لآخر: أليس لي عندك وديعة؟ فقال: بلى، يثبت حقه، ولو قال: نعم، لم يثبت، لأنه يكون جحدًا، مثل قول: لا. واختلفوا في قوله: {شَهِدْنَا} [الأعراف: 172]: فقال السُّدي: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. وقال مقاتل: هو خبر عن إقرار بني آدم حين أشهد الله بعضهم على بعض. ومعنى {تَقُولُوا} أي: لئلَّا تقولوا يوم القيامة {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أي: عن الميثاق والإقرار. ¬

_ (¬1) ليست في (ب)، والخبر أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 134. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 135 - 136 عن ابن عباس. (¬3) "تاريخ الطبري" 1/ 136. (¬4) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان" وقد تقدم تخريجه في فصل الجبال: جبلي نعمان.

وما أحسنَ ما قال ذو النون المصري، حين قيل له: أين أنت عن يوم ألَستُ؟ فقال: كأنَه الآن في أذني، وما أراد به سماع الصوت، وإنما أراد به تحقيقَ الإيمان والإقرار. وسئل بعضهم عن أحوال الذرِّيَّة في يوم الميثاق، وأنهم كلهم اعترفوا، فكيف خرج بعضهم إلى الجحد؟ فقال: كلهم قالوا بلى، ولكن عمَّ بعضهم البلاء للقضاء السَّابق. وفي هذا الوقت الذي أخرج الله ذرِّيَّة آدم رأى نورَ داود. قال أحمد بن حنبل بإسناده عن ابن عباس، قال: لما نزلت آية الدَّين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَن جَحدَ آدمُ، وذَلكَ لأنَّ الله لما مَسَحَ ظَهرَ آدمَ وأَخرَجَ ما هو ذَارئٌ إلى يَومِ القيَامةِ، فَجَعلَ يَعرِضُ ذرِّيَّته، فرأى رجلًا يَزهَر، فقال: يا ربِّ، مَن هذا؟ فقال: ابنُكَ داودُ، فقال: يا ربِّ، زِد في عُمرِهِ، فقال: لا إلَّا أن تَزيده من عُمرِكَ، وكان عُمرُ آدمَ ألفَ سنةٍ فزادَه أربعين سنة، فكتَبَ الله بِذلِكَ كِتَابًا وأَشهَدَ عليه الملائِكَةَ، فلمَّا احتضَرَ جاءَهُ ملكُ الموتِ فقال: قد بقِيَ لي من عُمري أربَعونَ سنةً، فقال: قد وهبتَها لداودَ، فقال: ما وَهبتُ فأَبرَزَ اللهُ الكِتابَ والشَّهادةَ". وفي رواية: "أتتهُ الملائكةُ" (¬1). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جَحدَ آدمُ فَجَحدَت ذُريَّته" (¬2) قال ابن عباس: فمن ثَمَّ اتُخِذَت الصِّكَاكُ (¬3) والشهادات. وقد أخرجه محمد بن سعد في "الطبقات"، وذكر إسناده كما ذكرنا، وزاد فيه: "فَأَكمَلَ الله لآدم ألفَ سنةٍ، ولداودَ مئةَ سنةٍ" (¬4). قال جدي رحمه الله في "المنتظم": الحديث محمولٌ على أنَّ آدم نسي لطول المدَّة، لا أنَّه كان ذاكرًا لذلك ثم جحد، لأنه يكون كذبًا، والأنبياء منزَّهون عن الكذب (¬5). قلت: إلا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على أنه جحد، والجحد يحتمل أن يكون معه نسيان ويحتمل أن لا يكون، فإن كان معه نسيان، فهو معذور، وإن لم يكن، فيحتمل أنَّ الله ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (2270). ويزهر: يضيء وجهه حسنًا. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 28 من حديث أبي هريرة. (¬3) الصك: الكتاب، وهو معرب. (¬4) "الطبقات الكبرى" 1/ 28 - 29، وانظر "المنتظم" 1/ 216. (¬5) لم نقف عليه في "المنتظم"، وانظر "التبصرة" 1/ 17.

فصل في نبوة آدم عليه السلام

ألهمه أن يكمل له ألف سنة ويتم لداود مئة ولا ينقص من ملكه شيء. فإن قيل: فلمَ رأى نور داود ولم ير نور محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان نوره أبهى من نور داود؟ قلنا: لما قضي في السَّابق أنَّ داود يوافقه في العصيان (¬1)، لُفِّقَت بينهما مجانسة الذَّنب في ذلك المكان، أمَّا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه قد شاهد نورَهُ على ساق العرش، فسأل الله به وتوسل إليه، فرحمه وتاب عليه. ومن الحوادث ما ذكره مقاتل في "المبتدأ" قال: لما نزل آدم إلى الأرض اسوَدَّ جلده من حرارة الشمس، ويبس من البرد، فأوحى الله إليه: هذا بشؤم معصيتك، فَصُمْ ثلاثة أيام من كلِّ شهر، وهي أيام البيض، فصامها فابيضَّ لونه. وقال مقاتل أيضًا: لمَّا جنَّ عليه الليل استوحش، فلمَّا طلع الفجر ألهمه الله أن صلِّ ركعتين صلاة الصبح شكرًا لله تعالى. فآدم أول من صلَّاها. قال: وصلى إبراهيم الظهر أربعًا لما فدي ولده بالكبش، وكان وقت الظهر، وصلَّى يونس العصر لما خرج من بطن الحوت. ولما ادَّعت النصارى التثليث صلَّى عيسى المغربَ ثلاثًا: ركعتين عن نفسه، وركعة عمَّن آمن به. وصلى موسى العشاء أربعة ليلةَ الطُّور لما كلَّمه الله تعالى. قلت: والأصحُّ أنَّ الصلوات الخمس إنَّما صلَّاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورتَّبها على هذا الوجه، وروايات مقاتل فيها مقال معروف. فصل في نبوَّة آدم عليه السَّلام قال ابن سعد عن أبي ذرٍّ قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الأنبياءِ أوَّلُ؟ قال: "آدَمُ" قُلتُ: أَوَنَبِيًّا كان؟ قال: "نعم، نَبيٌّ مُكَلَّم" (¬2). وروى مجاهد عن ابن عباس قال: أنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة، أملاها عليه جبريل، وكتبها آدم بخطِّه بالسُّريانيَّة، وكانت لغته في الجنة العربية، فلما عصى وأهبط إلى الأرض تكلَّم بالسُّريانيَّة (¬3). قال: وفرض عليه في اليوم والليلة خمسين ركعة، ¬

_ (¬1) ينظر ما سيورده المصنف من محنته - عليه السلام - في 2/ 161 وما بعدها. (¬2) "الطبقات الكبرى"1/ 32، 54، وهو عند أحمد في "مسنده" (21546). (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 7/ 407.

وحرَّم عليه الميتة والدَّم ولحمَ الخنزير والبغي والظلم والغدر والكذب والزنا. وذكر أبو جعفر الطبري وقال: أول ما أنزل عليه حروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة، وهو أوَّل كتاب كان في الدنيا (¬1). وذكر أبو إسحاق الثعلبي في أول سورة الرحمن عن ابن عباس قال: كان آدم يتكلَّم بسبع مئة ألف لغة، أفضلها العربيَّة، قالوا: ولو قال: بسبع مئة لغة احتمل، أمَّا بسبع مئة ألف، فهذا ممَّا لا توافقه عليه العقول السليمة. فصل فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118] وقد جاع وعري، فالجواب: أنه ما جاع وعري في الجنَّة، وإنما كان ذلك في الدُّنيا. والظَّمأ هو العطش {وَلَا تَضْحَى} [طه: 119] أي: تبرز للشمس، والجنَّة ما فيها شمس فيؤذيه حرُّها. فإن قيل: فهما اثنان، فهلَّا قال: أن لا تجوعا، قلنا: غلب المذكَّر على المؤنَّث، لأنَّ نعت آدم كان أكثر، وكذا قوله: {فَتَشْقَى} [طه: 117] كان من حقِّه أن يقول: فتشقيا. فإن قيل: فما معنى قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] قلنا: معناه أخطأ وضلَّ ولم ينل مراده، لأنه خالف، والعصيان خلاف الطَّاعة {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيهِ وَهَدَى (122)} [طه: 122] أي: هداه للتَّوبة، وفَّقه لها. فإن قيل: فهل يجوز إخراج الضَّيف من دار المضيف؟ فالجواب من وجوه: أحدها: نعم، إذا ترك الأدب وطمع فيما لا يجوز له. والثاني: لأنه كان في صلبه الأنبياء والعلماء والأولياء، والجنَّة ليست بدار توالد. والثالث: لولا نزوله ما تصاعدت صعداء الأنفاس، ولا نزلت رسائل، هل من سائل؟ ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 1/ 151.

ذكر أولاد آدم عليه السلام

فإن قيل: فلمَ نهاه عن شجرة بعينها؟ قلنا: لأنَّه كان لها ثُفْلٌ، فإذا أكل منها احتاج إلى البول والغائط، وليست الجنَّة موضعه، وقد ذكرناه (¬1). فإن قيل: بماذا عاقب الله آدم وحوَّاء؟ قلنا: عاقب آدم بأشياء منها: العتاب {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} [الأعراف: 22]. والثانية: بإبداء السوءة {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121]. والثالثة: بإخراجهما من جواره {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36]. والرابعة: بإظهار العداوة له {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]. والخامسة: بإلزامه اسم العصيان {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]. والسادسة: بتسليط الشيطان على أولاده {وَأَجْلِبْ عَلَيهِمْ بِخَيلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]. والسابعة: بالهموم والأحزان، ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] أي: في هَمٍّ ونَصَب. والثامنة: بما لقي من المشقَّات. والتاسعة: بطول بكائه. والعاشرة: بحزنه على هابيل ولده. وكذا حوَّاء عاقبها بخصال، أوَّلها: الحيض، فإنها لما تناولت من الشجرة قيل لها: تدمين في كلِّ شهر، وبالنفاس وبالطَّلق والولادة، وترك الصلاة، ونقصان العقل والميراث والشهادة، والعدَّة، والمنع عن الخروج والبروز، وكونها عورة، ونقصان الدِّية (¬2). وقد ذكرنا بعض هذا (¬3). ذكر أولاد آدم عليه السَّلام روى العَوفي عن ابن عباس قال: لما طال مقام آدم في الأرض غشيَ حوَّاء، فولدت ¬

_ (¬1) راجع فصل في مقام آدم في الجنة. (¬2) انظر "عرائس المجالس" 33 - 35. (¬3) من قوله: وكذا حواء ... إلى هنا ليس في (ب).

له أربعين ولدًا، في عشرين بطنًا، في كل بطن توأَمين، ذكر وأنثى (¬1). واختلفوا في أول أولاده: فروى مجاهد عن ابن عباس قال: لما حملت حوَّاء في الدنيا جاءها إبليس فقال: أنا أخرجتكما من الجنَّة ولئن لم تطيعيني لأشوِّهن ولدك، فأجعل له قرنين يشقَّان بطنك، وأُخرجه من فيك ميتًا. فلم تلتفت إليه، فخرج الولد ميتًا. ثم حملت بآخر فجاءها فقال لها مثل ذلك، فلم تطعه، فخرج الثاني والثالث ميتًا. فقالت له: ما تريد؟ قال: سمِّه عبد الحارث، وكان إبليس يدعى الحارث، فسمَّته عبد الحارث (¬2). قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وهي آدم {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حوَّاء {لِيَسْكُنَ إِلَيهَا} [الأعراف: 189] أي: ليأنس بها ويأوي إليها {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: جامعها، كَنَى عن الجماع بالغشيان {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} أي: لم تكترث له {فَمَرَّتْ بِهِ} أي: استمرَّت، قامت وقعدت {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} أي: كبر الولد في بطنها {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} يعني آدم وحوَّاء {لَئِنْ آتَيتَنَا صَالِحًا} أي: خلقًا سويًا مثلنا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] وإنما سألا الله هذا لأنَّ إبليس جاءهما فقال: يا حوَّاء، وما يدريك ما في بطنك، لعلَّه أن يكون بهيمة أو مشوَّه الخلق، فأخبرت آدم فحزن. ثم أتاها إبليس فقال: إن كان آدمِيًّا أتسمِّياه عبد الحارث؟ ولم تكن تعرفه، فقالت: نعم. وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما حملت حوَّاء جاءها إبليس في صورة شيخ فقال لها: قد حملت، قالت: ومن أين علمت؟ قال: بلى، وما يدريك لعلَّ في بطنك كلب أو خنزير أو حيوان، وما يدريك من أين يخرج: من فيك، أو من أنفك، أو من عينك، أو من دبرك، أو يشقُّ بطنك فيقتلك، فأخبرت آدم فقال لها: لا يغرَّنَّك فإنه اللَّعين. فلم يزل يخدعها حتى سمَّته عبد الحارث (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 145 عن ابن إسحاق، وانظر "المنتظم" 1/ 217. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 148 - 194، وابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 219. ولقد نص ابن كثير في "البداية والنهاية" 1/ 96 على أنه من الإسرائيليات. (¬3) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 149 - 150، وابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 219.

وفي رواية: فكانت تلِد عبد الله وعبد الرحمن فيموتون، فسمَّته عبد الحارث فعاش (¬1). وقد أخرج أحمد بن حنبل في "المسند" معنى هذا فقال: حدَّثنا عبد الصمد بإسناده عن سَمُرة بن جُندُب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانت حوَّاءُ لا يَعيشُ لها وَلَدٌ فَطافَ بها إِبلِيسُ فقال: سمِّيهِ عبدَ الحارِثِ فإنَه يَعيشُ، فَسمَّتهُ فعاشَ، وكَانَ ذلك وَحْيًا من الشَّيطانِ ومِن أَمرِهِ" (¬2). وذكر الربيع بن أنس عن ابن عباس قال: أوَّلُ ولدٍ ولدته سمَّته عبد الله، ثم عبد الرحمن، ثم صالحًا ثم سمَّت الثالث أو الرَّابع عبد الحارث، فقال الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190] أي: حظًّا ونصيبًا في التَّسمية لا في العبادة، لا أنَّ الحارث ربُّهما، وإنَّما أنه سبب لنجاة الولد (¬3). وقد يسمَّى الرجل عبد فلان على وجه التواضع. وروي عن ابن عباس موقوفًا عليه ومرفوعًا قال: "خدعها إبليس مرَّتين، مرةً في الجنَّة، ومرَّة في الأرض" (¬4). وقال الواقدي: أوَّلُ ولد ولدته قابيل وتوأمته إقليما، وآخِرُ ولد ولدته عبد المغيث وتوأمته أمة المغيث. وقال مجاهد: اسم قابيل في التوراة: قابين وقاين وقين. وذكر ابن إسحاق، عن بعض أهل الكتاب: أنَّ حوَّاء حملت في الجنَّة بقاين وهو قابيل وبتوأمته إقليما، فلم تجد عليهما وحمًا ولا وصبًا. ولما وضعتهما لم تر معهما دمًا لطهر الجنة، فلمَّا نزلت إلى الأرض حملت بهابيل وتوأمته ليوذا (¬5)، فوجدت الوحم والدَّم. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 148 - 149. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (20117). (¬3) انظر "المنتظم" 1/ 217. (¬4) لم نقف عليه من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8664) من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مرفوعًا. (¬5) في (ب): لبوذا، وسترد كذلك، وفي عرائس المجالس 45: لبودا، والمثبت من (ل)، والخبر أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 139، وانظر "المنتظم" 1/ 219.

فصل ومن الحوادث في أيام آدم عليه السلام قتل قابيل هابيل

قلت: ولا تصحُّ هذه لوجوه: أحدها: لعدم صحَّة النقل، فإنَّ أحدًا لم يوافقه على هذا. والثاني: لأنَّ الجنَّة مُطهَّرة عن الحبل والولادة. والثالث: لأنَّه لم يذكر قابيل في الهبوط معهم. والرابع: لاتِّفاق أهل السِّير على أنها حملت به في الدنيا؛ وقد نصَّ عليه الواقدي فقال: أوَّل ولد ولدته في الدنيا قابيل. وزعمت المجوس أنَّ آدم لم يخالف في النكاح بين البطنين، وأنَّ صلاحَ الحالِ في تزويج الرجلِ بأخته والأم بولدها، وسنذكر عقائدهم في موضعه إن شاء الله تعالى. والأصحُّ خلاف ما زعموا، لإجماع الأمَّة على أنَّ آدم كان ينكح ولده أيَّ أخواته شاء، إلَّا التي ولدت معه فإنَّه لا تحلُّ له، احتياطًا منه في الفروج، ونظرًا لذوات المحارم، ومراعاة للنسل، فإنه كان قليلًا، وما فعل ذلك إلَّا لضرورة عدمه، فلما كثروا حَرُم ذلك. فصل ومن الحوادث في أيام آدم عليه السَّلام قتل قابيل هابيل قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ ابْنَي آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} [المائدة: 27] النبأ: الخبر، وابنا آدم هما هابيل وقابيل في قول عامَّة العلماء وابن عمر وابن عباس ومجاهد وقتادة. والقربان: فُعْلان من القربة. وسبب القصَّة ما حكاه السُّديُّ عن أشياخه، ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعطاء وغيرهم عن ابن عباس، قالوا: كانت حوَّاء تلِد لآدم توأمًا، في كل بطن غلام وجارية، إلا شيث فإنها ولدته مفردًا، وكان جميع ما ولدته حوَّاء أربعين ما بين ذكر وأنثى في عشرين بطنًا، ثم بارك الله في نسل آدم، فلمَّا كان بعد مئة سنة من هبوطه إلى الدنيا ولدت له قابيل وتوأمته إقليما، ثم هابيل وتوأمته، وكان آدم إذا شبَّ الغلام زوَّجه جارية البطن الآخر، وزوَّج جارية هذا البطن غُلامَ البطن الآخر، وكان الغلام يتزوَّج أيَّ أخواتِه شاء إلا توأمته التي وُلِدت معه، فإنَّها لا تحلُّ له، وذلك لأنه لم يكن لهم نساء

يومئذٍ إلَّا أخواتهم وأمُّهم حوَّاء. فلمَّا ولدت قابيل وتوأمته وهابيل وتوأمته وبينهما سنتان -وقيل: خمس سنين- وقابيل أكبر، فلمَّا بلغا، أَمرَ الله آدمَ أن ينكح قابيل ليوذا أخت هابيل، وينكح هابيل إقليما أخت قابيل، وكانت أخت قابيل من أجمل النِّساء وأحسنهنَّ. فقال قابيل: لا أفعل وأنا أحقُّ بأختي، وُلدت معي في بطن واحد، ونحن من أولاد الجنَّة، وهابيل وأخته من أولاد الأرض. فقال آدم: فقرِّبا قربانًا فأيُّكما تُقبل قربانه فهو أحقُّ بها. ومعنى قول قابيل نحن من أولاد الجنة: ما حكينا عن ابن إسحاق عن بعض أهل الكتاب الأوَّل: أنَّ آدم كان يغشى حوَّاء في الجنَّة قبل أن يصيب الخطيئة، فحملت بقابيل وتوأمته، ولم تجد وحمًا ولا وصبًا ولا طلقًا ولا دمًا لطهارة الجنَّة، فلمَّا أهبطا إلى الأرض تغشَّاها فحملت بهابيل وتوأمته، فوجدت الوحم والوصب والطلق والولادة. وقد أجبنا عن هذا فيما تقدَّم (¬1). وكان قابيل صاحب زرع، وهابيل صاحب غنم، فقرَّب قابيل ميرة من طعام من أردأ زرعه، وأَضمر في نفسه وقال: ما أُبالي أتُقُبِّل منِّي أم لا؟ بعد أن لا يتزوَّج هابيل أختي، وقرَّب هابيل كبشًا سمينًا من خيار غنمه ولبنًا وزبدًا، وأضمر في نفسه الرِّضى بالله تعالى، فوضعا قربانهما على الجبل، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نارٌ بيضاء من السَّماء فأكلتها، وإذا لم تقبل لم تنزل النار وأكلتها السِّباع والطيور. وقام آدم يدعو، وقيل: كان غائبًا بمكة، فنزلت النار فأكلت الحَمَل والزُّبد واللبن، ولم تأكل من قربان قابيل شيئًا لأنه لم يكن زكيَّ القلب وكان هابيل زكي القلب. قال ابن عباس: فلم يزل الكبش يرعى في الجنَّة حتَّى فدي به إسماعيل (¬2)، قال: فذلك قوله تعالى: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} [المائدة: 27]. واختلفوا في أي موضع كان القربان: فعامَّة العلماء على أنه كان بالهند في المكان ¬

_ (¬1) في ذكر أولاد آدم - عليه السلام -. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 137 - 138، وانظر "المنتظم" 1/ 221 - 222.

الذي أهبط فيه آدم، وقال ابن قتيبة في "المعارف": كان بمنى، فمن ثم صار بها مذبح الناس اليوم (¬1). قلت: وهذه من أوهام ابن قتيبة، فإنه لم يوافقه على هذا أحد، وإنَّ الواقعة كانت بالهند. فإن قيل: فلمَ رُفِعتْ هذه النَّار وهذه الأمَّة أحوج إليها من غيرها؟ فالجواب: إنَّما ارتفعت لطفًا بهذه الأمَّة لأنها كانت تُميِّز الخالص من الكدر، فرُفِعت لئلَّا يفتضح المردود منها. وقال مجاهد: ولما تقبِّل قربان هابيل بقي في نفس قابيل، وأضمر له السُّوء، وعزم آدم على الحجِّ إلى مكَّة، فلمَّا أراد أن يتوجَّه إلى مكَّة قال للسَّماء: يا سماء، احفظي ولدي بالأمانة فأبت، فقال للأرض والجبال والشجر: احفظوا ولدي بالأمانة فأبوا فقال لقابيل: احفظ ولدي بالأمانة، فقال: نعم، وسترى في ولدك إذا رجعت ما يسرُّك، فذلك قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72] ومعناه: حين حمل الأمانة ثم خان (¬2). فلمَّا غاب آدم جاء قابيل إلى هابيل وهو في غنمه فقال له: لأقتلنَّك، قال: ولِمَ؟ قال: لأنَّ الله تقبَّل قربانك وردَّ قرباني، وتنكح أختي الحسناء بغير أمري، وأنكح أختك الدَّميمة، وقد تحدَّث النَّاس أنَّك أفضلُ منِّي، وأنَّ ولدك يفخرون على ولدي. فقال له هابيل: فما ذنبي؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] الذين يتَّقون المعاصي والشرك والقتل {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالمِينَ (28)} (¬3) [المائدة: 28]. فإن قيل: فهلَّا دفع هابيلُ عن نفسه؟ فالجواب: ما ذكره مجاهد قال: كان قد كُتِبَ ¬

_ (¬1) "المعارف" 17. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 13، وفي التفسير (11715) من طريق السدي، عن أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود وناس من الصحابة. (¬3) انظر "عرائس المجالس" 46.

عليهم في ذلك الوقت إذا أراد الرجل قتلَ رجل أن يتركه ولا يمتنع منه (¬1). وقد فسَّره ابن عباس وابن عمر فقالا: وايم الله إن كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التَّحرُّج أن يبسط يده إلى أخيه (¬2). وروي: أنه قتله غيلة. قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30] واختلفوا في معناه على أقوال: أحدها: أنَّ معناه تابعت، قاله ابن عباس. والثاني: شجعته، قاله مجاهد. والثالث: زيَّنت، قاله قتادة. والرابع: رخَّصت، قاله الحسن، واختاره الأخفش. والخامس: فعلت من الطَّوع، والعرب تقول طاع لهذه الظبية أصولُ هذا الشجر، حكاه الزجَّاج عن المبرِّد (¬3). وقال السُّديُّ: جاءه إبليس فحرَّضه على قتله. واختلفوا في كيفيَّة قتله على أقوال: أحدها: أنَّه أتاه وهو نائم فلم يدر كيف يقتله، فَتمَثَّلَ له إبليس وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر، وقابيل ينظر إليه، فعلَّمه القتل، ففعل بهابيل كذلك، قاله ابن جريج. والثاني: أنه رماه بالحجارة حتَّى قتله، قاله ابن عباس. والثالث: أنه رضخ رأسه بصخرة، رواه مجاهد عن ابن عباس. والرابع: أنه اغتاله فقتله، قاله الربيع (¬4). واختلفوا في موضع مصرعه على أقوال: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 192. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 191. (¬3) انظر "معاني القرآن" للزجاج 2/ 167. وانظر هذه الأقوال في "زاد المسير" 2/ 337. (¬4) انظر تفسير الطبري (11746 - 11751).

أحدها: على جبل ثور، قاله ابن عباس. والثاني: بالبصرة مكان الجامع، روي عن جعفر الصادق (¬1). والثالث: على عَقَبة حِراء، حكاه ابن جرير الطَّبري صاحب التَّاريخ (¬2). وحكى المسعودي أنه قتله بدمشق (¬3)، وكذا ذكر الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" في حرف القاف فقال: كان قابيل يسكن خارج باب الجابية، وأنَّه قتل أخاه في جبل قاسيون عند مغارة الدَّم (¬4). وذكر هابيل في حرف الهاء وكرّر هذا وقال: قتله أخوه قابيل بقاسيون عند مغارة الدَّم؛ وكان هابيل يسكن سطرا. قال: وقال كعب: الدَّم الذي على قاسيون (¬5) هو دم ابن آدم (¬6). قلت: والعجب من هذه الأقوال، وقد اتفق أرباب السِّير أن الواقعة كانت بالهند، وأن قابيل اغتنم غيبة أبيه بمكَّة، فما الذي أتى به إلى جبل ثور وحراء، وهما بمكة؟ وما الذي أتى به إلى البصرة ولم تكن أُسِّست؟ وأين الهند ودمشق؟ وهل كانت دمشق وجدت أو الجابية أو سطرا؟ وهل وضعت التواريخ إلا لتميِّز بين الصحيح والسَّقيم والسَّالم والسَّليم؟ اللَّهم غفرًا. ثم قد اتفقوا على أن قابيل لما قتل أخاه بالهند هرب في جبال الهند، وقيل: إلى اليمن (¬7)، وهلك هناك لما نذكر. واختلفوا في معنى قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} على أقوال: أحدها: من الخاسرين في الدنيا والآخرة، فخسرانه في الدنيا أنَّه أسخط والديه ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 2/ 338. (¬2) "تاريخ الطبري" 1/ 143. (¬3) "مروج الذهب" 1/ 64. (¬4) "تاريخ دمشق" 49/ 24. (¬5) من قوله: بقاسيون عند مغارة الدم ... إلى هنا ليس في (ب). (¬6) "تاريخ دمشق" 64/ 2، 7. (¬7) انظر تاريخ الطبري 1/ 143، والمنتظم 1/ 225.

وبقي بلا أخ، وخسرانه في الآخرة أنَّه أسخط ربَّه وصار إلى النَّار، قاله ابن عباس. والثاني: من الخاسرين للحسنات، قاله الزجَّاج. والثالث: من الخاسرين أنفسهم لأنَّه أهلكها، والمعنى واحد. قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31] قال ابن عباس: لما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به، وهو أول قتيل قتل في الدنيا، فقصدته السِّباع، فحمله على عاتقه، فكان إذا مشى تخطُّ يداه ورجلاه في الأرض، وإذا قعد وضعه إلى جانبه. قال مجاهد: وضعه في جرابٍ وحمله على ظهره وقد أروح، والطير عاكفة عليه تنتظر متى يلقيه حتى تأكله. واختلفوا في مدَّة حمله إيَّاه: فقال مجاهد: حمله على عاتقه مئة سنة، وقال مقاتل: ثلاثين سنة، وروي عن مقاتل ثلاثة أيام (¬1)، وقيل: سنة (¬2)، وكل هذه الأقوال فيها مقال. والأصحُّ أنَّه حمله أيامًا، لأنَّ آدم عاد من مكَّة بعد الحادثة بيسير. فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، ثم حفر له بمنقاره ورجله، وقابيل ينظر إليه، ثم دفنه. فقال قابيل: و {قَال يَاوَيلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} (¬3) وفيه قولان: أحدهما عورته، والثاني جيفته (¬4)، وهو أعم، وفيه دليل على أن الميت عورة. {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31]. فإن قيل: أليس النَّدَم توبة فلم لم تقبل منه؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّ النَّدم توبة لهذه الأمَّة لا لغيرها، لأنَّ الله خصَّها بخصائص لم تكن لسواها، قاله الحسين بن الفضل. والثاني: أنه ندم على حمله لا على قتله. والثالث: أنه ندم على فوات أخيه لا على ركوب الذَّنْب (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 2/ 338. (¬2) انظر البداية والنهاية 1/ 94. (¬3) انظر تفسير الطبري 6/ 198. (¬4) انظر "زاد المسير" 2/ 338. (¬5) انظر "زاد المسير" 2/ 339.

وقال ابن قتيبة: حمله حتى أتى به واديًا من أودية الهند فكَمَنَ فيه. وصاح به صائح من السَّماء قتلته لعنك الله، فهرب من الصَّوت حتى اختلط بالوحش. وحكى أبو إسحاق الثعلبي قال: لما قتل قابيل أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيَّام، ثم شربت الأرض دمه كما تشرب الماء، فناداه الله عزَّ وجلَّ: يا قابيل، أين أخوك هابيل؟ فقال: ما كنتُ عليه رقيبًا. فقال: إنَّ صوت دم أخيك ليناديني من الأرض فلمَ قتلته؟ وأين دمه؟ فحرَّم الله على الأرض يومئذٍ أن تشرب دمًا بعده. وذكر الثعلبي عن ابن عباس قال: لما قتل قابيل أخاه كان آدم بمكَّة فتغيَّرت الثمار والأطعمة، وحمضت الفواكه، ويبست الشجر، وأمرَّ الماء، واغبرَّت الأرض (¬1). وفي رواية: وبلغ آدم ما صنع قابيل فجاء على أثر ذلك فوجد الأرض قد نَشِفَتْ (¬2) دمه، فلعن الأرض، فمن أجل ذلك أن الأرض لا تَنْشِفُ دمًا (¬3)، وأنبتت الشوك من أجل لعنته. وفي رواية: لما يبس الشجر وتغيَّرت الدنيا قال آدم: حدث في الأرض حَدَثٌ، فأتى الهند فوجد قابيل قد قتل هابيل وهرب إلى اليمن، فأقام آدم مئة سنة لم يضحك حزنًا على هابيل (¬4). قال أبو إسحاق الثعلبي فأنشأ يقول وهو أول من قال الشِّعر [الوافر]: تغيَّرتِ البلادُ ومَن علَيها ... فوَجهُ الأرض مغبرٌّ قبيحُ وبُدِّل أهلُها أثَلًا وخَمْطًا ... بجنَّاتٍ من الفِردوس فِيح تغيَّر كلُّ ذي لونٍ وطعم ... وقلَّ بشاشةُ الوَجهِ الصبِيحِ (¬5) وقابيلٌ أذاق الموت هابِلْ ... فواحزَني لقد فُقِدَ المليحُ ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 47. (¬2) نَشِفَت: شربت. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 199. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 190. (¬5) في البيت إقواء، ورواه السيرافي بنصب بشاشة على التمييز مع قطع التنوين ورفع الوجه وصفته، وانظر الكلام على البيت في "أمالي ابن الشجري" 2/ 164، و"الإفصاح" للفارقي ص 61.

وما لي لا أجود بسكب دمعٍ ... وهابيلٌ تضمّنه الضريحُ وجاءت شَهلَةٌ (¬1) ولها رنينٌ ... لهابِلِها وقابِلِها تصيحُ لقتل ابن النَّبيِّ بغير جُرمٍ ... فقلبيَ عند قتلته جريحُ أرى طولَ الحياةِ عليَّ غمًّا ... فهل أنا مِن حياتيَ مستريحُ وجاوَرْنا عدُوًّا ليس يفنى ... لعينًا ما يموت فنستَريح (¬2) وقالت حوَّاء: دع الشكوى فقد هلكا جميعا ... بهلكٍ ليس بالثَّمن الرَّبيحِ وما يُغني البكاءُ عنِ البواكي ... إذا ما المرء غُيِّبَ في الضَّرِيحِ فبَكِّ النَّفسَ منك ودَع هَواهَا ... فلست مُخلَّدًا بعد الذَّبِيحِ فأجابهما إبليس شامتًا بهما: تنحَّ عن البلاد وساكِنِيها ... فقد في الخُلدِ ضاقَ بِك الفسِيحُ وكنتَ بها وزَوجُكَ في رخاءٍ ... وقلبُكَ من أذى الدنيا مريحُ فما زالت مُكَايَدَتي ومَكرِي ... إلى أن فاتك الخُلدُ المرِيحُ فلولا رحمةُ الجبَّارِ أضحى ... بكفِّك من جِنانِ الخُلدِ رِيحُ هذه صورة ما ذكر الثعلبي (¬3)، وهو شعر ركيك مزحوف، وقد أنكر ابن عباس هذا الشعر. حدَّثني أبو القاسم الحَبِيبي بإسناده عن ميمون بن مهران عن ابن عباس أنَّه قال: من قال إنَّ آدم قال شعرًا فقد كذب على الله ورسوله، ورمى آدم بالمأثم. إنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء، قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ولكن لما قَتل قابيلُ هابيلَ رثاه آدم، وهو سريانيٌّ، وإنما يقول الشعر من يتكلم بالعربيَّة. فلما قال آدم مرثيته في ابنه هابيل -وهو أوَّل شهيد كان على وجه الأرض- قال آدم ¬

_ (¬1) الشَّهلَةُ: العجوز. (¬2) انظر "عرائس المجالس" 47 - 48، وتفسير الثعلبي 2/ 440، ومروج الذهب 1/ 65 - 66. (¬3) انظر "عرائس المجالس" 48.

ذكر ما تجدد من الحوادث بعد قتل هابيل

لشيث: يا بني، إنَّك وصيَّتي (¬1) فاحفظ هذا الكلام ليُتَوارث فيرق الناسُ عليه. فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلَّم بالعربية والسُّريانية، وهو أوَّل من خطَّ بالعربيَّة، وكان يقول الشعر، فنظر في المرثية فإذا هي سجع فقال: إنَّ هذا ليقوم شعرًا فردَّ المؤخَّرَ إلى المقدَّم والمقدَّم إلى المؤخَّر فوزنه شعرًا، وما زاد فيه ولا نقص منه، تحريًا في ذلك فقال الأبيات. وذكر الحسن البصري: أنَّ الرجلين اللذين قربَا القربان كانا من بني إسرائيل، وكانا أخوين (¬2). وهذا قول ضعيف، والعلماء على خلافه. والدَّليل عليه ما روى الأئِمَّة: فقال أحمد بن حنبل بإسناده عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقتَلُ نَفسٌ ظُلمًا إلَّا كَانَ على ابنِ آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ منها، لأنَّه أوَّلُ من سنَّ القَتلَ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). والكفل: الضعف. وكذا قوله تعالى: {يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] دليل عليه، لأنه لو كان من بني إسرائيل لعرف الدَّفن. وهل قتل قابيل هابيل بعد تزويج أخت قابيل أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنَّه قتله قبل ذلك لئلا يدخل بها. والثاني: أنَّه قتله بعدما دخل بها غيرة وحَنَقًا وحسدًا له، والله أعلم. ذكرُ ما تجدَّد من الحوادث بعد قتل هابيل حكى الثعلبي عن سالم بن أبي الجعد قال: أقام آدم باكيًا حزينًا مئة سنة لا يضحك، ثم جاءته الملائكة فعزَّته لما نذكر (¬4). وفي التوراة: أنه كان لهابيل لما قتل عشرون سنة، ولقابيل خمسة وعشرون سنة. وكان قتله إيَّاه في يوم الثلاثاء. ¬

_ (¬1) كذا في النسختين، وفي "عرائس المجالس" 47، وصيي. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 143. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (3630)، والبخاري (3335)، ومسلم (1677). (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره (11720)، وانظر "عرائس المجالس" 48.

فصل في تعزية الملائكة لآدم عليه السلام

قال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن أنس بن مالك، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يوم الثلاثاء فقال: "ذاك يومُ دمٍ، فيه حاضت حوَّاء، وفيه قَتل ابن آدم أخاه" (¬1). إلَّا أنَّ الحديث غريب. وقد روينا في صدر الكتاب في حديث أبي هريرة الذي أوَّله: "خَلقَ اللهُ التُربةَ يَومَ السَّبتِ ... " وفيه: خلق المكروه يوم الثلاثاء (¬2). فصل في تعزية الملائكة لآدم عليه السَّلام روى مجاهد عن ابن عباس قال: لما أقام آدم مدَّة لم يضحك وهو حزين جاءته الملائكة من عند الله بالتعزية، فتقدَّم جبريل فقال له: حيَّاك الله وبيَّاك، أي: أضحَكَكَ، ثم أقاموه من العزاء بأمر الله تعالى فصار ذلك سنة. فصل في هلاك قابيل وعذابه قال علماء السِّير: لما وصل آدم إلى الهند هرب قابيل إلى اليمن، وقيل: إلى الصين، وأفرد آدم أولاده عن أولاده، فهربوا إلى الجبال، وأمر أولاده أن لا يناكحوهم ولا يحاضروهم، فاعتزلوهم في رأس جبل لا ينزل إليهم منهم أحد ولا يصعد إليهم أحد، فقاموا على ذلك زمانًا حتى مات آدم، فنزلوا من الجبل واختلطوا ببنيه، وشاع فيهم الفساد والزِّنا. وكان نسل قابيل صِباح الوجوه، وهم الذين أهلكهم الله تعالى بالطوفان (¬3) لما نذكر. وأمَّا قابيل فقد اختلفوا في صورة هلاكه على أقوال: أحدها: أنَّه لما طرده أبوه كان لا يراه أحد من ولده إلا رماه، فأقبل ابن له أعمى ومعه ولد يقوده، فقال الابن لأبيه الأعمى: هذا أبوك قابيل، فرماه الأعمى فقتله، فقال له ابنه: ويحك قتلت أباك، فرفع الأعمى يده فلطم ابنه فمات. فقال الأعمى: ويلي قتلت أبي برميتي، وابني بلطمتي (¬4)، قاله مجاهد. ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 4/ 53، وذكره القرطبي 7/ 419. (¬2) راجع فصل في حد الزمان والأيام. (¬3) انظر "عرائس المجالس" 48، و"التبصرة" 1/ 35، و"المنتظم" 1/ 225. (¬4) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 143 عن ابن عباس.

والثاني: أنَّ الله رماه بحجر من السَّماء فقتله، قاله مجاهد. والثالث: أن جماعة من أهل عدن قتلوه ولم يعرفوه. والرابع: أنه علقت إحدى رجليه بساقها إلى فخذه ووجهه في الشمس حيث ما دار دارت، وعليه في الصَّيف حظيرة من نار، وفي الشِّتاء حظيرة من ثلج إلى يوم القيامة، رواه ابن جريج عن مجاهد (¬1). والخامس: أنه معلق بين السماء والأرض يعذب بأنواع العذاب. والسادس: أنَّه معلَّق على جبل بالهند يصيح: العطش، ولا يسقى إلى يوم القيامة، قاله الربيع بن أنس. والسابع: أنَّه عُلِّق برجليه ثمانين سنة، ثم خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إنَّا لنجد في الكتب أنَّ ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار شطرَ عذابهم قسمة صحيحة (¬2)، أشار إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقتَلُ نفسٌ ظُلمًا إلَّا كَانَ على ابنِ آدم كِفلٌ مِنها ... " الحديث (¬3). وقال سالم بن أبي الجعد: مكتوب في التوراة: قال الله: ليذهبْ قابيل طريدًا شريدًا مذمومًا مرعوبًا. فذهب وبيده أخته إقليما، فوصل إلى عدن، فأتاه إبليس فقال: إنّما أكلت النَّار قربان أخيك لأنه كان يعبدها ويخدمها، فانصب لها بيتًا واعبدها فيه أنت وولدك، ففعل، فهو أوَّل من عبد النَّار في الأرض (¬4). ولم يبق لهما نسل، أمَّا القاتل فهلك نسله بالطوفان، وأمَّا المقتول فلم يعقب. وإنَّما الناس كلهم من شيث، فإنه ولد بعد قتل هابيل لما نذكر. ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" 1/ 36. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 6/ 194، وانظر "التبصرة" 1/ 36. (¬3) سلف قريبًا. (¬4) انظر "التبصرة" 1/ 48، و"المنتظم" 1/ 229.

فصل في وصية آدم ووفاته

فصل واختلفوا فيمن عبد النار بعد قابيل فقال قوم: الملك جم لأنَّه قال: هي تشبه الشمس والكواكب. وقال الشرقي بن القطامي: أوَّل من عبدها بعد قابيل أفريدون، قال: هي واسطة بين الربِّ العظيم وخلقه، وبها شرف العالم وبقاؤه، وبنى لها بيتًا بطوس وبيتًا ببخارى وبيتًا بسجستان. وقال عمرو بن بحر الجاحظ: أوَّل من عَبَدها بَهْمَن بن اسفنديار، وبنى لها بيتًا بأرَّجَان ثمَّ تتابع الفرس على عبادتها، لما نذكره. فصل في وصية آدم ووفاته روى وهب بن مُنبِّه عن ابن عباس قال: لما كثُرت ذريَّة آدم اجتمع إليه من ولده وولد ولده أربعون ألفًا، فجعلوا يتحدَّثون وهو ساكت، فقالوا له: يا أبانا، ما بالنا نتكلَّم وأنت ساكت؟ فقال: يا بنيَّ، إنَّ الله لمَّا أهبطني من جواره عهد إليَّ فقال: يا آدم أقللْ من الكلام حتى ترجع إلى جواري (¬1). فلما احتضر دعا شيئًا فأوصاه وعهد إليه، وكتب وصيَّته، وأمره أن يخفيها عن بني قابيل، وخصَّ شيئًا وولده بها، وعلَّمه عبادة الخالق، وساعات الليل والنَّهار، والحدود والشرائع، وقال: يا بنيَّ، إن الله أوحى إليَّ أني مُخرِج منك نوري الذي أريد به السُّلوك في الأرومات الشريفة، والقنوات الطاهرة، والأصلاب النقية، والأرحام الزَّكيَّة، أباهي به الأنوار، وأجعله خاتم الأنبياء، وأجعل أمَّته خير الأمم، وفيهم الخلفاء والعلماء، أقدس الأرض بوجودهم. وإني غشيت حوَّاء وانتقل ذلك النُّور إليك، فاحتَفِظ به. وذكر كلامًا في هذا المعنى (¬2). وكان آدم يحبُّ شيئًا حُبًّا شديدًا، وخصوصًا منذ انتقل إليه النور، وكان شيث أَسْرى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 7/ 447. (¬2) انظر "مروج الذهب" 1/ 67 - 68.

ولدِ آدم وأتمَّهم وقارًا وأحسنهم صورة، متجلِّلًا بالنُّور، متوشِّحًا بالجلال، عليه الهيبة والوقار والسَّكينة (¬1) وكان نورُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يشرق في وجه شيث، وفي وجوه ولده إلى زمان عبد الله بن عبد المطَّلب. قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219]. قال مجاهد: وكان في وصيَّته لشيث: يا بنيَّ، لا تركن إلى الدنيا، فإني ركنت إلى الجنَّة فأُخرجت منها، ولا تعمل عملًا بغير مشورة، فإني لو شاورت الملائكة قبل أن آكل من الشجرة لما أكلت منها، ولا تستشيرنَّ امرأة، فإنَّ حوَّاء أمُّك فعلت بي ما فعلت، ومتى اضطرب في قلبك أمر فلا تفعله، فإني كنت مضطرب القلب عند أكلي من الشجرة. وقال ابن عباس: مرض آدم أحد عشر يومًا. وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن الحسن قال: رأيت شيخًا يتكلم بالمدينة فسألت عنه فقالوا: هذا أبيُّ بن كعب، فقال: لما احتضر آدم، جاءته الملائكة فعرفتهم حوَّاء، فلاذت به، فقال آدم: إليك عنِّي فإنَّما أُتيت من قبلك، خلِّي بيني وبين ملائكة ربِّي، فقبضوه (¬2). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده عن سعيد بن المسيَّب عن أُبيِّ بن كعب قال: لما احتضر آدم قال لبنيه: أشتهي من ثمار الجنَّة أو قِطْفًا منها، فذهبوا يطلبون له منها، فاستقبلتهم الملائكة ومعهم الأكفان والحَنوط والفؤوس والمساحي والمكاتل، فقالوا: ارجعوا فقد قضى أبوكم. وكانت حوَّاء قد لاذت به عند الموت تبكي فقال: إليك عني فإنما أتيت من قبلك خلِّي بيني وبين ملائكة ربي، فقبضوه وغسَّلوه وكفَّنوه ثم حفروا له وألحدوه، وقالوا: يا بني آدم، هذه سنَّة أبيكم. وقال أُبيُّ بن كعب موقوفًا محليه ومرفوعًا: لما وضع آدم على سريره قال شيث لجبريل: تقدَّم فصلِّ عليه، فقال جبريل: إنما أنت أولى بالصَّلاة على أبيك، فتقدَّم ¬

_ (¬1) انظر "مروج الذهب" 1/ 68. (¬2) أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في "المسند" عن الحسن عن عُتَيِّ بن ضمرة، عن أبي بن كعب (21240) وإسناده ضعيف.

شيث فصلى وكبَّر ثلاثين تكبيرة، وقال: أربع للصَّلاة، وست وعشرون إظهارًا لفضل آدم، فقال له جبريل: أصبت (¬1). وقيل: إنَّ جبريل تقدَّم فصلى عليه، والملائكة خلفه، وبنوه خلفهم (¬2). وقال عطاء الخراساني: بكت الخلائق على آدم سبعة أيام (¬3). واختلفوا في سنِّه على أقوال: أحدها: أنه توفي يوم الجمعة لستٍّ خلَون من نيسان في السَّاعة التي خلقه الله فيها بعد ألف سنة (¬4). قاله مجاهد، وذكره القضاعي في "تاريخه". والثَّاني: أنه عاش تسع مئة سنة وثلاثين سنة (¬5)، حكاه كعب عن التوراة. والثالث: ثمان مئة سنة، قاله مقاتل. والرابع: ألف سنة إلا أربعين عامًا، حكاه الضحاك عن ابن عباس (¬6). وقال ابن عباس: ما مات آدم حتى رأى في ولده الزِّنا والفساد وشرب الخمر (¬7). واختلفوا في المكان الذي توفي فيه على أقوال: أحدها: بالهند على جبل سرنديب الذي أهبط عليه، وعليه قبره، رواه أبو صالح عن ابن عباس (¬8)، وهو قول الكلبي. والثاني: أنه توفي بمكَّة وكان قد حجَّ في تلك السَّنة، ومعه ولده شيث فدفنه في أبي قبيس في غار يقال له: الكنز (¬9)، قاله مقاتل. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 160 - 161 عن ابن عباس. (¬2) أخرجه ابن الجوزي في المنتظم 1/ 227 - 228. (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 7/ 459. (¬4) انظر "مروج الذهب" 1/ 69. (¬5) انظر "مروج الذهب" 1/ 69، وانظر "البداية والنهاية" 1/ 99. (¬6) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 1/ 29. (¬7) انظر "المنتظم" 1/ 228. (¬8) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 161. (¬9) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 161.

فصل في حج آدم عليه السلام

والثالث: أنه توفي بمنى، ودفن بمسجد الخيف وعفي قبره، قاله عطاء، وحكاه عن ابن عباس قال: حملته الملائكة من منى إلى الكعبة فصلَّت عليه عندها، وطافوا به، ثم ردُّوه إلى مسجد الخيف فدفن به (¬1). قال: ولما ركب نوح عليه السَّلام السفينة حمله معه، فلمَّا انقضى الطوفان أعاده إلى أبي قبيس فدفنه في غار الكنز، وقيل: دفنه بالبيت المقدَّس (¬2). قال عبد الله بنُ أبي فراس: قبر آدم في مغارة فيما بين بيت المقدس وقبر الخليل عليه السَّلام، فرأسه عند مسجد إبراهيم، ورجلاه تحت صخرة بيت المقدس، وبينهما ثمانية عشر ميلًا (¬3). قلت: فأقصى ما كان طول آدم ستِّين ذراعًا، فكيف يكون طوله ثمانية عشر ميلًا؟ ! وقال أبو جعفر الطَّبري: أوَّل من مات في الأرض آدم، يعني على فراشه، وإلَّا فقد قُتِلَ هابيل قبله (¬4). فصل في حجِّ آدم عليه السَّلام روى مجاهد عن ابن عباس قال: حجَّ آدم من الهند إلى مكَّة ثمانين حجَّة. وقال محمد بن إسحاق: بلغنا أن آدم لما أهبط إلى الأرض حزن على ما فاته مما كان فيه من نعيم الجنَّة، فبوَّأه الله تعالى البيت الحوام، وأمره أن يقيم به، فلم تزل مكَّة داره حتى قبضه الله بها (¬5). وقد روي في هذا المعنى حديث مرفوع إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنبأنا به غير واحد عن ميمون بن مهران قال: قال ابن عباس: كان البيت قبل هبوط آدم ياقوتة من يواقيت الجنَّة، وكان له بابان من زمرد أخضر: باب شرقي وباب غربي، وفيه قناديل من الجنة. فلما ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 1/ 228. (¬2) انظر "عرائس المجالس" 50. (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 7/ 458. (¬4) "تاريخ الطبري" 1/ 143. (¬5) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 7/ 425.

أُهبِطَ آدم أنزل معه الحجر الأسود وهو يتلألأ نورًا، فأخذ آدم الميثاق من ولده وأودعه الحجر الأسود. ولما وصل إلى مكَّة تلقَّتهم الملائكة فقالوا: يا آدم، برّ حجّك، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي سنة. قال: فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فقالها آدم في الطَّواف. ثم قال آدم: يا ربِّ، اجعل لهذا البيت عُمَّارًا من ذُرِّيَتي، فقال الله: إني معمِّره بنبيّ من أمَّتك اسمه إبراهيم أتخذه خليلًا وأعلِّمه المناسك. فقال: يا ربِّ، أسألك مَنْ حجَّ هذا البيتَ من ذرِّيَّتي لا يشرك بك شيئًا أن تدخله الجنَّة، فقال: يا آدم، ومن مات في الحرم لا يشرك بي شيئًا أدخلته الجنَّة. إلَّا أنَّ جدي رحمه الله ذكر هذا الحديث في "الواهية" (¬1). والظاهر أنه موقوف على ابن عباس (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" (937) وفيه محمد بن زياد، وهو كذاب خبيث يضع الحديث. (¬2) أخرجه موقوفًا على ابن عباس الأزرقي في "أخبار مكة" 1/ 45.

فصل في ذكر شيث بن آدم عليهما السلام

فصل في ذكر شيث بن آدم عليهما السَّلام روى مجاهد عن ابن عباس قال: هو بالسُّريانيَّة شث وشاث، وبالعبرانيَّة شيث (¬1). وذكر أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذُري قال: لما قتل هابيل ولدت حوَّاء لآدم شيئًا، فقال آدم: هذا هبةُ الله وخلفُ صدقٍ من هابيل، فسماه شيئًا (¬2)، وشيث اسم أعجمي. وحكى أرطاة بن المنذر قال: بلغني أنَّ حوَّاء حملت بشيث الوصيِّ حتَّى نبتت أسنانه، وكانت تنظر إلى وجهه من صفائه في بطنها، ولما وضعته أخذته الملائكة فمكث عندهم أربعين يومًا، فعلَّموه المهن ثم ردُّوه إليها (¬3). وقال مقاتل: أنزل الله على شيث سبعين صحيفة، وإليه تنتهي أنساب بني آدم لأنَّ جميع النَّسل انقرض، ولم يبق إلا نسله. قال: وأنزل الله مئة كتاب وأربعة كتب (¬4)، منها صحائف آدم وشيث. وكان شيث أفضل أولاد آدم وأشبههم بأبيه، ووليَّ عهده، وهو أبو البشر كلِّهم، وهو الذي بنى الكعبة بالطِّين والحجارة، يعني أنَّه رثَّ فجدَّده. ولما مات آدم جاء إلى مكَّة فأقام بها يحجُّ ويعتمر. وضمَّ صحفه إلى صحف أبيه، وعمل بالجميع (¬5). وقال الرَّبيع بن أنس: ولد بعد هابيل بخمس سنين. وفي أيَّام شيث توفِّيت حوَّاء بعد آدم بسنة، فدفنها مع آدم في غار الكنز، فلما جاء الطوفان حملهما نوح في السفينة ثم ردَّهما إلى مكانهما (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 152. (¬2) أنساب الأشراف 1/ 5. (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 23/ 273، وفيه بقية بن الوليد، صدوق كثير التدليس، وقد عنعن. (¬4) وقد ورد فيه حديث مرفوع أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (361). (¬5) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 162. (¬6) انظر "المنتظم" 1/ 229.

فصل في وفاة شيث

فصل في وفاة شيث قال علماء السِّير: أقام يُعمِّر الأرض ويقيمُ الحدود على المفسدين كما كان يفعل أبوه حتَّى توفي، وهو ابن تسع مئة سنة واثنتي عشرة سنة (¬1). واختلفوا في أي مكان توفي فيه على أقوال: أحدها: بالهند، قاله مجاهد. والثاني: بمكَّة، لأنَّه لم يفارقها بعد وفاة أبيه، قاله مقاتل. قال: وكان له لما مات آدم مئتان وخمسون سنة. ودفن بغار الكنز مع أبويه (¬2). وببلد بعلبك مزارٌ يقال: إنه قبره، والله أعلم. فصل في ذكر ولده أَنُوش قال علماء السِّير: ولد أنوش في زمن آدم، فلمَّا احتضر شيث أوصى إليه، وأخبره بالنُّور الذي انتقل إليه منه، وأمره أن ينبِّه ولده على هذا الشَّرف كابرًا عن كابر وسلفًا بعد سلف (¬3). فقام ولده أَنُوش بعده بالأمر أحسن قيام، ودبَّر الرَّعايا وعمل بالشَّرائع على ما كان عليه أبوه. وهو أوَّل من غرس النَّخل وزرع الحَبَّ (¬4) وعاش تسع مئة وخمسين سنة، وقيل وخمسة وستين (¬5)، وفي التوراة: تسع مئة وخمس سنين (¬6) وولد أَنُوش بعدما مضى من عمر والده شِيث ست مئة وخمس وستون سنة، وفي التوراة: بعد أن مضى له ست مئة وخمس سنين. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 163، وانظر "مروج الذهب" 1/ 71. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 162. (¬3) انظر "مروج الذهب" 1/ 69 - 70. (¬4) انظر "أخبار مكة" للفاكهي 3/ 223، و"المنتظم" 1/ 230. (¬5) انظر "تاريخ اليعقوبي" 1/ 9. (¬6) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 163، و"المنتظم" 1/ 230.

فصل في ولده قينان

فصل في ولده قَيْنَان قالوا: ولما احتضر أَنُوش أوصى إلى ولده قَينَان وأخبره بالسرِّ الذي أودعه فيه، وأم قينان نعمة أخت أبيه أَنُوش، وهي بنت شيث. وولد قينان بعد مضي سبعين سنة من عمر أنوش، ومن عمر آدم ثلاث مئة ونيِّف (¬1)، وانتقل النُّور إلى قَينَان، فسار بسيرة أبيه ثم مات وله تسعمائة وعشرون سنة (¬2). فصل في ولده مَهلائِيل ولما احتضر قينان أوصى إلى ولده مَهلائِيل بن قَينَان، وأعلمه بالنُّور الذي انتقل إليه، فسار بالنَّاس سيرة أبيه وعاش ثمان مئة سنة (¬3). وقال جدي في "أعمار الأعيان": عاش مَهْلائِيل ثمان مئة وخمسًا وتسعين سنة (¬4). قال أبو حنيفة الدِّينوَري: كثر ولد آدم في زمان مَهْلائِيل، وكان سيِّد ولد آدم في عصره والقائم بأمورهم، فوقع التنازع بين يدي آدم في الأوطان، ففرَّقهم في مهابِّ الرياح الأربع، وخصَّ ولد شيث بأفضل الأرض، فأسكنهم العراق وما والاه. وفي التوراة: أن مولد مَهْلائِيل بعد أن مضى من عمر آدم ثلاث مئة وخمس وتسعون سنة (¬5). فصل في ذكر يَرذ بذال معجمة وقيل: بدال مهملة، وهو ابن مَهْلائِيل، أوصى أبوه إليه، وأخبره بالسرِّ المكنون، وانتقال النور إليه وكان حسن السِّيرة، بنى المدن واستخرج المعادن، وهو الذي بنى بابل والسُّوس، وهما أولُ مدينة بنيتا على وجه الأرض من المدن، وملك الأقاليم السَّبعة، وأمر الناس ببناء المساجد، وقتل السِّباع الضَّارية، وذبح البقر والغنم. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 163. (¬2) انظر "تاريخ اليعقوبي" 1/ 9، و"مروج الذهب" 1/ 72. (¬3) انظر "مروج الذهب" 1/ 72. (¬4) "أعمار الأعيان" 126. (¬5) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 164.

وقال جدي رحمه الله في "أعمار الأعيان": عاش يرذ تسع مئة وتسعًا وستين سنة (¬1)، وقيل: ألف سنة. قال ابن إسحاق: عاش مهلائيل بعدما ولد له يرذ ثمان مئة سنة وثلاثين سنة (¬2). وفي التوراة: أن يرذ ولد بعدما مضى من عمر آدم أربع مئة وستون سنة (¬3). واختلفوا فيه: فقال البلاذُري: هو اليارذ بألف، وقال مقاتل: هو أوشنج، وقال ابن مسكويه في "تجارب الأمم": هو أوشهنج بهاء (¬4). والأصحُّ أنَّ يرذ غير أوشنج، لأنَّ طائفة زعموا أنَّ أوشنج ولد آدم لصلبه، وأنه عاش أربعين سنة. أما يَرْذ فقد عاش زمانًا طويلا. وفي أيام يَرْذ عُبدت الأصنام (¬5). ذكر هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال: لما مات آدم جعله شيث في مغارة بالهند في الجبل الذي أهبط عليه، فكان بنو شيث يعظِّموثه ويدورون حوله، حتَّى مات شيث (¬6). وقام يَرْذ بن مَهْلائيل، فقال بنو قابيل: إنّ لبني شيث دَوَارًا يدورون حوله ويُعظِّمونه وليس لكم شيء، فتصوَّر لهم إبليس في صورة شيخ، فنحت لهم صنمًا على صورة آدم، فهو أوَّل صنم عمل وعبد في الأرض (¬7). وذكر الشَّرقي بن قُطامي قال: كان وَدٌّ وسُواع ونسر ويَغوث ويَعوق قومًا صالحين، فماتوا في شهر، فجزع عليهم أهاليهم وأقاربهم، فقال لهم رجل من ولد قابيل: هل لكم أن أعمل لكم خمسة أشخاص على هيئتهم؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام ¬

_ (¬1) "أعمار الأعيان" 127. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 164. (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 164. (¬4) أنساب الأشراف 1/ 5، و"تجارب الأمم" 1/ 5. (¬5) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 170 عن ابن عباس. (¬6) "الأصنام" ص 50، ومن طريقه أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 231 - 232. (¬7) "الأصنام" ص 51، ومن طريقه أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 232، وليس فيه ذكر إبليس.

على هيئة أشخاصهم، ونصبها لهم، فعظَّموها. وذهب ذلك القرنُ وجاء آخر فعبدوها، وقالوا: ما عظَّم أوَّلونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم. فلم يزالوا على ذلك حتى بعث الله إدريس فنهاهم عن عبادتها، فلم ينتهوا، حتى بعث الله نوحًا فأهلكوا بالطُّوفان، وأحدرها الطوفان من الهند إلى الحجاز، فأرست على جُدَّة، فتقاسمها العرب بعد ذلك، فكان وَدٌّ بدُومَة الجَنْدَل لكلب، وسُواع لهُذَيل، ونَسْر لحِميَر آل ذي الكَلاع، ويَغوث لمُراد وغطفان بالجُرف، ويَعوق لهَمْدان (¬1). وذكر ابن إسحاق: أن الأصنام إنما عبدت في زمن أنوش. وذكر قوم من الأوائل: أن سبب عبادة الأصنام أن طوائف من الهند والصين كانوا يزعمون أن الباري سبحانه وتعالى جسم، وأن الملائكة أجسام، وأنهم احتجبوا بالسماء، فدعاهم ذلك إلى أنهم اتخذوا تماثيل وأصنامًا على صور تخيَّلوها بالوهم في الباري سبحانه والملائكة مختلفة (¬2) القدود والأشكال، وصوَّروا أيضًا على صور بني آدم من مات من الفضلاء والحكماء، وأقاموا يعبدونها ويقربون لها القرابين وينذرون لها النذور، وأقاموا على ذلك مدّة حتَّى نبَّههم بعض حكمائهم وقال لهم: هذه الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام إلى الباري، وهي حيَة ناطقة، وما يتجدَد في العالم إنما هو بتأثيرها، فعظِّموها فهي أولى بالتَّعظيم لتقرِّبكم إلى الباري. فأقاموا على ذلك مدَّةً، فلما رأوا بعضها يطلع نهارًا وبعضها ليلًا ويخفى نهارًا، صنعوا لها أصنامًا على هيئتها، وأشهر ما بنوا لها سبعة هياكل على عدد الكواكب السَّبعة، وجعلوا لكل كوكب هيكلًا وصنمًا. فالهيكل الأول: للقمر بنى له مِنُوشِهْر بيتًا بالنُّوبَهار، وسادنه يدعى بَرمك، وإليه ينسب يحيى بن خالد البرمكي. وكتبوا على بابه: أبواب الملوك تحتاج إلى عقل وصبر ومال. فمرَّ به بعض الحكماء فكتب تحته: الواجب على الحرِّ إذا كان معه إحدى الثلاث أن لا يقرب أبواب الملوك. ¬

_ (¬1) انظر "الأصنام" ص 51 - 58، و"المنتظم" 1/ 232. (¬2) في (ب) و (م): مختلقي.

والهيكل الثاني: لعُطارد على جبل بأصبهان يقال له: مارس، بناه بعض الأوائل. والهيكل الثالث: للزُّهَرة بناه الضحاك بغُمْدان، ولم يزل حتى أخرب في أيام عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -. والهيكل الرابع: هيكل للشمس بفَرْغانة بناه كاوس الملك، وسمَّاه كاوسان، ولم يزل حتى أخربه المعتصم. والهيكل الخامس: للمريخ بالهند على جبل يقال له: شَرْوان، أخربه المأمون. والهيكل السادس: للمشتري ببلاد الصين، وهو الذي ذكرناه في العجائب، وحوله المقاصير، وهو عظيم. والهيكل السابع: لزُحَل، وهو بأقصى الصِّين، ويقال: إنه قائم إلى هلمَّ جرًّا. وزعم قوم أنه بالحجاز وهو الكعبة، ولهذا طال بقاؤها على ممر الدهور والعصور، لأنَّ زحل تولَّاها ومن شأنه البقاء والثبوت (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر مروج الذهب 4/ 42 - 44، 47 - 52.

فصل في ذكر إدريس عليه السلام

فصل في ذِكْر إدريس عَلَيهِ السَّلام (¬1) قال ابن إسحاق: واسمه أَخْنُوخ، وقيل: إنه أَحْنُوخ (¬2)، وهو ابن يَرْذ بن مَهْلائيل بن قَينان بن أَنُوش بن شِيث بن آدم - عليه السلام -. وقال الجوهري: إنما سمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى (¬3). وأوحي إليه وأبوه يَرْذ حيٌّ قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 56]. قيل: إنَّ الله تعالى ذكره في موضعين (¬4). قال ابن سعد بإسناده عن ابن عباس قال: وهو أوَّل من أعطي النبوة، وبعثه الله بعد آدم، وهو خَنُوخ بن يَرْذ (¬5). قلت: وهو وهم. أوَّل نبيٍّ بعد آدم شِيث، وقد ذكرنا أنَّ الله تعالى أنزل عليه صحائف. والصَّابئة تسمِّي إدريس هِرمِس، ومعناه: حكيم الحكماء، وتزعم أنه يملك الدنيا وينزل من السماء، وقد أشار إلى هذا أبو العلاء المعرِّي فقال (¬6) [الطويل]: إذا دخل الهِرماسُ جِلِّقَ واليًا ... فما كذَبَتْ فيما تَقولُ الهَرَامسُ يعني الحكماء. وقال ابن إسحاق: وُلد إدريس في حياة آدم، وقد مضى لآدم لست مئة واثنان وعشرون سنة، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة. وهو أوَّل من خطَّ بالقلم وخاط الثياب، وكان الناس يلبسون الجلود. ¬

_ (¬1) انظر قصته في "تاريخ اليعقوبي" 1/ 11، و"تاريخ الطبري" 1/ 170 - 171، ومروج الذهب 1/ 73، و"عرائس المجالس" ص 50، و"المنتظم" 1/ 233، و"الكامل" 1/ 62، و"البداية والنهاية" 1/ 99. (¬2) في (ب): (خَنُوخ). (¬3) "الصحاح": "درس". (¬4) الموضع الثاني في قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)} [الأنبياء: 85]. (¬5) "الطبقات الكبرى" 1/ 40. (¬6) البيت في "لزوم ما لا يلزم" 2/ 861.

ذكر رفعه

وهو أوَّل من سبى بني قابيل واسترقَ منهم. وأوَّل من طرز الطرز، وخطَّ بالرَّمل، ونظر في علم النُّجوم وسمَّاها، ووضع أسماء البروج والكواب السيَّارة ورتَّبها في بيوتها، وأثبت لها الشَّرف والوبال والحضيض والأوج والتربيع والتثليث والتسديس والمقاربة والمقابلة والرجوع والاستقامة ونحو ذلك، لأنه صعد إلى السماء، وألهمه الله تعالى معرفة هذه الأشياء. وهو أوَّل من جاهد في سبيل الله. وقال ابن عباس، موقوفًا عليه ومرفوعًا: أربعة من الرُّسل سُريانيُّون: آدم وشِيث وخَنُوخ ونوخ (¬1). قال: وجَمَع بني آدم ووعظهم وأمرهم ونهاهم عن مداناة بني قابيل، فخالفه جماعة فقتل وسبى واسترقَّ (¬2). قال: وكان يصعد له في اليوم من العمل ما لا يصعد لبني آدم في السنة، فحسده إبليس وعصاه قومه، فرفعه الله إليه، وأدخله الجنَّة، ورُفعَ وهو ابن ثلاث مئة وخمس وستين سنة (¬3). قال جدي رحمه الله في "التبصرة": وعاش أبوه بعد رفعه إلى السماء مئة وخمسًا وثلاثين سنة (¬4). ذكر رفعه قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57] اختلفوا في المكان الذي رفع إليه على أقوال: أحدها: في السماء الرابعة، وفي "الصحيحين" من حديث مالك بن صَعصَعة في ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر ص 4 من كلام ابن عباس، وأخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 171 وابن حبان في صحيحه (361) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، وإسناده ضعيف جدًّا. (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 50. (¬3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 40، وابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 233. (¬4) "التبصرة" 1/ 50.

المعراج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه فيها (¬1). والثاني: أنه في السماء السادسة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه في السماء السابعة. حكاه أبو سليمان الدمشقي (¬2). والرابع: في الجنَّة، قاله ابن زيد. وقيل: إنَّ الجنَّة في السماء الرابعة. وفي سبب صعوده إلى السّماء أقوال: أحدها: أنه كان يصعد له في كل يوم من العمل مثل ما يصعد لجميع بني آدم في زمانه، فتعجَّبت منه الملائكة، واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن ربَّه في زيارته فأذن له، فهبط إليه في صورة بني آدم وصحبَهُ، وكان إدريس يصوم الدهر، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه، فأبى أن يأكل معه، فعل ذلك ثلاث ليالٍ، فأنكره إدريس وقال له: مَن أنت؟ فقال: لا تخف، أنا ملك الموت، استأذنت ربي في زيارتك وصحبتك فأذن لي، فقال له إدريس: لي إليك حاجة، فقال: وما هي؟ قال: تقبض روحي. فأوحى الله تعالى إليه: اقبض روحه، ففعل، ثم ردَّها الله إليه بعد ساعة، فقال له ملك الموت: وما الفائدة في سؤالك؟ فقال: لأذوق الموت وكربه فأكون له أَشدَّ استعدادًا. ثم قال له إدريس: لي إليك حاجة أخرى، قال: وما هي؟ قال: ترفعني إلى السماء وتريني الجنَّة والنار، فأذن الله له في رفعه إلى السماء، وسأل ملك الموت أن يسأل مالكًا خازن النار أن يفتح له بابًا من أبوابها، ففعل، فرآها فقال لملك الموت: كما أريتني النّار فأرني الجنة، فذهب به إلى الجنَّة فأدخله إيَّاها، فلما طاف فيها قال له ملك الموت: اخرج منها وعدْ إلى مستقرِّك، فتعلَّق بشجرة فقال: لا أخرج منها، فبعث الله ملكًا فحكم بينهما، فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ فقال: لأنّ الله تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وقد ذقته. وقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] وقد وردتها، وقال: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} [الحجر: 48] فلست أخرج. فأوحى الله إلى ملك الموت: بإذني دخل وبأمري فعل ما فعل، فخلِّ عنه، فتركه، قاله ¬

_ (¬1) البخاري (3207)، ومسلم (164). (¬2) انظر الأقوال في "زاد المسير" 5/ 241.

ابن عباس ووهب، ورواه زيد بن أسلم مرفوعًا (¬1). فإن قيل: فمن أين لإدريس هذا وكيف علم ما في كتابنا، وهو لم ينزل عليه؟ ! فالجواب: إنَّ الله تعالى ألهم إدريس ما فعل، وعلَّمه وجوب الورود وامتناع الخروج من الجنَّة. وفيه أيضًا دليل على قدم القرآن، وأنهم قد كانوا يعرفون بعضه من اللوح المحفوظ، وإليه وقعت الإشارة بقوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18، 19] وإن لم يكن فيها بهذه العبارة. والقول الثاني: أنَّ بعض الملائكة أحبّ إدريس، فنزل إليه وصادقه، فلمّا عرف إدريس أنه ملك قال له: هل بينك وبين ملك الموت معرفة؟ قا. ل: نعم، هو أخي من الملائكة، قال: هل تستطيع أن تنفعني عنده ليرفق بي عند الموت؟ قال: نعم، اركب على جناحي، ففعل فصعد به إلى السماء فمرَّ به على ملك الموت فرآه جالسًا على كرسي وبين يديه لوح فيه أسماء الخلائق، فكلمه في إدريس، فقال له: تكلمني في رجل قد محي اسمه من الصحيفة ولم يبق من أجَله إلا طرفة عين؟ فمات إدريس بين جناحي الملك، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: إن إدريس سار يومًا في الشمس فأصابه وهجها، فقال: اللَّهم خفف ثقلها عن من يحملها، فأصبح الملك الموكَّل بها وقد خفَّ عنه ما لم يعهده، فسأل الله عن ذلك فأخبره بدعاء إدريس له، فقال: يا رث اجمع بيني وبينه واجعلْ بيننا خُلَّة، فأذن له فأتاه فقال له إدريس: اشفع لي إلى ملك الموت أن يؤخر أجلي، فقال: إنّ الله لا يؤخّر نفسًا إذا جاء أجلها، ولكن أكلِّمه فيك فما استطاع أن يفعل معك فعل. ثم حمله الملك على جناحه فوضعه عند مطلع عين الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال: لي إليك حاجة، فقال. وما هي؟ قال: صديق لي من بني آدم أسالك أن تؤخّر أجله، فقال: ليس لي إلى ذلك سبيل، ولكن إن أحببت أخبرتك متى يموت، فنظر في اللوح وقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدًا. قال: وكيف؟ قال: لأني لا أراه يموت إلا ¬

_ (¬1) انظر عرائس المجالس 50 - 51، والمنتظم 1/ 234.

فصل في ولد متوشلخ

عند مطلع عين الشمس. قال: فإني خلَّفته هناك، قال: انطلق فما تجده إلا ميتًا، فرجع فوجده ميتًا. رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال كعب (¬1). قال: وذكر إدريس في التوراة فقال: أخنوخ أحسن خدمة الله فرفعه الله إليه. وقال ابن عباس: أربعة من الأنبياء أحياء فيهم أرواحهم: إدريس وعيسى في السماء وإلياس والخضر في الأرض وكلهم يموتون إلَّا إدريس، فإنه إذا مات الخلق أصابته دهشة، فيبقى في عداد الموتى وهو حيٌّ. وقيل: هو الذي يجيب الله تعالى إذا مات الخلق وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] فيقول إدريس: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]. وقال كعب الأحبار: في التوراة: إنه استجاب لإدريس ألف إنسان ممن دعاهم إلى الله تعالى. وقال الهيثم بن عدي: أوصى إدريس قبل رفعه إلى ابنه مُتُّوشَلْح -بالحاء المهملة، ويقال: مُتُّوشَلْخ بالخاء المعجمة- وكان صالحًا، ولد على مضي ثلاث مئة سنة من عمر والده إدريس. ومُتُّوشَلْخ أول من ركب الجمل، وسلك طرائق الخير والصلاح. ولما عهد إليه إدريس عرفه بالنور الذي انتقل إليه منه، وعاش تسع مئة وتسعًا وستين سنة، ويقال: إنَّه ولد في حياة آدم. وأقام إدريس في النبوة مئة وخمسًا وستين سنة، ورفعه وهو ابن أربع مئة وخمسٍ وستين سنة، كذا روى الضحاك عن ابن عباس، وحكاه الخطيب. فصل في ولد مُتُّوشَلْخ منهم لَمْك أبو نوح - عليه السلام -، وبربر وروس وصقلاب، وإليه تنسب الصقالبة، وصابئ وإليه تنسب الصابئة، ولم ينتقل النور إلا إلى لَمْك ويقال لامَك، لما نذكر، وإليه أوصى مُتُّوشَلْخ. ¬

_ (¬1) انظر الأقوال الثلاثة في زاد السير 5/ 241 - 243، والتبصرة 1/ 50 - 52.

ذكر الجاهلية الأولى

ذكر الجاهلية الأولى واختلفوا فيهم: فقال الشعبي: كانوا بين عيسى ومحمّد صلى الله عليهما وسلّم (¬1). قال أبو العالية: بين داود وسليمان (¬2). وقال مجاهد: بين إبراهيم وموسى. وقيل: في زمان نمرود، كانت المرأة تلبس قميصًا من الدّرّ فيرى باطنها فيه، ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها غيره، تعرض نفسها على الرِّجال (¬3). وروى عطاء عن ابن عباس قال: وفي زمان متوشلخ كانت الجاهلية الأولى، وهما بطنان من بني آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صِباحًا وفي النساء دَمامة، ونساء السهل صِباحًا وفي الرجال دمامة، فجاء إبليس إلى رجل من السهل فأخذ زمارة فزمر بها فظهر له منها صوت لم يسمع مثله، فاجتمع إليه الرجال والنِّساء ونزلوا من الجبل، فاختلطوا وتبرَّج النِّساء، فكثرت الفواحش حتى أغرقهم الطوفان، وفيهم يقول الله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] (¬4). وإبليس أوَّل من زمر وناح (¬5). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 22/ 4. (¬2) انظر "تفسير البغوي" 3/ 528. (¬3) أورده البغوي في "تفسيره" 3/ 528 عن الكلبي. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 22/ 4، وقال ابن حجر في "الفتح" 8/ 520: إسناده قوي. (¬5) أورده الديلمي في "مسند الفردوس" (42) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

فصل في الحوادث التي كانت في زمان إدريس - عليه السلام -

فصل في الحوادث التي كانت في زمان إدريس - عليه السلام - قصَّة هاروت وماروت وهما اسمان سريانيَّان لا ينصرفان للعُجمة والتعريف، وكانت قصتهما على ما ذكره ابن مسعود وابن عباس والمفسرون: أنَّ الملائكة رأت ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة وذنوبهم الكثيرة، ودْلك في زمان إدرشى، فعيَّروهم بذلك، ودعوا عليهم وقالوا: يا ربنا هؤلاء الذين اخترتهم وجعلتهم في الأرض خلفاء وهم يعصونك، فقال الله تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرض وركَّبت فيكم ما ركَّبت فيهم لارتكبتم ما ارتكبوا. فقالوا: سبحانك ما كان لنا -أو ما ينبغي لنا- أن نعصيك. فقال لهم الله تعالى: فاختاروا ملكين من خياركم أُهبطهما إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم. وقال الكلبي: قال الله: اختاروا ثلاثة، فاختاروا عزائيل، ووعزا وهو هاروت، وعزايا وهو ماروت، وإنما غُيِّر اسمهما لمَّا قارفا الذنب-[كما غُيِّر] (¬1) اسم إبليس وكان اسمه عزازيل- قال: فركّب فيهم الشهوة وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق، ونهاهم عن القتل والزنا، والشرك وشرب الخمر. فأمَّا عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقال، وسأل الله أن يرفعه إلى السماء، فأقاله ورفعه، وسجد أربعين سنة لم يرفع رألممه إلى السماء حياءً من الله تعالى. وقيل: إنه بقي على حاله. وأمَّا الآخران فإنهما ثبتا على ذلك، وكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم، فصعدا إلى السماء. قال قتادة: فما مرَّ عليهما شهر حتى افتتنا. قالوا جميعًا: وذلك أنه اختصم إليهما ذات يوم الزهرة، وكانت من أجمل النساء، قال علي كرَّم الله وجهه: كانت من أهل فارس، وكانت ملكة في بلدها، فلمّا رأياها ¬

_ (¬1) في الأصول الخطية: "فركب"، وما أثبتناه من "عرائس المجالس".

أخذت بعقولهما أو بقلوبهما فراوداها عن نفسها، فأبت ثم انصرفت. ثم عادت في اليوم الثاني، ففعلا مثل ذلك، فأبت، وقالت: لا إلا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر، فقالا: لا سبيل لنا إلى هذه الأشياء، فإنَّ الله تعالى نهانا عنها. فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها، فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت لهما بالأمس، فقالا: الصلاة لغير الله عظيم وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر، فشربا الخمر فانتشيا، ووقعا على المرأة فزنيا، فلمَّا فرغا رآهما الشاب (¬1) فقتلاه. قال الرَّبيع بن أنس: وسجدا للصنم؛ فمسخ الله الزهرة كوكبًا. قال علي بن أبي طالب والسُّدي والكلبي: إنها قالت لهما: لن تدركاني حتَّى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء، فقالا: باسم الله الأكبر، قالت: فما أنتما بمدركيَّ حتى تعلّماني إياه، فقال أحدهما للآخر: علِّمها، قال: إني أخاف الله، قال الآخر: فأين رحمة الله؟ فعلَّماها ذلك، فتكلَّمت به، وصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكبًا (¬2). قال الثعلبي: فعلى قول هؤلاء هي الزهرة بعينها، وقيَّدوها فقالوا: هي الكوكبة الحمراء، واسمها بالفارسية أناهيد (¬3)، وبالنِّبطية بيدخت. قال الثعلبي: ويدل على [صحة] هذا القول ما حدَّثنا [به] يحيى بن إسماعيل الحربي بإسناده عن عليّ - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى سهيلًا قال: "لَعَنَ الله سُهَيلًا إنه كانَ عَشَّارًا باليمنِ، لَعَنَ الله الزُّهرَة فإنَّها فَتَنَتِ المَلَكَينِ" (¬4). قال: وقال مجاهد: كنت مع ابن عمر ذات ليلة فقال لي: ارمق الكوكبة، يعني ¬

_ (¬1) في "تفسير البغوي": (إنسان). (¬2) النقل بالحرفية من "عرائس المجالس" ص 51 - 53، وانظر "تفسير البغوي" 1/ 100 - 101. (¬3) في الأصول الخطية: (هيد)، وفي "العرائس": (ناهيد) والمثبت من "معجم الذهبي" ص 76. (¬4) أخرجه بشطره الأول الطبراني في "الكبير" (181)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (391)، وقال ابن الجوزي: وهذا الحديث لا يصح. وأورد الشطر الآخر السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 97، وعزاه لابن مردويه. وما بين معقوفين من "عرائس المجالس".

الزهرة، فإذا طلعت فآذنِّي أو فأيقظني قال: فلما طلعت أيقظته، فجعل ينظر إليها ويسبُّها سبًّا شديدًا، فقلت: رحمك الله، أتسبُّ نجمًا سامعًا لله مطيعًا؟ ! فقال: إنَّ هذه كانت بغيًا فلقي الملكان منها ما لقيا (¬1). قال نافع: وكان ابن عمر إذا رأى الزهرة قال: لا مرحبًا ولا أهلًا (¬2). وروى أبو عثمان النَّهدي عن ابن عباس بنحو ما روى مجاهد عن ابن عمر. وقال الثعلبي: وأنكر الآخرون هذا القول وقالوا: إنَّ الزهرة من الكواكب السبعة السَّيارة التي جعلها الله قوامًا للعالم وأقسم بها فقال: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15، 16] وإنما كانت هذه التي فتنت هاروت وماروت امرأة تسمى الزهرة من جمالها، فلما بغت جعلها الله شهابًا، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزهرة، ذكر هذه المرأة لموافقة الاسمين فلعنها، وكذا سهيل العشَّار كان رجلًا عشّارًا باليمن، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجم ذكره فلعنه. يدل عليه ما روى قيس بن عُباد عن ابن عباس (¬3) قال: كانت الزهرة امرأة فُضِّلَتْ بالحسن على الناس كما فضلت الزهرة على سائر الكواكب (¬4). ومثله قال كعب الأحبار وغيره، والله أعلم. قلت: هذا صورة ما ذكره أبو إسحاق، ولم يبيّن ما في الأحاديث من المقال، وما رواه عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في الزهرة وسهيل لا يصح، وكذا ما روي عن ابن عمر. والدليل عليه أن جدي رحمه الله ذكر هذه الأخبار في "الموضوعات": أنبأنا جدي رحمه الله قال أنبأنا أبو منصور القزَّاز بإسناده عن معاوية بن صالح عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان آخر اللَّيل قال: يا نافع طلعت الحمراء؟ فقلت: لا، فلمَّا طلعت أخبرته، فقال: لا مرحبًا ولا سهلًا. قلت: سبحان الله، نجم سامع مطيع تقول له هذا؟ ! فقال: ما قلت إلّا ما سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - إنَّ الملائكة قالت: "يا ربِّ كيفَ صبرُك على بني آدمَ في الخطايا ¬

_ (¬1) "عرائس المجالس" ص 53. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 458. (¬3) في (ب): قيس بن عبادة عن أنس وابن عباس. (¬4) "عرائس المجالس" ص 53.

والذّنوب؟ قال: إنِّي ابتليتُهم وعافيتُكم، قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملَكَين منكم. فلم يَألوا أن اختاروا هاروتَ وماروتَ فنزلا، فأَلقَى عليهما الشَّهوة، فجاءت امرأةٌ يقال لها: الزُّهرة، فوقعت في قلوبهما، فجعل كلُّ واحد منهما يخفي ما في نفسه عن صاحبه. ثم راوداها فقالت: لا أمكِّنكما حتى تعلِّماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان، فامتنعا، ثم أجابا ففعلا، فمسخها الله كوكبًا، وقطع أجنحتهما. ثم سألا التوبة من ربِّهما فخيَّرهما بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدُّنيا، فأوحى الله إليهما: انطلقا إلى بابل، فانطلقا فهما منكوسان بين السماء والأرض يُعذَّبان إلى يوم القيامة". قال جدّي رحمه الله: هذا حديث لا يصح (¬1). وأمَّا حديث سُهيل وقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله سُهيلًا كان عشَّارًا باليمن" فقال جدي في "الموضوعات" أيضًا: لا يصحّ مرفوعًا إلى رسول الله ولا موقوفًا، تفرَّد به إبراهيم بن يزيد الخوزي، اتفقوا على تركه (¬2). وقد رُويت لنا هذه القصة وليس فيها أنَّ الزهرة مُسخت كوكبًا: قرأتُ على شيخنا الموفَّق المقدسي رحمه الله قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أحمد بن النَّقور، بإسناده عن عبد الله بن عمر، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ آدمَ لمَّا أَهبَطَه الله تعالى إلى الأرض قالتِ الملائِكَةُ: يا ربّ، أتجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها ونَحن أَطْوَع لك من بَني آدَمَ؟ ، فقال الله: هَلمُّوا ملَكَين منكُم حتى نُهبِطَهما إلى الأرضِ فننظر كيف يعملان، فاختاروا هارُوتَ ومارُوتَ، فأُهبِطا إلى الأرضِ (¬3) ومَثُلَت لهما الزهرة امرأة من أحسنِ البَشَر، فسألاها نَفسَها، فقالت: لا والله حتى تتَكلَّما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا: لا واللهِ لا نشركُ بالله شيئًا، فذهبت عنهما. ثم رجَعَتْ بصبي تحملُه، فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تقتُلا هذا الصبيَّ، فقالا: لا والله لا نقتُلُه أبدًا، فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحملُه، فسألاها نَفسَها فقالت: لا واللهِ حتى تَشرَبا هذا القدَحَ، فشَرِبا القدَحَ حتى سَكرا فوَقَعا عليها، وقَتلا الصبيَّ، وتكلَّما بالكلمةِ. فلمَّا أفاقا قالت ¬

_ (¬1) "الموضوعات" (389). (¬2) "الموضوعات" (390). (¬3) من قوله: فننظر كيف يعملان ... إلى هنا ليس في (ب).

لهما: واللهِ ما تَرَكتُما شيئًا مما أَبَيتماه إلَّا فَعلْتُماه حين سَكِرتما، فخيِّرا بين عذابِ الدُّنيا وعذابِ الآخرةِ فاختارا عذابَ الدُّنيا" (¬1). وحكى جدّي رحمه الله قولين آخرين: أحدهما: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنهما جارا في الحكم. والثاني: أنهما همَّا بالمعصية فقط، ولم يفعلاها (¬2). قلت: وهذا القول الأخير أليق بالملائكة من مباشرة الزِّنا والقتل وشرب الخمر. قال ابن عباس: فلمَّا أمسيا همَّا بالصعود إلى السماء بعدما قارفا الذَّنب، فلم تضعهما أجنحتهما، فعلما ما حلَّ بهما، فقصدا إدريس وسألاه أن يشفع لهما إلى الله، وقالا: إنَّا رأيناك يصعد لك من العبادة (¬3) مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاشفع لنا، فشفع فيهما، فخيَّرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا لعلمهما أنه ينقطع، فهما ببابل يعذَّبان (¬4). وروى أبو صالح عن ابن عباس، ورواه معاذ مرفوعًا والموقوف أصحّ، قال: جاءهما جبريل، فبكيا وبكى معهما، فقال لهما: ما هذه البليّة التي أجحفت بكما؟ وما هذا الشّقاء؟ فإنّ الله أرسلني إليكما يخيِّركما بين عذاب الدنيا وأن تكونا عنده في الآخرة في المشيئة إن شاء عذبكما وإن شاء رحمكما، وإن شئتما عذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا وأن يكونا عند الله في المشيئة، قال: فهما ببابل فارس معلقان بين جبلين في غار تحت الأرض، يعذّبان طرفي النّهار إلى الصّيحة. فلما رأت الملائكة ذلك خفقت بأَجنحتها ثم قالت: اللهمَّ اغفر لولد آدم فذلك قوله تعالى: {ويَسْتغفِرُونَ لِمَن في الأَرضِ} (¬5) [الشورى: 5]. وفي رواية: فقالت الملائكة: عجبًا لبني آدم كيف يعبدون الله تعالى ويطيعونه على ¬

_ (¬1) "كتاب التوابين" (1) وهو عند أحمد في "المسند" (6178)، وهو حديث باطل انظر الكلام عليه في "المسند". (¬2) ذكرهما في "زاد المسير" 1/ 124. (¬3) في (ب): "العمل". (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 53. (¬5) أخرجه المقدسي في "التوابين" (2) موقوفًا.

فصل في حكم الساحر والساحرة

ما فيهم من الشهوات (¬1)! ؟ وقال ابن مسعود: فداروا حول العرش أربعة آلاف سنة يعتذرون من اعتراضهم. واختلفوا في كيفية عذاب الملكين على أقوال: أحدها: أنهما معلَّقان بشعورهما إلى قيام الساعة، قاله ابن مسعود. والثاني: أنهما مكبَّلان بالحديد من أقدامهما إلى رؤوسهما، قاله قتادة. والثالث: أنَّ جبًّا ملئ نارًا وجعلا فيه، قاله مجاهد (¬2). وحكى أبو إسحاق الثعلبي: أنَّ رجلًا قصدهما ليتعلَّم السحر، فوجدهما معلَّقين بأرجلهما، مزرقَّة عيونهما، مسودَّة جلودهما، ليس بين ألسنتهما والماء سوى أربعة أصابع، وهما يصيحان: العطش العطش! . فلما رأى ذلك هاله مكانهما، فقال الرجل: لا إله إلا الله، وقد نهيا عن ذكر الله، فلمَّا سمعا كلامه قالا: من أنت؟ فقال: رجل من أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، قالا: وقد بُعث؟ قال: نعم، فقالا: الحمد لله، واستبشرا وقالا: هو نبيُّ الساعة، وقد دنا [انقضاء عذابنا] (¬3). قال الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي: ابتلاء واختبار، فينصحاه وينهياه {فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] أي بتعليم (¬4) السحر. فصل في حكم السَّاحر والسَّاحرة قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: يكفر السَّاحر بسحره ويقتل، أمَّا المرأة السَّاحرة فتحبس ولا تقتل، سواء كان الساحر من أهل الإسلام أو من أهل الكتاب. وقال الشافعي: لا يكفر بسحره، فإن قَتَلَ بسحره قُتِلَ به. وقال أحمد: يكفر بسحره قَتل أو لم يَقتل. وهل تقبل توبته؟ فيه روايتان. وأما ساحر أهل الكتاب فلا يقتل عند أحمد إلا أن يضرَّ بالمسلمين فيقتل، لنقض ¬

_ (¬1) "كتاب التوابين" (2). (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 53 - 54، و"زاد المسير" 1/ 125. (¬3) "عرائس المجالس" ص 54. وما بين معقوفين زيادة منه. (¬4) كذا في النسختين (ب) و (ل)، وصوابه: بتعلم.

العهد، وسواء في ذلك الرجل والمرأة (¬1). وعنده وعند الشافعي (¬2). قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} وإنما وحد الفتنة وهما اثنان لأنَّ الفتنة مصدر، والمصادر لا تثنَى ولا تجمع. وفي مصحف أبي بن كعب: "وما يعلِّمان من أحد حتَّى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" سبع مرَّات وفي مصحف ابن مسعود "وما يعلّم الملكان من أحد". وقال مقاتل: فإن أبى إلَّا التعليم قالا: ائت ذلك الرماد فَبُلْ عليه، فإن بال عليه خرج منه نور الإيمان والمعرفة ساطعًا في السماء، وينزل شيء أسود فيدخل في مسامعه شبيه الدُّخان، فذلك غضب الله تعالى وسخطه. وقال مجاهد: الملكان لا يصِل إليهما أحد وإنما يختلف إليهما شيطان في السنة مرَّة واحدة. ومعنى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وهو أن يبغض كل واحد منهما صاحبه ويؤخذ عنه. قرأت على شيخنا الموفق المقدسي رحمه الله: بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قدمت امرأةٌ من دُومة الجَنْدَل تبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته -حداثةَ ذلك- تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعلم به، قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حتى إني لأرحمها، تقول: إني أخاف أن أكون قد هَلَكت، كان لي زوج فغاب عنِّي، فدخلت إلى عجوز فشكوت إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك به جعلته يأتيك، فلما كان اللَّيل جاءتني بكلبين أسودين فركبتُ أحدهما، وركبَتِ الآخر، فلم يكن كثيرًا حتى أتينا بابل، فإذا برجلين معلَّقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ قلت: أتعلَّم السِّحر. فقالا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} فلا تكفري وارجعي، فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت إليه ففزعت ولم أفعل شيئًا فرجعت إليهما، فقالا: أفعلتِ؟ قلت: نعم، قالا: فما رأيت؟ قلت: لم أر شيئًا. فقالا: كذبت لم تصنعي شيئًا. ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنَّك على رأس أمرك. قالت: فذهبت ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 1/ 126. (¬2) لم يتضح لنا المراد من هذه العبارة، وانظر المغني لابن قدامة 12/ 299 - 306.

فبلتُ فيه، فرأيت فارسًا مقنَّعًا بالحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، وجئتهما وأخبرتهما، وقلت: رأيت كذا وكذا، فقالا: صدقت، ذاك إيمانك خرج منك، اذهبي. قالت: فقلت للمرأة، والله ما أعلم شيئًا، ولا قالا لي شيئًا، قالت: بلى، لن تريدي شيئًا إلا كان، خذي هذا القمحَ فابذري، فبذرتُ، فقلت: اطلعي فطلعت، فقلت: الحقي فلحقت، فقلت: افركي ففركت، فقلت: اطحني فطحنت، فقلت: اخبزي فخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئًا إلا كان، سُقط في يدي وندمت، والله يا أمَّ المؤمنين ما فعلت شيئًا قط ولا أفعله أبدًا، فسألَتْ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حداثة [وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] وهم متوافرون، فما دروا ما يقولون لها وكلهم هاب وخاف وحذر أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعضُ من كان عنده: لو كان أبواك حيَّين أو أحدهما. قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا أهل الورع، ولو جاءنا مثلها اليوم لوجدَتْ نَوكى أهلَ حُمْقٍ وتكلُّف بغير علم (¬1). واختلفوا في كيفيَّة جواز تعليم السِّحر على الملكين، على قولين: أحدهما: أنهما كانا لا يتعمَّدان تعليم السِّحر، ولكنهما يصفانه ويذكران بطلانه، ويأمران باجتنابه. ولكنَّ الشَّقي يتعلَّم منهما في خلال صفتهما، ويترك موعظتهما ونصيحتهما. فعلى هذا التأويل لا يكون تعلُّم السِّحر كفرًا، وإنما يكون العمل به كفرًا، كما أنَّ من عرف الزِّنا ولم يفعله لم يأثم وإنما يأثم الفاعل له. والثاني: أنَّ الله عزَّ وجلَّ امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان، فيكفر بتعلُّمه، ويؤمر بترك التعلُّم، لأنَّ السِّحر كان قد كثر في تلك الأمَّة. ويزداد المعلِّمان عذابًا بتعليمه فيكون ذلك ابتلاء للمعلم والمتعلِّم. ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما ابتلى بني إسرائيل بالنَّهَر في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] ودليله قولهما: {إنَّمَا نَحنُ فِتنَة} وهذان القولان ¬

_ (¬1) "كتاب التوابين" (120)، وما بين معكوفين منه.

فصل في الملوك الذين كانوا في زمن إدريس - عليه السلام -

حكاهما الزَّجَّاج واعتمد عليهما (¬1). قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ} أي: بالسِّحر {مِنْ أَحَدٍ إلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بقضائه وقدره وعلمه ومشيئته {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} [البقرة: 102] في الدَّارين ولا ينفعهم. فصل في الملوك الذين كانوا في زمن إدريس - عليه السلام - قال علماء السِّير: كان في زمانه طَهْمُورث. وعامَّة المؤرخين على أنَّه طهمورت، بتاء منقوطة بنقطتين من فوق. وقال أبو الحسين بن المنادي: طهمورب، بباء منقوطة بواحدة من تحت. واختلفوا فيه: فقال بعضهم: هو من ولد آدم لصلبه، وقال قوم: هو ابن أوشهنج أو أوشنج ابن آدم لصلبه. وقال ابن مسكويه في "تجاريب (¬2) الأمم": طهمورث أخو أوشنج. وقال قوم: هو من ولد أوشنج، بينه وبينه عدَّة آباء (¬3). فسلك طهمورت طريق الخير، وسار بسيرة من تقدّم من ولد آدم، وملك الأقاليم السبعة، ونفى الأشرار، وهو أوّل من كتب بالفارسية (¬4)، واتخذ الخيل والبغال والحمير والكلاب لحفظ المواشي، واستمرَّت أحواله على الصَّلاح، وهو أوَّل من وضع التَّاج على رأسه من الملوك، وبنى المكان الذي جدَّده سابور ملك فارس، وأقام به حتى مات عن ست مئة سنة (¬5). فصل ثم ملك بعده أخوه جَمْ شيد، وتفسيره: سيِّد الشعاع، سمي به لأنه كان وضيئًا جميلًا، وملك الأقاليم السّبعة، وسار في الناس السيرةَ الجميلة، وزاد على أخيه ¬

_ (¬1) "معاني القرآن" 1/ 183 - 184. (¬2) كذا في (ب) و (ل)، واسمه الذي طبع به: تجارب. (¬3) انظر تجارب الأمم 1/ 6. (¬4) في (ب): "تكلم بالسُّريانية". (¬5) "تجارب الأمم" 1/ 6 مع تصرف وزيادة، وانظر "التبصرة" 1/ 52، والمنتظم 1/ 236.

طهمورت، وعمل السّيوف والسّلاح، واستخرج الإبريسم والقزَّ، ورتَّب الناس أربع طبقات: طبقة مقاتلة، وطبقة علماء، وطبقة خدماء، وطبقة كتّابًا وصناعًا وحرّاثين ونحوهم. وعمل أربع خواتيم: خاتمًا للحرب والشُّرطة وكتب عليه "الأناة"، وخاتمًا للخراج وجباية الأموال وكتب عليه "العمارة"، وخاتمًا للبريد وكتب عليه "الوحى"، وخاتمًا للمظالم وكتب عليه "العدل" (¬1). قال جدي رحمه الله في كتاب "التبصرة": فبقيت هذه الرسوم في ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام (¬2). قلت: ولو استعملت هذه الرُّسوم في ملك الإسلام أيضًا لكان أولى، لأنَّ الرَّعية من أحوج الناس إليها. وألزم جَمْ شيد أهل الشّرّ والفساد الأعمال الصَّعبةَ من قطع الصخور من الجبال، وعمل الحمَّامات، واستخراج المعادن من البحار كالذهب والفضَّة والجوهر والياقوت، وأحدث النَّيروز فجعله عيدًا. ولمَّا طال عمره تجبر وطغى وادَّعى الرُّبوبيَّة (¬3). قال جدي في "أعمار الأعيان": عاش جَمْ شيد تسع مئة سنة وستين سنة (¬4). فسار إليه الضحَّاك واسمه بيوراسب بن الأهبوب. واختلفوا في الضَّحاك: فقال قوم: هو من ولد جيومرت، وقيل: إنَّ الضحَّاك ابن أخت جَمْ شيد، كان جم قد زوَّج أخته من بعض أشراف بيته فولدت الضحَّاك، وقيل: إنما زوَّجها جَمْ من الأهبوب، فولدت الضحَّاك. فسار إليه الضحَّاك، فهرب بين يديه، فتبعه فظفر به، فقال له: مثلك يدَّعي الرُّبوبية فإن كنت إلهًا فادفع عن نفسك، فنشره بمنشار -ذكره الجوهري بنون (¬5). وغيره يقول: ميشار بالياء- وملَكَ الضحَّاك ألف سنة، وكان يدين بدين البراهمة (¬6). ¬

_ (¬1) النقل من "التبصرة" 1/ 52 - 53، والمنتظم 1/ 236 - 237، وانظر "تجارب الأمم" 1/ 6. (¬2) "التبصرة" 1/ 53، و"تجارب الأمم" 1/ 6. (¬3) وانظر "التبصرة" 1/ 53، و "تجارب الأمم" 1/ 7. (¬4) "أعمار الأعيان" ص 127. (¬5) "الصحاح": (نشر). (¬6) انظر "تجارب الأمم" 1/ 7، و"التبصرة" 1/ 53، والمنتظم 1/ 237.

وذكر هارون بن المأمون: أنَّ الضحَّاك كان في زمن نوح عليه السَّلام، وأنه أرسل إليه وإلى قومه، قال: والفرس تسمِّيه بيوراسب، والعرب تسمِّيه: الضحَّاك، وهو أوَّل الفراعنة، وملَكَ الأقاليم كلها، وكان ساحرًا فاجرًا، وهو أوَّل من نشر بني آدم بالمنشار وصلب، ووضع العشور، وأوَّل من غُنِّي له، وأوَّل من ضرب الدَّراهم والدَّنانير، وسنذكره في الحوادث التي كانت بين نوح وإبراهيم عليهما السَّلام واختلاف الناس فيه وقتل أفريدون له إن شاء الله تعالى. * * *

فصل في ذكر نوح عليه السلام

فَصلٌ في ذِكر نُوح عليه السَّلام (¬1) قال علماء السِّير: هو نوح بن لَمْكِ، وقيل: ابن لامَك بن مُتُوشَلْخ بن أخنوخ، وهو إدريس - عليه السلام -، ابن مَهْلائيل بن يَرْذ بن قَينَان بن أَنُوش بن شِيث بن آدم عليه السلام. وهو أوَّل نبي بعد إدريس. قال مقاتل: اسمه السَّكن، وقيل: ساكن، ونوح لقب له. واختلفوا لِمَ سمِّي نوحًا على أقوال: أحدها: لأنه ناح على قومه، قاله مجاهد. والثاني: على نفسه، قال مقاتل: كان فيه غضب وحدَّة فلمَّا لم يجبه قومه دعا عليهم فجاءه إبليس فقال له: يا سكن لقد عملتَ معي عملًا لو اجتمع أهلُ الأرض وجميع جنودي لما قدروا عليه، قال: وما هو؟ قال: دعاؤك على قومك بالهلاك، ولو كنت صبرت على أذاهم لعلّه أن يؤمن واحد منهم لكان فيه كفاية، فندم نوح وقال: يا ليتني صبرت، فناح على نفسه. والثالث: أنه نظر يومًا إلى كلب قبيح المنظر فقال: ما أقبح صورة هذا الكلب، فأنطقه الله تعالى وقال: يا سكن، على من عيَّبت؟ على النقش أو على النَّقَّاش؟ فإن كان على النَّقش فلو كان خلقي بيدي لحسَّنته، وإن كان على النَّقَّاش فالعتب عليه، أعتراضٌ في ملكه؟ فعلمَ أن الله أنطقهُ، فناح على نفسه وبكى أربعين سنة، قاله السُّدي عن أشياخه. وقيل إن الله تعالى أوحى إليه ذلك (¬2). وقال ابن إسحاق: هو اسم موضوع له، ونوح بالسُّريانيَّة سكن. ¬

_ (¬1) انظر قصته في "تاريخ اليعقوبي" 1/ 13، و"تاريخ الطبري" 1/ 179، و"البدء والتاريخ" 3/ 15، و"مروج الذهب" 1/ 74، و"عرائس المجالس"ص 55، و"تاريخ دمشق" 62/ 240، و"المنتظم" 1/ 239، و"الكامل" 1/ 67، و"البداية والنهاية" 1/ 100. (¬2) انظر "زاد المسير" 1/ 374، وتفسير البغوي 2/ 168.

فصل في الرسل والرسالة

وقال السُّدي: إنما سمي سكنًا لأنَّ الأرض سكنت به. وقال ابن عباس: كان نجَّارًا. وقد ذكره الله في مواضع، قيل: في ثمانية وعشرين موضعًا، فقال في سورة الأعراف: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَال يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} [الأعراف: 59]. واختلفوا في ولادته وإرساله: فذكر جدي في كتاب "التبصرة" وقال: ولد نوح بعد وفاة آدم بمئة وست وعشرين سنة، ولما تمَّ له خمسون سنة أرسله الله تعالى (¬1). وكذا قال الزبير بن بكَّار. وقال مقاتل: بينه وبين آدم ألف سنة، وبينه وبين إدريس مئة سنة، وبُعث وهو ابن خمسين وثلاث مئة سنة. وقيل: كان ابن ثمانين وأربع مئة سنة، وكان أبوه لَمْك قد أخبره بالنُّور الذي انتقل إليه وأوصاه فقال: يا بنيّ، لا تتَّبع الأمَّة الخاطئة. واختلفوا في مقامه على قولين: أحدهما: بالهند، قاله مجاهد. والثاني: بأرض بابل والكوفة، قاله الحسن البصري. وقال ابن عباس: بعثه الله والكفر قد عم الأرض، ولم يكن في الدنيا من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، وكانوا يعبدون الأصنام، وهم ذريَّة قابيل وغيرهم، فقال لهم: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرُهُ} {قَال الْمَلَأُ} يعني: الأشراف والسَّادة، قال الفرَّاء: هم الرجال ليست فيهم امرأة {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 60] أي: في خطأ ظاهر عن الحق {قَال يَاقَوْمِ لَيسَ بِي ضَلَالةٌ} وإنما لم يقل: ليست، لأنَّ معنى الضَّلالة الضلال {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالمِينَ} [الأعراف: 61]. فصل في الرُّسُل والرِّسالة العرب تقول: أرسلت فلانًا في رسالة فهو مرسَل ورسُول. قال الجوهري: والرَّسول أيضًا الرِّسالة، قال كثيِّر: [من الطويل] ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 65.

لقَد كَذَبَ الوَاشُونَ ما بُحتُ عِندهم ... بسِرٍّ ولا راسَلْتُهم برَسُول (¬1) ومن شرط الرَّسول أن يكون ذكرًا، وقال بعض الناس: يجوز أن يكون أنثى، واحتجُّوا بأنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع نبيَّات بعثهنَّ الله: حوَّاء وأمُّ موسى وأمُّ عيسى وامرأةُ فرعون" (¬2). ولعامَّة العلماء قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلا رِجَالًا} [يوسف: 109]. ولأنَّ الرِّسالة تقتضي الاشتهار بالدَّعوة، والأنوثة توجب الستر، وبينهما تنافٍ لما عرف من نقصان المرأة. ولا يجب قبول قول الرَّسول حتى يقيم الدَّليل على صدق دعواه. وقالت الخوارج: يجوز قبل إظهار المعجزة ويجب قبول قوله، وذلك باطل، لأنه لا يقع الفرق بين الصَّادق والكاذب إلا بإظهار المعجزة التي هي خارجة عن قوى البشر. فإن قيل: فلمَ أرسل الرّسل من جنسنا ولم يكونوا من الملائكة؟ فالجواب من وجوه: أحدها: لأنهم لو لم يكونوا من جنسنا لم يشفقوا علينا. والثاني: لأنَّا إذا أخطأنا شفعوا فينا. والثالث: لأنَّا إذا عرفنا نسبه وحسبه كان أبلغ في تصديقنا إيَّاه، ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]. فأمَّا ما يتعلّق برسالة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - فسنذكره في سيرته إن شاء الله تعالى. قوله تعالى في سورة هود عليه السّلام: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25] الآية، روى مجاهد عن ابن عباس قال: كانوا يضربونه حتَّى يغشى عليه، فيلفّ في لِبَد، فيرون أنه قد مات، ثم يقوم فيدعوهم إلى الله تعالى ويقول: اللهمَّ اهدهم وإلَّا فصَبِّرني. وقال مقاتل: لبث يدعو قومه تسع مئة وخمسين سنة، قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] أي: أقام داعيًا إلى الله. ¬

_ (¬1) "الصحاح": (رسل)، و"رواية الديوان" ص 278: "بليلى ولا أرسلتهم برسيل". (¬2) لم نقف على من خرج هذا الخبر، وأورده القرطبي في "تفسيره" 9/ 274.

وذكر ابن سعد بإسناده عن ابن عباس قال: ولد نوح ولأبيه ثمانون سنة، فأقام يدعوهم إلى الله مئة وعشرين سنة، وركب في السَّفينة وهو ابن ست مئة سنة، ثم مكث بعد ذلك ثلاث مئة وخمسين سنة (¬1). وروى الثعلبي عن مقاتل أنه قال: بُعث نوح بعد مئة سنة، وركب السفينة وهو ابن ست مئة سنة، وعاش ألفًا وخمسين سنة. قلت: والأصحُّ أنه أقام فيهم داعيًا إلى الله تعالى ألف سنة إلَّا خمسين عامًا، كما ذكر الله تعالى. وقال مجاهد: لما طال عليه أمرهم، واشتدَّ تجبُّرهم، دعا عليهم وسأل الله إهلاكهم، فأوحى الله إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]. وقال الرَّبيع: ما دعا عليهم إلّا بعد أن أيأسه الله من إيمانهم بهذه الآية، وهي قوله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلا مَنْ قَدْ آمَنَ} والأنبياء لا يفعلون شيئًا إلا بالوحي {فَقَال الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلا بَشَرًا مِثْلَنَا} أي: آدميًّا {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي: سفلتنا، قال ابن مسعود: قيل: إنهم الحاكة. فلمّا جادلوه وأطالوا الخطاب أخبره الله تعالى أنه مهلكهم. فقال: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36] فحينئذ قال: {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]. قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] لآية. الفلك: السفينة. واختلفوا في معنى قوله: {بِأَعْيُنِنَا} على أقوال: أحدها: بمرأىً منَّا، قاله ابن عباس. والثاني: بمنظر منا (¬2). قاله الضحاك. والثالث: بعلمنا، قاله مقاتل. والرابع: بحفظنا ووحينا، قاله الرَّبيع (¬3). وقال ابن عباس: لم يكن يعلم كيف يصنعُ الفلك، فأوحى الله إليه أن اصنعها مثلَ ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 1/ 40 - 41. (¬2) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 93، عند قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13، 14]. (¬3) انظر "زاد المسير" 4/ 101.

جؤجؤ الطَّير (¬1). وكان الله قد أمره بغرس السّاج فغرسه ثلاثين سنة حتى تمّ واستوى، وقيل: في أربعين سنة. وقال الربيع: الشجرة التي عمل منها السفينة نبتت حين ولد نوح، فارتفع طولها ثلاث مئة ذراع. واختلفوا: في كم صنعها؟ فقال عكرمة: في مئة سنة، قال: وكان جبريل يعلِّمه كيف يصنعها. وعن ابن عباس: أنه بناها في سنتين، وقال سلمان الفارسي: في أربع مئة سنة، وهذا تفاوت بعيد. قالوا: والأظهر في سنتين، لأنه موافق لحاله. وفجَّر الله عين القار ولم تكن قبل ذلك (¬2). قال الله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]. قال مجاهد: معناه لا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا من قومك {إنهم مُّغرَقونَ} بالطُّوفان. وقال ابن عباس: أُمر أن لا يشفع فيهم. قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} أي: وكان يصنع الفلك {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} أي: استهزؤوا به، وهو يقول: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] إذا رأيتم العذاب. واختلفوا في طولها وعرضها على أقوال: أحدها: أنه كان طولها ثلاث مئة ذراع، وعرضها خمسون ذراعًا، وارتفاعها في الهواء ثلاثة وثلاثون ذراعًا، رواه مجاهد عن ابن عباس (¬3). والثاني: أنه كان طولها ألف ذراع وعرضها ثلاث مئة وثلاثون. حكاه السُّدي عن أشياخه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10833)، والطبري في "تفسيره" 12/ 34. (¬2) في عرائس المجالس 57: وفجر الله له عين القار بجنب السفينة تغلي غليانًا حتى طلاها به. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 35، وفي "تاريخه" 1/ 181 عن قتادة.

والرابع (¬1): كان طولها ألفي ذراع، وعرضها ست مئة ذراع، ذكره جدي رحمه الله في "التبصرة" (¬2). والقول الأوَّل حكاه كعب عن التَّوراة، وزاد فيه: أوحى الله إلى نوح أن اصنع الفلك وطوله ثلاث مئة ذراع، وارتفاعه ثلاثة وثلاثون ذراعًا وعرضه خمسون. وليكن بابها في عرضها، واركب أنت وامرأتك وبنوك وكنائنك، ومن كلِّ شيء من اللَّحم زوجان ذكر وأنثى، فإني مُنزل المطر على الأرض أربعين يومًا وليلة، فأُتلف كلَّ شيء على وجه الأرض، واعمل تابوتًا من عود الشمشار واجعل فيه جسد آدم، واحمل معك زاد سنة. ففعل نوح ذلك. وأرسل الله الطوفان على الأرض في سنة ست مئة من عمر نوح، في ستة عشر يومًا من الشهر الثاني، ولبث في الماء مئة وخمسين يومًا. ثم أرسل الله ريحًا فغشيت الأرض، فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض وعيون القطر وميازيب السماء، واستقرّت السفينة في الشهر السّادس على جبل قردا. هذا نصُّ التوراة (¬3). وذكر في التوراة: أنه جعلها ثلاث طبقات، فكان هو ومن معه من بني آدم في الطبقة العليا، وفي الوسطى الأنعام والدَّواب والطيور، وفي السفلى الوحوش والسباع والبهائم والهوام، وكانت مطبقة. واختلفوا في عدد من ركب فيها على أقوال: أحدها: أنهم كانوا ثمانين رجلًا معهم أهلوهم، قاله ابن عباس. والثاني: أربعين رجلًا وأربعين امرأة، قاله مقاتل. والثالث: سبعين رجلًا ونوح وأولاده الثلاثة وكنائنه. والرابع: كانوا ثمانين، وبنوه الثلاثة ونساؤهم، قاله ابن عباس. والخامس: كانوا ثلاثين رجلًا، قاله ابن عباس أيضًا. ¬

_ (¬1) كذا جاء في الأصول الخطية دون ذكر الثالث، وقد ذكر في طول السفينة وعرضها أقوال أخرى، انظر "البداية والنهاية" 1/ 110. (¬2) "التبصرة" 1/ 65، وانظر "تاريخ الطبري" 1/ 181 - 182. (¬3) النقل من "المعارف" ص 22، وانظر "سفر التكوين" الإصحاح السادس والسابع.

والسادس: كانوا ثمانية، نوح وبنوه الثلاثة وامرأة نوح وكنائنه، قاله ابن جريج. والسابع: كانوا سبعة، نوح وبنوه وكنائنه، قاله الأعمش. والثامن: ثلاثة عشر، ذكره ابن إسحاق. وقد حكى جدي هذه الأقوال في "التبصرة" (¬1). قلت: والأصح أنهم كانوا ثمانين. واختلفوا من أي مكان ركبوا على أقوال: أحدها: من مكان الكوفة، قاله ابن عباس، ومنه فار التَّنُّور. والثاني: من الهند ومنه فار التَّنور، قاله ابن مسعود. والثالث: من الشام من عين وردة، قاله مقاتل، وذكره جدي في "زاد المسير" و"التبصرة"، وقال: كانت منزلَ نوح عليه السّلام، يعني عين وردة (¬2). وذكره أيضًا أبو الحسين محمد بن عبد الله الرّازي فيما حكاه عنه الحافظ أبو القاسم في "تاريخ دمشق" قال: إنَّ دمشق كانت دار نوح، ومنشأ السفينة من خشب لبنان، وأنه ركب فيها من عين الجر في البقاع ببلد بعلبك، وهو واد بين جبلي لبنان وسنير. قال: وإنّ الماء فار من تنّور خلف حائط الحصن الداخل من مدينة دمشق من ناحية باب جَيرُون على طريق باب الفراديس (¬3). قلت: ولم ينقل هذا غير أبي الحسين الرّازي، فإنّ الحافظ نقل عنه أنه قال: قرأته في كتاب "أخبار الأوائل". والظاهر أن نوحًا كان مقيمًا بأرض بابل، ومن ثَمَّ ركب في السفينة، لما نذكر. وقال مجاهد: بنى السفينة على الجبل الذي أهبط عليه آدم بالهند، ويقال له: بوذ وواشم، ومنه ركب في السفينة، فصار قولًا رابعًا. واختلفوا في المراد بالتَّنُّور على أقوال: ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 66، و"زاد المسير" 4/ 106 - 107، وانظر "تاريخ الطبري" 1/ 187 - 189. (¬2) "زاد المسير" 4/ 105 - 156، و"التبصرة" 1/ 66. (¬3) "تاريخ دمشق" 62/ 241.

أحدها: أنّه تنُّور أهله، كانت امرأته تخبز فيه وهو في منزله في زاوية مسجد الكوفة، واسم امرأته وردة، وقيل: واغلة، فنبع الماء ويدها في الخبز، قاله زرّ بن حبيش (¬1). والثاني: أنّ المراد بالتَّنُّور وجه الأرض، قال ابن عباس. قيل له: إذا رأيت الماء قد علا على وجه الأرض فاركب (¬2). والثالث: أنه تنور (¬3) الصبح، قاله عليٌّ عليه السّلام. والرابع: تنور الشمس، وروي عن علي أيضًا (¬4). وقال الجوهري: التنُّور الذي يخبز فيه قال: وقوله تعالى: {وَفَارَ التَّنُّوُر} قال علي - عليه السلام -: هو وجه الأرض (¬5). هذه صورة ما ذكره الجوهري. وقال ابن عباس: لما فار التنُّور دار الماءُ حوله وامتدَّ، فصار حول الأرض كالإكليل، فأقبلت الوحوش تطلب قلل الجبال، فنادى نوح: {وَقَال ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا ومُرْسَاهَا} [هود: 41]. وقال الضحاك: كان إذا أراد أن يرسو قال: {بِسْمِ اللَّهِ} فرسَت، وإذا أراد أن تجري قال: {بِسْمِ اللَّهِ} فجرت. قال الزَّجاج: والفوران: الغليان. وسمِّي طوفانًا لأنه طفا فوق كلِّ شيء، أي: علاه. وقال الهيثم بن عدي: حمل معه تابوت آدم معترضًا بين الرجال والنساء. وقال أبو العالية: جاءه إبليس فتعلَّق بكَوْثَلها فقال له نوح: ويحك قد غرق الناس من أجلك. قال: فما تأمرني؟ قال: تُب إلى ربِّك. فقال: اسأله هل لي من توبة؟ فسأل الله فقال: نعم، يسجد لآدم، فأخبره فقال: ما سجدت له وهو صاحب المملكة، أسجد له وهو كف من تراب؟ ! فقال له نوح: لا أحملك معي، اذهب. فأوحى الله إليه ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" 12/ 39. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 38، والضمير عائد على نوح - عليه السلام -. (¬3) كذا في النسخ والتبصرة 1/ 65، وفي "تفسير" الطبري 12/ 38: تنوير. (¬4) "زاد المسير" 4/ 105، و"التبصرة" 1/ 65 - 66. (¬5) "الصحاح": (تنر).

دعه فإنَّه من المنظرين (¬1). وقال مجاهد: آخر من دخلها الحمار، فتعلَّق بذنَبِه إبليس فمنعه نوح من الرُّكوب فيها، وقال: علِّمني خصالًا أحترس بها منك، قال: إياك والكِبر فإني ما وقعتُ فيما وقعت إلا به، وإيَّاك والحسد فإني حسدتُ آدم فهلكت، وإيَّاك والطمع فإنَّه هو الذي أوقع آدم فيما أوقعه، وإيَّاك والعجلة فإنها هي التي أحوجتك إلى الدعاء على قومك حتى هلكوا (¬2). وقال ابن عباس: أراد بقوله: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَينِ اثْنَينِ} ذكرًا وأنثى حفظًا للنَّسل {وَأَهْلَكَ} أي ولدك وعيالك {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلا قَلِيلٌ} [هود: 40] وهم الذين ركبوا معه السفينة. ومعنى اثنين على التأكيد، ولأنه لا يستغني أحدهما عن الآخر. قال ابن عباس: أول ما حمل نوح معه الذَّرَّة (¬3)، وآخر ما حمل معه الحمار، فلمَّا دخل تعلَّق إبليس بذنبه فلم تستقل رجلاه وصدره في السَّفينة، فصاح نوح: ويحك ادخل وهو لا يقدر، فقال: أدخل، ولو كان معك الشيطان -كلمة زلَّت عن لسانه- فلمَّا قالها خلَّى الشيطان سبيل الحمار فدخل، ودخل معه إبليس، فقال له نوح: اخرج يا عدوَّ الله، فقال: ألم تقل ادخل وإن كان معك الشيطان؟ لا بدَّ لك من حملي معك. وكانوا يزعمون أنه في ظهر الفلك (¬4). وقال الثعلبي: وذكر مالك بن سليمان الهروي في "تفسيره" أن الحيَّة والعقرب أتيا نوحًا - عليه السلام - وقالتا، احملنا، فقال: أنتما سبب الضرر والبلاء والأوجاع، فلا أحملكما، قالتا: احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضر أحدًا ذَكرك، فمن قرأ حين خاف مضرَّتهما {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالمِينَ (79)} [الصافات: 79] لم يضرَّاه (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 62/ 259. وأخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 241 عن أنس. الكوثل: مؤخر السفينة. (¬2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 17/ 665 (مخطوط) عن وهب بن منبه مطولًا. (¬3) الذَّر: النمل الأحمر الصغير، واحدته ذرة. "حياة الحيوان" للدميري 1/ 356. (¬4) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 184. (¬5) انظر "عرائس المجالس" 58.

قال ابن عبّاس: لما ركب في السَّفينة لعشر مضين من رجب، وخرج منها يوم عاشوراء، قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11، 12] ارتفع الماء على رؤوس الجبال العالية أربعين ذراعًا، فهلك من كان على وجه الأرض من ذي روح وشجر وغير ذلك، ولم يبق سوى من في السَّفينة. قال كعب: قرأت في التَّوراة أنَّه هلك جميع العالم إلا عوج بن عناق، وعناق بنت آدم، فإنه لم يبلغ الماء إلى ركبتيه، وعاش إلى زمان موسى (¬1) وسنذكره. وقال أبو إسحاق الثعلبي: وفي حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لما فَارَ التَّنُّورُ خشيَت أمُّ الصَّبيِّ على ابنِهَا فَصعِدت به الجَبلَ، فلمَّا لحِقَها الماءُ جَعلَته على رقَبتِها، فَبلغَ الماءُ رقَبتَها، فَجعلَتهُ على رأسِها فَرفَعت يَديها بِهِ، فذَهَبَ بِهَا الماءُ. فلو رَحِمَ اللهُ أحدًا لرحِمَ أُمَّ الصَّبي" (¬2). فإن قيل: فما ذنب البهائم والطُّيور؟ فالجواب ما ذكره مقاتل قال: حضرت آجالهم فأُميتوا بالغرق (¬3). وقال السُّديُّ: كثرت أرواث الدَّوابِّ في السَّفينة فأوحي إلى نوح: اغمز ذنب الفيل فغمزه، فخرج منه خنزير وخنزيرة، فأكلا الأرواث. ونظر إلى فأر يقرض جوانب السَّفينة فأوحى الله إليه اضرب بين جبهتي الأسد، فضرب فخرج منه سِنَّور وسِنَّورة فأكلا الفأر (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 185، وقال ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 266: كيف يزعم بعض المفسرين أن عوج كان موجودًا من قبل نوح إلى زمان موسى ... إلى غير ذلك من الهذيانات التي لولا أنها مسطرة في كثير من كتب التفسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها لسقاطتها وركاكتها، ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول. (¬2) عرائس المجالس 58، أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 342 - 547، قال ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 266: وهذا حديث غريب وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وغير واحد شبيه لهذه القصة، وأحرى بهذا الحديث أن يكون موقوفًا متلقى عن مثل كعب الأحبار، والله أعلم. (¬3) انظر "زاد المسير" 4/ 113. (¬4) أخرجه الطبري في تاريخه 1/ 181، وانظر "عرائس المجالس" 65، وقال ابن كثير 1/ 270: وهذا أثر غريب جدًّا.

وقال ابن الكلبي، قال نوح: يا ربّ كيف أجمع بين الشاء والأسد؟ فقال الله: أنا أنزع العداوة من بين البهائم (¬1). وقال ابن عباس: ما أهلك الله قوم نوح إلا بطغيانهم، أقام ينذرهم زمانًا فمضت عليه قرون، فما كان يأتي عليه قرن إلا وهو أخبث من الآخر، حتى إنَّ الأخير منهم ليأتي إلى نوح بولده فيقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا مجنونًا، فإيَّاك أن تتبعه، ثم يبصق في وجهه ويضربه (¬2). وقال مالك بن أنس الفقيه: كان الرَّجل في زمان نوح ينتسب إلى خمسة عشر جدًّا كلهم أحياء (¬3). وقال مجاهد: كانوا يمرُّون عليه وهو يعمل السَّفينة فيقولون: يا سكن، صرت نجَّارًا بعد النبوَّة، وهو يدعوهم إلى الله تعالى فيضربونه فيدعو عليهم، فأعقم الله أرحام نسائهم فلم يولد لهم ولد مدَّة سنين (¬4)، قال: وكان التنُّور من حجارة يُخبز فيه لآدم، فكانوا يتوارثونه، وكان في دار نوح، فأوحى الله إليه قد جعلت فورانه عَلَمًا على هلاكهم (¬5). فإن قيل: فلم أهلكهم بالغرق؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنهم لما رأوه يعمل السفينة استهزؤوا به، وقالوا: تزعم أنك تسلمُ ونحن نغرق؟ ! وضربوه ضربًا مبرحًا، فأغرقهم الله. والثاني: لأنَّ عذاب الله مختلف على ما يشاء، وذلك أبلغ في العظة من أن يهلكوا بنوع واحد، فتارة بالغرق وتارة بالرِّيح، وتارة بالخسف والزلازل، وذلك أبلغ في القدرة. قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} أي: في مكان منقطع عن دين أبيه {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَال سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 58. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره"12/ 36 عن عبيد بن عمير الليثي. (¬3) أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 244. (¬4) في (ب): ستين سنة. (¬5) انظر "تفسير البغوي" 619، و"زاد المسير" 4/ 105.

[هود: 42] أي يمنعني {قَال لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] الآية. {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَال رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] وقد وعدتني نجاتي وأهلي. واختلفوا في اسمه: فقال ابن عباس: كنعان، وقال عبيد بن عمير: يام، وكان كافرًا (¬1)، وليس له في التَّوراة ذكر، وكان ينافق لإظهار الإيمان، ولم يعلم نوح بذلك، فقال له الله تعالى: {قَال يَانُوحُ إِنَّهُ لَيسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬2) أي: معرفة {إني أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]. قرأت على شيخنا: الموفَّق الحنبلي بإسناده عن عبد الرَّزاق، عن وُهيب بن الورد قال: لما عاتب الله نوحًا في ابنه وأنزل عليه {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} بكى ثلاث مئة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجداول من البكاء (¬3). واختلفوا في ابن نوح؟ فقال بعضهم: كان ولدَ خُبثَة، أي: لزنية من غيره ولم يعلم نوح بذلك، فأخبره الله تعالى أنَّه ليس من أهله، أي: ولده، وبه قال الحسن ومجاهد (¬4). وقال قتادة: سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه قط، ثم قرأ: {فَخَانتاهُمَا} فقلت: فإن الله حكى عنه أنَّه قال: إنَّ ابني من أهلي، وقال: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} وأنت تقول: لم يكن ابنه! ؟ وأهل الكتابين لا يختلفون أنَّه ابنه، فقال الحسن: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ إنهم يكذبون (¬5). وقال عبيد بن عمير: نرى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنَّما قضى الولد للفراش من أجل ابن نوح (¬6). وقال جعفر الصَّادق (¬7): كان ابن امرأته، واحتجَّ بقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} ولم يقل ¬

_ (¬1) انظر "تفسير البغوي" 620، و"زاد المسير" 4/ 109. (¬2) في (ب): إنه عمل عملًا غير صالح. اهـ. وهذه قراءة عكرمة، انظر "تفسير الطبري" 12/ 51. (¬3) أخرجه ابن الجوزي في "التبصرة" 1/ 67 - 68، وانظر "التوابين" 38. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 49، وانظر "زاد المسير" 4/ 113. (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 50. (¬6) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 50. (¬7) في "تفسير البغوي" 621: قال أبو جعفر الباقر.

منِّي. وعامَّة العلماء على أنه ابنه لصلبه صيانة لنوح، وحملوا قوله: {إِنَّهُ لَيسَ مِنْ أَهْلِكَ} إمَّا على معنى أنَّه ليس من أهل دينه، وإمَّا على معنى ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم (¬1). قالوا: وما بغت امرأة نبيٍّ قط، وإنما كان خيانة امرأة نوح ولوط في الدِّين لا في الفراش، لأنَّ امرأة نوح كانت تقول للنَّاس إنَّه مجنون، وامرأة لوط تدلُّهم على الأضياف، وهذا قول ابن عباس وعكرمة وابن المسيِّب وابن جبير ومجاهد والضَّحَّاك (¬2)؟ فحينئذ قال نوح: {قَال رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] الآية. وقال ابن عباس: لما انقضت ستّة أشهر قيل: {يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] ومعنى {ابْلَعِي} أي: اشربي وانشفي، {وأقلعي}: أمسكي {وَغِيضَ الْمَاءُ} نقص وذهب ونضب. وقال مقاتل: ابتلعت الأرض ما نبع منها وصار ما نزل من السَّماء هذه البحور الذين ترون في الأرض. والأصحُّ أنَّ البحور خلقت مع خلق الأرض. وأهل الهند يقولون: ما نعرف الطُّوفان ولا وصل إلينا. وقال كعب: وفي التوراة لما نضب الماء كشف نوح غطاء السفينة فرأى وجه الأرض قد يبس، فعلم أنَّ العذاب قد رفع، فبعث الغراب فوقع على جيفةٍ فأبطأ عليه فلعنه، فبعث الحمامة فعادت مسرعة والطِّين في رجليها، فدعا لها فطوَّقها الله الطَّوق (¬3). وقال وهب: إنَّ بعض الأرض لم تسرع إلى بلع مائها لما قيل ابلعي ماءك، وبعضها أسرع، فالتي أسرعت صار ماؤها عذبًا إذا حُفر، والتي أبطأت صار ماؤها مرًّا. ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 4/ 113. (¬2) أخرج هذه الأخبار الطبري في "تفسيره" 12/ 51. (¬3) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 181 - 182.

وروى أبو صالح عن ابن عباس: أنَّ الماء نزل من السَّماء من المجرة. وقال ابن عباس: في "التوراة" مكتوب: يقول الله -أو قال الله- لا أعيد الطّوفان على الأرض أبدًا (¬1). وأهل الرَّصد يزعمون أن الكواكب بأسرها اجتمعت في برج السرطان، فأَثَّرت الغرق وقضي الأمر بهلاك القوم. {وَاسْتَوَتْ} [هود: 44] يعني: السفينة {عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] أي: استقرَّت ورست، والجودي: جبل بأرض قَرْدَى بناحية الموصل. فنزلوا هناك بإجماع المفسِّرين وبنوا قريةً سمُّوها: ثمانين على عددهم، والقرية باقية إلى هلمَّ جرَّا، وتسمَّى: سوق ثمانين، نزل كل واحد في بيت منها (¬2). وقال ابن قتيبة: في التوراة: إنَّ الله قال لنوح: إنَّ آية ميثاقي الذي أواثقكم به أن لا أفسد الأرض بالطُّوفان، فإذا رأيتم قوسي الذي في الغمام فاذكروا ميثاقي (¬3). وقال مجاهد: طافت السفينة الدنيا وجاءت إلى الحرم فلم تدخله بل طافت به أسبوعًا، وكان البيت قد رفع إلى السَّماء (¬4). وقال مقاتل: لم يرفع، وإنما جاء جبريل فأخذ الركن والمقام فأودعهما في جبل أبي قبيس، وخرب البيت فبقي موضعه ربوة حمراء. واختلفوا: هل صاموا عاشوراء في السفينة أم على الأرض؟ على قولين. وذكر وهب بن منبِّه وابن قتيبة في "المعارف" أنَّ نوحًا صام شهر رمضان في السفينة، وهو أول من صامه (¬5). وقال مجاهد: بين الطُّوفان وآدم ألفا سنة ومئتان واثنتان وأربعون سنة. ¬

_ (¬1) سفر التكوين الإصحاح 9 الفقرة 11. (¬2) انظر "المنتظم" 1/ 242. (¬3) "المعارف" ص 23. (¬4) انظر: "تاريخ دمشق" 62/ 246. (¬5) "المعارف" ص 24.

فصل في ذكر وفاته

وفي "التوراة": إنَّ نوحًا عاش بعد الطوفان ثلاث مئة سنة (¬1). وقال مقاتل: ودخل نوح الشام وبنى حرَّان ودمشق وغيرهما. فصل في ذكر وفاته قال وهب: ولما انقضى الطُّوفان ومضت ثلاثة قرون ودخل القرن الرَّابع، احتضر نوح، فعهد إلى ابنه سام وأوصاه بالنُّور الذي انتقل إليه. واختلفوا في موضع وفاته على أقوال: أحدها: أنَّه توفي بثمانين القرية التي أرست السفينة عليها في أزج في الجودي. حكاه هارون بن المأمون. والثاني: بالهند على جبل بوذ، قاله ابن إسحاق. والثالث: بمكَّة، قاله عبد الرحمن بن ساباط. وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. والرَّابع: ببابل. وببلد بعلبك في البقاع قرية يقال لها الكَرْك فيها قبر يقال إنه قبره، وقريب من الكَرْك جبل يقال له: جبل الدَّير في سفحه قرية يقال لها: بوارش، يقال: إن كنعان قال {قَال سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43] إنه ذاك الجبل. وذكر جدي في كتاب "أعمار الأعيان" وقال: عاش نوح ألف سنة وأربع مئة وخمسين سنة (¬2). وقيل: ألف سنة، وقيك: ألفًا وثلاث مئة سنة. فصل في ذكر أولاده قد ذكرنا أنه كان معه في السفينة ثلاثة: سام وحام ويافث. وقال ابن الكلبي: كان له ابن اسمه يونان، واليونان من نسله. وكان نوح قد نقم على حام، فحكى ابن الكلبي: أن حام بن نوح أصاب امرأته في ¬

_ (¬1) سفر التكوين الإصحاح 9 الفقرة 28، وانظر "المعارف" ص 24. (¬2) "أعمار الأعيان" ص 128، وما بين معقوفين زيادة منه.

السفينة، فدعا عليه نوح بتغيير النطفة فجاء بالسُّودان. وقال وهب: نام نوح فانكشفت عورته فرآه حام فلم يغطّها، ورآه سام فغطّاها، فلمّا علم نوح دعا على حام فاسودَّ لونه، ودعا عليه بأن يجعل أولاده عبيدًا لأخويه (¬1). وقال وهب: في "التوراة" إنَّ نوحًا لمّا خرج من السَّفينة غرس كرمًا ثم اعتصر منه خمرًا وشربه، فانتشى وتعرَّى في جوف قبَّة، فأبصر حام عورته، فأطلع على ذلك أخويه سام ويافث، فأخذا رداءيهما وألقياه على عورة أبيهما، فأفاق نوح من نشوته، وعلم ما فعلوا، دقال: حام وأولاده عبيد لأخويه، ومبارك سام، ويكثر الله من يافث وذرَّيته، فاستجاب الله له (¬2). وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] أن قابيل غرق أولادُه، وهابيل لم يكن له نسل، وإنَّما النَّسل لهؤلاء الثَّلاثة أولاد نوح. وقال ابن الكلبي: أقاموا بالجوديِّ وباقردى والجزيرة فتناسلوا وكثروا، فضاقت الجزيرة بهم، فنزلوا أرض بابل وامتدُّوا مقدار اثني عشر فرسخًا في مثلها، وكانت مدينة بابل عظيمة تمتدُّ إلى داوَرْدان حتى صاروا في ثلاث مئة ألف (¬3) قال ابن عباس: فسام أبو العرب كلها، ومنه الأنبياء ونبيّنا - صلى الله عليه وسلم -، وحام أبو السودان والقبط والبربر، ويافث أبو الترك والرّوم ويأجوج ومأجوج والصّقالبة، وقد رواه سمرة بن جندب مرفوعًا (¬4). وقال هشام بن الكلبي: أقاموا ببابل فبلبَل الله ألسنتهم على اثنين وسبعين لسانًا، فنزل سام سرَّة الأرض، حرم مكة وما حوله إلى حَضْرَموت وعُمان ثم إلى عالِج وَيبْرين. وقال ابن سعد: حدثنا هشام بن محمد عن أبيه قال: نزل بنو سام المجدل سرة الدنيا، وهو ما بين ساتي دَما إلى البحر، وما بين اليمن إلى الشام -يعني جزيرة العرب- ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 202 عن ابن إسحاق، عن أهل التوواة، وانظر "المنتظم" 1/ 247. (¬2) سفر التكوين 9/ 20 - 27، وانظر "المعارف" ص 25. (¬3) أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 243. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (20099) لفظه: "سامٌ أبو العرب، وحامٌ أبو الحبش، ويافثُ أبو الروم" وإسناده ضعيف.

فصل في ولد سام

وجعل الله النبوّة والكتاب والجمال والبياض فيهم، ونزل بنو حام مجرى الجنوب، ويقال لتلك النَّاحية: الدَّاروم، وجعل الله فيهم الأدمة، ورفع عنهم الطّاعون، وجعل في أرضهم النَّخل والأَثْل والأراك. ونزل بنو يافث الصفون مجرى الشمال والصبا، وجعل الله فيهم الحمرة والشقرة، وليس فوقهم من النجوم السّبعة السيّارة شيء لأنهم صاروا تحت بنات نعش والجدي والفرقدين، وابتلوا بالطَّاعون (¬1). وحكى الخطيب عن ابن عبّاس قال: عاش سام بن نوح ست مئة سنة منها أربع مئة في حياة أبيه، ومئتان بعده. فصل في ولد سام واختلفوا فيهم: فقال هشام بن محمد عن أبيه: هم عمليق وأميم ولوذ وعَوْص وإرم وجابر وأرفخشذ، وفي فارس خلاف نذكره في الفرس. قال: أَلهم الله هؤلاء العربية وأولادهم فتكلَّموا بها، فمن أولادهم طسم بن لوذ بن سام بن نوح، وعبيل وعاد ابنا عَوْص بن سام، وثمود وجديس ابنا جابر بن سام وقنطور بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. قال: فأمّا عاد وعبيل ابنا عَوْص بن سام فنزلت الشِّحْر وفيه لغتان، وهو ساحل البحر بين عدن وعمان، وقيل: نزلت عبيل يثرب مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال الجوهري: نزلت العمالقة والعماليق صنعاء وما حولها قبل أن تبنى، قال: والعماليق من ولد عملاق -أو عمليق- بن لوذ بن إرم بن سام بن نوح، وهم أمم تفرَّقوا في البلاد (¬3). كذا ذكر الجوهري: أنه عمليق بن لوذ، وابن الكلبي يقول: عمليق ولد سام لصلبه. وقال الهيثم بن عدي: ونزلت طائفة من العمالقة بالبحرين وعمان، وطائفة نزلوا الشام، والذين نزلوا الشام يقال لهم الكنعانيون، وكانوا يعبدون الأصنام، وفرعون موسى من الذين نزلوا مصر، وكان سيّدهم بكر بن معاوية الذي نزل عليه، وقَيْل عاد بمكَّة. ونزلت طائفة منهم بالمدينة يقال لهم: بنو مطر وبنو الأزرق، وملكهم يقال له ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى"1/ 44. (¬2) انظر مروج الذهب 1/ 77 - 78. (¬3) "الصحاح": (عملق).

الأرقم، وكان يسكن حصن تَيماء إلى نواحي فَدَك ويثرب والبحر. قال هشام: ونزلت ثمود الحجر، واختلفوا في ثمود، قال هشام: ثمود هو جابر بن سام. وقال غيره: هو ابن جابر بن سام. وقال غيره: ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. قال هشام: ثم تحولت طائفة من العمالقة إلى مكان يثرب، وبعضهم إلى مكّة، ويثرب اسم رجل منهم. وأقامت عاد بالشِّحْر فهلكت بالريح العقيم، لما نذكر، وجاءت طائفة منهم إلى الجُحفة، وقيل: نزلت طائفة منهم يثرب، فأَخرجوا من كان بها فأنزلوهم الجحفة، فجاء سيل وذهب بهم فاجتحفهم، فسميت الجُحْفَة. قال: ولحقت طَسْم وجَدِيس باليمامة، وتيامنت بنو قنطور بن عابر إلى اليمن، فسمِّيت اليمن، وقيل: بنو يقطن. ولحق قوم من بني أَميم بأرض أُبار، وهي بين الشِّحْر واليمامة، فأهلكتهم الجن وسنذكرهم. وأُبَار هو ابن أميم. وقال ابن الكلبي: يقطن هو قحطان بن غابر بن شالخ بن أَرْفَخشَذ بن سام بن نوح. وحكى البلاذُري عن ابن الكلبي قال: إن العرب العاربة هم عاد وعَبيل ابنا عَوْص بن إِرم بن سام بن نوح، وثمود وجَدِيس ابنا غاثار بن إرم بن سام بن نوح، وطَسْم وعِمليق وجاسم وأميم بنو يلمع بن غابر بن اشليخا بن لوذ بن سام بن نوح، وحَضْرَموت وشالاف -وهو السلف- والمرداذ بنو يقطن أبو يقطان بن غابر بن شالخ بن أَرْفَخْشذ بن سام بن نوح. والسَّلف بن حمير بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعرب بن قحطان. وقال البلاذُري عن ابن الكلبي أنه قال: وفي حديث مالك بن يخامر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "العربُ كلُّها من بني إسماعيلَ إلَّا أربعة قبائل: السَّلفُ والأرواحُ وثقيف وحَضْرَمَوت". وقال البلاذُري: قد اختلف الناس في قحطان، فقال قوم: هو يقطان المذكور في "التوراة"، وإنما العرب عرَّبته فقالت: قحفان -بالحاء-، ويقال: هو قحطان بن هود، وقيل: ابن السَّمَيْفَع (¬1). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 1/ 5 - 6.

فصل في حام وولده

وقال أبو حنيفة الدِّينوَري: هو قحطان بن عابر، وإنما سمِّي قحطان لقحطه (¬1)، وسنذكره في موضعه. قلت: ولاختلاف النسَّابة في هذه الأسامي وما يشاكلها مما سيأتي ذكره، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُجاوزُوا عَدنَانَ، كذَبَ النَّسَّابونَ" (¬2). وقال الشعبي: إرم وأَرْفَخْشَذ من ولد سام بن نوح، ومن نسل سام الأنبياء والرُّسل والعرب كلها. قال: وفي زمان نمرود بَلبَلَ الله الألسن ببابل، فجعل في ولد سام تسعة عشر لسانًا، وفي ولد حام سبعة عشر لسانًا، وفي ولد يافث ستة وثلاثين لسانًا، قال: ونمرود اسمه كوش بن إرم بن سام بن نوح، نزل أرض بابل لما نذكر. فصل في حام وولده قال الكلبي: وهو أوسط ولد نوح، نزل مجرى الجنوب فاسودَّت ألوان بنيه لكثرة الحرِّ بها، كما نزل بنو يافث مجرى الشمال فابيضَّت ألوانهم واشتدَّت لكثرة البرد بها. وقال وهب: كان حام من أحسن الناس، أبيض اللَّون، فلمَّا دعا عليه أبوه غيَّر الله لونه وألوان بنيه. وقال جالينوس: نزلوا ساحل البحر فكان طعامهم السَّمك، فحدَّدوا أسنانهم حتى تركوها مثل الإبر لأنَّ السمك كان يلتصق بها. قال وهب: ثم تفرَّقوا في البلاد، وولد حام: كوش بن حام، وكنعان بن حام، وقوط بن حام، فنزل قوط الهند والسِّند فولد هناك. وقال أبو حنيفة الدِّينوَري: كان أولاد حام سبعة إخوة كأولاد سام: السّند والهند والزِّنج والقبط والحبش والنوبة وكنعان، فأخذوا ما بين الجنوب والدَّبور والصَّبا (¬3). وذكر جالينوس في كتاب "عجائب أولاد حام" فقال: اجتمعت في الأَسْود عشر خصال: تفلفل الشَّعر، وخفَّة الحاجبين، وانتشار المنخرين، وغلظ الشفتين، وتحدُّد الأسنان، ونتن الجلد، وتشقق اليدين والرجلين، وطول الذكر، وكثرة الطرب. ¬

_ (¬1) الأخبار الطوال ص 5. (¬2) تقدم تخريجه في الفصل الأول في معرفة التاريخ. (¬3) "الأخبار الطوال" ص 2، وانظر المعارف 26.

قال: وإنما غَلب عليهم الطرب لفساد أدمغتهم وضعفها، ولهم من الكواكب زحل. وكان طاووس اليماني لا يأكل ذبيحة الزِّنجي ويقول: هو عبد مشوَّه الخلق. قلت: وهذا محمول على أنه كان مجوسيًّا، أمَّا إذا كان مسلمًا فإنَّه لا يضرّه سواده. وقال الهيثم بن عدي: تفرَّق بنو حام في الأرض، فصار ولد كوش بن كنعان بن حام إلى المغرب، فقطعوا نيل مصر، ثم افترقوا يمنة ويسرة، وهم أنواع كثيرة: النوبة والبُجاة والزَّغاوة والكانم ومركة وغانة وكوكو والدمادم والأحابيش والبربر والزيلع (¬1). وفي أرضهم الزرافة، قال قوم: نتجت بين الجمل والنمر، وقال قوم: بل هي نوع من الحيوان قائم بذاته، واحتجوا بأنها توجد في أرض لا جمل بها، وذكر الجوهري ما يدلُّ على أنها مولَّدة فقال: الزّرافة -بالفتح والضمّ مخففة الفاء- دابة، يقال لها بالفارسيّة: "اشتُرُكاو يَلَنْك" (¬2) وأشتر: هو الجمل. وذكر الشرقي بن قطامي: أن ملك الزنج يركب في ثلاث مئة ألف فارس، وكذا ملك النُّوبة، وليس عندهم ثلج ولا برد، قال: وفيهم ناس يأكل بعضهم بعضًا، ومساكنهم في أعلى الخليج الذي يتشعَّب من نيل مصر قريبًا من البحر الحبشي إلى بلد الواقواق وسُفالة، ومقدار مسافة بلادهم سبع مئة فرسخ طولًا وعرضًا، وعندهم الفيلة، كثيرة إلا أنَّ الزنج لا يستعملونها في الحرب ولا في غيرها، ويقتلونها ليأخذوا أنيابها، ومقدار كل ناب فيل خمسون ومئة منٍّ، ويعمِّر الفيل بأرض الزنج أربع مئة سنة، ويحملها التجار إلى عُمان والبحرين. قال: وفي بلادهم الحيوان المعروف بالزبرق أصغر من الفهد، وهو أحمر، له زغب وعينان برّاقتان، يثب خمسين ذراعًا، ويبول على الفيلة وبني آدم فيحرقهم، وإذا رآه آدمي هرب منه فصعد شجرة فيثب حتَّى يصير عنده، وإن لم يصل إليه وضع رأسه في الأرض وصاح صياحًا عجيبًا، فيخرج من فِيه قطعة دم ويموت من ساعته، وإن وصل بوله إلى شجرة أحرقها. وهذا الحيوان مشهور عند الزنج والهند، وهو في مشارق الهند أكثر من الزنج. ¬

_ (¬1) في (ل) و (ب): والزغاوة والعافور ومترك وعانة وكركر والدمادم والأحباش والبربر والزيلع. والمثبت من (ط). (¬2) "الصحاح": (زرف)، وانظر "المعجم الذهبي" ص 69 وص 161.

فصل في يافث وأولاده

وحكى من شاهد من وصل بوله إلى وجهه وفيه آثار الحريق كأنه جدري، فسئل عنه فقال: قصدني فصعدت شجرة ارتفاعها خمسون ذراعًا، فبال من الأرض فأصاب بوله بعض وجهي، فهذا أثره. وهذا الحيوان يهرب من الكَرْكدن كما يهرب منه الفيل، والفيل يهرب من السِّنور. وقال الجاحظ: وملك الزنج يسمَّى: فليمين (¬1)، ومعناه ابن الرَّبِّ الأكبر. وقيل: إنما يسمُّون الرَّبَّ الأكبر مكلنجو، وهو الأعظم عندهم. ومتى ظلم ملكهم أو تعدَّى حدًّا قتلوه وأقاموا غيره، لأنهم يقولون: ما أقامه الربُّ الأكبر إلا ليقيم العدل، فإذا جار لم يكن ابنَ الرَّب، ويحرمون أولاده المُلْك. وقال الهيثم بن عدي: ومن أولاد حام النُّوبة ومنازلهم على نيل مصر متَّصلة بديار القبط من أرض الصَّعيد ومدينتهم يقال لها: دُنْقُلَة، هي دار الملك. والبَجَاة منازلهم بين القُلْزُم وأعلى الصَّعيد، وعندهم معادن الذهب والفضَّة وغيرها، ويغيرون على النجائب فيسبون ويقتلون. ومن أولاد حام الحبشة وملكهم النجاشي، ومدينته يقال لها: كعبر، وهي مملكة واسعة متصلة ببلاد المشرق في مقابلة إليمن، وجزيرة الدَّهْلَك مجاورتهم، وفيها جماعة من المسلمين تحت الذِّمة. وبين ساحل الحبشة وساحل زَبِيد ثلاثة أيام، ومن هذا المكان عبرت الحبشة إلى اليمن في المراكب حين ملكوا اليمن أيام أصحاب الأخدود، وهو أضيق مكان في البحر، ومنه عبر جعفر بن أبي طالب والمسلمون، وقيل: إنما ركب المسلمون من جدَّة إلى الحبشة. وفي ساحل بحر الحبشة عند المعبر مدينة كبيرة للحبشة يقال لها: غلافقة (¬2) منها تقع التعدية إلى اليمن. فصل في يافث وأولاده وكان يافث أصغر ولد نوح، وذكر أبو حنيفة الدِّينوري في "الأخبار الطّوال" وقال: كان أولاد يافث سبعة إخوة مثل أولاد سام وحام، وهم: ترك وخزر وصقلاب وتاريس ومنسك وكماري والصِّين، فأخذوا ما بين المشرق والشمال (¬3). ¬

_ (¬1) في (ب): "فيلمن"، وانظر مروج الذهب 3/ 5 - 6، 11 - 13، 29 - 31. (¬2) في (ب) و (ل): أولاقفة، والمثبت من مروج الذهب 3/ 34. (¬3) "الأخبار الطوال" ص 2.

فصل في أعمار أولاد نوح

وقال وهب: ومن ولده الروم والفرنج واللَّان والجلالقة والإسبان ويأجوج ومأجوج" وكل من كان بناحية الشمال. وقال: والجلالقة أشدُّ هذه الأجناس بأسًا، وأمنعهم جانبًا، وأوسعهم ملكًا، وسنذكرهم. فصل في أعمار أولاد نوح ذكر جدي رحمه الله في "أعمار الأعيان" وقال: عاش سام خمس مئة وثمانيًا وتسعين سنة (¬1). وغيره يقول ست مئة ونيفًا. وعاش حام سبع مئة سنة. وعاش يافث تسع مئة سنة. وقال أبو حنيفة الدِّينَوَري: كان سام متولي أمر ولد نوح من بعده وكان يشتي بأرض العراق بمكان يقال له: جُوخى، ويصيف بأرض الجزيرة والمَوصل، وكان طريقه على الموضع الذي فيه سامُرَّاء في شرقي دجلة، فكان ينزله ويعجبه، فقيل: سام رأى، أي: رأى هذا المكان فأعجبه. وسام هو الذي تسمِّيه الفوس إيران شهر (¬2). فصل في ذكر أَرْفَخْشَذ ولما احتضر سام بن نوح أوصى إلى ولده أَرْفَخْشَذ، وأخبره بالنور الذي أودعه فيه فسار بسيرة أبيه. قال جدي في "أعمار الأعيان": وعاش أربع مئة وخمسًا وستين سنة (¬3). فصل في شالِخ ولما احتضر أَرْفَخْشَذ أوصى إلى شالخ، وأخبره بالنور فأقام أربع مئة سنة وثلاثين ثم توفي. فصل وقام بعده ابنه عابر، يسمَّى: عامر الأرض، لأنه قسمها بين ولد نوح، وانتقل النور ¬

_ (¬1) "أعمار الأعيان" ص 124. (¬2) "الأخبار الطوال" ص 2. (¬3) "أعمار الأعيان" ص 123.

إليه، ولم تطل أيامه، عاش مئتي سنة وخمسين سنة؛ ذكره جدي رحمه الله، وقيل ثلاث مئة وأربعين سنة. فصل وقام بعده ابنه فالِغ، وانتقل النور إليه. وقال جدي: عاش مئتي سنة وتسعًا وثلاثين سنة (¬1). فصل ثم قام من بعده ابنه أرغو، وانتقل النور إليه، وعاش مئتي سنة وثلاثين سنة (¬2). فصل ثم قام من بعده ابنه ساروع، وانتقل إليه النور، وعاش مثل عمر أرغو. فصل ثم قام من بعده ولده ناحور. قال جدي: وعاش مئتي سنة وخمسين سنة (¬3). فصل ثم قام من بعده ولده تارح وقيل: تيرح، وقيل: هو آزر والد الخليل - عليه السلام - (¬4). قال السُّدي: وكان النور المحمدي ينتقل في أصلاب هؤلاء. * * * ¬

_ (¬1) "أعمار الأعيان" ص 111. (¬2) "أعمار الأعيان" ص 111. (¬3) "أعمار الأعيان" ص 109. (¬4) انظر مروج الذهب 1/ 80 - 82.

فصل في الحوادث التي كانت بين نوح والخليل عليهما السلام منها: قصة الضحاك

فَصل في الحوادِث التي كَانَت بَيَن نُوح والخليل عَليهمَا السَلام منها: قصَّة الضَّحَّاك (¬1) واختلفوا في نسبه، فقال قوم: هو ابن الأهبوب. وقال الآخرون: ابن علوان، وقيل: ابن عبيد بن عويج، وهو الذي قتل الملك جم شيد، ويقال: إن نُوحًا بعث إليه وإلى قومه فخالفوه، فأهلكهم الله تعالى بالطُّوفان. والأصحّ أنه كان بعد نوح، واسمه بيوراسب. واليمن تزعم أنه منها، وأنّه ولَّى أخاه سنانًا مصر، وهو أول الفراعنة. وأمَّا الفرس فينسبون الضحَّاك إلى جيومرت. وكان مقام الضحاك ببابل، وكان فاجرًا ساحرًا، ذكره جدي رحمه الله في "أعمار الأعيان" وقال: عاش ألف سنة (¬2). وقال وهب: ملك الدنيا. وهو بيوراسب -بتقديم الراء على الألف- وهو أوَّل من وضع العشور وضرب الدراهم والدنانير على غير سكَّة آدم وغير شريعته. وقد ذكره أبو تمَّام الطائي فقال (¬3): [من الكامل] بَلْ كان كالضَّحَّاك في سَطَواتِه ... بالعالمينَ وأنتَ إفريدُونُ يعني: أن أفريدون قتل الضَّحَّاك. وكان أفريدون من ولد الملك جَم شيد الذي نشره الضحَّاك بالمنشار. والعرب تزعم أنَّ الضحَّاك لم يكن من ولد الملوك وإنما المُلْك في ولد أوشهنج وجَم شيد وطَهمورث. وكان الضحَّاك غاصبًا، وكرهه الناس لسوء سيرته، وكان أفريدون الملك من ولد جَم قد ترعرع فاستعدَّ لقتال الضحَّاك. وقال ابن مسكويه: كان على كتفيِّ الضحَّاك سلعتان يحرِّكهما إذا شاء، وادَّعى أنهما ¬

_ (¬1) انظر في قصته: "تاريخ الطبري" 1/ 194، و"تجارب الأمم" 1/ 8، و"المنتظم" 1/ 244، و"الكامل" 1/ 58. (¬2) "أعمار الأعيان" ص 128. (¬3) البيت في "ديوانه" 3/ 321.

ذكر مقتل الضحاك

حيَّتان يهوِّل بذلك على الضُّعفاء (¬1). وكانا يضربان عليه فلا يسكنان حتى يطليهما بدماغ آدميَّين، فكان يقتل كل يوم رجلين فيطلي سلعتيه بدماغهما. قال أبو حنيفة الدِّينَوَري: وكان له وزير صالح، وكان الضحَّاك يذبح كل يوم أربعة رجال، فكان الوزير يستحيي اثنين، ويذبح مكانهما كبشين، فيأخذ مخّهما ويقول للرجلين: اذهبا في رؤوس الجبال ولا تقربا الأمصار ولا القرى، قال أبو حنيفة الدينوري: فيقال إنهم أصل الأكراد (¬2). ذكر مقتل الضحّاك ذكر علماء السِّير أنه لما كثر فساده وقتْلُهُ الناس اجتمعوا إلى أفريدون، وكان بأصبهان رجل حدَّاد يقال له: كابي، وكان الضحَّاك قد قتل له ولدين، وكان صالحًا، فاجتمع إليه الناس وسألوه قتال الضَّحَّاك، لأن أفريدون كان مستخفيًا من الضحَّاك، وكان لكابي قطعة جلد يتّقي بها حرَّ النار، فرفعها على رمح وجعلها علمًا، وسار إلى الضحَّاك والناس معه، فخرج إليه الضحَّاك، فلمَّا رأى ذلك العلم ألقى الله الرعب في قلبه فانهزم وخلَّى خزائنه وملكه. واجتمع الناس على كابي وأرادوا أن يملِّكوه فأبى وقال: لست من بيت الملك، ولكن ملِّكوا أفريدون فهو من ولد جَم شيد، فملكوه، وكان كابي عونًا له على أمره. ثم إن أفريدون ومن جاء بعده كانوا يعظِّمون عَلَم كابي ورصَّعوه بالدُّرِّ والياقوت، وكانوا يقدِّمونه أمام الجيوش فينصرون، وكانوا يرون ذلك ببركة كابي، وكان عندهم كالتابوت في بني إسرائيل، ويعرف هذا العَلَم بدرفش كابيان، ولم يزل في خزائن الفرس يتوارثونه، كلما ملك واحد زاده جواهر إلى أيام يَزدَجِرد بن شَهْريار، فأخذه المسلمون في وقعة القادسيَّة، وحمل إلى عمر - رضي الله عنه -، فقسم جواهره بين الناس، وسنذكره. وقال بعضهم: إن أفريدون وكابي اتفقا على الضحَّاك فهزماه، ثم ظفر به إفريدون ¬

_ (¬1) "تجارب الأمم" 1/ 8. (¬2) "الأخبار الطوال" ص 5.

فصل في أفريدون

فقيَّده وحبسه بجبل دُنْباوَنْد، ثم قتله أفريدون بعد ذلك. والفرس تزعم أنَّه مقيَّد إلى الآن بذلك الجبل. وكان مُلك الضحَّاك لست مئة سنة. وقال ابن الكلبي: لما ظفر أفريدون بالضَّحَّاك قال له: أتريد أن تقتلني بجدِّك جَم شِيد؟ فقال له أفريدون: لقد سَمَت بك نفسك إلى مقام عظيم حيث نسبتها إلى جدِّي، إنما أريد أَن أقتلك بثورٍ كان في دار جدِّي جَم شِيد. وفي رواية: أن أفريدون لما جلس على سرير الضحَّاك سمَّى ذلك اليوم مهرجانًا. ولم ينقل من سيرة الضحَّاك ما يستطرف غير واقعة واحدة، وهي أنَّه لما اشتدَّت وطأته وطالت أيامه، تراسل وجوه الناس في أمره، واجتمع الأكابر والعظماء إلى بابه، وكان فيهم كابي، فقدَّموه بين أيديهم لأنه كان جريئًا في الكلام، واستأذنوا عليه فأذن لهم، فدخلوا عليه، فلم يسلِّم عليه كابي بل قال له. أسلِّم عليك سلام من يملك الأقاليم كلها أم سلام من يملك هذا الإقليم؟ فقال: بل سلام من يملك الأقاليم كلها، فقال له: فإذا كنت تملك الأقاليم كلها فلمَ خصصت هذا الإقليم بنوائبك ومؤونتك؟ وهلَّا ساويت بينه وبين الأقاليم؟ ثم عدَّد أشياء، وصدَّقه الضحاك ووعد الناس بما يحبُّون وانصرفوا. وكانت له أمّ جبَّارة، وكانت تسمع ما يجري، فلمَّا خرجوا أنكرت عليه وقالت: لقد جرَّأتهم عليك، هلَّا قتلتهم؟ ! فقال لها -مع عتوِّه وتجبُّره-: إنَّ القوم بدهوني بالحقِّ، فلمَّا هممت بالسَّطوة بهم وقف الحقُّ بيني وبينهم كالجبل فحال بيني وبين ما أردت منهم (¬1). فصل في أَفريدون (¬2) واختلفوا فيه، والأصح أنه التاسع من ولد جَم شِيد. وكان شجاعًا جوادًا سائسًا للملك، شديد القوى، حسن الصورة، وهو أوَّل من أظهر علم الطِّب، وقرَّر أحكام النجوم، وذلَّل الفيلة للحرب وقاتل عليها، وأول من وضع الحمام للأخبار (¬3)، وأوَّل ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 1/ 214. (¬2) انظر في قصته: "تاريخ الطبري" 1/ 212، و"تجارب الأمم" 1/ 10، و"المنتظم" 1/ 245، و"الكامل" 1/ 64. (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 212، و"الكامل" 1/ 64.

فصل وفاته

من جمع الدرياق، وأوّل من تسمى بـ "كي" فكان يقال له: كي أفريدون، ومعناه أنه متصل بالله تعالى أو بالرّوحانيات (¬1). وردَّ على الناس ما غصبه الضَّحّاك، وسار بالناس أحسن سيرة، وما لم يجد له من الغصوب أصحابًا ولا أهلًا وقفه على مصالح العامَّة والمساكين، وكان محبًا للعلماء والعلم صاحب فلسفةٍ وفضل. فصل وفاته ذكر ابن مسكويه: أنه كان له ثلاثة أولاد: سرم وإيرج وطوج، فخشي أن لا يتفقوا بعده، فقسم الأرض بينهم أثلاثًا في حياته فجعل الروم وناحية العراق لسرم، والترك والصين لطوج، والهند وما والاها لإيرج، وهو صاحب التاج والسّرير. فلما مات أفريدون وثب طوج وسرم على ايرج فقتلاه واقتسما الأرض بينهما، فملكاها ثلاث مئة سنة. ويقال: إنَّ أفريدون ملَّك عليهما ايرج، وأنّ ملوك الرّوم من نسل سرم، لأنَّ أفريدون ملكه الرُّوم وملك ولده طوج على المشرق، فملوك الترك والصين من نسله، وملك ولده ايرج على العراق ويسمَّى إيران، فالأكاسرة وهي الفرس الأولى والثانية من نسله. وقال أفريدون لمَّا قسم الأرض هذه الأبيات (¬2): [من الرمل] وَقَسَمنا ملكنا في دهرنا ... قسمة اللحم على ظهر الوَضَمْ فجعَلْنا الشام والرُّومَ إلى ... مغْرِبِ الشَّمسِ لغطريفَ سَرَمْ ولطوجٍ مشرق الشمس لهُ ... وبلاد الشرق يحويها برغمْ ولإيران جعلنا عنوةً ... فارسَ الملكِ ففازوا بالنِّعمْ ويقال: إنّ حكم هذه الأبيات حكم الأبيات المنسوبة إلى آدم وهي قوله: تغيَّرت البلاد ومن عليها. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 213، و"المنتظم" 1/ 246. (¬2) انظر الأبيات في "البدء والتاريخ" 3/ 145 - 146، و"معجم البلدان" 1/ 289.

وملك أفريدون خمس مئة سنة. وقال ابن مسكويه: وكان إبراهيم عليه السَّلام في زمان الضحَّاك، فلهذا قال قوم: إنه نمرود. قلت: وهو وهمٌ، بين الضحَّاك وإبراهيم عليه السَّلام زمان طويل. ثم نشأ لإيرج ولد يقال له: منُّوشَهر فغلب عمَّيْه على الملك، ثم نشأ لطوج ولد تركي، فنفى منُّوشَهر عن بلاده واستولى عليها، وسنذكر القصَّة في سيرة الفرس الأولى بعد أبواب الأنبياء عليهم السَّلام. ومن الحوادث بين نوح وإبراهيم عليهما السلام قصة عاد وثمود فنذكرهما. * * *

فصل في ذكر هود وقوم عاد

فَصلٌ في ذِكْر هُود وَقَوم عَاد (¬1) قالوا: ذكر الله هودًا في ستة مواضع، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: 21] الأخ في القرآن العزيز على وجوه: أحدها: الأخ من الأم والأب أو من أحدهما، ومنه قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة: 30]. والثاني: الأخ من القبيلة ومنه {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} [الأحقاف: 21] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيبًا} [الأعراف: 85]. والثالث: الأخ في المتابعة: {كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]. والرابع: الصَّاحب {إِنَّ هَذَا أَخِي} [ص: 23]. والخامس: الأخ في الدين {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. والسادس: الإخاء في المودَّة {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. وأخو عاد: هو هود عليه السَّلام. واختلفوا في نسبه على أقوال: أحدها: أنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح - عليه السلام -، قاله قتادة. وحكاه جدي رحمه الله في "التبصرة" (¬2)، ولم يحقق القول في الخلود، واختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: إنه الخلود بخاء معجمة مع تشديد اللام. والثاني: بالحاء المهملة. ¬

_ (¬1) انظر قصته: في "تاريخ الطبري" 1/ 216، و"البدء والتاريخ" 3/ 31، ومروج الذهب 3/ 78، و"عرائس المجالس" ص 62، و"المنتظم" 1/ 252، و"التبصرة" 1/ 77، و"الكامل" 1/ 85، و"البداية والنهاية" 1/ 120. (¬2) "التبصرة" 1/ 78.

والثالث: بالجيم المكسورة واللام المفتوحة. القول الثاني: أنه هود بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، قاله مجاهد، وحكاه جدي أيضًا في "التبصرة" (¬1). والثالث: أنه هود بن عبد الله بن رياح بن حارث بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، حكاه ابن قتيبة (¬2). وقوم عاد هؤلاء هم أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام. وقال ابن الكلبي: لم يكن بين نوح وإبراهيم من الأنبياء إلَّا هود وصالح. وقال هشام بن محمد: كان هود أشبه ولد آدم بآدم ما خلا يوسف - عليه السلام -، وكان آدم حسن الوجه. وقال مقاتل: بين هود ونوح ست مئة سنة، وقيل: ثمان مئة سنة، وهود من العرب، وكذا صالح وشعيب ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عباس: بُعث هود إلى عاد الأولى، فلمَّا هلكوا جاءت عاد الأخرى، ورؤساؤهم شدَّاد وشديد. وقال قتادة: بعث الله إليهم نبيًّا قبل هود، فوصف لهم الجنَّة، فقالوا: نحن نعمل جنَّة، فعملوا الجحة المعروفة بشدّاد بن عاد فأهلكهم الله قبل أن يصلوا إليها، وسنذكر القصَّة. قال مقاتل: في قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] قال: أخوهم في النسب لا في الدين. والأحقاف: الرِّمال، واحدها حِقْف. واختلفوا في أي موضع هي؟ على أقوال: أحدها: أنها بالشِّحر باليمن على ساحل البحر، قاله مجاهد. ¬

_ (¬1) لم نقف عليه في "التبصرة" وذكره في "المنتظم" 1/ 252. (¬2) "المعارف" 28.

والثاني: بين عُمان ومَهرة وصَحار. الثالث: بالدَّهْناء والدَّو وعالج وَيبرين، قاله ابن عبّاس. وقال: والأحقاف وادٍ بين عمان ومهرة، وإليه ينسب المهاري، يقال: إبل مهرية ومهاري قال: وكانوا من قبيلة إرم. وقال الضحَّاك: الأحقاف جبل بالشام. وقال مجاهد (¬1): هي جبال حِسْمَى وأرضها، والأوّل أصح. وقال مقاتل: وكان ملكهم عاد يعبد القمر، وطال عمره فرأى من صلبه أربعة آلاف ولد، وتزوج ألف امرأة، وهو أوّل من ملك الأرض بعد نوح. وكان عاد محسنًا إلى الناس يقري الأضياف، ويحفظ السبل، ويرحم المساكين ورأى العاشر من ولده، وعاش ألفًا ومئتي سنة، ثم مات، فانتقل الملك إلى أكبر ولده وهو شديد بن عاد، فأقام خمس مئة وثمانين سنة ثم مات، فانتقل الملك إلى أخيه شدَّاد بن عاد وهو بني إرم ذات العماد وملك تسع مئة سنة (¬2)، وسنذكره. وقال ابن قتيبة: كانت عاد ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الأحقاف وبلادها، وكانت ديارهم بالدُّوِّ والدَّهْناء وعالج ويَبرين ووَبَار إلى حَضْرَمَوت، وكانت أخصبَ البلاد، فلمّا سخط الله عليهم جعلها مفاوز وقفارًا (¬3). وكانوا قد ملكوا الأرض لقوَّتهم، وافتخروا، وقالوا: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] وكان الرجل منهم لا يحتلم حتى يبلغ مئتي سنة. فلمَّا أكثر طغيانهم بعث الله إليهم هودًا فقال: يا قوم اعبدوا الله ووحّدوه، يا قوم لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا، أي: جُعلًا. وقال مجاهد: سبب هذا أن الأمم كانت تقول للرُّسل: ما تريدون إلا أن تحكموا في أموالنا، فتقول لهم الرّسل كما قال هو. {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلا قَلِيلٌ} [هود: 40]. ¬

_ (¬1) من هنا بدأ خرم في (ب). (¬2) انظر "مروج الذهب" 3/ 80، 81. (¬3) "المعارف" ص 28.

وكان طول الرجل منهم خمس مئة ذراع وإلى عشرة أذرع (¬1). فلمَّا عصوا منعهم الله القطر ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم حتى هلكوا من الجدب، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى مكة من يستسقي لنا، وكان لهم ثلاثة أصنام يعبدونها يقال لها: صمود وصداء والهباء -قال قتادة: وكان يقال لملكهم الخلجان، وكانوا مع هذا يعظِّمون الكعبة ويستسقون عندها -فبعثوا سبعين رجلًا فيهم جماعة من أعيانهم: قيل، ولقيم، وجلهمة، ولقمان بن عاد، ومرثد بن سعد، وكان يكتم إيمانه، فنزلوا على بكر بن معاوية، وكان خارج الحرم فأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، وبكر بن معاوية من العمالقة من أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وقيل: ابن عمليق بن سام -وقد ذكرنا الخلاف فيما تقدَّم في ولد سام- فأقاموا عنده شهرًا يأكلون ويشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان -مغنيتان كانتا لبكر- فلمَّا طال مقامهم عنده قال: هلك أخوالي وأصهاري -يعني الذين بعثوا هؤلاء- وهؤلاء أضيافي وما أدري ما أصنع، واستحيى أن يأمرهم بدخول الحرم ليستسقوا، فشكا ذلك إلى قينتيه فقالتا: قل شعرًا نغنِّيهم به، فقال: [الوافر] ألا يا قَيلُ ويحكَ قُمْ فهينِمْ ... لعلَّ الله يمنحُنا غَماما فيسقي أرضَ عادٍ إنَّ عادًا ... قد امسَوا ما يُبينون الكَلاما من العطشِ الشَّديد فليسَ يرجُو ... به الشيخَ الكبيرَ ولا الغلاما وقد كانت نساؤهمُ بخيرٍ ... فقد أمسَت نساؤهمُ أيامى وأنَّ الوحش تأتيهمْ جهارًا ... ولا تخشى لعاديِّ لسِهاما وأنتم ها هنا فيما اشتهيتُم ... نهاركمُ وليلكمُ التَّماما فَقُبِّح وفدكم من وقد قومٍ ... ولا لقُّوا التحيةَ والسَّلاما فغنتهم الجرادتان به، فلمّا سمعوه قالوا: ويحكم، ادخلوا الحرم فاستسقوا لقومكم فقد هلكوا، فقال مرثد: إنكم والله ما تسقون بدعائكم، ولكنكم إن أطعتم نبيكم ¬

_ (¬1) كذا هو في (ل)، ولم نقف على من ذكر هذا القول، اللهم إلا ما ذكره السمعاني في "تفسيره" 5/ 312 فقال: وفي القصة أن طول الواحد منهم كان ستمائة ذراع وخمسمائة والأقصر ثلاثمائة ذراع. وذكر طولهم ابن الجوزي في "التبصرة" 1/ 78 وقال: كان طول الرجل منهم اثني عشر ذراعًا.

سقيتم، فقال جلهمة: احبسوا عنَّا هذا فلا يقدم معنا مكة، فإنه قد اتَّبع دين هود، فحبسوه، فأفلتَ وسبقهم إلى مكَّة قبل أن يدعوا بشيء. وكان الناس مؤمنهم وكافرهم يستسقون عند البيت، وأظهر إسلامه حينئذ، فقال بكر بن معاوية يخاطبه: [الوافر] أبا سعد فإنَّك (¬1) من قبيل ... ذوي كرَمٍ وأمُّك من ثمودِ فإنَّا لن نُطيعَك ما بَقينا ... ولَسنا فاعلِينَ لدى الوُفود أتأمرنا لنترك دين رفدٍ ... ورملَ وآل صدٍّ والعبود ونترك دين آباءٍ كرامٍ ... ذوي رأيٍ ونَتْبَع دينَ هُود رفد ورمل وآل صدّ والعبود كلها قبائل من قوم عاد. ثم وقفوا عند البيت يستسقون، فقال واحد منهم: اللهمَّ إنَّا لم نجئك لأسير نفاديه، ولا لمريض تشفيه، فإن كنت مسقيًا فاسق عادًا ما كنت مسقيه، فنشأت سحابةٌ ونودوا منها: اختاروا لأنفسكم، فقال مرثد: يا ربّ أعطني صدقًا وبرًّا، فأعطي، وقال لقمان بن عاد: يا رب أعطني عمرًا فاختار عمر سبعة أنسر، فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من البيضة، ويأخذ الذكر لقوَّته، حتّى إذا مات أخذ غيره إلى أن مات سبعة أنسر، وسنذكره. وقال ابن الكلبي: ثم نشأت ثلاث سحائب بيضاء وحمراء وسوداء، ثم نودي منها: يا قيل اختر لقومك، فقال: أختار السوداء لأنها أكثر ماءً، فقيل لها: اذهبي إلى عاد خليها رمادًا رمددًا، لا تدع منهم أحدًا. وساقها الله إليهم فخرجت من وادٍ لهم يقال له مغيث، فلمَّا رأوها استبشروا بها وقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فقال هود: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]. وكان أول من رأى ما فيها امرأة منهم، فصاحت وصعقت، فقيل لها: ما رأيت؟ قالت: ريحًا فيها كشهب النَّار، أمامها رجالٌ يقودونها (¬2). ¬

_ (¬1) في (ل): "ألا يا سعد إنك" وما أثبتناه من "تاريخ الطبري" 1/ 221، وعرائس المجالس 64. (¬2) انظر الأبيات والقصة في "تاريخ الطبري" 1/ 219 - 221، وانظر "البدء والتاريخ" 3/ 32 - 33، و"المنتظم" 1/ 253، وقد رد ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 298 هذه القصة.

وقال ابن الكلبي (¬1): أوَّل ما رأى العذابَ الخَلَجَان ملك القوم، فقال: يا هود ما هؤلاء الذين أراهم في السّحاب مثل البخت؟ فقال: ملائكة العذاب، فقال: أرأيت [إن أسلمت] أيعيذني [ربّك] منهم؟ قال: نعم، هؤلاء جندي، ولو فعلَ ما رضيتُ. وفي رواية: أنه لما خرجت الريح من الوادي قال الخلجان لرهط معه: تعالوا نردها، فجاؤوا، فجعلت الريح تدخل تحت الواحد فترميه فتدق عنقه، فمال الخلجان إلى جبلٍ فهزَّه فاهتز في يده، فقال له هود: أسلم، فلم يفعل، فهلك فيمن هلك، فسخَّرها الله عليهم {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} أي متتابعة ابتدأت غدوة الأربعاء وسكنت في آخر اليوم الثامن. واعتزل (¬2) هود ومن معه من المؤمنين فلا يصيبهم منها إلا ما يلين الجلود ويلذُّ النُّفوس. وقال مجاهد: وكان قد آمن معه أربعة آلاف وذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّينَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [هود: 58] وكانت الريح تقلع الشجر وتهدم البيوت، ومن لم يكن في بيته منهم أهلكته في البراري والجبال، وكانت ترفع الظعينة بين السّماء والأرض حتى ترى كأنّها جرادة، وترميهم بالحجارة فتدق أعناقهم. وقال ابن عباس: دخلوا البيوت وأغلقوا أبوابها فجاءت الريح ففتحت الأبواب، وسَفَت عليهم الرَّمل، فبقوا تحته سبع ليالٍ وثمانية أيام، فكان يسمع أنينهم في الرمل، وماتوا (¬3). وقيل: معنى {حُسُومًا} حسمت كل شيء، أي: قطعته وأتلفته. وقال مقاتل: دخلت عجوز سربًا، فدخلت الريح خلفها فقتلتها، قال: فذلك معنى تسمية العرب هذه الأيام: بأيَّام العجوز. وقال مجاهد: إنما سميت أيام العجوز لأنها في آخر الشتاء، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 224، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬2) هنا ينتهي الخرم في (ب) المشار إليه قريبًا. (¬3) أخرجه ابن الجوزي في "التبصرة" 1/ 80.

وقال ابن مسعود: لم تخرج الريح قط إلَّا بمكيال، إلا في قصة عاد فإنَّها عصت على الخُزان فغلبتهم فلم يعلموا مقدار مكيالها، فذلك قوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] والصرصر: ذات الصوت الشديد {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاويَةٍ} [الحاقة: 7] {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] أي: من أصله. فإن قيل: فما معنى إهلاكهم بالريح؟ فالجواب: إنَّما أهلك ذلك الخلق العظيم بالريح التي في ألطف الأشياء لتظهر آثار القدرة، كما أمات الخلق بنفخةٍ ويحييهم بنفخة. وذكر جدّي رحمه الله قصتهم بألفاظ مسجوعة، ثم قال: غلبهم الهوى فامتدَّ المقصور. فإن قيل: فما معنى {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ} [هود: 59] ولم يبعث إليهم سوى هود. فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه بُعث إليهم نبيّ كما ذكرنا، والثاني: لما كذَّبوا بما جاء به هود فكأنَّهم كذبوا بما جاء من قبله؛ لأنَّ الأنبياء أولادُ عَلَّات أمهاتهم شتى، والأب واحد (¬1). قال مجاهد: لما هلكوا أرسل عليهم طيورًا سودًا فنقلتهم، فألقتهم في البحر. وقال ابن الكلبي: ولمّا بلغ مرثد بن سعد هلاكهم قال (¬2): [من الوافر] عصَت عادٌ رسولَهمُ فأضحَوا ... عظامًا ما تبكهم السَّماء (¬3) وسُيِّر وفدُهُمْ شَهْرًا ليسْقَوا ... فأردَفَهمْ معَ العطشِ العَمَاءُ بكفرهمُ بربهمُ جِهارًا ... على آثار عادِهِمُ العَفَاءُ لهم صنمٌ يقالُ له صُمودا ... يُقابِلُه صُداءٌ والهَبَاءُ ألا قبح الإلهُ حُلومَ عادٍ ... وإنَّ ديارَهمْ قفرٌ هواءُ ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (3443)، ومسلم (2365) (145) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأنبياء إخوة من علات وأمهاتهم شيء، ودينهم واحد". (¬2) الأبيات عند الطبري في "تاريخه" 1/ 223، والثعلبي في "عرائس المجالس" ص 67. (¬3) جاء في "تاريخ الطبري" و"عرائس المجالس": "عطاشًا ما تبلهم السماء"، وهو الصواب.

قصة شداد بن عاد وبنائه الجنة

قصة شدَّاد بن عاد وبنائه الجنَّة اختلفوا: هل كان قبل هود أو في أيام هود؟ على قولين. وهو شدَّاد بن عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح، وفيه يقول الله عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 6 - 8] الآية. واختلفوا في إرم على أقوال: أحدها: أنها قبيلة من قوم عاد كان فيهم الملك، قاله مقاتل. والثاني: إنها اسم الجنَّة التي بناها شدَّاد بن عاد، قاله مجاهد. والثالث: دمشق، قاله عكرمة. والرابع: الإسكندرية، قاله القرظي. والخامس: أنَّها آمِد، قاله مقاتل. والقول الأوَّل أظهر (¬1). قال سعيد بن المسيَّب: كانت منازلهم باليمن ومَهَرَة، وكانوا أصحاب عُمُد وخيام، وكانوا جبابرة قد خصُّوا بالطُّول -ويقال للطويل مُعَمدٌ- وكان الرجل منهم يحمل الصخرة على رأسه فيقتل بها جماعة، وكانوا يطلبون المرعى فينتقلون من مكان إلى مكان. وقال ابن الكلبي: إرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل السّواد والجزيرة، وكان مسكنهم بوادي القرى. وقال الجوهري: وقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)} من لم يُضف (¬2) جعل إرم اسمه ولم يصرفه لأنه جعل عادًا اسم أبيهم، وإرم اسم القبيلة، وجعله بدلًا منه. ومن قرأه بالإضافة ولم يصرف جعله اسم أمهم أو اسم بلد (¬3). وحكى أبو إسحاق الثعلبي عن الضحاك أنه قرأ {أرم ذات العماد} بفتح الألف ¬

_ (¬1) انظر الأقوال مفصلة في "زاد السير" 9/ 109 - 110، و"التبصرة" 2/ 134. (¬2) في النسخ: "يصرف" والمثبت من "الصحاح". (¬3) "الصحاح": (أرم).

والراء، والأَرم: الهلاك يقال: أَرَم بنو فلان أي: هلكوا، وهي رواية العَوفي عن ابن عباس. قال: والصَّواب أنّها اسم قبيلة أو بلدة فلذلك لم تصرف، ولو كان بمعنى أهلكهم وجعلهم رميمًا لصرف. قلت: ولعامَّة القراء على الوقف على إرم (¬1)، فمن أراد القبيلة وصف قَوْمَها بالطول والبطش والقوّة والشدَّة. وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن المقدام بن معدي كَرِب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر إرم ذات العماد فقال: "كان الرجل منهم يأتي الصخرة فيحملها على الحيِّ فيهلكهم" (¬2). قال الكلبي: كان طول الرجل منهم أربع مئة ذراع. وروي عن ابن عباس أنه قال: كانوا أهل عمد وخيام ينتجعون الكلأ والعشب، وينتقلون إلى الخصب حيث كان في أيّام الرَّبيع، ثم يرجعون إلى منازلهم إذا هاج العود، ومن أراد المدينة. قال جدي رحمه الله في كتاب "التبصرة": حدَّثنا عبد الخالق بن أحمد بن يوسف بإسناده عن وهب بن منبّه عن عبد الله بن قلابة، وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن وهب بن منبّه عن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينا هو في صحاري عدن أَبْيَن في تلك الفلوات إذ وقع على مدينة عليها حصن، وحول الحصين قصور كثيرة، فلما دنا منها ظنَّ أنَّ فيها أحدًا يسأله عن إبله، فلم يرَ خارجًا ولا داخلًا، فنزل عن ناقته وعقلها وسلَّ سيفه، ودخل باب الحصن، فإذا هو ببابين عظيمين من ذهب مرصَّعين بالجواهر واليواقيت -أو بالياقوت الأحمر- فلمَّا رأى ذلك دُهش وتحيَّر وفتح أحد البابين فإذا هو بمدينة لم يُر في الدنيا مثلها، وفيها قصور شواهق، عليها ¬

_ (¬1) بل الوقف هنا ليس بجيد، قال الداني في "المكتفى" ص 618: وقال نافع: "بعادٍ إرمَ" تام، وقال الكسائي: هو وقف جيد، وليس بتام ولا كاف لأن "إرم" بدل من "عاد" و"ذات العماد" نعت له، وانظر "منار الهدى" ص 304. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (كما في تفسير ابن كثير 4/ 507)، وانظر "تفسير ابن أبي حاتم" (19254).

قِباب الذهب والفضة مرصعة بالجواهر واليواقيت، مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك، وترابها الزعفران، ونظر إلى الأزقة وإذا فيها الشجر مثمر، وتحته أنهار مطردة تجري في قنوات من فضة، فقال الرجل: إنّ هذه هي الجنَّة، فحمل من لؤلؤها وياقوتها ومسكها ما قدر عليه وخرج، فركب راحلته وعاد إلى اليمن، فأَظهر ما كان أخذه، وبلغ معاوية بن أبي سفيان ذلك فأرسل إليه، فلمَّا دخل عليه قصَّ عليه القصَّة، فأنكر معاوية بن أبي سفيان ذلك وأرسل إلى كعب الأحبار، فلما حضر قال له: يا أبا إسحاق، هل تعرف في الدُّنيا مدينة من ذهب وفضَّة -وذكرها على الوصف- فقال: نعم أنا أخبرك بها وبمن بناها، إنما بناها شدَّاد بن عاد، واسمها إرم ذات العماد التي وصفها الله عزَّ وجل في كتابه، فقال معاوية (¬1): فحدِّثني حديثها، فقال: إن عادًا الأول كان له ابنان: شديد وشدَّاد، وهلك عاد وملك شديد، فبقي زمانًا ثم مات، وملك شدَّاد ودانت له الأمم وملك الدنيا، وكان مولعًا بقراءة الكتب، كما مرَّ بذكر الجنَّة دعته نفسه إلى بناء مثلها، عتوًّا على الله، فأمر ببناء إرم ذات العماد، وأَمَّر على بنائها مئة قهرمان، مع كل قهرمان ألف من الأعوان، ثم قال: انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها فاعملوا لي مدينة من ذهب وفضة وزبرجد ولؤلؤ، تحتها أعمدة من زبرجد، وفوق القصور غرف، ومن فوق الغرف غرف، واغرسوا تحت القصور وفي أزقَّتها فنون الثمار، وأَجروا تحتها الأنهار، فإني أسمع في الكتت صفة الجنَّة، وأريد أن يكون لي مثلها، قالوا: ومن أين لنا الذهب والفضَّة والجواهر؟ فكتب إلى ملوك الدنيا -وكان تحت يده مائتان وستون ملكًا- فأمر أن يحملوا إليه من الجواهر واليواقيت والذهب والفضة ما يقدرون عليه، ففعلوا فخرج القهارمة وتبددوا في الأرض ليتخيَّروا أطيبَ مكان، فإذا هم بأرض طيبة الهواء، خاليةٍ عن الجبال والتلال، وفيها أنهار مطَّردة، وتربتها صحيحة، فقالوا: هذه صفة الأرض التي أمر الملك ببناء المدينة فيها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وبنوها بالذهب والفضة، وأجروا مياهها في قنوات الذهب والفضة، وأقاموا في بنائها ثلاث مئة سنة. وعاش شدَّاد تسع مئة سنة، فلمَّا كمل بناؤها كتبوا إليه: قد كملت فما ترى؟ فكتب إليهم: ابنوا عليها حصنًا، وابنوا حول الحصين ألف قصر يكون ¬

_ (¬1) في (ب): "بعضهم".

في كلّ قصر وزير من وزرائي، وكان له ألف وزير، وأقام يتجهَّز للنقلة إليها في عشر سنين، وسار إليها بأهله ووزرائه، فلمَّا كان على مسيرة يوم وليلة منها بعث الله تعالى عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعًا، ولم يدخل إرم ولا أحد ممن كان معه، ولم يُقْدَر على أحد منهم حتى الساعة. هذه سورة ما حكى جدّي رحمه الله في "التبصرة" (¬1). وأما الثعلبي فإنه زاد بعد هذا، وقال: وقال كعب وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له في تلك الصحاري -والرجل عند معاوية جالس- فالتفت إليه كعب فقال: هذا والله ذلك الرجل (¬2). وحكى الشعبي عن دَغْفَل الشيباني قال: ثم ملك بعده ولده مَرْثَد بن شدَّاد، وكان أبوه قد خلفه بحَضرَموت على سلطانه، فأمر يحمل أبيه من تلك المفازة، فحمل إلى حَضْرَموت مطليًا بالصَّبِر والكافور، وأمر فحفرت له حفيرة في الجبل مثل المغارة، وجعله على سرير من ذهب، وألقى عليه سبعين حلَّة منسوجة بقضبان الذهب، ووضع عند رأسه لوحًا من ذهب، وكتب عليه بالقلم المسند: [مجزوء الرمل] اعتبر بي أيُّها المغـ ... ـرور بالعمرِ المديدِ أنا شدَّاد بن عادٍ ... صاحب الحصن العميدِ وأخوا القوَّة والبأ ... ساء والملك الحَشيدِ دان أهل الأرض لي ... من خوف وَعْدِي ووعيدي وملكت الشرق والغرب ... بسلطان شديدِ وبفضل الملك والعد ... دة فيه والعديدِ فأتى هودٌ وكنَّا ... في ضلال قبل هودِ فدعانا لو أجبنا ... هـ إلى الأمر الرَّشيدِ فعصيناه وناديـ ... ـنا ألا هل من مَحيدِ ¬

_ (¬1) "التبصرة" 2/ 135 - 136، و"عرائس المجالس" ص 145 - 149. (¬2) "عرائس المجالس" ص 148 - 149.

فصل في وفاة هود

فأتتنا صيحة تهـ ... ـوي من الأفق البعيد فتوافينا كزرع ... وسط بيداءٍ حصيدِ قلت: والعجب من جدي رحمه الله كيف حكى مثل هذه الحكاية ولم يتبيَّن ما فيها (¬1)، فإنَّ في إسنادها عبد الله بن لهيعة، وقد ضعَّفه في "الواهية" وقال: كان مدلسًا، وتكلَّم فيه الدَّارقطني وغيره. ثم ذكر فيها معاوية، وأين كعب الأحبار من زمن معاوية؟ وليَ الأمر في سنة إحدى وأربعين وكعب مات في سنة اثنتين وثلاثين. ثم العقول السليمة تأبى مثل هذا؛ لأنَّ شدَّاد بن عاد له ألوف السنين، وما كان في العالم من يقف على هذه المدينة إلا ابن قلابة، وكان رجلًا بدويًّا، وكم قد مرَّ بتلك الأرض من ملوك اليمن مثل التَّبابعة وغيرهم. فصل في وفاة هود واختلفوا في أي مكان توفي على أقوال: أحدها: بأرض الشِّحْر من بلاد حضرموت، وقبره ظاهر هناك ينزل عليه النّدى والطلّ في شدّة الحرّ، وموضعه أحرّ الأماكن، وقد ذكره ابن سعد في "الطبقات" (¬2). والثاني: بمكة، لمّا أهلك الله قومه أمره أن ينزل بمكّة بمن معه من المؤمنين، قاله مجاهد. والثالث: بجامع دمشق بالحائط القبلي (¬3). والأوَّل أظهر. وعاش هود مئة وخمسين سنة، وحكى الخطيب عن ابن عباس أنه عاش أربع مئة وستين سنة، وكان بينه وبين نوح عليهما السّلام ثمان مئة سنة. قصة لقمان بن عاد صاحب النسور قد ذكرنا أنه كان في الوفد (¬4)، وسأل الله طول العمر، فأعطاه عمر سبعة أنسر، كان ¬

_ (¬1) التبصرة 2/ 137، وعرائس المجالس 149 - 150. (¬2) في (ل): في حائط القبلة، والمثبت من (ب) و (ط). (¬3) "الطبقات الكبرى" 1/ 52. (¬4) يعني الوفد الذي خرج من قوم عاد إلى مكة ليستَسقوا لقومهم. انظر الصفحة 345.

قصة جرت للقمان

يأخذ الفرخ من البيضة حين يخرج، فإذا مات أخذ غيره، فلم يبق غير واحد. قال له ابن أخيه: يا عم، لم يبق من عمرك إلَّا عمر هذا النَسر. فقال لقمان: هذا لُبَد، واللبد بلسانهم الدَّهر. فلمَّا انقضى عمر النسر مات. وذى جدي في كتاب "أعمار الأعيان" وقال: لقمان هذا هو الأكبر، وهو ابن عاد بن عاديا من بقيَّة عاد الأولى، وهو صاحب النسور، بعثته عاد مع الوفد إلى الحرم يستسقون فدعوا وسأل هو البقاء، واختار عمر سبعة أنسر كما هلك نسر أخذ مكانه آخر، يأخذ النسر وهو فرخ فيربيه إلى أن يموت، فعاش ألفين وأربع مئة ونيفًا وخمسين سنة (¬1). قلت: وقد اختلف الناس في عمر النسر، وعامتهم على أنه يعيش خمس مئة سنة، فعلى هذا قد عاش لقمان ثلاثة آلاف وخمس مئة سنة، ولم يبلغ هذا العمر أحد من بني آدم. وقيل: إنه عاش ثلاثة آلاف وثمان مئة سنة؛ لأنه كان له قبل أن يأخذ النسور ثلاث مئة سنة. ولمّا وقع لبد قال له لقمان: انهض فلم يقدر ومات، فمات لقمان. وقد ذكره الجوهري في حرف الدال، فقال: ولبد آخر نسور لقمان. قال: وتزعم العرب أنّ لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلمّا أهلكوا خُيِّر لقمان بين بقاء سبع بعرات سُمر، من أظبٍ عُفْر، في جبل وَعْر، لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر، كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور، وكان آخر نسوره يسمى لُبَدًا، وقد ذكرته الشعراء قال النابغة: [من البسيط] أضحَتْ خلاءً وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ هذه صورة كلام الجوهري (¬2). قصة جرت للقمان ذكر هشام بن الكلبي عن أبيه قال: كان لقمان مغرىً بحبِّ النّساء، وكان يتزوَّج ¬

_ (¬1) "أعمار الأعيان" ص 129. (¬2) "الصحاح": (لبد)، والنابغة هو الذبياني زياد بن معاوية، والبيت في ديوانه ص 31.

المرأة فتخونه، فتزوَّج صغيرة لم تعرف الرجال، فنقر لم مغارًا في جبل، وجعل له سلاسل يصعد إليها فيها، فإذا نزل أزالها، فمرَّ بها رجل من العمالقة فرآها فوقعت في قلبه، فأخبر قومه وقال لأهله: لا بدَّ لي منها، فقالوا: ويحك وكيف تصنع؟ فقال: اجمعوا سيوفكم ثم اجعلوني في وسطها وشدُّوها حزمةً ثم أودعوها عنده، ففعلوا وجاؤوا إلى لقمان فقالوا: نريد أن نسافر، ونحن نستودعك سيوفنا حتى نرجع. فأطلعَ السيوف إلى المغارة وكانوا قد واعدوه يومًا بعينه يرجعون إليه، فكان لقمان إذا نزل خرج الرَّجل وأتى الجارية، وإذا جاء لقمان عاد إلى مكانه. وجاء الميعاد فجاء القوم وأخذوا السيوف، فلمَّا كان في بعض الأيام نام لقمان على ظهره فرأى في سقف المغارة نخامة، فقال للجارية: من تنخم هذه؟ قالت: أنا، قال: فتنخمي، فتنخمت فلم تصلْ إلى السقف، ففطن وقال: من السيوف دُهيت، ثم رمى بالجارية من ذروة الجبل فتقطعت قطعًا، وانحدر مغضبًا يطلب القوم، فلقيته ابنةٌ له يقال لها: صحر، فقالت: ما لي أراك يا أبة مغضبًا؟ فقال: وأنت أيضًا من النساء، فضربها فقتلها فقالت العرب: ما أذنبت إلا ذنب صحر، فذهبت مثلًا (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر "الأمثال" لأبي عبيد ص 272.

فصل في ذكر صالح عليه السلام وقومه

فَصلٌ في ذِكر صالِح عَلَيه السَّلام وقَومِه (¬1) ذكره الله في خمسة مواضع، قال الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73] الآية. قال الزجاج: الثمد الماء القليل الذي لا مادَّة له، وإنما قال أخاهم لأنه من قبيلتهم، وقد ذكرناه. واختلفوا في ثمود، فقال الجوهري: ثمود قبيلة من العرب الأولى، وهم قوم صالح (¬2). وكذا قال الفرَّاء: [سمُّوا] (¬3) ثمود لقلَّة مائهم، وقيل: هو اسم رجل، قال عكرمة: هو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، وقال جدي في "التبصرة": هو ثمود بن جابر بن إرم بن سام بن نوح، وقيل: ثمود بن جابر بن سام بن نوح. قال الكلبي: وكانت هذه القبيلة تنزل وادي القرى إلى البحر والسواحل وأطراف الشام، وكانت أعمارهم طويلة، فكانوا يبنون المساكن فتنهدم، فلما طال ذلك عليهم اتخذوا من الجبال بيوتًا فنحتوها وعملوها على هيئة الدور، وكانوا قد عتوا وتجبرواه وأما صالح فاختلفوا في نسبه على أقوال: أحدها: أنه صالح بن عبيد بن جابر بن إرم بن سام بن نوح، قاله مجاهد. والثاني: صالح بن عبيد بن أنيف بن ماسخ بن خادر بن جابر بن ثمود. وقيل: جائر بالجيم والثاء. قاله مقاتل. والثالث: صالح بن كانوا، قاله الربيع. والرابع: صالح بن عبيد بن يوسف بن سانح بن عَبيل بن حاذر بن ثمود، قاله مجاهد. قال: وكان بينه وبين هود مئة سنة. ¬

_ (¬1) انظر قصته في "تاريخ الطبري" 1/ 226، وتفسيره 12/ 525، و"البدء والتاريخ" 3/ 31، ومروج الذهب 3/ 83، و"عرائس المجالس" ص 68، و"المنتظم" 1/ 255، وتفسير البغوي 2/ 175، و"الكامل" 1/ 89، و "البداية والنهاية" 1/ 130. (¬2) "الصحاح": (ثمد). (¬3) ما بين حاصرتين ليس في (ب)، وبدله في (ل) كلمة: إسحاق، والمثبت من (ط).

قصة الناقة

وقال مقاتل: وكان في قومه بقايا من قوم عاد على طولهم وهيئتهم، وكان لهم صنم من حديد يدخل فيه الشيطان في السنة مرَّة واحدة ويكلمهم، وكان أبو صالح سادنه، فغار لله وهمَّ بكسره، فناداهم الصنم: اقتلوا كانوا، فقتلوه ورموه في مغار، فبكت عليه امرأته مدَّة فجاءها ملك فقال: إن زوجك في المغار الفلاني، فجاءت إليه وهو ميت، فأحياه الله تعالى، فقام إليها فوطئها في الحال، فعلقت بصالح من ساعتها وعاد كاثوا ميِّتًا. وشبَّ صالح فبعثه الله إلى قومه، ذكره مقاتل بن سليمان في "المبتدأ" له. واختلفوا متى بعث على قولين: أحدهما: حين راهق الحلم، قاله وهب. والثاني: لما تمَّ له أربعون سنة، قاله ابن عباس. قال علماء السّير: فلمَّا تجبَّروا وطغوا وكفروا بعث الله إليهم صالحَّا فَدعاهم إلى الله تعالى فقال: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ} أي: ابتدأ خلقكم {مِنَ الْأَرْضِ} لأنَّ آدم خلق منها وهم منه {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] أطال أعماركم. وقال ابن قتيبة: وكان صالح تاجرًا (¬1). قصة الناقة روى الوالِبيُّ عن ابن عباس قال: لما دعاهم صالح إلى الله تعالى اقترحوا عليه ناقة لأنهم كانوا أصحاب إبل، وكانت النوق عندهم عزيزة، فطلبوا منه الدَّلالة من حيث ما هم عليه ثمَّ تنطعوا، فقالوا: لتكن سوداء حالكة، عُشَراء ذات عرف وناصية ووبر. فسأل الله فأوحى الله إليه: اخرج بهم إلى فضاءٍ من الأرض، فخرجوا، فقال: من أين تريدونها؟ فأشاروا إلى صخرة وقالوا: من هذه، فأشار إليها صالح وقال: اخرجي بإذن الله، فتمخَّضت تمخض الحامل وانفجرت عن ناقة كما طلبوا، ثم تلاها من الصخرة فصيلٌ لها، فآمن خلق ممَّن حضر، منهم ملكهم جَندع بن عمرو. ثم قال لهم صالح: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} [الأعراف: 73] من الكلأ، ليس عليكم مؤونتها ولا علفها -وتأكلْ مجزوم بجواب الشرط المقدَّر، والمعنى: إن ¬

_ (¬1) "المعارف" ص 30، ومن هنا وقع خرم في (ب) ينتهي في أسماء إبراهيم.

تذروها تأكل- {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف: 73] بعقر. والسُّوء في القرآن على وجوه: أحدها: العقر كما ذكرنا. والثاني: الشدَّة {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49]، والثالث: الزنا {مَا عَلِمْنَا عَلَيهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51] والرابع: البرص {تَخْرُجْ بَيضَاءَ مِنْ غَيرِ سُوءٍ} [النمل: 12]. والخامس: العذاب {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} [الزمر: 61]. والسادس: الشرك {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: 28] والسابع: السَّبُّ {وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} [الممتحنة: 2] والثامن: الضرُّ {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] والتاسع: الذنب {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالةٍ} [النساء: 17]. ثم قال لهم صالح: لها شِرْب يوم ولكم شِرْب يوم؛ لأنَّ مياههم كانت قليلة، فكانت تشرب ماء الوادي في يوم، ويحلبونها في يوم، فيشربون لبنها عوض ما شربت. ولما ألحَّ عليهم صالح بالموعظة لم يلتفتوا إليه، وعزموا على قتله، وكان يبيت ناحيةً عنهم في مسجد له، فكمنوا له ليلةً تحت صخرةٍ يرصدونه وذلك قوله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49] فدعا عليهم فوقعت عليهم الصخرة فقتلتهم، فأصبحوا يقولون: قتلهم صالح. فأجمعوا على عقر النّاقة وقالوا: قد ضايقتنا في الماء والكلأ. قال مقاتل: أوحى الله إليه: إنَّ قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم صالح: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] أي: احذروا قتلها ولا تمنعوها شربها، فقالوا: ما كنا لنفعل، فقال: ما تعقرونها أنتم، بل يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها، قالوا: وما علامته فوالله ما نجده إلا قتلناه، فقال: غلامٌ أشقر أزرق أحمر قصير أصهب سناط، وهو أحمر ثمود. وكان في المدينة شيخان عزيزان لأحدهما ابن يُرغَبُ له عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤًا، فتناكحا، فولد بينهما ذلك المولود، وكان قوم صالح قد وضعوا الشُّرَطَ مع القوابل يطوفون على النساء، يقتلون كل مولود ولد بهذا الوصف، فلما ولد هذا المولود نظر إليه النساء فصرخن وقلن: هذا والله عاقر الناقة، وأرادوا قتله، فمنعه جدَّاه من القتل، وكانا منيعين. وقال أبو إسحاق الثعلبي: حدثنا محمَّد بن حمدون بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاقرَ النَّاقة، فقال: "انتدب لها رجلٌ

عارمٌ ذو عزٍّ ومَنَعة في قومه كأبي زَمْعَة" وذكر الحديث (¬1). وقال الثعلبي: كان أشقر أزرق قصيرًا، واسمه قديرة (¬2). وقال الجوهري: قدار بن سالف (¬3)، بالدَّال المهملة. وهو الأصح. وقال وهب: وكان في المدينة ثمانية وهي يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فانضافوا إلى المولود فصاروا تسعة. وذكر وهب أسماءهم فقال: مصدع بن دهر، وأسلم، ورهمي، ورهيم، ودعمي، ودعيم، وقبال، وصداق، وقدار بن سالف، قال وهب: وكان الثمانية حاكة، وكان في المدينة امرأتان لهما جمال فرآهما قدار ومهجع (¬4)، قال مقاتل: إحداهما اسمها عنيزة بنت غنم، والأخرى صدوق بنت المحيَّا، فقالت صدوق: من يكفينا أمر الناقة؟ فقال قدار: أنا فما لي عندك؟ فقالت: نفسي، وقالت عنيزة للآخر كذلك، فقالا: ميلا علينا بالخمر، فشربا حتى سكرا وطلبا منهما الزنا فقالتا حتى تفرغا من أمر الناقة. وكان قد استغويا النفر الذين سمَّيناهم فخوجوا إلى النَّاقة وهي على الحوض قائمة فضربها قُدار على عرقوبها فوقعت. وقال مجاهد: رماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها، ثم شدَّ عليها بالسيف فكسر عرقوبها. ثم نحرها، وقالوا: {يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إ} [الأعراف: 77] من العذاب. وجاء الخبر إلى صالح فأقبل فرآها كذلك، فوقف يبكي، فجاء قومه يعتذرون إليه ويقولون: إنما عقرها فلان وفلان. ولما عقرت صعد فصيلها إلى الجبل، فقال لهم صالح: انظروا فإن أدركتموه فعسى أن يُرفَعَ عنكم العذاب. فمضوا خلفه فلم يقدروا عليه. ولما علا على الجبل رغا ثلاثة أصوات، وهذا الجبل يقال له: القارة، وكان قصيرًا، فلمَّا قصدوا الفصيل طال إلى عنان السماء. وصعد صالح ورآه، فلمَّا رآه سالت دموع الفصيل على خدَّيه، فقال لهم صالح: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] لكل رغوة يوم، وآية العذاب أن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (16223) , والبخاري (4942)، ومسلم (2855). (¬2) "عرائس المجالس" ص 70، وفيه: اسم أمه قديرة. (¬3) "الصحاح": (قدر). (¬4) كذا في (ل)، ولعله "مصدع"، انظر "عرائس المجالس" ص 70.

تصبح وجوهكم في اليوم الأول محمرَّة، وآية العذاب أن تصبح في اليوم الثاني مصفرَّة، والثالث مسودَّة، وذلك في يوم الخميس والجمعة والسبت. وكانوا في ذلك الوقت يسمُّون الأيام بأسمائها القديمة: فيوم الخميس مؤنس، والجمعة عَروبة، والسَّبت شيار. فأصبحت وجوههم في اليوم الأوَّل كأنما طليت بدم، وفي اليوم الثاني كأنما طليت بالخَلوق، وفي اليوم الثالث كأنما طليت بالقار. ونودوا ألا إن العذاب قد حضر، فتحنَّطوا وتكفَّنوا بالأنطاع، وحفروا قبورهم ونزلوا فيها، ظنًّا منهم أن الله يرحمهم. فإذا بجبريل عليه السَّلام قد ظهر من المشرق، فسدَّ عين الشمس وصاح بهم صيحةً ارتجَّت لها الدنيا وقال: موتوا لعنكم الله. فتقطَّعت قلوبهم في صدورهم وماتوا جميعًا. وكان رجل منهم يقال له: أبو رغال في حرم مكة، فمنعه الحرم من العذاب، وسنذكره في قصَّة أصحاب الفيل. قال ابن عباس فذلك معنى قوله تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] ومعنى تمتعوا: عيشوا {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)} [هود: 67] أي: هالكين صرعى {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود: 68] أي يقيموا. قال قتادة: كان مُلْكُ ثمود إلى أن هلكوا مئتين وثمانين سنة، وكان ملكهم جندع بن عمرو، وقد أسلم فنجَّاه الله تعالى، واعتزلهم هو وأخوه، وقال: [من البسيط] كانَت ثمودُ ذوي عَزمٍ (¬1) ومكرُمةٍ ... ما إنْ يضامُ لهمْ في النَّاس من جارِ فأَهلكوا ناقةً كانت لربهمُ ... قَد أنذَرُوها وكانوا غير أبرارِ قال مقاتل: واسم العذاب الذي عذِّبوا به الطغوى، وهو معنى قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)} [الشمس: 11] {فَدَمْدَمَ عَلَيهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} الدمدمة: الهلاك بعنف، وهي صيحة جبريل {فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] أي: قلب بيوتهم فسوَّاها بالأرض {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} [الشمس: 15] أي: العاقر؛ لأنه لو خاف لما عقرها. ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 3/ 90: عزٍّ، ونسب فيه البيتان إلى حباب بن عمرو.

قرأت على شيخنا أبي اليمن الكندي رحمه الله في معنى "فدمدم" حكايةً قرأها على شيخه أبي منصور بن الجواليقي عن مشايخه، عن الأصمعي قال: أشكل عليَّ في القرآن مواضع، فسألت عنها رجالًا من أهل العلم فلم أجد عندهم علمًا منها، فدخلت البادية أطلب العرب الخُلَّص، فنزلتُ على عجوز، قال: والذي أشكل عليَّ قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)} [الانشقاق: 14] {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] {يُرْسَلُ عَلَيكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] {فَدَمْدَمَ عَلَيهِمْ رَبُّهُمْ} [الشمس: 14] {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]. قال: فأقمت عند العجوز ذلك اليوم فقالت لابنتها: أين العصفور الذي كان ها هنا؟ فقالت: ذهب، فقالت: قومي فانظري ما حاله، فقامتا وذهبت، وعادت وبيدها عصفور فأخذته العجوز وقالت: ويحك، ظننتُ أن لن تحورَ. أي: ترجع إلينا، فقلت: هذه واحدة. ثم قالت: أين أبوك؟ فقالت: عند تلك الباسقة. وأشارت إلى نخلة عالية، فقلت: هذه الثانية. فقالت: اذهبي إليه ليحضر إلى الضيف، فذهبت وعادت ثم قالت: مضى إلى ذلك النُّحاس. وأشارت إلى دخان بعيدٍ. فقلت هذه الثالثة. ثم جاءت بقصعة فيها ثريد فأكلت منها ثم قالت: يا بنيَّة اغسلي القصعة ودمدميها، فغسلتها وكبَّتها، قال: فقلت: وهذه الرابعة. ونمت عندهم فلمَّا كان آخر الليل قالت: يا بنية، اجلبي للضيف، فقالت: إنه ليل، فلما طلع الفجر قالت: يا أمَّاه، قد طلع الفجر، فقالت: ومن أين علمت؟ قالت: قد برد عرجوني، يعني خلخالها، قال: فانصرفت وقد استفدت من العجوز جميعَ ذلك. وقال ابن عباس: كان صالح ينزل الحِجر وبينه وبين وادي القرى ثمانية عشر ميلًا. ولما سار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك لم ينزل الحجر، وسنذكره في سيرته. قال مقاتل: وضربت بهم العرب المثل في الشؤم فالوا: أحمد ثمود، وقالوا في الفصيل: رغا فوقهم سقب السماء، فصار مثلًا لكل من يهلكه الله تعالى.

وقال علماء السِّير: لما هلكوا قال صالح لمن آمن معه: إنَّ هذه دار سخط فاظعنوا بناعنها. واختلفوا أي مكان نزل؟ فقال الحسن: نزل بلاد فلسطين وأقام بالرَّملة. وقال السُّدي: أهلَّ من ساعته بالحج هو ومن آمن معه في العباء القطواني، وركبوا قلائص مخطمة بحبالٍ من ليف، ثم لبُّوا وأتوا مكة، فأقاموا يتعبَّدون حتى ماتوا، فقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة والحجر. وكذا قال ابن قتيبة (¬1). قال: وأقام في قومه عشرين سنة، وتوفي وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وقيل: ابن ثلاث مئة وست وثلاثين سنة، وقد حكاه الخطيب عن ابن عباس، وهو الأظهر (¬2). وأهل التوراة يقولون: لا ذكر لعاد وثمود فيها، وقد كذبوا الله أصدق القائلين. وقال ابن قتيبة: كان صالح زاهدًا يمشي حافيًا ولا يتخذ حذاء، ولا مأوى له إلا المسجد، وكان مع الناقة أينما توجَّهت (¬3). وعيسى بن مريم سلك طريقه في الزُّهد. ويقال: إن دانيال الأكبر الذي حفر دجلة والفرات كان بين نوح وإبراهيم، وقيل: في أيام صالح، وقيل: بينه وبين هود، وقيل: بعد الطوفان. وذكروا أنَّ أنفه كان طوله ذراعًا، وهو الذي وجد المسلمون قبره بالعراق في زمان الفتوح، وسنذكره. وأمَّا دانيال الأصغر فإنَّه كان في زمان بُخْتَنَصَّر، وسنذكره إن شاء الله تعالى في أيام بُخْتَنَصَّر. ويقال: إنه كان بين هود وصالح مئة سنة، وبين صالح وإبراهيم ست مئة وثلاثون سنة * * * ¬

_ (¬1) "المعارف" ص 29 - 30. (¬2) انظر تاريخ الطبري 1/ 232، والمنتظم 1/ 256. (¬3) "المعارف" ص 29.

فصل في ذكر الخليل عليه السلام

فَصل في ذِكْر الخَليل عَلَيهِ السَّلام (¬1) اختلفوا في نسبه على قولين: أحدهما: أنه إبراهيم بن تارَح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن عابر بن شالخ بن قينان بن أَرْفَخْشَذ بن سام بن نوح، حكاه السّدي عن أشياخه. والثاني: إبراهيم بن تارَح بن أشرغ بن أرغو بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، قاله وهب وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: قابلت هذا النسب بما في التوراة فوجدته موافقًا لما فيها إلَّا أني وجدت مكان أشرغ: شاروغ (¬2). واتفقوا على أن تارَح هو آزر، وبعضهم يقول: إنّ آزر اسم صنم، وليس بصحيح، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74]. وفي "إبراهيم" لغات ذكر بعضها الجوهري وبعضها ابن الجواليقي في "المعرب". فأمَّا الجوهري فقال: وإبراهيم اسم أعجمي وفيه لغات: إبراهَامُ وإبراهَمُ [وإبراهِمُ] (¬3). وقال ابن الجواليقي: وأمَّا إبراهيم ففيه لغات، قرأت على أبي زكريَّا عن أبي العلاء قال: إبراهيم اسم قديم وليس بعربيّ وقد تكلَمت به العرب على وجوه فقالوا: إبراهيم وهو المشهور وإبراهَام [وقد قرئ به، وإبْراهِمُ على حذف الياء، وإبرَهَم] (¬4). وقال الجوهري: وآزر اسم أعجمي (¬5). وقال البلاذُري عن الشرقي بن قطامي أن معنى آزر: السيّد المعين. ¬

_ (¬1) انظر قصته في "تاريخ اليعقوبي" 1/ 24، و"تاريخ الطبري" 1/ 233، ومروج الذهب 1/ 83، و"البدء والتاريخ" 3/ 45، و"عرائس المجالس" ص 74، و"تاريخ دمشق" 6/ 164، و"المنتظم" 1/ 258، و"الكامل" 1/ 72، و"البداية والنهاية" 1/ 139. (¬2) "المعارف" ص 30. (¬3) "الصحاح": (برهم)، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬4) "المعرب" ص 61، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬5) "الصحاح": (أزر).

فصل في أسمائه

وقال سلمان التيمي: معنى آزر شين وعيب، وقيل: معناه في لغتهم المعوج. وقال وهب: اسم أم إبراهيم نوتا بنت كرنبا من بني سام بن نوح، وكرنبا هو الذي حفر نهر كوثا بالعراق، نسب إلى أبيه أو إلى كوثا. وكوثا مدينة بابل، وكوثا قرية من سواد الكوفة، ومحلَّة بالكوفة، وبمكة أيضًا، وكان أهلها يؤذون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وفيهم يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬2): [من الخفيف] لعن الله أهل كوثاء دارًا ... ورماها بالذلّ والاحتقار لست أعني كوثا العراق ولكن ... ربّة الدار دار عبد الدار وأراد عليّ - رضي الله عنه - بكوثا الثانية محلة بالكوفة كان ينزلها، قال: وهو معنى قوله: نحن من أهل كوثا. فأمّا كوثا العراق فهي مدينة بابل، ولم يذكرها الجوهري ولا في "المعرَّب". وقال ابن سعد في "الطبقات": وكنية إبراهيم أبو الأضياف (¬3). فصل في أسمائه قد سمَّاه الله تعالى بأسماء كثيرة: منها: الأوَّاه، لقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] وكان يكثر التأوُّه في الصلاة خوفًا من الله تعالى. ومنها: الحليم والمنيب {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)} [هود: 75]. ومنها: الحنيف {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة: 135] والحنيف: المائل إلى الذين. ومنها: القانت والشاكر إلى غير ذلك. وقيل: إنَّ هذه أوصافٌ له. وقال مقاتل: قد ذكر الله إبراهيم في القرآن في أحدٍ (¬4) وسبعين موضعًا. ¬

_ (¬1) إلى هنا ينتهي الخرم في (ب). (¬2) البيتان لحسان بن ثابت - رضي الله عنه - وهما في ديوانه ص 109، وتاريخ بغداد 1/ 287، ورواية الديوان: لعن الله منزلًا بطن كوثى ... ورماها بالفقر والإمعار لست أعني كوثى العراق ولكن ... شرة الدور دار عبد الدار (¬3) "الطبقات الكبرى" 1/ 47. (¬4) في (ب) و (ل): إحدى، والمثبت من (ط).

ذكر مولده عليه السلام

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يثني عليه، قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا خير البريَّة، فقال: "ذاك إبراهيمُ عليه السَّلام". انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وقال هشام: لم يكن بين نوح وإبراهيم إلَّا هود وصالح، وكان بين إبراهيم وهود ست مئة سنة وثلاثون سنة، وبين نوح وإبراهيم ألف ومئة وثلاث وأربعون سنة، وسنذكر ما بين النبيين من السنين فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأكثرهم على أنه ولد بأرض بابل، إلا في قول (¬2). رجعنا إلى الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم - عن إبراهيم: إنه خير البريَّة، قال أبو سليمان الخطابي: إلَّا أنَّ هذا الحديث منسوخ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولدِ آدم" (¬3). ولمسلم أيضًا عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُرض عليَّ الأنبياءُ فرأيتُ إبراهيمَ فإذا أقرَبُ من رَأيتُ شبيهًا صَاحِبُكم" يعني نفسه، وذكر موسى وعيسى (¬4). وسنذكره في موضعه. وقال ابن عباس: سمَّى الله الخليل شجرة في قوله: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور: 35] وإنما سمَّاه شجرة لأنَّ أكثر الأنبياء من صلبه، وقد ذكرنا أنه ولد بأرض بابل إلا في قول. ذكر مولده عليه السَّلام قال علماء السِّير: ولد الخليل في زمان نمرود الجبَّار، رأى المنجِّمون والكهَّان سيرته في علومهم، فقالوا لنمرود بن كنعان. إنَا لنجد في علومنا أنَّ غلامًا يولد في قريتك هذه يفارق دينكم ويكسر أوثانكم، يقال له: إبراهيم، يولد في شهر كذا وكذا في سنة كذا وكذا. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "السند" (12826)، ومسلم (2369). (¬2) انظرا الاختلاف في مكان ولادته - صلى الله عليه وسلم - في "تاريخ الطبرى" 1/ 233. (¬3) أخرجه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه مسلم (167)، ولفظه: فإذا أقرب من رأيت به شبهًا صاحبكم.

فلمَّا دخلت السنة المذكورة بعث نمرود إلى كلِّ حامل فحبسهنَّ عنده ولم يعلم بحبل أم إبراهيم، فجعل لا يولد غلام في ذلك الشهر إلَّا ذبحه (¬1). قلت: وهذا من سفه نمرود؛ لأنه إن كان قد جرى القدر بإزالة ملكه ودينه فلا بدَّ من ذلك، ولا ينفع الاحتراز، وإن لم يكن جرى القدر بذلك فأين الغلام المطلوب حتى يذبح الغلمان كلهم؟ ! وعلى هذا قصة فرعون لما أمر بذبح الأطفال احترازًا من موسى عليه السَّلام. وقال وهب: إنما وجد مولد إبراهيم وسيرته في علوم إدريس، ومن هناك أخذ المنجمون. وقال الضحَّاك: رأى نمرود في منامه كأنَّ كوكبًا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر، فارتاع ودعا بالسَّحرة والكهَّان والقافة فأخبرهم بما رأى، فقالوا: يولد مولود من صفته كذا وكذا. وقال ابن إسحاق: لم تعلم أم إبراهيم بحبلها لأنَّها كانت جارية حديثة السنِّ (¬2). وقال السُّدي: كان آزر من خواص نمرود، لما قال له الكهَّان ما قالوا خرج من المدينة فنزل ظاهرها، فعرض له أمر مهم إلى قصره، فقال لآزر: أنت أميني وصاحبي، اذهب إلى الحاجة الفلانية ولا تلمَّ بأهلك، فقال آزر: أنا أشَحُّ على أمانتي من ذلك. فلمَّا دخل المدينة وقضى الحاجة قال: ما يضرني لو نظرتُ إلى أهلي من غير مباشرة؟ فجاء إلى منزله فواقع امرأته، فحملت بإبراهيم وأخبرت الكهنةُ نمرودَ بأنَّ أمَّ الغلام قد حملت به في هذه الليلة، فلم يذهب فكره إلى آزر ثقة به، وأقامت أمُّ إبراهيم تخفي حملها إلى زمان ولادتها، وضربها الطلق فخرجت إلى مغارة فوضعته هناك، ثمَّ سدَّت بابها، وكانت تتعاهده فتراه يمص إبهامه واللَّبن يدرُّ منه (¬3). وقال مقاتل وابن إسحاق: كان يمصّ من إصبع لبنًا، ومن إصبع عسلًا ومن أخرى ¬

_ (¬1) نظر "تاريخ الطبري" 1/ 234، و"المنتظم" 1/ 259. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 234. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 75.

فصل في النماردة

ماء. وسألها آزر عن حملها فقالت: ولدت جاريهًّ ميتة، فسكت عنها. وذكر الثعلبي: أن أمَّه أخبرت أباه به فحفر له سَرَبًا وسدَّ عليه الباب بصخرة مخافة السباع. واختلفوا في أيّ مكان ولد على أقوال: أحدها: ببابل من أرض السَّواد، مدينة نمرود، قاله ابن عباس. والثاني: بكُوثا، مكان محلّة بالكوفة، قاله مجاهد. والثالث: بالسّوس من أرض الأهواز، قال عكرمة. والرابع: بين الكوفة والبصرة، قاله السُّدي. والخامس: بكَسكر ثم نقله أبوه إلى كوثا، قاله الرَّبيع بن أنس. والسادس: بحرَّان ثم نقله أبوه إلى بابل، قاله وهب. والأول أصح. وقال السُّدي: لمّا تبيّن حملها، حَمَلها آزر إلى أرضٍ بين الكوفة والبصرة يقال لها: أورى، فأنزلها في سَرَب، وجعل عندها ما يصلحها، فولدت هناك، ثم ردَّها إلى بابل. وقال الحافظ أبو القاسم في "تاريخ دمشق" عن ابن عباس: أنَّ أمَّه كانت تَخْبَؤُه في كهف في جبل قاسيون، بقريةٍ يقال لها: برزة، في الموضع الذي يعرف اليوم بمقام إبراهيم، وأنه ولد في هذا المكان ويسمّى برزة قاسيون. ثم اعترف أبو القاسم بالحقِّ ووافق أرباب السّير فقال: والصحيح أنه ولد بكوثا من إقليم بابل من أرض العواق، وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه لمّا هاجر إلى الشام صلى فيه (¬1). وهذا أشهر. فصل في النماردة قال علماء السِّير: النماردة ستة: أحدهم: نمرود بن كنعان بن سنحاريب بن كوش بن حام بن نوح وقيل: نمرود بن كنعان بن سنحاريب بن نمرود بن كوش وملك الأقاليم كلها، وهو أول من لبس التاج ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 164.

فصل فيما جرى للخليل عليه السلام في السرب ورؤيته الكواكب

في قول السُّدي، وادَّعى الربوبيَّة، وعمل بأحكام النجوم وكان أجبرَ النماردة. قال السُّدي: وهو أحد الأربعة الذين ملكوا الدنيا في قوله عليه السّلام: "ملك الدنيا مؤمنان وكافران" وقد ذكرنا الحديث (¬1)، وهو أحد الكافرين. وقال هارون بن المأمون: كان نمرود هذا غلامًا للضحَّاك بن الأهبوب، وهذا هو صاحب النسور. والثاني: نمرود بن كوش بن حام جدّ هذا، قاله مقاتل. والثالث: نمرود بن شاش بن كنعان بن حام بن نوح. والرابع: نمرود بن سنحاريب بن كوش بن كنعان. والخامس: نمرود بن ساروغ بن أرغو بن فالغ من ولد سام بن نوح. والسادس: نمرود بن كنعان بن المضّاض بن يقطن، أو يقطان، من ولد سام بن نوح. قال مقاتل: فأربعة منهم من ولد حام بن نوح، واثنان من ولد سام بن نوح. فصل فيما جرى للخليل عليه السّلام في السَّرَب ورؤيته الكواكب قال السُّدي فيما رواه عن أشياخه: كان إبراهيم يشبّ في كل يوم مثل ما يشب غيره في شهر، وفي شهر مثل غيره في سنة، وفي سنة مثل غيره في سنتين. وقال مقاتل: لما أتى عليه سنة تكلَّم، وهو أول كلامه، فقال. يا أمَّاه من ربي؟ قالت: أنا، قال: ومن ربّك؟ قالت: أبوك، قال: ومن ربُّ أبي؟ قالت: نمرود، قال: ومن ربُّ نمرود؟ فلطمته وقالت: اسكت. ثم رجعت إلى أبيه وقالت: أرأيت الغلام الذي كنا نتحدث أنه يغير دينَ أهل الأرض؟ قال: لا، قالت: إنه ابنك. ثم أخبرته بما قال، فجاء إليه أبوه فقال له مثل ذلك. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75] الآية. قال مجاهد: قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي} الضمير يعود على قوله: {وَلَقَدْ آتَينَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ ¬

_ (¬1) سلف في فصل من ملك الأرض وسلكها وقطع سبلها.

مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 51] وهو قوله لأمه: من ربُّكِ، فإنَّ الله ألهمه التوحيد والإيمان. وكذا أريناه ملكوت السَّماوات والأرض. و"الملكوت": الملك زيدت فيه الواو والتاء كما زيدت في الجبروت. وقال مقاتل: والمراد بملكوت السماوات: الشمس والقمر والنجوم والأفلاك والأملاك ونحوها، وبملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار والأنهار والمعادن والحيوانات والنبات. قال مجاهد: وهذا كله رآه في النهار عيانًا، كشف عن السَّماوات فرأى العرش، وعن الأرض فرأى الأرض السابعة. وقال مقاتل: إنما رأى ملكوت السماء في الليل، وملكوت الأرض في النهار. وقال ابن عباس: أري خلق السَّماوات والأرض. وقال سعيد بن جبير: آيات السماوات والأرض، أقيم على صخرة وكشف له عن ذلك حتى نظر إلى مكانه في الجنَّة. وحكى الثّعلبي عن قتادة قال: إنَّ إبراهيم عليه السَّلام حدَّث نفسه أنّه أرحم الخلق، فرفعه الله حتى أشرف على أهل الأرض، ورأى أعمالهم، فلمّا رآهم يعملون بالمعاصي قال: اللهمَّ دمّر عليهم، والعنهم، فقال له ربّه: أنا أرحمُ بعبادي منك، اهبط، لعلَّهم يتوبون. وقال الثعلبي بإسناده عن قيس بن أبي حازم، عن عليّ كرّم الله وجهه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لمّا أرى الله إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض أشرف على رجل يَعْصي الله فدعا عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فدعا عليه فهلك، وعلى آخر، فلمّا أراد أن يدعو عليه أوحى الله إليه أن يا إبراهيم، إنَّك رجلٌ مُجابُ الدَّعوة فلا تدعونَّ على عبادي، فإني منهم على ثلاث خصال: إما أن يتوبوا فأتوبَ عليهم، وإما أن أُخْرِجَ منهم نسمةً تسبّح، وإمّا أن يبعثوا إليّ فإن شئتُ عفوتُ عنهم وإن شئتُ عاقبتهم" (¬1). قلت: وينبغي أن تكون هذه الآية مؤخّرة في التلاوة لأنه إنما أري ملكوت ¬

_ (¬1) انظر هذه الآثار في تفسير الطبري 8/ 347 - 351.

السماوات والأرض -على قولهم- وهو في السّرب، ابن سنة أو سنتين أو ثلاث، فكيف يقال له: أنت رجل مجاب الدّعوة؟ ! قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76] إلى آخر القصَّة. قال علماء السِّير: لما قال لأبويه: مَن ربي؟ وأنكرا عليه قال: أخرجوني من السَّرَب، فأخرجاه. و"جنَّ الليل": أظلم وغطى كل شيء، ومنه سمِّيت الجنُّ لاجتنانها فلا ترى. وقال أبو عبيدة: جنون الليل سواده (¬1). واختلفوا في الكوكب الذي رآه: فقال مجاهد: المشتري. وقال مقاتل: الزهرة. وقال ابن عباس: رأى أنورَهما وأشرَقهما، أو أنورَها وأشرَقها، وإنما رأى الكوكب قبل القمر؛ لأنها كانت آخر ليلة في الشهر والقمر لا يطلع فيها في أوَّل الليل (¬2). {فَلَمَّا أَفَلَ} أي: غاب قَال {قَال لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] قال الرَّبيع: معناه لا أحب ربًّا لا يدوم {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} أي: طالعًا {قَال هَذَا رَبِّي} قال ابن عباس: عَبَد الكوكب حتى غاب، ثم عبَدَ القمر حتَّى غاب. {فَلَمَّا أَفَلَ قَال لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77] أي: عن الهدى {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَال هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام: 78] فعبَدَها حتى غابت؛ وقد نصَّ ابن عباس على هذا. فإن قيل: فلمَ لَمْ يقل في الشمس: هذه ربي، وقال: هذا ربي؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه رأى ضوء الشمس وهو الشعاع، ولم ير عين الشمس فردَّ النظر إلى الشعاع، ذكره محمَّد بن مقاتل الرَّازي. والثاني: أنه أراد الطالع، أي: هذا الطَّالع ربي، فإنه أضوأ وأعظم، حكاه الأخفش. والثالث: أنَّ على رأي المنجمين أنَّ الشمس ذكر والقمر أنثى (¬3)، وهذا جواب لم أُسبق إليه. ¬

_ (¬1) انظر مجاز القرآن 1/ 198. (¬2) انظر تفسير الطبري 9/ 356، وزاد المسير 3/ 73. (¬3) انظر زاد المسير 3/ 75 - 76.

فصل في الكلام على الآية

فصل في الكلام على الآية واختلفت العلماء في هذا فأجراه بعضهم على ظاهره وقالوا: إنما كان إبراهيم مسترشدًا طالبًا للتوحيد حتى وفَّقه الله تعالى وآتاه رشده. ومثله قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] ومعناه: فلمّا آتاك علمت. قالوا: وهذا كان في زمان الطفولة، فإنه كان ابن سنة أو ثلاث، والدليل عليه قول ابن عباس: فلمَّا رأى الكوكب عبده، فلما رأى القمر عبدَهُ. وأنكر الآخرون هذا -وهؤلاء القائلون بتنزيه الأنبياء عليهم السّلام- وقالوا: هذا التأويل غير مستقيم وإن الأنبياء منزَّهون عن هذا، وغير جائز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلَّا وهو لله مُوحِّد وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء، وخصوصًا الخليل، فإنّ الله آتاه رشده من قبل، وقال: {أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] فكيف يُتوهم هذا على من عصمه الله وطهَّره وجعله أصل الأنبياء، وقال في حقِّه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)} [الأنعام: 75] أفتراه أراه الملكوت ليوقن، فلمّا أيقن كان ثمرة إيقانه أنّه لمّا رأى الكوكب قال: هذا ربي؟ ! هذا غير جائز. قالوا: وفيه أربعة أوجه من التأويل: أحدها: أن إبراهيم أراد أن يستدرجهم بهذا القول، ويعرّفهم خطأهم وجهلهم، ويقيم الحجة عليهم، فأراهم تعظيم ما عظَّموا وملتمس الهدى من حيث ما التمسوا، فلمّا أفل أراهم النَّقص الداخل على النجوم، ليتيقَّنوا خطأ ما كانوا يدَّعون من تعظيم النجوم وعبادتها. قالوا: ونظير هذا الحواري الذي ورد على قوم يعبدون صنمًا لهم، فأظهر تعظيمه وأراهم الاجتهاد في دينهم فأكرموه وعظَّموه، وصدروا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدوّ لهم خافه الملك على مملكته، فشاوروا الحواريَّ في أمره فقال: الرَّأي أن ندعو إلهنا -يعني الصنم- حتى يكشف ما بنا فإنَّا لمثل هذا اليوم كنا نرجوه. فاجتمعوا حوله يجأرون ويتضرَّعون، وأمرُ عدوّهم يستفحل. فلمّا تبيَّن لهم أن صنمهم لا ينفع ولا يدفع ولا يسمع قال الحواريّ: ها هنا إله تدعونه فيسمع ويجيب وينفع، فهلمّوا ندعوه، فدعوا الله تعالى وتضرَّعوا إليه، فصرف عنهم ما كانوا

فصل في كسره الأصنام

يخافون من عدوّهم، فأسلموا. والوجه الثاني: أنَّ إبراهيم رآهم يعبدون الشمس والقمر والنجوم، فقال لهم -على سبيل الاستفهام والتوبيخ، مُنكِرًا لفعلهم-: هذا ربي؟ ! أي أهذا ربي أم لا؟ . والثالث: أنَّ معناه: ليس هذا ربّا لي، ومثله قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]. والرّابع: أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا وإضمارًا, وتقديره: ويقولون هذا ربي، حكاية عنهم (¬1). قلت: وقد بسط أبو إسحاق الثعلبي الكلام في هذا الوجه وبالغ، والعجب منه -وقد اتفق العلماء- أنه إنما قال ذلك عند خروجه من السَّرَب، وهو ابن ثلاث سنين، فيا ليت شعري: أين كان قومه في ذلك الوقت؟ وهل كانت أمه وأبوه يخبران بحاله مخافة عليه؟ فقوله في الوجه الأول إنه أراد أن يستدرجهم باطل، وأما عن الوجه الثاني وما بعده فإنَّ حروف الاستفهام لا تضمر إذا كان الاستفهام فارقًا بين الإخبار والاستخبار، فلا يقال هذا زيد في الإخبار، ومعناه: أهذا زيد، وكذا قولهم معناه: هذا ربًّا لي، لا يجوز أن يحمل الاستفهام على ليس ولا الإخبار، وكذا قولهم إنه حكاية عنهم؛ لأنه يكون حينئذ عدولًا عن الحقيقة إلى المجاز، وأنه قلب الموضوع. والصَّواب: حمل الكلام على ظاهره، وأن ذلك وقع من الخليل وهو في زمان الطفولية، والأنبياء غير معصومين في تلك الحالة، فَحَمْلُ الكلامِ على ظاهره مع إقامة عذر الخليل أولى من حَمله على هذه التأويلات الضعيفة. والدَّليل على صحَّة هذا قوله عقيب ذلك: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79] الآية. فصل في كسره الأصنام قال وهب بن منبه: يقال: إنَّه أقام في السَّرَب ثلاث سنين، وقيل: سبع سنين. فلمَّا ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري 9/ 356 - 360، وزاد المسير 3/ 73 - 75.

أظهر آزر أنه ابنه وأنه كان غائبًا عنه رقَّ عليه أبوه، وكان أبوه يعمل الأصنام فيعطيه الصنم ليبيعه، فيخرج به إلى السوق فيقول: من يشتري مني ما لا ينفعه ويضرُّه، كذا روى وهب (¬1). وذكر جدي في "التبصرة": أنه كان يقول: من يشتري من يضره ولا ينفعه (¬2). ثم يأتي بها إلى النهر فيضرب رؤوسها ويقول: اشربي، استهزاء بها وبقومه، لما هم عليه من الضَّلال، حتى فشا عيبه إيَّاها في أهل البلد، وجعل يقول لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] أي: مقيمون على عبادتها، {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53] فنحن نقتدي بهم ونقلِّدهم. قال ابن عباس: وكان لهم يوم عيد يجتمعون فيه، فخرج معهم ثم ألقى نفسه في الطريق، وقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]. فإن قيل: فكيف نظر نظرة في النجوم؟ قلنا: إنما قصد موافقتهم؛ لأنهم كانوا ينظرون في النجوم، ليتمكن من كسر الأصنام، فلا ينكرون عليه. ومعنى قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} أي: سأسقم؛ لأن الإنسان لا يخلو من السقم. وقيل معناه: إني سقيم عن عبادتها، فكان من المعاريض. فلمَّا مضوا وتركوه قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] والكيد احتيال الكائد في ضرِّ المكيد. وكان لهم اثنان وسبعون صنمًا من ذهب وفضة وغير ذلك من الرَّصاص والصُّفر والنُّحاس والخشب وغيرها، وكان كبيرهم من ذهب، وعيناه ياقوتتان. وكانوا في ذلك العيد يذبحون الذبائح ويقربون القرابين، ويضعون الطعام بين يدي الأصنام قبل خروجهم إلى عيدهم، يزعمون للتبرك عليه، فإذا انصرفوا من عيدهم دخلوا عليها فأكلوه. {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)} [الصافات: 90] أي: إلى عيدهم. فدخل إبراهيم دار الأصنام، فكسر الجميع، وعلَّق الفأس في رأس الصنم الكبير، فلمَّا فرغوا من عيدهم دخلوا عليها فرأوها على تلك الحال. ¬

_ (¬1) انظر عرائس المجالس 76. (¬2) "التبصرة" 1/ 106.

قال مقاتل: فذلك قوله: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَال أَلَا تَأْكُلُونَ (91)} [الصافات: 91] يعني من الطعام الذي بين أيديهم، يستهزئ بهم. ثم قال: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)} [الصافات: 92، 93] لأنها أقوى عملًا من اليسار (¬1). وكان قد أقسم بقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] ففعل ما حلف عليه. واليمين: القوَّة. {فَأَقْبَلُوا إِلَيهِ يَزِفُّونَ (94)} [الصافات: 94] وهو حال بين الإسراع والرويد، ومنه زفيف النعام بين المشي والطيران {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 59] يا إبراهيم، فنمَّ عليه رجل كان قد سمعه يقول: والله لأكسرنَّها، فقال ذلك النمَّام: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] أي: يعيبهم ويسبهم {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61] ومعنى: أعين الناس أي: بمرأىً منهم وفي {يَشْهَدُونَ} قولان، أحدهما: عذابه. والثاني: يشهدون عليه أنه فعل ذلك. قال ابن عباس: كرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة. فلما حضر {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62) قَال بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62، 63] غضب أن يعبد معه الضعفاء فكسرها. وكان الكسائي يقف على قوله: {بَلْ فَعَلَهُ} ثم يبتدئ فيقول: {كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 63، 64] (¬2) حيث عبدتم من لا يتكلم. {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65] أي: أدركتهم حيرة وقالوا: قد ظلمناه وما نرى الأمر إلا كما قال ولكن أرادوا أن ينصروا آلهتهم. قال مقاتل لما جادلوه قال لهم: قَال {قَال أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96] أي: وعملكم. قلت: وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى حيث قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} وعلى أنها مكتسبة للعباد حيث أثبتت لهم عملًا، فأبطل مذهب القدريَّة والجبريَّة. ¬

_ (¬1) من قوله ولا الإيمان ومعناه فلما آتاك ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 107، و"زاد المسير" 5/ 760.

فصل في مناظرته لنمرود

فصل في مناظرته لنمرود قال علماء السير: لما ألزمهم إبراهيم الحجَّة حملوه إلى نمرود، وقالوا: هذا فعل بآلهتنا، وقال لنا كذا وكذا. وأصل حاجَّ من الحجة، وذلك معنى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] وهل كانت هذه المناظرة بعد أن ألقي في النار أم عقيب كسر الأصنام؟ فيه قولان. وقال مقاتل: لما كسر الأصنام حبسه نمرود سبع سنين ثم أخرجه فناظره، فقال: من ربك؟ وقال أحمد بإسناده عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان الناس يخرجون فيمتارون الطعام من نمرود، وكان كلُّ من مرَّ بنمرود يقول له: من ربك؛ فإن قال: أنتَ مَارَهُ، وإن لم يعترف لم يعطه شيئًا، فمر به إبراهيم فقال: من ربُّك؟ فقال: {الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فردَّه، فرجع وأجماله فارغة، فمرَّ على كثيب رمل أعفر فقال: آخذ منه لئلا أرجع إلى أهلي بغير شيء، فأخذ منه، فلمَّا دخل البيت نام، وكان ليلًا، فقامت امرأته إلى جوالق ففتحته فإذا دقيق حُوَّارى، فخبزت منه، فلمَّا استيقظ رأى الطعام، فحمد الله وفطن، ثم ناظر نمرود بعد ذلك (¬1). قوله تعالى: {إِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] هذا جواب نمرود لما قال له: مَن ربُّك؛ فكان جواب سؤال سابق غير مذكور، فقال نمرود: {قَال أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] قال ابن عباس: دعا برجلين قد استوجبا القتل، فقتل أحدهما واستبقى الآخر، فسمَّى تركَ القتل إحياءً، وهذا من جهله لأنَّ ترك القتل لا يسمّى إحياءً، بل الإحياء يكون بعد الموت. قال إبراهيم: {قَال إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي: دهش وتحيَّر وانقطعت حجَّته {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] بترك الحجَّة. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 5/ 433 (شاكر)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 2/ 320 (مخطوط)، ولم أقف عليه عند أحمد.

فصل في إلقائه في النار

فإن قيل: فانتقال الخليل من حجّة إلى أخرى مؤذن بالعجز، فالجواب: إنه ما انتقل عجزًا، وقد كان له أن يقول لنمرود: فأحيي من أَمتَّ إن كنت صادقًا، وهذا له نظير في العالم، أمَّا إتيان الشمس من المغرب فليس له نظير في العالم؛ لأنه لا يقدر عليه إلَّا الله تعالى، حتى لو قال نمرود: أنا أفعل ذلك لم يلتفت إليه، لعدم النظير، فأفحمه وبهته وقطعه وحيَّره، فعدل حينئذ نمرود إلى إحراقه بالنار. فإن قيل: فقد قال مقاتل: لو قال نمرود: فأنا آتي بها من المشرق فقل لإلهك يأتي بها من المغرب، لكان متوجِّهًا في عناده، قلنا: لم يكن متوجهًا لما ذكرنا من عدم النظير، ولو توجّه فقد نطقت الأخبار بأن الله تعالى يأتي بها في آخر الزمان من المغرب فيكون ردًّا على نمرود. فصل في إلقائه في النار قال أرباب السِّير: لما أُفحم نمرود استشار أصحابه فيه، فكل واحد أشار بشيء، فقال رجل منهم: حرّقه بالنار، فهو أشد لعذابه. قال ابن عباس: فخسف بذلك الرجل فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة. فبنى له نمرود بنيانًا إلى سفح جبل طول جداره ستون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، ونادى مناديه: أيّها الناس احطبوا لنار إبراهيم الذي كسر أصنامكم وعابها، فلم يتخلَّف صغير ولا كبير، فأقاموا أربعين يومًا يحتطبون، حتّى إن المرأة كانت تقول: إن ظفرت بكذا وكذا لأحتطبنَّ لنار إبراهيم. وحكى أبو القاسم في "تاريخ دمشق" عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه أنه قال: كانت البغال تتناسل وكانت أسرعَ الدوابّ في نقل الحطب لنار إبراهيم، فدعا عليها فقطع الله نسلها وأعقم أرحامها. قال: وكانت الضفادع تسكن النّار، فقال: فجعلت تطفئ النار عنه، فدعا لها فأنزلها الله الماء، وكانت الأوزاغ تنفخ على النار وهو فيها، وكانت أحسنَ الدوابّ، فلعنها وأمر بقتلها (¬1). وأسند أبو القاسم حديثًا عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لمّا ألقي إبراهيم في النّار جعلت الدواب كلّها تطفئ النار عنه إلَّا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه" قال: وكان عند ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 6/ 185.

عائشة - رضي الله عنها - رمح تقتل به الوزغ، وقالت: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الوزغ، قال: وقد رواه ابن عبّاس وابن عمر (¬1). قلت: ولا يصحُّ هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو موقوف على علي كرم الله وجهه وعائشه - رضي الله عنها -. وقال مقاتل: ارتفع لهب النار حتى كان الطَّير يمرُّ بها فيحترق من لهبها، فلمَّا ساوى الحطب رأس الجدار لم يدروا كيف يلقونه، فتمثل لهم إبليس في سورة نجار، فصنع لهم المنجنيق، فهو أوَّل من صنعه، ولم يكن يُعْرَفُ قبل ذلك، فنصبوا المنجنيق على رأس الجبل ووضعوه فيه، فرفع إبراهيم رأسه إلى السماء وقال: اللهمَّ أنت الواحد في السّماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، وليس في السماء إله يُعبَد سِواك، أنت حسبي ونعم الوكيل (¬2). وروى البخاري عن ابن عباس أنَّ هذه آخر كلمة قالها إبراهيم. فلمَّا ألقوه عارضه جبريل في الهواء وناداه: يا إبراهيم ألَك حاجة؟ قال: أمّا إليكَ فلا، فقال: سَل من إليه الحوائج، فقال: علمه بحالي يغني عن سؤالي (¬3). وفي رواية: أحبُّ الأمرين إليه أحبهما إليَّ. وقال أهل المعاني: لسان حال الخليل يقول: حاجتي إلى الجليل لا إلى جبريل. وقال عبد الله بن أحمد بإسناده عن بكر بن عبد الله المزني قال: لما ألقي إبراهيم في النار جأرت الخليقة إلى ربها وقالت: يا ربّ خليلك يُلقى في النار، فأذَنْ لنا أن نطفئ عنه، فقال الله تعالى: هو خليلي ليس لي في الأرض خليل سواه، وأنا ربّه ليس في السّماء ربّ غيري، فإن استغاث بكم فأغيثوه، وإلَّا فدعوه. فجاء ملك القطر فقال: يا ربِّ، خليلك يلقى في النّار، فقال: إن استغاث بك فأغثْه، وإلَّا فدعه. وفي رواية: وإن لم يدعُ غيري فأنا وليُّهُ، [فلما ألقي في النار دعا ربه] قال الله تعالى: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فبردت محل نار يومئذ على أهل المشرق ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 6/ 185 - 186. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 241 - 242، و"المنتظم" 1/ 261. (¬3) انظر "التبصرة" 1/ 115.

والمغرب فلم ينضج بها كراع (¬1). وقال ابن عباس: لم يبق يومئذ في الأرض نارٌ إلَّا طفئت ظنّت أنها هي التي تعنى، قال: ولو لم يقل {وَسَلَامًا} لمات إبراهيم من البرد (¬2). وقال مجاهد: لو لم يقل: سلامًا، لم ينتفع بها أحد إلى يوم القيامة. وحكى أبو القاسم في "تاريخ دمشق" عن سفيان الثوري أنه قال: أوحى الله إلى النّار لئن نلت من إبراهيم أكثر من حلّ وثاقه لأعذبنّك عذابًا لا أعذِّبه أحدًا من خلقي، وفي رواية: عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين (¬3). وقال السُّدي: لما وصل إلى النّار تلقَّته الملائكة بأيديها وأخذت بضَبْعَيه، وجاءه جبريل بقمص من الجنَّة، وطنفسةٍ من الجنَّة، فأَلبسه القميص وأجلسه على الطنفسة، وصار المكان روضةً، وأنبع الله له عينًا من الماء العذب، وأنبت حوله الورد والرياحين والياسمين، وقعد جبريل يتحدَّث معه. وحكى المنهال بن عمرو قال: أقام إبراهيم في النار أربعين يومًا، وكان يقول بعد ما خرج منها: ما طاب لي عيش غير تلك الأيام، وددتُ أني كنت فيها أبدًا (¬4). وحكى الحافظ في "تاريخ دمشق" عن عكرمة قال: قالت أم إبراهيم لما ألقي في النار: قد كان ابني يقول: إنّ له ربًّا يمنعه، ثم صعدت على سُلَّم فاطَّلعت عليه، فإذا هو جالس وسط النار فقالت: يا إبراهيم، ادعُ إلهك أن يجعل لي طريقًا إليك، فسأل الله تعالى، فنزلت إليه فضمَّته وقبَّلته (¬5). وحكى الحافظ أيضًا عن عكرمة قال: لما أخرج الله إبراهيم من النَّار زاده في حسنه وجماله سبعين ضعفًا (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 19 من طريق عبد الله بن أحمد، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 115. (¬3) "تاريخ دمشق" 6/ 182 - 183. (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 79. (¬5) "تاريخ دمشق" 6/ 184. (¬6) "تاريخ دمشق" 6/ 184.

فصل في ذكر إيمان لوط وسارة

وقال مقاتل: قال آزر لنمرود: ائذن لي في جمع عظام إبراهيم، فقال: أنا أجيء معك، فنادى في الناس فاجتمعوا وجاء ومعه الخلائق فنقب الحَيْر (¬1)، وإذا بإبراهيم جالس وجبريل إلى جانبه وهما يتحدثان، فتحيَّر نمرود وناداه: يا إبراهيم، إن إلهك لعظيم، إن إلهك الذي بلغت قدرته هذا لكبير، فقام إبراهيم يمشي حتى خرج من الحَير، فقال له: مَن ذلك الشابُّ الذي كان معك؟ فقال: جبريل -وفي رواية: ملك القطر، وملك الظلِّ- جاؤوا يؤنسونني فقال: يا إبراهيم أريد أن أقرِّب لإلهك قربانًا لما رأيتُ من قدرته، قال: إنّه لا يقبل منك ما دمت على كفرك، فقال: لا أقدر أن أترك ملكي، ثم ذبح أربعة آلاف بقرة وكفَّ عن إبراهيم (¬2). واختلفوا في عمره لما ألقي في النار على قولين: أحدهما: أنَّه كان له ستّ عشرة سنة، قاله مجاهد، والثاني: ثلاثون سنة، قاله ابن إسحاق، والأول أصح. فصل في ذكر إيمان لوط وسارة قال علماء السِّير: لما ظهرت الآية العظيمة في نار إبراهيم اتَّبعه رجال من قومه على وجل من نمرود، منهم لوط، وكان ابن أخيه. وقال ابن قتيبة: وجدت في "التَّوراة": أنه ولد لتارَخ -وهو آزر أبو إبراهيم- ولدان: ناحور وهاران، وولد لهاران لوط وسارة وملكا، فمات هاران في حياة أبيه تارخ في أرضه التي ولد بها، [فنكح إبراهيم سارة ابنة هاران] ونكح ناحور ملكا بنت هاران. وكانت سارة عاقرًا لم تلِد، فخرج تارخ بابنه إبراهيم وابن ابنه لوط إلى حرَّان وخرج معهم، فمات تارخ أبو إبراهيم بحرَّان (¬3). قلت: وقول ابن قتيبة: أنَّ ناحور بن تارخ نكح ملكا غير صحيح؛ لأنها أخت ناحور ¬

_ (¬1) في (ب): "الجدار" ولعل ما أثبتناه هو الصواب، فقد ذكر ابن عساكر في "تاريخه" 6/ 171 أن نمرود وضع إبراهيم في السجن بضع سنين، بني له الحير بحصى، وأوقده بالحطب الجزل، وألقى إبراهيم فيه. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 242 - 243. (¬3) "المعارف" ص 31، وما بين معقوفين زيادة منه.

فصل في عرض إبراهيم على أبيه آزر الإسلام

وكلاهما ابنا هاران، فكيف ينكح أخته؟ وحكى ابن قتيبة عن وهب: أنَّ أوَّل من بني حرَّان أخوان لإبراهيم يقال لأحدهما: هاران، وبه سمِّيت حرَّان، جعلوا الهاءَ حاء وبعضهما قال: يقال له "ناهر" وهو أبو رفقا امرأة إسحاق (¬1). قال ابن قتيبة: ويقال له هرن بغير ألف، وبعضهم يقول هارن. وقال ابن الجواليقي في "المعرب": وحرّان اسم البلدة معربة، وهي مسماة بهاران بن آزر أخي إبراهيم (¬2). وذكرها الجوهري، وقد حكيناه في باب البلدان. وقال قتادة: كانت سارَة ابنة عمِّ إبراهيم، هذا هو المشهور، وقيل: إنها كانت ابنة ملك حرَّان، وكان قد بلغها خبر الخليل عليه السَّلام، فآمنت به وعابت على قومها عبادة الأوثان، فلمَّا قدم الخليل حرَّان تزوَّجته على أن لا يغيرها (¬3). وقد نسبها هشام بن الكلبي عن أبيه فيما أخرجه عنه ابن سعد في "الطبقات" فقال: هي سارَة بنت بثويل بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالِغ -أو فالخ- بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح - عليه السلام - (¬4). فصل في عرض إبراهيم على أبيه آزر الإِسلام قال علماء السِّير: قال لأبيه: قد شاهدت الآية العظمى والمعجزة الكبرى {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيئًا} [مريم: 42] الآيات. فأجابه أبوه بجواب من غلب عليه الشقاء {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46] وليس هذا بجواب شافٍ، لأنه قد علم رغبته عن آلهته، وتيقَّن أنه يغير الملَّة، فقوله: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ} تحميل الحاصل، وأنه محال. ¬

_ (¬1) "المعارف" ص 31. (¬2) "المعرب" ص 171. (¬3) أخرجه الطبري في تاريخه 1/ 244 عن السدي. (¬4) "الطبقات الكبرى" 1/ 47.

فصل في هجرته إلى الشام

فإن قيل: فقد علم الخليل أنَّ أباه لا يسلم وقد قال لإبراهيم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} أي: لأشتمنَّك {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] أي: حينًا، ومنه الملوان الليل والنهار. فالجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ أباه كان قد وعد أن يؤمن، بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] الآية. والثاني: أنه أراد تركيب الحجَّة عليه {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] ثم قال: {سَلَامٌ عَلَيكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] ومعنى "سلام": أي: أقول لك ما أسلم فيه، وسوف استغفر، أي: ما أيأس من إسلامك، وهذا من باب الشفقة والحنوِّ عليه. وقال البخاري بإسناده عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَلْقَى إبراهيمُ أَبَاه آزرَ يومَ القيامةِ، وعلى وَجهِ آزَرَ قَتَرةٌ وغَبَرةٌ، فيقول له إبراهيمُ: أَلَم أقُل لكَ لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليومَ لا أعصيكَ، فيقول إبراهيم: يا ربّ، إنك وَعَدتَني أنْ لا تُخزيني يومَ يُبعَثون، وأيُّ خِزيٍ أَخزى مِن أبي الأبعدِ؟ ! فيقولُ الله: إنِّي حرَّمتُ الجنَّة على الكافِرينَ. ثم يقال: يا إبراهيمُ، ما تَحْتَ رجلَيكَ؟ فينظرُ فإذا هو بِذِيخٍ عظيمٍ، فيُؤخذُ بقَوائِمه فيُلقَى في النَّارِ" انفرد بإخراجه البخاري (¬1)، والذيخ: ذكر الضباع الكثير الشعر. فصل في هجرته إلى الشام قال هشام: لما اعتزل إبراهيم أباه وقومه قطع الفرات، ودخل إلى الشام، ووصل دمشق ومعه سارَة ولوطٌ ابن أخيه وجماعة ممَّن آمن به، وكان له على ما ذكر ابن الكلبي أربع مئة عبد يجاهدون بالعصيِّ (¬2)، وكان بدمشق جبَّار فخرج إليه، فحاربه فقتله إبراهيم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3350). (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 47.

فصل في ذكر قدومه مصر، والجبار وسارة

وقال مقاتل: لم يحارب (¬1) من الأنبياء إلا خمسة أولهم إبراهيم، وهو أوَّل من حارب بالعصيِّ، ثم موسى وداود وسليمان ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. فصل في ذكر قدومه مصر، والجبَّار وسارَة قال علماء السِّير: أقام إبراهيم عليه السَّلام بالشَّام مدَّة، فقُحط الشام، فسار إلى مصر ومعه سارَة ولوط، وكان بها فرعون، وهو أوَّل الفراعنة -عاش دهرًا طويلًا-. واختلفوا فيه: قال قوم: هو سنان بن علوان، وقيل: سنان بن الأهبوب أخو الضحَّاك، وهو الذي بعثه إلى مصر، فأقاموا بها. وكانت سارة من أجمل النساء، فوصفت لفرعون فأرسل يطلبها. قال أحمد بإسناده عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يَكْذِبْ إبراهيمُ قطُّ إلا ثلاث كذباتٍ: ثِنتَينِ في ذاتِ اللهِ، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وواحدةً في شأنِ سارَة، فإنَّه قدِم أرضَ جبَّار، فقيل له: دَخَل إبراهيمُ اللَّيلة بامرأةٍ من أحسن النساءِ، فأرسل إليه الجبَّار: من هذه معك؟ فقال: أختي، قال: فأرسِلْ بها إلي، فأرسلها إليه، وقال لها: لا تكذِّبيني، فإنِّي قد قُلتُ إنَّك أختي، فما على وجهِ الأرض مؤمن غيري وغيرُك. فلما دَخَلتْ إليه قامَ إليها فأقبلَت تصلِّي وتقولُ: اللهمَّ إن كنت تعلم أنِّي آمنتُ بكَ وبرسولِك وأحصَنتُ فرجِي، إلَّا على زَوجِي، فلا تُسلِّط عليَّ الكافر، قال فَغُطَّ حتى رَكَضَ برِجلَيه، فقالت: اللهمَّ إن يَمُت فيقولوا: هي قتَلتْه، قال: فأرْسِل، فقام إليها، فقالت مثلَ قولها، فَغُطَّ فدعَتْ فَأَفاقَ، فعلَ ذلك أربعًا، فلمَّا أفَاقَ في الرَّابعةِ قال: ما بَعثْتُم إليَّ إلَّا شَيطَانةً، رُدُّوها إلى إبراهيمَ وأَعطُوها خادِمًا، فأَخدَمُوها هاجرَ. فلمَّا جاءَت إلى إبراهيمَ قالت: أشعَرْتَ أَنَّ الله ردَّ كيدَ الفاجِر وأخدَمَ وليدة". أخرجاه في "الصحيحين" (¬2)، وهو حديث طويل، وقد روي بروايات كثيرة. ¬

_ (¬1) في (ل): يقاتل. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (9241)، والبخاري (2217)، ومسلم (2371).

الكلام على الحديث

وقد أخرجه الحميدي، وقال فيه: "وكانَت سارَةُ من أحسنِ الناسِ (¬1)، وقال إبراهيمُ: إن يَعلمْ هذا الجبَّارُ أنَّك امرأَتي يغلبْنِي عليكِ. وقامَ إبراهيم إلى الصَّلاةِ، فلمَّا دخَلَت عليهِ لم يَتَمالك أن بَسَطَ يَدَه إليها، فقُبِضَت يدُه قَبضًا شديدًا، فقال لها: ادْعِي الله أن يُطلِقَ يدِي ولا أضرُّكِ، ففعلت، فعادَ حتى فعلَتْ ذلك مِرارًا، فدَعَا الذي جاءَ بها وقَال: إنَّما جئتَني بشيطانٍ، فأخرجْها من أرْضِي ... وفيه: فلمَّا عادَتْ قال لها إبراهيمُ: مَهْيَمْ؟ قالت: خير، كفَّ الله يَدَ الفاجِر وأخدَمَ خادِمًا" فقال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماءِ السَّماء (¬2). الكلام على الحديث وقد أنكر جماعة من العلماء الكذب على إبراهيم وقالوا: الكذب قبيح على غير الأنبياء، فكيف على أصل الأنبياء؟ والجواب: إن هذا من المعاريض المندوب إلى مثلها, ولو بحث عمَّا قال إبراهيم لكان صدقًا. فإن قيل: فما معنى امتناع الجبار عنها بقوله: هي أختي، ولو قال: زوجتي كان أمنع لها؟ فالجواب: إن من شرع ذلك الجبار أن من كان له أخت هي زوجته، وهو أحق بها من غيره، ولا تؤخذ منه قهرًا، فقال ذلك إبراهيم خوفًا على نفسه وظنًّا منه أن ينجيه ذلك. وقوله: "مَهْيَمْ" قال الجوهري: مَهْيَم -بفتح الميم الأولى وإسكان الثانية- كلمة يستفهم بها، ومعناها: ما حالك وما شأنك (¬3)؟ وقول أبي هريرة: هي أمُّكم يا بني ماء السماء، يشير إلى العرب؛ لأنَّ أمَّهم هاجر، وهم يسكنون البوادي، ويعيشون بماء المطر. ¬

_ (¬1) في (ب): "النساء". (¬2) "الجمع بين الصحيحين" (2415)، وهذه رواية مسلم (2371). (¬3) "الصحاح": (مهيم).

فصل في عوده إلى الشام ونزوله، وذكر ما سن من السنن

وقال ابن إسحاق: كانت هاجر وصيفة فوهبتها سارَة لإبراهيم وقالت: خذها, لعلَّ الله أن يرزقك منها ولدًا. وكانت سارَة عاقرًا. واختلفوا في هاجر: فقال مقاتل: كانت من ولد هود - عليه السلام -، وقال الضحاك: كانت بنت ملك مصر، وكان الملك ساكنًا بمَنْف فغلبه ملك آخر، وقيل: إنما غلبه فرعون فقتله وسبى ابنته فاسترقّها ووهبها لسارة. وقال مسلم بإسناده عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَتُفتَحُ أرضٌ يُذكَرُ فيها القِيرَاطُ فاستَوصُوا بأهلها خَيرًا، فإنَّ لهُم ذمَّةً ورحِمًا". انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وفي رواية: "سَتُفتَحُ مِصْر (¬2) ". وعامَّة العلماء على أنّه - صلى الله عليه وسلم - أراد هاجر أمَّ إسماعيل لأنها أمّ العرب، وكانت من مصر (¬3). وقال الشعبي: أراد مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعامَّة الرواة على الأوَّل. قلت: ويمكن الجمع بين القولين لأنَّ الأصل في ذلك أمّ إسماعيل، ثم أكدت الرحم أم إبراهيم - عليه السلام -. فصل في عوده إلى الشام ونزوله، وذكر ما سنَّ من السّنن قال وهب: لما خرج الخليل من مصر نزل فلسطين بمكان يقال له السبع -بإسكان الباء- واتخذ به مسجدًا، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع على يوم وليلة، فبعث الله لوطًا نبيًّا. وأقام إبراهيم بالسبع، واحتفر بئرًا فكانت غنمه ترِدها، ثم إنَّ أهلها آذوه فخرجَ منها، فنزل بناحية فلسطين، فغار ماءُ تلك البئر، فندم أهل ذلك المكان على ما فعلوا به وقالوا: أخرجنا الشيخ الصالح من بين أظهرنا. ثم مضوا إليه واستوضوه وسألوه ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2543) (226) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬2) صحيح مسلم (2543) (227). (¬3) انظر "شرح مسلم" 16/ 97.

الرُّجوع فقال: ما أنا براجع إلى مكان أخرجت منه، فقالوا: قد نضب ماء البئر، فأَعطاهم سبعة أعنز من غنمه وقال: أوردوها البئر ولا تغرف منها حائض ولا جنب، فأوردوها فظهر الماء، فيقال: إنما سمِّي ذلك المكان سبع لهذا. وقال مقاتل: لما خرج إبراهيم من مصر نزل جبل لبنان وأقامَ به مدة، فاشتاق إلى الأرض المقدَّسَة، فأوحى الله إليه: اصعد على رأس لبنان وانظر أي مكان اخترتَ من الأرض فهو مقدَّس، فنظر فانتهى بصره إلى دمشق والشام والأردن وفلسطين، فقال الله تعالى: هذه الأماكن كلّها مقدَّسة. والأصحُّ أنَّ الأرض المقدَّسة أرض فلسطين من الأردن إلى البحر. وقال مجاهد: اختار فلسطين فنزل بها، وبسط الله له في الرزق، فكان يسمى الشيخ الصالح، وهو أوّل من أضاف الضيف وثَرَد الثريد وأطعم المساكين، وقصَّ شاربه واستحدَّ، واختتن، وقلَّم أظفاره، واستاك، وفرق شعوه، وتمضمض، واستنشق، واستنثر، واستنجى بالماء. وهو أوَّل من شاب وهو ابن خمسين ومئة سنة، وأوَّل من رأى الشيب في الدنيا. قال مجاهد: رأى في وجهه طاقة بيضاء فقال: يا رب ما هذا؟ فقال: نذير ونور ووقار، فقال: يا ربِّ زدني وقارًا، فشاب رأسه في الحال. وهو أوَّل من خطب على المنبر، ولبس السَّراويل، واختتن. قال أحمد بإسناده عن الزهري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اختَتَنَ إبراهيمُ بالقدُومِ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). قال أبو الزناد: القدوم بالتخفيف اسم موضع بالشّام، وكذا قال الجوهري (¬2). وقال ابن السكيت: ولا تقل قدّوم بالتشديد (¬3)، والعامَّة تقوله. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (8281)، والبخاري (6298)، ومسلم (2370) من طرق متعددة، ولم يذكر فيها الزهريّ، أما رواية الزهريّ فقد أوردها الدارقطني في "العلل" 7/ 281 وقال: رواه أبو قرة موسى بن طارق عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد، عن الزهريّ عن سعيد عن أبي هريرة. (¬2) "الصحاح": (قدم). (¬3) "إصلاح المنطق" ص 205.

فصل في حمل إبراهيم إسماعيل وأمه إلى مكة على البراق

وقال ابن عباس: اختتن وهو ابن عشرين ومئة سنة، وقيل: ابن ثمانين. فصل في حمل إبراهيم إسماعيل وأمَّه إلى مكة على البراق قال ابن إسحاق: إسماعيل أكبر ولد إبراهيم، ولما دفعت سارَة هاجر إلى الخليل أولدها إسماعيل، فغارت سارَة وحلفت أن لا تساكنها, ولتقطعنَ بَضْعة منها، فقال لها الخليل: اخفضيها، فخفضتها، أي: ختنتها. وقال السُّدي: لما حلفت سارَة أن لا تساكنها في بلد حملها إبراهيم وابنها إلى مكة على البراق (¬1)، وقد ذكر البخاري القصَّة فقال: حدثنا عبد الله بن محمَّد عن أيُّوب السَّختياني وكثير بن المطلب ابن أبي وَدَاعة -يزيد أحدهما على الآخر- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أوَّل ما اتخذ النساء المِنْطَقَ من قِبَلِ أمِّ إِسماعيل، اتخذته لتعفِّي أثرَها على سارَة، فجاء بها إبراهيم وبابنه إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وَضعَها عند البيتِ عند دوحةٍ فوقَ زمزمَ في أعلى المسجدِ، وليس بمكَّة يومئذٍ أحدٌ ولا ماء، وَوَضع عندهما جِرَابًا فيه تمرٌ، وسِقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقًا، فتبعته هاجر فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتدعنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيسٌ ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وهو لا يلتفتُ إليها، فقالت: آللهُ أمَرَك بهذا؟ قال: نَعَم، قالت: إذًا لا يُضَيِّعنا. ثم رجعت وانطَلَق إبراهيم نحو الشَّام، حتى إذا كانَ عند الثَّنية حيثُ لا تراه ولا يَراها استَقبَلَ البيتَ بوجهِهِ، ثم دعا بهؤلاءِ الدَّعواتِ، ورفع يده وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيتِكَ الْمُحَرَّمِ} إلى قوله {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] وجعلت أمُّ إسماعيل تُرضع ابنها وتشربُ من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السِّقاء عطِشَت وعطِشَ ابنُها، وجعلت تنظرُ إليه يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصَّفا أقربَ جبل في الأرض يَليها، فقامَت عليه ثم استقبلت الواديَ تنظرُ هل تَرى أحدًا، فلم تَرَ أحدًا، فهبَطَت من الصَّفا، حتى إذا بَلَغت الوادي رَفَعت طَرَف دِرْعِها ثم سعتْ سعي الإنسان المجهود حتى جاوَزَت الواديَ، ثم أتَت المَرْوَة ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 1/ 253 - 254، والمنتظم 1/ 265.

فقامت عليها، ونظرت فلم تَرَ أحدًا - فعلت ذلك سبع مرَّات. قال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلِذلِكَ سَعَى النَّاسُ بينَهما" فلمَّا أَشْرَفَت على المَرْوَةِ سمِعَت صَوْتًا فَقالت: صَهٍ -تُريدُ نَفْسَها- ثم تَسَمَّعت فسمعت أيضًا فقالت: قد أَسْمَعْتَ لو كان عندك غُوَاثٌ، فإذا هي بالملك عند موضعِ زَمزَمَ، فبَحَث بجناحِنه -أو بعقِبِه- حتى ظهرَ الماءُ، فجعلت تُحَوِّضُهُ، وجعلت تقول بيدها كذا، وجعلت تغرفُ من الماء في سِقائها وهو يَفُورُ بعدما تَغْرِفُ". قال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَرحَمُ الله أم إسماعيلَ لو تَركَتْ زَمزَمَ لكانَتْ عَينًا مَعِينًا". وفي رواية: "لو لم تَغْرِفْ مِنَ الماءِ". قال: فشربَتْ وأرْضَعَت ولَدَها فقال لها المَلَك: لا تَخافُوا الضَّيعَةَ فإنَّ لله ها هُنا بيتًا يَبْنيه هذا الغُلامُ وأبُوه، وإنَّ الله لا يُضيِّع أهلَه. وكان البيتُ مُرتَفِعًا من الأرضِ كالرَّابيَة، وتأتيه السُّيول فتأخُذُ عنها يمينًا وشِمالًا، فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رُفقة من جُرْهُم مُقبِلين من طريق كَدَاء، فنزلوا أسفَلَ مكَّة، فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: إنَّ هذا طائرٌ ليَدُورُ على ماءٍ، لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيهِ ماء. فأرسلوا جَرِيّا أو جَريَّين فإذا هم بالماءِ، فرَجَعوا وأخبَرُوهم، فأقبلُوا، وأمُّ إسماعيلَ عند الماءِ، فقالوا: أتَأذَنينَ لنا أن ننزِلَ عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكُم في الماءِ. قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فألْفَى ذلك أم إسماعيل وهي تحبُّ الأُنْسَ" فنزلُوا وأرسَلُوا إلى أهالِيهم فجَاؤوا، فنزلُوا معهم، حتى إذا كان بها أهلُ أبياتٍ منهم وشبَّ الغلامُ وتعلَّم منهم العربيَّة وأنْفَسَهم وأعجَبَهم حين شبَّ، فلمَّا أدرك زوَّجوه امرأة منهم. وماتت أمُّ إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوَّج إسماعيل يطالعُ تركَتَه، فلم يجد إسماعيلَ، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يَبتغي لنا -أو يصيد لنا- ثمَّ سألها عن عيشِهم وهيئَتهم فقالت: نحن بشرٍّ، في ضيقٍ وشدَّة، وشَكتَ إليه. فقال: إذا جاء زرجُك فاقْرَئي عليه السَّلام وقولي له يُغيِّرْ عتبةَ بابه. فلمَّا رجع إسماعيلُ كأنَّه آنسَ شيئًا فقال: هل جاءكم من أَحَد؟ قالت: نَعَم شيخ من صفَتِه كذا وكذا، فسألني عنك فأخبرتُه، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنّا في جَهْد وشدَّة، قال: فهل أوصاكِ بشيءٍ؟ قالت:

نعم، أمرني أنْ أقرأ عليك السَّلام ويقول لك: غيِّر عتبةَ بابكَ، فقال: ذالك أبي وقد أمرَني أن أُفارقَكِ، فالْحقِي بأهلِكِ، فطلَّقها، وتزوَّج منهم أخرى. فلبِثَ عنه إبراهيم ما شاء الله، ثمَّ أَتاهُم فلم يجدْه، فسأل عنه امرأتَه فقالت: خرج يَبتغي لنا، فسألَها عن عيشِهم وهيئَتِهم فقالت: نحن بخير وسَعَة، وأثنَتْ على الله، فقال: ما طعامُكم؟ قالت: اللَّحمُ والماءُ -وفي رواية: ما طعامُكُم قالت: اللَّحم، قال: وما شَرَابُكم؟ قالت: الماءُ، فقال اللهمَّ باركْ لهم في اللَّحم والماءِ. قال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولم يَكُن لهم يومئِذٍ حَبٌّ، ولو كان لدَعا لهمْ فيهِ بالبَركَةِ". قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكَّة إلا لم يوافقاه -وفي رواية: فقال لها: إذا جَاء زوجُكِ فاقْرَئي عليه السَّلام ومُريه أن يُثبِتَ عَتَبةَ بابهِ- فلمَّا جاء إسماعيل قال: هل جاءَكُم من أحدٍ؟ قالت: نَعَم، شيخٌ حسنُ الهيئةِ، وأَثْنَتْ عليه، وأخبرَتْه الخَبرَ، فقال: هل أوصاكِ بشيءٍ؟ قالت: نَعَم، يَقرَأ عليك السلام ويأمُرُك أن تُثبِتَ عتبةَ بابك، فقال: ذاك أبي، وأنتِ العتبةُ، أمرني أن أمسِكَكِ. ثم لبثَ عنهم ما شاءَ اللهُ، ثم أتاهم وإسماعيلُ يَبري نبلًا تحتَ دوحةٍ قريبًا من زَمزَم، فلما رآه قام إليه وصنَعا كما يَصنع الوالدُ بالولدِ والولدُ بالوالدِ. ثم قال: يا إسماعيلُ إن الله قد أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: أوتعينني؟ قال: نعم، قال: فإن الله أمرني أن أَبْنيَ ها هُنا بيتًا، وأشار إلى أَكَمَةٍ مرتفعةٍ على ما حَوْلها. فعندَ ذلكَ رفَعَا القواعِدَ من البيتِ، فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارَةِ وابراهيمُ يَبْني حتى إذا ارتفَعَ البناءُ جاء بهذا الحَجَرِ فوضعَه، وقام عليه يَبْني، وإسماعيلُ يُناوله الحجارةَ وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] الآية. وجَعَلا يَبنيَان حتى يَدُورا حولَ البيتِ. وهما يقولان الآية (¬1). وفي رواية: أن إبراهيم لمّا مضى إلى الشّام رجعت إلى الصبيِّ فإذا هو كأنَّه يَنْشَغُ للموتِ، فلم تُقِرَّها نفسُها، فإذا هي بصوت فقالت: أغثْ إن كان عندك غَوْث أو خير، وإذا جبريلُ، فقال بعقِبِه على الأرضِ كذا، فانبثَقَ الماءُ، فدَهَشَتْ فجَعَلَت تحفِنُ أو تَحفِزُ (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3364)، ومعنى: "يتلبط": يتمرغ ويضرب بنفسه الأرض. "أنفسهم" كثرت رغيتهم فيه. (¬2) صحيح البخاري (3365) "ينشغ": يشهق ويعلو صوته وينخفض كالذي ينازع.

وفي رواية: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَرْحَمُ اللهُ أمَّ إسماعيلَ لولا أنَّها عَجِلَت لكانَتْ زَمزَمُ عينًا معينًا" (¬1). وفي رواية أن زوجة إسماعيل الثانية قالت لإبراهيم: أنزل حتى أغسل رأسك فقد شعث، فلم تزل به حتى جاءته بالمقام فوضعته عند شقِّه الأيمن، فوضع قدمه عليه، فبقي أثر القدم فيه، فغسلت شق رأسه الأيمن، ثمَّ حوَّلت المقام إلى شقَه الأيسر فغسلته. وفي رواية: فقال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاءته باللبن واللحم، فدعا فيهما بالبركة، وقال لها: إذا جاء زوجك فقولي له: قد استقامت عتبة بابك، وداعا لها. قال ابن عباس: ولو كان هناك برٌّ أو شعيرٌ لدعا لهم، فكانوا أكثر الناس خبزًا وتمرًا. وفي رواية: أن هاجر عملت عريشًا موضع البيت. انفرد بإخراج هذا الحديث البخاري، ورواه بروايات كثيرة مختلفة قد أتينا على معظمها، وعامَّة ألفاظه موقوفة على ابن عباس، والمرفوع منه ما حكيناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخرجه الحميدي برواياته (¬2). تفسير غريبه: "الدَّوحة": الشجرة العظيمة أيُّ شجرة كانت. و"الدِّرع": القميص. و"المجهود": الذي نالته مشقة. و"صه": اسكت. وقال الجوهري: صه: كلمة بنيت على السكون، وهي اسم سمّي به الفعل، ومعناه: اسكت (¬3). و"الغواث" -بضم الغين- الغياث. و"جرهم": اسم قبيلة من العرب العاربة. وقال الجوهري: جرهم حي من اليمن، وهم أصهار إسماعيل - عليه السلام - (¬4). وفي مكة ثلاثة أماكن يقال لها: كداء، فالأولى كَدَاء -بالفتح والمدِّ- بأعلى مكة على طريق العمرة. وكدى -مقصور- مكان بأسفلها، وكُديّ مصغّر موضع على طريق اليمن. ولم يذكر الجوهري منها شيئًا، بل قال: الكدية الأرض الصلبة وجمعها كدى (¬5). و"الأكمة": المكان المرتفع. انتهى تفسير غريب الحديث. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3362). (¬2) "الجمع بين الصحيحين" (1111). (¬3) "الصحاح": (صه). (¬4) "الصحاح": (جرهم). (¬5) "الصحاح": (كدي).

وذكر ابن إسحاق والسُّدي والكلبي وغيرهم: أنَّ الله تعالى لما أهلك قومَ عاد -وهم من العمالقة- خرج من بقي من العرب ومنهم من أرض اليمن، وفيهم جرهم وعليهم السميدع بن هوبر بن لاوي بن قنطور بن كركر بن حَيدان (¬1) بن عمليق، فنزلوا تهامة، وبعثوا روَّادهم يطلبون الماء، فأشرفوا على وادي مكة فنظروا إلى الطير ترتفع وتنخفض فاستبطنوا الوادي، فنظروا إلى عريش أمِّ إسماعيل على الربوة الحمراء، وفيه هاجر وإسماعيل، وقد زمَّت حول الماء بأحجار، ومنعته من الجريان. فسلَّم الرواد عليها، واستأذنوها في النزول عندها، ويشربون من الماء، فأذنت لهم ورحبت بهم، وحصل لها الإنس، فعادوا إلى من وراءهم فأخبروهم، فجاؤوا ونزلوا، فأضاء لهم نور النبوة من العريش. فلمَّا ترعرع إسماعيل ألهمه الله الكلامَ بالعربية على خلاف لغة أبيه، ووافق القومَ في لغتهم، وتزوَّج منهم امرأةً يقال لها: الجذاء ابنة سعد العملاقي، وهذه الجذاء هي التي سألها إبراهيم عن عيشهم. وقال وهب: ولما جاءها سلَّم عليها فلم تردَّ عليه السَّلام، وسألها منزلًا فقالت: لاها الله ذا -وسنذكر هذه اللفظة فيما بعد- وهي التي أمره إبراهيم بطلاقها، وقال لها إسماعيل: الحقي بأهلك. قال وهب: وكانت هاجر باقيةً لما جاء الخليل يطلب ولده، وهذا قول من سمينا. وقال مقاتل وابن الكلبي: كان على جرهم الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب بن ظالم، فاستوطنوا مكة، وتزوج إسماعيل المرأة الثانية منهم، واسمها سامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف. واستأذن إبراهيم سارَة في زيارة إسماعيل فأَذِنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فسار على البراق وقيل: على أتان، وكانت هاجر (¬2) قد ماتت ولها تسعون سنة، فدفنها إسماعيل في الحجر. ولما أثرت قدما إبراهيم في المقام قال لها: احتفظي به فسيكون له شأن بعد حين فذلك المقام. ¬

_ (¬1) في (ب): "جندب". (¬2) في (ب): "سارة".

فصل في بناء البيت

فصل في بناء البيت واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أن الله تعالى بناه قبل خلق الدنيا لا ببناء أحد. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كان العرش على الماء قبل خلق الأرض بألفي عام، فأرسل الله ريحًا فصفقت الماء فأبررْت عن خشفة كالقبَّة، وهي موضع البيت، فدحيت الأرض من تحتها. وقال مجاهد: خلق الله موضع هذا البيت قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام، وإنَّ قواعده لفي الأرض السابعة، وكان فيه قناديل من الياقوت، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسُّدي وغيرهم. قال مقاتل: ولما حجَّ آدم تلقته الملائكة فقالت: يا آدم بَرَّ حجُّك، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، فقال: اللهم اجعل له عمارًا من ذرِّيتي، فقال الله: إني سآمُر نبيًّا من ذريّتك اسمه إبراهيم يعمره. والثاني: أن الملائكة بنته لما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] فقال لهم الله تعالى: ابنوا لي في الأرض بيت وطوفوا حوله كما تطوفون حول عرشي، وقد ذكرناه، ثم بقي على حاله. وقيل: إنه تشعّث فجدَّده آدم، وزاده شيث، وبقي إلى أيام الطوفان، فنسفه الغوق وبقي مكانه ربوة حمراء تأتيه السيول من كل مكان، ويأتيه المظلوم فيدعو عنده، حتى جدَّده إبراهيم. وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: كان لإبراهيم يوم بناه مئة سنة ولإسماعيل ثلاثون سنة (¬1). وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت لم يدر كيف يصنع، وضاق به ذرعًا، فأرسل الله الريه الخَجُوج، وهي السكينة، ولها رأسان ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى": 1/ 52، وفي (ب): "ثمانون سنة".

فتطوَّقت موضع البيت كطي الجحفة، وهي على مثال الحية. وعن علي أيضًا قال: جاءت غمامة وناداه منها مثل رأس الإنسان: يا إبراهيم، علّم على ظلّي ولا تزد ولا تنقص. وقال مقاتل: أيدهما الله بسبعة أملاك حنفاء يعينونهما علي بنائه. وقال ابن عباس: فبناه من خمسة أجبل: طور سيناء وطور زِيتا -جبل بيت المقدس- وحِراء وأبي قُبيس والجوديِّ، وقيل: ولبنان. وجعل طولَه ثلاثين ذراعًا، وأدخل الحِجر فيه سبعة أذرع. ولما كمل ولم يبق إلا موضع الحجَر قال لإسماعيل: اذهب فأتني بحجر، فذهب ليأتيه فناداه أبو قُبيس: يا إبراهيم إن لك عندي وديعة. يعني الحَجَر الأسود كان قد نزل مع آدم من الجنة، فلمَّا كان الطوفان أودعه جبريل فيه، فلمَّا ذهب إسماعيل ليأتيه بحَجَر جاءه جبريل بالحَجَر من أبي قُبيس فوضعه مكانه، وجاء إسماعيل فقال: يا أبةِ، مَن جاءك بهذا الحَجَر؟ فقال: من لم يَكِلْني (¬1) علي بنائك، أتاني به جبريل من أبي قبيس. وقال الترمذي: بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَزَل الحَجَرُ الأسودُ من الجنَّةِ وهو أشدُّ بياضًا من اللَّبنِ، فسَوَّدتْهُ خَطايا بَني آدَمَ" (¬2). فإن قيل: فما الفائدة في بناء البيت من هذه الأجبل البعيدة، وجبال مكة أقرب، مثل أبي قُبيس وحِراء وغيرهما كعرفاتٍ وجبال مِنى؟ فالجواب من وجوه: أحدها: لتشرف هذه الجبال على غيرها. والثاني: ليظهر فضلها. والثالث: أنَّ معناه أن من حجَّ هذا البيت وطاف به وصلى عنده كُتبَ له من الثواب ما لو وزنت معه هذه الجبال لرجح عليها. والرابع: لتشهد لمن حَجَّه كما يشهد الحجر الأسود لمن استلمه. وقال وهب: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] الآيات. ¬

_ (¬1) في تفسير الطبري 3/ 70، وتاريخه 1/ 251، والمنتظم 1/ 270: من لم يتكل. (¬2) أخرجه الترمذي (877)، وهو عند أحمد في "مسنده" (2795).

فإن قيل: فقوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] ولم يكن هناك بيت. فالجواب من وجهين، أحدهما: أن معناه عند بيتك الذي كان ها هنا وهذه آثاره. والثاني: عند بيتك الذي قضي في سابق علمك أنني أجدِّده ها هنا. فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96]. فالجواب: إنَّ معناه أوَّل بيت وضع للعبادة، ولم يكن قبله بيت يُعبد الله فيه. قال أحمد بإسناده عن أنس وأبي ذرٍّ. قال أبو ذرٍّ: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أوَّل مسجدٍ وُضع في الأرض فقال: "المسجِدُ الحَرَامُ" قلت: ثمَّ أيُّ؟ قال: "المسجِدُ الأقْصَى"، قلت: كم كان بينهما؟ قال: "أربَعُون عَامًا"، انفرد بإخراجه مسلم (¬1). * * * واشتقاق مكَّة من مكَّ الفصيل ضرع أمِّه، إذا امتصَّ كلَّ ما فيه، وأشاروا إلى شدَّة الحرّ بها وقلَّة مائها. وأمَّا بكَّة فقد اختلفوا فيها، فقال ابن عباس: لأنها تبكُّ رقاب الجبابرة، وقال مجاهد: لازدحام الناس بها. وقال الضحَّاك: لأن الناس يتباكون فيها. وروي عنه أيضًا أنه قال: اسم البلد مكة، وبكة موضع البيت (¬2). وقيل: مكة وبكة واحد؛ لأن الباء تبادل من الميم، كقوله: ضربة لازب ولازم، ونحوه. والآيات البينات: مقام إبراهيم والحَجَر الأسود والركن وزمزم ونحو ذلك. قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] قال ابن خالويه: معناه أي: من دخله فأمِّنوه. وقال ابن عباس: أوَّل من عاذ بالحرم الحيتان الصغار من الكبار في أيام الطوفان. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسند" (21333)، ومسلم (520) من حديث أبي ذر، ولم نقف عليه من حديث أنس. (¬2) انظر تفسير الطبري 7/ 24، وزاد المسير 1/ 425.

فصل في فضائل مكة

واتفق العلماء على أن من جنى في الحرم أنه يقتصُّ منه لأنه هَتك حرمته، فيقام الحدُّ عليه عقوبة على الجناية. واختلفوا فيمن جنى خارجًا منه ثم التجأ إليه: قال ابن عمر وابن عباس والعبادلة: لا يقام عليه الحدُّ فيه، ولكن لا يبايع ولا يشارى حتى يخرج منه فيقام الحدُّ عليه، وبه أخذ أبو حنيفة. وقال الشافعي ومالك: يقام عليه الحدُّ فيه قياسًا على موارد الإجماع. وقد قتل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابن خطل وهو متعلِّق بأستار الكعبة (¬1). ولنا قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وقياسه على موارد الإجماع لا يصحّ، لأنه هناك هتك حرمة الحرم بخلاف ما نحن فيه. وأمَّا ابن خطل فإنه قتل لكفره، وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمه. فصل في فضائل مكة قال أحمد بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ هذا البَلَد حرامٌ حرَّمَه الله يومَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ، فهو حرامٌ بحُرمةِ الله إلى يوم القيامةِ، وأنَّه لا يَحِلُّ القِتَالُ فيه لأحدٍ قَبلِي، ولم يَحِلَّ لي إلَّا ساعةً مِن نَهارٍ، لا يُعضَدُ شوكهُ، ولا يُنفَّر صيدُهُ، ولا تُلتَقَطُ لُقَطَتُه إلَّا من عرَّفها، ولا يُختَلَى خَلاه". فقال العباس: يا رسول الله، إلَّا الإذْخِرَ، فإنَّه لقينهم وبيوتهم، فقال: "إلَّا الإذْخِر". وفي رواية: "لا يُعْضَدُ عِضَاهُها، ولا تَحلُّ لُقَطَتُها إلَّا لمنشِدٍ" فقال العباس: إلَّا الإذْخِرَ، فإنَّه لصَاغتِنا وسُقُوفِ بيوتِنا. أخرجاه في "الصحيحين (¬2) ". وعضد (¬3) الشجرة أي: قطعها، ذكره الجوهري، والعِضاه شجر له شوك كالطَّلح ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1846)، ومسلم (1357) من حديث أنس - رضي الله عنه -، وانظر المغني لابن قدامة 12/ 409 - 413. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2353)، والبخاري (1349)، ومسلم (1353)، أما الرواية الثانية فهي روايتان جمع بينهما المصنف وهما عند البخاري (1349)، و (2433) وانظر "الجمع بين الصحيحين" (997). (¬3) في (ب): وأعضد، وفي (ل): واعتضدت، والمثبت من (ط) و"الصحاح": (عضد).

فصل في حدود الحرم

وغيره. وقال العباس: قال ذلك في يوم الفتح، وقيل: في حجَّة الوداع. وقال أحمد بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحمل السّلاح بمكّة. انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيُحَجَّنَّ هذا البيتُ وليُعتَمَرنَّ بعد خُروجِ يأجوجَ ومأجوجَ" (¬2). حدَّثنا أبو طاهر الحَرِيمي بإسناده عن الزهري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرُّكنُ والمقامُ ياقوتتانِ من يواقيتِ الجنَّةِ طُمِس نُورُهما، ولولا ذلكَ لأضاءَتا ما بينَ المشرقِ والمغربِ" (¬3). وحدَّثنا غير واحد عن يحيى بن علي المدير بإسناده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ للهِ في كلِّ يومٍ وليلةٍ عشرينَ ومئةَ رحمة تَنزل على هذا البيتِ، فستُّونَ للطائفينَ، وأربعونَ للمصلِّينَ، وعشرونَ للنَّاظرينَ" (¬4). وروى ثابت عن أنس قال: رأيت في المقام أثر أصابع إبراهيم وعقبيه وأخمص قدميه، غير أنَّ مسح الناس بأيديهم أذهب ذلك (¬5). فصل في حدود الحرم ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أنَّ أوَّل من وضع أنصاب الحرم الملائكة، لما نذكر، ودثرت بالطوفان فجدَّدها إبراهيم عليه السَّلام، ثم قصيّ بن كلاب، وبقيت على حالها إلى زمان المبعث، فقلعتها قريش. قال أنس: فشقَّ ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث هي آثار آبائه، فجاءه جبريل فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (15233)، ومسلم (1356). (¬2) صحيح البخاري (1593). (¬3) وأخرجه أحمد في "مسنده" (7000) من حديث عبد الله بن عمرو، ولم نقف عليه من حديث ابن عمر. (¬4) وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (940)، وقال: هذا حديث لا يصح. (¬5) ذكر ابن حجر في فتح الباري 8/ 169 أنه في موطأ ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس.

لا يشقَّ عليك فإنهم سيعيدونها. فرأى رجالٌ منهم في المنام قائلًا يقول: حرم الله أعزَّكم الله به، عمدتم إلى أنصابه فقلعتموها، الآن يتخطفكم الناس أو العوب، فأَعادوها، فجاءه جبريل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل أصابوا في وضعِها؟ " قال: نعم، ما وضعوا منها نصبًا إلَّا بيد ملك. قال أنس: فلمّا كان عام الفتح بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تميم بن أسد فجدَّدها. قال علماء السِّير: ثم جدَّدها عمر وعثمان، وبنو أميَّة: معاوية وعبد الملك بن مروان، وأوَّل من جدَّدها من بني العباس هارون، ثم ابنه المأمون. ثم الخلفاء (¬1). وذكر الأزرقي في "كتاب مكة" عن جماعة من العلماء عن ابن عبّاس قال: هذا الحرم سابع سبعة إلى السّماء، وفيِ كل سماء حرم وبيت، وله طائفون يطوفون به، وسكّان من الملائكة، وكذا إلى الأرض السّابعة (¬2). وقال الأزرقي: حدّ الحرم من طَرَفُ المدينة دون التنعيم عند بيوت تعار على ثلاثة أميال من مكة، ومن طريق اليمن طَرَفُ أضاة على دممبعة أميال من مكة، ومن طريق الطَّائف إلى بطن نَمِرة على أحد عشر ميلًا، ومن طَرَفِ العِوَاق إلى ثنيَّة خَل عشرة أميال، ومن طريق الجِعوَّانة في شعب آل عبد الله بن خالد بن أسيد على خمسة أميال، ومن طريق جُدَّة منقطع الأعشاش على عشرة أميال؛ فصارت الجملة ستة وأربعين ميلًا (¬3). وحكى صاحب "المحيط" عن الهندُواني (¬4) أنه قال: حدُّه من قبل المشرق ستة أميال، ومن الجانب الثاني اثنا عشر ميلًا، ومن الجانب الثالث ثمانية عشر ميلًا، ومن الجانب الرَّابع أربعة وعشرون ميلًا. فصارت الجملة ستين ميلًا. وهو وهمٌ من الهندُواني؛ وما ذكر الأزرقي أصحُّ، لأنه ذكر الحدود على ما شاهد ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 1/ 270 - 271، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 127، 128. (¬2) "أخبار مكة" 2/ 125. (¬3) الذي في "أخبار مكة" 2/ 130 - 131: بيوت غفار ... ومن طريق الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة على أحد عشر ميلًا، ومن طريق العراق على ثنية خل بالقطع على سبعة أميال. وهو الصواب. وانظر شفاء الغرام 1/ 55 - 59. (¬4) هو محمد بن عبد الله، أبو جعر الهندواني الحنفي، توفي سنة 362 هـ، العبر 1/ 152، وذكر قوله السرخسي في المبسوط 12/ 451.

فصل في قبلة كل بلد

وعاين، وما ذكره الهندُواني يدلُّ على أن الحرم يكون مربَّعًا، وليس كما ذكر، بل هو مختلف الحدود كما ذكرنا. فإن قيل: فلمَ لم تكن حدود الحرم متساوية إلى مكة؟ فالجواب من وجوه: أحدها: رواه عطاء عن ابن عباس قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض أقام باكيًا مستوحشًا فأهبط الله إليه البيت المعمور، وكان ياقوتة من يواقيت الجنَّة، فأضاءت منه الدُّنيا، فقال إبليس: حدث أمر، فأرسل الشياطين ليكشفوا له الخبر، فجاؤوا فوقفوا موضع الأعلام لم يتجاسروا أن يتعدَّونها، لأن نور البيت انتهى إلى موضع الأعلام، فلم يقدر أحد منهم أن يدنو منها، فنصبت الملائكة الأعلام، فلمَّا احتضر آدم أوصى شيئًا بتجديد الأعلام ونصبها. والثاني: لأنَّ الخليل لما وضع الحجر الأسود في الركن أضاء منه نور وصل إلى أماكن الحدود، فجاءت الشياطين فوقفت عند الأعلام فبناها الخليل حاجزًا، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثالث: لأنَّ الملائكة لما بنت البيت في أوَّل الأمر نزل من السماء ملائكة ملؤوا مكان الحرم اليوم، فأمرهم الله أن ينصبوا الحدود حيث انتهوا إليه تعظيمًا للحرم، قاله مقاتل (¬1). فصل في قبلة كلِّ بلد القبلة: الوجهة التي يتوجَّه إليها، يقال: من أين قِبلَتك؟ أي: من أين جهتك ووجهتك؟ . وروى عكرمة عن ابن عباس قال: الحرم قبلة أهل الأرض، والمسجد قبلة أهل مكة، والبيت قبلة أهل المسجد، وباب الكعبة قبلة البيت (¬2). وقال أرباب الهيئة: قِبلة أهل العِرَاق وخُراسَان والصِّين يسار الركن العراقي، الذي ¬

_ (¬1) نقل هذه الأقوال الصالحي في سبل الهدى والرشاد 1/ 233 - 234 عن المحب الطبري، وانظر المنتظم 1/ 271. (¬2) أخرجه البيهقي في سننه 2/ 9 مرفوعًا وضعفه، وانظر التلخيص الحبير 1/ 213، والدر المنثور 1/ 147.

فصل في دلائل القبلة التي يتوصل بها المجتهد إلى جهتها

فيه الحجر إلى قريب من باب البيت. وقبلة أهل البَصرَة والأهوَاز وكَرمَان وسِجستَان وما والاها باب الكعبة والملتزم. وقبلة أهل اليمن وإلى تخوم عدن ما بين الحجر الأسود إلى الركن اليماني. وقبلة أهل مصر والمغرب من الركن اليماني إلى قريب من نصف البيت. وقبلة أهل الشَّام والأردن وفلسطين وأهل الثُّغور من نصف البيت إلى الركن الشامي، وهو مسقط سهيل. وقبلة أهل إِرمِينيَة وأَذرَبِيجَان والجزيرة والرّوم من الركن الشامي إلى الميزاب. وقبلة أهل المدينة الميزاب إلى آخر البيت. قلت: وهذا على وجه التقريب لا على وجه التحقيق. فصل في دلائل القبلة التي يتوصَّل بها المجتهد إلى جهتها فمنها: الشمس، فإنها تطلع من المشرق عن يسار المصلي، وتارة عن يمينه، وتارة أمامه، وتارة خلفه، بحسب اختلاف الأقاليم والمطالع والمغارب والمنازل. ومنها: القمر فإنَّه يبدو أوَّل ليلة من الشهر هلالًا عن يمين المصلي في المغرب، ثم يتأخَّر كل ليلة نحو المشرق منزلًا منزلًا، حتى يكون ليلة السابع وقت المغرب في القبلة مائلًا قليلًا إلى المغرب، وفي ليلة أربعة عشر يطلع من المشرق قبل غروب الشمس بدرًا تامًّا، ويكون ليلة إحدى وعشرين في قبلة المصلي أو قريبًا منها وقت الفجر، وليلة ثمان وعشرين يبدو عند الفجر من المشرق كالهلال، وتختلف مطالعه بحسب اختلاف منازله، وقد ذكرناها في صدر الكتاب (¬1). ومنها: الجدْي، وهو من أوثق الأدلَّة على القبلة، وقد ذكرناه (¬2)، وكذا سهيل. ومنها: الرياح وهي كثيرة يستدل منها بأربع، تهمث من زوايا الدماء: الجَنوب وتهبُّ من الزاوية التي بين المشرق والقبلة إلى مطلع سهيل، والشَّمال: وهي مقابلة ¬

_ (¬1) انظر فصل في القمر. (¬2) انظر فصل في الكواكب.

فصل في حج إبراهيم وتعليم جبريل إياه المناسك

الجنوب، وتهبُّ من بنات نعش إلى مشرق الشمس، والدَّبُور: وتهبُّ ما بين المغرب وسهيل (¬1). وبين كلّ ريحين ريح تسمَّى النَّكْباء لتنكبها عن طريق الرياح المعروفة. وقال الجوهري: والنُّكْبُ في الرياح أربع: فَنكْباء الضَبا والجنوب يسمَّى: الأرنب، ونكباء الصَّبا والشمال وتسمَّى: الصَّابية والنُّكَيباء، وإنما صغَّروها وهم يريدون تكبيرها لأنهم يستدبرونها جدًّا، ونَكْباء الشمال والدَّبُور وتسمَّى: الجربياء؛ ونكباء الجنوب والدَّبُور وتسمَّى: الهَيف (¬2). وأصل النكب: العدول والميل. ومنها: المياه والأنهار العظام كدجلة والفرات وجيحون وسيحون والأردن ونحو ذلك، وكل هذا يجري إلى القبلة. وكذا الجبال والبحار يستدلُّ بها على القبلة. إذا ثبت هذا قلنا: متى عرف الإنسان هذه الأدلَّة كان مجتهدًا في أمر القبلة إذا خفيت عليه ولم يجد مخبرًا فيصلي إلى جهة يؤديه اجتهاده إليها، وإن خفيت عليه الأدلة لغيم أو ظلمة ونحوها، فإنَّه يتحرَّى ويصلي إلى أيِّ جهة يغلب على ظنّه أنَّها جهة القبلة، وصلاته تامّة عندنا، وعند الشافعي لا تجزئه إلَّا إصابة العين لقوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ولنا أنه أتى بما في وسعه، وهو التوجُّه إلى جهة القبلة، وتكليف ما ليس في الوسع حرفي عظيم، وقد اجتهد فصار كالحاكم إذا خفي عليه نصٌّ. وأمَّا الآية فالمراد بها إذا كان حاضرًا بمكَّة، أمَّا إذا كان غائبًا فقبلته جهة الاجتهاد والتحري، وقد ذكرنا مسائل استقبال القبلة في كتب الفقه. فصل في حجّ إبراهيم وتعليم جبريل إيَّاه المناسك روى مجاهد عن ابن عباس قال: لما تكامل بناء البيت أوحى الله إلى إبراهيم: أن أذّن في الناس بالحجّ، فقال: يا ربِّ، ومن يبلّغ صوتي؟ فقال الله: منك الأذان وعليَّ البلاغ. فقام على أبي قبيس فاستقبل اليمن ثمَّ المشرق ثم الشام ثم المغرب، ونادى: أيها النَّاس، إنَّ ربّكم قد بنى بيتًا فحجُّوه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "الأزمنة والأمكنة" 2/ 137. (¬2) انظر "الصحاح" (نكب). (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 17/ 144. وانظر "زاد المسير" 5/ 243.

قال المفسرون: فأسمع مَنْ بين السماء والأرض ومَنْ في أصلاب الرِّجال وأرحام النِّساء؛ قال الضحَّاك: فأجابوه جميعًا: لبيك اللهمَّ لبيك، فمنهم من لبَّى مرَّة ومنهم من لبَّى مرتين وثلاثًا وأقل وأكثر، فحجُّوا على قدر ذلك، ومن لم يلبِّ لم يحج. قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} أي: مشاة {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحجّ: 27] أي: ركبانًا قد ضمرهن السَّفر، والفجُّ العميق: البعيد (¬1). وقال ابن أبي الدنيا بإسناده عن الزهري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جَاءَ جبريلُ عليه السَّلام إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام فأراهم الطَّواف، ثم خرج بهما إلى منى، فقال: صلِّيا ها هنا، وأقامَ بهما إلى اليومِ الثاني، فغدا بهما إلى عرفاتٍ فأنزَلَهُما حيثُ ينزلُ الناسُ اليومَ، وجمَعَ بهما بين الظهرِ والعصرِ، ثم وَقَف بهما وعلَّمهما المناسِكَ، فجعلَ إبراهيمُ يقول: عَرفتُ عَرفتُ فلذلك سُميت عرفاتٍ". وقال مجاهد: قال إبراهيم: يا ربِّ، كيف أقول؟ فقيل له: اصعد على الجبل وناد: أيها النَّاس، أجيبوا ربّكم لبيك اللهم لبيك، فقال ذلك في جميع الجهات، فهذا أصل التلبية (¬2). فإن قيل: فالنفس أبدًا تتوق إلى مكة مع علمها بتحمُّل المشاق فما سببه؟ فالجواب من وجوه: أحدها: قول الخليل: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوي إِلَيهِمْ} [إبراهيم: 37] أي: تشتاق وتحنُّ، ولو لم يقل {مِنَ النَّاسِ} لحجَّه اليهود والنصارى. والثاني: لأنَّ الله تعالى أخرج ذرِّيَّة آدم بأرض نَعمان، وهي أرض عرفة، وقد ذكرناه (¬3)، فصار ذلك المكان وطنًا، والنفس أبدًا تنازع إلى حبِّ الوطن. والثالث: لأنَّ الله سبحانه ينظر في ليلة النصف من شعبان إلى الكعبة فتحنُّ إليها ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 17/ 146. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 17/ 145. (¬3) انظر فصل: ومن الحوادث توبته.

فصل في صحف إبراهيم - عليه السلام -

قلوب الحاجَّ. وقال مقاتل: حجَّ إبراهيم واسماعيل ماشيين (¬1). وقال ابن مسعود في تأويل قوله تعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] قال: هو طريق مكة، أمنعهم من الحج (¬2). حدَّثنا غير واحد عن أبي منصور القزَّاز بإسناده عن إسماعيل بن أبي خالد عن زاذان قال: مرض ابن عباس مرضًا شديدًا فدعا ولده فجمعهم وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن حجَّ من مكة ماشيًا حتى يَرجِعَ إلى مَكةَ كَتبَ اللهُ لهُ بكُلّ خُطوَةٍ سبع مئة حسنةٍ مِن حسناتِ الحَرَمِ. قيل لهُ: وما حسناتُ الحَرمِ؟ قال: بِكُلِّ حَسَنةٍ مئةُ ألفِ حسنةٍ" (¬3). وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحَجُّ المبرُورُ ليسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الجنَّةُ، والعُمرَةُ إِلى العُمرَةِ تكفِّرُ مَا بَينَهما" (¬4). وقال أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حَجَّ هَذا البيتَ فلَم يَرفُثْ ولَم يَفسُق رَجَعَ كما وَلَدَته أمّه" (¬5). الحديثان في الصحيحين. فصل في صحف إبراهيم - عليه السلام - حدثنا غير واحد عن أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزاز بإسناده عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، كم كتابًا أنزل الله؟ فقال: "مئة كتاب وأربعة كتب، أنزلَ الله على آدم عشرين أو عشر صحائف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى خنوخ ثلاثين، وعلى إبرإهيم عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والقرآن". ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 17/ 146 عن مجاهد. (¬2) انظر "زاد المسير" 3/ 176. (¬3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1692). (¬4) أخرجه أحمد (7354) والبخاري (1773) ومسلم (1349). (¬5) أخرجه أحمد (10274) والبخاري (1820) ومسلم (1350).

فصل في اتخاذ الله إياه خليلا

وقد رواه ابن قتيبة فقال: أنزل الله على آدم عشر صحائف، وعلى إبراهيم عشرين (¬1). قال أبو ذر: فقلت: يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: "كانت أمثالًا كلها: أيها الملك المسلَّط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكنِّي بعثتك لتردَّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردُّها وإن كانت من كافر. وكان فيها: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له ساعات يناجي ربَّه، ساعةٌ يفكّر فيها وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال. وعلى العاقل أن لا يكون طاغيًا إلَّا في ثلاث: تزود لمعاد، ومرمَّة لمعاش، ولذَّة في غير مُحرَّم. وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه. ومن حسب كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه. وسلام على من أكرم الضيف، ومن أهانه فهو في الدرك الأسفل من النار". قال أبو ذر: فلهذا كان إبراهيم لا يأكل إلَّا مع الضيف (¬2). وقال مقاتل: أنزل الله على إبراهيم الصحف وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: ابن ثمانين. فصل في اتخاذ الله إياه خليلًا قال أهل اللغة: الخليل الصديق، والخُلَّة الصداقة. قال الجوهري: الخُلَّةُ: الخليل، يستوعب فيه المذكر والمؤنث، لأنه في الأصل مصدر (¬3). فإن قيل: فإذا كانت الخُلَّة عبارة عن الصداقة فهذا المعنى معدوم في حقِّ الله تعالى، قلنا: معنى الخُلَّة من إبراهيم المودَّة والطَّاعة لله والتقرُّب إليه بما يكون سببًا للزلفى، ومن الله تعالى بمعنى الإقبال عليه والإحسان إليه. واختلفوا في سبب اتخاذ الله إيَّاهُ على أقوال: ¬

_ (¬1) انظر "المعارف" ص 32. (¬2) أخرجه ابن حبان مطولًا (361)، وابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 272 - 273، وإسناده ضعيف جدًّا. (¬3) انظر "الصحاح": (خلل).

أحدها: لإطعامه الطعام ولم يكن يأكل إلَّا مع الضيف، رواه عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حدَّثنا جدَّي حدَّثنا أبو القاسم الحريري بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سألت جِبرِيلَ لمَ اتخَذَ الله إِبراهيمَ خَلِيلًا؟ فَقال: لإطعامِهِ الطَّعَامَ (¬1) ". الثاني: لأنه أصاب أهل ناحيته جدب (¬2)، روى أبو صالح عن ابن عباس قال: أصابت الناسَ سنةٌ جهدوا فيها، فجاؤوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام، وكان له صديق بمصر، وكان يبعث إليه غلمانه بالإبل فيمتارون (¬3)، فذهبوا إلى صديقه فلم يعطهم شيئًا، وقال: لو كان إبراهيم إنما يمتار لنفسه احتملنا ذلك، فقد دخل علينا من الشدَّة ما دخل على الناس، فرجعوا من عنده، فمرُّوا على كثيب رمل، فقال بعضهم: خذوا منه لئلا يقول الناس لم يأتوا بشيء، فمرُّوا تلك الغرائر وجاؤوا فأخبروا إبراهيم بأن صديقه لم يعطهم شيئًا، وأنَّهم ملؤوا الغرائر رملًا، فنام مهمومًا. وجاءت سارَة -وكانت غائبة- ففتحت بعض الغرائر تظنُّ أنَّ في الغرائر دقيقًا، فإذا دقيق حوَّارى (¬4)، فعجنت وخبزت، فانتبه إبراهيم فرأى الخبز فقال: من أين هذا؟ قالت: من عند خليلك المصري. فقال: بل من عند خليلي الله، ففرَّقه على الناس فاتخذه الله خليلًا (¬5). والثالث: لأنه لما كسر الأصنام غَيرةً لله اتخذه الله خليلًا، قاله مقاتل (¬6). والرَّابع: لأنه لم يخير بين شيئين إلَّا اختار ما لله فيه رضىً. قاله الربيع بن أنس. وقال ابن سعد بإسناده عن ابن عباس قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلًا كان له يومئذ ثلاث مئة عبد فأعتقهم، فكانوا يجاهدون بين يديه (¬7). وإبراهيم أوَّل من عمل القسيَّ العربية، وأما القسيُّ الأعجميَّة فأوَّل من عملها نمرود (¬8). ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 2/ 212. و"المنتظم" 1/ 273. وأخرجه البيهقي في "شعبه" 9616). (¬2) قوله: الثاني ... إلى هنا ليس في (ل) و (ب)، والمثبت من (ط). (¬3) يمتارون: يجلبون الطعام. (¬4) الحوارى الدقيق الأبيض وهو لباب الدقيق. (¬5) انظر "المنتظم" 1/ 273 - 274، و"التبصرة" 1/ 109. (¬6) انظر "التبصرة" 1/ 109، و"المنتظم" 1/ 274. (¬7) انظر "الطبقات" 1/ 47. (¬8) أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 274.

فصل في سؤال الخليل ربه أن يريه كيف يحيى الموتى

فصل في سؤال الخليل ربَّه أن يريه كيف يحيى الموتى فإن قيل: فهل كان شاكًّا حتى قال: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 265]؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه أراد أن يجمع بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، كما أنَّ الإنسان يعلم الشيء ويتيقَّنه ولكن يحبُّ أن يراه عيانأ، كما أنَّ المؤمنين يحبُّون الله ويختارون رؤيته في الجنان مع الإيمان وزوال الشك، قاله ابن عباس. والثاني: أنه رأى دابَّة ميِّتة على جانب البحر تاكلها دوابُّ البحر وتمزِّقها دواب البرِّ، فجاءه الخبيث فقال له: يا إبراهيم، متى يجمع الله هذه من بطون السِّباع والحيتان؟ فقال: {أَرِنِي كَيفَ تُحْييِ الْمَوْتَى} لتذهب عني وسوسة الشيطان، قاله ابن زيد ومقاتل. والثالث: أنه لما بُشِّر بالخلَّة سأل ذلك ليتيقَّن بالإجابة صحَّة ما بشّر به، قاله ابن مسعود والسُّدي. والرَّابع: لأنه لما ناظر نمرود وقال له: أنا أحي وأميت قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] قال له نمرود: أنت عاينت ذلك؟ فلم يقل: نعم لأنه ما شاهده، فلمَّا قال: أرني كيف تحيي الموتى قال له الله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَال بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فلعل نمرود يناظرني مرَّة ثانية فأقول: نعم، فلا أحتاج إلى الانتقال إلى حجَّة أخرى (¬1). فإن قيل: فكل هذه الأجوبة مجاز لا حقيقة، وقد ثبت أنه كان شاكًّا مثل قوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76 - 78] والدليل عليه ما رواه الأئمة، فقال أحمد بإسناده عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحنُ أحقُّ بالشَّكِ من أَبينَا إِبراهيمَ حيثُ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَال بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ثم قرأ الآية حتى أنجزها، أخرجاه في الصحيحين (¬2)، وفيه: "يَرحمُ اللهُ لوطًا لقد كانَ ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري 5/ 485، والبغوي 1/ 247، وزاد المسير 1/ 313، والمنتظم 1/ 275. (¬2) أخرجه أحمد (8328)، والبخاري (4537)، ومسلم (151).

يَأوي إلى رُكنٍ شَديدٍ ولو لَبِثتُ ما لَبِثَ يُوسفُ في السِّجنِ لأَجَبتُ الدَّاعِي" (¬1). والجواب: قالوا: ما شهد له الرَّسول بالشكِّ، وإنما مدحه لأنَّ معناه نم ن أحق بالشكِّ منه وما شككنا، وكيف يشكُّ هو، وإنما شك هل يجيبه إلى سؤاله أم لا؟ وكذا باقي الحديث مدح للوط ويوسف. وقال ابن إسحاق: هذه الواقعة جرت لإبراهيم قبل النبوَّة، وقبل إنزال الصحف، وقبل أن يولد له، وقبل بناء البيت، لأنه مرَّ على بحيرة طبريَّة لما دخل الشَّام فرأى الميتة على جانبها فيكون هذا من جنس قوله: {هَذَا رَبِّي}. وقال محمد بن مقاتل الرَّازي: ما كان شاكًّا في القدرة بدليل قوله: {أَرِنِي} ولو كان شاكًّا لقال: هل تحيي الموتى؟ فكان معنى قوله: {أَرِنِي} أي ما أنا موقن به، ولكن ليطمئنَّ قلبي بزيادة اليقين والحجَّة وحقيقة الخُلَّة وإجابة الدعوة. فقال له الله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيرِ}. واختلفوا في الذي أخذ، والمشهور أنَّه أخذ طاووسًا ونسرًا وغرابًا وحمامًا، رواه مجاهد عن ابن عباس (¬2)، وفيه إلثمارة إلى أحوال الدنيا فالطَّاووس من الزينة، والنسر من امتداد الأمل، والغُراب من الغربة، والحمام من النِّياحة، وقيل: وديكًا عوض النسر. {فَصُرْهُنَّ إِلَيكَ} ومعناه: اجمعهُن وضمَّهنَّ، ومعناه أيضًا: قطّعهنَّ ومزِّقهنَّ، وأنشدوا في اللغز: [من الخفيف] وغلام رأيتُه صَارَ كَلبًا ... ثُمَّ في ساعتينِ صارَ غَزالا (¬3) {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} أي بعضًا. فإن قيل: فلم قال: {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260] ولم يقل: طيرانًا، قلنا: لو طارت لتوهم متوهِّم أنها غيرُ تلك، وأدتَّ أرجلَها غيرُ سليمة، فكان أبلغ في الحُجَّة وأبعد من الشُّبهة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (8329)، والبخاري (3372)، ومسلم (151). (¬2) انظر "زاد السير" 1/ 314. (¬3) البيت في "العقد الفريد" 6/ 472، قوله: صار كلبًا؛ ضم كلبًا، من صار يصور.

فصل في ابتلائه بالكلمات

وقال مقاتل: هذا مَثَلٌ ضربه الله فكأنَّه يقول: كما قدرتُ أن أبعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، فكذا أبعت الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها، وهي الجنوب والشمال والدَّبُور والصَّبا. فإن قيل: فلمَ خصَّ أربعة أطيار؟ قلنا: لأجل الاستقصَّات الأربع التي بها قوامُ العالم. والجبال من جبال الشام، وقيل: على جبل لُبنَان، وسَيير، وجبل القُدس، وطُور سَيناء. وقال أبو إسحاق الثعلبي: سمعت أبا القاسم ابن حبيب يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا الحسن الأقطع وكان حكيمًا يقول: صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لكل آيةٍ ظهرٌ وبطنٌ، ولكلِ حرفي حدٌّ ومَطلعٌ". وظاهر الآية ما ذكره أهل التفسير، وباطنها أنَّ إبراهيم أُمِرَ بذبح أربعة أشياء في نفسه بسكين الإياس، كما ذبح الأَطيارَ الأَربعةَ بسكين الحديد، فالنسر مَثلٌ لطول العمر والأمل، والطَّاووس زينةُ الدنيا وبهجتُها، والغراب الحرص، والدِّيك الشهوة. قلت: الخليل عليه السَّلام منزَّهٌ عن مثل هذا، لأنَّ الله تعالى عصمه من كل ما ذُكِرَ من الأمثال، فتحصيل الحاصل محال. فصل في ابتلائه بالكلمات قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] الآية. والابتلاء: هو الامتحان والاختبار. واختلفوا في الكلمات: قال ابن عباس: هي خمسٌ في الرَّأس: قصُّ الشارب، والمضمضة والاستنشاق، والسِّواك، وفرق الرَّأس، وخمس في الجسد: وهي تقليم الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط والختان، وغسل موضع الاستنجاء والبول بالماء (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 1/ 275 - 276.

فصل في ابتلائه بذبح ولده

وقال الحسن البصري: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر (¬1). وقال مجاهد: بالنَّار. وقال الرَّبيع: بالجبَّار الذي أخذ سارَة. وقال مقاتل: بنمرود. وقال مقاتل بن حيَّان: بذبح الولد. وروي عن ابن عباس أنَّها المناسك: الطَّواف بالبيت والسَّعي ورمي الجمار والإفاضة، والغسل من الجنابة والغسل يوم الجمعة. وقال مقاتل بن سليمان: هي كل مسألة في القرآن مثل قوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] ونحو ذلك. (¬2) قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] الذرية: من ذرأ الله، أي: أخرج، وقال الزجاج: هي فعلية من الذرّ الذي أخرج من ظهر آدم. قال: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] أي: لا ينال ميثاقي العصاة (¬3). فصل في ابتلائه بذبح ولده (¬4) قال الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَال يَابُنَيَّ} [الصافات: 102] الآية. قال علماء السِّير: كان السبب في الأمر بذبح ولده أنه لما فارق قومه مهاجرًا إلى الشام فارًّا بدينه كما قال الله تعالى: {وَقَال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)} [الصافات: 99] دعا أن يرزقه ولدًا فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] فلمَّا أقام بفِلَسطِين ونزل به أضيافه من الملائكة المرسلين إلى المؤتفكات -وهي قرى قوم لوط- وبشَّروه بغلام حليم، قال: هو لله ذبيح، فلمَّا ولد له الغلام من سارَة وصلح أن يسعى معه أتاه آتٍ في منامه فقال له: أوفِ بنذرك. وقال ابن عباس: وكان عمره يومئذٍ ثلاث عشرة سنة، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 285. (¬2) انظر "زاد المسير" 1/ 140. (¬3) من قوله: مقاتل بن سليمان ... إلى هنا ليست في (ب). (¬4) جاء هذا الفصل في "ب" بعد فصل هلاك نمرود لاختلاط في الأوراق. وانظر في هذا الفصل تاريخ الطبري 1/ 272، وتفسيره 19/ 581، وتفسير البغوي 4/ 33، وعرائس المجالس 95، وزاد المسير 7/ 73، والمنتظم 1/ 279، والتبصرة 1/ 137، والبداية والنهاية 1/ 363.

وهذا الزَّمان أحبُّ ما يكون الولد إلى والده، لأنَّه قد استغنى عن الحضانة وكلفة التربية، ولم يبلغ إلى حالة العقوق، فكانت البلوى به أشدَّ. فقال له: يا بنيَّ، انطلق بنا نقرِّب قربانًا، فأخذ سكينًا وحبلًا وانطلق معه، حتى إذا كان بين الجبال قال له الغلام: يا أبتِ، أين قربانك؟ فقال: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَال يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] الآية. فإن قيل: فهل يجوز ذبح مثل ذاك الغلام بمنام، وقد كان جبريل يأتيه بالوحي شفاهًا لا في الأحلام؟ فالجواب: إنَّ الإنسان يكره أن يواجه بذبح ولده، فترك مخاطبة جبريل بذلك من باب الاحترام والإجلال والإعظام، وأمَّا منامات الأنبياء عليهم السَّلام فحقّ لأنها وحي على لسان ملك الرؤيا، وتارة يخاطبهم الله تعالى بما فيه مصالح الأنام. وقال علماء السِّير ممن سمَّينا: لمّا رأى إبليس ذلك قال: لئن لم أفتنْ إبراهيم اليوم وولده وسارَة، وإلا لم أظفر منهم بشيء أبدًا، فأتى أتمَ الغلام فقال لها: هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب يحتطب لنا من هذا الشعب، قال: والله ما ذهب به إلا ليذبحه، فقالت: كلَّا هو أرحم به وأشدّ حبًّا له، قال: يزعم أنَّ الله أمره بذلك، فقالت: إن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربَّه، سلَّمنا لأمر الله وقضائه. فلمَّا يئس منها أتى الغلام وهو يمشي وراء أبيه فقال له: يا غلام، هل تدري أين يَذْهَبُ بك أبوك؟ قال: نعم يحتطب لأهلنا من هذا الشعب، فقال: لا والله، ما يريد إلّا أن يذبحك، قال: ولم؟ قال: يزعم أنَّ ربَّه أمره بذلك، قال: فليفعل ما أمره ربّه به، سمعًا وطاعةً. فلمَّا يئس من الغلام أتى إبراهيم فقال: أيها الشيخ، أين تريد بهذا الغلام؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لنا فيه، فقال: والله إني لأرى أن الشيطان جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك، فعرفه إبراهيم فقال له: إليك يا خبيث عني، فو الله لأُمضينَّ أمر ربي. فرجع عدوّ الله خاسئًا خاسرًا لم يبلغ من سارَة والغلام وإبراهيم ما أراد (¬1). وقال ابن عباس: فلمَّا علم الغلام أنه ذابحه قال له: يا أبة، اشدد رباطي لئلا أضطرب، واكفف ثيابك عن دمي لئلا يصيب ثوبك فتراه أمي فتحزن، وأسرعْ مرَّ ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 97.

السكين على حلقي ليكونَ أهونَ للموت عليَّ، وإذا أتيت أمِّي فأقرئها السَّلام عني، واذكرْ لها ثواب الصابرين. فأقبل إبراهيم يقبِّله ويبكي ويقول: نعم العونُ أنت يا بُنيَّ على أمري، والغلام يبكي، وضجَّتْ ملائكة السماء بالبكاء، فقال الله: يا ملائكتي، انظروا إلى عبدي استحقَّ الخُلَّة أم لا؟ فقالوا: إلهنا، لو كنَّا مكانه لم نصبر. وإنما قال له: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] ليختبر ما عنده من الرَّأي في أمر الله فإن أجاب حزن عليه، وإن امتنع لم يحزن عليه. فلمَّا قال له: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ازداد بلوى بفراقه. {فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي: استسلما لأمر الله {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] أي: صرعه على جنبه فصار أحد جَبينَيهِ على الأرض -وهما جبينان والجبهة بينهما، والعوام تسفي الجبهة جبينًا- فأمرَّ السِّكين على حلقه فلم تعمل شيئًا، وضرب الله على حلقه صفيحة نحاس فانقلبت السكين، فناداه الغلام: يا أبت، اقلبني على وجهي فلعلك تستحي أو تدرك رقة فتحول بينك وبين أمر الله وضجَّت السَّماوات والأرض ومن فيهما لما رأوا من صبر الغلام. فبينما هو كذلك قلب الله الشفرة ونودي الخليل {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] فالتفت فإذا بكبش أملح من الجنَّة قد رعى فيها أربعين خريفًا. وقال مقاتل: هو الكبش الذي قرَّبه هابيل، جاء به جبريل. وروى أبو الطفيل عن ابن عباس: أنَّ إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين حكاه جدِّي رحمه الله في "التبصرة" (¬1). فخلى عن الغلام وجعل يقبِّله ويبكي ويقول: اليومَ وُهبت لي يا بنيَّ، واشتغل بذبح الكبش عنه، فحلَّ جبريل كتافه فالتفت إبراهيم فرآه فقال: من حلَّ كِتافك؟ فقال: الذي جاءك بالكبش. وقال أهل المعاني: هذا جواب إبراهيم لما ذهب إسماعيل ليأتيه بالحجر الأسود وجاءه جبريل به، وجاء إسماعيل فقال: يا أبت، من أين لك هذا؟ قال: جاءني، به من لم يكلني علي بنائك (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" 1/ 138، وعرائس المجالس 96. (¬2) انظر تاريخ الطبري 1/ 273 - 276، و"عرائس المجالس" ص 90.

فإن قيل: فكيف لم تقطع السكين حَلْقَ الغلام، وقطعت حلق الحسين عليه السَّلام؟ فالجواب من وجوه: أحدها: لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في ظهر الذبيح على قول من يقول إنه إسماعيل، فلم تعمل السكين فيه احترامًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: لأنها لو قطعت عنق الذبيح لاحتاج النَّاس في كل سنة إلى ذبح أولادهم أسوةً به، ففداه الله بالكبش لطفًا منه ورحمة، فكان الكبش فداء للنَّاس كلهم إلى يوم القيامة. والثالث: لأنَّ الذابح للغلام كان شفيقًا، والذابح للحسين كان عدوًّا، العدوُّ ما في قلبه رحمة بخلاف الوالد. والرَّابع: أنَّ الحسين وافق أولاد الأنبياء كيحيى بن زكريا، ولهذا عدد حروف اسم الحسين على عدد حروف يحيى، فجعلت الموافقة في الاسم والرَّسم والشَّهادة، وحظي قاتل الحسين باللعنة إلى يوم القيامة من عالم الغيب والشهادة. قال علماء السِّير: فلمَّا رجع الغلام إلى أمّه رأته ممتقعَ اللون، فسألته فأخبرها فقالت: أردتَ يا إبراهيم أن تذبح ولدي ولا تخبرني؟ ! فيقال: إنَّها انفطرت مرارتها فماتت بعد ثلاثة أيَّام (¬1). وقال مقاتل: إنما رأى مقدِّمات الذَّبح من المعالجة ولم ير الإراقة، فلمَّا فعل في اليقظة ما رآه في المنام قيل له: {صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}. قوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ} أي: كما ذكرنا من العفو عن ذبح ولده {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105] {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] أي الاختبار الخالص. وقال الزهري: وفي ذلك يقول أميَّة بن أبي الصَّلت (¬2): [من الخفيف] ولإبراهيمَ المُوَفِّي بالنَّذ ... رِ احتسابًا وحاملِ الأثقالِ ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" 1/ 137. (¬2) "ديوان أمية" ص 440 - 444، وتاريخ الطبري 1/ 277 - 278.

ذكر اختلاف العلماء في الذبيح هل هو إسحاق أم إسماعيل؟

يا بُنيَّ إني نَذرتُكَ لِلـ ... ـهِ ذبيحَّا فاصبرْ على الأهوالِ بينما يَنزعُ السرابيلَ عنهُ ... فكَّهُ ربُّهُ بكبش جُلالِ رُبَّما تَجزَعُ النُّفُوسُ مِنَ الأَمـ ... ـر لهُ فَرْجَةٌ كحَلِّ العِقَالِ من أبيات. {وَفَدَينَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] أراد الاسم، وهو ما هُيِّئَ للذبحِ من الحيوانات، وهو ما يذبح إلى يوم القيامة، وهذا أبلغ. وقيل: إنما وصفه بالعِظَم، لأنه رعَى في الجنَّة مدَّة، وقيل: لأنَّه متقبَّل (¬1). ذكر اختلاف العلماء في الذبيح هل هو إسحاق أم إسماعيل؟ ذهب عامَّة الصحابة والتَّابعين ومن بعدهم إلى أنه: إسحاق، وهو قول العباس بن عبد المطلب، وعلي، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأنس، وأبي هريرة, وابن عباس في رواية، وكعب الأحبار، والحسنِ البصري، ومسروق، وقتادة، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والقاسم بن أبي بَزة، وعطاء، ومقاتل، وعبد الرحمن بن ساباط، والزهري، والسُّدي، وعبيد بن عمير، ووهب، وأبي ميسرة، وقول أهل الكتابين التوراة والإنجيل، ومذهب أبي حنيفة وأحمد، وعن ابن المسيِّب روايتان (¬2). وقالت طائفة: هو إسماعيل، وبه قال عبد الله بن عمر، وأبو الطفيل واثلة بن الأسقع، ومعاوية، وعبد الله بن سلَام، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي، والشعبي، وإحدى الروايتين عن ابن عباس وابن المسيّب ومالك والشافعي، والحسن البصري في رواية (¬3). وجه قول القائلين إنه إسماعيل قال أبو إسحاق الثعلبي: روى عمر بن عبد الرحمن الخطَّابي [بإسناده عن الصُّنابحي] قال: كنَّا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح: إسماعيل أو إسحاق؟ ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" 1/ 138. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 263، و"المنتظم" 1/ 277. (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 267، و"زاد السير" 7/ 72.

فقال معاوية: على الخبير سقطتم، كنت عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل فقال: عُدْ عليَّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين, فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له: يا رسول الله، وما الذبيحان؟ فقال: "أبي عبد الله وجدِّي إِسماعيل" (¬1) مختصر. وروى أبو جمرة (¬2) -واسمه نصر بن عمران الضُّبَعيُّ- عن ابن عباس أنه قال: المفديُّ إِسماعيل، وزعمتْ اليهود أنه إسحاق وكذَبت (¬3). وقال محمد بن كعب القرظي: إنَّا لنجد في كتاب الله أنَّ الذبيح إسماعيل، وذلك لأنَّ الله تعالى لما فرغ من قضَة الذبيح قال: وبشَّرناه بإسحاق، فدلَّ على أنَّ قصَّة الذبيح كانت متقدِّمة على البشارة بإسحاق (¬4). وقال مقاتل: سأل عمر بن عبد العزيز [أحد] أحبار اليهود -وكان قد أسلم- عن الذبيح فقال: هو إسماعيل، قال: فما بال اليهود يقولون إنه إسحاق؟ قال: يعلمون أنه إسماعيل ولكنهم يحسدونكم فيقولون: هو أبونا إسحاق (¬5). ولأن الأمم توارثت النحر بمنىً من زمان الخليل - عليه السلام - إلى هلم جرَّا، وموضع النَّحر بمنىً مشهور، وهو من شعائر الحجِّ، فإنَّ النَّحر هناك واجب حتى لو تركه لزمه دم. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: والذي نفسي بيده لقد كان أوَّل الإسلام، وإنَّ رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة وقد وحش، أي يبس (¬6). وقال الشعبيُّ: أنا رأيت قرنيه وكان يتوارثهما بنو إسماعيل كابرًا عن كابر إلى أن احترق البيت في أيام الحجَّاج فاحترق القرنان. وروي عن عليٍّ كرَّم الله وجهه أنَّه قال: الكبش الذي فُدِيَ به إسماعيل نزل من ثَبِير فنحره إبراهيم بمنىً. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 95. وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 448، وقال الذهبي: إسناده واهٍ. (¬2) في "ل": أبو الجوزاء، وفي (ب): أبو الجور، والمثبت من تهذيب الكمال (ترجمة نصر). (¬3) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 268 عن عطاء بن أبي رباح. (¬4) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 269، وانظر "عرائس المجالس" ص 94. (¬5) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 270، وانظر "عرائس المجالس" ص 94. (¬6) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 275 - 276، وانظر "عرائس المجالس" ص 96.

وجه قول القائلين بأنه إسحاق

وقال الأصمعيُّ: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح أكان إسحاق أم إسماعيل؟ قال: أين ذهب عنك عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكَّة؟ وإنما كان بها إسماعيل، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والنحر بمنىً لا شك فيه. وقال أبو إسحاق الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحَبِيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن المنذر الضرير يقول: سمعت أبا محمد الزنجاني المؤذن يقول: سئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فقال: إنَّ الذَّبِيح -هديت- إسماعيلُ ... نطق الكتابُ بذاك والتَّنزيلُ شرفٌ به خصَّ الإله نبيَّنا ... وأبانَهُ التفسيرُ والتأويلُ وروى مجاهد عن ابن عباس قال: لما أُمِرَ إبراهيم بذبح ولده عرض له الشَّيطان عند المشعر [الحرام] فسابقه، فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات فذهب، ثم عرض له عند الجمرة الثانية والثالثة وهو يرميه بسبع حصيات حتى مضى إبراهيم لأمر الله تعالى (¬1). وجه قول القائلين بأنه إسحاق قال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن الأحنف بن قيس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الذي أرَادَ إبراهيمُ ذبحه إسحَاق" (¬2). وقال أبو إسحاق بإسناده أيضًا عن عمر بن حفص عن أبان عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَشفَعُ إسحاقُ بعدي فيقُولُ: يا ربِّ، صدَّقتُ نبيَّكَ وَجُدتُ، بنفسي للذَّبحِ فلا تُدخِلِ النَّارَ من لا يُشرِكُ بِكَ شَيئًا، فيقولُ اللهُ: لا أُدخِلُ النَّارَ من لا يشرِكُ بِي شَيئًا" (¬3). وروى العباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الذَّبيحُ إسحَاق". وأسنده جدي في "التبصرة" ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 276، وفي تفسيره 19/ 603، وانظر "عرائس المجالس" ص 97، وما بين معكوفتين من المصادر. (¬2) "عرائس المجالس" ص 94. (¬3) "عرائس المجالس" ص 94.

ولم يتكلم عليه ولا بيَّن ما فيه، وذكر في إسناده المبارك بن فَضَالة عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس (¬1)، وفيه نظر لما نذكره ولأنَّ الله أخبر عن خليله حين فارق قومه مهاجرًا إلى الشام مع لوط وسارة فقال: {وَقَال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 99 - 101]. وروى الثعلبي عن ابن مسعود قال: افتخر رجل عند ابن مسعود فقال: أنا فلان ابن الأشياخ الكرام، فقال ابن مسعود: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن (¬2). وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن موسى مولى أبي بكر الصديق عن سعيد بن جبير قال: أُري إبراهيم ذَبْح ولده إسحاق في المنام فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنىً، فلمَّا صرف الله عنه الذَّبح وأمره بذبح الكبش فذبحه سار به في روحة واحدة مسيرة شهر طويت له الأودية والجبال. وقال أبو إسحاق: وروى عبيد بن عُمير عن أبيه قال: قال موسى: يا ربِّ، يقولون: يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فبم ذلك؟ فقال الله: لأنَّ إبراهيم لم يعدل بي شيئًا قط إلَّا اختارني عليه، وإنَّ إسحاق جاد لي بالذبح، وهو بغير ذلك أجود، وإنَّ يعقوب كلَّما زدته بلاءً زاد بي حسن ظن (¬3). وذكر جدي في "التبصرة" هذا الحديث على غير هذا الوجه، عن العباس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قال داود: إلهي، أسمع الناس يقولون: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلني رابعًا. قال الله: لست هناك، إنَّ إبراهيم لم يعدل بي شيئًا إلا اختارني عليه، وإنَّ إسحاق جاد لي بنفسه، وإنَّ يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف" (¬4). قال: وروى حمزة الزيَّات عن ابن إسحاق عن أبي ميسرة قال: قال يوسف للملك: تستنكف أن تأكل معي وأنا والله يوسف بن يعقوب نبيُّ الله، ابن إسحاق ذبيحُ الله، ابن ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 135 - 136. (¬2) "عرائس المجالس" ص 93. (¬3) "عرائس المجالس" ص 93. (¬4) "التبصرة" 1/ 136.

إبراهيم خليلُ الله (¬1). وقد روي أن المذبح كان بالقدس. وقال كعب الأحبار: نصُّ التوراة أنَّ الله قال لإبراهيم: خذ وحيدك الذي أحببته وامض إلى أرض الموريا -يعني صخرة القدس- وأصعدهُ على الصخرة صعيدة، أي قربه، فخرج وصاح بغلمانه: ابعدوا، مخافة أن يستغيث الولد بواحد منهم فيمنعه ممَّا يريد، فيبطل ثمرة قبول الأمر -وهو الثَّواب الدَّائم- فقال له: يا بنيَّ، انطلق بنا نقرِّب قربانًا، فأخذ السكين والحطب والنَّار، فقال الولد: وأين الصعيدة؟ قال: هي أنت، فقال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين فصعد على الصخرة وبنى عليها مذبحًا، وكتَّف الولد وجعله فوق الحطب، وأخذ المدية ليذبح الولد، فناداه الربُّ من السماء: يا إبراهيم، لا تمدَّ يدك إلى ولدك بسوء، فإني قد علمتُ وجميع ملائكتي وإنسي وجني أنك لم تمنع وحيدك عني، وإني قد باركت عليكما وفيكما. ثم التفت إبراهيم فأبصر كبشًا مربوطًا بقرنيه فأخذه وذبحه صعيدة عوض الغلام، ورجع الغلام إلى أمِّه سارة (¬2). وقال وهب: كان المذبح بإيلياء من أرض فلسطين. قلت: والواجب التوقُّف في هذا، فإنَّ الأدلة متعارضة من الجانبين: أمَّا على قول من قال إنه إسماعيل: أمَّا الصُّنابحي فضعيف، وضَحِكُه - صلى الله عليه وسلم -إن ثبت الحديث- كان تعجُّبًا من قول الرجل، ولو كان ابن الذبيحين لما ضحك. وأمَّا رواية أبي جمرة (¬3) عن ابن عباس أنَّه قال: الذبيح إسماعيل، فقد روى عنه الوالبي أن الذبيح إسحاق. وأمَّا قول محمد بن كعب القرظي: إن الله قال بعد قصَّة الذبيح: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112] فقد قال: نبيًّا وهذا لا ينفي أن يكون ذبيحًا. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 23/ 38. وانظر "عرائس المجالس" ص 93 - 94. (¬2) "سفر التكوين" 22/ 1 - 9. (¬3) في "ل" و"ب" ابن الجوزاء وقد تقدم أنه أبو جمرة والله أعلم.

وقولهم: إنَّ الأمَّة توارثت النحر بمنًى فلا يدلُّ على أن الذَّبيح لم يكن إسحاق لوجهين: أحدهما: لأنه يحتمل أنَّ اللهَ تعالى أمر الخليل بنحر كبش (¬1) بمنًى، وجعل ذلك من شعائر الإسلام ومناسك الحج. ويحتمل أنَّ إبراهيم سار بإسحاق إلى منى وعاد كما ذكر سعيد بن جبير (¬2)، وأخرجه أحمد في "المسند" أنه إسحاق (¬3). وأمَّا قول ابن عباس: لقد كان رأس الكبش معلَّقا بقرنيه في أوَّل الإسلام. فبعيد لأنَّ بين إبراهيم ونبيَّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة آلاف سنة، لما نذكر فيما بين الأنبياء من السنين، فكيف يبقى رأس الكبش هذه المدَّة؟ ويحتمل أنه رأس كبش آخر. وما روي عن عليٍّ كرَّم الله وجهه فقد روي عنه أنَّ الذَّبيح إسحاق. وقول ابن عباس عرض له الشيطان عند العقبة لا ينفي أن يكون إسحاق. وأمَّا على قول القائلين بأنه إسحاق، فالأخبار التي ذكرها الثعلبي غريبة جدًّا. وأمَّا حديث العباس فلا يصحُّ مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال محمد بن إسحاق: رواه المبارك بن فضالة عن الحسن فوقفه على العباس، وكذا رواه عكرمة عن ابن عباس عن أبيه، وعكرمة ضعيف. وقولهم: ليس في القرآن أنه بُشّر بولد إلا بإسحاق، فقد ثبت في الصحيح: أنَّ إسماعيل وُلدَ له أوَّلًا على ما رواه البخاري، فنزل منزلة المتواتر، ولا يختلفون فيه. وأمَّا الآثار فمعارضة بمثلها. قلت: وإذا وقع التعارض وجب التوقف، أو نطلب الترجيح، فنقول: مذهب من قال بأنه إسحاق مذهب الجمِّ الغفير من الصحابة وغيرهم، ومن خالفهم مثل على وابن عبّاس فقد روينا عنهما مثل قول الجميع. ¬

_ (¬1) في "ب" كبشين. (¬2) انظر "الزهد" لأحمد بن حنبل ص 102. (¬3) مسند أحمد (2794) من حديث ابن عباس مرفوعًا، وإسناده ضعيف.

قصة الخليل - عليه السلام - مع العابد

ونطلبه أيضًا من التاريخ فإنَّ علماء السِّير لا يختلفون أنَّ أوَّل ولد إبراهيم إسماعيل وأنه حمله صغيرًا مع أمِّه إلى مكَّة، وأنه غاب ععْه مدة بحيث تزوَّج امرأتين، وأنَّ إبراهيم جاءه وهو ابن ثلاثين سنة ولإبراهيم مئة سنة؟ واتفقوا أيضًا على أنَّ هاجر ماتت بمكة ولها تسعون سنة، واتفقوا أيضًا على أن الملائكة بشَّرت سارة بالولد وقد أتى عليها تسعون سنة، وأتت على إبراهيم مئة وعشرون سنة، وأنَّ إبراهيم لما بشَّروه بالولد قال: هو لله ذبيح. واتفقوا على أنَّ سارة لم تدخل الحجاز، وأنَّ إسماعيل لم يدخل الشام؛ وقال جدِّي في "التبصرة": والأصحّ أنَّ الذَّبيح إسحاق (¬1). فبان بما ذكرنا من الترجيح أن الذبيح إسحاق. واختلف العلماء في مَنْ نذر أن يذبح ولده أو ينحره؛ فقال أبو حنيفة وأحمد ومحمد: يصحُّ نذره ويلزمه ذبح شاة ويخرج عن العهدة استحسانًا. والقياس أن لا يصح، وبه قال أبو يوسف وزفر ومالك والشافعي، وجه قولهم أنَّ النذر بهذه الأشياء ليس بقربة ولا طاعة، وصار كما لو قال: لله عليَّ أن أقتلَ ولدي أو أذبحَ والدي أو جدِّي أو عمِّي أو خالي أو عبدي. ولنا قصَّة الخليل عليه السلام، فإنَّه نذر أن يذبح ولده ففدي بكبش ولنا به أسوة. وقولهم ليس بقربة، قلنا: نفس النذر ليس بقربة، لكنَّ النذر يوجب ذبح شاة، والذبح قربة بخلاف ما ذكروا من الأحكام، فإنَّ النَّذر بها لا قربة فيه، غلى أنَّ لأصحابنا فيه منعًا. وأمَّا العبد فيصحُّ عند محمد لأنه مال، والمال محبوب، وعند أبي حنيفة إنما لا يصحُّ لأنَّ النصَّ ورد في الولد، والعبد ليس في معناه. قصة (¬2) الخليل - عليه السلام - مع العابد روى وهب بن منبِّه قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلًا قال: يا ربِّ، أرني وليًّا من أوليائك، فأوحى الله تعالى إليه: اطلبه على ساحل البحر، فنزل يمشي على السَّاحل وإذا بكهلٍ قائم يصلي، فلمَّا رآه أوجز في صلاته، فسلَّم عليه إبراهيم وقال: سلامٌ ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 136. (¬2) من هنا وقع سقط في "ب" ينتهي في التالية.

قصة إبراهيم عليه السلام مع العبد الحبشي

عليكَ يا وليَّ الله، فردَّ عليه السَّلام وقال: وعليك السَّلام يا خليل الله، فقال: من أين علمتَ أني خليل الله؟ فقال: أخبرني الذي أخبرك أني وليّ الله، وهناك شجرة خضراء شديدة الخضرة، والسَّاحل يشرق من نور وجه الوليِّ، فأخذا يتذاكران، فمرَّت بينهما غزالة فوقعت مشويَّةً بين أيديهما، فقال الخليل: بسم الله، فقال الوليّ: والذي دلَّك عليَّ ما أفطرتُ نهارًا منذ أربعين سنة، ولولا كرامتك لما أفطرت، فأكلا منها، فلمَّا فرغا قال الوليُّ: عودي كما كنت بإذن الله، فقامت الغزالة تمشي. ثم قام الولى وودَّع الخليل ودخل البحر يمشي على الماء، فعجب الخليل وقال: يا ربِّ، ما كنت أقول إنَّ في عبادك من يشبهني فبمَ أعطيتَ هذا العبدَ ما أعطيته؟ فقال الله: بحسنِ يقينه، ولو ازداد يقينا لطار في الهواء. قصة إبراهيم عليه السَّلام مع العبد الحبشي روى السُّدي عن أشياخه قال: خرج إبراهيم - عليه السلام - في السياحة فوقع في مفازة، فعطش ولم يقدر على الماء، فإذا بعبدٍ حبشي يرعى غنما، فقال: أنا عطشان، فقال: يا خليل، أيما أحبُّ إليك اللبن أم الماء؟ فعجب الخليل لما ذَكر اسمه وقال: الماء، فضرب الأرض بقدمه، فنبع ماءٌ أحلى من العسل، وأبرد من الثلج فشرب إبراهيم وبكى، وقال: إلهي، عبدٌ حبشيٌّ له عندك هذه المنزلة، وأنا خليلك أعطش ولا أقدر على الماء. فأوحى الله إليه: وعزَّتي وجلالي لو سألني هذا العبد الحبشي أن أزيلَ السماوات والأرض لفعلت، إنه لا يريد من الدنيا والآخرة سواي. قصة الخليل عليه السَّلام مع المجوسي حكى وهب بن منبِّه عن مجاهد قال: كان إبراهيم - عليه السلام - لا يُضيف من يكفر بالله، فنزل به مرَّة مجوسيّ فأضافه ولم يعلم أنه مجوسي. فلمَّا جاء وقت الصلاة قام إبراهيم يصلي، والمجوسي جالس، فقال له: يا شيخ، لم لا تصلي؟ فقال: هو مجوسي، فطرده وقال: لا أضيف من يكفر بالله، فقام وخرج وهو منكسر القلب. فأوحى الله إليه: يا إبراهيم، أنا منذ سبعين سنة أرزقه على كفره وأنت بخلتَ عليه بلقمة؟ ! فقام إبراهيم وخرج يعدو خلفه، ارجع (¬1)، فقال: لا حاجة لي في ضيافتك بعد ¬

_ (¬1) يعني ويقول له: ارجع.

قصة الخليل - عليه السلام - مع الملك

أن طردتَني، فقال: إنَّ ربي عاتبني فيك فقال لي: كذا وكذا، فبكى المجوسي وقال: نِعم الرَّب ربٌّ يعاتب وليَّه (¬1) في عدوّه، ثم أسلم. قصة الخليل - عليه السلام - مع المَلَك روى وهب بن منبِّه عن أشياخه قالوا: أقام الخليل بالشَّام، فكثرت أمواله (¬2) ومواشيه وعبيدُه، فجلس يومًا على تلٍّ عالٍ وبين يديه ألف قطيع من الغنم، في كل قطيع عبد وكلبٌ في عنقه طوق من ذهب، وما شاء الله من الخيل والإبل. فقال بعض الملائكة: أيتَّخذ ربُّنا من نطفة آزر خليلًا ويؤتيه هذا الملك العظيم؟ ! -وفي رواية: فقالت الملائكة ذلك- فأوحى الله إليهم: اعتمدوا على من شئتم ينزل إلى الأرض يختبره، فاختاروا بعض الملائكة، وقيل: اختاروا جبريل وميكائيل، فنزلا في صورة فقيرين، فقال لهما الله: اذهبا فاذكراني عنده، فجاء جبريل فوقف عن يمينه وميكائيل عن شماله، فقال جبريل بصوت رخيم: قدوس قدوس، وقال ميكائيل: ربُّ الملائكة والرّوح، فانتفض إبراهيم انتفاضة وقال: ما تريدان؟ فقالا: قطيعًا من الغنم، فقال: خذا مهما شئتما أن تأخذا. ثم لم يزالا حتى أخذا الجميع فقال: أعيدا ما قلتما وخذا جميع أهلي وأولادي وما أملك، ففعلا. فضجَّت الملائكة والسماوات والأرض والجبال والشجر والدَّواب وقالوا: هذا والله الكرم، وقال قائل: الخليل موافق لخليله. ثم ارتفعا إلى السماء وهما يقولان: حق لك يا ربَّنا، أن تتخذ هذا خليلًا، فقال الله: رُدَّا عليه ما أخذتما وأضعفا له ذلك. فصل في وفاة سارة وأولاد إبراهيم - عليه السلام - قد حكينا أنها توفيت بعد قصَّة الذبح بثلاثة أيام (¬3)، ودفنت في المغارة التي اشتراها الخليل - عليه السلام -. قال جدِّي رحمه الله في "أعمار الأعيان": وعاشت مئة وسبعًا وعشرين سنة (¬4). ¬

_ (¬1) في (م): نبيه. (¬2) هنا ينتهي السقط في "ب". (¬3) انظر فصل ابتلائه بذبح ولده. (¬4) "أعمار الأعيان" ص 98.

فصل في وفاة الخليل - عليه السلام -

قال وهب. فتزوَّج إبراهيم بعدها امرأة من الكنعانيين من العرب العاربة، فولدت له ستة نفر، منهم مدين الذي أرسل شعيب إلى أولاده، واسم هذه المرأة: قنطوراء بنت يقطان، وقيل: بنت منطور. قال ابن الجواليقي: وقال حذيفة: يوشك بنو قنطوراء بالمذار أن يُخرِجوا أهل البصرة منها كأني بهم خُزْرَ العيون عِراضَ الوجوه. قال ابن الجواليقي: ويقال: إن قنطوراء كانت جارية إبراهيم فولدت له أولادًا والترك من نسلها (¬1). وقال أبو السائب المخزومي: تزوَّج إبراهيم امرأة أخرى يقال لها: حجون أو حجورا، فولدت له خمسة بنين، وقال ابن قتيبة: فجميع أولاد إبراهيم ثلاثة عشر رجلًا (¬2). قلت: وقد حكى ابن سعد عن هشام ابن الكلبي عن أبيه عن أولاد إبراهيم (¬3) فقال: إسماعيل أكبر ولده وأمُّه هاجر قبطيَّة، وإسحاق وأمُّه سارة. وقد ذكرناه (¬4). وقال ابن عباس: فرَّق إبراهيم أولاده فبعث إسماعيل إلى جرهم، وإسحاق إلى الشام، ولوطأ ابن أخيه إلى سدوم. وفي أيَّام الخليل أهلك اللهُ قوم لوط لما نذكر. فصل في وفاة الخليل - عليه السلام - (¬5) روى الضحَّاك عن ابن عباس قال: لما أراد الله عزَّ وجلَّ قبض روح إبراهيم أوحى إلى الأرض إني دافن فيكِ خليلي، فاضطربت الدنيا وتشامخت الجبال، وتواضعت منها بقعة يقال لها: حِبْرَى، فأوحى الله إليها: يا حِبْرَى، أنت شعشوعي، وأنت قدسي، وفيك خزانة علمي، وعليك أُنزلُ رحمتي، وأسوق إليك خيار عبادي، فطوبى لمن وضع جبهته فيك، فيك أدفق خليلي وصفييِّ، فمن صلى فيك أمنته يوم الفزع الأكبر. ¬

_ (¬1) "المعرب" ص 310. (¬2) "المعارف" ص 33. (¬3) كذا، ولعله ضمّن حكى معنى الحديث والكلام، وانظر "الطبقات الكبرى" 1/ 47. (¬4) انظر آخر فصل الذبيح إسحاق. (¬5) انظر المعارف 33، وتاريخ الطبري 1/ 312، وعرائس المجالس 100، والمنتظم 303/ 1، وتاريخ دمشق 2/ 351 و 357 (مخطوط)، والبداية والنهاية 1/ 402.

وقال الربيع بن أنس: كانت حَبْرون لجبَّار يقال له: عَفْرون، ومسكنه حِبْرَى، فاشتراها منه إبراهيم بأربع مئة درهم، واشترط عليه عَفرون كل درهم وزن خمسة دراهم، كل مئة منها ضرب ملك، فلم يقدر عليها، فجاءه جبريل بها، فقال عفرون: من أين لك هذه؟ فقال: بعث بها إليَّ خليلي رب العالمين مع أمينه على وحيه جبريل، فأسلم عفرون على يده. وجعلها إبراهيم لمن مات من أهله، فماتت سارَة فدفنها بها. وروى مقاتل عن أبي إدريس الخولاني قال: لما أراد الله سبحانه أن يقبض روح إبراهيم أمر ملَك الموت أن يتلطَّف به، فجاءه في صورة شيخ ضعيف يرتعش، فقدَّم له طعامًا، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة ليدخلها في فيه فيدخلها في عينه أو أذنه أو أنفه. وكان إبراهيم قد سأل ربَّه ألا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأل ربَّه الموت، فقال للشيخ: ما الذي بك؟ فقال: الهرم، قال: كم أتى عليك من السنين، فذكر مثل سني إبراهيم إلا سنة (¬1)، فقال إبراهيم: قد بقي لي سنة وأصير مثل هذا، اللهم اقبضني إليك، فقام الشيخ فقبضه. وذكر عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: حدثنا الصَّلت بن مسعود بإسناده عن كعب الأحبار، وذكر بمعناه، وأن إبراهيم كان في كرم وقدَّم للشيخ عنبًا، وذكره. وبهذا الإسناد عن كعب قال: كان إبراهيم يقري الأضياف، فأبطؤوا عليه، حتى إنه استراب بذلك، فخرج إلى الطريق فطلب ضيفًا، فمرَّ به ملَك الموت في صورة مسكين، فانطلق به إلى البيت فرآه إسحاق فعرفه فبكى، وبكى إبراهيم، وبكى ملَك الموت لبكائهما. ومضى ملك الموت، فقال له إسحاق: يا أبةِ أوصِ فما أرى أجلك إلَّا قد حضر، وهذا ملك الموت. وحكى السّدي عن أشياخه قال: كان لإبراهيم بيت يتعبَّد فيه ولا يدخله غيره، فجاءه ملك الموت فدخله، فجاء إبراهيم فقال: كيف دخلت بيتي بغير إذني؟ فقال: ما دخلت إلَّا بإذنٍ، فعرفه، فقال: أرني الصورة التي تقبض فيها أرواح المؤمنين، فأراه إياها، فقال له: اقبض، فقبضه، وصعد بروحه إلى السماء فقال: يا إلهي قد جئت بروح من ليس في الأرض بعده خير. قال وهب: فقال الله تعالى لإبراهيم، كيف وجدت الموت؟ فقال: كأن روحي تنزع ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 1/ 312.

بالسُّلَّاء (¬1). فقال الله: قد هوَّنَّا عليك. وحكى الحافظ في "تاريخ دمشق" عن ابن عمر قال: قال الله تعالى: يا جبريل، خذ ريحانةً من رياحين الجنَّة وانطلق بها مع ملك الموت إلى خليلي وحيِّه بها، وقل له: الخليل إذا طال به العهد أما يشتاق إلى خليله؟ ففعل، فقال الخليل: بلى قد اشتقت إلى لقائه. ثم شمَّ الريحانة فمات (¬2). وقال ابن سعد بإسناده عن هشام بن محمد عن أبيه قال: خرج إبراهيم إلى مكة ثلاث مرات، ودعا الناس إلى الحج في آخرهن، فأجابه كلّ شيء سمعه، فاوَّل من أجابه جرهم قبل العماليق ثم أسلموا ورجع إبراهيم إلى الشام فمات به وهو ابن مئتي سنة (¬3). وقال مجاهد: مات جماعة من الأنبياء فجأة، منهم الخليل وداود وسليمان والصالحون، وهو تخفيف على المؤمن وتشديد على الفاجر. وقال وهب: دفن إبراهيم في مغارة حِبْرَى بإزاء سارَة، ثم دفن أولاده وأولاد أولاده وأهله في المغارة، وبينها وبين القدس عشرة أميال. ولما طال الزمان عفت آثارها. فلما بعث سليمان أوحى الله إليه بعد ما بنى البيت المقدس أنْ ابنِ على خليلى حَيْرًا عاليًا يعرف به قبره، فخرج سليمان فأتى القرية التي شمالي حِبْرَى، ويقال لها: بيت الرَّامة، فبنى هناك بنيانًا وآثاره فيه، فأوحى الله إليه: ليس هو ها هنا ولكن انظر إلى النور المتدلي من السماء فاتْبَعْهُ، فنظر فإذا هو بالنور على حِبْرَى، فبنى عليه البنيان القائم اليوم، أمر الشياطين فبنته. وفي حديث المعراج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مرَرتُ بقبرِ أبي إبراهيمَ فقال لي جبريلُ: انزلْ فصلِّ هنا ركعتين" (¬4). ¬

_ (¬1) في النسخ: "بالسل" والمثبت من تاريخ دمشق 6/ 256. والسُّلّاء: شوك النخل، واحدته: سُلّاءَة. وأخرجه ابن عدي في الكامل 2/ 152 من حديث أبي هريرة. (¬2) "تاريخ دمشق" 6/ 255 - 256. (¬3) "الطبقات الكبرى"1/ 48. (¬4) أخرجه ابن الجوزي في فضائل بيت المقدس 120، وفيه بكر بن زياد الباهلي، قال ابن حبان: دجال يضع الحديث، ثم ساق له هذا الحديث، ثم قال: وهذا شيء لا يشك عوام أصحاب الحديث أنه موضوع. انظر ميزان الاعتدال (1222).

فصل في مبلغ سنه

وقال كعب الأحبار: في بعض انكتب يقول الله تعالى: مَنْ حِيل بينه وبين زيارة قبر محمد - صلى الله عليه وسلم - فعليه بزيارة قبر إبراهيم. وقال عبد الله بن سلام: زيارة قبر إبراهيم والصلاةُ عنده حجُّ الفقراء ودرجات الأنبياء. فأمَّا ما يروى عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من زارني وزار قبر أبي إبراهيم في عام واحد ضمنتُ له على الله الجنَّة" (¬1)، ففيه للمحدثين نظر. فصل في مبلغ سنّه واختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: مئة وخمس وسبعون سنة، قاله الكلبي. والثاني: مئة وتسعون سنة، قاله مقاتل. والثالث: مئتا سنة، وهو الأصحُّ، وحكاه الخطيب عن ابن عباس، وذكره جدي رحمه الله في "أعمار الأعيان" وذكر جماعة عاشوا مائتي سنة منهم النابغة الجعدي وأدرك الإسلام وأسلم، وكذا الجعشم (¬2) بن عوف بن جَذِيمة، ومحصن بن عبسان (¬3) بن ظالم، وسيف بن وهب بن جَذِيمة، وعامر بن جُوَين، والنَّمر بن تَوْلَب، وجَناب بن مَصاد بن مُرارة، وثُوَب بن تُلْدة ووفد على معاوية، وأمية بن الأسْكر (¬4)، والقُدار العَنَزي، وسويد بن خَذَّاق بن عبد قيس، وامرؤ القيس بن حُمام، وأبو الطَّمَحان القَيني من بني القَين واسمه حنظلة، وهو القائل: [من الوافر] حنتني حانياتُ الدَّهر حتَّى ... كانِّي خاتلٌ يَدْنُو لصَيْد قصيرُ الخطو يحسبُ من يَراني ... ولست مقَيَّدًا أنِّي بقَيدِ (¬5) انتهت سيرة الخليل عليه الصلاة والسلام. ¬

_ (¬1) قال النووي في "المجموع" 8/ 220: وهذا حديث باطل ليس هو مرويًّا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف، بل وضعه بعض الفجرة، وزيارة الخليل - صلى الله عليه وسلم - فضيلة لا تنكر، وإنما المنكر ما رووه واعتقدوه. (¬2) في (ب): "الجعيثم". (¬3) في "أعمار الأعيان": "عتبان". (¬4) في (ك) و (ب): "يشكر"، والمثبت من "أعمار الأعيان"، وانظر "الإصابة" 1/ 64. (¬5) "أعمار الأعيان" ص 07 - 109.

فصل في هلاك نمرود وبنائه للصرح وحديث النسور

فصل في هلاك نمرود وبنائه للصرح وحديث النسور قال علماء السِّير: وفي أتام الخليل عليه السَّلام احتال نمرود في صعوده إلى السَّماء لما شاهد نجاة إبراهيم، فازداد عتوًّا، وحلف ليطلبنَّ إله إبراهيم. فحكى جدي رحمه الله في "التبصرة" عن السدي قال: فأخذ أربعة أفراخ من النُّسور، فربَّاهم باللحم والخمر حتى كبروا واستفحلوا، فجوعهم أيَّامًا وقرنهم بتابوت، ونصب أربعة رماح في جوانب التابوت، وربطها في التابوت بسلاسل، وجعل على رأس كلِّ رمح فخذًا من اللحم، وربط أعينها، وقعد في التابوت، ثم أمر بإزالة العصائب عن عيونها جملةً. فلمَّا رأت اللحمَ طارت بالتَّابوت فعلَت به حتّى نظر إلى الأرض كأنّها فلكة في ماء. وصعدت النسور فغابت عنه الأرض حتى وقع في ظلمة وريح ونار، فلم يرَ ما فوقه ولا ما تحته، فخاف ونودي أيها الطاغية: إلى أين تريد؟ فنكّس الرماح باللَّحم فأهوت النسور منقضَّات، فلقَا رأت الجبال ذلك كادت أن تزول (¬1). قال ابن عباس: فذلك قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]. وقد حكى القصة أبو إسحاق الثعلبي عن علي - عليه السلام - قال: قال علي وغيره: إنَّ نمرود الجبَّار قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقًّا فلا أنتهي حتى أعلم ما في السماء، فأعدَّ النسور وقعد في التابوت وجعل معه رجلًا آخر، وجعل له بابًا من فوق وبابًا من أسفل. فلمَّا طارت النسور طمعًا في اللحم وأبعدت في الهواء قال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها؟ ففتح وقال: إن السماء كهيئتها، فقال: افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض، ففتح وقال: أراها مثل اللُّجَّة والجبال مثل الدخان. قال: وقال عكرمة: وكان معه في التابوت غلام معه قوس ونشَّاب، فرمى سهمًا فعاد إليه السهم ملطخًا بالدم فقال: كفيت شغل إله السماء. قال: واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ؟ فقال عكرمة: سمكة من السمك فدت نفسها لله تعالى من بحرٍ في الهواء معلَّق. ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 110 - 111، وانظر تفسير الطبري 13/ 718 و 14/ 202، وتاريخه 1/ 289، والمنتظم 1/ 280، وزاد المسير 4/ 373.

وقال بعضهم: من دم طائر أصابه السهم (¬1). قلت: وقول الثعلبي: إنَّ السمكة فدت نفسها لله تعالى، كلام ساقط وأين سبع سماوات والعرش والكرسي وسبعون ألف حجاب حتى يصل إليها سهم نمرود، هانما يقال في هذا: إمَّا أن يكون استدراجًا لنمرود، أو اتفق أنَّ السهم أصاب طائرًا. وقال الثعلبي أيضًا: ولما هبطت النسور بالتابوت سمعت الجبال حفيفَ النسور ففزعت، وظنَّت أنه قد حدث بها حدث من السماء، أو أنَّ السَّاعة قد قامت فذاك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (¬2). وقال الربيع بن أنس: لما رأى أنه لا يطيق شيئًا أخذ في بناء الصرح، قال الجوهري: الصرح كلُّ بناء عال (¬3). ويقال للقصر: الصرح. وقال مقاتل: بناه في ارتفاع ثلاثة أميال. فبينما الناس ذات يوم في ما هم إذ سقط الصرح، ففزعوا وتبلبلت ألسنتهم، وكان الصرح من الطين والآجر. قلت: والعجب من سفه نمرود فإنه صعد إلى السماء حتى غابت عنه الأرض، ووقع في الظلمة ولم يظفر بطائل، فما قدر ارتفاع الصرح وهو مقدار فرسخ صف يظفر بمطلوبه؟ وقوله: تبلبلت الألسن، وهمٌ، لأنها إنما تبلبلت في زمان أولاد نوح كما ذكرنا. وذكر جدّي في "التبصرة" وقال: وأمَّا نمرود فإنه بقي بعد إلقاء الخليل في النار أربع مئة عام لا يزداد إلَّا عتوًّا، ثم حلف ليطلبنَّ إله إبراهيم وذكر حديث النسور والصَّرح. قال: وقال زيد بن أسلم: بعث الله إلى نمرود ملكًا فقال له: آمنْ بي وأترك عليك ملكك، فقال: وهل ربٌّ غيري؟ فأتاه ثانيًا وَثالثًا، فعْتح عليه بابًا من البعوض، فأكلَت لحوم قومه وشربت دماءهم، وبعث الله بعوضة فدخلت في دماغه فمكث أربع مئة عام يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه، فعذّب ¬

_ (¬1) "عرائس المجالس" ص 98 - 99. (¬2) "عرائس المجالس" ص 99. (¬3) "الصحاح": (صرح).

بذلك إلى أن مات، هذا صورة ما حكى جدي رحمه الله (¬1). وذكر وهب بن منبِّه القصَّة وقال: قال نمرود للملَك: ألربِّكَ جنود؟ قال: ولم؟ قال: ليقاتلني، فإني ملك الملوك، وإنَّ الملوك يقاتل بعضهم بعضًا، فقال: اجمع جنودك إلى ثلاثة أيَّام، فجمع وحشد، وأمر الله خَزَنَةَ البعوض أن يفتحوا منها بابًا، ففتحوا، فلمَّا كان في صبيحة اليوم الثالث نظر نمرود إلى الشمس وقال: ما لها لا تطلع؟ ظنًّا منه أنَّها أبطأت، فقال الملك: حالت دونها جنود ربي. فأحاطت بهم البعوض فأكلت اللحوم وشربت الدماء، فلم يبق من الناس والدواب إلا العظام، ونمرود بحاله لم يصبه شيء فقال له الملك: أتؤمن؟ قال: لا، فأمر الله بعوضةً فقرضت شفته العليا أو السُّفلى فحكّها فشريت وعظمت، ثم دخلت منخريه ووصلت إلى دماغه فأكلت منه حتى صارت كالفأرة فأقام أربعين سنة يُضرب رأسُه بالمطارق. وقال مقاتل: أربعين يومًا، وقيل: ست مئة سنة، قال السُّدي: والأصحُّ أربعين سنة، حتى هلك (¬2). وقال السُّدي: نمرود أوّل ملوك بابل، وهم النبط الذين شقُّوا الأنهار، وأن الفرس الأول إنما انتقل الملك إليهم منهم، كما أخذت الروم الملك من اليونان. وقال ابن الكلبي: من زعم أن نمرود كان عاملًا للضحَّاك فقد وهم، لأنَّ نمرود أوَّل ملوك النبط، والضحَّاك ينسب إلى الفرس، والله أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 110 - 111. (¬2) عرائس المجالس 99. (¬3) انظر تاريخ الطبري 1/ 290 - 292، والمنتظم 1/ 282.

فصل في ذكر إسماعيل عليه السلام

فصلٌ في ذِكر إسماعيل عليه السَّلام (¬1) إسماعيل - عليه السلام - اسم أعجمي، وفيه لغتان: إسماعيل باللام، وإسماعين بالنون. وحكى ابن سعد عن هشام والواقدي: أن اسمه كان اشمويل فأعرب (¬2). وقد أثنى الله سبحانه على إسماعيل فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)} [مريم: 54] قال ابن عباس: كان إذا وعد أنجز وعده، وعد رجلًا أن يلتقيه بمكان فأقام سنة ينتظره {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55] وفي مصحف ابن مسعود: وكان يأمر قومه (¬3). ونبَّأه الله في حياة أبيه وكان بكر إبراهيم، ولد ولإبراهيم تسعون سنة في قول السُّدي، وولد إسحاق بعده بثلاثين سنة، وحمله إبراهيم على البُراق مع أمِّه وله سشتان، حكاه ابن سعد عن الواقدي (¬4). وقال وهب: لما توفي إبراهيم قام إسماعيل مقامه، وبعث إلى العماليق وجرهم وقبائل اليمن، وكانوا يعبدون الأوثان، فآمن بعضهم. وقال ابن سعد: حدَّثنا الواقديّ عن أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما بلغ إسماعيل عشرين سنة توفيت هاجر بمكة وهي بنت تسعين سنة فدفنها في الحِجر (¬5). وشكا إلى الله حرَّ مكة فأوحى الله إليه إني أفتح لك بابًا في الحِجر تجري عليك منه الروح إلى يوم القيامة فيقال: إنه قريب من هاجر. وقال عبد الملك ابن هشام في "السيرة": العرب تقول: هاجر وآجر، فيبدلون ¬

_ (¬1) انظر قصته في المعارف 34، و"البدء والتاريخ" 3/ 60، و"عرائس المجالس" ص 103، و"المنتظم " 1/ 304، و"البداية والنهاية" 1/ 442. (¬2) "الطبقات الكبرى" 1/ 49. (¬3) ذكره أبو حيان في البحر 6/ 199. (¬4) "الطبقات الكبرى" 1/ 50. (¬5) "الطبقات الكبرى" 1/ 52.

ذكر أولاده

الألف من الهاء، كما قالوا: أهْرَاق الماء وأراق الماء (¬1). وحكى ابن سعد عن محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام: أوَّل من تكلَّم بالعربية إسماعيل، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، قيل له: فما كان كلام الناس يومئذ؟ قال: العبراني، وكذا الكلام الذي أنزله الله على أنبيائه إبراهيم وغيره (¬2). وكان كلام الناس السُّرياني والعبراني. وقال السدي: إنما نطق بلغة جرهم. وقال مقاتل: لما نزلت جرهم تكلَّم كما يتكلَّمون به، واختتن وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وختن معه جماعة من أولاد العرب. ووهب له مُضاض بن عمرو الجرهمي سبعة أعنز. وذكر محمد بن عبدوس الجَهْشَياري في "كتاب الوزراء" عن كعب أنه قال: أوَّل من وضع الكتاب العربي والسُّرياني آدم قبل موته بثلاث مئة سنة، كتبها في الطين. فلما انقضى الطوفان أصاب كل قوم كتابهم، فكان الذي وجد كتاب العربية إسماعيل. قال: وقال ابن عباس: أوَّل من وضع العربية إسماعيل، ثم تكلَّم بها الناس (¬3). ذكر أولاده ذكر جَدي رحمه الله في "التبصرة" وقال: وولد لإسماعيل اثنا عشر ولدًا، ولم يسمِّ منهم أحدًا (¬4). وذكر الواقدي فقال: منهم نبت وقيل: نابت وقيذار، وقيل: إن نبت ابن قيذار، وهو أبو العرب كلهم. وكان لإسماعيل أذبل وأميم وتيم ومسمع ودوما ودوام ومنشا وجداد وقيم ونطور ونافس وميسم، وكل هؤلاء لهم نسل (¬5). وذكر عبد الملك بن هشام في "السيرة" أولاد إسماعيل فقال: نبت أو نابت وقيذر (¬6) ¬

_ (¬1) "السيرة"1/ 6. (¬2) "الطبقات الكبرى" 1/ 50. (¬3) انظر القصد والكبرى 19، والوزراء والكتاب ص 1. (¬4) "التبصرة" 1/ 125. (¬5) انظر طبقات ابن سعد 1/ 34 (الخانجي)، وتاريخ الطبري 1/ 314. (¬6) في (ب) و (ل): وفضل؟ ! والمثبت من السيرة.

فصل في وفاة إسماعيل - عليه السلام -

وماشي وكدما (¬1) وأذر وطيما (¬2) وقنطور (¬3) ونبش وقيذما، وأمهم بنت مُضاض بن عمرو الجُرهمي. وفي مضاض لغتان: كسر الميم وضمها، قال: وجرهم من قحطان، وقحطان أبو اليمن كلهم، وإليه تنتهي أنسابها (¬4). وذكر ابن سعد عن هشام بن محمد الكلبي قال: ولد لإسماعيل اثنا عشر ولدًا وهم نياوذ وهو نبت وهو نابت وهو أكبر ولده، وقيذر، وأذبل، ومنشى، ومسمع، وهو مشماعة، ودما -وهو دوما- وبه سميت دومة الجندل، وماشي، وأذر -وهو أذور- وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما، وأمهم في رواية محمد بن إسحاق رعلة بنت مُضاض بن عمرو الجُرهمي، وفي رواية الكلبي: رعلة بنت يشجب بن يعرب. قال: وقال الكلبي: وكانت لإسماعيل امرأة من العماليق ابنة صدى (¬5) قبل الجرهميَّة، وهي التي جاء إبراهيم لزيارة ابنه فجَفَتْه في القول، وأمره إبراهيم بفراقها ففارقها ولم تلد لها شيئًا. وقال ابن سعد بإسناده عن بكر بن سويد عن علي بن رباح اللخمي قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلّ العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام" (¬6). فصل في وفاة إسماعيل - عليه السلام - قال هشام بن محمد: لما احتضر أوصى إلى أخيه إسحاق، وزوَّج ابنته من العيص بن إسحاق. وقال جدي: عاش إسماعيل مئة وسبعًا وثلاثين سنة، ودفن في الحِجر عند أمّه، فقبره ما بين الميزاب إلى الحِجر (¬7). وقال خالد المخزومي: ولما حفر ابن الزبير أساس الكعبة وجد سفطًا من مرمر ¬

_ (¬1) في "السيرة": "دما". (¬2) في (ل) و (ب): "طينا"، والمثبت من "السيرة". (¬3) في "السيرة": "يطور" (¬4) "السيرة" 1/ 4 - 5، وزاد فيها: "أذبل، ومبشا، ومسمعا". (¬5) في "الطبقات الكبرى" 1/ 51 - 52: صبدى. (¬6) "الطبقات الكبرى" 1/ 51. (¬7) "المنتظم" 1/ 305، وانظر "أعمار الأعيان" ص 99، والتبصرة 1/ 125، والطبري 1/ 314.

فصل في قيذار ونبت، وجرهم وأمر الكعبة

أخضر، فسأل العلماء بالأخبار فقالوا: هذا قبر إسماعيل وأمّه، قالوا: والمحدودب مما يلي الركن الشامي فيه قبور العذارى من بنات إسماعيل وكلَّما سوّي مع أرض المسجد عاد محدودبًا كما كان (¬1). وذكر محمد بن سعد في "الطبقات" عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال: ما يعلم موضع قبر نبي من الأنبياء إلا ثلاثة: قبر إسماعيل فإنه تحت ميزاب الكعبة بين الركن والمقام، وقبر هود فإنه في حقف من الرمل تحت جبل من جبال اليمن عليه شجرة خضراء تندَى دائمًا، وموضعه أشدّ الأرض حرًّا، وقد ذكرناه، وقبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قلت: كذا ذكر ابن سعد ولم يذكر الخليل وهو ثابت أيضًا بالتواتر أكثر من قبر إسماعيل وهود. فصل في قيذار ونبت، وجرهم وأمر الكعبة واختلفوا فيهما على قولين: أحدهما: أنَّ نَبْت بن إسماعيل وقيذار أخوه. والثاني: أن قيذار بن إسماعيل ونبت بن قيذار. ولما ماتا غلبت جُرهم على البيت، وكانت أم نبت جُرهميَّة، وأبوها مُضاض بن عمرو الجرهميِّ، وولده الحارث بن مُضاض، تولى البيت والحارث أوَّل مَن وليه من جرهم، وقيل مُضاض، وكان ينزل بقُعَيقعان، وكل من دخل مكة يعشِّره. وملَّكتِ العماليق السَّمَيدَعَ بن هوبر فنزل أجياد أسفل مكة، فكان كل من خرج منها يعشِّره، وجرت بينهم حروب كثيرة. وإنما سمي قُعَيقِعان لأنه لما خرج الحارث بن مُضاض لحرب العمالقة تقعقعت هناك الدَّرَق والسيوف والرِّماح، وخرج السَّمَيدَع ملِك العمالقة فنزل بالجياد من الخيل هناك فقيل أجياد، وإلى هلمَّ جرًّا، ثم بعد ذلك اصطلحوا ونحروا الجزر هناك فسمي ذلك الموضع طابخ (¬3). وكانت ولاية جرهم البيت ثلاث مئة سنة وآخر ملوكهم الحارث بن مُضاض الأصغر ¬

_ (¬1) المنتظم 1/ 305. (¬2) "الطبقات الكبرى" 1/ 52، والمنتظم 1/ 306. (¬3) في (ب): "كانح".

وهو الحارث بن عمرو بن عوف بن الحارث بن مُضاض الأكبر، وزاد في البيت ورفعه، ثم طغت جرهم وبغت حتى فسق رجلٌ منهم في الكعبة بامرأة، وقد ذكرهما الجوهري فقال: وإساف ونائلة صنمان كانا لقريش وضعهما عمرو بن لُحَيٍّ على الصفا والمروة، فكان يذبح عليهما تُجاه الكعبة، قال الجوهري: وزعم بعضهم أنهما من جرهم، إساف بن عمرو ونائلة بنت سهل، ففجرا في الكعبة فمسخا حجرين فعبدتهما قريش (¬1). وقال ابن الكلبي (¬2): لما طال العهد عليهما عُبِدا، قال: وسلَّط الله على جرهم الرعاف فهلكوا، وبقيت منهم بقيَّة. وقال ابن إسحاق: ثم غلب بنو إسماعيل -لما كثروا وصاروا ذوي قوّة ومنعة- على أخوالهم جرهم فأخرجوهم من الحرم، فلحقوا ببلاد جهينة فأتاهم سيلٌ في الليل فاجتاحهم بمكان يُدعَى بإضم وفيهم يقول القائل: [من الطويل] كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصَّفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر من أبيات، قلت: وقد اختلفوا في قائل هذه الأبيات، فقال قوم: هي لمضاض الأكبر، وقال عبد الملك بن هشام: هي لعمرو بن الحارث بن مضاض الأصغر وليست لمضاض الأكبر، وذكرها، وقال بعد البيت الذي قاله (¬3): كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصفا ولم يتربع واسطًا فجنوبه ... إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضرُ بلى نحن كنَّا أهلها فأبادنا ... صُروف الليالي والجدود العواثرُ وكنا لإسماعيل صهرًا وجيرة ... ولما تَدُرْ فيها علينا الدّوائرُ وكنا ولاةَ البيت من بعد نابت ... نطوفُ ببيت الله والأمرُ نطاهرُ ملكنا فعزَّزنا فأعظم بمُلكِنا ... فليس لحيٍّ غيرنا ثَمَّ فاخرُ ألم تنكحوا من خير شخص علمتم ... فأبناؤه منا ونحن الأصاهرُ ¬

_ (¬1) "الصحاح": (أسف). (¬2) في (ب): "الكعبي". (¬3) الأبيات في "السيرة" 1/ 115. أما البيت الثاني: ولم يتربع واسطًا، فليس في "السيرة"، وإنما هو في "الأغاني" 15/ 18، والبيت الرابع لم نقف عليه لا في "السيرة" ولا في غيرها.

فإن تَنثنِ الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالًا وفيها التَّشاجُرُ فأخرَجَنا منها المليكُ بقدرة ... كذلك بالأحوال تجري المقادرُ أقول إذا نام الخليُّ ولم أنم ... إذا العرشِ لا يبعدْ سهيلٌ وعامرُ وبُدِّلت منها أوجهًا لا أحبها ... قبائل منها حميرٌ ويَحابرُ (¬1) وصرنا أحاديثًا وكنَّا بغبطة ... إلى أن أذلَّتنا السنونَ الغوابرُ فسحّت دموعُ العين تبكي لبلدةٍ ... بها حرمٌ أَمْنٌ وفيها المشاعرُ قلت: وقول ابن هشام إنّها ليست لمضاض الأكبر فصحيح، لأن الملك الأول يقال له: الحارث بن مُضاض الأكبر في قول ابن إسحاق، والبلاذُري يقول: مضاض، لما نذكر. وهذه الأبيات لآخر ولده هو عمرو بن الحارث بن مضاض الأصغر، وفي أيَّامه زال ملك جرهم فرثاهم بها. وحكى ابن هشام في "السيرة" أيضًا قال: وجدت مكتوبة باليمن في حجر ولا يعرف قائلها، وهي أوّل شعر قيل في العرب. وقال البلاذُري: نزلت جرهم بمكة وما والاها، وسمَّوها صلاح مثل قطام، ثم إنهم استخفُّوا بحرمة الحرم وأضاعوا حق الكعبة فوقع فيهم طاعون يعرف بداء العدسة، وقويت عليهم خزاعة فأخرجوهم من الحرم، فنزلوا بين مكة والمدينة فهلكوا بذلك الداء (¬2). وقال البلاذري (¬3): وكان أوَّل ملوك جرهم مِضاض -بكسر الميم- بن عمرو بن سعد بن الرفيت بن هي (¬4) بن نجت بن جرهم بن قحطان، ملك مئة سنة، ثم ملك بعده ولده عمرو بن مضاض مئة وعشرين سنة، ثم ملك بعده الحارث بن عمرو مئتي سنة، ثم ملك مضاض بن عمرو الأصغر أربعين سنة. وانقضت العرب العاربة من عاد وعبيل وطَسْم وجَدِيس وثمود والعماليق، وانمحت آثارهم وانقطعت أنسابهم، ولم يبق إلا من كان من عدنان وقحطان. ثم صارت ولاية البيت في ولد نزار، وكانت بينهم وبين مضر حروب وبين إياد، فكانت لمضر على إياد فأجلوهم إلى العراق، لما نذكر. ¬

_ (¬1) في (ب) و (ل): ويخامر، والمثبت من "السيرة" 1/ 115. (¬2) أنساب الأشراف 1/ 9 - 10. (¬3) القول للمسعودي في مروج الذهب 3/ 103. (¬4) في مروج الذهب: بن الرقيب بن هيني.

فصل في ذكر إسحاق - عليه السلام -

فصل في ذكر إسحَاق - عليه السلام - (¬1) قال الجوهري: إسحاق اسم رجل (¬2). وقال ابن الجواليقي: إسحاق اسم أعجمي (¬3). وذكر في "التوراة" أن إسحاق تزوج رفقا بنت ناحور بن تارَح، وهي ابنة عمه فولدت له عيصو ويعقوب توأمين في بطن واحد، خوج عيصو أوَّلًا ويعقوب بعده ويده عالقة بعقبه فسمّي يعقوب. وكان لإسحاق عند مولدهما سبعون سنة (¬4). وقال السُّدي: أراد يعقوب أن يخرج قمل عيصو، فقال له عيصو: والله إن خرجت قبلي لأعترضنَّ في جوف أمي فأقتلها، فسمِّي عيصو لأنه عصى أخاه. قلت: والعجب من ولدين يقتتلان في ظلمة الأحشاء. وإنما عيصو ويعقوب، اسمان أعجميان. وتزوَّج عيصو ابنة عمه إسماعيل بن إبراهيم فولدت له الروم بن عيصو، فكان أصفر في بياض، فهو أبو الروم كلِّهم، فكل مَا كان مِن بني الأصفر فهو من ولده. وكثُر أولاده حتى غلبوا الكنعانيين بالشام على وادي كنعان، وسكنوا على الساحل على جانب البحر الرومي إلى الإسكندرية، وصمار المُلك (¬5) في ولده وهم اليونان. وقال وهب: ذهب بصر إسحاق قبل موته، فدعا ليعقوب بالرياسة على إخوته والنبوة، ودعا لعيصو بالملك. وكان إسحاق يميل إلى العيص ويحبه، فقال إسحاق للعيص: أطعمني لحم صيدٍ حتى أدعو لك، فسمعه يعقوب فجاءه بصيد، فقال: اقترب مني حتى أدعو لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيصو أحمر أشعر الجلد ويعقوب أجرد، فقالت أمُّ يعقوب: اذبح ¬

_ (¬1) انظر قصته في: "تاريخ اليعقوبي" 1/ 28، و"تاريخ الطبري" 1/ 316، و"عرائس المجالس" ص 103، و"البدء والتاريخ" 3/ 63، والمنتظم 1/ 307، و"الكامل" 1/ 126، و"البداية والنهاية" 1/ 371 و 447. (¬2) "الصحاح": (سحق). (¬3) "المعرب" ص 62. (¬4) سفر التكوين الإصحاح 25/ 20 - 26، وانظر "المعارف" ص 38. (¬5) في (ل): "الملوك".

ذكر وفاة إسحاق عليه السلام

شاةً والبس جلدها، وتقدَّم إلى أبيك وقل: أنا عيصو، ففعل، فمسَّه إسحاق وقال: المسُّ مس عيصو والريح ريح يعقوب، فأكل ثم دعا له أن يجعل في ذريته الأنبياءَ والملوك. وذهب يعقوب وجاء عيصو بالصَّيد فقدَّمه وقال: هذا الذي طلبت فقال إسحاق: يا بنيَّ، قد بقيتْ لك دعوة، فدعا له أن يجعل الله ذريته عدد التراب وأن لا يملكهم أحد غيرهم. فقالت أم يعقوب ليعقوب: الْحق بخالك لايان (¬1)، فكان يكمن نهارًا ويَسري ليلًا مخافةً من عيصو، فسمي إسرائيل لأنه كان يَسري ليلًا، وهذا أحد الأقوال، لما نذكر. ذِكر وفاة إسحاق عليه السَّلام قال محمد بن إسحاق: وكانت وفاة إسحاق بفلسطين، ودفن بحِبْرى عند أبيه بالمغارة. واختلفوا في سنِّه على قولين: أحدهما: أنه عاش خمسًا وثمانين سنة، قاله وَهْب بن منبه. والثاني: مئة وستين سنة ذكره جدي في "أعمار الأعيان" (¬2). وقيل: مئة وثمانين سنة. وقال ابن الكلبي: عاش عيصو مئة وسبعًا وعشرين سنة، ودفن في المغارة عند أبيه وجده. ويقال: إن الأسبان من ولد عيصو. * * * ¬

_ (¬1) بعدها عند الطبري 1/ 320، فكن عنده خشية أن يقتلك عيص، فانطلق إلى خاله، فكان ... (¬2) "أعمار الأعيان" ص 102.

فصل في ذكر يعقوب عليه السلام

فصلٌ في ذِكْر يَعقوب عليه السَّلام (¬1) يعقوب: اسم أعجمي. وفي "التوراة" إسرائيل رجل رزين، ويعقوب أبو الأسباط كلِّهم. واختلفوا في تسميته إسرائيل على أقوال: أحدها: أنه "إسرا" بمعنى عبد و"إيل" هو الله، مثل جبريل وميكائيل، قاله ابن عباس (¬2). والثاني: أنَّ معناه صفوة الله، قاله مجاهد. والثالث: أنه كان يخدم بيت المقدس ويوقد قناديله فيظهر جنيٌّ فيطفئها، وكَان اسم الجني إيل، فكمن له يعقوب ليلة فأسره وشدَّه بسلسلة، وأصبح الناس يقولون يعقوب أسرإيل، ثم قالوا: إسرائيل. وفيه لغات تكلَّمت بها العرب ذكرها في "المعرَّب" فقال: إسرائيل وإسرال وإسرائين بالنون، كما قالوا: جبرين وإسماعين (¬3). وقال الجوهري: إسرائيل اسم، يقال: هو مضاف إلى إيل (¬4). واتفقوا على أن يعقوب ولد في زمان الخليل - عليه السلام -، وأنه أرسله إلى الشام، وكان إسحاق قد أوصاه أن لا يتزوَّج امرأة من الكنعانيين، وأمره أن يتزوَّج إلى خاله لابان بن ناهر بن آزر، وكان يسكن الفَدَّان من أرض حرَّان. وقد ذكرنا أنَّ يعقوب هرب من عيصو إلى حرَّان، فبينا هو في بعض المنازل نائم لحى حَجَر رأى سلمًا منصوبًا من السماء إلى الأرض، والملائكة تنزل منه وتعرُج فيه، وقال له الله تعالى: يا يعقوب، قد أورثتك الأرض المقدَّسة وذريَّتك من بعدك، ¬

_ (¬1) انظر قصته في: "تاريخ اليعقوبي" 1/ 29، والمعارف 39، و"تاريخ الطبري " 1/ 317، و"البدء والتاريخ" 3/ 65، وعرائس المجالس 103، و"المنتظم" 1/ 309، و"الكامل" 1/ 127، والبداية والنهاية 1/ 448. (¬2) انظر تفسير الطبري (798)، والدر المنثور 1/ 63. (¬3) "المعرب" ص 62. (¬4) "الصحاح": (سرا).

ذكر أولاد يعقوب - عليه السلام -

وباركتُ فيك وفيهم، وجعلت فيكم الكتاب والحُكمَ والنبوَّة، ثم أنا معك حتى أردَّك إلى ذلك المكان، فانتبه وكان قد قرب من خاله، فلما جاء إليه زوّجه ابنتيه راحيل وليا، وكانت ليا هي الكبرى وراحيل هي الصغرى، وكانوا يجمعون بين الأختين إلى أن بعث موسى ونزلت التوراة بتحريم ذلك. ويقال: إنه لم يكن له مال، فزوَّجه ليا على خدمة سبع سنين، فرعى له الغنم ثم زوَّجه راحيل بعد ذلك، وكانت أحسن من ليا -وقيل: لايا- فلمَّا رآها لم تعجبه وقال: زوِّجني راحيل الحسناء فزوَّجه إيَّاها. وقال السُّدي: لما قال له: زوّجني إحدى ابنتيك على رَعْيِ سَبْع سنين قال: قد زوَّجتك، فلمَّا دخل بها لم تعجبه لأنها كانت دميمةً، فقال: وأين الحسناء؟ يعني راحيل فقال له: هل رأيت أحدًا يزوّج ابنته الصغرى قبل الكبرى؟ فاستخدمه سبع سنين، ثم دفع إليه راحيل. وقال السُّدي: كانت راحيل غنية جميلة، ولايا -وقيل: رامين- فقيرة قبيحة، فاختار رامين لفقرها، فجمع الله له بين الأختين، ثم حُرِّم ذلك على لسان موسى، وقيل على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم -. ذكر أولاد يعقوب - عليه السلام - قال وهب: ولَدت راحيل من يعقوب يوسف وبنيامين، ومعناه: ابن الوجعة، لأنها ماتت في نفاسها. وقال ابن جرير الطبري: معناه بالعربية شدَّاد (¬1)، والأول أصح. وولد من لايا أو من رامين ليعقوب أربعة من الأسباط: روبيل ويهوذا وشمعون ولاوي. قال وهب: ولد ليعقوب من غير هاتين ستة أولاد منهم زبالون ويسجر. وقيل: إن زبالون ويسجر من لايا. وقيل: لايان، وأن لايا وهبت ليعقوب أمَتين إحداهما يقال لها: زلفى، والثانية: بلهة، فولدتا ستة من الأسباط كل واحدة ثلاثة، فأولاد يعقوب الذكور اثنا عشر ولدًا. وكانت له ابنة يقال لها: رحمة، وقيل: دينا، وهي زوجة أيوب - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 1/ 317.

وقال علماء السير وابن عباس: وهؤلاء الأسباط في بني يعقوب كالقبائل في بني إسماعيل. وقال السُّدي: أهل الكتاب يذكرون أن أولاد يعقوب كانوا أنبياء، وأن روبيل أكبرهم ثم شمعون ثم يهوذا، وكان رئيسهم لاوي. وأن داود وعيسى من ولد يهوذا، وأن موسى وهارون من ولد لاوي بن يعقوب. وقال السُّدي: ولما عاد يعقوب من عند خاله لابان خاف من أخيه عيصو فأعطاه من غنمه خمس مئة وخمسين، قاسمه ماله دفعًا لشره. وكان الله تعالى قد أوحى إلى يعقوب: لا تخف من عيصو فإني أحفظك منه كما حفظت أباك، فلما صانعه أوحى الله إليه: صانعت بالغنم ولم تطمئنَّ إلى قولي، وعزَّتي لأملِّكن ولد العيص ولدَكَ عدد ما صانعت، فملكت الروم -وهم من ولد عيصو- هذا المقدار، فأوَّل مُلْكهم إياهم خراب القدس، أخربوه واستعبدوا بني إسرائيل إلى زمان عمر بن الخطاب فكان خمس مئة وخمسين سنة (¬1)، وسنذكر وفاة يعقوب في أيَّام يوسف عليهما السَّلام. * * * ¬

_ (¬1) انظر مروج الذهب 1/ 89.

فصل في ذكر لوط عليه السلام

فصل في ذِكر لُوط عليه السَّلام (¬1) قال مقاتل: ذُكِر لُوط في سبعة عشر موضعًا من القرآن العزيز. ولوط اسم أعجمي وكذلك نوح، وقد ذكرناه. ولوط هو ابن هاران بن آزر، وقد ذكرنا أنه ابن أخي إبراهيم، وكانت الروم قد أسرت لوطًا فغزاهم إبراهيم حتى استنقذه منهم. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [هود: 69] وكان هلاك قومه في أيام الخليل - عليه السلام -، وكان ينبغي أن يذكر في سيرة إبراهيم، وإنما جعلنا له بابًا مفردًا. قال علماء التأويل: "البشرى": هي البشارة، وكانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وقيل: كانوا تسعة مع هؤلاء المذكورين، وكانت البشارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وبإهلاك قوم لوط لما نذكر. وذكر ابن إسحاق القصة فقال: كان لوط قد هاجر مع الخليل إلى الشام، واختتن لوط مع إبراهيم وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فنزل إبراهيم فلسطين، ونزل لوط الأُردُنَّ. فأرسل الله لوطًا إلى أهل سَدُوم، وكانت عدة قرى: سَدُوم، وعَامُورا، وصبرانة، وصَفراء، ودوما، وصابورا، وداذُوما وصبواس (¬2) وصبعة وصعرة (¬3). وقال مقاتل: وبلادهم ما بين الشام والحجاز بناحية زُغَر (¬4). قال: وكانت اثنتي عشرة قرية، وتسمَّى المُوتَفِكات، من الإفْك، وكان في كل قرية مئة ألف، وكانوا ¬

_ (¬1) انظر قصته في: "تاريخ الطبري" 1/ 292، وتفسيره 12/ 547، و"البدء والتاريخ" 3/ 56، و"عرائس المجالس" ص 105، وتاريخ دمشق 60/ 26، و"المنتظم" 1/ 282، وزاد السير 3/ 227 و 4/ 135، والتبصرة 1/ 150، و"الكامل" 1/ 118، و"البداية والنهاية" 1/ 408. (¬2) كذا هي في النسخ الخطية، وجاء في "معجم البلدان " 3/ 392: "صبوائيم" وهي إحدى قرى قوم لوط. (¬3) جاء في النسخ الخطية: "ضبعة وضعوة"، وما أثبتناه من "الروض المعطار" ص 308، وانظر تاريخ الطبري 1/ 307، وتاريخ دمشق 60/ 29. (¬4) انظر تفسير البغوي 3/ 70 (بهامش الخازن).

يعبدون الأوثان، ويأتون الفواحش، ويسافد بعضهم بعضًا على الطرق والمجامع، وكانوا أهل كروم وبساتين، قال: وسبب إتيانهم الفاحشة أن إبليس تصوَّر لهم في صورة غلامٍ أمرد من أحسن الغلمان، فجاء إليهم وكانت بلادهم أخصبَ البلاد، وكان الأُردُنُّ -وهو النهر الخارج من بحيرة طبرية- يقطع الغَوْر ويصل إليهم، وكانت منازلهم زُغَر قبل أن تكون البحيرة المنتنة، وكانت الكروم موضع البحيرة، والنخل محدقٌ بها، ولم يكن لهم حيطان وكان بعضهم يأكل فاكهة بعض، فزجر بعضهم بعضًا فما انزجروا، فقال لهم إبليس: ألا تمنعون كرومَكم من السُّراق؟ قالوا: قد اجتهدنا فلم نقدرْ على ذلك، فقال: أنا أعرِّفكم طريقًا ينزجرون بها، ثم أمْكَنهم من نفسه وقال: كل من أكل من كرومِكُم فاصنعوا به كذا. وإبليس أوَّل من فُعِل به هذا الفعل في الدنيا (¬1). وقال ابن عباس: وكان الله تعالى قد أمر الملائكة الذين أرسلهم لعذاب قوم لوط أن يجعلوا طريقهم على إبراهيم - عليه السلام -، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} فلما دخلوا عليه {قَالُوا سَلَامًا} أي: سلموا عليه سلامًا {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] وهو المشوي بالحجارة المحماة {فَلَمَّا رَأَى أَيدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيهِ نَكِرَهُمْ} أي: أنكرهم {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي: أضمر وظنهم لصوصًا، لأنه كان إذا نزل به ضيف ولم يأكل من طعامه ظن أنه قد جاء بشرّ فلهذا قالوا: {لَا تَخَفْ} فنحن ملائكة {أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] بالعذاب {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71] قال قتادة: كانت واقفةً من وراء الستر تخدم الأضياف وتسمع ما يجري بينهم وبين إبراهيم. واختلفوا في معنى قوله: {فَضَحِكَتْ} قال مجاهد: إنما ضحكت تعجبًا من الملائكة، قالت: ما رأيت مثل هؤلاء نخدمهم بنفوسنا ولا يأكلون طعامنا. وقال ابن عباس: معناه حاضت، وفي الآية تقديم وتأخير، ومعناه: وامرأته قائمة فبشَّرناها بإسحاق فحاضت، والعرب تقول: ضحكت الأرنب إذا حاضت، قال الشاعر: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) انظر تاريخ اليعقوبي 1/ 25.

وضِحْكُ الأرانبِ فوقَ الصَّفا ... كمثلِ دمِ الجوفِ يومَ اللّقا وهذا أصحُّ، لأنه أمارة على وجود الولد، والذي بشَّرها جبريل، قال: أيتها الضاحكة أبشري. وقال الحسن: لما قدَّم إليهم الطعام امتنعوا فقال: ألا تأكلون قالوا: لا نأكل طعامًا إلا بثمنه قال: إنَّ له ثمنًا، قالوا: وما هو؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى من معه وقال: حُق لهذا أن يتخذه الله خليلًا. فلمَّا بشَّروها: {قَالتْ يَاوَيلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} قال ابن إسحاق: كانت بنت تسعين سنة، وقال مجاهد: بنت تسع وتسعين {وَهَذَا بَعْلِي شَيخًا} [هود: 72] لأنه كان ابن عشرين ومائة سنة، فقالت لها الملائكة: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: من صنعه {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيكُمْ أَهْلَ الْبَيتِ} [هود: 73] ويدخل في هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته. ثمَّ قالت سارَة: وما آية ذلك؟ فأخذ جبريل بيده عودًا يابسًا فاهتزَّ في الحال أخضر. {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} أي: الخوف {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} بإسحاق {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] أي: يجادل رسلنا، قال ابن عباس: قالوا: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [هود: 31] فقال لهم إبراهيم: أرأيتم إن كان فيها أربع مئة من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فمئتان، قالوا: لا، قال: وإن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: إنَّ فيها لوطًا، قالوا: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [هود: 32] أي: الهالكين، فسكن واطمأنت نفسه. قال الله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} أي: حزن لمجيئهم {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} هذا مثل لمن لم يجد من المكروه مخلصًا {وَقَال هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] أي: شديد، ومنه عصابة الرَّأس، وإنما حزن لوط لأنه لم يعلم أنهم رسل الله، وخاف عليهم من قومه إتيان الفاحشة، ولم يخف على قومه لأنه كان قد سأل الله هلاكهم. وقال السُّدي: خرجت الملائكة فأتوا لوطًا وقت القائلة وهو في أرض له يعمل، وقد أمرهم الله أن لا يهلكوا قومه حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فاستضافوه فانطلق معهم يمشي إلى بيته.

واختلفوا في قوله: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 78] والظاهر أنها الفاحشة المشهورة. الثاني: أنه الرمي بالبندق. والثالث: مضغ العلك. وقال ابن عباس: الفواحش التي كانوا يعملونها: اللواط، والوشم، والرمي بالبندق، ومضغ العلك، والبصاق في الماء، وفي وجوه بعضهم لبعض، والضُّراط بالفم، واللعب بالحمام، والنرد، والشطرنج، والتنابز بالألقاب، واستغناء النساء بالنساء. وقال السُّدي: فقال لوط للأضياف وهو يمشي معهم إلى بيته: أما بلغكم أمر أهل هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرُّ قريةٍ في الأرض عملًا، قال ذلك أربع مرَّات، فدخلوا معه منزله، ولم يعلم بهم إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته -واسمها واغلة- فأخبرت قومها وقالت: إن عند لوط رجالًا ما رأيت مثل وجوههم قط، وقيل: إنها كانت تدخِّن، وهي العلامة بينها وبينهم {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيهِ} أي: يسرعون ويهرولون {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 78] أي: من قبل مجيء الرسل إلى لوط. وقال الربيع: أوَّل من رأى الملائكة ابنتا لوط، واسم الكبرى ريثا وقيل: رية، واسم الصغرى: زعورا، وقيل: عروبة. فقال جبريل للكبرى: يا جارية هل من منزل؟ قالت: نعم مكانَكُم حتى آتيكم، لا تدخلوا القرية فإني أخاف عليكم أهلها. ثم جاءت أباها فقالت: أَدْرِكْ فتيانًا على باب القرية ما رأيت أحسن وجوهًا منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحونهم. فخرج إليهم فأتى بهم منزله، وعلم قومه فجاؤوا مسرعين، فأخذ يتلطفهم ويقول: اتقوا الله {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] يعني بالنكاح، وهنَّ محل الحرث لا الفرث. واختلفوا في بناته على قولين: أحدهما: أنه أراد بنات نفسه. والثاني: بنات القبيلة. فإن قيل: فكيف قال: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} وكن كفارًا؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه أراد بنات صلبه، فيسقط السؤال. والثاني: بناتي على شرط الإسلام. والثالث: أنه كان فيهم سيّدان معظَّمان، فأراد أن يزوِّجهما ابنتيه ويجوز تزويجه بنات الأنبياء من الكفار، فقد زوَّج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنتيه: زينب من أبي العاص ابن الربيع، ورقيَّة من عتبة بن أبي لهب، وكانا كافرين.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيفِي} أي: تهينوني وتذلُّوني {أَلَيسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] أي: صالح سديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. {قَال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي: منعة وعشيرة يمنعوني {أَوْ آوي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أي: وثيق. وقد ذكرنا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، أي: الله تعالى. {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي: رغبة {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] من إتيان الرجال. وأخذوا يعالجون الباب ليكسروه، ولوط يناشدهم الله تعالى. فقالت الملائكة حينئذٍ: يا لوط، إنَّ ركنك لشديد {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيرُ مَرْدُود} [هود: 76] و {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيكَ} [هود: 81] فافتح الباب ودعنا وإيَّاهم، ففتح ودخلوا. ثم استأذن جبريل ربَّه في عقوبتهم فأذن له الله فقام في صورته التي خلقه الله عزَّ وجلَّ عليها، ونشر جناحه، وعليه وشاح من درٍّ منظوم، وهو برَّاق الثنايا مشرق الجبين، [ورأسه] حُبك حُبك -الحبك: الطرائق-[مثل] المرجان كأنَّه الثلج وقدماه إلى الخضرة، فضرب بجناحيه وجوههم فطمسها وأعمى عيونهم فصاروا لا يهتدون إلى بيوتهم، فهربوا وهم يقولون: النجاءَ النجاءَ، فإنَّ في بيت لوط أسحر قوم في الأرض، وجعلوا يتواعدونه ويقولون: كما أنت يا لوط حتى نصبح. ثم قال لوط للملائكة: متى موعد هلاكهم؟ قالوا: الصبحُ، قال: أريد أسرع من ذلك لو أهلكتموهم الآن، قالوا: {أَلَيسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] ثم قالت الملائكة: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيلِ} أي: بطائفة منه {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلا امْرَأَتَكَ} فإنها تلتفت فتهلك. فخرج لوط ومعه أهله وامرأته ونهاهم أن يلتفتوا، إلَّا امرأته فإنه ما نهاها. قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82]، قال ابن عباس: أدخل جبريل جناحه تحت قراهم ورفعها حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح ديكتهم، ثم قلبها، فذلك معنى قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]. وقال جدي في "التبصرة": كانت خمس قرى، أعظمها سَدُوم، في كل قرية مئة ألف، وكان الطير لا يدري أين يذهب، ثم أمطر الله على مسافريهم ومن غاب منهم {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} (¬1) وسجين -لغتان- وهي التي بعضها طين وبعضها حجر، {مُسَوَّمَةً} أي: على كل حجر اسم صاحبه {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 152 - 153.

وقال ابن عباس: ما من ظالم إلا وهو يخاف أن يسقط عليه حجر من ساعة إلى ساعة. وقال مجاهد: لم ينكسرْ عند رفعهم إناء، ولم يُرَقْ عند ذلك ماء. ثم تبع جبريل رعاتهم فقتلهم. وقال مقاتل: كانت الحجارة التي رُموا بها سودًا منقَّطة ببياض مثل رؤوس الإبل (¬1) على كل واحد اسم صاحبه. وقال ابن عباس: سمعتْ امرأته الهدَّة فالتفتت، فوأت العذاب، فقالت: واقوماه! فأصابها حجر فقتلها. وروى السُّدي عن أشياخه قال: لما أهلك الله قوم لوط لحق لوط بإبراهيم، فلم يزل معه حتى توفي (¬2). وحكى أبو القاسم ابن عساكر عن علي بن الجارود قال: مررت أنا وصاحب لي بمدائن قوم لوط عشيَّة عرفة، وإذا برجل كوسج أشعث أغبر على جمل أحمر، فسألَنا عن حالنا، فأخبرناه وقلنا: من أنت؟ فتغافل، فقلنا: لعلك إبليس، قال: نعم، قلنا: يا ملعون من أين جئت؟ قال: من عرفة رأيت من أذنب خمسين سعنة، فقلت: اليوم أشفي صدري منه، فنزلت عليه الرحمة، فشققت ثيابي ووضعت التراب على رأسي، وجئت إلى ها هنا أنظر إلى قوم لوط لعلَّ يسكن ما بي (¬3). وقلب الله حبوبهم (¬4) حجارة وأثرها عند سَدُوم إلى الآن، وصيَّر بساتينهم بحيرة زُغَر، فجعلها منتنة لا يعيش فيها حيوان، لا من السمك ولا من غيره. ويقال: إن في وسطها مكانًا مثل البالوعة يذهب فيه الماء لا يُدْرَى أين يذهب. ويقال: إنه يذهب إلى اليمن. ويظهر من هذه البحيرة حجر مثل البطيخة ذو شكلين يعرف بالحجر اليهودي ينفع لمن به وجع الحصى في المثانة، وهو نوعان: ذكر وأنثى، فالذكر للذكر والأنثى للأنثى، ويخرج منها أيضًا شيء على هيئة الحيوان يقال له: ¬

_ (¬1) في (ب): "الإبر". (¬2) انظر في تفصيل هذه القصة بطولها: تفسير الطبري 15/ 381 فما بعدها، وزاد المسير 4/ 127 فما بعدها، وغيرهما من كتب التفسير ومن المصادر التي أحلنا عليها أول القصة. (¬3) تاريخ دمشق 60/ 48. (¬4) في (ب): "وجوههم".

فصل في وفاة لوط - عليه السلام -

الحمر تُطلَى به الكروم فتخصب وتحمل. فصل في وفاة لوط - عليه السلام - قال علماء السير: مات لوط قبل الخليل بمدة سنين، وعاش ثمانين سنة (¬1)، ولم يكن إبراهيم اشترى المغارة فدفن على جانب البحيرة في قرية من أعمال الخليل يقال لها: بريكوت، وقبره ظاهر بها. وقال مقاتل: أقام لوط في سَدوم بضعًا وعشرين سنة. وقال أحمد بن حنبل وإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلعون من عَمِلَ عَمَلَ قَومِ لُوطٍ" (¬2). وحدثنا عمر بن محمد بن معمر الدَّارَقَزِّي بإسناده عن ابن المسيَّب عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "من عَمِلَ من أُمتي عمَلَ قومِ لوطٍ أو ماتَ وهو يَعمَلُ عَمَلَهم نَقَله الله حتَّى يُحشَر معَهم" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر "أعمار الأعيان" ص 59. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (1875). (¬3) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 12/ 484، وفيه عيسى بن مسلم الصفار وابنه منكرا الحديث.

فصل في ذكر ذي القرنين وردمه بين السدين ونحوه

فصل في ذِكر ذِي القَرنَين وردمه بينَ السَّدَّين ونحوه (¬1) قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَينِ} [الكهف: 83] قال ابن مسعود: الذين سألوا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - هم اليهود. واختلفوا في اسمه على أقوال: أحدها: عبد الله بن الضحَّاك بن معَدّ، قاله علي كرم الله وجهه. والثاني: الإسكندر، قاله وهب. والثالث: عباس بن قيصر، وأبوه أوَّل القياصرة، قاله محمد بن علي بن الحسين زين العابدين. والرَّابع: صعب بن جابر بن القلمس، ذكره ابن أبي خيثمة. واختلفوا في علَّة تسميته بذي القرنين على أقوال: أحدها: لأنَّه دعا قومه إلى الله تعالى فضربوه على قرنه فهلك، وغبر زمان ثم بعثه الله فدعاهم إليه، فضربوه على قرنه الآخر فهلك، قال علي - عليه السلام -: فذلك قرناه؛ وهذا القول يدلُّ على أنَّه كان نبيًّا. والثاني: لأنَّه سار إلى مطلع الشّمس وإلى مغربها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: لأنَّ صفحتَي رأسه كانتا من نحاس، قاله مجاهد. والرابع: لأنه رأى في المنام كأنه امتدَّ من الأرض إلى السَّماء فأخذ بقرني الشّمس، فقصَّ ذلك على قومه، فسمِّي بذي القرنين، قاله عكرمة، وكان تأويل رؤياه أنَّه طاف الدُّنيا ما بين المشرق والمغرب. والخامس: لأنَّه ملك الروم وفارس، قاله مقاتل، قال: وهما عاليان على الأرض من الجانبين فهما قرنان. ¬

_ (¬1) انظر قصته في تفسير الطبري 15/ 368 (هجر)، و "البدء والتاريخ" 1/ 78، و "عرائس المجالس" ص 362، وتاريخ دمشق 6/ 108، وزاد المسير 5/ 183، والتبصرة 1/ 165، والمنتظم 1/ 286، و"البداية والنهاية" 2/ 536.

والسَّادس: كان في رأسه شبه القرنين، وقد رويت هذه الأقوال الأربعة عن وهب أيضًا. والسَّابع: لأنَّه كان له غديرتان من شعر، قاله الحسن وابن الأنباري، قال: والعرب تسمِّي الضفيرتين من الشعر غديرتين. قلت: وقد أشار الجوهري إلى هذا فقال: "والقرن الخصلة من الشعر" ومنه قول أبي سفيان في الرُّوم: ذات القُرُون (¬1). قال الأصمعي: أراد قرون شعورهم وكانوا يطوِّلون ذلك، يعرفون به، وللرَّجل قرنان أي ضفيرتان. وذو القرنين لقب إسكندر الرُّومي، وكان يقال للمنذر بن ماء السَّماء ذو القرنين لضفيرتين كان يضفرهما في قرني رأسه فيرسلهما. هذا صورة كلام الجوهري (¬2). والثامن: لأنَّه كان كريم الطرفين من أهل بيت ذوي شرف من قبل أبويه، قاله الشعبي. والتاسع: لأنَّه انقرض في زمانه قرنان من النَّاس وهو حيٌّ، قاله ابن المسيَّب. والعاشر: لأنَّه سلك الظلمة والضوء، قاله الرَّبيع. والحادي عشر: لأنَّه كان إذا قاتل قاتل بيده وركائبه جميعًا. والثاني عشر: لأنَّه أُعطي علم الظاهر والباطن جميعًا، حكاهما الثعلبي (¬3). واختلفوا في زمان كونه على أقوال: أحدها: في القرن الأول من ولد يافث بن نوح، قاله علي - عليه السلام -، وأنه ولد بأرض الروم. والثاني: أنَّه بعد ثمود، قاله الحسن. ¬

_ (¬1) قال أبو سفيان للعباس عندما رأى طاعة المسلمين للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا الفضل، ما رأيتُ كاليوم طاعةَ قومٍ، لا فارس الأكارم، ولا الروم ذات القرون. انظر "الروض الأنف" 1/ 380. (¬2) "الصحاح" (قرن). (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 362 - 363.

والثالث: أنَّه كان من ولد إسحاق من ذريَّة العيص، قاله مقاتل. والرَّابع: أنَّه كان في الفترة بين موسى وعيسى عليهما السلام. والخامس: بين عيسى ومحمد - صَلَّى الله عليه وسلم -. والسادس: أنَّه كان من ذرِّيَّة يونان بن نوح في أيَّام الخليل - عليه السلام -، وهو الأصحّ، ذكره أبو الحسين بن المنادي. وروى عطاء عن ابن عباس فقال: لقي ذو القرنين الخليل - عليه السلام - بمكَّة، وكان ذو القرنين قد حجَّ ماشيًا، فسلَّم عليه واعتنقه وتصافحا. وأخرجه ابن عساكر عن عبيد بن عُمير قال: أوَّل من حجَّ ماشيًا ذو القرنين، وكان الخليل - عليه السلام - بمكَّة، فسمع به فخرج فتلقَّاه (¬1). وروي أنَّه اجتمع به بالشَّام. قال مقاتل: كان إبراهيم جالسًا بفلسطين، فسمع أصواتًا وجلبة فقال: ما هذا؟ قالوا: ذو القرنين وجنوده. فأرسل إليه الخليل رجلًا وقال: أقره مني السلام، فأتاه فقال: إبراهيم خليل الله يقرأ عليك السَّلام، فقال: وخليل الله ها هنا؟ قال: نعم، فنزل عن فرسه ومشى، فقيل له: بينك وبينه مسافة، فقال: ما كنت لأركب في بلد فيه خليل الله تعالى. فقام الخليل فالتقاه وسلَّم عليه ورحَّب به، وأوصاه وأهدى له بقرًا وغنمًا وحمل إليه ضيافة (¬2). قلت: وهذا خلاف قول من قال: إن نمرود عاش أربع مئة سنة بعد إبراهيم، لأنَّ ذا القرنين ما كان في أيَّام نمرود بل بعده، لأنَّ ذا القرنين ملك الأرض أيضًا فَتكون وفاة نمرود في أيَّام الخليل عليه السَّلام كما ذكر مقاتل. وقال مقاتل: كان ذو القرنين من حمير، وفد أبوه إلى الرّوم فتزوَّج امرأة من غسَّان فولدت له ذا القرنين، وقد ذكرناه. واختلفوا: هل كان نبيًّا أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنَّه كان نبيًّا، قاله عبد الله بن عمرو والضحَّاك. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 17/ 340. (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 17/ 340 - 314.

والقول الثَّاني: أنَّه كان عبدًا صالحًا ولم يكن نبيًّا ولا ملكًا، حكاه جدي رحمه الله في "التبصرة" عن عليٍّ - عليه السلام - (¬1). وحدَّثنا عبد الرحمن بن أبي حامد الحربي بإسناده عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا أدري أكان ذو القرنين نبيًّا أم لا" (¬2). قلت: وقد روي عن علي وابن عباس أنَّه كان ملكًا صالحًا فاضلًا على دين إبراهيم عليه السَّلام، يأمر النَّاس بالتوحيد والتقوى. وحكى جدي رحمه الله في "التبصرة" عن وهب أنَّه كان ملكًا (¬3). وحكى أيضًا عن علي - رضي الله عنه - أنَّه قال: أطاع الله فسخَّر له السحابَ فحُمل عليه، ومدَّ له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء (¬4). وحكى هذه الأقوال أبو القاسم ابن عساكر (¬5). وقال أبو الحسين ابن المنادي: كان ذو القرنين أحدَ عظماء الملوك، إلَّا أنَّ الله تعالى أعطاه التوحيد والطَّاعة واصطناع الخير والمعونةَ على الأعداء، ففتح الحصون والمدائن وغلب الرجال، وعمَّر عُمُرًا طويلًا، فبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السدَّ، وحصر يأجوج ومأجوج وراءه، وكان رحمة للمؤمنين ونقمة على الكافرين (¬6). وروى الوالبي عن ابن عباس قال: كان أوَّل أمر ذي القرنين أنَّه كان غلامًا من الروم أعطي مُلكًا، فسار حتَّى أتى مصر فابتنى بها مدينة يقال لها: الإسكندرية، فلمَّا فرغ من بنائها أتاه مَلَكٌ فعرج به، فقال: انظر ما تحتك؟ فقال: أرى مدينتي وأرى معها مدائن، ثم عرج به فقال: انظر، فنظر وقال: أرى مدينتي وحدها ولا مدائن معها، فقال له ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 166. (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2174)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 17/ 337، قال ابن كثير في البداية 2/ 537: وهذا غريب من هذا الوجه. (¬3) "التبصرة" 1/ 166. (¬4) "التبصرة" 1/ 166. (¬5) "تاريخ دمشق" 17/ 333. (¬6) انظر "المنتظم" 1/ 288.

فصل في سيره في الأرض وبنائه السد وغير ذلك

الملَكُ: إنَّما تلك الأرض كلها، وهذا السَّواد الذي ترى محيطًا بها هو البحر، وإنَّما أراد الله أن يريَكَ الأرض، وقد جعلك سلطانًا فيها، فَسِرْ فيها شرقًا وغربًا فعلِّم الجاهل وثبتِ العالم (¬1). وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قطع الإسكندر الأرض من مشرقها إلى مغربها في اثنتي عشرة سنة. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: كان ذو القرنين إذا سار يكون أمامه على مقدمته ست مئة ألف، وهو في الوسط في ألف ألف، وفي ساقته مئة ألف لا ينقص هذا العدد، كما هرم واحد جعل مكانه غيره. فصل في سَيره في الأرض وبنائه السَّدّ وغير ذلك قال الله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} الآية، أي: وطَّأنا له في الأرض وهديناه طرقها {وَآتَينَاهُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ} يحتاج إليه ويستعين به الملوك على فتح الحصون والمدن ومحاربة العدوِّ. وقوله: {سَبَبًا} [الكهف: 84] قال ابن عباس: أي علمًا يتسبَّب به إلى ما يريد من بلوغ المقاصد، كما فعل سليمان - عليه السلام -، وقيل: هو العلم بالطرق والمسالك (¬2) {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)} [الكهف: 85] السبب الطريق، ومعنى "أَتْبَعَ" أي: سلك وسار يقفو الآثار، ومنه {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 37] أي: طرقها. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَينٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] قال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن إبراهيم التَّيميُّ عن أبيه عن أبي ذر، قال: كنت رديف النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فقال: "يا أبا ذرٍّ، هل تدري أين تغربُ هذه الشَّمسُ"؟ قلت: الله ورَسُولُه أعلم، فقال: "إنَّها تَغربُ في عَينٍ حَاميةٍ" (¬3). وقد رواه عبد الله بن عمرو فقال: نَظرَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إلى الشّمس وقد غربت فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره 15/ 368 من حديث عقبة بن عامر. (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 166 - 167. و"زاد السير" 5/ 185. (¬3) أخرجه أحمد (21459).

"في نارِ اللهِ الحامِيةِ لولا ما يَزَعُها من أمر اللهِ لأحرَقت ما على وَجهِ الأرضِ" (¬1)، وقد ذكرناه في فصل الشّمس. وقال الحسن البصري: وجدها تغرب في ماء يغلي غليان القدور؛ ويفيض الماء من تلك العين الحارَّة حولها ثلاثة أيَّام، لا يأتي على شيء إلَّا احترق (¬2). والجمهور على القراءة الأولى وهي {عَينٍ حَمِئَةٍ} مهموز، أي: ذات حمأة، وهي الطينة السوداء. وقال كعب: أجدها في التوراة تغرب في عين سوداء، فوافق ابن عباس. وذكر الثعلبي أيضًا بإسناده عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أبا حاضر، أو ابن حاضر رجل من الأزد، يقول: سمعت ابن عباس قال: إنِّي لجالس عند معاوية إذ قرأ: "تغرب في عين حامية" قال ابن عباس: فقلت ما نقرأها إلَّا {حَمِئَةٍ}، فقال معاوية لعبد الله بن عمر: وكيف تقرأها؟ فقال: كما قرأتها يا أمير المؤمنين يعني: حامية، قال ابن عباس، فقلت: في بيتي نزل القرآن، فأرسل معاوية إلى كعب فجاءه فقال: أين تجد الشّمس تغرب في التوراة؟ فقال كعب: أمَّا العربية فأنتم أعلم منَّا بها، وأمَّا الشَّمس فإني أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين، قال أبو حاضر الأزدي: لو كنت عندكما حاضرًا لأنشدتك ما تزداد به بصرًا في قولك: حمئة، فقال ابن عباس: وما هو؟ فقلت: قول تُبَّع: [الكامل] قد كان ذو القرنين قبليَ مُسلمًا ... ملكًا تدينُ له الملوك وتسجدُ بلغَ المشارق والمغاربَ يبتغي ... أسبابَ أمرٍ من حكيم مُرشد فرأى مغار الشّمس عند غروبها ... في عين ذي خُلُب وثَأط حرمد قال: فقال ابن عباس: ما الخُلبُ؟ قلت: الطين في كلامهم، يعني أهل اليمن، قال: فما الثأط؟ قلت: الحمأة، قال: وما الحرمد؟ قلت: الأسود. فدعا رجلًا أو ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6934). وقال ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 546: فيه غرابة، وفيه رجل مبهم لم يسمّ، ورفعه فيه نظر، وقد يكون موقوفًا من كلام عبد الله بن عمرو. (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 167.

غلامًا فقال له: اكتب ما يقول (¬1). قلت: ذكر الثعلبي هذه الأبيات مرفوعة، وهي لحن فاحش. قلت: وفيها علّة أخرى، وذلك لأنَّ كعبًا مات في سنة اثنتين وثلاثين، ومعاوية ولي الأمر بعد الأربعين. فبينهما تسع سنين. وقال أبو العالية: بلغني أن الشّمس تغرب في عين، والعين تقذفها إلى المشرق. وقوله تعالى: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} يعني: أناسًا، لباسهم جلود السباع، ليس لهم طعام إلَّا ما أحرقت الشَّمس من الدَّواب عند غروبها، وما لفظت العين من الحيتان، {قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَينِ} [الكهف: 86] من قال إنه كان نبيًّا يقول: {قُلْنَا} وحيٌ من الله تعالى، ومن قال: إنه لم يكن نبيًّا يقول: هو إلهام {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} أي: تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف: 86] يعني الصفح والعفو، وقيل: إمَّا أن تأسرهم فتعلمهم طريق الهدى وتبصرهم طريق الرشاد {قَال أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} أي: أشرك بالله {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف: 87] أي: منكرًا وهو عذاب النَّار {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} أي: جزاء الأعمال الصالحة {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 88] أي: نلين له القول ونهوِّن عليه الأمر. قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)} [الكهف: 89] أي: طرقًا ومنازل {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف: 90] قال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشّمس ستر، وذلك لأنهم كانوا في مكان لا يستقرُّ عليه البنيان، وكانوا يكونون في أسراب لهم حتَّى إذا زالت الشّمس عنهم خرجوا إلى معايشهم وحروثهم. وقال الحسن: كانت أرضهم أرضًا لا تحتمل النَّبات، فكانوا إذا طلعت عليهم الشّمس تهوروا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا فرعوا كما ترعى البهائم. وقال ابن جريج: جاءهم جيش مرَّة فقال لهم أهلها: لا تطلع عليكم الشّمس وأنتم ها هنا، فقالوا: ما نبرح حتَّى تطلع الشّمس، ثم رأوا عظامًا فقالوا: ما هذه؟ قالوا: عظام قوم طلعت عليهم الشّمس ها هنا فماتوا، فذهبوا هاربين في الأرض (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 366. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 367.

حديث السد ويأجوج ومأجوج

وقال قوم (¬1): هم الزنج. وقال الكلبي: هم تاريس ومنسك وتاويل، عراة حفاة عماة عن الحق (¬2). وحكى الثعلبي عن عمرو بن مالك بن أميَّة قال: وجدت رجلًا بسمرقند يحدِّث عن القوم الذين تطلع عليهم الشّمس قال: خرجت حتَّى جاوزت الصين، ثم سألت عنهم فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلًا وسرت بقيَّة عشيَّتي وليلتي حتَّى صبحتهم، فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى، أو يلبس الأخرى، وكان صاحبي يحسن لسانهم فسألهم، قالوا: وما أنتم؟ قالوا: جئنا حتى ننظر إلى الشّمس كيف تطلع، قال: فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي عليَّ فوقعت، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن. فلما طلعت الشّمس على الماء إذا هي كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما ارتفعتْ أدخلوني سَرَبًا لهم أنا وصاحبي، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصيدون السمك فيطرحونه في الشّمس ويأكلونه (¬3). وقال مجاهد: مضى يفتح المدائن ويجمع الكنوز ويقتل من لم يؤمن حتَّى بلغ مطلع الشمسى، وذكر بمعنى ما ذكرناه. واختلفوا في معنى قوله: {كَذَلِكَ} هو على أقوال: أحدها: كما بلغ مغرب الشّمس كذا بلغ مطلعها. والثاني: أن معناه: كما أتبع سببًا أتبع سببًا آخر وحكم بحكم أولئك، ثم استأنف فقال: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيهِ خُبْرًا} [الكهف: 91] يعني: بما عنده ومعه من الملك والجيوش والآلات والأمم {خُبْرًا} أي: علمًا. حديث السدِّ ويأجوج ومأجوج قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)} [الكهف: 85] أي: سلك طريقًا إلى المشرق {حَتَّى إِذَا ¬

_ (¬1) في (ل): وقال قتادة، والمثبت من (ب)، وانظر تفسير الطبري 15/ 383. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 367. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 367، وتفسير الثعلبي 6/ 192.

{بَلَغَ بَينَ السَّدَّينِ} قال وهب: وهما جبلان مَنِيعان رأسهما في السماء، ومن ورائهما البحر (¬1). قوله تعالى: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف: 93] أي: لا يفهمونه إلَّا بعد إبطاء {قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَينِ} فإن قيل: فقد أخبر عنهم أنهم لا يفقهون: أي: لا يفهمون قولًا، ثم قال: {قَالُوا}، قلنا: كلَّمهُ عنهم ترجمان يفهم ما يقول، وذلك جائز. وهؤلاء القائلون هم دون سدِّ يأجوج ومأجوج {يَاذَا الْقَرْنَينِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 94] أصل يأجوج ومأجوج من أجيج النَّار، وهو ضوؤها ولهبها، شُبِّهوا به لكثرتهم وشدَّتهم. واختلفوا فيهم على أقوال: أحدها: أنهم من ولد يافث بن نوح، قاله مجاهد. والثاني: أنهم من غير حوَّاء، وذلك لأنَّ آدم نام ذات يوم فاحتلم، فامتزجت نطفته بالتُّراب، فلما انتبه أسف على ذلك الماء الذي خرج منه، فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم، حكاه الثعلبي عن كعب الأحبار (¬2). والثالث: أنهم جبل من الترك، قاله الضحاك (¬3). وذكرهم الجوهري فقال: الأجيج: تلهب النار (¬4). وقال علي - عليه السلام -: منهم من طوله شبر، ومنهم مفرط الطول، ولهم شعور تواويهم، ومنهم من وجهه وجه كلب ووجه أسد ودبٍّ ونحو ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" 1/ 168. (¬2) تفسير الثعلبي 6/ 193، قال ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 553، والتفسير 3/ 104: ومن زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم ... فهذا قول غريب جدًّا، ثم لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل، بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع النَّاس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن. (¬3) انظر "زاد المسير" 5/ 190. (¬4) "الصحاح": (أجج). (¬5) قال ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 553: فكل هذه أقوال بلا دليل ورجم بالغيب بغير برهان.

وقال ابن عباس: السَّدُّ بين أرمينية وأذربيجان. ومعنى فسادهم في الأرض: أنهم كانوا يأكلون النَّاس. وقال الكلبي: كانوا يخرجون في أيَّام الرَّبيع في السهل فلا يدعون شيئًا إلّا أكلوه ولا يابسًا إلَّا احتملوه. وقيل: معناه في المستقبل؛ أي: سيفسدون في الأرض، وقد دلَّ الحديث عليه لما نذكر في آخر الفصل. قوله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} قرأه العامَّة بغير ألف، وقرأه حمزة والكسائي وأهل الكوفة "خراجًا" بألف. ومعناه: نجعل لك أجرًا وجُعلًا {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَينَنَا وَبَينَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] أي: حاجزًا فلا يصلون إلينا. قال لهم ذو القرنين: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيرٌ} وقرأ أهل مكّة "مكنني" بنونين على الإظهار، وقرأ الباقون "مكَّنِّي" بنون واحدة على الإدغام. ومعنى {مَا مَكَّنِّي فِيهِ} أي: خير من خرجكم، ولكن أعينوني {بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَينَكُمْ وَبَينَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95] أي: حائطًا أو حاجزًا. قالوا: وما تلك القوَّة؟ قال: صُنَّاع وفَعَلة يحسنون هذا، قالوا: وما تلك الآلة؟ قال: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} أي: قِطَع الحديد فأتوه بها فبناه {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَينَ الصَّدَفَينِ} وهما جانبا الجبل، فجعل بينهما الخطيب ونسج عليه الحديد وألقى عليه القِطْر، وهو النُّحاس المذاب، فأكلت النَّار الخطيب، وصار النُّحاس موضعَ الخطيب، فاختلط الحديد بالنحاس وهو يقول: {انْفُخُوا} [الكهف: 96] حتَّى كمل واستوى {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي: يعلون فوقه {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97] من أسفله. فقال ذو القرنين: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} يعني السدَّ، فلهذا لم يقل: هذه {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف: 98] أي: مستويًا بالأرض. وقال مقاتل: وصل إلى مدن معطلة قد بقي فيها بقايا من النَّاس، فسألوه أن يسدَّ ما بينهم وبين يأجوج ومأجوج. وقال مقاتل: لما سار إلى المشرق جعل طريقه على الهند والتُّبَّت، فتلقته الملوك بالهدايا والطاعة، إلى أن وصل إلى الأرض السوداء المنتنة، فقطعها سيرًا حثيثًا في شهر، ووصل إلى المدائن المجاورة ليأجوج ومأجوج، فنزل بجيوشه فيها ومعه العلماء وأرباب الصنائع. فلمَّا عزم على بناء السدِّ اتخذ القدورَ الكبار من النحاس والحديد والمغارف، وأمر بأن يجعل دَوْرَ كلِّ قِدْرٍ خمسين ذراعًا، فبناه،

وجعل في وسطه بابًا ارتفاعه خمس مئة ذراع وعوضه مائة ذراع بالذراع الأعظم، وهو الباع، وعمل عليه مصراعين وقفلًا كبيرًا، وكل ذلك أملس كملاسة الجبل. وذكر ابن خرداذبه في كتاب "المسالك والممالك" قال: حدَّثني سلام الترجمان قال: رأى هارون الواثق بالله في منامه كأنَّ السدَّ قد فتح فانزعج، وقال: تجهز إلى السدِّ، وضمَّ إليَّ عسكرًا، ووصلني بخمسة آلاف دينار، وأعطاني ديتي عشرة آلاف درهم، وأعطى كلَّ فارس معي ألف درهم ورزق ستة أشهر. قال: فَشَخَصَنا من سُرَّ مَن رَأى بكتاب الواثق إلى نائبه بأرمينية وهو إسحاق بن إسماعيل، فوافيناه بتَفلِيس، فكتب لنا كتابًا إلى صاحب مملكة السَّرير واللَّان، فكتبوا لنا كتابًا إلى ملك الخَزَرِ، فبعث معنا الأدلَّاء وسرنا من عند ملك الخَزَر خمسةً وعشرين يومًا ثم وقعنا في أرض سوداء منتنة الريح، فسرنا فيها عشرة أيَّام، ثم صرنا إلى مدن خراب، فسرنا فيها تسعة وعشرين يومًا، فسألنا الأدلَّاء عنها فقالوا: هذه مدن كان يأجوج ومأجوج يطرقونها فأخربوها. ثم سرنا إلى حصون بالقرب من الجبل الذي فيه السدُّ، وفي تلك الحصون قوم يتكلمون بالعربية والفارسية، مسلمون يقرؤون القرآن، وعندهم مساجد ولهم زروع وعيون، فقالوا: من أين جئتم؟ قلنا: من العراق، ونحن رسل أمير المؤمنين الواثق، فعجبوا وقالوا: ما سمعنا بهذا قط. ثم صرنا إلى جبل أملس مقطوع بوادٍ عرضه خمس مئة ذراع وأكثر، وفيه السدُّ، وإذا عضادتان كل واحدة منها يلي الجبل، وعليها باب بمصراعين عرض كل واحد خمسون ذراعًا في ارتفاع خمسين ذراعًا في ثخن خمسة أذرع، وقائمتهما في دَرْوَند من حديد، وعلى الباب قفل طوله سبعة أذرع في غلظ ذراع، وارتفاع القفل من الأرض خمسة وعشرون ذراعًا، وفوقه غَلقٌ أطول من القفل وقفيز، وعليه مفتاح عظيم بسلسلة طولها ثمانية أذرع في استدارة ذراع، والحلقة التي فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق، وعتبة الباب عشرة أذرع في بسط مئة ذراع، ورئيس تلك الحصون يركب في كل جمعة في عشرة فوارس مع كل فارس مرزبَّة من حديد وزنها خمسين ومئة منٍّ، فيضربون الباب بتلك المرزبَّات مرارًا ليسمع من خلف الباب، فيعلمون أنَّ هناك حفظةً وهناك آلة البناء والقدور والمغارف وبقيَّة اللبن والقدور، ويصعد إليها بسلالم، فسألناهم: هل رأيتم أَحدًا من يأجوج ومأجوج؟ قالوا: رأينا مرَّة

عددًا فوق الشرافات (¬1)، فهبت ريح سوداء فألقتهم وراء الجبل، ومقدار الرجل شبر. قال سلام: ثم عدنا فخرجت بنا الأدلَّاء من خلف سمرقند بسبعة أيَّام وسبعة فراسخ، ورجعنا إلى سُرَّ مَن رأى بعد خروجنا بثمانية وعشرين شهرًا. وقد ذكر جدي رحمه الله هذه الحكاية في كتاب "التبصرة" في سيرة ذي القرنين واختصرها (¬2). وقد روي: أن يأجوج ومأجوج يحفرون السدَّ كل يوم، فقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي رافع عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إنَّ يَأجُوجَ ومَأجُوج ليَحفِرُون السَّدَّ كُلَّ يوم حتَّى إذا كادُوا يَرَون شُعاع الشَّمسِ قال الذي عليهم: ارجعُوا فسَتَحفِرُونَه غَدًا، فيعُودُونَ إليهِ فَيَرونَه كما كان أو أشدَّ، حتَّى إذا بلغت مُدَّتُهم وأراد اللهُ أن يَبعثَهم على النَّاس حَفَروا، حتَّى إذا كادوا يَرَونَ شُعاعَ الشَّمسِ قال الذي عليهم: ارجعوا فستَحفِرُونه غدًا إن شاء الله تعالى فيعودُونَ إليه فَيَرونَهُ على هَيئتِهِ التي تَركُوهُ عليها، فَيحفِرُونَه وَيخرُجُونَ على النَّاس، فيَنشُفُونَ المياهَ ويتَحصَّنُ النَّاسُ منهم بحصُونِهم، فَيَرمُونَ بِسهامِهِم نحو السَّماءِ، فَترجِعُ وعليها أثر الدَّمِ أو كَهيئَةِ الدَّمِ، فيقولون: قَهَرنا أهلَ الأرض وعَلَونا أهلَ السَّماءِ، فَيبعَثُ الله عليهم نَغَفًا في أقفائِهم فيقتُلُهم بها، فوالذي نَفسِي بِيَدِه إنَّ دوابَّ الأرضِ لتشكَر من لُحُومِهم أو دِمَائِهم" (¬3). قال الجوهري: النغف الدود الذي يكون في أنوف الإبل والغنم (¬4)، وتَشكَر: أي تمتلئ، من قولهم: شكر الضرع إذا امتلأ (¬5). وقد روى أبو إسحاق الثعلبي حديثًا في هذا المعنى فقال: حدَّثنا عبد الله بن حامد بإسناده عن أبي سعيد الخُدري قال: سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يفتحُ يأجوجُ ومأجُوجُ ¬

_ (¬1) وكذا هي في عرائس المجالس 369، وفي "المسالك والممالك" ص 141: فوق الجبل، وفي المنتظم 1/ 296: فوق الشُّرف. (¬2) "التبصرة" 1/ 168 - 169. (¬3) أخرجه أحمد (10632). (¬4) "الصحاح": (نغف). (¬5) "الصحاح": (شكر).

فيخرجُون كما قال الله عزَّ وجلَّ: {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] فَيَغْشَوْنَ الأرض، وينحاز المسلمون إلى حصونهم ومدائِنهم، حتَّى إنَّ أولهم يمرُّون بالنَّهر من أنهار الأرض- وقال أبو الهيثم: دجلة- فيشرَبُون حتَّى تصير يابسة، فيمرُّ به الذين من بعدهم سيقولون: لقد كان بهذا المكان ماءٌ مرةً. حتَّى إذا ظهروا على أهل الأرض قالوا: هؤلاء أهلُ الأرض قد فرغنا منهم، وبقي أهل السَّماءِ فيهزُّ أحدُهُم حَربَتَه، ثم يقذِفُ بها إلى السماء فترجع إليه مُخضَبَةً دمًا للفتنة، فبينما هم كذلك إذ بعثَ اللهُ عليهم دُودًا في أعناقهم كنَغَفِ الجَرادِ، فيمُوتُون موتَ الجَرادِ، فيُصبحُ المسلِمونَ ما يسمَعُونَ لهم حِسًّا، فيقولون: هل من رجل يشترِي لنا نَفسَهُ فينظُر ما فَعلَ هؤلاء القوم؟ فينزِلُ رجل منهم قد أيقَن أنَّه مقتُولٌ، فيَجدُهم موتَى بعضُهُم على بَعضٍ، فينادي: أبشِروا فقد كَفاكُم اللهُ أمرَ عدوكُم، فيخرجُ المسلِمونَ فيُرسِلُون مواشِيَهم فيهم، فما يَكونُ لهم رَعيٌ غير لُحومِهم، فتَشكَر عليه كأحسَن ما شكَرت على شيءٍ من النَّباتِ أصابَتهُ قطّ" (¬1). وقال الثعلبي بإسناده عن عبد الله، قال: سألت النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن يأجوج ومأجوج فقال: "يأجوجُ أُمَّةٌ ومأجوجُ أُمَّةٌ، كل أُمَّةٍ أربع مئة ألف، لا يموتُ أحدُهم حتَّى ينظُرَ إلى ألفِ ذَكرٍ من صُلبِه كُلُّهم قد سَلَّ السِّلاحَ" فقال: يا رسول الله، صِفهُم لنا، فقال: "هم ثلاثةُ أصنَافٍ: صِنفٌ منهم أمثال الأَرْزِ" قيل: يا رسول الله، وما الأَرزُ؟ قال: "شجر بالشَّامِ طولُ الشَّجرةِ عشرُون ومئة ذِراع، وصِنفٌ منهم عرضُهُ وطُولُه سواء، وصِنفٌ منهم يَفرُش أذُنَه ويلتَحِفُ بالأخرى، لا يمرُّونَ بِفيلٍ ولا وَحشٍ ولا خِنزِيرٍ إلَّا أكلُوهُ، ومَن مَاتَ منهم أكلُوهُ، مقدِمتُهم بالشَّامِ وساقتهم بخُراسَان، يَشربُونَ أنهارَ المشرق وبُحيرةَ طبرية" قلت: وقد أخرج جدِّي هذا الحديث في "الموضوعات" وقال: قال ابن عدي: هذا حديث منكر موضوع (¬2). وذكر مقاتل أنَّ السدَّ عرضه فرسخ وطوله فرسخ. وذكَر صاحب "المسالك": أنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (11731). (¬2) "الموضوعات" (416) والكامل لابن عدي 6/ 169 عن حذيفة.

فصل في سلوكه الظلمة وطلبه لعين الحياة

ارتفاعه في الهواء فرسخين، وكذا عرضه، وينتهي إلى البحر الأعظم (¬1). ودونهم قوم لا يعرفون آدم، ودونهم إلى ناحية يأجوج ومأجوج أمَّة من الحيَّات تَبلَعُ منهم الحيَّة الصخرة العظيمة. وقال قتادة: الجبل الذي فيه السدُّ يقال له: جبل الرَّدم، وجميعه على بحر الخَزَرِ، وينتهي إلى البحر المظلم، وطوله ألف فرسخ، وليس له طريق إلى البر إلَّا من ناحية السد، وفيه يأجوج ومأجوج، وطعامهم أفاعي البحر، يبعث الله السحب فتغترف الأفاعي من البحر ثم تمطر عليهم فيأكلونها، ولكل واحد منهم فرجان وينكح نفسه، ولا يموت حتَّى يرى من نسله ألف إنسان، ثم يموت فيرمى في البحر فتأكله أفاعي البحر (¬2). فصل في سلوكه الظلمة وطلبه لعين الحياة قال جدِّي رحمه الله في تاريخه المسمَّى بـ "المنتظم": حدَّثنا أبو بكر محمَّد بن عبد الباقي البزاز بإسناده عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جدِّه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان لذي القرنين خليل من الملائكة يقال له: ربائيل يتردَّد إليه، فقال له يومًا: يا ربائيل، أخبرني عن عبادة الملائكة في السماء، فقال: منهم سجود لا يرفعون رؤوسهم، وقيام لا يركعون، وركوع لا يرفعون، ومع هذا فإنهم يقولون: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك. فبكى ذو القرنين وقال: إنِّي أحب أن أعيش حتَّى أبلغ من عبادة ربي حقَّ طاعته، فقال له الملك: أتحب ذلك؟ قال: نعم، قال: فإن في الأرض عينًا يقال لها: عين الحياة، من شرب منها لا يموت حتَّى يكون هو الذي يسأل ربَّه الموت. قال: فهل فيكم من يعلم مكانها؟ قال له الملك: إنَّها في ظلمة لا يصلُ إليها إنسيٌّ ولا جنِّيٌّ. فجمع ذو القرنين حكماء أهل زمانه والعارفين بأخبار العالم وقال: هل وجدتم فيما قرأتم من الكتب أنَّ لله في الأرض عينًا يقال لها عين الحياة؟ قالوا: لا، فقال عالم من العلماء يقال له أفشنجير: نعم، إنِّي وجدت في وصيَّة آدم أنها في ظلمة على قرن الشَّمس عند طلوعها. فسار ذو القرنين يطلبها إلى أن ¬

_ (¬1) "المسالك والممالك" ص 142. (¬2) سلف قريبًا قول ابن كثير إن هذه أقوال بلا دليل ورجم بالغيب بغير برهان.

بلغ طرف الظلمة، وذلك في اثنتي عشرة سنة، فوقع في ظلمة لا تشبه ظلمة الليل بل تفور مثل الدخان، فعسكر هناك، وعزم على دخولها، فنهاه الحكماء فلم ينته، وقال لأهل الخبرة: أيُّ الدواب أبصر بالليل؟ قالوا: إناث الخيل البكارة، فجمع من عسكره ستة آلاف فرس من ذلك الجنس، وانتخب من عقلاء عسكره ستة آلاف، ودفع لكلِّ واحدٍ فرسًا. وكان معه الخضر، وهو ابن خالته ومشيره ووزيره، فقدَّمه في ألفين، وبقي هو في أربعة آلاف، وأمره بالمسير في مقدمته، فقال له الخضر: إنَّما نسير في ظلمة، فكيف يصنع من ضلَّ منا عن صاحبه؟ فدفع إليه ذو القرنين خرزةً حمراء وقال: إذا ضللت فألقِ هذه الخرزةَ في الأرض، فإذا صاحت فليرجع إليها الضّلَّالُ. فسار الخضر بين يديه يرتحل الخضر وينزل الإسكندر، وقد علم الخضر ما يطلب الإسكندر. فبينا الخضر يسير إذ عارضه وادٍ، فغلب على ظنِّه أن العين فيه فرمى بالخرزة، فأضاءت الظلمة، وصاحت الخرزة، فإذا هي على حافة العين، فنزل الخضر فإذا ماء أشدُّ بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، وقال لأصحابه: امكثوا. واغتسل وتوضأ وشرب منها ورمى بالخرزة نحو أصحابه فصاحت، فتراجعوا إليه وساروا، ومرَّ ذو القرنين فأخطأ العين، وساروا أربعين يومًا في الظلمة، ثم خرجوا إلى ضوء ليس بضوء شمس ولا قمر، وأرض حمراء رملة، وإذا بقصر مبني فرسخ في فرسخ، فنزل ذو القرنين ودخل القصر، وإذا بحديدة طرفاها على حافتي القصر، وإذا بطائر أسود كأنَّه الخطَّاف مزموم أنفه إلى الحديدة معلَّق بين السماء والأرض، فلمَّا سمع الطائر حسَّ الإسكندر قال له: ما جاء بك إلى ها هنا؟ أما كفاك ما وراءك يا ذا القرنين؟ ثم قال: هل أكثر البناء بالجص والآجر؟ قال: نعم، فانتفض الطائر وانتفخ حتَّى بلغ ثلث الحديدة، ثم قال: هل كثرت شهادات الزور؟ قال: نعم، فانتفض حتَّى ملأ الحديدة وسدَّ بين جداري القصر، ففزع ذو القرنين، فقال الطائر: هل ترك النَّاس شهادة أن لا إله إلَّا الله؟ قال: لا، فانضم الطائر، قال: فهل تركوا الصَّلاة المفروضة وغسل الجنابة؟ قال: لا. فعاد الطائر كما كان. قال: ورأى في سطح القصر رجلًا قائمًا، قال: من أنت؟ قال: صاحب الصور، وقد اقتربت الساعة، وأنا أنتظر أمر ربي فأنفخ. ثم ناول ذا القرنين حجرًا وقال: خذه فإن شبع شبعت، وإن جاع جعت. وعاد ذو القرنين إلى أصحابه

وأخبرهم بما رأى، وأراهم الحجر فوضعوه في كفة، وتركوا في قبالته حجرًا آخر، فرجح عليه، فعلوا ذلك مرارًا، ففهم الإسكندر وقال: لو وضعتم في قبالته أحجار الدُّنيا لرجح عليها، ثم ترك الحجر في كفَّة، ووضع معه كفًّا من تراب، وبمقابلته حجرًا آخر، فاستويا في الميزان، فقال الخضر: هذا مثلٌ ضربه اللهُ لابن آدم لا يشبع أبدًا حتَّى يحثى عليه التُّراب. فقال الإسكندر: هو ما يقول، لا جرم لأرجعنَّ إلى وطني، ولا أطلب أثرًا في البلاد. ثم ارتحل راجعًا، فبينما هو في وسط الظلمة وطئ الوادي الذي فيه الزبرجد، فقال: خذوا منه، فمن أخذ منه ندم، ومن ترك ندم. فأخذ منه قوم وترك آخرون، فلما خرجوا من الظلمة نظروا فإذا هو زبرجد، فندم الآخذ حيث لم يزدد والتارك حيث لم يأخذ. ورجع ذو القرنين إلى دومة الجندل فلم تزل منزله حتَّى مات (¬1). قلت: ومن العجائب أنَّ جدِّي رحمه الله ما ذكر في "الموضوعات" هذه الحكاية، فإنَّه قد ذكر في "الموضوعات" و "الواهية" أسماءَ جماعة فيها مثل: إبراهيم بن سعيد الجَوزَقي وإسماعيل بن مسعدة وإسحاق الفَرْوي، وفي متنها ألفاظ ركيكة جدًّا، منها الخرزة، وقد كان الإسكندر أحوج إلى الخضر منها. وكذا كون الخضر وقع على عين الحياة ولم يخبر بها الإسكندر وقد علم مقصوده فكان الخضر خائنًا له، وكذا الطائر فإنَّه الدَّجَّال وهو في جزائر الهند، وكذا سؤاله عن الصلوات الخمس وغسل الجنابة ونحوها، فإن هذه الأشياء لم تكن مشروعة في ذلك الوقت، وقد انطلى هذا المعنى على خلق كثير حتَّى قالوا فيه الأشعار، أنشدنا عمر بن صافي بالموصل في سنة أربع وست مئة لغيره: [من الكامل] سلع المطامعِ لا تفوت وإنَّ مَن ... ترك المطامعَ كان أربحَ متجرا قال الذي ترك المطامع خلفه ... عينَ الحياةِ وفاتت الإسكندرا لا تطلبنَّ سوى السَّعادةِ للعُلى ... شيئًا فكلُّ الصَّيدِ في جوف الفرا وذكر أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه" من هذا الجنس العجائب (¬2). والمنقول عن الحسن البصري أنَّه قال: حدَّثني أبو أمامة الباهلي: أنَّ ذا القرنين سار ¬

_ (¬1) "المنتظم" 1/ 289، وعرائس المجالس 370. (¬2) "تاريخ دمشق" 17/ 350.

في الظلمة وحده ثمانية عشر يومًا حتَّى انتهى إلى جبل قاف في طلب عين الحياة (¬1). قلت: وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي في "تفسيره" عجائب من هذا الجنس، فقال: قال وهب بن منبِّه: كان ذو القرنين رجلًا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره، وكان اسمه الإسكندر، فلما بلغ -وكان عبدًا صالحًا- قال الله: يا ذا القرنين، إنِّي باعثك إلى الأمم، وهم مختلفة ألسنتهم، وهم أمم جميع الأرض، وفيهم أمَّتان بينهما عرض الأرض كله، وأمَّتان بينهما طول الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج، فأمَّا الأمَّتان اللتان بينهما عرض الأرض فأمَّة في قطر الأرض الأيمن يقال لها: هاويل، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها: تأويل. وأمَّا اللتان بينهما طول الأرض فأمَّة عند مغرب الشَّمس يقال لها: ناسك، وأمَّا التي في المشرق يقال لها: منسك. فلمَّا قال الله له ذلك قال ذو القرنين: إلهي، إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر عليه إلَّا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم التي تبعثني إلها: بأي قوَّة [أكابرهم]؟ وبأي جمعٍ وبأيِّ حيلة [أكاثرهم]؟ وبأيِّ صبرٍ أقاسيهم به؟ وبأي لسان أناطقهم به؟ وكيف لي أن أفقه لغاتهم؟ وبأي سمع أسمع أقوالهم؟ وبأي حجة أخاصمهم؟ وبأي عقل أعقل عنهم؟ وبأي قلب وحكمة أدبرهم؟ وبأي قسط أعدل بينهم؟ وبأيِّ جندٍ أقاتلهم؟ وليس عندي ممَّا ذكرتُ ما يقوم بهم، وأنت الرحيم الذي لا تكلِّف نفسًا إلَّا وسعها، ولا تحمِّلها إلَّا طاقتها. فقال الله: إنِّي سأشرح صدرك فتسمع كل شيء، وأفتح فهمك فتفقه كل شيء، وأبسط لسانك فتنطق بكلِّ شيء، وأمدُّ لك بصرك فتبصر كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخِّر لك النور والظلمة وأجعلهما جندًا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحوطك الظلمة من ورائك -وذكر ألفاظًا من هذا الجنس- قال: فلما قيل له ذلك انطلقَ يؤمُّ الأمم نحو المغرب، فوجد جمعًا لا يحصيه إلَّا الله تعالى، وألسنةً مختلفة، وأهواء متشتِّتة، فلمَّا رأى ذلك كاثرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها، فأحاط بهم من كل مكان حتَّى جمعهم في مكان واحد، ثم أخذ عليهم النور فدعاهم إلى الله ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 17/ 342.

فصل في ذكر الأمة الصالحة التي مر بها الإسكندر

وعبادته، فمنهم من آمن ومنهم من صدَّ عنه، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة، فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم، فماجوا وتحيَّروا، فلمَّا أشفقوا أن يهلكوا بها عجُّوا إليه بصوت واحد فكشفها عنهم، فدخلوا في دعوته، فجنَّد منهم أممًا عظيمة، ثم انطلق بهم يقودهم والنور بين أيديهم والظلمة تسوقهم من خلفهم، وسار يريد الأمَّة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها: تأويل، والأمم تتبعه، فإذا انتهى إلى بحر بنى سُفنًا من ألواحٍ صغارٍ ونظمها، ثم حمل فيها مَن معه، فإذا قطعها دفع إلى كلِّ واحد منهم لوحًا فلا يكترثن بحمله، حتَّى انتهى إلى ناسك فأطاعوه، وإلى هاويل ففعل كذلك، ثم سار إلى مطلع الشَّمس إلى منسك، وحكم على جميع الأمم، ووصل إلى سد يأجوج ومأجوج، وذكر شكاوى أهل تلك البلاد منهم، وقالوا: اجعل {بَينَنَا وَبَينَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] فإنهم يتسافدون كالبهائم، ويأكلون النَّاس والحشرات، فقاس الإسكندر السدَّ فوجد مكانه مئة فرسخ، فحفر أساسه، وجعل عرضه خمسين فرسخًا ثم بناه وشرَّفه. وذكر الثعلبي كلامًا اختصرته (¬1). فصل في ذكر الأمَّة الصالحة التي مر بها الإسكندر ذكر وهب بن منبه عن صفوان بن عمرو الخزاعي قال: أتى ذو القرنين على أمة صالحة {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] فوجد حالتهم في العدل والتراحم سواء، أخلاقهم حسنة، وطريقهم مستقيمة، وقلوبهم طاهرة، وليس في أيديهم شيء ممَّا يتعامل به النَّاس، قد احتفروا قبورهم على أبواب بيوتهم، فإذا أصبحوا جاؤوا إليها فتعاهدوها وصلُّوا فيها، فإذا تعالى النهار خرجوا إلى البرِّيَّة فَرَعَوْا بقلها كما ترعى الدوابُّ الحشيش، وليس على بيوتهم أبواب، ولا عليهم ولاة ولا بينهم قضاة، ولا يتنازعون ولا يتباغضون ولا يتحاسدون ولا يقتتلون، وليس فيهم فقير ولا مسكين، فعجب الإسكندر منهم وقال: أما لكم ملك؟ قالوا: بلى رجل جالس على رأس هذا الجبل، فأرسل إليه فقال: ما لي إليك من حاجة. فركب الإسكندر وصعد إليه، فسلَّم عليه، وإذا رجل من أعقل النَّاس وأزهدهم، وبين يديه جماجم يقلِّبها بيده، ¬

_ (¬1) انظر تفسير الثعلبي 6/ 194، و "عرائس المجالس" ص 364 - 366، وما بين معكوفين منه.

ولم يكترث بالإسكندر ولم ينزعجْ له. فقال له الإسكندر: أخبرني عن هذه الحال التي أنتم عليها، فإني لم أجد في الأمم أحدًا على مثلها، فقال: سلْ عما بدا لك، قال: ما أرى في أيديكم شيئًا من الدُّنيا، فهلَّا استمتعتم بالذهب والفضة وتعاملتم بهما؟ فقال: لأنا ما رأينا أحدًا قال منهما شيئًا إلَّا وتاقت نفسه إلى ما هو أعظم منه، فقال: فما بالكم حفرتم قبوركم على أبواب بيوتكم؟ قال: لأنّا إذا نظرنا إليها قصرت آمالنا فنذكر الموت، قال: فما بال بيوتكم ليس لها أبواب؟ قال: ليس بيننا متهم ولا خائن، قال: فما بالكم ليس عليكم حاكم؟ قال: لأنَّا لا نتنازع في شيء، قال: فما بالكم ترعون البقل وتدعون الحيوانات؟ قال: نكره أن نجعل بطوننا قبورًا لها، وفي البقل كفاية ومقنع. قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قال: لأنَّا لا نتكاثر ولا نتفاخر. قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تتباغضون ولا تتحاسدون؟ قال: قد ألَّف الله بين قلوبنا. قال: فما بالكم ليس فيكم فظٌّ ولا غليظ؟ قال: تواضعنا لله فنزع الحسد والفظاظةَ منا. قال: فما بالكم أطول النَّاس أعمارًا؟ قال: لأنا نعطي الحق ونحكم بالعدل. قال: فما بالكم لا تضحكون؟ قال: لا نغفل عمن لا يغفل عنا. قال: فما هذه الجماجم التي بين يديك؟ فبكى وقال: جماجم ملوك ملكوا هذه الأرض، أمَّا هذه الجمجمة فجمجمة ملكٍ مَلَكَ هذه الأرض مئة عام فعتا وبغى وتجبَّر وتكبَّر وظلم، فلمَّا رأى الله منه ذلك حسمه بالموت، فصار كالحجر الملقى قد أحصى عليه عمله حتَّى يجازيه به في معاده. ثم أشار إلى جمجمة أخرى وقال: هذه جمجمة مَلكٍ مَلكَ هذه الأرض مئة عام فعدل وأحسن وتواضع، ثم جاءه الموت فصيَّره إلى ما ترى. ثم مدَّ يده إلى جمجمة ذي القرنين وقال: وهذه الجمجمة تصير إلى ما صارت إليه هذه الجماجم، فانظر يا عبد الله، ما أنت صانع. فبكى ذو القرنين وقال: يا أخي، هل لك أن تصحبني فأتخذك وزيرًا وأشركك في ملكي؟ قال: هيهات هيهات، فقال: ولم؟ قال: لأنَّ النَّاس كلهم لي صديق، وهم لك عدوٌّ. قال: ولم؟ قال: لرفضي الدُّنيا وليس في يدي منها ما أُعادَى عليه، وهي يدك فيعادونك لأجلها. فقال: إن رأيت أن تمنَّ عليَّ بصحبتك فافعل، فقال: على شريطة، قال: وما هي؟ قال: تضمن لي شبابًا لا هرم فيه، وصحة لا سقم فيها، وحياة لا موت معها. قال: لا أستطيع ذلك، قال: فاذهب عني ودعني

ذكر واقعة جرت له مع أمه

بين يدي مَن يقدر على ذلك. فانصرف عنه ذو القرنين باكيًا (¬1). ذكر واقعة جرت له مع أمِّه حكى السدِّي عن أشياخه قال: كانت أمُّ الإسكندر عاقلة فاضلة حازمة، واسمها روفية -وقيل: روقية بالقاف- فلما فتح ولدها الدُّنيا ودانت له الملوك كتبت إليه: من روفية أمِّ الإسكندر الضعيف الذي بقوَّة ربِّه الأعظم قوي، وبقدرته قهر، وبعزَّته استعلى، يا بنيَّ، لا تدع للعجب فيك مساغًا، فإن ذلك يؤذيك، ولا للعظمة والكبرياء فيك مطمعًا فإن ذلك يضعك، وذلِّل نفسك للذي رفعك، وأعلم أنك عن قليل محوَّل عمَّا أنت فيه كما تَحَوَّلَ من غيرك إليك، وإيَّاك والشُّحَّ فإنَّه يرديك، وعليك بنور العدل فإنَّه يهديك، وانظر ما جمعت من الأموال وكنزت من الكنوز فعجِّلْ حمله كله إليَّ على فرس مع رجل، وإيَّاك والعقوق المحرمة عليك، والسَّلام. فلمَّا قرأ كتابها جمع أرباب دولته وعظماء مملكته وحكماء حضرته، وقرأ عليهم كتابها وقال: سمعًا وطاعة، فإنَّ طاعة الوالدة مفترضة، والسَّمع والطَّاعة للربِّ الأعظم ولها، ثم قال: كيف أحمل إليها أموالي وكنوزي على فرس؟ فاستعظموا ذلك فقال: إنَّما طلبت أسماء الكنوز وعددها، فكتب أساميها وبعث بها إليها مع رجل على فرس، فلمَّا قرأت كتابه فرحت حيث فهم قصدها (¬2). قال وهب: فإن ذلك الكتاب عندهم مكتوب في خزائن الروم، فيه أسامي كنوزه وأمواله. فصل في ذكر ما بنى من المدائن قد ذكرنا أنَّه بنى الإسكندرية وهَرَاة وسمرقند ومرو وهَمَذَان وبرج الحجارة والدَّبُوسِيَة. وقد روي في مرو حديث، قال أحمد بن حنبل: حدَّثنا الحسن بن يَحْيَى من أهل مرو بإسناده عن سهل بن عبد الله بن بُريدةَ عن أبيه عن جدِّه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ستكونُ بَعدِي بعوثٌ كثيرةٌ، فكونُوا في بَعثِ خُراسانَ، ثم انزِلُوا مدينةَ ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 1/ 298 - 299. (¬2) انظر "المنتظم" 1/ 293.

فصل في وفاته

مَرو، فإنَّه بناها ذو القَرنَين ودَعا لها بالبَركةِ وأن لا يَضُرَّ أهلَها سُوءٌ" (¬1). وقال الكلبي: أوَّلَ من عمِل جسرًا على جَيحون الإسكندر، لأنَّه لما عاد من الظلمات قصد خراسان فوصل إلى نهر بَلخ، فلم يقدر على العبور عليه، فأمر بشق الخشب الغلاظ وترقيقها، وأمر الحدادين فضربوا المسامير، وعمل السفن الكبار، وقيل: كانت خمس مئة سفينة، ثم أمر الحبالين ففتلوا الغلاظ من الليف والقنب، وعمل الجسر في أضيق مكان، ووضع عليه السلاسل وألقى على السفن التُّراب والحشيش، وأقام أيامًا حتَّى عبر عسكره من الجانب الشرقي إلى الغربي، ودخل خراسان، ولم يخرج من المشرق حتَّى هدم بيوت النيران ودعا إلى التوحيد والإيمان، وجاهد الكفار وجمع الأموال ليقوي بها الجيوش على الجهاد، لا حرصًا على الدُّنيا. قال ابن عباس: ولو لم يكن له إلا بناء السد الذي حفظ به المسلمين، وحماهم به من يأجوج ومأجوج. وقال السدِّيُّ: لما رجع من المشرق قصد بلاد الروم، فدفن بها الأموال وكنز الكنوز، وكان يكتب على كل كنز طلسمًا ويذكر عدد ما فيه. فصل في وفاته قال علماء السير: لما علم ذو القرنين أنَّ عين الحياة قد فاتته وحظى بها الخضر اغتم غمًّا شديدًا فقال له الحسَّاب: لا بأس عليك، فإنَّك تعمِّر طويلًا ثم تموت على أرض من حديد، وفوقك سماء من خشب. فلمَّا عاد من الروم قصد أرض بابل، فبينما هو يسير على دابته إذ رعف فسقط عن فرسه، فبسط له درع من حديد، وكانت صفائح صفائح فنام على الدرع، فآذته الشَّمس فجاؤوا بترس فأظلوه به، فنظر فإذا تحته حديد وفوقه خشب، فأيقن بالموت فأمر أن يُكتَبَ إلى أمِّه كتاب تعزية عن نفسه (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (23018)، وهو حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 1/ 308 - 309. (¬2) انظر "المنتظم" 1/ 300.

ذكر الكتاب

ذكر الكتاب أنبأنا أبو اليُمن زيد بن الحسن الكندي رحمه الله بإسناده عن عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدُّنيا القرشي من كتاب "الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان"، قال: حدَّثني أبو يوسف يعقوب بن عبيد بإسناده إلى عبد الله بن زياد المدني عن بعض من قرأ الكتب: أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها بلغ أرض بابل، فمرض بها مرضًا شديدًا أشفق من مرضه أن يموت، بعدما دَوَّخَ البلاد وحواها، واستعبد الرجال وجمع الأموال، فدعا كاتبه وقال له: خفِّفْ عليَّ المؤنة بكتاب تكتبه إلى أمي تعزِّيها بي، واستعنْ ببعض علماء فارس، ثم اقرأه عليَّ، فكتب الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من الإسكندر بن قيصر رفيق أهل الأرض بجسده قليلًا، ورفيق أهل السماء بروحه طويلًا، إلى أمه روفية ذات الصفا التي لم تتمتع بثمرتها في دار القرب، وهي مجاورته في دار البُعد عما قليل، يا أمتاه، يا ذات الحلم، أسألك برحمي وودِّي وولادتك إيَّاي هل وجدت لشيء قرارًا ثابتًا أو خيالًا دائمًا؟ ألم تَرَي إلى الشجرة كيف تنضر أغصانها ويَخرج ثمرها وتلتف أوراقها، ثم لا يلبث الغصن أن يتهشَّم والثمرة أن تتساقط والورق أن يتناثر؟ ! ألم تَرَي إلى النبت الأزهر يصبح نضيرًا ويمسي هشيمًا؟ ألم تَري إلى النهار المضيء كيف يخلفه الليل المظلم؟ ألم تري إلى القمر الباهر ليلةَ بدره كيف يغشاه الكسوف؟ ألم تري إلى شهب النَّار الموقدة ما أسرع ما تخمد؟ ألم تري إلى عذب المياه الصافية ما أسرعها إلى البحور المغيرة؟ ألم تري إلى هذا الخلق قد امتلأت بهم الآفاق واستقلَّت به الأشياء وولهت به الأبصار والقلوب؟ إنَّما هما شيئان: إمَّا مولود وإمَّا ميِّت، وكلاهما مقرون به الفناء. ألم تري أنَّه قيل لهذه الدار: روحي بأهلك فإنَّك لستِ لهم بدار، يا والدةَ الموت، ويا مورثَةَ الأحزان، ويا مفرِّقة بين الأحباب، ويا مخربة العمران؟ ألم تري أنَّ كل مخلوق يجري على ما لا يدري؟ وأنَّ كلَّ واحد مستيقن منهم غير راض بما هو فيه، وذلك لأنَّه منزل لغير قرار؟ يا أمَّاه، هل رأيت معطيًا لا يأخذ، ومقرضًا لا يتقاضى، ومستودعًا لا يستردّ وديعته؟ يا أمَّاه، إن كان أحد حقيقًا بالبكاء فلتبكِ السماوات على نجومها، والحيتان على بحورها، أو البحور على مائها، وليبك الجوُّ على طائره، والأرض على أولادها، والنبت الذي يخرج منها،

وليبك الإنسان على نفسه التي تموت في كل ساعة وعند كل طرفة عين. يا أمَّاه، إن الموت لا يدعني من أجل أني كنت عارفًا أنَّه نازل بي، فلا يتعبْكِ الحزنُ فإنَّك لم تكوني جاهلة بأني من الذين يموتون. يا أمتاه، إنِّي كتبت كتابي هذا وأنا أرجو أن تعزَّي به ويحسن موقعه منك، ولا تخلفي ظني يا أمتاه، إنِّي قد علمتُ يقينًا أن الذي أذهبُ إليه خير من مكاني الذي أنا فيه، أطهر من الهموم والأحزان والسقم والنصب والأمراض فاغتبطي بمذهبي واستعدِّي حي إجمال الثّناء عني. إن ذكري من الدُّنيا قد انقطع بما كنت أُذْكَرُ به من الملك والرأي فاجعلي لي من بعدي ذكرًا أذكَرُ به في حلمك وصبرك وطاعة الله والرضى بما يقول الحكماء. يا أمتاه، إنَّ النَّاس سينظرون إلى هذا منك، وهم بين راض وكاره ومستمع وقائل، فأحسني إليَّ وإلى نفسك في ذلك. يا أمتاه، السلام في هذه الدار قليل زائل فليكن عليك وعليَّ في دار الأبد السلام الدائم. وذكر ألفاظًا اختصرتها (¬1). وفي رواية ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن ابن لهيعة قال: لما حضرت الإسكندرَ الوفاة كتب إلى أمِّه: يا أمَّاه، اصنعي طعامًا واجمعي من قدرتِ عليه من نساء المملكة، ولا تأكل منه امرأة أصيبت بمصيبة. فلمَّا قرأت كتابه صنعت طعامًا عظيمًا، وجمعت نساء المملكة، وقالت: لا يأكلْ من طعامي من أصيبت بمصيبة، فامتنعن من الأكل، فقالت: أكلكن ثكالى؟ فلان: نعم، والله ما فينا إلَّا من مات أبوها أو أخوها أو ابنها، ففطنت وقالت: إنا لله، هلك والله ولدي، وما كتب إلي بهذا إلَّا تعزيةً لي (¬2). واختلفوا في أي مكان توفي على أقوال: أحدها: بدومة الجندل. والثاني: بشهرزور لما عاد من المشرق. والثالث: بأرض بابل. وكان قد تزهد وترك الدنيا وهو الأصح، والذي مات بشهرزور الإسكندر الثاني لما نذكر. ¬

_ (¬1) "الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان" (66)، وأخرجه ابن الجوزي في المنتظم 1/ 300. (¬2) "الاعتبار" (68)، وذكره ابن الجوزي في المنتظم 1/ 302.

فصل في ذكر كلام الحكماء على تابوته

ولما مات ببابل جعل في تابوت وطُلِيَ بالصبر والكافور، وحُمِلَ إلى الإسكندرية، قال ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن محمد بن سليمان الكلبي قال: لما مات الإسكندر خرجت أمُّه في أحسن زيِّ نساء أهل الإسكندرية حتَّى وقفت على تابوته (¬1) فقالت: واعجبًا ممن بلغت السماء حكمته، وأقطارَ الأرض سلطانه، ودانت الملوك عنوة له، أصبح اليوم نائمًا لا يستيقظ وصامتًا لا يتكلَّم، محمولًا على يدي من لا يناله بِضُرِّهِ، ألا هل مبلِّغ عني الإسكندر بأنه وعظني فاتعظت، وعزَّاني فتعزيت، وصبَّرني فصبرت، ولولا أني لاحقة به ما فعلت، فعليك السَّلام يا بنيَّ، حيًّا وهالكًا، فنعم البُنَي كنت، ونعم الهالك أنت. وفي رواية: ولولا علمي بأني لاحقتك لما صبرتُ، يا إسكندر، عليك السَّلام. ثم أمرت به فدفن. واختلفوا في سنِّه: فذكر جدِّي رحمه الله في كتاب "أعمار الأعيان" أنَّه عاش ألفًا وست مئة سنة قال: وأهل الكتاب يقولون: عاش ثلاثة آلاف سنة (¬2). قلت: ولا يستبعد ذلك، فقد عاش عُوج بن عناق ثلاثة آلاف وست مئة سنة، حكاه جدي في "أعمار الأعيان" عن محمد بن إسحاق (¬3)، وسنذكره في سيرة موسى عليه السَّلام. قال ابن إسحاق: ولد في دار آدم عليه السَّلام. وقال مجاهد: عاش الإسكندر ألف سنة مثل آدم، والله أعلم. فصل في ذكر كلام الحكماء على تابوته قال ابن أبي الدُّنيا بالإسناد الماضي عن المبارك بن فضالة عن الحسن، قال: كان الإسكندر أول من خَزَّن الأموال تحت الأرض، فلمَّا حضرته الوفاة دعا ابنه الأكبر، وكان ولي عهده، فقال له: يا بني، إنِّي أراني لما بي، فإذا أنا مت فابعث إلى حُذَّاق ¬

_ (¬1) في (ل): "ناموسه". والمثبت من (ب)، وانظر "الاعتبار" (67). (¬2) "أعمار الأعيان" ص 128. (¬3) "أعمار الأعيان" ص 130.

الصاغة فأدخلهم الخزائن فلينتقوا جيِّد هذا الذَّهب على أعينهم، ثم ليصوغوا تابوتًا، ثم أدخلني فيه، ثم ضعني في وسط قصري، وابعث إلى أهل مملكتك وإلى العلماء منهم فليتكلم كلُّ واحد منهم بما يعلم. فلمَّا هلك الإسكندر فعل ابنه ما أمره به أبوه، وبعث إلى العلماء، وكانوا ثلاثة عشر رجلًا، فأقبلوا حتَّى أطافوا بالتابوت، كأنهم علموا ما يُراد منهم. فقال لهم ابنه: قوموا فتكلَّموا بما تعلمون. فقام الأول فقال وقد وضع يده على التابوت: سلك الإسكندر طريق مَن قُبِر، وفي موته عبرة لمن بقي. ثم قام الثَّاني فقال: هلك الإسكندر ومن يملك من بعده يهلك كما هلك. ثم قام الثالث وقال: خلَّفَ الإسكندر ملكه لغيره يحكم فيه بغير حكمه. ثم قام الرابع فقال: تفرَّقنا لموتك وقد فارق الإسكندر من كان به يغتبط. ثم قام الخامس فقال: أصبح الإسكندر مشتغلًا بما عاين وهو بالأعمال يوم الجزاء أشغل. ثم قام السادس وقال: إسكندر كان يُخزِّنُ الذَّهب في الخزائن فأصبح مخزونًا في الذهب. ثم قام السابع فقال: من كان يرجو روح الآخرة فليعمل عملًا يُقبلُ منه ويُرفع. ثم قام الثامن فقال: إسكندر صرت حديثًا وأنا مثلك وشيكًا. ثم قام التاسع فقال: إسكندر وردتَ يوم وردت ناطقًا وصدرتَ يوم صدرت صامتًا. وقام العاشر فقال: خَضعَتِ الآفاق لموتك وفيك عبرةٌ لمن أبصر. ثم قام الحادي عشر فقال: أرى مصيبتك بعد نعمة وكلُّنا ينزل به ما نزل بك. ثم قام الثَّاني عشر فقال: هذا آخر عهدنا بك، مُنِعتَ جواب من يخاطبك. ثم قام الثالث عشر فقال: السَّلام على من رضي دار السَّلام وأُدخِلَ في دار السَّلام (¬1). وقال ابن أبي الدنيا: حدثني عون بن إبراهيم وإسناده إلى زهير بن عبَّاد أنَّه قال: لما حضرتْ ذا القرنين الوفاةُ كفَّنوه ثم وضعوه في تابوت من ذهب، فقالت الحكماء: تعالوا حتَّى نتكلمَ عليه ونعتبر، فقال أولهم: إن هذا الشَّخص كان لكم واعظًا ولم يعظكم بأبلغ من مصرعه هذا. وقال الثَّاني: إنَّ الإسكندر لما فارق الأنجاس صارت روحه إلى روح الطاهرين فيا طوبى له. وقال الثالث: من كانت حياته لله فإن وفاتَه لله، ¬

_ (¬1) "الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان" (69).

وعلى الله تمام كرامته. وقال الرابع: هذا الذي سار إلى مشارق الأرض ومغاربها يقتل الرِّجال مخافة الموت ولو تركهم لماتوا. وقال الخامس: هذا الذي كان يخبأ الذَّهب فالذهب اليوم يخبأه. وقال السادس: ويل لأهل العافية في هذه الدَّار إن كان حظهم منها إلى غير العافية. وقال السابع: لا تكثروا التلاوُمَ بينكم واستمسكوا بالتوبة فكلكم خاطئ. وقال الثامن: من كان يعمل اليوم بالخطيئة فإنَّه غدًا عبد الخطيئة. وقال التاسع: لا تعجبوا ممَّا تفعلون ولكن اعجبوا ممَّا يُفعل بكم (¬1). قال ابن أبي الدنيا: وزاد غير زهير بن عباد: وقال آخر: عجبت من سالِك هذا السبيل كيف تَشرَهُ نفسه إلى جمع الحطام الهامد والهشيم البائد، الخاذل مُقتنيه عند الحاجة إليه. وقال آخر: اقبلوا هذه المواعظ وأكثروا ذِكرَ هذا السبيل الذي أنتم سالكوه. وقال آخر: هذا ذو الأسارى قد أصبح أسيرًا. وقال آخر: كان الإسكندر كحُلم نائمٍ انقضَى أو كظِلِّ غَمامةٍ انجلى. وقال آخر: لئن كنت أمس لا يأمنك أحد لقد أصبحت اليوم لا يخافُكَ أحد. وقال آخر: هذه الدُّنيا الطويلة العريضة طويت في ذراعين. وقال آخر: لئن كنت وردتَ علينا قويًّا ناطقًا لقد صَدَرتَ عنَّا ضعيفًا صامتًا. وقال آخر: ما سافر الإسكندر قبل هذه السفرة بلا زاد ولا أعوان. وقال آخر: كلنا غافل عما غفل عنه الإسكندر حتى نلاقي مثل ما لاقى. وقال آخر: إن من العجب أنَّ القوي قد غُلِبَ، وأنَّ الضعفاء لاهون مغترون. وقال آخر: إن بارق هذا الموتِ لبارقٌ ما يخلف، وإن مخيلته لا تخلف. وقال آخر: انطوت عن الإسكندر آماله التي كانت تغرُّهُ ونزل به أجله الحائل بينه وبين أمله. وقال آخر: يا ويحَ الموت الذي لا يُشتهى ما أقهَرَهُ للحياة التي لا تُمَلُّ، ويا ويحَ الحياة التي لا تُمَلُّ ما أذلَّها للموت الذي لا يُحَب. وقال آخر: قد كان صوتك مرهوبًا وملكك عاليًا، فأصبح الصوتُ قد خَفَتَ وانقطعَ، والمُلك قد اتضع. وقال آخر: لقد انتقصك في وجهك من لم يتجاسرْ أنَّه يغتابك من خلفك. قلت: وقد جاء عن الإسكندر الثَّاني من هذا الجنس، وسنذكره في سيرته، إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان" (70).

قصة يوسف عليه السلام

قِصَّة يُوسُف عليه السَّلام (¬1) قال مقاتل: ذكر الله تعالى يوسف في سبعةٍ وعشرين موضعًا. وقد ذكرنا أنَّ أسماء الأنبياء كلها أعجمية ولهذا لم تنصرف (¬2). وذكر الثعلبي وقال: اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو اسم عبري. وقال بعضهم: هو اسم عربي. قال: وسمعت أبا القاسم الحَبيبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا الحسن الأقطع -وكان حكيمًا- يقوله وقد سئل عن يوسف: إنه من الأسف وهو الحزن، والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف، فلذلك سمي يوسف (¬3). قلت: لو كان حكيمًا ما فسَّر أسامي الأنبياء بهذا. وقوله: هو من الأسف والعبد فليس كذلك، لأنَّ أهل اللغة قد اتفقوا على أنَّه اسم أعجمي، ذكره ابن الجواليقي في "المعرب" وغيره (¬4)، وأن يعقوب سماه به من صغره. وقد جاءت أخبار في فضل يوسف، قال البُخاريّ: حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم بإسناده عن عبد الله بن عمر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "الكَرِيمُ بنُ الكَرِيمِ بنِ الكَريمِ بن الكريم، يُوسفُ بنُ يَعقُوبَ بنِ إسحاق بنِ إبراهيمَ"، انفرد بإخراجه البُخاريّ (¬5). وقال أحمد بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أُعطِيَ يُوسفُ شَطرَ الحُسنِ" (¬6). ذكر قصته قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] الآيات. وقال سعد بن ¬

_ (¬1) انظر قصته في: المعارف 41، و "تاريخ الطبري" 1/ 330، وتفسيره 15/ 549 و 1/ 16 فما بعدها، و "البدء والتاريخ" 1/ 66، و "عرائس المجالس" ص 109، و"المنتظم" 1/ 310، والتبصرة 1/ 178، وزاد المسير 4/ 180، وتفسير ابن كثير، و"البداية والنهاية" 1/ 456. (¬2) انظر ذكر قصة آدم عليه السَّلام. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 110. (¬4) "المعرب" ص 403. (¬5) أخرجه البُخاريّ (3382). (¬6) أخرجه أحمد (14050).

أبي وقاص: أنزل القرآن على عهد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فتلاه عليهم زمانًا فكأنهم ملُّوا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدَّثتنا، فأنزل الله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] فقالوا: لو قصصت علينا، فأنزل الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} فقالوا: لو وعظتنا، فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] (¬1). واختلف العلماء لم سُميت سورةُ يوسفَ أحسنَ القصص على أقوال: أحدها: لأنَّه ليس في القرآن قصة تتضمن ما تتضمن، لأنَّ فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة، والجن والإنس، والأنعام والطيور، وسيرَ الممالك والملوك، والعلماء والرجال، والنساء وحِيَلِهنَّ ومكرِهنَّ، وذكر التوحيد والفقه، والبكاء والفرح، والسجن والمسجونين، وتعبير الرؤيا وتدبير المعاش، وذكر المحب والمحبوب، والبعد واللقاء، والسياسة والمعاشرة وحسن المحاورة، والصبر على الأذى والعفو والكرم ونحو ذلك، فكانت أحسن القصص لما فيها من المعاني الجزيلة، والفوائد الجليلة، التي تصلح لمكارم الأخلاق، وذكر التلاقي بعد الفراق، قاله ابن عباس، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم. والثاني: لامتداد الأوقات فيما بين مبتداها إلى منتهاها، واختلفوا فيه، قال ابن عباس: كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه وأبيه سبعون سنة جرى فيها الغرائب. وقال الحسن البصري: ثمانون سنة. وقال مجاهد: أربعون سنة، وهو رواية عن ابن عباس وعليه أكثر المفسرين. والثالث: لأنَّ يوسف كان أحسن البشر، ونسبه أعرق الأنساب، ورؤياه أحسن الرؤيا، وعبارته أحسن التعبير، وبشارته أحسن البشرى، وحاله أحسن الأحوال، وبرهانه أحسن البراهين، وشاهده أحسن الشواهد، ومُلكه أحسن المُلك، ودعاؤه أحسن الأدعية، وتزويجه أحسن التزويج، وعصمته أحسن العِصَم، وعاقبته أحسن العواقب، قاله الرَّبيع بن أنس. وأحسن القصص بمعنى أعجب (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في التفسير 15/ 553، وانظر الدر المنثور 4/ 3. (¬2) انظر تفسير الثعلبي 5/ 196 - 197، وعرائس المجالس 110، وزاد المسير 4/ 178.

ذكر رؤيته الكواكب

وقد ذكرنا تزويج يعقوب براحيل أم يوسف (¬1). وقال جدِّي في "التبصرة": خرج يعقوب من الشام هاربًا من أخيه عيصو إلى خاله لابان، فزوجه ابنته ليّا فولدت له روبيل ثم شمعون ولاوي ويشجب ويهوذا وزبالون، ثم توفيت فزوجه أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، ومعناه: ابن الوجع لأنها ماتت في نفاسها منه، ووُلد له من غيرها أربعة أولاد، فجميع أولاد يعقوب اثنا عشر ولدًا، وهم الأسباط (¬2). وقد ذكرناه في ترجمة يعقوب عليه السَّلام (¬3). قوله تعالى: {إِذْ قَال يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4] فإن قيل: فلم قال: رأيتهم لي ساجدين ولم يقل: رأيتها، وهي مؤنثة؟ فالجواب: أن الهاء والميم والياء والنون من كنايات ما يعقل، والسجود ممَّا يعقل، فعبر عنها بكنايتها كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] (¬4). ذكر رؤيته الكواكب واختلفوا فيها على أقوال: أحدها: أنها الشَّمس والقمر وزحل والمشتري والمريخ وعطارد والزهرة والفرقدان وسهيل والنسران، ذكره مقاتل في كتاب "المبتدأ" له. وحكى أبو إسحاق الثعلبي عن السُّدِّي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال: أتى النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - رَجلٌ من اليهودِ يُقالُ له: بُستَان، فقال: يا محمد، أخبرني عن الكَواكبِ التي رَآها يُوسفُ سَاجدة له، ما أسماؤُهَا؟ فَسكتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولم يُجبهُ بشيءٍ، فَنزلَ جِبريلُ عليه السَّلامُ فأخبَرهُ بِها وبِأسمَائِهَا، فقال له رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هَل أنتَ مُؤمِنٌ إن أخبرتُكَ بأسمائِها"؟ قال: نعم، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هي حُرثان والطَّارقُ والذيَّالُ ¬

_ (¬1) انظر فصل في ذكر يعقوب عليه السَّلام. (¬2) "التبصرة" 1/ 178. (¬3) انظر فصل في ذكر أولاد يعقوب عليه السَّلام. (¬4) انظر تفسير الطبري 15/ 556، وتفسير الثعلبي 5/ 197، وزاد المسير 4/ 180.

وذو الكتفين وقَابسُ ووثَّابُ وعمودانِ والمصبحُ والقيلو (¬1) والضَّرُوحُ والفَرْغُ والشَّمسُ والقَمرُ، نزلت من السَّماءِ فسَجَدتْ له، جاءني جبريلُ فأخبرَني بأسمائِها، فقال اليهودي: إي واللهِ إنَّها لأسماؤُها". قلت: ولم يذكر أبو إسحاق الثعلبي ما في هذا الحديث، وقد ذكره جدِّي رحمه الله في "الموضوعات"، ثم قال جدِّي: هذا حديث لا يصحُّ عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، في إسناده الحكم بن ظهير، قال ابن معين: الحَكم ليس بشيء، وقال النَّسائيّ: متروك، وقال أبو حاتم بن حِبَّان: يروي الموضوعات عن الثقات، وقال البُخاريّ: لا يُكتب حديثه البتة، وقال محمد بن طاهر: كان الحكم كذَّابًا، وقال جدِّي: إنَّما قصد واضعه شينَ الإسلام بمثل هذا (¬2). قلت: وليس في السماوات ما يُعرف من هذه النجوم إلَّا الطَّارق. والثاني: أنَّه رأى كواكب مجهولة، قاله مجاهد، بدليل قوله: "أحد عشر كوكبًا" منكَّرة. والثالث: بنات نعش والجَدِي والسُّها والشّعريين، قاله الرَّبيع. وقال ابن عباس: الشَّمس أبوه والقمر خالته، لأنَّ أمَّه قد ماتت، والكواكب إخوته لأنهم كانوا أحد عشر كوكبًا. واختلفوا متى رأى هذه الكواكب على قولين: أحدهما: أنَّه كان ابن اثنتي عشرة سنة، قاله مقاتل. والثاني: سبع عشرة سنة، قاله مجاهد. وحكى الثعلبي عن وهب بن منبه قال: كان يوسف قد رأى وهو ابن سبع سنين أنَّ إحدى عشرة عصًا طوالًا مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة، وإذا عصا صغيرة وثَبت عليها فابتلعتها، فذكر ذلك لأبيه فقال له: إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتك. ثم رأى الكواكب بعد اثنتي عشرة سنة فقصَّها على أبيه، فقال له: {قَال يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ ¬

_ (¬1) كذا في النسختين (ب) و (ل)، والذي في المصادر: والفيلق، انظر تفسير الطبري 15/ 555، والثعلبي 5/ 197، 198، وعرائس المجالس 113، وتفسير ابن كثير 4/ 468، والبداية 1/ 461، وهو حديث ضعيف. (¬2) "الموضوعات" (302).

كَيدًا} [يوسف: 5] أي: يبغونك الغوائل ويحتالون لهلاكك لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدونك {إِنَّ الشَّيطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] ثم قال له يعقوب: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي: يختارك ويصطفيك {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْويلِ الْأَحَادِيثِ} أي: تعبير الرؤيا، وسمي تأويلًا، لأنَّه يؤول أمره إلى ما رأى في منامه {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} يعني الأسباط {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ} بالخُلَّة وغيرها، وإسحاق بالنجاة من الذبح (¬1) {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6]. قال السُّدِّي: وبلغ إخوتَه حديث الرؤيا فقالوا: ما رضي أن يسجد له إخوته حتَّى سجد له أبوه؟ ! فحسدوه. وقال مقاتل: لو حفظ وصية أبيه في قوله: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} لما جرى عليه ما جرى، ولكن الإنسان حريص على ما مُنِعَ منه وخصوصًا الصبيان والنساء. قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)} [يوسف: 7] أي: في خبره وخبر إخوته، وقد ذكرنا أسماءهم على وجه التفصيل، فنذكرها ها هنا على وجه الإجمال. قال مقاتل: أسماؤهم روبيل وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وزبالون، ويسَّخر، وأمهم ليَّا بنت لابان، ولابان خال يعقوب. ووُلد له من سُرِّيتين وهبتهما له ليَّا، اسم إحداهما زلفى، والأخرى بلهة أربعة نفر: دان ونفثالي وجاد (¬2) وأشر. ثم توفيت ليَّا فتزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين. و"الآيات": العلامات، والمراد بالسائلين: اليهود، سألوا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عن قصة يوسف، فأخبرهم بها كما في التوراة، فعجبوا وقالوا: من أخبرك بهذا؟ قال: "أخبرني به ربي". وقال مقاتل: وكانوا أنبياء. قلت: وقد وَهِمَ مقاتل لأنهم ارتكبوا الكبائر، وإنَّما قيل إنهم نُبِّؤوا بعدما دخلوا مصر وتابوا. ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي / 198، والمصنف ينقل عنه تفسير الآيات فليرجع إليه، ولن أحيل عليه بعد هذا. (¬2) في (ل) و (ب): وباد.

واختلفوا في العُصبَة: فقال الزجاج: هي ما بين الواحد إلى العشرة، وقال غيره: ما بين الواحد إلى خمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين. {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8] بإيثار يوسف وبنيامين علينا {اقْتُلُوا يُوسُفَ} قال وهب: القائل لهذا شمعون، وقيل: روبيل، وقيل: دان {أَو اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أي: في أرضٍ أخرى {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} عن شغله بيوسف وأخيه {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)} [يوسف: 9] أي: صلح لكم ما بينكم وبين أبيكم {قَال قَائِلٌ مِنْهُمْ} وهو يهوذا، وكان ابن خالة يوسف وأحسنهم فيه رأيًا {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} فإن قتله عظيم {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} أي: في قعره وظلمته بحيث يغيب خبره و "الغيابة": كل شيء غيِّب. و"الجُب": البئر. وقال مقاتل: هذا الجب على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب بأرض الأردن. وبعضهم قال: بين مدين ومصر. وبعضهم قال: ببيت المقدس. قوله: {يَلْتَقِطْهُ} أي: يأخذه، والسيَّارَة: من يمرُّ في الطريق، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] لتستريحوا منه، وقيل معناه: إن كنتم فاعلين ما أُشير به. وقيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك عن إخوة يوسف، وقيل أولاد يعقوب. ثم اتفقوا على التفرقة بينه وبين ولده بضربٍ من الحيلة حسدًا منهم فقالوا: {يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] بالحفظ والحياطة حتى نردَّه إليك {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12]. فإن قيل: فكيف قالوا يلعب وهم أنبياء؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنهم لم يكونوا أنبياء حينئذٍ. والثاني: أن اللعب بمعنى النزهة، وذلك جائز. على أنهم قد ارتكبوا من يوسف ما هو أعظم من اللعب، لما نذكر. وقيل معنى (يرتع): يرعى غنمه. وقال مجاهد: قالوا ليوسف: أمَّا تخرج معنا فنلعب ونتصيد؟ قال: بلى، قالوا: فاسأل أباك، فسأل فمَنَعه، فقال: يا أبة، قد أرى من إخوتي اللطفَ واللين، فأذِنَ له على كُرهٍ. ثم إنهم ألحُّوا على أبيهم فقال: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] أي:

ذكر خروجه معهم

لا تشعرون. فإن قيل: فلم خصَّ يعقوبُ الذئبَ دون سائر الوحوش؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن تلك الأرض كانت كثيرة الذئاب. والثاني: لأنَّ يعقوب رأى في منامه كأن الذئب شدَّ على يوسف وكان يحذره. وقال مقاتل: كان ذلك من باب معجزات يعقوب، فكأنه يقول: كأني بكم قد جئتم غدًا وقلتم أكله الذئب. فإن قيل: فذكْره الذئب تلقينٌ لهم، وكانوا لا يدرون، فقد عرَّفهم العلَّة، قلنا: بل هو تنبيه على ما في نفوسهم وإعلام لهم بما قد عزموا عليه. {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} عشرة رجال {إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14] أي: ضَعَفَةٌ عَجَزة مغبونون. وقال أبو عبيد: في الكلام محذوف وتقديره: لئن أكله الذئب الذي رأيته في منامك إنَّا إذن لخاسرون، فأرسله معهم. ذكر خروجه معهم قال الله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} أي: عزموا على {أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَينَا إِلَيهِ} أي: ناديناه. فإن قيل: ما بعث الله نبيًّا إلَّا بعد الأربعين، فكيف قال: وأوحينا إليه؟ فالجواب: أنَّ الوحي عبارة عن الإلهام {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] فألهمه الله لتصدُقنَّ رؤياك ولتخبرنَّ إخوتك بصنيعهم إذا دخلوا عليك وأنت ملك مصر {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] ومعنى "لتنبِّئنَّهم" أي: لتخبرنهم في المستقبل، وهذا معنى قول ابن عباس. وقال مقاتل: معناه وهم لا يشعرون أنك يوسف، لما نذكر في آخر القصة. وحكى السُّديُّ عن ابن عباس قال: لما خرج معهم يوسف أظهروا له الكرامة أولًا، فلما أصحروا أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة، وجعلوا يضربونه، وكلما لجأ إلى واحدٍ ضربه، فكادوا يقتلونه، وجعل يصيح: يا أبتاه، لو ترى ما يَصنَعُ بابنكَ بنو الإماء لعزَّ عليك. ومعنى قوله: بنو الإماء لأنَّ بعضهم كان من الأَمَتين اللتين وهبتهما ليَّا ليعقوب. فأخذه روبيل فضرب به إلى الأرض، ويوسف يبكي ويقول: يا أبة، ما أسرع ما نسوا عهدك وضيَّعوا وصيتك. فجثم روبيل على صدره ليذبحه فزجره يهوذا وقال:

أين المواثيق والعهود؟ فتركه وهو يصيح: يا أبة، لو رأيت ما أنا فيه لأحزنك وساءك. ثم أجْمعوا على أن يُلقوه في غيابة الجب، فلمَّا دلُّوه جعل يتعلق بجوانب البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، رُدُّوا عليَّ قميصي أُواري به عورتي، فقال له روبيل، وكان عليه أشدَّ من الباقين: يا ابنَ راحيل، يا صاحب الأحلام، ادعُ الشَّمسَ والقمر والكواكبَ تخلصك. ثم دلُّوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، وكان في البئر ماءٌ فوقع فيه، ثم أوى إلى صخرة فقام عليها، وجعل يبكي، فنادوه فظنَّ أنها رحمة له، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فمنعهم يهوذا، وكان أحنَّ عليه منهم لأنَّه كان ابن خالته، وكان يأتيه بطعام ويتفقد أحواله. قال ابن عباس: وأمر الله الصخرة فارتفعت من الأرض ووقف عليها وهو عريان، وكان إبراهيم لما ألقي في النَّار جرَّدوه من ثيابه فجاءه جبريل بقميص من حرير الجنَّة فألبسه إيَّاه، فلمَّا توفي إبراهيم ورَّثه إسحاق، فلما مات إسحاق ورَّثه يعقوب، فلما شبَّ يوسف جعل يعقوبُ القميصَ في تعويذٍ وجعله في عنقه، فلما أُلقي في الجبِّ جاءه جبريل فأخرج القميص من التعويذ فألبسه إيَّاه. وأضاءَ له الجبُّ وعَذُبَ ماؤه، وأَنِسَ بجبريل، فلما أراد جبريل أن ينصرف قال له يوسف: إنِّي أستوحش، فقال: إذا استوحشت فقل: يا صريخَ المستصرخين، ويا غوث المستغيثين، ويا مفرِّج كرب المحزونين، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري، فاجعل لي ممَّا أنا فيه فرجًا ومخرجًا. -وفي رواية: يا قريبًا غير بعيد، ويا شاهدًا غير غائب- فلما قالها حفَّتِ الملائكة بالجبِّ، واستأنس. وقيل: إنه ما بات فيه بعدما دعا بهذا الدعاء (¬1). وقال ابن عباس: أقام في الجب ثلاثة أيَّام وإخوته حول الجب يرعون أغنامهم، ويهوذا يحرسه منهم لئلا يقتلوه. واختلفوا في مبلغ سنِّه حين ألقي في الجب على أقوال: أحدها: أنَّه كان له اثنتا عشرة سنة، قاله مقاتل. والثاني: سبع عشرة سنة، قاله مجاهد. والثالث: ثمان عشرة سنة، قاله الرَّبيع. والأول أظهر. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 115 - 116.

وقال السُّدِّي: ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)} [يوسف: 16] وكان وقت العتمة، وإنَّما جاؤوا في الليل ليكونوا أجرأ على الكذب في الظلمة بخلاف الضوء -ولهذا قيل: لا تطلب الحاجةَ في الليل فإن الحياءَ في العين، ولا تعتذر في النهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار فلا تقدر على إتمام العذر- فلما سمع يعقوب أصواتهم فزع وقال: ما الذي بهم؟ وأين يوسف؟ {قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي يسابق بعضنا بعضًا {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي: عند ثيابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: بمصدق {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} [يوسف: 17] لسوء ظنك بنا وتهمتك إيَّانا في يوسف، وهذا قميصه ملطَّخ بالدم، وأخرجوا القميص، فذلك قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي: هو كذب، وقيل: مكذوب لأنَّه لم يكن دم يوسف وإنَّما كان دمَ سخلة. وقرأت عائشة: "بدم كَدِب" -بدال مهملة- أي: طري. فلما رأى يعقوب القميصَ صحيحًا قال: تالله ما رأيت ذئبًا أحلم ولا أشفق من هذا، أكل ابني ولم يخرقْ قميصه، فعلم كذبهم فقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18] أي: زيَّنتْ وحسنت {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي: فصبري صبر جميل (¬1). وقال الحسن: الصبر الجميل الذي لا جزع فيه ولا شكوى ولا تعبيس وجهٍ {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] من الكذب والبُهت. قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} أي: رفقة مارة من قِبل مديَن يريدون مصر فأخطؤوا الطريق فنزلوا قريبًا من الجب، وكان بعيدًا من العمران، وكان ماؤه ملحًا فعذب حين ألقي فيه يوسف، فأرسلوا رجلًا من العرب من أهل مدين يقال له: مالك بن دُعْر ليطلب لهم الماء، فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} والوارد الذي يتقدم الرفقة إلى الماء ليهيء لهم الأرشِيَة والدلاء للبئر. واختلفوا في اسم الوارد على أقوال: أحدها: أنَّه مالك بن دُعْر من العرب. وقال الثعلبي: هو من ولد إبراهيم عليه السَّلام. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 117.

والثاني: أن اسمه عنقود، قاله مقاتل. والثالث: مخلب بن رعويل، قاله وهب بن منبه. {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} أي: أرسلها، فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام من أحسن الغلمان. قال الثعلبي: قال النبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أُعطيَ يُوسُف عليه السَّلام شَطْرَ الحُسْنِ، والنِّصفُ الآخرُ لسائرِ النَّاسِ" (¬1). قال: وقال كعب الأحبار: كان يوسف حسنَ الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مُستوي الخَلق، أبيض اللون، غليظ الساقين والساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور من ثناياه، وكان جبينه كضوء النهار، وكان يشبه آدم يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيبَ المعصية، وقيل: إنه ورث الجمال من جدته سارة وكانت قد أعطيت سُدس الحسن (¬2). قلت: وقد روي في حُسنه حديث: أنبأنا جدِّي رحمه الله قال: حدَّثنا محمد بن ناصر بإسناده عن جعفر بن الزُّبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إن كَانتِ الحُبلى لَتَرى يُوسُفَ فَتَضعُ حَملَها". إلَّا أنَّه حديث لا يصحُّ، ذكره جدِّي في "الموضوعات" وقال: هذا حديث موضوع، وقد اجتمعت فيه آفات منها: القاسم وهو ابن عبد الرحمن وجعفر بن الزُّبير وأبو الفضل الأنصاري واسمه عباس، واتفق أحمد بن حنبل وشُعبة وابن معين والنَّسائيُّ وغيرهم على أنهم كانوا كذا بين وضَّاعين للأخبار (¬3). قال السُّدي: فلمَّا رآه الوارد دهش وتحيَّر وقال: {قَال يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} ومعناه: أن المستقي نادى رجلًا من أصحابه اسمه بشرى، كما تقول: يا زيد، وهو في موضع رفعٍ على النداء، قاله {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف: 19] أي: أخفوه. وقال مجاهد: أسره مالك بن دُعر وأصحابه التجار الذين هم معه من أهل المياه وقالوا: هو بضاعة استبضعناها، خيفة أن يطلبوا منهم الشركة فيه. وجاء يهوذا بالطعام ¬

_ (¬1) "عرائس المجالس" ص 111، وأخرج شطره الأول أحمد في "مسنده" (14050). (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 111. (¬3) "الموضوعات" (398).

على عادته إلى الجبِّ فلم يجده، فأخبر إخوته فجاؤوا فرأوه عند مالك بن دعر فقالوا: هذا عبد لنا أَبَق. وكتم يوسف شأنه خوفًا من إخوته أن يقتلوه، فاعترف بأنه عبدهم، وكانوا أهل شرٍّ ومنعة (¬1). فإن قيل: فالعبودية هوانٌ عظيم، ويوسف "الكريم بن الكريم بن الكريم ... " الحديث (¬2)، فالجواب من وجوهٍ: أحدها: لأنَّه خرج ليلعب واللعب لا يليق بمثله. وقال أبو حنيفة عبد الوهاب بن النوبي: لم يضحكْ يوسف في مدة البلاء إلَّا ثلاث مرات، حين وقع في البئر قال: من لعب في خدمة مولاه فغيابة الجب مأواه، وحين قُيِّد قال: من لم يخدم مولاه عظُمت بلواه، وحين نودي عليه بالبيع قال: من لم يرض بمولاه تملكه مولًى سواه. وهذا الضحك منه على وجه التعجب لا على وجه الفرح. قال: والوجه الثَّاني: فلأنه نظر يومًا في المرآة فأعجبته نفسه، فقال: لو كنت عبدًا لكان ثمني عظيمًا فبيعَ بأَوكس ثمن. والثالث: ليرحم العبيد إذا ملك، وكذا ابتلاه بالسجن ليرحم المسجونين. والرابع: لأنَّه جرى في السابق أنَّه يصير ملكًا فراضَه الله بالعبودية. وقال أبو حنيفة بن النُّوبي: إن الله ابتلى يوسف بعشرة أشياء وعوَّضه بعشرة: ابتلاه بفراق أبيه وعوَّضه بلقائه، وابتلاه بجفاء إخوته ثم عوَّضه سجودهم له، وابتلاه بالجبِّ وأكرمه بمؤانسة جبريل، وابتلاه بالعبودية وعوضه عبودية أهل مصر، وابتلاه بزليخا وعوَّضه بالشاهد، وابتلاه بالنسوة وعوَّضه بتصديقهن {مَا عَلِمْنَا عَلَيهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51] وابتلاه بالهَمَّةِ وعوضه بالعصمة، وابتلاه بالسجن وعوَّضه المُلْك، وابتلاه بالكذب عليه وعوَّضه بالاعتراف {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51] وابتلاه بفرعون ثم أطاعه له حتَّى صار على خزائن الأرض. قال السُّدي: فلما اعترف يوسف لإخوته بالرِّق قال مالك بن دُعر: أنا أشتريه ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 118 - 119. (¬2) تقدم تخريجه في أول قصة يوسف.

منكم، فباعوه منه، فذلك قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أي: باعوه. واختلفوا فيه، قال قتادة: ظُلْم. وقال الضَّحَّاك ومقاتل والسدي: حرام لأنَّ ثمن الحرِّ حرام، وقال الشعبي: قليل. وقال مقاتل بن حيان: زيفُ دراهم. فإن قيل: فَلِم قال: {مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] ونحن نعلم قطعًا أن الدراهم معدودة؟ فالجواب: أنَّه على وجه المبالغة في التحقير، لأنَّ القليل يُعَدُّ، والكثير يوزَن، وما كانوا يَزِنون أقل من أربعين درهمًا، وإنَّما كانوا يَعدونها عَدًّا، فإذا بلغ أربعين وزنوه، لأنَّ ذلك عندهم أوقية. وقيل معناه: باعوه بدراهم ناقصة غير وافية لزهدهم فيه. واختلفوا في مبلغ عدد الدراهم التي باعوه بها على أقوال: أحدها: عشرون درهمًا، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي، اقتسموها درهمين درهمين. والثاني: بتسعة عشر درهمًا، ونعلين، اقتسموها درهمين درهمين، وأخذ واحد منهم درهمًا مع النعلين، قاله عكرمة. والثالث: اثنان وعشرون درهمًا، قاله مجاهد. والرابع: ثلاثون درهمًا، قاله عكرمة. والخامس: أربعون درهمًا. والأول أصحُّ، ولم يذكر الثعلبي النعلين (¬1). فإن قيل: فما معنى النعلين؟ قلنا: فيه إشارة إلى التواضع، لأنَّ من كان في ثمنه نعلان فهو حقير الثمن، فإذا مَلَكَ مِصرَ لا ينبغي له أن يتكبر بل يتواضع. قلت: ما جرى على يوسف من أصحاب هذه التأويلات قليلٌ، فإنَّه لو ملك الدُّنيا من المشرق إلى المغرب بالنسبة إلى ما جرى عليه لكان ذلك حقيرًا لا يساوي نعلين. {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] يعني إخوته، لأنهم لم يعلموا كرامته على الله تعالى، ولا منزلته عنده، ولا ما يؤول أمره إليه. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 119.

ذكر قدومه إلى مصر

ذكر قدومه إلى مصر قال علماء السير: ثم انطلق مالك بن دُعر وأصحابه بيوسف إلى مصر وتبعهم إخوته يقولون لهم: استوثقوا منه فإنَّه آبق. فلمَّا قدموا مصر اشتراه العزيز واسمه قطفير بن روبخت، وكان على خزائن مصر. قال ابن عباس: وكان الملك على مصر ونواحيها يومئذٍ الريان بن الوليد بن ثروان بن راشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السَّلام، وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتَّى آمن واتَّبع يوسف على دينه، ومات ويوسف حيٌّ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن البيلوان بن واران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكان جبارًا كافرًا، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل، وقيل: إنه أسلم (¬1). واختلفوا في مبلغ ثمن يوسف لما بيع بمصر على أقوال: أحدها: أنَّه بيع بعشرين دينارًا ونعلين وثوبين أبيضين، حكاه الثعلبي عن ابن عباس (¬2). والثاني: بوزنه مسكًا وورقًا، قاله وهب (¬3). والثالث: بوزنه ذهبًا وفضة، قاله مقاتل. والرابع: بوزنه ذهبًا مرارًا، قاله الحسن. فإن قيل: فكيف أثبت الله الشرى في قوله: {وَشَرَوْهُ}، {وَقَال الَّذِي اشْتَرَاهُ} ولم ينعقد عليه بيع؟ فالجواب: أن الشرى هو المماثلة، فلما وقعت المماثلة بالمال جاز أن يقال: اشتراه على وجه المجاز، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الآية. وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في "كتاب الزهد" عن أبيه عن عبد الرزاق عن معمر عن مجاهد عن ابن عباس قال: يُجاءُ يوم القيامة بالعبد سيقال له: ما منعك أن تكون ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 120. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 120. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 120.

عبدتني؟ فيقول: يا رب، أبليتني وجعلت عليَّ أربابًا يشغلونني عن خدمتك، فيُجاء بيوسف في عبوديته فيقول: أنت أشدُّ عبودية أم هذا؟ فيقول: بل هذا، فيقول: إن هذا لم تمنعه عبوديته أن عبدني (¬1). {وَقَال الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} واختلفوا في اسمها على أقوال: أحدها: راعيل بنت عابيل، قاله محمد بن إسحاق (¬2). والثاني: زليخا، قاله قتادة. والثالث: نبوس، قاله أبو هشام الرفاعي (¬3). ومعنى {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي: منزلته ومقامه {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} إذا بلغ وفهم الأمور {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] فنتبنَّاه، وقال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء وكانت امرأته حسناء ناعمة طاعمة طامعة في ملكه ودنياه (¬4). وحكى الثعلبي عن عبد الله أنَّه قال: أفرسُ النَّاس ثلاثة: العزيز حين قال: "أكرمي مثواه"، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها: "يا أبتِ استأجره"، وأبو بكر حين استخلف عمر (¬5). قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أي: كما خلَّصناه من الجبِّ وكيد إخوته وكانوا قد همُّوا بقتله، مكَّنّاه من أرض مصر وصيَّرناه إلى أعلى المنازل عند عزيز مصر وجعلناه على خزائنها. وقال أهل الكتاب: لما تمت ليوسف ثلاثون سنة استوزره فرعون مصر. {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْويلِ الْأَحَادِيثِ} (¬6) أي تعبير الرؤيا {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} ¬

_ (¬1) لم نقف عليه في كتاب "الزهد" وأخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 288، والبيهقيّ في شعب الإيمان (9527) من كلام مجاهد. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 175. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 120. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 175. (¬5) انظر "عرائس المجالس" ص 120. (¬6) انظر "عرائس المجالس" ص 120.

[يوسف: 21] فقد قالت العلماء: حيث أمر يعقوب يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتَّى قصَّها، ثم أراد يعقوبُ أن لا يكيدوه فغلب أمر الله حتَّى كادوا، ثم أراد إخوة يوسف قتله فغلب أمر الله فلم يقدروا عليه، ثم أرادوا أن يلقوه في الجبِّ ليلتقطه بعض السيَّارة فيندرس اسمه، فغلب أمر الله حتَّى اشتهر ذكره ونفذ أمره، ثم باعوه ليصير مملوكًا فغلب أمرُ الله حتَّى صار مالكًا وسجد إخوته له، ثم أرادوا أن يخلو لهم وجه أبيهم، فغلب أمر الله حتَّى ضاق عليهم قلب أبيهم، ثم أرادوا أن يكونوا من بعده قومًا صالحين تائبين ناسين لذنوبهم، فغلب أمر الله حتَّى اعترفوا بعد أربعين سنة {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] ثم أرادوا أن يَغُرُّوا أباهم بالقميص والدم والبكاء فغلب أمر الله حتَّى لم يخدع، وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18 - 83] ثم احتالوا حتَّى تذهب محبته من قلب أبيه، فغلب أمر الله حتَّى ازداد محبة وشوقًا إليه، ثم احتال يوسف على الخلاص من السجن بقوله للساقي: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] فغلب أمر الله حتى نسي الساقي، فلبث في السجن بضع سنين، ثم احتالت امرأة العزيز على أن تزيل المراودة عن نفسها حين قالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] فغلب أمر الله حتَّى شهد الشاهد من أهلها. وكل هذا دليل على القول الأول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] ما الله صانع بيوسف ولا ما يؤول إليه أمره. فإن قيل: فما سبب ميل يعقوب إلى يوسف دون إخوته؟ فالجواب من وجوه: أحدها: للسرِّ الذي كان فيه. والثاني: لحسنه وجماله. والثالث: لأنَّه لم يكن له أم. والرابع: لعقله وتأنِّيه. قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي: منتهى شبابه وقوَّته، واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أربعون سنة، قاله مقاتل. والثاني: ثلاث وثلاثون سنة، قاله مجاهد (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 177.

فصل في ما جرى له مع امرأة العزيز

والثالث: عشرون سنة، قاله الضَّحَّاك (¬1). والرابع: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، قاله ابن عباس (¬2). والخامس: ستون سنة، حكاه الثعلبي. والأول أصح. وقيل: منتهى الأشد ثلاث وثلاثون سنة، والاستواء عند الأربعين. {آتَينَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: العقل والعلم والنبوة، قاله مجاهد. والثاني: الإصابة في القول، قاله أهل المعاني. والثالث: علم الرؤيا. والرابع: مصادر الأمور ومواردها. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22] أي: الصابرين على نوائب الدُّنيا كما صبر يوسف، عليه السَّلام. فصل في ما جرى له مع امرأة العزيز قال (¬3) الله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] أي: أرادته وطلبت منه أن يواقعها ويوافقها {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} وكانت سبعة {وَقَالتْ هَيتَ لَكَ} [يوسف: 23] أي: زينت وحسنت. قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] الآية، معنى الهمِّ بالشيء: حديث المرء به نفسه ولم يفعله، قال الشاعر (¬4): [من الطَّويل] هممتُ ولم أفعلْ وكدتُ وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائلُهْ واختلفوا في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} على أقوال كثيرة، منهم من قال: حلَّ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 177. (¬2) انظر "تفسير الطبري" 12/ 177. (¬3) من هنا يبدأ السقط في (ب) إلى تفسير قوله: {وَقَال الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا}. (¬4) هو ضابئ بن الحارث البُرجمي، والبيت في "الشعر والشعراء" 1/ 350.

الهِمْيان وجلس منها مجلس الخاتن، قاله ابن عباس (¬1)، وفي رواية عنه: جلس منها مجلسَ الرجل من أهله. وقال السُّدي: جعلت تذكّر له محاسن نفسها حتَّى همَّ بها، وكان شابًا يجد شبق الشباب (¬2). وأنكر جماعة من المتأخرين هذا وقالوا: لا يليق هذا بالأنبياء وأوَّلوا الآية. فقال بعضهم: همَّ بالفرار منها. وقيل: همَّ بضربها. وقال آخرون: تم الكلام عند قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ثم ابتدأ الخبر عن يوسف {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} على التقديم والتأخير، وتقديره: لولا أن رأى برهان ربّه لهمَّ بها ولكنه رأى البرهان فلم يَهم. ورُوي عن ابن عباس أنَّه قال: ولقد همَّت به أن يفترشها وهمَّ بها أن تكون له زوجة. وهذه التأويلات كلها غير مرضية، أما قول من قال: همَّ بالفرار منها فلا يصحُّ لأنَّ الفرار غير مذكور في الآية، وأمَّا تقدير "لولا" فالعرب لا تقدِّم جواب لولا قبلها، لا تقول: لقد قمت لولا زيد لقمت، وكذا أقوال مَنْ تأَوَّلَ غير ذلك. والدليل عليه أنَّه (¬3) لما أقرَّت المرأة وقال يوسف: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيبِ} [يوسف: 52] قال له جبريل: ولا حين هممتَ بها يا يوسف، فقال عند ذلك: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. والمختار في هذا أنَّ الهمَّ همَّان: همّ مقيمٌ يضاف إليه عزمٌ ونية ورضًى، مثل همِّ إمرأة العزيز، والعبدُ مأخوذ به. والثاني: عارضٌ وهو الخطرةُ والفكرة وحديث النَّفس من غير اعتبارٍ ولا عزم، مثل همِّ يوسف عليه السَّلام، والعبد غير مأخوذ به ما لم يلفظ به أو يفعله. والدليل عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُولُ اللهُ عزَّ وجل: إذا همَّ عَبدِي بحَسنةٍ فَلم يَعمَلها كُتِبَتْ له حَسنةً، وإن عمِلَها كُتِبَت له عَشرُ حَسناتٍ إلى سبع مئةِ ضِعفٍ، وإذا همَّ عَبدِي بِسيئةٍ فإن تَركَهَا من أَجلِي كَتبتُها لَهُ حَسَنةً" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 183. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 121. (¬3) في (ل): "أن الملك". (¬4) أخرجه البخاري (7501)، ومسلم (128).

وأمّا من نزَّه الأنبياء عن الصغائر فغير جائز لوجوه: أحدها: ليكونوا على وجلٍ من الله إذا ذكروها فيجدون في الطَّاعة إشفاقًا منهم ولا يتكلمون على حالهم. والثاني: ليعرِّفهم مواقعَ نعمهِ عليهم بالعفو عنهم. والثالث: ليجعلهم قادة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله تعالى وترك الإياس من عفوه وفضله، بخلاف الكبائر فإنهم مُنَزَّهون عنها، إذ لا عذر لهم في ارتكابها لأنها تكون على وجه العناد. واختلفوا في البرهان الذي رآه يوسف على أقوال: أحدها: أن يعقوب مَثَلَ له فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله، رواه سعيد عن ابن عباس. وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وابن سيرين وغيرهم: انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضًّا على إصبعه، قال ابن جبير: فكل ولد يعقوب وُلد له اثنا عشر ولدًا، إلَّا يوسف فإنَّه ولد له أحد عشر من أجل ما نقص من شهوته حين رأى صورة أبيه واستحيى منه. وقال قتادة: قال له يعقوب: يا يوسف، تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ ! وقال ابن أبي مليكة عن ابن عباس: قال له يعقوب: يا يوسف، تزني فتكون كالطير وقع ريشه، فيذهب ليطير ولا ريش (¬1). والثاني: أنَّه رأى كتابًا في حائط البيت فيه مكتوبًا: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] الآية، قاله محمد بن كعب القرظي. والثالث: أنَّه لما قعد منها مقعد الرجل من أهله بدت له كفٌّ ليس فيها عضد ولا معصم عليها مكتوب: {وَإِنَّ عَلَيكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12] فقام هاربًا عنها وقامت، فلما ذهب الرعبُ منهما عادا، فلما قعده منها مقعد الرجل من أهله بدت الكفُّ وفيها مكتوب: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] الآية، فقام هاربًا وقامت، فلما ذهب عنهما الرعب عاد وعادت، فلما قعد منها مقعد الرجل من إمرأته قال الله لجبريل أدركْ عبدي قبل أن يصيبَ ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 122.

الخطيئة، فانحطَّ جبريل عاضًّا على إصبعه وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عملَ السفهاء وأنت مكتوبٌ عند الله في ديوان الأنبياء؟ ! فذلك قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: 24] قاله ابن عباس (¬1). والرابع: أنَّه لما همَّ بها خرجت بينهما كفٌّ بلا جسد مكتوب عليها بالعبرانية: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] ثم انصرف الكف وقاما مقامهما ثم رجعت الكف وعليها مكتوب بالعبرانية: {وَإِنَّ عَلَيكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12] وانصرف الكف وقاما مقامهما ثم عادت الكف ثالثة وعليها مكتوب بالعبرانية: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} الآية، وانصرف الكف وقاما مقامهما؛ ثم عادت الكف رابعة، وعليها مكتوب بالعبرانية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] فولى يوسف هاربًا، قاله وهب بن منبه. قلت: ذكر هذه الأقوال الثعلبي وهي ضعيفة لوجوه: أحدها: لأنَّ الأنبياء قد نُزِّهوا عن مثل هذا. والثاني: لأنَّ يوسف قد كان يعلم أنَّ الزنا حرام وكذا مقدماته، وأنَّ ارتكاب الفاحشة قبيح، فكان البرهان الذي رآه العصمةَ عن مثل ذلك الفعل. وقد قال مقاتل: صارت زليخا في عينه سوداءَ مشوَّهة. وروى علي بن الحسين عن أبيه عن جدِّه عليه السَّلام أنَّه قال في تفسير البرهان: إنه كان عندها صنم تعبده فغطت وجهه بثوب، فقال لها يوسف: ما هذا؟ فقالت: أستحيي أن يرانا، فقال: ويحك أنت تستحيين ممن لا يسمع ولا يبصر، أفلا أستحيي أنا ممن يسمع ويبصر (¬2)؟ والثالث: أن القرآن لم يكن نزل على يوسف، فمن أين هذه الآيات التي ذكرها ابن عباس ووهب وغيرهما؟ ! وقال جعفر بن سليمان: لقيتُ امرأة في بعض الطرق وهي ترفثُ، فقلت: إنكنَّ ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 122. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 123.

صواحبُ يوسف، فقالت: واعجباه نحن دعوناه إلى لذة وأنتم أردتم قتله، وقتل النَّفس أعظم ممَّا أردناه، فَمَنْ أصحابه نحن أو أنتم؟ وقال الفراء: جواب {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} لَواقَعَ الفعل {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} أي: الزنا والإثم {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] أراد المختارين للنبوَّة. ومن قرأها بكسر اللام كأهل مكّة والبصرة أراد المخلصين لله في التوحيد والعبادة. وقيل: إن البرهانَ قطفير، رآه عند الباب. قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} الآية، قال علماء السير: لما رأى يوسف البرهان قام مبادرًا هاربًا ممَّا أرادته منه، واتبعته المرأة لتقضيَ حاجتها، فأدركته فتعلقت بقميصه فجذبته إليها وقدَّته من دُبرٍ لأنها كانت طالبةً وبوسفُ مطلوبٌ، فلما خرجا {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} أي: وجدا زوجها قطفير عند الباب جالسًا مع أبن عم لراعيل، وقيل: أن قطفير كان البرهان، فلما رأته هابته فسبقت بالقول إليه {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} كَنَتْ عن الزنا {إلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] يعني بالضرب بالسياط فقال يوسف: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} فهربتُ منها فأدركتني فشقت قميصي. فإن قيل: فالفتى لا يكون غمازًا، فالجواب: ما ذكره نوف الشَّاميُّ، فإنَّه قال: ما كان يوسف يريد أن يذكره، فلما قالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} غضب وقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}. قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} واختلفوا في الشاهد على أقوال: أحدها: أنَّه كان صبيًّا في المهد أنطقه الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس وأبي هريرة. وفي حديث ابن عباس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "تكلَّم في المهد أربعة: ابن ماشطة فرعون، وصاحب يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم" (¬1). وكان الصبي ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" عن ابن عباس موقوفًا (2821).

فصل في حديث النسوة

ابن خالتها، فلهذا قال من أهلها. والثاني: أن الشاهد ابن عم راعيل الذي كان قاعدًا على الباب مع زوجها، حكم برأيه فيما أخبر الله عنه في قدِّ القميص، قاله الحسن وعكرمة ومجاهد والضَّحَّاك، وهو رواية عن ابن عباس. وكان من خاصة الملك. والثالث: أنَّ الشَّاهد القميصُ المقدود قاله ابن أبي نجيح (¬1). وقال ابن عباس: حكَموا القميصَ فقال ابن عم راعيل: {قَال هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)} [يوسف: 26، 27] فجعل بيان هذا الأمر في القميص. ولما رأى قطفير القميص قُدَّ من دبر عرف خيانة زوجته وبراءة ساحة يوسف فقال لامرأته: {إِنَّهُ} أي هذا الصنيع {مِنْ كَيدِكُنَّ} وقيل: هو من قول الشاهد {إِنَّ كَيدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] ثم أقبل قطفير على يوسف وقال: {يُوسُفُ} [يوسف: 29] أي: يا يوسف، نداء مفرد {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الأمر واصرف عنه، ولا تكثرن هذا الحديث ولا تذكره لأحد فقد بأن عمرك وبراءتك. ثم قال لامرأته: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} وقيل: إنَّما هذا من قول الشاهد، يقول: سلي زوجك أن يصفحَ عنك ولا يعاقبك {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف: 29] أي: المذنبين حيث راودت شابًا عن نفسه وخنتِ زوجك، فلما استعصم كذبت عليه، وهذا قول ابن عباس. وخطئَ الرجل يخطئ خطأً إذا أذنب، والاسم الخطيئة، وإنَّما لم يقل من الخاطئات لأنَّه لم يرد الخبر عن النساء، وإنَّما قصد الخبر عن من يفعل ذلك من القوم الخاطئين، ومثله: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]. فصل في حديث النسوة قال الله تعالى: {وَقَال نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} الآية. والعزيز: نائب الملك؛ وقال ابن عباس: لما شاع حديث راعيل في المدينة -وهي مصر- أنها راودت فتاها عن نفسه عِبْنَ عليها وقلن: عبدها الكنعاني {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30]: وصل حبُّه إلى شغافها، وهي جِلْدةٌ رقيقة تسمى لسان القلب إذا وصل الحبُّ إليها عسر خروجه، ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 4/ 212.

وقيل: إنَّما هي جلدة رقيقة في باطن القلب، وقيل: برَّح بها، وقال مقاتل: إنَّما فلان ذلك مكرًا منهن ليرين يوسف لأنها كانت قد حجبته عنهن {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} تعني حديثهن {أَرْسَلَتْ إِلَيهِنَّ} وكنَّ أربعين امرأةً منهن امرأة الساقي والخباز والحاجب وصاحب السجن {وَأَعْتَدَتْ} أي: أعدَّتْ {لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31] وهو مجلس الطَّعام وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد. قال ابن قتيبة: أصل هذا أنَّ من دعوتَهُ ليطْعَم عندك أعددتَ له وسادةً يتكئ عليها، فسمي الطَّعام متكأً على الاستعارة، قال عدي بن زيد: فظَلِلنَا بنَعمةٍ واتَّكأنا ... وشَرِبنا الحلال من قُلَلِه (¬1) واختلفوا فيه: قال ابن عباس: هو الأُترُجُّ (¬2). وقال الضَّحَّاك: البزماورد (¬3). وقيل: الموز والبِطِّيخ، والأصح أنَّه الأترُجُّ وكل ما يقطع بالسكين، دليله قوله تعالى: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} {وَقَالتِ} ليوسف: {اخْرُجْ عَلَيهِنَّ} وزيَّنته بأنواع الجواهر، وكان نور وجهه يشرق على الحيطان كنور الشَّمس والقمر {فَلَمَّا رَأَينَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي: عظمنه وأجللنه وهبنه، وقرأ ابن عباس: "أكبرن" بغير هاء، ومعناه: حِضْنَ عند رؤيته {وَقَطَّعْنَ أَيدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] أي: حززنها بالسكاكين وجرى الدّم، ولم يشعرن بذلك لشغل قلوبهن بيوسف، وهنَّ يحسبن أنهنَّ يقطعن الأُترُجَّ. وحكى الثعلبي عن وهب بن منبه أنَّه قال: بلغني أن تسعًا من الأربعين متن في المجلس وَجْدًا بيوسف (¬4). فإن قيل: فلمَ لم تقطع زليخا يدها؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن رؤية يوسف وقعت لهنَّ مفاجأة، والمرأة كانت قد اعتادت النظر إليه، وكلُّ أمرٍ يقعُ بغتةً يؤثر، ألا ترى أن موسى خاف من العصا لما انقلبت حية لأنَّه ما ألِفها كذلك، ولم يخف من النَّار لأنَّه ألفها من يوم التنور. ¬

_ (¬1) البيت لجميل بن معمر، انظر "الأغاني" 8/ 94. (¬2) انظر "زاد المسير" 4/ 216. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 202. (¬4) "عرائس المجالس" 124.

فصل في سجنه

والثاني: لأنهن بغين عليها، والبغي مصرع، فعوقبن بقطع الأيدي. {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] أي: ببشر {قَالتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} أي: في حبي له. ثم أخبرتهن بما هو أحسن من الصورة الظاهرة، وهو العفاف الباطن، وأقرَّت فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي: امتنع واستعصى عليَّ، فقلن له: أطع مولاتك، فقالت راعيل: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} أي: يطاوعني فيما دعوته إليه {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32] أي: الأذلاء. وقال مجاهد: ولما راودته ثانيًا اختار السجن على مباشرة المعصية، فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيهِنَّ} أي: أميل وأتابعهن {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] أي: العاصين. فإن قيل: إنما راودته راعيل، وهي واحدة، فكيف قال: {مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيهِ} فالجواب: إنهن أشرن عليه، فانصرف الكلام إليها وإليهن {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} [يوسف: 34] بمكرهنَّ. فصل في سجنه قال الله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} أي: للعزيز وأصحابه {مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ} وهي شهادة الطفل، وقدُّ القميص من دُبر، وقطعُ النسوة أيديهن {لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] وهذه لام اليمين. والحين: الوقت، والمراد به ها هنا: سبع سنين، وقال الكلبي: خمس سنين، والأول أصح. وقال السُّدي: قالت المرأة لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني بين النَّاس، يقول: راودتني عن نفسي، فإما أن تأذن لي أن أخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني، فحبسه بعد علمه ببراءته، فجعل الله الحبس تطهيرًا ليوسف من همِّه بالمرأة وتكفيرًا لزلته (¬1). وقال ابن عباس: عثر يوسف ثلاث عثرات: حين همَّ بها فسجن، وحين قال للساقيَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] فلبث في السجن بضع سنين وأنساه ¬

_ (¬1) "عرائس المجالس" 124.

الشيطان ذكر ربه، وحين قال: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُون} [يوسف: 70] فقالوا: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77]. قلت: أمَّا قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُون} فإنه صادق في قوله، وأيُّ سرقة أعظم من يوسف؟ قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36]، وهما غلامان كانا للوليد بن الريان صاحب مصر، أحدهما خبازه صاحب طعامه، واسمه: مجلث، والآخر ساقيه صاحب شرابه، واسمه: نبو. وكان الملك قد غضب عليهما فحبسهما، لأنه بلغه أنّ خبازه يريد أن يسمَّه، وأن ساقيه مالأه على ذلك، وكان أهل مصر قد سئموا الملك فدسوا إليهما مالًا، فأما الساقي فرجع عن الرشوة، وأما الخباز فقبلها فسمَّ الطعام، فلما أحضره بين يدي الملك قال له الساقي: أيها الملك لا تأكلْ فإنه مسموم، فقال الملك للساقي: اشرب فشرب منه فلم يضرَّه، وقال للخباز: كُلْ فلم يأكل، فجرَّب الطعام في دابةٍ فانفسخت وهلكت، فأمر بحبسهما. وكان يوسف في السجن يعبّر الأحلام، فقال الخبَّاز والساقي: نريد أن نجرِّب هذا العبد العبراني بمنام. واختلفوا هل رأيا شيئًا؟ على قولين: أحدهما: أنهما ما رأيا شيئًا وإنما أرادا أن يجرِّباه، وهذا قول ابن مسعود. والثاني: أنهما رأيا رؤيا، قاله مقاتل. وقال مجاهد: ولما رأى الفتيان يوسف قالا له: والله لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما: أنشدكما الله أن لا تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليَّ من حبِّه بلاءٌ شديد، لقد أحبتني عمتي فدخل عليَّ من محبتها بلاء، يشير إلى المنطقة، لما نذكر، ثم أحبني أبي فدخل عليَّ من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة العزيز فدخل عليَّ من حبها بلاء، يشير إلى الحبس، فلا تحبَّاني بارك الله فيكما. قال: فأبيا إلا حبَّه وأَلِفَاه وجعلا يعجبهما ما يريان من فَهمه وعقله، وقد كانا رأيَا حين أدخلا السجن، فقال الساقي ليوسف: رأيتُ كأني في بستانٍ فإذا نُخَيلَة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه، وقال الخباز: رأيتُ كأنَّ فوق رأسي ثلاثَ سلالٍ من خبزٍ وألوان الأطعمة وإذا بسباع الطير تنهشُ منه، فذلك

قوله تعالى: {قَال أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أي: عنبًا، واسم هذا القائل نبو، وقال الآخر، وهو مجلث: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْويلِهِ} أي: أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36] إلى أهل السجن، كان إذا مرض أحد منهم عاده، وإذا ضاق وسَّع عليه، وإذا احتاج جمع له، وكان يداوي مرضاهم ويعزي حزينهم. وقال قتادة: كره أن يعبر لهما رؤياهما لما علم ما فيها من المكروه، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره، فقال: {قَال لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} وتطعمانه وتأكلانه {إلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْويلِهِ} أي: بتفسيره وألوانه، أي طعام أكلتم وكم أكلتم، فقالا له: هذا من فعل العرَّافين والكُهَّان، فقال: ما أنا بكاهن، وإنما ذلك العلم {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف: 37] لأنهم كانوا يعبدون الأصنام وإنما كرر على التأكيد {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيءٍ} أي: ما يجوزنا {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَينَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38]، ثم أقبل يوسف عليهما وعلى أهل السجن، وكان بين أيديهم أصنام يعبدونها من دون الله فقال: {يَاصَاحبَيِ الْسِّجْنِ} لكونهما فيه {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُوْنَ} آلهة لا تضر ولا تنفع {خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، الواحد: الَّذي لا ثاني له، القهار: الَّذي يقهر كل شيء، ثم بين ضعفها وعجزها فقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أَسْمَاءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} وإنما قال: "ما تعبدون" وإن كان الخطاب قد بدأ لاثنين لأنه قصد جميع مَنْ هو بمثلِ حالهما من الكفر. والأسماء: للآلهة والأديان والأرباب، من غير أن يكون للتسمية حقيقة {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي: حجة وبرهان {إِنِ الْحُكْمُ} أي: ما القضاء والأمر والنهي {إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ ذَلِكَ} الَّذي دعوتكم إليه من التوحيد {الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] ثم فسَّر المنامين لما ألحَّا عليه فقال: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} وهو الساقي {فَيَسْقِي رَبَّهُ} أي: سيده يعني الملك {خَمْرًا} وأما العناقيد الثلاثة التي رآها فإنها ثلاثة أيام يبقى في السجن ويخرج بأمر الملك ويعود إلى ما كان عليه {وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ} والسلال الثلاث التي رآها فإنها

ثلاثة أيام يبقى في السجن، ثم يخرجه الملك ويُصلب {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيرُ مِنْ رَأْسِهِ} فقالا: ما رأينا شيئًا إنما كنا نلعب، فقال يوسف: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] أي فُرغ من الأمر الَّذي سألتما عنه ووجب حكم الله عليكما. وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بإسناده عن سعيد بن جبير عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْرَى الفِرى أن يُرِيَ الرجلُ عينَيه ما لم تَرَيا" انفرد بإخراجه البخاري (¬1). وفي "الصحيحين" عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تحلَّم بحلمٍ لم يره كُلِّفَ أن يعقِدَ بين شعرَتَين، ولن يَفْعلَ" (¬2). وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن أبي رَزين العقيلي قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الرُّؤيا على رجلِ طائرٍ ما لم تُعبَّر، فإذا عُبِّرت وقعت، وإنَّ الرُّؤيا جُزءٌ من ستةٍ وأربعينَ جُزءًا من النُّبوةِ" (¬3). قال أبو سليمان الخطَّابي: ومعناه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام في النبوّة ثلاثًا وعشرين سنة، منها بمكة ثلاثة عشر وبالمدينة عشرًا، وكان: يوحى إليه في منامه في أول الأمر ستة أشهر، وهي نصف سنة، فصارت هذه المدة جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من النبوَّة (¬4). {وَقَال} يوسف عند ذلك {لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} يعني الساقي، والظن هنا بمعنى اليقين {أذَكُرْنِي إذا خرجت {عِنْدَ رَبِّكَ} أي: عند الملك، وقل له: إنَّ في السجن غلامًا مظلومًا {فَأَنْسَاهُ الشَّيطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42]. واختلفوا في قوله: "فأنساه": ظاهر الكلام أن الشيطان أنسى الساقي ذِكْرَ يوسف للملك عقوبة له حيث استغاث بمخلوق مثله، وقد نصَّ عليه محمد بن إسحاق. قال ابن عباس: وتلك غفلةٌ من يوسف حيث استغاث بمخلوق، ولو استغاث بربه لأسرع خلاصه، ولكنه زلَّ فطال حبسه. والواجب تنزيه الأنبياء على كل حال. ¬

_ (¬1) صحيح "البخاري" (7043). (¬2) صحيح "البخاري" (7042) وهو من أفراده، انظر "الجمع بين الصحيحين" (1162). (¬3) "عرائس المجالس" 126، وهو في "مسند" أحمد (16182). (¬4) "معالم السنن" 4/ 139.

فصل ذكر خروجه من السجن

{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] واختلفوا فيه، فقال أبو عبيدة: البضع ما بين الثلاثة إلى الخمسة، وقال مجاهد: ما بين الثلاث إلى السبع، وقال قتادة: ما بين الثلاث إلى التسع، وقال ابن عباس: ما دون العشرة. وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين. وقال وهب: أصاب أيوبَ البلاءُ سبع سنين، وترك يوسف في السجز سبع سنين (¬1). وحكى الثعلبي عن الفراء: أن البضع لا يذكَّر إلا مع عشرة وعشرين إلى تسعين، قال: وكذلك رأيت العرب تفعل، ولا يقولون: بضع ومئة ولا بضع وألف. وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قيل له: يا يوسف اتخذتَ من دوني وكيلًا، لأُطيلنَّ حبسك، فبكى وقال: يا رب أنْسى قلبي كثرةُ البلوى فقلتُ كلمةً، فويلٌ لإخوتي (¬2). وروى الوالبي عن ابن عباس قال: دخل جبريل الحبس على يوسف، فلما رآه عرفه فقال يوسف: يا أخا المنذِرِين، ما لي أراك بين الخاطئين؟ فقال له جبريل: يا طاهر ابن الطاهرين، يقرأ عليك السلام ربُّ العالمين ويقول لك: ما استحييت مني حيث استشفعتَ بالمخلوقين؟ فوعزتي وجلالي لألبثنك في السجن بضعَ سنين، قال يوسف: وهو في ذلك عني راضٍ؟ قال: نعم، قال: إذن لا أبالي (¬3). قال الكلبي: وهذه السبع غير الخمس الأول التي كانت قبل ذلك. وقال مقاتل: أجرى الله على لسان يوسف ما كان سببًا لحبسه اثنتي عشرة سنة، خمسة متقدمة وسبعة متأخرة، وهي قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} اثنا عشر حرفًا (¬4). فصل ذكر خروجه من السجن قال علماء السِّير: ولما دنا فرَجُهُ، رأى ملك مصر الريانُ بنُ الوليد رؤيا هالته، رأى ¬

_ (¬1) "عرائس المجالس" 127. (¬2) "عرائس المجالس" 127. (¬3) "عرائس المجالس" 127. (¬4) "عرائس المجالس" 127.

سبع بقرات سمانٍ يخرجن من نهر يابس، وسبع بقرات عجاف مهازيل، فابتلعت العجافُ السمانَ فدخلن في بطونهن، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعًا أُخَر يابساتٍ قد استحصدت وأفركت، فالتَوت اليابسات على الخضر حتَّى علين عليها، فجمع السحرةَ والكهنة والقافة وقصَّها عليهم وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} أي: الأشراف {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} فاعبروها {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أي: تفسرون، والرؤيا: الحلم {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} [يوسف: 44] أي: مختلطة مشتبهة وأباطيل، واحدها ضِغْثٌ، وهو الحزمة من أنواع الحشيش، ومنه قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] والأحلام: جمع الحلم، وهي الرؤيا (¬1). {وَقَال الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} أي: من القتل وهو الساقي {وَادَّكَرَ} أي: ذكر حاجة يوسف وقوله: "اذكرني" {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد حين، وقيل: بعد نسيان {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْويلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف: 45] أي: فأطلقوني لأمضي إلى السجن، فإن فيه من يعرف تأويلها فأرسلوه. وقال ابن عباس: لم يكن السجن في المدينةِ بل بعيدًا عنها: فقال: {يُوسُفُ} أي: يا يوسف {أَيُّهَا الْصِّدِيقُ} فيما عبَّرتَ لنا من الرؤيا، والصديق: الكثير الصدق {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} الآية فإن الملك قد رأى هذه الرؤيا {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} أي: إلى مصر {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 46]، فضلك، فقد عجزوا عنها، فقال يوسف: أمَّا البقرات السمان والسنبلات الخضر، فسبع سنين مخاصب، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبة، فذلك قوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أي: كعادتهم في الزراعة سائر السنين {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إلا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47] وإنما أشار عليه بذلك لتبقى الغلة ولا تفسد {ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبعٌ شِدَادٌ} يعني سبع سنين مُجدبة قحطة {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} يعني يأكلن أو يؤكل فيهنَّ ما أعددتم لهن، وهذا مجاز من الكلام {إلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48] أي: تحرزون وتدخرون {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49] قال وهب: وهذا من علم الغيب الَّذي علَّمه الله ليوسف، لأنه لم يكن في رؤيا الملك هذه الزيادة. وقال قتادة: زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها. ويغاث الناس: من الغَيث، ويعصرونَ العنبَ خمرًا، والزيتون زيتًا، والسمسم دهنًا. ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى السقط في (ب).

وقال الملك: ائتوني به {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}، قال علماء السِّير: لما رجع الساقي إلى الملك، وأخبره بتأويل يوسف لرؤياه قال ذلك، لأنه علم صدقَ تعبيره، فقال: ائتوني بهذا الَّذي عبَّر رؤياي فقد وقع في قلبي صدقه {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} قال له: أجب الملك، فقال للرسول: {(ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} أي: سيدك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيدِيَهُنَّ} والمرأة التي حُبست بسببها {إِنَّ رَبِّي بِكَيدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] أي: بصنيعهن. فإن قيل: فهذا الجواب غير مطابق للسؤال، لأن طلب الملك له لا تعلق له بالنسوة. فالجواب: إنما قصد براءَة ساحته عند الملك وإظهارَ عذرِهِ للناس، لأن حديثه وصل إلى الملك، فأراد أن يزولَ ما في باطن الملك مما نُقِلَ إليه عنه لينتفع به ويحسن ظنُّه ولا يبقى في قلبه أثر. وقد روينا في "الصحيحين" عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ولو لبثتُ في السِّجنِ ما لبِثَ يُوسفُ لأجَبتُ الدَّاعي" (¬1). وقد ذكرنا الحديث في سيرة الخليل عليه السلام. وذكر الثعلبي حديثًا فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد عجِبتُ من يُوسفَ وكرمِه وصبرِه، واللهُ يَغفرُ له، حينَ سُئل عن البقراتِ السِّمانِ والعِجافِ، ولو كُنْتُ مكانَه ما أخبرتُهم بشيءٍ حتَّى يُخرجُوني، أو أشترط محليهم أن يُخرجُوني، ولقد عجِبتُ من يُوسفَ وصبرِه وكرمِه، واللهُ يغفرُ له، حين أتاهُ الرَّسولُ فقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 55] الآية، ولو كُنْتُ مكانَه ولبثتُ في السِّجنِ ما لبثَ لأسرعتُ الإجابةَ وبادرتُهم إلى البابِ وما ابتغيتُ العُذرَ إنَّه كان لحليمًا ذا أناة" (¬2). وكل هذا مدح ليوسف - عليه السلام -. وقال ابن عباس: لو خرج يوسف قبل أن يعلم الملك شأنه، ما زالت في نفس العزيز منه حاجةٌ، يقول: هذا الَّذي راود امرأتي. ¬

_ (¬1) صحيح "البخاري" (3372)، وصحيح "مسلم" (238). (¬2) "عرائس المجالس" 128، وتفسير الثعلبي 5/ 228 - 229، وأخرجه الطبري 6/ 136، وابن أبي حاتم 7/ 2156 مرسلًا عن عكرمة.

ولما عاد الرسول إلى الملك وأخبره بما قال يوسف، دعا الملك النسوةَ وإمرأة العزيز وقال لهن: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} أي: ما شأنكن وما قصتكن {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} أي: معاذ لله {مَا عَلِمْنَا عَلَيهِ مِن سُوءٍ} أي: زنا، وإنما امرأة العزيز أخبرتنا بأنها راودته. فإن قيل: إنما راودته امرأة العزيز، فكيف قال: "إذ راودتنَّ"؟ فالجواب: لما وافقْنَها في قولهن ليوسف: أَطِعْ سيدتك، صار كأنهنَّ راودنه جميعًا. {قَالتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي: ظهر وتبين وبان الصحيح من الكذب {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] في قوله: {قَال هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] فقال يوسف {ذَلِكَ} [يوسف: 52]، الَّذي فعلتُ من ردِّي الرسول إليه في شأن النسوة {لِيَعْلَمَ} العزيز قطفير {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيبِ} في زوجته في حال غيبته عني وخلوتي بها، قال ابن عباس: فقال له جبريل: ولا حينَ هممتَ بها؟ فقال يوسف: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53]. وقال مقاتل: اتصل قول يوسف {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} بقول المرأة {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] الذين يخونون مواليهم في نسائهم. ومعنى {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} أي: بالفاحشة {إلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53] فلما ظهر للملك عذر يوسف وعرف أمانته وفضله قال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: 54] لأنه كان قد بلغه حديث زليخا. فلما ظهر برهانه زال ما كان في نفسه، وهذا من معجزات يوسف - عليه السلام -. قال مقاتل: ولما جاءه الرسول قال له: أجب الملك، قال: سمعًا وطاعة، أما الآن فنعم. ثم دعا لأهل السجن وبكى وبكوا لفراقه لأنه كان محسنًا إليهم، ووقف على باب السجن ودعا لهم فقال: اللهم اعطفْ عليهم قلوبَ الأخيار ولا تعمِّ عليهم الأخبار. قال وهب: فهم أعلم الناس بأخبار الدنيا، ثم كتب على باب السجن: هذا قبر الأحياء، وبيت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء (¬1). ثم دخل على الملك ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 128.

فسلَّم عليه بالعربية فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان عمِّي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية، فقال الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي. قال وهب: وكان الملك يتكلم بسبعين لسانًا، فكلما كلّم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأعجب الملكَ ما رأى منه، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة وازداد به عجبًا، ورأى حسنه وجماله فدهش، وقربه وأكرمه، وقال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَينَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] ثم قال له: أحبُّ أن أسمع رؤياي منك شفاهًا، قال: نعم أيها الملك، رأيتَ سبع بقرات سمان شهب غرِّ حسان كشف لك عنهن النيلُ، فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهن لبنًا ويعجبك حسنهن، إذ نضب النيل وغار ماؤُهُ، فخرج من حمأته ووحله سبعُ بقراتٍ عجاف شُعْث غُبر مقلَّصات البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف ولهن أنياب وأضراس وخراطيم كالكلاب والسباع، فافترسن السمانَ فأكلنهن ومزَّقن جلودهن، فبينما أنت تعجبُ إذا بسبع سنابلَ خضرٍ وسبع أُخر سود، فعجبتَ وقلت: المنبَتُ واحد، فبينما أنت تقول في نفسك ذلك إذ هبتْ ريحٌ فذرتِ اليابسات على الخُضْرِ اليانعات وأشعلتْ فيهن نارًا فأحرقتهن، قال: صدقت فما تعبير هذه الرؤيا؟ قال: أرى أن تجمع الطعام وتزرعَ مهما قدرت عليه في هذه السنين المخصبات، وتجعلَ الطعام في الأهراء (¬1) بحاله في سنبله وقصبه، ليكون علفًا للدواب ويحفظَ الطعام من التغيّر، وإن الناس يشترون منك في الأعوام المجدبة بمالٍ لا تسعه خزائنك، فقال: ومن لي بهذا ومن يكفيني أمره فقال يوسف: أنا، فحينئذ قال: {قَال اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] أي: كاتب حاسب حافظ لأمانتي (¬2). فإن قيل: قد وصف نفسه بالأمانة والحفظ، وكان ينبغي أن يصفه غيره، فالجواب: إنه عَلِمَ بسنيِّ المجاعة والقحط، فخاف أن يتولَّى أمرَ الناس من يضيعهم، فسأل ذلك لأنه مؤيدٌ بالوحي، وقد قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]. فتوقف الملك سنةً، ويوسف عنده في قصره. ¬

_ (¬1) بيوت معدَّة لحفظ الطعام. (¬2) "عرائس المجالس" 129، وتفسير الثعلبي 5/ 225 - 226.

وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ الله أخِي يُوسفَ لو لم يقُلْ {قَال اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} لاستَعمَلَه من ساعتِه، ولكنَّه أخَّره سنة" (¬1). وحكى الثعلبي عن [ابن] أبي الهذيل قال: أقام يوسف عند الملك، فقال له الملك: أريد أن تخالطني في كل شيء سوى أني آنف أن تأكل معي. فقال يوسف: إني أحق أن آنف، أنا ابن يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله، فكان يأكل بعد ذلك معه (¬2). وروى مقاتل: أن عمر بن الخطاب عرض على أبي هريرة الإمارة فامتنع، وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ طَلَبَ الإمارَةَ لم يَعدِلْ فيها" فقال له عمر: قد طلب الإمارة من هو خير منك يوسف - عليه السلام - حيث قال: {قَال اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] (¬3). فإن قيل: فلمَ لمْ يستثن يوسف وقال: إني حفيظ عليم إن شاء الله؟ قلنا: خصَّ الله هذه الأمة بالاستثناء دون سائر الأمم، ولأن يوسف على ثقة من أمانته بخلاف الغير. ودلت الآية على أن الوالي ينبغي أنْ يكون جامعًا بين العلم والأمانة؛ لأنه متى كان علمٌ بغير أمانة ضاع ما يلزم حفظه، ومتى كانت أمانة بغير علم لم يحسنْ بالوالي أن يتصرف. وقال ابن عباس: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارةَ دعاه الملك فتوَّجه وردَّاه بسيفه، ووضع له سريرًا من ذهب مكلَّلٍ بالدُّر والياقوت، وضرب عليه كِلَّةً (¬4) من استبرق، وطول السرير ثلاثون ذراعًا وعرضه عشرة أذرع، وعليه ثلاثون فراشًا وستون ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 5/ 231، وعرائس المجالس 129 - 130. (¬2) تفسير الثعلبي 5/ 232، وعرائس المجالس 130، وأخرجه الطبرني 16/ 147، 148، وابن أبي حاتم 7/ 2159، وما بين معكوفين من المصادر. (¬3) تفسير الثعلبي 5/ 232، وأخرج أبو نعيم في "الحلية" 10/ 25، والذهبي في "السير" 12/ 94 من حديث عمر بن الخطاب قال: "من حرص على الإمارة لم يعدل فيها". (¬4) الكِلَّةُ: الستر الرقيق.

مِقْرَمَة (¬1)، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوَّجًا ووجهه كالقمر يرى فيه الناظر وجهه من صفائه، ودخل قطفيرُ بيته، وفوَّض إليه الملك وعزل قطفير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، ثم لم يلبث قطفير أن مات، فزوج الملك يوسفَ راعيلَ امرأةَ قطفير فلما دخل بها قال لها: أليس هذا خيرًا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصدِّيق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في دنيا واسعة، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنتَ كما جعلك الله في حسنك وجمالك، فغلبتني نفسي. ولما دخل بها وجدها بكرًا، فولدت له رجلين أفرائيم وميشا، وولد لأفرائيم نون وولد لنون يوشَع، وولد لميشا موسى نبي آخر قبل موسى بن عمران. قال ابن قتيبة: ويزعم أهلُ التوراة أنَّه هو الَّذي رأى الخضرَ - عليه السلام - (¬2). وقد روي أن يوسف تزوج امرأة العزيز بعد مدة من ملكه وسنذكره. وقال ابن الكلبي: واستوسق ليوسفَ ملك مصر، وأقام فيهم العدل وأحبه الرجال والنساء، فذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أي: ملكناه {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56] أي: الصابرين على مثل ما أصاب يوسف وصبر عليه في الجب والسجن والرق وغيره. وقد أكثر الشعراء في قصته فقال البحتري (¬3): أَمَا في رسولِ اللهِ يوسفَ أُسوةً ... لِمِثْلِكَ مَحْبُوسًا على الظُّلْمِ والإفْكِ أقامَ جميلَ الصبر في الحبْسِ بُرْهَةٌ ... فآل به الصَّبرُ الجميلُ إلى المُلْكِ ويوسف أوَّل من عمل الكاغد (¬4). وأمر الناس فزرعوا، وترك الزرع في سنبله في السنين المخصبة، ودخلت السنون المجدبة وكان يوسف قد دعا الملك إلى الإسلام فأسلم هو وأهل بيته، فهذا في الدنيا ¬

_ (¬1) في تفسير الثعلبي 5/ 232: مرفقة، وفي "عرائس المجالس" 130 - 131: نمرقة، وكلها بمعنى مَحْشيِّ الفراش وما يوضع عليه من ثياب ملونة فيها رقم ونقوش. (¬2) "المعارف" ص 41. (¬3) "ديوان البحتري" 3/ 1564، وعرائس المجالس 135. (¬4) الكاغد: القرطاس.

{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 57] أي: ثواب الآخرة. وقال ابن الكلبي: جاع الناس واشتدَّ الأمر، وجاء هولٌ لم يُعْهَدْ مثله، ولما كان ابتداء القحط، بينما الملك ذات ليلةٍ نائم استيقظ وقد أصابه جوعٌ شديد فصاح: يا يوسف الجوع، فقال يوسف: هذا أوان القحط. ودخلت السنة الأولى، باعهم يوسف الطعام بالنقود حتَّى لم يبقَ عندهم درهم ولا دينار حتَّى قبضه، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتَّى لم يبق في أيدي الناس منها شيء، ثم باعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب حتَّى احتوى على الجميع، ثم باعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء بأسرهم، ثم باعهم في السنة الخامسة بالعقار والضياع والدور حتَّى احتوى على الجميع، ثم باعهم في السنة السادسة بأولادهم حتَّى استرقهم، ثم باعهم في السنة السابعة برقابهم حتَّى صار جميع من بمصر عبيدًا له. فقال الناس: تالله ما رأينا كاليوم ملكًا أجلَّ ولا أعظم من هذا (¬1). وقال وهب: مدَّ السيل بمصْرَ فحسر عن غارٍ في أصل جبل المُقَطَّم، فأبدى عن بيتٍ عليه مصراعان، ففتحوهما فإذا ببَهْو فيه سرير من ذهبِ، وعليه امرأةٌ عليها سبع عقود وسبع أساور، وعند رأسها لوحٌ من ذهب فيه مكتوب: أنا شادةُ الملكة بنتُ الملكِ الفلاني أصابتنا مجاعةٌ في زمن يوسف فبذلت صاعًا من درٍّ في صاع من برّ فلم يوجد، فطحنت الدرَّ وأكلته فمتُّ جوعًا. ثم قال يوسف للملك: كيف رأيت الله خوَّلني، أو كيف رأيت صُنْعَ الله فيما خولني؟ فماذا ترى؟ فقال: نحن لك تبع، قال: فإني أُشهد الله وأُشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددتُ عليهم أموالهم وأملاكهم. وروي: أن يوسف كان لا يشبعُ في تلك الأيام من طعام، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن مصر؟ فقال: أخاف إن شبعت نسيت الجياع. وأمرَ خبازَ الملكِ وطباخَه وساقيه أن يجعلوا طعامَهُ نصفَ النهار، فلذلك جعل الملوكُ طعامهم نصف النهار، وما فعل ذلك إلا لئلا ينسى المَلِكُ الجياع. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 130 - 131.

ذكر دخول إخوة يوسف لطلب الميرة وما جرى لهم معه

وقال ابن الكلبي. واشتغل يوسف عن زليخا فانحنت وعميت وغيَّرها الزمان. ذكر دخول إخوة يوسف لطلب الميرة وما جرى لهم معه قال علماء السير: ولما وقع القحط بمصر عمَّ ذلك الشام وغيره، فقصد الناسُ مصرَ من كل ناحية يمتارون، ونزل بيعقوب ما نزل بالناس، وكان يوسف لا يمكِّن أحدَّا مَن حمله الطعام إلى الشام سوى حمل بعير واحدٍ، تقسيطًا بين الناس وتوسعةً عليهم، فأرسل يعقوب بنيه العشرة، وكان منزلهم بالعَرَبات من أرض فلسطين بغَور الشام، وكانوا أهل بادية وإبل وشاء، وأمسك بنيامينَ عنده، فلما دخلوا عليه عرفهم يوسف وهم له منكرون (¬1). فإن قيل: فلمَ أنكروه؟ فالجواب من وجوه: أحدها: ما ذكره ابن عباس قال؛ كان بين أن القوه في الجب وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة، فلذلك أنكروه. والثاني: لأنه كان متزييًا بزيّ فرعون مصر، عليه ثياب الحرير، جالسًا على سرير من ذهب، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج من الذهب مرصع بالجواهر، فلذلك أنكروه، قاله مقاتل. والثالث: أنَّه كان بينه وبينهم ستر، قاله مجاهد. والرابع: كان على وجهه برقع من اللؤلؤ، قاله الضحاك. والخامس: لأنهم جنوا عليه، والجناية تورث النُّكْرة، والوفاء يورث المعرفة، ولما أرادَ الله من إنفاذ قضائه وقدره (¬2). فلما نظر إليهم يوسف كلَّموه بالعبرية فقال: من أنتم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: نحن قوم رعاة من الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال: لعلكم عيونٌ جئتم تنظرون عورةَ بلادي، قالوا: لا والله ما نحن بجواسيس، وإنما نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 131. (¬2) انظر "عرائس المجالس" 131، وتفسيره 5/ 233، وزاد المسير 4/ 247.

صدِّيق يقال له: يعقوب، نبيٌّ من أنبياء الله، قال: فكم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر، فذهبَ أخٌ لنا مَعَنا إلى البرية فهلك فيها، وكان أحبَّنا إلى أبينا، قال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة، قال: فأين الآخر قالوا: عند أبينا لأنه أخو الَّذي هلك من أُمِّه، فأبونا يتسلَّى به، قال: فمن يعلم أنَّ الَّذي تقولون حق؟ قالوا: أيها الملك إنا ببلاد لا نعرفُ بها أحدًا ولا يعرفنا أحدٌ. قال يوسف: فأتوني بأخيكم الَّذي من أبيكم إن كنتم صادقين، فأنا أرضى بذلك. قالوا: إن أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه وإنا لفاعلون. فقال: دعوا بعضكم عندي رهينة حتَّى تأتوني بأخيكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون (¬1)، وكان أبرَّهم بيوسف وأحسنهم رأيًا فيه، فخلَّفوه عنده فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} يعني حمل لكل واحد بعيرًا بعددهم قَال {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} يعني بنيامين {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيلَ} أي: لا أبخسُ الناس شيئًا وأتمُّ لهم كيلهم وأزيدهم حملَ بعير يعني آخر لأخيكم، وأحسن إليكم {وَأَنَا خَيرُ الْمُنْزِلِينَ} [يوسف: 59] {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} [يوسف: 60] أي: لا تقربوا بلادي {قَالُوا سَنُرَاودُ عَنْهُ أَبَاهُ} أي: نخدعه حتى يرسله معنا {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف: 61] ما أمرتنا به. وروي عن ابن عباس أنَّه قال: لم يأخذ منهم رهينة في المرة الأولى، بل ترك بضاعتهم في رحالهم. ثم قال يوسف "لفتيته (¬2) "، أي: لغلمانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} وفِتْيَته هم الذين يكيلون الطعام، والبضاعةُ هنا ثمن طعامهم. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: كانت بضاعتهم النعال والأدم والرحال والأوعية. وقيل: كانت دراهم فوضعوا كل صُرَّةٍ في حِمْل ولم يعلم بها صاحبها {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] إليَّ. فإن قيل: فلم فعل ذلك؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّه خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به إليه مرةً أخرى، قاله ¬

_ (¬1) لعل الصواب: "يهوذا" فهو كان أبرّهم بيوسف كما تقدم في الصفحة 478، وسيرد في الصفحة 514 أنَّه هو الَّذي كان محتبسًا بمصر. (¬2) كذا في النسختين (ب) و (ل). وهذه قراءة أبي عمرو وابن كثير وابن عامر ونافع وأبي جعفر المدني ويعقوب. وقرأ حفص وخلف والكسائي وحمزة: لفتيانه، بنون بعد الألف، انظر التيسير 129، والنشر 2/ 295.

ابن الكلبي. والثاني: خشي أن يضرَّ أخذه منهم ذلك بأبيهم إذ كانت السنةُ سنةَ جدب وقحط فأحبَّ أن ترجع إليه، وإنما قصد أن يتسع بها أبوه. والثالث: لأنه رأى [لؤمًا] (¬1) أَخْذَ ثمن الطعام من إخوته وأبيه مع حاجتهم إليه، فردَّه عليهم من حيث لا يعلمون تكرّمًا وتفضُّلًا. والرابع: لأنه علم أَن أمانتهم تحملهم على ردِّ البضاعة، وأنهم لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها، وطمعًا في كرمه. والخامس: أنَّه قصد أنهم إذا رأوها لم يروا أخذها مع الطعام لاحتمال أن كيَّال الطعام نسيها فيرجعون إليه، لا لأنهم أَدَّوْا الأمانة، لأن خيانتهم قد ظهرت في حق يوسف، وإنما يرجعون بها لئلا يراهم الملك بعين الخيانة، فلا يمكِّنهم من دخول مصر، فيموتون جوعًا. فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامةً لو كان رجلًا من ولد يعقوب لما أكرمنا كرامته، فقال لهم يعقوب: إذا أتيتم ملك مصر فأقرئوه مني السلام وقولوا له: إن أبانا يصلِّي عليك ويدعو لك بما أوليتنا. ثم قال: أين شمعون؟ قالوا: أخذه الملك رهينةً، وقصوا عليه القصة، قال: ولمَ أخبرتموه؟ قالوا: لأنَّا كلَّمناه بالعبرية فقال: أنتم جواسيس. {قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} بَنْيامِين {نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 63] فقال يعقوب: {قَال هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيهِ إلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} يوسف {مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]. قوله تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَينَا} ومعناه: وأي شيء نطلب وراء هذا؟ أَوْفى لنا الكيل وردَّ علينا الثمن، وأرادوا بذلك أن يطيِّبوا نفسَ أبيهم كأنهم قالوا: ما نريد منك دراهم {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَينَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي: نشتري لهم الطعام فنحمله إليهم، يقال: ¬

_ (¬1) ما بين معقوفين من عرائس المجالس 32، وتفسير البغوي 2/ 435، و"زاد المسير" 4/ 249 - 250.

مَارَ أهلَه يميرُهم مَيرًا {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بنيامين {وَنَزْدَادُ كَيلَ بَعِيرٍ} أي: من أجله {ذَلِكَ كَيلٌ يَسِيرٌ} [يوسف: 65] لا كلفةَ فيه ولا مشقة. وحكى الثعلبي عن مجاهد في قوله تعالى: {حِمْلُ بَعِيرٍ} أي: حمل حمار، قال: وهي لغة، يقال للحمار: بعير، ولم يكن بأرض كنعان جمال وإنما كانت الحمير. فقال: {قَال لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} أي: ميثاقًا {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: حتَّى تحلفوا لي أن لا تغدروا بأخيكم {إلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} فتهلكوا جميعًا، وقال قتادة: إلا أن تُغلبوا حتَّى لا تطيقوا ذلك {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أي: أعطوه عهودهم {قَال اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66] أي: شاهد وحافظ بالوفاء، وقيل: كفيل، ولما خرجوا من عنده قال لهم: {لَا تَدْخُلُوا} مصر {مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}. فإن قيل: فالدخول من باب واحد أكثر في الهيبة، فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّه خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي جمالٍ وهيبة وصورٍ حسان وقاماتٍ ممتدة، وكانوا ولد رجل واحد، فأمرهم أن يتفرقوا عند دخولها لئلا تصيبهم العين. والثاني: أن معناه: لا تسألوا الملك حاجةً واحدة بأجمعكم، بل كل واحد يسأله حاجة. والثالث: تفرقوا لعلكم تظفرون بيوسف، ثم قال: {وَمَا أُغْنِى عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيءٍ} ومعناه: أن المقدور كائن، وأن الحذر لا ينفع من القدر {إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67] أي: المفوِّضون. قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} وكان لمصر أربعة أبواب، فدخلوها من أبوابها كلِّها {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيءٍ} أي: من قَدَره {إلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} والحاجة: هي شفقتُه عليهم من العين {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} يعني يعقوب {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68]. فإن قيل: فكيف جاز ليوسف أن يفرِّقَ بين يعقوب وبين بنيامين، مع علمه بما في قلب أبيه من الحزن عليه وأنه يتسلَّى به.

فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّه قصد تنبيه يعقوب بذلك على حياة يوسف. والثاني: أنَّه قصد سرور يعقوب بردِّ يوسف وأخيه عليه جملة. والثالث: أن هذه التفرقة تكون سببًا للوصلة. ولما دخلوا على يوسف ومعهم بنيامين قال لهم: أهلًا وسهلًا بكم، وأكرم مثواهم وقال: سوف أفعل معكم ما ترون. وقال ابن الكلبي: لما دخلوا عليه قالوا: هذا أخونا الَّذي أمرتنا أن نأتيك به، فأجلس كل اثنين منهم على مائدة، وبقي بنيامين وحده يبكي ويقول: لو كان أخي يوسف حيًّا لأجلسني معه. فقال يوسف: قد بقي أخوكم هذا وحيدًا، فأَجْلَسه معه على مائدته وأكل معه، ثم فرش لكلِّ اثنين فراشًا، وفرش لبنيامين فراشًا فبكى فقال: نم معي على الفراش، فنام فجعل يضمه إليه ويشم ريحه ويبكي، فلما أصبح أنزلهم منزلًا وأحسن ضيافتهم، وقال: أرى هذا الرَّجُل الَّذي أتيتم به ليس معه ثانٍ، فسأضمُّه إليَّ فيكون منزله عندي. وخلا بأخيه فقال: ما اسمك؟ فقال: بنيامين، وقال: وأمك؟ فقال: راحيل، قال: فهل لك أخ؟ قال: كان وهَلَك، فقال يوسف: أتحبُّ أن أكون أخاك؟ فقال: من لي بذلك، ولكن لم يلدك يعقوب وراحيل، فبكى يوسف وقال: إني أنا أخوك وقام واعتنقه (¬1). فذلك معنى قوله: {آوَى إِلَيهِ أَخَاهُ} ثم قال له: اكتم هذا عن القوم {فَلَا تَئتَبِسْ} أي: لا تحزن {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69] بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا. وقال عبد الصمد بن مَعْقِل، سمعت وهب بن منبه، وقد سئل عن قول يوسف لأخيه: {إِنِّي أَنَا أَخُوْكَ} فكيف أخافه حين أُخِذَ بالصُّواع، وقد زعمتم أن يوسف لم يزل متنكرًا لهم إلى آخر الأمر؟ فقال وهب: لم يعترف له بالنسبة، ولكنه قال: أنا أخوك مكانَ أخيك الهالك، ولم يقل له: أنا يوسف على الفور. ثم طلب إخوة يوسف منه الكيل فأمر بذلك، ثم أمر بالسقاية أنْ تُجعلَ في رَحلِ بَنْيامِين. والسقاية: المشربة التي يشرب بها الملك، وكانت من ذهب مرصعة بالجواهر، ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 133.

وقيل: كانت من فضة، جعلها يوسف مكيالًا لئلا يُكال بغيرها. وقال ابن عباس: كان لأبي في الجاهلية مثلها وهي والصواع واحدٌ. وقال السُّدي: جُعلت في رحْل بنيامين ولم يشعر. وقال كعب: لما قال له {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} قال بنيامين: فأنا لا أفارقك، قال يوسف: قد علمتَ اغتمام والدي بي، ومتى حبستك ازداد غمه فلا يمكنِّي هذا إلا بعد أن أنسبك إلى أمر فظيع لا يليق (¬1) بك، فقال: افعل ما بدا لك فإني لا أفارقك. قال: فإني أَدُسُّ صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بالسرقة، قال: افعل، فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي: هيَّأ لهم أسباب الميرة {جَعَلَ الْسِقَايَةَ في رَحْلِ أَخِيهِ} بنيامين ثم ارتحلوا مرحلة، وأرسل يوسف مَن رَدَّهم وحبسهم {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِنٌ} أي: نادى منادٍ {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} وهي القافلة التي فيها الجمال، قال الفراء: لا يقال: عير إلا لأصحاب الإبل، وقال مجاهد: كانت العير حميرًا {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] ثم قالوا لهم: ألَم نكرمْ مثواكم ونوفِّكم الكيلَ ونحسنْ إليكم؟ قالوا: فما الَّذي بكم؟ {وَأَقْبَلُوا عَلَيهِمْ} أي: عطفوا على المؤذِّن وأصحابه وقالوا: {مَاذَا تَفْقِدُونَ}؟ {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} وقرأ أبو هريرة: "صاع الملك" {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] أي: كفيل. {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} ومعناه: والله {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73]، ولما دخلنا بلادكم كَعَمْنا (¬2) أفواهَ الإبل لئلَّا ترعى ما ليس لها، فكيف نسرق وقد رددنا عليكم الدراهم؟ فلو كنا سارقين ما رددناها. فإن قيل: فكيف سمَّاهم يوسف سارقين وما سرقوا؟ فالجواب: إنه من قول المنادي، ولو كان من قول يوسف فقد سرقوه. {قَالُوا} يعني المنادي وأصحابه {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] وهو أن يسلَّم إلى المسروق منه فيسترقَّه سنةً، وكان ذلك سنَّةَ آلِ يعقوب في حكم السارق. فقال المنادي: لا بد من ¬

_ (¬1) من هنا بدأ خرم في (ب) ينتهي بعد ثلاث صفحات. (¬2) كعم البعير: شدَّ فاه لئلا يعض أو يأكل.

تفتيش رحالكم. وانصرف بهم إلى يوسف {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وعَاءِ أَخِيهِ} دفعًا للتهمة، وكان يفتش أمتعتهم واحدًا واحدًا (¬1). قال قتادة: ذكر لنا أنَّه كان لا يفتش ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثمًا مما قذفهم به (¬2). حتَّى إذا لم يبقَ إلا بنيامين قال: ما أظنُّ هذا أخذ شيئًا، فقال إخوته: والله لا يُتْرَكُ حتَّى يُنْظَر في رحله، فإنه أطيبُ لنفسك ولنفوسنا، ففتحوا متاعه واستخرجوه منه، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ استَخرَجَهَا مِن وعَاءِ أَخِيهِ} وإنما قال: "استخرجها"، لأن الصاعَ يذكَّر ويؤَنَّث، وقيل: ردَّه إلى السقاية، وقيل: إلى السرقة. واختلفوا في معنى قوله {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} قال مجاهد: يعني كما فعلوا به في الابتداء فعلنا بهم في الانتهاء، لأن الله تعالى أخبر عن يعقوب أنَّه قال: {فَيَكِيدُوأ لَكَ كَيدًا} والكيد جزاء الكيد. وقال ابن عباس: معناه "كذلك كِدْنا ليوسف" أي: الهمناه وصنعنا له حتَّى ضمَّ أخاه إلى نفسه وحال بينه وبين إخوته بعلَّة كادها الله له، فاعتلَّ بها يوسف {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} ولضمَّه إلى نفسه {فِي دِينِ المَلِكِ} أي: في حكمه وقضائه، وبه قال قتادة. وقال الضحاك: إن يوسف لم يتمكن من أخذ أخيه بَنْيامين وحبسه عنده في دين الملك، أي: في حكمه، لولا ما تلطفنا له حتَّى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما أجري على لسان إخوة يوسف أنَّ جزاءَ السارق الاسترقاق فأقرُّوا به وسلَّموا أخاهم، وكان ذلك مرادَ يوسف به. {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على درجة إخوته {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ} [يوسف: 76] قال الحسن: ما على ظهر الأرض عالم إلا وفوقه عالم حتَّى ينتهي العلم إلى الله تعالى. وقال وهب: ولما أخرج الصُّواع من رحل أخيه نكَّسَ إخوتُه رؤوسهم من الحياءِ وأقبلوا على بنيامين وقالوا: يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذتَ هذا ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 134. (¬2) "عرائس المجالس" 135.

الصُّواع؟ فقال بنيامين: بل بنو راحيل لا يزال بهم منكم البلاء، ذهبتم بأخي فاهلكتموه في البرية، وضَعَ الصُّواع في رحلي الَّذي وضع الدراهم في رحلكم. ثم قالوا ليوسف: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77] واختلفوا في ذلك على أقوال: أحدها: أن يوسف أخذ صنمًا كان لجده أبي أمه فكسره والقاه في الطريق، قاله سعيد بن جبير وقتادة. والثاني: إن أمَّه أمَرته أن يسرق صنمًا لخاله كان يعبده، وكانت مسلمة، قاله ابن جريج. والثالث: أنَّه جلس يومًا مع إخوته على طعام فأخذ يوسف عرقًا فخبَّأه فعيَّروه، قاله الربيع. والرابع: أن سائلًا جاءه فسرق بيضةً من البيت فدفعها إليه فعيَّروه بها. والخامس: إنما كانت دجاجة دفعها إلى السائل، قاله سفيان بن عيينة. والسادس: أنَّه سرق عَنَاقًا فدفعها إلى السائل، قاله كعب. والسابع: أنَّه كان يخبأ من المائدة طعامًا للفقراء، قاله وهب. والثامن: أنَّه كان مع أبيه عند خاله لابان فأخذ تمثالًا صغيرًا من ذهب، قاله زيد بن أسلم. والتاسع: أن أول ما دخل من البلاء على يوسف أن أمه لما وضعته رفعه يعقوب إلى أخته بنت إسحاق فأقام عندها حتَّى ترعرع وأحبته حبًّا شديدًا، فطلبه يعقوب منها فقالت: لا صبر لي عنه فَدَعْهُ عندي أيامًا، وعمدت إلى منطقة كانت لإسحاق يتوارثونها بالكبر، وكانت أكبر ولد إسحاق، فشدَّتها على وسطه تحت ثيابه، وكان من سنَّتهم أنَّ السارقَ يُسْتَرقُّ بسرقته، فلما جاء يعقوب يطلبه قالت: فقدتُ المنطقةَ، ثم وضعت مَنْ كَشَفَ ثيابَ يوسف فظهرت المنطقة، فأخذته، فلم يقدرْ عليه يعقوبُ حتَّى ماتت أخته، قاله ابن عباس وابن أبي نجيح والضحاك ومجاهد (¬1). وهذا المثل السائر: ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 135.

عُذْرُه شرٌّ من جُرمه، كذا قولُ إخوة يوسف: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}. وقال مقاتل: أقبلوا يلطمون وجه بنيامين وهو يقول: وشيبةِ إبراهيم ما سرقتُ، ويبكي، وإنما قال ذلك ليقصروا عن ضربه ومعيرته {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} أي: أضمرها {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} ومعنى أسرَّها إشارة إلى المقالة فأنَّثَ للكناية و {قَال أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} أي: شر منزلًا عند الله ممن رميتموه بالسرقة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] أي: تكذبون. قال مقاتل: ثم إن يوسف أخذ الصواع بيده فنقره (¬1) ثم أدناه إلى أذنه وقال: هذا الصُّواع يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلًا وأنكم انطلقتم بأخٍ لكم صغير فألقيتموه في جبٍّ ثم بعتموه، فقام بنيامين وسجد له وقال: أيها الملك سَلْ صواعك هل أخي حيٌّ أم لا؟ فنقره فقال: هو حيٌّ وسوف تراه (¬2). فإن قيل: فالصواع لا ينطق، قلنا: هذا على سبيل المجاز والتوسعة، فقال بنيامين: أيها الملك سَلْ صُواعك فيخبرك بالحق مَن الَّذي سرقه وجعله في رحلي؟ فنقره وقال: إن صواعي غضبان يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيتَ مع مَنْ كُنْتُ؟ وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، فغضب روبيل وقال: والله أيها الملك لتَتْرُكَنَّا أو لأصيحنَّ صيحة لا يبقى بمِصْر امرأةٌ حاملٌ إلا وأَلقتْ ما في بطنها، وقامت كلُّ شعرةٍ في جسده فخرجتْ من ثيابه، وكان بنو يعقوب إذا غضب منهم واحد فمسَّه آخر من ولد يعقوب ذهب غضبه فقال يوسف لابنه: قم إليه فَمُسَّهُ، ففعل، فذهب غضبه، فقال روبيل: إن في هذا البلد لبذرًا من بذر يعقوب. فلما أصرَّ يوسف على أنه لا يسلِّم إليهم أخاهم {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78] في أفعالك وقبولك لنا. فإن قيل: فما معنى هذا الإحسان وقد فعل بهم ما فعل؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن معناه من المحسنين إن أطلقتَ أخانا. والثاني: بإنزالك إيَّانا وإكرامنا وعدم المؤاخذة بما قلنا. ¬

_ (¬1) هنا ينتهي الخرم في (ب) الَّذي أشير إليه قرب. (¬2) انظر "عرائس المجالس" 135.

{قَال مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} ولم يقل: مَنْ سرق احترازًا من الكذب {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف: 79] إنْ أخذنا بريئًا بسقيم. {فَلَمَّا اسْتَيأَسُوا مِنْهُ} [يوسف: 80] أي: يئسوا أن يجيبهم إلى ما سألوا {خَلَصُوا نَجِيًّا} أي: خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم {قَال كَبِيرُهُمْ} واختلفوا فيه، قال ابن عباس: رُوبيل، وقال مجاهد: شمعون، وقال مقاتل: يَهُوذا، وكان أسنهم وأعقلهم، وقال ابن إسحاق: لاوي {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيكُمْ مَوْثِقًا} أي: عهدًا {مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} أي: قصَّرتم {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} أي: بأرض مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} بالخروج منها {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بالخروج منها وترك أخي فيها {وَهُوَ خَيرُ الْحَاكِمِينَ} يوسف: 80] الفاصلين بين الناس. قوله تعالى: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} هذا قولُ أخيهم يَهوذا الَّذي كان محتبسًا بمصر {فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} صُواع الملك {وَمَا شَهِدْنَا إلا بِمَا عَلِمْنَا} وليست هذه شهادة، وإنما هي إخبار عن ما نُسب إلى بنيامين من السرقة {وَمَا كُنَّا لِلْغَيبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] أي: ما كنا نعلم أنَّ ابنك سيسرق، ولو علمنا ما أخذناه معنا. وقال الضحاك: الغيب بلغة حمير هو الليلُ، يعنون أنَّه سرق ليلًا وهم نيام. {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} وهي مصر {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي: القافلة، ومن صحبناه من جيراننا، وكل هذا قالوه ليزيلوا التهمة عنهم. فلما وصلوا إلى أبيهم وأخبروه {قَال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمّرًا فَصَبْرٌ جَمَيلٌ} أي: حَسَّنَتْ وزيَّنت، ومعناه فصبري جميلٌ {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} يعني يُوسف وبَنْيامين وأخاهما المقيم بمصر {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بحزني على فقدهم {الْحَكِيمُ} [يوسف: 83] فيما حكم علي {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي: أعرض {وَقَال يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} والأسف أشد الحزن {وَابْيَضَّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} قال مقاتل: أقام ست سنين لم يبصر بهما {فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84] والكظيم: المكظوم الممسك على الحزن الَّذي لا ينتهي عنه، ومنه كظم الغيظ. وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لَم يُعْطِ الله أمَّةً مِنَ الأممِ" {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّ إِليهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] عند المُصيبَةِ

إلَّا هذِه الأمةَ، ألَم تَسمَعْ إلى قولِ يعقوبَ حينَ أصابَه ما أصابَه، فإنَّه لم يَسترجِعْ، وإنَّما قال: {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] (¬1). وقال الفرّاء: معناه يا ربِّ ارحمْ شدةَ أسفي على يوسف. وقال الحسن البصري: بين خروج يوسف من حجر أبيه وبين أن التقيا ثمانون عامًا لم تجفَّ فيها عينا يعقوب، وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وفي رواية: مات أخو الحسن البصري فأقام سنة لا ينام الليل، فقيل له في ذلك فقال: الحمد لله الَّذي لم يجعل حزن يعقوبَ على ولده عارًا. فإن قيل: فقوله: {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} لا يوافق فصبرٌ جميل، قلنا: قد ذكرنا أن معناه يا ربِّ ارحم شدَّة أسفي على يوسف فلا يكون شكاية. وقال أبو حنيفة بن النُّوبي: لما قال: {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} نودي: أتشكونا وقد أخذنا منك واحدًا وأبقينا أحد عشر؟ {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تزال {حَتَّى تَكُوْنَ حَرَضًا} أي: دَنَفًا، وقيل: هالكًا فاسدًا {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85] أي: الموتى. فلما أغلظوا له {قَال إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} لا إليكم، والبث: أشدُّ الحزن، وقيل: إنما سمِّيَ البثُّ أشدَّ الحزن لأن صاحبه لا يصبرُ عليه حتَّى يَبُثَّهُ، أي: يظهره. وحكى الثعلبي قال: دخل على يعقوب جار له فقال له: ما لي أراكَ قد انهشمت وفنيت، ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ فقال: همُّ يوسفَ فعل بي هكذا، فأوحى الله إليه، يا يعقوب، أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا ربِّ خطيئةٌ أخطأتها فاغفرها لي، قال: قد غفرتها لك، وكان بعد ذلك إذا سئل قال: {قَال إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}. وفي رواية: أن يعقوب كبر حتَّى سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بخرقة، فقال له رجل: ما الَّذي بلغ بك ما أرى؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله ¬

_ (¬1) "عرائس المجالس" 137، وتفسير الثعلبي 5/ 247، وأخرجه الطبري 3/ 224، والبيهقي في شعب الإيمان (9242) من قول سعيد بن جبير، قال البيهقي: رفعه بعض الضعفاء إلى ابن عباس ثم منه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

إليه، وذكره. وفي رواية: وعزَّتي لو كانا ميتين لأخرجتهما لك حتَّى تنظر إليهما، وإنما وجدت عليك لأنك ذبحت شاةً فقام ببابك مسكين فلم تطعمه منها شيئًا، وإن أحبَّ خلقي إليَّ الأيتام ثم المساكين، فاصنع طعامًا وادعُ إليه المساكين، فصنع طعامًا وقال: من كان صائمًا فليفطر الليلة عند آل يعقوب. وذكر الثعلبي عن وهب قال: أوحى الله إلى يعقوب: أتدري لم عاقبتك وحبست يوسف عنك ثمانين سنة؟ قال: لا يا إلهي، قال: لأنك شويتَ عَنَاقًا وقتَّرتَ على جارك فلم تطعمه. وفي رواية: وقف على بابك سائلٌ اسمه دانيال فرددته خائبًا، فانصرف حزينًا. قال: وقال وهب والسُّدي وغيرهما (¬1): جاء جبريل - عليه السلام - إلى يوسف وهو في السِّجن فقال: هل تعرفني أيها الصدِّيق؟ قال: أرى صورةً طاهرةً وريحًا طيبة، قال: أنا الروح الأمين، رسولُ ربِّ العالمين، قال: فما الَّذي أدخلك مدخل المذنبين، وأنت أطيب الطيبين، ورأس المقربين، قال: ألم تعلم يا يوسف أن الله يطهر البيوت والأرضين بالنبيين وقد طهَّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين، قال: وكيف لي باسم الصدِّيقين، وأنا في عداد المذنبين، وقد دخلت مدخل العاصين؟ قال: لأنك لم تعصِ ربّك ولم تطع امرأة العزيز فلذلك ألحقك الله بآبائك الصالحين، قال: هل لك علمٌ بيعقوب؟ قال: نعم وهَب الله له الصبر الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم، قال: فما قدْر حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فما له من الأجر؟ قال: أجرُ مائةِ شهيد، قال: أفتراني لاقيه؟ قال: نعم؛ فطابت نفس يوسف وقال: ما أبالي ما لقيتُ إن رأيته. وقال مقاتل: أوحى الله إلى يعقوب أتدري لم عاقبتك؟ قال: لا، قال: لأنك ذبحتَ شاةً وهي تنظر إلى سخلتها، فعاقبتك بفراق ولدك لتذوقَ ألم الفراق. وقال أبو حنيفة النُّوبي: فأراه دمًا بدم، وفرقة بفرقة، وحرقة بحرقة، فقال: يا إلهي ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 5/ 249 - 250، و"عرائس المجالس" 137.

فولدي حيّ؟ قال: نعم وسوف تراه. فما ذبح بعدها شاة ولا أكل إلا مع مسكين أو يتيم. وقيل إنه مال إليه بقلبه فابتلي بفراقه. {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] قال ابن عباس: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأنكم ستسجدون له. وقال مجاهد: دخل ملك الموت على يعقوب فقال له: هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا، فطمع في لقائه. وقال مجاهد: خرج يعقوب إلى البرية فرأى ذئبًا فسلَّم عليه وكلَّمه فقال له يعقوب: أكلتم ولذي وقرةَ عيني، قال: لا والله يا يعقوب، إنَّ الله حرَّم علينا لحومَ أولاد الأنبياء، فحينئذ قال لبنيه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيأَسُوا} أي: تقنطوا {مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} أي: من فَرَجه ورحمته {إِنَّهُ لَا يَيأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] وقال ابن عباس: التحسس -بالحاء المهملة- في الخير، وبالجيم في الشرّ. {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيهِ} وفي الآية إضمار تقديره: فخرجوا راجعين إلى مصر فدخلوا على يوسف {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} أي: يا أيها الملك بلغة حمير {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} الجوع والقحط {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي: قليلة كاسدة غير نافقة. واختلفوا في هذه البضاعة ما كانت، على أقوال: أحدها: كانت دراهم زيوفًا لا تَنْفُقُ إلا بوضيعة (¬1)، قاله ابن عباس. والثاني: أنها متاع الأعراب الصوف، قاله باذان. والثالث: السمن. والرابع: حبّ الصنوبر وحبة الخضراء، قاله مقاتل. والخامس: كانت فلوسًا، قاله ابن جبير. والسادس: كانت أَقِطًا، قاله الحسن. والسابع: سَويق المُقْل (¬2). ¬

_ (¬1) يعني بنقصان. (¬2) طعام يتخذ من دقيق الشعير أو الحنطة.

والثامن: النعال والأدم، قاله الضحاك. {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيلَ} أي: أعطنا ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيد الوافي {وَتَصَدَّقْ عَلَينَا} أي: تفضَّل ولا تُنْقِصْنا من السعر، هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن جريج: معناه وتصدَّقْ علينا بردِّ أخينا {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88]. فإن قيل: فلمَ لمْ يقولوا: إن الله يجزيك؟ قلنا: لأنهم ما عرفوا أنَّه على الإسلام وظنوه كافرًا. وفي الآية دليلٌ على أن الصدقة كانت على الأنبياء وأولادهم حلالًا، قال سفيان الثوري (¬1): ودلَّ على ذلك هذه الآية، وإنما حرمت على نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -. وسمع الحسن رجلًا يقول: اللهم تصدَّقْ عليَّ فقال: يا هذا إنّ الله لا يتصدَّق، وإنما يتصدَّق من يبغي الثواب، وإنما قُلِ: اللهمَّ أعطني وتفضَّلْ عليَّ. {قَال هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} اختلفوا في السبب الَّذي حمل يوسف على هذا القول، على أقوال: أحدها: أنهم لما كلَّموه بهذا القول رقَّ لهم وغلبه دمعه فباح بما كان يكتم، قاله ابن إسحاق. والثاني: أنَّه حكى لهم عن مالك بن دُعر أنَّه قال: وجدت غلامًا في بئر فاشتريته بكذا وكذا درهمًا، فقالوا: أيها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه، فغاظ ذلك يوسف وأمر بقتلهم، فذهبوا بهم ليقتلوهم، فقال يهوذا: كان يعقوب يحزن ويبكي لفقد واحدٍ منَّا حتَّى كفَّ بصره، فكيف إذا بلغه قتل بنيه كلِّهم؟ ثم قال له يَهُوذا: إذا كان ولابدَّ من قتلنا فابعثْ بأمتعتنا إلى أبينا فهو بمكان كذا، فبكى حينئذ ورقَّ لهم، قاله الكلبي. والثالث: لأن يعقوب كتب إليه كتابًا يقولُ له فيه: مِن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، أما بعد: فإنَّا أهل بيت موكّل بنا البلاء، أما جدي فشدَّت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، وأما أبي فشدَّت يداه ورجلاه ووضعت السكين على حلقه، ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن ¬

_ (¬1) القول في تفسير الطبري 16/ 242، والثعلبي 5/ 252، وعرائس المجالس 139، وزاد المسير 4/ 279 وغيرها من كتب التفسير: عن ابن عيينة لا الثوري.

وكان أحبَّ أولادي إليَّ، فذهب به إخوته إلى البرية، ثم أتوني بقميصه ملطخًا بالدم وقالوا: أكله الذئب، فذهبت عيناي من البكاء عليه، وكان له أخ من أمه كُنْتُ أتسلَّى به، فذهبوا به وعادوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته. وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلدُ سارقًا، فإن رددته وإلّا دعَوتُ عليك دعوةً تبلغ السابعَ من ولدك. فلما قرأ يوسف كتابه لم يملك عينيه أن فاضتا، ثم قال لهم ذلك. قاله سعيد بن جبير. وروي أن يوسف كتب إلى أبيه: أما بعد فإنك ذكرتَ ما ابتلي به آباؤك، فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا، والسلام. والرابع: أن يوسف سأل بنيامين فقال: ألك ولد؟ قال: نعم ثلاثة بنين، قال: فما سميتهم؟ قال: سميت الأكبر يوسف، قال: ولمَ؟ قال: محبة لك، قال: فما سميت الثاني؟ قال: ذئبًا؟ قال: لم فعلت ذلك وهو سبع عقور؟ قال: لأَذْكُرَكَ به، قال: فما سَمَّيتَ الثالث؟ قال: دمًا، قال: ولم؟ قال: لأنهم جاؤوا على قميصك بالدَّم. فلما سمع يوسف هذه المقالة خنقته العبرة وقال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89] بما يؤول إليه أمره ونصره عليهم (¬1). وقيل: جاهلون مذنبون، لأن المذنب جاهل في وقت ذنبه، وقال الحسن: إذ أنتم شباب، لأن مظنة الجهل الشباب، وهذا أجود. فإن قيل: إنما أساؤوا إلى يوسف فلم قال: "وأخيه" ولم يسعوا في حبسه؟ فالجواب. إنهم لما فرَّقوا بينهما وهما من أمّ واحدة فقد أساؤوا إليهما. {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} كشف الحجاب عن وجهه فعرفوه، وقال ابن عباس: لما قال لهم: {هَل عَلِمْتُمْ} تبسَّم، وكان إذا تبسَّم كأن ثناياه اللؤلؤ المنظوم، فلما أبصروا ثناياه شبهوه بيوسف. وعن ابن عباس قال: لم يعرفوه حتَّى وضع التاج عن رأسه، وكان له في قرنه علامة، وليعقوب ولإسحاق ولسارة مثلها، وهي شبيهة الشامة، فقالوا {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَال أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} بنيامين {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَينَا} بأن جمع بيننا بعدما فرقتم أنتم {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ} الله بأداء فرائضه واجتناب ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 139.

محارمه {وَيَصْبِرُ} على الوقوع في الجبِّ والبيع والحبس {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] فقالوا مقرِّين معتذرين: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَينَا} أي: اختارك وفضلك بالعقل والعلم، والفضل والحلم، والحسن والملك {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] في صنعنا بك (¬1). وسئل ابن عباس فقيل له: كيف قالوا: {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} وقد كانوا تعمدوا ذلك؟ [فقال: ] معناه أخطؤوا الحق وإن تعمدوا، وكلُّ من أتى ذنبًا فقد أخطأ المنهاج. {قَال} يوسف وكان حليمًا موفقًا: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ الْيَوْمَ} أي: لا تعيير ولا تأنيب عليكم، ولا أذكر لكم ذنبًا بعد اليوم، ثم دعا لهم فقال: اليوم {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] قال ابن عباس: ولما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة أخذ بعضادتي باب الكعبة، وقد لاذ الناس بالبيت فقال: "ما تظنون أني فاعل بكم"؟ قالوا: نظن خيرًا، أخ كريم وابن أخٍ كريم وقد قدرتَ، قال: "وأنا أقول كما قال أخي يوسف لإخوته {لَا تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ} الآية". ثم قال: ما فعل الشيخ أبي بعدي؟ قالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه وقال: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} أي: مبصرًا {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93] فإن قيل: فمن أين علم يوسف ذلك؟ فالجواب: إن ذلك القميص كان من الجنّة، وقيل: كان القميص الَّذي كساه الله الخليلَ يوم النار، وقد ذكرناه. وقال مقاتل: قال له جبريل: ابعثْ به فإنه لا يقع على مبتلى إلا وعوفي. قوله تعالى: {لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} يعني من مصر إلى أرض كنعان {قَال أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} روى مجاهد أن الريح استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها فأتته به، قال مجاهد: وجد ريحَ يوسفَ من مسيرة ثلاثة أيام فوصل إلى يعقوب ذلك لأنها صفقت [القميص] فاحتملت ريح يوسف فوجد يعقوب ريح الجنّة، فعلم أنَّه ليس في الأرض من ريح الجنَّة إلا ما كان من ذلك القميص (¬2). وقال ابن عباس: وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام. وقال الحسن: كان ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 140. (¬2) انظر "عرائس المجالس" 140 وما بين معقوفين زيادة منه.

بينهما ثمانون فرسخًا. وعن ابن عباس: مثلُ ما بين البصرة والكوفة. فإن قيل: فلم قال: {رِيحَ يُوسُفَ} ولم يقل: ريح القميص؟ فالجواب: أن غرضه كان يوسف ولهذا لم يجد ريح القميص من كان عند يعقوب {لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} أي: تُجهّلون وتسفّهون رأي وتكذبون {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] أي: خطأك في حبِّ يوسف لا تنساه. قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} أي: المبشر، قال ابن عباس. وهو يهوذا بن يعقوب. قال السُّدي: قال يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطخًا بالدم إلى أبي فأخبرته أنَّه أكله الذئب، وأنا أذهب بالقميص فأبشره أنَّه حي فأفرحه كما أحزنته. وقال السُّدي عن ابن عباس: حمله يهوذا دونهم، وخرج حاسرًا حافيًا يعدو حتى أتاه، مَشَى ثمانين فرسخًا في سبعة أيام، ومعه سبعة أرغفة لم يستوفِ أكلها حتَّى وصلَ إليه {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} بعدما كان أعمى، وعاد قويًّا بعد أن كان ضعيفًا {قَال أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96] من حياة يوسف وأنَّ الله يجمع بيننا؟ فقالوا عند ذلك: {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] مذنبين {قَال} يعقوب {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}. فإن قيل: فلم أخَّر يعقوب الاستغفار بقوله: {سَوْفَ}؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّه أخَّره إلى وقت السحر لأن الدعاءَ بالأَسحار لا يُحْجَبُ عن الله تعالى، قال وهب: وأقام يستغفر لهم كلَّ ليلةِ جمعةٍ وقتَ السحر نيفًا وعشرين سنة. والثاني: أن طلب الحوائج من الشباب أسهل من الشيوخ، قاله عطاء الخراساني، قال: ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته {لَا تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ الْيَوْمَ} وقول يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}. والثالث: لأن ذلك الحقَّ كان متعلقًا بالغير، وهو يوسف، فقال: سوف أسأل يوسف، فإن عفا استغفرتُ، قاله الشعبي. {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف: 98] ثم قال يعقوب ليهوذا: كيف خلفت

يوسف؟ قال. ملك مصر، قال: ما أصنع بالملك، على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمت النعمة (¬1). وقال علماء السير: كان يوسف قد بعث إلى أبيه بمئتي راحلة وجهاز، وسأله أن يأتيه بأهله وولده أجمعين، فتهيأ يعقوب وسار، فلما دنا يعقوب من مصر كلَّم يوسفُ الملكَ الَّذي فوقه في خروجه، فخرج يوسف والملك في أربع مئة ألف من الجند، وركب معهما أهل مصر يتلقون يعقوب، وأقبل يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس فقال يعقوب: يا يهوذا هذا فرعون مصر؟ قال: هذا ابنك، فلما دنا كلُّ واحدٍ منهما من صاحبه ترجَّلَ يوسف وذهب ليبدأه بالسلام، فمنعه يعقوب من ذلك لأنَّ القادم يسلِّم، فقال يعقوب: السلام عليك يا مُذْهِبَ الأحزان. وقال سفيان الثوري: لما التقيا عانق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وبكى يعقوب ويوسف، فقال يوسف: يا أبتِ بكيتَ عليَّ حتَّى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى، ولكنْ خفتُ أن يُسْلَبَ دينك فيُحال بيني وبينك [يوم القيامة]. قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيهِ أَبَوَيهِ} [يوسف: 99] فإنا قيل: فأمه كانت قد ماتت، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الله أحيا أمه راحيل وأقامها من قبرها حتَّى سجدت له تحقيقًا لرؤياه، قاله الحسن. والثاني: أن المراد خالته، لأنها أمه من حيث المعنى، قاله ابن عباس. {وَرَفَعَ أَبَوَيهِ عَلَى الْعَرْشِ} أي: على السرير، أجلسهما معه {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} بأجمعهم، وليس المراد به وضعَ الجبهةِ لأنه حرام في جميع الشرائع لغير الله، وإنما أراد الانحناء والتواضع على طريق التحيّة والتسليم لا على وجه العبادة والتعظيم، فقال يوسف عند ذلك واقشعر جلده: {هَذَا تَأْويلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}. فإن قيل: فلمَ لم يسجد له إخوته حين عرفوه؟ فالجواب: لأنه رأى الشمس والقمر والكواكب قد سجدوا له جملةً، فتأويل رؤياه يكون كذلك. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" 141.

{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} فإن قيل: فلمَ لم يقل: من الجبِّ وهو أوّل ما ابتلي به؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّه استعمل الكرم لئلا يذكِّر إخوته ما فعلوا به فيكون تأنيبًا لهم وقد قال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ}. والثاني: لأن نعم الله عليه في نجاته من السجن كانت أكثر عليه من نعمته في إنقاذه من الجب؛ لأن وقوعه في الجب كان من حسد إخوته، ووقوعه في السجن مكافأة من الله تعالى لزلَّته. والثالث: أن السجن جبٌّ أيضًا، فحسَّنَ العبارة. {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْو} لأن يعقوب وبنيه كانوا أهل بادية {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيطَانُ بَينِي وَبَينَ إِخْوَتِي} أي: أفسد {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ} أي: ذو لطف وصنع {لِمَا يَشَاءُ} عليم عالم بدقائق الأمور {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100]. وقال علماء السير: ولما جمع الله شمل يوسف، وأقرَّ عينه وأتمَّ له رؤياه، وكان موسعًا عليه في دنياه، علم أن ذلك لا يدوم ولابدَّ من فراقه، فأراد نعيمًا هو أفضل منه، فتاقت نفسه إلى الجنّة، فتمنى الموت فدعا، ولم يتمنَّ نبيٌّ قبله ولا بعده الموت، فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} يعني مُلْك مِصْر {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْويلِ الْأَحَادِيثِ} يعني تعبير الرؤيا {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: يا خالقهما وبارئهما {أَنْتَ وَلِيي} معيني {فِي الْدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} أي: اقبضني إليك {وَأَلْحِقْنِي} [يوسف: 101] بآبائي الصالحين أي الأنبياء. وإنما تمنَّى الموت لأنه خاف من تغير الحال، فتوفاه الله طيبًا طاهرًا. وحكى الثعلبي عن يزيد الرَّقاشي عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما جَمَع اللهُ ليعقوبَ شَمْلَه، خَلا وَلَدُهُ نجيًّا فقال بعضُهم لبعضٍ: أليسَ قد عَلِمتُم ما صَنَعتُم وما لقيَ منكُم الشَّيخُ يعقوبُ ويوسفُ؟ قالوا: بلَى، قالوا: فإن عَفَوَا عنكُم فكيفَ لكُم بربِّكم؟ فاستَقَام أمرُهُم على أَنْ يأتُوا الشَّيخَ يعقوبَ، فأَتَوه فجلَسُوا بينَ يدَيهِ ويوسفُ إلى جانبِهِ فقالوا له: يا أَبانا أَتينَاك في أمرٍ لم نأتِكَ في مثلهِ قطٌّ، ونزل بنا أَمرٌ لم يَنزِلْ بنا مثلَه قطُّ، حتَّى حرَّكوهُ؛ لأنَّ الأنبياءَ أرحَمُ البريَّة، فقال: ما لكُم يا بَنِيَّ؟ قالوا: أَلَستَ قد عَلِمتَ ما كان منَّا إليكَ وإلى أخِينا؟ قال: بلى، قالوا: أَفَلَستُما قد عَفَوْتُما؟ قالا:

بلى، قالوا: فإنَّ عَفْوَكُما لا يُغنِي عنا شيئًا إنْ كانَ الله لم يَعفُ عنَّا، قال: فما تُريدُون؟ قالوا: نُريدُ أن تَدعُوَا الله [لنا]، فإذا جَاءَك الوحْيُ مِنَ اللهِ أَنَّه قد عَفَا عنَّا، طابَتْ قلُوبُنا وقَرَّت عُيونُنا، وإلَّا فلا قرَّتْ لنا عينٌ في الدُّنيا أبَدًا، فقامَ الشَّيخ فاستقبَلَ القبلةَ، وقَامَ يوسُفُ خَلْفَه، وقامُوا خَلفَهُما أذلَّةً خاشِعينَ ودَعَا يعقوبُ ويوسفُ يؤمِّن، فلم يَزَلْ فيهم عشرينَ سنةً" قال صالح المرِّي: فلما كان رأس العشرين نزل جبريل على يعقوبَ فقال: إن الله قد أجاب دعاءَكَ فيهم، وقد عفا عمَّا صنعوا، وإنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوَّة (¬1). وقال مجاهد: إنَّما تأخرت الإجابةُ عشرين سنة لأنه كلَّما تفاقم الذنب تعاظمت العقوبة. وقال مقاتل: ركب يوسف يومًا في ثمان مئة الف، وعلى رأسه ألفا لواء يتفقد أمورَ الرعية، وكان قد هجر زَليخا وعميت وانحنت فلبستْ جُبَّةَ صوفٍ وشدَّتْ وسطها بحبلٍ من ليف، ووقفت على قارعةِ الطريق فلما حاذاها نادته يا يوسف بالذي جعل العبيد ملوكًا بالطاعة، والملوكَ عبيدًا بالمعصية كلِّمني، فوقف وبكى بكاءً شديدًا لما سمع هذه الكلمات، ثم قال: من أنتِ؟ فقالت: زَليخا، قال: وأين شبابُكِ؟ قالت: ذهب به الَّذي أَذهَبَ ذُلَّكَ ومسكنتك، وأعطاك هذا المُلك، قال: فما تريدين؟ قالت: ثلاث حوائج، قال: سلي، قالت: أما الأولى فَيُردُّ عليَّ بصري وشبابي وأن تتزوَّجني، فسأل الله فردَّ عليها بصرها وشبابها وتزوَّجها، وإذا هي عذراء كما كانت بعد أن أتت عليها مئة وعشرون سنة، وأولدها أولادًا. وذكر جدي في "التبصرة" بمعنى هذا فقال: كان يوسف يركب في كل شهر ركبة في ثمان مئة الف ومعه ألف لواء وألفا سيف فيدور في عمله، وينصف المظلوم من الظالم، وكانت زليخا تلبس جبةَ صوف وتشدُّ وسطها بحبل من ليف وتناديه فلا يسمع، فنادته يومًا: يا أيها العزيز، سبحان مَنْ جعل العبيدَ ملوكًا بالطاعة، وذكَّرته، فسمعها ¬

_ (¬1) الخبر في تفسير الثعلبي 5/ 261، وعرائس المجالس 142 - 143، وتفسير الطبري 16/ 281 موقوف على أنس، قال ابن كثير في تفسيره 2/ 493: هذا الأثر موقوف عن أنس، ويزيد الرقاشي وصالح المري [الواردان في إسناد هذا الخبر] ضعيفان جدًّا.

ذكر وفاة يعقوب

فبكى وقال لفتاه: انطلق بهذه العجوز إلى الدار واقضِ لها كلَّ حاجة، فجاء إليها الغلام وقال: ما حاجتك يا عجوز؟ قالت: إن حاجتي مُحَرَّمةٌ أنْ يقضيَها غير يوسف، فجاء يوسف فوقف عليها فقال: ما حاجتك؟ فذكرت الثلاث حوائج، فقضاها، وأولدها اثني عشر ولدًا، ذكر هذا أبو الحسين ابن المنادي وغيره، وقد ذكره الثعلبي (¬1). ذكر وفاة يعقوب ذكر جدي أيضًا في "التبصرة" وقال: أقام يعقوب عند يوسف أربعة وعشرين سنة في أهنأ عيش، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يحمله إلى الشام، فيدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل (¬2). وقال مقاتل: لما مات يعقوب حمله يوسف في تابوت من مصر إلى الشام، ومضى معه بنفسه، ووافق ذلك يوم مات عيص فدفنا في مكانٍ واحدٍ كما ولدا من بطن واحد، وكان عمرهما جميعًا سواء مئة وستًا وأربعين سنة. وقد ذكره الثعلبي بإسناده إلى وهب بن منبه وقال: دخل يعقوب إلى مصر وولده وهم اثنان وسبعون إنسانًا من رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى وهم ست مئة الف وخمس مئة وبضع وسبعون رجلًا سوى الذرية والهرمَى والزَّمْنَى، وكانت الذرية ألف ألف ومئتي ألف سوى المقاتلة. وذكر أن يوسف حمل أباه يعقوب إلى الشام فدفنه عند آبائه، وعاد إلى مصر، وذكر موت عيصو قال: ودفن هو ويعقوب في قبرٍ واحد، وحكى ما حكينا (¬3). ذكر وفاة يوسف قال علماء السير: توفي يوسف بعد أبيه بمدَّة، فدفن في النيل في الليل في صندوق من مرمر، ولما مات تشاحَّ الناسُ فيه كلٌّ يريدُ يدفنه في محلَّته لما يرجو من بركته، وهموا بالقتال، ثم أجمعوا على أن يدفنوه في النيل حيث يفترقُ الماءُ عليه ثم تصل ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 181، والمنتظم 1/ 315. (¬2) "التبصرة" 1/ 182، والمنتظم 1/ 319. (¬3) تفسير الثعلبي 5/ 260.

بركته إلى الجميع، ففعلوا، وبقي هناك إلى زمان موسى - عليه السلام - لما نذكر. وقال مقاتل: ولما احتضر يوسف أوصى إلى أخيه يهوذا فقام بالأمور بعده. واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن أبيه على أقوال: أحدها: غاب ثمانين سنة، قاله الحسن البصري. والثاني: أربعين سنة، قاله ابن عباس. والثالث: اثنتين وعشرين سنة، وهو قول الكلبي. والرابع: سبعين. والخامس: سبعًا وسبعين، قاله عبد الله بن شَوذب. وقال الحسن البصري: ألقي في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزل العزيز ثلاث عشرة سنة وفي السجن، ثم استوزر بعد ثلاثين سنة، وعاش بعد لقاء أبيه اثنتين وعشرين سنة، ومات ابن مئة وعشرين سنة. وفي "التوراة" أنَّه عاش مئةً وعشر سنين (¬1). وذكر جدي في "أعمار الأعيان": أنَّه عاش مئة وعشرين سنة، قال: وكذا عاش موسى بن عمران - عليه السلام -، وحكيم بن حزام، وحُويطِب بن عبد العزى، وعديُّ بن حاتم الطائي، والنابغة الجعدي والحُطيئة الشاعران، وعبد خير صاحب علي - رضي الله عنه -، وحسان بن ثابت وأبوه وجدُّه، لما نذكر، وأبو عمرو سعد بن إياس الشيباني والمعْرور بن سُوَيد، وأبو عبد الله المغرِبيُّ الصُّوفي، وأستاذه علي بن رزين وخيرُ النَّساج وغيرهم، عاشر كلُّ واحدٍ مئة وعشرين سنة (¬2). انتهت ترجمة يوسف - عليه السلام - * * * ¬

_ (¬1) "سفر التكوين" (50: 22). (¬2) أعمار الأعيان 95 - 97.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [2]

المخطوطات المعتمدة في هذا الجزء

المخطوطات المعتمدة في هذا الجزء 1 - نسخة لاله لي، وهي من أول الكتاب إلى عذاب قوم شعيب، ورمزنا لها بـ: (ل). 2 - نسخة كوبريللي، من أول أخبار الأمم الماضية إلى سنة (6 هـ)، ورمزنا لها بـ: (ك). 3 - نسخة الخزائنية، من قصة زكريا ويحيى إلى سنة (7 هـ)، ورمزنا لها ب: (ح). 4 - نسخة باريس، من أول الكتاب إلى ذكر والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورمزنا لها: (ب). 5 - مطبوعة الدكتور إحسان عباس، ورمزنا لها بـ: (ط). وانظر وصفًا مفصلًا لهذه النسخ في مقدمة الجزء الأول. * * *

فصل ذكر أيوب عليه السلام

فَصْل ذِكْر أيُّوب عليه السَّلام (¬1) قال مقاتل: ذكره الله في خمسة مواضع. وأيوب اسم أعجمي، واختلفوا في نسبه، والمشهور أنَّه أيوب بن أموص بن رزاح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، ذكره جدي رحمه الله في "التبصرة"، قال: وأبوه ممن آمن بالخليل - عليه السلام - لما ألقي أي النار، قال: وأمه بنت لوط - عليه السلام - (¬2). وكان أيوب في زمان يعقوب، وتزوج ابنة يعقوب واسمها رحمة، وقيل: دينا، وقيل: ليَّا، وقيل: إنما تزوج أيوب رحمة بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب. وقال الكلبي: أيوب بن أموص بن رازح -بتقديم الألف على الزاي- ابن العيص بن أموص بن العيص بن إسحاق - عليه السلام -. وقال قتادة: أيوب بن رزاح بن دعوابيل بن العيص. وحكى الثعلبي عن وهب بن منبه قال: كان أيوب رجلًا من الروم، وهو أيوب بن أموص بن رزاح بن روم بن عيص بن إسحاق - عليه السلام - (¬3). واختلفوا في زمانه: فحكينا عن جدي في "التبصرة" أنَّه كان في زمان يعقوب. وقال مجاهد: لم يكن نبيًّا في زمان يعقوب وإنما نبّئ بعد يوسف. وقال مقاتل: كان بعد سليمان. وقيل: بعد يوسف، والأول أشهر وأثبت. قلت: وذكر الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في "تاريخ نيسابور" عن قتيبة بن سعيد قال: سمعتُ عبد الله بن لهيعة، وسأله رجل: هل ورد خراسانَ نبيّ، قال: نعم أيوب المبتلى ورد كورةَ بُخارى واستضافهم فأضافوه، فدعا لهم بالبركة فهي مباركة. قلت: والعجب من رواية الحاكم مثلَ هذا عن ابن لهيعة، وقد علم أنَّه ضعيف. ولم ¬

_ (¬1) انظر قصته في: الزهد لأحمد 54، 113، وتفسير الطبري 16/ 333، وتاريخه 1/ 322، و"البدء والتاريخ" 3/ 72، و"عرائس المجالس" ص 155، و"تفسير الثعلبي" 6/ 294، و"تاريخ دمشق" (3/ 249) (مخطوط)، و"التبصرة" 1/ 191، و"زاد المسير" 5/ 375، و"المنتظم" 1/ 320، و"البداية والنهاية" 1/ 506. (¬2) "التبصرة" 1/ 191. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 155.

فصل في تلخيص قصته

يثبت أن نبيًّا من الأنبياء دخل العجم، وخصوصًا أيوب، فإنه ما فارق الشام. وقال الكلبي: كانت منازله البَثَنِيَّةُ من أرض الشام والجابِيَة وكورة دمشق، فكان الجميع له، ومقامه بقرية تعرف بدير أيوب، وقبره بها وإلى هلم جرًا. وكان غنيًّا كثير الضيافة على مذهب إبراهيم الخليل - عليه السلام -، وكان له ثلاثة عشر ولدًا، وله أصنافٌ من الأموال والإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وكان له خمس مئة فدان يتبعها خمس مئة عبد، لكل عبد امرأة ومال وولد، وكان برًّا رحيمًا تقيًّا يكفل الأرامل واليتامى ويحمل المنقطعين، وما كان يشبع حتَّى يشبع الجائع، ولا يكتسي حتَّى يكسوَ العاري، وكان قد امتنع من عدوِّ الله إبليس أن يصيبَ منه ما يصيبُ من أهل الغنى والثروة بالغِرَّةِ والغفلة، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدَّقوه: رجل من أهل اليمن يقال له: أليفز، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما: بلدد، والآخر: صافر (¬1). فصل في تلخيص قصته ذكر علماء السير كابن إسحاق ووهب والسدي وعطاء فيما رووه عن ابن عباس وغيره، دخل حديث بعضهم في حديث بعض، وحكاه الثعلبي عن وهب بن منبه قالوا: إن لجبريل من الله مقامًا ليس لأحد من الملائكة في القربة والفضيلة مثله، وإنَّ جبريل هو الَّذي يتلقى الكلام من الله تعالى، فإذا ذكر الله عبدًا بخير تلقَّاه جبريل، ثم يتلقاه ميكائيل ثم الملائكة المقربون، فيشيع ذلك في الملائكة الحافِّين من حول العرش، ثم ينزل إلى سماء سماءٍ، ثم تهبط به الملائكة إلى الأرض، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السماوات يقفُ فيهنَّ حيث يشاء، ومن هناك وصل إلى الجنَّة حتَّى أغوى آدم، فلم يزل يصعدُ ويتردَّد إلى السماء حتَّى رُفِعَ عيسى - عليه السلام - فَحُجِبَ من أربع سماوات، فكان يصعد في ثلاث حتَّى بُعِثَ نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فحجب عن الثلاث الباقيات، فهو وجنوده محجوبون عن السماوات إلى يوم القيامة {إلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18]. وكذا قال جدي رحمه الله في كتاب "التبصرة": وكان إبليس لا يحجب عن ¬

_ (¬1) هم في الكتاب المقدس سفر أيوب الإصحاح الثاني: أليفاز التيماني وبلدد الشوحي وصوفر النعماني.

السماوات، قال: وهذا هو خلاف قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38] وكان إهباطَ سخطٍ، وآدم لم يعد إلى الجنّة، وكذا إبليس لا يعود إلى السماوات، ويحتمل أن الشياطين الذين يسترقون السمعَ أخبروه بثناء الملائكة على أيوب (¬1). قالوا: ولما سمع إبليس أن الله ذكر أيوب وأثنى عليه أدركه البغي والحسد، فصعد سريعًا حتَّى وقف من السماء موقفًا كان يقفه وقال: يا ربّ سلِّطني على أيوب، فقال الله: قد سلطتك على ماله وولده ولم أُسَلِّطْكَ على جسده. وقد روى هذا المعنى عبد الله بن أحمد بن حنبل في "كتاب الزهد" عن أبيه عن كثير بن هشام عن حماد بن سلمة بإسناده عن ابن عباس وذكره موقوفًا (¬2). وقد روى السُّدي ووهب أن إبليس قال. إلهي إني نظرتُ في أمر عبدك أيوب فوجدته عبدًا أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ثم لم تجرّبْهُ بشدةٍ ولا بلاء، وأنا زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرنَّ بك، فقال الله تعالى: اذهب فقد سلطتك على ماله. فجمع عفاربته وشياطينه وقال لهم: ما عندكم من القوة فإني قد سُلِّطت على مال أيوب، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال، فأروني سلطانكم، فصار بعضهم نارًا وبعضهم ماء وحالوا ما بين المشرق والمغرب (¬3). فإن قيل: فكيف قال الله تعالى: اذهب فقد سلَّطتك عليه، وتسليط العدوِّ على الوليّ غير لائقٍ بالحكمة، وخصوصًا إذا لم يفعل فعلًا يستوجب به العقوبة؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّه نزل به مريض فنظر إليه فاستقذره وأبعده عن فنائه، فابتلاه الله بمثل مرضه، قاله قتادة. والثاني: لأنه وقف ببابه سائل فقير فرده خائبًا، فقال له الله تعالى: خوَّلتك وأعطيتك ووسعت عليك وترد السائل خائبًا؟ ! لأبتلينَّك، قاله ابن أبي نجيح. ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 191. (¬2) لم نقف عليه في المطبوع من كتاب "الزهد". (¬3) انظر "تاريخ دمشق" 15/ 70، و"عرائس المجالس" 156.

والثالث: أنَّه استغاث به مظلوم فلم يساعده على ظالمه فابتلاه الله، قاله ابن عباس. والرابع: لأنه كان في زمانه ملك ظالم أقطعه أرضًا ترعى خيلُهُ فيها، فدخل العلماءُ على الملك فأنكروا عليه ظلمه إلا أيوب، فإنه لم ينهه عن الظلم لأجل مرعى دوابّه، فأوحى الله إليه: تركتَ إنكارك على الظالم من أجل مرعى دوابّك؟ ! لأسلِّطنَّ عليك عدوَّك، ولأُطيلنَّ عذابك، قاله الليث بن سعد. وحكى الحافظ أبو القاسم في "تاريخ دمشق" أن الواقعة كانت بمصر، فقال: قال أبو إدريس الخَولاني: أجدَبَ الشام فكتب فرعون مصر إلى أيوب أنْ هلُمَّ إلينا فإن لك عندنا سعةً، فأقبل بخيله وَرَجلِهِ وبنيه وماشيته، فأقطعه أرضًا، وكان نبيُّ ذلك الزمان شعيبًا - عليه السلام -، فدخل شعيب على فرعون ووعظه وقال: يا فرعون أما تخاف أنْ يغضبَ الله غضبةً تغضبُ لها السماوات والأرض والجبال والبحار؟ ! وكان أيوب حاضرًا فسكت، فلما خرج من عنده أوحى الله إلى أيوب: سكتَّ عن فرعون لأجل أرضه، استعدَّ للبلاء. قال: يا إلهي، فديني؟ قال: أُسَلِّمُهُ لكَ، قال: فما أُبالي (¬1). وروى الحافظ حديثًا عن عقبة بن عامر قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْحَى الله لأَيُّوبَ: تَدرِي ما جرمُك حتَّى ابتَليتُكَ؟ قال: لا، قال: إنَّك دَخَلتَ على فِرعَونَ فداهَنْتَهُ في كلمتَين" (¬2). قلت: ولا يصحُّ هذا الحديثُ مرفوعًا وإنما هو موقوف؛ وأيوب لم يفارق الشام ولا دخل مِصْر باتفاق الرواة. والخامس: أن إبليس قال: يا إلهي لو سلَّطتني عليه لكفَرَ بك وأطاعني، فسلَّطه عليه ليظهر صبره وكَذِبَ إبليس، قاله مقاتل. قال وهب والسُّدي وغيرهما: ثم إن إبليس فرَّق عفاريته في ماله، فأرسل بعضهم إلى إبله، فجاؤوها وهي في مباركها، فلم تشعر الرعاة حتَّى ثار من تحت الأرض إعصار من نار تنفخ منه أرواح السَّموم، لا يدنو منه أحد إلا احترق، فلم يزل يحرقها ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 10/ 60. (¬2) "تاريخ دمشق" 10/ 60.

حتَّى أتى على آخرها، فلما فرغ منها جاءه إبليس في صورة راعٍ من رعاتها، وأيوب قائم يصلي فقال: يا أيوب هل تدري ما صنع ربّك الَّذي تعبده بإبلك ورعاتها؟ قال: ما صنع؟ قال: أرسل عليها نارًا من السماء فأحرقتها ورعاتها، وقد عجب الناس من ذلك فمن قائل يقول: ما كان أيوب يعبدُ شيئًا وما كان إلا في غرور، ومن قائل يقول: لو كان له إله لدعاه، ولو كان له عنده قدر لحماه. فقال أيوب: الحمد لله حين أعطى، وله الحمد حين أخذ، عريانًا دخلتُ إلى الدنيا، وعريانًا أَخرجُ منها، ولو كان فيك أيها العبد خير لأَخذَ روحكَ مع الأرواح فأجرى فيك [وصيَّرك شهيدًا مع الشهداء] لكنه علم منك شرًّا فأخَّرك. فرجع إبليس خائبًا خاسئًا ذليلًا وقال لأعوانه: ما عندكم من القوة؟ قالوا: مرنا بما شئت، فأرسل بعضهم إلى الغنم وبعضهم إلى البقر وإلى الخيل، ففعلوا بها مثل ما فعلوا بالإبل، وجاء إلى أيوب في صورة راعٍ فذكر له مثل ذلك، فردَّ عليه مثل ذلك الجواب (¬1). فلما رأى أنَّه لا يلتفت إلى المال سأل الله أن يسلطه على ولده وقال: فتنةُ الولدِ أعظم لأن المال يعودُ، فسلَّطه على ولده، فجاء إليهم وهم في قصرهم، فزلزله عليهم، فوقعت الحيطان والخشب عليهم، فشدخهم، ومثَّل بهم، وقلب القصرَ عليهم، ثم انطلق إلى أيوب في صورة معلمهم، وقد لطخ وجهه بالدم، وهو يبكي وينوح ويقول: يا أيوب، لو رأيت أولادَك وما حلَّ بهم من البلاء -ووصفَ ذلك- لأحزنك وساءك، ولم يزل ينوح ويحزن حتَّى بكى أيوب وحثا التراب على رأسه، فاغتنم إبليس الفرصةَ وصعد إلى الله تعالى. ثم إن أيوب ندم واستغفر، فصعدت الملائكة إلى الله تعالى فأخبرته بندمه وتوبته فرجع إبليس خاسئًا. وقال مجاهد: لم يبكِ أيوب وإنما أنَّ أنةً. وقال وهْب: ولما قال لأيوب ما قال، قال: لو كان فيك خير لهلكت معهم، ثم عرفه وقال: اغرب لعنك الله. فحينئذ سأل إبليس أن يسلّطه على جسده، فسلَّطه على جسده وقال: لا سلطانَ لك على قلبه ولسانه وعقله. فأتاه وهو ساجد فنفخ في منخريه نفخةً أشعل منها جسده، ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري 16/ 336، و"عرائس المجالس" ص 156، وما بين معكوفين منه.

وصار من قَرْنه (¬1) إلى قدمه أمثال الثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكةٌ لا يملكها، فحكَّها بأظفاره حتَّى سقطت، ثم بالحجارة والمسوح حتَّى تقطَّع وأنتن. وقال مجاهد: أول من أصابه الجدريّ في الدنيا أيوب. وقال وهب: فأخرجه أهل القرية فألقوه على كناسةٍ، وبنوا عليه عريشًا، ورفضه الناس كلُّهم ولم يبقَ من يتردَّدُ إليه سوى زوجته رحمة، كانت تختلفُ إليه بما يصلحه، ولم يبق منه إلا اللسانُ للذكر والقلبُ للمعرفة، وكان تُرَى عروقه وأمعاؤه وعظامه من وراء جلده. فإن قيل: فما الحكمة في ابتلائه بالدود؟ فالجواب: لأن المريضَ الَّذي أبعده عن بابه كان به هذا المرض، فاستقذره، فابتلي بمثل ذلك. فإن قيل: فلم ابتلاه أولًا بأخذ المال ثم بالولد ثم بالنفس؟ فالجواب: لأن المال وقاية الولد، والولد وقاية النفس، والنفس وقاية القلب. وقال وهب: ولما رأى أولئك النفر الثلاثة (¬2) حاله هجروه واتهموه وجاؤوا إليه فأنَّبوه ولاموه، وقالوا: تبْ إلى الله فقد أذنبتَ ذنبًا عظيمًا، وكان معهم فتى حديث السن، وكانوا هم كهولًا، فقال الفتى: أيها الكهول، لقد كان لأيوب عليكم من الحقوق ما يوجب ترك كلامكم له، فهل تدرون حرمةَ من انتهكتم ومن الَّذي اتهمتم؟ ألم تعلموا أن أيوب صفوة الله وخيرته من خلقه؟ فإن كان ما نزل به من البلاء هو الَّذي نَقَصَ منزلته عندكم فإن الله يبتلي الصدّيقين والنبيين والشهداءَ والصالحين ليكونوا أئمة للصابرين وعظةً للعابدين، وليس ذلك لسخطه عليهم ولا لهوانهم عليه، ولكنها كرامة أكرمهم بها، وقد كان الواجب أن تساعدوه وترحموه وتبكوا معه لا أن تعيّروه وتوبخوه. فبكى أيوب وقال: إن الله يزرع الحكمة في قلب من يشاء وليستْ الحكمة بكبر السنِّ وطول التجربة. ثم أقبل أيوب على الثلاثة وقال: أتيتموني مؤنبين (¬3) ظالمين مُبَكِّتين، لقد أعجبتكم نفوسعكم وظننتم أنكم ناجون من البلاء، تالله لقد اعتديتم وجُرتم، ولو أنصفتم لوجدتم ¬

_ (¬1) القرن: جانب الرأس، وانظر عرائس المجالس 158. (¬2) يعني الثلاثة الذين آمنوا به، وقد مرَّ ذكرهم في الصفحة 8. (¬3) في (ل) و (ب): مؤمنين، والمثبت من (ط).

فصل في المدة التي أقام فيها في البلاء

لكم ذنوبًا سترها الله عليكم بالعافية التي البسكم، ولقد كنتم فيما مضى توقرونني وتسمعون كلامي وتعرفون حقي، فأصبحتم اليوم أشدَّ عليَّ من مصيبتي، وذكر كلامًا طويلًا، ثم أعرض عنهم وسجد وقال: إلهي لأيِّ شيء خلقتني؟ ليتك لمّا كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيضة، يا ليتني كنت نسيًا منسيًا، ويا ليتني لم تلدني أمي، وذكر الثعلبي عن وهب كلامًا طويلًا أعرضت عنه لأن فيه نوعَ اعتراضٍ. فصل في المدة التي أقام فيها في البلاء واختلفوا فيها على أقوال: أحدها: أنها كانت سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، قاله ابن عباس وعامة العلماء. والثاني: ثلاث سنين، قاله وهب. والثالث: ثماني عشرة سنة، قاله الربيع بن أنس. قال جدي في "التبصرة": وقد رواه أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). والأول أشهر لوجهين: أحدهما: لما ذكر الحسن البصري، فإنه قال: أيوب: تنعمت سبع سنين فابتُليت سبع سنين. والثاني: أنَّ المريض الَّذي وقف ببابه وردَّه أقام ببابه سبع ساعات فعوقب سبع سنين، وقال الحسن: مكث أيوب على الكُناسة سبع سنين، وكان يأخذ الدودة من الأرض إذا سقطت ويعيدها إلى جسده ويقول: كلي من رزق ربك، اللهم إنْ كان هذا رضاك فشدِّدْ، وإن كان من سخطك فاغفر. فصل في سبب سؤاله العافية واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنَّه اشتهى إدامًا فلم يقدر عليه حتَّى باعت امرأته شعرها، أو قرنًا من ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 192، وأخرجه الطبري في تفسيره 20/ 109، والثعلبي في عرائس المجالس 162، وانظر الدر المنثور 4/ 330، قال ابن كثير في تفسيره 3/ 189: رفع هذا الحديث غريب جدًّا.

شعرها، واشترت له ما طلب، فسبقها إبليس إليه وقال: قد وجدتُ امرأتك مع رجل، وقد قطع شعرها فحينئذ قال: {مَسَّنِيَ الضُرُّ} [الأنبياء: 83]، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أن الله أنساه الدعاء مع كثرة الذكر، فلما انقضى زمان البلاء ألهمه الله الدعاء، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن نفرًا من بني إسرائيل مروا به فقال بعضهم: ما أصابه هذا إلا بذنب عظيم فعندها دعا، قاله نوف البكالي. وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان له أخوان فأتياه يومًا فوجدا منه رائحة منكرة فقالا: لو علم الله من هذا خيرًا ما بلغ به هذا، فما سمع شيئًا أشدَّ عليه من ذلك فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبتْ ليلة وأنا شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني -وهما يسمعان- اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصًا وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني، ثم سجد وقال: اللهم لا أرفع رأسي حتَّى تكشف ما بي فكشف ما به. والرابع: أن إبليس جاء إلى زوجته بسخلةٍ وقال: قولي له: ليذبحها وقد برأ، فجاءته وقالت: لقيني شيخ من صفته كذا وكذا وذكر كذا وكذا، فعرفه وقال: كدتِ أن تهلكيني، لئن فرَّجَ الله عنِّي لأجلدنك مئة جلدة، أمرتني أن أذبح لغير الله، ثم طردها عنه وبقي وحيدًا ليس معه معين فقال: {مَسَّنِىَ الضُّرُّ}، قاله الحسن. والخامس: أن الله أوحى إليه في عنفوان شبابه: إني مبتليك، فقال: يا رب وأين يكون قلبي؟ قال: عندي، قال: افعلْ ما شئت، فلما ابتلاه قال: إني معافيك، فقال: وأين يكون قلبي؟ قال: عندك، قال {مَسَّنِىَ الضُّرُّ}، قاله إبراهيم بن شيبان. والسادس: أن الوحي انقطع عنه أربعين يومًا فخاف هجران ربه. والسابع: أن الدود أكل جميع جسده، فلما دبَّ إلى قلبه خاف فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} قاله مقاتل، وكان اثني عشر ألف دودة. قال جدي رحمه الله في هذا المعنى: قال بلسان الحال: يا ربِّ قلبي هو الوكيل المنفق أموال الصبر، فإذا قضي عليه لم يبق للضيف قوت.

وقال ابن عباس: أكل الدودُ جميعَ جسد أيوب، فلما لم يبق شيءٌ سلَّط الله الدودَ بعضه على بعض فأكل بعضهُ بعضًا حتَّى بقيت دودتان، فجاعتا فأكلت الواحدة الأخرى، وبقيت واحدة فجاعت فدبَّتْ إلى قلبه لتنقره، فقال أيوب: إلهي إن فقدت حلاوة ذكرك من قلبي لم يهن عليَّ ما ابتُليت به {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (¬1). والثامن: أن جبريل جاءه فقال: يا أيوب، لا تقدر أن تصبر معه، فإن بلاياه في خزائنه كثيرة، ومتى لم تشكُ إليه لا يرفع عنك البلاء، فاعترف بالعجز فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}، قاله ابن نجيح. والتاسع: أن دودة عضَّته فآلمته ألمًا زاد على جميع ما قاسى، فبكى فرحمه الله، قاله مقاتل. والعاشر: أن زوجته مرضت فتأخرت عنه أيامًا، فلم يبق له من يقوم بأمره فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} قاله مقاتل بن حيان. وقال الجنيد: عرَّفه فاقة السؤال ليمنَّ عليه بكرم النوال. وقال مجاهد: أوحى الله إليه: لولا أني أفرغتُ مكانَ كلِّ شعرة منك صبرًا لما صبرتَ (¬2). فإن قيل: فلم لم يدعُ أوَّلَ ما نزل به البلاء؟ فالجواب من وجهين، أحدهما: أنَّه علم أمرَ الله فيه ولا تصرُّفَ للعبد مع مولاه. والثاني: أنَّه أراد مضاعفة الثواب فلم يسأل كَشْفَ البلاء ليأخذ منه نصيبًا. فإن قيل: فكيف قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [ص: 41] والشيطان لا يمس؟ فالجواب من وجهين أحدهما: أنَّه لما كان الشيطان هو السبب فيما أصابه أضيف إليه. والثاني: أنَّه ما كان يحسن به أن يقول مسَّني الله، فاستعمل الأدب مع الله، وإن كان ذلك بقضائه وقدره. قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] قال ابن عباس: جاءه جبريل - عليه السلام - ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ دمشق" 10/ 65. (¬2) انظر "تاريخ دمشق" 10/ 69.

فقال له: قم قائمًا، فقال: وكيف أقدر، فقال: قم قائمًا، فقام وركض برجله، فنبعت عين ماء، فقال: اغتسلْ فاغتسلَ، ثم نحاه من مكانه وقال: اركضْ فركضَ، فنبعت عينٌ أخرى فقال: اشربْ فشربَ، فذلك قوله تعالى: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]. فإن قيل: فقد كان يكفيه ركضة واحدة، قلنا: الركضة الأولى لزوال الضرّ، والثانيةُ دليل الفرح والطرب بالعافية. وإنما خصَّ الرجل بالركض لأن العادة جاريةٌ أن ينبع الماء من تحت الرجل، وكان ذلك معجزةً له. قلت: وقد احتجَّ محمد بن طاهر المقدسيّ على جواز الرقص بهذه الآية، ولا حجة له فيها لأن ذلك الركض لم يكن رقصًا وإنما كان من باب المعجزات لا من باب الرقص المعتاد. وقال السُّدي: جاءه جبريل بحلَّةٍ من الجنّة فألبسه إياها، وكانت امرأته غائبة فجاءت فلم تعرفه، فقالت له: يا عبد الله أين المبتلى الَّذي كان هاهنا، لعلَّ الذئاب أكلته؟ فقال لها: أنا أيوب، فقالت: اتَّق الله ولا تسخر بي. واختلفوا في تأويل قوله تعالى: {وَآتَينَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء: 84] على قولين: أحدهما: ذكره ابن عباس وابن مسعود قالا: كانت امرأته قد ولدت سبع بنين وسبع بنات، فردَّهم الله عليه، وأقامهم من قبورهم، وآتاه مثلهم في الدنيا. والثاني: أن الله ما أحياهم وإنما آتاه أجورهم في الآخرة، قاله مجاهد وابن الكلبي. والأول أصح، لأن الله سبحانه وتعالى نصّ عليه، وفيه إظهار شرف أيوب. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ردَّ الله على امرأته شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكرًا. وقال كعب: لما أمطر الله عليه الجراد من الذهب جعل يأخذ الجراد بيده فيجعله في ثوبه فأوحى الله إليه: يا أيوب، أفما شبعت؟ فقال: يا إلهي ومن يشبع من فضلك. وقد روي مرفوعًا، قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَينَما أيُّوبُ يَغتَسِلُ عُريانًا خَرَّ عليه جرادٌ مِن ذَهَبٍ، فجَعَلَ أيُّوبُ يَحثُو

في ثَوبِه، فناداه ربُّه تعالى: يا أَيُّوبُ، ألَمْ أَكُن أَغنيتُك عما تَرى؟ قال: بلى يا ربِّ، ولكِنْ لا غِنَى لي عن بَرَكتِكَ" انفرد بإخراجه البخاري (¬1). وقال وهب: تطاير الجراد من الماء الَّذي اغتسل فيه، وكان له أنْدَران أحدهما للقمح والآخر للشعير، فبعث الله سحابتين فأفرغت إحداها على أندر القمح ذهبًا والأخرى [على أندر الشعير] فضة، وتطاير الجراد على الكلِّ وإنما خصَّ الجراد لكثرته (¬2). قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] وهو الشِّمراخ، وقيل: الحزمة، من العيدان أو الحشيش {فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] قال ابن عباس: كان قد حلف ليجلدنَّ زوجته مئةَ جلدة، وما كان ذلك يحسن في مقابلة صبرها وما لاقت في خدمته من الشدائد، فأفتاه الله تعالى بذلك. واختلفوا في سبب يمينه على أقوال: أحدها: حديث السخلة التي جاء بها إليها إبليس، وقد ذكرناه. والثاني: أن إبليس جلس على طريق زوجته كأنه طبيب، فقالت له: يا عبد الله هاهنا رجلٌ مبتلى فهل لك أن تداويه؟ قال: نعم، على شرط أن يقولَ إنني شفيته، فأخبرته بذلك فقال: ذاك الشيطان، لله عليَّ إن شفَاني الله لأجلدنَّكِ مئة جلدة. قاله ابن عباس (¬3). والثالث: أن إبليس لقيها فقال: أنا الَّذي فعلت بأيوب ما فعلت، وأنا إله الأرض وجميع في أخذتُ منه بيدي، فانطلقي أريك، ومشى بها غير بعيد ثم سحر بصرها فأراها واديًا عميقًا فيه أهلها وولدها، فأتت أيوب فأخبرته فقال: لعنه الله، ثم حلف، قاله وهب (¬4). وقال ابن عباس: قال إبليس لجنوده: قد أعياني أيوب، فقالوا: عليك بزوجته، فإنه ما أخرج آدم من الجنّة غير امرأته، فجاء إليها فوسوس لها بأنواع الوساوس حتَّى حلف ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (8159)، والبخاري (279). (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 10/ 67 وما بين معقوفين زيادة منه، والأندر: البيدر. (¬3) انظر "تاريخ دمشق" 10/ 67. (¬4) انظر "تاريخ دمشق" 10/ 67.

أيوب ليجلدنها مئة جلدة، فأفتاه الله لطفًا بها فجمع العيدان، وقيل: كانت مئة سنبلة، فضربها ضربة واحدة. وهل ذلك خاصٌّ له أو عام؟ قال ابن عباس: هو عام، وقال مجاهد: هو خاصّ، والأول أصح. واختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده أو أمته أو زوجته مئة سوط، أو أقل أو أكثر، فأخذ حزمةً وضرب بها، قال أصحابنا: إن أصابه بكلِّ واحد منها برئ في يمينه، وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يبرأ، وجه قولهم: إن ذلك كان خاصًّا بامرأة أيوب رفقًا بها، وهذا المعنى معدوم في حق غيرها. ولنا: ما كان جائزًا في شرع غيرنا فهو جائزٌ في شرعنا إلا أن يوجد النسخ، ولم يوجد، قال الله تعالى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] ولم يصبر حتى قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} فأين صبره؟ فالجواب: أنَّ المذموم هو الشكوى إلى الخلق، أمَّا إلى الخالق فلا. وشكواه إلى الله بما ذكرنا من الأسباب لا يدلُّ على أنه لم يصبر، ألا ترى إلى قول يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، ثم قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18؛ 83] على أن قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} قد ذهب بعض العارفين إلى أنه دعاء لا شكوى، وقد أشار إليه أبو القاسم ابن حبيب قال: والدليل عليه قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 76] والاستجابة إنما تتعقب الدعاء. فإن قيل: فكيف الجمع بين قوله {وَلَا تَحْنَثْ} وبين قوله تعالى لنبينا - صلى الله عليه وسلم - {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]. فالجواب: إنه لم يكن في من تقدَّم من الأمم كفارةُ يمين، وإنما شُرِعَتْ لهذه الأمَّة تخفيفًا عنها، فتأخذ مرةً بالعزيمة ومرة بالرخصة. وقد روى مجاهد عن ابن عباس موقوفًا عليه ومرفوعًا قال: يجاء يوم القيامة بالمريض فيقول له الله تعالى: ما منعك أن تعبدني؟ فيقول: يا رب، ابتليتني ببلاءٍ شغلني عن عبادتك، فيجاء بأيوب في ضرِّه وبلائه ويقال له: أنت أكثر بلاءً أم هذا؟ فيقول: لا بل هذا، فيقول: إن هذا لم يمنعه ما كان فيه عن عبادتي لحظةً قطُّ.

فصل في ذكر وفاته

فصل في ذكر وفاته واختلفوا في سنِّه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عاش مئةً وستًا وأربعين سنة، قاله ابن عباس، وقال: عاش منها بعدما ذهب عنه البلاء سبعين سنة. والثاني: ثلاثًا وسبعين سنة، قاله مجاهد. والثالث: - وهو الأشهر - أنه عاش ثلاثًا وتسعين سنة، ذكره الطبري في "تاريخه" وجدي في "أعمار الأعيان" (¬1). قال جدي: وعاش لهذا السن جماعة، منهم أبو أيوب الأنصاري، ومحمود بن الربيع، وسليمان بن صُرَد، والهيثم بن عديِّ، وأبو الحسن المدائني صاحب التاريخ، ومحمد بن بكَّار، وإدريس بن عبد الكريم، ويونس بن عبد الأعلى، وطِراد الزَّينَبي، وأبو القاسم ابن الحصين، وأبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، وأبو سعد الزُّوزَني وغيرهم (¬2). ودفن أيوب بالشام بالبثَنِيَّة، وقبره ظاهر بها، وأوصى إلى أخيه حومل بن أموص. * * * ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 1/ 324، و"أعمار الأعيان" ص 82. (¬2) "أعمار الأعيان" ص 82 - 83.

فصل في ذكر شعيب عليه السلام

فصلٌ في ذِكر شُعَيب عليه السَّلام (¬1) قال مقاتل: ذكر اللهُ شعيبًا في تسعة مواضع. وشعيب اسم عربي وليس بأعجمي، وقد ذكرنا هذا (¬2). واختلفوا في نسبه على أقوال: أحدها: أنه شعيب بن عيفا بن نويب بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. ذكره وهب ابن منبه وجدِّي في "التبصرة" (¬3). والثاني: شعيب بن نويب بن مدين بن برعويل بن عيفا بن مدين بن إبراهيم، ذكره أبو الحسين ابن المنادي (¬4). والثالث: شعيب بن بحرون بن نويب بن مدين، ذكره الثعلبي. وقال الشرقي بن القَطامي - وكان عارفًا بأنساب العرب -: اسم شعيب القديم يثرون بالعبرانية، وشعيب بالعربية (¬5). قال الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85] [هود: 84] [العنكبوت: 36] الآية. واختلفوا في مدين على أقوال: أحدها: أنه ابن إبراهيم لصلبه، قاله مقاتل. والثاني: أنه مدين بن مديان بن إبراهيم عليه السلام، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث: أنه اسم ماء كان عليه قوم شعيب، قاله قتادة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 325، وتفسيره 12/ 554 و 15/ 443، "عرائس المجالس" ص 167، تفسير الثعلبي 4/ 260 و 5/ 185 و 7/ 178، "المنتظم" 1/ 324، "التبصرة" 1/ 204، "زاد المسير" 3/ 228 و 4/ 148 و 6/ 141، والبداية والنهاية 1/ 425. (¬2) انظر قصة آدم عليه السلام. (¬3) "التبصرة" 1/ 204. (¬4) انظر "المنتظم" 1/ 324. (¬5) انظر "المنتظم" 1/ 324. (¬6) انظر "التبصرة" 1/ 204، و"زاد المسير" 3/ 228.

والرابع: أنه اسم بلدة معروفة تنسب إلى مدين بن إبراهيم، قال الشاعر: رُهبانُ مَدينَ والذين عَهِدتُهُم ... يُمْسونَ من ألمِ الفِراقِ هُمُودَا (¬1) والخامس: أن مدين اسم دارِ شعيب. قال الجوهري: اسم قرية شعيب (¬2). والأيكةُ خلفها. والسادس: أن مدين اسم القبيلة، روي عن مقاتل. قال: ومعنى الآية: أرسلنا شعيبًا إلى وَلَد مدين، وهي القبيلة؛ وعامة المؤرخين على أن مدين ابن إبراهيم لصلبه، ولهذا قال: {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أي: أرسلناه إليهم. وذكر ابن قتيبة في "المعارف" عن وهب: أن شعيبًا وبلعم كانا من ولد رهطٍ آمنوا بإبراهيم يوم أُحرق بالنار وهاجروا إلى الشام، وتزوجوا بنات لوط، فكلُّ نبيّ كان قبل بني إسرائيل وبعد إبراهيم من ولد ذلك الرهط. وحكى أيضًا أن جدَّة شعيب بنت لوط. ولم تكن مدين قبيلة شعيب، ولكنها أمة بعث إليها (¬3). وعامة العلماءِ على خلاف قول ابن قتيبة. وقال ابن عباس: كان شعيب يسمَّى خطيبَ الأنبياء لفصاحته وحسن مراجعته قومه. وقيل: كانت معجزته في خطبته. وقيل: لم يسم معجزته، وإنما قال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 85] و {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]. وقال الشَّرقي بن القَطامي: بُعِثَ إلى مدين وهو ابن عشرين سنة، وكانوا مع عبادتهم الأوثان يبخسون المكاييل والموازين، فنهاهم عن التطفيف وعبادة الأوثان وقال: يا قوم {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] أي: موسرين في خصحب وعيش وسعة. وحذَّرهم غلاءَ السعر، وزوال النعمة، وحلول النقمة. وقال قتادة: إنما كان يخاطبهم بلسان العرب، لأنه من العرب الأُوَل، من ولد ¬

_ (¬1) هو كُثير عزة، انظر "ديوانه" 133. (¬2) "الصحاح" (مدن). (¬3) "المعارف" ص 41 - 42.

المحض بن جندل بن يعصب بن مدين بن إبراهيم. وقال: {وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود: 85] أي: أتموهما {بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل. وقال ابن عباس: إنما قال لهم: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85] الآية، لأنه لم يؤمر بالقتال. {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الأوثان، وكان كثير الصلاة والتلاوة {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} وكانوا يقصُّون جوانبَ الدنانير والدراهم لينقصوها {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أي: السفيه، كما يقال للديغ سليم. وقيل: على وجه الاستهزاء. {وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} أي: خلافي {أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] فقالوا في الجواب: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود: 91] أي: ضعيف البصر. قال مجاهد: ثم عمي في آخر عمره، وقيل: إنه بعث وهو أعمى، وأنكر قوم هذا، وقالوا: ما بعث الله نبيًا أعمى ولا به زمانةٌ، لما نذكر. ثم قال: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86] يقال: وعدته في الخير، وأوعدته في الشر. وحكى جدي في "التبصرة" عن سعيد بن جبير أنه قال: كان قد ذهب بصره. قال: وقال ابن المنادي: إن ثبت هذا فهو كان في آخر عمره، لأنه لا يُبْعَثُ نبيٌّ أعمى. قال ابن المنادي: وقد قال أبو رَوْق: لم يبعثِ الله نبيًا أعمى ولا به زمانة. وهذا القولُ أليطُ بالقلوب من قول سعيد بن جبير (¬1). واختلفوا في الصراط على أقوال: أحدها: أنهم كانوا يقعدون على الطريق يصدُّون من آمن به، قاله ابن عباس (¬2). والثاني: أنهم كانوا عشَّارين، قاله مجاهد والسدي (¬3). والثالث: كانوا يقطعون الطريق، قاله أبو رَوْق وابن زيد (¬4). ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 206. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 12/ 557. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 167، و"زاد المسير" 3/ 229. (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 167، و"زاد المسير" 3/ 229.

ذكر عذابهم

{يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: يصرفون المؤمنين عن إيمانهم {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [هود: 19] أي السبيل، والعِوج: الزيغ. {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] يعني في العدد، وقيل: في الأموال، ثم قال: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] أي: شتمناك، وقيل: قتلناك. {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: أتراعون رهطي ولا تراعون الله فيَّ {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود: 92] أي رميتم أمره وراء ظهوركم {وَارْتَقِبُوا} العذاب {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93] لكم العذاب، ولي وللمؤمنين الثواب. ذكر عذابهم قال الله تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94] واختلفوا فيهم، قال ابن عباس: صاح بهم جبريل صيحةً فماتوا عن آخرهم و {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود: 94]. وقال محمد بن كعب القُرَظي: عُذِّبَ أهلُ مدين بثلاثة أصناف من العذاب، صنف أخذتهم الرجفة، فخافوا أن تسقط عليهم ديارهم، فخرجوا منها، فأصابهم حرٌّ شديد، فبعث الله الظلة، فتنادوا هلموا إلى الظل، فدخلوا فيه، فصيح بهم صيحة واحدة، فماتوا كلهم. قال جدي رحمه الله في "التبصرة": وهذا القول يدلُّ على أن أهل مدين هم أصحاب الظُّلَّةِ، وإليه ذهب جماعة من العلماء. وذهب مقاتل إلى أن أهل مدين لما هلكوا بُعِثَ شعيب إلى أصحاب الأيكة، فأهلكوا بالظلة (¬1). وقال مجاهد: ومعنى قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 176] أنَّ المراد به: شعيب، لأنه من المرسلين. والأيك: الشجو الملتفُّ، الواحدة: أيكة، فيها لغتان، أيكة وَلَيْكَة. وقيل: الأيكة الغيضة، ولَيْكَة اسم القرية. وقيل: هما واحد، مثل مكة وبكة. وقال أبو الحسين ابن المنادي: وكان أبو جاد، وهواز، وحُطي، وكلمون، وسعفص، وقرشت، ملوك أهل مدين، وهم بنو الأمحض بن جندل بن يعصب بن مدين بن إبراهيم. وكان أبو جاد ملك مكة وما والاها من تهامة، وكان هوَّز، وحطي، ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 206.

ملكي وجٍّ ونجد - والطائف هو وجٌّ - وكان سعفص وقرشت ملكي مدين، ثم خلفهم كلمون، وكان عذاب يوم الظلة في ملكه، فقالت حالفة ابنة كلمون ترثيه (¬1): كلمونٌ هدَّ ركني ... هُلْكُهُ وَسْطَ المحلَّهْ سيِّدُ القومِ أتاه الـ ... ـــحَتفُ نارًا وَسْطَ ظُلَّهْ كوَّنت نارًا فأضحت ... دارهم كالمضمحلَّهْ ثم إنَّ شعيبًا أقام في أهل الأيكة يدعوهم إلى الله فما ازدادوا إلا عتوًّا، فسلَّط الله عليهم الحرَّ. وقال قتادة: أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة والرجفة، وأما أصحاب الأيكة فسلَّط عليهم الحر سبعة أيام ثم بعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم، فذلك عذاب يوم الظلة. وقال مجاهد: حبس الله عنهم الريح سبعة أيام، وسلط عليهم الحرَّ سبعة أيام حتى أخذت بأنفاسهم، فدخلوا الأسراب ليتبردوا فيها، فوجدوها أشدَّ حرًّا من الظاهر، فهربوا إلى البريَّة، فأظلتهم سحابة عظيمة، فوجدوا فيها بَرْدَ النسيم، فتنادوا تعالوا إلى الظلِّ والبرد، حتى إذا اجتمعوا تحتها أمطرت عليهم نارًا فاحترقوا. فالحاصل أن شعيبًا بُعث إلى أهل مدين وأصحاب الأيكة، وإنما اختلفوا إلى أيهم بُعث أولًا. وقال قتادة: كان في قوم شعيب رجل يقال له: عمرو بن جَلْهاء، فلما رأى العذاب قال (¬2): يا قوم إنَّ شعيبًا مُرْسَلٌ فدَعُوا ... عنكم سُميرًا وعمرانَ بن شدَّادِ ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 168، و"التبصرة" 1/ 206 - 207. (¬2) إلى هنا تنتهي نسخة (ل) وجاء في آخرها: انتهى الجزء الأول يتلوه الثاني شعر عمرو بن جلهاء، تم بحمد الله وعونه، وكان الفراغ منه يوم الأحد مستهل شعبان المبارك، سبع عشر وسبعمائة، وكتبه العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن العلم الحكيمي غفر الله له ولوالديه ولصاحب الكتاب ولجميع المسلمين آمين آمين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. وسأعتمد فيما يأتي من هذا الجزء إلى قصة زكريا ويحيى: مطبوعة الدكتور إحسان عباس، ونسخة (ب) رغم اختصاراتها الكثيرة والتقديم والتأخير فيها الذي بدأ من هنا.

ذكر وفاة شعيب وموضع قبره

إني أرى غيمةً يا قومُ قد طلعت ... تدعو بصوت على صمَّانةِ الوادي وأنه لن تروا فيها غداةَ غدٍ ... إلَّا الرَّقِيم تُمَشِّي بين أنجادي وسمير وعمران: كاهِنان، والرقيم: اسم كلب (¬1). وقال ابن المسيب: لما انهزموا من الأسراب رُفِعَ لهم جبلٌ تحته أنهار وعيون، فاجتمعوا تحته، فقلب الله عليهم الجبل. وقال الله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود: 95] أي: لم يسكنوا بمغانيها، من قولهم غنيتُ بالمكان إذا أقصت به، والمغاني: المنازل. وقال السدِّي: ولما هلكوا رثاهم بعضهم فقال (¬2): ملوك بني حُطِّي وسَعفَص ذو النَّدى ... وهوز أرباب البنيّةِ والحجر همُو مَلَكوا مُلْكَ الحجاز بأوجهٍ ... كمثلِ شُعاع الشمسِ أو هالةِ البدر وهم وَطَّنوا البيت الحرامَ ورتَّبوا ... أمورًا وسادوا بالمكارم والفخر ذكر وفاة شعيب وموضع قبره واختلفوا فيه: فقال علماء السير: أقام مدةً بعد هلاك قومه، ووصل إليه موسى عليه السلام، وزوَّجه بابنته. قال جدي رحمه الله في "التبصرة": ثم خرج إلى مكة فمات بها وعمره مئة وأربعون سنة، ودفن في المسجد الحرام، حيالَ الحجر الأسود (¬3). قلت: وعند طبرية بالساحل قرية يقال لها: حطين فيها قبر يقال: إنه قبر شعيب، وما ذكره جدي أصحُّ؛ وكان شعيب قد أوصى إلى موسى. وقال جدي رحمه الله في "أعمار الأعيان": وتوفي بهذه السن: فروة ونفاثة، ومعاذ ابن حيان، ومرارة (¬4). وقال الشَّرقي بن قَطامي: إن الله بعث نبيًا آخر بعد شعيب، يقال له: شعيب بن ذي مهدم بن حصورا، إلى بني حصورا، وهم أمَّةٌ عظيمة من ولد يافث بن نوح، وكانت ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 168. (¬2) القائل هو: المنتصر بن المنذر. إن صحَّ ذلك، فالأبيات نسبت إليه في "الروض المعطار" ص 71. (¬3) "التبصرة" 11/ 207. (¬4) "أعمار الأعيان" ص 99 - 100.

ومن الحوادث التي كانت في أيام شعيب عليه السلام

منازلهم بالسماوة، بين الشام والعراق، وكانت عمائرَ متصلةً، ومياهًا جاريةً، وبساتين مئمرة، وقد ذكرها الزبير بن بكار فقال: حدُّ السماوة من أطراف الشام إلى الحجاز والعراق إلى قنَّسرين وخناصرة إلى بلاد سورية ودِمشق وهي اليوم مفاوز وقفار. وكانوا في عيش ونعمة، فبعث الله إليهم شعيب بن ذي مهدم، فقتلوه، فأوحى الله إلى بعض أنبياء بني إسرائيل أن يأمر بعض الملوك بغزوهم، وقال له: تغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فغزاهم. ويقال: إنما غزاهم بخت نصر، ويقال: إنه صاح بهم صائح من السماء فماتوا، وهم الذين عنى الله تعالى بقوله: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء: 12] في قول مقاتل. ومن الحوادث التي كانت في أيام شعيب عليه السلام منوجهر - بالجيم - وهو ابن أمان (¬1) بن إيرج بن أفريدون - الذي ذكرناه فيما تقدم - وبعث موسى وكان قد مضى في ملكه ستون سنة، وعاش في الملك ستين سنة أخرى، وكان عادلًا سمحًا جوادًا محسنًا. ويقال: هو أول من حفر الخنادق، ورتَّب آلات الحرب، وهو من أكابر ملوك الفرس، وكان مقيمًا بالمشرق يغازي الترك، والحدُّ الفاصل بينه وبين الترك جيحون. ولما مضى من ملكه خمس وثلاثون سنة، أغارت الترك على بلاده، وقطعت جيحون، فجمع الموابذة، والأساورة، وعظماء المملكة، وأجلس موبذان عن يمينه، وهو عالم العلماء، ثم لبس التاج وثياب الملك، ثم قام خطيبًا، وهو أول من خطب في الدنيا من الملوك (¬2). ذكر خطبته قال علماء السير: قام قائمًا على سريره فقاموا لقيامه، فقال: إنما قمتُ لأسمعكم فاقعدوا، فقعدوا، فحمد الله وأثنى عليه وقال بالفارسية كلامًا معناه: وإنما الناس ناس ما دفعوا العارَ عنهم والعدوَّ عن بلادهم، وقد نال العدوُّ من أطراف بلادكم، وليس ذلك إلا من ترككم جهادَهُمْ، وقلَّةِ مبالاتكم بهم، وإن الله إنما أعطانا هذا الملك ¬

_ (¬1) في (ب) منوسهر الملك بن أمان وعند الطبري: منوشهر. انظر "تاريخ الطبري" 1/ 377. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 379، و"المنتظم" 1/ 326 - 327.

لنشكر فيزيدنا، أو نكفرَ فيعاقبنا، إنما الخلق للخالق، والشكرُ للمنعم، والتسليمُ للقادر، ولابدَّ من كون ما هو كائن، وإن التفكر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، وقد ورد الأولُ، ولابدَّ للآخر من اللحاق به، وقد مضى قبلنا أصولٌ نحن فروعها، فما بقاء الفروع بعد ذهاب الأصول، وإنَّ الله أعطانا الملك، فله الحمد ونسأله الرشدَ واليقين والصدق، وإنما للمَلِك على أهل مملكته أن يطيعوه ويناصحوه، ويقاتلوا عدوَّه، وحقهم على الملِكِ إدرار أرزاقهم، وأن يرفقَ بهم، ويحسنَ إليهم، ولا يحملهم ما لا يطيقون، ولا يكلفهم ما هم عنه عاجزون. واعلموا أن الجند للمَلِك بمنزلة جناحي الطائر، فمتى نقص من الجناح ريشُهُ كان ذلك نقصانًا منه. وينبغي أن يكون الملِكُ جوادًا صدوقًا، لا كذوبًا ولا ظالمًا، ولا حقودًا ولا حسودًا، ولا بخيلًا، وأن يملك نفسه عند الغضب، فإنه مسلَّط ويده مبسوطة، وأن يكون عفوًّا صفوحًا، ولأن يخطئ في العفو خيرٌ من أن يصيب في العقوبة. وينبغي للملك أن يتثبَّتَ في الأمر الذي فيه قتلُ النفسِ وإزهاقُ الروح، وإن رفع إليه عاملٌ ما فيه عقوبة، جمع ما بينه وبين المتظلِّم، فإن صحَّ عنده الحقُّ في جهةٍ مال إليها. ألا وإنَّ الملك ملكٌ إذا أطيع، فإذا خولف فهو مملوك. ألا وإنَّ العدوَّ قد طمع فيكم، فانهضوا إلى قتاله، وقد أَزَحْتُ العللَ بالأموال والسلاح، وأنا شريككم في الرأي إن شاء الله؛ وذكر كلامًا طويلًا. ثم أمر بالطعام فمدَّت الموائد، وأفاض عليهم الإنعام، فدعوا له وشكروه، وكتبوا هذه الخطبة بماءِ الذهب، وأودعوها في خزائن الفرس، فما زالوا يتوارثونها. وعاش في الملك مئة وعشرين سنة، وسار في جيوشه إلى الترك، فدوَّخ بلادهم. وولي بعده أفراسياب، وقيل: ابن أفراسياب التركي، وسنذكره (¬1). وفي زمان شعيب كان الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويلقب بالرائش، وسنذكره في ملوك اليمن، إن شاء الله تعالى. * * * ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 380 - 381 - 382 - 383، و"المنتظم" 1/ 327 - 328 - 329.

فصل في ذكر موسى بن عمران عليه السلام

فصل (¬1) في ذِكر مُوسى بن عِمْران علَيه السَّلام (¬2) قال مقاتل: ذكر الله موسى في مئة وثمانية عشر موضعًا. وذكر أبو منصور الجواليقي في "المعرب" فقال: وموسى اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أعجمي معرَّب، وأصله بالعبريَّة موشا. وقال أبو العلاء المعري: ولم أعلمْ أنَّ في العرب من سمي موسى في الجاهلية، وإنما حدث في الإسلام لما نزل القرآن، وسمى المسلمون أبناءهم بأسماء الأنبياء على سبيل التبرك (¬3). وأما نسبه فهو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوي، ابن يعقوب. وقيل: موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، واسم أمه يوخابذ. وكان بين موسى وإبراهيم ألف سنة. وقال أهل التوراة: كان قبل موسى بن عمران نبيٌّ يقال له: موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب، عليه السلام، وقد ذكرناه. وكان موسى راعيًا. ذكر صفته قال وهب: وكان موسى [عليه السلام آدم] جَعدًا طُوالًا، كأنه من رجال أزْد شَنوءة. وقد وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نذكر. وكان في أرنبة أنفه شامة، وكذا على طرف لسانه. قال ابن قتيبة في "المعارف": ولا يعرف أحد قبله ولا بعده، كانت على طرف لسانه شامة غيره، وهي العقدة التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)} [طه: 27] قال: وكان في وجه أخيه هارون شامة، وكان أخاه لأبيه وأمه. وكان ¬

_ (¬1) في (ب): الباب السادس عشر. وليس لدينا في هذا القسم - إلى قصة زكريا - نسخة غيرها، وهي مختصرة، وسياقها مخالف في مواضع كثيرة منه لما في مطبوعة إحسان عباس، لهذا اعتمدنا المطبوعة، وأشرنا إلى ما في النسخة (ب) من زيادات وخلاف. (¬2) انظر: "تاريخ الطبري" 1/ 385، "عرائس المجالس" ص 168 - 169، "المنتظم" 1/ 331، "التبصرة" 1/ 218. (¬3) "المعرب" ص 350.

فصل في الفراعنة

هارون أسنَّ منه بثلاث سنين، وكانت مريم بنت عمران أختهما أسنَّ منهما، وكانت تحت كالب بن يوفنَّا بن فارض به يهوذا بن يعقوب، عليه السلام. وقال ابن قتيبة: لم يكن بين آل يعقوب وأيوب نبيٌّ، حتى كان موسى (¬1). وقال ابن عباس: مات موسى وهارون ولم يريا الشيب. فصل في الفراعنة اختلفوا في فرعون موسى على أقوال: أحدها: أن اسمه الوليد بن الريان، قاله مقاتل. والثاني: الوليد بن مصعب بن معاوية بن أبي نمير بن الهلواش بن عمرو بن عملاق، وعملاق قبيلة، قاله قتادة. والثالث: الوليد بن مصعب بن الريان. والرابع: قابوس، ذكره في التوراة. والخامس: مغيث، قاله ابن أبي نجيح. والسادس: الوليد بن مصعب، قاله ابن أبي عون. وقال قتادة: الفراعنة ثلاثة: أولهم: سنان بن الأشل بن علوان بن العبيد بن عويج بن عمليق؛ وهو صاحب سارة، وكان في زمان الخليل عليه السلام بمصر. والثاني: الريان بن الوليد بن ليث، وهو فرعون يوسف عليه السلام. والئالث: فرعون موسى على الاختلاف في اسمه. وقال وهب: فرعون موسى من القبط عاش أربع مئة سنة، وهو الرابع من الفراعنة، وكان أخبثهم، وذلك لأن فرعون يوسف لم يكن يؤذي بني إسرائيل، ويحسن إليهم ويكرمهم؛ وفرعون موسى عذبهم بأنواع العذاب، لما يذكر. ¬

_ (¬1) "المعارف" ص 43.

وقد قال قوم: إن فرعون يوسف هو فرعون موسى، وإنه عاش إلى زمان موسى عليه السلام، وهو وَهَم، بينهما زمان طويل. وقال الجوهري: فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر، وكل عاتٍ متمرد فرعون، والعُتاةُ الفراعنة، وهو ذو فَرْعَنَةٍ، أي: دهاء ونكر (¬1). وقال ابن الجواليقي: والفرعنة مشتقةٌ من فرعون (¬2). واختلفوا في صفته: قال وهب: كان قصيرًا، ولحيته سبعة أشبار. وقيل: كان طوله قدر ذراع. وقيل: كان طُوالًا. واختلفوا في أي مكان كان على أقوال: أحدها: أنه مَعْلَثايا (¬3) من بلد المَوصل، وفي هذا المكان قلعة تعرف بفرعون. الثاني: أنه من بَلْخ، وكان هامان خبازًا ببَلْخ، وفرعون يومئذ فقير، قاله وهب. والثالث: من بوشنج، قاله مقاتل. والرابع: من أهل أصبهان، حكاه عبد الله بن المبارك. فحكى يعمر بن بشر عن ابن المبارك، قال: كان عطارًا بأصبهان فأفلس وركبه دين، فخرج منها هاربًا من الدَّين إلى الشام، فلم يستقمْ له حال، فأتى مصر، فرأى على باب المدينة وِقْرَ حملِ بطيخ، فسأل عن سعره، قيل له هذا بدرهم، فدخل المدينة فرأى وقرَ بطيخ، فسأل عنه، فقيل له: كلُّ بطيخة بدرهم، فقال: من هاهنا أقضي ديني، واشترى وقرًا بدرهم، وأتى به باب المدينة، فنهبه البوابون حتى بقيت بطيخة واحدة، فباعها بدرهم، فقال: ما هذا؟ أما هاهنا أحدٌ ينظر؟ فقالوا: ملكنا مشغولٌ بلذته، وقد فوَّضَ الأمور إلى وزير له، ولا ينظر في شيء. فخرج فرعون إلى المقابر، فجعل لا يمكِّن أحدًا من الدفن إلا بخمسة دراهم، وأقام على ذلك مدة لم يتعرض له أحد، فماتت بنت الملك فقال: هاتوا خمسة دراهم، فقالوا: ويحك، هذه بنت الملك، فقال: ¬

_ (¬1) "الصحاح" (فرعن). (¬2) "المعرب" ص 294. (¬3) في (ب) بدل المعكوفات: وكان من معلثايا، والمثبت من (ط).

فصل في مولد موسى عليه السلام وحاله مع فرعون إلى أن خرج من مصر

هاتوا عشرة دراهم، فلم يزلْ يضاعفها عليهم حتى بلغ مئة درهم، فأُخبر الملك بحديثه فقال: ومن هذا؟ قالوا: عامل الموتى، فأرسل إليه الوزير فسأله عنه، فأنكر حاله، فأرسل إليه الملك وقال: من أنت؟ فأخبره بخبر البطيخ، وقال: ما صرتُ عاملَ الموتى إلا حتى يصلَ إليك خبري وتحضرني فأنصحك. استيقظْ لنفسك، واحفظ ملكك وإلا ذهب منك، فاستوزره وقتل الوزير، وفوَّض إليه الأمور، فسار في الناس سيرة حسنة، وكان عادلًا سخيًا، يقضي بالحقِّ ولو على نفسه، فأحبه الناس. وتوفي الملك فولُّوه عليهم، فعاش زمانًا طويلًا حتى مات منهم ثلاثة قرون وهو باقٍ، فبطر وتجبر وطغى وقال: أنا ربكم الأعلى (¬1). وقال مجاهد: ولما خرج من خراسان تبعه هامان، لما كان بينهما من الصداقة فاستوزره. والظاهر أن فرعون كان من القبط لما يذكر فيما بعد. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: كان سخيًا عادلًا، فلذلك دام ملكه. وقيل: إن ابن عباس هو القائل: كان يقضي بالحق على نفسه. فصل في مولد موسى عليه السلام وحاله مع فرعون إلى أن خرج من مصر قال علماء السير، كوهب بن منبه والكلبي والسدي وغيرهم، قالوا: رأى فرعون في منامه كأن نارًا أقبلت من البيت المقدس فأحرقت بيوتَ مصر وقصرَ فرعون والقبط فلم يبق منهم أحد، فهاله ذلك، فجمع الكهنة والسحرة وأخبرهم بما رأى، فنظروا في علومهم فقالوا: يولد مولود في بني إسرائيل يكون هلاكك وهلاك قومك على يده. وذكر جدي رحمه الله في "التبصرة" وقال: كانت الكهنة قد أخبرت فرعون وقالت: يولد مولود في بني إسرائيل يكون هلاكك على يده (¬2). ولم يذكر المنام، وهو أصح، لأن موسى إنما ولد بمصر لا ببيت المقدس، فالنار التي أحرقت بيوتَ مصر إنما خرجت من مصر. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 1/ 332 - 333. (¬2) "التبصرة" 1/ 218.

قالوا: فأمر فرعون بذبح كل مولود يولد في بني إسرائيل، ووكل الشُّرَط مع القوابل كلَّما وُلدَ مولودٌ ذبحوه، وأسرع الموتُ في مشيخة بني إسرائيل، فقال رؤساء القبط لفرعون: قد أمرت بذبح الأبناء، وقد أسرع الموت في المشايخ، فإن دمت على هذا لم يبق لنا من يخدمنا. فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فولد هارون قبل موسى في السنة التي لم يذبح فيها، وولد موسى في السنة التي يذبح فيها، بعد أن ذبح من بني إسرائيل سبعين ألفًا، وقيل: تسعين ألفًا. فلما ولد موسى دخل الطلب إلى بيت أمه، فألقته في التنور، فلما خرجوا قامت إلى التنور وهو يُسْجَر، فرأته سالمًا، فألهمها الله أن صنعت تابوتًا من البرديِّ - وقيل: إنما صنعه رجل مؤمن من آل فرعون - فأوحى الله إلى يوخابذ، أمِّ موسى، أن اقذفيه في التابوت ثم اقذفيه في اليمِّ - يعني: في النيل - ففعلت ذلك بعد أن أرضعته. فإن قيل: فلم أُمِرَتْ بإلقائه في الماء، قال أبو حنيفة ابن النُّوبي: ليختفي على الكهان أمره، لأن المولود إذا وقع في الماء خفي نجمه. وقيل أيضًا: قيل لأمِّه: اطرحيه في التلف لأنجيه بالتلف. فسار الماء بالتابوت، وكانت قد زَفَّتَت (¬1) التابوت، ولفَّت موسى في القطن، فساقه القدر إلى نهرٍ يأخذ من النيل إلى دار فرعون، ووافق جلوسَ فرعون في ذلك الوقت على البركة، ومعه آسية بنت مزاحم، فدخل التابوتُ إلى البركة، فقال فرعون للخدم والجواري: أخرجوه، فأخرجوه، ففتح التابوت فرآه، فقال: عبراني، كيف أخطأه الذبح وأمرُ السنة؟ فقالت آسية: هذا أكبر من سنة، فدعه عسى أن يكون {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} [القصص: 9] وكان لا يولد لفرعون إلا البنات، وأحبَّه فرعون حبًا شديدًا بحيث لم يصبر عنه لحظة. قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]. قال قتادة: كان في عينيه ملاحة ما رآه أحدٌ إلا وأحبه. فإن قيل: فأي مناسبة بين الماء والنار؟ ولم كان مبدأ موسى ومنتهاه معهما؟ فالجواب من وجوه: أحدها: لأن الماء مغرق، فكأن فيه إشارة إلى هلاك عدوِّه ونجاته. وأما النار فمن ¬

_ (¬1) أي طَلته بالزّفت لئلا يتسرب إليه الماء، وعند الثعلبي: قَيَّرت، أي طلته بالقار.

عاداتها الإحراق، ولكن ظهرت معجزات موسى بأن حصل له المقصود بالتكليم منها. والثاني: لأن طبع النار على تليين الأشياء، وطبع الماء على الترطيب، فأثَّر ذلك في العصا التي كانت في معجزاته. والثالث: أن في النار والماء بقاءَ العالم، فكذلك كان في موسى حياة الدِّين. وقال الضحاك: لما ألقته أمه في النار خافت، فلما ألقته في اليم ندمت وجزعت، فربط الله على قلبها، فقالت لأخته مريم: {قُصِّيهِ} [القصص: 11] أي: اتبعي آثاره، فدخلت دار فرعون فوجدته عند آسية، وقد جمعت له المراضع فلم يقبل ثديًا، فقالت مريم أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه: 40] أي: من يرضعه ويضمه إليه؟ فقالت آسية: نعم، فأرسلت إلى أمه فجاءت فأعطته ثديها فقبله وشرب ونام، فذلك قوله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} [طه: 40] وفي مصحف أبيِّ بن كعب: "فرددناك إلى أمك كي تقر عينها بلقائك". فلما تمَّ رَضاعُهُ رَدَّتْهُ إلى دار فرعون، فأخذه يومًا في حجره، فمدَّ يده للحيته، فقال: عليَّ بالذابح، فقالت آسية: إنما هو صبيٌّ لا عقل له، وأحضرت ياقوتًا وجمرًا فأخذ جمرة فوضعها في فيه، فاحترق لسانه، فذلك قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27 - 28]. فإن قيل: فأنَّى اشتبه بالنار؟ ويوم التنور ألقي فيها فلم تحرق لسانه؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه قال لفرعون يومًا: يا "بابا"، فعوقب لسانه ولم تعاقَبْ يده لأنها مَدَّتْ بلحية فرعون، ولهذا ظهرت المعجزة في اليد دون اللسان {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه: 22]. فإن قيل: فـ"بابا" مخرجها من الشفتين، قلنا: لابدَّ للسان من فعل لأنه آلة النطق، فقد وجدت المشاركة. والثاني: أنه لم يحترق في التنور ليدوم الأنس بينه وبين النار إلى ليلة التكليم. والثالث: أنها لم تحترق يده ليجاهد بها فرعون، وذلك بحمل العصا. وهذا الذى ذكرناه في بداية موسى ذَكَرَه مَنْ سمينا في أول الفصل من العلماء.

وقد روى الوالبي عن ابن عباس بمعناه قال: ذبح فرعون في طلب موسى تسعين ألفًا من بني إسرائيل، قيل: وكانت القابلة التي وكلها بأمِّ موسى مصافيةً لها، فلما ولد موسى ووقع على الأرض لاح نورٌ بين عينيه، فهالها وهابته، فقالت لأمِّه: احفظي ولدك، فهذا هو المطلوب الذي أُخْبرنا بأنه عدوُّنا لأنها كانت قبطيَّة، وهجم عليها الشرط، والتنور يُسْجَر، فلفَّته في خرقةٍ، وألقته فيه، وغشي على أمه من الخوف، وخرج الشرط فقالت أمه لأخته - واسمها مريم، وقيل: كانت له أخت أخرى يقال لها كلثم -: أين الصبي؟ فقالت: لا أعلم، فسمعت بكاءَه من التنور، فألهمها الله أن تصنع له تابوتًا وهو معنى قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} والوحي هنا: هو الإلهام. قال الأصمعي: قلت لأعرابية: ما أفصحك، فقالت: أبعد قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} فصاحة؟ فجمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين. فاشترته من نجار، فقال لها: ما الذي تصنعين به؟ فقالت: أضع فيه ابنًا لي أخاف عليه كيدَ فرعون، فمضى النجار ليغمز عليها فأخرسه الله، فجعل يشير بيده فلم يفهموا إشارَتَهُ، ثم آمن بعد ذلك بموسى. فألقته في اليمِّ، وكانت لفرعون ابنة برصاء قد أعيا الأطباءَ داؤها، وقالت الكهنة: لا تبرأ إلا من قبل إنسان يوجد في البحر عند شروق الشمس، في وقت كذا وكذا، فاتفق جلوسُ فرعون في تلك الساعة على جانب النيل، وعنده ابنته البرصاء وآسية، وإذا بالتابوت يضربه الموج وقد تعلَّق بالشجر، فابتدروه بالسفن فأخذوه، فعالجوه فلم يقدروا على فتحه، ودَنتْ منه آسيةُ ففتحته، فلاحَ نورٌ عظيم من بين عينيه، وقد جعل الله رزقه في إبهامه وهو يمصُّ فيدرُّ لبنًا، وأخذت ابنة فرعون من ريقه فلطخت به برصها، فبرئت من وقتها، فقَبَّلَتْهُ وضمَّته إلى صدرها وفرعون ينظر، فقال الغواة من قومه: إنَّا نظنّ أن هذا المولود هو الذي يزيل ملكك، وإنهم خافوا عليه منك فألقوه في البحر، فاقتله، فهمَّ بقتله فمعته آسية وقالت: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] فوهبه لها، وقال: أما أنا فلا حاجة لي فيه. قال ابن عباس: لو قال فرعون مثل ما قالت آسية {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي} [القصص: 9] لهداه الله كما هداها، ولكن أحبَّ الله أن يجري فيه سابق علمه. قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10] أي: سالمًا من كل شيء

ذكر قتله للقبطي

إلا من ذكر موسى شفقةً عليه. وقال ابن عباس: جاءها إبليس فقال: كرهت أن يقتله فرعون فيكونَ لك أجره وثوابه، وتوليتِ أنت قتله فألقيته في اليم؟ ! فخافت. وقولها لأخته: {قُصِّيهِ} من القصص، وهو العلم بالخبر {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11] أي: بُعد، فجعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده. {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل مجيء أمِّه. وقال السُّدي: لما قالت أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] أخذوها وقالوا: قد عرفت هذا الغلام فدلِّينا على أهله، فقالت: ما عنيت بالنصح إلا للملك، فسكتوا عنها. قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال الكلبي: الأشدُّ إلى ثلاث وثلاثين سنة {وَاسْتَوَى} [القصص: 14] أربعين سنة، وقد ذكرناه. ذكر قتله للقبطي قال علماء السير: ولما ترعرع {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} وهي مدينة فرعون، ويقال لها: مَنْف {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} وكانت وقت القائلة. وقال السُّدي: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} وهم القبط، وقيل: الذي من شيعته هو السامري، والذي من عدوِّه طباخ فرعون واسمه فلينون. وكان القبطي قد أخذ الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى مطبخ فرعون، فقال له موسى: دعه، فقال: إنما أخذتُهُ ليحملَ الحطب إلى مطبخ أبيك، وكان موسى يسمى ابنَ فرعون، لا يركب ولا ينزل إلا معه، فقال: دَعْهُ، فقال الطباخ: لقد هممتُ أن أحمله على ظهرك {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} أي: مات، ولم يتعمد موسى قتله. والوكز بأطراف الأصابع {فَقَضَى عَلَيْهِ} أي: فرغ من أمره، فندم موسى على قتله، فدفنه في الرمل وقال: لم أومر بذلك، فإنه {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15] {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي: ينتظر الأخبار من ناحية القبطي، أن يؤخذ به فيقتل {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} وقد لزمه قبطي آخر يريدُ أن يُسَخِّره، فاستغاث به الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على قتل القبطي بالأمس، فقال للإسرائيلي: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] ومعناه: ما كفاني أن قتلتُ بالأمس نفسًا بسببك حتى أقتلَ آخر، ثم مدَّ يده إلى الفرعوني وظنَّ الإسرائيلي أنه يريده، فقال: {يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي

فصل في خروج موسى إلى مدين

كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} [القصص: 19] فلما سمع الفرعوني مقالة الإسرائيلي، علم أن موسى قتل القبطيَّ، فأخبر فرعون، فأمر بقتل موسى، وعلم حربيل مؤمن آل فرعون وكان ابن عم فرعون فقال: {يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي: يتشاورون في قتلك {فَاخْرُجْ} من هذه المدينة {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20] {فَخَرَجَ مِنْهَا} موسى {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي: ينتظر الطلب {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21] (¬1). فصل في خروج موسى إلى مدين وقد ذكرنا مدين، قال الله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي: قصدها خارجًا عن مصَر وسلطان فرعون {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] أي: قَصْدَ الطريق إلى مدين، وبينها وبين مصر عشر ليال (¬2). قال وهب: ولم يكن معه زاد ولا درهم ولا دينار ولا حذاء، وكان يأكل ورقَ الشجر، ويمشي حافيًا، حتى سقط نعل قدميه، حتى ورد ماء مدين {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} [القصص: 23] أي: جماعة، {يَسْقُونَ} مواشيهم {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} أي: تمنعان أغنامهما أو مواشيهما عن الاختلاط بأغنام الناس. وقيل: تحبسان أغنامهما لضعفهما، فإذا شربت أغنام الناس سقيا، وأصل الذِّياد: الطرد. {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي: شأنكما، لا تسقيان مواشيكما مع مواشي الناس؟ {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أي: لا نقدر أن نزاحم الناس، فإذا صدروا سقينا، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23]. فإن قيل: فقولهما: "وأبونا شيخ كبير" زيادة على الجواب، قلنا: معناه: لا يقدرُ أن يسقيَ غنمنا فيريحنا. وعامة العلماء على أنه شعيب الذي قدمنا ذكره، ذكره جدي في "التبصرة" (¬3)، إلا الحسن البصري ومقاتل، فإن الحسن قال: يقول الناس إنه شعيب، وليس بشعيب، ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 174 - 175. (¬2) في (ط): عشرة أميال. (¬3) "التبصرة" 1/ 219.

ولكنه سيّدُ الماءِ يومئذ. وأما مقاتل فإنه قال: كان شعيب قد مات ودفن بين المقام وزمزم، وإنما هذا يثرون ابن أخي شعيب. قال: وقيل: اسمه يثربي. فلما سمع موسى كلامهما رحمهما، فاقتلع صخرةً من على رأس بئر أخرى بقرب تلك البئر لا يطيق رفعها إلا جماعة من الرجال، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} أي: إلى ظلِّ شجرة {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] والخير: الطعام، وهو في القرآن على وجوه: أحدها: الطعام، وقال الفراء: الخير اسم لكلِّ ممدوح، والشرُّ اسم لكل مذموم. وقال ابن عباس: لقد قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وإن بطنه قد لصق بظهره، وإنه لأحوجُ الناس إلى شِقِّ تمرةٍ، وإن خضرة البقل لتبين من باطن بطنه، وإنه لأكرمُ خلقِ الله وما أحد على وجه الأرض أعزُّ منه عند الله. فلما رجعتا إلى أبيهما رأى الأغنام وهي حُفَّل، فقال: ما أعجلكما، قالتا: وجدنا رجلًا صالحًا رحمنا فسقى لنا، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي، فأتته {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} مستترة بكمِّ درعها، وقد سترت وجهها بيدها، فقالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] فتبعها. قال مطرف بن عبد الله: لو كان عند نبيِّ الله شيءٌ ما تبعها، ولكن حمله على ذلك الجهد. وسئل سفيان بن عيينة فقيل له: الرجلُ يعمل العمل لله يؤذِّن أو يؤمُّ أو يعين أخاه، فيعطى الشيء فيقبله، قال: نعم، ألا ترى أنَّ موسى عليه السلام لم يعمل للعمالة، وإنه عمل لله تعالى فعرض له رزق من الله فقبله، ثم قرأ: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}. وقال وهب: فمشى وهي بين يديه، فهبت الريح فعطفت ثوبها على ردفها، فقال لها: امشي خلفي فإننا لا ننظر إلى أعجاز النساء {فَلَمَّا جَاءَهُ} يعني شعيبًا {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] يعني فرعون وقومَهُ، أي: لا سلطانَ له على أرضنا. {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} ليرعى أغنامنا {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] قال لها: وما علمك بقوَّته وأمانته؟ قالت: قَلْعُهُ صخرةً لا

يقلعها إلا جماعة من الرجال، وأما أمانته فإنَّ الريح هبَّتْ بثوبي فقال لي: كوني خلفي. فحيئذ {قَالَ} له {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} الآية. قال وهب: واسم الكبرى صفورا، والصغرى عبورا. وقال جدي في "التبصرة": صفورا وليا (¬1). {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] أن تكون أجيري ثماني سنين، وفي حديث أبي ذرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تَزوجَ الصُّغرَى مِنهُما، وهي التي قَالت يا أَبتِ، استأجِرهُ" (¬2). قلت: وقد كان في شرعهم تزويج المرأة على رعي الغنم جائز، وكذا عندنا لأنه من باب القيام بمصالح الزوجة، وكذا لو تزوجها على زراعة أرضها، وفيه خلاف، ذكرناه في "شرح الجامع الصغير". وأصل المسألة: رجل تزوج امرأة على خدمة سنة والزوجُ حرٌّ، جاز النكاح ولا تكون الخدمة صداقًا، ولها مهر المثل عند أبي حنيفة، وقال محمد: لها فيه خدمة سنة، ولم يذكر في "الأصل" قول أبي يوسف، وقيل: هو مع محمد، وقيل: مع أبي حنيفة؛ وقال مالك والشافعي: لها خدمة سنة. وعن أحمد كالمذهبين. فالحاصل: أن محمدًا يقول: استخدام الحرة زوجها حرام، فوجب الرجوع إلى القيمة كما لو تزوجها على عبدٍ فاستحق العبد. والشافعي يقول: لو تزوجها على رعي غنمها أو زراعة أرضها جاز كذا هذا. وأبو حنيفة يقول: استخدام المرأة زوجها إذلالٌ له وهوانٌ لأنه قوَّامٌ عليها، فصار كما لو سمَّى ما لا قيمة له، فإنه يجب مهر المثل. وأما في رعي الغنم وزراعة الأرض، ففي "الأصل" لا يصحُّ قياسًا على الخدمة وعلى التسليم، فهو من باب القيام بمصالحها كما ذكرنا. وقد بسطنا القول في هذا في "شرح الجامع الصغير". وقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27] أي: في الصحبة {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] أي: العشر أو الثمان، فليس لك أن تطالبني بأكثر من ذلك فتتعدَّى عليَّ {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي: شهيد. وقال وهب: ثم أمر شعيب ابنته أن تدفع إلى موسى عصا يدفع بها عنه وعن غنمه السباع، فدفعت إليه عصا، واختلفوا فيها: ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 219. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 9/ 2966. وابن عساكر في "تاريخه" 61/ 29.

قال عكرمة: هي التي أنزلت مع آدم من الجنة، وكان طولها عشرة أذرع من آس الجنة، ولها شعبتان تَقِدانِ في الظلام نورًا، وأسمها: عمليق، يتوارثها الأنبياء كابرًا عن كابر، حتى وصلت إلى شعيب. وقال ابن عباس: لما مات آدم أخذها جبريل فكانت في علم الله، حتى وصلت إلى الشيخ، فدفعها إلى موسى. وقال قتادة: أمر الله مَلَكًا، فنزل في صورة شيخ، فأودعها عند شعيب. فلما دفعها إلى موسى ندم وقال لابنته: فرَّطنا في الوديعة. ثم قال لموسى: ردَّ عليَّ وديعةَ الرجل، فامتنع، فبعث الله إليهما ملكًا، فتحاكما إليه، فقال: ضعوها في الأرض، فأيكم أقلَّها فهي له، فوضعها على وجه الأرض، فذهب الشيخ ليقلها فلم يطق، ورفعها موسى فذهب بها، فقال الشيخ: إن لها لشأنًا (¬1). وقال مقاتل: كان بأرض مدين تنين في أرض مخصبة، ولا يتجاسر أحدٌ أن يدنو من تلك الأرض، فقال له شعيب: احذر من التنين، فجاء موسى يومًا بالغنم فرأى الخصب فأعجبه، فأرسل غنمه ترعى، ونام فجاء التنين، فقامت العصا تحاربه فقتلته، فانتبه موسى، وإذا بالتنين مقتول والعصا ملوَّثة بدمه، فجاء به إلى شعيب، فقال: ألم أقل لك إن لها شأنًا (¬2). {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} [القصص: 29] أي: أتمه وفرغ منه، والأجل: انتهاء الشيء. وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيَّ الأجلين قضى موسى؟ قال: "أبعدَهُما وأطيبَهما وأوفاهُما وأتمهُما" (¬3). واختلفوا ما الذي أنكحه منهما، قد ذكرنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أنكحه الصغرى (¬4). وقيل: الكبرى. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 177 - 178. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 179 - 180. (¬3) أخرجه الحاكم 2/ 407، وفيه حفص بن عمر العدني واه، وانظر "عرائس المجالس" ص 177. (¬4) انظر الصفحة السابقة.

فصل فيما جرى لموسى بعد انفصاله من مدين وقصة النار والتكليم والرسالة ونحو ذلك

قلت: وقد أخرج جدي رحمه الله في كتاب "الأحاديث الواهية" بمعنى هذا عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سئلت أيُّ الأجلين قضى موسى؟ قلْ: خيرهما وأبرهما، وإن سئلت أي المرأتين تزوج موسى؟ فقل: الصغرى منهما، وهي التي جاءت فقالت: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} فقال لها: ما رأيت من قوته؟ قالت: أخذ حجرًا ثقيلًا فألقاه عن البئر، قال: وما رأيتِ من أمانته؟ فقالت: قال لي: امشي من خلفي ولا تمشي أمامي" (¬1). ثم قال جدي: هذا حديث لا يصحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في إسناده عوبد بن أبي عمران، قال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث. وأنبأنا جدي رحمه الله قال: حدثنا محمد بن ناصر بإسناده عن عُلَيّ بن رباح قال: سمعت عُتبة بن النُّدَّرِ يقول: كُنَّا عند رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ {طس} حتى بَلغ قِصَّة مُوسى عليه السلام، فقال: "إنَّ مُوسى آجَرَ نفسَه ثَمانِيَ سِنينَ أو عَشرًا على عِفَّةِ فَرجِهِ وطَعَامِ بَطنِه". أخرجه ابن ماجة القزويني (¬2) عن عتبة، ولم يخرجه أحمد ولا البخاري ومسلم. وليس في الصحابة من اسمه عتبة بن النُّدَّر، بنون ودال مهملة غيره. وقال مجاهد: أقام موسى بعد فراغ الأجل عشر سنين أخرى، فكمل عشرين سنة؛ وعامة العلماء على أنه لما قضى الأجل سار بأهله كما أخبر الله تعالى. فصل فيما جرى لموسى بعد انفصاله من مدين وقصة النار والتكليم والرسالة ونحو ذلك قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ} [القصص: 29] الآية. قال السُّديُ وغيره: لما طال مقام موسى عند الشيخ، اشتاق إلى والدته وأخيه، فاستأذن الشيخ في زيارتهما فأذن له، فسار بزوجته يطلب أرض مصر، وكان في أيام الشتاء، فحاد عن الطريق، فسار في البرية غير عارف بطرقها، وكانت امرأته حاملًا، ¬

_ (¬1) لم نقف عليه في الأحاديث الواهية، وقد أخرجه البزار (2444) (زوائد)، والطبراني في الأوسط (5426)، والصغير (815)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2966، والخطيب في تاريخه 2/ 128. (¬2) أخرجه ابن ماجه (2444).

فألجأه المسير إلى جانب الطور الأيمن الغربي في ليلة مظلمة شديدة البرد، فأخذ الطلقُ زوجته فجعل يكادح المقادح فلم تورِ نورًا، فقال لأهله أي لزوجته: {امْكُثُوا} أي: أقيموا {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [القصص: 29] أي: أبصرت. وقال مجاهد: إنما رأى نورًا ولكن وقع الإخبار عما كان في ظنه وما يطلبه {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ} شعلة {مِنَ النَّارِ} وقال مقاتل: إنما قال: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10] لأنه كان قد ضلَّ الطريق، فعلم أن النار لا تخلو من موقد {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29] أي: تستعيذون من البرد. قال ابن عباس: أمر الله تعالى النيران في تلك الليلة أن تخمد فلا تظهر في الأرض نار. وأنبأنا جدي رحمه الله في "التبصرة" قال: أنبأنا محمد بن أبي منصور بإسناده عن وهب بن منبِّه، وذكر السُّديُّ وقتادة ومجاهد بمعناه دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: خرج موسى في ليلة مثلجة شاتية فولد له ابنٌ في الطريق، فحاد عن الطريق، فأخذ يقدح فلم تورِ المقدحة نارًا، فبينما هو كذلك إذ لاحت له نار وكانت ليلة الجمعة، فقال لأهله: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه: 10] أي: شعلة، والقبس: ما اقتبس من عيدان ونحوه. فلما قرب من النار، قال وهب: فإذا هو بنار عظيمة تفور من فروع شجرة خضراء شديدة الخضرة، لا تزداد النار فيما يرى إلا عظمًا وتضرُّمًا، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرةً وحسنًا، فوقف ينظر لا يدري ما يصنع في أمرها، إلا أنه قد ظنَّ أنها شجرة تحترق، فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه. قال مجاهد: وسمع تسبيح الملائكة فخاف خوفًا عظيمًا. قال وهب: فلما طال ذلك عليه أهوى إليها بضِغْثٍ في يده ليقتبس منها شيئًا، فمالت نحوه كأنها تريده، فاستأخر عنها ثم عاد، فلم يزل كذلك، فما كان بأسرع أو بأوشك من خمودها، فتعجَّب وقال: إن لهذه النار لشأنًا. فوقف متحيرًا، فإذا بخضرتها قد صارت نورًا، عمودًا ما بين السماء والأرض، فاشتدَّ خوفه وكاد يخالَطُ في عقله من شدة الخوف. وقال مجاهد: صارت عمودًا من نور له شعاع مثل شعاع الشمس تكلُّ دونه الأبصار. فعند ذلك خاف ووضع يده على عينيه ولصق بالأرض، فسمع حسًّا وشيئًا لم

يسمع السامعون مثله. فلما اشتدَّ كربه وكاد أن يذهب عقله - رجع الحديث إلى وهب بن منبه - فنودي من الشجرة يا موسى، فأجاب سريعًا وما يدري من دعاه، فقال: لبيك، أسمعُ صوتك ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ قال: أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك. فلما سمع موسى ذلك علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربِّه تعالى، فأيقن به فقال: كذلك أنت يا إلهي، أكلامك أسمعُ أم رسولك؟ قال: بل أنا الذي أكلمك. وقال السُّدي: فذلك معنى قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} أي: من جانبه {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} المقدسة {مِنَ الشَّجَرَةِ} وكانت من العُلَّيق في قول السُّدي. وفي قول مجاهد: من العَوسج. وفي قول مقاتل: من الصنوبر، وقال ابن مسعود: كانت الشجرة مثمرة خضراء ترفُّ. وقال قتادة: ناداه {يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]. قال مقاتل: عرض له الشيطان في ذلك الوقت فقال له: يا موسى، أتدري من يكلمك؟ قال: نعم، الله ربي، فقال: وإلهك يتكلم؟ إنما كلمك شيطان من جندي. قال له موسى عليه السلام: كذبت، قال: ولم؟ قال: لأني سمعت الكلام من الجهات الست، من فوق، ومن تحت، وعن يميني وشمالي، وورائي وأمامي، وسمعت الموجودات تعظِّم ربي، فعلمتُ أن أحدًا لا يتجاسر أن يقول: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] إلا الله، فانصرف الملعون خاسئًا. قال مجاهد: قوله: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} "إني": للتعريف، و"أنا": للتشريف، و"الله" تعالى: للتوقيف. وقد روي في هذا المعنى حديث أخرجه أبو أحمد بن عَدي عن ابن مسعود عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لما كَلَّمَ اللهُ موسى، قال: من ذا العبري، أو العبراني، الذي يكلِّمني من الشجرة؟ فقال: أنا اللهُ" (¬1)؛ قال جدي رحمه الله: إلا أنه حديث موضوع، فإن كلام الله لا يشبه كلام المخلوقين، والمتهم بوضعه حميد بن علي، وقيل: ابن عطاء، وقيل: ابن عمار. وفي هذا الحديث (¬2): أنَّه كانَ على مُوسى جُبَّةُ صُوفٍ، وفي رجليه نعلان من ¬

_ (¬1) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (399)، ولم أقف عليه عند ابن عدي. (¬2) وهو ما أخرجه ابن عدي في الكامل 2/ 272 في ترجمة حميد بن علي.

جِلدِ حِمارٍ غَيرِ مُذكَّى. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] أنه أُدنيَ حتى سمع صرير الأقلام في اللوح المحفوظ. وقال الحسن البصري: ولما كلم الله موسى ضرب على قلبه صفائح النور، ولولا ذلك لما أطاق سماع كلام الله تعالى. رجع الحديث إلى وهب: قال: فقال الله تعالى: ادن مني، فجمع موسى يديه في العصا، ثم تحامل حتى استقلَّ قائمًا، وأرعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه، ولم يبق منه عظم يحمل آخر، فهو بمنزلة الميت، إلَّا أنَّ روح الحياة يجري فيه، ثم زحف على ذلك وهو مرعوب، حتى وقف بمنزلةٍ قريبًا من الشجرة، فقال له الربُّ تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 17 - 18] أي: أعتمد إذا عييت. قال: وما تصنع بها؟ قال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] قال مجاهد: ومعنى أتوكأ عليها: أي أعتمد إذا عييت من المشي، وأهش: أخبط بها الشجر ليتناثر الورق فتأكل منه الغنم. وقرأ عكرمة: أهس، بالسين المهملة، أي: أزجو بها الغنم، وهما لغتان، والمآرب: الحاجات. وقال ابن عباس: كان له فيها ألف حاجة، منها أنه كان يحمل عليها زاده وسقاءه، وإذا خاف حدَّثته وآنسته، وإذا جاع أو عطش ضرب بها الأرض فيظهر الطعام والشراب، ويحارب العدوَّ، ويدفع عنه الوحوشَ والهوام، وإذا اشتهى ثمرةً غرزها في الأرض فصارت غصنًا وأورقت وأثمرت، إلى غير ذلك. وروى مجاهد أنها كانت من لوز، والصحيح أنها كانت من آس الجنة (¬1). فإن قيل: فقد علم الله تعالى حال العصا فلمَ كان أول كلامه له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ}؟ فالجواب: إن هذا على وجه المباسطة له، لأنه لمَّا رأى النار، وسمع تسبيح الملائكة، وشاهد ما حكيناه، خاف وصار كل عضو منه على حدة، فباسطه الله ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 178 - 179.

تعالى بذلك، ليثبِّت جنانه (¬1) فيصلح حينئذ لحمل الرسالة إلى فرعون. رجع الحديث إلى وهب، قال: وكان لها شعبتان، ومحجن تحت الشعبتين {قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى} [طه: 19] فظن أنه يقول: ارفضها، فألقاها، ثم حانت منه نظرة فإذا هي أعظم ثعبان نظر إليه الناظرون يدبُّ كأنه يلتمس شيئًا يريد أخذه، يمر بالصخرة مثل الخَلِفَة (¬2) من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيقتلعها ويبتلعها، عيناه توقدان نارًا، وقد عاد المحجن عرفًا فيه شعر مثل النيازك، وعادت الشعبتان فمًا مثل القليب الواسع، فيه أضراس وأنياب لها صريف، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرًا، فذهب حتى أمعن في البريَّة، ثم ذكر ربه فوقف استحياءً منه، فنودي: يا موسى ارجع حيث كنت، فرجع وهو شديدُ الخوف، فقال: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 21] وعلى موسى يومئذ مِدْرَعة صوف، قد خلَّها بخلال من عيدان، فأثنى طرف مدرعته على يده ليأخذها، فقال له مَلَكٌ: أرأيت يا موسى، لو أذن الله لما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئًا؟ قال: لا، ولكني ضعيف، ومن ضعفٍ خلقت، فكشف عن يده ووضعها في فم الحية حتى سمع حسَّ الأضراس والأنياب، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها. فإن قيل: فلمَ خاف موسى من العصا ولم يخف إبراهيم من النار؟ فالجواب: إن تحويل العصا من فعل الله تعالى، وإيقاد النار من فعل الخلق، وقيل: خاف موسى أن تلك الحية التي أُخرج آدم من الجنة بسببها، أو من جنسها، فلهذا خاف، والسعيد مَنْ وُعِظَ بغيره. وقيل: لما أضافها إلى نفسه بقوله: {هِيَ عَصَايَ} أراه أن من اتكل على غيره تعقبه الفرار. وقال ابن عباس: ولما حصل في الوادي نودي: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12] واختلفوا في معنى الأمر بإلقاء نعليه على أقوال: أحدها: أنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ، قاله قتادة، وابن مسعود رواه مرفوعًا، ولا يصحّ، وقد ذكرناه في حديث العبريّ. ¬

_ (¬1) في (ب): "جأشه. (¬2) هي الحامل من النوق.

والثاني: إنما أمره بإلقاءِ نعليه لتنال قدماه من بركة تلك الأرض المقدسة، لأنها قُدِّسَتْ بالكلام، قاله عكرمة. والثالث: أنه علَّمه التواضع، ألا ترى أن من طاف بالبيت فإنه يخلع نعليه تواضعًا، قاله الحسن. والرابع: أن المراد بالنعلين الزوجة، فكأنه يقول قد حضرت في هذه الحضرة، فلا تشغل قلبك من ناحيتها، ألا ترى أنَّ من رأى في منامه كأنه لبس نعلين فإنه يتزوج امرأة، قاله ابن نجيح. واختلفوا في قوله: {طُوًى} قال الضحاك: هو اسم الوادي، وهو مستطيل عميق مثل الطويّ (¬1) في استدارته. وقال الحسن: طوى، أي: مطهر. {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13] أي: اصطفيتك، إلى قوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] هذا خطاب للعرب بما يفهمونه. فإن قيل: فاقد قال الله تعالى في موضع: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه: 20] وفي مكان آخر: {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل: 10] وهي الحية الصغيرة، وفي موضع آخر: {ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107, الشعراء: 32] فكيف الجمع بين هذا؟ فالجواب: إن قوله كأنها جان عبارة عن ابتداء حالها، ثم صارت حية، وتورمت حتى صارت ثعبانًا، والحية تجمع الكبير والصغير والذكر والأنثى. فإن قيل: فما معنى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32] فالجواب: أن الجناح أسفل الإبط، وقيل: هو الإبط، والرَّهْب: الفزع. {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي: برص {آيَةً أُخْرَى} [طه: 22] سوى العصا، فأخرج يده من مِدْرَعته بيضاء لها شعاع كالشمس {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 23] أي: الآية الكبرى. فإن قيل: ذكر هاهنا {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22] وفي موضع آخر {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [القصص: 31] قلنا: المعنى لا يختلف، لأن معنى الكلام: إذا هالَكَ ما رأيتَ من شعاع يدك، فأدخلها في جيبك، تعدْ إلى حالتها الأولى. ¬

_ (¬1) الطوي: البئر.

وقال الربيع بن أنس: أمره الله أن يضع يده على صدره ليذهب عنه الرعب عند معاينة الحية، قال: والدليل عليه هذه الآية، لأن الرهب هو الخوف والفَرَق. وقال مقاتل: الرهب الكمُّ بلغة حمير، فعلى هذا معناه، أدخلها في الكم. ثم قال له الله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)} [طه: 24] أي: علا وتكبَّر وكفر، فادعه إلى عبادتي، واعلم أني قد ربطتُ على قلبه، فقال: يا رب، كيف تأمرني بهذا وقد ربطتَ على قلبه؟ فقال له ملك: يا موسى انطلق، فإنَّا اثنا عشر ألف خازن من خُزَّان الرِّيح، لا ندري ما هذا ولا علمناه، فحينئذ قال موسى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] أي: بالإيمان والنبوَّة، والشرح الكشف {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)} [طه: 26] سهِّله لأُبَلِّغ الرسالة إلى فرعون {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)} [طه: 27] قال ابن عباس: كان في لسانه رتَّة، وقيل: تمتمة، وقيل: هي الشامة التي ذكرناها، وقيل: مكان الجمرة التي أحرقت لسانه {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)} [طه: 29] أي: معينًا وظهيرًا، ثم بيَّن من هو فقال: {هَارُونَ أَخِي (30)} {اشْدُدْ (¬1) بِهِ أَزْرِي (31)} أي: أقوي به ظهري {وَأَشْرِكْهُ (1) فِي أَمْرِي (32)} [طه: 30 - 32] أي: في الرسالة. قال ابن عباس: لما أمره الله بالرسالة قال: {إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص: 33] {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} وأحسن بيانًا {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} [القصص: 34] أي: معينًا، فقال الله له: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي: نقويك ونعينك، وكان هارون يومئذ بمصر {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} أي: قوة وحجَّةً وبرهانًا {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35]. وقال ابن عباس: لما قتل القبطيَّ كان له اثنتا عشرة سنة، وأقام بمدين عشرين سنة. وقال وهب: لما قتل القبطيَّ كان له عشرون سنة، وأقام عند شعيب عشرين سنة، حتى تمَّ له أربعون سنة فصلح كليمًا ونبيًا، وذلك معنى قوله تعالى {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى}. وقال مقاتل: وقوله تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} وهي اليد والعصا. {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42] تضعفا وتفترا وتقصرا {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)} أي: عتا وتجبر {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 43] أي: لا تعنفاه ولا تغلظا له. وقال عكرمة: معناه كنّياه ¬

_ (¬1) أَشدُد، بفتح الهمزة، وأُشْرِكه بضمها، وهي قراءة ابن عامر ويحيى بن الحارث وأبو حيوة والحسن وعبد الله ابن أبي إسحاق. انظر السبعة 418، والتيسير 151، وإعراب القرآن للنحاس 3/ 38.

فقولا: يا أبا الوليد، وقال السدي: ولينا له لا تَجْبَهاه بمكروه، بل عِدَاه على الإيمان مُلكًا واسعًا لا يُنزع عنه إلا بالموت. فإن قيل: فقد قال لمحمد - صلى الله عليه وسلم - {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73 والتحريم: 9] قلنا: لأن طبع سيدنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - اللين واللطف، وطبع موسى على الصلابة والقوة، فقال له: ارفق بفرعون ولا تُقَرِّعهُ بين الملأ، فإن الملوك يأنفون من التوبيخ بين الناس، ولهذا قالوا: لا ينبغي لأحد أن يقابل السلطان بما يكره، بل يكتب النصائح في ورقة. وأمر الله هارون أن يخرج من مصر فيلتقي أخاه على رحله ففعل، وقيل غير هذا، لما يذكر. فإن قيل: فقد علم الله منه أنه لا يؤمن، فما معنى قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] فالجواب: إنما أراد الله تركيب الحجة عليه، لاحتمال أنه إذا رأى العذاب يقول: لا ذنب لي، فيقال له: قد أُنذرت قبل ذلك، فلا عذر لك. رجع الحديث إلى وهب بن منبه: فقال له الله سبحانه وتعالى: يا موسى، إني قد أقمتك اليوم مقامًا لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك، أدنيتك وقرَّبتك حتى سمعتَ كلامي، وكنتَ بأقرب الأمكنة مني، فانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، وإن معك يدي وبصري، فأنت جند عظيم من جنودي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمِن مكري، وغرَّته الدنيا، حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وعُبد دوني، وزعم أنه لا يعرفني، وإني أقسم بعزتي، لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار، فإن أمرتُ السماوات حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمَّرته، وإن أمرت البحار غرَّقَتْه، ولكن هان عليَّ وسقط من عيني، ووسعه حلمي، وحُق لي، أنا الغني لا غنيَّ غيري، فبلِّغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي، وذكِّره بأيامي (¬1)، وحذَره نقمتي وبأسي، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة. ولا يرعك ما ألبَسْتُهُ من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، ليس يطرف ولا ينطق ولا ¬

_ (¬1) في (ب): "بآياتي".

يتنفس إلا بإذني، قل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة، وقد أمهلك أربع مئة سنة، وفي كلها أنت مبارزه بالمعاصي وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، ولم تسقم ولم تهرم، ولم تفتقر ولم تُغْلَب، ولو شاء أن يسلبك ذلك فعل، ولكنه حليم ذو أناة، وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما محتسبان بجهاده، فإني لو شئت أن آتيه بجنودٍ لا قِبَلَ له بها لفعلت، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي أعجبته نفسه وجموعه، أن الفئة القليلة - ولا قليل معي - تغلب الفئة الكثيرة بإذني. ولا تعجبكما زينته، ولا ما تمتع به، ولا تمدّان إلى ذلك أعينكما، فإنها زهرة الحياة الدنيا، وزينة المترفين، وإني لو شئت أن أزينكما بزينة هي أعظم من زينته، حتى يعلم أن مقدرته تعجز عن ذلك، لفعلت، ولكن أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، إني لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيقُ إبلَه عن مراتع الهلكة ومبارك الغرَّة، وما ذاك لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي موفرًا سالمًا. واعلم أنه لم يتزين العباد لي بزينة هي أبلغ من الزهد في الدنيا، فإنها زينة المتقين، عليهم منها لباسٌ يُعْرَفون به من السكينة والخشوع {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] أولئك أوليائي حقًا، فإذا لقيتهم فذللْ لهم قلبك ولسانك، واخفضْ لهم جناحك، واعلم أن من أهان لي وليًا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة، وعرض نفسه للهلكة، وإني لأَسْرَعُ إلى نصرة أوليائي من الليث الحَرِب، أفيظن الذي يحاربني أنه يقوم لي، أو يظنُّ الذي يبارزني أنه يسبقني، أو يظنّ الذي يضادني أنه يعجزني أو يفوتني، كيف وأنا في الدنيا والآخرة، لا أَكِلُ نصرتهم إلى غيري (¬1). قال مقاتل بن سليمان في "المبتدأ": ولما عزم موسى على قصد فرعون، قال جبريل: يا إله العالمين، أترسله وهو عريان، وعند عدوّه من العُدَد والعَدَد ما قد علمت، فقال له الله تعالى: ادخلْ الجنة وانظرْ أعظم قلنسوةٍ فيها، فأَلْبِسْهُ إيّاها، وانظر أوطأ مركب فأركبه إياه، وانظر أصرم سيفٍ فأعطه إياه، واختر له أشجع جند، فدخل ¬

_ (¬1) انظر "كتاب الزهد" ص 82 - 83، و"عرائس المجالس" ص 182.

الجنة وخرج وليس معه شيء، فقال الله تعالى: فأين ما ذكرت لك؟ قال: يا إلهي ما وجدت قلنسوةً أعظم من الهيبة، ولا مركبًا أعظم من التوفيق، ولا سيفًا أقطع من الحجة، ولا جندًا أبلغ من النصرة، ولا لباسًا أتمَّ من العافية، فقال الله تعالى: أعطه ذلك كله، فأعطاه إياه. وقال مجاهد: لما وصل موسى إلى مصر طرق والدته ليلًا، فنزل عليها وهي لا تعرفه ولا يعرفها، وجاء هارون في بعض الليل، فرآه فسأل أمّه عنه، قالت: ضيف، فجلس إليه وتحادثا ساعة، فقال له: ما اسمك؟ قال: موسى، قال: وأنت؟ قال: هارون، فقاما وتعانقا وبكيا، وبكت العجوز، فقال له موسى: إن الله قد أرسلني إلى فرعون وأنت معي، فقال هارون: سمعًا وطاعة، ثم قاما ومضيا إلى فرعون، إلى مدينة مَنْف (¬1). رجع الحديث إلى وهب، قال: فأقبل موسى وهارون إلى فرعون في مدينة، قد جعل حولها الأُسد، في غيضة قد غرسها، والأُسد فيها مع سُوَّاسها، إذا آسَدَتْها على أحد أكلته. وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة، فأقبل موسى من الطريق الأعظم الذي يراه منه فرعون من مناظرة، فلما رأته الأُسد صاحت صياح الثعالب، فأنكر ذلك سُوَّاسها، وخافوا من فرعون، وأقبل موسى حتى انتهى إلى باب قبة فرعون، فقرعه بعصاه، وعليه جبة صوف وسراويل صوف، فلما رآه البواب عجب من جرأته، وقال: أتدري بابَ من تضرب؟ إنما تضرب بابَ سيدك، فقال: أنا وأنت وفرعون عبيد الله تعالى، فأخبر البواب الذي يليه حتى بلغ أدناهم، وكانوا سبعين حاجبًا، كل حاجب تحت يده من الجنود ما شاء الله، حتى خلص الخبر إلى فرعون، فقال: أدخلوه عليَّ، فأدخلوه، فقال فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 18] فقال له: يا فرعون آمنْ بربِّ العالمين، فقال: خذوه، فبادرهم موسى {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 32] فحملت على الناس فانهزموا، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا - هذا لم يصحّ - قَتَلَ بعضهم بعضًا، وأدخل الثعبان أحد شدقيه تحت سرير فرعون والآخر فوقه فسلح فرعون في ثيابه، وقام فرعون منهزمًا فدخل البيت، فقال لموسى: ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 184.

اجعل بيننا وبينك أجلًا ننظر فيه، فقال له موسى: لم أومر بذلك، وإنما أُمرت بمناجزتك، فإن أنت لم تخرج إليَّ دخلت إليك، فأوحى الله إليه: اجعل بينك وبينه أجلًا، واجعل ذلك إليه، فقال فرعون: أجِّلني أربعين يومًا، ففعل، وكان فرعون لا يأتي الخلاء إلا في كلِّ أربعين يومًا مرة، فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة، وخرج موسى فلما مرَّ بالأُسْدِ بَصبصت بأذنابها، وسارت مع موسى تشيّعه ولا تهيجه. انتهت رواية وهب التي رواها عبد الله بن أحمد في "كتاب الزهد" عن أبيه (¬1). وقال مجاهد: لما وصلا إلى باب القصر قالا للبواب: ادخل عليه وقلْ له إنَّا رسول رب العالمين، فلما دخل عليه قال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء: 19] فقال له: يا فرعون آمن بربِّ العالمين، {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] قال: رب السماوات والأرض وموسى وهارون. فإن قيل: فما هذا جوابه وقد كان ينبغي أن يذكر اسم الله وصفته. قلت: إنما عدل عن ذكر الاسم والصفة لأن فرعون ساله عن ماهية مَنْ لا ماهية له بقوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} فأجابه بهذا الجواب، لأن فرعون لم يكن يعرف الاسم ولا الصفة. وقال وهب والحسن: أوحى الله إلى هارون، فبشَّره برسالته ونبوة موسى، وأنه قد جعله وزيره ورسوله معه إلى فرعون، فإذا كان يوم الجمعة غرة ذي الحجة، فاخرجْ إلى جانب النيل قبل طلوع الشمس لتلقى أخاك، ففعل. ودخلا على فرعون، وجرى ما جرى. وقال وهب: إن موسى لما دخل على فرعون قال له: آمن حتى أسأل الله أن يردَّ عليك شبابك، فأخبر هامانَ بذلك، فقال له: اصبغ بالسواد، فصبغ، وهو أول من فعل ذلك. ثم قال فرعون لموسى: قد رددتُ عليَّ شبابي، فقال له: ميعادك ثلاثة أيام، فلما انقضت الثلاث نَصَل خضابه، قال: فكل خضاب يَنْصُلُ بعد ثلاثة أيام. قال علماء السير: لما دخل موسى على فرعون قال له: إن كنت جئت بآية فأت بها {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 32، 33] وأخرجها ولها شعاع مثل شعاع الشمس. ¬

_ (¬1) "كتاب الزهد" ص 83 - 84، والتبصرة 1/ 219 - 223.

فصل في اجتماع السحرة

وقال مقاتل: قال له فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51] يعني قوم نوح وعاد وثمود، الآية؟ وإنما سأله عنها لأنه إنْ كان رسولًا علم حالها، فقال موسى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} لأن التوراة لم تكن أنزلت عليه بعد، لأنها إنما أنزلت عليه بعد غرق فرعون وخروجه من مصر، فردَّ العلم إلى الله تعالى {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] فيحتاج إلى التذكرة. {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} أي: أجَلًا وميقاتًا {لَا نُخْلِفُهُ} أي: لا نتجاوزه {نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه: 57، 58] أي: مستويًا {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} واختلفوا فيه: قال ابن عباس: يوم الزينة يوم عاشوراء، كانوا يتزيَّنون فيه. وقال مقاتل: يوم عيدهم. وقال ابن المسيّب: يوم النيروز (¬1) {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] أي: ضحوة، ليكون أبلغ في الحجة، وأبعد من الزينة في الليل {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60] أي: حيَلَه وسَحَرَتَه في ذلك اليوم لموعد موسى. فصل في اجتماع السحرة واختلفوا في عددهم، قال ابن عباس: كانوا سبعين ألفًا، ما بين ساحر وكاهن، ورؤساؤهم سبعون ورؤساء السبعين سبعة: ساتور وعاز وحطحط وشمعون ويوحنا ويثرون. وقيل: كانوا أربع مئة ألف، والأول أصح. {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: تختلقوا {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أي: يستأصلكم {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] أي: كذب {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه: 62] أي: الحديث. وكان مع كل واحد منهم عصا وحبل {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} أي: أرض مصر {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] أي: يصرفا وجوهَ الناس إليهما. والطريقة: السنَّة {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} أي: اعزموا على إظهار سحركم {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي: صفوفًا {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 6/ 247، 249، وعرائس المجالس 188، وزاد المسير 5/ 292، 294 - 295، وما سلف من تفسير للآيات منها وما سيرد كذلك، ولن أشير إليه.

اسْتَعْلَى} [طه: 64] أي: فاز وغلب {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه: 65] ومعناه: إما أن تلقي عصاك، وإما أن نلقي نحن عصيّنا. {قَالَ} موسى {بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] أي: تمشي، وكانوا قد لطخوا عصيَّهم وحبالهم بالزئبق، فلما أصابها حرّ الشمس ارتهشت وتحركت، فظنَّ موسى أنها تريده، وامتلأ الوادي بالحيات كأمثال الجبال، يركب بعضها بعضًا {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] أي: أضمر، فقيل له: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68] أي: الغالب {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] أي: في أي مكان من الأرض، فألقاها، فابتلعت جميع ما في الوادي، حتى لم يبق فيه شيء، وأخذها موسى فإذا هي عصاه {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ} العالمين، رب {هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ} فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ} أي: به {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 71] أي: أنا أو ربّ موسى {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أي: [التي] شاهدناها، والدرجات العلى {وَالَّذِي فَطَرَنَا} وهذا قسم {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أي: فاحكم بما أنتم صانع من القتل والقطع والصلب {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] أي: ليس لك علينا في الآخرة سلطان {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73]. وقال مقاتل: إنما قالوا هذا لأن فرعون أمرهم أن يتعلموا السحر خوفًا من موسى، فقالوا: أرنا كيف ينام موسى، فأراهم، فإذا عصاه قائمة تحرسه، فقالوا: ليس هذا بساحر، فقال: لابدَّ أن تتعلموا، فأكرههم عليه. وقال السدي: لما شاهدوا العصا رأوا أمرًا فهالهم كما كان ما بين شعبتيها ثمانين ذراعًا. وقال ابن عباس: جاؤوا أول النهار سحرة كفرة، وصاروا في آخره شهداء بررة. وقد فرَّقوا بين الساحر والسحَّار، فالساحر من يكون سحره في وقت دون وقت، والسحَّار من يديم السحر.

فصل في تعذيبه لبني إسرائيل

وقال مجاهد: كانوا يتعلمون السحر بقرية من أرض مصر يقال لها: الفَرَما، كما يتعلم الصبيان الكتابة في الكُتّاب، وأن الذين يعلمونهم رجلان من أهل نِينَوى. وقال الكلبي: لما قالت السحَرة لفرعون {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [لشعراء: 41] أي: جُعْلًا {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء: 42] أي: عندي في المنزلة، وأول من يدخل وآخر من يخرج، قال: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} أي: أفزعوهم {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] وهو ما ذكرنا {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ} لما تلقفت العصا ما جاؤوا به {وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 119] أي: ذليلين مقهورين {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120] حيث تيقَّنوا أنه أمرٌ سماويٌّ وليس بسحر، فحينئذٍ قالوا: {لَا ضَيْرَ} [الشعراء: 50] أي: لا ضرر. واختلفوا في الذين آمنوا من السحرة: قال مجاهد: إنما آمن رؤساؤهم السبعة، وقال قوم: إنما آمن الكلُّ، وهو الأظهر، لأن الله ذكرهم بالألف واللام، وهما للاستغراق. وقال مقاتل: ولما غُلِبَتِ السحرة قال الملأ - وهم الأشراف - لفرعون: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] فلا يَعْبُدك ولا يَعْبُدُها. قال ابن عباس: كان لفرعون بقرةٌ يعبدها. وقال الحسن: كان مع ادِّعائه الربوبية يعبد تيسًا، وقيل: صنمًا. فصل في تعذيبه لبني إسرائيل قال فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} للخدمة {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] أي: غالبون. وبلغ موسى، فقال لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} يعني أرض مصر {يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. وقال مجاهد: لما آمنت السحرة اتبع موسى ست مئة ألف من بني إسرائيل، فجار عليهم فرعون، فشكوا إلى موسى فقالوا: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} بقتل الأبناء، واستخدام النساء {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129] بحَنَق فرعون علينا، وإعادة

فصل في الآيات التي أرسلت على قوم فرعون

القتل والاتعاب في الأعمال المشقة، لأن أهل القوة منهم كانوا ينحتون السواري من الجبال فقرحتْ أعناقهم، ودَبِرَت (¬1) ظهورُهم، وطائفة ينقلون الخشب، وآخرون يبنون، وقوم يطبخون الآجرَّ، وآخرون يعملون الحديد، ووضع على الضَّعَفَةِ الضرائب، يؤدُّون كلَّ يوم ضريبة، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته، غُلَّت يمينه إلى عنقه شهرًا. وأما النساء فيغزلن الكَتَّان وينسجنه، ويخدمن القبط. وموسى يقول لهم: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128] {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] قال مجاهد: فحقق الله ظن موسى فيهم. فصل في الآيات التي أرسلت على قوم فرعون قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} الآية [الأعراف: 130]. قال ابن عباس: بالجدب والقحط سنة بعد سنة. يقال: أَسنتَ القوم: إذا أجدبوا. وقال سعيد بن جبير: مَلَك فرعون أربع مئة سنة، ما جاع ولا حُمَّ ولا صُدِعَ، ولو ذاق شيئًا من ذلك لما ادّعى الربوبية. قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف: 133]. واختلفوا في الطوفان على أقوال: أحدها: أنه المطر أغرق كلَّ شيء لهم، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الموت الجارف، قال وهب: الطوفان الطاعون بلغة أهل اليمن، سلَّطه على أبكار آل فرعون والمواشي، فأفنى الكلَّ. والثالث: الجُدَريُّ، وهم أول من عُذِّب به، وبقي بقاياه في الأرض إلى يوم القيامة. قال أبو قلابة: وأما الجراد، فأكل كلَّ شيء لهم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الموت الجارف، قاله وهب. واختلفوا في القمَّل: فقال ابن عباس: إنه السوس الذي يخرج من الحنطة، وقال السّدي: صغار الجراد، وقال مجاهد: هو الدَّبى (¬2) كان يأكل لحومهم وطعامهم، ¬

_ (¬1) في (ب): وثرت، ودَبِرَت: أي ظهرت فيها الدَّبَرَة، وهي قُرحة تخرج في ظهر الدابة والبعير. تاج العروس: (دبر). (¬2) الدَّبى: أصغر الجراد والنمل.

وقال ابن يزيد: هو البراغيث. وقال الجوهري: هو دويبة من جنس القِرْدان يركب البعير عند الهزال، وقيل: هو الحَلَم (¬1) بحاء مهملة. وأما الضفادِع فواحدها ضفدع، أقبلت كقطع الليل المظلم، فملأت البيوت والأواني، وأكلت الأطعمة، وملأت الحِبابَ والجِرار. وأما الدم فكان الإسرائيلي والقِبْطي يأتيان إلى جانب النيل فيشرب الإسرائيلي ماءً والقِبْطي دمًا. قال ابن عباس: دعا عليهم موسى فأصابهم ذلك، فكادوا أن يهلكوا بالطوفان، ملأ بيوت القِبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، ومن قعد منهم غرق، ولم يدخل منازل بني إسرائيل منه قطرة، فقالوا: يا موسى ادعُ لنا ربَّك أن يكشفَ عنا هذا المطر، فقد منعنا من الحرث والزرع، ونحن نرسل معك بني إسرائيل، فسأل ربَّه فرفع عنهم الطوفان، وكان قد عمَّهم من السبت إلى السبت، فلم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأرسل الله عليهم الجراد، فأكل جميع مالِهم، حتى مسامير الأبواب والحديد، فضجُّوا وقالوا: يا موسى ادع لنا ربك، فدعا لهم، فرفع الله عنهم الجراد، فلم يؤمنوا، فأمر الله موسى فخرج إلى قرية بظاهر مصر يقال لها: عَيْن شَمس، وعندها كثيب أعفر، فضربه بعصاه، فسال قملًا يلحس الزروع وغيرها، وكان يدخل بين جلد أحدهم وثوبه فيكاد يُهلكه، واختلط بطعامهم، ولصق بأجفان عيونهم وحواجبهم، فاستغاثوا: يا موسى ادع لنا ربَّك أن يكشفه عنا ونحن نرسل معك بني إسرائيل، فسأل الله فكشف عنهم، فعادوا إلى أخبث ما كانوا عليه، فدعا عليهم، فأرسل الله عليهم الضَّفادع فدخلت في أفواههم وثيابهم وقدور طعامهم وأوانيهم، فاستغاثوا وقالوا: نحن نتوب، فسأل الله أن يرفعها عنهم، فرفعها، فعادوا، فدعا عليهم، فأرسل الله عليهم الدم، فصار النيل دمًا فاختلط بأطعمتهم وشرابهم، حتى إن المرأة من القبط كانت تقول للمرأة من بني إسرائيل: اسقيني فقد عطشت، فتصبُّ لها من الجرة ماءً، فتقول لها اجعليه في فيك ثم مُجِّيه في فيَّ فتفعل، فيصير دمًا. وأقام بهم كلُّ نوع من هذا من ¬

_ (¬1) "الصحاح" (قمل)، والحَلَم: القراد الضخم وهو ما يتعلق بالبعير فهو كالقمل للإنسان.

السبت إلى السبت، فأقاموا على هذا. وكان فرعون يصيبه من ذلك ما يصيب القبط، فقالوا: يا موسى، قد وضح لنا البرهان، فقد تبنا، فاسأل ربك فينا، فسأله، فرفع عنهم ذلك كله، فنقضوا العهود، وعادوا شرَّ ما كانوا عليه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] وهذه خمس، فأين الباقيات؟ قلنا: العصا، واليد البيضاء، والبحر، والطمس على الأموال. وذكر عبد الوهاب بن النُّوبي وقال: كانت آياته عشرين آية، ذكر التسع التي ذكرنا وزاد: ولم يحترق في التنور، ولا غرق في البحر، ثم السنون، ثم المنّ والسلوى في التيه، وتظليل الغمام، وفلق البحر، وإحياء عاميل في قصة البقرة، وانفجار الماء له من الحجر، وتكليم الله له، والعمود الذي كان يَقِد بين يديه في التيه ليلًا. وقال الزهري: في خلت على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال لي: يا ابنَ شهاب أخبرني عن قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] قال: فقلت: الطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضَّفَادع، والدم، ويده، والبحر، والطمسة، وعصاه، فقال: أحسنت، هكذا يكون العلم، ثم قال: يا غلام آتني بالخريطة، فأتى بخريطة مختومة ففكَّها ونثر ما فيها، فإذا دراهم ودنانير وتمر وجوز وعدس، فقال: كُلْ يا ابن شهاب، فأهويت إليه فإذا هو حجارة، فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين، فقال: أصابه عبد العزيز بن مروان بمصر إذ كان واليًا عليها، وهو مما طمس الله على أموالهم (¬1). وقال إسحاق بن بشر: أخبرني المضارب بن عبد الله الشامي، قال: أخبرني من رأى بمصر نخلةً مصروعة، وإنها لحجر، ولقد رأيت ناسًا قيامًا وقعودًا في أعمالهم لو رأيتهم ما شككت فيهم قبل أن تدنو منهم أنهم ناس، وإنهم لحجارة، ولقد رأيت الرجلَ يحرثُ بين ثورين، وإنه وثوراه حجارة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 197. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 198.

فصل في قصة آسية بنت مزاحم

فصل في قصة آسية بنت مزاحم قال أحمد بن حنبل بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفضَلُ نساءِ أهلِها خديجةُ بنتُ خُوَيلدٍ، وفاطمةُ بنتُ محمَّدٍ، ومريمُ بنتُ عِمرَان، وآسيَةُ بنتُ مُزاحمٍ" (¬1). وروى عكرمة عن ابن عباس، موقوفًا عليه قال: كانت آسيَةُ من بني إسرائيلَ، قد آمنتْ بموسى سرًّا من فرعون، فلما علم بذلك ضرب لها أوتادًا في يديها ورجليها، وأمر بأن تلقى على صدرها صخرة كأكبر ما يكون، قال: فإن رجعت عن دينها فخلُّوا سبيلها، فكشف الله عن بصرها، فرأت قصرها في الجنة، فقالت: اصنعوا ما بدا لكم، فقد رأيت قصري ومنزلي في الجنة، فذلك قولها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11] فاستجاب الله دعاءها، وأراها قصورها ومنازلها في الجنة قبل أن تفارق الدنيا. وكانوا إذا تفرَّقوا عنها أطلقها الملائكة، فماتت على ذلك. فصل في ماشطة ابنة فرعون حدثنا غير واحد، عن عبد الرحمن بن محمد القزَّاز، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما أُسْرِيَ بي مررتُ برائحة طيبة، فقلت: يا جبريل ما هذه الريح؟ قال: هذه ريح ماشطة ابنة فرعون، كانت تمشطها فوقع المشط من يدها فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا، بل ربي وربّ أَبيك الله، فأخبرت فرعون، فدعاها فقال: مَنْ ربك؟ فقالت: ربي وربّك الله الذي في السماء، فأمر ببقرة من نُحاس فأحميت، ودعا بها وبولدها، فقالت له: إن لي إليك لحاجة، قال: وما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي، فتدفنهما جميعًا. فقال: إن لك من الحق علينا ما تستوجبين به ذلك. وكان لها أولاد فجمعهم، ثم ألقى واحدًا بعد واحد في البقرة وهي تغلي، حتى إذا كان آخر ولدها، وهو طفل رضيع، أنطقه الله تعالى: يا أماه اصبري، فإنك على الحق، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2668).

فصل في قصة مؤمن آل فرعون

فألقاها مع أولادها" (¬1). فصل في قصة مؤمن آل فرعون قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28 - 33] الآيات. واختلفوا في اسمه، قال ابن عباس: خربيل، أو خربال، أو خربيال. وقال مقاتل: سمعان، أو شمعان، أو شمعون، وقيل: حبيب. وقال مقاتل: خيرك، وقيل: حزقيل، وكان ابن عم فرعون، وقيل: من آله. قال مجاهد: وهو الذي قال الله فيه: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20] وجادل عن موسى فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} وكان قد أوقع الله في قلبه الإسلام، وكتم إيمانه خوفًا من فرعون. وقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} استفهام إنكار {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يضركم {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] من العذاب، والمراد بالبعض ها هنا الكلُّ (¬2). فصل في قصة فرعون مع النيل روى وهب بن منبه، عن كعب الأحبار قال: أَمسَك النيل عن الجريان في بعض السنين، فقالت القِبط لفرعون: إن كنتَ ربًّا كما تزعمُ فأَجْرِهِ. فركب في جنوده، ثم انفرد عنهم ونزل عن فرسه، ولبس ثيابَ المساكين، وسجد وتضرع وقال: إلهي أنت تعلم أني أعلمُ أنك إله الخلق، لا إله سواك، ولكن كتبت عليَّ الشقاء, وطردتني عن بابك، ولا حيلة لي. فأَجرى الله له النيل. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (2821)، وقوله: "فأمر ببقرة من نحاس"، قال الحافظ أبو موسى: الذى يقع لي في معناه أنه لا يريد شيئًا مصنوعًا على صورة البقرة، ولكنه ربما كانت قدرًا كبيرة واسعة فسماها بقرة، مأخوذًا من التبقر: التوسع أو كان شيئًا يسع بقرة تامة بتوابلها فسميت بذلك "النهاية" 1/ 145. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 189، والمنتظم 1/ 345، وتفسير الطبري 20/ 311.

فصل في بناء الصرح

فصل في بناء الصرح روى عكرمة عن ابن عباس، قال: لما تضايقت بفرعون الحيل قال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي: صرحًا عاليًا {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي: طرقها {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] فيما يقول أن له ربًّا غيري {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص: 38] أي: اطبخ الآجرَّ- وفرعونُ أول من طبخ الآجرَّ وبنى به. وقيل: نمرود لما بنى الصرح - فجمع هامان العمال والفَعَلة حتى بلغوا خمسين ألفًا من البنَّائين، سوى الأتباع. ومن يعمل الجصَّ وينحت الخشب، فرفعوه ارتفاعًا عظيمًا. قال مجاهد: لم يبلغ بنيانُ أحدٍ منذ خلق الله السماوات والأرض مثله. ولما فرغ صعد عليه فرعون، فرمى بنشابة نحو السماء فعادت وهي ملطخة بالدم، فقال: قتلتُ إله موسى - وقد تقدم جواب مثل هذه الأشياء في صرح نمرود - فبعث الله جبريل عليه السلام، فضربه بجناحه، فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة منه على عسكر فرعون، قتلت منهم مئة ألف ووقعت قطعة منه في النيل فسدَّته، ووقعت الأخرى على العمال والبنَّائين فأهلكتهم (¬1). فصل في غرق فرعون قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52] أي: يتبعكم فرعون وقومه. وقال مقاتل: لما وقع الإياس من إيمان فرعون، وأباد بني إسرائيل وأفناهم، شكا موسى إلى الله تعالى، فأوحى الله تعالى إليه: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي: سِرْ بهم أَوَّلَ الليل من مصر، فأَمر موسى بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط بعلَّةِ عرس لهم ففعلوا. روى الثعلبي عن ابن جريج في هذه الآية قال: أوحى الله إلى موسى: أن اجمع بين كل أربعة من أهل بيت في بيت واحد، ثم اذبحوا أولاد الضأن، ثم اضربوا بدمائها على أبوابكم، فإني سآمر الملائكة فلا تدخل بيتًا على بابه دم، وآمرها فتقتل أبكارَ آل ¬

_ (¬1) عرائس المجالس 191.

فرعون، ثم اخبزوا فطيرًا، فإنه أسوغ لكم، ثم أَسْرِ بعبادي حتى تنتهي إلى البحر، فقف هناك، حتى يأتيك أمري، ففعل. فلما أصبحوا قال فرعون: هذا عمل موسى وقومه، أخذوا أموالنا، وقتلوا أبكارنا، ثم أرسل {فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] فلما اجتمع الناس والسحرة، قال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] والشرذمة بقية القليل. قال ابن مسعود: وكانت هذه الشرذمة ست مئة ألف وسبعين ألفًا (¬1). وقال الجوهري: الشرذمة الطائفة من الناس، والقطعة من الشيء (¬2). {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء: 55] أي: أعداء، لمخالفتهم ديننا، وقتلهم أبكارنا، وأخذهم أموالنا التي استعاروها، وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56] قال الفراء: يعني عظامًا من كثرة الأسلحة، ومنه قيل للعين العظيمة: حَدْرَة (¬3). {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 57] {وَكُنُوزٍ} قال مجاهد: سماها كنوزًا لأنها لم تنفق في سبيل الله وطاعته {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] أي مجلس حسن {كَذَلِكَ} كما وصفنا {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] أي: لحقوهم وقت إشراق الشمس. وروى عكرمة عن ابن عباس، قال: خرج موسى في ست مئة ألف، وعشرين ألفًا، لا يَعُدُّون ابن العشرين لصغره، ولا ابن السبعين لكبره. وأمر الله موسى أن يأمر قومه أن يوقدوا المصابيح في بيوتهم إلى الصبح، وأخرج الله كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم، وأخرج كل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط (¬4)، كل واحد منهم إلى أبيه. ودعا موسى عليهم حين خرج، فقال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] فصارت دراهمهم ودنانيرهم وحبوبهم حجارة، حتى العدس والقمح والحمص والجوز وغير ذلك. ثم ألقى على القبط الموت، فاشتغلوا بدفن موتاهم عن ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 198. (¬2) "الصحاح": (شرذم). (¬3) تفسير الثعلبي 7/ 165، وقراءة حادرون بالدال شاذة، قرأ بها ابن أبي عمار ومحمد بن السميفع وسميط بن عجلان، انظر المحتسب 2/ 128، وشواذ ابن خالويه 106. (¬4) كذا في (ب) و"الطبري" 1/ 414، وفي المطبوع "كل ولد رُبِّيَ".

طلب بني إسرائيل. وأُخبر فرعون بخروجهم آخر الليل فقال: لا يتبعهم أحد حتى يصيح الديك، فما صاح تلك الليلة ديك. ثم ضرب الله على بني إسرائيل الطريقَ في الليل، فلم يدروا كيف يذهبون، فقال موسى: ما منعنا إلا تابوت يوسف عليه السلام لندفنه في البيت المقدس عند آبائه الأنبياء، وما أُتينا إلا من قبله. حدثنا أبو اليمن زيد بن الحسن بإسناده عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعرابي فأكرمه، فقال له: "تَعَاهَدْنَا" قال: فأتاه، فقال: "اسأل حاجتك" فقال: ناقة برحلها، وأجير يحلبها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعَجَزتَ أنْ تَكُونَ مِثلَ عَجُوزِ بني إسرائيلَ؟ " فقال له أصحابه: يا رسول الله، وما عجوزُ بني إسرائيل؟ فقال: "إنَّ مُوسى لما أرادَ السَّيْر ببني إسرائيلَ ضلَّ عن الطَّريقِ، فقال لعُلَماء بني إسرائيلَ: ما هذا؟ قالوا: نحنُ نُخبرُك: إنَّ يوسُفَ عليه السلام لما حضَرهُ الموتُ أخَذَ مَواثيقَ بني إسرائيلَ أنْ لا يخرجُوا من مِصر حتى يُخرِجُوا عِظامَه معَهُم، فقالَ موسى: أيُّكُم يَدْرِي أينَ قبرُه؟ قالوا: ما يَعلَمُ ذلكَ إلا عجوزٌ من بني إسرائيلَ، فأرسَلَ إليها فجَاءَت، فسَألَها فقالت: واللهِ لا أخبِرُك حتى تُعطِيني حُكْمِي، قالَ: وما حُكْمُك؟ قالت: تأخذُني مَعَك وأكُون رفيقَتَك في الجنَّة، قال: نعم. وفي رواية: "فقَامَ مُوسى مِن بين بني إسرائيلَ يقولُ: أنشُدُ الله مَن عَرفَ موضعَ قَبرِ يُوسُف، فلَم يسمع صوتَه أحدٌ إلا العجوز، وقالَت له: أريدُ مِنك أنْ تَحمِلَني مَعك، فحمَلَها، قالَت: وفي الآخرةِ لا تدخلْ غرفةً من غرف الجنة إلا وأنا مَعك، فقال: نعم. وسَأَل اللهَ موسى تأخيرَ طلوعِ الفَجرِ لهذا السبب، فأتَتْ إلى مُسْتَنْقَع ماءٍ، فقالَت: انضُبوا هذا الماء فنَضَبُوه، فقالت: احفرُوا ها هنا، فحفرُوا فبدَا تابوتٌ مِن مَرْمَرٍ مدْفُون بأرضِ النِّيل، كانوا يتبرَّكون به. فلما أقلُّوه بانَ لهم الطريقُ مثل ضوءِ النَّهار (¬1). وقال ابن الكلبي: كانت هذه العجوز من ولد إسحاق، وقيل: من ولد يعقوب، عاشت أربع مئة سنة، وبها يضرب المثل فيقال: أكبر من عجوز بني إسرائيل، وسنذكرها في الأمثال. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (723)، والثعلبي في عرائسه 199، والحاكم في المستدرك 2/ 571، وابن الجوزي في المنتظم 1/ 347، قال ابن كثير في تفسيره للآية (52) من سورة الشعراء: هذا حديث غريب جدًا، والأقرب أنه موقوف والله أعلم.

وقال قتادة: كان يوسف مدفونًا عند مدينة مَنْف، وهناك مسجده، قال: ولما حمله موسى معه، دفنه خارجًا من المغارة التي فيها إبراهيم، وإنما لم يدفن معهم في المغارة لأنه تدنَّس بالدنيا وآباؤه لم يتدنسوا منها بشيء. وقال عكرمة: كان هارون في المقدمة وموسى في الساقة. وخرج فرعون في طلبهم في ألف ألف من القبط، وسبع مئة ألف حصان، منها مئة ألف حصان دهم، وهامان على مقدمته في ست مئة ألف، ولم يكن في خيل فرعون أنثى. {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي تقابلا بحيث يرى كلُّ فريق منهما صاحبه {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] هذا البحر بين أيدينا والعدوّ مِنْ خلفنا، فقال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وكان يوشع بن نون بين يديه، وقيل: مؤمن من آل فرعون، فقال له: يا نبي الله أين أُمِرْتَ أن تنزل؟ فيقول: أمامك، فيقول: وهل أمامي إلا البحر؟ فيقول: والله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ. فوصل موسى إلى بحر القُلْزُم {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63] وأوحى الله إلى البحر أن أطع موسى، فضربه فتوقف، فقال الله: كَنِّهِ، فقال: انفلقْ أبا خالد، فاضطرب البحر وانفلق وقام الماء كأمثال الجبال، وصار في البحر اثنا عشر طريقًا على عدد الأسباط، وكانوا اثني عشر سبطًا، كل سبط اثنا عشر ألفًا، وكلهم من ولد يعقوب. وقال ابن عباس: صار بين كلِّ طريقين كالطود العظيم من الماء، فكانوا يمرُّون فيه فلا يدري هذا السبط ما حال السبطِ الآخر، فاستوحشوا وخافوا أن يكون قد غرق بنو أعمامهم، فأرسل الله على أرض البحرِ الشمسَ والريح فصارت يبسًا، فذلك قوله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} ليس فيه ماء ولا طين {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77] من البحر، وكان الماء في غاية الزيادة، وصار الماء مثل الشبابيك، فكان بعضهم يرى بعضًا ويأنس بحديث بعض. وسئل ابن عباس عن مكان لم تطلع عليه الشمس إلا مرة واحدة، فقال: المكان الذي انفلق لبني إسرائيل (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 200.

وقال مقاتل: ولما رأى فرعون أن البحر قد انفلق قال لقومه: خاف البحر فانفلق لأُدرِكَ عبيدي وأعدائي. ولما وصل فرعون وجنده إلى الساحل وجدوا موسى وقومه قد عبروا، فقال للقبط: قد سحر موسى البحر، فقالوا له: إن كنت إلهًا فاعبر خلفه، وكان على حصان أدهم، فهاب الحصانُ أن ينزل، فبعث الله تعالى جبريل على ماذيانة وَدِيق، يعني رَمَكَة (¬1)، فجاءت بين يدي الحصان، فشمها فتقدَّم، فدخل جبريل البحر وفرعون والقوم خلفه، وميكائيل خلفهم يحثهم ويقول: الحقوا أصحابكم، فلما تكامل أولهم وآخرهم، وهمَّ أولهم بالصعود، أمر الله البحر فانطبق عليهم، فذلك قوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)} [الشعراء: 64] أي: قرَّبناهم إلى الهلاك وقدَّمناهم إلى البحر {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)} [الشعراء: 65، 66] يعني فرعون وقومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي: عظة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 67] قال مقاتل: لم يؤمن منهم غير حزقيل وآسيَة والعجوز التي دلَّت على تابوت يوسف عليه السلام (¬2). ولما انطبق البحر عليهم نادى فرعون {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 95]. حدثنا عبد الرحمن بن أبي حامد الحربي بإسناده عن عكرمة عن أبن عباس قال: قال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا أدسُّ في فيه حمأة البحر مخافة أن يقول لا إله إلا الله فتدركه الرحمة. أخرجه أحمد فقال: حدثنا سليمان بن حرب بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما قالَ فِرَعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] قال جبريل: لو رَأيتَني وقد أَخَذتُ مِن حَالِ البَحرِ فدسَستُهُ في فِيه مَخَافةَ أنْ تَنَالَه الرَّحْمَة" (¬3). وقال مقاتل: فقال له جبريل: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91]. وقال مقاتل: قال جبريل: ما أبغضت أحدًا مثل ما أبغضت فرعون وإبليس، ذاك ¬

_ (¬1) هي الفرس الأنثى المشتهية للفحل. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 201. (¬3) أحمد في "مسنده" (2820)، وإسناده ضعيف، والأصح وقفه. قاله الشيخ شعيب حفظه الله.

فصل في تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر

قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، وإبليس قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] قال: ولما خرج بنو إسرائيل وأغرق الله فرعون، قال أناس: إن فرعون لم يغرق، فقذفه البحر على نجوة منه، وهي المكان المرتفع، ومنه قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92] فلما ارتفع على النجوة قالوا: لم يكن إلهًا، ولو لم يرتفع لقالوا: إنه إله. قال الحسن: فمن هناك أن الغريق يقف على رأس الماء. وذكر مقاتل في "المبتدأ" له وقال: كان جبريل قد وقف لفرعون بمصر في زيّ فقير ومعه رقعة، فاستغاث إليه فقال: ما الذي بك؟ فقال: اشتريت عبدًا وخوَّلته، وكان صغيرًا فربيته وأحسنتُ تربيته، وحكَّمتُهُ في رزقي ومالي، وهو الآن يأنف أن يعترف لي بالعبودية، وقد عصاني وتمرَّد عليَّ وجحد نعمتي، فقال فرعون: ولا يستحيي منك! فقال: لا، هو خبيث، فما حكمك فيه أيها الملك؟ فقال: تأخذ بيديه ورجليه وتلقيه في بحر القلْزُم، فقال: اكتبْ لي خطَّك بهذا، فكتب له على رأس الورقة، فلما كان يوم البحر جاءه جبريل في صورة ذاك الفقير ومعه القصة فقال له: خذ هذه القصة، فظنه بعضَ أصحابه، فقال: ليس هذا وقتَهُ، فقال له جبريل: بلى يا خبيث، أنسيتَ يوم كذا وكذا؟ ففهم المقصود. قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: {منه فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ} [البقرة: 50] الآية، وانقضت أيام فرعون. وقال قتادة: ملك مصر من أول العالم إلى ولادة المسيح اثنان وثلاثون فرعونًا، وكلُّ مَن ملكها يسمى فرعون، كما أن قيصر ملك الروم، وكسرى ملك الفرس. وقد ملكها جماعة من الروم واليونان والعمالقة وغيرهم، وسنذكرهم. (¬1) فصل في تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر قد ذكرنا أن يعقوب دخل إلى مصر وولده، وهم اثنان وسبعون إنسانًا ما بين ذكر وأنثى، وخرجوا منها مع موسى وهم ست مئة ألف مقاتل سوى الهَرْمَى والزمنى، فكان المجموع من الذرية ألف ألف ومئتي ألف. ¬

_ (¬1) وقع في المطبوع بعد هذا ما نصه: فإن قيل: فلم أرسله إلى فرعون بعصا قلنا: لأنه كان حمارًا، لأنه جحد نعم الله عليه. اهـ. وهي زيادة وضعها الدكتور إحسان عباس بين معقوفين، وحقها أن تذكر أول قصة موسى عليه السلام.

فصل فيما جرى من الحوادث بعد خروج موسى ببني إسرائيل من مصر وقطعهم البحر

وقال الكلبي: لما أهلك الله فرعون عاد موسى إلى مصر فأقام بها يسيرًا ثم أوحى الله إليه: ارجعْ إلى مقرِّ الأنبياء وهو الشام، فإن مصر ليست بأرض الأنبياء، اذهب إلى أرض فلسطين فإنها ميراثكم من آبائكم وهي دار مُلْككم فهاجرَ إلى الشام. وقال وهب: من هبوط آدم من الجنة إلى خروج بني إسرائيل من مصر ثلاثة آلاف سنة وثمان مئة وأربعون سنة. ومن مولد الخليل إلى خروج بني إسرائيل من مصر ألف وخمس مئة وخمسون سنةً. ومن وفاة يوسف إلى خروج بني إسرائيل من مصر أربع مئة سنة، وقيل: خمس مئة سنة. فصل فيما جرى من الحوادث بعد خروج موسى ببني إسرائيل من مصر وقطعهم البحر قال الله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [يونس: 90 والأعراف: 138] الآية. روى عكرمة والكلبي عن ابن عباس قال: قطع بهم موسى البحر يوم عاشوراء فلهذا عظَّموه وصاموه، وكان ذلك يوم الجمعة {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} وهي التماثيل. واختلفوا في القوم الذين كانوا يعبدون الأصنام وهي التماثيل على أقوال: أحدها: أنهم كانوا من لَخْمٍ وجذام من العرب، قاله قتادة. والثاني: من الكنعانيين، قاله مقاتل. والثالث: من العمالقة، قاله الحسن. فأمر موسى بقتلهم، فقال له قومه: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فغضب موسى وقال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] أي: نعمة الله عليكم، وقد شاهدتم سلطانه في نجاتكم وإهلاك عدوّكم {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} أي: مُهلَكٌ {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139] أي: زائل مضمحل. حدثنا عبد الله بن أحمد المقدسي رحمه الله قال: حدثنا أبو السعادات نصر الله بن عبد الرحمن بن محمد القزاز بإسناده عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قِبَل حنين، فمرَرنا بسدرةٍ خضراءَ عظيمةٍ يقال لها: ذات أنواط، كان الكفار يعبدونها ويعكفون عليها، فقلنا: يا رسول الله، اجعلْ لنا هذه،

ومنها حديث الحجر

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُ أكبَرُ هَذا كَما قالَت بنو إسرائيلَ: {يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} والذي نَفْسِي بيَدِه لتَرْكبُنَّ سَنَنَ من كانَ قَبْلَكُم" (¬1). وقد ذكرها الجوهري فقال: ذات أنواط بالنون اسم شجرة بعينها، قال: وفي الحديث أنه أبصر شجرة دَفْواءَ تسمى ذات أنواط. وكررها في المعتل أيضًا فقال: الدفواء بالمدِّ شجرة عظيمة، قال: وفي الحديث أنه أبصر شجرةً دفواء تسمى ذات أنواط، لأنه كان يناط السلاح بها وتعبد من دون الله (¬2). وقال الزهري: جاء بعض علماء اليهود إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام فناظره في مسائل منها أنه قال له: أنتم ما دفنتم نبيَّكم حتى اختلفتم فيه، فقال له عليّ: ويحك نحن ما اختلفنا فيه وإنما اختلفنا عنه، ولكن أنتم ما جَفَّتْ أرجلكم من ماء البحر حتى قلتم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} فأُفْحِمَ (¬3). ومنها حديث الحَجَر وقال مقاتل: لما خرجوا من البحر وقعوا في مفازة ليس فيها ماء فأوحى الله إلى موسى {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} الأعراف: 160] وكان حجرًا خفيفًا يُقلّه إنسان. واختلفوا في صفته على أقوال: أحدها: أنه كان مقدارَ ذراع في ذراع. والثاني: شبر في شبر. والثالث: أنه كان كبيرًا إذا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عينًا. وقال ابن عباس: وهو الذي أخبر الله عنه بقوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60] الآية. فإن قيل: فقد قال الله تعالى في هذه الآية: {فَانْفَجَرَتْ} وقال في أخرى: {فَانْبَجَسَتْ} فما الفرق؟ قلنا: الانبجاس يكونُ أولًا ثم الانفجار بعده. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2335) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) "الصحاح": (نوط) و (دفا). (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 202.

ومنها إنزال التوراة

فقال قوم: إنه كان يضربُ أيَّ حجر كان، والأصح أنه كان حجرًا بعينه لأنه عرَّفه بالألف واللام، وقد نصَّ عليه ابن عباس وابن مسعود، أما ابن عباس فإنه قال: كان حجرًا خفيفًا من الرخام، وقال ابن مسعود: كان من الكذَّان يضعه في مخلاته، وكان فيه اثنتا عشرة حفرة، وكان يسقي كل يوم ست مئة ألف إنسان وزيادة. و{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60، والأعراف: 160] أي: فلا يقتتلون ولا يتعدَّى أحدٌ على أحد. وقال بعضهم: هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه ففرَّ وقال: آدر، وسنذكره. ومنها إنزال التوراة قال ابن عباس: طلبوا من موسى كتابًا يَضبط نادَّهم ويردُّ شاردهم، ويبيِّن لهم فيه الحلال والحرام، فسأل الله تعالى، فأمره أن يصوم ثلاثين يومًا ثم يتمُّها أربعين. واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنها ذو القعدة وعشر من ذي الحجة. وقيل: ذو الحجة وعشر من المحرم، وهو الأصح، وهو المراد بقوله تعالى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] وكان التكليم يوم عاشوراء، فقال لأخيه هارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142] أي: كن خليفتي، وأصلح، أصلحهم على طاعة الله وعبادته {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] أي: العاصين. ثم توجَّه نحو الميقات وقد صام ثلاثين يومًا، فوجد لفمه خلوفًا فأنكره وقال: كيف أناجي ربي وأنا كذا، فأخذ عود خرنوبٍ فتسوَّك به، وقيل: من لحاء الشجرة، فعاتبه الله تعالى وقال: أما علمت أن خُلوفَ فم الصائم عندي أطيبُ من ريح المسك؟ فقال: إلهي، ما قصدتُ إلا مناجاتك بفم لا رائحة له وما علمت. قال ابن عباس: قالت له الملائكة كنا نشمُّ منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك (¬1). وقال جدِّي رحمه الله: قيل لموسى (¬2): أيها الصائم عن أمرنا لِمَ أفطرتَ برأيك؟ فقال: وجدتُ لفمي خلوفًا وما قصدت بفعلي خلافًا، قيل له: أما علمتَ أن خلوفَ فم ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 202، و"تفسير البغوي" ص 487. (¬2) في (ب): قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله: قيل لوسى.

الصائم عندنا أطيبُ من فأرة المسك. وقال وهب: ولما تسوَّك ذهب بعضُ الخلوف، فأمره الله أن يصوم عشرةَ أيام، ولو ذهب الكلُّ لأمره بصيام ثلاثين يومًا. والميقات: الميعاد. وقال مقاتل: ولما أتى الميقات تطهر ولبس ثيابه، فأوحى الله إليه: يا ابن عمران، اغسلْ قلبك من حبِّ الدنيا، ولسانك من ذكرها. وقف على طورِ سَيْناءَ أربعين يومًا بلياليها فإني أريد أن أناجيك بغير تَرجُمان، ونادى منادٍ من بطنان العرش- أي من وسطه-: يا جبالَ الدنيا، إن الله يريد أن يكلِّم عليكِ عبده موسى بن عمران، فتطاولت الجبال كلها إلا طور سيناء فإنه تواضع واحتقر نفسه، فكلَّم موسى عليه. وقال مجاهد: أول ما قال الله تعالى له: يا موسى، أتدري لِمَ اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي؟ قال: لا ياربِّ، قال: لأنك لما كنتَ ترعى الغنم لشعيب ندَّت سخلةٌ عن أمها فوقفتَ لها وأخذتها ومسحتَ برأسها وقلت: الحقي بأُمِّك. وقال ابن عباس: قرَّبه الله وأدناه حتى سمعَ صرير الأقلام في اللوح المحفوظ، وأنزل عليه التوراة في عشرة ألواح من الزَّبرجَد، فيها ألف سورة، في كل سورة ألف آية، فيها أمر ونهي ووعد ووعيد وحلال وحرام. وفي الحديث: "أنَّ الله كَتَبَ التَّوراةَ بِيَدِه" (¬1) وهي خمسة أسفار. قال: وأنزل عليه بعد ذلك مئة صحيفة. قال: وكلَّمه خمس مئة ألف كلمة، كذا روي عن ابن عباس. وقال مجاهد: ألف كلمة. وقال وهب: وكان في جملة كلامه له: يا موسى، إذا رأيت الفقير مقبلًا فقلْ: مرحبًا بشعارِ الصالحين، وإذا رأيت الدنيا قد أقبلت فقلْ: ذنبٌ عُجِّلَتْ عقوبته. يا موسى، لن يتقرَّب إليَّ المتقرِّبون من أعمال البرّ بمثل الرضى بقضائي، ولن تأتي بعمل أحبطَ لحسناتك من النظر إلى المحارم، وإياك أن تجود بدينك لدنياهم، أُغْلِقْ دونك أبواب رحمتي، يا موسى ادنُ من الفقراء وقرِّبْ مجالسهم منك، وإيَّاك والدنيا فإنك لن تلقاني بكبيرة أضرَّ عليك من حبِّ الدنيا والركون إليها. يا موسى، قلْ للمذنبين النادمين: أبشروا، وقلْ للمعجبين المتكبرين: اخسؤوا (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2652) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة حجاج آدم وموسى عليهما السلام. (¬2) انظر "المنتظم" 1/ 342.

ومنها تذكارهم بالنعم المذكورة

وقال وهب: ولما رجع موسى من التكليم غشَّى وجهه نور عظيم فتبرقع، ولو لم يتبرقع لمات من نظر إليه، ومنذ كلَّمه الله تعالى لم يأتِ النساءَ (¬1). فإن (¬2) قيل: فنور النظر أعظم من نور الكلام وقد رأى نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلةَ المعراج، ولما عاد لم يتبرقع، قلنا: موسى كان محبًّا والمحبُّ مشهور، ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - كان محبوبًا والمحبوب مستور، ولأن نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - كان رحمة للعالمين، والرحمةُ لا تكونُ مستورةً بل عامة للخلائق أجمعين. ومنها تذكارهم بالنعم المذكورة وفي قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47] أراد نعمي قال ابن عباس: مِن فَلْقِ البحر، وإنجائهم من فرعون، وإهلاك عدوِّهم، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وظلَّل عليهم الغمام في التيه يقيهم حرَّ الشمس، وجعل عليهم عمودًا يضيء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى. وقال مقاتل: شكوا إلى موسى حرَّ الشمس فأنزل الله عليهم غمامًا أبيضَ رقيقًا وليس بغمام المطر بل أرق وأبرد منه، فقالوا: هذا الظلُّ قد حصل، فأين الطعام؟ فأنزل الله المنَّ والسلوى (¬3). واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنه شيء كالصَّمغ يقع على الأشجار وطعمه كالشهد، قاله مجاهد. والثاني: أنه الطَّرَنْجَبين، قاله الضحاك. والثالث: أنه الخبز الرقاق، قاله وهب. والرابع: أنه عسل كان يقع على الشجر من الليل، قاله السدي. والخامس: شيء مثل الرُّبّ الغليظ، قاله عكرمة. ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 1/ 342. (¬2) من هنا إلى سؤال موسى ربه الرؤية ليس في (ب). (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 246.

والسادس: أنه الزنجبيل. وقال الزجَّاج: هو جميع ما منَّ الله به من غير تعب ولا نَصَب. والظاهر أنه ما يعرف من هذا المنِّ الأخضر الحلو، كان ينزل على الأشجار كلَّ ليلة مثل الثلج لكلِّ إنسان منهم صاع. فقالوا: يا موسى، قد قتلنا بحلاوته نريد اللحم، فسأل الله فأنزل السلوى (¬1). واختلفوا فيه أيضًا على أقوال: أحدها: أنه طائر يشبه السُّمانَى، قاله ابن عباس. والثاني: طيور حمر، قاله مقاتل. والثالث: طير أكبر من العصفور يكون بالهند، قاله عكرمة. والرابع: أنه العسل بلغة كِنانة، قاله المُؤرِّج، واحتج بقول الشاعر (¬2): وقاسَمَها بالله حقًّا لأنتمُ ... ألذُّ من السَّلوى إذا ما نَشُورُهَا والأول أصح، وعليه عامَّة المفسرين. وذكَّرهم الله بما فجَّر لهم من المياه من الحجر، وإنزال التوراة وفيها تبيانُ كلِّ شيء من نعم كثيرة. فإن قيل: فكيف خاطب الحاضرين بقوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} وعدَّد عليهم النعم، وإنما كان ذلك لأسلاف اليهود المخاطبين؟ قلنا: لأن هؤلاء نجوا بنجاة آبائهم وأجدادهم، ومفاخر الآباء مفاخر الأبناء. وقال ابن عباس: كان يأخذ كلُّ واحد منهم ما يكفيه ليومه وليلته، فإذا كان يومُ الجمعة أخذ ما يكفيه يومين لأنه لم يكن ينزلُ عليهم يومَ السبت. وقيل لهم: لا تدَّخِروا فادَّخَروا ففسد وتغيَّر، فقطع الله ذلك عنهم، وهو قوله: {وَمَا ظَلَمُونَا} أي: ما ضرونا ما عصونا {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] فقطع الرزق عنهم (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 246. (¬2) هو خالد بن زهير الهذلي، والبيت في شرح ديوان الهذليين 1/ 215، وقوله: ما نشُورُها: الشور أخذ العسل وجنيه. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 247.

فصل في سؤال موسى الرؤية

وقال الثعلبي: حدثنا ابن حامد وابن شعيب قالا: حدثنا مكيُّ بن عبدان بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا بَنُو إسرائيلَ لم يَخْنز (¬1) الطَّعامُ ولم يَخْبُثِ اللَّحمُ، ولولا حوَّاءُ لم تَخُن أُنثَى زَوجَها" (¬2). وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق بإسناده عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قِيلَ لبنَى إسرائيلَ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] فبدلوا فدَخَلُوا البابَ يزحفُونَ على أَستاهِهِم وقالوا: حبَّةٌ في شَعَرةٍ" (¬3). أخرجاه في الصحيحين. وقال أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال: قلنا: يا رسولَ اللهِ، أنتحدَّثُ عن بني إسرائيل؟ قال: "نعم، تَحدَّثُوا عن بني إسرائيلَ ولا حَرجَ، فإنَّكُم لا تَتحدَّثُون عنهم بِشَيءٍ إلا وقد كَانَ فِيهِم أعجبُ مِنهُ" (¬4). ومعنى لا حرج، أي: لا أُضَيِّقُ عليكم في الحديث عنهم. فصل في سؤال موسى الرؤية قرأت على شيخنا الإمام الموفق عبد الله بن أحمد المقدسي رحمه الله بدمشق في سنة أربع وست مئة بقاسَيون من كتابه المسمَّى بـ "التوابين" قال: حدثنا أحمد بن المبارك بن ثابت عن جده ثابت بن بندار بإسناده عن وهب بن منبِّه قال: لما سمع موسى كلام ربه استحلاه واشتاق إليه وطمع في رؤيته، قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} فقال الله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] وليس لبشر أن يراني، ولا يراني فيها أحد إلا ويموت، ولا يطيق أحد أن يراني، فقال موسى: يا إلهي، لأن أنظر إليك وأموت، أحبُّ إليَّ من أن أعيش ولا أراك (¬5). وقال وهب: حدثنا جويبر عن ابن عباس قال: لما رأى الله تعالى حرص موسى على الرؤية قال له: اذهب إلى ذاك الحجر الذي في رأس الجبل- وهو جبل بمدين يقال له: طور سيناء أو طور دبير- فاقعد هناك، ففعل، وأمر الله الملائكة أن تمرَّ عليه، ¬

_ (¬1) في (ط): يخثر، والمثبت من المصادر. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 247، والحديث في صحيح البخاري (3330) وصحيح مسلم (1470). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (8230) والبخاري (3403) ومسلم (3015). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (11092). (¬5) "التوابين" ص 38 - 39.

فنزلت ملائكة السبع سماوات، ولهم أصوات مرتفعة بالتسبيح والتهليل والتقديس على صور شتى، ذوو أجنحة منهم كالأسود والنمور والوحوش، وأقبل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش على صورهم التي خلقهم الله عليها، وجاءت الصواعق والرعد والبرق والأهوال، ففزع موسى وكاد أن ينخلع فؤاده وجعل يبكي ويتضرَّع ويقول: يا ربِّ، ندمتُ على ما سألتُ، فهل أنت منجيَّ من مكاني؟ فناداه بعض الملائكة: يا ابن النساء الحيَّض، اصبر على ما سألت، فقليل من كثير ما رأيت، يا خاطئ، يا ابن الخاطئ، ما الذي جرَّأك على ما طلبت؟ وناداه إسرافيل: يا ابن عمران، والله لنحن رؤساء الملائكة منذ خلقنا الله لم نرفع رؤوسنا نحو العرش خوفًا وفرقًا، فما حملك أيها العبد الضعيف على الإقدام على ذلك؟ فقال موسى: أحببتُ أن أعرف من عظمة ربي ما عرفت. قال وهب: ثم أوحى الله إلى الجبل إني متجلٍّ لك، فارتعدت السماوات والأرض وجميع المخلوقات، ثم خرُّوا لله سجَّدًا، ثم تجلَّى الله للجبل فـ {جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] من نور ربِّ العزَّة، وانقلب الحجر الذي كان جالسًا عليه فصار مثل القبة. ولولا ذلك لاحترق (¬1). وقال ابن عباس: أظهر الله من نوره للجبل مثل رأس الإبرة فساخَ واندكَّ، وموسى ينظر إليه، حتى لصق بالأرض فذلك قوله: {جَعَلَهُ دَكًّا} أي: مستويًا بالأرض. وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وصَارَ الجبلُ لعظَمةِ الله سِتَّةَ أجبُلٍ، وقَعَ ثَلاثةٌ مِنها بالمدينَةِ: أُحُد ووَرِقانُ ورَضوَى، ووقعَ بمكةَ ثلاثةٌ: ثورٌ وثَبِيرٌ وحِراءُ" (¬2). قلت: ذكر جدي رحمه الله في "الموضوعات" أحاديث من هذا الجنس، منها هذا الحديث، وقال: لا يصحُّ، في إسناده عبد العزيز بن عمران يروي المناكير (¬3). وحكى عكرمة عن ابن عباس قال: طارت منه قطعة إلى أصبهان فصارت كحلًا للعيون إلى يوم القيامة. ¬

_ (¬1) "التوابين" ص 39 - 41. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 204. (¬3) "الموضوعات" 1/ 173.

وحكى الحافظ أبو القاسم في "تاريخ دمشق" عن أبي الحسين الرازي أنه قال: الأطوار التي كُلِّم عليها موسى أربعة: طور سيناء، وهو بالقرب من بحر القُلْزُم، والطوو الذي ببيت المقدس، والطور الذي بطبرية عند أكيال، والطور الذي بدمشق، وهو جبل كوكبا موضع الكنيسة الخربة، وكَوكَبا قبلي دارَّيا (¬1). قلت (¬2): والأصحُّ أنما خوطب على جبل الطور الذي بقرب القُلْزُم. وقوله تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} أي: غُشِيَ عليه، وقال قوم: مات. والأول أصحُّ، لأنه لو مات ما عاش أبدًا {فَلَمَّا أَفَاقَ} عادت روحه إليه و {قَالَ سُبْحَانَكَ} - وهذا دليل على أنه لم يمت - أي: نزَّهتك {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] أنك لا تُرَى في دار الدنيا، وأن من رآك مات. وقد روى أبو أحمد بن عدي عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما تجلى ربُّه للجَبلِ أشارَ بإِصبَعهِ فمرَّ نُورٌ جَعلهُ دَكًّا" (¬3) قال جدي هذا الحديث في "الموضوعات" ولا يصحُّ هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو من عمل ابن أبي العوجاء، وكان زنديقًا. وكذا حديث: "إنَّ اللهَ أخرجَ خِنصَرهُ فَضربَ بِهِ عَلى إبهامِهِ فَساخَ الجَبلُ" (¬4) من عمل ابن أبي العوجاء. قلت: وقد أخرج هذا الحديث أحمد بن حنبل في "المسند" فقال: حدثنا أبو المثنى مُعاذ بن مُعاذ العنبري، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] قال: هَكذا- يعني أنه أخرج طرف الخنصر- قال أحمد: أراناه معاذ- قال: فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد؟ قال: فضرب صدرَهُ ضربةً شديدة وقال: من أنت يا حُميد، أو: وما أنت يا حُميد؟ يُحدِّثنُي به أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول: ما تريدُ إليه (¬5)! . ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 61/ 15. (¬2) في (ب): قال المصنف رحمه الله. (¬3) ابن عدي في "الكامل" 1/ 342. وأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (258). (¬4) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (259). (¬5) أحمد في "مسنده" (12260).

قلت: ولم يذكر أحمد بن حنبل أنه ضعيف (¬1)، ولا ابن أبي العوجاء، ويكره تصحيح الحديث بأن يحمل قوله (¬2). وروى الوالبي عن ابن عباس قال: لما قال موسى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} كشف الله تعالى الحجاب عن الجبال، وأبرز له جبل قاف وقال له: انظر، فنظر فإذا مئة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفًا عليهم العباء محرمين ملبِّين، كل منهم يقول: {أَرِنِي}. وقال أبو حنيفة بن النُّوبي: رأى ثمانية عشر ألف عالم يقولون: {أَرِنِي}. فإن قيل: فكيف أقدم موسى على طلب الرؤية؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه لما سمع الكلام وطاب له طار قلبه شوقًا إلى المتكلم، ولما رأى التكليم يُبْدأ قبل السؤال قال لسانُ طَمَعِهِ: لا عَتْبَ عليَّ إذا سألت من ابتدأني بالتفضل. والثاني: لأنَّ كلَّ جارحةٍ منه أحسَّتْ بحظها من الكلام، فطمعتْ عيناه في نصيبها وقال: هذه لذة الكلام فكيف لذة النظر؟ والثالث: لأن طبع المحبِّ الترقي من حال إلى حال أرفع منها، فلما حصل على الكلام طلب ما هو أعلى. والرابع: ليتميزَ على من تَقَدَّمه من الأنبياء فيجمع بين الكلام والنظر. والخامس: لأنه لما ناجى الله تعالى وسوس إليه إبليس وقال: إن الذي يناجيك شَيطان. ولهذا روي عن الفضيل بن عياض أنه قال: جاء إبليس وموسى يناجي ربه فوقف قريبًا منه فقال له بعض الملائكة: يا ملعون، ما الذي ترجو منه في هذا الوقت؟ قال: ما رجوتُ من أبيه آدم، فقال: {أَرِنِي} ليزول الوسواس. والسادس: أنه سكر من شراب الكلام، والسكران لا يفيق من خماره إلا بشربة ثانية كما قيل (¬3): تداويت من ليلى بليلى عن الهوى قال: {قَالَ لَنْ تَرَانِي}. ¬

_ (¬1) ليس من شرط المسند أن يضعف أحمد الأحاديث فيه أو يصححها، فلعله لم يضعفه فيما نقل من أقواله، أو في كتابه العلل. (¬2) كذا وردت هذه الجملة في (ط)؟ ! وفيها سقط، وهي ليست في (ب). (¬3) القائل هو قيس بن الملوح، وتمام البيت: "كما يتداوى شارب الخمر بالخمر"، انظر ديوانه ص 160 - 163.

فإن قيل: فلمَ منعه الرؤية؟ فالجواب من وجوه. أحدها: أنه {لَنْ تَرَانِي} خرج جوابًا لموسى، لأنه سأل ما لم يكن في الدنيا فأخبره بالمستحيل. والثاني: أنَّ الرؤية غاية الكرامة ومنتهى المنزلة إذ ليس بعدها منزلة فلو حصلت في الدنيا لموسى لم يبقَ لها في الجنة التي هي دار الكرامة معنى، فإذا كان يوم القيامة أكرم الله بها أكرمَ عبادِه، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أوَّلُ مَن يطرقُ بَابَ الجنَّة" (¬1) و"الجنَّةُ محرَّمة على الأنبِيَاءِ حتى أَدخُلَها" (¬2). فكأنه يقول: لن تراني قبل محمد فلا تطمع فيما ليس لك. وقال عبد الله بن المبارك: لما كانت الدنيا فانية، والأبصار فانية، والحق سبحانه باق، لم يحسن أن ينظر الفاني في الفاني إلى الباقي، فإذا كان يوم القيامة، خلق الله لنا دارًا باقية وأبصارًا باقية فننظر بالباقي إلى الباقي في الباقي. وقال سهل بن عبد الله: قيل له: يا موسى، بالأمس تسألني نصف رغيف وتقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] واليوم تسألني الرؤية؟ لن تراني. وقال علي بن مهدي: لو كان سؤال موسى الرؤية مستحيلًا لما أقدم عليه مع علمه ومعرفته بالله فدل على الجواز. وقال قوم: لما علَّق الرؤية باستقرار الجبل دل على الجواز، ولأن استقراره غير محال. فإن قيل: فلم صار الجبل دكًا لما رآه، وقلوب المؤمنين تراه دائمًا ولا تندك؟ قلنا: جعل الله الجبل ندًا لموسى لأنه جماد، والقلوب بيوت الحقِّ سبحانه وتعالى، والساكن لا يخرب بيته. فإن قيل: فقد أحاله على الجبل تعليقًا للرؤية بثبات الجبل ولم يثبت فموسى أولى. وجواب من أحيل على مليءٍ {فَسَوْفَ تَرَانِي} وقد تعلق نُفاةُ الرؤية بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} وقال: هي للأبد، ونحن نقول: هي للوقت دون الأبد، ألا ترى إلى قوله تعالى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (196). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (32462) من حديث مكحول مرسلًا.

فصل في قول بني إسرائيل إنه آدر

في حقِّ الكفار: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] ثم حكى عنهم أنهم يتمنونه بقولهم: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] وقال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وقد يدخل الجنة من لا ينفق مما يحب. وقال أهل المعاني: لما أراد موسى الذهاب إلى الميقات جعل بين ربه وقومه واسطةً بقوله لأخيه هارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] فلما سأل الرؤية جعل الله بينه وبينها واسطة وهو الجبل، فكأنه يقول: إن لم أصلح لخلافتك في قومك دون أخيك فكذا أنت لا تصلح لرؤيتي دون استقرار الجبل. وقال سهل بن سعد الساعدي: أظهر الله نورًا بقدر الدرهم من سبعين ألف حجاب فصار الجبل دكًا. وقال أبو بكر الورَّاق: فَعَذُبَ إذ ذاك كلُّ ماء، وأفاق كل مجنون، وبرأ كل مريض، وزال الشوك عن الأرض، واخضرت الدنيا، وخمدت نيران المجوس، وخرَّت الأصنام سجدًا. وقال سفيان: ساخ الجبل حتى وقع في البحر، فهو يذهب معه تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة. ومعنى قوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] من الانبساط على بساط القرب. {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] أي: على من تقدمك من الأنبياء الذين أوحيت إليهم برسالاتي وبكلامي، لا على من يأتي بعدك وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه شاركه في الكلام وزاد عليه بالنظر. فصل في قول بني إسرائيل إنه آدر قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر بإسناده عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بَنُو إِسرائيلَ تَغتَسِلَ عُراةً ينظُرُ بَعضُهم إلى بَعضٍ - أو إلى سوءَةِ بعض- وكانَ مُوسى يَغتَسِلُ وحدَهُ، فقالوا: والله ما يَمنعُه أن يغتَسِلَ معنا إلا أنه آدَرُ. قال: فذهبَ مرةً يغتسِلُ فوضَعَ ثَوبَه على حَجرٍ ففرَّ الحَجرُ بِثوبِهِ فَجَمحَ مُوسى في أَثرِهِ يَقول: ثوبي حجرُ، ثوبي حَجرُ، حتى نَظرتْ بنو إسرائيلَ إلى سَوءتِهِ، فقالوا: واللهِ ما بمُوسى من بَأسٍ،

فقامَ الحَجرُ حتى نَظروا إليه، فأَخذ ثوبَهُ وطفِقَ بالحَجرِ ضَربًا" وقال أبو هريرة: والله إن بالحجر ندبًا ستة أو سبعة من ضرب موسى، فذلك قوله تعالى: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] الآية أخرجاه في الصحيحين (¬1). وللبخاري عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مُوسَى كان حَييًا يَستتِرُ ألَّا يُرى مِن جِلدِه شَيء استحياءً مِن الله، فآذَاهُ من آذَاهُ مِن بنِي إسرَائيلَ وقالوا: ما يَستتِرُ هذا الستر إلا من عَيبٍ بِجلدهِ، إما بَرصٌ وإما أُدرَةٌ وإما آفَةٌ. وإنَّ الله أرادَ أن يبرِّئَهُ مما قالوا، فَخلا مُوسَى يَومًا وحدَهُ ووضَعَ ثيابَهُ على حَجرٍ، ثُم اغتَسلَ، فلمَّا فَرغَ أقبلَ إلى ثيابِه ليأخُذَها، وإنَّ الحجرَ عَدا بِثوبِهِ فَأخذَ مُوسى عَصاهُ وطَلَبَ الحَجرَ، وجَعلَ يَقولُ: ثَوبي ثَوبي، وذكَرَهُ، حتى انتهى إلى ملأٍ من بَني إسرائيلَ فرأَوهُ عُريانًا أحسنَ ما خَلقَ اللهُ، وأَبرأَهُ مما يقُولُونَ فيه، فَطَفِقَ ضَربًا للحَجرِ، فإنَّ فيه من أثَرِ ضَربِهِ ثلاثًا أو أربَعًا أو خَمسًا"، ونزلت الآية (¬2). وقال الفراء: الآدر: العظيم الخصيتين، وجمح: أسرع إسراعًا لا يرده شيء. وقال سعيد بن جبير: الحجر الذي وضع عليه ثوبه هو الذي يحمله معه في الأسفار ويضربه فتنفجر منه العيون. وقال مقاتل: إنما نزلت هذه الآية في قصة هارون، وسنذكره هناك. فإن قيل: فكشف العورة حرام في غير حقِّ الأنبياء، فكيف مشى موسى وعورته بادية؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن كشف العورة حرام في شرعنا أما في شرعهم فلا، والدليل أنهم كانوا يغتسلون عراة، وموسى يراهم ولا ينكر عليهم، ولو كان حرامًا لأنكره، واستتار موسى إنما كان من باب الحياء لا أنه يجب عليه ذلك. والثاني: أنه يحتمل أن موسى كان عليه مئزر رقيق فظهر ما تحته لما ابتلَّ بالماء فرأوا أنه أحسن الخلق فزال عنهم ما كان في أنفسهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (278)، مسلم (339). (¬2) صحيح البخاري (3404).

فصل في عبادة قومه العجل

فصل في عبادة قومه العجل قال علماء السِّير: كان السبب في عبادة قومه العجل أنه لما ذهب إلى الميقات وجاء جبريل على فرس يقال له: فرس الحياة، لا يصيب حافرَهُ شيءٌ إلا حيي، وكان جبريل قد أتى ليأخذ موسى إلى الميقات، فرآه السامريُّ، وكان صائغًا. واختلفوا فيه: قال ابن عباس: كان من بني إسرائيل، ولم يزل مع موسى في مصر والشام. وقال سعيد بن جبير: كان من أهل كِرمان. وقيل: من أهل باجَرْما، قريةٍ من قرى دَقُوقا بالعراق. والأول أشهر. واختلفوا في اسمه: فقال ابن عباس: ظفر. وقال مقاتل: اسمه يوسف. وقال الحسن: منجار. وقيل: موسى بن ظفر. وكان منافقًا يظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر، وقال ابن عباس: كان عظيمًا من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها: سامرة، ولكنه نافق لما قطع موسى البحر، وهو كان من الذين قالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}. وقال وهب: فلما رأى السامري ذلك الفرس تحت جبريل قال: لهذا الفرس شأن، وأخذ قبضةً من ترابه الذي وطئ عليه. ولما ذهب موسى إلى الميقات قال السامري لبني إسرائيل: إن الحلي الذي أخذتموه من القبط على وجه العارية قد صار غنيمة لا يحلُّ لكم، فاحفروا حفيرة وادفنوه فيها حتى يرجعَ موسى من الميقات فيرى رأيه فيها، ففعلوا، فأخذ السامريُّ تلك القبضةَ فألقاها مع الحلي في الحفيرة فخرج عجلًا من ذهب، فذلك معنى قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا} أي: مجسدًا لا روح فيه، وإنما كان لحمًا ودمًا {لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148] أي: صوت مثل صوت البقرة. قال ابن عباس: خار خَوْرة واحدة، فزَفَنوا حوله- أي رقصوا- ولم يعدْ إلى مثلها. وقرأ عليٌّ عليه السلام: "له جؤار"، بالجيم والهمزة، وهو الصوت أيضًا.

وقوله: {مِنْ بَعْدِهِ} أي: من بعد ذهاب موسى إلى الميقات. وقال مجاهد: خار العجل ومشى وهو مرصَّع بالجواهر التي أخذوها من القبط، فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى، نسي فتركه هنا ثم خرج يطلبه. وقال مقاتل: عبده منهم عشرة آلاف وهم الذين قالوا يا موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] فذلك قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51] وكانوا قد عدُّوا اليوم والليلة يومين فلما مضت عشرون يومًا ولم يرجع افتتنوا. وقال مقاتل: إنما سمي عجلًا لأنهم تعجَّلوه قبل رجوع موسى. قوله تعالى: ولما رأوا أنهم قد {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] ندموا على عبادته {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} أي: حزينًا لما فعلوه لأن الله أخبره بما صنعوا {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} أي بئس الفعل فعلتم {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} [الأعراف: 150] غضبًا على قومه، وكان شديد الغضب، قال زيد بن أسلم: كان إذا غضب اشتعلت النار في قلنسوته. قال: وكانت التوراة خمسة أسفار، فرفع أربعة إلى السماء وبقي سفر واحد. وقيل: سُبْعٌ واحد (¬1). وقال أحمد: حدثنا سُرَيْج بن النعمان بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الخَبرُ كالمُعايَنةِ، إنَّ اللهَ أخبرَ مُوسى بما صَنعَ قومُه في العِجلِ فلم يُلْقِ الألواحَ، فلما عايَنَ ما صَنعَ قومُه ألقاها فانكَسرَت" (¬2). وقال مجاهد: وصاغ موسى تابوتًا من ذهب وزنه ستمائة مثقال، ونزَّل فتات الألواح فيه {وَأَخَذَ} موسى {بِرَأْسِ أَخِيهِ} هارون {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150] وقيل: إنما أخذ بأذنيه فعبَّر بالرأس عنهما. وقيل: إنما أخذ بلحيته وكان هارون أحبَّ إلى بني إسرائيل من موسى، لأنه كان ألين وألطف وأكبر سنًا. وقوله تعالى: {ابْنَ أُمَّ} أي: يا ابن أمَّاه، فاعتذر هارون، وقال: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} بعقوبتك وأنا أسنُّ منك وكان قد ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 210 - 212. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2447).

استخلفه {وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150] بعبادة العجل. فلما ظهر لموسى عذره {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} [الأعراف: 151] الآية. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} [طه: 85] أي: ابتليناهم واختبرناهم وكانوا ست مئة ألف، فافتتن منهم عشرة آلاف. وقيل: كلهم عبدوه إلا عشرة آلاف ثبتوا مع هارون، ولهذا قال: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} لأنهم كانوا الجمَّ الغفير. ولما عاتبهم موسى {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي: ونحن نملك أمرنا {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} أي: من حُلِيِّ [آل] فرعون، فجمعناها ودفعناها إلى السامريِّ، فألقاها في النار أو في الحفيرة لترجع فترى فيها رأيك، ففعل ما فعل. وقال ابن عباس: كان هارون قد مرَّ على السامريِّ وهو يصوغ العجل، فقال: ما تصنع؟ فقال: ما يضرُّ ولا ينفع، فقال: اللهم ارزقه ما سأل، فكان كما قال هارون. فنهاهم هارون عن عبادته فقالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] أي: مقيمين. فلما عاد موسى سمع الصياح والجلبة، وهم يرقصون حول العجل، فقال: ما هذا؟ فقيل له: صوت الفتنة، فقال: {يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} أي: أخطأوا، ألا تبعت أمري وقبلت وصيتي أو فارقتهم {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92 - 93] فراجعه بقوله: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ}. فإن قيل: فهارون أخوه من أبيه وأمه، فلِمَ كرَّر قوله: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ} فالجواب من وجوه: أحدها: أنه أراد استعطافه وترقيقه، قاله الكلبي. والثاني: أنه قد قيل: إنه كان أخاه لأمه. والثالث: فلأن الولد من الأم من جهة الحقيقة ومن الأب من جهة الحكم. وإنما خصَّ اللحية والرأس بقوله: {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} لأنهما عضوان يقصد بهما الإكرام من دون سائر الأعضاء {إِنِّي خَشِيتُ} إن أنكرت عليهم أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضًا {أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] أي: لم تراقب وصيتي حين قلت: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 212 - 213.

فصل في ذكر توبتهم من عبادة العجل

ثم أقبل موسى على السامريِّ وقال: {فَمَا خَطْبُكَ}؟ أي: ما شأنك وما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أي: رأيت ما لم يروه {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} يعني: من تراب حافرِ فرس جبريل {فَنَبَذْتُهَا} أي: طرحتها في الحُلي {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96] أي: زينت. فقال: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ} ما دمت حيًا {أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} أي: لا تخالط أحدًا. وأمر موسى بني إسرائيل أن يعتزلوه ولا يخالطوه. قال قتادة: فبقاياهم إلى اليوم يقولون: {لَا مِسَاسَ} فلو مسَّهم أحد أخذته الحمى في الوقت. فإن قيل: فهلّا قتله موسى؟ قلنا: ذكر مقاتل وقال: أوحى الله إليه لا تقتله فإنه سخيٌّ، وفي رواية: فإن قتلته كان ذلك كفَّارةً له ثم قال موسى: يا سامريُّ {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا} أي: بعذابك {لَنْ تُخْلَفَهُ} أي: لن يخلفك الله إيَّاه {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} أي: معبودك بزعمك {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أي: مقيمًا {لَنُحَرِّقَنَّهُ} بالنار {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97] أي: نعفي آثاره. ثم برده موسى بالمبارد وألقاه في اليم. وقال مقاتل: ثم قال موسى: يا إلهي، من صاغ العجل؟ قال: السامري، قال: فمن جعل فيه الصوت حتى خار؟ قال الله: أنا. قال: فأنت فتنتَ قومي؟ ! قال: يا موسى، إني حكيم بيدي الضلال والهدى، ومصداقه قوله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ}. فصل في ذكر توبتهم من عبادة العجل قرأت على شيخنا الموفق المقدسي رحمه الله، قلت له: أخبركم أحمد بن المبارك بإسناده عن سعيد عن قتادة عن الحسن قال: سأل موسى ربه أن يتوب على قومه من عبادة العجل فقال: يا موسى، لا توبة لهم إلا أن يقتلوا أنفسهم، فأخبر موسى قومه وقال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] أي: خالقكم، فقالوا: نصبر لأمر الله، وندم القوم على ما صنعوا، فأخذ موسى عليهم المواثيق ليصبرُنَّ على القتل، فأصبحوا غدوةً بأفنيتهم، كلُّ سبطٍ على باب بيته، وأمر موسى الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوا مَنْ عبده، وقال موسى: لعنة الله على رجل حلَّ حَبْوَته، فقتلوهم (¬1). ¬

_ (¬1) "التوابين" ص 86 - 87، والحبوة: أن يجمع المرء بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها.

فصل في ذهاب السبعين إلى الطور يعتذرون من عبادة العجل

وقال ابن عباس: جعل الله توبتهم القتل لأنهم ارتدُّوا عن الإسلام، والكفر يبيح الدم، فجلسوا بأفنية البيوت وأصلتوا الخناجر، فكان الرجل يرى ابنه أو أخاه أو قريبه أو جاره أو صديقه فيستحي منه فقالوا: يا موسى، لا نقدر أن نقتل آباءنا وأبناءنا بل وأهلنا وأصدقاءنا، فأرسل الله عليهم ظُلْمةً فكان لا يبصر بعضهم بعضًا، فانكشفت الظلمة عن سبعين ألف قتيل، فبكى موسى وهارون عليهم، فأوحى الله إليهما: قد جعلتُ القتلَ للمقتول شهادةً، وللقاتل توبة وتكفيرًا عن ذنوبه. قالوا: فما آية توبتنا؟ قال: على أن يقوم السلاح فلا يعمل، وترتفع الظلمة. وقال مجاهد: قتلوا حتى خاضوا في الدماء، وصاح النساء والصبيان والشيوخ يا موسى: العفوَ العفوَ، فبكى موسى وتضرَّع، فأنزل الله التوبة، فقتلاهم شهداء وأحياؤهم مغفور لهم (¬1). فصل في ذهاب السبعين إلى الطور يعتذرون من عبادة العجل قال الله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] ومعناه: من قومه. فلما نزع حرف الصفة نَصَب. واختلفوا في سبب اختيار موسى السبعين: فقال السُّدي: أمر الله موسى أن يأتيه في أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار موسى السبعين، فلما صعدوا الجبل قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فإنك قد كلَّمته فأَرِناهُ، فأخذتهم الصاعقة فماتوا. وقال ابن إسحاق: إنما اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوا. وقال الكلبي: أمر موسى السبعين أن يتطهَّروا ويطهِّروا ثيابهم ويصوموا، ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربِّه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه، فلما دنوا من ذلك المكان قالوا: يا موسى، اطلب لنا أن نسمع كلامَ ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشَّى الجبل كله، ودخل موسى حتى غاب فيه، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 72. وانظر "تفسير البغوي" ص 493.

فصل في قصة أريحا

وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلَّمه ربُّه وقع على جبهته نورٌ ساطع لا يستطيع أحدٌ من بني إسرائيل أن ينظر إليه، فضرب دونه الحجاب ودنا القوم فدخلوا في الغمام وسمعوه يكلِّم ربه وربه يكلمه، يأمره وينهاه. فلما فرغ من المناجاة وانكشف الغمام عن موسى أقبل إليهم، فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [النساء: 153] وهي الرجفة فماتوا جميعًا، وأنكر قوم أنهم سمعوا كلام الله، وقالوا: إذ سمعوا كلام الله، فأيُّ ميزة لموسى عليهم. وقال وهب: لم تكن الرجفة موتًا وإنما كانت غَشْيَةً، فخاف موسى عليهم ورقَّ لهم وقال: يا رب، ماذا أقول إذا رجعت إلى بني إسرائيل {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] أي عبدة العجل؟ فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم (¬1). فإن قيل: فكيف قال موسى هذا وقد علم أن الله أعدل من أن يؤاخذ بجريرة الجاني غيره؟ قلنا: هذا استعطافٌ من موسى لله تعالى، وتقديره: لا تهلكنا، فكان دعاء، ونظيره قول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]. فصل في قصة أريحا قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20]. قال ابن عباس: من كان له بيت وخادم وامرأة صالحة وبُلْغَة فهو ملك، وقد روي هذا المعنى مرفوعًا، فقال أبو إسحاق الثعلبي: حدثنا عبد الله بن حامد بن محمد بإسناده عن أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانَ بنُو إِسرائيلَ إذا كانَ لأحدِهم خَادِمٌ وامرأةٌ ودَابةٌ يُكْتَبُ ملِكًا" (¬2). {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]. واختلفوا فيها: قال ابن عباس: هي أرض فلسطين، والأردن، والطور وما حوله، والغَور وما والاه. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 214 - 215. (¬2) تفسير الثعلبي 4/ 41.

وقال زيد بن ثابت: الشام كله مقدس ويدخل فيه دمشق. وقال ابن عمر: حرم مكة والبيت المقدس. والأول أصح. وقال مقاتل: وإنما قال ذلك موسى لما نزل على أريحا، ومعنى {كَتَبَ} أي: في اللوح المحفوظ. وكانت أريحا قرية الجباربن وهم العمالقة، وقيل: الكنعانيون، وأمر موسى بقتالهم وجهادهم، وكان موسى قد نقَّب على بني إسرائيل اثني عشر نقيبًا بعدد الأسباط، ومن هنا نقَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - النقباء ليلةَ العقبة، ومن هؤلاء النقباء يوشع بن نون وكالب بن يوفنَّا، والنقيب: الكفيل عن قومه بالوفاء على ما أمروا به. وقال ابن إسحاق: ولما دنا موسى من أريحا بعث النقباء يتحسسون الأخبار، فلقيهم عوج بن عناق، وقال الثعلبي: قال ابن عمر: كان طوله ثلاثة وعشرين ألف ذراع وثلاث مئة وثلاثين ذراعًا، وكان يعتجر بالسحاب ويشرب الماء منه، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه في عين الشمس ويأكله، وهو ابن بنت آدم (¬1) - وقد ذكرناه في الطوفان - وأن الماء كان لا يبلغ كعْبَهُ. فالتقى بالاثني عشر نقيبًا وعلى رأسه حزمة حطب فأخذهم وجعلهم في حجزته، وانطلق بهم إلى زوجته فقال: انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها، وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت: لا بل خلِّ عنهم ليخبروا قومهم بما رأوا، فأرسلهم؛ فلما خرجوا قال بعضهم لبعض: إن أخبرتم القوم رجعوا عن نبيِّ الله وساروا، فأما كالب ويوشع فإنهما كتما، وأما الباقون فتحدثوا. ولما شاع الحديث جاؤوا إلى موسى وقالوا: يا ليتنا متنا بأرض مصر وبكوا وقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] وهم الأقوياء، كان يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان من بني إسرائيل، ويدخل في قشر الرمانة إذا نزع الحب منها خمسة رجال، ويحمل العنقود خمسة رجال من بني إسرائيل فقالوا: {لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] فدعا عليهم موسى وقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] أي: العاصين. وكانت عجلةً من موسى فاستجاب له ربه وقال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 243.

ذكر مقتل عوج بن عناق

أي: يتحيرون في القفار، فأقاموا أربعين سنة يتيهون في ستة فراسخ، يسيرون كل يوم جادّين حتى إذا ملُّوا إذا هم في الموضع الذي رحلوا منه. ومات النقباء العشرة الذين أفشوا الخبر ولم يبقَ من النقباء إلا يوشع بن نون وكالب بن يوفنَّا، ومات الذين قالوا لن ندخلها، وكانوا ست مئة ألف، في أربعين سنة. وكان ينزل عليهم المن والسلوى. ولما ذهبت الأربعون سنة وهلكوا، نشأت ذرية أخرى منهم، ففتحوا أريحا على يد موسى، وقيل: على يد يوشع كما يذكر وهب. وموسى هو الذي قتل عوج بن عناق (¬1). ذكر مقتل عوج بن عناق حكى جدي في آخر "أعمار الأعيان" عن ابن إسحاق قال: عاش عوج بن عناق ثلاثة آلاف سنة وست مئة سنة ولم يعش أحدٌ هذا العمر (¬2). وقال أبو جعفر الطبري: عاش ألف سنة (¬3). وهو وهم منه، لأن بين موسى وآدم ثلاثة آلاف سنة وزيادة. وولد عوج بن عناق في دار آدم وهو ابن بنته عنَّاق. وقيل: اسم أبيه عناق صهر آدم. وقال الكلبي: جاء عوج إلى نوح أيام الطوفان وقال: احملني معك في السفينة، فقال: اذهب يا عدوَّ الله، فإن الله لم يأمرني بحملك، وطبَّقَ الأرضَ الماءُ وما جاوز كعبيه. وقال وهب: كان عسكر موسى عدة فراسخ لأنهم كانوا ست مئة ألف، فقال عوج لأصحابه: أنا أكفيكم إياهم، فجاء فوقف عليهم وحذرهم، ثم جاء إلى جبل وقوَّر منه صخرة على قدر العسكر وحملها على رأسه ليقلبها على العسكر، فأرسل الله الهدهد وفي منقاره عود، فنقبها حتى تقوَّرت في عنقه فصرعته، وبلغ موسى فجاء ومعه عصاه وطولها عشرة أذرع، فنزا في الهواء عشرة أذرع أخرى حتى أصاب كعبه وهو مصروع فقتله، وأقبل جماعة من أصحابه فحزُّوا رأسه. وقال الثعلبي: ولما قتل وقع على نيل مصر فجَسَرهم سنة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 244 - 246. (¬2) "أعمار الأعيان" ص 130. (¬3) جاء عند الطبري في "التاريخ" 1/ 431 أنه عاش ثلاثة آلاف سنة. (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 244.

فصل في نتق الجبل عليهم

وقال نوف البكالي: كان طول سرير عوج ثمان مئة ذراع وعرضه أربع مئة ذراع. ولما ضربه موسى خرَّ على نيل مصر فجسره الناس سنة يمرون على أضلاعه وصلبه. قلت: والعجب من الثعلبي ومن نوف كيف يرويان مثل هذا الكلام الذي تنفِر منه العقول السليمة، والواقعة كانت بأريحا وأين نيل مصر؟ وعلى تقدير ما حكى الثعلبي عن ابن عمر أن طوله ثلاثة وعشرون ألف ذراع يكون طوله أقل من فرسخين، لأن الفرسخ اثنا عشر ألف ذراع وبين أريحا ومصر مئة فرسخ وزيادة. وروي عن بشر الحافي أنه قال: كان التجار في البحر يخافون منه فيعدُّون له كُرَّين من الدقيق فيخبزه مَلَّتَيْنِ فيأكلهما، فهذا كافرٌ يطعمه الله هذا في كلِّ يوم فكيف يُضيعُكَ وأنت تعبده وقوتُك رغيف أو رغيفان. وقال وهب بن منبه: وكانت أمه عناق أول من بغى على وجه الأرض، وكانت كل إصبع من أصابعها ثلاثة أذرع في عرض ذراعين، وفي كل إصبع ظفران من حديد مثل المناجل، وكان مكان جلوسها مقدار جريب، ولما استمرت على البغي بعث الله سبحانه عليها أُسودًا وذئابأ فمزقتها (¬1). فصل في نتق الجبل عليهم قال الله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}. قال ابن عباس: لما أنزل الله عليهم التوراة أبَوْا أن يقبلوها لأن أحكامها ثقلت عليهم، فرفع الله عليهم جبلًا بمقدار عسكرهم، وكانوا ست مئة ألف، وقال لهم: إن لم تقبلوها وإلا ألقيتُ عليكم هذا الجبل. ومعنى الظلة: كل شيء أظلك {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي: عليهم {خُذُوا} تقديره: وقلنا لهم: خذوا {مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171] أي: بجدٍّ واجتهاد. وقال الحسن البصري: فسجد كلُّ واحد منهم على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل مخافةَ أن يسقط عليه، فلذلك ليس في الدنيا يهودي إلا ويسجد على حاجبه الأيسر ويقول: هذه السجدة التي رفع الله بها عنا العذاب. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 244.

فصل في التوراة واليهود

فصل في التوراة واليهود فأما التوراة: فقال الفراء: فأصلها من وَرَى الزند- بالفتح، ورُوِيَ بالكسر أيضًا- فسميت التوراة توراةً لأن الأحكام ظهرت منها. وأما اليهود فأصله من التهود وهو الميل. وقال الحسن: لما أنزل الله تعالى التوراة لم يبق على وجه الأرض حجرٌ ولا شجر ولا جبل إلا اهتز، فليس على وجه الأرض يهوديٌّ إلا ويهتزُّ عند قراءة التوراة، ويقولون: اهتزت السماوات والأرض. وقال الجوهري: يقال: هاد وتهوَّد إذا صار يهوديًا. قال: والهُوْدُ: اليهود، والتهويد: المشيُ الرُّويد. والتَّهَوُّد: أن يصير الإنسان يهوديًا، ومنه الحديث: "فأبواه يُهَوِّدانه وينصرانه" (¬1). فصل في بناء ظَفَار وقال ابن الكلبي: وفي زمان موسى بنيت مدينة ظَفَار باليمن، بناها رجل من حمير يقال له: شمر بن الأملوك (¬2) الحميري، وهو أول ملوك اليمن من العرب، ونفى العمالقة من اليمن. وقال الجوهري: وظَفَارِ مثل قَطَامِ مدينة باليمن، وجزع ظَفَاري منسوب إليها، وفي المثل: من دخل ظَفَارِ حَمَّر (¬3). وسألت شيخنا أبا اليمن الكندي رحمه الله عن هذا فقال: سببه أن بعض العرب دخل على ملك ظَفَار فوقف، فقال له الملك: ثِبْ- وهو بلغتهم: اقعد- فلم يفهم الرجل فوثب إلى فوق فوقع وتكسَّر، فقال الملك: من دخل ظفار حمَّر، أي تكلَّم بلغة حمير. ¬

_ (¬1) "الصحاح" (هود). والحديث أخرجه البخاري (1358) ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) في تاريخ الطبري 1/ 442: شمير بن الأملول، وفي المنتظم 1/ 371: شمير بن الأهلوك. (¬3) "الصحاح" (ظفر).

فصل وفي أيام موسى احترق ابنا هارون

فصل وفي أيام موسى احترق ابنا هارون وقال وهب بن منبه: كان يسرج في البيت المقدس كل ليلة ألف قنديل، يخرج من طور زيتا عينٌ من الزيت حتى تصبَّ في القناديل ولا يُمسُّ بالأيدي، وتنحدر من السماء نار بيضاء فتسرج القناديل، وكان المتولي لذلك ابنا هارون، فأوحى الله إليهما لا تسرجا بنار الدنيا، فأبطأت النار عنهما ليلةً فعمدا إلى نار من نيران الدنيا فأسرجا بها، فانحدرت النار من السماء فأحرقتهما، فجاء الصريخ إلى موسى بالخبر فقال: يا إلهي أحرقت ابنَي أخي، فقال الله تعالى: يا موسى، هكذا أفعل بأوليائي إذا عصوني، فكيف أفعل بأعدائي؟ (¬1). فصل في قصة البقرة قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] الآية. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: وُجد قتيل في بني إسرائيل اسمه عاميل، فلم يعرفوا مَنْ قتله. واختلفوا في سبب قتله على قولين: أحدهما: أنه كان رجلًا كثير المال لا يولد له ولد، وله ابنُ أخٍ فقيرٌ لا وارثَ له غيره، فطالت عليه حياته فقتله ليرثه، فلما قتله احتمله ليلًا فأتى به سبطًا آخر، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح فادَّعاه، فكادوا يقتتلون، فأتوا موسى فأمرهم بذبح البقرة، قاله عطاء وابن سيرين. والثاني: أن رجلًا من بني إسرائيل كانت له بنت وابن أخ لا مال له، فخطبها من أبيها فغضب أبوها ولم يزوِّجْهُ إياها، فقال: والله لأقتلن عمِّي، ولآخذنَّ ماله، ولأنكحنَّ ابنته، ولآكلنَّ ديته، فأتاه فقال: قد قدم تجارٌ في بعض الأسباط فانطلقْ معي فخذْ لي من تجاراتهم لعلِّي أصيبُ منها، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج معه، فلما بلغا ذلك السبط قتله ابن أخيه، ولما أصبح جاء يطلبُ عمَّه وقال: قتلتموه، ثم ¬

_ (¬1) "المنتظم" 1/ 372، وفضائل القدس 113.

نادى: واعمَّاه، وطلب منهم ديته، ثم أتى موسى فأخبره وقال: يا نبيَّ الله، ما أَجدُ أحدًا يبيِّن لي قاتله سواك، فأمره بذبح البقرة، وذلك قبل أن تنزل القسَامة في التوراة، حكاه السدِّي عن أشياخه. وقال ابن عباس: أوحى الله إليه أن يأمرهم بذبح البقرة فتنطَّعوا عليه فقالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] وما صفتها- وقد ذكرنا ذلك في "التفسير"- {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} لا كبيرة ولا صغيرة {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي: بين الفارض والبكر إلى أن قال: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} أي: شديدةُ الصُّفَرةِ؛ وقال الحسن: أراد بصفراءَ سوداء، والعربُ تسمِّي الأَسودَ أَصفر، وقد أنكروا هذا على الحسن، وقالوا: هو غلط منه، لأن العرب لا تعرف هذا في نعوت البقر، وإنما هو في نعوت الإبل، وإليه أشار الأعشى (¬1)، وإنما العرب تقول: أصفر فاقع، وأخضر ناصع، وأبيض يَقَق، وأسود فاحم وحالك (¬2). وقال الجوهري: وربما سمت العرب الأسود أصفر (¬3). و{تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69] من حسنها وصفاء لونها. وروى الثعلبي عن علي عليه السلام أنه قال: من لبس نعلين أصفرين لا يزال مسرورًا، وقرأ هذه الآية. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] ومعناه: أعاملة هي أم سائمة؟ وإنما لم يقل: تشابهت لأنه أراد جنس البقرِ تشابه علينا {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} إلى وصفها (¬4). حدئنا أبو القاسم عبد المحسن بن عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو لم يستثنوا- يعني أصحاب البقرة- ¬

_ (¬1) بقوله: تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صُفرٌ أولادُها كالزبيب انظر ديوانه ص 27. (¬2) انظر "زاد المسير" 1/ 97 - 98. (¬3) "الصحاح" (صفر). (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 235.

لما اهتدوا إلى وصفها أبدًا، ولو عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها أجزأهم، ولكن شدَّدوا فشدَّد الله عليهم" (¬1). {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} أي: غير مذلَّلة - بالعمل {تُثِيرُ الْأَرْضَ} بالزراعة أي: تقلبها {وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ} من العيوب {لَا شِيَةَ فِيهَا} أي: بياض وسواد مختلف اللون {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: بالبيان التامّ {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لغلاء ثمنها فإنها بلغت مالًا عظيمًا. والثاني: مخافة الفضيحة أن يكون القاتل منهم. والثالث: وما كادوا يفعلون باجتماع أوصافها. وقال ابن عباس: طلبوها فلم يجدوها إلا عند الفتى البار بوالديه (¬2)، وكانت له عجلة قد خلَّفها له أبواه في غيضة، وقصتها طويلة، وقد ذكرناها في "التفسير". حاصلها: أنهم اشتروها منه بملء جلدها ذهبًا، وقيل: بوزنها عشر مرات ذهبًا {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} يعني: القتيلَ. واختلفوا في البعض: قال ابن عباس: بلسانها. وقال مقاتل: بعجب ذنبها. وقال مجاهد: بغضروفها، وهو أصل أذنها، والقولان الأولان أصح. أما اللسان فلأنه آلة الكلام، وأما عَجْب الذنب فجميع ما في الحيوان يبلى إلا هو فإنه يبنى منه الجسد كما تبنى السفينة على الخشبة الأولى. فلما ضربوه قام حيًّا تشخب أوداجه فقال: فلان قتلني، ثم وقع ميتًا، فقتلوا قاتله. فإن قيل: فقد قال ابن عباس: أقاموا في طلبها أربعين سنة حتى وجدوها قلنا: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (1174) و (1235) و (1245 - 1246) وابن أبي حاتم (698) موقوفًا على ابن عباس، وانظر عرائس المجالس 235، وتفسير ابن كثير. (¬2) في (ب): "بأمه".

فصل في مغازيه

ضربوا قبره فأحياه الله. فإن قيل: فقد كان الله قادرًا على إحيائه من غير ضرب ببعضها، قلنا: فيه إظهار المعجزة دون الشعبذة، وإكرامًا للبارّ بوالديه (¬1). فصل في مغازيه قال علماء السير: حارب موسى الكنعانيين واليونان والأمم الكافرة وأباد من كان بالشام منهم، وبعث بعثًا إلى الحجاز فقتلوا العمالقة، وكان ملكهم يقال له: الأَرْقَم، بحصن تيماء وَيثْرِب، وأسروا ابنًا له شابًا لم يرَ الناس أحسن منه فلم تَطِبْ نفوسهم أن يقتلوه، وقالوا: نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فاستقبلهم الناس بوفاة موسى فمنعهم بنو إسرائيل أن يدخلوا الشام وقالوا: أمركم موسى أن لا تستبقوا كافرًا وقد أبقيتم هذا، فعادت تلك الطائفة - وهم من بني إسرائيل- إلى الحجاز، وسكنوا خَيبر وَيثرِب وتَيماء، واتخذوا يَثْرِب مزارع، فبنُو قريظة والنَّضير منهم وكذا بنو الكاهن، والكاهن ابن هارون بن عمران، والكاهن: العالم. فصل في اجتماع موسى بالخضر عليهما السلام قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)} [الكهف: 60] الآيات. اختلفوا في فتاه (¬2): قال ابن عباس: هو يوشع بن نون، وإنما سمِّيَ فتاه لأنه كان يلازمه ويخدمه ويستفيد منه العلم. وقال مقاتل: فتاه هو أخو يوشع بن نون. وقال الكلبي: فتاه عبده. والأول أصح. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 234 - 235. (¬2) انظر في هذا وفيما سيرد: تفسير الطبري 15/ 308، والثعلبى 6/ 180، وعرائس المجالس 219، وزاد المسير 5/ 161.

ومعنى: "لا أبرح" قال مقاتل: أي: لا أزال أسير، و"مجمع البحرين": ضفتاهما. واختلفوا في مجمع البحرين: قال قتادة: البحر الرومي والشرقي، فالشرقي بحر فارس والرومي هو الغربي، وقال أبيُّ بن كعب: اجتمعوا بإفريقيَّة. والثاني: بطَنْجَة، قاله محمد بن كعب القُرَظيُّ. والثالث: أن المراد بالبحرين موسى والخضر، قاله مقاتل ورواه عن عليّ عليه السلام. قال ابن عباس: وكان السبب في اجتماع موسى بالخضر أنه لما ظهر موسى وقومه على فرعون وقومه وأورثهم أرضهم وديارهم قام موسى فيهم خطيبًا، فذكّرهم بنعم الله عليهم قال: وكلَّم الله نبيّكم (¬1) تكليمًا واصطفاني لنفسه وألقى عليَّ محبة منه، فقال رجل: قد علمنا ما تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا، ولم يقل: فيما أعلم، قال مجاهد: فبعث الله إليه جبريل فقال: بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك، وما يدريك أين أضع علمي؟ قال: يا رب وأين هو؟ قال: اطلبه على شاطئ البحر تجده هناك. وقد اختلفت الروايات في القصة، فنبدأ بما ذكر في الصحيح فنقول: قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بإسناده عن ابن عباس أنه تمارى هو والحارث بن قيس بن حِصْن الفَزَارِيُّ في صاحب موسى عليه السلام فقال ابن عباس: هو الخضر، فمرّ بهما أُبيّ بن كَعْب فدعاه ابن عباس فقال له: يا أبا الطُّفيل هلمَّ إلينا فإني قد تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لُقِيِّه، فهل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أو يذكر في شأنه؟ فقال. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بينما مُوسى في ملأ مِن بني إِسرائيلَ إذْ جَاءَه رجل فقال: هَلْ تَعلمُ أحَدًا أعلمُ مِنك؟ قال مُوسى: لا، فأَوْحى الله إليه: بَلَى عَبْدُنا الخضِر، فسألَ مُوسى السَّبيلَ إلى لُقْياه فجَعَلَ الله له الحوتَ آيةً"، وفي رواية: "وقيلَ له: إذا فَقَدْتَ الحوتَ فارْجعْ فإنَّك ¬

_ (¬1) في (ب): "موسى".

سَتَلْقَاه، فَسَار مُوسى ما شاءَ الله، ثم قال لفَتَاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا} فقالَ فتى مُوسى حين سَأَله الغَدَاءَ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] فقالَ مُوسى لفتَاه: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] أي: يقصان الأثر فوجدا خضرًا، فكان من شأنهما ما قصَّ الله في كتابه. وفي رواية: فكان موسى يتبع الحوت في البحر (¬1). وفي رواية سعيد بن جبير وهي أتمُّ الروايات، قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بإسناده عن سعيد بن جُبير قال: قلتُ لابن عباس: سمعت نَوفًا البِكَاليَّ يزعم أنَّ موسى صاحبُ بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخَضِر وإنَّما هُوَ موسى آخر فقال: كَذَبَ عدو الله، سمعتُ أُبيَّ بن كعب ياقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قَامَ مُوسى خَطِيبًا في بني إسرائيل فَسُئِلَ: أيُّ النَاسِ أَعْلَمُ؟ فقال: أنا، فَعَتِبَ الله عليه حيث لم يَرُدَّ العلمَ إليه، فأَوْحَى الله إليه إنَّ لي عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بمَجْمَعِ البَحْرَيْن هُوَ أعلمُ منكَ، قال مُوسى. يا ربِّ، كَيْف لي به؟ فقيل له: احمل حوتًا فَي مِكْتَلٍ فحيثُ تَفْقِد الحوتَ فهو ثَمَّ. قال: فانطلق هوَ وفتاهُ يُوشَع يمشيان، وقد حَمَل الحوتَ في المِكْتَل حتى أتيا الصخرةَ، فَرَقدَ موسى وفتاهُ، فاضطرب الحوتُ في المِكْتَل حتى خرج منه فسَقَط في البَخرِ، فأمسك الله عنه جِريَة الماءِ حتى كان مثل الطَّاق، فكان للحوت سربًا أي: طريقًا، ولفتاه عجبًا، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ونسي صاحبُ الحوت أن يخبر موسى، فلمَّا أصبح موسى قال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] ولم يجد موسى مشاقَّ النَّصَبِ حتى جاوز المكان الذي أُمِرَ به، فقال فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} إلى قوله {عَجَبًا} [الكهف: 63]. قال موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] أي: يقصَّان الأثر حتى أتيا الصخرةَ - أو انتهيا إليها فإذا برجلٍ مسجًّى بثوبٍ - أو مسجًّى عليه ثوبُه- فسلَّم عليه مُوسى، فقال الخَضِر: أَنَّى بأرضك السلام، فقال: أنا موسى، قال: مُوسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قالَ: إنَّك على علمٍ مِن عِلْم الله علمكَهُ لا أعلمه، وأنا على علمٍ من عِلمِ الله علَّمَنِيه لا تَعلَمُه. فقال له موسى: {هَلْ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (74)، وصحيح مسلم (174).

{أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]. {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 67 - 69] قال له الخَضِر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] قال: نعم، فانطلقا يمشيانِ على ساحل البحر فمرَّت بهما سفينةٌ فكلَّماهم أن يَحمِلُوهما فعرفوا الخضر، فحَمَلُوهما بغير نَوْلٍ، فعمد الخَضِر إلى لوحٍ من ألواحِ السَّفينةِ فنَزَعه، فقال له موسى: قومٌ حَمَلُونا بغير نَوْلٍ عمدتَ إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 72]. {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73] الآية. ثم خَرَجا من السَّفينةِ فبَيْنَما هما يَمشيانِ على السَّاحِل إذا غلامٌ يلعبُ مع الصبيانِ، فأخَذَ الخَضِر برأسِه فاقْتَلَعه بيده، فقال له: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)} [الكهف: 74، 75] قال: هذه أشد من الأولى {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} قال الخَضِر بيده فأقامه [الكهف: 76 - 77] فقالَ له موسى: قومٌ أتيناهم فلم يُضَيِّفونَا ولم يُطْعِمُونَا {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يُقَصَّ علينا من أَخبارِهما". قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانت الأولى من موسى نسيانًا". وجاء عُصْفور حتى وقع على حرف السفينة ثُمَّ نَقَر في البحر، فقال له الخضر: ما علمي وعلمَك وعلم الخلائق من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العُصْفُور مِنَ البحر. قال سعيد بن جبير: وكان ابن عباس يقرأ: "وكان أمامهم مَلِك يأخذ كلَّ سفينةٍ صالحة غصبًا". وكان يقرأ: "وأما الغلام فكان كافرًا" (¬1). وفي رواية: "فاضطَرَبَ الحوتُ في الماءِ فجَعَلَ لا يَلْتئم عليه حتى صَار مثلَ الكُوَّة، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4725)، وصحيح مسلم (2380).

فقالَ فتاه: ألا أَلحقُ نبيَّ الله فأخبرَه، فنسي. فلما تجاوَزا قال لفتاه: آتنا، وذكروه فيه؛ فرأى خضِرًا مُستلقِيًا على حُلَاوة القَفَا فقال: السَّلامُ عليكَ، فكشفَ الثوبَ عَن وَجْهه وقال: وعليكَ السَّلامُ، مَن أنتَ؟ فقالَ: موسى، فقال: ما جاءَ بك؟ فقال: جئتُ لِتعلِّمني مما عُلِّمت رُشدًا، فقال: شيءٌ أمرتُ به أنْ أفعَلَه إذا رأيتَهُ لم تصبرْ". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذا المكان: "رحمةُ الله علينا وعلى آل مُوسى لولا أنَّه عَجِل لَرَأى العَجَبَ، ولكنَّه أَخَذَتْهُ ذَمَامة من صاحبه". وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه. ثم قال: "فانطَلَقا حتى أتيَا أهلَ قريةٍ لئامٍ، فَطَافا المجالسَ فاستَطْعَما أهلَها، إلى قوله: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]. قال: فأخذ بثوبه ثم تلا إلى قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ} إلى آخر الآية، وقال: فإذا جاء يُسَخِّرها وجدها منخرقةً فيتجاوز إلى غيرِها فأصلَحُوها بخشبةٍ. وأمَّا الغُلام فطُبعَ كافرًا يومَ طُبع وكانَ أبوَاه قد عَطَفا عليه فلو أنَّه أدرَكَهما أرهَقَهما طُغْيانًا وكُفرًا" (¬1). وفي رواية: "وفي أصل الشَجَرةِ عينٌ يقالُ لها: الحياة لا يصيبُ من مائها شيءٌ إلا حيي، فأصَابَ الحوتَ مِن تلك العينِ فتَحَرَّك وانسلَّ من المِكْتَل، فدَخَلَ البحرَ" (¬2). وفي رواية: قيل له: خُذْ حوتًا مَيْتًا حتى يُنْفَخَ فيه الرُّوح، فدخلَ الحوتُ البَحْر فأمسك الله عنه جِرْيَةِ الماء، ووجَدَ الخَضِر على طِنفِسة خَضْراء على كَبِدِ البحر، وفيه: فقال الخَضر لموسى: أما يَكْفيك أنَّ التَّوراة بيدِك وأنَ الوحي يأتيك" (¬3). وفي رواية: إنَّ لكَ علمًا لا ينبغي لي أنْ أعْلَمَهُ، وإنَّ لي عِلْمًا لا يَنْبغي لكَ أن تَعْلَمه" وفيه: "فأضجعَ الغلامَ فَذَبَحَهُ بالسكِّينِ" وفيه: "فخَشينا {أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أن يَحْمِلهُمَا حُبُّهُ على أن يُتَابعاه فأُبْدِلا مَكَانه جارية" (¬4). هذا قدر ما أخرج البخاري ومسلم في "الصحيحين" وعند البخاري غير مسند. ويزعمون أن الملك: هُدَدُ بن بُدَد، واسم الغلام المقتول: جَيسور (¬5)، وكانت ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2380) (172). (¬2) صحيح البخاري (4727). (¬3) صحيح البخاري (4726). (¬4) صحيح البخاري (4726). (¬5) صحيح البخاري (4726).

الأولى نسيانًا، والثانية سهوًا، والثالثة عمدًا (¬1). تفسير غريب الحديث: "هلمَّ" أي: أقبل، قال الجوهري: هلمَّ يا رجل بمعنى تعال (¬2). و"نوف": رجل من أهل الشام. وبَكالة- بفتح الباء- قبيلة من حِمْيَر، و"كَذَب": أي: أخطأ، والعرب تضع الكذبَ موضع الخطأ، و"المِكْتَلُ": الزِّنبيل، و"الطَّاقُ": عقد البناء، و"السَّرَب": الطريقُ، و"المُسَجَّى": المُغَطَّى، و"حُلاوة القَفَا": ما أَدْبَر منه، و"الذَّمَامةُ": الحَياءُ، وقيل: القَبَاحةُ، وهي تكون في الخُلُق، والدَّمامة في الخِلْقَة. وقال علماء السّير: لما سأل موسى عليه السلام ربَّهُ أنْ يُرِيَه الخَضِر عليه السَّلام قال له: ائت جانب البحر فإنكَ تجدُ على شطّه حوتًا، فخذه وادفعه إلى فتاك، ثم الزم شطَّ البحر، فإذا نسيت الحوت وذهب منك فهناك تجد العبدَ الصالحَ. وفي رواية ابن عباس: فإذا عاش الحوت وجدْتَه. قال: فتزوَّد خبزًا وسمكة مالحة، وقال: {لَا أَبْرَحُ} أي: لا أزال أسير حتى أَجِدَه {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60] أي: مدة ثمانين سنة وهو الحُقُب. فلما وصل إلى الصخرة التي عند مَجْمَع البَحرين وعندها عينُ الحياة أصاب الحوت روح الماء وبرده فاضطربَ وخرجَ من المِكْتَل فدخلَ البحرَ، فذلك قوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وإنما قال: نسيَا والحوتُ كان مع يُوشَع لأن الفعل يجوز أن يضافَ إلى اثنين وهو لواحد كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما وهو المالح دون العذب. فجاع موسى فقال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62] فقال: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63]. قال وهب: الصخرة دون نهر الزيت بالمغرب {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} أنْ أذكره لأنه كان مع الفتى فأخبر عن نفسه فرجعَا إلى الصخرة فوجدَا الخَضر ¬

_ (¬1) البخاري (2728) وفيه: والثانية شرطًا. (¬2) "الصحاح": (هلم).

عندها، والخضر لقب له، وسنذكر اسمه بعد هذا، {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63] لأنه هو السبب. وقال مقاتل: وجد الخَضِر نائمًا على وجه الماء على طِنْفِسةٍ خَضْرَاءَ، وهو المراد بما ذكر في الحديث على وجه الماء، أي: وسطه، فسلَّم موسى عليه فقال: وعليك السلام يا نبيَّ بني إسرائيل، فقال موسى: ومن أخبرك بي؟ فقال: الذي دلَّك عليَّ، ومن قال الخضر كان نبيًا يقول أوحي إليه ذلك. فإن قيل: فلمَّا ذهب إلى الميقات أقام أربعين ليلةً لم يأكل، ويجوعُ نصفَ يوم فيقول آتنا غداءنا؟ فالجواب: إنَّ في ذهابه إلى الميقات كان وعدُ الانتظار يشغله عن الطعام والشراب، وفي سفر الخَضِر معلمًا فكان سفر تأديب فجاع. {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً} [الكهف: 65] أي: نعمة {مِنْ لَدُنَّا} أي: من علم الغيب {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} أي: صوابًا، وهذا تحريض على طلب العلم والتواضع {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)} أي: لن تطيق لأني أعلم علم الغيب وأنت لا تعلمه، فتنكر ظاهر ما ترى ولا تعلم الباطن، وهذا معنى قوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}. فإن قيل: فَمَا صَبَرَ؟ قلنا: ظاهر الشرع أوجب له الإنكار عليه، وقد قيَّد الله صبره بالمشيئة، فلما ركبا في السفينة قال أهلها: هؤلاء لصوص أخرجوهم، فقال صاحبها: ما هم بلصوص ولكني أرى وجوه الأنبياء، فأخذ الخَضِر فأسًا فقطع لوحًا منها، وكانوا في اللُّجَّة، فحشا موسى موضع اللوح بثوبه وقال: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أي: منكرًا {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)}. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كانت الأولى من موسى نسيانًا" (¬1) ولهذا قال: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} حتى رأى غلامًا فقتله، قال مجاهد: كان اسم الغلام خشن بُود (¬2) واسم أبيه ملاس وأمه رحمى (¬3)، ولم يبلغ الحلم، قالوا: ومع هذا فكان يقطع الطريق ويفسد في ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2728). (¬2) في "عرائس المجالس" ص 228: حسنود. (¬3) في "عرائس المجالس" ص 228: رحمة.

الأرض، فقال له موسى: "أقتلت نفسًا زاكية"- بألف (¬1) - وهي التي لم تذنب قط. ومن قرأ {زَكِيَّةً} أراد التي أذنبت ثم تابت، وقيل هما لغتان. فإن قيل: ففي الحديث الذي رويتم أنَّ الغلام الذي قتله الخَضِر طبع كافرًا فكيف قال زاكية؟ قلنا: الزاكية في البدن، أي: سالمة مِنَ العيوب، والزَّكيَّةُ في الدين، ذكره المبرِّد. وقال الحسن: إنما شقَّ ذلك على موسى لأن الخضر أضجعَ الغلام وذبحه. {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي: بغير قتل نفس {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} أي: منكرًا، والنُّكْرُ أشدُّ من قوله إمرًا {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} قال ابن عباس: هي أَنْطَاكِيَة، وقال ابن سيرين: الأُبُلَّة، وقيل: باجَرْوان من أعمال واسِط. قلت: والعجب من هذا، والواقعة كانت بالمغرِب بإفريقِيَّة، وقيل: بطنْجَة، وقيل: عند نهر الزيت وهو أقصى المغرب، فما الذي أتى بها إلى أَنْطَاكِيَة والأبُلَّة؟ وهو من أقصى الدنيا وأبعد الأرض عن السماء، فيحتمل أنها قرية من قرى المغرب. {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} أي: يقروهم، لأنهم كانوا أهل قرية لئامًا {فَوَجَدَا فِيهَا} أي: في القرية {جِدَارًا} أي: حائطًا، قال وهب: كان طوله في السماء مائة ذراع {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي: يسقط وينهدم، ومنه انقضاض الكواكب وهو سقوطها وزوالها عن أماكنها. وقال ابن جبير: مسح الجدار بيده فاستقام فقال له موسى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} وقيل: ضيافة يعني على إقامته وإصلاحه {قَالَ} الخضر {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ} أي: سوف أخبرك {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} ثم شرع يشرح له فصلًا فصلًا: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} قال وهب: كانت لعشرة إخوة، خمسة زَمْنَى وخمسة يعملون في البحر {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} ووراء بمعنى أمام كقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون: 100] وقيل: معنى وراءهم خلفهم، رجعوا عليه في طريقهم، وقيل: معناه يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا. ¬

_ (¬1) وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، انظر النشر 2/ 313.

واسم الملك جلندى في قول ابن عباس، وكان كافرًا. وقال محمد بن إسحاق: كان اسمه منولة بن جلندا اردى (¬1) وقيل: اسمه: هُدد بن بُدَد، وقال مقاتل: كان من ثَقِيف، وهو جدُّ الحجاج بن يوسف الثقفي. فإن قيل: فقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} يدلُّ على أن المسكين من له شيء ولا يزول عنه اسم المسكنة إذا كانت به حاجة، ويجوز له أخذ الزكاة، وقد قال أبو حنيفة: المسكين من لا شيء له أصلًا، وقال ابن عباس: كانت السفينة تساوي ألف دينار. والجواب: إن أبا حنيفة يحتجُّ بقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 16] وهو الذي لزق بالتراب من فقره. وقال عيسى بن عمر: قلتُ لأعرابي: أفقير أنت أم مسكين؟ فقال: لا والله بل مسكين. وأما أصحاب السفينة فقد روى عطاء عن ابن عباس أنهم كانوا أُجَراءَ، ولم تكن ملكًا لهم. وأما قوله بأن الزكاة تصرف إلى المساكين فنحن نقول به ولا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف في الوصية إذا قال: ثلث مالي للمساكين، هل يدخل الفقراء في ذلك أم لا؟ عند أبي حنيفة لا يدخلون وتكون للمساكين، وعند الشافعي يدخلون لما عرف. {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} يغشاهما، وقيل: يكلِّفهما {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} قال سعيد بن جبير: خشينا أنْ يَحمِلَهما حبُّه على أنْ يدخلا في دينه {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} صلاحًا وإسلامًا وإيمانًا {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} أي: قرابة. وقال الكلبي: أبدلهما الله جارية فتزوجها نبيٌّ من الأنبياء، فولدت له نبيًا، فهدى الله على يديه أمَّة من الأمم. وروى الثعلبي عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال: أبدلهما الله جارية فولدت سبعين نبيًّا (¬2). {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} واسمهما أصرَم وَصُرَيْم {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} واختلفوا فيه على أقوال: ¬

_ (¬1) في "عرائس المجالس" ص 230: منواه بن جلندى الأردني. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 230.

أحدها: كانت فيه صحفٌ فيها علم، حكاه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنه لوح من ذهب فيه مكتوب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عجبت لمَنْ يُوقِن بالقَدَر كيف يَحزن، وعجبتُ لمَنْ يُوقِن بالموتِ كيف يفرح، وعجبت لمَنْ يُوقِن بالرِّزقِ كيف يتعب، وعجبتُ لمَنْ يُوقِنُ بالحسابِ كيف يَغْفَل، وعجبتُ لمَنْ يَعرِفُ الدنيا وتقلُّبها بأهْلِها كيف يَطْمَئِنُّ إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. قاله ابن عباس والحسن وجعفر بن محمد، وروي مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). والثالث: أنه مال. قال أبو إسحاق بإسناده عن مكحول عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا}: "كان ذَهَبًا وفضةً" (¬2)، وبه قال عكرمة. والرابع: أنه كان مكتوبًا على اللوح الذي من ذهب: أنا الله لا إله إلّا أنا، أنا وحدي لا شريك لي، خلقتُ الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشرّ وأجريته على يديه، قاله مقاتل. {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} واسمه كاشح؛ وقال: معنى صلاحه أنه كان بينه وبين الأب الذي حفظ بصلاحه سبعة آباء. قال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن محمد بن المنكدر قال: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حول مَسْرَبته، فلا يزالون في حفظ الله وستره. وكان سعيد بن المسيّب إذا رأى ابنه يقول: يا بنيّ لأزيدنَّ صلاتي من أجلك رجاءَ أن أُحْفَظَ فيك، ويتلو هذه الآية (¬3). {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} أي: قوتهما، وهو ثماني عشرة سنة {وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} أي: يخرجاه من تحت الجدار {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} بل بأمر الله وإلهامه وتوفيقه إياي، وإطلاعي على العلم. ¬

_ (¬1) انظر عرائس المجالس 230، وتفسير الثعلبى 6/ 188، وزاد المسير 5/ 181، والتبصرة 1/ 237. (¬2) أخرجه الترمذي (3152). (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 231.

فصل

قلت (¬1): والعجب لموسى كيف ينكر على الخَضِر وقد جرى له من جنس ما أنكر، قال له: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} ونسي ما لقيه في اليمّ، وأنكر عليه قتل الغلام ونسي قتله القبطي، وأنكر عليه إقامة الجدار بغير أجر ونسي يوم {فَسَقَى لَهُمَا}. فصل فإن قيل: فكم كانت أسفار موسى؟ فالجواب سبعة أسفار: سفر السَّلب، وسفر الهَرب، وسفر الطَّلَب، وسفر السبَبَ، وسفر النَّصَب، وسفر الحَرْب، وسفر الطرب، فوجد في سفر السَّلب الأم، وفي سفر الهرب شُعَيْبًا والعصا، وفي سفر الطَّلَب النبوَّة، وفي سفر السَّبَب النَّجاة، وفي سفر النَّصَب الخَضِر، وفي سفر الحرب المنَّ والسلوى، وفي سفر الطَّرب القربَ والمناجاةَ. وقد أشار جدي رحمه الله إلى بعض هذا في "المنتخب" فقال: سافر موسى سبعة أسفار: سفر التلف {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: 7] وسفر الهَرَب {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء: 21]، وسفر الطلب {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [القصص: 29]، وسفر السَبَب {فَأَسْرِ بِعِبَادِي} [الدخان: 23] وسفر التعب {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا} [الكهف: 62]، وسفر الطَّرب {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 143]، وسفر العَجَب {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]. فوجد في كل سفرة فائدة. ففي سفر التلف وجد الأم، وفي سفر الهرب وجد العصا والصهر، وفي سفر الطلب وجد النبوَّة والتَّكليم، وفي سفر السبب وجد الراحة من العدوّ وغرق فرعون، وفي سفر التعب وجد الخضر، وفي سفر الطرب أخذ التوراة، وفي سفر العجب أكرم بالمن والسلوى والغمام. فإن قيل: فكم الألفاظ التي قوبل بها موسى عليه السلام من لفظة "لن"؟ قلنا: خمسة: أمر قومه بالإيمان فقالوا: {لَن نُّؤمِنَ} [البقرة: 55]، ووقعوا في التيه فقالوا: {لَنْ نَصْبِرَ} [البقرة: 61] , ونُدِبُوا إلى الجهاد فقالوا: {لَنْ نَدْخُلَهَا} [المائدة: 24]، قال: أرِني قال له: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، أقبل إلى الخضر للتعليم فقابله بلفظة {إِنَّكَ لَن} [الكهف: 67]. ¬

_ (¬1) في (ب): قال المصنف.

فصل في وفاة هارون عليه السلام

فصل في وفاة هارون عليه السَّلام واختلفوا فيها على أقوال: أحدها: أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السَّلام: إنَّي متوفٍّ هارون فأتِ به جبل كذا وكذا، فخرج به نحو ذلك الجبل، فإذا ببيت مبنيٍّ وحوله شجرٌ لم يُرَ في الدنيا مثله، وفي البيت سريرٌ وعليه فرشٌ وريحٌ طيبةٌ، فأعجب هارون وقال: يا أخي أُحبُّ أن أنام على هذا السرير، فقال موسى: نمْ، فقال: أخاف من صاحب البيت أنْ يراني نائمًا على سريره فيصعب عليه، فقال له موسى: نم ولا تخفْ فأنا أكفيك أمره، فقال له هارون: نم معي، فناما على السرير فمات هارون وارتفع البيت والسرير والشجر، ورجَع موسى إلى بني إسرائيل، فقالوا: وأين هارون؟ قال: مات. قالوا: بل أنت قتلته حَسَدًا له على حبِّ الرئاسة، حيث نحبُّه ونميل إليه وكونه أرفقَ بنا منك، فقال لهم: ويحَكُم أترَوْن أنِّي أقتل أخي، فسأل موسى ربَّه فأنزل الله السرير وهارون نائمٌ عليه، فرأوه بين السماء والأرض فصدَّقوه. قاله السُّدي (¬1). والثاني: أنَّ هارون مات في التِّيه قبل موسى عليه السلام بثلاث سنين فدفنه موسى، فاتهمه بنو إسرائيل، فأوحى الله إلى موسى انطلق بهم نحو قبره، فانطلق بهم ونادى موسى: يا هارون أنا قتلتك؟ فخرج من قبره ينفض رأسه ويقول: لا والله أنا متُّ موتتي التي كتب الله عليَّ قال: فعدْ إلى مضجعك، فعاد. رواه عمرو بن ميمون عن ابن عباس (¬2). والثالث: أن هارون صعد مع موسى على الجبل فتوفاه الله، وعاد موسى باكيًا فقالوا: أنت قتلته، كان ألينَ لنا منك، فسأل الله تعالى، فجاءت به الملائكة يحملونه، فشاهدوه ميتًا على أيدي الملائكة. رواه ابن عباس عن عليٍّ عليه السلام، قال فذلك قوله تعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: 69]. واختلفوا في موضع قبره: قال عكرمة: لم يطلع عليه أحد إلا الرَّخَم، فصار أصمّ، وإنَّه في التيه. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 249، وتاريخ الطبري 1/ 432، والمنتظم 1/ 372. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 249.

فصل في وفاة موسى عليه السلام

وقال كعب الأحبار: هو في مغارة جبل السراة بمكان يقال له: مرات، مما يلي الطور، موضع في مغارة يسمع منها في الليل دويٌّ عظيم يفزع من سمعه، وقيل: هو مدفون في طور يقال له: طور هارون من بلاد الشَّوْبَك. وقال جدي رحمه الله في "أعمار الأعيان": مات هارون وله مئة وعشرون سنة (¬1). وكذا هو في "التوراة"، وقال الحسن البصري: عاش مئة وثماني عشرة سنة، وكان أسنَّ من موسى بثلاث سنين فلما استكملها موسى مات. وقال مقاتل: ذكر الله هارون عليه السلام في أحد عشر موضعًا من القرآن. فصل في وفاة موسى عليه السلام قال أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر بن همَّام، عن أبي هريرة قال: جَاء مَلَكُ الموتِ إلى موسى فقال له: أجبْ ربَّكَ، فَلَطَمَ عينَ مَلَك الموْتِ فَقَلَعها، فرجع الملك إلى الله فقال: أرسلتني إلى عبدٍ لا يريدُ الموتَ وقدْ فَقَأ عَيْني، فردّ الله عليه عَيْنَه وقال: ارجع إلى عَبْدي وقُلْ له: إنْ كُنْتَ ترِيدُ الحياةَ فَضَعْ يَدَكَ على مَتْنِ ثَوْر فما توارى بيَدِكَ مِنْ شَعْرِه فإنَّكَ تَعِيشُ بكلِّ شعْرةٍ سنَة، فَعَادَ إليه فَأَخْبَرَه، فَقَال: ثُمَّ مَهْ، قال: تموت فقال: فالآنَ مِن قَريب. قال: يا ربِّ أَدْنِني مِنَ الأَرْضِ المقدَّسَة رَمْيةَ حَجر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أني عِنْدَهُ لأَرَيْتُكُم قَبْرهُ إلى جنبِ الطَّريق عِنْدَ الكَثيبِ الأَحْمر". متفق عليه (¬2). وقال الحاكم أبو عبد الله: هذا الحديث موقوف على أبي هريرة لأنه قال في أوله: جاء ملك الموت، والمسند منه قوله عليه السلام: لو كنت هناك لأريتكم قبره، وكذا قال الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (¬3)، وقد روي في غير الصحيح أن الحديث كله من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) "أعمار الأعيان" ص 95. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (7646) والبخاري (1339)، ومسلم (2372). (¬3) "الجمع بين الصحيحين" (2356). (¬4) أخرج الحديث مرفوعًا كله مسلم (2372) (158).

فإن قيل: فكيف قلع عين ملك الموت؟ فالجواب: أنه أتاه في سورة البشر، فخفي عنه أنه ملك الموت كما خفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل أول ما جاءه في صورة دِحْيَة الكَلْبيّ، وكما جاءه في سورة أعرابي يسأله عن الإيمان، ثم عرفه بعد ذلك. فالعين المقلوعة هي العين البشرية دون الملكية، فلما عاد إليه وقد ردَّ الله عليه عينه استسلم لأمر الله. قال عبد الله بن أحمد بإسناده عن أنس قال: لما مات موسى بن عمران جالت الملائكة في السماوات بعضها في بعض، واضعي أيديهم على خدودهم ينادون: مات موسى كليم الرحمن، والرحمن حيّ لا يموت أبدًا (¬1). قلت: وهذا الذي ذكرته في وفاة موسى من "الصحيح"، ومن كتاب "الزهد" لأحمد ابن حنبل. أما قول أرباب السِّير فقد اختلف فيه: فروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: كان موسى يكره الموت، فأراد الله أن يحبِّبه إليه ويبغّض إليه الحياة، فنبَّأ يُوشَع بن نون، فكان يوشَع يغدو على موسى ويروح فيقول له موسى: يا نبيَّ الله ماذا عهد إليك ربُّك؟ فيقول له يُوشَع: يا نبيَّ الله ألم أصْحَبْكَ كذا وكذا سنة، فهل سألتك يومًا عن ما عهد الله إليك حتى تكون أنت الذي يبتدئ؟ قال: فكره موسى الحياةَ وأحبَّ الموت (¬2). قلت: وهذه رواية ضعيفة فإن موسى هو الذي استخلف يُوشَع بن نون على بني إسرائيل. وانقطع موسى في عريش يأكل خبز الشعير ويشرب في نقير، وإنما تمنى موسى الموتَ لما رأى يُوشَع قد قام مقامه فأحسن إلى بني إسرائيل، فتمنَّى الموتَ لأنَّ قلبه طاب لما رآه كذلك. ¬

_ (¬1) "كتاب الزهد" ص 94. ولفظه: لما مات موسى بن عمران عليه السلام جالت الملائكة في السموات يقولون: مات موسى فأي نفس لا تموت. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 249، وتاريخ الطبري 1/ 433، والمنتظم 1/ 374.

وعلى هذا يحمل قول محمد بن كعب القُرَظيّ: إنَّ موسى لما رأى الجماعة عند يُوشَع أَحبَّ الموت، لا على وجه الحسد. وأما قول موسى ليوشع: ماذا عهد إليك ربك؟ فإنه أراد أن يختبره هل بلغ منزلة يعقل فيها عن الله ويكون أهلًا لإيداع السرِّ فيه أم لا. فلما رآه قد بلغ إلى تلك الدرجة تمنَّى الموت. وروى السُّدي عن أشياخه قال: بينما موسى وفتاه يوشع يمشيان إذ هبت ريح سوداء، فظنَّ يوشع أنها الساعة، فالتزم موسى وقال: يا نبي الله هذه الساعة، فانسلَّ موسى من تحت القميص فذهب، فلما جاء يُوشَع بالقميص أخذته بنو إسرائيل وقالوا: قتلتَ نبيَّ الله، فقال: والله ما قَتَلْتُه ولكنه انسلَّ مني، فكذَّبوه وأرادوا قتله، وقالوا: أنت قتلته، فأوحى الله إليه لا تخفْ، فلما كان في تلك الليلة لم يبق ممن اتهم يوشع بقتل موسى إلا وأُتيَ في منامه فقيل له: إنَّ موسى رُفعَ ولم يقتله يُوشَع، فتركوه (¬1). وذكر وهب بن منبه عن أشياخه قالوا: لما استخلف موسى يُوشَع بن نون جمع أهله، وعهد إليه بمرأى من الناس، وطاب قلبه باستخلافه لنهضته وأمانته- فإنه لم يكن في بني إسرائيل من يصلح للأمر سواه - وانفرد موسى في عريش يستظل به ويجمع السنبل فيأكل منه، وعليه جبَّة من صوف، فخرج يومًا من عريشه فمرَّ بقوم يحفرون قبرًا وكانوا ملائكة فعرفهم، واطلع فيه فأعجبه، ورأى فيه من الرَّوْح والخضرة والنضارة والبهجة ما حيَّره، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن هذا القبر؟ فقالوا: لعبدٍ كريم على الله، فقال: إنَّ هذا العبد من ربه بمنزلة، ما رأيتُ مضجعًا كاليوم، فقالوا: يا صفيَّ الله أتحبّ أن تكون ذلك العبد؟ قال: ودِدْتُ ذلك، قالوا: فانزلْ فاضطجعْ فيه وتوجّه إلى ربِّك، ففعل، فقالوا: تنفَّس، فتنفَّس فمات، وسوَّت الملائكة عليه التراب (¬2). قال وهْب: وصلى عليه جبريل وميكائيل. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 250. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 250، وتاريخ الطبري 1/ 433 - 434.

قال جدي رحمه الله في "المنتظم": وفي هذا بعد، وحديث أبي هريرة يدلّ على غير هذا (¬1). قلت (¬2): وليس في حديث أبي هريرة أن ذلك الملك قبضه، وإنما فيه: الآن من قريب؛ ويحتمل أن هذه الواقعة كانت عقيب حديث أبي هريرة بيسير، على أن حديث أبي هريرة موقوف عليه وليس بمرفوع على ما بيّنَّاه. وروي عن ابن عباس أنه قال: كان لموسى ثلاث بنات، فلما احتضر دعاهنَّ وقال لهن: أوصيكن بوصية فاعملن بها، كأنّي ببني إسرائيل وقد عرضوا عليكن الدنيا، فاحذرن منها شيئًا وعليكن بِلَقْطِ السُّنبل فافركنه واجعلنه زادكنَّ إلى الجنة (¬3). واختلفوا في موضع قبره على أقوال: أحدها: أنه بأرض التيه هو وهارون، ولم يدخل الأرض المقدسة إلا رميةَ حجر، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال وهب: لا يُعرف قبره، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبهم ذلك بقوله: "إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر" ولو أراد بيانه لبيَّنَ صريحًا. وأما الحديث الذي فيه ذِكْر الأرض البريصاء فقالوا: لا يصحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عباس: لو علمت اليهود قبر موسى وهارون لاتخذوهما إلهين من دون الله. وقال ابن إسحاق: لم يطّلع أحدٌ على قبر موسى وهارون إلا الرَّخَمَةُ، فنزع الله عقلها لئلا تدلَّ عليه، ومعنى عقلها إلهامها. والقول الثاني: أنه بباب لُدّ بالبيت المقدس، قال مجاهد: لما انتهت الأربعون سنة التي تاهوا فيها خرج موسى ببني إسرائيل من التِّيه وفتح أَريحَا، وأتى البيت المقدس وقال لهم: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] وقد ذكره أبو جعفر الطبري في "تاريخه" وقال: هذا هو الصحيح. ¬

_ (¬1) "المنتظم" 1/ 375. (¬2) في (ب): قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في المنتظم ... قال المصنف رحمه الله. (¬3) تاريخ دمشق 61/ 175.

قلت: وكيف يكون هذا هو الصحيح وقد قال ابن عباس ووهب وعامة العلماء: إنه بأرض التيه. وذكره جدي في "التبصرة" (¬1)، وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مُوسى قَال: أدْنِني مِن الأرضِ المقَدَّسةِ رميةَ حَجرٍ" (¬2). وقال ابن عباس ووهب: ما فتح أَريحَا موسى، وإنما فتحها يُوشَع بنُ نون وهو الذي حُبِسَتْ عليه الشمس، لما نذكر. وأما قوله: إن المراد بالقرية البيت المقدس، فقد قال ابن عباس: هي أَريحَا قريةُ الجبَّارين، وكان فيها قوم من بقية عَاد يقال لهم: العَمَالِقَة ورأسهم عوج بن عناق، وقيل: هي بَلْقَاءُ، وقال ابن كيسان: الشَّام، وقال الضحاك: الرَّملَة والأُردُنُّ وفلَسطين وتَدمر، ولم يقل: إنها بيت المقدس إلا مجاهد وقد خولف. وقال مقاتل: إِيليَاءُ، قال: وكان للقرية سبعة أبواب. والثالث: أن قبر موسى بين عَاليَة وعويلة، وهما مَحَلَّتان عند مَسْجِد القَدم، ويقال: إنَّ عَالِيَة وعويلة عند كَنيْسَة توما، ويقال: إنَّ قبره رؤي في المنام فيها، والأصحُّ أنه في تيه بني إسرائيل. وحكي عن الحسن أنه قال: مات موسى في سبعة أيام من آذار ودفن في الوادي بأرض مُآب فصار قولًا رابعًا. ومآب ما بين بُصرى والبَلْقَاء. والخامس: أن قبر موسى بدمشق، ذكره الحافظ أيضًا عن كعب الأحبار (¬3). وروى الحافظ أيضًا حديثًا عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مررتُ ليلةَ أُسرِيَ بي بموسى وهو قائم يصلي في قبره بين عالية وعويلة" (¬4) وقال الحافظ على أثره: قال الحاكم أبو أحمد: هذا حديث غريب من حديث سعيد عن يونس عن أنس، لا أعلم أنه حَدَّث به غير الحسن بن يحيى الخشني عن سعيد، ثم قال الحافظ: وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مرَّ على موسى ليلة الإسراء وهو يصلي في قبره من غير ذكر عَالِيَة وعويلة. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 1/ 436، وتفسيره (1003)، والتبصرة 1/ 224، والمنتظم 1/ 376. (¬2) أخرجه ابن حبان (6223) عن أبي هريرة. (¬3) "تاريخ دمشق" 2/ 411 (مخطوط). (¬4) "تاريخ دمشق" 61/ 182.

فصل في فضل موسى عليه السلام

قلت: والحديث الذي أشار إليه أخرجه مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَررْتُ ليلةَ أُسريَ بي على مُوسى عند الكَثيبِ الاْحمرِ وهو قَائمٌ يُصلِّي في قبرِهِ" (¬1). وقد ذكرنا أن موسى مات وهو ابن مئة وعشرين سنة. وقال وهب: عاش موسى عليه السَّلام في ملك أفريدون عشرين سنة وفي ملك منوشهر مئة سنة. وقال ابن عباس: بين إبراهيم وموسى عليهما السلام سبع مئة سنة. فصل في فضل موسى عليه السلام قال أحمد بن حنبل بإسناده عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: استبَّ رجلان، رجل من المسلمين ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين، في قَسَمٍ أقسم به، وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم اليهوديَّ، فمضى اليهوديُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما كان من أمره وأمرِ المسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تخيِّروني على مُوسى، فإنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ فأَكُونُ أوَّلَ مَنْ يُفيقُ، فإذا موسى باطِشٌ بِجانِبِ العَرْشِ، فلا أَدْري أَكَانَ فيمَنْ صُعِقَ فأفاقَ أوكانَ فيمن استَثْنَى اللهُ". مُتَّفَقٌ عليه (¬2). وقال أحمد بإسناده، وقد أخرجه الحميدي، وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصاري: "لِمَ لطمتَ وجْهَ اليهوديِّ؟ " فقال: يا رسول الله، فَضَّل موسى عليك وعلى البشر، فَغَضِبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "لا تُفضّلُوا بَينَ أَنْبياءِ الله فإنَّهُ يُنْفَخُ في الصور فَيُصْعَقُ مَن في السَّمَاواتِ والأرض إلا مَنْ شَاءَ الله، ثُمَّ يُنْفَخُ فيهِ أُخْرَى فأَكُونُ أول مَن بُعِث، فإذا موسى آخذٌ بالعَرْشِ، فلا أدْرِي أَحُوسِبَ بصَعْقةِ الطُّورِ أم بُعِثَ قَبْلي" (¬3). وللبخاري: "إنَّي لأوَّلُ مَنْ رَفَع رأسهُ بَعْدَ النَفْخَةِ فإذا موسى مُتَعلِّقٌ بالعَرْشِ" وذكره (¬4). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2375) عن أنس بن مالك. (¬2) أخرجه أحمد (7586)، والبخاري (2411)، ومسلم (2373). (¬3) أخرجه أحمد (11365)، والبخاري (3414)، ومسلم (2373)، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (1758). (¬4) أخرجه البخاري (4813).

قال أبو سليمان الخطَّابي: "الصَّعْقُ": الموتُ، والأصح أنه مثل الغشي، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تخيّروا" منسوخٌ بقوله: "أنا سيّد ولد آدم ولا فخر" (¬1). و"الباطشُ": الآخذ، وإنما يأخذ موسى بساق العرش قبل الناس لأنه في صورة غريم يطلب الدين من غير مماطل {فَسَوْفَ تَرَانِي} ومعنى الحديث: أنه صُعقَ مرةً فلا يحتاج إلى أخرى. وفي مسلم عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي على مُوسى عليه السَّلام قائمًا يُصَلِّي في قَبْرِهِ" (¬2). وأخرج مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُرِضَ عَلَيَّ الأنبياءُ فإذا موسى ضَرْبٌ من الرِّجَالِ كأنَّهُ مِنْ رجالِ شَنوءَةَ، وذكَر عيسى ابنَ مريمَ" (¬3). والضَّرب: الخفيف اللحم، ورجال شَنُوءة كانوا طِوالًا، ويقال: أزد شَنُوءَة، وقد تقدم هذا وأخرجه أحمد (¬4). وأما إسناد مسلم، فقال مسلم بإسناده عن جابر بن عبد الله، وذكره، وفيه: "ورَأَيتُ إبراهيمَ وأقربُ مَن رأيت به شبهًا صاحِبُكم، ورأيتُ عيسى وإذا أقربُ مَن رأيتُ به شَبَهًا عروةُ بن مسعودٍ" (¬5). فإن قيل: فهل تعرفون في المُحَدِّثين من اسمه موسى بن عمران؟ فالجواب: جماعة، منهم: موسى بن عمران أبو عِمْران السُّلَمي، حدَّث بدمشق عن أبيه وروى عنه جمح بن القاسم، ومنهم موسى بن عمران بن موسى بن هلال، سمع مَكْحُولًا البيروتي وأبا الحسن بن جَوْصا، وأباه وغيرهم، وكانت وفاته بسَلَمَاس في سنة ثمانين وثلاث مئة (¬6). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (10987). (¬2) أخرجه مسلم (2375). (¬3) أخرجه مسلم (167)، وهو عند البخاري من حديث أبي هريرة (3394). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (14629). (¬5) أخرجه مسلم (167). (¬6) تاريخ دمشق 17/ 394 (مخطوط).

فصل في قصة بلعام الذي ما نجا من بحر الفتن بل عام، وما حل به من الانتقام

فصل في قصَّة بلعَام الذي ما نجا من بحر الفتن بل عام، وما حلَّ به من الانتقام (¬1) قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175]. واختلفوا فيمن نزلت على أقوال: أحدها: في بلعام، قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد والسُّدي، واختلفوا فيه على أقوال، فقال ابن عباس: هو بلعام بن باعوراء من بني إسرائيل، وقال مجاهد: بلعام بن باعور كان نبيًا، وقال مقاتل: بلعام بن باعوراء بن ناب بن لوط عليه السلام، وكان من مدينة الجبَّارين الكنعانيين، وقال موسى بن طلحة: كان من البَلْقَاء، وملكها يقال له: بالق (¬2). والثاني: أنها نزلت في أميَّة بن أبي الصلت، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولًا في ذلك الزمان، فطمع أن يكون هو، وسنذكره في نبَّوة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، قاله عبد الله ابن عمرو بن العاص وابن المسيَّب وأبو روق وزيد بن أسلم. والثالث: أنها نزلت في البسوس، فروى عكرمة عن ابن عباس قال: كان رجل من بني إسرائيل كانت له امرأة دميمة، وله منها أولاد، وكان للرجل ثلاث دعوات مستجابات، فقالت المرأة: اجعل لي منها دعوة، قال: وما هي؟ قالت: تجعلني أجملَ امرأة في بني إسرائيل، ففعل، فرغبت عنه، فغضب ودعا عليها فصارت كلبةً نبَّاحة، فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: لا صبر لنا على هذا، فإن الناس يعيِّروننا ويقولون: أمكم كلبةٌ نبَّاحة، فدعا لها فرجعت إلى حالها الأول، فنفذ فيها ثلاث دعوات. واختلفوا في البسوس: ¬

_ (¬1) جاء في (ب): الباب السابع عشر في قصة بلعام، والمثبت من (ط)، وانظر في هذه القصة: تفسير الطبري 13/ 252 هما بعدها، وتاريخه 1/ 439، "عرائس المجالس" ص 239، تفسير الثعلبي 4/ 304، تاريخ دمشق 3/ 426 (مخطوط)، "التبصرة" 1/ 262، "المنتظم" 1/ 355، "زاد المسير" 3/ 286، "تفسير البغوي" 2/ 213، "الكامل" 1/ 200، تفسير ابن كثير. (¬2) انظر "زاد المسير" 3/ 287.

فصل في ذكر قصته

فقال كعب: هو اسم الرجل، وقيل: اسم امرأة، وليست هذه البسوس التي أهاجت الحرب بين بكر وتغلب بن وائل، وسنذكرها فيما بعد. والخامس: أنها عامة في كلّ مَن انسلخ عن الحق من بعد ما أعطيه من اليهود والنصارى والمسلمين، قاله الرَّبيع بن أنس. والسادس: أنها نزلت في المنافقين، قاله عكرمة. والسابع: في قريش، أتتهم آيات الله على لسان رسوله فانسلخوا منها، قاله عبادة بن الصامت. والثامن: في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم ولكن انسلخوا منه، قاله الحسن وابن كيسان. والتاسع: في الرهبان الذين آتاهم الله الإنجيل فانسلخوا من أحكامه يرضون النصارى بذلك فغيَّروا وبدّلوا، قاله مقاتل. والعاشر: أنه ضُرِبَ مثلًا لمن أعرض عن الهدى بعد أن عرض عليه، قاله مقاتل. والمشهور: أنها نزلت في بلعام، وقيل: إنه كان يسكن قرية من قرى الشام يقال لها: بالعة. فصل في ذكر قصته ذكر علماء السير كابن عباس ووهب والسّدي وابن إسحاق وغيرهم: أنه كان قد أوتي الاسم الأعظم، وكان يسكن بالبلقاء، فلما نزل موسى عليه السلام على أَرِيحا لحرب الكَنعانيين أتى قومُ بلعام إليه وقالوا: هذا رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وقد جاء ليخرجنا من أرضنا ويُحلَّها بني إسرائيل، ونحن بنو عَمِّكَ، وأنت رَجُلٌ مجابُ الدعوة فادعُ عليه أن يردَّه الله عنَّا، فقال لهم: ويحكم، نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ ! إن فعلتُ ذلك ذهبتْ دنياي وآخرتي. فبكوا وتضرَّعوا إليه فقال: حتى أؤامرَ ربي، وكان لا يدعو حتى يرى ما يؤمر به في المنام، فتآمر في الدعاء عليهم فقيل له في المنام: لا تدعُ عليهم، فقال لقومه: قد أُمرتُ أن لا أدعو عليهم، فأهدوا له هدايا كثيرة ورشوة فافتتن، ووعدهم أن يدعو عليهم.

وقال مقاتل: نصب له ملك البَلْقَاءِ خشبة، وأراد صلبه لامتناعه من الدعاء عليهم، فركب أتانًا وخرج متوجهًا إلى جَبَل يُطْلِعُهُ على عسكر موسى، فوقف على جبل حسبان المطلِّ على الغور وعسكر موسى قريبٌ من أَريحَا، فما سار على الأتان غير بعيد حتى ربضت به، فنزل عنها وضربها حتى إذا أَذْلَقَها الضرب قامت، فركبها فلم تسر غير بعيد حتى ربضت، فنزل عنها وأخذ يضربها، فقالت له: وَيْحك إلى أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي (¬1) يردونني؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم يرتدع حتى وقف عليهم ودعا عليهم، فجعل لا يدعو عليهم بشيء من الشر إلا انصرف إلى قومه، ولا يدعو لقومه بشيءٍ من الخير إلا صرفه الله إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: ويحَك ما هذا؟ فقال: شيءٌ لا أملكه، إلا أنه قد دعا عليهم أن لا يدخلوا المدينة فوقعوا في التيه (¬2). وخرجت من صدره حمامةٌ بيضاء وهي الإيمان والمعرفة. وقال موسى: يا إلهي قد سمعتَ دعاءَه علينا فاسمع دعاءَنا عليه: اللهم انزع منه الاسم الأعظم، فنزع منه في الحال، واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لقومه: ذَهَبَتْ منِّي الدنيا والآخرة، ولم يبقَ إلا المكر والحيلة، وسأحتال لكم، زِّينوا النساءَ وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر ليبعنها فيه، وأمروهن أن لا يمنعن من أرادهنَّ فإنه إن زنى رجل منهم كُفيتم أمرهم، ففعلوا ذلك، فمرَّت امرأة من الكنعانيين يقال لها: كشى بنت صور برَجُلٍ من زعماء بني إسرائيل يقال له: زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يَعْقُوب فأعجبته، فقام وأخذ بيدها، ثم جاء حتى وقف على موسى عليه السلام وقال: إني لأظنك ستقول هذه حرام عليك، فقال: أجل والله إنها لحرامٌ عليكَ فلا تقربها، فقال: والله لا نطيعك في هذا، ثم دخل بها قبّتَه فزنى بها، فأرسل الله عليهم الطَّاعونَ في الوقت، فمات منهم في ساعةٍ واحدة سبعون ألفًا، وكان فنحاص بن العيزار صاحب أمر موسى غائبًا، فجاءه وكان شديد القوى فرأى الطاعون يجوسُ في بني إسرائيل، فقال: ما هذا؟ فأُخبر الخبر، فأخذ حربته وكانت من حديد ¬

_ (¬1) في (ب): الملائكة والنار أمامي. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 258، وعرائس المجالس 240. وأذلَقها: بلغ منها الجهد.

كلها، ثم دخل القبة على زمري وهو مضاجع المرأة فانتظمهما بحربته، وخرج بهما رافعًا حربته إلى السماء، قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى جنبه- وكان بكر العيزار- وجعل يقول: اللهم من يعصيك كذا نفعل به، فهلك من بني إسرائيل من ساعة زنى بالمرأة إلى ساعة فعل فنحاص ما فعل سبعون ألفًا كما ذكرنا، وقيل: تسعون ألفًا، فمن هناك يعطي بنو إسرائيل ولدَ فنحاصَ من كلِّ ذبيحة يذبحونها القِبَّةَ والذِّراع واللحي، باعتماده الحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى جنبه، والشطرَ من أموالهم وأنفسهم في النكاح. وقال الجوهري: القِبَّة بالكسر ذاتُ الأطباق، وهي الحِفْثُ، وقال في حرف الثاء الفَحِث- بكسر الحاء- لغةٌ في حَفِث الكَرِش، وهو القِبَّةُ ذات الأطباق، ذكرها في موضعين (¬1). واختلفوا في الآيات: قال ابن عباس والسُّدي: هي الاسم الأعظم. وقال ابن يزيد: كان لا يسأل الله شيئًا إلا آتاه الله. وروي عن ابن عباس أنه قال: أوتي كتابًا من كتب الله. وقال مقاتل: الآيات حجج الله وفهمُ الأدلة. وقال مجاهد: هو نبي في بني إسرائيل يقال له: بلعم بن باعور أو باعر، أوتي النبوَّة فرشاه قومه على أن يسكت عنهم، فسكَتَ وتركهم على ما هم عليه. {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي: خرج كما تنسلخ الحيَّةُ من جلدها {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175] أي: أدركه ولَحِقَهُ {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] الضالين {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي: فضلناه وشرفناه وعصمناه {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} أي: ركن إليها وسكن ورضي بالدنيا من الآخرة، وهذا مَثَل {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أي: انقاد له. وحكى الثعلبي عن يمان بن رئاب قال: {هَوَاهُ} أي: امرأته لأنها حملته على الخيانة وطلب الدنيا {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} ¬

_ (¬1) "الصحاح": (قبب) و (حفث) و (فحث).

فصل في ذكر قارون وسلبه كل مكنون ومخزون

[الأعراف: 176] قال مجاهد: منقطع الفؤاد لا يزال يلهث حملت عليه أم لا. وقيل: إنْ وعظته أو لم تعظه سواء عليه. وقال ابن عباس: معناه: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد إلى الخير. وقال ابن قتيبة: كل شيء من الحيوانات إنما يلهث من عطش أو إعياء إلا الكلب فإنه يلهث على كل حال، فضربه الله مثلًا لمن كذَّب بآياته وهو من لم ينتفع بعلمه. فقال: إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال (¬1). وقال مقاتل: زجر في منامه فلم ينزجر، وخاطبته الأتان فلم ينتبه، وهذا رجل لم ينفعه علمه بل ضرَّه وكان وبالًا عليه. وقال منصور بن زاذان: نبئتُ أن بعض من يُلقى في النار يتأذَّى أهلُ النار بنتن رائحته، فيقولون له: ويلك ما كفانا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بنتن ريحك، ما كنت تعمل في الدنيا؟ فيقول: كنت عالمًا فلم أنتفع بعلمي. وقال السُّدي: ثم إن موسى صعد إلى البلقاء وحارب قوم بلعام، وقتل ملكهم بالق وأسر بلعام فقتله شرَّ قتلة، وهذا ما انتهى إلينا، والله أعلم. فَصل في ذِكْر قارُون وَسَلْبِه كُل مَكنُون ومَخزُون (¬2) قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] الآية. واختلفوا في نسبه إلى موسى على أقوال: أحدها: أنه كان ابن عمه لأن موسى: ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، وقارون هو ابن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال ابن جريج والنخعي. والثاني: ابن خالته رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: كان عمَّ موسى عليه السلام، قاله محمد بن إسحاق (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير الثعلي 3/ 97 - 98، وانظر "تأويل مشكل القرآن" ص 286. (¬2) جاء في (ب): الباب الثامن عشر في ذكر قارون، وانظر في قصته: "تاريخ الطبري" 1/ 443، "تفسير الطبري" 20/ 105، "عرائس المجالس" ص 215، "التبصرة" 1/ 251، "المنتظم" 1/ 365، "زاد المسير" 6/ 239، "البداية والنهاية" 1/ 309، "الكامل" 1/ 204. (¬3) انظر "التبصرة" 1/ 251.

وقال قتادة: كان قارون يسمَّى المنوَّر لحسنه، وإنما نافق كما نافق السامري فأهلكه البغي (¬1). قوله تعالى: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} واختلفوا في معنى هذا البغي على أقوال: أحدها: أنه بغى عليهم بالكبر، قاله قتادة. والثاني: أنه زاد في ثيابه شبرًا، قاله عطاء الخراساني. والثالث: أنه بغى بالنفاق والكفر، قاله الضحاك. والرابع: أنه كان يخدم فرعون ويتعدى على بني إسرائيل ويظلمهم، حكاه الماوردي (¬2). والخامس: أنه جعل لبغيٍّ جعلًا لتقذفَ موسى عليه السلام ويتعدى على بني إسرائيل، قاله ابن عباس (¬3). وسنذكره. وفي مفاتيحه قولان: أحدهما: أنها مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب، وكانت مفاتيحه وِقْرَ ستِّين بغلًا، وكانت من جلود، كلّ مفتاح مثل الإصبع، قاله مقاتل. وقيل: كل مفتاح تفتح به عدة خزائن، ووزن كل مفتاح درهمان، قاله مجاهد وقتادة ومقاتل. والثاني: أن المراد بالمفاتيح الخزائن نفسها، وحكاه جدي في "التبصرة" عن السُّدي وأبي صالح والضحاك، قال: وقال الزجاج: وهذا أشبه، وإليه ذهب ابن قتيبة (¬4). وكانت مفاتيح خزائنه تحمل على أربعين جملًا (¬5). قلت: والأول أشبه، لأن أموال قارون كانت عظيمة تزيد على ما ذكره، فإن أربعين ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 444، وانظر "المنتظم" 1/ 366. (¬2) النكت والعيون 4/ 265. (¬3) انظر "التبصرة" 1/ 251 - 252. (¬4) انظر "تفسير غريب القرآن" ص 335. (¬5) "التبصرة" 1/ 252.

بغلًا بالنسبة إلى أمواله يسيرة. {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أي: بنقلهم، وهذا دليل على ما ذكرنا لأنه صريح فيه، وإذا كانت المفاتيح تنوء بنقل العصبة - وهم أربعون رجلًا في قول ابن عباس، وقد ذكرناهم في قصة يوسف - فما ظنك بالخزائن. {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ} [القصص: 76] يعني المؤمنين من آمن بموسى، ومعنى لا تفرح: لا تبطر ولا تمرح {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} وهي الجنة، بالإنفاق في طاعة الله {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وهو أن تعملَ فيها للآخرة {وَأَحْسِنْ} بإعطاء فضل مالك {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} بأن زادك على قدر حاجتك {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص: 77] بأن تعمل بالمعاصي. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} يعني المال، وفيه أقوال: أحدها: أن قومه لما وعظوه قال: إنما أوتيته على خير وصلاح عَلِمَهُ الله مني، ولولا ذلك لما أعطاني إيَّاه، قاله مجاهد. والثاني: بفضل علمي، قاله الفراء. والثالث: بالمكاسب والتجارات، حكاه الماوردي (¬1). والرابع: برضا الله عني، قاله ابن زيد. والخامس: بصنعة الكيمياء، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وحكى جدي في "التبصرة" عن الزجاج أنه قال: وهذا لا أصل له لأن الكيمياء باطلٌ لا حقيقة له (¬2). فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} للأموال. ومعناه: لو كان الله إنما يعطي الأموال لمن يرضى عنه لم يهلك أرباب الأموال الكثيرة {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78] بل يدخلون النار بلا حساب، قاله قتادة. فما زاده ذلك الوعظ إلا عتوًّا. قوله: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79] اختلفوا في الذي خرج فيه على ¬

_ (¬1) النكت والعيون 4/ 268. (¬2) "التبصرة" 1/ 253.

ذكر سبب هلاكه

أقوال: أحدها: في ثيابٍ حمر وصفر، قاله الحسن. والثاني: في ثياب معصفرة، قاله عكرمة. والثالث: على بغلةٍ شهباء عليها سرج أحمر من أرجوان، ومعه أربعة آلاف مقاتل وثلاث مئة وصيفة عليهنَّ الحليُّ والحلل والزينة، على بغال شهب، قاله وهب. والأرجوان: صبغ أحمر. وقال مقاتل: كان معه سبع مئة جارية عليهن الحلي والحلل المصبَّغة بالأرجوان. والرابع: أنه خرج في تسعة آلاف مقاتل، ومعه أمواله وذخائره وجواهره، فكاد أن يفتن بني إسرائيل. ذكر سبب هلاكه قوله: {وَلَا يُلَقَّاهَا} يعني: الكلمة التي قالها المؤمنون، وهي: {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [القصص: 80]، فأما الذي بطر وبغى فهلك. وقال ابن عباس: لما أنزلت آية الزكاة في التوراة جاء قارون إلى موسى فصالحه على كل ألف دينار دينار، وعلى كل ألف درهم درهم، وعلى كل ألف شاة شاة، وعلى هذا الأسلوب، فحسب ذلك فوجده مالًا عظيمًا، فجمع بني إسرائيل وقال لهم: إن موسى يأمركم بكل شيء فتطيعونه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تعطوا فلانةَ - لبغيٍّ كانت في بني إسرائيل - مئةَ دينار لتقذفه ففعلوا؛ وجاء قارون إلى موسى فقال: إن قومك قد اجتمعوا لتأمرهم وتنهاهم، فخرج فقام فيهم خطيبًا وقال: يا بني إسرائيل، من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مئة، فإن كانت له امرأة رجمناه حتى يموت، فصاح به قارون وقال: وإن كنت أنت؟ قال: نعم، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرتَ بفلانة، فقال: عليَّ بها، فجاءت، فقال لها موسى: أنا من فعلت هذا الذي يقول هؤلاء؟ فقالت: لا والله يا نبيَّ الله، كذبوا، وإنما جعلوا لي جُعلًا حتى أقذفَكَ بنفسي، فسجد موسى عليه السلام يبكي ويتضرع، فأوحى الله إليه مُرِ الأرض

بما شئت، فقال: يا أرضُ خذيه، وكان قارون على سريره فأخذته حتى غيّبَتْ سريره، فقال: يا أرض خذيه، فلم يزل يقولُ كذلك حتى غاب معظمه وبقي منه اليسير، قيل: قدماه، فجعل يناشد موسى بالرحم فما رُحِمَ، وجعل يقول: يا أرض خذيه، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام: يا موسى، ما أَفَظَّكَ! ! فوعزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته. قال سمرة بن جندب، وقد رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فهو يخسف به كلَّ يوم قدر قامة فما يبلغ الأرض السفلى إلى يوم القيامة" (¬1)، وفيه نزل قوله تعالى: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} الآية. وقال ابن عباس: ثم قال موسى: يا أرض خذيهم وأشار إلى الذين قذفوه فأخذتهم (¬2). ولما خسف به قال بعض الجهال: إنما قصد موسى أخذ داره، وكانت داره عظيمة، لبنة من ذهب ولبنة من فضة، فسأل الله فخسف بداره بعد ثلاثة أيام. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [القصص: 81] وقيل: أراد بداره منزله ومقامه، وإلا فمن أين كان لهم في التيه دور؟ والعرب تسمي المنزل دارًا. قلت: ويحتمل (¬3) أن الواقعة كانت بمصر. {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ} قد ندِموا على تمنيهم ويقولون: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82]. قال الجوهري: وذلك لأن القوم ندموا فقالوا "وي" متندمين على ما سلف منهم (¬4) {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} وذلك بالبغي والبطر والأشر والفساد والعمل بالمعاصي {وَالْعَاقِبَةُ} المحمودة {لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 9/ 3020. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 447. وانظر "التبصرة" 1/ 253. (¬3) في (ب): قال المصنف رحمه الله: ويحتمل. (¬4) لم نجده في "الصحاح" وقد أورده البغوي في "تفسيره" ص 993. وابن الجوزي في "زاد المسير" 6/ 247 ونسباه إلى الخليل دون الجوهري.

فصل في قصة يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف

فصل في قصَّة يُوشع (¬1) بن نُون بن أفراثيم بن يوسُف وقد ذكرنا أن موسى استخلفه (¬2)، فلما توفي موسى قام يوشع بأحكام التوراة على منهاج موسى عليه السلام، وقسَّم الشام بين بني إسرائيل، وفتح البلاد وأباد الكنعانيين. وقال أبو القاسم في "تاريخ دمشق": يوشع أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما. قال: وفتح إحدى وثمانين مدينة، وقتل من ملوك كنعان نيفًا وثلاثين ملكًا (¬3). قلت: ومن أين بالشام ثمانون مدينة؟ ! وإنما فتح أَريحا وقتل من كان بها وبأَيْلة، لما نذكر. وقال ابن إسحاق: لما مات موسى عليه السلام جمع يوشع بني إسرائيل ونزل على أَرِيْحا وقاتلها قتالًا شديدًا أسبوعًا كاملًا إلى آخر نهار الجمعة، فخاف يوشع أن تغرب الشمس ويدخل السبت، وكانوا قد أشرفوا على أخذها، فدعا يوشع وقال: اللهم احبس لنا الشمسَ، فوقفت دون الغروب قيد رمح حتى فتح البلد، وقتل الجبارين وجمع الغنائم وقرَّبوها، فلم تنزل النار ولم تأكل منها شيئًا (¬4). قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن هَمَّام عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "غَزَا نبيٌّ من الأنبياءِ فقال لقومِهِ: لا يتبعني رجلٌ مَلَكَ بُضعَ امرأةٍ [وهو يريد أن يبني بها ولما يبن]، ولا من بَنى بيتًا ولم يَرفع سقفَهُ، ولا من اشتَرى غَنَمًا أو خَلِفاتٍ وهو ينتظِرُ أولادَها، فَغَزا فَدَنا من القَريةِ صَلاةَ العَصرِ، أو قَرِيبًا من ذلك، فقال للشَّمسِ: أنتِ مأمُورةٌ، وأنا مأمُورٌ، اللهم احبِسها عليَّ شيئًا، فحُبِست حتى فَتح اللهُ عليهم، فَجَمع الغنائِمَ، فجاءت النَّارُ فلم تأكُلها، فقال: فيكم الغُلُولُ، فليُبايعنِي من كلِ قبيلةٍ رجلٌ، فَلزِقت يدُ رجلٍ بِيدهِ فقال: فيكم الغُلُولُ، فليُبايعني قَبِيلتُكَ فلزِقت يدُ رجلينِ أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغُلُولُ، فَجاؤوا برأسٍ مثلُ رأسِ البَقرةِ من ذَهبٍ، ¬

_ (¬1) في (ب): الباب التاسع عشر في قصة يوشع عليه السلام. (¬2) انظر فصل في وفاة موسى عليه السلام. (¬3) "تاريخ دمشق" 24/ 440. (¬4) انظر "المنتظم" 1/ 377.

ذكر وفاة يوشع

فوضَعَهُ تحت النَّارِ فأكَلَتهُ، فلم تَحِل الغنائمُ لأحدٍ قبلَنا، ذلك بأنَّ الله رأى ضَعفَنَا وعَجزَنا فَطيَّبها لنا". متفق عليه (¬1). والذي رُدَّتْ له الشمس يوشع بن نون بإجماع العلماء، وكانت النار إذا نزلت فأكلت القربان علم أنه مقبول. وقال ابن الكلبي: ولما فتح يوشع أَريحا سار إلى البَلقاء فقتل بالقًا ملكها- وقد ذكرنا أن موسى قتله، وكان بالق من العمالقة- وفرَّق العمالقةَ من الشام ثم سار إلى أَيْلة وبها ملك العمالقة السَّميدَع بن هوبر فقتله، وفي ذلك يقول عمرو بن سعد (¬2) الحميري: ألم تَرَ أنَّ العملقيَّ ابن هَوْبَر ... بأيلةَ أَمسى لحمُهُ قد تمزَّعا تداعت عليه من يهودَ جحافلٌ ... ثمانون ألفًا حاسرين ودرَّعا وقال ابن الكلبي: ومن بقي من العمالقة وأفلت من يوشع ساروا إلى المغرب، فتفرقوا وصعدوا الجبال، فهم البربر بقيَّة الكنعانيين، وإنما سموا بالبربر لأن ملكهم قال لهم: ما أكثر بربرتكم أي حديثكم بلغتكم (¬3). وذكرهم الجوهري فقال: وبربر جيل من الناس، ذكرهم بغير ألف ولام، قال: والجمع البرابرة (¬4). وروى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: أوحى الله إلى يوشع إني مهلكٌ من قومك مئة الف، ستين ألفًا من خيارهم وأربعين ألفًا من شرارهم. قال: يا رب، فما بالُ الأخيار أكثر هلاكًا؟ قال: كانوا يجالسون الأشرار ولم يغضبوا قطُّ يومًا لغضبي (¬5). ذكر وفاة يوشع قال ابن إسحاق: ولما احتضر يوشع استخلف كالب بن يوفنا وأوصى إليه، ودفن ¬

_ (¬1) من قوله: قال الإمام أحمد ... إلى هنا من (ب) وليس في (ط)، وأخرج الحديث: أحمد (8238) وما بين معكوفين منه، والبخاري (3124)، ومسلم (1747). (¬2) في "ب" سعيد، وفي (ط): مسعود، والمثبت من مروج الذهب 1/ 98. (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 442، و"المنتظم" 1/ 378. (¬4) "الصحاح": (برر). (¬5) "العقوبات" لابن أبي الدنيا (13)، وانظر "المنتظم" 1/ 378.

من كان في أيامه من الملوك

يوشع في جبال الشراة، وقيل: بجبل يقال له: جبل كنعان، وقيل: أفرائيم. واختلفوا في سنِّه: ذكر جدي في "أعمار الأعيان" أنه عاش مئة وعشر سنين، وكذا الحسن بن عرفة (¬1). وقال أبو جعفر الطبري: عاش مئة وستًا وعشرين سنة. وقيل: مئة وعشرين سنة مثل موسى عليه السلام، وكانت مدة بقائه بعد موسى عليه السلام سبعًا وعشرين سنة (¬2)، في زمان منوشهر عشرين سنة، وفي زمان أفراسياب سبع سنين. من كان في أيامه من الملوك قال الكلبي: كان منوشهر قد هلك في آخر أيام يوشع وملك أفراسياب، وكان أكثر مقامه ببابل، فأكثر الفساد في الأرض، وأفسد مملكة فارس، ورَدَم القني والآبار وغوَّر المياه والأنهار، فيبست الأشجار، فوثب عليه رجل من ولد منوشهر يقال له: زو، وقيل: زومن، فطرده عن مملكة فارس، فعاد إلى الترك وأصلح زو ما أفسده أفراسياب، ووضع عن الرعية الخراج سبع سنين، فعمرت البلاد وكثرت الخيرات، واستخرج من الفرات نهرًا سماه الزاب بالسواد بأرض الكوفة، وبنى على جانبه مدينة وهي التي تسمى بالعتيقة، وكان عندها وقعات المسلمين مع الفرس. وهو أول من اتخذت له الألوان في الأطعمة. ولما جلس على سريره وضع التاج على رأسه وقال: نحن مجتهدون في عمارة ما أخربه أفراسياب؛ ثم مات فكان ملكه ثلاث سنين، وقيل: ثلاثين سنة، وقام بعده ولده كي قباذ، وكان متكبرًا شبيهًا بفرعون، وكان نازلًا عند جيحون، وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة، ومنعهم أن يتطرقوا لبلاد فارس؛ قالوا: وعاش مئة سنة (¬3). * * * ¬

_ (¬1) "أعمار الأعيان" ص 93. (¬2) "تاريخ الطبري" 1/ 442. (¬3) انظر "المنتظم" 1/ 379 - 380، وتاريخ الطبري 1/ 453.

فصل في قصة كالب بن يوفنا

فَصل في قِصَّةِ كالب بن يوفنَّا قال علماء السير: ولم يكن نبيًا إنما كان رجلًا صالحًا. وهو كالب بن يوفنَّا بن بارص بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام، وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما قال فيهم الله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة: 23] وكانت بنو إسرائيل منقادة له، فأقام فيهم على منهاج يوشع أربعين سنة، ومات واستخلف عليهم ابنه. قال كعب: واسمه يوسافاس بن كالب. وكان نظير يوسف عليه السلام في الحسن، فافتتن به الرجال والنساء، وكدن النساء أن يغلبنه على نفسه، فسأل الله أن يغيِّر حسنه ويشوِّه وجهه خوفًا من الفتنة، فاستجاب دعواه، فعظم في عين بني إسرائيل، وشرَّفوه وأقرُّوا له بالفضل، فأقام فيهم أربعين سنة على منهاج أبيه (¬1). وقيل: إنما ملك بعد كالب فنحاص بن العازر بن هارون ثلاثين سنة، وهو الذي أخذ مصاحف موسى عليه السلام فجعلها في خابية من نحاس، ورصَّصها وسدَّ رأسها، وأتى بها صخرة بيت المقدس، فانشقَّت له وبلعت الخابية. ثم دبَّر أمر بني إسرائيل جماعةٌ حتى قام حزقيل. * * * ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 252 - 253.

فصل في قصة حزقيل بن بوزي

فصل في قصَّة حِزقيل بن بوزي (¬1) واختلفوا فيه على أقوال: فقال قوم: هو ابن العجوز، وكانت أمُّه قد عقمت، فسألت الله ولدًا فوهبه لها. وقال زيد بن أسلم: هو الكفل. وقال الحسن: ذو الكفل لأنه تكفل سبعين نبيًا لليهود عزموا على قتلهم، فأطلقهم حِزقيل وقال: قتلي وحدي أهون من قتل سبعين، وحماه الله من اليهود. وقال السّدي: ولما عظمت الأحداث في بني إسرائيل بعد ابن كالب بن يوفنَّا ووقع الاختلاف بين بني إسرائيل، ودعا كل سبط إلى أن يكون هو الإمام، بعث الله حِزقيل، قال: وفي زمانه جرت قصةُ الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. واختلفوا في كيفية ذلك: فقال وهب: كانوا من بني إسرائيل أصابهم بلاء وشدة فقالوا: يا ليتنا متنا واسترحنا مما نحن فيه، فأوحى الله إلى حِزقيل: إنَّ قومك ضجُّوا من البلاء، وزعموا أن في الموت راحة، وأيُّ راحة في الموت؟ أتظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت؟ فانطلقْ إلى جبانة كذا وكذا فإن فيها أربعة الاف، فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت وشعورهم قد تمزقت وأكلت السباع والطيور لحومهم، فوقف حزقيل على الجبانة ونادى: أيتها العظام، إنَّ الله يأمرك أن تعودي إلى أجسادك، فقاموا وكبروا تكبيرة واحدة (¬2). وقال السدي: مرَّ حِزقيل على قرية من بلد واسط يقال لها: دَاوَرْدان وقد وقع بها الطاعون، فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقي في القرية، وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لسلمنا كما سلموا، ولئن وقع الطاعون ببابنا لنخرجنَّ ¬

_ (¬1) انظر لهذه القصة: "تاريخ الطبري" 1/ 457، و"تفسير الطبري" 2/ 587، و"عرائس المجالس" ص 253، و"المنتظم" 1/ 380، و"البداية والنهاية" 2/ 2، و"الكامل" 1/ 210. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 457 - 458.

إلى أرض لا وباءَ بها، فوقع الطاعون من قابل، فخرج عامة أهلها فنزلوا بمكان أَفْيَح- أي: واسع- فلما حلُّوا بها واعتقدوا النجاةَ من الطاعون ناداهم مَلَكٌ من أعلى الوادي وآخر من أسفله: موتوا جميعًا فماتوا، فمرَّ بهم حزقيل فأحياهم (¬1). وقال الضحاك ومقاتل: أمر بعض الملوك من بني إسرائيل بني إسرائيل بالجهاد، فخرجوا وعسكروا، ثم جبنوا وكرهوا الموت، فاعتلُّوا عليه وقالوا: الأرض التي نأتيها وبِئة، فأمهلْ حتى يرتفعَ الوبأ منها، فأرسل الله عليهم الموت، فقال ذلك الملك: اللهمَّ ربَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، قد ترى معصيتهم لي، فأرهم آيةً في نفوسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فقال لهم الله: موتوا، عقوبةً لهم، فماتوا جميعًا ودوابهم وأروحوا ونتنوا، فخرج الناس إليهم فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها فأقاموا مدة طويلة، وقيل: سبعة أيام أو ثمانية. واختلفوا في عددهم على أقوال: أحدها: أنهم كانوا ثلاثة آلاف، قاله عطاء الخراساني. والثاني: أربعة آلاف، قاله ابن عباس. والثالث: ثمانية آلاف أو سبعة آلاف، قاله مقاتل. والرابع: ثمانية آلاف، قاله الكلبي. والخامس: ثلاثين ألفًا، قاله الحسن. والسادس: أربعين ألفًا، قاله السدي. والسابع: سبعين ألفًا، قاله عطاء. والثامن: تسعين ألفًا، روي عن ابن عباس. والأصحُّ أنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف ولم يكونوا أقل منها لقوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243] وما دون العشرة لا يقال لهم ألوف، وإنما يقال ثلاثة ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 587.

آلاف فصاعدًا إلى عشرة آلاف، أما الألوف فجمعٌ كثير، وجمع القليل آلاف مثل يوم وأيام ووقت وأوقات، وقال ابن زيد: معنى "ألوف" أي: مؤتلفون، والآية مطلقة، وهذا يدل على ما ذكرناه (¬1). قال مقاتل ووهب والسُّدي: فمرَّ بهم حِزقيل، وغيرهم يقول: شمعون، والأول أصحٌّ، فوقف ينظر إلى عظامهم ويتفكَّر فيهم ويتعجب. فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك آية؟ فقال: نعم - وفي رواية أن حِزقيل سأل ذلك فقال: يا ربِّ، لو أحييتَ هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك - فقال الله تعالى: نادهم، فناداهم: أيتها العظام البالية، إنَّ الله يأمركِ أن تكتسي اللحم فاكتست، ثم نادى. أيتها الأرواح، إنَّ الله يأمرك أن تعودي إلى أجسادك، فقاموا جميعًا وعليهم الثياب التي ماتوا فيها (¬2). قال: فعاشوا دهرًا وسَحْنةُ الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبًا إلا عاد دسمًا مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتب الله لهم، وإنَّ رائحتهم لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود. فإن قيل: فكيف أثبت لهؤلاء موتتين في الدنيا والله يقول: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن موتتهم كانت عقوبةً لا بفناء أعمارهم، فصار كقوله. {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]. والدليل على أنه كان عقوبة ما حكاه هلال بن ساقة قال: كانت أمة من بني إسرائيل إذا وقع الطاعون فيهم خرج أولياؤهم وقام فقراؤهم، وصاروا عظامًا تبرق، وكنسهم أهل البيوت عن بيوتهم وطرقهم (¬3). وهذا يدل على طول المدَّة لا أنَّهم أقاموا سبعة أيام أو ثمانية. والجواب الثاني: أن إحياءهم كان آية من آيات حِزقيل، وآيات الأنبياء نوادر ولا يقاس عليها، فيكون تقدير قوله: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] التي ليست من آيات الأنبياء وإظهار معجزاته. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 253 - 254. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 458. وانظر "عرائس المجالس" ص 254. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 589.

وقال ابن عباس: وفيهم نزل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} قال: ومعنى {أَلَمْ تَرَ}: ألم تعلم على وجه التعجب، كما يقول: ألم تَرَ إلى ما صنع فلان؟ ! ابن الأنباري: وفي الآية دليلان: أحدهما: على منكري البعث، فإن الله أحيا هؤلاء في الدنيا. قلت: والعجب من هذا القول، لأن منكري البعث لو آمنوا بالقرآن لما أنكروه، وإنما يدفعون بالدلائل العقلية. والثاني: أن فيها احتجاجًا على اليهود؛ إذ أخبرهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ لم يشاهدوه. وقال السُّدي: مضى حِزقيل إلى بابل فقتله اليهود وإن قبره ببابل. ثم كثرت الأحداث فبعث الله إلياس، لما نذكر. وعاش حِزقيل مئة سنة، وأقام فيها نبيًا ثلاثين سنة. * * *

فصل في قصة الخضر عليه السلام

فَصل في قصَّة الخَضِر عليه السَّلام (¬1) الترتيب أن نذكر الخضر في ترجمة ذي القرنين, لأنه كان ابن خالته، أو في ترجمة موسى لما جرى له معه، وإنما أفردنا له بابًا على حدة لأن سيرته تقتضي ذلك. واختلف العلماء في اسمه ونسبه على أقوال: أحدها: أنه اليَسَع بن مَلَكان بن فالِغ بن عابِر بن شالِح بن أَرْفَخْشَذ بن سام بن نوح عليه السلام، قاله مجاهد. والثاني: بليا بن مَلَكان بن يقطن (¬2) بن فالِغ بن عابِر بن شالخ بن أَرْفَخْشَذ بن سام بن نوح، قاله مقاتل. وكذا ذكر ابن قتيبة في "المعارف"، إلا أنه قال: بليا بن مَلَكان بن فالِغ أو ابن مَلَكا (¬3). والثالث: خضرون بن عاميل بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. قاله كعب. وكذا هو في "التوراة". والوابع: إرميا بن خلقيا، من سبط هارون بن عمران، قاله ابن إسحاق. وأنكره أبو جعفر الطبري وقال: إرميا كان في زمان بخت نصَّر، وبين بخت نصَّر وموسى زمن طويل. قال الطبراني: والخضر هو الرابع من ولد إبراهيم لصلبه (¬4). قلت: وابن جرير الطبري أولى من أن يُنكَرَ عليه، وأين الخضر وآدم؟ وقد قال في "تاريخه" ما هو أعظم من هذا، قال: هو الذي دفن آدم حين أنزل من السفينة، وأن نوحًا دعا له أن يطيل الله عمره إلى يوم القيامة. وهذا قولٌ لم يُوافقه عليه أحد. قال مجاهد: وهو من ولد يافث بن نوح، كما أنه كان وزير ذي القرنين ويسير في مقدماته. ¬

_ (¬1) في (ب): الباب العشرون في قصة الخضر عليه السلام. (¬2) في (ط): مقطن، والمثبت من (ب). (¬3) "المعارف" ص 42. (¬4) لم أقف على كلام الطبري في تاريخه، ونقله المصنف بواسطة جده من المنتظم 1/ 357 - 358.

فصل في اختلاف العلماء في حياته وموته

وقال مقاتل: وقد قيل: إنه ولدُ رجل من أهل بابل ممن آمن بالخليل عليه السلام وهاجر معه. وقيل: اسمه عاميل بن مَلَكان. واختلفوا لم سمي الخضر؟ قال بعضهم: هو أحد أساميه. وقال عكرمة: وسمي الخضر لأنه كان إذا صلى على أرض اخْضَرَّ ما حوله. وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما سُمِّيَ الخَضِرُ خَضِرًا لأنَّه جَلَسَ على فَروَةٍ بَيضَاءَ فإذا هي تهتزُّ خَضرَاءَ". انفرد بإخراجه البخاري (¬1). قال الجوهري: والفروة قطعة نبات مجتمعة يابسة (¬2). وقال الزجاج: الفروة الأرض اليابسة. وهل كان نبيًا؟ فيه قولان: روى مجاهد عن ابن عباس أنه كان نبيًا. والثاني: أنه كان عبدًا صالحًا قاله عليٌّ، وعليه عامَّة العلماء. وقيل: إنما سمي الخضر لحسنه وإشراق وجهه. وقد ذكرنا قصته مع موسى عليه السلام. فصل في اختلاف العلماء في حياته وموته ذهب جماعة من أهل النقل إلى أنه توفي. ومذهب مشايخ الطريقة والحقيقة وأرباب المجاهدات والمكاشفات أنه حي يرزق ويشاهد في الفلوات، وأنهم يرونه ويشاهدونه، كعمر بن عبد العزيز، وإبراهيم بن أدهم، وبِشر الحافي، ومعروف الكرخي، وسَري السقطي، والجُنيد، والخوَّاص، وغيرهم. وقد ذكر ذلك عامة العلماء في "الحلية" و"الرسالة" و"مناقب الأبرار" وغير ذلك، وحوشوا من الكذب، لأنهم القدوة ولنا بهم أسوة، وما كان الله ليجمعهم على ضلالة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (8113)، والبخاري (3402). (¬2) "الصحاح" (فرا).

واحتجَّ الفريق الأول بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] وبما روى أحمد بإسناده عن ابن عمر قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء في آخر حياته، فلما سلم بهم قال: "أرأَيتُم لَيلَتكُم هذه، فإنَّ على رأسِ مئةِ سنةٍ منها لا يَبقَى ممن هُو على ظَهرِ الأرضِ أَحدٌ". قال ابن عمر: فذهل الناس من مقالته. متفق عليه (¬1). وبما أخرج مسلم عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما مِن نَفسٍ منفُوسةٍ تبلُغُ مئةَ سنةٍ وهي حيةٌ يومئذٍ" (¬2). قالوا: ولأن الخضر لو كان حيًا لأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ووجه قول الفريق الثاني: ما ذكرناه من إجماع أرباب الحقائق وهو لا يتصوَّر تواطؤهم على الكذب، وكفى بإجماعهم حجة. ومن أنكر حياة الخضر لم يكن له ذوق بإشارات القوم، لأن مثل هذا إنما يعرفه الباحث من جنسه، وسنذكر اجتماعَ من سمَّينا به في سير القوم في كتابنا عند تراجمهم. وأما ما احتجوا به من قوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} فما ادَّعوا أنه مخلَّد، وإنما يبقى إلى انقضاء الدنيا، فإذا نفخ في الصور مات لقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35] وأما ما حدَّث ابن عمر وجابر فمتروك، والظاهر أنَّ جماعةً عاشوا أكثر من مئة سنة منهم: سلمان الفارسي، فإنه عاش ثلاث مئة سنة وقد شاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحكيم بن حزام مئة وعشرين وغيرهما. وإنما أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك الزمان لا إلى ما تقدم وهو الأليق به، على أنه قد عاش بعد ذلك الزمان خلق كثير أكثر من مئة سنة. وقولهم لو كان حيًا لأتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيحتمل أنه تركه إجلالًا أو عذرًا وطلب من الله الإذن في ذلك. وقد كان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة ممن آمن به منعهم الأعذار عن لقائه كأبي مسلم الخولاني وأُويس القَرَنيُّ وغيرهما، ويحتمل أنه اجتمع به ولم ينقل. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (5617)، والبخاري (116)، ومسلم (2537). (¬2) أخرجه مسلم (2538).

وقد جمع جدي رحمه الله كتابًا في هذا الفن وذكر فيه العجائب (¬1). وقد روي في حياته أخبار وآثار: أما الأخبار: فذكر جدي رحمه الله في "الموضوعات" جملة منها: أنه جاء إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع كلامه ولم يلقه (¬2). ومنها حديث اجتماع الخضر وإلياس في كلِّ عام بالموسم (¬3). ومنها اجتماع الخضر بالملائكة (¬4) وعليٍّ عليه السلام (¬5)، وبعمر بن عبد العزيز (¬6)، ونحو ذلك، ثم ضعفها جدي وقال عقيب تضعيفها: وإن جماعة من المتزهدين يقولون: رأيناه وكلَّمناه، فواعجبًا ألهم فيه علامة يعرفونه بها؟ وهل يجوز لعاقل أن يلقى شخصًا فيقول له إنَّه الخضر فيصدِّقه (¬7)؟ . قلت: إجماعًا على أنه شاب حسن الوجه، طيب الرائحة، ظاهر الكرامات، يدلُّ على صحة ما قالوا، فإنهم مجمعون على ذلك لا يختلفون فيه، فإذا قال: أنا الخضر وظهرت هذه العلامات وجب تصديقه. وقال عطاء: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان وعن الخمس لمن هو، وعن الصبي متى ينقطع عنه اليتم، وعن النساء هل يُخرج بهن أو يحضرن القتال؟ وعن العبد هل له في المغنم نصيب؟ فكتب إليه: أما الصبيان فإن كنت الخضر تعرف المسلم من الكافر فاقتلهم, وأما الخمس: فكنا نقول إنه لنا، في عم قوم أنه ليس لنا، وأما النساء: فقد كان رسول الله ¬

_ (¬1) وسماه: عجالة المنتظر في شرح حال الخضر، وقد ردَّ في المنتظم 1/ 361 على من قال بوجوده وحياته إلى زمانه. (¬2) "الموضوعات" (401 - 402) من حديث أنس. (¬3) "الموضوعات" (403 - 404) من حديث ابن عباس. (¬4) "الموضوعات" (405) من حديث علي بن أبي طالب. (¬5) "الموضوعات" (406). (¬6) "الموضوعات" (407). (¬7) "الموضوعات" 1/ 314 - 315.

- صلى الله عليه وسلم - يُخرِجُ معه النساء فيداوين المرضى ويقمن على الجرحى ولا يحضرن القتال، وأما الصبيان فينقطع عنهم اليتم بالاحتلام، وأما العبد فليس له في المغنم نصيب ولكنهم قد كان يرضخ لهم. فقول ابن عباس: إن كنت الخضر تعرف الكافر من المسلم فاقتلهم، يدل على أنه موجود، ولو كان معدومًا لم يقل ذلك (¬1). وأما الآثار: فذكر مقاتل في كتاب "المبتدأ" له: أن إلياس والخضر شربا من عين الحياة فلا يموتان إلى يوم القيامة، قال: فالخضر يدور البحار يهدي من يضلُّ فيها، وإلياس يدور الجبال يهدي من أضله الغول، هذا دأبهما في النهار، فأما في الليل فإنهما يجتمعان عند سدِّ يأجوج ومأجوج يحفظانه، ومأكلهما من الجنة. وقال مجاهد: الخضر باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وذكر أبو إسحاق الثعلبي في "تفسيره" عن عبد العزيز بن أبي رواد: أن الخضر وإلياس يصومان شهر رمضان في البيت المقدس، ويوافيان الموسم في كل عام. وروي عن إبراهيم التيمي أنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال لي: كل ما يحكى عن الخضر حق، وهو عالم أهل الأرض، ورأس الأبدال، وهو من جنود الله تعالى. وقد ذكر أبو القاسم في "تاريخ دمشق" فيه آثارًا أبلغ من أن تحصى، بلغ بها إلى الأمد الأقصى (¬2). * * * ¬

_ (¬1) من قوله: وقار عطاء ... إلى هنا زيادة من (ب) ليست في (ط). (¬2) انظر تفسير الثعلبي 8/ 167، وعرائس المجالس 262، و"تاريخ دمشق" 16/ 399.

فصل في ذكر إلياس عليه السلام

فَصل في ذِكر إليَاس عليهِ السَّلام (¬1) قال مقاتل: ذكر الله إلياس في موضعين: قال الله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)} [الصافات: 123]. قال الجوهري: إلياس اسم أعجمي، وقد سمت العرب به إلياس بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان (¬2). واختلفوا في اسمه ونسبه على أقوال: أحدها: أنه إلياس بن ياسين بن العيزار بن هارون. وقيل: إلياس بن العازر بن هارون بن عمران، قاله ابن عباس، وحكاه أبو جعفر الطبري (¬3). والثاني: إلياس بن تسبي (¬4) بن الفنحاص بن العيزار بن هارون، قاله ابن إسحاق. والثالث: إلياس بن نسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون، قاله مقاتل. وحكى الثعلبي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن إلياس هو إدريس كما أن يعقوب هو إسرائيل، قال عكرمة: وكذا هو في مصحف ابن مسعود: "وإن إدريس لمن المرسلين" (¬5). والأصحُّ أنه من بني إسرائيل كما حكى علماء السير، وأن إلياس وإدريس بينهما دهر طويل. قال الثعلبي: وإلى قول ابن مسعود ذهب عكرمة، وقد تفرد بهذا القول. ¬

_ (¬1) في (ب): الباب الحادي والعشرون في ذكر إلياس عليه السلام، وانظر في قصته: "تاريخ الطبري" 1/ 461، "عرائس المجالس" ص 255، تاريخ دمشق 3/ 81 (مخطوط)، "المنتظم" 1/ 382، "الكامل" 1/ 212، "البداية والنهاية" 2/ 272. (¬2) "الصحاح": (ألس). (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 461. (¬4) في (ط)، وعرائس المجالس 255: يسي، وليس في (ب)، وفي تاريخ الطبري 1/ 461، والمنتظم 1/ 382، وتفسير الثعلبي 8/ 158: ياسين، والمثبت من تفسير الطبري 8/ 383 (هجر)، والبداية 2/ 272. (¬5) في (ب): وإن إدريس بن إدريس، وفي (ط): وإن إدريس بن إدراس، والمثبت من تفسير الثعلي 8/ 158، و"تفسير البغوي" ص 1095، وغيرهما من التفاسير، وانظر الشواذ لابن خالويه 128، والبحر المحيط.

ذكر قصته

ذكر قصته حكى علماء السير كابن إسحاق والسُّدي والكلبي عن ابن عباس وغيره قالوا: لما قبض حِزقيل عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وظهر فيهم الفساد، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم إلياس نبيًّا ورسولًا (¬1). وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون بتجديد التوراة وإحياء ما أماتوا منها. وقال ابن إسحاق: بعث الله بين موسى وعيسى ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، ولم يكن بينهم فترة، والكلُّ يدعون إلى أحكام التوراة (¬2). ولهذا قال عيسى عليه السلام: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] ولم يقل: "كلَّ الذي"؛ وبنو إسرائيل يومئذٍ متفرِّقون في الشام، وكان يوشع قد قسم الشام بينهم، فأنزل سبطًا منهم بأرض بعلبك ونواحيها، وإلياس منهم، وكان لهم ملك يقال له: بك، وله صنم يقال له: بعل، طوله عشرون ذراعًا، وله أربعة أوجه في عيونها اليواقيت، وكان الصنم من ذهب مرصَّعًا بالدرِّ والجواهر فنسب إليه، فقيل: بعل بك. وقال الجوهري: وبعل اسم صنم كان لقوم إلياس عليه السلام، قال: وبعل بك اسم بلد، والقول فيه كالقول في سام أبرص، وقد ذكرناه في باب الصاد (¬3). قلت: ذكر في باب الصاد وقال: وسام أبرص وهو من كبار الوزغ، وهو معرفة إلا أنه تعريف جنس، وهما اسمان جعلا اسمًا واحدًا (¬4). وقال ابن عباس: وكان إلياس ابن عم اليسع، وقيل: عمه، وقال العلماء بأخبار العالم: كان اسم الملك أخب، وكان جبارًا يعبد الصنم ويحجه الناس من الأقطار. فلما بعث الله إلياس إليهم كذبوه إلّا ما كان من الملك أَخب فإنه آمن به وصدَّقه وجعله وزيرًا، فكان يرشده ويسدِّده، وكان لأَخب الملك امرأة يقال لها: أرزيل (¬5)، فكان إذا ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 461. (¬2) انظر "المنتظم" 1/ 383. (¬3) "الصحاح": (بعل). (¬4) انظر "الصحاح": (برص). (¬5) في (ب): أرزنيل، وفي الطبري 1/ 461: أحاب ... أزبل، وفي عرائس المجالس: أخاب ... أربيل.

غاب استخلفها على الوعية، وكانت جبارة قاتلة للأنبياء تبرز في المواكب مثل الرجال، وتجلس في مجلس الحكم تقضي بين الناس، وكان لها كاتب مؤمن يكتم إيمانه قد خلَّص من يدها ثلاث مئة نبيٍّ من بني إسرائيل تريد قتلهم، سوى من قتلت ممن يكثر عددهم. وكانت في نفسها غير مُحْصَنة، ولم يكن على وجه الأرض امرأة أفحش منها، وهي مع ذلك قد تزوَّجت بسبعة ملوك من بني إسرائيل وقتلتهم بالاغتيال، وكانت معمرة فيقال: إنها ولدت سبعين ولدًا، قال: وكان لأخب الملك جارٌ صالح من بني إسرائيل يقال له: مرزكي وكانت له جُنَينة يعيشُ منها، وكانت إلى جانب قصر الملك، وكان أخب وامرأته يشرفان عليها ويتنزهان فيها، وكانت المرأة تحسد مرزكي لأجل تلك الجنينة، والملك يراعيه ويحسن إليه ولا يؤذيه، وكانت تحتال في قتل مرزكي لتأخذ الجنينة والملك ينهاها عن ذلك. فاتفق أنَّ الملك خرج في غزاةٍ وطالت غيبته، فاغتنمت امرأته ذلك فأقامت المرأة شهود زور أنَّ مرزكي صاحب الجنينة سبَّ الملك، وكان من حكمهم أن من سبَّ الملك قُتل، فأحضرت مرزكي وقالت: بلغني أنك شتمتَ الملك، قال: لا والله وإنه لمن أحب الناس إليَّ، فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور، فقتلته وأخذت الجنينة غصبًا. فلما قَدِمَ الملك أخبرته فقال: ما أصبتِ ولا وُفقت ولا أرانا نفلح بعده، ولا حملك على هذا إلا سَفَهُك وسوءُ رأيك، وقد جاورنا رجلٌ صالح وتحرَّم بنا منذ زمان طويل، فأحسنَّا جواره، فختمتِ أمره بأسوأ الجوار، فقالت: أنا غضبت لك وحكمت بحكمك، فقال لها: أَوَما كان يسعه حلمك عنه وتحفظين له جواره؟ قالت: قد كان ذلك. فغضب الله لعبده الصالح وأوحى إلى إلياس أن أخبر أخب وامرأته أنَّ الله قد غضب لوليِّه حين قتلته ظلمًا، وآلى على نفسه إن لم يتوبا من صنيعهما ويردَّا الجنينة على ورثة مرزكي أن يهلكهما في الجنينة ويدعهما (¬1) جيفتين مُلْقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما، ولا يمتعان بها إلا قليلًا. وبلغ الملك فغضب غضبًا شديدًا وقال لإلياس: والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلًا، وما أرى فلانًا وفلانًا- ملوكًا سماهم قد عبدوا الأوثان- إلا على مثل ما نحن ¬

_ (¬1) في (ب): ويجعلهما.

عليه، يأكلون ويشربون ويتمتعون، ما نقص من دنياهم ولا من أمرهم الذي تزعم أنه باطل شيء. وهمَّ الملك بقتل إلياس، فخرج عنه فلحق بشواهق الجبال فدخل مغارة وتحصن بها وعاد أخب إلى عبادة بعل، وأقام إلياس سبع سنين في شواهق الجبال يأكل من نبات الأرض وثمار الأشجار، وقد وضع عليه الملك العيونَ واجتهد في طلبه، والله يستره عنهم. فلما تمَّ له سبع سنين أَذِنَ الله في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم، فأمرض الله ابنًا لأخب (¬1)، وكان أحبَّ ولده إليه وأعزهم عليه وأشبههم به، فأُدْنِفَ حتى يئس منه، فدعا صنمه بعلًا، وكان (¬2) له أربع مئة سادن، وكان الشيطان يدخل في جوف الصنم فيتكلم، وكان السدنة يصغون إليه، فيوسوس لهم بشرائع من الضلال، فيعلمونها الناس ويسمُّونهم الأنبياء. فلما اشتدَّ مرض ابن الملك طلب الملك من السدنة أن يشفعوا إلى الصنم في ابنه، فدعوه فلم يجبهم ومنع اللهُ الشيطانَ الدخولَ فيه، وأكثروا الدعاء والصنم لا يجيبهم، فقالوا له: إن إلهك غضبان عليك، قال: ولم؟ قالوا: لأنك ما قتلتَ عدوَّه إلياس، لأنه كافر به يعبد غيره. فقال: لو قدرت عليه لقتلته. قالوا: فإنَّ بالشام آلهة أخرى غير إلهك فاطلب منها الدعاء لولدك. فأرسل الأربعمائة إلى الشام إلى أصنام أخر يسألونها الدعاء لولده، فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبال التي فيها إلياس فأوحى الله إليه: انزل إليهم ولا تخفْ فإني سأصرف شرَّهم عنك، وألقي في قلوبهم الرعب. فنزل إليهم وقال: إنَّ الله أرسلني إليكم وإلى مَن وراءكم فاسمعوا أيها القوم رسالةَ ربكم فإني ناصح لكم لتبلغوا صاحبكم، فارجعوا إليه وقولوا له: إنَّ الله يقول: يا أخب، ألم تعلم أني أنا الله الذي لا إله إلا أنا، إله بني إسرائيل وإله السماوات والأرض، أليس من جهلك أن تطلب الشفاء لابنك من غيري؟ إني حلفتُ بعزَّتي وباسمي لأغيظنَّك في ابنك ولأميتنَّه من فوره هذا، حتى تعلم أنَّ أحدًا لا يملك شيئًا دونى. فلما قال لهم هذا، رجعوا إلى الملك وقد امتلؤوا رعبًا وقالوا: نزل علينا إلياس من الجبل، وهو رجل نحيف طوال قد قشف وتمعَّط شعره، وعليه جبَّة صوف ¬

_ (¬1) في (ب): ابنا الملك. (¬2) في (ب): فلم يجب سدنته وكانوا أربعمائة.

من شعر وعباءة قد خلَّها في صدره بخلال، فاستوقفنا فلما صار معنا قُذِفَتْ له في قلوبنا الهيبة والرعب، وخرست ألسنتنا، ونحن في عدد كبير، وقال كذا وكذا، فلم نقدر على مراجعته، فقال الملك: لا يُنْتَفعُ بالحياة مادام إلياس حيًّا. فعهد الملك إلى خمسين رجلًا من أهل القوَّة والنجدة والبأس وقال لهم: احتالوا عليه وأظهروا أنكم آمنتم به واغتالوه. فارتقوا الجبل وتفرَّقوا ينادون: يا نبيَّ الله، ابرزْ لنا، وامننْ علينا، فإنَّا قد آمنَا بك وصدَّقناك، وكل من عندنا والملك وزوجته، وأنت آمنٌ على نفسك فانزل واحكم فينا برأيك وأقم بين أظهرنا، ننقاد لما أمرتنا وننتهي عما نهيتنا، وليس يسعك أن تتخلَّف عنا مع إيماننا بك وطاعتنا لك. وكان ذلك مكرًا منهم وخديعة. فلما سمع إلياس ذلك وقع في قلبه كلامهم وخاف إن لم يجبهم أن يعاتبه الله تعالى، فهمَّ بالبروز إليهم ثم رجع إلى نفسه وقال: لو سألت الله أن يطلعني على ما في بواطنهم فقال: اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فأذنْ لي بالبروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فارمهم بنار تحرقهم، فما أتمَّ كلامه حتى أرسل الله عليهم نارًا فأحرقتهم. وبلغ الملك فلم يرتدع حتى أقام فئةً أخرى مثل أولئك، فصعدوا الجبل وتفرَّقوا ينادون: يا نبيَّ الله، إنَّا لسنا مثل أولئك، فإنهم كانوا منافقين كذابين، وقد كفاك الله أمرهم. فأرسل الله عليهم نارًا فأحرقتهم كما فعل بأولئك. وبلغ الملك فأراد أن يخرج إلى الجبل بنفسه فمنعه من ذلك مرض ابنه، فأرسل الكاتب المؤمن الذي يكتب لامرأته إلى إلياس، فإنه كان يأنس به، وبعث من ورائه فتيةً وأمرهم بإمساك إلياس إذا برز إلى الكاتب، ثم أظهر الملك إلى الكاتب أنه قد آمن بإلياس وتاب واتَّعظ بحريق الفتية ومَرَضِ ابنه، وقال: قل له إنا قد آمنا بك وخلعنا أصنامنا حتى تنزل إلينا وتحرقها أنت وتعود إلى حالك الأول. وكان ذلك مكرًا من الملك، فانطلق الكاتب إلى الجبل ثم ناداه يا إلياس، فعرف صوته وأوحى الله إليه: ابرز إلى أخيك الصالح وجدِّد العهد، فبرز إليه وسلَّم عليه وتصافحا وتعانقا وتباكيا فقال له: ما الخبر؟ فقال: قد أرسلني الجبَّار الطاغي وقصَّ عليه ما قال، ثم قال له: إني لخائف أن أرجعَ إليه ولستَ معي أن يقتلني فأمرني بما شئتَ، فإن أمرت انقطعتُ

إليك فكنت معك، وإن شئت أن ترسلني إليه بما تحب فافعل، وإن شئت دعوت ربك أن يجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا. فأوحى الله إليه إنَّ كلَّ شيءٍ جاءك منهم مكر وخديعة، وإن لم يأتِ بك إليه اتهمه فقتله، فقال: يا إلهي، فما أصنع؟ قال: انطلق معه فإن انطلاقك معه عذره وبراءته، وإني سأشغل أخب عنكما بابنه، وأضاعف عليه البلاء حتى لا يكون له همٌّ غيره، ثم أُميته على أشرِّ حال، فإذا مات فارجع عنه. فانطلق معه حتى قدموا على أخب، وشدَّد الله على ابنه الوجع فاشتغل به عن إلياس، ورجع إلياس إلى مكانه سالمًا. ولما مات ابن أخب فدفنه ثم انتبه لإلياس وقال للكاتب: وأين إلياس؟ قال: قد أتيتك به فشغلك عنه وجع ابنك، وما أدري ما الذي فعل، وقد كنت أظنُّ أنك أوثقته، فانصرف الملك عن ذكر إلياس، واشتغل بالحزن على ابنه. وأقام إلياس بالجبال ثم ملَّ المقام بها، واشتاق إلى العمران فنزل من الجبل، وجاء إلى امرأة من بني إسرائيل، وهي أم يونس بن متى، واستخفى عندها ستة أشهر، ويونس يومئذٍ مولود يرضع - قلت: وهذا وهم، بين إلياس ويونس زمان طويل- فكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتواسيه ولا تدخر عنه شيئًا، فسئم إلياس ضيقَ البيوت بعد سعة الجبال فعاد إلى الجبل إلى مكانه، وجزعت أم يونس لفراقه، ثم لم تلبثْ حتى فطمت ابنها يونس فمات، فاشتدَّ حزنها وعظمت مصيبتها، فخرجت في طلب إلياس، فلم تزل حتى وقفت عليه، فقالت له: إني قد فجعتُ بعدك بموت ولدي وليس لي غيره فارحمني، واسأل ربَّك أن يحيي ولدي ويجبرَ مصيبتي، فإني قد تركته مسجَّىً ولم أدفنه، وقد أخفيتُ مكانه. قال: فقام ومشى معها إلى منزلها وسأل الله فأحيا يونس لها، وعاد إلى مكانه، وضاق صدره، وطال عليه عصيان قومه، فأوحى الله إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود: يا إلياس، ما هذا الجزعُ والحزن الذي أنت فيه؟ ألستَ أميني على وحيي، وحجتي في أرضي، وصفوتي من خلقي؟ فاسألني أعطك، فقال: إلهي، تميتني وتلحقني بآبائي، فإني قد مللتُ بني إسرائيل وملُّوني وأبغضتهم فيك وأبغضوني، فأوحى الله إليه: ما هذا اليوم الذي أُخلي- أو أُعري- منك الأرض وأهلها، وإنما قوامها وصلاحها بك وأشباهك وإن كنتم قليلًا، ولكن اسألني

أعطك، فقال: إن لم تمتني فأعطني ثأري من بني إسرائيل، قال: وما ذاك؟ قال: تمكنني من خزائن السماء سبع سنين، فلا يمطرون إلا بدعوتي وشفاعتي، فإنهم لا يذلُّهم سوى ذلك، فقال الله: أنا أرحمُ بخلقي وإن كانوا ظالمين، قال: فست سنين، فقال له مثل ذلك، إلى أن قال: فثلاث سنين، فأمسك المطر عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والدواب والهوام ويبس الشجر، وكان ينقل إلى إلياس طائر سخَّره الله له طعامه وشرابه. وقال ابن عباس: لما أصابهم القحط مرَّ إلياس بامرأة عجوز فقال لها: هل عندك من طعام؟ قالت: شيء من دقيق وزيت، فدعا لها بالبركة حتى ملأ جرابها دقيقًا وخوابيها زيتًا، فجاء الناس إليها وقالوا: من أين لك هذا؟ وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في بيت علموا أن إلياس قد اجتاز بهم، فلقي منهم أهل البيت شرًا لأن الطير كانت تأتيه بالخبز وكان معدومًا، فقالت: مرَّ بي رجل من حاله كذا وكذا، ووصفته فعرفوه، وقالوا: ذلك إلياس، فطلبوه فوجدوه، فهرب منهم. ثم آوى ليلة إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها زوج يقال له: اليسع بن أخطوب، به ضرٌّ وفاقة فآوته وأخفت أمره، فدعا له فعوفيَ من الضُرِّ الذي كان به، فآمن بإلياس وصدقه ولزمه، وكان إلياس قد كبر وأسنَّ، وكان اليسع غلامًا شابًّا. ثم أوحى الله إليه: يا إلياس، إنك قد أهلكت كثيرًا من الخلق ممن لم يعصِ اللهَ من البهائم والطير والدواب والهوام والشجر بحبس المطر عن بني إسرائيل. فيزعمون أن إلياس قال: يا ربِّ، دعني أنا الذي أدعو لهم وآتيهم بالفرج لعلهم يرجعون عما هم عليه من عبادة غيرك، قال: نعم. فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم: إنكم قد جهدتم ومتم جوعًا، وهلكت البهائم والوحوش والأشجار بخطاياكم، وأنتم على باطل، فإن أحببتم أن تعلموا ذلك فأخرجوا أصنامكم هذه، فإن استجابت لكم فهو كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على غرور، ودعوت الله ففرَّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء، قالوا: أنصفت، فخرجوا بأوثانهم ودعوها فلم تستجب لهم، فقالوا لإلياس: فادع الله لنا، فدعا لهم إلياس ومعه اليسع فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون، فأقبلت نحوهم وطبَّقت الآفاق، وجاء الغيث،

فعاشت بلادهم، فنقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم. فلما رأى إلياس ذلك سأل الله أن يريحه منهم، فأوحى الله إليه: إذا كان يوم كذا وكذا فاخرج إلى موضع كذا وكذا، فما جاءك من شيء فاركبه. فخرج إلياس ومعه اليسع بن أخطوب إلى المكان الذي عيَّن له، وإذا بفرسٍ من نار قد أقبل حتى وقف بين يديه، فوثب إلياس عليه فانطلق به الفرس، فناداه اليسع: يا إلياس، ما تأمرني؟ فألقى إليه كساءَهُ من الجوِّ الأعلى، وكان ذلك علامةَ استخلافه على بني إسرائيل، فكان ذلك آخرَ العهد به. ثم إنَّ الله قطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسيًا ملكيًا أرضيًا سماويًا، وسلَّط الله على أخب وامرأته وقومه عدوًا لهم، فقصدهم من حيث لا يشعرون فرهقهم، فقتل أخب وامرأته في جنينة مرزكي، وبقيا حتى بليت لحومهما ورمَّت عظامهما، وبقيا ملقيين في الجنينة. ونبَّأ اللهُ اليسع وبعثه رسولًا إلى بني إسرائيل، وأوحى الله إليه فآمنوا به وكانوا ينتهون إلى أمره، وحكمُهُ فيهم نافذٌ إلى حين فارقهم اليسع. هذا ما ذكره أبو إسحاق الثعلبي، واختصرت البعض (¬1). وذكر أبو القاسم في "تاريخ دمشق": أن إلياس اختفى من الكفار في المغارة التي بجبل قاسيون في دمشق عشر سنين حتى هلك الملك ووليهم غيره، فأتاه إلياس فعرض عليه الإسلام فأسلم (¬2). قلت (¬3): وبجبل لبنان مكان يقال له: قب إلياس، يقال: إن إلياس كان يأوي إليه مدة أربع سنين أو سبع سنين. وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن زيد مولى عون الطفاوي (¬4) عن رجل من أهل عسقلان كان يمشي بالأردُنِّ عند نصف النهار فرأى رجلًا فقال: يا عبد الله، من أنت؟ قال: فلم يكلمني، فقلت: يا عبد الله، مَن أنت؟ قال: أنا إلياس، قال: فوقعت عليَّ رعدة فقلت: ادعُ الله يذهب عني ما أجد حتى أفهم حديثك وأعقل عنك، فدعا لي ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 255 - 262. (¬2) "تاريخ دمشق" 3/ 81. (¬3) في (ب): وقال ابن عساكر ... قال المصنف رحمه الله. (¬4) في تاريخ دمشق 3/ 86، والمنتظم 1/ 362: داود بن يحيى مولى عون الطفاوي.

بثمان دعوات: يا برُّ يا رحيم، يا حنان يا منان، يا حي يا قيُّوم، ودعوتين بالسُّريانية لم أفهمهما. قال: فرفع الله عني ما كنت أجد، ووضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثدييَّ، وقلت له: أيوحى إليك اليوم؟ قال: منذ بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإنه ليس يوحى إليَّ. قال: فقلت: كم من الأنبياء اليوم أحياء؟ قال: أربعة، اثنان في الأرض واثنان في السماء، في السماء عيسى وإدريس، وفي الأرض: إلياس والخضر. قلت: فكم الأبدال؟ قال: ستون رجلًا، خمسون منها من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات، ورجلان بالمصيصة، ورجل بعسقلان، وسبعة في سائر البلدان، كلما ذهب الله بواحد جاء بآخر، بهم يدفع الله عن الناس وبهم يمطرون. قلت: فالخضر أين يكون؟ قال: في جزائر البحر، قلت: فهل تلقاه؟ قال: نعم، بالموسم يأخذ من شعري وآخذ من شعره، قال: وذاك حين كان بين مروان بن الحكم وبين أهل الشام القتال. قال: قلت: فما تقول في مروان؟ قال: ما تصنع به، رجل جبّارٌ عاتٍ على الله، القاتل والمقتول والشاهد والمشهود في النار. قال: فقلت: إني قد حضرت- أو قد شهدت- ولم أطعنْ برمح ولم أرم بسهم ولم أضرب بسيف، وأنا أستغفر الله من ذلك المقام وإني لا أعود إلى مثله أبدًا. قال: أحسنت هكذا فكن أبدًا. قال: فإني وإيَّاه قاعدان إذ وضع بين يديه رغيفان أشدُّ بياضًا من الثلج، فقال: كل، فأكلنا رغيفًا وبعض آخر ثم رفع، وما رأيت أحدًا وضعه ولا أحدًا رفعه، قال: وله ناقة ترعى في وادي الأردُنِّ، فرفع رأسه ودعاها فجاءت وبركت بين يديه، فركبها فقلت: الصحبة، قال: لا تقدر على صحبتي، قلت: لا زوجة لي ولا عيال، قال: تزوَّج وإياك والنساء الأربع: الناشز والمختلعة والملاعنة والمبارية، وتزوَّج ما بدا لك من النساء. قلت: فإني أحبُّ لقاءك. فقال: إذا رأيتني فقد رأيتني، ثم قال: إني أريد أن أعتكف في البيت المقدَّس شهر رمضان، وحالت بيني وبينه شجرة فوالله ما أدري كيف ذهب (¬1). فإن قيل: ففي هذه الحكاية عن رجل مجهول، قلنا: لا يضرُّ فإن عادة المحدثين أن يذكروا في الأخبار النبوية رجلًا ولا يسمونه كما فعل الحميدي في آخر "الجمع بين ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 262 - 263، وتفسيره 8/ 167.

الصحيحين" فإنه روى عن رجل مجهول (¬1)، فكيف في الحكايات؟ وقد وقعت ألفاظ من غير طريق الثعلبي أن الدعوتين اللتين لم يسمهما الراوي: يا هيا شراهيا، قالوا: وهي بلغة أهل البحرين يا حيُّ يا قيُّوم. وقيل: فيهما الاسم الأعظم. وقد وقع في حديث بمعنى هذا في الأبدال: ورجل بأنطاكية وسبعة في سائر الأمصار، فإذا أراد الله هلاك العالم أماتهم جميعًا. وقال مقاتل: قال الله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ} أي: تعبدون {بَعْلًا} وقد ذكرنا أنه الصنم، ولذلك سميت مدينتهم بعلبك. وروى سعيد بن جبير [عن ابن عباس قال: سمعت أعرابيًا يقول] لآخر: مَنْ بَعْلُ هذه الناقة؟ يعني من صاحبها؛ وقال الفراء: هي لغة هذيل (¬2). ومعنى {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 125] أي: فلا تعبدونه {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)} [الصافات: 126]. وأخرج جدي حديثًا في "الموضوعات" عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خَرجَ في غَزاةٍ فَسمِعَ إنسانًا يقول: اللهم اجعلني من أُمةِ مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا أنسُ انظر ما هذا الصَّوتُ"، وأن أنسًا رأى رجلًا طُولُه ثلاث مئة ذراع، وأنَّه إلياس، وأنه اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل عليهما من السَّماءِ سُفرَةٌ فيها كَمَأةٌ ورُمانٌ وكَرَفسٌ، وجاءت سحابةٌ فاحتملته إلى الشام؛ وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأنس: "إنَّ إلياس يأكلُ في كل أربَعينَ يومًا أكلة، وفي كل حولٍ شَربة من مَاءِ زَمزَم". ثم قال جدي رحمه الله: هذا حديث لا يصحُّ وهو باطل، وفي إسناده يزيد بن يزيد الموصلي وأبو إسحاق الجرشي عن الأوزاعي عن أنس، ويزيد والجرشي لا يعرفان (¬3)، والله تعالى أعلم. انتهت ترجمة إلياس. ¬

_ (¬1) الجمع بين الصحيحين (3140) عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار، وانظر من أجل الجهالة وأحوالها الشذا الفياح 1/ 246 فما بعدها. (¬2) تفسير الثعلبي 8/ 168، وما بين معكوفين منه. (¬3) "الموضوعات" (408).

فصل في ذكر اليسع بن أخطوب وما لقي

فَصل في ذِكر اليَسَع بن أخطوب وَمَا لَقِيَ (¬1) قال مقاتل: ذكر الله اليَسَع في موضعين؛ وقيل: هو اليَسَع بن أخطوب ولي عهد إلياس. ويقال: اليسع بن عدي بن سويلح بن أفراثيم بن يوسف عليه السلام. واختلفوا هل كان نبيًّا أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه كان نبيًا كما ذكره الله في موضعين {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ} [الأنعام: 86]، ص: 48]. والثاني: كان عبدًا صالحًا ويقال له: ذو الكفل. وقيل: هما اثنان اليسع الذي نبَّأه الله في زمان إلياس ويقال له: ذو الكفل، وذو الكفل آخر يقال له: اليسع أيضًا رجل من بني إسرائيل. واليسع اسم أعجمي. قال وهب: وأقام اليسع زمانًا على منهاج إلياس في الدعاء إلى الله، ومات وكثرت الأحداث في بني إسرائيل والفساد، وكان عندهم التابوت يتوارثونه فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون. فلما مات اليسع غزاهم عدوٌّ، وكان لبني إسرائيل ملك يقال له: إيلاف (¬2)، فأخذ منهم العدوُّ التابوت وسبى النساء وقتلهم بسبب فسادهم وأحداثهم، ومات إيلاف كمدًا. فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله إشموئيل واستنقذ منهم التابوت وعاد إليهم الملك والنبوَّة بعد أربع مئة وستين سنة من وفاة يوشع إلى إشموئيل. وكان يليهم الأنبياء تارة، وتارة الرؤساء، وتارة الملوك، وتارة القضاة. وقال السُّدي: قام فيهم بعد اليسع شمعون وكان من أفاضل بني إسرائيل ثم مات، واستخلف عليهم عيلوق (¬3) وكان ابن ستين سنة، فأقام فيهم أربعين سنة يقيم الحق حتى بلغ مئة سنة، وكان عفيفًا إلا أنه كان له ابنان فاسقان يأكلان الرشوة، وبلغه فقال لهما: مهلًا يا بني، ولم يقل غير ذلك، فقال الله تعالى: لم يكن من غضبك حين انتُهكت محارمي إلا أن قلت: مهلًا يا بني، فسقط عن سريره فانقطع نخاعه فمات، وقتل ابناه، وقيل: كان عيلوق نبيًا فنقل الله النبوَّة منه إلى إشموئيل. ¬

_ (¬1) في (ب): الباب الثاني والعشرون في ذكر إليسع، وانظر لهذه القصة: "تاريخ الطبري" 1/ 464، و"عرائس المجالس" ص 261، و"المنتظم" 1/ 385، و"الكامل" 1/ 214، و"البداية والنهاية" 2/ 285، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 36. (¬2) في (ط): إيلاق، والمثبت من (ب)، والمصادر. (¬3) في "ب": عنادق، وفي عرائس المجالس 265: عيلي.

فصل قصة إشموئيل وطالوت والتابوت وجالوت

فَصل قِصَّة إشموئيل وطالُوت والتابُوت وجالُوت (¬1) قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246]. اختلفوا في هذا النبي على أقوال: أحدها: أنه إشموئيل. واختلفوا في نسبه على أقوال: أحدها: أنه إشموئيل بن بالي بن علقمة بن يَرخام بن أليهو بن صوف بن علقمة بن ماحث (¬2) بن عموصا بن عازراء (¬3) بن هارون بن عمران، قاله وهب. والثاني: أن إشموئيل بالعربية: إسمعيل بن بالي، قاله مقاتل. والثالث: إشموئيل بن هَلْقاثا، قاله مجاهد، ولم ينسبه أكثر من ذلك (¬4)، قال: واسم أمه حنة. وقال ابن قتيبة: لم يكن بينه وبين يوشع نبي (¬5). وقد وهم لما ذكرنا ما بينهم من الأنبياء، مثل إلياس واليسع وغيرهما. والقول الثاني: أن المراد بقوله: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} أن القائل يوشع بن نون، قاله قتادة (¬6). والثالث: شمعون بن علقمة من ولد لاوي بن يعقوب. والأصحُّ أنه إشموئيل وعليه عامة أرباب السِّير، وشمعون لم يكن نبيًا، وإنما هو ابن عجوز اسمها صفية، سألت الله أن يرزقها ولدًا على الكبر فرزقها فقالت: سمع الله دعائي. والسين تقلب شينًا بالعبرانية. ¬

_ (¬1) في (ب): الباب الثالث والعشرون في قصة أشمويل ... وانظر لهذه القصة: تفسير الطبري 5/ 291، وتاريخه 1/ 467، و"عرائس المجالس" ص 265، وتفسير الثعلي 2/ 208، و"زاد المسير" 1/ 293، و"تفسير البغوي" 1/ 226، و"الكامل" 1/ 217، و"البداية والنهاية" 2/ 289. (¬2) في (ط): باحث. (¬3) في "ب": عازر. (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 267. (¬5) انظر "المعارف" ص 44. (¬6) انظر "زاد المسير" 1/ 292.

ذكر قصته

ذكر قصته قال علماء السِّير كابن إسحاق والكلبي ووهب والسدي وغيرهم، قالوا: ولما قبض حِزقيل عظمت الأحداث في بني إسرائيل فظهر لهم عدوٌّ من العمالقة يقال له: ليبشاثا، وهم قوم جالوت، وكانت منازلهم على ساحل البحر الرومي (¬1) بين مصر وفلسطين. فقصدوا بني إسرائيل فقتلوهم وسبَوهم وأجلَوهم عن ديارهم، وضربوا على من بقي منهم الجزية، وأسروا من أبناء ملوكهم أربع مئة وأربعين غلامًا، وأخذوا منهم التوراة ولقوا منهم بلاءً وشدة، ولم يكن لهم نبيٌّ يدبر أمرهم، فكانوا يسألون الله تعالى أن يبعث لهم نبيًا يقاتلون معه العمالقة، وكان سبط النبوَّة قد هلك فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيتٍ مخافةَ أن تلد جاريةً فتبدلها بغلام لما رأوا من رغبة بني إسرائيل في ولدها، فجعلت المرأة تسأل الله أن يرزقها غلامًا فرزقها إشموئيل، ومعناه: "سمع الله دعاءها". فلما كبر الغلام أسلمته أمه في بيت المقدس يتعلم التوراة، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه، فلما بلغ الغلام وأراد الله أن يبعثه نبيًا، أتاه جبريل وهو نائم إلى جانب الشيخ فناداه بلغة الشيخ: يا إشموئيل، فقام الغلام فزعًا فقال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره أن يقول: لا، فقال: يا بني، ارجع فنم فرجع، فناداه جبريل ثانيًا وثالثًا فقال الشيخ في الرابعة: إن دعوتك فلا تجبني، فظهر له جبريل بالرسالة وقال: اذهب إلى القوم، فذهب إليهم وقال: إنَّ الله قد أرسلني إليكم، فكذبوه وقالوا: استعجلت النبوة ولم يُؤْذَنْ لك، فإن كنت صادقًا فابعث لنا ملكًا نقاتلْ في سبيل الله فيكون ذلك أمارة نبوَّتك. وكان قِوامُ أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءَهم، وكان الملك هو الذي يسيِّرُ الجموع، والنبي يقيم له أمره ويسدِّدُه، وتأتيه الأخبار من ربِّه تعالى (¬2). وقال وهب: أقام فيهم إشموئيل أربعين سنة يتهيؤون لقتال جالوت وعرف ذلك، فلما قالوا: ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ¬

_ (¬1) في "ب": بحر القلزم. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 266.

الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة: 246] وهذا استفهام شك، ومعناه: لعلكم لا تقاتلون مع ذلك الملك فلا تفعلون ما قلتم {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا} [البقرة: 246] وهذا قول من بقي منهم {وَأَبْنَائِنَا} أي: وأبعدنا عن أبنائنا {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} أي: فرض الجهاد {تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 246] وهم الذين عبروا النهر. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}. قال ابن الجواليقي: وطالوت اسم أعجمي، قال الله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة: 249] قال: فترك صرفه دليل على أنه أعجمي، إذ لو كان فَعَلُوتا من الطُّول كالرَّغَبوت والرَّهَبوت والتَّرَبوت لصُرف، وإن كان قد روي في بعض الآثار أنه كان أطول من كان في ذلك الوقت (¬1). قلت: وطالوت ليس باسم بل صفة لأنه طال الخلق بصفته وصورته وقوَّته. وقد اختلفوا في اسمه على قولين: أحدهما: شاول أو شاؤول بن قيس بن أبيال بن ضِرار بن بحرت بن أَفِيْح بن إيشا بن بنيامين بن يعقوب. واختلفوا في مهنته على أقوال: أحدها: أنه كان يدبغ الجلود. قاله وهب. والثاني: كان يرعى الحمير، قاله السُّدي. والثالث: كان يستقي الماء على حمار له من النيل، قاله مقاتل. والرابع: خَربَنده (¬2)، قاله مجاهد. وقال وهب: ضلَّت حُمُرٌ لأبيه فخرج مع الغلام يطلبها، فمرَّ على بيت إشموئيل فقال الغلام لطالوت: لو دخلنا على هذا النبي لعلَّه يدعو لنا فترجع الحُمُر إلينا. وكان قوم إشموئيل لما طلبوا منه ملكًا أُتِيَ بعصا وقَرْن فيه دُهْنُ القدس وقيل له: الملكُ الذي تطلبونه طوله على طول هذه العصا، فإذا دخل عليك وَنَشَّ الدهنُ في هذا القرن فادهَن به رأسه فهو ملك بني إسرائيل وَمَلِّكْهُ عليهم. فقاسَهم كلَّهم بالعصا فلم يكونوا مثلها، ¬

_ (¬1) "المعرب" ص 275 - 276، والتربوت: الذلول من الإبل. (¬2) خربنده: حارس الحمار، مؤجر الحمار. انظر "العجم الذهبي" ص 235.

وكان على طولها، ونشَّ الدهن في القرن، فدهنَ به رأسه فلم ينزل على جبينه منه شيء فقال: أنت ملك بني إسرائيل، قال: أما علمتَ أن بيتي أدنى البيوت؟ فقال: بلى، ولكنَّ الله أمرني بذلك، قال: فأريد أمارة أخرى، قال: ترجع إلى أبيك وقد عادت الحمير. فرجع وقد رجعت. ثم إن إشموئيل جمع بني إسرائيل وقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] أي: على الجيوش {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة: 247] أي: كيف يكون هذا {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} ولم نُذْكَر؟ وإنما أنكروا هذا لأنه كان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوَّة، وسبط ملك، فسبط النبوة: سبط لاوي بن يعقوب ومنه موسى وهارون عليهما السلام، وسبط المملكة: وهو سبط يهوذا ابن يعقوب ومنه كان داود وسليمان، ولم يكن طالوت لا من سبط النبوَّة ولا من سبط المملكة، وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، وهم من أحقر الأسباط وأقلّهم، كانوا ينكحون النساء على قوارع الطريق نهارًا، فغضب الله عليهم فنزع منهم النبوَّة والملك {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247] بل هو دباغٌ لا قدْرَ له ولا قيمة ولا أصل. فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ} بالحرب {وَالْجِسْمِ} بالطول والقوة. وكان يفوق الناس برأسه، وكان أعلم بني إسرائيل في زمانه، وأنه أوحى الله إليه حين آتاه الملك {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 247] فلا تنكروا ملكه مع كونه من غير أهل المملكة، فإن الملك ليس بالوراثة وإنما هو بيد الله يؤتيه من يشاء {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247] بنسبه حين بعثه عليكم. ثم قالوا: فما آية ملكه؟ قال {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1). والتابوت بالتاء عربي. وفي حديث البخاري عن زيد بن ثابت: لما أمره أبو بكر - رضي الله عنه - أن يجمع القرآن واختلفوا في التابوت، فقال زيد بن ثابت: اكتبوه بالهاء تابوه، وقال عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي: اكتبوه بالتاء: تابوت، فرفع اختلافهم إلى عثمان - رضي الله عنه - فقال: اكتبوه بالتّاء، فإنها لغة قريش فكتبوه (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 268 - 269. (¬2) هو ضمن حديث طويل أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (4506). وأخرجه البخاري (4986) مطولًا لكن دون موضع الشاهد.

حديت التابوت

حديت التابوت قال وهب: أنزل الله على آدم عليه السلام تابوتًا فيه صورة الأنبياء، أولهم آدم وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفيه بيوت بعددهم وهي مختلفة الألوان، فبيت محمد - صلى الله عليه وسلم - من ياقوتة حمراء. وكان التابوت نحوًا من ثلاثة أذرع في ذراعين من عود الشِّمشَار الذي تتخذ منه الأمشاط، وكان مذهَّبًا. ومات آدم عليه السلام فورثه شيث، وتوارثه بنو آدم صاغرًا عن كابر إلى إسماعيل بن إبراهيم، فورثه قيدار لأنه كان أكبر ولده، فنازعه ولد إسحاق فيه وقالوا: قد صُرِفَتِ النبوَّة عنكم يا بني إسماعيل إلينا، ولم يبق لكم غير هذا النور الواحد يعنون به نور محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يظهر إلى آخر الزمان، فادفع إلينا التابوت يكون عندنا، فامتنع عليهم قيدار وقال: هذا وصية أبي لا أعطيه أحدًا من العالمين، فذهب ذات يوم يعالجه ليفتحه وكان مقفلًا فلم يقدر على فتحه، فناداه منادٍ من السماء: يا قَيدار، ليس لك على فتحه سبيل، إنه وصية نبي ولا يفتحه إلا نبي، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب إسرائيل الله. فحمل قَيدار التابوت على عنقه إلى الشام يريد يعقوب في أرض كنعان، فلما قرب منه صَرَّ التابوتُ صَرَةً سمعها يعقوب، فقال لبنيه: أقسم بالله لقد جاء قَيدار بالتابوت فقوموا إليه، فقاموا جميعًا ويعقوب معهم. وكان قَيدار قد جاء من مكَّة لأنه كان يسكنها، فلما التقيا قال له يعقوب: أُبَشِّرُكَ، قال: بماذا؟ قال: ولدت لك البارحة الغاضرة غلامًا، قال: وما علمك وهي بالحرم وأنت بالشام؟ فقال: رأيت أبوابَ السماء قد فتحت، والملائكة قد نزلت، ونور محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أشرق. فسلَّم إليه التابوتَ وعاد إلى مكة، فوجد امرأته قد ولدت غلامًا فسمَّاه: حملًا، وفيه نور محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأقام التابوت عند أولاد يعقوب يتوارثونه إلى أيام موسى، فأخذه فجعل فيه فتات ألواح التوراة ومتاعًا من متاعه وعصاه ونعليه وعمامة هارون ولوحين من التوراة، وكانا من الياقوت الأحمر، فكانوا يتوارثونه إلى أن غلبت عليه العمالقة، وبعث الله إشموئيل فقال لهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} أي: بالتابوت {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 269 - 270.

ذكر رد التابوت إلى بني إسرائيل

واختلفوا في السكينة على أقوال: أحدها: أنها ريح خَجُوج هفَّافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان، قاله عليٌّ عليه السلام. والثاني: أن رأسها رأسُ هرة ميِّتة، وذنبها ذنب هرَّة، كانت إذا صرخت في التابوت أيقنوا بالنصر، وكان يسمع منها صوت الهر، قاله مقاتل. والثالث: أنها ريحٌ رأسها رأس هرة ولها جناحان، قاله مجاهد. والرابع: أنها طَسْت من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، قاله ابن عباس. والخامس: كان فيه روح من الله يتكلم ويصوِّت، قاله وهب. والسادس: أن المراد بالسكينة: السكون والطمأنينة، ففي أي مكان كان التابوت اطمأنُّوا إليه وسكنوا، قاله أهل المعاني (¬1). {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 248] أي: عند رجوعه إليهم. وقال السُّدي: كانوا إذا اختلفوا في شيء تكَلَّم التابوت وحكم بينهم، وإذا حضر القتال قدَّموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوِّهم. فلما عصوا وأفسدوا نزعه الله منهم. قال: وسبب نزع التابوت منهم أنه كان للشيخ - واسمه عيلي- الذي ربى إشموئيل ابنان أحدثا في القربان شيئًا لم يكن فيه. كان للقربان كَلَّابان يسوطانه على النار، فأحدثا كلاليب وتعرَّضا للنساء، فغضب الله على بني إسرائيل وسلَّط عليهم العمالقة فأخذوا التابوت، فأُخبر عيلي فشهق شهقةً ومات، وَمَرِجَ أمر بني إسرائيل حتى بعث الله طالوت ملِكًا، وهذا قول السُّدي. أما وهب، فإنه قال: إنما أُخذ التابوت قبل هذه بمدة طويلة (¬2)، وقد ذكرناه. ذكر ردِّ التابوت إلى بني إسرائيل قال علماء السير: ولما أراد الله أن يردَّ التابوت على بني إسرائيل كانت العمالقة قد ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 270. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 469 - 470.

دفنته في قرية من قرى الساحل بين غَزَّة والأطرُون يقال لها: أزدود، وكانوا قد جعلوه تحت صنم لهم، فأصبحوا يومًا والصنم تحته، فأخذوا الصنم وسمَّروه على التابوت، فأصبحوا والصنم تحته والأصنام كلها منكسة الرؤوس، فأخرجوه من بيت الأصنام وحملوه إلى قرية أخرى. فأخذ أهلَ القرية وجَعٌ في حلوقهم فمات أكثرهم؛ فقالت لهم جويرية من بني إسرائيل كانت عندهم من بنات الأنبياء: لا تزالون ترون ما تكرهون مادام هذا التابوت فيكم، فأخرجوه عنكم. قالوا: كذبتِ، قالت: آيةُ ذلك أن تضعوا التابوت على عَجَلة وتعلقوها على بقرتين لهما أولاد، وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان بالتابوت إلى أرض بني إسرائيل ثم تعودان إلى أولادهما، ففعلوا ذلك، فخرجت البقرتان به ووكل الله بهما أربعة أملاك يسوقونهما، وأقبلتا حتى وضعتاه في أرض بني إسرائيل وعادتا إلى أولادهما. وقيل: أقبلت الملائكة تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته في دار طالوت، فأقروا له بالملك راضين بعد أن كانوا ساخطين (¬1). وروى عطاء عن ابن عباس قال: التابوت وما فيه في بحيرة طبرية لا تقوم الساعة حتى يظهر (¬2). قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة: 249] أي: شخص، وأصل الفصل: القطع كقوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} [يوسف: 94] واختلفوا في عددهم على أقوال: أحدها: أنهم كانوا ثمانين ألفًا، قاله مقاتل. والثاني: تسعين ألفًا، قاله مجاهد. والثالث: ست مئة الف، لم يتخلَّف عنه إلا الكبير لكبره والصغير لصغره وصاحبُ العذر لعذره، قاله الربيع بن أنس. وكان خروجهم من بيت المقدس، والتابوت بين أيديهم، فلما رآهم طالوت قال: ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 470 - 471، و"عرائس المجالس" ص 270 - 271. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 271.

لا حاجة لي فيما أرى، لا يخرج معي رجل بنى بناءً لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة وهو مشغولٌ بها، ولا مديون، ولا من تزوَّج امرأة ولم يدخل بها، ولا أبتغي إلا الشابَّ النشيط الفارغ. فاجتمع معه مما شرط ثمانون ألفًا، وكان الحرُّ شديدًا، وكانوا في قلّةٍ من المياه، فسألوا طالوتَ أن يسأل لهم ربَّه أن يجري لهم نهرًا، فقال طالوت: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] أي: مختبركم ليبلو طاعتكم، وهو أعلم (¬1). واختلفوا فيه: فقال ابن عباس: هو الأُردُنُّ نفسه. وقال الربيع: نهر بين الأُردُنِّ وفلسطين عذب {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أي: من أهل ديني وطاعتي {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} أي: يشرب منه {فَإِنَّهُ مِنِّي} عبَّر عن الشرب بالطعم - ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] وقرأه ابن مسعود: "إلا قليلٌ" بالرفع على الاستئناف (¬2). واختلفوا في القليل الذين لم يشربوا على قولين: أحدهما: أنهم كانوا أربعة آلاف، قاله السُّدي. والثاني: ثلاث مئة وبضعة عشر، وهو الأصح (¬3). والدليل عليه حديث البراء بن عازب قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "أنتمُ اليومَ على عِدَّة أصحابِ طَالوتَ حينَ عَبرُوا النَّهرَ، وما جَازَ معَهُ إلا مُؤمِنٌ" (¬4). قال البراء: وكنا يومئذٍ ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلًا. وقال ابن عباس: من اغترف غُرفة قويَ قلبُهُ وصحَّ إيمانه، وعبر النهر سالمًا، وكفته تلك الغُرفَة لنفسه ودوابِّه؛ والذين خالفوا وشربوا من النهر أكثرَ من غُرفة اسودَّت وجوههم، وغلبهم العطش ولم يَرْوَوْا، وبقوا على شطِّ النهر، وجبُنوا عن لقاء العدوِّ، ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 271 - 272. (¬2) تفسير الثعلبي 2/ 218، والبحر المحيط 2/ 278 وزاد نسبته إلى أبيّ والأعمش. (¬3) انظر "تفسير البغوي" ص 152. (¬4) أخرجه البخاري في "صحيحه" (3957) عن البراء موقوفًا عليه.

ولم يشهدوا الفتح. قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 250] الآية. {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة: 251] لما نذكر. وقال وهب وغيره: وكان ممن جاوز النهر إيشا بن عويد أبو داود، ومعه ثلاثة عشر ابنًا له، داود أصغرهم، فقال له داود: يا أبت، ما أرمي بقذَّافتي شيئًا إلا صرعته فقال: ابشر يا بني، فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك. وقال له يومًا آخر: يا أبت، إني وجدتُ الأسدَ رابضًا بين الجبال فركبته وأخذت بأذنيه فلم يهج بي، فقال: أبشرْ يا بنيَّ، فإن هذا خير يريده الله بك. ثم أتاه يومًا آخر فقال: يا أبت، إني لأمشي بين الجبال وأُسبِّح فما يبقى جبلٌ إلّا ويسبِّح معي، فقال: أَبشرْ يا بنيَّ، فإن هذا خير أعطاك الله إياه (¬1). وقال الكلبي: أرسل جالوت إلى طالوت: ابرز أنتَ إليَّ أو أَبْرِزْ لي مَن يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم. فشقَّ ذلك على طالوت ونادى في عسكره: من قتل جالوتَ زوَّجْتُهُ ابنتي وناصَفْتُهُ ملكي، فهاب الناسُ جالوتَ لشدَّته، ولم يكن في زمانه أقوى منه ولا أشجع، يهزمُ الجيوشَ وحده، وكانت له بَيْضَةٌ فيها ثلاث مئة منٍّ من حديد. فشكا طالوت إلى إشموئيل وسأله أن يسأل الله، فسأله، فأوحى إليه: يقتله ولدٌ من أولاد إيشا، فدعا إشموئيل إيشا فقال: اعرضْ عليَّ أولادك، فأخرجَ له اثني، عشر ولدًا أمثال السواري، فجعل يعرضهم واحدًا واحدًا، فأوحى الله إليه: ليس في هؤلاء من يقتله، وإنما يقتله داود، فطلبه إشموئيل منه، فقال: ليس لي ولد اسمه داود، وإنما قال ذلك: لحقارته ودمامته وقصره، فأوحى الله إليه: كَذَبَ، له ولدٌ اسمه داود. فقال له: إنَّ الله يكذِّبك، فقال: صدق الله، لي ابنٌ صغير اسمه داود استحييت أن يراه الناس لحقارته، قال: فأين هو؟ قال: في الغنم يرعاها. وكان داود رجلًا قصيرًا مصفارًّا مَسقامًا أزرق أمغر أو آرط لا شعر عليه. فأخبره طالوت فخرج مع الناس في طلبه، فوجد الوادي قد مدَّ بينه بين الزريبة - وهي الحظيرة التي تروح إليها الغنم - نهرٌ عظيم، وإذا بداود يحملُ شاتين شاتين ويجوز بهما الوادي ولا يخوض الماء، فقال: هذا هو بغير شكٍّ. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 472. "عرائس المجالس" ص 272 - 273.

وكان الله قد بعث إلى إشموئيل تنُّورًا من حديد وقرنًا فيه دهن وقال: من ملأ هذا التنور، ونشَّ على رأسه هذا الدهن، ولم يسلْ على وجهه فهو يقتل جالوت، فعرض ذلك على أولاد إيشا فلم يرَ شيئًا، فلما رآه طالوت وضع القرن على رأسه ففاض وأدخله التنور فملأه، فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوِّجك ابنتي وأقاسمك ملكي- أو: وأجري خاتمك في ملكي- قال: نعم. فأخذه ورجع به إلى العسكر فمرَّ داود على حجر فناداه: يا داود، احملني فإني الحجر الذي قتل بي موسى ملك كذا وكذا، فحمله، فناداه آخر: يا داود احملني فأنا الذي قتل بي هارون ملك كذا وكذا، فحمله، ومرَّ بآخر فناداه: احملني فإني حجرك الذي تقتل بي جالوت، وقد خبأني الله لك؛ فحمل الجميع في مخلاته؛ ودعا جالوت للبراز فقال طالوت لداود: خذ فرسًا ودرعًا ورمحًا ففعل، وبرز لجالوت ثم رجع عنه، فقال الناس: جبن الغلام، فقال له طالوت: ما الذي بك؟ فقال: دعني أقاتل كما أريد، فقال: افعل، فنزع الدرع فأخذ مخلاته فتقلَّدها والحجارة فيها، وأخذ مقلاعه بيده، وجاء ماشيًا فلما نظر إليه جالوت ألقى الله في قلبه الرعب وقال: أنت تبرز إلي بمقلاع وحجر كما تقاتل الكلب، وأنا قاتل الملوك وهازم الجيوش؟ ! قال داود: أنت شرٌّ من الكلب. ثم قال: بسم الله إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم أخرج الأحجار، فصارت حجرًا واحدًا، وتركها في مقلاعه ورمى بها، فسخَّر الله الريح فحملت الحجر، فأصاب طرف أنف البيضة فخالط دماغ جالوت وخرج من قفاه، وقتل من خلفه ثلاثين رجلًا وانهزم القوم وجرَّ داودُ جالوتَ برجله حتى ألقاه بين يدي طالوت فكبَّر الناس وفرحوا (¬1). واختلفوا في مكان الوقعة: فقال قوم: بفلسطين من نواحي الرملة، وقيل: في الرملة عند عين الجالوت، وقيل: على بَيسان. وذكر أبو القاسم في "تاريخ دمشق" أنه قتله بمرج الصفَّر عند قصر أم حكيم (¬2). والأصح أنه قتله بأرض القدس والساحل. فإن قيل: فكيف الجمع بين قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة: 251] وبين قوله في حقِّ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 472 - 473. و"عرائس المجالس" ص 273 - 274. (¬2) "تاريخ دمشق" 17/ 80.

[الأنفال: 17]؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن داود لم يكن معروفًا في ذلك الزمان ولم يكن مذكورًا، وكان قد شرط له طالوت أن يزوِّجه ابنته ويقاسمه ملكه، فأضيف القتل إليه ليجب الوفاء بشرطه، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كان مشهورًا معروفًا لم يشترط لأحد شيئًا. والثاني: أن العلماء قد اختلفوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال مجاهد: كان ذلك يوم بدر أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصاةً فضرب بها وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه" فانهزموا (¬1). وقيل: كان ذلك يوم خيبر، رمى بسهم فوقع في جبين كنانة بن أبي الحقيق على فرسه فقتله. وقيل: كان ذلك في يوم حنين فعجب المسلمون من ذلك فأراد الله أن يصرف عن رسوله العين، لئلا يعجبوا، فأضافه إلى نفسه. ورجع طالوت بمن معه إلى البيت المقدس، وذكر الناس داود بخير وأثنوا عليه. وجاء داود إلى طالوت وقال: أنجزْ لي ما وعدتني، فقال: أتريد بنتَ الملك بغير صداق؟ قال: ما شرطت عليَّ صداقًا، وليس لي شيء، فقال: لا أكَلِّفك ما لا تطيق، إنَّ بجبالنا أعداءً لنا وأنت رجلٌ جريء، اقتل منهم مئة رجل وهم غُلْفٌ وأتني بغلفهم حتى أزوجك، فذهب داود ففعل ذلك، فزوَّجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه (¬2). ومال الناس إلى داود فحسده طالوت وأراد قتله وعمل الحيلة فيه. قال وهب: فجاء رجل يقال له: ذو العينين إلى بنت طالوت وأخبرها فقالت لداود: إنك الليلة مقتول، قال: ومن يقتلني؟ قالت: أبي، فقال: وهل أذنبتُ ذنبًا؟ قالت: لا، عليك أن تغيب الليلة، فقال: لا، إن أراد أبوك ذلك لا أقدر على الخروج، ولكن ايتيني بزِقٍّ من خمر، فأتته به فوضعه على سريره موضع منامه وغطاه ودخل تحت السرير. وجاء طالوت نصف الليل فضربه بالسيف فسال الخمر، فلما وجد ريح الشراب قال: رحم الله داود ما أكثَر شُرْبَهُ للخمر. فلما أصبح علم أنه لم يصنعْ شيئًا فقال: إن رجلًا طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتى يدركَ ثأره مني، فاحترس وأغلق أبوابه، فأتاه داود ليلةً وهو نائم، فأعمى الله الحرس عنه، فدخل عليه فوضع عند رأسه سهمًا وعن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 5/ 1673. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 274 - 275.

يمينه سهمًا وعن يساره سهمًا وعند رجليه آخر وذهب، فاستيقظ طالوت ورأى السهام فقال: يرحم الله داود، هو خيرٌ مني، ظفر بي فعفا عني، وأردت هلاكه وما عفوت عنه. ثم أتاه ليلة أخرى، فقطع شعرات من لحيته وبعض ثوبه، فلما رأى طالوت ذلك قال: هذا قاتلي، فطلبه أشدَّ الطلب، فخرج داود إلى الجبال فأقام مع المتعبدين (¬1). وطعن العلماء على طالوت (¬2) فأغرى بقتلهم، فجعل كلما نهاه أحد منهم قتله حتى أفناهم. وأتي بامرأة من بيت النبوَّة تعرف الاسم الأعظم- وكانت أم إشموئيل وقيل: كانت أم اليَسَع وقد عمَّرت - فأمر جبَّاره بقتلها فرحمها الجبار وقال: لعلَّنا نحتاج إلى عالم فتركها (¬3). ثم إن الله أوقع في قلب طالوت الندم والتوبة على ما فعل، فأقبل على البكاء والنحيب حتى رحمه الناس. وكان يخرج إلى المقابر كلَّ يوم يبكي ويندب نفسه ويقول: أنشد الله من عرف لي توبةً إلا دلَّني عليها، فناداه منادٍ من القبور: يا طالوت، أما كفاك أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتًا، فازداد بكاؤه، فرحمه الجبار الذي أمره بقتل العجوز وقال له: إنما مثلك كمثل رجل نزل قرية عشاء وصاح ديك فتطيَّر منه. فقال: لا تتركوا في القرية ديكًا إلا ذبحتموه، ونام وقال لأصحابه: إذا صاح الديك فأذنوني حتى أدلج فقالوا: وهل تركتَ ديكًا يُسْمَعُ له صوت. وكذا أنت أيها الملك، وهل تركت في الأرض عالمًا يفتيك إلا قتلته؟ فازداد بكاؤه، فقال له الجبار: أرأيتَ إن دللتك على عالم أتقتله؟ قال: لا. فأخبره بقصة العجوز التي تعرف اسم الله الأعظم فسألها فقالت: والله ما أعرف له من توبة إلا أن يأتي إلى قبر إشموئيل- وقيل: كانت أُمَّ إشموئيل- فيناديه لعلَّه أن يدلَّه، ففعل، فجاءت العجوز ومعها طالوت، فبكت وتضرعت عند قبر إشموئيل، ودعت بالاسم الأعظم، فقام إشموئيل- وقيل: كانت أمَّ اليَسَع وكانت قد عمرت - ينفض التراب عن رأسه، فلما نظر إليهم قال: أقامت الساعة؟ قالوا: لا، ولكن هذا طالوت، قد جاء يسأل هل له من توبة؟ فقال إشموئيل- هو الأصحُّ-: ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 473. و"عرائس المجالس" ص 275 - 276. (¬2) في "ب": داود. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 276.

ويحك يا طالوت، ما أحدثت بعدي؟ فقال: لم أدعْ شيئًا من الشرِّ إلا فعلته، وقد جئت أطلبُ التوبة، قال: فكم لك من الولد؟ قال: عشرة، قال: ما أعلم لك توبةً إلا أن تتخلى عن ملكك، وتخرج أنت وولدك في سبيل الله، فتقدِّم واحدًا بعد واحد بين يديك فيُقتلون عن آخرهم، ثم تقاتل أنت فتُقتل. وعاد إشموئيل إلى القبر فانضمَّ عليه، فرجع طالوت أحزن ما كان، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه خوفًا أن لا يطاوعه ولده، فدخلوا عليه وسألوه عن حاله فأخبرهم فقالوا: وإنك مقتول؟ قال؟ نعم، قالوا: فلا حاجةَ لنا في الحياة بعدك. ثم خرج بهم فقدمهم واحدًا واحدًا بين يديه حتى قتلوا جميعاَّ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل، وجاء قاتله إلى داود وقال: قد قتلت عدوَّك. فقال: ما أنت بالذي يحيا بعده فقتله. وأتى بنو إسرائيل إلى داود فسلَّموا إليه خزائن طالوت وملَّكوه عليهم (¬1). وأقام طالوت في الملك أربعين سنة، وقيل: عشرين سنة، وقيل: إنه مات كمدًا ولم يقتل، والأول أصح. انتهت ترجمة طالوت. * * * ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 474 - 475. و"عرائس المجالس" ص 276 - 277.

ذكر قصة داود عليه السلام

ذِكر قِصَّة دَاوُد عَلَيهِ السَّلَام (¬1) قد ذكرنا أنه اسم أعجمي. وقال الجوهري: لا يهمز (¬2). وقال ابن عباس: هو بالعبرانية القصير العمر. وقال وهب: هو داود بن إيشا بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمي بن نادب بن آرام بن حَصْرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام. وقال ابن عباس: كان داود قصيرًا أزرق. وقال الثعلبي: حدثنا الحسين بن محمد الدينوري بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الزرقة يُمْنٌ وكان داود النبي أزرق" (¬3). وقال مقاتل: ذكر الله داود عليه السلام في اثني عشر موضعًا. فصل في سيرته عليه السلام روى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251] أن المراد بالحكمة: النبوَّة {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} يعني: علمه صنعة الدروع، والتقديرَ في السَّرْدِ ونحوه. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} [سبأ: 10] الآية. قال مقاتل: هو النبوَّة {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي: سبِّحي {وَالطَّيْرَ} قال وهب: كان يمر بالجبال فتسبِّح وتجاوبه وكذا الطير. وقال قتادة: يسبِّحن، أي: يصلّين معه إذا صلى {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] قال ابن عباس: كان الحديد في يده كالشمع {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] أي: دروعًا طوالًا كوامل {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] أن اعمل ¬

_ (¬1) في (ب): الباب الرابع والعشرون في قصة داود عليه السلام، وانظر لهذه القصة "تاريخ اليعقوبي" 1/ 51، و"تاريخ الطبري" 1/ 476، و"البدء والتاريخ" 3/ 100، و"عرائس المجالس" ص 277، و"التبصرة" 1/ 274، و"الكامل" 1/ 223، و"البداية والنهاية" 2/ 9. (¬2) "الصحاح": (دود). (¬3) أخرجه الثعلبي في "عرائس المجالس" ص 277 - 278، وابن الجوزي في الموضوعات (335) وقال عقبه: هذا حديث لا يصح.

الحِلَق على قدر المسامير، لا تكون واسعة فتعلق المسامير ولا ضيقة فتكسرها المسامير الغلاظ. وقال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] قال وهب: اللبوس عند العرب السلاح كله، درعًا كان أو جوشنًا أو سيفًا أو رمحًا. وقال قتادة: أول من صنع الدروع داود، وكانت صفائح، فهو أول من سردها، وعلَّمه الله منطق الطير. وقال وهب: كان سبب عمله الدروع أنه كان يخرج متنكرًا، فإذا وجد جماعة لا يعرفونه دنا منهم، وسألهم عن سيرة داود، فيثنون عليه ويدعون له، فبينما هو في بعض الأيام على عادته يسأل عن نفسه بعث الله إليه ملكًا في سورة آدمي فقال: نِعْمَ الرجل هو داود لولا أنه يأخد من بيت المال، فضاق صدرُ داود، وسأل الله أن يغنيه، فألان له الحديد، فكان في يده مثل الخيوط، وكان يبيع الدرع بأربعة آلاف درهم يأكل منها ويتصدق ويطعم عياله (¬1). وأعطاه من طيب النغمة ما لم يُعْطَ غيره، فكان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى تُؤْخذ بأعناقها وإنها لمُصيخَة. قال ابن عباس: وما صُنعت الصُّنوج والمزامير إلا على صوته وكذا كل لحن مطرب. وكان إذا قرأ أظلَّتْهُ الطيور ووقفَ الماءُ الجاري وسكنت الرياح (¬2). وقال مجاهد: كان الله قد أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة ورأسها عند صومعته، ولونها لون النار، وهي مرصعة بالجواهر وقضبان اللؤلؤ، فلا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فيعلم داود ما حدث ولا يمسُّها ذو عاهة إلا برئ (¬3)، وسنذكرها. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 281. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 278. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 279.

ذكر ما أنزل عليه

ذكر ما أنزل عليه روى أبو صالح عن ابن عباس قال: أنزل الله الزبور على داود مئة وخمسين سورة بالعبرانية، في خمسين منها ما يلقونه من بُخْتَ نصَّر، وفي خمسين ما يلقونه من الروم، وفي خمسين مواعظ وحكم. ولم يكن فيه حلال ولا حرام ولا حدود ولا أحكام. وقال وهب: ومن الزبور: يا عبدي الشكور، إني وهبتك الزبور، وأتقنت لك فيه الأمور، وهو من الوحي المحفوظ المستور، فاعبدني في الأيام والليالي والشهور. وقال الجوهري: والزبور: كتاب داود عليه السلام (¬1). واختلفوا في فصل الخطاب الذي أوتيه على قولين: أحدهما: أنه "أما بعد" وهو أول من قالها في قول ابن عباس. والثاني: أنه البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر، قاله الضحاك. ذكر عبادته وصيامه وورعه وقيامه قال وهب: وكان داود كثير التلاوة والعبادة، غزير الدمعة، يصوم يومًا ويفطر يومًا. قال أحمد بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يا عبدَ الله، صُم يَومًا وأفطِر يَومًا فهو أعدَلُ الصِّيامِ، وهو صومُ أخِي داود" قَالَ: قُلتُ: يا رسولَ الله، فإني أطيقُ أكثرَ من ذلك أو أفضلَ، فقال: "لا أفضلَ من ذَلِكَ"، انفرد بإخراجه البخاري (¬2). وقال البخاري بإسناده عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحبُّ الصِّيامِ إلى الله صومُ داودَ، وكَانَ يَصوُمُ يَومًا ويُفطِرُ يَومًا، وأحبُّ صَلاةٍ إلى الله صلاةُ داودَ، كانَ ينامُ نِصفَ الليلِ ويَقومُ ثُلثَهُ ويَنامُ سُدُسَهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) "الصحاح": (زبر). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (6914)، والبخاري (1976)، ومسلم (1159)، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (2928). (¬3) أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159).

وفي أفراد البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَفَّفَ اللهُ على دَاودَ القُرآنَ، فَكَانَ يَأمُرُ بإسرَاجِ دَوابِّه فتُسرَج فيقرأه قبل أن تُسرَجَ, ولا يأكلُ إلا مِن عَملِ يَدِهِ" (¬1). والمراد بالقرآن: الزبور، لأنه مجموع. وللبخاري أيضًا عن المقدام بن مَعْدِي كَرِب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أصلح (¬2) أحد طعامًا قط خيرًا له من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبيَّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده". وقال وهب: لما استُخلِفَ داود على بني إسرائيل عبدَ الله عبادة لم يعبدها عابدٌ، وتلا الزبور بصوتٍ لم يُعْطَهُ أحدٌ قبله، فقال إبليس لعفاريته: نفِّروا الناس عن داود، فنفَّروهم فلم يقدروا على شيء، فلم يمض ساعةٌ من ليل أو نهار إلا وفيها صائم أو قائم من آل داود، فذلك قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]. قال وهب: كان يقرأ الزبور ويبكي، وبيده قفة خوص يسفُّها ويبيعها ويتقوَّت منها. وقال مجاهد: قام ليلةً لم ينم إلى الصباح فأعجبته نفسه، فنادته ضفدع من الماء: يا داود، أعجبتك نفسك الليلة؟ وعزَّة ربي إن لي ثلاث ليال ما أطبقت فمي من التسبيح لله تعالى. وقال مقاتل: سَبَّح ليلةً فأجابته الجبال، فلما كان في جوف الليل دخلته وحشةٌ, فأوحى الله إلى الجبال أن آنسيه، فاصطكت بالتسبيح والتقديس والتهليل، فقال داود: إلهي، كيف تسمع صوتي مع هذه الأصوات؟ فأرسل الله إليه ملكًا, فأخذ بيده ففرج لى البحر، وانتهى به إلى قراره، ثم ضرب بيده قرار البحر المظلم المحيط، فانفجرت له الأرض حتى ظهر له الحوت، فتنحَّى له الحوت عن الصخرة التي هو عليها فضربها بيده، فانشقَّت فخرجت منها دودة تسبِّح، فأوحى الله إلى داود: إني أسمعُ تسبيحَ هذه الدودة في هذا المكان. وقال في قوله تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] أي: سبِّحي إذا سبَّح، ورجِّعي إذا رجَّع. قال ابن عباس: فصدى الجبال اليوم من ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3417). (¬2) في "صحيح البخاري" (2072): ما أكل.

وقال مجاهد: بنى داود بيتًا للعبادة بأُورِي شَلِم، وهو موضع محراب داود بالبيت المقدَّس. وذكر أبو نعيم الحافظ بإسناده عن وهب بن منبّه قال: أوحى الله إلى داود: هل تدري من الذي أغفر له ذنوبه من عبادي؟ قال: مَن هو يا ربِّ؟ قال: الذي إذا ذكر ذنوبه ارتعدت فرائصه، فذلك الذي آمر ملائكتي أن تصلي عليه (¬1). فقال داود: يا ربِّ أين أجدك؟ قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أو مخافتي (¬2). وقال السُّدي وحكاه الثعلبي عن ابن عباس، قال: كان السبب في عِظَمِ داود في أعين بني إسرائيل أن رجلًا استعدى على عظيم من عظمائهم إلى داود وقال: هذا غصبني بقرتي، فسأله داود فأنكر، وسأل الآخر البيِّنة فلم تكن لديه بيِّنة، فأوحى الله إليه أن اقتل المنكر، وكان ذلك في المنام، فقال: هذا منام ولست أعجل، فأري في منامه ذلك ثانيًا وثالثًا: اقتله وإلا نزلت العقوبة، فأحضر داود الرجل وقال له: إنَّ الله أمرني بقتلك، فقال: كيف، بمنام؟ قال: لا بل بوحي صادق، فقال: لا تفعل، فقال: والله لأُنفِذَنَّ أَمرَ الله فيك، فلما تيقَّن أنه قاتله قال: لا تعجل حتى أخبرك، والله ما اغتصبت له بقرةً ولكنني اغتلتُ أباه فقتلته، فقتله داود، فازدادت هيبته في عيون بني إسرائيل (¬3). وقال ابن عباس: ما كنتُ أعلمُ ما الإشراق في قصة داود إلا من أم هانئ فإنها قالت: هي صلاة الضحى. وكان ابن عباس يصلي الضحى (¬4). واختلفوا في فصل الخطاب على أقوال؛ قد ذكرنا قولين، قال ابن عباس: هو تبيان الكلام. وقال ابن مسعود: هو علم الحكم بالقضاء. وقال كعب: الشهود والأيمان (¬5). ¬

_ (¬1) "الحلية" 4/ 32. وانظر "صفة الصفوة" 2/ 293. (¬2) "الحلية" 4/ 41. وانظر "صفة الصفوة" 2/ 291. (¬3) في (ط): فقال كيف قال بمنام، والمثبت من (ب)، وانظر عَرائس المجالس 280 - 281، وتفسير الثعلي 5/ 253. (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره 20/ 44، والحاكم 4/ 53، والثعلبي في تفسيره 8/ 183، وهذا السياق في المطبوع والمخطوط مضطرب. (¬5) ورد هذان القولان في "ب" قبل ذكر عبادته وصيامه، وانظر "عرائس المجالس" ص 279.

فصل في محنة داود عليه السلام

فصل في محنة داود عليه السلام واختلفوا في سبب امتحان الله داود على أقوال: أحدها: أنه جلس يومًا يقرأ في الكتب، فوجد فيها مآثر آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فتمنى منازلهم وقال: يا رب، ذهب آبائي بكل خير، وإني أسمع الناس يقولون: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلني رابعًا، فقال: لستَ هناك، إنهم صبروا على بلائي ورضوا بقضائي، فإنَّ إبراهيم ابتلي بنمرود، وبالنار وغيرها فصبر، وإن إسحاق ويعقوب جادا لي بنفسيهما، وإن يعقوب ابتلي بفراق محبوبه وأعزِّ الخلق عليه فقام ثمانين سنة ولم ييأس من رَوْحي طرفة عين، فقال: يا رب، فأعطني الذي أعطيتهم وابتلني (¬1) بما شئت، فأوحى الله إليه: إني مبتليك في وقتِ كذا فاحترس. وكان يحرس محرابه ثلاثة وثلاثون ألفًا من أولاد الأنبياء. فذلك قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص: 20]، وهذا قول الحسن والضحاك والسُّدي وغيرهم (¬2). والثاني: أنه حدَّث نفسه أنه يقطع يومًا بغير مقارفة ذنب. قرأت على شيخنا الموفق المقدسي رحمه الله قال: حدثنا أحمد بن المبارك بإسناده عن يحيى بن كثير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان داودُ قد قَسَم الدَّهرَ أربعةَ أقسامٍ، يوم لبني إسرائيلَ يُدارِسُهم العلمَ ويُدارِسونه، ويوم للنساءِ، ويوم للمحرابِ ويوم للقضاءِ، فبينما هو معَ بني إسرائيل يُدارِسهم العلمَ قال بعضهم: لا يأتي على ابن آدم يومٌ لا يصيبُ فيه ذنبًا، فقال داود في نفسه: اليوم الذي أخلو فيه للمحراب تتنحَّى عني الخطيئةُ، فأوحى الله إليه: يا داودُ، خذ حِذرَك حتى ترى بلاءَكَ" (¬3). والثالث: لأنه قال يومًا لبني إسرائيل: والله لأعدلنَّ فيكم، ولم يستثن، قاله مقاتل. والرابع: أنه كان كثير العبادة، فأعجبته نفسه، فجاء جبريل فقال: يا داود، أما علمتَ بأن العُجْبَ يأكلُ العمل كما تأكل النار الحطب، فإن عجبت ثانيًا وكلتك إلى ¬

_ (¬1) من هنا يبدأ خرم في "ب" إلى ذكر توبته. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 281 - 282. (¬3) "التوابين" (10).

نفسك، فقال: يا رب، أخطأت، ما أعود، قاله أبو بكر الوراق (¬1). والخامس: أنه كان يدعو على العصاة ويقول: لا تغفر خطأ الخاطئين. فابتلاه، فلما وقع في الذنب أوحى الله إليه أتحب أن أغفر لك؟ قاله مقاتل بن حيان. وكان يقول بعدُ: إلهي، ارحم العُصَاةَ وارحم داود معهم. والسادس: كان إذا دخل المحراب لبس أفخر الثياب وتزيَّن بأحسن الزينة فلما ابتلاه الله صار يلبس خَلَق الثياب ويدخل منكسرًا، فأوحى الله إلى داود: يا داود، هكذا فكن، كنت تدخل عليَّ دخول الملوك على عبيدهم، والآن تدخل عليَّ دخول العبيد على ملوكهم، أما علمتَ أن خزائني مملوءة من العبادات، فعليك بالذل والانكسار، قاله سهل بن عبد الله التُّستَري. قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] قال علماء السير: فلما كان اليوم الذي وعده الله أن يبتليَه فيه دخل محرابه وأغلق أبوابه وأقام الحرس الذي ذكرناهم يحرسونه فأحدقوا بالمحراب، وقال: لا يدخلنَّ عليَّ أحد، وشرع في قراءة الزبور والصلاة، وكان في محرابه كوَّة، فرفع رأسه من سجوده وإذا في الكوَّة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، فدخلت من الكوة ووقعت بين يديه، فمدَّ إليها يده فطارت من الكوَّة، فاطلع ينظر أين وقعت وإذا بامرأة تغتسل في بستان إلى جانب بركة، فحار في حسنها، وقال الكلبي: إنما تمثل له الشيطان في تلك الحمامة، وقال مقاتل: حانت منها التفاتة فرأت داود فتجلَّلت بشعرها فغطَّت به بدنها فازداد بها إعجابًا (¬2). وذكر الشيخ الموفَّق رحمه الله في "التوابين" عن قتادة عن الحسن: أنه وقع بين يديه طائر جسده من ذهب وجناحاه من ديباج مكلَّل بالدُّرِّ ومنقاره من زبرجد وقوائمه من ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 283. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 282، قال ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 309 (هجر)، وفي تفسيره: وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والحلف ههنا قصصًا وأخبارًا أكثرها إسرائيليات، منها ما هو مكذوب لا محالة، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه.

ذكر دخول الملكين عليه

فيروزج وكان له ابن صغير فقال: والله لو اتخذتُ هذا لابني، وذكر بمعناه (¬1). واختلفوا في اسمها: فقال الضحاك: تشايع بنت حنانا (¬2). وقال السُّدي: شايع بنت شايع. فأرسل داود إلى منزلها فسأل عنها، فقيل: هي زوجة أُوريا فقال: وأين زوجها؟ قيل: في الغزاة مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود، وكان قد بعثه غازيًا إلى البلقاء. فيزعمون أن داود كتب إليه قدِّمْ أُوريا بالتابوت ومن تقدَّم به لا يحلُّ له أن يرجع حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد، فبعث به ففتح له، فكتب أيوب إلى داود يعرفه، فكتب إليه: قدِّمه ثانيًا وثالثًا، فقدَّمه فقتل. فلما انقضت عدَّتها تزوجها داود. وقال ابن الكلبي: فهي أم ابنه سليمان عليه السلام (¬3). ذكر دخول الملكين عليه قال وهب: فلما دخل بها لم يلبث أن دخل عليه الملكان في يوم عبادته فجاءةً، فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب، فما شعر بهما إلا وهما جالسان بين يديه. قال مقاتل: فذلك قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} [ص: 22] لأنهما هجما عليه في محرابه بغير إذنه، وأقام الحرس ولم يكن يومَ الحكومة {قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ} وفي معناه قولان: أحدهما: نحن خصمان. والثاني: كخصمين أو مثل خصمين، فسقطت الكاف ومثل، وقام الخصمان مقامهما {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أي: بالعدل {وَلَا تُشْطِطْ} أي: لا تَجُر ولا تخف {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} أي: وسط الطريق، ثم بيَّنا له المراد فقال: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] وقيل: إن داود قال لهما تكلَّما. فإن قيل: فكيف أوجب الأخوَّة بين الملائكة ولا مناسبة بينهم لأنهم لا ينسلون؟ ¬

_ (¬1) "التوابين": (11). (¬2) في تفسير الثعلبي 8/ 186، وعرائس المجالس 282: تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنان. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 282. و"التوابين" ص 43.

فالجواب: إنه علي وجه التمثيل لا على وجه التحقيق، لكونهما على طريقة واحدة وجنس واحد، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يقول لجبريل: "يا أخي" فيخاطبه بالأخوَّة. وقد روي عن الحسن البصري أنه قال: لم يكونا ملكين وإنما كانا أخوين من بني إسرائيل تسوَّرا المحراب. وليس هذا القول بشيء، لأنه كان يحرس محرابه ثلاثة وثلاثون ألفًا، فكيف يتسوَّر عليه رجلان من بني آدم ولا يُعْلَمُون؟ ولأن عامة العلماء على أنهما كانا ملكين. وقد ذكر أبو حنيفة النُّوبي زيادة على ما ذكر الحسن فقال: اختصما إلى داود فحكم بينهما، وانتبه داود على زلَّته ولم يشعر بذنبه، وهذا حسن. {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} واختلفوا في معنى النعاج: فعامَّة العلماء على أنه كنَّى بالنعاج عن النساء، والعرب تفعل ذلك كثيرًا، تورِّي عن النساء بالظباء والبقر والنعاج. وقال الحسين بن الفضل: لم يكن هناك نعاج ولا بغي، وإنما هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لداود. والأول أصحُّ، لأنه من المعاريض. وِقال مجاهد: إنما ذكر هذا العدد لأنه عدد نساء داود. فقال داود: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]. فإن قيل: كيف جاز لداود أن يحكم ولم يسمع كلام الخصم الآخر؟ فالجواب: أن أحدهما لما ادَّعى على الآخر اعترف له صاحبه، فعند اعترافه قضى عليه، فحذف الاعتراف اكتفاء بفهم السامع {وَظَنَّ دَاوُودُ} أي: أيقن وعلم {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي: ابتليناه. وفي سبب تغيره ثلاثة أقوال: أحدها: أن الملكين أفصحا له بذلك، قاله السدي. والثاني: أنهما عرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه، فعلم أنهما عَنَياه بذلك، قاله وهب: والثالث: أنهما نظرا إليه وضحكا أو نظر أحدهما إلى الآخر وضحك ثم عرجا،

ذكر ما جرى بعد صعود الملكين

فعلم أنَّ الله ابتلاه بذلك، قاله مقاتل (¬1). والوجه الأول أظهر، قاله السُّدي. قال داود للخصم الآخر: ما تقول أنت؟ قال: نعم أريد أن آخذها منه فأُكمِلَ بها نعاجي، قال. وهو كاره؟ قال: نعم، قال: إذن لا ندعك، وإن رُمتَ هذا ضربنا منك هذا وهذه، وأشار إلى أنفه وجبهته. فقال: أنت يا داود أحقُّ أن يُضربَ منك هذا وهذه، حيث لك تسع وتسعون امرأة وليس لأوريا إلا واحدة، فلم تزل تُعَرِّضُهُ للقتل حتى قُتل، فتزوجتَ امرأته. وعرجا فنظر داود فلم ير أحدًا فعرف ما وقع فيه (¬2). ذكر ما جرى بعد صعود الملكين قال ابن عباس في قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي: ابتليناه بما جرى في حق المرأة {وَخَرَّ رَاكِعًا}. قال مقاتل: أي ساجدًا، عبَّر بالركوع عن السجود لأنهما بمعنى الانحناء. وقال وهب: غشي عليه فأقام ثلاثًا في غشيته ثم أفاق. وذكر جدي رحمه الله في "التبصرة" أَنه بقي في سجوده أَربعين ليلة لا يرفع رأسه إلا في وقت صلاة مكتوبة أو حاجة لابدَّ منها، ولا يأكل ولا يشرب، فأكلت الأرض من جبهته، ونبت العشب من دموعه، وهو يقول في سجوده: ربِّ زلَّ داود زلةً أبعد مما بين المشرق والمغرب (¬3). وقال وهب: اتخذ سبع حشايا من شعر وحشاهن رمادًا، ثم بكى حتى بلَّها من دموعه، ولم يشرب شرابًا إلا ممزوجًا بدموع عينيه، وما رفع رأسه إلى السماء بعد الخطيئة ثلاثين سنة إلى أن مات حياءً من ربه. ذكر الشيخ الموفق رحمه الله في "التوابين" عن قتادة عن الحسن القصة، قال فيها: إنه لما ضحك الملكُ قال له داود: تظلم وتضحك؟ ما أحوجك إلى قَدُوم يرضُّ منك هذه وهذا- يعني جبهته وفاه- فقال الملك: أنت أحوج إلى ذلك، وتحوَّلا في صورتهما وعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه. وعلم داود فسجد أربعين ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" 1/ 277. (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 277. (¬3) "التبصرة" 1/ 277.

يومًا (¬1). وذكر بمعنى ما ذكرنا. قال: وكان يقول في سجوده: سبحان خالق النور الحائل بين القلوب. إلهي، خلَّيتَ بيني وبين عدوِّي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي. سبحان خالق النور الحائل بين القلوب. إلهي، لم أتعظ بما وَعظتُ به غيري. إلهي، أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الرحيم فنسيت عهدك. سبحان خالق النور. بأيِّ عين أنظر إليك يوم القيامة وإنما ينظر الظالمون من طرفٍ خفيٍّ. سبحان خالق النور. إلهي، الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصابه. سبحان خالق النور. إلهي، الويل لداود إذا كُشفَ عنه الغطاء فيقال: هذا داود الخاطئ. سبحان خالق النور. إلهي، أنت المغيث وأنا المستغيث، فمن يدعو المستغيثُ إلا المغيثَ. سبحان خالق النور. إلهي، فررت بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ولا تُخزِني يوم الدين (¬2). وفي غير رواية الشيخ الموفق عن وهب: إلهي، فررتُ بذنوبي واعترفتُ بخطيئتي، وزلَّ داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب، فإن لم تغفر له صار حديثًا بين الخلق. سبحان خالق النور. ¬

_ (¬1) "التوابين" (12). (¬2) انظر "التوابين" (12).

إلهي، تبكي الثكلى على ولدها إذا فقدته، وأنا أبكي على خطيئتي. سبحان خالق النور. إلهي، الويل لداود مما جنى إذا كُشفَ عنه الغطاء. سبحان خالق النور. الويل لداود إذا نُصبت الموازين واقتصَّ للمظلومين من الظالمين. الويل له إذا سحب على وجهه مع الخاطئين. إلهي، يُغسل الثوب فيذهب درنه والخطيئة لازمة لداود. سبحان خالق النور ... في مناجاة كثيرة. فإن قيل: فلم خصَّ النور بالذكر دون غيره؟ فالجواب: لأنه لما وقع في ظلمة الذنب وعدم نور الهداية توسَّلَ بالنور إلى النور يستضيء به في ظلمات ذنبه. ولما علم نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن فقدان نور الطاعة كان سببًا لوقوع داود في الزلة كان يكثر من ذكر النور فيقول: "اللهمَّ اجعَل في قَلبي نُورًا، وفي سَمعي نورًا، وفي بَصَري نُورًا" (¬1) الحديث. وكذا لما دخل عليه وفد عبد القيس، وفيهم غلام أمرد، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قم واقعد خلفي" فقيل له في ذلك، فقال: "وهل كانت فتنة داود إلا من النظر" (¬2)؟ . هذا وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ينظر من ورائه كما ينظر من بين يديه (¬3)، لكن هذا قدر ما أوجبه الاحتياط عليه، والسعيد من وُعِظ بغيره. فإن قيل: فإذا كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - ينظر من خلفه كما ينظر من بين يديه فأي فائدة في قوله: "كن خلفي"؟ قلنا: نظره من بين يديه نظر طبع، وهو مشوب بما يشتهي الإنسان ويريده، ونظره من خلفه نظر معجز، وهو مقرون بالتأييد. قلت: وهذا الذي ذكرناه في أقاويل السلف في سبب امتحان الله داود. وقد أنكر من يقول بتنزيه الأنبياء هذا واحتجوا بما روى الحارث الأعور عن عليٍّ عليه السلام أنه قال: من حدَّث بحديث داود معتقدًا صحَّته، جلدته حَدَّين لعظم ما ارتكب، وجليل ما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6316) ومسلم (763) من حديث ابن عباس. (¬2) حديث موضوع، انظر الكلام عليه في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 483. (¬3) انظر "البخاري" (419)، و"مسلم" (985).

احتقب من الإثم، وَرمْي من قد رفع الله محلَّه وجعله رحمة للعالمين وحجة للمهتدين (¬1). قالوا: وإنما كان ذنب داود أنه تمنى أن تكون له امرأة أوريا حلالًا، وحدَّث نفسه بذلك، واتفق أنه غزا أوريا من غير قصد داود، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذ هلك، ثم تزوَّج امرأته، فعاتبه الله على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله (¬2). وقال بعضهم: كان ذنب داود أنَّ أوريا كان خطب تلك المرأة ووطن نفسه عليها، فلما غاب في غزاته خطبها داود فتزوجته، فاغتمَّ أوريا غمًّا شديدًا، فعاتبه الله على ذلك، حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها الأول وعنده تسع (¬3) وتسعون امرأة (¬4). وقد أشار جدي رحمه الله في "تفسيره" وفي "المنتظم" إلى هذا وقال: ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء (¬5). وأقرب ما في القصة أن أوريا خطب تلك المرأة ثم خطبها داود فتزوجها فعتب الله عليه حيث لم يدعها لخاطبها. قلت (¬6): وفصل الخطاب في هذا الباب أن الذي فعله داود عليه السلام لم يكن كبيرةً يعاقب عليها بل صغيرة. غاية ما في الباب أنه نظر إلى المرأة غير متعمد، وكذا أمره لأوريا بالقتال، والأنبياء غير معصومين من الصغائر، وإنما ذنوبهم وإن صغرت فهي عظيمة عند الله، ألا ترى أن آدم لم يسامح في لقمة حتى نوديَ إلى يوم القيامة {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}. وأما رواية الحارث الأعور عن علي عليه السلام فالحارث كذَّاب باتفاق المحدثين، ولو ثبت كان معناه أنه ارتكب كبيرة. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 284. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 284. (¬3) هنا ينتهي الخرم في (ب) المثار إليه في محنة داود. (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 284. (¬5) "زاد المسير" 7/ 116 - 117، والتبصرة 1/ 275، ولم نقف عليه في "المنتظم". (¬6) في (ب): قال المصنف رحمه الله.

ذكر توبته عليه السلام

ذكر توبته عليه السلام قال علماء السير: ولما أقام على تلك الحالة أربعين يومًا جاءه النداء: يا داود، أجائع فتُطعَم، أو عطشان فتُسقَى، أو مظلوم فتُنصَر، ولم يجبه في خطيئته بشيء، فصاح صيحةً هاج ما حوله ثم قال: يا رب، الذنب الذي أصيتُه. فنودي ارفع رأسك فقد غُفِرَ لك، فلم يرفعه حياء حتى جاء جبريل فرفعه (¬1). وروى قتادة عن الحسن والثعلبي عن كعب الأحبار ووهب بن منبه قالوا: لما قال الله تعالى لداود: ارفع رأسك فقد غفرت لك قال: يا رب، وكيف وأنت لا تظلم أحدًا؟ قال: اذهب إلى قبر أوريا فنادِهِ وأنا أُسْمِعُهُ نداءك فتحلَّلْ منه، فانطلق داود حتى أتى قبره وقد لبس المسوحَ فناداه يا أوريا، فقال: لبيك من هذا الذي قطع عليَّ لذتي وأيقظني من رقدتي؟ قال: أنا داود، قال: نبيُّ الله؟ قال: نعم. قال: وما الذي جاء بك؟ قال: أسألك أن تجعلني في حِلِّ مما كان مني إليك، قال: ما هو؟ قال: عرَّضتك للقتل؟ قال: عرَّضتني للخير، أنت في حلِّ من دمي. فأوحى الله إليه: يا داود، ألم تعلم أني حَكَمٌ عدل لا أقضي بالتغرير، هلا أخبرته بأنك تزوجت بزوجته؟ فرجع فناداه فقال: من أنت؟ فقال: داود، قال: أوليس قد جعلتك في حل من دمي؟ قال: بلى ولكن إنما بعثتك للغزاة لمكان امرأتك مني وإني قد تزوجتها، فسكت ولم يجبه، فناداه مرارًا ولم يجبه، فقام داود وحثا التراب على رأسه، ونادى بالويل والثبور، ثم بكى بكاء شديدًا، فناداه منادٍ من السماء: يا داود، قد رحمنا بكاءَك وتضرعك وقد غفرنا لك ذنبك. فقال: يا رب، وكيف لي بأوريا؟ فقال الله تعالى: أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه، فيقول: يا ربِّ، من أين في هذا ولم يبلغه عملي؟ فأقول: هذا عوضٌ من أجل عبدي داود وأستوهبك منه فيهبك في. فقال: يا رب الآن علمتُ أنك قد غفرت في (¬2). قال الحسن فذلك معنى قوله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25] يعني الذنب {وَإِنَّ لَهُ} بعد المغفرة {عِنْدَنَا لَزُلْفَى} أي قربة ومنزلة {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 483. و "عرائس المجالس" ص 286. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 286 - 287. و"التوابين" ص 46.

أي: مرجع. وقال الثعلبي بإسناده عن وهب بن منبه قال: إن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا ترقأ له دمعة ليلًا ولا نهارًا، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة، قسم الدهر أربعة أقسام- أو أربعة أيام- فيوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يَسِيحُ في الفيافي والجبال والسواحل، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك. فإذا كان يوم سياحته يخرج إلى الفيافي فيرفع صوته بالمزامير ويبكي فتبكي معه الجبال والحجارة والشجر والرمال والطير والوحش حتى تسيل من دموعهم الأنهار، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الجبال والحجارة والدواب والسباع وحيتان البحر وطيور السماء، فإذا أمسى رجع. فإذا كان يوم نَوْحه على نفسه نادى مناديه: إن اليوم يوم نَوْح داود على نفسه، فليحضر من يساعده. قال: ويدخل الدار التي فيها المحاريب فتبسط له ثلاث فرش من حصير مسوح حشوها ليف، فيجلس عليها، ويجيء الرهبان أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وبأيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب، ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه، ويرفع الرهبان أصواتهم فلا يزال يبكي حتى تغرق الفرش من دموعه ويقع داود مثل الفرخ يضطرب، فيجيء ابنه سليمان فيحمله، فيأخذ داود بيده أو بكفيه من دموعه فيمسح بها وجهه ويقول: يا رب، اغفر في ما ترى، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله (¬1). وفي رواية الوالبي عن ابن عباس قال: كان داود إذا جلس للنياحة على نفسه ينوح فتموت طائفة من الرهبان، ثم ينوح فتموت طائفة من الوحوش، ثم ينوح فتموت طائفة من الطيور والدواب، ثم ينوح فتموت طائفة من الناس، فيقول له ابنه سليمان: يا أبت، قتلت الخلائقَ، فيقع مغشيًا عليه وينادي مناديه: ألا مَنْ كان له مع داود أخ أو قريب أو ولد فليأتِ بنعش يحمله عليه، فتأتي الناس بالنعوش، تأتي المرأة فتحمل ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 287 - 288.

ولدها، والأخ فيحمل أخاه، ثم يحمَلُ داود فيلقى في بيت مظلم على الرماد، فإذا غربت الشمس جاءَ سليمان فيقول: يا أبت، أفطر الصائمون أما آن لك أن تفطر؟ فيؤتى بقرص من شعير وقدح من ماء فلا يشوبه حتى يُفيضَه من دموعِهِ. وقد ذكر جدي رحمه الله في "التبصرة" بمعناه وأسنده عن يحيى بن أبي كثير قال: بلغنا أنه إذا كان يوم نَوْح داود، مكث قبل ذلك سبعًا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب، فإذا كان قبل ذلك بيوم أُخرِجَ له منبرٌ إلى البرية، ونادى في الجبال والغياض والصوامع ونحوها فتأتي الهوام والوحوش والرهبان والعذارى، فيصعد المنبر ويقف سليمان على رأسه، ويأخذ في الثناء على ربه فتموت طائفة من الناس، ثم يأخذ في ذكر الموت فتموت طائفة، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت طائفة من الناس، ثم يحمل على سريره إلى بيت عبادته ويقول: أين فلان وأين فلان؟ فيقول سليمان: ماتوا، فينادي: أغضبان أنت على داود إله داود؟ أم كيف قصرت به أن يموت خوفًا منك (¬1). وروى الثعلبي عن جعفو بن محمد قال: سمعت ثابتًا يقول: ما شرب داود شرابًا بعد المغفرة إلا ونصفه ممزوج بدمع عينيه. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده عن عثمان بن أبي العاتكة قال: كان من دعاء داود: إلهي، إذا ذكرتُ خطيئتي ضاقت عليَّ الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك عادت إليَّ روحي. إلهي، أتيتُ أطباء عبادك ليداووا في خطيئتي فكلهم دلُّوني عليك (¬2). وروى الثعلبي أيضًا عن الأوزاعي قال: بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خَدَّ الدَّمعُ في وَجهِ داودَ خديدَ الماءِ في الأرض". وروى الثعلبي أيضًا عن الحسن بن عبد الله القرشي قال: لما أصاب داود الخطيئةَ فرغ إلى العبادة، فأتى راهبًا في قُلَّةِ جبل، فناداه بصوت عال فلم يجبه، فلما أكثر عليه قال الراهب: من الذي يناديني؟ قال: أنا داود نبيُّ الله، قال: صاحب القصور الحصينة والخيل المسوَّمة والنساء والشهوات؟ لئن نلت الجنة بهذا لأنت أنت. قال داود: فمن ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 278. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 288.

أنت؟ قال: راهب راغب مترقب، قال: فمن أنيسك ومن جليسك؟ قال: اصعد تره. قال: فصعد الجبل حتى صار في قلته، وإذا بميت مسجَّى بين يدي الراهب، فقال: من هذا؟ فقال: هذا ملك قصَّته مكتوبةٌ في لوح من نحاس عند رأسه، قال: فقرأ داود عليه السلام الكتاب فإذا فيه: أنا فلان بن فلان ملك الأملاك عشت ألف عام، وبنيتُ ألف مدينة، وهزمت ألف جيش، وأحصنت ألف امرأة، وافتضضت ألف عذراء، فبينما أنا في ملكي أتاني ملك الموت فأخرجني مما أنا فيه، فالتراب فراشي، والديدان جيراني، فخرَّ داود مغشيًا عليه. وقال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ النَّاسُ يعُودُون داودَ ويظنُونَ أنَّه مريضٌ، وما به مَرضٌ إلا الحَياءُ والخَوفُ مِنَ اللهِ". قال: وقال وهب: لما تاب الله على داود كان يبدأ إذا دعا للخاطئين ويستغفر لهم قبل نفسه. وقال الثعلبي بإسناده عن قتادة عن الحسن قال: كان داود عليه السلام بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين ويقول: تعالوا إلى داود الخاطئ، ولا يشرب شرابًا إلا مزجه بدموع عينيه. وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعته ولا يزال يبكي عليه حتى يبتلَّ بدموعه ويذرُّ عليه الملح والرماد ويقول: هذا طعام المذنبين الخاطئين، ثم يأكل (¬1). قال الحسن: وكان داود قبل الخطيئة يصوم يومًا ويفطر يومًا ويقوم نصف الليل فلما كان من خطيئته ما كان، صام الدهر كله وقام الليل كله (¬2). قال إسحاق بن بشر بإسناده عن وهب بن منبه: إن داود لما تاب الله عليه قال: يا رب، غفرت لي؟ قال: نعم، قال: فكيف في أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها لي وللخاطئين؟ قال: فوسم الله خطيئته في كفه اليمنى، فما رفع بها طعامًا ولا شرابًا إلا بكى إذا رآها، وما قام خطيبًا في الناس إلا بسط راحته فاستقبل بها الناس ليروا خطيئته (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 288. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 288. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 288 - 289.

وروى الثعلبي أيضًا عن عبد الرحمن الهذلي قال: ما رفع رأسه إلى السماء بعد خطيئته حتى مات. وقال الثعلبي: كان إذا قرأ الزبور بعد الخطيئة لا يقف له الماء ولا تصغي إليه البهائم والوحش والطير كما كانت قبلها، ونقصت نغمته فكان يقول: بحَّ صوتي. فقال: يا إلهي، ما هذا؟ فأوحى الله إليه يا داود، خطيئتك هي التي غيَّرت صوتك وحالك، قال: يا رب، أليس قد غفرتَها لي؟ قال: بلى، ولكن ارتفعت الحالة التي كانت بيني وبينك من الودِّ والقربة فلا تدركها أبدًا (¬1). وفي رواية: أما الذنب فقد غفرته، وأما الودُّ فلا يعود. وحدثنا جدي رحمه الله بإسناده عن مجاهد قال: كانت خطيئته في كفِّه مكتوبة، فسجد حتى نبت من البقل ما وارى أذنيه أو رأسه، ثم نادى: يا ربِّ، قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في ذنبه شيء، فنودي: أجائع فتطعم، أم عار فتكسى، أم مظلوم فَيُنْتَصَرُ لك؟ فلما رأى أنه لم يرجع إليه في ذنبه شيء نحب نحبة فهاج ما ثَمَّ (¬2). وفي رواية: فأحرق ما حوله بنفسه. وقال أهل السير: كان له جاريتان قد أعدهما، فكان إذا جاءه الخوف سقط واضطرب، فقعدتا على صدره ورجليه مخافة أن تتفرَّق أعضاؤه. فإن قيل: فما فائدة التوبة مع هذا البكاء والقلق والخوف، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أن فائدتها غفران الذنب ومسامحة أوريا وتهذيب داود. والثاني: أن الندم توبة لهذه الأمَّة خصَّها الله به، ولهذا إن الذين عبدوا العجل ندموا فلم ينفعهم الندم حتى أمرهم الله بأن يقتل بعضهم بعضًا. والثالث: أن بكاءَه وتناجيه المرَّ وقلقه بعد التوبة إنما كان أسفًا على ما فاته من المودة والمواد الإلهية، ألا ترى أن خطيئته أَثَّرَتْ في صوته وفي كون الماء لم يقف عند ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 278. (¬2) أخرجه ابن الجوزي في "التبصرة" 1/ 277 - 278.

قراءته الزبور، ولأن الوحش لم تعد تصغي إليه كما كانت، ولما شكا إلى الله أوحى إليه: خطيئتك أسقطت منزلتك عندنا وعند الخلق، ورفعت الحالة التي كانت بيننا، فكان بكاؤه على تلك الحالة. فإن قيل: فلم أخَّرَ توبته ثلاثين سنة أو أربعين على ما قيل؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه أراد تعظيم الذنب في عينه وأعين الناس بإغلاق باب التوبة أربعين سنة. والثاني: أنه كان يحب أن يسمع أنينه وبكاءَه، وفي بعض الكتب: أنين المذنبين أحبُّ إلينا من صياح الصديقين أو وَجَلِ المسبحين. والثالث: خصمه كان ميِّتًا فعظَّم الذنبَ ليزجر العباد عن أذى الخصوم. وقال مقاتل: نظر يومًا إلى حمامة تغرِّد على غصن فبكى، قال: يا حمامة، قد كنتُ قبل الخطيئة أفهم ما تقولين أما اليوم فلا، فما زالت الحمامة تضرب بجناحيها ومنقارها الأرض حتى خرج الدمُ من حلقها وماتت. وقال مقاتل: كان داود يستغفر للخاطئين، فقال الله تعالى: بالأمس تقول: لا أستغفر لهم، قال: يا ربِّ، فبأي الأدعية أتقرب إليك؟ فقال: ادعني بيا حبيبَ البكائين. وقال أبو سليمان الداراني: ما عمل داود عليه السلام عملًا كان أنفعَ له من خطيئته، مازال منها خائفًا هاربًا حتى لحق بربه. قالوا: وهذا معنى قولهم: "رُبَّ ذنبٍ أدخلَ صاحبه الجنة". وذكر مقاتل بن سليمان في "المبتدأ" له عن وهب بن منبه أنه قال: إذا دخل الجنةَ أهلُها وُضِعَ لداود منبرٌ في النور من نور، في أعلى درجة في الجنة، ويقول الله: يا داود، قم احمدني في الجنة بصوتك الرخيم كما كنت تفعل في دار الدنيا، فيقوم فيحمد الله تعالى بمحامد يقول: الحمد لله الذي لا يقدر قدرَهُ المتفكرون، والحمد لله الذي لا يُحصي نِعمَه العادُّون، والحمد لله الذي لا يبلُغ مدحَه المادحون، والحمد لله الذي لا يؤدِّي حقَّه المجتهدون. فإذا رفع داود صوته استفرغ نعيم أهل الجنة، قال: وعن يمين المنبر قباب من اللؤلؤ، فيقول داود: يا ربِّ، من يسكنُ هذه القباب؟ فيقول الله تعالى: من يتواضع لعظمتي، ويقضي زمانه بذكري، ويكف نفسه عن الشهوات لأجلي، يطعم

فصل في السجدة

الجائع، ويكسو العاري، ويؤوي الغريب، ويجبر المكسور، ويرحم المصاب، فذلك الذي يضيء نوره في الناس كالشمس، إن دعاني أجبته، كان سألني أعطيته، أكلؤه بقوَّتي وأحفظه بمنتي (¬1)، وأوكل به ملائكتي. فصل في السجدة وسجدة "ص" سجدةُ تلاوةٍ، وبه قال الحسن والثوري ومالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: هي سجدة شكر. وعن أحمد كالمذهبين. وثمرة الخلاف: لو تلاها في الصلاة وغيرها سجدها عندنا، وعندهم لا يسجد، واحتجوا بما روى النسائي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في "صَ" وقال: "سَجَدَها دَاودُ توبة ونَسجُدُها شُكرًا" (¬2). وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة على المنبر سورة "ص" فنزل وسجد، فسجد الناس معه، فلما كان في الجمعة الثانية قرأها فتشزَّن الناس للسجود، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما هِيَ تَوبةُ نَبيٍّ ولَكن رأيتكم تشزَّنتم للسجود فسجدت" (¬3). ومعنى تشزَّن أي: تهيَّأ وانتصب. وأما قوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] أي: ساجدًا. وأما سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - فحجة لنا، وقوله: "ونحن نسجدها شكرًا" لا يدلُّ على أنها لا تجب، لأنها سبب وجوب الإنعام على داود ولنا به أسوة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتكم تشزنتم فسجدت" يدل على الوجوب إذ لو لم تكن واجبةً لما سجد. فصل في طاعون وقع في زمان داود قرأت على شيخنا الموفق المقدسي رحمه الله قال: حدثنا أحمد بن المبارك بإسناده ¬

_ (¬1) في "ب": بمشيئتي. (¬2) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (1029). (¬3) أبو داود (1410).

عن وهب بن منبه قال: لما تاب الله على داود، حَسُنَ حالُ بني إسرائيل، وفشت فيهم العافية، وكثروا حتى ملؤوا الشام، وضاقت بهم فلسطين وما حولها، فعجب داود من كثرتهم، وأمر بعدِّهم فلم يقدروا على ذلك، فأوحى الله إليه: ألم تعلم أني وعدتُ أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح ولده إسحاق فأطاعني أن أنمي ذريته حتى يكونوا عددَ نجوم السماء وأكثر، ولا يحصيهم العدد، فلما علمتَ أني منجزٌ له ما وعدته ذهبتَ تختبرني، أو ظننت أني مخلف وعدي؟ وإني أقسمت بعزتي لأبتلينهم بثلاثة تُقِل عددهم، فخيّرهُم بين أن أبتليهم بالقحط ثلاث سنين، وبين أن أسلِّط عليهم العدوَّ شهرين، وبين أن أسلط عليهم الطاعون ثلاثة أيام، فجمعهم داود وخيَّرهم فقالوا: أنت نبيُّنا فاختر لنا، فقال: أما الجوعُ فبلاءٌ فاضح ولا صبر لأحدٍ عليه، وأما العدوُّ فإن اخترتموه فلا بقيَّة لكم، والموت أعز، فخرج بنو إسرائيل إلى موضع البيت المقدَّس يسألون الله كَشْفَ الطاعون عنهم، فاتخذ داود ذلك الموضع مسجدًا (¬1). وقال ابن الكلبي: كان ذلك لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه، وتوفي قبل أن يتم بناؤه، فأوصى بذلك إلى سليمان، لما نذكر. وفي رواية عن وهب: فأمرهم أن يتجهَّزوا، فاغتسلوا وتحنَّطوا ولبسوا الأكفان، وبرزوا إلى موضع بيت المقدس بالذراري والأهلين، وضجُّوا إلى الله تعالى ضجَّةً واحدة، وارتفع داود على صخرة بيت المقدس، ولم يكن هناك مسجد، يدعو ويتضرَّع، فأرسل الله عليهم الطاعون يومًا وليلة تَحِلَّة القسم، فمات منهم خلق كثير، ثم كشفه الله عنهم، فقال لهم داود: هذا صعيد مبارك ابنوا فيه مسجدًا لله تعالى، فبنوا لما نذكر. وقد أخرج أحمد في "المسند" بمعناه فقال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي بإسناده عن صهيب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى همس شيئًا لا أفهمه ولا يخبرنا به ثم قال: "أوَظننتم بي"؟ قلنا: أجل، فقال: "إني ذكرتُ نبيًا من الأنبياء أُعطِيَ جُنُودًا من قَومِهِ فقالَ: من يكافئُ هؤلاء، أو من يقوم لهؤلاء، أو غَيرَها من الكلامِ، فأوحى اللهُ إليه اختَر لِقومِكَ إحدى ثلاث: إمَّا الجوعُ، وإما العدوُّ وإما الموتُ، فاستشار قومه في ذلك، فقالوا: أنتَ نبِيُّ اللهِ فاختَر لنا فالكلُّ إليك، فَقامَ إلى صَلاتِهِ وقال: إلهي، أمَّا عَدوٌّ من غَيرِهم فلا، وأمَّا ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 484 - 485، وعرائس المجالس 309.

فصل في حوادث قضى بها داود فاستدرك عليه سليمان منها قصة الزرع والغنم

"الجوعُ فلا، ، ولكِن الموت، فماتَ منهم سبعُونَ ألفًا، فهمسِي الذي ترون أني أقول: اللهَم بِكَ أُقاتِلُ، وبِكَ أُصَاوِلُ، ولا حَولَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ" (¬1). فصل في حوادث قضى بها داود فاستدرك عليه سليمان منها قصة الزرع والغنم حدثنا أبو عبد الله محمد بن البناء الصوفي البغدادي بإسناده إلى أبي الفضل ابن خيرون وأبي طاهر الباقلاوي قالا بإسنادهما عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] أي: رعت ليلًا بغير راع، قال: تقدَّم رجلان إلى داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا سلط غنمه على حرثي فلم تُبْقِ منه شيئًا، فقال داود: اذهب فلك رقابُ الغنم، فقضى داود بذلك، فمرَّ صاحب الغنم على سليمان وهو صغيرٌ ابن إحدى عشرة سنة فقصَّ عليه القصة، فدخل عليه وقال: يا أبت، إنَّ القضاء غير ما قضيت به، قال: وكيف؟ قال: أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بها طول العام فيأخذ أولادها وأصوافها وألبانها، وتدفع الأرض إلى صاحب الغنم فينتفع بها طول العام، فإذا انقضى الحول دفعت - أو رددت- إلى هذا غنمه وإلى هذا أرضه، فقال داود: أصبتَ الحكم والقضاءَ. قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} (¬2). وقال قتادة: لم يكن بين ثمن الحرث وثمن الغنم تفاوت فلهذا قضى به داود. وقال ابن مسعود وشريح: إنه كان كرمًا قد نبتت عناقيده (¬3). وقال الفراء: النَّفْشُ أن ترعى الغنم ليلًا والحمل نهارًا والكل بغير راع. {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] أي: لا يخفى علينا من أمرهم. فإن قيل: فهما اثنان، فلم جمع بقوله: "لحكمهم"؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: ما ذكرنا أن الاثنين جمع، وبه قال أبو يوسف. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (18937)، وجاء بعدها في (ب): فصل في وفاة داود عليه السلام. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 1/ 486 - 487. وانظر "عرائس المجالس" ص 291. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 291.

ومنها قصة الصبي

والثاني: أن الإشارة إلى داود وسليمان والخصوم. والأول أصحُّ، لأن الخصوم لا حكم لهم ولا قضاء. ودلَّت الآية على أن كل مجتهد مصيب، والحق عند الله واحد، وفيه خلاف عند المعتزلة. وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فعند أبي حنيفة لا ضمانَ على صاحب الغنم سواء كان ليلًا أو نهارًا إذا لم يرسلها، لأنه لا يوجد منه سبب الضمان. وقال الشافعي وأحمد: يجب الضمان على صاحبها. واحتجَّا بما روى الزهريّ قال: دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطًا لبعض الأنصار فأفسدته، فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقضى على البراء بما أفسدته الناقة وتلا هذه الآية، وقال: "وعلى أصحَابِ الماشِيَةِ حِفظُ ماشِيتِهم بالليل، وعدى أصحابِ الحَوائِطِ حِفظُ حوائِطِهم بالنَّهارِ وحِفظُ زَرعِهِم" (¬1). والجواب من وجوه: أحدها: أنه أرسلها ويجب الضمان بالاتفاق. والثاني: أنه منقطع لأن الزهريّ لم يلق البراءَ بن عازب. والثالث: لأنه يخالف الأصول، أو يُحمل [على] أنه خاص في هذه الواقعة. ومنها قصة الصبي وقال أحمد: حدَّثنا يونس بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَرجت امرأتَان ومعهُما صبِيَّان، فَعَدا الذِّئِبُ على أحدِهِما، فأخَذَتا تَختصِمَان في الباقي فاحتَكمَتا إلى دَاودَ، فَقضى به للكُبرَى، فمرتا على سُلَيمانَ فقالَ: كيفَ أمرُكُمَا؟ فَقصَّتا عليه القِصَّةَ فقالَ: الحكمُ غَيرُ هذا، ايتُوني بِسكيني أشقُّهُ بينهُمَا، فَقالت الصُّغرى: أتشقهُ؟ قال: نعم، قَالت: لا تفَعَل، قد وهبتُ حَظِّي مِنهُ لها". وفي رواية: إنَّ داود حكم بأن يبقى الولد عند كل واحدة سنة. وفي رواية: أنه هو ابنها فقال لها: هو ابنك، فقضى به للصغرى. متَّفق عليه. قال أبو هريرة: والله إنْ سمعتُ السكين إلا يومئذٍ، ما كنا نقول إلا المدية (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (23691). (¬2) أخرجه أحمد (8280)، والبخاري (3427)، ومسلم (1720).

فصل في وفاة داود عليه السلام

وقال الزهريّ: كلاهما حكم بالاجتهاد وإنما لسليمان فطنة. وقال ابن سيرين: كان قضاؤهما بطريق الاجتهاد، ولم يكن نصًّا، لأنه لو كان نصًّا لم يختلفا فيه. وقال الحسن البصري: لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكن الله أثنى على سليمان لصوابه وعلى داود لاجتهاده (¬1). ومنها: ما رواه مجاهد قال: شهد أَربعة على امرأة بالزنى فرجمها داود، وبلغ سليمان، وكان ابن سبع سنين، فقال: عليَّ بالشهود، فجيء بهم فسألهم سليمان متفرقين فاختلفت أقوالهم، وبلغ داود فأمر بقتلهم. فصل في وفاة داود عليه السلام قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ في داودَ غيرةٌ شدِيدةٌ، وكَانَ إذا خَرَجَ مِن دَارِه أَغلَقَ الأبوابَ، فلم يدخُل على أهلِهِ أَحدٌ حتى يَرجِعَ، فَخَرجَ ذاتَ يَوم وقد أَغلَقَ الأبوابَ، فأقبَلت امرأتُه تَطَّلعُ في الدَّارِ، فإذا رجلٌ قائم وسَطَ الدَّارِ، فقالت لمن معها في الدَّارِ: من أين دَخلَ هذا الرجلُ والأبوابُ مُغلقةٌ؟ واللهِ لَنُفتَضَحَنَّ مع دَاودَ. وجاء دَاودُ فوجَدَ الرَّجلَ قائمًا فقالَ: من أنت؟ قال: من لا يَهابُ الملوكَ ولا يمتنِعُ منه الحُجَّابُ، قال: فأنتَ إِذن مَلَكُ الموتِ، قال: نعم، قال: مرحَبًا بأمرِ اللهِ، فزمَّلَ مكانَهُ حتى قبضَهُ، فقال سُليمانُ للطَّيرِ: أظلِّي على دَاودَ، فأظلَّتْ عليه حتى أظلمَت الدُّنيا، فقال لها سليمان: اقبِضِي جَناحًا جَناحًا"- قال أبو هريرة: يُرينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف فعلت الطير، وقبضَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يده- وغَلَبتْ عليه يومئذ المَضْرَحِيَّة (¬2). فقال الفراء: هي النسور الحمر. وقال الجوهري: المَضْرَحيُّ، بالضاد المعجمة والحاء المهملة، الصقر الطويل الجناح" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 5/ 372. والآية المقصودة: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (9432). وفيه المصرحية بالصاد المهملة، وشرح عليه السندي فقال: اسم فاعل من التصريح غلبت عليه صفة التصريح والإيضاح في البيان حتى يوضح المرام بالكلام ويستعين عليه بالإشارة باليد. اهـ. والله أعلم. (¬3) "الصحاح": (ضرح).

وقال ابن المسيب: توفي داود عليه السلام يوم السبت فعكفت عليه الطيور تظلِّله، وكان داود يُسْبِت. وقال مجاهد: مات يوم الأربعاء، والأول أشهر. وقال أبو السكن الهجري: وقيل: مات إبراهيم الخليل وداود عليهما السلام فجأة، وكذا الصالحون، وهو تخفيف على المؤمن وتشديد على الكافر. وقال وهب: دفن بالكنيسة المعروفة بالجسمانية شرقي بيت المقدس في الوادي. وقال ابن عباس: شيَّع جنازته أربعون ألف راهب. وفي "التوراة": كان ملكه على فلسطين والأردن ونواحيها، وكان في عسكره ستون ألف مقاتل. واختلفوا في سنِّه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عاش سبعًا وسبعين سنة، ملك منها أربعين سنة، وكذا هو في "التوراة". والثاني: مئة وأربعين سنة، حكاه أبو إسحاق الثعلبي (¬1). والثالث: مئة سنة، وهو الأصح على ما نطق به الحديث الذي ذكرناه في وفاة آدم، وأنه وهب لداود أربعين سنة، وأنه رجع فيها، فأتمَّ الله لداود المئة (¬2). وكذا قال جدي في "أعمار الأعيان": إنه عاش مئة سنة. قال: وكذا عبد المنعم بن إدريس وسُويد بن سعيد وأحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في "عرائس المجالس" ص 294: مئة سنة. (¬2) انظر توبة آدم. (¬3) "أعمار الأعيان" ص 91.

فصل في لقمان الحكيم

فصل في لقمَان الحَكيم (¬1) وإنما ذكرته هنا لأنه كان في زمان داود. واختلفوا في نسبه على أقوال: أحدها: لقمان بن عبقر بن مَزْيَد بن صادق بن النبوت، من أهل أَيلة، ولد على عشر سنين خلت من أيام داود، قاله وهب بن منبه. والثاني: هو لقمَان بن باعور بن لبان من ولد آزر أبي إبراهيم الخليل عليه السلام. والثالث: لقمان بن عنفاء قاله مقاتل. وقال ابن قتيبة: واسم أمه: ثارات (¬2) بالثاء المنقوطة بثلاث. وقيل: كان ابن أخت أيوب عليه السلام. وقيل: ابن خالته (¬3). وحكى الثعلبي عن ابن المسيب: أنه كان عبدًا أسود عظيم الشفتين، مشقق القدمين، من سودان مصر، ذا مشافر، وكان يُلقَّى الحكمة (¬4). وقال الربيع: كان عبدًا نوبيّا اشتراه رجل من بني إسرائيل بثلاثين دينارًا ونصف دينار، والرجل يقال له: القين بن جبير. وروي: أنه كان عبدًا لقصَّاب. قرأت على شيخنا الموفق المقدسي رحمه الله من كتاب "التوابين" قال: حدثنا المبارك بن علي الصيرفي بإسناده عن جبير (¬5) أبي جعفر قال: كان لقمان الحكيم الحبشي عبدًا لرجل جاء به إلى السوق ليبيعه، فكان كما جاء إنسان يشتريه يقول له لقمان: ما تصنع بي؟ يقول: كذا وكذا، فيقول: حاجتي إليك ألَّا تشتريني، حتى جاء ¬

_ (¬1) انظر قصته في: تفسير الثعلي 7/ 312، و"عرائس المجالس" ص 350 - 354، و"تفسير البغوي" ص 1011، و"زاد المسير" 6/ 317 - 318، و"الدر المنثور" 5/ 160 - 165. (¬2) في "المعارف" ص 55: واسم أبيه ثاران. (¬3) في (ط): خاله. (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 351. (¬5) في "التوابين" ص 110: حسن، وليس في (ب)، والمثبت من (ط).

رجل فقال: ما تصنع بي؟ قال: أصيِّرك بوابًا على باب داري، قال: فاشترني، فاشتراه وجاء به إلى باب داره، فأقعده على الباب، وكان للرجل ثلاث بنات بغايا يبغين في القرية، فأراد مولاه الخروج إلى ضيعة له فقال: يا بني، إني قد أدخلتُ إليهنَّ طعامهن وشرابهن وما يحتجن إليه فأغلِقِ الباب واجلسْ من ورائه لا تفتحه حتى أعود، وغاب سيِّدُه فأَغلق الباب عليهن، وكان يقعد طول النهار على الباب فينادينَه: افتح الباب، فلم يفتح، فنادينه ثانيًا وثالثًا فلم يفتح فشججنه مُوضِحَةً، فغسل الدم عن وجهه فعدنَ فشججنَه فلم يفتح، وقدِمَ سيِّده فلم يخبره بشيء، فعاد سيده فغاب، ففعلْنَ به كما فعلن في الأول، وقدم سيده فلم يخبره بشيء, ثم غاب سيده ثالثًا وفعلْنَ به كما فعلْنَ في المرة الثانية، وقَدِمَ مولاه فلم يخبره بشيء، فقالت الكبرى: ما بال هذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله عز وجل مني، والله لأتوبن. قال: فتابت. فقالت الوسطى: ما بال هذا العبد الحبشي وأختي أولى بالتوبة مني، فتابت. وقالت الصغرى كذلك وتابت. فقالت غواة القرية: ما بال هذا العبد الحبشي وبنات فلان أولى بطاعة الله منا. فتاب الرجال والنساء وصاروا زهادًا عبادًا (¬1). وقال الواقدي: كان لقمان قاضيًا في بني إسرائيل يسكن ببلد أَيلَة ومَديَن، ولم يزل زاهدًا في العالم يسكن فيافي الأرض. وعامة المؤرخين على أنه كان في زمان داود إلا ابن المنادي، فإنه قال: كان على عهد زكريا ويحيى، وكان يسكن الرَّملة، وقام ما بين الرملة وبيت المقدس حتى مات، وهو وَهمٌ منه، والأول أصح. واختلفوا هل كان نبيًا أم عبدًا صالحًا؟ على قولين: أحدهما: أنه كان نبيًا، قاله ابن المسيب. وحكاه الثعلبي عن عكرمة، ثم قال الثعلبي: تفرَّد عكرمة بهذا (¬2). وعامة العلماء على أنه كان عبدًا صالحًا أطاع الله فآتاه الله الحكمة. ¬

_ (¬1) "التوابين" ص 110 - 111. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 351.

وقال سلمان الفارسي: اختار طاعة الله على غيرها فآتاه الحكمة وخزن عنه النبوَّة. وقال الحسن البصري: كان خياطًا وليس بلقمان صاحب النسور ابن عاد، بينهما زمان طويل. وروى الثعلبي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسنده قال: حقًّا أقولُ لم يكنْ لقمانُ نبيًّا، ولكن كان عبدًا صَمصَامًا (¬1) كَثيرَ التفكُّرِ، حَسَنَ اليَقِينِ، أحبَّ الله فأحبَّه، فمنَّ الله عليه بالحكمة. كان نائمًا نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت وقال: إن خيَّرني ربي قبلتُ العافية ولم أقبل البلاء، فإن عزم عليَّ فسمعًا وطاعة، فإني أعلمُ إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني، فقالت الملائكة - بصوت لا يراهم -: لِمَ يا لقمان؟ قال: لأن الحاكِمَ بأشد المنازل وأدركها وأكدرها، يغشاه الظُّلمُ من كل مكان، فإن يعدل فبالحريِّ أن ينجوَ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلًا خيرٌ من أن يكون شريفًا، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا تصيبه الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة، فانتبه يتكلم بها، ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة، كلُّ ذلك يعفو الله عنه. وكان لقمان يؤازره بحكمته. وقال له داود: طوبى لك يا لقمان، أُعطيتَ الحكمة وصُرِفَت عنك البلوى، وأُعطي داود الخلافة وابتلي بالبلية والفتنة (¬2). وقال الثعلبي بإسناده إلى خالد الربعي قال: كان لقمان نجارًا (¬3). وروى الأوزاعي عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى ابن المسيَّب يسأله فقال له سعيد: لا تحزنْ من أجل أنك أسود، فإنه كان من خيار الناس ثلاثةٌ من السودان، بلال ومهجع مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولقمان الحكيم (¬4) ¬

_ (¬1) في "عرائس المجالس" ص 351: عصمه الله تعالى والصَّمْصام: المُصمِّمُ. اللسان: (صمم). (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 351. وأخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 17/ 85. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 352. (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 351، وتفسير الثعلبي 7/ 312 فما بعدها.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]. قال ابن عباس: المراد بالحكمة هاهنا: العقل والفهم والإصابة في القول (¬1). وقال وهب: قرأت في حكمة لقمان عشرة آلاف باب لم تسمع الناس كلامًا أحسن منه، ثم رأيت الناس قد أدخلوه في كلامهم واستعانوا به في خطبهم. واختلفوا في أول ما ظهر من حكمته على أقوال: أحدها: ما حكينا عنه أنه قال لما قيل له: هل لك أن تكون خليفة؟ وقد ذكرناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: أنه كان يختلف إلى داود يقتبس منه، فاختلف إليه سنة لم ينطق بلفظة، وداود ينسج درعًا، وحكمة لقمان تمنعه من السؤال، فلما تمت الدرع قام داود عليه السلام فلبسها- أو صبَّها على نفسه- وقال: نِعم درع الحرب هذه، قال لقمان لما رأى ذلك: الصمتُ حِكَمٌ وقليلٌ فاعِلُه. فقال داود: انظروا إلى رجل أوتي الحكمة ووقي الفتنة. قاله مقاتل. والثالث: أنَّ سيده أمره أن يذبح شاةً ويأتيه بأطيب مضغة فيها وأخبث، فجاءه باللسان والقلب، فقال: ما هذا؟ فقال: ليس في الحيوان أطيب منهما إذا طابتا ولا أخبث منهما إذا خبثتا. قاله ابن أبي نجيح (¬2). والرابع: أن مولاه الذي اشتراه بثلاثين دينارًا وكان يخاطر على النرد، وعلى بابه نهر جار، فلعب يومًا مع رجل على أنه إن قُمر شرب ماء النهر كله أو يفتدي نفسه بما يريد صاحبه، فقمر، فقال له القامر: إما أن تشرب ماء النهر وإلا فقأتُ عينك أو أخذت جميع مالك، فقال: أمهلني الليلة. وأمسى كئيبًا قلقًا، وجاء لقمان حاملًا حزمة حطب على ظهره فوضعها، فرأى سيِّدَهُ حزينًا فسأله عن حاله، فأعرض عنه ازدراء به، فأعاد عليه القول فلم يلتفت إليه، فقال: أخبرني لعلَّ الله أن يجعل لك على يدي فرجًا، فأخبره فقال: لا تغتم إذا جاءك وقال: اشرب ما في النهر فقل له: أشربُ ما بين ¬

_ (¬1) انظر "الدر المنثور" 5/ 161. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 21/ 67 - 68 عن خالد الربعي. وانظر "عرائس المجالس" ص 352.

الضفتين أو المد، فإن قال: ما بين الضفتين فقل له: فاحبس عنِّي المدَّ، وإن قال: اشرب المدَّ فقل: فاحبس عني ما بين الضفتين فإنه لا يقدر على ذلك. وجاء القامر فأجابه بجواب لقمان، فذهب الوجل خائبًا، فأعتقه مولاه، قاله مكحول الشامي والربيع بن أنس. وقد أخرج هذه الحكاية جدي رحمه الله في "كتاب الأذكياء" بإسناده إلى مكحول قال: كان لقمان عبدًا نوبيًا أسود كان قد أعطاه الله الحكمة، وكان الرجل من بني إسرائيل اشتراه بثلاثين مثقالًا ونَش، يعني نصف مثقال، وذكره بمعناه (¬1). والخامس: أنَّ سيده دخل الخلاء فأطال الجلوس فيه، فناداه لقمان: إن طول الجلوس على الخلاء يورث البواسير ويرقي الأبخرة إلى الرأس ويفسد الكبد، فاجلس هوينًا وقم هوينًا. فخرج مولاه وكتب على باب الحُشِّ تلك الكلمات. وقال: هذه حكمة لقمان. قاله أبو روق. والسادس: رواه الضحاك عن ابن عباس قال: وأقام لقمان سنة لا ينطق، فاجتمع إليه أولاد الأنبياء والحكماء وقالوا له: تكلم. فقال: لا خير في الكلام إلا بذكر الله، ولا بالسكوت إلا بالفكر في المعاد. وقال زيد بن أسلم: قيل للقمان: ألستَ عبدًا حبشيًا فمن أين لك هذه الحكمة؟ فقال: لصدق هذا الحديث، وترك ما لا يعنيني. قال: وكان يسلف بأمانة الله ولا يأخذ رهنًا ولا كفيلًا، فكثر ماله ونما حاله. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده إلى عبد الله بن دينار قال: قَدِمَ لقمانُ من سفر، فتلقَّاه مولى له فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات. قال: ملكتُ أمري. قال: فما فعلتْ أمي؟ قال: ماتت. قال: ذهب همي. قال: ما فعلت ابنتي؟ قال: ماتت. قال: سُترت عورتي. قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت، قال: جُدِّدَ فِراشي. قال: ما فعل أخي. قال: مات. قال: انقطع ظهري (¬2). ¬

_ (¬1) "الأذكياء" ص 27 - 28. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 352، وتفسير الثعلي 7/ 317، 318، وتاريخ دمشق 28/ 37 - 38، والزهد لأحمد (558).

فصل في مواعظ القمان لولده واسمه أنعم

ذكر جدي هذا الأثر في كتاب "التبصرة" في آخرها بغير إسناد. وقال عبد الله بن دينار: قال رجل للقمان: ما أقبح وجهك! ! فقال: عبت النقاش أو النقش (¬1)؟ فصل في مواعظ القمان لولده واسمه أنعم قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ} [لقمان: 13] الآية. عامة العلماء على الوقف في قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] قال ابن عباس: هي الصخرة التي تحت الأرضين السبع (¬2). {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] أصل التصعير: الميل. قال ابن عباس: لا تنكر على الناس، وإذا أنكروا عليك مِلتَ عنهم. وقيل: لا تتذلل لغير الله {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] أي: خيلاء {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} أي: أقبح {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]، لأن أوله زفير وآخره شهيق. وقال سفيان الثوري: كل شيء يسبِّح لله إلا الحمار فينه ينهق بغير فائدة. وقال وهب: قال لقمان لابنه: يا بني، إن الدنيا بكر عميق وقد هلك فيه عالم كثير، فإن استطعت أن تجعل سفينتك فيه الإيمان بالله وشراعك فيه التوكُّل وزادك التقوى، وإن نجوت فبرحمة الله، وإن هلكت فبذنوبك (¬3)، وإذا سكتَّ فاسكت في تفكُّر، وإذا تكلَّمت فتكلم بحكمة، ولا يكنِ الديكُ أحسن حالًا منك، فإنه لا ينام الليل كلَّه بل يخفق بجناحيه ويصرخ إلى الله بالتسبيح. حدثنا عبد العزيز بن محمود البزاز بإسناده عن ابن المسيب قال: قال لقمان لابنه: يا بنيَّ، لا ينزلنَّ بكَ أمر رضيتَهُ أو كرهتَهُ إلا جعلتَ في ضميركَ أنَّ ذلك خيرٌ لك، قال: يا أبتِ أمَّا هذه فلا أقدر عليها حتى أعلمَ ما قلتَ إنه كَما قلتَ، قال: يا بنيَّ، فإن ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 353. (¬2) انظر "تفسير البغوي" ص 1013. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 353.

الله قد بعث نبيًّا فَهلمَّ بنا نأته فعنده بيانُ ما قلتُ لكَ، فخرجا على حمارَيهما وتزوَّدا ما يصلحهما، ثم سارا أيامًا، فلَقيتهما مفازةٌ فسارا فيها إلى أنْ تعالى النهارُ واشتدَّ الحرُّ ونفدَ الماءُ والزادُ، واستبطآ حمارَيهما فنزلا وجعلا يشدَّان على سُوقهما، فنظر لقمانُ إلى سوادٍ أمامه ودخان فقال في نفسه: الدُّخانُ عمران والسواد شجر، فوطئ ابن لقمان على عظم ناتئ في الطَّريق فدخل في باطن قدَمه وظهر من أعلاه، فخرَّ صريعًا مغشيًّا عليه، فقعد لقمان ووضع رأس ابنه في حجره، واستخرج العظم بأسنانه، وشقَّ عمامته فشدَّ بها رجلهُ، ثم نظر إلى وجه ابنه فذَرفت عيناه وقَطَرت قطرةٌ من دمعه على خدِّ الغلام فانتبه لها، فرأى أباه يبكي فقال: يا أبتِ أنتَ تقولُ هذا خير لي، وكيف يكون كذلك وقد نفد الطعام والشراب- أو الماء- ونحن في هذه المفازَة، وقد دخل هذا العظمُ في قَدَمي، فإنْ أقمنا متنا جميعًا، وإنْ ذهبتَ وتركتَني ذهبتَ بهمٍّ وغمٍّ، فقال لقمانُ: أمَّا بكائي فرقَّةُ الوالد، وودتُ أني أفديكَ بجميع مالي من الدنيا، وأمَّا قولك كيف يكون هذا خيرًا لي فلعلَّ ما صرف عنك أعظم مما بليتَ به. ثم نظر لقمانُ أمامه فلم يرَ الدخانَ ولا السوادَ، وإذا شخصٌ قد أقبل على فرس أَبْلَقَ عليه ثيابٌ بيضٌ وعمامةٌ بيضاءٌ يمسحُ الهواء مسحًا، فلمَّا قَرُبَ منهما توارى عنهما وصاح: أنت لقمان؟ قال: نعم، قال: الحكيم؟ قال: كذا يقال. ثم قال لقمان: يا عبد الله من أنت؟ أسمعُ كلامكَ ولا أرى وجهكَ، قال: أنا جبريل لا يراني إلا مَلك مقرَّب أو نبيٌّ مرسل ولولا ذلك لرأيْتَني، ما قال لك ابنك هذا السفيه؟ قال لقمان في نفسه: إن كنتَ جبريل فأنت أعلم بما قال مني، فقال جبريل: ما لي بشيءٍ من أمركما علمٌ، ولكنَّ ربِّي أمرني أن أخسِفَ بهذه المدينة وما يليها، فأُخبرت أنكما تُريدانها، فدعوتُ الله أن يَحبسكما عنها بما شاءَ، فحبسكما بما ابتليَ به ابنكَ، ولولا ذلك لَخُسف بكما مع من خسف. ثم مسح جبريل على قَدَم الغلام فاستوى جالسًا أو قائمًا، ومسح يده على الإناء الذي فيه الطعام والشراب فامتلأ طعامًا وَشرابًا أو ماءً، ثم ركبا حمارَيهما فإذا هما في الدار التي خرجا منها. وقال ابن عباس: مازال لقمان يعظ ابنه ويقول: يا بُنَيَّ، يا بُنَيَّ، حتى انفطرت مرارته وانصدع قلبه فمات.

ذكر وفاة لقمان عليه السلام

وحكى الخطيب عن محمد بن إسحاق قال: قال لقمان لابنه: يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلًا فأغضبه، فإن أنصفك عند غضبه، وإلا فاحذره. ذكر وفاة لقمان عليه السلام واختلفوا في موضع قبره: فقال الواقدي والسُّدي: بأَيْلَة، وقال قتادة: بالرَّملَةِ ما بين مسجدها وسوقها، وهناك قبر سبعين نبيًا ماتوا بعد لقمان جوعًا في يوم واحد، أخرجهم بنو إسرائيل من القدس فألجؤوهم إلى الرَّمْلَة ثم أحاطوا بهم، فتلك قبورهم هناك. * * *

فصل في ذكر سليمان عليه السلام وما جرى في أيامه من عجائب وقصة سبأ وبلقيس ملكة مأرب

فَصْل في ذكر سُليمَان عَلَيهِ السَّلام وَمَا جَرى في أيَّامهِ مِن عجَائب وَقصَّة سَبَأ وبِلقيس مَلكَة مَأرِب (¬1) قال علماء السِّير: سليمان اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، وقال وهب: اسم سليمان عند الفُرس جم، وكنيته أبو الربيع. وقال مقاتل: ذكر الله سليمان في خمسة عشر موضعًا. قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} الآية [ص: 30]، قال مقاتل: كان لداود تسعة عشر ولدًا لم يكن فيهم مثل سليمان، وكان أعظمَ ملكًا من داود وأفطن منه، وكان داود أشدَّ تعبُّدًا، وعامة العلماء على أنه كان نبيًّا، وقال أهل الكتابين: لم يكن نبيًّا [بل مَلِكًا]، والنبوَّة كانت في أبيه داود. واختلفوا في مبلغ سنِّه بعد وفاة أبيه داود على قولين: أحدهما: اثنتا عشرة سنة، قاله الضحاك. والثاني: ثلاث عشرة سنة، قاله وهب. قال: وكان لداود ولد يقال له: شَالوم، كان أكبر ولده، خرج على أبيه وأراد قتله، فصرف الله عنه المُلك إلى سليمان. وقال ابن عباس: بعثه الله إلى بني إسرائيل وسأل الله أن يؤتيه مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فأجاب الله سؤاله، فكانت تعكف عليه الطير وتقوم في خدمته والإنسُ والجنُّ، وسخَّر الله له الرِّيحَ وغير ذلك. وقال مجاهد: كان أبيض جسيمًا يلبس البياض ويشاوره أبوه في قضاياه. وقال محمد بن كعب القُرظي، وحكاه جدي في "التبصرة" قال: كان عسكره مئة فوسخ، خمسةٌ وعشرون للإنس، ومثلها للجن، ومثلها للطير، ومثلها للوحش قال: وكان له ألف بيت من القوارير، فيها ثلاث مئة امرأة وسبع مئة سُريَّة يحملها الجن على ¬

_ (¬1) في (ب): الباب الخامس والعشرون في ذكر سليمان عليه السلام، وانظر قصته في "تاريخ اليعقوبي" 1/ 57، و"تاريخ الطبري" 1/ 486 وتفسيره 18/ 24 و 20/ 80، و"البدء والتأريخ" 3/ 103، و"عرائس المجالس" ص 294، وتفسير الثعلبي 7/ 193 و 8/ 203، وتفسير الماوردي 4/ 197 و 5/ 91، وتاويخ دمشق 7/ 564 (مخطوط)، و"التبصرة" 1/ 287، و"الكامل" 1/ 229، و"البداية والنهاية" 2/ 18.

الخشب، ثم ترفعها فتنقلها الريح وتسير بها بين السماء والأرض، وكذا بعسكره، تقلّه على البساط (¬1). وروى ابن جبير عن ابن عباس قال: كان يُوضع لسليمان ست مئة كرسي ويجيء أشراف الناس فيجلسون عليها مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الرِّيحَ فتحملهم فتسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر، يركب من تَدْمُر فيَقِيل بإصْطَخْر، وَيروح من إصْطَخْر فيبيتُ بقلعة خُراسان في المباني المعروفة بقلعة سليمان. وقال الحسن: كان يروح من البيت المقدس فيبيت بكَابُل، والطباخون وأرباب الصنائع يعملون أشغالهم على بساطه ولا تتغير عليهم حال. وكان مسير الرياح شهرًا في رَوحته وشهرًا في غَدوته كما قال الله تعالى. وقال وهب: وُجد على حجر مكتوب بالمسند بناحية دجلة: نحن نزلنا في غَدوتنا من فِلسطين إلى إصْطَخْرَ، ومنه نقفل إلى خُراسانَ. وحكى الثعلبي: أَنه كان مكتوبًا على الحجر إنما كتبه بعض الإنس أو الجن ثم نزلناه وما بنيناه ومبنيًا وجَدناه، غَدَونا إصْطَخْر فقلناه. وقال مجاهد: كان سليمان يغدو من دِمشق فيقيل بإصطَخْرَ، ويروح بإصطَخْرَ فيقيل بكابُل، وبين إصطَخْر وكابُل مسيرة شهر. قلت: وهذا وهم، بينهما مسيرة شهرين وثلاثة. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: سار سليمان من الشَّام إلى خُراسان فصلى العصر بمَروَ، ومضى نحو المشرق فخاض بلاد الهِند والسِّند والصِّين في ثلاثة أيام، ثم عاد إلى الشَّام على ظهر الرِّيح. قال: ولما عقر الخيل سخَّر الله له الرّيح. قال وهب: بلغ سليمان أن في البحر ماردًا عاتيًا فأرسل الله إليه، فجيء به إلى بابه، فأخذ المارد عودًا قدر ذراع فرمى به إلى بين يدي سليمان، فقال سليمان: تدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: يقول: لا تغترَّ بملكك واصنع ما شئت، فإنك تصير إلى مثل ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 288.

هذا من الأرض. قال: وكان الله قد أذن للرِّيح مهما سمعت من كلام الإنس والجن تحمله إليه، وهذا شيء لم يُعطَهُ سواه. وروى في "التبصرة" عن سيَّار عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: خرج نبيُّ الله سليمان، والجن والإنس عن يمينه ويساره، فأمر الريحَ فحملتهم حتى سمعوا زَجَلَ الملائكة في السماوات بالتقديس، ثم أمرها فخفضتهم حتى مسَّتْ أقدامهم البحر، فسمعوا صوتًا من السماء يقول: لو كان في قلب صاحبكم- من الكبر مثقال ذرَّةٍ لخسفتُ به أبعدَ مما رفعته (¬1). وقال الحسن: كان يحرسه ست مئة ألف، ويوضع له أربعة آلاف كرسي يجلس عليها الأشراف، وملكَ الأرضَ كما ملكها ذو القرنَين، وهو أحد المؤمنين اللذَين ملكاها، وقد ذكرناه. وقال في "التبصرة": كان يطعم كلَّ يوم مئة ألف فإن أقل أطعم ستين ألفًا، وكان يذبح كل يوم مئة ألف شاة وثلاثين ألف بقرة، ويطعم الناس النقي الحُوَّارى, ويأكل هو الشعير، ويطعم أهله الخُشكَار (¬2). قال الحسن البصري: كان يحمل القصعة الواحدة ألف رجل ولا يأكل معهم، ويدخل منزله فيأكل الخلَّ والزَّيت بخبز الشعير، فأثنى عليه الله بقوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] أي: رجاَّع. فإن قيل: مع هذا التقلل والزهد يقول: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، أكانت المملكة ضيِّقةً حتى يحجر على من بعده؟ والجواب من وجوه: أحدها: أنه لما قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي} فلما أجاب الله دعاءه بما وهبه من المُلك استدلَّ به على الغفران، فتيقَّن أن الله قد غفر له. والثاني: إنه ئم يكن في مُلك غيره الريح ولا تسخير الشياطين ولا الطير، فسأل الله ذلك ليكمل حاله، قاله مقاتل. ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 288. (¬2) "التبصرة" 1/ 228، الحوارى: الدقيق الأبيض، والخُشكار: الخبز الذي لم يُنْخَل طحينه.

والثالث: أنه أراد [أن] يعلم أنه مستجابُ الدعوة أم لا، فسأل ذلك كما سأل إبراهيم إحياء الموتى وإن كان موقنًا بالإحياء. والرابع: أنه لما مات داود أوحى الله إلى سليمان سلني حاجتك، فقال: أسألك أن تجعل قلبي يخشاك ويحبك كما كان قلب أبي داود، فقال الله لسليمان: أرسلت إليك أسألك حاجتك فكان هذا جوابك؟ لأعطينَّك مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعدك في الدنيا ولا حساب عليك في الآخرة، قاله أبو عبيد القاسم بن سلَّام. والخامس: أنه خُيِّر بين العلم والملك والمال، فاختار العلم فأعطاه الكل. قلت: وهذه جوابات إقناعية، وبعضها لا يطابق السؤال، فإنه قد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40]، إنه آصَفُ، كان يعرف الاسم الأعظم، فقيل له كيف يعرفه آصَف، وهو كاتب سليمان، ولا يعرفه سليمان؟ قال: كان يعرفه، فلما قال: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، أنساه الله إياه. وقال عبد الوهاب ابن النُّوبي في "الأسْولة": إنَّ النَّملة التي وقف عليها سليمان واسمها منذرة قالت له: ماذا سألت ربك؟ قال: مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، فقالت: تفوح من سؤالك رائحة الحسد وما كان يضرُّكَ لو أعطاه الله لغيرك؟ وهل الكل إلا زائل؟ قلت: وقد تكرَّم عليه نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - ولم يزاحمه في هذا المعنى، فقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عِفْريتًا من الجِنِّ تفلَّتَ عليَّ البَارحَةَ ييَقْطَعَ صَلاَتي، فَأَمكَنَني اللهُ منهُ، فأَخَذْتُه وأَردتُ أنْ أَربطه بساريَة من سَوَاري المسجدِ حتَّى تُصبِحُوا وتَنْظُروا إليه كلُّكُم، فَذَكَرتُ دَعوةَ أخي سُليمان {وَهَبْ لِي مُلْكًا} فَرَددتُه خَاسئًا"، أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وقد أخرجه مسلم بمعناه عن أبي الدرداء، وفيه: "لولا دعوةُ أخِينا سُليمان لأصبحَ مُوثقًا تَلعَب به وِلْدَانُ أهلِ المدينةِ" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (7969)، و"البخاري" (416)، و "مسلم" (541). (¬2) صحيح "مسلم" (542).

فصل في عمارته بيت المقدس

قال مقاتل: لما سخَّر الله لسليمان الشياطين وكَّل بهم ملكًا بيده سوط من نار، فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه فأحرقه، فذلك قوله: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} [سبأ: 12]، أي: يميل ويعدل عن طاعته. فصل في عمارته بيت المقدس حدثنا جدي رحمه الله قال: أنبأنا أبو المعمر المبارك بن أحمد الأنصاري بإسناده عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مَكَّةَ بَلد عَظَّمهُ اللهُ وعَظَّمَ حرمَتَه، وحَفَّها بالملائكة قبل أن يَخْلُق شيئًا من الأرض كُلِّها بألف عام، وَوَصَلها بالمدينةِ، ووَصَل المدينةَ ببيتِ المَقْدِس، ثم خَلَق الأرضَ بعدُ بألفِ عامٍ خَلْقًا واحدًا". وقال الوليد بن حماد بإسناده عن أبي عَمرو الشَّيباني قال: قال عليُّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: كانت الأرض ماءً فبعث الله ريحًا فمسحت الأرض مسحًا، فظهرت على الأرض زبدة، فقسمها أربع قطع، خلق من قطعة مكة، ومن الثانية المدينة، ومن الثالثة بيت المقدس، ومن الرابعة الكوفة. ذكر هذا الحديث والأثر جدي رحمه الله في كتاب "فضائل بيت المقدس"، ثم روى عن كَعب الأحبار أنه قال: بنى سليمان بن داود بيت المقدس على أساس قديم كما بنى إبراهيم الكعبة على أساس قديم. ثم قال جدي: وسكن الجبَّارون الأرضَ المقدسة فسلَّطَ الله عَليهم يُوشَع، ثم سلَّط الكفار على البيت المقدس فصيَّروه مزبلة. ثم روى جدي بإسناده إلى ابن المسيب قال: أمر الله تعالى داود أن يبني بَيْت المقدس فقال: يا رب وأين أبنيه؟ قال: حيث ترى الملك شاهرًا سيفه، قال: فرآه في ذلك المكان، فأسَّس داود قواعده ورفع حائطه، فلما ارتفع انهدم، فقال داود: يا رب أمرتني أن أبني لك بيتًا فلما ارتفع هدمته، فقال: يا داود إنما جعلتك خليفتي في أرضي، لِمَ أخذته من صاحبه بغير ثمن؟ إنما يبنيه رجل من ولَدِك. فلمَّا قام سليمان: ساوَم صاحب الأرض عليها، فقال له: هي بقنطار، فقال سليمان قد استوجبته، فقال له صاحب الأرض: هي خير أو ذاك؟ فقال: بل هي خير، قال: فإنه قد بدا لي، قال:

أولَيسَ قد أوجبتها؟ قال: بلى، ولكن البيِّعين بالخيار ما لم يفترقا. قال ابن المبارك: فهذا أصل الخيار. قال: فلم يزل يرادُّه حتى استوجبها منه بِسَبعة قناطير، فبناه سليمان حتى فرغ منه، وتَغلَّقت أبوابه فعالجها سليمان أن يفتحها فلم تنفتح، حتى قال في دعائه: بصلواتِ أبي داود إلا انفتحت الأبواب، فتفتحت، ففرَّغ له سليمان عشرةَ آلافٍ من قُرَّاء بني إسرائيل، خمسة آلاف بالليل وخمسة آلاف بالنهار، لا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا والله عز وجل يُعبد فيه. قال جَدي رحمه الله عن الوليد عن أبي عمرو الشيباني: أوحى الله إلى داود إنك لن تتم بناء بيت المقدس، فقال: أي يا رب، ولم؟ قال: لأنك غمستَ يدك في الدماء أو الدم. قال: يا ربِّ، ألم يكن ذلك في طاعتك؟ قال: بلى، وإن كان. وروى جدي أيضًا عن كعب الأحبار قال: لما ولي سليمان أَمَره الله ببناء بيت المقدس، فبناه، فلما دخله خرَّ ساجدًا شكرًا لله تعالى، فقال: يا رب، من دخله من خائف فأمِّنه، أو من داع فأجبه، أو مستغفرًا فأغفر له. فذبح أربعة آلاف بقرة وسبعة آلاف شاة، وصنع طعامًا ودعا بني إسرائيل إليه. وفي رواية: إن الله أوحى إلى داود: ابنِ لي بيتًا، فبنى لنفسه بيتًا قبل ذلك، ثم بناه فسقط (¬1). وروي: أن داود أراد أن يأخذ بيت رجل فيُدخله فيه، قال سعيد بإسناده عن أُبَى بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أَوحَى الله إلى داودَ: أن ابنِ لي بَيتًا أُذكَرُ فيه، فخَطَّ له مِن هذِه الخطة- خطةِ بيت المقدِسِ- فإذا تربيعُها يزويه بيتُ رجلٍ من بني إسرائيلَ، فسأَله داودُ أن يبيعَه إيَّاه فأبى، فحدَّث نفسه داودُ أن يأخذَه منه، فأوحَى الله إليه: يا داودُ، أمرتُك أن تَبنِي لي بَيتًا أُذكَر فيه، فأرَدتَ أن تُدخل في بيتي الغَصب، وإنَ عقوبتَك أن لا تبنيه. قال: يا رب، يبنيه من وَلَدي؟ قال: نعم" (¬2). وسنذكر الحديث في ترجمة العباس في سنة اثنتين وثلاثين. وروىَ جدي أيضًا عن أبي عبد الملك الجَزَري قال: لما خلا من مُلكِ سليمان مدةً ¬

_ (¬1) ما سلف كله في فضائل بيت المقدس المطبوع باسم: فضائل القدس 72 - 76. (¬2) أخرجه ابن سعد في طبقاته 4/ 19.

شرع في بناء بيت المقدس، فكان عدد من يعمل في بنائه ألف رجل عليهم قطع الخشب، في كل شهر عشرة آلاف وكان عِدَّةُ الذين يعملون في الحجارة عشرة آلاف، وعدة الذين يقومون عليهم ثلاث مئة أمين، وأولج فيه التابوت وصلى ودعا، فأوحى الله إليه قد غفرت لمن أتى هذا البيت لا يعنيه إلا الصلاة فيه (¬1). وروى أيضًا عن عطاء الخُراساني قال: لما فرغ سليمان من بنائه أنبت الله له شجرتين عند باب الرحمة، إحداهما تنبت الذهب والأخرى تنبت الفضة، فكان في كل يوم ينزع من كل واحدة مئتي رطل ذهبًا وفضة، ففرش المسجد بلاطة من ذهب وبلاطة من فضة. فلما جاء بُخْتُ نَصَّر خربه، واحتمل منه ثمانين (¬2) عجلة ذهبًا وفضة فطرحه برُومِيَةَ. قال جدي رحمه الله (¬3): بناه سليمان لأربع سنين خَلَت من مُلكه في سبع سنين، ومن هبوط آدم عليه السلام إلى ابتداء سليمان ببناء بيت المقدس أربعة آلاف وأربع مئة وست وسبعون سنة (¬4). وفي غير رواية جدي: ومن خروج موسى ببني إسرائيل من مصر إلى بناء بيت المقدس ست مئة وست وثلاثون سنة. وروى أيضًا جدي عن وهب بن منبه عن كعب قال: أوحى الله إلى سليمان: أن ابنِ بيتَ المقدس، فجمع حكماءَ الإنس وعفاريت الجن وعظماء الشياطين، ثم فرق الشياطين فجعل منهم فريقًا يبنون، وفريقًا يُقَطِّعون الصخور والعُمُدَ من معادن الرخام، وفريقًا يغوصون في البحر يستخرجون منه الدُّرَّ والمرجان، الدُّرة مثل بيضة النَّعام والدجاجة، وأخذ في بناء المسجد فلم يثبت البناء، وكان عليه حَيْر بناه داود عليه السلام، فأمر بهدمه، ثم حفر الأرض حتى بلغ الماء، فقال: أسِّسوا عليه، فألقوا فيه الحجارة، فكان الماء يلفظها، فاستشار في ذلك فأشاروا عليه أن يتخذ قِلالًا من ¬

_ (¬1) "فضائل القدس" ص 77. (¬2) في (ب): "ثلاثين"، والمثبت موافق لما في "فضائل القدس" ص 78. (¬3) في (ب): قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله. (¬4) "فضائل القدس" ص 78.

نحاس ثم يَملأَها حجارة، ثم يكتب عليها ما على خاتمه من [ذِكْرِ] التوحيد، ثم يلقيها في الماء فيكون أساس البناء عليها ففعل فثبت، فبنى المسجد بناء لا يوسف وزّيَنه بالذهب والفضة والدر والياقوت وألوان الجواهر في سمائه وأرضه وأبوابه وجدره (¬1). وروى جدي أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص في تفسير قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] قال: هو سور بيت المقدس الشَّرقي (¬2). هذه صورة ما ذكره جَدي رحمه الله من عِمَارة بيت المَقْدس وبداية أمره. قلت: وقد روى أبو ذرٍّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بَينَه وبَينَ الكَعبةِ أربَعونَ سَنةً" (¬3)، وقد ذكرناه، ودَثَر فجدّده الضحاك وعمل فيه العجائب، فلما خرج موسى من مصر وقصد الجبّارين أخربوه قبل أن ينزل بهم يُوشَع بن نون، ثم شرع في بنائه داود وتَمَّمَهُ سليمان. وقد رويت هذه الألفاظ مرفوعةً وهي قوله لدَاوُد: إنَك غمست يدك في الدم وبنيت لك بيتًا قبل أن تبني لي بيتًا. فقال جدي في "الموضوعات": أنبأنا أبو منصور بن خَيْرُون، عن الجوهري، عن الدارقطني، عن أبي حاتم البُستي، عن قتيبة، عن محمد بن أيوب بإسناده عن رافع بن عُمير (¬4) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قالَ الله لداود: ابنِ لي بيتًا في الأرض، فبنى داود لنفسه بيتًا قبل المبيت الذي أمره الله به، فأوحى الله إليه: يا داود بنيتَ بيتك قبل بيتي، فقال: يا رب هكذا قلت فيما قضيت مَنْ مَلَك استأثر، ثم أخذ في بناء المسجد فسقط، فشكا إلى الله تعالى فقال الله: لن تصلح أن تبني في بيتًا. قال: ولم؟ قال: لِمَا جري على يديك من الدماء قال: يا رب أوَلم يكن ذاك في هواك ومحبتك، قال: بلي ولكنهم عبادي وإمائي أرحمهم، فشق ذلك على داود، فأوحى الله إليه: لا ¬

_ (¬1) "فضائل القدس" ص 79، والحير: الحظيرة أو البستان، أو المكان المنبسط المطمئن المرتفع الجوانب. (¬2) "فضائل القدس" ص 80، ومن هنا إلى: فيما كان بالبيت المقدس من العجائب، ليس في (ب). (¬3) أخرجه البخاري (3366)، ومسلم (520). (¬4) في (ط): عن نافع عن ابن عمر، والمثبت من الموضوعات (410).

تحزن، فإني سأقضي ببنائه على يدي ابنك سليمان". ثم قال جدي رحمه الله: هذا حديث موضوع، مُحالٌ يتنزّه الأنبياء عن مثله، ويقبح أن يقال: أبيح له قتل قوم، أو أُمر بذلك، ثم أبعد به عن الرضا عنه. قال ابنُ حبّان: محمد بن أيوب يروي الموضوعات، لا يحلُّ الاحتجاج به، وإنما يروى مثل هذا عن أبي عمرو الشيباني. وقوله أيضًا: يا داود إنَّك أخذته بغير ثمن. لا يجوز مثله على آحاد الناس، فكيف على الأنبياء لأنه يكون غصبًا، وهو محال في حقهم. وقد روى الحسن البصري في مراسيله: أن داود لما شرع في بناء البيت المقدس جاء رجل صالح في زي فقير ليختبرهم فقال: إنَّ لي في هذه البقعة حصةً، وأنتم قد عزمتم على بنائها لله مسجدًا، ولا أرضى أنْ تأخذوا أرضي بغير ثمن، فقال داود: أرضوه، قالوا: نعطيه مئة شاة فأبى، فقالوا: مئة بقرة، فأبى، فقالوا: مئة ناقة، فأبى، فلم يزالوا كذلك حتى ملؤوا أرضه ذهبًا وفضة فقال: لا حاجة في فيها، وإنما أردت أختبركم في طاعة ربكم. ثم مات داود ولم يتمه فأتمه سليمان. وروى جدي بإسناده إلى كعب في "فضائل بيت المقدس": عن رجاء بن حَيْوة عن أبيه قال: قَدِم كعب إِيلياءَ فرشا من بعض أحبار اليهود (¬1) بضعةَ عشر دينارًا على أن دلَّه على الصخرة التي قام عليها سليمان حين فرغ من بناء المسجد، وهي مما يلي ناحية باب الأسباط، قام سليمان عليها ودعا بثلاث دعَواتٍ، فأراه الله تعجيل الإجابة في دعوتين، وأرجو أن يستجيب الله له في الآخرة. قال: اللهم هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي فأعطاه الله ذلك، ثم قال: ربّ هب لي حكمًا يوافق حكمك، فأعطاه الله ذلك، ثم قال: اللهم لا يأت هذا المسجد أحدٌ يريدُ الصلاةَ فيه إلا أخرجته من خطيئته كيوم ولدته أمه. قلت: وقد أخرج أحمد في "المسند" حديثًا فيه طرف يتعلق بهذا فقال: حدثنا ¬

_ (¬1) كذا في (ط)، وفي فضائل القدس 143: فرشى من أحبار يهود، وفي تاريخ دمشق 68/ 352 (مجمع اللغة): فرشا- يعني- حبرًا من أحبار اليهود.

معاوية بن عمرو بإسناده عن عبد الله الدَّيْلَمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو في حائطٍ له بالطَّائفِ يقال له: الوَهْطُ، وهو مُخاصِرٌ فتًى من قريش يُزَنُّ بشُربِ الخَمر، فقلت له: بلغني عنك حديثٌ: أنَّه مَن شَرِبَ الخَمرَ لم يَقْبَل اللهُ لَهُ تَوْبَةً أَربَعين صَبَاحًا، وأنَّ الشَّقي مَن شَقِيَ في بَطْن أُمِّهِ، وأنَّ مَنْ أتى بَيْتَ المَقْدِس لا يَنْهزُهُ إلا الصلاةُ فيه خَرَجَ مِن خَطِيئَتِهِ كيومَ وَلَدَته أُمُّه، فلَمَّا سَمِعَ الفتى بذِكرِ الخَمر اجتَذَبَ يَدَهُ مِن يَدهِ ثُمَّ انطلقَ، فقال عبد الله بن عَمرو: سَمِعْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن شَربَ مِنَ الخمر شَربَةً لَمْ يَقْبل الله لَهُ تَوْبة أربعينَ صَباحًا، فإنْ تابَ تابَ الله عليه، فإنْ عَادَ لم تُقبلْ لَه صلا أربَعينَ صَباحًا، فإن تابَ تابَ الله عليه، فإن عَاد- قال: فلا أدري في الثالثة أو الرابعة- قال: فإن عَادَ كانَ حقًا على الله أنْ يَسقيهُ مِنْ الصَّديد المُخْتَلِط يوم القيامةِ" (¬1). قال: وسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الله خَلَق الخَلْقَ- أو خَلْقَهُ- من، أو في، ظُلْمَة، ثم أَلْقى عليهم مِن نُوره يَوْمئذ، فَمَن أصابه مِن نورِه اهتدَى، ومَن أَخطأَه ضَلَّ"، فلذلك أقولُ: جفَّ القلم على علم الله. وسَمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ سُلَيمان بنَ دَاوُد سأل الله ثلاثًا فأَعطَاه اثنَتيَنِ، ونحن نَزجو أن تكونَ لنا (¬2) الثالثة، مسألة حُكْمًا يصادف حُكْمه فأعطاه إياه، وسأله مُلْكًا لا ينبغي لأحدٍ مِن بَعده فأَعطَاه إيَّاه، وسأله أيُّما رَجُل خرج من بيتِه لا يريدُ إلا الصَّلاةَ في هذا المسجدِ خَرَجَ مِن خَطِيئَتِهِ كيومَ وَلَدَتْه أُمّه، فنَحنُ نرجُو أن يكونَ اللهُ قد أعطَاهُ إيَاهُ" (¬3). وقال مقاتل: كانت الشَّياطين تأتيه باليواقيتِ من البحار فيحتاج إلى ثَقْبها، ولم يكن لهم خبرة بها، فسأل الشياطين عن ذلك فقالت: ما يعرف هذا إلا صخرٌ الجني، وإنَّه في جزيرة من جزائر البحر المظلم، ولا طاعة عليه لأحد. فطبع بخاتمه وبعثه مع العفاريت فجاؤوا به، فسأله سليمان عليه السلام عن ثقب اللؤلؤ فقال: لا يثقبها إلا ¬

_ (¬1) في "المسند": من ردغة الخبال يوم القيامة. (¬2) في "المسند": له. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (6644)، وقوله يزن: يتهم.

فصل يتعلق ببيت المقدس

حجر السامور، ولا أعرف معدنه ولا أعرف في الطيور أشدَّ من العُقَاب، فاجعل فراخَهُ في صندوق من حجارة، ثم اترك العُقَاب معهم ليلة، ثم أخرجه واترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بالسامور، ففعل، فجاء العُقَاب بالسامور فتْقب به الصندوق، فأخذه فثقبوا به اللآلئ، فهو إلى اليوم على ذلك. فصل يتعلق ببيت المقدس ذكر جدي رحمه الله في "فضائل بيت المقدس" عن قتادة أنَّه في قوله تعالى: {الزَيتونَ}: أنه جبل عليه بيت المقدس (¬1). وقد جاء في الحديث: أن الوادي الشرقي من القدس وادي جهنم. أنبأنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد المقدسي قال: حدثنا أبو السَّعَادات نصر الله بن عبد الرحمن القزَّاز بإسناده عن عثمان الرسلي عن أبي قال: قام عُبادة بن الصَّامِت (¬2) على سور بَيْت المقدس الشرقي فبكى، فقال له بعض الحاضرين: ما يُبكيك؟ قال: من هاهنا أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى جهنم. فصل فيما كان بالبيت المقدس من العجائب أنبأنا جدي رحمه الله قال: حدثنا المبارك بن أحمد بإسناده عن أبي مالك بن ثعلبة ابن أبي مالك القُرَظي قال: سمعتُ إبراهيم بن طَلحة بن عبيد الله يُحدِّث عن أبيه عن جدِّه يرفعه قال: "إنَّ ذا القَرنينِ كانَ مِن حِميَر، وإنَّه قَصَدَ البيتَ المقدسَ فَرَأى فيه مِنَ العَجَائبِ التي صَنَعها الضحَّاكُ بنُ قيسٍ في الزَّمانِ الأول". إحدى تلك العجائبِ: أنَّه صَنَع نارًا عظيمةَ اللَّهب، فمن لم يُطِع تلك الليلة أحرقته. ¬

_ (¬1) "فضانل القدس" ص 70. (¬2) كذا جاء الإسناد في (ط)، وفي (ب): وقال أبو سودة، وأخرجه ابن حبان (7464)، وأبو نعيم في الحلية 6/ 129، والثعلبي في تفسيره 9/ 238، والحاكم في المستدرك 4/ 604، وابن عساكر في تاريخ دمشق 21/ 194 - 195، وابن الجوزي في فضائل بيت المقدس 120 - 121 (المطبوع باسم فضائل القدس) من طريق أبي نصر التمار، عن سعيد بن عبد العزيز، عن زياد بن أبي سودة: أن عبادة بن الصامت ... قال البوصيري في إتحاف الخيرة (7825): منقطع، زياد لم يسمع من عبادة.

فصل في فطنة سليمان

والثانية: من رمى بيت المقدس بنشابة رجعت النشابةُ عليه. والثالثة: وضع كلبًا من خشب على باب البلد، فمن كان عنده شيء من السِّحْر واجتاز بالكلب نبح عليه، فإذا نبح عليه نسي ما عنده من السحر. والرابعة: وضع بابًا، فمن دخله وكان ظالمًا ضغطه ذلك الباب حتى يعترف بظلمه. والخامسة: وضع عصًا في محراب بيت المقدس، فلا يقدر أن يمسَّها إلا مَنْ كان من ولد الأنبياء، فإن كان من غيرهم أخرَقَتْ يَدَهُ. والسادسة: أنهم كانوا يَحبِسون أولاد الملوك في المحراب، فمن كان من أهل المملكة فإذا أصبح أصابوا يده مطليَّة بالذُهن (¬1)، وذكر حديث السلسلة التي كانت لسليمان وسنذكرها. قال ابن سيرين: صنع سليمان قبة في المسجد وطلاها بالخُضْرة، وصقل حائطها، فكان إذا دخلها الرجل الصالح استبان خياله في الحائط أبيض، وإذا دخلها الفاسق استبان ظله أسود. فصل في فِطْنَة سليمان حدثنا غير واحد عن أبي البَركَات الحافظ المعروف بابن الأنماطي بإسناده عن محمد بن كَعب القُرَظى قال: جاء رجل إلى سليمان فقال: يا نبيَّ الله، إنَّ جيراني يسرقون إوَزِّي، فنادى: الصلاة جامعة، ثم خطبهم وقال في خطبته: وأحدكم يسرقُ إوزَّ أخيه ثم يدخلُ المسجدَ والريشُ على رأسه، فمسحَ رجل منهم يده على رأسه، فقال سليمان: خذوه، فإنَّه صاحبكم (¬2). وقال أبو نعيم الأصفهاني: حدثنا سليمان بن أحمد بإسناده عن مَكْحُول عن أبي هريرة قال: بينما سليمان بن داودَ عليه السلام في موكبه إذ مرَّ بامرأة تصيح بابنها: يا لا دين، فوقف سليمان فقال: إن دين الله الظاهر، وأرسل إلى المرأة فسألها عن ذلك ¬

_ (¬1) "فضائل القدس" ص 81 - 82. (¬2) أخرجه الدينوري في المجالسة (3106)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 22/ 280، وهو في الأذكياء لابن الجوزي 27.

فصل في تعليمه منطق الطير

فقالت: إنَّ زوجها سافر ومعه شريكٌ له ثم قدم، فزعم أن زوجها مات، وأَوصى إلى شريك له إنْ ولد له غلام يسمِّيه: لا دين، فسأل سليمان عن الشريك وطلبه، فحضر بين يديه وقال له: ما هذا؟ وهدده فاعترف بأنه قتل أبا الغلام، فقتله سليمان (¬1). فصل في تعليمه منطق الطَّير روى أبو صالح عن ابن عباس في قوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16] كما نفهم لغة بني آدم. وقال مقاتل: كان سليمان جالسًا فمرَّ به طائر يرفرف ويصيح، فقال سليمان لجلسائه: هل تدرون ما يقول هذا الطائر؟ قالوا: الله أعلم وأنت يا نبيَّ الله، قال: إنه يقول: السلام عليك أيها الملِكُ المسلَّط على بني إسرائيل، أعطاك الله الكرامة وأظهرك على عدوِّك، إني لمنطلق إلى فراخي وأعودُ إلى خدمتك. قال سليمان: وإنَّه سَيرْجع إلينا. قال: ومضى الطائر ثُمَّ عاد فوقف على سليمان، ثم قال لسليمان: أيها الملك إن أَذنتَ في أن أكتسب لفراخي حتى يشبُّوا ثم آتيك فافعل بي ما شئتَ، فأخبرهم سليمان بما قال وأَذِنَ لهُ. وقال فرقد السبخي: مرَّ سليمان على بلبل وهو على شجرة يحرك رأسه ويترنم ويميل ذنبه فقال: هل تدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: أكلت اليوم تمرة فعلى الدنيا العفاء. وقد ذكر الثعلبي "في تفسيره" العَجَائبَ من هذا الجنس، والله أعلم (¬2). فصل في ممرّه على وادي النمل وغيره قال الله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]. قال مقاتل: {يُوزَعُونَ} أي: يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا. قال مجاهد: كان قد جعل الله على كل صنف منهم وَزَعةً يحبسون أُولاهم على ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (301)، وأبو نعيم في الحلية 8/ 276، وهو في الأذكياء 26 - 27. (¬2) "تفسير الثعلبي 7/ 193 فما بعدها، وانظر "عرائس المجالس" ص 296 - 297.

أخراهم حتى يقف كلُّ صنف منهم عند حدِّه ولا يتقدم في السَّيْر كما يفعل الملوك. وأصل الوَزْعِ: الكفُّ والمَنْعُ. وقال وهب: مرَّ سليمان على وادي النَّمل، واختلفوا فيه، قال قوم: هو بالطَّائِف، وقال قوم آخرون: بالمغرب، وقيل: بالساحل، وقيل: بالمشرق. فخرجت نَملة عرجاء اسمها منذرة، فجعلت تمشي وتتكَاوَس (¬1)، فلما رأتِ البساط وما عليه من الجيوش ذُهلت ونادت، فقالت: {يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] الآية، فألقت الريحُ قولها في سمع سليمان {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19] ووقف ببساطه. قال الضَّحَّاك: اسمها طاخية، وقال مقاتل: حرمى. ثم أحضرها بين يديه وقال لها: حذَّرتِ إخوانكِ ظلمنا والأنبياءُ لا يظلمون، قالت: معاذ الله. قال: فكيف قلت: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] فأجابت بجوابين: أحدهما: قالت: أما سمعتَ قولي: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]. والثاني: أنها قالت: ما أردت حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب، خفت أن يتمنَّين ما أُعطيتَ فيَشتغِلْنَ عن ذكر الله {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} (¬2). قال جدي رحمه الله: إنَّما تبسم ضاحكًا من فصاحتها، لأنها جمعتْ في الآية الفصاحة كلَّها وذلك لأن قولها: {يا}: نادت، {أيها}: نبَّهت، {النمل}: عيَّنتْ، {ادخلوا}: أمرت، {مساكنكم}: نضَّت، {لا يَحطِمَنكم}: حذَّرت، {سليمان}: خصَّت، {وجنوده}: عَمَّت، {وهم لا يشعرون}: عَذَرتْ (¬3). قال مقاتل: قال لها سليمان: عِظيني، فقالت: لمَ سُمِّي أبوك داود وأنت سليمان؟ قال: لا أدري. قالت: لأنه داوى جرحه بمراهم التوبة فوداه ربه، وأنت سليم، آن لك أن تلحق بأبيك (¬4). ¬

_ (¬1) الكوس: المشي على رجل واحدة، ومن ذوات الأربع على ثلاث قوائم. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 298 - 299، وتفسير الثعلبي 7/ 194 وما بعدها وعنه وعن زاد المسير ينقل تفسير الآيات. (¬3) "زاد المسير" 6/ 162. (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 299.

وقد ذكرنا أنها قالت له: إني لأجد رائحة الحسد من قولك: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]. قال وهب: كانت النملة بقدر الذئب (¬1). وفي حديث ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن قَتْلِ الهدهُد والصُّرَد والنَّخلَة والنّملَة (¬2). قال وهب: احتاج سليمان إلى حِنطَةٍ فبعث إلى وادي النَّمل فاقترض منهم، فقالت النملة: إلى غداةِ غدٍ، فلما أصبحوا إذا الوادي بأسره حِنطة، فلما أخصبت الأرض بعث إليهم سليمان أضعاف ذلك، فأخذوا مثلما أقرضوا وردُّوا الباقي، فأرسل إليهم سليمان يَعتِبهُم على ذلك، فقالت النَّملة: إنَّا معاشر النَّمل لا نأكل الربا. وحدثنا عبد الله بن أبي المَجْد الحربي وجدي رحمة الله عليهما قالا: حدثنا هبة الله ابن الحسين بإسناده عن أبي الصديق النَّاجي قال: خرج سليمان يَسْتَسقي، فمرَّ بنَمْلَة وقد استلقت ورفعت قَوائمَها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنَّا خلقٌ من خَلْقِكَ ليس لنا غنًى عن سؤالك، فإمّا أن تَسقِيَنَا وإمَّا أنْ تُهلِكَنَا، فقال سليمان: ارجعوا فقد سُقيتم بدعوة غيركم، قال: فَسُقُوا (¬3). وقال عبد الله بن أحمد بإسناده عن وهب بن منبه قال: ركب سليمان يومًا على الريح فمرَّ بحرَّاثٍ فنظر إليه فقال: لقد أوتي ابن داودَ ملكًا عَظِيمًا، فحملت الرّيح كلامه فأَلْقَتْه في أذن سليمان، فنزل من البساط ووقف على الحرَّاث فقالْ قد سمعتُ ما قلتَ وإنَّما مشيتُ إليك لئلا تتمنَّى ما لا تقدر عليه، لتَسبيحةٌ واحدة يقبلها الله خيرٌ مما أُوتي آل داود، فقال الحرَّاث: أَذهبَ الله همَّكَ كما أذهبتَ همّي (¬4). وفي رواية: أنَّ الحرَّاث لمَّا قال ذلك ناداه مَلَكٌ مِنَ السماء: لَتَسبيحةٌ واحدةٌ خيرٌ ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 299. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (3066) مرفوعًا. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (30101) و (35414) (طبعة عوامة)، وأحمد في الزهد 110، وابن أبي حاتم في تفسيره (16203)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 101، وابن عساكر في تاريخ دمشق 22/ 286. (¬4) "الزهد" ص 51، و"عرائس المجالس" ص 295 - 296.

فصل في عرض الخيل على سليمان

مما أوتي ابن داود، قال: ولمَ؟ قال: لأن التَّسبيحَة تبقى ومُلْك ابن داود يَفنى. وفي رواية: أنَّ الحرَّاث لما رأى البساط قال: لو أن ابن داود عندي كلَمته بثلاث كلماتٍ، فأوحى الله إليه انزل إليه، فنزل سليمان وقال: ما الكلمات؟ قال: أما الأولى، فإني قلتُ: والله ما سليمان في لذةٍ التذَّ بها أمسِ وأنا في تعبٍ تعبته أمس إلا سواءً، فلا هو واجد لَذَّة أمس ولا أنا وجدْتُ تعبَ أمس. والثانية: قلتُ: سليمان يموت وأنا أموت. والثالثة: قلتُ: سليمان سأل وأُعْطيَ وأنا لا أسأل (¬1)، فخرَّ سُلَيْمان يبكي ويقول: إلهي لولا أنك جَواد لا تبخل لسألتك أنْ تَنْزعَ عنِّي ما أعطيتَني. قال كعب: مرَّ سليمان في طريقه إلى اليَمَن على يَثْرِب فقال: هذه مُهاجَرُ نبيٍّ يُبعثُ في آخر الزمان، فطوبى لمن رآه وآمن به. قال: ثم مرَّ على البيت فرأى حوله أصنامًا تُعبدُ من دون الله فجاوزهُ لم ينزل عنده، فبكى البيتُ، فأوحى الله إلى البيت: سأملؤك وجوهًا سجدًا، وأُنزل فيك قرآنًا، وأبعثُ منك نبيًا في آخر الزمان هو أحبُّ أنبيائي إليَّ، وأُسْكِنُ حَولك عُمَارًا من أمَّته يعبدونني ويمجِّدونني ويطهِّرونك من الأصنام، وأفترضُ زيارتك عليهم، يَزِفُّون إليك زَفيف النسور إلى أوكارها، ويحنُّون إليك حنينَ النوق إلى أولادها، وسيعود إليك سليمانُ ويَقضي واجبَ حقِّكَ. فلمَّا عاد نزل به وكسر الأصنام وطاف به وذبح الذبائح وقضى نُسُكَه (¬2). فصل في عرض الخيل على سليمان وهل عقرها قبل وقوع المحنة أو بعدها؟ فيه قولان. قال الله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] العشيّ: ما بعد الزَّوال، لأن النهار قسمان غداة وعشي، فالغداة من طُلُوع الفجر إلى وقت الزَّوال، والعشيُّ ما بعد الزَّوال إلى غروب الشمس. ¬

_ (¬1) في (ب): "سليمان يسأل غدًا وأنا لا أسأل". (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 298.

والصافنات: الخيل التي تقوم على ثلاث قوائم وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل. قاله مجاهد وابن زيد، واختاره الزَّجاج واحتجَّ يقول الشاعر: أَلِفَ الصفُونَ فَمَا يَزَالُ كأنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ عَلى الثَّلاثِ كَسِيْرا (¬1) قال الفرَّاء: إنَّها القائمة، سواء أكانت على ثلاث قوائم أو على أربع، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحبَّ أنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صفونًا فليتبوَّأ مقعدَهُ مِنَ النَّار" (¬2). وأما الجياد: فهي السِّراعُ في الجَري. وفي سبب عرضها عليه أقوال: أحدها: أنه أراد جهاد عدوٍّ له، قاله علي عليه السلام. والثاني: أنها أُخرجت له من البحر، قاله الحَسَن ووهب. وقال وهب: قيل لسليمان: إنَّ خيلًا بَلْقَاء لها أَجنحةٌ تطير بها وإنَّها تردُ ماءَ كذا في جزيرة كذا وكذا، فأمر الشياطين بإحضارها فأخذوا سلاسل ولجمًا وجاؤوا إلى العين التي تشرب منها، فسكبوا فيها الخمر، فجاءت فشربت، فوضعوا اللُّجُمَ في رؤوسها والسلاسل في أعناقها وجاؤوا بها إليه فاستعرضها (¬3). والثالث: أنه ورثها عن أبيه فعُرضت عليه، قاله ابن السَّائب. والرابع: أنه غزا أهل دمشق فأصابها منهم، فجلس يعرضها، قاله مقاتل. واختلفوا في عددها على أقوال: ¬

_ (¬1) البيت في معاني القرآن للزجاج 4/ 330، وتفسير الماوردي 5/ 92، وزاد المسير 7/ 127، والتبصرة 1/ 289، وتفسير القرطي 18/ 191، وأساس البلاغة، واللسان، وتاج العروس (صفن) دون نسبة. (¬2) أورده بهذا اللفظ الخطابي في غريب الحديث 1/ 397، والثعلبي في تفسيره 8/ 200، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/ 191، والماوردي في النكت والعيون 5/ 91، وابن الجوزي في زاد المسير 7/ 127، والتبصرة 1/ 289، قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف 142: لم أجده هكذا. وأخرج أحمد في مسنده (16830)، والبخاري في الأدب المفرد (977)، وأبو داود (5229)، والترمذي (2755) من حديث معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سرّه أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار". (¬3) انظر "تاريخ دمشق" 22/ 240.

أحدها: أنها كانت ألف فرسٍ، قاله ابنُ السائب الكلبي. والثاني: أربعين، قاله كعب، وقال: ظلمها بعقرها، فسلبه الله ملكه أربعين يومًا. والثالث: أربعة عشر، قال كعب: فعاقبه الله بزوال ملكه أربعة عشر يومًا. والرابع: كانت عشرين، قاله مقاتل وإبراهيم التيمي. وحكى جدي في "التبصرة" قولين: أحدهما عن وهب: أنها كانت ثلاثة عشر ألفًا. والثاني: عشرين ألفًا. عن سعيد بن [جبير و] مسروق (¬1). والقولان بعيدان. ويحتمل أن الكاتب أراد أن يقول ثلاثة عشر أو عشرين فزاد ألفًا. قال ابن عباس: صلى سليمان الظُّهر وقعد على كرسيِّه وهي تُعرَض عليه حتى فاتته صلاة العصر فاغتمَّ لذلك قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] فعرقبها وقربها إلى الله، قال مقاتل: وبقي منها مئة فرس، فجميع ما في أيدي الناس من الخيل من تلك المئة. قال محمد بن السائب الكلبي: ورد عليه قوم من الأزد أصهاره فقالوا: يا نبيَّ الله إن أرضنا شاسعة فزوّننا زادًا يبلّغنا، فأعطاهم فرسًا من تلك الخيل وقال: إذا نزلتم منزلًا فاحملوا عليه غلامًا واحتطبوا، فإنكم لا تورون نارًا- أو ناركم- حتى يأتيكم بصيد، ففعلوا ذلك، فكان الغلام لا تقع عينه على شيء من الصيد فيفلت، فما زالوا كذلك حتى وصلوا إلى بلادهم فسمَّوه: زاد الراكب، فأصلُ فحولِ العرب من نتاجه (¬2) قال: وكان فحل مالك بن عامر الذي يقال له: أعوج منها، ويقال: إنه كان لعمرو بن نهيك، وفيه يقول لبيد (¬3): مَعاقِلُنَا التي نأوي إليها ... بَناتُ الأَغوَجيَّةِ والسُّيوفُ ومنها: الغَضْبَان فرسٌ كان لهارون الرَّشيد، وسنذكره. قال مقاتل: مازالت الخيل تُعرض عليه حتى فاتته صلاة العصر وكان مَهيبًا، فلم ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 289، وما بين معكوفين منه. (¬2) انظر "أنساب الخيل" ص 13 - 14، والعقد 1/ 157. (¬3) البيت في ديوانه: ص 351.

يتجاسر أحدٌ أنْ يذكِّره، فلما غابت ذَكَر فقال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} أي: الخيل {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] يعني الصلاة. واختلفوا في معنى قوله {ردوها عَلىَّ} على قولين: أحدهما: أنه أشار إلى الخيل، في قولِ عامَّة المفسرين. والثاني: إلى الشمس، كأنه قال: يا ملائكة الله رُدُّوا الشمسَ عليَّ، أي: أمسكوها، وكانت قد غابت. فإن قيل: فقد وقفت الشمس ليُوشَع بن نُون، وكان سليمان أعظمَ منه مُلكًا، فالجواب من وجوه: أحدها: يوشع إنما سأل وقوفَ الشمس ليجاهد في سبيل الله، وسليمان كان مشغولًا بالزينة والنظر إلى الخيل لا لأجل الجهاد، وخاف يُوشَع دخول السبت، أما سليمان فلا. والثاني: أن فتح أَريحا كان معجزة، لأنه شرع فيه وأتمَّه يُوشَع، وموسى أفضل منه، فكان وقوف الشمس من معجزات موسى. والثالث: أنها بعد الغروب لا يمكن عودها لاختلاف الأفلاك، أما وقوفها فممكنٌ لأنها تسير قليلًا قليلًا. وفي المراد (¬1) بالمسح قولان: أحدهما: أنه ضَرَبها بالسيف، رواه أُبيُّ بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). والثاني: أنه كوى سوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله. حكاه الثعلبيُّ (¬3). والعلماء على الأول. فإن قيل: فكيف جاز له ذلك، وعقوبة مَن لم يذنب على وجه التَّشفِّي من فعل ¬

_ (¬1) من قوله: ومنها الغضبان ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) رواه الطبراني في "الأوسط" (6993)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 100: فيه سعيد بن بشير وثقه شعبة وغيره وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات. (¬3) انظر تفسير الثعلبي 8/ 201، و"عرائس المجالس" ص 305.

فصل في قصة الهدهد وبلقيس

الجَبَابِرة لا من فعل الأنبياء؟ فالجواب: أنه نبيٌّ معصوم، فلم يكن يفعل إلا ما أجيز له فعله، وجائز أن يُباحَ له ما يمنع منه في شرعنا، على أنه إذا ذبحها كانت قربانًا، فما وقع منه تفريط، ألا ترى أنَّ الله سخَّر له الرِّيح مكانها، ولو كان ذلك الفعلُ حرامًا لما فعله، لأنَّ الأنبياء لا يفعلون الحرام (¬1). وقد قال علي عليه السلام: كان عقر الخيل بعد الوقوع في المحنة، ولما بلغه قول كعب: إنَّه عقر أربعين فرسًا فَسَلَبَه اللهُ الملك أربعين يومًا فقال: كذبَ كعبٌ، إنَّما كان عقر الخيل بعد المحنة ولا عَرقَبها إلا لمَّا فاتته الصلاةُ، وأنبياء الله لا يَظلمون ولا يأمرون بالظلم. قال ابن عباس: كان عقر الخيل قبل المحنة، وهو الظاهر، لأن المحنة كانت في آخر عمره، لما يذكر. قال: وقد قال أبو حنيفة: يُكره أكل لحوم الخيل لما فيه من تقليل آلة الجهاد، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الخَيْل مَعقُودٌ في نَوَاصِيها الخَيْر والنَّيْلُ إلى يَومِ القيَامَةِ" (¬2). وهذا دَليل على أنَّها مكرمة وفي الذبح إهانتها. وعند الباقين من الفقهاء: لا يكره لأنَّها من المباحات كالإبل والبقر والغنم، والفرق لأبي حنيفة ظاهر لما عرف من مسائل الخلاف. فصل في قصة الهدهد وبلقيس (¬3) قال الله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20]. وقال الجوهري: الهدهد طائر معروف، والهداهد مثله، وهداد حي من اليمن (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 7/ 132. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (14791)، من حديث جابر وأصله في "البخاري" (3643)، و"مسلم" (1872) من حديث ابن عمر بلفظ "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة". (¬3) من قوله: حكاه الثعلبي ... إلى هنا ليس في (ب). (¬4) "الصحاح": (هدد).

قال علماء السِّير: إنما تفقد الهدهد من دون سائر الطيور لوجهين: أحدهما: لأنه كان يدلُّه على الماء، قاله ابن عباس - رضي الله عنه -. والثاني: لأن سليمان كان إذا سافر جلس على كرسيه، وتوضع الكراسي عن يمينه وشماله، وتقوم الجنُّ في خدمته، وتظله الطير، ولكلِّ جنس مقام، وكان موقف الهدهد على رأسه يُظلُّه من الشمس (¬1). قال ابن عباس - صلى الله عليه وسلم -: كان هذا بعد فراغه من بناء البيت المقدس، فإنه عزم على دخول الحجاز واليَمَن، فسار في جنوده على عادته والبساطُ يُقِلُّه، فأتى حرم مَكَّة فنزل به، وأقام أيامًا يطوف بالبيت ويسعى وَيعتمر، ويذبح كلَّ يوم خمسة آلاف ناقة وعشرة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة. وقال مجاهد: قال سليمان لأصحابه: هذا مكان شريف يخرج منه نبيٌّ كريم اسمه محمد، وفي "التوراة": أحمد، يُعْطى النَّصر على مَن ناوَأه، وتبلغُ هيبَتُه مسيرةَ شهر، القريب والبعيد عنده في الحقِّ سواء، لا تأخذه في الله لومةُ لائم، يدين بدين الحنيفية، يخرج بعد ألف عام، ثم كسر الأصنام وقضى نُسُكَه. وقيل: إنَّه قال: وإنَّ اسمه لفي زبر الأنبياء: منيب، ثم دخل إلى اليمن. وكان كثير الغزو لا يَسمع بملك في أطراف الأرض إلا غزاه وأَذلَّه، فسار من مكة يؤمُّ سُهيلًا حتى أتى موضع صَنْعَاء، ولم تكن بُنيَتْ بعد، وإنما أتى مكانها وقت الزوال، وكان قد خرج من مكة وقتَ الفجر، وذلك بمقدار سير شهر للراكب المجدِّ، فرأى أرضًا خضراء فأعجبته، فنزل بها ليتغدّى ويصلي الظُّهر، فطلب الماءَ فلم يجد، فسأل الشياطين فقالوا: لا يَعلمُ مكانَ الماء إلا الهدهد، فطلبه فلم يجده. قال ابن عباس: كان الهدهد يدُلُّه على الماء، وهو يراه من تحت الأرض كما يراه الإنسان في كأسه، ينقر الأرض فيعرف مكان الماء ويستخرجه الشياطين، ولما سمع نافع بن الأزرق هذا من ابن عباس قال: كيف يبصر الماءَ من تحت الأرض ولا يبصر الفخَّ حتى يجيء فيقع فيه فيأخذ بعنقه؟ ! فقال له ابن عباس: وَيحَك إذا جاء القَدَر حال ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 313.

دونَ البصر (¬1). وقال جدي رحمه الله: كان الهدهد ينظر إلى الماء في باطن الأرض كما ينظره في الزجاج، غير أن القدر إذا نصبَ فَخَّ شخصٍ بُدِّل عَذْبُ نظرِهِ بالأُجاج. قال ابن عباس: لما نزل سليمان بأرض صَنْعَاء قال الهدهد: إنَّ سليمان قد اشتغل بنزوله عني، فارتفع نحو السماء فنظر الدنيا يمينًا وشمالًا، فرأى بستان بِلْقيس، فمال إلى الخضرة فنزل به، وإذا بهدهدٍ في البستان، وكان هدهدَ بلْقيس، واسمه: عفير، واسم هدهد سليمان: يعفور. فقال له عفير: من أين أقبلت؟ فقال: من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. قال: ومَن سليمان؛ قال: ملِكُ الإنس والجن والطير والوحش والرِّيح، فَمَن أنتَ؟ فقال: أنا صاحبُ بلْقيس، مَلِكة عظيمة. فقال له يعفور: أقول لك نبي الله ابن نبي الله داود آتاه الله ملكًا عظيمًا، وأنت تقول امرأة، فقال: هي وإن كانت امرأة فإن تحت يدها اثني عشر ألف قائد- أو قَيْل- تحت يد كل قائد مئة ألف مقاتل. كذا ذكر الثعلبي (¬2). وحكى الثعلبي عن ابن عباس أنه قال: كان معها مئة ألف قَيْل مع كل قَيْل مئة ألف، وقد ذكره جدي في "التبصرة" وفيه بعدٌ (¬3). وقال قتادة: كانت تحت يدها اثنا عشر ألف قَيْل، تحت يَد كل قَيْل اثنا عشر ألفًا- والقَيْل بلغة حمير دون الملك- فهل أنك منطلق معي حتى تنظر إلى مُلكها؟ فقال: أخاف أن يتفقدني سليمان وقتَ الصلاة إذا احتاج إلى الماء، فقال عفير: إنَّ صاحبك يسرُّهُ أن يأتيه خبر هذه المرأة، أو الملكة. فانطلقَ به فأراه قصرها ومُلْكها، وما رجع إلى سليمان إلى وقت العصر. قال مقاتل: وأمَّا سليمان فلما تفقَّده ولم يره قال: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] ومعناه ما للهدهد لا أراه، فَطُلِبَ فلم يوجد، وقيل: إنما طلبه ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 313. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 313. (¬3) لم نقف عليه في التبصرة، وذكره في زاد المسير 1045 (طبعة ابن حزم)، وانظر تفسير الثعلبي 7/ 205, 205.

لأنه أخلَّ بالخدمة وترك النوبة في مقامه، وقيل: لأجل الماء، وقد رجح بعضهم أنه إنما تفقده لكونه أخلَّ بالخدمة لا لأنه كان يديه على الماء، قالوا: لأنَّ سليمانَ في عظمته ومملكته أجلُّ من أن يحتاج إلى هدهد يديه على الماء. وليس هذا القول، بشيء لأنَّ عامة العلماء وابن عباس على أنه كان يدلُّه على الماء. والمعنى فيه: أنَّ الله جعله دليلًا على الماء إظهارًا للكمال والقدرة وتعجيزًا لسليمان مع عِظم مملكته، فأحوجه إلى طير حقير يدلُّه على الماء الذي به بقاءُ الأَرواح، ليعلم أنَّ الكمالَ لله، ولئلا يعجب بنفسه. وقوله: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} قيل: معناه بل كان. ثم توعده فقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: لأنتفنَّ ريشه، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: لألقينَّه في الشمس ممعوطًا، قاله زيد بن أسلم. والثالث: لأَجعلنه في قفص، قاله عكرمة. والرابع: لأحبسنَّه مع غير أبناء جنسه، قاله قتادة. والخامس: لأُفرقنَّ بينه وبين أحبابه، قاله الحسن. والسادس: لأمنعنَّه من خدمتي (¬1). ثم قال: {لَأَذْبَحَنَّهُ} جعل الذبح آخر العذاب {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] أي: بحجة واضحة. وقال ابن عباس: كل سلطان في القرآن، فالمراد به الحجة (¬2). قال مقاتل: ولما غضب سليمان على الهدهدِ دعا بعرفاء الطُّيور وهما النسر والعُقاب، وقيل: إنما دعا بالعُقاب، وهو ملك الطير، فقال: عليَّ الساعةَ بالهدهد، فارتفع العُقاب إلى عنان السماء فنظر يمينًا وشمالًا فرأى الأرض كالقصعة، ونظر نحو اليمين وإذا بالهدهد قد أقبل، فانقضَّ عليه العُقاب، فعلم أنه يريده بسوء، فقال له: ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 314، والممعوط: المنتوف الريش. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 314.

بالذي أَقْدَرَكَ عليَّ إلّا ما رحمتني، فقال: وَيحك إنَّ نبيَّ الله قد آلى أنْ يُعَذِّبك عذابًا شديدًا فقال: وما استثنى؟ قال: بلى، قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} وجاء فوقف بين يدي سليمان خاشعًا ذليلًا فتواعده بالعذاب، فقال له: اذكر وقوفك بين يدي الله أذلَّ من وقوفي بين يديك، فانتفض سليمان من خَشية الله تعالى ثم قال له: أين كنت؟ قال: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]. قال ابن عباس. ومعنى {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد} [النمل: 22]، أنه غاب عنه من الظهر إلى العصر، قال مقاتل: ومعنى {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي علمتُ بما لم تعلم مع عظيم سُلْطانك وحقارتي. فإن قيل: فمن أين للهدهد هذا الإقدام على مثل سليمان؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه لما قيل له إنَّ سليمان قد توعَّدك قال: أما قوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ} فتهديد مَلِك، والحلمُ أحسن. وأما قوله: {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} فقول من لم ينظر في العواقب {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} سؤال لازم يقتضي الجواب وهو على {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}. فقيل له: كيف تجاسر الهدهد على هذا؟ فقال: وهو الثاني: إنّ الهدهد كان مُحِقًّا والمحقُّ ما يخاف. والثالث: إنه قول مستقبل والمستقبل لا يلتفت إليه. والرابع: أنه شغله بحديث يحتاج إلى فكرة ورويَّة، وفي تلك المدة يسكن الغضب، ألا ترى إلى قوله: {سَنَنظُرُ}. والخامس: أنه شغله بذكر الزوجة {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 23] فكأنه يقول: إنْ لم تكن بك رغبة في تزويجها فارغب في مالها بطريق الاستيلاء، ومهما حصل لك من القسمين فهو فدائي من القتل. والسادس: اشتغلْ عن قتل عاجز بين يديك بذكر عجزك عن قادر يقتدر عليك. والسابم: أنا مؤمن وقومُها وهي كفار، فاشتغل بقتلهم عن قتلي. {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 24] فاشتغلْ بقتل من يسجد لغير الله عن قتل من يسجد لله. والثامن: أنَّ الأنبياء إنما بُعثوا بالعدل، ومن العدل أن تكون العقوبة على قدر

الذنب، فلم جعلتَ غايةَ الحدود وهو القتل في مقابلة ساعة؟ والتاسع: إن فاتكَ الماء فما فاتك المال والملك. والعاشر: أن لابدَّ للخادم من ساعة يستريح فيها ويتشاغل بمصالح نفسه عن مخدومه. والحادي عشر: أنا وإن غبتُ عنك ساعةً فإنما كنت في خدمتك ومصالحك، وقد أقام القرآن عذري {فَمَكَثَ غَيْرَ بعَيدِ}. والثاني عشر: لمَ قدمتَ العقوبةَ قبل إتيان الحجة {لَأُعَذِّبَنَّهُ} هلَّا قلت: إن لم يأت بحجَّةٍ عذّبته. والثالث عشر: إنما ينبغي أن يُهدَّدَ بالقتل المماثل في المرتبة. والرابع عشر: ليس العجب من تهدُّدِكَ لي مع القدرة، وإنما العجب من مناظرتي وأنا عاجزٌ عن ردِّ القتل. والخامس عشر: إنني قد عَرَّفتكَ حالةً ما فهمها غيري، فإذا قتلتني لم تجد من يدُلُّكَ على مثلها، فيفوتك ما هو أعظم من قتلي. والسادس عشر: إنَّك ادَّعيتَ أن الله قد آتاك ملكًا لم يُؤْتِه أحدًا من قبلك، أفترضى أن تكون قدرتك على قتل طُوَيرٍ حقير أَقبلَ مِن عند مَن أُوتيتْ من كلِّ شيءٍ ولها عرشٌ عظيم؟ والسابع عشر: أنَّ مِن عادة الملوك إذا أرسلوا رسولًا في مهمِّ أحسنوا إليه، أفيحسنُ بك وقد أتيتك بخبر لو اجتمع عليه رسل الدنيا وطيورها لما قدروا على الإتيان بمثله، أنْ تكون جائزتي القتل. والثامن عشر: إنَّك إذا قتلتني على ذنبٍ حقير، نَفَر عنك أربابُ الدولة، فدع قتلي حفظًا لدوام مُلكك. والتاسع عشر: إنني من بعض رعاياك وأنت مسؤولٌ عنِّي فكيف تقتلني، فجزاء سيئة سيئة مثلها. والعشرون: إنك إنما عزَّ عليك غيبتي لفوات الماء، وكم قد فاتني حظِّي منك وما

طالبتك به. والحادي والعشرون مثله: إنك إنما عزَّ عليك غيبتي لفوات الماء وكم قد فاتني حظي منك وما طالبتك، وإنَّ العفوَ أحسنُ مِنَ العقوبة فاين تأثير {فَيَتبِعُونَ أحسَنَهُ} [الزمر: 18]. والثاني والعشرون: هلَّا تذكرتَ ذنبكَ الذي أوجب أَخذَ الخاتم منك، واشتغلت به عن يسير ذَنبي؟ والثالث والعشرون: أنَّك تدَّعي الفِطنة، وأنا قد أتيتك بحجةِ ذكيٍّ {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}. وقوله: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} عامة القُرَّاء على عدم صرف "سَبَأ"، وهو اختيار أبي عبيد والحسن وأبي عمرو وابن كثير، جعلوه اسمًا للقبيلة، وصرفه آخرون جعلوه اسمًا لرجل معروف (¬1). قال أحمد بن حنبل بإسناده عن ابن عباس قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سَبَأ أَرَجلٌ هو أو امرأة أم أرض أم جبل أم واد؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بَلْ رَجُل وَلَد عشرةً، سكن اليَمَنَ منهم ستة، والشامَ أربعة، فأما اليمانيون فَمَذْحِج وكنْدَة والأَزْدُ والأَشْعَرِيُّون وحِميَر وأَنْمَار، وأمَّا الشاميون فلَخْم وجُذَام وعَامِلَة وغسَّان" (¬2). وقال الزبير بن بَكار: هو سَبَأ بن يَشْجُب بن يَغرُب بن قَحْطان، قلت: وهذا يدل على صرفه. {بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] أي: لا شك فيه. قوله: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} واختلفوا في اسمها واسم أبيها: فقال ابن عباس: هي بلْقِيس بنت ذي شرح بن الحارث بن صيفي (¬3) بن سَبَأ بن ¬

_ (¬1) انظر النكت والعيون 4/ 203، وتفسير الثعلبي 7/ 201، وزاد المسير 6/ 164 - 165، والنشر لابن الجزري 2/ 337. (¬2) أحمد في "مسنده" (2898). (¬3) "تاريخ الطبري" 1/ 489 والمصادر السالفة قبل حاشيتين.

يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحطان، ويلقب أبوها بالهدهاد. وقال عكرمة: بِلْقِيس بنت شراحيل بن ذي جَدَن. وقال قتادة: بلْقِيس لقب لها، واسمها: بلقمة بنت ذي شرح، وقيل: بنت الشيصبان، وقيل: اسمها ليلى. وحكى أبو القاسم في "تاريخ دمشق" عن الحسن أنَّ سَبَأ مدينة باليمَن، وبِلْقِيس من حِميَر بنت شرحبيل، قال: وقال الحسن البصري أيضًا: أنَّ ملكة سبا اسمها ليلى. وحكى أبو القاسم أيضًا في "تاريخه" أنَّ ذا القرنين مَلَكَ الأرض كلَّها إلا بلاد بِلْقِيس، وكان هو القرنين إذا أراد أنْ يحارب أهل مدينة لبس ثيابَ المساكين، ودخل المدينة فكشف عورتها قبل أنْ يقاتل أهلها. فأخبرت بلْقيس بذلك، فبعثت مَنْ صوَّر صورته في زيّ المساكين ثُمَّ جعلت تطعم المساكين في كلِّ يوم، فإذا أكلوا اعترضتهم واحدًا واحدًا إلى أنْ جاء ذو القَرنين فعرفته، فقالت: والله لا أفارقك إلا أن تكتب لي كتابَ أمانٍ على مُلكي، وإلا قتلتكَ. فكتبَ لها (¬1). قلت: والعجب مِن أبي القاسم كيف يحكي مثل هذا، وذو القرنين كان في زمان الخليل عليه السلام، وأين زمان الخليل من زمان سليمان، بينهما ألوف سنين. ثم ذكر أبو القاسم أنَّ بلقِيس لم يَطُل عمرها وأنها ملكت سبع سنين، وهذا تناقض ظاهر. وحكى المسعودي من هذا الجنس فقال: إن أبا بلْقِيس خرج يومًا يتصيد فرأى حيتين بيضاء وسوداء، فأمر بقتلهما فانتفضتا، فخرج رجل وامرأة وإذا بالمرأة ابنة الرجل فرآها جميلة، فزوَّجه أبوها إياها، فولدت بلْقيس (¬2). قال أبو القاسم في "تاريخ دمشق": سئل الحسن البصري عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحد أبوي بلقيس كان جنيًّا"، فأنكر ذلك وقال: إن المرأة من الجِنِّ لا تلد من الإنس (¬3)، كأنه ضعَّف الحديث. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ دمشق" 69/ 68. (¬2) "مروج الذهب" 3/ 152. (¬3) "تاريخ دمشق" 69/ 67.

وذكر قتادة: أنَّ أحد أبويها كان جِنِّيًا وأنَ مؤخر قدميها مثل حافر الدَّابة، وكانت تسكن بمَأرِب. وقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره الحسن، ولا يصحُّ، وإنما هو موقوف على أبي هريرة. وقال ابن الكلبي: كان أبوها من عظماء الملوك، وُلد له أربعون مَلِكًا، وكان يملك اليمن كلَّها ويقول: ليس من ملوك الأطراف من يكافيني، فتزوج امرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن، فَوَلَدت له بلقمة، وهي بِلْقِيس، ولم يكن له ولد غيرها. ولما مات أبوها طمعت بِلْقِيس في المُلْك فأطاعها بعض قومها وعصى عليها البعض، وملَّكوا عليهم رجلًا وافترقوا فرقتين كلُّ فريقٍ استولى على طرف من الأرض، فمدَّ ذلك الرجل يده إلى أموال الرَّعية وحرمهم، وكان يفجر بالنِّساء فكرهوه، وأرسلت إليه بِلْقِيس ترغبُ فيه فتزوجها، فلما زُفَّتْ إليه سقته الخمرَ حتى سكر وذبحته، ونصبت رأسه على باب قصرها، فعَظُمتْ في أعين الناس وأطاعوها، وعلموا أنها تزوَّجته حيلة لتريحهم منه، فقالوا: أنتِ أحقُّ بالملك مِن غيرك، فقالت: إنما قتلته حميَّةً على نسائكم وغيرةً عليكم، فدعوا لها (¬1). وقال جدي رحمه الله في "تاريخه" وفي "التبصرة": إنَّ أباها مَلَك سنةً ثم احتُضِر، فاستخلفها وعهد إليها، ودعا أَشرافَ قومه وأخبرهم بذلك، لما عَرَف مِن رأيها وحُسن تدبيرها، فقال له بعضهم: أتدعُ أشرافَ قومك وأفاضِلَهم وتستخلفُ امرأة؟ فذكر لهم حُسن سيرتها وما جَرَّبَهُ من تدبيرها ومعرفتها بسياسة المُلْك، فقالوا: رضينا، وكانت تسكن أرض سَبَأ وهي مَأرِب (¬2). وقال الجوهري: مَأرِب موضع (¬3). وبعضهم يقول: مَأرِب اسم قصر بِلْقِيس، وأنشد لأبي الطَّمَحَان (¬4): ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 315. (¬2) "التبصرة" 1/ 304، ولم نقف على الخبر في "المنتظم". (¬3) "الصحاح": (أرب). (¬4) البيت في كتاب "الحيوان" 6/ 154 للجاحظ، ومروج الذهب 3/ 374.

أَلَم تَرَ مَأرِبًا ما كَان أَحصَنَهُ (¬1) ... وما حَوَالَيْه مِن سُورٍ وبُنْيَانِ وقال المسعودي في "تاريخه": مَأرِب اسم المَلِك الذي كان يملكهم. وهو وهم منه، والأول أصح (¬2). قال وهب: كان يحرسها الرِّجال ويخدمها بنات الأشراف، وكان معها في قصرها ألف امرأة، وكانت تأخذ الجارية وهي صغيرة، فإذا بَلَغت حدَّثتها حديثَ الرجال، فإذا رأتها قد تغيَّر لونها ونكست رأسها علمتْ أنها تريد الرجال فسرَّحتها إلى أهلها، وإنْ رأتها مستمعةً لحديثها غير متغيرة اللون، عرفت أنها لا تريد الرجال فأسكنتها معها وجعلتها من خاصَّتها. قال المصنف رحمه الله: وقول من قال: إن أباها أقام سنة في الملك، بعيدٌ، لأن له سيرةً مذكورة وغزواتٍ، وأقام مدة، ذكره الكلبي. وقال مقاتل: كان لها ثلاث مئة وستون رجلًا من عقلاء الناس تشاورهم في أمرها. قال مجاهد: أقامت في مُلكها سبع سنين، ولم يعلم بها سليمان. قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي: من كل ما يحتاج إليه الملوك من العَدَد والعُدَد وغير ذلك {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] أي: سرير ضخم من الذهب مُرَصَّعٌ بالدُّر والجَوْهر، وله أربع قوائم، الواحدة من الياقوت الأحمر، والثانية من الياقوت الأصفر، والثالثة من زمرد، والرابعة من زبرجد. قال الكلبي: وكان له سبعة أبيات على كل بيت باب مقفل، وقال الحسن وابن عباس: كان طوله ثلاثين ذراعًا وارتفاعه كذلك وعرضه كذلك، وقال مقاتل: كان طوله ثمانين ذراعًا وهو مكلل بالجوهر. قوله: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: يعبدونها، ثم قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} [النمل: 25]. وحكى الثعلبي عن يزيد ومحمد بن إسحاق أن من قوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} إلى قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] من قول الهدهد وكلامه. ¬

_ (¬1) في (ط): أحسنه، والمثبت من المصدرين. (¬2) لم يجزم بهذا القول المسعودي 3/ 373، وإنما ذكره أحد قولين.

قال مقاتل: لما سمع سليمان هذا الكلام استعظمه فقال: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27] يعني بما أخبرت، وإنما قال هذا لأنه استعظم أن يكون في الأرض لغيره سلطان، وخصوصًا امرأة لها مملكة تتسع لما ذكر عنها من الجيوش والعظمة. ثم إنَّ الهدهد دلَّهم على الماء وكانوا قد عَطشوا فحفروا الرَّكايا وشربوا، ثم كتب سليمان كتابًا، واختلفوا في الذي كان فيه: فقال مقاتل: كان فيه: من عبد الله سليمان ابن داود إلى بِلْقِيس بنت الهدهاد والسلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا عليَّ وأتوني مُسلمين، وبه قال مجاهد. وقال الحسن: كتب إليها كتابًا كما أخبر الله عنه {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 30 - 31] لم يزد على هذا. قال ابن جريج: كان سليمان أبْلغ الناس في الكتابة وأقلهم إملاءً، قال: وكذا الأنبياء يكتبون جملًا ولا يطيلون. فإن قيل: فلمَ قدَّم اسمه على اسم ربِّه؟ قلنا: لأن القوم كانوا يعبدون الشمس من دون الله، ولا يعرفون الله، فخاف أنْ يبدو منهم ما لا يليقُ عند قراءة اسم الله، فقدَّم اسمه لهذا المعنى. قال مقاتل: ولما كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه، وقال للهدهد: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} [النمل: 28] أي: يردُّون من الجواب، فأخذ الكتاب وقصد بلقيس وهي بمَأْرِب. قال الجوهوي: مأرب موضع (¬1). وقال مقاتل: هي أرضٌ طيبةُ الهواء، لذيذة الماء، بينها وبين صَنْعاء ثلاثة أيام. فوافاها في قصرها وهي نائمة، وأغلقت الأبواب، وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها، وهذه كانت عادتها، فجاءها الهدهد وهي مستلقية على قفاها فألقى الكتاب في نحرها. ¬

_ (¬1) "الصحاح": (أرب).

قال قتادة: حمله في منقاره وجاء إلى كُوَّةٍ مقابلة الشمس تقع فيها عند طلوعها فتسجد لها، فسدَّ الكوَّة بجناحه، فارتفعت الشمس ولم تعلم، فقامت تنظر، فرمى بالكتاب إليها. وقال مقاتل: حمله في منقاره وجاءها وهي جالسة وحولها الجيوش والأقيال، فرفرف ساعةً وهم ينظرون إليه، فرفعت رأسها، فرمى به في حجرها، والأول أشهر (¬1). ولما رمى به أخذته، وكانت كاتبةً قارئة عربيةً من قوم يَعْرُب، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أنَّ الذي أرسل الكتاب أعظم منها، وفهمت من قرائن الأحوال أنَّ مَنْ جنده الطيرُ لا يُحارَبُ. وقرأت الكتاب، وتأخر الهدهد غير بعيد، فجلست على سريرها، واستدعت الأشراف والأَقْيَال وأهل المشورة، وقالت: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29]. واختلفوا في معنى كرمه على أقوال: أحدها: أنه الحَسَن، كقوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58]. والثاني: شريف، قاله ابن عباس. والثالث: لأن اسم الله كان في الخاتم الذي طبع به، قاله مقاتل. والرابع: لأنه كان مختومًا، قاله مجاهد (¬2). وهو الأصحّ لأن كرم الكتاب ختمه، وقد رواه ابن زيد عن ابن عباس مرفوعًا (¬3)، ولما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك قيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا غير مختوم، فاتخذ الختم (¬4). ثم قالت: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32] {قَاطِعَةً} أي: قاضية وفاصلة أمرًا. {حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي: تحضرون {قَالُوا} مجيبين ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 6/ 167 - 168. (¬2) انظر "زاد المسير" 6/ 168. (¬3) رواه الطبراني في "الأوسط" (3872) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 99: فيه محمد بن مروان السدي الصغير وهو متروك. (¬4) أخرجه "البخاري" (65)، و"مسلم" (2092) (56 - 57)، وأبو داود (4214)، والترمذي (2718).

لها {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} في الحرب {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] فقالت حين عرضوا عليها الحرب: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} أي: أخربوها إذا فتحوها عنوة {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} أي: أهانوا أشرافها لتستقيم لهم الأمور فصدَّق الله قولها، فقال: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] فالأول حكاه عن بلقيس والثاني عن الله تعالى. أنشدنا عبد الوهاب بن علي بن علي الصوفي لغيره (¬1): إنَّ الملُوكَ بَلاءٌ حَيثُما حَلّوا ... فلا يَكُنْ لكَ في أَكْنافهِم ظِلُّ ماذا تُؤمِّلُ مِن قَومٍ إذا غَضِبُوا ... جَاروا عَلَيك وإنْ أَرضَيْتَهم مَلُّوا وإنْ مَدَحتَهُم خَالوك تَخدَعُهُمْ ... واستَثقلُوكَ كَمَا يُستثقَلُ الكَلُّ فاستَغنِ بالله عَن أبوابهم كَرَمًا ... إنَّ الوُقوفَ على أَبوابهِم ذُلُّ ثم قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35] أُصَانع بها عن نفسي وملكي وأختبره، فإن كان نبيًا لم يقبلها ولم يرضها، ولم يُرْضِه إلا إنْ اتّبعنا دينه، وإن كان ملكًا أخذها وانصرف (¬2). واختلفوا في الهدية: فذكر جدي رحمه الله في "التبصرة" قال: بعثتْ له ثلاث لبناتٍ من ذهب في كلِّ لبنةٍ مئةُ رطل، وياقوتة حمراء طولها شبرٌ غير مثقوبة، وثلاثين وصيفة، وثلاثين وصيفًا وألبستهم لباسًا واحدًا، فلا يُعْرَفُ الذكر من الأنثى (¬3). قال ابن عباس والحسن ومجاهد: بعثت إليه بخمس مئة لبنة من ذهب، وخمس مئة لبنة من فضة، في كل لبنة مئة رطل، وخمس مئة وصيف، وخمسمائة وصيفة ألبست الغِلْمان ثيابَ الجواري وجعلت في أعناقهم أطواقَ الذهب، وفي أيديهم أساور الذهب، وفي آذانهم أقراطًا من ذهب، وحملتهم على خمس مئة رَمْكَة، وألبست ¬

_ (¬1) الأبيات في "عرائس المجالس" منسوبة لوالد الجنيد ص 317، وفي تفسير الثعلبي 7/ 206، وشعب الإيمان (9434) لوالد أبي القاسم الحبيبي، وفي العقد 3/ 200 دون نسبة، وفي جمهرة الأمثال 1/ 301 لأبي العتاهية. (¬2) "عرائس المجالس" ص 317. (¬3) "التبصرة" 1/ 305.

الجواري ثياب الغلمان وحملتهن على خمس مئة بِرْذَون، وألبستهن الدِّيباج، وجميع السروج مرصعة بالجواهر واليواقيت، وعمدت إلى حُقٍّ فتركت فيه درةً يتيمة حمراء غير مثقوبة طولها شبرٌ، وخرزة جَزْع (¬1) فيها ثقبٌ معوج لا يكاد يبين، وقالت للجواري: كلِّمْنَهُ بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال، وقالت للغلمان: كلموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلامَ النساء، ودعتْ رجلًا من أشراف قومها يقال له: المنذر بن عمرو، وضمَّت إليه رجالًا من ذوي العقول، وكتبت معه كتابًا فيه: من الملكة بلْقِيس إلى الملك سليمان، أما بعد، فإن كنتَ نبيًّا فميّز بينَ الوصفاء، وأخبرني بما في الحُقِّ قبل فتحه، واثقبِ الدرةَ ثقبًا مستويًا، وأدخل خيطًا في الجزعة، واختم على طرفي الخيط بخاتمك. وقد بعثت لك كذا وكذا. وسبق الهدهد فأخبر سليمان بما جرى وبما بعثت، فأمر الشياطين بأن يضربوا لبنًا من ذهب، ولبنًا من فضة، في كل لبنةٍ ألفُ رَطل، وأمرهم أن يفرشوها من موضعه إلى تسعة فراسخ ميدانًا واحدًا، وقيل: ثمانية أميال، وأنْ يجعلوا حائطًا في الميدان من الجانبين ذهبًا مرصعًا باليواقيت، وأنْ يرفعوه عاليًا مشرفًا، ففعلوا، ثم أتى بدواب مِنَ البحر والبَر مختلفة الألوان لها أجنحة وأعراف ونواصي، فربطها من الجانبين، وألقى علوفها في معالف الذهب والفضة، ثم أقام الجنَّ عن يمين الميدان ويساره، ومن ورائهم الشياطين، ثم قعد على سريره ووضع حوله أربعة آلاف كرسي من ذهب وفضة، وأمر الإنس والجنَّ والوحش والطير أن يقوموا في مراتبهم، فقاموا على فراسخ عن يمينه وشماله. وكانت قالت للرسول: انظر إذا دخلتَ عليه، فإن نظر إليك نظر غضبان فهو مَلِك، فلا يهولنَّكَ نظره، فأنا أعزُّ منه، وإن رأيتَهُ متواضعًا لطيفًا فهو نبيٌّ مرسل. قال وهب: ولما دنا القومُ من الميدان وشاهدوا مُلْك سليمان عليه السلام ونظروا إلى لبن الذهب والحيطان والدوابِّ والجن والشياطين والطير والوحش تقاصرت هِمَمُهم، وكان قد أخلى في الميدان موضع اللبن للذي معهم، وهمُّوا أن يردُّوا ما معهم إليها فخافوا منها. ثم أمر سليمان بإدخالهم عليه فدخلوا، وكلَّما مرُّوا على كُرْدُوس من ¬

_ (¬1) الجَزع: الخرز اليماني فيه سواد وبياض.

الجن والشياطين خافوا، حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم نظرًا حسنًا بوجهٍ طَلْق، ثم ناولوه الكتاب فقرأه وقال: أين الحُقُّ؟ فَأُتي به فحرَّكه، وجاء الوحي فأخبره بما فيه، وقال: فيه دُرَّة يتيمة غير مثقوبة، وجزعة مثقوبة معوجَّة الثقب. فقال الرَّسول: صدقت، وأمر الأرَضَة وقيل الذرَّة فدخلت في الجَزْعة وخرجت من الجانب الآخر، فقالت: اسأل الله أن يجعلَ رزقي الفاكهة. وثقب الدرة بالسامور، وختم على طَرَفَي الخيط بخاتمه، وأمر بإحضار الغِلْمَان والجواري، قال مقاتل: وأمر بإحضار آنية الماء وميَّز بينهم بالوضوء للصلاة فكان الغلام يبدأ من كفه إلى مرفقه، والجارية من مرفقها إلى كفها، وقال جدي في "التبصرة": وهذا قول سعيد بن جبير. قال: وقال قتادة: بدأ الغلمان بغسل ظاهر السواعد قبل بطونها، والجواري على العكس (¬1). قلت: والعجب من حكاية مثل هذا، وقد اتفقوا على أن القوم كانوا يعبدون الشمس، وأخبرهم الله على لسان الهدهد بذلك، فمن أين كانوا يعرفون الوضوء؟ وإنما ميَّز بينهم بالوحي جبريل، جاءه فأخبره بهم كما أخبره بما في الحُقِّ. ثم رد الهدية وقال للرسول: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36] ومعناه أنتم أرباب مفاخرة ومكاثرة بالدنيا، وليس ذلك من حاجتي، لأن الله أكرمني بالنبوَّة والملك. ثم قال للمنذر بن عمرو: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي: لا طاقة {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} أي: من المملكة {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] أي: محتقرون. قال: فلما عادوا بالهدية إليها قالت: والله لقد علمتُ أنه ليس بمَلِك وأنه نَبيٌّ، وأخبرها المنذر بما شاهد، فكتبت إلى سليمان عليه السلام: إني قادمة عليك بملوكِ قومي لأنظر ما تدعو إليه، ثم أمرت بعرشها فَجُعِلَ في بيت، وأقفلتْ عليه، ثم في بيت آخر كذلك إلى سبعة بيوت، ووكلت به حرسًا يحفظونه، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قَيْل، تحت يد كل قَيل ألوف عظيمة. وكان سليمان مهيبًا لا يُبْتَدأ بشيء حتى يكونَ هو الذي يَسألُ، فرأى يومًا رَهَجًا قريبًا منه، فسأل عنه فقالوا: بِلْقيس قد ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 306، والحكاية بطولها في عرائس المجالس 317 - 319.

قدمت، وهي نازلة قريبًا منك قدر فرسخ، فقال سليمان لمن حوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (¬1) [النمل: 38]. فإن قيل: ما مراده بإحضار عرشها قبل مجيئه؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه أراد أخذه لما وصفه له الهدهد، لأنها متى قدمت عليه مُسْلمة حَرُمَ عليه أخذ مالها، قاله مجاهد. قلت: وهذا ليس بشيء لوجهين، أحدهما: لأنه كان زاهدًا في الدنيا نبيًا ورسولًا، وما عرشها بالنسبة إلى مُلكه حتى يحتالَ على أَخْذِ مالها قبل إسلامها؟ والثاني: أن الغنائم كانت مُحَرَّمَةً عليهم، وإنما أبيحت لهذه الأمة. والثاني: أنه أراد أن يختبر عملها، فينظر هل تعرفه أم لا، قاله ابن زيد. والثالث: أراد أن يريها قدرة الله وسلطانه وأنه صاحب معجزات، فتنقاد إليه من غير عنف، قاله مقاتل. وهذان القولان جيدان. {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} والعفريت المارد القويُّ، قال وهب: كان اسم العفريت كودي، وقيل: ذكوان. {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} أي: مجلسك هذا {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] على ما فيه من الجواهر. فقال سليمان: أريد أسرعَ من هذا {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} وهو آصفُ بن برخيا، وكان صدِّيقًا يعرف الاسم الأعظم، وكان يقفُ على رأس سليمان بالسيف {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] ومعناه إذا مددت عينيك إلى أقصى منظرك، فمدَّ سليمان عينيه، ودعا آصف، فكان من دعائه: يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام. فبعث الله ملائكة فَخَدَّت اللأرضَ بالسرير خدًّا حتى صار بين يدي سليمان قبل أن يرجع إليه طرفه (¬2). فإن قيل: فآصفُ من أتباع سليمان يعرف الاسم الأعظم وسليمان لا يعرفه؟ فالجواب من وجوه. أحدها: أنَّ ابن عباس قال: الذي عنده علم من الكتاب هو جبريل عليه السلام. ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 6/ 173. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 321 - 322.

والثاني: أنه مَلكٌ عظيم أيَّد الله به سليمان، قاله عكرمة. فعلى هذين القولين سقط السؤال. والثالث: إنما قصد سليمان أنَّ بعض أتباعه يتولى إحضارَ عرشها، لأن سليمان لا يباشره، وقد كان الاسم الأعظم في خاتمه. والرابع: أراد أن ينوِّهَ باسم آصف ويرفع منزلته، لا أنه عاجز عن ذلك. وقد ذكرنا أن سليمان كان يعرف الاسم الأعظم قبل قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا}. فلما حصل السرير بين يدي سليمان قال: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41] أي: اجعلوا أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، لننظر هل تهتدي إلى عرشها فتعرفه أم تكون من الجاهلين الذين لا يعرفون {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} شبَّهته به ولم تقرَّ ولم تنكر، وهذا دليل على قوة ذهنها وغزارة عقلها، لم تقطع بأنه هو إما لتغيره وإما لبُعد المسافة، وقد خلفته تحت سبعة أقفال. قال الحسين بن الفضل البجلي: شبَّهُوا عليها فشبهت عليهم وأجابتهم على حسب سؤالهم، ولو قالوا لها: هذا عرشك، قالت: نعم. قال سليمان: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} أي: قبل مجيء هذه المرأة {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)} [النمل: 42]، وإنما أراد سليمان عليه السلام أن يختبر عقلها بتنكيره، وأن يريها قدرة الله تعالى وسلطانه، وأنه صاحب معجزات. {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 43] وهي الشمس، منعتها عن عبادة الله. ثم أمر سليمان بعمل الصرح، وهو كل قصر عال، والجمع صروح، وأصله البناء العالي (¬1). قال وهب: قيل لسليمان إنَّ رِجليها رجلا حمار، وعلى ساقها شعر كثير، فاختبر عقلها بعرشها وما أمكنه أن يختبر رجليها، فأمر ببناء الصرح، فبنته الشياطين من الزجاج كأنه الماء بياضًا، وألقوا فيه السمك ودوابَّ البحر، ووضع سليمان سريره في صدره، فلما وصلت إليه {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} واللُّجة: معظم الماء، فنظر سليمان إلى ساقها (¬2)، فإذا هي أحسن الناس ساقًا وقدمًا، ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 322. (¬2) في (ب): إليها.

إلا أنها كانت شَعْراء الساقين، فصرف وجهه عنها وقال: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} أي مملَّس من زجاج وليس ببحر (¬1). فإن قيل: فكيف جاز لسليمان النظر إلى الساقين والوجه، وإنما يباح النظر إلى الوجه لا غير، وكيف جاز أن يحتال بهذه الحيلة، والأنبياءُ معصومون من مثل هذا، وقد يمكنه أن يختبرها بأن يبعث إليها امرأة تنظرها؟ فالجواب: إنَّ النظر إلى ساقها قد كان مباحًا عندهم كالنظر إلى الوجه عندنا، ولا نظنُّ بسليمان أن يفعل ما لا يحلُّ له، وقد كان لسليمان سبع مئة امرأة، ومثل هذا لا يباح لنا. ثم دعاها سليمان إلى الإسلام فأسلمت وقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] وأسلم قومها. ثم عزم على تزويجها فأمر الشياطين، فاتخذوا الحمَّام والنُّورَة وطلوا بها ساقيها فصارا كالفضَّة. قال ابن عباس: وسليمان أَوَّل من صُنعَ له الحمَّام والنُّورَة (¬2)، وقد رواه أبو موسى مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَوَّل مَن دَخَل الحَمَّام وصُنِعَت له النُّورة سُلَيمان" (¬3) إلا أنه حديث ضعيف، ضعَّفه البخاري وغيره، وقال البيهقي: تفرَّد به إسماعيل الأودي، لا يتابع عليه. فلما دخل بها سليمان أحبها حبًا شديدًا وأمر الشياطين فبنوا لها باليَمَن حصونًا لم يُبْنَ في الدنيا مثلها، وهي غُمْدَان وسَلْحِين وبَيْنُون، وأبقاها على مُلكها، وكان يزورها في كلِّ شهر مرة، يقيم عندها سبعًا، يبكر من الشَّام إلى اليَمَن ومن اليَمَن إلى الشَّام (¬4). وقال أبو القاسم في "تاريخ دمشق": وأمهرها بعلبك ويقال: إنه نقلها إلى تَدْمر (¬5)، وسنذكره. وقال محمد بن إسحاق عن وهب عن بعض أهل العلم: لم يتزوجها سليمان، وإنما زوَّجها رجلًا مِنْ قومها يقال له: ذو تُبَّع، ملك هَمَدَان، وأمر زوبعةَ أميرَ الجن أن يقيم ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 322. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 323. (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (464)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7778). (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 323. (¬5) "تاريخ دمشق" 69/ 70.

فصل في قصة قوم سبأ

معها باليَمَن، ويبني ما شاءت من الحصون ففعل (¬1)، والأول أصح، وقد ذكره جدي في "التبصرة": فقال: لما عُمِل له الصرح من الزجاج ورأته وعلمت أنَّ مُلْك سليمان مِن أمر الله تعالى فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44] بما سبق من الكفر، ثم تزوجها سليمان وردَّها إلى مُلكها، وكان يزورها في كلّ شهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام، وبقي مُلْكها إلى أن توفي سليمان عليه السلام فزال بموته (¬2). فصل في قصة قوم سبأ (¬3) قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} والمراد بسبأ القبيلة التي هي من أولاد سبأ. وقال علماء السِّير: كانت بِلْقيس مالكة أمرهم، وكانوا يقتتلون على الماء الذي يجري من الجبال إلى واديهم، فكانت تنهاهم فلا ينتهون، فاعتزلتهم بعيدةً عنهم في قصرٍ لها، فلما كثر الشرُّ بينهم أتوا إليها وقالوا: ترجعين إلى مُلككِ فأَبَتْ، فقالوا: ارجعي وإلا قتلناك، فقالت: إنكم لا تطيعوني فقالوا: بلى، نطيعك. فرجعت إليهم، وكان السيلُ يأتي إلى واديهم من مسيرة خمسة أيام، فبنت ما بين الجبلين مُسَنَّاةً، وحبست الماء خلف السدِّ، وبنت من دونه بركةً عظيمة جعلت فيها اثني عشر مخرجًا على عدد أنهارهم، فإذا جاء المطر اجتمع إليها ماءُ بلاد الشِّحْرِ وأودية اليَمن وسيولها فتقسِّمُهُ بينهم بالسويَّة، حتى أسلمت مع سليمان وكان من أمرها معه ما كان. قال كعب الأحبار: كان السَّد فرسخًا في فرسخ، بناه لُقمان بن عاد الأكبر صاحب النسور. ويحتمل أنَّ لُقمان بناه ودثر فجددته بِلْقيس. وقال مقاتل: كان في البركة ثلاثون ثقبًا. وقال مجاهد: إنما بنوا السد لئلَّا يذهب بأموالهم فيغرقها. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 323. (¬2) "التبصرة" 1/ 307. (¬3) انظر القصة في تفسير الطبري 16/ 244 (هجر)، ومروج الذهب 3/ 365، وتفسير الثعلبي 8/ 82، وتفسير الماوردي 4/ 443، و"التبصرة" 1/ 315، و"زاد المسير" 6/ 442، و"تفسير ابن كثير" 3/ 695، و"الدر المنثور" 5/ 231، و"البداية والنهاية" 3/ 107.

وكانوا يفتحون من أبواب السدِّ ما يريدون، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه طولَ السنة، فأخصبت أرضهم، وكثرت أموالهم وفواكههم، حتى أن كانت المرأة لتمرُّ بين الجنَّتين والمكتلُ على رأسها فيمتلئ من الثمر، وما مسَّت شيئًا بيدها، ولم يكن في بلادهم حيّة ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذباب ولا بُرغوث. قال ابن عباس في تفسير الآية: إنها القدرة والعلامة. ثم فسَّرها فقال: جنَّتان عن يمين واديهم وشماله {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} أي: وقلنا لهم كلوا {وَاشْكُرُوا لَهُ} على ما أنعم عليكم، تمَّ الكلام. ثم ابتدأ فقال: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي: هذه بلدة طيبة الهواء {وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] للخطايا. وقال ابن عباس: كان الرجل الغريب يأتي وفي ثيابه القَمْل، فإذا نظر إلى أرضهم مات القَمْل. وكان الراكب يسير من أول البساتين إلى آخرها فلا تقع عليه شمس. قال: فطَغَوْا وبَغَوْا وكفروا بأنعم الله، وذلك قوله: {فَأَعْرَضُوا} أي: عن الحق، وكان الله قد بعث إليهم ثلاثة عشر نبيًا فكذبوهم، وقالوا: ما نعرف لربكم علينا نعمة. وقال مقاتل: معنى الآية: فأرسلنا إليهم الرسل يدعونهم إلى الله فأعرضوا عنهم {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أن العَرِم: السدُّ بلغة حِمْيَر، فهو اسم للمسنَّاة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه اسم للسَّيل الذي لا يطاق، وأصله من العَرَامة، وهي التمرُّد والعصيان، قاله مجاهد وابن الأعرابي. والثالث: أنه اسم للوادي، قاله مقاتل وقتادة والضحاك، ورواه عطية عن ابن عباس. والرابع: أنه اسم الجرذ الذي نَقَبَ السدَّ. حكاه الزجاج. والقول الأول أشهر، واختاره الفرَّاء وابن قتيبة وعامة المفسرين، وذكره الجوهري فقال: العَرِمُ: المسنَّاةُ (¬1). ¬

_ (¬1) "الصحاح": (عَرَم).

وفي قصَّة إرسال هذا السيل عليهم قولان: أحدهما: أن الله بعث عليهم جُرذًا يسمى: الخُلْد، وهو فأرة عمياء، فثقبه من أسفله، فأغرق جنانهم وأخرب أرضهم. رواه عطية العوفي عن ابن عباس. قال وهب: كانوا يجدون في كهانتهم أنَّ فأرة تخربُ سَدَّهم فلم يتركوا فُرْجةً بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة، فلما آن أوان غرقهم جاءت فأرة حمراء إلى هرة فشاورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، فثقبت السِّكْرَ وهم لا يعلمون. وقال السُّدي: كان للدابة التي ثقبت السدَّ مخاليب من حديد. قال محمد بن إسحاق: كان لقوم سَبَأ كاهن يقال له: عِمْران بن عامر، وقيل: عمرو ابن عامر، فرأى في كهانته أنهم سَيُمَزَّقون كُلَّ مُمَزَّق، فأخبرهم بذلك، قال: مَن كان ذا همٍّ بعيد، وجَمَلٍ شديد، ومَزَاد جديد، فَليلحق بقصر عُمَانَ المشيد، فلحق وادعة بن عمرو، ثم قال: مَن كان منكم يريد الراسيات في الوحل المُطْعِمات في المَحل فَلْيَلْحَق بيَثرِب ذات النَّخل، فلحقت الأَوْس والخَزْرَج، ثم قال: مَن كان مِنكم يريد خمرًا وخميرًا، وذهبًا وحريرًا، ومُلكًا وتأميرًا فليلحق بمَعَان وبُصْرَى، فلحقت غسَّان وبنو جفنة بالشَّام فملكوه، ثم قال: مَن كان منكم يريد الأموال، ويعتزُّ بالرجال، وتُشَدَّ إليه الرحال فعليه بكوثى، فلحقت الأَزْد بموضع الكُوفَة. وقال الزُّبير بن بَكَّار: إنَّما لحقت بالشَّام غسان، والأَزْدُ بعُمَان، وخُزَاعة بتِهامة. وقال ابن الكلبي: إنَّ الملك هو عمرو بن عامر، وكان مَلكَ سَبَأ في ذلك الزَّمان. وكان عمران بن عامر أخاه فأخبره بما ذكرنا. قال: وكان للمَلِك كاهنة يقال لها: طريفة، من أهل حِمْير، فقال لها الملك: ما تقولين فيما قال عمران؟ قالت: صدق، ولقد رأيت غيمًا أبرق، أرعد طويلًا ثم أصعق، فما وقع على شيء إلا احترق، وما بعد هذا إلا الغَرَق. ثم قالت لعمرو: اذهب إلى السدِّ فإنْ رأيت جُرذًا يُكثر بيديه فيه الحَفر، ويقلب برجليه من العَرِم الصخر، فاعلم أن النَّفَر سَفْر، وأنَّه قد وقع الأمر. فأتى إلى السدِّ فإذا بجُرذ يقلب بيديه صخرةً ما يقلبها خمسون رجلًا فعاد إلى طريفةَ وقال: متى ترين هلاكَ السدِّ؟ فقالت: إنما يهلك غِيلة بعد سبعين ليلة فانظر الغيلة. فأمر عمرو

أصغر أولاده أن يأتيَ إليه وهو في مجلسه والملأ حوله والأَقْيال فيفتئت عليه، وأمره أولاده أن لا يهيجوه وجلس مجلس الملك، واجتمع الناس إليه، وجاء ولده فكلمه بأقبح الكلام، فقال: يا قوم أكون مَلِكَكُم وسيدَكم وُيسمعني هذا السفيهُ ما أسمعني، وأنتم سكوتٌ لا تنتصرون لي؟ ! ثم حلف أن لا يساكنهم، وباع أمواله وانتزح عنهم، فبعد سبعين ليلة خرب السدُّ. قلت: هذه رواية ابن الكلبي، وقد ذكر عبد الملك بن هشام في "السيرة" طرفًا منها، وقد تقدّم إسناده إلى عبد الملك في خطبة الكتاب، فقال: لما رأى عمرو بن عامر الجرذَ ينقب السدَّ علم أنه لا بقاء للسدِّ على ذلك، فأمر أصغر أولاده أن يقوم بين الملأ فيلطمه ويفتئت عليه، ففعل، فباع أمواله، فقال الأشراف: اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا أمواله. وانتقل عمرو عنهم وفعل كذلك بنو أسد وقالوا: لا نقيم في بلاد خرج منها عمرو بن عامر، فنزلوا بلاد عَكٍّ، وتفرقوا في البلدان، فنزل آل جَفنة بن عمرو الشام، ونزلت الأوس والخزرج يَثرِب، ونزلت خُزَاعة مَرًّا، والأَزْد السراة، وهما أزدان: أَزْد السراة وأَزْد عُمَان (¬1). وقال السُّدي: إنما سميت خُزَاعة لانخزاعها وانقطاعها في ذلك الموضع. قال الجوهري: وخُزَاعة حي من الأَزْدِ سموا بذلك لأن الأزد لما خرجت من مَكَّة لتتفرق في البلاد تخلَّفت عنهم خُزَاعة (¬2). وفي رواية ابن إسحاق أنَّ عمران بن عامر قال في كهانته: ومن كان منكم ذا حاجةٍ وفقر، فليلحق ببطن مَرّ، فلحقتْ به خُزَاعة وقال: من أراد منكم الخمر والخمير، والذهب والحرير، والأمر والتأمير، فليلحق ببُصرى وحَفِير، يعني أرض الشام، وحَفِير قرية من قرى دمشق في جبل صيْدَنَايا قريبة منها. وقال: من أراد منكم الثياب الرِّقاق، والخيل العِتاق، والكنوز والأوراق فليلحق بالعِراق، فلحق بها الأَزد مع مالك بن فهم الأَزْدِي. ¬

_ (¬1) "السيرة" 1/ 13. (¬2) "الصحاح": (خزع).

قال وهب: وسار عمرو بن عامر إلى وادي السَّرَاة بأهله وماله وولده فأقام به وبمَكَّة، والسَّراة جبل الأَزْد. والقول الثاني في سبب هلاك السدِّ حكاه جدي في "التبصرة" (¬1) عن مجاهد أنه قال: أرسل الله عليهم ماء أحمر فنسف السدَّ وهدمه وحفر الوادي. وعامة العلماء على القول الأول. وحكى الضحاك عن ابن عباس: أنَّ عمرو بن عامر سيدهم رأى في منامه كأنه انبثق الردم وسال الوادي، فأصبح حزينًا، فانطلق نحو الردم فرأى جُرذًا يحفره بمخاليب من حديد وأنياب من حديد، فجمع أهله وبنيه وقال: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: نعم، قال: هذا أمرٌ سَمَاويّ قد اضمحلت فيه الحِيَل. ثم قال: هاؤم هرة، فأُتي بها فأرسلها نحو الجُرذ، فلما رأته الهرة ولَّت هاربة، فقال: تحقَّقَ الآن ما قلتُ لكم، احتالوا لأنفسكم. فدعا أصغر بنيه، وذكر بمعنى ما تقدم. قال ابن عباس: لما نقب الجُرذ السدَّ فاض الماء عليهم فأخرب جناتهم، ودفن بيوتهم في الرمل، ومزَّقهم كل ممزق، كما قال الله تعالى، حتى صاروا مثلًا عند العرب، فضربوا بهم الأمثال. وقال الجوهري: وقولهم "ذهبوا أيدي سَبَأ"، وأيادي سَبَأ، أي: متفرقين، قال: وهما اسمان جُعلا اسمًا واحدًا، مثل مَعدي كَرِب (¬2). قال الله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} وهو الأراك {وَأَثْلٍ} وهو الطرفاء، والأُكُلُ: الثَّمَرُ، وقيل: الخَمْط شجر العضاه. قال مقاتل: معناه: وبدلناهم بجنتيهم اللتين كانتا تطعمان الفواكه جنتين بهذه الصفة {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 16] والسِّدْر: شجر النَّبق، ومعنى "قليل" أنَّ الخَمْط والأثل كان في جنتيهم أكثر من السِّدْر لأن السِّدْر تؤكل ثمرته {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} أي: ذلك التبديل جزيناهم بكفرهم {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] قال طاوس: الكافر يجازى ولا يُغْفَر له، والمؤمن لا يناقَشُ الحساب. ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 317. (¬2) "الصحاح": (يدي).

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى} وهي قرى الشام {ظَاهِرَةً} أي: متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها. قال الحسن: هي قرى بين الشام واليَمن، قال مجاهد: هي السَّرَوَات. قال وهب: قرى صَنْعاء، والأول أصحُّ، لأن القرى التي بارك الله فيها في الأرض المقدسة. {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} [سبأ: 18] فيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يَغْدُون فيقيلون في قرية، ويروحون فيبيتون في قرية، قاله الحسن وقتادة. والثاني: أنه جعل ما بين القرية والقرية مقدارًا واحدًا من منزل إلى منزل، فلا ينزلون إلا في قرية عامرة يسيرون فيها ليالي وأيامًا، أي: وقلنا لهم سيروا في أي وقت شئتم ليلًا أو نهارًا آمنين من مخاوف السفر والعدوّ والجوع والعطش، لا تحتاجون إلى حمل زاد ولا ماء، فبطروا وعتوا وملُّوا النِّعم كما ملَّ بنو إسرائيل المنَّ والسلوى. {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فيه قولان: أحدهما: لو كانت جنانًا أبعد مما هي كانت أجدر أن نشتهيها، قاله مجاهد. والثاني: أن معناه: اجعل بيننا وبين الشام فَلَوات ومَفاوز وبراري نركب فيها الرواحل ونحمل فيها الزاد والماء، فاستجاب الله لهم سريعًا، قاله ابن عباس. {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالكفر والمعاصي والبطر {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي: مواعظ وعبرًا يتمثل بهم {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19]. وذكر الهيثم بن عدي: أن بعض القحطانيين افتخر على ولد نزار عند أبي العباس السفَّاح، وخالد بن صفوان بن الأهتم حاضر، ولم يجبه، فقال له السفَّاح: أيذكر هذا مناقب قومه وأنت ساكت؟ لقد غمرتكم قحطان بشرفها، فقال خالد: يا أمير المؤمنين ما سكوتي إلا احتقارًا به وبقومه، قال: ولِمَ؟ قال: ماذا أقولُ لقوم هم بين دَابغ جِلد، وسَائِس قرد، ونَاسِج بُرْد، وراكب عَرْد (¬1)، غرَّقتهم فَأرة، ومَلَكَتْهُم امرأة، ودلَّ عليهم هدهد. ¬

_ (¬1) العَرْد: الحمار، والخبر في مروج الذهب 3/ 372 - 373.

فصل في محنة سليمان عليه السلام وذهاب خاتمه وعوده إليه

فصل في محنة سليمان عليه السلام وذهاب خاتمه وعوده إليه قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} الآية، أي: ابتليناه بسلب ملكه {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ} أي: سريره {جَسَدًا}. واختلفوا فيه، قال ابن عباس: الجسد هو شيطان يقال له: صَخر، ولم يكن ممن سُخِّر لسليمان. وقال وهب: هو صَخر بن عمير بن عمرو بن شرحبيل، ويقال: هو الذي دلَّ سليمان على حجر السامور وكان في جزيرة منيعة، فما كان له عليه سلطان. وقال السدي: هو شيطان اسمه مهدي، وقيل: حفق أو حفيق. وذكر الثعلبي: أنَّ الجسد إنما كان آصف بن برخيا (¬1). وذكر أبو حنيفة ابن النُّوبي: أنَّ الجسد نفس سليمان، ألقاه مريضًا لا حراك به ولا رُوح فيه. والظاهر أنه صخر الجني. {ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] أي: رجع عن ذنبه، وقيل: في مُلكه. واختلفوا في سبب ابتلائه على أقوال: أحدها: بسبب امرأة، قرأتُ على شيخنا الموفق المقدسي رحمه الله بإسناده إلى ابن عباس قال: كان سليمان رجُلًا غزاءً يغزو في البحر والبرِّ، فسمع بمَلِك في جزيرة من جزائر البحر، فركب الرِّيح ومعه جنوده من الجن والإنس حتى نزل تلك الجزيرة، فقتل مَلِكها وسبى مَن فيها، وأصاب جَارية لم يُرَ مثلها حُسنًا وجمالًا، وكانت ابنة ذاك الملك، واسمها: جرادة، فاصطفاها لنفسه، وكان يجدُ بها ما لا يجد بأحدٍ من نسائه، وكان يؤثرها عليهنَّ، فدخل عليها يومًا فقالت: إني أذكر أبي ومُلكه وما أصابه فيحزنني ذلك، فإن رأيتَ أن تأمر بعض الشياطين أن يصوِّروا لي صورةَ أبي في داري، فأراه بكرةً وعشيًا، رجوت أن يذهب عني حُزني ويُسَلِّي عني بعض ما أجد في نفسي. فأمر سليمان صخرًا المارد فمثَّل لها أباها في هيئته لا تنكر منه شيئًا إلا أنه لا روحَ فيه، ¬

_ (¬1) "عرائس المجالس" ص 327.

فعمدت إليه فزيَّنَتْهُ وألبسته مثل لباسه، وإذا خرج سليمان من داره غَدَتْ عليه كلَّ يوم مع جواريها فسجدت له وتسجد جواريها، وسليمان لا علم له بشيء من ذلك، حتى أتى لذلك أربعون يومًا، وبلغ آصف بن برخيا، وكان صدِّيقًا، فقال لسليمان: يا نبيَّ الله، قد أحببت أن أقومَ مقامًا أذكر فيه من مضى من أنبياء الله وأثني عليهم بما أعلم فيهم، فجمع سليمان الناس، وقام آصف فأثنى على كل نبيّ بما فيه، حتى انتهى إلى سليمان، وذكر ما أعطاه الله في حداثةِ سنه وصغره، ثم سكت، فامتلأ سليمان غيظًا واستدعاه وقال له: ذكرتَ أنبياء الله وأثنيت عليهم بما كان في زمانهم، فلما ذكرتني جعلت تثني عليَّ بخير في صغري، وسكتَّ عما كان في كبري، فما الذي أحدثتُ في كبري؟ فقال: أحدثتَ أنَّ غيرَ الله يُعْبَدُ في دارك منذ أربعين يومًا في هوى امرأة، قال: في داري؟ قال: نعم، قال: إنّا لله وإنا إليه راجعون؛ عرفتُ أنَّك ما قلتَ هذا إلا لشيء بلغك، ثم رجع إلى داره فكسر الصنم وعاقب المرأة وولائدها، ثم دعا بثياب الطهر وهي ثياب لا يغزلها وينسجها إلا الأبكار، ولا يمسها امرأة رأت الدم فلبسها، ثم خرج إلى فلاةٍ من الأرض ففرش فيها الرماد، وجلس عليه يتمعَّك فيه متضرعًا باكيًا تائبًا، وكان يبكي ويقول: يا رب ما هذا بلاؤُك عند آل داود أن يعبدوا غيرك وأن يقروا في دارهم وأهلهم عبادة غيرك. فلم يزل كذلك حتى أمسى، ثم رجع، وكانت له جارية سمّاها الأمينة، وكان إذا أتى الخلاء أو أراد إتيان امرأة وضع خاتمه عندها، وكان لا يمسُّه إلا وهو طاهر، وكان الله قد جعل مُلْكَهُ في خاتمه (¬1). عن الشيخ الموفق، قال وهب: فجاء يومًا يريد الوضوءَ فدفع الخاتمَ إليها، وجاء صخر المارد فدخل المتوضَّأ، وسبق سليمان، فدخل سليمان لحاجته وخرج صخر على صورة سليمان ينفضُ لحيته من الوضوء، لا تنكر المرأةُ من سليمان شيئًا، فقال: خاتمي يا أمينة، فناولته إياه لا تحسبُ إلَّا أنَّه سليمان، فجعله في يده وجلس فجلس على كرسيِّ سليمان، وعكفتْ عليه الطيرُ والإنس والجنُّ، وخرج سليمان عليه السلام فقال: خاتمي يا أمينة، فقالت: ومن أنت؟ فقال: أنا سليمان، وقد تغيَّر حاله وذهب عنه بهاؤه، فقالت: كذبتَ إنَّ سليمان أخذ خاتمه، وهو جالسٌ على سريره في مُلكه. ¬

_ (¬1) كتاب "التوابين" ص 46.

فعرف سليمان عليه السلام أنَّ خطيئته قد أدركته (¬1). عن الموفق، قال الحسن: فخرج هاربًا مخافةً على نفسه، ومضى على وجهه بغير حذاء ولا قَلَنْسُوة في قميصٍ وإزار، فمرَّ ببابٍ شارع على الطريق قد جهده الجوع والحرُّ والعطش فقرعه، فخرجت امرأة فقالت: ما حاجتكَ؟ فقال: ضيافةُ ساعةٍ، قد تَرَيْنَ ما قد أصابني من الحرِّ والرمضاء، فقالت المرأة: زوجي غائبٌ وليس يَسعني أن أُدْخِلَ رجلًا غريبًا عليَّ، ادخل البستانَ فإن فيه ماء وثمرًا، فأَصِبْ من ثماره وتبرَّدْ فيه، فإذا جاء زوجي استأذنتُهُ في ضيافتك، فإنْ أَذِن لي فذاك، وإنْ أبى أصبتَ رزق الله ومضيت. فدخل البستان فاغتسل ووضع رأسه ونام، فآذاه الذباب، فجاءت حيَّةٌ سوداء فأخذت ريحانةً من البستان بفيها وجعلت تروِّحُ عليه. وجاء زوجُ المرأة فقصَّتْ عليه القصة، فدخل البستان فرأى الحيةَ تروِّحُ عليه، فدعا امرأته وقال لها: تعالي فانظري إلى العجب، فنظرتْ ثم مشيا إليه فأيقظاه، ثم قالا له: يا فتى هذا منزلنا لا يسعنا شيءٌ يعجزك، وهذه ابنتي قد زوجتكها، وكانت من أجمل نساء زمانها، فتزوجها وأقام عندهم ثلاثًا، ثم قال: لا يسعني إلا طلبُ المعيشة لي ولأهلي، فانطلق إلى الصيادين فقال لهم: هل لكم في رجل يكون معكم يعينكم وترضخون له بشيء من صيدكم، وكُلٌّ يأتيه الله برزقه، فقالوا: قد انقطع عنا الصيد، وليس عندنا فضل نعطيك، فمضى إلى غيرهم، فقال لهم مثل هذه المقالة، فقالوا: نعم وكرامة، نواسيك بما عندنا، فأقام عندهم يختلف كلَّ ليلةٍ إلى أهله بما أصاب من الصيد حتى أنكر الناس قضاءَ الخبيث وفعاله. فلما رأى الخبيثُ أنَّ الناس قد فطنوا له انطلق بالخاتم فألقاه في البحر، قال الحسن: أمسك الخاتم أربعين يومًا (¬2). وروي: أنه قعد على كرسيِّ سليمان، فاجتمع له الإنس والجن والشياطين وكلُّ شيءٍ كان يملكه سليمان، إلا أنه لم يُسَلَّطْ على نسائه، قال: وخرج سليمانُ يسأل الناسَ ويتضيفهم، ويقوم على باب الرجل والمرأة ويقول: أطعموني فإني سليمان بن داود، فيطردونه ويقولون له: ما يكفيك ما أنت فيه حتى تكذب على سليمان، وهذا ¬

_ (¬1) كتاب "التوابين" ص 48. (¬2) كتاب "التوابين" ص 50.

سليمان على ملكه. حتى أصابه الجهد، واشتدَّ عليه البلاءُ، فلما تمَّ عليه أربعون يومًا، قال آصف بن برخيا: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من خلافِ حكم ابن داود ما رأيتُ؟ قالوا: نعم، فعمد الشيطان عند ذلك فألقى الخاتم في البحر، فاستقبله جِرِّيٌّ فابتلع الخاتم، فصار في جوفه مثل الحريق من نور الخاتم، فاستقبل جريةَ الماء فوقع في شباك الصيادين الذين كان سليمان معهم. فلما أمسوا اقتسموا السمك وأسقطوا الجريَّ وجعلوه لسليمان، فذهب به إلى أهله وأمرهم أن يصنعوه ونام، فلما شقُّوا بطنه أضاء البيتُ من نور الخاتم، فدعت المرأة سليمان وأرته الخاتم فتختم به وخرَّ ساجدًا لله، وحمد الله وأثنَى عليه فقال: ربِّ أتمَّ نعمتك عليَّ واغفر لي ما سلف، وهبْ لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (¬1). قال: وروي عن عكرمة أنَّ سليمان لما أصاب الملك أمر فحمل أهل ذلك البيت فوضعهم وسط المملكة، ولم يكن سليمان نال تلك المرأة حتى ردَّ الله عليه ملكه (¬2). هذه صورة ما ذكره الموفق في "التوابين". وقوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا} يدل على أنه أعطيَ الملك الذي {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} بعد وقوعه في المحنة كما قال علي عليه السلام. وروي عن وهب بن منبه أنه ذكر هذه القصة، وقال فيها: اسم المرأة التي أخذها سليمان من الجزيرة جرادة فأسلمت، وفي قلبها من قتل أبيها ما فيه، وأنه بعدما كسر الصنم وعاقب المرأة وولائدها، دعا بثياب الطهرة، وهي ثياث لا يغزلها إلا الأبكار ولا تمسُّها امرأة رأت الدم، فلبسها وخرج إلى الفلاة فجلس على الرماد، كذا ذكره (¬3). قال ابن عباس: أمينته التي كان يدع الخاتم عندها أم ولده. فأتاها الشيطان صاحب السحر، واسمه صخر، فأخذ الخاتم منها، وفيه، فقال آصف: يا بني إسرائيل أَمْهِلوني حتى أسأل نساءَ سليمان هل يأتيهنَّ، فدخل عليهن فسألهن فقلن: ما يدعُ امرأة منا في ¬

_ (¬1) كتاب "التوابين" ص 50. (¬2) كتاب "التوابين" ص 51. (¬3) انظر "زاد المسير" 7/ 133.

دمها ولا يغتسل من جنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن هذا لهو البلاءُ المبين. والأصحُّ أنه لم يطأ نساءَ سليمان، قال مجاهد والحسن البصري: لم يثبت ذلك لأن الشيطان خلق من نار، فلو جامع امرأة لأحرقها. فلما مضت أربعون ليلة - وقيل: خمسون - اجتمع علماء بني إسرائيل، ونشروا التوراة، وبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى، فلما رأى الشيطان ذلك طار من مجلس سليمان، ثم قذف بالخاتم في البحر فابتلعته سمكة. فإن قيل: فكيف أقدم الشيطان على حمل الخاتم وفيه أسماء الله تعالى؟ فالجواب: إن الله أقدره عليه عقوبةً لسليمان، فغيَّر أوصافه وألقى عليه شبَه سليمان إلى المدة المذكورة. والسبب الثاني: في امتحان الله سليمان ما رواه الوالِبي عن ابن عباس قال: كان بين قوم وبين أهل امرأةٍ لسليمان حكومة، فقضى سليمان عليه السلام للقوم على أهل المرأة، إلا أنه ودَّ بقلبه لو كان الحقُّ لأهلها، فعوقب إذ لم يكن هواه فيهم واحدًا. والثالث: أن هذه الزوجة كانت آثر النساء عنده فقالت له: إن بين أخي وبين قوم خصومة، وإني أحب أن تقضي له فقال: نعم، ولم يفعل، فابتلي لأجل ما قال: نعم، قاله السُّدي. والأصحّ القول الأول، وعامة العلماء عليه. وقال جدي في "التبصرة": وفي كيفية ذهاب الخاتم قولان، أحدهما: أنه كان جالسًا على شاطئ البحر فوقع منه، قاله عليّ عليه السلام. والثاني: أنَّ شيطانًا أخذه (¬1). ثم في كيفية أخذه هو أقوال: أحدها: أنه وضعه تحت فراشه ودخل الحمام، فأخذه الشيطان فألقاه في البحر، قاله ابن المسيّب. والثاني: أنه أخذه منه. والثالث: أنه أخذه من الأمينة، وهو الأصحّ، ذكره سعيد بن جبير ووهب وغيرهما. واختلفوا في رجوع الخاتم إليه على أقوال: أحدها: ما ذكرنا عن ابن عباس وروينا. والثاني: أنَّ الحوت بلع الخاتم فأخذه بعض الصيَّادين ودفعه إلى سليمان وآخر ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 291.

معه، وكان سليمان قد عمل معه ذلك اليوم، فأخذ سليمان الحوتين فباع أحدهما بأرغفةٍ، ونقر بطن الآخر ليشويه فظهر الخاتم، فلبسه، فردَّ الله عليه ملكه. والثالث: ذكره الضحاك عن ابن عباس، روى: أن بعض نساء سليمان كان يضع الخاتم عندها، فجاء الشيطان في صورته فأخذه منها، وهرب سليمان إلى الصيَّادين يستطعم، فضربه بعضهم بمسحاةٍ فشجَّه، فجعل يغسل الدم على البحر، فلام الصيادون من ضَرَبه وقالوا: بئس ما فعلت، عَمَدْتَ إلى رجل فقير مجهود ففعلت هذا، ثم ألقوا عليه حوتًا وكان جائعًا فشقَّ بطنه، فإذا بالخاتم، فلبسه فردَّ الله عليه مُلْكه، وقام الذي ضربه يعتذر إليه، فعذره وقال: هذا أمرٌ لا بدَّ منه (¬1). وذكر الثعلبي: أن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده، فأعاده مرارًا وهو يسقط، فقال له آصف: إنك مفتون، وإن الخاتم لا يثبت في يدك حتى ينقضي زمان البلاء، ففِرَّ إلى الله تعالى تائبًا، وأنا أقومُ مقامَكَ، وأسيرُ بسيرتك؛ فهرب سليمان، ولبس آصف الخاتم، وأقام يسير بسيرة سليمان إلى أن يعود (¬2). قلت: وليس هذا القول بشيء، وعامة العلماء على الأول. وقال ابن المسيِّب: احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله تعالى إليه يا ابن داود، احتجبت عن عبادي ثلاثة أيام لم تنظرْ في أمورهم، ولم تنصفِ المظلومين من الظالمين، وعزَّتي لأسْلُبَنَّك مُلكك، قال: فكان سليمان بعدها لا يحتجب عن الناس ليلًا ولا نهارًا. وذكر مقاتل أن سليمان تزوّج امرأةً من غير بني إسرائيل، فعاقبه الله تعالى، وكل هذه الأقوال فيها نظر، والأصحُّ القولُ الأول. وقال جدي في "التبصرة": لما لبس الخاتم ردَّ الله عليه ملكه وبهاءه، وأظلَّتْهُ الطير، فأقبل لا يستقبله إنسيٌّ ولا جنيّ ولا طائر ولا حجر ولا شجر إلا وسجد له، حتى انتهى إلى منزله، ثم أرسل إلى الشيطان فجيء به، فجعله في صندوق من حديد وقفل وختم ¬

_ (¬1) انظر الخبر في "عرائس المجالس" ص 326. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 327.

فصل في قول سليمان: لأطوفن الليلة على مئة امرأة

عليه بخاتمه، ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه إلى يوم القيامة. فتأملوا إخواني هذا السلطان العظيم كيف تَزلْزَل بالزَّلل، واختلَّت أموره إذ دخل عليه الخلل، فخطؤه أوجب خروجه من المملكة، وكاد أنْ يوقعه كما أوقعت لقمةٌ آدم في مهلكة، وعليكم بالتقوى فهي سبب السلامة، ومن أخطأ أخطأته الكرامة (¬1). قلت: وما ذنب الشيطان؟ أليس الله تعالى سلَّطه عليه عقوبةً لما فعل؟ فإن قيل: فلمَ جُعِل مُلكه في خاتمه؟ فالجواب من وجهين، أحدهما: ليريه هوان ما أعطاه من الدنيا في جنب ما لم يعطه؛ لقد رفض الخاتم في جنب سائر الأشياء. والثاني: أن الخاتم كان حجرًا من أحجار الجنة، حكَمَ هذا الحكم الباهر، فكيف بما فيها من اللآلئ والجواهر؟ قلت: وقد ورد في الخاتم حديث ذكره جدي في "الموضوعات" عن جابر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان نقش خاتم سليمان: لا إله إلا الله محمد رسول الله"، قال جَدِّي: هذا حديث لا يصحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فصل في قول سليمان: لأطوفن الليلة على مئة امرأة قال البخاري: حدثنا أبو اليَمان بإسناده عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قال سُلَيمان، لأَطُوفَنَّ اللَّيلةَ على مئة امرأةٍ أو تسعين، كُلُّهنَّ يَأتينَ بفارسٍ يُقاتِلُ في سَبِيل الله، فقالَ لهُ صاحِبُه أو حاجبُهُ: قل إن شَاء الله، فلمْ يَقُلها، فَطاف عَلَيهنَّ كلهن جميعًا فلمْ تَحمِل مِنهنَّ إلا امرأةٌ، جَاءت بشقِّ وَلَدٍ. والذي نَفْسي بيَدِه لَو قالها لَجَاهَدوا في سَبيل الله فُرسَانًا أجمَعين" (¬3)، أخرجاه في "الصحيحين". وفي "الصحيح": فقال له صاحبه- قال ابن عيينة: يعني الملَك- قل: إن شاء الله، فنسي (¬4). ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 291 - 292. (¬2) "الموضوعات" 1/ 324 حديث رقم (411). (¬3) "البخاري" (2819)، و"مسلم" (1654). (¬4) في (ط): فقال له الملك قل إن شاء الله فنسي، قال ابن عيينة: يعني الملك، وليس في (ب)، والمثبت من "صحيح البخاري" (6720).

فصل في قصة جرت لصديق سليمان مع ملك الموت

قلتُ: وهذه الرواية أليقُ بسليمان أنْ يكونَ على وجه العِنَاد للهِ تعالى، لأن الله يقول: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} والنسيانُ لا ينفك عنه أحد. وقد روي أن هذا القولَ أحدُ أسباب فتنة سليمان. فصل في قصة جرت لصديق سليمان مع مَلك الموت روى وهب بن منبه عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان لدَاود صديقٌ من بني إسرائيل يُدني مجلسه ويشاوره في أموره، فلمَّا مات دَاود وقام سُلَيْمان أنزله منزلته عند أبيه، وكان مَلَك الموت يدخل على سليمان ويستقضي حوائجه، فدخل عليه يومًا وعنده صديق أبيه، فلما خرج مَلكُ الموت قال له الرجل: أسألك بالله أن تأمر الرِّيح أنْ تحملني إلى أقصى جَزيرَةٍ بالهِند فتطرحني هناك، قال سليمان: ولمَ؟ قال: لأنَّ الرجل الذي دخل عليك لَحَظَني لحظةً لم أتمالكْ عندها، فأمر سليمان الرِّيح فحملته إلى الهِند، وحزن سليمان لفقده، فدخل عليه مَلَك الموت فقال: مالي أراك حزينًا؟ فقال: لأجل فَقدي لصديق أبي. فقال مَلَك الموت: الساعةَ قبضتُ روحه بأقصى جَزيرةٍ (¬1) بالهِند، أمرني الله بذلك، فبكى سليمان عليه السلام وقال: يا لله العجب. حديث الطائر مع سليمان روى محمد بن إسحاق عن كعب قال: مرَّ سليمان على طائر يرفرف على فراخه ويزقُّهم (¬2) ويعلمهم الطيران، فقال: ليت سليمانَ حبس جيشه حتى أُدخلَ فراخي إلى العش، فوقف له سليمان حين سمعه، فلما أدخل فراخه العش وخرج من العش أخذ الماءَ بمنقاره وجعل يرش الطريق بين يدي سليمان شكرًا لما صنع. وذكر أبو المعالي بسند له في كتاب "لوامع أنوار القلوب" قال: راود خطّافٌ خطافةً فامتنعت عليه، فقال: لو شئتِ أن أقلب القبَّة على سليمان لفعلتُ، وبلغ سليمانَ فأحضره وقال: قلت كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: ما حملك عليه؟ قال: يا نبيَّ الله، العشاقُ لا يؤاخَذون بما يبدو منهم، قال: صدقت. ¬

_ (¬1) في (ب) و (ط): مدبرة، والمثبت من "العاقبة في ذكر الموت" لعبد الحق الإشبيلي 1/ 41. (¬2) يَزُقُّهم: أي يطعمهم.

فصل في معجزاته

فصل في معجزاته قال علماء السِّير: معجزاته كثيرة منها تَسخير الشياطين له، قال ابن عباس: بنوا له مُدنًا كثيرة منها تَدْمُر وبَعْلَبَك، وفيها يقول النَّابغة: إلا سُلَيمانُ إذْ قال المَليكُ لَهُ ... قُمْ في البَريَّةِ فاحْدُدْها عن الفَنَدِ وخيِّسِ الجنَّ إني قَدْ أَمَرْتهمُ ... يَبْنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعَمَد (¬1) وقال الجوهري: الصُّفَّاح - بالضم والتشديد -: الحجر العريض (¬2). وقيل: الرخام الأبيض والأصفر. وقال السُّدي: لا يختلفون أنه بنى تَدْمُر، وفي بَعْلَبَك خلاف، وبنى قلعة سليمان بخُراسان والأُبُلَّة، والسّوس، وإِصْطَخْر. وقال الثعلبي: وُجدَت في صخرة منقورة بأرض كَسْكَر هذه الأبيات: ونَحْنُ ولا حَوْلٌ سوى حَوْل رَبِّنا ... نَروحُ إلى الأوطانِ من أَرض تَدْمُرِ إذا نَحْنُ رُحْنَا كان رَيْثُ رَوَاحِنَا ... مَسيرةَ شَهْرٍ والغدوُّ لآخَرِ أُنَاسٌ شَرَوا لله طَوْعًا نفوسَهُم ... بنَصْر ابنِ داود النَّبيِّ المطهَّرِ لَهُم في مَعَالي الدِّين فَضْلٌ وَرَأفةٌ ... وإنْ نُسِبُوا يومًا فهمْ خيرُ مَعْشَرِ متى يَرْكَبُوا الرِّيحَ المطيعةَ أَسْرَعتْ ... مبادرةً من شَهْرِها لَمْ تُقَصِّرِ يُظِلُّهُم طيرٌ صُفُوفًا عَلَيْهمُ ... متى رَفْرَفَتْ مِنْ فَوْقِهم لم تَفَتَّرِ (¬3) وأمر زوبعة فبنى باليمَن حِصن سَلْحِين وصِرْوَاح ومِرْوَاح وبَيْنُوْن وهند وهُنَيْدة ومبلوم. ولما مات سليمان صاح صائحٌ من السماء بعد سنة في الليل: يا معاشر الجِنّ والشياطين مات نبيُّ الله سليمان فارفعوا أيديكم، فعمدت الشياطين إلى حجر وكتبوا عليه بالمسند أسماء الحصون الي بنوها وتفرقوا. وقال جدي رحمه الله في "التبصرة": وكانت الشياطين تغوص في البحار ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه: ص 33، و"الفند" الخطأ في الرأي والقول، و"خيس": ذلل. (¬2) "الصحاح": (صفح). (¬3) "عرائس المجالس" ص 305.

فيستخرجون له الدُّرَّ واللآلئ، ويعملون له الجِفَان والقصاع، يجتمع على القصعة ألف رجل، ويأكل من كل قِدر ألف رجل، ولا تنزل من مكانها. ومنه قوله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} يعني الغوص {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82] حتى لا يخرجوا عن أمره (¬1). ومنها: الريح، وقد ذكرناها. فإنْ قيل: فقد قال في موضع: {عَاصِفَةً} [الأنبياء: 81] وفي موضع: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] فالجواب: إنَّ الرخاء مأخوذة من الرخاوة، وأصاب بمعنى قصد، وأما عاصفة فلأنها كانت تلينُ إذا أراد، وتشتدّ إذا أراد. وقوله: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81] يعني: أرض الشام، لأنها كانت منزله. ومنها: فهم كلام الطير والنمل، وقد أشرنا إلى طرف منه. ومنها: بساطه، وكان مئة فرسخ، وهو من نسج الجنة، قال أبو إسحاق الثعلبي بإسناده عن وهب بن منبه عن كَعب قال: إنَّ سليمان عليه السلام كان إذا ركب حمل أهله وحَشَمه وخدمه وكُتَّابَه وتلك الصفوف بعضها فوق بعض على قدر درجاتهم، وقد اتخذ مطابخ ومخابز يحمل فيها تنانير الحديد، وقدورًا عظامًا تَسَع القدرُ عشر جزائر، واتخذ ميادين الدوابِّ أمامه، فيطبخ الطباخون، ويخبز الخبازون، وتجري الدواب بين السماء والأرض، والريحُ تهوي بهم. وتمام هذا الأثر: أنه مرَّ بمَكَّة ولم ينزلْ حتى عاد من اليَمَن، وأنه بشَّر بنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكرناه (¬2). ومنها: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12] قال ابن عباس: يعني أسلنا له عين القطر أي: عين النحاس، ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليَمَن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان من الأرض (¬3). قال ابن عباس: المراد بالمحاريب: المساجد، والتماثيل: القصور والخاتم ¬

_ (¬1) "التبصرة" 1/ 290. (¬2) "عرائس المجالس" ص 298. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 305.

فصل في وفاة سليمان عليه السلام

والكرسي وغير ذلك. وقال مجاهد: هذا في بيت المقدس، عملوا له المحاريب من النحاس والصُّفر والشَّبَه والزجاج والرخام، والتماثيل صور الملائكة والأنبياء والصالحين، حتى إذا رآهم الناس مصوَّرين ازدادت عبادتهم. وجِفان وهي القصاع، وقد ذكرنا أنه كان يجتمع على الجفنة الواحدة ألف رجل، والقدور الرَّاسِيات: الثابتات في أماكنها لا تنزل، ومنه قيل للجبال: رواسي. {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] أي وقلنا: اعملوا بطاعة الله شكرًا له على نعمه. قال ثابت البناني: كان داود عليه السلام قد جزَّأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتي ساعة منها إلا وإنسانُ من آل داود قائم يصلي أو يقرأ. وقال مجاهد: كان سليمان عليه السلام قد تخلى عن الدنيا وانقطع إلى العبادة، وسببه أنَّ النَّملة قالت له: إنما سميتَ سليمان لأنك سليم الصدر، وقد آن لك أن تلحق بأبيك، فسلَّم المُلْك إلى آصف ودخل المحراب، فتعبَّد حتى مات. فصل في وفاة سليمان عليه السلام قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} الآية. أنبأنا غير واحد عن إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي بإسناده عن ابن عباس قال: كان سليمان يقيم بالبيت المقدَّس الشهر والشهرين والسنة والسنتين، يدخل بيوت العبادة فيتعبَّد فيها، وكان يصبحُ كلَّ يوم وقد أنبت الله في القدس شجرةً فيسألها ما اسمكِ؟ فتقول: اسمي كذا وكذا، وأَصْلُحُ لكذا وكذا. فبينما هو ذات يوم قائمٌ يصلي في المسجد، رأى شجرةً قد نبتت بين يديه فقال: ما أنت؟ قالت: الخرُّوبة، قال: ولأيِّ شيءٍ نبتِّ؟ قالت: لخراب بيت المقدس- أو لخرابِ هذا المسجد- وذهاب هذا الملك. فقال: ما كان الله سبحانه ليخرِّبه وأنا حيٌّ، فقلعها وغرسها في حائط المسجد، ثم أخذ منها غُصْنًا يتوكأ عليه، وهو مِنْسَأَتهُ، ثم قال: اللهم غُمَّ عن الجنِّ موتي حتى تعلم الإنس أن الجنَّ لا يعلمون الغيب. وكانت الجنُّ تقول للإنس: نحن نعلم الغيب، ثم دخل المحراب وقام يصلي متكئًا على عصاه فمات، وقال ابن زيد: قال سليمان

لملك الموت: إذا أُمِرْتَ بي فأَعلمني، فأتاه فقال: قد أُمِرتُ بك، وقد بقيت لك سُوَيْعة، فدعا الشياطين وقال: ابنوا لي صرحًا من قوارير ليس له بابٌ، ففعلوا، وقام يصلي، ودخل عليه ملكُ الموت فقبضه وهو متكئ على عصاه (¬1). وفي رواية أخرى: أنَّ سليمان قال ذات يوم لأصحابه: قد آتاني الله من المُلْك ما ترون، وما مرَّ عليَّ يومٌ بحيث صفا لي من الضَّرر، وقد أحببتُ أن يكون لي يومٌ واحد يصفو إلى الليل ولا أغتمَّ فيه، وليكن ذلك اليوم غدًا. فلما كان من الغد دخل قصرًا له، وأمر بإغلاق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه ورَفْعِ الأخبار إليه، لئلا يسمع من ذلك ما يسوؤه. ثم أخذ عصاه بيده وصعد فوق قصره واتكأ على عصاه ينظر في ملكه، إذ نظر إلى شابٌّ حسن الوجه عليه ثيابٌ بيضٌ قد خرج عليه من جانب القصر، فسلَّم عليه فقال سليمان: من أين دخلتَ وقد منعنا الناس من الدخول؟ فقال: أنا الذي لا يحجبني حاجبٌ، ولا يردُّني بوَّاب، ولا أهابُ الملوك، ولا أقبل الرِّشا، وما كنت لأدْخلَ هذا القصر بغير إذن، وما دخلت إلا بإذن ربي. قال: فأنت حينئذٍ مَلَكُ الموت، قال: نعم جئت لقبض روحك، فقال: هذا يومٌ أردتُ أن يصفو لي من الكَدَر ولا أسمعُ فيه ما يغمني، فقال له ملك الموت: ذاك اليوم الذي تشير إليه لم يخلق في دار الدنيا، فارض بقضاء ربك فإنه لا مردَّ له، فقال له: فامض لما أُمرتَ به، فقبضه وهو متكئ على عصاه. وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلَّاه أينما كان، وكان للمحراب كوىً بين يديه ومن خلفه، وما كان شيطان ينظر إليه وهو في محرابه إلا احترق، فدخل شيطانٌ من جانب وخرج من جانب ولم يحترق، فنظر إلى سليمان وقد خرَّ ميِّتًا فأخبر الناس، ففتحوا الباب وأخرجوه، ووجدوا الأَرَضَةَ قد أكلت مِنْسأته- وهي العصا- ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأَرَضَة على العصا، فأكلت منها يومًا وليلة، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وكانت الجن تعمل بين يديه بعد موته حولًا كاملًا، فأيقن الناس أن الجنَّ كانوا يكذبونهم لأنهم لو عَلِموا بموته ما عَمِلوا (¬2). ثم قالت الشياطين للأَرَضَة: لو كنتِ تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 328. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 329.

تشربين الشراب لأتيناك بأطيب الشراب، ولكنا سننقل إليكِ الماءَ، فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت (¬1). ويقال لها: القادح، وهي دويبة تأكل العيدان. وقال الجوهري: الأَرَضَة بالتحريك دويبة تأكل الخشب (¬2). واختلفوا في مبلغ سنِّه: فقال الثعلبي: عاش ثلاثًا وخمسين سنة، ومدَّةُ مملكته أربعون سنة، وملك يَوْمَ مَلَكَ وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من مُلْكه (1). ولم يذكر الثعلبي غير هذا. وقال مقاتل: عاش اثنتين وخمسين سنة لأنه ملك وهو ابن اثنتي عشرة سنة. وقيل: إنه عاش سبع مئة سنة، وإنه كان في زمان أفريدون. وهذا القول ليس بشيء. ولم يذكر جدي في "أعمار الأعيان" مبلغ سنِّه. واختلفوا في موضع قبره على قولين: أحدهما: قبره بالبيت المقدس عند الجسمانية (¬3)، هو وأبوه في قبر واحد. والثاني: على ساحل بحيرة طَبَرِيَّة. وقال ابن عباس: لما مات سليمان أَخرجتِ الشياطينُ من تحت كرسيه أوراقًا فيها سحر وطِلَّسْمات، وهي على لسان آصف بن برخيا: هذا ما علَّم آصف سليمان، وكان صخر قد دفنها- وقيل: غيره- تحت كرسيِّ سليمان، ولما أخرجوها قالوا للناس: إنما مَلَكَكُم سليمان بهذا فتعلموه، فأما صلحاء بني إسرائيل فقالوا: معاذ الله أنْ يكون هذا من عِلْم سليمان، وإنْ كان هذا علمه فقد هلك، وقالت السَّفِلَة: بلى كان هذا عِلْمه، وأقبلوا على تعلُّمه ورفضوا كتبَ أنبيائهم، وفشت الملامةُ لسليمان، فلم يزل ذلك حالهم حتى بعث الله رسوله، فأنزل الله تعالى عُذْرَ سليمان على لسانه، وأظهر براءته مما رأى فقال: ({وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] يعني اليهود، ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 330. (¬2) "الصحاح": (أرض). (¬3) أي عند كنيسة الجسمانية كما تقدم في الصفحة 180، وانظر "الروض المعطار" 1/ 123.

فصل في وفاة بلقيس

ومعنى {تَتْلُو} تَلَتْ، وقرأ الحسن: "الشياطون" بالواو في جميع القرآن (¬1)، وهو لحنٌ فاحش عند أهل الأدب. الأصمعي قال: سمعت أعرابيًا يقول: بستان فلان حوله بساتون. ومعنى {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي: في ملكه. وقال السُّدي: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعدَ للسمع ثم يأتون الكهنةَ فيخبرونهم، ويخلطون ما سمعوا بالكذب والزور، في كل كلمة سبعون كذبة فيما يكون في الأرض من موتٍ أو غيره، ففشا في بني إسرائيل أن الجنَّ تعلمُ الغيب، فجمع سليمان تلك الكتبَ وجعلها في صندوق ودفنها تحت مصلاه أو كرسيِّه، وقال: لا أسمعُ أحدًا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إلا قتلته. فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين يعرفون حال الكتب وَدَفْنَهُ إياها تمثلَ الشيطان في صورة إنسان، وأتى نفرًا من بني إسرائيل، قال: هل أدلكم على كنزٍ لا تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم، فذهب معهم إلى كرسيِّ سليمان وقال: احفروا ها هنا، فحفروا وأخرجوها، فقال: إنَّ سليمان كان يضبط الجنَّ والإنس والطير بهذا. ولما أراهم المكان من بعيد قالوا: ادنُ، قال: لا أقدر، وما كان شيطانٌ يدنو من الكرسيِّ إلا احترق، وطار في الهواء. ولما ظهرت الكتب فشا في الناس أنَّ سليمان كان ساحرًا، فلذلك أكثرُ ما يوجد السحر في اليهود. فأنزل الله براءة سليمان. وفي الآية دليل على أنَّ الساحر كافر لقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. فصل في وفاة بلْقيس حكى أبو القاسم في "تاريخ دمشق" وقال: بلغني أنَّ بلْقيس ملكت اليَمَن تسع سنين، وكانت خليفةً عليها من قِبَل سليمان أربع سنين، قال: وقال همام بن منبه: قدمتُ مكة فجلستُ إلى عبد الله بن الزبير وعنده جماعة من قريش فقال رجل: ممن أنت؟ قلت: من اليَمَن، قال: ما فعلتْ عجوزكم؟ قلتُ: أيُّ عجوز؟ قال: بلْقيس، قلت: أَسْلَمَت مع سليمان لله رب العالمين، وأما عجوزكم فحمَّالة الحطب في جيدها ¬

_ (¬1) "مختصر في شواذ القراءات" ص 8.

حبلٌ من مسد (¬1). قال أبو القاسم: وروي عن الأَوْزَاعي أنه قال: كُسِرَ برجٌ من أبراج تَدْمُر فأصابوا فيه امرأة حسناء دعجاء مدرجة، كأن أعكانها طيُّ الطَّوَامير المدرجة، عليها عمامة طولها ثمانون ذراعًا، مكتوب على طرفها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أنا بِلْقيس مَلِكَة سَبَأ، زوجة سليمان بن دَاود، مَلَكْت الدنيا كافرةً ومؤمنة، ملكت شيئًا لم يملكه أحدٌ قَبْلي، ولا يملكه أحدٌ بَعْدي، ثم صار مصيري إلى الموت فأَقْصِرُوا يا طُلابَ الدنيا (¬2). واختلفوا فيها على أقوال: فقال السُّدي: توفيت قَبْل سليمان بشهر، وقيل: إنها توفيت باليَمَن. * * * قال: فإن قيل: فهل تعرفون في رواة الحديث من اسمه سليمان بن داود؟ فالجواب: جماعة ذكرهم أبو القاسم في "تاريخ دمشق" والخطيب في "تاريخ بغداد" فنذكر أعيانهم، فمنهم: سليمان بن داود بن أبي حَفْص، وكنيته أبو الرَّبيع الخُتَّليُّ (¬3)، سمع بالشام أبا الحسن بن أبي الحديد وغيره، وروى عن حَفْص بن عمر الربعي وغيره. ومما روى عن الرَّبعي (¬4) قال: خرجنا إلى المدائن لنسمع من شُعيب بن حرب الواسطي فقال: أحدِّثكم قبل أن تسمعوا بحديثين في الورع، أما أحدهما فرأيته بعيني قال: خرجتُ حاجًّا فركبتُ في سفينة فإذا رجلان كأنهما ارتكضا في رحم واحد، يعظِّم كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وإذا في السفينة قمح، فأخذ أحدهما قمحةً فوضعها في فيه، فنظر إليه صاحبه وقال: ما هذا؟ قال: سهوتُ، قال: لا أصاحب من يسهو عن الله، قدّمِ السَّفينةَ يا ملاح وإلا رميتُ روحي في البحر، فقلت له: من أجل قمحةٍ تلقي روحك في البحر؟ فقال: هيه استصغرتَ الذنبَ ولم تنظر مَن عُصي، ولم يقدِّم الملاحُ ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 69/ 77. (¬2) تاريخ دمشق 69/ 78، والطوامير: جمع طامور، وهو الصحيفة. (¬3) كذا في (ط)، وليس في (ب)، والصواب: الجِيلي كما في تاريخ دمشق 7/ 603 (مصورة دار البشير)، ومختصره لابن منظور، وابن بدران 6/ 273. (¬4) كذا في (ط)، وفي تاريخ دمشق ومختصريه: المربّعي، وهو الصواب إن شاء الله.

السفينةَ فزجَّ نفسه في البحر وغاب عنا. ففيل صاحبه: والله إني صحبته منذ ثلاثين سنة ما رأى مني زلَّةً غيرها. قال: وسرنا أيامًا وأنا أَخدمه حتى أتينا مَكَّةَ، فبينما نحن في الطواف وإذا برجل، فقلت لرفيقه: هذا صاحبك، فجاء فسلَّم عليه فقال له: أُبْ إلى الله بالتوبةِ من ذنبك، ففعل فقلت: الصحبة فقال: قد نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَن صُحْبة الثلاثة، لِئلا يتناجى اثنان دونَ الثالِث (¬1)، ثم افترقا، فإن يكن أحد من الأبدال فهما ذانك الفتيان. وأما الذي حدثني سفيان الثوري فقال: بلغني أنَّ المسيح عليه السلام مرَّ بمقبرة، فنادى: يا أهل القبور أخبرونا عن حالكم، فقام رجل منهم ينفض التراب عن رأسه ويقول: يا روحَ الله ما الذي تريد منا؟ فإني لواقفٌ في الحساب منذ سبعين سنة، قال: وما كنت تعمل؟ قال: حمَّالًا أحملُ الحطب فبعتُ يومًا حزمةً من رجل، وأخذتُ منها شظيّةً فتخلَّلتُ بها ورميتها في الطريق، فعاتبني الله وقال: استهنتَ بأمري وقد علمتَ أني مطَّلعٌ عليك أسمع وأرى، قال: فشاب مُقَدَّمُ رأسِ المسيح من هول ما سمع منه وقال سفيان: هؤلاء أصحاب الشظايا، فما بالكم بأصحاب الجذوع؟ ! قلتُ: وقد ذكره الخطيب (¬2) وقال: كان أحول، وحدَّث عنه عباس الدوري ومسلم بن حجاج وأبو زرعة الرازي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهم، وكان ثقة، ومات بمدينة أبي جعفر ببغداد، أول يوم من رمضان سنة إحدى وثلاثين ومئتين. ومنهم: سليمان بن داود بن خالد بن عباد، من ساكني جَرود من إقليم مَعْلُولَا من عمل دِمَشق (¬3). ومنهم: سليمان بن داود بن عبد الله أبو أيوب، من أهل نَيْسَابُور (¬4)، وذكره الحاكم أبو عبد الله في "تاريخه"، ومات في سنة عشرين وثلاث مئة بنَيْسَابُور، وسافر إلى الشام ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (4564)، والنهي فيه عن التناجي فقط وليس عن الصُّحبَة، بل ورد الحضُّ على صُحبة الثلاثة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة رَكْبٌ" أخرجه أبو داود (2607)، والترمذي (1674). (¬2) وَهِمَ المصنف رحمه الله في هذا، فالذي ترجم له الخطيب 10/ 49 نسبته "الخُتّلي" وتوفي سنة 231 هـ، أما المقصود فهو "الجيلي"، وتوفي نحو سنة 469 هـ. (¬3) "تاريخ دمشق" 22/ 302. (¬4) "تاريخ دمشق" 64/ 354.

والحِجَاز والعِراق، وسمع بدمشق أبا زُرْعة الدمشقي وروى عنه في "تاريخه" وأسمعه، وروى عنه جماعة منهم أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، وعاد إلى نَيْسَابُور فتوفي بها، كما ذكرنا. ومنهم: سليمان بن دَاود بن عبيد الله بن مروان بن الحكم بن أبي العاص (¬1)، كان يسكن دَيْر البُخْت من أعمال دمشق، وكان أعورَ، وهو الذي تزوج فاطمةَ بنت عبد الله ابن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز بعد عمر، فولدت له هشام بن سليمان، وسليمان هذا هو الذي يقال له الخلف الأعور. وقيل: إنما خلف عليها داود بن بِشْر بن مروان، وسنذكره فيما بعد. ومنهم: سليمان بن داود الخَوْلاني الدَّارَانِيّ (¬2) أخو عُثْمان بن دَاود، روى عن: الزُّهْري وعمر بن عبد العزيز وأبي قِلابة الجرمي وغيرهم، وروى عنه: الوَضِينُ بن عطاء وغيره، وكان حاجبًا لعمر بن عبد العزيز ثقةً مأمونًا. وقال البيهقي: قد أثنى على سليمان بن داود هذا أبو زُرْعة الرَّازي وأبو حاتم وعثمان بن سعيد الدَّارميُّ وجماعة مِن الحفَّاظ، وتكلموا فيه بسبب الحديث الذي رواه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاب الصدقات (¬3)، فمنهم من يقول: أرسله، ومنهم من يقول: وقفه، وعلى كل حال فهو مأمون ثقة. ومنهم: سليمان بن داود، دِمَشقيٌّ، حدَّث عن أبي معاوية شيبان بن عبد الرحمن النَّحْوي، وروى عنه محمد بن موسى القطَّان (¬4). ومنهم: سليمان بن داود، دِمَشقي أيضًا، حدَّثَ عن أبي سهل أحمد بن محمد بن عمر اليماني، وروى عنه عبد الله بن محمد بن يوسف (¬5). وأما الذين ذكرهم الخطيب: ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 22/ 303. (¬2) "تاريخ دمشق" 22/ 312. (¬3) حديث الصدقات حديث طويل أخرجه ابن حبان في صحيحه (6559)، والحاكم في مستدركه (1447). (¬4) "تاريخ دمشق" 22/ 315. (¬5) "تاريخ دمشق" 22/ 315.

فمنهم: سليمان بن دَاود أبو داود الطَيَالِسي (¬1)، وقد ذكر. ومنهم: سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عبَّاس، ذكرناه أيضًا (¬2). ومنهم: سليمان بن داود، أبو الرَّبيع الزَّهْراني (¬3) ذكرناه أيضًا. ومنهم: سليمان بن داود بن بشر الشاذكوني (¬4) ذكرناه أيضًا. انتهت ترجمتهم، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 9/ 24. (¬2) "تاريخ بغداد" 9/ 31. (¬3) "تاريخ بغداد" 9/ 38، وتهذيب الكمال 3/ 277. (¬4) "تاريخ بغداد" 9/ 40.

فصل في ذكر جماعة ملكوا بعد سليمان عليه السلام

فصل في ذكر جماعة مَلَكوا بعد سليمان عليه السلام (¬1) قال علماء السِّير: ولما مات سليمان مَلَك بعده ولده رجيعم بجيم (¬2)، وفيه خلاف، فأقام بعد أبيه سبع عشرة سنة. واختلفوا فيمن مَلَك بعده: فقال وهب: ابنه أبيَّا بن رُحُبْعم ثلاث سنين (¬3) ومات بعده. وقال كعب: إنما مَلَك بعد رُحُبْعُم رجل من بني إسرائيل يقال له نورغم (¬4)، فاتخذ عجلًا من ذهب وعبده فأهلكه الله، ثم مَلَك بعده أَبيَّا بن رُحُبْعُم ومات، فملك بعده رجل يقال له آحاذ (¬5)، فأقام أربعين سنة، وفي أيام آحاذ انقطع ملك قوم سَبَأ، وآخرهم الصباح، ملك تسعة عشر شهرًا وأيامًا، وقال وهب: إنما مَلَك بعد أَبَيَّا بن رُحُبْعُم ولده أُسَا بن أَبيَّا أربعين سنة، وكان رجلًا صالحًا. فصل في ظهور السامرة واختلفوا فيهم: فقال وهب: ظهروا في أيام أَبيَّا بن رُحُبْعُم، وقيل: في أيام أُسَا، وأنكروا نبوَّة داود وسليمان، وأقاموا رؤساء من سِبْط هارون بن عمران، وسكنوا نَابُلُسَ، وعظموا الجبل الذي يليها من ناحية القِبلة، وسموه الطُّور، واتخذوا بوقاتٍ من فِضَّة ينفخون فيها في أوقات صلواتهم، وهم الذين يقولون: لا مساس، ويزعمون أن نَابُلُس مدينة يَعقوب، وهم صنفان متباينان: أحدهما يقال له: كوشان، والآخر: دوشان، والصنفان يخالفان اليهود، وبيدهم توراة غير التي بيد اليهود، ودوشان يقولون بقِدَم العالم. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ اليعقوبي" 1/ 61، و"تاريخ الطبري" 1/ 517، ومروج الذهب 1/ 112. (¬2) كذا في (ط): بجيم، وليس في (ب)، وفي الطبري: رُحُبْعُم، وسترد كذلك قريبًا، وفي مروج الذهب: ارخبعم. (¬3) في (ط): ثلث سنة، وليس في (ب)، والمثبت من الطبري ومروج الذهب. (¬4) في تاريخ الطبري 1/ 517، ومروج الذهب 1/ 113: يو ربعم. (¬5) في مروج الذهب: احاب.

فصل في قصة أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان مع صاحب الهند

فصل في قصة أسا بن أبيّا بن رُحُبْعُم بن سليمان مع صاحب الهند (¬1) وكان أعرج من عرق النَّسا، ولم يكن نبيًّا، وإنما كان عبدًا صالحًا على ما قيل، فطمع فيه الملوك لزمانته. قال علماء السِّير: ولما قام أسا كان في بني إسرائيل من يعبدُ الأصنام، فنادى مناديه ألا إنَّ الكفر قد مات، وعاش في بني إسرائيل الإيمان، ومن عبد صنمًا قتلته، وكسر الأصنام، وقتل جماعة منهم فهربوا إلى الهِنْد، وبها ملكٌ يقال له: أزرج (¬2)، وكان جبارًا عاتيًا، فدخلوا عليه ووصفوا له بلاد الشام وما في البيت المقدس من الأموال والجواهر، وقالوا: أنت أحقُّ بها فقال: حتى أبعث إلى تلك البلاد من يكشفها لي، وبعث جواسيس في زي التجار ومعهم الأمتعة الفاخرة والجواهر الثمينة، وأمرهم أن يعلموا عِلْمَ شأنِ تلك الأرض وأحوال بني إسرائيل، فقدموا الشام وأظهروا تلك الأمتعة وكشفوا البلاد وعلموا علمها، وقالوا للناس: ما بال الملك لا يشتري منا متاعًا ومعنا الطرائف واليواقيت التي لم ير مثلها؟ فقالوا: إن عنده من الجواهر والأمتعة والخزائن التي سار بها موسى من مصر، وما جمع ملك داود وسليمان وُيوشَع ومَن بعدَهم، قالوا: فبم يقاتل إنْ دهمه عدوٌّ، وعدته للقتال قليلة؟ قالوا: له صديق لو استعان به على أن يزيلَ الجبالَ لأزالها، وله جنود لا تُحْصَى. ثم أرسلوا إلى أسا: قد جئنا من بلاد بعيدة ومعنا هدية ونريد أن تقبلها منا، فأحضرهم وما معهم وقال: لا حاجةَ لي فيه، إنما أطلب ما يبقى وهذا يفنى، ثم أحسن إليهم وعادوا إلى الهِنْد، فأخبروا أزرج بالخبر، وقالوا: إنَّ بلاده في غاية الحسن والنزهة وكثرة الأموال، وخصوصًا المسجد الذي لهم، فإن فيه من الجواهر والأموال ما لم يوجد في غيره، وقالوا: له صديق عظيم لو سأله أنْ يزيل الجبال لأزالها، فقال: جنودي أعظم من جنود صديقه، ثم جمع العساكر وكانت ألف ألف فاختار منهم مئة ألف يكونون حوله، وسار في مئة ألف ألف مركب، وزيَّنها بالقباب والفِيَلة والعُدَّة والخزائن ما لم يشاهد ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 517، وعرائس المجالس 330، و"المنتظم " 1/ 389، و"الكامل" 1/ 251. (¬2) في تاريخ الطبري والمنتظم: زرح، وفي عرائس المجالس: روح.

مثله، وقصد القُلْزُم، وبلغ أُسَا فقال: اللهم اكفنا شرَّه وافعل به كما فعلتَ بفرعون، فأوحى الله إليه- أو رأى في منامه- الوعد بالنصر، فعرَّفَ بني إسرائيل، ولما قرب ملك الهِنْد وبلغ بني إسرائيل عظم جيوشه خافوا وقالوا: لا طاقةَ لنا بالقوم، ونحن خارجون إليه لعلهم يرحموننا، فقال أُسَا: تبًّا لكم، ما هذا برأي، أنُلقي بأيدينا إلى الكفا؟ ! ولكن أنا أرغب إلى صديقي، ورمى بثياب الملك ولبس المسوحَ وافترش الرماد، ثم دعا آباءه ونصرهم، ونام في مصلاه، فأتاه آت في منامه فقال له: يا أُسَا، الصديق لا يتخلى عن صديقه، أتذكُرني في الرخاء وأسلمك في الشدائد، قد كفيتك أمر عدوِّك، وأنا الذي لا يهون مَن أكرمته، ولا يضعف مَن قوَّيته، فانتبه فرحًا وأخبرهم بما رأى، فصدَّقه المؤمنون وكذَّبه المنافقون. ثم جمع العلماءَ والعبَّاد والرهبان، وخرج ببني إسرائيل، وقد نشر العلماءُ أناجيلهم، وقصد القُلْزُم لئلا يطمع الهنديُّ، فلما وصل إلى البحر وقف على رأسه ينظر إلى المراكب، فلمَّا نظر الهندي إليهم استحقرهم وقال للجواسيس: غررتموني وأقدمتموني من بلادي إلى هذه الشِّرْذمة، وأيُّ قدرٍ لهم؟ ثم صعدوا من المراكب ورشقوا بني إسرائيل رشقةً واحدة، فبعث الله الملائكة فردَّت عليهم النشاب، ووقع في كلِّ من رمى بنشابة نشابتُهُ التي رمى بها، وظهر من أفواه الملائكة شررُ النار، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد، فغرقوا، وانهزم الهندي في مركب يقول: لا طاقة لنا اليوم بصديق أُسَا، ثم ضرب مَلَكٌ مركبه فأغرقه، وغنم بنو إسرائيل عساكره وأمواله وذخائره، وأخذوا ما لم يغنمه غيرهم وانطلقوا، وعظم أُسَا في أعين الملوك. وذكر هارون بن المأمون: أنَّ صاحب الحَضْر كان يقال له: لنقر (¬1)، وكان يسكن الثرثار، بريَّةَ سنجار، وكان الحَضْر أعظمَ الحصون، وبلغه خبر بيت المقدس، وكان يعبد الزهرة، فجمع العساكر وخرج ومعه بُخْت نَصَّر، وكان كَاتِبَه، ونذر لنقر إن أظفره الله ببيت المقدس أن يذبح ابنه للزهرة، فنزل على بيت المقدس، فبعث الله عليه وعلى جيشه ريحًا فأهلكتهم، وأفلت كاتبه بُخْت نَصَّر إلى الحضر، وبلغ ابنه أنه نذر ذبحه، وكان كذلك. فغضب بُخْت نَصَّر وقام إلى ابنه فذبحه، ومَلَك بُخْت نَصَّر بعده. قال هارون: وكان ذلك أول أمر بُخْت نَصَّر. قلت: وليس كما ذكر فإن بُخْت نَصَّر ظهر بعد ¬

_ (¬1) في المعارف 46: لُيَّقَر، وفي نسختين ذكرهما المحقق: لنقز، والمثبت من (ط)، وليس في (ب).

ذلك، لما نذكر. قال: ثم سار ملك الهِند إلى الشام بعد هلاك لنقر فأهلكه الله، ثم أقام أُسَا أربعين سنة ومات. قال: فملك بعده ولده يَهُو شَافاط خمسًا وعشرين سنة ومات، وكان عادلًا صالحًا ولم يكن له ولد. قال: فنظروا فلم يبقَ مِن بيت المُلْك إلا امرأة يقال لها: غزليا بنت عمرم (¬1) فملَّكوها، وكانت جبَّارة عاتية، فشرعت في قتل أولاد الملوك من بني إسرائيل، فأقامت سبع سنين، ووثب عليها رجل من أولاد الملوك يقال له يواش، فقتلها وملك بعدها أربعين سنة ثم مات. قال: وملك بعده ابنه أَمَصْيَا بن يُوَاش، فأقام تسعًا وعشرين سنة، وكان فاسقًا فقتله أصحابه. قال: وملك بعده ولده اسمه لعوزيا، وكان صالحًا، فأقام خمسين سنة، ويقال: إن اسمه عوزيا، ثم مات، وملك بعده ولده حزقيا عشر سنين، ثم اختلف بنو إسرائيل وتداولتهم الأيام حتى بعث الله شَعيا، وبين وفاة سليمان ومبعث شَعيا نحو من ثلاث مئة سنة، وقيل: مئتان وستون سنة. * * * ¬

_ (¬1) في "الطبري" 1/ 531: عتليا ويقال غزليا ابنة عمرم أم أخزايا.

فصل في قصة شعيا بن أمصيا وخراب بيت المقدس

فَصل في قِصَّة شَعْيَا بن أمصيَا وَخَراب بَيت المَقدِس (¬1) قال الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4] والمراد بالكتاب: التوراة، والفساد: قتل الأنبياء مثل شَعْيَا بن أَمَصْيا ويحيى بن زكريَّا، والمقتول في الفساد الأول: شَعْيَا، وفي الثاني: زكريَّا، وقال مقاتل: كان بين الفَسَادَين مئتا سنة وعشر سنين. قال علماء السِّير: كان بنو إسرائيل فيهم الأحداث والخطايا، وكان الله تعالى متجاوزًا عنهم، منعطفًا عليهم، محسنًا إليهم. وقال أبو إسحاق الثعلبي- وقد اختصرته-: كان أول ما نزل ببني إسرائيل بسبب ذنوبهم أنَّ ملكًا منهم يدعى صديقة، وكان الله إذا ملك عليهم بعث نبيًا يسدِّده ويرشده، فبعث الله شَعْيَا بن أَمَصْيا، وكان ذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى (¬2). وقال جدي في "فضائل بيت المقدس": وقال ابن إسحاق: وشَعْيَا هو الذي بشَّر بعيسى ومحمد -صلى الله عليه وسلم-، فقال مخاطبًا لبيت المقدس: أبشري أُوْرِيْ شَلِم، الآن يأتيك راكبُ الحمار يعني عيسى، ومِن بعدِه راكب البعير، يعني محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (¬3). فملك صديقة بني إسرائيل مدةً وشَعْيَا معه، وعظمت الأحداث في بني إسرائيل فبعث الله سَنْحاريب ملك بابل في ست مئة ألف راية، فنزل على القدس، وكان الملك مريضًا في ساقه قرحة، فقال شَعْيَا لصديقة: قد نزل بنا هذا الملك وخافه الناس، فقال له الملك: هل أتاك من الوحي فيما حدث؟ قال: لا، فبينما هم كذلك جاء الوحي بأنَّ صديقة قد انتهى ملكه، وأنه سيخلِّف من يشاء ويوصي وصيَّته، فلما أخبرنا شَعْيَا صديقة قام إلى المحراب فبكى ساعةً ودعا وتضرَّع وقال: إلهي، قد علمتَ سرِّي وعلانيتي وفعلي في بني إسرائيل- وكان عبدًا صالحًا- فرحمه الله وأوحى إلى شعيا أَخْبِر صديقةَ ¬

_ (¬1) انظر قصته في "تاريخ الطبري" 1/ 532، وتفسيره 14/ 459، و"البدء والتأريخ" 3/ 113، و"عرائس المجالس" 329، وتفسير الثعلبي 6/ 71، و"المنتظم" 1/ 397، و"الكامل" 1/ 255، والبداية والنهاية 2/ 357. (¬2) "عرائس المجالس" ص 531. (¬3) "فضائل القدس" ص 100.

أنَّ الله قد رحمه وأخَّر أجله خمس عشرة سنة، وأنه قد أنجاه من عدوِّه سَنْحاريب وجنودِه. فأخبر شَعْيَا فذهب عنه الوجع وفرح وسجد شكرًا لله تعالى. وأصبح عسكر سَنْحاريب موتى إلا سَنْحاريب وخمسة نفر من كتَّابه، أحدهم بُخْتَ نَصَّر. وخرج صديقة في بني إسرائيل فرأى القوم موتى فغنم أموالهم، وطلب سَنْحاريب، فوجده في مغارة ومعه كتَّابه فجعلهم في الجوامع. وقال صديقة لسَنْحاريب: كيف رأيتَ فعلَ الله بكم؟ فقال سَنْحاريب: قد أتاني خبركم، ونصر ربكم لكم قبل أنْ أخرج من بلادي فلم أطع مرشدًا، ولم يُلْقني في الشقاوة إلا قلة عقلي. ثم أمر بهم فطيفَ بهم حول بيت المقدس سبعين يومًا يَطْعَمُ كل واحد منهم في كلِّ يوم قرصين من شعير، فقال سَنْحاريب: القتلُ أهونُ علينا من هذا. فأوحى الله إليه: يا شَعْيَا أطلقوا سَنْحاريب ومن معه مكرَّمين لينذروا من وراءهم، فأرسلهم، فلما قدموا بابل قال له كهنته: قد نهيناك ولم تطعنا، وهي أمَّة لا يستطيعها أحدٌ مِنْ ربهم، وأقام سَنْحاريب سبع سنين ومات واستُخلف بُخْتَ نَصَّر، وكان ابن ابنه على ما كان عليه، فسار في المُلْك والناس سيرةَ جدِّه، فأقام خمس عشرة سنة. وذكر هارون بن المأمون أنَّ سَنْحاريب كان يسكن نِينَوَى، فسار إلى بني إسرائيل ومعه ملك أَذْرَبِيجَان، واسمه: سَلما عاسر، ومعناه بالعربية: سلمان (¬1) الأعسر، فلما نزلا على القدس اختلفا ووقعت الحرب بينهما، حتى تفانوا وغَنِمَهم بنو إسرائيل. وتوفي صديقةُ فمَرجَ أمر بني إسرائيل، وتنافسوا في المُلْك، وقتل بعضهم بعضًا، ونبيُّهم شَعْيَا بينهم لا يقبلون منه، فقال الله تعالى: قم فيهم خطيبًا لأوحيَ على لسانك، فقام فأنطقه الله، فقال مختصرًا: يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقضي شأن بني إسرائيل، ربَّاهم بنعمته واصطنعهم لنفسه، وخصَّهم لكرامته، وفضَّلهم على عباده، وكانوا كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها، وجمع ضالتها، وجبر كسيرها، وأسمن مهزولها، ، فَبَطرت وتناطحت كباشها، فقتل بعضهم بعضًا حتى لم يبقَ منهم عظمٌ صحيح، فويل لهذه الأمة الخاطئة. وإني ضاربٌ لهم مثلًا: قل لهم: ¬

_ (¬1) في (ب): سليمان، والمثبت من (ط)، والمعارف 46.

كيف ترون في أرض كانت خرابًا زمانًا، مواتًا لا عمران بعدها، وكان لها ربّ حكيم قوي، أقبل عليها بالعمارة وأحاط عليها جدارًا، وشيَّد فيها قصرًا، وأنبط فيها نهرًا، وغرس فيها ألوان الثمار والأشجار، واستحفظها ذا رأي وهمة قويًا أمينًا، فلما أطلعت جاء طلعُها خَرُّوبًا، فقالوا: بئست الأرض هذه، نريد أن نهدم جدارها، ونخرب قصرها، وندفن نهرها حتى تعود مواتًا كما كانت، فقال الله تعالى: إنَّ الجدار ذمتي، والقصر شريعتي، والنهر كتابي، والقيِّم نبيِّي، وأنتم الغراس، والخروب أعمالكم الخبيثة، وإني قد قضيت عليكم قضاءكم على أنفسكم تتقرَّبون إليَّ بذبح البقر والغنم التي لا تنالني لحومُها، ولم تتقرَّبوا إليَّ بالتقوى والكفِّ عن ذبح النفوس المحرَّمة. تشيِّدون المساجد وتنجِّسون القلوب، وأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولستُ أسكنها، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها، إنما أمرت برفعها لأُذْكَرَ فيها، وتكون مَعْلمًا لمن أراد الصلاة فيها، وذكر الثعلبي كلامًا طويلًا، وقال: فلما فرغ شَعْيَا من خطبته كذبوه وطلبوه ليقتلوه، فهرب منهم، فصادف شجرة فانفرجت له فدخل فيها فانضمت عليه، فأخذ بثوبه الشيطان وبقي هدبة منه، فعرفها بنو إسرائيل فوضعوا المنشار في وسط الشجرة حتى قطعوها وقطعوه في وسطها نصفين (¬1). قال الثعلبي: فاستخلف الله على بني إسرائيل رجلًا منهم يقال له: ناشئة بن أموص، وبعث لهم الخَضِر نبيًا، واسم الخضر: إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران، وإنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت خضراء (¬2). قلتُ: وقد وهم الثعلبي، لما ذكرنا أنَّ الخَضِر لم يكن نبيًا، وكان وزير ذي القَرْنَيْن وابن خالته، وهو صاحب موسى، وقد ذكرناه. وقال في "المعرَّب": إرمياء - بكسر الهمزة والمد - اسم النبيَّ عليه السلام، أعجمي معرَّب (¬3). ¬

_ (¬1) "عرائس المجالس" ص 335. (¬2) "عرائس المجالس" ص 335، وتفسير الثعلبي 6/ 75، وأخرج أحمد (8113)، والبخاري (3402) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما سمي خضرًا أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تحته تهتز خضراء". (¬3) "المعرّب" ص 69.

واختلفوا فيه: فقال وهب: هو إرميا الأكبر. وقال السُّدي: هو الأصغر. واختلفوا في زمانه: فقال وهب: كان في زمان بُخْتَ نَصَّر. وقال ابن إسحاق: في زمان الإسكندر الثاني. وقيل: في أيام كيقابوس وكيخسرو، والأول أصح. وقال وهبْ كان إرميا غلامًا من أبناء الملوك، وكان زاهدًا، ولم يكن لأبيه سواه، وكان أبوه يعرض عليه النكاح وهو يأباه مخافة أن يشتغل عن العبادة، فألحَّ عليه أبوه وزوَّجه في أهل بيت من عظماء المملكة، فلما دخل بالمرأة قال: يا هذه إني أُسِرُّ إليك سرًا فإن سترته عليَّ ستر الله عليك في الدنيا والآخرة، وإنْ أفشيته فَضحَكِ الله في الدنيا والآخرة، قالت: وما هو؟ قال: إني لا أريدُ النساء، فأقامت معه سنة، فأنكر أبوه ذلك وسأله فقال: ما طال العهد بعد، وسأل المرأة فقالت كذلك، ففرَّق بينهما وزوَّجه أخرى، فاستكتمها أمره، وأقام سنة، فسأله أبوه فقال مثل ذلك، وسأل المرأة فقالت المرأة: وهل تلدُ المرأة من غير زوج؟ ! فغضب عليه أبوه فخاف منه فهرب (¬1). وقتل بنو إسرائيل شَعْيَا وطغوا وتجبَّروا، فبعث الله إرميا نبيًّا وكان من أولاد الملوك تزهد، فلما بعثه الله نبيًا، قال الله تعالى: إني منتقم من بني إسرائيل ومهلكهم. فحثا على رأسه الرماد وقال: إلهي وددتُ أن أمي لم تلدني حيث جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل، وجعلتَ خرابَ البيت المقدس على يديَّ. ثم قال: يا رب ومن تُسلِّط عليهم؟ فقال: عَبَدَة النيرانِ والأوثان، لا يخافون عقابي، ولا يرجون ثوابي، قم على صخرة بيت المقدس واسمع ما أقول. وقد روى القصة جماعة منهم وهب والسُّدي والكَلبي ومقاتل وابن إسحاق وغيرهم، قال وهب: ولما بعث الله إرميا كان مع الملك ناشِيَة يسدِّده ويرشده، فأقام مدة، وفشت الأحداث (¬2) فيهم، ونسوا ما فَعَلَ الله معهم في قصة سَنْحاريب، فأوحى ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 1/ 401 - 402. (¬2) في (ط): الأحوال، والمثبت من المصادر.

ذكر الخطبة مختصرة

الله إلى إرميا: قم فيهم ودْكِّرهم بأيامي، وعرِّفهم أحداثهم، فقال: إلهي إني ضعيف فقوِّني، وعاجز فبلِّغني، ومخطئ فسدِّدني، وذليل إن لم تعزَّني، وضليل إن لم تبصِّرني، فقال له: قف على صخرة بيت المقدس (¬1). ذكر الخطبة مختصرة (¬2) قال علماء السِّير ممن سميناه، دخل حديث بعضهم في حديث بعض: فوقف إرميا على الصخرة وأوحى الله إليه: يا إرميا من قبل أن أصوِّرك قدَّستك، ومن قبل أن أخرجكَ من بطن أمِّك صوَّرتك، لأمر عظيم بعثتك، قل لبني إسرائيل: إنَّ الله ذكركم بصلاح آبائكم، فلذلك استبقاكم. كيف وجد من أطاعني غبَّ طاعتي؟ وكيف وجد من عصاني غبّ معصيتي؟ هل عصاني أحدٌ فسعد بمعصيتي، وهل أطاعني أحدٌ فشقي بطاعتي، إن هؤلاء العصاة رتعوا في مراتع الهلكة، وتركوا الأمر الذي به أكرمت آباءهم، وابتغوا الكرامة من غيري. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خَوَلًا يحكمون فيهم بغير حكمي، ويقضون بينهم بغير كتابي، حتى دانوا لهم بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي، وأما أمراؤهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، وغرَّتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي، ونسوا عهدي. وأمَّا قرَّاؤهم فيدرسون كتابي ولا يعملون بما فيه، وينقادون للملوك يتابعوهم على البِدَع التي يَبْتدعون في ديني، وكلُّ ذلك وأنا أمطر عليهم السماء، وأُنبتُ لهم الأرض فألبسهم العافية، وأظهرهم على عدوِّهم، ولا يزدادون إلا طغيانًا، فحتى متى وإلى متى؟ أإيَّاي يخادعون أم عليَّ يتجبَّرون؟ فوعزتي لأتيحن لهم فتنة يتحيَّر فيها الحليم، ويضلُّ فيها رأي كلِّ ذي رأي، ولأسلطنَّ عليهم جبَّارًا عاتيًا قاسيًا ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرأفة والرحمة، يتبعه عدد النسور مثل سواد الليل المظلم، معهم عساكر مثل قطع السحاب، كأنَّ خفق راياته أجنحة النسور، وصهيل فرسانه كأصوات العقبان، يعيدون العمران خرابًا، والأنس وحشة، يجولون في الدِّيار بأصوات زئير الأسود، تقشعر منهم الجلود، وعزتي ¬

_ (¬1) انظر عرائس المجالس 335، و"المنتظم" 1/ 402. (¬2) انظر الخطبة في "تاريخ الطبري" 1/ 548 - 549، وتفسيره 5/ 447، و 14/ 490 (هجر)، وعرائس المجالس 335، و"المنتظم" 1/ 403، و"الكتاب المقدس" سفر إرميا الإصحاح الأول.

لأعطلن مدارسهم من كتبي، ولأُخْلِيَنَّ مجالسهم، ولأُوحِشَنَّ مساجدهم من عُمَّارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري، ويتعبدون فيها لكسب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العمل، ولأبدلن مُلوكهم بالعزِّ ذلًا، وبالأُنس خوفًا، وبالغنى فقرًا، وبالشبع جوعًا، وبالعافية ألوان البلاء، وبلبس الحرير مدارع العباء، وبالأرايح الطيبة جيف القتلى، وبتيجان الذهب أطواق الحديد، وبالقصور الواسعة أنواع الخراب، ولأُبْدِلَنَّ نساءهم من الخدور بالسَّحب على الوجوه، ولآمرن السماء فتكون طبقًا من حديد، ولآمرن الأرض فتكون صفحة من نحاس، وذكر كلامًا كثيرًا طويلًا. فلما سمع إرميا هذا قال: سبحانك يا ربَّنا إنَّك مُهلك هذه القرية، وهي مساكن أنبيائك، ومَهبط وحيك، وإنك لمتلف هذه الأمة، وهم ولد خليلك، وأمّة موسى نجيِّك، وقوم داود صفيِّك، يا رب فأي القرى يأمن مكرك بعد أُوْرِيْ شَلِم، وأي العباد يأمنون سطوتك بعد أولاد أنبيائك؟ فأوحى الله إليه: يا إرميا، إنما أكرمت أولئك بحفظهم لطاعتي ولو عصوني لأنزلتهم منازل العاصين، ولو أن قومك حفظوا حرمتي وراعوا عبادي، الأرملة واليتيم والمسكين وابن السبيل، لكنت الراحم لهم، ولكنهم يتجاهرون بالمعاصي في الأسواق، وبيوت العبادات، ورؤوس الجبال، وتحت ظلال الأشجار، حتى عجَّتِ السماء إليَّ، واستغاثت الأرضُ والجبال والطير والوحش منهم. فأبلَغهم إرميا رسالة ربهم فكذَّبوه وعذَّبوه وقالوا: عظَّمت الفِرْيةَ على الله، تزعم أنه مخربٌ مسجده، ومعطلٌ بيوتَ عبادته وقراءةَ كتابه، فمن يعبده بعد ذلك؟ ثم قيَّدوه وحبسوه، وهذا قول وهب. وأما ابن إسحاق فقال: أوحى الله إلى إرميا إني مهلك بني إسرائيل بولد يافث وهم ببَابِل، فبكى ومزَّق ثيابه وحثا الرماد على رأسه، فأوحى الله إليه: أشقَّ ذلك عليك؟ فقال: يا إلهي، وكيف لا يشق عليَّ إهلاك قومي؟ فقال الله تعالى: وعزَّتي لا أُهْلِكهُم حتى يكون الأمر من قِبَلِك فطابت نفسه، وأخبرَ المَلِك ناشئة فاستبشر، وأقام بعد هذا ثلاث سنين، فازداد طغيانهم، فبعث الله إلى إرميا مَلَكًا في صورة آدمي فقال: يا نبيَّ الله جئت أستفتيك في أهلي، أحسنتُ إليهم ولم يزدهم إحساني إلا إساءَةً فَأفتني فيهم،

فقال: أحسِنْ إليهم، وجاءه ثانيًا وثالثًا وهو يقول كذلك، فجاءه في الرابعة وقال: يا نبيَّ الله قد ازداد طغيانهم، فسألتك بالله إلا دعوتَ عليهم بالهلاك. فقال إرميا: إلهي إن كانوا على حقٍّ وصوابٍ فأَبقهم، وإن كانوا على عملٍ لا ترضاه فأهلكهم. فلما خرجت الكلمة من فيه أرسل الله صاعقةً على بيت المقدس من السماء، فأحرقت مكان القُربان، وخسفت بسبعة أبواب من المسجد. فلما رأى إرميا ذلك صاح وشقَّ ثيابه وقال: يا رب أين ميعادك؟ فنودي وهل أصابهم العذاب إلا بفتياك ودعائك عليهم؟ ! فعلم أن ذلك السائل كان ملكًا أرسله الله إلى إرميا. فخرج إرميا من ساعته فخالط الوحشَ، وقيل: غير ذلك. ونزل بُخْتَ نَصَّر على القدس، وقال وهب: نزل بُخْتَ نَصَّر الشام، وكان قد أتى من بابِل، فنزل على دمشق، فصالحه أهلها فأقام، وبعث بعض قوَّاده إلى البيت المقدَّس فصالحه ناشئة المَلِك مِن ولد دَاود على مالٍ ورهائن، فقال له بنو إسرائيل: داهنت علينا فقتلوه، وبلغ بُخْتَ نَصَّر فسار إليهم وفتح بيت المقدس عنوة، وهدم المسجد وأخرب بيوت العبادات، وأحرق التوراة، ورمى على الصخرة الجيف حتى عفَّى آثارها، وأحرق البيوت، وحمل معه من الجواهر والأموال ثمانين عَجَلَة، وهدم الحصون، وأسر سبعين ألف غلام من أولاد الأنبياء، وسار إلى بَابِل. واختلفوا في إرميا على أقوال: أحدها: أنه صار مع الوحش، ذكره الثعلبي. والثاني: أنه كان محبوسًا، فأطلقه بُخْتَ نَصَّر وقال: بئس القوم قوم عَصَوْا رسولَ ربهم. والثالث: أنه مضى إلى مصر. والرابع: أنه مضى مع بُخْتَ نَصَّر إلى بابِل (¬1). قال ابن إسحاق: أمر بُخْتَ نَصَّر جنوده بأن يملأ كلُّ واحد ترسه ترابًا ثم يقذفه في القدس، ففعلوا، واختار من أولاد الأنبياء سبعين ألفًا، وقيل: مئة ألف، فقال له ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 6/ 75، وانظر "المنتظم" 1/ 407.

الملوك الذين معه: اقسم بيننا هذه الغِلْمَةَ، فقسمهم بينهم، فأصاب كلُّ واحد منهم أربعة غلمة، وكان من أولئك الغِلْمَان دانيال الأصغر، وسبعة آلاف من ولد داود، وأحد عشر ألفًا من وَلد يُوسف بن يعقوب وأخيه بَنْيامِين، وثمانية آلاف من سبط يساخر ابن يَعْقُوب، وأربعة عشر ألفًا من سبط زبالون بن يعقوب ونفتالي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب. ومن يقي من بني إسرائيل جعلهم بُخْتَ نَصَّر ثلاث فرق: فثلثًا قتلهم، وثلثًا أجلاهم، وثلثًا أقرهم بالشام (¬1). فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4] فالجواب من وجوه: أحدها: أنهم في المرة الأولى أفسدوا وعصوا وسفكوا الدم، فبعث الله عليهم جَالوت وجنوده، فقتلوا وسبوا وأخذوا التابوت، على ما ذكرناه، قاله ابن عباس. أنبأنا غير واحد عن عبد الوهاب بن المبارك الحافظ بإسناده عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} أي: عقوبة أولى المرتين {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} جالوت وجنوده {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 5] وضربوا عليهم الخراج والذلَّ، فسألوا أن يبعث لهم مَلِكًا يقاتلون معه في سبيل الله، فبعث الله طالوت ملكًا. فلما أفسدوا بعث الله عليهم في المرة الأخيرة بُخْتَ نَصَّر. قال الجوهري: الجَوْسُ مصدر قولك: جاسوا، خلالَ الديار، أي: تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها (¬2). وقال مقاتل: جاسوا بمعنى: داسوا وأخربوا. والثاني: أنَّ الذي بعث في المرة الأولى بُخْتَ نَصَّر، قاله سعيد بن المسيَّب، واختاره الفرَّاء والزجَّاج، وفي الثانية جَالُوت. والثالث: أنَّ الذي بعثَ في الأولى العَمَالقة وكانوا كفارًا، وفي الثانية بُخْتَ نَصَّر. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 337. (¬2) "الصحاح" (جَوَس).

والرابع: في المرة الأولى سَنحاريب، وفي الأخرى بُخْتَ نَصَّر، قاله سعيد بن جبير. والخامس: في المرة الأولى قوم من أهل فارس، قاله مجاهد؛ والثانية قال ابن زيد: سلَّط الله عليهم سابور ذا الأكتاف من الفرس. والسادس: أنَّ المرة الأولى قَتْل شعيا والثانية يحيى بن زكريا، قاله مقاتل. والسابع: أنَّ في الأولى بُخْتَ نَصَّر، وفي الثانية أنطانوس الرومي. وقال مقاتل في قوله: {أُولِي بَأْسٍ} أي: ذوي عدد وقوَّة في القتال {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} أي: طافوها ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 5] لابدَّ من كونه {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 6] في آخر المرتين، ثم قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] عند قتل شعيا أو يحيى سلَّط الله عليهم بُخْتَ نَصَّر ثم الروم فقتلوا وسبوا. وقال ابن عباس: بعث الله في المرة الأخيرة بُخْتَ نَصَّر {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7] والتَّبَار الهلاك، ثم قال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء: 8] فرحمهم بعدم انتقامه منهم، فأعاد عمارة بيت المقدس بعد مئة سنة، ثم بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فتركهم في عذاب الجزية. * * *

فصل في بخت نصر البابلي

فصل في بُختَ نَصَّر البابلي قلت: ذكر أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه" بإسناده إلى إسماعيل بن موسى- وكان أديبًا قد قرأ الكتب - قال: بلغني أن بُخْتَ نَصَّر دخل الشام في ست مئة ألف، راكبًا على أسد أحمر، متعمِّمًا بثُعْبان، متقلدًا سيفًا طوله عشرة أشبار في عرض شبر، نَصْلُهُ أخضر مُرَصَّعٌ بالجواهر واليواقيت الحمر، منقوش عليه أبيات منها: وأَنت إنْ لم تَرْجُ أو تتَّقِ ... كالميت محمولًا على نَعْشِهِ وكم نَجَا مِن يَدِ أعدائه ... وميِّتٍ مات على فرشهِ مَنْ يفتح القُفْلَ بمفتاحه ... ينجُ مِنَ التُّهْمَة في فَشِّهِ ونابشُ الموتى له ساعةٌ ... تأخذه أنبش مِنْ نَبْشه (¬1) وحكى سعيد بن جبير قال: قرأ رجل في المصحف: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فبكى وقال: يا ربِّ، أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل وخراب القدس على يده، فرأى في المنام قائلًا يقول: إنَّ ذاك مسكين بأرض بَابِل يقال له: بُخْتَ نَصَّر، فأخذ مالًا للتجارة وسار إلى بَابِل، وطاف على المساكين، وسأل عن بُخْتَ نَصَّر فقالوا: هو مريضٌ على قارعة الطريق، فمضى إليه وأخذه إلى منزله وكساه وأعطاه نفقة ومرَّضه حتى برئ، وعزم الإسرائيلي على العَوْد إلى الشام، فبكى بُخْتَ نَصَّر، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: قد فعلتَ معي ما فعلتَ، وليس لي ما أجازيك به؟ فقال الرجل: بلى، شيء يسير إنْ ملكتَ فأعطني إيَّاه، فقال: أتسخر بي؟ فقال: لا والله، وجعل الرجل يسأله وبُخْتَ نَصَّر يمتنع، فبكى الرجل وقال: لقد علمتُ أنَّه ما يمنعك أن تعطيني ما سألتُ إلا أنَّ الله يريد أن ينفِّذ ما قد قضى به وكَتَبه على بني إسرائيل. ثم قفل الإسرائيلي راجعًا، وكان مَلِكُ بابِل يقال له: صيحون، فأرسل سرية إلى الشام مع رجل من أصحابه في مئة ألف، وخرج بُخْتَ نَصَّر معهم في مطبخه، ليس له همٌّ إلا أن يأكل من المطبخ، فلم يقدم الرجل على أهل الشام وعاد إلى بَابِل. فقال صيحون: أريد رجلًا أعرف من هذا، فقيل له: ها هنا رجل يقال له: بُخْتَ نَصَّر، قد ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 5/ 158 - 159.

عرف الشام وخبره، فأرسله في سرية في أربعة آلاف، ومرض الملك فقالوا: استخلف، فقال: حتى يقدم أصحابكم من الشام، فقدم بُخْتَ نَصَّر بالغنائم فقسمها بين الناس فقالوا: هذا أحق بالملك، فملَّكوه (¬1). وقال السُّدي: رأى رجلٌ من بني إسرائيل في منامه أنَّ خراب بيت المقدس على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بُخْتَ نَصَّر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم، فسار الرجل إلى بابِل فسأل عنه فقيل: هو غلامٌ يحتطب، وإذا به قد أقبل وعلى رأسه حزمة حَطَب، فألقاها وباعها وجاء بثمنها إلى أمه، فجاء الرجل فنزل على أمه وأعطاهم دراهم ونفقة وكسوةً. وعزم الرجل على العَوْد إلى الشام فقال لبُخْتَ نَصَّر: لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: تكتب لي كتابًا إنْ مَلَكتَ يومًا من الدَّهر، فقال: أتسخر بي؟ قال: لا والله، فما زالَ حتى كتب له كتابَ أمان. فقال: اجعل لي آيةً تعرفني بها إذا جئتُ إليك والناس حولك، قال: ارفع هذا الكتاب على قصبة، وقد عرفته، فيقال: إنه وفى له (¬2). واختلفوا في بُخْتَ نَصَّر، فقال ابن الجواليقي في "المعرَّب" عن الأصمعي قال: بُخْتَ نَصَّر هو الذي أخرب بيت المقدس، ولا يقال بالتخفيف. وقال غير الأصمعي: هو بخت ناصر، وقيل: بُوخَت نَصَّر فأعرب قال: وَبُوخَتُ ابنٌ ونَصَّرُ اسم صنم، فكأنه وُجد عند الصنم ولم يُعْرَف له أب يُنْسب إليه، فقيل: ابن الصنم (¬3). وقيل: كان ولد زنى لا يعرف له نسب، ويقال: بخت نصر بن جوذر البابلي. وقيل: كان أبوه وجده من بقايا جيش نُمْرُود. وقيل: كان ابن ابن سَنحاريب، وقد ذكرناه. وقال مجاهد: هو بخت نرسي بالفارسية، وكان كاتبًا لسَنْحاريب. وقيل: كان واليًا لهراسف أو لهراسب، ولَّاه ما بين الأَهْوَاز والروم، فسار إلى دمشق فصالح الملك ناشِيَة على مالٍ. ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 337، و"تاريخ الطبري" 1/ 545. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 238. (¬3) "المعرب" ص 128 - 129.

قال وهب: ولما قدم بُخْتَ نَصَّر إلى بَابِل بالغنائم كان فيهم دانيال، وكان أكرم الناس على بُخْتَ نَصَّر، فحسدته المجوس ووشوا به إلى بُخْتَ نَصَّر وقالوا: إنه وأصحابه لا يأكلون ذبيحتك ولا يعبدون إلهك، فدعاهم فسألهم، فقالوا: نعم لنا إله نعبده، فخدَّ لهم أخاديد وألقاهم فيها، ونزَّل معهم سبعًا ضاريًا شرهًا فلم يضرَّهم. قال وهب: وكان بُخْتَ نَصَّر قد رأى رؤيا فعبَّرها له دانيال، رأى أنه صار صنمًا رأسه من ذهب، وصدره من فضة، وبطنه من نحاس، وفخذاه من حديد، وساقاه من حجر فخار، ثم رأى حجرًا وقع من السماء عليه فدقَّه، ثم ربا الحجر حتى ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأى شجرة أصلها في الأرض وفرعها في السماء، وعليها طيورٌ عظيمة، وتحتها دواب كثيرة، ثم رأى عليها رجلًا بيده فأس، وسمع مناديًا ينادي: اضرب أصلها لتتفرَّق الطير من فروعها، والدوابُّ من تحتها، واترك أصلها قائمًا، فسأل دانيال عن تعبيرها فقال: أما الصنم فأنت ورأسك من ذهب لأنك أفضل الملوك، وأما الصدر فابنك يملك بعدك، وأما البطن الذي من نحاس فالملك الذي يملك بعده، وأما الفخذان من الحديد فيتفرق المُلْك فرقتين في فارس وتكونان أشد المُلْك، وأما الفخار فآخر ملوكهم، وأما الحجر الذي ربا حتى ملأ ما بين المشرق والمغرب فنبيٌّ يبعثه الله في آخر الزمان يفرّق مُلكهم ويملأ بشرعه ما بين الخافقين، فأما الشجرة فأنت، وقطعها ذهاب مُلْكك، ثم يردُّك الله طائرًا نسرًا، وهو مَلِكُ الطَّير، ثم يردُّك الله ثورًا مَلِك الدَّواب، ثم يردُّك الله أسدًا مع السباع والوحوش، فيكون مسخك سبع سنين (¬1)، ومع هذا فيكون قلبك قلب إنسان حتى تعلم أن الله له مُلْك السماوات والأرض (¬2). قال وهب: فمسخ الله بُخْتَ نَصَّر نَسْرًا في الطَّير، وثورًا في الدَّواب، وأسدًا في السِّباع، سبع سنين، كما قال دانيال، ثم ردَّ الله عليه مُلْكه فآمن ودعا الناس إلى عبادة الله، فقيل لوهب: أكان مؤمنًا؟ فقال: قد اختلف الناس فيه، فقالت طائفة من أهل الكتاب: كان مؤمنًا، وقالت طائفة أخرى: لم يكن مؤمنًا، أحرق بيت المقدس، وقتل ¬

_ (¬1) في (ب): بعد سبع سنين. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 340.

أولاد الأنبياء، وفعل ما فعل، فغضب الله عليه فلم تُقْبَل توبته (¬1). قال الفضيل بن عياض: لما سلط الله بُخْتَ نَصَّر على بني إسرائيل كان فيهم ثلاثون ألفًا عملهم مثل عمل الأنبياء فقتلهم. قال ابن عباس: ما شبَّهتُ إيمانَ بُخْتَ نَصَّر إلا بإيمان سَحرة فِرعون. ويقال: إنه كان إذا مُسِخَ في جنس الذكور اشتهى الإناث واغتلم، فحوَّله الله تعالى أنثى، فإذا اشتهى الذكور حوَّله الله ذكرًا، فكان لا يصل إلى شهوته من الجماع ولا يُوصَل إليه. وقال وهب: لما ردّه الله إلى صُورته دعا إلى توحيد الله وقال: كل إله سوى الله باطل. وكل هذه روايات وهب. وقد روى كعب الأحبار قصة بُخْتَ نَصَّر على وجه آخر فقال: إنَّ بُخْتَ نَصَّر رأى رؤيا فهالته، فدعا كهنته وقال لهم: رأيت رؤيا، قالوا: وما هي؟ قال: أنسيتها فأخبروني بتأويلها، قالوا: لا نعلم، قال: قد أجلتكم ثلاثًا فإن أخبرتموني بها وإلا قتلتكم، وبلغ ذلك دانِيال، وكان محبوسًا مع بني إسرائيل، فقال للسجَّان: عرِّف المَلِك أنني أعرف تأويلها، فقال السجَّان: لعلَّ غمَّ الحبس حملك على هذا، وإني أخاف عليك سطوة المَلِك، فقال: لا تخف فإن لي ربًا يخبرني بما أريد، فأخبر السجَّان بُخْتَ نَصَّر بما قال، فأحضره، وقال: ما رأيتُ؟ فقال: رأيتَ صنمًا عظيمًا رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، أعلاه من ذهب، وأوسطه من فضة، وأسفله من نحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من فخار؛ فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه إذ قذفه الله بحجرٍ من السماء، فوقع على قبَّة رأسه فطحنه، فاختلط الفضة والنحاس والحديد والفخار حتى خيِّل إليك لو أنه اجتمع الإنس والجنّ على أن يميزوا بعضَه من بعض لما قدروا، وربا الحجر الذي قُذِف به حتى ملأ الدنيا كلَّها، فقال بُخْتَ نَصَّر: صدقتَ، فما تأويلها؟ فقال: أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وآخره وأوسطه، وأما الذهب فهذا الزمان وهذه الأمة التي أنتَ مَلِكُها، وأما الفضَّة فابنك من ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 341.

بعدك، وأما النحاس فالروم، والحديد فارس، والفخار أمَّتان يملكهما امرأتان: إحداهما بمَشرق المغرب، والأخرى في غربي الشام، وأما الحجر الذي قُذِفَ به الصَّنم فدين يقذف الله به هذه الأمة في آخر الزمان، فيظهر عليها، ويبعث الله نبيًّا من العَرَب فيدوخ الأديانَ كلَّها كما فعل الحجر بالصنم. فقال له بُخْتَ نَصَّر: ما أعلم لأحدٍ عندي يدًا مثل يَدِك، فاختر إحدى ثلاث: أَما أنْ أردَّك إلى بلادك وأعمِّر لك كل شيء أخربته، وإما أن تقيم عندي فأواسيك، وإما أنْ أكتب لك كتابَ أمان تأمن به حيثما سَلَكْتَ. فقال دانيال: أما قولك إنك تردُّني إلى بلادي وتعمر لي كل شيء أخربته فإنها أرضٌ كَتَب الله عليها الخراب إلى أجل معلومٍ، فلستَ تقدر أنْ تعمر ما أخربه الله حتى يبلغ الكتابُ أجله، وينقضي البلاء الذي كتبه الله على أهلها. وأما قولك أن تكتب لي كتابَ أمان فلا ينبغي لي أنْ أطلب أمانَ مخلوقٍ مع أمان الله. وأما مواساتك فهي أرفق بي حتى يقضيَ الله فينا قضاءَه. فجمع بُختَ نَصَّر ولده وكهنته وحشمه وقال: هذا رجل حكيم قد فَرَّجَ الله كَرْبي الذي عجزتم عنه به، وقد ولَّيتُهُ أمركم، فارفقوا به، واعرفوا قَدْره، وخذوا برأيه، ومتى جاءكم رسولان: رسولٌ من عندي والآخر مِن دانِيال فقدِّموا رسوله على رسولي، وحاجته على حاجتي. ونزل منه دانيال أفضل المنازل، وجعل يدبِّر مُلْكَه، فحسده علماء أهل بابِل وقالوا لبُخْتَ نَصَّر: لقد ذلَّ مُلْكُك وخضع عند الناس منذ ولَّيْتَ هذا العبد الإسرائيلي علينا، فقال: أتنقمون أني ولَّيتُ عليكم أحكمَ النَّاسِ (¬1)؟ ! ولما مات بُخْتَ نَصَّر حبسوه في جُبٍّ مع سبعين، فأخرجه الله، لما نذكر. وقال السدي: لما رجع بُخْتَ نَصَّر إلى صورته بعد المسخ وردَّ الله عليه مُلْكه، كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عنده، فحسده المجوس ثانيًا وقالوا: إنَّ دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه إلا أن يبول، وكان ذلك عارًا عندهم، فصنع بُخْتَ نَصَّر طعامًا، فأكلوا وشربوا، وقال بُخْتَ نَصَّر للبوَّاب: انظر أول خارج ليبولَ فاضربه بالطَّبَرْزِين (¬2)، ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 554 - 555، والكتاب المقدس (سفر دانيال الإصحاح الثاني). (¬2) الطَّبَرْزين: فارسي معرّب، وهو فأس السرج، لأن فرسان العجم تحمله معها يقاتلون به، وقد تكلمت به العرب. انظر "المعرَّب" ص 276.

وإنْ قال: أنا بُخْتَ نَصَّر، فقل: كذبت، فحبس الله عن دانِيال البول، وكان أول مَن قام ليبول بُخْتَ نَصَّر، وكان ليلًا، فخرج فلما رآه البوَّاب شدَّ عليه ليضربه فقال: أنا بُخْتَ نَصَّر، فقال: كذبت وضربه بالطَّبَرْزِين فقتله (¬1). وذكر محمد بن إسحاق في هلاك بُخْتَ نَصَّر وجهًا آخر عن الحسن البصري قال: لما أراد الله هلاك بُخْتَ نَصَّر قال لمن في يده من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي أخربتُ؟ بيت من هو؟ والناس الذين قتلتُ، مَنْ هُم؟ قالوا: بيتُ الله ومسجده، وأولاد الأنبياء، عصوا فسلطك الله عليهم بذنوبهم، وإنَّ ربَّهم هو الله ربُّ السماوات والأرض، قال: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا، لعلِّي أقتل إلاهها وأتخذها مُلْكًا فإني قد فرغتُ من الأرض وكان قد مَلَكها فقالوا: لا يقدر على ذلك إلا الله، فقال: لَتفعلُنَّ أو لأقتلنَّكم جميعًا، فبكَوا وتضرعوا إلى الله فأرسل الله عليه بعوضة فدخلت في منخره حتى عضَّت دماغه، فلما أيقن بالهلاك قال لخواصه: إذا متُّ فشقوا رأسي وانظروا ما الذي قتلني، فلما مات شقوا رأسه، وإذا بالبعوضة عاضَّة على دماغه، فعلموا قدرة الله - وسلطانه وضعف عباده وعجزهم، ونجّى الله من بقي من بني إسرائيل منه وردّهم إلى الشام (¬2). قلت: وقد روى حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر بُخْتَ نَصَّر فقال: "مَلَّكهُ الله سبع مئة سنة، وأَنه حَاصَر بيت المقدس وفتحه، وقتل على دَم يَحْيىَ بن زَكَريَّا سَبْعين أَلفًا" (¬3). وذكر حديثًا طويلًا. وبنى جماعة من العلماء على هذا وقالوا: إنّ بُخْتَ نَصَّر كان في زمان يحيى، وأنه إنما غزا بني إسرائيل بسبب قَتْلهم ليحيى. وكذا حكى أبو القاسم في "تاريخ دمشق" فإنه قال: كان أمر بُخْتَ نَصَّر قبل عيسى، وقيل بعدما رُفع، وكان من حديثه أن دانيال الأكبر قرأ في التوراة يومًا فأتى على هذه الآية: فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولًا فقال: يا ربِّ مَن هذا الذي جعلت ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 341. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 342. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 458، وأورده ابن كثير في "تفسيره" (3/ 38) فقال: وروى ابن جرير في هذا المكان حديثًا أسنده عن حذيفة مرفوعًا مطولًا، وهو حديث موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث، والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته، وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزِّي رحمه الله بأنه موضوع مكذوب.

خراب البيت المقدس وهلاك بني إسرائيل على يديه؟ فقيل له في المنام: يتيمٌ بأرض بَابِل، يقال له: بُخْتَ نَصَّر، فقير، فتجهَّز دانيال بمال عظيم، وقَدِمَ بَابِل فقسمه بين المساكين، وسأل عن بُخْتَ نَصَّر حتى ظفر به على الطريق وقد فُرِشَ له الرماد لذَرَبٍ (¬1) كان به، فداواه حتى برئ، وأعطاه عشرين ألف درهم، وأخبرهم أن سَيمْلِك بلادهم ويغزوهم، وطلب منه كتابَ أمان له ولأهله، فكتب لهم. وعاد دانيال إلى الشام، وفرّق بُخْتَ نصر الدراهم في أصحابه، ولزم باب المَلِك سنحاريب، وعظمت الأحداث في بني إسرائيل، وقتلوا الأنبياء، وسجنوا إرميا، فأرسل الله عليهم بُخْتَ نصر، فسار إليهم في ست مئة ألف، فأخرج إرميا من السجن، وقتل على دم زكريا سبعين ألفًا، ولم يقتل شيخًا ولا كهلًا ولا وليدًا، وإنما قتل أبناء الحرب وقادة الجيوش حتى استكمل العدة، وأخرج دانيال كتابَ أمان بُخْتَ نصر فأمضاه، وخرج بهم معه وكانوا خمسة أنفس شبابًا لم يبلغوا الحلم غير دانيال بن حزقيل الأصغر (¬2). ويقال: إنَّ بُخْتَ نصر مزَّق كتاب الأمان وألقى دانيال في جُبٍّ بفلاةٍ بين جبلين إلى أن أخرجه بعضُ أنبياء بني إسرائيل، وكذا ذكر جماعة: أن الذي قتل سبعين ألفًا على دم يحيى بن زكريَّا هو بُخْتَ نصر. قلت: وليس كما ذكروا، أما حديث حذيفة فلا يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتاريخ يكشف هذا، فإن عند أهل السِّير والعلماء بأخبار العالم من أهل الكتابين والمسلمين أنَّ بُخْتُ نَصَّر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شَعيا في عهد إرميا، وهي الوقعة الأولى التي أخبر الله عنها بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا} الآية [الإسراء: 5]، وأنهم بُخْتَ نَصر وجنوده، قالوا: ومن زمان إرميا وبُخْتَ نَصَّر إلى أنْ قُتِل يحيى بن زكريا أربع مئة سنة وإحدى وستون سنة. وقد أشار إلى هذا أبو إسحاق وقال: من خراب بُخْتَ نَصَّر لبيت المقدس إلى حين عمرانه في أيام كيرس بن أحشويرش من قبل بَهمن بن اسفنديار بن يشتاسف تسعون سنة، ومن ذلك إلى ظهور الإسكندر على القدس وحيازته إلى مملكته إحدى وستون سنة (¬3). ¬

_ (¬1) الذرب: فساد في المعدة. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 5/ 157 - 158. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 344.

قال وهب: الذي أخذ بثأر يحيى ملك بابل، يقال له: خردوش بعد بُخْتَ نَصَّر بأربع مئة ونيف وستين سنة، وسنذكره فيما بعد، ولم يقم لبني إسرائيل بعد خردوش راية. وذكر الحافظ في "تاريخ دمشق" عن ابن المبارك قال: رئي لقمان الحكيم يعدو خلف بُخْتَ نَصَّر فراسخ، فقيل له: يا وليَّ الله، تعدو خلف هذا الكافر؟ قال: لعلِّي أسأله في مؤمن فيجيبني. قلت: وأين لقمان الحكيم من بُخْتَ نَصَّر بينهما قبل خراب بيت المقدس أربعة آلاف سنة وتسع مئة وثماني عشرة سنة. قال علماء السِّير: ولما عاد بنو إسرائيل إلى الشام كثروا وأثروا، فبطروا وعَتَوْا، وعادوا إلى شرِّ ما كانوا عليه، وكثرت فيهم الأحداث فسلَّط الله عليهم مَلِك الروم واسمه ططوس بن اسبانوس فأخرب بلادهم وسباهم وعفى آثارهم، حتى إن المرأة كانت لتبعث بخِرَق حيضها فتلقيها على الصخرة (¬1). وملك بُخْتَ نَصَّر خمسًا وأربعين سنة، منها تسع عشرة قبل خراب البيت المقدَّس، وستًا وعشرين بعده. وحكى الهيثم بن عَدي: أنَّ بُخْتَ نَصَّر لما عاد إلى بَابِل بالسبايا بنى حبسًا أعلى النَّجف، وجمع فيه بني إسرائيل، ووكل بهم من يحفظهم، وكانت العرب قد قصدته لتحاربه ورئيسهم معدُّ بن عدنان، فصالح العرب، ونقل بني إسرائيل إلى جانب الفرات موضع الأَنْبار اليوم فأنزلهم هناك، فبنوا المدينة، فقال الناس: أَنبار بني إسرائيل. قال الجوهري: وأنبار اسم بلد، واصله من نَبَرْتُ الشيء أي رفعته، ومنه المِنْبَر (¬2). وقال ابن إسحاق: كانت الحِيرة منزل بُخْتَ نَصَّر، فلمَّا مات انتقل إلى الأَنْبَار. ومات عدنان في آخر أيام بُخْتَ نَصَّر، فجاء ولده معدُّ من أرض بَابِل إلى مَكَّة، فطرد من كان بها من جُرْهُم، وتزوَّج معانة بنت جوسم فولدت له نزارًا، وولد لنزار مُضَر وإياد وربيعة وأَنمار. وتفرقت اليهود فنزل بعضهم الحجاز وَيثْرِب ووادي القرى وغيرها، والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) انظر تفسير الثعلي 6/ 83. (¬2) "الصحاح" (نبر).

فصل في عمارة بيت المقدس وقصة العزير

فصل في عمارة بيت المقدس وقصة العزير (¬1) قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]. واختلفوا في هذا المارِّ على أقوال: أحدها: أنه إرْمِيَا، قال جدي في "فضائل القدس": روى عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه وزاد غيره قال: أقام إِرْمِيا بعد خراب البيت بأرض مصر مدة، فأوحى الله إليه: أن الْحَقْ بأرض إيلياء، فإن هذه ليست لك بأرض، فقام فركب حماره وأخذ معه سلةً من عنب وسقاءً جديدًا فيه ماء وخرج (¬2). وفي رواية: فأوحى الله إليه: يا إرميا الْحَقْ بأرض الشام، فإن هذه الأرض ليست للأنبياء بمقام، وإني عامر بيت المقدس، فخرج على حمار ومعه سلة فيها عنب وتين وسقاء من عصير. فلما بدا له شخصُ بيت المقدس وما حوله من القرى نظر إلى خرابٍ لا يوصف، فقال: أَنَّى يُحصي هذه الله بعد موتها، ونزل عن حماره وربطه، وألقى الله عليه السُّباتَ ونزع روحه، فنام مئة عام، فلما انقضت سبعون منها أرسل الله مَلَكًا إلى مَلِكٍ من ملوك فارس عظيم. واختلفوا في اسمه فقال وهب: كوشك (¬3)، وقال أبو جعفر الطبري: بشتاسِب (¬4)، وقال مجاهد: كورش، فقال له المَلَك: إن اللهَ يأمُرُكَ أن تَنْفِرَ بقومك فتعمر بيت المقدس حتى يعود أعمرَ ما كان، فانتدب الملك ألف قَهرَمان (¬5)، مع كلِّ قهْرَمان ثلاثة آلاف عامل، فشرع في عمارته، فتمَّ في ثلاثين سنة. وجمع كوشك من كان إليه في البلاد من بني إسرائيل، فكثروا وعادوا أحسن ما كانوا. ولما مضى من منام إرْمِيا سبعون سنة دبَّت الروح في عينيه، فجعل ينظر إليهم وهم يبنون ¬

_ (¬1) من هنا بدأت نسخة كوبريللي، والتي رمزنا لها بـ (ك) وعليها الاعتماد، وانظر قصته في "عرائس المجالس" ص 345، و "المنتظم" 1/ 411، و "البداية والنهاية" 2/ 380، و "تفسير الطبري" 5/ 438، والنكت والعيون 1/ 331، وتفسير الثعلبي 2/ 242، وزاد المسير 1/ 308، و "تفسير ابن كثير" 1/ 410. (¬2) "فضائل القدس" ص 107. (¬3) في (ك): نوشك، وفي "تفسير الطبري" 4/ 594، و "عرائس المجالس": يوشك. (¬4) "تاريخ الطبري" 1/ 540. (¬5) القَهْرَمان: أمين الملك ووكيله الخاص بتدبير دخله وخرجه.

فلما انقضت المئة سنة أحياه الله، فقام ينظر إلى عظام حماره وهي بيض تبرق، فسمع صوتًا من السماء: أيتها العظام المتمزقة إنَّ الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمعت واكتست لحمًا وجلدًا، وقام الحمار ينهق، ونودي من السماء: يا إرْمِيا، كم لبثت؟ قال: يومًا أو بعضَ يوم، وكان قد مات وقت الضحى وعاش قبل مغيب الشمس، فالتفت فرأى بقية الشمس، فقال: أو بعض يوم، فكان يظن أنها قد غربت، فلهذا قال: يومًا، فلما رآها لم تغرب قال كذلك، فقيل: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] أي: لم يتغيَّر، فلم يحمض العِنَب والتين ولم يتغيَّر العصير. وقال الجوهري: التسنُّهُ: التَّكَرُّجُ الذي يقع على الطعام والشراب والخبز (¬1). {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة: 259] كيف تمزَّقت أوصاله فأعادها الله. فإن قيل: فلم بلي الحمار ولم يتغيَّر الشراب والطعام، ولم يحمض العصير، قلنا: لو تغيَّر الطعام لتلاشى وانعدم ولم يبق له أثر، وأما الحمار فاستدلَّ بإحيائه على إحياء بيت المقدس وعوده إلى ما كان عليه. فإن قيل: فهلا قال: وانظر إلى نفسك، ولم يقل: إلى حمارك، قلنا: معناه: انظر إلى حمارك الذي ربطته واقفًا على هيئته. {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 259] أي: عبرة ودلالة على البعث. قال ابن عباس: مات وهو ابن أربعين سنة، وقال أبو جعفر الطبري: إنَّ إرْمِيا لبث في نومه إلى أن هلك بُخْتَ نَصَّر، وكان قد عاش ثلاث مئة سنة - يعني بُخْتَ نَصَّر - وبعث الله عليه بعوضةً فقتلته، وهلك المَلِك الذي كان قبله وهو لُهراسب، وقام ولده بشتاسب، فبلغه خراب البيت المقدس، فجمع بني إسرائيل وملَّك عليهم رجلًا من آل داود عليه السلام وأمره بعمارة بيت المقدس أحسن ما كان، فعمره، وردَّ الله روح إرميا إليه. وقال وهب: عُمِّرَ إرميا، وهو الذي يُرى في الفلوات، ويقال إنه الخضر (¬2). والثاني: أنَّ الذي مرَّ على بيت المقدس العُزَير عليه السلام، وعليه الأكثرون، وهو ¬

_ (¬1) "الصحاح" (سنه)، وتكرج: فسد. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 1/ 544، و "تفسير الطبري" 4/ 593.

قول عليٍّ عليه السلام وقتادة وعكرمة والضحَّاك والسُّدي في آخرين، وحكاه جدي في "فضائل القدس" عن ابن عباس (¬1). وروى ناجية بن كعب عن عليٍّ عليه السلام قال: لما فعل بُخْتَ نَصَّر ببيت المقدس ما فعل، وقَدِم بالسبي إلى بَابِل، كان فيهم عُزَير، وكان من علماء بني إسرائيل، فلما عاد بقاياهم إلى الشام عاد عُزَير معهم فمرَّ على بيت المقدس وهو شابٌّ راكب على حمار، فأَماته الله مئة عام. وقال وهب وابن عباس: لما أحياه الله أتى منزله فأنكر المنازل، وهناك عجوز عمياء مقعدة قد أتت عليها مئة وعشرون سنة، وكانت تعرفه قبل ذلك، فقال لها عُزَير: هذا منزل عُزَير؟ فبكت وقالت: نعم ما سمعنا أحدًا يذكر عُزَيرًا منذ مئة سنة، وقد نسيته الناس، فقال: أنا عُزَير أماتني الله مئة عام ثم بعثني، فقالت: كان عُزَير مستجاب الدعوة فادعُ لي حتى يردَّ الله عليَّ بصري، فدعا لها ومسحَ على عينيها وجسدها فأبصرت وقامت تمشي، فكأنما نشطت من عقال، ونادت في بني إسرائيل: إن الله قد أحيا عُزَيرًا، وهناك ابنٌ لعزير قد أتمت عليه مئة وعشرون سنة، وبنوه شيوخ، فقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه، فكشف ثوبه فلاحت، فتعانقا وبكيا (¬2). وذكر الثعلبي أنهم كذَّبوه، فقرأ لهم التوراة على ظهر قلبه، وكانت التوراة قد فُقِدت، فقال بعضهم: حدثني أبي عن جدي أنَّ التوراة دفنت يوم سُبينا في خابية في كرم فلان، فنبشوا الكرم وأخرجوها وعارضوها بما أملى عُزَير فما اختلفا في حرف واحد، فحينئذٍ قالوا: عُزَير ابن الله (¬3). والثالث: أنَّ الذي مرَّ على القرية لا إرْمِيا ولا عُزَير بل رجل كافر بالبعث، قاله مجاهد، والأول أصح. واختلفوا في القرية: عامة العلماء أنها بيت المقدس، وقيل: قرية العنب غربي بيت ¬

_ (¬1) "فضائل القدس" ص 105. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 347. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 349.

المقدس على فرسخين، قاله مقاتل. وقال الرَّبيع: هي دَاوَرْدان التي خرج منها الألوف، وقيل: دير هِزقِل (¬1)، والأول أصح. والخاوية: الساقطة بعضها على بعض، والعروش: السقوف، ومعنى {أَنَّى} أي: كيف ومتى، وليس المراد به الشكُّ بل التعجُّب {كَمْ لَبِثْتَ} استفهام عن مبلغ العدد، وعامة القراء على إظهار لبثت لأنه أظهر (¬2). فإن قيل: فقد كان عُزَير نبيًا فلمَ لم يُذْكَر في القرآن باسمه، فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّ الله ذكر قصص جماعة في القرآن من الأنبياء، ولمْ يذكر أساميهم كشَعيا ويوشَع وإرْمِيا ونبيِّ أصحاب الرسِّ وعُزَير في آخرين لحكمة رآها. والثاني: لأنّ عزيرًا قال: {أَنَّى يُحْيِي} وفيه نوع شك وإن كان تعجُّبًا. والثالث: لأنه سأل ربه عن القَدَر فأوحى الله إليه: سألتني عن غامض علمي فعاقبتك بأن لا أذكر اسمك مع الأنبياء، قاله داود بن أبي هِند. فإن قيل: وما الذي سأل ربه؟ قلنا: روى الضحاك عن ابن عباس قال: قال عُزَير: يا رب، لو شئتَ أن تطاع لأُطعتَ، ولو شئتَ أن لا تُعصى لما عُصِيتَ، وأنت تحبُّ أن تطاع، ومع ذلك فأنت تُعْصَى. فأوحى الله إليه: أنا لا أُسْالُ عما أفعل وهم يُسألون. فقال: يا إلهي، خلقت الشر وقدَّرته فلمَ تعاقبُ عليه؟ فأوحى الله إليه: أعرضْ عن هذا، فلم يَنْزجِر، فقال الله: يا عُزَير، أتريدُ أنْ تسألَنَي عن أصل علمي؟ لأمحوَنَّ اسمك من ديوان النبوَّة. وقال ابن عباس: لم يَكن في أولاد الأنبياء مثل عُزَير، ولا أَحْكَم للتوراة منه، فعوقب لما سأَل عن القَدَر. ¬

_ (¬1) في (ك) و (ب): هرقل، والمثبت من (ط) وهو الصواب، قال ياقوت: بكسر أوله وزاي معجمة ساكنة وقاف مكسورة، وأصله حزقيل، ثم نقله إلى هزقل. (¬2) وهو إظهار التاء وعدم إدغامها في الثاء، وبالإظهار قرأ ابن كثير ونافع وعاصم، وبالإدغام قرأ أبو عمر وابن عامر وحمزة والكسائي، فقالوا: "لبتُّ". انظر "الحجة للقراء السبعة" 2/ 367، و "تفسير القرطبي" 3/ 291.

قلت: وذكر الحافظ في "تاريخ دمشق" وقال: جاء في الأثر أنَّ قبر عُزَير بدمشق. قال: وروى ابن عباس. عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا أَدْري أَكَان عُزَيرٌ نبيًّا أمْ لا". قال: وقال أنس: جاء عُزَير إلى باب موسى بن عِمران بعدما محي اسمه من ديوان النبوَّة فحجب، فرجع وهو يقول مئة موتة أهونُ من ذلِّ ساعة (¬1). قلت: إن كان جاء إلى باب موسى في النَّوم فيمكن، أما في اليقظة فبينهما أكثر من ألف سنة، فلله درُّ التاريخ. وقال يحيى بن أبي كَثِير: دبَّر عُزَير أمرَ بني إسرائيل بعدما عاش أربعين سنة، فكمُل له ثمانون ومئة سنة، ثم مات. وقال الهيثم بن عدي: وفي أيام عُزَير كان يَزْدَجِرْد بن بَهرام الملقب بالأثيم، وهو الذي بنى الخَوَرْنَقَ (¬2) والسَّدِير (¬3)، وقيل: إنما كان في أيام إرِمْيَا. وقال ابن الكلبي: وفي أيام عُزَير كان يَزْدَجِرْد بن بَهرام، وزال مُلْك الفرس عن الشام وصار إلى الروم، وكان مَلَك مُلْك فارس بشتاسب وقيل: أشتاسب بن لهراسب، وكان لما قتل شعيا، قد آل أمر الشام والقدس إليه. قال جدي في "فضائل القدس"، وكان بُخْت نَصَّر عامله على ذلك كله (¬4). وفي أيام عُزَير ظهر زَرادِشت المجوسي لما نذكر. وحكى جدِّي في "فضائل بيت المقدس" عن وهب، قال: كان عُزَير من السبايا التي سباها بُخْت نَصَّر من القدس، فرجع إلى الشام، وبكى على فقد التوراة فنبِّئ، وكان بُخت نَصَّر قد أحرق التوراة فتلاها عُزَير من حفظه فافتتنوا به، وقالوا: هو ابن الله، ثم ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 40/ 317، 337. قال ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 384 بعد إيراد هذه الأقوال: وهذا ضعيف ومنقطع ومنكر. (¬2) الخَوَرْنَقُ: هو قصرٌ في الحيرة أمر ببنائه النعمان بن امرئ القيس وهو فارسي، ومعناه موضع الأكل والشرب. انظر "معجم البلدان" 2/ 401، و "المعرب" ص 174. (¬3) السَّدير: قصرٌ، وهو معرَّب، وأصله بالفارسية سِهْ دله، أي فيه قباب مُدَاخَلةٌ. انظر "الصحاح" (سَدَر)، و "المعرَّب" ص 235، و "معجم البلدان" 3/ 201. (¬4) "فضائل القدس" ص 101.

دفعها إلى تلميذ له اسمه ميخائيل، فبدَّلها وزاد فيها ونقص منها، والدليلُ عليه أن فيها أحاديث أسفار موسى وموته وما جرى له، وليس هذا من كلام الله تعالى. وقال جدي في "فضائل بيت المقدس"، أنبأنا أبو المعمر المبارك بن أحمد الأنصاري بإسناده عن حُذيفة بن اليَمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "غَزَا طاطري بن اسمانوس بني إسرائيل فَسَباهم وسَبَى حُليَّ بيتِ المقدس وأَحرقَهُ بالنَّارِ، وحمَّل منه في البحر ألفًا وتسع مئة سفينة حُليًّا، وأورده رُوْمِيةَ". قال حذيفة: فسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَيُخرِجَنَّ المهدِيُّ ذلك حتى يؤدِّيه إلى بيت المقدس". وقال جدي رحمه الله أيضًا: أنبأنا محمد بن ناصر بإسناده عن سعيد بن عبد العزيز قال: أخربت أهل رُومِيَة بيت المقدس واتخذته مَزْبَلة، حتى كانت المرأة لتبعث بخرقٍ من دمها حتى تلقى في المسجد، فلما قرأ قيصر كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الإسلام قرأه على بَطَارقة الرُّوم ببيت المقدس ثم قال لهم: ويلكم ما ترون وقد أَخربتم هذا البيت - أو هذا المسجد - واتخذتموه مزبلة؟ توبوا مما صنعتم وإلا قتلتم عليه كما قتل (¬1) بنو إسرائيل على دم يَحْيَي بن زَكَريا، فأخذوا في كَنْسِه وهو يومئذٍ مَزْبلة، وقد حاذت مِحْراب داود، فما كنسوا إلا الثلث، حتى قدم المسلمون، وحضر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فَتْحَهُ، ووليَ كَنْسَهُ بنفسه وبمن معه من المسلمين (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في (ك) و (ب): اقتتلت، والمثبت من (ط)، وانظر قصة يحيى الآتية ومقتله. (¬2) "فضائل القدس" ص 106، 107 - 108، 109. وأخرج حديث حذيفة الطبري في تفسيره 15/ 457 - 458 (دار هجر)، قال ابن كثير: وهو حديث موضوع لا محالة. وسلف قريبًا.

فصل في ذكر دانيال الأصغر

فصل في ذكر دانيال الأصغر (¬1) قد ذكرنا أنه كان محبوسًا في جُبٍّ بأرض بابِل ومعه أسدان، وقيل: أَسد ولبؤة. وقال ابن الكلبي: كان محبوسًا بفلاة من الأرض، وعلى رأس الجُبِّ صخرة، فأوحى الله إلى بعض أنبياء بني إسرائيل: انطلق فاستخرجْ دانيالَ من الجُبِّ فقال: يا ربِّ، ومن يدلُّني عليه؟ قال: أتانك، فركب أتانه وجاء إلى موضع الجُبِّ فوقفت فقال: يا صاحبَ الجُبِّ، فقال دانيال: قد أسمعت فما تريد؟ فقال: إن الله أمرني أنْ أُخْرِجَكَ، فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى مَن ذكَره، والحمد لله الذي لا يَكِلُ من توكَّلَ عليه إلى غيره، والحمد لله الذي يجازي بالإحسان إحسانًا وبالإساءة غفرانًا. فرفع الصخرة واستخرجه، وقام الأسد واللبؤة يمشيان معه، فعزم عليهما دانيال فرجعا إلى الغَيْضَة. وقال ابن الكلبي: فنقش دانيال على خاتمه أسدًا ولبؤة، فكان كل وقت ينظر إليهما لئلا ينسى نعم الله عليه ويشكره على إحسانه إليه. ثم إن دانيال عاد إلى القدس فأقام مدة فعصوا وأفسدوا وعادوا إلى شرٍّ مما كانوا عليه، فسلط الله عليهم أنطياخوس الرومي، ففعل بهم كما فعل بُخْت نَصَّر، وهي آخر مرة في قوله تعالى: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4]. قاله وهب بن منبه. قال: وعاد دانيال إلى العراق فمات بالسُّوس، ولما فتحها أبو موسى الأشعري في سنة سبع عشرة من الهجرة في زمان عمر - رضي الله عنه - على يد أبي سَبْرَة بن أبي رُهْم، دخل أبو موسى إلى قبره فإذا ركبته تحاذي رأس أبي موسى وأنفه ذراع وكانوا يستسقون به فيسقون، وكتب أبو موسى إلى عمر يخبره به، فكتب إليه بمواراته ودفنه، ووجدوا في إصبعه خاتمًا من فضة عليه صورة الأسد واللبؤة. قال وهب: وهذا دانيال الأصغر، فأما الأكبر فكان بين نوح وإبراهيم وهو الذي حفر دجلة والفرات وقد ذكرناه. * * * ¬

_ (¬1) انظر عرائس المجالس 340، والمنتظم 1/ 417، والبداية والنهاية 1/ 375.

فصل في ذكر يونس عليه السلام

فَصلْ في ذِكر يُونس عَلَيه السَّلام (¬1) وقال مقاتل: ذكره الله في أربعة مواضع، وهو اسم أعجمي، وأبوه متَّى في قول مجاهد، ومتَّى من ولد بنيامين بن يعقوب، وقال مقاتل: متَّى اسم أمه، ولم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه غير يونس وعيسى بن مريم عليهما السلام، قال: وهو من ولد بنيامين بن يعقوب، وفيه ثلاث لغات: ضم النون وفتحها وكسرها والهمز في اللغات الثلاث، وضم النون أجود. وذكر أبو حنيفة ابن النُّوبي: أن أم يونس كانت من ولد هارون عليه السلام، ومات أبوه وهي حامل، فوضعته ولم يكن لها لبن، فأتت إلى الرِّعاء فسألتهم اللبن فمنعوها إياه، فلما منعوها وضعته في غار، فقيَّض الله له شاة تأتيه كل يوم فيرضع منها، فأقام على ذلك أربع سنين، وفطن له الرعاة، فآمن به سبعون نبيًا، ثم أكرمه الله بالنبوة. واختلفوا في زمان كونه على قولين: أحدهما: بعد شعيا، والثانى: بعد سليمان. والأول أشهر. وكان يونس رجلًا صالحًا من عبَّاد بني إسرائيل وأنبيائهم، قال الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)} [الصافات: 139]. وقد أثنى عليه نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، قال أحمد بن حنبل بإسناده عن ابن مسعود قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْبَغي لأحَدٍ أنْ يكونَ خيرًا من يُونُسَ بن متَّى" (¬2). ونسبه إلى أبيه متفق عليه، وفي المتفق عليه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يَنْبَغي لعبدٍ أنْ يقول: أنا خَيرٌ مِن يُونُسَ بن متَّى" ونسبه إلى أبيه (¬3). ¬

_ (¬1) في (ب): الباب التاسع والعشرون في ذكر يونس عليه السلام، وانظر قصته في "تاريخ الطبري" 2/ 11، وتفسيره 15/ 205، و "البدء والتأريخ" 3/ 110، و "عرائس المجالس" ص 410، وتفسير الثعلبي 5/ 151 و 6/ 301، والماوردي 2/ 184، و "المنتظم" 1/ 395، و "التبصرة" 1/ 326، وزاد المسير 4/ 65 و 7/ 86، و "الكامل" 1/ 306، و "البداية والنهاية" 2/ 16. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (4196)، و "البخاري" (4804). (¬3) أخرجه "البخاري" (3395)، و "مسلم" (2377).

ذكر قصته

وكذا في المتفق عليه عن أبي هريرة: "ومَن قال غيرَ ذلك فقد كَذَب" (¬1). وأخرجه أحمد بن حنبل في "المسند" عن عبد الله بن جعفر، وفيه: "ما ينبغي لنبي" وذكره (¬2). وهذا دليل على تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن يونس كان قليل الصبر. وقيل: إن هذا الحديث منسوخ بقوله عليه السلام: "أنا سيِّدُ ولدِ آدَمَ" (¬3). ذكر قصته قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} الآيات [الأنبياء: 87]. اختلف أرباب السير في قصة يونس: قرأت على شيخنا الموفق المقدسي رحمه الله قال: حدثنا أحمد بن المبارك بإسناده، عن قتادة، عن الحسن: أن يونس عليه السلام كان مع نبي من الأنبياء، فأوحى الله إليه أن ابعث يونس إلى [أهل] نِينَوى يُحذِّرهم عقوبتي، قال: فمضى يونس عليه السلام على كُرهٍ منه، وكان رجلًا صالحًا حديدًا شديد الغضب، فأتاهم فحذرهم وأنذرهم، فكذَّبوه وردوا عليه نصيحته، ورموه بالحجارة، وأخرجوه، فانصرف عنهم، فقال له نبي من بني إسرائيل: ارجع إلى قومك. فرجع إليهم فرموه بالحجارة، فقال له النبي: ارجع إليهم فرجع، فكذَّبوه، فواعدهم العذاب، فكذَّبوه وكفروا بالله وجحدوا كتابه، فدعا عليهم عند ذلك فقال: يا ربِّ، إن قومي أبَوْا إلا الكفر، فأَنْزِلْ عليهم نِقمتك. فأوحى الله إليه: إني أُنزلُ بقومك العذاب. فخرج عليهم يونس وأوعدهم العذاب بعد ثلاثة أيام. فأخرج أهله وانطلق، فصعد الجبل ينظر إلى أهل نِينَوى ويترقب العذاب، فجاءهم العذاب، وعاينوه، فتابوا إلى الله، فكشف عنهم العذاب. فلما رأى ذلك جاءه إبليس فقال له: يا يونس، إنك إن رجعت إلى قومك اتهموك وكذبوك، فذهب مغاضبًا لقومه، فانطلق، حتى أتى شاطئ دِجلة فركب سفينة، فلما توسَّطت ¬

_ (¬1) أخرجه "البخاري" (4604)، و"مسلم" (2376). (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (1757). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (2546) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

الماءَ أوحى الله إليها أن اركدي فركدت؛ والسفنُ تمرُّ يمينًا وشمالًا، فقالوا: ما بال سفينتكم؟ قالوا: لا ندري، قال يونس: أنا أدري، إنَّ فيها عبدًا أبق من ربه، فلا تسير حتى تلقوه في الماء، قالوا: ومن هو؟ قال: أنا، وعرفوه، قالوا: أمَّا أنت فليس نلقيك؛ والله ما نرجو النجاةَ إلَّا بك. قال: فاقترعُوا، فمن وقعت عليه القرعة فألقوه في الماء، فاقترعوا، فقرعهم يونس عليه السلام، فأَبَوْا أن يلقوه، وأقرع القومَ ثانيًا وثالثًا، فقرعهم يونس، فقال: يا قوم، اطرحوني في الماء وانجوا، فقام القوم فاحتملوه شبه المشفقين عليه، فقال: ايتوا بي صَدْرَ السفينة، ففعلوا، وإذا بالحوت فاتح فاه، فقال: ردُّوني إلى مؤخَّر السفينة، ففعلوا، واستقبله الحوت فاتحًا فاه، فلما رأى جوفه وهوله قال: يا قوم، ردُّوني إلى وسط السفينة، فردُّوه، فاستقبله الحوت، فقال: ردُّوني إلى الجانب الآخر، فاستقبله الحوت فاتحًا فاه ليأخذه، فقال: ألقوني وانجوا؛ فلا منجى من الله إلا إليه. فطرحوه، فالتقمه الحوت قبل أن يبلغ الماء، وانطلق به الحوت إلى مسكنه من البحر، ثم انطلق به إلى قرار الأرض، فطاف به أربعين يومًا، فسمع يونس تسبيح الحصى والحيتان، فجعل يسبِّح ويهلِّل ويقدِّس، وكان يقول في دعائه: إلهي وسيدي ومولاي، في السماء مسكنك، وفي الأرض قدرتك وعجائبك، سيدي، من الجبال أهبطتني، وفي البلاد سيَّرتني، وفي الظلمات الثلاث حبستني. إلهي، سجنتني بسجن لم يسكن به أحد قبلي. إلهي، عاقبتني بعقوبة لم يُعاقب بها أحد قبلي. فلما تم له أربعين يومًا وأصابه الغمُّ {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. قال: فسمعَتْ الملائكة بكاءه، وعرفوا صوته، فبكت الملائكة وبكت السماوات والأرض والحيتان لبكائه، فقال الجبَّار: يا ملائكتي، ما لي أراكم تبكون؟ قالوا: ربَّنا، صوتٌ حزين ضعيف نعرفه في مكان غريب، قال: ذاك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، فقالوا: يا ربَّنا، العبد الصالح الذي كان يصعدُ له في كلِّ يومٍ وليلة العمل الصالح الكثير؟ وقال ابن عباس: قال الله تعالى: نعم. قال: فشفعت له الملائكة والسماوات والأرض، فبعث الله جبريل عليه السلام، فقال: انطلق إلى الحوت الذي حبستُ يونسَ في بطنه، فقل له: إنَّ لي في عبدي حاجةً،

فانطلقْ به إلى الموضع الذي بلعته فيه، فاقْذِفْه فيه. فانطلق جبريل عليه السلام إلى الحوت فأخبره، فانطلق الحوت بيونس عليه السلام وهو يقول: يا ربِّ، استأنستُ في البحر بتسبيح عبدك يونس، واستأنَستْ به دوابُّ البحر، وكنتُ أزكى شيء به، وجعلتُ بطني له مصلىَّ يقدسك فيه، فقُدِّسْتُ به وما حولي من البحار، أفتخرجه عني بعد أُنسٍ كان لي به؟ فقال الله تعالى: إني أَقَلْتُ عثرته ورَحِمْتُه، فأَلقِه. قال: فجاء به إلى حيث ابتلعه ببلد على شاطئ دِجلة، فدنا جبريل من الحوت، وقرَّب فاه من فِي الحوت، وقال: السلام عليك يا يونس، ربُّ العزةِ يُقرئك السلام، فقال يونس: مرحبًا بصوت كنتُ خشيتُ أن لا أسمعه أبدًا. فقذفه الحوت مثل الفرخ الممعوط (¬1) الذي ليس عليه ريش، فاحتضنه جبريل. قال الحسن: فأنبت الله عليه شجرة من يقطين؛ وهي الدُّبَّاء فكان لها ظلٌّ واسع يستظل به، وأُمِرَتْ أن ترضعه أغصانَها، فكان يرضع منها كما يرضع الصبي. وقال الحسن: بعث الله إليه وَعْلَةً من وُعُلِ الجبل يدرُّ ضرعها لبنًا، فجاءت إليه وهو مثل الفرخ، فجعلت ثديها في فيه وهو يمصُّه مصَّ الصبيِّ، فإذا شبع انصرفت، فكانت تختلف إليه حتى اشتدَّ ونبت شعره خلقًا جديدًا، ورجع إلى حاله قبل أن يقع في بطن الحوت، فمرَّتْ به مارَّةٌ فكَسَوهُ كساء. فبينما هو ذات يوم نائم إذ أوحى الله إلى الشمس أن احرقي شجرة يونس، فأحرقتها، فأصابت الشمس جلده فأحرقته، فقال: يا ربِّ، نجيتني من الظلمات، ورزقتني ظلَّ شجرة كنت أستظل بها، فأحرقتَها، أفتحرقني يا ربِّ؟ وبكى، فأتاه جبريل، فقال له: يا يونس، إن الله يقول لك: أنت زرعتها أم أنا؟ أنت أنبتَّها أم أنا؟ فقال: بل الله، قال: فبكاؤك لماذا؟ فكيف دعوت على مئة ألف أو يزيدون أردت هلاكهم؟ وقال ابن عباس: قال له جبريل: أتبكي على شجرة أنبتها الله تعالى لك، ولا تبكي على مئة ألف أو يزيدون أردتَ هلاكهم في غداة واحدة؟ فعند ذلك عرف يونس ذنبه، فاستغفر ربه، فغفر له. وعن الزُّهري: لما قوي يونس كان يخرج من الشجرة يمينًا وشمالًا، فأتى على رجل ¬

_ (¬1) الممعوط: من قَلَّ شعره.

يصنع الجِوار، فقال له يونس: يا عبد الله، ما تصنع؟ قال: الجِرار، فأبيعها أطلب فيها فضلَ الله. فأوحى الله إلى يونس: قل له يكسر جراره، فقال له يونس ذلك، قال: فغضب، وقال: إنك رجل سوء تأمرني بالفساد؛ تأمرني أن أكسر شيئًا عملته وصنعته ورجوتُ خيره. فأوحى الله إليه: يا يونس، ألا ترى إلى هذا الجرَّار كيف غضب لمَّا أمرته بكسر ما صنع، وأنت تأمرني بهلاك قومك؟ ! فما الذي يشقُّ عليك أن يَصلح من قومك مئة ألف أو يزيدون؟ قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] يعني من المصلِّين من قبل أن تنزل البليَّة {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 144]. قال ابن عباس: من كان ذاكرًا لله في الرخاء ذكره الله في الشدَّة واستجاب له، ومن يغفل عن الله في الرخاء وذكره في الشدة لم يستجب له. قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]، فقال الله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 88]، يقول الله تعالى: كذلك نفعل بالصالحين إذا وقعوا في الخطيئة ثم تابوا إليَّ قبلتُ توبتهم. روى ابن عباس، قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "دعا أخي يونس بهذه الدعوات في الظلمات، فأنجاه الله بها؛ فلا يدعو بها مؤمن مكروبٌ إلا كشف الله ذلك عنه، إنَّ بها عدة من الله لا خلف لها". هذه صورة ما ذكره الشيخ الموفق في "التوابين" (¬1). وروى مجاهد عن ابن عباس، قال: كان يونس وقومه يسكنون أرض فلسطين، فغزاهم ملك، فسبى منهم تسعة أسباط ونصف سبط، فأوحى الله إلى شعيا بن أمصيا أن سرْ إلى حزقيا الملك، وقل له حتى يبعثَ نبيًا قويًّا أمينًا، فإني أُلقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك: من ترى؟ وكان قد بقي في مملكته خمسة أولاد من أولاد الأنبياء، فقال: يونس، فإنه قوي أمين. فدعاه الملك، فأمره بالخروج، ¬

_ (¬1) "التوابين" (15).

فقال له يونس: هل أمرك الله أن تخرجني؟ قال: لا قال: فهل شماني لك؟ قال: لا، قال: فإنَّ ها هنا أنبياء أقوياء أمناء، فألحوا عليه، فخرج مغاضبًا للمَلِك حزقيا والنبي شَعْيا وقومه، فأتى بحر الروم فإذا سفينةٌ مشحونةٌ فركبها، فوقفت أو تكفَّأَتْ حتى كادوا أن يغرقوا، فقال الملاحون: ها هنا ها هنا عبد عاصٍ أو آبق، ومِنْ رَسْمِنَا أن نقترع في مثل هذا، فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر ومضينا، ولأن يغرقَ واحدٌ خير من أن تغرق السفينة ومن فيها. ثم اقترعوا ثلاثًا وفي كلِّ مرة تقعُ القرعةُ على يونس، فقال يونس: أنا ذلك الآبق العاصي. وألقى نفسه في البحر فالتقمه حوت، وجاء حوت آخر فالتهم الحوت الأول. فأوحى الله إلى الحوت: لا تؤذِ منه شعرةً، فإني جعلت بطنك له مسجدًا وسجنًا، ولم أجعله طعامًا لك (¬1). وقد رواه العَوفي عن ابن عباس. وقال مقاتل: التقمه الحوت بدِجلَة ثم نزل به إلى الأبُلَّة، ودخل به إلى البحر، فلم يُبقِ بحرًا حتى طاف به. وقال وهب: كان يونس رجلًا فيه حدة وضيق خلق، فلما حملت عليه أثقال النبوَّة تفسَّخ تحتها تفسُّخ الرُّبَع تحت الحِملِ الثقيل - يعني بالربع: الفصيل - فلهذا أخرجه الله من أُولي العزم من الرسل بقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] أي: لا تتلقَّ أمره كما تلقَّاه (¬2). وقال السُّدي ومقاتل: كان يونس قبل النبوة من عُبَّاد بني إسرائيل في جبل يفرُّ بدينه من شاهق إلى شاهق، فبعثه الله إلى أهل نِينوَى من أرض الموصِل، وهو ابن أربعين سنة، وكانوا يعبدون الأصنام، فضاق بالرسالة ذرعًا ودعا إلى الله وشكا، فأوحى الله إليه. بلِّغهم الرسالة فإن لم يستجيبوا لك عذَّبتهم، وإن لم تبلِّغهم أصابك ما يصيبهم من العذاب، وقد أجلتهم أربعين يومًا، فقام فأنذَرهم وكان صوته بالقراءة مثل صوت داود ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 412 - 413، و "تفسير البغوي" 2/ 369. (¬2) انظر "تفسير البغوي" ص 852.

عليه السلام، وأخبرهم بالأجل فقالوا: إذا رأينا أسباب العذاب آمنَّا. فلما مضى من الأجل خمسة وثلاثون يومًا غامت السماء غيمًا أسود فاسودَّت سطوحاتهم، فأيقنوا بالعذاب، فأوحى الله إليه: أخبرهم بأن العذاب مصبِّحَهم بعد ثلاث، فأخبرهم فقالوا: لم نجرِّب عليه كذبًا قط، فانظروا فإن بات فيكم الليلة فليس بشيء، وإن لم يبتْ وإلا صبَّحكم العذاب كما قال. فلما كان في جوف الليل خرج يونس من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشَّاهم العذاب كما يُغَشِّي الثَّوبُ (¬1)، وصار على رؤوسهم قدر ميل، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، وطلبوا نبيَّهم يونس فلم يجدوه، فقذف الله في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصعيد بأهاليهم وصبيانهم ومواشيهم، ولبسوا المُسوحَ وأظهروا الإيمان وأخلصوا النيَّة في التوبة، وفرَّقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدَّواب، فَحَنَّ بعضها إلى بعض، وعَلت الأصوات واختلطوا وعجُّوا إلى الله تعالى وبكوا وتضرعوا، وقالوا: آمنا بما جاء به يونس. وقال ابن مسعود: ترادُّوا المظالم فيما بينهم، حتى إن الرجل كان يأتي إلى أساس داره فيقلع الحجر الذي غصبه ويرده إلى صاحبه وصاحوا: يا حيُّ حين لا حيٌّ، يا محيي الموتى، لا إله إلا أنت، فكشف الله عنهم العذاب (¬2). قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} الآية [يونس: 98] , ومعناه: فهلا، وكذا هو في مصحف ابن مسعود وأُبيٍّ. وقال الربيع: معناه: لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتَّعناهم إلى حين، وهو وقت انقضاء آجالهم. وقال مجاهد: إنما نفعهم إيمانهم في وقت اليأس لأن آجالهم بقيت منهم بقية فنجوا بما بقي من آجالهم، فأما إيمان من قد انقضى أجله فغير نافع عند حضور الأجل. وهذا الكلام في غاية الجودة. وقال ابن عباس: غشيهم العذاب كما يغشى التُّرب (¬3) القبر إذا دخل صاحبه فيه. ¬

_ (¬1) في (ط): التراب القبر، والمثبت من (ب، ك). (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 411 - 412، و "المنتظم" 1/ 395 - 396. (¬3) في (ك): الثوب، وليس في (ب)، والمثبت من (ط).

وقال: وكان العذاب على رؤوسهم قدر ثلثي ميل (¬1). وثار عليهم دخان أسود، فعاينوا الموت، ثم كشفه الله عنهم. فإن قيل: فلم كشف الله العذاب عن قوم يونس دون غيرهم من الأمم ولم يقبل توبة فرعون؟ فالجواب من وجوه: أحدها: لأن الله علمَ منهم صدقَ النيَّات. ألا ترى إلى فرعون لما عاين الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] فلم يخلص النيَّة وقد باشره العذاب، وهؤلاء لم يباشرهم، ذكره الزجاج. والثاني: لأنَّ الله تعالى خصَّ قوم يونس بذلك لما أقنطهم يونس من رحمة الله تعالى وكما قال: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98]، ذكره ابن الأنباري (¬2). والثالث: لأنَّ القوم افترقوا ثلاث فرق: الشيوخ، والشباب، والصبيان والنساء، فجاء العذاب فوقف على رؤوس الشيوخ فقالوا: اللهم إنك أموتنا أن نعتق أرقاءنا، ونحن أرقاؤك فأعتقنا. فانتقل إلى رؤوس الشباب فقالوا: اللهم إنك أموتنا أن نعفو عمن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنا. فانتقل إلى رؤوس الصبيان والنساء فقالوا: اللهم إنك قد علمتَ ضعفنا وعجزنا فأنت أولى من رحمنا. وتضرَّع الأطفال فرحمهم الله تعالى. والرابع: أنه بقيت من آجالهم بقية كما قال مجاهد، وهو الأصحُّ، فإنَّ من انقضى أجله لم ينقعه إيمانه. والدليل عليه ما رواه أبو حنيفة ابن النُّوبي في كتاب "الأسولة" قال: قال بعض الأنبياء: إلهي، لم رفعت العذاب عن قوم يونس وأهلكت قومي؟ فقال الله تعالى: لأن آجال قومك فنيت، وقوم يونس لم تفن آجالهم. وأنبأنا شيخنا الموفق رحمه الله بإسناده الماضي في أول الفصل إلى إسحاق بن بشر قال: حدثنا جُوَيبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما أيس يونس من إيمان قومه دعا ربَّه عليهم فقال: اللهم أنزل عليهم نقمتك. وخرج ومعه ابنان صغيران، فصعد ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 411. (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 329، وزاد المسير 4/ 66.

جبلًا ينظر إلى أهل نِينَوَى ويترقب العذاب، وبعث الله تعالى جبريل فقال: انطلق إلى مالكٍ خازن النار فقل له يُخرج من سَموم جهنم بمقدار مثقال شعيرة. ففعل جبريل ما أمره ربه. قال ابن عباس: فخرجوا إلى موضع يقال له: تل الرماد وتل التوبة، وإنما سُمي به لأنهم وضعوا الرماد على رؤوسهم والشوك تحت أرجلهم. فلما رفعوا أصواتهم بالبكاء قالت الملائكة: يا رب، رحمتك وسعتْ كلَّ شيء، فهؤلاء الأكابر من ولد آدم تعذبهم، فما بال الأصاغر والبهائم؟ فقال الله تعالى جلت عظمته وقدرته قد رحمتهم، وأمر جبريل عليه السلام أن يكشف عنهم العذاب (¬1). وروى الموفَّق أيضًا بإسناده إلى أبي الجَلْد: أنَّ العذاب لما هبط على قوم يونس فجعل يحوم على رؤوسهم مثل قطع الليل المظلم، مشى ذوو العقول منهم إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا ما ترى، فعلِّمنا دعواتٍ ندعو بها عسى أن يرفع الله عنا العذاب، قال: قولوا: يا حيُّ حين لا حي (¬2). وقد ذكرناه. وروى الموفق عن الحسن: أنَّ يونس بعدما أنجاه الله من بطن الحوت مَرَّ في برية براعٍ من رعاة قومه، فقال له يونس: ممن أنت؟ فقال: من قوم يونس بن متى، قال: فما فعل يونس؟ قال: لا أدري إلا أنه كان من خيار الناس وأصدق الناس، أخبَرَنا عن العذاب فجاءنا كما قال، فتُبنا إلى الله فرحمنا، ونحن نطلبه فلا نجده ولا نسمع له ذكرًا، قال يونس: فهل عندك من لبن؟ قال: لا، والذي أكرم يونس ما مطرت السماء ولا أعشبت الأرض منذ فارقنا يونس. قال: ألا أراكم تحلفون بإله يونس؟ قال: لا نحلف بغير إله يونس، من حلف بغير إله يونس في مدينتنا نُزعَ لسانه من قفاه. فقال له يونس: متى استحدثتم هذا؟ قال: منذ كشف الله عنا العذاب. قال يونس: ايتني بنعجةٍ، فأتاه بنعجة مسلوبة (¬3) فمسح على بطنها وقال: دُرِّي لي بإذن الله، فدرَّت فاحتلبها يونس، فشرب يونس وسقى الراعي، فقال الراعي: إن كان يونس حيًّا فأنت هو. قال: أنا هو، فأتِ قومك فأقرئهم مني السلام. قال: فإن الملك قال: من أتاني به أو ذكر أنه ¬

_ (¬1) انظر "التوابين" 32 - 33. (¬2) انظر "التوابين" 33. (¬3) في (ب): هزيلة.

رأى يونس وجاء على ذلك ببرهان خلعتُ له مُلكي وجعلته مكاني ولحقتُ بيونس. ولا أقدرُ أن أبلغه ذلك إلا بحجَّة، فإني أخاف أن يقول الملك: إنما قلت هذا طمعًا في ملكي، وليس أحد يكذب كذبة إلا قتلوه. فقال يونس: تشهد لك الشاة وهذه الصخرة التي كان مستندًا إليها. وقال يونس: تشهدا له. فانطلق إليهم الراعي فأخبرهم فكذبوه، فقال: الشاة تشهد لي والصخرة، فشهدتا له فصدقوه وقالوا: أنت خيرنا وسيدنا حيث رأيت يونس، وملَّكوه عليهم فدبّر أمرهم أربعين سنة وقيل: سبعين سنة، وكان آخر العهد بيونس عليه السلام (¬1). وفي رواية: أن الغلام أتى الملك فأخبره فأمر بقتله فقال: إنَّ لي بيِّنة فأَرسلوا معي فأَرسَلوا معه فشهدت له الشاة والصخرة. قال ابن مسعود: فقال له الملك: أنت أحقُّ بهذا الملك مني. وقام وأخذه بيده وأقعده موضعه، فأقام لهم الغلام أمرهم سبعين سنة (¬2). فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87] والمغاضبة إنما تكون بين اثنين، لأنها مفاعلة كالمناظرة والمجادلة والمقاتلة، والله تعالى لا مفاعلة بينه وبين عباده؟ والجواب من وجوه: أحدها: ما قاله الضحاك: أنه ذهب مغاضبًا لقومه. وهي رواية العوفي عن إبن عباس (¬3). وهو ما ذكرنا أنَّ الله أمر شَعْيا أن يأمر حِزقيا أن يبعث نبيًا ليخلص بني إسرائيل، وأنَّ يونس خرج على كرهٍ منه، وأنه ألقى نفسه في بحر الروم. والثاني: أنه إنما ذهب مغاضبًا لربِّه حين كُشِفَ عنهم العذاب بعدما أوعدهم به، لأنه كَرِه أن يكون بين قوم قد جرَّبوا عليه الخلف فيما وعدهم به، واستحيا منهم ولم يعلم السبب الذي رفع الله به عنهم العذاب والهلاك، فخرج مغاضبًا لربه وقال: والله لا أرجع إليهم كذَّابًا أَبدًا. وفي بعض الأخبار: أنهما كانوا يقتلون من جرَّبوا عليه الكذب، فلما لم يأتهم العذاب في الموعد الذى وعدهم خشي أن يقتلوه، قاله وهب (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "التوابين" 33. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 414. (¬3) انظر "تفسير البغوي" ص 851، و "زاد المسير" 5/ 381. (¬4) انظر "تفسير البغوي" ص 851.

والثالث: ذكره الحسن وقال: إنما غاضب ربه من أجل أنه أمره بالمسير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل الله أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم، فقيل له: الأمرُ أسرعُ من ذلك، فلم يُنظر، حتى سأل أن يُنظرَ حتى يأخذ نعليه فيلبسهما، فقيل له نحو القول الأول، وكان رجلًا في خلقه ضيق، فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعليَّ فخرج مغاضبًا (¬1). وأما قولهم: إن المفاعلة إنما تكون بين اثنين، فقد تكون من واحد، فإن العرب تقول: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وشارفت الأمر. ومعنى قوله: {مُغَاضِبًا} أي: غضبان. وقال مقاتل: إنما غضب لأنه وعد قومه العذابَ في يوم بعينه، فلما فات الأجل (¬2) ولم يعذبوا أَنف أن يعود إليهم، فمضى إلى السفينة كالعبد الآبق. فإن قيل: فما معنى قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّ معناه: فظن أن لن نقضيَ عليه العقوبة. قاله مجاهد في آخرين (¬3). وقد قرأ عمر بن عبد العزيز: "فظنَّ أن لن نُقَدِّر عليه" بتشديد الدال (¬4). والثاني: أنَّ معناه: لن نضيِّقَ عليه الحبس من قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي: ضُيِّقَ، رواه العوفي عن ابن عباس. وقيل: إنَّ معناه: فظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه. قاله الحسن البصري: قلت: ما نقل الحسن البصري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} معناه: فظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه، هذا كلام فاسد لا نظن مثله في آحاد المؤمنين، فكيف بيونس عليه السلام، ومثل هذا لا يقوله الحسن رحمه الله، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر "تفسير البغوي" ص 852. (¬2) في (ك): بعينه فلم يأت الأجل، والمثبت من (ب) و (ط). (¬3) انظر "تفسير البغوي" ص 852، و "زاد المسير" 5/ 382. (¬4) انظر "تفسير البغوي" ص 852.

والمراد بالظلمات: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة [بطن] الحوت الذي بلعه، وظلمة بطن الحوت [الذي ابتلع الحوتَ الأول] (¬1)، وظلمة الذَّنبِ. ومعنى {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] حين أغضبتك. وأنبأنا أبو القاسم بن مسلم الصفار الموصلي بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لمَّا نَزَلَ يُونسُ إلى قرارِ البحرِ سَمِعَ تَسبيحَ الملائكةِ والحِيتانِ فسبَّحَ هو في بطن الحوتِ، فسمعَتِ الملائكةُ تسبيحَه فقالت: يا ربَّنا، نسمعُ صوتًا ضعيفًا بأرضٍ غريبةٍ، فقال الله: ذاكَ عَبْدِي يُونسَ عصاني فحبستُه في بطنِ الحوتِ، قالوا: العبدُ الصالِحُ؟ ! قال: نَعَم، فشفعُوا له فشفَّعَهم الله فيهِ" (¬2). فإن قيل: فلم عاقبه بحوت؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أن عقوبة الله تعالى لا تشبه عقوبات خلقه فيُظهِر قدرته بما يعجز عنه البشر. والثاني: لأن الله تعالى له سجون كثيرة وقد كان آيسَ قومَهُ من رحمة الله وقال: لا يغفر الله لكم أبدًا. والثالث: أنه لما ظنَّ أن لن نقدر عليه حبسناه في أضيق السجون. وقال مقاتل: واسم الحوت زالوخا. قال السُّدي: رأى في البحر ملكًا قائمًا على كرسي من قرار البحر إلى رأس الماء فقال: يا رب، من هذا؟ قال: ملك البحر. وقد وكله الله به، وبين يديه رجل وهو يبصق في وجهه وبقول: ويحك، أما استحييت تقول: أنا ربكم الأعلى؟ فقال: من هذا؟ قال: فرعون. قال: ورأى رجلًا يُخسف به كل يوم فقال: من هذا؟ قال: قارون. وذكر أبو حنيفة بن النُّوبي: أنه صار بطن الحوت كالقوارير حتى رأى عجائب البحر كلَّها، وسمع أنين قارون، وسمع قارون تسبيح الملائكة، فقال قارون للملك الموكل به: ما هذا التسبيح؟ قال: تسبيح يونس. فناداه: يا يونس، ما فعل ابن عمي موسى؟ قال: مات. قال: واويلاه. ثم قال: وأخوه هارون؟ قال: مات. فقال: واانقطاع ظهراه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "تفسير الثعلبي" 9/ 160، والبداية والنهاية 2/ 21. (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره 19/ 628 من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا، وانظر "عرائس المجالس" ص 413، و"تفسير ابن كثير" 3/ 192.

فقال له يونس: ألا تتوب إلى الله تعالى؟ فقال: توبتي إلى موسى. فأوحى الله إلى يونس قد خفَّفت عذابه بحزنه على قرابته. وفي رواية فقال: وما فعلت أختهما كلثم؟ قال: ماتت. قال: وانَقْصَ قرابتاه. قال: ورأى هامان وغيره. فإن قيل: فكم لبث في بطن الحوت؟ قلنا: فيه أقوال: أحدها: أربعون يومًا، قاله أنس وغيره. والثاني: سبعة أيام، قاله سعيد بن جبير. والثالث: ثلاثة أيام، قاله مجاهد. والرابع: عشرون يومًا، قاله الضحاك. والخامس: بعض يوم، التقمه وقت الضحى وقذفه قبل الغروب، قاله الشعبي (¬1). والأول أصحُّ. {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} وهو المكان الذي لا يُتوارى فيه بشجر ولا غيره {وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] أي: مريض. {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147] واختلفوا في "أو" على أقوال: أحدها: أنها بمعنى "بل"، قاله ابن عباس والفراء. والثاني: أنها بمعنى الواو، أي: ويزيدون (¬2). والثالث: أنها بمعنى الشك في عددهم، لأنهم قد اختلفوا في الزيادة، فروى أُبي ابن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانوا عشرين ألفًا" (¬3). وقال ابن عباس: ثلاثون ألفًا. وقال ابن جبير: سبعون ألفًا (¬4). فإن قيل: فما معنى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)} [الصافات: 140] الآيات؟ ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" 1/ 328. (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 328، و "زاد المسير" 7/ 89. (¬3) أخرجه الترمذي (3229). (¬4) انظر "التبصرة" 1/ 328 - 329.

فالجواب: أنَّ معنى: أبقَ، أي: هرب، والفلك: السفينة، والمشحون: المملوء، وساهم، أي: قارع، وهي إلقاء السهام على وجه القرعة، والمدحض: المغلوب، والتَقَمَه: ابتلعه، والمليم: المذنب الذي يُلام على ما أتى به، والمسبِّحين: المصلِّين العابدين. وقال الحسن: لم يكن له صلاة في بطن الحوت، وإنما قدَّم عملًا صالحًا، ولولا ذلك العمل {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 144] أي: صار بطن الحوت له قبرًا (¬1). قال ابن عباس: إنما كانت رسالة يونس بعدما نبذه الحوت، قال: ودليله أنَّ الله ذكر قصَّة يونس في سورة الصافات ثم عقبها بقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (¬2). قلت: والأصح أنَّ قصة الحوت كانت بعدما أرسله إلى قومه، لأن الله قد ذكره في سورة يونس وهي مقدمة على الصافات، وأيضًا فإن الواو للجمع وعليه عامة المفسرين. وقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 88] إذا استغاثوا بنا ودعونا. فإن قيل: فما معنى قوله: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات: 146]؟ قلنا: قد اختلفوا في اليقطين: قال ابن مسعود: وهو القَرْع. وقال ابن عباس: هو كل نبت يمتدُّ وينبسط على وجه الأرض ولا يبقى على الشتاء، وليس له ساق، نحو: القَرْع، والقِثَّاء والبِطِّيخ، ونحوه. وقيل: إنما خص اليَقطِين لأنه لا تقربُه الذباب. وقال مقاتل: ثم عاد يونس إلى الشام، فتوفي بأرض فلسطين. ويقال: إن قبره بقرية مشهورة يقال لها: حَلحُول من أعمال (¬3) الخليل عليه السلام. ورأيت في بعض التاريخ أن قبره بالكوفة، وفيه بُعد، والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "تفسير البغوي" ص 1101، و"زاد المسير" 7/ 86 - 87. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 411. (¬3) في (ك): أرض، والمثبت من (ب) و (ط). (¬4) اعتمد الدكتور إحسان عباس فيما بعد هذه الأخبار في نشرته للكتاب على نسخة (ب)، وهي مختصرة جدًا، وقد اعتمدنا هنا على نسخة كوبريللي والخزائنية التي رمزنا لها بـ (خ).

فصل في قصة زكريا ويحيى عليهما السلام

فصلِّ في قِصَّة زكريَّا وَيَحيى عَلَيهمَا السَّلام (¬1) ذكر أبو منصور الجواليقي في "المعرب" عن ابن دريد أنه قال: زكريا اسم أعجمي (¬2). واختلفوا في نسبه: فقال الثعلبي: هو زكريا بن أدن (¬3) بن مسلم بن صدوق بن نحشان (¬4) بن داود بن سليمان بن صديقة بن برخيا بن ناحور بن شلوم بن يهعاياط (¬5) بن أُسا بن أبيا، أو أسا بن رُحُبْعم بن سليمان بن داود عليه السلام (¬6). وقيل: زكريا بن أدن بن يوحنا بن رحيا من ولد سليمان عليه السلام. وفي الصحيح: أنه كان نجارًا. قال أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون بإسناده عن أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان زكريا نجارًا". انفرد بإخراجه مسلم (¬7). وقال وهب: وكان زكريا قد تزوج أشياع بنت فاقود أخت حنَّة أم مريم. وقال السُّدِّي: أشيع هي بنت عمران أخت مريم. وهو وهم منه، والأول أصح، ذكره الثعلبي وغيره. وقال مقاتل: وحنة هي التي قال الله في حقها: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرً} [آل عمران: 35]. ¬

_ (¬1) في (ب): الباب الثامن والعشرون في قصة زكريا .... ومن هنا تبدأ النسخة الخزائنية والتي رمزنا لها بـ "خ"، وانظر لهذه القصة "تاريخ الطبري" 1/ 585 و"البدء والتأريخ" 3/ 116، و"عرائس المجالس" ص 373، و"التبصرة" 1/ 339، و"المنتظم" 2/ 5 - 6 - 7، و"الكامل" 1/ 298، و"المختصر في أخبار البشر" 1/ 34، و "البداية والنهاية" 2/ 393. (¬2) "العرب" ص 219. (¬3) في (خ): أردن، وفي تفسير الثعلبي 4/ 167: أذن، والمثبت من (ك) و (ب)، وانظر البداية والنهاية 2/ 394. (¬4) كذا في النسخ، وفي عرائس المجالس 374: يحسان، وفي تاريخ دمشق 6/ 426: محيمان، وانظر البداية والنهاية 2/ 395. (¬5) في (خ): بهاياط، والمثبت من (ب) و (ك)، وفي الطبري 1/ 586: يهشافاط، وفي عرائس المجالس 374: ثهفاساط، وفي البداية 2/ 395، وتاريخ دمشق 6/ 426: بهفانيا. (¬6) انظر "عرائس المجالس" ص 374. (¬7) أخرجه أحمد (7947)، ومسلم (2379).

وعمران: هو ابن ماثان، وليس بعمران أبي موسى. وقال ابن عباس: بينهما ألف وثمان مئة سنة، وكان بنو ماثان ملوك بني إسرائيل وأحبارهم (¬1). ويقال: ماثان من ولد داود. وقال مقاتل: ذكر الله عمران في ثمانية مواضع. وقال ابن إسحاق: هو من ولد رُحُبْعُم بن سليمان عليه السلام. وقال وهب: وكانت حنة قد نذرت حملها لله محررًا، أي: خالصًا، لخدمة بيت المقدس، وكان المحرر لا يفارق الكنيسة حتى يحتلم، ثم يُخيَّر، فإن أحبَّ المقام أقام، وإن أراد الخروج بعد التحرير لم يكن له ذلك، ولم يكن يُحرَّر إلا الغلمان دون الجواري، لما يصيبهن من الحيض والبلاء والأذى، فحرَّرت أم مريم ما في بطنها. هذا قول وهب (¬2). وقال الكلبي: كانت حنَّة قد أسنَّت ويئست من الولد، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، فبينا هي يومًا في ظل شجرةٍ رأت طائرًا يزقُّ فرخًا له، فتحركت نفسها للولد، وسألت الله ذلك، وقالت: هو لبيت المقدس. ولم تعلم بما في بطنها، فقال لها زوجها: ما تصنعين إن كان الحمل أنثى؟ يعني: أنها لا تصلح للتحرير. ومات عمران وهي حاملٌ بمريم، فلما وضعتها انكسر قلبها واعتذرت إلى الله تعالى بقولها: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} يعني النذيرة {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} أي في خدمة الكنيسة، فإن قيل: فقد علم الله أنها أثثى. قلنا: إنما قالت ذلك من باب الاعتذار، ولأن الأنثى لا تصلح للخدمة. {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36] وهي بلغتهم: الجارية (¬3) العابدة (¬4). وقد شهد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية، فقال أحمد: حدثنا عبد الله بن نُمير بإسناده عن عبد الله بن جعفر عن علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خَيرُ ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 374. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 374، و "تفسير البغوي" ص 201. (¬3) في (ك) و (خ): الخادمة. (¬4) انظر "عرائس المجالس" ص 374 - 375، و "تفسير البغوي" ص 201.

نِسائها مَريمُ بِنتُ عِمرانَ، وخَديجَةُ بنتُ خُويلدٍ" (¬1) متفق عليه. وقال أحمد بإسناده عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن مَولُودٍ يُولَدُ إلا والشَّيطَانُ يَمسُّهُ حين يُولَدُ، فَيَستَهِلُّ صَارخًا مِن مسِّ الشَيطَان إيَّاهُ إلا مَريَمَ وابنَها" ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} متفق عليه (¬2). وفي المتفق عليه: "كُلُّ ابنِ آدمَ يَطعُنُ الشَّيطَانُ في جنبيهِ حِينَ يُولدُ غير عيسى بنِ مَريمَ، ذهب يَطعُنُ فيه فَطعَنَ في الحِجَابِ" (¬3) أي: في المشيمة، والاستهلالُ: رفع الصوت. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37] أي: رضيها للتحرير وأنبتها نباتًا حسنًا، فكانت تشبُّ في كل يوم كما يشب غيرها في شهر، وفي شهر كما يشب غيرها في سنة. وقال وهب: ولما وضعتها لفَّتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، فوضعتها بين يدي الأحبار أبناء هارون، وهُم يومئذٍ يَلُونَ أمر بيت المقدس كحَجَبة بني شيبة للكعبة. وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها، لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها. فقالوا: لا نفعل، ولكنا نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه. فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين إلى نهر الأردن قريبًا من أريحا، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها التوراة والزبور في الماء، وقال الزجاج: هي قداح عليها علامات يعرفون بها القرعة، وإن قيل لها أقلام لأنها تُقلم وتُبرى (¬4). فأرن قلم زكريا، أي: صار له رنين، ووقف، فجرت أقلامهم مع الجرية وعال قلم زكريا الجرية، أي: ارتفع عليها. فقرعهم زكريا وكفلها، والكفالة: الضم، واسترضع لها زكريا، وقيل: إنما ضمها إلى خالتها أم يحيى. فلما بلغت مبالغ النساء بنى لها ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (640)، والبخاري (3432)، ومسلم (2430). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (7708)، والبخاري (4548)، ومسلم (2366). (¬3) أخرجه البخاري (3286)، ومسلم (2366) عن أبي هريرة. (¬4) انظر "معاني القرآن" 1/ 410 - 411.

محرابًا في المسجد، وجعل بابه في مكان لا يرقى إليها إلا بسلم مثل باب الكعبة. وما كان يصعد إليها سواه، ومعه المفتاح، وكانت إذا حاضت أخرجها من المسجد إلى منزله، تكون مع خالتها، فإذا طهرت ردَّها إلى المسجد. وقال ابن إسحاق: وإنما أدخلها المسجد من أجل نذر أمها. قال: وإنما اقترعوا عليها بعدما بلغت (¬1). وأصاب الناس سنة، فعجز زكريا عنها، فشكا إلى بني إسرائيل، فجعلوا يتدافعونها بالقرعة، فخرج السهم على يوسف بن يعقوب النجار، وكان ابن عمها، وكان فقيرًا، يأتيها باليسير، فرأت في وجهه شدة المؤونة عليه، فقالت: يا يوسف، أحسن الظنَّ بالله، فإنه سيرزقنا. فكان الله يثمِّرُ ما يأتي به. وهذه رواية ابن إسحاق. وعامة العلماء على أنَّ زكريا كفلها، ولم تزل عنده يأتيها بطعامها وشرابها، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب على باب المحراب، وهو الغرفة، فإذا عاد وجد عندها رزقًا. قال ابن عباس: فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء من ثمار الجنة، فيقول: {يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} فتقول: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 37]. وقال ابن عباس: تكلمت وهي صغيرة (¬2). فإن قيل: فمريم بنت عمران يأتيها رزقها رغدًا، وفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - تطحن حتى يؤثر الطحن في ذراعها؟ فالجواب: أن مريم كانت مفتقرة إلى وجود آية تستدل بها على براءتها من وجود ولد من غير أب كما في الفاكهة في غير أوانها، أما فاطمة فمنزهة عن مثل هذا، فلا تحتاج إلى آية تدل على براءة ساحتها. قال ابن إسحاق: ولما رأى زكريا هذا تحركت نفسه إلى طلب ولد، وكان قد كبِرَ وأسنَّ وانقرض أهله، فقال: الذي هو قادر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير أوانها من غير سبب، قادر على أن يرزقني الولد بأن يصلح لي زوجتي كذلك. فذلك قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} الآية [آل عمران: 38] {قَالَ رَبِّ} معناه: يا ربي، {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] أي: انتشر فيه الشيب كما ينتشر شعاع ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 375 - 376، و "تفسير البغوي" ص 201 - 202. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 376، و "تفسير البغوي" ص 202 - 203، و "زاد المسير" 1/ 379 - 380.

النار في الحطب. قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} وهم: بنو العم والعصبة، خاف أن يتولوا صحائف علومه ونبوته. وقيل: إنما سأل الولد، ليساعده على عبادة ربه، فإنه كان فردًا فطلب الولد. وذكر السُّدِّي: أنه خاف أن يتولوا ماله على وجه الميراث. وهو وهم منه، فإن الأنبياء لا يخلفون دينارًا ولا درهمًا بالحديث (¬1)، فسأل الولد لئلا ينقطع ذكره، ولا يموت العلم. وإنما قال: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم: 5] ولم يقل: عاقرة، لأنه أجرى الكلام مجرى حائض وطالق، والعاقر من النساء والرجال مَن لا يولد له. قال ابن عباس: وكان ابن عشرين ومئة سنة، وامرأته بنت ثماني وتسعين سنة (¬2). فإن قيل: وأين زكريا من يعقوب بينهما دهر طويل؟ قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: أن جميع بني إسرائيل من نساء يعقوب. والثاني: أن المراد به: يعقوب بن ماثان، وهو أخو زكريا، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لما قرأ هذه الآية: "يرحم الله زكريا، وما كان عليه من ورثة" (¬3). قوله تعالى: {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ} [مريم: 7] فإن قيل: ففي مريم هذه الآية، وفي آل عمران [الآية: 39]: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} فقد حصل المقصود بالبشارة الأولى، فما الفائدة في الثانية؟ قلنا: هو تأكيد للبشارة، وليعلم أن الله قد أجاب سؤاله فيفرح. وقال ابن عباس: دخل عليه المذبح شاب من أحسن الشباب، فخاف منه فقال له: لا تخف أنا جبريل وبشره. ¬

_ (¬1) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إن العلماء هم ورثة الأنبياء، لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا" أخرجه أحمد في "مسنده" (21715). (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 340. (¬3) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 64/ 172 عن قتادة مرسلًا.

و "يحيى" لا ينصرف للمعرفة. وقال ابن عباس: أحيا الله به عَقْر أبويه بين شيخ وعجوز. وقال الزجاج: لأن الله أحيا قلبه بالإيمان والتقوى والنبوة والحكمة. وقال مقاتل: بالعصمة، فلم يهمَّ بالمعصية. قال أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن أحدٍ يَلقَى الله يَومَ القِيامَةِ إلا وقَد همَّ بمعصيَةٍ أو عَمِلَها إلا يَحيى بنَ زكَرِيَّا، فَإنَّه لم يهمَّ ولم يَعملها" (¬1). وقال عمر بن عبد الله المقدسي: كان اسم سارة يسارة، فأوحى الله إلى الخليل عليه السلام إني مخرج منكما عبدًا لا يموت بمعصيتي اسمه حيٌّ، فتهب له سارة من اسمها حرفًا، فوهبت له الياء من أول اسمها، فصار يحيى وصارت يسارة سارة (¬2). قال ابن عباس في قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} إن الله لم يُسمِّ أحدًا قبله بهذا الاسم تشريفًا له، ولم يكل تسميته إلى أبيه وأمه. وقيل: لم يجعل له مثلًا وشبهًا. وقال مقاتل في قوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39] قال: هي عيسى، قال له: كن فكان (¬3). واختلفوا في معنى: "الحصور": فقال قوم: هو الذي لا يأتي النساء، لأنه ما كان له آلة. قلت: وهذا ذم لا مدح، لأن الفضيلة أن لا يأتي النساء مع القدرة إلا أن يكون عِنِّينًا، وقد حكى الماوردي: أن الحصور: هو الذي يمنع نفسه عن شهواتها مع القدرة (¬4). وهذا وجه حسن بخلاف الأول. وقيل: هو الحليم. وأصل "السيد" من ساد يسود إذا رأس وعلا، وهو اسم جامع للخصال المحمودة، ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (2294). (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 377. (¬3) انظر "زاد المسير" 1/ 383. (¬4) انظر "زاد المسير" 1/ 384.

ذكر مقتل زكريا عليه السلام

وقد ذكرنا في "التفسير" تمام الآيات. فإن قيل: فما معنى قوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه سأل آية أي: علامة على وجود الولد، فقيل له ذلك. والرمز بالشفتين والحاجبين والعينين، واعتقل لسانه. والثاني: ذلك عقوبة له بعد ما شافهته الملائكة بالبشارة. وقال قوم: لم يعتقل لسانه، وليس بشيء، لأن الله يقول: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)} [مريم: 11]. قال ابن عباس: كتب إليهم في كتاب. وقال مجاهد: أومأ برأسه. وقال مجاهد أيضًا: ولد يحيى قبل عيسى بستة أشهر، وكان ابن خالته. ويحيى أول من آمن بعيسى عليه السلام. وقال ابن وهب: كانت أم يحيى حاملًا به فاستقبلتها مريم وهي حامل بعيسى فقالت لها أم يحيى: أنت أم عيسى، أنت حامل، قالت: ولِم؟ قالت: لأني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك (¬1). قلت: لا ينبغي السجود إلا لله تعالى. وقال السُّدي: ولد يحيى عليه السلام في أيام أردشير بن بابك. وقيل: في أيام سابور بن أردشير، والله أعلم. ذكر مقتل زكريا عليه السلام ذكر وهب وغيره: أن مريم لما حملت بعيسى عليهما السلام اتهمت اليهودُ زكريا بها، فلما استبان حملها، طاف إبليس مجالس بني إسرائيل فقذف زكريا بمريم، وقال: ما كان يدخل عليها إلا هو، وهو الذي أحبلها، فطلبوه، فهرب، فأتى واديًا كثير الأشجار، فأتاه إبليس في صورة راعٍ فقال له: قد جاءك القوم، فادع ربَّك أن يفتح لك شجرة، فادخل فيها. ففعل. وجاء القوم، وقد بقي هدب ثوبه، وقيل: بل أخذ به إبليس. فقال لهم إبليس: ها هنا دخل، فركَّبوا عليه المنشار، وشقُّوه نصفين كما فعلوا بشعيا، ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 378.

فصل يتعلق بيحيى عليه السلام

فأوحى الله إليه: لئن قلت آه محوتك من ديوان النبوَّة، هلا التجأت إلينا وقد وكلناك إليها، فقطعوه وهو ساكت. وأمر الله الملائكة فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه بفَلَسْطِيَّة، وهي التي تسمَّى اليوم سَبْسَطية بأرض نابلس. وذكر ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: أن زكريا مات على فراشه ولم ينشر، والذي نشر إنما هو شعيا وقد ذكرناه. والأول أصحُّ. وعامَّة المؤرخين على أن زكريا نشر قبل مقتل يحيى، إلا هارون بن المأمون فإنه قال: قُتِلَ يحيى وزكريا في الحياة، فهرب إلى بستان، فنادته شجرة: يا نبي الله، إلى هاهنا، وانفرجت له، فتبعوه فشقوه. والأول أصح، وقد نص عليه السدِّي والكلبي وابن إسحاق وقالوا: قتل زكريا وليحيى سبع سنين، وما نُبئ إلا بعد قتل أبيه (¬1). فصل يتعلق بيحيى عليه السلام ذكر هارون بن المأمون في تاريخه: أنَّ يحيى عليه السلام لما ولد رفع إلى السماء، فكان على باب الجنة حتى فُطِمَ، ثم أنزل إلى أبيه، فكان البيت يضيء بنوره، وكان حسن الصورة، قصيرًا، قليل الشعر، مقرون الحاجبين. قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] وفي سنه يومئذٍ قولان: أحدهما: ثلاث سنين، قاله قتادة. والثاني: سبع سنين، قاله ابن عباس (¬2). فإن قيل: فما بعث الله نبيًا إلا بعد الأربعين، فكيف نُبِّئ يحيى وهو صغير؟ فالجواب: أنَّ الله يختص برحمته من يشاء، وكان ذلك من خصائصه، وهذا هو الجواب عن عيسى عليه السلام. وقوله: {خُذِ الْكِتَابَ} أي: التوراة {بِقُوَّةٍ} بجدِّ واجتهاد {الْحُكْمَ} الفهم. وقال ابن عباس: كان الصبيان يقولون له: هلم لنلعب، فيقول: ما خلقنا للَّعِب، وإنما خلقنا للْعَبِّ، يعني: النقل (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 383، و"البداية والنهاية" 2/ 52. (¬2) انظر "التبصرة" 1/ 341. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 379.

{وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم: 13] أي: ورحمة، وقال ابن عباس: ما أدري ما الحنان، إلا أن يرحم الله عباده ويتعطف عليهم. {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مريم: 15] أي: سلام له. وروى قتادة عن الحسن قال: التقى عيسى ويحيى، فقال له عيسى: استغفر لي فأنت خير مني. فقال له يحيى: وأنت كذلك. فقال عيسى: أنت سَلَّمَ الله عليك، وأنا سلمت على نفسي (¬1). يشير إلى قوله: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم: 33]، وقيل ليحيى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ}. وقيل: كان بينهما ثلاث سنين، يحيى قبله. وهو وهم، بل كان في زمانه. وقال ابن عباس: كان طعام يحيى قلوب الشجر والعشب، ويخالط الوحش، ويلبس الشعر والوبر، ولا يأنس ببني آدم، ولم يكن له بيت، ولا عبد، ولا أمة، وما ضحك قط إلا متبسمًا. وذكر أبو نعيم في "الحلية" عن وهيب بن الورد قال: كان يحيى في وجهه خطان أسودان من البكاء، فكان أبوه إذا رآه يبكي يقول: يا إلهي، إنما سألت الولد لتقرَّ به عيني، وما أراني إلا وقعت في العناء. فيقول له يحيى: يا أبة، أنت أخبرتني عن جبريل أنه قال: إن بين الجنة والنار عقبة لا يقطعها إلا بكاء العين (¬2). وفي رواية: فيبكي زكريا معه. وقال وهب بن منبه: بكى يحيى حتى بدت أضراس فيه فقالت أمه: يا بني، لو صنعتُ لك لِبْدًا. فقال: اصنعي ما بدا لك. فصنعت له لِبْدًا، فكان إذا قام إلى الصلاة يبكي حتى يبل اللِّبْد، فتقف أمه فتعصر اللِّبْد، فإذا رأى دموعه على ذراعيها رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم، هذه دموعي وهذه أمي وإنا عبيدك وأنت أرحم الراحمين (¬3). وقال السُّدي: كان زكريا إذا تكلم على الناس نظر يمينًا وشمالًا، فإن رأى يحيى لم ¬

_ (¬1) انظر "زاد المسير" 5/ 215. (¬2) "حلية الأولياء" 8/ 149. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 380.

يذكر جنة ولا نارًا (¬1). وقال ابن المسيب: كان يحيى عليه السلام يضرب لبني إسرائيل الأمثال: مثل في التوحيد، قال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، ومثله: كرجل اشترى عبيدًا من خالص ماله وأسكنهم دارًا له ودفع إليهم مالًا ليتجروا به ويأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ويؤدي إليه فضل الربح، فدفعوه إلى عدوِّ سيدهم. مثلٌ في الصلاة والمصلي، قال: مثله كرجل استأذن على ملك فأذن له فدخل عليه، فأقبل الملك عليه بوجهه وجعل الرجل يلتفت يمينًا وشمالًا، فأعرض عنه الملك ولم يقض له حاجة. مثلٌ في الصيام، قال: مثله كرجل لبس جبة للقتال وأخذ سلاحه وخرج إلى عدوِّه فلم يصل إليه العدو ولم يعمل فيه السلاح. مثلٌ في الذكر، مثله: كقوم لهم حصن ولهم عدو، فإذا أقبل عدوُّهم دخلوا حصنهم فلم يقدر عليهم، فكذا الشيطان لا يقدر على ذاكر لله تعالى (¬2). قلت: وقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل في "المسند" حديثًا بمعناه فقال: حدثنا عفَّان بإسناده عن الحارث الأشعري أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ أمرَ يَحيى بنَ زكَرِيَّا بِخَمسِ كَلِمات، أن يَعملَ بهِنَّ، ويأمُرَ بَنِي إسرائيلَ أن يعمَلُوا بِهِنَّ، فكادَ يُبطِئ، فَقالَ له عيسى بنُ مريمَ: إنَّك قد أُمِرتَ بِخَمسِ كَلِمات أن تَعملَ بِهِنَّ وتأمُرَ بَنِي إسرائيلَ أن يعملُوا بِهِنَّ، فإمَّا أن تُبلغَهُنَّ، وإمَّا أن أُبلِّغَهُنَّ. فقال: يا أخي، إنِّي أَخشَى إن سَبقتَنِي أن أُعذَّبَ أو يُخسفَ بي. قال: فَجمعَ يَحيى بنُ زكريا بَنِي إسرائيلَ في بَيتِ المقدِس، حتى امتلأ المسجدُ، فَقُعِدَ على الشُّرَفِ، فَحمدَ الله، وأثنى عليه، ثُمَّ قالَ: إنَّ الله أمَرَني بِخمسِ كَلماتٍ أن أعمَلَ بِهِنَّ وآمُرَكُم أن تَعملُوا بِهِنَّ. وأوَّلُهُنَّ: أن تعبُدوُا الله ولا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا، فإنَّ مَثَلَ ذلِك مَثَلُ رجلٍ اشتَرى عبدًا من خالصِ مالِهِ بوَرقٍ أو ذَهبٍ، فَجَعلَ يَعملُ ويُؤدِّي غَلَّتهُ إلى غَيرِ سيِّدِه، فأيكم يَسرُّه أن ¬

_ (¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 380. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 379.

يكُونَ عَبدُه كَذلِك، وإنَّ الله خَلَقكُم، ورزَقَكُم، فاعبُدُوه، ولا تُشرِكُوا به شَيئًا. وآمُرُكُم بالصَّلاةِ، فإنَّ الله يَنصِبُ وجهَهُ لِعبدِهِ ما لم يَلتَفِت، فإذا صَلَّيتُم فلا تَلتَفِتُوا. وآمُرُكُم بالصِّيامِ، ومَثَلُ ذَلِكَ كرجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِن مِسكٍ في عِصَابةٍ، كُلُّهُم يَجِدُ رِيحَ المِسكِ، وإنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّاِئمِ عِندَ الله أَطيَبُ من رِيحِ المِسكِ. وآمُرُكُم بالصَّدقَةِ، فإنَّ مَثَلَ ذلِكَ كَمَثلِ رَجُلٍ أسرَهُ العَدُوُّ، فَشدُّوا يَدَيِهِ إلى عُنُقِهِ (¬1) وقدَّمُوهُ ليَضرِبُوا عُنُقَهُ، فَقالَ لَهُم: هَل لكُم أن أَفتَدِيَ نَفسِي مِنكُم؟ فَجَعلَ يَفتَدِي نَفسَهُ مِنهُم بالقَلِيلِ والكَثير حَتَّى فَكَّ نَفسَهُ. وآمُرُكُم بِذِكرِ اللهِ تعالى كَثيرًا، وإنَّ مَثلَ ذَلِكَ كَمَثلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ العَدُوُّ سرَاعًا في أثرِهِ، فأتَى حصنًا حَصينًا، فَتَحصّنَ فيه، وإنَّ العَبدَ أحصَنُ ما يكُونُ مِن الشَّيطانِ إذا كَانَ في ذِكرِ الله. قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنَا آمُرُكُم بِخَمسٍ اللهُ أمَرني بِهِنَّ: الجَماعَة، والسَّمع، والطَّاعَة، والهِجرَة، والجِهاد في سَبيلِ الله، فإنَّهُ مَن خَرجَ مِن الجَماعَةِ قِيْدَ (¬2) شِبرٍ فقد خَلَعَ رِبقَةَ الإسلامِ مِن عُنُقِهِ إلا أن يَرجعَ، ومَن دَعَا بِدَعوى جَاهِليَّةً، فَهُو مِن جُثَا جَهنَّمَ" قالوا: يا رسول الله، وإنْ صَامَ وصَلَّى؟ قَالَ: "وإن صَامَ وصَلَّى وزَعَمَ أنَّه مُسلِمٌ، فادعُوا المسلمِين بأسمائِهم بَل بِما سمَّاهُم الله تعالى المسلمين المُؤمنين عِبَادَ اللهِ" (¬3). و"جُثَا" بجيم: من قوله تعالى: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]. وهذا الحارث بن الحارث أبو مالك الأشعري أخرج له أحمد في "المسند" هذا الحديث ولم يخرج له غيره. وقد ذكرنا وقائع يحيى مع الشيطان في صدر الكتاب. * * * ¬

_ (¬1) في (ك) و (خ): عنده والمثبت من (ب). (¬2) في (ك) و (خ): قدر والمثبت من (ب). (¬3) "مسند أحمد" (17170).

ذكر مقتل يحيى عليه السلام

ذكر مقتل يحيى عليه السلام واختلفوا فيه: قال وهب: بعث عيسى عليه السلام يحيى عليه السلام في نفرٍ من الحواريين يعلِّمون الناس الأحكام، وكان فيما نَهَوهم عنه نكاح الأخت، وابنة الأخت، وكان لملكهم ابنة أخ يُعجبُ بها، فأراد نكاحها، فمنعه يحيى عليه السلام، فسكر يومًا، وقال لها: اسألي حاجتك. وكان لها كل يوم حاجة مقضية. فقالت أمها: اسأليه رأس يحيى في طشت. فامتنع، فألحت عليه، وغاب عقله، فراودها فامتنعت، فأمر بذبحه، فذبح وجيء برأسه في طشت، والرأس يتكلم، ويقول: لا يحل لك نكاحها. فلما أصبحوا إذا الدم يغلي، فألقوا عليه التراب وهو يغلي حتى بلغ سور المدينة، فغزاهم ملك، فأقام مدة يحاصر بيت المقدس، فلم يقدر عليهم، فعزم على الرجوع، فخرجت إليه عجوز من بني إسرائيل، فقالت: أتحب أن تفتح المدينة؟ اقسم عسكرك أربعة أرباع (¬1) في كل ناحية ربعًا، وارفع يديك إلى السماء وقل: إنا سنفتحك بالله وبدم يحيى بن زكريا. فإذا فتحتها فاقتل على دمه حتى يَسكُن، فإن حيطان البلد تتساقط. ففعل، ففتح الله البلد ودخل (¬2)، فجاءت بهم العجوز فأرتهم موضع الدم وهو يفور، فقتل عليه سبعين ألفًا حتى رقأ، فقالت له: ارفع يديك، فإنَّ الله إذا قُتِلَ نبيٌّ لم يرض حتى يقتُلَ من قتله ومن رضي بقتله (¬3). وقال السُّدي: واسم الملك الذي أخذ بثأر يحيى: خردوس. وقيل: بخت نصر، وهو وهم. وقال الربيع بن أنس: كان للملك ابنة، فرأت يحيى فأحبته، فأرسلت إليه تراوده عن نفسه، فأبى، فراودته مرارًا وهو يمتنع، فخافت أن يشيع ذلك عنها، فقالت لها أمها: إذا سألك أبوك حاجة، فقولي: رأس يحيى. فقالت له: تذبح يحيى. وندمت، وجعلت ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): أقسام. (¬2) في (ب): ودخلوا. (¬3) انظر "عرائس المجالس" ص 381 - 382، و"الكامل" 1/ 302.

المرأة تقول: ويل لها ويل لها. حتى ماتت (¬1). واختلفوا في اسمها: فقيل: أزبيل. وقيل: ربه. وقيل: هيردونا. وكانت بغيًّا. قال وهب: قتلت في يوم واحد سبعين نبيًا آخرهم يحيى عليه السلام وهي مكتوبة في "التوراة": قتَّالة الأنبياء. ولها منبر في النار تعذَّب عليه ليسمع صراخها أهل النار. وقال جدي في "التبصرة": فهي أول من يدخل جهنم. وحكى ما ذكرناه (¬2). وقال الهيثم: اسم الملك الذي أمر بذبح يحيى عليه السلام: هردوش. واختلفوا في أيِّ مكانٍ ذُبح يحيى: فعامَّةُ المؤرخين على أنه ذُبحَ بالقدس بصهيون. وقال مقاتل: على صخرة بيت المقدس في هوى زانية (¬3). وقال وهب: كان قائمًا يصلي، فذُبح، فأخرب الله بيت المقدس، وسلَّطَ على بني إسرائيل الجبابرة، فأخربوا الشام كله. وقال قتادة: ذُبح يحيى بدمشق (¬4). وقيل: في موضع المسجد الصغير عند باب جيرون (¬5). وقال ابن سمعان: وكان ذلك قبل رفع عيسى عليه السلام بسنة ونصف ثم رفع بعد ذلك. قال: وكان الدم يفور، فصعد الملك إلى درج جيرون عند الكنيسة، وجعل يجيء بعشرة عشرة، فيضرب رقابهم حتى قتل عليها سبعين ألفًا، فجاء بعضُ أنبياء بني إسرائيل، فقال: أيها الدم، أفنيت الناس. فسكن (¬6). وكان الحسن يقول: من هوان الدنيا على الله أن يحيى قتلتهُ زانية (¬7). ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" 1/ 342. (¬2) "التبصرة" 1/ 342. (¬3) انظر "البداية والنهاية" 2/ 55. (¬4) انظر "تاريخ دمشق" 2/ 241. (¬5) انظر "تاريخ دمشق" 2/ 304. (¬6) انظر "البداية والنهاية" 2/ 55. (¬7) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (10474) من طريق الهزلي، عن الحسن، عن أبي بن كعب مرفوعًا، قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف، وروي عن ابن عباس موقوفًا عليه.

ولما حُوصِر عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - قال ذلك (¬1). واختلفوا في موضع رأس يحيى عليه السلام على أقوال: أحدها: أنه دفن مع جسده بالقدس. والثاني: أنه حُمل إلى عند أبيه فدفن بفلسطيَّة. والثالث: بجامع دمشق. فروي عن زيد بن واقد وكان الوليد قد وكَّله على عمارة جامع دمشق قال: وجدنا مغارة فعرَّفنا الوليد، فجاء في الليل وبين يديه الشمع، فنزلها فإذا هي كنيسة ثلاثة أذرع في مثلها، وإذا فيها صندوق، ففتحناه، وإذا بِسفْطٍ فيه رأسٌ مكتوب عليه: هذا رأس يحيى بن زكريا، والبشرة والشعر بحاله لم يتغيَّر، فردَّه الوليد إلى مكانه، وقال: اجعلوا عليه عمودًا مسفطًا. قال زيد بن واقد: فهو العمود المسفط (¬2). الرابع: من ركن القُبَّة الشرقي. وقال ابن مسعود: كانت بنو إسرائيل قتلة الأنبياء؛ قتلوا في أول يومٍ من الأيام ثلاث مئةِ نبي، وقامت سوق بقلهم في آخر النهار (¬3). وقال ابن عباس: ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كان بين موسى وعيسى خلق من الأنبياء لا يحصون، وما صُدِّق نبيٌّ ما صُدِّقْتُ؛ إنَّ من الأنبياء من لم يتْبعْهُ من أُمَّته إلَّا الرجل والرجلان" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 555. (¬2) انظر "تاريخ دمشق" 2/ 241. (¬3) في (خ) و (ك): الزمان، والمثبت من (ب). (¬4) أخرج شطره الثاني - من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وما صدق نبي ... " - مسلم (196) (332)، وابن حبان (6243) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

فصل في قصة مريم وعيسى عليهما السلام

فصل في قصة مريم وعيسى عليهما السلام (¬1) قال مقاتل: ذكرهُ الله في ستةٍ وعشرين موضعًا، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم: 16]. ومريمُ: اسم أعجمي، ومعناه بالعبرية: خادمة الكنيسة، وقيل: خادمة الله، ويقال: لأنها مرَّت في الطاعة مرور الحوت في اليم. ومن فضائلها: أنَّ الله سمَّاها في القرآن في قصةٍ واحدة في سبع مواضع، ولم يذكر في القرآن غيرها، وخاطبها كما يخاطب الأنبياء، فقال: {يَامَرْيَمُ}. وقال لها: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} بواسطة جبريل؛ أي: اختارَكِ {وَطَهَّرَكِ} من مَسيس الرجال والفواحش، وقيل: إنها ما كانت تحيض و {نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} أراد نساء زمانها. {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} أي: أطيلي عبادته، {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] (¬2). فإن قيل: فلِمَ قدَّم السجود على الركوع، وهو مُؤَخَّر عنه في الحكم؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أن الواو للجمع دون الترتيب؛ قاله أهل اللغة. والثاني: أنَّ فيه تقديمًا وتأخيرًا، ومعناه: اركعي واسجدي؛ ذكرهُ ابن الأنباري، ونظيرهُ قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. والثالث: أن السجود كان مقدمًا على الركوع في شرعهم؛ ذكرهُ أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} أي: جبريل {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} وهو عيسى، وقيل: قوله: كن منه {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، وقد سمَّاهُ الله روحًا وكلمة. ¬

_ (¬1) في (ب): الباب التاسع والعشرون في قصة مريم وعيسى عليهما السلام، وانظر في هذه القصة: "تاريخ الطبري" 1/ 585، و"البدء والتاريخ" 3/ 118، 120، و"عرائس المجالس" 384، وتاريخ دمشق 57/ 65، و (تراجم النساء) 342، والتبصرة 1/ 352، و"المنتظم" 2/ 16، و"الكامل في التاريخ" 1/ 307، و"المختصر في أخبار البشر" 1/ 34، و"البداية والنهاية" 2/ 416. (¬2) انظر في تفسير الآيات هذه والآتية: تفسير الطبري 5/ 393، والماوردي 1/ 392، والثعلبي 7/ 67، وزاد المسير 1/ 387.

فأما المسيح فقد اختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أن أصله مشيحًا، بالشين المعجمة، فعرَّبتهُ العرب، فقالت: مسيحًا؛ كما قالوا في موشى: موسى، قاله الزجَّاج. والثاني: لأنه ممسوح، فَعِيل بمعنى مفعول، أي: مُسح من الأقذار؛ قاله ابن عباس. والثالث: لم يكن لقدمه أَخمص، والأخمص ما يتجافى عن الأرض من باطن القدم. والرابع: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، قاله أبو سليمان الدمشقي. والخامس: لأنه ما مَسَحَ بيده على ذي عاهة إلا برئ، ولا على أعمى إلا أبصر، رُوي عن ابن عباس. والسادس: أنه كان لا يقيم في مكان بل يمسح الأرض بالسياحة، ذكرهُ ثعلب. والسابع: أنه الصديق بالعبرانية، قاله مجاهد. والثامن: أنه القاتل، فيقتل الدجَّال. فإن قيل: فلفظة المسيح مشتركة، فالدجَّال يقال له: المسيح، قلنا: قد فرَّق نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - بينهما، فروى أحمد بن حنبل بإسناده عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لا واللهِ ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعيسى أحمر، ولكن قال: "بينا أنا نائمٌ - أو قائمٌ - أطوفُ بالبيتِ فإذا رجلٌ آدَمُ، سَبْطٌ، يُهادَى بين رجلَيْن، يَنْطِفُ رأسُه - أو يُهراق - ماءً، فقلت: مَن هذا؟ قالوا: ابنُ مريَمَ. فذهبتُ ألتفِتُ، فإذا رجلٌ أحمرُ جسيمٌ، جَعْدُ الرَّأسِ، أعورُ عينه اليُمنى، كأنَّ عينَهُ عِنبَةٌ طافية، قلتُ: مَن هذا؟ قالوا: الدَّجال، وأقرب الناسِ شبهًا به ابن قَطَنٍ"، قال الزهري: هو رجل من خزاعة هلك في الجاهلية. أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). ولمسلم: عن جابر رفعه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ورأيتُ عيسى فإذا هو يُشبهُ عُروةَ بن مسعودٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (6312)، والبخاري (7128)، ومسلم (169). (¬2) أخرجه مسلم (167).

وأما عيسى: فقال الجَوْهَري: هو اسم عِبْرَاني أو سُرياني (¬1)، وقال أبو حنيفة ابن النُّوبي: قد اختلفوا في عيسى، فقال قوم: لا اشتقاق له، وقال آخرون: هو الأبيض، ومنه العِيس، وهي البِيضُ. فإن قيل: فَلِم بدأ بلقبه ولم يبدأ باسمه في قوله: {الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}؟ فالجواب: ما ذكره ابن الأنباري، فإنه قال: المسيح أشهر، وعيسى يقع على عددٍ كثيرٍ بخلاف المسيح، فقدَّمهُ لشهرته، ثم قال: ألا ترى أنَّ ألقاب الخلفاء أشهرُ من أسمائهم. وقال الزجَّاج: كانوا يسمُّون بعيسى ولا يعرفون المسيح، فلما سمعوا بقوا متحيِّرين. فإن قيل: فَلِمَ نسبهُ إلى أُمه بقوله: {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}؟ قلنا: لينفي عنه ما ادَّعت النصارى من النبوَّة حيث أضافوه إلى الله تعالى. و"الوجيه": الذي له جاهٌ ومنزلةٌ رفيعةٌ {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45]، عند الله في الدنيا والآخرة. {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} أي: طفلًا قبل أوانِ الكلام، والمهدُ مأخوذٌ من التمهيد وهو التوطئة. وقال ابن عباس: تكلم في المهد ساعةً ليُبرِّئ أُمَّه مما قُذفت به، ولم يتكلم بعد ذلك حتى بلغ مرتبة النطق. وحكى الثعلبي عن مجاهد، قال: قالت مريم: كنت إذا خلوتُ أنا وعيسى حدثته ويحدثني، فإذا شغلني عنه إنسان سبَّح في بطني وأنا أستمع. {وَكَهْلًا} [آل عمران: 46]. قال الفرَّاء: الكهل عند العرب من جاوز الثلاثين لاجتماع قوته وشبابه، من قولهم: اكتهل النبات. أي: استوى. وقال ابن فارس: الكهل من وخَطَهُ الشيب، والعرب تمدح بالكهولة لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن، واستحكام الرأي، وغزارة العقل والتجربة. ¬

_ (¬1) "الصحاح": (عيسى).

وقال ابن عباس: أرسلَهُ الله وهو ابن ثلاثين سنة، فأَقام في الرسالة ثلاثين شهرًا، ثم رفعهُ إليه. وقال وهب: أقام في الرسالة ثلاثَ سنين، ثم رُفع. فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: 16]؟ فالجواب (¬1): ما حكاهُ علماء السِّير ممن سمينا، قالوا: معنى {انْتَبَذَتْ} انفردت وتنحَّت، وكانت قد خرجت عن أهلها، ومعنى {مَكَانًا شَرْقِيًّا} أي: مما يلي الشرق، لأنه كان في الشتاء، وكان أقصر يومٍ في السنة، قال الحسن: فلهذا اتخذت النصارى الشرق قِبلةً. {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} أي: ضربت سترًا يمنع من ينظر إليها، وكانت إذا حاضت خرجت من المسجد، فتغتسل ثم تعود إليه. وقد اختلفوا في سنِّها يومئذٍ على أقوال: أحدها: أنه كان لها خمس عشرة سنة، قاله ابن عباس. والثاني: اثنتا عشرة سنة، قاله وهب. والثالث: ثلاثَ عشرة سنة، قاله مجاهد. والرابع: عشر سنين. والأول أصحُّ. قال مقاتل: بينما هي تغتسل، إذ عرض لها جبريل في صورة غلامٍ أَمرد وضيء الوجه، جَعْد، قَطَط، حين خطَّ (¬2) شاربه، وهي تمتشط؛ وإنما جاءها في صورة البشر لتثبت ولا تخاف، فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]. واختلفوا في معنى قوله تعالى: {رُوحَنَا} على قولين: أحدهما: أنَّ الروح جبريل. والثاني. عيسى. قال أُبيُّ بن كعب: كان روح عيسى من الأرواح التي أخذ الله عليها الميثاق في زمن ¬

_ (¬1) انظر تفسير الثعلبي 6/ 209، وعرائس المجالس 384، والنكت والعيون للماوردي 3/ 14، وزاد المسير 5/ 216. (¬2) في (ب): طرَّ، وهما بمعنى.

آدم، فأرسله الله إليها في صورة البشر فدخل في فيها، والأوَّل أصحُّ لدلالة الكلام عليه، فإن جبريل هو الذي خاطبها. وقال الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي: حفظت ومنعت {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أضاف الروح إليه على معنى التشريف لمريم وعيسى، وإنما قال: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً} [الأنبياء: 91]، ولم يقل آيتين، لأنَّ معناه: وجعلنا شأنهما وأمرهما آيةً. {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18] واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: إن كنتَ مطيعًا مؤمنًا، قاله عليٌّ عليه السلام، وقد فسرهُ فقال: إن كنتَ تتقي الله فإنك تنتهي عني بتعوذي منك. والثاني: أنه كان رجل في بني إسرائيل، زاهد عالم عابد ورع، يقال له تقي، فقالت: وإن كنت في الصلاح مثل تقي فإني أعوذ بالله منك. والثالث: أن التقي اسم رجلٍ فاجر، كان يتعرَّض للجواري، فيعوذون منه. فقال لها جبريل: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} فلا تخافي، إنما أرسلني {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 19] أي: صالحًا، طاهرًا من العيوب. وإنما أضاف الهِبَة إليه لأنه هو السبب، فأضافها إلى نفسه: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} أي: كيف يكون لي ولد {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أي: لم يَقْربني زوج {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] أي: فاجرةً. {قَالَ} جبريل: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 21] أي: يسير أن أهَبَ لك غلامًا من غير أب {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} أي: دلالةً على قدرتنا، وعبرةً للناس {وَرَحْمَةً مِنَّا} لمن تَبِعَهُ وآمن به، {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21] أي: محكومًا به، مفروغًا منه، كُتِبَ في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس: فنفَخَ جبريل في جيب درعها، فمرَّت حاملًا في الوقت، فلما تيقنت بحملها انتبذت به، أي: انفردت {مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم: 22] أي: بعيدًا من أهلها من وراء الجبل. وقال مجاهد: قيل ليوسف النجار، وكان ابنَ عمها: إنَّ مريم قد حبلت، والآن تُقتل، فأخذها وهرب بها، فأراد قتلها، فناداه جبريل: لا تفعل، فإنه روح الله وكلمته، فَتَرَكَهَا.

واختلفوا في مدة حملها على أقوال: أحدها: ساعة واحدة، حملت به ثم وضعته في الحال؛ قاله ابن عباس. والثاني: ثلاث ساعات، حملت به في ساعة، وصُوِّرَ في ساعة، ثم وضعته في ساعة حين زالت الشمس؛ قاله مقاتل. والثالث: تسع ساعات، قاله الربيع بن أنس. والرابع: ستة أشهر؛ أدنى مدة الحمل؛ قاله مجاهد، وذكرهُ الماوردي (¬1). والخامس: سبعة أشهر؛ قاله أبو جعفر الطبري وعكرمة. والسادس: ثمانية أَشهر، قاله الزجَّاج (¬2)، وكان ذلك آيةً لعيسى عليه السلام، لأنه لا يعيش مولود لثمانية أشهر. والسابع: تسعة أشهر؛ الحمل المعتاد، قاله أبو جعفر الطبري والحسن وابن جبير (¬3). والثامن: يومًا واحدًا. والوجه الأول أصحُّ، لوجوه: أحدها: أن الآية دليل عليه، وهي قوله: {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم: 22 - 23]، وكل هذا على الفور. والثاني: لأنه أبلغُ في المعجزة. والثالث: لأنَّ ابن عباس نصَّ عليه. وقال ابن إسحاق: مشت ستة أميال فرارًا من قومها، مخافة أن يُعيِّروها بولادتها من غير زوج. {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} أي: فأخذها، وهو وجع الولادة والطلق، وقرأ ابن مسعود: ¬

_ (¬1) النكت والعيون 3/ 362 ونسبه إلى أبي القاسم الصيمري. (¬2) انظر "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 324. (¬3) لم نقف على كلام الطبري في الموضوعين.

"فآواها" (¬1) {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}، وكانت يابسة في الصحراء، لم يكن لها سَعَفٌ ولا خُوصٌ (¬2)، وكانت ببيت لحم على ثلاثة أميال من القدس، وكان يومًا باردًا {قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} الأمر أو اليوم، قالته حياء من الناس، واختلفوا في معناه: قال الحسن: قبل نزول هذه الحادثة العظيمة، وهي وجود ولد من غير أب. وقال مجاهد: قالته شفقة على الخلق، ومعناه: يا ليتني مِتّ قبل أن يخرج مني ولد يُعبَدُ من دون الله، فيدخلُ النارَ بسببه خلقٌ كثير. وقيل: معناه: يا ليتني مِتُّ قبل أن يجيء من يشغلني عن الله. وقيل: إنما مضَّها وجع الولادة فقالت ذلك. وقيل: لما كنتُ في محرابي كان يأتيني رزقي من غير تعبٍ، والآن فقد صرت محتاجةً إلى السبب، يا ليتني مِتُّ قبل هذا. وقيل: نفاس وعدو وخوف ووجع، يا ليتني مِتُّ قبل هذا، قالهما مقاتل. {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23] أي: لم أكن شيئًا. {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} ومعناه: ناداها عيسى لما خرج من بطنها: لا تحزني. وقيل: جبريل، ومعناه: ناداها من تحت النَّشز، لأنها كانت على نَشْزٍ عالٍ، وقيل: على جبلٍ. واختلفوا في أي مكان ولد على قولين: أحدهما: ببيت لحم يوم الأربعاء رابع عشرين كانون الأول. والثاني: بالناصرة (¬3) قرية من أعمال اللَّخون عند صَفُّورِيَة. والأول أصحُّ، لأن في حديث المعراج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قال لي جبريل ليلة المعراج: انزل ها هنا، فصلِّ ركعتين ببيت لحم، فإن عيسى وُلد ها هنا" (¬4). ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 6/ 210، والماوردي 3/ 15. (¬2) السَعَفُ: أغصان النخلة، الواحدة: سَعَفَة. والخُوصُ: ورق النخل، الواحدة خوصة. (¬3) في (ب): الناصرية، وفي (خ): البصرة، والمثبت من (ك). (¬4) أورده ابن كثير في "تفسيره" 3/ 15 - 16، من حديث شداد بن أوس، وقال: منكر، وروي من حديث أبي هريرة، أخرجه ابن حبان في "المجروحين" 1/ 197، وقال: موضوع. وانظر "لسان الميزان" 2/ 50 - 51.

فإن قيل: فالنصارى يسمونه إيشوع (¬1) الناصري، لأنه ظهر منها، قلنا: سكنها مدَّة فأضيف إليها. وذكر ابن حوقل في "عجائب الدنيا وصفتها" أن عيسى وُلد بمصر، بكورة أَهْناس، ولم تزل نخلة مريم قائمةً في أَهْناس إلى آخر أيام بني أمية (¬2). وليس هذا بشيء. والأول أصحُّ. {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] وهو النهر الصغير في قول عامة العلماء، وقال الحسن: المراد به عيسى عليه السلام، لأنه كان سريًّا، أي: عاليًا رفيعًا. والأول أصحُّ لوجهين: أحدهما: لأنها كانت حزينة، لأنها لم يكن عندها طعام ولا شراب، فنوديت: قد أطلعنا لك الرُّطَب من النَّخْلة، وأجرينا لك النهر. والثاني: لأن الله تعالى جعل آيتها في النهر، فكان طوع أمرها، إن أمرته جرى، وإن أمرته وقف. وقال ابن عباس: ضرب جبريل بجناحه الأرض، فجرى النهر من عَيْنٍ عذبةٍ باردة، وأورقت النخلة بعد يبسها وأرطبت. وقال مقاتل: لما سقط عيسى على الأرض ضرب برجله، فنبع الماء، وأطلعت النخلة، وأحدقت بها الملائكة. وقيل: كان يوسف النجار معها، فأوقد لها نارًا، وأطعمها سبع جوزات. وقال وهب: لما وضعته خرَّت الأصنام سجَّدًا، فأخبرت الشياطين إبليس، فبثَّهم في الدنيا وخرج، فجاء إلى المكان الذي فيه عيسى، والملائكة قد حفَّت به، فلم يتجاسر أنْ يدنوَ منه، فرجع إلى أعوانه، وقال لهم: وُلِدَ مولود عظيم معه نور، لم أقدر على الدنوِّ منه، ومن عِظَمِ أمره أن الله كتم عني حاله، ولم تضع أنثى إلا وأنا حاضرها. ثم مشى في الناس، فأشاع الفاحشة. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ك): إيشوى. (¬2) "صورة الأرض" ص 141.

وقيل لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أي: حركيها، والمعنى فيه من وجوه: أحدها: أنه أخبرها أن بعض الأشياء لابدَّ له من سبب. قال الشاعر: [من الطويل] عليك بتقوى الله في كلِّ حالةٍ ... ولا تَرَ أنَّ الحَزْمَ في تركِكَ الطَّلبْ فإنَّ الذي أحيا لمريمَ جِذْعها ... وقال لها هزِّيه تَسَّاقَطِ الرُّطَبْ فلو شاء أَحْنَى الجِذْع من غير هزِّه ... إليها، ولكن كلُّ شيءٍ له سببْ (¬1) والثاني: أراد أن يكون في يدها معجزة، كما جعل معجزات بعض الأنبياء في أيديهم. والثالث: لأنها علَّقت قلبها بولدها فعُوقِبَتْ بالهزِّ. والرابع: أنها قالت: لا تعجبوا من ولد بغير أب، فهذه النَّخْلة اليابسة من غير تلقيح ولا فحل، قد تساقط منها الرُّطَب، أعجبُ. وقيل: هزِّي إليك شجرة التوحيد والتمكين تَسَّاقَط عليك رُطَبُ الرِّضى والأُنس والصدق واليقين. فإن قيل: فلم أجرى النهر بغير سعيها، ولم يعطِها الرُّطَبَ إلا بالهزِّ؟ قلنا: أراد أن يريها أنه يفعل بسبب وبغير سبب. {رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] أي: غضًّا. وقال الربيع بن خثيم: ما للنفساء مثل الرطب، أو خير من الرطب، وقرأ هذه الآية. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وُلد مولود حنَّكه بالتمر (¬2). {فَكُلِي} من الرطب {وَاشْرَبِي} من النهر {وَقَرِّي عَيْنًا} بولادة عيسى {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] أي: صمتًا، أي: سكوتًا، وإنما أُمرت بالسكوت لأنها لم يكن لها حجة عند الناس، وسِنُّها يومئذ على الخلاف الذي قدمنا. ¬

_ (¬1) الأبيات عدا البيت الأول في "المستطرف" 1/ 294، وثمار القلوب 1/ 307، ورواية البيت الأخير: فلوشاء أن تجنيه من غير هَزِّهِ ... جنتهُ ولكن كل شيءٍ له سبب (¬2) ورد في تحنيك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المولود بالتمر أحاديث عدَّة، منها: ما أخرجه أحمد في "مستده" (12795) عن أنس - رضي الله عنه -. وما أخرجه البخاري (5467)، ومسلم (2145) عن أبي موسى - رضي الله عنه -.

وقال ابن عباس: إنما أمرها بالصمت لأنها لم يكن لها ما تدفع به الخصوم. وقال ابن أبي نَجِيح: هذا إنما قالته قبل أن يتكلم عيسى في المهد. قلت: وأيُّ حُجَّة أبلغ من جَرْي النهر، وإخراج الرُّطَبِ من جِذْع يابس، وإنما قد ورد أن الملائكة كانت تحدِّثها وتؤانسها، فاشتغلت بذلك عن إقامة العذر لبني آدم. فإن قيل: فإنْ كان أَمَرها بالسكوت فقد قال: {فَقُولِي} وإن كان أَمَرها بالصوم المتعارف فقد قال: {فَكُلِي}! فالجواب: إنما أمرها بالسكوت في بداية الحال لعدم البرهان فلما تكلم عيسى عليه السلام زال السكوت، وقال لها: {فَقُولِي}، وأما الصوم فلأنها كانت صائمة، وكانوا يتعبدون بالصمت في الصوم، فلما ظهر برهانها قال لها: {فَكُلِي}. وقال ابن الكلبي: حملها يوسف النجار وابنها، فأدخلهما غارًا، فأقامت فيه أربعين يومًا حتى تعالَّت من نفاسها، فخرجت به، فذلك قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}، فلما رأوه حزنوا وبكوا؛ وكانوا قومًا صالحين، {قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] أي: عظيمًا. {يَاأُخْتَ هَارُونَ} وفيه أقوال: أحدها: أنهم عنوا هارون أخا موسى بن عمران، لأن أمها كانت من نسله، ورواه أنس مرفوعًا (¬1). والثاني: أن هارون كان رجلًا صالحًا من بني إسرائيل، وليس بهارون أخي موسى، قاله قتادة، قال: وكان رجلًا صالحًا، شيَّع جنازته من أولاد الأنبياء أربعون ألفًا، كلهم اسمه هارون، شبهوها به في صلاحه، وكانت كذلك (¬2). والثالث: أنه كان في بني إسرائيل رجل اسمه هارون من أفسق الناس، فشبهوها به. ¬

_ (¬1) لم نقف عليه من حديث أنس مرفوعًا، وانظر تفسير الثعلبي 6/ 212، وأخرجه الطبري في "تفسيره" عن السُّدي 15/ 525، وأخرجه ابن أبي حاتم - فيما ذكر ابن كثير 3/ 119 - عن محمد بن كعب القرظي، قال ابن كثير: وهذا القول خطأ محض، وانظر البداية والنهاية 2/ 447 .. (¬2) انظر "تفسير عبد الرزاق" 2/ 7، و"تفسير الطبري" 15/ 523، وعرائس المجالس 388.

والرابع: هارون اسم أخٍ لها من أُمها وليس من أَبيها. رويت هذه الأقوال عن ابن عباس. {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} أي: زانيًا {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] أي: فاجرة، فمن أين لك هذا الولد؟ {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أن كلِّموه، فتعجبوا و {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]. فإن قيل: فمن أين لها أنه يتكلَّم وهو طفل؟ فالجواب: ما ذكره مقاتل، قال: كلمها عيسى في الطريق، فقال لها: يا أُمَّاه، أبشري، فإني عبد الله ورسوله ومسيحهُ. فكانت على ثقةٍ من كلامه. {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} وهو الإنجيل، ومعناه: سيؤتيني. وقال ابن أبي نَجِيح: إنما نطق عيسى في أول كلامه: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} ردًّا عليهم، لأنه علم أنهم يقولون: ابن الله، فاعترف بالعبودية والنبوَّة، فارتفعت ضرورة النبوة. وقال مجاهد: كان ثديها في فمه، فنزعه وكلمهم جالسًا. وقيل: معنى قوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} أي: عِلْمَ التوراة وأنا في بطن أمي {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} أي: سيجعلني، {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} وهذا يدل على أنه كان لهم شرائع وعبادات. وروى السُّدي عن أشياخه، قالوا: كانت مريم تخدم الكنيسة مع ابن عمها يوسف النجَّار، فهو أوَّل من أنكر حملها، وقال لها: هل ينبت زرع من غير بذر؟ ! فقالت: ألم تعلم أن الله خلق آدم وحواء من غير ذَكَر. قال: وقد وقع في بعض الأناجيل أن يوسف النجَّار خطب مريم وتزوَّجها، فلما زفت إليه وجدها حاملًا، فأراد أن يفارقها، فرأى تلك الليلة في منامه ملَكًا، فقال: أمرها من الله، فتركها. وقال مجاهد: كان الملِك الذي كان في ذلك الزمان مَن زنى قتله، واسمه هرادش (¬1)، فأخذها يوسف وهرب بها. وهذه روايات ضعيفة. والأول أصحُّ. ¬

_ (¬1) في (خ): هرداش.

وقال علماء السِّير: ولد عيسى في زمان أَرْدشِير بن بابك بعد الإسكندر بثلاث مئةِ سنة وقد ذكرناه في ترجمة يحيى. وكانت المملكة في ذلك الوقت لملوكِ الطوائف، وكانت الرياسة بالشام لقيصر ملك الروم، وكان هرادش نائبًا من قيصر بالشام. ولما شاع خبر عيسى قصد الملِك وبنو إسرائيل قتله؛ وذلك لأنهم نظروا إلى نجمٍ طلع يكون سببًا لظهور دين عيسى، فبعث الله ملكًا إلى يوسف يأمره بإخراج مريم وابنها إلى مصر، فسار بهما على حمار، وكانت مريم تغزل الكَتَّان، وتَلْقُطُ السُّنْبُلَ وتتقوَّت به. ولما بلغ عيسى خمس سنين حملته إلى المعلم، فقال له: قل: بسمِ الله، فقال: وما بسمِ الله؟ فقال المعلم: لا أدري، فقال عيسى: الباء بَهَاء الله، والسين سَناؤه، والميم مُلْكه (¬1). فعَجِب المعلم وأحبه. وقال مجاهد: كان عيسى آدَمَ، سَبْطَ الشَّعر، وقيل: أبيضَ، لم يدهن رأسه قطُّ. وكان يمشي حافيًا، ويركب الحمار، ويجلس على الأرض، ويأكل الحشيش، ويصوم النهار، ويقوم الليل، وكان يجتمع على بابه كل يومٍ من المرضى والزَّمْنَى خمسون، فيداويهم بالدعاء فيبرؤون، فاتَّبعه خلق كثير، وسألوه أن يُحيي سام بن نوح، فجاء إلى قبره، وناداه: يا سام، فانشقَّ القبر عنه، وقام ينفض التراب عن رأسه، وقال له عيسى: منذ كم متَّ؟ قال: منذُ أربعةِ آلافِ سنةٍ، أو ثلاثةِ آلافِ سنةٍ، وما بردت عنِّي حرارة الموت. ثم قال لهم سام: هذا عيسى روح الله وكلمته وآيته، فاتَّبِعوه ولا تعصوه. وقال السُّدي: وصف لهم عيسى سفينة نوح، فقالوا: نحب أن نرى من شَهِدَها. فأتى بهم إلى الثَّنيَّة من أرض حَوْرَان، فسأَل الله، فأقام سامَ ابن نوح، وقد شاب نصف رأَسه، فقال: أقامت القيامة؟ قال: لا، ولكني دعوت الله باسمه الأعظم فأحياك. فنعت لهم السفينة، ثم عاد إلى قبره. وقال ابن عباس: كان عيسى يقول: لباسي الصوف، وشعاري الخوف، وبيتي ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 119 - 120، من حديث ابن مسعود مرفوعًا، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 1/ 19، وقال: وهذا غريب جدًا، وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات.

المسجد، وطيبي الماء، وأكلي من نبات الأرض، وإدامي الجوع، ودابتي رجلي، وسراجي القمر، وصلاتي في الشتاء في مشارق الشمس، وفاكهتي ورَيْحاني بُقُول الأرض، وجلسائي المساكين والزَّمْنَى، وأُصبح وأُمسي وليس لي شيء، وأنا طيب (¬1) القلب، فمن أغنى مني، وليس لي ولد يموت، ولا بيت يخرب، ولا أدَّخر شيئًا لِغَد؟ وقال مجاهد: كان يَلْقُطُ مع أمه السُّنْبُلَ، فإذا عُرفا في مكانٍ تحولا إلى غيره، وأين ما أدركه المساء بات، ولم يمسَّ امرأة ولا طيبًا، ولم يلبس قطنًا ولا كَتَّانًا، ولم يجعل بينه وبين الأرض حائلًا، ويمشي وعليه بُرْنس، وبيده عصا، ويَقنَعُ باليسير، ويقول: هذا لمن يموت كثيرٌ. وقال جدي رحمه الله في "التبصرة": أوحى الله إليه وهو ابن ثلاثين (¬2) سنة، وأنزل عليه الإنجيل، وكان يجتمع على بابه خمسون ألفًا، فيداويهم بالدعاء. وذكر بمعنى ما ذكرنا (¬3). قال: وكان يقول لأصحابه: أهينوا الدنيا تَكْرُمُ الآخرةُ عليكم، إنكم لا تُدْرِكُون ما تأمَلُون إلا بالصبر على ما تكرهون، ولا تبلغون ما تريدون إلا بتركِ ما تشتهون (¬4). وروى جدي في "التبصرة" عن محمد بن سباع النميري، قال: بينما عيسى بن مريم يسيح في بلاد الشام اشتد به المطر والرعد والبرق، فجعل يطلب شيئًا يلجأُ له، فرُفِعَتْ له خيمةٌ من بعيد فيها امرأَةٌ، فحاد عنها، فإذا هو بكهف في جبل فأتاه، وإذا في الكهف أسد، فرفع يديه وقال: إلهي، جعلت لكل شيء مأوى، ولم تجعل لي مأوى. فأجابه الجليل: مأواك عندي في مستقر رحمتي، لأُزوِّجنَّكَ يوم القيامة مائة حوراء، ولأُطعمنَّ في عرسك أربعة آلاف عام مثل عمر الدنيا، ولآمرنَّ منادٍ ينادي: أين الزاهدون في الدنيا؟ احضروا عرس الزاهد عيسى بن مريم (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): طبيب. (¬2) في "التبصرة": ثلاث سنين. (¬3) "التبصرة" 1/ 355. (¬4) "التبصرة" 1/ 355. (¬5) "التبصرة" 1/ 356.

ورواه السُّدي، وفيه: لأُزوِّجنَّكَ أربعةَ آلافِ حوراءَ، خلقتُهنَّ بيدي. وفي رواية: أنه جاء إلى خيمة العجوز، فجلس في ظلِّها، فأقامتهُ، وقالت: قم من ظلِّي، فبكى، وقال: لستِ التي أقمتيني، وإنما أقامني من ما رضيَ لي ظِلَّك. وروى ابن أبي الدنيا عن ابن المُسيَّب، قال: مرَّ عيسى في سياحته بنهرين يجريان من أصل جبلٍ، فوقف ينظر إليهما، فأنطق الله الجبل، وقال له: يا عيسى، ممَّ تعجب؟ فقال: من هذين النهرين فقال: أما الذي عن يميني فدمع عيني اليمنى، وأما الذي عن يساري فدمع عيني اليسرى. قال. فما سبب بكائك؟ قال: خوفي من نارٍ وَقودها الناس والحجارة، فاسأَل ربك أن يؤمِّنني إياها، ولا يجعلني من وَقودها. فسأل الله عيسى فيه، فقال الله: قد أمنته منها، فأَخْبَرَهُ عيسى. فمدَّ الواديَ من الجبل إلى الجبل، وارتفع الماء إلى أعلاه، وكاد عيسى يغرق، فقال له عيسى: ما هذا؟ فقال الجبل: يا روح الله، تلك دموع الخوف والحزن، وهذه دموع الشكر والحمد (¬1). وذكر أبو حامد الغزالي في كتاب الزهد من "الإحياء" أن: عيسى اجتاز بقريةٍ خرابٍ، وأهلُها موتى على الطرق. فقال عيسى: يا معاشر الحواريين، إنَّ هؤلاء ماتوا عن سُخْطٍ، ولو ماتوا عن رضًى لتدافنوا. فأوحى الله إليه: إذا جاء الليل فاسألهم. فنادى عيسى في الليل: يا أهل هذه القرية، فأجابه واحد منهم: لبيك يا روح الله، فقال: ما بالكم كذا؟ فقال: بتنا في عافيةٍ وأصبحنا في الهاوية. قال: ولِمَ؟ قال: لحبِّنا الدنيا. قال: وكيف كان حبكم لها؟ قال: حبَّ الصبيِّ لأمِّه، إنْ أقبلتْ فَرِحنا، وإن أدبرت حَزِنَّا. ثم قال: يا نبيَّ الله، ولست منهم، وإنما أتيتهم زائرًا، فنزل عليهم السُّخْطُ فعمَّني. قال: وأين أهلها؟ قال: أُلجموا بلجامٍ من نار، فلا يقدرون على الكلام. فقال عيسى: لأكل خبز الشعير، والنوم على التراب، ولبسُ المُسُوحِ، أحسن حالًا من هؤلاء، يا معشر الحواريين، خذوا الحقَّ من أَهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا مستعدين لئلا تجوزَ عليكم الزُّيُوف (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في الشعب (904) عن الفضيل بن عياض. (¬2) إحياء علوم الدين 3/ 205.

فصل في واقعات عيسى وهي كثيرة

وقال وهب بن منبِّه: كان عيسى يمشي على وجه البحر، ولم يكن أحبُّ إليه من أن يقال له: يا مسكين. فصل في واقعات عيسى وهي كثيرة (¬1) فمنها: ما حكاه وهب قال: لمَّا ذهب يُوسف النَّجار بعيسى وأُمِّه إلى مصر نزلوا على دِهْقَان، فسُرِقَ له مالٌ، فضاق صدر مريم، فقال لها عيسى وكان قد ترعرع: لا تَحْزَني وقولي للدهقان يجمع مساكين داره، فجمعهم وفيهم رجلان أعمى ومُقْعد، فأمر عيسى بحمل المقعد على عاتق الأعمى وقال له: قم به، فقال الأعمى: لا أقدر وإنِّي ضعيف. فقال له عيسى: كيف قويت البارحة على حمل المال الذي أخذته أو على حمل المقعد إلى الخزانة حتى أخذ المال، فأنكر فضربوه فأقَرَّ وردَّ المال. ومنها: ما رواه عِكرمة قال: كان عيسى (¬2) يحدِّث الصبيان في المكتب بما يأكلون في بيوتهم، فيخبرون أهاليهم فيقولون لهم: إيَّاكم وهذا السَّاحر، وحبسوا الصبيان في بيتٍ، وجاء عيسى يطلبهم فقالوا: ليس ها هنا، قال: فما في هذا البيت؟ فقالوا: خنازير، فقال عيسى: خنازير إن شاء الله، ففتحوا البيت وإذا بهم خنازير. ومنها: ما حكاه الكَلبي قال: أسلمتْ مريمُ عيسى إلى صبَّاغين بعدما خرج مِن الكُتَّاب فاجتمع عند المعلِّم ثيابٌ كثيرة وعرض له سفر فقال لعيسى: أنا مسافر وعندنا ثيابٌ مختلفة الألوان وقد علَّمتُ على كل ثوب فيها بخيط على اللون الذي يُصبغ به، فلا أقدمُ إلا وقد فرغتَ منها، ثم سافر وأخذ عيسى الثياب فجعلها في جُبِّ واحد على لون واحد وقال لها: كوني مختلفة الألوان بإذن الله على ما أُريد، وقَدِم أستاذه فقال: أين الثياب، فقال: في الجُبِّ الفلاني، فقال: لقد أفسدتها عليَّ، وخاف الأستاذ، فقال له: على رِسْلك، ثم أدخل يده في الجُبِّ وأخرج الثياب كل ثوبٍ على لون الخيط الذي كان عليه من بين أحمر وأصفر وأخضر وغيره، فآمن به الصبَّاغ هو وأصحابه فيقال: إنهم الحواريُّون. ¬

_ (¬1) انظر عرائس المجالس 395. (¬2) في (ك) يحيى.

ومنها: خروجه من مِصْرَ (¬1) إلى الشَّام، قال كعب: لما مات هرادش المَلِك أوحى الله إلى عيسى ارجع إلى الشام، فخرج هو وأُمهُ ويوسف النجَّار فنزلوا النَّاصِرَةَ فنُسِبوا إليها، وأخذ في مداواة المرضى والعُمْيان، فجاء إبليسُ ومعه شيطانان وتصوَّر هو في صورة آدمي، فجلس بمحضرٍ مِن النَّاس، وأشار إليه وقال: هذا تكلَّم في المهد ويبرئ الأكمه والأبرص وُيحيى الموتى، فهذا هو الله تعالى، فقال أحد الشيطانين: أخطأت أيها الشيخُ لا يُتَصوَّرُ أنْ يتجلَّى الله لعباده، ولكن هو ابن الله، فقال الآخر: أخطأتما إنَّما هو إله آخر. فصار النَّاس فيه ثلاث فرق: نسطورية (¬2)، ويعقوبية (¬3)، وملكية (¬4) قالوا بالتثليث. ومنها: إنعام الله عليه بقوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110] واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنَّه الروح الذي نفخ فيه فأضافه الله إلى نفسه تشريفًا له كقوله تعالى: {نَاقَةُ اللَّهِ} وبيت الله، فالقُدُس هو الله، قاله ابن عباس. والثاني: جبرائيل، وتأييدهُ به أنَّه كان يأتيه بالوحي ويحرسه إلى حين صعوده إلى السماء. قاله مجاهد. والثالث: أن القُدُس هو الطهارة، ومعناه الرُّوح الطاهرة، قاله مقاتل. ومنها: أنَّه كان يخلق من الطين كهيئة الطَّير وهو الخفَّاش، ثمَّ ينفخ فيه الرُّوحَ فيكون طائرًا بإذن الله. قال وهب: لم يخلق غير الخفَّاش، وخَلْقُهُ الخفَّاشَ أعظم من غيره، لأن له خصائص من اليد والرِّجل واللِّسان ويحيضُ ويَلد ويطير بغير ريش، ولقد نعتته ¬

_ (¬1) في (خ): الناصرية. (¬2) النسطورية: أصحاب نسطور الحكيم الذي تصرف في الأناجيل بحكم رأيه وإضافته ومن قوله: إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة: الوجود، والعلم، والحياة. انظر "الملل والنحل" 1/ 224. (¬3) اليعقوبية: أصحاب يعقوب، قالوا بالأقانيم الثلاثة، إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحمًا ودمًا، فصار الإله هو المسيح. انظر "الملل والنحل" 1/ 225. (¬4) الملكية: أصحاب ملكا الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها ومعظم الروم ملكانية، ومن قولهم: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته، ويعنون بالكلمة أقنوم العلم، وانظر الخبر في عرائس المجالس 393.

بنو إسرائيل به، وكان يطير ما دام النَّاس ينظرون إليه فإذا غاب عنهم سقط مَيتًا، ليتميَّز فعل الخالق من المخلوق. وكان يُبرئ الأكْمَهَ وهو الذي ولِدَ أعمى والأبرص، وإنَّما خُصَّ بهذين، لأنَّه كان في زمنه الأطباء فأراهم الله عجزهم بهذه المعجزة، لأنه ليس في قدرة الطبيب أن يُبرئَ مِنْ هاتين العلَّتين، قالوا: ولم يولد في الإسلام أَكْمهُ إلا قتادة بن النعمان، وأمَّا بعده فكثير. ومنها: إحياء الموتى، وقد ذكرنا أنَّه أحيا سَام بن نُوح، وأحيا العَازَر، قال ابن إسحاق: وكان صَديقًا له فأرسلت إليه أُخته: إنَّ صديقك العَازَرَ يموت، وكان بينهما مسيرة ثلاثة أيام، فجاء فوجده قد مات، فجاء فوقف على قبره ودعا فقام العَازَرُ حيًّا وعاش زمانًا وولد له. وذكر أبو حامد الغزالي في كتابه المُسمَّى بـ"سرِّ العالمين" وقال: لمَّا اشْتَهَر عيسى بإحياء الموتى بَعَثَ إليه جَالينوس الحكيم -وكان في زمانه-: يا عيسى إنَّا لا نطلب منك إحياء الموتى وإنَّما ها هنا رجلٌ مسلول به حُمَّى الرَّبع اشفه في هذا الشهر -وكان كانون الأول- وأؤمن بك، فقال عيسى: ائتوني ببِطِّيخَة الحُمَّى فسقاه منها فقاء (¬1) الرجل شيئًا أسودَ مثل الحبرِ المحترق وقام سليمًا لا مرض به، ثم قال عيسى: أَيهددني جَالينوس، ثم دخل هيكل العبادات ودعا، فما انتصف الليل إلا وثار على جالينوس علَّة إسطوريا الكراثية فمات قبل الصباح (¬2). قلت (¬3): والعجب من الغَزَاليّ أنْ يذكر مثل هذا، فإن جالينوس كان بعد عيسى بمئتي سنة باتفاق المؤرخين. وقال المصنف رحمه الله بعد هذا في آخر هذه المجلدة عند ذِكر حكماء اليونان، فذَكر سقراط الحُبِّ (¬4) وجماعة، وقال: منهم جالينوس وكان في زمان عيسى عليه ¬

_ (¬1) في النسخ: (فقام) والصواب ما أثبتناه. (¬2) سر العالمين 16، وفي نسبة هذا الكتاب إلى الغزالي شك ومقال، انظر مؤلفات الغزالي لعبد الرحمن بدوي 271. (¬3) في (ب): قال المصنف رحمه الله. (¬4) انظر سيأتي في الصفحة 411.

السلام، ويقال: إنه قصد الاجتماع بعيسى عليه السلام وسار إليه فمات في طريقه. فَلْيتأمَّل، ولم يبقَ لإنكاره على الغَزَالي وجه والله أعلم (¬1). ثم إنَّ جالينولس إنْ صحَّ ذلك ما طلب من عيسى أن يُبرئ المريض بالبِطِّيخَة، فإنه كان أعرف من عيسى بها، وإنما طلب أنْ يُبرئه بطريق المعجزة لا بطريق الطِّبِّ، فإنَّ جالينوس يشاركه في ذلك، ثم نسب إلى أنه دعا على جالينوس حتى مات وما كان طريق عيسى هذا، لأن الله وَصَفَه بأنَّه يُحيي الموتى لا أنه يُميت الأحياء. ومنها: إنزال المائدة قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} الآية [المائدة: 112]، اختلف العلماء في تسمية أصحاب عيسى بالحَوارِّيين على أقوال: أحدها: أنَّهم الخواصُّ الأصفياء، والوزراء ومن يصلح للخلافة ويستعان به في النوائب، قاله الحسن البصري، ورواه العوفي عن ابن عباس قال: ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَاريٌّ وحَوَاريَّ الزُّبَيْر" (¬2). والثاني: إنما سموا بذلك لبياض ثيابهم، وأصل الحَوَر شدة البياض، يقال: رجلٌ أحورُ وامرأةٌ حوراءُ لشدة بياض مقلة العينين، ويقال للدقيق الأبيض: حُوَّارَى، وهذا مذهب أهل اللغة، قال أبو عبيدة: فالحَوَاريُّون هم الذين نُقُّوا من العيوب كما يُنقَّى الدَّقيق الحُوَّارَى مِن لباب البُر. والثالث: أنهم القصَّارون كانوا يحوِّرون الثياب، أي: يقصِّرونها ويبيِّضونها، قاله الزجَّاج (¬3). ووهب قال: ومرَّ عيسى على بحيرة طبريَّة فرأى عليها قصَّارين فدعاهم إلى الله فآمنْوا. والرابع: أنهم المجاهدون. قاله مقاتل، واحتجَّ بقول القائل: [من الطويل] وَنَحْنُ أُنَاسٌ تملأ (¬4) البَيْضَ هَامُنَا ... وَنَحْنُ حَوَارُّيونَ حِينَ نُزَاحِفُ ¬

_ (¬1) من قوله: وقال المصنف رحمه الله بعد هذا. . . إلى هنا زيادة من (خ) و (ك)، وهو من دلائل الاختصار للكتاب، والله أعلم. (¬2) أخرجه "البخاري" (7261)، و"مسلم" (2415). (¬3) انظر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 417. (¬4) في النسخ (على)، والمثبت من زاد المسير 1/ 394، والبرصان والعوجان 515، والشعر لمسكين الدارمي.

جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقاء تراسُنَا. . . إلى المَوْتِ نمْشِي لَيْس منا تَجَانُفُ والخامس: أنهم الصَّيَّادون، قال السُّدي: كانوا ملَّاحين يصيدون السَّمك. والسادس: أنهم المُلُوك، حكى هذه الأقوال ابن الأنباري. والسابع: سُموا به لصفاء قلوبهم، قاله الضحَّاك. وقال وهب: كانوا اثني عشر رجلًا تبعوا عيسى وآمنوا به، فأمَّا أسماؤهم: شَمْعُون، ولُوقَا، ويُوحَنَّا، ومارقس، وتوما، وبُطرُس، ويعقوبس، ويُحنِّس، وأندارييس، وقلس، وقلما، ومَتَّى، وتوماس، ورأسهم شمعون، والذين نقلوا الإنجيل منهم خمسة: شَمْعُون، وقطرس، وقيل: بُطْرُس، ويعقوبس ويُحنِّس. واتفقوا على أنَّ عيسى بَعَث شَمْعُون إلى أَنْطَاكِيَة في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13] واختلفوا في الاثنين، هل كانا من الاثني عشر، أم من غيرهم؟ وسنذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى. وكانوا يُسَمُّون يَحْيَى بن زَكَريَّا المعمداني؛ لأن عيسى عمَّدهُ في الأُرْدُن عند أَرِيحا، وقيل: في بحيرة طَبَرِيَّا، وكان إذا عَطِشُوا يضرب الأرض بيده فينبُع الماء فيشربون، وإذا جاعوا ضرب بيده الأرض فيظهر لكل واحدٍ منهم رغيفان، قالوا: يا روحَ الله مَنْ أفضل مِنَا ونحن إذا جعنا أطعمتنا وإذا عطشنا سقيتنا؟ فقال: أفضلُ منكم مَن عمل بيده وأكل من كسبه، قال ابن عباس: فصاروا قصَّارين يغسلون الثياب بالكراء. وقال مجاهد: مرَّ بهم عيسى وهم يصيدون السَّمك من بحيرة طَبَرِيَّة، فدعاهم إلى الله وقال: تعالوا حتى نصيد البشر فاتبعوه، وقيل: إنّه كان في الأول يستطعم منهم، فكانوا يتصدَّقون عليه بسُميكةٍ سميكةٍ حتى أَنِسُوا به. وعامة القرَّاء على تشديد الواو من "الحوَّاريين" وقرأ عاصم بتخفيفها. {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112] عامة القُرَّاء على "يستطيع" وقرأ الكسائي "تستطيع" بتاء منقوطة من فوق بنقطتين، و"ربَّكَ" بالنصب (¬1)، واختاره أبو عبيد، وبه قرأت عائشة - رضي الله عنها - وابن عبَّاس ¬

_ (¬1) كتاب "السبعة" ص 249، و"التيسير" ص 101.

وعليٌّ في آخرين (¬1)، ومعناه: هل تقدر أنْ تسأل ربَّك. فإنْ قيل: فهذه القراءة أجود مِنْ الأولى، لأن في الأولى نوع شكٍّ واجتراء على الله تعالى، والجواب: أنَّه لا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَظُنَّ في الحَوَارِّيين ذلك، وإنما معناه هل يفعل ذلك بمساءلتك إيَّاها. ذكره ابن الأَنْبَاريِّ. قلت: وقول الله إخبارًا عن عيسى {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112] يدل على عكس ما ذكره ابن الأَنْبَاري، لأن معناه: أتنسبون إلهكم إلى العَجْز، وقد قيل: إنَّما قالوا ذلك قبل أنْ يصحبوه ويشاهدوا معجزاته، فإنَّ إيمانهم لم يكمل بعد، فأمَّا في الأخير فلا. وقال ابن عباس: معنى الآية: واتقوا الله ولا تسألوه ما لم يسأله أحدٌ مِنْ قبلكم. وأمَّا المائدة: فقد قال الثعلبي: قال أهل الكوفة: إنَّما سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين عليها. قلت: وليس هذا القول بشيء، لأن المائدة لا تميد بنفسها وإنما يميد من عليها، وقال الجوهري: المائدة الخوان إذا كان عليه طعام، أما إذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة، وهو خوان (¬2). وعلى هذا ألفاظٌ كثيرة. قالوا في الجواب: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} [المائدة: 113] وهذا اعتذار منهم حين نهوا عنها {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة: 113] بالإيمان {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} بأنَّك رسول الله. وقال مجاهد: وتطمئن قلوبنا بأنَّ الله قد أجاب دعاك {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} لله بالقدرة ولك بالرسالة، وقال الماوردي: إنَّما قصدوا التبرك بها (¬3). {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} الآية [المائدة: 114]. والعيد من العود لأنهما يعودان في كل سنة {وَآيَةً مِنْكَ} أي: علامة يُستدل بها على قدرتك {وَارْزُقْنَا} الشكر على نعمتك {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. ¬

_ (¬1) انظر "تفسير البغوي" ص 407. (¬2) "الصحاح": (ميد). (¬3) "تفسير الماوردي" 2/ 83.

{قَالَ اللَّهُ} مجيبًا لهم: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] وهو المسخ قردة وخنازير. قال الحسن: لما سمعوا هذا الشرط قال بعضهم: لا حاجة لنا فيها. واختلفوا هل نزلت أم لا؟ على قولين: أحدهما ما نزلت وإنّما هو ضَرْبُ مَثَلٍ ضربه الله لهم، لأن الله نهاهم عن سؤال الآيات لأنبيائه. قاله مجاهد. والقول الثاني: أنَّها نزلت وعليه عامة العلماء، كعليٍّ وابن عباس وابن مسعود وأنس وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن المسيَّب وابن جُبير والحسن وعطاء وقَتَادة والتابعين (¬1) وغيرهم. وقال وهب ومَن سَمَّينا من التابعين: وقف عيسى خاشعًا خاضعًا بين يدي الله تعالى يبكي ويتضرع ويدعو، وإذا بمائدةٍ قد نزلت بين غمامتين، واحدة تحتها وأخرى فوقها فاستقرت بين يديه وعليها سفرة خضراء، والقوم ينظرون إليها وهي مغطاة بمنديل. واختلفوا في الذي كان عليها، على أقوال: أحدها: سمكةٌ مشوية ليس فيها شوك وحولها البقول ما خلا الكُرَّاثَ وعند ذَنَبِها سُكُرُّجَةٍ (¬2) فيها خلٌّ، وعند رأسها أخرى فيها ملح وحولها خمسة أرغفة، على رغيف تمرٌ، وعلى رغيف زيتون، وعلى رغيف خمس رمَّانَات، قاله ابن عباس. والثاني: خبز ولحم، رواه عمار بن ياسر مرفوعًا (¬3). والثالث: خبز وسمك، رواه مجاهد عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ك): والمعاملين، والمثبت أقرب للصواب، وانظر تفسير الثعلبى 4/ 128، وعرائس المجالس 400 - 401، وزاد المسير 2/ 459. (¬2) السُكُرُّجَة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم. (¬3) أخرجه الترمذي (3061) بلفظ: "أنزلت المائدة من السماء خبزًا ولحمًا، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدَّخروا لغدٍ، فخافوا وادخروا ورفعوا لغدٍ فمسخوا قردة وخنازير" ثم قال: هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفًا، . . . ولا نعلم للحديث المرفوع أصلًا.

والرابع: قَصْعَةٌ من ثريد، رواه الضحَّاك عن ابن عباس. والخامس: كلُّ شيء إلا اللحم، قاله ابن جُبير. والسادس: سمكة فيها طعم جميع الأطعمة، قاله عطيَّة العوفي. والسابع: خبز وأرز وبَقْل، قاله ابن الكلبي. والثامن: سبعة أرغفة من شعير، وسبع سمكات. والتاسع: سمك ولحم، قاله عطاء بن السائب. والعاشر: كان عليها ثمار من ثمار الجنَّة، وسمن وعسل، قاله عمَّار ومقاتل. فقال عيسى: أَيّكم أوثق في نفسه فَلْيكشف هذا المنديل، فقالوا: يا روح الله، أنت أولى، فكشفها، فقال شَمْعُون رأس الحَوَارِيِّين: يا روح الله، أَمِنْ طعام الدُّنيا أمْ من طعام الجنة؟ فقال عيسى: لا مِن هذا ولا من هذا ولكن شيء قال له الله: كُنْ، فكان، فقال الحَوَارُّيون: نريد أنْ تُرِيَنا آيةً في هذه الآية، فقال: سبحان الله، أما اكتفيتم بها؟ ! ثم أشار إلى السَّمكة وقال لها: عودي بإذن الله كما كُنْتِ طريَّة حَيَّة فاضطربت على المائدة، فقال: عودي مشوية فعادت، فقال: كلوا، فقالوا: أنت أوَّل مَن يأكل، فقال: معاذ الله إنَّما يأكل منها مَن سألها، فلما رأوا امتناعه خافوا أن يكون نزولها عقوبة، فدعا عيسى الفقراء والمساكين واليتامى والزَّمْنَى، فقال: كُلوا من رزق ربّكم ودعوةِ نبيكم لتكون مهنأً لكم وعقوبة لغيركم، قال وهب: فأكل منها ألف وسبع مئة إنسانٍ صدروا عنها شِبَاعًا وهي على حالها، فصحَّ كلُّ مريضٍ واستغنى كلُّ فقير أكل منها، ثم كانت تنزل عليهم بعد ذلك فيزدحمون عليها وكانت تنزل يومًا وتغيب يومًا فنزلت أربعين يومًا. وقال وهب: قال لهم عيسى: كلوا ولا تدَّخِروا، فادَّخَروا، فمُسِخُوا خَنَازيرَ وقِردة. وقال ابن عباس: إنَّما مُسِخُوا لأنَّ الذين أكلوا منها لمَّا رجعوا إلى قومهم قالوا لهم: سحر عيسى أعينكم، وبلغ عيسى فدعا عليهم فمُسِخُوا وماتوا بعد ثلاث. قالوا: ولم يعش مَسْخٌ أكثر من ثلاث. وقيل: إنَّما خبؤوا منها لأنَّهم ظنُّوا أنَّها لا تنزل بعد ذلك.

وقال قتادة: كانت تنزل متى ما أرادوا كالمنِّ والسلوى. وقال سلمان: لمَّا خانوا مُسِخ منهم في يومٍ وليلةٍ ثلاث مئة وثلاثون رجلًا باتوا على فُرُشِهِم مع نسائهم، فأصبحوا خنازيرَ يسعون في الطُّرقات ويأكلون العَذِرَات، فمرَّ بهم عيسى فبكوا بين يديه فرقَّ لهم، وسأل الله فيهم، فقال الله تعالى: إنَّي آليت على نفسي أنَّ من كفر بعد إنزالها أنْ أُعذِّبَه عذابًا لا أُعذِّبُه أحدًا من العالمين. وقال عمَّار بن ياسر: لما خصَّ بها الفقراءَ والمساكين تكلَّم الأغنياء بالقبيح وارتابوا (¬1) فمُسِخُوا. ومنها: حديث اللِّص، قال أبو نعيم بإسناده عن وهيب بن الورد قال: بلغنا أنَّ عيسى عليه السلام مَرَّ بلصٍّ في قلعة ومعه رجل من الحَوارِيِّين، فلمَّا رآهما اللِّص ألقى الله في قلبه التوبة، فقال في نفسه: هذا عيسى روح الله وكلمته، وهذا حواريه، ومَن أنت يا شقي يا لصَّ بني إسرائيل، قطعتَ الطريقَ وقتلتَ النفسَ، وأخذتَ المالَ، ثم هبطَ مِن قلعته نادمًا تائبًا على ما كان منه، فلمَّا لحقهما قال لنفسه: تريد أنْ تمشي معهما؟ لست أهلًا لذلك، امشِ خلفهما كما يمشي الخاطئ المذنب، فالتفت إليه الحواريُّ فعرفه، فقال في نفسه: انظروا إلى هذا الخبيثِ الشَّقِيِّ ومشيه وراءنا، فاطَّلع الله على ما في قلوبهما من توبة اللِّص وندامته وازدراء الحواريِّ به وتفضيله نفسه عليه، فأوحى الله تعالى إلى عيسى أن مُر الحواريَّ ولصَّ بني إسرائيل أن يستأنفا العمل، أمَّا اللِّصُّ فقد غفرتُ له ما مضى بندامته وتوبته، وأمَّا الحواريُّ فقد أَحبطتُ عمله لعجبه بنفسه وازدرائه لهذا التائب (¬2). ومنها: قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]. واختلفوا في وقت هذا القول على قولين: أحدهما: أنَّه قال له ذلك عند رفعه إليه، قاله السُّدي وقُطْرب، قالا: لأنَّ إذ للماضي. ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) زيادة كلمة وهي (الورد). (¬2) "حلية الأولياء" 8/ 147.

والثاني: أنه يقول له يوم القيامة وهو قول الباقين، وأنَّ معناه: وإذ يقول الله. فإنْ قيل: فما الفائدة في هذا السؤال والله عالم بأنَّه ما قال؟ فالجواب من وجوه: أحدها: لأنَّ جماعة من النصارى ادَّعوا أن عيسى أمرهم بعبادته، فأراد تكذيبهم، فلفظ الآية استفهام، ومعناه التوبيخ لمن ادَّعى عليه أنه قال ذلك (¬1)، قال أبو عبيدة: ومثله قول القائل لآخر: فعلت كذا وكذا وقد علم أنه لم يفعله. واختاره أبو عبيدة (¬2). والثاني: أنَّه أراد اعتراف عيسى بالعبودية؛ ليظهر ذُلَّه وخضوعه، والإله لا يكون خاضعًا، قاله ابن عباس. والثالث: أنَّه أراد إظهار فصاحة عيسى وأنه مؤيَّد بروح القدس، قاله أهل المعاني، وذلك لأنه أجاب بأحسنِ الأجوبة وأَبْلَغَ، فقوله: {سُبْحَانَكَ} جواب، لأنَّ التسبيح هو التقديس لله والتنزيه له من كل سوى، ومعناه: تقدَّستَ وتنزَّهْتَ عنْ أن يقول مثلي هذا، فأنت المعبود وأنا العبد. وقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] جواب ثان، كأنه يقول: قد علمت أني لا ينبغي لي ذلك قما قلتُ، وقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116]، جواب ثالث، لأنه قد علم أنَّه ما قال. وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} جواب رابع، لأنه مُطَّلع على سره وضميره وقد علم أنَّه ما قال، وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} جواب خامس، لأنه إذا كان عالمًا للغيب لم يخفَ عليه شيء، وقد علم أنه ما قال. وقوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117] جواب سادس، لأنه ما أمرهم أن يقولوا ذلك. وقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] جواب سابع، لأنه إذا أمرهم بعبادة الله فقد اعترف بالعبودية، والعبد لا يكون إلهًا. ¬

_ (¬1) بعدها في (خ): "عند رفعه إليه". (¬2) في (خ) و (ك): أبو عبيد، وليس في (ب)، والمثبت من زاد المسير 2/ 463، وانظر "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 184.

وقوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} جواب ثامن، لأنه لمَّا كان بينهم ما ادعوا عليه ذلك وقوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي: رفعتني، جواب تاسع، ومعناه: ما زلت معترفًا لك بالإلهية إلى حين وفاتي، فكيف أقول لهم هذا. وقوله: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] جواب عاشر، ومعناه: إنَّك تشهد الأشياء وتعلمها، وأنت مُطَّلع على البواطن والظواهر، والشهيد لا يستتر عنه شيء، وقد علمتَ أنِّي ما قلتُ فما قلتُ. وقال أبو روق: لمَّا قال الله لعيسى ذلك: أرعدت مفاصله، وانفجرت مِن كلِّ شَعرة منه عينٌ من دَم (¬1). وقال مجاهد: يبقى أربعين عامًا على وجهه بمنزلة الميت. فإن قيل: فالنصارى لا تتخذ مريم إلهًا، فكيف قال: {إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فالجواب: أنَّه لمَّا قالوا: لم تلد بشرًا وإنما ولدت إلهًا، لزمهم ذلك من حيث البعضية، فصاروا بمثابة مَنْ قاله. واختلفوا في معنى قوله: {تَوَفَّيْتَنِي} على أقوال: بالرفع إلى السماء. والثاني: غيَّبتَني. والثالث: أَمتَّني عند انتهاء أجلي، فيكون بمعنى قَبَضتَني. وقال الحسن: الوفاة في كتاب الله على ثلاثة أوجه: وفاة الموت، وذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] يعني: عند انقضاء آجالها. وفاة النَّوم، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60]. ووفاة الرفع، كقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55]. فإن قيل: فظاهر الآية لا يدل على الرفع، لأنَّه قال: {مُتَوَفِّيكَ} قُلنا: فيه تقديم وتأخير، ومعناه: رافعك ومتوَفيك بعد ذلك لما نذكر. ثم أدركته رِقة عليهم فقال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] أي: تميتهم ¬

_ (¬1) انظر "تفسير البغوي" ص 409.

فصل في رفع عيسى عليه السلام

على الكفر، وإن تغفر لهم بتوبتهم {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز في سُلطانك الحكيم في قضائك، فلا ينبغي لأحد أن يعترض عليه. والرقيب: الحفيظ، والشهيد الشاهد. واختلفوا في قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] هل هو خاص لعيسى ابن مريم أم عام؟ على قولين: أحدهما: أنَّه خاص له، أي: نفع عيسى صدقُه. والثاني: أنَّه على العموم في حق كلّ صادق. وقيل: معناه ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا وصدقهم في الآخرة. وقال قتادة: خطيبان يوم القيامة عيسى التي مريم، والشيطان، فأما عيسى فكان صادقًا في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه، والشيطان صدق في الآخرة حين أخبر الله عنه أنه قال: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} (¬1) [إبراهيم: 22] الآية، وكان كاذبًا في الدُّنيا فما نفعه صدقه في الآخرة. وقوله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} يدل على أنّ السؤال إنَّما يكون في القيامة، لأنَّ اليوم المشار إليه ليس فيه عمل، وإنَّما فيه الجزاء والثواب. ومنها: أنه رأى رجلًا يسرق، قال أحمد بن حنبل: حدَّثنا عبد الرزاق بإسناده عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رَأَى عيسى ابنُ مَرْيَمَ رَجلًا يَسرِقُ فقالَ لَه: أَسَرقتَ؟ قال: كلا، والله الَّذي لا إِله إلَّا هو، فقال عيسى: آمنتُ بالله، وكذَّبتُ عَيني، أَوْ نَفسِي". أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). فصل في رفع عيسى عليه السلام قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] الآية. قال علماء السِّير: سبب رفع عيسى أنَّ اليهود حسدوه على مَيْل الناس إليه، وظهور ¬

_ (¬1) تمام الآية هو: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (8154)، والبخاري (3444)، ومسلم (2368).

دينه ومعجزاته فتآمروا على قتله. قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْر} [آل عمران: 52] أي: علم وعرف، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء: 12]. فأمَّا قوله: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] أي: ترى، وقال مقاتل: رأى أمارات القَتْل، ولمَّا تيقن عيسى منهم القَتْلَ استنفر الحواريِّين فقال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي: مَن أعواني. وقال علماء السِّير: لمَّا بعث الله عيسى إلى بني إسرائيل كذبوه، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض، فنزلا على رجل في قرية فأكرمهما، وكان بالقرية جبَّارٌ، فجاء ذلك الرَّجل إلى امرأته حزينًا مهتمًا، فقال لها: لا تسأليني، فقالت مريم: أخبرني لعلَّ الله أنْ يُفرِّج عنك على يدي فقال: إنَّ هذا الجبَّار قد جعل على كل واحد منَّا في السَّنة يومًا يُطعمه وجنوده فيه ويسقيهم الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، واليوم يأتينا وليس عندنا شيء، فقالت مريم لعيسى: ادعُ الله لهم، فقال: أخافُ أنْ يَقَع شرٌّ، فقالت: قد أحسن إلينا وأكرمنا فقال: قولوا له يملأ قدوره، وخوابيه ماءً، ففعل، فسأل عيسى ربَّه فملأ القدور لحمًا والخوابي خمرًا لم ير الناس مثله، وجاء الملِكُ فأكل وشرب وقال: من أين لكم هذا الخمر، فقال الرجل: منْ أرض كذا، قال: فإنَّ الخمر يُحمل إلينا منها وليست كذا واختلف كلامه، فقال: اصدقني وإلا قتلتك، فقال: عندي غلام لا يسأل الله شيئًا إلا آتاه إيَّاه، وإنه دعا الله فجعل الماء خمرًا. وكان للمَلِك ابنًا يريد أنْ يستخلفه فمات قبل ذلك بأيَّام، وكان أعزَّ الخلق عليه، فقال: قل له يسألِ الله في ابني ليعيش فكلَّم الرجل عيسى، فقال: إنْ عاش وقع شرٌّ، فقال الملك: لا أُبالي بعد أن أراه، فقال عيسى: إنْ أَحييته تَدَعوني وأمي نذهب أين شئنا، قال: نعم، فسأل الله فأحياه، فلبس أهل المملكة السلاح وقالوا: أَكَلَنا أبوه حتى إذا دنا موته وأراحنا الله منه، يريد أنْ يستخلف علينا مثله فيأْكُلُنا كما أَكَلَنا أبوه، واقتتلوا (¬1). وذهب عيسى وأمه فمرُّوا بالحَوَارِيِّين وهم يصيدون السمك، فقال: ما تصنعون، ¬

_ (¬1) عرائس المجالس 391 - 392.

قالوا: نصيد، فقال. ألا تمشون معي حتى نصيد بني آدم، فقالوا: مَن أنت، قال: عيسى ابن مريم، فآمنوا به وانطلقوا معه، فلمَّا رأت اليهود ما يبدو منه من المعجزات والآيات نسبوه إلى السحر والنارَنْجِيّات (¬1) فنهوه عن ذلك، ونهوا الناس عنه فلم ينتهوا، فعزموا على قتله، فاستنفر عليهم الحواريين فقال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} قالوا: نحن أنصار الله، أي: أعوان دينه {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ} علينا يا عيسى {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]. وقصد اليهود قتله وطلبوه أشد الطلب وأخبروا المَلِكَ وكان يهوديًا، فركب بنفسه ومعه اليهود، فدخل عيسى خَوْخَة، ووقف الملك على بابها، فقال رجل: أنا أدخل خلفه فدخل فألقى الله عليه شبه عيسى ورفع الله إليه عيسى مِن الكُوَّة التي في الخَوْخَة، وخرج الرَّجل إلى أصحابه فقال: ليس في الخَوْخَة أَحَدٌ، فقالوا: بلى، أنت هو، فقتلوه وصلبوه، قال ابن عباس فذلك قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] فمكر الله إلقاؤه على الرجل شبه عيسى، ومكرهم طلبهم لعيسى. فإن قيل: فالمكر لُطف الحيلة والتدبير، وهو من الله ممتنع، فالجواب: إنه من الله المُجازَاة واستدراج العبد {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أي: المُجازِين، وقال ثعلب: المَكْرُ مِنَ الخَلْق الخِدَاعُ والفساد والاحتيال، ومِنَ الله المُجازَاةُ على الأعمال. وقال وهب: نصبوا لعيسى خشبة ليصلبوه عليها فأظلمت الدنيا وأرسل الله الملائكة فحالت بينهم وبينه، وهناك رجل يقال له: يهوذا، وهو الذي دلَّهم عليه فصلبوه. قلت: وقد عاب أبو العلاء المَعَرِّي على النصارى تخلِّيهم عن المسيح حتى صُلب، وبيَّن فساد اعتقادهم. قرأتُ على شيخنا تاج الدين الكندي قال: حدثنا أبو منصور بن الجَواليقي، قال: حدثنا أبو زكريا التِّبريزي قال: قرأت على أبي العلاء المعري (¬2) من شعره من قصيدة: ¬

_ (¬1) النِّيْرَجُ: أُخَذٌ كالسحر، وليس به، أي: ليس بحقيقته وإنما هو تشبيه وتلبيس وهي النِّيرَنْجيِّات، انظر تاج العروس. (¬2) في (خ) و (ك): أبي المعرّا (كذا؟ )، والقصيدة في "لزوم ما لا يلزم" لأبي العلاء المعري 3/ 1673.

عَجَبًا لِلْمَسيحِ بَيْنَ أُنَاسٍ ... وإلى غَيْرِ والِدٍ نَسَبُوهُ أَسْلَمَتْهُ إلى اليَهُودِ النَّصَارَى (¬1) ... وأَقَرُّوا بأَنَّهم صَلَبُوهُ يُشْفقُ الحَازِمُ اللّبيبُ على الطِّفْـ ... ـلِ إذا ما لِدَاتُهُ ضَرَبُوهُ وإذَا كَانَ مَا يَقُولُونَ فِي عِيْـ ... ـسَى صَحيْحًا فَأيْن كَان أَبُوهُ كَيْف خَلَّى وَليدَهُ لِلأَعَادِي ... أَمْ يَظُنُّونَ أنَّهُم غَلَبُوهُ وقال مقاتل بن حيان: جمع عيسى الحَوَارِيِّين في تلك الليلة وأوصاهم وقال: لَيَكْفُرنَّ بي واحد منكم ويبيعني بدراهم، ثم تفرَّقوا ودخل خَوْخَةً، وجاءت اليهود تطلبه فدلهم عليه بعض مَنْ كان معه وأعطوه ثلاثين درهمًا، فألقى الله عليه شبه عيسى فَصَلَبُوه. وقال مجاهد: دخل عيسى الخَوْخَةَ ومعه سبعة عشرة مِن الحَوَارِّيين، فأحاط اليهود بهم، فقال عيسى: من يَبيعُ منكم نفسه بالجنَّة؟ قالوا: وكيف؟ قال: يُلقي عليه شبهي فيُصْلَبُ فيكون رفيقي في الجنَّة، فقال شاب منهم: أنا فأَلْقى الله عليه شبهه فَقُتِل ورُفِع عيسى. وقد اختلفوا في اسم المَصْلُوب الذي دلَّ عليه شَبَهُهُ، على أقوال: أحدها: يهوذا من اليهود. والثاني: من الحَوَارِّيين، واسمه نودس. والثالث: سورجس، وقيل: جرجس، وكان قد آمن بعيسى، ويقال له: ابن العجوز، وقيل: إنَّه ندم على ما فعل فخنق نفسه، والأصح أنَّه صُلب. وقال ابن عباس: رفع إلى السماء لثلاث ساعات مضين من الليل، وقيل: من النهار، وكُسيَ الرِّيش ونزعت منه لذة المطعم والمشرب، فصار إنسيًا مَلَكيًا سماويًا أرضيًا. وقال مقاتل: لا خلاف بين النَّصارى واليهود أن عيسى صُلِبَ، وأنه لما رُفِعَ ليُصْلَبَ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ك): "أسلمته اليهود إلى النصارى"، والمثبت من (ب).

طُعِنَ برمح فصاح، وقال: يا أبي الذي في السِّماء إنْ قدرت أنْ تصرف عني هذا الكأس فافعل، ومعنى أبي، أي: رَبِّي، وقد تكررت منه هذه اللفظة، فإنه قال للحَوَارِيِّين: إذا سألتم الله فقولوا: يا أبانا الذي في السَّماء افعل كذا، ولا خلاف بين المسلمين: أنَّ المصْلُوب غير عيسى، قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]. وقال ابن أبي نَجِيح: جاءت مريم بعد أيام إلى الخشبة ومعها امرأة كان عيسى دعا لولدها فَشُفيَ من المرض، فوقَفَتا تبكيان، فجاءهما عيسى فقال: ما لكما تبكيان؟ فقالتا: عليك، فقال: إنَّ الله رفعني إليه ولم يُصبني إلا خير (¬1)، وإنَّ هذا شيء شُبِّهَ لهم. وقال كعب: وجدتُ في بعض الكتب: أن الله تعالى قال بعد سبعة أيام: يا عيسى انزل إلى مريم المَجْدَلانيّة -نسبها إلى قرية بالجبل يقال لها: المجدل- فإنَّه لم يبك عليك أحدٌ بكاءها، ولم يحزن عليك حزنها، ثم اجمع الحواريين وبُثَّهُم في الأرض دعاة إليَّ، فنزل على جبلٍ ببيت المقدس فاشتعل نورًا، وجَمَع الحَوَاريِّين وبَثَّهم في الأرض، ثم رفعه الله إليه، وتلك اللَّيلة التي تدخن فيها النَّصارى (¬2). فلمَّا أصبح الحَوَاريُّون تحدث كل واحدٍ بلغة من أُرسل إليهم. واختلفوا في تفسير قوله تعالى: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] على أقوال: أحدها: إني قابضك ورافعك إليَّ من غير موت. قاله الحسن البصري، قال: ودليله قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة: 117] أي: رَفَعْتَني وأنا حيٌّ وافيًا لم ينالوا مني شيئًا. والثاني: أنَّ معناه: إني مُنيمك من النوم، من قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] لأنَّ النَّوم أخو الموت. قاله الربيع بن أنس. والثالث: إنَّي حميتك من الموت. قال ابن عباس: توفاه ثلاث سماعات من نهارٍ، ثم أحياه ورفعه إليه. ¬

_ (¬1) في النسخ: يصيبني إلا خيرًا؟ والمثبت من عرائس المجالس 404. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 405، وفيه أن اسم القرية مجدلان. وانظر "تاريخ الطبري" 1/ 602 - 603.

ذكر نزول عيسى عليه السلام

والرابع: أنَّ في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، ومعناه: إنَّي رافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك من السَّماء، قاله مقاتل. والخامس: إنَّي مُتَوفِّيك عن حظوظ نفسك وشهواتك، قاله أبو بكر الورَّاق، وهو قولٌ حسن؛ لأنَّ عيسى كان في الدُّنيا بهذه المثابة، وفي الآخرة رفعت عنه لذة المَطْعَم والمَشْرَب فصار كالملائكة. وقال ابن أبي نَجِيح: كان عيسى على طور زيتا (¬1) جبل ببيت المَقْدِس وعليه مِدْرَعَة شَعْر، فهبت ريح فهرول، فرفعه الله إليه. ذِكرُ نُزول عيسى عليه السلام قد اختلفت الروايات في ذلك. حدثنا جدي رحمه الله، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الواحد الدينوري بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَنْبياءُ إخوةٌ لِعَلَّات، أُمَّهاتُهُم شَتَّى ودينهم واحد، وأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بعيسى ابن مريم، لأَنَّه لَيْس بَيْني وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وفي لفظ: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بابنِ مَرْيمَ في الدُّنيا والآخرة، ولَيْس بَيْنِي وَبَيْنَه نَبِيٌّ، الأَنبِياء إخوةٌ أَبْنَاءُ عَلَّات، أو أَوْلاد عَلَّات" (¬3). وأخرج أحمد في "المسند" بمعناه قال: "وإنَّه نَازِلٌ على أُمَّتي وخَلِيفَتي فيهم، فإذا رَأَيْتُمُوهُ فاعرِفُوهُ، فإنَّه رَجلٌ مَرْبُوع الخَلْق إلى الحُمْرة والبَيَاض، سَبْطُ الشَّعْر، كأن شَعْرَهُ يَقْطُر وإنْ لَم يُصِبْهُ بَلَلٌ" -وفي رواية: "كَأَنَّه خرج من ديْمَاس" (¬4) - بين مُمَصَّرَيْن (¬5) يَدُقُّ الصَّلِيب، ويَقتُلُ الخِنْزِير، ويُفِيضُ المَالَ، وليَسْلُكَنَّ الرَّوْحَاء حاجًّا أو معتمرًا، أو لَيُثَنِّيَنَّهُما جمِيْعًا، ويُقَاتِلُ النَّاسَ على الإسْلام حتى يُهْلِكَ اللهُ في زَمَانِهِ المِلَل ¬

_ (¬1) في (ب): طور سيناء. (¬2) أخرجه البخاري (3443)، ومسلم (2365) (145). (¬3) أخرجه البخاري (3442)، ومسلم (2365) (143). (¬4) أخرجه البخاري (3394)، ومسلم (168). (¬5) في (ب): ممصرتين.

كُلَّها، ويُهْلِكَ مَسِيحَ الضَّلالَةِ الدَّجَّال الكَذَّاب، ويقع في الأَرْضِ منه الأَمَنَةُ، حتى تَرْتَعَ الأُسُودُ مَع الإِبِلِ، والنُّمُورُ مع البَقَرِ، والذِّئَابُ مَع الغَنَم، وتَلْعَبَ الغِلْمَانُ بالحيَّاتِ، لا يَضُرُّ بعضهم بعضًا، ويَلْبَث في الأَرْضِ أربعينَ سَنَةً -وفي رواية: "أربعًا وعشرين حجَّةً"- ثُمَّ يَتَزَوَّج ويُولَدُ له، ثُمَّ يُتَوَفَّى ويُصلِّي عَلَيه المُسلِمُون" (¬1). وفي رواية: "ويَدْفِنُونه في مَسْجِدي أو حُجْرَتي". الكلام على الحديث قوله: "رَجُلٌ مَرْبُوع الخَلْقِ إلى الحُمْرَةِ والبَيَاضِ" كذا وقع في هذا الحديث، وقد روينا عن ابن عمر في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "آدم" (¬2) يعني أسمر، وقوله: بين مُمَصَّرَيْن، أي: ثَوبين فيهما صُفْرةٌ خفيفة، و"الرَّوْحَاء": منزل بين مكَّة والمدينة، و"الدِّيْمَاس": الحَمَّام. وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والَّذي نَفْسِي بِيَدِه لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيْكُم ابنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيْبَ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيْرَ، ويَضَعُ الجِزْيَةَ، ويفيض المالُ حتى لا يَقْبَلهُ أَحَدٌ، وتَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا فِيْهَا". ثم يقول أبو هريرة: اقْرَؤُا إنْ شِئْتُم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3)، وهو حديث طويل. وفيه: "كَيْفَ أَنْتُم إذا نَزَلَ عِيْسَى ابن مَرْيَم فِيْكُم فَأَمَّكُم مِنْكُم" (¬4) قال ابن أبي ذئب: قُلْتُ للزُّهْرِيّ: ما معنى "فَأمَّكم مِنْكُم" قال: أمَّكُم بكتاب الله وسنة نبيكم. وفيه: "وإمَامُكُم مِنْكُم" (¬5) وهذا ظاهر. "ولَتُتْرَكَنَ القِلاص فلا يُسعى عليها، ولَتَذهَبَنَّ الشَّحناء والتَّبَاغُضُ والتَّحاسُدُ" (¬6) والقَلُوصُ من النُّوقِ: الشابة بمنزلة الجارية من النِّساء، وكذا القَلُوص من الإبل بمنزلة الشاب. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (7269) و (7273) و (9270) و (9632)، وانظر عرائس المجالس 3/ 82. (¬2) أخرجه البخاري (3440)، ومسلم (169). (¬3) "مسند أحمد" (10944)، والبخاري (3448)، ومسلم (155). (¬4) أخرجه مسلم (155) (246). (¬5) أخرجه البخاري (3449)، ومسلم (155) (244). (¬6) أخرجه مسلم (155) (243).

ولمسلم عن جابر بن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تَزَالُ طَائفَةٌ مِن أُمَّتي يُقاتلون على الحَقِّ ظَاهِرينَ إلى يَومِ القِيامَة، فَينزِلُ عيسى ابن مَرْيَم فيقول أميرهم: صلِّ لنَا. فيقول: لا، إنَّ بَعْضَكُم على بَعْضٍ أُمَراء، تَكْرِمَة لهذه الأُمَّة" (¬1). وقال جدي رحمه الله (¬2): إذا نزل عيسى ابن مريم اجتمع بصاحب الزمان، فيحضر وقت الصلاة فيقول صاحب الزمان لعيسى: تقدَّم، فيقول له عيسى: أنت أولى، فيتقدم صاحب الزمان، فلو تقدم عليه عيسى لكان ناسخًا لشرعنا، وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كَانَ عِيْسَى ومُوسَى حَيَّيْن لَمَا وَسِعَهُمَا إلَّا اتباعي" (¬3). فامتناع عيسى لئلا يتدنس وجه: "لا نَبِيَّ بَعْدِي" (¬4) بغبار الشبهة، وهذا معنى حديث جابر، وقوله: "تكرمةً لهذه الأمة"، والدليل على أنَّ التَّبَعِيَّة قائمة، فإنه ينكح على ما في الحديث ويولد له، لأنه ضيف والضيف يتبع أوامر المُضيف "تناكحوا تناسلوا" (¬5) الحديث. وقد أخرج مسلم حديثًا طويلًا في أمارات الساعة والدجَّال عن النوَّاسِ بن سَمْعَان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ عيسى ابنَ مَرْيَم، فَيَنْزِلُ عند المَنَارةِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بين مَهْرُودَتَيْن، واضِعًا كَفَّيهِ على أَجْنِحةِ مَلَكَيْن، إذا طْأطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمانٌ كَاللُّؤْلُؤ، فلا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِد رِيْحَ نَفَسِهِ إلَّا مَاتَ، ونَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُه حتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسى بنَ مَرْيَم قومٌ قد عَصَمَهُم الله منه، فَيَمسَحُ عن وجُوهِهِمْ ويحدِّثُهُم بِدَرَجاتِهِم في الجَنَّة، فَبَيْنَمَا هُم كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى الله إلى عيسى: إنِّي قد أَخرَجتُ عِبادًا لِي، لا يدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهم فَحَرِّزْ عِبَادي إلى الطُّورِ، وَيبْعَثُ الله يَأْجُوجَ ومَأْجُوج". الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه "مسلم" (156). (¬2) في (ب): قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (14631) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه البخاري (3455)، ومسلم (1842) من حديث أبي هريرة. - رضي الله عنه -. (¬5) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (10391) من حديث سعيد بن أبي هلال مرسلًا ولفظه: "تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة" وأخرج ابن ماجة (1863) من حديث أبي هريرة مرفوعًا "انكحوا فإني مكاثر بكم"، وهذا الحديث مما اشتهر على الألسنة، انظر كشف الخفاء 1/ 380. (¬6) أخرجه مسلم (2937).

"المَهرودَتَيْن" المصبوغتين بالصُّفْرَةِ، وفيها لغتان: بالدَّال المُهْمَلة والمعجمة. وإنَّما يَمْسَح وجوهَهُم عيسى لِما لاقوا من الدجَّال، و"حَرِّز" أي: ضمَّهم، هذا قدر ما أخرج في "الصحيح". وقد رُوي أنَّ عيسى يقتل الدجَّال على عقبة أفيق (¬1). وفي رِوَاية أوس بن أوس الثقفي: أنَّه ينزل عِنْد القَنْطَرة البَيْضَاء شَرْقِيَّ دِمَشقَ في غمامة، وعليه ريْطَتَان مُؤْتَزِر بإحدَاهُما مُرْتَد بالأُخْرَى، وَيأْتى مَسجِدَ دِمَشق فَيَقْعُد على المِنبَر ويدخل اليهود والنصارى والمسلمون إلى المَسجِد وكُلُّهُم يرجوه" (¬2). وقال ابن عباس: يَقْتُلُ عيسى الدَّجَّالَ على ذُرْوَة أَفيق (¬3). وأخرج أحمد طرفًا منه فقال: حدثنا يزيد بن هارون بإسناده عن عثمان بن أبي العاص الثقفي قال: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكُون للمُسلِمين ثَلاثَةُ أَمْصَارٍ، مِصرٌ بمُلتَقَى البَحرين، ومِصرٌ بالحِيرة، ومِصر بالشَّام، فَيَفزَعُ النَّاسُ ثلاثَ فَزعاتٍ، فَيَخرُجُ الدَّجال في أَعْراضِ النَّاسِ، وأَكْثَرُ تَبعه اليَهُودُ والنِّساءُ". وفي رواية: "يَتْبَعه سَبْعُونَ ألفًا مِن يَهُود أَصْبَهَان (¬4) وَيشْتَدُّ على النَّاسِ أَمْرُهُ، ويُصِيْبُهُم مَجاعة (¬5) شَديدَة، فَيُنادِيْهم مُنادٍ في السَّحر: أَيّها النَّاسُ، أَتَاكُم الغَوْثُ ثَلاثًا، وَينزِلُ عيسى ابنُ مَرْيَمَ عندَ صَلاةِ الفَجر، فيقولُ له أَمِيرهم: يا رُوحَ الله تَقَدَّمْ صلِّ، فيقولُ: هذه الأُمَّةُ أُمراءُ بعضهم على بَعْضٍ، فَيتقدمهم أميرهم فَيُصَلِّي، فإذا قَضَى صَلاتَهُ أَخَذَ عِيسى حَرْبَتَهُ، فَيَذهَبُ نحوَ الدَّجال، فإذا رآهُ الدَّجال، ذابَ كمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، فَيَضَعُ حَرْبَتَهُ في ثَنْدُوَته، فَيَقْتُلُه ويَنْهَزِمُ أَصْحَابُه، فَلَيْسَ يَوْمَئِذٍ شَيءٌ يُواري مِنْهُم أحدًا، حتى إنَّ الشَّجَرَةَ لَتَقُولُ: يا مُؤمِنُ، هَذا كَافِر، وَيقُولُ الحَجَر: يا مُؤْمِنُ، هذا كافر. وقيل: يقتله بباب لُدٍّ (¬6)، والمشهور على عقبة أَفِيق. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (21929) من حديث سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (590)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 1/ 227. (¬3) تاريخ دمشق 57/ 218. (¬4) أخرجها مسلم (2944) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬5) في (خ) و (ك): مجاهدة، والمثبت من (ب)، وهو موافق لما في مسند أحمد (17900). (¬6) أخرجه مسلم (2937).

وقد أخرج أحمد بمعناه بإسناده عن جابر بن عبد الله وذكر حديثًا طويلًا في الدجَّال، وفيه: "ومَعَه جِبَالٌ مِن خُبْز وَنَهْرَانِ وشَيَاطِيْن تُكَلِّمُ النَّاسَ، ويَأْمُرُ السَّماءَ فَتُمْطِرُ، ويَقْتُلُ نَفْسًا ثم يُحْييها، لا يُسلَّط على غَيْرِها مِنَ النَّاسِ، وَقَد حَرَّمَ الله عليه مَكَّةَ والمَدِينَة، فالملائكة قائمةٌ على أَبْوَابِها، ويفرُّ المسلمونَ منه إلى جبلِ الدُّخَان بالشَّام، فَيَأتيهم فَيَحْصُرُهُم فيه، وَيَشْتَدُّ حِصَارُهم، فَيَنْزِلُ عيسى فَيُنَادِي وَقتَ السَّحَر، أَيُّها النَّاسُ مَا يَمْنَعُكُم أَنْ تَخْرُجُوا إلى الكَذَّابِ الخَبِيْثِ، فَيَنْطَلِقُونَ معهُ ويَقولُون: هذا رجل جِنِّيٌّ، فتُقام الصَّلاةُ، فيقال لعيسى: تَقَدَّم يا رُوحَ اللهِ، فيقول: ليَتَقَدَّم إمَامُكُم فَلْيُصَلِّ بكم. فإذا صَلَّوا صَلاةَ الصُّبحِ، خَرَجُوا إليه، فحين يَرَاهُ الكَذَّابُ يَنْمَاثُ كما يَنْمَاثُ المِلْحُ في الماء، فَيَمْشِي إليه فَيَقْتُلُه، حتى إنَّ الشَّجرَةَ والحَجَرَ لَيُنَادِي: يَا رُوحَ الله، هذا يَهُودِيٌّ، فلا يَتْرُك أَحَدًا ممن كَان يَتْبَعُهُ إلا قَتَلَهُ" (¬1). وقيل للحُسين بن الفضل البَجَلِيِّ: هل تجد نزول عيسى في القرآن؟ قال: نعم، في قوله تعالى: {وَكَهْلًا} [آل عمران: 46] وهو لم يكتهل في الدُّنيا، فصار معناه: وكهلًا بعد نزوله. وأنبأنا غير واحد، حدثنا يوسف بن محمد بن محمد بن عمر الأرموي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَيْفَ تَهْلكُ أُمَّةٌ أَنَا في أَوَّلِهَا، والمَهْدِيُّ مِن أَهْلِ بَيْتِي في أَوْسَطِها، وعيسى في آخِرِها" (¬2). وقد روى الشافعي عن محمد بن خالد (¬3) الجَنَدي عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَزْدَادُ الأَمْرُ إلَّا شِدَّة، ولا الدُّنيا إلا إدْبارًا، ولا النَّاسُ إلا شُحًّا، ولا تَقُوم السَّاعةُ إلَّا على شِرَار الناس، ولا مَهْدِيَّ إلا عيسى ابن مريم" (¬4). إلا أنه حديث لا يصح، قال البيهقي: لم يروه عن الشافعي غير يونس بن عبد ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (14954). (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 5/ 395. (¬3) في (خ) و (ك): مخلد، وهو خطأ، وليس في (ب)، بل فيها: وروي عن الشافعي، وسيرد على الصواب. (¬4) أخرجه ابن ماجه في "سننه" (4039)، والحاكم في "مستدركه" (8363)، والبيهقي في "المعرفة" (20827)، وبيان من أخطأ على الشافعي ص 296.

الأعلى (¬1). ولما سئل الشافعي عنه قال: كذب علي يونس، ما حدثته به، ولا حدثني به أحد. ومحمد بن خالد الجندي مجهول. وقال البيهقي: إنما أنكروه لأن الأحاديث في خروج المَهْدي من ولد نبينا - صلى الله عليه وسلم - مشهورة، فلا يعارضها هذا الحديث الواهي. وقد رُويَ أن عيسى يُدفن مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الحجرة، وقد ذكرناه في الحديث الذي في أول الفصل، وهو قوله عليه السلام: "ويُدفن في مسجدي أو حجرتي". وفي حديث عروة عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أَتأْذَنُ لِي إذَا مِتُّ بَعْدَكَ أَنْ أُدْفَنَ إلى جَانِبِكَ، فقال: "ما بقي في الحُجْرَة إلا مَوْضِعُ قَبْرِ عيسى" (¬2). وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام قال: نَظَرْتُ في التَّوراة صِفَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وعيسى ابن مريم، وأَنَّه يُدفن معه (¬3). والجواب أنَّه ليس في هذه الأخبار ما يصح، أما الحديث الأول فالصحيح من الرواية "ويُدفَنُ في مسجدِي"، وأما حديث عائشة، فقد ضعَّفه الحفاظ، وقالوا: لا يصح عن عائشة، وأما حديث ابن سلام، ففي إسناده أبو موْدُود المَدَنيِّ. قال البخاري: وهذا لا يصح عندي ولا يتابع عليه (¬4). وقال ابن عباس: يدفن عيسى عند باب حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الأصح لوجوه: أحدها: تأدبًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: ليكون موافقًا لقوله عليه السلام: "ويدفن في مسجدي". والثالث: لأنه حاجبٌ، لقوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. والحاجب ينبغي أن يكون قريبًا من المحجوب لا أن يكون معه. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ دمشق 57/ 228 - 231، وانظر "تهذيب الكمال" 25/ 149. (¬2) أخرجه ابن عساكر 57/ 234 من طريق طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبي بكر، عن عائشة. قال ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 527: لا يصح إسناده. (¬3) سنن "الترمذي" (3617). (¬4) "التاريخ الكبير" 1/ 263، وتاريخ دمشق 57/ 235.

فصل في وفاة مريم عليها السلام

فصل في وفاة مريم عليها السلام واختلفوا فيه على قولين: أحدهما: أنها توفيت بعده، فقال السُّدي عن أشياخه: توفيت بعده بست سنين. وكذا قال ابن عباس وغيره. والثاني: أنها توفيت قبله، فرُويَ أن عيسى كان لا يأكل إلا من غزلها إذا لم يكن زمان اللّقاط، وكانا يصومان الدهر، فجاء ليلةً عند الإفطار وهي نائمة قد ماتت، فناداها: يا أُماه، قد أفطر الصائمون، أما آن لك أن تفطري، فأوحى الله إليه أنها قد توفيت، فسَلْها تجيبك، فقال: يا أماه، فقالت: لبيك يا بني، فقال: كيف وجدت الموت؟ فقالت: يابني، والله لو وقعت عليَّ جبال الدنيا لكان أهون عليَّ من الموت. والقول الأول أشهر. وكان سنها يوم ماتت نيفًا وخمسين سنة (¬1)، وقيل أقلُّ من ذاك. وقال السُّدي: حملت به وهي بنت ثلاث عشرة سنة، ورفع وهو ابن ثلاثين، وعاشت بعده ست سنين (¬2). ومن قال: حملت به وهي بنت خمس عشرة (¬3) سنة قارب الحساب (¬4). ودفنت بالجسمانية (¬5) شرقي بيت المقدس عند قبر داوود عليه السلام. وقال علماء السير: ولما رفع عيسى انقطع الوحي بعده ووقعت الفتوة حتى بعث نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وقال وهب: كان بين عيسى ونبينا - صلى الله عليه وسلم - أربعةٌ من الأنبياء، ثلاثة منهم ذكروا في قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]. والرابع: خالد بن سنان العبسي (¬6). وسنشير إليهم في الفترة إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ دمشق 387 (تراجم النساء)، و"المنتظم" 2/ 41. (¬2) انظر "عرائس المجالس" ص 406. (¬3) في (خ): "ثلاث عشرة". (¬4) انظر "التبصرة" 1/ 354. (¬5) يعني: كنيسة الجسمانية ببيت لحم. انظر ما تقدم في الصفحة 180 و 244. (¬6) انظر "المنتظم" 2/ 38.

فصل

فصل فإن قيل: فكم كانت معجزاته؟ فالجواب: كثيرة، منها: ولادته من غير أب، وتعليمه الكتاب والحكمة، والنطق في المهد، ورفعه إلى السماء، وغير ذلك مما ذكرناه (¬1). فإن قيل: فلِمَ رفعه إلى السماء؟ فلوجوه: لتصحبه الملائكة فتصل بركته إليهم كما وصلت إلى أهل الأرض. والثاني: لأنه ضمن له النجاة من أعدائه (¬2) لما ضاقت به الأرض. والثالث: لقوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] قال محمد بن إسحاق: أماته سبع ساعات ثم أحياه ثم رفعه (¬3). وقد بيناه. فإن قيل: فلِمَ لم يردَّه إلى الأرض؟ فالجواب: ليكون علمًا للساعة، ولِيُؤمن به الكفار لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]. فإن قيل: فقد ذكرتم أنه كان زاهدًا، فكيف قال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 31]؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أوصاني بالزكاة على شرط وجود المال (¬4). والثاني: أنَّ الزكاة ها هنا: الإسلام. والثالث: الطهارة (¬5)، لأن الزكاة طهارة. والرابع: الثناء على الله. ومذهب (¬6) النصارى: أنَّ من هبوط آدم إلى رفع عيسى، خمسة آلاف سنة وخمس مئة واثنان وثلاثون سنة (¬7). ¬

_ (¬1) في واقعات عيسى وهي كثيرة. (¬2) في (ك) و (خ): لوجوه ... النجاة لأعدائه، وليس في (ب)، والمثبت أقرب للصواب. (¬3) انظر "تفسير البغوي" ص 211. (¬4) انظر "تفسير البغوي" ص 802. (¬5) انظر "زاد المسير" 5/ 229. (¬6) في (ب): فصل ومذهب. (¬7) انظر "المنتظم" 2/ 38.

فصل في عدد الأنبياء والمرسلين، وذكر ما بينهم من السنين

فصل في عدد الأنبياء والمرسلين، وذكر ما بينهم من السنين (¬1) حدثنا عبد المحسن بن عبد الله بن أحمد الطُّوسي بإسناده عن ابن المسيب عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، كمِ الأنبِيَاءُ؟ قال: "مئةُ ألفٍ وأربعةٌ وعِشرُونَ أَلفًا" قال: قلت: كم الرُّسُلُ منهم؟ قال: "ثَلاثُ مئةٍ وثَلاثَةَ عَشرَ جَمًّا غفِيرًا" قلت: من كان أولهم؟ قال: "آدمُ نبى مُرسَلٌ، خَلَقَهُ اللهُ بِيده، ونَفَخَ فيهِ من رُوحِهِ، وسَواهُ قُبُلًا. ثُم قال: أربعةٌ مِنهم سُريَانِيونَ آدمُ، وشيثُ، وخَنُوخُ، وهو: إدريس، ونُوحٌ. وأربعةٌ من العربِ: هودٌ، وصالحٌ، وشعيبٌ ونَبِيُّكَ، وأولُ الأنبِياءِ من بَني إسرائِيلَ: مُوسى وآخِرُهم: عيسى". قال: فقلت: فكم أَنزَلَ الله مِنَ الكُتُبِ؟ فقال: "مئةٌ وأربَعة كُتُبٍ" (¬2). وقوله: "قبُلًا" أي: عيانًا. ومنه: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف: 55]، وقوله: "أول أنبياء بني إسرائيل موسى" أي: بعد يعقوب ويوسف. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: المرسلون ثلاث مئة وخمسة عشر أو ستة عشر على عدة قوم طالوت. وروى عنه عكرمة أنه قال: بعث الله من بني إسرائيل أربعة آلاف نبي. قال: وكل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: إدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ولوط، وشعيب، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ليس من نبي له اسمان إلا يعقوب وهو إسرائيل، وعيسى وهو المسيح (¬3). فصل في مقدار ما بينهم من السنين واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنه كان بين نوح وآدم ألفا سنة ومئتا سنة وثمانٍ وعشرون سنة، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وذكره جدي في "التلقيح" (¬4). ¬

_ (¬1) في (ب): الباب الثلاثون في عدد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين وذكر ما بينهم من السنين. (¬2) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (361)، وابن الجوزي في "المنتظم" 2/ 142، وإسناده ضعيف جدًا. (¬3) انظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 4. (¬4) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 5.

وفي رواية عكرمة: مئتي سنة لا غير. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: أنَّ بين آدم ونوح ألف سنة عشرة قرون. قال: وكلهم كانوا على الإسلام (¬1). وبين نوح وإبراهيم ألف ومئة وثلاث وأربعون سنة. ذكره جدي في "التلقيح" (¬2)، وقد اختلفوا فيه: فروى الوالبي عن ابن عباس قال: بين نوح وإبراهيم ألف ومئة سنة: أحد عشر قرنًا. قال في "التلقيح": ومن إبراهيم إلى موسى خمس مئة وخمس وسبعون سنة. وروي عن ابن عباس: أنَّ بينهما ست مئة سنة. قال: ومن موسى إلى داود خمس مئة وتسع وسبعون سنة. وروي عن ابن عباس: أن بينهما لست مئة سنة. وقيل: خمس وخمسون. ومن داود إلى عيسى ألفُ سنة وثلاث وخمسون سنة. وقال غيره ألف وثلاث مئة وخمسون سنة. ومن عيسى إلى محمد ست مئة سنة. وهذه الرواية بالاتفاق ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، ولهم فيما عدا ذلك اختلاف كثير اقتصرنا على الأصول. وحكى في "التلقيح" عن ابن أبي خيثمة قال: منذ خلق الله آدم إلى أن بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خمسة آلاف سنة وثمان مئة سنة (¬3). وقد أشرنا إلى طرفٍ من هذا في خطبة الكتاب. وأنبأنا جدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد القزاز بإسناده إلى الضحاك عن ابن عباس قال: كانت فترتان فترة بين آدم ونوح، وفترة بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان أول نبي بعث بعد آدم إدريس، وبين موت آدم وبعث إدريس مئتا سنة، لأن آدم عاش ألف سنة إلا خمسين عامًا، وولد إدريس وآدم حي، ومات آدم ولإدريس مئة سنة، ورُفِعَ وهو ¬

_ (¬1) انظر "المعارف" ص 57. (¬2) "التلقيح" ص 5. (¬3) انظر تلقيح فهوم أهل الأثر 5 - 6، والمنتظم 1/ 145 و 197، والمحبر 1 - 2، والمعارف 56 - 57، وطبقات ابن سعد 1/ 35 - 36.

فصل في ترتيب كبار الأنبياء

ابن أربع مئة سنة وخمس وستين، وكان الناس من لدن آدم إلى إدريس ملةً واحدة، مستمسكين بالإسلام، وتصافحهم الملائكة، فلما رُفِعَ إدريس فتر الوحي إلى أن بعث الله نوحًا، وكان يوم بُعِثَ: ابن أربع مئة سنته وثمانين سنة، وكانت نبوة نوح ألف سنة إلا خمسين عامًا، ثم عاش بعد الغرق خمسين عامًا، ومات. وقيل: مئتي عام. وانقطع الوحي ما بين إدريس ونوح، وكان سام ابن نوح بعدما مات نوح ابن أربع مئة سنة، وعاش بعده مئتي سنة. وكان بين نوح وهود ثمان مئة سنة، وعاش هود أربع مئة وستين سنة. وكان بين هود وصالح مائة سنة، وعاش صالح ثلاث مئة سنة وثلاثين سنة، وقيل: ثلاث مئة إلا عشرين سنة. وكان بين صالح وإبراهيم لست مئة وثلاثون سنة، وعاش إبراهيم مئة سنة وخمسًا وسبعين سنة، وقيل: مئتي سنة. وعاش إسماعيل مائة سنة وتسعًا وثلاثين سنة، وعاش إسحاق مئة وثمانين سنة، وعاش يعقوب مئة وتسعًا وأربعين سنة. وكان بين موسى وإبراهيم سبع مئة سنة، وكانت الأنبياء بين موسى وعيسى متواترة. وبين عيسى ومحمد ست مئة سنة (¬1). قلت: وقد وهم الخطيب (¬2) في هذه الرواية بإسقاط شيث، ولم يتدبر حقيقة التاريخ، فإنهم لا يختلفون أنه كان بين آدم وإدريس، وأنه نبي مرسل، ووصيُّ آدم، وكان أفضل أولاده، وقد ذكرناه بعد آدم عليه الصلاة والسلام. فصل في ترتيب كبار الأنبياء قال جدي في "التلقيح": كان من بعد آدم شيث وهو وصيُّه، ثم إدريس، ثم نوح، ثم ¬

_ (¬1) لم أقف عليه فيما بين يدي من كتب ابن الجوزي، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 1/ 12 (مخطوط) و 1/ 29 - 30 (طبعة شيري) من طريق الخطيب بإسناده إلى الضحاك عن ابن عباس، وانظر تاريخ الطبري 2/ 235 - 238. (¬2) في (ب): قال المصنف رحمه الله وقد وهم الخطيب. اهـ. ولم يرد ذكر الخطيب قبلًا، وهذا من دلائل اختصار الكتاب، وانظر التعليق السابق.

هود، ثم صالح، ثم إبراهيم، ثم لقمان الحكيم. قلت: وأين لقمان من إبراهيم، وبينههما ألوف سنين، ولقمان كان في زمان داود؟ والصحيح: أنه كان عبدًا صالحًا، ولم يكن نبيًا وقد ذكرناه. ثم قال: وكان لوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وشعيب، ويوسف، ومن بعد يوسف موسى بن ميشا. قلت: موسى هذا ابن ميشا مختلف فيه، ولم يُذكر في جملة الأنبياء، إلا في رواية شاذة. قال: ثم موسى بن عمران، ثم يوشع بن نون، ثم كالب بن يوفنا، ثم حزقيل، ثم إلياس، ثم طالوت الملك، ثم داود، ثم سليمان، ثم أيوب، ثم يونس بن متَّى، ثم شعيا بن أمصيا، ثم زكريا ويحيى، وعيسى، وإرميا. قلت: وقد أخلَّ بهارون وجماعة، وقد ذكرناهم (¬1). ثم قال جدي رحمه الله: وكان ذو القرنين بين عيسى ومحمد في الفترة، ثم قال: كذا ذكروا، والصواب: أنَّ ذا القرنين كان في أيام الخليل عليه السلام، إلا أن يعنى به اليوناني (¬2). * * * ¬

_ (¬1) فصل في قصة يوشع بن نون. (¬2) "التلقيح" ص 4 - 5.

فصل في مذهب أرباب الرصد

فصل في مذهب أرباب الرَّصَد ذكر يعقوب بن طارق المنجم في كتاب "الأفلاك" وقال: إن الماضي من سني العالم من هبوط آدم إلى الهجرة على سير الشمس أربعة آلاف ألف ألف ألف ألف سنة -ذكره أربع مرات- وثلاث مئة ألف ألف وعشرين ألف ألف سنة. وقال النُّوْبَختي: من ابتداء حركة الفلك بالكواكب من أول نقطة في برج الحمل أول سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة للهجرة أربعة آلاف ألف ألف ألف ألف سنة وذكرها النوبختي أربع مرات. قلت: وهذا ضرب من المالنخوليا (¬1)، لأن هذا باب لا يدرك بالتخمين والحدس، وهل في طاقة بشر أن يحقق تاريخ مئة سنة على الوجه؟ وإنما هذه تخيلات وظنون، ونظير هذا قول ابن طارق والنُّوبختي وأبي معشر: إنَّ لكل كوكبٍ من الكواكب السبعة سلطان وزمان يتعلق بعمر العالم الذي هو فيه، فإذا استكمل قطع المسافة، وقع التعاد، ودثر ذلك العالم، وعاد التدبير إلى الكواكب الأُوَل، وعادت أشخاص كل عالم إلى ما كانت عليه، وذلك يتعلق بالبروج والكواكب. قالوا: فسلطان الحمل وماله من الكواكب -وقد ذكرنا في صدر الكتاب ما لكل برج من الكواكب (¬2) - اثنتا عشرة ألف سنة، وسلطان الثور وماله أحد عشر ألف سنة، وسلطان الجوزاء وماله عشرة آلاف سنة. وما زالوا ينقصون من كل برجٍ وماله من الكواكب سنة سنة حتى قالوا: وسلطان الحوت وماله من الكواكب ألف سنة، فجميع عمر العالم ثمانية وسبعون ألف سنة. قلت: وهذه الأقوال تأباها العقول السليمة، وتردها الشرائع المستقيمة، والاعتماد في هذا الباب على ما ورد من سيدنا المصطفى زاده الله عزًا وشرفًا. أنبأنا جدي رحمه الله، وعبد العزيز بن محمود البزاز قالا: حدثنا أبو القاسم ابن ¬

_ (¬1) "المالنخوليا": يقال مالنخوليا لتغير الظنون والفكر عن المجرى الطبيعي إلى الفساد وإلى الخوف. انظر "القانون" لابن سينا 2/ 65. (¬2) انظر فصل في البروج ومطالعها.

السمرقندي (¬1) بإسناده عن قتادة الحسن عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صَدَّقَ مُنجمًا بما يَقُولُ فَقَد كَفَرَ بِما أُنزلَ عَلى مُحمدٍ". أخرجه ابن ماجه (¬2). وفي رواية: "مَن أتَى مُنجمًا أو كاهِنًا فَصَدَّقَهُ فَكأنَّما كَذَبَ بِما أُنزِلَ على محمدٍ". وروى عكرمة عن ابن عباس قال: لما انصرف عليٌّ عليه السلام من الكوفة لقتال الخوارج بالنَّهروان، وكان معه مُسافرُ بنُ عَوفٍ بن الأحمر، وكان يَنظرُ في النجوم، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تَسِرْ في هذه الساعة، فإنك إن سِرتَ فيها، أصابك وأصحابَك بلاء وشدة، وسِرْ في الساعة الثانية، فإنك تظفر بما تطلب. فقال أمير المؤمنين: الله لا إله إلا هو، وعلى الله فليتوكل المؤمنون. وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، وذكر هذا الحديث، ثم قال: ما كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - منجم، ولا للخلفاء بعده، فمن صدَّقَكَ بما تقول، فقد كذَّب بالقرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، ثم قال: يا ابن الأحمر، نخالفك ونسير في هذه الساعة التي نَهيتَ عنها. ثم أقبل على الناس، وقال: إياكم وتعلّم النجوم، إلا بما تهتدون به في ظلمات البر والبحر. يا ابن الأحمر، لئن بلغني بعدها أنك تنظر في النجوم، لأجلدنك جلد المفتري، ولأخلِّدتك الحبس ما بقيت، ولأحرمنك العطاء ما عشت وكان لي سلطان. ثم سار في الساعة التي نهاه عنها، فظفر بالخوارج وأبادهم (¬3). وقال: المنجمون أعداء إلى الرسل يكذبون بما جاؤوا به من عند الله، يتسترون بالإسلام ظاهرًا، ويستهزؤن بالأنبياء باطنًا. وذكر كلامًا طويلًا. وفي رواية: أنَّ المنجم قال له: لا تسر في هذه الساعة، فإن القمر في العقرب. فقال له: قمرنا أو قمرهم. وحكى لي شيخنا يوسف بن يعقوب الحربي قال: كان ببغداد رجل مُرجف، يقال ¬

_ (¬1) وفي (خ): أبو القاسم بن محمود، وهو خطأ، انظر مشيخة ابن الجوزي 89، واسمه إسماعيل بن أحمد بن أحمد ابن عمر. (¬2) في سننه (639)، وأحمد في مسنده (9260) و (9536) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ولفظه: "من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" ولم نقف على حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) أخرج القصة مختصرة الحارث في "مسنده" (564).

له: ابن بِشْران، يقف في الأسواق، ويقول: ترك السلطان مسعود هَمَذان، وصلت مقدماته إلى حُلْوان، خرج أتابُك زنكي من الموصل، وصل تَكْرِيت، فتغلو الأسعار، ويخاف الناس. ولم يكن جرى شيء مما ذكره. وبلغ الخليفة المستنجد، فبعث إلى الوزير وقال له يؤدب ابن بِشْران وينهاه. فأحضره الوزير ونهاه، وأراد أن يوقع به الفعل، فاستحيا منه، وقال له: والله لئن بلغني عنك بعدها كلمة من هذا لأعملنَّ معك الواجب. فخرج من عنده، فأقام أيامًا لا يستجري يتكلم، فأعيته الحيل، فاشترى تقاويم وقعد على دكة بغداد، وشرع يقول: يقترن الكوكب الفلاني مع الكوكب الفلاني، فتهب ريح سوداء تأخذ بأنفاس (¬1) العالم، فيهلكون، تنشف دجلة بعد أيام، وشرع في مثل هذا، فمرَّ به بعض ظرَّاف بغداد، فوقف عليه وهو يقول كذا، فعمل فيه هذا الشعر (¬2): [من الكامل] إنَّ ابنَ بِشْرانٍ ولستُ ألومُهُ ... من خِيفةِ السُّلطَانِ صَارَ مُنجِّمَا طُبعَ المشومُ على الفُضُولِ فلم يُطق ... في الأرضِ إرجَافًا فأرجَفَ في السَّما وحكى لي جماعة عن بعض المنجمين ببغداد: أنَّه مرَّ به شاعر وبيده اسطرلاب، فقال: أين الشمس؟ فقال المنجم: في الثور، فقال الشاعر (¬3): [من السريع] قامَ إلى الشَّمسِ بآلاتِه ... يَنظُرُ بالتَّخمِينِ والحَدْسِ فَقُلتُ: أين الشَّمسُ؟ قَالَ الفتى ... في الثَّور قُلتُ الثورُ في الشَّمسِ وحكى لي أيضًا جماعة: أنه كان ببغداد منجم يقال له: الحُدَاني، عبر عليه شخص وهو في حلقة يقول: يا قوم، كيف تصنعون؟ قد نظرت في علومي، وإذا بكم تلاقون سنينًا كسني يوسف، تبقون سبع سنين لا تمطرون، وتأكلون الجيف والميتة، وجعل يعظم الأمر، قال: فنشأت سحابة مثل الترس، وامتدت، وجاءت كأفواه القرب، وخاض الناس في الوحل، فقال ذلك الشخص هذه الأبيات: [من الكامل] جَمَعَ الحُدَانِيُّ المُنَجِّمُ حلْقَةً ... وبدا يُسفسِطُ في النُّجومِ ويَحدِسُ ¬

_ (¬1) في (خ، ك): بأتفاع، والمثبت من (ب). (¬2) نسبه ابن خلكان في وفيات الأعيان 7/ 40 لابن صابر. (¬3) نسبها الصفدي في الوافي بالوفيات 11/ 388 إلى جكينا البرغوث.

ويَقُولُ هذا العَامُ أزعُمُ أنَّهُ ... مِن عامِنَا الماضِي أجفُّ وأيبَسُ فَتَدفَّقَت سُحبٌ فَما قَامَ امرُؤٌ ... مِنْ عِندِهِ إلا يشقُّ ويَرفُسُ وأما الأبيات التي ذكرناها في ترجمة المأمون، فقليل لها أن تكتب بماء الذهب على صفحات الأحداق، وأن يحث في طلبها كوم النياق، وهي هذه الأبيات: (¬1) [من الخفيف] أيُّها الجاهِلُ المُفَكِّرُ في الشَّمـ ... ـسِ المُعنَّى بها اعتنَاءَ المجُوسِ تارِكًا خُطَّة المسِيرِ من السَّبـ ... ـتِ يروم المسِير يوم الخَمِيسِ ما رأينَا النُّجومَ أغنَتْ عن المأ ... مُونِ في عِزِّ مُلكه المأسُوسِ خلَّفُوه بِعرصَتَيْ طرسُوس ... مثلما خلَّفُوا أبَاهُ بِطُوسِ * * * ¬

_ (¬1) نسب الأخيران منها في تاريخ الطبري 8/ 655، وتاريخ بغداد 10/ 192، وتاريخ دمشق 39/ 292 إلى أبي سعيد المخزومي. وهنا ينتهي تحقيق الأستاذ مهند خذها لهذا القسم، وقد راجعه له وقوّمه الأستاذان محمد بركات وعمار ريحاوي الذي حقق أيضًا القسم التالي إلى نهاية أخبار الأمم الماضية.

فصل في ذكر الأمم الماضية والقرون الخالية

فصل في ذِكر الأمم الماضية والقرون الخالية الأوَّل: في ذِكر الهِندِ وأنبائها وبُدوِّ ممالكها وآرائها (¬1) قال الجوهريُّ: هندٌ وسِندٌ: اسمُ بلادٍ، والنِّسبةُ إليها: هِنديٌّ وسِنديٌّ (¬2). وذكر العلماءُ بأخبار العالم أنَّ الهندَ في قديم الزَّمان كانت الفِرقةَ التي يُنسَبُ إليها الصَّلاحُ والحكمة والخَيْرُ، فاستَضْعَفَهمُ الناس لطيب بلادهم وسَعَتها، وكثرةِ المال فيها. وكان عندهم حكيمٌ قد فاق أهل عصره، يقال له: البرهمن (¬3)، من وَلَد إبراهيم على ما قيل، فنَصَّبوه ملِكًا لهم، وسمَّوه: السُّلطانَ الأعظم، والإمامَ المقدَّم -وبعضُهم يقول: هو آدم- وإليه تُنسب البراهمةُ، فقام بالأمر أحسنَ قيام، وقرَّب الحكماءَ والعلماءَ، وبنى الهياكلَ، والهيكل الأعظمَ، ورصَّعه بالجواهر المُشْرِقة، وصوَّر فيه الأفلاكَ والبروجَ الاثنَي عشر، والنُّجومَ الثابتةَ والسَّيَّارةَ، وبَيَّن في الصُّور كيفيَّة العالَم وتأثيراتِ النَّيِّرَيْنِ، وأشار إلى واجب الوجود، وقرَّر في أذهان الخواصِّ معرفته، وأن نُورَه فائضٌ على خَلْقه، وصنَّف كتابًا سماه: "سِند هِند"، وتفسيره: دهر الدُّهور، ومنه تَفرَّعت كتبُ الحِكْمِيَّات مثل: المِجِسْطِي (¬4) ونحوه، وعمل الزِّيجات، واستخرج الحروفَ التِّسعَةَ المحيطةَ بالحساب الهندي، وهو أولُ مَن أحدَث القَولَ بالأكرار (¬5) والأدوار، وأن الأعمار في أوّل البُدُوِّ تَطولُ لسَعَة الدائرة، وتَقصُر عند قِصَرِها. وتكلَّم على سير الشَّمس وأَوْجِها، وأنها تقطعُ الفَلَكَ في ستة وثلاثين ألف سنة، وتُقيم في كل برجٍ ثلاثة آلاف سنة، ومتى انتقلتْ إلى البُروج الجنوبية صار العامرُ ¬

_ (¬1) انظر تاريخ اليعقوبي 1/ 84، والملل والنحل 2/ 250، والبدء والتاريخ للمقدسي 4/ 9، وتحقيق ما للهند من مقولة 452 وما بعدها، ومروج الذهب 1/ 148 وما بعدها. (¬2) الصحاح (سند) (هند). (¬3) ضبطه الزبيدي في شرح القاموس (برن): بكسر الموحدة وفتح الراء وسكون الهاء وفتح الميم. وانظر تهذيب اللغة 6/ 537، والعين 4/ 130. (¬4) بكسر الميم والجيم وتخفيف الياء، انظر كشف الظنون 4/ 1594. (¬5) في النسخ: بالأكوار، والمثبت من مروج الذهب 1/ 152، 153.

فصل

خرابًا، والخرابُ عامرًا، وسَمَّى العالم في ابتداء كل ثمانية وسبعين (¬1) سنة: هازروان، وأَن العالم متى قطع هذه المدةَ عاد الكونُ والنَّسل. على حسب ما ذكرنا في الباب الماضي (¬2)، وله في هذا كلامٌ طويلٌ، فانقادت له الهند وأطاعتْه. وكان قد بنى بيتًا من ذَهَب يُجالس فيه الحكماءَ، فجمعهم يومًا وقال لهم: تعالَوْا ننظر في أمر هذا العالَم والسِّرِّ في إيجاده، وهل له غاية، وما وَجْهُ إعدامِنا بعد إيجادنا؟ فقال حكيم منهم: الواجبُ علينا أولًا أن نبتدئ بمعرفة نفوسِنا، التي هي أقربُ الأشياء إلينا منافعَ نعدُّها، فكيف بالمُبدِئ الأوّل؟ وقال آخر: لو تناهَتْ حكمةُ الخالق في أحد العقُول، كان نقصًا في الحكمة، ولكان الغرضُ غيرَ مُدرك، لأن البارئ تعالى لا بدايةَ له ولا نهاية. فقال البرهمن (¬3): ما أدري ما تقولون، غير أنا خرجنا إلى الدنيا مُضطرِّين، وعِشْنا فيها حائرين، ونخرجُ منها مُكرَهين، فأقَرُّوا له بالفضل. وأقام فيهم البرهمن ثلاثَ مئةٍ وستًّا وستين سنةً، ثم مات، وجَزِعت الهندُ عليه. وكان قد أوصى إلى ولده واسمُه: الباهبوذ. فصل فأقام فيهم على منهاج أبيه، وزاد في بناءِ الهياكل، وضاعف الإحسانَ إلى العلماء والحكماء، وزاد على أبيه بأن وَضَع أشياءَ منها: النَّرْدُ، وجُعِلت مثالًا للمكاسب، وأنها لا تُنالُ بالحِيل، وأن الرزق لا يَحصُل في هذه الدُّنيا بالحِذْقِ والاحتيال، بل بالأقدار، ورتَّب اثني عشرَ بيتًا بعدد الشُّهور، وجعل كِلابَه ثلاثين كلبًا بعدد أيام الشَّهر، وجعل الفُصوصَ مثالًا للقَدَرِ (¬4) وتقلُّبِه بأهل الدُّنيا، وأن الإنسان يُلْعبُ به، فيبلُغ بإسعادِ القَدر إياه ما يريد، وأن الحازمَ الفَطِنَ لا يَنتفع بحَزْمِه إذا لم يُساعده القَدرُ. ويقال: إن أَرْدَشير بن بابك أولُ مَن وضَع النرد، وليس كذلك، وإنما وضعَه ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 1/ 151: في كل سبعين ألف سنة. (¬2) انظر فصل البروج والشمس. (¬3) في مروج الذهب 1/ 156 أن الذي قال ذلك سابع الحكماء. (¬4) في مروج الذهب 1/ 158: ورأى تقلب الدنيا بأهلها وجعل بيوتها اثني عشر. . . وجعل كلابها ثلاثين كلبًا. . . وجعل الفصين مثالًا للقدر.

فصل

الباهبُوذ، ومضى عليه زمان فدَثَر، فجدَّدَه أَرْدَشير، فأُضيفَ إليه، فقيل: نَرْدَشير. وأولادُ البرهمن أشرافُ الهند وأكابرُهم، ولا يرون ذبحَ الحيوان، ومَن ذبح حيوانًا ذبحوه، ولو كان دجاجةً، وفي أعناق النِّساء منهم والرِّجال خيوطٌ صُفْرٌ، يُعرفون بها، مثلُ الغِيار (¬1). وأقام الباهبوذ فيهم مئةَ سنةٍ، ثم مات. فصل وملَّكوا بعده رجلًا يقال له: زامان (¬2)، فأقام فيهم مئةً وخمسين سنة على سيرة مَنْ تقدَّمَه، ثم مات. فصل فملَّكوا عليهم رجلًا اسمه: فور (¬3)، فقام بالمُلك أحسنَ قيام، ويقال: إنه الذي قتله الإسكندرُ اليوناني مبارزةً، وكان صاحبَ مدينة المانكير، وعاش مئةً وأربعين سنةً ولم يُجدّدْ شيئًا من الحكم. فصل فولَّوا بعده رجلًا يقال له: دَبْشَلم، وكان فاضلًا، وضع شيئين: أحدهما: كتاب "كليلة ودمنة" الذي نقله ابن المقفَّع من الهندية إلى العربية، وصنَّف سهل بن هارون للمأمون كتابًا على وَصْفِه وسماه: "ثُعْلَة وعُمرة" (¬4)، وهيهات، بينهما كما بين مصر والبصرة. والثاني: الشِّطْرَنج (¬5)، وحكم لها على النَّرد، وجعلها على وضع الحيوان ناطقٍ ¬

_ (¬1) الغيار بالكسر: علامة أهل الذمة كالزنار ونحوه، القاموس المحيط (غير). (¬2) في النسخ: رامان، والمثبت من المسعودي 1/ 158. (¬3) في النسخ: بود، والمثبت من تاريخ اليعقوبي 1/ 87، ومروج الذهب 1/ 158، وسيذكر المصنف في واقعات الاسكندر وقعة له مع ملك الصين واسمه بود. (¬4) انظر الفهرست ص 134. (¬5) ذكر اليعقوبي في تاريخه 1/ 90، والمسعودي في مروج الذهب 1/ 159 أن الذي صنع الشطرنج واخترعها الملك بلهيت الذي ملك بعد دبشلم.

فصل

وصامتٍ، ومثَّل الشاه بالرئيس الأعظم، وما يليه من القطع على المراتب، وأقام ذلك أمثلةً للأجرام العُلوية من السَّبعة والاثني عشر، وجعل كلَّ قطعةٍ منها لكوكب، وهي تتضاعفُ إلى ألوف ألوف على حساب الهند. وأقام دَبْشَلم في الملك مئةً وثمانين سنةً، ثم مات. فصل ومَلَك بعده كورش، فأحدث آراءً في الديانات، وعَدَل عن مذاهب البراهمة، وفي أيامه كان السِّنْدِباد، وله تصانيف -أعني السِّندباد- منها: كتاب "الوزراء السبعة"، وكتاب "معرفة العِلل والعلاجات"، و "أشكال الحشائش" وغيرها. وأقام كورش مئةً وعشرين سنةً، ثم مات. فصل وافترقت الهندُ، وتحزَّبت الأحزابُ، وانفرد كلُّ واحد بناحية، فكان مُلْك الهند على الاجتماع ثمان مئة ونيفًا وخَمْسين سنة، ولما افترقوا، أطاعوا ملكًا من ولد البرهمن يقال له: البلهري، صاحب مدينة المانكير (¬1)، وملوك الهند يصلون إليه، وتحت يده ملوك كثيرة، وكلُّهم مآلهم إلى ولد البرهمن لا ينتقل عنهم إلى غيرهم، وكذا بيوت الوزراء والكبراء والقضاة معروفة لا يتعدَّونَ إلى غيرها. والهندُ بلاد واسعة برًّا وبحرًا، والبحرُ أعظم، وهي من ناحية الشَّرق متصلةٌ بالصين والزابج (¬2) والمهرات والقِمار، وحدُّها من الغرب ما وراءَ النَّهر بأربعين يومًا. ولا يُملِّكون عليهم رجلًا حتى يَبلُغَ أربعين سنة، ويقولون: هي منتهى كمال العقل وقوّة النظر. ولا يَظهَرُ المَلِكُ للعوام إلا في وقت معلوم، ويكون ظهوره بسبب النظر في أمور ¬

_ (¬1) في النسخ: المناكير، والمثبت من مروج الذهب 1/ 162. (¬2) في النسخ والروض المعطار ص 266 ونزهة المشتاق 1/ 61: الرانج (بنون بعد الألف)، والمثبت من مروج الذهب 1/ 163، ومعجم البلدان 3/ 124. قال ياقوت: بعد الألف باء موحدة تفتح وتكسر وآخره جيم، جزيرة في أقصى بلاد الهند.

الرعية، ويقولون: نظرُ العوامِّ إلى الملك يَخرِقُ الهيبة، وفيه استخفافٌ بالمملكة. وآراءُ الهند تختلف: منهم مَن يقول بتناسُخ الأرواح، ومنهم طائفة لا يشربون الخَمْرَ ويقولون: إنه يُفسِدُ العقل، ومتى شَرِب عندهم ملكٌ خَلَعوه، ويقولون: هو حارس، فمتى فَقَد عقله انتبه اللصوص. واتفقوا على سَماع الملاهي، قالوا: لأنها تزيدُ في العقل. وإذا مات الملك جعلوه على عَجَلةٍ وتحتها بَكَرة، وشَعرُه ينجرُّ على الأرض، وامرأة بيدها مِكنَسة تحثو التراب على رأسه، وهم يَجُرُّونه، والمرأة تقول: أيها الناس، هذا ملككم بالأمس، وقد جرى فيكم حكمُه، وقد صار إلى ما ترون من فِراق الدنيا، فلا تَغتَرُّوا بها. ثم يُطافُ به في شوارع البلد، ويُطلى بالكافور والطِّيب، ويجمعون بين يديه الملاهي، وخواصُّه وأهلُه مُحدِقُون به، ويأتون به إلى الهيكل الأعظم عندهم، وفيه هُوَّةٌ عظيمة فيها نار، يَزعُمون أنَّها نار الخليل عليه السلام، تُوقَد دائمًا بخشب الزيتون لا تَفْتُر، وعليها الكراسي تحت المَوابِذَة: وهم العلماءُ، ومُوبَذ مُوبَذان -وهو عالمُ العلماء عندهم- جالسٌ على كرسي من ذهب- والهند يَعبُدون هذه النار- فإذا جاؤوا بالملك قام المُوبَذ والمَوابِذة، ويأتون بالملك إلى بين يديه، فَيُزمْزِمُ عليه ساعةً (¬1)، ثم يأمر بارتفاع أصوات الملاهي جُملةً، ثم يُقذَف بالملك في النار، فيشير المُوبَذ إلى خواصِّه وأهله فيتهافَتُون في النار على حسب منازلهم عند الملك. وقال ابن المقفَّع: الهند يُعذِّبون أنفسَهم بأنواع العذاب، يتقرَّبون بأرواحهم إلى بارئهم. قلت: وقد حكى لي جماعةٌ من التُّجار الذين يَدخُلون الهند، أنهم شاهدوا الملوك وقد فَعلوا بهم ما ذكرنا. وحكى لي جماعة أن ببلاد المانكير جبلًا شامخًا، وله جانب أملسُ من أعلاه إلى الأرض على أسلوب واحد، وفي وسطه شجرةٌ ناتِئة شاهقةٌ كثيرةُ الأغصان قد ألبسوها الأسنَّةَ، ولهم عيدٌ في السنة يجتمعون فيه على رأس الجبل، ومعهم الملاهي والطبول ¬

_ (¬1) يصوّت بصوت مبهم يديره في خيشومه وحلقه لا يحرك فيه لسانًا ولا شفة. المعجم الوسيط.

فصل

والبُوقات، فيضربون بها، وتجتمع الشباب وأولو البأس والقوة فيرقصون، ثم يتهافتون من أعلى الجبل إلى الشجرة، فتَلَقَّاهُم الأَسنَّةُ، منهم مَن يَدخُل السِّنانُ في جنبه فيخرج من الجنب الآخر، وتارةً يقع في عينه أو في بطنه، فإن مات وإلا بقي على حاله معلَّقًا حتى يموتَ ويَبْلَى ويتقطَّع ولا يدفنوه. وحكى شيخٌ من أهل بغداد قال: خرجتُ وأنا يومئذٍ ببعض بلاد الهند إلى ظاهر البلد، أتنزَّه بين البساتين؛ وإذا بشابٍّ قد رَبَط عجوزًا إلى شجرة، وجمع لها حطبًا، فقلتُ: مَن هذه منك؟ قال: أُمِّي. قلت: وما تصنعُ بها؟ قال: أحرقها. قلت: ولمَ؟ قال: قد ضَجِرتُ منها، وأريد أن أقرِّبَها. قال: فقلت لها: أَوَ تُحبِّين هذا؟ قالت: نعم، أمضي إلى هناك، وأشارت إلى السماء، فأَحْرَقَها. قلت: فانظُروا إلى هذه العقول التي كادها بارئها، فكيف تتعبَّدُ بإتلاف النفوس التي يُستَدلُّ بها على صنعة مُنشئها؟ ! وأين هذا من الحِكَم التي يَمنُون بها على جميع الأمم؟ فسبحان مَن أظهر فيهم أسرارَ حكمته، وعجائبَ قُدرته، وكم لهم من مَثَلٍ سائر، ولفظٍ أحسنَ من اللآلئ والجواهر! فنذكر طرفًا من ذلك. فصل ذكر العلماءُ بأخبار العالم فنونًا من كلامهم وأخبارًا من (¬1) أيامهم فمنه قول وزير البرهمن: الملكُ العاقل يزدادُ برأي الوزير الحازم زيادة البحر بموادّه من الأنهار، ويَنالُ بالحَزْمِ ما لا ينال بالقُوَّة والاستظهار، وقال: المستشيرُ وإن كان أفضلَ من المُشير، فإنه يَزدادُ برأيه رأيًا، كما تزدادُ النارُ بالسَّليط (¬2) ضياءً. وقال حكيم آخر: إذا أحدَثَ لك العدوُّ صداقةً لعِلَّةٍ ألجأتْهُ إليك، فمع ذهاب العلَّة ترجِعُ العداوة، كالماءِ فإنك تُسَخِّنُه، فإذا أمسكتَ عنه رجع إلى الأصل باردًا. قلت: أخذه شاعر فقال: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) في (خ) و (ك): وأخبار أمر. (¬2) السليط: الزيت. (القاموس المحيط)، والقول في الأدب الصغير لابن المقفع ص 32 (رسائل البلغاء)، وعيون الأخبار 1/ 27، 28.

وكُلٌّ إلى طبعِه عائدٌ ... وإن صدَّه الصّدُّ عن قَصْدهِ كما الماء من بعد إسْخانِه ... يعودُ سريعًا إلى بَرْدِهِ وأحسنُ من هذا، قولُ بعض عوامِّ بغداد في كان وكان (¬1): الشوك لو سقيته يحمل ما ورد عرق ... ما يرجع إلا إلى أصله ويحمل الخرنوب وقال آخر: أجودُ الناس من جاد عن قلَّة. أخذه حمّاد عَجْرد فقال من أبيات: [من البسيط] بُثَّ النَّوالَ ولا يَمنَعْكَ قِلَّتُه ... فكلُّ ما سدَّ فَقْرًا فَهْو محمودُ إذا تكرَّمْتَ عن بَذْلِ القليل ولم ... تَقدِرْ على سَعَةٍ لم يَظهَرِ الجودُ إن الكريمَ لَيُخفي عنك عُسْرتَه ... حتى تَراه غنِيًّا وَهْوَ مَجْهودُ وللبخيلِ على أموالِه عِلَلٌ ... زُرْقُ العيونِ عليها أوجُهٌ سُودُ (¬2) وقال آخر: إنَّ ذا المروءة لَيكونُ خامِلَ الذِّكْر، فتأبى له مروءتُه إلا أن يَستَعليَ؛ كالشُّعلة من النار يصونُها صاحبها وهي تأبى إلا ارتفاعًا، وإن ذا الفضائل لا يَخْفَى فَضْلُه وإنْ أخفاه، كالمِسك يُخفيه صاحبُه فلا يمنَعُه ذلك أن يفوح ريحُه. وقال آخر: لا ينبغي للعاقل أن يُرى إلا في مكانين: إمّا معَ الملوك مكرَّمًا، وإما مع العُبَّاد مُتبتِّلًا (¬3). ومن أمثال الهند في الدُّنيا وآفاتِها، قالوا: مَثَلُ الإنسان المغرور بالدنيا، مثلُ رجل ألجأه الخوفُ إلى بئر، فتدلَّى فيها، وتعلَّق بغُصْنَيْن نابتَيْن على شفير البئر، فوقعَتْ رِجلاه على شيء، فنظر فإذا أربعُ حياتٍ قد أطلَعْنَ رؤوسهنَّ من حُجرتهنَّ، ونظر أسفلَ ¬

_ (¬1) في حاشية (ك): قول المصنف رحمه الله إن البيت من كان وكان أحسن من البيتين، يدل على عدم ذوقه وإنصافه، بل البيتين نادرين (كذا). اهـ قلت: وكان كان، نوع من الشعر الشعبي، شاع بين البغداديين في عصور متأخرة، وقد سمي بهذا الاسم لأن الشعراء كانوا يجعلون في شعرهم "كان وكان" للدلالة على أن ما يقولون هو روايات لا أصل لها، وقد تحلل ناظموه من بعض قواعد الإعراب وقيود القافية. معجم مصطلحات العروض والقافية ص 227. (¬2) الأبيات بترتيب آخر في الشعر والشعراء 2/ 779 - 780، وعيون الأخبار 3/ 178، وطبقات ابن المعتز ص 69 - 70، ووفيات الأعيان 2/ 213. (¬3) القول في يتيمة السلطان لابن المقفع ص 156 (رسائل البلغاء).

واقعة جرت بالهند

البئر، فإذا ثعبانٌ عظيم قد فَغَر فاهُ نحوه، فرفع عينْه إلى الغُصنين اللَّذين تعلَّق بهما، وإذا في أصلهما جُرْذانِ: أبيض وأسود؛ يَقرِضان الغصنَيْن دائبَيْن لا يَفتُران. فبينْما هو يُعمِلُ الحيلةَ، يتخلَّص مما وقع فيه، إذ حانَتْ منه التفاتةٌ، فإذا بنحلٍ قد عشَّش في جانب البئر، فمدَّ يده إلى عُشِّه، فأخذ من العسل، فلَعِقَه فوجده حُلْوًا، فشَغَله عن الفكر في أمره، والتماسِ النَّجاة لنفسه، ونَسي أنَّ رجليه على أربع حيَّاتٍ لا يَدري متى تُساوِرُهُ إحداهُنَّ، وأنَّ الجُرذين دائبان شي قَرْض الغُصنَيْن، وأنهما متى قَطَعا ذلك وقع في البئر، فالتقمه التِّنِّينُ. فلم يزل مشغولًا بلَعْق العسل حتى قَرَض الجُرذان أصل الغُصنَيْن، فسقط في البئر، فالتقمه التنّين. فالدنيا هي البئر، والغُصنان الأمل، والطمعُ هو العَسَل، والجُرذان: الأبيض النهار، والأسودُ الليل، يقرضان العمر لا يفتران، والحياتُ الأربع: الأخلاط التي بُني عليها الجسدُ: وهي: البَلغم، والمِرَّةُ الصَّفراء والسوداء، والدمُ، والتنِّينُ الذي في أسفل البئر مَلَكُ الموت، واليسير من العسل لذات الدنيا تُلهيه عن عاقبة ما يَؤولُ إليه أمرُه (¬1). واقعة جرت بالهند حكى العلماءُ بأخبار الأوائل أنه كان بالهند ملكُ المِهْراج، وكان عظيمًا يَركَبُ في ثلاث مئة ألفٍ، وكان مجاوره ملك القِمار، فحسد ملكُ القمار ملك المهراج، فقال لوزيره يومًا: في نفسي أمرٌ أحبُّ بلوغَه قبل موتي. فقال له الوزير: وما هو؟ قال: أرى رأسَ ملك المهراج في طَشْت بين يديَّ، فشَقَّ على الوزير وقال: أيُّها الملكُ، وما الذي بدا من ملك المهراج إلينا ما يَستوجبُ به ما خَطَر في نفسك؟ ! ووالله إنه نِعم الجار، وكان بين المملكتين مِقدارُ عشرين يومًا في البحر، وكان الوزيرُ صالحًا ناصحًا، فقال: أُعيذُك بالله أن يَخطُرَ هذا ببالك، فضلًا عن أن يَشِيعَ عنك. فغضب عليه، وتحدَّث مع غير الوزير بذلك. وبلغ ملكَ المهراج ما جرى لملك القمار مع وزيره، وكان ملكُ المهراج رجلًا ¬

_ (¬1) انظر يتيمة السلطان لابن المقفع ص 168 (رسائل البلغاء).

عاقلًا ثابتًا، فقال لوزيره: قد بدا من ملك القمار كذا وكذا، ولا ينبغي أن نسكت عن هذا الجاهل، بعد أن شاع عنه هذا، فإنه قَدْحٌ في المُلك. ثم تجهَّز وأظهر أنه يقصد بلدًا سمَّاه، وسار في ألوف مراكب، وطابت له الريحُ، فما شعر ملك القمار به إلا وقد بغته، فحاصره في بلده، وانهزم أصحابُه، فأخذه أسيرًا، وأحضره وأحضر الوزير، وقال للملك: ما الذي حملك على تمنِّي ما ليس في وُسعِك، ولا أوجبه سببٌ من الأسباب؟ فلم يُحِرْ جوابًا. فقال له ملك المهراج: أما إنك لو تَمنَّيت ما تمنيت من أن ترى رأسي بين يديك لتأخذ مُلكي، لاعتمدتُ ذلك فيك، ولكنك تمنَّيت شيئًا بعينه، فأنا فاعلُه بك وراجعٌ إلى بلادي من غير أن أمدَّ يدي إلى شيءٍ من بلادك، لتكونَ عِظَة لمَن بعدك، فلا يتجاوز قدره. ثم ضرب عنقه، وجعل رأسه في طَشْتٍ بين يديه، ثم أقبل على الوزير فقال: وأما أنت، فجُزيت خيرًا من وزيرٍ، فقد صَحَّ عندي أنك أشرت عليه بالرأي لو قبل منك، فانظر مَن يَصلحُ للملك بعد هذا الشقي فولِّه. ثم نزل من ساعته إلى المراكب، وسار إلى بلاده، ولم يَمَسَّ شيئًا من المملكة لا هو ولا أصحابُه. ولما عاد إلى بلاده جلس على سريره، ووضع رأس ملك القمار بين يديه في طشتٍ، وجمع أرباب دولته وخواصَّه، وعرَّفهم بالقصَّة، فعَظُم في عيونهم ودعوا له. ثم ردَّ الرأسَ إلى القمار، وكتب معه: رُدُّوا رأسَ صاحبكم إلى جسده، فإنَّ الذي حملَنا على ما فعلنا به بَغيُه علينا، فأدَّبْنا أمثالَه، وبلَغْنا فيه ما رامه فينا من غير سببٍ نستحقُّ به إلا حُسنَ جواره، ورأينا ردَّ رأسه إلى جسده، إذ لا فخر لنا في تركه عندنا. وبلغ ملوكَ الصين ما فعل، فصاروا كل يوم عند طلوع الشمس يسجدون نحو المهراج تعظيمًا له (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 1/ 175 أن الذي فعل ذلك هم ملوك القمار لا ملوك الصين.

فصل في ذكر ملوك الصين في سالف الدهر والحين

فصل في ذكر ملوك الصّين في سالف الدَّهر والحين (¬1) قال الجوهريُّ: والصِّينُ بلدٌ، والصَّواني: الأواني، منسوباتٌ إليه (¬2). وقال غيره: اسم رجل (¬3). وقال علماء السير: لما قسم فالغُ بن غابر بن أرْفخْشَذ بن سام بن نوح عليه السلام الأرضَ بين ولد نوح، نزل أولادُ عابورا -وقيل: عامورا بن سويل (¬4) بن يافث بن نوح، وقيل: عامورا بن يافث- عن يسار المشرق ويمينه، وانتشروا في تلك النواحي، ووصلوا إلى جبل القبق (¬5)، وانقسموا عدّة ممالك، منهم التّرك -قال الجوهري: وهم جيلٌ من الناس (¬6) - فنزلوا براري عن يمين المشرق، وامتدُّوا إلى الشمال، وكان مَلِكُهم في ذلك الزمان يقال له: زنجان، ثم صار اليوم خاقان، ومنهم: أفراسياب التركي المتغلِّب على أرض فارس، وكلُّهم من ولد عامورا. ثم من أولاد عامورا: الدَّيلم، والأكراد، واللان، والخَزَر، وأهل مملكة السّرير، وكذا النازلون على بحر الخَزَر والبُوْغَز والصُّغْد والأُشْروْسَنَة، وهم بين بُخارى وسَمَرْقَنْد والجبل، ويسكنون جِيلان، وليس فيهم أقوى شوكةً من الترك. وسار مع أولاد عامورا طائفةٌ، فنزلوا في تخوم الهند وبلاد التُّبَّت، وبَنَوْا للملك مدينةً عظيمة وسمَّوها أنموا، وبينها وبين البحر الشرقي -وهو بحر الصين- ثلاثةُ أشهر عمائر متصلة، ومصَّروا الأمصار، وعَمَروا المدن. وأولُ ملوك بني عامورا: انسطوناس بن باعورا بن بريح (¬7) بن عامورا بن سويل بن ¬

_ (¬1) انظر تاريخ اليعقوبي 1/ 180، ومروج الذهب 1/ 286، والبدء والتاريخ 4/ 19، ومعجم البلدان 3/ 440 (الصين)، وآثار البلاد للقزويني ص 53، والروض المعطار ص 370. (¬2) الصحاح (صين). (¬3) انظر تاريخ اليعقوب ومعجم البلدان، فقد نسبه ياقوت إلى الزجاجي. (¬4) في مروج الذهب 1/ 286: سوبيل. (¬5) في النسخ: الفتح، والمثبت من مروج الذهب 1/ 287، وضبطه ياقوت في معجم البلدان 4/ 306 (قبق) بفتح أوله وسكون ثانيه وآخره أيضًا قاف. (¬6) الصحاح (ترك). (¬7) في مروج الذهب 1/ 290: نسطرطاس بن باعور بن مدتج.

يافث بن نوح، أقام بأنموا حاكمًا عليهم نيفًا وثلاث مئة سنة ثم مات. وملك بعدَه ابنُه غرون (¬1)، فجعل جسد أبيه في تمثال من الذهب، وتركه على سرير من الذهب مُرصَّع بالجواهر، وكان يجلس دون مجلس أبيه، وأقام يسجُد للتمثال هو وأهلُ مملكته خمسين ومئتي سنة، ثم مات. فملك بعده ولده عيثرون (¬2)، ففعل بأبيه ما فعل أبوه بجدِّه، وأقام مئتي سنة، ثم مات. وملك بعده ولده عيتبان (¬3)، ففعل بأبيه كذلك، وأقام ملكًا أربع مئة سنة، ثم مات. فملك بعده ولده خرابان (¬4)، ويقال: إنه أول مَن عَمِل المراكب بالصين وبعث بها إلى الأمصار، وجلب إليه التجارُ الأمتعةَ من الدنيا، وملك مئتي سنة، ثم مات. فملك بعده ولده يونان (¬5)، فبنى هيكلًا عظيمًا ورصَّعَه بالجواهر، وبنى فيه بيوتَ العبادات، ونقل أجسام آبائه وأجداده إليه، وجعلهم في قُبَّةٍ لها طاقات، وأمر بتعظيمها، وجمع خواصَّ مملكته، وقال: الرأي أن نجمع الناس على مِلَّةٍ وديانةٍ يرجعون إليها، فإن الملك متى عَدِم شريعة (¬6) دخل عليه الخلل، ولم يأمَنِ العِثارَ. فرتَّب لهم شريعةً عقليةً، وفرض عليهم فرائضَ جعلها رِباطًا، ورتَّبَ المناكح، والقصاص في النفوس، على حسب ما وردت به الشرائعُ، وجَعل عليهم صلواتٍ مفروضةً لخالقهم في اليوم والليلة، وفيها ركوعٌ وسجودٌ يختصان بأزمنةٍ، وأوجب الحدَّ علي الزاني والزانية، وأقام للكواكب أبْخِرةً من العقاقير (¬7). وساس الناسَ سيرةً عادلةً، فأحبَّه الناس، واعتقدوا فيه. وعاش مئةً وخَمسين سنة ثم مات، فجَزِعُوا عليه جَزَعًا عظيمًا، وجعلوه في تابوت من الذهب ورصَّعوه بالجواهر ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 1/ 290: عوون، وفي تاريخ اليعقوبي 1/ 180: عرون. (¬2) في مروج الذهب 1/ 291: عيثدون. (¬3) في مروج الذهب 1/ 291: عيثنان، وفي تاريخ اليعقوبي 1/ 180: عينان. (¬4) في مروج الذهب 1/ 292: حراتان، وفي تاريخ اليعقوبي 1/ 181: خرابات. (¬5) في تاريخ اليعقوبي 1/ 181، ومروج الذهب 1/ 293: توتال. (¬6) في (خ) و (ك): شريعته، والمثبت من (ب) ومروج الذهب 1/ 295. (¬7) في مروج الذهب 1/ 296: وأمرهم بقرابين الهيكل، ودخن وأبخرة للكواكب، وجعل لكل كوكب منها وقتًا يتقرب إليه بدخن معلومة بأنواع الطيب والعقاقير محصورة.

واقعة جرت بالصين

النَّفيسة، وبَنَوا له هيكلًا عظيمًا على حِدَةٍ، وزيّنوه بأنواع اليواقيت، وبَنَوه على هيئة الكواكب السَّبعة، وجعلوا له عيدًا يجتمعون إليه فيه مثلَ يوم وفاتِه، وصَوَّروا صورتَه وما شرعه في لوحٍ من ذهب، وجعلوه في أعلى الهيكل، وكتبوا اسمه وما فعل على أبواب المدن والدنانير والدراهم والفلوس وذلك بمدينة أنموا. ولما مات اختلفت الآراءُ والنِّحل والممالك بعده، إلا أنهم مع اختلافهم لم يخرجوا عن قضية العقول في نَصْب القُضاة والعدل، والنظر في أمور الخواصِّ والعوام. فروي أن بعض التجار قصد بعض ملوكهم بهدية، فأخذها منه بعض الخدم، ودَفَع له ثمنًا بَخْسًا وظلمه، فأحضر الملكُ التاجرَ وسأله، فقال: إنما قَصَدْتُ بالهديَّةِ الملكَ، فقطع عليَّ الخادمُ الطريقَ وظلمني، فدعا بالخادم، وقال له: ويلَك، عَمَدْت إلى رجل قَصَدنا، وخاطر بنفسه يُؤمِّلُ فَضلَنا، ثقةً بكرمنا وعدلنا، يرجو إحساننا، ففعلتَ في حقِّه ما فعلتَ، فما الذي أمَّنَك أن ينصرف عنا فيسيء الأُحدوثة والسيرة؟ أما والله لولا سابقُ خِدمتك لنَكَّلْتُ بك، ولكن قد جَعلتُ عقوبتك ولايةَ قبور الموتى لما عَجزت عن سياسة الأحياء، ثم أعطى التاجر أضعافَ ما كان يظنُّ وقرَّبه (¬1). وأهلُ الصين قبائلُ وأفخاذ وشعوب مثل العرب، وَيعتنون بالأنساب، وربما انتسب الرجلُ منهم إلى خمسين أب حتى يصل إلى عامورا. واقعة جرت بالصين قال علماءُ السِّير: كان بالبصرة رجلٌ من ولد هبَّار بن الأسود، فلما دخل الزَّنْج البصرة، ركب البحر هاربًا منهم، فلم يزل ينتقلُ من بحر إلى بحر وبلدٍ إلى بلد حتى وصل إلى الصين، إلى مدينة يقال لها: خانقوا (¬2)، وبلغ الملكَ خبرُه، فاستدعاه، وقال: مَن أنت؟ قال: أنا رجل من العرب، من ولد صاحبٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال له: كيف قهرتِ العربُ العجمَ مع ضعفهم وقوة العجم؟ فقال: إنما قهروهم بالله تعالى. فقال: لقد غلبت العربُ على أجلِّ الممالك وأوسعِها، وأعقلها رجالًا وأبعدِها صيتًا. ¬

_ (¬1) ذكرها المسعودي في مروج الذهب 1/ 307 - 312 بأطول مما هنا. (¬2) في مروج الذهب 1/ 313: خانفوا، قال القلقشندي في صبح الأعشى 4/ 483: بخاء معجمة وألف ونون وقاف ثم واو، وهي مدينة على النهر.

ثم قال: ما منزلةُ الملوك عندكم؟ قلت: لا أدري. قال الملك: أما نحن فنعدُّ الملوك خمسة: فأوسعُهم ملكًا ملك العراق؛ لأنه وسط الدنيا والملوك به محدقة، وبعده ملِكُنا، وبعد ملكنا ملكُ السِّباع، وهو ملك الترك الذي يلينا وهم سباع الإنس، وبعده ملك الفِيَلة وهو ملك الهند والحكمة، وبعده ملك الروم، وهو ملك الرجال. ثم قال: أتعرف صاحبَك -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - إن رأيته؟ قال الرجل: فقلت: كيف ترينيه وهو عند الله تعالى؟ فقال: إنما أردتُ صورتَه. ثم أخرج لي دُرْجًا فيه صفةُ الأنبياء وعلى صورة كلّ نبيٍّ اسمُه، وإذا نوح عليه السلام في سفينة، فقلت: الحمد لله الذي أغرق أهل الأرض ونجاه، فضحك وقال: لا نعرف غرقَ الأرض، ولا وصل إلينا ولا إلى الهند والسِّند، ولا نقله إلينا أسلافُنا. قال: ورأيتُ موسى عليه السلام وبيده العصا، وعيسى عليه السلام على حمارٍ، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - (¬1) على جمل، وعند كلِّ نبيٍّ نسبُه وعمرُه وبلدُه وسيرتُه. ورأيتُ حول نبينا - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وفي أوساطهم حبال الليف، وقد علَّقوا فيها المساويك، وفي أرجلهم نِعالٌ من جلود الإبل، فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فلقد ملك نبيكم أجلَّ الممالك، غير أنه لم يُعاين ذلك، وإنما عاينه مَن بعده. ثم قال: ما تقولون في عُمر الدنيا؟ فقلت: قد اختلف الناس في ذلك، فمن قائل: سبعة آلاف سنة، وقائل: ستة آلاف. فقال: عمَّن تنقل هذا، عن نبيك؟ فغلطت وقلت: نعم. فضحك ضحكًا عاليًا، وضحك وزيرُه أيضًا، وقال: ما أحسب نبيَّكم قال هذا، قلت: بلى، فرأيت أثر الكآبة على وجهه، وقال: ميِّز كلامك، فإن الملوك لا يُخاطَبون إلا عن تحقيق، وما تقولُه الأنبياء فمُسلَّم لهم لا يُختَلَف فيه، وهذا مُختلَف فيه، فإياك أن تحكيَ عن نبيِّك مثلَ هذا، فإنه لا يقوله. قلت: لله درُّ هذا الملك، ما كان أعقله وأبصره بحقائق الأشياء، فإنه لم يَثبُت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء، وقد ذكرناه في خطبة الكتاب (¬2)، وإنما الجاهل الذي هو من ولد هبَّار الذي عَرَّض نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - لمثل هذا، ولكن الله أنطق الملكَ بالحق، معجزةً لنبينا - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في (خ) زيادة: وزاده فضلًا وشرفًا إلى يوم القيامة. (¬2) في فصل انقضاء مدة العالم، وقد ذكر المسعودي 1/ 312 - 321 هذه القصة مطولة.

فصل في ذكر السريانيين والكلدانيين والحرانيين

فصل في ذكر السُّريانِييِّن والكَلْدانيين والحَرّانيين أول السُّريانيين آدمُ عليه السلام، حتى إنه قيل: لو تُرِك كلُّ مولود وطَبْعَه لتكلَّم بالسُّريانية. وامتدَّ الزمان عليهم، ولم يكن لهم بين آدمَ ونوحٍ مُلْكٌ، فلما كان الطُّوفان عاد مُلْكُهم بعده. فأولُ ملوكهم نبيط بن سور بن سام بن نوح، وهم النَّبَط، وقيل: أولُ ملوكهم سوشان (¬1) وكان جبارًا، ويقال: إنه أولُ مَن وضع التاج على رأسه، فأقام ستَّ عشرة سنة، ثم هلك، وكانت الرعية قد صرفت الهِمم إلى هلاكه. وكان مُلْكُ السُّريانيين ببابل، فوَلي منهم جماعةٌ دون المئة سنة، وآخِر مَن ملك منهم أَخوان، يقال لأحدهما: أزود، والآخر: خلنجاس، فأحسنا السيرة وتعاضدا. فحُكي أن أحدهما كان جالسًا ذات يوم في قصره، فنظر إلى أعلاه، فرأى طائرًا قد فَرَّخ هناك، وهو يَصيح وَيضرب بجناحيه، وإذا بحيَّة قد دبَّت تريد أن تأكل فِراخه، فرماها الملكُ بنُشَّابة فقتلها، وسَلِمت الفراخ. فلما كان بعد أيام جاء الطائر وفي منقاره حبة، وفي رجليه حبَّتان، فصَفَق بجناحيه وألقى الحبَّ بين يدي الملك، فتأمَّله وقال: لأمرٍ ما ألقى هذا الطائرُ الحبَّ، ولا شكَّ أنه قصدَ مكافأتَنا على ما فعلنا معه. ثم أخذه ولم يعرف أحدٌ في إقليمه ما هو، فقال له بعض الحكماء: أَودِعْه الأرض. فأودعه الأرض فنبت، وأقبل يلتفُّ، فحَصْرم وأعنب، ولم يتجاسروا أن يذوقوه خوفًا أن يكون سمًّا، فقال الحكيم: اعصروه، فعصروه، وأودع ماءَه الآنية، فهدر وقذف بالزَّبَد، وفاحت له ريحةٌ عطِرة، فأحضر الحكيم شيخًا كبيرًا، فسقاه منه قَدَحًا فتهلَّل وجهُه، ثم سقاه آخر فضحك، ثم سقاه آخر فصفّق وطرِب ورفع صوته يتغنَّى، فقال الحكيم (¬2): هذا شرابٌ يَذهب بالعقل، ألا ترون الشيخ كيف عاد إلى الصِّبا وقوَّة الشباب وسلطان الدم! ثم أفاق الشيح وقال: ما أرى هذا الطائر إلا أراد مكافأتكم بهذا ¬

_ (¬1) في تاريخ اليعقوبي 1/ 81، ومروج الذهب 2/ 78: شوسان. (¬2) في مروج الذهب 2/ 91 أن قائل هذا الكلام هو الملك.

وأما الكلدانيون

الشراب الشريف، لقد أذهب عني الهمومَ والأحزان. ثم أمر الملك بغَرْسِ الكروم بأرض بابل، وأكثروا منع العامَّة عنه. وقد جرت مثل هذه الواقعة لكسرى في الرَّيحان لما نذكر. وأما الكلدانيُّون (¬1) فهم ملوكُ بابل بعد النَّبَط، وأوَّلُهم نمرود بن كنعان، فإنه غَرَس الأشجار، ورتَّب العالَم، وأجرى الأنهار، وحفر نهر كُوثَى (¬2) بين قصر ابن هُبَيْرة وبغداد، وتوالت الممالكُ بعده إلى زمان سنحاريب، وآخرهم بُخْتُ نَصَّرُ، فيقال: إنهم ملكوا ألفَيْ سنة. وأما الحَرَّانيون فهم الصابئة، وكانوا يسكنون حَرّان يعبدون الكواكب، وكان لهم بِحَرَّان أربعة هياكل مدوَّرات الشكل؛ أحدهم: هيكل العقل الفعَّال، والثاني: هيكل السلسلة، والثالث: هيكل الصورة، والرابع: هيكل النفس، وكانت لهم الهياكل السبعة على النجوم السبعة، فهيكل القمر مثمَّن، وهيكل عُطارد والزُّهَرة مربَّعان، وكذا هيكل الشمس، وهيكل المشتري مُثلَّث، وهيكل المرِّيخ وزُحَل مُسدَّسان، وقيل: هيكل المريخ مستطيل. وكان على أبواب حران تماثيلُ وهياكل، منها على باب الرقَّة هيكل يقال له: مغلسا (¬3)، وكان لآزَر والدِ الخليل عليه السلام، لأنه كان يَعبُد الكواكب، وكان تحت مغلسا سراديبُ فيها تماثيلُ الأجسام العُلوية، ولها مَنافخ وبَرابخ (¬4) تَصفِر فيها السَّدَنةُ من وراء السُّترة، فتدخل الأصوات في المنافذ، فتظهرُ منها أصوات مُطرِبة يصيدون بها عقولَ الناس مثل الأُرْغُن الذي للرُّوم. ¬

_ (¬1) في النسخ: الكلدانيين، وانظر فيهم تاريخ اليعقوبي 1/ 82، ومروج الذهب 2/ 95. (¬2) ضبطه ياقوت في معجم البلدان 4/ 487 بالضم ثم السكون والثاء مثلثة وألف مقصورة تكتب بالياء لأنها رابعة الاسم. (¬3) في مروج الذهب 4/ 63 (وأكثر الكلام منه) مغليتيا. (¬4) البرابخ: منافذ المياه ومجاريه. القاموس المحيط (بربخ)، وفي مروج الذهب 4/ 64: فتجري الأصوات في تلك المنافخ والمخاريق والمنافذ إلى تلك الصور.

وأصل الصابئة: من صَبأ، إذا مال إلى ما يهواهُ. واختلف العلماء فيهم (¬1)، فقال مقاتل: هم صنفٌ من النصارى وافقوهم في بعض الأحكام وخالفوهم في البعض، وهو قولٌ عن الشافعي وأحمد. وقال ابن زيد: هم يعبدون الكواكب، ويقرؤون الزَّبور، والكواكبُ عندهم الآلهةُ المدبِّرات للعالَم. وقال عبيد بن عمير (¬2): كانوا فبانوا وذهبوا فلم يبقَ لهم عينٌ ولا أثرٌ. قلت: وليس كما ذكر، فإن الصابئةَ اليوم بأرض البطائح منهم خلق كثير، وهم الذين يُسَكِّرون الأنهار، ولا يُطلِعون أحدًا على مذاهبهم، فانتقلوا عن حَرَّانَ إلى العراق. وأما حكم مناكحتهم فعند أبي حنيفة: هم قومٌ يقرؤون الزَّبُور، ولا يعبدون الكواكب بل يُعظِّمونها، كما يعظِّم المسلمون الكعبةَ، ومخالفتُهم للنصارى في بعض الأحكام لا يُخرِجُهم من أن يكونوا من جُملتهم، كنصارى بني تَغلب، فإنهم يُخالفون النَّصارى في الخمور والخنازير، وهم من جملتهم، وإذا كان لهم كتاب، وهو الزَّبور فتجوز مناكحتهم كاليهود مع النصارى، إلا أنه يكره مناكحتُهم للخلاف. وعند أبي يوسف ومحمد: يعبدون النجوم، ويخالفون اليهود والنصارى في عقائدهم، فلا يكونون من جملتهم، وإذا كانوا يعبدون الكواكب فهم عبَّاد الأوثان، فلا يجوز مناكحتهم، واتفقوا على أنهم لو كانوا يعبدون الكواكبَ ولا كتاب لهم، أنه لا يجوز مناكحتُهم. وقال بعضُ المشايخ: لا خلافَ على حقيقة؛ لأنَّ أبا حنيفةَ أجاب في فِرقةٍ لها كتابٌ، وهما أجابا فيمن ليس له كتابٌ وهو يعبُد الكواكب، فحينئذٍ ليس بينهم خلاف، ¬

_ (¬1) انظر في ذلك تفسير الطبري 2/ 146 - 147، وزاد المسير 1/ 92، وتلبيس إبليس ص 73، وتفسير القرطبي 2/ 161 - 162 (طبعة الرسالة)، والرد على المنطقيين لابن تيمية 287، وأحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية 1/ 92، وتفسير ابن كثير (البقرة 62). (¬2) في (خ): بن عبيد، والمثبت من (ب).

فصل في ذكر الفرس الأول، وتنقل الأحوال بهم وتقلب الدول

وكذا حُكم حِلِّ ذبائحهم (¬1). وقيل: إن الصحيح أنهم لا كتابَ لهم، لأن الزَّبور إنما أُنزِلَ على داود، وليس فيه أحكام ولا حلال ولا حرام، بل كلُّه مواعظ، وقد ذكرناه (¬2) وليس في سيرة داود أنه بُعِث إليهم، ولا لهم ذِكْر. ولمّا ولي القاهرُ محمد بن أحمد المعتضد بَلَغه ما هم عليه، فاستفتى الفقهاءَ فيهم، فأفتَوْه بقتلهم (¬3)، وقالوا: لا كتابَ لهم ولا نبي، وهم يعبدون الكواكب، فنظر، فرآهم خلقًا كثيرًا، فبذلوا للقاهر مالًا فكَفَّ عنهم. وقيل: إنهم طائفةٌ من اليونان. وقال ابنُ الكلبي: الذي أظهر مذاهبهم رجل يقال له: يوداسف (¬4)، في زمان طهمورث، وكان من كلامه: إن معالي الأمور، والشَّرف الكامل، والصلاح الشامل، ومعدن الحياة الأبدية، في هذا السَّقف المرفوع، وإن الكواكب هي المدبِّرات والواردات والصادرات، وذكر كلامًا طويلًا. فصل في ذِكْر الفُرس الأُوَل، وتَنقُّل الأحوال بهم وتَقَلُّب الدول واختلفوا في فارس على أقوال (¬5): أحدها: أنه فارس بن سام بن نوح عليه السلام، والثاني: فارس بن ياسور (¬6) بن سام بن نوح، وأن نبيط وفارس كانا أخوين، وأبوهما ياسور بن سام، والثالث: أن فارس اسمُه أميم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، وأميم أولُ من حلَّ ببلاد فارس فنُسبت إليه، ذكر هذه الأقوال الثلاثة هشام بن محمد الكَلْبي. والرابع: أن فارسَ من ولد يوسف عليه السلام. ¬

_ (¬1) انظر في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد إضافة إلى المراجع السالفة: المبسوط للسرخسي 4/ 211. (¬2) انظر قصة داود. (¬3) ذكر القرطبي وابن القيم وابن كثير وتاج الدين السبكي في طبقات الشافعية 3/ 231 أن الذي أفتاه بذلك أبو سعيد الإصطخري. (¬4) في مروج الذهب 2/ 111: بوداسف، وثمة كلامه. (¬5) ذكر هذه الاختلافات المسعودي في مروج الذهب 2/ 138، وانظر صبح الأعشى 1/ 369. (¬6) في (ك): ياسر، وسقطت من (خ)، والمثبت من (ب) وهو موافق لما في مروج الذهب.

والخامس: أنه فارس بن هدرام بن أرفخشذ بن سام بن نوح، قاله السدي. والسادس: أنه من ولد لوط، قال عكرمة: وكان ابنَ بنته. والسابع: أنه فارس بن بَوَّان بن إيران بن سام بن نوح عليه السلام، وبَوَّان هو الذي يُنسَب إليه شِعْب بَوَّان بفارس، وهو أحد المتنزَّهات الموصوفة، حتى قيل: إنه أنزهُ من غُوطة دمشق. والثامن: أنه فارس بن كيومرت. والتاسع: أنه فارس بن إيران بن كيومرت نفسه. والعاشر: أنه من ولد منوشهر بن إيرج بن أفريدون بن وترك، ووترك (¬1) هو إسحاق على قول ابن الكلبي. وقد فخرت العربُ العاربة بفارسَ عدى قَحْطان، وكان جرير بن الخَطَفَى يفتخر، ويذكر أن المرس والروم من ولد إسحاق، وأن الأنبياء من نسله: [من الطويل] وأبناءُ إسحاق الليوثُ إذا ارتَدَوْا ... حمائلَ موتٍ لابسين السَّنَوَّرا (¬2) إذا افتخروا عَدُّوا الصبَهْبَذَ منهم ... وكسرى وعَدُّوا القَيْصَرَيْنِ وحميرَا (¬3) ومنهم لسليمان النبيّ الذي دعا ... فأُعطي تبياناً (¬4) ومُلْكاً مُقَدَّرا أبونا أبو إسحاقَ يجمع بيننا ... أبٌ كان مَهديًّا نبيًّا مُطهَّرا وَيجمعُنا والغُر (¬5) أبناء فارس ... أبٌ لا نُبالي بعده مَنْ تأخَّرا وقال آخر من ولد فارس، يفتخر بأن الذَّبيح إسحاق، وأن الفُرس من ولده: [من المنسرح] أيا بني هاجر أبانت لكم ... ما هذه الكبرياء والعَظَمهْ (¬6) ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 141: وبرك. (¬2) الأبيات من (ب) على تحريف فيها، والتصحيح من مروج الذهب 2/ 143 (وعنه ينقل)، وديوان جرير ص 472 (بشرح ابن حبيب). (¬3) في مروج الذهب والديوان: الهرمزان وقيصرا. (¬4) في مروج الذهب والديوان: بُنيانًا. (¬5) في (ب): ويجمعنا الغراء. (¬6) الأبيات من (ب) على تحريف فيها، والتصحيح من مروج الذهب 2/ 146.

ألم تكن في القديم أمُّكم ... لأمّنا سارة الجمال أَمَهْ والملكُ فينا والأنبياءُ لنا ... إن تُنكروا ذاك تُوجدوا ظَلَمَهْ وزعم مَن يحفظ أنسابَ الفُرس ويعتني بها أن ملوك فارس كانت تحجُّ البيت الحرام، تمسُّكاً بهدي أبيها إبراهيم عليه السلام، وأن آخر مَن حجَّ منهم ساسان بن بابك جدُّ أرْدَشير بن بابك، وهو أول ملوك الفُرس الثانية، وإنما سُمِّيت زمزم بذلك لأنه لما جاء وقف عليها وزمزم، قالوا للملك: زَمْزِمْ، فسُمِّيت بذلك لزمزمته، وأن ساسان هو الذي أهدى إلى الكعبة الغزالَيْن من الذهب والسيوف، فأخرجهما عبد المطلب (¬1). وأنكر العارفون بالأنساب هذا، وقالوا بأن فارس من ولد سام بن نوح، وبينه وبين إسحاق عليه السلام قُرونٌ كثيرة على ما ذكرنا، ولا يُلتَفت إلى قول جرير؛ لأن العصبية حملتْه على ذلك، ولا يَثبت أن الفُرس حكموا على البيت الحرام ولا حَجُّوه، وإن الغزالَيْن من دَفْنِ جُرْهُمٍ، وزمزم اسمٌ لها من زمان أمِّ إسماعيل، ولو كان من ولد إسحاق عليه السلام فلم عبدوا النيران وتمجَّسوا وكفروا؟ وإنما نزل فارس بتلك الأرض فنُسِبت إليه. قال ابن قتيبة: وكان يَنزل بعضهم ببَلْخ، وبعضهم ببابل (¬2). وقال ابن الكلبي: أول ملوك فارس كَيُومَرْت بالكاف، وقيل: جيُومَرْتِ بالجيم. وبعضهم يزعم أنه آدم نفسه، وبعضهم يقول: ابن آدم لصُلْبه من حوَّاء، وهو قول علماء الفُرس (¬3). وقال قوم: هو أول بني الفرس، وكان منفردًا عن العالم، ولم يكن في زمانه ظلمٌ ولا فساد، فكَثُر الظلم والفسادُ والبغي، فاجتمع حكماءُ زمانه وقالوا: إن صلاح هذا العالم في إقامة مَلِك يُورِد الأمور ويُصدِرها، كما أن صلاح الجسد بالقلب، وإن العالَم الصغير من جنس العالم الكبير، لا تستقيمُ أمورُه ولا تنتظم أحوالُه إلا برئيس ¬

_ (¬1) انظر مروج الذهب 2/ 148 - 150. (¬2) المعارف ص 652. (¬3) انظر تاريخ الطبري 1/ 146.

يُدبِّره على ما تقتضيه قضايا العقول. فصاروا إلى كيومرت وقالوا: أنت أفضلُنا وأشرفُنا، وبقية أبينا آدم، ولا بدَّ لنا من تقديمك علينا، وتفويض أمورنا إليك. فأخذ عليهم العهود والمواثيق على السمع والطاعة وتَرْكِ الخلاف عليه، فوضعوا التاجَ على رأسه، وهو أولُ مَن لبسه من ملوك الدنيا. ثم خطب بالسُّريانيّة -وهو أول مَن خطب- فقال كلامًا معناه بالعربية: نحمد الله على نعمه (¬1)، ونشكُره على أياديه، ونرغب إليه في مزيده، فإن بالشكر تدوم النعم، ونسأله المعونة على ما دفعنا إليه، وحسن الهدايةِ إلى العقل (¬2) الذي يجمع الشَّمل ويُصفّي العَيْشَ. وذكر كلاماً طويلاً. وهو أول مَن أمر بالسكون على الطعام لتأخُذَ الطبيعة بقِسْطها منه، فيَصلُح البدنُ بما يَرِدُ إليه من الغِذاء، وتسكن النفس عند ذلك. وقد اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا، فالفُرس تَزعُم أنه أول النَّسْل، وأنه عاش ألف سنة. ومنهم مَن يقول: إنه من نبات الأرض من الرِّيباس، وليس له أبٌ، وأنه حارب إبليس فقتله. ومنهم مَن يقول: هو جابر (¬3) بن يافث بن نوح، وكان ينزل جبل دُنْباوَنْد من بلاد طَبَرِسْتان، ثم عَظُم أمره، وكَثُر ولده، وملك الأقاليم كلها، وبنى المدن والحصون، واتَّخذ الخيول والسلاح، وتسمَّى بآدم، وقال: مَن سمَّاني بغيره قتلتُه، وتزوج ثلاثين امرأةً. وهو أبو الفُرسِ كلِّهم، وأما غير الفُرْس فإنهم يقولون: أقام ملكًا أربعين سنة، ومات (¬4). ¬

_ (¬1) في (ك): إنعامه. (¬2) في (ب) و (خ): الفعل، والمثبت من (ك) ومروج الذهب 2/ 108. (¬3) كذا في النسخ، وفي تاريخ الطبري 1/ 147: جامر، وفي نسخة منه، والمنتظم 1/ 218، والكامل لابن الأثير 1/ 46: حام. (¬4) مروج الذهب 2/ 110.

فصل

فصل ثم قام بعده أوشهنج -ويقال: هوشنك- وهو أخو كَيُومَرْت- وقيل: كيومرت، وقيل: جيومرت بالجيم- وبعضهم يقول: كيومرت جدّ أبيه، فنزل الهند. وهو أولُ مَن اتخذ الصوف والشعر وبنى سابور بفارس، واتخذ الخيل والبغال والحمير وكلاب الصيد والماشية، وكتب بالفارسية. وكان عبدًا صالحًا مطيعًا لله تعالى، يهرُبُ الشيطان منه إلى المفاوز والجبال هو وجنوده. فلما تُوفِّي فرح إبليس بموته، ودخل إبليس وجنوده مساكنَ بني آدم. وقد اختلفوا فيه، فقال الكلبي: هو ابنُ آدم لصُلبه، وقيل: ابن نوح، والأول أصح، ويقال: إنه مَهْلائيل، وقيل: هو الذي يُسمى فيشداذ، ومعناه: أول مَن حكم بالعدل؛ لأن "فاش" معناه: أول، و"داذ": عدل. والفرْس تزعم أنه ابنُ ابنِ جيومرت، وأن الله بعثه عذابًا ونقمةً على الشياطين، وأنه قهرَ إبليس وجنوده، وكتب عليهم كتابًا، وأخذ عليهم المواثيقَ أنهم لا يتعرضون للإنس (¬1)، وقد ذكرناه (¬2). وعاش أوشهنج في المُلك أربعين سنة ومات. فصل ثم ملك بعده ولده طهمورث، وقيل: هو ابن ابنه، قال ابن مسكويه: بينهما آباء كثيرة (¬3). ونزل طهمورث سابور (¬4)، وبعد مُضِيِّ سنةٍ من ملكه ظهرت الصابئة، وقد ذكرناه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 1/ 169. (¬2) في فصل إبليس وجنوده. (¬3) تجارب الأمم 1/ 6. (¬4) في النسخ: نيسابور، والمثبت من مروج الذهب 2/ 111، وتاريخ الطبري 1/ 172. (¬5) في فصل الحرانيين.

فصل

ثم مات طهمورت، واختلفوا في سنه قيل: إنه عاش مئة سنة، وذكر جدي في "أعمار الأعيان" (¬1) أنه عاش ألف سنة. فصل ثم ملك بعده أخوه جَمْ شِيد، وتفسيره: سيّد الشعاع، وكان ينزل بفارس، وقد ذكره أبو جعفر الطبري في "تاريخه" فقال: ملك الأقاليمَ كلَّها، وسُخِّر له مَن فيها من الجن والإنس، وجعل الناسَ أربع طبقات: مقاتلةً، وفقهاءَ، وخدمًا، وحَرَّاثين، ووكَّل الشياطين بقطع الصخور وأذَلَّهم. والفرس تزعُم أنه سليمان عليه السلام، وأمر بعمل عجلة من زجاج، فكان يَركب عليها، وتحملُه الشياطين في الهواء من دُنْباوَنْد إلى بابل في يومٍ واحدٍ، فاتّخِذَ ذلك اليوم نَيروزاً، وهو الذي قتله الضَّحَّاك ونشَره بالمِنشار على ما بيَّنا فيما تقدَّم (¬2). وهو أول مَن أحدث النَّيْروز، وأقام ست مئة سنة مطيعًا لله تعالى، ثم طغى وتجبَّر، وبغى وادَّعى الربوبية، فطلبه الضحاكُ فهرب من بين يديه مئة سنة، ثم ظَفِر به فنَشَره، وقيل: إنه مَلَك ألفَ سنة، وقيل: خمس مئة سنة (¬3). فصل ثم ملك بعده الضحاك بن الأهبوب، والعرب تَزعم أنه منها (¬4)، وقد ذكرناه في سيرة نوح، وأن أفريدون قتله وكابي، وأنه عاش ألف سنة (¬5)، وفيه يقول أبو نُواس: [من المنسرح] وكان منَّا الضَّحاكُ تَحذَرُه الـ. . . ـخابِلُ (¬6) والوحشُ في مسارِبِها ¬

_ (¬1) ص 128. (¬2) مرآة الزمان قصة سليمان وقصة الضحاك. (¬3) تاريخ الطبري 1/ 176 - 178 و 200 - 201، وانظر مروج الذهب 2/ 112 - 113، والبدء والتاريخ 3/ 140 - 141، وتجارب الأمم 1/ 6 - 7. (¬4) انظر المحبر ص 393. (¬5) انظر سيرة نوح عليه السلام في الجزء الأول. (¬6) في النسخ: الحامل، والتصحيح من تاريخ الطبري 1/ 194، وديوانه 2/ 2 (برواية حمزة)، وانظر مروج الذهب 2/ 114، والخابل: الجن.

فصل

فصل ثم ملك بعده أفريدون بن قَباذ بن جَمْ شِيد، وقيل: إنه التاسع من ولد جَمْ شيد، وكانت دار مُلكه بابل، ومَلَك خمس مئة سنة، وقسم الأرض بين ولده، وملك الأقاليم كلَّها، ورَدَّ جميع ما أخذ الضحاكُ من الغُصوب على أهله، وما لا وَجد له أهلًا وَقَفه على المساكين. وكان له ثلاثةُ أولادٍ قسم الدنيا بينهم، فوثب اثنان منهما على واحد، واسمُه إيرج، فقتلاه، وقد ذكرناه فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام (¬1)، وعاش أفريدون خمسَ مئة سنة. فصل ثم ملك بعده مِنُوجَهر -ويقال: مِنُوشَهر- بن إيرج الذي قتله أخواه، وهو ابن أفريدون، وكان ينزل ببابل، ويقال إن موسى ويوشع عليهما السلام كانا في زمانه، وجرت له وقائع مع عمَّيه اللذين قتلا أباه، وقيل (¬2): كان في آخر أيام الخليل عليه السلام. قال ابن مسكويه في "تجارب الأمم": نشأ لإيرج بن أفريدون ولدٌ يقال له: منوجهر، فغلب على مُلْك أبيه، وقاوم عمَّيه طوجا وأخاه سرما، ونشأ لطوج (¬3) ولدٌ، فنفى منوجهر عن بلاده، ثم أُدِيلَ منوجهر عليه فنفاه، وعاد إلى منوجهر ملكُ أبيه إيرج. وكان منوجهر عادلًا منصفًا محسنًا، وهو أولُ مَن حفر الخنادق، وجمع آلة الحرب، ووضع الدَّهْقَنة لكل قرية فجعل لها الدَّهاقين، وجعل لهم العبيد والخَوَل (¬4). وسار نحو التُّرك، وطلب دمَ جدِّه إيرج بن أفريدون -وقيل: إنه أبوه- فأدرك ثأْرَه، ثم عاد إلى العراق، وقيل: إنه قتل طوجًا وأخاه، وأقام واليًا مئة وعشرين سنة (¬5). ¬

_ (¬1) سلف في الجزء الأول، وانظر تاريخ الطبري 1/ 212 - 214، ومروج الذهب 2/ 116، والبدء والتاريخ 3/ 144 - 145، وتجارب الأمم 1/ 10. (¬2) في (ك): وقال ابن مسكويه، وليست في (خ)، والمثبت من (ب). (¬3) في النسخ: طوخا وأخاه شرما ونشأ لطوخ. (¬4) في تجارب الأمم 1/ 12: وجعل أهلها عبيدًا وخولًا. (¬5) تجارب الأمم 1/ 12، وانظر تاريخ الطبري 1/ 379، ومروج الذهب 5/ 117.

فصل

ومِنُوشَهر هو الذي خَطَب تلك الخُطبة الطويلة التي ذكرناها فيما تقدَّم، لمّا تغلَّبَ التركُ على البلاد (¬1). فصل وملك بعده أفَرْاسياب بن فارس من ولد أفريدون، ويقال له: التركي؛ لأنه أقام ببلد التُّرك فنُسِب إليها، لا أنه تركيٌّ. وذكره ابن مسكويه فقال: ثم نشأ أفراسياب بن ترك، وإليه تُنسب الترك من ولد طوج بن أفريدون، فحارب منوشهر، وحصره بَطبَرِسْتان، ثم إن منوشهر وأفراسياب اصطلحا وضربا بينهما حدًّا لا يجاوزه واحد منهما، وهو نهر بَلْخ، فلما مات منوشهر تغلَّبَ أفراسياب على بابل ومملكة فارس، وأقام بِمهْرِجان قَذَق، وعاث في الأرض ودَفَن القُنِيَّ، وغَوَّر المياه، فقَحِطَ الناسُ وأصابهم الجَهْد والبلاء (¬2)، وقد أشرنا إلى هذا فيما تقدم (¬3). فلما مضى من مُلكه اثنتا عشرة سنة، خرج عليه رجل من ولد منوشهر، واختلفوا في اسمه على أقوال، أحدها: زو بن (¬4) بهماسب، والثاني: زاب بن طهماسب، قاله هارون بن المأمون، والثالث: زوبا، والرابع: زاغ (¬5)، واتَّفقوا على أنه من ولد منوشهر. وقال هارون بن المأمون: لما مات منوشهر تَغلَّب أفراسياب على الفرس، وأخرب البلاد، وظلم وجار، فقَحِط الناس، فظهر زاب بن طهماسب، وكان منوشهر قد طرد أباه إلى بلاد الترك، فتزوج هناك امرأة فولدت له زاب بن طهماسب، فلما كبر زاب قتل جدَّه لأمه، وتبعه جنده، فسار نحو أفراسياب، فأخرجه عن بلاد فارس إلى الترك، ¬

_ (¬1) انظر فصل في افريدون. (¬2) تجارب الأمم 1/ 2 أو 17، وانظر تاريخ الطبري 1/ 380 و 453، ومروج الذهب 5/ 117 - 118. (¬3) انظر فصل في افريدون. (¬4) في النسخ: دو، والمثبت من تاريخ الطبري 1/ 453، ومروج الذهب 5/ 118، والبدء والتاريخ 3/ 147، وتجارب الأمم 1/ 18. (¬5) في تاربخ الطبري وتجارب الأمم: زو، زاب، زاغ، زاسب.

فصل

فكانت مدة افراسياب على بابل لما أخرجه عن بلاد فارس اثنتي عشرة سنةً. وملك زاب فأحسن السيرةَ، ووضع الخراج عن العراق سبع سنين، واستخرج النهر المعروف بالزاب من بلاد أرمينية، وقيل: إنما أخرج الأنهار الثلاثة: التراب الكبير والأوسط والصغير، وسماهم باسمه، وبنى على جانب النهر مدينة، وهي المسمَّاة بالعتيقة، وغرس حولها البساتين، وعدل وأحسن، فأخصبت البلاد، وكثرت الخيرات (¬1). وقيل: إن أفراسياب قتل الملك الذي يقال له: زو، وكان مقام زو ثلاث سنين، وأقام زاب في المُلك سبع سنين، ومات. فصل وخلف بعده ولدُه كَي قَباذ، وكان جبارًا، وله مع التّرك وقائعُ، وكان نازلًا على جانب نهر بَلْخ، يمنع التُّرك من الغارات على بلد فارس، وهو أولُ مَن أَخَذ العُشر من الغَلَّات، وكان له وزيرٌ من ولد أفريدون يقال له: كاشف، ويقال: إنهما شركاء في المُلْك، وأقام عشرَ سنين ثم مات (¬2). ويقال: إن كيقباذ ابنُ زو، وزو ابن زاب، ويقال: إن زو كان وزيرًا لزاب؛ ذكره ابن مسكويه، وملك ثلاث سنين (¬3). فصل ثم ملك بعد كي قباذ ولدُه كي كاووس، وقيل: كي قابوس بن قباذ، وكان يسكن بناحية بلخ، ووُلد له ولدٌ سماه سياووس أو سياخوس (¬4)، ولم يكن في عصره أجملَ ¬

_ (¬1) انظر الأخبار الطوال ص 10 - 11، وتاريخ الطبري 1/ 454 - 455، وتجارب الأمم 1/ 18. (¬2) ذكر الطبري في تاريخه 1/ 455، وابن مسكويه في تجارب الأمم 1/ 18 أن كرشاسب (أوكرساسف) كان وزيرًا لزو، وقيل: كانا مشتركين في الملك، والأول أصح، وذكر الطبري 1/ 456، والمطهر المقدسي في البدء والتاريخ 3/ 174 أن ملك كيقباذ كان مئة سنة. (¬3) الذي في تجارب الأمم 1/ 18 أن ملك زو كان ثلاث سنين، وأما ما سبق فلم أجده فيه، وانظر الحاشية السابقة. (¬4) في تاريخ الطبري 1/ 504، ومروج الذهب 5/ 118، وتجارب الأمم 1/ 20، والمنتظم 1/ 400: سياوخش لم يُرَ مثله في عصره جمالًا وتمام خلقه، وفي البدء والتاريخ 3/ 148: سياوش.

منه، فسلَّمه إلى إصبَهْبَذ سِجِسْتان، واسمُه: رستم بن كاشف الذي ذكرناه، وقيل: رستم بن ديسان، ويُعرف بالشديد، فحمله إلى سجستان، وتخيَّر له المراضع، ثم فُطِم، فأدَّبه أحسن تأديب، وعلَّمه الفروسية فبرع فيها، وقَدِم على أبيه فامتحنه فرآه كاملًا فأعجبه. وكان لكي قابوس امرأةٌ بارعة الجمال، وهي بنت أفراسياب ملك الترك، وقيل: بنت ملك اليمن، فهَوِيت سياووس وهَوِيها، ودَعَتْه إلى نفسها فامتنع احترامًا لأبيه، فقالت لأبيه: إنه تعرَّضَ لي، فأفسدت ما بينهما، فأعرض عنه. وفهم سياووس فسأل رستمًا أن يسأل أباه أن يُولِّيه حرب أفراسياب ليَبْعُد عن أبيه، فأجابه إلى ذلك، وأرسل معه جيشًا عظيمًا، فلما نزل بلاد أفراسياب صالحه بواسطة وزيره، وعاد عسكر [كي] قابوس إليه (¬1). وزوَّج أفراسياب سياووس ابنتَه، ويقال لها: شافرند (¬2)، فحبلت منه بولد سمّاه: كي خسرو. وأقام سياووس عند أفراسياب، فأحبَّه الناس ومالوا إليه، فدَسَّ إليه أفراسياب مَن قتله غِيلةً. وبلغ كي كاووس ما فعل أفراسياب بابنه، فدَسَّ إلى بلد الترك مَن حمل إليه زوجة ابنه سياووس وولده كي خسرو، ثم أرسل كي كاووس رستمًا إلى أفراسياب، وبعث معه طوس بن نوردان، وكان مَرزبانًا على رُبع العراق، فأوغلا في بلاد أفراسياب وقتلا، وقتل طوسٌ قاتلَ سياووس، وقتل رستم ولدين لأفراسياب، ويُقال لهما: سهرة وشهرة. ثم إن كي كاووس تجبَّر وطغى، وحَدَّث نفسه بصعود السَّماء، فعمِل النسور، ويقال: هو أحد النماردة، وبلغ إلى السحاب فسقط وكاد يهلك، واضطرب عليه مُلكُه. وكان باليمن يومئذٍ ملكٌ يقال له: ذو الأذعار بن أبرهةَ ذي المنار [ابن] الرائش، فغزاه كي كاووس فخرج إليه ذو الأذعار بجيوشه، والتقيا فظَفِر بكيكاووس، واستباح ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 1/ 506، وتجارب الأمم 1/ 21. (¬2) في تاريخ الطبري: وسفافريد.

فصل

عسكره، وألقاه في جُبٍّ، وأطبق عليه طبقًا من نحاس، ووَكَّل به خواصَّه، وبلغ رستمًا وهو بسِجِسْتان، فجيَّش الجيوش، وسار إلى اليمن، واجتمع إليه عسكرُ كي كاووس، فأَخرج كي كاووس من الجُبِّ وظَفِر باليمن وعاد إلى بابل. ويقال: إن رستمًا لما قصد اليمن خرج إليه ذو الأذعار بجيوشه، فخندق كلُّ واحدٍ منهما على عسكره، وطال الأمرُ بينهما، وخافا الهلاكَ على عسكريهما، فاصطلحا على تسليم كي كاووس إلى رستم، فسلَّمه إليه، وعاد به إلى بابل، فأعفاه كيكاووس لرستم من الخِدمة، وأقطعه سِجِسْتان وغيرها، وعَرَف له ما فعل معه. وقيل: إن كي كاووس أقام في الجُبِّ سبعَ سنين (¬1)، وفيه يقول أبو نُواس يفتخر باليمن على الفرس: [من المنسرح] وقاظَ كاووسُ في سلاسِلنا. . . سنينَ سبعًا وَفَتْ لحاسِبِها (¬2) ويقال: قابوس. وكان كي كاووس بين يوسف وأيوب، واختلفوا في مُدَّة مُلكِه على قولين: أحدهما: أربعون سنة، والثاني: مئة سنة. فصل وملك بعده ابنُ ابنِه كي خسرو بن سياووس، الذي أمه بنت أفراسْياب، وتَحيَّل جدُّه كيكاووس حتى حملها إليه إلى بابل، وقد ذكرناه. فجلس كي خسرو على السَّرير وعلى رأسه التَّاج، وسار يطلب ثأر أبيه من جدِّه لأمه افراسياب، وكتب إلى إصبَهْبَذ خُراسان واسمه جودر (¬3) يأمره بالتقدم إلى أفراسياب، فسار، ثم بعث طوس بن بوذران في ثلاثين ألفًا ومعه عم لكي خسرو يقال له: برزافره (¬4) بن كي كاووس، وكان سياووس بن كي كاووس قد تزوج في الترك امرأة، ¬

_ (¬1) جاء عقب هذا في (ب) غزو قابوس لملك اليمن شمر يرعش، ثم بيت أبي نواس وستأتي في (خ) و (ك) بعد ذكر زرادشت، وهناك موضعها. (¬2) ديوان أبي نواس 2/ 3، وانظر: تاريخ الطبري 1/ 504 - 509، وتجارب الأمم 1/ 20 - 22. (¬3) في تاريخ الطبري 1/ 509، وتجارب الأمم 1/ 23: جوذرز. (¬4) في النسخ: بزافرة، والمثبت من تاريخ الطبري وتجارب الأمم.

فصل

فولدت له ولدًا فسمَّاه فردوين، ووُلد قبل أن يُولد كيخسرو، وأم فردوين من بعض نساء الأتراك. وأوصى كي خسرو طوسًا ورستمًا أن لا يقتلا أخاه لأبيه فردوين، فلما التقى العسكران خرج فردوين يقاتل، فقتله طوس -وقيل: قُتِل في جملة الناس- وبلغ كي خسرو فحزِن على أخيه، وكتب إلى عمه برزافره أن يقيد طوسًا ويبعثَ به إليه، ففعل. وعبر كي خسرو النهر، وقسم عسكره قسمين من ناحيتين، ودخل إلى التُّرك، فلم يكن لأفراسياب به طاقة، فانهزم، وأكثرت الفرسُ القتلَ في الترك. قال ابن مسكويه: فلم يكن قط مثل ذلك، كان القتلى خمس مئة ألف وستين ألفًا على ما تَزعُم الفرس، والأسرى ثلاثين ألفًا، والغنائم لا تُحصى (¬1). وتَبع كي خسرو أفراسياب، فظفر به عند سيره، فأسره، ثم أحضر الملوك والموابِذةَ والعلماء وقال لهم: ما جزاءُ مَن استجار به خائف والتجأ إليه فعدا عليه فذبحه؟ فقالوا: يُفعَل به كما فَعل. فقال له: لم ذبحت أبي؟ فلم يكن لأفراسياب حجةٌ، فذبحه. وعاد إلى خراسان وقد صَفَت له الدنيا، فبنى مدينة بَلْخ وسمَّاها الحسناء (¬2)، وأقام بها. ولما استقامت له الدنيا تزهَّد وتنسَّك، وعَهِد إلى ولده لهراسب، فلما رأى ذلك أهلُ مملكته جزعوا لفقدِه، وتضرَّعوا إليه، فقال: قد أقمتُ لكم مَن ينظرُ في أموركم، وهو ولدي لهراسب. وقيل: إنه لم يكن ولدَه، وإنما كان صاحبَه خصيصًا به، وكان ملك كي خسرو ستين سنة، وخَفِي أمرُه. فصل ثم مَلَك بعده لهراسب، ويقال: إنه الذي كان بُختُ نَصَّر إصبَهْبَذَ عسكره، وفي أيامه فعل بخت نصر ببني إسرائيل ما فعل. قالوا: وفيه بُعْد، بينهما زمان طويل، ومَلك لهراسب عشرين ومئة سنة، ثم مات. ¬

_ (¬1) تجارب الأمم 1/ 24 - 25، وانظر تاريخ الطبري 1/ 512. (¬2) في تاريخ الطبري 1/ 538، ومروج الذهب 5/ 121، وتجارب الأمم 1/ 26 أن الذي بنى بلخ وسماها الحسناء لهراسب الذي ملك بعد كيخسرو.

فصل

فصل ثم ملك بعده بشتاسف بن لهراسب، فغزا بلاد الترك وأوغل فيها، ويقال: إن أباه لم يمت، وإنما عَهد إليه. ولما دخل بلاد الترك خلف أباه لهراسب ببلْخ في أثقاله، فجاء ابن أخي أفراسياب فقطع النهر وحاصر بَلْخًا، ولم يثبت له لهراسب، وكان قد كبر وأسنَّ فقتله ابن أخي أفراسياب، وأسر ابنتين كانتا لبستاسف، يقال لإحداهما: خُمانى، والأخرى: ياذفوه (¬1). وبلغ بشتاسف فعاد، وكان قد حبس ولده اسفنديار، فأطلقه وجَهّز معه الجيوش، فدخل بلاد الترك، وهزم ابن أخي أفراسياب، وقتل عسكره، وسبى، واستنقذ أختَيْه، وعاد إلى أبيه، فخاف منه أبوه، فأرسله إلى رستم وكان قد عصى عليه، فقتله رستم. وفي أيام بشتاسف رجع بنو إسرائيل إلى القدس، وعاش العُزير، فظهرت المجوسية على يد زَرَادُشْت المجوسي. فصل في ذِكره قال علماء السِّيَر: هو زَرادُشْت بن أسبيمان (¬2)، من ولد مِنُوجِهر، ادَّعى أنه نبيُّ المجوس، وظهر بأَذْرَبيجان، فكان يُخبر بالعجائب، فيقول: يموت فلانٌ في اليوم الفلاني، ويُولد فلان في الوقت الفلاني، وأشباه هذا. وقيل: كان ساحرًا. وجاءهم بكتاب سمّاه: "بستاه"، يدور على ستين حرفًا من حروف الهند، فيه الغرائبُ، حتى قيل: إنه يكتبُ في الرفوف، ويُجلَّد بجلد اثنتي عشرة ألف بقرةٍ (¬3). قلت: وهو قول بعيد. ولم تزل ملوك الفرس تُعظِّمُه وتعمل به، وتبني له الهياكلَ، حتى غزاهم الإسكندر اليونانيُّ فأحرق بعضَه، وبقي بعضُه في خزائن الهند. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 1/ 562: باذفراه. (¬2) في (خ) و (ك): أسمان، وفي (ب): أسمان، والمثبت من مروج الذهب 5/ 124، وعند الطبري 1/ 561: أسفيمان. (¬3) في تاريخ الطبري 1/ 561، وتجارب الأمم 1/ 30: فكُتب في جلد اثني عشرة ألف بقرة حفرًا في الجلود ونقشًا بالذهب. وانظر مروج الذهب 2/ 125.

ويقال: إن زرادُشْت كان خادمًا لبعض تلامذة العُزير إو إرميا، فسرق من علوم بني إسرائيل، فدعا عليه أستاذُه فبَرِصَ، ولحق بأَذْربيجان، ثم سار منها إلى بُشتاسف وهو ببَلْخ، فادَّعى النبوَّة وجاء بهذا الكتاب، وقال: أُوحي إليَّ به، فصدَّقه بشتاسف، وبنى له هيكلًا بإِصْطَخْرَ، ووكَّل به الموابِذة (¬1)، وألزم الخواصَّ والحكماء تعليمه، وخالف زرادُشت جماعةٌ، فقتلهم بشتاسف حتى أفنى خلقًا كثيرًا، فانقادوا له، وبنى له بيوتَ النِّيران. وقد ذكره الجاحظ فقال: كان زَرادُشْتُ يزعُم أن الوحي يَنزِلُ عليه على جبل سيلان أو جِيْلان، فدعا أهل تلك النواحي الباردة الذين لا يَعرِفون الحرَّ، وجعل الوعيد بتضاعُفِ البَرْد، وقال: لم أُبعث إلا إلى أهل الجبال فقط. وأباح الوضوءَ بأبوال الإبل، وأَباح غِشيان الأمهات والبنات والأخوات وذوات المحارم، وقال: أنتم أحقُّ بهِنَّ من غيركم. وعظَّم أمر النيران (¬2). وكان يقول: كان اللهُ ولا شيءَ معه، فطالَتْ وحدتُه ففكَّر، فتولَّد من فكره إبليس، فلما مَثَل بين يديه أراد قتله، فامتنع عليه، فوادعه إلى مُدَّةٍ، وسالَمه إلى غاية (¬3). وكانت نبوَّةُ زَرادُشْت على زَعْمه خمسًا وثلاثين سنة، وهلك وهو ابنُ سبع وسبعين سنة. وما زال كتابه يُعمَل به إلى زمان كِسرى أنوشِرْوانَ، فأبطل العملَ به، وأحرقه الإسكندرُ، وبَقِيَت منه سورةٌ، فلما ظهر أرْدَشير بن بابَك جمع الفرس على تلك السورة، ويقال لها: اسناجه (¬4)، الفرسُ إلى هلمَّ جرًا يعظِّمونها، وقيل: اسمها اسمار. ولما مات زرادُشت أقام لهم بشتاسف جاباس (¬5) من أهل أَذْرَبيجان، وهو أول مُوبِذ قام ديهم بعد زرادُشت. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 1/ 561، وتجارب الأمم 1/ 30: الهرابدة. (¬2) الحيوان 5/ 67 و 324 - 325، ونقله المصنف عن جده في المنتظم 1/ 413. (¬3) المنتظم 1/ 413، وانظر التنبيه والإشراف ص 97. (¬4) في مورج الذهب 2/ 125: اسنادا. (¬5) في مروج الذهب 2/ 127: خاناس، ومن قوله: وما زال كتابه. . . إلى: وهو أول موبذ قام فيهم بعد زرادشت؛ جاء في (ب) مؤخرًا بعد مدة ملك بشتاسف.

قلت: وقد كان للمجوس نبيٌّ وكتابٌ، إلا أنه لا يتحقَّقُ ذلك، فروى أبو زُرعة المقدسي أو الدمشقي: أن فروة بن نوفل قال بمحضر من الصحابة: علامَ تُؤخذ الجزية من المجوس وليسوا أهلَ كتاب؟ ! فقام إليه المستورد بن شداد فقال: يا عدوَّ الله، أتَردُّ على الخلفاء الراشدين؟ ! وذَهَب به إلى علي عليه السلام، وأخبره بما قال، فقال علي: أنا أعلمُ الناس بالمجوس، كان لهم علم يتعلَّمونه، وكتابٌ يدرسونه، وإن ملكهم سَكِر، فوقع على أمه أو ابنته، فاطلع عليه بعضُ أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يُقيمون عليه الحدَّ، فامتَنَع، وقال: هل تعلمون دِينًا خيرًا من دين آدم؟ قالوا: لا. فقال: قد كان يُزوِّج ابنه من ابنته. فاتَّبعوه - أو تابعوه - على ذلك، وقتلوا مَن خالفه، فأصبحوا وقد أسري بكتابهم، وذهب ذلك العلم الذي في صُدور الباقين (¬1). وقال ابن عباس: لما مات نبيُّهم كتب لهم إبليس المجوسية. قلت: وقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزية من مجوس هَجَرَ على يد العلاء بن الحضرمي، وكذا الخلفاءُ الراشدون بعده. وعامَّةُ العلماء على أنه لا يجوز للمسلم نكاحُ المجوسية، وقال أبو ثور: يجوز، قياسًا على أهل الكتاب، فإنه يُؤخذ منهم الجزية. ولعامة العلماء قوله عليه السلام: "سُنُّوا بهم سنةَ أهل الكتاب، غير آكِلي ذبائحهم، ولا ناكحي نسائهم" (¬2) , وقد بيَّنا أنهم ليسوا بأهل كتاب. قلت: وبشتاسف بن لُهراسف صاحب هذه الترجمة أقام في الملك مئة وعشرين سنة، ثم مات. وظاهر الروايات يدل على أن لُهراسب والد بشتاسف ولي بعد كي خسرو بن سياووس على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) القصة والقول في المنتظم 1/ 413 - 414، وانظر الخراج لأبي يوسف ص 130، والسنن الكبرى للبيهقي 9/ 188 - 189. (¬2) أخرجه أبو يوسف في الخراج ص 130، ومالك في الموطأ 1/ 278 من حديث عبد الرحمن بن عوف. قال ابن عبد البر في التمهيد 2/ 114: هذا حديث منقطع، وانظر الاستذكار 9/ 292، وسنن البيهقي 9/ 189 - 190، وفتح الباري 6/ 261.

فصل

وقال بعضهم: إنما ولي بعد كي خسور [كي] قابوس من ولد أفريدون، وتجبَّر وطغى، وسار إلى اليمن وبها ملك يقال له: شمريرعش، فخرج إليه [شمر]، فأسر كي قابوس وحبسه في أضيق الحبوس، فنظرت إليه ابنةٌ لشمر فهويته، واسمها: سعدى، وكانت تحسن إليه وإلى أصحابه سرًّا مدة أربع سنين، فسار إليه رستم من خراسان في أربعة آلاف سرية (¬1)، فلم يشعر به شمريرعش إلا وقد بغته، فقتله، واستنقذ كي قابوس وردَّه إلى مُلكه، فأخذ سعدى معه إلى بابل، وأحسن إليها، فهويت ولده سياووس فلم يطاوعها، فأغرت بينه وبين أبيه حتى كان من أمره مع أفراسياب ما ذكرناه، وتزويجه ابنته وقتله إياه، وقتل كي خُسرو أفراسياب بأبيه على ما ذكرناه. ويقال: إن رستمًا قتل سعدى. والرواية الأولى أشهر. وقيل: إن كي خسرو لم يكن له عقب، فعمد إلى لهراسب لأنه من بيت الملك. ويُروى أن كي خسرو غزا الشام والمغرب، وسبى امرأةً من بني إسرائيل اسمُها دنيا، فتزوجها، فيقال: إنها كانت سببًا لرجوع بني إسرائيل إلى القدس. فصل ولما مات بشتاسف مَلَك بعده ولدُه اسفنديار، ويقال: أردشير، ويقال: بَهْمَن، وهو جدُّ دارا الأكبر وأبوساسان، ومعنى بَهْمَن: الحسن. ويقال: إن بَهْمَن ابنُ اسفنديار بن بشتاسف، وكانت أمُّ بَهْمَن من بني إسرائيل ولدِ سليمان عليه السلام , وجرت له مع رستم حروب، وكان ملك بهمن عشرين ومئة سنة (¬2). وفي أيامه رُدَّ البيتُ المقدَّس إلى بني إسرائيل، وقيل: إنما رُدَّ في زمان كورش الفارسي نائب بَهْمَن بالعراق، وكان بَهْمَن ببلخٍ يومئذٍ، ويقال: إن دانيال الأصغر خالُ بَهْمَن. وملك يَهْمَن الأقاليم كلَّها. ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 5/ 119 وما بين معكوفين منه: أسرى رستم من سجستان سرية في أربعه آلاف. (¬2) في تاريخ الطبري 1/ 569 , ومروج الذهب 2/ 127, والتنبيه والإشراف ص 98, والبدء والتاريخ 3/ 150, والمنتظم 1/ 421 أن ملكه كان مئة واثنتي عشرة سنة، وقيل: ثمانين سنة.

وقال الجاحظ: كان بهمن يُدعى أردشير الطَّويل الباع، لأنه كان يتناول ما تمتدُّ إليه يده من الممالك، ويقال: إنه بنى الأُبُلَّة، ويقال: إنه جدُّ دارا الأكبر، وقيل: أبوه وأبو ساسان (¬1). وكانت لبهمن ابنةٌ يقال لها: خُمانى، حملت من أبيها بدارا الأكبر (¬2)، وكانت أديبةً عاقلةً، وكان ساسان قد ولده بهمن من امرأةٍ أخرى، فسألت خمانى أباها أن يَعقِد التاج على بطنها لدارا، ففعل، وكان ساسان يتوقَّع المُلك، ومات أبوه، ومال إليها أهلُ المملكة لإحسان أبيها إليهم فملَّكوها. فلما رأى ذلك ساسان تعبّد وتنسَّك، ولَحِق بجبال إصطَخْر، واتّخذ غُنَيْمَةً، وكان يتولَّاها بنفسه -وهذا هو ساسانُ الأكبر، أما ساسان الأصغر فهو أبو الفرس الثانية- ولما اتَّخذ الغُنَيمة استقبح الناسُ هذا، وقالوا: صار ساسانُ راعيًا. ثم وضعت خمانى بعد شهور من موت بهمن دارا بن بهمن، وكانت قد استولت على الممالك، وجَهَّزت الجيوش إلى الروم، فمنعَتْهم عن التطرف إلى بلاد فارس، وعاش الناس في أيامها. فلما وضعت دارا أَنِفت من إظهاره لاستقلالها بالملك، فجعلته في تابوتٍ، وجعلت معه جوهرًا نفيسًا، وألقتْه في نهرٍ من أنهار إصطخر، فساقه الماء إلى طاحونةٍ لرجل من أهل إصطخر، ففتح التابوت، فرآه ورأى ما معه فقال: لهذا شأنٌ. وكتم أمره، وربَّاه، وعلَّمه الفروسية. وظهر أمره للفرس، وبلغ أمَّه، فأحضرت الأساورة وأحضرتْه، واعترفت أنه ابنُها من بهمن، وحوَّلت التاج عن رأسها ووضعته على رأسه، وفوَّضت إليه أمرَ المُلك، وانتقلت خمانى إلى إصطخر، وبنت مدينةَ إصطخر، وأقامت ثلاثين سنةً عادلة محسنة عاقلة. ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في المنتظم 1/ 416 دون عزو للجاحظ، ولم نقف عليه في كتبه. (¬2) في هامش (ك) حاشية نصها: لعن الله المجوس، كيف تتحرك جوارحهم وشهواتهم على بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم، فهذا من فساد مركوز في جبلاتهم، لعنهم الله.

فصل

وقد قيل: إن خماني إنما حملت بساسان من بهمن، وأنه الذي ألقته في النهر، وليس بصحيح، والأول أصحّ. وتُوفِّيت خمانى بعد عمارة القُدس في زمان دانيال الأصغر بست وعشرين سنة (¬1). فصل ولما تُوفِّيت استقلَّ ابنُها دارا بالملك، فضبط الممالك، وأحسن السيرة، ونزل بابل، فكان مَن حوله من الملوك يُؤدُّون إليه الإتاوة، يعني الخراج. ووُلد له ولد فسمَّاه دارا الأصغر، وكان معجَبًا به، وبلغ من حبه إياه أنه سماه باسمه، وعهد إليه بعده. وملك دارا الأكبر اثنتي عشرة سنة، ومات. فصل فملَكَ بعده ولدُه دارا الأصغر، فأساء السيرة، وظلم الرعية، وتجبَّر وطغى وبغى، وقتل الأساورة. وكان سببُ فساد حاله أنه كان لأبيه دارا الأكبر وزيرٌ يقال له: رشين (¬2)، وكان عاقلًا، وكان لدارا غلامٌ قد رُبِّي معه اسمه. بيري، فجرى بين بيري وبين الوزير كلامٌ، فأساء أدبَه على الوزير، فأخبر الوزير دارا الأكبر بذلك، فسقى الغلام شربة فمات، فحقد دارا الأصغر على الوزير، فلما مات دارا الأكبر وولي دارا الأصغر قتل جماعة الوزير، واستوزر أخا الغلام بيري، ولم يكن أهلًا للوزارة، فأفسد عليه قلوبَ الناس، فاستوحشوا منه، ونفروا عنه، وكاتبوا الإسكندر الرومي، فسار إليه فقتله لما نذكر. واختلفوا في مدة ملك دارا الأصغر؛ فقيل: ملك أربع عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة، وقيل: ثلاثين سنة، وهو آخر ملوك الفرس الأُول. قلت: وقد اختلفوا في عددهم وسنينهم اختلافًا كبيرًا، أشار إليه الجاحظ، ومحمود بن الحسن الأصبهاني في "تاريخه"، وأبو معشر، والمسعودي. وقد ذكرت في ¬

_ (¬1) انظر الأخبار الطوال ص 27 - 28، وتاريخ الطبري 1/ 569 - 570، ومروج الذهب 2/ 127 - 129، والبدء والتاريخ 3/ 150 - 152، وتجارب الأمم 1/ 34، والمنتظم 1/ 421 - 422. (¬2) في تاريخ الطبري 1/ 572: رستين، وفي تجارب الأمم 1/ 35: رشتين.

كتابي هذا ما اشتهر من عدد ملوكهم، وسنينهم، وما قالوه. قال الجاحظ فيما حكاه: فعدَّة ملوك الفرس الأولى ستة عشر ملكًا وامرأة، ومدة ما ملكوا من السنين ثلاثة آلاف سنة وزيادة. وقد ذكرنا ذلك، فإن كان كيومرت عاش ألف سنة، وجم شيد ألف سنة، والضَّحاك ألف سنة، فيكون المبلغُ أكثر مما ذكر الجاحظ. وقد قسمهم محمود بن الحسن الأصبهاني في "تاريخه" أربع طبقات قال: الفيشدانية، والكيانية، والأشغانية، والساسانية. قال: فالفيشدانية عددهم تسعة ملوك، أولهم أوشهنج، ويلقب: فيشاد، وزمان ملكهم ألفان وأربع مئة وسبعون سنة. والطبقة الثانية: وهم الكيانية، وعددهم عشرة، وأولهم كي قباذ، وزمان ملكهم سبع مئة سنة. والطبقة الثالثة: وهم الأشغانية، وعددهم أحد عشر ملكًا، وزمان ملكهم ثلاث مئة وأربع وأربعون سنة، وأولهم أشك بن أشك. والطبقة الرابعة: الساسانية، وعدتهم أربع وعشرون ملكًا، وزمان ملكهم أربع مئة وتسع وسبعون سنةً، وأول ملوكهم أردشير بن بابك، وآخرهم يزدجرد بن شهريار المقتول في أيام عثمان بن عفان. قلت: وقد لحق الأصبهاني ما ذكر في كتابه وزيادة، لأنه قال: تواريخ الفرس مدخولةٌ غير صحيحة، لأنها نُقلت من لسان إلى لسان، ومن خط متشابه إلى مثله. قال: وقد لخّصت ما وقع لي من كتب ابن المقفع، ومحمد بن الجهم، وخزانة المأمون، وغير ذلك. وقد وهم؛ لأنه خلَط الفرس الأولى بالثانية، وجعل الجميع أربعًا وأربعين ملكًا , وعدد سنينهم -على ما قالوا- زيادة على أربعة آلاف سنة. وقال ابن الكلبي: ملوك الفوس ستون ملكًا. وقال السدي: ثمانون، وثلاث نسوةٍ. وسنذكر الفرس الثانية فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فصل في سيرة الإسكندر اليوناني وهو الثاني

فصل في سيرة الإسكندر اليوناني وهو الثاني واختلفوا في نسبه، قال الغزالي: إن الإسكندر الروميَّ هو الصَّعب بن جابر، وكان أبوه نسَّاجًا، واسم أمه هيلانة، وكان يتيمًا في حمير، سمعت أمُّه ببيت الصنائع في القُسطنطينية فحملتْه إليه، فشاهد صور الأشياء، فقالت له: اختر ما تريد، فوضع يده على تاج الملك، فنَهَتْه مرارًا فلم ينته، فنظر إليها يونان متولِّي بيت الصنائع، فقال لها: أنت هيلانة؟ قالت: نعم. قال: وهذا ابنُك الصعبُ بن جابر (¬1)؟ قالت: نعم. فأخذ عهده وذمامه أنه وذريته في أمانه، وقال له: أبشر، فأنت الملك الذي يسحب ذيلَه على أقطار الدنيا شرقًا وغربًا. فرجعت به أمه إلى بابل وكتمت أمره. فرأى في ثلاث ليالٍ ثلاثَ منامات: رأى في الأولى كأنه شرب مياه البحار كلَّها، وأكل طينها، ورأى في الثانية: كأنَّ الأرض صارت خُبزةً فأكلها، ورأى في الثالثة: كأنه رقي إلى السماء، فعد نجومها ورمى بها إلى الأرض، وركب الشمس، وسحب بناصيةِ القَمر. فاجتمع بالخضر فأخبره بما رأى، فبشّره بنَيْل الممالك، وقال له: استصحب نبيًا حكيمًا. قال المصنف رحمه الله: يا ليت شعري، من أين روى أبو حامد الغزالي هذه الروايات؟ ! وهل توجد في كتاب يُوثَق به من المنقولات؟ وهل قال قائل: إن الإسكندر الثاني اسمُه الصعبُ بن جابر؟ إنما هو الأول. وقوله: كان أبوه نسَّاجًا، وقد اتَّفق أرباب السِّير أنه ملك اليونان. وقوله: يتيمًا في حِمْير، وأين اليونان من حمير؟ ! وقوله: حملته أمّه إلى القُسطنطنية، وهل بُنيت إلا بعد رفع عيسى عليه السلام بمدة طويلة؟ ! وقوله: رأى الخضر، وأين هو من الخضر؟ ! بينهما زمانٌ طويل، وقوله: استصحب معك نبيًا، وهل كان اليونان يقرون بالنبوات؟ ! . وقد نسبه الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في "المنتظم" فقال: هو الإسكندر ابن فيلفوس بن مرطويس (¬2) بن هرمس بن هردس بن منظور (¬3) بن رومي بن لمكي (¬4) بن ¬

_ (¬1) في هامش (ك) حاشية: الصعب وجابر من أسماء العرب لا اليونان. (¬2) في (ب) برطويس، وفي الطبري 1/ 577، والمنتظم 1/ 424، والكامل 1/ 284: مطريوس. (¬3) في (ب) وتاريخ الطبري 1/ 577: ميطون. (¬4) في تاريخ الطبري 1/ 577 ليطي، وفي مروج الذهب 2/ 248: لبط، وفي المنتظم 1/ 425: يلظي.

قصته مع دارا

يونان بن ثوبة بن سرحون بن رومية بن بوبط بن زرمي بن الأصفر بن إيلنفز (¬1) بن العيص ابن إسحاق عليه السلام، وكان أبوه ملك اليونان. وقال علماءُ السير: وُلد الإسكندر لثلاثَ عشرة سنةً مضت من ملك الأراكنة، وسلَّمه أبوه إلى أرسطاطاليس الحكيم، وكان مقيمًا بمدينة اقمينية (¬2)، فأقام عنده خمسَ سنين يتعلَّم منه الحكمة والأدب، فنال منه ما لم ينلْه أحدٌ من تلامذته. ومرض أبوه فخاف على الملك، فاستردّه وعهد إليه ومات، فاستولى الإسكندر على الملك، وكانت الملوك تهابه. قصته مع دارا (¬3) كان أبوه ملكًا على بلاد اليونان، وتهابه الملوك إلا الفرس، فصالحه دارا بن دارا ملك فارس على أن يحمل إليه في كل سنة ألف بيضة من ذهب، في كل بيضةٍ مئة مثقال. فلما مات فيلفوس لم يَحمل إليه الإسكندرُ شيئًا، فكتب إليه دارا يهدِّده ويتوعَّدُه حيث أخّر الإتاوة، وبعث إليه بكرة وصولجان وخرقةٍ فيها سِمسم، وقال: أنت صبي، فالعب بهذه الكرة والصَّولجان، فإن أديت الإتاوة وإلا بعثت إليك بجنودٍ بعدد هذا السمسم، وأتيتُ بك في وثاقٍ. فكتب إليه الإسكندر: أما بعد، فقد تَيمَّنت بالكرة والصولجان، فإن الدنيا مثل الكرة وسألعب بها، وأضيف ملكك إلى ملكي، وأما السمسم فقد تَيَمَّنْتُ به لأنه بعيد عن الحَرافة (¬4) والمرارة، وأما الدجاجة التي كانت تبيض ذاك البيض فقد ذبحتُها وأكلتُ لحمها. فغضب دارا وسار إليه بجموعه، وسار إليه الإسكندر بجموعه، فالتقيا على نصيبين الجزيرة، وقيل: مما يلي الخزر من ناحية خراسان، والأول أصحُّ. فلما همَّ دارا باللقاء، بعث إليه الإسكندر يقول له: أيها الملك لا تفعل، فإن دماء ¬

_ (¬1) في المنتظم: زوفي بن الأصفر بن أليفز، وفي الطبري والكامل: رومي بن الأصفر بن أليفز. (¬2) في تاريخ الطبري 1/ 573، والكامل 1/ 382: مقدونية. (¬3) انظر تاريخ الطبري 1/ 573، والأخبار الطوال ص 29 - 32، ومروج الذهب 2/ 247، والبدء والتاريخ 3/ 152، وتجارب الأمم 1/ 35، والمنتظم 1/ 423. (¬4) الحَرافة: طعمٌ يُحرِق اللسان. "لسان العرب": (حرف).

ذكر حيلة دبرها الإسكندر

الملوك لا يجوز إراقتها، وهدم البيوت القديمة غير محمودٍ، والبغيُ مصرعه وخيم، والحرب غير مأمونة، وأصحابك قد مَلُّوك وكرهوك لسوء سيرتك، فارجع من حيث جئت، فإنك تَحمد قولي. فلم يلتفت دارا، وأقاما يتحاربان سنة، فمَلّا وكَلّا، والحرب بينهما سجال. ذكر حيلةٍ دبَّرها الإسكندر لما وقع الملَلُ من الفريقين برز منادي الإسكندر فقال: يا معاشر الفرس، علمتُم قديمًا [ما] كان من مكاتباتكم إلينا، وما كتبنا لكم من الأمانات، فمَن كان منكم مقيمًا على الوفاء فليتحوَّل إلينا، فله منا الوفاءُ بالعهد. فاتَّهمت الفرسُ بعضها بعضًا واضطربوا، فكان ذلك سببًا لخذلان دارا، ووَثب عليه رجلانِ في المعركة ممن أحسن إليهما من خلْفِه، فطعناه، فوقع. وكان الإسكندرُ قد نادى: مَن ظَفِر بدارا فلا يؤذِه، وجاء الرجلان إلى الإسكندر فقالا: قد قُتِل دارا. فجاء الإسكندر إليه ونَزَل عن فرسه ووجده بَعدُ حيًا، فقعد عند رأس دارا، وقال: والله ما هَمَمْتُ بقتلك، ولا سَرَّني ما أنت فيه، ولقد نَهيتُ عنه، ويعزّ عليَّ ما أصابك، ثم رَقَّ له وبكى عليه، وقال: سلني حاجةً، فقال: تقتلُ فلانًا وفلانًا اللذين قتلاني، فإني كنتُ محسنًا إليهما، وأن تتزوج ابنتي روشنك، فقال: سمعًا وطاعة. وأحضر الرجلين ومثَّل بهما، وقال: هذا جزاء مَن يتجرَّأ على مَلِكه. وتفرق مُلك فارس بقتل دارا، وكان مجتمعًا، واجتمع ملك اليونان والروم بالإسكندر، وكان متفرقًا. ثم سار الإسكندر إلى بابل، وجلس على سرير الملك، ثم قال: أدالنا اللهُ من دارا، ورزقَنا خلافَ ما كان يتوعَّدُنا به. ثم استولى على خزائنه وذخائره وسلاحه وجواهره، فلم يقدر على إحصائها، وتزوج ابنته روشنك، وبنى لها دارًا، وقيل: مدينة عند بابل، ولم يكن لها في زمانها نظير. وقيل: إن روشنك كانت زوجةَ دارا، ولم يكن في زمانها أجمل منها، فقيل له: ألا تتزوجها، فقال: أكره أن يُقال: غلب الإسكندر دارا، وغلبت عليه روشنك.

ذكر قصته مع بود ملك الصين

ولما استولى على مُلك فارس عرض جيشه فكان ألف ألف وأربع مئة ألف، وكان عسكرُ دارا ألف ألف، وعسكر الإسكندر أربع مئة ألف. وشرع فهَدم بيوت النِّيران، وقتل المَوابِذة، وأحرق كتبهم، وسار إلى الشرق فأوغل في الهند والصين، وفتح المدائن، ودانت له الملوك، وبنى مدينة أصبهان وهراة ومرو وسمرقند. ولما وصل إلى الهند خرج إليه ملكها في ألف فيل عليها المقاتلة، وفي خراطيمها السيوف، فلم تثبت لها خيل الإسكندر، فصنع فيلة من نحاس مجوَّفة، وربط خيله بينها حتى ألِفَتْها، وملأها نفطًا وكبريتًا، ثم ألبسها السلاح، وجرّها على العَجَل إلى ناحية العدو، وبينها الرجال، فلما نَشِبت الحرب أمر بإشعال النار في أجوافها، فلما أُشعِلت تنحَّت عنها الرجال، وغشيتها فيلة الهند، فضربتها بخراطيمها، فاحترقت وولَّت هاربةً، فكانت الدائرة على ملك الهند. ذكر قصته مع بود ملك الصين وهو صاحب مدينة المانكير، ولما نزل الإسكندر على المانكير خرج إليه الملك، وأرسل إليه يقول: علام تُفني العالم؟ ابرُزْ إليَّ، فإن قتلتني كنت الملك، وإن قتلتك فأنا الملك. فتيمَّن الإسكندرُ لكونه بدأ بنفسه في ذكر القتل، فبرز إليه، فتجاولا ساعةً، فقتله الإسكندر وأخذ بلاده. ذكر قصته مع كند (¬1) كان بأقصى الهند مَلِكٌ حكيمٌ عادل، صاحب سياسة، واسمه كند، أتت عليه سنون كثيرة. فكتب إليه الإسكندرُ يستدعيه ويتوعَّدُه إن تأخر عنه. فكتب إليه يتلطَّفُه ويعتذرُ إليه بِكبر السنّ ويقول: قد بعثت إليك بهدايا لم يقدر عليها أحد من الملوك، منها: فيلسوف يخبر بالمقصود قبل أن يُسأل عنه، وطبيب لا يُخاف معه إلا الداء المحتوم، وجارية لم تطلع الشمس على مثلها، وقَدَح إذا ملأتَه شرب منه جميعُ عسكرك لا ينقصُ منه شيء. ¬

_ (¬1) انظر مروج الذهب 2/ 260.

فلما وصلت الهدية إلى الإسكندر مع خواص الملك، أكرمهم وأحسن إليهم، وشاهد الجارية فحار في حُسنها، وأكرم الطبيب، وأنزل الفيلسوف قريبًا منه وامتحنه، فأرسل إليه قدحًا مملوءًا سمنًا لا يسع شيئًا آخر، فغرز الفيلسوف فيه إبرًا وردَّه، فأمر الإسكندر بسَبْك تلك الإبرِ كُرةً مدوَّرة متساويةَ الأجزاء، وردَّها إلى الفيلسوف، فأمر الفيلسوفُ بسَبْكها مرآةً صقيلةً وردَّها إلى الإسكندر، فأعادها إليه، فدعا الفيلسوفُ بطَشْت فتركها فيه، وأمر بصبِّ الماء عليها، ثم عَمِل منها مشربةً وجعلها في الماء فطَفَت، وأعادها إلى الإسكندر، فملأها ترابًا وردَّها إلى الفيلسوف، فلما رآها بكى وتغيَّرت أوصافُه، وردَّها، وجعل يبكي ويقول: ويحَكِ يا نفسُ، ما الذي قَذَف بك في هذه الظُّلمة؟ ألست إذا كنتِ تسرحين في النُّور، وتَمْرَحين في العلوِّ، ثم أُنزلت إلى العالم المظلم، عالم الكون والفساد، أين مصادرك الطيبة، ومواردك اللذيذة؟ حللتِ بين السِّباع الضَّارية، والأفاعي المهلكة، لا تشاهدين إلا غافلًا، ولا تُعاشرين إلا جاهلًا، وذكر كلامًا طويلًا. وبلغ الإسكندر، ففهم أنه أشار إلى نقل النفوس من العالم العلوي إلى العالم السفلي، فاستدعاه، فرآه حسن الصورة، مشوق اللون، فقال: ما معنى غرز الإبر في السَّمْن؟ فقال: فهمتُ من إرسال القدح أنك تقول: قد امتلأ قلبي بالحكمة كما مُلئ هذا القَدَحُ، فليس فيه مُستزاد، فأخبرتك أن حكمتي تزيد على حكمتك، وتدخل فيها دخول الإبر في السَّمن. قال: فلم عملت الإبر مرآةً؟ قال: لأني علمتُ أن قلبك قد قسا من سَفْك الدماء، وسياسة العالم، فأريتُك أفعالَك فيها. قال: فما الكرةُ؟ قال: الدنيا. قال: فما بالُ المشربة؟ قال: هي حبُّ الدنيا، تُشربُ ولا تُشْبعُ. قال: فلم طَفَت؟ قال: فلم يَطفو الأجل؟ قال: فما بالُ التراب؟ قال: فهمتُ أنك تقول: ما بقي غير النزول فيه، ومفارقة النفس الناطقة هذا الجسد، وذكر كلامًا طويلًا. فأعجب به الإسكندر، ودفع له أموالًا جليلة فلم يقبلها، وقال: لو أردت المال ما آثرتُ عليه العلم , ولست أَدخِل على علمي ما يُنافيه، وليس بعاقلٍ من خدم غير ذاته، واستعمل ما لا يصلح نفسه، والذي يصلحها صِقالُها بالحكمة، ورَدْعُها عن تناول

ذكر واقعة أخرى

اللذات، فإنها صَدؤها، ومن عدم النظر في العالم العُلوي عدم القُربة من بارئه. فقال له الإسكندر: لله دَرُّك. ولأحسننَّ إلى صاحبك لأجلك، ثم صرفه مكرمًا. ذكر واقعة أخرى لما توغَّل الإسكندرُ [في] بلاد الصين، بينا هو في بعض الليالي جالسًا نصف الليل إذ دخل الحاجب، فقال: رسولُ ملك الصين على الباب. فأَذِن له، فدخل فجلس، فقال له: قُل. فقال: الأمر الذي جئتُ فيه لا يحتمل الزِّحام، فأَخْلِني. ففتَّشوه، فلم يجدوا معه حديدًا، فأُخلي المجلس وبقي هو وإياه، فقال له: قل، فقال: أنا ملكُ الصين. قال: وما الذي آمنك مني؟ قال: ليس بيني وبينك عداوةٌ، ولا مطالبة بذَحْلٍ، وبلغني أنك رجل عاقل حكيم، ولو قتلتني لم تظفر بطائل، فإنهم يُقيمون غيري، وتُنسب إلى الغدر، فأخبرني ما الذي تريدُ مني؟ فقال: ارتفاع مُلكِك ثلاث سنين آجلًا، ونصف ارتفاعها في كل سنةٍ عاجلًا (¬1). فقال: لقد أجحَفْت. فما زال ينقصه حتى اقتصر على سدس المغل، ثم قام مسرعًا فخرج، وبات الإسكندر يفكر فيه. فلما طلع الصباح، وإذا بملك الصين قد خرج في جيشٍ طبَّق الأرض، وعليه تاجه، وبين يديه الأمم، فركب الإسكندر واستعدَّ للقتال، ثم ناداه: يا ملك الصين أغدرًا؟ فانفرد عن أصحابه، وقال: لا، ولكني أردتُ أن أعرِّفَك أنني لم أطعك عن ضعف وقلة، وما غاب عنك من جنودي أعظم، ولكن رأيت العالم الكبير مقبلًا عليك، ممكنك ممن هو أقوى منك وأكثر عددًا، ومَن حارب العالم الكبير غُلِب. ثم ترجَّل وقبَّل الأرض بين يدي الإسكندر، فنزل الإسكندرُ من فرسه، وأجلسه معه على سريره، وقال: ليس مثلُك مَن يُؤخَذ منه خراجٌ، وقد أعفيتُك، فما أحقَّك بالإنصاف والفضل، ولم تر عيني مثلَك. فقال الملكُ: أما إذا فعلت هذا، فلا بُدَّ من مجازاتك. ثم انصرف وبعث إلى الإسكندر بأضعاف ما كان قرّره عليه، وبعث إليه الإسكندر بمثل ذلك. ¬

_ (¬1) في تجارب الأمم 1/ 40، والمنتظم 1/ 426: ارتفاع مملكتك لثلاث سنين عاجلًا ونصف ارتفاع مملكتك لكل سنة.

ذكر وفاته وسنه

وحكي عنه أنه رأى رجلًا وكان يُسمَّى الإسكندر، وكان كثير الهزيمة، فقال له: إمّا أن تغير اسمَك، وإما أن تغيّر شعلَك. ذكر وفاته وسِنِّه مَلَك وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وتوفي وهو ابن إحدى وثلاثين سنة (¬1)، فكان مُلكُه عشر سنين، وقيل: ثلاثَ عشرةَ سنةً، وقيل: أربع عشرة سنةً أو ستَّ عشرة سنة، بمقدار مُلك دارا بن دارا الذي قتله الإسكندر، وكان قتلُه لدارا في السنة الثالثة من ملكه. وتُوفِّي بشَهْرَ زُور، وقيل: بنَصِيبينَ، وقيل: ببابل، والأول أصحُّ. وقال هارون بن المأمون: دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي، فسار فيها ثمانية عشرَ يومًا، ثم رجع إلى العراق، فاحتُضر، فأوصى أن يُحمل إلى أمه في تابوتٍ من ذهب، فطُلي بالأطلية المُمْسِكَة لذاته وأجزائه، وكانت أمه بالإسكندرية، وكتب إليها أيضًا كتابًا يعزيها بنفسه، فتلقته في نساء المملكة باكيةً حزينةً تقول: إن فقدتُ من ولدي أمره فما فقد قلبي ذكره. وقيل: إنه أوصى إلى أرسطاطاليس: أنه إذا مات يُجعل في تابوت من ذهب، ويتكلَّم الحكماء عليه، كما فُعل بذي القرنين. فتولاه أرسطاطاليس بنفسه، وجمع الحكماء وقال: ليتكلم كلُّ واحد منكم بكلام يكون للخاصة معزِّيًا، وللعامة واعظًا. فقاموا وأحدقوا بالتابوت، فقال الأول: أصبح مستأسرُ الأسرى أسيرًا (¬2). وقال الثاني: ما أزهد الناس في هذا الجسد، وأرغبهم في هذا التابوت. وقال الثالث: من العجب أن القوي قد غُلب، والضعفاءَ لاهون. وقال الرابع: أيها الساعي الحريصُ، جمعتَ ما خذلك عند الاحتياج إليه، فعاد مغناه لغيرك، ووبالُه عليك. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 1/ 578، ومروج الذهب 2/ 257، والتنبيه والإشراف ص 114، والمنتظم 1/ 428 أن عمره حين توفي كان ستًا وثلاثين سنة. (¬2) في مروج الذهب 2/ 252: أصبح آسر الأسرى أسيرًا.

فصل في ذكر أرسطاطاليس

وقال الخامس: رب حريصٍ على سكوتك [إذ لا تسكت]، وهو اليوم حريصٌ على كلامك [إذ لا تتكلم]. وقال السادس: يا عظيم الشأن، اضمحلَّ سلطانُك كما اضمحل ظلُّ السحاب، وعَفَت آثارُك كما عفت آثار السَّراب (¬1). وقال السابع: يا مَن ضاقت عليه الأرضُ، ليت شعري كيف حالُك فيما احتوى عليك منها. وقال الثامن: هذا الذي كانت الآذانُ تنصت لكلامه، قد سكت فلْيتكلَّم الآن كلُّ ساكتٍ. وقال التاسع: سيلحق بك مَن سرَّه موتُك، كما لحِقْتَ بمن سرَّك موتُه. وقال العاشر: كنتَ تأمرنا بالحركة، فما بالك ساكنًا. ولما مات الإسكندر عرضوا على ولده إسكندروس المُلك فامتنع، واختار النُّسُك والتعبُّد، فملَّكت اليونان عليها بطليموس. فصل في ذكر أرسطاطاليس اعلم أن أرسطاطاليس حكيمُ اليونان، ورئيسهم المطلق، وصاحب المنطِق، وكان يُؤدِّب الإسكندر في صغره، وكان الإسكندر يُعظِّمُه ويكاتبه ويشاوره، فكان بمنزلة الوزير عنده. وقيل للإسكندر: إنك تُعظِّم مؤدِّبَك أكثرَ من تعظيم والدك؟ فقال: لأن أبي كان سببًا لحياتي الفانية، ومؤدبي سببًا لحياتي الباقية. وقال مرة أخرى: أبي كان سببًا في رِقِّي، ومؤدبي سببًا في نُطقي (¬2). وجلس يومًا كاملًا لم يسأَلْه أحد حاجةً، فقال لجلسائه: ما أعد هذا اليومَ من عمري. قيل: ولم؟ قال: لأن الملك لا يَلتذُّ إلا بالجود على السائل وإغاثة الملهوف، ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 254 وما بين معكوفين منه: وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب. (¬2) الملل والنحل 2/ 137.

ومكافأةِ المُحسِن، وإنالةِ الراغب، وإسعافِ الطالب. وشاوره أصحابُه في السجود له، فقال: لا يستحق ذلك إلا البارئُ تعالى، لأنه كسانا بهجة الفضائل. وأغلظ له رجل، فقام بعضُ أصحابه إليه ليقتله، فقال له الإسكندر: لا تنحطَّ إلى دناءته، وارفعه إلى شرفك. وقال: من انتجعك فقد أسلَفَك حُسنَ الطْنِّ بك (¬1). وكتب إلى أرسطاطاليس: بم تأمرني؟ فكتب إليه: اجمع في سياستك بين بِدارٍ لا حِدَّة فيه، وريثٍ لا غفلة (¬2) معه، وامزج كل شيء بشكله، وصُنْ وعدك عن الخلف فإنه شَيْن، وشِبْ وعيدك (¬3) بتأخير العقوبة فإنه زَيْن، وكن عبد الحق فإن عبد الحق حرٌّ، وليكن خُلقك الإحسانَ إلى جميع الخلق، وأَطهر لأهلك أنك منهم، ولأصحابك أنك بهم، ولرعيتك أنك لهم. وكتب الإسكندر إليه يخبره أن في عسكره جماعةً لا يأمنهم على نفسه، لبُعْد هممهم وشجاعتهم وقلَّة عقولهم، ويكره أن يُقدم عليهم بالقتل على وجه الظِّنَّة، مع وجوب الحُرمة وسابق الخدمة، فكتب إليه أرسطاطاليس: أما ما ذكرتَ من بُعد هممهم، فإن الوفاءَ من بُعد الهمة. وأما ما ذكرتَ من شجاعتهم وقلة عقولهم، فإن كانت هذه الحالة فرفِّهْهُم في معيشتهم، وخُصَّهم بحسان النساء، فإن رفاهية العيش تُوهي العزم، وتُحبِّب السلامة، وتُباعد من ركوب الغرور، وأحسن خُلُقك تَخلُص لك النيّات، ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوساط رعيتك مثله، فليس مع الاستئثار محبة (¬4)، ولا مع المساواة بِغْضة. واعلم أن المملوك إذا اشتُرِي لا يَسأل عن مال من اشتراه، وإنما يَسأل عن خُلُق مولاه. وكتب إليه الإسكندر: إني أرى رجالًا ذوي أصالة في الرأي، وحُسنِ التَّدبير، ¬

_ (¬1) العقد الفريد 1/ 231. وانتجع فلانًا: أتاه يطلب معروفه. (¬2) في النسخ: عجلة، والمثبت من الملل والنحل 2/ 138. (¬3) في النسخ: وعدك، والمثبت من الملل والنحل 2/ 138 وما سبق من أخبار فيه. (¬4) في النسخ: صحبة، والمثبت من تجارب الأمم 1/ 38، والمنتظم 1/ 427.

واعتدال الخلق، ولهم مع ذلك صرامة وشجاعة، ولا آمنهم أن يَثِبوا عليَّ، ولا تستقيم الأمور إلا ببوارهم. فكتب إليه: أما بعد: فإنك إذا قتلتهم؛ أَنْبت إقليم بابل أمثالَهم، لأنه إنما يُنبت الرجالَ العقلاء، أهل الرأي والسداد، والاعتدال في التركيب، فصاروا أعداءً لك، وإخراجُهم من عسكرك مخاطرةٌ بنفسك وأصحابك، فافعل ما هو أنفع لك من قتلهم، استدع أولاد الملوك منهم؛ فقلِّدهم البلدان، وولّهم الولايات، ليصيرَ كلُّ واحد منهم ملكًا برأسه، فتتفرَّق أجسامهم، وتجتمع كلمتُهم على الطاعة. ففَعَل الإسكندرُ ذلك، فصَلَحت الأحوالُ (¬1). وكتب إليه: إنما تُملَك الرعايا بالإحسان إليها، فأحسن تظفرْ بالمحبة منها، واعلم أنك إنما تملك الأبدان، فاجمع إليها القلوب. وقال الجاحظ: أرسطاطاليس تلميذ أفلاطن، وأفلاطن تلميذ سُقراط (¬2). وقال الهيثم: رؤساء الفلاسفة ستة: سُقراط، وبُقراط، وأفلاطن، وفيثاغورس، وثالس، وأرسطاطاليس، وهو الفيلسوفُ الأعظم عندهم، وهو الذي رتَّب علومهم وهذَّبها وحذف الحشو منها، وانتخب الأقرب إلى الصواب، وزاد على مَن تقدَّمَه حتى على أستاذه أفلاطن الألمعي. وقد اعتذر عن ذلك فقال: أفلاطن أستاذ وصديق، والحق صديق، وهو أصدقُ منه. وقال: لكلِّ شيءٍ صناعة، وصناعة العقل حُسنُ الاختيار. وقال: اعصِ الهوى، وأَطِعْ من شئت. وقال: الأديانُ أوطان. وقال: إذا خان السفيرُ بطَلَ التدبير، وإذا كان الجاهلُ عدوًّا لنفسه، فكيف يكونُ صديقًا لغيره؟ ! وقال للإسكندر: إن الناس إذا قدروا أن يقولوا، قدروا أن يفعلوا، فاحترز من أن يقولوا، تسلم من أن يفعلوا. فقال له: صدقت أيها الحكيم (¬3). ¬

_ (¬1) تجارب الأمم 1/ 39. (¬2) ذكره المسعودي في التنبيه والإشراف ص 120، ومروج الذهب 2/ 250 دون عزو إلى الجاحظ. (¬3) في هامش (ك): ليس هذا من كلام أرسطو.

وقيل له: ما البلاغة؟ فقال: حسنُ الاستعارة، وقيل: الاستدلالُ بالقليل على الكثير، وقيل: فتق المشكل، وإيضاح المعضل. وكتب إلى بعض الملوك وكان قد اشتغل باللهو عن النظر في أمور الرعية: أما بعد، فإن الرعية إذا علمت تسلُّط الهوى على المَلك تسلَّطت عليه، فاقهر هواك بفضل يقظتك. فكتب إليه الملك: إذا كانت بلادنا عامرة، وعُمَّالنا عادلة، وسُبُلُنا آمنةً، فلِمَ نمتنعُ من لذةٍ عاجلةٍ؟ فكتب إليه: إنما تمهدت الأمور على ما ذكرت باليقظة دون الغفلة، كما أخوفني أن تهدم ما بنته اليقظة بما جنته الغفلة. فانتبه الملك وكتب إليه: صدقتَ أيها الرشيد (¬1). وكانت وفاةُ أرسطاطاليس بعد وفاة الإسكندر بيسيرٍ، وعاش ستين سنة، وقال ابنُ حَوقل: إنه مُعلَّق في خشبة بجزيرة صِقِلِّية بالكنيسة، وكانت النصارى تستقي به (¬2)، وعاش أفلاطن أيضًا ستين سنة. قال المصنف رحمه الله: وقد وازن أبو علي بن حسن الحاتمي بين أرسطاطاليس والمتنبي (¬3)، فقال: قال أرسطاطاليس: مَن علم أن الكون والفسادَ يتعاقبان الأشياء، لم يحزن لورود الفجائع. قال المتنبي: [من الطويل] إذا استقبلَتْ نفسُ الكريم مُصابَها. . . بخُبْثٍ ثَنَتْ فاستدبرته (¬4) بطيبِ وقال: النفس المتجوهرة تأبى مقارنة الذّل [جدًا، وترى فناءها في ذلك بقاءها]، والنفس الدنية بضد ذلك. قال المتنبي: [من الطويل] ¬

_ (¬1) انظر عيون الأخبار 1/ 8، والعقد الفريد 1/ 24 - 25 و 4/ 190، والمنتظم 1/ 427. (¬2) صورة الأرض ص 113. (¬3) في هامش (ك) حاشية: هذا لا يطلق عليه موازنة ولا وقع الحافر، وإنما المتنبي كان كثير المطالعة لكتب الفلاسفة، فأخذ هذه الكلمات الحكمية فسبكها شعرًا، والله أعلم. (¬4) في النسخ: فاستقبلته، والمثبت من الرسالة الحاتمية ص 146 (ضمن كتاب التحفة البهية والطرفة الشهية)، وديوانه 2/ 204 بشرح ابن جني.

فحُبُّ الجبانِ النَّفسَ أَورده التُّقى ... وحبُّ الشجاعِ النَّفسَ أَورده الحَرْبا (¬1) وقال: أَقبحُ الظلم حسدُك لعبدك الذي تُنعم عليه. قال المتنبي: [من الطويل] وأظلمُ أهلِ الأرض مَن بات حاسِدًا ... لمَن بات في نعمائه يتقلَّبُ (¬2) وقال: موتُ النفس حياتُها، وعُدْمُها وجودُها، لأنها تلحقُ بعالَمها. قال المتنبي: [من المتقارب] كأنك بالفقر تَبغي الغنى ... وبالموت في الحرب تبغي الخُلودا (¬3) وقال: أقربُ القُربِ مَودَّات القلوب وإن تباعدت الأجسام، وأبعدُ البُعد تنافر التداني. قال المتنبي: [من الوافر] وأبْعدَ بُعدَنا بُعدَ التداني ... وأقربَ قُربَنا قُربَ البعادِ (¬4) وقال: إذا كان البناءُ على غير قاعدةٍ، كان الفساد أقربَ إليه من الصلاح. قال المتنبي: [من الوافر] وإن الجُرحَ يَنفِرُ بعد حين ... إذا كان البناءُ على فسادِ (¬5) وقال: تعاقُبُ أيام الزمان مفسدةٌ لأحوال الحيوان. قال المتنبي: [من المنسرح] فما تُرجِّي النفوسُ من زمنٍ ... أَحْمدُ حالَيه غيرُ محمودِ (¬6) وقال: أَتعَبُ الناس من اتَّسعت مروءَتُه، وقصرت مقدرتُه. قال المتنبي: [من الطويل] وأتعبُ خلقِ الله مَن زاد همُّه ... وقصَّر عما تشتهي النفسُ وُجْدُه (¬7) ¬

_ (¬1) الرسالة ص 146، وديوانه 2/ 232. (¬2) الرسالة ص 152، وديوانه 2/ 576. (¬3) الرسالة ص 156، وديوانه 2/ 973. (¬4) الرسالة ص 156، وديوانه 2/ 946. (¬5) الرسالة ص 156، وديوانه 2/ 956. (¬6) الرسالة ص 145، وديوانه 2/ 770. (¬7) الرسالة ص 151، وديوانه 2/ 106.

وقال: مَن استعمل الفكر في موضع البديهة فقد أضرَّ بخاطره، وكذا من استعمل البديهة في موضع الفكر. قال المتنبي: [من الطويل] ووَضْعُ النَّدى في موضعِ السيف بالعُلا ... مُضِرٌّ كوَضْع السَّيف في مَوضع النَّدى (¬1) وقال: مَن لم يَرفع نفسَه عن قَدْر الجاهل، رفع الجاهلُ قَدرَه عليه. قال المتنبي: [من الطويل] إذا الفَضْلُ لم يَرفَعْك عن شُكر ناقصٍ ... على نفسِه فالفضلُ فيمن له الشُّكرُ (¬2) وقال: مَن أفنى مُدَّتَه في جمع المال خوفَ العُدْم، فقد أَسلم نفسَه للعدم. قال المتنبي: [من الطويل] ومَن يُنفِقُ الساعاتِ في جَمْع ماله ... مخافةَ فقرٍ فالذي فَعَل الفقرُ (¬3) وقال: مَن تخلَّى عن الظُّلم بظاهره، وسَكن إليه بحواسِّه، فهو ظالم. قال المتنبي: [من الطويل] وإطراقُ طَرْفِ العينِ ليس بنافعٍ ... إذا كان طَرْفُ القَلب ليس بمُطْرقِ (¬4) وقال: يَقبحُ بذي الجِدَة أن يفارقَه الجُود، لأنهما كشيءٍ واحد يحويهما إنسان. قال المتنبي: [من الخفيف] والغنى في يد اللئيم قبيحٌ ... قَدْرَ قُبْحِ الكريم في الإملاقِ (¬5) وقال: نفوسُ الحيوان أغراضٌ لحوادث الزَّمان. قال المتنبي: [من الكامل] [والمرءُ من حَدَثِ الزمان كأنه ... عَوْدٌ تداوَلَه الرُّعاةُ ركوبا غَرضٌ لكل مَنيَّةٍ يُرمى بها ... حتى يُصابَ سَوادُه منصوبا وقال: مَن استمرت عليه الحوادث لم يألَمْ بحلولها. قال المتنبي (¬6)]: [من الوافر] ¬

_ (¬1) الرسالة ص 148 - 149، وديوانه 2/ 833. (¬2) ديوانه 3/ 151، وليس في الرسالة الحاتمية. (¬3) الرسالة ص 150، وديوانه 3/ 151. (¬4) الرسالة ص 148، وديوانه 4/ 493. (¬5) ديوانه 3/ 605، وليس في الرسالة الحاتمية. (¬6) الرسالة الحاتمية ص 145 وما بين معكوفين منها.

إذا اعتاد الفتى خَوْضَ المنايا ... فأهونُ ما يَمُرُّ بهِ الوُصُولُ (¬1) وقال: نَقْلُ الطِّباع من ذوي الأطماع، شديدُ الامتناع. قال المتنبي: [من المتقارب] يُرادُ من القلب نِسيانُكم ... وتأبى الطِّباعُ على النَّاقلِ (¬2) وقال: مَن علم أن الفناء مُسْتَولٍ على كونه، هانت عليه المصائب. قال المتنبي: [من البسيط] فالهجرُ أَقتلُ لي مما أُحاذِرُه ... أنا الغريقُ فما خَوفي من البللِ (¬3) وقال: العِيان شاهدٌ لنفسه، والأخبار يتداخلها الزيادة والنقصان، فأَولى ما أخذ الإنسان ما كان دليلًا على نفسه. قال المتنبي: [من البسيط] خُذْ ما تَراه ودَعْ شيئًا سَمعتَ به ... في طَلْعة الشمس ما يُغنيكَ عن زُحَلِ (¬4) وقال: قد يفسد العضو الواحد لصلاح أعضاءٍ كثيرة. قال المتنبي: [من البسيط] لعلَّ عَتْبَك محمودٌ عواقِبُه ... وربَّما صَحَّت الأجسامُ بالعللِ (¬5) وقال: عِلَلُ الأفهام أشدُّ من عِلَل الأجسام. قال المتنبي: [من الطويل] يَهونُ علينا أن تُصابَ جُسومُنا ... وتَسلمَ أعراضٌ لنا وعُقولُ (¬6) وقال: الحكيم تُريه الحكمةُ أن فوق علمه علمًا، فهو يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظنُّ أنه قد تناهى، فيسقط [بجهله، فتَمقُته النفوس]. قال المتنبي: [من الطويل] وما التِّيهُ طِبِّي فيهمُ غيرَ أنني ... بَغيضٌ إليَّ الجاهلُ المُتَعاقِلُ (¬7) وقال: كلُّ ما له أول، تدعو الضرورةُ إلى أن يكون له آخِر. قال المتنبي: [من الكامل] ¬

_ (¬1) الرسالة ص 145، وديوانه 3/ 665. (¬2) الرسالة ص 145، وديوانه 3/ 692. (¬3) الرسالة ص 147، وديوانه 3/ 773 وفيهما: أراقبه، بدل: أحاذره. (¬4) الرسالة ص 147، وديوانه 3/ 777. (¬5) الرسالة ص 147، وديوانه 3/ 785. (¬6) الرسالة ص 148، وديوانه 3/ 831. (¬7) الرسالة ص 148 وما بين معكوفين منها، وديوانه 3/ 843.

اِنْعَمْ ولَذَّ فللأمورِ أواخرٌ ... أبدًا إذا كانت لهنَّ أوائلُ (¬1) وقال: عدم الغِنى من النَّفس أشدُّ من عدم الغِنى من الملك (¬2). قال المتنبي [من الطويل] غَثاثةُ عَيشي أن تَغَثَّ كرامتي ... وليس بغَثٍّ أن تَغَثَّ المآكِلُ (¬3) وقال: مَن لم يقدر على فِعْل الفضائل، فلتكن فضيلتُه تَركُ الرَّذائل. قال المتنبي: [من البسيط] إنَّا لفي زمنٍ تَرْكُ القبيح به ... من أكثر الناس إحسانٌ وإجمالُ (¬4) وقال: تخليد الذِّكر في الكتب عمرٌ لا يبيد، وهو في كل يوم ذكر (¬5) جديد. قال المتنبي: [من البسيط] ذِكرُ الفتى عُمْرُه الثاني وعيشَتُه ... ما قاتَه وفُضولُ العيشِ أشغالُ (¬6) وقال: إذا كانت الشَّهوةُ فوق القُدرة، كان هلاكُ النفس دون بلوغ الشهوة. قال المتنبي: [من الخفيف] وإذا كانت النفوسُ كبارًا ... تَعبتْ في مُرادها الأجسامُ (¬7) وقال: مَن لم يُرِدْك لنفسه فهو النائي عنك [وإن كنتَ قريبًا منه، ومن يُرِدْك لنفسه فأنت قريبٌ منه وإن تباعَدْتَ عنه]. قال المتنبي: [من البسيط] إذا تَرحَّلْتَ عن قومٍ وقد قَدَروا ... ألّا تُفارقَهم فالراحلون همُ (¬8) وقال: بالصبر على مَضَض السياسة تنال شوف الرئاسة. قال المتنبي: [من الكامل] ¬

_ (¬1) الرسالة ص 155، وديوانه 4/ 195. (¬2) في الرسالة ص 150: عدم غنى النفس أشد من عدم غنى اليد. (¬3) الرسالة ص 150، وديوانه 4/ 82. (¬4) الرسالة ص 153، وديوانه 4/ 252. (¬5) في (خ): كنز، ولم ترد هذه الكلمة في الرسالة. (¬6) الرسالة ص 153، وديوانه 4/ 252. وفيهما: وحاجته، بدل: وعيشته. (¬7) الرسالة ص 145، وديوانه 4/ 347. (¬8) الرسالة ص 147 وما بين معكوفين منها، وديوانه 4/ 385.

لا يَسلَمُ الشَّرفُ الرفيعُ من الأذى ... حتى يُراقَ على جوانبه الدَّمُ (¬1) وقال: الظلم في طباع النفوس مُركَّب، وإنما يَصدُّها عن ذلك عِلَّةُ ديانة، أو عِلَّةُ سياسة (¬2). قال المتنبي: [من الكامل] والظُّلمُ من شِيَمِ النفوسِ فإن تَجِدْ ... ذا عِفَّةٍ فلعِلَّةٍ لا يَظلمُ (¬3) وقال: إذا لم تتصرَّف النفوسُ في مُراداتها، فحياتُها موت، ووجودُها عدم. قال المتنبي: [من الخفيف] ذَلَّ مَن يَغْبِطُ الذَّليلَ بعيشٍ ... رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحِمامُ (¬4) وقال: الفرقُ بين الحِلم والعجز أن الحِلم لا يكون إلا عن مَقدِرة، والعجزَ لا يكون إلا عن ضعفٍ، فليس للعاجز أن يَتسَمَّى بالحليم. قال المتنبي: [من الخفيف] كلُّ حِلمٍ أتى بغير اقتدارٍ ... حُجَّةٌ لاجئٌ إليها اللئامُ (¬5) وقال: النفسُ المَهينة الذليلة لا تَجِدُ ألمَ الهوان، والنفسُ الشريفة العزيزة يؤثّر فيها يسير الكلام. قال المتنبي: [من الخفيف] مَن يَهُنْ يَسهُلِ الهوانُ عليه ... ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ (¬6) وقال: بإنفاذِ سَهْم الحزم، تُدرك صِحَّة الحزم (¬7). قال المتنبي: [من الطويل] مع الحَزْمِ حتى لو تَعمَّد تَرْكَه ... لأَلحقَه تَضييعُه الحزْمَ بالحزْمِ (¬8) وقال: مَن نظر بعين العقل، ورأى عواقبَ الأيام، لم يَجزع لحلول النَّوائب (¬9). ¬

_ (¬1) الرسالة ص 154، وديوانه 4/ 570. (¬2) في الرسالة ص 154: الظلم من طبع النفس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علّتين؛ إما علة دينية لخوف معاد، أو علة سياسية لخوف السيف. (¬3) ديوانه 4/ 570، والرسالة ص 154. (¬4) الرسالة ص 155، وديوانه 4/ 532. (¬5) الرسالة ص 155، وديوانه 4/ 532. (¬6) الرسالة ص 155 - 156، وديوانه 4/ 532. (¬7) في النسخ: العزم في الموضعين، والمثبت من الرسالة الحاتمية. (¬8) الرسالة ص 157، وديوانه 4/ 477. (¬9) في الرسالة: من نظر بعين عقله، ورأى عواقب الأمور قبل مواردها لم يجزع لحلولها.

قال المتنبي: [من الطويل] عَرفْتُ الليالي قبلَ ما صَنعتْ بنا ... فلما دَهَتْنا لم تَزِدْني بها عِلما (¬1) وقال: حُلول الفناء في عظيم الأمور، كحلوله في صغيرها. قال المتنبي: [من الوافر] فطعمُ الموتِ في أمرٍ صغيرٍ ... كطَعْمِ الموت في أمرٍ عظيمِ (¬2) وقال: مَن أَثرى من العَدم، افتقر من الكَرم. قال المتنبي: [من البسيط] ورَبَّ مالٍ فقيرًا (¬3) من مُروءتِه ... لم يُثْرِ منه كما أَثْرى من العَدَمِ وقال: كُرور الأيام أحلام، وغذاؤها أسقامٌ وآلام. قال المتنبي: [من البسيط] هَوِّن على بَصَرٍ ما شَقَّ مَنْظَرُه ... فإنَّما يَقظاتُ العينِ كالحُلُم (¬4) وقال: ثلاثة إن لم تَظلمْهم ظلموك: ولدُك وعبدُك وزوجتُك، لأن صلاح أحوالهم في التعدّي عليهم. قال المتنبي: [من الطويل] من الحِلم أن تَستعملَ الجهلَ دونَه ... إذا اتَّسعتْ في الحِلم طُرْقُ المظالمِ (¬5) وقال: أيامُ الحياة لا خَوفَ فيها، كما أن أيام المصائب لا بقاءَ لها. قال المتنبي: [من البسيط] لا تَلْقَ دَهرك إلا غيرَ مُكترِثٍ ... ما دام يَصحَبُ فيه رُوحَك البَدَنُ (¬6) وقال: الأيام لا تُديم الفرح، كما أنها لا تُديم التَّرح، فالأسف على الماضي تَضييع للعمر (¬7) من غير فائدةٍ. قال المتنبي: [من البسيط] فما يُديمُ (¬8) سُرورًا ما سُرِرْتَ به ... ولا يَرُدُّ عليك الفائِتَ الحَزَنُ ¬

_ (¬1) الرسالة ص 157، وديوانه 4/ 545. (¬2) في النسخ: فعظم الموت ... كعظم، والمثبت من الرسالة ص 150، والديوان 4/ 564. (¬3) في النسخ والرسالة الحاتمية ص 151: فقير، والمثبت من الديوان 4/ 456. (¬4) الرسالة ص 153، وديوانه 4/ 646. (¬5) الرسالة ص 154 - 155، وديوانه 4/ 555. (¬6) الرسالة ص 152، وديوانه 4/ 705. (¬7) في النسخ: العقل، والمثبت من الرسالة. (¬8) في النسخ: يدوم، والمثبت من الرسالة الحاتمية ص 152، والديوان 4/ 705 بشرح ابن جني.

وقال: العشقُ أمر ضروري داخلٌ على النفس، والعاشق جاهلٌ بتلك الضّرورة الداخلة عليه (¬1). قال المتنبي: [من البسيط] مما أَضرَّ بأهل العِشقِ أنَّهمُ ... هَووا وما عَرفوا الدُّنيا ولا فَطَنوا (¬2) وقال: على قَدْر الهِمَم تكون الهُموم. قال المتنبي: [من البسيط] أَفاضِلُ الناسِ أغراضٌ لذا الزَّمَنِ ... يَخلو من الهمِّ أَخلاهم من الفِطَنِ (¬3) وقال: ليس جمال الإنسان بنافعٍ له إذا كان ميِّتَ القلب من العلم. قال المتنبي: [من البسيط] لا يُعجِبنَّ مَضِيمًا حُسْنُ بِزَّته ... وهل يَروقُ دَفينًا جَودَةُ الكَفَنِ (¬4) وقال: ليس من الحزم فناء النفوس في طلب الشهوات، بل في دَرْك العالم العلوي. قال المتنبي: [من الخفيف] ومُرادُ النُّفوسِ أصغرُ من أن ... تَتَعادى فيهِ وأن تَتَفانى (¬5) وقال: خوفُ وقوعِ المكروه قبل تناهي المدّة، خَوَرٌ في الطبع. قال المتنبي: [من الخفيف] وإذا لم يكن من الموتِ بُدٌّ ... فمن العَجْزِ أن تموتَ جَبانا (¬6) وقال: الكَلال والمَلال يتعاقبان الأجسامَ لضعف آلة الجسم، لا لضعف [آلة] الحسّ. قال المتنبي: [من الخفيف] وإذا الشَّيخُ قال أُفٍّ فما مَلَّ حياةً ولكنِ الضَّعفَ مَلّا (¬7) وقال: الدنيا أبدًا تلد، وتأكلُ أولادها (¬8). قال المتنبي: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) في الرسالة: العشق ضرورة داخلة على النفس، والإنسان جاهل بتلك الضرورة. (¬2) الرسالة ص 152، وديوانه 4/ 705. (¬3) الرسالة ص 156، وديوانه 4/ 674. (¬4) الرسالة ص 156، وديوانه 4/ 680. (¬5) الرسالة ص 152، وديوانه 4/ 714. (¬6) الرسالة ص 153، وديوانه 4/ 715. (¬7) الرسالة ص 149 وما بين معكوفين منها، وديوانه 4/ 14. (¬8) في الرسالة الحاتمية ص 149: الدنيا تطعم أولادها وتأكل مولودها.

فصل في "الغالب والمغلوب"

أبدًا تَسترِدُّ ما تَهَبُ الدُّنـ ... ـيا فيا ليت جُودَها كان بُخلا (¬1) وقال: الجُبْنُ ذِلَّةٌ كامنة في نفس الجبان، فإذا خلا أظهر شجاعته. قال المتنبي: [من الخفيف] وإذا ما خَلا الجبانُ بأرضٍ ... طَلبَ الطَّعنَ وحدَه والنِّزالا (¬2) وقال: على قدر بصيرة العقل [يرى الإنسان الأشياء، فالسالم العقل] يَرى الأشياء على حقائقها، والنفسُ اللئيمة ترى الأشياء بطبعها. قال المتنبي: [من الوافر] ومَن يكُ ذا فمٍ مُرِّ مريضٍ (¬3) ... يَجِدْ مُرًّا به الماءَ الزُّلالا وقال: الغَلَبةُ بطبع الحياة، والمسألةُ بطبع الموت، والنفسُ لا تُحب الموتَ، فلذلك لا تُحَبُّ الأشياءُ إلا بالغَلَبة لا بالمسألة. قال المتنبي: [من الخفيف] مَن أطاقَ التماسَ شيءٍ غِلابًا ... واغتصابًا لم يَلْتَمِسْه سُؤالا (¬4) وقال أبو يعلى محمد بن محمد بن الهبَّارية العباسي في "فلك المعالي": ذُكر لعبد الله بن المعتز قول أرسطاطاليس: إن الضَّبُع تضَعُ سنة أُنثى وسنة ذكرًا، وتَلقَح عامًا ولا تلقح عامًا (¬5)، فقال: انظُروا إلى هذا الجاهل الذى يَدفع معجزات الأنبياء، ويقول: لا أقبل إلا ما يقوم برهانُه بالعقل، ويقول مثل هذا. وقيل لابن المعتزِّ: إنه يقول: إن الجراد لا يُفسِد في الأرض إلا بوحيٍ من السماء. فقال: هذا يَمنع جواز الوحي إلى بني آدم، ويُجيزه إلى الجراد. فصل في "الغالب والمغلوب" ألَّفه أرسطاطاليس للإسكندر، يُعرِّفُ به الغالبَ والمغلوب في وقت الحرب، وغلبة الشريك لشريكه، والزوجِ لزوجته، والخَصْمِ لخصمه، ومَن هو المستظهر منهم. ¬

_ (¬1) ديوانه 4/ 15. (¬2) الرسالة ص 149، وديوانه 4/ 31. (¬3) في النسخ: مرير، والمثبت من الرسالة ص 155 وما بين معكوفين منها، وديوانه 4/ 161. (¬4) الرسالة ص 158، وديوانه 4/ 36. (¬5) ذكر نحوه الجاحظ في الحيوان 7/ 168.

قال: احسب اسم كلِّ واحد من الاثنين على حِدَة بحساب الجُمَّل، وأسقِط مما جمعتَه من الحساب تسعةً تسعةً حتى يبقى تسعة أو أقل، فإن بقي من الاسم تسعةٌ ومن الآخر تسعةٌ، فاحكم بالغلبة للصغير منهما على الكبير إن كانا من جنسٍ واحدٍ، وإن كان أحدهما صاحب قلم، والآخر صاحب سيف، فاحكم لصاحب السَّيف على صاحب القلم، ولا تسقط الألف من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسليمان ونحوه لأنها أصلية، وأسقطه من الحسن والحسين لأن لامهما وألفهما زائدتان، وإن كان للرجل اسمان فاحسب أشهرهما. وقد اعتبروا الغالب والمغلوب من قديم الزمان، فوجدوه مستقيمًا على هذا الحساب، فإن وقع اختلال كان منسوبًا إلى الغلط في الهجاء. قالوا: ومن ذلك داود عليه السلام وجالوت، فالباقي من اسم داود ستةٌ، لأن الدال أربعة، والألف واحد، والواو ستة، والدال أربعة، والجملة خمسة عشر، لأنهم أسقطوا الواو الواحدة لأنها زائدة، وأسقطوا تسعة وبقي ستة، والباقي من اسم جالوت ثمانية، لأن الجيم ثلاثة، والألف واحد، واللام ثلاثون، والواو ستة، والتاء أربع مئة، فإذا حسبت تسعة تسعة سقط الجميع إلا ثمانية، فقد غلب القليل الكثير، ولا تسقط الألف من داود وجالوت. ومن ذلك موسى عليه السلام وفرعون، فالميم أربعون، والواو ستة، والسين ساقط، والألف واحد، لأنهم يكتبونه على اللفظ موسا بغير ياء، فإذا أسقطت تسعة تسعة بقي اثنان، وقيل: واحد، وهو الأصح، لأنه لما كان موسى يكتب بالياءِ والألف، أسقطوا الألف، وفرعون أربع مئة وستة، لأن الفاء ثمانون، والراء مئتان، والعين سبعون، والواو ستة، والنون خمسون، إذا أسقطت تسعةَّ تَسعةً بقي واحد في قبالة ما بقي لموسى عليه السلام، لكن موسى عليه السلام أصغر من فرعون، لأنه عاش مئة وعشرين، وفرعون أربع مئة سنة. وقيل: هذا الحسابُ (¬1) إنما وضعه فيثاغورس صاحب العلوم الأربعة التي كشف بها أسرار الطبيعة وتركيبها. ¬

_ (¬1) ينظر في هذا الحساب تاريخ ابن خلدون 1/ 114، والإشارات في علم العبارات 1/ 275.

فصل في ذكر اليونان وحكمائهم

فصل في ذكر اليونان وحكمائهم ويُونان بن يافث بن نوح عليه السلام. وقال ابن الكلبي: يونان بن ثوبة بن سرحون، ونسبه إلى إسحاق عليه السلام. وقال يعقوب بن إسحاق الكندي: يونان أخو قحطان من العرب من ولد عابر، خرج من اليمن فنزل ديار المغرب، فأقام بها واستعجم لسانُه، وتكلَّم بلغة مَن هناك من الروم والفرنج. وقد ردَّ عليه أبو العباس عبد الله بن محمد الناشئ (¬1) فقال: [من الطويل] أبا يوسُفٍ إني نظرتُ فلم أَجد ... على الفَحص رأيًا صحَّ منك ولا عَقْدا وصرتَ حكيمًا عند قومٍ إذا امرُؤٌ ... بَلاهُمْ جميعًا لم يجد عندهم عندا أَتَخلِطُ قحطانًا بيونانَ ضلَّةً ... لَعَمري لقد باعدتَ بينهما جِدَّا قال الناشئ (¬2): والأصحُّ أن يونان ابنُ يافث بن نوح عليه السلام، وليس من العرب ولا من الروم، وإنما جاوَر الرومَ على ساحل البحر الرومي. وكان جسيمًا وسيمًا، حسنَ العقْلِ، كبيرَ الهمة، عظيمَ القَدْر، فأقام هناك حتى كَثُر ولده، فخرج يطلب مكانًا يسكُنُه، فانتهى إلى مدينة بالمغرب يقال لها: أقنينة (¬3)، وهي مدينة الحكماء، وقيل: اسمُها مقدونية، فأقام بها وكَثُر نسلُه، وبنى بها قصُورًا وأبنية شاهقةً. ولما احتُضِر أوصى إلى ولده الأكبر واسمه: حربوش (¬4)، فقال: يا بني، إني قد وافيتُ الأجلَ المحتُوم، وإني مُفارقكم، وقد كانت أحوالكم حسنةَ النظام بي، وكنت لكم كهفًا في الشدائد، وعونًا على المحن، فعليكم بالجود فإنه قُطْب الملك، ومفتاح السِّياسة، وباب السِّيادة، وكن حريصًا على اقتناء الرجال، وإياك والحَيْد عن الطريقة ¬

_ (¬1) في (ب): الرياشي، وفي (خ) و (ك): الرقاشي، والمثبت من مروج الذهب 2/ 244، وصبح الأعشى 1/ 371 و 5/ 379. وانظر ترجمته في السير 14/ 40. (¬2) في (ب): الرياشي، وفي (خ) و (ك): الرقاشي، وانظر الحاشية السابقة. (¬3) في مروج الذهب 2/ 245: أفيتية. (¬4) في مروج الذهب: حربيوس.

فصل

المُثلى التي بُني عليها العقْل، فإن من ترك النظر في العواقب؛ تَورَّط في المهالك، ووقع في المغائص (¬1). ثم مات، فاستولى ولدُه على بلاد المغرب من ناحية إفرنجة والنيوكرد (¬2) والصقالبة ومَن جاورهم. ولما ظهر بُختُ نَصَّرُ على مصر دخل المغرب، ووصل إلى بلاد اليونان، وقَرَّر عليهم أن يؤدُّوا الخراج إلى ملوك فارس، وفي الجملة بيض من ذهب (¬3). واستقر ذلك حتى مات فيلفوس أبو الإسكندر، فأزاله الإسكندر على ما ذكرنا. وما زالت الملوكُ في اليونان إلى الإسكندر، فلما مات عَرَضوا الملكَ على ولده إسكندروس فأبى وتنسَّك، ولَحِق بالجبال وتعبَّد، فملكوا عليهم بطليموس الحكيم، وكان خليفةَ الإسكندر إذا غاب، وهو أولُ مَن لعب بالبُرْاة والصُّقور والجوارح. وكان المُلْكُ بالمغرب لليونان، والرئاسةُ بالقُدْس لبني إسرائيل، إلى أن وُلد يحيى ابن زكريا عليهما السلام، وجرى ما جرى. وهذا اللقب -وهو بطليموس- لملك اليونان ككسرى وقيصر. فأقام بطليموس الأول مالكًا أربعين سنةً، ثم مات. فصل فملك بعده بطليموس الصائغ، وكان حاذقًا بمعرفة الصِّياغة حكيمًا، فأقام ستًا وعشرين سنةً، ثم مات. فصل فملك بعده بطليموس محبُّ الأب، ويقال: إنه ملك الشام، وبنى مدينة فامية بين شيزر وأنطاكية، وأقام ملكًا سبع عشرة سنة. فصل ثم ولي بطليموس صاحب النجوم وكتاب "المِجِسطي"، وأظهر علوم الكواكب، ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 246: مقابض المتالف. (¬2) في مروج الذهب: والنوكبرد. (¬3) في مروج الذهب 2/ 247: وكان خراجهم بيضًا من ذهب.

فصل

وقَدَّر مطالعها وما يتعلَّقُ بها، وأقام أربعًا وعشرين سنةً يجمَعُ الحكماء والعلماء ويذاكرهم، ثم مات. فصل ثم ولي بطليموس، ويقال له: محبُّ الأمّ، فأقام خمسًا وثلاثين سنةً، ومات. فصل وولي بطليموس المخلِّص، وكان صالحًا، فأقام سبع عشرة سنة، ثم مات. فصل فولي بطليموس الإسكندري عشرين سنةً، وقيل: عشر سنين، ثم مات (¬1). فصل فولي بطليموس الحديدي ثمان سنين، ثم مات. فصل فولي بطليموس الجَوَّال، وكان سائحًا منفردًا، فأقام ثماني سنين، ثم مات. فصل فولي بطليموس الخبيث، وكان فاجرًا ظالمًا خرج عن قانون اليونان، فأقام ثلاثين سنةً، ثم مات. فصل فملكت ابنتُه قلان طره، وقيل: بلو قطرا (¬2)، وكانت عاقلةً فاضلة حكيمة، لها التصانيفُ في الحكميات والطبيات، وهي آخر ملوك اليونان. وكان لها زوج مُشارِك لها يُقال له: أنطونيوس، وكان له مصر والسواحل، ومصر داخلةٌ في مُلك اليونان. ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 285: ثم ملك بطليموس الإسكندراني اثنتا عشرة سنة. (¬2) في مروج الذهب 2/ 285: قلا بطرة.

حديث المرأة مع ملك الروم

وكانت قُلان طره تتردَّدُ من المغرب إلى مصر، وكانت الجزائر بأسرها داخلةً في ملك اليونان: صِقِلِّية وقبرس والأندلُس، وجميعُ ما على البحر الرومي من البلاد الروميةِ وأعمالها، فإنها كانت للروم. وأقامت قلان طره ملكةً عشرين سنة، وقيل: اثنتين وعشرين، ثم قتلت نَفْسَها لما نذكر. وقال علماء السير: فجميع ملوك اليونان بعد الإسكندر عشرةٌ والمرأة، وقيل: ثلاثةَ عشر آخرهم المرأة. ومدة ملكهم مئتان ونيف وأربعون سنة، وقيل: مئتان وستون سنة، وقيل: ثلاث مئة وأربع سنين. حديث المرأة مع ملك الروم لما اشتهر اليونانُ بالحكمة والفضائل والمُلك، حَسَدهم ملوك الروم، وكان مُلْك الروم برُومِيَة، ولم تكن القسطنطينية بُنيت بعد، وما كانوا يتجاسرون أن ينالوا من أطراف اليونان شيئًا، فنبغ فيهم ملك جبار يقال له: انطوطس (¬1)، ويُسمى بقيصر، ويقال: إنه أول مَن تسمَّى به، وإليه تُنسَب القياصرة. وبلغه أنَّ ملوك اليونان قد انقرضوا ولم يَبقَ منهم سوى امرأة، فجمع العساكر وسار إليها من رُومية، وهي وزوجها يومئذ بمصر، فخرج إليه زوجها فقتله قيصر. وكانت قُلان طره امرأة حازمة، فأرسل إليها يخطبها ويقول: ما قصدي إلا أن تصير المملكتين واحدة، وأن أقرب منك لفضلك وعقلك. وعَلمتْ أنه متى تمكن منها قتلها، فأجابته وقالت: تقيمُ في مكانك إلى يومٍ بعينه، فأقام. فأفكرت في حيلة تحتالُ بها عليه، فرأت أن تُهلكَ نفسها وتُهلكَه معها، ولا يتمكَّن منها. فعَمَدت إلى حَيَّة تكونُ بالصَّعيد في الرَّمل، تَثِبُ في الهواء فتضربُ الإنسانَ، فما يجتمعُ، فجعلتها في إناء من زجاج، وزّيَنَت قصرها، وفرشت مجلسها بالرياحين، ولَبِست تاجها، وجلست على سريرها، واستدعت قيصر. فلما دخل من باب القصر قَرَّبت يدها من الحية فضربتها، وانسابت في الرياحين، ووصل قيصر إلى السرير، ولم يشك أنها في عافيةٍ، فجلس إلى جانبها، فرآها ميتةً، ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 286: أغسطس.

فصل في ذكر حكمائهم

فعَجِب وفكَّر، وعبث ببعض الرياحين فضربته الحيةُ، فأيبست شِقَّه الأيمن، وأذهبت عينَه اليمنى وسمعَه الأيمن، ففهم وعلم أن قلان طره آثرت الموت في العزِّ على الحياة في الذل، ومات من ليلته. وانقضى مُلكُ اليونان، وزالت أيامُهم، ودَثَرت علومهم بموت قُلان طره. وكانت لهم بيوتٌ للعبادات يُعظِّمونها، ومنهم من يَعبد الفَرقَدينِ، وبعضهم يعبد الأصنام. وكان لهم بيوت عبادات بالمغرب وبالأندلس وبمصر. ويقال: إن الهَرَمين كان عليهما بيتان، بيتٌ على جبل أنطاكِيَة أخربه قسطنطين، وبيت بالقدس. وقال أبو معشر: كانت خزائنُ علومهم بقُبرس، فحُملت إلى المآمون فنقلها إلى العربية، فهي التي في أيدي الناس اليوم، من المنطقيات والعقليات والطب والنجوم والإلهيات والطبيعيات وغير ذلك، وملك الرومُ بلادهم. فصل في ذكر حكمائهم وفيهم كثرةٌ، فنذكر أعيانَهم، ويقال: إن أولهم سُقراط الحُب، وهو أستاذ الكل، وكان قد أقام في حُب مكسور سبعين سنة لم يخرج منه إلا لحاجةٍ. جاءه بعضُ ملوك اليونان فسَلَّم عليه وهو على فرسه، وقال له: أيها الحكيم الفاضل ألك حاجةٌ؟ قال: نعم. قال: وما هي؟ قال: تنحي فرسَك وتنصرفُ عني، فقد كنتُ أَستَدفئ بحر الشمس فمنعتَني. ومن كلامه: لا تخَفْ موت البدن، ولكن خَفْ موت النفس. فقيل له: ألستَ القائلَ بأن النَّفس الناطقة لا تموت؟ فقال: بلى، إذا انتقلت النفسُ الناطقة من حدِّ النطق إلى الحد البهيمي (¬1) بطل النطق؛ فالتحقت بالموت. وقال له رجل قد أَسنَّ: إني أريد أن أَنظر في العلوم وأستحيي. فقال له: أتستحيي أن تكون في آخر عمرك خيرًا من أوله؟ وقال: خساسةُ الرجل تُعرف بشيئين: بكلامه فيما لا يعنيه، وبجوابه فيما لم يُسأل عنه. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ك): البهمي.

ورأى رجلًا حسنَ الوجه سيئ الأدب، فقال: سلبت فضائلَ نفسك محاسنُ وجهك. وتعرَّض له رجلٌ بكلام قبيح، فأعرض عنه، فقيل له في ذلك، فقال للقائل: لو رَمَحك حمارٌ أكنت ترمحه؟ أو نبح عليك كلبٌ أكنت تَنبح عليه؟ قال: لا. قال: فكذا السَّفيهُ ما يقابَلُ بأبلغَ من الإعراض عنه. ومنهم بُقراط الأول، وقد اعترف بفضله الأوائل والأواخر، وهو واضع الطب. ولما بلغ بهمن بن اسفنديار بن بشتاسف خبرُه، كتب إليه يستدعيه، وبعث له قناطير من الذهب فردَّها، وقال: لا حاجة لي في الدنيا، المال والحكمة لا يَجتمعان. ولم يخرج من بلده. وكان يعالجُ الفقراء، ولا يأخذ منهم شيئًا، ويُعينهم. وقال: استهينوا بالموت، فإن مرارته في خوفه. وقال: الأمنُ مع الفقر خيرٌ من الغنى مع الخوف. وقال: يُداوى كلُّ مريضٍ بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة مُتطلِّعة إلى هوائها، ونازعةٌ إلى غذائها. وقيل له: لمَ يتكرَّبُ الإنسان بشُرب الدواء؟ فقال: البيتُ أكثر ما يكون غُبارًا إذا كُنِس. وعشق بعض أولاد الملوك حظيَّة لأبيه، فنحل وسقم وخولط، فقال أبوه لبُقراط: انظُر ما به، فجسَّ نَبضه فلم يجد به مرضًا، فأخذ يذاكره بحديث العشق والعُشاق، فمال إليه وتهلَّل وجهُه، فسأل عنه: هل خرج من الدار؟ قالوا: لا. فقال لأبيه: اعرض عليه كل حظية في الدار. فأَخرج كلَّ امرأة في الدار فعرضَهنَّ عليه، وهو لا يلتفتُ، حتى أخرج الخادمُ تلك الحظية، فتغيَّر وجهُه، فترك بُقراط يده على نبضه وهو يضربُ، فقال للملك: هو عاشقٌ لمن لا سبيل له إلى الوصول إليها. قال: ومن هي؟ قال: حليلتي. قال: انزل عنها ولك أمثالُها. قال: فأين العدل؟ تأمرني بطلاق زوجتي؟ ! قال: إن أبيت فالسيف، ولا يموت ولدي. فقال: أرأيت لو كانت حظية الملك أينزل له عنها؟ ففهم الملك باطن الحال، فقال له: عقلك أتم، ومعرفتك أعم. ونزل عنها لولده، فبرئ.

وقيل لبقراط: لم يثقل الميت؟ قال: لأنهما كانا اثنين: خفيفٌ [رافع] وهو الرُّوح، وثقيل [واضع] وهو البدن، فلما انصرف الخفيف الرافع، بقي الثقيل الواضع. وقال: علاجُ الجسد خمسة أضرب: ما في الرأس بالغرغرة، وما في المعدة بالقيء، وما في المدن بالإسهال، وما في أعماق البدن بالفَصْد، وما بين الجلدين بالعرق (¬1). ويقال: البقارطة أربعة، وهذا هو الأول، وبينه وبين جالينوس ستُّ مئة وخمسون سنة، وكان جالينوس في زمن عيسى عليه السلام (¬2). ومنهم أفلاطن أستاذ أرسطاطاليس، وهو صاحب المنطق (¬3)، وقد برز عليه أرسطاطاليس وأخذ عليه في مواضع. ومن كلام أفلاطن: عقولُ الناس مدوَّنة في رؤوس أقلامهم، وظاهرةٌ في حُسن اختياراتهم. وقال: الله تعالى بقَدْر ما يُعطي من الحكمة يمنَعُ من الرزق. قيل له: ولم؟ قال: لأن الحكمةَ حظُّ النَّفس الناطقة، والمال حظُّ النفس الشهوانية، والناطقة عاليةٌ على الشهوانية، فالمال والحكمة متغايران لا يجتمعان. وقال أبو يعلى بن الهبَّارية: كان على خاتم أفلاطن: تحريكُ الساكن أسهل من تسكين المتحرك. وقال أفلاطن: لا ينبغي لك أن تفعل شيًا إذا عُيِّرتَ به غضبتَ، فإنك إذا فعلتَ ذلك، كنت أنت القاذفَ لنفسك. ومنهم بطليموس صاحب "المِجِسطي"، المتكلم في هيئات الأفلاك وما يتعلق بالهندسة كلامًا طويلًا. ¬

_ (¬1) الملل والنحل 2/ 109 - 110 وما بين معكوفين منه. (¬2) المنتظم 2/ 4. (¬3) في هامش (ك) حاشية: المنطق لأرسطاطاليس لا لأفلاطن، وإن كان المنطق موجودًا في كلام الحكماء، لكن أرساطاليس أخرجه من القوة إلى الفعل، وجعله فنًا بذاته، وهذا ما لا ينكره أحد من العلماء.

وله كلام حسن، فمنه أنه قال: ما أحسنَ الإنسانَ أن يصبِر عما يشتهي، وأحسنُ منه أن لا يشتهي ما لا يَقدرُ عليه. وقال: لأن يستغنيَ الإنسان عن المُلْك، خيرٌ من أن يستغنيَ به (¬1). ومنهم صاحب إقليدس، وهو أولُ من تكلَّم في الرياضيات، وقال: الخطُّ هندسةٌ روحانية ظهرت بآلة جسمانية. وقال: لما علم العاقلُ أنه لا ثقةَ له بشيء من أمور الدنيا، ألقى منها ما منه بُدٌّ، واقتصر على ما لا بُدَّ له منه (¬2). ومنهم جالينوس، وكان في زمن عيسى عليه السلام، ويقال: إنه قَصَد الاجتماع بعيسى عليه السلام، وسار إليه فمات في طريقه (¬3). قال ابن حوقل: مات جالينوس اليوناني بمدينة الفرما، وهي شاطئ بحيرة تِنِّيس من أرض مصر، وبها قبرُه (¬4). ومات ابن مئة وتسعة وثلاثين سنة (¬5)، وإليه انتهى علمُ الطب. ومن كلامه: عِلَّةُ الاختلاف الذي يعرض للإنسان إنما سببُه الدماغ؛ وذلك لأن أوعية الدماغ ثلاثة: مقدَّم الرأس وهو للحِسِّ والخيال، ومُؤخَّره للحركة والفكر والحفظ، ووسَطُه للعقل والفِطنة والذكاء، فمتى اعتدل الدماغ، اعتدلت الروح واعتدلت الأفعال، فإن مال الاعتدال إلى البرودة، كان الفعلُ أبطأ، وإن مال إلى الحرارة، كان الفعل أسرع. ولما اشتد بجالينوس مرضُ الموت، قيل له: ألا تتداوى؟ فقال: إذا كان الداء من السماء بطل الدواء، وإذا نزل قَدَر الرب بطل حذرُ المربوب، ونعم الدواء الأجلُ، وبئس الداء الأملُ. ¬

_ (¬1) الملل والنحل 2/ 116. (¬2) الملل والنحل 2/ 114 - 115. (¬3) المنتظم 2/ 4. (¬4) صورة الأرض ص 149. (¬5) في طبقات الأطباء والحكماء ص 42، وأخبار العلماء ص 89، والمنتظم 2/ 4 أنه عاش سبعًا وثمانين سنة أو ثمانيًا وثمانين.

ومنهم حكيم احتُضر، فقال لولده وهو حاضرٌ عنده: يا بنيَّ، إنك وإن كنتَ وارثي وحدك، فليس لك جميعُ ما حَوتْه يدي، لأن عليَّ فيما أخلِّفُه ديونًا لإخوان من مكارمَ سبقت، لم يقبلوا مني مُجازاةً عليها؛ لاستغنائهم عنها، وقد كنتُ أُراعيهم خوفًا من تَحوُّل حال واحد منهم، فيحتاجُ إلى ما هو الآن عنيٌّ عنه، فيجدُ عندي مكافأته ذخيرةً له، وقد أثبتُّ أسماءَهم في دفترٍ، فإن لَحِقْتَ أحدَهم فأْتِه فاقضِ عني حقَّه كما يقضي الحُرُّ عارِفَةَ الحر، ثم استحلفه على ذلك وأَشهد عليه الحاضرين، ومات. فإن قيل: فقد ذَكرتَ الفلسفةَ، فما معناها؟ فالجواب: أنها عندهم الإحاطة بمعرفة الحقائق والحكميات. والفيلسوف بالعربية معناه: محبُّ الحكمة. ويَدخُل فيها علمُ النجومِ والطب والهندسة والحساب وتأليف الألحان، والهندسةُ دون الفلسفة لأنها تختصُّ بمعرفة مقادير الأرض، والأبنية، ومجاري المياه، وغَرْسِ الأشجار، وآلاتِ الصنائع وتركيبها. فإن قيل: فما الذي يَعتمدُ عليه هؤلاء الحكماءُ من العقائد؟ فالجواب: أن لهم مذاهبَ، منها: أن الأرواح عندهم باقية، والفساد والكون إنما يَلحقان الجسدَ، ومكانُ الروح من الجسد مكانُ النار من الفَحْم، وأن الروح جسمٌ لطيف متداخل في هذا الجسد الكثيف، فالروح بلطافته يحرك الكثيف ويستعمله. ومن مذاهبهم: أن العالم الأرضي متصل بالعالم السماوي، وأن الفَلَك يَتدوَّرَ بحركة مستديرة فتتحرك له الكواكب، فيحدُث بتحريكها في هذه الأجسام الاستحالات، فيقع الكون والفساد. قالوا: وفسادُ كلِّ شيء كونُ شيءٍ آخر، كالخشب الذي يحترقُ بالنار فيصير فحمًا. قال المصنف رحمه الله: والغالب على علومهم الحَدْس والتخمين لا التحقيق واليقين، فإن أسرارَ البارئ المخفيّاتِ، وأمورَه المغيَّبات، لا مجالَ فيها للظنون. وأقرب علومهم إلى الصحة علومُ الهندسة، فإنها مبنية على الحساب، وولى ذكرتُ منها ها هنا جُملة لا يُستغنى عنها. قال الله تعالى: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 113] فأقول: الأعدادُ أربعة: آحاد،

فصل في ذكر بني الأصفر

وعشرات، ومِئين، وألوف. فالآحادُ: تنتظم ما بينَ الواحدِ إلى التسعة، والعشرات: تنتظم ما بين العشرة إلى التسعين، والمِئين: تنتظم ما بين المئة إلى تسع مئة، والألوف: تنتظم ما بين الألف إلى تسعة آلاف، وما بعدَ ذلك تكرار. فالآحاد في العشرات كلُّ واحدٍ عشرة، والعشرات في العشرات كلُّ واحد مئة، والعشرات في المئين كلُّ واحد ألف، والمئين في المئين كلُّ واحد عشرة آلاف، والمئين في الألوف كل واحد مئة ألف، والألوف في الألوف كلُّ واحد ألف ألف. والحَبْل عشرة أبواب، والباب ستة أذرُع، والذراع تسع قَصَبات، والقصبة أربع أصابع، والحبل في الحبل جَرِيب، والحبلُ في الباب قَفِيز، والحبل في الذراع عَشير. والدينار أربعة وعشرون قِيراطًا وأربعة عشر طَسُّوجًا وست دوانيق وثنتان وسبعون حَبّة، والقيراط ثلاث حبات وعشرة دراهم فضة وزن سبعة مثاقيل ذهب. والرِّطْل ثنتا عشرة أُوقِيَّة، والأُوقية سبعة مثاقيلَ ونصف. والفرسخ ثلاثة أميال، والميلُ اثنا عشر ألف قدم أو أربعة آلاف خُطوة بخطوة الجمل. فصل في ذكر بني الأصفر وسُمُّوا الروم، لأنهم من ولد روم بن العيص بن إسحاق عليه السلام، وقيل: لأنهم نُسِبوا إلى رُومِيَة، والأول أصحُّ، لأن رومية بُنِيت قبل ظهورهم بأربع مئة سنة، وكان يقال لها: رماس (¬1)، فلما سَلَبوها نُسبت إليهم. وقال ابن الكَلْبي: وَلَدَ العيصُ بن إسحاق ثلاثين ولدًا منهم الروم، وكان أصفرَ اللون، فقيل: بنو الأصفر. وقيل: غارت عليهم الحبشةُ، فوُلِد لهم بنات أخَذْنَ من بياض الروم وسواد الحبشة، فكنَّ صُفرًا لُعْسًا، فنُسِبوا إليهن. وأولُ ملوكهم الذي قتلته الحية، وقيل: مَلَك قبله هالوس، وبعده قيصر. ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 293: روماس، وفي معجم البلدان 3/ 100: رومانس.

فصل

وقال ابنُ الكلبي: عدد ملوكهم الذين ظهروا من رومية أربعون ملِكًا، وقيل: ستون، وعدد سنينهم خمس مئة سنة، وقيل: أربع مئة سنة وسبع وثلاثون سنة، إلى أن ظهر الإسلامُ. فنذكر أعيانَهم، لأن أسماءهم لم تُحقَّقْ، ومنهم أيضًا مَن ليس له مَكرُمة، ولا تَجدَّد في زمانه ما يُؤرَّخ. فثالثُ ملوكهم أغسطوس، مَلَك نيفًا وخمسين سنة، ولما مضى من مُلكه اثنان وأربعون سنة وُلد المسيحُ عليه السلام، وبين مولده وغلبة الإسكندر الثاني على بابل ثلاث مئة وثمانون سنة، وقيل: خمسون. وقيل: إن الذي قتلته الحيةُ أقام على رومية ملكًا سنة. وكان يقال له: قيشر لأن أُمَّه كانت حاملًا به فعَسُرَت ولادتُها، فشَقُّوا بطنها فخرج، وكان يفتخر على الناس بأن النساء لم يَلِدْنَه، فصار ذلك سُنّةً بعده. وكان جبارًا عاتيًا، وهو الذي بنى قيسارية الروم، وقيل: وقيسارية الشام بالساحل. ويقال: إن عيسى عليه السلام وُلد في زمانه. وملَك بعده طبارس (¬1)، فأقام بعده اثنتين وعشرين سنة، وفي أيامه رُفع عيسى عليه السلام لثلاث سنين بقيت من ملكه. ثم اختلفت الروم بعده فلم يجتمعوا على مَلِك، بل تنازعوا الأطراف ثلاث مئة سنة، وكانوا يَعبُدون التماثيل والأصنام. فصل ثم ملك بعده فلورس رومية (¬2) أربع عشرة سنة، وهو الذي قتل النصارى ونفاهم، وفي أيامه قُتل بيرس وبولُس، وقيل: وشمعون، وصُلِبا بأنطاكية (¬3)، وهما اللذان أخبَر ¬

_ (¬1) في تاريخ اليعقوبي 1/ 146، ومروج الذهب 2/ 299: طباريس، وفي تاريخ الطبري 1/ 606، والتنبيه والإشراف ص 124: طيباريوس. (¬2) في تاريخ اليعقوبي 1/ 146، ومروج الذهب 2/ 299: قلوديس، وفي تاريخ الطبري 1/ 606، والتنبيه والإشراف ص 125: قلوذيوس. (¬3) في مروج الذهب: وقيل إن في أيامه قتل برومية بطرس -واسمه بالسريانية شمعون، والعرب تسميه سمعان- هو وبولس، وصلبا منكّسين.

فصل

الله عنهم في سورة "يس". ثمَّ لمّا ظهر دينُ النصرانية نُقِلا إلى رومية، وجُعلا في جُرنَين من لبلور، فهما في كنيسة رومية إلى اليوم. فصل ثم ولي بعده رجلان: طنطس واسبانوس (¬1)، اشتركا في الملك، وقصدا بيتَ المقدس وأَخرباه، وقتلا من بني إسرائيل ثلاث مئة ألف، وكانا يعبدان التماثيل. فصل ومنهم انطونس (¬2)، وفي أيامه يُقال: مات جالينوس الحكيم. فصل ومنهم دقيانوس الذي نام في أيامه أصحابُ الكهف. فصل ومنهم قُسطنطين، وكان يعبد الأصنام، وهو الذي بنى القُسْطَنْطِينيَّة، جاء إلى موضعها -وتُسمى بَرزيطيا (¬3) - فقال: نبني ها هنا مدينةً تحفظ بلد الروم من ملوك فارس، فبناها وانتقل من رُومية. ولما مضى من مُلكه ست سنين خرَج عليه عدوّ من فارس اسمه: برجان، فظهر عليه وخاف منه، فرأى في نومه رماحاً نزلت من السماء عليها صُلبان من ذهب مرضَعة بالجواهر، وقائل يقول له: خُذ هذه الرماح فقاتِلْ بها عدوَّك، فإنك تُنصر عليه. فأخذها في المنام وقاتل عدوَّه، فانتصر عليه، فاستيقظ وعمل رماحاً مثلَها، وقاتل عدوه فانهزم ونُصِر عليه. فسأل العلماء عن الصلْبان فقالوا: ببيتِ المقدسِ مَن يعرف هذا. فبعث إليه، فقَدم منهم ثلاث مئهٍّ وثمانية عشر أسْقُفًّا، فسألهم، فقَصُّوا عليه قصة المسيح عليه السلام، وشرعوا له دينَ النصرانية، ونصَّروا النصارى، فسُمِّي هذا الاجتماع السنودس، وهي ستُّ سنودسات، وهي لفظة رومية معناها الاجتماعات، وكان ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 304: ططس واسفيانوس. (¬2) في مروج الذهب 2/ 306: أبطونيس. (¬3) في مروج الذهب 2/ 311: بوزنطيا.

فصل

اجتماعُهم بنِيْقِية من أرض الروم. وكان لقُسطَنْطين أمٌّ حكيمة يقال لها: هلاني، خَرَجت إلى الشام وبَنَت الكنائس، وطَلَبت الخشبةَ التي صُلب عليها المسيحُ عليه السلام بزعمهم، فأحضروها، فزيَّنتها بالجواهر، واتخذت ذلك اليومَ عيداً، وسمَّته: عيدَ الصليب، وذلك لأربع عشرة خلت من أيلول. وملك قسطنطين ثمانين سنة، ومات. فصل ثم وَلي بعده أخوه بالس (¬1)، فرفض دينَ النصرانية، ويُعرف بالحنيفي لرجوعه عن النصوانية، ويُسمى: البرباط (¬2) أيضاً، غزا العراق، فقتل وسبى في أيام أرْدَشِير بن بَابَك، وقيل: في أيام سابور بن أرْدشير، فلم يكن لسابور به قِبَلٌ لكثرة جنوده، فبينا هو يَقتل ويسبي جاءه سَهْمٌ غَرْب فقتله، وقيل: كان ذلك باحتيال سابور. وكان مقامُه في المُلْك سنة واحدة. فصل ثم ملك بعده أوبالس، وفي أيامه انتبه أهل الكهف من منامهم، فأقام أربع عشرة سنة. ثم ملك شرهو (¬3)، وهو الذي بنى عمورية، فوجد في أرضها كنوزاً عظيمة. فصل ثم ملك سطناس (¬4)، وهو الذي عمر كنيسة الرُّها، وكان بها منديل تَزعُم النصارى أن المسيح لما خرج من المعمودية تنشف به. ولما حوصرت الرُّها في سنة اثنتين [وثلاثين] وثلاث مئة، واشتدَّ الحصار على أهلها، وكانت للمسلمين، طلبت منهم الرومُ المِنديل ويرحلوا عنهم، فأعطَوْهم إياه ورحلوا. ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 325، والتنبيه والإشراف ص 141 أن اسمه لليانس (أويوليانوس) وأنه ابن أخي قسطنطين بن هيلاني. (¬2) في (خ) و (ك): الرباط، وفي التنبيه والإشراف ص 141: باربديس. (¬3) في مروج الذهب 2/ 331: نسطاس. (¬4) في مروج الذهب وما سيرد بين قوسين منه: يسطانياس.

فصل

فصل ومنهم هِرَقْل، ولسبع سنين من ملكه هاجر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وهو الذي ضرب الدنانير والدراهم الهرَقْليَّة. وهو الذي كَتَب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومات في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وملك بعده ابنُه قيصر، وهو الذي أجلاه أبو عبيدة وخالد بن الوليد عن الشام وإلى هلم جرَّا. وقيل: عِدّة ملوكهم قبل ظهور النصرانية من المَلِك الذي نَهَشَتْه الحية إلى قسطنطين ثلاثون ملِكاً، ومن قُسطَنطين إلى مورق بن لاوي الذي كان في أيام عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ثلاثون ملكاً، أقاموا في المُلْك أربع مئة سنة. فصل في ذكر ملوك الطوائف وكانوا من الفُرس، وقيل: من النَّبَط، وقيل: من العرب، ويقال: هم الأَرْدَوان. قال علماء السير: لما قَتل الإسكندر دارا بنَ دارا، وأوغل في بلاد الهند والصين، تغلَّب كلُّ قوم على ناحيةٍ، وكانوا أصنافاً، فكاتبهم الإسكندر، وكان مقصودُه تشتيتَ كلمتهم، وأن ينقادوا إلى ملِكٍ واحد (¬1). وكانوا بأسرهم يميلون إلى ملوك الجبال من نواحي الدّيْنَوَر ونَهاوَنْد، ويقال لهم: الأشغانيون، وكان يقال لملوك الطوائف: الأشغانيُّون، لميلهم إليهم، وكانت منازل النَّبَط منهم -وهم الأَرْدوان- على الفُرات مما يلي قصرَ ابن هُبَيرة إلى ناحية الطفوف وما والاها، وكانت ملوكُ العرب من مُضَر ابن نزار (¬2) وربيعة وأَنْمار وقَحطان بالحجاز واليمن. وكان أرسطاطاليس هو الذي أشار على الإسكندر بمكاتبتهم واستمالتهم، وأقام كلُّ ملكٍ في أرضه، ومَن مات منهم وَرِثَه ولده أو قريبه، وكان مُلكُهم خَمْس مئة سنة، وكانوا تسعين ملكاً مفرَّقين في العراق والشام ومصر والحجاز واليمن. ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 133: وكان مراد الإسكندر تشتيت كلمتهم وتحزيبهم وغلبة كل رئيس منهم على السقع الذي هو به فيعدم نظام الملك ولا ينقاد إلى ملك واحد يجمع كلمتهم. (¬2) في النسخ: مضر ونزار، والمثبت من مروج الذهب 2/ 134.

وقال ابن قتيبة: كان مُلكُهم أربع مئةٍ وخمساً وستين سنة (¬1). وقال أبو عبيدة: لما رجع الإسكندرُ من الشرق تُوفِّي يوم الأربعاء، فأقاموا بعده مئتين وخمسين سنة. وفي أيامهم كان قتلُ يحيى بن زكريا عليهما السلام، وولادة المسيح عليه السلام، وأول ملوكهم بالعراق أشَكُ بن أَرْدَوان بن أَشغان، وإليه نُسِبوا فقيل: الأَشْغانِيَّة، وقيل: الأَشْكانيَّة. قال ابن مسكويه: أَشَك هو ابن دارا الأكبر، جمع جمعاً عظيماً وسار إلى أَنْطِيخُس الملك الرومي، وكان مقيماً بسواد العراق من قِبَل الروم، وزحف إليه أنطيخس، والتقيا ببلاد الموصل، فقتل أَشَكُ أنطيخس، وغَلَب على السَّواد، وصار في يده من المَوْصل إلى الري وأَصبهان، وعظَّمه ملوكُ الطوائف لشرفه وكونه من بيت المُلك، وبدؤوا به على نفوسهم في كتبهم، وأَهْدَوا إليه من غير أن يَعزِلَ أحدًا [منهم] أو يستعمِلَه (¬2). ثم ملك بعده جماعة آخرهم الأَرْدَوان من ولد أَشَك، وظهر أَردَشير بن بابَك فغَلب على ملوك الطوائف، وقتل الأَرْدَوان مبارزةً واستولى على الممالك، وانقضت أيامُ ملوك الطوائف. وعددُ ملوكهم من أَشَك إلى الأَرْدَوان سبعةُ ملوك، وملَكوا مئة ونيفاً وسبعين سنةَ، غير أيام أَشَك فإنها كانت عشرين سنةً. وملك بعدَه ولده جودرز بن أشك إحدى وعشرين سنة (¬3)، ثم ملك فَيروز بن سابور ابن أشك عشرين سنة، ثم ملك بعده ابنُه سابور تسع عشرة سنة، ثم ملك بعده حوض ابن جَودَرز (¬4) أربعين سنة، ثم ملك بعده أخوه هُرمز عشرين سنة، ثم ملك بعده أَرْدَوان بن هرمز خَمْس عشرة سنة، ثم ملك بعده ولده بلاش (¬5) أربعاً وعشرين سنة، ثم مَلَك الأَرْدَوان وهو آخرهم ثلاث عشرة سنة. ¬

_ (¬1) المعارف ص 653. (¬2) تجارب الأمم 1/ 43 وما بين معكوفين منه. (¬3) في تاريخ الطبري 1/ 582، ومروج الذهب 2/ 136، والتنبيه والإشراف ص 99 أنه ملك عشر سنين. (¬4) في مروج الذهب 2/ 137، والتنبيه والإشراف 99، وتاريخ الطبري 1/ 582: نرسي بن نيزر. (¬5) في النسخ: بلا سون، والمثبت من تاريخ الطبري، ومروج الذهب 2/ 137، والتنبيه والإشراف ص 100، وتجارب الأمم 1/ 44، والمنتظم 2/ 78.

فصل في ذكر ملوك الفرس الثانية

فصل في ذكر ملوك الفرس الثانية وأولُ ملوكهم ساسان الأصغر، وكان بالجبال لا يُؤبه إليه، فجمع جموعاً كثيرة، ومَلَك البلاد وأباد ملوك الطوائف، ولم يبقَ منهم غير الأردوان فهرب منه، واستولى ساسانُ على الممالك، وإليه تنتهي أنساب الفرس الثانية. وهو الذي كوَّر الكُوَر، ورتَّب الصنائع والحِرَف والنواميس، وأقام مدةً لم تضبط، ثم مات. فمَلَك بعده أرْدشير بن بابَك بن بَهْمن بن اِسْفَنديار بن بُشْتاسِف، فسمَّى نفسَه شاهِنْشاه الأعظم، وبنى المدائن، واستولى على الممالك، وإنما خرج طالباً بثأر ابنِ عمِّه دارا بن دارا بن بَهْمن الذي قتله الإسكندر. وكان مولده بقرية من قرى اِصطَخْر، وكان أبوه بابَك شجاعاً يلتقي وحدَه مئةَ رجل (¬1)، وقتل أردشير الأردوان (¬2) ووَطئ رأسه بقدميه، وفي ذلك اليوم تسمَّى بشاهنشاه الأعظم، وكان منصوراً لا تُردّ له رايةٌ. وملك خمس عشرة سنةً، واختلفوا في نسبه، ولا خلاف أنه من ولد مِنُوجِهْر. وهو أول مَن خَطَب من الفُرس الثانية، فقال لمّا قتل الأرْدَوان (¬3): الحمدُ لله الذي خَصَّنا بنعمه، ووفَّر لنا من عطاياه، وشملنا بفوائده، ومهَّد لنا البلاد، [وقاد إلى طاعتنا] العباد، ألا وإنّا شارعون (¬4) في إقامة منار العدل، وإدرار الفَضْل، وتشييد المآثر، والإقبال على الرأفة والرحمة، وإنصاف الضعيف من القوي، ومن الشريف للدَّنِيّ، فإن العدل سُنَّة محمودة، وشريعةٌ مسلوكة، وسترون في أيامنا ما تَحمَدونا عليه، وتشكُرونا على فِعْله، وسوف تُصَدق أفعالُنا أقوالَنا. . . في كلام طويل. وبأرْدشير اقتدى الخلفاءُ والملوك في ترتيب الممالك، فإنه رَتَب الناس على ثلاث طبقات؛ فالأولى: الحكماء والعلماء وكان مجلسُهم عن يمينه، والثانية: الملوك وأبناؤهم ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 2/ 37، والمنتظم 2/ 79 أن جده ساسان هو الذي يلتقي وحده ثمانين رجلاً. (¬2) في النسخ: وقتل ملك أردشير الأردوان. (¬3) في النسخ: لما قتل ملك الأردوان، وانظر تاريخ اليعقوبي 1/ 159، والطبري 2/ 40، ومروج الذهب 2/ 152، وتجارب الأمم 1/ 54. (¬4) فى مروج الذهب 2/ 152 وما بين معكوفين منه: ساعون.

وسمَّاهم الخواص، وكان عن يساره، والثالثة: المَرازبة والأصبَهبذية وهم بين يديه. ولم يكن شي هذه الطبقات وضيعٌ ولا خسيسُ الأصل ولا ناقصُ الخَلْق (¬1). ثم زادهم سبعَ طبقاتٍ: أولها: الوزراء، والثانية: الموابِذة، وهم الحكام والقُضاة وأصحاب الشرع، والثالثة: نُوَّاب هؤلاء. وجعل الأصبَهْبذية أربعةً: فالأولُ على خراسان، والثاني على بلاد الشمال، والثالث على المغرب، والرابع على ناحية الجنوب. ودانت له الدنيا. ومن كلامه: معاشرةُ الوضيع للشريف شهراً، تُفسِد عقلَه دهراً، وقال: يجبُ على الملك أن يكون فائضَ العدل، فإن فيه جِماعَ الخيرات، وهو الحِصنُ الحصينُ من زوال المُلْك، وإن أول مخايل الإدبار في الملك ذهاب العدل منه (¬2)، وما خفقت رايةُ الجَوْر في دولة إلا لَفَحتها نسائم الخِذْلان فردَّتها على أعقابها. وليس أحد ممن يصحب الملوك أولى باستجماع مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، وطرائف المُلَح، وغرائب النُّتَف من النَّديم، فإنه يحتاج إلى تواضع العبيد مع قُربه من الملك، وعفاف النُّساك، ووقار الشيوخ، وأن يفهم ما مُرادُ الملك فيناجيه على حسب ما يبلوه من خلائقه، ويكون له جمالٌ ومروءة، أما جمالُه فنظافة ثوبِه، وطيب رائحته، وفصاحةُ لسانه، وأما مروءتُه فكثرةُ حيائه، ووقار مجلسه مع طلاقةِ وجهه، وأن يستكمل المروءةَ حتى يَسلُوَ عن اللذَّة (¬3). وكتب إلى من كان بقربه من ملوك الطوائف يخبره بما أجمع عليه من الطلب للمُلْك لما فيه من صلاح الرعية وإقامة العَدْل، وكان من كتابته: من أردشير بن بابَك المُستأثَر دونه بحقِّه، المغلوب على ميراث آبائه، الداعي إلى الله المستنصرِ به، فإنه وَعَد المظلومين النصرَ والظَّفَر، وجعل لهم العاقبةَ، إلى من يصلُ إليه كتابي هذا من ملوك الطوائف، سلامٌ عليكم بقدر ما تستوجبون به معرفةَ الحق، وإنكار الباطل والجَوْر. فمفهم مَن أقرَّ له بالطاعة، ومنهم مَن تربَّص عليه، ومنهم من عصاهُ. فلما استوسق ¬

_ (¬1) انظر مروج الذهب 2/ 153. (¬2) في النسخ: وإن أول مخايل الملك في الإدبار وذهاب عدله، والمثبت من مروج الذهب 2/ 155. (¬3) في مروج الذهب 2/ 156: ولا يستكمل المروءة حتى يسلو عن اللذة.

ملكُه، أباد من تربَّص عليه وعصاه (¬1). وكتب إلى رعيته: مِن أرْدشير ملك الملوك، ووارث العُظماء المؤيَّد، إلى العلماء الذين هم حملةُ الدّين، والأَساوِرة الذين هم حُفَاظ الدولة، والكُتَّاب الذين هم زينُ المملكة، سلامٌ عليكم؛ اعلموا أنَا قد وضعنا عن رعيَّتنا بفضل رأفتنا الإتاوةَ التي كانت عليها، ونحن كاتبون بوصيةِ فاحفَظُوها: لا تستشعروا الحقد فيَدهَمَكم العدوُّ، ولا تحتكروا فيشمَلَكم القحط، وتزوَّجوا في الأقربين؛ فإنه أمسُّ للرحم، وأثبتُ للنسب، ولا تعدوا هذه الدنيا شيئاً فإنها لا تُبقي على أحد، ولا تهتموا لها، فالرزق بيد الباري، ولا ترفضوها بمرَّة فإن الآخرة لا تُدرَك إلا بها (¬2). وأجدبت الأرض، فكتب إلى عُماله: ليس من العدل أن يفرح الملكُ ورعيتُه محزونون، ثم فرق جميع ما في بيت المال. ورُفع إليه أن جماعةً من بطانتك قد فسدت نياتهم، فكتب عليها: إنما أملكُ الأجسام دون النيات، وأحكُم بالعدل دون الرضى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. ومدحه مادح فقال: طُوبى للممدوح إن كان أهلاً للمدح (¬3). وكتب إليه مُتَنصِّح: إن قوماً اجتمعوا على ثلبك، فوقع عليها: لئن كانوا نطقوا بألسنةِ شتَّى لقد جمعتَ ما قالوه في ورقتك، فجرحُك أعجب، ولسانك أكذب. وكتب إليه جماعة من بطانته يشكون إليه سوءَ حالهم، فوقَّع: ما أنصفكم مَن ألجأكم إلى الشكوى. ثم فرَّق فيهم مالاً وأغناهم. قال ابنُ قتيبة: وهو الذي بنى مدينة جُور بفارس، ومدينة أرْدشير بفارس أيضاً، ومدينة أَستَراباذ، وهي كَرْخُ مَيْسان، ومدينة الأُبُلَّة وغيرها (¬4). ولما تمَّ لأرْدشير أمره، ودانت له الممالكُ، زَهِد في الدنيا وانقطع إلى بيوت ¬

_ (¬1) المعارف ص 653. (¬2) مروج الذهب 2/ 162 - 163. (¬3) العقد الفريد 1/ 25 و 2/ 133 و 4/ 222، وزهر الآداب 1/ 207. (¬4) المعارف ص 654.

فصل

العبادات والخلوة، وأجلس ولدَه سابور مكانه وتَوَّجه، وكان أكبر ولده وأعقلَهم وأفضلَهم. وأقام أرْدشير ثلاث سنين يتعبد، ولما احتُضِر أوصى ولده سابور، وكان فيما أوصاه: يا بُني إن الدّين والمُلك توأمان لا غِنى لواحد منهما عن الآخر، فالدِّين أساس، والملك حارس له، وما ليس له أُسٌّ فمهدوم، وما لا حارس له فضائغ (¬1). فصل في ذكر ولده سابور، ويقال له: سابور الجنود، لكثرة جنوده واعتنائه بهم، ولما ولي سار بسيرة أبيه وزاد عليها، وأحسن السياسة، وضبط الممالك، ولما شاع ذلك عنه كتب إليه قيصر: لمّا بلَغَني حسنُ سيرتك وتدبيرك، أحببتُ أن أسلُكَ طريقتك، فاكتُب بها إلي. فكتب إليه: اعلم أني ما نِلتُ ما نلتُ إلا بثلاث خصال: لم أَهزِل في أمرٍ ولا نهي، ولم أُخلِف وعداً، وربَّما أخلفتُ وعيداً، ولا عاقبتُ إلا للذنب لا للغضب. وسابور هو الذي حاصر حصن الضَّيزَن، وقيل: اسم الحصن السَّاطِرون وهو على الفرات، وقيل: هو الحَضْر، وقيل: السَّاطِرون اسم الملك. وقال أبو عبيدة: اسمُ الملك الضَّيزَن بن معاوية بن مالك التَّنوخي القُضاعي، ويلقب بالسَّاطِرون. وكان السبب في قَصْد سابور له، أنه غاب بخُراسان يُحارب عدواً له، فتطرَّق الساطرون إلى بلاده، فلما عاد سابور حصره في الحصن -وكان حصناً لا يُراد- فأقام عليه أربع سنين، وكان للملك ابنةٌ يقال لها: نَضيرة، ولم يكن في زمانها أجملُ منها، فنظرت من فوق الحصن إلى سابور فعَشِقته، فراسلته: إن دَللتُك على عورة الحصن أتتزوَّجُني؟ قال: نعم. قالت: فعليك بحمامة مُطوَّقة زرقاء، فاكتب في رجليها بحيض جارية بكرٍ، يُفتح بها الحصن فهي طِلَّسْمُه، وسقت هي حراس الحصن الخمر، وفعل هو، فانْهَدم جانبُ الحصن، ودخله عَنْوةً، فقتل الملك وأَقيال قُضاعة، وأخرب الحصن، وحمل معه نَضيرة فأعرس بها، فلم تزل طول ليلتها تقلق على الفراش، وكان ¬

_ (¬1) مروج الذهب 2/ 162.

فصل

محشُوًّا حريراً وقَزّاً، فقال لها: ما الذي بك؟ ثم فتش الفراش وإذا بطاقة آس كانت عليه قد أثَرت في عُكْنَةٍ من عُكَنِها، وكان ينظر إلى مخّ ساقها من لين بشرتها، فقال لها سابور: بأي شيءٍ كان يَغذُوك أبوك؟ فقالت: بالزُّبد والمخ والشَّهد وصَفْو الخَمْر. فقال: إذا كان أبوك فعل معك هذا وقابلتيه بما فعلت؟ ! فلا آمَنُك أن تفعلي بي كما فعلتِ بأبيك. ثم شدَّ ضَفيرتَها في رِجْل فرسين وأمر أن يُركَض بهما، فَرُكِضَ فقُطِّعت قطعاً قطعاً (¬1). وسابور هو الذي بنى جُندَي سابور، وكانت أيامُه ثلاثين (¬2) سنة، وقيل: إحدى وثلاثين سنة. ولما احتُضر دعا ولده هُرمز بن سابور فأوصاه، ثم مات. وملك بعده ولده هُرْمُز، وكان عادلاً منصفاً على سَنَن جدِّه، وكان يُلقب بالبطل لشجاعته، وهو الذي بنى بالعراق دَسْكَرة الملك، وأقام والياً سنة واحدة، وقيل: ثلاث سنين، ثم مات. ويقال: إن أباه اتَّهمه بأمر وأبعده عنه، فقَطع يد نفسِه وبعث بها إليه، فاستحى أبوه وقال: ما يَصلُح للمُلك سواه، فولَّاه الملك. ولما احتُضر، عَهِد إلى ولده بهرام بن هرمز. فصل ملك بهرامُ، وقتل ماني الزنديق القائل بمذهب الثَّنَوية، وصلَبه، وحشى جلده تِبناً وعلَّقه على باب جُندَيْ سابور. واختلفوا في ظهور ماني، فقال قوم: ظهر في أيام أرْدشير بن بابَك، وقال بإلهين اثنين، وأباح نكاح المحرَّمات كالأمهات والبنات والأخوات. وقال لأردشير: لا بُدّ لي من أم سابور أطؤها، فإن في ظهري نبياً، وما أحبُّ إلا أن يكون فيها. فأجابه أردشير إلى ذلك، وعزَّ على سابور، فبكى بين يدي ماني، وتضرع إليه، فسكت عنها. وقيل: إن سابور لما وَلي قتَله، وقيل: بل قتله بهرام بن هُرمز لأنه طلب منه أن ينكح أمَّه ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 2/ 47 - 50، وتجارب الأمم 1/ 69 - 71، والمنتظم 2/ 81 - 82. (¬2) في النسخ: ثمانين، ولم يذكر أحد أنه ملك هذه المدة، انظر المعارف ص 654، والأخبار الطوال ص 47، وتاريخ الطبري 2/ 51، ومروج الذهب 2/ 163 و 166، والتنبيه والإشراف ص 103، والبدء والتاريخ 3/ 158، وتجارب الأمم 1/ 17، والمنتظم 2/ 82.

فصل

كما أراد أن يفعل بسابور، فقتله. وأقام بهرام في الملك عشرين سنة، ثم مات (¬1). فصل فولي بعده ولدُه نَرْسي، فأقام تسع سنين على منهاج أبيه، ثم مات. فوَلي بعده هرمز ابن نرسي، فأقام سبع سنين ومات. فصل ولما مات هُرْمُز بن نَرسي لم يُخلِّف ولداً، فشَقَّ على الفرس، وسألوا نساءَه: هل فيكن حاملٌ؟ فقالت امرأة منهن: أنا. ففرحوا وبعثوا إليها القوابلَ، وقد استبان حملُها، ورأَيْنَ من نضارة لونها، وخِفَّة الجنين في بطنها ما دلَّهن على أنه ذكرٌ، فأخبرنَ الفرس، فاجتمعوا ووضعوا التاجَ على بطنها. فلما انقضت أيامُها وضعت ولداً فسمَّوهُ سابور، واستبشروا به. وأقام الوزراءُ والأساوِرَة يُدبّرون أمرَ الفرس، وفشا في الآفاق أن الفرس يُملِّكون الحمل، ومَن هو في المهد، فطمع فيهم الناس، وغزتهم العرب: عبدُ القَيْس وكاظمةُ والبحرين (¬2)، والروم، والترك، وكثر الفساد وقلَّت هيبة الفرس. فلما ترعرع سابور كان أوَّل ما عُرِف من علوّ هِمَّته أنه سمع بالمدائن عند السَّحَر ضجَّة، فسأل عنها، فقيل له: الناسُ يَزدحِمون على جسر المدائن مُقبِلين ومُدبِرين. وكان الجسر على دِجْلة، فقال: وما الذي دعاهم إلى هذه المشقَّة وهم قادرون على حَسْمِها بأيسر مؤونة، بأن يجعلوا جسرَين: أحدهما للمُقبلين، والآخر للمدبرين، ولا يقعُ أحدٌ في الماء. ثم قال: لا تغربُ الشمس حتى يُعمَل الجسر. ففرح الناس لِما رأوا ¬

_ (¬1) كذا ذكر، والذي ذكره المؤرخون أن بهرام بن هرمز ملك ثلاث سنين وثلاثة أشهر، ثم قام بعده بهرام بن بهرام بن هرمز، وبقي ثماني عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة، ثم ملك بعده بهرام بن بهرام بن صهرام بن هرمز، فبقي أربع سنين وقيل: أربعة أشهر. انظر المعارف ص 655، والأخبار الطوال ص 47، وتاريخ اليعقوبي 1/ 161، وتاريخ الطبري 2/ 53، 54، ومروج الذهب 2/ 167، 168، 174، والتنبيه والإشراف ص 103 - 104، والبدء والتاريخ 3/ 158، 159. (¬2) في تاريخ الطبري 2/ 55، وتجارب الأمم 1/ 72: فسار جمع عظيم منهم في البحر، من ناحية بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة حتي أناخوا على أبرشهر. . .

من علوّ همته. ولما بلغ ستَّ عشرة سنة سار إلى العرب الذين تَحزَّبوا عليه، ومنهم إياد بن نزار، وكان يقال لها: طَبَق، لإطباقها على البلاد، ومَلِكُها يومئذٍ الحارث بن الأغرّ الإيادي، فقتلهم سابور وسباهم ونفاهم، وجعل له مسالح بالأنبار وعَيْن التمر، فكان إذا أُتي بالرجل منهم نزع كتفَيْه، فسُفي ذا الأكتاف. قال ابنُ الكلبي: بعث معاويةُ جماعةً من تميمٍ ليفتكوا بعلي عليه السلام، فقال: [من الخفيف] إنَّ حيًّا يَرى الصلاحَ فساداً ... ويرى الغيَّ في الأمور رَشادا لَقريبٌ من الهلاك كما أَهـ ... لَك سابورُ بالسَّوادِ إيادا (¬1) ولما فرغ سابور من إياد سار إلى البحرين وبها بنو تميم، فقتلهم وأجلاهم، وعليهم عمرو بنُ تميم، وكان قد أتت عليه ثلاثُ مئة سنة، وكان يُعلَّق في عمود في البيت في قُفَّة قد اتّخِذت له، فأرادوا حملَه فقال: دَعُوني، فلعلَّ الله يُنجيكم بي من صَوْلة هذا الملك المُسَلَّط على العرب. فتركوه وانهزموا، وجاءت خيلُ سابور وعمرو معلَّق في شجرة، فأخذوه وأتوا به إلى سابور، فلما رآه عَجِب وقال: مَن أنت أيها الفاني؟ فقال: عمرو بن تميم. ثم قال لسابور: أيها الملك، قد هرب الناس منك، فلم تقتلُ رعيّتَك؟ فقال: لما ارتكبوا من بلادي وأهل مملكتي، فقال له عمرو: فعلوا ذلك ولستَ عليهم بقيّم، فلما بلغتَ أمسكوا هيبةً لك. فقال: إنما أقتُلهم لأنا نجد في علومنا أن العرب ستُدالُ علينا. فقال له عمرو: فوالله لأن تُحسنَ إليهم ليكافئوك عند الإدالة أولى بك من الإساءة. قال: صدقت. وأمر برفع السيف عنهم. وعاش عمرو بعد هذا اليوم ثمانين سنةً (¬2). وسابور هذا هو الذي بنى الإيوان وسكَنَه، وكان إلى جانبه كوخُ عجوزٍ فلم يُغيِّرْه. ولما اجتاز هارون الرَّشيد بالإيوان نزل به فأعجبه، فقال خادم من خُدَّامه لآخر: ترى الذي بنى هذا الإيوان أراد أن يَصعدَ إلى السماء؟ ! فسمعه هارون فضربه مئةَ سوط، ¬

_ (¬1) مروج الذهب 2/ 77 - 178، والبدء والتاريخ 3/ 160 - 161. (¬2) مروج الذهب 2/ 178 - 181.

فصل

فقيل له في ذلك، فقال: المُلْك نِسبةٌ، والملوك فيه إخوة، فلَحِقَني غَيْرةٌ على الملك، فأدَّبت هذا الجاهل. وسابور هذا هو الذي بنى نيسابور بخراسان، وهو الذي دخل بلاد الروم متجسساً وعرفه مَلكُ الروم، فأخذه وجعله في بقرةٍ من جلود، وأتى به العراقَ، ثم نصره الله عليه، وملك اثنتين وتسعين سنة (¬1)، وقيل: إحدى وثلاثين سنة. فصل ثم ملك بعده أخوه أرْدشير بن هُرْمُز، فأَفسد وظلم، وأساء السيرة، فخلَعَتْه الفرس، وكانت مدةُ أيامه أربعَ سنين. فصل ثم ملك بعده ابنُ أخيه سابور بن سابور بن هُرْمُز، وكان عادلاً منصفاً، فأقام إحدى عشرة سنة، وقيل: خمس سنين (¬2)، ضربوا له فُسْطاطاً فوقع عليه، فمات. فصل ثم ملك بعده أخوه بهرام بن سابور ذي الأكتاف، وكان يُلقَّب: كَرمان شاه، وكان عادلاً حسن السيرة والسياسة، فأقام إحدى عشرة سنة، ثم تجبَّر وطغى، فرماه رجل من الفُتّاك بسهم فقتله. فصل ثم ملك بعده يَزْدَجِرد بن بهرام بن سابور، وكان يُلقَّب بالأثيم لسوء سيرته، وكان يحتقرُ العلماء، ظالماً جباراً، سيئ الخُلُق، لا يَقبل شفاعةً، ولا يجازي على صنيع، وكان ينزل بجوجان، فلما رأى ذلك أهلُ مملكته وأشرافُهم، اجتمع الصلحاء منهم والمظلومون ودَعَوا عليه، وصرفوا هممهم إليه. ¬

_ (¬1) في المعارف ص 659، والأخبار الطوال ص 50، وتاريخ اليعقوبي 1/ 162، وتاريخ الطبري 2/ 61، ومروج الذهب 2/ 175، والتنبيه والإشراف ص 104، والبدء والتاريخ 3/ 163، وتجارب الأمم 1/ 77، والمنتظم 2/ 87 أنه ملك اثنتين وسبعين سنة. (¬2) الذي ذكره المؤرخون أنه ملك خمس سنين وأشهراً، انظر المصادر في الحاشية السابقة.

فصل

فبينما هو ذاتَ يومٍ في قصره إذا بفرسٍ عائرٍ (¬1)، لم يُرَ مثلُه في الخِلْقة، فجاء فوقف على باب قصره وبلغه، فأمر بإسراجه وإلجامه وإدخاله عليه، فقام السُّوّاس إليه، فلم يُمكِّنْهم من نفسه، فقام يزدجرد إليه بنفسه، فلما رآه الفرس سكن، فألجمه وأسرجه، فلما أراد أن يرفع ذنبه ليُثْفِرَه (¬2) استدبره الفرس، ورفسه على رأس فؤاده، فمات من ساعته، وذهب الفَرس فلم يُرَ له أثر. وروي أنه ركبه فجرى به مثل الطير، فاقتحم به البحر فهلك، ففرح الناسُ وقالوا: هذا صُنعُ الله تعالى. وأقام والياً اثنتين وعشرين سنة. فصل ثم ملك بعده ولده بَهرام بن يَزدجِرد، ويسمى: بَهرام جُور. وكان المنجمون قد أخبروا أباه عند مولده أنَّ إرضاعه يكون ببلاد العرب، فضمه إلى المنذر بن النعمان صاحب الخَوَرْنَق والسَّدِيْر، فاسترضع له المراضع. فلما بلغ [خمس] سنين قال للمنذر: أحضر لي مؤدِّبِين يعلِّموني (¬3) الكتابة والرمي. فقال له: إنك صغير السن. فقال: أنا وإن كنتُ صغير السنّ فعقلي عقلُ مُحتنِكٍ، وأنت مُحتنك وعقلُك عقلُ رضيع، أما علمتَ أني من ولد الملوك، وأن المُلك صائر إليَّ، وأولُ ما يُطلب من الملوك (¬4) صالحُ العمل والأدب، لأنه زَيْن لهم وركن لدولتهم. فاستدعى العلماء من الآفاق والرماة، فما بلغ اثنتي عشرة سنة إلا وقد برع وكَمُل حاله، وتعلَّم الفروسية. ودفع له المنذر فرساً أشقر فكان يأخذ عليه الأسد. ثم إنه قصد باب أبيه يَزْدَجِرد فلم يقبله، فأنف أن يعود إلى المنذر، فسار إلى الهند، فأكرمه ملك الهند وزوَّجه ابنته، وأقطعه الدَّيْبُل ومُكْران والسِّند. ¬

_ (¬1) عار الفرسُ، إذا ذهب يتردد كأنه مُنْفَلِت. المخصص 6/ 170. (¬2) ليشد عليه السير الذي في مؤخر السرج. القاموس (ثفر). (¬3) في النسخ: يعلماني، والمثبت من تاريخ الطبري 2/ 69، وتجارب الأمم 1/ 79، والمنتظم 2/ 92 وما بين معكوفين منها. (¬4) في النسخ: الملك.

فصل

فلما هلك أبوه يَزدجِرد عاد إلى المنذر، وكانت الفُرس قد ملكت عليها رجلاً من غير نسل يزدجرد لِما لقوا منه، فقال له المنذر. طِبْ عيشاً، وسار إلى المدائن مع بهرام في أربعين ألفاً، فخرج إليه الأساورة، وشكوا إليه ما لقوا من أبيه، فعذرهم، وقال: لِله عليَّ لئن وليتُكم لأُصلحنَ ما أفسد. واجتمعت الموابذةُ، وحضر الرجل الذي ولَّوه، فقال موبذ موبذان: ضعوا التاج بين أسدين ضاريين، فمَن أخذه منكما فهو أحقُّ بالمُلك. فقال بهرام: أنصفتم. فأحضروا التاج والأسدَين، ورموه بينهما، فصاح بهرام بالرجل: أيها المتغلِّبُ على مُلكنا، دونك التاج. فقال له: أنت أولى؛ لأنك تطلب الملك بالميراث، وأنا في زي غاصب. فصاح موبذ موبذان ببهرام: بوبد بويك، فنحن برآء من دمك. فحمل على الأسدين، ووثب فصار على ظهر أحدهما، وعصر جانبيه برجليه فقتله، ثم أخذ رأس الأسد الآخر، فما زال يضرب به رأس الأسد الآخر حتى قتله، وهو يومئذٍ ابنُ عشرين سنة، فصاح به الرجل المتغلب: يا بهرام، ليَهْنِك المُلك. ولما ملك اشتغل باللهو واللذات عن الرعية، فسار إليه خاقان ملك الترك في مئتين وخمسين ألفاً، فبيَّته بهرام ليلاً فقتله، وغنِم أمواله وعساكره، وعَظُم في عين الفرس. ثم أقام ثلاثاً وعشرين سنة وعشرة أشهر، ثم هلك. وسبب هلاكه أنه كان مُغْرىً بالصيد، فظهر له حمار وحشٍ، فركض خلفه فوقع في جُبٍّ فيه ماء فغرق، فأُخبرت أمُّه فقصدت الجب، وأنفقت أموالاً عظيمة على الغوَّاصين، ولم يقدروا على جثته بعد أن أخرجوا كل ما في الجُب. ولم يزل مغلُّ الدَّيبُل ومَكران والسِّند يُحمل إليه حتى هلك. فصل ثم ملك بعده بهرام بن بهرام (¬1)، فاشتغل باللهو والصيد عن النظر في الأمور، ¬

_ (¬1) كذا ذكر المصنف، وذكر المؤرخون أن الذي ملك بعد بهرام جور هو: يزدجرد بن بهرام جور، والقصة التي ساقها المصنف إنما جرت لبهرام بن بهرام بن هرمز، كما ذكر المسعودي في مروج الذهب 2/ 168، ثم ملك بعد جهرام هذا: بهرام بن بهرام بن بهرام بن هرمز، ثم ملك نرسي بن بهرام. انظر المعارف ص 661، والأخبار=

فصل

فخربت البلاد، وعمَّ القحط، وضعفت بيوت الأموال، وقلّ الجند، وهرب الفلاحون. فركب بهرام يوماً إلى بعض مُتنزهاته، فجَنَّ عليه الليلُ وكانت ليلةً مقمرة، والموبذ يُسايره ويحادثه، فمروا بقرية كانت أمَّ القُرى، وهي خرابٌ لا أنيسَ بها إلا البوم يصيح ويتجاوب، فقال بهرام: أتُرى أُعطي أحدٌ من الناس فهمَ منطقِ هذا الطير المتجاوب في الليل الهادئ؟ فقال الموبذ: نعم أنا أعرفُ. قال: فما يقول؟ قال: هذا المصوِّتُ بومٌ ذَكَر يخاطب بومة أنثى، يقول لها: أمتعيني بنفسك حتى يخرج منا أولادٌ يسبحون الله، ويبقى لنا في العالم ذكرٌ. فقالت البومة: إن لي في هذا الحظَّ الأوفر، ولكن أريد أن تقطعني إقطاعاً على ذلك عِوضَ مَهري، فقال: وما هو؟ قالت: عشرين قرية من أمهات القرى الخراب التي خربت في أيام هذا الملك السعيد. فقال لها: إن دامت أيامُه أقطعتك ألف قريةٍ خراباً. فلما سمع بهرام ذلك، ترجَّلَ عن فرسه وقال للموبذ: أيها القيِّمُ بأمر الدين، الناصح للملك، المُنبِّه على ما أهمله الملك من أمور رعيته، وإضاعة مملكته، ما هذا الكلامُ الذي خاطبتني به؟ ! فقد حركتَ مني ما كان ساكناً، وأيقظتَ ما كان غافلاً. فقال: أيها الملك، اعلم أنه لا قِوام للملك إلا بالرجال، ولا رجالَ إلا بالمال، ولا أموال إلا بالعمارة، ولا عمارة إلا بالعدل، لأن العدل هو الميزان بين العالم، نصبه الله لخليقته، وأقام له قيِّماً وهو المَلك، وإنك أقطعتَ البلاد الوزراءَ والخدم والحاشية، فأخذوا ما كان فيها من الغَلّات، ولم يَعمروها فخرِبت. فجزاه بهرامُ خيراً، وعاد إلى النظر في أمور رعيَّته بنفسه، فحسُنت أيامُه، واستقام ملكه، ثم أقام مالكاً أربعاً وعشرين سنة، وقيل: سبع عشرة سنة. فصل واختلفوا فيمن ملك بعده على ثلاثة أقوال: أحدها: بهرام بن بهرام، ونظير ذلك في ملوك غسان: الحارث الأصغر بن ¬

_ = الطوال ص 58، وتاريخ اليعقوبي 1/ 163، وتاريخ الطبري 2/ 81، ومروج الذهب 2/ 193، والتنبيه والإشراف ص 104، والبدء والتاريخ 3/ 165، وتجارب الأمم 1/ 85، والمنتظم 2/ 104 وغيرها.

فصل

الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر، وفي الطالبيين: حسن بن حسن بن حسن، وفي المحدّثين: هاشم بن هاشم بن هاشم بن عُتبة بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن ابن المُجَبَّر، وعلى هذا الباقي كثرةٌ في المتأخرين. والثاني: فيروز بن يَزدجِرد بن بهرام بن سابور، وقُحِط الناس في زمانه سبع سنين، ثم استسقى فسُقوا، وجاء الله بالخصب، وكان مُلك فيروز ستاً وعشرين سنة. والثالث: إنما ملك بعد بهرام بن بهرام ولدُه يزدجرد، وكان محمود السيرة، فأقام ثماني عشرة سنة. فصل ثم ملك بعد يزدجرد ابنُه هرمز، وكان له أخ يُقال له: فيروز بن يزدجرد، وهو الذي ذكرناه آنفاً، فنازع أخاه هُرمز على الملك، فلم يقدر عليه، فهرب فيروز إلى ملك الهياطلة، واستجار به فأجاره، وبعث معه جيشاً، فحارب أخاه هرمز، فلم يكن لهرمز بفيروز طاقة فضعف، واستولى عليه فيروز فقتله، وكان مُلك هرمز سبع عشرة سنة. وكلّ مَن تقدم هرمز من الملوك مات على فراشه إلا هو، فإن أخاه فيروز قتله. ثم أقام فيروز بعده مدة يسيرة وهلك، وملك بعده ولده بلاش بن فيروز، فأقام أربع سنين ثم هلك. فصل ثم ملك بعده أخوه قُباذ بن فيروز، وهو الذي بنى حلوان. ولما مضت لقباذ عشر سنين اجتمعت الفرس على خلعه، وسببه أنه تابع رجلاً يقال له: مَزْدَك، أحدث مقالاتٍ لا يعرفها الفرس من إباحة الأموال والفروج، وكان لا يأكل اللحم ولا يسفك الدم وغير ذلك، فأخذوا قباذ فحبسوه، وأقاموا أخاه جاماست بن فيروز فأقام ستَّ سنين. ثم إن أخت قباذ احتالت حتى دخلت إلى الحبس، ولفت أخاها في بساط وأخرجته على قفا حمال، ولم يعلم السجان، فمضى قباذ إلى ملك الهياطلة واستجار به، فأنجده على أخيه جاماست، فجاء فقتل جاماست وأخذ الملك. فصل ثم ملك أَنُوشِرْوان بن قباذ المسمى بالملك العادل، واختلفوا في أبيه قباذ بن

فصل

فيروز، فروي أنه لما هرب من أخيه (¬1) بسبب نسبته إلى الزندقة، ومضى إلى بلاد الترك، نزل على دهقان فتزوج ابنته، فأولدها أنوشروان، فلما قدم المدائن وملك تيمن بطلعة أنوشروان. قالوا: وقباذ بنى مدينة أَرّجان، وأقام في الملك أربعاً وأربعين سنة ومات بالمدائن، فعهد إلى ابنه أنوشروان. وقيل: أشارت عليه المَزْدَكِيَّة بقتل مَن خالفه، فشرع في ذلك، فاجتمعت الفرسُ على قتله، فانهزم إلى ملك الهياطلة فمات عنده. وكان ولده أنوشروان بالمدائن، فملكوه بعده لما رأوا من نجابته وحسن سيرته. فصل فلما ملك أحسن السيرة، ومهَّد الممالك، وأحسن إلى الموابذة والأساورة والخاص والعام، وشرع في قتل المَزْدَكيَّة فأفناهم، فعَظُم في عين الفرس. وكان مولده بناحية نَيْسابور، ولما ترعرع كانت مخايل الملك لائحةً عليه. وفي أيامه وُلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسلك أنوشروان سيرة أَردَشير بق بابك، وجدَّد في الإيوان. وروي أنه كان جالساً في الإيوان، فرأى على جانب البساط وردةً، فقال لبعض غِلمانه: ناولْني تلك الوردة. فقال: ما ها هنا وردةٌ؟ قال: بلى. فقال: لا والله. فقام من حَنَقه ليأخذها، فلما خرج من الإيوان سقط سقفُه، فتصدَّق بمال جليل، وأعاد السقف إلى حاله. وكان جالساً يوماً في الإيوان، وإذا بحيَّةٍ قد دبَّت إلى عُشِّ حمامة في بعض شُرَف الإيوان لتأكل الفراخ، فضربها ببندقةٍ فقتل الحية، وقال: هكذا نفعلُ بعدوِّ مَن استجار بنا. فلما كان بعد أيام جاءت الحمامةُ بحَبٍّ في مِنقارها وبين رجليها فألقته إليه، فقال: ازرعوه. فزرعوه فنبت ريحاناً، فقال: نِعْم ما كافأَتْنا به الحمامةُ، ولن يضيع المعروف، فنسأل الله الذي ألهم هذه الحمامة ما ألهمها، أن يُلهمَنا شكرَه، والإحسانَ إلى الرعية والصبرَ عليهم (¬2). ¬

_ (¬1) في النسخ: أبيه، وهو خطأ. (¬2) المنتظم 2/ 111 - 112.

وروي أن خطَّافةً عشَّشت في مجلس أنوشروان، فدبّت حيّةٌ فأخذت فِراخها، فحزنت حُزناً شديداً، فعَزّاها جميعُ الطير، فلم تقبل عزاءً، فلامها بعض الطَّير، فقالت: والله ما أبكي على نفسي الرزيَّة، وإنما أبكي لما جرى علي من الظلم في مجلس العدل. فقيل لها: إن أنوشروان لم يعلم. فقالت: هذا أعظم، يتولَّى أمورنا وَيغفل عنا. وكان على خاتمه: عَدلُ السلطان خيرٌ من خِصب الزمان. وكان له أربعة خواتيم: خاتم الخراج، وفَصُّه ياقوت أحمر يَتَّقد كالنار، ونَقْشُه: العدل. وخاتم الضِّياع، وفصه فيروز، ونقشه: العمارة. وخاتم البريد، وفصه ياقوت أصفر، ونقشه: الوَحى الوَحى. وخاتم المعونة وفصه ياقوت كحلي ونقشه: التأني (¬1). وكان له جامُ ذهب يأكل فيه، فسرقه بعض الغلمان وكسرى ينظر إليه، فافتقد الطباخ الجام فلم يجده، فبُهت، فقال له كسرى: لا تتعنَّى، الذي أخذه ما يرده، والذي رآه ما يَنمُّ عليه. ودخل السارق بعد مدةٍ وعليه مِنْطَقةٌ من جوهرٍ، فقال له بالفارسية: هذا من ذاك. فخجل الرجل وخاف، فقال له كسرق: لا بأس عليك. وكتب إليه صاحب خراجه: إني قد جبيت في هذه السَّنة زيادةً على المعهود ثمانية آلاف ألف درهم. فوقَّع كسرى على ورقته: إن الملك إذا عمرت بيوت أمواله بما يأخذه من أموال رعيته، كان كمن عَمّر سطح بيته بما يقلعه من قواعد بنيانه. ثم أمر برد المال إلى الرعية (¬2). وأنوشروان هو الذي بنى السُّور على جبل القبج عند باب الأبواب، وغرم أموالاً جليلة، وحسم به مواد الفساد من الأمم التي خلفه، وعمل فيه الأبواب وأقام عليها الحرس. وقتل في يوم واحدٍ من المزدكية ثمانين ألفاً، وقتل مزدك أيضاً على النهروان من أرض العراق، وكان قد استفحل أمرهم. ¬

_ (¬1) مروج الذهب 2/ 204. (¬2) المنتظم 2/ 113، 114.

وبعث إليه ملك الروم رسولاً، فلما شاهد الإيوان هاله، وتأمله وإذا فيه يسيرُ اعوجاج، فقال: يحتاج أن يكون مربعاً، فقيل له: هكذا بُني، وإن عجوزاً لها إلى جانبه بيتٌ، وقد أرغبها الملك بالأموال النفيسة لتعطيه البيت فيدخله في الإيوان، فامتنعت، وقالت: هكذا وجدتُه وورثتُه عن آبائي. فتركها ولم يعرض لها لئلا يشقَّ عليها. فقال الرومي: هذا الاعوجاجُ أحسن من الاستواء (¬1). ويُروى أن العجوز قالت: أَرغَبْتَني في هذا الكوخ ما أشتري به المنازل العالية والقصور الشاهقة، ولكن قصدتُ شيئين؛ أحدهما: أن تبقى لك هذه المأثرة، ويتحدَّث بها الناس بعدك، والثاني: من أين لي جاز أجاوره مثلك، فلو أعطيتَني جميع ما تملك ما بعت به جوارك؟ فبكى الملك وقال: زِه، ولم يكن عنده أحظى منها. وسابور بنى الإيوان، وزاد فيه أنوشروان. وقال أنوشروان: صَلاحُ العمال باستقامة الوزراء، ورأسُ الكل تفقُّدُ الملكِ أمورَ رعيته، فإن صلاح الرعية أنصر من [كثرة] الجنود. وقال: أيام السرور كلمح البصر، وأيام الحزن تكاد تكون أعواماً (¬2). قال علماء السير: فتح أنوشروان الشرق والشام والمغرب والروم، وبنى مدينة قريبة من المدائن وسماها: رومية، ونقل إليها من الشام الرخام والمرمر والفصوص، وحكم بلاد الهند والصين، وزوَّجه خاقان ابنته وابنة أخيه، وخضعت له ملوك الدنيا، وكاتبوه وكانوا على بابه، وقطع النهر، وقتل الاخشنوار ملك الهياطلة، وكان ملكاً عظيماً، وأوغل في الهند وتخوم الصين، فخافته ملوك المشرق. وكتب إليه ملك الصين: من بود ملك الصين الذي له قصر الدرّ والجواهر واليواقيت، ويجري فيه نهران يسقيان شجر الكافور والعود، وتوجد رائحة قصره من مسيرة شهرين، ويخدمه ألف ملك، وفي مربطه ألف فيل بيض، إلى أخيه كسرى أنوشروان. وبعث مع الكتاب هدايا، من جُملتها فارش من دُرٍّ عيناه ياقوتتان، والفَرس ¬

_ (¬1) مروج الذهب 2/ 197 - 198. (¬2) مروج الذهب 2/ 210 وما بين معكوفين منه.

من الياقوت الأحمر، وقائم سيفه قضيب من الجوهر، وثوب حرير مرصّع بالجواهر، فيه صفة الملك وقصرُه وجُلاسه وعساكره، والجميع في سفَط من ذهب، تحمله جارية تغيب في شعرها، تتلألأ حُسناً وجمالاً. وأهدى له ملك الهند جاماً من الياقوت، فَتحُه شِبرٌ في شبر، مملوءاً دُرّاً، وعوداً يختم فيه كالشمع، وعشرة أَمْناء مثل الفستق (¬1)، وجارية طولها سبعة أذرع، تضرب أشفارُ عينيها خدَّيها، وبين أشفار عينها مثلُ لَمَعان البرق، لها ضفائر بطولها. وكاتبه ملوك الهند والصين في لحاء شجر الكاذي، مكتوب فيه بالذهب، له رائحة طيبة، وهو أرقّ من الورق، يكاتب فيه ملوك الهند والصين. وأنوشروان أول مَن وضع الخراج بالعراق على كل جَريب من المَزارع يبلغه الماءُ من الحنطة والشعير درهماً، وعلى جَريب الرَّطْبة خمسة دراهم، وعلى جريب الكَرْم عشرة دراهم (¬2). وكان يقال له: كسرى الخير. وكان قد علّق على ستر الإيوان أجراساً يُحرِّكها المظلوم فيسمع، ويقول: أخاف أن تحجب عني دعوة المظلوم (¬3). وقيل له: ما أعظم الكنوز قدراً وأنفعها عند الحاجة؟ فقال: معروفٌ أودعتَه الأحرار، وعلم أورثتَه الأعقاب. وقيل له: مَن أطول الناس عمراً؟ فقال: مَن كَثُر علمه فتأدّب به مَن بعده، أو كَثُر معروفه فتشرَّف به عَقِبه. وقال: الإنعام لقاح، والشكر وِلاد، والمُنعم هو الجاعل للشاكر إلى شُكره سبيلاً (¬4). ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 201 - 202: وأهدى إليه ألف منّ عوداً هندياً، يذوب في النار كالشمع، ويختم عليه كما يختم على الشمع فتتبين به الكتابة، وجاماً من الياقوت الأحمر، فتحه شبر، مملوءاً من الدر، وعشرة أمناء كافور كالفستق. قلت: والأمناء: جمع المَنّ، وهو رطلان. (¬2) في مروج الذهب 2/ 205: والكرم ثمانية دراهم، والرطبة سبعة دراهم. (¬3) المنتظم 2/ 115. (¬4) مروج الذهب 2/ 207 - 208.

وأنوشروان هو الذي مَلّك النعمان بن المنذر على العرب، وأمّه ماء السماء. وفي أيام أنوشروان ظهرت الحبشة على اليمن. وخرج أنوشروان في بعض أيامه مُتصيِّداً، فعَنَّ له صيد، فتبعه فانقطع عن أصحابه، وأظلَّته سحابة، فأمطرت مطراً حال بينه وبينهم، فمضى لا يدري أين يَقصد، فلاح له كوخٌ في البرية فقصده، فإذا عجوز على بابه جالسة، فقال لها: أنزل؟ قالت: نعم. فنزل ودخل الكوخ، وأدخل فرسه، وجاء الليل، وإذا بابنة العجوز قد جاءت ومعها بقرةٌ قد رعتها، فقامت العجوز فحلبتها لبناً كثيراً، فقال أنوشروان في نفسه: هذا حِلاب كثير، والخراج بالحماية، وينبغي أن تُجعل على كل بقرة إتاوة. وقدمت له اللبن، فشرب ونام إلى وقت السَّحَر، فقالت العجوز لابنتها: قُومي فاحلبي اللبن للضيف. فقامت لتحلبها فوجدتها حائلاً ليس في ضرعها قطرةٌ من لبن، فنادت يا أُمّاه، قد أَضمر الملكُ لنا شراً. فقالت: ولِم؟ قالت: هذه البقرةُ حائل لا قطرةَ فيها. فقالت: لعله ليل، امكثي قليلاً. فقال كسرى في نفسه: من أين علمَتْ ما أضمرتُ؟ أما إني لا أفعلُ ذلك. ثم مكثت ساعة، وقالت: قومي فاحلبيها. فقامت وإذا ضرعها قد امتلأ لبناً، فقالت: يا أماه، ذهب والله ما كان في نفس الملك من الشر، هذه البقرة حافل. وطلع الصبح، وجاء أصحابُه، فركب، وأمر بحمل المرأة وابنتها معه إلى قصره، وأحسن إليهما، ثم قال للعجوز: من أين علمت ابنتُك أن الملك قد أضمر في نفسه شرّاً ثم عَدل عنه؟ فقالت: نحن بهذا المكان منذ كذا وكذا سنةً، ما عُمل فينا بالعدل إلا أخصبت أرضُنا، وعاشت بلادُنا وأموالُنا، وما عُمل فينا بالظلم إلا أجدبت أرضُنا، وضاق عيشُنا، وانقطعت موادُّ النفع عنا. فقال كسرى: إن شَفقةَ الملك على رعيَّته وعدلَه فيهم يؤثر ما قلت، وإن غِشَّه لهم يُضيّق الأعطان، ويجدب الأوطان (¬1). وكان مُلكُ أنوشروان ثمانياً وأربعين سنة، وهو كان طِرازَ القوم، وواسطة عقدهم (¬2). ¬

_ (¬1) المنتظم 2/ 116 - 117. (¬2) من هنا سقط في (خ) إلى قوله: وجمع أبرويز من الأموال والخيول والفيلة والمماليك والجواري والأمتعة ما لم يجمعه أحد ممن تقدمه.

فصل

فصل ثم ملك بعده ولدُه هرمز، وكان عادلاً حسن السيرة، وكان في جرايته وراتبه ثلاثة عشر ألفاً، وأمه فاقم بنت خاقان، فالترك أخواله. ثم أساء السيرة وظلم، فقصده الأعداءُ من كل مكان، فسار إليه شابة ملك الترك في أربع مئة ألف لإحدى عشرة سنة مضت من مُلكه، ووصل إلى هَرَاة، وقصده ملك الروم في مئة ألف، فوصل إلى الضواحي (¬1)، وقصده ملك الخزر في ست مئة ألف، فوصل إلى باب الأبواب. فأرسل هرمز بهرام جوبين (¬2) مَرْزُبان الرَّي في اثني عشر ألف سرية، فكان يسري ليلاً وَيكمُن نهاراً، فبيَّت ملك الترك ولم يشعر به فرماه بهرام بسهم فقتله، وكان ذلك في السنة السابعة عشرة من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستولى على خزائنه وعساكره وذخائره. وبعث بهرام إلى هرمز من الأموال والأمتعة والجواهر وِقْر مئتي [ألف وخمسين ألف] بعير (¬3)، فاستكثر ذلك هرمز، فقال له وزيره وكان يحسد بهرام: ما أوصل إليك من الشاة إلا أذنها. فغضب هرمز، وأنفذ إلى بهرام حِمل جَملٍ مغازل، فقال بهرام للعساكر: قد جَعلَنا مثل النساء، فما تَرون؟ قالوا: نخلعه ونقاتله. وسار بهرام بالعساكر نحو المدائن، فاتَّفق عظماء المملكة على خلع هرمز لسوء سيرته وقبح تدبيره، فقال عظماء المملكة: نخلعه ونُولّي ابنه أبرويز. وعلم هرمز فبعث إلى ابنه أبرويز مَن يغتاله ويقتله، فهرب أبرويز إلى أَذْرَبيجان. وكان هرمز قد أفنى خواصّه وأربابَ دولته بالقتل، فيقال: إنه قتل ثلاثة عشر ألفاً، فانخرمت عليه قواعد الملك، وكان قد أزال أحكام الموابذة، وغيّر الأحكام، وأزال الرسوم، واستخف با لعلماء. فكتب بهرامُ اسم أبرويز بن هرمز على الدراهم والدنانير، ودسها مع التجار، ¬

_ (¬1) في (ب) و (ك): الصوافي، والمثبت من تاريخ الطبري 2/ 174، والمنتظم 2/ 302. (¬2) في (ب) و (ك): جوين، والمثبت من تاريخ الطبري، ومروج الذهب 2/ 213، والتنبجه والإشراف ص 105، وتجارب الأمم 1/ 116. (¬3) ما بين معكوفين من تاريخ الطبري 2/ 175، وتجارب الأمم 1/ 117، والمنتظم 2/ 302.

فألقوها في المدائن، ولما وقف عليها هرمز ظن أن أبرويز فعل ذلك، وكان هرمز قد حبس خافَي أبرويز، فاتفقا مع المحبسين، وكسروا الباب، ودخلوا على هرمز فسَمَلوه وقيَّدوه. وبلغ أبرويز، فجاء من أذْرَبيجان إلى المدائن، فدخل على أبيه فأخبره أنه لا ذنب له، وإنما هرب خوفاً منه، وقال له: يا أبت ما خلعتك، وإنما خلعك أشراف قومك لسوء سيرتك، فقال: يا بني أريد أن تنتقم لي ممن سَملني، وتُؤنِسني بثلاثة نفر. فقال أبرويز: إن بهرام قد أظلنا بمن معه، فاصبر حتى يقضي الله بيننا وبينه. فتوّجه هرمز وملّكه. وبلغ بهرام جوبين، فسار إلى المدائن، فخرج إليه أبرويز فالتقيا على النهروان، فكانت الدائرة على أبرويز فانهزم، وقام تحته فرسه المعروف بسندان (¬1)، وهو فرس مشهور عند العرب. ولما قصّر به الفرس طلب من النعمان بن المنذر فرسه اليَحموم، فأبى عليه ونجا عليه النعمان، ونظر حسان بن حنظلة بن حيّة الطائي إلى أبرويز قد خانه فرسُه، وخامر عليه أصحابه (¬2)، وأشرف على الهلاك، فأعطاه فرسه المعروف بالضُّبَيْب (¬3)، وقال: أيها الملك، انْجُ عليه؛ فإن حياتك للناس خيرٌ من حياتي. وأعطاه أبرويز فرسه سندان، ومضى أبرويز إلى المدائن إلى أبيه فقال له: استنجد بقيصر على بهرام. وجاء حسان سالماً على سندان، فأحسن إليه أبرويز، وعرف له ما صنع، وحقدها على النعمان حتى قتله. ثم خرج أبرويز من المدائن قاصداً قيصر، وتبعه خالاه بسطام وبندويه، فعبر دجلة، وتأخرا عنه ذلك اليوم، فاستراب بهما، ثم لحقاه، فسألهما عن تأخرهما، فقالا: قتلنا أباك. ودخل بهرامُ إلى المدائن فأقام بها، ووصل أبرويز إلى الرُّها، فأقام بها، وكتب إلى قيصر يستنجد به، وأهدى إليه الهدايا النفيسة والجواهر المثمنة، فبعث إليه قيصر مئة ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 2/ 216: بشبدار. (¬2) كذا، ولعلها: وتآمر، ففي مروج الذهب 2/ 216: وخانه الرجال، وأشرف على الهلاك. (¬3) في (ب): بالصبيب، وفي (ك): بالصليب، والمثبت من مروج الذهب 2/ 217، والبدء والتاريخ 3/ 170، وأنساب الخيل لابن الكلبي ص 95، وأسماء خيل العرب للغندجاني ص 153، والحلبة للصاحبي التاجي ص 52.

ألف فارس وألفي دينار، وألف ثوب من ديباج وجواهر، وزوّجه ابنته مارية، وحملها إليه مع أخيه ثياذوس (¬1)، واشترط عليه قيصر أن لا يتعرض للجزيرة والشام ومصر مما غلب عليه أنوشروان، فأجابه إلى ذلك. وجاء أبرويز إلى المدائن، وخرج إليه بهرام والتقيا، فانهزم بهرام ولحق بالترك، وعاد أبرويز إلى المدائن دار ملكه، ووفى لملك الروم بما شرطه، واستولى قيصرُ على الجزيرة والشام ومصر. وبعث أبرويز إلى امرأة ملك الترك وبذل لها الأموال، فاغتالت بهرام، فقتلته وبعثت برأسه إلى المدائن، فنصبه أبرويز على باب قصره. وكان بسطام وبندويه خالاه قد مضيا إلى الدَّيلم وإلى الترك، فكاتب أبرويز امرأة ملك الترك في قتلهما بأبيه هرمز فقتلتهما، وعلم خاقان فطلّقها ونفاها، فقدمت المدائن فتزوجها أبرويز، واسمها كردية. وجمع أبرويز من الأموال والخيول والفيلة والمماليك والجواري والأمتعة (¬2) ما لم يجمعه أحد ممن تقدمه. أما الأموال فإنه كان يُرفع إلى خزائنه في كل سنة من الخراج أربع مئة ألف ألف دينار وأضعافها من الفضة. وكانت جواهره في ألف صندوق. وكان له مئة ألف مملوك، ومئة ألف فرس، منها خمسون ألفاً سروجها مكللة بالجواهر واليواقيت. وكان على مَربطه ألفُ فيل منها ما هو أبيض مثل الثلج، ومنها ما ارتفاعه من الأرض اثنا عشر ذراعاً، وهذا نادر؛ لأن أكثر ما يكون ارتفاع الفيل من الأرض سبعة أذرع. وكان له من النساء عشرة آلاف امرأة، ومن الجواري مئةُ ألفِ جاريةٍ للغناء والفِراش. وكان يَشْتُو بالمدائن، وَيصيف بقصر شيرين، وكانت شيرين أحظى نسائه عنده. ¬

_ (¬1) في النسخ: بيدرس، وفي مروج الذهب 2/ 221: تندوس، والمثبت من الأخبار الطوال ص 92، وتاريخ اليعقوبي 1/ 168، وتاريخ الطبري 2/ 180، وتجارب الأمم 1/ 120. (¬2) إلى هنا نهاية السقط في (خ) المشار إليه قريباً.

ذكر قصة أبرويز مع وزيره بزرجمهر

وفي أيامه مات قيصرُ ملك الروم، فتغلَّبَ بعضُ الروم على ابن قَيْصر فأخرجه من المُلك، فقَدِم على أبرويز مستنصراً به، فأنجده وبعث معه ولدَه شهريار في مئة ألف، فأوغلوا في البلاد -وفي هذه الوقعة نزل قولُه تعالى {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1] وقتلوا المتغلِّب على الرومية بأنطاكية، فوثب آخرُ بالقُسطنطينية فغلب عليها، وجهَّز ألف مركب إلى قتال شهريار، فيها السلاح والأموال والخزائن، فضربتها الريح فألقتها إلى ساحل أنطاكية، فغنم شهريارُ ما فيها وجهَّز ابنَ قيصر فملك القسطنطينية. ذكر قصة أبرويز مع وزيره بُزرْجُمهْر (¬1) وكان بزرجمهر بن البختكان وزير أبرويز والحاكمَ عليه، وكان من حكماء الفُرس. فلما مضى من ملك أبرويز ثلاثَ عشرة سنةً، ظهر طغيانه وفساده، فوُشي إلى أبرويز أنه اتفق مع الأساورة على قتله، فأظهر أنه اتَّهمه بالزندقة، فقبض عليه، وقال: الحمد لله الذي أظفرني بك. فقال له بزرجمهر: فكافِئْه بما يُحبُّ كما أعطاك ما تُحب. قال: بماذا؟ قال: بالعفو. فحبسه في بيت مظلمٍ مثل القبر، وصَفده بالحديد، وألبسه خشن الصوف، وأمر أن لا يُزاد في كل يوم على قُرصين من شعير، وكفِّ ملحٍ جريشٍ، ودَورقٍ من ماء. فأقام شهوراً لا يُسمع منه لفظةٌ، فأمر أبرويز تلامذته بالدخول عليه، وأن يخبروه بما يقول، فدخلوا عليه فرأَوا لونَه نقيّاً، وسَحْنته ظاهرةً، وجسمَه صحيحاً، فقالوا: أيها الحكيم، أنت في هذا الحديد والضيق، وحالُك كما نرى! ؟ فقال: إني عملت جُوَارِشاً من ستة أخلاطٍ، فأنا آخذ منه كل يوم شيئاً، فهو الذي أبقاني على ما تَرون. قالوا: فصِفْه لنا، لعلنا نقع فيما وقعتَ فيه فنتناول منه. فقال: أما الخلط الأول: فالثقة بالله تعالى، وأما الثاني: فعلمي بأن كلَّ مَقدورٍ كائنٌ لا محالة، وأما الثالث؟ فالصبر أَولى ما استعمله المُمتَحَن، وأما الرابع: إن لم أصبر أيش أعمل؟ وأما الخامس: فقد يمكن أن أكون في شرٍّ مما أنا فيه، السادس: ¬

_ (¬1) جمع المصنف ها هنا بين ما ورد في مروج الذهب 2/ 224 من قصة أبرويز مع بزرجمهر، وما ورد في المنتظم 2/ 136 من قصة كسرى أنوشروان مع بزرجمهر، فجعلهما قصة واحدة.

فمن ساعةٍ إلى ساعة فَرجٌ. فأخبروا أبرويز، فكتب إليه: كان ثمرة علمك، ونتيجة ما أدَّاه إليك عقلُك أن صرتَ به أهلاً للقتل والحبس، وموضعاً للعقوبة. فكتب إليه: أما إذا كان معي السَّعدُ والجد فقد كنتُ أَنتفعُ بثمرة عقلي، والآن لما فاتني ذلك فأنا أَنتفعُ بالصبر، ولئن كنتُ فقدتُ كثيراً من الخير، فلقد استرحتُ من كثير من الشر. فدعا به أبرويز وقال: يا عدوَّ الله المخالف. ثم أمر بكسر أنفِه، فقال: إني أهلٌ لما هو شرٌّ من هذا. قال: ولِم؟ قال: لأني كنتُ أصفك للخواص والعوام بما ليس فيك؛ لأُقرّبك إلى قلوبهم، وأرفعَ من محاسن أمورك ما لم تكن عليه. فقال: اقتلوه. فقال: يا أخبث الملوك نَفْساً وفعلاً، وشرَّ الحيوانات وأسوأَهم عِشرة، أتَقتُلني بالشك، وتدفع به اليقين الذي تيقنتَه من التمسّك بولائك، والمحافظة على الشرائع؟ فمن ذا الذي يرجو بعدي عَدلَك، ويثق بك، ويطمئن إليك؟ فقتله، ثم ندم على قتله، فاستدعى وزيراً كانت منزلتُه دون منزلة بزرجمهْر، فلما رآه قتيلاً قال: يا أخبث العالَم، انتظر أقبح من هذه القِتلة. فقتله. قيل لبزرجمهر: مَن أحبُّ الناس إليك أن يكون عاقلاً؟ فقال: عدوّي، قيل: ولم؟ قال: لأني أكونُ منه في دَعَةٍ. وقال: إذا كان الرِّزقُ مقسوماً، فالحرصُ باطلٌ، وإذا كانت الأمورُ بمشيئة الله تعالى، فما آفتُنا إلا العلل. وقال: مُداراة الناس نصف العقل. ولما قتل أبرويز هذين الوزيرين، مع ما كانا عليه من النهضة والكفاية، وحسن التدبير، وسياسة المُلك، نفر عنه الخواص والعوام، وكان قد ظلم وسفك، وحمل الناس على ما لم يعهدوه منه، فقتلوه (¬1). وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا تُوسعن على جندك بسعةٍ يستغنون بها عنك، ولا تُضيّقنّ عليهم ضيقاً يَضِجُّون منك، ولكن أعطهم عطاءً قَصْداً، وامنعهم منعاً جميلاً، ¬

_ (¬1) مروج الذهب 2/ 225 - 226، والمنتظم 2/ 137.

ذكر مقتله

وابسُط لهم في الرجاء، ولا تبسط لهم في العطاء (¬1). وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه وأبرويز في الحبس: كلُّ كلمةٍ منك تسفِك دماً، وأخرى تحقن دماً، وسَخَطك سيف مسلول على من سَخِطت عليه، ورضاك بَركة مستفيضة على من رَضيتَ عنه، وإن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك، واحترس في غضبك من قولك أن تخطئ، ومن لونك أن يَتغير، وإن الملوك تُعاقِب حَزماً (¬2)، وتعفو حِلماً. ذكر مقتله وسببُه أن الناس استَوْحشوا منه لظُلمه، وسفكِه دماءَ العلماء والأساورة، وكان مسيئاً إلى ابنه شيرويه، قد نفاه إلى بابل، فبعثوا إليه واتفقوا على قتله، وكان قد عرض السجون فوجد فيها ثلاثين ألفاً من أشراف قومه، فأمر بقتلهم. وعلم أهلُ مملكته، فأرسلوا إلى بابل، فأحضروا شيرويه، وهجموا به [على] المدائن، وأجلسوه على سرير المُلك، وحبسوا أباه أبرويز، وأرسل إليه ابنه شيرويه يؤنِّبُه، ويُوبِّخه على أفعاله، ويقول: أنا ما وثبت على الملك، وإنما جازاك اللهُ بسوء فِعالك، فتَكْتَ بأبيك هرمز، وسَمَلْتَ عينيه، وأزلْتَ مُلكه، وقتلْتَه شرَّ قتلةٍ، وأسأتَ إلى الأساورة والخواص، وظلمتَ الرعية، وبخلتَ بالمال، وحبستَ ثلاثين ألفاً من الأشراف، وأمرتَ بقتلهم، وضبطت عشرة آلاف امرأةٍ في قصرك مُكرهات مع عجزك عنهن (¬3). . وعدَّد أفعالَه. فبعث إليه أبرويز: إذا أدبر الأمرُ لم تنفع الحيل [في إقباله] وإذا أقبل أعيت الحيل في إدباره (¬4). وحبسوه أياماً، ثم اجتمعت الفرسُ إلى شيرويه وقالوا له: إما أن تقتل أباك ونحن لك مطيعون، وإما أن نُعطيه الطاعة. فأخرج أباه من دار الملك على برذون، مُقنَّعَ ¬

_ (¬1) عيون الأخبار 1/ 11، والعقد الفريد 1/ 26. (¬2) في (ب) و (خ) وصبح الأعشى 1/ 236: جرماً، وفي (ك): جزماً، والمثبت من عيون الأخبار 1/ 289، والعقد الفريد 1/ 27. (¬3) انظر الأخبار الطوال ص 108، وتاريخ الطبري 2/ 219. (¬4) تاريخ الطبري 2/ 221، والمنتظم 3/ 286 وما بين معكوفين منهما.

الرأس إلى دار بعض الأساورة أو الدهاقنة، فمرّ على إسكافٍ، فضربه بقالبٍ وشتمه، وبعث إليه رجالاً ليقتلوه فلم يُقدموا عليه، فضربه غلام منهم اسمه هرمز -كان أبرويز قتل أباه بطبَرْزِين (¬1) - عدة ضربات فلم يعمل فيه، ففتشوه فوجدوا في عنقه تعويذاً فأزالوه عنه، فضربه فقتله (¬2)، وكان قتلُه بمكان يقال له: الماحُوزة، عند سامراء، وفيه قَتل المنتصر أباه المتوكل، ولما قُتل أبرويز شقَّ ابنُه شيرويه ثيابه، وقتل قاتل أبيه. وكان لأبرويز ثمانية عشر ولداً، فقتلهم شيرويه كلهم. وكان أبرويز يمنعهم من النكاح وعليهم الحَفَظة، لأن المنجّمين أخبروه أنه يُولد مولود من ولده يكون ذهابُ مُلكهم على يده، فاحترز، فأفلت يوماً ولدُه شهريار بن أبرويز فدخل على زوجة أبيه شيرين، وسألها أن تبعث إليه امرأةً وإلا قتل نفسه، فأرسلت إليه جاريةً كانت تحجمها فوطئها، فحملت بيزدجرد ووضعته، فكتَمتْه شيرين خمسَ سنين. وكان المنجّمون قد ذكروا لأبرويز أن ذلك الغلام في بدنه نقصٌ، فوقف يوماً يلعب مع الصبيان بالكرة فرآه أبرويز، فقال: من هذا؟ فقالت شيرين: بعضُ أولاد الخاصَّة. فألحَّ عليها، فأخبرته الخبر، فنظر إلى نقصٍ في وَركيه، فأراد قتله، فنهته عنه، وقالت: إن يكن لله أمر فيه، فلا مَرَد له. فقال: هذا المشؤوم لا أراه ها هنا بعد إليوم. فذهبوا به إلى سجستان. وأقام شيرويه بعد قتل أبيه نادماً حزيناً على أبيه وإخوته، وابتُلي بالأمراض المزمنة، ولم يَلتذَّ بشيء من الدُّنيا، وسُمّي: الغشوم المشؤوم، ووقع في أيامه طاعون فمات نصف العالم. ودخلت عليه أُختاه بُوران وآزرمي دَخت، فقالتا له: ويحك، ما حملك على ما صنعت بأبيك وإخوتك لأمر لا يتم لك؟ ! فبكى بكاءً شديداً، ورمى التاج عن رأسه، ودخل بيتاً مظلماً فأقام فيه. ولما قتل أبرويز وجدوا في خزائنه جميع ما ذكرنا من الأموال وغيرها، ووجدوا بيتاً مملوءاً جواهر، وأقام عشرة آلاف موبذ، وبلغت خيلُه القسطنطينية وإفريقية. وقُتل في سنة ست أو سبع من الهجرة. وفي أيامه كان يومُ ذي قارٍ، انتصفت فيه العربُ من العَجم، وذلك لتمام أربعين ¬

_ (¬1) هو فأس السرج، لأن فرسان العجم تحمله معها يقاتلون به. المعرب ص 276. (¬2) تاريخ الطبري 2/ 329، والمنتظم 3/ 287.

قصة شيرين مع شيرويه

سنةً من مولد نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وأبرويز هذا هو الذي قتل النعمان بن المنذر، وهو الذي كتب إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فمزّق كتابه، وكتب أبرويز إلى واليه باليمن أن يحمل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا عليه، فقتله ابنُه. وهو الذي أرسل الاصبهبذ إلى الروم فقتل وسبى وفتح البلاد، فخاف منه أبرويز، فبعث إليه رجلاً ليقتله؛ فلما رأى عقل الاصبهبذ وتدبيره رقَّ له، وأخبره بما جاء له، فأرسل الاصبهبذ إلى ملك الروم وطلب الاجتماع به، فاجتمعا، فقال له: حَسَدني الخبيث، وأنا آخذ لك بلاده ومُلكه وكنوزَه. فسار معه حتى نزلا المدائن، فأقاما محاصِرين له، فدسّ أبرويز رجلاً نصرانياً بكتاب، عنوانه إلى الاصبهبذ، وأعطاه مالاً وقال له: تحيّل في إيصاله إلى قيصر. وفيه: إلى الاصبهبذ، قد علمتُ حُسْنَ رأيك، وقد آمنك الله من العدو، وأنا خارجٌ إليك في ساعة كذا من الليل لنبغت القوم، فكن مستعدّاً. فلما قرأه قيصر ولّى منهزماً إلى بلاده، وهرب الاصبهبذ. قصة شيرين مع شيرويه كانت شيرين يتيمةً في حجر رجلٍ من أشراف المدائن، وكان أبرويز صغيراً يدخل منزل ذلك الرجل، فيلاعب شيرين وتلاعبُه، فأخذت من قلبه موضعاً، فنهاها ذلك الرجل عنه فلم تنته، فرآها وقد أخذت في بعض الأيام من أبرويز خاتماً، فقال لبعض خواصّه: اذهب بها إلى دجلة فغَرِّقْها. فأخذها ومضى، فقالت له: وما الذي ينفعك تغريقي؟ فقال: قد حلفتُ لمولاي. فقالت: اقذفني في مكانٍ رقيق، فإن نجوتُ لم أظهر، وتبَرُّ أنت في يمينك. ففعل، فأقامت في الماء حتى غاب عن عينها، وصعدت إلى دير هناك فترهَّبت فيه، فأحسن إليها الرهبان. فلما تقرر المُلك لأبرويز بعد أبيه هرمز، مرَّ بذلك الدير رسل من قيصر إلى أبرويز، فدفعت الخاتم إلى رئيسهم، وقالت: ابعث به إلى أبرويز فتحظى عنده. فأرسله مع قاصد وعرفه مكان شيرين، فسُرَّ سروراً كبيراً، وأعطى القاصد مالاً عظيماً، وأرسل إليها فأحضرها. وكانت من أجمل النساء وأظرفهن، ففوض إليها أمره، وهجَر نساءه

فصل

وجواريه، وعاهدها أن لا تمكِّن منها أحداً بعده، وبنى لها القصر المعروف بقصر شيرين بالعراق. فلما قَتل شيرويه أباه أبرويز راودها عن نفسها فامتنعت، فضيَّق عليها واستأصلها، ورماها بالزنى، وتهدَّدها بالقتل إن لم تفعل، فقالت: أفعل على ثلاث شرائط. قال: وما هي؟ قالت: تُسلِم إليَّ قَتلة زوجي أقتلهم، وتصعد المنبر فتبرئني مما قذفتني به من الزنى، وتفتح لي ناووس (¬1) أبيك فإن له عندي وديعةً عاهدتُه إن تزوَّجتُ رددتُها عليه. فدفع لها قَتلةَ أبرويز فقتلتهم، وصعد المنبر فبرَّأها مما قذفها به من الزنى، وفتح لها ناووس أبيه وبعث بالخدم معها. فجاءت إلى أبرويز فعانقته ومَصَّت فصّاً مسموماً كان معها، فماتت من وقتها. وأبطأت على الخدم فصاحوا بها فلم تكلِّمْهم، فجاؤوا إليها فوجدوها معانقة لأبرويز ميتةً، فجاؤوا إلى شيرويه وأخبروه، فشق عليه، ومات بعد أيامٍ (¬2). وكان سبب موته ما حكَاه الجاحظ قال: أبرويز أول من أخذ بثأره من حيٍّ وهو ميِّت، وذلك لأن المنجمين أخبروه أنه سيُقتل، فقال: والله لآخذنَّ بثأري ممن قتلني، وعمل حُقًّا فيه حبوب، وخلطه بسُمّ ساعةٍ، وختم الحُقَّ، وجعله في صندوق من ذهب. فلما أرسل إليه شيرويه من يَقتُله، قال له: لا تقتلْني وأدلُّكَ على غِنى الأبد. قال: وما هو؟ قال: الصندوق الفلاني، فيه حُقٌّ فيه غناك، فلما قتله أَخبر شيرويه، واشتغل بالمُلْك عن الحُقِّ. فلما كان بعد ستة أشهر من قتل أبرويز، فتح شيرويه ذلك الصندوق، فوجد الحُقَّ وعليه مكتوب: مَن أخذ من هذا الحبِّ حبةً وابتلعها افتضَّ عشرة أبكار -وكان شيرويه مُولعاً بالنساء- فأخذ حبة فبلعها، فتقطَّعَت أمعاؤه، ورأى العبر بنفسه، ومات (¬3). وكانت مدةُ ولايته ستة أشهر. فصل وكان لشيرويه ابنٌ صغير اسمه أرْدشير، عمرُه سبع سنين، فولوه المُلك، فأقام خمسة أشهر. ¬

_ (¬1) الناووس: مقابر النصارى. (¬2) المنتظم 2/ 306 - 308. (¬3) انظر المنتظم 2/ 284 - 285.

فصل

وكان شهريار بن أبرويز مقيماً بأنطاكية مذ جهَّزه أبوه لقتال الروم على ما ذكرنا، فلما قُتل أبوه أقام مكانه خائفًا من شيرويه، وجعل الروم ظهرَه، وكتب إلى قيصر يستمدّه ويقول: قد علمتَ ما فعلتُ معك. فأمدَّه بالمال والرجال، وأقام متحضناً بأنطاكية. فلما مات شيرويه وولي ابنُه أردشير، سار إلى المدائن طالباً بثأر أبيه، فقتل أردشير، وجار وظلم، وفضح نساءهم وسفك دماءهم، فوثبوا عليه وقتلوه، فكان مُقامه في المُلك عشرين يوماً. ولم يبق من نَسْل الفُرس ذَكر، قتل شيرويه الجميع ولم يبق إلا ابنتين لأبرويز: بوران وآزرمي دخت. فصل فملّكوا عليهم بُوران: فأقامت العدل، وأحسنت السيرة، وأصلحت القناطر والجسور. ولما جلست على السَّرير قالت: ليس ببطش الرجال تُدَوَّخُ البلادُ، ولا بمكائدهم يُنال الظَّفر، وإنَّما ذلك بعون الله ومشيئته. فأقامت سنة وسبعة أشهر. ولما بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرُها، قال: "لا يُفلحُ قومٌ ولَّوْا أمرَهم امرأةً" (¬1). ثم ماتت، ويقال: إنها قُتلت. فصل ثم ملَّكوا آزر ميدخت بنت أبرويز، وكانت من أجمل نسائها، فلما جلست على السرير قالت: منهاجُنا العدلُ والإنصاف، فإن زغنا زيغ بنا. فأرسل إليها فُرُّخ بن رستم صاحب خُراسان يخطبها، فقالت: لا ينبغي للملكة أن تتزوج علانيةً. ووعدته أن يَقدم عليها سرّاً في ليلةٍ عينتها له، فجاءها في تلك الليلة فقتلته، فسار إليها أبوه رستم فقتلها (¬2)، وكانت أيامُها ستةَ أشهرٍ. فصل ثم مَلّكوا عليهم يَزدَجِرْد بن شهريار بن أبرويز، الذي كان خَرابُ البيت على يده، وكان عمره يومئذٍ خمس سنين، وقيل: خمس عشرة، وصِغَرُ سنِّه هو الذي أوجب ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (20438)، والبخاري (4425) من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -. (¬2) في تاريخ اليعقوبي 1/ 173، والطبري 2/ 232، والتنبيه والإشراف ص 106، وتجارب الأمم 1/ 144، والمنتظم 3/ 312 أن الذي خطبها هو فرخ هرمز، وأن الذي سار إليها فقتلها هو ابنه رستم.

تَمليك النِّساء. فأقام والياً عشرين سنة، ثم هلك في أيام عثمان - رضي الله عنه -. قال هشام: فعدَّة ملوك الفرس من أوَّل الزمان إلى آخره ثمانون ملكاً وثلاث نسوة، من كيومرت إلى يَزدجِرد، وعددُ ما ملكوا من السنين أربعة آلاف سنة وخمسون سنة. قال المصنف رحمه الله: وليس ما ذكره هشامٌ على التحقيق، بل على التقريب، فإن بعضهم قال: ملك منهم ستون ملكاً، وعددُ سنيّهم ثلاثةُ آلاف سنة. وقد ذكرنا أن الغالب على التواريخ عدمُ التحقيق لاختلاف الأمم والألسُن، وتقلُّب الدهر، وتغيير الأمور، والله أعلم. * * *

فصول تتعلق بالعرب والأنساب والأدب

فصول تتعلق بالعرب والأنساب والأدب الفصل الأول (¬1) في ذكر القبائل والعمائر، والشعوب، والجماجم، والجَمَراتِ، والأَرْحاء (¬2)، وما يتعلقُ بالشعر والشعراء، والأعراب سكان البادية خاصة. وَيعرُب بن قحطان أولُ مَن تكلم بالعربية، وهو أبو اليَمن كلِّهم. والعربُ العاربة والعَرْباء: هم الخُلَّص منهم، والمستَعرِبة: الذين ليسوا بخُلَّص. والقبيلة: بنو أبٍ واحدٍ، وقيل: إنما سُمُّوا القبائلَ من القبيلة، وأن بعضهم يُقابل بعضاً، أي: يكافئهم (¬3)، وقال الله تعالى {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: تعلَّموا من النَّسب ما تعرفون به أنسابكم (¬4)، وتَصِلون به أرحامَكم، ولا تكونوا كنبَط السَّواد إذا قيل لأحدهم: مَن أنت؟ فيقول: أنا من قرية كذا وكذا (¬5). فصل في القبائل ومن القبائل القديمة: عادٌ وعَبيل، ابنا عَوْص بن إرَم بن سام بن نوح عليه السلام. وثمود وجَدِيس ابنا غاثار بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. ¬

_ (¬1) في (ب): أبواب تتعلق بالعرب والأنساب والآداب الباب الأول. (¬2) الأرحاء: القبائل التي تستقل بنفسها وتستغني عن غيرها. (¬3) صحاح الجوهري (عرب) و (قبل). (¬4) في (خ) و (ك): أحسابكم. (¬5) العقد الفريد 3/ 312، وإنباه الرواة ص 12، وأخرج بعضه البخاري في الأدب المفرد (72).

فصل

وطَسْم وعِمْلِيق وجاسم وأَمِيم بنو يلمع بن عابر بن أَرفَخْشَذ بن سام بن نوح عليه السلام. وشالاف وحضرموت، وهم السلف، والمواد بنو عابر بن أرفخشذ. وروي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العربُ كلُّها من إسماعيل إلا أربع قبائل، وهم: السلف والأَوزاع، وحَضْرموتُ، وثَقيف" (¬1). ومعنى قوله عليه السلام: كلُّ العرب بنو إسماعيل إلا من استثنى من القبائل أنهم ليسوا بخُلَّص. أما طَسْم وَجدِيس وجُرْهم، فهم العرب العاربة، لأنهم جُبِلوا على العربية المَحْضَة فكانت لسانَهم. وأما بنو إسماعيل عليه السلام فهم المستعرِبة، لأنهم تكلَّموا بلسان الأمم الذين سكنوا بين أظهرهم. فصل فمن القبائل: أَسَدُ بن خُزَيْمة بن مُدرِكَة بن الياس أبو قبيلة من مُضَر، وأَسد بن ربيعة ابن نزار قبيلة من ربيعة. ومنها تَيْم في عشر قبائل: تَيم الله بن عُكابَة، وهم اللَّهازم من بكر، وتيم الله في النَّمِر بن قاسط، وتيم بن مُرَّة رهط أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وتيم بن غالب بن فِهْر، وهم بنو الأدْرَم من قريش، وتيم بن عبد مَناة بن أُدّ بن طابِخة في مُضر، وتيم بن ضَبَّة، وتيم اللّات بن ثعلبة واسمه النجار، وتيم اللَّات أيضًا في ضَبَّة. وأما قول امرئ القيس: [من الوافر] بَنو تَيْمٍ مصابيحُ الظلامِ (¬2) فهم بنو تيم بن ثعلبة من طيِّئ. ¬

_ (¬1) أخرجه البلاذري في أنساب الأشراف 41/ 150، وابن عساكر في تاريخه 10/ 70 عن مالك بن يخامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . الحديث. قال ابن عبد البر في الإنباه على قبائل الرواة ص 79 بعد إيراده: وهي آثار كلها ضعيفة الأسانيد، لا يقوم بشيء منها حجة، والله أعلم بصحة ذلك. (¬2) ديوانه ص 141، وصدره: أقرَّ حشا امرئ القيس بنِ حجر.

ومنها جَدِيلةُ: حيّ من طيئِّ، وهو اسمُ أمهم، وهي جَديلة بنت سُبَيْع بن عمرو بن حِمْير، وجديلة في ربيعة. ومنها جُشَم في أربع قبائل: جُشَم بن خزرج، حيّ من الأنصار، قال الشاعر: [من الرجز] إنْ سَرَّك العِزّ فجَخْجِخْ بجُشَمْ (¬1) وجُشَم بن ثقيف، وجشم حيٌّ من تَغلِب وهم الأراقم، وجُشم في هوازن، وهو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن. ومنها الخزرج بن قَيْلة، قبيلة من الأنصار، والخزرج في النَّمِر بن قاسط. ومنها الدِّيل بن شَنّ بن أَفْصى، والدِّيْل بن عمرو بن وديعة بن عبد القيس، منهم (¬2) أهلُ عُمان، والدُّئِل حيٌّ من كِنانة، ينسب إليهم أبو الأسود الدُّؤَلي، والدّوْل في حنيفة. ومنها دُودان بن أسد بن خُزيمة، ودُودان في جُذام من اليمن. ومنها ذُهْل بن شيبان بن ثعلبة بن عُكابة، وذُهْل بن ثعلبة بن عُكابة، وذُهْل في ضَبَّة. ومنها شَيبان بن ثعلبة بن عُكابة بن صَعْب بن علي بن بكر بن وائل، وشيبان بن ذُهْل ابن ثَعْلبةَ بن عُكابة. ومنها ربيعةُ في سبع قبائل: ربيعة بن عُقيل أبو الخُلَعاء (¬3)، وربيعة بن عامر بن عُقيل أبو الأبرص، وربيعة بن مالك بن زيد مَناة، ويُلقَّب: ربيعة الجُوع، وربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة، وربيعة بن عامر بن صَعْصَعة بنو مَجْد، وهي أُمهم نُسِبوا إليها، وربيعة بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان، وهو ربيعةُ الفَرَس، وربيعة الصُّغرى: وهو ربيعة بن مالك بن حنظلة. ومنها سعد، وهو في ستِّ قبائل: سعد تَميم (¬4)، وسعد هُذيل، وسعد قيس، وسعد ¬

_ (¬1) البيت للأغلب العجلي، وهو في المعارف ص 109، ومقاييس اللغة 1/ 406، وصحاح الجوهري (جشم)، وتهذيب اللغة 6/ 545، ولسان العرب (جخ وجشم)، وتاج العروس (جشم). (¬2) في النسخ: من، والمثبت من صحاح الجوهري (دول). (¬3) في النسخ: الخلفاء، وهو خطأ، والمثبت من صحاح الجوهري (ربع)، وانظر الاشتقاق ص 299، وتاج العروس (ربع) 21/ 45. (¬4) في النسخ: تيم، وهو خطأ، والمثبت من صحاح الجوهري (سعد)، والمعارف ص 115.

ابن بكر بن هَوزان -هم أَظآرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسعد بن ذُبيان، وسعد في عِجْل، وقال الشاعر: [من الطويل] رأيتُ سُعوداً في شعوبٍ كثيرة. . . فلم أرَ فيها مثلَ سعدِ بن مالكِ (¬1) وفي المثل: "في كل وادٍ بنو سعدٍ" قاله الأَضْبَط القُرَيعي السَّعْدي لما تحوَّل عن قومه وانتقل في القبائل، فلما لم يَحمَدْهم رَجَع إلى قومه وقال: بكلِّ وادٍ بنو سعد، يعني سعد بن زيد مناة بن تميم (¬2). ومنها سُلَيم بن منصور بن عِكْرِمة بن خَصَفة بن قَيْس عَيْلان، وسُليم قَبيلة من جُذام، وسُليم قبيلةٌ من بني قُشَير، وهو سَلَمة الشَّر، وأمّه لُبَيْنة بنت كعب بن كلاب، وسلمةُ الخير، وهو سلمة بن قُشير، وهو ابنُ القُشيريَّة (¬3). ومنها سَهْم (¬4) قبيلةٌ في قُريش، وقبيلةٌ في باهِلة. ومنها شَقِرَة قبيلة من بني ضبَّة، وفي بني تميم. ومنها ضُبَيعة بن قيس بن ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن بكر بن وائل، رَهْط الأعشى ميمون بن قيس، وضُبيعة في ضَبّة، وضبيعة في عِجْل. ومنها ضَمْرة في بني كِنانة رهط عمرو بن أُمية الضَّمْري - رضي الله عنه -، وبنو ضَمْرة في قُشَير. ومنها عدِيُّ بن كعب بن لُؤي بن غالب رَهْط عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وعدي بن عبد مَناة من الربَاب رهط ذي الرُّمَّة، وعَدي في بني حَنيفة، وعَدِي في فَزارة. ومنها غاضرة: قبيلةٌ في بني أَسَد بن خُزيمة، وهي من بني صَعْصَعَة، وبطن من ثقيف في هوازن. ومنها كلاب بن مُرة في قريش، وكلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ومنها محارب بن فِهْر بن مالك في قُريش، ومحارب بن خَصَفَة بن قَيْس عَيْلان، ¬

_ (¬1) البيت لطرفة، وهو في ديوانه ص 88. (¬2) صحاح الجوهري (سعد)، والمثل في جمهرة الأمثال 1/ 61، ومجمع الأمثال 1/ 53. (¬3) خلط المصنف هنا في نقله عن الجوهري بين سلمة وسُليم. (¬4) في (ب): شمم، وفي (خ) و (ك): سليم، والمثبت من صحاح الجوهري (سهم)، والمعارف ص 115.

فصل في العمائر

ومحارب بن عمرو بن وَديعة بن عبد القَيْس. ومنها مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، ومازن في بني صَعْصعة بن معاوية، ومازن في بني شيبان، ومازن في قيس عَيْلان، وهم رهط عُتْبة بن غَزْوان - رضي الله عنه -. فصل في العَمائر قال التَّغلبي (¬1): [من الطويل] لكلِّ أُناس من مَعَدِّ عِمارة ... عَروض إليها يَلجؤون وجانبُ والشَّعْب: القبيلةُ العظيمة. وقال بعضُهم (¬2): الشَّعب، ثم القبيلة، ثم العِمارةُ، ثم البطن، ثم الفَخِذ، ثم العشيرةُ، ثم الفَصيلة، وهي أهلُ بيت الرجل خاصة، قال الله تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13]، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]. وقال أبو عبيدة: أرحاءُ العرب ستٌّ؛ لمُضَر اثنتان: تَميم بن مُرّ، وأسد بن خُزيمة، ولربيعة اثنتان: بكر بن وائل، وعبدُ القيس بن أفصى، ولليمن اثنتان: كلب بن وَبْرة، وطَيِّئ بن أُدَد. وإنما سُميت هذه الأَرحاء لأنها أَحرزت مياهَها ومنازلَها، ولم يكن للعرب مثلُها، ولم تَبْرح من أوطانها، ودارت في دُورها دورانَ الأَرحاء على أقطابها، إلا أن يَنتَجِع بعضُها في أعوام الجَدْب، وكان ذلك قليلاً. وأما الجماجمُ فثمان: أربع في مضر، اثنتان منها في قَيس، وهما: غَطَفان وهَوازن، واثنتان في خِنْدِف، وهما: كِنانة وتَميم، وفي ربيعة اثنتان: بكر بن وائل وعبدُ القيس بن أَفصى، وفي اليمن اثنتان من مَذْحِج؛ وهما: مالك بن أُدَد بن زيد بن كَهْلان بن سبأ، وقُضاعة بن مالك بن زيد بن مالك بن سبأ (¬3). وجَمَرات العرب ثلاث: بنو ضَبَّة بن أُدّ، وبنو الحارث بن كعب، وبنو نُمير بن ¬

_ (¬1) هو الأخنس بن شهاب، والبيت في المفضليات 304، وصحاح الجوهري (عمر). (¬2) هو ابن الكلبي كما في العقد الفريد 3/ 335. (¬3) العقد الفريد 3/ 335، 336.

فصل في الشعر والشعراء

عامر، طَفِئَت منهم جمرتان: ضَبَّة لأنها حالفت الرِّبَاب، وبنو الحارث لأنَّها حالفَت مَذْحِج، وبقيت نُمير لم تَطْفأ لأنها لم تُحالف. ويقال: الجَمَرات: عَبْس والحارث وضَبَّة، وهم إخوةٌ لأم، وذلك لأن امرأةً من عرب اليمن رأت في منامها أنه خوج من فَرْجها ثلاثُ جَمَرات، فتزوّجها كعبُ بن عبد المَدَان رجل من اليمن، فوَلَدت له الحارث بن كعب، وهم أشرافُ اليمن، ئم تزوَّجها بَغيض بن رَيْث فولدت له عَبْساً، وهم فُرسان العرب، ثم تزوَّجها أُد فوَلَدت له ضَبَّة، فجمرتان في مُضَر، وجَمْرة في اليمن (¬1). فصل في الشعر والشعراء والشعر ديوان العرب، ومَنبع الفضل والأدب، ومن عناية العرب به وحُبِّها له؛ أنها عَمدت إلى سبع قصائد من الشعر، فعلَّقَتْها في البيت الحرام، وافتخرت بذلك على الأُمم، وهى الموسومة بـ "السَّبع المعلَّقات". فالأولى: قصيدة امرِئ القيس بن حُجْر الكندي: [من الطويل] قفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل (¬2) والثانية: قصيدة زُهير بن أبي سُلْمى: [من الطويل] أمن أمِّ أَوفى دِمْنةٌ لم تَكلَّمِ. . . بحَوْمانَةِ الدُّرّاج فالمُتَثَلَّمِ (¬3) وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مُغرًى بشعره، وكان زهير لا يمدَحُ إلا مستحقاً للمدح، كهَرِم بن سِنان (¬4) وأمثالِه، ولما دخل [ابنُ] هَرِم على عمر - رضي الله عنه -، قال له: أنتم الذين كان زهير يقول فيكم فيُحسِن؟ فقال: ولذلك كنا نُجزِل له في العطاء. فقال: ذَهب ما أعطيتُموه وبقي ما أعطاكم (¬5). ¬

_ (¬1) صحاح الجوهري (جمر). (¬2) تمامه: بسقط اللوى بين الدخول فحومل، وهو في ديوانه ص 8. (¬3) ديوانه ص 9 بشرح الشنتمري. (¬4) في النسخ: حيان، وهو خطأ. (¬5) العقد الفريد 5/ 292، والعمدة لابن رشيق 1/ 81، وما بين معكوفين منهما.

وزهير هو القائل: [من البسيط] وإنَّ أَشْعَرَ بيتٍ أنت قائِلُه. . . بيتٌ يُقالُ إذا أَنشدْتَه صَدَقا (¬1). وقيل للحُطيئة: مَن أشعرُ الناس؟ فقال: زهيرٌ حيث يقول: [من الطويل] ومَن يَجعَلِ المعروفَ من دون عِرْضِهِ. . . يَفِرْهُ ومَن لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشتَمِ (¬2) والثالثة: قصيدة طَرَفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن بكر بن وائل: [من الطويل] لخَولةَ أطلالٌ ببُرقَةِ ثَهْمَدِ ... تَلوحُ كباقي الوَشْمِ في ظاهرِ اليدِ (¬3) وقال أبو عَمْرو بن العلاء: أشعرهم طَرفةُ الذي يقول: [من الطويل] ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهِلاً. . . ويَأتيك بالأخْبار مَن لم تُزَوِّدِ (¬4) ولما أُنشِد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذا البيت، قال: "هذا من كلامِ النبوّة" (¬5). والرابعة: قصيدة عَنترة العَبْسي: [من الكامل] يا دارَ عَبْلة بالجَوَاء تَكلمي. . . وعِمي صباحاً دارَ عبلةَ واسلَمي (¬6) والخامسة: قصيدة عمرو بن كلثوم: [من الوافر] ألا هُبي بصَحْنِك فاصْبَحينا (¬7) والسادسة: قصيدة لَبيد بن ربيعة بن مالك من ولد نزار: [من الكامل] عَفَتِ الديارُ مَحَلها فَمُقامُها. . . بمنًى تَأبَّدَ غَولُها فَرِجامُها (¬8) قال الأصمعي: أصدق بيت قالت العرب قول لبيد: [من الطويل] ¬

_ (¬1) تابع المصنف في نسبة هذا البيت إلى زهير صاحبَ العقد الفريد 5/ 270، 326، والبيت لحسان في ديوانه 1/ 430، والعُمدة 1/ 114. (¬2) الشعر والشعراء ص 324، والعقد الفريد 1/ 283، والأغاني 2/ 168، والبيت في ديوانه ص 26. (¬3) ديوانه ص 6. (¬4) العقد الفريد 5/ 271، والبيت في ديوانه ص 48. (¬5) العقد الفريد 5/ 271. (¬6) ديوانه ص 186 بشرح الشنتمري. (¬7) تمامه: ولا تبقي خمور الأندرينا، وهو في شرح المعلقة لابن كيسان ص 41، وشرح القصائد العشر ص 320. (¬8) ديوانه ص 267.

فصل في مدح الشعر وذمه

ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ ... وكل نعيمٍ لا محالةَ زائلُ (¬1) ومن شعر لبيد: [من الطويل] لَعَمري لئن كان المخَبّرُ صادقًا ... لَقد رُزِئَتْ في سالفِ الدهر جَعفرُ أخاً لي أمّا كلّ شيء سألتَه ... فيُعطي وأما كلّ ذنبٍ فيَغفِرُ فإن يَكُ نَوْءٌ من سَحابٍ أصابه ... فقد كان يَعلو في اللّقاء فيَظفَرُ (¬2) والسابعة: قصيدة الحارث بن حِلّزَة: [من الخفيف] آذَنَتْنا ببَيْنِها أسماءُ (¬3) وقد أضاف الخطيب التّبْريزي إلى هذه القصائد ثلاثاً أُخر، قصيدةُ ميمون بن قَيْس الأعشى، وكُنيته أبو بَصير: [من البسيط] ودِّعْ هُريرةَ إنَّ الركب مُرتَحِلُ ... وهل تُطيقُ وَداعاً أيُّها الرجلُ (¬4) والثانية: قصيدة النابغة الذُّبياني، واسمه زياد بن عَمْرو من ولد نزار، وكنيته أبو ثُمامة: [من البسيط] يا دارَ مَيَّةَ بالعَلْياء فالسَّندِ أَقْوَتْ ... وطال عليها سالفُ الأَبَدِ (¬5) والثالثة: قصيدة عَبِيْد بن الأَبرص بن جُشَم بن عامر من ولد مُدرِكة بن إلياس: [من مخلع البسيط] أَقْفَر من أهلِهِ مَلْحوبُ ... فالقُطَبِيَّاتُ فالذَّنوبُ (¬6) فصل في مدح الشعر وذمّه قد تعارضت فيه الأخبارُ، فأخرج الإمام أحمد بن حنبل، عن أُبيّ بنِ كعب - رضي الله عنه - قال: قال ¬

_ (¬1) ديوانه ص 256. (¬2) من قوله: قال الأصمعي ... إلى هنا زيادة من (ب)، والأبيات في ديوانه ص 167 يرثي أخاه فيها. (¬3) تمامه: رُبّ ثاوٍ يملّ منه الثواء، وهو في شرح القصائد العشر 370. (¬4) شرح القصائد العشر ص 388، وديوانه ص 156. (¬5) شرح القصائد العشر ص 414، وديوانه ص 14 بشرح الشنتمري. (¬6) شرح القصائد العشر ص 434، وطبقات فحول الشعراء 139.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ من الشعرِ لَحِكْمةً". وفي رواية: "لحكماً". انفرد بإخراجه البخاري (¬1). وروى الإمام أحمد - رضي الله عنه -، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأنْ يَمتَلئَ جوفُ أحدِكم قيحاً حتى يَرِيَه، خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً" وأخرجه مسلم (¬2). وفصل الخطاب في الباب جوازُه، وما رُوي من الذّم، فمحمول على الهَجْو دون المدح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع الشعر، وأجاز عليه، وقال لحسان: "هاجِهِم" (¬3)، ونَصب له مِنبراً في المسجد. ولأن الله تعالى بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - في زمن الفُصحاء والشعراء، وأنزل عليه القرآن، فعجبت قريش من نَظْمه ونَثره، وعَجَزوا عن الإتيان بمثله. وروى كعب الأحبار قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: نِعمَ الأبياتُ من الشعر يُقدِّمها الرجل في صدر حاجته يستعطفُ بها قلبَ الكريم، ويستميلُ بها لُؤم اللئيم (¬4). وروي عن أبي الدرداء أنه قال: سمع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً يُنشِد بيتَ الحُطيئة: [من البسيط] مَن يفعَلِ الخير لا يَعدَمْ جوازِيَهُ. . . لا يَذهب العُرفُ بين الله والناسِ فقال: "نعم" (¬5). وروي عن أبي الدرداء أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن رواحة: "ما الشعرُ"؟ فقال: شيء يَعتَلِجُ في صدري، فيَنطِقُ به لساني. قال: "فأنشِدْني منه"، فقال: وثبَّتَ الله ما آتاك من حَسَنٍ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنت ثبَّتك الله" (¬6). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (21154)، وصحيح البخاري (6145). (¬2) مسند أحمد (1506)، وصحيح مسلم (2258). (¬3) أخرجه أحمد (18650)، والبخاري (3213)، ومسلم (2486) من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -. (¬4) العقد الفريد 5/ 274، والعمدة 1/ 16. (¬5) لم أقف عليه، وانظر العقد الفريد 5/ 276، والبيت في ديوانه ص 284. (¬6) العقد الفريد 5/ 278، والخبر بنحوه في طبقات فحول الشعراء 225 - 226، وطبقات ابن سعد 3/ 528، وتهذيب الآثار (977) (مسند عمر)، والمعجم الكبير للطبراني 13/ (437) الجزء المتمم، وسير أعلام النبلاء 1/ 234.

فصل في شعراء الإسلام

فصل في شعراء الإسلام روي عن ابن سيرين أنه قال: كان أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنه - شعراء، وكان علي أشعرَهم، وكان ابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن رواحة وحسان وكعب بن مالك وجماعة من الصحابة شعراء. ومن التابعين خَلْق كثير كعبد الله بن عُتْبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة، وابن المسيّب، والحسن البصري، وابن سيرين والزُّهْري وغيرهم. وكان ابنُ المبارك يشعر، وكذا سفيان الثورى وابن عُيينة، وعامّة خُلفاء بني العباس، وبعض بني أمية (¬1). فصل فيما عِيبَ من الشعر المستقيم، وآفته من الفَهْم السَّقيم. قال الأصمعيُّ: أُنشِد عند حمَّاد الراوية قول حسان بن ثابت: [من الكامل] يُغْشَونَ حتى ما تَهِرُّ كِلابُهم. . . لا يَسألون عن السَّواد المُقْبِلِ فقال حمَّاد: هذه صفة كلاب الخانات (¬2). ومرادُ حسان أن كلابهم آنِسة بالأضياف لكثرة الطُّرّاق، فلا يَنْبَحون عليهم. ومن ذلك قول الفرزدق: [من الطويل] أيا ابنةَ عبدِ الله وابنةَ مالكٍ. . . ويا ابنةَ ذي البُرْدَين والفَرَس الوَرْدِ (¬3) قال بعضهم: وأيُّ مدح في كون الرجل يَلبَس بُردين، ويركَبُ فرساً وَرْداً؟ ! وليس كما ذكروا، وإنما لهذا القول سبب؛ وهو أن وفود العرب اجتمعوا عند النُّعمان بن المنذر، فأخرج لهم بُردَيْ مُحَرِّق، وقال: مَن كان أعزَّ العرب فليَلْبَسْهُما. ¬

_ (¬1) انظر العقد الفريد 5/ 283، والعمدة 1/ 32 فما بعدها. (¬2) العقد الفريد 5/ 330، والبيت في ديوانه 1/ 74. (¬3) تابع المصنفُ صاحبَ العقد الفريد 5/ 335 في نسبة هذا البيت إلى الفرزدق، وليس في ديوانه، وقد نَسب التبريزي في شرح الحماسة 4/ 100 هذا البيت إلى حاتم الطائي، وهو في ديوانه 43 (صادر)، ونسبه المبرد في الكامل 709، وأبو الفرج في الأغاني 14/ 71 إلى قيس بن عاصم المنقري، وورد في البيان 3/ 309، وعيون الأخبار 3/ 263، وشرح المرزوقي للحماسة 1668 دون نسبة، وانظر شرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 315.

فصل

فقام عامر بن أُحيمر بن بَهدلة السَّعْدي فأتَزَرَ بأحدهما، وارتدى بالآخر. فقال له النعمان: أنت أعزُّ العرب؟ قال: نعم. قال: ولمَ؟ قال: لأن العزَّ والعَدد في مَعَدّ، ثم في نزار، ثم في مُضَر، ثم في خِندِف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عَوف، ثم في بَهدلة، فمن أنكر هذا، فليبارني (¬1) أو يُنافرني. فلم يُجِبْه أحد، فقال له النعمان: فهذه عشيرتُك، فكيف أنت في نفسِك وأهلِ بيتك؟ فقال: أنا أبو عشَرةٍ، وعمُّ عشرة، وأخو عشرة، وخالُ عشرة، وأما أنا في نفسي فهذا شاهِدي، ثم وضع قدمه في الأرض وقال: مَن أزالها عن مكانها فَله مئةُ ناقةٍ من الإبل سودِ الحَدَق، فقام الجماعة إليه فلم يقدِرْ أحد على زوال قَدَمِه من الأرض، فذهب بالبُردَين، فافتخر الفرزدقُ بذلك. ومن ذلك قولُ ذي الرُّمّة: [من الوافر] رأيتُ الناسَ يَنتَجِعونَ غَيْثاً ... فقلتُ لصَيْدَحَ انتَجِعي بِلالا فلما أنشدها بلالاً، قال لغُلامه: مُرْ لصَيدحَ وهو اسم ناقة ذي الرمة- بعَلفٍ (¬2). وإنما أراد به قصد نفس بلالٍ، لا غيره. ومن هذا كثير. فصل ومن عادة الشُّعراء تحسينُ القبيح، وتقبيحُ الحسن. قال الحارث بن هشام يعتذر عن فِراره يومَ بدر، وكان مع المشركين: [من الكامل] اللهُ يعلَمُ ما تركتُ قِتالَهمْ ... حتى رَمَوا فَرَسي بأَشْقرَ مُزبِدِ فصَدفْتُ (¬3) عنهم والأحبَّةُ فيهمُ ... طمعاً لهم بعقابِ يومٍ مُرصَدِ ولما بلَغَ بعضَ ملوك الروم هذا قال: يا معاشرَ العرب، حسَّنتُم كلَّ شيء حتى الفِرار. وقال بشارٌ العُقيلي في سليمان بن علي، وقد وَصَل رجلاً وأحسن إليه: [من البسيط] ¬

_ (¬1) في (خ): فليبارزني، وفي (ب): فليناوئني، والمثبت من (ك). (¬2) العقد الفريد 5/ 333، والبيت في ديوانه 3/ 1535. (¬3) في (ب): فصددتُ، وانظر العقد الفريد 5/ 336، والبيتان في سيرة ابن هشام 2/ 18.

فصل

يا سَوْءةً يُكثِرُ الشيطانُ ما ذُكِرت ... منها التعجّبَ جاءت من سُليمانا لا تَعجَبَنَّ لخيرٍ زال عن يدِهِ ... فالكوكبُ النَّحْس يَسقي الأرضَ أحيانا (¬1) فصل وقد تختلفُ الشعراء في المعنى الواحد. قال الشَّماخ (¬2): [من الوافر] إذا بَلَّغْتِني وحمَلْتِ رَحْلي .... عَرَابةَ فاشرَقي بدَمِ الوَتينِ وقد عكسه بعضُهم فقال (¬3): [من الوافر] أقولُ لناقتي إذ بلَّغَتْني ... لقد أصبحتِ مني باليمينِ فلم أجعَلْكِ للعِربان نهباً ... ولا قلتُ اشرَقي بدم الوتينِ ومن هنا أخذ أبو نُواس في قوله: [من الكامل] وإذا المَطِى بنا بَلَغْنَ محمداً ... فظُهورُهنَّ على الرجال حرامُ (¬4) فصل واختلفوا في قَصْر الممدود، ومَدّ المقصور، والحَذْف. أما قَصْر الممدود فجائزٌ بالاتفاق. وأما مدُّ المقصور فقبيح، وقد عِيب على حسان بن ثابت لمّا هجا النعمان، ومدح ملك بني غَسَّان: [من المتقارب] قَفاؤُك أحسنُ من وَجْهِه ... وأمُّك خَيرٌ من المنذرِ (¬5) وأما الحذف فجائز، وهو من باب الفصاحة، ومنه قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وإنما هو: في أشهر. وقال مسلم بن الوليد: [من الطويل] ¬

_ (¬1) العقد 5/ 336، وديوانه (612)، ونسبهما ابن قتيبة في الشعر والشعراء 1/ 429 إلى أبي الغول النهشلي، وانظر خزانة الأدب 6/ 439. (¬2) ديوانه ص 323. (¬3) هو أبو نواس، والبيتان في ديوانه 3/ 303 - 304. (¬4) ديوانه 1/ 132، والعقد الفريد 5/ 340 وما سلف منه. (¬5) ديوانه 1/ 489، والعقد 5/ 356، وما يجوز للشاعر في الضرورة 217.

ذكر ملوك الحيرة

سَلِ الناسَ إني سائلُ الله وحدَه ... وصائنُ عِرضي عن فُلانِ وعن فُلِ (¬1) وقال آخرُ: [من الرجز] نادَوهُمُ أن أَلجِموا ألا تا ... قالوا جميعًا كلُّهُمْ بلى فا (¬2) أراد: ألا تركبون؟ قالوا: بلى فاركبوا. وقال آخر: [من الرجز] قلنا لَها قِفي فقالت قاف (¬3) تريد: وقفتُ. وقال آخر (¬4): [من الرجز] خرجتُ من عِند زيادِ كالخَرِفْ ... تَخُطُّ رِجلايَ بخطٍّ مختلِفْ تُكتِّبانِ في الطريقِ لامَ الِفْ ولم يقل لاماً ولا ألفًا، ومن هذا كثير ذكر ملوك الحيرة وعُمّرت الحيرةُ في زمن عَمْرو بن عدي بن أخت جَذيمةَ الأَبرش، فاتَّخذها منزلاً، فأقامت عامرةً خمسَ مئة سنة إلى أن وضع المسلمون الكوفةَ. وكانت الحيرةُ والأنبار بُنِيا جميعاً في زمن بُختَ نَصَّر، وأقامت الأنبار عامرةً خمس مئة سنة، ولما خَرِبت الحيرة تحوَّلَ أهلها إلى الأنبار. وأولُ ملوك الحيرة من العرب: مالك بن فَهْم بن غانم بن دَوْس بن الأزد بن غوث ابن نَبْت بن مالك. وكان بُختَ نصَّر قد أخْرَبَ الحيرة وطرد عنها العرب زماناً، فلما ضَعُف أمرُ الفُرس، قصدها مالك لَمَّا خرج من اليمن مع ولد جَفْنة حين أحسُّوا بسَيْل العَرِم، فملك ¬

_ (¬1) ديوانه ص 26، والعقد الفريد 5/ 355. (¬2) ما يجوز للشاعر ص 348، وضرائر الشعر 185 والمصادر فيهما. (¬3) تاويل مشكل القرآن 238، وضرورة الشعر للسيرافي ص 89، وضرائر الشعر 186 والمصادر فيها. (¬4) هو أبو النجم العجلي، والأبيات في ديوانه 141.

فصل

مالك على مُضَر ونزل الحيرة، فأقام مدةً، ثم مات. فصل فملك بعده ولدُه جَذيمةُ، ويُلقَّب بالأبرش، والوضَّاح لوَضَحٍ كان به، وكان من أفضل ملوك العرب رأياً، وأشدهم نكاية (¬1)، وهو أول مَن اجتمع له مُلك العراق، وحكم على العرب، وكانت منازلُه من الحيرة إلى الأنبار وهِيت وعَيْنِ التّمرِ. وكان لا يُنادم إلا الفَرقَدَيْن ترفُّعاً، وكان إذا شرب قَدَحاً صبَّ لهما قَدَحَيْن، وكانت تُجبى إليه الأموالُ، وتَفِدُ عليه الوفودُ، وفي أيامه كانت زَرْقاء اليمامة. فصل في ذكرها كان قد خرج جَذيمة يغزو طَسْماً وجَدِيْساً، فوجد حسَّان بن تبع الحِمْيَري قد سبقه إلى غزوهم، فعاد جَذيمة إلى منازله. وسبب غزو حسانَ لهم: أنه كان لهم ملك يقال له: عملوق، وكان جباراً فاتكاً فاسقاً، وكان من طَسْم وهو حاكم على جَديس، ظالماً لها بحيث أنه لا يُزَفُّ من جَديس امرأةٌ إلى زوجها إلا وتُحمَلُ إليه، فيَفتَرِعَها عملوق قبل زوجها. فتزوَّجت امرأة شريفة في جديس يُقال لها: الشَّموس بنت عَفار أخت الأسود بن عَفار الجَدِيسي، فلما كانت ليلة زفافها ذهبوا بها إلى عملوق، فافتَرعها وخلَّى سبيلها، فخرجت على قومها في دمائها، وقد شقَّتْ جيبَها، وكشفتْ عورتها، وقالت تُحرِّضُ جَديساً على طَسْم: [من الطويل] أيَصلُح ما يُؤتى إلى فَتياتِكم ... وأنتم رجالٌ فيكمُ عددُ النَّملِ أيَحسُن تمشي في الدِّما فَتياتُكم ... صبيحةَ زُفَّت في النساء إلى البَعْلِ (¬2) فإن أنتُم لم تَغضَبوا عند هذه ... فكونوا نساءً لا تَريموا (¬3) من الكحلِ ¬

_ (¬1) في النسخ: مكانة، والمثبت من المنتظم 2/ 50. (¬2) في مروج الذهب 3/ 279: أيحسن تمشي في الدماء فتاتكم، وفي معجم البلدان (يمامة) 5/ 443: أيجمل تمشي في الدماء فتاتكم. . . في العشاء إلى بعل. (¬3) في أسماء المغتالين لابن حبيب (نوادر المخطوطات) 2/ 119، ومعجم البلدان، والخزانة: لا تَغِبّ، وفي الأغاني 11/ 166، وتاريخ ابن الأثير 1/ 353: لا تُعاب، وفي مروج الذهب 3/ 279: تغيضوا.

ودونكم طيبُ النساء فإنما ... جُعِلْتُم لأَثواب العروسِ وللغُسلِ فلو أننا كنا الرجالَ وأنتمُ ... نساءٌ لكُنَّا لا نُقِرُّ على الذلِّ فموتوا كراماً واصبِروا لعدوِّكُم ... بحربٍ تَلظَى بالضّرامِ من الجَزْلِ (¬1) فيَهلِك فيها كلُّ خَبِّ مُخادعٍ ... ويَسلم فيها ذو النَّجابَةِ والفَضْلِ فلما سمعت جَديس ذلك غضبت، فقال لهم أخوها الأسود وكان فيهم مُطاعاً: يا جَديس، أطيعوني. قالوا: وما ذاك؟ قال: قد عَلمتُم أن طَسْماً ليسوا بأعزَّ منكم، وإنما تمليكُ عملوق علينا، وميلُه إليهم، هو الذي فعل بنا ما فعل، وإني صانعٌ لهم طعاماً، وأَدعوا عملوقاً وطسماً إليه، فإذا جاؤوا قَتلتُ أنا عملوقاً، واقتلوا أنتم رؤساءهم. وصنع طعاماً، وأَحضرهم، وقتل عملوقاً، وقتلوا رؤساءهم حتى أفنَوْهم، ولم يُفْلِت من رؤسائهم إلا رياح بن مُرّة، فهرب إلى حسان بن تبع فأخبره، وقال: قد انْتُهِكَ من طَسْم ما لم يُنْتَهَك (¬2) من أحد. فسار حسان إليهم بقبائل حِمْير وهم باليمامة، فلما بقي بينه وبينها ثلاثة أيام قال رياحٌ لحسان: أيها الملك، أخشى من امرأة في جديس ليس في الدنيا أبصرُ منها، إنَّها لتُبصرُ الرّاكب من مسيرة ثلاثة أيام، وأخافُ أن تُنذِرَ القَوْمَ، فلو أمرتَ أصحابك أن يحمل كلّ واحد منهم شجرة ويجعلها أَمامه، فأمرهم حسان بذلك. ونظرت زرقاءُ اليمامة إلى القوم من مسيرة ثلاثة أيام، فأنذرت قومها، وقالت: يا جديسُ، لقد سار إليكم الشجرُ من ورائها الرجال، وأرى فيهم رجلاً يَخصِفُ نعلاً، وآخر يَنْهَشُ كَتِفاً، فكذَبوها، فقالت: [من البسيط] إني أَرى شجراً من خَلْفِه بشَرٌ ... فكيف تجتمعُ الأشجارُ والبشرُ ثوروا بأجمَعِكم في صَدْر أوّلهِ ... فإن ذلك منكم فاعلَموا ظَفَرُ ثم قالت: أُقسم بالله لقد دَب الشَّجر ... أو حِمْير قد أخذت شيئاً يُجَرّ ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): بالكرام من الذل؟ ! والمثبت من مروج الذهب 3/ 280. (¬2) في (ب): انهتك. . . تنتهكه، وفي (خ) و (ك): وقال: هل من طسم ما لم ينتهله، والمثبت من مروج الذهب 3/ 284.

فصل

فصبَّحهم حسان فاجتاحهم، وأخذ زرقاء اليمامة، فشَقَّ عينيها، فإذا عروقٌ سود، فسألها عن ذلك، فقالت: إني لأكتحلُ بالإِثمد في كل ليلة فيَشِبُّ بصري، وهي أولُ من اكتحلت به فاتّخذته الناس بعد ذلك. ثم أمر بها حسانُ فصُلِبت على باب اليمامة. وزرقاء اليمامة لقبٌ لها، واسمُها يمامة بنت مُرَّة أخت رياح الذي أتى بحسان. ويقال: هي من بنات عاد، وبها يُضَربُ المثلُ في حِدَّة البصر. واختلفوا في أيام جَذيمة، فقيل: ستين سنةً، وقيل: ملك مئةً وثمانية عشرة سنة، وأقام ملكاً في زمان ملوك الطوائف خَمْساً وتسعين سنة، وفي أيام أَرْدشير بن بابَك ثلاثاً وعشرين سنة. وقصصُه مع أخته رَقَاش، وتزويجها بعَديّ بن نصر، وحديث عمرو بن عدي، واستطارة الجن له وعَوْده إليه، وطلبه لزواج الزَّبَّاء، وقتلها له، وتحيُّل قصير وعمرو بن عدي على قتلها مشهور، لا حاجةَ إلى الإطالة بذكره. فصل وملك عمرو بن عَديّ بعد خاله، فأقام نيّفاً وستين سنة، وقيل: مئةً وستين سنة، ثم مات. فصل ثم ملك بعده ولدُه امرؤ القيس بن عمرو، فأقام ستين سنة، ثم مات. فصل ثم ملك بعده ولده عمرو بن امرئ القيس، وأمُّه مارية من ولد ملوك غسان، وهو من لَخْم وُيسمّى مُحرِّقاً، لأنه أول من حرَّق بالنار، وفيه يقول الأسود بن يَعفُو: [من الكامل] ماذا أؤمِّلُ بعد آلِ مُحرِّقٍ (¬1) الأبيات. فأقام خمساً وعشرين سنةً، ثم مات. فصل وولي بعده النعمانُ بن امرئ القيس، وأمُّه الهَيْجُمانَةُ، وقيل: هي التي يُقال لها: ¬

_ (¬1) تمامه: تركوا منازلهم وبعد إيادِ، وهو في "المفضليات" ص 217 وتخريجه فيه.

ماء السماء، لجمالها. وهو الذي بنى الخَوَرْنَق والسَّدير، وهو النعمان الأكبر، وكان أعورَ، وهو الذي مَلّكه أنوشروان بن قُباذ، وهو الذي أشرف يوماً على الخورنق والسدير، فنظر إلى ما حولَهما، فقال: أكلّ ما أَرى يَصيرُ إلى فناء؟ قالوا: نعم. فقال: أريد عيشاً لا يزول. فقالوا: تَخلعُ أسباب الملك، وتَلبَسُ الأَمساح، وتَسيح في الأرض، ففعل. وأقام في الملك خمساً وستين سنة. وروى الأصمعي: أن النعمانَ بن امرئ القيس الأكبر -وهو الذي بنى الخورنق والسدير- ركب يوماً، فأشرف على الخَوَرْنَق، فنظر إلى ما حولَه، فقال لمن حضره: هل علمتُم أن أحداً أُوتيَ مثلَ ما أوتيتُ؟ قالوا: لا، إلا رجلاً منهم ساكت لا يتكلّم، وكان من حُكمائهم، فقال له: مالَكَ لا تتكلَّم؟ ! فقال: أيها الملكُ، إن أَذنتَ لي تكلَّمتُ. قال: قُل. قال: أرأيتَ ما جمعتَ، أشيء هو لك لم يَزُلْ ولا يزولُ، أم هو شيءٌ كان لمن قبلك، وزال عنه وصار إليك، وكذلك يزولُ عنك؟ فقال: لا، بل كان لمن قبلي فزال عنه، وصار إليَّ، وكذا يزولُ عني. قال: فسُررتَ بشيءٍ تزول عنك لذتُه غداً، وتبقى تَبِعَتُه عليك، تكون فيه قليلاً، وتُرتَهنُ فيه كثيراً طويلاً؟ ! قال: فبكى النعمانُ، وقال: أين المهربُ؟ قال: إلى أحد أمرين: إما أن تُقيمَ، فتعملَ بطاعة ربك، وإما أن تُلقيَ عليك أمساحاً، ثم تلحقَ بجبلٍ، وتفرَّ من الناس، وتُقيمَ وحدَك تعبدُ ربَّك حتى يأتيَك أجلُك. قال: فإذا فعلتُ ذلك فما لي؟ قال: حياةٌ لا تموت، وشبابٌ لا يهرم، وصحة لا تسقم، ومُلْك جديد. قال: والله لأطلُبنَّ عيشاً لا يزولُ أبداً. قال: فانخلع من مُلكه، ولبس الأمساحَ، وساحَ في الأرض، وتَبعَه الحكيم، فعبدا الله جميعاً حتى ماتا. وهو الذي يقول فيه عدي بن زيد العِبَادِي: [من الخفيف] أيُّها الشَّامتُ المُعَيِّرُ بالدَّهـ ... رِ أَأنتَ المخلَّدُ الموفورُ أم لديكَ العهدُ الوَثيقُ من ... الأيّام بل أنتَ جاهل مغرورُ مَن رأيت المنونَ أخْلَدْنَ أمْ مَنْ ... ذا عليه من أن يُضامَ خَفيرُ

أينَ كِسْرى كسرى الملوكِ أبو سَا ... سَانَ أَمْ أين قَبلَه سابُورُ وبنو الأَصْفَر الكِرامُ مُلوكُ ... الرّوم لم يَبْقَ منهمُ مَذْكُورُ وأخو الحَضر إذْ بناهُ وإذ دِجْـ ... ـلةُ تُجبَى إليه والخابورُ شادَهُ مَرمَراً وجلَّلَه كِلـ ... ساً فللطَّيرِ في ذُراهُ وُكُورُ لم يَهَبْهُ رَيبُ المنُوْنِ فزال الـ ... ـملكُ عنه فبابُه مَهجورُ وتَذكَّرْ رَبَّ الخوَرْنَقِ إذْ أشـ ... ـرف يوماً وللهُدَى تفكيرُ سرَّه مالُه وكَثرةُ ما يَمـ ... ـلكُ والبحرُ مُعرِض والسَّديرُ فارْعَوى قلبُه وقال: وما غبـ ... ـطةُ حي إلى الممات يَصيرُ ثم أضحَوْا كأنهم وَرَقٌ جَفّ ... فأَلْوتْ به الصَّبا والدَّبورُ ثم بعد الفَلاح والمُلكِ ... والإِمَّةِ وارَتهمُ هناك القبورُ يا ديارَ الأحبابِ غيَّركِ الدَّهـ ... ـر وكانتْ بعدَ الأمورِ أمورُ (¬1) وفيهم يقول الأسود بن يَعفُر: [من الكامل] ماذا أُؤمِّلُ بعد آلِ مُحرِّقٍ ... تركُوا منازِلَهم وبعدَ إيادِ أرْضِ الخَوَرْنَقِ والسَّدير وبارقٍ ... والقصرِ ذي الشّرُفاتِ من سِنْدادِ نزلوا بأَنْقِرَةٍ يسيلُ عليهم ... ماءُ الفُراتِ يَجِيءُ من أَطْوادِ أرضٌ تخيَّرها لطِيبِ مَقيلها ... كعبُ بن مامَةَ وابنُ أمِّ دُؤاد جَرَتِ الرِّياحُ على مَحلِّ ديارِهم ... فكأنما كانوا على مِيعادِ فأرى النَّعيمَ وكل ما يُلْهى به ... يوماً يَصيرُ إلى بِلىً ونَفادِ (¬2) قال ابن الكلبي: ملك بعده ولدُه المنذرُ بن النعمان، وأمه الفراسية من آل نصر بن ربيعة اللخمي، فأقام في الملك خمساً وعشرين سنة، ويقالُ لأمه: ماء السماء. وكان يقال له: ذو القرنين، لضفيرتين كانتا له في جانبي رأسه يُرسِلُهما. وقال المدائني: إنما ملك بعد النعمان الحارثُ بنُ عمروٍ جدُّ امرئ القيس الشاعر، والأول أشهر. ¬

_ (¬1) التوابين ص 67 - 68، وانظر الأغاني 2/ 137، والمنتظم 7/ 215 - 217. (¬2) المفضليات ص 217، والشعر والشعراء 1/ 255 - 256، والأغاني 13/ 16 - 19، وانظر التوابين ص 69.

فصل

فصل ثم ولي بعد المنذر بن النعمان ولدُه عمرو، ويقال له: الأسود. وأمُّه هند بنت الهيجمانة. أقام عشرين سنةً وسُمّي مضرّطَ الحجارة لشدّة صرامته، وسُمّي محرِّقًا لأنه أحرق من بني تميم تسعة وتسعين رجلًا، وكمَّلهم مئةً برجلٍ من البَراجم، وكان بنو تميم قتلوا أخاه سعد بن هند. ومحرِّق أيضًا لقبُ الحارثِ بن عمرو، ملك الشام من آل جَفْنةَ، سُمّي بذلك لأنه أولُ من حرَّق العرب في ديارهم. وعمرو بن هند صاحبُ طَرَفة والمتلمّس، وكان كتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين، أَوْهَمهما أن في الكتابين صِلةً، وفي الكتابين يأمره بقتلهما ويقول: إذا أتاك طرفةُ والمتلمِّسُ فاقطع من كل واحدٍ منهما أكحلَه، ودَعْه حتى يموت. فأما المتلمسُ فإنه مرَّ على رجل يَفلي ثيابه ويأكل خبزًا، فقال: ما رأيتُ أحمقَ من هذا. فرفع الرجل رأسه وقال: أما أنا فأرمي خبيثًا وآكلُ طيِّبًا، وأحمق مني من حمل حتفه بيده. ففتح الصحيفةَ فرأى ما فيها من الشرِّ فرمى بها في النهر. وأما طرفةُ فمضى بالكتاب إلى العامل فقرأه فقطع أكحله، وتركه حتى مات. وكان مُلْكُ عمرو بن هندٍ أربعًا وعشرين سنة. والمتلمّس اسمُه: جرير بن عبد المسيح الضُّبَعي، عَشِق أخت عمرو بن هند وشبَّب بها، فطلبه عمرو ليقتله فهرب، وهو من المقِلِّين من الشعر، وهو خالُ طرَفة بن العبد، وإنما سُمّي المتلمّس لقوله: [من الطويل] فهذا أوانُ العِرض جُنَ ذُبابُه. . . زَنابيرُه والأزرقُ المتلمِّسُ وأولُ الأبيات: ألم تَر أن المرءَ رَهْنُ منيَّةٍ ... صريعًا لعافي الطيرِ أو سوف يُرْمَسُ فلا تَقْبَلَنْ ضيمًا مخافةَ مِيتةٍ ... وموتَنْ بها حُرًّا وجِلدُك أملَسُ فمِن طَلَبِ الأوتارِ ما حَزَّ أنفَه ... قصيرٌ وخاضَ الموتَ بالسّيف بَيْهَسُ بيهس كان خرج في سفر ومعه سبعةُ إخوة فقُتلوا، ورجع هو فاستَحْمَق، فرجع حتى أخذ بثأرِه، وكان يُقال له: نعامة.

فصل

نَعامةُ لما صَرَّعَ القومُ رهطَه ... تَبيَّنَ في أثوابه كيف يَلبَسُ وقيل: كان يَلبَسُ ثوبه مقلوبًا حتى أخذ بثأره. وما الناسُ إلا ما رأَوْا وتحدَّثوا ... وما العَجْزُ إلا أن يُضامُوا فيَجلِسوا ألم تَر أن الجَوْن أصبح راسيًا ... تُطيفُ به الأيام ما يتأيَّسُ عصى تُبَّعًا أيام أُهلكت القُرى ... يُطانُ عليه بالصَّفيح ويُكلَسُ هلمّ إليها قد أُثيرتْ زروعُها ... وعادت عليها المنْجَنون تكدَّسُ فهذا أوانُ العِرضِ جُنَّ ذُبابُه ... زنابيرُه والأزرقُ المتلمِّسُ يكون نذيرٌ من ورائي جُنَّةً ... وَينصرني منهم جُلَيٌّ وأَحْمسُ وجَمْع بني قُرّان فاعرض عليهم ... فإن يَقبلوا هاتا التي نحن نُوبَسُ فإن يُقبِلوا بالوُدِّ نُقبِلْ بمثله ... وإلا [فإنّا] نحن آبى وأشمسُ وإن يك عنّا في حبيبٍ تَثاقُلٌ ... فقد كان فينا مِقْنَبٌ ما يُعَرِّسُ (¬1) وقال الخطابي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابًا لعُيَيْنَة بن حِصن، وخَتمه وناوله إياه، فقال: يا محمد، أراني حاملًا إلى قومي صحيفة المتلمّس (¬2). أي: لا أحمل كتابًا لا أدري ما فيه. ومن شعر المتلمّس: [من الوافر] وأَعلمُ عِلْمَ حقٍّ غيرَ ظنٍّ ... لَتقوى الله من خير العَتادِ لَحِفْظُ المال أيسرُ مِن بُغاه ... وضربٍ في البلاد بغير زادِ وإصلاحُ القليل يزيدُ فيه ... ولا يبقى الكثيرُ مع الفسادِ (¬3) فصل ثم ملك بعده أخوه قابوس بن المنذر، فأقام واليًا ثلاثين سنة، وقيل: أربع سنين، وأمُّه هند أيضًا. ¬

_ (¬1) ديوانه 110 - 129، وما بين معكوفين منه. (¬2) معالم السنن 2/ 58، وهو من حديث سهل بن الحنظلية رضي الله عنه، وهو في سنن أبي داود (1629)، ومسند أحمد (17625). (¬3) من قوله: والمتلمس اسمه جرير ... إلى هنا زيادة من (ب)، والأبيات في ديوانه 172 - 173، وانظر الشعر والشعراء 1/ 179.

فصل

فصل ثم ملك بعده النعمان بن المنذر بن امرئ القيس، وهو الذي يقال له: أبَيْتَ اللَّعْنَ، ومعناه: أبَيْتَ أن تأتي ما تُلْعَنُ عليه. وكانت تحية الجاهلية فنسخها الإسلام. وأمه: سلمى بنت وائل، كَلْبية، وأمّها الشُّقيقة بالضم. وهو صاحب النابغة الذّبياني مدحه وهجاه، قال يهجوه: [من الخفيف] خَبّروني بني الشُّقيقةِ ما يمْـ. . . نَعُ فَقْعًا بقَرْقَرٍ أن يَزولا (¬1) والشُّقيقةُ بنت عَبَّاد بن زيد بن عمرو بن ذُهْل بن شيبان، وهي أمُّ سيَّارٍ وسمير وعبد الله وعمرو بن أسعد بن همَّام بن مُرّة بن ذُهل بن شيبان، وكانوا سيَّارة مرَدَة لا يأتون على شيءٍ إلا أفسدوه. وكنية النعمان أبو قابوس، قال النابغة: [من البسيط] نُبّئْتُ أن أبا قابوسَ أوعدني. . . ولا قَرارَ على زَأْرٍ من الأَسَدِ (¬2) ومن مديح النابغة -واسمه زياد بنُ معاوية أبو أُمامة- في النعمان قصيدته المشهورة (¬3): [من البسيط] يا دارَ ميّةَ بالعلياء فالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وطال عليها سالفُ الأَبَدِ وقفتُ فيها أُصيْلالًا أُسائلُها ... عَيَّتْ جوابًا وما بالرَّبْع من أَحَدِ إلّا أوارِيَّ لأْيًا ما أُبَيّنُها ... والنّؤْيُ كالحَوْضِ بالمظلومَةِ الجَلَدِ أضحتْ قِفارًا وأضحى أهلُها احتَملوا ... أَخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ ولا أرى فاعلًا في الناسِ يُشْبِهُه ... ولا أُحاشي من الأقوامِ من أَحدِ واحكُم كحكم فتاةِ الحيِّ إذ نظرت ... إلى حَمامٍ سِراعٍ واردِ الثَّمَدِ وهذه القصيدةُ قالها معتذرًا إلى النعمان لمّا بلغه أنه تعرّض لزوجته المتجرِّدة. والنابغةُ من الطبقة الأُولى من المتقدِّمين على سائر الشعراء، وهو أحد شعراء الجاهلية المشهورين، وأحدُ الأشراف الذين غَضَّ منهم الشعر. ¬

_ (¬1) ديوانه ص 99، والفقع: ضرب من الكمأة، والقرقر: الأرض المطمئنة الرخوة اللينة. (¬2) ديوانه ص 36. (¬3) هي المعلقة، وهي في ديوانه ص 30 فما بعدها، وسلف أن كنيته أبو ثمامة، وقد كني بابنتيه أمامة وثمامة، انظر الشعر والشعراء 157.

وكان خصيصًا بالنعمان ومن ندمائه، فرأى زوجةَ النعمان المتَجرّدةَ، وقد سقط نَصيفُها ودِرعُها فسترت وجهها بيدها. وكان النعمان أَبرشَ قبيحَ المنظر، وكان من نُدمائه المنخَّلُ اليَشْكُري الشاعر، وكان من أجمل العرب، وكان يُرمى بالمتجوِّدة، ويتحدَّث للعرب أن ابْنَي النعمان كانا منه، فلما رآها النابغةُ قال: [من الكامل] سَقط النَّصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فتَناوَلَتْه واتَّقَتْنا باليدِ (¬1) وأوَّلُها: من آلِ ميّةَ رائحٌ أو مغتدِي ... عَجْلانَ ذا زادٍ وغيرَ مزوَّدِ (¬2) لو أنها عَرضَتْ لأَشمَطَ راهبٍ ... يخشى الإله صَرورَةٍ مُتَعَبّدِ لصَبا لبَهْجَتِها وحُسْنِ حديثها ... ولَخالَه رُشْدًا وإن لم يَرشُدِ ووصف بطنَ المتجردة وظهرها وغيرَ ذلك، فغار المنخَّل، وقال للنعمان: ما يَقدِرُ أن يقولَ هذا الشعر إلا من جرَّب. فغضب النعمان وتنكَّر له، وعزْم على قتله. فهرب النابغةُ إلى الشام، فالتجأ إلى عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعوج بن الحارث الأكبر بن أبي شَمِر الغَسّاني، وأُمّه مارِيَة بنت ظالم الكِنْديّة ذات القُرطَين، وأُختها هند الهنود امرأة حُجْرٍ آكل المُرار، فمدحه النابغة وقال: [من الطويل] كليني لهمِّ يا أُميمةَ ناصِبِ ... وليلٍ أُقاسيه بَطيءِ الكواكبِ ومنها: ولا عيبَ فيهم غير أن سيوفَهم ... بهنَّ فُلولٌ من قِراع الكتائب تَقُدُّ السَّلوقيَّ المضاعَفَ نَسْجُه ... وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِب (¬3) ومدح النعمانَ بن الحارث الأصغر الغساني أخا عمرٍو الذي التجأ إليه، فقال وقد رآه يمشي وهو غلام: [من السريع] هذا غلامٌ حَسَن وَجْهُه ... مُقتَبلُ الخيرِ سريعُ التَّمامْ ¬

_ (¬1) ديوانه ص 40. (¬2) ديوانه ص 38. (¬3) ديوانه ص 9، 11، وانظر الشعر والشعراء 1/ 166 - 167، والأغاني 11/ 14 - 16.

للحارثِ الأكبر والحارث الـ ... أصغر والأعرجِ خيرِ الأَنامْ ثم لهِندٍ ولهِندٍ فقد ... أسرع في الخيرات منه إمامْ خمسةُ آباءٍ همُ ما همُ ... همْ خيرُ مَن يشربُ صَوبَ الغمامْ (¬1) ولم يزل النابغة مقيمًا عند عمرو بن الحارث الغساني حتى مات عمرو، وولي أخوه النعمان بن الحارث، فاستعطفه النعمان بن المنذر، فعاد إليه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا: مَن القائل: [من الطويل] حلفتُ فلم أترُكْ لنفسِكَ رِيبةً ... وليس وراءَ الله للمرء مَذْهَبُ ولستَ بمُسْتَبْقٍ أخًا لا تَلُمُّه ... على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المُهذَّبُ (¬2) قالوا: النابغة. فقال: فمن الذي يقول: [من البسيط] إلا سليمانَ إذْ قال المليكُ له ... قُمْ في البَرِيَّة فازْجُرها عن الفَنَدِ (¬3) قالوا: النابغة. قال: فمن القائل: [من الوافر] فلستُ بذاخرٍ لغدٍ طعامًا. . . حِذارَ غدٍ لكلّ غدٍ طعام (¬4) قالوا: النابغة. فقال: هو أشعر شعرائكم وأعلمُ الناس (¬5). استأذن النابغة يومًا على النعمان، فقال الحاجب: هو على شرابه. قال: فإنه وقت الملَق، فإن تَبلّج فَلَقُ المَجْدِ عن غُرَر مواهبه، فأنت قسيمُ ما أَفدتُ. فقال الحاجب: كيف أرغبُ فيما قصدتَ ووصفتَ، ودون ذلك رَهبةُ التعدِّي؟ وكيف السبيل؟ قال: فمن عنده؟ قال: خالدُ بن جعفر الكلابيُّ نديمُه. قال: فهل لك أن تُؤدّي إلى خالدٍ ما أقول؟ قال: قُل. قال: قل له: يقول لك النابغةُ: عظيمُ قَدْرك يفي بمأمول الدَّرك منك، وأنا من الشّكر مَنْ قد علمت، فدخل الحاجب، فقام خالد يقضي حاجتَه، فبلّغه الحاجب ما قال النابغة. فلما عاد خالد إلى المجلس، قال للنّعمان: ¬

_ (¬1) ديوانه ص 117، والأغاني 11/ 19 - 20. (¬2) ديوانه ص 17. (¬3) ديوانه ص 33. (¬4) ديوانه ص 116. (¬5) انظر الأغاني 11/ 4 - 5، و"طبقات فحول الشعراء" ص 56، والعقد الفريد 5/ 270.

[إلا لمِثلك أَو مَنْ أنت سابِقُه ... سَبْقَ الجواد إذا استولى على الأَمَدِ] أَبَيْتَ اللَّعنَ، إن أملاكَ ذي رُعين -يعني ملوك اليمن- قد مدَّت لهم قَصَبات المجد (¬1) إِلى معالم الأحساب، ومناقب الأنساب، في حلبةٍ أنت غُرَّتُها، فجئتَ سابقًا لها. فقال له النعمان: لأنت أبلغُ في وصفهم من النّابغة في نظم قافيته. فقال خالد: ما أَبلغَ فيك مدحًا إلا وهو دون قدرك، ولو كان النابغة حاضرًا لقال وقلنا. فقال: عليَّ بالنابغة. فخرج الحاجب، فقال: فُتِح البابُ، ورُفِع الحجابُ، ادخل، فدخل وأنشد: [من البسيط] أخلاقُ مجدِك جَلّتْ ما لها خَطَرٌ ... في البَأسِ والجُود بين العِلمِ والخَبرِ مُتَوَّجٌ بالمعالي فوق مَفْرِقه ... وفي الوغى ضَيْغَمٌ في صورةِ القمرِ (¬2) فملأ فاه دُرًّا، فقاسمه الحاجبُ. وكان يُضربُ للنَّابغة قُبَّةٌ من أَدَم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراءُ، فتعرِضُ عليه أشعارَها، فأنشده الأعشى، ثم حسَّان بن ثابت، ثم الخنساء، فمما أنشدَتْه أبياتها التي تقول فيها: [من البسيط] وإنَّ صَخْرًا لَتَأتَمُّ الهُدَاةُ به ... كأنَّه عَلَمٌ في رأسِه نارُ (¬3) فقال النابغة: واللهِ لولا أن أبا بصير أنشدَني آنِفًا، لقُلتُ إنكِ أشعرُ أهلِ زمانِك من الإنس والجِنِّ. ومن شعر الخَنْساء في "الحماسة": [من السريع] دَلَّ على مَعْرُوفِه وجهُه ... بُورِك هذا هاديًا من دليلْ تَحسبُه غَضبانَ من عِزِّهِ ... ذلك منه خُلُقٌ ما يَحولْ ويلُ امِّهِ مِسعَرَ حَرْبٍ إذا ... أُلقيَ فيها وعليه الشَّلِيلْ (¬4) ¬

_ (¬1) في النسخ: قد مدت لهم قصب السبق، والمثبت من مروج الذهب 3/ 203 وما بين معكوفين منه، والبيت في ديوانه ص 33. (¬2) ديوانه ص 74، وانظر مروج الذهب 3/ 204. (¬3) ديوانها ص 48. (¬4) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 4/ 1798، وديوانها ص 115.

فقام حسان بن ثابت، فقال: والله أنا أشعرُ منها ومنك ومن أبيك. فقال النابغة: حيث تقول ماذا؟ فقال: حيث أقول: [من الطويل] لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحى. . . وأَسْيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدَةٍ دَما وَلَدْنا بَني العَنْقاءِ وابنَي مُحَرِّقٍ. . . فأكرِمْ بنا خالًا وأكرِم بنا ابْنَما (¬1) فقال له النابغة: يا بُنيَّ إنك قلت: الجفنات فقلَّلت عددك، ولو قلت: الجفان كان أولى، وقلت: يلمعن بالضّحى، ولو قلتَ: في الدُّجَى، كان أبْلَغ، لأن الضِّيفانَ يكْثُرن في الليل، وقلتَ: يقْطُرن. ولو قلتَ: يجرين، لكان أكثر للدم، وفَخَرْتَ بمن ولدْته، ولم تَفْخَر بمن ولَدَك (¬2). وكسرى أبرويز هو الذي قتل النُّعمان بن المنذر، وسببُ قتله أنه قتلَ عَدِيَّ بنَ زيدٍ ابن حِمار بن أيوب (¬3)، وكان يسكن الحيرة، وكان عديٌّ نصرانيًا، وكان منزلُ جدّه أيوب بن مَحروف باليمامة، في بني امرئ القيس بن زيد مَناة، فأصاب دمًا باليمامة فهرب، فنزل الحيرة على أوس بن سلام (¬4) أحد بني الحارث بن كعب، وكان بين أوسٍ وأيوبَ نسبٌ من قِبَل النساء، فأنزله أوس وأكرمه، وأقام عنده مدة ثم ماتا. ونشأ زيد أبو عَديّ، وتعلَّم الكتابة ووُلد له عَديّ، فعلَّمه الكتابة، فخدم كسرى وأَنفق عليه، وكان يكتب له، وكان ذلك في زمان المنذر، فجعل المنذرُ ابنَه النعمان في حِجْر عَديّ بنِ زيد، وتزوّج عَديّ هندًا بنت النعمان، ومات المنذر، فأشار عَديّ على كسرى بتولية النعمان دون إخوته، وكان أصغرهم، فغضب الأسودُ بنُ المنذر أخو النعمان وأهلُه على عَديّ، واحتالوا وتَوصَّلُوا إلى النعمان، ووشَوْا بينهما، وقالوا: إن عديًّا يقول: إنما النعمان عاملٌ من قِبَله. فحبسه، وأطال حبسه، فكتب إليه عدي من الحبس يقول: [من الرمل] أَبلغِ النُّعْمانَ عني مَألَكًا. . . أنّه قد طال حَبسي وانتظاري ¬

_ (¬1) ديوانه ص 221. (¬2) انظر الأغاني 6/ 11، وخزانة الأدب 8/ 112 - 113. (¬3) في النسخ: حماد بن أيوب، والمثبت من طبقات فحول الشعراء 1/ 137، وانظر حاشيته لزامًا. (¬4) في الأغاني 2/ 98: قلّام.

لو بغير الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كنتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعْتِصارِي وعُداتي شُمَّتٌ أَعجبَهم ... أنَّني قد غِبْتُ عنهم في إساري فلَئِن دهرٌ تَولَّى خيرُه ... وجرت لي منه بالنحس جوار رُبَّما منه قَضينا حاجةً ... وحياةُ المرءِ كالشَّيءِ المُعارِ (¬1) ومدحه بقصائد كثيرة فلم تغن عنه شيئًا. وبلغ كسرى حبسُ النعمان لعَديّ، فبعث إليه يتوعَّدُه ويتهدَّده، ويأمرُه بإطلاقه. فأشار أعداءُ عديّ على النّعمان بقتله، فغمّوه في ليلة، فلمَّا وصل رسولُ كسرى إلى النعمان يطلبُ عديًّا، أمره أن يذهب إلى الحبس ويُخرجه، فجاء فوجده ميتًا، فقالوا: مات البارحة. فعاد الرسول إلى كسرى فأخبره، فتَغَيَّظ وقال: قتلني الله إن لم أقتلْه. وكان في قلبه منه من يوم طلب منه فَرسَه اليَحْموم لينجو عليه، فمنعه النعمان منه (¬2). ثم إن النعمان ندم على قتل عدي، وأحضر ابنه زيدًا، واعتذر إليه، وجهَّزه إلى كسرى، وكتب معه كتابًا: إن عديًا كان ممن أُعين به في المُلك، وقد انقضت مُدّتُه، ولم يُصَبْ به أحد أَشَدَّ من مصيبتي به، وقد بلغ له ابنٌ وليس بدونه، فإن رأى المَلك أن يجعله مكان أبيه فعل. فلما حضر زيد عند كسرى أُعجب به، وسأله عن النعمان فأثنى عليه، وأقام زيدٌ يُعْمِلُ الحيلةَ في قتل النعمان، فما زال حتى قتله، لما نذكر. وكان النعمان يعبد الأوثان، فلم يزلْ به عَديّ حتى نَصَّرَه؛ خرج يومًا معه إلى الصيد، فمرا بمقبرة، فقال له عَديّ: أيها الملكُ أتدري ما يقولُ أهلُها؟ قال: لا. قال: إنهم يقولون: [من الرمل] رُبَّ رَكْبٍ قد أَناخوا حولَنا. . . يَشربون الخَمْرَ بالماءِ الزُّلالِ ثمّ عادوا عَصَفَ الدَّهرُ بهم. . . وكذاك الدَّهرُ حالًا بعد حالِ فقال له النّعمان: إنَّ هؤلاء لا ينطِقُون فما الذي أَردْتَ؟ قال: أردتُ وَعْظَك، وأن ترجعَ عن عبادةِ الأوثان إلى عبادةِ الرحمن، وتدينَ بدين المسيح. فتنصَّرَ النعمان (¬3). ¬

_ (¬1) انظر العقد الفريد 5/ 261، والأغاني 2/ 114. (¬2) سلفت القصة ص 440 من هذا الجزء. (¬3) انظر الأغاني 2/ 96، 134.

ذكر مقتل النعمان

وعَديّ القائل: [من البسيط] يا أيُّها الرَّكبُ سيروا إن قَصْرَكُمُ. . . أن تُصبِحوا ذات يومٍ لا تَسيرونا حُثُّوا المَطِيَّ وأَرخوا من أَزِمَّتها. . . قبل المماتِ وقَضوا ما تُقَضُّونا (¬1) وكان عَديٌّ يَهوى هندًا بنت النعمان، وكانتْ من أجمل النِّساء، رآها في بِيْعةٍ في خميسِ الفِصْح، وذلك في أيَّام المنذر، وكان قد قدِم عليه بهدية من عند كسرى. وكان لهندٍ أَمَةٌ يقال لها: مارِيَة، فعشِقتْ عديًّا، فأرادتْ أن تتقرَّب إليه بهند، فقالت له: هل لك أن تَقع عليَّ، وأتسبب لك في هند؟ فأدْخلها حانوتَ خَمَّار، ووقع عليها، فأعملت الحيلة حتى جَمعتْ بينهما في البِيْعة، فعَشِقتْه هندُ وخطبها إلى النعمان فزوجه إياها، وكان جميلًا، وأقامت معه حتى قتله النُّعمان، فترهَّبتْ بدير هند ظاهر الحيرة، وأقامت به إلى صدر الإسلام، وماتت في ولاية المغيرة بن شُعبة على الكوفة من قِبَلِ معاوية، وخطبها المغيرة، فقالت: والله ما بي بقيَّة من جَمال، ولكنَّك أردتَ أن تقول في المواسم: ملكتُ مملكةَ النعمان، ونكحتُ ابنتَه. فقال المغيرة: صَدقْتِ. ويقال: إن هندًا كانت تهوى زرقاءَ اليمامة، وهي أوَّلُ امرأةٍ أَحبَّت امرأةً من العرب، فلما قُتِلتْ زرقاء اليمامة، ترهَّبتْ ولَبِستْ المُسوح، وبنَتَ بظاهرِ الكوفة دَيْرًا وسَكنَتْه. وهذا بعيدٌ؛ أين هند من زرقاء اليمامة؟ الزرقاء كانت في زمن جَذيمة، والنعمانُ في آخر ملوك الحيرة. ولما حَبس النّعمان عديًّا أكرهه على طلاقها، فطلقها (¬2). ذكر مقتل النعمان أقام زيد بن عدي عند كسرى يُعمِلُ الحِيْلةَ في قتل النعمان، والأخذ بثأرِ أبيه، وما كانت الفُرس تتعرَّض لنساء العرب، فوصف زيد لأبرويز نساءَ آل المنذر، فكتب أبرويز إلى النُّعمان أن يبعث إليه بأخته أو ابنته ليتزوَّجَها، وبعث بالكتاب مع زيد بن عَدي. فلما قرأ الكتابَ قال: أما كان لأبرويز في مها السواد كفايةٌ حتى تَخطّى إلى كرائم ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 47/ 128 (طبع المجمع)، ونسبهما أبو الفرج في الأغاني 15/ 19 إلى مضاض بن عمرو. (¬2) انظر الأغاني 2/ 128 - 133.

العرب؟ فقال له زيد: إنما أراد الملكُ إِكرامَك ورفعَ منزلتك بمصاهرته إياك، ولو علم أنّ ذلك يَشُقُّ عليك لما فعل. فقال له النعمان: قد علمتَ ما على العرب من العارِ والشَّناعَة بتزويج الأعاجم. فقال له: طِبْ نَفْسًا سأصرفه عن ذلك. فلمّا عاد زيد إلى أبرويز أعاد عليه ما قال النّعمان، وقال: إنه قال: فأين أبرويز عن بَقرِ السَّواد، وحرَّف عليه. وقال زيد: رُبَّ عبدٍ صار من الطغيان إلى أكثر من هذا (¬1). فأرسل كسرى يطلبُ النُّعمان، فرحل بأمواله وأثقاله وأهله إلى البادية، فنزل على أصهاره من طيّئ فلم يَحمُوه، فانتقل إلى بني رَواحة فأجاروه. وضَجِر ومَلّ من التنقُّل في البادية، فأشارت عليه امرأتُه المُتَجرِّدة بأنْ يقصد باب كسرى مُستجيرًا به. وبلغ كسرى فصفّ ثمانية آلاف جارية، عليهن الحليُّ والحُلَلُ صَفَّين، فلما صار النّعمان بينهن قُلنَ جميعًا: أما فينا للملك غناء عن بقر السَّواد؟ فعلم النّعمان أنه غيرُ ناجٍ منه. ولقيه زيد بن عَدي فقال: أنت فعلت بي هذا، ولئن تخلَّصتُ لأسقِينَّك بكأس أبيك، فقال زيد: امض نُعَيْم، فقد أَخَّيتُ لك أَخِيَّة لا يَقطعُها المهرُ الأَرِنُ. ثم أمر به كسرى فحُبس بساباطٍ بالمدائن، ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة فداسَتْه حتى مات. وقيل: إنه حبسه بخانقين فوقع طاعون هناك فمات. والأول أصحُّ. وقد أكثرت فيه الشعراء، قال زهير بن أبي سُلمى: [من الطويل] ألم تر للنّعمانِ كان بنَجْوةٍ ... من الشرِّ (¬2) لو أن امرأً كان ناجيا فلم أر مسلوبًا له مثلُ مُلكه ... أقلَّ صديقًا باذلًا أو مُواسِيا (¬3) خلا أن حيًّا من رواحةَ حافظوا ... وكانوا أُناسًا يتقون المخازيا فقال لهم خيرًا وأثنى عليهمُ ... وودَّعهم توديعَ أنْ لا تلاقيا ¬

_ (¬1) في المصادر أن القائل لذلك هو كسرى أبرويز، انظو تاريخ اليعقوبي 21/ 215، والطبري 2/ 205، ومروج الذهب 2/ 306، والأغاني 2/ 125، وتجارب الأمم 1/ 133. (¬2) في النسخ: ألم تريا النعمان كان بنجوة من الأرض، والمثبت من العقد الفريد 5/ 261، ومروج الذهب 3/ 207، وديوانه ص 171 بشرح الشنتمري، وص 288 بشرح ثعلب. (¬3) في النسخ: مساويا، والمثبت من المصادر.

فصل في ترجمة النعمان بن المنذر

ولما قصد النعمانُ بابَ كسرى مرَّ على بني شيبان فأودعهم أهلَه وعيالَه ودروعَه وسلاحَه وزوجته المتجردة -وكانت دروعُه عشرة آلاف شِكَّةً (¬1) - فلما قُتِل أَرسل كسرى يطلبها، وكان زعيمُ القوم هانئُ بنُ قَبيصة بن هانئ بن مسعود، فامتنع هانئ من تسليمها إليه، وقال: قد استجار بي، فكيف أَخفِر ذِمامَه؟ فكان ذلك سببًا ليوم ذي قار. فصل في ترجمة النعمان بن المنذر كان شجاعًا فاتكًا، وكان له يومان: يوم بُؤسٍ، ويوم نَعيم. فمن لَقيه في يوم نعيمه وصله، ومَن لقيه في يوم بُؤسه قَتله. فلقيه عَبيد بن الأَبرص الشاعرُ في يوم بؤسه فقتله. وقال الهيثم: لقي يومَ بؤسِه رجلًا فقال له: ما حملك على الخروج في هذا اليوم وقد علمتَ أنه يوم بؤسي؟ فقال: حملني العشقُ لابنة عمٍّ لي، تَواعدنا إلى مكان كذا، فخيَّرتُ نفسي بين أن أَراها وبين أن أُقتَلَ، فاخترتُ القتل. فقال: اقتلوه. فقال: أيها الملك، دَعْني أرى محبوبتي واقتُلني بعد ذلك. فقال: ومَن يَضمنُك أن تعود؟ فالتفتَ الرَّجل وجعل يُدير طَرْفَه في الناس، فاختار كاتبَ النعمان، فقال: هذا. فقال النعمان للكاتب: أَتضمنه؟ قال: نعم. قال: فإن لم يأت قتلتُك. قال: نعم. فمضى الرجل ثم عاد، فقال له النعمان: أيها الرجل، ما حملك على الرجوع وقد علمتَ أني قاتلُك؟ قال: خفتُ أن يذهب الوفاء. قال لكاتبه: ما حملك على ضمانه ولم تَعرفْه؟ قال: إنه تصفَّح الوجوه فاختارني، فخفتُ أن يَذهب الكرمُ. فقال: وأنا أخاف أن يذهب العفو، فعفا عنه ورفع يوم البؤس. ذكر وِفادةِ النُّعمان على كسرى وتفضيله العرب على سائر الأُمم وفَد النُّعمان على كسرى وعنده وفود الصّين والهند والفرس والروم وغيرِهم، فذكروا (¬2) ملوكَهم وبلادَهم، فافتخر النُّعمان على جميع الأمم بالعرب، ولم يَستثْنِ فارسًا ولا غيرها، فغضب كسرى، وأخذته عِزَّة المُلك، وقال: يا نعمانُ، إني فكَّرت في أمر العرب ومن يَرِدُ عليَّ من الأُمم؛ فوجدت أهلَ الهند والصِّين لهم حظّ في اجتماع آرائها، وكثرة صنائعها، وبُعْدِ هِمَمِها وفُروسِيَّتها، وطِيْبِ بلادها واتساعها، ¬

_ (¬1) الشِّكَّةُ: ما يُلبس من السلاح. اللسان (شك). (¬2) في النسخ: فذكر، والمثبت من العقد الفريد 2/ 4.

وكَثْرةِ أموالها وحِكَمِها، وكذا الرُّوم في نسبها (¬1) وعِظَمِ سلطانها، وكثرةِ مدائنها، وأن لها دينًا تتبيَّنُ فيه حلالَها من حرامها، وكذا التُّرك لهم النضارةُ والحُسنُ والشجاعةُ، وكذا جميع الأمم، لكلِّ أمةٍ مَلِكٌ يُدبِّوها ويَجمع كلمتَها. وذكر كلامًا طويلًا ثم قال: ولم أرَ للعرب شيئًا من هذه الخِصال، لا في أمر دينٍ ولا دنيا ولا عقول، مع مهانتها وذُلّها وصِغَر نفوسها، ومخالطتها الوحوشَ النافرة والحشراتِ القبيحة، يقْتُلون أولادهم من الفاقَةِ، ويأكلُ بعضهم بعضًا من الحاجة. قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها وشهواتها ولَذَّاتها، فأفضلُ طعامِهم لحومُ الإبل التي يعافُها كثير من السباع، لِثقَلها وسُوء طَعْمها. وإنْ قَوى أحدهم ضَيفًا عَدَّها مَكْرُمة، وإن أُطعِم طُعْمةً عدَّها غنيمة، تَنطِقُ بذلك أشعارُهم، ويفتخر به رجالُهم، ما عدا هذه التنوخية التي أسَّس جدّي اجتماعَها، وشَدَّ مملكتَها، وحماها من عَدوِّها، يعني اليمن. فقال له النعمان: أيُّها الملك حقّ لأمَّةٍ أنت منها أن تسموَ بفضلِها، ويَعْظُمَ خَطبُها، وتَعلو درجتُهَا، إلا أن عندي جوابًا عن كل ما نَطق به الملك من غير ردٍّ عليه، فإن أَمِنتُ غضبه قلتُ. قال: قل، فأنت آمن. فقال: أصلح الله الملك: إنَّ أُمتَك ليست تُنازَعُ في الفضل لموضعها في عُقولها وأحلامها، وما أكرمها الله به من وِلايتها وأحكامها. وأما العربُ فإنها تَفْضُل الأمم التي ذكرتَ بعزِّها ومَنَعتها، وبأسها وشجاعتها، وأنسابها, وسخائها، وفصاحتها ولغتها، ودينها، وحُسنِ ألوانها، وشِدَّة عقولها، وأنفتها، ووفائها. فأمَّا عزُّها ومَنَعتها؛ فإنها لم تَزل مجاورةً لآبائك الذين دوَّخوا البلاد، ووطَّدوا الممالك، وقادوا الجيوشَ، لم يطمع فيها طامعٌ، ولم يَنَلْهم نائل. حصونُهم ظهورُ خيلهم، وجُنّتهم رماحُهم وسيوفُهم، وغيرُهم من الأمم عِزُّهم الطينُ والحجارةُ وجزائر البحور. وأمّا حُسْنُ ألوانها؛ ففضلُها ظاهرٌ على الهنود المحترقةِ، والتُّركِ المشوّهةِ والروم المقشَّرة. وأمّا أنسابها؛ فليست أُمّةٌ من الأُمم إلا وقد جَهلت أنسابَها، حتى لو سُئِل واحدٌ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ك): نسبتها.

عما وراء أبيه لم يَنْسبه، ولم يعرفه، وما في العربِ إلا مَن يُسمّي آباءه أبًا أبًا، وجدًّا جدًّا، يَحفظون بذلك أحسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا يدعى إلى غير أبيه. وأما سخاؤها؛ فإن الرجل يكون عنده البَكْرُ أو النابُ، عليها بُلْغَتُه من العيش، فيطرقه الطارقُ، فيعقِرُها له وَيرضى أن يَخرجَ من دنياه كلّها بحُسْنِ الأُحدوثة، وجميل الذّكر. وأما فصاحتُها؛ فإن الله أعطاها في نَظمها ونثرها ما لم يُعْطِه غيرَها من الأمم. ثم إن خيولهم أفضلُ الخيول، ونساءهم أعفُّ النساء. وأما دينها؛ فإن لها بيتًا محجوجًا، وشهرًا حرامًا، وبلدًا مُحرّمًا يَنسكون فيه نسائكَهم، ويَذبحون ذبائحهم، ويَلقى الرجلُ قاتلَ أبيه، أو ابنه، أو أخيه، فلا يتعرَّض له في الشهر الحرام. وأما وفاؤُها، فإنَّ أحدَهم إذا عَقد عُقدة لا يَحُلُّها إلا خروج نَفْسه، وإن أحدهم ليرفعُ عودًا من الأرض؛ فيكون رَهْنًا بدينه وذمَّته، فلا يَغْلَق رَهْنه ولا تُخفَر ذِمَّتُه. وإن أحدهم ليَبْلُغُه أن شخصًا استجار به، وعسى أن يكون نائيًا عن داره، فيُصابُ، فلا يرضى حتى يُفني تلك القبيلة التي أصابتْه، أو تَفنى قبيلتُه، لما أُخْفِر من ذِمامه وجِواره، وإنَّه ليَلجأ إليهم المُحْدِثُ المجرمُ من غير معرفةٍ ولا قرابة، فتكون نُفوسُهم دون نَفْسِه، وأموالُهم دون أمواله. وأما قتلُهم الإناث من أولادهم؛ فليس للفاقَة، بل أنفةً من العار، وغَيْرةً من الأزواج. وأما أكلُهم لحومَ الإبل؛ فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا له، فجعلوها طعامَهم ومَراكبَهم، مع أنها أكثرُ البهائم شُحومًا، وألذُّها لُحومًا، وأرقُّها ألبانًا، وأقلُّها غائلَةً. وذكر كلامًا طويلًا، فعجب كسرى من كلامه، وقال: إنَك لموضع الرِّئاسة في أهل مملكتك، وفيما هو أفضل. ثم كساه من كِسوته وسَرَّحه إلى الحيرة. فكتب النعمانُ إلى رؤساءِ العرب وحكمائها، مثل: أكثَم بن صَيْفيّ، وحاجِب بن زُرارة التَّميمي، والحارث بن عُبادٍ البَكريّ، وعَمرو بن مَعدي كَرِبٍ الزُّبَيديّ،

والحارث بن ظالمٍ، وقيس بن مسعودٍ البَكريِّ، وخالد بن جعفرٍ، وعَلْقمة بن عُلاثة العامِرِيِّ، وعَمرو بن الشَّريد السُّلَمي، فقدموا عليه، فأكرمهم وأخبرهم بما جرى له مع كسرى، وقال: قد سمعتُ منه مقالةً أَتخوَّف أن يكون لها غَوْرٌ، [أو يكونَ إنما أظهرها لأمر]، وهو أن يَتّخذَ العرب خَوَلًا كبعض (¬1) طَماطِمته، كما يَفعل بملوك الأمم الذين حوله. وإنما أنا رجلٌ منكم، وما عَزَزتُ إلا بمكانكم، وبما يتخوَّفُ من ناحيتكم. وقد رأيتُ أن تَنطلقوا إليه بكتابي، وأن يَنطِقَ كلّ واحدٍ منكم بما حضره، ليعلمَ أن العرب غير ما ظَنَّ، ولا تَنطِقوا بما يُغْضِبُه، فإنه ملكٌ عظيمُ الشَّأن، كثير الأعوان، ولا تَنخَزِلوا له انخِزالَ الخاضع الذَّليل، وليكن أمرًا بين ذلك تَظهر به وَثاقَةُ حُلومِكم، ورَزانَةُ عقولكم. وليكن أوّل مَن يتكلم منكم أكثمُ بنُ صَيْفي، ثم تتابعوا على الولاء بقَدْر منازلكم التي وصفتكم (¬2) بها، فإنما دعاني إلى ذلك لئلا يَحرِصَ كلُّ واحدٍ منكم على التَّقدُّم قبل صاحبه، فيَجد في آدابكم مَطعنًا، فإنه ملكٌ مُترَف، وقادرٌ مُسَلَّط. ثم كساهم الحُلَل الثَّمينة، وحملهم على المَهاري والخيل العِتاق، وكتب معهم كتابًا فيه: أما بعد، أيها الملك، فإني قد أَنفَذتُ إليك وجوهَ العربِ وحكماءهم ورؤساءهم، ومَن لهم حَزمٌ وعَزْمٌ، وفصاحةٌ وصباحةٌ، وأحسابٌ وأنسابٌ. وقد كنتُ أجبتُ الملك عمّا رماهم به، وأَحببتُ أن يكونَ منهم على علمٍ ويقينٍ، فلْيَسمع الملك منهم، ويتغافل عن جَفاءٍ إن ظهر منهم، ويكرمني بإكرامهم، والسلام. فلما وفدوا على كسرى أكرمهم، وجلس لهم مجلسًا عامًّا، ولبس تاجه، وجمع علماء أهل مملكته، ونصب كراسيّ الذهب والفضَّة للوفود عن يمينه وشماله، ودعا بالأساورة والمَرازِبَة والمَوابِذة، وأجلس العربَ مجالسَهم التي وصفها النُّعمان في كتابه، وأقام التُّرجُمان ليؤدِّي إليه ما يقولون، وأذن لهم في الكلام. فقام أكثم بن صَيْفي فقال: إن أفضل الأشياء أَعاليها، وأَعلى الرجالِ مُلوكها، وأفضلَ الملوك أعمُّها نفعًا، وخير الأزمنة أخصبُها، وأفضل الخطباء أصدقُها. الصدقُ ¬

_ (¬1) في النسخ: لبعض، والمثبت من العقد الفريد 2/ 9 وما بين معكوفين منه. (¬2) في العقد 2/ 10: وضعتكم.

مَنجاة، والكذبُ مَهواةٌ، والشرُّ لَجاجَةٌ، والخيرُ عادةٌ. وذكر ألفاظًا، فأُعجِبَ كسرى بكلامه وقال: لو لم يكن للعرب غيرُك لكفاها. ثم قام حاجبُ بن زُرارة التميمي فقال: وَرى زَنْدك، وعَلتْ يدُك، وهِيْبَ سُلطانُك. نحن وُفود العرب إليك، ذِمَمُنا محفوظةٌ، وأنسابُنا مضبوطةٌ، وأحسابُنا ممنوعة، وعشائرُنا فينا سامعة مُطيعةٌ. وذكر ألفاظًا. ثم قام الحارث بن عُبادٍ البَكري فقال: دامَتْ لك الممالكُ باستكمال جزيل حظِّها، وعُلوِّ شأنها، وارتفاع سلطانها أو سنانها. نحن جيرانُك اللائذون، ومُجاوِروك الأَعلون، خيولُنا مُجمَّة وجيوشُنا جمّة، لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر، رماحُنا طوال، وأعمارُنا قصار. فقال كسرى: أَنفُسٌ عزيزة، وآلة ضعيفة. فقال الحارث: أيها الملك، إن الفارس إذا حمل على الكتيبة يقدم على الموت، فهي حيا استدبرها ومنيّة استقبلها، ومتى استَعَرت نارُ الحرب واشتدَّ لظاها، جعلتُ مَقادَها رُمحي، وبَرقَها سيفي، ورَعدَها زَئيري، ولم أقصِّر عن خَوْض ضَحْضاحها حتى أنغمس في غَمرات لُجَجها، فأَترك حُماتَها جَزْرًا للسِّباع وكلِّ نَسْرٍ قَشْعَم. فقال كسرى للقوم: أهكذا هو؟ قالوا: فعالُه أنطق من لسانه. فقال كسرى: ما رأيتُ كاليوم وفدًا أحشد، ولا شُهودًا أرفد. ثم قام عمرو بن مَعدي كَرِب فقال: إنما المرء بأصغَرَيْه: قلبه ولسانه. فاشتَر طاعتَنا بفضلك (¬1)، واكظم بادِرَتَنا بحِلمك، وأَلِنْ لنا كَنفَك يَسلُس لك قيادُنا، فإنا أُناسٌ لم يكسر صفاتَنا قِراعُ مناقيرِ من أراد لها قضما، وقد مَنَعْنا حِمانا عن كل من أراد له هضمًا. ثم قام الحارث بن ظالمٍ فقال: آفةُ المنطق الكذبُ، ومن لؤم الأخلاقِ الملقُ، ومن خَطَل الرّأي خِفَّةُ الملك المُسَلَّط، فإن أعلمناك أن مُواجهتَنا لك عن ائتلافٍ، وانقيادَنا لك عن إنصاف، ما أنت بقبول ذلك منا بخَليقٍ، ولا الاعتمادِ عليه بحَقيقٍ، ولكن الوفاءُ بالعهود، وإحكامُ العقود، والآمرُ بيننا وبينك مُعتدِلّ، ما لم يَأتِ من قِبَلك مَيلٌ. فقال كسرى: مَن أنت؟ قال: الحارثُ بن ظالمٍ، قال: إن في اسم أبيك دليلًا على ¬

_ (¬1) في (ب) و (ك): بلطفك.

قِلَّة وفائك. فقال الحارثُ: الحِلم مع القُدرةِ، فلْتُشبه أفعالُك مجلسَك. فقال كسرى: هذا فتى القوم. ثم قام قيسُ بن مسعودٍ فقال: أطاب الله لك المَراشِد، إنا لم نَقدم عليك لمُساماة، ولم نَنتسب لمُعاداة، ولا لنُسمِعَك ما يُخشن صَدرَك، وَيزرع لنا الحقدَ في قلبك، ولكن لتعلم ومَن حضرك من الوفود أنا في المَنطق غيرُ مُفحَمين، وفي البَأس غير مُقَصرين، إن جُورينا فغيرُ مسبوقين، وإن سومينا فغيرُ مغلوبين. فقال له كسرى: غير أنكم إذا عاهدتُم غيرُ موفين، يُعرِّض به في تركه الوفاء بضمانه السَّواد، فقال قيس: ما كنتُ في ذاك إلا كوافٍ غُدِر به. ثم قام خالد بن جعفر فقال: أَرشدَ اللهُ المَلك إرشادًا، وزاده إسعادًا. إن لكلِّ مَنطقٍ فُرْصةً، ولكلّ جابَةٍ (¬1) غُصّة، وعِيُّ المنطق أشدُّ من عيِّ السُّكوت، وعِثار القول أنكى من عِثار الوَعْث، وقد أوفَدَنا إليك ملكُنا النّعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونِعم موضعُ المعروفِ والإحسان. أنفُسنا لك بالطاعة باخعة، ورقابُنا لك بالنَّصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة. فقال كسرى: نطقْتَ بعقلٍ، وسَموتَ بفضلٍ. ثم قام عَلقمة بن عُلاثَة فقال: نَهَجت لك سُبلُ الرَّشاد، وخضع لك العبادُ والبلاد. إن للأقاويل مناهج، وللآراء مَوالج، وخيرُ القول أصدقُه، وأفضلُ الطلب أَنجَحه. نحن وإن أَحضرَتْنا المحبَّة، فليس من حضرك منّا بأفضلَ ممن غاب عنك. فقال له كسرى: أبلغْتَ. وذكر كلامًا طويلًا. ثم قام عمرو بنُ الشَّريد فقال: نَعِم بالُك، ودام في السُّرور حالُك، إن عاقبة الكلام مُتدَبَّرة، وأشكال النّظام مُعتَبرة، وهذا قول ما بعده شرفٌ (¬2). إن في أموالنا مرتفدًا، وعلى عِزِّنا المُعتَمد (¬3)، فلذلك لا نتعرّضُ لرِفدك، وتخلص نِيَّاتنا في قصدِك، ونحن مع هذا لجوارِك حافظون، ولمَن رامَك مُكافحون. ¬

_ (¬1) في النسخ: جارحة، والمثبت من العقد الفريد 2/ 15، والجابة هي الإجابة. (¬2) في العقد 2/ 14: وهذا موطن له ما بعده، شرف فيه من شرف. . . (¬3) في النسخ: المنتقد.

فصل

فقال كسرى: قد فَهمتُ ما نَطق به خطباؤكم، وتَفنَّن فيه متكلِّمُوكم، وإني لأكره أن أَجْبَهَ وُفودِي، وأُحنِقَ صُدورَهم، وقد قَبلتُ ما كان في مَنطقكم من صوابٍ، وصَفحتُ عمّا كان فيه من خللٍ، فانصرفوا إلى مَلككم، والزَموا طاعتَه، وأَحسنوا مؤازَرَتَه. ثم وَصَلهم وسَرّحهم. وأقام النعمان واليًا على الحيرة ثلاثين سنةً. وكان له ابنتان: هند التي ذكرناها، وحُرَقَة بنتُ النعمان، وهي التي دخلت على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في فتوح القادسية. فصل ولما قَتل أبرويز النعمانَ بن المنذر ولَّى على الحيرة إياس بنَ قَبيصة الطائيّ، فأقام تسع سنين، ومات بعَين التَّمر، وفيه يقول زيد الخيل: [من الطويل] فإن يكُ ربُّ العينِ خَلَّى مكانَه. . . فكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ (¬1) ثم قُتل أبرويز وولي شيرويه، وجاء الإسلامُ. فهؤلاء المشهورون من ملوك الحيرة، ومدّةُ أيّامهم أربع مئة سنةٍ، وقيل: ست مئةٍ، وقيل: ملك منهم ثلاثون مَلِكًا. فصل وحكى المَدائنيُّ أن الرابعَ من ملوك الحيرة الحارثُ بنُ عمرو، جدُّ امرئ القَيس ابن حُجْرٍ بن الحارث الكنديِّ، ولَّاه قباذ. ومَلَّك الحارثُ ابنَه حُجْرًا على بني أَسدٍ، وكان يأخُذُ منهم شيئًا معلومًا، فعَصَوه، فسار إليهم، فقتل سَرَواتهم بالعصا، فسُقُوا عَبيدَ العصا، وأَسر منهم جماعةَ، منهم عَبيد بنُ الأبرص الشاعر، ثم عفا عنهم ورَدَّهم إلى بلادهم. وعَمرو بنُ الحارث هذا يقال له: ابن حُجْر آكلِ المُرار بن عَمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مُرَتعٍ (¬2) بن معاوية بن كندة بن ثور. وإنما سُمِّي ¬

_ (¬1) ديوانه ص 82، والمعارف ص 650. (¬2) في (خ) و (ك): ريع، والمثبت من (ب)، هذا والاختلاف في سياق النسب كبير، انظر طبقات فحول=

فصل في ترجمة امرئ القيس بن حجر

حُجْر آكلَ المُرار؛ لأن السَّليحيَّ أغار عليه، فأخذ امرأتَه هند بنت ظالم بن وهبٍ بن معاوية الأكرمين فقال لها: كيف رأيتِ حُجْرًا؟ فقالت: شديد الطّلب، حثيث الكَلَب، كأنه بعيرٌ أكل مُرارًا، وهو نَبْتٌ حارّ (¬1) تتقلَّص منه شَفَة البعير. فأقام على الحيرة مدَّة، فلما مات قباذ وولي أنوشِروان؛ وَلّى على الحيرة المُنذر بن ماء السَّماء، فهرب منه الحارث، واتَّبعتْه خيلُ المنذر ففاتَهم، فأدركوا ابنَيْه عَمْرًا وحُجْرًا فقتلوهما (¬2). فصل في ترجمة امرئ القيس بن حُجْر وكان حُجْر قد طَرد ابنَه امرأ القيس لأجل عُنَيْزة، واسمُها: فاطمة، فإنه عشقها، وشَبّب بها في أشعاره، وعَرّض بالدَّخول وحَوْمل وتُوضِحَ والمِقْراة، وكل هذه أماكن بحوران وما والاها، وقيل بالعراق. وقال الشعر، وبلغ أباه، فقال لعبدٍ له: اذهب فاقتُلْه، وائتِني بعينَيه، فذبح العبدُ شاةً، وجاءهُ بعينَيْها، فندم وبكى، فرقَّ له العبدُ وأخبره أنه لم يَقتُله، ففرح أبوه، وأعتقَ العبدَ وقال: عليَّ به، فجاء به، فاستَتابَه من قول الشعر، فقال: [من الطويل] ألا انْعَمْ صباحًا أيُّها الطَّللُ البالي (¬3) فطرده، فغاب عنه مدةً، فلما قَتل المنذرُ أباه حُجْرًا قال: ضَيَّعني صغيرًا وحَمَّلني دمَه كبيرًا. ثم آلى ألّا يأكلَ لحمًا، ولا يشربَ خمْرًا حتى يأخُذَ بثأر أبيه. فخرج إلى قيصر ملك الروم مستصرخًا به على المنذر، فأكرمه وأنزله، فعشقَتْه ابنةُ قيصر، فكان يأتيها. وكان الطّرمّاح بن قيس الأسدي الشاعر (¬4) عند قيصر، فوشى به ¬

_ = الشعراء 1/ 51، والشعر والشعراء 1/ 114، والمؤتلف والمختلف ص 5، والأغاني 9/ 77، وجمهرة ابن حزم 427، وتاريخ دمشق 3/ 91. (¬1) في النسخ: وهو بيت حمار، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ دمشق. (¬2) المنتظم 2/ 138. (¬3) تمامه: وهل يَعِمَن مَنْ كان في العُصُر الخالي، وهو في ديوانه ص 27. (¬4) كذا في النسخ وأصل المنتظم 2/ 139 والمصنف ينقل عنه، وهو خطأ صوابه: الطمّاح بن قيس الأسدي، وليس بالشاعر، انظر الشعر والشعراء 1/ 109، 120، والأغاني 9/ 99، والكامل لابن الأثير 1/ 518، وديوان امرئ القيس ص 108.

إليه، فطلبه، فأدركه الطلب عند أَنقِرة، أو دونها بيوم، وكان مع الرسول حُلَّة مسمومة فألبسه إياها في يومٍ صائفٍ، فتناثر لحمُه، ومات فدُفن بأَنقِرة. وكان إذا عَرِق فاحتْ منه ريحُ الكلب، فكنّ النساء يَكرهنَه لذلك، وكانت أمّه قد ماتت وهو رضيع، فطلبوا له من يُرضعُه فلم يجدوا، فأرضعوه بلَبنِ كَلْبة أيّامًا. وتزوج امرأة، فطالت ليلتُها معه فقال لها: ما كرهتِ مني؟ فقالت: أنت سريعُ الإراقة، بطيء الإفاقة، ريحك ريحُ كلبٍ فطَلِّقني، فطلقها (¬1). وكان امرؤ القيسِ يُلقَّب بالملك الضِّلّيل وذي القروح، وأمه: تَملك، وقيل: اسمها هند بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية الأكرمين (¬2). وامرؤ القيس أوَّلُ من اخترع المعاني اللطيفة مع قُرب المَأخذ. ورُوي أنه قدم وَفد على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، إنا ضَلَلنا الماء فعَطِشنا، وإذا براكبٍ على قَلوصٍ، وهو يَترنَّم ويقول: [من الطويل] ولمّا رأتْ حَرَّ الهَجير بكَفِّها. . . وبَرْدَ الحَصى من تحت أرجُلِها حامي تيمَّمَتِ العَيْنَ التي عند ضارجٍ. . . يَفيءُ عليها الظِّل عَرْمَضُها طامي ثم قال الراكب: أتدرون مَن قائلُ هذا الشّعر؟ قلنا: لا. قال: امرؤ القيس، وهذه ضارجٌ ترونها، فسرنا خطواتٍ، وإذا بعين ماءٍ عذبٍ عليها العَرْمَض (¬3) فشربنا، ولولاه لمتنا عطَشًا، فأحيانا الله ببيتين من الشعر، وكان كلُّ واحدٍ منّا قد جلس تحت شجرةٍ يَنتظر الموت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك رجل مشهورٌ في الدنيا، خامِلُ الذّكر في الآخرة، يجيءُ يومَ القيامة ومعه لواءُ الشعراء، يقودُهم إلى النّار". قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: لا يصح هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في إسناده أبو الجَهْم عن الزهري، وأبو الجهم مجهولٌ (¬4). ¬

_ (¬1) المنتظم 2/ 139 - 140، وانظر الشعر والشعراء 1/ 121. (¬2) انظر الأغاني 9/ 77 - 78، والمنتظم 2/ 138، وذكر ابن قتيبة في الشعراء 1/ 114 - 115 أن أمّه هي فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير. (¬3) هو الطُّحلب. (¬4) انظر الشعر والشعراء 1/ 111 - 112، 126، والمنتظم 2/ 140، ومسند أحمد (7127)، والجرح والتعديل 9/ 354 - 355، والعلل المتناهية 1/ 138.

فصل في ملوك الردافة

قال المصنف رحمه الله: قد روى ابن عساكر هذا الحديث، وذكر له ثلاثين طريقًا، ولم يبين ما فيه، وما كان يخفى عنه ذلك (¬1). ولما خرج امرؤ القيسِ إلى قيصر أخرج معه عمرو بنَ قَمِيْئةَ الشاعر، ويُعرَف بالضَّائع، وهو أقدمُ من امرئ القيس وأكبرُ سِنًّا منه، بلغ تسعين سنةً، ومات في طريقه إلى الروم. وإنما سمَّتْه العربُ: الضّائع؛ لموته ببلاد الروم في دار غُربةٍ من غير مَطلب ولا أَربٍ. وهو الذي رثاه امرؤ القيس بقوله: [من الطويل] بكى صاحِبي لمَّا رأى الدَّربَ دونَه ... وأَيقنَ أنَّا لاحِقانِ بقَيصَرا فقلتُ له لا تَبْكِ عينُك إنّما ... نُحاوِلُ مُلْكًا أو نموتَ فنُعذَرا (¬2) قال ابن ماكُولا: أوَّلُ مَنْ عَمِل في الخيالِ شعرًا عمرو بنُ قَميئة، وهو قوله: [من الطويل] كأنّي وقد جاوزْتُ تسعين حِجَّةً ... خَلعتُ بها عنّي عِذارَ لِجامي رَمتني بنات الدَّهر من حيث لا أرى ... فما بالُ مَن يُرمى بغير سهامِ وأَهلَكني تَأميلُ يومٍ وليلةٍ ... وتأميلُ عامٍ بعد ذاك وعامِ (¬3) فصل في ملوك الردافة وإردافُ الملوك في الجاهلية: هو أن يجلس الملك، ويجلس الرّدفُ عن يمينه، فإذا شرب الملك شرب الرِّدفُ قبل الناس، وإذا غزا الملك جلس الرِّدفُ مكانَه، وكان خليفَتَه على الناس حتى ينصرف، فإذا عادت (¬4) كتيبةُ الملك، أخذ الرّدفُ منها المِرْباع (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 92 - 99 (مخطوط). (¬2) ديوانه ص 65 - 66. (¬3) ديوانه ص 44 - 47، والإكمال لابن ماكولا 5/ 236، وتاريخ دمشق 13/ 591 - 592، ولم يذكر ابن ماكولا وابن عساكر الأبيات التي عملها عمرو في الخيال، فذكر المصنف أبياتًا لا تدلّ على الخيال، والأبيات كما ذكر الشريف المرتضى في طيف الخيال ص 99 هي: نأتْكَ أمامة إلا سُؤالا ... وإلا خيالًا يوافي خيالًا تُوافي مع الليل مُستَوطِنًا ... وتأبى مع الصبح إلا زِيالا خيالٌ يُخَيِّلُ لي نَيْلَها ... ولو قَدَرَتْ لم تُخَيِّل نَوالًا (¬4) كذا في (ب) و (خ) وصحاح الجوهري (ردف)، وفي المعارف ص 651، ونقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة ص 299: غارت. (¬5) هو ربع الغنائم.

فصل في ذكر ملوك اليمن

وكانت الرِّدافةُ في الجاهلية لبني يَربوع؛ لأنه لم يكن في العرب أكثرُ غارةً منهم على ملوك الحيرة، فصالحوهم على أن يجعلوا لهم الرِّدافةَ، ويَكفُّوا عن أهل العراق الغارة. قال جرير وهو من بني يربوع: [من الطويل] رَبَعْنا وأَرْدَفنا الملوكَ فظَلَّلوا. . . وطابَ الأَحاليبِ الثُّمامَ المُنَزَّعا (¬1) وأوّل من رَدف من بني يربوع عتَّاب بن رياح، ثم ابنه عوف بن عَتَاب، ثم ابنه يزيد ابن عوف، وذلك على عهد المنذر بن ماء السماء، وأول الرِّدافة أن المنذر بعث جيشًا إلى بني يربوع وعليه قابوس وحسان ابنا المنذر، فالتقوا بمكانٍ يقال له: طِخْفة، فاقتتلوا، فانهزم جيش المنذر، وأسروا ابنَيْه، ففداهما بألفي بعيرٍ، وأَقرَّ الرِّدافة فيهم، وفي هذا اليوم يقول جرير: [من الطويل] ويومَ أتى قابوسُ لم نُعطِه المنى. . . ولكنْ صَدَعْنا البَيْض حتى تَهزَّما (¬2) ولما انقضى مُلك الحيرة، وجاء الإسلام، ذهبت الرِّدافة. فصل في ذكر ملوك اليمن وأصلُ اليمن قَحطان بن الهَمَيْسَع بن نَبْت بن إسماعيل عليه السلام. وقيل: قحطان هو يَقطن بن عابر بن شالخ بن أَرْفَخْشَذ بن سام بن نوح عليه السلام، وإنما عُرّب يَقطن فقالوا: قحطان. وكان لقحطان ثلاثون ولدًا ذكورًا، وأمّ الجميع حيّ بنت روق بن فزارة بن سام بن نوح عليه السلام، منهم كَهْلان وحِمْير، وكانوا يسكنون التَّهائم والأنجاد، وبلاد حَضْرموت، والشِّحْر، والأحقاف، وعُمان وما والاها. فوُلد لقَحطان يَعْرُب، ووُلد ليَعْرُب يَشْجُب، ووُلد ليَشْجُب ولدان، [أحدهما] عَبْد شَمسٍ، وهو سبأ، وسبأ لقبٌ له لأنه أوّل من سَبى السَّبايا من ولد قَحطان (¬3). ¬

_ (¬1) نقائض جرير والفرزدق ص 836، والمعارف، وصحاح الجوهري، والوِطاب جمع وَطْب، وهو وعاء اللبن، والأحاليب ما زاد على السقاء من اللبن إذا جاء به الراعي حين يورد إبله، والثمام: نبت يُنتزع من أصله، وتُبرَّدُ به أوطاب اللبن. (¬2) "المعارف" 651، و"نقائض جرير والفرزدق" ص 66 وفيه: أبي قابوس، وكلاهما صحيح. (¬3) مروج الذهب 3/ 144 وما بين معكوفين منه.

فصل

والعَقِب من ولد قَحطان لحِميَر وكَهْلان، ويقال: إنهما من ولد سبأ. وكان لسبأ أولاد أُخَر منهم: عمرو، والأشعَر، وأَنمار، وعامِلَة، ومُرّ، وكلُّهم بنو سبأ. والأنصار من وَلد كَهلان. وَيعرب أوّل من دَخل اليمن وأقام بها، وحُيِّيَ بتحيَّة الملك، وقيل له: أَبيتَ اللَّعنَ، وأَنعِم صباحًا. وقد أنكر قومٌ أن يكون قَحطان من ولد إسماعيل عليه السلام. واسم حِمْيَر: العَرَنْجَج (¬1). فصل وأوّلُ ملوكهم سَبأ بن يَشْجُب، أقام مَلِكًا أربع مئة سنة وثمانين سنة حتى مات هرمًا، وعامَّةُ ملوك اليمن من ولده. وكان لسبأ أولادٌ، منهم: حِمْيَر وكَهلان، وهما أَعيان ولده. فصل ومَلَك بعد سبأ حمير، وكان شجاعًا جميلًا، وهو أول من وضع التاج على رأسه من ملوك اليمن، وعاش مثل أبيه حتى مات هرمًا، وقيل: إنه أقام خمسين سنة مالكًا. وكان لحِمَير أولادٌ، منهم: عامر بن حِميَر فولَدَ دُهْمان، وولد دُهْمان يَحْصب كلّها. وأمّا سعد بن حِمْيَر فولَدَ السّلف وأَسْلَم. وأما عَمرو بن حِميَر فولد عَديّ بن عمرو، وولد عَديّ لَخْم بن عَديّ، ومن لَخْم بنو الدَّار، ومنهم تَميم الدَّاريّ. وقيل: إن عمرو بن حمير ولد الحارث، وولد الحارث آل ذي رُعَين (¬2). وأما مالك بن حِمْيَر فولد قُضاعة كلّها، ومن قبائلها: كَلْب بن وَبْرة (¬3)، ومن ¬

_ (¬1) المعارف 27، 101، 109، والاشتقاق 362، والصحاح (عرج 1/ 329). (¬2) المعارف ص 103. (¬3) في النسخ: كلب ووبرة، وهو خطأ.

فصل

بُطونهم: بنو عَديّ بن جَناب، وبنو عُلَيم بن جَناب، وبنو العُبَيد، ورُفَيدة، ومَصاد، وبنو القَيْن، وسَلِيح، وتَنوخ، وجَرم بن رَبَّان، وراسِب بن جَرْم، وبَلِيّ (¬1)، ومَهْرَة، وعُذْرَة، وسَعْدُ بن هُذَيم. ومن قضاعة: ذو الكَلاع، وذو نُواس، وذو أصْبَح -وإليه تُنسب السِّياط الأَصْبَحِيّة- وذو جَدَن، وذو يَزَن، وذو فائش، وجُرَش، والسَّحول، وبطون كثيرة. وأما وَائِلة بن حِميَر؛ فولد السَّكَاسِك بن وائِلة، والعَدد من حِمير في السَّكاسِك. وأما الأَشْعر بن حِميَر، فمن ولده رَهْطُ أبي موسى الأَشعري (¬2). وقد اختلفوا في أسامي، منها: أَنمار وعامِلَة، فقال قوم: هم من ولد حِميَر بن سَبأ، وقال آخرون: بل هم ولد سَبأ لصُلْبه. فأما أَنمار فولد خَثْعَم وبَجِيْلَة -اسم امرأة- ومن بطونها قَسْر؛ رَهْط خالد بن عبد الله القَسْرِيّ. وأما عامِلَة فولد قبائل كثيرة، ونُسَّاب اليمن يَزعمون أنّهم من وَلَد قاسِط بن وائل، وفيهم يقول الأعشى: [من المتقارب] أَعامِلَ حتّى متى تَذْهَبين. . . إلى غيرِ والدِك الأَكرمِ ووالِدُكُم قاسِطٌ فارجِعوا. . . إلى النَّسَبِ الأَتْلَدِ الأَعظمِ (¬3) ومات حمير. فصل فملك بعده أخوه كَهلان بن سَبأ، فأقام مالكًا ثلاث مئة سنة، وجرت في أيامه حروبٌ وخطوب، وتفرَّقت القبائل، ومضت القُرونُ على ولد حِميَر وكهلان وهم على ذلك، حتى ملك الحارثُ، ويُسمّى: الرَّائش. وولد كَهْلان بن سبأ: زيد بن كهلان، وولد زيدٌ مالكَ بنَ زيد، وأُدَد بنَ زيد، وولد ¬

_ (¬1) في النسخ: نصر وبلي، والمثبت من المعارف 104. (¬2) كذا قال، وفي المعارف 102 أنه الأشعر بن سبأ. (¬3) المعارف 103، والصحاح (عمل)، وليسا في ديوانه.

فصل

أُدَد طيئ بن أُدَد، والغَوْث بن أُدَد، فمن طيئ بنو نبهان بن عمرو، وبنو ثُعَل بن عمرو، وحاتم الطائيّ منهم، وكذا بنو سِنبس. واختلفوا في أوّل ملوك اليمن بعد كَهْلان، وبعد تفرُّق القبائلِ ومضيّ القرون على قولين: أحدهما: أبو مالك بن كليكرب من ولد سبأ (¬1)، وكان عادلًا منصفًا، أقام ثلاث مئة سنة ملكًا. والثاني: الحارث الرَّائش من ولد كَهلان بن سبأ، وبينه وبينه خمسة عشر جَدًّا. والرائش أوّلُ من غَزا منهم بلادَ حضرموت، فغَنم غنائم كثيرة، وعاد بها إلى اليمن، فأعطى أهل اليمن فسُمّي: الرّائش، وفي أيّامه كان لُقمان بن عاد صاحب النسور. وكان الحارث من أشجع ملوك اليمن، غزا المشرق، والهند، وخُراسان، وأَذربيجان، وكان يَذكر نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - ويقول: إنه يأتي في آخر الزَّمان. ومن قوله: [من الوافر] ويَملك بعدنا رجلٌ عظيمٌ. . . نَبيٌّ لا يُرَخّص في الحرام يُسمَّى أحمدًا يا ليت أنّي. . . أعَمَّر بعد مَخرجِه بعامِ (¬2) وأقام مالكًا مئةً وعشرين سنة. فصل ثم ملك بعده، ولده أَبرَهة بن الرَّائش، وهو ذو المنار، لأنه أول من عمل المنار على طريقه في مغازيه ليهتدي بها إذا رجع، وغزا غزوات كثيرة، وملك مئة ونيفًا وثلاثين سنة (¬3). فصل ثم ملك بعده ولده أفريقيش بن أبرهة، فغزا بلادَ المغرب ووصل طَنْجَة. ويقال: إنه ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 3/ 150: أبو مالك بن عسكر بن سبأ. (¬2) المعارف ص 627، والبدء والتاريخ 3/ 175. (¬3) في المعارف ص 627، وتاريخ اليعقوبي 1/ 196، ومروج الذهب 3/ 151 أنه ملك مئة وثمانين سنة أو مئة وثلاثًا وثمانين سنة.

فصل

الذي بنى إفريقية، ونقل البَربَر من الشام ومصر والسَّواحل إلى مساكنهم اليوم -والبربر بقيّةُ العمالقة، ومَن أَفسد بالشام، وقتلهم يُوشَع بن نون عليه السلام. وملك مئةً وأربعًا وستين سنة. فصل ثم ملك أخوه العَبدُ بن أَبرهة، ويقال له: ذو الأذْعار، لأنه غزا بلاد النَّسْناس، وعاد إلى اليمن ومعه من النَّسْناس شيء كثير، وجوههم في صدورهم، فذُعِر الناسُ منهم، وكان غَزوُه في زمن أبيه، وفُلِج فبطل شِقُّه الأيمن. وملك خمسًا وعشرين سنة. فصل ثم ملك بعده الهَدْهاد بن شَراحيل بن عمرو بن الحارث الرَّائش والدُ بلقيس، مَلك سنةً، وقيل: عشرين، وأوصى إلى ابنته بلقيس بعده. وقال ابن قتيبة: لقبه الهَدْهاد، واسمُه: ذو شرح بن صَيْفي بن سبأ (¬1). وليس كما ذكر، بينه وبين سبأ زمانٌ طويل. فصل وملكت بلقيس، وقد ذكرناها في قصة سليمان عليه السلام. فصل ثم ملك بعد بلقيس ياسرُ بن عمرو بن يعفر، وقيل: ابن يَنْعُم بن يعفر بن عمرو بن شرحبيل بن الحارث الرائش، ويعرف بناشر النّعم؛ لأنه أَنعم على الناس وَيسَّر أمورَهم. وغزا المغرب، فبلغ إلى وادي النّمل، ولم يبلغه بعد سليمان عليه السلام غيرُه؛ فنزل هناك ولم يقدر أن يتجاوزَه، ووجد هناك نملًا مثل البَخاتي (¬2)، تَصرع النملةُ الفارس، فأمر أن يُعمَل صنمٌ من نُحاس، وكتب في صدره: ياسر الحِمْيري، ليس وراء هذا الصنم مسلكٌ، فلا يَسلكنَّ أحدٌ فيَعطَب، وعاد. ¬

_ (¬1) لم أجد كلام ابن قتيبة. (¬2) هي الإبل الخُراسانية.

فصل

وهو الذي ردَّ الملك بعد موت سليمان عليه السلام إلى اليمن، وكان ملك ياسر خمسًا وثلاثين سنة، وقيل: خمساَّ وَثمانين سنة. فصل ثم ملك بعده شَمِر بن أفريقيش بن أبرهة بن الرائش، وكان به ارتِعاشٌ، فقيل له: شَمِر يَرْعِش. وغزا المشرق في جيش عظيم، وأَوغل في بلاد الهند والصين، وفتح المدائن والحصون، وأحرق مدينة الصُّغْد، وهي سَمَرقَنْد، فقيل: شَمِركَند، أي: أَخربها، فعرَّبَتْها العرب فقالت: سَمَرْقَنْد، ثم عاد إلى اليمن. وكان ملكه مئة وسبعًا وثلاثين سنة، وقيل: ثلاثًا وخمسين سنة. فصل فملك الأَقرن بن شَمِر يرعِش، فغزا بلادَ الروم، وأوغل فيها، حتى قَرُب من وادي الياقوت، فمات قبل دخوله فدفن هناك. وكان ملكه مئة وثلاثًا وستين سنة، وقيل: ثلاثًا وخمسين سنة. فصل في التَّبابِعة وتُبَّع: لقبٌ لملوك اليمن، ككِسرى للفرس، وقَيصر للروم ونحوه. واختلفوا في أوّل التَّبابِعة بعد اتّفاقهم على أنهم ثلاثة، فقال قوم: الأول: الأَقرن ابن شَمِر يرعش الذي ذكرناه آنفًا، وقيل: ولده تبع بن الأَقرن ويُسمّى: تُبَّعًا الأكبر، والثالث: أسعد بن كلكرب، وقيل: حسّان بن تبان. واختلفوا في تبع صاحب هذه الترجمة، فقال قوم: اسمُه الأَقْرن بن شَمِر يرعش. وقال آخرون: مَلِكي كَرِب بن تُبَّع. وقال ابن الكلبي: اسمُه زيد بن عمرو بن تبع بن أَبرهة ذي المنار، وهو الذي غزا في زمان بشتاسب (¬1). ¬

_ (¬1) في المحبر 367، وصبح الأعشى 5/ 23 أنه أسعد أبو كرب بن قيس بن زيد بن عمرو ذي الأذعار تبع الآخر ابن أبرهة ذي المنار.

والظاهر أن تُبَّعًا الأول هو ابنُ الأَقْرن بن شَمِر يرعش، وهو أول من اشتهر بلقب تبع، وهو القائل (¬1): [من الكامل] مَنع البقاءَ تقلُّبُ الشمسِ ... وطُلوعُها من حيث لا تُمسي وطلوعُها بيضاءَ صافيةً ... وغروبُها صفراءَ كالوَرْسِ تجري على كَبِد السَّماءِ كما ... يجري حِمامُ الموت بالنَّفسِ اليومَ نعلم ما يجيءُ به ... ومَضى بفَصْل قضائِه أمسِ وكان تُبَّع عظيمًا، بلغه أن التركَ قاصِدتُه، فسار إليهم على جبلي طيئ، ثم سلك على الأنبار، وهذا الطريقُ الذي سلكه الرائش، فلَقيهم في حدِّ أَذْرَبيجان فقَتل وسبى، وأَوغل في الهند والصِّين، ووصل إلى التُّبَّت، وخلَّف جيشًا عظيمًا هناك رابطه، فأَعقابُهم هناك إلى اليوم. ولما عاد إلى العراق خَلّف بالحيرة قومًا من الأزد وقُضاعة ولَخْم وجُذَام وعامِلَة فبنَوها، وهابته الملوك وهادوه، ثم عاد إلى اليمن. وسأل ابنُ عباس - رضي الله عنه - ابنَ مسعود - رضي الله عنه - (¬2) قال: سمعت الله تعالى يَذكر تُبّعًا فلم يذمّه، وذمَّ قومَه؟ فقال: نعم. إن تُبَّعًا غزا بيتَ المقدس، فسبى أولادَ الأَحبار، وقَدِم بفتيةٍ منهم على قومه، فجعل يُدْنيهم، وَيسمعُ منهم، ويُخبرونه عن الله تعالى، فتحدَّثَ قومُه، وقالوا: إنا نخافُ أن يَفتنوه عن دِينه، وكان يعبد الأوثان، وبلغ تُبعًا ما قالوا، فأخبر الفِتية فقالوا: بيننا وبينهم النَّصَف. قال: وما هو؟ قالوا: نارٌ تحرق الكاذبَ وينجو منها الصادقُ. فجمع قومَه وقال: اسمعوا ما يقول هؤلاء، وقال لهم: تكلّموا، فقالوا: لنا خالقٌ نعودُ إليه، وبين أيدينا جنَّةٌ ونار، فإن أبيتم علينا، فبيننا وبينكم النَّصفُ. فقالوا: قد رضينا. فأضرموا نارًا، وقام الفتيةُ فذكرُوا اسم الله، واقتحموها، وخرجوا منها سالمين، ودخل من أولئك جماعة فاحترقوا، فأسلم تبع، وكان رجلًا صالحًا فذكره الله تعالى ولم يذمَّه وذمَّ قومَه. ¬

_ (¬1) المعارف ص 630، والبدء والتاريخ 3/ 177، والروض الأنف 1/ 26، وتاريخ دمشق 3/ 510. (¬2) في تاريخ دمشق 3/ 502 سؤال ابن عباس لعبد الله بن سلام، وانظر تفسير ابن كثير للآية (36) من سورة الدخان.

فصل

وسُمي تُبَّعًا لكثرة أتباعه، وكسا البيتَ، وكان يعبد النارَ فأسلم، وأقام ملكًا ثلاثًا وثلاثين سنة، وقيل: ثمانين سنة. وهو تُبَّع الأوسط. فصل ثم ملك بعده تُبَّع الآخر، وهو أسعد بن كَليكَرِب، وقيل: حسان بن تبان، وقيل: هو ابن تُبَّع الأوسط وكُنيتُه أبو كرب. وقال ابن سيرين: هو أوّلُ من كسا البيت، وملك الدنيا والأقاليمَ بأسرها. وحكى ابن عساكر: أنه كان إذا عرض الخيلَ قاموا صفًا من دمشقَ إلى صَنعاء (¬1). وهذا بعيد. وكان يغزو على النُّجوم، ويستضيء بها. وطالت مدته، وثَقُلَ على حِمْير من كَثرة ما كان يغزو بها. ولما رجع من غزو المشرق، جعل طريقه على المدينة، وكان لمَّا مَرّ بها لم يَهِجْ أهلَها، وخلّف فيها ابنًا له فقتلوه غِيلةً، وبلغه؛ فرجع إليها، وهو مُجمعٌ على خرابها، واستئصالِ أهلها، وقطع نخيلها. فجمع له هذا الحيُّ من الأنصار، ورئيسُهم يومئذ عمرو بنُ طَلَّة أخو بني النجار، وجاء تُبَّع فنزل على المدينة، ولم يتعرَّض لها، فجاء رجل من أصحابه فصَعِد نخلةً لرجل من الأنصار، يُقال له: أحمر، فضربه الأنصاري بمِنْجَل فقتله، وألقاه في بئر. وبلغ تُبَّعًا فازداد حَنَقًا عليهم فقاتلهم، فكانوا يقاتلونه نهارًا، ويَقرونه في الليل العسلَ والتَّمرَ والبُرّ، فقال: ما رأيتُ أكرمَ من هؤلاء. فبينا هو على ذلك إذ جاءه حَبْران من اليهود من بني قُرَيظة عالمان، فقالا: أيّها الملك، لا تقاتلْ هذا البلد، فإنا نجد في كُتبنا أن هذا المكان مُهاجَرُ نبيٍّ يَخرج من هذا الحى من قريش في آخر الزمان اسمُه محمد، فتكون المدينةُ دارَه وقرارَه، وإنا نَخافُ عليك العقوبة، فكفَّ عن القتال. ثم دعواه إلى دينهما فأجابهما وكان وقومه يعبدون الأوثان. وقال هشام: كانت الأنصار من أعزِّ العرب وأشرفها، وهم الأوس والخزرج ابنا ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 500.

قَيْلة، لم يُؤدُّوا خراجًا ولا إتاوةً قطُّ إلى أحد من الملوك في الجاهلية، فكتب إليهم تُبّع أبو كرب يدعوهم إلى طاعته، ويُحذرُهم مخالفتَه. فكتبوا إليه: [من الكامل] العبدُ تُبَّع كم يَرومُ قِتالَنا ... ومكانُه بالمَنْزِلِ المُتَذلِّل إنا أُناسٌ لا ينامُ بأرضنا ... عَضّ الرسول ببَظْر أمِّ المرسلِ (¬1) فسار إليهم، فقاتَلهم، فلم ينل منهم طائلًا. قال ابن الكلبي: وله شعر يذكر فيه خروجَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأوَّلُه: [من الكامل] ما بالُ نومك مثل نومِ الأَرْمَدِ ... أَرِقًا لجَنْبِك بالعَراء مسهَّدِ ولقد هبطنا يثربًا وصدورُنا ... تغلي مَراجِلُها بقَتْلٍ مُحصِدِ حَنَقًا على ولدي وصاحبِ أُسرتي ... أضحى قتيلًا عند باب المِرْبدِ ولقد حلفتُ يمينَ صدقٍ مُؤليًا ... قَسمًا لَعَمري ليس بالمُتَرَدِّد إن جئتُ يثربَ لا أغادرُ وَسْطَها ... عِذْقًا ولا نخلًا يكون لمُعتَدي حتى أتاني من قُريظةَ عالِمٌ ... حَبْرٌ لَعَمرُك في اليهود مُسَدَّد قال انْزَجِر عن قريةٍ محفوظةٍ ... لرسولِ ربِّ العالَمين مُؤيَّدِ فعفوتُ عنهم غيرَ مُكتَرِثٍ بهم ... وتركْتُهم لعقاب يومٍ سَرْمَدِ فرحل ومعه الحَبْران، فقصد مكة، فلما نزل عُسْفان، جاءه نفرٌ من هُذَيل، فقالوا له: ألا ندلُّك على بيت مالٍ أَغفلَه الملوكُ، فيه من الجواهر واليواقيت والذهب والفضة ما ليس في غيره؟ قال: وأين هو؟ قالوا: بمكة، يعبدُه أهلُها، ويُصلُّون إليه. وإنما قَصدوا أن يتعرَّضَ له فيهلك. فأخبر الحَبْرين فقالا: إنما قصد الهُذَليُّون هلاكَك وهلاكَ جُندك. قال: فما تأمراني؟ قالا: تذهبُ إليه، وتعظِّمُه، وتحلقُ رأسَك عنده، وتذبحُ له؛ فإنه بَنِيَّةُ أبينا إبراهيم. قال: فما يمنعكما منه؟ قالا: أهلُه حالوا بيننا وبينه بالأصنام التي حوله. فعلم صحَّة قولهما، فعَمد إلى الهُذليِّين، فقطَّع أيديهم وأرجلَهم، فقالا: سِرْ إليه، وافعل كما يفعل أهلُه. ¬

_ (¬1) العقد الفريد 2/ 193.

فسار إليه، وعظَّمه، وذبَح له، وفعل ما أمراه، ورأى في المنام وهو بمكة قائلًا يقول: اكْسُ هذا البيت، فكساه بالمُلاء والوصائل. قال ابن إسحاق: وهو أول مَن كساه، وجعل عليه بابًا ومفتاحًا، ونهى الحُيَّض عن دخوله، ثم سار إلى اليمن (¬1). وذكر ابن سَعد أن تُبَّعًا نزل بقناةٍ بسفح أُحُد، وقال: إني مُخربٌ هذا البلد، ولا أبقي فيه يهوديًا، حتى يرجعَ الأمرُ إلى العرب، فخرج إليه سامول اليهودي -وهو أعلمُ اليهود يومئذ- فقال له: أيها المَلك، إن هذا البلد مُهاجَرُ نبيٍّ من ولد إسماعيل، اسمه أحمد، يولَد بمكة، وهذا البلد قَبرُه، ويكون له في هذا المنزل وَقْعَةٌ مع أهله فرجع، وقال: ما لي إلى هذا البلد سبيل (¬2)، وأنشد: [من الكامل] ولقد تركْتُ (¬3) بها ضُحى من قومنا ... نَفرًا أُولي حَسَبٍ بغير تَفَنُّدِ نَفرًا يكون النصرُ في أعقابهم ... أرجو بذاك رِضى النبيّ محمَّدِ ما كنتُ أحسب أن بيتًا طاهرًا ... لله في بَطْحاءِ مكةَ يُعْبَدُ حتى أتاني من هُذَيلٍ أعبُدٌ ... بالبَرِّ من عُسْفانها بتَودُّدِ قالوا بمكةَ بيتُ مالٍ داثِرٍ ... وكنْوزُه من لؤلؤٍ وزَبَرْجَدِ فأمرتُ أمرًا حالَ ربّي دونَه ... والله يَدفعُ عن خراب المَسجدِ فردَدْتُ ما أمَّلْتُ فيه وفيهمُ ... وتركتُهم مثلًا لأهلِ المَشْهَدِ قد كان ذو القرنينِ قَبلي مُسلمًا ... مَلِكًا يَفوقُ على الملوك بسُودَدِ وقال عبد الملك بن هشامٍ: هذا الشِّعر مصنوع، وليس لتُبَّع (¬4). وقال الأزرقي، عن محمد بن إسحاق: سار تُبَّع الأول إلى الكعبة -ومذهبُه أن الذي سار إليها هو تبعٌ الأوّل- فأراد هدمَ الكعبة، فأخذه الله بالصُّداعِ، وأجرى من أنفه وفمه وأُذنيْه ومِنخَرَيْه ماءً مُنْتِنًا، بحيثما لم يستطع أحدٌ أن يَدنوَ منه، فخلا به وزيرُه، ¬

_ (¬1) السيرة النبوية 1/ 24 - 25، وانظر تاريخ الطبري 2/ 105 - 110. (¬2) طبقات ابن سعد 1/ 159، وتاريخ دمشق 3/ 507. (¬3) في النسخ: نزلت، والمثبت من تاريخ الطبري 2/ 110. (¬4) السيرة النبوية 1/ 23.

وقال له: هل نويتَ لهذا البيت أمرًا؟ قال: نعم هَدْمَه. قال: فارجع عما نويتَ وقد عُوفيتَ، ففعلَ فعُوفي، فآمن بالله، وبدين إبراهيم عليه السلام، وخَلع على الكعبةِ سبعةَ أثواب، وهو أولُ من كساها. ثم خرج إلى يَثرب وهي بُقْعةٌ فيها عين، وليس بها بُنْيان ولا أحدٌ، فنزل على رأس العين. واعتزل من الحكماء والعلماء الذين في صحبته أربعُ مئة، وقالوا: لا نفارق هذه البقعة، ترقُّبًا لخروج نبي من بني إسماعيلَ بن إبراهيم، اسمُه محمّد - صلى الله عليه وسلم -. فقال: سيروا معي، فأبوا، وعَرَّفوه ما أَجمعوا عليه، فبنى لهم أربع مئة دارٍ، وأعطى كل واحد منهم جاريةً، وأجزل عطاءهم، وكتب لهم كتابًا وختمه بالذهب، ودفعه إلى العالم الذي نصحه في شأن الكعبة، وقال له: إنْ خرج محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - , فادْفعْه إليه إن أَدركْتَه، فإن لم تُدركه فإلى أولادكم، وأولاد أولادكم. وكان في الكتاب: أما بعد، يا محمد، فإني آمنتُ بالله، وبك وبكتابك الذي أنزله الله عليك، أنا على دينك، وقد آمنتُ بشرائع الإسلام، فإن أدركتُك فبها ونعمتْ، وإن لم أُدركك فاشفَعْ لي يوم القيامة ولا تَنْسَني، فإني من أمَّتك. وذكر كلامًا هذا معناه. ثم خرج إلى الهند، فمات بغلسان بلدة من بلاد الهند، قال: ومن يوم مات تُبَّع إلى مولد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ألفُ سنة، وأن الأنصار من أولاد أولئك العلماء الأربع مئة، وأن أولادَهم أوصلوا الكتاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه قال: "مرحبًا بالأخ الصَّالح"، قال: وأن أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - كان من ولد ذلك العالم الذي نهى تُبَّعًا عن خراب الكعبة، وأن الدَّار التي نزلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي الدارُ التي بناها تُبَّعٌ له. وقد ذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق" هذا الأثر وقال: هو حديث مُنكر، وفيه غير واحد من الضعفاء (¬1). وقال الرّقاشي: كان أبو كربٍ أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مَبعثه بسبع مئةِ سنة وقال: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) أخبار مكة للأزرقي 1/ 132، وتاريخ دمشق 3/ 504 - 507.

شهدتُ على أحمد أنَّه. . . رسولٌ من الله باري النَّسمْ فلو مُدَّ عمري إلى دَهْره. . . لكنتُ وزيرًا له وابنَ عمّ (¬1) وقال عروة: هو الذي قالت عائشةُ فيه: كان رجلًا صالحًا، ذمَّ اللهُ قومَه ولم يذمَّه (¬2). وقال هشام بن محمد: خرج تُبَّع معه بالحَبْرَيْنِ إلى اليمن، فلما دنا منها؛ حالت حِمْيَر بينه وبين دخولها، وقالوا: لا تدخلها حتى تفارقَ هذين الحَبْرين، وترجع إلى دِين حِمْيَر -وكانوا يعبدون الأوثان- فقال: إن دين هذين الحَبْرين خيرٌ من دينكم، فقالوا: حاكمنا إلى النَّار -وكانت نارٌ باليمن في أسفلِ جبلٍ يتحاكمون إليها، تأكلُ الظالم دون المظلوم- فقال تُبَّع: أَنصفتُم. فخرجوا بأوثانهم يُقرّبونها إلى النار، ومعهم القرابين، فغشيتهم نارٌ، فأحرقتهم وما معهم. وجاء الحَبْران بمصاحفهما في أعناقهما يتلُوان التوراة، فهجما على النّار، فنكصت حين رأتهما، وعادت إلى المكان الذي خرجت منه، فدخلت فيه. فرجعت حمير عن عبادة الأوثان، ودانت باليهودية، فمن هناك أصل اليهودية باليمن. وكان لهم بيتٌ يعظِّمونه ويذبحون عنده، ويكلِّمُهم منه شيطان، فقال الحَبْران: اِئذَنْ لنا في خرابه، فإنما يكلِّمُهم منه شيطان، فهدماه، فخرج منه كلبٌ أسود فذبحاه، فبقايا ذلك البيت في اليمن إلى اليوم (¬3). ومن شعر تُبَّعٍ: [من الخفيف] إذ جَنَبْنا جِيادَنا من ظَفَار ... ثم سِرنا بها مسيرًا بعيدًا فاستَبَحْنا بالخيل مُلكَ قباذ ... وابن أُفلوذ جاءنا مَصفودًا وكسونا البيت الذي حرم اللـ ... ـه مُلاءً مُعَصَّبًا وبُرودا وأَقَمْنا به من الشهر عَشْرًا ... وجَعلْنا لِبابِه إقليدا ¬

_ (¬1) المعارف ص 631، ومروج الذهب 1/ 133، والبدء والتاريخ 3/ 177، والروض الأنف 1/ 35 وفيها: مد عمري إلى عمره. (¬2) تفسير عبد الرزاق 2/ 208، والطبري 21/ 50 (دار هجر). (¬3) تاريخ الطبري 2/ 108 - 109.

ذكر مقتله

ونَحْرنا في الشِّعب ستَّةَ آلا ... فٍ ترى الناسَ حولَهن وُرودا ثم سِرنا نَؤُمُّ قَصْدَ سُهَيلٍ ... قد رَفَعْنا لِواءنا مَعقودا (¬1) وقال: [من الخفيف] لستُ بالتُّبَّع اليَمانيِّ إن لم ... أُرْكِضِ الخيلَ في سَواد العراق وتُؤَدِّي ربيعةُ الخَرْجَ قهرًا ... أو تَعُقْني عَوائقُ العوّاق (¬2) وكان لتبَّع مع نزار بن مَعَدّ بن عدنان وقائع كثيرةٌ، واجتمعت العرب إلى نزار، وتواهبوا ما كان بينهم من الدماء، والتَقَوا، فكانت الدائرةُ على تبع. وفي ذلك يقول أبو دُواد الإياديُّ من قصيدة: [من المتقارب] ضَربْنا على تُبَّعٍ جزيةً ... جِيادَ البُرود وخَرْجَ الذَّهَبْ وولَّى أبو كَرِب هاربًا ... وكان جبانًا كثيرَ الكذِبْ (¬3) ذكر مقتله قال ابن قتيبة: لمّا طالت مُدَّتُه على حِمْير، وأَخذهم بالغزو؛ مَلُّوه وضَجِروا منه. فإنه أقام ملكًا عليهم ثلاث مئةٍ وعشرين سنةً. واختلفوا في زمان مُلْكِه، فقيل: كان في أيام ملوك الطوائف، وقيل: قبلَهم، وقيل: في أيام كسرى أنوشروان. وهو غلط. ولما طالت أيامه، اجتمعت حِمْير إلى ولده حسَّان، وقالوا: ما رضي أبوك أن يُطيلَ غَزونا حتى أَحدث اليهودية في ديننا، لابدَّ من قتله. وساعدهم ولدُه حسان على ذلك، وهو الذي فعل بزرقاء اليَمامة ما فعل. وبلغ تُبَّعًا ما عزموا عليه، فقال: أما إذا قتلتموني، فدعوني قائمًا، ولا تدفنوني مُضطجعًا، فلا يزال مُلكُكم قائمًا باقيًا مادمتُ قائمًا. فقالوا: والله لا مَلّكناه علينا حيًّا ¬

_ (¬1) أخبار مكة ص 134، وتاريخ اليعقوبي 1/ 198، ومروج الذهب 3/ 226، والروض الأنف 1/ 40، وتاريخ دمشق 3/ 508 - 509، وذكر ابن قتيبة في المعارف ص 635، والمقدسي في بدء والتاريخ 3/ 180 منها بيتًا واحدًا. (¬2) مروج الذهب 3/ 226. (¬3) مروج الذهب 3/ 227.

فصل

وميتًا. فقتلوه ودفنوه وملّكوا ابنَه حسانًا، وشرطوا ألّا يؤاخِذَهم بقتْل أبيه. وقيل: مَلّكوا عليهم أخاه عبد كُلال، فلم يأخذه النوم، فقيل له: إنك لا تنام حتى تقتلَ قَتَلَة أخيك، فقتلهم وهم قيام. والظاهر أنهم ملّكوا حسانًا ولدَه. فصل ثم ملك بعد تُبَّع ولدُه حسّان، فأقام مدة، ونَدِم على قتل أبيه، فشرع بقتلهم واحدًا بعد واحد، فبايعوا أخاه عمرو بنَ تُبّع على أنهم يقتلون حسانًا ويملكونه. فجاء رجل من أشرافهم يُقال له: ذو رُعَيْن، فأَخبرَ حسانًا، وحذَّره سوءَ العاقبة؛ فكفَّ عن قتلهم. وقيل: إن ذا رُعَين حذَّر أخاه، وقال: إن قتلتَه ذهب المُلك، فلم يلتفت، ودفع ذو رُعَين إلى عمرو صحيفة، وقال: هذه وديعتي عندك، وختمها. ولما أراد عمرو قتل حسان، قال له حسان: لا تعجل عليّ، فالمُلكُ تأخذُه بغير حُشودِ (¬1). فلم يسمع منه، وقتله بمكانٍ يُقال له: فُرضة، وهي رَحْبةُ مالك بن طَوْق. فلما قتله عَدِم النّوم، فقال له كاهنه: ما قَتل أحدٌ أخاه أو ذا رَحمٍ إلا عَدِم النَّوم حتى يَقتل مَن ساعده عليه. فنادى في المملكة: إن المَلك يريد أن يعهد عهدًا، فلا يتخلَّفَنَّ أحد. فاجتمعوا، وأقام لهم الرجال، وأُدخلوا عليه خمسةً خمسة، وعشرة عشرة، فقتل الجميع، وأُدخِل عليه ذو رُعَيْن، فأمر بقتله فقال: وَديعتي عندك. فأخرج الصّحيفة وفيها: [من الوفر] ألا مَن يَشتري سهرًا بنومٍ ... سعيدٌ مَن يَبيتُ قريرَ عَينِ فإن تكُ حِمْير غَدرتْ وخانتْ ... فمَعذِرةُ الإله لذي رُعَيْنِ (¬2) فقرَّبه، وأحسن إليه، واختصّ به. وكان عمرو يسمى مَوثَبان القعود (¬3)، لأنه ترك الغزو، ولَزم الدَّعة. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 2/ 115، والمعارف 631 - 634. (¬2) المعارف ص 633، وتاريخ اليعقوبي 1/ 197، والطبري 2/ 115 - 116، والبدء والتاريخ 3/ 178، والروض الأنف 1/ 42 - 43. (¬3) في المعارف 634: لقعوده.

فصل

وفي أيامه انتقل عمرو بن عامر مُزَيْقياء من أرض اليمن لما أحسُّوا بخراب السدّ، وعمرو مزيقياء هو أبو الأَوس والخَزرج وخُزاعة. وأقام عمرو بن تُبَّع مالكًا ثلاثًا وثلاثين سنة، ثم هلك. فصل وملك بعده [عبد] كُلال بن مُثَوِّب أربعًا وسبعين سنة، وكان مؤمنًا على دين عيسى عليه السلام (¬1). فصل ثم ملك بعده تُبَّع بن حسَّان بن تُبَّع، ويقال: إنه تُبَّع الأصغر، آخر التَّبابعة. وكان مهيبًا، فسار إلى الشام، وملوكه غسّان، فأطاعوه. وصار إلى يثرب وبها قوم من اليهود، فشكا إليه بعضُ مَن خرج مع عمرو بن عامر من اليمن ضِيقَ مُجاورة اليهود؛ فقتل من اليهود ثلاث مئة وخمسين رجلًا صبرًا. وأراد أن يُخرب يثرب، فخرج إليه حَبْر من أحبار اليهود، قد أتت عليه مئتان وخمسون سنة، فقال: أيها الملك، إنك لا تَقدر على إخراب هذه القرية، قال: ولمَ؟ قال: لأن بها مُهاجَرُ نبيٍّ من ولد إسماعيل عليه السلام. فرجع عن المدينة إلى اليمن وطالت أيامه، فمَلك ثمانيًا وسبعين (¬2) سنة. ويقال: إنه الذي أخذ الحَبْرين، وقال الشعر، وأُخبِر بخروج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم مات. فصل وملك بعده أخوه لأُمّه مَرْثَد بن عبد كُلال، وكان ذا رأي وشجاعة، فأقام إحدى وأربعين سنة، وتفرَّق كل حِمير بعده. فصل ثم ملك بعده وَليعَة ابنُه، وكان عاقلًا شجاعًا، فأقام سبعًا وثلاثين سنة لم يتعدَّ اليمن ومات. ¬

_ (¬1) المعارف ص 634 وما بين معكوفين منه. (¬2) في النسخ: وتسعين، والمثبت من المعارف 635، وانظر تاريخ اليعقوبي 1/ 198، والبدء والتاريخ 3/ 179.

فصل

فصل فملك أَبْرَهة بنُ الصَّباح، وكان عالمًا جوادًا قارئًا للكتب، فرأى في الكتب أن أولاد النَّضر بن كِنانة يَملِكون فكان يُكرمهم، ويُحسنُ إلى ولد مَعَدّ، وكان ملكُه ثلاثًا وأربعين سنة (¬1)، ثم مات. فصل: فملك حسَّان بنُ عمرو [بن تُبَّع] بن كلكرب، فأقام خمسًا وسبعين سنة (¬2)، وكان قد غزا بني كِلاب، فأَسر منهم ألوفًا، فأتاه خالد بنُ جعفر الكلابي فمدحه، فأَطلقَهم. فصل ثم ملك بعده ذو شَناتِر وكان فاسقًا يتعرَّض إلى أولاد الأَقيال، وكان فظًّا غليظًا، لا يسمع بغلامٍ حسنٍ إلا بعث إليه وفَسق به، واسمه لَخْنِيعَة، ولم يكن من بيت المُلك، وهو أوّلىُ من أظهر اللِّواط باليمن، ولا يَقرب النساء، وكان له مَشْرَبَة يجلس فيها، فإذا قضى حاجته من الغلام، أخذ سواكًا فجعله في فِيه، واطَّلع على حرسه وجنوده، وكان ذلك آية فراغه من الغلام، فينزل من عنده وقد افتُضح، وكان قد بقي من أولاد الملوك غلامٌ يقال له: ذو نُواس بن أسعد أبي كرب، واسم الغلام: زُرْعَة، وقيل: يوسف بن شراحيل بن تُبَّع، فسمع به لخنيعة، فأرسل إليه، فعلم الغلام ما يريد منه، فأخذ سكِّينًا، فدفنها بين نَعله وقدمه، فلما صَعِد المَشرَبة، وثب عليه ليُواقِعه، فأخرج السكين، فضربه بها فقتله، ثم قطع رأسه وجعل سواكه في فيه، وتركه في كوة المشربة، ثم نزل فخرج عليهم، فقالوا: ذو نُواس؛ أَرَطْبٌ أم يَباس؟ فقال: لا بأس، وأشار إلى الطّاقة، فنظروا، فإذا رأسُ لَخْنِيْعَة، فقاموا إليه، وقالوا: أنت أحقُّ بالمُلْك حيث أرَحْتَنا من الفاسق، وملكوه، وكان مُلك لَخْنِيْعَة سبعًا وعشرين سنة. ¬

_ (¬1) في المعارف ص 636، والبدء والتاريخ 3/ 181: ثلاثًا وسبعين سنة، وفي تاريخ اليعقوبي 1/ 199، ومروج الذهب 3/ 155: ثلاثًا وتسعين سنة. (¬2) في المعارف وما بين معكوفين منه، والبدء والتاريخ: سبعًا وخمسين سنة.

فصل

فصل ثم ملك ذو نواس، وكان على دين اليهود، فبلغه أن أهل نجران اليمن تنصَّروا، فسار إليهم، فخَدَّ لهم الأخاديد، وغَرِق ذو نواس في البحر، وكانت أيامُه ثمانيًا وستين سنة. وانقضت أيامُ التَّبابِعة، وكانوا نيَّفًا وعشرين ملكًا، وقيل: ثلاثين، وقيل: أكثر، وقيل: أقل، وقد ذكرنا أعيانهم، وكان مُلكهم ثلاثة آلاف سنة، وقيل: ألفين وثمان مئة سنة. فصل في ذكر ملوك اليمن الذين مَلكوا الشام أولُ من مَلك الشام منهم: عمرو بن عامر الغساني، وعاش ثمان مئة سنة، أربع مئة سُوقة، وأربع مئة ملكًا. وقال الهيثم: أول مَن نزل الشام من طوائف اليمن قُضاعة بن مالك بن حِمْير بن سبأ، فتنصّر، فملّكتْه الروم على الشام، وكان أول ملوك تَنوخ بالشام. وقال ابن قتيبة: أولُ مَن ملك بالشام منهم: النُّعمان بن عمرو بن مالك بن حِمْيَر بن سَبأ، ثم ملك بعده ولدُه مالك بن النعمان، ثم ملك بعده ولده عمرو بن مالك، ولم يملك من تَنوخ غير هؤلاء الثلاثة، ثم وَردت سَليح إلى الشام فتنصَّرت، وغلبت على تَنوخ، فملّكتها الروم. وقال السُّدّي: أول ملوك الشام من أهل اليمن: عمرو بن عامر، ثم ملك بعده ولده الحارث بن عمرو، فأقام ملكًا بعد أبيه عشرين سنة، ومات. فأبوه أولُ ملوك الشام من غسّان، وهو الظاهر. فصل ثم ملك بعده الحارث بن ثَعلبة بن جَفْنة بن عمرو بن عامر، وأمُّه مارِية بنت ظالم بن وَهْب بن معاوية بن ثَوْر [وهو] كِنْدَة، صاحبةُ القُرْطَين، وإليها ينسب ملوك غسان، فأقام الحارث عشرين سنة. وهم آلُ جَفْنَة، وقد مَلك منهم جماعة؛ منهم: الحارث بن أبي شَمِر، وهو الذي بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمانه (¬1)، وزاره حسَّان بن ثابت، وكان النُّعمان بن المُنذر في ذلك ¬

_ (¬1) "المعارف" ص 640، ومروج الذهب 3/ 216 - 218.

فصل

الوقت على الحيرة، وكان يُسامي الحارث، فقال الحارثُ لحسّان: يا ابنَ الفُرَيْعَة، لقد بَلغني أنك تُفضِّلُ النعمان عليّ، فقال حسان: كيف أُفضِّلُه عليك؟ ووالله لقَفاك أحسنُ من وجهه، ولأبوك أشرفُ من جميع قومه، ولأمُّك أشرفُ من أبيه، ولشِمالك أَجودُ من يمينه، ولحِرمانُك أنفعُ من عطائه، ولَقليلُك خيرٌ من كثيره، ولكُرسِيُّك أرفعُ من سريره، ولجَداوِلُك أغزرُ من بحوره، ولَيومُك أطولُ من شهره، ولَشَهرُك أَمدُّ من حَوْله، ولحَوْلُك خيرٌ من حِقَبِه، ولزَنْدُك أَورى من زَنْده، ولَرَجِلُك أعزُّ من خَيله، ولَعبيدُك أكرمُ من جُنده، وأنت من غَسَّان وهو من لَخْم، فكيف أفضّلُه عليك، أو أَعدِلُه بك؟ فقال الحارث: إن هذا لا يُسمع إلا في شعر، فقال حسان: [من المتقارب] ونُبِّئتُ أن أبا منذرٍ (¬1) ... يساويك يا حارِ في المخْبَرِ قَذالُك أحسنُ من وَجْهه ... وأمُّك خيرٌ من المُنذرِ ويُسرى يديك على عُدْمها (¬2) ... كيُمنى يديه على الميسرِ (¬3) فصل ثم ملك بعد الحارث جَبَلَةُ بن الأَيْهم الغَسّاني من آل جَفْنَة، وهو الذي امتدحه حسّان بأشعارٍ كثيرة منها: [من الكامل] لله دَرُّ عِصابةٍ نادَمْتُهم. . . يومًا بجِلّقَ في الزمانِ الأوَّلِ (¬4) وجبلة الذي كاتَبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يد شُجاع بن وَهْب، وعزم على قَصْده، فمنعه قيصر، وأسلم في زمان عمر - رضي الله عنه -، ثم تنصَّر. وقال ابن قتيبة: كان طول جَبَلة اثني عشر ذراعًا (¬5)، وإذا ركب مَسَحتْ قدماه الأرض. ولم يوافق ابنَ قتيبة على هذا أحدٌ، وإنما كان طُوالًا من الرجال. وكانت منازل آل جَفْنة وملوكِ غسَّان باليرموك والجَوْلان، والصَّمّان، والأردن وأعمال دمشق إلى مشاريق الشام. ¬

_ (¬1) في النسخ: ونبئت أن نعيما، والمثبت من مروج الذهب 3/ 219، وديوانه ص 238 (برقوقي). (¬2) في مروج الذهب: غيرها، وفي الديوان: عُسرها. (¬3) في الديوان: المعسر. (¬4) ديوانه ص 364 (برقوقي). (¬5) في المعارف 644: اثني عشر شبرًا.

فصل

فصل وقيل: إن عَمرو بن عامر لم يَملك الشَّام، ولا وصل إليه؛ وذلك لأنه لما خرج من اليمن في ولده وأهله ومَن معه من الأَزْد، نزلوا بلاد عَكّ، ومَلِكُهم سَمْلَقَة، وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام حتى يبعثوا مَن يَرتادُ لهم المنازل ويعود، فأَذنوا لهم، فبعث عمرو بنُ عامر ثلاثةً من ولده: الحارث، ومالك، وحارثة، وهم أولاد عمرو لصُلْبه، ومات عمرو قبل أن يرجع إليه الزُوَّاد، ولما احتُضِر استخلف ولده ثعلبة. ووثب رجل من الأزد يقال له: جِذْع بن سِنان على سَمْلَقَة ملك عَكّ فقتله، ونَشِبت الحرب بينهم، فخرج ثعلبة بن عمرو بالأزد إلى مكة، وجُرهم يومئذ ولاةُ البيت، فنزل بمنى، وخرجت إليهم جُرهم فحاربتهم، فنُصرت الأزدُ عليهم، فأقاموا بمكة، فضاقت بهم، فرحلوا عنها. فصار بعضهم إلى سواد العراق، فملّكوا عليهم مالكًا أبا جَذيمة الأَبرش، وصار قوم إلى يثرب، فهم الأوس والخزرج، وصار قوم إلى عمان وقوم إلى الشام، فهم آل جَفْنة. وكان فيهم جِذْع بن سنان قاتلُ سَمْلَقة، وبالشام يومئذ سَليح، فكتب ملك سَليح إلى قيصر يستأذنُه في إنزالهم، فقال قيصر: على شرط ألا يُفسدوا ويطيعوا، فأنزلهم، وقدم عاملٌ لقيصر إلى الشام ليَجبيهم، فطالبهم بالخراج، فقال له جِذْع بن سنان: خذ هذا السَّيف رَهْنًا إلى أن أُعطيك، فقال العامل: اجعله في كذا وكذا من أمّك. فضرب به جِذْع عُنق العامل، فقال بعضُهم: خُذْ من جِذْع ما أعطاك فذهبت مَثَلًا (¬1)، ثم انتقل جِذْع إلى يثرب، وأقام بنو جَفْنَة بالشام، وتنصَّروا، وأطاعوا قيصر، وكانوا من قبله. فأوّلُ ملوك الشام على هذا القول: الحارث بن عمرو بن عامر، ثم الحارث بن أبي شَمِر الأعرج الذي قتل المنذر بن ماء السماء. قال ابن قتيبة: وأمّ الحارث الأعرج مارية ذاتُ القُرطَيْن، وكان خيرَ ملوكهم، وأيمنَهم نقيبَةً، وأسعَدَهم طائرًا. ¬

_ (¬1) المعارف 641 وعنه ينقل المصنف، والمثل في أمثال أبي عبيد (1023)، وجمهرة الأمثال 1/ 421، ومجمع الأمثال 1/ 231.

فصل

ثم ملك بعده الحارثُ الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر، وأخوه النعمان بن الحارث، وكان له ثلاثة بنين: حُجْر، وبه كان يُكنى، والنعمان بن النعمان، وعمرو بن النعمان، وفيهم يقول حسّان: [من الرمل] من يَغُرّ (¬1) الدّهر أو يَأمنُه. . . من قَبيلٍ بعد عَمْرو وحُجُرْ مَلَكا من جبل الثَّلجِ إلى. . . جانبَي أيلةَ من عبدٍ وحُرّ وآخر ملوكهم جَبَلةُ بنُ الأَيْهم، فملوك آل جَفْنة أحد عشر ملكًا، وكان مُلكُهم خمسَ مئة سنة وأقل، وكان بالشام ملوك بعضهم ببلاد مأرب والبَلْقاء (¬2)، وكذا على زُغَر، ومنازل قوم لُوط والسواحل، وكلُّ مَلِك من هؤلاء يقال له: يارع، كما يقال: كسرى وقيصر. فصل وفي أيام ملوك غسان كان الأَعشى، وهو الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل، وهذا اللقب واقعٌ على جماعة من الشعراء منهم: ميمون بن قَيْس بن ثعلبة بن بكر بن وائل أبو بصير، وهو أعشى قَيْس، وهو الأعشى القديم، إذا أُطلق هذا اللقب انصرف إليه. وكان سفيان الثوري يتمثّل دائمًا بقوله: [من الطويل] إذا أنتَ لم تَرحَل بزادٍ من التُّقى. . . ولاقيْتَ بعد الموت من قد تَزوَّدا ندِمتَ على أن لا تكون كمثلِه. . . وأنك لم تُرصِد كما كان أَرصدا (¬3) وقيل لمحمد بن مروان: مَن أشعرُ الناس؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رَهِب، وزهير إذا عَجب، والأعشى إذا طَرِب. وفي رواية إذا شهد (¬4). ومنهم أعشى بني ربيعة، واسمه عبد الله بن خارجة. ¬

_ (¬1) في النسخ: يعتب، والمثبت من المعارف 643، والديوان ص 261. (¬2) في (ب) و (ك): بالبلقاء، وفي مروج الذهب 3/ 221: ببلاد ما دب من أرض البلقاء من بلاد دمشق. (¬3) ديوانه 187. (¬4) ذكره أبو الفرج في الأغاني 9/ 108 عن يونس النحوي.

فصل في ظهور الحبشة على اليمن وعودها إلى العرب

ومنهم أعشى بني تغلب، واسمه ربيعة، وقيل: النعمان، لم يُسلِم. وهذا القائل يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: [من الطويل] ألم تَغتَمِضْ عيناك ليلةَ أَرْمَدا الأبيات (¬1) ومنهم أعشى هَمْدان، واسمُه: عبد الرحمن بن عبد الله، قتله الحجَّاج، وهو آخِرُهم (¬2). فصل في ظهور الحبشة على اليمن وعودها إلى العرب كان باليمن مَلك يقال له: ربيعة بنُ نَصْر، فيما بين التَّبابعة، رأى رؤيا هالَتْه، فلم يدع في مملكته كاهنًا ولا ساحرًا إلا ويقول له: رأيت رؤيا، فيقول: أخبرني بها حتى أعبِّرها، فيقول: لا، اعرفها (¬3)، فقيل له: عليك بشِقّ وسَطيح، وكانا كاهِنَيْن. فبعث الملك إلى سطيح وشق فأَقدَمهما عليه، فقدم سطيح أولًا، فقال له: يا سطيح رأيت رؤيا فأخبرني بها، فقال: نعم، رأيتَ حُمَمَة، خرجت من ظُلُمة، فوقعت بأرض تَهمَة، فأكلت [منها] كل ذات جُمْجُمة، فقال: صدقْتَ، فما تأويلُها؟ فقال: أَحلف بما بين الحَرَّتَيْن من حَنَش، لَيَهبِطَنَّ أرضَكم الحَبَش، ويَملِكنَ ما بين أَبْيَنَ إلى جُرَش. فقال الملك: إن هذا لنا لَغائظٌ، فمتى يَحدثُ في زماني أم بعده؟ قال: بل بعده، فقال: كم مِقدارُه؟ قال: يجيءُ أكثر من ستين أو سبعين تمضي من السنين، ثم يُقتَلون أجمعين، ويخرجون (¬4) هاربين، قال: ومن يتولّى ذلك؟ قال: إرَم ذي يَزَن، يخرج عليهم من عَدَن فلا يُبقي أحدًا منهم باليمن، قال: أفيدوم ذلك من سُلطانه؟ قال: لا، قال: فمن يُزيلُه؟ قال: نبى زكيّ، يأتيه الوحيُ من العَليّ، من آل غالب بن فِهر، يكون المُلك فيه ¬

_ (¬1) تمامه: وعادَك ما عاد السليم المسهَّدا، وهو في ديوانه 185. (¬2) انظر المؤتلف والمختلف للآمدي 10 - 21. (¬3) في الطبري 5/ 112: لا يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها. (¬4) في النسخ: ويملكوا ... يقتلوا ... يخرجوا.

إلى آخر الدَّهر، قال: وهل للدَّهر من آخِر؟ قال: نعم، يوم يجمع الله فيه الأوَّلين والآخِرين، ويَسعَد فيه المحسنون، ويَشقى المسيئون، فقال: أحقًّا ما تقول يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق، والليل إذا اتَّسق، إن ما أَنبأتُك به لَحقّ. ثم قدم شق بن مصعب (¬1) الأنماري فقال له الملك: إني رأيتُ رؤيا، فأخبرني بها، ولم يذكر له ما جرى بينه وبين سطيح ليَختبرهما، هل يتفقان أو يختلفان؟ فقال له شِقّ: رأيتَ حُمَمة، خرجت من ظُلُمة، فوقعت بين رَوْضة وأَكمَة، فأكلتْ أمنها، كلَّ ذات نَسَمة، قال: فما تأويلُها؟ قال: أقسم بما بين الحَرَّتَيْن من إنسان، ليَنزِلَنّ أرضَكم السّودان، وليغلبُنَّ على كلِّ طَفْلَةِ البَنان، وليَملكُن (¬2) ما بين أَبْيَن إلى نَجْران، قال: فمتى يكون ذلك؟ قال: بعدك بزَمان، ثم يَستنقِذُهم ذو شان، ويذيقهم الذُّلَّ والهَوان، قال: ومَن هو؟ قال: غلامٌ ليس بدَنيّ، يخرج من آل ذي يزن في زي غني، قال: أفيدوم مُلكُه؟ قال: لا، بل يَنقطع برسولٍ يُبعثُ بالعَدل من بيت الخير والفَضْل، يكون المُلك في أُمَّته إلى يوم الفَصْل، قال: وما يوم الفَصْل؟ قال: يوم يُجازى فيه الآباءُ، والأبناء، والأُمَّهات، والأخوة، والأخوات، يصيح بهم داعٍ من السماوات، فيسمع الأحياء والأموات، يكون لمن اتَّقى فيه الفوز والخيرات، فقال: أحقًّا ما تقول؟ قال: نعم وربّ السماوات والأرض، وما بينهما من رَفْعٍ وخَفْض، إن ما أخبرتُك لحَقّ، ما فيه مِضّ. أي: لا، بلغة الحبشة (¬3)، فنقل الملكُ أهلَه إلى الحِيرة، وكان ذلك في أيام سابور من الأكاسرة. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، وفي السيرة 1/ 15 وشروحها، وتاريخ الطبري 2/ 112: صعب. وما بين معكوفين منها. (¬2) في النسخ: وليملأن. (¬3) في السيرة 1/ 18: أَمْض، قال ابن هشام: يعني شكًّا، هذا بلغة حمير، وقال أبو عمرو: أمض، أي: باطل. قال السهيلي في الروض الأنف 1/ 28: أكلت منها كل ذات جمجمة وكل ذات نسمة، نصب (كل) أصح في الرواية وفي المعنى، لأن الحممة نار، فهي تأكل ولا تُؤكَل. وقال الخشني في شرح غريب السير 1/ 77 من ظلمة؛ من جهة البحر. فوقعت بأرض تهمة، التهمة: الواسعة المتطامنة، ولذلك قيل لما انخفض من أرض الحجاز: تهامة. وأبين: بلد باليمن، وجرش بلد أيضًا. الحرتين؛ الحرة: أرض فيها حجارة سود. طفلة البنان: ناعمة أطراف الأصابع.

ذكر سبب خروج اليمن على العرب

ذكر سبب خروج اليمن على العرب كان ذو نواس على اليمن، وهو الذي قتل لَخْنيعة، وكان يهوديًا، فبلغه أن أفيميون من بقايا النصارى، دخل اليمن، وكان مجابَ الدعوة، يُبرئ الأكمه والأبرص، فأقام بينهم، وظهرت كراماته، فآمن به أكثرُ أهل اليمن، وكان بنَجران نخلَة طويلة يَعبدونها، فدعا عليها، فيَبِسَتْ، وبلغ حديثُه ذا نواس، فسار إليهم، فخَدَّ لهم الأخاديد، وخيَّرهم بين العَوْد إلى اليهودية وبين أن يَرميَهم في الأخاديد، فاختاروا القَتْلَ، فأحرق منهم اثني عشر ألفًا، وقتل سبعين ألفًا، وعاد إلى صَنْعاء، وكان ذلك في أيّام كسرى أنوشروان، وفي ذلك نزل قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج: 4]. ولما أكثر ذو نواس القتلَ في النصارى، خرج رجل منهم يقال له: ذو ثَعْلبان، ومعه حَبْر من أحبارهم ومعه الإنجيل قد احترق، فركبا البحر إلى النَّجاشي، وكان نصرانيًا، فدخلا عليه وبكيا بين يديه، وأخرجا الإنجيل وقد احترق، وقيل: إن ذا ثَعْبان خرج أولًا إلى قيصر، واستنصر به، فقال: أرضُكم بعيدةٌ عني، وليس عندي سُفن، وسأكتب لك إلى النَّجاشي فإنه قريبٌ منكم. ثم كتب له إلى النجاشي، فجهَّز معه تسعين ألفًا من الحبشة، وأمَّر عليهم أَرْياط بن أَسْحم (¬1)، وفي جيشه أَبرهة بن الصَّباح صاحبُ الفيل، فعبروا من بلاد ناصع والزّيْلَع، وهو أضيق مكان في البحر بين اليمن والحبشة، فخرج إليهم ذو نواس بحِمْيَر والقبائل، فاقتتلوا، فانهزم ذو نواس، وأتى البحرَ، فاقتحم به فرسُه، فكان آخر العَهْدِ به. وفيه يقول عَمرو بن معدي كرب: [من الوافر] أَتوعِدُني كأنّك ذو رُعَيْنٍ ... بأنعمِ عيشةٍ أو ذو نُواسِ وكائنْ كان قبلَك من نعيمٍ ... ومُلكٍ ثابتٍ في الناس راسِي أزال الدهرُ مُلْكَهم فأضحى ... يُنَقَّل من أُناسٍ في أُناسِ (¬2) فأقامت حمير بعده ذا جَدَن، فالتقى بالحبشة ثانيًا فهزموه، وغرق أيضًا في البحر، وكان النجاشيّ قد أوصى أَرْياط أن يُخرب حصون اليمن، ويقتلَ ثُلُث رجالها، وَيسبي ثلثًا، ويَبعثَ إليه بالسبايا، ففعل، وأخرب غُمْدان وسَلْحين وغيرهما. ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 3/ 157: أضخم. (¬2) ديوانه 131، والسيرة 1/ 40، والبدء والتاريخ 3/ 183.

ذكر مقتل أرياط

ذكر مقتل أرياط كان أَبرهةُ بن الصَّباح في جُند أرياط، فطمع في المُلك، ومالت إليه طائفةٌ من الحبشة، وعلم أرياط فانحاز بمن معه، وانحاز أبرهة بمن استمال، والتقوا، فقال أبرهة لأرياط: لا فائدة في فناء الناس، ابرز إلي وأبرز إليك، فأيّنا قتل صاحبَه كان أولى بالمُلك، فتبارزا، وخرج خلف أبرهة عَتْوَدَة وزيرُه (¬1)، وكان بيد أرياط حربة، فضرب بها أبرهة، فوقعت على جبينه، فشرمَتْ عينه وأنفه وشفته، فسُمّي الأَشرم، وكان قصيرًا دميمًا، وأرياط طويلًا جسيمًا، واشتغل أبرهة بنفسه، وحمل عَتْوَدَة على أرياط فقتله، واجتمعت الحبشة على أبرهة، وبلغ النجاشي فغضب، وحلف لابدَّ أن يَجُزَّ ناصية أبرهة، ويطأَ البلاد، وقال: تَعدَّى على أميري وقتله، وكان أبرهة حازمًا، فحلق رأسه، وملأ جرابًا من الأرض (¬2)، وكتب إلى النجاشي: أيها الملك, إنما كان أرياط عبدًا من عبيدك، ولم يكن له خِبرةٌ بسياسة المُلك، وأنا أَخبرُ منه بذلك، وقد بعثتُ إليك بناصيتي، وبجراب فيه تراب من أرض اليمن لتضعَه تحت قدميك، وتبرَّ في يمينك. فرضي النجاشيّ عنه، وأعجبه فهمُه، وأقرَّه على أرض اليمن. وأبرهة الذي قصد البيت الحرام، فأهلكه الله سبحانه وتعالى. ذكر عودة اليمن إلى العرب كان سيفُ بن ذي يَزَن من أشراف ملوك حِمْير، مُعتزلًا في طرف من أطراف اليمن، فلما طال البلاءُ على حِمْير، ولقوا من السودان ما لقوا من الفسق، والفَتْك، والظلم، وغَصْب النساءِ على نفوسهن، خرج إلى قيصر مُستَصرخًا به، وشكا إليه، وسأله أن يَبعث عليهم نائبًا من عنده، فمَطَله، وأقام عنده سبع سنين، فكان آخر كلامه أنه قال: أنتم يهودٌ، والحَبشةُ نصارى، وليس من الدّيانة نُصرةُ المخالِف على المُوافق. ففارقه وأتى الحِيرة، فنزل على النُّعمان بن المُنذر عاملِ كسرى أنوشروان، وكان للنعمان كل عام وفادة على كسرى، فقال له: أقم عندي حتى تَسيرَ معي إليه، فأقام عنده، فقدم النعمان على كسرى فقضى حوائجه، وذكر له قصَّة سيف، وما قَدِم له، وسأله أن يَدخل ¬

_ (¬1) في السيرة 1/ 42، واليعقوبي 1/ 200، والطبري 2/ 129 أنه غلام أبرهة. (¬2) في السيرة: وملأ جرابًا من تراب اليمن.

عليه، فأَذن له، وكان كسرى إذا دخل عليه أحدٌ سجد له، فدخل سيف وطأطأ رأسَه، فعلم كسرى بُعدَ همَّتِه، وشَرف نفسه، ثم سلّم وجلس، وقال: أيها الملك، غَلبَتْنا الحبشة على بلادنا، فجئتُك مستصرخًا لتخرجَهم منها، وتكونَ بلادُنا لك. فقال: بَعُدَت أرضُكم عن أرضنا، وهي قليلةُ الخير، وإنّما هو البعير والشاء، وذلك مما لا حاجة لنا به، ولم أكن لأُوَرِّط جيشًا من فارس بأرض العرب، لا حاجةَ لي بذلك، وأجازه بعشرة آلاف درهم، فنَثرها في الدّهليز، فنهبها الغلمان، وأُخبِر كسرى بذلك، فقال: إن لهذا الرجل لشأنًا، رُدُّوه فردُّوه، فقال له: عَمَدْت إلى حِباء الملك الذي حَباك به فأعطيتَه النّاس، فقال: ما أصنع بالذَّهب والفضة، وأرضي نَبْتُها (¬1)، وأنا من أملاك ذي رُعَيْن، وهل أَجَزْتُ أحدًا بدون عشرة آلاف دينار؟ وإنما قَصد تَعظيم نفسه وأرضِه في عين كسرى، فقال له: أقمْ عندنا حتى نَنظُرَ في أمرك. فأقام عنده مدة، فاستشار كسرى أصحابه فيه، فقالوا: إن في سُجونك رجالًا حَبستَهم للقتل، فابعث بهم معه، فإن هلكوا، كان الذي أَردْتَ بهم، وإن ظهروا على البلاد كان مُلكًا ازْدَدْتَه إلى مُلكك، فأمر بعرض السجون، فكانوا ثمان مئة، فقدَّم عليهم رجلًا من العُظماء، يقال له: وَهْرِز بن حِمْير في ثماني سفائن، في كلّ سفينة مئةُ رجل وما يحتاجون إليه من الزاد والسلاح، فغرقت منها سفينتان، ونَجت إلى اليمن ستة، فأَرْسَوا بساحل عَدَن. وقال ابن الكلبي: كان أبو مُرَّة الفيَّاض ذو يزن من أشراف اليمن، وكانت تحتَه ريحانة ابنة ذي جَدَن، فولدت له غُلامًا فسمَّاه: معدي كرب، وكانت ذات جَمال، فانتزعها أَبْرهة من أبي مرة، فنكحها قَهرًا. وخرج أبو مُرَّة من اليمن، فلحق ببعض ملوك بني المنذر، ويقال: هو عمرو بنُ هند، فسأله أن يكتب له كتابًا إلى كسرى يُعرّفُه شرفَه ومكانتَه، فقال له: أقم عندي، فلي في كلِّ سَنة وِفادةٌ على كسرى. وذكر بمعنى ما تقدّم، وأن كسرى قال له: أقمْ عندي حتى أَنظُرَ في أمرك، ووعده أن ينصرَه، فأقام عنده، واشتغل عنه كسرى بحرب الروم. ومات أبو مُرَّة بباب كسرى، وولدت ريحانة من أبرهة غلامًا سماه: مسروقًا، ونشأ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ك): تنهبتها، والمثبت من (ب)، وفي الطبري 2/ 140: ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة.

معدي كرب في حِجْر أبْرهة، لا يَحسبُه إلا أباه، فسَبَّه ابنٌ لأبرهة، وقال له: لعن الله أباك، فأتى أمَّه وقال: مَن أبي؟ قالت: الأشرم، قال: لا والله، لو كان أبي ما سبَّني فلانٌ ابنُه، فأخبرتْه بالقصة. ثم إن الأشرم هَلك، وهلك ابنُه يكسوم، وولي مَسروق، وهو أخو معدي كرب لأمّه، فخرج معدي كرب إلى قيصر فلم يجدْ عنده فَرجًا، فرجع إلى كسرى، ووقف له على الطّريق، وناداه: أيُّها الملك، لي عندك ميراثٌ، فدعا به كسرى، وقال: مَن أنت، وما ميراثُك؟ فقال: أنا ابنُ الشّيخِ اليمانيّ ذي يزن، الذي وعدْتَه النُّصْرَة، فمات على بابك، فرقَّ له كسرى، وأمر له بمال فنثره في الدِّهليز. وقال له مُوبَذ مُوبَذان: إن لهذا الغُلام حقًّا بموت أبيه على بابك، ونزوعِه إليك من أوطانه، وفي سجونك أهلُ البأس والنَّجدة، وذكر بمعنى ما تقدّم، وأنه جهَّز معه الرجال في السُّفن، ومقدَّمُهم وَهْرِز، وكان إِصْبَهْبَذ الدَّيْلم، فركبوا من الأُبُلَّة، وهي فَرْجُ بحرِ فارس، وقصدت [السفن] اليمن، فأَرْسَوا بمكان يقال له: مَثْوَب، من أعمال حَضْرَموت في ست مئة رجل، وقيل: في ألف. وكان على اليمن مَسْروق بنُ أبرهة، فخرج إليهم في مئة ألف من الحبشة، ولحق بابنِ ذي يَزدْ عامَّةُ حِمْيَر، وكان وَهْرِز يُعَدُّ بألف رجل، ولما رأى مسروق قلَّتَهم، طمع فيهم، وبعث إليهم: إن شئتُم أن ترجعوا إلى بلادكم، فارجعوا. وتهادنوا عشرة أيام حتى ينظروا، وكان لوَهْرِز ولدٌ، فقتلتْه الحبشةُ غِيلةً، فأَحرق وَهْرِز المراكب والزاد، وقال لأصحابه: ما عندي غير الموت، وبايعوه وبايعه ابنُ ذي يزن وأصحابُه على الموت، ثم استعدُّوا للقتال، ولم يكن أهلُ اليمن رأوا النُّشَّاب بعد. وركب مسروق على فيل وعلى رأسه تاجه، وبين عينيه ياقوتة حمراء مثلُ البيضة، ولا يَظنُّ إلا أنه منصورٌ عليهم، ثم نزل عن الفيل، وركب حمارًا احتقارًا لهم، فقال وَهْرِز: هذا كبيرُهم؟ قالوا: نعم، قال: ذَلَّ مُلكُه بنزوله من الفيل وركوبه الحمار، ثم رماه وَهْرِز بسهم فوقع بين عينيه وخرج من قفاه، فخرَّ صريعًا. وانهزمت الحبشة، وغَنِمت الفُرسُ أموالَهم وعساكرهم، وانقلبَتْ حِمْير والعرب مع الفُرْس، فقال وَهْرِز: دونكم السّودان، لا تُبقوا منهم أحدًا، فقتلوهم، ولم يَبْقَ

منهم إلا مَن كان في أطراف اليمن، وسار وَهْرِز إلى صنعاء وعلى رأسه رايةُ كسرى، فأراد دخولَها، وكان الباب قصيرًا، فقال: اهدموه فإني لا أُنكس رايةَ الملك، فهدموه. وكتب وهرز إلى كسرى بالفتح، ويقول: قتلتُ من السُّودان سبعين ألفًا -وقيل: مئة ألف- وبعث بالأموال والسَّبايا، وقال: ما يأمُرُ المَلك في اليمن، فكتب إليه: سلِّم البلاد إلى ابن ذي يَزن، وانصرف، ففعل، وتَوَّج كسرى ابنَ ذي يزن، وشَرط عليه أن تتزوَّج الفُرس في اليمن، ولا تتزوَّج اليمنُ في الفرس، وكان ابنُ ذي يزن يؤدي الخراج في كل سنة إلى كسرى. وقد أكثر الشعراء في غلبة الفرس على اليمن، فقال بعض أولاد فارس: [من الخفيف] نحن خُضْنا البحارَ حتى فَكَكْنا ... حِمْيرًا من بليّة السُّودانِ بلُيُوثٍ من آلِ ساسان شُوسٍ ... يَمنعون الحريمَ بالمرزبانِ (¬1) فقتَلْنا مسروقَ إذ تاه لما ... أنْ تداعت قبائلُ الحُبْشانِ ففلَقْنا ياقوتةً بين عينيـ ... ـه بنُشابةِ الفتى السَّاساني وحَوَينا بلادَ قَحطانَ قَهْرًا ... ثم سِرنا إلى ذُرى غُمْدانِ فنَعِمْنا فيه بكلِّ سُرورٍ ... ومَنَنّا على بني قَحطانِ وقال آخر من أهل حَضْرموت: [من الرجز] أصبح في مَثْوَبَ ألفٌ في الجُنَنْ ... من آل ساسانَ ورهط مِهْرَسَنْ ليُخرِجوا السُّودان من أرض اليَمنْ ... دَلَّهُمْ قصدَ السَّبيلِ ذو يَزَنْ (¬2) وقال أبو الصَّلْت [أبو] أمية بن أبي الصلت (¬3): [من البسيط] لن يَدرك الثأرَ (¬4) أمثالُ ابنِ ذي يزن ... حتى تغيّب للأعداء أَحوالا أتى هِرَقْلَ وقد شالتْ نعامَتُه ... فلم يجد عنده القولَ الذي قالا ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 3/ 167: بالمرَّان. (¬2) مروج الذهب 3/ 164. (¬3) ما يبن معكوفين من تاريخ الطبري 2/ 147، وانظر طبقات ابن سلام 262، والروض الأنف 1/ 84. (¬4) كذا في النسخ، وفي المصادر وديوانه أمية 453: ليطلب الوتر.

ذكر ملوك الحبشة

ثم انثنى نحو كسرى بعد سابِعةٍ ... من السنين لقد أبعدْتَ إقفالا حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... هناك عمري لقد أسرعتَ إرقالا مَن مثلُ كسرى وبهرام الجنود له ... ومثلُ وَهْرِز يوم الجيش إذ صالا لله درُّهم من عُصبةٍ خرجوا ... ما إن رأينا لهم في الدهر أمثالا فاشرب هنيئًا عليك التاجُ مُرْتفِقًا ... في رأس غُمدان دارًا منك مِحْلالا هذي المكارمُ لا قَعْبانِ من لَبَنٍ ... شيبا بماءٍ فعادا بعدُ أَبْوالا (¬1) قالوا: وهذا البيت للنَّابغة الجَعْدي، ولعله وقع تَضْمينًا (¬2) ذكر ملوك الحبشة وكانوا أربعة: أرياط، وأَبْرهة، ويَكْسوم بن أبرهة، ومسروق بن أبرهة، وأقاموا ثلاثًا وتسعين سنة، مَلَك أرياط عشرين سنة، وأبرهة أربعين سنة، ويَكْسوم عشر سنين، ومَسروق ثلاث سنين، وقتله الفرس، وكانت أيّامُه أشدَّ على حِمْير ممن تَقدَّمه مع قلَّتها، لأنه أذلَّ أَقْيال اليمن، وسلّط عليهم السُّودان، فنكحوا نساءهم، وسَبَوا أولادهم، وبقية جيش الفُرْس باليمن يُقال لهم: الأَبْناء. ذكر مقتل سيف ولمّا ملك أَمعنَ في قتل السُّودان، وبَقيت منهم بَقيَّة، فاستخدم منهم جماعة يَمشون بين يديه بالحِراب، فخرج يومًا إلى الصَّيْد وهم بين يديه فمالوا عليه فقتلوه، وبلغ كسرى، فبعث وَهْرِز في أربعة آلاف، وأمره أن لا يَبْقى من السّودان في اليمن أحدٌ إلا قَتَله، ففعل، وأقام بها وَهْرِز. وقال ابن قتيبة: أقام سيفٌ ملكًا باليمن من قِبَل كسرى، يُكاتبُه ويَصدُر عن رأيه في الأمور إلى أن قتله السودان، وبقي اليمن شاغِرًا بلا مَلك، وصاروا كملوك الطوائف، مَلك على كلِّ طائفة منهم رجلٌ (¬3). ¬

_ (¬1) ديوان أمية 453 - 459 وتخريجها ورواياتها ثمة. (¬2) انظر طبقات فحول الشعراء 57 - 58، والسيرة 1/ 66 - 67. (¬3) المعارف 638 - 639.

فصل في قصة أصحاب الفيل

وكان وَهْرِز مُقيمًا بصَنعاءَ، فمات، فولّى كسرى أَبرويز عليها ابنَه التينجان (¬1) بن وهرز، ثم غضب عليه فعَزله، وولّى عليها باذان، فلم يزل عليها حتى مات في صدر الإسلام، وبُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاملُ أَبرويز عليها باذان، وفيروز، وداذَوَيْه، وقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وقيل: إن الذي خَلُصَت اليمن على يده مَعْدي كرب بن ذي يَزن، والله أعلم. فصل في قصّة أصحاب الفيل لما أقام أَبرهةُ بصنعاء، رأى النّاس يتجهّزون أيّامَ الموسم إلى مكة، فقال: أين يذهبون؟ قالوا: إلى البيت الحرام، قال: وما هذا البيت؟ قالوا: بيتٌ بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، قال: وبأي شيء هو مبنيّ؟ قالوا: بالطّين والحجارة، فقال: وحقِّ المسيح، لأبنينَ لكم بيتًا خيرًا منه، فبنى كنيسة بصَنْعاء؛ لم يُبْنَ في زمانها مثلُها، بناها بالرُّخام، وزَخرَفها بالذَّهب والفضة والجواهر واليواقيت، ولطّخ حيطانها بالمِسْك، وجعل في أعلاها قُبَّةَّ عَظيمةً من عجائب الدُّنيا، وجعل على رأسها ياقوتةً حمراءَ تُضيء تلك النّاحية في الليل منها، وجعل على أبوابها السُّتور والحَجَبة والسَّدَنة، وسمّاها: القُلَّيْس، وأمر الناس بحجِّها، وكتب إلى النجاشي: قد بَنيتُ لك كنيسة لم يُبْنَ مثلُها، ولسْتُ بمُنْتَهٍ حتى أَنقلَ إليها حَجَّ العرب. فدخل نُفَيلُ بن حبيب الخَثْعميُّ فلطَّخ القُلَّيْس بِعَذِرِه، ودخل أَبرهةُ ليصلّي، فرأى العَذِرة في القُبَّة، فقال: مَن فعل هذا؟ فقال السَّدنة: رجلٌ من العرب، من أهل البيت الذي أبطلت حجَّ النَّاس إليه، غضب لكَعبتهم. وكان أبرهةُ قد منع أهلَ اليمن من الحجِّ إلى مكة، فأقاموا سنين، فغضب أَبرهةُ، وقال: وحقّ المسيح لأَنقُضنَّ بيتَهم حَجرًا حجرًا، وكتب إلى النجاشيّ يطلُبُ فيلَه الأعظم، واسمه: محمود، ولم يكن في زمانه أقوى منه ولا أعظم، فبعث به إليه، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 2/ 148: البينجان، والمثبت من السيرة 1/ 69، والنسخ مضطربة في رسمه. (¬2) في المعارف 639: وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث باذان عامل أبرويز عليها -يعني اليمن- ومعه قائدان من قوّاد أبرويز يقال لهما: فيروز وداذويه، فأسلموا.

ومعه ثلاثة عشر فيلًا، ثم خرج أَبرهةُ بجنوده ومعه مُلوك حِمْير والأَفيال، وبلغ العربَ فأعظموه، ورأوا جهادَه حقًّا عليهم. وخرج عليه ملكٌ من ملوك حِمْير، يقال له: ذو نَفر بمن أطاعه من قومه، فقاتله فهزمه، وأُخِذ ذو نفر فأُتي به إلى أَبرهة، ققال له: أيُّها الملك، لا تقتُلْني فإن بقائي لك خيرٌ، فاستحياه وأَوثقَه، وكان أَبرهةُ ذا أناةٍ. ثم مرَّ ببلاد خَثْعَم، فخرج إليه نُفَيل بن حبيب الخَثْعَميُّ في قبيلَي خَثْعَم ومَن اجتمع إليه من قبائل اليمن، فقاتلوه فهزمهم، وأَخذ نُفَيلًا، فقال له: أيُّها الملك، لا تقتُلْني فإني دليلٌ في أرض العرب، وهاتان يداي على قومي بالسَّمع والطَّاعة، فاستبقاه، وخرج معه يَدلُّه. فلما مرَّ بالطائف، خرج مسعود بن مُعَتّب الثقفيُّ في رجال من ثقيفٍ، فقال: أيُّها الملك، إنما نحن عبيدُك، ليس لك عندنا خلاف، وليس بيتُنا هذا البيتَ الذي تُريد -يَعنون اللّات- إنما تُريد البيتَ الذي بمكَّة، نحن نَبعثُ معك من يدلُّك عليه، فبعثوا أبا رِغالٍ مولى لهم، فمات بالمُغَمَس، وهو الذي يُرجَم قَبرُه إلى هلمَّ جرّا. وقال البَلاذُري: كان أبو رِغال من العرب العاربة، وله سلطان بالطائف، وكان ظلومًا غشومًا، أتى يومًا على امرأة تُرَبّي طفلًا يتيمًا في عام جَدْبٍ بلبن عَنْز، لم يكن بالطائف شاةٌ لَبونٌ غيرَها، فأخذها منها، فمات الصبيُّ جُوعًا، فرماه الله بقارعة فأهلكه، فدفق بين مكة والطائف، فقبره هناك يُرجَم على وَجْه الدهر. ويقال: إنه كان عبدًا لشُعيب بن ذي مِهْدم (¬1) الحميري الذي قتله قومُه، وكان فيما يزعمون أنه مبعوث إليهم، فلما بلغه ما فعله بالصبي، أمر به شعيب فقُتِلَ، ورُجِم قبرُه. وقيل: كان جدُّ الحجّاج يَخدُم أبا رِغال، ولهذا قيل للحجاج: عبدُ بني رغال (¬2). وأبو رِغال من بقيّة ثمود. قال جرير يهجو الفرزدق: [من الوافر] إذا مات الفرزدقُ فارجُموه. . . كما تَرمون قبرَ أبي رغالِ (¬3) ¬

_ (¬1) في (ب) و (ك): مهدي، وفي (خ): معدي، والمثبت من أنساب الأشراف 1/ 29. (¬2) في (ب): عبد آل ذي رغال، وفي أنساب الأشراف: عبد أبي رغال. (¬3) ديوانه 2/ 547.

وبعث أَبرهة على مُقدّمته الأَسود بنَ مَقْصود من الحبشة، فجمع أموالَ أهلِ الحرم، وأصاب لعبد المطَّلب مئتي بعيرٍ. وبعث أَبرهةُ حُناطَةَ الحميريَّ إلى أهل مكّة، يَسأل عن شريفها، ويقول لهم: لم آتِ لقتالكم، وإنَّما جئتُ لأَهدم هذا البيت، فدلُّوه على عبد المطّلب، فقال عبد المطّلب: نحن لا نُقاتلُه، وليس لنا به طاقةٌ، وسنُخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا البيتَ الحرام بيتُ الله، وبيتُ إبراهيم خليله، فإن يمنعه، فهو بيتُه وحرمُه، وإن يُخلِّ بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به طاقة. قال: فانطلِقْ معي إلى الملك، فأردفه على بغلةٍ له، وخرج به حتَّى قَدِم العسكر، وكان ذو نَفْرٍ صديقاً لعبد المطّلب، فأتاه فقال: يا ذا نَفْر، هل عندك من غَناءٍ فيما نزل بنا؟ فقال: وما غَناء أسير لا يَأمنُ أن يُقتلَ بُكرةً أو عشياً، ولكن سأبعثُ إلى أُنَيْس سائس الفيل، فإنَّه لي صديق، فأسأله أن يصنعَ لك عند الملك ما استطاع من خير، ويُعظّم خَطرَك ومنزلتك عنده. وأرسل إلى أُنيْس، فأتاه فقال: إن هذا سَيِّد قريش الذي يُطعم النَّاس في السَّهل، والوحوشَ في رؤوس الجبال، وصاحب عِير (¬1) مكّة، وقد أصاب له الملك مئتي بعيرٍ، فإن قدرت أن تنفعه عنده، فانفعه، فإنَّه صديقٌ لي، فدخل أُنَيس على أبرهة، وعرَّفه منزلةَ عبد المطّلب، وذكر له مثل ما ذكر ذو نَفْر، وقال: أحبُّ أن تأذنَ له في الدخول عليك. وكان عبد المطّلب وسيماً جسيماً عظيماً، فأذن له فدخل، فلما رآه أبرهة عظَّمه وأكْرمَه، وكرِه أن يُجلسه معه على سريره، أو يجلسه تحته، فهبط عن سريره، فجلس على البِساط، ثم أجلسه معه، وقال لترجُمانه: قل له: ما حاجتُك؟ فسأله التّرجُمان فقال: حاجتي أن يَردَّ علي الملك مئتي بعير لي أخذها أصحابُه، قال: قل له: لقد أعجبْتَني حين رأيتُك، والآن فقد زهِدْتُ فيك، قال: ولم؟ قال: جئتُ إلى بيتٍ هو شرفُك وشرفُ آبائك لأهدمَه لا تكلِّمني فيه، وتكلِّمُني في مئتي بعيرٍ أصبتُها، فقال عبد ¬

_ (¬1) في النسخ: عين. والمثبت من السيرة 1/ 49، والطبري 2/ 133.

المطلب: أنا ربُّ هذه الإبل، ولهذا البيت ربٌّ سيمنعُه، فقال: ما كان لِيمنَعه منّي، قال: فأنت وذاك، وأمر بردِّ إبله، فرُدَّت إليه. قال أبن إسحاق: وذهب عبد المطلب إلى أبرهة بعَمْرو (¬1) بن نُفاثة بن عدي بن الدُّئل سيّد بني كنانة يومئذٍ، وخُوَيْلد بن واثِلة سيّد بني هُذَيل، فعرضا على أبرهة ثُلُث أموال تِهامة، على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم، فرجع عبدُ المطّلب إلى مكّة، وأخبر قريشاً الخبر، وأمرهم أن يتفرَّقوا في الشِّعاب، ويتحرَّزوا في رؤوس الجبال، تخوُّفاً عليهم من معرّة (¬2) الجيش، ففعلوا، ثم أتى عبدُ المطَّلب إلى الكعبة، فأخذ بحَلْقة الباب وجعل يقول: [من مجزوء الكامل] لا هُمَّ إن المَرءَ يَمـ ... ـنعُ رَحْلَه فامنع حِلالَكْ لا يَغْلبنَّ صَليبُهم ... ومِحالُهم غَدْواً مِحالَكْ جَرُّوا جُموعَ بلادهم ... والفيلَ كي يَسْبُوا عِيالَكْ عَمَدُوا حِماك بكَيدِهم ... جَهْلاً وما رَقَبوا جَلالَكْ إن كنتَ تاركَهم وكعـ ... بتنا فأمُر ما بدا لك (¬3) ثم قال لهم: [من الرجز] يا ربِّ لا أرجو لهم سِواكا ... إن عدوَّ البيت مَنْ عاداكا يا ربِّ فامنَعْ منهم حِماكاً ... امنَعْهم أن يُخربوا قُراكا (¬4) ثم ترك الحَلْقة، وتوجَّه مع قومه في بعض الوجوه، وأصبح أبرهة بالمُغَمَّس قد تهيَّأ للدُّخول، وعبّى الحبشة، وهيَّأ الفيلَ الأعظم، فأقبل نُفَيْل الخثْعَمي إلى الفيل، فأخذ بأُذنه وقال: ابْرُك محمود، أو ارجع راشداً حيث جئت، فإنَّك في بلد الله الحرام. وكان الفيل أَمام الجيوش مُزَيَّنا بالسلاح، والرجال حوله، فبوك، فبعثوه نحو مكّة فأبى، فضربوه بالمِعْوَل في رأسه، وأدخلوا تحت مَراقِّه مَحاجِنَهم، وضربوه ليقوم فأبى ¬

_ (¬1) في السيرة 1/ 50: يَعْمر، والمثبت موافق لتاريخ الطبري 2/ 134. (¬2) في النسخ: مغيرة، والمثبت من السيرة والطبري. (¬3) انظر السيرة 1/ 51، والطبري 2/ 135. (¬4) تاريخ الطبري 2/ 134.

أن يتوجّه إلى الحرم، فوجَّهوه إلى اليمن فقام يُهروِل، فوجّهوه إلى الشام فتوجَّه، ثم إلى المشرق فتوجَّه، فصرفوه إلى الحرم فبرك، وخرج نُفَيْل يشتدُّ حتَّى صعد الجبل، وأرسل الله طيراً من البحر أمثالَ الخَطاطيف، مع كلّ طَيْرٍ منها حَجرٌ في منقاره، وحجران في رِجلَيْه، أمثالَ الحمّص والعَدَس، فلما غَشِينَ القومَ أرسلْنَها عليهم، فلم تُصبْ تلك الحجارةُ أحداً إلَّا هلك، وليس كلّ القوم أصابت، فخرجوا هاربين، يبتدرون الطريق الذي جاؤوا منه، ويسألون عن نُفَيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نُفيْل حين رأى ما أنزل الله بالقوم من النقمة: [من الرجز] أين المَفَرُّ والإلهُ الطَّالبْ ... والأشرمُ المَغْلوبُ غيرُ الغالبْ ومَرِج أمرُ القوم، وماج بعضهم في بعض، فخرجوا يتساقطون في كلّ طريق، ويهلكون على كل مَنْهل، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعل تتساقط أناملُه وجسدُه، كما سقطت أُنملةٌ اتَّبعتْها أُنملة، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل الفَرْخ، ثم انصدع قلبُه ومات. وقيل: كان أبو مسعود الثَّقفيُّ -وهو مكفوف البصر- يصيف بالطائف، وَيشتو بمكة، وكان رجلًا نبيهاً نبيلاً، وكان خِلّاً لعبد المطّلب، فقال له: يا أبا مسعود، ماذا عندك؟ هذا يوم لا يُستغنى فيه عن رأيك. فقال أبو مسعود: اصعَدْ بنا حِراء، فصعدا الجبل، فمكثا فيه، فقال أبو مسعود: اعْمِد إلى مئةٍ من الإبل، فاجعلها لله تعالى، وقلّدها، ثم بُثَّها في الحرم، لعلَّ بعضَ هذه السُّودان أن يَعقرَ منها، فيغضبَ ربُّ هذا البيت فيأخُذَهم، ففعلَ عبد المُطَّلب ذلك، فعمد القوم إلى تلك الإبل، فعقروا بعضها. فقال [أبو مسعود]: إن لهذا البيت ربّاً يمنعُه، فقد نزل تُبَّع وأراد هدمه، فمنعه الله وابتلاه، فكساه، وعظَّمه، ونَحَر له، فانظر نحو البحر، فنظر عبد المطّلب فقال: أرى طيراً بِيضاً، نشأت من شاطئ البحر، قال: فهل تعرفُها؟ قال: لا والله، وليست بنجديّة، ولا تِهامية، ولا عدنية، ولا شامية، وهي أمثال اليعاسيب، في مناقيرها حصًى مثلُ حصى الخَذْف، قد أقبلت كالليل، يَتبع بعضُها بعضاً، أمام كلِّ فرقةٍ طائرٌ أحمر يقودُها.

فجاءت، حتَّى إذا حاذَت العسكرَ طارت فوق رؤوسهم، ثم هالَتْ عليهم ما في مناقيرها، وعلى كلِّ حَجَرٍ مكتوب اسمَ صاحبه، ثم إنَّها انصاعت راجعةً من حيث جاءت. فلما أصبحا نزلا من الجبل، وجاءا إلى العَسْكر فإذا هم خامدون، يقع الحجر على بَيْضة أحدهم فيخرقها، وتغيبُ في الأرض، فحفر عبد المطّلب حفرة له، وحفرة لصاحبه، وملأَهما ذهباً أحمر، ونادى في النَّاس فتراجعوا، وأصابوا من أموالهم ما ضاقوا به ذرعاً. وقال أبو الجَوزاء: خلقها الله في ذلك الوقت، فكان الحجرُ يَنفُذ في البيضة، وَيغيب في دماغ الرَّجل، ثم يَخرج فيغيب في الأرض من شدَّة وَقعه، وكذا فعلت بالدَّواب والفِيَلة، إلَّا محموداً فإنَّه سَلِم لكونه لم يَقدرْ على الكعبة، وأفلت أبو يَكسوم صاحبُ جيش أبرهة، ووزيرُه ونديمُه، فسار إلى الحبشة وعلى رأسه طائر لم يَشعر به، حتَّى دخل على النجاشي فأخبره بما أصابهم، فلما استتمّ كلامَه، رماه ذلك الطائر بحجر فقتله، فأرى الله النجاشي كيف كان هلاكهم. وامتلأت بهم الأوديةُ، وفِجاجُ مكّة، فبعث الله سيلاً، فحملهم فألقاهم في البحر، وعَظُمَت قريش في أعين النَّاس، وقالوا: هؤلاء أهلُ الله، قاتل عنهم، وكفاهم مؤونةَ عدوِّهم، وأكثر النَّاسُ الأشعارَ في ذلك، فقال أميَّة بن أبي الصَّلْت: [من الخفيف] إن آياتِ ربِّنا بيِّنات ... ما يُماري فيهنَّ إلَّا الكَفُورُ حَبس الفيلَ بالمغَمَّس حتَّى ... ظلَّ يَحبو كأنَّه مَعقورُ حوله من رجال كِندةَ فِتيا ... نٌ مَصاليتُ في الحروب صُقورُ غادروه ثم ابْذَعَرُّوا سراعاً ... كلُّهم عظمُ ساقِه مكسورُ كلُّ دِينٍ يومَ القيامة عند الـ ... ـله إلَّا دين الحنيفة زُورُ (¬1) والنجاشي الذي كان في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -واسمه: أَصحمة- هو ابن ابنِ النجاشي الذي كانت في أيامه قصةُ الفيل، وكانت قصة الفيل في أيَّام كسرى أنوشروان ¬

_ (¬1) ديوانه ص 391. وابذعروا: تفرقوا.

فصل في قصة عبد الله بن الثامر

العادل، وقالت عائشة - رضي الله عنها -: رأيتُ قائدَ الفيل وسائسَه بمكة أعميَيْن مُقعَدَين، يستطعمان الناس (¬1). وقَصَّ الله قصة الفيل على رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} السورة، واتَّفق أهلُ السِّيَر على أن أوّلَ يوم من المُحرَّم عام الفيل كان يوم الجمعة، وأن أبرهة وصل إلى مكّة يومَ الأحد سابع عشر مُحرَّم، وفيه هَلَك. فصل في قصة عبد الله بن الثامر قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدّثنا عفَّان بن مُسلم، حدّثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان مَلِكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فمرض الساحر، فقال للملك: إنِّي قد كَبِرت، وحضر أَجلي، فادفع إليَّ غلاماً أعلِّمُه السِّحْر، فدفع إليه غُلاماً، فكان يَختلفُ إليه، وكان في طريقه راهبٌ، فمرَّ به الغلامُ، فأعجبه كلامُه، فكان يُطيلُ القُعودَ عنده، فإذا أتى أهلَه ضربوه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الرّاهب، فقال: يا بني، إذا استبطأَك الساحر فقل: حَبَسني أهلي، وإذا استبطأك أهلُك، فقل: حبسني الساحر. فمرَّ ذات يوم بدابّةٍ قد حبسَت النَّاس، وكانت فظيعةً، فقال: اليوم أعلمُ أمرَ الراهب والساحر، الرّاهبُ أفضل أم السَّاحر؟ فأخذ حجراً وقال: اللَّهم إن كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحرِ، فاقتل هذه الدابة، فرماها، فقتلها، ومضى النَّاسُ، وأخبر بذلك الراهب، فقال له: يا بنيَّ، إنك ستُبتلى، فإن ابتُليت فاصبر، وفي روايةٍ: يا بني، أنت اليوم أفضلُ منّي، وقد بلغ من أمرك ما أرى، فإنَّك ستُبتلى، فإن ابتُليتَ، فلا تدلَّ عليّ. وكان الغُلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويُداوي النَّاس، فبينا هو على ذلك إذ عَمِي جليسُ الملك، فأتاه بمالٍ عظيم، وقال: اشفني، ولك هذا، ولك ما ها هنا، فقال: إنِّي لا أشفي أحدًا، ولكنّ الله هو الشَّافي، فإن آمنت به دعوتُه فشفاك، فآمن بالله، فدعا له الله فشفاه. ¬

_ (¬1) السيرة 1/ 57.

فجلس إلى الملك فقال: يا فلان، مَن شفاك؟ فقال: ربي. قال: أَولَك ربّ غيري؟ قال: نعم، ربي وربُّك الله. فأخذه فلم يزل يُعذّبه حتَّى دلّ على الغلام، فجيء به، فقال له الملك: قد بلغ من سِحرك أنّك تُبرئ الأَكمه والأبرص، وتفعل وتفعل، فقال: إنِّي لا أَشفي أحداً، إنَّما الله سبحانه الشَّافي، فلم يزل يعذبه حتَّى دلَّ على الراهب، فجيء به، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار، فوضعه على مفرقه، فشقّه نصفين، ثم جيء بجليس الملك، ففُعل به كذلك. ثم جيء بالغلام، فقال له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نَفَرٍ من أصحابه وقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فإذا بلغتم ذُروتَه، فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه، فذهبوا به إلى الجبل، فقال: اللَّهم اكْفِنيهم، بما شئت، فرَجفَ بهم الجبل، فسقطوا، وجاء الغلام يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابُك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفرٍ آخر وقال: اذهبوا به في قُرقُور -أي: سفينة- وتوسّطوا به البحر، فإن رجع عن دينه، وإلا فاقذفوا به في البحر، فذهبوا به، فقال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينةُ فغرقوا، وجاء يمشي، فقال له الملك: ما فعل أصحابُك؟ فقال: كفانيهم الله. ثم قال الغلام للملك: إنك لستَ قاتلي حتَّى تفعل ما آمُرك، قال: وما هو؟ قال: تَجمعُ النَّاس في صعيدٍ واحد، وتَصلِبُني على جذع، ثم تأخذ سهماً من كنانتي، وتضعه في كبد القوس، ثم قل بسم الله ربِّ الغلام، ثم ارمِ به، فإنَّك إذا فعلتَ ذلك قتلتَني، فجمع النَّاس في صَعيدٍ واحد، وصلبه على جِذْع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، وقال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السَّهمُ في صُدْغه، فوضع يده على صُدْغه ومات، فقال النَّاس: آمنّا بربِّ الغلام، فأتي الملك، وقيل له: أرأيْتَ ما كنتَ تَحذر، قد والله نزل بك حَذَرُك، قد آمن النّاس، فأمر بالأخاديد فخُدَّت بأفواه السِّكَك، وأَضرم فيها النيران، وقال: مَن رجع عن دينه، وإلا اقذفوه في النَّار وأَقْحموه، ففعلوا، وجاءت امرأةٌ ومعها صبيّ لها، فقيل: ارجعي عن دينك، فتقاعست أن تقع فيها؛ أي: توقَّفتْ، فتكلَّم ابنُها وقال: يا أمَّاه اصبري، فإنك على الحق". انفرد بإخراجه مسلم (¬1). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (23931)، وصحيح مسلم (3005).

وقال الضَّحَّاك: تكلَّم في المَهْد ستة: شاهدُ يوسف، وابنُ ماشطة فرعون، وعيسى، ويحيى عليهما السلام، وصاحبُ جُرَيج، وصاحبُ الأُخدود. وقد اختلف العلماء فيمَنْ نزل قولُه تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)} [البروج: 4]، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - وعامة المفسرين: نزلت في عبد الله بن الثامر وأصحابه، وقال ابن عباس: كان عبد الله بن الثامر في زمان ذي نواس، وعبد الله يومئذٍ بنجران، فسار إليه، فخدَّ له ولأصحابه الأخاديد قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعين سنة. وقيل: إن بعض الملوك سكر، فوقع على أخته، فلما حدّثنا قال له النَّاس: ما صنعتَ؟ فندم، فقالت له أخته: ادْعُ النَّاس إلى إباحة مثل هذا، فدعاهم، فأبَوا، فقالت: خُدَّ لهم الأخاديد، ثم اقذِفْهم في النَّار، ففعل، فمَن وافقه تركه، ومن خالفه ألقاه في النَّار (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام 1/ 34، وتفسير الطبري 24/ 270 - 276.

فصل في أيام العرب

فصل في أيَّام العرب فمن ذلك يوم ذي الأَثْل: غزا صَخر بنُ عَمرو بن الشَّريد بني أسد بن خُزيمة، فساق إبلَهم، فنذروا به، فلحقوه، فطَعن ربيعةُ بن ثور صخراً في جنبه ونجا، وأقام مريضًا من تلك الطَّعنةِ سنةً، فسمع امرأتَه سلمى يومًا وهي تقول لأخرى وقد سألتْها عنه فقالت: لا حيٌّ فيُرْجى، ولا مَيْتٌ فيُسْلَى، ولقد لقيتُ منه الأمرَّين. وكانت أمُّ صَخْر إذا سُئلت عنه تقول: أرجو له السلامة والعافية إن شاء الله تعالى. فقال صخر: [من الطَّويل] أرى أمَّ صخرٍ ما تَمَلُّ عيادتي ... ومَلَّتْ سُليمى مَضْجعي ومَكاني وأيُّ امرئٍ ساوى بأم حَليلةً ... فلا عاش إلَّا في أذىً وهوانِ وما كنتُ أخشى أن أكونَ جِنازَةً ... عليكِ ومَنْ يغترُّ بالحَدَثانِ لعَمري لقد أيقظْتُ مَن كان نائماً ... وأسمعتُ مَنْ كانت له أُذنانِ أهمُّ بأمر الحَزْمِ لو أستطيعُه ... وقد حِيل بين العَيْرِ والنَّزَوانِ (¬1) فلما طال عليه النبلاء، نَتأتْ قطعةٌ من جنبه مثل الكَبِد (¬2) في موضع الطعنة، فقالوا له: لو قطعتَها رَجونا أن تبرأ، فقال: افعلوا، فقطعوها فمات، فرثتْه أختُه الخنساء بالمراثي المشهورة (¬3). ومنها يوم أَقْرُن: غزا عمرو بن عمرو بن عُدَس الدَّارميُّ بني عبس، فاستاق الإبل والشاء والسّبايا، ثم أقبل فنزل عند ثَنيَّةِ أَقرُن، فلحقه أنسُ الفوارس فقتله، وانهزمت بنو مالك، فكان لبني عبس على بني دارم، وفيه يقول جرير: [من الكامل] هل تَذكُرون على ثَنِيَّة أَقْرُنٍ ... أنسَ الفوارسِ يوم يَهوي الأَسْلَعُ أراد بالأسلع عمرو؛ لأنَّه كان أبرص (¬4). ¬

_ (¬1) الأصمعيات 146. (¬2) في العقد 5/ 167: اليد. (¬3) انظر الأنوار ومحاسن الأشعار للشمشاطي 1/ 110. (¬4) النقائض 977، والعقد الفريد 5/ 178 - 179.

ومنها يوم الإبل، قُتل فيه بِسْطامُ بنُ قَيْسٍ. ومنها يوم أُوارَة، هو اسمُ ماءٍ كانت به وقعةٌ بين عمرو بنِ هند وبني تميم، وفيه يقول بعض بني تَيْم الله بن ثعلبة: [من الكامل] ولقد شهِدتُ الخيلَ يوم طِرادِها ... فطعَنتُ تحت كنانةِ المُتَمطِّرِ (¬1) ومنها يوم بَرْزَة لكنانةَ على بني سُلَيم، لما قتلت بنو سُليم ربيعةَ بنَ مُكَدّم -فارس كنانة- يوم الكَدِيد رجعوا، فأقاموا مدة، فملّكوا عليهم مالك بن خالد بن صَخر بن الشريد، وتوَّجوه، وكان يقال له: ذا التَّاج، وخرجوا معه، فعرفه بنو كِنانة، فأغار على بني فراس ببَرزَةَ، ورئيسُ بني فراس يومئذٍ عبد الله بن جِذْل، فدعا عبدُ الله إلى البِراز، فبرز إليه هندُ بن خالد بن صَخْر أخو مالك، فقال له عبد الله: مَن أنت؟ فقال: هند بن خالد، فقال: أخوك مالك أَسَنُّ منك، يزيد مالكاً، فرجع، فأخبر مالكاً، فبرز إليه مالكٌ فقتله عبدُ الله، ثم برز إليه كُرْز بنُ خالد أخو مالك، فقتله عبدُ الله (¬2). ومنها يوم البِشْر، ويقال له: يوم الجَحَّاف، وفيه يقول الأخطل: [من الطَّويل] لقد أَوقعَ الجحَّافُ بالبِشْر وَقعةً ... إلى الله منها المُشتكى والمُعَوَّلُ (¬3) ومنها يوم بُعاث، كان قُبيل الإسلام بين الأوس والخزرج. ومنها يوم النُّتاءة (¬4) لعبسٍ على بني عامر، خرجت بنو عامر لتدرك ثأرَها من عَبْس يوم الرَّقْم، فوصلوا النُّتاءة وهي في أرض عبس، وقد نذِروا بهم، فالتقَوْا، وعلى بني عامر: عامر بن الطّفَيلِ، وعلى عَبْس: الرَّبيعُ بن زياد، فاقتتلوا قتالاً شديدًا، وانهزمت بنو عامر، وطعن ضُبَيعةُ بنُ الحارث عامرَ بن الطُّفيلِ، فلم يَضُرَّه. ومنها يوم تَحلاق اللِّمَم، كان لتَغْلب (¬5) على بَكر بن وائل، وكان الحَلْق شعار تغلبَ يومئذٍ، حلقوا رؤوسهم علامةً لهم. ¬

_ (¬1) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 133، تمطّر الرجل، إذا أسرع، والكنانة من الكَنّ، لأنَّه يُصان بها النَّبْل. (¬2) العقد 5/ 174، والأنوار 1/ 120. (¬3) ديوانه ص 10. (¬4) في النسخ: البناءة، هنا وفيما يأتي، وهو خطأ، والمثبت من العقد 5/ 161. (¬5) يعرف بيوم قِضَة، وكان لبكر على تغلب، انظر العقد 5/ 220.

ومنها يوم جَبَلةَ، وهي هضبة حمراء بين الشُّرَيْف والشَّرَف، وهما ماءان: الشُّرَيف لبني نُمَير، والشَّرَف لبني كِلاب، وكان بين عبس وذُبيان ابنَي بَغيض، وفيه يقول الرَّاجز: لم أرَ يومًا مثلَ يومِ جَبَلَهْ يوم أتانا أسدٌ وحَنْظَلهْ وغَطَفان والملوكُ أَزْفَلَهْ (¬1) ويقال له: يوم شِعْب جَبَلة، وكان لعامرٍ وعبسٍ على ذُبيان وتميم، وسببه أنَّه لما انقضت وَقْعة رَحْرَحان، جمع لَقيط بنُ زُرارَة لبني عامر، وألَّب عليهم، وبين يوم رَحْرَحان ويوم جبلة سنة، وكان يوم جَبَلَة في العام الذي وُلد فيه رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. وكان لبني عَبس في بني عامر حُلَفاء لهم، فاستعدى لَقِيط بني ذُبيان لعداوتهم لبني عبس من أجل حرب دَاحِس، فأجابته غَطَفانُ كلّها غير [بني] بدر، وتجمّعت تميم كلها غير بني سَعد، وخرجت معه بنو أَسدٍ بحِلْفٍ كان بينهم وبين غطفان، ثم أتى لقيطٌ إلى الجَوْن الكَلْبي، وهو ملك هَجَر، فقال: هل لك في قوم غارِّين قد ملؤوا الأرض نَعَماً وشاءً، وترسلُ معي ابنَيْك، فما أصبنا من نَعَمٍ وشاءٍ فهو لهما، وما أصبنا من دَمٍ فعلينا؟ فأجابه الجَوْن إلى ذلك. ثم أتى لقيطٌ النُّعمان بنَ المُنْذر، فاستنجده ووعده بالغنائم، فأجابه، وكان لقيط وَجيهاً عند الملوك، فلما كان رأسُ الحَوْلِ من يوم رَحْرَحان، أقبلت الجيوش نحو لَقيط، وأقبل سِنانُ بن أبي حارثة المُرِّي في غَطَفان، وهو والد هَرِم الجَواد، وجاءت بنو أسد، وأرسل الجَوْنُ ابنَيْه معاوية وعَمْراً، فقال الأَحوص بنُ جعفر -وهو يومئذٍ رَحَا لهوازن (¬2) - لقيس بن زهير: ما ترى؟ فإنَّك تَزعم أنَّه ما عَرَض لك أمر أن إلَّا وجدتَ في أحدهما المخرجَ، فقال قيس: الرأيُ أن نَرتحلَ بالأموال والعيال، فندخلَ شِعبَ جَبَلة فنقاتل القومَ من وجه واحد، فإن لَقيطَ بن زُرارة رجل فيه طَيشٌ، وسيقتحم عليك ¬

_ (¬1) النقائض 663. (¬2) يعني سيدهم.

الجبل، فأرى لك أن تأمرَ بالإبل فلا تُسقى ولا تَرعى وتُعْقَل، وتجعلَ الذَّراري وراء ظهورنا، وتأمرَ الرَّجَّالة يأخذون بأذناب الإبل، فإذا دخلوا الشَّعب، حلَّت الرَّجالةُ عُقل الإبل، ثم لزمت أذنابها فتنحدِر عليهم، وتحنُّ إلى مرعاها وورودِها الماءَ، فلا يردُّ وجوهَها شيء، وتخرج الفرسانُ في إثْر الرجَّالةِ الذين خلف الإبل، فتَحطِمُ ما لَقيتْ، فقال: نِعْمَ ما رأيت. وأقبل لقيطٌ والملوكُ معه، فوجد بني عامر قد دخلوا شِعبَ جَبَلة، فنزلوا على فم الشِّعب، فقال لهم رجل من بني أَسد: خُذوا عليهم فمَ الشِّعْب حتَّى يجوعوا ويعطشوا، فإنهم يتساقطون عليكم تساقُطَ البَعر من اسْت الجمل، فأبَوْا، ودخلوا، وكانوا قد عَقَلوا الإبلَ اثنتي عشرة ليلةً لم تَطعَم، ولم تشرب، وحلَّت الرَّجَّالة عُقُلَها، فأقبلت تهوي، فسمع القوم دويَّها في الشعْب، فظنوا أنَّ الشِّعَب قد تَدَهْدى عَلَيهم، والرَّجَّالةُ خلفَها، والفرسانُ في إثْرِهم، فانهزمَ القومُ لا يَلْوُون على شيء، وقُتِل لقيطُ بن زُرارة، وأُسِر أخوه حاجب، أسره ذو الرُّقَيْبَة، وأَسر عروةُ الرَّحَّال سنانَ بنَ أبي حارثة، فجزَّ ناصيته، وأَطلقه، وقُتل معاوية بن الجَوْن، وأَسر قيس بنُ المُنتَفِق عمرو بنَ أبي عمرو ابن عُدُس، فجزَّ ناصيتَه، وأطلقه طَمعاً في المكافأة، فلم يفعل، وقُتل جماعةٌ من سَرَوات النَّاس منهم: مُنْقذ بن طَريف الأَسدي، ومالك بن رِبْعي بن جندل بن نَهشل، وأكثر الشعراء في يوم جبلة، قال جرير: [من الطَّويل] كأنَّك لم تَشهد لقيطاً وعامراً ... وعَمرو بنَ عَمرو إذ دعا يا لَدارِم ويومَ الصَّفا كنتُم عَبيداً لعامرٍ ... وبالحَزْن أصبحتُم عبيدَ اللَّهازمِ (¬1) وقال المعَقِّر البارِقي: [من الطَّويل] أَمِن آلِ شَعثاءَ الحُمولُ البَواكرُ ... مع الصُّبح أم زالَتْ قُبَيلُ الأَباعِرُ وحلَّتْ سُليمى (¬2) في هِضاب وأيْكةٍ ... فليس عليها يومَ ذلك قادِرُ وصَبَّحها أملاكُها بكتيبةٍ ... عليها إذا أمسَتْ من الله ناظِرُ معاويةُ بنُ الجَوْن ذُبْيانُ حولَه ... وحسَّانُ في جَمْع الرِّباب مُكاثِرُ ¬

_ (¬1) العقد 5/ 143، وهما في النقائض 409 - 410. (¬2) في النسخ: فحلت وجالت، والمثبت من العقد 5/ 144، والنقائض 676، والأغاني 11/ 160.

وقد زحفَتْ دُوْدانُ تَبغي ثُؤورَها ... وجاشت تميمٌ كالفحول تُخاطِرُ وقد جمعوا جمعاً كأنّ زُهاءَه ... جَرادٌ هَفا في هَبْوةٍ مُتَطايرُ ومرُّوا بأَطنابِ البيوتِ فردَّهم ... رجالٌ بأطرافِ البيوت مَساعرُ فباتوا لنا ضَيفاً وبتْنا بنِعمَةٍ ... لنا مُسمِعاتٌ بالدُّفوف وسامِرُ وصبَّحهم عند الشُّروق كتائبٌ ... كأركان سلْمى سَيرُها مُتواتِرُ كأن نَعامَ الدَّوِّ باض عليهم ... وأعينُهم تحت الحَبِيك خَوازِرُ أظنَّ سَراةُ القوم أن لن يُقاتِلوا ... إذا دعمت بالصدر (¬1) عَبْسٌ وعامرُ ضَربْنا حَبيكَ البَيْض في غَمْر لُجَّةٍ ... فلم يَنْجُ في النَّاجِين منهم مُفاخِرُ ومنها: فأَلقَتْ عصاها واستقرَّتْ بها النَّوى ... كما قَرَّ عيناً بالإياب المُسافرُ وقيل: إن هذا البيت لراشد بن عبد رَبّه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولّاه المظالمَ بنَجران، فقال: [من الطَّويل] حدّثنا القلبُ عن سَلْمى وأَقصَر شَأوُه ... ورَدَّت عليه ما بَعَتْه (¬2) تُماضِرُ وحَلَّمَه شَيبُ القَذال عن الصِّبا ... وللشَّيبُ عن بعض الغِوايةِ زاجرُ فأقصر جَهلي اليوم وارتَدَّ باطلي ... عن اللهو لمّا ابيضَّ مني الغَرائرُ وخبَّرها الواشون أن ليس بينها ... وبين قُرى بُصرى وحوران كافرُ فأَلقَتْ عصاها واستقرَّت بها النَّوى ... البيت ومنها يوم جَدُود، وهو موضع فيه ماء يُسمّى الكُلاب، كان الحَوْفَزان بنُ شَريك على بني سعد، طعنه قيسُ بن عاصم فبقي الحوفزان أيامًا ومات. وقال أبو عبيدة: غزا الحوفزان وهو الحارث بن شَرِيك، فأغار على مَنْ بالقاعةِ من بني سعد بن زيد مَناة، فأخذ نَعَماً وشاءً، وأخذ الزَّرقاء من بني رُبيْع بن الحارث، فأُعْجِبَ بها، وأُعْجِبت به، فلم يتمالك أن وَقعَ عليها، فلما انتهى إلى جَدود منعتْه بنو يَربوع أن يَرد الماء، ورئيسُهم عُتيبة بنُ الحارث بن شهاب فقاتلهم، فلم يكن له بهم ¬

_ (¬1) كذا، وفي المصادر: إذا دُعت بالسفح. (¬2) العقد 5/ 146 و 286، قوله: بعته؛ أي: أصابت منه، انظر اللسان، والتاج (بعو).

طاقةٌ، فصالحهم على أن يُعطيهم بعضَ الغنائم. ووَرد الماء، وأجازوه ومَن معه من بَكْر (¬1)، وبلغ قيسَ بن عاصم فركب في آثارهم، ومعه بنو سعد، وقال: [من الطَّويل] جَزى الله يَرْبوعاً بأسوأ سَعيِها ... إذا ذُكرت في النّائباتِ أُمورُها ويومَ جَدُودٍ قد فَضحتُم أباكمُ ... وسالمْتُم والخيلُ تَدمى نُحورُها (¬2) فأدركه قيسٌ وقد أَرْدَفَ الزَّرقاءَ خلفَه على فرسه، وعَقَدَ شَعْرها بصدره، فناداه قيسٌ: يا [أبا] حِمار أنا لك خير من البيداء والعطش، فقطع قرونَ الزَّرقاء وأَلْقاها عن الفرس، وأدركَه قيسٌ فطعنه فأصاب وَرِكَه، ومضى، فمات بعد أيَّام، وَردَّ قيسٌ الزَّرقاء إلى بني رُبَيع، وفيه يقول سَوَّار بن حيَّان المِنقريّ: [من الطَّويل] ونحن حَفَزْنا الحَوْفَزان بطَعنةٍ ... سَقَتْه نَجيعاً من دم الجَوْفِ أَشكَلا (¬3) ومنها يوم الحاجِزْ، قُتِلَ فيه وائل بن صُرَيم اليَشْكُري، قتله بنو أُسَيِّد بن عمرو بن تميم، كانوا يَغْمسونه في الماء، ويقولون: [من الرجز] يا أيُّها الماتِحُ دَلْوي دُونَكا حتَّى مات، فغزاهم أخوه باعِثُ بنُ صُرَيْم، فاقتل منهم مئة سَيِّدِ من ساداتهم (¬4). ومنها يوم حُسا، لمّا أصاب بنو عَبْس من ذُبيان يوم المُرَيْقِب، اجتمعوا والتَقوا بذي حُسا، وهو وادي الصَّفا من أرض اليَعْمَريّة، فهربت بنو عَبْس خوفاً أن لا يقوموا ببني ذُبْيان فقالوا: الفِداء أو الفَناء، فأشار قيسُ بن زهير على الرَّبيع بن زياد أن لا يناجزَهم، وأن يعطوهم رهائنَ من أبنائهم حتَّى ينظروا في أمرهم، فاتفقوا أن يكون الرَّهْنُ عند سُبَيع بن عمرو، أحد بني ثعلبة بن سعد بن ذُبْيان، فدفعوا إليه ثمانيةً من أبنائهم وانصرفوا. وكان من رأي الرَّبيع مناجزتُهم، فصرفه قيس عن ذلك، وحضرت سُبَيْعاً الوفاةُ، فقال لابنه مالك بن سُبَيْع: إنّ عندك مَكرمةً لا تَبيد إن أنت حَفظتَ هؤلاء الغِلْمةَ، ¬

_ (¬1) في العقد 5/ 199: فصالحوهم على أن يعطوا بني يربوع بعض غنائمهم، على أن يخلوهم يردوا الماء، فقبلوا ذلك وأجازوهم. (¬2) النقائض 146 و 327، والأغاني 14/ 79، والعقد، والأنوار 1/ 93. (¬3) العقد 5/ 201 وما بين معكوفين منه، وانظر الحاشية السابقة. (¬4) العقد 5/ 211.

وكأني بخالِك حُذيفة بنِ بدر قد جاءك، وعَصر عينيه وقال: هلك سيّدُنا، ثم خدعك حتَّى تدفعَهم إليه فيقتلَهم، ولا تَشْرُفُ بعدها أبداً، فلما مات سُبَيع، جاء حُذيفة، فخدع مالكاً، وأخذ الغِلْمة فقتلهم، فكان كل يوم يُخرج واحدًا واحدًا، ويقول: نادِ أباك، فيناديه، فينصبه غَرَضًا ويقتله (¬1). ومنها يوم حَليمة، وحَليمة بنتُ الحارث بن أبي شمِر الغساني، وكان بين الحارث وهو ملك الشام، وبين المُنذر بن ماء السماء ملك العراق، سار المُنذرُ بعرب العراق إلى الشام، فالتقيا بمشاريق الشام، وكان يومًا عظيماً لم يكن في أيّام العرب مثلُه، ارتفع الغبارُ حتَّى سدَّ عين الشَّمس، وظهرت الكواكبُ في وَسط النهار، وزاد الفريقان على أربع مئة ألف، فخرجت حليمةُ كاشفةً رأسَها في المعركة تُحرِّض النّاس. وفي هذا اليوم للعرب أمثالٌ منها: ما يوم حَليمةَ بسِرّ، أي: ليس بمخفيّ، ومنها: لأُرينَّك الكواكبَ نهارًا، ومنها: أعزُّ من حَليمة (¬2). وفي المثل: ما يوم حليمة بسرّ؛ يُضرَب لكلِّ أمرٍ متعالَمٍ مشهور، وجَّه أبوها جيشاً إلى المُنذر بن ماء السماء، فأخرجتْ لهم طِيْباً في مِرْكَن، فطيَّبَتْهم، فنُسب اليوم إليها، وكانت الدائرةُ على المُنذر قُتل في ذلك اليوم، وانهزمت جيوشُ العراق، ولم يتبعهم الحارث، فماتوا في البرية عطشاً وجوعاً. ومنها يوم حَوْزة، كان بين معاوية بن عمرو بن الشَّريد السُّلَمِي وبين هاشم بن حَرْمَلة أحد بني مُرَّة بن غَطفان كلام بعُكاظ، فقال له مُعاوية: والله لوَدِدتُ أني لو سمعتُ الظَّعائنَ يَندُبْنَك، فقال له هاشم: وأنا والله وَدِدتُ أني قد تَرَّبتُ الرَّطْبة، وهي جُمَّة معاوية، وكانت تَنْطِفُ دُهْناً وإن لم تُدهَن، ثم تهيَّأ معاوية ليغزو هاشماً، فقال له أخوه صخر: كأني والله بك وقد تَعلقَ بجُمَّتك حَسَكُ العُرْفُط، فلم ينته، وغزاهم يوم حَوْزةَ الأول، فخرج إليه هاشم وكان ناقِهاً من مرض، فقتل معاوية. وأمَّا اليومُ الثَّاني؛ فإنَّه لما قُتِل معاويةُ، قتل خُفاف بن نُدْبَة مالكَ بنَ حمار الفَزاري بمعاوية وقال: [من الطَّويل] ¬

_ (¬1) العقد 5/ 154 - 155. (¬2) الكامل 834، وجمهرة الأمثال 2/ 233، ومجمع الأمثال 1/ 45 و 2/ 272.

فإن تكُ خَيلي قد أُصيبَ صَميمُها ... فعَمْداً على عَينٍ تيمَّمتُ مالِكاً وكان هاشم على فرسه الشمَّاء، فوقع منها، وعادت، ومشى، فلقيه عمرو بن قيس الجُشَمي فقتله بمعاوية وقال: [من الرجز] أنا قتلتُ هاشمَ بنَ حَرْمَلَهْ ... أَقتلُ ذا الذَّنبِ ومَنْ لا ذَنبَ له (¬1) ومنها يوم الخابور بالجزيرة، قَتل فيه عميرُ بن الحُباب نُفَيْعَ بن سالم، وفيه يقول الشاعر: [من الكامل] وَلَوَقْعةُ الخابورِ إن تكُ خِلْتَها ... خلقتْ فإن سَماعَها لم يخْلَقِ (¬2) ومنها يوم خَو، فيه قَتل ذُؤاب بنُ رُبَيِّعة الأسدي عُتَيبةَ بن الحارث بن شهاب صيَّادَ الفوارس، وسببُ ذلك: أغارت بنو أَسد على بني يَرْبوع، فاستاقوا إبلَهم، وأتى الصَّريخُ إلى الحيِّ، فلم يتلاحقوا إلى آخر النَّهار، وجاء الليل وكان ذُؤابٌ على فرس أُنْثى، وعُتَيبةُ على حصان، فجعل الحصان يَستَنشق ريحَ الأُنثى في سَواد الليل، ولم يعلم عُتَيْبَة إلَّا وقد أُقْحم حصانُه على فرس ذُؤاب، وكان عُتَيبة قد لبس دِرْعَه، وغفل عن جَيْبها فلم يشدَّه لِعجلته، ورآه ذؤاب، فطعنه في ثُغرة نَحْره فقتله، وشد الربيعُ بن عتيبة على ذؤاب فأسره، ولم يعلم أنَّه قاتلُ أبيه، فكان عنده أسيراً، حتَّى فاداه أبوه رُبَيِّعةُ على إبل معلومة، وأن يوافيه بها إلى سوق عُكاظ في الأشهُر الحُرُم، ويوافيه الرَّبيع بذؤاب، وأقبل رُبَيِّعةُ بالإبل، وشُغِل الربيعُ فلم يَحضر بالأسير، فلم يشك أبوه أنهم قد قتلوه بعتيبة، فقال يرثيه بأبيات منها: [من الكامل] إن يَقتلوك فقد ثَلَلْتَ عُروشَهم ... بعُتَيبةَ بنِ الحارث بن شِهابِ (¬3) وسمعه رجل من يَرْبوع، فجاء إلى بني عُتَيبة فقال: هل تدرون من قتل أباكم؟ قالوا: لا، قال: ذؤاب أسيركم، وأنشدهم الشعر، فقالوا له: أنت قاتلُ أبينا، فقال: لا والله، لا أَقَر عيونكم بها، فأخرجوه فقتلوه. ¬

_ (¬1) العقد 5/ 165 - 166، وبيت خفاف في ديوانه 484 (شعراء إسلاميون). (¬2) مجمع الأمثال 2/ 435، وفيه أن المقتول عمير بن الحُباب، والشاعر نفيع بن سالم. (¬3) العقد 5/ 249، وأمالي القالي 2/ 72، وشرح ديوان الحماسة 845.

ومنها يوم داحِس، وهو فرس مشهور لقَيْس بن زُهَير العَبْسي، وداحِس بن ذي العُقّال، فرسُ حَوْط بن [أبي] جابر بن حَنْظَلة (¬1)، وكانت أمُّ داحس لقِرْوَاش بن عوف ابن عاصم، ويقال لها: جَلْوى، وإنَّما سُمّي: داحساً؛ لأنَّ ذا العُقَّال نزا على جَلْوى من غير علم صاحبه حَوْط، فلما علم شَقَّ عليه، وقال: والله لا أرضى حتَّى آخذ ماء فَحْلي، فكرهت بنو ثعلبة الشرَّ، وقالوا: دونَك ماء فَحْلك، فأدخل يده في رَحِم جلوى، ودسّها حتَّى كاد أن يفتح رَحِمَها، فلم يلقَ شيئًا، ونَتِجَتْ جلوى داحساً، فرآه حَوْط فقال: ابن فَحْلي، لا أتركُه، فكرهوا الشرّ، فبعثوا به إليه ومعه قلائص، فاستحيا، فردَّه عليهم. وتلخيصُ القصة: أنَّه كان من حديث داحِس والغَبْراء، أن رجلًا من بني عَبْس يُقال له: قِرْواش بن هُنَيّ بارى حَمَل بن بدر، فقال: داحِس أجودُ من الغَبْراء، وقال حَمَل: الغَبْراء أجود، وكانت الغبْراء لحُذَيفة بن بدر، وداحِس لقيس بن زهير، وتَراهنا على عَشْر قَلائص، فأتى قِرواش إلى قيس بن زهير فأخبره بالرّهان، فقال قيسٌ: راهِن من شئت، وجنِّبني بني بَدر فإنَّهم قومٌ يظلمون، فقال قِرواش: قد أَوجَبْنا الرهان، فقال: والله لتُشعِلَنَّ علينا شرّاً، ثم أتى قيس حملَ بنَ بدر وحذيفةَ بن بدر، فقال: إنما أتيتُك لأُواضِعك الرّهان عن صاحبي، فقال: لا والله، أو تجيءَ بالعَشْر قلائص، فأحْفَظ ذلك قيساً، وغضب، وتزايدا حتَّى بلغا مئةَ قَلُوص، ووضعا الرهان على يَدَيْ غَلّاق بن سعد أحد بني ثعلبة (¬2)، وجعلا الغاية مئة غُلْوَة، وجعلا الغُلْوَةَ من ذات الإِصاد إلى هَضْب القَليب (¬3)، ثم قادوا الفرسين إلى الغاية، فجعل حَمَلُ بنُ بَدر حَيْساً في دِلاء، ووضعه في شِعْب من شعاب هَضْب القَليب، على طريق الفرسين، وأَكمن فيه فتياناً، وأمرهم إن جاء داحِسٌ سابقاً أن يَرُدُّوا وجهَه إلى الغاية، فسَبق داحس، فلما دنا من الفِتية، وثب زهير بنُ عبد عمرو فلَطم وجهَه، ورَدَّه إلى الغاية، وجاءت الغَبْراء، وعَلم ¬

_ (¬1) في النقائض 83، والأغاني 17/ 187: حوط بن أبي جابر بن أوس بن حميري. وما بين معكوفين منهما. (¬2) في النقائض 86، والفاخر 221، والأغاني 17/ 191، ومجمع الأمثال 2/ 111: ووضعا السَّبقَ على يَدَيْ غلاق أو ابن غلاق أحد بني ثعلبة بن سعد. (¬3) الغلوة: الرمية بالنُّشابة، وهذه أسماء مواضع.

قيس بن زهير والذي على يده الرّهان بذلك، فقال قيس لحُذيفة: يا حُذيفة أعطني سَبَقي، وقال الذي على يده الرِّهان: يا حذيفة أعطه سَبَقه، فقد سبق داحس، فأعطاه السَّبَق، فقال قيس بن زهير (¬1): [من الوافر] كما لاقيتَ من حَمَلِ بن بدرِ ... وإخوتِه على ذات الإصادِ همُ فَخَروا علي بغير فَخْرِ ... وَرَدُّوا دون غايتِه جَوادي ثم إن جماعةً من قوم حُذَيفة نَدَّموه على دَفْعه السَّبَق إلى قيس، ونهاه آخرون عن الشَّرِّ، وقالوا: إن قيساً لم يسبقك إلى مَكْرُمَة، وإنَّما سبقت دابَّةٌ دابةً فأبى، وبعث ابنَه مالك بنَ حُذيفة، وكنيتُه أبو قِرْفة إلى قيس يطلب منه السَّبَق، فقال له: هذا سبقي، فكيف أُعطيكم إياه، فتناول ابنُ حذيفة من عِرْض قيس وشَتمه، وأَغلظ له، وكان إلى جانب قيس رمح، فطعنه فدق صُلْبه، واجتمع الحيّان فأدَّوا دِيَةَ المقتول مئةً من الإبل، دفعًا للشر، فأخذها حذيفةُ، وسكن النّاس، ثم إن قوم حذيفة ندَّموه فعاد القتال بينهم، حتَّى تفانَوْا. وفي هذه القصة يقول بِشر بن أُبَيّ [بن] حُمام العَبسيّ: [من الطَّويل] إنّ الرِّباط النُّكْدَ من آل داحِسٍ ... أَبَيْنَ فما يُفْلِحْن يومَ رِهانِ جَلَبْنَ بإذن الله مَقتَلَ مالك ... وطَرَّحْنَ قيساً من وراء عُمانِ لُطِمنَ على ذات الإصادِ وجَمعُكُم ... يَرَونَ الأذى من ذِلَّة وَهوانِ سيُمنَعُ منك السَّبْقُ إن كنتَ سابقًا ... وتُقْتَلُ إن زَلَّت بك القَدمانِ (¬2) وحَمَل الحارث بنُ عَوف المُرِّي الدماءَ بين القبيلتين، وصالح بين عَبْس وذُبيان، فقال قيسٌ: والله لا نَظَرْتُ إلى غَطَفانيّة، قَتلتُ أباها أو أخاها، ومضى إلى عُمان فأقام ببُرْقَة عُمان حتَّى مات. ومنها يوم الذَّنائب، ظفر دُرَيد بن الصِّمة فيه بغَطَفان، فأخذ ثأرَ أخيه عبد الله، وفيه يقول: [من الطَّويل] ¬

_ (¬1) في النسخ: زهير بن قيس، وهو خطأ، والبيتان في النقائض 90 - 91، والفاخر 220، والأغاني 17/ 198، والعقد الفريد 5/ 150، ومجمع الأمثال 2/ 111. (¬2) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 450، وللتبريزي 2/ 2، ونسبها ياقوت في معجم البلدان (الإصاد) 1/ 205 إلى بدر بن مالك بن زهير. الرباط: الخيل المربوطة، النكد: جمع أنكد، القليل الخير، وقوله: أبين فلا يفلحن، دعاء على داحس ونسله.

جَزيْنا بني عَبْسٍ جَزاءً موفَّراً ... بمقتل عبد الله يومَ الذَّنائبِ ولولا سَوادُ الليلِ أَدْرَكَ رَكْضُنا ... بذي الرِّمْثِ والأَرطى عِياض بنَ ناشبِ قَتَلْنا بعبد الله خير لِدَاته ... ذُؤابَ بنَ أسماءَ بن زيد بن قاربِ وبلغ قوله عبد الملك بن مروان، فقال: كاد ينسُبه إلى آدم، وليت أن الشمس لم تَغب له قليلاً حتَّى يُدركَه. وقالت رَيحانة أمُّ دريد: يا بُني إذ عَجزت عن أخذ الثأر ممن قتل أخاك، فاستعن بأخوالك من زبيد، فأنف من كلامها، وغزاهم بنفسه، فأَسر ذؤابَ بنَ أسماء، وجاء به إلى فِنَائها فقتله بعبد الله ابنها (¬1). ومنها يوم الرَّقَم، عُقِر فيه قُرْزُل فرسُ عامر بن الطُّفَيل (¬2). قال أبو عبيدة: أغارت بنو عامر على بلاد غَطفان بالرَّقم، وعليّ بني مُرَّة عامرُ بن الطفَيل، فركب عُيينة بن حِصْن في بني فَزارة، ويزيد بنُ سنان في بني مُرَّة، والتقَوا فانهزمت بنو عامر، وجعل عامر بن الطفيل يقول: [من الرجز] يا نفسُ إن لم تُقتلي تموتي ... هذي حِياضُ الموتِ قد صَليتِ (¬3) فيقال: إن غَطفان أصابت من بني عامر أربعة وثمانين رجلًا فقتلوهم، وانهزم الحكم بن الطفيل في نفر من أصحابه فعطشوا، فخنق الحكمُ نفسَه تحت شجرة خوفًا من المُثْلة، فقال فيه عُروة بن الوَرْد: [من الطَّويل] عَجِبتُ لهم إذ يَخنُقون نفوسَهم ... ومَقتلُهم تحت الوَغى كان أَعذَرا (¬4) ومنها يومِ الزُّوَيْرَين، وهما جَملان مَقرونان. أغارت بنو تميم على بَكْر، وأقبلتْ بجمَلَين مَقْرونين، وقالوا: لا نُولّي حتَّى يولِّي هذان الجملان، واقتتلوا، فانهزمت بنو ¬

_ (¬1) هذا الخبر عن يوم الصلعاء لا الذنائب، انظر العقد 5/ 172، ومعجم البلدان 3/ 422، والأبيات في الأصمعيات 111، والخبر والأبيات في الأغاني 10/ 13، وديوان دريد 27. (¬2) مجمع الأمثال 2/ 440، وعنه نقل، وإنَّما اسم فرس عامر بن الطفيل المعقور: كلب، وقرزل اسم فرس الطفيل بن مالك، والد عامر، انظر شرح المفضليات للأنباري 1/ 62، ونسب الخيل لابن الكلبي 49، وأسماء خيل العرب لابن الأعرابي 63، وللغندجاني 198. (¬3) شرح المفضليات 1/ 62، والعقد الفريد 5/ 160، وتروى لعبد الله بن رواحة في السيرة 2/ 379. (¬4) ديوان 82.

تميم، وأخذت بَكْر الجملين فنحروهما، وأكلوهما. قال شاعرهم: [من البسيط] نحن الذين هَزَمْنا يوم صبَّحنا ... جيشَ الزوَيْرَين في جمع الأحاليفِ (¬1) ومنها يوم السُّوبان، أغارت بنو عامر على تميم وضَبَّة، وكان على ضَبَّة حسَّان بن وَبرة، أخو النّعمان بن المُنذر لأمّه، فأسره يزيد بنُ الصَّعِق، وانهزمت تميم، وفدى حسّان نفسَه بألف بعير، وهي ديَةُ المُلوك، وكان عامر بنُ مالك بن جعفر يَنتقل من سَرْج الفرس إلى جانبه، ومن جانبه إلى ظهره، فسُمِّي ملاعب الأَسِنَّة (¬2). ومنها يوم الشَّقيقة، كان بِسطام بن قيس قد أغار على بني ضَبَّة، فاسْتاق ألفَ بعير لمالك بنِ المُنْتَفِق الضَّبِّي، وكان مالك في الإبل، فرَكض فرسَه، وأنذرَ قومَه، فركبوا وركب فيهم عاصم بنُ خَليفةَ الصّباحي، فقال عاصم: مَن رئيسُ القوم؟ قالوا: بِسطام ابن قيس، وأشاروا إلى بسطام، وكان على فرس أَدْهَم، فحمل عليه عاصم، فطعنه في أُذنه فأنفَذَه. ووَلتْ بنو شيبان، فهم بين قتيل وأسير، وجريح وكسير، وأُسِر بجاد بنُ قيس أخو بِسطام، وقتلوا تسعين من أعيان بني شَيبان (¬3)، وكان بِسطام عظيماً في بني شيبان، وفيه يقوله عبد الله بنُ عَنَمة الضَّبّي: [من الوافر] لك المِرْباعُ منها والصفايا ... وحُكمُكَ والنَّشيطَةُ والفُضول (¬4) المِرْباع: ما يأخذُه الرئيس، وهو رُبع الغنيمة. والنَّشيطة: ما يَغنمُه الغُزاةُ في الطريق قبل البلوغ إلى المَوضِع الذي قصدوه، والفُضول: ما يَفضُل من السَّبْي. وكان عاصم بن خليفة يُضعَّفُ في عقله، زار يومًا أمَّه وبيده حديدة، وهو يصْقُلُها، فقالت له: ما تصنعُ بها؟ قال: أصقُلُها لأقتُلَ بها بِسْطام بن قيس، فقالت مستخفة به: اسْت أمِّك أضيقُ من هذا. وأدرك عاصم أَوَّل الإسلام فأسلم. وكان إذا طلب الإذن على عُمر - رضي الله عنه -، يقول: ¬

_ (¬1) العقد 5/ 206. (¬2) العقد الفريد 5/ 177. (¬3) في النقائض 235، والعقد 5/ 203: وأسر بنو ثعلبة بجادَ بنَ قيس في سبعين من بني شيبان. (¬4) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1024، والنقائض 236، والعقد 5/ 204.

ائذنوا لعاصم قاتل بِسْطام، يفتخر بذلك. ومنها يوم الشَّيِّطين، كان في أوّل الإسلام، سارت بكر إلى السَّواد، وقالوا: نُغير على تميم، فإن في دين ابنِ عبد المُطَّلب: مَن قتل نَفْساً قُتل بها، فنشنُ هذه الغارة ثم نُسلِم، فساروا من لَعْلَع إلى الشّيّطين في أربع ليال، وبينهما مسيرة أيَّام، فسبقوا أخبارهم، وصبّحوا بني تميم وهم غارُّون، فقتلوا فيهم قَتْلاً ذَريعاً، فيقال: إنّهم قتلوا منهم ست مئة رجل، وسَبَوْا، واستاقوا الأموال، ثم بعثوا وافِدَهم إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وأسلموا بعد ذلك (¬1). ومنها يوم عاقل، قُتِل فيه خالدُ بن جعفر، وذلك لأنَّ خالداً وعُروة الرَّحّال قَدِما على الأسود بن المُنذر أخي النّعمان، وعند الأسود الحارثُ بنُ ظالم الذُّبياني، فوضع الأسود بين أيديهم تمرًا على نِطْع، وجلسوا يأكلون، فقال خالد للحارث: يا حارث، لي عندك يدٌ، قتلتُ سيّدَ قومك زهيرًا وتركتُك، وكان مع زهير يوم قُتِل، وجعل خالد يكرّر عليه القول، فقال الحارث: سأُخبِرك بشُكْر ذلك (¬2)، ثم قام الحارث وخرج، فقال الأسود لخالد: ما دعاك إلى أن تتحرّشَ بهذا الكلب وأنت ضَيْفي؟ فقال خالد: إنَّما هو عبدٌ من عبيدي، ولو رآني نائماً ما أيقَظني، وانصرف خالدٌ إلى قُبَّته، ولامه عُروةُ الرَّحّال، وناما فلما هدأت العُيون، أخرج الحارث ناقتَه، وقال لخراش: كن لي بمكان كذا، فإن طلع كوكبُ الصّبح، ولم آتك، فاذْهب حيثُ شِئتَ، ثم دخل القُبة، فقتل خالداً وخرج، وانزعج عروةُ الرَّحّال، وصاح، فاجتمع النَّاس، وهرب الحارث، وبلغ الأسود، وعنده امرأةٌ من بني عامر، يقال لها: المُتَجرِّدة، فشقَّت جيبَها وصرخت، فقال عبد الله بن جَعْدة يرثيه: [من الكامل] شَقَّت عليه العامريَّةُ جَيبَها ... أسفاً وما تبكي عليه ضَلالا يا حارِ لو نَبَّهتَه لوجدتَه ... لا طائشاً رَعِشاً ولا مِعْزالا ولَنَقتُلَنَّ بخالد سَرَواتِهم ... ولنجعلَنْ للظالمين نَكالا ومنها يوم الغَبيط، ويُقال له: يوم الثّعالب، غزا بِسْطام بن قيس، ومفروق بن عمرو، والحارث بن شَريك، وهو الحَوْفَزان، بلادَ بني تميم، فأغاروا على بني ثَعْلبة ابن يَربوع، وثعلبة بن سعد بن ضَبَّة، وثعلبة بن عديّ بن فَزارة، وثعلبة بن سعد بن ¬

_ (¬1) النقائض 1020، والعقد 5/ 206، قوله: غارون: غافلون. (¬2) في العقد 5/ 138: سأجزيك شكر ذلك.

ذبيان، وكانوا متجاورين بصحراء فَلْج، فاقتتلوا، فانهزمت الثّعالب، وساقوا أموالَهم، ولم يشهد عُتَيبة بنُ الحارث بن شهاب هذه الوقعةَ، لأنَّه كان نازلاً في بني مالك بن حَنْظلة، ثم أغار بِسْطام بن قيس وأصحابه -في وجههم ذلك- على بني مالك بن حَنْظَلة، وهم بصحراء فَلْج والغَبيط، فأخذوا إبلَهم، فركب عُتيبة بن الحارث بن شِهاب وراءهم في بني مالك، ومعه فرسان بني يَرْبوع، فأدركهم بغَبِيْط المَدَرة فقاتلوهم، فظهروا عليهم، ولحق عُتيبةُ ببسطام بن قيس، فقال له: اسْتَأسِر أبا الصَّهباء، فأنا لك خيرٌ من الفَلاة والعطش، فقال: من أنت؟ فقال: عتيبةُ بنُ الحارث، فاستأسر له، ففَدى نفسَه بأربع مئة بعير، وثلاثين فرسًا، وكان عظيمَ القَدْر، لم يكن عربيّ عُكاظيّ أعلى منه قَدْراً، وجَزَّ عتيبةُ ناصيتَه، وعاهده أن لا يغزوه أبداً، وردَّ عُتيبةُ الأموالَ والسَّبايا، وقال: [من البسيط] أَبْلِغْ سَراةَ بني شَيبانَ مَألُكَةً ... أنّي أَبَأتُ بعبد الله بِسْطاما قاظَ الشَّرَبةَ في قَيْدٍ وسِلْسِلةٍ ... صوتُ الحديد يُغنّيه إذا قاما (¬1) ومنها يوم قُحقُح (¬2)، لبني يَرْبوع على بكر، قَتل المِنهالُ بنُ عِصْمَة المُجَبَّه بنَ ربيعة، فقال ابن نِمْران الرِّياحي: [من الكامل] وإذا لَقيتَ القومَ فاطعنْ فيهمُ ... يومَ اللِّقاء كطعنةِ المِنهالِ تَرك المُجبَّهَ للضِّباع مُجَنْدلاً ... والقومُ بين سَوافلِ وعَوالِ ومنها يوم فيحان، لما فدى نفسَه بِسطامُ بنُ قيس من عُتيبةَ بأربع مئة ناقة، وثلاثين فرسًا، قال وَلَده: لأُدركنَّ بثأر أبي، فأغار فأسر الربيعَ بن عتيبة، واسْتاق مالَه، فلما سار يومين، اشتغل ابنُ بِسطام عن الرَّبيع بالشُّرْب، وكان الرَّبيع قد بال (¬3) على قِدّه حتَّى لان، فحَلَّه وركب [ذات] النُّسوع (¬4) -فرسَ بِسْطام- وهرب، ونذروا به فركبوا خلفه، فلم يدركوه، وجاء إلى الحيّ فنزل عن الفرس، فماتت في الحال، فدَفنها، ¬

_ (¬1) النقائض 76 و 356، والعقد 5/ 197، الشربة: موضع، وقاظ: أقام زمن القيظ، والمألكة: الرسالة، وأبأت: عاقبت. (¬2) في تجود الكلمة في النسخ، والمثبت من العقد 5/ 191. (¬3) في العقد 5/ 210: مال. (¬4) في النسخ: وركب الشموع، والمثبت من العقد 5/ 210، وأسماء خيل العرب لابن الأعرابي 77، وللغندجاني 104.

فسمّي ذلك المكان: قبر (¬1) الفرس، وأخلف له أبوه مالَه. ومنها يوم قِضَة، وهو من حرب البسوس، كانت بَكْر قد قتلت بُجَير بنَ الحارث بن عُباد، فخرج أبوه في قبائل تَغْلب، يطلب ثأرَ ابنه من بَكْر، وكان له فرس يقال لها: النَّعامة، فقال: [من الخفيف] قَرِّبا مَرْبَطَ النَّعامة منِّي ... لَقِحتْ حربُ وائلٍ عن حِيال (¬2) وركبها، وكان معه مُهَلْهِل التغلبي والتقوا، فانهزم الحارث بن عباد، فنجا، وهرب مُهلهل، فنزل على جشم في مكان يقال له: جَنْب، فخطبوا إليه ابنتَه، فأبى، فساقوا إليه المَهْر، وفيه جلود من أَدَم، فقال: [من المنسرح] أَعزِزْ على تَغْلب بما لَقِيَتْ ... أختُ بني الأكرمين من جُشَمِ أَنكحها فَقدُها الأراقمَ في ... جَنْبٍ وكان الحِباءُ من أَدَمِ لو بأبانَيْن جاء يخطُبُها ... زُمِّل ما أنْفُ خاطبٍ بدَمِ (¬3) ومنها يوم قَطَن، وهو من أيَّام عَبْس وذُبيان، وذلك لأنَّ عَبْساَ لما مَثَّلوا بحُذيفة بنِ بدر يوم الهَباءة، أعظمت غَطَفانُ ذلك، وتجمّعت، وعلمت بنو عَبْس أنهم لا طاقةَ لهم بهم، فرحلوا عنهم فنزلوا اليمامةَ على أَخْوالهم من بني حَنيفة، ثم رحلوا عنهم، فنزلوا على بني سَعْد بن زيد مناة، فغدر بهم بنو سعد، واستجاشوا عليهم بمعاوية بن الجَوْن (¬4)، ورحل بنو عَبس عنهم لما علموا بذلك، وقدَّموا ظُعُنَهم، ووقفت فرسانُهم بمكان يقال له: الفَروق، وأغارت بنو سَعْدٍ عليهم ومن معهم من جنود الملِك ابنِ الجَوْن، فلم يجدوا في منازلهم إلَّا مَواقِد النَّار، فاتَّبعوهم إلى الفَروق، وإذا بالفرسان ¬

_ (¬1) في العقد: هَبير. وهو ما اطمأن من الأرض. (¬2) الأصمعيات 71، وتخريجها ثمة. (¬3) هذا السياق فيه أكثر من خطأ، فالحارث بن عباد من بني بكر، ومهلهل بن ربيعة كان رأس تغلب وسيدها في حروبها ضد بني بكر، ولم يكن مع الحارث، وإنما أسره الحارث بن عباد البكري، ولم يكن يعرفه، ثم أطلقه. انظر الشعر والشعراء 1/ 298، والكامل للمبرد 2/ 775، والأغاني 5/ 47 - 51، والعقد الفريد 5/ 220 - 222، وديوان الحارث 130. (¬4) استجاشوا: طلبوا منه جيشاً.

والرّجَّالة والظُّعُنِ، فانصرفوا عنهم، ومضى بنو عَبْس إلى بني ضَبَّة فأقاموا فيهم (¬1)، ثم رجعوا إلى قومهم بني ذُبيان فصالحوهم، ثم جرى بينهم أمر فالْتَقَوا، ثم اصطلحوا. وسببُ ما جرى بينهم أن حَرْمَلَة بن الأَشْعَر بن صِرمَة بن مُرَّة سعى لهم في الحَمالة بينهم، فمات، فسعى ابنُه هاشم بن حَرْملة، فلما توافقوا على الصلح، وقفت بنو عَبْس بقَطَن، فأقبل حُصين بن ضَمْضم، فطعن تَيْحان المخزومي، فقتله بأبيه ضمضم، فقالت بنو عبس: لا نصالحهم أبداً، والتقوا بقطن، فسفر بينهم السُّفَراء، فاصطلحوا. ومنها يوم الكَدِيْد، قُتل فيه ربيعة بنُ مُكَدم فارس كِنانة، قتلته بنو سُلَيم، وهو من بني فِراس بن غَنْم، وهو أنْجد العرب، كان الرجل منهم يُعَدّ بعشرة من غيرهم، وقد مدحهم عليٌّ عليه السَّلام، فقال: يا أهل الكوفة، وَدِدتُ والله أن لي بجميعكم، وأنتم مئةُ ألف، ثلاثَ مئة من بني فِراس بن غَنْم. وكان يُعْقَر على قبر ربيعة بن مكدم في الجاهلية، ولم يُعْقَر على قبر أحدٍ سواه (¬2). ومنها يوم الكُلَاب الأول، لما غلب سُفهاء بَكْر بن وائل على كُبَرائها، اجتمع رؤساؤهم، وقالوا: الرأي أن نُمَلكَ علينا ملِكاً يُنْصِف المظلومَ من الظالم، ويَردع القويَّ عن الضعيف، فأتوا تبَعاً، وعَرفوه أمرَهم، فولى عليهم الحارث بن عَمرو الكِنْدي، آكل المُرار، فقدم عليهم، ونزل ببَطْن عاقل، فغزا ببكرٍ، حتَّى انتزعَ ما في أيدي ملوك الحيرة اللخمييْن، وما في أيدي الغسانيين، وردَّهم إلى أقصى أعمالهم، ثم طُعِنَ في بطنه ببطن عاقل، فمات. وخلّف ابنيه شُرَحْبيل وسلمة، فاختلفا [في المُلك] وتواعدا الكُلاب، وأقبل شُرَحبيل في ضَبة والرباب وبني يربوع وبكر بنِ وائل، وأقبل سَلمةُ في النَّمِر (¬3)، ومالك ابن حنظلة، وعليهم سفيان بن مُجاشع، وتَغلب، وعليها السَّفَّاح لأنَّه سفح أَسْقِيَةَ قومه، وقال: اسبقوهم إلى الكُلاب، فسبقوا ونزلوا عليه، والتقوا واستحرَّ القتلُ في ¬

_ (¬1) في النسخ: فصالحوهم، والمثبت من العقد 5/ 158، وقد جمع المصنف هنا بين يومي قطن والفروق، وانظر النقائض 420. (¬2) العقد 5/ 174، وانظر الأنوار 1/ 113. (¬3) في النسخ: اليمن، والمثبت من العقد 5/ 223 وما بين معكوفين منه.

بني يربوع، فشدَّ أبو حَنش على شُرحبيل فقتله، وكان شُرحبيل قد قتل ابنَه حَنشاً، وبعث أبو حَنش برأس شُرحبيل إلى سلمة مع عَسيف له، وخاف أبو حَنش من سلمة أن يَحمله بنفسه، فلما حصل الرأسُ بين يَدَيْ سلمة، دمعت عيناه وقال للعَسيف: أنت قتلتَه؟ قال: لا، وإنَّما قتله أبو حَنش، فقال سلمة: أنا أدفع الثَّواب إلى قاتِله، وجاء العَسيفُ فأخبر أبا حنش، فخاف فهرب، فقال سلمة: [من الوافر] تَعلَّم أن خير النّاسِ طُرّاً ... قتيل بين أحجارِ الكُلاب تَداعتْ حوله جُشَمُ بنُ بَكر ... وأَسلَمَه جَعاسيسُ الرِّبابِ (¬1) وأمَّا الكُلاب الثَّاني: أغار بنو تميم على لَطِيمة (¬2) لكِسْرى، فيها مِسْك وعَنْبر وجوهر كثير ومالٌ عظيم، فأخذوها، فأوقع بهم كِسْرى في هَجَر، فأخذ الأموال وسبى الذريّة، فاجتمع رؤساؤهم: أَكثم بن صَيْفي الأُسيِّدي، وقيس بن عاصم المِنْقري، والزّبْرقان بن بدر السَّعدي وغيرهم، وقالوا: قد أَغْضبنا الملك، ولا نأمن ذِئاب العرب أن تتخطَّفنا، فماذا ترون؟ فمسح أكثم بن صيفي يده على صدره وقلبه وقال: إنِّي قد نَيَّفْت على التسعين، وإنَّما قلبي مُضْغةٌ من جَسدي، وقد نحل كما نحل جسدي، وأخاف أن لا يُدركَ ذهني الرأيَ لكم، فاعرضوا عليَّ آراءكم، فإني متى ما أسمع الحَزْمَ أعرفه، فقال النُّعمان بن جِساس: الرأي أن تنزلوا الكُلاب، وتنظروا في أمركم، ولا تخبروا أحداً بحالكم، فقال أكثم: هذا الرأي فاكْتُموه، وساروا إلى الكُلاب فنزلوه، وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، [وأعلاه] ممَّا يلي اليمن، وأسفله ممَّا يلي العراق، فنزلت سعدٌ والرّباب بأعلى الوادي، ونزلت حَنْظلة بأسفله. وكانوا لا يُغيرون في القَيْظ لبُعْد المسافات، وقِلّةِ المياه بها، وشِدَّة الحرّ، فأقاموا مكانهم، ولم يَعلم بهم أحد، فلما انقضى القَيْظ مَرَّ بهم رجل من هَجَر، فرأى الشاء والنَّعم، فرجع إلى ملوك هَجَر فقال: هل لكم في جارية عَذْراء، ومُهْرة سوداء (¬3)، وبَكرةٍ حمراء ليس دونها مانع؟ قالوا: وكيف؟ قال: تميم بقِدَّة، مُطَرحين غارّين، فسار ¬

_ (¬1) النقائض 455، والعقد 5/ 223، والأغاني 12/ 212، والأنوار 1/ 216، والجعاسيس: جمع جُعسوس، القصير الدميم. (¬2) اللطيمة: القافلة التي تحمل البَزَّ والطيب. فقه اللغة 1/ 49. (¬3) في "العقد" 5/ 225: شوهاء، وهي الطويلة الرائعة.

إليهم أربعةُ أَملاك يُقال لهم: اليزيديّون، وهم: يزيد بن عبد المَدَان، ويزيد بن المأمور، ويزيد بن هَوْبر، ويزيد بن المُخَرّم، ومعهم عبد يغوث الحارثي، وساروا حتَّى إذا كانوا ببلاد باهِلَة، قال جَزْء بن جَزْء الباهلي لابنه: يا بُنيّ، هل لك في أُكرومة لا يُصاب مثلُها؟ قال: وما هي؟ قال: هذا الحي من تميم، قد لجأوا إلى هذا المكان خوفًا من العرب، وهذا الجيش يأخذهم، فارْكَبْ جملي الأَرْحَبيّ، وسِرْ سيراً رويداً، عُقْبَةً من الليل، ثم أَنِخْه وحُلَّ حَبْلَه، وتوسَّد ذِراعَه، فإذا سمعتَه قد أفاض بجِرَّته (¬1)، فشُدَّ حبلَه، ثم احْمِلْ السوط عليه، فإنَّك لا تسأله شيئًا من السير إلَّا أعطاكه، فحَذر القوم من الجيش، وكان جيشاً عظيماً، لم يجتمع مثله إلَّا في يوم ذي قار ويوم جَبَلة ويوم الحارث بن أبي شَمر الغَسَّاني، ففعل ابنه ما أمره، ووافاهم قُبَيْل الصُّبح، وصاح يا صباحاه، وحَذَّرهم الجيش، ودَهَمَهُمْ القَوْم، فساقوا النَّعَم، وإذا قد أقبل رجل منهم ينادي: واصباحاه، قالوا: ما الخبر؟ قال: أُتيَ على النَّعم، وكَرَّ راجعاً نحو الجيش، ولقيه عبدُ يَغُوث الحارثي فطعنه على رأس مَعِدِته، فسبق اللَّبَنُ الدمَ، ثم تقدم عبد يغُوث إلى الجيش وقال لهم: يا قوم أطيعوني، وامْضُوا بالنَّعَم، وخَلّوا عجائزَ تميم ساقطةً أفواههن، فقالوا: لا بُدَّ من نكاح بناتهن، فقال ضَمْرةَ بنُ لبيد المَذْحجيّ الكاهن: انظروا إذا سُقتم النَّعم، إنْ أتتْكُم الخيلُ عُصَباً -العصبة تنتظر الأخرى حتَّى تلتحق بها- فإن أمرهم هَيِّن، وإن لحقوكم فردُّوا النَّعمَ ولم ينتظر بعضُهم بعضاً، فإن الأمرَ شديد (¬2). وتقدمت سعد والرِّباب في أوائل الخيل، فالتَقَوا بالقوم ولم يلتفتوا إليهم، واستقبلوا النَّعم، ولم ينتظر بعضهم بعضاً، ورئيسُ الرباب النُّعمان بن جِساس (¬3)، ورئيس سعد قيس بن عاصم، والتقى القومُ، فكان النّعمانُ أولَ قتيل؛ طعنه عبد يغوث الحارثي فقتله (¬4)، وحَجَزَ بينهم الليلُ، وأصْبحوا على راياتهم، وتنادَوْا، واعْتَزَتْ كلُّ ¬

_ (¬1) ما يخرجه البعير فيأكله ثانية، من الاجترار. (¬2) في العقد 5/ 226: وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضهم بعضاً حتَّى يردوا ... (¬3) في (خ) و (ك): الحسان، وفي (ب): الجساس. (¬4) في النقائض 151، والأغاني 16/ 331 أن الذي قتله عبد الله بن كعب من بني حنظلة، وفي الكامل لابن الأثير 1/ 624 أن الذي قتله يزيد بن شداد الحارثي.

طائفة، فنادى قيس بن عاصم: يا آل سعد، ونادى عبد يغوث: يا آل سعد، وقيل ينادي بسعد بن زيد مَناة، وعبد يغوث ينادي بسعد العشيرة، ونادى قيس بن عاصم: يا آل مقاعس، وكان وَعلة بن عبد [الله] الجَرْمي بيده لواءُ اليمن، فلما سَمِعَ صوت قيس، طرح اللواء وانهزم القوم، وصاح قيس: يا بني تميم لا تقتلوا إلَّا فارساً، فالرجّالة لكم، فتبعوهم يقتلون ويأسرون، وأَسر عِصْمةُ بن أُبَير عبدَ يَغوث الحارثي، وكان عصمةُ غُلاماً، فوضع عَبْدَ يغوث عند الأَهْتَم، وكانت عنده امرأتُه العَبْشَميّةُ، فأعجبها خَلْق عبد يغوث وجمالُه، فقالت: مَن أَسر هذا؟ فقال: أسرني عِصمة، فقالت: من أنت؟ فقال: سيد القوم عبد يغوث، فضحكت، وقالت: قَبَّحَك الله من سَيِّدٍ أسره مثل هذا الغلام، واجتمعت الرّباب إلى الأهتم، وقالوا: ثَأرُنا عندك، وكان قد قتل النُّعمان ابن الجِساس ومَصاد بن ربيعة بن الحارث، فامتنع من تسليمه، وقال: لا أُسلِمُه إلَّا إلى مَن دَفعه إليّ، وكادت الفِتْنة أن تقع بين سعد والرِّباب، حتَّى أقبل قيس بنُ عاصم فصْرب الأَهْتَم بقوس فهَتَمَه، فسُمي الأهتم، وأَتَوا عِصْمة، فقالوا: ثأرُنا عندك، قتل سيّدنا النُّعمان وفارسنا مَصاد، فقال: إني مُمْلِق، وقد أصبتُ الغِنى، فباعهم إيّاه، فأخذوه فشدّوا لسانَه بنِسْعةٍ، فقال: أنتم قاتليّ لا محالة، فدعوني أنوحُ على نفسي، وأَذُمُّ أصحابي، فقالوا: أنت شاعرٌ ونخاف أن تَهجوَنا، فعاهدهم أن لا يفعلَ، فأطلقوا لسانه فقال أبياتاً منها: [من الطويل] فيا راكباً إمّا عَرضْتَ فبَلِّغَن ... ندامايَ من نَجرانَ أن لا تَلاقِيا وتَضحكُ مني شيخةٌ عَبْشمية ... كأن لم تَرى قبلي أسيراً يمانيا يعني امرأة الأهتم، فضربوا عُنقَه (¬1). ومنها يوم اللوى، غزا عبد الله بن الصمَّة، واسمه معاوية الأصغر، من بني غَزِيّةَ، فأغار على غطفان، فأَطرَدَ إبلاً عظيمةً، فقال له أخوه دريد: النَّجاءَ فقد ظَفِرْتَ، فقال: لا أَبرح حتَّى أنحر ناقة، وأَطبخ منها طعاماً لي ولأصحابي، فنحرها بمكان يقال له: اللوى، وقسم الإبلَ بين أصحابه، وأَدركه القومُ، وقُتِل عبدُ الله، وارتُثَّ دريد (¬2)، وقام ¬

_ (¬1) العقد 5/ 224 - 230 وانظر النقائض 149 - 154 والأغاني 16/ 329 - 334، والمفضليات 157. (¬2) حُمل من المعركة جريحاً وبه رَمَق.

من بين القتلى يمشي، فنزل على امرأة من هَوَازن فأقام عندها، فداوتْه حتَّى برئ، فعاد إلى أهله، وقال أبياتاً أوّلُها: [من الطَّويل] أَعاذِلَ إن الرُّزْءَ في مثل خالدٍ ... ولا رُزْءَ فيما أهلك المرءُ عن يدِ ومنها: أَمرتُهمُ أمري بمُنْعَرَج اللِّوى ... فلم يَسْتبينوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحى الغَدِ عَلانيةً ظُنُّوا بألفَي مُدَجَّج ... سَراتُهمُ في الفارِسيِّ المسرَّدِ فلمَّا عَصَوْني كنتُ منهم وقد أَرى ... غَوايَتَهم وأنّني غيرُ مُهتَدي وهل أنا إلَّا من غَزِيَّةَ إن غَوَت ... غَوَيْتُ وإن تَرْشُد غَزيَّةُ أَرْشُدِ ومنها: فإن يَكُ عبدُ الله خلَّى مكانَه ... فما كان وَقَّافاً ولا طائشَ اليَدِ قليلُ التَّشَكِّي للمصائب حافِظٌ ... من اليوم أعقابَ الأحاديث في غدِ كَميشُ الإزارِ خارجٌ نصفُ ساقِه ... بَعيدٌ من الآفاتِ طَلَّاعُ أَنْجُدِ صبا ما صبا حتى على الشَّيبُ رأسَه ... فلما عَلاه قال للباطلِ ابعُدِ (¬1) ومنها يوم مُبايض، كانت الفرسانُ إذا كانت أيَّام عُكَاظ في الشَّهر الحرام، وأمن بعضُهم بعضاً، تقَنَعوا لئلا يُعْرَفوا، وكان طَرِيف بن تَميم لا يَتقنَّع، وكان قد قَتل شَراحيل الشَّيبانيّ، فوافى سوق عُكاظ، فرآه حَمَصيصةُ بن شَراحيل، فقال: مَن هذا؟ قالوا: قاتلُ أبيك، فصار كلّما مرَّ به يتأمَّلُه، فقال له طَريف: مالك تنظرُ إليّ؟ قال: أَتَوسَّمُك لأعرفك، فلله عليَّ إن لقيتُك لأقتُلنَّك أو تقتلني، فقال طريف: [من الكامل] أوكلّما وردتْ عُكاظَ قبيلةٌ ... بَعثتْ إلي عَريفَها يَتوسَّمُ فتَوسَّموني إنني أنا ذاكُمُ ... شاكٍ سلاحي في الحوادثِ مُعْلِمُ ومضت على ذلك مُدّة، فأغار حَمَصيصة على بني تميم وهم غارّون، فخرج إليه طريف فقتله حمصيصة، وفيه يقول الشاعر: [من الكامل] ¬

_ (¬1) العقد 5/ 168 - 170، والأبيات في الأصمعيات 107 وتخريجها ثمة. المدجّج: تام السلاح، سراتهم: أشرافهم، الفارسي المسرد: الدرع محكم النسج، كميش الإزار: مُشمّر مُجدّ، طلاع أنجد: يركب صعاب الأمور.

خاض الغَداةَ إلى طريف في الوْغى ... حَمَصيصةُ المِعْوانُ في الهيجاءِ (¬1) ومنها يوم مَنْعِج، قُتل فيه شَأسُ بن زهير، وكان قد أقبل من عند النّعمان بن المنذر وقد حباه بمالٍ وطِيبٍ كثير، وفيه قَطيفةٌ حمراء ذاتُ أهداب، فورد مَنْعِج، وهو ماءٌ لغَنيّ، فأناخ راحلتَه إلى جانب الرَّدْهَة، وعليها خِباءٌ لرِياح بن الأَسَل الغَنويّ، فجعل يغتسل، وامرأةُ رِياح تنظر إليه، وهو مثل الثّور الأبيض، فرماه رياح بسهم فقتله، ونَحر ناقتَه فأكلها، وضمَّ متاعَه، وغَيَّب أثرَه، وفُقِد شأس، حتَّى وجدوا القطيفةَ الحمراء تُباع في سوق عُكَاظ، قد باعتها امرأةُ رياح، فطلبوا رياحاً ليقتلوه، فأفلت إلى قومه فنجا (¬2). ومنها يوم المُرَيْقِب، كان لبني عَبْس على فَزارة، اقتتلوا فانهزمت فَزارة، وقَتَل عوفَ بنَ بدر عنترةُ، وقَتل أيضاً ضَمْضَماً المُرِّي، وبلغ عنترة أن حُصينَ بن ضَمضم وأخاه يَتواعدانِه ويشْتُمانه، فقال: [من الكامل] يا دارَ عَبْلَةَ بالجِواءِ تَكَلَّمي ... وعمِي صباحاً دارَ عَبْلَة واسلمي إلى أن قال: ولقد خَشيتُ بأن أَموتَ ولم تَدُرْ ... للحربِ دائرةٌ على ابنَي ضَمضَمِ الشَّاتِمَيْ عِرضي ولم أَشُتُمهُما ... والنَّاذِرين إذا لَقيتُهما دَمي إن يَفعلا فلقد تَركتُ أباهما ... جَزَرَ السِّباع وكلِّ نَسرٍ قَشْعَمِ (¬3) ويُقال: إن عَنترة لم يَقتل عوفَ بن بدر، وإنَّما قتل ضَمْضَماً المُرِّي في ذلك اليوم. ومنها يوم النَّفْراوات، قُتِل فيه زُهير بن جَذيمة بن رَواحة العَبْسيّ، وكانت هَوازن تؤدي إليه الإتاوَة، فجاءته عجوزٌ بعُكَّةِ سَمْن، فذاقها فلم يَرْضها، فقال: ما هذا؟ فقالت: تتابعُ السنين والقَحْط، فضربها بقوس في صَدْرها، فوقَعَتْ على ظَهْرها، وبدت عورتُها، وبلغ خالد بنَ جَعْفر الكلابي فقال: والله لأقتلنّه، ثم غزاه، فخرج زُهير إليه فقاتله، فجُرِح زهير، وأقام ثلاثة أيَّام لا يَسقونه ماءً خوفاً عليه، فعطش. فقال: اسقُوني، فسَقَوه فمات، فقال خالد بن جعفر: [من الكامل] ¬

_ (¬1) مجمع الأمثال 2/ 442، وروايته: خاض العُداة ... المغوار. (¬2) العقد 5/ 133، والأغاني 11/ 75. (¬3) العقد 5/ 153 - 154، والأبيات في ديوانه 187 و 221.

وقَتلتُ ربَّهم زُهيراً بعد ما ... جَدَعَ الأُنوفَ وأكثرَ الأوتارا وجعلتُ مَهرَ بناتِهم ودياتِهم ... عَقْلَ الملوكِ هَجائناً وبِكارا (¬1) ومنها يوم وارِدات، وهو من أيّام حرب البَسوس، ظهرت فيه بنو تَغْلب على بَكْر، وقتلت فيهم هَمَّامَ بن مُرَّة، أخو جَسَّاس لأبيه وأمه، فمرَّ به مُهَلهل فقال: والله ما قُتل بعد كليب قتيل أعزُّ منك (¬2). ومنها يوم الوَقيط، كان في الإسلام بين تميم وبَكْر بن وائل، تجمّعت اللهازمُ ليغيروا على تميم وهم غارُّون، وكان ناشِبُ بن بَشامة العَنْبريّ أسيراً في بني سَعْد بن مالك، وكان أعورَ، وكان حَنْظلة بنُ الطُّفيل أسيراً في بني سعد بن مالك أو في بني العَنْبر، فقال ناشب: أعطوني رسولاً إلى بني العَنْبر، أوصيهم بصاحبكم خيراً، كما تفعلون معي من الإحسان، فقالوا: على أن تُوصيه ونحن حُضور، قال: نعم، فأحضروا رجلًا، فقال له ناشب: اذهب إلى بني العَنْبر، وقل لهم يُحسنوا إلى أسيرهم، وملأ كفَّه من الرمل، وأشار إلى الشَّمس، وقال: قل لهم يُعْروا جَملي الأَصْهب، ويركبوا ناقتي العَيْساء، و [يَرْعَوا] حاجتي في بني مالك، وأن العَوْسَجَ قد أَورَق، وأن النّساء قد اشتكت، ولْيَعْصوا همّام بنَ بَشَامة فإنَّه مَشؤوم، ويُطيعوا [هُذَيل ابن] الأَخْنَس فإنَّه حازمٌ مَيمون. فمضى الرَّسولُ إليهم وأدَّى الرِّسالة، فلم يَفهموا ما قال، وقالوا: والله لا نَعرفُ له ناقةً عَيْساء، ولا جَملاً أَصهب، ومضى الرَّسول، فقال رجل من بني العَنْبَر: ويحكم! والله إنه يقول حقّاً لو فَهمتُم، أما الرَّمْلُ الذي قَبض عليه، فإنَّه يقول: أتاكم عدوّكم كعدد الرمل، وأمَّا إشارتُه إلى الشَّمس فإنَّه قال: يُوافونكم عند طُلوع الشَّمس، وأمَّا الجملُ الأَصْهب فهو الصَّمَّان، والنّاقة العَيْساء هي للدَّهْناء، وهو يأمرُكم أن تَحترِزوا [فيها] وأما بنو مالك فهو يأمرُكم أن تُنذروهم، وأن تتمسكوا بالحِلف الذي بينكم وبينهم، وأمَّا العَوْسَج فيقول: إنهم قد لَبِسوا السِّلاح، وأمَّا اشْتكاءُ النساء فيقول: قد عَمِلْن لهم كلَّ ما يَحتاجون إليه حتَّى أسقيةَ الماء، وأمَّا هَمّام بن بَشَامَة فكان جَباناً يَأمرُهم ¬

_ (¬1) العقد 5/ 135 - 137، والأغاني 11/ 90. (¬2) العقد 5/ 219.

بالقُعود، و [هُذَيل بن] الأَخْنَس كان حازماً يأمرهم بالرَّحيل، وأنذرت بنو عَمروٍ بني مالك، فخالفوهم، وقالوا: ما نَدري ما يقول صاحبكم، وما نحن بمتحوِّلين، وصَبَّحَتْهم اللهازمُ، فوجدوا بني عَمْرو قد ارتحلوا، فاجتاحوا بني مالك (¬1). قال المصنف رحمه الله: وقد روي أن الأسير حَمّل الرسول رسالة بغير محضر من اللهازم، وهو الأصح لأنَّ هذا الكلام ظاهرٌ في التحذير من الرسول، فكيف كانوا يمكِّنونه من أداء هذه الرسالة. ومنها يوم الهَباءة، لقيس بن زهير العَبْسي على حُذَيفة بن بدر الفَزَاري، قتله قيس في جَفْر الهَباءة، وهو مستنقعٌ بها، وقال أبو عبيدة: كانت الدائرة لبني عَبْس على ذُبْيان، قُتِلَ حذيفةُ وحَمَل ابنا بدر الذُّبْيانيّان، التقوا في يوم شديدِ الحَرِّ، فاقتتلوا إلى جانب جَفْر الهَباءة من أوّل النهار حتَّى اشتدّ الحَرُّ وحَجَز بينهم، وركض حُذَيفة وحَمَل ومالك بنو بدر، وكان حُذيفة على فرس يقال له: صارف، وأخوه حَمَل على الحَنْفاء، فنزلوا الجَفْر، فقال قَيس بن زُهير: يا بني عَبْس احْذَروا أن يَفوتوكم، فساقوا خَلفهم، فأدركوهم في الجَفْر، فرآهم حَمَلُ بنُ بدر، فقال لحُذيفة ومَن معه: مَن أَبغضُ إليكم أنْ يقفَ على رأس الجَفْر؟ فقالوا: قيس بن زهير والرَّبيع بن زياد، قال: فهذا قيس والرَّبيع، فصاح قيس: لبَّيكُم لبَّيكُم، أشار إلى الغِلْمة الذين أوصى بهم سُبَيع بن عمرو ولدَه مالك بنَ سُبَيع وقال: لا تُسلمهم إلى حُذيفة، وأنه سلّمهم إليه فقتلهم حذيفة، وقد ذكرناه (¬2)، وإنَّما صاح قيس: لبّيكم لبّيكم، لأنهم كانوا يُنادونه: يا أبه يا أبه، وحذيفةُ يَقْتلهم، قال حُذيفة: يا قيس ناشدتُك الله والرَّحِم، فقال قيس: لبّيكم لبّيكم، فعلم حذيفةُ أنَّه قاتلُه، فقال: والله لئن قتلتَني لا تنصلحُ غطفانُ أبداً، فقال قيس: أبعَدَها الله ولا أَصلَحها. ثم تَوافت فرسانُ بني عَبْس، وكان معهم في الجَفْر وَرْقاءُ بنُ هلال الثّعلبيّ وحَنَش ابنُ وَهْب، وحمل عليهم شَدَّاد بنُ معاوية العَبْسي، فحال بينهم وبين خيولهم، وقتلوا الجميع، ومثّلوا بحذيفة كما فعل بالغِلْمة، وقطعوا مذاكيرَه وجعلوها في فِيه، ودَسُّوا ¬

_ (¬1) النقائض 305 - 307، والعقد 5/ 182 - 184 وما بين معكوفين منهما، وانظر الملاحن لابن دريد 56، وأمالي القالي 1/ 6، واللآلي 1/ 21، ومعجم ما استعجم 4/ 1382، ومجمع الأمثال 2/ 433. (¬2) في يوم حُسا.

لسانَه في اسْتِه، ولهم في يوم الهَباءة أشعارٌ كثيرة، منها قول قَيس بن زُهير: [من الوافر] تَعلَّم أن خيرَ الناس مَيْتٌ ... على جَفْرِ الهَباءةِ لا يَريمُ ولولا ظُلْمُه مازلتُ أبكي ... عليه الدَّهرَ ما طَلع النجومُ بغى حَمَلُ بنُ بدر مع أخيه ... وإن البَغْيَ مَصرَعُه وَخيمُ (¬1) أظنُّ الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قومي ... وقد يُستَضْعَفُ (¬2) الرَّجلُ الحليمُ ومارستُ الرِّجالَ ومارَسوني ... فمُعوَجٌّ عليَّ ومُستقيمُ ومنها يوم اليَعْمريَّة، لما بلغ عَبْساً ما فعل حُذَيفة بالغِلْمان، اجتمعوا والتَقَوا، فقتلوا مالك بن سُبيع الذي سَلَّم الغِلْمة إلى حُذيفة، وأخاه يزيد بنَ سُبيع، وعامر بن لَوْذان وغيرهم، وانهزم حُذيفة بن بدر، ثم قُتل بعد ذلك على ما ذكرنا (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رواية البيت في المصادر: ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم ولم أجد رواية المصنف، انظر النقائض 96، والفاخر 227، والعقد 5/ 157، والأغاني 17/ 206، وشرح ديوان الحماسة 1/ 429، وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 221، ومجمع الأمثال 2/ 116. (¬2) في النسخ: يُستعطف، والمثبت من العقد. (¬3) العقد 5/ 155.

فصل في ذكر ما سار من الأمثال

فصل في ذكر ما سار من الأمثال قد ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه القديم، وعلى لسان رسوله الكريم، فأمَّا أمثال القرآن العظيم فنيِّفٌ وثلاثون مثلًا، وأمَّا ما جاء عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فكثير. قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدّثنا عبد الرَّزاق، حدّثنا مَعْمَرٌ، حدّثنا همّام، عن حَفْص بن عاصم، عن النَّوَّاس بن سَمْعان قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ضرب الله مثلًا صِراطاَّ مَستقيماً، وعلى جانبي الصِّراط سُوران فيهما أبواب مُفَتَّحة، وعلى الأبواب سُتورٌ مُرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: أَيُّها النَّاس، ادْخُلوا الصِّراط ولا تَعوجوا، وداعٍ يدعو من جَوْف الصراط، فإذا أراد العبد أن يفتحَ شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تَفْتحه، فإنَّك إنْ تَفتحْه تَلِجْه، فالصّراط: الإسلام، والسُّتور: حدودُ الله، والأبواب: محارمُ الله، والدّاعي على رأس الصّراط: كتابُ الله، والدَّاعي من جَوْفه: واعظُ الله في قَلب كُلِّ مُسلم" (¬1). وقد تكلَّمت العربُ العاربةُ بفنون الأمثال، وقد عُنِيَ بجمعها علماءُ اللغة، كأبي عُبَيدٍ القاسمِ بن سلّام، وأبي عُبَيْدة مَعْمَر بن المُثَّنى، والميداني وغيرهم، فمن ذلك: أَبْلَغ من قُسّ، هو قُسُّ بن ساعدة الإياديّ، كان من حُكماء العرب، وهو أوَّلُ مَن أقرَّ بالبعث منهم، وأول مَن قال: أما بعد، بعد داود عليه السَّلام، وأول مَن كتب: من فلان إلى فلان، وأول مَن قال: البَيِّنةُ على المدَّعي، واليمينُ على مَن أَنكَر، وأوّل مَن اتّكأ على سيف أو عصا عند خُطبته (¬2). أَبْخَل من مادِر، وهو رجل من بني هلال بن عامر بن صَعْصَعة، سقى إِبلَه، فبقي في أسفل الحَوْض ماءٌ قليل، فسَلَح فيه، ومَدَرَ به الحوض (¬3)، بُخلاً أن يُشرَب من فَضْله، قال الشاعر: [من الطَّويل] ¬

_ (¬1) مسند أحمد (17634) عن الحسن بن سوار، عن ليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن النواس. والإسناد الذي ذكره المصنف ليس في المسند ولا في الكتب الستة، انظر أطراف المسند 5/ 422، وتحفة الأشراف 9/ 60 - 61. (¬2) الدرة الفاخرة 1/ 91، وجمهرة الأمثال 1/ 249، ومجمع الأمثال 1/ 111. (¬3) يعني لطّخه.

لقد جَلَّلَتْ خِزْياً هلالُ بنُ عامرٍ ... بني عامرٍ طُرّاً بسَلْحَة مادِرِ واسم مادِر: مُخارِق (¬1). أبصر من زرقاء اليمامة، من نُمَير، وكانت تبصر الشَّعْرة البيضاء في اللبن (¬2). أبله من باقِل، هو رجل من ثَعْلبة (¬3)، اشترى ظَبياً بأحد عشر دِرْهماً، فقيل له: بكم اشتريتَه؟ ففتح كفّيه وفرَّق أصابعَه، وأخرج لسانه، يشير بذلك إلى أحد عشر درهماً، فانْفلتَ الظَّبيُ، فضربوا به المثل في العِيِّ، قال حُمَيْد يهجو ضيفاً له: [من الطَّويل] أتانا وما داناه سَحْبانُ وائلٍ ... بَياناً وعِلْماً بالذي هو قائلُ فما زال عنه اللَّقْمُ حتَّى كأنه ... من العِيِّ لما أن تكلَّمَ باقِلُ وقال ابن الكلبيّ: لمّا نَسبوه إلى العِيّ قال: [من المتقارب] يَلومون في حُمقِه باقِلاً ... كأنّ الحَماقَةَ لم تُخْلَقِ فلا تُنكِروا العِيَّ في فِعله ... فلَلْعِيُّ أَجْمَلُ بالأَمْوقِ خُروجُ اللّسانِ وفَتْحُ البَنانِ ... أَحبُّ إليَّ من المَنطِقِ (¬4) وقال أبو العلاء المَعَري: [من الطَّويل] إذا سَفّه الطَّائيَّ بالبُخلِ مادِرٌ ... وعَيَّر قُسّاً بالفَصاحةِ باقِلُ وقال السُّها للشّمس أنت خَفيَّة ... وقال الدُّجى للصُّبح لَونُكَ حائلُ فيا مَوتُ زُرْ إن الحياةَ ذَميمةٌ ... ويا نفسُ جِدِّي إنَ دَهرَك هازِلُ (¬5) أسرعُ من نكاح أمِّ خارجة، وهي عَمْرة بنت سعد بن عبد الله بن قُداد بن ثَعْلبة، كانوا يقولون لها: خِطبٌ، فتقول: نِكْحٌ، وخارجةُ ابنها لا يعلم ممّن هو، ويُقال: هو خارجة بن بَكْر بن يَشْكُر بن عَدْوان، وَلَدت أمُّ خارجة لبَكْر بن عبد مناة الدُّئِل، وهو: ¬

_ (¬1) الدرة 1/ 86، وجمهرة الأمثال 1/ 246 و 2/ 16، ومجمع الأمثال 1/ 111، والمستقصى 1/ 13. (¬2) الدرة 1/ 79، والعقد 3/ 71، والجمهرة 1/ 241، والمجمع 1/ 114، والمستقصى 1/ 18. (¬3) كذا ذكر، والذي في المصادر أنَّه من إياد من بني مازن، ورواية المثل: أعيا، لا أبله، انظر أمثال أبي عبيد 368، والدرة 311، والعقد 3/ 70، والجمهرة 2/ 72، والمجمع 2/ 43، والمستقصى 1/ 256، وفصل المقال 496، والوسيط 1/ 71. (¬4) المستقصى 1/ 256. (¬5) شروح سقط الزند 2/ 533 - 538، الطَّائي: هو حاتم، السُّها: كوكب خفي.

العَنْبر، والهُجَيم (¬1). وكانت تسير يومًا في الهَوْدَج وابن لها يَقودها، فرأت رجلاَّ فَقالت: أظنّه خاطِبًا، أتراه يُعْجِلُنا أن نَحِلَّ الهودج، يا بنيَّ أَنِخ أنخ، فنكحها، وكانت ذوّاقة للرجال، تزوّجت نيفاً وأربعين زوجاً، وولدت عدّةَ قبائل: الهُجَيم، وثعلبة، وبَهْراء، وهلالاً، وغيرهم (¬2). وقال أبو عمرو بن العلاء: ولدت نيّفاً وعشرين حيًّا مَن آباء متفرِّقين، وابنها خارجة كان يَصدُر في كل سنة من المَوسم وقد رحل النَّاس، فيرفع صوتَه وهو واقفٌ على ناقته، ويقول: [من الطَّويل] ولمّا قَضَيْنا من مِنىً كلَّ حاجةٍ ... ومسَّحَ بالأركان مَن هو ماسِحُ وقد قَلِقَتْ خُوصُ الرِّكاب لبَيْنِنا ... ولم يَعلم الغادي الذي هو رائحُ أَخَذْنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المَطيِّ الأباطِحُ (¬3) أَتْيَمُ من المُرَقِّش، وهو من بني سَعْد بن مالك، كان عاشقاً لفاطمة بنت المنذر بن ماء السماء، مُتَيَّماً بها، وله معها قصص، وبلغ من وَجْده بها أنَّه قطع إبهامه، وبعث بها إليها (¬4). أتْيَهُ من أحمق ثَقيف، وهو يوسف بن عُمر، ولّاه هشام بن عبد الملك العراق، فضربت العربُ المثَل بحُمْقه، حجمه حجَّامٌ، فارتَعدت يداه خوفاً منه، فقال يوسفُ لحاجبه: قل له: لا بأس عليك. وكان قصيراً ذميماً، فإذا فصّل الخياط له ثَوْباً، وقال: يحتاج إلى زيادة خِرقة أكرمه، وإن قال: هذه الخِرقة تكفيك أهانه (¬5). ¬

_ (¬1) كذا ذكر، والذي في الدرة الفاخرة 1/ 224، ومجمع الأمثال 1/ 348 أن العنبر وَلَدُ عامر بن عمرو البهراني من قضاعة، وأن الهجَيم وَلَدُ عمرو بن تميم، وانظر جمهرة ابن حزم 390. (¬2) المثل في الفاخر 60، وأمثال السدوسي 65، والكامل 580، وثمار القلوب 481، وانظر فضل تخريج في حواشيها. (¬3) نسبت هذه الأبيات إلى نصيب وكثير وابن الطثرية والمضرب، انظر ديوان كثير 525، و "الشعر والشعراء" 1/ 66. (¬4) "الدرة" 1/ 99، و "الجمهرة" 1/ 283، و "المستقصى" 1/ 38، و "المجمع" 1/ 148. (¬5) "الدرة" 1/ 100، و "الجمهرة" 1/ 258، و "المستقصى" 1/ 40، و "المجمع" 1/ 149.

أثقل من ثَهْلان، وأُحُد، وشَمام، ونَضاد، وعَمايَة، وهذه جبال (¬1). أثقل من الزَّواقي، وهي الدُّيوك، كانت العرب تَسْمُرُ ليلاً، فإذا زَقَت استثقَلَتْها؛ لأنها تُؤْذِنُ بالصبح (¬2). أَجْرأُ من ذُباب، إنَّما ضربوا به المَثَل لأنَّه يقع على أَنْف الملك والأسد، ويُطْرَد فيَعود (¬3). أجود من كعب بن مامَة بن إياد، خرج مع رِفْقة في سفر فعَطِشوا، وكان معه ماءٌ فسقاهم إياه، ومات عطشاً (¬4). أَجْبَن من صافِر، وهو طائرٌ يتعلَّق في الشجر برجليه، ويُنكّس رأسَه خوفاً أن يَنام فيؤخذ، فلا يزال يَصفِر إلى السَّحَر (¬5). أجبن من هِجْرِس، وهو الثعلب (¬6). أجول من قُطْرُب، وهو دُويبَّة تجولُ الليلَ لا تنام (¬7). أَجْوَع من زُرْعَة، وهي كَلْبة لبني يَرْبوع أماتوها جوعاً (¬8). أجْمَعُ من نملة (¬9). وأَجْرَدُ من جراد (¬10). وأَجْرَأ من أُسامَة، وهو الأسد (¬11). ¬

_ (¬1) "الدرة" 1/ 103 - 104، و "الجمهرة" 1/ 292، و "المستقصى" 1/ 42، و "المجمع" 1/ 155 - 156. (¬2) الدرة 1/ 104، والجمهرة 1/ 293، والمجمع 1/ 156، والمستقصى 1/ 41. (¬3) الدرة 1/ 114، والجمهرة 1/ 327، والمجمع 1/ 181، والمستقصى 1/ 46. (¬4) الدرة الفاخرة 1/ 129، وجمهرة الأمثال 1/ 338، ومجمع الأمثال 1/ 183، والمستقصى 1/ 54. (¬5) الدرة 1/ 111 - 112، والجمهرة 1/ 325، والمجمع 1/ 184، والمستقصى 1/ 44. (¬6) الدرة 1/ 113، والجمهرة 1/ 326، والمجمع 1/ 185، والمستقصى 1/ 45. (¬7) الدرة 1/ 116، والجمهرة 1/ 330، والمجمع 1/ 185. (¬8) الدرة 1/ 117، والجمهرة 1/ 331، والمجمع 1/ 186، والمستقصى 1/ 57 وفيها أنها لبني ربيعة. (¬9) الدرة 1/ 121، والجمهرة 1/ 334، والمجمع 1/ 188، والمستقصى 1/ 51. (¬10) الدرة 1/ 122، والجمهرة 1/ 335، والمجمع 1/ 189، والمستقصى 1/ 48. (¬11) الدرة 1/ 116، والجمهرة 1/ 329، والمجمع 1/ 189، والمستقصى 1/ 48.

أحمق من أبي غُبْشان، وهو الذي اشترى منه قُصيّ [مفاتيح] الكعبة بزِقِّ خمر، وكان قد سقاه الخمر فأسكره، فلما أفاق نَدِم، فقال النَّاس: أَحْمَقُ من أبي غُبْشان، أو أندم، وفيه يقول الشاعر: [من الوافر] إذا افتَخَرت خُزاعَةُ في قديمٍ ... وَجَدْنا فَخرَها شُرْبَ الخُمورِ وباعوا كعبةَ الرحمن بَخْساً ... بزِقٍّ بئس مُفْتَخَر الفَخُور (¬1) أحْمَقُ من عِجْل، وهو ابن لُجَيْم بن صَعْب بن علي بن بكر بن وائل، قيل له: ما سَمَّيتَ فرسَك؟ فقام ففقأ عينَه، وقال: سمَّيتُه الأعور، وفيه يقول الشاعر: [من الطَّويل] رَمتْني بنو عِجل بداءِ أبيهمُ ... وأيُّ امرئٍ في النّاسِ أَحمقُ من عِجْلِ أليس أبوهم عارَ عينَ جوادِه ... فصارت به الأمثالُ تُضربُ في الجَهْلِ (¬2) أَحْمَقُ من هَبَنَّقَة، وهو ذو الوَدَعات، يزيدُ بنُ ثَرْوان، ضَلَّ له بعيرٌ فجعلَ ينادي: مَن رأى بعيري فهو له، فقيل له: فأيُّ فائدةٍ لك؟ فقال: تستتمُّ فائدةُ حلاوةِ الوِجْدان (¬3). أحمق من رَجْلَة، وهي بَقْلةٌ تَنبُتُ في مجاري السيول، فتمرُّ بها فتَقْلَعها (¬4). أحْلَمُ من الأحْنَف بن قيس، سنذكره (¬5). أَحْمى من مُجير الجراد، وهو مُدْلِج بن سُوَيْد الطَّائي، وقيل: حارثة بن أبي حَنْبل، كان يمنع أحدًا أن يتعرّض للجراد إذا نزل بأرضه (¬6). أَحْذَرُ من غُراب، في المثل قال [الغراب لابنه]: يا بُنيّ إذا رُميت فتَلَوَّص [أي: تَلَوَّ] قال: أنا أَتَلَوَّص قبل أن أُرْمى (¬7). ¬

_ (¬1) الدرة 1/ 140 - 141، والجمهرة 1/ 387 وليس فيه الأبيات، والمجمع 1/ 216 - 217، والمستقصى 1/ 73 - 72 وما بين معكوفين منها. (¬2) الدرة 1/ 144 - 145، والجمهرة 1/ 390، والمجمع 1/ 217، والمستقصى 1/ 83. (¬3) الدرة الفاخرة 1/ 135، والعسكري 1/ 385، والميداني 1/ 217، والزمخشري 1/ 85. (¬4) الفاخر 15، والدرة 1/ 155، والعسكري 1/ 395، والميداني 1/ 226، والزمخشري 1/ 81. (¬5) الفاخر 298، والدرة 1/ 164، والعسكري 1/ 407، والميداني 1/ 219، والزمخشري 1/ 70. (¬6) الدرة 1/ 166، والعسكري 1/ 408، والميداني 1/ 221، والزمخشري 1/ 87. (¬7) أمثال أبي عبيد 360، والدرة 1/ 156، والعسكري 1/ 396، والميداني 1/ 226، والزمخشري 1/ 62، وما بين معكوفات منها.

أحْذَرُ من ذِئب، لأنَّه ينام وإحدى عينيه مفتوحة، خوفاً من مُغْتال، قال حُمَيد بن ثَور: [من الطَّويل] ينامُ بإحدى مُقْلَتَيْه ويَتَّقي ... بأُخرى المَنايا فهو يَقْظانُ نائِمُ (¬1) وذكروا في الخواصّ أن العين التي ينام الذئبُ وهي مفتوحة، إذا علقت على شخص لا ينام حتَّى تُزَالَ عنه، والعين التي تنام وهي مضمومة إذا عَلَّقها عليه لا يزال نائماً حتَّى تزال عنه (¬2). أَحْيَرُ من ضبٍّ، لأنَّه إذا فارق جُحْرَه لا يَهتدي إلى الرجوع إليه (¬3). وفي المثل: أَعَقُّ من ضَبّ، لأنه ربّما أكل حُسولَه (¬4). ومن كلامهم: لا أَفعل حتَّى يَرِدَ الضَّبُّ؛ لأنَّه لا يَرِدُ الماء ولا يَشربُه (¬5). أَخْطَبُ من سَحْبان وائل (¬6)، كان لَسِناً يُضْرَب به المَثَل في البيان، خَطيبٌ مِصْقَعٌ شاعر، وهو القائل: [من الطَّويل] لقد عَلم الحَيُّ اليَمانون أنّني ... إذا قلتُ أمّا بعدُ أنِّي خطيبُها دخل على معاوية فقال له: قُمْ فاخطُب، فقال: عليَّ بعصا، فقيل له: ما تَصنَعُ بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ فقال: كما صنع موسى عليه السَّلام بعصاه وهو يخاطب ربَّه، فجيء بها، فقام فتوكّأ عليها، وخطب من الظُّهر إلى العصر، فما تَنَحْنَح، ولا سَعَل، ولا أعاد كلمة، ولا شرع في معنى فخرج عنه وقد بَقيتْ منه بَقيَّة، ولما جاءت صلاةُ العصر، قال معاوية: الصلاةَ الصلاةَ، فقال: الصلاةُ أمامَك، أَلَسْنا في تَحميدٍ ¬

_ (¬1) الدرة 1/ 156، والعسكري 1/ 296 - 297، والميداني 1/ 226 - 227، والزمخشري 1/ 61، وديوان حميد 105، ورواية البيت في هذه المصادر: يقظان هاجع، وهو برواية المصنف في العقد" 6/ 242. (¬2) انظر عجائب المخلوقات ص 425. (¬3) الدرة 1/ 159، والعسكري 1/ 400، والميداني 1/ 227، والزمخشري 1/ 90. (¬4) الدرة 1/ 306، والعسكري 1/ 69، والميداني 1/ 47، والزمخشري 1/ 250 وحسوله: أولاده. (¬5) الدرة 1/ 210، والميداني 1/ 315. (¬6) الميداني 1/ 249، والزمخشري 1/ 102، وروي في الدرة 1/ 90، والعسكري 1/ 248: أبلغ من سحبان وائل، والبيت الآتي في المصادر خلا المستقصى.

وتمجيد، ووعدٍ ووعيدٍ؟ فقال له معاوية: أنت أَخطبُ العرب، فقال: العرب وحدها؟ ! والعجم، والجنّ، والإنس، فقال معاوية: صَدَقْت (¬1). وهو الذي مدح طَلْحةَ الطَّلحات فقال: [من مجزوء الكامل] يا طَلْح أكْرَمَ مَن بها ... حَسَباً وأَعْطاهم لتالِدْ منك العطاءُ فأعطِني ... وعليَّ مَدحُك في المَشاهِدْ فقال له طلحةُ: احتَكِم، فقال: بِرْذَوْنك الوَرْد، وغُلامك الخَبَّاز، وقَصرك بزَرَنْج، وعشرة آلاف درهم، فقال طلحة: أُفٍّ لك، إنَّما سألتني على قَدْرِك، ولو سألتَني على قَدْري لأعطيتُك كلَّ دابَّةٍ، وكلَّ عبدٍ، وكلَّ قصرٍ، وكلَّ مالٍ هو لي، ثم أمر له بما سأل، ثم قال: تالله ما رأيتُ مَسألةَ مُحَكَّمٍ أَلأَمَ من هذا (¬2). أخْنَث من هِيت، كان بالمدية (¬3). أَخْنَثُ من مُصَفِّر استِه، هو أبو جهل بن هشام، وهذا مثل ضربتْه الأنصار، كانوا يغيظون به من هاجر من بني مَخْزوم، فنهاهم رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬4). أخلى من جَوْف حمار، وهو اسم وادٍ في أرض عاد، فيه ماءٌ وشجر، حماه حِمار ابن مُوَيْلِع، وكان له بنون فماتوا، فكفر كُفْرًا عظيماً، وقتل كل مَن مَرَّ به من المُسْلمين، فأقبلت نارٌ من أسفل الجَوْف فأحرقَتْه ومَن فيه، وغاض ماؤه، فقالوا: أكْفَر من حمار، ووادٍ كجَوْف حمار. وقيل: المراد به حمار الوَحْش، لأنَّه يُرمى جميعُ ما في جَوفه إذا صِيْدَ، فلا يُنْتَفَعُ به (¬5). أَدَقُّ من خَيط باطل، هو لُعَاب الشَّمس، وقيل: الخيط الذي يَخرج من فم العنكبوت، وكان مروان بن الحكم يُلقَّب خَيط باطل (¬6). ¬

_ (¬1) جمهرة الأمثال 1/ 248 - 249. (¬2) الخبر مع الشعر في الدرة 1/ 91، و "الميداني 1/ 249. (¬3) الدرة 1/ 182، والعسكري 1/ 435، والميداني 1/ 249، والزمخشري 1/ 111. (¬4) الدرة 1/ 188، والعسكري 1/ 438، والميداني 1/ 251، والزمخشري 1/ 110. (¬5) الدرة 1/ 180، والعسكري 1/ 435، والميداني 1/ 257، والزمخشري 1/ 98. (¬6) الدرة 1/ 198، والعسكري 1/ 454، والميداني 1/ 273، والزمخشري 1/ 118.

أَدَلُّ من حُنَيْفِ الحَناتِم، هو رجل من تَيْم اللّات بن ثَعْلبة، كان ماهراً بالدّلالة ومعرفة الطُّرق (¬1). أَذَلُّ من فَقْعٍ [بقَرْقَر] يُشَبَّه به الرجل الذّليل، يقال: هو فَقْعُ قَرْقَرٍ، لأنَّ الدَّواب تَنْجُلُه بأرجُلها، وهو ضَرْبٌ من الكَمْأَةِ البيضاء الرِّخوة (¬2). أَرْوَى من النَّعامة، لأنَّها لا تُريد الماء ولا تطلبه، فإن رَأَتْه أو شربَتْه كان عَبثاً (¬3). أَزْكَنُ من النَّاس، وهو التفرُّس والظنّ، وإياس: هو ابن معاوية المُزَني، والعامَّة تقول: أَذْكى، وهو خطأ، فإن قيل: فقد قال أبو تمام: [من الكامل] إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حاتِم ... في حِلْمِ أَحنفَ في ذَكاءِ إياسِ فالجواب: إنَّما قاله لضرورة الشّعر (¬4). أَزْنى من ظُلْمة، وهي امرأةٌ زَنَت أربعين سنة، ثم قَادَتْ (¬5) أربعين سنة، ولما عَجزت عن القسمين اتّخذت تَيْساً وأَعنُزاً، فقيل لها في ذلك، فقالت: لأسمعَ أَصْوات الجِماع. أَزْنى من قِرْد (¬6). أَزْهى من غُراب، لأنَّه إذا مَشى يَختال ويَنظر إلى نَفْسه، قال الشاعر: [من المتقارب] أَشدُّ لَجاجاً من الخُنفساءِ ... وأَزْهى إذا ما مَشى من غُراب (¬7) ويقال: أَزْهى من طاووس وديك (¬8). ¬

_ (¬1) الدرة 1/ 200، والعسكري 1/ 456، والميداني 1/ 273، والزمخشري 1/ 118. (¬2) الدرة 1/ 204، والعسكري 1/ 469، والميداني 1/ 284، والزمخشري 1/ 134. (¬3) الدرة 1/ 210، والعسكري 1/ 498، والميداني 1/ 315، والزمخشري 1/ 147. (¬4) الدرة 1/ 215، والعسكري 1/ 507، والميداني 1/ 325، والزمخشري 1/ 148، وديوان أبي تمام بشرح التبريزي 2/ 249. (¬5) في النسخ: ثم استحسنت! ؟ والمثبت من العقد 3/ 72، والمثل في الدرة 2/ 353، والعسكري 2/ 131، والميداني 2/ 125، والزمخشري 1/ 287 برواية: أقود من ظلمة. (¬6) الدرة 1/ 213، والعسكري 1/ 506، والميداني 1/ 326، والزمخشري 1/ 149. (¬7) الدرة 1/ 214، والعسكري 1/ 507، والميداني 1/ 327، والزمخشري 1/ 151. (¬8) الميداني 1/ 327، والزمخشري 1/ 151.

أسْرَقُ من بُرْجان، هو سارق بالكوفة، صُلب في سَرِقة، فسَرق وهو مصلوب (¬1). أَسْرَقُ من شِظاظ، وهو لصٌّ في بني ضَبَّة، مرّ بامرأةٍ من نُمَيْر تَعْقِل بعيراً لها، وتَتعوَّذ من شِظاظ، وكان راكباً على بَكْرٍ له، فقال لها: تَخافين من شِظاظ، فغافلها وركب بعيرها، وساق بعيره، وقال: [من الرجز] رُبَّ عَجوزٍ من نُمَيرٍ شَهْبَرَه ... عَلَّمتُها الإنْقاضَ بعد القَرْقَرَهْ (¬2) أسْأَلُ من فَلْحَس، وكان سيداً عزيزاً في قومه، مرَّ به قومٌ يَغزون، فقال لهم: اجعلوا لي قسماً في الجيش، قالوا: نعم، قال: ولامرأتي، قالوا: نعم قال: ولابني زاهر، قالوا: نعم، قال: ولعبدي، قالوا: نعم، قال: ولناقتي، قالوا: لا، قال: فإني جارٌ لمَن طلعت عليه الشَّمس، ومانِعُه منكم، فرجعوا خائبين، ولم يغزوا عامَهم ذلك (¬3). أَسْأَلُ من قَرْثَع، وهو من بني أوس بن ثَعْلبة، كان في زمن معاوية، وفيه يقول أعشى باهلة (¬4): [من الوافر] إذا ما القَرْثَعُ الأَوْسِى وَالَى ... عَطاءَ النَّاسِ أَوسَعَهُم سُؤالا أَسمَع من سمْعٍ، وهو مُرَكَّبٌ من الضَّبُع والذِّئْب، يَثِبُ مقدارَ ثلاثين ذِراعاً، ويُسابِقُ الطَّير (¬5). أَشْأَمُ من أحمر ثمود، وهو قُدار بن سالف (¬6). أَشْأَمُ من البَسُوس، وهي بنتُ مُنقِذ (¬7) من بني تميم، خالة جَسَّاس بن مُرَّة الشيباني، ¬

_ (¬1) الدرة 1/ 231، والعسكري 1/ 533، والميداني 1/ 353، والزمخشري 1/ 166. (¬2) الدرة 1/ 230 - 231، والعسكري 1/ 532، والميداني 1/ 347، والزمخشري 1/ 167. (¬3) الدرة 1/ 229، والعسكري 1/ 532، والميداني 1/ 347، والزمخشري 1/ 152. (¬4) كذا، والذي في الدرة 1/ 230، والعسكري 1/ 532، والميداني 1/ 347، والزمخشري 1/ 152: أعشى بني تغلب. (¬5) الدرة 1/ 226، والعسكري 1/ 530، والميداني 1/ 352، والزمخشري 1/ 172 - 173. (¬6) الدرة 1/ 247، والعسكري 1/ 558، والميداني 1/ 379، والزمخشري 1/ 176. (¬7) في النسخ: سعد، والمثبت من مجمع الأمثال 1/ 374، والعقد 5/ 214، والاشتقاق 258، وثمار القلوب 475، والمثل في الدرة 1/ 236، والفاخر 93، والعسكري 1/ 556، والزمخشري 1/ 176، وفصل المقال 504، والعقد 3/ 71.

كانت لها ناقَةٌ يقال لها: سَرَاب، فرآها كُلَيب ترعى في حِماه، وقد كَسَرت بَيضَ طائرٍ كان قد أجاره، فرمى ضَرْعها بسهم فوثب جَسَّاسٌ على كُلَيبٍ فقتله، فهاجت الحربُ بين بَكْر وتَغْلب ابني وائل بسببها أربعين سنة، حتَّى ضربت بها العربُ المَثلَ في الشُّؤْم، وكان بين هذه الحرب ومبعث رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ستون سنة. وقال أبو عبيدة: وكان للبَسوس جارٌ من جَرْم يقال له: سَعد بن شمس، وكان له ناقة يقال لها: سَراب، وكان كُلَيب قد حمى أرضًا من أرض العالية في مستقبل الرَّبيع، فلم يكن يرعاها أحدٌ إلَّا جسّاس لمصاهرةٍ بينهما، لأنَّ جَليلة بنت مُرَّة أخت جَسّاس كانت تحت كُلَيْب، فخرجت ناقة الجَرْمي ترعى في حِمى كُلَيب فأنكرها، فرماها بسهم فأصاب ضَرْعها، فولَّت حتَّى بَرَكَتْ بفِنَاء صاحبها، وضَرْعُها يَشْخَب لبَناً ودماً، فلما نظر إليها صاحبُها صاح واذُلَّاه، واذُلَّ جاراه، فخرجت جاريةُ البَسوس، فلما رأت النّاقة ضربت يدها على رأسها وصاحت: واذُلّاه، وقالت: [من الطَّويل] لَعَمْريَ لو أصبحتُ في دار مُنْقِذٍ ... لما ضِيمَ سَعدٌ وهو جارٌ لأبياتي ولكنني أصبحتُ في دارِ غُرْبَةٍ ... متى يَعْدُ فيها الذّئبُ يعدو على شاتي فيا سَعْدُ لا تغرر بنفسك وارتَحِلْ ... فإنَّك في قومٍ عن الجار أمواتِ ودونَك أَذْوادي فإنيَ عنهمُ ... لَراحِلةٌ لا يَغدِروا ببُنَيَّاتي (¬1) فسمعها جَسّاس، فقال: اسكُني أيّتها المرأة، فليُقْتَلَنَّ جملٌ عظيم، هو أعظم من ناقة جارك، ولم يَزلْ جَسَّاس يتوقع غِرَّةَ كُليب حتَّى خرج كُليب لا يخاف شيئاً، فتباعد عن الحيّ، وتبعه جَسَّاس ومعه عمرو بنُ الحارث، فأدرك جَسَّاس كُليباً فطعنه بالرُّمح، فدَقَّ صُلْبَه فأنفذه، فقال كُليب: يا جَسّاسُ اسقني شربةَ ماء، فقال: أتركْتَ، الماءَ وراءك، ثم أدركه عمرو بن الحارث فأجهزَ عليه، ونَشِبت الحرب بينهم أربعين سنة حتَّى قُتلَ أكثر بكر، وكانت الغلبة لتغلب عليهم. وقال هشام بن الكلبي: لم تجتمع مَعَدٌّ كلُّها إلَّا على ثلاثة رَهْطٍ من رؤساء العرب: عامر بن الظَّرِبِ، وربيعة بن الحارث، وكُلَيب بن وائل، وكان كُليب قد بلغ في مَعَدٍّ منزلة عالية، حتَّى ضُرب به المَثَلُ، فقالوا: أَعَزُّ من كُلَيب وائل (¬2)، حتَّى كان يَحمي ¬

_ (¬1) الفاخر 93، وثمار القلوب 475، والمستقصى 1/ 176، والميداني 1/ 375. (¬2) الفاخر 93، والدرة 1/ 300، والعسكري 2/ 65، والميداني 2/ 42، والزمخشري 1/ 246.

مَواقعَ السَّحاب، فلا تُرعى، ويُجير على الدّهر فلا تُخْفَر ذِمَّتُه، ويقول: وَحْشُ الأرض في جِواري فلا يُهاج، ولا يُورِدُ أحدٌ مع إبله، ولا تُوقَدُ نارٌ مع ناره، ولا يتكلَّمُ أحدٌ في مجلسه ابتداءً، وهو كُلَيب بنُ ربيعة بن وائل، سيّد ربيعة في زمانه، وأطاعتْه العربُ وملَّكَتْه، وجعلوا له قسم الأموال، وكان كليب قد فَضَّ جُموعَ اليمن كلّها، فتوَّجَتْه العرب، وتزوَّج جَليلة بنت مُرَّة. وكان بنو جُشَم وبنو شيبان ينزلون بتِهامة في دار واحدة، وكانت البَسوس في بني شيبان، ولها ناقة يُقال لها: سَراب، وبها ضربت العرب المَثَل، فقالوا: أَشْأمُ من سَراب (¬1)، فمرَّت إبلٌ من [إبل] كليب بسَراب، وهي مَعقولَة بفِناء بيت البَسوس جوار جَسّاس، فلما رأت الناقة الإبل نازعت عِقالها إليهم حتَّى قَطَعَتْه، وتَبعت الإبل، فاختَلطَتْ بها حتَّى انتَهت إلى الحَوض وكُلَيبٌ عليه، فرآها فأنكرها، فرماها بسهم، فخَرم ضَرعها، ففرَّت الناقة وهي ترغو، فلما رأتها البسوس ألقت خِمارها عن رأسها وصاحت: واذُلَّاه واجاراه، وسمعها جَسّاس، فركب فرسًا له عُريانة، وتبعه عمرو بن الحارث (¬2) بن ذُهْل بن شيبان، وكان كُليب قد طغى وبغى، فدخلا على كُليبٍ الحِمى، فطعنه جَسّاس، فقَصم صُلْبَه، وتممه عمرو، فوقع كُليب يَفْحَصُ برجلَيْه، وقال لجَسّاس: أَغِثْني بشَرْبَةٍ من ماء، فقال: [هيهات، تجاوزت] شُبَيْثاً والأَحَصّ، يعني: موضع الماء، وفيه يقول عمرو بن الأَهْتَم: [من الطَّويل] وإن كُليباً كان يَظلمُ قومَه ... فأَدْرَكَه مثلُ الذي تَريانِ فلمَّا حَشَاه الرُّمحَ كفُّ ابن عمِّه (¬3) ... تذكَّر ظُلمَ الأهل أيَّ أَوانِ وقال لجَسَّاس أَغِثني بشَرْبَةٍ ... وإلا فَخَبِّر مَن رأيتَ مكاني فقال تَجاوزتَ الأحصَّ وماءَه ... وبطنَ شُبَيْثٍ وهو غيرُ دِفانِ أي: قليل. ¬

_ (¬1) الدرة 1/ 237، والعسكري 1/ 556، والميداني 1/ 390، والزمخشري 1/ 182. (¬2) في النسخ: وائل، والمثبت من النقائض 905، والعقد 5/ 214. (¬3) في النسخ: كف بزعمه، والمثبت من العقد 5/ 215، وما بين معكوفين منه، وانظر معجم ما استعجم 3/ 780، ومعجم البلدان 3/ 323.

وقال النابغة الجَعدي: [من الطَّويل] كُلَيبٌ لَعَمْري كان أكثرَ ناصراً ... وأَيْسَرَ ذَنْباً منك ضُرِّج بالدَّمِ رمى ضَرْعَ ناب فاستمرَّ بطَعنةٍ ... كحاشيةِ البُرْدِ اليَماني المُسَهَّمِ وقال لجسَّاسٍ أغِثني بشَرْبَةٍ ... تَدارَكْ بها مَنّاً عليَّ وأَنْعِمِ فقال تَجاوزْتَ الأَحَصَّ وماءَه ... وبطنَ شَبْيثٍ وهو ذو مُتَرَسَّمِ (¬1) ولما قُتل كُليب، ارتحلت بنو شَيبان، فنزلوا بماء يُقال له: النِّهْي، واستعدَّ عَديُّ بن ربيعة أخو كُليب لحرب بَكْر، ويقال له: المُهَلْهِل؛ لأنَّه أوَّلُ من هَلْهَلَ الشعر؛ أي: أَرَقَّه، وجمع مُهلهل قومَهَ، وحَرَّم الشرابَ والنساءَ والغزلَ والقِمار، حتَّى يأخُذَ بثأر أخيه، وهو القائل: [من الكامل] نُبِّئْتُ أن النار بعدك أُوقِدت ... واسْتَبَّ بعدك يا كُليبُ المَجْلِسُ وتكلَّموا في أمرِ كلِّ عَظيمةٍ ... لو كُنتَ شاهِدَهُم بها لم يَنْبِسوا (¬2) ولما استعدَّ مُهَلْهِلٌ لحرب بَكْر، أرسل رجالاً من قومه إلى بني شيبان يُعذِر إليهم، فأَتَوْا مُرَّةَ بن ذُهل بن شيبان، وهو في نادي قومه، فقالوا: لقد ارتكبتُم عظيماً بقتلكم كليباً بنابٍ من النوق، فقطعتُم الرَّحم، وانتهكتُم الحُرْمَة، وإنَّا كرهنا العَجَلةَ عليكم دون الإعذار إليكم، ونحن نعرض عليكم خِلالاً، قال: وما هي؟ قالوا: إما أن تُحيوا لنا كُليباً، أو تدفعوا إلينا جسّاساً وعمراً أو هَمَّاماً -يعني أخا عَمرو- أو تمكِّنّا من نفسك، فإن بها وفاء من دمِه. فقال مُرَّة: أما إحياؤنا كليباً فهذا من السَّفَه، لأنَّه تكليفُ ما ليس في الوسع، وأمَّا جَسّاس فإنَّه غُلامٌ طعن طَعنةً على عَجَل، وركب فرسَه، ولا أدري إلى أين ذهب ومعه عمرو، وأمَّا همّام فإنَّه أبو عشرة، وأخو عشرة، وعمُّ عشرة، كلُّهم فرسان قومهم، ولن يُسلموه لي فأدفعه فيُقتَل بجريرة غيره، وأما أنا فلا ناقةَ لي في هذه ولا جَمَل، ولا جنيتُ جنايةً فأُسلم نفسي، وما هو إلَّا أن تَجول الخيلُ، فأكون أوَّلَ قتيل بينهم، فلِمَ أَتعجَّلُ الموتَ، ولكن لكم عندي خصلتان: ¬

_ (¬1) ديوانه 142 - 145، والنقائض 906، والعقد 5/ 215، والأغاني 5/ 33 - 34، ومعجم ما استعجم 3/ 780. المسهم: الخطط بصورة على شكل السهام. (¬2) شرح ديوان الحماسة 929، والكامل 412، والتعازي والمرائي 290، والعقد 3/ 298، والأمالي 1/ 95.

أما إحداهما: فهؤلاء أولاد القاتِلين (¬1)، عَلِّقوا في عُنُق أحدهم، أو أي من شئتُم منهم نِسْعَةً، وانطلقوا به إلى رحالكم، فاذبحوه ذَبْح الشَّاةِ. وأمَّا الأخرى: فهذه ألفُ ناقة سُودُ الحَدَق، أُقيمُ لكم بها كَفيلاً من بكر وائل. فغضبوا وقاموا عنه، ووقعت الحربُ بينهم، ولحقت جَليلة زوجةُ كُليب بأبيها وقومِها، ورثى مُهلهل كليباً بأشعار منها: [من البسيط] كُليبُ لا خيرَ في الدّنيا وأَهليها ... إذ أنت خَلَّيْتَها مع مَن يُخَلِّيها كليبُ أي فتى عِزٍّ ومَكرُمَةٍ ... تحت السَّقائِف إذ يَعلوك سافِيْها نَعى النّعاةُ كُليباً لي فقلتُ لهم ... مادَتْ بنا الأرضُ أو زالَتْ رواسيها العَزمُ والحَزْمُ كانا من طبيعته ... ما كلُّ آلائه يا قومُ نحصيها ليت السماءَ على مَن تحتها وَقَعَتْ ... وانشقَّت الأرضُ فانجابت بمَن فيها لا أَصلح الله منا مَن يُصالحكم ... ما لاحت الشَّمسُ في أعلى مجاريها (¬2) أَشْأَم من رَغيف الحَوْلاء، هي خَبّازة كانت في بعض أحياء العرب، نازلةٌ في جِوارهم، وكانت في بني سعد بن تميم، مرَّت بخُبْزها على رجل، فأخذ منها رغيفًا، فقالت: والله ما أخذتَه إلَّا لتُخفِر جِوار فلان -يعني الذي كانت في جِواره- فجاء الرجل الذي ذُكر أنها في جواره إلى الذي أخذ الرغيف، فقال له: أَخفَرْت جِواري؟ ! فطعنه فقتله، واقتتلوا فقُتل منهم ألفُ رجل (¬3). أَشأمُ من طُوَيْس، وهو مُخَنَّثٌ نَذكُره (¬4). أشأم من قاشِر، اسم فَحْل كان لبني عُوافةَ بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وكانت لقومه إبل [تُذْكِر]، فاستَطْرَقوه رجاء أن يُؤْنِثَ إبلَهم، فماتت الأمهات والنَّسْلُ، فضربت العرب به المَثَل. وقيل: قاشر اسم الرجل الذي دَلّ حسَّان بن تُبَّع على جَديسٍ حتَّى استأصلهم (¬5)، ¬

_ (¬1) في العقد 5/ 216: فهؤلاء بَنيَّ الباقون. (¬2) العقد 5/ 217. (¬3) الدرة 1/ 247، والعسكري 1/ 557، والميداني 1/ 382، والزمخشري 1/ 182. (¬4) الدرة 1/ 235، والعسكري 1/ 538، والميداني 1/ 390، ويروى: أخنث. (¬5) سلفت القصة في باب ملوك الحيرة. وانظر الدرة 1/ 237، والعسكري 1/ 556، والميداني 1/ 380.

وهو قاشر بن مُرَّة أخو زرقاء اليمامة، واسمه رياح، ولقبه قاشر لشُؤمه. أشأم من مَنْشِم، امرأة كانت بمكة عَطَّارة، وكانت خُزاعَة وجُرْهُم إذا أرادوا القتال، تطيَّبوا من طِيبها، فتَكثُر القتلى، فصارت مثلًا. قال زهير: [من الطَّويل] تَداركتُما عَبْساً وذُبْيان بعدما ... تفانَوْا ودَقُّوا بينهم عِطرَ مَنْشِم (¬1) وقيل: إنَّها كانت تبيع الحَنوط بمكة، وقيل: إنَّها كانت عَطَّارةً بمكة، وكان مَن أراد أن يشتري منها عطراً شَمّه، فقالوا: عِطرُ مَن شَمّ، وأن جماعة تعدَّوْا عليها وأخذوا طيبها، فتطيَّبوا به، ثم إنهم فضحوها، وعلم بهم أهلُها فأدركوهم وقالوا: اقتلوا من تَطيَّب بعِطْرها، فشَمّوهم فقتلوهم (¬2). أَشْغَلُ من ذات النِّحْيَيْن، هي امرأة من تَيْم الله بن ثعلبة، كانت تَبيعُ السمن في الجاهلية، فأتاها خَوَّات بن جُبَيْر الأنصاري يبتاع منها سمناً، فلم يجد عندها أحدًا، فساوَمَها، فحَلَّت نِحْياً مملوءاً، فنظر إليه وقال: أمسكيه حتَّى أَنظر إلى غيره، ثم فتحت له نِحْياً آخر، فنظر فيه وقال: أمسكيه حتَّى أُعيد النّظر إلى الآخر، فلما شَغل يديها ساوَرَها، فلم تَقدِر على دَفعِه لشُغل يديها، فقضى ما أراد منها وهرب، وقال في ذلك: [من الطَّويل] وذاتِ عِيالٍ واثِقِين بعقلها ... خَلَجْتُ لها جارَ اسْتِها خَلَجاتِ شَغَلْتُ يديها إذ أردتُ خِلاطَها ... بنِحْيَيْنِ من سَمْنٍ ذوي عُجَراتِ فكانت لها الوَيْلاتُ من تَرْك سَمنِها ... وويلٌ لها من شدَّة الظَّعَناتِ فشَدَّت على النِّحْيَيْن كفّاً شحيحةً ... على سَمْنِها والفَتكُ من فَعَلاتي (¬3) وهجا رجلٌ تيم الله فقال: [من الوافر] أُناسٌ ربَّةُ النِّحْيَيْنِ منهم ... فعُدُّوها إذا عُدَّ الصَّمِيمُ (¬4) ¬

_ (¬1) ديوانه 15. (¬2) الدرة 1/ 242، والعسكري 1/ 557، والميداني 1/ 381، والزمخشري 1/ 184. (¬3) الفاخر 86، والدرة 1/ 260 و 2/ 404، والعسكري 1/ 564 و 2/ 321، والميداني 1/ 376، والزمخشري 1/ 99 - 100 و 196. (¬4) الفاخر 87، والميداني 1/ 377.

أَصحُّ من عَيْر أبي سَيّارة، هو رجل من بني عَدْوان، كان له حمارٌ أسود، أجاز النَّاس عليه في الجاهلية من عرفات إلى مِنى أربعين سنة (¬1). أصْدَقُ من قَطَاة؛ لأنَّ لها صوتًا واحدًا لا تُغيِّره، تقول: قطا قطا (¬2). أصفى من ماء المَفاصل، هذا مثل للعرب في رِقَّة الشيء وصفائه (¬3). أَظْلَمُ من حَيَّة، لأنَّها لا تتَّخِذُ بيتاً لنفسها، وإنَّما تدخل بيتاً لغيرها فتَسْكُنه، فيهرب صاحبه. وكذا قولهم: أَظلمُ من أفعى، وأظلم من ذئب، لأنّه يتعدى بالطبع كالعقرب. وكذا قولهم: أَظلَمُ من تِمساح، وأظلم من الجُلَنْدى، وهو من أجداد الحجّاج، بينهما سبعون جَدًّا، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]. وأَظْلَمُ من شَيْبٍ، لأنَّه ربما هجم على صاحبه قبل أوانه (¬4). أَعَزُّ من بَيْضِ الأَنوق، وهو الرَّخَم يَخزِنُ بَيضَه في رؤوس الجبال ويُحمَّق، قال الكُميت: [من الوافر] وذاتُ اسمَيْن والألوانُ شَتّى ... تُحَمَّقْ وهي كَيِّسَةُ الحَويلِ (¬5) ذات اسمَيْن: لأنها تُسمّى الأَنُوق والرَّخَمَة. وأَعَزُّ من الغُراب الأعْصَم، وهو الذي إحدى رجليه بيضاء، وهو نادر، والذي في جناحه ريشة بيضاء. و: الأَبْلَقُ العَقُوق: لكل شيء يَعُزُّ وُجودُه، وهو مَثَلٌ لما لا يكون. وأَعَزُّ من الكبريت الأحمر، فإنَّه لا يُوجد أيضاً. ¬

_ (¬1) الدرة 1/ 271، والعسكري 1/ 588، والميداني 1/ 410، والزمخشري 1/ 205. (¬2) الدرة 1/ 265، والعسكري 1/ 584، والميداني 1/ 412، والزمخشري 1/ 206. (¬3) الدرة 1/ 226، والعسكري 1/ 584، والميداني 1/ 412، والزمخشري 1/ 210. (¬4) الدرة 1/ 293 - 295، والعسكري 2/ 29 - 31، والميداني 1/ 445 - 447، والزمخشري 1/ 231 - 234. (¬5) ديوانه 354، والدرة 1/ 154، والميداني 1/ 226، والزمخشري 1/ 82.

أعزُّ من أُمِّ قِرْفَة، هي امرأةٌ من فَزارة، كانت تحت مالك بن حُذَيفة، وكان يُعلَّقُ في بيتها خمسون سيفاً لخمسين رجلًا، كلّهم لها مَحْرَم (¬1). أَعْطَشُ من ثُعالة، وهو اسم للذّئب، وقيل: هو رجل من بني مُجَاشع، خرج هو ونَجيح بن عبد الله بن مُجاشع في غزاة فعطشا، فشرب كلّ واحد منهما بَولَ الآخر، فماتا عطشاً (¬2). أَغدَرُ من قيس بن عاصم، لم يكن في العرب أَغْدرُ منه ولا أكذب، أما غَدراتُه فكثيرة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه على صدقات بني مِنْقَر قومِه، فجباها ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغه، فقسمها في قومه، ولم يحملها إلى المدينة، وقال: [من الطَّويل] ألا أَبلِغا عنّي قريشاً رسالةً ... إذا ما أتَتْهم مهدياتُ الودائع حَبَوْتُ بما جَمَّعتُ من آل مِنْقَر ... وآيَسْتُ منها كلَّ أطلسَ جائعِ (¬3) وأمَّا كذبه فيه يُضرب المثل، قال زيد الخيل: [من الطَّويل] فلستُ بفَرّارٍ إذا الخيلُ أحجَمت ... ولست بكذَّاب كقيس بن عاصمِ (¬4) أَفْرَغُ من حَجّام ساباط، كان يَحجُم الجُنْدَ بالدّانِق والدَّانِقَيْن، نسيئة إلى حين رُجوعهم من الغَزو، يمضي عليه الأسبوع وما يَقربُه أحد، فيُخرِجُ أمَّه فيحجمها، ليُري النَّاس أنَّه غيرُ فارغ، فما زال يَحجُم أمَّه حتى نَزَفَ دَمُها فماتت، فضُرب به المثل، قال الشاعر: [من السريع] مَطْبَخُهُ قَفْرٌ وطَبَّاخُهُ ... أَفْرغُ من حَجَّامِ ساباطِ وبلغ كسرى حديثَه فاستدعاه، فحجمه، فأعطاه مالًا كثيرًا، فأغناه عن الحِجامة، وساباط مَوضعٌ بالمدائن (¬5). ¬

_ (¬1) الدرة 1/ 229 - 302، والعسكري 2/ 64 - 66، والميداني 2/ 43 - 45، والزمخشري 1/ 242 و 254. (¬2) الدرة 1/ 309، والعسكري 2/ 70، والميداني 2/ 49، والزمخشري 1/ 248. (¬3) الدرة 1/ 324، والعسكري 2/ 87، والميداني 2/ 65 - 66، والزمخشري 1/ 259، وانظر الكامل 510 و 712، والأغاني 14/ 75. (¬4) ديوانه 205 (شعراء إسلاميون)، والدرة 2/ 365، والعسكري 2/ 174، والميداني 2/ 169، والزمخشري 1/ 293. (¬5) الدرة 2/ 331، والعسكري 2/ 107، والميداني 2/ 86، والزمخشري 1/ 270، وليس فيه البيت، وثمار القلوب 235 منسوبًا لابن بسام ضمن ثلاثة أبيات.

أَفْرَسُ من بِسطام بن قيس الشيباني فارس بَكْر، وكانوا يُقَدّمونه على عمرو بن معدي كَرِب (¬1). أفرسُ من عامر، هو عامر بن الطُّفَيل، أفرسُ أهلِ زمانه وأجودُهم، وكان مناديه ينادي بسوق عُكاظ: هل من راجِلٍ فنَحمِلَه، أو جائعٍ فنُطعمَه، أو خائفٍ فنُجيرَه ونُؤَمِّنَه، والعامران: عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صَعصعة أبو براء، مُلاعبُ الأَسِنَّة، عمُّ عامر بن الطّفيل، وعامر بن الطّفَيل بن مالك بن جعفر بن كلاب أبو عليّ (¬2). أَفْتَكُ من البَرَّاض بن قَيس الكِناني، قاتلُ عُروةَ الرَّحَّال، كان فاتكاً، نَبَتْ به بلادُه من كثرة قَتْله وفَتْكه، وتبرَّأ منه قومُه، فرحل إلى النّعمان، وكان يبعث في كل عام بلَطِيمَةٍ إلى سوق عُكاظ، فقال يوماً: من يُجير لَطيمتي؟ فقال البَرَّاض: أنا أُجيرُها على بني كنانة، فقال: ما أُريد إلَّا مَن يُجيرها على الحيَّيْن قيس وكنانة، فقال الرَّحّال للنعمان: أهذا العَيَّار الخليع يُجير لَطيمتَك على كِنانة، أنا أُجيرها على أهل الشِّيحِ والقَيْصوم من نَجْدٍ وتِهامة، فأخذها ورحل بها، فاتَّبعَه البَرَّاضُ يَقفو أثرَه، حتَّى إذا كان عُروة بين ظَهْرَي قومه بجانب فَدَك، أخرج البَرَّاض قِداحاً يَستقسِم بها، فمرَّ به عروة فقال: ويحك ما تصنع هاهنا؟ فقال: أستخبر القِداح في قَتلي إياك، فقال عروة: اسْتُك أضيقُ من ذلك، فوثب إليه البَرَّاض، فضربه بسيفه حتَّى قتله، واستاق العِير (¬3). أَفْتَكُ من الجَحَّاف، هو ابن حَكيم السُّلَمي، كان من فُتَّاك العرب، وهو ابنُ عمِّ عُمَيْر بنِ الحُباب السُّلَمي، وكان عُمير قد نَهض في الفتنة التي كانت بين الزُّبَيْريَّة والمَروانيّة بالشام، فلَقِيَتْه خيلٌ لبني تَغلب في بعض الغارات فقتلوه. فلما قُتل ابن الزُّبير - رضي الله عنهما -، واجتمع النَّاس على عبد الملك بن مروان، دخل الجَحَّاف على عبد الملك وعنده الأخطل، فقال الأخطل: [من الطَّويل] ألا سائلِ الجَحَّاف هل هو ثائرٌ ... بقَتلى أُصيبَتْ من سُلَيْمٍ وعامرِ (¬4) ¬

_ (¬1) الدرة 1/ 333، والعسكري 2/ 109، والميداني 2/ 87 و 86، والزمخشري 1/ 268 و 269. (¬2) الدرة 1/ 333، والعسكري 2/ 109، والميداني 2/ 87 و 86، والزمخشري 1/ 268 و 269. (¬3) الدرة 1/ 335 - 336، والعسكري 2/ 110، والميداني 2/ 87 - 88، والزمخشري 1/ 265 - 266. (¬4) ديوانه 286.

فقال الجَحَّاف: [من الطَّويل] بَلى سوف أبكيهم بكلِّ مُهَنَّدٍ ... وأَبكي عُمَيراً بالرِّماح الخَواطِرِ (¬1) ثم قال: يا ابن النّصرانيَّة، ما ظننتُ أنّك تجترئ عليّ بمثل هذا ولو كنتُ مأسوراً، فَحُمَّ الأخطل في الحال خوفاً منه، فقال عبد الملك للأخطل: لا تَخفْ، فإني جارٌ لك منه، فقال: يا أمير المؤمنين: فهبْ أنك تُجيرُني منه في اليَقظة، أتُجيرني منه في المنام؟ ونهض الجحَّاف فخرج يجرُّ رداءَه، فقال عبد الملك: إن في قَفاه لَغَدرةً، وجمع الجحّاف قومَه، وأتى الرُّصافة، فصادف في طريقه أربع مئةٍ من بني تَغلب رهط الأخطل فقتلهم، وأتى ماءً لبني تَغلب يقال له: البِشْر، عليه جمعٌ كثيرٌ منهم فقتل منهم خمس مئة رجل، ثم تعدَّى إلى قَتْلِ النساء والوِلدان، فصاحت به عجوز منهم: قاتلك الله يا جَحَّاف، تعدَّيتَ من قتل الرجال إلى قتل النساء والوِلدان، أما تَخاف العاقبة؟ ! فرفع السيفَ عنهم. وبلغ الأخطل، فدخل على عبد الملك وعنده امَراء دولتِه، وقال: واقوماه، وأنشد أبياتاً منها: [من الطَّويل] لقد أَوْقَعَ الجَحَّافُ بالبِشْر وَقْعَةً ... إلى الله منها المُشْتَكى والمُعَوَّلُ (¬2) فأهدر عبد الملك دمَ الجَحَّاف، فدخل بقومه بلادَ الرُّوم، فأقام بها سبع سنين حتَّى مات عبد الملك، فكتب إليه الوليد فرجع فأَمَّنَه (¬3). أفتَكُ من الحارث بن ظالم، كان قد فتك برجالٍ من أصحاب الأسود بن المنذر بن النُّعمان ملكِ الحيرة، فطلبه الأسود ففاته، فأرسل إلى جاراتٍ كُنَّ للحارث، فأَخذهُنَّ واستاق الإبل، وأُخبر الحارث، فعارض الجيش، واستَنْقَذَ ما أخذوه، وفتك بأصحاب الأسود. أَفتكُ من عمرو بن كُلثوم، سار إلى عمرو بن هند ملكِ الحيرة في دار مملكته ما بين ¬

_ (¬1) الأغاني 12/ 205. (¬2) ديوانه 10. (¬3) المثل والقصة في الدرة 1/ 337، والعسكري 111/ 2 - 112، والميداني 2/ 88 - 81، والزمخشري 1/ 192 - 193 وانظر الأغاني 12/ 198 - 208.

الحيرة والفرات، ففتك به، وانتهبَ أموالَه، وسار بها إلى الشام، ولم يلتفت إلى أحد (¬1). أَقْرى من زاد الرَّكْب، ضُرب هذا المثل لثلاثة من قريش: مُسافِر بن أبي عمرو بن أُمَيَّة، وأبي أميَّة بن المُغيرة، والأسود بن المُطَّلب بن أسد بن عبد العُزَّى، وإنَّما سمُّوا بذلك لأنهم إذا سافروا لم يمكنوا أحدًا من رفقتهم من حَمْل زاد (¬2). أَكْذَبُ مَن دَبَّ ودَرَج، معناه: أكذبُ الأحياء والأموات. أكذبُ من فاخِتَة، لأنها تقول إذا صَوَّتَت: هذا أَوانُ الرُّطَب، والطَّلْعُ لم يَطْلُع بَعْدُ، قال الشاعر: [من مجزوء الكامل] أَكذَبُ من فاخِتَةٍ ... تقول وَسْطَ الكَربِ والطَّلْعُ لم يَبْدُ لها ... هذا أَوانُ الرُّطَبِ (¬3) أكبرُ من عجوز بني إسرائيل، وهي التي دَلّت موسى عليه السَّلام على تابوت نبيّ الله يوسف عليه السَّلام، وهي من ولد إسحاق عليه السَّلام، وقيل: من ولد يعقوب عليه السَّلام، وعاشت أربع مئة سنة (¬4). أَلأَمُ من أَسْلَم، هو ابن زُرْعة، وَلي خُراسان، فقيل له: إن الفُرْس كانوا إذا مات منهم مَيت جعلوا في فيه درهماً، فنَبعش المقابر ليستخرج الدَّراهم، فقال صَهْبان الجَرْمي: [من الطَّويل] تَعوَّذ بنَجمٍ واجْعَلِ القبرَ في صفاً ... من الطَّودِ لا يَنْبُش عِظامَك أَسْلَمُ هو النَّابِشُ المَوتى المُحِيلُ عِظامَهم ... ليَنْظُرَ هل تحت السَّقائف دِرهَمُ (¬5) أَلأَمُ من راضِع اللّبن، هو رجل من بني تميم كان يَرتَضِعُ من ضَرعِ ناقته، ولا ¬

_ (¬1) المثلان في الدرة 2/ 337 و 339، والعسكري 2/ 112، والميداني 2/ 89، والزمخشري 1/ 266. (¬2) الدرة 2/ 356، والعسكري 2/ 133، والميداني 2/ 127، والزمخشري 1/ 281. (¬3) المثلان والشعر في الدرة 2/ 364، والعسكري 2/ 173، والميداني 2/ 167، والزمخشري 1/ 292، والفاختة من أنواع الحَمام. (¬4) الدرة 2/ 438، والميداني 2/ 168، والزمخشري 1/ 288. (¬5) الدرة 2/ 372، والعسكري 2/ 219، والميداني 2/ 249، والزمخشري 1/ 298.

يَحلُبها مخافةَ أن يَسمعه أحدٌ وقتَ الحَلب، فيَطلب منه لبناً (¬1). أَلَذُّ من الغَنيمة الباردة، وهي التي لا قتالَ فيها (¬2). أَلَذُّ من المُنى، قال الشاعر: [من الطويل] مُنًى إن تكن حَقّاً تَكُنْ أحسنَ المُنى ... وإلا فقد عِشْنا بها زَمَناً رَغْداً (¬3) وقال ابن المقفَّع: كَثرةُ الأماني تَطرد القناعة، وتُفسِدُ الحِسَّ، وتُخْلِق العقلَ (¬4)، وأنشد: [من البسيط] إن المُنى رأسُ أموالِ المفاليسِ (¬5) وقال آخر: [من الكامل] إن المُنَى طَرَفٌ من الوَسْواسِ (¬6) وقد أخذ بعضُهم عليه، فقال: الغالب على الناس أن يعيشوا بالأماني، قال الشاعر: [من البسيط] لولا التَّعَلُلُ بالآمال متُّ أسىً ... يَفنى الزَّمانُ وما تَفنى المَواعيدُ (¬7) أَلْحَنُ من قَيْنَتَي يَزيد، هو يزيد بن عبد الملك، وهما حَبَّابة وسَلَّامة، وكانتا أَلْحَن من رُؤي من القِيان في الإسلام، ومعناه أفطن، قال الفَزاري: [من الخفيف] وحديثٍ أَلَذُّه هو مما ... يَنْعَتُ النَّاعِتون يُوزَنُ وَزْنا مَنطِقٌ رائعٌ وتَلْحَنُ أحيا ... ناً وخيرُ الحديث ما كان لَحْنا يُريد أنها تَتكلّم بشيء وتُريد غيرَه (¬8). ¬

_ (¬1) الدرة 2/ 373، والعسكري 2/ 220، والميداني 2/ 251، والزمخشري 1/ 300. (¬2) الدرة 2/ 375، والعسكري 2/ 221، والميداني 2/ 252، والزمخشري 1/ 321. (¬3) الحيوان 5/ 191، وعيون الأخبار 1/ 261، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1413. (¬4) المثل والشعر وقول ابن المقفع في الدرة 2/ 376، والعسكري 2/ 221، والميداني 2/ 253. (¬5) صدره: إذا تمنيتُ بِتُّ الليلَ مُغتَبِطاً وهو في الحيوان 5/ 191، وعيون الأخبار 1/ 261، والميداني 2/ 253. (¬6) مجمع الأمثال 2/ 253. (¬7) البيت في معجم الأدباء 17/ 68 للمبارك بن المبارك المعروف بالوجيه. (¬8) الدرة 2/ 379 - 380، والعسكري 2/ 224، والميداني 2/ 255، والزمخشري 1/ 314، والبيتان لمالك بن =

أَنْجَبُ من أمِّ البَنِين، هي ابنةُ عمرو بنِ عامر فارس الضَّحْياء، ولدت خمسةً من النُّجَباء، وكانوا إذا وَلَدت المرأةُ ثلاثةً، قالوا: مُنْجِبَة، وهذه وَلَدَتْ خمسةً من مالك ابن جعفر بن كلاب، وهم: أبو براء مُلاعِبُ الأَسِنّة، وفارساً وهو الطُّفَيل أبو عامر، ورَبيعة [رَبيع] المُقْتِرِين، ونَزَّال [المضِيق]، ومعاوية مُعَوِّد الحُكَماء، وقد افتخر بها لَبيد فقال: [من الرجز] نحن بنو أمِّ البَنِينَ الأَرْبَعَهْ وإنما قال: أربعة، وهم خمسة لضرورة الشعر (¬1). أَنْجَبُ من مَارِيَة، هي بنت أَرقم بن ثَعْلَبة بن عمرو بن جَفْنَة بن عَوف بن عمرو بن ربيعة، وابنُها الحارث الأَعرج الذي قال فيه حسان: [من الكامل] أولادُ جَفْنة حول قبر أَبيهم ... قبرِ ابنِ ماريةَ الكريمِ المُفْضل (¬2) وقال أبو عبيد: مارية بنت عبد مناة بن مالك بن زيد بن عبد الله بن دارم. وقال ابن قتيبة: مارية بنت ظالم بن وهيب بن الحارث بن معاوية الكِندي، وأختُها هِند الهُنود امرأةُ اَكِلِ المُرَار (¬3)، ويُقال في المثل: خُذْها ولو بقُرْطَي مارِية، فضُرب مثلاً للشيء الثَّمين (¬4). أَنْجَبُ من عاتِكة، هي بنتُ هِلال بن مُرَّة بن ذَكوان السُّلَميَّة، جدَّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولدت لعبد مَناف بن قُصَيّ هاشماً وعبدَ شمس والمُطَّلب (¬5). أَنْدَمُ من الكُسَعِيّ، واسمه مُحارِب بنُ قيس من بني كُسَع، وقيل: غامِدُ بنُ الحارث، كان يرعى إبلاً بوادٍ مُعْشِبٍ، فرأى نَبْعَةً في صخرةٍ فأَعجبتْه (¬6)، فقطعها ¬

_ = أسماء في البيان 1/ 147، وأمالي القالي 1/ 5، والشعر والشعراء 782. (¬1) الدرة 2/ 411، والعسكري 2/ 35، والميداني 2/ 350، والزمخشري 1/ 382، وديوان لبيد 341. (¬2) ديوانه 1/ 74 (عرفات). (¬3) المعارف 609. (¬4) أمثال أبي عبيد 332، والفاخر 107، والدرة 2/ 410 و 412، والعسكري 2/ 299 و 326، والميداني 2/ 349 و 357، والزمخشري 1/ 384 و 2/ 73، وفصل المقال 335. (¬5) الدرة 2/ 412، والعسكري 2/ 326، والميداني 2/ 350 - 351، والزمخشري 1/ 384. (¬6) النبع من أشجار الجبال.

واتَّخذ منها قَوساً، فمرَّت به قُطعانٌ من حُمُرِ الوَحْش ليلاً، فرمى عيراً فأنْفَذَها، وخرج السَّهمُ منها فأصاب الجبل، فأَوْرى ناراً، فظنَّ أنه أخطأ، ثم مرَّ قطيع آخر، فرماه فأَنْفَذَه، وخرج السهمُ فأصاب الجبل، فظنَّ أنه أخطأ، فعل ذلك مِراراً وهو يظنُّ أنه يُخطئ، فعمد إلى قوسه فكَسَرها من حَنَقِه، فلما أَصبح نظر إلى الحُمُرِ قَتْلى مُضَرَّجة بالدم، فنَدِم، وعَضَّ إبهامَه فقطعها، وقال: [من الوافر] نَدِمْتُ نَدامةً لو أن نَفسي ... تُطاوِعُني إذاً لَقطعتُ خَمْسي فضَربت العربُ به المثل في كلِّ أمرٍ يُندَمُ فيه (¬1). أَنْسَبُ من دَغْفَل الشَّيباني، وقيل: السَّدُوسِيّ، واختلفوا في صُحبَتِه (¬2)، كان أَعلمَ أهلَ زمانه بالأنساب والعربيَّة والنُّجوم، وَفَد على معاوية فقال له: بم عَلِمْتَ ما عَلمت؟ فقال: بلسانٍ سَؤول، وقَلبٍ عَقول. وكان عند معاوية قُدامَةُ بنُ جَراد القُرَيعي، فنَسَبه حتى بَلغَ أباه الذي وَلَده، ثم قال له: وَلد جَراد وَلَدين: أحدُهما ناسك والآخر شاعر سَفيه، فممن أنت منهما؟ فقال: من الشاعر (¬3). وكان قد ذهب بَصَرُه، فمرَّ عليه واحدٌ من الأنصار، أو جماعةٌ من الأنصار، فسلَّموا عليه، فقال: مَن أنتم؟ فقالوا: أَشرافُ أهلِ اليَمن. فقال: من أهل مَلِكها القديم، وشَرَفها العَميم كِنْدة؟ قالوا: لا. قال: فمن الطِّوال قَصَباً، المُمْحَضين نَسَباً، بني عبد المَدَان؟ قالوا: لا. قال: فمن أَقْوَدِها للزُّحوف، وأَخْرَقِها للصُّفوف، وأَضْرَبِها بالسيوف، بني زُبَيْد؟ قالوا: لا. قال: فمن أَحْضَرِها قِراءً، وأَطْيَبِها فِناءً، وأصدقها لِقاءً، طَىِّء؟ قالوا: لا. قال: فمن الغارِسِين للنَّخل، والمُطعِمين في المَحْل، والقائلين بالعَدْل، الأنصار؟ قالوا: نعم (¬4). ¬

_ (¬1) الفاخر 90، والدرة 2/ 407، والعسكري 2/ 324، والميداني 2/ 348 - 349، والزمخشري 1/ 386، وثمار القلوب 133، والمعارف 612. (¬2) انظر الإصابة 3/ 194. (¬3) المعارف 534، ومجمع الأمثال 2/ 346 وفيهما: أنا الشاعر السفيه، والمثل دون قصة في الدرة 2/ 391، والعسكري 2/ 299، والزمخشري 1/ 391، وبرواية: أعلم من دغفل في الدرة 1/ 298، والعسكري 2/ 34، والميداني 2/ 54، والزمخشري 1/ 252. (¬4) أمالي القالي 2/ 284، والعقد 3/ 327 - 328.

أَنْعَمُ من حَيَّان أخي جابر، كان مُتَنَعِّماً، وفيه يقول الأعشى: [من السريع] شَتَّان لما يَومي على كُورِها ... ويومُ حَيَّانَ أخي جابرِ يقول: أنا في المسير والشَّقاء، وأخو جابر في الرّاحة والغناء (¬1). أَنعَمُ من خُرَيْم، هو أبن خَليفة المُري، ويُلقَّب بالنَّاعم، لأنه كان يَلبس الخَلَق من الثيَّاب في الصّيف، والجديدَ في الشتاء (¬2)، ودخل على الحجَّاج فقال له: ما النِّعْمةُ؟ قال: الأَمْن، لأن الخائف لا يَنتفعُ بالعَيش. أَنَتُّم من صُبْح، لأنه يَهتك الأستار (¬3). أَوْفى من السَّمَوْءَل، هو ابن عادِياء اليهوديّ، بلغ من وفائه أن امرأَ القيس بن حُجْر الكِندي أَودَعَ عنده دروعاً لمّا ذهب إلى قيصر، وأوصاه إذا مات أن يدفعها إلى وَرَثته، فغزاه بعضُ ملوك الشام، فسبى ولَدَه وقال: إن لم تدفع إليَّ الدُّروع وإلا ذَبَحتُ وَلَدَك، وكان قد أَحْصَره في حِصنِه بتيماء وهو الأَبْلَقُ الفَرْد، فقال: والله لا أُعطيك إياها أبداً، ولا أُفَرط في أمانتي، فذبح ولدَه وهو ينظر إليه، ثم رحل عنه، فلما كان في الموسم وافى بالدّروع، فدفعها إلى وَرَثته وقال: [من الوافر] وَفيتُ بأَذرُعِ الكِنديِّ إني ... إذا ما خان أقوامٌ وَفَيتُ وقالوا إنه كَنْزٌ رَغيبٌ ... ولا واللهِ أَغدِرُ ما مَشَيتُ بَنى لي عادِيا حِصناً حَصينا ... وبِئراً كلَّما شِئْتُ استَقيتُ (¬4) أَهْوَنُ من تَبالَةَ على الحَجّاج، وهي بلدة باليمن خِصبَة، كان عبد الملك ولّاه إياهاً، فلما أتاها استحقرها، فلم يدخل إليها، ولما سار إليها قال للدليل: أين هي؟ قال: سَتَرَتْها عنك هذه الأَكَمة، فقال: أَهْوِن بعَمل تَستُره أَكَمة، ثم رجع. ¬

_ (¬1) الدرة 2/ 403، والعسكري 2/ 325، والميداني 2/ 356، والزمخشري 1/ 393، وديوان الأعشى 197. (¬2) كذا، والذي في كتب الأمثال: أن الحجاج سأله عن تنعمه فقال: لم ألبس خَلَقاً في شتاء، ولا جديداً في صيف، انظر الدرة 2/ 452، والعسكري 2/ 319، والميداني 2/ 355 - 356، والزمخشري 1/ 394. (¬3) الدرة 2/ 392، والعسكري 2/ 315، والميداني 2/ 351، والزمخشري 1/ 401. (¬4) الدرة 2/ 415، والعسكري 2/ 345 وليس فيه الأبيات، والميداني 2/ 374، والزمخشري 1/ 435، وثمار القلوب 132، وديوانه 79، وانظر المحبر 349، والفاخر 302.

فصل

أَهْوَنُ من قُعَيْسٍ على عَمَّته، هو رجل من أهل الكوفة زار عمته في ليلة باردة وكان بيتها ضَيِّقاً وعندها كلب، فأدخلت الكلبَ البيتَ وأَخرجت قُعَيْساً، فمات من البرد. وقيل: هو قعيس بن مقاعس من بني تميم، مات أبوه، فرَهَنَتْه عمته على صاع من بُرٍّ، ولم تَستَفِكَّه فاستعبده الذي رهنته عنده (¬1). فصل إن البَلاءَ مُوَكَّل بالمَنْطِقِ. أوَّلُ مَن قاله أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - (¬2). إن من البَيان لسِحْرا، قاله عليه السلام لعَمرو بنِ الأَهْتَم لمّا وَصف الزبرقان بن بدر (¬3). إن البُغاثَ بأرضنا يَسْتَنْسِرُ، يُضرب مثلاً للضَّعيف يصير قويّاً، والذَّليل يَعزُّ، ومعناه: إن مَن جاوَرَنا عَزَّ بنا (¬4). إن الجَبان حَتْفُه من فَوْقه، أوَّلُ مَن قاله عَمرو بنُ مامَة، وكانت مُراد قد أصابته، فقال وهو في سياق الموت: [من الرجز] لقد حَسَوْتُ المَوتَ قبلَ ذَوْقِه إن المجَبانَ حَتْفُه من فَوْقِه والثَّورُ يَحمي أَنْفَه برَوْقِه (¬5) ¬

_ (¬1) المثلان على الترتيب في الدرة 2/ 431 و 432، والعسكري 2/ 373، والميداني 2/ 458 و 407، والزمخشري 1/ 445 و 447. (¬2) الفاخر 235، ومجمع الأمثال 1/ 17، وأمثال الحديث لأبي الشيخ (51)، ومن كلام عَبيد بن شرية في عيون الأخبار 2/ 305، والمستقصى 1/ 305، ومن كلام ابن مسعود - رضي الله عنه - في الزهد لوكيع (311)، ومصنف ابن أبي شيبة 8/ 578، والزهد لهناد (1193)، وروي مرفوعاً من حديث علي وحذيفة وأنس وأبي الدرداء وابن مسعود والحسن مرسلاً، وفي كل منها مقال، انظر المقاصد الحسنة (305)، وفيض القدير 3/ 223، وتنزيه الشريعة 2/ 296، وكف الخفاء 1/ 343. (¬3) أخرجه أحمد (4651)، والبخاري (5767) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، وأخرجه مطولاً العسكري 1/ 13، والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 316 و 317، وانظر الميداني 1/ 7، والزمخشري 1/ 414، وسير أعلام النبلاء 2/ 271 (السيرة)، والبداية والنهاية 7/ 242 و 243 (هجر). (¬4) أمثال أبي عبيد 93، والبكري 129، والعسكري 1/ 197 و 231، والميداني 1/ 10، والزمخشري 1/ 452. (¬5) أمثال أبي عبيد 316، والبكري 439، والعسكري 1/ 114، والميداني 1/ 10، والزمخشري 1/ 403.

إن الحديدَ بالحديد يُفْلَحُ، معناه: أن يُستعان على الأمر الشّديد بما يُقاربه ويُشاكله (¬1). إن في المَعاريض لَمَنْدوحَةً عن الكَذِب (¬2)، والمعاريض: التَّوريةُ بالشيء عن الشيء، أي: فيها سَعَة. إن القُدرة تُذهِب الحَفيظَة، طلب رجلٌ عظيمٌ رجلاً، فلما ظَفِر به قال: لولا أن القُدرة تُذهب الحَفيظة لانتقمتُ منك، ثم عفا عنه (¬3). بلغ السَّيلُ الزُّبى، والزُّبْية: حُفرةٌ تُحفَر للأَسد إذا أرادوا أن يَصيدوه، ولا يَعلوها الماء، فإذا بلغها السيل كان جارفاً مُجْحِفاً، فضرب مثلاً لما جاوز الحدّ (¬4). وكذا قولهم: الحِزام الطُّبْيَيْن (¬5). وكذا: اتَّسعَ الخَرْقُ على الرَّاقِع (¬6). بَرِحَ الخَفاء، معناه: وَضح الأمرُ (¬7). تجوع الحُرَّةُ ولا تأكلُ ثَدْيَيْها، معناه: أن الحُرَّةَ وإن آذاها الجوع لا تكون ظِئراً، ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 96، والبكري 134، والعسكري 1/ 345، والميداني 1/ 11، والزمخشري 1/ 403. (¬2) روي عن عمران بن حصين مرفوعاً وموقوفاً، فأخرجه ابن عدي في الكامل 3/ 963، وأبو الشيخ في الأمثال (230)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (327)، والقضاعي في مسند الشهاب (1011) مرفوعاً، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 4/ 287 و 7/ 144، وابن أبي شيبة في المصنف 8/ 723، وهناد في الزهد (1378)، والبخاري في الأدب المفرد (857) و (885)، والطبري في تهذيب الآثار (943) (مسند عمر)، والطبراني في الكبير 18/ (201)، والبيهقي في شعب الإيمان (4458)، وفي السنن الكبرى 10/ 199، وابن عبد البر في التمهيد 16/ 252 موقوفاً. قال البيهقي: هذا هو الصحيح موقوفًا، وروي من كلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 723، والبيهقي 10/ 199، وابن عبد البر 16/ 252، وانظر كشف الخفاء 1/ 270، ومجمع الأمثال 1/ 13. (¬3) أمثال أبي عبيد 155، والبكري 234، والميداني 1/ 14، والزمخشري 1/ 349. (¬4) أمثال السدوسي 40، والعسكري 1/ 220، والميداني 1/ 91، والزمخشري 2/ 14. (¬5) الكامل 27، والمستقصى 2/ 13. (¬6) العسكري 1/ 160، والزمخشري 1/ 35. (¬7) أمثال أبي عبيد 60، والبكري 63، والعسكري 1/ 205، والميداني 1/ 95، والزمخشري 2/ 7، والفاخر 35، وأمثال أبي عكرمة 84.

وأوَّلُ من قال ذلك: الحارث بن سَلِيل الأسدي، أراد به: أن الرجل الحُرَّ يَصونُ نفسَه عن الخَسائس (¬1). لا أطلُبُ أَثَراً بعد عَيْن، أَوّلُ مَن قاله مالك بن عمرو الباهلي، وقيل العاملي: قُتل أخوه سِماك، فخرج يطلب قاتلَه، فرآه في رَكْبٍ، فقالوا له: يا مالكُ خُذْ مئةً من الإبل ولا تقتلْه، فقال: لا أطلبُ أَثَراً بعد عين، وحمل عليه فقتله. فضرب مثلاً لمن ترك شيئًا وهو يراه، ثم تتبَّع أَثَرَه بعد فوات عَينه (¬2). تَسْمَع بالمُعَيْدِيِّ لا أن تَراه، يُضربُ مَثَلاً للرجل الذي له صِيتٌ وذكرٌ في الناس، فإذا رأيتَه ازْدَرَيتَه، وأولُ مَن قال ذلك المُنذر بن ماء السماء، بَلغَه عن بعض أَحياءِ العرب أن لهم جمالاً وهَيبة، فلما حضروا بين يديه لم يجدهم كما وصفوا، فقال ذلك، فصار مَثلاً (¬3). تَعِسَت العَجَلَة، أوَّلُ مَن قاله فِنْد مولى عائشة بنت سعد بن أبي وَقّاص، بعثَتْه ليأتيها بنار، فصادف قوماً خارجين إلى مصر، فخرج معهم، فأقام بها سنة، ثم ندم فعاد، وأخذ ناراً وجاء بها إلى عائشة يعدو، فعثر فتبَدَّد الجمرُ، فقال: تَعِسَت العَجَلة. وفيه يقول عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات: [من الخفيف] قُلْ لفِنْدٍ يُشَّيَعُ الأَظْعانا ... طالَ ماسَرَّ عيشنا وكَفانا (¬4) كجار أبي دُؤاد، هو كَعْبُ بنُ مامة، ما جاوره جارٌ إلا وأحسن إليه، وأَخلف له ما تَلِفَ من مال وغير ذلك. فضربت العربُ به المَثَل، قال قيس بن زهير: أُطوِّف ما أُطوِّفُ ثم آوي ... إلى جارٍ كجارِ أبي دُؤادِ (¬5) ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 196، والبكري 289، والفاخر 109، والعسكري 1/ 261، والميداني 1/ 122، والزمخشري 2/ 20. (¬2) أمثال أبي عبيد 248، والعسكري 2/ 389، والميداني 1/ 127 و 2/ 215، والزمخشري 2/ 242. (¬3) أمثال أبي عبيد 97، والفاخر 65، والعسكري 1/ 266، والميداني 1/ 129، والزمخشري 1/ 370، والبكري 135. (¬4) الفاخر 189، ومجمع الأمثال 1/ 139، والأغاني 17/ 176، وديوان عبيد الله 157. (¬5) مجمع الأمثال 1/ 163، وثمار القلوب 127، وبرواية: أجود من كعب في الدرة 1/ 129، والزمخشري 1/ 54 وفيهما البيت.

جَوِّعْ كلبَك يَتْبَعْكَ، أوَّلُ مَن قال ذلك مَلِك من ملوك حِمْيَر، كان ظالماً لرعيَّته، غاصباً لأموالهم، وكانت له زوجةٌ تنهاه عن ذلك وتقول: أخاف أن يصيروا سِباعاً بعد أن كانوا تِباعاً، فيقول لها: جَوِّعْ كلبَك يَتْبَعْك، وكان له أخ، فاجتمعت الرعيَّةُ إليه، وسألوه أن يَليَ عليهم، وقتلوا الملك وولَّوْا أخاه، فمرَّ به عامر بنُ جَذيمة وهو مقتول فقال: ربّما أكل الكلبُ سيِّدَه إذا لم يُشْبِعْه، فصارت مثلاَّ (¬1). جاء بقَرْنَي حِمار، معناه: جاء بالباطل والكَذِب، لأن الحمار لا قَرْنَ له (¬2). حديث خُرافَة، وهو رجل استَهْوَتْه الجنُّ، فكان يُحدِّثُ بما رأى فكذَّبوه، وقالوا: حديثُ خُرافة (¬3). حَلَبَ الدَّهرَ أَشْطُرَه، يُضربُ مَثَلاً لمَن جَرَّبَ الدَّهر (¬4). حُبُّك الشيءَ يُعمي ويُصِمّ، هو حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، ومعناه: يُخفي عليك مساويه، ويُصمُّ سَمعَك عن العَذْل فيه. وحَبيبٌ إلى عبدٍ مَن كَدَّه، معناه: أن مَن أهان العبدَ وأتعبه كان أحبَّ إليه ممَّن أكرمه، لأن طباع العبد مَجبولةٌ على الهَوان (¬6). الحديثُ شُجون، أوَّلُ مَن قاله ضَبَّةُ بن أُدَّ بن طابخة بن إلياس، قال الفرزدق: [من الطويل] فلا تَأمَنَنَّ الحربَ إنَّ استِعارَها ... كضَبَّةَ إذ قال الحديثُ شُجونُ (¬7) وكان لضَبَّةَ وَلَدان: سعد وسُعَيد، فنَفِرت إبلُه، فبعث ولدَيه في طَلَبِها، فلقي ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 358، والفاخر 158، والعسكري 1/ 111، والميداني 1/ 165، والزمخشري 1/ 50. (¬2) مجمع الأمثال 1/ 166. (¬3) مجمع الأمثال 1/ 195، وبرواية: أَمْحَل من حديث خرافة في الدرة 2/ 389، والعسكري 2/ 295، والميداني 2/ 326، والزمخشري 1/ 361. (¬4) العسكري 1/ 346، والميداني 1/ 195، والزمخشري 2/ 64. (¬5) الصحيح أنه موقوف على أبي الدرداء - رضي الله عنه - كما ذكر محققو مسند أحمد (21694)، وانظر مجمع الأمثال 1/ 169. (¬6) الميداني 1/ 196، والزمخشري 2/ 57. (¬7) ديوانه 2/ 333 (صادر).

الحارث بنُ كعب سُعَيْداً وعليه بُرْدان، فسأله الحارث إياهما فأبى عليه، فقتله الحارث ولم يعرفه، وغاب خبره عن أبيه ضَبَّةَ زماناً، ثم خرج إلى الموسم، فرأى الحارث وعليه البُردان فقال: من أين لك هذان؟ فقال: لقيتُ غُلاماً من صفته كذا وكذا، فسأَلْتُه إياهما فأبى، فقتلتُه وأخذتُهما. فقال ضَبَّة: الحديثُ شُجون، ثم قال للحارث: أَقتَلْتَه بسيفك هذا؟ قال: نعم. قال: أظُنُّه صارماً، فناوله إياه، فهزّه ثم ضرب به الحارث حتى برد، وأخذ بثأر ولده (¬1). الحَربُ سِجال، أولُ مَن قاله أبو سفيان بن حرب يوم أُحُد (¬2). حَمَّام مِنْجاب، هو ابنُ راشد الضَّبِّي، بنى حمَّاماً بالبصرة، فكان يجتمع إليه الفُسَّاق، فضربت العرب به المَثَل، واحْتُضِرَ بعض الناس فقيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: [من البسيط] يارُبَّ قائلة يوماً وقد لَغِبَتْ ... كيف الطَّريقُ إلى حَمَّام مِنجابِ ومات (¬3). خُفَّا حُنين، كان رجلاً شديداً، ادَّعى أنه ابنُ أسد بن هاشم بن عبد مناف، فأتى عبدَ المُطَّلب، وعليه خُفَّان أحمران، فقال: يا عمُّ، أنا ابنُ أسد بن هاشم، فقال عبد المطلب: لا وثياب [ابن] هاشم، ما أَعرف فيك شمائلَ هاشم فارجع، فرجع، فقال الناس: رجع حُنَين بخُفَيه، فصارت مثلاً. وقيل: كان حُنين إسكافاً من أهل الحيرة، ساوَمَه أَعرابيٌّ بخُفَّيْن، ولم يَشتر منه شيئًا، وغاظه ذلك، فخرج فعلَّق أحد الخُفَّين في شجرة على طريقه وتقدَّم قليلاً، وطرح الآخر وكَمَن، وجاء الأعرابيُّ فرأى أحدَ الخُفَّين فقال: ما أَشبَهَ هذا بخُفّ حُنَين لو كان معه آخر، فتقدَّم فرأى الخُفَّ الآخر مطروحاً في الطريق، فنزل وعَقل بعيرَه وأخذه، ورجع ليأخذ الأوّل، فخرج حُنَيْن من الكمين، فأخذ بعيره، وذهب الإسكاف بالبعير، ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 61، والبكري 67، والفاخر 59، والعسكري 1/ 377، والميداني 1/ 197، والزمخشري 1/ 310. (¬2) السيرة 2/ 92، ومسند أحمد (18593)، وصحيح البخاري (4043) بقصة غزوة أحد من حديث البراء - رضي الله عنه -. (¬3) التعازي والمراثي 252، والمعارف 614، وعيون الأخبار 2/ 311، وثمار القلوب 488 (صالح).

ورجع البدوي إلى حيِّه بخُفَّي حُنَيْن (¬1). خَلا لك الجَوُّ فبِيْضِي واصْفِري، أوَّلُ مَن قال ذلك طَرَفة بنُ العَبْد الشاعر، خرج مع عمِّه في سفر وهو غلام، فنزلوا على ماءٍ، فنصب طرفة الفِخاخ ليَصيد القَنابِر، وجلس عامَّةَ يومِه، فلم يقع في الفِخاخ شيء، فأحْذ الفِخاخ وارتحلوا، فنظر إلى القَنابر فإذا بهنّ يَلقُطنَ ما نثوه من الحَبّ، فقال طرفة: [من الرجز] يا لك من قُنْبَرةٍ بمَعْمَرِ خلا لك الجوُّ فبِيضي واصفِري ونَقِّري ما شئتِ أن تُنَقِّري قد رَحَل الصيَّادُ عنك فابْشِري ورُفعَ الفَخُّ فماذا تَحذَري لابُدَّ من صيدِك يوماً فاصبري (¬2) دَرْدَبَ لمّا عَضَّه الثّقاف، خشبة تُسَوَّى بها الرّماح، ومعناه: ذَلّ وخضع، يضرب مثلاً لمن امتنع من شيء، ثم ذَلَّ وانقاد إليه (¬3). ذَكَّرْتَني الطَّعْنَ وكنتُ ناسياً، أوّلُ مَن قاله: رُهَيم بن حَزْن الهِلاليّ، وكان قد خرج بأهله وماله يُريد بلاداً أخرى، فاعترضه قوم من بني تَغلب، فعرفوه ولم يعرفهم، فقالوا له: خَلّ ما معك وانْجُ بنفسك، فقال: خذوا المال ودَعوا الحَريم -وكان قد نسي أن رُمحه في يده- فقال له بعضُهم: فأَلْقِ رُمحَك، فتذكّر وقال: وإن رُمحي معي، ثم حمل عليهم فقتل منهم جماعة، وانهزم الباقون، وهو يَرتَجز ويقول: رُدُّوا على أَقْرَبِها الأَقاصِيا ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 245، والبكرى 354، والعسكري 1/ 433، والميداني 1/ 256 و 296، والزمخشري 1/ 105 و 2/ 100، وما بين معكوفين منهما. (¬2) أمثال أبي عبيد 251 - 252، والفاخر 179، والبكري 363، والعسكرى 1/ 422، والميداني 1/ 239، والزمخشري 2/ 75، وديوان طرفة 157. (¬3) أمثال أبي عبيد 318، والعسكري 1/ 444، والميداني 1/ 264، والزمخشري 2/ 79.

إنَّ لها بالمَشرَفيِّ حادِيا ذَكَّرْتَني الطَّعْنَ وكنتُ ناسِيا وقيل: أصل هذا أن رجلاً حمل على رجل ليقتُلَه، وكان في يد المحمول عليه رُمح، فأنساه الدَّهَشُ ما في يده، فقال الذي حمل عليه: ألقِ الرُّمحَ، فتذكر، فحمل عليه برُمحه فقتله. وصاحب الرُّمح: يزيد بن الصَّعِق، والمقتول: صَخْر بن معاوية السُّلَمي (¬1). رُميَ فلان بحَجَرِه، يعني: بِقِرْنِهِ في الصَّلابة والصُّعوبة. ولما بعث معاوية عَمرو بنَ العاص حكماً في أيام صِفّين قال الأحنف لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: إنك قد رُميتَ بحَجَر أهل الأرض، أي: لا نَظيرَ له في الدَّهاء، فابعث ابنَ عبّاس، فإنه رجلُ الدَّهر، أي: نَظيرُه (¬2). رُبَّ أخٍ لم تَلِدْه أُمُّك، أوّلُ مَن قال ذلك لُقمانُ بن عاد، خرج في سفر فعَطِش، فلاحت له خيمةٌ، فقَصدَها، فإذا فتاةٌ إلى جانبها شابٌّ تُغازِله، فاستسقى ماء، فقالت المرأة: أتَبغي اللبن أم الماء؟ فقال: كلاهما. فقالت: إن أَردتَ اللبنَ فخَلْفَك، وإن أردتَ الماء فأمامَك، فقال: ما هذا الرجلُ منكِ؟ فقالت: أخي، فقال: رُبَّ أخٍ لم تَلِدْه أمُّكِ. فذهبت مثلًا، ثم نظر إلى شَعرٍ مَفتول فعرف أن زوجَها أَعْسَر، فقال: ثَكِلت الأُعَيْسِرَ أُمُّه، لو يَعلمُ العِلمَ لطال غَمُّه. فذهبت مثلاً. وذُعِرت منه المرأة، فعَرضت عليه الطَّعامَ والشَّرابَ فأبى، وقال: المَبيتُ على الطَّوى حتى تَنالَ به كريم المَثْوَى خيرٌ من إتيان ما لا تَهوى. فذَهَبت مثلاً. ثم مضى، وإذا برجُلٍ يسوق إبلاً وقت العشاء، فعرف صوتَه ولم يره قبل ذلك، وهو يقول: [من الرجز] ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 62، والفاخر 142، والعسكري 1/ 463، والميداني 1/ 279، والزمخشري 2/ 85، والبكري 70. (¬2) أمثال أبي عبيد 97، والعسكري 1/ 480، والميداني 1/ 287، والزمخشري 2/ 103، ووقع في (ب) بعد هذا: حمل العصا للمبتلى ... ، وموضعه قبل المثل: قوس حاجب.

رُوحِي إلى الحيِّ فإن نَفسي رَهينةٌ فيه بخَيرِ عِرسِ حُسَّانَةُ المُقْلَةِ ذاتُ أُنْسِ لا يُشَتَرى اليومُ لها بأَمْسِ وكان اسم الرجل هانئ، فناداه لقمان: يا هانئ، فقال: مالك؟ فقال: يا ذا البِجمادِ الحلَكهْ والزَّوجةِ المُشْتَركهْ لستَ لمَن ليست لَكَهْ فذهبت مثلاً فقال له هانئ: نَوِّرْ، نَوَّر الله أَثَرَك، فقال له لقمان: عليَّ التَّنوير، وعليك التَّغيير إن كان عندك نكير، كلُّ امرئٍ في بيته أمير، فذهبت مثلاً، ثم قال: مَررْتُ وبي أُوام (¬1)، فدُفِعْتُ إلى خيمةٍ من الخيام، وإذا بفتاةٍ إلى جانب غُلام، والمنزلُ منزلُك، والمرأةُ امرأتُك وهي تُغازل شاباً، فسألتُها عنه فزعمَتْه أخاها، ولو أنه كما قالت لأفْصَح شِقَّاها، قال هانئ: ومن أين علمتَ أنه منزلي، والعَروس عِرْسي؟ فقال: رأيت عَقائقَ هذه النُّوق في الأَفْياء، وأَثَر هذه الخليَّة في الفِناء، وسَقْبَ هذه النّاب، وأَثَر يَدك في الأَطناب (¬2)، فقال: صَدَقْتَ، فداك أبي وأمي، وكذَّبْتُ نفْسي، فما الرّأي؟ فقال: تحمي عِرْسَك، وتَحفظُ نفسَك، وتَقلبُ الظَّهرَ بطناً والبَطْنَ ظَهْراً، حتى يستبينَ لك الأمر أمراً، قال: ألا أُعالجها بكيَّة تُورِدُها المَنِيَّة، فقال لقمان: آخرُ الدَّواء الكَيّ، فأرسلها مثلاً، وهو أوَّلُ مَن قالها، وجاء هانئ إلى منزله فقال لامرأته: مَرَّ بك رجلٌ من هيْئتِه كذا وكذا؟ قالت: نعم. فسَلَّ سيفَه، ثم ضربها به حتى بَرَدَتْ (¬3). ¬

_ (¬1) أي: غَطَشْ. (¬2) العقائق: جمع عقيقة، الشأة التي تذبح عند حلق شعر الولود، أو صوفها، والأفياء: جمع فيء، ما بعد الزوال من الظلِّ، والخلية: الإبل المخلّاة للحَلْب، والناب: الناقة المسنَّة والسقب: ولدها، والأطناب: حبال يشد بها سرادق البيت، أو الأوتاد. (¬3) مجمع الأمثال 1/ 291، وأمثال أبي عبيد 175، والعسكري 1/ 424 و 481، والزمخشري 2/ 93.

رُبَّ ساعٍ لقاعِد، أَوَّلُ مَن قاله: النابغة الذُّبياني. قَدم جماعةٌ من الوُفود على النعمان ابن المنذر وفيهم شقيق العَبْسي، فمات عنده، وأعطى النعمانُ الوُفودَ الجَوائز، وبعث بجائزةِ شَقيق إلى أهله بمثل ما حبا به واحداً من الوفود، فقال النابغة: [من الطويل] أَبقيتَ للعَبْسيِّ فضلاً ونعمةً ... ومَحْمَدةً من باقيات المَحامدِ حِباءَ شَقيقٍ فوق أَعْظُمِ قَبْرِه ... وما كان يُحْبى قبلَه قبرُ وافِدِ أتى رميةٍ منه حِباءٌ ونعمةٌ ... ورُبَّ امرئ يسعى لآخر قاعدِ (¬1) رُبَّ رَميةٍ من غير رامٍ، أول من قاله الحَكَمُ بنُ عبد يَغوث المِنقَري، كان قد آلى أن يَرمي مَهاةً، فرماها فأخطأها، وكان معه ابنٌ لا يُحسنُ الرَّميَ، فرمى مَهاة فأصابها، فقال الحكم: رُبَّ رَميةٍ من غير رام (¬2). شَرُّ أيَامِ الدّيك يوم تُغسَلُ فيه رِجلاه، وإنما تُغسل بعد ذبحه وتهيئته للطَّبخ، قال عليّ بن الحسن البَاخَرزي يشكو قومه: [من البسيط] ولا أُبالي بإذلالٍ خُصِصْتُ به ... فيهم ومنهم وإن خُصُّوا بإعزازِ رِجلُ الدَّجاجةِ لا من عِزّها غُسِلَتْ ... ولا من الذّلِّ خِيطَتْ مُقْلَةُ البازِ (¬3) شِنْشِنةٌ أَعرفُها من أَخْزَمِ، أوَّلُ من قاله أبو أخزم الطَّائي جَدّ حاتم، وكان له ابن يُقال له: أَخْزَم، وكان عاقاً له، فمات الابن، وترك بنين، فوثبوا على جدِّهم أبي أَخْزَم فأَدْمَوه، فقال: [من الرجز] إن بنيَّ ضَرَّجوني بالدَّمِ ... شِنْشِنَةٌ أَعرِفُها من أَخْزَمِ أي: أشبهوا أباهم في العُقوق. وقيل: كان عَقيل بن عُلَّفَة المُرِّي يسكن الباديةَ لشَرَفِ نَفْسه، وكان يُصهِر إليه الخُلَفاء، خطب إليه عبدُ الملك بن مروان ابنتَه الجَرْباء على أحد بنيه، فقال له: جَنِّبْني هُجَناءك. ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 195، والفاخر 175، والعسكري 1/ 479، والميداني 1/ 299، والزمخشري 2/ 95، والبكري 287، وديوانه 46 (صادر). (¬2) أمثال أبي عبيد 51، والبكري 43، والعسكري 1/ 491، والميداني 1/ 299، والزمخشري 2/ 105. (¬3) مجمع الأمثال 1/ 359.

وكان غيوراً خرج يَمتارُ ومعه ابنتُه الجَرْباء وابنُه عَمَلَّس، فنزل ديراً بالشام يُقال له: دير سَعْد، فلما ارتحلوا قال عَقيل: [من الطويل] قَضتْ وَطَرأ من دير سعدٍ ورُبَّما ... على عُرُضٍ ناطَحْنَه بالجَماجمِ ثم قال لابنه: أَجِزْ، فقال: [من الطويل] فأَصْبَحْنَ بالمُوماة يَحْمِلْنَ فِتْيَةً ... تَميلُ من الإدلاج مَيْلَ العمائمِ ثم قال لابنته: يا جَرْباء أَجيزي فقالت: [من الطويل] كأن الكَرى سَقَّاهُمُ صَرْخَدِيَّة ... عُقاراً تَمَشَّت في المَطا والقَوائمِ فقال: وما يُدريكِ ما نَعْتُ الخمر، وأخذ السَّوط، وأهوى إليها؟ فحال بينهما عَمَلّس، فأراد أن يضربه، فرماه عَمَلّس بسهم، فاختلّ فخذيه فبرك، ومَضَوا وتركوه، حتى إذا بلغوا أدنى ماءٍ لهم قالوا: إنا خلَّفنا جَزوراً، فأدرِكوه وخذوا معكم ماء، فأخذوا وقَصدوه، وإذا بعَقيل باركٌ وهو يقول: [من الرجز] إن بَنيَّ ضَرَّجوني بالدَّمِ ... شِنْشِنَةٌ أَعرِفُها من أَخْزَمِ مَن يَلق أبطالَ الرجال يُكلَمِ وقيل: كان في الجاهلية فحلٌ يقال له: أَخْزَم، أنجب أولاده جميعاً، وكان يُضرب به المثل. وشاور عمر بن الخطاب ابنَ عباس - رضي الله عنهما - في أمر، فأشار عليه بما أعجبه، فقال عمر - رضي الله عنه -: شِنْشِنَةٌ أَعرِفُها من أَخْزَمِ. أشار إلى العباس - رضي الله عنه -، لأنه لم يكن في قريش شِبهُه في الرأي والحَزْم (¬1). صارت الفِتيانُ حُمَماً، أوَّلُ مَن قاله الحَمراء، واسمُها: ضَمْرة بنت جابر، كان عمرو بنُ هند ملكُ الحيرة قد نَذَر دماء بني تميم، لأنهم قتلوا أخاه سعد بن هند وقال: والله لأحرقَنَّ منهم مئة من ساداتهم. وسار إليهم في جيوشه، فتفرَّقوا فأتى دارَهم، فلم يجد فيها إلا عجوزاً كبيرة، فنظر إلى حُمْرتها، فقال: إني لأَحْسَبُك أعجميَّة، فعرفَتْه، ¬

_ (¬1) العققة والبررة لأبي عبيدة 2/ 357 (نوادر المخطوطات)، وطبقات فحول الشعراء 710 - 716، وأمثال أبي عبيد 144، والبكري 219، والعقد 2/ 191 - 192، والعسكري 1/ 541، والميداني 1/ 361، والزمخشري 2/ 134.

وعرفتْ أنه قاتلُها، فقالت: لا والذي أسألُه أن يَخفِضَ جَنَاحَك، ويَهِدَّ عِمادَك، ويَضَعَ وِسادَك، ويَسلبَك أهلَك وأولادَك وبلادَك ما أنا بأعجميَّة، فقال: مَن أنت؟ فقالت: ضَمْرة بنت جابر الحمراء، بنت من سادَ مَعَدّاً كابِرًا عن كابر. قال: فمَن زوجُك؟ قالت: هَوْذَة بنُ جَرْوَل. قال: أما تعرفين مكانَه؟ فقالت: لو علمتُ مكانَه لحال بيني وبينك، فقال: وأيُّ رجل هو؟ فقالت: طَيِّبُ العِرْقِ، سمينُ العَرْقِ، يأكلُ ما وَجَد، ولا يَسأل عما فَقَد، فقال عمرو: أما والله لولا أني أَخافُ أن تَلِدي مثلَ أبيك وأخيك وزوجك لاسْتَبْقَيْتُك، فقالت: إنك لا تَقتُل إلا نساءً أَعاليهنّ ثُدِيّ، وأَسافلهن دُمِىّ، والله ما أدركتَ ثأراً، ولا غَسلْتَ عارًا. فأمر بها أن تُحرقَ، فقالت: صارت الفِتيانُ حُمَماً، ثم ألقاها في النار. وأقام عامَّةَ يومه لا يَقدر منهم على أحد، حتى إذا كان آخر النهار أقبل راكبٌ اسمُه عَمّار، فقال له عَمرو: مَن أنت؟ فقال: وافِدُ البَراجِم. فقال عمرو: إنّ الشَّقيَّ وافِدُ البَراجِمِ، فذهبت مثلاً (¬1). صَبْراً على مَجامِر الكِرام، أَوَّلُ من قال ذلك مولاةُ يسار الكَواعب، راودها مولاها يسار عن نفسها، فأبت عليه، فألحَّ عليها، قالت: إن ريحَك سَهِكَة، فإنْ بخَّرتُك ببَخورٍ طاوعتُك، فقال: افعلي. فجاءت بمجمرة فجعلتها تحته، وأدخلت يدها تصلِحُه، وقبضت على ذَكَره ومخاصيه، فجذبَتْه فصاح، فقالت: صَبْراً على مَجامِر الكرام، فأرسلَتْها مثلا لمَن يَصبر على ما يكره، قال الفرزدق يخاطب جريراً: [من الطويل] وإنّي لَأَخشى إن خطبْتَ إليهمُ ... عليك الذي لَاقى يَسارُ الكَواعبِ (¬2) الصَّيفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ، كانت امرأةٌ تحت رجل مُوسِر، فكرهته لكبره فطلَّقها، فتزوَّجها رجلٌ مُمْلِق، فبعثت إلى زوجها الأوَّل تَسْتَمْنحُه، فقال: الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَن، وكان طلَّقها في الصيف (¬3). ¬

_ (¬1) مجمع الأمثال 1/ 394، والمستقصى 2/ 137، وانظر أمثال أبي عبيد 328، والبكري 454، والعسكري 1/ 121، والميداني 1/ 9، والزمخشري 1/ 405. (¬2) النقائض 816، والفاخر 99، والميداني 1/ 393، والزمخشري 2/ 139، وديوانه 1/ 97 (صادر). (¬3) أمثال أبي عبيد 247، والبكري 357، والفاخر 111، والعسكري 1/ 575، والميداني 2/ 68، والزمخشري 1/ 329.

ظاهِرُ العِتاب خيرٌ من باطنِ الحِقْد، ومثله قول القائل: [من الوافر] إذا ذَهب العِتاب فلا وِداد ... وَيبقى الودُّ ما بَقي العِتابُ ظَنُّ العاقِلِ خيرٌ من يقين الجاهل (¬1). عند جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليَقينُ، وكان من حديثه: أنَّ حُصَيْن بن عمرو بن معاوية بن عمرو ابن كلاب خرج ومعه رجلٌ من جُهَيْنَة، وأخذ مالَه، وكانت صَخْرة بنت مُعاوية تبكيه في المواسم. فقال الأخنس: [من الوافر] تُسائلُ عن حُصَيْنٍ كلَّ رَكْبٍ ... وعند جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليقينُ فمَن يكُ سائلاً عنه فعِندي ... لصاحِبه البيانُ المُسْتَبِينُ وقيل: جُهَيْنَة اسمُ خَمّار (¬2). عند الصَّباحِ يَحْمَدُ القَومُ السُّرى، أوَّلُ مَن قاله رافع الطَّائي دليلُ خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من العراق إلى الشام، وقيل: هو قَولُ خالد بن الوليد - رضي الله عنه - (¬3). على الخَبير سَقَطْتَ، أوَّلُ من قاله مالك بن جُبَير العامِريّ، وكان من حكماء العرب. وسأل هارون الرشيد الأصمعيّ عن شيء، فقال له الأصمعي: على الخبير سقطتَ، فقال له الفضلُ بن الربيع: أسقط الله أسنانَك، أبمثل هذا تُخاطب أميرَ المؤمنين؟ فقال الأصمعيّ: هذه لغةُ العرب، فنهاه هارون وقال: صدق (¬4). على يَدَيَّ دار الحديث، يُضرب مثلاً لمن كان عالماً بالأمر، وقد تكلم به جابر بن عبد الله في حديث المتعة (¬5). ¬

_ (¬1) المثلان في مجمع الأمثال 1/ 445، والبيت في العقد 2/ 310 و 4/ 230. (¬2) أمثال أبي عبيد 201، والفاخر 126، والعسكري 2/ 44، والميداني 2/ 3، والزمخشري 2/ 169، والبكري 295. (¬3) أمثال أبي عبيد 170، والبكري 254، والفاخر 193، والعسكري 2/ 42، والميداني 2/ 3، والزمخشري 2/ 168. (¬4) أمثال أبي عبيد 206، والعسكري 2/ 46، والميداني 2/ 24، والزمخشري 1/ 164. (¬5) أمثال أبي عبيد 203، والميداني 2/ 8، والزمخشري 2/ 167، وأخرج حديث المتعة أحمد (14182)، ومسلم (1217).

عَضَّت الخيلُ على اللُّجُم (¬1)، يُضرب مثلاً لمَن يَغضبُ غَضبًا لا ينتفعُ به، ولا يُلتَفَتُ إليه فيه. في بيته يُؤتى الحَكَمُ، وَضَعت العربُ أمثالًا على ألسنة البهائم، فقالت: التقطت الأرنبُ تمرةً، فأخذها الثّعلب، فخاصَمَتْه إلى الضَّبّ، فجاءا إلى باب بيته، فنادت الأرنبُ: يا أبا لحُسَيْل، فقال الضَّبّ: سَميعاً دَعوتِ، فقالت: أتيناك لنَحتكمَ إليك، فقال: عادلاً حَكَّمتُما، قالت: فاخرج إلينا، فقال: في بيته يُؤتى الحَكَم، فقالت: إني التقطتُ تَمرةً، فقال: حُلواً جَنَيتِ، قالت: فاختَطفَها ثُعَالَة -يعني الثعلب- قال: حُلواً جنى، قالت: فلَطَمْتُه، قال: بحقِّك أَخذتِ، قالت: فلَطَمَني، فقال: كان حُرّاً فانتصر، قالت: فاقْضِ بيننا، قال: قد فعلتُ (¬2). قد يَضْرُطُ العَيْرُ والمِكْواةُ في النَّار، أوَّلُ مَن قاله مسافر بن أبي عمرو بن أُميَّة، كان يهوى هندًا بنت عُتبة بن ربيعة، فأراد أن يتزوّجها فقالت له: أنت فقير، وأهلي لا يُزوِّجونك وأنت مُعسِر، فاذهب إلى بعض الملوك لعلّك أن تُصيب مالاً. فذهب إلى النعّمان بن المنذر ملك الحيرة فأقام عنده، وتزوّج أبو سفيان هنداً وقدم الحيرة، وكان صديقاً لمُسافِر، فسأله عن أهل مكَّة فأخبره، وقال: تزوّجتُ هنداً، فشَهَقَ شَهقةً عظيمة، وسَقَى بطنُه، فأمر النعمان أن يُكوى، فأتي بطشتٍ فيه نار، فوضع الحجَّام عليه مِكواة لتُحمى، فضَرط الحجَّام، فقال مُسافر: قد يَضرُط العَيْرُ والمِكواةُ في النار. يُضرب مثلًا للرَّجل يَتخوَّفُ من الأمر، فيَجزَعُ قبل وُقوعه (¬3). قد أَنْصَفَ القارَةَ مَن راماها، وسبب هذا أن رجلاً منهم التقى رجلاً من العرب، فقال القاريّ: إن شئتَ سابقتُك، وإن شئتَ راميتُك؟ فقال الرجل: قد اخترتُ المُراماة. فقال القاريّ: [من الرجز] ¬

_ (¬1) كذا، والذي في مجمع الأمثال 2/ 56، والمستقصى 2/ 177: غَضَب الخيل على اللجم، بنصب غضب ورفعها. (¬2) أمثال أبي عبيد 54، والفاخر 76، والعسكري 1/ 367 و 2/ 151، والميداني 2/ 72، والزمخشري 2/ 60 و 183. (¬3) أمثال أبي عبيد 309، والفاخر 71 و 154، والعسكري 2/ 123، والميداني 2/ 95، والزمخشري 1/ 336، والبكري 432.

قد علمتْ سَلمى ومَن والاها إنّا إذا ما فِئةٌ نَلقاها نَردُّ أُوْلاها على أُخْراها قد أَنْصَفَ القارَةَ مَن راماها ثم رماه القاريُّ بسهم فأصاب فُؤادَه فمات، والقَارةُ: رُماةُ الحَدَق (¬1). قَلَبَ له ظَهْرَ المِجَنّ، يضرب مثلاً لمن كان على مَودَّةٍ ورعايةٍ لصاحبه، ثم تغيّر واستحال. وكتب عليٌّ عليه السلام إلى ابن عباس -رضي الله عنهما-: قَلبْتَ لي ظَهرَ المِجَنّ (¬2). قد ألقى عصاه، مثل لمَن استقرَّ من سفرٍ وغيره، قال جرير: [من الطويل] فلما التقى الحَيَّان أُلقِيَتِ العَصا ... ومات الهوى لمّا أُصيْبَتْ مَقاتِلُهْ (¬3) وفي عكسه يقول عليّ بن الحسن بن أبي الطيِّب الباخَرْزي: [من مجزوء الكامل] حَمْلُ العصا للمُبْتَلى ... بالشّيب عُنوانُ البِلا وُصِفَ المُسافِرُ أنّه ... أَلقى العصا كي يَنزِلا فعلى القِياسِ سبيلُ مَن ... حَمَلَ (¬4) العصا أن يَرحلا قَوْسُ حاجِب، دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني تميم، فأَجدَبت أرضُهم، فوفد حاجبُ ابن زُرارة التَّميمي على كسرى، يسألُه أن يأذن له ولقومه أن ينزلوا في أرياف العراق بسبب المَرعى، فقال له كسرى: أنتم قوم فُسدٌ غُدرٌ، وأخاف أن تُؤذوا الرَّعايا، فقال حاجب: أنا ضامنٌ أن لا يفعلوا شيئاً من ذلك، فقال: ومن أين لي بوفائك؟ قال: هذه قوسي، فضحكت أَساوِرَتُه، فقال كسرى: ما كان ليُسْلِمَها أبداً، فأخذ قَوسَه رهناً، وأَذن لهم فنزلوا الأرياف. ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 137، والفاخر 140، والعسكري 1/ 55، والميداني 1/ 100، الزمخشري 2/ 189، والبكري 204. (¬2) العسكري 2/ 125، والميداني 2/ 101، والزمخشري 2/ 198. (¬3) النقائض 630. (¬4) في النسخ: ألقى، والمثبت من مجمع الأمثال 2/ 101 - 102.

ثم وفد جماعةٌ منهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأَسلموا، فدعا لهم فأَخصبت أرضُهم، ومات حاجب، فأمر عُطارد بنُ حاجب قومَه بالرحيل إلى بلادهم، وجاء إلى باب كسرى يطلب قوس أبيه، فقال: إنك لم تُسلِم إليَّ شيئاً، فقال: أيُّها الملك، إني وارثُ أبي، وقد وَفينا بالضَّمان، ورحلنا عن بلادك، فإن لم تدفع إليَّ قوسَ أبي صار عاراً عليَّ وسُبَّةً، فدفع إليه القوس، وكساه حُلَّةً من حُلَلِه، فوَفد عُطارد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نَفرٍ من بني تميم وأَسلم، وأهدى الحُلَّة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردَّها عليه، فباعها عُطارد من يهوديّ بأربعة آلاف درهم. فكان بنو تميم يتوارثون ذلك القوس، وآخرُ مَن كان عنده جعفر بن عُمَير بن عُطارد ابن حاجب، فهو في ولده، يَعدُّونها من أعظم المفاخِر، وقد ذكرتْه الشعراء في أشعارها، فقال أبو القاسم الزمخشري: [من الطويل] فكلُّ وَفاءٍ كان في قوسِ حاجبٍ ... وأنت جمعْتَ الغَدْرَ في قوسِ حاجبِ وقال آخر: [من المنسرح] تَزهو علينا بقَوسِ حاجبِها ... تِيْهَ تَميمٍ بقَوسِ حاجبِها (¬1) قيل للبَغل: مَن أبوك؟ قال: خالي الفَرس، يُضرب مثلاً للمُختلِط النَّسب (¬2). اكثِرْ من الصَّديق فإنك على العدوِّ قادرِ، أوَّلُ مَن قاله: أَبْجَر بن جابر العِجلي في وَصِيَّته لولده حجار بن أَبْجَر (¬3). كلُّ شاةٍ برِجْلِها، معناه: لا يَنبغي لأحدٍ أن يَأخُذَ بالذَّنب غيرَ المُذنب (¬4). كلُّ الصَّيدِ في جَوْفِ الفَرَأ، خرج ثلاثةُ نَفَرٍ إلى الصَّيدِ، فصاد أحدُهم أرنباً، والآخر ظَبْياً، والآخر حمارَ وَحْشٍ، فتطاولا عليه وقالا: ما صِدتَ شيئاً، فقال: كُلُّ الصَّيدِ في ¬

_ (¬1) المعارف 608، وثمار القلوب 625 - 626، وربيع الأبرار 5/ 343، والبيت الثاني فيهما للمطراني، وهو له في يتيمة الدهر 4/ 138. (¬2) العسكري 2/ 105، والميداني 2/ 115. (¬3) الفاخر 247، والميداني 2/ 153. (¬4) أمثال أبي عبيد 274، والعسكري 2/ 153، والميداني 5/ 133، والزمخشري 2/ 226. وروايته فيها: كل شاة برجلها تُناط، وفي الفاخر 288 برواية: برجلها مُعَلَّقة.

جَوْفِ الفَرَأ، أي: إن هذا الحمار يَشمل ما معكما؛ لأنه أكبرُ الصُّيود، فكلّ صَيدٍ حَقيرٌ في جانبه (¬1). كلَابِس ثَوْبَي زُور (¬2)، معناه: أن الرّجلَ يَلبَسُ ثياب الزُّهَّاد، ويُظهرُ من التَّخَشُّع أكثرَ ممّا فيه. كلامٌ كالعَسَل، وفِعل كالأسَل، يُضرب لمَن خالفَ قولُه فِعلَه (¬3). كِلاهُما وتَمْراً، وخطب عَمرو بن حُمْران الجَعْدي امرأةً من العرب (¬4)، وكانت تَسجع، وكان هو يَسجع فتزوَّجها، فولدت له أولاداً فسمّى أحدهم عَمْراً، فنشأ فصيحاً، ودفع إليه إبلاً يَرعاها، فبينا هو يرعى، وبين يديه زُبْدٌ وتَمْرٌ وتامِك -وهو لحمُ السَّنام- إذ مرَّ به رجل عطشانٌ جائعٌ، فقال: أَتَطعمُني من هذا الزُّبدِ والتَّامِك؟ فقال: نعم، كلاهما وتَمْراً، فسار مثلاً (¬5). لَبِسْتُ له جِلدَ النَّمِر، يُضرب في إظهار العداوة وكَشْفِها (¬6). لو تُرِك القَطا لهدا وناما، أول مَن قاله حَذَامِ بنتُ الرَّيَّان، قَصدهم عاطِسُ بن خلاج ليلاً، فنَفَر القَطا، فقالت لأهلها: ارتَحِلوا فهذا العدوُّ، فلم يلتفتوا إليها، فقالت: [من الوافر] ألا يا قومَنا ارتَحِلوا فسِيروا ... فلو تُركَ القَطا ليلاً لَناما فعرف قولَها دَيْسَمُ بنُ طارق وكان حازماً فقال: [من الوافر] إذا قالت حَذَام فصَدّقوها ... فإن القَولَ ما قالت حَذامِ (¬7) ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 35، والبكري 10، والكامل 414، والعسكري 2/ 162، والميداني 2/ 136، والزمخشري 2/ 224، وفي حواشي الكامل فضل تخريج. (¬2) قطعة من حديث أخرجه أحمد (25340)، ومسلم (2129) عن عائشة، وانظر مجمع الأمثال 2/ 150. (¬3) الميداني 2/ 133. (¬4) كذا، والصواب أن الخاطب حمران الجعدي، انظر المصادر في الحاشية التالية. (¬5) أمثال أبي عبيد 200، والفاخر 149، والعسكري 2/ 147، والميداني 2/ 151، والزمخشري 2/ 231، والبكرى 110. (¬6) أمثال أبي عبيد 353، والبكري 480، والعسكري 2/ 199، والميداني 2/ 180، والزمخشري 2/ 278. (¬7) أمثال أبي عبيد 271، والبكري 384، والفاخر 145، والعسكري 2/ 194، والميداني 2/ 174، والزمخشري 2/ 296.

لعلَّ له عُذْراً وأنت تَلُومُ، وهذا نصفُ بيت، وأوَّلُه: [من الطويل] تَأنَّ ولا تَعجَلْ بلَومِك صاحِباً يُضرب مثلاً لمَن يلوم مَن له عُذْر (¬1). لا تَعدَمُ الحَسناءُ ذاماً، أي: أن الحَسَدَ يحملُهم على ذَمِّها (¬2). لا يُرسِلُ السَّاقَ إلا مُمْسِكاً ساقاً، معناه: لا يَدع حاجةً إلا سألَ أخرى (¬3). لا عِطرَ بعد عَروس، تَزوَّجَ رجل امرأةً، فقال: أين الطِّيب؟ فقالت: خَبَأتُه، فقال: لا عِطْرَ بعد عَروس، أي: لا يُخْبَأ الطيبُ بعد العرس (¬4). مَرعىً ولا كالسَّعْدان، وهو نَبْت من أفضل مَراعي الإبل (¬5). المُلْكُ عَقيم، معناه: أن الرجلَ قد يَقتلُ ابنَه إذا خافَهُ على المُلك، وإذا تنازع قومٌ في مُلْكٍ، انقطعت بينهم الأرحام، فلم يُبْقِ فيه والدٌ على ولده، فصار كأنه لم يُولَد له (¬6). مَواعيدُ عُرْقُوب، هو رجلُ من العَمالقة، أتاه أخٌ له يَسأله شيئاً، فقال: إذا أَطْلَع نخلي فأْتِني، فلما أَطْلَع جاءه، فقال: إذا أَبْلَح، فلما أَبْلَح جاءه، فقال: حتى يُزْهي، فلما أَزْهى جاءه، فقال: حتى يُرْطِب فجاءه، فقال: حتى يُتْمِر، فلما صار تَمراً أخذه في الليل، ولم يُعطِه شيئاً. فضربت به العرب المَثَل في الخُلْف، وفيه يقول كعب: [من البسيط] كانت مَواعيدُ عُرْقُوب لها مَثَلاً ... وما مَواعيدُها إلا الأَباطِيلُ (¬7) ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 63، والبكري 73، والعسكري 1/ 474، والميداني 2/ 192، والزمخشري 2/ 282. (¬2) أمثال أبي عبيد 51، والفاخر 155، والعسكري 2/ 398، والميداني 2/ 213، والزمخشري 2/ 256، والبكري 43. (¬3) أمثال أبي عبيد 242، والبكري 350، والعسكري 2/ 388، والميداني 2/ 217، والزمخشري 2/ 269. (¬4) أمثال أبي عبيد 303، والفاخر 211، والعسكري 2/ 395، والميداني 2/ 211، والزمخشري 2/ 263، والبكري 426. (¬5) أمثال أبي عبيد 135، والفاخر 64، والعسكري 2/ 242، والميداني 2/ 275، والزمخشري 2/ 344، والبكري 199. (¬6) أمثال أبي عبيد 148، والعسكري 2/ 247، والميداني 2/ 311، والزمخشري 2/ 350. (¬7) أمثال أبي عبيد 87، والبكري 113، والفاخر 64، والميداني 2/ 311، وشرح بانت سعاد لابن هشام 39، وبرواية أخلف من عرقوب في الدرة 1/ 177، والعسكري 1/ 433، والزمخشري 1/ 107.

المَوتُ دون الجَمَلى المُجَلَّل، قاله عبد الرحمن بنُ عَتَّاب بن أَسِيد يوم الجمَل (¬1). نار الحُباحِب، ضربت العربُ المَثَل بهذه النار لكلّ نار لا يُنتَفَعُ بها (¬2). نَوْمَةُ محبُّود، هو رجلٌ تَماوت على قومه، وقال: انْدُبوني حتى أعلم كيف تَندُبوني مَيتاً؟ ثم نام فمات على تلك الحالة. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أولُ مَن يَدخلُ الجنّة عبدٌ أسود يقال له: عَبُّود، بعث الله نبيّاً إلى أهل قريةٍ، فلم يُؤمن إلا ذلك العبد الأسود، ثم إن أهل القرية أخذوا ذلك النبي، فألقوه في بئر، وجعلوا على رأسها صخرةً، فكان عَبُّود يَحتطبُ كلَّ يوم، ويبيعُ الحَطَب، فيشتري بثمنه طعامًا وشراباً، ويأتي إلى رأس الصخرة، ويلقيه إلى النبي، فخرج العبدُ يوماً يَحتطب، فجلس ليَستريح، فنام سبع سنين، ثم استيقظ، وجاء يطلب النبيَّ فلم يجده في البئر، وكانوا قد استخرجوه، فضربوا به المَثَل (¬3). وأفقَ شَنٌّ طَبَقَة، يُضرب مثلاً للمُتَوافِقين في الشّدة (¬4). أَوْرَدَها سَعدٌ وسَعدٌ مُشْتَمِل، هذا نصفُ بيت وتَمامُه: ما هكذا تُورَدُ يا سَعْدُ الإِبِلْ وهو سَعدُ بن زَيد مناة أخو مالك، وكان يُحَمَّق، تزوَّج امرأةً، فلم يُحسن إليها، فقال له أخوه ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) الفاخر 294، والميداني 2/ 311. (¬2) ثمار القلوب 581، وبرواية: أخلف من نار الحباحب في الدرة 1/ 179، والعسكري 1/ 434، والميداني 1/ 353، والزمخشري 1/ 108. (¬3) الفاخر 135، والميداني 2/ 336، وثمار القلوب 143، والحديث فيها عن محمد بن كعب القرظي مرفوعاً، قال الفيروزآبادي في القاموس (عبد) وهو حديث مُعضل، وورد المثل مختصراً برواية: أنوم من عبود في الدرة 2/ 402، والعسكري 2/ 319، والزمخشري 1/ 426. (¬4) أمثال أبي عبيد 177، والفاخر 47، والعسكري 2/ 336، والميداني 2/ 359، والزمخشري 2/ 371، والبكري 262. (¬5) كذا، والذي في مصادر التخريج أن مالكًا كان يُحسن رَعْيَ الإبل، فتزوّج، فخرج أخوه سعد بالإبل وهو متلفّف بثوبه، فأعاقه ذلك عن إحسان عمله، فقال له ذلك، انظر طبقات فحول الشعراء 28 - 30، وأمثال أبي عبيد 240، والعسكري 1/ 93، والميداني 2/ 364، والزمخشري 1/ 430، والبكري 347.

فصل في ذكر طوائف العرب وما كانوا يعتقدون من الأديان

أَوْسَعْتُهم سَبًّا وراحوا بالإِبِل، أوَّلُ مَن قاله كعبُ بن زهير، كان له إبل يرعاها، فأغار عليها الحارث بنُ وَرْقاء فاستاقها، وصَعِد كعبٌ على أكَمَة، وجعل يَشتُم الحارث وهو لا يَلتفت. يُضربُ لمَن لم يكن له حيلةٌ وقد ذهب مالُه (¬1). اليومَ خَمْرٌ وغداً أَمْرٌ، أوَّلُ مَن قاله امرؤ القيس بن حُجر الكِندي، ومعناه: اليوم يومُ خَفْضٍ ودَعَة، وغدًا جِدّ واجتهاد (¬2). فصل في ذكر طوائف العرب وما كانوا يعتقدون من الأديان وكانت العربُ في الجاهليَّة تَدين بأديانٍ، فمنهم مَن كان يَدين بالله تعالى، وباليوم الآخر، والبعث، والنشور، وأن الله يُثيب المُطيع ويُعذب العاصي، كقُسِّ بنِ ساعدة ومَن كان في الفترة. ومنهم مَن كان يُثبتُ حَدَثَ العالَم، وقِدَمَ الصَّانع، ثم مع دْلك يعبدون الأصنام، ويزعمون أنها تُقَرِّبُهم إلى الله زُلْفى. ومنهم مَن أقرَّ بالخالق، وكذَّبَ بالرُسُل والبَعْث والنُّشور، وقال بالدَّهر. ومنهم مَن تَنضَّر وتهوَّد وتَمجَّس. ومنهم طائفة عَبدت الكواكب، وقالت: هم بناتُ الله. ومنهم من كان يُثبتُ التَّوحيد والوَعْد والوَعيد، وَيترك التَّقليد، كعبد المطلب بن هاشم وغيره، ومع هذا كانوا يُعَظِّمون الأصنام (¬3). فصل في أخبارِ قوم منهم أهلكهم الله تعالى فمنهم عاد وثَمود وطسْم وجَديس، ولما هلك هؤلاء تفرق مَن بَقي من القبائل، فنزل بعضُهم مكّة، وبعضُهم الطائف، ونزل يَثرب بن مَهلاييل بن إرم مكان المدينة فنسبت إليه. ¬

_ (¬1) أمثال أبي عبيد 321، والفاخر 176، والعسكري 1/ 116، والميداني 2/ 363، والزمخشري 1/ 431. (¬2) أمثال أبي عبيد 333، والعسكري 2/ 431، والميداني 2/ 417، والزمخشري 1/ 358. (¬3) مروج الذهب 3/ 256 - 258.

فصل

ومنهم داسِم قبيلةٌ عظيمة، خرجوا إلى الشام، فنزلوا أرض السَّماوة بين العراق والشام، وكانت عمارة وبساتين ومياه تَتدفَّق، فأقاموا مُدَّة، ثم طَغَوا وفسدوا، ومال قويّهم على ضعيفهم، فبعث الله عليهم ريحاً سوداء في ليلة مُظلمة فنسفَتْهم، فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنُهم، ويَبِسَت الثِّمار، وغارت المياه كأن لم تكن بالأمس (¬1). وأهلك الله أُمماً كثيرة بعدهم لمَّا طغَوا وبَغوا، قال الله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98]. فصل في مذاهب العرب في النَّفْس والرُّوح، والغِيلان، والسَّعالى، والهواتف، والنَّسْناس، والزَّجْر، والسَّانِح، والبارح، والكَهانة، والسّحر، والعائِف، والقائف. فأمّا النَّفس فقال بعضهم: هي الدَّم، وقال بعضهم: هي الرُّوح، وقالت طائفة: النَّفْسُ شِبْهُ طائر، يَنبسِطُ في جسم الآدميّ، فإذا مات لم يزل مُطِيفاً به يَصدحُ على قبره، وهو الهَام، ثم يَكبر حتى يصير كالبوم، وهو مُتوَحّش من الناس، يسكن الخَراب والنواويس، وعند مصارع القَتْلَى (¬2). وأما الغُول: فقد زعم قومٌ من العرب أنها تتراءى لهم في البَراري، وتظهر في أنواع من الصُّوَر، وتخاطبهم ويُخاطبونَها، وربما باضعوها. وقال تأبَّط شَرًّا: [من المتقارب] فأَصبحتُ والغُول لي جارةٌ ... فيا جارتي أنتِ ما أَهْوَلَا فطالَبْتها بُضْعَها فالْتَوَتْ ... بوَجْه تَغَوَّل فاسْتَغْوَلا فمَن كان يَسألُ عن جارتي ... فإنّ لها باللّوى مَنزِلا (¬3) وقال عمر - رضي الله عنه -: كنتُ في طريق الشام قبل الإسلام فعْالَتْني الغُول، فضَرَبْتُها بسيفي فانهزمتْ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر مروج الذهب 3/ 289. (¬2) مروج الذهب 3/ 309 - 312. (¬3) ديوانه 164 - 166، ومروج الذهب 3/ 314 - 315. (¬4) مروج الذهب 3/ 316.

وفَرَّقوا بين الغُول والسِّعْلاة، قال الشاعر: [من الطويل] وساخِرةٍ منّي ولو أن عَينَها ... رأتْ ما أُلاقيه من الهَولِ جُنَّتِ أَتَيْتُ وسِعْلاةٌ وغُولٌ بقَفْرَةٍ ... إذا الليلُ وارى الجِنَّ منه أَرَنَّتِ (¬1) وعلى هذا القُطرُبُ والغَدَّار وما شاكل ذلك، والغالب عليها أنها تظهر بأكناف اليمن وتهامة وصَعيد مصر والأماكن البعيدة، وقد تَغلِبُ على الإنسان فتَنكِحه، فيُدوِّد دُبُرُه فيموت. ومن أمثال أهل تِهامة: أَمَنكوح أم مَذْعُور، لمَن رأى في طريقه شيئاً من ذلك، فإن قال: مَذعور قالوا: لا بأس عليك، وإن قال: مَنكوح يئسوا منه. وروي عن وَهْب بن مُنبه أنه قال: أَصلُ هذه الأنواع المُتَشَيْطِنَة أن إبليس خلق الله له زوجةً من نار السَّموم فنكحها، فباضت بَيْضاً، فمنه هذه الأشياء (¬2). وأما الهواتف، فالهَتْف: الصوت يُسمَع من غير أن يُرى جِسمُه. وأما النَّسْناسُ، فهو جنس من الخَلْق يَثِبُ على رِجل واحدة، وهو بحَضرموت واليمن، وحمله حَنين بن إسحاق إلى المتوكل من أرض حضرموت وهو حي. قال حنين: هو على صورة ابن آدم إلا أن وجهَه في صدره، وله نصف وَجه، وإِلْيَةٌ كإلْيَةِ الغنم، وأهل حضرموت يأكلونه، ولحمُه لَذيذ، ولا يتولّد إلا في بلادهم. والعربيد: دابَّةٌ من جنس النسناس. وقال شَبيب بن شَيبة التّميمي: قَدِمتُ حضرموتَ، فنزلت على رجل من أكبر أهلها، فتَذاكرنا النَّسْناس، فقال لغلمانه: صِيدوا لنا منه، فصادوا واحداً، فلما رآني صاح: أنا بالله وبك، فسألتُه فأَطلَقَه. ثم خرج ذلك الرجل وخرجت معه أتصيَّد، وإذا بواحد منهم يعدو، وله ثَدي كثَدي المرأة، فأطلقوا عليه الكلاب فأمسكوه وذبحوه، فقلت: ما أشدَّ حُمْرةَ دَمِه، فصاح نَسناسٌ آخرُ من شجرة: مما يأكل السَماق، فأخذوا الآخر فذبحوه (¬3). ¬

_ (¬1) البيتان لعبيد بن أيوب العنبري في الحيوان 6/ 160، ومروج الذهب 3/ 318. (¬2) مروج الذهب 3/ 319 - 320، وانظر عجائب المخلوقات 391 - 399. (¬3) مروج الذهب 4/ 10 - 17، وانظر أمثال السدوسي 68.

ذكر أسامي الكهان بعد المبعث

وأما الزَّجْرُ: فهو العِيافَة، وهو ضَرْبٌ من التَّكَهُّن. وأما السَّانِح: فهو ما ولّاك مَيامِنُه من ظبْيٍ أو غيره، والبارح بخلافه. والعرب تَتيمَّن بالسَّانح وتَتَشاءم بالبارح (¬1). وخرج جماعةٌ من العرب يقصدون سيداً في بعض المنازل، فسنَح قطيعٌ من الظباء مُعترِضةٌ للرَّكْب، ثم كرَّت راجعة، فقال زاجر معهم (¬2): [من الطويل] ألم تَدْرِ ما قال الظِّباءُ السَّوانِحُ ... عَطَفْنَ أمام الرَّكْبِ والرَّكْبُ رائحُ فكبَّر مَن لم يَعرف الزَّجْرَ منهم ... وأَيقَنَ قلبي أنَّهنَّ نَوائحُ ثم قال: قَضى الرَّجل، قالوا: من أين لك؟ قال: أما رأيتم الظّباء سَنحت، ثم رَجعت على أعقابها؟ قالوا: بلى، قال: فهذا أمر لا يَتمُّ، فجاؤوا فوجدوا الرجل قد لُدغ فمات (¬3). وأما الكَهَانة والسِّحْر فلا فرق بينهما، يستخدم الكاهنُ والساحرُ الشيطان، بفنون الرُّقى والأسامي والبَخورات، فيُخبره بالغائبات، وقد كانت الشياطين قبل مَبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَصْعَدُ السّماء، فتَستَرِقُ السَّمع، فلما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجبت حراسه القرآن العزيز. والسِّحْرُ حَقّ. ذكر أسامي الكهَّان بعد الَمبْعَثِ وهم: شِقّ، وسَطيح، وسَمْلَقة، وزوبَعة، وسَديف، والأفعى الجرهمي، وعمران أخو عامر، وعمرو بن عامر الخارج من اليمن وكاهنته طريفة، وكاهنة باهلة، وكُهَّان أُخَر. والعَرَّاف: الكاهن، وقيل: هو الطبيب. وأما العِيافَة فهي: زَجْر الطائر، وهو أن يَنظرَ في أسمائها، ومَسَاقِطها، وأصواتها، ويقال للعائف: المُتَكَهِّن. ¬

_ (¬1) الصحاح (زجر، سنح، برخ). (¬2) هو الراعي النميري، والبيتان في ديوانه 45. (¬3) مروج الذهب 3/ 340 - 341.

فصل

وأما القِيافَة فهي: مَعرفة الآثار (¬1)، وهي لا توجد إلا في الفُطَناء من العرب. وكانت كلُّ قبيلة مخصوصة بشيء، فلبعضهم الكَهانَة، ولبعضهم الزَّجْر والفأل، ولبعضهم القافَة، والشَّبَه يكون في القَدم غالباً. وكانت القيافة في مُضر وربيعة وأَنمار أولاد نِزار، وكذا في إياد ومَذْحِج، وهم اليوم بالحجاز وتهامة، وبالجِفار بين مصر والشام. فصل وقد كان لهم العَدْوى، والطّيَرَة، والصَّفَر، ثم انتَسخ الجميع بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عَدوى، ولا طِيَرة، ولا هامَة، ولا صَفَر" (¬2). فصل في أطعمة العرب منها البَسيسَة، وهي كلُّ شيءٍ خَلَطْتَه بغيره من غير طَبْخ. ومنها البَكِيْلَة، وهي أن يُخلط السَّويق بماء وتمر. ومنها الخُرْس، وهي طعام الوِلادة. والإعذار: طعام الختان للجارية والغُلام. والنَّقيعَة، طعام القادم من السَّفر. ومنها الحَريرَة، وهي أن تُنصَبَ القِدْر، ويُقَطَّع اللَّحْمُ صِغاراً على ماء كثير، فإذا نَضِج ذُرَّ عليه الدَّقيق، وإن لم يكن فيها لَحْم فهي عَصِيدة (¬3). ومنها الرَّبِيكَة، وهي تَمْرٌ يُعجَنُ بسَمْنٍ وأَقِط، وفي المثل: غَرْثان فارْبُكوا له، لأن أعرابيّاً أتى أهلَه، فبُشِّر بغُلام وُلد له، فقال: ما أَصنعُ به، آكُلُه أم أَشرَبُه؟ فقالت امرأتُه: غَرْثان فارْبُكوا له، أي: جائِعٌ فأطعِموه (¬4). ¬

_ (¬1) الصحاح (عيف، قيف). (¬2) أخرجه أحمد (7620)، والبخاري (5717)، ومسلم (2220) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر العقد 6/ 291 - 292، وإصلاح المنطق 383، وفقه اللغة 450، 454، 455. (¬4) إصلاح المنطق 382 - 383، والصحاح (ربك)، وفقه اللغة 453، والمثل في جمهرة الأمثال 2/ 82، ومجمع الأمثال 2/ 56.

ومنها الرَّغيدَة، وهي اللَّبن الحليب، يُغلى ويُذَرُّ عليه دَقيق، ثم يُساط ويُلْعَقُ لَعْقًا (¬1). ومنها السَّخينة، وهو خَلْطُ الدّقيق بالماء لا غير، وكانت قريش تُعيَّرُ بها (¬2). ومنها السُّلْفَة، وهو ما يَتَعَجَّلُه الرجلُ من الطعام قبل الغَداء. ومنها الصَّفيف، وهو ما صُفَّ من اللحم على الجَمْر ليُشْوى (¬3). ومنها العَبِيثة، وهي اللّبن يُطبَخ ويُلقى فيه الجواد، وقيل هو: الأقِطُ لا غير (¬4). ومنها العَصيدة، وهي ما يُعْصَد بالمِسْواطِ من الدَّقيق (¬5). ومنها العَقيقَة، وهي الشَّاة التي تُذبَح عن المَولودِ يوم أُسموعه (¬6). ومنها العَليث، وهو الطّعامُ المَخلوط بالشّعير (¬7). ومنها الفَرِيقَة (¬8)، وهي تَمْرٌ يُطبَخُ بحُلْبة للنُّفَساء. ومنها العَكِيس، وهو الدَّقيقُ يُصبّ عليه الماء ثم يُشرب (¬9). ومنها اللَّفِيتَة، وهي الغَليظَةُ من العَصَائِد (¬10). ومنها المَأْدُبَة، وهو كل طعامٍ يُصنَع لدَعوة (¬11). ¬

_ (¬1) إصلاح المنطق 392، والصحاح (رغد)، والعقد 6/ 292، وفقه اللغة 452. (¬2) العقد 6/ 292، وانظر إصلاح المنطق 356، وفقه اللغة 451. (¬3) الصحاح (سلف، صفف)، والعقد 6/ 292. (¬4) العقد 6/ 291، وإصلاح المنطق 346، وفقه اللغة 454. (¬5) إصلاح المنطق 393، والصحاح (عصد). (¬6) العقد 6/ 292، وانظر الصحاح (عقق)، وفقه اللغة 450، وإصلاح المنطق 263. (¬7) العقد 6/ 291. (¬8) في النسخ: الفريعة، وهو خطأ، انظر إصلاح المنطق 344، والصحاح (فرق)، والعقد 6/ 291، وفقه اللغة 452، والنهاية 3/ 440، والجراثيم 1/ 322، والغريب المصنف 1/ 90. (¬9) العقد 6/ 292، والغريب المصنف 1/ 90، والجراثيم 1/ 322. (¬10) إصلاح المنطق 347، والصحاح (لفت)، وفقه اللغة 457. (¬11) الغريب المصنف 1/ 86، والجراثيم 1/ 315، والعقد 6/ 292، وفقه اللغة 450، وانظر إصلاح المنطق 134، والصحاح (أدب).

فصل في ذكر من كان في الفترة بين عيسى عليه السلام ونبينا - صلى الله عليه وسلم -

ومنها الوَشِيقَة، وهو أن يُغْلَى اللَّحْمُ، ثم يُقَدَّد ويُحمَل في الأَسفار (¬1). ومنها الوَكِيْرَة، وهو طعامُ ما يَبنيه (¬2) الرَّجلُ في داره. والوَليمة: طعامُ العُرْس. ومنها الهَرِيْسَة، وهي أَفْخَر طعامِهم، سُمِّيت بذلك لأنّها تهرسُ اللَّحم (¬3). فصل في ذكر مَن كان في الفترة بين عيسى عليه السلام ونبيّنا - صلى الله عليه وسلم - كان في الفترة جماعةٌ من أهل التَّوحيد ممَّن يُقرُّ بالبَعث والنُّشور، والجنة والنار، وكان بعضُهم دُعاة إلى الله تعالى، وبعضُهم أنبياء، فمنهم: جرجيس: كان عبداً صالحاً من أهل فلسْطين، أدرك بعضَ الحوارّيين من أصحاب عيسى عليه السلام، وكان تاجراً، يكتسب ما يستغني به، ويعود بالفَضْل على المساكين، فسافر إلى المَوْصِل وبها جَبَّار يُجبرُ النّاسَ على عبادة الأصنام، فوَعَظه، فأخَذه وعذَّبه بأنواع العَذاب، وقتله عِدَّة قَتلات فلم يَمُت، فبَعث الله إليه مَلَكاً، فقال له: لا تَخَفْ، فإنك تَبقى في جهاده سبعَ سنين، ويقتُلُك مَرَّةً رابعة. فجعله في تَوْرٍ من نُحاس، وحشاهُ نفطاً وكبريتاً، وأَدخلَه فيه، وأَوقد عليه، فاختلطت عظامُه، وبعث الله جبريل، فحمل التَّور فألقاه بين السماء والأرض، فخرج جرجيس حيًّا، فقال: يا إلهي، قد وَعَدْتَني مَنازلَ الشهداء، وأكرَمْتَني بهذا البلاء، وهذا آخرُ يومي الذي وَعدْتَني فيه الرَّاحة، فأَسألُك أن تَقبِض روحي، وتُنزِلَ عُقوبَتك بهذا الجبَّار، فما استتمَّ كلامَه حتى نزلت نارٌ من السماء، فلما رأوها مالوا عليه فضربوه بالسّيوف حتى قتلوه. وأحرق اللهُ الجبّارَ وقومَه والمَوصل، فصارت رَماداً مُنتناً، وجعل الله عاليَها سافلَها، ولبثتْ زماناً يخرج منها الدُّخان المُنتِن، وخرج مَن آمن بجرجيس منها، ¬

_ (¬1) الغريب المصنف 1/ 86، والجراثيم 1/ 317، والصحاح (وشق)، والعقد 6/ 290. (¬2) في النسخ: الوديرة ... ما يثبته، وهو خطأ، انظر الغريب المصنف 1/ 86، وإصلاح المنطق 384، والجراثيم 1/ 315، والصحاح (وكر)، والعقد 6/ 292، وفقه اللغة 450. (¬3) العقد 6/ 291، والصحاح (هرس).

وكانوا أربعةً وثلاثين ألفاً (¬1). ومنهم: حَنْظَلة بنُ صفوان، نبيُّ أصحاب الرَّسِّ، كان في الفترة، وهو من ولد إسماعيل عليه السلام، قام في قومه خطيباً، فنهاهم عن عبادة الأوثان، وأمرهم أن يَعبدوا الله ويُوَحِّدوه، فقَتلوه، ورَمَوه في بئر، فلما قتلوه أَلهم الله بعضَ المُلوك، فسار إليهم فقتلهم، وشرَّدهم، وفعل برُؤسائهم كما فعلوا بحَنْظلة، فلم يَبْقَ لهم أثر (¬2). ومنهم: خالد بن سِنان بن غَيْث العَبْسي، كان عبداً صالحاً، وأكثرُ العلماء على أنه كان نبيّاً على دين المسيح عليه السلام، وظهرت نارٌ بين مكّة والمدينة، فعبدها طوائفُ من العرب، فأتاها خالد، فاقتحمها، فأطفأها غَضباً لله، لئلا تُعبدَ معه، ولما عَزم على دخولها، قال: [كل هَدْيٍ مُؤدَّى إلى] الله الأعلى، لأَدْخُلَنّها وهي تَلَظَّى، ولَأَخْرُجَنَّ منها وثيابي تَنَدَّى، فكان كما قال. ولما احتُضر قال: ادفنوني في حِقْفٍ من هذه الأَحقاف، واحرُسُوني أياماً، فإذا رأيتُم حماراً أَشهَب أَبْتَر يدور حول الحِقْف فانْبُشوني، وأَحضِروا كاتباً يَكتبُ ما أقول، فإني سأُخبرُكم بالكائنات والمغيبات إلى يوم البعث، فرَصَدوا قبرَه ثلاثاً، فجاء الحمار فدار حول الحِقْفِ، فاجتمع قومُه ليَنْبُشوه، فقام بنوه، وشَهروا سُيوفهم وقالوا: نَخاف العار فتركوه، فقال شاعر: [من الطويل] بني خالدٍ لو أنّكم إذ حَضَرْتُمُ ... نَبَشْتُم عن المَيْتِ المُغَيَّب في القَبْرِ لَأَبْقى لكم في آل عَبْسٍ ذَخيرةً ... من الفضلِ لا تبْلَى على سالفِ الدَّهرِ ولما ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة؛ وَفَدتْ عليه ابنةُ خالد بن سنان وهي عجوز مُسِنّة كبيرة، فرحَّبَ بها وقال: "مرحباً بابنةِ أخي خالد، كان أبوها نبيّاً، وإنما ضيَّعه قومُه" (¬3)، وسمعتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] ¬

_ (¬1) ذكر القصة مختصرة المسعودي في مروج الذهب 1/ 127، ومطولة الطبري 2/ 24 - 36، والثعلبي في عرائس المجالس 432 - 438، وابن الجوزي في المنتظم 2/ 148 - 149. (¬2) مروج الذهب 1/ 125. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 200، وابن شبة في أخبار المدينة 421 عن سعيد بن جبير، قال الحافظ في الإصابة 3/ 117: ورجاله ثقات إلا أنه مرسل.

فقالت: كان أبي يقرؤها، قال ابن عباس: وقد بَشّر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومنهم: رِئابُ بنُ البَراء، كان على دين عيسى عليه السلام قبل مبعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال السدّي: سمع الناسُ قائلاً يقول من السماء: خيرُ أهلِ الأرض ثلاثة: بَحيرى الرَّاهب، ورئاب الشَّنّي، وآخر لم يجئ بعد، يعني النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن قتيبة: لمّا سَمع رئاب النّداء قال: صدق فيما قال. وقال وهب: ما مات أحدٌ من ولده إلا ورأوا النُّور على قبره (¬2). ومنهم: زيد بن عَمرو بن نُفَيل بن عبد العُزَّى العَدَوي، ابنُ عمّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬3). ومنهم: صِرمَةُ بن أبي أنس، أبو قيس من بني النجار، كان قد تَرهّب في الجاهليّة، ولَبس المُسوح، وهَجر الأوثان، وهمَّ بالنَّصرانية، ثم أَمسك عنها، واتّخذ في بيته مسجداً لا يَدخله طامث ولا جُنُب، وقال: أَعبدُ إله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أَسلم في السَّنة الأولى من الهجرة، ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا قوم، هذا الذي كنتُ أَنتَظِره (¬4). ومنهم: قُسُّ بن ساعِدة. ومنهم: أصحابُ الكهف والرّقيم، قال سعيد بنُ جُبَير: الرَّقيِم: لَوحٌ من ذَهَب على باب الكهف، فيه مكتوب أسماءُ الفِتية وقِصَّتُهم. وقال ابن عباس: الرَّقيم: وادٍ بين عُسْفان وعَمَّان البَلْقاء، فيه أصحابُ الكهف. قال مجاهد: كانوا من أولاد المُلوك. قال وَهْب: كان من قِصَّتِهم أنه لما رُفع عيسى عليه السلام، وكَثُرت الأحداثُ، ¬

_ (¬1) ذكر قصته مطولة ومختصرة ابن قتيبة في المعارف 62، والجاحظ في الحيوان 4/ 476 - 477، وابن شبة في أخبار المدينة 420 - 433، والمسعودي في مروج الذهب 1/ 131 - 132 وما بين معكوفين منه و 4/ 21 - 22، وابن الجوزي في المنتظم 2/ 147، والحافظ في الإصابة 3/ 117 فما بعدها. (¬2) المعارف 58 وليس فيه كلام ابن قتيبة، ومروج الذهب 1/ 132 - 133. (¬3) السيرة 1/ 224، والمعارف 59، ومروج الذهب 1/ 136، والمنتظم 2/ 328. (¬4) المعارف 61، ومروج الذهب 1/ 144، وانظر الإصابة في ترجمته.

وذُبحَ للطّواغيت، وعُبِدت من دون الله، وفي الناس بقايا من أهلِ التّوحيد، مُتَمسِّكين بدين عيسى عليه السلام، وكان ببلدِ الروم ملكٌ يقال له: دقيانوس، يأمر الناسَ بالذَّبح للأصنام، ويُخيِّرهم بين ذلك وبين القتل، وبلغه خَبرُ الفتية، فاستدعاهم، وأمرهم بالذَّبح للطَّواغيت، فقال له أحدهم: أيّها الملك، إن لنا إلهاً ملأت عظمتُه السماوات والأرض، لن نَدعوَ من دونه إلهاً آخر، فقال دقيانوس: أنتم من أولادِ الملوك، وما أحبُّ أن أَعجَل عليكم بالعُقوبة، وأنتم شباب، حتى أضربَ لكم أَجَلاً تَنظرون فيه لأنفسكم، فخوجوا من عنده. واتّفق أنه مضى إلى بلدٍ آخر لأمرٍ عَرَض له، فقال بعضُهم لبعض: اخرُجوا بنا إلى الجبل، فإن عاد الملك وذَكرَنا قَتلَنا، فخرجوا، واتَّبعهم كلبُ راعٍ، فطردوه فلم يَرجِع، فردُّوه ثانياً فأنطقه الله وقال: لِمَ تَطردوني؟ إنْ لم أكن من جِنسكم، فمعبودكم ليس من جنسكم، دعوني أَحرُسكم إذا نِمتم، فعجبوا منه. ثم دخلوا الكهف، وجعل يمليخا -أحدهم- يدخل المدينة فيأتيهم بالطّعام، ويتحسَّس لهم الأخبار، وقَدِم الجبَّار إلى المدينة فذكرهم، فجاء يمليخا إليهم وهو يبكي، فأخبرهم، فخوّوا سُجَّداً لله تعالى يبكون وَيتضَرَّعون، وذلك عند غُروب الشمس، فضرب الله على آذانهم في الكهف سنينَ عددا، فناموا ونام الكلب وهو باسِطٌ ذراعَيه بالوَصيد، أي: بعَتَبة الباب. وجاء دقيانوس وراءهم، فوَجدهم في الكهف، فسدَّ عليهم الباب عقوبة لهم، وفي ظنِّه أنهم أحياء أيْقاظ. وكان في أصحاب دقيانوس رجلان على دين الفتية، فكتبا أسماءَ الفِتيَة في لوح من ذَهب، ودفناه عند الباب، وقالا: لعلّ الله أن يُطْلِعَ على أحوال هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين، فَيُعْلَم عِلْمُهم، ومات دقيانوس، وخَلَفت الملوكُ قرناً بعد قرن وهم على حالهم. فقصَّ الله على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - أخبارَهم. وكان سببُ إيقاظهم أنه مَلَك تلك البلاد مَلِك صالح، فرأى اختلافَ الناس في الأديان، فسأل الله أن يُريَه آية يستدلُّ بها على التوحيد، فمرَّ بهم راع في ليلةٍ باردة، ففتح باب الكهف وآوى إلى جانبه غَنَمَه.

وأيقظ الله الفِتية، فجلسوا كأنهم ناموا من ساعتهم، لا يُنكرون من أحوالهم شيئاً، وهم يرون أن الملِك دقيانوس، فبعثوا يمليخا إلى المدينة على عادتهم ليشتري لهم طعاماً، فتَنكَّر وخرج، فرأى الحجارةَ على باب الكهف فعجب، ورأى أَثَرَ البنيان، وأتى بابَ المدينة، فرأى عليها علامةً تكون للمؤمنين، ورأى أُناساً لا يعرفهم، وسمعهم يحلفون بالمسيح، فقال: والله ما أدري ما هذا، عَشيَّةَ أمسِ ليس على وجهِ الأرض أحدٌ يذكر المسيح إلا قُتل، واليومَ كلُّ أَحدٍ يَحلف به لا يَخاف. ثم دنا من واحدٍ، ودَفع إليه دراهم، فنظر إليها وعجب، ثم ناولها آخر فتَعجَّبَ، فقالوا له: إنك قد وَجَدْتَ كَنْزاً، وإن لم تُخْبِرْنا به حَمَلناك إلى المَلِك، وهو ساكت، فجعلوا كساءَه في عُنقه، وسحبوه في سِكك المدينة، وما يرى أحداً يَعرفه، وهو يَظنُّ أن أباه وأهلَه في الحياة، وأنهم يحملونه إلى دقيانوس، وجعل يبكي ويقول: فُرِّق بيني وبين إخوتي، يا ليتهم يعلمون ما حلَّ بي. وكان على تدبير الملك رجلان صالحان: أرنوس وأنطوس، فقالا: يا فتى، أَين الكنز الذي وجدت؟ فقال: والله ما وَجدتُ كَنْزاً، قالا: فهذه الدَّراهم تَشهد عليك بتاريخ ضَرْبها من زمن دقيانوس منذ ثلاث مئة سنة، وأنت شابّ وخزائنُ هذه المدينة بأيدينا، وما فيها منها شيء، فإن أَخبَرتَنا وإلا عَذَّبناك، وهو يبكي ويقول: والله ما أدري ما أقول، ثم قال: وأين دقيانوس؟ قالا: ما نعرف اليوم في الأرض ملكاً يُقال له: دقيانوس، وإنما كان هذا منذ ثلاث مئة سنة. فقال: أَصدُقكم؟ كنّا فِتيةً أَكرَهَنا دقيانوس على الذَّبحِ للطَّواغيت، فهربنا منه عشيَّةَ أمس، ونمنا في كهف؛ فلما كان اليوم بعثوني أَشتري لهم طعاماً، وهاهم في الكهف جُلوس يَعبدون الله، فلما سمع أرنوس كلامَه قال لهم: يا قوم، هذه آيةٌ أراكم الله إيّاها على يَدَي هذا الفتى، انطلقوا معه، وأخبروا الملك، وخرج معه الناس، وسبق يمليخا ودخل عليهم، وأخبرهم الخَبر. وجاء أرنوس فدخل عليهم، فرأى وجوههم مُشرقة، لم تَبْلَ ثيابُهم ولم تتغيَّر، ووَجد اللّوح على باب الكهف، وفيه عَدَدُهم وتاريخُ يومهم، فأرسل إلى الملك: بادِرْ، فقد أَراك الله آيةً للعالمين، وجاء الملك فدخل عليهم الكهف واعتَنقَهم وبكوا جميعاً،

ذكر القصة

ثم قالوا: نستودعك الله. ثم عادوا إلى مضاجعهم وناموا، فتوفّى الله نُفوسَهم، وأمر الملك أن يُتَّخذَ لكلِّ واحدٍ منهم تابوت من ذهب، فرآهم في منامه وهم يقولون: لا تَفعلْ هذا، فنحن من التُّواب خُلِقنا، وإليه نعود، فاترُكْنا على حالنا، فتركهم وبنى عليهم مسجداً، وصنع لهم عيداً في كل سنة، وهم من الحواريين (¬1). ومنهم أصحاب يس، قال الله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} [يس: 14]. اتَّفقوا على أنهما أُرسِلا إلى أنطاكية فكذَّبوهما {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} ووالثالث شمعون، وقيل: سمعان. ذكر القصة كان ملك أنطاكية يعبد الأوثان، فلما قَرُبا من أنطاكية إذا بشيخ يرعى غنماً، وهو حَبيب النّجار، فسلما عليه فقال: مَن أنتم؟ قالا: رسولا عيسى المَسيح، قال: وما جاء بكما؟ قا لا: ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن. قال: أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي الأكمَه والأَبرص بإذن الله. فقال حبيب: إن لي ابناً صاحب فِراش منذ سنين، وانطلق بهما إلى منزله، فمسحا أيديهما عليه، فقام صحيحاً بإذن الله. ثم شَفيا خَلْقاً عظيماً، وبلغ المَلك، فاستدعاهما وقال: مَن أنتما؟ فقالا له مثل ما قالا لحَبيب، فقال: قُوما حتى أَنظرَ في أمركما، وقيل: إنهما لم يَصلا إلى الملك، بل أقاما عند حبيب النجار وكان قَزَّازاً. فركب الملك يومًا، فوَقفا له، وكبَّرا وذكرا الله، فغضب، وأمر فجُلِد كلُّ واحد منهما مئة جلدة وحُبِسا، فحينئذٍ بعث عيسى عليه السلام شمعون رأسَ الحواريّين على إِثرهما ليَنْصُرَهما، فلما وصل إلى أنطاكية دخل مُتَخفِّياً، يُؤنِسُ حاشيةَ الملك، حتى أَنِسوا به، وأعجبهم عَقلُه، فرفعوا خَبَره إلى الملك، فدعاه فأعجبه وأَنِس به. فقال له يوماً: أيّها الملك، بلغني أنك ضربتَ رجلين وسجنتَهما حين دَعواك إلى ¬

_ (¬1) ذكر قصتهم الطبري في تفسيره 15/ 162 - 176، وتاريخه 2/ 5 - 9، وانظر عرائس المجالس 414 - 432، والمنتظم 2/ 151 - 153.

دينهما، فهل كلَّمْتَهما؟ فال: لا، حال الغضبُ بيني وبينهما، قال: فإن رأى الملكُ أن يُحضِرهما ويسمعَ كلامَهما، فدعاهما، فقال لهما شمعون: مَن أرسلكما؟ فقالا: الذي خلق كلَّ شيء، وليس له شريك، فقال: صِفاه وأوجزا، قالا: إنه يَفعل ما يشاء ويَحكم ما يُريد، قال: فما آيتُكما؟ قا لا: نُبرِئ الأكمَهَ والأَبرص بإذن الله. فأمر الملك، فجيءَ بغُلام مَطموس العينين، فدعَوا الله فانشقَّ مَوضعُ عينيه، فأخذا بُندُقَتَيْن من طين، فوضعاهما مَوضعَ عينيه، فصارتا مُقلَتَيْن، فأبصر بهما، فعَجب الملك، فقال له شمعون: إن أنت سألتَ صنَمك أن يَفعل مثل هذا كان له ولك الشَّرَف، فقال له الملك: ما منك سِرّ، إن إلهنا الذي نَعبده لا يَسمع ولا يُبصر ولا يَضرُّ ولا يَنفع، ثم قال الملك للرجلين: إنْ قَدر إلهكما على إحياء مَيت آمنّا [به وبكما]. وكان شَمعون يُظهِر للملك أنه على دِينه، وكان قد مات ابن دِهْقانٍ منذ سبعة أيام، فجاؤوا به وقد أَرْوَح، فسألا الله فأحياه، فقام يَنفض التُّرابَ عن رأسه ويقول: منذ متّ وإلى الآن أنا في سبعة أوديةٍ من نار، وأنا أُحَذِّرُكم ما أنتم فيه، فآمِنوا بالله، ثم قال: قد فُتحت أبوابُ السماء، ونَزل منها شاب حتى يَشفعَ لهؤلاء الثلاثة، وأشار إلى الرَّسولَين وشمعون، فآمن الملك ومعه خلْقٌ كثير، وكفر آخرون. وقال مُقاتل: لم يُؤمن الملك، وأَجمع هو وقومُه على قتل الرُّسُل، وبلغ حبيبَ بن إسرائيل النّجار قصَّتُهم -وكان رجلاً صالحًا مُتَصدِّقاً مؤمناً، يعبد الله سِرّاً، وكان بيتُه بعيداً عن المدينة- فأقبل يَسعى ويقول: {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس: 20 - 21] فلما قال ذلك وَثبوا إليه وَثْبَةَ رجلٍ واحد، فوَطِئوه بأرجُلهم حتى خرج قُصبُهُ (¬1) من دُبُره، ورمَوْه بالحجارة وهو يقول: [اللهم] اهْدِ قومي، حتى مات. فعلّقوه على سُور البلد، فأوجب الله له الجنة، فلما دخلها قال: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26] الآية، فهو فيها حيٌّ يُرزَق قد أمِن أَسقامَ الدُّنيا وأَوْصابَها. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: فلما قتلوه، أمر الله جبريل فأخذ بعَضادتَي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحةً فخَمدوا وصاروا رماداً، المدينة وجميعُ ما فيها من بني آدم، والمواشي والمَلِك، ولم يبق لهم باقية. ¬

_ (¬1) القُصبُ: اسم للأمعاء كلها. اللسان (قصب).

فصل في ذكر جماعة من القدماء

وكانت القصَّةُ في أيام ملوك الطوائف في حياة عيسى عليه السلام، وقيل: بعد رفعه (¬1). فصل في ذكر جماعة من القدماء فمنهم خليفةُ موسى عليه السلام، كان بنو إسرائيل استَخلَفوا عليهم خليفةً بعد موسى عليه السلام، فقام يُصلّي في ليلهٍّ مُقْمِرةٍ فوق بيت المقدس، فذكر أموراً كان صَنعها، فتدلّى (¬2) بسبب، فأصبح السبب معلقاً في المسجد. وانطلق، فأتى على قوم يَضربون اللَّبِن، فلَبَّن معهم، وكان يأكل من عَمل يده، فرفع ذلك العُمَّال إلى قَهْرَمانهم، فأرسل إليه فأَبى أن يَأتيَه، فجاءه القهرمان بنفسه إليه، فلما رآه فَرَّ، فاتَّبعه وقال: إني لَأَظنُّ أني لاحِق بك، فلَحِقه، فعبدا الله حتى ماتا برُمَيْلَةِ مِصر. ومنهم ابن الملك الذي تَزَهَّد، كان رجل من ملوك بني إسرائيل قد أُعطي طوقَ العُمر، وكثرةَ المالِ والولد، وكان أولادُه إذا كَبر أحدُهم لبس [ثياب] الشَّعْر، ولحق بالجبال، وساح في الأرض يأكل من بُقولها وشجرها حتى يموت، ففعل ذلك جماعة منهم واحداً بعد واحد حتى تتابعوا على ذلك، فأصاب وَلَداً على كِبَر، فدعا قومَه وقال: إني قد أصبتُ هذا الولدَ على الكِبَر وقد تَرَوْنَ شفَقَتي عليكم، وأخافُ أن يَتبع سُنَّة إخوته، فحَبِّبوا إليه الدنيا عسى أن يَبقى بعدي لكم. فبنَوْا له حائطاً فرسخاً في فرسخ فكان فيه دهراً، ثم ركب يوماً، فرأى الحائطَ فقال: إني لأحسَب أن وراء هذا الحائط أُناساً وعالماً آخر، أخرجوني أَلقى الناس، وأَزْدَدْ علماً، فأُخبِر أبوه بذلك فجَزع وقال: اجمعوا عليه كلَّ لهوٍ ولَعب، ففعلوا. ثم ركب في السنة الثانية. وقال: لابُدَّ من الخروج. فأخرجوه على عَجَلَةٍ مُكَلَّلَةٍ بالدُّرِّ والياقوت والذّهب والزَّبَرْجد، والمْاس حوله، فبينا هو يسير إذ مرَّ برجلٍ مُبْتَلى، فقال ما هذا؟ قالوا: مُبْتَلى قال: أيُصيبُ هذا أُناساً دون أُناس، أو كلٌّ خائفٌ منه؟ قالوا: بل كلّ خائفٌ منه، قال: وأنا فيما أنا فيه من السُّلطان؟ قالوا: نعم، قال: أُفٍّ ¬

_ (¬1) تفسير البغوي 7/ 4 - 11، وما بين معكوفين منه، وانظر قصص الأنبياء للثعلبي 408 - 410، والبداية والنهاية 2/ 10 - 15. (¬2) في النسخ: فبكى، وهو تصحيف، والمثبت من التوابين 74، وقد ورد هذا الخبر من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا في السند (4312)، وانظر المنتظم 2/ 184، السبب: الحبل.

لعيشكم هذا، إنه عيش كَدَر. فرجع مَهموماً مَحزُوناً. فأُخبِر أبوه بذلك فقال: قَرِّبوا إليه كلَّ لَهوٍ وباطل حتى تَنزعوا من قلبه هذا الغمَّ والحُزْن. فلبث حولاً ثم قال: أَخرجوني، فأُخرِج على مثلِ حالهِ الأوَّلِ، فبينا هو يسير إذ مَرَّ برجل هَرِم، ولُعابُه يسيلُ من فيه، ، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا رجل هَرِم، قال: أيُصيب هذا ناساً دون ناس، [أوكلٌّ خائفٌ منه؟ ] قالوا: بل كلٌّ خائفٌ منه، فقال: أُفٍّ لعَيشكم هذا، إنه لَعَيش كَدَر، لا يَصفو لأحد، فقال أبوه: احشروا له كلَّ لَهو وباطل. ففعلوا. فمَكثَ حولاً، ثم ركب، فبينا هو يسير إذا بنَعْشٍ يحمله الرجال على أعناقهم وعليه ميت فقال: ما هذا؟ قالوا: ميت. قال: وما الموت؟ قالوا: هلاك، قال: قَرِّبوه إليَّ. فقرَّبوه إليه فقال: أجلِسوه، قالوا: إنه ما يجلس، قال: كلِّموه، قالوا: ما يَتكلَّم، قال: فأين تَذهبون به؟ قالوا: نَدفِنُه تحت التُّراب، قال: فما يكون بعدَ ذلك؟ قالوا: يُحشَر، قال: وما الحشر؟ قالوا: يوم يقوم الناسُ لربِّ العالمين، فيُجزى كل أحدٍ على قَدْرِ حسناته وسيّئاته. قال: ولكم دارٌ غيرُ هذه؟ قالوا: نعم، فرمى بنفسه إلى الأرض، وجعل يُعَفِّر وجهه بالتراب ويقول: من هذا كنتُ أَخشى، كاد هذا يأتي عليَّ وأنا لا أعلم به، أمَا وربٌّ يُحيي ويُميت، ويُعطي ويُجازي، إنّ هذا آخرُ الدَّهر بيني وبينكم، فلا سبيلَ لكم عليَّ بعد اليوم، قالوا: لا نَدَعُك حتى نُسلِمَك إلى أبيك. فردوه إليه وكاد يُنْزَفُ دمُه. فقال: يا بُنيّ، ما هذا الجَزَع؟ فقال: يا أبت، جَزعي ليومٍ يُعطى فيه الكبيرُ والصغيرُ مُجازاتَهما على ما عَمِلا من خير وشرّ. ثم لبس المُسوح، وخرج من القصر نصفَ الليل وهو يبكي ويقول: اللهم خِرْ لي في أمر سَبقتْ به المَقادير، إلهي لوَدِدْتُ أن الماء كان في الماء، والطينَ في الطين، ولم أَنظُّرَ بعيني إلى الدُّنيا نظرةَّ وَاحدة. فكان آخر العهد به. قال بكر بن عبد الله: فهذا رجلٌ خرج من ذَنْبٍ واحد لا يعلم ماذا عليه، فكيف بمَنْ يُذْنِبُ وهو يعلم ما عليه، ولا يَجزَعُ ولا يتوب (¬1)؟ ! ¬

_ (¬1) التوابين 61 - 64، والمجالسة (2868)، والمنتظم 2/ 184 - 187، وما بين معكوفين منها.

ومنهم ذو الرِّجْل، كان في بني إسرائيل رجل يَتعبَّدُ في صَومعته، فأقام زماناً، فأَشرفَ يوماً، فإذا بامرأةٍ، فرآها فافتُتِنَ بها، وهمَّ أن يَنزل، فأَخرج رجلَه ليَنزلَ إليها، فأدركه الله بسابقةٍ منه، فقال: ما هذا الذى أُريدُ أن أصنع؟ ! ورَجعتْ إليه نفسُه، وجاءتْه العِصمةُ ونَدِم، فلما أراد أن يُعيد رِجْله إلى صومعتِه قال: هيهات هيهات، رِجْلٌ خرجتْ تُريدُ أن تعصيَ الله، والله لا عدت إلى صومعتي أبدًا. فتَركها مُعلَّقةً ظاهر الصَّومعة، تُصيبُها الرّياحُ والمطرُ والشمسُ والحَرّ والبردُ، حتى تَقطَّعتْ، فشكَر الله له ذلك، وأنزلَ في بعض الكتب: ["وذو الرِّجْل"] يُثني عليه (¬1). ومنهم صاحبُ الغَمامة، وَلِعَ رجلٌ قَصَّابٌ بجاريةٍ لبعض جيرانه، فأرسلَها أهلُها لحاجة لهم في قريةٍ أُخرى، فتَبعَها، فراوَدَها عن نفسِها، فقالت له: لا تفعل فأنا أَشدُّ حُبّاً لك منك لي، ولكنّي أخافُ الله. فقال: وأنت تخافينَه وأنا لا أخافُه؟ فرجع تائباً، فعَطِش حتى كاد أن يَنقطعَ عُنقُه، فإذا هو برسولٍ لبعض أنبياء بني إسرائيل، فقال له: ما الذي بك؟ قال: العَطَشُ. فقال: تعالَ حتى ندعوَ الله تعالى، فتُظِلَّنا سحابةٌ إلى أن نَدخُلَ القرية، فقال: ما لي من عمل، فقال: أنا أدعو وأنت تُؤَمِّن، فدعا الرَّسولُ وأمَّن القَصَّاب، فأَظلَّتْهُما سحابةٌ حتى انتَهيا إلى القرية، فأخذ القَصَّاب إلى مكانه، ومالت السَّحابةُ معه، فقال له الرسول: زعمتَ أنه ليس لك عمل! وأنا الذي دعوتُ وأنت أَمَّنْتَ، فلما افترقنا أَظلَّتْك السَّحابة، فأخبرني ما الذي صنعتَ. فأَخبره، فقال الرسول: التَّائب إلى الله من ذنبه بمكان ليس أحدٌ من الناس بمكانه (¬2). ومنهم ذو الكِفْل، رُوي عن ابن عمر - رضي الله عنه - (¬3) أنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحدّث حديثًا، لو لم أسمعْه إلا مَرَّةً أو مرَّتين لم أُحدِّث، سمعتُه منه أكثر من سبع مرات، قالٍ: "كان رجلٌ من بني إسرائيل يُقال له ذو الكِفل، لا يَنزعُ عن ذَنْبٍ عمله، فاتّبع امرأة، فأعطاها ستين ديناراً على أن تُعطيَه نَفْسَها، فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة، أُرْعِدت وبَكَتْ، فقال: ما يُبكيك؟ فقالت: من هذا العمل ما عَمِلْتُه قط. قال: ¬

_ (¬1) التوابين 100 - 101، والمنتظم 2/ 180، وما بين معكوفين منهما. (¬2) المنتظم 2/ 177، والتوابين 97. (¬3) في النسخ: روي عن عمر - رضي الله عنه -، وهو خطأ، فالحديث من رواية ابنه عبد الله في مسند أحمد (4747)، وسنن الترمذي (2496)، وصحيح ابن حبان (387)، وانظر المنتظم 2/ 163 - 164، والتوابين 94 - 95.

حديث العقار والجرة

أَكرهتُك؟ قالت: لا، ولكن حَملَتْني عليه الحاجة، قال: اذهبي فهي لك، ثم قال: والله لا أَعصي الله أبداً. ثم مات من ليلته، فقيل: مات ذو الكِفل، فوُجِد على باب داره مكتوب: إن الله قد غفر لذي الكِفل". ومنهم جُرَيج الرَّاهب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم يَتكلَّم في المَهْد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وكان في بني إسرائيل عابد يقال له جُرَيْج، فقالت بَغْيّ منهم: إنْ شئتُم فَتَنْتُه، قالوا: قد شِئْنا، فأتَتْه، فتَعرَّضت له، فلم يلتفت إليها، فأمكَنَتْ من نَفْسِها راعياً كان يُؤوي غَنَمه إلى أَصْلِ صَومَعتِه، فحَملتْ منه، ووَلَدت غُلاماً فقالوا: ممّن هذا؟ قالت: من جُريج. فأتَوْه، وأنزلوه من صومعته، وضربوه وشَتموه، وهدموا صومَعتَه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيتَ بهذه البغيّ، وقد وَلدتْ غلاماً. فقال: وأين هو؟ قالوا: ها هو. فقام فصلى ودعا، ثم انصرف إلى الغُلام، فطَعَنه بإصبعه وقال: بالله يا غُلام، مَن أبوك؟ فقال: فلانٌ الرَّاعي، فوَثبوا إلى جُريج فجعلوا يُقَبّلُونه، وقالوا: نبني صومعتَك ذهباً، قال: لا حاجةَ لي في ذلك، ابنوها طيناً كما كانت. قال: وبينما امرأةٌ في حجرها ابنٌ لها تُرضِعُه، إذ مرَّ بها راكبٌ ذو شارة، فقالت: اللهم اجعلْ ابني مثلَ هذا. فترك الصبيُّ الثديَ، وأقبل على الرّاكب وقال: اللهم لا تَجعَلْني مثلَه، ثم عاد إلى ثَديها يَمَصُّه. ثم مَرَّت بأَمَةٍ تُضْرَب، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثلَها، فتَرك ثديَها، وأقبل على الأَمةِ فقال: اللهم اجعَلْني مثلَها، ثم قال: يا أُمَّاه، أمّا الرّاكب فجَبّار من الجبابِرة، وهذه الأَمَة يقولون لها: زَنيتِ، ولم تَزْنِ، وسَرقتِ، ولم تَسرِقْ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل". أخرجاه في الصحيحين (¬1). حديث العَقار والجَرَّة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشترى رجل من رجلٍ عَقاراً، فوجد المُشتَري فيه جَرَّة فيها ذَهب، فقال المُشتري: خُذْ ذَهَبَك، فإنما اشتريتُ العَقار ولم أشتر الذَهب، فقال البائع: إنما بِعتُ الأرض بما فيها. فتحاكما إلى رجلٍ، فقال: ألكما ولد؟ قالا: نعم. ¬

_ (¬1) البخاري (3436)، ومسلم (2550) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه أحمد (8071).

حديث الرجل الذي قتل وتسعين ثم أكمل المئة

قال أحدهما: لي غُلامٌ، وقال الآخر: لي جاريةٌ، ففال: أنكِحوا الغُلامَ الجاريةَ، وأنفقوا عليهما منه، وتصدَّقوا. وفي رواية: وأنفِقا عليهما، وتصرَّفا فيه". أخرجاه في الصحيحين (¬1). حديث الرَّجل الذي قَتل وتسعين ثم أكمل المئة قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا هَمَّام بنُ يحيى، عن قتادة، عن أبي الصِّدِّيق النَّاجي، عن أبي سعيد الخُدري قال: لا أُحدِّثُكم إلا ما سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمِعتْه أُذناي، ووَعاه قلبي: "إن عبداً قتل تسعةً وتسعين نَفْساً، فعَرَضَتْ له التوبةُ، فسأل عن أعلمِ أهلِ الأرض، فدُلَّ على رجلٍ، فأتاه، فقال: إني قتلتُ تسعةً وتسعين نَفْساً، فهل لي من توبة؟ قال: لا، فقتله وكمل به المئة. ثم عَرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على رجل، فأتاه فقال: إني قتلتُ مئة نَفْس، فهل لي من توبة؟ فقال: مَن يَحولُ بينك وبينها، اخرُجْ من القرية الخبيثة التي أنت بها إلى القرية الصالحة. فخرج، فعَرَضَ له أجلُه في الطريق، فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذاب، فقال إبليس: أنا أولى به؛ لأنه لم يَعصِني طَرفةَ عينٍ، أو ساعةً قَطُّ، فقالت ملائكةُ الرَّحمة: إنه خرج تائباً". قال همَّام: فحدَّثني حُميد الطَّويلُ، عن بكر بن عبد الله المُزَنيّ، عن أبي رافع قال: "فبعثَ الله ملائكةً، فاختصموا فيه". رجع الحديث إلى قتادة، قال: فقال: "انظُروا إلى أيِّ القريتين كان أقرب، فأَلحِقوه بأهلها". قال قتادة: فحدثنا الحسن: أنه لما عَرفَ الموتَ احتَفَزَ بنَفْسِه، فقرَّبه الله من القرية الصَّالحة"، وهو في رواية: "فوجدوه أقربَ إلى القرية الصالحة بشِبْر، فغُفر له". ومعنى الحَفْزُ، أي: اندفع من خَلْفه (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (3472)، ومسلم (1721) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه أحمد (8191). (¬2) أخرجه أحمد (11154)، والبخاري (3470)، ومسلم (2766)، وانظر التوابين 108 - 109.

حديث الرغيف

حديث الرَّغيف قال مُغيثُ بنُ سُمَيّ: تَعبَّد راهبٌ من بني إسرائيل في صَومعته ستين سنة، فنظر يوماً في غِبِّ سماء، فأعجَبتْه الأرضُ، فقال: لو نزلتُ فتمشَّيتُ في الأرض، ونظرتُ فيها. قال: فنزل معه برغيفٍ، فعَرضت له امرأةٌ، فتَكشَّفتْ له، فلم يَملِك نفسَه أن وَقعَ عليها، فأدركه الموتُ على تلك الحال، وجاء سائلٌ، فأعطاه الرَّغيفَ، ومات. فجيءَ بعملِ ستين سنةً، فوُضِعَ مع عَمله، فرَجح بخطيئته (¬1). حديث القِرد قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا بَهْز، حدثنا حمّاد بنُ سَلَمة، أخبرني إسحاق بنُ عبد الله، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حَمَلَ رجل معه خمراً في سفينة يبيعه، وكان معه قرد، فكان الرجل إذا باع الخمر شابه بالماء، فأخذ القردُ الكيس، وصَعِد على رأس الدَّقَل (¬2)، فجعل يطرح ديناراً في البحر وديناراً في السفينة، حتى قسَمه نِصفين". حديث السَّقَّاء قال وَهب بن منبّه: كان في بني إسرائيل عابدٌ لم يكن له إلا جُبَّةُ صوف، وقِرْبةٌ يَستقي فيها الماء للفقراء والأرامل، فلما احتُضر قال لأصحابه: إني لا أُخَلِّفُ من الدنيا سوى هذه الجُبَّة والقربة، فإذا متُّ، فاحملوها إلى الملك، وقولوا له: إني لا أَقْدِر على حَملِ هذه يوم القيامة، فاحملها مع ما تحمل من دُنياك. فلما مات حملوها إلى الملك، وأبلغوه رسالته، فقال الملك: هذا الزاهد عَجَز عن حمل قِربَة وجُبَّةٍ من صوف، وأنا قد تَحمَّلتُ في الدنيا من الآثام والمظالم ما حملتُ! ثم أخذ الجبّةَ فلَبسها، وحمل القِربةَ على كتفه، وصار يستقي للناس الماء كما كان العابد يفعل، وانخلع من الملك حتى مات على ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) التوابين 99. (¬2) في النسخ: المرقل! والمثبت من مسند أحمد (8055)، وهي خشبة يمُدّ عليها شراع السفينة. (¬3) التوابين 74.

حديث الخائف

حديث الخائف قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر قال: قال لي الزُّهْري: ألا أحدّثك حديثين عجيبين؟ قال الزهري: عن حُمَيد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَسرف رجلٌ على نفسِه، فلما احتُضر أوصى بَنيه فقال: إذا أنا متُّ فأَحْرِقوني، ثم اسْحَقوني، ثم اذْروني في البحر، فوالله لئِنْ قَدَرَ عليّ ربّي لَيُعَذّبَنِّي عذاباً ما عَذَّبه أحداً، قال: ففعلوا ذلك به، فقال الله عز وجل للأرض: أَدِّي ما أَخَذْتِ، فإذا هو قائم، فقال له الله تعالى: ما حَملَك على ما صَنعتَ؟ قال: خَشْيَتُك يا ربّ، أو مَخافَتُك. فغَفَر له بذلك" (¬1). قال الزهري: وحدثني حُميد، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "دخلت امرأةٌ النارَ في هرَّةٍ رَبَطَتْها، فلا هي أطعَمَتْها، ولا هي أَرسلَتْها تأكلُ من خَشاش الأرض حتى ماتَتْ" قال الزهري: ذلك لئلا يَتَّكِلَ رجلٌ، ولا يَيأَسَ رَجلٌ. أخرجاه في الصحيحين (¬2). حديث الكلب عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا كلبٌ يُطيفُ برَكِيَّة، قد أَدْلَعَ لسانه في يوم حارّ، قد كاد يقتلُه العَطشُ، إذ رأتْه بغيٌّ من بَغايا بني إسرائيل، فنَزعت مُوقَها فسقَتْه، فغفر الله لها" (¬3). الموق: الخُفّ القصير. * * * ¬

_ (¬1) مسند أحمد (7647)، وأخرجه البخاري (3481)، ومسلم (2756). (¬2) مسند أحمد (7648)، وأخرجه البخاري (3318)، ومسلم (2619). (¬3) أخرجه البخاري (3467)، ومسلم (2245).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [3]

النسخ المعتمدة في هذا الجزء وتاليه: 1 - نسخة المتحف البريطاني، وهي من أول الكتاب إلى ذكر أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2 - نسخة كوبريللي (ك) وهي في جزأين: 1 - من ذكر الأمم الماضية إلى سنة (6 هـ). ب- من سنة (9 - 31 هـ). 3 - نسخة الخزائنية (خ)، وهي في جزأين: 1 - من قصة زكريا ويحيى إلى أثناء سنة (6 هـ). ب- من أثناء سنة (6 هـ - 29 هـ). 4 - نسخة أحمد الثالث (أ) من سنة (2 هـ - 21 هـ). وانظر وصفاً مطولاً لها في مقدمة الجزء الأول من الكتاب.

فصول ذكر نبينا - صلى الله عليه وسلم -

فصول ذكر نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -

فصل في ذكر نسبه وأجداده

فصل في ذكر نسبه وأجداده هو محمد بن عبد الله بنِ عبد المطَّلب بنِ هاشم بنِ عبد مَناف بنِ قُصي بنِ كلاب بنِ مُرَّة بنِ كعب بنِ لؤيِّ بنِ غالب بنِ فِهْر بنِ مالك بنِ النَّضْر بن كِنانَة بن خُزيمةَ بنِ مُدْرِكَة ابنِ الياس بنِ مُضَرَ بنِ نِزارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدنانَ. متَّفق على صِحَّته، وما بعده مُخْتَلَف فيه. قال عبد الملك بن هشام: عدنان بن أُدَد بن المُقَوَّم (¬1) بن ناحُور بن تارَح بن يَعْرُب ابن يَشْجُب بن نابِت بن إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام. وقيل غير ذلك. فصل في ذكر أبيه عبد الله قال الزُّبير بن بكَّار: كان عبد الله، والزبير، وأبو طالب، وعبد الكعبة، وعاتِكة، وبرَّة، وأُمَيمة أولادَ عبد المطلب بن هاشم، وأمُّهم جميعاً فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن مَخْزوم، وعبد الله بن عبد المطلب أصغر ولد أبيه وأمه، وهو الذَّبِيح. ذكر القصة: قال الشيخ موفق الدين رحمه الله (¬2): يروى أنه لم يكن لعبد المطَّلب إلا الحارث، فجرى بين عبد المطلب وبين ابن عمه عَدِيّ بن نَوْفَل ما يكون بين بني العمّ، فقال له عَدِي: وهل أنت إلا غلامٌ من غِلمان قومك، لا لك عَددٌ ولا مالٌ ولا وَلَد، ولقد كنتَ بيَثْرِب عند غير أبيك حتى رَجَعَك عَمُّك المطَّلب، فحَمِي عند ذلك وقال: أَبِقِلَّةِ العرب تُعَيِّرني، فلله عَليَّ النَّذْرُ والدِّماء لئن رَزَقني الله عز وجل عشرةً ذكوراً أن أجعلَ أحدَهم ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام"1/ 5، وجاء في النسخ زيادة بين أدد والمقوم، وهي: "بن زَنْد بن محثوم" وهذه الزيادة لم يذكرها ابن هشام في سيرته، ولا غيره من أصحاب السير والتواريخ المعتبرين، اللهمَّ إلا ما روي عن أم سلمة - رضي الله عنها- في حق "زند" فأخرج الطبري في "تاريخه" 2/ 271، والطبراني في "الصغير" (946)، والحاكم 2/ 403، 465 عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "معدُّ بن عدنان بن أدٍّ بن أُدَد بن زَنْد بن يَرَى بن أعرق الثرى" قالت أم سلمة: وأعرق الثرى: إسماعيل بن إبراهيم، وزند: هَمَيْسع، ويرى: نَبْت. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 193: وفيه عبد العزيز بن عمران من ذرية عبد الرحمن بن عوف، وقد ضعفه البخاري وجماعة، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال الدارقطني: لا نعلم زنداً إلا في هذا الحديث، وزند بن الهون وهو أبو دلامة الشاعر. وأما الاسم الآخر فلم نقف عليه عند أحد. (¬2) في التبيين 97.

لله نَحيرة، ثم افترقا على ذلك، حتى إذا كان بعد أعوام وُلد لعبد المطلب عشرةُ ذكور سوى الحارث، وإنما كان النَّذْر في غيره، وست بنات، فلما بلغ الذُّكورُ عشرة، ذكر نَذْرَه، فجمعهم وأخبرهم بنَذْره، وأدخلهم الكعبة، وأعطى صاحبَ القِداح رِشْوَتَه وقال: أجِلْ عليهم القِداح، فلما أُجِيلت الأَزْلامُ عليهم خرج على عبد الله، فأخرجه ورداؤه على عُنقه، وقال: هذا ابنُك الذي خرج عليه القِداح، ففَزع لذلك وأعظمه لأنه كان يُحِبُّه، ثم عَزم على إمضاء نَذْره، فأخذ بيده وجاء به إلى إِساف ونائلة، فأضْجَعه بينهما، وربطه والمُدْيَة في يده، فجاء أخوالُه من بني مَخزوم وقالوا: والله ما أحسَنْتَ عِشْرةَ أُمِّه. وأمروه بخروجه إلى الكاهِنة، وخرهوا معه إلى خيبر، وقَصُّوا لها القصة، فقالت لهم: اذهبوا بصاحبكم إلى الكعبة، وقَرِّبوا عشرةً من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقِداح، فإن خرجت القُرْعَةُ على صاحبكم فزيدوا فيها إلى أن تخرجَ على الإبل، فذلك علامة رِضى ربِّكم ونجاةِ صاحبكم، فرجع عبد المطلب، ودخل على هُبَل، وقام صاحبُ القِداح وضرب على عبد الله وعلى عشرة، فخرج على عبد الله، فلم يزل يزيد حتى صارت الإبلُ مئةً، فخرجت القُرعةُ على الإبل، فكبر عبد المطلب والناس، وقالوا: قد رضيَ عنك ربك، فنحر الإبلَ وتركها لا يصدُّ عنها إنسانًا ولا طائرًا ولا وَحْشًا. فصارت المئةُ أصْلًا في باب الدِّيَة بعد إن كانت عشرًا، ولما جاء الإِسلام قررها على ما قرَّرها عبد المطلب؟ ولذلك رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أنا ابن الذَّبِيحَين" (¬1). يعني إسماعيل - عليه السلام - وعبد الله. وفي ذلك نظر. وقد رُوي أن سببَ النَّذْر كان مع قريش لعبد المطلب من حَفْرِ زَمْزَم، وهو الأظهر، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في قصة إسماعيل.

قصة عبد الله مع الخثعمية

قصة عبد الله مع الخَثعَمِيَّة (¬1) لما رجع عبد المطَّلب من ضَرْبِ القِداح ونَحْرِ الإبل، أخذ بيد عبد الله وهو يبكي ويقول: اليوم وُهِبتَ لي يا بُنيَّ. فمر بامرأة من خَثْعَم يقال لها: فاطمة بنت مرّ، وكانت من أجمل النساء وأعفِّهنَ، وكانت قد قرأت الكتب، وكان شبابُ قريشٍ يَجلسون إليها ويَتحدَّثون عندها، فرأت نورَ النُّبوَّة بين عَينيه، فقالت له: يا فتى، مَن أنت؟ فقال: عبد الله بن عبد المطَّلب، فقالت: هل لك أن تقعَ عليَّ وأُعطيكَ مئةً من الإبل مثلَ ما نحر أبوك؟ فنظر إليها وقال: [من الرجز] أمَّا الحرامُ فالمَمَاتُ دونَهُ والحِلُّ لا حِلّ فأسْتَبينُه فكَيفَ بالأمرِ الذِي تَنوينَهُ ثم مضى مع أبيه عبد المطلب إلى وَهب بن عبد مَناف بن زُهْرة، وهو يومئذٍ سيِّدُ بني زُهْرة نسبًا وسِنًّا وشَرفًا، فخطب إليه ابنَته آمنة، وهي يومئذ أفضلُ نساء قريش، فزوَّجه إياها، فأقام عندها ثلاثًا، وعمره يومئذ سبع عشرة سنة، وقيل: ثلاثون سنة، وقيل: خمس وعشرون سنة. وحملَتْ آمنةُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر عبد الله الخثعميَّةَ وجمالها وما عرضت عليه، فأقبل يُريدها، فلم يرَ من إقبالها عليه أخيرًا ما رأى منها أولًا، فقال: هل لك فيما عرضْتِ عليَّ؟ فنظرت إليه وقالت: "قد كان ذلك مرَّة، فاليوم لا". فذهبت مثلًا، ثم قالت له: ما الذي صنعتَ بعدي؟ قال: واقعتُ امرأتي آمنة، فقالت: والله يا هذا لستُ بصاحبةِ رِيبة، ولكني رأيتُ نورَ النبوة بين عينيك مثل غُرَّ الفَرَس ساطعًا إلى السماء، فأردتُ أن يكون ذلك فيَّ، وأبي الله إلا أن يَجعله حيث شاء، ثم عدْتَ وليس في ¬

_ (¬1) اختلف في المرأة التي لقيها عبد الله على قولين: أولهما ما ذكر ابن هشام في السيرة 1/ 143 عن ابن إسحاق أنها امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي أخت ورقة بن نوفل. والثاني: ما ذكره المصنف، وانظر كلا الروايتين عند ابن سعد في "الطبقات" 1/ 95، والطبري في "تاريخه" 2/ 243، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (قسم السيرة) ص 204 - 206، وابن الجوزي في "المنتظم" 2/ 201، وابن الأثير في "الكامل"2/ 7 - 8، وابن كثير في "البداية" 2/ 231 - 232.

فصل في ذكر هاشم

وجهك منه شيء، فأخبِرْ زوجتَك أنها قد حَمَلَتْ بخير أهلِ الأرض، وإني لأحسِبُك أبا النبي المبعوث الذي قد أَظل زمانُه. وحملت آمنةُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليلة التي أقام فيها عبد الله عندها. قال الزُّبير: حَملتْ به في شِعْبِ أبي طالب عند الجَمْرَة الوُسْطى. وكان عبد المطلب إذا قدِم اليمن نزل على عظيمٍ من عُظَماء حِمْيَر، فوجد عنده مرةً رجلًا قد قرأ الكتب، فقال: أتأذن لي يا عبد الله أن أفتِّشَ مكانًا منك؟ فقال: ليس كلّ مكانٍ آذَنُ لك في تفتيشه، فقال: إنما هو مِنْخَراك، فقال: انظر، فنظر في مِنْخَرَيه وقال: أرى نُبَوَّةً ومُلْكًا، وأحدهما في بني زُهرة. فرجع عبد المطلب فتزوَّج هالةَ بنت وَهب، وزوَّج ولده عبد الله آمنةَ بنت وهب، فولدت هالة لعبد المطلب حمزة، وولدت آمنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكان عبد المطلب يخرج في رحلة الشتاء إلى اليمن، فنزل مرَّةً على يهوديّ قد قرأ الكُتُب، فنظر إليه فقال: أرى في أحد مِنْخَرَيك نبوَّةً وفي الآخر مُلْكًا، فهل لك من شاعة، أي: زوجة؟ فرجع عبد المطلب فتزوَّج هالةَ، وزوَّج عبد الله آمنة. فصل في ذكر هاشم وأمه عاتكة بنت مُرَّة بن هِلال، وهاشم لقبٌ له، واسمه عمرو، وفيه يقول عبد الله بن الزِّبعرَى: [من الكامل] عمرو العُلَى هشمَ الثَّريدَ لقومه ... ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عِجافُ من جملة أبيات (¬2). وقال مَطْرود بن كعب الخزاعي (¬3): [من الكامل] يا أيُّها الرجُلُ المحوِّلُ رَحْلَه ... هلَّا نزلْتَ بآلِ عبد مَنافِ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 86، والحاكم 2/ 601، والبيهقي في "دلائات النبوة" 1/ 106. (¬2) البيت في ديوانه ص 53، ومسنتون: أصابتهم سَنَةٌ مُجدِبة. (¬3) اختلف في قائل هذه الأبيات على قولين: أحدهما: مطرود كما أورده المصنف ها هنا، وابن هشام في "السيرة" 1/ 163، و"أنساب الأشراف" (قسم السيرة) ص 68، و"الحماسة البصرية" 1/ 155. والثاني: =

فصل في ذكر رحلة الشتاء والصيف

هَبِلَتْك أمُّك، لو نزلت عليهمُ ... ضَمِنُوكَ من جُوعٍ ومِن إِتْلافِ (¬1) والمُطْعمينَ إذا الرياحُ تناوَحَتْ ... لِمُوَقَّصِين ومُسْنِتِينَ عِجافِ (¬2) والمُفْضِلين إذا المُحُولُ تَرادَفَتْ ... والقائلينَ هَلُمَّ للأضيافِ والخالِطينَ غنيَّهمْ بفقيرِهم ... حتى يكونَ فقيرُهُم كالكافي وذلك لأن قومَه أصابهم قَحْطٌ شديد، وسَنَوات أذهبت المال، فرحل إلى الشام، فاشترى الدَّقيق والسمْنَ والزَّيت، وحَملَه إلى مكة، وكان يَنْحَر الجَزُوْرَ، ويَصنع الثريد وَيلُتُّه بالسمْنِ والزَّيت، ويَهشِمُه، ويجمعُ الناس عليه فعاشوا. وكنية هاشم: أبو ثَرِيد، وقيل: أبو نَضْلة، وقيل: أبو أسَد. فَصل في ذِكر رحلة الشتاء والصيف كانت العربُ تَعْتَفِد (¬3) في الجاهلية، واعتِفادُها أن أهلَ البيت منهم إذا هَلَكت مواشيهم، ولم يَبْقَ لهم شيء؛ خرجوا إلى البَرِّيَّة يَضربون على نفوسهم الأَخْبِيَة، ثم لَزِموها حتى ماتوا قبل أن يُعْلَمَ بِخَلَّتِهم، فلما عَظُم قَدْرُ هاشم قال: يا معشرَ قريشٍ، إن العِزَّ مع كثرة العَددَ، وقد أصبحتُم أكثرَ العرب مالًا وأعزَّها نَفَرًا، وإن هذا الاعتفادَ قد أتى على كثيرٍ منكم، وإني قد رأيتُ رأيًا. قالوا: ما هو؛ فإن رأيَكَ رشيدٌ، فمُرْنا بأَمْرِك نأتمِرْ. قال: رأيتُ أن أَخْلِطَ فقراءكم بأغنيائكم، فأضمَّ إلى كل غنيٍّ فقيرًا يعيش في ظِلِّه يؤاكله، ويكونَ ذلك قاطعًا للاعتفاد، ثم تَرحَلون رحلَتين رحلةً للشتاء والأخرى للصيف، فنساعدهم على ذلك، فقالوا: نِعْمَ ما رأيت. فأَلَّف بين الناس، وأحيى ¬

_ = عبد الله بن الزبعرى، والأبيات في ديوانه ص 54 س، وقال في "الحماسة": ويروى لعبد الله بن الزبعرى، والأول أكثر. (¬1) هبلتك: ثكلتك. (¬2) تناوحت تقابلت، وهي الرياح التي تهب في الشتاء، فهي تهب من جهات متعددة، وقوله: "لموقصين" كذا جاءت في نسخنا، ولم نقف على هذه الرواية, وجاء البيت في ديوان عبد الله بن الزبعرى: والمطعمون إذا الرياح تناوحت ... ورجال مكة مسنتون عجاف وهو كذلك في الحماسة 1/ 155 لمطرود بن كعب. (¬3) في النسخ: "تحتقد"، والمثبت من "لسان العرب"، و"القاموس": (عفد).

الفقراءَ، فأخبر الله عن ذلك فأنزل: {لإِيلَافِ قُرَيشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيفِ}. السورة (¬1). وكان هاشم إذا قَدِم على ملوك اليمن والرومِ أكرموه، وأحسنوا إليه، وربّما بلغ إلى أَنقِرة، وهي موضع فيه قلعةُ الرُّوم (¬2)، ولمَّا جاء الإِسلام انتسخ ذلك. وقال سعيد بن جبير: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - بملأ وهم ينشدون: [من الكامل] قُل للذي طَلَب السَّماحةَ والنَّدى ... هلَّا نزلتَ بآلِ عبد الدَّارِ هلَّا مرَرْتَ بهم تُريد قِراهُمُ ... مَنَعوك من جَهْدٍ ومن إقتارِ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأَبي بكر: "أهَكَذَا قال الشَّاعرُ"؟ قال: والذي بعثَك بالحقِّ إنما قال: قُل للذي طَلَب السَّماحة والنَّدى ... هلَّا مررتَ بآلِ عبد مَنافِ هلَّا مررتَ بهم تريد قِراهمُ ... مَنَعوك من فقْر ومن إِجْحافِ الرَّائشِينَ وليس يُوْجَدُ رائِشٌ ... والقائلين هَلُمَّ للأضيافِ والقائمين بكلِّ وَعْدٍ صادقٍ ... والرَّاحلين لرِحْلةِ الإيلافِ عَمرو العُلا هَشَم الثَّريدَ لقومِه ... ورجالُ مكةَ مُسْنِتونَ عِجافُ سَفَرَين سنَّهما له [ولقومه] (¬3) ... سَفَرَ الشتاء ورِحْلَة الأصيافِ وكان هاشم إذا حضر الموسم قام فقال: يا معاشر قريش، أنتم جِيران الله، وأهلُ بيته، وسكانُ حَرَمه، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوَّارُ الله يعظِّمون بيتَه، فهم أضيافُه، وأحقُّ مَن أكرمَ أضيافَ الله أنتم، فاقْرُوْهُم، واسقوهُم. ثم يَنصب حِياضَ الأُدْم في موضعِ زمزمَ، ثم يُخرج أموالًا كثيرة، وتُوافِدهُ قريش، فيُطعِمُ الحاجَّ وَيسقيهم قبل يوم التروية بيوم وبمنى وبجَمْع، وبعَرَفة، مدَّةَ مُقامِهم في أيام الموسم، يَثْرُدُ لهم الخبز، ¬

_ (¬1) نسبه السيوطي في الدر المنثور 6/ 397 إلى الموفقيات للزبير بن بكار -وليس فيما طبع منه لأنه مخروم- عن عمر بن عبد العزيز، قوله. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 75. (¬3) ما بين حاصرتين ليس في النسختين، والمثبت من "الكشف والبيان" للنيسابوري 6/ 558.

ذكر منافرة هاشم وعبد شمس

ويَجعلُ عليه فِدَرَ اللَّحم، ويذرُّ عليه السَّويق، وَيخلِطُه بالسَّمْن إلى أن يَصدُرَ الناس إلى بلادهم. ذكر مُنافَرَة هاشم وعبد شَمس وكانا وُلدا تَوْأمين، وإصبعُ أحدهما مُلتصقةٌ بجبهة الآخر، فانفصل منها دمٌ، فقال الناس: يكون بينهما دَم (¬1). ووُلدَ بعدهما المطلب وهو أصغرهم، واسم أمِّ الثلاثة: عاتكةُ بنت مُرَّة السُّلَمية، وآخرهم نَوفل وأمُّه واقدة، وكان لعبد مَناف أولاد أخَرُ، إلا أن المشار إليه منهم هؤلاءِ الأربعة، فإنهم سادوا بعد أبيهم، فلما توفي عبد مَناف ولي بعده هاشم، فأخذ السِّقايةَ والرِّفادَة، وساد قومَه، فحَسَده أميةُ بنُ عبد شمس وكان ابنَ أخيه، فتكلَّفَ أن يَصنعَ صنيعَ هاشم فعَجَزَ، فعَيَّرتهُ قريش وقالوا: تتشبَّهُ بهاشم؟ فغَضِب وقال: ومَن هاشمٌ؟ ثم دعا هاشمًا إلى المُنافَرَة، فأبى لسِنِّه وعِظَم قَدْرِه، فلم تَدَعْه قريش، فقال هاشم: أُنافِرُك على خمسين ناقةً سُودِ الحَدَقِ تُنْحَر بمكة، والجَلاءِ عن مكة عشرَ سنين. فرضي أميَّةُ بذلك، وجعلا بينهما الكاهِنَ الخُزاعي وهو جدُّ عمرو بن الحَمِق كان يَنزِلُ بعُسْفان، فخرج هاشم في نفر من قريش، وخرج أمية ومعه أبو هَمْهَمة بن عبد العزَّى وكانت ابنته تحت أمية، فنزلوا على الكاهن، فعلم ما جاؤوا فيه ولم يُعَرِّفوه، فقال: والقَمَرِ الباهر، والكوكبِ الزَّاهِر، والغَمامِ الماطِر، وما بالجوِّ من طائر، وما اهتدى بعَلَمٍ مُسافرٌ من مُنجِدٍ وغائر، لقد سَبَقَ هاشم أميةَ إلى المفاخِر، وأبو هَمْهَمَةَ بذلك خابر. فنفّر هاشمًا على أمية، وعاد هاشم إلى مكة، وأخذ الإبلَ فنَحَرها، وأَطعم الناس، وخرج أميةُ إلى الشام، فأقام بها عشرَ سنينَ، فكانت هذه أولَ عداوةٍ وقعت بين هاشم وأميةَ، وتوارَثَ ذلك بَنُوهُما (¬2). ذِكر حِلْفِ المُطَيَّبين (¬3) وكان في أيام هاشم، وذلك أن هاشمًا وعبدَ شمس والمطَّلبَ ونَوفلًا، بني عبد ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 253. (¬2) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 69، و"الطبقات الكبرى" 1/ 76، و "تاريخ الطبري"، و"المنتظم" 2/ 212. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 77، و"سيرة ابن هشام" 1/ 130، و"تاريخ اليعقوبي" 1/ 248، و"البدء =

ذكر أشراف قريش في الجاهلية

مناف، أجمعوا بأن يأخذوا ما بأيدي بني عبدِ الدار بنِ قُصيّ مِمَّا كان جعل قُصيٌّ إلى عبدِ الدارِ من الحِجابةِ والسِّقايةِ واللّواءِ والنَّدْوةِ والرِّفادةِ، ورأَوا أنهم أحقُّ بذلك لِشَرَفهم وفَضْلِهم على قومهم، وكان القائمَ بالأمر هاشم، وأبي ذلك بنو عبدِ الدَّار، وانضمَّ إلى بني عبد مَناف بنو أَسَد بنِ عبد العُزَّى، وبنو زهرة (¬1)، وبنو تميم بن مُرَّة، وبنو الحارث بن فِهْر، وانضمَّ إلى بني عبد الدَّار بنو مَخْزوم، وبنو سَهْم، وبنو جُمَح، وبنو عَدِيّ بن كعب، وعَقَدَ كلُّ قوم حِلفًا مؤكّدًا على أنهم لا يتخاذلون، وأخرجت بنو عبد مناف جَفْنةً مملوءة طِيبًا، فوضعوها عند الكعبة، وغَمَسوا أيديَهم فيها، وتعاهدوا وتعاقدوا، ومَسَحوا الكعبة بأيديهم تأكيدًا (¬2)، فسُمُّوا المُطَيَّبين. ولما رأت ذلك بنو عبد الدار نحروا جَزُورًا، وجعلوا دمَه في جَفْنة، وغمسوا أيديَهم فيها، وتحالفوا، فسُمُّوا لَعَقَةَ الدَّمِ، ووقع الشرُّ بينهم، وتهيَّأ الفريقان للقتال، فقال أعيانُ قريش: هذا سببُ هلاك الفريقين، وطمعِ العدو في بيت الله وحَرَمِه، ودخلوا بينهم، فاتَّفقوا على أن يُعطوا لبني عبد مَنافٍ الرِّفادةَ والسِّقايةَ، وتكون الحِجابةُ واللواءُ ودارُ النَّدْوَة في يدِ بني عبد الدار، فلم تَزَلْ دارُ الندوة في أيديهم حتى باعها عكرمةُ بنُ عامر من معاوية بن أبي سفيان، فجعلها دارَ الإمارة، وهي اليوم على ذلك. ذكر أشراف قريش في الجاهلية (¬3) وانتهى الشَّرَفُ في قُريش إلى عشرةِ رَهْطٍ من عشرة أبطُن، وهم: هاشم، وأميةُ، ونوفلٌ، وعبدُ الدار، وأسد، وتَيم، ومَخزوم، وعَدي، وجُمَح، وسَهْم. فكان من بني هاشم العباسُ بن عبد المطلب يسقي الحجيجَ في الجاهلية، وبقي له ¬

_ = والتاريخ" 4/ 128، و"أخبار مكة" 5/ 175، و"المنتظم" 2/ 218، و"الكامل" 1/ 350 و 558، و"البداية والنهاية" 2/ 194، 270. (¬1) في "النسخ": "زهير" والمثبت من السيرة، والمصادر. (¬2) جاءت العبارة في (ك): "وتعاقدوا ومسحوا بالكعبة تأكيدًا"، وجاءت في (ح): "وتعاقدوا بالكعبة تأكيدًا" والتصويب من "السيرة" 1/ 132. (¬3) انظر "العقد الفريد" 1/ 313 - 314، و"المنتظم" 2/ 216، و"جمهرة النسب".

ذلك في الإِسلام، وكان إليه أمرُ المسجد الحرام، فلا ينطِقُ فيه أحد بِهُجْرٍ ولا رَفَث، ولا يرفع صوتَه فيه إلا وللعباس أن ينهاهُ عن ذلك، وكانت إليه عِمارتُه وأسبابُه، واتصل ذلك بِبَنيهِ في الإِسلام. وأمَّا أميَّةُ: فمن بنيه أبو سفيان، كانت عنده راية تُسمَّى "العُقاب" وكانت لقريش يسيرون تحتها، وجاء الإِسلام وهو على ذلك. وأمَّا نوفل: فمن بَنيه الحارثُ بن عامر، كان إليه الرِّفادةُ، وهي ما تُخرِجُه قريش من أموالها، ترفِدُ به مُنْقَطِع الحاجِّ. وأما عبد الدار: فمن بَنيه عثمان بن طَلْحة، كان إليه اللِّواء، والسَّدَانة، والحِجابة، ودار النَّدْوَة، وبقي ذلك إلى أول الإِسلام، فزال اللواءُ ودارُ الندوة، وبقيت الحِجابةُ. وأما أسَدٌ: فمن بنيه يزيد بن ربيعة بن الأسود، وكانت إليه المشورةُ، واستُشهِدَ يومَ الطائِف مُسلِمًا. وأما تَيمٌ: فمنها أبو بكر - رضي الله عنه -، كانت إليه في الجاهلية الأشناقُ، وهي الدِّياتُ والمغارِم. وأما مخزومٌ: فمنها خالدُ بن الوليد، كانت إليه أعِنَّةُ الخيل في الحرب دون غيره، وما يَجمعونه لتجهيز الجيوش (¬1). وأما عَدِيّ: فمنها عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -، كانت إليه السِّفارة في الجاهلية، إذا وقعت بين قريش وبين غيرها مُنافَرَة، أرسلوه فأَصلَحَ بينهم (¬2). وأما جُمَحُ: فمنهم صفوانُ بن أمية، كانت إليه الأزْلامُ، وهي الأَيسار. وأما سَهْمٌ: فمنها الحارثُ بنُ قيس، كانت إليه الحكوماتُ في المالِ الذي يجعلونَه لآلهتهم. ¬

_ (¬1) جاء في "العقد الفريد" 3/ 314، و"المنتظم" 2/ 217: أن له القبة والأعنة، فأما الأعنة فقد ذكرها المصنف، وأما القبة: فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجش. (¬2) جاء في "العقد الفريد" 3/ 314، و"المنتظم" 2/ 217: أنه كان سفيرًا لقريش في الحرب، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعلوه منافرًا ورضوا به.

ذكر وفاة هاشم

فهذه المكارم التي كانت لقريش، ولهاشم أعْظَمُها، ثم جاء الإِسلام فَوَصَل ما يَصْلُح وَصْلُه، قال شَرِيك بن عبد الله: سُئِل عليٌّ - عليه السلام - عن بني أَمية وبني هاشم؟ فقال: هم أكبرُ وأمكرُ وأشكر، ونحن أفصحُ وأصبحُ وأنصحُ (¬1). ذِكر وَفاة هاشم اتفقوا على أنه مات بغَزَّة بساحل البحر، وهو ابن عشرين سنة، وقيل: ابن أربع أو خمس وعشرين سنة، ولما احتُضِر أوصى إلى أخيه المُطَّلب، فبنو هاشم وبنو المطَّلب يدٌ واحدة إلى اليوم، وبنو نوفل وبنو عبد شمس ابني عبدِ مَناف يد واحدة إلى اليوم. ذكر أولاد هاشم كان له من الولد عشرة، خمسة ذكور وخمس إناث، فالذكور: أبو صَيفي واسمه عمرو وكان أكبرَ ولده، وصيفيٌّ (¬2)، وشَيبَةُ وهو عبد المطلب، وأسد، ونَضْلَة. وأما الإناث: فرُقَيَّةُ، والشِّفاء، وصعيفة، وخالِدة، وحَيَّة. فأما أبو صيفي فسمَّاه هاشم عَمرًا لمحبته إياه، فوَلَد أبو صيفي الضَّحاكَ ورُقَيقةَ، وهي أم مَخْرمة بنتُ نوفل الزُّهْري صاحبة حديث استسقاء عبد المطلب. وأما صيفيٌّ فلم يُعقِب. وأمه أم أبي صيفي واسمها هند بنت عمرو بن ثَعْلَبة الخَزْرَجي. دَرَج (¬3) ولم يولد له. وأما شيبةُ فسنذكره. وأما أسدٌ فأمه قَيْلةُ بنت عامِر خزاعية، وهي بنت هَرِم بن رَواحة من بني عامِر بن لؤي، فولدت له فاطمة بنتَ أسَد أمَّ علي - عليه السلام - وأخوته. وأما نَضْلةُ بن هاشم فأمُّه أُمَيمة بنت عدي من قُضاعة، وُلد له الأرْقَم بن نَضْلة، ¬

_ (¬1) انظر "العقد الفريد" 3/ 315. (¬2) صيفي وأبو صيفي، جعلهما البلاذري في "أنساب الأشراف" (قسم السيرة) ص 99 رجلًا واحدًا. (¬3) درج: مات.

وولَدَ الأرقمُ زينَبَ، تزوَّجها عبدُ يَغُوثِ بن وَهب الزُّهري وولَد الأرقمُ هِنْدا، تزوَّجها جَميل بن مَعْمرَ الجُمَحيّ، وليس لنَضْلةَ عَقِبٌ من المذكور. وأما رُقيَّةُ، فهي شقيقةُ عبد المطلب وأمها سلمى، ماتت وهي بِكْرٌ. وأمَّا الشِّفاءُ، فتزوجها عُبيد بنُ عبد يَزيد بن هاشم بن المطلب، فأولدها السائبَ بنَ يزيد. وكان السائبُ يُشْبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رثت أباها هاشمًا فقالت (¬1): [من الخفيف] عينِ جُودي بعَبْرةٍ وسُجومِ ... واسْفَحي الدَّمعَ للجَواد الكريمِ عينِ واسْتَعْبِري وسُحِّي دُموعًا ... لأبيكِ المُسوَّد المَعْلومِ وربيعٍ للمُجْدبين وحِرْزٍ ... ومُرامٍ لكلِّ أمرٍ عظيم شَيظَميٍّ مُهَذَّبِ ذي أيادٍ ... أرْيَحِيٍّ مثلِ القناةِ وَسيمِ (¬2) غالِبيٍّ سَمَيدَعٍ أحْوَذِي ... باسِقِ المجْدِ ذي رُواءٍ حَليمِ (¬3) صادقِ البأسِ في المواطن شَهْمٍ ... ماجِدِ الخِيمِ غيرِ نِكْسٍ ذَميمِ وأمَّا ضعيفةُ وخالدةُ فأمهما واقِدة بنت أبي عَدِي من بني مازِن، كانت تحت عبد مَناف، فلما مات خَلف عليها ولدُه هاشم. وأما حيَّةُ فأمها أمُّ عدي (¬4) بنت حُبَيِّب ثَقَفِيَّة. وقالت خالدة ترثي أباها هاشمًا (¬5): [من الكامل] بَكَرَ النَّعِيُّ بخير مَن وَطِئَ الْحصَى ... ذي المكرُمات وذي الفِعالِ الفاضِلِ بالسيِّد الغَمْرِ السمَيدَعِ ذي النُّهى ... ماضي العَزيمةِ غير وَغْدٍ واغِلِ (¬6) زينِ العَشيرةِ كُلِّها، ورَبيعِها ... في الضَّيِّقات (¬7) وفي الزَّمان الماحِلِ ¬

_ (¬1) الأبيات في "الطبقات الكبرى" 1/ 81. (¬2) الشيظمي: الطويل الجسيم المفتي. (¬3) السميدع: السيد الكريم الشريف السخي، والأحوذي: الحاذق. (¬4) سقطت كلمة (أم) من النسخ و "الطبقات" 1/ 80، والمثبت من "تاريخ اليعقوبي" 1/ 244، و"توضيح المشتبه" 3/ 100، وانظر "الروض الأنف" 1/ 130. (¬5) الأبيات في "الطبقات الكبرى" 1/ 80. (¬6) الوغل: النذل الساقط. (¬7) جاء في "الطبقات": "المطبقات".

فصل في عبد مناف

بأخي المكارمِ والفَواضلِ والعُلى ... عَمرو بن عبد مَنافِ غيرِ الخاذلِ إنَّ المهذَّبَ من لُؤَيٍّ كُلِّها ... بالشام بين صفائحٍ وجَنادلِ أبكي عليه ما بَقيتُ بعَوْلةٍ ... فلقد رُزِئْتُ أخا ندىً وفوَاضلِ ولقد فَقَدْتُ قَريعَ فِهْرٍ كلِّها ... ورئيسَها في كلِّ أمرٍ شاملِ فَصْلٌ في عبد مَناف واسمه المُغيرة، وكان يلقَّب بالقَمَر لجمَاله. وأمّه حُبَّى بنت الحُلَيل الخُزاعي، وقيل: عاتكة بنت هِلال من بني سُلَيم (¬1). وكان قُصيّ أبو عبد مناف يقول: وُلد لي أربعةُ أولاد سميت منهم اثنين باسم إلهي، وواحدًا بداري، وواحدًا بنفسي، وهم: عبدُ مناف، وعبدُ العُزَّى، وعبدُ الدارِ، وعبد قُصَي (¬2). ذكر أولاد عَبْد مَناف وُلد له ستَّة ذكورٍ وستُّ إناث. فا لذكور: هاشم، والمطَّلب، وعبد شَمسٍ، ونَوفل، وأبو عمرو، وأبو عُبيد (¬3). والإناثُ: تمُاضِر، وحَيَّة، ورَيْطة، وقِلابة، وبَرَّة، وهالة (¬4). فأمَّا هاشمٌ فكان أكبَرَ ولده، وهو الذي عقد الحِلف لقريشٍ من النَّجاشي (¬5). وأما عبد شمس فأمه عاتِكةُ أم هاشم. ذكر أولاد عبد شَمس وهمِ أمَيَّة الأكبر، وأمَيَّة الأصغر، وحبيب، وعبد العزَّى، وسُفيان، وربيعة، وعبد أمية، ونوْفل، وعبد الله، وأُميمة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "أنساب الأشراف" ص 66. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 254 (¬3) انظر "الطبقات الكبير" 1/ 56 وجاء في "أنساب الأشراف" ص 71: أبو عمرو واسمه عبيد، وانظر "البداية والنهاية" 2/ 237. (¬4) انظر "أنساب الأشراف" ص 71. (¬5) جاء عند الطبري في "تاريخه" 2/ 252، و"المنتظم" 2/ 212 أن الذي أخذ الحلف هو عبد شمس. (¬6) انظر "أنساب الأشراف" 4/ 5 - 6.

ذكر أولاد أمية الأكبر

فأما أُمَيَّةُ الأكبر فكان عبد شمس يُكنى به، وأمه تَعْجُز بنتُ عُبيد بن رُؤاس بن كلاب. ويقال لها أيضًا عاتكة، وهي أم حَبيب بن عبد شمس. وذهَبَ بَصَرُ أُمَيَّةَ بنِ عبدِ شمس. ذكر أولاد أُميَّةَ الأَكبر فوُلِد لأَمَيَّة الأكبر: حَرْث، وأبو حَرْب، وسُفْيان، وأبو سُفْيان، وعَمرو، وأبو عمرو، وهم العَنابِسُ من قريش، والعاص، وأبو العاص، والعِيص، وأبو العِيص، وهم الأَعْياص من قريش. وفيهم يقول فَضالةُ بن شَريك الأسَدي (¬1): [من الوافر] منَ الأعياصِ أو من آلِ حَرْبٍ ... أغَرُّ كغُرَّة الفَرَسِ الجَوادِ وأمهم آمنةُ بنت أبانِ بن كُلَيب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة، وفي ذلك يقول النابِغةُ الجَعْدِي (¬2): [الوافر] وشاركْنا قُريشًا في تُقاها ... وفي أحْسابِها شِرْكَ العِنانِ بما وَلَدت نساءُ بني هِلالِ ... وما وَلَدت نساءُ بني أَبَانِ فأمَّا حرب بن أُميَّةَ الأكبر فكُنيتُه أبو عمرو، وهو أبو أبي سفيان صخرِ بنِ حَرْب، وأمِّ جميل حَمَّالة الحَطَب بنت حرب، وكان شريفًا في قومه، وكان ينادِم عبدَ المطلب، فجرى بينهما كلام فتنافرا، كانفر عبد المطلب عليه، وأبي النجاشيُّ أن يدخل بينهما، فجعل بينهما نُفَيل بن عبد العُزّى بن رَباح العَدَوي. فقال نُفَيل لحرب: أَتُنافِرُ رجلًا هو أطولُ منك قامةً، وأعظمُ هامةً، وأوسمُ وَسامة، وأقلُّ مَلامة، وأكثر منك وَلدًا، وأعظمُ مَدَدًا، وأعزُّ والدًا، وأجزلُ صَفَدًا (¬3) وأطول يَدًا؟ فنفَّره عليه. فقال حرب: من انتكاثِ الزمان أنْ جُعِلْت حَكَمًا (¬4). والنَّكِيثَة: خطة صعبة. ¬

_ (¬1) انظر "جمهرة النسب" ص 38، و"أنساب الأشراف" 4/ 7، و"الأغاني" 12/ 72. (¬2) الأبيات في ديوانه ص 164، وأنساب الأشراف 4/ 7، وانظر "جمهرة النسب" ص 38. (¬3) الصفد: العطاء. (¬4) انظر الخبر في "الطبقات الكبرى" 1/ 87، و"تاريخ الطبري" 2/ 253.

ذكر أولاد حرب بن أمية

ولما مات حرب، كُنَّ نساءُ قُريش كلما عات مَيِّت بَكَينه وقُلْن: واحَرْباه -بِإِسكان الراء- يُشِرْنَ إلى حرب بن أمية، من عِزَّته وشَرَفه، فأقَمْن مدَّة على هذا، فمات ابن لامرأةٍ، فَجَعَلْنَ النساءُ يقلن: واحرْباه، فقالت أمُّه: وما أصْنَعُ بحرب؟ افْتَحن الراءَ، وقُلْنَ: واحرَباه من الحرَبِ، فقلن ذلك فصار سُنَّةً للنساء. ذكر أولاد حَرْبِ بن أمية وهم: أبو سفيانَ والفارِعةُ، وأمهما صفيَّةُ بنت حَزْن هِلاليَّة. وأمُّ جَميل بنتُ حرب أمها فاخِتَة بنتُ عامر بن مُغيث الثَّقفي. وأميمةُ وأُمُّ الحكم ابنتا حرب، أُمُّهما أمُّ وَلَد، والحارث (¬1) بنُ حرب، وأمُّه يمانِيَّةٌ دَرَج، وعَمرو بنُ حرب [وأبو عمرو بن حرب] (¬2)، والصَّهباء بنت حرب. فأمَّا أبو سفيانَ، فسنذكره في ترجمته. وأما الفارعةُ فكانت تحت شيبةَ بن ربيعةَ بن عبد شمس، فخلف عليها الأَسْودُ بن المطَّلب بن أسَد بن عبد العُزّى. وأمَّا أم جميل فتزوجها أبو لَهَب بن عبد المطلب. وأمَّا فاخِتةُ، فتزوجها جَثَّامةُ اللَّيثي، ثم خلف عليها عُتْبةُ بن غَزْوانَ المازني. وأمَّا الصَّهْباء فتزوجها بِشْر بنُ عبد الملك السَّكوني. فهؤلاء أولاد حرب بن أمية الأكبر. وأمَّا سفيانُ بن أميةَ الأكبر فلا عَقِب له. وأمَّا أبو سفيان بن أمية فاسمه عَنْبَسة، وهو أكبر ولده، ولا عَقِبَ له. وأمَّا عمرو بن أمية، فلا عَقِبَ له، وأمه بنت أبي هَمْهَمَةَ من وَلَدِ الحارث بن فِهر. وأمَّا أبو عمرو بن أمية، فأُمه من لَخْم. وولد عمرو بن أمية أبا مُعَيط جَدَّ الوليد بن عُقبةَ بنِ أبي مُعَيط. ¬

_ (¬1) في النسخ: "الحرب" والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 9. (¬2) ما بين معقوفين زيادة من "نسب قريش" ص 123.

ومن وَلد أمية الأكبر العاصُ بن أمية، كان سيدًا حكيمًا، قال له قومه: اهْجُ بني أسَد بن عبدِ العُزّى، فقال (¬1): [مجزوء الكامل] أنَّى أُعادي معشَرًا كانوا لنا حِصْنًا حَصينا خُلقوا من الجَوزاء إذ خُلقوا ووالدُهم أَبونا أبْلِغْ لديك بَني أُميةَ آية نُصحًا مُبينا (¬2) أنَّا خُلِقنا مُصْلِحين وما خُلِقْنا مُفْسدينا وولد أبو العِيص بنُ أُمَيَّة الأكبرِ أَسيدًا أبا عَتَّاب بن أَسيد، عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مكة. وأمَّا العاص بن أمية، فولد سعيد بن العاص، وكنيته أبو أُحَيْحَة. وأمَّا أبو العاص بن أمية فولد عفَّانا أبا عثمان - رضي الله عنه -، والحكمَ أبا مروان. عدنا إلى أولاد عبد شمس فمنهم: أمية الأصغر، وعبد أمية، ونَوْفَل، وأمهم: عَبْلةُ بنت عُبيد بن جاذِل من بني تميم من البَراجِم (¬3)، ويُدْعَون العَبَلات لأجل أمهم. وأولادُ أميةَ الأصغر بمكةَ، ومنهم الثُّريا التي شبُّبَ بها عُمر بن أبي ربيعةَ. وبنو عبد أُميَّةَ ونَوْفل بالشام. ومنهم: حَبيبُ بنُ عبدِ شمس، فوَلَدُه ربيعةُ جد عامر بن كُرَيز بن ربيعة، وسَمُرة بن حبيب، وكان له أمَةٌ سوداء يقال لها: زَبيبة (¬4). وأخوه لأمِّه أبو جُمعة الشاعر جد كُثيِّر بن عبد الرحمن بن أبي جُمْعَة (¬5). ¬

_ (¬1) الأبيات في "نسب قريش" ص 99، و"جمهرة نسب قريش" ص 431، و"أنساب الأشراف" 4/ 6. (¬2) الآية: الرسالة. (¬3) البراجم: هم قوم من بني حنظلة بن مالك، قال لهم حارثة بن عامر بن عمرو بن حنظلة: أيتها القبائل التي ذهب عددها، تعالوا فلنجتمع فنكن كبراجم كفي هذه، ففعلوا فسموا بذلك. (¬4) كذا جاءت العبارة في النسخ، وفي "المعارف" ص 73: وسمرة بن حبيب وكانت أمه سوداء تسمى زبيبة. (¬5) كذا جاءت العبارة في النسخ، وفي "المعارف" ص 73: وأخوه لأمه أبو جمعة، جد كُثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الشاعر. وانظر "الإصابة" 4/ 37.

ذكر أولاد نوفل بن عبد مناف

ومنهم: أميمة بنت عبد شمس، وأمها تَعْجُز بنت عُبيد، تزوَّجها حارثةُ بنُ الأوْقَص السُّلَمي، ثم خلَف عليها عَمرو بن ثَعلبة (¬1) الكِناني. ومنهم: سُفْيان بن عبد شمس، لا عَقِب له. ومنهم: ربيعةُ بن عبد شمس، وهو أبو عتبةَ وشيبةَ. وربيعةُ يقال له: جَروُ البطحاء. ومنهم: عبد العُزى بن عبد شمس. وُلد له ربيع وربيعة. فأما ربيع: فهو أبو أبي العاص بن الرّبيع زوجِ زينبَ عليها السلام بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمُّ عبد العُزَّى بن عبد شمس فاطمةُ (¬2) أزْديَّة. ومنهم: عبدُ الله بنُ عبد شمس الأعرَج. وأمُّه عَمْرةُ كِنْديَّة (¬3). عدنا إلى أولاد عبد مَناف ذِكر أولاد نوفل بن عبد مناف وهم: عَدِيٌّ أكبرُ ولده، وبه يكنى، وعامرٌ وعَمْرو وأبو عمرو وعبد عمرو، وضَعيفَة وأَمَة. فَوَلَد عَدِيٌّ المُطْعم وطُعَيمة، والخيار والبذَّال، والصَّالح واسمُه عُبيدُ الله، والمبارَك واسمُه عبدُ الله. وأمَّا أبو عمرو بن عبد مناف فلا عَقِب له، وأبو عبيد بنُ عبدِ مَناف (¬4)، أُمُّهُما واقِدةُ بنت أبي عَدِيٍّ من بني صَعْصَعة. وأما بنات عبد مناف، تُماضِر وحَيَّة وقِلابة وبَرة وهالة فأُمُّهُنَّ عاتكةُ الكبرى بنت مُرَّةَ بنِ هِلالٍ من وَلَد نَضْرةَ. ورَيطَةُ بنت عبد مَناف أُمُّها واقِدةُ (¬5) ثَقَفِيَّة. ¬

_ (¬1) انظر "أنساب الأشراف" 4/ 6، وجاء في "نسب قريش" ص 97: ثعلبة بن عمرو. (¬2) انظر "أنساب الأشراف" 4/ 5، واسمها في "نسب قريش" ص 98: عمرة بن واثلة. (¬3) انظر "أنساب الأشراف" 4/ 5 - 6، واسمها في "نسب قريش" ص 98: أمامة بنت الجودي من كندة. (¬4) تقدم في ذكر عبد مناف أنه أبو عمرو واسمه عبيد وانظر "أنساب الأشراف" 1/ 71. (¬5) انظر "أنساب الأشراف"، واسمها في "نسب قريش" ص 15: هند بنت كعب من ثقيف.

فصل في ذكر قصي بن كلاب

وأمَّا المُطلب بن عبد مناف، فكان له من الولد: الحارثُ، وعَبادٌ، وهاشمٌ، وعِكْرمةُ، وأَنيسٌ، وأبو عمرو، وأَبو رُهْم (¬1) الأكبر، وأبو عِمران، ومِحْصَن، وعلقمة، وبنات. وكان الحارث أكبرَ ولده، ووَلَد عَبيدةَ بن الحارث، وهو الذي قتل يوم بدر شهيدًا - رضي الله عنه -. وأول من مات من ولد عبد مناف هاشمٌ بغزة، وعبدُ شمس بمكة وقبره بأَجْياد، ونَوْفلُ بالسَّلْمان، منزلٌ على طريق العراق من منازل الحُجاج، والمطلبُ برَدْمان من أرض اليمن، ونَوْفَل آخرهم موتًا، وفيهم يقول مطرود بنُ كعب الخُزَاعي: [من السريع] قبرٌ برَدْمانَ وقبرٌ بِسَلْـ ... ـمان وقبرٌ عند غَزَّاتِ فصل في ذكر قُصَيِّ بن كلاب كان له أربعة أسامي: قُصَيٌّ، وزيدٌ، ومُجَمِّع، والنَّدى، والمشهور زيدٌ، وغيره ألقاب، وفيه يقول القائل: [من الطويل] هُمامٌ له أسماءُ صدْقٍ وسؤدُدٍ ... قُصَيٌّ وزيدٌ والنَّدى ومُجَمّعُ وفيه يقول حُذافَة بن غانم العَدَوي يخاطب أبا لَهَب (¬2): [من الطويل] أبوكم قُصيًّا كان يُدعى مُجَمِّعًا ... به جَمَّعَ الله القبائلَ من فِهرِ ذكر السبب في تسميته قُصَيًّا: وإنما سمي قُصيًّا لتَقَصِّي أمه به، وذاك لأن أباه كِلابَ بن مرة كان قد تزوج فاطمةَ بنت سعد بن سَيَل من بني عذرة من أزد السَّراة، فوَلَدت له زيدًا وزُهْرة، ثم مات كِلابٌ وزيدٌ صغير، فتزوجَ أمه ربيعة بن حَرَام بن ضِنَّة، وقصي فطيمٌ، وزُهرةُ رجل قد بَلَغ، فاحتملها ربيعةُ إلى بلاده من أرض بني عُذرةَ من مشارف الشام، فاحتملت قُصيًّا معها، [فسمي قصيًّا] لتقصي أمّه به، وبُعْدِه عن ديار قومه. ونشأ بأرض قُضاعةَ لا يَعرِفُ له أبًا ¬

_ (¬1) جاء في "نسب قريش" ص 92 أن اسمه أنيسًا. (¬2) جاء في "نسب قريش" أبو حذافة بن غانم، والبيت في "الطبقات الكبير" 1/ 53، و"أنساب الأشراف" 1/ 58، و"نسب قريش" ص 375.

إلا ربيعةَ بنَ حَرام، فجرى بينه وبين رجل كلام، فقال له: الحَقْ بقومك فلستَ مِنَّا، فسأل أمَّه عما قال الرجل، فقالت: أنت واللهِ أكرمُ نَفْسًا ووالِدًا، أنت ابنُ كلابِ بن مُرَّة، وقومك عند الكعبةِ بمكة. فأجمع رأيُ قُصيٍّ على الخروج إلى مكةَ وكَرِه الغُربة، فقالت له أمه: يا بُنيَّ، لا تَعْجَل حتى يدخلَ الشهرُ الحرامُ، فتخرُجَ مع الحاجِّ فتأمنَ على نفسك، فإني أخاف عليك. فأقام حتى تجَهَّزَ جماعةٌ من قُضاعةَ، فخرج معهم، وقَدِم مكةَ وعليها يومئذ حُلَيلُ بن حُبْشيَّةَ بنِ سَلولِ بنِ كعب الخُزاعي، وإليه حِجابةُ البيت، فخطب إليه ابنته حُبَّى فزوجه إياها، فولدت له عبدَ الدار، وعبدَ مناف، وعبدَ العزى، وعبدَ قصي، فلما انتشر ولدُه، وكَثُر مالُه، وعَظُم شَرَفُه، هَلَك حُلَيل، فحَجَب البيتَ ابنُه المُحتَرِش وهو أبو غَبْشان. وقال الواقدي: لما احتضر حُلَيْل أوصى بولاية البيت إلى ابنته حُبّى فقالت: أنا امرأة فكيف أفْتَح الباب وأُغلِقُه؟ فقال: أنا أجعل ذلك إلى رجل. فجعله إلى أبي غَبْشان واسمه سليم بن عمرو، وكانت العرب تجعل له جُعلًا في كل سنة، فقَصَّروا عنه فغضب، فسقاه قُصي الخمر حتى سَكِر وقال له: يا أبا غَبْشان لا خير في العرب، فقال له: اشْتَرِ مني البيت. فباعه إياه بِزِقِّ خمرٍ وقَعودٍ وكَبْشٍ، وقيل: بزقِّ خَمر لا غير، فقال الناس: أخْسَرُ من صَفْقَة أبي غَبْشان. فذهبت مثلًا. وقيل: إن حُلَيلًا لما رأى ولد قصي قد كثروا سُرَّ بهم، فأوصى بالبيت إلى قُصَيٍّ وقال: أنت أَحَقُّ به وهؤلاء أولادك من ابنتي، والأَول أشهر. ثم إِن قُصَيًّا رأى أنه أَولى (¬1) بالبيت من خُزاعةَ وبَكْر، وأن قريشًا صريحُ وَلَدِ إسماعيلَ، فعاهد رجالًا من كِنانةَ وقُريشِ على إخراج خُزاعَةَ وبَكرٍ من مكة، وكتب إلى أخيه لأمه رِزاح بن ربيعةَ يَستَنْجده عليهم، فأنْجَدَه في نَفَر من خُزاعةَ، وكانت صوفَةُ ترمي الجِمار قبل الناس وتُفيض قَبْلهم، وكانوا يقفون بعرفةَ والناسُ تبَعٌ لهم، فلا يَدفَعون حتى يقول قائل: أَجيزي صوفةُ، فإذا عَبروا العقبةَ تَبِعَهم الناس، فلما أراد ¬

_ (¬1) في النسخ: "أوصى" والمثبت من "طبقات ابن سعد" 1/ 50.

قُصَيٌّ في العام الذي حج فيه أن يرميَ ويُفيض منعته صُوفةُ وقالوا: حتَّى نرميَ نحن ونُفيضُ. فلما كان العام القابل قَدمَت قُضاعةُ وفيهم أخوةُ قُصَي لأمه، وهم: رزاحٌ، ومحمودٌ، وجُلْهُمةُ، وحُنٌّ أولاد ربيعة، واجتمع إلى قصي قبائل مُضَر وقريش وكِنانة عند العَقَبة، فمنعتهم صوفةُ عن رمي الجِمار واقتتلوا، فهزم قصيٌّ صوفةَ، فقال رِزاح لأخيه: أَجِزْ قُصيُّ بالناسِ، فأنت أوْلى، فأجازهم، فلم تزل الإفاضة في وَلَد قُصَيٍّ، وإلى هلمَّ جرًا. ثم انحازت عنه خُزاعةُ وبَكْر إلى الأبطح، فقاتلهم قصي، وكثرت الجراحات والقتلى بين الفريقين، فحكَّموا بينهم يَعْمر بن عوف بن كعب من ولد كِنانة، ورضوا بحكمه، فحَكَم لِقُصَيٍّ بالبيت والحُكْمِ على مكة، وأن كلَّ دَمٍ أصاب قريشًا يَشدَخُه تحت قدميه من دماء خُزاعةَ وبَكْر، وما أصاب خُزاعةَ وبني بكر من قريش ففيه الدِّيَة، فسُمِّيَ يعمر يومئذٍ الشَّدَّاخ، ولما فرغ قُصَيٌّ من أمر مكة انْصَرف أخوه رِزاخٌ وأخوته وقومه إلى الشام، وكانوا ثلاث مِئة رجلٍ، بعد أن أكرمهم قصي وأحسن إليهم، وكانوا يوافون الموسم كل عام، فينزلهم في دار النَّدوة، ويكرمهم، ويَصِلُهم. ولما استقام أمره بمكة أجْلى خُزاعة من الأباطح، وأنزل قريشًا في أماكنهم، وكانوا في الجبال والشعاب، وهو أول من أصاب مُلكًا من بني لؤَي بن غالب، وأطاعه قومه وملَّكوه عليهم، وكان شريفًا، وهو الذي بني دار الندوة، وجعل بابها إلى المسجد، وما كانوا يتشاورون في أمر ولا يتناكحون ولا يعقِدون لواءَ الحرب ونحوَه إلا فيها (¬1). وأول من أوقد النار بالمُزْدَلِفة قصي، فكان يراها الناس من عَرَفةَ، وكان يُضيفُ الناسَ أيامَ الموسم طول مُقامهم بمكة ومِنىً وعرفة (¬2)، والنسبةُ إليه قُصَويٌّ. ذكر أولاده: وهم: عبدُ مناف، وعبدُ الدار، وعبدُ العزى، وعبدُ قُصَي، وكان يُحِبُّ عبدَ الدار، ¬

_ (¬1) انظر "طبقات ابن سعد"1/ 48 - 54، و"أنساب الأشراف" 1/ 54 وما بعدها, و"تاريخ الطبري" 2/ 265. (¬2) انظر "طبقات ابن سعد" 1/ 54، و"تاريخ الطبري" 2/ 265.

فصل في كلاب بن مرة

ولما كَبُرَ ورقَّ عظْمُه، أعطى ولدَه عبدَ الدار الحجابةَ، والسِّقايةَ والرِّفادةَ، واللِّواءَ ودارَ النَّدوة. وكان عبد الدار بِكْرَ قُصيٍّ وكان ضعيفًا، وكان إخوته قد شَرُفوا عليه؛ فقال قصي: والله لأُلحِقَنَّك بهم، وإن كانوا قد شرُفوا عليك، فلا يدخل أحدهم الكعبةَ حتى تكون أنت الذي تفتَحُها له، ولا يُعْقد لقريش لواءُ الحرب إلا وأنت الذي تعقِدُه بيدك، ولا يشرب رجل ماءً بمكة إلا من سِقايتك، ولا يأكل أحد بمكة طعامًا إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرًا إلا في دارك (¬1). ذكر وفاته: وتُوفي قصي بمكة وهو ابن عشرينَ ومئةِ سنةٍ، وقيل: لم يبلغ المئةَ، ولما احتُضِر أوصى بَنيهِ، فقال: اجتنبوا الخمرةَ، فإنها تُصلحُ الأبدانَ، وتُفسِدُ الأذهانَ. فصل في كلاب بنِ مُرَّة وأمُّه هند بنت سُرَير بن ثعلبةَ بن الحارث بن فِهْر بن مالك، وقيل: نُعيم بنت سُرَير (¬2). ومن ولد كلاب بن مرة: زُهْرة بنت كلاب، وهي امرأةٌ (¬3) نُسِبَ ولَدُها إليها دون الأب، منهم أخوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان لكلاب أخوان من أبيه، وهما: تَيْمٌ ويَقَظة، وأمهما هند بنت حارثةَ البارِقِيَّة، وقيل: أسماءُ بنت عَدِيّ بن حارثة. فصل في مُرَّةَ بن كعب وأُمُّه وَحْشِيَّة بنت شيبان، من وَلَد النَّضْر بن كِنانة، وأخواه عَدِيٌّ وهُصَيْص. ¬

_ (¬1) انظر "طبقات ابن سعد" 1/ 55. (¬2) انظر "أنساب الأشراف"1/ 54. (¬3) بل زهرة اسم رجل كما هو مصرح به عند ابن هشام في السيرة 1/ 96.

فصل في كعب بن لؤي

فصل في كعب بن لؤي واسم أمِّه ماويةُ بنت كعبٍ من قُضاعةَ، وقيل: سَلْمى بنت محارِب من بني فِهر، وأخواه لأمه عامرٌ وسامةُ. وكعبٌ أول من سمَّى يومَ الجُمُعة يومَ الجُمُعة، وكان قبل ذلك يسمى يوم عَروبَة، وإنما سماه يومَ الجُمُعة لأن قريشًا اجتمعت عليه وإليه فيه. وكعب أول من خَطَب من العرب، وقال في خطبته: أما بعد. وسبب خُطبته أنه لما مات لُؤَيٌّ تفرقت العرب، فجمعها كعْبٌ، وقال في خُطبته: أيها الناس، اسمعوا وعوا، وافهموا، وتعلموا، ليل ساجٍ، ونهارٌ داجٍ، والأرض مهاد، والجبال أوتاد، والسماء سقف مرفوع، والشمس والقمر والنجوم من قُدرة القادر، وصَنْعَةِ الفاطر، صِلوا أرحامَكم، وعظِّموا حَرَمَكم، فسيأتي له نبأ عظيم، ويخرج منه نبِي كريم. وذكر خطبة بليغةً عظيمةً، وله الخُطَب البالغة. وكان له إخوة من أبيه دون أمه: خُزَيمةُ ويُسَمّى عائذةَ قريش، وأمه عائذةُ (¬1) بنت الخِمْس بن قُحافة خَثْعَمية، وسعْدٌ: وأمُّه بُنانةُ، وكان لكعب من الولد: مُرَّةُ، وهُصَيصٌ، وعَدي. فمن مرَّةَ: رهطُ أبي بكرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - لأنه من تيم بن مُرَّة. ومن هُصَيص بن كعب: بنو سَهْم وجُمَحٍ. ومن عَديّ: عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - وزيد بنُ عمرو بنِ نُفَيل. فصل في لؤَيِّ بنِ غالب وأمُّه عاتكةُ بنتُ يَخْلُد بنِ النَّضْر بن كِنانة، وهي أول العواتك اللاتي وَلَدْنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قريش (¬2). وغالب بنُ فِهْر، أُمُّه ليلى بنت الحارث، هُذَلية. ¬

_ (¬1) في النسخ: "عائذة الله" وانظر "الإكمال" 6/ 24. (¬2) انظر "طبقات ابن سعد" 1/ 43، و"أنساب الأشراف" 1/ 624، و"المنتظم" 2/ 225.

وفِهْر بن مالكٍ: أُمُّهُ جَنْدَلة بنت عامر (¬1)، جُرْهُمِيَّة، وكان فِهرٌ سيِّدَ العرب بالحجاز وتهامة، وكان ذو جَدَن حسانُ بنُ عبدِ كُلالٍ الحِمْيَري قد سار من اليمن إلى مكة ليخرِّب الكعبة، وينقلَ أَحجارَها إلى اليمن يبني بها بيتًا، ويجعل حجَّ الناسِ إليه، فنزل بطنَ نَخْلة في جيوشٍ عظيمة، فجمع فِهْر قبائل العرب من قريش وكِنانة وأسَد وخُزَيمة وجِذام وغيرهم، وخرج إليه والتقوا، وكانت الدائرة على ذي جَدَن، فقُتِل أكثر أصحابه، وأُسِر هُوَ، استأسَره الحارثُ بنُ فِهْر، وانهزمت حِمْيَر، فأقام حَسان بمكةَ أسيرًا ثلاثَ سنين، فافتدى نفسه بمال كثير، وخَرَج من مكة متوجهًا إلى اليمن فمات في الطريق. وهابت العرب فِهْرًا، وعظَّموه، وعلا أمره واستَفْحَل (¬2). ومالك بن النضر أمه عِكْرشة بنتُ عَدوان، وقيل: عاتِكةُ، وعِكرشةُ لقبٌ لها، وذكرها البلاذِرِيُّ في العواتك (¬3). والنَّضر بنُ كِنانة اسمه قَيس، والنَّضْرُ لَقَبٌ له لحسنه وجماله، أمُّه بَرَّة بنت مُرِّ بن أُدِّ بن طابِخَة، أخت تَميم بن مُرّ، وكانت تحت جَدّه خُزَيمة، فخلف عليها كِنانة. وقد اختُلِف في قريش، هل هو فِهرُ بن مالِك أو النضرُ بن كِنانة، ومن لم يكن من ولد النَّضر بن كنانة فليس بقُرَشي، وبطون قريش خمسة وعشرون بطنًا. وكنانةُ بنُ خُزَيمةَ [أمه عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان. وقيل: بل أمه هند بنت عمرو بن قيس. وخزيمة بن مدركة] (¬4) أمه سَلْمى بنت أَسْلم قُضاعِيَّة، كنيته أبو الأسَد لِشجاعته، وهو أول من وضع هُبَلَ في جوف الكعبة. ومُدرِكةُ بن الياس اسمُه عَمرو، وكنيتُه أبو الهُذَيل، وأمه ليلى بنت حلوان قُضاعية، ولقبها خِنْدِف. ¬

_ (¬1) جاء في "السيرة" 1/ 88: "جندلة بنت الحارث بن مضاض" وفي "جمهرة النسب" 1/ 22، و"الطبقات الكبرى" 1 / / 47: "جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض". (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 262 - 263، و"المنتظم" 2/ 226 - 227. (¬3) "أنساب الأشراف" 1/ 625. (¬4) ما بين معقوفين زيادة من "المنتظم" 2/ 230، وانظر "جمهرة النسب" ص 21، و"أنساب الأشراف" 1/ 40.

والياس بن مضر اسمه الحُسَين (¬1)، وأُمُّهُ الرَّباب بِنْت حَيدةَ بنِ مَعَدِّ بن عدنانَ، والياسُ أوَّلُ من أهْدى إلى البيت البُدْنَ، وأول من وضع الرُّكن في البيت بعد الطُّوفان، وكانت بنو إسماعيل - عليه السلام - قد غَيَّرت معالم إبراهيم - عليه السلام - لما طال الزمان، فرفعوا الركن من البيت وتركوه في أبي قُبَيس، فَرَدَّه إلياسُ إلى مَوْضِعِه، وقيل: إنما رَدَّ الحَجَر الأسْود إلى البيت، وكان في العرب مِثْلَ لقمانَ الحكيم في قومه، وكانوا يُعظِّمونه لأنه أول من أحيا سُنَن الخَليلِ - عليه السلام -، وهو أول من مات من العرب بِعِلَّةِ السِّل، فَجَزعَت عليه زوجته خِنْدِف جَزَعًا أَخرجها إلى الوَلَه، فخرجت عن مكةَ لم يُظلَّها سقفٌ حتى ماتت سائحة، فضربوا بها المثل، فقالوا: حُزْن خِنْدِف (¬2)، وفيها يقول الشاعر (¬3): [من الطويل] ولو أَنَّه أَغْنى لكنت كَخِندفٍ ... على الياس حتى أعْجَبَت كلّ مُعْجَب إذا مُؤْنِسٌ لاحَت خراطيمُ شَمْسِه ... بكت غُدوةً حتى ترى الشمس تَغْرُب ومعنى مؤنِس؛ لأنه ماتَ يومَ الخميس، وكانوا يسمُّونه مُونِسًا، فكانت تبكي من غُدوَةَ إلى الليل. ومُضَر بنُ نِزار أمُّه سودةُ بنتُ عَك، وهو أول من حدا. ونزار بن مَعَدّ أمُّه مُعانةُ بنتُ جَوْشَم (¬4)، وكان عظيمًا وافِرَ المال، حاكمًا على العرب، مُنفذَ الأحكام، وكان له من الولد: مُضَر، وإيادٌ، وربيعةُ، وأنْمار. وكان ربيعةُ ومُضَر من أعيان أولاده، ويقال لهما: الصَّريحان من وَلَد إسماعيل - عليه السلام -، ولما حَضَرت الوفاة نزار بن معد، قسم ماله بين بنيه وكانوا أربعة، وقال: هذه القُبَّةُ وما أشبهها من مالٍ لِمُضَر، وكانت قبةً حمراءَ فسُمِّيَ مضرَ الحمراء، قال: وهذا الخِباء الأسودُ وما أشْبَهه من الخيل الدُّهْم لربيعة، فسمي ربيعةَ الفَرَس، وهذه الخادم وما ¬

_ (¬1) وفي "سبل الهدى والرشاد" 1/ 341: اسمه: حبيب. (¬2) انظر "تاريخ اليعقوبي" 1/ 228. (¬3) البيتان في "تاريخ اليعقوبي" 1/ 228، و "أنساب الأشراف" 1/ 37. (¬4) جاء في النسخ: "حوشب"، والمثبت من "جمهرة النسب" ص 19، و"نسب قريش" ص 5، و"أنساب الأشراف" 1/ 17.

أشبهها من مال -وكانت شمطاء- لإياد، فأخذ البُلْقَ. وهذه البَدْرَةُ والمجلسُ لأَنْمار، فأخذ العَينَ وما أشبهها، وأوصاهم أن يَتناصَفوا في الغنيمة، وقال: إن أَشكل عليكم شيءٌ من ذلك، أو اختلفتم في القسمة، فعليكم بالأفعى الجُرْهُمي، وكان كاهنًا بنجران اليَمَن من بيت المُلك. ثم مات نِزارٌ، واختلفوا في القِسْمة، فخرجوا يريدون الأفعى الجُرْهُمي، فبينما هم يسيرون إذ مروا بأرض فيها كلأٌ قد رُعِي، فقال مُضَرُ: إِن البعير الذي رعى هذا لَأعورُ، وقال ربيعةُ: وإنه لأزْوَرُ (¬1)، وقال إياد: وإنه لأبْتَرُ، وقال أنْمار: وإنه لَشَرودٌ، فبينما هم كذلك إذا برجل تُوضِعُ به راحِلَتُه فسألهم عن البعير؟ فقالوا: ما رأيناه. فقال مضر: أهو أعْورُ؟ قال: نعم، وقال ربيعة: وهو أزْورُ؟ قال: نعم، وقال إياد: وهو أبْترُ؟ قال: نعم، وقال أنمار: وهو شَرود؟ قال: نعم، ثم قال الرجلُ: أنتم أخذتم بَعيري فلا أفارِقُكم إلا به. ثم سار بهم حتى نزلوا على الأفعى الجُرْهمي، فسألهم عن أخبارهم؟ فعرفُوه بنفوسهم، فأكرمهم وأنْزَلهم. فقال له صاحبُ البعير: إن هؤلاء أخذوا بعيري، قالوا: ما رأيناه. فقال: قد وَصَفوه؟ قالوا: نعم وَصَفْناه، فقال: كيف تَصِفونه ولم ترَوْه؟ فقال مُضر: رأيتُه وقد كان يرعى جانبًا ويَدَعُ جانبًا فعلمت أنه أعْوَر. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتةَ الأثَر والأخرى فاسدةَ الأثر، فعلمت أنه أزْوَر. وقال إياد: رأيت بعرَه مُجْتَمِعًا فعلمت أنه أَبْتَرُ، ولو كان ذَيَّالًا لَمَصَعَ به. وقال أتمار: رأيته يرعى الجانب الرقيق ويَدَع الجانب الكثيف، فعلمت أنه شَرودٌ. فقال الأفعى لصاحب الجملِ: اذهب انشُد بَعيرك، فليس هؤلاء بأصحابه. ثم سألهم عن مقدَمهم؟ فأخبروه بِحالهم، فقال: أتحتاجون إليَّ وأنتم على ما أرى؟ فقسم التركةَ بينهم على ما قال نِزار، فَرَضُوا بحُكْمه، وقال لهم: إن العصا من العُصيَّة، يعني أنهم أولاد نزار، وكان نزارٌ فَطنًا. وقال الأفعى لقَهْرمانه: أنرلهم دارَ الضيافةِ وأكرِمهم، فأنْزَلَهم وجاءهم بطعام فأكلوا، وبخمر فشوبوا، وبقُرص من شَهْد، ¬

_ (¬1) الأزور: من أشرف أحد جانبيه على الآخر.

فقال مضر: لم أرَ لحمًا أطيبَ من هذا، لولا أنه رُبِّي بِلَبَن كَلْبَةٍ، وقال ربيعة: لم أرَ خَمْرًا أجودَ من هذا، لولا أنه نبت على قبرٍ، وقال إياد: لم أر شَهْدًا ألذَّ من هذا، لولا أن نَحْله عشَّشَ في رأس جبَّان، وقال أنمار: لم أر رجلًا أسْرى منه لولا أنه يدعى لغير أبيه. يعني الأفعى. وكان الأفعى يسمع كلامهم ولا يَرَوْنه، فقال: إِنَّ هؤلاءِ لشياطينُ، ثم دعا بقَهْرَمانه فسأله عن اللحم؟ فسأل الراعي؟ فقال الراعي: إن هذه الشاةَ وضَعتْها أمها وليس لها لبن، فأرضعَتْها كَلْبة. وقال للقَهْرَمان: وهذه الخمرة من حَبَلة عُشْب نَبَتَت على قبر أبيك، وهذا الشَّهد من نحل عَشَّشَ في جُمْجُمَةِ إنسان. ودخل الأفعى على أمه، فقال: أخبريني من أبي؟ وتوعَّدها، فقالت: كان أبوك شيخًا كبيرًا لا يُولدُ له، وخفت أن يذهبَ المُلْك، ووفد علينا شاب فأمكنتُه من نفسي، فعلقت بك. ولما انفصلوا عن الأفعى، قيل لِمُضر: من أين علمت أن اللحم ربِّي بلبن كلبة، قال: وجدت له زُهَمَة. وقيل لربيعة: من أين علمت أن الخمر نبتت على قبر؟ قال: أصابني عطشٌ شديد. وقيل لإياد: من أين علمت أن النحل عَشَّش في رأس جبَّان (¬1)؟ فقال: لأنه كان ضعيفًا. وقيل لأنمار: من أين علمت أنه لِغيرِ أبيه؟ فقال: ما رأيت عليه مَخايِلَ السؤدُدِ والشَّرَف (¬2). والأفعى: هو ابن الحُصَين بن غَنْم بن رُهم بنِ مُرَّة بنِ أُدَدْ بن زيد بن يَشْجُب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكانت العرب تتحاكم إليه، وهو أول من قال: الشرطُ أمْلك. وسبَبُه أن مُرَتِّع بنَ معاويةَ بنِ ثورٍ الكِنْدي -إليه ينسب كِندة- تزوج امرأة من حَضْرَمَوْت، وشرط عليه أبوها أنْ لا يتزوجَ عليها ولا تلدَ إلا في دارِ قومِها، فلم يَفِ لها بالشرط، فتحاكموا إلى الأفعى وأثبتوا الشرطَ عنده، فقال الأفعى: الشرطُ أمْلَك. فأخذ الحضرمِيون المرأةَ وابنَها من مرتِّع، واسم الابن مالك، فقال مُرَتِّع: أما ابني مالك فصدف عنِّي، فسمي الصدف (¬3). ¬

_ (¬1) الجبان: المقبرة. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 268 - 270، و"المنتظم" 2/ 233 - 235، و"الأذكياء" ص 110، والحبلة: شجرة العنب. (¬3) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 11.

فصل

ومعدُّ بن عدنان كنيته أبو نزار، وأمه مَهْدَد بنت اللِّهْم (¬1) من جَديس، وكان معدّ مع بُخْتنَصَّرَ لما غزا اليمن، ولما بلغ بنو سعدٍ عشرين ومئةَ رجلٍ؛ أغار بالشامِ على قومِ موسى - عليه السلام -، فدعا عليهم موسى - عليه السلام -، فلم يُستَجَبْ له فيهم، فقال: يا رب، ما هذا؟ فأوحى الله إليه: دعوتني على قومٍ هم خيرتي في آخر الزمان، إنه يكون منهم نبيٌّ أُحبُّه وأُحبُّ أمَّتَه، أمَّا حُبي إياه فأغفر له ما تقدم من ذنْبه وما تأخَّرَ، وأما حُبي لأُمَّته فإن استَغْفروني أو استغفَرني واحدٌ منهم؛ غَفَرْتُ له، وإن دعاني أجَبتُه. فقال: يا رب اجعلني منهم؟ فقال الله تعالى: إنك تقدَّمْت واستأخَروا. وعدنانُ كنيتُه أبو مَعَدٍّ، وإليه انتهى نَسَب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما بعدَه مُختلَف فيه، واتفقوا على أنه من ولد إسماعيل - عليه السلام - بغير شك. فصل وأمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آمنةُ بنتُ وهْب بنِ عبدِ مَنافٍ بنِ زُهْرةَ بنِ كِلاب بنِ مُرَّة بنِ كعب بنِ لُؤَيٍ بنِ غالب بنِ فِهْر بن مالِك بن النضر بن كِنانة، ففي كِلاب يجتمع نَسَب أبيه وأمِّه. وأمُّ آمنة: بَرَّةُ بنتُ عبدِ العُزَّى بنِ قُصَيٍّ. [وأم برَّة أمُّ حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كِلاب] (¬2) وأمُّ أمِّ حَبيب: بَرةَ بنت عوفٍ بن عُبَيد بن عويج بن عدي بن كعبٍ بن لُؤَي. وأم بَرَّةَ: قِلابَةُ بنت الحارث بن مالك من وَلَدِ مُدرِكة بنِ الياس. وأمُّ قِلابة: أميمةُ بنتُ مَلَك بن غَنم بن لَحيان. وأم أميمة: دُبٌّ بنت ثعلبة بن الحارث بن تميمِ من ولد مُدرِكة. وأم دب: عاتكة بنت غاضرة من وَلَد الياسِ بنِ مُضَر. وأم عاتكةَ: ليلى بنت عوف، ثَقَفِيَّة. فصل في العَواتِك قال هشامٌ بنُ محمَّد: كَتَبْتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - خَمْس مئة أُم، فما وجدت فيهن سِفاحًا ولا شيئًا من أمْرِ الجاهلية (¬3). ¬

_ (¬1) في النسخ: "اللهيم"، والمثبت من "جمهرة النسب" ص 18، و"الطبقات الكبرى" 1/ 48. وضبطه الشامي في "سيرته" 1/ 347 بكسر اللام وسكون الهاء. (¬2) ما بين معقوفين زيادة يقتضيها السياق، انظر "الضبقات الكبرى" 1/ 41 - 42. (¬3) انظر "الشفا" 1/ 17.

فصل في الفواطم

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا ابنُ العواتِك" (¬1). يعني: جَدّاته من قبل النساء، وهن تسع: عاتكة بنتُ هِلال أم جَدِّ هاشم (¬2)، وعاتكةُ بنت مُرَّةَ بن هلال أم وهب بن عبدِ مَناف بن زُهرة جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قِبَل أمِّه آمنة. وقال الهيثم: العواتك (¬3) إحدى عشرة. وقال ابن الرقي: هن أربعَ عشرة: ثلاث قُرَشِيَّات، وأربعٌ سُلَميات، وعَدَويتان، وهُذَلِيَّةٌ، وقَحْطانيَّةٌ، وقُضاعيةٌ، وثَقَفِيةٌ، وأسَدِيَّة أسد خُزَيمة. فصلٌ في الفواطِم وهُنَّ: ثمانٍ. وقيل: عشر. وقيل: سِتٌّ. وقيل: خمس، واحدةٌ قُرَشية وقيسِيَّتان ويمانيتان، فاطمة أم عبد الله بن عبد المطلب، وهي بنت عمرو بن عائذ بن عِمرانَ بنِ مَخْزوم. وأم عمرو بن عائذ: فاطمة بنتُ عبد الله بن رِزام من هَوازِن وأمها: فاطمة بنتُ الحارِثِ بنِ بُهْثة. وفاطمةُ بنتُ سعدٍ أمُّ قُصَيٍّ من أزْدِ شَنوءةَ، وجَدَّةُ عبد مناف لأبيه. وأمه: حُبَّى بنتُ حُلَيل بنِ حُبْشية الخزاعي، وأمها: فاطمةُ بنت نَصْر بن عوف من خُزاعة (¬4). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (2841)، والطبراني في "الكبير" (6724)، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 136 من حديث سِيَابة. (¬2) الصواب: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان أم هاشم "جمهرة النسب" ص 26. (¬3) ذكر المصنف هنا جدتين من جدات النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة من طرف والدته، وواحدة من طرف والدته، وأما العواتك: فهن ثلاث من قريش: عاتكة بنت وهيب، وعاتكة بنت عُتوارة بن الظَّرِب، وعاتكة بنت يخلد بن النَّضْر. وثلاث من سليم: عاتكة بنت مرة بن هلال بن سليم، وعاتكة بنت مرة بن عدي بن سليمان، وعاتكة بنت عصية بن خفاف بن امرئ القيس، وثنتان من عدوان: عاتكة بنت عامر بن الظرب بن عمرو، وعاتكة بنت عدوان بن عمرو بن قيس وهي عكرشة، وواحدة من قضاعة: عاتكة بنت رشدان بن قيس بن جهينة، وأسدية: عاتكة بنت دودان بن أسد بن خريمة، وهذلية: عاتكة بنت سعد بن هذيل. وأزدية: عاتكة بنت الأزد بن يغوث. انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 43، و"المحبر" ص 47 - 51، و"تاريخ اليعقوبي" 2/ 120 - 121. (¬4) انظر "المحبر" ص 51 - 52، و"طبقات ابن سعد" 1/ 43.

فصل في ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم -

فصل في ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم - قالت آمنةُ: لما حَمَلْتُ به لم أجد له ثِقَلًا كما تجدُ النساء، إلا أني قد أنكرتُ رفْعَ حَيضي، وأتاني آتٍ في منامي وأنا بين النوم واليقظة، فقال: أشَعرْتِ أنك قد حَمَلتِ بسيِّد هذه الأمةِ ونَبِيِّها؟ وذلك في يوم الإثنين، فلما دنت ولادتي؛ أتاني ذلك الآتي فقال: إذا ولدتِه فقولي: أُعيذه بالواحدِ من شرِّ كلِّ حاسد، ثم قال: سمِّيهِ مُحَمَّدًا أو أحمَد (¬1). وَوُلِدَ - صلى الله عليه وسلم - بمكة، في الدار التي كانت له - صلى الله عليه وسلم - بمكان يقال له: زُقاق المَوْلد، وهذهِ الدار كان - صلى الله عليه وسلم - وَهَبَها لعَقيلِ بن أبي طالب، فباعها ورثَتُه من محمَّد بن يوسف أخي الحجاج، فأدخلها في دارِه، ثم اشترت الخيزُرانُ جاريةُ المهدِيِّ الدارَ، وأخرجت منها ذلك البيتَ الذي وُلد فيه رسول الله في - صلى الله عليه وسلم - فجعلته مسجدًا (¬2). ولد - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين في ربيعِ الأوَّل لاثْنتي عشرةَ ليلةً خلتْ منه، عامَ الفِيل بعد قدومِه بخمسٍ وخمسينَ ليلةً في اليوم الثاني والعشرين من نَيسان سنة اثنتين وثَمانِ مِئةٍ من تاريخ الإسكندرِ الروميّ في أيام كِسرى أَنُوشِروانَ لِأَربعينَ سنةً خلتْ من مُلْكِه. قال: واتَّفَق أهلُ السِّيَر على أنَّ مِن هُبوطِ آدم - عليه السلام - إلى عام الفيل ستةَ آلافِ سنةٍ وثلاثًا وتسعينَ سنة. واختلفوا في زمان حَمْله - عليه السلام - على أقوال: أحدها: تسعةُ أشْهُر، والثاني: عشرٌ، والثالث: ستةٌ، والرابع: سبعةٌ، والخامس: ثمانيةٌ. قالت آمنة: لقد عَلِقْت به فما وَجَدْتُ له مشَقَّة، ولما فُصل عني؛ خرج مني نورٌ أضاء له ما بين المَشْرق والمَغْرب، ووَقَع إلى الأرض ساجِدًا معتمدًا بيديه على ¬

_ (¬1) ابن سعد في "الطبقات" 1/ 78، وانظر "السيرة" 1/ 145 - 146. (¬2) "المنتظم" 2/ 247، و"نهاية الأرب" 16/ 67.

الأرض، ثم رفع رأسَه إلى السماءِ وأشار بإصْبَعه، وظهر منه شهابُ نورٍ أضاءت له قصورُ الشام حتى رأيت أعناقَ الإِبِل بِبُصرى (¬1). وقالت آمنة: فما رأيتُ إلى شيء إلا نُوِّر لي، ورأيتُ النجوم تدنو من الأرض حتى أقولَ إنها لَتَقَعُ عَلَيَّ (¬2). وقالت: ولدتُه جاثيًا على رُكْبَتيه ينظر إلى السماء، ويشير بإصبَعه الإبهام، ثم قَبَض قَبْضة مِن الأرض وأهوى ساجدًا، فغطيته ببُرْمَة أو بإناءٍ فانفلقَ عنهُ، وإذا به يَمَصُّ إبهامَه وهو يشخُبُ لَبَنًا، وسمعت قائلًا يقول: أبشري يا آمنة فقد وَلَدت سَيِّد هذه الأمة. وقال العباس - رضي الله عنه -: ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختونًا مسرورًا -أي مقطوعَ السُّرةِ- فَسُرَّ به عبد المطلب، وقال: ليكونَنَّ لِولَدي شأنٌ من الشَّأن. قال ابن عباس: فكان واللهِ كما قال عبد المطلب (¬3). وقال ابن الجوزِيِّ: وُلد جماعةٌ من الأنبياء - عليه السلام - مختونين: آدمُ، وشِيث، وإدريس، ونوحٌ، وسامٌ، وهودٌ، وصالحٌ، ولوطٌ، ويوسفُ، وموسى، وشُعَيبٌ، وسُلَيمان، وزكَريَّا، وَيحيى، وعيسى، وحنظلة بن صفوان نبي (¬4) أصحاب الرَّس. وقال كَعب الأحبار: كُلُّهم وُلدوا مَخْتونينَ إلا إبراهيمَ - عليه السلام - ليكونَ إمامًا لِلنَّاس. وقال علي بن يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أبيه، عن عمته (¬5) قالت: لما وَلَدتْ آمنةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، أرسلت إلى عبد المطلب وهو في الحجر مع أولاده، فجاءه البشير فَسُرَّ به وقام، فدخل على آمنة فأخبرته بكل ما رأت، وما قيل لها، وما أمرت به، فأخذه عبد المطلب على يديه وجاء به إلى الكعبة، فدخل به إليها وقام يدعو ويقول: ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 82. (¬2) "دلائل النبوة" البيهقي 1/ 111، و"المنتظم" 2/ 247. (¬3) "الطبقات الكبرى" 1/ 83، و"دلائل النبوة" 1/ 114 والمنتظم 2/ 248، وقال ابن كثير في "البداية النهاية" 3 /: 40 وهذا الحديث في صحته نظر. (¬4) في (ك): "بن"، وفي (ح): "من"، والمثبت من "المنتظم" 2/ 146. (¬5) في النسخ: بن وهب بن ربيعة، عن عمته، والمثبت من الطبقات 1/ 83، والمنتظم 2/ 249.

الحمد لله الذي أعطاني هذا الغلامَ الطيِّبَ الأردانِ قد ساد في المَهْدِ على الغِلمان أُعيذُه بالبيت ذي الأركانِ حتى أراه بالغَ البُنيانِ أُعيذُه من شرِّ ذي شَنْآن من حاسِدٍ مُضطَرِبِ العِنان وقال الهيثم: لما دخل على آمنة قالت له: يا أبا الحارث، ولد لك اليوم مولود أمرُه عَجَب، قال: وما ذاك؟ قالت: خرج معه نورٌ أضاءت منه قصورُ الشام، ومدائنُ كسرى، وقصورُ صَنعاء، ونوديتُ: سمِّيه محمدًا، فإنَّ اسمه في التوراة أحمد، فقال عبد المطلب: وأنا والله رأيتُ الساعة عجبًا، كنتُ أطوف بالبيت، فرأيتُ هُبَل قد مال حتى كاد أن يسقط، فجعلتُ أمسح على عيني وأقول: أنا نائم أم يقظان؟ ثم أخذه وانصرف إلى الكعبة، فطاف به وقال: يا رب كلِّ طائفٍ وجاهدِ ورب كلِّ غائبٍ وشاهد أدعوكَ يا ربِّ دعاءَ جاهدِ لا هُمَّ فاصرفْ عنه كيدَ الكائدِ واحطِمْ به كلَّ عدوٍّ حاسدِ وكان بمكة يهوديٌّ قد قرأ الكتب كلها، فأصبح ذات يوم فقال يا معاشر الناس، ولد الليلة نبي العرب، قالوا: وما علامتُه؟ قال. بين كَتفيه شامةٌ سوداء فيها شَعرات. فقيل له: ولد لعبد المطلب مولود، فجاء فرأى الشَّامة، فقال: ذهبت والله هو نبوَّة بني إسرائيل، أفرحتم يا معاشر قريش، والله ليَسْطُونَّ عليكم سَطوةً تخرج أبناؤها من

المشرق إلى المغرب (¬1). وقال حسان: إني لغلامٌ يَفَعةٌ ابن سبع سنين، وإذا بيهوديٍّ يصرخ بيثرب: يا معاشر يهود، طلع والله نَجْمُ أحمد في هذه الليلة، ولدته أمه (¬2). قال حسان: فأدركه والله اليهودي، ولم يؤمن به حسدًا وبَغيًا. حديث مَخزوم بن هانئ عن أبيه: وكان قد أتت عليه خمسون ومئة سنة، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتَجَّ إيوان كسرى، فانشق وسقط منه أربع عشرة شُرفة، وغاضت بُحيرة ساوة، وخَمدت نيرانُ فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى موبذ موبذان رؤيا هالته، ولما رأى كسرى انشقاق الإيوان، ووقوع الشرفات؛ هالته وجلس على سريره ودعا وزراءه، فاجتمعوا. فقال لهم: قد رأيتُ ما أفزعني. فبينما هو كذلك؛ إذ جاء الموبذ خائفًا، فقال له: مالك؟ فقال: رأيت رؤيا هالتني، قال: وما هي؟ قال: رأيتُ إبلًا صِعابًا تقود خَيلًا عِرابًا قطعتْ دجلة، وانتشرت في بلاد فارس، وبينا هم على ذلك؛ إذ ورد كتاب يُخبر فيه بخمود النيران، وذهاب بحيرة ساوة، فازدادوا غمًّا، قال لهم: ما عندكم؟ فلم يَردُّوا عليه شيئًا، فقال للموبَذ: فما تأويل رؤياك؟ فقال: حادثة تكون من ناحية العرب. فكتب كسرى إلى النعمان بن المنذر -وهو على الحيرة-: وَجِّه إليَّ رجلًا من العلماء أسأله عما أريد، فبعث إليه بعبد المسيح بن عمرو بن قيس الغَسَّاني، فلما قدم على كسرى أخبره بما حدث، فقال: عِلْمُ ذلك عند خالٍ لي يسكن مَشاريقَ الشام يقال له: سَطيح، قال: فاذهب إليه وأخبره بما حدث، وعجل لي بالجواب. فركب عبد المسيح راحلته وسار مجدًّا حتى قدم الشام، وسطيح بالجابية قد أشرف على الموت، فسلم عليه، فلم يُحِرْ جوابًا فقال عبد المسيح: [من الرجز] ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم 2/ 601 - 602، والبيهقي في "الدلائل" 1/ 108 - 109. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وخالفه الذهبي. (¬2) انظر "السيرة" 1/ 147، والمستدرك 3/ 486، و"دلائل النبوة" 1/ 110.

أَصُمَّ أم يسْمَعُ غِطريف اليَمن يا فاضل الحكمة أَعيَتْ مَن وَمَنْ أتاكَ شيخُ الحيِّ مِن آل عَسَنْ وأُمُّه من آل ذِئبِ بنِ حَجَنْ أبيضُ فضفاضُ الثياب والبَدَنْ رسولُ قَيلِ العُجمِ مَسْلوبِ الوَسَنْ (¬1) فلما سمع سطيح كلامه، رفع رأسه وقال: جاء عبد المسيح على جمل مُشِيح (¬2) إلى سطيح، وقد أشرف على الضريح، بعثك ملك ساسان لارتجاج الإيوان، ورؤيا الموبذان، وخمود النيران، رأى الموبذ إبلًا صِعابًا تقود خيلًا عِرابًا، قطعت دجلة وانتشرت في بلاد فارس، ثم قال سطيح: يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نيران فارس، فليس الشام لسطيح شامًا، يملك منهم ملوك وملكات، عدد الشرفات، وكُلُّ ما هو آت آت، ثم مات سَطيح. ورجع عبد المسيح إلى كسرى وهو يقول (¬3): [من البسيط] ¬

_ (¬1) هكذا جاءت الأبيات عند المصنف مختزلة متداخلة كما سيتبين لك، وهي كذلك في "العقد الفريد" والأبيات في المصادر كالآتي: أصُمَّ أم يَسمعُ غِطْريف اليمنْ ... أَمْ فادَ فازْلَمَّ به شأو العنَنْ يا فاصِل الخُطَّة أعيت مَن ومَن ... وكاشف الكُربة عن وجهٍ غَضِنْ أتاكَ شيخُ الحيِّ من آلِ سَنَنْ ... وأُمُّه من آلِ ذئبِ بنِ حَجَنْ أَزْرَقُ بَهْمُ النَّاب صوَّار الأُذُنْ ... أبيضُ فضفاضُ الرداءِ والبَدَنْ رسول قَيلِ العجمِ يَسري بالرَّسَنْ ... لا يَرْهبُ الرَّعدَ ولا ريبَ الزَّمنْ تجوبُ بي الأرضَ عَلَنْداة شَزَنْ ... تَرْفعُني وجنًا وتَهوى بي وَجَنْ حتى أَتَى عاري الجآجي والقَطَنْ ... تَلفُّه في الريح بَوْغَاء الدِّمَنْ كأنَّما حُثْحِثَ مِن حِضْنَي ثَكَنْ (¬2) مشيح: جاد مسرع. (¬3) جاء في المصادر بيت قبل هذه الأبيات وهو: شمِّر فإنَّك ماضي الهم شِمِّيرُ ... لا يُفزعنَّك تَفْريقٌ وتَغييرُ

ذكر سطيح

إنْ يُمسِ مُلْكُ بني ساسانَ مُنْقَرضًا ... فإن ذا الدَّهرَ أَطوارٌ دَهاريرُ وربَّما أصْبَحوا يَومًا بمنزلةٍ ... يَهاب صَوْلَتَها أُسْدٌ مَهاصيرُ منهم أَخو الصَّرح بَهرامٌ وإِخوتُه ... والهُرْمزانُ وشابورٌ وسابورُ والناس أولادُ عَلَّاتٍ فَمن عَلِموا ... أنْ قد أقلَّ، فمحقورٌ ومَهجورُ فهم بنو الأم إِلا إِن رَأَوا نَشَبًا ... فذَاك بالغيبِ محفوط ومنصورُ والخيرُ والشَّر مقرونانِ في قَرَنٍ ... فالخيرُ متَّبعٌ والشَّرُ محذورُ فلما قدم على كسرى، أخبره بما قال سطيح، فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكًا تكون أمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى أيام عثمان بن عفان (¬1) - رضي الله عنه -. ذكر سَطِيح واسمه الربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب، ولد في زَمَن سَيل العَرِم، وعاش إلى زمن كسرى أنو شروان، وذلك نحوًا من عشرة قرون، وقيل: عاش ألف سنة. وقال الشيخ جمال الدين ابن الجوزي رحمة الله عليه: عاش ست مئة سنة (¬2). وقيل: خمس مئة سنة، وقيل: ثلاث مئة سنة، ونزل البحرين، وأقام بها مدة، ثم انتقل إلى الشام فنزل بمشاريقه، وكان في زمنِه: شِقٌّ كاهِنٌ آخر، فكلما سُئِلَ واحد منهما عن شيء أخبر عنه بكلام مسجوع يقذفه إليه تابعه من الجن، وكان سَطيح لحمًا على وَضَم، وكان يُحمل على شريحة من جَريد النَّخْل، فيؤتى به حيث شاء، ولم يكن فيه عظم ولا عصب إلا الجمجمة والعنق والكفين، وكان يُطوى من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب، ولم يكن فيه شيء يتحرك سوى لسانه. وأنشد أبو سهل الرازي لسطيح: [من الطويل] عليكُمْ بتقوى اللهِ في السِّر والجهْرِ ... ولا تَلبسوا صِدقَ الأمانةِ بالغدْرِ ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 2/ 131 - 132، و"العقد الفريد" 2/ 28 - 31، و"دلائل النبوة" 1/ 126 - 129 و "المنتظم" 2/ 249 - 252، و"البداية والنهاية" 2/ 249 - 251. (¬2) "أعمار الأعيان" ص 125.

وكونوا كجار الجَنْبِ حِصنًا وجُنَّةً ... إذا ما عَوَتْه النَّائباتُ من الدَّهر (¬1) وروى عروة (¬2) بن الزبير -رضي الله عنهما-، عن أبيه، قال: خرج نفر من قريش فيهم وَرَقة بن نَوفل، وزيد بن عمرو بن نُفَيل، وعُبيد الله بن جَحْش، وعثمان (¬3) بن الحُوَيرِث، إلى صنم لهم في يوم عيد كانوا يجتمعون إليه، وينحرون له، ويعظِّمونه، فدخلوا عليه فرأوه على وجهه مكبوبًا، فردوه إلى حاله فوقع، وفعلوا ذلك مرارًا، فقال عثمان بن الحُوَيرِث: هذا لأمر حدث في هذه الليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولد في تلك الليلة، فهتف بهم هاتف من الصنم يقول: [من الطويل] تردّى لمولودٍ أنارت بنورِه ... جَميعُ فجاجِ الأرضِ بالشَّرق والغربِ وخرت له الأوثانُ طُرًّا وأُرعِدَتْ ... قلوبُ ملوكِ الأرضِ طُرًّا من الرُّعبِ ونارُ جميع الفرسِ باخَت وأظْلَمَتْ ... وقد بات شاه الفُرْس في أعظمِ الكَرْبِ وصدَّتْ عن الكُهَّان بالغيبِ جِنُّها ... فلا مُخْبِر عنهمْ بصدْقٍ ولا كذبِ فيا لَقُصَيٍّ ارجعوا عن ضلالِكُم ... وهُبوا إلى الإِسلامِ والمنزلِ الرَّحبِ فلما سمعوا ذلك خَلصوا نَجِيًّا، وقال لهم ورقة بن نوفل: ما قومكم على دين، ولقد أخطؤوا واللهِ الحُجَّةَ، وتركوا دين إبراهيم، وعبدوا حجرًا لا يضر ولا ينفع، ولا يبصر ولا يسمع، يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين. وقال عثمان بن الحويرث يخاطب الصنم: [من الطويل] أيا صَنَمَ العِيد الذي صُفَّ حوله ... صناديدُ وَفْدٍ من بعيدٍ ومن قُرْبِ تكوكَسْتَ مقلوبًا فما ذاك قُلْ لَنَا ... أَذاك سفيه أم تكوكَسْتَ للعُتْبِ فإن كان مِن ذنبٍ أتَينا فإنَّنا ... نَبُوءُ بإقرارٍ ونَلْوي عن الذَّنبِ وإن كنتَ مغلوبًا تكوكَسْتَ (¬4) صاغِرًا ... فما أنتَ في الأربابِ بالسَّيدِ الرَّبِّ ثم خرجوا يضربون في الأرض، فرجع ورقة إلى مكة وقد تنصّر، وأما زيد بن عمرو ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 8/ 295 - 297. (¬2) في النسخ: "عكرمة"، والخبر في تاريخ دمشق 1/ 342 (السيرة) من طريق يحيى بن عروة، عن أبيه عروة. (¬3) في النسخ: "عمار" في الموضعين، والصواب ما أثبتناه، انظر المصادر. (¬4) في تاريخ دمشق: تكوست، في المواضع الثلاثة.

فصل في وفاة عبد الله بن عبد المطلب

فخرج إلى الجزيرة، فلقي راهبًا فسأله عن الدين؟ فقال: هو أمامك وقد أظلَّك نبي، وأما عُبيد الله بن جحش فإنه أقام بمكة حتى ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم هاجر إلى الحبشة فتنصَّر، وأما عثمان بن الحويرث فتنصر، وحَسُنَت مكانته عند قيصر، وأقام عنده فأطمَعَه في ملك تِهامة والحجاز واليمن، فأجابه قيصر إلى ذلك، وقال: أنت نائبي هناك، فرجع إلى مكة فأطاعه الناس، وهمُّوا بتمليكه، وأن يضعوا التاج على رأسه، فقال لهم أبو زَمْعة الأسود بن المطَّلب بن أسد، وكان ابن عم عثمان بن الحويرث: يا معاشر قريش، أَتُملِّكون عليكم، وهل يكون ملِك بتِهامة؟ إن الحجاز لا يُملك، فرجع الناس عنه، فخرج ابن الحويرث إلى قيصر خوفًا على نفسه، فمات عنده. فصل في وفاة عبد الله بن عبد المطلب ولد عبد الله في أيام كسرى أنوشروان لأربع وعشرين خلت من ملكه، وكنيته: أبو أحمد (¬1)، ومات ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل، قبل ولادته بشهر أو شهرين. وكانت وفاته بالمدينة في دار النابغة عند أخواله من بني النَّجار، بعثه أبوه يمتار له تمرًا من المدينة (¬2). وقيل: خرج في تجارة إلى الشام في عير لقريش، ثم انصرفوا ومروا بالمدينة وعبد الله يومئذ مريض، فأقام عند أخواله مريضًا شهرًا، ثم توفي، فحزن عليه عبد المطلب حزنًا شديدًا، وَوَجِدَ أخوته لفقده (¬3). قال الواقدي: وتوفي عبد الله وهو ابن خمس وعشرين سنة، وقيل: ثلاثين سنة، وترك أم أيمن واسمها بركة، فكانت تحضن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك خمسة أجمال وثلاثة من غنم، ورَثَتْهُ آمنة بنت وهب زوجته، فقالت (¬4): [من الطويل] ¬

_ (¬1) انظر "أنساب الأشراف"1/ 104. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 80. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى"1/ 79. (¬4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 80، و "أنساب الأشراف" 1/ 105.

فصل في ذكر أسمائه - صلى الله عليه وسلم - وكنيته

عَفا جانبُ البَطْحاءِ من ابن هاشِمٍ ... وجاوَرَ لحدًا بعد موتِ الغَماغمِ دَعَتْه المنايا دعوةً فأجابَها ... وما تَرَكتْ في الدَّار مثلَ ابنِ هاشمِ عَشِيَّةَ راحوا يحملونَ سَرِيرَه ... تَعاوَرَه أصحابُه في التَّزاحُمِ فإن تكُ غالتْهُ المنايا ورَيْبُها ... فقد كان مِفْضالًا شديدَ الدَّعائمِ فصل في ذكر أسمائه - صلى الله عليه وسلم - وكنيته قال الواقدي: كان له - صلى الله عليه وسلم - سبعون اسمًا، ذكرها الله في كتبه السالفة والقرآن العزيز، فقال جبير بن مطعم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لي خمسةُ أسماءٍ: أنا مُحمَّدٌ، وأنا أَحمدُ، وأنا الماحِي يَمْحُو اللهُ بيَ الكُفْرَ، وأنا الحاشِرُ الذي يُحشَرُ النَّاسُ على قَدَمِي، وأنا العاقِبُ الذي ليسَ بَعْدَه نبيٌّ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). ذكر أسماء المحمدين قال علماء السير: إن الله صان هذا الاسم أن يتسمَّى به أحد في الجاهلية، كما فعل بيحيى بن زكريا - عليه السلام - في قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 7] , إلا أنه لما قرب أوان ظهوره مرَّ جماعة من العرب براهب بالشام قد قرأ الكتب، فأخبرهم باسم نبي مبعوث من العرب اسمه محمَّد، فسموا أبناءهم بهذا الاسم طمعًا في النبوة. وقال ابن إسحاق: خرج عدي، وسفيان، وزيد بن عمرو بن ربيعة، وأسامة بن مالك بن حبيب يريدون الشام، فنزلوا بدير وهم يتحدثون، فأشرف عليهم راهب وقال: ما هذه اللغة ليست لأهل هذه الأرض، ممن أنتم؟ قالوا: من العرب. قال: ممن؟ قالوا: من مُضر، فقال: أما إنه سيبعث فيكم نبيٌّ، فبادروا إليه فإنه خاتمُ النبيين، قالوا: فما اسمه؟ قال: محمَّد. فلما رجعوا إلى أهاليهم، فكانوا معهن، فولد لكل واحد ولدًا، فسماه محمدًا طمعًا في ذلك. وقال البلاذري: كانوا ستة: محمَّد بن سفيان، ومحمد بن الحِرْماز بن مالك بن عمرو، ومحمد بن بَرِّ (¬2) بن طَرِيف بن عُتْوَارة، ومحمد الشويعر بن حُمران الذي يقال ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3532)، وصحيح مسلم (2354). (¬2) في النسخ: "بشر"، والمثبت من "أنساب الأشراف" 1/ 629 - 630، وهكذا ضبطه صاحب السيرة الشامية 1/ 504.

فصل

له: امرؤٌ القيس بن حُجر (¬1)، ومحمد بن [عقبة بن] أُحيحة بن الجُلاح الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري. قال القاضي عياض: هم ستة لا سابع لهم (¬2)، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. وأما أحمد فلم يَتَسَمَّ به أحد قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). فصل وكنيته: أبو القاسم، وبعده: أبو إبراهيم، وأول ولد ولد له من خديجة - عليه السلام -: القاسم (¬4)، فكني به. قال حسان (¬5): [من السريع] لِلّهِ مِمَنْ قد بَرَا صفوةٌ ... وصَفْوَةُ الخَلْقِ بَنو هاشمِ وَصَفوةُ الصفوةِ مِن هاشمٍ ... محمدُ النُّور أبو القاسم * * * ¬

_ (¬1) كذا في النسخ؟ ! وفي أنساب الأشراف 1/ 629، والاشتقاق 8، 9 أن امرأ القيس هو الذي سماه الشويعر لقوله: أبلغا عنِّي الشويعرَ أنِّي ... عمدَ عينٍ حللتُهنَّ حريمًا (¬2) "الشفا" 1/ 313 - 134. (¬3) انظر "الشفا" 1/ 313. (¬4) في النسخ: "أبو القاسم"، وانظر "الطبقات الكبرى" 1/ 110. (¬5) مروج الذهب 4/ 119 دون نسبة.

فصل فيما حدث من سنة مولده إلى زمن هجرته وما لقي من أهله وعشيرته صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وذريته وأزواجه والتابعين إلى يوم الدين وسلم تسليما

فصل فيما حدث من سنة مولده إلى زمن هجرته وما لقي من أهله وعشيرته صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وذريته وأزواجه والتابعين إلى يوم الدين وسلم تسليمًا

في السنة الأولى

في السنة الأولى يوم جَبَلة (¬1)، وهو من أعظم أيام العرب، وقصة الفيل (¬2). ذكر إرضاعه - صلى الله عليه وسلم -: أرضعته أمه ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل: أرضعته ثويبة جارية أبي لهب -وهو الأشهر- بلبن ابنها مَسْرُوح أيامًا قبل قدوم حليمة مكة، وكانت قد أرضعتْ قبله حمزةَ بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، ثم أرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي (¬3). وأعتق أبو لهب ثويبة، فكانت تدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما تزوج خديجة -رضي الله عنها-، فكان يكرمها وتكرمها خديجة (¬4). وكلم يومًا خديجةَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فوهبت لها غنمًا (¬5). وقيل: إنما أعتقها أبو لهب بعد ما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسألته خديجة - رضي الله عنها - أن يَبيعها منها فأبى، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما هاجر يبعث إليها بكُسْوَةٍ وصِلَةٍ، وتوفيت ثويبة في سنة سبع من الهجرة (¬6). وذكر أبو نعيم الأصبهاني في إسلامها قولين. وقال عروة: كانت ثويبة مولاة أبي لهب فأعتقها، فأرضعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله في منامه بِشَرِّ حِيْبَة، فقال له: ما لقيتَ أبا لهب؟ فقال: ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري"، و"المنتظم" 2/ 259، و"الكامل" 1/ 583. (¬2) انظر "السيرة" 1/ 41، وقد سرد ابن الجوزي في الوفا ص 97 جملة أمهات الحوادث في سنيه - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 87، و"المنتظم" 2/ 260. (¬4) انظر "المنتظم" 2/ 260. (¬5) كذا جاء في النسخ، والصواب أن التي كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأنها، إنما هي حليمة، أتت إليه فشكت جدب بلادها وهلاك الماشية، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة، فأعطتها أربعين شاة وبعيرًا. انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 93، و"أنساب الأشراف" 1/ 108 - 109، وسيأتي الخبر عند المصنف قبل السنة السادسة من مولده". (¬6) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 109.

ذكر إرضاع حليمة إياه - صلى الله عليه وسلم -

ما لقيت بعدكم روحًا غير أني سُقيت في هذه -وأشار إلى نقرة بين إبهامه وسبابته- قال: بعتقي ثويبة (¬1). ذكر إرضاع حليمة إيَّاه - صلى الله عليه وسلم -: وهي: حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث بن سِجْنَة (¬2) بن جابر بن رِزَام بن ناصرة بن [فُصَيَّة بن نصر بن] سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خَصَفَةَ بن قيس بن عَيْلان بن مُضَر بن نزار، وزوجها: الحارث بن عبد العزى بن رِفاعة بن ملّان بن ناصرة بن فُصَيَّة بن [نصر بن] سعد بن بكر بن هوازن. وكنيته: أبو ذؤيب، وكان له من الولد: عبد الله، وهو الذي أَرْضَعت حليمةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بلِبانه. [وأنيسة وجُدامة بنتا الحارث] ولقبها: الشَّيماء، وكانت تحضن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أُمّها، وهي التي سُبيت يوم حنين، وقالت: إني أخت نبيكم (¬3). قال ابن إسحاق: عن الجَهْم بن أبي الجَهْم قال: حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يقول عن حليمة ابنة الحارث السعدية أُمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أرضعته قالت: خرجت في نِسوة من سعد بن بكر بن هوازن نلتمس الرُّضعاءَ بمكة، فخرجت على أَتانٍ لي قمراء قد أَذَمَّت بالرَّكْب (¬4)، وخرجنا في سنة شهباء لم يبق لنا شيء أنا وزوجي الحارث بن عبد العزى ومعنا شارفٌ لنا، والله لم تَبِضَّ علينا بقطرة من لبن، ومعي صبي لنا، والله ما ننام ليلنا من بكائه، وما في ثدي لبن يغنيه ولا في شارفنا من لبن يُغَذِّيه إلا أَنا نرجو، فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عُرِض عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتأباه، وإنما كنا نرجو الكرامة في رضاعة من نُرضع له من والد المولود، وكان - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5101). وهذا هو الصحيح أن إعتاقها كان عند ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، انظر "السيرة الشامية" 1/ 458. وقوله: بشر حيبة، أي: سوء حال. (¬2) هكذا هي في (ك)، وفي (ح) غير منقوطة، وضبطها ابن حجر في "الإصابة" 4/ 274: بالشين المعجمة، وضبطها صاحب "السيرة الشامية" 1/ 461 بالسين المهملة. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 89 - 90، و"أنساب الأشراف" 1/ 106. وما بين معقوفين زيادة منهما. (¬4) يروى: "أَدَمتُ" أي: أطلت عليهم المسافة لتمهلهم عليها، وروي: "أَذَمَّتْ" أي: تأخرت بالركب والضمير في "أَذَفَت" يرجع إلى الأتان. "إملاء المختصر" 1/ 134.

يتيمًا، فقلنا: ما عسى أن تصنع أمه؟ حتى لم يبق من صواحباتي امرأة إلا أخذت رضيعًا، غيري، فكرهت أن أرجع ولم آخذ شيئًا، وقد أخذوا صواحباتي، فقلت لزوجي الحارث: والله لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فأتيته فأخذته، ثم رجعت به إلى رَحْلي، فقال لي زوجي: قد أخذتيه؟ قلت: نعم، وذاك أني لم أجد غيره، قال: قد أصبت، عسى أن يجعل الله فيه خيرًا، قالت: فوالله ما هو إلا أن وضعته في حِجْري، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من اللبن فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي، فقام زوجي إلى شارفنا من الليل فإذا هي تَسِحُّ علينا ما شئنا من اللبن، فشربنا حتى روينا، ومكثنا ليلتنا بخير شباعًا رِواء، فقال زوجي: يا حليمة، ما أراك إلا قد أصبت نَسَمَةً مُباركة، قد نام صبياننا وروينا. قالت: ثم خرجنا فوالله لخَرجَتْ أتاني أمام الركب قد قطعتهم حتى ما يتعلق بها أحد منهم، حتى إنهم ليقولون: ويحك يا بِنْتَ الحارث، كُفِّي علينا، أليست هذه أتانك التي خرجت عليها؟ فأقول: بلى والله، فيقولون: إن لها لشأنًا. حتى قَدِمتُ منازِلَنا من حاضرِ منازل بني سعد بن بكر، فقدمنا على أجدب أرض الله، فوالذي نفسُ حَليمةَ بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم إذا أصبحوا، وأُسَرِّحُ راعي غُنَيمَتي، وتروح غنمي حُفَّلًا بِطانًا، وتروح أغنامهم جياعًا هالكة ما لها من لبن، ونشرب ما شئنا من اللبن وما مِنَ الحاضرين أحد يحلب قطرة ولا يجدها، فيقولون لرُعاتِهم: ويلكُم ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة. فيسرحون في الشِّعب الذي يسرح فيه، وتروح أغنامهم جياعًا، وتروح غنمي حُفَّلًا، قالت: وكان يُشب في اليوم شباب الصبي في [الشهر ويشبُّ في الشهر شباب الصبي في] سنة، فبلغ سنتين وَهو غلام جَفْر، فقَدِمْنا به على أُمِّه ومكةُ وَبِيْئَة، فقلنا أو قال لها زوجي: دعي ابني فلنرجع به، فإنا نخشى عليه وَباء مكة. قالت: ونحن أضَنُّ شيء به لِما رأينا من بركتِه. فلم يزل بها حتى قالت: ارجعي به. قال: فمكث عندنا شهرين. وقال ابن قتيبة: إنما أقام عندهم خمس سنوات (¬1). ¬

_ (¬1) "المعارف" ص 132.

السنة الثالثة من مولده - صلى الله عليه وسلم -

فبينما هو يلعب يومًا مع الغِلمان خلف البيوت إذ جاء أخوه يشتد فقال لي ولأبيه: أدركا أخي القُرَشي، فقد جاءه رجلان فأضجعاه وشقَّا بطنه، قالت: فخرجنا نشتد نحوه، فانتهينا إليه وهو قائم ممتقع لونه، فاعتنقته واعتنقه أبوه وقال: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقَّا بطني، ووالله ما أدري ما صنعا. قالت حليمة: فاحتملناه فرجعنا به، قالت: يقول زوجي: يا حليمة، والله ما أرى الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنَرُدّه إلى أمه قبل أن يظهر به ما نتخوف عليه. فرجعنا به إلى أمه، فقالت: ما ردَّكما به وقد كنتما حريصين عليه؟ فقلنا لها: قد كفلناه وأدَّينا ما علينا من الحق فيه، ثم تخوفنا عليه الأحداث فقلنا: يكون عند أمه. فقالت: والله ما ذاك بكما، فأخبراني خبره، فأخبرناها. فقالت: أتخوفتما عليه، والله إن لابني هذا لشأنًا (¬1). * * * السنة الثالثة من مولده - صلى الله عليه وسلم - فيها ولد أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ودخلت السنة الرابعة وبعض الخامسة، وهو - صلى الله عليه وسلم - عند حليمة السعدية - رضي الله عنها -. * * * السنة الخامسة من مولده - صلى الله عليه وسلم - وفيها شق بطنه. قال شداد بن أوس: جاء رجل من بني عامر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟ فأخبرني عن بدء أمرك، فقال: "يا أَخا بني عامر، بَدْءُ أَمري دَعوةُ أخي إبراهيمَ، وبُشرى أخي عيسى، وإنِّي كنتُ مسترضعًا في بني سعدٍ، فبينا أنا ذاتَ يومٍ مُنْتَبِذٌ مع أتراب لي من الغِلمان في وادٍ بعيدٍ عن أهلي، إذا بثلاثة رهطٍ معهم طَسْتٌ من ذَهب قد ¬

_ (¬1) "السيرة" 1/ 148 - 153، والنقل عن "المنتظم" 2/ 261 - 263.

مُلئ ثلجًا، فأَخَذني واحدٌ منهم، فَهَرب أَتْرابي ووَقَفوا على شَفير الوَادِي، ثم أقبلُوا على القومِ وقالوا: يا قومُ، إنَّ هذا الغُلام ليس منَّا إنما هو مستَرْضَع فينا، وهو ابن سيد قريش وهو يتيم، فماذا يَرُدُّ عليكم قَتْلُه؟ فإن كنتم لا بدَّ قاتليه فاختاروا أيَّنا شِئتُم منَّا فاقتلوه عِوَضَهُ، فلم يردوا عليهم جوابًا، فانطلقوا هاربين يستصرخون الحي، فعَمد أحدُهم فأَضجَعَني إضجاعًا رفيقًا، ثم شقَّ ما بين مَفرِق صَدْري إلى منتهى عانتي، ولم أجد لذلك مسًّا، ثم أَخرج أحشاءَ بطني فغسَلَها بماء وثلج، فأنعم غسلها، ثم ردها إلى مكانها، ثم جاءآخر فأخرج من قلبي مُضْغَةً سوداء فرمى بها، وإذا بيده خاتم النبوة من نور فختم به قلبي، فامتلأ نورًا ثم ردَّه إلى مكانه، فوجدت بَرْدَ الخاتم في قلبي دهرًا، ثم أمَرَّ الثالث يده على صدري فالْتَأم ذلك الشَّق بإذن الله، ثم أخذ بيدي فأنهضني، ثم قال لصاحبه: زِنه، اجعله في كفة واجعل ألفًا من أمته في كفة، ففعل وأنا أنظر إلى الألف، فرجحت عليهم، فانطلقوا وهم يقولون: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم أقعدوني وقبَّلوا رأسي وقالوا: يا حبيب، لا تُرَعْ؛ إنك لا تدري ماذا يُراد منك -أو بك- لو علمت لقَرَّت عَيناك، قال: فبينا نحن كذلك، وإذا بالحي قد أقبلوا بحذافيرهم -أي بأسرهم- وإذا بأمي وهي تهتف في أوائلهم وتقول بأعلى صوتها: واضعيفاه. فقال أحدهم: حبذا أنت من ضعيف، فقالت: يا يتيماه. فقال الآخر: حبذا أنت من يتيم، فقالت: ياوحيداه (¬1). فقال الآخر: حبذا أنت من وحيد، ثم ضمتني إلى صدرها وجَعَلت تقول: استُضْعِفْتَ من بين أترابك وتبكي، فوالذي نفسي بيده إني لفي حِجرها وإن يدي في يد بعض القوم، وأنا ألتفت إليهم أظن أنَّ القوم يبصرونهم، فقال له بعض أهل الحي: هذا الغلام قد أصابه لَمَم، فانطلقوا به إلى الكاهن لينظر إليه، فذهبوا بي إلى الكاهن، فسألني عن قصتي؟ فأخبرته، وضمني إلى صدره وصاح بأعلى صوته: يا معاشر العرب، اقتلوه واقتلوني معه، فواللات والعزى ليِّن تركتموه ليبدِّلن دينكم، فقالت أمي: انظر لنفسك قاتلًا غيري، فإن ولدنا ما به مما قلت شيء، ولقد شبه عليك (¬2). ¬

_ (¬1) في النسخ: "يا واحداه" والمثبت من "المنتظم" و"تاريخ دمشق". (¬2) انظر "تاريخ دمشق" (قسم السيرة) 1/ 380 - 383، و"المنتظم" 2/ 265 - 267. وضعفه ابن عساكر، وقال ابن كثير في "البداية" 2/ 256: وفيه عمر بن الصبح وهو متروك كذاب متهم بالوضع.

قال الواقدي: لما تم له خمس سنين؛ قدمت به حليمة مكةَ، وقد رأت غمامة تُظله في الطريق، إن سار سارَتْ، وإن يقف وقفت، فأفزعها ذلك، فلما قربت من مكة؛ نامت في بعض الأباطح، ثم انتبهت فلم تجده (¬1). وذكر الثعلبي في "تفسيره" القصة عن كعب الأحبار قال: لما قضت حليمة حق الرضاع أتت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة لترده إلى عبد المطلب، قالت: فأتيت به إلى الباب الأعظم من أبواب مكة، فسمعت مناديًا ينادي: هنيئًا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد عليك النور والدين والجمال والبهاء، قالت: فوضعته عند الباب وذهبت لأصلح من شأني، فسمعت هدة شديدة فالتفت فلم أره، فقلت: يا معاشر الناس، أين الصبي؟ فقالوا: أي الصبيان تعنين؟ قلت: محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب، نضر الله به وجهي، وأغْنى عَيلَتي، ربيته حتى إذا أدركت فيه سروري وأملي، اختلس من يدي قبل أن تمس قدماه الأرضَ، واللَاتِ والعُزَّى لئن لم أره لأرمين نفسي من شاهق هذا الجبل فلأُقَطَّعَنَّ إرْبًا إرْبًا، فقالوا: ما رأينا أحدًا. قالت: فلما آيسوني وضعت يدي على أم رأسي وقلت: وامحمداه، واولداه، فأبكيت الجواري والأبكار ببكائي، وإذا بشيخ فانٍ يتوكأ على عصاه، قال: ما لك يا سعدية؟ فقلت: فقدت ابني محمدًا. فقال: لا تبكي أنا أدلك على من يَعْلمُ عِلْمَه، وإن شاء أن يرده عليك فعل، قلت: فدتك نفسي من هو؟ قال: الصنم الأعظم هبل. فقالت: فدخل، وطاف بهبل، وقتل رأسه، وناداه: أيها الإله الأعظم، لم تَزَلْ مِنَّتُكَ على قُريش عظيمةً، وهذه السعدية تزعم أن محمدًا قد ضَلَّ، فَرُدَّه عليها. قالت: فأكب هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام وقالت: إليك عنا يا شيخ، إنما هلاكنا على يد محمَّد. فأقبل الشيخ وأنا أسمع لأسنانه اصطكاكًا، ولركبتيه ارتعادًا، وقال: يا حليمة، إن لابنك ربًّا لا يضيعه، فاطلبيه على مهل. قالت: فأتيت إلى عبد المطلب، فلما رآني على ذلك، قال: أَسعْدٌ نزل بك أم نحس؟ قلت: نحس. ففهم وقال: لعل ابنك قد ضل منك؟ قلت: نعم. فسلَّ سيفه -وكان لا يثبت له أحد-[ونادى بأعلى صوته]: يا آل غالب يا آل غالب، فأجابته ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" لابن سعد 1/ 91، وأخرج ابن سعد أيضًا 1/ 126 - 127: أن أخته هي التي رأت الغمامة تظله.

السنة السادسة من مولده - صلى الله عليه وسلم -

قريش بأجمعها، فأخبرهم الخبر وركب وركبوا معه، وقالوا: إن تسنَّمت جبلًا تسنمناه معك، وإن خُضْتَ البحر خضناه، ثم خرج إلى أعلى مكة وأسفلها فلم يجد شيئًا. فأتى إلى الكعبة، وطاف أسبوعًا، ثم قال: [من الرجز] يا ربِّ اُرْدُدْ ولدي محمدًا ... رُدَّهْ إليَّ واتَّخِذْ عندي يدا فسمع مناديًا من السماء: أيها الناس، إن لمحمد ربًا لا يضيعه. فقال عبد المطلب: وأين هو؟ قال: بوادي تهامة عند شجرة اليمن، فخرج عبد المطلب ولقيه ورقة بن نوفل، وسارا جميعًا إلى ذلك المكان، وإذا به تحت الشجرة، فاحتمله عبد المطلب على قَرَبوس سَرْجِه، وعاد به إلى مكة، فذلك قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى: 7] على أحد الأقوال (¬1). وأما حليمة، فإنها أسلمت وأسلم زوجها، وقدمت مكة بعد ما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة - رضي الله عنها-، فشكت إليه جَدْبَ البلاد، فكلم خديجة فأعطتها أربعين شاة وبعيرًا، ثم قدمت عليه بعد النبوة فأسلمت. قال الواقدي: لما قدمت عليه، قال: أمي أمي، وبسط لها رداءه فجلست عليه (¬2). * * * السنة السادسة من مولده - صلى الله عليه وسلم - وفيها توفيت والدته - صلى الله عليه وسلم -. قال الزهريّ: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست سنين، خرجت به أمه إلى المدينة إلى أخواله من بني عَديِّ بن النجار، فنزلت دار النابغة (¬3) الجعدي التي مات فيها أبوه، ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 10/ 226 - 228، وانظر "دلائل النبوة" للبيهقي 1/ 142 - 143، وقد أخرج القصة مختصرة، ابن سعد في "الطبقات" 1/ 91 - 92، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 93 - 94، وابن الجوزي في "المنتظم" 2/ 269. وانظر "سمط النجوم العوالي" 1/ 267. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 93. (¬3) كذا هي في الأصول الخطية، وضبطها صاحب "السيرة الشامية" 1/ 400: التابعة بالتاء، وعند الطبري 2/ 246 بالروايتين، وانظر المنتظم 2/ 272، والوفا 114.

السنة السابعة من مولده - صلى الله عليه وسلم -

فأقامت عندهم شهرًا، واختلف قوم من اليهود إلى الدار ورأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعلوا يقولون: هذا نَبيُّ هذه الأمة، وهذه دار هجرته. ولما رجعت به إلى مكة؛ توفيت بالأبواء، فقبرها هناك، وكانت معها أم أيمن فرجعت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة. ولما مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبواء في عمرة الحديبية؟ زار قبرها (¬1). * * * السنة السابعة من مولده - صلى الله عليه وسلم - فيها كَفِله جده عبد المطلب بعد وفاة أمه آمنة. قال الزهريّ: إن عبد المطلب ضمَّه إليه، ورقَّ عليه رِقَةً لم يَرقَّها على أولاده، فكان لا يفارقه، ويدخل عليه، ويجلس على فراشه عند الكعبة، فإذا نهاه أحد يقول: دعوا ابني، فإنه ليُؤنِسُ مُلْكًا. وما كان أحد يجلس على فراش عبد المطلب من ولده إجلالًا له إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدم مكة قوم من القافة من بني مُدْلج، فلما نظروا إليه، قالوا لعبد المطلب: احتفظ بهذا الغلام، فإنا لم نجد قدمًا أشبه بالقدم الذي في المقام من قدميه، فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء واحتفظ به، وقال عبد المطلب لأم أيمن: احتفظي بابني، فإن اليهود تزعم أنه نبي هذه الأمة (¬2). * * * السنة الثامنة من مولده - صلى الله عليه وسلم - وفيها توفي عبد المطلب. ولما احتُضِرَ عبد المطلب، أوصى به إلى أبي طالب، فقبضه وضمه إليه وأحبه حبًّا شديدًا، وقدَّمه على أولاده، وكان لا يفارقه، وكان عيال أبي طالب إذا لم يأكل معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشبعوا، وإذا أكل معهم شبعوا، فيقول له أبو طالب: إنك لمبارك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 95، و"المنتظم" 2/ 272. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 96 - 97، و"المنتظم" 2/ 274. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 98، و"المنتظم" 2/ 283.

أنوشروان

وكان شقيقَ عبد الله. وقال الشيخ موفق الدين - رضي الله عنه - في "الأنساب": إن عبد المطلب أوصى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي طالب، وقال له (¬1): [من الرجز] أوصيكَ يا عبدَ منافٍ بَعْدي بمفْرَدٍ بعدَ أبيه فَرْدِ فارقَه وهْو ضجيعُ المَهْدِ فكنتُ كالأُمِّ له في الوَجْدِ تُدنيه من أَحْشَائها والكِبْد فأنت من أَرْجى بنيَّ عِنْدي لرفع ضيم أو لشدِّ عَقْدِ وقيل: إن الزبير بن عبد المطلب وأبا طالب اقترعا عليه، فطارت القرعة للزُّبير، وكان الزُّبير أيضًا شقيقَ عبد الله، ويحتمل أن الاثنين كفلاه؛ لأن الزبير كان وصي عبد المطلب. فصل وفيها توفي: أنوشروان كسرى العادل، وولي بعده ولده هُرمز، وكان في أول مُلكه عادلًا مُحسنًا إلى الرعية، كان إذا سافر نادى مناديه: من تعرّض لزرع ضمن قيمته، إلا أنه أساء السيرة في آخر أمره، فتغيرت قلوب الرعية عليه، فقتلوه (¬2). حاتِم ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي (¬3) وبه يضرب المثل في الجود، قال ¬

_ (¬1) التبيين 109، وانظر "تاريخ اليعقوبي" 2/ 13، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 22. (¬2) "تاريخ الطبري" 2/ 172، و "المنتظم" 2/ 289، و"الكامل"1/ 469. (¬3) "تاريخ اليعقوبي" 1/ 264، و"تاريخ دمشق" 11/ 357، و "المنتظم" 2/ 285، و"البداية والنهاية" 2/ 197.

الشاعر (¬1): [الطويل] على حالةٍ لو أن في القوم حاتمًا ... على جُوده ما جاد بالماءِ حاتمُ وكنيته: أبو عدي (¬2). وأم حاتم: عِنَبةُ بنت عفيف بن لحي، وابنه عدي من الصحابة. قال الواقدي: كان حاتم سيد الأجواد، فاضلًا، عاقلًا، فصيحًا، شاعرًا، يقري الأضياف ويبالغ في إكرامهم، وأخباره مشهورة. قال عدي بن حاتم: قلت: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، ويُطْعمُ الطعام، ويعتق الرقاب، فهل له في ذلك من أجر؟ فقال: "إن أباك التمس أمرًا فأدركه" (¬3). قال سماك بن حرب: هو حُسْنُ الذكر (¬4). وقال الشعبي: خلَّف حاتمًا أبوه في إبله، وهو في إبله، فمر به جماعة من الشعراء فيهم: عَبيد بن الأبرص، وبشر بن أبي خازم، والنابغة الذُّبياني، يريدون النعمان بنَ المنذر، فقالوا لحاتم: هل من قِرىً ولم يعرفهم؟ فقال: تسألوني عن قرىً وأنتم تَرَوْنَ الإبل والغنم، انزلوا فنزلوا. فنحر لكل واحد منهم جزورًا، وسألهم عن أسمائهم؟ فأخبروه، ففرق فيهم الإبل والغنم، وجاء أبوه فقال: ما فعلت؟ فقال: طوقتك مسجد الدهر وحسن الذكر تطويق الحمامة، فقال أبوه: فإذًا لا أُساكنك. فقال حاتم: فإذًا لا أبالي. ورحل عنه، فقال حاتم: [من الطويل] وإنِّي لعفُّ الفقر مُشْتَرَكُ الغنى ... تَروكٌ لشَكْلٍ لا يُوافقُه شَكْلِي ولي نِيَّةٌ في الجود والبذلِ لم يكن ... لِيألفَها فيما مَضَى أحدٌ قَبْلي وما ضرَّني أَن سار سَعْدٌ (¬5) بأهله ... وخلَّفَني في الدارِ ليسَ معي أهلي وما مِن كريمٍ عَاله الدَّهر مرَّةً ... فيَذكُرها إلَّا تزيَّد في البَذْلِ وما مِن بخيلٍ عَاله الدَّهر مرَّةً ... فيَذكُرها إلَّا تزيَّد في البُخْلِ ¬

_ (¬1) هو للفرزدق والبيت في ديوانه ص 297. (¬2) ويكنى أيضًا أبا سفَّانة، وهي ابنته، انظر "المنتظم" 2/ 285. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (18262). (¬4) انظر "مسند أحمد" (18263). (¬5) في النسخ: "عبد" والمثبت من الديوان 76، والمنتظم.

وقال الشعبي: مر حاتم في مسير له ببني عَنَزَةَ وفيهم أسير، فاستغاث به، فقال له حاتم: لقد أسأتَ إليَّ حيث نَوَّهْتَ باسمي، وليس معي ما يفديك، ولستُ ببلاد قومي، ولكن طِب نَفْسًا، وجاء إلى الذي أسره فاشتراه منه بمئة ناقة، وفك القيد من رجليه وجعله في رجل نفسه، وقال: اذهب إلى أهلي، وأعطاه أمارة إليهم بالتسليم، ومضى الرجل، وأقام حاتم في قيوده حتى عاد الرجل بالإبل، وأطلق حاتم (¬1). وقال الشعبي: سأل رجل حاتمًا: هل في العرب أكرم منك؟ فقال: كل العرب أكرم مني، نزلتُ على غلامٍ يتيم، وكان له مئة شاة، فذبح لي شاة، فقلت: ما أطيب مخها أو دماغها. فلم يزل يأتيني بدماغ دماغٍ حتى ذبح المئة، فأصبح ولا شيء له، قيل له: فما صنعت مع الغلام؟ قال: وما عساني أن أبلغ شكره، والله لو خرجت معه من جميع مالي ما جازيته، كان لي مئة من الإبل سودُ الحدَق، دفعتها إليه (¬2). ولما احتضر حاتم قال لابنه عدي: يا بني، والله ما خنت جارة لي لريبة، ولا ائتُمنت على أمانة إلا أدَّيتها, ولا بَدَا مني إلى أحد مكروه قط، ولا قصدني قاصد فخيبتُه. ودفن حاتم على جبل يقال له: عوارض. فصل وأجواد الجاهلية ثلاثة (¬3): حاتم، وهَرِم بن سِنان، وكعب بن مامة. فأما هَرِم، فكان أبوه سنان سيِّدَ غطفان، وماتت أمه وهي حامل به، وقالت: إذا مت؛ فشقوا بطني، فإن فيها سيد غطفان. فلما ماتت، شقوا بطنها واستخرجوا سنانًا، فولد هَرِمًا. وفي هرم يقول زهير: [من البسيط] متى تلاقِ على عِلاته هَرِمًا ... تلق الندى منه في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ وفيه وفي إخوته يقول زهير -وقيل: إنها لغيره-: [من البسيط] ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 2/ 285، والعقد الفريد 1/ 287. (¬2) انظر "البداية والنهاية" 2/ 200 - 201. (¬3) انظر خبرهم في "العقد" 1/ 287.

قَومٌ أبُوهم سنانٌ حين تَنْسِبُهم ... طَابُوا وطَابَ منَ الأَولادِ ما وَلَدُوا لو كانَ يَقْعُد فوقَ الشَّمسِ مِن كَرَمٍ ... قومٌ بأوَّلهم أومجدِهم قَعَدُوا محسَّدون على ما كان من نِعمٍ ... لا ينزع الله عنهم ما له حُسدوا وفي هَرِمٍ يقول زهير وفي أهل بيته، ويصف ما فيه من أبيات: [من البسيط] حَتى دَفعْنَ إلى حُلْوٍ شمائلُه ... كالغيث يَنبت في آثاره الوَرَقُ من أهل بيتٍ بَرى ذو العرش فَضلَهم ... يُبنى لهم في جنانِ الخُلْدِ مُرْتَفَقُ المطعمين إذا ما أَزْمَةٌ أَزِمَت ... والطيِّبين ثيابًا كما عَرِقوا كأنَّ آخرهم في المجد أولهم ... إن الشمائلَ والأخلاقَ تَتَّفِقُ إن فوخروا فَخَروا أو طوعنوا طَعَنوا ... أو نوضلوا نَضَلوا أو سوبقوا سَبَقوا وفيه يقول زهير أيضًا: [من الطويل] وأبيضَ فيَّاضٍ يداه غَمامةٌ ... على مُعْتَفيه ما تُغِبُّ نَوافِلُهُ تراه إذا ما جئتَه مُتَهلِّلًا ... كأنك تُعطيه الذي أنت سائلُهْ أخذه أبو تمام فقال: [من الطويل] ولو لم يكن في كفِّه غيرُ نفسِه ... لجاد بها فليتَّقِ اللهَ سائلُهْ وقال زهير منها: [من الطويل] أخو ثقة لا يُذهِبُ الخمرُ ماله ... ولكنه قد يُذهِب المال نائِلُهْ أخذه أبو نواس فقال: [من الطويل] فتى لا تَلوكُ الخَمْرُ شَحْمَةَ مالِه ... ولكن أيادٍ عُوَّدٌ وبَوادِ وأما كعب بن مامة الإيادي، فإنه رافق رجلًا من بني سعد في مفازة ومعهما ماءٌ يسير فعطشا، فآثر كعبُ بنُ مامة السعديَّ ومات عطشًا، ونجا السعديُّ. وهذا أبلغ ما يوصف من الجود؛ لأنَّ حاتمًا وغيره آثروا بالمال، وكعب آثر بالروح. وفي كعب وحاتم (¬1) يقول أبو تمام الطائي: [من الكامل] كعبٌ وحاتمٌ اللذان تقاسما ... خُطَط العُلى من طارفٍ وتَليدِ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ك): كعب بن حاتم، وهو خطأ.

عبد المطلب بن هاشم بن عبد منامه

هذا الذي خلَفَ السَّحابَ ومات ذا ... في المَجْد مِيَتَة خِضْرِمٍ صِنديدِ إن لم يكن فيها الشَّهيدَ فقومُه ... لا يَسمحون له بألف شهيد (¬1) عبد المطلب بن هاشم بن عبد منامه واسمه: شَيبَة، وقيل: عامر، وكنيته: أبو الحارث، وأمه: سلمى بنت زيد بن عمرو بن أُسَيد بن حزام بن خداش بن جندب بن عدي (¬2) بن النجار، وكانت قبل هاشم عند أُحيحة بن الجُلاح الأوسي، فمات عنها وترك ولدين منها وهما: عمرو ومَعْبد، فَزَوَّجها أبوها من هاشم بن عبد مناف. قال الواقدي: خرج هاشم في تجارة إلى الشام، فمر بالمدينة، فنزل سوق النَّبَط فباعوا واشتروا، فنظر هاشم إلى امرأة حازمة جَلْدَة تبيع وتشتري، فسأل عنها فقيل: هي سلمى كانت تحت أحيحة، وكانت لا تتزوج حتى تشترط على الزوج أن يكون الأمر بيدها، متى اشتهت فارقت، وذلك لشرفها، فخطبها هاشم وعرفت شرفه، فتزوَّجَتْه، فأولم عليها، ودعا رجالًا من الخزرج فأطعمهم، وأقام أيامًا فعلقت بعبد المطلب، وسار إلى غزة، فمات بها، ورجع أبو رُهم بن عبد العزى العامري وأصحابه إلى المدينة بِتَرِكَتِه (¬3). وقال البلاذُري: إنما تزوجها هاشم وشرط عليه أبوها أنها لا تلد إلا في أهلها، فرجع بها من المدينة إلى مكة، فلما دنت ولادتها، خرج بها إلى المدينة إلى منزل أبيها ومضى إلى الشام، وتوفي بغزة فولدت عبد المطلب (¬4) وسمته: شيبة (¬5). ¬

_ (¬1) العقد الفريد 1/ 291 - 293. (¬2) كذا هي في النسخ، وفي "نسب قريش" ص 15، و"أنساب الأشراف" 1/ 74: عمرو بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي، وانظر الطبري 2/ 247. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 60. (¬4) في النسخ: "عبد الملك"، والمثبت من "أنساب الأشراف" 1/ 74 وغيره. (¬5) "أنساب الأشراف" 1/ 74.

ذكر تسميته بعبد المطلب

ذكر تسميته بعبد المطلب: قال هشام: أقام عبد المطلب في أخواله مُكرَّمًا، فبينا هو يناضل الصبيان ويقول: أنا ابن هاشم، فسمعه رجل من قريش فقدم مكة، فقال للمطلب: إني مررت بدور بني قَيْلَةَ، فرأيت غلامًا يعتزي إلى أخيك، وما ينبغي تركُ مثله في الغُرْبَةِ. فرحل إلى المدينة في طلبه، فلما رآه عوفه ففاضت عيناه، وضمه إليه، وأنشد يقول: [من البسيط] عرفتُ شيبةَ والنَّجارُ قد جَعَلَت ... أبناؤها حَوْله بالنَّبْلِ تَنْتَضِلُ عَرفْتُ أجلادَه فينا وشيمَته ... فَفاضَ منِّي عليه وابلٌ هَطِلُ فركب المطلب، فلما قدم يثرب أردفه على راحلته، فقال: يا عم ذلك إلى الوالدة، فجاء إلى أمه وسألها أن ترسل به معه، فامتنعت، فقال لها: إنه يمضي إلى مُلْك أبيه وإلى حرم الله، فأذنت له فقدم به مكة، فقال الناس: هذا عبد المطلب؟ فقال: ويحكم، إنما هو ابن أخي هاشم. وروي غير ذلك (¬1). ولما قدم المطلب بشيبة مكة، أقام عنده حتَّى ترعوع، فسلَّم إليه ملك هاشم من أمر البيت، والرِّفادة، والسقاية، وأمرَ الحجيجِ، وغير ذلك (¬2). وكان المطلب شريفًا مُطاعًا، وكانت قريش تسميه: الفيَّاض لسخائه، وهو عَقَد الحلف بين النجاشي وبين قريش، فلما أدرك عبد المطلب، خرج المطلب إلى اليمن تاجرًا، فتوفي بمكان يقال له: رَدْمان (¬3)، فولي شيبة مكانه، وكان للمطلب من الولد: الحارث، وهاشم، ومَخرَمَة، وعبَّاد، وأُنيس، وأبو عمرو، وأبو رُهم الأكبر، وأبو عمر (¬4)، ومحصن، وعلقمة، وبناتٌ. ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 63 - 64، و"أنساب الأشراف" 1/ 74 - 75، و"تاريخ الطبري" 2/ 247 - 248 و"المنتظم" 2/ 206 - 207. (¬2) انظر "السيرة" 1/ 131، و"الطبقات الكبرى" 1/ 64، و"المنتظم" 2/ 207. (¬3) في النسخ: "رمدان" والمثبت من "الطبقات" 1/ 64، وانظر "معجم البلدان" 3/ 40. (¬4) في "ك": "أبو عمران"، وانظر "نسب قريش" ص 92.

ذكر وثوب نوفل بن عبد مناف على أخيه شيبة

ذكر وثوب نَوْفل بن عبد مناف على أخيه شيبة (¬1): ولما مات المطلب، وثب نوفل على أركاحٍ (¬2) لشيبةَ فغصبه إياها، فسأل عبد المطلب رجالًا من قومه النُّصرةَ على عمه فأبوا، وقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك، فكتب إلى المدينة إلى أخواله من بني النجار يذكر ما فعل به عمه نوفل، وقال: [من السريع] من مُبلغٌ قومي على بُعدِهم ... أنيَ منهم وابنُهُمْ والخميسْ بأنَّ عمي نوفلًا قد أبَى ... إلَّا التي يُغضي عليها الخسيسْ وقال هشام بن الكلبي: إنه كتب أبياتًا منها: [من البسيط] يا طُول لَيْلي لأحزاني وأَشْغالي ... هَل منْ رسولٍ إلى النَّجار أَخْوالي يُنبي عَديًّا ودينارًا ومازِنَها ... ومالِكًا عِصْمةَ الجيرانِ عن حالي قد كنتُ فيهم وَما أَخْشَى ظُلامةَ ذي ... ظُلْم، عزيزًا مَنِيعًا ناعمَ البالِ حتَّى ارتحلْتُ إلى قَوْمي وأَزْعَجَني ... لذَاكَ مُطَّلِبٌ عمي بتَرْحالي فغاب مُطَّلِبٌ في قَعْرِ مُظْلِمةٍ ... ثم انبرى نَوْفَلٌ يعدو على مالي أَأنْ رَأَى رجلًا غَابَتْ عمومتُه ... وَغَاب أَخوالُه عنه بلا والِ أَخْنَى عليه ولم يحفظ له رَحِمًا ... ما أمنع المرءَ بين العمِّ والخالِ فاستَنْفِروا وامنعوا ضَيْمَ ابن أختكمُ ... لا تَخذُلوه فما أنتم بخُذَّال فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي (¬3) النجاري على كتابه بكى، وسار من المدينة في ثمانين راكبًا حتَّى نزل مكة ونزل الأبطح، فتلقاه عبد المطلب وقال له: المنزل يا خال، فقال: لا والله حتَّى ألقى نوفلًا، فقال: تركته في الحِجْر جالسًا في مشايخ قريش، فأقبل أبو سعد حتَّى وقف عليهم، فقام نوفل قائمًا وقال: يا أبا سعد أنعم صباحًا، فقال له أبو سعد: لا أنعم الله لك صباحًا، وسلَّ سيفه وقال: ورب هذه البَنِيَّةِ لئن لم تردَّنَّ على ابن أختي أركاحه لأملأن منك هذا السيف، فقال: قد رددتها عليه، فأشهد عليه ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 248 - 251، و"أنساب الأشراف" 1/ 79 - 80. (¬2) الأركاح: الساحات والأفنية. (¬3) في تاريح الطبري 2/ 249: أبو أسعد بن عدس.

ذكر الحلف الذي جرى بين نوفل وبين عبد شمس على بني هاشم

مشايخ قريش، ثم نزل على شيبة وأقام عنده ثلاثًا، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة، فقال عبد المطلب: ويأبى مازن وبنو عَدِيّ ... ودينارُ بن تيْم اللهِ ضَيْمي بهم رَدَّ الإله علي رُكْحي ... وكانوا في انتسابٍ دون قومي ذكرُ الحِلْفِ الذي جرى بين نوفل وبين عبد شمس على بني هاشم وحالفت بنو هاشم خزاعة علي بني عبد شمس وبني نوفل، وكان ذلك سببًا لفتح مكة لما نذكر، ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب، قالوا: نحن ولدناه كما ولده بنو النجار، فنحن أولى بنصرته. ومعنى هذا: أن عبد مناف جد عبد المطلب، أمُّه حُبَّى بنت حُلَيل بن حُبْشِية سيد خزاعة، فقالوا لعبد المطلب: هلم فلنتحالف. فدخلوا دار الندوة، وتحالفوا، وتعاقدوا، وكتبوا بينهم كتابًا كتبه لهم أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، ولم يحضره أحد من بني نوفل ولا من بني عبد شمس، وعلقوه في الكعبة، وصورته: باسمك اللهمَّ، هذا ما تحالف عليه بنو هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة على النصرة والمواساة، ما بلَّ بحر صوفة، وما أشرقت الشمس على ثبير، وحنَّ بفلاةٍ بعير، وما أقام الأَخشبان، واعتمر بمكة إنسان. وتزوج عبد المطلب يومئذ لُبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر، فولدت له: أبا لهب، وتزوج ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل (¬1)، فولدت أي: الغَيداق. حديث الاستسقاء بعبد المطلب (¬2): قال مخرمة بن نوفل: عن أمه رُقَيقَةَ بنت [أبي] صَيْفي -وكانت امرأة عبد المطلب- قالت: تتابعتت على قريش سنون، أقحلتِ الضَّرْعَ، وأدقَّت العظم، فبينا أنا نائمة بالهمِّ -أو مهمومة- إذا بهاتف يصرخ بصوت صَحِلٍ (¬3) يقول: يا معاشر قريش، إن هذا النبي ¬

_ (¬1) وفي أنساب الأشراف 1/ 83: مؤمّل. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 70 - 71، و"أنساب الأشراف" 1/ 94 - 95، و"دلائل النبوة" 2/ 15، و"المنتظم" 2/ 275: والسيرة الشامية 2/ 178. (¬3) الصوت الصحيل: الَّذي فيه بحة.

المبعوث فيكم، قد أظلتكم أيامه، وهذا إِبَّانُ نُجومه، فحيَّ هلا بالحيا (¬1) والخِصْب، ألا فانظروا رجلًا منكم وسيطًا، عُظامًا، جُسامًا، أبيضَ بضًّا (¬2)، أَوْطَفَ (¬3) الأهدابِ، سَهْل الخَدَّين، أَشمَّ العِرْنين (¬4)، له فخر يَكْظم عليه (¬5)، وسُنَّةٌ تَهْدي إليه، فليخلص هو وولده، وليهبط إليه من كل بطن رجل، فليشنوا من الماء، وليمسُّوا من الطيب، ثم ليستلموا الركن، ثم ليرتقوا أبا قُبَيس، فليستسق الرجل، ولْيُؤَمِّنِ القَومُ، فغِثْتُم ما شئتم. قالت رُقَيْقَةُ: فأصبحتُ والله مَذعورة، قد اقشعرَّ جلدي، ووَلِهَ عقلي، واقتَصَصْتُ رؤياي، فوالحرمة والحرم ما بقي أبطحي إلا وقال: هذا لِشيبة الحمد، وتتامت إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فَشَنُّوا، ومَسُّوا، واستلموا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطبَّقوا جانبيه فما يبلغ سعيهم مهله، حتَّى إذا استووا بذروة الجبل، قام عبد المطلب ومعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غلامٌ قد أيفع أو كَرَب، فقال: اللهمَّ سادَّ الخَلَّةِ، وكاشفَ الكُرْبَةِ، أنت تعلم غير مُعَلَّم، ومسؤول غير مبخَّل، وهذه عِبِدَّاؤك وإماؤك بعَذِراتِ (¬6) حَرَمك يشكون إليك سَنَتهم، أذهبتِ الخُفَّ والظِّلفَ، اللهمَّ فأمطر علينا غَيثًا مُغيثًا مُغْدِقًا مَرِيعًا، فَوَالكعبة ما راموا حتَّى تفجرت السماء بمائها، واكتظ الوادي بثَجيجه فلسمعت [شيخان] قريش وجلتها: عبدُ الله بن جُدعان (¬7)، وحَرْب بن أميَّة، وهاشم بن المُغيرة المخزومي، يقولون لعبد المطلب: هنيئًا لك أبا البطحاء، أي: عاش بك أهل البطحاء. وفي ذلك تقول رقيقة بنت أبي صيفي: [من البسيط] بشَيبةِ الحمْدِ أسْقَى الله بَلْدتَنا ... لمَّا فَقَدنا الحَيَا واجْلَوَّذ المَطَرُ مُبَارَك الأمرِ يُستَسْقى الغَمامُ به .... ما في الأَنَامِ له عِدْل ولا خَطَرُ ¬

_ (¬1) الحيا: الغيث. (¬2) البضاضة: رقة اللون وصفاؤه الَّذي يؤثر فيه أدنى شيء. (¬3) الوَطَف: طول شعر العين مع سعتها. (¬4) العرنين: الأنف. (¬5) يكظم عليه: لا يبديه ولا يظهره. (¬6) العذرات: جمع عَذِرة، وهي فناء الدار. (¬7) في (خ) بدل هذه العبارة: فجاءت إليه قريش يهنئون: عبد الله بن جدعان.

قصة عبد المطلب مع ابن ذي يزن

مَنًّا مِنَ الله بالميمونِ طائرُهُ ... وخيرُ من بُشِّرت يومًا به مُضَرُ ولما سقى الله الناس، لم تصل الحياة إلى بلاد قيس ومضر، فاجتمعوا إلى زعمائهم وقالوا: قد أصبحنا في جدب وجهد، وقد سقى الله الناس بعبد المطلب، وإنه استسقى فسقي، وشفع فشُفِّع، فاقصدوه لعله يسأل الله فيكم. فقدموا مكة، ودخل خطباؤهم وساداتهم عليه فَحيَّوه بالسلام فقال: أَفْلحت الوجوه. وقام خطيبهم وقال: نحن ذو رحمك الواشجات، وقد أصابتنا سنون مجدبات، وقد بان لنا أثرك، ووضح عندنا خبرك، فاشفع لنا إلى من شفَّعك، وأجرى الغمام لك ومعك، فقال عبد المطلب: سمعًا وطاعة يا أقربَ القَرابات، موعدكم عرفات. ثم أصبح غاديًا إليها، وخرج الناس معه وولده ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلام، فَنُصِبَ لعبد المطلب كرسيٌّ أو سريرٌ، فجلس عليه، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه في حجره، ثم قال عبد المطلب ورفع يديه ثم قال: اللهمَّ رب البرق الخاطف والرعد القاصف، رَبَّ الأرباب، ومُلَيِّنَ الصِّعاب، هذه قيس ومضر من خير البشر، قد شعثت رؤوسُها، وحدبت ظهورها، يشكون إليك شدة الهُزال، وذهاب النفوس والأموال، اللهمَّ فأسحَّ لهم سحابًا خوّارة، وسماءً خَرّارة، لتضحك أرضهم، فيزول ضُرهم. قال: فما استتم كلامه حتَّى نشأت سحابةٌ دَكْناءُ لها دَويٌّ، وقصدت نحو بلادهم، فقال عبد المطلب: يا معاشر قيس ومضر، انصرفوا فقد سُقيتم. فرجعوا وقد سقوا. قصة عبد المطلب مع ابن ذي يزن (¬1): قال محمد بن السائب الكلبي: لما ملك سيف بن ذي يزن اليمن، وأباد عنها الحبشة، وفد عليه أشراف العرب للتهنئة، وكان من أشرافها خمسة: عبد المطلب بن هاشم، وأميَّة بن عبد شمس، وعبد الله بن جُدعان، وخويلد بن أسد، ووهب بن عبد مناف بن زهرة (¬2)، وكان ابن ذي يزن بغُمْدان وهو قصره بصنعاء، فلما علم بهم جلس لهم على سريره -وكان من الذهب-، ولبس ثياب الملك، ووضع على رأسه التاج، ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ اليعقوبي" 2/ 12، و"أخبار مكة" للأزرقي 1/ 149، و"تاريخ دمشق" 1/ 357، و"المنتظم " 2/ 276، و"البداية والنهاية" 2/ 305. (¬2) في النسخ: "زهيرة" والصواب ما أثبتناه، انظر "نسب قريش" ص 261.

وتضمَّخ بالغالية، وجعل بين يديه (¬1) سيفًا مسلولًا، واستدعى بهم، فدخلوا عليه وملوك حمير عن يمينه وشماله، ووضع الكرسي فاستأذنه عبد المطلب في الكلام وقام قائمًا، فقال له سيف: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فتكلم. فقال عبد المطلب: أما بعد، فإن الله أحلَّك أيها الملك محلًّا رفيعًا، باذخًا شامخًا منيعًا، وأنبتك نباتًا طابت أُرومتُه، وعَزَّت جُرْثومته، وثبت أصله، وبسق فَرْعُه بأكرم معدن وأطيب موطن، فإنك -أبيت اللَّعن- رأس العرب الَّذي تنقاد إليه، وعمودها الَّذي تَعتَمدُ عليه، وسائسها الَّذي يقوم بأمرها، ومعقلها الَّذي تلتجئ إلى ذُراه، سلفك لنا خير سلف، وأنت لنا منهم خير الخلف، ولن يجهل من تقدم سلفه، ولم يهلك من أنت خلفه. أيها الملك، نحن أهل بيت الله وسُكَّان حرمه وسَدَنَةُ كعبته، أشخصنا إليك الَّذي أبهجنا من كَشْفِ الكَرْبِ الَّذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المَرْزئة (¬2). فقال له ابن ذي يزن: من أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم. فقال: ابن أختنا؟ قال: نعم. فقال: ادنه، فدنا منه، فأقبل عليه وقال: مرحبًا وأهلًا، وناقة ورحلًا، ومستناخًا سهلًا، ومُلْكًا رِبَحْلا (¬3)، يعطى عطاءً جزلًا، قد سمع الملِك مقالتك، وعرف قرابَتَك، أنتم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحِباءُ إذا ظعنتم، أنتم قريش الأباطِح، أهل الشرف والفضل، والسناء والمجد، وأنت يا عبد المطلب ربيع الأنام وسيد الأقوام. ثم أنزلهم دار الضيافة، وأجرى عليهم الإنزال، فأقاموا شهرًا لا يصلون إليه، ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب من بينهم خاصة، فأتاه فأجلسه معه على سريره، وقال له: يا ابن هاشم إني مفض إليك من سري ما لو كان غيرك لم أبح به، ولكني رأيتك أهلًا له وموضِعَه، فليكن عندك مطويًّا حتَّى ينفذ الله أمره، ثم قال: إني لأجد في الكتاب الناطق، والعلم الصادق الَّذي اخترناه لأنفسنا واحْتَجنَّاهُ (¬4) دون ¬

_ (¬1) في (خ): "عينيه". (¬2) المرزئة: جمع رُزْء، وهو المصيبة بفقد الأعزة. "اللسان": (رزأ). (¬3) الربحل: العظيم الشأن. (¬4) احتجن الشيء: احتوى عليه "اللسان": (حجن).

غيرنا، خبرًا عظيمًا وخَطْبًا جسيمًا فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة، هو لك خاصة، ولقومك عامة. فقال: أيها الملك، لقد أُبْتُ بخير ما آب به [وافد] (¬1) فخبِّر، ولولا هيبة الملك لسألته من كشف بشارته إياي ما أَزداد به سرورًا، فقال: نبيٌّ هذا حينه الَّذي يولد فيه، اسمه محمد وأحمد، خَدَلَّجُ الساقين، أكحل العينين، في عينيه علامة، وبين كتفيه شامة بيضاء (¬2)، كأَنَّ وجهه فلقة قمر، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وقد ولدناه مرارًا واللهُ باعِثُه جهارًا، وجاعل له منا أنصارًا يُعِزُّ بهم أولياءَه، وَيَخْذِل بهم أعداءَه، يضربون دونه الناسَ عن عرض، ويفتح الله بهم كرائم الأرض، يكسر به الأوثان، ويُعْبد الرحمن، ويُدْحَضُ به الشيطان، وتخمد النيران، قولُه فصل، وحكمه عَدل، فقال له عبد المطلب: عَزَّ جَدُّكَ، وعلا كَعْبُك، وطال عُمُرُك، أفصح لي إفصاحًا، وأوضح لي إيضاحًا. فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحُجُب، والعلامات على النُّصب، إنك لجده يا عبد المطلب من غير كذب. فخر عبد المطلب ساجدًا، ثم رفع رأسه، فقال له الملك: ثلَجَ صدرُك، وعلا أمرُك، وبلغت أمَلَك في عَقِبِك، هل أحسست مما قلتُ شيئًا؟ قال: نعم، كان لي ولد كُنْتُ عليه شفيقًا، وبه رفيقًا، زوجته كريمة من كرائم قومي اسمها آمنة بنت وَهْب، فجاءت بغلام فيه كلُّ ما ذكَرَ الملك. فقال له: فاحتفظ به من اليهود فإنهم أعداؤه ولن يجعل الله لهم عليه سبيلًا، والله مُظهِرُ دعوته، وناصر شريعته، فأَغِضَّ على ما قلت لك، واستره دون هؤلاء الرهط الذين معك، فلست آمن أن تدخلهم النفاسة في أن تكون لك الرياسة، فينصبوا لك الحبائل، ويغتالوا لك الغوائل، وهم فاعلون ذلك وأبناؤهم، ولولا علمي أن الموت مجتاحي قبل مخرجه، لسرت إليه بخيلي ورجلي، وصيَّرت يثرب دار ملكي حيث يكون فيها خبره، فأكون وزيره وصاحبه، ومشيره وظهيره على من عاداه وعانده وناوأه، فإنَّا نجد في العلم المصون والسر المكنون، أن يثرب دار مُلكه، وبها استحكام أمره، وتربتها موضع قبره، ولولا الذمامة بعد الزعامة، ¬

_ (¬1) ما بين معقوفين زيادة من المصادر. (¬2) في (ك): "أبيض بض".

وصغر سنه، لأظهرت أمره وأَوْطأتُ العرب كعبه. ثم أمر لكل واحد من القوم بمئتي بعير وعشرة أعبُد وعشرة إماء، وعشرة أرطال فضة، وخمسة أرطال ذهب، وكِرش مملوءة عنبرًا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا كان في رأس الحول، فأتني بخبره وما يحدث من أمره. فتوفي الملك قبل رأس الحَوْل، وكان عبد المطلب يقول لأصحابه: لا تغبطوني بعطاء الملك وجزيله، ولكن اغبطوني بما أسرَّه إلي، فيقولون: وما الَّذي أسرَّه إليك؟ فيقول: ما شاء الله ويسكت. وكان كلما رأى من النبي - صلى الله عليه وسلم - مخايل ما قال له الملك، يقول: أنا أبو الحارث، ما رميت غَرضًا إلا أصبته. وكانت هذه الوفادة ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين. وقال ابن سعد: أول من خضب بالسواد من قريش: عبد المطلب، كان قد سافر إلى اليمن، فنزل على رجل من حِميَر -وكان قد شاب- فعلَّمه الخضاب، فلما قدم مكة، كأنَّ شعره من حَلَك الغراب، فقالت له زوجته نُتَيْلَة بنت جَناب بن كُلَيب أم العباس: يا شيبة (¬1)، ما أحسن هذا لو دام، فقال عبد المطلب: [من الطويل] لو دَامَ لي هذا السَّواد حمِدتُه ... وكانَ بَديلًا مِن شَبابٍ قدِ انصَرَمْ تمتَّعتُ منه والحياةُ قَصِيرةٌ ... ولا بُدَّ من مَوْتٍ يُواتي ومِنْ هَرَمْ وماذا الَّذي يُجدِي على المَرْءِ خفضه ... ونعمتُه يومًا إذا عَرْشُه انهَدَمْ ثم خضب أهل مكة بالسواد. وقال ابن إسحاق: كان عبد المطلب من سادات قريش جسيمًا وسيمًا محافظًا على العهود والأمانات، متخلِّقًا بمكارم الأخلاق، يحب المساكين، ويعظم الظلم، ويقمع الظالمين، ويقوم بالحجيج، ويُطعم في الأزمان، ويكثر الصدقة والطواف، إذا أهلَّ رمضان دخل غار حراء يتعبد فيه طول الشهر، ورأى رجلًا يضرب رجلًا وليس له ناصر، فقال: يوشك أن يكون لنا دار أخرى، وقال: إن كان للقطيع راعٍ، فسيقتصُّ للجَمَّاءِ من القَرْناء، وإن لم يكن فالمصيبة بفقده أعظم. وكان يطعم حتَّى الوحوش ¬

_ (¬1) في (خ): شبيب، وفي (ك): شيب، والمثبت من "الطبقات الكبرى" 1/ 67 - 68.

ذكر وفاة عبد المطلب

والطيور في رؤوس الجبال، وفيه يقول أبو طالب: [من الطويل] ونطعمُ حتَّى يأكل الطيرُ فَضْلَنا ... إذا جُعِلت أيدي المُفيضين تُرْعِد ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحد الله، وسن سننًا كثيرة نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، فمنها: الوفاء بالنذر، ومئة من الإبل في الدية، ولا تنكح ذات محرم، ولا تؤتَى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر والزنا والحد عليه، ولم يشرب الخمر، وسن أن لا يطوف بالبيت عُرْيان، ولا ينفقون في الحج إلا من طَيِّب أموالهم، وإضافة الضيف، وتعظيم الأشهر الحرم إلى غير ذلك (¬1). ودخل دَغْفَل النَّسابةُ على معاوية بن أبي سفيان، وكان من المُعَمَّرِين، فقال له: من رأيت من عِلْيَة قريش؟ فقال: عبد المطلب وأمية بن عبد شمس، فقال: صفهما، فقال: كان عبد المطلب أبيض بضًّا مديد القامة، حسن الوجه، شديد العارضة، في جبينه نور النبوة، وعِزُّ المُلْك، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أُسْدُ غاب، قال: فَصِف لي أميَّة؟ فقال: رأيته شيخًا قصيرًا أعمى، نحيف الجسم، يقوده عبده ذكوان، فقال معاوية: مَهْ، ذلك ابنه عمرو؟ فقال دَغْفَل: هذا شيء أحدثتموه أنتم، فأما الَّذي رأيت أنا فقد أخبرتك. ذكر وفاة عبد المطلب: توفي في السنة الثامنة من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -. سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتذكر يوم وفاته؟ قال: "نعم، كانَ ذَلكَ وأَنا ابنُ ثمانِ سِنينَ" (¬2). وقال مَخرَمة بن نوفل الزهري: توفي عبد المطلب وقد قاربتُ عشرين سنة، وإن أمي رُقَيقَةُ بنت أبي صيفي لتقول لي: شق ثوبك على خالك، فمن تستبقيه بعده. ونظرت إلى نساء بني عبد مناف قد جززن شعورهن (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ اليعقوبي" 2/ 10. (¬2) أخرجه أبو نعيم في "دلائل النبوة" 1/ 51، وانظر "الطبقات الكبرى" 1/ 97. (¬3) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 96.

ذكر أولاده

واختلفوا في سنه على أقوال: أحدها: أنَّه عاش ثمانين سنة (¬1)، والثاني: مئة وعشر سنين وعشرة أشهر. والثالث: مئة وعشرين سنة. ودفن بالحجون عند جده قصي. وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُبعَثُ جدِّي عبدُ المطَّلب في زيِّ الملوكِ وأُبَّهةِ الأشرافِ" (¬2). ذكر أولاده: كان لعبد المطلب ثلاثة عشر ذكرًا، وقيل: هم اثنا عشر، وقيل: أحد عشر، وقيل: عشرة، وست بنات. فالذكور: الحارث كان أكبر ولده، وبه كان يُكْنى، توفي في حياة أبيه في السنة التي نحر فيها أبوه الإبل عن عبد الله، وأمه صفية بنت جُنْدَب بن عامر بن صَعْصَعة، ولم يدرك الإسلام، وأسلم من أولاده نوفل، وربيعة، وأبو سفيان، وعبد الله. وقُثَم بن عبد المطلب شقيق الحارث، مات صغيرًا في حياة أبيه قبل مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين، فَوَجِدَ عليه أبوه وَجْدًا شديدًا، فلما ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماه عبد المطلب قُثَمًا لحبه لِقُثَمٍ، فأخبرته آمنة أنَّه قيل لها: سميه محمدًا، فسماه محمدًا. والزبيرُ بن عبد المطلب، كان شقيق عبد الله والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أشد قريش شكيمةً، ورئيس بني هاشم وبني المطلب في حروب الفجار وغيرها شريفًا شاعرًا، وأوصى إليه عبد المطلب ولم يدرك الإسلام، وكان له من الولد: عبد الله، أسلم وصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاهد في سبيل الله، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه ويقول: ابن عمي وحِبِّي. واستشهد بأجنادين. وحَجْل بن الزبير (¬3)، واسمه: المغيرة، دَرَج، ¬

_ (¬1) في "الطبقات الكبرى" 1/ 97، و"المنتظم" 2/ 282: اثنتين وثمانين. (¬2) ذكره اليعقوبي في تاريخه 2/ 14. (¬3) هكذا جاء عندنا في النسخ، وهو كذلك عند الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" 2/ 807، وابن ماكولا في "الإكمال" 2/ 50، وابن حجر في "التبصير" 1/ 244، و "نزهة الألباب" 1/ 196، ولم يرد عند ابن =

وضُباعة، ومُرَّة، وقُرَّة، وأم الحكم، وصَفية، وعاتكة. وحمزةُ بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، أمه: هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زُهرة أخت آمنة أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والعباسُ بن عبد المطلب: كنيته: أبو الفضل، وأمه، نُتَيْلُةُ بنت جَنَاب الكلبية. وأما أبو طالب بن عبد المطلب فاسمه: عبد مناف وهو شقيق عبد الله بن عبد المطلب. وأما أبو لهب فاسمه عبد العزى، وكنيته أبو لهب لجمال وجهه، أمه: لبنى بنت هاجر من عبد مناف بن ضاطِر خزاعية، مات عقيب يوم بدر بيسير. وكان له من الولد: عتبة، وبه كان يكنى، ومعتِّب أسلم هو وعتبة يوم الفتح، فسرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهما، ودعا لهما، ومشيا إلى جانبه وهو بينهما، وقال: "الحمدُ لله الَّذي أَيَّدني بِكُما" (¬1). وشهدا الطائف وحنينًا مسلمين، وفُقئت عين معتِّب يومئذ، وأقاما بمكة مسلمين، وعُتيبة أكله السبع بالشام كافرًا (¬2) في سنة اثنتي عشرة من النبوة. ومن أولاد عتبة: العباس بن الفضل بن عتبة الشاعر، وكان لمعتِّب ابنٌ اسمه: مسلم، يُشَبَّه برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد معه وقعة حنين. ودُرَّةُ بنت أبي لهب، وغرة بنت أبي لهب، وخالدة بنت أبي لهب. وحَجْل، وكان ابن عبد المطلب، واسمه: المغيرة وهو شقيق حمزة - صلى الله عليه وسلم - يُكْنى ¬

_ = الكلبي في "جمهرة الأنساب" 1/ 16، ومصعب في "نسب قريش" ص 17، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 103 إلا حجل بن عبد المطلب، واسمه المغيرة. ولكن ذكر صاحب كتاب "الإيناس بعلم الأنساب" أن للزبير ولدًا اسمه حجل فقال: ومن قول الزبير: تذكرتُ ما شفني إنما ... يهيج ما شفه الذاكر ويمنعه النوم حتَّى يقال ... به سقم باطن ظاهر فلو أن حجلًا وأعمامه ... شهود وقرة والطاهر حجل وقرة والطاهر، بنو الزبير، وقد كان له أخ يقال له: حجل أيضًا. اهـ. والله أعلم. (¬1) لم نقف عليه في حق عتبة ومعتِّب، وإنما هو في حق أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما-، كما أخرجه الحاكم 3/ 74، وضعفه الذهبي في "التخليص" والحافظ في "الإصابة" 4/ 5. (¬2) انظر "نسب قريش" ص 89.

أبا قُرَّةَ، وكان حَجْلٌ أصغر من المقوِّمِ بسنة فاستكمل عمره. وضِرار بن عبد المطلب شقيق العباس، وكنيته: أبو عمرو (¬1)، وكان من فتيان قريش، وكان أسنَّ من العباس بسبع سنين، ومات ضرار في أيامِ أُوْحِيَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان شاعرًا، ولم يتزوج ولم يولد له. والمُقَوِّم بن عبد المطلب شقيق حمزة - رضي الله عنه -، وكنيته: أبو بكر، مات عبد المطلب وهو ابن خمس عشرة سنة. ومات المقوِّم قبل المبعث بثلاث سنين، وقيل: بست سنين، وكان له بنات: هند، وأروى، وأم عمرو (¬2)، وفاختة. والغَيْداق بن عبد المطلب، واسمه: مصعب، وقيل: نوفل، وكان أجود قريش، وأمه: ممنّعة (¬3) بنت عمرو بن مالك الخزاعي، وأخوه لأمه: عوف بن عبد عوف الزهري والد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -. وأم حكيم وهي البيضاء وقُبَّة الدِّيباج (¬4)، كانت في الجاهلية عند كُرَيز بن ربيعة بن حبيب (¬5) بن عبد شمس، فولدت له: عامرًا، وطلحة، وأم طلحة، وأروى. فتزوج أروى عَفَّانُ بن أبي العاص بن أمية، فولدت له: عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -، ثم خلف عليها عُقبة بن أبي مُعَيْط، فولدت له: الوليد بن عقبة وخالدًا وأمَّ كلثوم، ولم تُسلم أم حكيم، وكانت توأمة عبد الله، ووُلدا في بطن واحد، أَمَّ عبد الله أولًا، ثم ولدت بعده، وعاشت ابنتُها أروى أم عثمان - رضي الله عنه - إلى خلافة ابنها، وتوفيت فصلى عليها، ثم انصرف عن قبرها وهو يقول: اللهمَّ اغفر لأمي. ماتت أم حكيم بعد المبعث ولها سبعون سنة، وهي القائلة: إني لحَصَانٌ فما أُكَلَّم، وصَناعٌ فما أُعَلَّم (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ): "أبو عمر". (¬2) في (خ): "أم عمر". (¬3) في (ك): "ممتعه"، والمثبت من (خ)، و"الطبقات الكبرى" 1/ 74، و"أنساب الأشراف" 1/ 103. (¬4) انظر "الكامل" للمبرد 2/ 916، ونسب قريش 17، وطبقات ابن سعد 1/ 73 و 10/ 45، وأنساب الأشراف 100، والمعارف 118، والتبيين 173. (¬5) في النسخ: "جندب"، والصواب ما أثبتناه" انظر "نسب قريش" ص 79 و 147، و"أنساب الأشراف" 1/ 100. (¬6) انظر "تاريخ دمشق" 39/ 7.

السنة التاسعة من مولده - صلى الله عليه وسلم -

وبرَّةُ بنت عبد المطلب: كانت عند عبد الأَسد بن هلال المخزومي، فولدت له أَبا سلَمة، وبَرَّةُ شقيقةُ عبد الله. وعاتكةُ بنت عبد المطلب شقيقة عبد الله، وكانت عند أَبي أُمية بن المغيرة المخزومي، فولدت له عبد الله، أسلم وله صُحبةٌ، وزهيرًا وقريبة. وعاتكةُ هذه هي صاحبةُ المنام قُبيل يوم بدر، واختلف في إسلامها. وصفية بنت عبد المطلب - رضي الله عنهما -، شقيقة حمزة - رضي الله عنه -، أَسلمت وهاجرت وهي أمُّ الزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه -، وروَت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأروى بنت عبد المطلب، اختلف في إسلامها. وأُمَيمةَ بنت عبد المطلب كانت عند جحش بن رِئاب حليفِ بني أُميَّةَ، فولدت له عبد الله وأَبا أحمد، وعبيد الله وزينب وحَمنة (¬1). فأما عبد الله فَقُتِل يوم أُحدٍ شهيدًا، وشهد بَدْرًا، وأما أبو أحمد فكان شاعرًا وكان أعمى، واسمه: عَبْد، وأما عبيد الله فأسلم ثم تنصَّر بالحبشة، فمات كافرًا. وأما زينب فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما حَمْنَةُ فَحَدَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قذف عائشة - رضي الله عنها -. * * * السنة التاسعة من مولده - صلى الله عليه وسلم - وفيها خرج أبو طالب إلى الشام في تجارة، وأوصى أولادَه برسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما وصل إلى بُصرى نظر في أمر اليهود فخاف عليه منهم، فرجع إلى مكة (¬2). * * * ¬

_ (¬1) وزاد في "نسب قريش" ص 19: حبيبة بنت جحش. (¬2) كذا، وفي المنتظم 2/ 289 أن أبا طالب خرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بصرى وهو ابن تسع ولم أقف على من أورد سياق المصنف.

السنة العاشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -

السنة العاشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم - وفيها كانت الفجارات، وكانت الدائرة فيها لقريش على قيس، وإنما سميت هذه الحروب فِجارًا، لأنها كانت في الأشهر الحرم. قال أبو عبيدة: لأنهم فجروا فيها فاستباحوا الأموال والنفوس. قال خداش بن زهير: [من الطويل] فلا تُوعِدُوني بالفِجَار فإنَّه ... أَحَلَّ ببَطْحاء الحجازِ المحارِما وقال هشام بن محمد: كان الفجار الأول: بين كنانة وهوازن، والثاني: بين قريش وكنانة، والثالث: بين نصر بن معاوية وبين كنانة، والرابع: بين قريش وهوازن. الفجار الأول: وسببه أن بدر بن معشر الكناني كان منيعًا، ورد سوق عُكاظ، وكان له مجلس يجلس فيه ويفتخر، ويشمخ على الناس ويقول: [من الرجز] نحن بنو مُدرِكةَ بن خِنْدِفِ مَنْ يطْعَنوا في عَيْنِه لم يطرفِ ومن يكونوا قومَه يُغَطْرفِ كأنَّهم لُجَّةُ بَحْرٍ مُسْدِفِ (¬1) وكان يمد رجله وكان [يقول: أنا] (¬2) أعزُّ العَربِ، فمن ادَّعى أنَّه أعز مني فليضربها، فوثب عليه رجل من هوازن -وقيل: من بني نصر بن معاوية- يقال له: الأُحيمر بن مازن، فضربه بالسيف على ركبته، فجرحه جرحًا يسيرًا -وقيل: إنه أَنْدَرَها، والأول أصح- ثم قال: خذها إليك أيها المُخَنْدِف نحن بنو دهمان ذو التَّغَطْرُف نحنُ ضربْنَا ركبَةَ المعجْرِفِ إذ مدَّها في أَشْهُرِ المعرَّفِ (¬3) ¬

_ (¬1) مسدف: مظلم. (¬2) ما بين معقوفتين زيادة من "العقد الفريد" 5/ 251. (¬3) جعله ابن الجوزي في "المنتظم" 2/ 290 من كلام رجل آخر من هوازن.

ونشبت الحربُ، ثم نظروا فإذا الخطب يسير فكفوا. الفجار الثاني: اجتمع شباب من كِنانة في سوق عُكاظ، وفيه امرأة من بني عامر وَسيمةٌ جَسيمة، جالسة وعليها دِرْعُها، فسألوها أن تُسْفِرَ عن وَجْهِها فأبت، فجاء أحدهم من خلفها فحل طرف درعها ولشده إلى ما فوق عَجُزِها بشوكة، فلما قامت ارتفع درعها، فبدت عورتها فضحكوا، وقالوا: منعتينا النظر إلى وجهك، وَجُدْتِ لنا بالنظر إلى دُبْرِك. فنادت: يا آل عامر، فأجابوها. ونادى الشباب: يا آل كِنانة. وتثاوَر الحيَّانِ واقتتلوا، ووقعت بينهم دماءٌ كثيرة، فتوسطها حرب بن أمية، وأرضى بني عامر من مُثْلَةِ صاحبتهم. الفجار الثالث: وسببه أن رجلًا من بني كِنانة كان له على رجل من بني نَصْر بن معاوية دَين، فوافى النَّصْري الكناني، فطالبه به وذكر قومَه بسوء، وسمعه رجل من بني كنانة، فقام إليه فضربه فقتله، وثار الحيان واقتتلوا، ثم حمل الدين عبد الله بن جُدْعان من ماله واتَّفقوا. الفجار الرابع: وكان أَعظَمَها، وكان الَّذي أهاجه: أنَّ النعمان بن المنذر اللخمي ملكُ الحيرة كان يبعث (¬1) في كل سنة إلى سوق عكاظ بِلَطيمة -وهي التي تحمل الطيب وَبَزَّ التجار- في جوار رجل شريف من أشراف العرب يُجيرها له، فتباع ويشترى له بها من أَدَم الطائف، وما يحتاج إليه، وكانت سوق عكاظ تقوم في كل يوم من ذي القعدة إلى انسلاخ المحرم، وقيل: أول يوم من ذي الحِجة، يتسوَّقون بحضور الحج، ثم يحجون وينفصلون، وعكاظ بين نخلة والطائف، وكانوا إذا اجتمعوا أَمِن بعضهم بعضًا. فلما جهز النعمان اللطيمة وعنده جماعة من العرب فيهم: البَرَّاضُ بن قيس أحد بني بكر بن عبد مناف بن كنانة، والرَّحَّال، وهو عروة [بن عتبة] بن جعفر بن كلاب، فقال البَرَّاض: أجيرها على بني كنانة؟ فقال النعمان: ما أريد إلا من يجيرها على أهل نجد وتِهامة، فقال الرَّحَّال -وهو يومئذ رجل من بني هوازن (¬2): أنا أجيرها لك. فقال ¬

_ (¬1) في النسخ: "يُبعث إليه" والمثبت من العقد 5/ 253 وما سبق فيه، وما سيرد بين معكوفين منه. (¬2) في النسخ: "كنانة" والمثبت من العقد الفريد.

البَرَّاض: أَعَلى بني كنانة تُجيرها؟ قال عروة: نعم، وعلى أهل الشِّيح والقَيْصوم. ونال من البَرَّاض، وقال: أجيرها على الناس كلهم، فدفعها إليه النعمان وخرج بها الرَّحَّال، وتبعه البَرَّاض والرَّحَّال لا يخشى منه ولا مِن غيره شيئًا، فسار حتَّى نزل جانب فَدَك بأرض يقال لها: أُوَارة (¬1)، فشرب الخمر وغنَّته القَينات وسَكِر، فنام، وجاءه البَرَّاض فاستيقظ فحمل عليه، فقال الرَّحَّال: ناشدتك الله لا تقتلني فقد كانت منِّي زلَّة وهفوة، فلم يلتفت إليه وقتله، واستاق اللَّطيمة نحو خيبر وقال: [من الرجز] قَدْ كانَتِ الغَفْلةُ منِّي ضَلَّه هلَّا على غيري جَعَلْتَ الزَّلَّه فسوفَ أعلو بالحسام القُلَّه وتبعه المُساور بن مالك الغَطَفاني وأسد بن خُثَيْم الغَنَوي، ولم يعلم بهما البَرَّاض حتَّى دخل خيبر فرآهما، فقال: من أنتما؟ فانتسبا له، فقال: وما شأنكما بهذه الأرض التي ليست لكما بأرض؟ قالا: ومن أنت؟ قال: أنا من أهل خيبر. قالا: هل لك عِلْمٌ بالبَرَّاض؟ قال: نعم، دخل علينا طريدًا، فلم يأوه أَحدٌ منا، قالا: فدُلَّنا عليه. فقال: هو نائم خلف هذا الجدار، فنزلا وعقلا راحلتيهما، ودخلا فدخل وراءهما فقتلهما وأخذ راحلتيهما وسلاحهما، ثم إن البَرَّاض لقي بشر بن أبي خازم الأَسَدي الشاعر فأخبره الخبر، وقال: أخبر عبد الله بن جُدعان وقريشًا، ومُرْهم يوافوا سوق عكاظ، وخبر قيس بن عيلان خبر البَرَّاض، وما فعل الرَّحَّال، فثاروا وأجمعوا، وعليهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر، ودريد بن الصِّمة، ومسعود بن مغيث الثقفي أبو عروة، وكانت رايتهم بيد أبي براء، وهو المقدَّمُ عليهم، وخرجت قريش وعليهم عبد الله بن جُدْعان، وهشام بن المغيرة، وحرب بن أمية، وعتبة بن ربيعة، وانضافت إليهم كِنانة، وأسد، وخزيمة، والأحابيش، والقارة، وعُضَل، وعلى الجميع عبد الله بن جُدْعان، ولما اجتمعوا طلبوا قريشًا، فدخلوا الحرم ونادى حرب بن أمية -وقيل: رجل من بني عامر يقال له: الأدرم بن شعيب-: يا معاشر قريش، موعدكم هذا المكان من قابل، ¬

_ (¬1) في النسخ: "امرى"؟ !

السنة الثانية عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -

فقال خداش بن زهير: [من البسيط] يا شدَّةً ما شدَدْنا غيرَ كاذبةٍ ... على سَخينةَ لولا اللَّيلُ والحَرَمُ لمَّا رأوْا خيلنا تُزْجي أَعِنَّتَها ... آسادُ غِيلٍ حَمى أشبالها الأَجَمُ وأقامت قريش تتأهب سنةً حتَّى التقوا في العام القابل، وقيل: التقوا في هذا العام، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وكانت الدائرة في أول النهار على قريش فقتلتهم قيس قتلًا ذريعًا، ثم كانت الدائرة في آخر النهار على قيس فقتلت منهم قريش مقتلة عظيمة، وحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر النهار مع عمومته، ورمى فيه بسْهُم وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كُنْتُ أُنَبِّل فيه لأَعْمامي -أي: أُناولُهم النَّبْلَ- وما أُحبُّ أنِّي لم أَحْضُر". ولما حجز بينهم الليل، باتوا على راياتهم، فلما أصبحوا نادى عُتبة بن ربيعة -وهو يومئذ شابٌّ لم يبلغ ثلاثين سنة-: الصُّلْح أَصْلَح. فأجابوا وعدوا القَتلَى، ووَدَتْ قريشٌ قتلى قيس، ووضعت الحرب أوزارها. وقال أبو عبيدة: أَبت بنو كلاب أن تقتل البَرَّاض بالرَّحَّال، لأنَّ البَرَّاض كان خليعًا في كنانة، وكان الرَّحَّال سيد هوازن، فأرادوا أن يقتلوا به سيدًا من قريش (¬1). وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عشر سنين، وقيل: أربع عشرة سنة، وقيل: عشرون سنة، والأول أصح. * * * السنة الثانية عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم - فيها سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلامًا من فوق رأسه (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "السيرة" لابن هشام 1/ 168، و"الطبقات الكبرى" 1/ 104، و"الكامل" 1/ 589، و"المنتظم" 2/ 296. (¬2) انظر "المنتظم" 2/ 291.

السنة الثالثة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -

السنة الثالثة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم - فيها خرج أبو طالب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل: عشرون سنة، والأول أصح، فنزل الركبُ ببُصرى، وبها راهب يقال له: بَحِيرَى في صومعة له، وكان ذا علم بالنصرانية، [ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب فيها -فيما يزعمون- يتوارثونه كابرًا عن كابر] (¬1)، وكان كثيرًا ما يمرُّ به الركب فلا يُكلِّمُهم حتَّى إذا كان في ذلك العام نزلوا مَنْزِلًا قريبًا من الصومعة كانوا ينزلونه، فصنع لهم طعامًا ودعاهم إليه، وإنما حمله على ذلك، أنهم حين طلعوا رأى غمامة تُظِلُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون القوم، ولمَّا نزلوا نزلوا تحت ظلِّ شجرة، فنظر إلى الغمامةِ قد أظلت تلك الشجرةَ فاخضلَّت أغصانها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون القوم، ولما رأى ذلك بَحِيرى نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام، فحضر وأرسل إلى القوم يقول: يا معاشر قريش، أحب أن تحضروا طعامي ولا يتخلف منكم صغير ولا كبير، ولا حُرٌّ ولا عبد، فإن هذا شيء تكرموني به. فقال رجل منهم: إن لك لشأنًا يا بَحِيرى، ما كنت تصنع بنا قبل هذا اليوم مثل هذا؟ فقال: إني أحب أن أكرمكم فلكم حق، فاجتمعوا، وتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين القوم لِصِغَرِ سنِّه، فنظر بَحِيرى إلى الغمامة فلم يرها على رأس أحد من القوم وهي على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ألم أقل لا يتخلَّفَنَّ أحد عن طعامي؟ فقالوا: ما تخلف أحد إلا غلام صغير وهو أوسطنا نسبًا، وهو ابن أخي هذا الرجل -يعنون أبا طالب-، فقال أبو طالب (¬2): والله إنه لَلُؤمٌ أن يتخلف عنا محمد. فقام الحارث فاحتضنه وأقبل به حتَّى أجلسه بين القوم، والغمامة على رأسه وبَحِيرى يلاحظه لحظًا شديدًا، وينظر إلى جسده فيجد ما يجد عنده من الصفة، فلما تفرقوا قام إليه الراهب، فقال: يا غلام، أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضتُ شيئًا كبِغْضَتي لها، قال: فبالله أخبرني؟ قال: سلني؟ فسأله عن أشياء حتَّى عن نومه والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره، فوافق ما عنده. فكشف عن ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، فقبَّله. وجعلت قريش ¬

_ (¬1) جاء في النسخ: "وكان ذا علم بالنصرانية صاغرًا عن كابر، وفيها كتب يدرسونها" والمثبت من "سيرة ابن هشام" 1/ 165، والمنتظم 2/ 292، وانظر طبقات ابن سعد 1/ 128. (¬2) في "سيرة ابن هشام" أن القائل رجل من قريش، وعند ابن سعد أنَّه: الحارث بن عبد المطلب.

السنة الرابعة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -

تقول: إن لمحمدًا عند هذا الراهب قَدْرًا، وجعل أبو طالب يخاف عليه من الراهب، فقال بَحِيرَى لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال: ما هو ابنك، وما ينبغي أن يكون أبوه حيًّا، قال: فإنه ابن أخي، قال: ما فعل أبوه؟ قال: هلك وأمه حامل به، قال: فما فعلت أمه؟ قال: هلكت قريبًا، قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه من اليهود. والله لئن عرفوا منه ما أَعرفُ ليَبْغُنَّه عَنَتًا (¬1)، وإنه كائن لابن أَخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا، ونرويه عن أكابرنا. فلما فرغوا من التجارة عاد به أبو طالبٍ سريعًا إلى مكة. وكانت رجال من اليهودِ قد رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعرفوا صفته في التوراةِ فأرادوا أَن يغتالوه، فذكروا ذلك لبَحِيرى فنهاهم عنه أَشدَّ النَّهي وقال: قد وجدتم صِفَتَه في التوراة، وأنه كائن لا محالةَ فلا سبيل لكم عليه، فتركوه، فما خرج به بعدها في سَفَرٍ خَوفًا عليه (¬2). * * * السنة الرابعة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم - فيها تحرّكت قيس لحربِ قريش، فخرج إليها عبد الله بن جُدعان وشِيخان قريش، فذكَّروهم الله فرجعوا (¬3). * * * السنة الخامسة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم - فيها رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى قُس بن ساعدة الإيادي في سوقِ عكاظ. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قدم وَفْدُ عبد قيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: "ما فَعَل قُسٌّ"؟ قالوا: هلك. قال: "ما أَنْسَاه على جملٍ أَوْرقَ يَخطُبُ بسوقِ عُكاظٍ ويَقُول: أيُّها ¬

_ (¬1) في (خ): "والله لئن عرفوا منه ما أعرف لتبعته حيث كان وقتلوه". (¬2) انظر "سيرة" ابن هشام 1/ 165، و"الطبقات الكبرى" 1/ 128، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 26، و"المنتظم" 2/ 292. (¬3) هو حرب الفجار الأخير وقد تقدم ذكره قريبًا، انظر "المنتظم" 2/ 296.

السنة السادسة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -

النَّاسُ، اجتَمِعوا واسْتَمِعوا وَعُوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكلُّ ما هو آتٍ آت، إنَّ في السماءِ لخبرا، وإنَّ في الأرضِ لعِبَرا، مهادٌ موضوعٌ، وسَقْفٌ مَرفوعٌ، ونجومٌ تَمورُ، وبحارٌ لا تَغُورُ، أَقسم قُسٌّ قسمًا حقًّا أن لله تعالى دينًا هو أَحبُّ إليه من دينكم الَّذي أَنتم عليه، مالي أرى النَّاس يذهبونَ فلا يَرجعونَ، أَرَضُوا فأقاموا، أَم تُرِكوا فنامُوا؟ " ثم قال: "أيكم يَروي شعرَه؟ "، فأنشدوه: [من مجزوء الكامل] في الذَّاهبين الأولينَ ... من القرونِ لنا بصائرْ لما رأيتُ مواردًا ... للموتِ ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابرُ والأصاغِر لا يرجع الماضي إليَّ ... ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محالةَ ... حيث صار القوم صائر (¬1) * * * السنة السادسة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم - شَعَّثَت الملوك على هُرْمز بن أَنُو شروان واتفقوا على قصده (¬2). * * * السنة السابعة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم - فيها وصل ملك الترك ويقال له: شابةُ إلى هَراة في أربع مئة ألف فارس يريد المدائن لقتال هُرْمُز، وقصده ملك الروم في مئة ألف فارس ووصل إلى الضواحي، وقصده ملك الخزر وباب الأبواب في ست مئة ألف، وقصده من العرب رجلان: عباس الأحول، وعمرو الأزرق في جموع العرب والقبائل، ونزلا على شاطئ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12561)، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 102، وابن الجوزي في "الموضوعات" (424) وقال ابن الجوزي: وهذا الحديث من جميع جهاته باطل، قال أبو الفتح الأزدي: هو حديث موضوع لا أصل له. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 418 وقال: وفيه محمد بن الحجاج اللخمي، وهو كذاب. وانظر "اللآلي المصنوعة" 1/ 184. (¬2) انظر "المنتظم" 2/ 301.

السنة الثامنة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -

الفرات، وشنَّا الغارات على السواد، وأرسل ملك الترك يقول لهرمز: أصلِح لي القناطر والجسور لا أُغير عليك. فعزَّ على هُرْمُز ذلك، وبعث إليه بَهْرام جوبين مرزبان الري سَرِيَّةً في اثني عشر الفًا، وأقام هُرْمُز بالمدائن في سبعين ألفًا على عزم المسير لقتال [ملك] التُّرك وبنيه بأرض هراة، والتقى القوم، فرماه بَهْرام بسهم فذبحه، وانهزمت الترك، وغنم بَهْرام أموال ملك الترك وخزائنه، وأخذ ابنه أسيرًا، فبعث به إلى هُرْمُز، وبعث معه بالجواهر والأموال بحيث إنها كانت على ألف بعير، ثم وقع بين هُرْمُز وبَهْرام بسبب هذه الأموال (¬1). * * * السنة الثامنة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم - عاد أَبْرُويز إلى المدائن من عند قيصر، وكان قد خرج مستصرخًا به على بَهْرام فأنجده، فهرب بَهْرام من المدائن إلى الترك فقتل هناك. * * * السنة التاسعة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم - هلك هُرْمُز بن أَنُوشروان بعد خَلْعِه وسَمْلِه، وولي ابنه أَبْرُويز مكانه. ومعنى أَبْرُويز: المُظَفَّر (¬2). * * * السنة العشرون من مولده - صلى الله عليه وسلم - وفيها كان حلف الفُضُول، وحضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الزبير بن بكار: كان مبدأ الحِلْف في جُرْهم، نزل منهم ثلاثة رجال: فضل، وفضالة، ومفضل، فلذلك سمي حلفَ الفُضول، ثم جَدَّدَتْه قريش. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 2/ 174، والمنتظم 2/ 301 - 33، مع خلاف في سبب الخلاف بين هرمز وبهرام. (¬2) انظر "المنتظم" 2/ 303 - 304.

وقال ابن إسحاق: إنما سماه حلف الفضول الأحلاف والأحابيش (¬1)، لأنهم ما سرهم وقوعه، وقالوا: هذا فضول ما نوافق عليه. وقال الواقدي: كانت قريش تتظالم في الحرم، فقام عبد الله بن جُدعان والزبير بن عبد المطلب، فدعا كل واحد إلى التناصر والتعاون، والأخذ من الظالم للمظلوم، فأجابوهما إلى ذلك، فتحالفوا وتعاقدوا، والذي جمعهم الزبير بن عبد المطلب، ثم أكدوه في دار عبد الله بن جُدعان. وفي ذلك يقول الزبير بن عبد المطلب (¬2): حَلَفْتُ لنَعْقِدَنْ حِلْفًا عليهم ... وإنْ كنَّا جميعًا أهل دارِ وَيَعلمُ مَنْ حَوالي البَيت أنَّا ... أُباةُ الضَّيم نَهْجُر كلَّ عارِ وقال وهب: باع قيس السُّلَمي متاعًا من عمرو بن أمية بن عبد شمس بمكة فمطله، فصعد على أبي قُبيس ونادى: يال قُصيٍّ كيفَ في هذا الحَرَمْ وحُرْمةِ البَيتِ وأَحْلافِ الكَرَمْ أُظلمُ لا يُمنَعُ منِّي مَن ظَلَمْ فقام العباس وأبو سفيان بن حرب فردوا عليه ماله، وتحالفا على رد المظالم (¬3). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَد شَهِدتُ حِلْفًا في دارِ ابن جُدْعانَ، ما أُحِبُّ أَنَّ لي به حُمْر النَّعَم، ولو دُعِيتُ إلى مِثلِه لأجبتُ" (¬4). ولم يتجدد من الحوادث في السنة الحادية والعشرين من مولده - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر سنة أربع وعشرين ما يذكر. ¬

_ (¬1) جاء في "المنتظم" 2/ 310 - 311: "المطيبين"، وانظر "الاكتفاء" 1/ 89. (¬2) انظر "أخبار مكة" للفاكهي (133)، و"البداية والنهاية" 2/ 270 - 271. (¬3) انظر "أخبار مكة" للفاكهي (129)، و"تاريخ اليعقوبي" 2/ 17، و"المنتظم" 2/ 309. (¬4) أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (129) مع القصة، وأخرج الحديث أحمد في "مسنده" (1655)، والبزار في "مسنده" (1024) من حديث عبد الرحمن بن عوف.

السنة الخامسة والعشرون مولده - صلى الله عليه وسلم -

السنة الخامسة والعشرون مولده - صلى الله عليه وسلم - (¬1) قالت نَفيسةُ بنت مُنْية أخت يعلى بن مُنْية: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعشرين سنة، قال له أبو طالب: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد علينا الزمان، وهذه عِيْر قومك قد حضر خروجُها، وهذه خديجة بنت خُويلد تبعث رجالًا من قومك، فلو أتيتها فتعرضت لها، لأسرعت إليك. وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه إياه، فبعثت إليه وقالت: أنا أعطيك ضِعْفَيْ ما أعطي رجلًا من قومك، فقال له أبو طالب: هذا رزق ساقه الله إليك. فخرج مع مَيسرةَ غلامِ خديجة - رضي الله عنها - فقدما بُصرى من الشام، فنزلا في ظل شجرة هناك، فرآه نَسْطُور الراهب، فدعا مَيسرَة فقال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبيٌّ، ثم قال لمَيسرة: أفي عيني صاحبك حُمْرة؟ قال: نعم. فقال: لا تفارقه، فهو نبيٌّ، وهو آخر الأنبياء (¬2). ثم إنَّه باع ما كان معه من المتاع، فوقع بينه وبين رجل تلاحٍ في سلعة، فقال له الرجل: احْلِف باللَّات والعزى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله ما حلفتُ بهما قط، وإنِّي لأَمرُّ بِهما، فأعرض عنهما. فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: هذا والله نبيٌّ نجده في كتبنا منعوتًا. وكان ميسرة إذا اشتد الحرُّ رأى مَلكين يُظلَّان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشمس، فصار كأنه عبد له، وألقى الله عليه حبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنهم باعوا وربحوا ضِعفَيْ ما كانوا يربحونه، وعادوا إلى مكة، واتفق دخولهم إليها في وقت الهاجرة، وخديجة - رضي الله عنها - في عِلِّيةٍ لها، فرأت مَلَكَين يظلان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على بعيره، فأرته نساءها فعجبن، ودخل عليها مَيسرَة فأخبرها بما ربحوا، وحدثها بما رأى وبما قال نَسْطُور الراهب، فسرت بذلك، وأضعفت له ما كانت سَمَّته له (¬3). ¬

_ (¬1) جاء العنوان في (ح): "ذكر تزويجه - صلى الله عليه وسلم - خديجة - رضي الله عنها -". (¬2) هكذا هي العبارة في النسخ، وفي "الطبقات" 1/ 108: "أفي عينيه حمرة؟ قال: نعم لا تفارقه، قال: هو نبي، وهو آخر الأنبياء. (¬3) انظر "سيرة ابن هشام" 1/ 171، و"الطبقات الكبرى" 1/ 107 - 109، و"المنتظم" 2/ 313 - 314، و"الاكتفاء" 1/ 195، وقال الذهبي في "السيرة" 1/ 62: هو حديث منكر.

ذكر تزويجه - صلى الله عليه وسلم - بخديجة - رضي الله عنها -

ذكر تزويجه - صلى الله عليه وسلم - بخديجة - رضي الله عنها - (¬1): قالت نَفِيسَةُ بنت مُنْيَةَ: كانت خديجة بنت خُويلد بن أَسد بن عبد العزى بن قصي امرأةً حازمةً جَلْدةً شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخَير، وهي أوسطُ قريش نسبًا، وأعظمهم شَرَفًا وأكثرهم مالًا، وكل قومها حريصٌ على نكاحها لو قدروا على ذلك، وبذلوا لها الأموال، فلم تُجِب. قالت نَفِيسةُ: فأرسلتني خديجة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من الشام دسيسًا، فقلت له: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي شيء أتزوج به. قلت: فإن كفيتُكَ ذلك، ودُعِيتَ إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، أتجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ فقلت: علي. قال: فأنا أفعل ذلك، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه: أنِ ائتِ في ساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها منه فحضر، وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمومته فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة (¬2). وذكر ابن إسحاق: أنَّ حمزة - رضي الله عنه - هو الَّذي خطب خديجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمها عمرو (¬3). وذكر بعض العلماء: أن أبا طالب حضر العَقْد ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر، فخطب وقال: الحمد لله الَّذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرعِ إسماعيل، وضِئْضِئ مَعَدٍّ، وعُنصر مُضر، وجعلنا حَضَنَةَ بيته، وسُوَّاسَ حرمه، وجعل لنا بيتًا محجوجًا، وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكَّام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به، وإن كان في المال قُلّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد مَن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنتَ خُويلدٍ، وبَذَل لها من الصداق ما آجله وعاجله من ماله، وهو والله له بعد هذا نبأ عظيم، وخطب جليل. فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) جاء في (خ): "السنة الخامسة والعشرون من مولده - صلى الله عليه وسلم - ". وما أثبتنا في هذا العنوان والذي قبله من (ك)، وهو موافق لما في "المنتظم" 2/ 313، وانظر "الطبقات الكبرى" 1/ 107 - 109. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 109، و"المنتظم" 2/ 314 - 315. (¬3) "سيرة ابن هشام" 1/ 174، و"أنساب الأشراف" 1/ 111. (¬4) انظر "المنتظم" 2/ 315.

السنة الثانية والثلاثون من مولده - صلى الله عليه وسلم -

وقال ابن سعد: إن أبا طالب ذكر ثلاثين بكرة، واثنتي عشرة أوقية. ولم يتجدد من سنة ست وعشرين إلى سنة إحدى وثلاثين ما يستطرف. * * * السنة الثانية والثلاثون من مولده - صلى الله عليه وسلم - فيها قتلت الروم ملكها موريق لظلمه وفساده، وكان له ولد اسمه: موق (¬1)، فهرب إلى كسرى مستصرخًا به، فأنجده كسرى أبرويز بثلاثة من مرازبته: ريمون (¬2)، وشاهين، وفُرُّخان، فساروا في جيوش عظيمة. فأما ريمون فدوَّخ بلاد الشام، ونزل على القدس فطلب من الأساقفة صليب الصَّلَبوت، وهدَّدهم -وكانوا قد دفنوه في تابوت من ذهب في مَبْقَلة- فخافوا منه القتل (¬3)، فاستخرجوه وناولوه إليه، فبعث به إلى كسرى (¬4). وأما فُرُّخان فإنه سار حتَّى أناخ على خليج القُسْطَنْطينية، فدوّخ البلاد، وقتل وسبى، فلم يستقم لابن موريق أمر، لأن الروم ملكوا عليهم رجلًا صالحًا يقال له: هِرَقْل. فلما رأى ما الرومُ فيه، سأل الله أن ينقذهم من الفرس، فرأى في المنام رجلًا ضخمًا في عنقه سلسلة، وآخر يقوده ويقول: هذا كسرى قد دفعناه إليك. فخرج بالجيوش، فانهزم بين يديه فُرُّخان وجنود فارس، وسار حتَّى أناخ على مدائن كسرى، فحصر كسرى فيها، ودوخ البلاد فقتل وسبى، ولم يكن لكسرى به طاقة، فأقام مدة وعاد إلى الروم سالمًا غانمًا. ولم يتجدد في السنة الثالثة والرابعة والثلاثين ما نذكره. * * * ¬

_ (¬1) في "المنتظم" 2/ 317: "فوقا"، وفي الطبري 2/ 181: قوفا. (¬2) في الطبري و"المنتظم": "رميوزان". (¬3) في (خ): "فخافوا على أنفسهم منه". (¬4) وجاء بعدها في "المنتظم": وأما القائد الآخر، وكان يقال له: شاهين، فسار حتَّى احتوى على مصر والإسكندرية وبلاد النوبة، وبعث إلى كسرى بمفاتح مدينة الإسكندرية.

السنة الخامسة والثلاثون من مولده - صلى الله عليه وسلم -

السنة الخامسة والثلاثون من مولده - صلى الله عليه وسلم - فيها هدمت قريش الكعبة. قال علماء السير: كان أمر البيت بعد إسماعيل - صلى الله عليه وسلم - إلى ولده نَبْت، ولم يكثر ولد إسماعيل عليه السلام فغلبت جُرْهُم على البيت، فأول من وليه منهم: مُضاض الجرهمي الَّذي يقول ولد ولده عمرو بن الحارث بن مُضاض: [من الطويل] كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصفا البيت المشهور، فلم يزل البيت في أيديهم حتَّى استحلُّوا حرمته، وأكلوا ما يُهْدى إليه، وظلموا من دخل مكة، ولم يقنعوا بهذا حتَّى إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يزني ولم يجد مكانًا، دخل البيت فزنى فيه، وكان رجل من جُرهم يقال له: إسافٌ، ونائلةُ زنيا في الكعبة، فَمُسِخا حجرين، وسلط الله الرُّعاف والنمل على جُرهم فأفناهم. ثم وليت خُزاعة البيت بعد جُرهم، إلا أنَّه كان إلى قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالناس من عرفة يوم الحج إلى مزدلفة تجيزهم صوفة (¬1). والثانية: الإفاضة من جَمْع غَداة يوم النحر إلى منى، وكان ذلك إلى [بني] (¬2) زيد بن عَدْوان وكان آخر مَن وَلي ذلك منهم: أبو سَيَّارة، واسمه: عُمَيلة (¬3) بن الأعزل. والثالثة: نَسيءُ الأشهر الحرم، وكان ذلك إلى القَلَمَّسِ واسمه: حُذَيفة بن فُقيم من ولد كنانة، ثم صار ذلك إلى أبي ثمامة جُنادة بن عوف في آخر الأمر. وجاء الإسلام، وكانت الكعبة رَضَمةً فوق القامة، وكان كنز الكعبة في بئر في جوفها، وكان في حيطانها صور الأنبياء - عليهم السلام - بأنواع الأصباغ، وصورة إبراهيم - عليه السلام - وفي يده الأزلام يستقسم بها (¬4)، وإسماعيل - عليه السلام - إلى جانبه فرس يجيز الناس، وصورة أولاده إلى عدنان وسيرة كل واحد، وكانت ستين صورة، فَسَرق كَنْزَ الكعبة دُوَيكٌ مولى ¬

_ (¬1) الصوفة: كل من ولي شيئًا من عمل البيت. (¬2) ما بين معكوفين من تاريخ الطبري 2/ 286، والمنتظم 2/ 323. (¬3) في النسخ: "عمير" والمثبت من المصادر، وانظر "الإصابة" 4/ 97 - 98. (¬4) أخرج البخاري (3352) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قط".

بني مُلَيحٍ، فقطعت قريش يده، ولم تكن الكعبة مُسقَّفة، فعزموا على تسقيفها، وكان فيها حَيَّةٌ تأوي إلى البئر التي يُطرح فيها ما يُهدى إلى الكعبة، وكانت تخرج من البئر فتمتد على جدار الكعبة، فإذا قصدها أحد فتحت فاها وطلبته فانهزم، فامتنعوا من رفع جدار الكعبة وتسقيفها، فبعث الله طائرًا فاختطف الحية ومضى، فقالت قريش: إن الله قد رضي عنا وقَبِلَ ما قد عزمنا عليه لأنه كفانا أمر الحية (¬1). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان السيل يأتي مكة فيدخل الكعبة فانصدعت، فخافوا أن تنهدم، وكان باب البيت موضوعًا لاصقًا بالأرض، فأقبلت سفينة في البحر فيها روم، ورأسهم رجل يقال له: باقوم، فألقتها الريح إلى الشُّعيبة، وكانت مرمى السفن قَبْلَ جُدَّة فتحطمت، فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش فابتاعوا خشبها، وكلموا باقومَ أن يَقْدُمَ مكة معهم فقدم، وقال: هذه السفينة بعث بها قيصر إلى الحبشة في بحر القُلزُمِ ليبنيَ بها هناك كنيسة (¬2). وأجمعوا على هدم الكعبة، فقام أبو وهب بن عَمْرو المخزومي فأخذ حجرًا من الكعبة، فوثب من يده حتَّى رجع إلى مكانه فقال: يا معشر قريش، لا تُدْخِلوا في بنائها من كسبكم إلا طَيِّبًا، ولا يكون فيه مهر بَغْيٍّ ولا ربا ولا مظلمة. وهاب الناس هدمها، فأخذ الوليد بن المغيرة المِعْوَل، وصعد عليها وقال: اللهمَّ لم تُرَعْ (¬3) فَما نُريدُ إلَّا الخَيرَ، ثم هدم ناحية منها فتربَّص الناس وقالوا: ننتظر هذه الليلة فإن نزل بالوليد أمر وإلا هدمناها، فأصبح الوليد غاديًا إليها وقريش معه، فنزعوا منها حجرًا فتحركت مكة بأسرها، ثم هدموا فظهر في الأساس حجار خضر، كأنَّهما أسْنِمة البُخْت، ثم شرعوا في جمع الحجارة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم، وكانوا يرفعون أُزُرَهم على عواتقهم ويحملون الحجارة على رؤوسهم، ففعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليط ¬

_ (¬1) انظر "سيرة ابن هشام" 1/ 178 - 179. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 120، و"أخبار مكة" للفاكهي (199)، و"أخبار مكة" للأزرقي 1/ 157، و"المنتظم" 2/ 325. (¬3) ترع: بمثناة فوقية فراء مفتوحة، أي: لم تفزع، أي: الكعبة. ويروى: "نَزغ" بفتح النون وكسر الزاي وبالغين المعجمة أي: لم نمل عن دينك ولا خرجنا عنه. "السيرة الشامية" 2/ 235.

به -أي: انكب على وجهه-، ونودي: عورتَك، فكان ذلك أَوَّلَ ما نودي به من النبوة، فقال له أبو طالب: اجعل إزارك على رأسك. فقال: ما أصابني ما أصابني إلا في تعرِّيَّ. فما رُئيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عورة، ثم اقترعوا على بناء البيت بعد هدمه، فوقع لبني عبد مناف وبني زهرة ما بين الركن الأسود إلى ركن الحجر، وجه البيت، ووقع لبني أسد بن عبد العُزى وبني عبد الدار ما بين ركن الحِجْر إلى ركن الحِجْر الآخر، ووقع لبني تيم [ومخزوم] (¬1) ما بين ركن الحِجْر إلى الركن اليماني. ووقع لبني سَهْم وبني جُمَح ما بين الركن اليماني إلى الحجر الأسود. فلما بلغوا موضع الركن، اختصمت القبائل كل قبيلة تريد أن ترفعه، وشرعوا في القتال وأقاموا أيامًا على ذلك، وكان أبو أمية بن المغيرة أسنَّ قريش يومئذ فقال: اجعلوا بينكم أوَّلَ داخل من باب المسجد، فرضوا. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أول داخل، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا به، فقال لهم: هلموا ثوبًا، فجاؤوا به فوضعوا [الركن] فيه، وقال: ليأخذ كلُّ سَيِّدِ قبيلة بناحية منه فليرفعوه جميعًا، ففعلوا حتَّى إذا بلغوا به موضعه أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه مكانه. وقال الواقدي: كان في ربع بني عبد مناف: عتبة بن ربيعة، وفي الربع الثاني: أبو زمعة، وفي الثالث: أبو حذيفة بن المغيرة، وفي الرابع: قيس بن عدي، فلما بلغوا خمسة عشر ذراعًا، سقفوه على ستة أعمدة، فذهب رجل من أهل نجد ليناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجرًا يشد به الركن، فقال: لا (¬2) ونحّاه. وناول العباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجرًا فشد به الركن، فغضب النجدي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَه ليسَ يبني مَعَنا في هذا البيت إلا رجل منَّا". وكان ذلك أول تحكيمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النجدي: قد حكموا أصغرهم سنًّا، واللات والعزى ليكونن له شأن وليفوتنهم سبقًا. وقيل: إن النجدي كان إبليس تصوّر بصورة رجل من أهل نجد، وبه يُضرب المثل، فيقال: الشيخ النجدي، وأخرجوا الحِجْر من البيت لقلة نفقتهم (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين معقوفين زيادة من المصادر. (¬2) في النسخ: "كذا" ولعلها محرفة عن: "كلا" والمثبت من المصادر. (¬3) انظر "سيرة ابن هشام" 1/ 178 - 184، و"الطبقات الكبرى" 1/ 120 - 122، و"المنتظم" 2/ 320 - 327.

زيد بن عمرو بن نفيل

قالت عائشة - رضي الله عنها -: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ قَومَك استَقْصَروا مِن بُنْيانِ البَيتِ، ولَوْلا حَدَاثة عَهدِهم بالشِّركِ لأَعَدتُ فيه ما تَركوا منه، وَجَعَلْتُ له بَابَين مَوضُوعَين في الأَرضِ، وبَابًا شَرقيًّا وبَابًا غَربيًّا، فإنْ بَدَا لقَومِك أنْ يَبنُوهُ، فَهلُمِّي أُريكِ ما تَرَكُوه منه، فأرَاهَا قَريبًا من سَبعةِ أَذرُعٍ في الحِجْر" ثُم قال: "أَتَدرِينَ لمَ رَفَع قومُك البَابَ"؟ قلتُ: لا. قال: "تَعزُّزًا أنْ لا يَدخُلَها إلا مَن أَرادُوا، وكانَ الرَّجُل إذا كَرِهوا أنْ يَدخُلَ تَركُوه حتَّى إذا كادَ أن يَدخُلَ دَفَعوه فَسَقط (¬1) ". ولما تمَّ بناؤها، كساها الزُّعَماءُ أرديتهم، وكانت من الوصائل (¬2)، وأعادوا الصور إلى ما كانت عليه، ولم يكسها أحد بعد ذلك حتَّى كساها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحِبَرات في حجة الوداع. وفي هذه السنة: ولدت فاطمة - رضي الله عنها -. فصل وفيها توفي زيد بن عمرو بن نُفَيل قال هشام بن محمد، عن أبيه: خرج زيد بن عمرو وورقة بن نوفل إلى الشام يسألان عن الدين الصحيح، فالتقيا راهبًا، فسألاه، فقال لهما: بعد قليل يبعث نبي من مكة، فرجعا فأقاما. فأما ورقة فقال: أنا ثابت على نصرانيتي حتَّى يظهر هذا الدين. وأما زيد فقال: أنا أعبد رب هذا البيت حتَّى يظهر هذا الدين. وكانت صفية بنت الحَضْرمي امرأة زيد، كلما عزم زيد على الخروج إلى الشام، آذنت الخَطَّاب فمنعه، فخرج إلى الشام وطاف الجزيرة والمَوْصِل، ثم عاد إلى البلقاء فلقي راهبًا انتهى إليه عِلْمُ النصرانية، فسأله عن الحَنَفيَّة، فقال له: إنك لتسأل عن دين ما أنت عليه وقد درس، وقد أظلك خروج نبي يبعث بأرض مكة التي خرجت منها، فارجع إلى بلادك التي خرجت منها فإنه مبعوث الآن وهذا زمانه. فخرج سريعًا يريد مكة، حتَّى إذا كان بأرض لَخْم عَدَوْا عليه فقتلوه (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد 1/ 122، وأصله عند البخاري (1586)، ومسلم (1333) (403). (¬2) انظر "أخبار مكة" للأزرقي 1/ 172. (¬3) ساق الخبر بتمامه ابن عساكر في "تاريخه" 9/ 498، وابن كثير في "البداية والنهاية" 2/ 221 - 222، =

وقال هشام: قتل زيد بن عمرو بالبلقاء بمكان يقال له: مَيفَعةُ، وقيل: مات بمكة في أصل حراء (¬1). قال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا اللَّيث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيَّب، عن نافع، عن ابن عمر قال: لقيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن عمرو بن نُفيل والد سعيد بن زيد بأسفل بَلْدَح، وذلك قبل أن ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي، فقدَّم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُفرةً فيها لحم، فأبى زيد أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما يذكر اسم الله عليه (¬2). وأخرج البخاري: عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: رأيت زيد بن عمرو قائمًا مسندًا ظهره إلى الكعبة وهو يقول: والله يا معاشر قريش، ما منكم على دين إبراهيم غيري، قالت: وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها وأنا أكفيك مؤنتها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت فدعها (¬3). وقال ابن المسيب: توفي ابن عمرو وقريش تبني الكعبة قبل المبعث بخمس سنين، ولقد نزل به الموت وإنه ليقول: أنا على دين إبراهيم، وأسلم ابنه سعيد، وهو من العشرة، قال: وسأل سعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبيه؟ فقال: "غَفَر الله له ورَحِمَه، فإنَّه ماتَ على دِينِ إبراهيمَ" فكان المسلمون يستغفرون له (¬4). وقال ابن سعد: حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر بن ربيعة، قال: قال زيد بن عمرو: أنا منتظر نبيًّا من ولد إسماعيل من بني عبد المطلب ما بقي غيره، وما أراني أدركه، وأنا أومن به، وأشهد أنَّه نبي، وإن طالت بك يا عامر مدة ورأيته فأَقْرِئه مِنِّي السلام، وسأخبرك بنعته: ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكَثِّ الشعر ولا بقليله، وليس ¬

_ = وانظر "السيرة" لابن هشام 1/ 204، و"الطبقات الكبرى" 1/ 136، وأخرجه البخاري (3827)، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 124. (¬1) انظر "تاريخ دمشق" 19/ 516. (¬2) هذا الحديث بهذا الإسناد ليس في شيء من الكتب الستة، انظر تحفة الأشراف 6/ 96 - 99، وأخرجه البخاري (3826) عن محمد بن أبي بكر، عن فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، به. (¬3) أخرجه البخاري (3828). (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 353 - 354، وابن عساكر في "تاريخه" 19/ 512.

السنة الثامنة والثلاثون من مولده - صلى الله عليه وسلم -

تفارق عينيه حمرة، وخاتَمُ النبوة بين كتفيه، واسمه محمد وأحمد، وهذه البلدة مولده، وبها مبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به فيهاجر إلى يثرب، فيظهر الله أمره، وإياك أن تخدع، فإني طفت البلاد كُلَّها أطلب الدين، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقول: هذا الدين وراءك. قال: فلما نُبّئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته بقول زيد، وأقرأته منه السلام، فترحَّم عليه وقال: "رَأَيتُه في الجنَّة يَسْحبُ ذُيولًا" (¬1). وخرجت سنة ست وثلاثين، وسبع وثلاثين ولم يتجدد فيها من الحوادث شيء. * * * السنة الثامنة والثلاثون من مولده - صلى الله عليه وسلم - فيها رأى الضوء، وسمع الصوت. قال ابن مسعود: أقام بمكة ثلاث سنين يسمع الصوت ولا يدري ما هو، ويرى الضوء، وأقام ثلاث عشرة سنة يوحى إليه -يعني بمكة- (¬2). * * * السنة الأربعون من مولده - صلى الله عليه وسلم - وفيها قتل كسرى أَبَرْويزُ النُّعمانَ بنَ المنذر. قال الواقدي: قتل قبل المبعث بتسعة أشهر (¬3). وفيها كان يوم ذي قار، وكان لبني شيبان على كسرى، وهو أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم. وفي حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وبي نُصِرُوا" (¬4). ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبير" 1/ 135 - 136 و 3/ 352 عن الواقدي، عن علي بن عيسى الحكمي، عن أبيه، عن عامر. ولم نقف فيه على الإسناد الَّذي ذكر المصنف، وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (2419)، والطبري 2/ 295، وابن عساكر في "تاريخه" 19/ 504، وابن الجوزي في المنتظم 2/ 328 من طريق ابن سعد. (¬2) أخرجه مسلم (2353) (123) من حديث ابن عباس، ولم نقف عليه من حديث ابن مسعود. (¬3) انظر "المنتظم" 2/ 332. (¬4) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 63 من حديث الأخرم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والطبراني في "الكبير" (5520) من حديث سعيد بن العاص مطولًا.

ويسمى: يوم قُراقر، ويوم الجُبابات، ويوم ذي العُجْرُم، ويوم بَطحاء، ويوم الحِنْو. وكلها أماكن حول ذي قار، وقد ذكرتها الشعراء في أشعارها (¬1). قال الجوهري (¬2): ويوم ذي قار يوم لبني شيبان، وكان أبرويز أغزاهم جيشًا، فظفرت بنو شيبان، وهو أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم. وسبب يوم ذي قار: أن النعمان بن المنذر لما قصد باب كسرى، أودع حلقته وكانت عشرة آلاف شِكَّةٍ (¬3) وابنتيه حُرَقَة وهندًا، وزوجته المُتَجرِّدة عند هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود الشيباني، فبعث كسرى إلى هانئ يطلب شِكَّةَ النعمان، وما أودع عنده، فامتنع هانئ من تسليمها وقال: هي عندي أمانة ووديعة، والحر لا يضيع أمانته، فغضب كسرى وقطع الفرات، ودعا إياس بن قَبيصة الطائي، وكان قد أقطعه ثمانين قرية على شاطئ الفرات، وملَّكه على الحيرة، فشاوره في أمر هانئ، قال: إن أطعتني فلا تُخبرنَّ أحدًا لأي شيء قَطَعْتَ الفراتَ لئلا تَقِلَّ حرمتك عند الناس، ولكن ارجع إلى المدائن وابعث إليهم حَلْبَة (¬4) من العَجَم، فيها بعض القبائل من العرب التي تليهم من أعدائهم فيواقعونهم، فقال كسرى: قد بلغني أنهم أخوالك، وأَنك لا تألوهم نصحًا، فقال: هذا رأي، ورأي الملك أفضل. فاستشار النعمانَ بنَ زُرعة التَّغلبي، وكان قد قدم عليه، فقال: الرأي أن تتركهم على ما هم عليه، وتظهر الإضراب عن ذكرهم، فإذا جاء القَيظُ دَنَوْا من بلادك، واجتمعوا على ماء يقال له ذو قار، يتساقطون عليه تساقط الفراش في النار، فإذا نزلوا عليه فدونك وإياهم، ففعل أبرويز ما قال التغلبي، فلما نزلوا بذي قار أرسل إليهم أبرويز مع النعمان بن زرعة هذا يُخَيِّرهم بين ثلاث: إما أن يُسلموا الحَلْقَةَ، وإما أن يخرجوا من هذه الديار، وإما أن يأذنوا بالحرب، فقال هانئ للنعمان: لولا أنك رسول ما أبْتَ إلى قومك، انصرف. فلما انصرف، أشار هانئ بن قبيصة على بكر بركوب الفلاة، وقال: لا طاقة لكم بكسرى، ولم يُرَ لِهانئٍ سَقْطَةٌ قبلها، فقال حنظلة بن ثعلبة العِجْليُّ: إن ركبنا الفلاة متنا عطشًا، وإن أعطينا بأيدينا قَتَلَ مقاتلتَنا وسبى ذرارينا، وما أرى غير الحرب. فنزلوا بذي ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 256، و"العقدة" 5/ 262. (¬2) في الصحاح (قور). (¬3) الشِّكَّة: السلاح. (¬4) رسمت في النسخ: "حسله" وما أثبتناه من الأغاني 24/ 61، وفي "المنتظم" 2/ 335: قبيلة.

قار، ورؤساء بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانئ بن قبيصة الشيباني، ويزيد بن مُسْهِر الشيباني، وحنظلة بن ثعلبة العِجْلي، ولم يشهدهم أحد من بني حنيفة ولا غيرهم، وجهز إليهم كسرى إياس بن قَبيصة الطائي، وكان قد ملَّكه بعد ما قتل النعمان بن المنذر على العرب، فسار في طيئ، واللَّهازم، وسائر العرب. وكتب كسرى إلى قيس بن مسعود بن ذي الجَدَّين، وأمره أن يوافي إياس بن قَبيصة، فوافاه في جمع عظيم، وانضم إليهم ألف من إياد، وألف من بَهراء، عليهم خالد البَهراني، وجهَّز كسرى الهرمزان في ألفين من العجم والأساورة، فدخلوا البرية وإياس بن قبيصة في المقدمة، ولما علم القوم، أرسل يزيد بن مُسْهر الشيباني إلى هانئ بن قبيصة: أن ابعث إلينا بحلقة النعمان فانثرها في بني شيبان، وكانت عشرة آلاف، فقال هانئ: وكيف أصنع بأمانتي؟ فقال يزيد: إنَّكم إن هلكتم، فسيأخذون الحلقة وغيرها، وإن ظهرتم فما أقدركم على استردادها من قومكم، فنثرها هانئ في بني شيبان، ودنا إياس والأعاجم من بني شيبان، فقال حنظلة بن ثعلبة: يا معاشر بكر، إن نُشّاب الأعاجم يُفَرِّقكم، فبادروهم باللقاء وعاجلوهم بالقتال، ونادى هانئ: يا قومِ، هالكٌ معذور خير من ناجٍ مغرور، والصبر من أسباب الظَّفَر، والمنية خير من الدَّنيَّة، واستقبال الموت في عِزٍّ خير من استدباره في ذلٍّ، والجِدَّ الجِدَّ فما من الموت بدّ، ثم ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته وولده، فقالوا: طب نفسًا، فنحن نمشي إلى الموت، وكان على الميمنة يزيد بن مُسْهِر الشيباني، وعلى الميسرة حنظلة بن ثعلبة العِجْلي، وهانئ بن قبيصة في القلب، وكان على ميمنة الأعاجم الهرمزان، وعلى الميسرة عسكر السواد في مقدم من الأساورة، وفي القلب إياس بن قبيصة الطائي في العرب، والتقى الجمعان فكان يومًا لم يُرَ في الجاهلية مثلُه. ثبتت العرب على نُشَّاب العجم، وقطعت بنو شيبان أكمام أقبيتها من المناكب ليتمكنوا من ضرب السيوف، وأعطى الله النَّصر لبني شيبان، فانهزمت الفرس، وأَتبعهم بنو شيبان حتَّى دخلوا في السواد، واستدلوا عليهم قتلًا، وأُسر عامةُ الفرس، ونجا الهرمزان وَحْدَه وإياس بن قبيصة على فرس يقال لها: الحمامة، وغنموا أموالهم وخيولهم وسلاحهم، وكان أولَ من قدم على كسرى إياسُ بن قبيصة، وكان كسرى لا يخبره أحد بهزيمة جيش إلا نزع أكتافه، فلما أتاه إياس قال له: ما الخبر؟ قال: هزمنا بكرًا، وقتلنا رجالهم، فأعجب به وأعطاه مالًا وكسوة، فاستأذن إياس في الانصراف إلى عين تمر وقال: أخي مريض. فلهذا

سارَعْتُ، فأذن له، ثم سار كسرى من المدائن، فنزل الخَوَرْنَقَ والسَّدير ينتظر الغنائم والأسارى، ثم ركب إلى ظاهر الخورنق يتنسَّمُ الأخبار، فأتاه رجل فسأل: هل دخل على كسرى أحد؟ قالوا: نعم، فظن أنَّه قد أخبره الخبر لأنه لم يكن أحد يجترئ أن يخبر كسرى بمثل ذلك، فأخبر كسرى فنزع كتفيه. وقد أكثرت الشعراء في يوم ذي قار، قال جرير: [من البسيط] مِنّا فوارسُ ذي بَهْدى (¬1) وذي نَجَبٍ ... والمُعْلَمونَ صَباحًا يوم ذي قار وقال العُدَيل بن الفَرْخ العِجْلي (¬2): [من البسيط] ما أَوْقَدَ الناسُ من نار لمَكْرُمةٍ ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار وما يَعُدُّون من يوم سَمِعْتَ به ... للناس أعظمَ من يومٍ بذي قار جئنا بأسلابِهمْ والخيلُ عابسةٌ ... لَمّا استلبنا لكسرى كل إسوار وقد قال بعضهم. إن يوم ذي قار كان في سنة سبع من الهجرة، والأول أصح. وفيها: ظهرت أمارات النبوة قبل أن يوحى إليه - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو طالب: وكنت بذي المَجَاز ومعي ابن أخي -يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركني العطش، فشكوت إليه، فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا بالماء، فقال: اشرب يا عم، فشربت (¬3). وقالت بَرَّةَ: لما ابتدأه الله بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتَّى لا يَرَى بيتًا، ويُفْضي إلى الشِّعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، فكان يلتفت يمينًا وشمالًا فلا يرى أحدًا (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن. انفرد بإخراجه مسلم (¬5). * * * ¬

_ (¬1) في (خ) و (ك) وأصول العقد الفريد 5/ 265: ذي نهد، والمثبت من مطبوع العقد وديوانه 235. (¬2) الأبيات في "الشعر والشعراء" 1/ 414، و"العقد" 5/ 266. (¬3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 127. (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 132، والحاكم 4/ 70. (¬5) أخرجه مسلم (2277) من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -.

السنة الحادية والأربعون من مولده - صلى الله عليه وسلم -

السنة الحادية والأربعون من مولده - صلى الله عليه وسلم - وفيها: اختصه الله برسالته وبعثه إلى كافة خليقته، ولم يزل منذ منذ شبَّ يكلؤه الله ويحرسه من أَقْذاءِ الجاهلية ومعايبها لما يريده الله من كرامته. واتفقوا على أنَّه بعث في أيام كسرى أبرويز في يوم الاثنين. واختلفوا أي الأثانين على أقوال: أحدها: لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، ظهر له جبريل بالرسالة، قاله جمهور الصحابة. عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأنس، وأبي بن كعب، في آخرين. والثاني: لثماني عشرة ليلة خلت من ربيع. والثالث: لسبع وعشرين خلت من رجب. والرابع: لأربع وعشرين خلت من رمضان. وقال مجاهد: سبع وعشرين خلت منه. والقول الأول أشهر، وعليه العمل عند أهل العلم. فصل في مبادئ الوحي: قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: أخبرني عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أولُ ما بُدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرُّؤيا الصادقة -أو الصالحة- في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل (¬1) فَلَقِ الصُّبحِ، ثم حُبِّبَ إليه الخَلاء، فكان يأتي غار حراء فيتحنَّثُ فيه -والتحنُّثُ هو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة - رضي الله عنها - ويتزود حتَّى جاء -أو فَجَأَهُ- الحق في غار حراء، فجاءه الملك فقال. اقرأ. فقال: "ما أَنَا بقارِئٍ" قال: "فأخذني فَغَطَّني الثَّانية والثَّالثة حتَّى بَلَغ منِّي الجَهْدُ، ثم أَرسَلَني ¬

_ (¬1) من هنا بدأ سقط في (ك) ينتهي بعد صفحتين.

وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} حتى بلغ {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، قالت: فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده - للبخاري: بوادره (¬1) - فدخل على خديجة فقال: "زَمِّلوني زَمِّلوني" فزمَّلُوه حتَّى ذهب عنه الرَّوْع، فأخبر خديجةَ بالخبر، وقال لها: "لَقَد خَشيتُ على نَفْسِي" فقالت له: كلا، أبْشِر، فوالله لا يخزيك -أو لا يحزنك- الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَصْدُقُ الحديث، وَتُكْسِبُ المعدوم، وتَقْري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. ثم انطلَقَت به خديجة إلى وَرَقة بن نَوْفَل بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، وهو ابن عمها أخي أبيها. وكان امرءًا تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فكتب من الإنجيل بالعربي أو بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَمِيَ. فقالت له خديجة: يا ابن عمِّ، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخبر، أو خبر بما رأى. فقال ورقة: هذا الناموس الَّذي أُنزل على موسى، يا ليتني أكون حيًّا إذ يخرجُك قومك. فقال: "أوَ مُخْرجيَّ هم"؟ قال: نعم، ولم يأت رجل قط بمثل ما أتيت به إلا عُودي، وإن يدركْني يومك حيًّا، أنصرْك نصرًا مُؤزَّرًا. ثم لم يلبث ورقة أن مات، وفتر الوحي فَتْرَة حزن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرارًا حتَّى كاد يتردَّى من شواهق الجبال، فكان كلما أَوْفى بِذِرْوَةِ جبل لكي يُلقِيَ نَفْسه منه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمدُ إنك لرسول الله حقًّا. فيسكن لذلك، وتقوى نفسه ويرجع، فإن طالت عليه الفترة عاد لمثل ذلك، فيتبدى له جبريل فيقول له مثل ذلك. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). ولورقة في ذلك أشعار كثيرة منها: [من الطويل] فإن ابن عبد الله أحمدَ مُرسَلٌ ... إلى كل من ضُمَّت عليه الأباطحُ وظني به أن سوف يُبْعث مرسلًا ... كما أُرسلَ العَبْدان هودٌ وصالحُ وموسى وإبراهيم حتَّى يُرى له ... هنالك منشور من الذكر فائحُ فإن أَبْقَ حتَّى يدرك الناسُ دهرَه ... فإني به مُسْتَبْشِرُ القلبِ فارحُ ¬

_ (¬1) البخاري (4953). (¬2) أحمد في "مسنده" (25959)، والبخاري (3)، ومسلم (160) (253).

فصل في السابقين إلى الإسلام

وقال (¬1): [من الطويل] إن يك حقًّا يا خديجة فاعلمي ... حديثُك إيانا فأحمدُ مرسلُ وجبريلُ يأتيه وميكالُ مَعْهُما ... من اللهِ وَحْيٌ يشرح الصَّدْرَ مُنزَلُ يفوز به من فاز يومًا بصِدْقِه ... ويَشْقى به العاني الغَويُّ المُضَلَّلُ فريقان منهم فِرقةٌ في جِنانه ... وأُخرى بنيران الجحيم تُذلَّلُ فسبحان من تجري الرياحُ بأمره ... ومن هو في الأيامِ ما شاء يفعلُ ومَنْ عرشه فوق السماوات كلها ... وأحكامه في خلقه لا تبَدَّلُ فصل في السابقين إلى الإسلام (¬2): اتفقوا على أن أول من أسلم من النساء: خديجة - رضي الله عنها -. واختلفوا فيما عداها على أقوال: أحدها: أنَّه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. [قال أحمد: ] حدثنا يعقوب، عن أبيه، عن ابن إسحاق، حدثنا يحيى بن أبي الأشعث، عن إسماعيل بن إياس بن عَفِيف الكندي، عن أبيه، عن جده، قال: كنت امرءًا تاجرًا، فقدمت الموسم فأتيت العباس بن عبد المطلب وهو بمِنى لأبتاع منه بعض التجارة، وكان تاجرًا. فوالله إني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خِباء قريب منه فَنَظر إلى الشمس، ثم قام يصلي، ثم خرجت امرأة من ذلك الخِباء فقامت تصلّي خلفه، ثم خرج من ذلك الخباء غلام حين راهَق الحُلُمَ فقام يصلي خلفه، قال: فقلت للعباس: من هذا؟ فقال: محمد (¬3) بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي. قلت: من هذه المرأة؟ قال: امرأته خديجة. قلت: فمن هذا الفتى؟ قال: علي بن أبي طالب ابن أخي. قلت: فما هذا الذي يصنع؟ قلت: يصلِّي ويزعم أنَّه نبيٌّ، ولم يتابعه على أمره إلا امرأته وابن عمه، وهو يزعم أنَّه ستُفتح عليه كنوز كسرى وقيصر، وايم الله، ما أعلم على وجه الأرض كلها أحد على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة. ¬

_ (¬1) الشعر هذا وسابقه في سيرة ابن إسحاق برواية يونس بن بكير 115 - 123. (¬2) انظر "المنتظم": 2/ 358. (¬3) هنا ينتهي السقط في (ك).

فكان عَفِيف -وهو ابن عم الأشعث بن قيس- يقول: لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ لكنت ثالثًا أو رابعًا. ثم أسلم وحسن إسلامه (¬1). وقال جابر: بُعِثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، وصلى [علي] يوم الثلاثاء (¬2). وقال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن حَبَّة العُرَني قال: رأيت عليًّا كرم الله وجهه ضحك على المنبر حتَّى بدت نواجذه، ولم أره ضحك أكثر منه. فقيل له في ذلك، فقال: ظهر علينا أبي أبو طالب وأنا مع النبي - رضي الله عنه - ببطن نَخْلَة نصلِّي، فقال: ماذا تَصنعان يا ابن أخي؟ فدعاه رسول الله - رضي الله عنه - إلى الإسلام. فقال: لا والله لا تعلوني استي أبدًا. فذلك الَّذي أضحكني. ثم قال علي - رضي الله عنه -: اللهمَّ إني لا أَعرف عبدًا من هذه الأمة عَبَدَكَ قبلي غيرَ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، لقد صلَّيت قبل أن يصلِّي الناس بسبعِ سنينَ (¬3). والثاني: علي، وخديجة، وزيد بن حارثة - رضي الله عنهم -. والثالث: أبو بكر - رضي الله عنه - وبلال. وفي حديث عمرو بن عَبَسة الَّذي أخرجه مسلم: أنَّه لما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، قال: فمن معك على هذا؟ قال: حُرٌّ وعَبدٌ، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال (¬4). وقد وفَّق بعض العلماء بين هذه الأقوال، فقال: أول من أسلم من الرجال: أبو بكر، ومن الفتيان: علي، ومن الموالي: زيد، ومن النساء: خديجة - رضي الله عنهم -. ثم أسلم على يد أبي بكر - رضي الله عنه - بعد إسلامه جماعة، منهم عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عُبيد الله - رضي الله عنهم - (¬5). وفيها تغيَّرت أحوالُ كسرى أبرويز بن هرمز بن أنو شروان. قال علماء السير: كانت دجلة تجري قديمًا في أرض جُوخا، فأَعْوَرت وتفرَّقت، ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1787)، وما بين معقوفتين زيادة من "المنتظم" 2/ 359. (¬2) أخرجه الطبري 2/ 310 وما بين معكوفين منه، وأخرجه الترمذي (3728) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (776). (¬4) أخرجه مسلم (832). (¬5) انظر "سيرة ابن هشام" 1/ 232.

فأنفق عليها أبرويز أموالًا عظيمة، وأسكرها مرارًا، والماء يقلع السَّكْر، وكان عنده ثلاث مئةٍ من الحزاةِ -وهم: السحرة، والكهنة، والمنجمون- فجمعهم كسرى، وكان فيهم رجل من العرب يقال له: السَّائب، يعتافُ اعتيافَ العَربِ فلا يخطئ، وكان بعث به بَاذَان إليه من اليمن، وكان لأبرويز طاق في الإيوان يضع فيه تاجه، فلما كانت الليلة التي بعث فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انفصم الطاق، وانقطع السكْرُ، فانخرقت دجلة فأصبح كسرى حزينًا، ودعا القوم فقال لهم: انفصم طاق تاج ملكي، وانخرق الماء عن بلادي "شاه بِشكَسْت" أَي: انكسر الملك، فانظروا. فنظروا، فأظلمت الدنيا عليهم وتحيَّروا، فلم ينتفع كاهن بكهانته، ولا ساحر بسحره، ولا منجم بنجومه، فقام السَّائب عنهم، وبات على رابية يَرْمُقُ نجوم الحجاز، فرأى في موضع قدميه روضة خضراء، فقال: لئن صَدَق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ ملكه المشرق والمغرب، تخصب الأرض في زمانه، واجتمعت الحُزاةُ وقالوا: والله ما حال بينكم وبين علومكم إلا أمر سماوي، وإنه لنبيٌّ بُعِثَ يَسلب كسرى ملكَه، ولئن أخبرتم كسرى بذلك، ليأتين على آخركم، فاتَّفِقُوا على أمر تدفعوا به عنكم. فقالوا له: قد نظرنا، فإذا وَضْعُ الطاق والسكر كان في طالع النحوس، ونحن نبصر لك طالعًا سعيدًا تعيد فيه الطاق والسكر. وعيَّنوا له وقتًا، فشرع في السَّكْر على دجلة، وغرم عليه أموالًا عظيمة، فلما فرغوا منه فرش عليه الفُرُشَ، وأحضر الأساورة والمرازبة والأشراف والأعيان، وجميع من في مملكته، ثم جلس على السَّكر وأخذ في اللعب والشرب، فبينما هم على ذلك انقطع السَّكر نصفين، وغَرِق جميع من كان عليه، واستخرجوا كسرى في آخر نفس، فقتل من الحُزاةِ مئة رجل، فقال الباقون: أخطأنا كما أخطأ مَنْ قبلنا، ونحن نحسب حسابًا صحيحًا، فقال: افعلوا، وحسبوا وأمروه بوضع السَّكر فوضعه، وجلس عليه فانقطع نصفين وأصابه أعظم من الأول، فقال لهم: والله لئن لم تصدقوني لأرمينكم تحت أرجل الفيلة، كم تُلَفِّقونَ عليَّ؟ فقالوا: نحن نصدقك، إنا نظرنا في علومنا فرأينا أنَّه قد ظهر نبيٌّ، وأظهر له السَّائب ما رأى، فلها عنهم وعن دجلة، وذلك قبل أن يأتيه

كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قال الحسن البصري: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله، ما حجة الله على كسرى فيك؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بعث الله إليه ملكًا، فأخرج يده من سور جدار بيته تتلألأ نورًا، فلما رآها فزع، فقال له: يا أبرويز، لا تُرَع فإن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا، فاتبعه تسلم لك دنياك وآخرتك، فقال: سأنظر في ذلك (¬2). وقال الواقدي: بعث الله إليه ملكًا وقت الهاجرة وهو في بيت لا يدخل عليه أحد، فلم يَرُعْه إلا وهو قائم على رأسه، وفي يده عصا، فقال له: يا أبرويز، أسلم وإلا كسرت هذه العصا على رأسك، فقال: بِهِل بِهِل -أي اصبر-، ثم انصرف عنه، فدعا حجابه وحراسه، وقال: من أين دخل هذا؟ قالوا: ما رأيناه. ثم جاءه بعد سنة، فقال له كذلك. ثم انصرف وجاءه في السنة الثالثة، فكسر العصا على رأسه. فكان ذلك سببًا لقتله، فقتله ابنه شيرويه (¬3). وفي رواية: نام كسرى يومًا فرأى في منامه كأنه رُمي به إلى السماوات، وأوقف بين يدي الله تعالى، وإذا رجل عليه إزار ورداء، والله تعالى يقول له: "يا أبرويز، سلم مفاتيح خزائن الأرض إلى هذا". فسلمها إليه، ثم أراد أن يستردها فأيقظه بعض حجابه لأمر دَهَمه. قال حاتم بن عطاء: والذي حكى المنام: خالد بن وَيْدَة، وكان مجوسيًّا فأسلم، والرجل الَّذي كان عليه الإزار والرداء: محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 2/ 360 - 362، وتاريخ الطبري 2/ 188، و"السيرة الشامية" 1/ 428. (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 2/ 190، وانظر "المنتظم" 2/ 362. (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 191. (¬4) انظر "المنتظم" 2/ 363 - 364، والوفا (238).

السنة الرابعة من النبوة

السنة الرابعة من النبوّة وفيها نزل قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]. قال علماء السير: وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة ثلاث سنين مستخفيًا يدعو إلى الله سرًّا في الجبال والأودية والشِّعاب (¬1)، ولما دعا إلى الله تعالى، استجاب له مَنْ شاء الله من الأحداث وَضَعفَةِ الناس والنِّساءِ، وكَثُرَ من آمن به، وكفَّار قريش غير مكترثين بأمره ولا بما يقول. وكان إذا مر على مجالسهم، أشاروا عليه وقالوا: إن غلام عبد المطلب لَيُكَلَّمُ من السماء. فكان على ذلك حتَّى عاب آلهتهم، وسفَّه آباءهم الذين ماتوا على الكفر. فشنَّفوا (¬2) له عند ذلك، وعادوه، وحسدوه (¬3). وقام بنصرته عمُّه أبو طالب أحسن قيام، ومنعهم من التعرض له. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لما نزل قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى علا المَروَةَ، ثم قال: يا آل فهر، فجاءَتْه قريش وفيها أبو لهب فقال: هذه فهر عندك فقل. فقال: يا آل غالب. فرجع بنو محارب وبنو الحارث ابنا فهر. فقال: يا آل لؤي بن غالب. فرجع بنو الأدرم. فقال: يا آال كعب بن لؤي. فرجع بنو عامر بن لؤي. فقال: يا آل مرة بن كعب. فرجع بنو عدي بن كعب، وبنو سَهْمٍ، وبنو جُمَح، أبناء عمرو بن هُصَيص بن كعب، ثم قال: يا آل كلاب بن مرَّة. فرجع بنو مخزوم وبنو تميم بن مرة. فقال: يا آل قُصي. فرجع بنو زهرة بن كلاب. فقال: يا آل عبد مناف. فرجع بنو عبد الدار بن قصي، وبنو أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، فناداه أبو لهب: هذه بنو عبد مناف عندك فقل. فقال: "إنَّ اللهَ قد أَمَرني أَنْ أُنْذِرَ عَشيرتي الأَقْرَبين، وأنتم الأَقرَبُون من قُريشٍ، وإنِّي لا أملك لَكُم مِنَ الله حَظًّا، ولا مِنَ الآخِرَة نصيبًا، وإلَّا أن تَقُولوا: لا إلَه إلَّا اللهُ، فأشْهَدُ لَكُم بها عندَ اللهِ، وتَدينُ لَكُم بها ¬

_ (¬1) في (خ) و (ك): والشعوب، والمثبت أقرب للصواب. (¬2) في النسخ: "فسيفوا" والمثبت من "الطبقات الكبرى"، ومعنى شنفوا له: أبغضوه. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 169.

العَرَبُ والعَجَمُ". فقال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} السورة (¬1). وقال عبد الله بن كعب بن مالك: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة في كل موسم يتبع الحاج في منازلهم بعُكاظٍ، ومَجَنَّة، وذي المَجاز، يدعوهم إلى الله وأن يمنعوه حتَّى يبلِّغ رسالات ربه، ولهم الجنّة فلا يجد أحدًا ينصره ولا يجيبه. وأبو لهب يمشي خلفه ويقول: لا تطيعوه فإنه كذّاب صابئ. فيردون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبح مردٍّ ويقولون: أُسْرَتُك وعشيرَتُك أعلم بكَ حيث لم يمنعوك (¬2). وفي رواية طارق المحاربي: ورأيت خلفه رجلًا قد أدمى عقبيه بالحجارة وكعبيه، قال طارق: من هذا؟ قالوا: غلام بني عبد المطلب. قلت: والذي خلفه؟ قالوا: عمه أبو لهب (¬3). وقالت عائشة - رضي الله عنها -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُنتُ بَين شَرِّ جارَينِ: أبي لَهَبٍ وعُقبَةَ بنِ أبي مُعَيْط، إنْ كانَ لَيَأتيانِ بالفُروثِ فَيَطرَحانِها على بابي، فَأَخرجُ فأقُولُ: يا بَنِي عبد مَنافٍ، أيُّ جِوَارٍ هذا؟ ثُم أُلقِيها في الطَّريق" (¬4). وفيها: ضَرب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - رجلًا من المشركين فشجه. وسببه: أنَّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجتمعون في الشِّعاب والأودية فيصلُّون، فبينا سعد - رضي الله عنه - في جماعة من المسلمين يصلُّون إذ رآهم رجل من الكبار ومعه جماعة من قريش، فسبُّوهم وعابوهم، فضرب سعد - رضي الله عنه - رجلًا منهم فأسال دمه، فكان أول دم أُهريق في الإسلام (¬5). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في المسجد وحوله المستضعفون من أصحابه مثل: عمار ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 55 - 56، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 136، وأخرجه البخاري (4770)، ومسلم (208) مختصرًا. (¬2) كذا في النسختين (خ) و (ك)، وفي "الطبقات" 1/ 184: يتبعوك، وهو الصواب، وأورده ابن هشام في "السيرة" عن ربيعة بن عباد 2/ 50. (¬3) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (6562). (¬4) أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 171، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 149. (¬5) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 318، و"المنتظم" 2/ 367.

ابن ياسر، وخَبَّاب بن الأَرَتِّ، وصهيب بن سنان، وبلال بن رباح، وعامر بن فُهَيرة، وأشباههم. فإذا مرت بهم قريش استهزؤوا بهم وقالوا: هؤلاء جلساؤه قد منَّ الله عليهم من بيننا. فأنزل الله تعالى: {أَلَيسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} (¬1) [الأنعام: 53]. وقال هشام: أول من أظهر الإسلام بمكة: أبو بكر - صلى الله عليه وسلم - وبلال وعمار وصهيب وخبَّاب - رضي الله عنهم-، فأما أبو بكر فمنعه قومه، وأما الباقون فلم يكن لهم عشائر يمنعونهم، فعذبوا عذابًا شديدًا، وفيهم نزل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)} [النحل: 41، 42]، كانوا يُلْبِسونهم أدراع الحديد، ويصهرونهم في الشمس في وقتِ الهاجرة (¬2). فَقَد أبو طالب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لفتيان بني هاشم: خذوا سلاحكم، وكونوا على مكاناتكم حتَّى أرجع. وخرج إلى الجبل ونادى: يا محمدُ. وإذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي في أسفل مكة، فقال له: ما لك يا عم؟ فقال: ظننْت أنك قد اغتلت، فكدت أن تجرِّمني فأقتل قومي اليوم. وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض عليه الإسلام، فقال: أريد آية. فقال: ترى تلك الشجرة؟ فقال: نعم. فقال: أدعو ربي أن يأتيك بها؟ قال: فافعَل، فدعا الله، فأقبلت تهتز بإذن الله تعالى، فقال لها: ارجعي بإذن الله. فرجعت. فقال: يا ابن أخي، لهذا يقولى قومُك بأنك ساحر. فانطلق به أبو طالب إلى مجالس قريش وقال: اليوم أؤيسهم منك، ووقف عليهم وقاق: قد كنت أُراكم قتلتم ابن أخي، ورب البيت الحرام والبلد الحرام لو فعلتم ذلك؛ لقتل كل واحد من هؤلاء الفتيان جليسه، ثم قال: أخرجوا أشفاركم، فأخرجوها. فلما رأت قريش ذلك يئسوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ولما اشتد الأمر وعلمت قريش أن أبا طالب لا يُسْلمه إليهم ولا يخذلُه، مَشَوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة -وكان من أجمل فتيان قريش وأَسْراهم- فقالوا له: يا أبا طالب، هذا أنْهَدُ فتى في قريش وأجمله، فخذه واتخذه ولدًا وسلّم إلينا محمدًا، فإنه قد ¬

_ (¬1) انظر "سيرة ابن هشام" 2/ 29، و"حلية الأولياء" 2/ 24 - 25، و"الاكتفاء" 1/ 374. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 214، و"المنتظم" 4/ 298. (¬3) أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 172 نحوه، أما انصياع الشجرة لأمره - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد بذلك عدة أحاديث، انظرها في "دلائل النبوة" 6/ 7، و"سبل الهدى والرشاد" 10/ 117.

أكثم بن صيفي

خالف دينك ودين آبائك، وفرَّق جماعتنا، وإنما هو رجل برجل، فقال أبو طالب: ويحكم، لبئس والله ما سمتموني، أتعطوني ولدكم أَغْذوه لكم، وأعطيكم ولدي تقتلونه، والله ما أنصفتموني، فرقوا بين النوق وفصلانها، فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها، دفعته إليكم (¬1)، ثم قال (¬2): واللهِ لن يصلوا إليكَ بجَمْعِهمِ ... حتَّى أُوَسَّدَ في التُّرابِ دَفِينا فاصدعْ بأمرِكَ ما عليكَ غضاضةٌ ... وَابْشِر وقَرَّ بذاكَ منك عُيونا وعَرضتَ دينًا لا مَحَالة أنَّه ... من خير أديانِ البريَّة دينا لولا الملامةُ أو حِذارُ مذمَّةٍ ... لَوَجَدْتني سَمْحًا بذاك ظنينا فصل وفيها توفي أَكْثَم بن صَيْفي (¬3) من تميم، حكيمُ العرب، كان من بطن يقال لهم: بنو شُرَيف بن جُرْوَةَ، أدرك مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوصى قومه باتِّباعِه، وعاش مئتي سنة، وقيل: مئة وتسعين سنة، واسودَّ شعره، ونبتت أضراسه، وعاد شابًّا، ولا يُعرف في العرب أعجوبة مثله، وكان حكيمًا فصيحًا لبيبًا فاضلًا سيدًا في بني تميم، وهو القائل: [من الطويل] وإن امرَأً قد عاشَ تِسعين حجَّةً ... إلى مِئة لم يسأمِ العيشَ جاهِلُ ولما بلغه خَبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عزم على قصده، فمنعه بنو تميم، وقالوا: أنت سيدنا وكبيرنا، فابعث إليه. فكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ابنه حُبَيش بن أكثم: باسمك اللهمَّ، من العبد أكْثَم إلى العبد. أما بعد: فأخبرنا من أنت، وبم جئت؟ وقد بلغنا عنك خبر، فإن كنت أريت، فأرنا، وإن كنت عُلِّمْتَ، فعلِّمنا، وأشركنا معك في خير والسلام. ¬

_ (¬1) انظر القصة دون الشعر في "السيرة" لابن هشام 1/ 240 - 241، و"أنساب الأشراف" 1/ 266 - 267، و"المنتظم" 2/ 369. (¬2) انظر الأبيات في "تاريخ اليعقوبي" 2/ 31، و"البداية والنهاية" 3/ 41، ولم نقف على سياق للقصة يجمع الشعر مع الحادثة. (¬3) انظر "المعارف" ص 299، و"المنتظم" 2/ 375، و"الإصابة" 1/ 110.

فكتب إليه: "من محمد رسول الله إلى أكثم. أما أنا فمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، عبدُ الله ورسوله. وأما الَّذي جئت به: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، وإن الله أمرني أن أقول: لا إله إلا الله، ولتعلمَنَّ نبأه بعد حين، والسلام". فلما قرأ كتابه، قال: نسب وسيط، وأراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوسًا، ولا تكونوا أَذنابًا. ثم جمع أَكْثَم بني تميم، وقال: لا يحضرني سفيه، فإن السفيه واهي الرأي وإن كان قوي البدن، ولا خير فيمن كان كذلك، وإن بتمام العقل تتم الأمور، ثم أمرهم بالإسلام، واتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقام مالكُ بنُ نُويرةَ اليربوعي وهو يقول: إن هذا الشيخ قد خَرِفَ، إنه ليدعو إلى الفناء والتعرض للبلاء، فإن أجبتموه فَرَّق جمعكم، وذَلَّل عِزَّكم، وأظهر أضغانكم. وسمعه أَكْثَم فقال: دعوا كلام هذا الأحمق، فويل للشجي من الخَليِّ، إن الحَقَّ إذا قام دمغ الباطل. وخرج أَكْثَم إلى مكة يريد لقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان ببعض الطريق عمد ابنه حُبيش إلى الرواحل فنحرها، وإلى المَزادة فشقها، ثم هرب. فمات أَكْثَم بالعَطَش، ولما أيقن بالموت، أوصى من معه باتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهدهم على نفسه أنَّه مسلم. روي عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه نزل فيه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]. ومن كلام أَكْثَم: أوصيكم بتقوى الله، وصلة الأرحام، وإياكم ونكاح الحمقى. وإنَّ العُدْمَ عُدْمُ العقل، لا عُدْم المال. وإنَّ مقتل الرجل بين فكَّيه، وإنَّ قولَ الحق لا يدع لقائِله صديقًا. ومن صَحِبَ الدُّنيا رأى الهوان، وفي طلب المعالي يكون العز، ومن قنع بما هو فيه قَرَّت عينُه. والتغافُلُ من أَخلاق الكرام، والمَنُّ يُذْهِبُ الصَّنيعةَ. ومن ظلم يتيمًا ظلم أولاده، ومن سل سيف البغي أُغْمِدَ في رأسه. وقال لبنيه: يا بني، ذَلِّلوا أخلاقكم للطالب، وقودوها إلى المحامد، وعلموها المكارم، ولا تقيموا على خُلُقٍ تذمونه من غيركم، وصلوا من رغب إليكم، وتَحلَّوْا بالجود تلبسكم المحبة، ولا تلبسوا البخل فتتعجلوا الفقر.

ورقة بن نوفل

وصَيْفي بن تميم، كنيته أبو أَكْثَم، عاش مئتي سنة وستًّا وخمسين سنة. وحَنظلة الكاتب هو ابن أخي أَكْثَم، لأنه حَنظلة بن ربيعة بن صَيفي، وكان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعاش إلى أيام معاوية. وَرَقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى بن قصي، ابن عم خديجة - رضي الله عنها-، ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمع كلامه، وانصرف عنه، قال ورقة لخديجة - رضي الله عنها -: قدوس قدوس، والله لئن صدَقْتِني فإنه نَبي هذه الأمة، ولقد جاءه النَّاموس الأكبر الَّذي كان يأتي موسى وعيسى، فقولي له: ليثبت. فرجعت خديجة - رضي الله عنها-، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسُرِّي عنه بعض ما كان فيه من الغم (¬1). وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ورقة، فقال: "رَأَيتُه في المَنَام وعَلَيه ثيَابٌ بيضٌ" (¬2). ومن شعره (¬3): [من البسيط] يا للرجال وصَرْف الدَّهْر والقَدَرِ ... فما لِشيءٍ قضاه الله من غِيَرِ جَاءت خديجةُ تَدعُوني لأُخْبِرها ... وما لنا بخفيِّ الغَيبِ من خَبَرِ بأنَّ أحمدَ يأتيهِ فيُخْبِرُه ... جبريلُ أنَّك مبعوثٌ إلى البَشَرِ فقال حين أتانا منطقًا عجبًا (¬4) ... تَقِفُّ منه أعالي الشعْر والبَشَرِ إني رأيت أمينَ الله واجَهَني ... في صورةٍ كَمُلَت من أَهْيَبِ الصُّوَرِ فقلتُ ظني وما أدري يُصَدِّقُني ... أن سَوفَ يُبعثُ يتلو مُنْزَل السُّوَرِ واختلفوا على أيِّ دين مات على أقوال: أحدها: على النصرانية، والثاني: مُوَحِّدًا على دين عيسى وموسى -عليهما السلام-، والثالث: على الإسلام. وورقة آخر من مات في الفترة، ودفن بالحَجون. ¬

_ (¬1) انظر "سيرة ابن هشام" 1/ 222. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24367) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) انظر الأبيات في "السيرة" لابن إسحاق ص 104، و"أخبار مكة" للفاكهي 4/ 89، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 150. (¬4) في النسخ: "فقلت حين أتانا معطفًا عجبًا" والمثبت من المصادر.

السنة الخامسة من النبوة

السنة الخامسة من النبوة فيها أَمَر النبي - صلى الله عليه وسلم - أَصْحابَه بالهجرة إلى الحبشة لمَّا اشتد بهم أذى الكفار. ذكر الهجرة الأولى (¬1): قال الزهري: لما ظهر الإسلام وكثر المسلمون، ثار جماعة من الكفار إلى من آمن من قبائلهم وعشائرهم، فعذبوهم وسجنوهم، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تفرقوا في الأرض. فقالوا: إلى أين؟ فأشار إلى الحبشة بيده، وقال: إن بها رَجُلًا لا تُظْلَمُ الناس عنده، فتَحرَّزُوا عنده حتَّى يأتي الله بالفرج. فخرجوا متفرقين، وستر قومٌ إسلامَهم، وكانت الحبشة متجَرَ قريش، فخرج منهم اثنا عشر رجلًا وأربع نسوة متسللين سرًّا من قريش، وكان مخرجهم في رجب، منهم الماشي والراكب، فوافقوا سفينتين للتجارة في الشُّعَيبة (¬2)، فركبوا فيها، وخرجت قريش في آثارهم ففاتوهم. ذكر أساميهم (¬3): حاطب بن عمرو بن عبد شمس، الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، سهيل بن بيضاء، عامر بن ربيعة ومعه امرأته بنت أبي حَثْمَة، عبد الله بن مسعود، أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، ومعه امرأته أم سلمة -رضي الله عنها-، عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، وقيل: إنه لم يهاجر الأولى، وعثمان - رضي الله عنه -، ومعه زوجته رقيَّة - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عثمان بن ¬

_ (¬1) الخبر في "الطبقات الكبرى" 1/ 172، وانظر "السيرة" لابن هشام 1/ 280، و"تاريخ الطبري" 2/ 329، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 285، و"المنتظم" 2/ 374، و"الكامل" 2/ 76، و"السيرة" للذهبي 1/ 146، و"البداية والنهاية" 3/ 46، و"سبل الهدى والرشاد" 2/ 485. (¬2) في (ك): "الشعشة" وفي (ح): "الشعشعة" والمثبت من "طبقات" ابن سعد 3/ 173، و"سبل الهدى" 2/ 486. (¬3) انظر "السيرة لابن هشام" 1/ 280 - 286، و"الطبقات الكبرى" 1/ 173 - 174، و"المنتظم" 2/ 375، وانظر تتمة أسمائهم هناك.

ذكر سبب رجوعهم

مَظْعون، مصعب بن عمير، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، ولد له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة من امرأته سهلة بنت سُهيل بن عمرو، أبو سَبْرة بن أبي رُهْم. فأقاموا في الحبشة شهر شعبان ورمضان، ورجعوا في شوال. ذكر سبب رجوعهم قال المطلب بن عبد الله: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قومه كفافة، فجلس خاليًا وتمنى أن لا يُنَزَّلَ عليه شيء ينفرهم عنه، وقارب قومه ودنا منهم، ودنوا منه، فجلس يومًا في بعض أنديتهم، فنزلت سورة النجم، فقرأها حتَّى بلغ {أَفَرَأَيتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20]؛ ألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدِّث به نفسه ويتمناه من مقاربة أهله وقومه، لأنه كان قد شق عليه مباعدتهم إياه، فتمنى أن ينزل عليه ما يقارب بينه وبينهم حرصًا منه على إيمانهم، فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فَرِحوا، ومضى في قراءة السورة كلها، وسجد وسجد معه المسلمون والمشركون، فلم يبق في المسجد إلا من سجد لسجوده إلا الوليد بن المغيرة وأبو أُحَيْحةَ سعيد بن العاص فإنهما أخذا حَفْنَةً من الحصباء فرفعاها إلى جبينهما وسجدا عليه، وكانا شيخين كبيرين لا يستطيعان السجود، وتفرقت قريش، وقد سرهم ذلك، وقالوا: ذكر محمد آلهتنا بخير، فأحسن الثناء عليها، وقد علمنا أن الله يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذ قد جعل لها محمد نصيبًا، فنحن معه. فلما أمسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاءه جبريل - عليه السلام - فلما بلغ إلى قوله: تلك الغرانيق العلى، قال: ما أتيتك بهاتين الكلمتين - وفي قول ابن إسحاق: قال: لقد قلت عن الله ما لم أقل، وتلوت عن الله ما لم أتل به عن الله - فحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزنًا شديدًا، وخاف من الله خوفًا عظيمًا، وندم على ما جرى. فأنزل الله تعالى في سورة الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} [الحج: 52] الآيات (¬1)، ولما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بعد أن وقع ذكر الغرانيق في فم كل كافر، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 174. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (12450) عن ابن عباس، وأخرجه -أيضًا- الطبراني (8316) عن عروة =

فصل في الهجرة الثانية إلى الحبشة

عادوا إلى أشَرِّ مما كانوا عليه، وازدادوا شدة على من أسلم، وكان قد سمع من هاجر إلى الحبشة بأن قريشًا قد صافَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرجعوا إلى مكة، فلما قربوا منها، بلغَهم ما جرى فوقفوا عن الدخول، ثم دخل كل رجل منهم في جوار رجل من قريش. فدخل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في جوار أبي أُحَيحةَ سعيد بن العاص بن أمية، فكان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طرفي النهار آمنًا. ودخل أبو حذيفة بن عتبة في جوار أبيه. ودخل مصعب بن عمير في جوار النَّضر بن الحارث بن كَلَدَةَ، ويقال: في جوار أبي عزيز بن عمير أخيه، ودخل الزبير بن العوام - رضي الله عنه - في جوار زَمْعَة بن الأسود. ودخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، ثم رد عليه جواره ورضي بجوار الله لَمَّا رأى ما فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البلاء، قال: والله إن غُدوي ورواحي آمنًا في جوار رجل من المشركين، وأصحابي يلقون من البلاء ما لا يصيبني مثله لنقصٌ كثير في نفسي، ذمة الله أعز وأمنع. ودخل سهيل بن بيضاء في جوار رجل من عشيرته من بني فهر، وقيل: دخل مستخفيًا بغير جوار حتَّى هاجر الثانية. ودخل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في جوار الأسود بن عبد يغوث، وقيل: دخل بغير جوار. وعبد الله بن مسعود فدخل بغير جوار، والأشهر أنَّه ما دخل مكة ورجع إلى الحبشة. فصل في الهجرة الثانية إلى الحبشة: قالت أم سلمة - رضي الله عنها -: لما قدم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحبشة في الهجرة [الأولى إلى مكة]، اشتد عليهم قومهم، وسطت بهم عشائرهم، ولقوا منهم أذىً شديدًا، فأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى الحبشة مرة ثانية، فقال له عثمان بن ¬

_ = مرسلًا. وأخرجه البيهقي في "الدلائل" 2/ 285 بسنده إلى موسى بن عقبة في كتابه "المغازي" مرسلًا، وانظر كلام القاضي عياض على هذه القصة في "الشفا" 2/ 750، وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 230 ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق، ولكنها من طرق مرسلة، لم أرها مسندة من وجه صحيح.

فصل في ذكر من ولد بالحبشة من المسلمين

عفان - رضي الله عنه -: يا رسول الله، فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة إلى الحبشة ولست معنا -يعني ما حكمها-؟ فقال: أنتم مهاجرون إلى الله وإليَّ (¬1). فخرج منهم خلق كثير واختلفوا فيهم، فقال ابن سعد: كانوا ثلاثةً وثمانين رجلًا وثمانيَ نسوة (¬2). وقيل: وإحدي عشرة امرأة. وقال الهيثم: كانوا مئة وثمانية، وقيل: وعشرة منهم عشر نسوة. فصل في ذكر من ولد بالحبشة من المسلمين: قال علماء السير: ولد بها: عبد الله، وعون، ومحمد -وفي رواية: ومعين-، أولاد جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - من أسماءَ بنت عُمَيس (¬3). وسعيد، وآمنة ابنا خالد بن سعيد بن العاص. وعبد الله بن المطلب (¬4). ومحمد بن حاطب. ومحمد بن أبي حذيفة. وزينب بنت أبي سلمة (¬5). وموسى، وعائشة، وزينب أولاد الحارث بن خالد التيمي. هؤلاء سوى من خرج بهم أهلوهم من مكة صغارًا، أقاموا بالحبشة من سنة خمس من النبوة إلى سنة سبع من الهجرة، فلما بلغهم مهاجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلًا وثماني نسوة يريدون مكة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس منهم سبعة، وشهد منهم بدرًا أربعة وعشرون. فلما كان في سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام، وأن يبعث إليه بجعفر ومن معه -أو عنده- من المسلمين إلى المدينة، وأن يزوجه أم حبيبة. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - محاصر خيبر، فأسلم النجاشي، وزَوَّجه أم حبيبة، وجهز إليه جعفرًا وأصحابه - رضي الله عنهم - (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 176. (¬2) جاء في "الطبقات" 1/ 176 - 177: وكان عدة من خرج في هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانون رجلًا، ومن النساء إحدى عشرة امرأة قرشية، وسبع غرائب. (¬3) انظر "نسب قريش" ص 80، "وطبقات" ابن سعد 4/ 31، وليس فيها ذكر لمعين. (¬4) هو المطلب بن أزهر. (¬5) في (ك): "سلمى" وفي (خ): "مطحى"، والمثبت من المنتظم 2/ 377، وانظر "الإصابة" 4/ 317. (¬6) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 177، وانظر نص كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند البيهقي في "الدلائل" 2/ 308، =

فصل في صبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أذى الكفار

فصل في صبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أذى الكفار: لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ومنعه الله بعمه أبي طالب، ورأت قريش أنهم لا سبيل لهم عليه، قذفوه بأنواع العيوب، فقالوا: ساحر، كاهن، شاعر، كذاب، مجنون، وبالغوا في أذاه. فرد الله تعالى عليهم وكذَّبَهم، وأنزل في ذلك آيات (¬1). قال ابن مسعود: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت، وأبو جهل بن هشام وأصحاب له جلوس، وقد نُحرت جزورٌ بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سَلَى جزور بني فلان فيأخذه، فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد. فانبعث أشقى القوم وأخذه، فألقاه على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، واستضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض، وأنا قائم أنظر إليه، ولو كانت في منعة، طرحته عن ظهره، وهو ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهي جُوَيرية فطرحته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تَسُبُّهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته، رفع يديه فدعا عليهم -وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا-، ثم قال: "اللَّهمَّ عَليكَ بقُرَيشٍ" ثلاثًا. فلما سمعوا صوته، ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم قال: "اللَّهمَّ عَليكَ بأبي جَهْل، وعُتْبَة وشَيبَة ابْنَي رَبِيعَة، والوَليدِ بن عُتْبَة، وأميَّةَ بنِ خَلَف، وعُقْبَة بن أبي مُعَيط. وذكر السابع: عُمارة بنِ الوَليد" (¬2). والسَّلى: الوعاء الذي يكون فيه الولدُ إذا وضع من الناقة. فأما في الجزور فما في بطنه. وأشقى القوم: عقبة بن أبي معيط. ¬

_ = وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" 3/ 80 - 81: هكذا ذكره البيهقي بعد قصة الهجرة وفي ذكره هاهنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ قبيل الفتح، ويؤيده ما أخرجه مسلم (1774) من حديث أنس - رضي الله عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن ذكر ابن حجر في "الفتح" 8/ 473 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كاتب النجاشي الذي أسلم وصلى عليه لما مات، ثم كاتب النجاشي الذي ولي بعده وكان كافرًا. (¬1) انظر "المنتظم" 2/ 378. (¬2) أخرجه البخاري (520)، ومسلم (1794).

فوالذي بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لقد رأيت الذي سَمّى صَرعى، ثم سُحِبوا إلى قليب بدر قد غَيَّرتهم الشمس، وكان يومًا حارًا (¬1). وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فلقيه أبو البَخْتَري فأنكر وجهه، فسأله عن حاله فأخبره، وكان بيده سوط، فأتى أبا جهل فعلاه به، فسار بنو مخزوم وبنو أسد بن عبد العزى، فقال أبو جهل: ويلكم، كفوا فإنما يريد محمدٌ أن يوقع بينكم العداوة (¬2). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعقبة بن أبي معيط: يا ابن أبان، ما أنت بمقصر عمّا أرى؟ فقال عقبة: لا، حتى تدع ما أنت عليه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله لتنتهين أو لتحلَّنَّ بك قارعة. قال أبو جهل: والله لئن رأيت محمدًا يصلي لَأَطَأَنَّ رقبته. فبلغه أنه يصلي، فجاءه وقال: ألم أنهك عن الصلاة؟ فانتهره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتنهرني وأنا أعز أهل البطحاء؟ فقال له العباس -وكان قريبًا منه-: كذبت. فنزل قوله تعالى: {أَرَأَيتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (¬3) [العلق: 9، 10]. قال عبد الله بن عَمرو: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - بفناء الكعبة، إذ أقبل عُقْبَةُ بن أبي مُعَيط فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه -. فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬4) [غافر: 28] وفي رواية: أقبلوا على أبي بكر فجعلوا شعره خُصلًا وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، وفي ضمنه: كيف تسلط عدوك على وليك (¬5)؟ . وقال ابن عباس: اجتمع القوم في الحِجْر، فتعاهدوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) مسلم (1794) (110). (¬2) أخرجه البزار في "مسنده" (1853)، والطبراني في "الأوسط" (766) من حديث ابن مسعود - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) أخرجه الواحدي في "أسباب النزول" ص 493 - 494 من حديث ابن عباس، وأخرجه مسلم (2797) من حديث أبي هريرة بغير هذا السياق. (¬4) أخرجه البخاري (4815). (¬5) لم نقف عليها.

ذكر أسامي الذين أظهروا العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فجاءت فاطمة ابنته تبكي حتى دخلت عليه فأخبرته، فقام وتوضأ ودخل المسجد، فأخذ قبضة من تراب فحصبهم، وقال: شاهت الوجوه. فما أصابت رجلًا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا (¬1). وكان أبو إِهاب بن عزيز التميمي قد عزم على الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلم به طُلَيب، فضربه بلَحْي جملٍ فشجه، فأُخبرت أمُّه أروى بنت عبد المطلب، فقالت: نِعْمَ ما فعل طُلَيب، محمد ابن خاله. فهو أولى به وأحق من دافع عنه، ثم قالت (¬2): إن طليبًا نَصر ابنَ خالِه آسَاه في ذي دَمِه ومَالِه وأسلم طليب في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهاجر إلى الحبشة، ولما أسلم دخل على أمه أروى، فقال: يا أماه، أسلمت لله رب العالميق، واتبعت محمدًا. فقالت: إن أحق من وازرت وعاضدت ابن خالك، والله لو كنا نقدر على ما يقدر عليه الرجال لمنعناه وذببنا عنه. فقال لها: ما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه، فقد أسلم أخوك حمزة؟ فقالت: أَنْظر ما تصنع أخواتي، أكون واحدة منهن (¬3). ذكر أسامي الذين أظهروا العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو لهب عمه، أبو جهل، الأسود بن عبد يَغُوث، عُقْبة بن أبي مُعَيط، الحكم بن أبي العاص، الحارث بن قيس بن عدي وهو ابن الغَيْطلة، شيبة وعتبة ابنا ربيعة، أبو سفيان بن حرب، الوليد بن المغيرة، أُبي وأمية ابنا خلف، العاص بن وائل السَّهمي، النَّضْر بن الحارث، العاص بن هشام، وهؤلاء كانوا جيرانه، وكانوا أشد الناس عليه (¬4). وأما من قريش فخلق كثير. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2762). (¬2) انظر "أنساب الأشراف" ص 257، و"تاريخ ابن عساكر" 25/ 142. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 114. (¬4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 170.

سمية بنت خباط

وفيها استتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وتسمى الدار: دار الخَيزُرَان (¬1). وفيها: بعثت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي بهدايا يطلبون منه أن يسلِّم إليهم من عنده من المسلمين المهاجرين. فصل وفيها استشهدت سُمَيَّةُ بنت خُبَّاط (¬2) أم عمار بن ياسر، مولاة أبي حُذيفة بن المغيرة، أسلمت بمكةَ قديمًا، وكانت مِمَّن يُعذَّب في الله لترجع عن دينها، فما رجعت. وهي أول شهيدة في الإسلام، مر بها أبو جهل بن هشام وهي تعذب في الله تعالى، فطعنها في قُبُلِها بحربة فماتت (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر "أخبار مكة" للفاكهي 3/ 330، و"المنتظم" 2/ 380، وعرفت بهذا الاسم عندما وهبها المهدي لامرأته الخيزران أم هارون الرشيد، فبنتها وجددتها فعرفت بها، كما سيذكره المصنف سنة 55 في ترجمة الأرقم، وانظر "المنتظم" 5/ 280، و"البداية والنهاية" 8/ 74. (¬2) ضبطها السمعاني في "الأنساب" 2/ 316 بفتح الخاء وتشديد الباء، وضبطها ابن حجر في "الإصابة" 4/ 334 بضم الخاء وفتح الباء المشددة. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 251، و"المنتظم" 2/ 384.

السنة السادسة من النبوة

السنة السادسة من النبوة وفيها أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وقيل: في سنة خمس من النبوة، وقيل: في السنة الثانية من النبوة، وكان إسلام عمر - رضي الله عنه - بعد حمزة- رضي الله عنه - بيوم، وقيل: ثلاثة (¬1). ذكر إسلام حمزة - رضي الله عنه -: قال محمد بن كعب القرظي: قال أبو جهل وعدي بن الحمراء رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغ حمزة - رضي الله عنه - فقام ودخل المسجد، فضرب رأس أبي جهل بالقوس فشجه فَوَضَحه، وأسلم فعَزَّ به المسلمون وذلك بعد دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم (¬2). وقال ابن إسحاق: أبو جهل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس عند الصفا فآذاه وقال منه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل المسجد، وجلس في ظل الكعبة، وكانت مولاة لعبد الله بن جُدْعان في مَسكَنٍ لها على الصَّفا تسمع ذلك، وأقبل حمزة - رضي الله عنه - من القَنَصِ متوشحًا قوسه، وكان يسمى: أعزَّ قريش وأشدها شَكِيمة، فقالت له مولاة ابن جدعان: يا أبا عُمارة، ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل آنفًا؟ وجده ها هنا خاليًا فسبَّه، وشتمه، وبالغ في أذاه، ولم يُكَلّمه ابن أخيك. فغضب حمزة - رضي الله عنه - ودخل المسجد وأبو جهل جالس في نادي قومه عند الكعبة، فقال: يا مصفِّر استِه، أتشتِم ابن أخي وأنا على دينه، أقول بما يقول؟ ثم ضربه بالقوس فشجه فَوَضَحه، فقام رجال من بني مخزوم، وثار بنو هاشم، فقال أبو جهل: دعوا أبا عُمارةَ، فإني سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا. ودخل حمزة دار الخَيزُران فتلقاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أما آن لَكَ يا عم" فأسلم، فعلمت قريش حينئذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عزَّ، وأنه سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 2/ 384. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 8. (¬3) "السيرة" 1/ 260.

ذكر إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -

ذكر إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْلهمَّ أعِزَّ الإسلامَ بأحَبِّ الرَّجلَينِ إليكَ: بعُمَرَ بن الخطَّابِ، أو بأبي جَهْلِ بنِ هِشامٍ". فكان أحبهما إليه: عمر (¬1). وقال عمر - رضي الله عنه -: خرجت أتعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فافتتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قلت: والله هذا شاعر كما قالت قريش، فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالمِينَ (43)} [الحاقة: 40 - 43] فوقر الإسلام في قلبي وأسلمت (¬2). وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قلت لعمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه -: لم سُميت الفاروق؟ فقال: أسلم حمزةُ قبلي بثلاثة أيام، ثم شرح الله صدري للإسلام فقلت: الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، فما في الأرض نَسَمةٌ أحبُّ إلي من نَسَمةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عنه؟ فقالوا: هو في دار ابن الأرقم. فأتيت الدارَ، وحمزةُ في أصحابه جلوس في الدار، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيت، فضربت الباب، فاجتمع القوم، فقال لهم حمزة: ما بالكم؟ فقالوا: عمر بن الخطاب. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بمجامع ثيابي ثم نترني نترة لم أتمالك أن وقعت على ركبتي، فقال: "مَا أنتَ بمُنْتَهٍ يا عُمَرُ"؟ فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، فقلت: يا رسول الله، أَلَسْنَا على الحقِّ إن مِتنا، كان حيينا؛ قال: "بَلَى". قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن فأخرجناه في صفين، حمزة في صف، وأنا في صف له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، فلما نظرت إلينا قريش، أصابتهم كآبة لم تصبهم مثلها قط، فسماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الفاروق (¬3). وقال الزهريّ: لما أسلم عمر، نزل جبريل فقال: يا محمد، استبشر أهل السماء بإسلام عمر (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (5696). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (107). (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 40، وانظر "صفة الصفوة" 1/ 273. (¬4) انظر "صفة الصفوة" 1/ 274، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (6883) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

السنة السابعة من النبوة

وقال ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر (¬1). وقال صهيب: لما أسلم عمر، جلسنا حول البيت حِلَقًا فطفنا وانتصفنا ممن أغلظ علينا (¬2). واختلفوا، بَعْدَ كَم أسلم؟ والمشهور أنه أسلم بعد تسعة وثلاثين، وقد عدهم الهيثم بن عدي، فقال: خديجة، علي، زيد بن حارثة، أبو بكر، بلال، عثمان بن عفان، عبد الرحمن بن عوف، طلحة، سعد، سعيد، أبو عبيدة، الزبير، حمزة، عبيدة بن الحارث، خبَّاب، عمار، جعفر، مصعب بن عمير، ابن مسعود، عيَّاش بن أبي ربيعة، عثمان بن مظعون، أبو سلمة بن عبد الأسد، المقداد، طُلَيب، صهيب، عامر بن فُهَيرة، عمرو بن عَبَسة، نُعيم بن النَّحام، حاطب بن الحارث، خالد بن سعيد، خالد بن البُكير، عبد الله بن جحش، أبو أحمد بن جحش (¬3)، عامر بن البُكير، عتبة بن غَزوان، الأَرْقم، واقد بن عبد الله، عامر بن ربيعة، السَّائب بن عثمان بن مظعون، وتمم الله الأربعين: بعمر. قال المصنف -رحمه الله-: والعجب من هذا، وقد هاجر إلى الحبشة نيف وثمانون بالاتفاق، ونيف ومئة على الخلاف، وهم إنما هاجروا في سنة أربع من النبوة، وعمر إنما أسلم في سنة ست منها، فقد ازدادوا. فما وجه قولهم: أتم الله به الأربعين؟ اللهمَّ إلا أن يكون أسلم في سنة اثنتين من النبوة على ما قيل (¬4). * * * السنة السابعة من النبوة وفيها كانت وقعة بُعاث، وهو يوم الأوس والخزرج، وكان أبو أُسيد بن حُضَير رئيس الأوس في ذلك اليوم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 250. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 249. (¬3) هو أخو أم المؤمنين زينب، واسمه عبد. (¬4) ولعل الصواب أن عمر أسلم بين الهجرتين فكان عدد المهاجرين في الأولى أربعين رجلًا وعشر نسوة. ثم حصلت الزيادة بعد إسلام عمر انظر "السيرة الشامية" 2/ 493، و "الطبقات الكبرى" 3/ 249، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 222. (¬5) انظر "المنتظم" 2/ 385.

السنة الثامنة من النبوة

السنة الثامنة من النبوة وفيها كتبت قريش الصحيفة بينها وبين بني هاشم. واختلفوا في سببه على أقوال: أحدها: أنه لما أسلم حمزة وعمر - رضي الله عنهما - شق ذلك على كفار قريش، واتفقوا على أن يكتبوا كتابًا يتعاهدون فيه ويتعاقدون، أنهآلا ينكحون إلى بني هاشم وبني المطلب، ولا يبايعونهم ولا يكلمونهم. والثاني: أنه لما بلغ قريشًا فعل النجاشي بجعفر وأصحابه، وإكرامه إياهم، وردّه عَمرًا وصاحبه خائِبَينِ، شق ذلك عليهم، وكتبوا الصحيفة. والثالث: أنه لما فَشا الإسلام في القبائل، كتبوا الصحيفة، والذي كتبها منصور بن عكرمة بن [عامر بن] هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار فشلَّت يده، وقيل: كتبها بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار (¬1) فيبست يده حين كتبها، وبقيت أيامًا عند أم الجُلاسِ خالة أبي جهل، وهي التي يقال لها: الحنظلية، وقيل: بل كانت عند أسماء بنت مُخَرِّبة أم أبي جهل، ثم أخذها المطعم بن عدي فأقامت عنده أيامًا، ثم علقوها في الكعبة، ولما رأت بنو هاشم ذلك انحازوا إلى الشِّعب المعروف بِشِعْب بني هاشم بمكة، ودخل معهم بنو المطلب، ولم يتخلف عنهم سوى أبي لهب، فأقاموا إلى السنة العاشرة من النبوة (¬2). قال ابن عباس - رضي الله عنه -: حصرونا في الشِّعب، وقطعوا عنا الميرةَ والمادة حتى كان صبياننا يتضاغَوْن جوعًا، يُسْمَعُ ذلك من وراء الشعب حتى مات منا قوم. وحكى الطبري: أن أبا جهل بن هشام لقي حكيمَ بن حزام ومعه غلام يحمل حِنْطةَ، وما كان يُحمل إليهم شيءٌ إلا سرّا من قريش، وكان حكيم يريد بالطعام عمته ¬

_ (¬1) وهو كذلك في "نسب قريش" ص 254، و"جمهرة النسب" ص 66. (¬2) انظر "سيرة ابن هشام" 2/ 3، و"الطبقات الكبرى" 1/ 177.

خديجة - رضي الله عنهما - وهي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشِّعب، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ ! والله لا أبوح حتى أفضحك بمكة. فجاء أبو البَختَري فقال له: خل عن هذا الرجل، فأبى أبو جهل. فضربه أبو البختري بِلَخي جمل فشج أبا جهل، ووطئه وطئًا شديدًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوى ذلك، ويدعو إلى الله سرًّا وجهرًا، وليلًا ونهارًا، والوحي يأتيه من الله ولم ينقطع عنه في الشعب. وفيها: قُبَيْلَ دخولهم الشِّعب وصل الخبر بغلبة فارس على الروم. قال علماء السير: عزم كسرى على غزو الروم، فاستشار امرأة عاقلة من فارس كانت تلد الملوك، فقالت: هذا فَرُّخان، أحذر من صقر، وأروغ من ثعلب، وأنفذ من سنان، وهذا أخوه شهريار أحلم أهل زمانه، فقال: بها أريد إلا الحلم. فقدَّم شهريار على الجيوش، فأوغل في بلاد الروم قتلًا وأسرًا، وهدم الحصون، وقطع الأشجار، وعاد إلى الشام، فأرسل إليه قيصر رجلًا من بطارقته يقال له: يُحنس، فالتقيا بأَذْرِعات وبصرى، وهي أَننى أرض الشام إلى أرض العرب فغلبت فارسُ الروم، وبلغ الخبر إلى كسرى، ثم إلى مكة فشقَّ ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، وكان يكره ظهور الفرس، لأنهم مجوس لا كتاب لهم، والروم لهم كتاب. وفرح كفار قريش بذلك، لأنَّهم عبدة الأوثان مثل الفرس، وقالوا للمسلمين: قد ظهر إخواننا، فلو قاتلناكم لظهرنا عليكم. فأنزل الله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} [الروم: 1 - 3] الآيات، فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - إلى الكفار وهو يقول لهم: فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا، لا تفوحوا فوالله لتظهرَنَّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم -. فقام إليه أُبيُّ بن خَلَف الجُمَحي، فقال: كذبت يا أبا الفضيل. فقال له أبو بكر - رضي الله عنه -: أنت أكذب يا عدو الله. فقال: اجعل بيننا أجلًا أُناحِبُك عليه -والمناحبة: المراهنة-، على عشر قلائصَ منِّي وعشر منك، فإن ظهرت الروم على فارس، غَرِمت. ففعلا ذلك، وجعلا الرهن ثلاث سنين، وذلك قبل تحريم القمار. وأخبر أبو بكر - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إما هكذا ذُكِرَتْ، إنَّما البِضْعُ: ما بينَ الثَّلاثِ إلى التِّسعِ. فَزايِده في الخَطر، ومادَّه في الأجَل" فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - فلقي أُبيًّا، فقال: لعلك ندمت؟ قال: لا. فقال: تعال أزايدك وأمادَّك في

ذكر السبب في ظهور الروم على فارس

الأجل فنجعلها مئة قلوص إلى تسع سنين، فقال: قد فعلت. فلما خشي أُبى أن يخرج أبو بكر - رضي الله عنه - من مكة، فقال: أقم لي كفيلًا. فكفله ابنه عبد الله - رضي الله عنهما-، فلما أراد أُبي أن يخرج إلى أُحُد، أتاه عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما-، فقال له: أقم لي كفيلًا. فأعطاه، ثم رجع أُبي مجروحًا، فمات من جراحته بمكة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرحه، ثم ظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس تسع سنين من مناحبتهما، وهذا قول عامة المفسرين (¬1). وقال أبو سعيد الخدري: إنما ظهرت الروم على فارس يوم بدر (¬2). وقال الشعبي: إنما كان صاحب قمار الكفار بمكة أبي بن خلف، وصاحب قمار المسلمين أبو بكر - رضي الله عنه -، وذلك قبل تحريم القمار، فلم تمض تلك المدة حتى غلبت الرومُ فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن، وعَمَروا روميَّةَ، فقمر أبو بكر - رضي الله عنه - أُبتا، وأخذ مال الخطر من ورثة أُبي، فجاء به رسولَ - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَصَدَّق به" (¬3) ذكر السبب في ظهور الروم على فارس: ذكر علماء السير: أن شَهريار لما هزم الروم على أذرعات، سار خلفهم فأناخ على خليج القُسطنطينية، وكان أخوه فَرُّخان في جملة الجيش، فسكر يومًا، فقال: رأيت في المنام كأني جالس على سرير كسرى. وبلغ كسرى، فكتب إلى شهريار: ابعث إليَّ رأس فرخان. فكتم ذلك على أخيه، وكتب إلى كسرى: إذا قتلت فرخان، فمن للنكاية في العدو، ومن للحرب. فكتب إليه كسرى: إن في رجال فارس خَلَفًا عنه، فعجِّلْ عليَّ برأسه. فكتب إليه شهريار: إنك لا تجد مثله، فلا تعجل على قتله. فغضب كسرى ولم يجبه، وكتب كتابًا إلى الجيش: إني قد نزعت عنكم شهريار، ووليت عليكم فرخان، ثم دفع إلى الرسول صحيفة صغيرة إلى فرخان يأمره بقتل أخيه شهريار، وقال: إذا ¬

_ (¬1) ساق القصة ابن كثير في "تفسيره" 3/ 424 - 425، وانظر "تاريخ الطبري" 2/ 185، و"دلائل النبوة"2/ 330، و"المنتظم" 2/ 319 و 387. (¬2) أخرجه الترمذي (2935). (¬3) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 480، وعزاه إلى أبي يعلى وابن أو حاتم وابن مردويه.

جلس فرخان على السرير، وأطاعه الجند، فناوله إياها. فلما قرأ كتاب كسرى على الجيش، قال شهريار: سمعًا وطاعة، ونزل عن السرير، وسلم الأمر إلى فرخان، فدفع إليه الرسول الصحيفة، فقال: علي بشهريار، فجاء فأمر بقتله فقال له: يا أخي، لا تعجل، ودعا بسفطٍ وأخرج منه ثلاث صحائف من كسرى إليه بقتل فرخان، ثم قال: قد راجعت فيك مرارًا ولم أقتلك، وأردت أن تقتلني بكتاب واحد. فنزل فرخان من السرير، وسلم الملك إليه. وكتب شهريار إلى قيصر: إن لي حاجة لا تُقِلُّها البُرُدُ، ولا تحملها الصحف، فالقني في خمسين فارسًا. وخرج شهريار في خمسين فارسًا وضُرِبَت لهما قُبَّةٌ، فدخلاها وبينهما تَرجُمان، فقال شهريار: إن الذي أخرب مدائنك، وسبى رعيتك، ودوخ بلادك، أنا وأخي، كان الخبيث كسرى حسدنا، وأغرى بيننا، وعرَّفه الخبر، ونحن نقاتله معك، ونملَكُك داره وملكه، فَسِر معنا. فقال: أصبتما، ثم أشار كل واحد منهما إلى صاحبه بأن السر متى جاوز اثنين شاع. فقتلا التَّرجُمان، وساروا جميعًا نحو المدائن يخربون أرض فارس ويقتلون. ومات كسرى، وأُديلت الروم على فارس، وجاء الخبر يوم الحديبية إلى رسول الله - رضي الله عنه -، ففرح ومن معه، فذلك قوله سبحانه وتعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} الآيات (¬1). وقرأ أبو عمرو، وأبو سعيد الخدري، والحسن، وعيسى بن عمر: "غلَبَتِ الروم" بفتح الغَين، و"سَيَغْلُبون" بضم اللام (¬2) وفتح الياء. قالوا: نزلت هذه الآية حين أخبر الله نبيه - رضي الله عنه - عن غلبة الرومِ فارسَ، وأن المسلمين يغلبونهم في بضع سنين، وعند انقضاء هذه المدة، أخذ المسلمون في التأهب لجهاد الروم، وكان أبوالدرداء يقول: سيأتي قوم يقرأون: "غَلَبت الروم" بالفتح، وإنما هي: {غُلِبَتِ} بالضم، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} يعني من قبل دولة الروم على فارس، ومن بعدها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 182 فما بعدها، و"المنتظم" 2/ 319 - 320. (¬2) في (ك): "الباء"، وانظر تفسير الطبري 18/ 446، والبحر المحيط 7/ 161. (¬3) جاء بعدها في (خ): "يعني من قبل ذلك".

قال يحيى بن أبي عمرو السِّيباني، قال رسول الله - رضي الله عنه -: "فارسُ نَطْحةٌ أو نَطْحتَان، ثم لا فارسَ بعدَها أَبَدًا، والرُّومُ ذاتُ القرونِ، كلَّما ذَهب قَرْن خَلَفَه قَرْن هيهاتَ هيهاتَ إلى آخر الأبد" (¬1). وفيها: قدم ضِماد الأَزْدي مكة. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قدم ضماد مكة، وكان من أَزْدِ شَنوءة، وكان يرقي من الريح، فسمع سفهاء قريش يقولون: إن محمدًا لمجنون، فقال: لو أني لقيت هذا الرجل فلعل الله أن يشفيه على يدي، قال: فلقيته. فقلت: يا محمد، إني أرقي من الريح والله يشفي على يدي من يشاء، فهل لك؟ قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحمدُ لله نَحمدُه ونَستَعينُه، مَن يَهْدي اللهُ فلا مُضِل له، ومَن يضلل فلا هاديَ لَه، أَشْهدُ أنْ لا إلَه إلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُه ورسُوله، أما بعدُ". فقال له ضِماد: أعد علي ما قلت -أو أعد علي كلماتك هؤلاء- فأعادهن عليه ثلاثًا. فقال ضماد: لقد سمعت كلام الكهان والسحرة والشعراء فما سمعت مثل كلماتك هذه، لقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وعَلى قَومِكَ"؟ فقال: وعلى قومي. فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك سرية، فمرت بقوم ضِماد، فقال صاحب الجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئًا؟ فقال رجل: أصبت منهم إِداوة. فقال: اردُدها، فإن هؤلاء قوم ضِماد (¬2). ولما دخلت السنة التاسعة من النبوة، مرض أبو طالب وهم في الشعب. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 298، ونعيم بن حماد في "الفتن" (1346)، وهو مرسل بين السيباني والنبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن محيريز. (¬2) أخرجه مسلم (868).

السنة العاشرة من النبوة

السنة العاشرة من النبوة فيها خرج بنو هاشم من الشِّعب، واختلفوا في سبب خروجهم على أقوال: أحدها: أن هشام بن عمرو بن الحارث من بني عامر بن لؤي، وكان أَوْصَلَ قُريش لبني هاشم حين كانوا في الشعب، كان يأتي بالبعير قد أَوْقَره طعامًا في الليل، فإذا جاء إلى الشِّعب، خلع خِطامه وضَربه على جنبيه، فيدخل الشعب، وعلمت به قريش فنهته فلم ينته، فقال أبو سفيان بن حرب: دعوه فإنه رجل وَصل رحمه، أما والله لو فعلنا ما فعل لكان أجمل بنا. فمشى هشام إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وكانت أمه: عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وتلبس الثياب، [وأَخْوالك حيث قد علمتَ لا يُبايَعون]، ولا يناكحون، أما تستحي؟ فقال: ويحك، ما أصنع وأنا رجل واحد، أما والله لو كان معي رجل آخر، لقمت في نقضها. فقال: قد وجدته، قال: ومن هو؟ قال: أنا. قال: فابغنا ثالثًا. قال: أبو البَخْتَري بن هشام، قال: ابغنا رابعًا، قال زَمعَة بن الأسود: قال: فابغنا خامسًا، قال المُطْعِم بن عدي: قال: فاجتمعوا عند الحجُون، وتعاهدوا على القيام بنقض الصحيفة، قال زهير: أنا أبدأ بها، فجاوزوا إلى الكعبة وقريش مُحدِقة، فطاف زهير بالبيت سبعًا، ثم نادى: يا أهل مكة، إنَّا نأكل الطعام ونشرب الشراب ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، والله لا أقعد حتى نشق هذه الصحيفةَ القاطعة، فقال له أبو جهل: كذبت لا تُشَقُّ والله. فقال زَمْعَة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا حين كُتِبت. وقال أبو البَخْتَري: صدق زَمعَة، لا نرضى ما كتب فيها، فقال المُطْعِم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك. فقال هشام بن عمرو: نتبرَّأ إلى الله منها، ومما كتب فيها. فقال أبو جهل: هذا أمر قُضي بليلٍ وتُشوورَ فيه. وقام المُطْعِم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأَرَضة قد أكلت ما فيها من الظلم، ولم يبق إلا "باسمك اللهم" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 17 - 18، و"تاريخ الطبري" 2/ 341، و"المنتظم" 3/ 4 - 5، وما بين معكوفين منها.

فقال أبو طالب (¬1): [من الطويل] جزى الله رَهْطًا بالحَجون تَبايَعوا ... على مَلأٍ يهدي لحَزْم ويرشِدُ أعان عليها كلُّ صقر كأنَّه ... إِذا ما مشى في رَفْرفِ الدِّرعِ أخرَدُ قُعودًا لدى جنب الحَجون كأنَّهم ... مَقاولةٌ بل هم أَعزُّ وأمجَدُ قال: وأسلم هشام بن عمرو يوم الفتح. والثاني: أن الله بعث الأَرَضَةَ فأكلت ما في الصحيفة من الجَوْر والظلم، وأبقت ما فيها من قوله: "باسمك اللهمَّ"، فأخبر رسول الله - رضي الله عنه - أبا طالب، فقال: أحقًّا ما تقول يا ابن أخي؟ فقال: نعم، أخبرني بذلك ربي. فأخبر أبو طالب أخوته وقال: والله ما كذبني قط. قالوا: فما ترى؟ قال: أرى أن نخرج إلى قريش فنخبرهم بذلك قبل أن يصلهم الخبر. فخرجوا من الشعب، فدخلوا المسجد، فلما رأتهم قريش، أنكروا ذلك، فناداهم أبو طالب: إِنَّا قد جئناكم في أمر، فأجيبوا عنه، قالوا: وما هو؟ قال: أَخبرني ابن أخي، ولم يكذبني قط: أن الأَرَضَة قد أكلت ما فيها من الظلم والجور وقطيعة الرحم، ولم تتعرض لما كان من اسم الله تعالى، فإن كان ابن أخي صادقًا، فكفوا عنا، وإن كان كاذبًا، دفعناه إليكم. فقالوا قد أنصفت، وجاؤوا بالصحيفة فلما فتحوها، وجدوا الأمر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَسُقط في أيديهم، ونكَّسوا رؤوسهم. فقال لهم أبو طالب: هل تبَيَّن لكم ظلمكم وجَوْرُكم؟ فلم يجبه أحد، وانصرفوا. فلم يتعرض أحد بعدها لبني هاشم (¬2). والثالث: أن المُطْعِم بن عدي شرب ليلة فانتشى، فقال: من مثلي؟ فقال له عدي بن قيس التميمي أو عتبة بن ربيعة: إن كنت كما تقول، فما بالُ بني عمك يموتون في الشِّعب جوعًا؟ فقام، فلبس سِلاحه، ولبس معه أبو البَخْتَري، وزهير بن أبي أمية، وهشام بن عمرو، ومَنْ سَمَّيْنا، وجاءوا إلى الشعب، وصاحوا بهم: اخرجوا على رغم ¬

_ (¬1) الأبيات في "السيرة" 2/ 20، من ضمن أبيات. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 178 - 179، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 312، و"المنتظم" 3/ 3 - 4.

قريش، فقال أبو طالب: إنا نخاف. فقال المطعم (¬1): لا خوف عليكم بعد اليوم. فخرجوا. وأقاموا في الشعب ثلاث سنين، وقيل: سنتين وأشهرًا. وفيها: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف يلتمس من ثقيف النُّصرة والمَنَعةَ له من قومه. قال جُبير بن مُطعم: لما توفي أبو طالب، تناولت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إلى الطائف في آخر شوال من هذه السنة، ومعه زيد بن حارثة (¬2). قال البلاذري: خرج لثلاث بقين من شوال سنة عشر من النبوة، وعاد إلى مكة يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين ليلة خلت من ذي القعدة (¬3). وقيل: أقام عشرة أيام (¬4). والأول أصح. قال الواقدي: لم يَدَعْ أحدًا من أشرافهم إلا كلَّمه، فلم يجبه أحد منهم، وخافوا على أَحداثهم منه، فقالوا له: اخرج عنا. وأغْرَوْا به سُفهاءهم، فرَمَوْهُ بالحجارة حتى أَدْمَوْه، وزيد بن حارثة - رضي الله عنه - يقيه بنفسه، حتى لقد شج في رأسه شجاجًا كثيرة (¬5). وقال كعب الأحبار (¬6): اجتمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطائف بسادات ثقيف وهم ثلاثة أخوة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، أولاد عمرو بن عُمَير الثقفي، فدعاهم إلى الله تعالى، والقيام معه على إظهار الإسلام ومن خالفه من قومه، فقال له عبد يَاليل: هو يمرُطُ ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال مسعود: أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال له حبيب: إن كنت رسولًا كما تزعم، فلأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك، وإن كنت ¬

_ (¬1) في النسخ: أبو المطعم. انظر "أنساب الأشراف" 1/ 272. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 180، و"المنتظم" 3/ 12. (¬3) أنساب الأشراف" 1/ 273. (¬4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 180، و"المنتظم" 3/ 12. (¬5) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 180. (¬6) هكذا جاء في النسخ، والصواب: "محمد بن كعب القرظي" كما في المصادر.

كاذبًا على الله، فما ينبغي أن أكلمك. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد يئس من خير ثقيف، وأغْرَوا به عبيدَهم وصبيانَهم يسبُّونه ويصيحون عليه حتى اجتمع عليه الناس، وألجؤوه إلى حائط لعتبة وأخيه شيبة ابني ربيعة وهما فيه، فعمد إلى ظل حُبْلَةٍ، فجلس في ظلها وشيبة وعتبة ينظران إليه، ويريان ما يلقى من سفهاء ثقيف، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللَّهم إِنِّي أَشْكُو إليكَ ضعفي وقِلَّة حِيلَتي وهوَاني على النَّاس، [يا أرحم الرَّاحِمين، أنتَ ربُّ المُستَضعفين، وأنت ربِّي، فإلى مَن تكِلُني، [إلى بَعيد يَتَجَهَّمني أم إلى عدوٍّ ملّكته أَمري] فإنْ لَم يَكُن منكَ عليَّ غضبٌ فلا أبالي [ولكن عافيتك هي أوسع لي]، أعوذ بنور وجهكَ الذي أشرقَت له السماواتُ، وأضاءت به الظلماتُ، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أَنْ يَنْزلَ بي غَضَبُك، أو يَحِل عليّ سَخَطُك، [لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك] وهو - صلى الله عليه وسلم - يبكي، فلما رأى ابنا ربيعة ذلك، تحركت له رَحِمُهما، فَدَعَوا غلامًا لهما يقال له: عَدَّاس، نصرانيًّا، فقالا: خذ قِطْفًا من العنب فضعه في طبق، واذهب به إلى ذلك القاعد، فضَعه بين يديه، ففعل ذلك عَدّاس، فمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده وقال: "بسمِ الله". وسمعه عدَّاس، فنظر إليه وقالا: والله إن هذا كلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن أنت، وما دينُك؟ " قال: نصراني، من أهل نينوى. قال: "من قَريةِ العَبدِ الصَّالح يُونُس بنِ مَتَّى" قال: نعم وما يدريك ما يونس؟ فقال: "ذاك أخي، كان نبيًّا، وأنا نبيٌّ". فأكبَّ عدَّاسٌ يقبِّل يديه ورجليه، فقال عتبة لأخيه شيبة: أفسد عليك غلامك. فلما جاءهما، قالا له: ويحك، ما هذا؟ فقال: والله ما في الأرض رجل خير من هذا، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا الله أو نبي. فقالا: ويلك، لا يصرفك عن دينك، فدينك خير من دينه (¬1). قالت عائشة - رضي الله عنها -: قلت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 47 - 48، و"تاريخ الطبري" 2/ 344، و"المنتظم "3/ 13 - 15، وما بين معقوفتين زيادة من المصادر.

ذكر رجوع رسول لله - صلى الله عليه وسلم -

فقال: "يوم عَرَضت نَفسِي على عبدِ يالِيل بنِ عبد كلَال عند العَقَبة، فلَم يُجبني إلى ما أردتُ، فانطَلَقتُ وأنا مَهْمومٌ على وَجْهي، فلَم أسْتَفِق إلَّا وأَنَا بقرنِ الثَّعالبِ، فرفعتُ رَأسِي وإذا بسَحَابةٍ قد أَظَلَّتني وفيها جبريلُ، فَنَادانِي: يا محمدُ، إنَّ الله قد سَمِع قولَ قَومِكَ لك، وما رَدُّوا علَيك، وقد بَعَثَ إليكَ مَلَك الجِبالِ لتَأمُره بما شِئْتَ فيهم. قال: فَسَلَّم عليَّ، وقال لي: إنْ شِئْتَ أطبقتُ عليهمُ الأَخْشَبَيين. فقلت: بَل أرجو أن يَخرجَ مِن أصلابِهم مَن يعبدُ الله وَحدَه، ولا يُشرِكُ به شَيئًا". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). ولما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف، أقام بنخلةَ أيَّامًا، فمر به نفر من الجن وهو يصلي الفجر، فوقفوا فاستمعوا لقراءته، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، وأنزل الله سورة الجن (¬2). وأول من تعوَّذ بالعرب من الجن قوم من اليمن، ثم بنو حنيفة، وفشا ذلك في العرب، كان إذا أمسى قوم في بريّة، يقولون: نَعوذ بسيِّد هذا الوادي من شرِّ سُفهاء قومه، فيبيتون في أمن وجِوار. [عن كَردَم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي] في حاجة وذلك في أول ما ذُكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فجاء ذئب فأخذ شاة أو حَمَلًا من الغنم، فوثب الراعي وقال: يا راعي الوادي، جارك، فنادى منادٍ لا نراه: يا سِرحان، أرسله. فأتى الحَمَلُ يشتد حتى دخل الغنم، ولم يُصِبْهُ شيء (¬3). ذكر رجوع رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: لما عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الدخول إلى مكة، قال له زيد بن حارثة - رضي الله عنه -: كيف تدخل على القوم بغير جوار، وقد أخرجوك، فأرسِل إلى من شئت فادخل في جواره. فمر به رجل من أهل مكة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنت مُبلِّغ عني رسالة؟ قال: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3231)، وصحيح مسلم (1795). (¬2) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 49. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" 19 / (430)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 129 وقال: وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، وهو ضعيف. وما بين معكوفتين زيادة من معجم الطبراني.

نعم. قال: اِئت الأخنس بن شَريق، فقل له: يقول لك محمد بن عبد الله: هل أنت مُجيري حتى أُبَلِّغَ رسالاتِ ربي؟ فأتى الأَخْنس فأخبره، فقال له: قل له: إن الحليف لا يجير على الصريح. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره. فقال له: اِئْت سهيل بن عمرو، فقل له كذلك، فأتاه فقال سُهيل: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب، فقال: فائت المُطعم بن عدي، فأتاه، فقال: قل له قد أجرته، فليدخل. وأصبح المُطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه وقومه، ودخلوا المسجد، فقال له أبو جهل: أمجير أم متابع؟ فقال: بل مجير. فقال: أجرنا من أجرت. ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، ومعه زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، فطاف بالبيت، وصلى ركعتين، واستلم الركن، ونادى المطعم: يا معاشر قريش، قد أجرتُ محمدًا. ثم طاف حوله هو وقومه وأهله حتى دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -[وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -] يرى ذلك للمطعم بن عدي وقومه، وأقام في جوار المطعم يبلغ رسالات ربه (¬1). * * * وفيها: تزوج رسول الله - رضي الله عنه - بعائشة وسودة - رضي الله عنهما - بعد وفاة خديجة - رضي الله عنهما -. قال أبو سلمة: لما هَلكت خديجة، جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مَظْعون - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ألا تتزوج؟ فقال: "مَن"؟ قالت: إن شئت بكرًا، وإن شئت ثيبًا. قال: "فَمَنِ البِكْرُ"؟ قالت: بنت أبي بكر، أحب خلق الله إليك، وأما الثيب فَسَوْدة بنت زَمعَة آمنت بك، واتَّبعتك على ما تقول. قال: "فَاذهبي فَاذْكُريهما عَليَّ". قالت: فدخلت بيت أبي بكر، فقلت: يا أم رُومان، ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير؟ قالت: وما ذاك؟ قلت: أرسلني إليكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة. فقالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي. فجاء أبو بكر فأخبرته، فقال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه؟ قالت: فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هو أخي في الإسلامِ، وابنته تحلُّ لي". قالت: فأخبرت أبا بكر، فقال: انتظريني، وخرج -وكان المطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، وما وعد أبو بكر أحدًا فأخلفه- فدخل على ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 181، و"تاريخ الطبري" 2/ 347، و"المنتظم" 3/ 15. وما بين معقوفين زيادة يقتضيها السياق، وانظر "أنساب الأشراف" 1/ 273.

المطعم وعنده امرأته أم الفتى، فقالت له: يا ابن أبي قحافة، لعلك مُصبئٌ صاحبنا ومُدخِلُه في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك. فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: أبقول هذه تقول؟ قال: إنها تقول ذاك. فخرج من عنده وقد أذهب الله من نفسه عِدَتَهُ التي وعده بها، وقال لخولة: ادع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعته. فزوجها منه وعائشة - رضي الله عنهما - يومئذ بنت ست سنين. ثم خرجت خولةُ، فدخلت على سَوْدَةَ، فقالت لها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبك، فقالت: ادخلي على أبي -وكان شيخًا كبيرًا- فاذكري له ذلك، فدخلت عليه فحيَّته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ قالوا: خولة بنت حكيم. قال: فما شأنُك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة. فقال: كفؤ كريم، فما قالت صاحبتُكِ؟ قالت: قد أجابت إلى ذلك. فقال: ادعيها إلي، فدعتها. فقال: يا بنية أتحبين ما قالت خولة؟ قالت: نعم قال: فاذهبي، فادعيه لي. قالت: فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء، فزوجه إياها. قالت خولة. وكان أخوها عبد الله بن زَمعَة حاجًّا، فقدم فحثا التراب على رأسه، فقال بعد أن أسلم: إني لسفيه أحثي التراب على رأسي أن تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة بنت زمعة (¬1). وفيها: قدم مكة سويد بن الصامت، وكانوا يسمونه: الكامل، لشرفه وحسبه وفضله. وهو القائل [من الطويل] أَلا رُبَّ من يُدعى صديقًا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري يسرُّك باديه وتَحتَ أَديمه ... نميمةُ غِشٍّ تبتري عَقِبَ الظهر تُبين لك العينان ما هو كاتمٌ ... وتُبْديهِ بالبغضاءِ والنظر الشَّزرِ فَرِشْني بخير طالما قد بَرَيتني ... فخير الموالي من يريش ولا يبري (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25769). (¬2) فَرِشْني: قوِّني، بريتني: أضعفتني.

خديجة بنت خويلد

فتصدى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعاه إلى الله. قال سويد: لعل الذي معك مثلُ الذي معي. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما الذي معك -وكان فصيحًا-؟ فقال: معي مجلَّةُ لقمان -يعني حكمته-، وعرضها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كلام حسن ولكن معي أفضل منه، قال: وما هو؟ قال: قرآن أنزله الله عليَّ، هُدى ونورٌ، وقرأ عليه منه، ودعاه إلى الله، فلم يبعد عنه، وقال: إن هذا لحسن. ثم انصرف إلى المدينة، فقتلته الخزرج في هذه السنة، وقيل: في يوم بُعاث (¬1). وفيها: قدم قيس بن مالك الهمداني مكة، فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما جئت لأؤمن بك ولأَنْصُرَك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَرحَبًا بكَ، أَتَأخُذوني بما فِيَّ يا مَعاشِرَ همدان؟ " قال: نعم. قال: "فَاذْهب إلى قَوْمِك، فإنْ فَعَلُوا، فَارجِع إليَّ". فذهب قيس إلى قومه وأخبرهم الخبر، فأسلموا وقالوا: اذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفه ذلك، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، قد أسلموا وأمروني أن آخذك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِعم وافدُ القومِ قَيسٌ، وَفَّيتَ وفَّى الله لك" ومسح على ناصيته وكتب له عهده على همدان (¬2). فصل وفيها توفيت خديجة بنت خويلد ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب - رضي الله عنهما - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تُدعى في الجاهلية: الطاهرة، وسيدة نساء قريش، وتكنى: أم هند، وأمها: فاطمة بنت زائدة بن الأصم، وأم فاطمة: هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن سعد، وأم هالة: العَرِقة وهي قلابة بنت سعيد بن تميم بن لؤي بن غالب، وأمها: عاتكة بنت عبد العزى بن قصي، وأم عاتكة: الخُطَيَّا وهي رَيطَةُ بنت كعب بن سعد بن تميم بن مُرَّة، وأمها: نائلة بنت حُذافة بن جُمَح. نبذة من فضائلها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحترمها ويكرمها ويوادها، ويشاورها في أموره كلها، وكانت ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 52 - 53، و"تاريخ اليعقوبي" 2/ 37، و"تاريخ الطبري" 2/ 351. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 293 - 294.

وزيرة صدوق (¬1)، صاحبة عزم. سئل الزهريّ: أنفقت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين ألفًا؟ فقال: وأربعين ألفًا وكررها. وقال علي - عليه السلام -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خَيرُ نِسائِها مَريَمُ بنتُ عِمرانَ، وخَيرُ نِسائِها خَدِيجَةُ بنتُ خُوَيلِد". متفق عليه (¬2). أراد بالأول: نساء بني إسرائيل، وبالثاني: نساء هذه الأمة. وفي المتفق عليه: عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله ابن أبي أوفى: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَشَّر خديجة ببيت في الجنة؟ قال: نعم، بَشَّرها ببيت في الجنة من قَصَب لا صَخَب فيه ولا نَصَب (¬3). وفي المتفق عليه من حديث عائشة - رضي الله عنهما - قالت: ما غرتُ من أحدٍ من نِسَاءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلَ ما غِرتُ من خَديجَةَ، وما رأيتُها قطُّ، وتَزَوجني بعد مَوْتِها بثلاثِ سِنينَ، ولقد كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ ذكرها، وربما ذَبَح الشَّاة فَقَطعَها أعضاءً، ثم يَبْعَثُ بها إلى صَدَائقِ خَدِيجَةَ، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: "إنَّها كانت وكانت وكان في منها وَلدٌ" (¬4). وفي المتفق عليه: أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت يومًا: خُدَيِّجة -بالتصغير- فَزَجَرني وقال: "إنِّي رُزِقْت حُبَّها" فَأَذْكَرتني الغَيرةُ، فقلت: وهل كانت إلا عجوزًا قد أَخْلفَ الله لك خيرًا منها، فغَضِبَ حتى اهْتَزَّ مقدَّمُ شَعرِه، وقال: "والله ما أَخْلف في خيرًا منها، لَقَد آمَنَتْ بي إِذْ كَفَر النَّاسُ، وصدَّقَتني إِذْ كَذَّبني الناسن، وآستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء". قالت: فقلت في نفسي: والله لا أذكرها أبدًا (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): "وكانت صدوقة". (¬2) صحيح البخاري (3432)، وصحيح مسلم (2430). (¬3) صحيح البخاري (3819)، وصحيح مسلم (2433). (¬4) صحيح البخاري (3818)، وصحيح مسلم (2435). (¬5) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني رزقت حبها" أخرجه مسلم (2435) (75) ولم يخرجه البخاري، وقول عائشة: وهل كانت =

ذكر وفاتها رضي الله عنها

وفي المتفق عليه: عن عائشة - رضي الله عنهما - قالت: استأذَنَت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا هالةُ أختُ خديجةَ، فارتاع لذلك، وقال: "اللهمَّ هالة بنت خُوَيلِد" قالت: فغرت وقلت: ما تذكر من عجوز حَمراءِ الشِّدقَين، هَلَكت في الدَّهر، فزجرني (¬1). وذكر بمعنى ما تقدم. ذكر وفاتها رضي الله عنها: اتفقوا على أنها توفيت في هذه السنة بعد وفاة أبي طالب. قال الواقدي: عاشت بعده ثلاثة أيام. وقال ابن إسحاق: شهرًا وخمسة أيام. وقال الهيثم: خمسة وخمسين يومًا، ولما توفيت كان لها خمس وستون سنة. وقال البخاري: ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرتها، ولم تكن سُنَّت الجنازة يومئذ، ولا فرضت الصلوات الخمس، ودفنت بالحَجُون (¬2). ذكر أولادها: وهما قسمان من غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما من غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم: هند وهالة. وقال بعضهم: هما ذَكَران، وقال بعضهم: ذكر وأنثى، وهي: هند، وكانت تسمى ربيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تقول: أنا أكرم الناس أبًا وأمًا وأختًا وأخًا، وأبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمي خديجة، وأختي فاطمة، وأخي القاسم. أما أولادها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القاسم وبه كان يكنى، مات قبل النبوة، وحزن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم عبد الله، ولقبه الطاهر، ثم الطيب، وقيل: إنهما ولدا بعد ¬

_ = إلا عجوزًا .. أخرجه البخاري ومسلم كما سيأتي في تخريج الحديث الآتي، وأخرج أحمد في "مسنده" (24864) عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا فقلت: ما أكثر ما تذكر حمراء الشدق قد أبدلك الله بها خيرًا منها .. وذكر تمام الحديث، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (3223). (¬1) صحيح البخاري (3821)، وصحيح مسلم (2437). (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 19، و"مستدرك الحاكم" 3/ 182.

أبو طالب

النبوة، وقيل: المُطَيَّب والمُطهَّر. وكانت تعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة. والحاصل: أن في القاسم وعبد الله اتفاقًا، وفي الباقي خلاف (¬1). فأما الإناث: فزينب، ورُقيّة، وأم كُلثوم، وفاطمة عليهن السلام. وقد روت خديجة - رضي الله عنها الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيها توفي أبو طالب قال ابن المسيب عن أبيه: لما احتضر أبو طالب، أتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عند رأسه عبد الله بن أبي أمية، وأبا جهل بن هشام، فقال: "يا عَمِّ، قُل كلمةً أشهدُ لك بها عند الله غدًا، قل لا إله إلا اللهُ". فقال له عبد الله وأبو جهل: يا أبا طالب، أترغب عن ملَّة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يردد عليه، وهما يرددان عليه، حتى كان آخر كلمة قالها: أنا على ملَّة عبد المطلب ومات. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأستغفرن لك ما لم أُنْه عنك، فاستغفر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته وجعل المسلمون يستغفرون لموتاهم، حتى نزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬2) [التوبة: 113]. وقال الواقدي: دعا أبو طالب بني عبد مناف، وبني المطلب، وبني هاشم عند وفاته، وقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من ابن أخي محمد، فاتبعوه، وأعينوه ترشدوا. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَأمُرُهم بها، وتَدَعُها أَنتَ يَا عَمِّ"؛ فقال: يا ابن أخي، أما ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في "الفتح" 7/ 172: المتفق عليه من أولاده منها القاسم وبه كان يكنى، مات صغيرًا قبل المبعث أو بعده، وبناته الأربع: زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة، وقيل: كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة. وعبد الله ولد بعد المبعث فكان يقال له: الطاهر والطيب، ويقال: هما أخوان له، وماتت الذكور صغارًا باتفاق. (¬2) أخرجه البخاري (1360).

إنك لو سألتنيها وأنا صحيح لتابعتك على ما تقول، ولكن أكره أن يقال: جزع عند الموت، فترى قريش أني أخذتُها جَزَعًا، ورَددتُها في صحتي. وفيه نزل قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (¬1) [القصص: 56]. وقال الشيخ موفق الدين - رضي الله عنه - في "الأنساب": قد كان أبو طالب يقر بنبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء ذلك في أشعار له منها قوله: [من الطويل] ألا أبْلِغا عنِّي على ذات بيننا ... لؤيًّا وخُصَّا من لؤي بني كَعْبِ بأنَّا وَجَدنا في الكتاب محمدًا ... نبيًّا كموسى خُطَّ في أول الكُتْب وأنَّ عليه في العِبَادِ محبَّةً ... ولا خير ممن خصَّه الله بالحُبّ ومنها قوله أيضًا: [من الطويل] تعلَّم خيار الناس أن محمدًا ... وزير لموسى والمسيح بن مريمِ أتى بالهُدى مِثلَ الذي أَتيا به ... فكلٌّ بأمرِ الله يَهدي ويعصِمُ وأنَّكمُ تَتلُونَه في كتابكم ... بصدقِ حديث لا حديث المُترجَمِ فلا تجعلوا لله ندًّا وأسلموا ... فإن طريقَ الحق ليس بمُظْلِمِ ولكنه أبى أن يدين بذلك خشية العار (¬2). وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث: قال العباس: يا رسول الله، عمك أبو طالب قد كان يكلؤك ويحوطك، فقال: "غَفَر اللهُ له وَرَحِمَه" فقال العباس: وإنك لترجو له، فقال: "إي والله، إني لَأرْجُو له كلَّ الخير من ربِّي" (¬3). قال علي - عليه السلام -: لما توفي أبو طالب، أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن عمك قد مات، فقال: "اذْهَب فَوَارِه، ولا تُحْدِثْ حَدَثًا حتى تَأْتِيني". ففعلت، وأتيته فدعا لي بدعوات ما يسرني بها حُمْر النعم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 101. (¬2) "التبيين في أنساب القرشيين"، ص 110 - 111، وانظر "السيرة" لابن هشام 2/ 4. (¬3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 103، وأحمد في "مسنده" (1789). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (807)، وابن سعد 1/ 102.

ذكر أولاده

وقال ابن عباس: عارض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازَة أبي طالب، فلما مرت به، بكى وقال: "وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يا عمِّ، وجَزَاك اللهُ خيرًا" (¬1). وقال ابن إسحاق: رثاه علي - عليه السلام - بأبيات منها (¬2): [من الطويل] أَرِقْتُ لطيرٍ آخِرَ الليلِ غرَّدا ... يذكِّرني شَجْوًا عظيمًا مجدَّدا أبا طالبٍ مَأوى الصَّعاليك ذا النَّدى ... جوادٌ إذا ما أَصدر الناسُ أَوردا فأمسَتْ قُريش يفرحون بموته ... ولستُ أَرى حَيًّا يكون مُخَلَّدا أرادوا أمورًا زيَّنتها حُلومُهم ... ستُورِدُهم يومًا من الغَيّ مَورِدا يُرَجُّون تكذيبَ النبي وقتلَه ... وأَن نفتَري قِدمًا عليه ونَجْحدا كَذَبتُم وبيتِ الله حتى نُذِيقَكم ... صدورَ العَوالي والحسامَ المهنَّدا فإمَّا تُبيدونا وإما نُبيدُكم ... وإمَّا تَروْا سِلْمَ العشيرةِ أرشدا وإلَّا فإن الحيَّ دون محمدٍ ... وأسرتِه خيرِ البريّةِ مَحْتِدا قال الواقدي: أقام أبو طالب من سنة ثمان من مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السنة العاشرة من النبوة، ثلاثًا وأربعين سنة يحوطه، ويقوم بأمره، ويذبُّ عنه، ويلطف به، ويمنعه من الكفار (¬3). وقال عروة: ما زالوا كافِّين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات أبو طالب -يعني قريشًا- (¬4). وقال الواقدي: أصاب أبا طالب يوم الفِجار سهم في قدمه، فكان يَخْمَعُ منه. ذكر أولاده: المشهور أنه كان له أربعة ذكور وأُنْثَيان. فالذكور: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي - رضي الله عنه -، وبين كل واحد وواحد عشر ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 1/ 260، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 349، وقال الذهبي في "الميزان" 1/ 45: هذا خبر منكر. (¬2) الشعر في "تاريخ دمشق" 66/ 344. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 99. (¬4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 103.

سنين، فطالب أسَنُّهم، ثم عقيل، ثم جعفر - رضي الله عنه -، ثم علي - عليه السلام - وهو أصغرهم. فأما طالب: فكنيته أبو زيد، وكان أبو طالب يُكْنى به، وكان عالمًا بالأنساب (¬1) من قريش والعرب، عارفًا بأيام الجاهلية، أخرجه المشركون يوم بدر لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكرهًا، فقال: [من الرجز] لا هم إمّا يَغْزُوَنَّ طالِبْ ... في مِقْنَب من هذه المَقَانِبْ فليكن المغلوبَ غيرَ الغَالِب ... ولْيَكن المَسْلُوبَ غيرَ السَّالِبْ فلما انهزم الكفار يوم بدر، طُلب طالبٌ فلم يوجد في القتلى، ولا في الأسرى، ولا رجع إلى مكة، ولا يُدرى ما أصابه، وليس له عقب (¬2). وأما عقيل فأخرج أيضًا يوم بدر وأُسر، ولم يكن له مال، ففداه العباس، ثم رجع إلى مكة، فأقام بها إلى سنة ثمانٍ من الهجرة، ثم هاجر إلى المدينة، فشهد غزاةَ مؤتةَ مع أخيه جعفر - رضي الله عنه -، وأصاب في ذلك الوجه خاتمًا من ذهب عليه تماثيل، فنفَّله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه (¬3). وهو الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل تَرَكَ لنا عَقيل مِن مَنزِلٍ" (¬4). وكان طالب وعقيل قد ورثا أبا طالب، ولم يرثْه جعفر وعلي - رضي الله عنهما - (¬5). وتوفي عقيل سنة خمسين من الهجرة، وسنذكره. وأما جعفر وعلي - رضي الله عنهما - فسنذكرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما البنات: فالمشهور ابنتان: أم هانئ وجُمانَة، واسم أم هانئ: هند، وقيل: ريطة. وفاختة، وقيل: جَعْدة، وهرب زوجها هُبيرة بن أبي وهب المخزومي يوم الفتح إلى نَجران، وكانت قد أجارته، وأجاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في "الطبقات الكبرى" أن عقيل بن أبي طالب هو العالم بالنسب، وكنيته أبو يزيد، انظر "نسب القرشيين" ص 110 - 111، ولم نقف على كنية لطالب هذا. (¬2) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 191، و"الطبقات الكبرى" 1/ 99 - 100. (¬3) انظر الطبقات الكبرى 4/ 40. (¬4) أخرجه البخاري (3058)، ومسلم (1351) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -. (¬5) أخرجه مسلم بعد (1351).

قال وقد بلغه إسلام أم هانئ يوم الفتح (¬1): أشاقَتْكَ هندٌ أَم أَتَاكَ سُؤالُها ... كَذاكَ النَّوَى أسبابُها وَانْتِقالُها وَقَد أَرَّقتْ في رَأسِ حِصنٍ ممنَّعٍ ... بنَجْران يَسْرِي بعدَ نْومٍ خَيالُها فإن كُنتِ قد تابعتِ دين محمَّدٍ ... وقَطَّعَتِ الأرحامُ منك حبالها فكُوني على أعلى سَحُوقٍ بهَضْبةٍ ... مُلمْلَمَةٍ حمراءَ يَبْسٍ بِلالُها وأما جُمَانة فتزوجها أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فولدت له جعفرًا، وهاجرت إلى المدينة، وأطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر ثلاثين وَسْقًا من تمر (¬2)، وتوفيت في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكل أولاد أبي طالب من فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (¬3). وذكر الواقدي: أنه كان لأبي طالب ابنة أخرى اسمها: ريطَة، ويقال لها: أم طالب (¬4). وذكر الواقدي: وبلغنا أنه كان لأبي طالب ابن اسمه: طليق، واسم أمه وعْلة (¬5). وقد روى أبو طالب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا أخرجه الشيخ جمال الدين بن الجوزي في "جامع الأسانيد"، ورفعه إلى محمد بن الحنفية، عن عروة بن عمرو الثقفي قال: سمعت أبا طالب يقول: سمعت ابن أخي الأمين يقول: "اُشكُر ترزقْ، ولا تكفر فتعذَّبْ" (¬6). * * * ¬

_ (¬1) الأبيات في السيرة 2/ 420، ونسب قريش 344. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 48. (¬3) انظر التبيين ص 111. (¬4) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 48، و"الإصابة" 4/ 310. (¬5) جاء في (خ): "طلق، وقيل اسمه وعلة"! وانظر "الطبقات الكبرى" 1/ 100. وفيه: "عله" بدل "وعله". (¬6) أورده السخاوي في "فتح المغيث" 2/ 133، وقال: لا يصح.

السنة الحادية عشرة من النبوة

السنة الحادية عشرة من النبوة قال علماء السِّيَر: لما توفي أبو طالب وخديجة - رضي الله عنهما-، اجتمع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصيبتان، فلزم بيته وقَلَّلَ الخُروج، وطمعت قريش فيه ونالت منه، فرقَّ عليه أبو لهب فجاءه فقال: يا ابن أخي، لا بأس عليك، امض لما أُمِرت به، واصنع ما كنت تصنعُ وأبو طالبٍ حيٌّ، فواللّات والعُزَّى لن يوصل إليك وأنا في الحياة. ثم إن ابن الغَيْطَلةِ سبَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنال منه أبو لهب، فصاح: يا معاشر قريش، قد صبأ أبو لهب. فقال: ما صبأتُ، ولكن أمنَعُ ابن أخي من أن يُضامَ. وأقام على ذلك مدة، فجاءه عقبة وأبو جهل (¬1) وجماعة من أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سَلِ ابن أخيك أين مستقر أبيك، فسأله؟ فقال: مع قومه. فقالوا: إنه يقول: في النار. فشق ذلك على أبي لهب، ورجع إلى عداوته (¬2). وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القبائل يدعوهم إلى الله تعالى ومعه أبو بكر، وعلي - رضي الله عنهما -. قال ابن إسحاق: أتى بني حنيفة في منازلهم، فعرض عليهم نفسه، ودعاهم إلى الله تعالى، فلم يرد عليه أحد من العرب أقبح من ردهم، وقال له رجل منهم: ما يؤوب بك قوم إلى دارهم إلا آبو بشرِّ مآبٍ. وقال له رجل من كَلْب: ما أحسن ما تدعو إليه إلا أنَّ قومك باعدوك، فلو صالحت قومك لاتبعتك العرب. قصة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - مع الغلام الشيباني: قال علي - عليه السلام -: لما أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعرضَ نفسَه على القبائل، خرجتُ أنا وأبو بكر معه، فَدُفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر وكان مقدَّمًا في كل خير، فسلَّم عليهم، وكان رجلًا نسَّابةً فقال: من القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال: وأي ربيعة؟ قالوا: من ذُهل الأكبر. قال أبو بكر: من هامتها أو من لهازِمها؟ قالوا: من ¬

_ (¬1) في "النسخ": "أبو لهب" والمثبت من "الطبقات الكبرى". (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 179 - 180.

هامتها العظمى، قال: أفيكم عوف الذي يقال له: عليك بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: أفيكم بسطامُ بنُ قيس مُنْتَهى الأَحياء، ومعدن السخاء؟ قالوا: لا. قال: أفيكُم جَسَّاس بن مرة حامي الذِّمار، ومانع الجار؟ قالوا: لا (¬1). قال: أفيكم أخوال الملوك من كِندة؟ قالوا: لا. قال: فأصهار الملوك من لَخْم؟ قالوا: لا. قال: فلستم من ذُهْلٍ الأكبر، أنتم من ذُهْلٍ الأصغر. قال: فقام إليه غلام من بني شيبان، يقال له: ذُهَلٍ. ودَغْفَل بن حنظلة بن زيد من بني بكر بن وائل شيباني، اختلفوا في صحبته، وروى عنه الحسن البصري، ومحمد بن سيرين. واستقدمه معاويةُ فأمره أن يعلِّم ابنه يزيد. قال الحسن البصري: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس وستين سنة، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، وقد أدركه. قال الأصمعي: دخل دَغْفَل على معاوية فقال له: أيُّ بيت قالت العرب أفخر؟ قال: قول الشاعر (¬2): [من الطويل] لَهم هِمَمٌ لا مُنْتَهى لِكِبارِهَا ... وهمَّتُه الصُّغْرَى أَجلُّ من الدَّهرِ له راحةٌ لو أنَّ مِعْشَار جُودِها ... على البَرِّ كان البَرُّ أَنْدَى مَن البَحرِ فقال له: أحسنت. وعاش دغفل حتى قتل يوم دولاب من فارس في قتال الخوارج. فقال دغفل: [من الرجز] نأتي على سائلنا فنسأَلُه والعبءُ لا نعرفه أو نحمِلُه يا هذا، إنك قد سألتنا فأخبرناك، ونحن نسائلك فأخبرنا: ممن أنت؟ فقال أبو بكر: من قريش. قال: بَخٍ بَخٍ، أهل الشرف والرياسة. فمن أي قريش؟ قال: من ولد تيم بن مرة. فقال الفتى: أمكنت الرامي من الهدف، أمنكم قصي الذي جمع الله به القبائل من فهر؟ قال: لا. قال: أمنكم عمرو العلى الذي هشم الثريد لقومه؟ قال: لا. قال: أمنكم شيبةُ الحمْد الذي أسقى الله به البلاد، وأحيا به العباد؟ قال: لا. قال: فمن ¬

_ (¬1) في المصادر زيادة: "فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا. قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا". (¬2) هو لبكر بن النطَّاح والبيتان في "الكامل في الأدب" 2/ 1032.

أهل الدار والندوة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة، أو الرفادة، أو السقاية، أو الإفاضة؟ قال: لا. قال: فأنت إذًا من زمعات قريش؟ قال: فجذب أبو بكر زمام ناقته وعاد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضبًا. فأنشد الغلام: [من الرجز] صَادَف دَرُّ السَّيل سَيلًا يَدْفَعُه يَهِيضُه حينًا وحينًا يَصْدَعُه قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال علي - رضي الله عنه -: فقلت: يا أبا بكر، لقد وقعت على باقعة (¬1)؟ قال: أجل يا أبا الحسن، ما من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكَّلٌ بالمنطق. قال علي - رضي الله عنه -: فدُفِعْنا إلى مجلس عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم عليهم فردوا، فقال: من القوم؟ قالوا: من شَيبان بن ثَعلبة. فقال: يا رسول الله، هؤلاء غُرَرُ الناسِ ليس وراءهم من فوقهم شيء، منهم: مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، ثم قال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنّا لنزيد على ألف، ولن يُغلبَ ألفٌ عن قِلَّةٍ. قال: فكيف المَنَعة فيكم؟ قال: علينا الجُهْد، ولكل يوم حد. قال: فكيف الحرب فيكم؟ قال: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللِّقاح، والنصر من الله، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى، ثم أشاروا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: لعله أخو قريش؟ فقال: نعم. قال: فإلام يدعو؟ قال: فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر قائم يُظِلُّه بثَوْبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أدعوكم إلى شَهادةِ أن لا إله إلا الله وأني رسُولُ الله، وأن تنصُروني وتأوُوني، فإنَّ قُريشًا قَد ظاهرَت على أمرِ الله، وكَذَّبت رسولَه" ثم قرأ: {قُلْ تَعَالوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالْوَالِدَينِ} [الأنعام: 151] الآية. قال مفروق: والله ما سمعت أجمل من هذا الكلام. فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] الآية. فقال مَفْروق: ليس هذا من كلام أهل الأرض، ولكن دَعَوْتَ إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن ¬

_ (¬1) أي: داهية.

الأعمال، ولقد أَفِكَ قوم كذبوك وظاهروا عليك، وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب رأينا (¬1)، فقال هانئ: سوف ننظر في هذا الأمر. وقال المثنى بن حارثة، صاحب حزمهم (¬2): قد سمعنا ما قلت يا أخا قريش، ولكن نحن نُزولُ حَدِّ اليمامة -أي مستنقع الماء-، فما كان منها مما يلي كسرى، فذنب صاحبها غير مغفور، وعذره غير مقبول، وقد أخذ كسرى علينا العهود أن لا نأوي مُحْدِثًا، ولا نُخدِث حدثًا، والذي تدعو إليه تكرهه الملوك، فإن شئت آويناك ونصرناك على من يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إما أسأتم الردَّ إذًا، إنَّ دِينَ الله لن يَنْصُره إلَّا مَن أحاطَه مِن جميعِ جَوَانِبِه، أرأيتم إن لَم تَلْبَثوا إلا قليلًا حتى يُورِثَكُمُ الله أرْضَهم ودِيارَهُم وأَمْوالهم ويُفرِشَكُم نِساءَهُم، أَفَتُسبحون الله وتُقدِّسُونَه". فقال النعمان بن شريك: اللهمَّ لك ذاك. ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]. قال: فما برحنا حتى بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * ¬

_ (¬1) في المصادر الآتية: "ديننا". (¬2) كذا جاءت هذه الكلمة في النسخ، ولعلها "حربهم" ففي "المنتظم" 3/ 21 - 25 و"الدلائل" 2/ 422 - 427: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.

السنة الثانية عشرة من النبوة وفيها كان المعراج

السنة الثانية عشرة من النبوة وفيها كان المعراج وقد اختلفت الروايات في أحاديث المعراج بما ورد في "المسند" (¬1) و"الصحيحين" (¬2)، وغير ذلك. وقد ذكر الثعلبي ذلك (¬3) وأطال فيه، وذكر سِدرَة المنتهى، وأنه غشيها نور من نور الله، وغشيتها ملائكة كأنهم جَراد من ذَهب، فتحوَّلت حتى ما يستطيع أحد أن ينعتها، وأن جبريل انتهى به إلى حجاب من فراش الذهب، وأن ملكًا أخرج يده من الحجاب فاحتمله، وتخلَّف جبريل، فقال له: "إلى أَين"؟ فقال: هذا منتهى الخلائق، وإنما أُذِنَ لي في الدنو من الحجاب إجلالًا لك. ثم دُلِّي له رَفْرَف أخضر يغلب ضَوْؤُه ضَوْءَ الشمس، وأنه وُضِعَ عليه، وحُمِلَ إلى العرش، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما رأيت العرش، اتضع عندي كل شيء، فقربني الله وأدناني إلى سند العرش، ووقعت على لساني قطرة من العرش فما ذاق الذائقون أحلى منها، فأنبأني الله نبأ الأولين والآخرين، وأطلق الله لساني بعد ما كَلَّ من هيبة الرحمن، فقلت: التحيات لله والصلوات الطيبات، فقال الله: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فقلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال الله: يا محمد، هل تعلم فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: أنت أعلم يا رب بذلك، وبكل شيء، وأنت علام الغيوب، فقال: اختلفوا في الدرجات والحسنات، فالدرجات: إسباغ الوضوء في السَّبرات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وأما الحسنات: فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والتهجد بالليل والناس نيام. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (12505) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، و (7835) من حديث مالك بن صعصعة. (¬2) أخرجه البخاري (3207)، ومسلم (164) من حديث مالك بن صعصعة - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم (162) من حديث أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (349)، ومسلم (163) من حديث أبي ذرّ - رضي الله عنه -. (¬3) في تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء.

ثم ألهمني أن قلت: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285] الآية، لا نفرق بين أحد من رسله كما فرقت اليهود والنصارى. قال: فماذا قالوا؟ قلت: قالوا: سمعنا وعصينا، والمؤمنون قالوا: سمعنا وأطعنا. قال: صدقت، فسل تعطه؟ فقلت: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال: رفعت عنك وعن أمتك الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. قلت: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَينَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} يعني اليهود. قال: لك ذلك ولأمتك. قلت: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: فعلت. {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} قال: قد فعلت. ثم فرض علي خمسين صلاة كل يوم، فلما عهد إليَّ بعهده؛ تركني عنده ما شاء، ثم قال: ارجع إلى قومك، فبلغهم عني، فحملني على الرفرف الأخضر إلى أن انتهيت إلى سدرة المنتهى، وجبريل - عليه السلام - عندها، فقال لي: يا محمد، أنت خير خلق الله، حباك الله بما لم يَحْبُ به أحدًا من خلقه، وبَلَغْتَ مكانًا ما وصل إليه سواك من أهل السماوات وأهل الأرض. وفيه: أنه انطلق به إلى الجنة، فأراه إياها، ووصف من قصورها وحورها وولدانها وما فيها، وأراه شجرة طوبى ووصفها، ثم أراه السلاسل والنار وما فيها، ثم إنه على موسى - عليه السلام -، وردده في الصلوات، وأنه عاد إلى الله تعالى، وسأله حتى أبقى خمسًا. وذكر أنه عاد إلى مكة (¬1). وقال ابن عباس: وفقَدَت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة، وتفرق بنو عبد مناف في طلبه، وخرج العباس - رضي الله عنه - حتى بلغ ذا طُوى، وجعل يصرخ: يا محمد، يا محمد. فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لبيك لبيك". فقال: يا ابن أخي، عَنَيتَ قومك منذ الليلة، فأين كنت؟ قال: "كنت بالبيت المقدس". قال: من ليلتك هذه؟ قال: "نعم". قال: فما أصابك إِلّا خَيرٌ؟ قال: "نعم". وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما كانت ليلة أسري بي وأصبحت بمكة، عَرَفْتُ أن الناس لا يصدقوني، فضقت بأمري ذرعًا، وقعدت معتزلًا حزينًا ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 182 - 183.

مهمومًا، فمرّ بي أبو جهل فجلس إليّ كالمستهزئ بي، فقال: هل كان شيء؟ قلت: نعم، أسري بي إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قلت: نعم، قال ابن عباس: فلم ير أبو جهل أن يكذبه مخافة أن يجحده الحديث، قال: أرأيت لو دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني به، قال: نعم، فصاح أبو جهل: يا معشر قريش هلموا، فانفضت إليه المجالس، فجاؤوا فجلسوا إليهما، فقال له: حدِّث قومك بما حدثتني به، فقال: "نعم، أسري بي الليلة من ها هنا إلى البيت المقدس" قالوا: وأصبحت بين أظهرنا، قال: "نعم" قال: فَهُمْ بين مصفق، وواضع يده على رأسه متعجبًا، ثم قالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد الأقصى؟ قال: نعم، فجيء بالمسجد فوضع دون دار عقيل، فنعتُّه لهم، وفيهم من قد سافَر إليه، فقالوا: أما النعت فقد أصاب والله في وصفه (¬1). قالوا: فأخبرنا عن عِيرنا، هل لقيت منها شيء؟ قال: نعم، مررت على عير بني فلان بالرَّوْحاءِ، وقد أضلوا بعيرًا لهم، وهم في طلبه، وفي رحالهم قدح وفيه ماء فعطشت، فشربت منه، فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا؟ وذكر لهم أشياء تحقَّقَ عندهم صدقُه فيها. فقالوا: هذا سحر مبين (¬2). وقالت عائشة - رضي الله عنها -: لما أصبح الناس يتحدثون بحديث الإسراء إلى بيت المقدس، سعى رجال من الكفار إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه قد أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أوقد قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: صدق. قالوا: أَتُصدِّقُه أنه مضى إلى الشام في ليلة ثم عاد قبل أن نصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوه ورواحه. قالت: فلذلك سمي الصديق (¬3). ¬

_ (¬1) إلى هنا الخبر عند أحمد في "مسنده" (2819)، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 363 من حديث ابن عباس. (¬2) أخرجه أبو يعلى في "معجمه" (10)، والمقدسي في "فضائل بيت المقدس" (52) من حديث أم هانئ، مطولًا بالقصتين معًا، وكأن المصنف رحمه الله جمع بين الخبرين. (¬3) أخرجه الحاكم 3/ 62، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 361، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه؛ ووافقه الذهبي.

فصول تتعلق بالمعراج

وحكى هشام بن محمد، عن أبيه قال: لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسري به، فلما كان بذي طُوى، قال: يا جبريل، إن قومي لا يصدقوني. قال: يصدقك أبو بكر، وهو الصديق - رضي الله عنه - (¬1). فصول تتعلق بالمعراج منها: أن مذهب عامة الصحابة، والتابعين، والخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين: أن الله عزَّ وجلَّ عرج بنبيه - صلى الله عليه وسلم - جَسدِه وروحِه. وحكي عن معاوية بن أبي سفيان: أنه إنما عرج بروحِه دون جسده (¬2). وقال الواقدي: كان الإسراء بجسده إلى بيت المقدس، وإلى السماء بروحه. وذكر السهيلي (¬3) في "شرح السيرة": واحتج ابن إسحاق لمعاوية بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَينَاكَ إلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، وفي حديث أنس (¬4) وأم هانئ: "فاستيقظتُ وأنا في المسجد الحرام" (¬5). وقالت عائشة - رضي الله عنهما -: أسري بروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم على فراشه، وما فقدت جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6). وجه ما روي أنه عرج بروحه إلى البيت المقدس، وروحه إلى السماء قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] جعلَ الإسراء إلى القدسِ غايةً لمعراجه ومن هناك عرج بروحه. ووجه قول الأولين قولُه تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلًا} الآية، ذكر الجُملةَ، ولو كان منامًا لقال بروحه، لأنه لو كان منامًا لم تكن معجزة، ولا أنكرته ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 183 من حديث أم هانئ، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (7173) من حديث أبي هريرة. (¬2) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 34. (¬3) في (خ): "الثعلبي". (¬4) أخرجه البخاري (7517) من حديث أنس، ولم نقف عليه من حديث أم هانئ. (¬5) "الروض الأنف" 2/ 191. (¬6) أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار" (مسند علي) ص 447، وانظر "السيرة" لابن هشام 2/ 34.

قريش. وقد دلت عليه الأحاديث الصحاح، وإجماع العلماء مثل: الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وجابر، وأنس، وأبي هريرة، وحذيفة، وابن مسعود، ومالك بن صعصعة، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وعائشة، وأم هانئ، في آخرين. ومن التابعين خلق يطول ذكرهم لم يُذكر مخالف إلا ما روي عن معاوية. وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَينَاكَ إلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، فقد روى عكرمة، وأبو صالح، والوالِبي، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه بني أمية ينزون على منبره نَزْوَ القِرَدة، فساءه ذلك، فأنزل الله هذه الآية. فلا تعلق لها بالمعراج (¬1). وأما قول عائشة - رضي الله عنهما -: ما فقدت جَسَدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأين كانت عائشة في زمن المعراج، فإنها كانت بنت ست سنين بإجماع العلماء، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل بها إلا في المدينة بعد ثلاث سنين من المعراج، فلا تثبت الرواية. وقوله: جعل الإسراء إلى بيت المقدس غاية، فلا ينبغي أن يكون إلى غيره، وقد ثبت بالنصوص الصحاح: أن ذلك كان يقظة لا منامًا. وذكر القاضي عياض في كتاب "الشفا" (¬2): أن مذاهب المسلمين والمذهب الحق: أن الله عرج بنبينا بجسده - صلى الله عليه وسلم - وبروحه جملة. فإن قيل: فلِمَ قال: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلًا} ولم يقل: نهارًا. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الليل أستر للأحوال لئلا يصير فتنة كما صار عيسى - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (6461) والحاكم 4/ 480، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1168) و (1169) من حديث أبي هريرة، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن الجوزي: حديث لا أصل له. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 244 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، غير مصعب بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة. (¬2) "الشفا" 1/ 248.

وقال أبو يزيد البسطامي: الليل ميدان المحبين، يجري فيه من الانبساط ما لا يجري بالنهار. وقال بعض أهل المعاني: لما كان الذهاب من مكة إلى البيت المقدس في ليلة والرجوع منه إلى مكة، مما تأباه عقول قوم سبح الله نفسه عند ذلك، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلًا}، وكذا لما كان مجيء الليل وإقبال النهار خرقًا للعادة، سبح الحق نفسه، فقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)} [الروم: 17] في نظائر كثيرة، فالحق سبحانه ما سبح نفسه إلا عند كل عظيم. فإن قيل: فما الحكمة في إسرائه من مكة إلى القدس ولم يسر به من مكة إلى السماء؟ فالجواب من وجوه: أحدها: إنما أسري به إلى القدس ليستأنس، فيتدرج به إلى صعود السماء. والثاني: لأن الأنبياء - عليهم السلام - جُمِعوا له هناك، فصلى بهم، وفي ضمن ذلك نسخ شرعهم بشرعه. والثالث: لأنه على الأماكن التي كلم الله عليها موسى وشاهدها، ثم عرج به إلى السَّماوات، وزيد على ذلك النظر ليظهر له التفاوت (¬1). ومنها (¬2): أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه، وهو قول من سمَّيْنا من العلماء في الليلة الماضية. وروي عن عائشة - رضي الله عنهما-، أنها أنكرت ذلك، وقالت: إنما رآه بعيني قلبه. قال مسروق: سألتُ عائشة: هل رأى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ربه بعيني رأسه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، من حدَّثك بهذا فقد كذب، ثم قرأت: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] الآية. ولما قال مسروق لعائشة - رضي الله عنهما -: هل رأى ربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط، وقرأ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1]؟ قالت عائشة - رضي الله عنهما -: إلى أين تَذْهب؟ بل إنما رأى جبريل في صورته (¬3). ¬

_ (¬1) لم يذكر المصنف الوجه الثاني لحكمه الإسراء به ليلًا. (¬2) أي من الفصول المتعلقة بالمعراج. (¬3) أخرجه البخاري (4855)، ومسلم (177)، والترمذي (3278).

والصحيح: قول عامة الصحابة. قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حمَّاد بن سَلَمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأَيتُ ربي تبَارك وتَعالى" (¬1). ولو رآه بعيني قلبه، لم يكن له مزية على آحاد أمته، فإن عامة المؤمنين يرون الله تعالى بقلوبهم دائمًا. وحكى النَّقَّاش، عن الإمام أحمد بن حنبل - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أنا أقول: رأى ربه بعيني رأسه، رآه، رآه، رآه، ... حتى انقطع نفس الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - (¬2). وحكى القاضي عياض، عن أبي الحسن الأشعري أنه قال: رآه ببصره وعيني رأسه، قال: وكل آية أوتيها نبي من الأنبياء فقد أوتيها نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وخُصَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - من بينهم بتفضيل الرؤية (¬3). وما روي عن عائشة - رضي الله عنهما-، فالجواب عنه من وجوه: أحدها: أنه رأي منها، لا رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولمَّا قيل للإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: بماذا ترد قول عائشة؟ فقال: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأَيتُ رَبِّي". والثاني: أنها لم تكن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمن المعراج. والثالث: أنها نفت، والعمل على الإثبات، وقد أثبتَ الروايةَ أعيانُ الصحابة، وقولهم مقدَّمٌ على رأيها، خصوصًا وقد رفعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال القاضي عياض: رؤية الله في الدنيا جائزة عقلًا، وليس في العقل ما يحيلُها، ولهذا سألها موسى - عليه السلام -، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله تعالى (¬4). قال المصنف -رحمه الله-: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما رأى ربه في دار الدنيا، وإنما راه في الدار الآخرة، لأن {قَابَ قَوْسَينِ} [النجم: 9] ليس من حساب الدنيا، وخصوصًا وقد خرق ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2580). (¬2) في (خ) تكرر الحديث السابق بسنده فلعله سبق قلم من الناسخ. وانظر الخبر في "الشفا" 1/ 260. (¬3) "الشفا" 1/ 261. (¬4) "الشفا" 1/ 261.

سبعين حجابًا من النور بعد أن جاوز سدرة المنتهى، فثبتت الرؤية. وسئل أبو العباس بن عطاء، قال: كيف أصف لكم مقامًا انقطع عنه جبريل، والملائكة المقربون، ولم يبق إلا محمد وربه تعالى؟ وفي تلك الليلة ارتفعت الوسائط، ألا ترى إلى قوله لجبريل - عليه السلام - لمّا زجَّه في النور: يا جبريل، ها هنا يفارق الخليل خليله؟ فقال: لو دنوت أنملة لاحترقت. * * * واختلفوا في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 18] على أقوال: أحدها: ما شاهد عند قاب قوسين. والثاني: الرفرف الأخضر الذي سد الأفق. والثالث: جبريل - عليه السلام - في صورته التي خلقه الله عليها (¬1). والرابع: الجنة والنار، وما رأى من الملائكة - عليه السلام -. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - لما نزل قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}، جاء عتيبة بن أبي لهب، فوقف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا محمد، هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تَفَل عليه وسبَّه. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زوجه إحدى بناته، فطلَّقها عتيبة في ذلك اليوم، ولم يكن دخل بها. فدعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللَّهمَّ سَلِّط عليه كلبًا من كِلابِكَ". وبلغ أبا لهب، فقال: ما كان أغنى عتيبة عن دعوة محمد - رضي الله عنه -. ثم إن أبا لهب خرج إلى الشام في تجارة ومعه عتيبة، فنزل الزرقاء، فاطلَعَ راهب من صومعته وقال: يا قوم، احفظوا رحالكم، فهذه أرض مَسْبَعَة، فقال أبو لهب لأصحابه: أعينونا الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا حمالهم، وفرشوا لعتيبة في أعلاها، ونام القوم حوله، وجاء الأسد فجعل يتشمم القوم حتى وصل إلى عتيبة وشمه، ثم ضرب بيده، فأخذ يَافوخه، وانتبه القوم وقد أكله، فعاد أبو ¬

_ (¬1) انظر تفسير الثعلبي 6/ 15.

لهب إلى مكة حزينًا، وهو يقول: استجيب لمحمد في ابني. وكان كُنيةُ عُتيبةَ: أبا واسع، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت (¬1): [من السريع] سائل بني الأَشعرِ إن جئتَهم ... ما كان أَنباءُ أَبي واسعِ لا وسَّع الله له قبره ... وضيَّق الله على القاطعِ رمى رسولَ الله من بينهم ... دون قريش رميةَ القاذع فاستوجب الدعوة منه بما ... بَيَّن للناظر والسامع أن قيَّض الله له كلبه ... يمشي الهوينا مشية الخادع حتى أتاه ويسْط أصحابه ... وقد عَلَتْهم سِنَةُ الهاجِعِ فالتقم الرأسَ بيافوخه ... يفعل فِعلَ القَرِمِ الجائعِ ثم علا بعد بأنيابه ... معفَّرًا وسْط دمٍ ناقعِ قد كان هذا لكم عبرةً ... للسيّد المتبوع والتابع من يرجع الآن إلى أهله ... فلستَ يا عتبةُ بالراجعِ قال البلاذُري: وجعل عتيبة يقول وهو بآخر رمق: ألم أقل لكم إن محمدًا أصدق الناس، ومات (¬2). واختلف الناس في المدة التي كانت بين المعراج والهجرة على أقوال: أحدها: سنة. والثاني: ستة أشهر. والثالث: ثمانية أشهر. والرابع: سنة ونصف. وعلى ذلك يُبنى خلافهم في أي شهر كان، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم 2/ 539 والبيهقي في "الدلائل" 2/ 338 من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الحافظ في "الفتح" 4/ 39: حديث حسن. وأخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 38/ 302 من حديث هبار بن الأسود. وأخرجه الدولابي في "الذرية الطاهرة" ص 58، وأبو نعيم في "الدلائل" 1/ 220 من حديث محمد بن كعب القرظي وعثمان بن عروة بن الزبير. والأبيات في ديوانه ص 153. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 149.

وفي هذه السنة لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من الأوس والخزرج، فآمنوا به. قال الواقدي: قدم جماعة منهما إلى الحج، فانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فريق منهم، فقرأ عليهم القرآن، فدعاهم إلى الله، فآمنوا. قال ابن إسحاق: قدم أبو الحَيْسر بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحِلف من قريش على قومهم من الخزرج، لِما كان بينهم من الحرب، فسمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم، وقال لهم: "هل لَكُم إلى خَيبر مما جِئتُم له"؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: "تَعبدونَ الله وتُوحِّدونَه" وقرأ عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان حدثًا عاقلًا: أي قوم، والله إن هذا لخير مما جئتم له. فأخذ أبو الحَيْسَر حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس وقال: دعنا من هذا، فلعمري لقد جئنا إلى غيره. فصمت إياس، فقال أبو الحيسر: جئنا نطلب حلف قريش على أعدائنا، فنرجعُ وقريشٌ أعداؤنا، وقام عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجعوا إلى المدينة. وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج. كذا وقعت هذه الرواية: أن وقعة بُعاث كانت في هذه السنة، وقد تقدم أنها كانت قبلها، والله أعلم. فيقال: إن إياس بن معاذ أول من أسلم، ومات يوم بعاث مسلمًا لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان عند موته يكبِّر ويهلل (¬1). واختلفوا في أول الأنصار إسلامًا، على أقوال: أحدها: إياس بن معاذ، قاله ابن إسحاق. والثاني: أسعد بن زُرارة، وذَكْوان بن عبد قيس، قدما مكة يتنافران إلى عتبة بن ربيعة، فلما اجتمعا به -وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا يصلي في المسجد-، فأشار إليه عتبة، وقال: لقد شغلنا هذا المصلي عن كل شيء، يزعم أنه رسول الله، وكان أسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التَّيِّهان يتكلمان في التوحيد بيثرب، ويسمعان من أحبار اليهود ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 53 - 54، و"الطبقات الكبرى" 3/ 404، والطبراني في "الكبير" (805) والحاكم 3/ 180، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 420 - 421. وقال الحافظ في "الإصابة" 1/ 91: رواه جماعة عن ابن إسحاق هكذا، وهو من صحيح حديثه. وبعاث يقال بالعين وبالغين.

ذكر نسب الأنصار

أنه قد بعث نبي يدعو إلى الله تعالى، فقال ذكوان لأسعد لما سمع قول عتبة: دونك، هذا دينُك، فقاما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليهما القرآن، فأسلما وعادا إلى المدينة، فلقي أسعدُ أبا الهيثم بن التيهان فأخبره بإسلامه، فقال: وأنا أشهد أنه رسول الله، وأسلم. قاله الواقدي (¬1). والثالث: رافع بن مالك الزُّرَقي، ومعاذ بن عفراء، خرجا إلى مكة مُعْتَمِرَيْنِ، فَذُكِرَ لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتياه، فقرأ عليهما القرآن فأسلما، ثم عادا إلى المدينة. فأول مسجد قرئ فيه القرآن بالمدينة مسجد بني زُرَيق. قاله ابن الكلبي (¬2). ذكر نسب الأنصار: قال الزبير بن بكار: الأنصار من اليمن وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبيد الله بن الأَسْد (¬3) بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان (¬4). والأوس والخزرج ابنا قَيلة، وهي أمهما نسبا إليها، وهما ابنا حارثة -وهو العنقاء- ابن عمرو -وهو مُزَيقياء- ابن عامر -وهو ماء السماء- ابن حارثة -وهو الغِطْريف- ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأَزْد -واسمه: دَرّا (¬5) - ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كَهْلان [بن سبأ] (¬6) -واسمه: عامر وسمي: سبأ، لأنه أول من سَبى السبيَ، وكان يدعى عبد شمس من حسنه- ابن (¬7) يَشْجُب بن يعْرُب-وهو المُرْعَف (¬8) - ابن يَقْطُن، وهو قَحْطان وإلى قَحْطان جماع اليمن، فمن نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم - عليه السلام - قال: قحطان بن الهمَيْسَع بن تيمن بن نَبْت بن إسماعيل - عليه السلام -. قال ابن سعد: ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 185 - 186. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 186. (¬3) الأَزد ويقال: الأَسد بوزن العقل، وهو الأفصح، إلا أن الأول أكثر: "الإيناس بعلم الأنساب" ص 57. (¬4) انظر "سيرة" ابن هشام 1/ 10. (¬5) في "النسخ": "ذر"، والتصويب من "الطبقات" 3/ 388، و"سبل الهدى والرشاد" 3/ 251. (¬6) ما بين حاصرتين زيادة من "الطبقات". (¬7) في "النسخ": "واسمه يشجب" والمثبت من الطبقات. (¬8) في "النسخ": "بن المرعف" والتصويب من "الطبقات" و"الإكمال" 7/ 238.

ذكر أولاد الأوس بن حارثة

هكذا كان ينسبه هشام بن محمد الكلبي، عن أبيه. قال: وعليه عامة الأنساب أنَّ قَحْطان من ولد إسماعيل - عليه السلام -، ومن نسبه إلى غيره يقول: قحطان بن فَالَغ بن عابِر بن [شالخَ بن] (¬1) أَرْفَخْشذ بن سام بن نوح - عليه السلام -. قال ابن سعد: وأم الأوس والخزرج قَيْلَة بنت كاهل بن عُذْرة بن سعد بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. وكان حَضَن سعدًا عبدٌ حبشي، يسمى: هُذيمًا فغلب عليه، فيقال: سعد بن هُذيم. ذكر أولاد الأوس بن حارثة: مالك بن أوس، ومنه تفرقت القبائلُ كلُّها وبطونها، فولد مالك: عَمْرًا وهو النَّبِيت، ومنه بنو عبد الأشهل، وبنو ظَفَر -واسم ظَفَر: كعب- وبنو حارثة بن الحارث. فهذه النَّبيت من الأوس (¬2). وقال الجوهري: والنبيت حي من اليمن (¬3)، ومنهم عمرو بن عوف، وجَحْجَبى وقبائل شتى (¬4). ذكر أولاد الخزرج بن حارثة: وهم خمسة نفر: جُشَم وعوف وهما الخرطومان، والحارث وعمرو، وكعب، بنو الخزرج. فأما جُشَم، فكان منيعًا وبه يضرب المثل: إن سَرك العِزُّ فجخجخ بجُشم (¬5) أي: لُذبه. ومن جشم: بنو تَزيد منهم سَلِمَةُ وبطونُها. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "الطبقات". (¬2) انظر "المعارف" ص 110. (¬3) "الصحاح" (نبت). (¬4) كذا، وفي المعارف 110: وعوف بن مالك، ومنهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء ومنهم جَحْجَبى. (¬5) هو رجز للأغلب العجلي، وهو في المعارف 109 وسلف في القبائل والعمائر من الجزء الثاني.

ذكر العقبة الأولى

ومن جُشم أيضًا: بنو بَياضة. وأما عوف بن الخزرج، فمنهم: بنو الحُبلى. رهط عبد الله بن أُبَي بن سَلول. ومنهم القَواقل، وكان يقال للرجل إذا استجار بيثرب: قَوْقِل وقد أَمِنْتَ (¬1)، واسم القَوقل: غَنْم بن عوف بن عمرو بن الخزرج، وقيل: عمرو بن عوف، ومنهم: بنو سالم. وأما عمرو بن الخزرج، فمنهم: بنو النجار، واسم النجار: تيم اللَّات بن ثعلبة، وإنما سمي النجار، لأنه نجر رجلًا بقَدُوم فقتله. وأما كعب بن الخزرج، فهم بطون بني ساعدة رهط سعد بن عبادة. فهذا أصل نسب الأوس والخزرج (¬2). ذكر العقبة الأولى: لما أراد الله إظهارَ دينه وإعزازَ نبيِّه وإنجازَ موعده، لقي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالموسم جماعةٌ من الأنصار. واختلفوا فيهم على قولين: أحدهما: أنهم كانوا اثني عشر رجلًا، عشرة من الخزرج، واثنان من الأوس. فمن الخزرج: أسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وذكوان بن عبد قيس، وعُبادة بن الصامت، وعَبّاس بن عُبادة، وعقبة بن عامر، وقُطبَةُ بن عامر، وعوف ومعاذ (¬3) ابنا عَفْراء وهي أمهما، -وأبوهما: مالك بن رفاعة، وقيل: الحارث بن رفاعة- ويزيد بن ثعلبة. فهؤلاء العشرة من الخزرج. ¬

_ (¬1) قال ابن دريد في "الاشتقاق" ص 456: القَوْقَلَة: التغلغل في الشيء، والدخول فيه. وقال ابن هشام في "السيرة" 2/ 57: وإنما قيل لهم: القواقل، لأنهم كانوا إذا استجار بهم الرجل دفعوا له سهمًا وقالوا له: قوقل به بيثرب حيث شئت. وقال: القوقلة: ضرب من المشي. (¬2) انظر "المعارف" ص 109. (¬3) في "النسخ": "معوذ" والصواب: معاذ كما في "السيرة" لابن هشام، و"الطبقات الكبرى" وانظر "الإصابة" 3/ 428.

وأما من الأوس: فعُويم بن ساعدة، وأبو الهيثم بن التيهان (¬1)، قاله الواقدي. والثاني: أنهم كانوا ستة، ذكره ابن إسحاق، وقال: لما أراد الله إظهار الإسلام، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الموسم، فصادف جماعة من الأنصار، فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الإسلام، فقال بعضهم لبعض: ويحكم، هذا والله النبي المبعوث الذي وعدكم به اليهود، فلا يسبقْكم إليه أحد، فأجابوه. وكانوا ستة: أسعد بن زُرارة، وعوف بن مالك، وهو ابن عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان، وقُطبة بن عامر بن حَديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رِئاب (¬2). وقال الواقدي: الثابت عندنا، أنه لم يسلم أحد قبل هؤلاء، وواعدوه على أن يأتوا العام القابل، وبايعوه على الإيمان بالله ولوازِمه، ولم يبايعوه على الحرب لأعدائه. وقال عبادة بن الصامت: بايعناه عند العقبة، بيعة النساء (¬3). يعني من غير ذكر الحرب والنَّضر. وحكى الواقدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أبايعكم على أن تمنعوا ظهري حتى أُبَلِّغَ رسالاتِ ربي". قالوا: يا رسول الله، نحن أعداءٌ مُتباغِضون، وإنما كانت وقعة بعاث عام أول، فإن تَقْدُمْ علينا ونحن على ذلك، لا يكون لنا عليك اجتماع، فدَعنا نرجع إلى أهالينا وعشائرنا لعل الله أن يصلح ذاتَ بَينِنا، وموعدك العام القابل، فبايعوه على أن لا يشركوا بالله شيئًا. قال عبادة: ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، فإن وفوا بذلك فلهم الجنة، كان غَشَوْا شيئًا فَأمرهم إلى الله، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذَّبهم، ثم انصرفوا إلى المدينة، وبعث معهم مصعب بن عمير يُقرئهم القُرآن ويُفقِّهُهُم في الدين، وفشا الإسلام في المدينة، فلم يبق فيها دار إلا وفيها ذكر لرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان مصعب قد نزل على أسعد بن زرارة، وكان يسمى المُقْرئ، فقال سعد بن معاذ لأُسَيد بن حُضَير: ائت أسعد بن زرارة فأخّره عنا، فقد بلغني أنه جاء بهذا الرجل الغريب معه يُسَفِّه سفهاءنا، ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 56 - 57، و"الطبقات الكبرى" 1/ 187، و"المنتظم" 3/ 32 - 33. (¬2) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 54 - 55. (¬3) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 57، و"الطبقات الكبرى" 1/ 187، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 436.

فذهب أسيد بن حُضَير إلى أسعد، فقال له: ما لنا وما لك قد أتيتنا بهذا الرجل الغريب يُسَفِّه ضعفاءَنا. فقال: أَوَتجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته تركته. فقال: أنصفت. فجلس فقرأ عليه مصعب القرآن، وعرض عليه الإسلام، فقال أسيد: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين؟ قال: نتطهرُ، ونُطَهِّرُ ثيابنا، ونشهد شهادة الحق، ففعل ذلك. وخرج فأخبر سعد بن معاذ فجاء إليهم، فدعاه مصعب إلى الإسلام فأسلم، وجاء حتى وقف على بني عبد الأشهل فقال: أَيُّ رجل تعلمون أنا؟ قالوا: خيرنا وأفضلنا. فقال: إن كلامَ رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تسلموا، وتؤمنوا بالله، وتصدقوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فوالله ما أمسى في ذلك اليوم رجل وامرأة من بني عبد الأشهل حتى أسلموا (¬1). قال ابن إسحاق: لما فشا الإسلام في المدينة وكثر المسلمون، عاد مصعب بن عمير إلى مكة وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَسُرَّ بذلك، وكان رجوع مصعب إلى مكة قبل العقبة الثانية (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 58 - 60، و"دلائل النبوة" 2/ 431 - 432. (¬2) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 61.

السنة الثالثة عشرة من النبوة

السنة الثالثة عشرة من النبوة وفيها خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الموسم على ميعاد الأوس والخرج، فلقيه جماعة، فواعدهم العقبة من أوسط أيام التشريق. قال ابن إسحاق: حدثني معبد بن كعب بن مالك بن أبي بن كعب أخو بني سلمة، أن أخاه عبد الله بن كعب حدثه، أن أباه كعب بن مالك حدثه، وكان ممن شهد العقبة، وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة، فلما فرغنا من الحج، خرجنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر بن عبد الله، وهو مشرك، وكنا نكاتمه الأمر ومن معنا من المشركين، فقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن يكون حظّنا الجنة وحظك النار فقال: وما ذاك؟ فأخبرناه الخبر وعرضنا عليه الإسلام، فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما مضى ثُلُثُ الليل خرجنا من رحالنا نتسلل تسلل القطا مُسْتَخفين، وكان معنا ابن أُبَيٍّ في الرّحال، ولا يعلم بما نحن فيه، وأمَرَهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يُنبِّهوا نائمًا ولا ينتظروا غائبًا، فاجتمعوا عند الشعب ليلة النَّفْر الأول أوسط أيام التشريق -وفي رواية: فوافَوْه في الشعب الأيمن إذا انحدرْتَ مِن منى أسفل العقبة حيث المسجد اليوم-، وقد سبقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو على دين قومه، وإنما أراد أن يستوثق لابن أخيه، فتكلم العباس وقال: يا معاشر الخزرج -وكانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار الخزرج، سواء كان خزرجيًّا أو أوسيًّا-، إن محمدًا ابن أخي، وقد علمتم مكانته منا، وهو مِنَّا حيثُ قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على ديننا أو على مثل رأينا، وهو في عِزٍّ ومَنَعَةٍ في بلده، وقد أَبى إلّا الانقطاع إليكم، واللِّحاقَ بكم، فإن كنتم تَفُون له بما وعدتموه أو دعوتموه إليه، فمانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمَّلتم له، وإن كنتم خاذلوه بعد الخروج معكم، ومسلموه إلى أعدائه، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده وأهله.

فتكلم البراء بن معرور وقال: يا رسول الله، خذ لربك ولنفسك ما أحببت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُبايِعُكُم على أن تَمنعُوني ممَّا تَمنَعُون منه أَبناءَكُم ونُفوسكُم ونساءَكُم". فقال البراء -وقد أخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أُزُرَنا، فبايعْ يا رسول الله، فنحن أهل الحرب والحَلْقَة ورثناها كابرًا عن كابر، فاعترضه أبو الهيثم بن التيهان حليفُ بني عبد الأشهل، وقال: إن بيننا وبين الناس حِبالًا، ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعَنا، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "لا والله، بلِ الدَّمَ الدَّمَ، والهدمَ الهدمَ، أُحاربُ من حارَبتُم، وأُسَالِمُ مَن سَالمتُم". فاعترضهم العباس بن عُبادة بن نَضْلَة الأنصاري وقال: يا معشر الخزرج، أتدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ إنكم إنما تبايعونه على حرب الأحمر والأبيض والأسود من الناس، فإن كنتم إن أنهكتكم مصيبة، ترجعون عنه وتسلمونه، فمن الآن وهو والله [إن فعلتم] خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه من قتل الأشراف، وهلاك الأموال، فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. فقالوا بأجمعهم: بل نأخذه على ما ذكرت، ثم قال: يا رسول الله، فما لنا إن وفينا؟ فقال: "لكُمُ الجَنَّة". فقال: ابسط يدك، فبايعوه (¬1). قال ابن عباس: وأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] الآية، فقالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل (¬2). وأول من بايعه: أسعد بن زرارة، وقيل: البراء بن مَعرور، وقيل: أبو الهيثم بن التيهان، ثم أكثر اللَّغَطُ، فقال العباس: على رسْلكم، فإن علينا عيونًا، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نَقِّبوا اثني عشر نقيبًا يكونوا كُفلاء على قومهم، كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم -وفي رواية: أن موسى اتخذ من قومه اثني عشر نقيبًا فلا يجدنَّ أحدُكم في نفسه أن يُؤخَذَ غيره- فكان نقيب بني النجار: أسعد بن زرارة، ونقيب بني سَلِمة: البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حَرَام أبا جابر، ونقيب بني ساعدة: سَعْد بن عبادة والمنذرَ ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 61 - 67، و"الطبقات الكبرى" 1/ 188، وهي العقبة الآخرة. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 14/ 499 من حديث عبد الله بن رواحة، وانظر "أسباب النزول" للواحدي ص 263، وفي نقف عليه من حديث ابن عباس.

ابنَ عمرو، ونقيبُ بني زريق: رافع بن مالك بن العَجْلان، ونقيبُ بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة وسعد بن الربيع، ونقيبُ القواقل: عبادة بن الصامت، ونقيبُ الأوس: أُسَيد بن حُضَير وأبو الهيثم بن التَّيهان، ونقيب بني عوف: سعد بن خيثمة (¬1). قال مقاتل: وإنما قصدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضبطهم بالنقباء كما فعل موسى - عليه السلام - ببني إسرائيل في قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَي عَشَرَ نَقِيبًا وَقَال اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12] الآية. ولما بايع القوم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سُمِع قط: يا أهْلَ الأخاشب، هل لكم في مُذَمَّم والصُّباة معه، فإنهم قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ندعو الله يا أزَبَّ العقبة (¬2)، ما تقول؟ والله لأَتَفرَّغَنَّ لك" ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارفَضوا إلى رِحَالِكُم". فقال له العباس بن عُبادة بن نَضلة: يا رسول الله، إن شئت مِلْنا بأسيافنا على أهل منى -وكانوا مئة رجل-، وإنما لقي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - منهم سبعون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حاجة لي بذلك، ارجعوا". فانصرفوا إلى رحالهم. ولما أصبح القوم غدا عليهم جلَّةُ قريش وأشرافُهم وقالوا: قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. وانبعث رجال من الأنصار -لم يحضروا البيعة- يحلفون لقريش بالله ما كان من هذا شيء، والذين شهدوا العقبة ينظر بعضهم إلى بعض، وقال عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول- وكان في الرحال ولم يشهد البيعة-: ما كان لقومي أن يَفْتاتوا عليَّ بمثل هذا حتى يُؤامِروني، وإن هذا الأمر جَسيمٌ. ثم تفرقوا، ولما انفصلت الأنصار عن منى، تقدم البراء بن معرور إلى بطن يَأجَج وتلاحق به أصحابه المسلمون، وصح عند قريش الحديث، فخرجوا في طلبهم، فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو بالحاجر وكلاهما نقيبان، فأما المنذر فإنه ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 65، و"الطبقات الكبرى" 1/ 189، و"دلائل النبوة" 2/ 442 - 449. (¬2) في النسخ: "الكعبة" والمثبت من المصادر، انظر الحاشية السابقة.

أَعجَز القومَ ومضى، وأما سعد فقالوا له: أنت على دين محمد؟ قال: نعم. فربطوا يديه إلى عنقه بِنِسْع رَخله، وعادوا به إلى مكة يضربونه ويسحبونه بشعره، وكان ذا جُمَّةٍ، فقال له رجل: ويحك، أما بينك وبين أحد جوار؟ قال: بلى كنت أجير لجبير بن مُطْعم والحارث بن أمية بن عبد شمس، قال: فاهتف باسمهما، فصاح بهما عند الكعبة فجاءا فخلَّصاه، ولَكَم سعدًا سهيلُ بن عمرو لكمةً شديدة، وكان الذي أسر سعدًا ضرار بن الخطاب الفِهْري، وكان أشدَّ الكفار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: [من الطويل] تَداركتُ سعدًا عَنْوةً فأسَرتُه ... وكان شِفائي لو تَداركتُ مُنْذِرا ولو نِلْتُه طُلَّتْ دماءُ جراحِه ... أحقُّ دماءٍ أن تُطَلَّ وتُهْدرا (¬1) فأجابه حسان بن ثابت (¬2): [من الطويل] فخرتَ بسعدِ الخير حين أسرتَه ... وقلتَ شِفائي لو تداركتُ منذِرا وإن امرءًا يَهْدي القصائدَ نحونا ... كمستبضعٍ تمرًا إلى أهل خيبرا فلا تك كالشاةِ التي كان حَتْفُها ... بحفر ذراعيها فلم ترض مَحْفَرا ولما خلص سعد، لحق بالأنصار وكانوا قد عزموا على أن يَكُرُّوا على أهل مكة، فتوجهوا إلى المدينة (¬3). وبين العقبة والهجرة ثلاثة أشهر. * * * وفيها: أَمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بالهجرة إلى المدينة. قالت عائشة - رضي الله عنهما -: لما حَدَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منى وقد انصرف الأنصار من عنده، وطابت نفسه بأن جعل الله له قوة ومنعة وقومًا هم أهل حرب ونجدة، وجعلَ البلاءُ يشتد على مَن بمكة من المسلمين لِما علم أهل مكة من شدة بأس الخزرج، فضيَّقوا ¬

_ (¬1) البيتان في "السيرة" لابن هشام 2/ 69 - 70، ورواية الشطر الأخير عنده: وكان حريًّا أن يهان ويهدرا، وهما في "أنساب الأشراف" 1/ 295 كما عند المصنف. (¬2) الأبيات في "أنساب الأشراف" 1/ 295، والسيرة 1/ 451. (¬3) "السيرة" لابن هشام 2/ 68 - 70، و"الطبقات الكبرى" 1/ 190، و"مسند أحمد" (15798)، و"تاريخ الطبري" 2/ 367 - 368 و"المنتظم" 3/ 42.

عليهم، وعبثوا بهم، ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه قبل ذلك، فشكا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه واستأذنوه، فقال: "إنه لم يُؤْذَن لي في ذلك بَعْدُ"، ثم إنه خرج عليهم بعد ذلك، فقال: "قد أُريتُ دَار هِجرَتِكُم وهي سَبْخَةٌ ذاتُ نَخْل بين لابَتَين و [لو] كانت السراة أرض نَخْل وسَبَخ لقلت: هي هي" ثم مكث أيامًا وخرج إليهم مسرورًا وقال: "قد أُرِيتُ دارَ هِجرَتِكُم، وهي يَثْرِبُ، فَمن أرادَ الخُروجَ فَليَخرج" فجعل القوم يتجهزون ويترافقون ويتسللون ويتواسَوْن ويخفون خروجهم (¬1). وأول من قدم المدينة بعد مصعب بن عمير من فقراء المهاجرين: ابن أم مَكتوم (¬2)، وأبو سلمة بن عبد الأسد بعده، وقيل: أول من قدم مهاجرًا: أبو سلمة قبل العقبة الأولى بسنة، وكان قد هاجر إلى الحبشة، ثم قدم مكة وهاجر منها إلى المدينة (¬3). وكانت أمُّ سلمة - رضي الله عنها - أولَ امرأة وردت المدينة، وقيل: أولُ ظَعينة قدمت المدينة: ليلى بنت أبي حَثْمة بن عدي زوجة عامر بن ربيعة العنزي (¬4). ولما قدموا المدينة على الأنصار آوَوْهم وواسَوْهم، وسالمٌ مولى أبي حُذيفة يؤم بهم في قباء، ثم قدم المدينة: بلالٌ وسَعْد وعُمَرُ وعمار - رضي الله عنه -. وتتابع الناس فلم يبق بمكة من بني أسد بن خزيمة أحد حتى أغلقت أبوابهم، وأبواب بني البُكَير، وأبواب بني مَظعون. وقدم جماعة من الأنصار الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة البيعة الثانيةَ إلى مكة، ثم هاجروا منها إلى المدينة، فهم مهاجرون أنصاريون منهم: ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب، والعباس بن عبادة، وزياد بن لبيد. وخرج من مكة [مَنْ فيها] من المسلمين، ولم يبق فيها سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 1/ 192، وهو عند البخاري (2297). (¬2) أخرج البخاري (3925) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانوا يقرؤون الناس. (¬3) "سيرة" ابن هشام 2/ 80. وجمع ابن حجر في الفتح 7/ 677 بين القولين: بأن أبا سلمة خرج لقصد الإقامة بالمدينة بل فرارًا من المشركين، بخلاف مصعب بن عمير فإنه خرج إليها للإقامة بها وتعليم من أسلم من أهلها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلكُلٍّ أولية من جهة. (¬4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 192، و"الأوائل" لابن أبي عاصم ص 73.

بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - (¬1). فهاجر عمر - رضي الله عنه - قبلهم في قول البعض. وقد روى الهيثم بن عدي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: ما علمت أحدًا من المهاجرين هاجر إلا مختفيًا غير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فإنه تقلد سيفه، وتنكَّبَ قوسه، وانتضى في يده أسهمًا، ومضى نحو البيت والملأ من قريش بفناء الكعبة، فطاف بها سبعًا، ثم أتى المقام فصلى عنده ركعتين، ودار على المجالس والحِلَقِ واحدًا واحدًا يقول: شاهت الوجوه لا يُرْغِمُ الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن يوتم ولده، أو يرمّل زوجته، أو تثكله أمه، فليلحقني ببطحاء مكة، أو بوادي مكة، فإني مهاجر إلى الله ورسوله. ثم خرج فركب فرسه، وحمل سلاحه، فما جسر أحدٌ أن يتبعه ثم مضى إلى المدينة (¬2). وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظر أن يُؤْذَنَ له في الهجرة، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يستأذنه في الهجرة، وهو يقول له: "لا تَعجَلْ لعلَّ الله أن يَجعلَ لك صاحبًا"، فطمع أبو بكر أن يكونه (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر "سيرة" ابن هشام 2/ 77 - 79، و"الطبقات الكبرى" 1/ 193، وليس فيها ذكر عمر. (¬2) انظر "تاريخ ابن عساكر" 44/ 51 - 52. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" 22 / (462) من حديث هشام بن العاص بن وائل السهمي. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 62 وقال: وفيه عبد الرحمن بن بشير الدمشقي، ضعفه أبو حاتم. وله شاهد عند البخاري (2297) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

السنة الرابعة عشرة من النبوة

السنة الرابعة عشرة من النبوة وفيها: اجتمعت قريش في دار الندوة يتشاورون في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوفًا أن يلحق بالمدينة، فيقوى عليهم. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: تشاورت قريش بمكة ليلةً على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأطْلَعَ الله نبيَّهُ على ذلك، فبات علي - عليه السلام - على فراشه، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا - عليه السلام - يحسبونه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأَوْه رد الله مكرهم وقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري. فاقتصُّوا أثره. وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} الآية [الأنفال: 30] (¬1). ذكر خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغار: قال الطبري في "التاريخ": إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - عليه السلام - في تلك الليلة لما خرج إلى الغار: إن أتاك ابن أبي قحافة فأخبره أني قد توجهت إلى غار ثور، فليلحق بي، وأرْسِلْ إليَّ بطعام، واستأجِرْ لي دليلًا يدلُّني على طريق المدينة، واشتر لي راحلة، ثم مضى وأعمى الله أبصار الذين كانوا يرصدونه حتى خرج (¬2). وقال الواقدي: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة وهم مجتمعون على بابه، فأخذ كفًّا من تراب وقال: شاهت الوجوه، ثم مر عليهم وهو يقرأ سورة يس حتى بلغ قوله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْ بَينِ أَيدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَينَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)} [يس: 9]، فلم يبصره أحد، ومر رجل عليهم فقال: ما يقعدكم ها هنا؟ قالوا: ننتظر محمدًا، فقال: لقد خِبْتُم وخَسِرْتم، قد مرَّ عليكم وضرب بالتراب وجوهكم، وحثاه على رؤوسكم، قالوا: والله ما أبصرناه. وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 89، و "الطبقات الكبرى" 1/ 193، و"أنساب الأشراف" 1/ 300، و"دلائل النبوة" 2/ 469، و"المنتظم" 3/ 45. (¬2) "تاريخ الطبري" 2/ 372.

ذكر دخولهما إلى الغار

وعلي - عليه السلام - نائم في فراشه، فلما رأوه قالوا: والله لقد صَدَقَنا الرجلُ الذي حدَّثنا (¬1). والذين كانوا ينتظرونه: أبو جهل، والحكم بن أبي العاص، وعُقبة بن أبي مُعَيط، والنَّضر بن الحارث، وأميَّة بن خلف، وزَمْعَة بن الأسود، وأبو لهب، وطعيمة بن عدي، وأُبي بن خلف في آخرين (¬2). قال الطبري: ضربوا علي بن أبي طالب وحبسوه ساعة، وأطلقوه، قال: وكان أبو بكر قد أتى عليًّا - رضي الله عنهما - فسأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره أنه لحق بغار ثور، فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - مسرعًا حتى لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطريق، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَرْسَ أبي بكر - رضي الله عنه - فحسبه من الكفار فأسرع المشي فانقطع قَبالُ نَعْلِه، ففلق إبهامَه حجر فسال الدم، فخاف أبو بكر - رضي الله عنه - أن يشق عليه فرفع صوته، فعرفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه، فانطلقا ورِجْلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستنُّ دمًا حتى انتهيا إلى الغار مع الصبح فدخلاه (¬3). وقال ابن إسحاق: جاء أبو بكر - رضي الله عنه - إلى بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصاح: يا نبي الله، يحسب أنه على الفراش، فقال له علي - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انطلق نحو بئر ميمون، فأدْرِكْه. فانطلق حتى لحقه، وبات الكفار يرمون عليًّا - رضي الله عنه - بالحجارة وهو يتضوّرُ قد لف رأسه في الثوب إلى الفجر (¬4). قال الثعلبي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلَّف عليًّا - رضي الله عنه - بمكة لقضاءِ ديونه وردِّ الودائع التي كانت عنده. ذكر دخولهما إلى الغار: قال أنس: لما كان ليلة الغار، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، دعني أدخل قبلك، فإن كان ثمَّ حَيّةٌ أو شيءٌ كانت بي قبلك، قال: "ادخُل". فدخل وجعل أبو بكر - رضي الله عنه - يلتمس بيديه، فكلما رأى جُحْرًا قال بثوبه فشقه، ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال: فبقي جحر واحد، فوضع عَقِبَهُ فيه، قال: ادخل يا رسول الله فدخل، فلما أصبح قال: "أينَ ثوبُك يا أبا بكرٍ؟ " فأخبره بالذي صنع، فرفع رسول الله ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 91 - 92، و "الطبقات الكبرى" 1/ 194 - 195، و"المنتظم" 3/ 48 - 49. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 195، و"المنتظم" 3/ 49. (¬3) "تاريخ الطبري" 2/ 374. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (3061) ضمن حديث طويل.

- صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: "اللَّهم اجعَلْ أبا بَكرٍ في دَرَجتي يومَ القِيامَةِ"، فأوحى الله إليه: إن الله قد استجاب لك (¬1). وقال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا عفَّان (¬2)، حدثنا همَّام، حدثنا ثابت، عن أنس: أن أبا بكر - رضي الله عنه - حدثه: قال: قلت: يا رسول الله -ونحن في الغار-، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما". متفق عليه (¬3). قال ابن عباس: وأنزل الله تعالى: {إلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} الآية [التوبة: 40]. ومعنى الآية: أن الله هو المتولي لنصره حين كان أولياؤه قليلًا وأعداؤه كثيرًا، فإن قيل: فما معنى قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]؟ قلنا: لأن أبا بكر - رضي الله عنه - حزن إشفاقًا عَلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له: يا رسول الله، إني إن قُتِلْتُ فمثلي كثير، وإن قُتِلْتَ أنت هَلكَتِ الأمةُ. فكان حزنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا على نفسه (¬4). وقال ابن عباس: عاتب الله أهل الأرض بهذه الآية إلا أبا بكر (¬5) - رضي الله عنه -. والهاء في قوله: {سَكِينَتَهُ} (¬6) عائدة إلى أبي بكر - رضي الله عنه -. لأن الإزعاج والخوف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان من أبي بكر - رضي الله عنه - وحده، فرد السكينة إليه ولو أرادهما، لقال: (عليهما) بخلاف الهاء في قوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40] حيث يرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن التأييد بالملائكة لا يصلح إلا له وحده. وذكر وهب بن منبه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هاجر من بيت أبي بكر - رضي الله عنه -، أحاطت قريش بالبيت، فخرج من خَوْخَةٍ في ظهر الدار. والأول أصح. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 33، وابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 53. (¬2) في النسخ: "عثمان"، والمثبت من أحمد. (¬3) أحمد في "مسنده" (11)، والبخاري (3653)، ومسلم (2381). (¬4) انظر "تفسير" البغوي 2/ 293. (¬5) أورده الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" 2/ 154 عن الحسن - رضي الله عنه -، والبغوي في "تفسيره" 2/ 293، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 439 عن الشعبي. وانظر "دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 482. (¬6) كذا في النسختين، وفي زاد المسير 3/ 440: وفي هاء عليه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها ترجع إلى أبي بكر.

وقال الواقدي: جاءت قريش إلى باب الغار -وقد نسجت عليه العنكبوت، وأمر الله شجرة فنبتت في وجه الباب، وجاءت حمامتان فعششتا على الباب- ومعهم القائف فنظر إلى الأقدام وقال: هذا قدم ابن أبي قحافة، وهذا الآخر أعرفه إلا أنه قدم يشبه القدم الذي في المقام -يعني مقام إبراهيم - عليه السلام -، فقالت قريش: ما وراء هذا شيء، فانْصَرَفوا. وقال ابن سعد: جاءت قريش إلى باب الغار، فرأت العنكبوت قد نسجت عليه، فقال بعضهم لبعض: لو كان ها هنا أحد ما نسجت هذه العنكبوت. وقال بعضهم: هذه العنكبوت هنا قبل أن يولد محمد. وأقبل فتيان قريش من كل بطن قد شهروا سيوفهم، فرأوا الحمامتين فقالوا لأصحابهم: ليس هنا أحد. وسمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمَّتَ عليهن، فانحدرت إلى حرم الله، وحرَّم الله صيدهن (¬1). وقال ابن إسحاق: ضربت الملائكة وجوه الكفار، فعادوا. وقال البلاذري: بعثت قريش قائفين يقصان الأثر، أحدهما: كُرْزُ بن علقمة الخزاعي، ومعهما أُبَيُّ بن خلف، فقال القائفان: إلى هنا انتهى الأثر. وقال أمية بن خلف: والله إني لأرى هذا النسج ها هنا قبل أن يخلق محمد، وبال حتى جرى بوله بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أبي بكر - رضي الله عنه -، ونادت قريش: من جاء بمحمد وبابن أبي قحافة، فله مائتا بعير أو دِيَتهما (¬2). وفي الغار يقول أبو بكر - رضي الله عنه - (¬3): [من البسيط] قال النبي -ولم أجزع- يُثَبِّتُني ... ونحن في سُدَف من ظُلمة الغارِ لا تخش شيئًا فإنَّ الله ثالثُنا ... وقد تكفَّل لي منه بإظهارِ وإنَّما كيد مَن تُخشى بَوادره ... كيد الشَّياطين قد كادت لكفارِ والله مُهلكهم طُرًّا بما صنعوا ... وجاعلُ المنتهى منهم إلى النَّارِ * * * ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 1/ 195، والتسميت: ذكر الله تعالى على الشيء. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 302. (¬3) أورد هذه الأبيات في قصيدة مطولة الفاكهي في "أخبار مكة" 4/ 84، وابن عساكر 30/ 86 من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق.

فصل في سني هجرته - صلى الله عليه وسلم -

فصل في سني هجرته - صلى الله عليه وسلم - واختلفوا في مدة إقامتهما في الغار، على أقوال: أحدها: ثلاثة أيام وخرجا ليلة الخميس غرة ربيع الأول (¬1). والثاني: أنهما خرجا ليلة الاثنين لأربع ليالٍ خَلَوْنَ من ربيع الأول (¬2). والثالث: خرجا وقد بقي في صفر ثلاثُ لَيالٍ (¬3). وكان عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما - يتردد إليهما، وعامر بن فُهَيرة يرعى غنمهما، ويأتيهما باللبن. أحاديث الهجرة: قال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا اللَّيث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم أعقل أبويَّ إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرَّ علينا يوم إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتينا فيه طَرَفَيِ النهارِ بُكْرةً وعَشِيًّا، فلما ابْتليَ المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا إلى أرض الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْكَ الغِماد، لقيه ابن الدَّغِنَه (¬4)، وهو سيدُ القارة، فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، فقال ابن الدَّغِنَة: إن مثلك لا يُخْرَجُ، إنك تَكْسِبُ المَعدوم، وتصِلُ الرَّحِمَ، وتحمل الكَلَّ، وتَقْري الضَّيفَ، وتُعين على نوائب الحق، فأنا لك جارٌ، فارجع فاعبد ربك، فرجع وارتحل معه ابن الدَّغِنَةَ، فطاف في أشراف قريش وقال لهم: إن مثل أبي بكر لا يُخْرج، إنه يكْسِب المعدومَ -وذكر بمعنى ما تقدم من ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 3/ 53. (¬2) "الطبقات الكبرى" 1/ 199. (¬3) انظر "الوفا" ص 238. (¬4) الدغنة: بضم المهملة والمعجمة وتشديد النون عند أهل اللغة، وعند الرواة بفتح أوله وكسر ثانيه وتخفيف النون. "فتح الباري" 7/ 639.

وصفه-، قال: فأنفذت قريش جوارَ ابن الدَّغِنَةِ، وأمَّنوا أبا بكر، وقالوا: ليعبد ربه في داره، وليصلِّ فيها، ويقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يَستَعْلِنْ به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فأقام أبو بكر يعبد ربه كذلك، ثم بدا له فابتنى مسجدًا بفناء داره، فكان يصلي فيه، فيتقصّف (¬1) عليه نِساء المشركين وأبناؤهم يتعجبون منه، وينظرون إليه، وكان رجلًا بكَّاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشرافَ قريش، وأرسلوا إلى ابن الدَّغِنَة فقدم عليهم، فقالوا: كنا قد أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، والآن فقد أعلن، وإنا نخشى منه أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن اقتصر على عبادة ربه في داره وإلا فسله أن يرد إليك ذِمَّتَكَ، فإنا لا نُقِرُّهُ على ذلك. فذكر ابن الدَّغِنَة ذلك لأبي بكر، وقال: إما أن تقتصر على ما عاهدنا عليه القوم، واما أن تُرْجعَ إليَّ ذِمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أَني أُخْفِرْتُ في رجل عقدت له، فقال له أبو بكر: فإني أردُّ إليك جوارك، وأرضى بجوار ربي. قالت: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بمكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين: "إنِّي أُريتُ دارَ هِجْرتِكُم سَبْخَة ذاتِ نَخلٍ بينَ لابَتَينِ". فهاجر من هاجر إلى المدينة، ورجع عامَّةُ من كان بالحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قِبلَ المدينة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على رِسلكَ، فإنِّي أَرجُو أنْ يُؤذَنَ لي" فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أترجو ذلك؟ قال: "نَعَم". فحبس أبو بكر - رضي الله عنه - نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلف راحلتين كانتا عنده ورقَ السَّمُرِ أربعة أشهر. قالت: فبينا نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر - رضي الله عنه - في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال له أبو بكر: يا رسول الله، ما جاء بك في هذه الساعة إلا أمر، فقال: "أَخرِجْ مَنْ عِندَك" فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: إنما هم أهلك -وفي رواية: ليس علينا عين، إنما هما ابنتاي يعني عائشة وأسماء (¬2) - فقال: "قد أُذِنَ لي في الخُروجِ" فقال أبو بكر: الصحبة -أَو الصحابة- يا رسول الله؟ قال: "نَعَم". ¬

_ (¬1) أي: يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض. (¬2) أخرجها أحمد في "مسنده" (25774).

قال: فخذ إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بالثمن". قالت: فجهزناهما أحثَّ الجهاز، وصنعنا لهما سُفرة في جِراب، وقطعت أسماء بنت أبي بكر قِطْعةً من نطاقها، فربطت به فم الجِراب، فبذلك سميت: ذات النِّطاقين، ثم لحق أبو بكر ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بغارٍ في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثَقِفٌ لَقِنٌ (¬1)، يدَّلجُ من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش كبائتٍ، فلا يسمع أمرًا يُكتادانِ به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك إذا اختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فُهَيرَة مولى أبي بكر مِنْحَةً من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعةٌ من العِشاء، فيبيتان في رِسْلٍ [وهو لبن مِنحتهما ورَضيفهما] حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلًا من بني الدّيل من بني عبد بن عدي هاديًا خِرّيتًا [والخريت الماهر بالهداية] قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، لكنهما أمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فأتاهما صُبْحَ ثلاثٍ، فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الدِّيلي، فأخذ بهم على طريق الساحل. قال الزهري: فحدثني -أو أخبرني- عبد الرحمن بن مالك المُدْلجي وهو ابن أخي سراقة بن جُعْشم الكناني ثم المدلجي، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جُعْشُم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر دِيَةَ كلِّ رجل منهما لمن قتله أو أسره، قال: فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مُدْلج، وأقبل رجل منهم فقال: ياسراقة، إني قد رأيت آنفًا أسْودَةً بالساحل، أُراها محمدًا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم. قال: فقلت له: ليسوا هم، ولكنك رأيتَ فلانًا وفلانًا، انطلَقوا بأَعْيُنِنا، ثم لبثت في المجلس (¬2)، وقمت فدخلت الخِباء، وأمرت جاريتي أن تُخرج فرسي من وراء الأَكَمَةِ، وأخذتُ رُمحي وخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزُجِّه (¬3) الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، ورفعتها ¬

_ (¬1) الثقف: الحاذق، اللقن: السريع الفهم. (¬2) في "النسخ": "بالمسجد"، والمثبت من صحيح البخاري. (¬3) الزُّج: الحديدة التي في أسفل الرمح.

تُقَرِّبُ بي حتى دنوت منهم، فعثرت فرسي فخررتُ عنها، وقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام [فاستقسمت بها، أضرُّهم أم لا؟ فيخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام (¬1)] تقرِّب بي من النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ لا يلتفت، وأبو بكر - رضي الله عنه - يكثر الالتفات، فساخت يدا فرسي حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، ولم تكد تُخرج يدَيها، فلما استوت قائمة إذا لِأَثرِ يديها عُثَانٌ (¬2) ساطع في السماء مثلُ الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم الأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتُهم أخبارَ ما يريدُ الناس بهم، وعَرَضتُ عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني شيئًا، إلا أنهم قد قالوا: أخفِ عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمان؟ فأمر عامر بن فهيرة، فكتب لي رُقعةً من أَدَم، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ الزبير في ركب من المسلمين كانوا تِجارًا بالشام أو قافلين من الشام، فكسا الزبيرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثيابَ بياضٍ، قال: وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، فكانوا يَغْدون كل غداة إلى الحَرَّةِ ينتظرونه حتى يَرُدَّهم حَرُّ الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أَطالوا الانتظار، فلما أَوَوْا إلى بيوتهم، أوفى رجل من اليهود على أُطُمٍ من آطام المدينة، لأمر ينظر إليه، فبصُرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مُبَيِّضين يزولُ بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته: يا معاشر العرب، قد أظلكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح، فلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحرَّةِ، فعدل بهم ذات اليمين، فنزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامتًا، فطَفِقَ من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحَيِّي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - حتى ظَلَّلَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من صحيح البخاري. (¬2) العثان: الدخان من غير نار.

حديث الرحل

على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك (¬1). حديث الرَّحْل: قال البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: جاء أبو بكر إلى أبي في منزله، فاشترى منه رَحْلًا بثلاثة عشرة درهمًا، وقال له: ابعث معي ابنك يحمله إلى منزلي. قال: لا، حتى تحدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نعم، أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق فلا يمرُّ فيه أحد، حتى وقعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تَأْتِ عليه الشمس بَعْدُ، فنزلنا عندها فسوَّيتُ بيدي مكانًا ينام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، وبسطت عليه فروة، ثم قلت: نَم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام وخرجت أنفض ما حوله، هل أرى أحدًا من الطَّلَبِ، وإذا براعٍ يُقْبل نحو الصخرةِ بغنمهِ يريد منها الذيَ أردنا، فقلت له: يا غلام، لمن أنت؟ فقال: لرجل من أهل المدينة من قريش. فقلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب لي؟ قال: نعم. فاعتقل شاة، فقلت: انفض الضرع من القذا والشَّعر والتراب، ففعل، قال: ومعي إداوة أَرتوي فيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب منها ويتوضأ، فحلب لي كُثْبةً من لبن في قَعْبٍ، فصببت عليه من الماء حتى برد أسفله، وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكرهت أن أُوقِظَه من نومه، فوقفت حتى استيقظ من نومه، فقلت: اشرب يا رسول الله من هذا اللبن فشرب حتى رضيت، وقال: "ألم يأن الرحيل؟ " قلت: بلى. فارتحلنا بعد الزوال، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد إلا سراقة بن مالك بن جُعْشُم، ونحن في جَلَد من الأرض، فقلت: يا رسول الله، أُتينا؛ هذا الطلب قد لحقنا، فقال: "لا تَحزَن إنَّ اللهَ مَعَنا". حتى إذا دنا منا، وكان بيننا وبينه قِيدُ رمح أو رمحين أو ثلاثة وهو على فرس فبكيت، فقال: "ما يُبكيكَ؟ " فقلتُ: ما أبكي على نفسي بل عليك يا رسول الله. فقال: "اللَّهمَّ اكفِناهُ". فارتطمت قوائم فرسه إلى إبطها، ثم ثبتت فساخت في الأرض إلى بطنها، فوثب عنها وقال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك، فادع الله لي أن ينجيني مما أنا فيه، والله لأُعَمِّيَنَّ على مَنْ وَرائي من الطَّلَبِ وهذه كنانتي، فخذ منها سهمًا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3905).

ذكر لقائه - صلى الله عليه وسلم - بريدة بن الحصيب الأسلمي

فإنك ستمر بإبلي، وغنمي، وغلماني في موضع كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَاجَةَ لي فِيها" ودعا له. فانطلق ورجع إلى أصحابه فلا يلقى أحدًا إلا رده، قال: وقدمنا المدينة ليلًا. قال الحُمَيدي: فتنازعوا أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْزِلُ علي بني النَّجارِ أَخوالِ عبدِ المطَّلبِ أُكْرِمُهم بذلِكَ" وصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطريق، وعلى الأجاجير (¬1) ينادون: يا محمد يا رسول الله (¬2). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سلك بهم عبد الله بن أُرَيقِط الليثيُّ من الغار على السواحل وقت السحر ليلة الاثنين، فقالوا يَوْمَ الثلاثاء بقُدَيدٍ، ثم أخذَ أَسْفلَ من عُسْفان، ثم سلك الخرّارَ، ثم مر على ثنية المَرَةِ، ثم على المَدْلَجةِ والرَّوْحاءِ، ثم على العَرْجِ، ثم على بطن رِئْم، ثم إلى المدينة (¬3). ذكر لقائه - صلى الله عليه وسلم - بُرَيدةَ بن الحُصَيبِ الأسلمي: قد ذكرنا أن قريشًا جعلت لمن يَردُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر مئتي بعير، وبلغ بُرَيدةَ فركب في سبعين فارسًا من بني أسلم، فلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطريق فقال له: من أنت؟ فقال: بريدة -وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الفَأْل- فالتفت إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وقال: برد أمرنا، ثم قال: فممن أنت؟ قال: من أسلم. قال: سلمنا، ثم قال: من بني من؟ قال: من بني سهم، قال: خرج سهمنا. فأوقع الله في قلب بُرَيدَةَ الإسلام فأسلم ومن كان معه، ثم قال: يا رسول الله، لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، وحلَّ بُرَيدَةُ عِمامَته وشدَّها في رمح، ومشى بها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: يا رسول الله، انزل علي؟ فقال: ناقتي مأمورة. فقال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو أسلم طائعين غير مكرهين (¬4). ¬

_ (¬1) الأجاجير: جمع إجَّار، وهو السطح. (¬2) أخرجه البخاري (3615)، ومسلم 4/ 2309 - 2311، وأحمد (3)، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 484 - 483، وبعضهم أتم من بعض في السياق، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (3). (¬3) لم نقف عليه من حديث ابن عباس. وانظر "السيرة" لابن هشام 2/ 97 - 98، و"الطبقات الكبرى" 1/ 199 - 200. (¬4) القصة في "أسد الغابة" 1/ 209، و"المنتظم" 3/ 56 - 57.

حديث أم مَعْبَد (¬1): قال أبو معبد الخُزاعي: لما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر - رضي الله عنه -، وعامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، مروا بخيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة جَلدة بَرْزَة تقعد بفناء الخيمة، ثم تُسْقي وتطعم، فسألوها تمرًا ولحمًا يشترون منها، فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وإذا القوم مُرْمِلون مُسْنِتون (¬2)، فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أَعْوَزْناكم القِرى، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشاة في كِسْرِ الخيمة (¬3)، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت: شاة خلَّفها الجَهْدُ عن الغَنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حَلَبًا. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشاة، ومسح على ضرعها، وذكر اسم الله عليها وقال: اللهمَّ بارك لها في شاتها. قال: فتفاجَّت ودرَّت واجترَّت، ودعا بإناء يُرْبِضُ (¬4) الرَّهْطَ، فحلب فيه ثجًّا (¬5) حتى غلبه الثُّمالُ (¬6)، وسقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رَوَوْا، وشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخرهم، وقال: "سَاقي القَوْم آَخِرُهم شُربًا" فشربوا عَلَلًا بعد نَهَلٍ (¬7) حتى أراضوا، ثم حلب فيه ثانيًا عَوْدًا على بَدْءٍ، فغادره عندها، ثم ارتحلوا، فقلَّ ما لبث زوجها أبو معبد أن جاء يسوق أَعْنُزًا حُيَّلًا (¬8) عِجافًا هَزْلى، فلما رأى اللبن عَجِبَ، فقال: من أين لكم هذا، والشاة عازب (¬9) ولا حَلوبةَ في البيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كَيتَ وكَيتَ، فقال: إني والله لأراه صاحب قريش الذي يطلبونه، ثم قال: صفيه لي يا أم معبد، ¬

_ (¬1) واسمها عاتكة بنت خالد. انظر "الإصابة" 4/ 497. (¬2) مرملون: نفد زادهم. مسنتون: أجدبوا، أي: أصابهم القحط. (¬3) كسر الخيمة: أي جانبها. (¬4) يربض: أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا. (¬5) ثجًّا: أي: لبنًا سائلًا كثيرًا. (¬6) الثمال: الرغوة. (¬7) العلل: الشرب الثاني، والنهل: الشرب الأول. (¬8) جمع حائل وهي التي لم تحمل. (¬9) الشاة العازب: البعيدة المرعى.

فوصفته. فقال: هو والله صاحب قريش الذي ذُكِرَ لنا من أمره ما ذكِر، ولو كنت وافيته لالتمست أن أَصْحَبَهُ، ولأَفْعَلَنَّ إن وجدت إلى ذلك سبيلًا، قال: وأصبح صوتٌ عاليًا بمكة بين السماء والأرض يقول ولا يرون شخصه: [من الطويل] جَزَى الله ربُّ النَّاس خَيرَ جزائه ... رفيقين قالا خَيمَتَي أمّ مَعْبَدِ هما نَزَلا بالبِرِّ وارتَحلا بهِ ... فأَفلَحَ مَن أمسى رفيقَ مُحَمَّدِ فيال قُصيٍّ ما زَوَى اللهُ عنكمُ ... به من فَعال لا تجازى وسُوْدَدِ سَلُوا أُختَكمْ عن شَاتِها وإنائها ... فإنَّكم إن تَسْألوا الشَّاة تشهدِ دعاها بشاة حائلٍ فتحلَّبَتْ ... له بصريحٍ ضَرَّةُ الشاة مُزْبِدِ (¬1) فغادره رهنًا لديها بحالب ... تَدِرُّ بها في مَصْدَرٍ ثمَّ مَورِدِ (¬2) فأصبح الناس قد فقدوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأجابه حسان بن ثابت (¬3): [من الطويل] لقد خاب قوم زال عنهم نبيُّهم ... وقدِّسَ من يسري إليه ويَغْتدي ترحَّل عن قوم فزالت عقولهم ... وحلَّ على قَوْمٍ بنُورٍ مُجَدَّدِ وهل يستوي ضُلَّالُ قوم تسكَّعوا ... عمًى وهُداةٌ يهتدون بمهتدِ نبيٌّ يرى ما لا يرى النَّاسُ حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مَشْهدِ وإن قال في يوم مقالةَ غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غدِ ليَهْنِ أبا بكر سعادةُ جَدِّه ... بصحبته من يُسْعدِ الله يَسْعَدِ ويَهْنِ بني سَعد مكانُ فتاتهم ... ومقعدُها للمسلمين بمَرْصَدِ قالت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -: مكثنا بمكة ثلاث ليال لا ندري أين توجَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنَّى بأبيات غناء العرب، نسمع صوته ولا نرى شخصه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول: ¬

_ (¬1) الصريح: اللبن الخالص. والضرة: أصل الضرع. ومزبد: علاه زبد. (¬2) مصدر ثم مورد: أي يحلبها مرة بعد أخرى. (¬3) الأبيات في ديوانه ص 52، وأخرج القصة ابن سعد في "الطبقات" 1/ 196 - 198، وهي مروية أيضًا عن أم معبد وغيرها انظر "سبل الهدى والرشاد" 3/ 346.

ذكر ما جرى بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -

جزى الله رب الناس خير جزائه ... الأبيات، فلما سمعنا صوتَه، علمنا أين توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال الواقدي: قالت أم معبد: طلع علينا أربعة على راحلتين، فنزلوا بي، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة أريد أن أذبحها له، فإذا هي ذات در فأَدنيتُها منه فلمس ضَرْعَها وقال: لا تذبحيها. وأَخَذْتُ أُخرى غيرها، فذبحتُها وطبختها لهم، فأكل هو وأصحابه منها، وملأت سُفرتهم، وبقي عندي لحمها أو أكثره، وبقيت الشاة التي لمس ضَرعها عندنا حتى كان عام الرَّمادة في عهد عمر - رضي الله عنه -، فكنا نحلبها صبوحًا وغبوقًا، وما في الأرض قليل ولا كثير. وعام الرمادة كان في سنة ثمان عشرة من الهجرة (¬2). ذكر ما جرى بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -: قالت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -: جاء في تلك الليلة أبو جهل ومعه نفر من قريش، فوقفوا على الباب وصاحوا، فخرجت إليهم، فقال أبو جهل: أين أبوك؟ قلت: لا أدري. فرفع يده فلطم خدي لطمة طرح منها قُرطي، وذكر كلامًا فاحشًا (¬3). وقالت أسماء: لما خرج أبو بكر - رضي الله عنه - احتمل ماله كلَّه، وكان ستة آلاف درهم، فدخل عَليَّ جَدِّي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، فقلت. كلا قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، وأخذت أحجارًا، فوضعتها في كُوَّة البيت، وقلت: ضع يدك على المال، فوضعها وقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا، فقد أحسن. قالت: ووالله ما ترك لنا شيئًا، وإنما أردت أن أُسَكِّنَ الشيخ (¬4). وقال الطبري: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، سمعت قريش قائلًا في الليل على أبي قُبَيس يقول: [من الطويل] فإن يُسْلمِ السَّعْدانِ يُضحي مُحمدٌ ... بمكَّةَ لا يخشى خلاف المخالف ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 95 - 96، و"طبقات ابن سعد". (¬2) "الطبقات الكبرى" 10/ 273 - 274. (¬3) "السيرة" لابن هشام 2/ 95. (¬4) "السيرة" لابن هشام 2/ 96.

ذكر قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة

فلما أصبحوا، قالوا: من السَّعدان؟ فقال أبو سفيان: سعد بن بكر، وسعد بن تميم، فلما كانت الليلةُ القابلة، سمعوه يقول: [من الطويل]: فيا سَعْدُ سَعْدَ الأَوْسِ كن أنت ناصرًا ... ويا سَعْدُ سَعْدَ الخزرجين الغطارفِ أجيبا إلى داعي الهُدى وتمنَّيا ... على اللهِ في الفِردَوسِ مُنْيَةَ عارِفِ فإنَّ ثوابَ اللهِ للطالبِ الهدى ... جِنانٌ من الفردَوسِ ذاتُ رَفارفِ فقال أبو سفيان: هذان والله سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ (¬1). ذكر قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وولد يوم الاثنين، ووضع (¬2) الحجر في الكعبة يوم الاثنين، ونُبِّئَ يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين. ولما وصل إلى المدينة عدل ذات اليمين، فنزل في بني عمرو بن عوف بقُباء. قال الواقدي: نزل على كلثوم بن الهِدْمِ أخي بني عمرو بن عوف (¬3). وقال الهيثم: نزل على سعد بن خيثمة بن الحارث بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، لأنه كان عَزَبًا ومنزله يسمى منزل العُزاب. ورُويَ: أنه إنما نزل على كلثوم، وكان يتحدث مع أصحابه في منزل سعد (¬4). وروي أنه نزل على أخوال عبد المطلب ليكرمهم بذلك (¬5). فيحتمل أنه نزل عليهم ليلة، ثم ارتحل إلى بني عمرو بن عوف. ونزل أبو بكر - رضي الله عنه - على حُبَيب بن إساف، ولما انتقل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من قُباء، نزل ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 2/ 380 - 381. (¬2) كذا هي في النسخ، وجاء الخبر في "تاريخ الطبري" 2/ 393، و"المنتظم" 3/ 63 عن ابن عباس، وفيه: ورفع الحجر. (¬3) "الطبقات الكبرى" 1/ 200، وانظر "السيرة" لابن هشام 2/ 99، و"المنتظم" 3/ 63. (¬4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 200، و"أنساب الأشراف" 1/ 305 - 306. (¬5) أخرجه مسلم 4/ 2311.

أبو بكر - رضي الله عنه - على خارجة بن زيد الخزرجي بالسُّنْح وهو مكان بأعلى المدينة (¬1). قال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل الناس ينظرون إلى وجهه، فلما رأيتُه عرفتُ أنه ليس بكذابٍ، فكان مما حَفظتُ من كلامه: "أيُّها الناسُ، أَفشُوا السَّلامَ، وصِلُوا الأرحَامَ، وأَطْعِمُوا الطَّعامَ، وصَلُّوا باللَّيلِ والناسُ نيامٌ، تدخُلُوا الجنَّةَ بسلامٍ" (¬2). ثم قدم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه المدينة فنزل على كلثوم بن الهِدْم (¬3). وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ثلاثًا (¬4)، وقيل: بضع عشرة ليلة. وقال ابن إسحاق: ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني عمرو بن عوف يوم الجمعة سادس وعشرين ربيع الأول، فمر على بني سالم، فجمَّع بهم وخطب، وهي أول جمعة صلَّاها بالمدينة، وذلك الموضع يعرف بوادي رانوناء. وكان معه مئة من المهاجرين (¬5). ثم مرت ناقته فبركت في بني النجار على باب دار أبي أيوب الأنصاري، فنزل عليه وأقام عنده سبعة أشهر، وقيل: شهرًا، والأول أصح. وأول قَصْعَةٍ أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في منزل أبي أيوب، قصعة من ثريد فيها خبز وسمن أهدتها له أم زيد بن ثابت، فدعا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاءت قصعة سعد بن عبادة فيها ثريد وعراق، ثم تناوبت الأنصار القِصاعَ كل ليلة (¬6). وقال الواقدي: لما ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني سالم إلى المدينة، مَرَّ بجَوَار من الأنصار فَقُلْن: نحن جَوارٍ من بني النَّجار ... يا حبَّذا محمدٌ من جارِ ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 99. (¬2) أخرجه الترمذي (2485)، وابن ماجه (1334)، وأحمد في "مسنده" (23784). (¬3) انظر "سيرة" ابن هشام 2/ 99. (¬4) كذا جاء في نسخنا، والصواب ما جاء في "السيرة" لابن هشام 2/ 99، و"المنتظم" 3/ 65: وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها. (¬5) "السيرة" لابن هشام 2/ 100، وانظر "المنتظم" 3/ 65، و"الطبقات الكبرى" 1/ 203. (¬6) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 203 - 204، والعراق: العظم.

فقال لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله يعلمُ أنِّي أُحبكنَّ" (¬1). وكان بالمدينة حَبَشٌ يلعبون بالحراب، فلعبوا بين يديه - صلى الله عليه وسلم -. وما فرح الأنصارُ فرحهم بشيء كفرحهم بقُدومه. ولما نزل ببني سالم يومَ الجمعة، فخطب وقال: "الحمدُ لله أحمدُه، وأستعينُه وأُومن به، وأعادي مَنْ يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهُدى ودين الحق ليظهره على الدين كلِّه ولو كره المشركون، من يُطِعِ اللهَ فقد رشد، ومن عصاه، فقد غَوَى"، وأوصاهم بتقوى الله وإصلاح ذات البين. ثم قال في آخر خطبته: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20] {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] الآية (¬2). ولما ركب ناقته من بني سالم أرخى زِمامَها، فجعلت لا تمر بدارٍ من دور الأنصار إلا دعاه أهلُها: هَلُمّ يا رسول الله إلى العدد والعُدَد والمَنَعَةِ. فيقولُ: "خلُّوا زِمامها فإنها مأمورة" حتى انتهى إلى موضع المسجد اليوم، فبركت عنده وهو مِرْبَدٌ لغلامين يتيمين وهما: سهل وسهيل ابنا عمرو بن عبادة (¬3)، وهما في حِجرِ مُعاذ بن عَفراء، وقيل: في حجر أسعد بن زرارة. ولما بَرَكتْ به لم ينزل عنها، فقامت وسارت غيرَ بعيد، ثم عادت إلى مبركها الأوَّلِ فبركت فيه، ووضعت جِرانَها على الأرض، فنزلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، فخرج أبو أيوب فاحتمل رحلَه، فنزل عليه وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المرء مع رَحْلِهِ" (¬4). وجاء أسعدُ بن زُرارة فأخذ بناقته، فكانت عنده (¬5). وفي رواية: فأسَّسَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء المسجدَ الذي أُسّسَ على التقوى، ثم سار إلى المدينة. ¬

_ (¬1) وأخرجه البيهقي في "الدلائل" 2/ 508، وابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 64 من حديث أنس. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 394 - 395، و"المنتظم"3/ 66. (¬3) في المصادر: عباد. (¬4) الخبر في "تاريخ الطبري" 2/ 396، و"المنتظم" 3/ 67. (¬5) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 203.

ذكر بناء مسجده ومساكنه - صلى الله عليه وسلم -

ذكر بناء مسجده ومساكنه - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة - رضي الله عنها - في تمام الحديث المتقدم تُعَظِّمُهُ (¬1): فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف بضعَ عشرة ليلةً، وأسس المسجدَ الذي أسِّسَ على التقوى، وصلَّى فيه، ثم ركب راحلته، وسار يمشي الناسُ معه، حتى بَرَكَتْ عندَ المسجدِ اليوم، وهو يُصلي فيه يومئذ رجال مِن المسلمين، وكان مربدًا للتمر لسهل وسُهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بنِ زرارة، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا إن شاءَ اللهُ المنزل". ثم دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الغُلامين، فساومهما بالمربد ليتخذَه منزلًا ومسجدًا، فقالا: بل نَهَبُهُ لك يا رسول الله. ثم بناه مسجدًا، وطَفِقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم اللَّبِنَ في بنيانه ويقول: اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة قال البلاذري: وهذا لامرأةٍ من الأنصار، وتمامه (¬2): وعافِهم من حرِّ نارٍ ساعرة فإنها لكافرٍ وكافرة وقال هشام بن محمد: كان المسجد جدارًا مجدَّرًا من غير سقف، وله قبلة إلى بيت المقدس، وكان فيه غَرْقَد ونخيل، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقُطِع، وكان فيه قبورُ الجاهلية، فأمر بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فنُبشت، ثم أسس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فجعلَ طولَه مما يلي القِبلةَ إلى مؤخره مئة ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك، فهو مربع، وجعل عرض أساسه ثلاثة أَذْرُع من حجارة، وبنوا عليها باللَّبِنِ، وجعل له ثلاثة أبواب: بابًا يقال له: باب الرحمة، وهو الذي يُدْعى باب عاتكة، وبابًا يدخل منه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي يلي دار عثمان - رضي الله عنه -، وبابًا في مؤخره، وجعل ارتفاع الجدار قامةً وبسطةً، وسقفه بجذوع النخل والجريد، وبعضه من النخل الذي كان فيه، فقيل له: ألا تسقفه ¬

_ (¬1) كذا في (خ، ك)، ولعلها: المتقدم بعضه، وأخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 68 من رواية عائشة، وأخرجه البخاري (3906) مطولًا من حديث سراقة بن جعشم - رضي الله عنه -. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 313.

ذكر مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة

بخشب السَّاج، فقال: "عَرِيشٌ كعَريشِ مُوسى - عليه السلام - " ثم بنى إلى جانبه بيوتًا وسقفها بجذوع النخل، فلما فَرَغَ مِن البناء جعل باب عائشة شارعًا في المسجد، وجعل سودة بنت زَمْعة في البيت الذي يليه (¬1). وفي المتفق عليه: عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تُشدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسجِدِ الحَرَامِ، ومَسجِدي، والمَسجِدِ الأَقْصى" (¬2). "فصلاةٌ في مسجدي أَفْضَلُ مِن ألفِ صلاةٍ مما سواه إلا المسجدَ الحرام" (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: حزَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بَينَ لابَتي المدينة. قال أبو هريرة: فلو وجدتُ الظباءَ ما بينَ لابتيها ما ذَعَرْتُها، وجَعَلَ حَولَ المدينةِ حمى اثني عشر ميلًا (¬4). ذكر مقامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة: وأقام بمكة ثلاث عشرةَ سنة -يعني بعد النبوة-، وهو الأصح، وقيل: عشر سنين، وقيل: خمس عشرة سنة. وهاجر في أول السنة الرابعة عشرة. وفيها: بَعثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة: زيد بن حارثة وأبا رافع مولياه ليُحضرا أهله، ودفع إليهما بعيرين وخمس مئة درهم اقترضها من أبي بكر - رضي الله عنه -، فحَملا إلى المدينة: فاطمة وأُمَّ كُلثوم عليهم السلام ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت رقية - رضي الله عنه - قد هاجرت مع عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وحبس أبو العاص بن الربيع زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده، وحمل زيد معه أيضًا ابنه أسامةَ - رضي الله عنه - إلى المدينة، وخرج عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما - بأم رومان وعائشة - رضي الله عنها - إلى المدينة، وخرج عبد الله ومعهم طلحة بن عُبَيد الله - رضي الله عنه - (¬5). وبلغ أبا أحمد بن جحش الأسدي الأعمى، أن أبا سفيان بن حرب باع دورهم من ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 205 - 206. (¬2) جمع المؤلف هنا بين حديثين في سياق واحد، وقد فرق بينهما الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (2194)، وانظر البخاري (1189)، ومسلم (1397). (¬3) أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394)، وانظر الجمع بين الصحيحين (2476). (¬4) أخرجه البخاري (1873)، ومسلم (1372) (472) واللفظ له. (¬5) انظر "الطبقات الكبرى"1/ 204، و"تاريخ الطبري" 2/ 400، و"المنتظم" 3/ 70.

ذكر وباء المدينة

عمرو بن علقمة العامري بأربع مئة دينار، وقضى بثمنها دينًا كان عليه (¬1). ذكر وباء المدينة: قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: قَدِمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهي وَبِيَّةٌ، فمرض أبو بكر - رضي الله عنه - فكان إذا أخذته الحُمَّى، يقول: [من الرجز] كل امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ... والموت أدنى من شِراك نعله وكان بلال إذا أخذته الحُمى يقول: [من الطويل] ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بوادٍ وحولي إِذْخِرٌ وجَليلُ وهل أَرِدَنْ يومًا مِياهَ مَجِنَّةٍ ... وهَلْ يَبْدُوَن لي شَامَةٌ وطَفيلُ اللهمَّ العن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأمية بن خلف، كما أخرجونا من مكة، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لقوا، قال: "اللَّهمَّ حبِّبْ إلينا المدينةَ كحُبّنا مكَّةَ أو أشدَّ، اللَّهمَّ صحِّحها وبارِكْ لنا في صَاعِها ومُدِّها، وانقل حُمَّاها إلى الجُحفَة". قالت: فكان المولود يولد بالجُحفةِ، فما يبلغ الحُلم حتى تصرعه الحمى. متفق عليه (¬2). ذكر أول امرأة بايعته - صلى الله عليه وسلم -: أول امرأة بايعت سول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة: ليلى بنت الخَطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظَفَر، تزوجها في الجاهلية مسعود بن أوس، فولدت له: عُمَيرة وعَمْرَةَ، وتوفي عنها، ووهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم استقاله بنو ظَفَر فأَقالهم، وفارقها. وكانت غيورًا، وكان يقال لها: أُكْلَةُ الأسد، وقد ذكرت في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللاتي لم يدخل بِهِنَّ (¬3). وفيها: بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة - رضي الله عنها - بالسُّنحِ في منزل أبي بكر - رضي الله عنه -، وكانت بنت تسع سنين، وقيل: ست سنين، والأول أصح. ودخل بها في ذي القعدة، وقيل: في ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 104. (¬2) أخرجه البخاري (1889)، ومسلم (1376)، وأحمد في "مسنده" (26240). (¬3) "الطبقات الكبرى" 10/ 318.

رمضان، وقيل: في شوال، وهو الأصح. وفي مسلم: أنها كانت تستحب أن تدخل نساءها في شوال، فقيل لها في ذلك، فقالت: وهل تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في شوال، وهل دخل بي إلا في شوال، وأي نسائه كان عنده أحظى مني؟ (¬1) قال أبو عاصم: إنما كره الناس أن يدخلوا النساء في شوال لطاعون وقع فيه في الجاهلية (¬2)، فخالفتهم عائشة - رضي الله عنها - في ذلك، وأدخلت نساءها في شوال. قالت عائشة - رضي الله عنها -: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزَّق شعري فوفى جُمَيمَةً، فأتتني أمي أم رُومان، وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخَتْ بي فأَتَيتُها، والله ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأَنْهَجُ حتى سكن بعض نَفَسِي، ثم أَخَذَتْ شيئًا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار فإذا نِسْوَة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر. فأسلمتني إليهن، فأَصْلَحْنَ شأني فلم يَرُعْني إلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين، فقلت: هه هه، وكنت ألعب بالبنات مع الجواري، فيدخل علي فينقمعن منه صواحبي، فيخرج فيُسَرِّبهنَّ إليَّ أو عليَّ. متفق عليه (¬3). وقالت عائشة - رضي الله عنها -: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب بالبنات، فقال: "ما هذه"؟ قلت: خيل سليمان - عليه السلام -، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وفيها: زيدَ في صلاة الحضر ركعتين، فصارت أربعًا أربعًا وذلك بعد قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهر في ربيع الآخر (¬5). وفيها: ولد النعمان بن بشير، وهو أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1423). (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 61. (¬3) أخرجه البخاري (3894)، ومسلم (1422). (¬4) أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في الطبقات 8/ 62، وأخرجه مطولًا أبو داود (4932). (¬5) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 400. (¬6) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 401.

وفيها: نزل أهلُ الصُّفَّةِ المسجدَ ومن جاء مهاجرًا، وكان أهل الصفة ناسًا فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينزلون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجدَ يَظَلُّون فيه، وليس لهم مأوى غيره، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم في الليل إذا تعشى فيفرقهم في أصحابه، وتتعشى طائفة منهم معه حتى جاء الله بالغِنى، وفيهم نزل: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 273]، ولم يكن لهم بالمدينة عشائر، فحَنَّنَ الله الناس ليتصدقوا عليهم (¬1). ومنهم واثِلَة بن الأسْقَع أبو قِرصَافة، ونُبَيْط بن شُرَيط الأشجعي (¬2)، وطلحة بن عمرو الليثي. قال وائلة: كنت من أصحاب الصُّفة، وما منا إنسان يجد ثوبًا تامًّا، قد جعل الغبار والعرق في جلودنًا طرقًا (¬3). وكنا عشر سنين (¬4). منهم: عَبَّاد بن خالد الغفاري، وربيعة بن كعب الأسلمي، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجَرْهَد بن رِزاح الأسلمي (¬5)، ويعيش بن قيس بن طِهْفَة الغفاري (¬6) في آخرين. وفيها: أعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانًا ليُصلِّي فيه على الجنائز. قال الواقدي: فهم إلى اليوم يصلون فيه على الجنائز (¬7). ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 1/ 219. (¬2) لم نقف على ذكره في أهل الصفة، وهو معدود من صغار الصحابة، انظر "الاستيعاب" بهامش الإصابة 3/ 564، و"تقريب التهذيب" ص 491. (¬3) أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (1203)، والبيهقي في "الشعب" (10321). (¬4) كذا وردت هذه العبارة في النسختين، ولعلها قطعة من حديث واثلة الذي أخرجه أحمد (16006)، والبيهقي في الشعب (5921) قال: كنت من أصحاب الصفة ... فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا ... ثم قال: انطلق ادع لي عشرة من أصحابك أنت عاشرهم .... (¬5) هو جرهد بن خويلد بن بجرة بن عبد ياليل بن زرعة بن رزاح، انظر "الإصابة" 1/ 231. (¬6) جاء في النسخ: يعيش بن طلحة الغفاري، والمثبت من طبقات ابن سعد 1/ 220 وهذا ليس من أصحاب الصفة، بل كان أبوه من أهل الصفة، كما صرح يعيش بذلك في حديث أبي داود (5040) قال: كان أبي من أصحاب الصفة، وكما في طبقات ابن سعد، وانظر "الإصابة" 2/ 235. (¬7) جاء في "الطبقات الكبرى" 1/ 220 - 221: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كنا مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة إذا =

وفيها: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار واختلفوا في عددهم على أقوال: أحدها: أنهم كانوا تسعين رجلًا، خسمة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار (¬1). قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حالف بين المهاجرين والأنصار (¬2). [وكان ذلك] قبل وقعة بدر على الحق والمواساة، ويتوارثون بعد الموتِ دون ذوي الأرحام، وهم تسعون رجلًا، خمسة وأربعون من المهاجرين وخمسة وأربعون من الأنصار، فلما كانت غَزاةُ بدر، وأنزل الله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] نسخت آية المواريث المؤاخاة، ورجع كل إنسان إلى نسبه، وورث أولو الأرحام، وبقيت المؤاخاة فيما دون الميراث (¬3). ومعنى حالف أي: آخى. والثاني: أنهم كانوا ثلاث مئة. والثالث: مئتين. والرابع: مئة، خمسون من هؤلاء، وخمسون من هؤلاء. وفيها: أسلم عبد الله بن سَلَام بن الحارث (¬4) أبو يوسف، قال عبد الله بن سلام: ¬

_ = حفر منا الميت أتيناه فأخبرناه، فحضره واستغفر له، حتى إذا قبض انصرف ومن معه، وربما قعد حتى يدفن، وربما طال ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حبسه، فلما خشينا مشقة ذلك عليه قال بعض القوم لبعض: والله لو كنا لا نؤذن النبي بأحد حتى يقبض فإذا قبض آذناه فلم تكن لذلك مشقة عليه ولا حبس، قال: ففعلنا ذلك، فكنا نؤذنه بالميت بعد أن يموت، فيأتيه فيصلي عليه ويستغفر له. فربما انصرف عند ذلك وربما مكث حتى يدفن الميت، فكنا على ذلك أيضًا حينًا، ثم قالوا: والله لو أنا لم نشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحملنا الميت إلى منزله حتى نرسل إليه فيصلي عليه عند بيته لكان ذلك أرفق به وأيسر عليه، ففعلنا ذلك. قال الواقدي: فمن هناك سمي ذلك الموضع موضع الجنائز، لأن الجنائز حملت إليه .. وانظر "أخبار المدينة" لابن شبة 1/ 7 - 8. (¬1) انظر "الطبقات الكبرى"1/ 204 - 205. (¬2) أخرجه البخاري (7340)، ومسلم (2529). (¬3) انظر "الطبقات الكبرى"1/ 204 - 205، وما بين حاصرتين زيادة منه. (¬4) في النسخ "الحصين" والمثبت من مصادر ترجمته، ويقال: كان اسمه الحصين فغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر "الطبقات الكبرى" 5/ 377.

تعلَّمتُ التوراة من أبي، وعرفتُ تأويلها، فوقفني على صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلاماتِه فيها. وقال: إن كان من ولد هارون اتبعته، ومات قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فبينا أنا في عِذْقٍ أَجْني رُطَبًا، صاح صائح من بني النَّضير: قدم صاحب العرب اليوم. فكبرتُ تكبيرةً عالية، وعمتي عجوز تحت العِذْق، فقالت: أي حبيب، والله لو كان القادم موسى - عليه السلام - ما زِدْت على ما صَنَعْتَ. فقلت: هو أخو موسى - عليه السلام - ونبيٌّ مثله، ثم نَزَلْت وأَتَيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرفتُه بالصّفة، وحدَّثتُه حديث أبي، وأسلمت، ثم أَسلَمَتْ عمتي (¬1). وأسلم مُخَيريق اليهودي (¬2)، وفيه نزل قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} الآية [الأحقاف: 10]. وفيها: أسلم أبو قيس صِرْمةُ بن أبي أنس النجاري (¬3). وفيها: رأى عبد الله بن زيد الأنصاري الأذان في منامه. قال عبد الله بن زيد بن عبد ربّه: لما أجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضرب بالنَّاقوس يجمع الناس للصلاة وهو كاره لموافقة النصارى، طاف بي من الليل طائف وأنا نائم، رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله، فقلت له: يا عبد الله، ألا تبيع النَّاقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت. ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: بلى. قال: تقول: الله أكبرُ الله أكبر، الله أكبرُ الله أكبرُ، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنْ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح، الله أكبرُ الله أكبر لا إله إلا الله. ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبرُ الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاةُ قد قامت الصلاةُ، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحتُ أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت، فقال: "رُؤيا حَق إن شَاءَ اللهُ تعالى" ثم ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 118، ولم نقف على هذا السياق في أي من المصادر. (¬2) انظر "الإصابة" 3/ 393. (¬3) انظر الخبر في السيرة 2/ 112.

أمر بالتأذين، فكان بلال يؤذن بذلك ويدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة، فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائم، فصرخ بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، مرتين. قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين لصلاة الفجر (¬1). فالتأذين ثبت بحديث عبد الله بن زيد بإجماع الأمة، لا يُعرَفُ بينهم خلافٌ، إلا ما روي عن محمد بن الحنفية فإنه كان ينكر هذا، ويقول: أتعمدون إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم الدين، فتثبتونه بمنامٍ كلّا، وإنما أخبرني أبي علي - عليه السلام - أنه ليلة أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وجمع له الأنبياء هناك، قام جبريل فأذَّن وأقام، فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلّى بهم، ثم أعاد جبريل الأذان في السماء، فسمعه عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الأرض، فالأذان ثبت بقول جبريل - عليه السلام - لا بمنام يحتمل الصدق والكذب، وقد يكون أضغاث أحلام. والجواب: لو ثبت الأذان بقول جبريل - عليه السلام - لما احتاجوا إلى المشورة، والمعراج كان قبل الهجرة، فلو تقدم فيه توقيف لما أشار البعض بالناقوس وغيره (¬2). وفيها: عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحمزة رضوان الله عليه لواءً أبيض بيده، وهو أول لواءٍ عُقِدَ بيده، وكان يحمله أبو مرثد كنَّاز بن الحصين الغَنَوي حليف حمزة، وذلك في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مُهاجَرِه، وبعث معه ثلاثين رجلًا من المهاجرين، ولم يبعث معه أحدًا من الأنصار لأنهم شرطوا عليه أن يمنعوه في دارهم لا خارجًا، وخرج حمزة - رضي الله عنه - يعترض لِعير قريش، لقي أبا جهل -لعنه الله- وهو في ثلاث مئة، واصطفوا للقتال، فحال بينهم مَجْدي (¬3) بن عمرو الجُهَني، وكان حليفًا في قريش للفريقين، ومشى بينهم فلم يَجْر قتال، وعاد حمزة إلى المدينة ومضى أبو جهل إلى مكة (¬4). وفيها: عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبيدة بن الحارث بن المطلب لواءً في شوال، وأَمَره أن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (16477). (¬2) انظر "السيرة الشامية" 3/ 523. (¬3) جاء في "دلائل النبوة": مخشي. (¬4) الخبر في "السيرة" لابن هشام 2/ 174، و"الطبقات الكبرى"2/ 6، و"تاريخ الطبري" 2/ 402، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 8 - 9، و"المنتظم" 3/ 80.

يسير إلى بطن رابغ على رأس ثمانية أشهر من مُهاجَرِه في ستين رجلًا من المهاجرين، وكان حامل اللواء مِسطَحَ بنَ أُثَاثةَ، فالتقى بأبي سفيان بن حرب على ماءٍ يقال له: أحياء، وأبو سفيان في مئتي راكب من قريش، وكان مع عبيدة سعد بن أبي وقاص، فرمى يومئذ في الكفار، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وترامَوْا بالنَّبْل، ثم انصرف الفريقان ولم يَجْر بينهم مُسايَفةٌ، وفر إلى المسلمين المقداد وعتبة بن غزوان، وكانا قد أسلما، وإنما خرجا ليتوصلا إلى المسلمين بالمشركين (¬1). وقال ابن إسحاق: كانت هذه السرية في السنة الثانية، وكان على المسلمين مِكرَز بنُ حفص، وعلى الكفار أبو جهل (¬2). وفيها: عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسَعدِ بن أبي وقاص لواء أبيض، وأرسله إلى الخَرَّار، وكان حاملُه المقداد بنَ عمرو، وبعث معه عشرين رجلًا من المهاجرين، وكانوا رجَّالةً يعترض عِير قريش، وعهد إليه أن لا يجاوز الخرّار، وهو واد بين الجحفة ومكة، ففاتَتْهم العير إلى مكة، فعادوا إلى المدينة (¬3). وفيها: فرض القتال، ونزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية [الحج: 39] (¬4). وفيها: كانت قصة فاطمة بنت النعمان مع تابعها من الجن. قال علي بن الحسين - عليه السلام -: كانت امرأة من بني النجار، يقال لها: فاطمة بنت النعمان لها تابع من الجن، فكان يأتيها، فأتاها يومًا حين هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانقضَّ ¬

_ (¬1) "السيرة" لابن هشام 2/ 171، و"الطبقات الكبرى" 2/ 6 - 7، و"تاريخ الطبري" 2/ 402، و"دلائل النبوة" 3/ 10، و"المنتظم" 3/ 80 - 81. (¬2) كذا، والذي في السيرة 1/ 592: أنه كان على الكفار عكرمة بن أبي جهل، وقيل: مكرز بن حفص، وانظر طبقات ابن سعد 2/ 7. (¬3) هذه رواية الواقدي في "المغازي" 1/ 11، وعنه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 7، والطبري في "تاريخه" 2/ 403. ورواية ابن إسحاق أنهم كانوا ثمانية رهط من الهاجرين، انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 178. (¬4) لم نقف على من عين السنة التي فرض فيها القتال إلا ما ذكر المقدسي في "البدء والتاريخ" 4/ 180 فقال: وكانت سنة الهجرة عشرة سنين: السنة الأولى سنة الهجرة، والثانية سنة الأمر بالقتال. وانظر كلام الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه "السيرة النبوية" 2/ 75 - 76.

فصل في ذكر من توفي من الأعيان

على الحائط، فقالت: ما لك لم تأت كما كنت تأتي؟ فقال لها: قد جاء نَبيٌّ يحرم الزنا والخمر (¬1). وقيل: إن المختار (¬2) وزيادًا (¬3) ولدا في هذه السنة (¬4). فصل في ذكر من توفي من الأعيان أسعد بن زُرارَة (¬5) ابن عُدَس بن عُبيد بن ثعلبة بن غَنْم بن النجار، وأمه سعاد بنت رافع خزرجية. وأسعد من الطبقة الأولى من الأنصار، وكنيته: أبو أمامة، وهو أحد النقباء الاثني عشر، حضر العقبتين مع الأنصار، وكانت وفاته بالذَّبْحةِ قبل أن يفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بناء مسجده، ودفن بالبقيع، وله صحبة ورؤية، وليس له رواية. البراء بن مَعْرور (¬6) ابن صخر بن سنان بن عُبَيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة، أحدُ النقباء الاثني عشر، وأمه: الرَّباب بنت النعمان ابن امرئ القيس من الأوس. والبراء من الطبقة الأولى من الخزرج شهد العقبتين، وكانت وفاته في صفر قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهو أول من مات من النقباء، ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صلى على قبره وترحَّمَ عليه، وقال: "اللهمَّ ارض عنه وقد فَعَلْت" وهو أول من أوصى ¬

_ (¬1) الخبر في "الطبقات الكبرى" 1/ 140، و"المنتظم" 3/ 81 - 82. (¬2) هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب مات سنة 67 هـ وسيذكره المصنف فيها. (¬3) هو زياد بن عبيد الثقفي الملقب بزياد لأبي أبيه، مات سنة 53 هـ وسيذكره المصنف فيها. (¬4) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 402. (¬5) انظر ترجمته في: "السيرة" لابن هشام 2/ 110، و"الطبقات الكبرى" 5/ 562، و"تاريخ الطبري" 2/ 397، و"المنتظم" 3/ 82، و"الكامل" 2/ 110، و"أسد الغابة" 1/ 86، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 299، و"الإصابة"1/ 34. (¬6) طبقات ابن سعد 3/ 571، والمنتظم 3/ 83، وأسد الغابة 1/ 207، وسير أعلام النبلاء 1/ 267، والإصابة 1/ 144.

جندع بن ضمرة الجندعي

بثلث ماله، وأجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان له من الولد: بِشْر، ومبشِّر، وهند، وسُلافةُ، والرَّباب، أسلموا وبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. جُنْدع بن ضمرة الجُنْدَعي (¬1) واختلفوا في اسمه، وكان قد مرض بمكة، فقال لبنيه: أخرجوني منها. قالوا: إلى أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة، وهو يريد الهجرة، فلما بلغ أضاة بني غِفار مات، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الآية (¬2). كلثوم بن الهِدْم (¬3) ابن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن مالك بن عوف الأنصاري الذي نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - بقباء، وهو من الطبقة الأولى من الأوس. كان رجلًا صالحًا كبيرًا شريفًا، أسلم قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وحسن إسلامه، ونزل عليه جماعة من الصحابة (¬4). وقيل: إنه توفي في السنة الثانية. وفيها: -يعني في السنة الأولى من الهجرة- توفي من رؤساء الكفار: الأسود بن عبد يَغوث ابن وهب بن عبد مناف، وكان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يومًا إلى البرِّيَّة، فعطش، فاسودَّ وجهُه، فأتى داره فلم يعرفوه، وأغلقوا في وجهه الباب، فمات عطشًا (¬5). وقيل: أخذ جبريل - عليه السلام - في عنقه، فحنى ظهره حتى احقوقب، فقال رسول الله ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 5/ 119، و"الإصابة" 1/ 251. وذكره ابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 176 ضمن وفيات السنة الثالثة. (¬2) الخبر في الطبقات الكبرى" 5/ 119 - 120. (¬3) انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 3/ 574، و"المنتظم" 3/ 83، و"أسد الغابة" 4/ 495، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 242، و"الإصابة" 3/ 305. (¬4) الخبر في "الطبقات الكبرى" 3/ 574. (¬5) الخبر في "أنساب الأشراف" 1/ 150، و"الكامل" 2/ 71، وعندهما: أصابته السموم فاسود وجهه.

العاص بن وائل السهمي

- صلى الله عليه وسلم -: خالي خالي. فقال جبريل - عليه السلام -: دعه دعه. فهلك (¬1). وفيه نزل قوله تعالى: {إِنَّا كَفَينَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] ودفن بالحجون. العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وكان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خرج من مكة يريد الطائف على حماره، وكان له به مال، فربض به الحمار على شِبْرِقة، فأصابت رجله شوكة، فانتفخت وصارَ مثل عنق البعير فهلك منها، وهو ابن خمس وثمانين سنة (¬2). الوليد بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أبو عبد شمس، كان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يسمي نفسه: الوحيدَ والعِدْلَ، أي: أنه وحيد قومه ولا يعادله أحد، وفيه نزل قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] الآيات (¬3). وقال الوليد لسعيد بن العاص: يا أبا أُحيحة، هلا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم مثلك أو مثل عروة بن مسعود الثقفي، فقال له سعيد: أو مثلك يا أبا عبد شمس، فنزل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ} (¬4) [الزخرف: 31]. وطئ الوليد سهمًا فخدشه، فتممه جبريل، فهلك وهو ابن خمس وتسعين سنة، ودفن بالحجون (¬5). ولما احتضر جلس عند رأسه أبو جهل، فجزع جزعًا شديدًا، فقال له أبو جهل: يا عم، فيم جزعك وأنت سيد قريش، وقد عُمِّرت طويلًا، ولك المفاخر والمآثر، وأنت ¬

_ (¬1) أخرجه البلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 150، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 104 وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬2) الخبر في "أنساب الأشراف" 1/ 158، و"الكامل"2/ 72. (¬3) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 151 - 152، و"المنتظم" 3/ 84، و"الكامل"2/ 71. (¬4) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 153. (¬5) الخبر في "أنساب الأشراف" 1/ 153، و"الكامل" 2/ 72، والنص عندهما: وكان مرَّ برجل من خزاعة يريش نبلًا فوطئ على سهم منها فخدشه، ثم أومأ جبريل إلى ذلك الخدش بيده فانتقض ومات منه.

أول من خلع نعليه عند دخول الكعبة، وقطعْتَ في السَّرِقة، وقضيت في الخُنثى من حيث يبول؟ وعَدَّدَ مآثره. فقال: والله ما بي جزع من الموت، وإنما أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، وكان أبو سفيان جالسًا عند رأسه، فقال: يا عم، لا تجزع فأنا ضامن لك أنه لا يظهر بمكة أبدًا، ومات (¬1). وفي هذه السنة صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه (¬2). عن سلمة بن الأكوع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلًا من أسلم أن يؤذن في الناس يوم عاشوراء: "من كان صائمًا فليتم صومه ومن كان آكلًا فلا يأكل وليتم صومه". أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 3/ 84، و "السيرة" لابن هشام 2/ 40، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 316. (¬2) قال ابن حجر في "الفتح" 4/ 772: كان الأمر بصيام عاشوراء أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية وفي السنة الثانية فرض لشهر رمضان. (¬3) أخرجه البخاري (1924)، ومسلم (1135).

السنة الثانية من الهجرة

السنة الثانية من الهجرة وفيها تزوج علي - عليه السلام - فاطمةَ - رضي الله عنها - في صفر (¬1). وقيل: في رجب، وقيل: في رمضان، ودخل بها في ذي الحجة، وقيل: مَرْجِعَهُ من بدر (¬2). ذكر خطبتها: قال ابن سعد: حدثنا مسلم (¬3) بن إبراهيم، حدثنا المنذر بن ثعلبة، حدثني عِلْباءُ بن أحمر اليَشْكري، أن أبا بكر - رضي الله عنه - ذكر فاطمة، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي أَنتظِرُ بها القَضَاء" فذكر أبو بكر ذلك لعمر فقال: ردَّك. ثم خطبها عمر - رضي الله عنه - فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فأخبر عمر أبا بكر، فقال: ردَّك يا عمر. ثم إنَّ أهلَ علي قالوا: اخطبها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أَبَعْدَ أبي بكر وعُمَرَ؟ فذكروا له قرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخطبها فزوَّجه إياها، فباع عليٌّ بعيرًا ومتاعًا بأربع مئة درهم وثمانين درهمًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعل ثلثين في الطيب وثلثًا في المتاع". وقد اختلفت الرواية في كيفية الخطبة: فذكر ابن سعد أيضًا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ما تَصْدُقها"؟ فقال: ما عندي شيء. فقال: "أينَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ"؟ قال: عندي، قال: "فأَصْدِقْها إيَّاها" (¬4). وروى عبد الكريم (¬5) بن سَليط، عن بريدة، عن أبيه، قال: أتى علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلَّم عليه. فقال: "ما جَاءَ بكَ"؟ فقال: أخطب فاطمة. فقال: ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 3/ 84. (¬2) جاء في "الطبقات الكبرى" 10/ 23 قال: تزوج علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رجب بعد مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بخمسة أشهر، وبنى بها مرجعه من بدر. (¬3) في النسخ: "مسلمة" والمثبت من "الطبقات" 10/ 20. (¬4) "الطبقات الكبرى" 10/ 21. (¬5) في النسخ: "عبد العزيز" والمثبت من "الطبقات" 10/ 21، وانظر "تهذيب الكمال" 18/ 250.

"مَرْحَبًا وأَهْلًا". ولم يزده على ذلك، فخرج علي إلى نفر من الأنصار، فقالوا: ما قال لك؟ فأخبرهم، فقالوا: قد أعطاك الأهل والمَرْحب، ثم زوجه بعد ذلك. قال ابن سعد: ولما خطبها علي - رضي الله عنه -، دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خدرها، وقال: إن عليًّا يطلب فاطمة (¬1). فصار ذلك أصلًا في كلِّ بِكْر تُستأمر. وقالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يزوج أحدًا من بناته، جلس إلى خدرها وقال: "إن فُلانًا يَذكرُ فُلانةَ". فيسميها ويسمي الرجل الذي ذكرها، فإن هي سكتت زوجها، وإن كرهت نقرت الستر، فإذا نقرته لم يزوجها (¬2). وفيها: كانت غزاة الأَبواء (¬3) في شهر ربيع الأول، وهي أول غزاةٍ غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه. واستخلف على المدينة سعْدَ بنَ عُبادةَ، وحمل لواءه حمزةُ بن عبد المطلب وكان أبيض، وخرج في المهاجرين لا غير يتعرَّض لِعير قريش، فأقام بالأبواء ووَدَّان خَمْسَ عَشرة ليلة، ووادعَ مَخْشيَّ بن عَمْرو سيّدَ بني ضمرة، أن لا يغزوهم ولا يغزونه، ولا يعينون عليه أحدًا، وكتب بينه وبينهم كتابًا، ثم عاد إلى المدينة ولم يلق كيدًا. وفيها: كانت غزاة بُواط (¬4) في ربيع الأول أيضًا، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه في المهاجرين، وكانوا مئتين يتعرض أيضًا لعير قريش، وكان فيها أمية بن خلف الجمحي في مئة رجل من قريش، وفيها ألفان وخمس مئة بعير، وحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، ثم رجع ولم يلق كيدًا. وفيها: كانت غزاة سَفَوان (¬5) في آخر ربيع الأول مَرْجِعَه من بُواط، وسَفَوان وادٍ ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 10/ 20. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24494). (¬3) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 170، و"المغازي" 1/ 11، و"الطبقات الكبرى" 2/ 7، و"تاريخ الطبري" 2/ 407، و"المنتظم " 3/ 88 وهي غزوة وَدَّان. (¬4) بواط: بضم الباء وفتحها. وانظر الخبر في "السيرة" 2/ 176، و"المغازي" 1/ 12، و"الطبقات الكبرى" 2/ 8، و"تاريخ الطبري" 2/ 407, و"المنتظم" 3/ 89. (¬5) وهي غزوة بدر الأولى, انظر الخبر في "السيرة" 2/ 178، و"المغازي" 1/ 12، و"الطبقات الكبرى" 2/ 8، و"تاريخ الطبري" 2/ 407، و"المنتظم" 3/ 89 - 90.

بالحجاز، وكان كُرْز بن جابر الفهري قد أغار على سَرْح المدينة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلبه في المهاجرين، وحمل علي - عليه السلام - لواءه، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، ومضى حتى بلغ سَفَوان، وفاته كُرْزٌ فرجع إلى المدينة. وفيها: كانت غزاة ذات العُشَيرة (¬1)، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في جمادى الآخرة في مئة وخمسين راكبًا من المهاجرين، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، فبلغ ذات العُشَيرَةِ يتعرض لعير قريش ففاتته إلى الشام، وهذه العير لما رجعت من الشام خرج يعترضها، فكانت وقعة بدر في رمضان، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ووادع مُدْلجًا (¬2) فأكرموه، وأحسنوا ضيافته. وفي هذه الغزاة كنّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أبا تراب (¬3). وفيها: كانت سرية عبد الله بن جحش (¬4) إلى نخلة، في جمادى الآخرة (¬5)، وكانوا اثني عشر، وقيل: ثلاثة عشر، وقيل: ثمانية، وقيل: تسعة، وهم: عبد الله بن جَحْش، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وعُكَّاشةُ بن مِحْصَن، وأبو حذيفة بن عتبة، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة (¬6)، وواقد بن عبد الله، وكان كل اثنين يعتقبان بعيرًا، وأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرصدوا عير قريش بنخلة. قال عروة بن الزبير: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لعبد الله بن جحش كتابًا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه ويمضي لما أمره به، ولا يستكرهنَّ أحدًا من ¬

_ (¬1) انظر الخبر في "السيرة" 2/ 176، و"المغازي" 1/ 12 - 13، و"الطبقات الكبرى" 2/ 9، و"تاريخ الطبري" 2/ 408، و"المنتظم" 3/ 90. ويقال لها: العسيرة، بالسين المهملة. (¬2) في النسخ: "مذحجًا"، والمثبت من المصادر. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى"2/ 9. (¬4) انظر "السيرة" 2/ 178، و"المغازي" 1/ 13، و"الطبقات الكبرى" 2/ 9، و"تاريخ الطبري" 2/ 410، و"المنتظم" 3/ 91. (¬5) ولعل الصواب أنها كانت في رجب كما في "المصادر"، وانظر "دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 17. (¬6) جاء في "السيرة": عامر بن ربيعة. ويؤيده ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (3479) و"الإصابة" 2/ 537 عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية نخلة ...

أصحابه، فسار يومين ثم نظر في الكتاب، وإذا فيه: "أما بعد: فإذا نظرت في كتابي هذا، فَسِرْ حتى تنزل بطن نخلة بين مكة والطائف، فترصدَ بها عير قريش، وتعلمَ أخبارهم لنا". قال ابن إسحاق: فلما قرأه استرجع، ثم قال: سمعًا وطاعة، وأخبر أصحابه، وقال: من رغب منكم في الشهادة، فلينطلق معي، ومن كرهها فليرجع، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن لا أستكره أحدًا. فساروا معه ولم يتخلف منهم أحد، فسلك الحجاز، حتى إذا كانوا بمَعْدِنٍ فَوْق الفُرْعِ أَضلَّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غَزْوان بعيرهما، فتخلَّفا في طلبه، ومضى عبد الله وأصحابه حتى نزل نخلةَ، ومرت عير قريش تحمل زبيبًا، وأَدَمًا، وتجارة، وفيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل، فلما رآهم القوم هابوهم، وكانوا قد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكُّاشةُ وقد حلق رأسه، فلما رأوه أمِنوا وقالوا: عُمّارٌ لا بأس عليكم منه. وكان ذلك آخر يوم من جمادى الآخرة، فتشاوروا في أمرهم وقالوا: والله لئن تركتم هذه الليلة ليدخلن الحرم فيمتنعون منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، لأن بعضهم ظن أنه أول يوم من رجب. ثم عزموا على قتالهم، فرمى واقد بن عبد الله عَمْرَو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله، والحكم بن كَيْسان، وأفلت نوفلٌ إلى مكة، واستاقوا العير والأسيرين إلى المدينة، وهي أول غنيمة قسمت في الإسلام، وأول لواء جرى تحته قتال، فلما قدموا المدينة وقَّفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر العير والأسيرين، وقال: "ما أمرتكُم بالقِتَال في الشَّهر الحرام". ولم يأخذ منه شيئًا، وسُقِط في أيدي القوم: عبد الله وأصحابِه ولامهم المسلمون، وقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، فسفك الدماءَ وأخذ المال وأسر الرجال، وتفاءلت اليهود بذلك، وقالت: واقد: وقدت الحرب، وعمرو: عمرت، والحضرمي: حضرت، وضاق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجلس عبد الله ومن كان معه في بيوتهم، وضاق بهم ذرعًا، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] الآية، فكانت تسليةً لعبد الله وأصحابه, وفرَّج الله عنهم، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير والأسيرين، وقيل: حبسهما حتى قسَّمهما مع غنائم بدر، وبعثت قريش في فداء الأسيرين، فقال رسول الله

- صلى الله عليه وسلم -: حتى يقدم صاحبانا سعد وعُتبة. فأقاما حتى قدما، ففاداهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل شهيدًا ببئر معونة. وفي هذه السنة: سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين، وهو أول من تسمى بها. وفي هذه السنة: تحولت القبلة إلى الكعبة في شعبان، وقيل: في يوم الاثنين النصف من رجب. عن ابن عمر قال: بينا الناس بقباء في صلاة الفجر، إذ جاءهم آت فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزل عليه قرآن، وقد أُمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها -وكانت وجوههم إلى الشام- فاستداروا إلى الكعبة. متفق عليه (¬1). وكانت صلاته إلى البيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وقيل: ثمانية عشر شهرًا، وقيل: عشرة أشهر، وقيل: تسعة أشهر. وفيها: جدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجد قُباء لمّا صُرِفت القبلة إلى الكعبة. عن سهل بن سعد قال: لما صرفت القبلة إلى الكعبة، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجد قباء، فقدَّم جدار المسجد إلى موضعه اليوم، وأسَّسه بيده، ونقل الحجارة ونقل معه أصحابه لبنائه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيه كل سبت ماشيًا، قال سهل: وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن صلَّى في مسجدِ قُباءَ، كان له أجرُ عُمرةٍ" (¬2). وقال ابن عباس: لو كان في طرف من أطراف الأرض، لضربنا إليه أكباد الإبل، وكان يأتيه كل خميس ويقول: هو المسجد الذي أسس على التقوى (¬3). وفيها: نزلت فريضة رمضان في شعبان (¬4). وفيها: كانت غزاة بدر الكبرى (¬5) في سابع عشر رمضان، وقيل: في تاسع عشره، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (403)، ومسلم (526). (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 210، وأخرجه العقيلي في الضعفاء 1/ 220 من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. (¬3) "الطبقات الكبرى" 1/ 210 عن عمر - رضي الله عنه -. (¬4) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 417. (¬5) انظر الخبر في "السيرة" 2/ 182، و"المغازي" 1/ 19، و"الطبقات الكبرى" 2/ 10، و"تاريخ الطبري" 2/ 421، و"المنتظم" 3/ 97.

وبدر اسم ماء، وقيل: بئر لرجل يدعى بدرًا، وهو عن يمين طريق مكة بين مكة والمدينة. والسبب في هذه الغزاة، أن أبا سفيان بن حرب كان خرج إلى الشام في عير فيها أموال قريش، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج بسببها ففاتته -كما ذكرنا-، ثم بلغه خبر عَوْدِها من الشام، فخرج يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وقيل: أبو لُبابة (¬1) بن عبد المنذر، وأُخبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بما في العير من الأموال وبقلّةِ عددهم، فخرج معه جماعة من الأنصار لم يكن غزا بهم قبل ذلك، وإنما خرجوا طمعًا في الأموال، ولا يُحَدِّثون أنفسهم بكثير قتال، وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عسكره ببئر أبي عِنبَة وهي على ميل من المدينة، وبعث طلحة بن عُبَيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يتحسسان خَبَر العير. قال ابن سعد: جميع من شهد بدرًا من المهاجرين الأولين من قريش وحلفائهم ومواليهم في عدد ابن إسحاق: ثلاثة وثمانون، وفي عدد الواقدي: خمسة وثمانون (¬2). وجميع من شهدها من الأوس ضرب له بسهمه وأجره في عدد موسى بن عقبة والواقدي: ثلاثة وستون، وفي عدد ابن إسحاق وأبي معشر: أحد وستون (¬3). وجميع من شهدها من الخزرج في عدد الواقدي: مئة وخمسة وسبعون، وفي عدد ابن إسحاق مئة وسبعون، قال: فجميع من شهدها من المهاجرين والأنصار، ومن ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهم وأَجْر في عدد ابن إسحاق: ثلاثمئة وأربعة عشر، وفي عدد أبي معشر والواقدي: ثلاث مئة وثلاثة عشر، وفي عدد موسى بن عقبة: ثلاث مئة وستة عشر (¬4). قال المصنف رحمه الله: وهذا الذي ذكر ابن سعد في المجمع على هؤلاء لا في المختلف فيه. ¬

_ (¬1) في النسخ: "أسامة" والمثبت من المصادر. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 387، وانظر "السيرة" لابن هشام 2/ 237. (¬3) "الطبقات الكبرى" 3/ 448. (¬4) "الطبقات الكبرى" 3/ 555.

فصل في فضل أهل بدر

فصل في فَضْل أهل بدر: قال رفاعة بن رافع الزُّرَقي: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما تَعدُّون أهل بدر فيكم؟ فقال: "مِن أَفْضَلِ المُسلِمينَ" أو كلمة نحوها، فقال جبريل: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة. انفرد بإخراجه البخاري (¬1). وفي المتفق عليه من حديث علي - عليه السلام -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قصة حاطب: "وَما يُدرِيكَ لعلَّ الله اطَّلَع على أهلِ بدرٍ، فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُم فقَد غَفَرتُ لَكُم" (¬2). وقال قيس بن أبي حازم: كان عطاء البدريين خمسة آلاف خمسة آلاف، وقال عمر: لأُفَضِّلَنَّهم في العطاء على مَنْ بَعْدَهم (¬3). عدنا إلى أول الغزاة وأقبل أبو سفيان من الشام في سبعين راكبًا من قبائل قريش كانوا تِجارًا، فيهم: مَخْرَمة بن نوفل الزهري وعمرو بن العاص ووجوه قريش، في ألف بعير، فأقبلوا على الساحل يريدون مكة، ورحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بئر أبي عِنبَة يريد العير بعد أن عرض أصحابه فَردَّ مَن استصغره، وكان فيمن رد عبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وأسامة بن زيد، ورافع بن خَديج، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعمير بن أبي وقاص، فبكى، فرده إلى بدر، فقتل في ذلك اليوم، ولم يكن في ظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يحارب، وإنما قَصد العير، ولما خرج من المدينة خلَّف عُثمانَ بن عفان على ابنته رُقيَّةَ يُمَرِّضُها حتى توفيت، وخلَّف أبا لبابة أميرًا على المدينة، ورَدَّ الحارث بن حاطب إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم. قال البلاذري: وأبطأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناس من الصحابة ظنًّا منهم أنه لا يحارب، منهم: سعد بن عبادة، وقيل: إنه لُسع، ورافعُ بنُ مالك، وعبدُ الله بن أُنَيس، وكعب بن مالك، والعباس بن عُبادة بن نَضْلة، وأُسَيد بن حُضَير (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3992). (¬2) أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494). (¬3) أخرجه البخاري (4022). (¬4) "أنساب الأشراف" 1/ 337.

ذكر ما كان مع المسلمين من الإبل والخيل

ذكر ما كان مع المسلمين من الإبل والخيل: كان معهم سبعون بعيرًا يتعاقبُ البعيرَ النفرُ، وكان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي وزيد بن حارث - رضي الله عنهما - بعير، وبين حمزة ومَرْثَد بن أبي مَرْثَد وأبي كبشة وأَنسةَ موليا (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعير، وبين عبيدة بن الحارث والطُّفَيل والحُصين بن الحارث بعير، وبين أبي بكر وعمرو بن عوف بعير (¬2). وكان معهم ثلاثة أفراس: فرس المقداد بن عمرو، وفرسٌ لِمَرْثَد الغنوي، وفرس الزبير بن العوام. ذكر الرجل الذي تبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه: قالت عائشة - رضي الله عنها -: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فلما كان بحرَّة الوَبَرة أدركه رجل قد كان يُذكر له جُرْأةٌ ونَجْدَةٌ، فلما رآه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرحوا به، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئت لأتبعَك وأُصيبَ معك. فقال له: "أَتُؤْمِنُ بالله ورَسُولِه "؟ قال: لا. قال: "فارجِع، فَلَن أَستَعِينَ بمُشْرِكٍ" ثم تبعه ثانيًا وثالثًا، وهو يقول له ذلك، ثم أسلم الرجل وتبع النبي - صلى الله عليه وسلم -. انفرد بإخراجه مسلم (¬3). قال ابن سعد: اسم هذا الرجل: خُبَيبُ بن يَسَّاف الخزرجي، وكان قد خرج مُنْجدًا لقومه، وطالبًا للغنيمة، وأسلم وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل رجلًا من الكفار، وضربه الكافر فشجه، ثم مات. وتزوج خبيب ابنته بعد ذلك، وكانت الضربة في وجهه، فكانت المرأة تقول: لا عدمتُ رجلًا وشَّحَك بهذا الوشاح، فيقول: لا عدمتِ رجلًا أعجل بروح أبيك إلى النار (¬4). ذكر مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر: ولما رحل إلى بدر، بعث العيون، فمنهم: بَسْبَس بن عمرو الأنصاري، وعدي بن ¬

_ (¬1) في النسختين (ك، خ): مولوي، والمثبت من المصادر. (¬2) انظر: "السيرة" لابن هشام 2/ 186، و"أنساب الأشراف" 1/ 339، و"السيرة الشامية" 4/ 39. (¬3) أخرجه مسلم (1817). (¬4) انظر: "الطبقات الكبرى" 3/ 495.

أبي الزَّغْباء على المقدمة، وجعل على الساقةِ قيسَ بنَ أبي صعصعة، وأمر بمن بعثه في المقدمة أن يلحقوا بالمشركين عيونًا لهم (¬1). ولما ورد أبو سفيان بدرًا وكان خائفًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقي في طريقه ببدر مَجْدِي بن عمرو، فقال له: هل أَحْسَست من عيون محمد أحدًا، فوالله ما بمكة قرشي ولا قرشية إلا وقد بعث بها معنا، فقال له: والله ما أدري ولا رأيت ما أنكره إلا راكبين أتيا هذا المكان، وأشار إلى مناخ بسبس وعدي، فقام أبو سفيان إلى مُناخهما، فأخذ من بعر بعيرهما، ففتّه فإذا فيه نوى، فقال: هذه علائف يثرب، هذه عيون محمد، ثم ضرب وجه العير فساحَل بها إلى مكة، واستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغِفاري وبعثه إلى مكة نذيرًا لقريش يَسْتَنْفِرهم لأجل أموالهم (¬2). وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم ضمضم بثلاث ليال، كأَن راكبًا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: يا آل غُدَر، يا آل فُجَر، انفروا إلى مصارعكم بعد ثلاث، فاجتمعوا إليه، فدخل المسجد والناس خلفه، فبينما هم على ذلك حوله إذ مَثُل به بعيره على ظهر الكعبة، فصرخ بأعلى صوته كذلك، ثم مَثُل به بعيره على أبي قُبَيسٍ، فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل، ارفضَّت، فما بقي بيت من بيوت مكة، ولا دار من دورها إلا دخل فيه منها فَلْقَةٌ، فحدثت عاتكة أخاها العباس بذلك، فقال: اكتميها. ثم لقي العباس الوليد بن عتبة، وكان صديقًا له فحدَّثه الحديث، واستكتمه إياه، فذكره الوليد لأبيه، وفشا الحديث. قال العباس: فلقيني أبو جهل، فقال: يا أبا الفَضْل، متى ظهرت فيكم هذه النبيّةُ؟ قلت: وما ذاك؟ قال: منام عاتكة، فأنكره، فقال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبَّأ رجالكم حتى تنبأت نساؤكم، وقد زعمت عاتكة أنه قال: انفروا إلى مصارعكم بعد ثلاث. ونحن نتربص بكم هذه الثلاث، فإن يكن ما قالت حقًّا فسيكون، وإن مضت الثلاث ولم يكن شيء من ذلك كتبنا عليكم كتابًا أنكم أكذب بيت في العرب، قال: ثم مضى العباس، قال: فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 187، و"المنتظم" 3/ 98. (¬2) انظر "السيرة" 2/ 190، و"الطبقات الكبرى"2/ 12، و"تاريخ الطبري" 2/ 427.

المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ويتناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرَةٌ لما سمعت، قال العباس: فلما سمعت قولهن، قلت: والله لأَتعرضنَّ له، فإن عاد لأوقِعَنَّ به، فلما كان اليوم الثالث من رؤيا عاتكة تعرضت له وأنا مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمرٌ أُحِبُّ أن أُدرِكَه منه، فدخلت المسجد وإذا به جالس فيه، فمشيت نحوه عساه يعود فأوقع به، إذ خرج عدو الله من باب المسجد يشتد، فقلت: ما له لعنه الله، أكلُّ هذا فَرَقًا من أن أشاتمه، وإذا به قد سمع ما لم أسمع، وهو صوت ضَمْضَم بن عمرو الغفاري وهو قائم على بعيره يصرخ ببطن الوادي، قد شق ثيابه، وجَدَع أنف بعيره وهو ينادي: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه، وما أظنكم تدركونها، الغوث الغوث، فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر. قال ابن إسحاق: فخرجوا سراعًا معهم القَيناتُ بالدُّفوف يقولون: أيظن محمد أنها عير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلمن غير ذلك. وكانوا بين رجلين: إما خارجٌ وإما باعثٌ مكانه رجلًا، ولم يبق من رجالات قريش وأشرافهم أحد إلا أن أبا لهب قد بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان أمية بن خلف شيخًا كبيرًا ثقيلًا فأزمع القعود، ثم عُيِّر فخرج، وقال عتبة لأخيه شيبة، وقد كره الخروج: إنَّ ابن الحنظلية -يعني أبا جهل- رجل مشؤوم وليس يمسه من محمد قرابة ولا رَحِمٌ مثلَ ما يَمَسُّنا، فقال له شيبة: إن لم نخرج صار علينا سُبّةً، فامض بنا يا أبا الوليد مع قومنا، ولما اجتمعت قريش على المسير، ذكروا ما بينهم وبين كنانة من العداوة وقالوا: نخشى أن يأتوا من خلفنا، فتوقفوا عن الخروج، فتبدَّى لهم إبليس في صورة سُراقَةَ بن مالك بن جُعْشُم المُدْلجي، وكان من أشراف كنانة فقال لقريش: أنا جار لكم من كنانة وبكر، فقال لهم أبو جهل: هذا سيد كنانة وقد أجاركم ومن خلفكم فشجَّ (¬1) القومُ فخرجوا (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، ولم نقف على هذه اللفظة فيما بين أيدينا من المصادر. (¬2) انظر "السيرة" 2/ 182 - 186، و"تاريخ الطبري" 2/ 428 - 431، والبيهقي في "الدلائل" 3/ 28، و"المنتظم" 3/ 98 - 100.

ولما نزلت قريشٌ الجُحْفَةَ، قال جُهَيْم بنَ الصلْتِ بن مَخْرَمة بن المطلب: رأيت فيما بين النائم واليقظان رجلًا أقبل على فرسه ومعه بعير، فقال: قُتل شيبة، قُتل عُتبة، قتل فلان وفلان، حتى عدد رجالًا قتلوا في ذلك اليوم، قال: ورأيته ضرب بعيره في لبَّته، ثم أرسله في العسكر، فلم يبق خباء من الأخبية إلا أصابه نَضْح من دمه، فأخبر الناسَ بما رأى، فقال أبو جهل: هذا نبي آخر، ستعلم غدًا إذا التقينا مَن المقتولُ. وأرسل أبو سفيان من مكة إلى قريش: قد أحرز الله عِيركم وأموالكم فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدرًا، وكان الأَخْنَسُ بن شَريق حليفُ بني زهرة قد خرج بهم، ثم أَفْكَرَ، فقال: يا بني زُهْرةَ، قد أنجى الله أموالكم ولا تسمعوا قول هذا المائق، واعصبوا جُبْنَها بي، ثم رجع وكانوا مئة (¬1). وفيه يقول ابن أبي الزَّغباء (¬2): [من الرجز] أَقِم لها صُدورَها يا بَسْبَسُ إنَّ مطايا القوم لا تُحَبَّسُ وحَمْلُها على الطريق أكيسُ قد صنع الله وفرَّ الأَخْنَسُ ولما رجع الأخنس لقيه أبو سفيان بمَرِّ الظَّهْران، فقال: لم رجعتم، لا في العير ولا في النفير، فذهبت مثلًا. فقال له الأخنس: أنت بعثت إلى قريش لترجع، وأبلغه ما قال أبو جهل، فقال له أبو سفيان: واقَوْماه، هذا من عمل عمرو بن هشام يعني أبا جهل، ثم لحق أبو سفيان ببدر، فقاتل مع الكفار قتالًا شديدًا، وجُرِحَ جِراحاتٍ كثيرةً، وهرب إلى مكة ماشيًا (¬3). ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان. ونزلت قريش العُدْوَة القصوى من الوادي خلف الكثيب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعُدْوَة ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 190، و"المنتظم" 3/ 102. (¬2) البيتان في "السيرة" 2/ 207، و"المغازي" 1/ 45. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 13.

الدُّنيا، فأرسل الله مطرًا عظيمًا، فأصاب المسلمينَ ما لبَّد لهم الأرض، ولم يمنعهم من السير، وأصاب الكفار منه ما منعهم من المسير. فبادرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل بأدنى وادٍ من بدر، فقال الحُباب بن المنذر: يا رسول الله، أمنزلك هذا أنزلك الله إياه، أم رأيٌ رأيته في الحرب؟ فقال: "بَلْ رَأيٌ رَأَيتُه" فقال: انهض فليس لك هذا بمنزل، فانزل أدنى ماء من القوم، ثم غَوِّر باقي المياه والقُلُبِ، وابنِ على الماء حوضًا واملأه، ثم قاتل القوم فَنشرب ولا يشربون، فنزل جبريل - عليه السلام - فقال: الرأي ما رأى حُباب، فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعل ما قال (¬1). ولما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الماء، قال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، ألا نبني لك عريشًا من الجريد تكون فيه، واجعل ركائبك عندك، ثم نلقى عدونا، فإن أَظْفَرنا الله عليهم، فذلك الذي أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك ولحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك قوم ما نحن بأشد حبًّا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى عدوًا ما تخلَّفوا عنك، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبني له العريش، فكان فيه هو وأبو بكر (¬2). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمرهم بالإفطار، فأفطر البعض وامتنع البعض، فأمر مناديه، فنادى: يا معاشر العصاةِ، أفطروا. فأفطروا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفطرًا (¬3). وعقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة ألوية، فكان لواؤه الأعظم وهو لواء المهاجرين بيد مصعب بن عمير، ولواء الخزرج بيد الحُباب بن المنذر، ولواء الأوس بيد سعد بن معاذ. وكان مع المشركين ثلاثة ألوية: لواء مع أبي عزيز بن عمير، ولواء مع النَّضرِ بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبي طلحة. وكان المشركون في تسع مئة وخمسين رجلًا من المقاتلة، وكان معهم مئة فرس، وأقبلت قريش، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ إنَّ هذه قريش قد أَقبَلَت بُخيَلائِها وحدِّها وحديدها تحادُّك وتكذِّب رسُولَك، اللَّهمَّ نَصرَكَ" (¬4). ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 53 - 54، وانظر "السيرة" 2/ 192، و"الطبقات الكبرى" 2/ 14. (¬2) "السيرة" 2/ 192، و"الطبقات الكبرى" 2/ 14، و"أنساب الأشراف" 1/ 344. (¬3) "أنساب الأشراف" 1/ 343. (¬4) "السيرة" 2/ 192.

ثم استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، فقام أبو بكر فأحسن القول، وقام عمر فأحسن القول، وقام المقداد وقال: يا رسول الله، امض لما أمرك به ربك، فنحن لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق نبيًّا، لو ضربت بطونها إلى بَرْكِ الغِماد لجالدنا معك حتى تبلغه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرًا ودعا له به. [ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشِيرُوا عليَّ أيُّها النَّاسُ" (¬1)] وإنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: أشيروا علي، الأَنْصارَ، لأنهم لما بايعوه ليلة العقبة قالوا: نحن بُرآء من ذِمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلى دارنا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءَنا. فخاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ينصروه خارج المدينة، ففطن سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، لعلك تريدنا، يعني الأنصار؟ قال: "أَجَل". قال: قد آمنا بك، وصَدَّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك العهود على السمع والطاعة، فامض لما أمرت به، فوالذي بعثك بالحق نبيًّا لو اعترضت البحر فخضته لخضناه، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، ونحن صُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبشِرُوا فإنَّ الله قد وَعَدني إحدى الطَّائفتَين" (¬2). فبينما هم كذلك إذ وردت رَوايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول: ما لي بهم علم، ولكن هذا عتبة، وشيبة، وأمية بن خلف، وأبو جهل، فإذا قال لهم ذلك ضربوه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي، فيقول: نعم أُخبركم، هذا أبو سفيان، فإذا تركوه يقول: ما لي بأبي سفيان علم، ولكن هذا عتبة، وشيبة، وأمية في الناس، فيضربونه. فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، انصرف من صلاته وقال: والذي نفسي بيده إنكم لتضربونَه إذا صدقكم، وتتركونه إذا كذبكم، لقد صدق والله، إنها لقريش (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من "السيرة" 2/ 188. (¬2) "السيرة" 2/ 188. (¬3) أخرجه مسلم (1779) من حديث أنس - رضي الله عنه -، وانظر "تاريخ الطبري"2/ 422 - 423 وإلى هنا انتهى سياق الطبري وما بعده من ابن هشام.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للغلامين -وهما أسلم وعريض-: أخبراني أين قريش؟ قالا: وراء هذا العَقَنْقَلِ الذي ترى بالعُدْوَةِ القصوى. فقال لهما: فكم الجمع؟ قالا: كثير. قال: فكم عدتهم؟ قالا: لا ندري. قال: فكم ينحرون كل يوم؟ قالا: تسع جزائر ويومًا عشرًا. فقال: القوم ما بين التسع مئة إلى الألف، وكانوا كذلك. قال: ومن فيهم من الأشراف؟ قالا: عتبة وشيبة وأبو البَختري، وحكيم بن حِزام، وطُعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزَمْعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد وُدّ في آخرين، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس وقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها (¬1). وكان المطعمون في غزاة بدر: عتبة، وشيبةَ، والعباسَ بنَ عبد المطلب، وحكيمَ بن حِزام، وزمعةَ بن الأسود، والمطلبَ بن أسد، وأبا البَخْتري، والعاص بن هشام، ونوفل بن خويلد بن أسد بن العدوية (¬2). وقيل: كانوا عشرة. وبَعثَ القوم عُميرَ بن وهب الجُمَحي ليحزر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء فجال بفرسه في العسكر، ثم رجع إليهم وقال: هم ثلاث مئة رجل يزيدون أو ينقصون شيئًا، ومعهم سبعون بعيرًا وفرسان، ثم قال: أمهلوني حتى أنظر هل لهم كمين؟ فجال بفرسه في الوادي، ثم عاد وقال: لم أر شيئًا ولكن رأيت الولايا (¬3) تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، ليس لهم معاقل ولا منعة إلا سيوفهم، أما ترونهم خُرسًا لا يتكلمون يتلمّظون تَلمُّظَ الأفاعي، فوالله لا يقتل منهم رجل حتى يَقْتُلَ منكم رجلًا أو رجالًا، فإذا قتلوا منا مثل عددهم فما خير في العيش بعد ذلك، فَرُوا رأيكم. فمشى حَكيم بن حِزام في الناس، فقال لعتبة بن ربيعة: يا أبا الوليد، أنت كبير ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 189. (¬2) في "المحبر" ص 161 - 162 المطعمون: أبو جهل، وأمية، وسهيل، وشيبة، وعتبة، ومنبه، ونُبيه، والعباس، وأبو البختري. (¬3) جمع ولية: وهي البرذعة التي تكون تحت الرحل. وعند ابن هشام: "البلايا" جمع بلية: وهي الناقة التي تربط على قبر الميت، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت.

قريش وسيدها، فهل لك أن لا تزال تُذكر بخيرٍ آخِرَ الدهر؟ قال: وما ذاك؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي، وما أصاب محمد من تلك العير ببطن نخلة، فإنكم لا تطلبون من محمد غير هذا الدم، قال عتبة: قد فعلت وأنت شاهد عليَّ بذلك، ووافقه أخوه شيبة ثم جلس عتبة على جمله وسار في المشركين من قريش يقول: يا قوم أطيعوني ولا تقاتلوا هذا الرجل، واعصِبُوا هذا الأَمر بي، وأنا أتحمل الدية وثمن العير، وقال لحكيم: اذهب إلى ابن الحنظلية -يعني أبا جهل- وقل له: هل لك أن ترجع إلى قومك مع ابنك؟ قال حكيم: فجئت إليه وهو في جماعة، وعامر بن الحضرمي يقول: قد فسخت عقدي من بني عبد شمس، وجعلته في بني مخزوم، فأبلغته ما قال عتبة، فقال: ما وجد رسولًا غيرك، ثم طلع على عتبة والشرُّ في وجهه وقال: انتفخ سحرك؟ فقال له عتبة: ستعلم. فسلَّ أبو جهل سيفه وضرب به متن فرسه، وكان إيماء بن رَحَضةَ حاضرًا، فقال لأبي جهل: بئس الفأل هذا (¬1). وقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله في "المسند" بمعناه فقال: خرج عتبة بن ربيعة على جمل أحمر وهو يقول لأصحابه: يا قوم، والله إني لأرى قومًا مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قومِ اعصبوها اليوم برأسي وقد علمتم نصحي وقولوا: جَبُن عتبة بن ربيعة، فقال له أبو جهل -لعنه الله في الدارين-: لو قال غيرك هذا لأَعْضَضْتُه بَظْر أمه، قد ملأت رئتك جوفَك رُعْبًا. فقال له عتبة: يا مُصَفِّرَ استه، ستعلم أينا الجبان (¬2). ونظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عتبة فقال: إن يكن في القوم من يأمر بخير، فعسى صاحبُ الجملِ الأحمر، فقال له حمزة: هو عتبة بن ربيعة (¬3). وقال خفاف بن إيماء بن رَحَضَةَ: ما كان شيءٌ أَحبَّ إلى أبي من إصلاح بين الناس، ولما سُقْتُ الجزائِرَ -يعني التي بعثها أبوه إلى قريش، وكان بعث إليهم عشر جزائر- لحقني أبي، فقبلوها ووزعوها، فمر أبي على عُتبة بن ربيعة وهو سيدُ الناس ¬

_ (¬1) الخبر في المصادر التالية: "السيرة" 2/ 193 - 194، "المغازي" 1/ 60، و"الطبقات الكبرى" 2/ 15، و"تاريخ الطبري" 2/ 442 - 443. وانتفخ سحره: عدا طوره وجاوز قدره. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (948) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (37834)، وأحمد (948) من حديث علي - رضي الله عنه -.

يومئذ، فقال له: يا أبا الوليد، ما هذا المسيرُ؟ قال: لا أدري والله، غُلِبْتُ. قال: فأنت سيدُ العشيرة، فما يمنعُك أن تَرْجِعَ بالناس، وتحملَ دمَ حليفك، وتحمِل العِيرَ التي أصابوا بنخلةَ، فتوزِّعَها على قومك، والله ما تطلبون قِبَل محمدٍ إلا هذا، والله ما تقتلون إلا أنفسكم (¬1). ثم بعث أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي وقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فانْشُد مقتل أخيك، فقام عامر واكتشف وصاح: واعمراه واعمراه، وثار الناس، ونشِبت الحرب (¬2). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد هيّأ أصحابه، وعبّأهم بعد صلاة الفجر، وقال علي - عليه السلام -: ما منا رجل ليلة بدر إلا نام إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه مازال متوشحًا بسيفه تلك الليلة يصلي ويدعو إلى الصبح (¬3). وبعث إلى قريش عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: ارجعوا فَلأَن يَليَ هذا الأمرَ مِني غيرُكم، أحب إلي من أن تلوه مني وأَليَه من غيركم أَحبُّ إلي من أن أَلِيَه منكم. فقال حكيم بن حزام: قد عرض عليكم النَّصَف (¬4) فاقبلوه، والله لا تنصرون بعد أن عرضه عليكم، فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن أمكننا الله منه، ولا نطلب أثرًا بعد عين، ولا يعترض لعيرنا بعدها أبدًا (¬5). وأول قتال جرى يوم بدر، أن الأسود بن عبد الأسد المخزومي قال: عاهدت الله لأَشربن من حوضهم، ولأَهدمنَّه. وهجم عليهم، فحمل عليه حمزة - رضي الله عنه - فضربه بالسيف في رأسه، فوقع على ظهره فلم يزل يحبو حتى اقتحم الحوض يريد أن يَبَرَّ في يمينه، فقتله حمزة (¬6). ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 60. (¬2) "السيرة" 2/ 194. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (1023)، وانظر "تاريخ الطبري" 2/ 427، و"المنتظم" 3/ 105. (¬4) في (خ): "النصح". (¬5) "المغازي" 1/ 61. (¬6) "السيرة" 2/ 194، و"تاريخ الطبري" 2/ 445، و"المنتظم" 3/ 107.

وأقبل نفر من الكفار فأوردوا حوضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم حكيم بن حزام على فرس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوهم". فما شرب منه أحد إلا قتل أو أسر إلا حكيم بن حزام، فإنه هرب إلى مكة على فرس يقال له: الوجيه، ثم أسلم بعد ذلك. وكان إذا حلف يقول: لا والذي نجَّاني يوم بدر (¬1). ثم خرج عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، فدعَوْا إلى المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، فقال لهم عتبة: من أنتم؟ قالوا: نحن من الأنصار. فقال عتبة: لا حاجة لي فيكم، ونادى: يا محمد، أخْرِج إلينا أَكْفاءَنا من قومنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُومُوا يا بَنِي هاشِم فَقَاتِلُوا بحَقِّكم الذي بَعَث الله بِه نَبِيَّكم، إذ جاء القومُ بِباطِلِهم ليُطْفِئُوا نُورَ اللهِ، قُم يا حَمزةُ، قم يا علي، قمْ يا عُبيدة بنَ الحارث" فقاموا. وكان على رؤوسهم البيض، فلم يعرفوهم، فقالوا: تكلموا. فقال حمزة: أنا أسد الله وأسد رسوله، فقال عتبة: وأنا أسد الحَلْفاء -يعني الأجَمة-، ثم قال: ومن معك؟ قال: ابن أخي علي وعبيدة بن الحارث، فقال: أكفاء كرام، ثم قال عتبة لابنه الوليد: تقدم يا وليد. فقتل حمزةُ شيبةَ، وقتل عليٌّ الوليدَ بن عتبة، واختلف عبيدة وعتبة ضربتين أثبت كل واحد منهما صاحبه، وكرّ حمزة وعلي على عتبة فقتلاه، وكان ذُباب سيف (¬2) عتبة قد أصاب ساق عبيدة، فاحتملاه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدم يسيل من عضلة ساقه، فقال: يا رسول الله! ألستُ شهيدًا؟ قال: بلى والله. فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيًّا، لعلم أني أحق بما قال منه حيث يقول: [من الطويل] كذبتُم وبَيتِ اللهِ نَخْذُلُ أحمدا ... ولمّا نُطاعِنْ دونه ونُنَاضِل ونُسلمُه حتى نُصَرَّعَ حولَه ... ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ (¬3) ثم حُمِلَ عبيدة فمات بالصفراء (¬4). ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 2/ 441، وانظر "السيرة" 2/ 193. (¬2) ذباب السيف: حده. (¬3) الخبر في "المغازي" 1/ 68 - 70. (¬4) انظر "السيرة" 2/ 251، و"الطبقات الكبرى" 3/ 49، و"المنتظم" 3/ 140، والصفراء: واد كثير النخل قرب المدينة.

ثم تزاحف الناسُ ودنا بعضهم من بعض، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كَثَبَكم القومُ فانضَحُوهُمْ بالنَّبْلِ" (¬1). ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العريش يناشد ربه بما وعده من النصر. وفي أَفْراد البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر وهو في قبة له: "اللَّهمَّ إنِّي أَنْشُدكَ عَهْدَكَ وَوَعدَكَ، اللَّهمَّ إنَّك إنْ تَشَأ لا تُعبَدُ بعدَ اليومِ" فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله، لقد ألححت على ربك. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الدرع يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] (¬2) والقتال يعمل بين الفريقين. ثم خفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفقة، ثم انتبه، فقال: "يَا أَبَا بَكر، أَتاكَ النَّصرُ، هذا جِبريلُ آخذٌ بعِنَانِ فَرَسه يقودُه على ثنَاياه النَّقْعِ" (¬3). ولما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العريش، قام سعد بن معاذ على باب البيت ومعه نفر من الأنصار بأيديهم السيوف يحرسون، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العريش، وجعل يحرض الناس على القتال، ويعطي القاتل سَلَبَ المقتول. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لما كان يوم بدر، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وهم ثلاث مئة ونيف، وإلى المشركين وهم ألف وزيادة، فاستقبل القبلة ومدَّ يَدَيهِ وعليه إزاره ورداؤه، وقال: "اللهمَّ أنجز لي ما وعدتني" يكررها، ثم قال: "اللهمَّ إن تهلك هذه العصابة من الإسلام لا تعبد في الأرض أبدًا". قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده، والتزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاكَ مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] الآية، فأمده الله بالملائكة (¬4). ولما اشتد القتال، هبت ريح شديدة لم ير مثلها قط، ثم ذهبت وجاءت أخرى، فكان جبريل في الأولى في ألف من الملائكة فوقف في الميمنة، وجاء ميكائيل في الثانية في ألف فوقف في الميسرة، وجاء إسرافيل في ثلاثةِ آلاف [فوقف] في القلب مع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2900) من حديث أبي أسيد، وانظر الخبر في "السيرة" 2/ 195. (¬2) أخرجه البخاري (2915). (¬3) "السيرة" 2/ 196. (¬4) أخرجه مسلم (1763).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقيل: إنما وقف جبريل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الأصح. ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر، وفيما سواه يشهدون القتال ولا يقاتلون، بل يكونون مددًا وعددًا (¬2). ورئي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثار المشركين مصلتًا للسيف وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]. وأخذ كفًّا من حصى أو تراب، ورمى به في وجوه الكفار وقال: شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلا وقع في عينه من ذلك شيء، وانهزموا. فأنزل الله تعالى: {وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] الآية (¬3). وعن أبي طلحة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر يوم بدر بأربعة وعشرين من صناديد قريش، فقذفوا في طَوِيٍّ من أطواء بدر، وكان إذا ظهر على قوم، أقام بالعَرْصَةِ ثلاث ليال، فلما كان اليوم الرابع من بدر أمر براحلته فَشُدَّ عليها رحله، ثم مشى واتَّبعه أصحابه، فجاء فوقف على شفير الرَّكي وجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلانَ بن فلان، أَيَسرُّكم أنَّكم أَطَعتُم الله ورَسُولَه، فإنَّا قد وَجَدنا ما وَعَدَنا ربُّنا حَقًّا، فَهَل وجَدْتُم ما وَعَدَكم ربُّكم حَقًّا"؟ فقال له عمر بن الخطاب: ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها، فقال: "والذي نَفسِي بيده ما أَنتُم بأَسْمَعَ لما أَقُولُ منهم" (¬4). وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرينا مصرع القوم، فيقول: "هذا مَصْرَعُ فلانٍ غدًا إنْ شَاء اللهُ تعالى، هذا مَصْرعُ فُلانٍ". فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حددها لهم، فَجُعِلوا في بئر بعضهم فوق بعض (¬5). ولما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القَليب قال: "يا أَهْلَ القَلِيبِ، بئسَ واللهِ العشيرة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى (489)، والحاكم في "المستدرك" 3/ 69. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 99، والطبراني في "الأوسط" (9125) من حديث بن عباس - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (3128) من حديث حكيم بن حزام، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 84: إسناده حسن. (¬4) أخرجه البخاري (3976)، ومسلم (2875). (¬5) أخرجه مسلم (2873).

ذكر من استشهد يوم بدر من المسلمين

كنتُم لابنِ عمِّكُم؛ كذَّبتُموني وصدَّقني النَّاس، وأَخرجتُموني وآواني النَّاس، وقَتلتُموني ونَصَرني النَّاس (¬1) ". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتلى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيًّا وكلمني في هؤلاء، لتركتهم له" (¬2). ولمَّا سُحِبَ عتبة إلى القليب، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وجه ابنه أبي حذيفة وقد تغير وهو كئيب، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لعلك دخلك من شأن أبيك شيء؟ قال: لا والله، ولكن كنت أرى في أبي رأيًا وحلمًا، فكنت أرجو أن يهديه الله بذلك إلى الإسلام، فلما رأَيته مات على الكفر، حزنت عليه لأن ذلك لم ينفعه. فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير (¬3)، فقال أبو بكر: لقد كان كارهًا للخروج، ولكن حمله الحَينُ ومصارع السوء. ذكر من استشهد يوم بدر من المسلمين (¬4): عاقل بن البُكَير، من كنانة حليف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأول من بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار ابن أبي الأرقم، قتله مالك بن زهير الجُشَمي. عُبيدة بن الحارث بن المطلب (¬5) بن عبد مناف أبو الحارث، وأمه سُخَيلَةُ بنت خُزاعي، ثقفية، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا قبل أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر وجُرِحَ في ساقه، جرحه شيبة (¬6) بن ربيعة، ومات بالصفراء، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وكفَّنه في ثوبه، وصلى عليه ونزل في قبره، وكان له ثلاثة وستون سنة، وكان له من الولد معاوية، وعوف، ومنقذ، والحارث، وإبراهيم، ومحمد، وخديجة، وريطة، وسُخيلة، وصفية، لأمهات أولاد شتى. ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 204، و"تاريخ الطبري" 2/ 457. (¬2) أخرجه البخاري (3139) من حديث جبير بن مطعم. (¬3) "السيرة" 2/ 205 و"تاريخ الطبري" 2/ 457، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (7088). (¬4) من هنا تبدأ نسخة أحمد الثالث ورمزنا لها بـ (أ). (¬5) في النسخ: "عبد المطلب" والمثبت هو الصواب، انظر "السيرة" 2/ 251، و"نسب قريش" ص 93، و"جمهرة النسب" ص 60. (¬6) كذا جاء في النسخ وعند الواقدي 1/ 145، والصواب: عتبة كما في "السيرة" 2/ 251.

واستشهد من الأنصار

عُمير بن أبي وقاص بن وهيب بن عبد مناف بن زُهرة (¬1) بن كلاب أخو سعد بن أبي وقاص، أمه حَمْنَةُ بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، ولما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، جعل عمير يتوارى مخافة أن يراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستصغره فيرده، فلما عُرِضَ عليه رده فبكى، فأجازه. قال أخوه سعد: فلقد كنت أعقد له سيفه من صغره، قتله عمرو بن عبدِ وُدٍّ، وهو ابن ست عشرة سنة. ذو الشمالين عُمير بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي، من الطبقة الأولى من المهاجرين، قتله زهير بن معاوية الجشمي وهو ابن بضع وثلاثين سنة. وأما صفوان بن بيضاء، فأبوه: وهب بن ربيعة من بني فهر، وأمه: دَعْدُ بنت جَحْدَم فهرية، والبيضاء لقب لها، وصفوان من الطبقة الأولى من المهاجرين. وعامة الرواة على أن طُعَيمة قتله ببدر، إلا الواقدي والزهري (¬2). قال الواقدي: عاش إلى سنة ثمان وثلاثين. وقال الزهري: مات بطاعون عمواس. وأما أنَسة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو من المهاجرين الأولين، واستشهد ببدر، قاله الواقدي (¬3). وقال البلاذري: وشهد أُحدًا ومات في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - (¬4). واستشهد من الأنصار: حارثة بن سراقة بن النعمان (¬5)، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه: جعدة وقيل: الرُّبَيِّع بنت النَّضْر، وقيل: بنت عبد المطلب. أسلمت وبايعت، رماه حِبّان بن العَرِقة بسهم، فأصاب حَنْجَرته فذبحه، وقيل: جاءه سَهْمٌ غَرْبٌ فقتله. ¬

_ (¬1) في النسخ: "زهيرة"، وانظر "نسب قريش" ص 257. (¬2) انظر طبقات ابن سعد 3/ 385. (¬3) "المغازي" 1/ 146. (¬4) "أنساب الأشراف" 1/ 349. (¬5) خلط المصنف رحمه الله هنا بين ترجمتين لصحابيين شهدا بدرًا أحدهما من شهداء بدر والآخر عُمِّر بعدها، الأول وهو المترجم: حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي، وأمه الرُّبَيع بنت النضر، وهي عمة أنس بن مالك وقتل شهيدًا ببدر. انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 473. الثاني: حارثة بن النعمان بن نفع، وأمه جعدة بنت عبيد بن ثعلبة، وشهد حارثة بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها، انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 452.

وعن أنس قال: جاءت الرُّبَيِّع بنت النَّضر وهي أم حارثة بن سراقة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة -وكان قتل يوم بدر جاءه سهم غَرْبٌ-، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -."يا أم حارثة، إنها ليست بجنة واحدة ولكنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى". انفرد بإخراجه البخاري (¬1). رافع بن المعلى، من الطبقة الأولى من الأنصار، قتله عكرمة بن أبي جهل. سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النَّحَّاط، أبو مسعود، من الطبقة الأولى من الأنصار وهو أحد النقباء الاثني عشر، وأمه: هند بنت أوس، شهد العقبة مع السبعين، ولما ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى بدر، قال له خيثمة: آثِرني بالخروج، فإنه لا بد لأحدنا أن يقيم فأبى سعد، وقال: لو كان غير الجنة لآثرتك بها، وإني لأرجو الشهادة في هذا الوجه، فاستهما فخرج سهم سعد، فقتل ببدر، قتله عمرو بن عبدِ وُدٍّ، وقيل: قتله طُعيمة بن عدي (¬2). عُمير بن الحُمام بن الجموح من الطبقة الأولى من الأنصار. وفي الحديث: فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فدنا المشركون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُومُوا إلى جَنَّة عَرضُها السَّماوات والأرض". قال عمير بن الحمام: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم". فقال: بخٍ بخٍ يا رسول الله، فقال: "ما يَحمِلُك على قَوْلِك بخٍ بخٍ "؟ قال: رجاء أن أكون من أهلها. قال: "فإنك من أهلها". فأخرج تمرات من قَرْنِه فجعل يأكل منهن، ويقول: لئنْ أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم رمى بما كان معه من التمر، ثم قاتَلَ حتى قُتِلَ (¬3). عوف ومعوِّذ ابنا عفراء. قد ذكرنا في ترجمة أبي جهل: أن معوّذًا أَثْبَتَ أبا جهل، ثم قتله (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2809). (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 447. (¬3) أخرجه مسلم (1901) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 456 - 457.

ذكر أعيان من قتل يوم بدر من الكفار

مُبَشِّر بن عبد المنذر من الطبقة الأولى من الأنصار، قتله أبو ثور. يزيد بن الحارث بن قيس، وأمه فُسْحُم من بني القين، قضاعية، ويزيد من الطبقة الأولى من الأَنْصار، قتله نوفل بن معاوية (¬1). وذكر الواقدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قتلى بدر، ودفنهم في مصارعهم بدمائهم على حالهم - رضي الله عنهم - (¬2). ذكر أعيان من قتل يوم بدر من الكفار قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنهم قتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين. فنذكر أعيانهم: أُمية بن خَلَف الجُمَحيّ، كان أشدَّ الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن ابن مسعود أنه حدث عن سعد بن معاذ وكان صديقًا لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا أتى مكة نزل على أمية، فقدم سعد مكة معتمرًا فنزل على أمية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فقال سعد لأمية: انظر لي ساعة لعلي أطوف بالبيت فيها، فخرجا نصف الليل فلقيهما أبو جهل، فقال لأمية: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: سعد بن معاذ. فقال أبو جهل: ألا أراك تطوف بالبيت آمنا وقد آويتم الصُّباةَ، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان، لما عُدتَ إلى أهلك سالمًا، فرفع سعد صوته على أبي جهل وقال: والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، قال: وما هو؟ قال: طريقك على المدينة. فقال له أمية: يا سعد، لا ترفع صوتك على أبي جهل، فإنه سيد أهل هذا الوادي. فقال له سعد: دع عنك هذا يا أمية، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنه قاتلك". فقال أمية: والله ما كذب محمد قط، ثم قال: أبمكة؟ قال سعد: لا أدري. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 195. (¬2) انظر "المغازي" 1/ 146.

ففزع أمية ورجع إلى أهله، فقال لها: يا أم صفوان، ألم تَرَي إلى ما قال سعد، وأخبرها بما قال، وقال: والله لا أخرج من مكة أبدًا. فلما كانت يوم بدر، لا زال به أبو جهل حتى أخرجه، وقال له: يا أبا صفوان، إنك متى ما رأى الناس قد تخلَّفْتَ وأنت سيد أهل هذا الوادي تخلفوا معك، فلم يزل به حتى قال: أما إذ غلبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة، ثم قال أمية: يا أم صفوان، جهزيني للخروج، فقالت: أنسيت قوْلَ أخيك اليثربي؟ فقال: لا، ما أكون معهم إلا قريبًا، فخرج معهم فقتل ببدر (¬1)، قتله خُبَيْبُ بن يَساف، واتفقوا على أن بلالًا - رضي الله عنه - كان سبب قتله. قال عبد الرحمن بن عوف: كاتبت أمية بن خلف كتابًا على أن يحفظني في صاغيتي بمكة، وأحفظه في صاغيته (¬2) بالمدينة، فلما ذكرت عبد الرحمن، قال: لا أعرف عبد الرحمن، كاتِبْني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته عبد عمرو، فلما كان يوم بدر خرجت لأُحْرِزه فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلِس من مجالس الأنصار، وقال: يا معاشر الأنصار، هذا أمية بن خلف لا نجوت إن نجا. فخرج مع فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا، خلَّفت لهم ابنه لأَشْغَلَهم به فقتلوه، ثم لحقونا -وكان أمية رجلًا ثقيلًا-، فقلت له: انزل، فنزل، فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخلَّلوه بالسيوف حتى قتلوه من تحتي، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، فكان عبد الرحمن يريهم ذلك الأثر في قدمه (¬3). قال الواقدي: فلما سقط أمية على ظهره، أقبل الحُباب بن المنذر فأدخل سيفه فقطع أنف أمية، وجاء إليه خُبيب بن يساف فضربه حتى قتله، وكان أمية قد ضرب يد خُبيب حتى قطعها من المنكب، فأعادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالتحمت، ثم تزوج خُبيب بن يَساف بعد ذلك ابنة أبي بن خلف، فقالت: لا يَشْلل الله يدًا فعلت بك هذا، فيقول حبيب: والله لقد أوردته شَعُوب (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3950). (¬2) الصاغيةُ: كلَّ من ألمَّ بالرجل من أهله. لسان العرب: (صغا). (¬3) أخرجه البخاري (2301). (¬4) "المغازي" 1/ 83، والشعوب: الموت.

وأخذ خُبَيْبٌ درعه وسَلَبه، واعترض الحُباب عليُّ بن أمية، فقطع رجله، فصاح صوتًا لم يُسْمَعْ بمثله جزعًا، ثم قتله عمار بن ياسر (¬1)، وقيل: معاذ بن رفاعة. وقيل لأم صفوان بن أمية: انظري إلى الحُباب بن المنذر هو الذي قتل أمية، فقالت أم صفوان: دعونا من ذكر من قُتِلَ على الشرك، قد أهان الله عليًّا بضربة الحباب بن المنذر، وأكرم الله الحباب بضربه (¬2). وقال صفوان لقدامة بن مَظْعون بعدما أسلم صفوان: أنت المُشْلي بأَبي الناسَ يوم بدر، قال قُدامة: والله ما فَعَلْتُ، ولو فَعَلْتُ ما اعتذرت من قتل مشرك، ولكن رأيت فتيةً من الأنصار منهم: معمر بن حبيب بن عبد الحارث يرفع سيفه ويضعه، يقول صفوان: أبو قرد، وكان معمر رجلًا دميمًا، وبلغ ذلك الحارث بن حاطب، فدخل على أم صفوان وهي كريمة (¬3) بنت حبيب، فأخبرها بمقالة صفوان وقال: ما يدعنا من الأذى في الجاهلية والإسلام، فقالت أم صفوان: ويحك يا صفوان تنتقص معمر بن حبيب، والله لا أقبل لك صلةً وكرامة سنة، فقال صفوان: يا أماه، والله لا أعودُ، تكلَّمتُ بكلمةٍ لم أُلْقِ لها بالًا (¬4). الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، كان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ممن أعان على نقضِ الصحيفة، وفيه نزل قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57]، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: "مَن لقيَ الحارثَ فلا يقتلْه وليَدَعْه لأَيتامِ بني نَوفَلٍ" (¬5). فلقيه خُبيب بن يَساف، ولم يعلم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتله كافرًا (¬6). ¬

_ (¬1) "المغازي"1/ 84. (¬2) "المغازي" 1/ 85. (¬3) هكذا سماها الواقدي، والذي في "الطبقات الكبرى" 6/ 109، و"نسب قريش" ص 388، و"الإصابة" 2/ 187 أن اسمها: صفية. (¬4) "المغازي" 1/ 84 - 85. (¬5) أورده البلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 350، وأورده الواقدي في "المغازي" 1/ 81 قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل، وقال: "ائسروه ولا تقتلوه" وكان كارهًا للخروج إلى بدر، فلقيه خبيب بن يساف فقتله ولا يعرفه، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لو وجدته قبل أن تقتله لتركته لنسائه". (¬6) انظر الخبر في "أنساب الأشراف" 1/ 350.

حنظلة بن أبي سفيان، وأمه: هند بنت عتبة، قتله علي (¬1)، وقيل: حمزة عَلَيهِ السَّلام (¬2). شَيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو هاشم، وأمه: هند بنت المُضَرِّب من بني لؤي، وكان أسنَّ من أخيه عتبة بثلاث سنين، وكان يضع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يؤذيه من غير مباشرة منه، وكان له ابنة يقال لها: رملة، تزوجها عثمان - رضي الله عنه - وهاجرت معه. طُعَيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وكان ممن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبالغ في شتمه وتكذيبه، وأسر يوم بدر فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمزة - رضي الله عنه - فقتله. العاص بن هشام بن أسد بن عبد العزى بن قصي، أبو البَخْتَريّ، كان ممن أعان على نقض الصحيفة، وكان قليل الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "مَن لَقِيَ أَبَا البَخْتَري فلا يَقْتُلْه". فلقيه المُجذَّر بن زياد البلوي، فقال له: استأسر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن لا تقتل، فقال: معي رفيقٌ، جنادةُ بن مُلَيحَة، فإن استبقيتموه وإلا فلا حاجة لي في الحياة بعده، فأُعَيَّرَ بخذلانه، فقتله المُجَذَّر، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: والله لقد اجتهدت على أن لا أقتله، فقاتلني قتلته (¬3). ويقال: إن الذي قتل [أبا] البختري عمير بن عامر المزني. العاص بن هشام بن المغيرة خال عمر بن الخطاب، قتله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. عاصم بن أبي عوف، أقبل يوم بدر كأنه ذئب وهو يقول: يا معاشر قريش، عليكم بالقاطع المفرِّق للجماعة الآتي بما لا يُعْرَف، محمَّدٍ، لا نجوتُ إن نجا، فاعترضه أبو دُجانة، فاختلفا ضربتين، فقتله أبو دجانة ووقف بسَلَبه، فمر به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو على تلك الحال، وقال: دع سَلَبَهُ حتى نُجهضَ العدو، وأنا أشهد لك به، وجاء مَعْبَد بن وهب فضرب أبا دجانة ضربة برك فيها كما يبرك البعير، ثم انتهض وأقبل على مَعْبَد فضربه ضربات، فلم يصنع سيفه شيئًا، فبرك عليه وذبحه بسيفه (¬4). ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 147. (¬2) وقيل زيد بن حارثة انظر "السيرة" 2/ 251. (¬3) انظر الخبر في "السيرة" 2/ 197، و"المغازي" 1/ 80. (¬4) "المغازي" 1/ 86.

عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو الوليد، وقيل: أبو هاشم، وأمه: هند بنت المضرِّب أمُّ شيبة، لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: يا محمد، إن كنت تريد الشرف شرَّفناك وملّكناك، وإن كنت تريد المال موّلناك. فقال: "اسمَع يا أَبا الوَليدِ" وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {حم (1)} السجدة، فقال عتبة: هذا كلام ما سمعت بمثله، ثم التفت إلى قريش وقال: خَلُّوا بينه وبين العرب فليس بتارك أمره (¬1). وكان عتبة سيدًا شريفًا شاعرًا، يسمى: ريحانة قريش، وكان يقال له: السيد المُمْلِق، ولم يعرف له من الرفث سوى قوله لأبي جهل: يا مُصَفِّر استه، ولحمزة - رضي الله عنه -: أنا سيد الحَلْفاء -يعني الأَجمة- وكان يتوهم أنه النبي المبعوث، وفيه نزل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31] في أحد الأقوال. وعتبة هو الذي أصلح بين كنانة وقيس بعد حروب أَفنتهم، نادى يوم عكاظ: يا معاشر قريش، إن أبعدكم إلينا قريب، فهلموا إلى الصلح وصلة الأرحام. فقالوا: من أنت؟ فقال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. قالوا: فما تعطونا؟ قال: إني أعرض عليكم أن نُعطيَ دية من أصيب منكم، ونعفو عمَّن أصيب منا، فما كان لنا عندكم من فضل فهو لكم، وما كان لكم من فضل أديناه إليكم. قالوا: نريد رهنًا بذلك، فأخرج إليهم خمسين غلامًا من قريش فيهم حكيم بن حزام، وقال: هؤلاء الغِلْمَةُ أَعزُّ مَن فينا، فإن وفينا وإلا أخذتم قَوَدَكُم، فلما رأت بنو عامر أن الرهن قد صار في أيديهم رقّوا ورغبوا في العفو، قال حكيم بن حزام: فأطلقونا عشية، وقالوا: الحقوا بأهلكم فقد اصطلح الناس (¬2). وقتل عتبة وله سبعون سنة، وقيل: إنّه جاوز المئة سنة. ومن أولاد عتبة: أبو حذيفة، وأبو هاشم واسمه: شيبة، وقيل: هُشيم، وهو أخو أبي حذيفة لأبيه، وأخو مُصعب بن عُمير لأمه، أمهما: خُناس بنت مالك عامرية ¬

_ (¬1) انظر " السيرة" 1/ 261 - 262. (¬2) هو حرب الفجار الرابع، انظر "المنمق" ص 164 - 180، و"تاريخ دمشق" 38/ 240.

قرشية، أسلم أبو هاشم يوم الفتح، وسكن الشام، وكان من فضلاء الصحابة، وكان أبو هريرة يقول إذا ذكره: ذاك الرجل الصالح، ومات في أيام عثمان. - رضي الله عنه -، ولما مرض دخل عليه معاوية يعوده فبكى، فقال: يا خالي ما يبكيك، أوجع أم حِرص على الدنيا؟ فقال: لا والله لا لهذا ولا لهذا، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إليَّ فقال: "يا أَبَا هاشمٍ، لعلَّك أن تدركك الأَموَالُ، وإنَّما يَكفِيكَ من الدُّنيا مَركَبٌ وخادِمٌ" (¬1). وأراني قد جمعت حولي (¬2). وكان لعتبةَ من البنات هند أم معاوية نذكرها في سنة أربع عشرة، وأم أبان تزوجها طلحة - رضي الله عنه -، وسنذكرها. واتفق لأم أبان ما لم يتفق لغيرها، كان لها أربعة أخوة وعمَّان شهدوا بدرًا: فأخوان وعم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخوان وعم مع المشركين. أما الأخوان المسلمان: فأبو حذيفة ومصعب بن عمير، والعم المسلم: مَعْمَرُ بن الحارث. والأخوان المشركان: الوليد بن عتبة وأبو عَزيز، والعم المشرك: شيبة بن ربيعة (¬3). وفاطمة بنت عتبة تزوجها عَقِيلُ بن أبي طالب، وكان إذا دخل عليها تقول: أين عتبة وشيبة؟ فيقول: إذا دخلت النار فانظري عن يسارك تجديهما، فشكته إلى عثمان - رضي الله عنه -، ثم اصطلحا (¬4). عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم، وكان يكنى أبا الحكم، فكناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل، وقال: "من كنى أبا جهل أبا الحكم، فقد أخطأ خطيئةً يستغفر الله منها، ولكل أمة فرعون وفرعون هذه الأمة أبو جهل" (¬5). وأمه أسماء بنت مُخَرِّبة بن جندل بن أُبَيْر بن نَهْشل بن دارِم، وأم أسماء عناق بنت الجان من تغلب بن وائل، وأم عناق يقال لها: الشَّموس. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (22496)، والنسائي في "الكبرى" (9811)، وفي "المجتبى" (5372). (¬2) انظر القصة في "تاريخ دمشق" 67/ 292. (¬3) انظر "المحبر" ص 400 - 401. (¬4) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 226. (¬5) لم نقف عليه بهذا السياق، وأخرج شطره الثاني عبد الرزاق في "تفسيره" 3/ 384 من حديث قتادة مرسلًا، وانظر "سبل الهدى والرشاد" 40/ 79 - 80.

ذكر مقتله: قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: إني لواقف يوم بدر في الصف نظرت عن يميني وعن شمالي فإذا بغلامين من الأنصار، حديثةٍ أسنانُهما، تمنيت أني كنت بين أَضْلعَ مِنْهُما، فغمزني أحدهما وقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل بن هشام؟ قلت: نعم. وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: بلغني أنه يَسُبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لو رأيته لم يفارق سوادي سوادَه حتى يموتَ الأَعْجَلُ منا، فغمزني الآخر وقال مثل ذلك. فعجبت، فلم أَنشَبْ حتى نظرتُ إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: هذا صاحبُكما الذي تسألان عنه، فاستقبلهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه، فقال: "أَيُّكما قَتَلَه"؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. قال: "فَهَل مَسحْتُما سَيفَكُما"؟ قالا: لا. فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السيفين وقال: "كِلاكُما قَتَلَه". ثم قضى لهما بسَلَبهِ، وهما: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء. أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). قال معاذ بن عَمْرو بن الجموح: ضربت أبا جهل ضربةً أَطَنَّت قدمَه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلد من جنبي، وقاتلت عامة نهاري وأنا أسحبها من خلفي، فلما آذتني جعلت رجلي عليها ثم تمطيت حتى طرحتها. وعاش معاذ إلى أيام عثمان - رضي الله عنه - (¬2). وقال البلاذري: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وضعت الحرب أوزارها أن يلتمس أبو جهل في القتلى، وقال: "اللهمَّ لا يعجزك". قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: وجدته مرميًا في القتلى على آخر رمق، فوضعت رجلي على عُنُقِه وقلت: الحمد لله الذي أخزاك. فقال: إنما يخزي الله ابنَ أمّ عبد، رُوَيْعينا بالأمسِ، لمن الدائرةُ؟ قلت: لله ولرسوله، فاقتلع البيضة عن قفاه. فقلت: إني قاتلك. فقاك: يا رويعي الغنم، لَسْتَ بأولِ عبدٍ قتل سيده. أما إنَّ أشدَّ [شيءٍ] عليّ لقتلُك إياي، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3141)، ومسلم (1752). (¬2) "السيرة" 2/ 201، و "تاريخ الطبري" 2/ 454، و"المنتظم" 3/ 116. وأطنت: أطارت.

وأن لا يكون وَلِي قتلي رجل من الأحْلاف، فقتلتُه وجئت برأسه وسلاحه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والله إنَّ ذلِكَ لأَحبُّ إليَّ مِن حُمْر النَّعَم" (¬1). ورأى بجسده خُضْرةً، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال: "ذاك أثر ضرب الملائكة". وكان أبو سلمة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَوَجِدَ في نفسه، فأقبل على ابن مسعود فقال: أنت قتلته؟ قال: الله قتله. قال: فأنت وَلِيتَ قتله؟ قال: نعم. فقال: لو شاء أن يجعلك في كمِّه، لفعل. فقال ابن مسعود: فقد والله قتلته وجرَّدتُه. فقال أبو سلمة: فما علامته؟ قال: شامة سوداء في فخذه اليمنى. فقال: جرّدته ولم يُجرَّدْ قُرَشي غيره، فقال: لم يكن في قريش أعدى عدوًا لله ورسوله منه، وما أَعْتَذِرُ من شيء صنعته به. فسكت أبو سلمة، ثم استغفر الله بعد ذلك من كلامه في أبي جهل (¬2). قال الواقدي: قتل أبو جهل وهو ابن سبعين سنة، وكان يقال له: دَعيُّ بني شَجْع، ولم تثبت نسبته. وفيه يقول حسان (¬3): [من الطويل] ألا لَعَن الرحمنُ قومًا يحثُّهم ... دَعِيُّ بني شَجْع لحرب محمَّدِ مشومٌ لَعِينٌ قد تَبَيَّنَ جهلُه ... قليلُ الحياءِ أمرُه غيرُ مُرْشِدِ فأنزل رَبِّي نَصرَه لرسولِه ... وأيَّده بالعِزِّ في كلِّ مَشْهَدِ ذكر أولاده: عكرمة، وأبو علقمة، واسمه: زُرارة قتل باليمن، وأبو حاجب واسمه: تميم، ولم يعقبْ منهم أحد. ومن البنات: دُرَّة (¬4)، وهي التي عزم عليٌّ على نكاحها، وعزَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتركها. وجويرية أسلمت يوم الفتح، تزوجها عبد الرحمن بن عتّاب بن أَسِيد، فقُتِل عنها يوم الجمل. ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 352. وما بين معكوفين منه. (¬2) "المغازي" 1/ 90 - 91. (¬3) أنساب الأشراف 1/ 361. (¬4) لأبي جهل أربع بنات: صخرة، الحنفاء، أسماء، جويرية، وليس لديه بنت اسمها درة، وإنما درة هذه ابنة أبي لهب، والتي خطبها علي بن أبي طالب هي جويرية، انظر "الإصابة" 4/ 65، والحديث في البخاري (3110)، ومسلم (2449) عن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه -.

ذكر أعيان المشهورين من المشركين

فصل: وعفراءُ بنت عُبَيْد (¬1) بن ثعلبة بن غَنْم الأنصارية، كانت عند الحارث بن رفاعة فولدت له معاذًا ومعوِّذًا، ثم طلَّقها، فقدِمت مكة فتزوجها بكير بن ياليل، فولدت له خالدًا وإياسًا وعاقلًا وعامرًا، ثم رجعت إلى المدينة، فراجعها الحارث، فولدت له عوفًا، وكلهم شهدوا بدرًا، فشهد لها ببدر سبعة بنين مسلِمين - رضي الله عنهم - (¬2). مُنَبِّهٌ ونُبَيْهٌ ابنا الحجاج السَّهْمي، كانا من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكان يدعو عليهما. فأما منبه فقتله علي - رضي الله عنه -، وقيل: أبو اليَسَرِ الأنصاري، وقيل: أبو أسيد الساعدي. وأما نُبَيه فقتله علي - رضي الله عنه - بغير خلاف، وكان ذو الفقار لنُبيه، وقيل: لمنبّه، فأخذه علي وجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنفَّله. أَبو ذات الكَرِش، واسمه: عبيدة بن سعيد بن العاص. قال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: لقيته يوم بدر وهو مُدَجَّجٌ لا يرى منه إلا عيناه، فقال: أنا أبو ذات الكَرِشِ، فحملت عليه فطعنته بالعَنَزَةِ في عينه، فمات (¬3). * * * ذكر أعيان المشهورين من المشركين: وقد قتل منهم سبعون، منهم: الحارث بن الأسود بن المطلب، قتله علي - رضي الله عنه - (¬4). ¬

_ (¬1) في النسخ: عبد الله. والمثبت من "الطبقات الكبرى" 10/ 412، و"المحبر" ص 399. (¬2) انظر "المحبر" ص 399. (¬3) "المغازي" 1/ 85. (¬4) لم نقف على هذا الرجل، ولعله الحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، قتله عمار بن ياسر. انظر "السيرة" 2/ 252، و"الكامل في التاريخ"، وجاء في "المغازي"1/ 148: الحارث بن ربيعة بن الأسود قتله علي، والله أعلم.

وجابر (¬1) بن السائب وأخوه عويمر (¬2)، قتلهما علي - رضي الله عنه -. ورفاعة بن أبي رفاعة، قتله سعد بن الربيع. وزيد بن مليص بن عبد مناف بن عبد الدار، قتله علي - رضي الله عنه -، وقيل: بلال (¬3). والسائب بن صيفي بن عابد (¬4)، قتله الزبير. والسائب بن أبي رفاعة، قتله عبد الرحمن بن عوف. وعبد الله بن أبي رفاعة، قتله علي - رضي الله عنه -. وعاصم بن أبي عوف، قتله أبو دُجانةَ (¬5). وعَقيل بن الأسود بن المطلب، اشترك في قتله حمزة وعلي - رضي الله عنهما -. وزمعة بن الأسود، قتله أبو دجانة (¬6). وعمير بن أبي عمير، قتله سالم مولى أبي حذيفة. وعمير بن عثمان بن عَمَّار (¬7) بن عمرو التيمي، قتله علي، وقيل: صهيب (¬8). وقُتِلَ أبو قيس بن الفاكِه، قتله حمزة، وقيل: الحباب بن المنذر (¬9). ¬

_ (¬1) هكذا جاء في النسخ و"أنساب الأشراف" 1/ 353، والصواب: حاجر، ويقال: حاجب. انظر "السيرة" 2/ 255، و"المغازي" 1/ 151. (¬2) قاتله هو النعمان بن مالك القوقلي. انظر "السيرة" 2/ 250، و"المغازي" 1/ 151. وما ذكر المصنف هو قول الكلبي كما في "أنساب الأشراف" 1/ 353. (¬3) وقيل المقداد بن عمرو. انظر "السيرة" 2/ 253، "المغازي" 1/ 149. (¬4) ذكره ابن إسحاق في "السيرة" 2/ 254، والواقدي 1/ 151 في قتلى المشركين يوم بدر، وهو معدود في الصحابة، انظر "الطبقات الكبرى" 6/ 93 - 94، و"الإصابة" 2/ 10. (¬5) جاء في "السيرة" 2/ 255: قتله أبو اليَسر. (¬6) جاء في "السيرة" 2/ 252: قتله ثابت بن الجذع. (¬7) لا وجود لهذا الاسم في نسب عمير بن عثمان. انظر "نسب قريش" ص 280، و"السيرة" ص 2/ 253. (¬8) جاء في "السيرة" 2/ 253، و"المغازي" 1/ 149: عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، قتله علي بن أبي طالب، ويقال: عبد الرحمن بن عوف. وعثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب، قتله صهيب بن سنان. (¬9) في "السيرة" 2/ 254: قتله علي بن أبي طالب، ويقال: عمار بن ياسر.

ابن عدي، وكنيته: أبو العاص (¬1)، قتله علي - رضي الله عنه -. وقيل: الحباب بن المنذر. ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة قتله علي - رضي الله عنه -. ومَعبَد (¬2) بن وهب، قتله أبو دجانة. ومعاوية بن عبد قيس، قتله عُكَّاشة. ونوفل بن أسد بن عبد العزى (¬3)، قتله علي - رضي الله عنه -. وعن الزهري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "اللَّهمَّ اكْفِني نَوفَلَ بن خُويلِدٍ". وكان أول ما التقى الصفان، يصيح بصوت رفيع: يا معاشر قريش، اليوم يوم الرِّفعة والعلاء، فلما انكشفت قريش قال: يا معاشر الأنصار، ما حاجتكم إلى دمائنا. فأسره جبَّار بن صخر فهو يسوقه، إذ رأى عليًّا - رضي الله عنه - مقبلًا نحوه، فقال: يا أخا الأنصار، مَنْ هذا؟ واللّات والعزى إنه ليريدني. فقال: هذا علي بن أبي طالب. فصمد له علي - رضي الله عنه - فقتله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن له عِلْمٌ بنَوفَلِ بن خُويلِدٍ"؟ فقال علي: أنا قتلته. فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "الحمدُ لله الذِي أَجَابَ دَعوَتي فيه" (¬4). وبلغ النجاشيَّ مقتلُ قريش ببدر، فخرج في ثوبين أبيضين، وجلس على الأرض، ثم دعا جعفرًا وأصحابه وقال: أيكم يعرف بدرًا، فأخبروه. فقال النجاشي: أنا عارف بها، قد رَعَيتُ الغنم في جوانبها، هي من الساحل على بعض نهار، ولكني أردت أن أتثبت منكم، قد نصر الله رسوله ببدر وأحمد الله على ذلك. فقال له بطارقته: قد رأيناك صنعت اليوم شيئًا لم تكن صنعته، لبست ثوبين أبيضين، وجلست على الأرض، فقال: إني من قوم إذا أحدث الله فيهم نعمة، ازدادوا بها تواضعًا، وفي رواية: إن عيسى عَلَيهِ السَّلام كان إذا أُحْدِثَ له من الله نعمة، ازداد تواضعًا (¬5). ¬

_ (¬1) هو أبو العاص بن قيس بن عدي، قتله علي، ويقال: أبو دجانة. "المغازي" 1/ 152، و"أنساب الأشراف" 1/ 354. (¬2) في النسخ: "معد". (¬3) هو نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى. انظر "السيرة"2/ 709، و"المغازي" 1/ 149، و"نسب قريش" ص 229 - 230. (¬4) "المغازي" 1/ 91 - 92. (¬5) "المغازي" 1/ 120 - 121.

وعن أنس: لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدر، جاءه جبريل عَلَيهِ السَّلام على فرس أنثى حمراء، وعليه درع وبيده رمح، فقال: يا محمد، إن الله أرسلني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى، فهل رضيت؟ قال: نعم. فانصرف جبريل عَلَيهِ السَّلام (¬1). وقال ابن عباس: أول من قدم مكة بمصاب قريش، الحَيْسُمانُ بن عبد الله الخزاعي، وهو ينادي بالويل والثبور، فقيل له: ما وراءك؟ فقال: قتل عتبة، قتل شيبة، قتل أمية، قتل الوليد، قتل أبو جهل، قتل فلان وفلان. وجعل يَعُدُّهم، وكان صفوان بن أمية في الحِجْر، فقال: إن يَعْقِلْ هذا، فسلوه عني؟ فقالوا: ما فعل صفوان؟ قال: هو قاعد في الحِجْر، ولقد رأيت والله أباه وأخاه حين قتلا (¬2). وكانت هند بنت عتبة تقول: لو أعلم أن الحزن يذهبه البكاء لبكيت، وقالت: [من مجزوء الكامل] للهِ عَينا من رأى ... هُلْكًا كَهُلْكِ رجاليَهْ يا رُبَّ باكٍ لي غدًا ... في النَّائباتِ وباكيَهْ (¬3) كم غادَرُوا يومَ القَليـ ... ــــبِ غداةَ تلك الواعِيَهْ (¬4) مِن كلِّ ليثٍ في المُحو ... لِ إذا الكواكب جاريهْ (¬5) قد كنتُ أحذَرُ ما جَرَى ... فاليومَ حُقَّ حِذاريهْ يا رُبَّ قائلةٍ غدًا ... يا ويحَ أمِّ معاويهْ وكان الأسود بن المطلب من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلَّمه يومًا كلامًا شقَّ عليه، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمى والثُّكْلِ، فأعماه الله وأثكله. وكان خرج يومًا إلى ظاهر مكة يستقبل بعض بنيه، وقد قدم من الشام، فجلس في ظل شجرة، فجاءه جبريل عَلَيهِ السَّلام، فجعل يضرب وجهه وعينيه بشوك حتى عمي، فشغل ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 24 من حديث عطية بن قيس، وانظر "المغازي" 1/ 113. (¬2) انظر "السيرة" 1/ 646. (¬3) في النسخ، و"أنساب الأشراف" 1/ 171: "النائحات"، والمثبت من "السيرة" 2/ 282. (¬4) الواعية: الصيحة. (¬5) رواية "السيرة" و"الأنساب": من كل غيث في السنيـ ... ـــــــــــن إذا الكواكب خاويه

عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما كان يوم بدر، قتل بنوه الثلاثة فكان يقول: دعوت على محمد أن يكون طريدًا في غير قومه وبلده، فاستجيب، ودعا عليّ بالعمى والثكل فاستجيب له (¬1). ومات الأسود في السنة الثالثة من الهجرة والمشركون يتجهزون إلى أُحد، وعاش مئة سنة. ولما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاقِرَ الناقة، قال: "كان عزيزًا في قومه كأبي زَمْعَةَ الأسود بن المُطَّلِب في قومه" (¬2). وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البشائر إلى المدينة: عبدَ الله بنَ رَواحة إلى أهل العالية، وزيدَ بن حارثة إلى أهل السافلة. قال أُسامة بن زيد - رضي الله عنهما -: قدم أبي إلى المدينة وقد سَوَّينا التراب على رُقَيَّةَ بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت عند عثمان بن عفان - رضي الله عنه - خلَّفه عليها يُمَرِّضُها. قال أسامة: فأتيت أبي وهو قائم بالمُصَلّى قد غشيه الناس وهو يقول: قتل شيبة، قتل عتبة، قتل فلان وفلان. فقلت: يا أبت، بالله حقًّا ما تقول؟ فقال: إِي والله يا بني (¬3). واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الغنائم عبد الله بن كعب المازني، وقيل: عبد الله بن قيس، ثم ارتحل - صلى الله عليه وسلم - قافلًا إلى المدينة، ونزل على كثيب فقسم الغنائم بين المسلمين على السواء (¬4). وكان الكفار قد جاؤوا بمئة فرس، فنجَوْا منها بسبعين وحصل في أيدي المسلمين ثلاثون وسبع مئة بعير، وأسلحة ودروع وسيوف كثيرة، وتنفَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذا الفَقار وجَمَلَ أبي جهل، وكان مَهْريًا، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو عليه ويضرب في لقاحه (¬5). ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 171. (¬2) أخرجه البخاري (3377)، ومسلم (2855) من حديث عبد الله بن زمعة، وانظر "أنساب الأشراف"1/ 173. (¬3) "السيرة" 2/ 207. (¬4) انظر "السيرة" 2/ 207، و"المغازي" 1/ 100. وقيل: استعمل عليها خباب بن الأرت كما في "المغازي". (¬5) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 17، و"تاريخ الطبري" 2/ 478 - 479.

وقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير، فقتلت سعيد بن العاص بن أمية، وأخذت سيفه وكان يسمى: ذا الكتيفة، فأعجبني، فجئت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفا صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف. فقال: "لَيسَ هذا لي ولا لَك، فَاذْهَب فَاطْرَحهُ في القَبَضِ". فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قَتْل أخي وأَخْذِ سَلَبي، وقلت: عسى يُعطى هذا لمن لا يُبْلي بلائي، فما جازوت قليلًا حتى جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخفت أن يكون نزل فيَّ شيء، وأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ... } [الأنفال: 1]، الآية، فلما انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لي: "يا سَعْدُ، إنَّك سَأَلتَنِي السَّيفَ، ولَيسَ لِي، وقد صَارَ الآن لِي، فَاذْهَبْ وخُذْهُ"، فأخذته (¬1). وكان قد تخلف عن بدر ثلاثة من المهاجرين، وخمسة من الأنصار لعذر، فضرب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهامهم وأجورهم. فمنهم: عثمان بن عفان -رضوان الله عليه- خلَّفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنته رقية - رضي الله عنهما - يُمَرِّضُها. وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بعثهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجسسان العير وخبر قريش ففاتهم ذلك، وقدما المدينة يوم وقعة بدر. ومن الأنصار: عاصم بن عدي بن العجلان، خلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة على أهل العالية لشيء بلغه عنهم. والحارث بن حاطب العَمْري، خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردَّه من الرَّوْحاء إلى بني عمرو بن عوف. والحارث بن الصمة، وخَوّات بن جبير خرجا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردهما إلى المدينة. وأبو لبابة بن عبد المنذر خلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة، ولا خلاف في هؤلاء الثمانية (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2740)، والترمذي (3079)، والنسائي في "الكبرى" (11196)، وأحمد في "مسنده" (1567). (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 11.

ولما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّوْحاءَ التقاه المسلمون يهنؤونه بالفتح والظَّفَرِ، فقال [سلمة بن] سلامة بن وَقْش -وكان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر-: وهل لقينا إلا عجائز صُلْعًا كالبُدْن المُعَقَّلة، فنحرناها نحرًا، فبماذا يهنئون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "لا يَا ابن أَخِي، لا تَقُل كَذا، أُولئِكَ المَلأُ مِن قُريشٍ -يعني السادة الأشراف- لَو رَأَيتَهُم لَهِبْتَهم، ولو أَمرُوكَ لأَطعْتَهم، ولو رَأَيتَ فِعَالك مع فِعالِهم لاحتقرته (¬1)، ولبئس القوم كانوا على ذلك لنبيِّهم" (¬2). وعند انفصال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بدر قاصدًا إلى المدينة، قَتَلَ عُقْبةَ بنَ أبي مُعَيط، والنَّضْرَ بنَ الحارث، واسم أبي معيط: أبان بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وكان أبو عمرو يُسمّى ذَكْوان، وكان عبدًا، فاستخلفه أمية وكنّاه أبا عمرو، فخلف على امرأة أبيه وهي بنت أبان أم الأعياص (¬3). وقال هشام بن الكلبي: خرج أمية إلى الشام، فأقام به عشر سنين، فوقع على أَمَةٍ يهودية من أهل صفورية لرجل من لخم، يقال لها: الثريا، وكان لها زوج يهودي، فحملت منه بذكوان وهي على فراش اليهودي، فاستلحقه (¬4) أمية، ثم قدم به مكة وكنّاه أبا عمرو. وكان عقبة يكنى: أبا الوليد، وكان هو والنضر أشدَّ عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جميع قريش، فأسره يوم بدر عبد الله بن سلمة بن العَجْلاني، فأخذه وأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقتله، فقال: يا ويلتي علام أقتل من بين هؤلاء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِعَدَاوتِك الله ورَسولَه" (¬5). فقال: يا محمد، ناشدتك الله والرحم، فقال: "وأيُّ رَحِم بيني وبينَكَ، وهَل أَنتَ إلَّا عِلْجٌ مِن أَهلِ صَفُّورِيَّةَ". ¬

_ (¬1) في النسخ: لاختصرته، والمثبت من "المغازي" 1/ 116. (¬2) وانظر الخبر مختصرًا في "السيرة" 2/ 207 - 208، وأخرجه مختصرًا الحاكم في "المستدرك" 3/ 418، والبيهقي في "الدلائل" 3/ 147. (¬3) هي آمنة بنت أبان، والأعياص هم: العاص، وأبا العاص، والعيص بنو أمية الأكبر "جمهرة النسب" ص 38. (¬4) في النسخ: "فاستخلفه" والمثبت من المعارف 319. (¬5) "المغازي" 1/ 114، وانظر مقتل عقبة في "السيرة" 2/ 208.

وقال الواقدي: كان عقبة يقول بمكة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجر بالمدينة: [من البسيط] يا راكبَ النَّاقةِ القَصْوَاءِ هاجرَنا ... عمّا قليلٍ تراني راكبَ الفَرَسِ أَعِلُّ رُمحيَ فيكم ثم أَنْهَلُه ... والسيفُ يأخذُ منكم كل مُلتبسِ وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اللهمَّ كُبَّه لمَنْخِره واصْرَعْه" (¬1). وحكى البلاذري: أنه لما حضر بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له: "والله لأقتُلَنَّك". فقال: يا محمد، مَن للصبية، قال: "النار". فقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتقتله من بين قريش؟ قال: "نعم، لقد وطئ على عُنقي يومًا وأنا ساجد، فما رفع رجله حتى ظننت أن عينيَّ قد سقطتا، وجاء يومًا بسلا جَزور فألقاه على رأسي" الذي قتله ثابت بن أبي الأفلح، ضرب عنقه ثم صلبه. فهو أول مصلوب في الإسلام (¬2). النَّضرُ بن الحارث بن علقمة بن كَلَدةَ بن هاشم بن عبد مناف بن قصي (¬3)، أبو فائد. كان أشد الناس عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: أنت الذي تزعم أنه يوحى إليك، وأنك ستوقع بقريش عن قريب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، وَأَنْتَ مِنهُم" ثم قرأ: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} (¬4) [الأعراف: 185]. قال البلاذري: والذي أسره يوم بدر المقداد بن الأسود، فلما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفراء أمر عليًّا بقتله (¬5). قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال: إنه كان يؤذي الله ورسوله ويقولُ ما قال. اللهمَّ أَغْنِ المقداد من فضلك، ولما جيء به إلى بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسيرًا، قال لرجل: والله إن محمدًا قاتلي، قال: ومن أين علمت؟ قال: لقد نظر إلي بعينين فيهما الموت، ثم قال لمصعب بن عمير: أنت أَقْرَبُ مَنْ ها هنا وأمسُّ بي رحمًا من ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 82. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 170، 349. (¬3) هذا النسب غير صحيح، فالنضر هو ابن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي بن كلاب. وأما هاشم فهو أخو كلدة. انظر "نسب قريش" ص 254 - 255، و"جمهرة أنساب العرب" ص 126. (¬4) "أنساب الأشراف" 1/ 160. (¬5) "أنساب الأشراف" 1/ 161.

القوم، فكلِّم صاحبك فيَّ عسى أن يجعلني كواحدٍ من أصحابي. فقال: إنك قلت كذا وفعلت كذا. فقال: يا مصعب ليس هذا بحين عتاب، فوالله لو أسرتك قريش لدافعت عنك، فقال مصعب: إن الإسلام قطع بيننا وبينكم العهود، فقتله علي -رضوان الله عليه- بالأُثَيل (¬1)، فقالت أخته قُتَيلَةُ (¬2): [من الكامل] يَا راكِبًا إنَّ الأُثَيلَ مَظِنَّةٌ ... مِن صُبْحِ خامسةٍ وأَنتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغ بها مَيتًا هناك تحيةً ... ما إنْ تَزالُ بها الرَّكائِبُ تَخْفِقُ منِّي إليه وعَبْرةً مسفوحةً ... جَادَت لسَافِحها وأخرى تخنُقُ هل يسمعنِّي النَّضْرُ إن نادَيتُه ... أَم كيفَ يَسمَعُ ميِّتٌ أو يَنطقُ قولا لأحمدَ أَنت ضِنْءُ كَريمةٍ ... لنجيبةٍ والفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ (¬3) ما كان ضَرَّك لو مَنَنْتَ وربَّما ... مَنَّ الفتى وهو المغِيظُ المُحْنَقُ والنَّضُر أَقربُ مَنْ قَتَلْتَ قَرابةً ... وأَحقُّهم إن كان عِتْقٌ يُعْتَقُ ظلَّت سُيوفُ بني أبيه تَنوشُه ... لله أَرحامٌ هناك تَشَقَّقُ (¬4) قَسْرًا يقاد إلى المنية متعبًا ... رَسْفَ المُقَيَّد وَهْوعانٍ موثَقُ (¬5) فَيُقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه هذا الشعر قال: "لو سمعتُه قبل قتله لما قتلتُه" (¬6). وسبق رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الأسرى إلى المدينة بيوم، وقال للذين معهم: "استوصوا بهم خيرًا" (¬7)، واستعمل عليهم شُقْران مولاه (¬8). ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 106 - 107، وانظر "أنساب الأشراف"1/ 161. (¬2) جعل المصنف قتيلة أخت النضر بن الحارث تبعًا لابن إسحاق كما في "السيرة" 2/ 285، والصواب أنها ابنته، قال السهيلي في "الروض" 2/ 119: الصحيح أنها بنت النضر لا أخته، كذلك قال الزبير وغيره. انظر "نسب قريش"ص 255، و"الإصابة" 4/ 389. (¬3) الضنء: الأصل. والمعرق: الكريم. (¬4) تنوشه: تتناوله. (¬5) الرسف: المشي الثقيل، والعاني: الأسير. (¬6) "السيرة" 2/ 285. (¬7) أخرجه الطبراني في "الكبير" 22 / (977)، وفي "الصغير" (409) من حديث أبي عزير بن عمير أخي مصعب بن عمير. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 86، وقال: إسناده حسن. (¬8) "المغازي" 1/ 116.

ذكر ما جرى في الأسارى

قال الواقدي: كانوا تسعة وأربعين رجلًا (¬1). وروى مسلم، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنهم أسروا سبعين (¬2). فنذكر أعيانهم: الأسود بن عامر، الحارث بن أبي وَجْزةَ، خالد بن الأعلم العُقيلي، سهيل بن عمرو، العباس بن عبد المطلب، عبد الله بن أُبيِّ بن خلف، عثمان بن عبد الله بن المغيرة، عثمان بن عبد شمس، المطلب بن حَنْطَب، الوليد بن الوليد بن المغيرة، أبو العاص بن الربيع، أبو عَزيز بن عمير، أبو عَزَّةَ الشاعر، أبو ثور. واستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الأسرى، فأشار أبو بكر - رضي الله عنه - بالفداء، وأشار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقتلهم (¬3). ففدى كلَّ واحد بأربعة آلاف درهم (¬4)، وقيل: بأربعين أوقية، وبعضهم بأقل (¬5). ذكر ما جرى في الأسارى: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَقُولونَ في هَؤُلاءِ"؟ فقال أبو بكر: قومك يا رسول الله وأهلك، استبقهم واستَأْن بهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فِدية تكون لنا قوة. وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، ما أرى ما رآه أبو بكر، ولكن أرى أن تمكِّنَ عليًّا من عَقيل فيضرب عنقه، وتُمكِّنَني من فلان -نسيبًا كان لعمر- فأضرب عنقه، وتمكِّن حمزة من أخيه العباس فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا للمشركين هوادة، هؤلاء صناديدهم وقادتهم وأئمتهم. وقال عبد الله بن رواحة: انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أَضرِم عليهم نارًا. فقال له العباس: قُطِعَتْ رَحِمُك. ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 115. (¬2) صحيح مسلم (1763). (¬3) أخرجه مسلم (1763) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬4) "السيرة" 2/ 220. (¬5) "الطبقات الكبرى" 2/ 20.

فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، فقام فدخل فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة. ثم خرج عليهم، فقال: "إنَّ الله لَيُلَيِّنُ قُلوبَ رجالٍ فيه حتى تكونَ أَلينَ من اللَّبَنِ، وإنَّ الله لَيُشدِّدُ قلوبَ رجالٍ فيه حتى تكونَ أشدَّ من الحجارَةِ، وإن مثَلَك يا أبا بَكرٍ، مَثَل إبراهيمَ عَلَيهِ السَّلَام قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ومَثَلك يا أبا بكرٍ، مَثَل عِيسَى عَلَيهِ السَّلَام {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} قال: [المائدة: 118] الآية. ومَثَلك يا عمرُ، مَثَل نوحٍ عَلَيهِ السَّلَام إذ قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ومَثَلك يا عُمر، كمَثَل موسَى عَلَيهِ السَّلَام {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}: [يونس: 88] الآية". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنتُمُ اليومَ عَالةٌ، فلا يُفلِتنَّ أحدٌ إلا بِفِداءٍ أو ضَربِ عُنُقٍ". قال ابن مسعود: فقلت: إلا سهيل بن بيضاء، فإني رأيته أو سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيتني في يوم أخْوَفَ من أن يقع عَليَّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا سُهيلَ بن بَيضَاءَ" وأنزل الله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية، إلى قوله: {عَظِيمٌ} (¬1) [الأنفال: 68]. وقد أكثر الشعراء في غزاة بدر، قال أمية بن أبي الصلت (¬2): [من مجزوء الكامل] هَلَّا بَكَيتَ على الكِرَا ... مِ بني الكِرامِ أُولي المَمَادِحْ كَبُكا الحَمامِ على فُرُو ... عِ الأَيكِ بالصبح الجوانح (¬3) يبكين حَرَّى مُستكِيـ ... ناتٍ يَرُحْنَ مع الرَّوائح أمثالُهنَّ الباكِيَا ... تُ المُعْولاتُ مع النوائح ماذا بِبَدْر والعَقَنْـ ... ــــقَلِ من مَرازبةٍ جَحاجح القائلين الفاعليـ ... ن الآمرين بكل صالح فلقد تنكَّر بطن مكّةَ ... فَهْيَ مُوحِشَةُ الأَباطح لله دَرُّهم فكم ... من أيِّم فيهم وناكح ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 2/ 476 - 477، وهو مروي عن عدد من الصحابة بروايات مختلفة انظرها في "السيرة الشامية" 4/ 91. (¬2) الأبيات في "السيرة" 2/ 272 - 277. (¬3) كذا في النسخ، وفي "السيرة": "في الغصن".

وقال كعب بن مالك (¬1): [من الوافر] وَرَدناهُ وفينَا البَدرُ يَجلُو ... دُجَى الظَّلماءِ عنَّا والغطاءِ (¬2) رسُولُ اللهِ يَقْدُمُنا بِأَمرٍ ... من الرَّحمنِ يَحكُمُ بالقَضاءِ فَلا تَعجَلْ أَبَا سفيانَ وارْقُبْ ... جِيادَ الخَيلِ تَطلُعُ مِن كَدَاءِ بنَصرِ اللهِ، روحُ القُدسِ فينا ... وميكالٌ فيا طِيبَ المَلاءِ وقال شداد بن الأسود الليثي (¬3): [من الوافر] تُحيِّي بالسَّلامةِ أُمُّ بكرٍ ... وهَل لي بعدَ رهطي مِن سَلامِ ذَريني أصطبح بكرًا فإنِّي ... رأيتُ الموتَ نَقَّب عن هِشامِ ونَقَّب عن أخيكِ وكانَ حُرًّا ... مِن الفِتيانِ شربُه المدامِ (¬4) ونَقَّب عن أبيكِ أبي يزيدٍ ... أخي الفتيان والشَّرْبِ الكرامِ ووَدَّ بنو المغيرةِ لو فَدَوْه ... بألفٍ من رجال أو سوامِ وماذا بالقَليبِ قَليبِ بَدرٍ ... مِنَ الرَّغَبات والنِّعَم الجِسامِ ألا مَنْ مبْلغُ الأقوامِ عنِّي ... بأنِّي تاركٌ شَهرَ الصِّيامِ ومنها: إذا ما الرَّأس فارق منكبَيه ... فأبعدَ ما يكونُ من القيامِ وفي هذه السنةِ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر، وذلك قبل أن تفرض الزكاة في الأموال، وأن تُخرجَ عن الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، قبل أن يغدو إلى المصلى (¬5). ¬

_ (¬1) الأبيات في "السيرة" 2/ 272. (¬2) رواية "السيرة": وردناه بنور الله يجلو. (¬3) رواية "السيرة" 2/ 274 - 275 مخالفة تمامًا لما عند المصنف، ولم نقف على هذه القصيدة بتمامها بهذه الرواية، وانظر "أنساب الأشراف" 1/ 361. (¬4) هذا البيت ليس في (أ)، وقد ورد في النسختين (خ، ك) هكذا، ولم نقف على من ذكره. (¬5) أخرج البخاري (1503)، ومسلم (984) عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس، صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين. وانظر "تاريخ الطبري" 2/ 418.

وفيها: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى، وصلى بالناس صلاة العيد، وهي أول خَرْجةٍ خَرَجها، وحمل بلال بين يديه العَنَزَة التي بعثها له النجاشي مع الزبير، وكانت تُحملُ بعد ذلك بين يدي الخلفاء (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي العيد بغير أذان ولا إقامة (¬2)، ويخطب بعد الصلاة (¬3). حتى قام بنو أمية فجددوا للعيد أذانًا وإقامة، وخطبوا قبل الصلاة. وفيها: ولد عبد الله بن الزبير بن العوام في شوال بعد الهجرة بعشرين شهرًا، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بالمدينة، فكبَّر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكذيبًا ليهود، لأنها كانت تقول: قد سحرناهم فلا يولد لهم عندنا مولود (¬4). وفيها: كانت قصة عُمير بن وهب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال (¬5). وفيها: سرية عمير بن عدي إلى عصماء بنت مروان اليهودي، وكانت تعيب على المسلمين، وتهجوهم، وتؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمير بن عدي الخطمي لما بلغه قولها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ على بدر: علي لله نَذْر إن [رددتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬6) إلى المدينة لأقتلنَّها. فجاءها وهي تُرْضِعُ صبيًّا لها، فجسَّه بيده، ونحّاه وقتلها، وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فالتفت إلى من حوله، وقال لهم: إذا أَحببتم أن تنظروا إلى رجل نَصَر الله ورسولَه بالغيب، فانظروا إلى عمير. فقال عمر بن الخطاب: انظروا إلى هذا الأعمى الذي يسري في طاعة الله. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقل الأعمى ولكنه البصير". وقال له قومه: أنت قتلتها؟ قال: نعم، والله لو قلتم كلكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أقتلكم كلكم أو أموت. فيومئذ ظهر الإسلام في بني خَطْمة، وكان ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 217، و"تاريخ الطبري" 2/ 418، و"المنتظم" 3/ 96. (¬2) أخرجه مسلم (887) من حديث جابر بن سمرة. (¬3) أخرج البخاري (963)، ومسلم (888) عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة. (¬4) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 400 - 401. (¬5) وهي قصة إسلامه. انظرها في "السيرة" 2/ 220. (¬6) ما بين حاصرتين من "المغازي" وجاءت العبارة في النسخ: عليَّ لله نذر إن رجعت إلى المدينة. وهو خطأ لأن عميرًا لم يخرج إلى بدر لأنه كان ضريرًا.

منهم رجالٌ يخفونه (¬1). وفي شوال كانت سرية سالم بن عمير إلى أبي عَفَك اليهودي، وكان شيخًا كبيرًا من بني عمرو بن عوف، عاش عشرين ومئة سنة، فكان يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحرّض عليه ولم يسلم، فاستأذن سالمٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله فاغتاله فقتله، وسالم من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، وأحدًا، والمشاهد كلها (¬2). وفيها: كانت غزاة بني قَينُقاع من اليهود في شوال (¬3). وفيها: كانت غزاة السَّويق في ذي الحجة، وكان أبو سفيان لما رجع من بدر آلى أن لا يَمَسَّ طيبًا، ولا يغتسل من جنابة، ولا ينام عَلى وسادةٍ حتى يغزوَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج من مكة في مئتي راكب من قريش، ولما وصل إلى المدينة، نزل بصَدْر قَناةٍ على بَريدٍ من المدينة، ثم أتى في الليل على بني النَّضير، فضرب باب حُيَي بن أخْطَب فلم يفتح له وخافه على نفسه، وأتى باب سلّام بن مِشْكم وكان سيد بني النَّضير، ففتح له وقَراه وأصحابه الخمر، وأتى أبو سفيان طرفًا من أطراف المدينة، فحرق بعض نخيلها، وقَتَلَ حليفًا للأنصار اسمه معبد. ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة في مئتين وخمسين من المهاجرين، واستخلف أبا لُبابةَ، وخاف أبو سفيان وأصحابُه أن يدركوهم، فطرحوا ما كان معهم من الزاد وانهزموا، وكان عامة أزوادهم السويقَ فغنمه المسلمون، وفاته أبو سفيان، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن يكون لنا في هذه الغزاة أجر؟ قال: "نعم". فسميت غزاة السويق (¬4). وفيها: كانت غزاة قرقرة (¬5). وفيها: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاقِلَ الدِّيةِ، وجعلها في حمائل سيفه (¬6). ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 172 - 173، وانظر "السيرة" 4/ 209. (¬2) "المغازي" 1/ 174، وانظر" السيرة" 4/ 208. (¬3) "المغازي" 1/ 176، وانظر "السيرة" 3/ 5. (¬4) "السيرة" 3/ 3، و"المغازي" 1/ 181. (¬5) "السيرة" 3/ 3، و"المغازي"1/ 182. (¬6) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 486.

وفيها: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد، وضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه، والآخر عن أُمَّته، ممن يقر بالشهادتين (¬1). وفيها: بنى علي بفاطمة - رضي الله عنها - في آخر ذي الحَجة، قال بُرَيدَة: لما خطب عليٌّ فاطمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بُدَّ للعُرسِ مِن وَلِيمةٍ"، فقال سعد: عليَّ كبش، وقال فلان: عليّ كذا وكذا من ذرة (¬2). وقال علي - صلى الله عليه وسلم -: لقد تزوجت فاطمة وما لي ولها غيرُ جلدِ كَبْشٍ ننامُ عليه في الليل، ونعلفُ عليه الناضحَ في النهار، وما لي ولها خادم غيرها (¬3). ولقد أُهْدِيَت إليَّ في بردتين ومعها مرفقة من أَدَم حشْوُها ليفٌ، وقِرْبَةٌ ومُنْخُل، ورَحا وجراب وجَرَّتان (¬4). وقال علي رضوان الله عليه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة البناء بفاطمة: "لا تُحدِثنَّ حَدَثًا حتَّى آتِيَكُما". قال: فأتانا فجلس عند رؤوسنا، ودعا بإناء فدعا فيه بالبركة ورشَّه علينا، قال: فقلت: يا رسول الله، أيما أحب إليك أنا أم هي؟ قال: "هِيَ أَحَبُّ إِليَّ مِنكَ، وأَنتَ أَعزُّ عليَّ مِنها" (¬5). وقال علي - رضي الله عنه -: لما أهديت إليَّ فاطمة لم تجد عندي إلا وسادة ورملًا مبسوطًا وجرَّة، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقامت في مِرْطِها تتصبَّبُ عَرَقًا من الحياء، فنضح علينا من الماءِ، وقال: "أَمَا إنِّي لم أُنْكِحْكِ إلَّا أَحبَّ أَهلي إليَّ، وأَعَزَّهم عليَّ" (¬6). وعن أبي جعفر قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، نزل على أبي أيوب، فلما تزوج عليٌّ فاطمة - رضي الله عنهما - قال له: اطلب لك منزلًا، فطلب فوجده بعيدًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليلًا، ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 3/ 137. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (23035). (¬3) أخرجه هناد في "الزهد" (753)، وابن عساكر في "تاريخه" 42/ 376. (¬4) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 25. (¬5) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1076)، وابن عساكر في "تاريخه" 42/ 124. (¬6) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9781)، وأحمد في "فضائل الصحابة" (958)، والطبراني في "الكبير" 24 / (365) من حديث أسماء بنت عميس، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 210، وقال: رجاله رجال الصحيح.

فبنى بها فيه، فجاءهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إني أريد أن أحولكما إلي". فقال: كلِّم حارثة بن النعمان؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد حوَّلَ حارثةُ حتى لقد استحييت منه". فبلغ حارثة، فتحوَّل من منزله وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، قد بلغني أنك تريد أن تحوِّل فاطمة إليك، وهذه منازلي لله ولوسوله، فحولها إلى منزل حارثة (¬1). وقال عطاء بن السائب عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوجه فاطمة، بعث معها خميلة ووسادة من أدم حَشْوُها ليف، ورحاتَين وسِقاء وجرَّتين. فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سَنَوْت (¬2) حتى لقد اشتكيت صدري، وقد جاء اللهُ أباك بِسَبْيٍ فاذهبي فاستخدميه. فقالت: والله أنا طحنت حتى مَجَلَتْ (¬3) يداي. فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما جَاءَ بكِ يا بُنيَّة؟ " فقالت: جئت لأُسلِّمَ عليك. واستحيتْ أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلتِ؟ فقالت: استحييت. فأتياه جميعًا فسألاه، فقال: "واللهِ لا أُعطِيكُما وأَدَعُ أهلَ الصفَّةِ تُطوَى بُطونُهم لا أجدُ ما أُنفِقُ عَلِيهم، ولكِن أَبيعُهم وأُنفِق عليهم أَثمَانَهُم". ثم أتاهما في منزلهما، فقال: "أَلا أُعلِّمكُما وأُخبِركُما بخيرٍ ممَّا سأَلتُماني"؟ قالا: بلى. قال: "كلماتٌ علَّمني إياهنَّ جبريل عَلَيهِ السَّلَام، تسبِّحانِ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ عشرًا، وتَحمدانِ عَشْرًا، وتُكبِّران عَشْرًا، وإذا أَوَيتُما إلى فِراشِكُما، فسَبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمَدَا ثلاثًا وثلاثينَ، وكَبِّرا أربعًا وثلاثينَ". قال علي: فوالله ما تركتهنَّ منذ علمني إياهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال له ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق، ولا ليلة صفين (¬4). * * * فصل وفيها توفي ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 10/ 23. (¬2) سنوت: سقيت. (¬3) مجلت: نفطت من العمل. (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 10/ 25 - 26، وأحمد في "مسنده" (838)، وهو عند البخاري (3113)، ومسلم (2727) مختصرًا.

خنيس بن حذافة

خُنَيسُ بن حذافة (¬1) ابن قيس بن عدي [بن سعد] بن سهم [بن عمرو] بن هُصَيص، أبو حُذافة السَّهْمّي، وأمه: ضعيفة بنت حِذْيَم من بني سهم (¬2)، أسلم قديمًا، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، مرض ببدر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومات مَقْدَمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدر، وكان تحته حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -[فخلف عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك (¬3). رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) تزوجها عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} قالت أمه أم جميل بنت حرب: قد هجانا محمد، وعزمت على ابنها عتبة أن يطلق رقية، وعزم عليه أبوه أيضًا أن يطلقها ففعل]. فزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان - رضي الله عنه -، وهاجرت معه إلى الحبشة الهجرتين، ثم هاجرت معه إلى المدينة، وكانت قد أسقطت من عثمان - رضي الله عنه - سقطًا، ثم ولدت بعد ذلك ولدًا سماه: عبد الله، واكتنى به في الإسلام وعاش إلى سنة أربع، وبكت النساء على رقية - رضي الله عنهما - , فجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجعل يضربهن بسوطه، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يده، وقال: "ابكين وإياكن ونَعيقَ الشيطان، فإنه مهما يكن من القلب والعين، فإنه من الله والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان". وقعدت فاطمة - رضي الله عنها - تبكي على شفير، وطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح دمعها بطرف ثوبه رحمة لها (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته: في "الطبقات الكبرى" 3/ 364، و"المنتظم" 3/ 185، و"البداية والنهاية" 3/ 318، و"الإصابة" 1/ 456. وترجم له ابن الجوزي في وفيات السنة الثالثة، وكذا ابن الأثير في "الكامل" 2/ 148. وقال ابن حجر: شهد بدرًا وأصابته جراحة يوم أحد فمات منها. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 364، وما بين حاصرتين زيادة منه، ومن "نسب قريش" ص 400 - 402. (¬3) "أنساب الأشراف" 1/ 508. (¬4) انظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" 10/ 36، و"أنساب الأشراف" 1/ 485 - 486، و"المنتظم" 3/ 138، و"الإصابة" 4/ 304 وما بين حاصرتين منها. (¬5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 10/ 37، وأحمد في "مسنده" (3103) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال ابن سعد: الثبت عندنا من جميع الرواية أن رقية توفيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر ولم يشهد دفنها، ولعل هذا الحديث في غيرها من بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - اللاتي شهد دفنهن، فإن كان في رقية وكان ثبتًا فلعله أتى قبرها بعد قدومه المدينة، وبكاء النساء عليها بعد ذلك. وقال الذهبي في "الميزان" 3/ 128 - 129: هذا حديث منكر، وفيه شهود فاطمة الدفن، ولا يصح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (2127) وفيه أنها زينب.

ومن رؤساء الكفار: أمية بن أبي الصلت (¬1) ربيعة بن وهب بن عِلاج الثقفي، وقيل: أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن ثقيف، وأُمُّ أمية رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف، وكنيته: أبو عثمان، وقيل: أبو الحكم، وكان شاعرًا فصيحًا، وكان قد تنبأ في الجاهلية في أول زمانه، وكان على الإيمان، ثم زاغ عنه. وقال علماء السير: كان أمية قد قرأ الكتب القديمة، وكان يتَّجر إلى الشام، ويجتمع بأهل الكتابين، فأخبروه بخروج نبيٍّ من العرب في آخر الزمان يرغب عن عبادة الأوثان، وكان يُؤَمِّلُ أن يكون هو، فلما بلغه خروجُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسده، واغتاظ منه، وتأسف أن يكون ذلك في غَيره (¬2). وحكى ابن إسحاق، عن أبي سفيان بن حرب قال: خرجت أنا وأمية تاجرَين إلى الشام في جماعة من قريش، فكان كلما نزلنا منزلًا أخرج سِفْرًا فيقرؤه علينا، فنزلنا يومًا بقرية فيها نصارى فأكرموه وأهدوا له، وذهبوا به إلى كنيستهم، ثم عاد وسط النهار فنزع ثوبه، ولبس ثوبين أسودين، ثم قال: يا أبا سفيان، هل لك في عالم من علماء النصارى تسأله عما بدا لك؟ فقلت: لا إرب لي فيه، أخاف أن يحدثني بشيء فيفسد علي قلبي. قال: فمضى، ثم جاء بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه، ثم تقلب على الفراش إلى الصباح، فوالله ما نام حتى أصبح حزينًا كئيبًا لا يكلمنا ولا نكلمه، فسرنا ليلتين وهو على حاله من الهم والغم، فقلت له: ما رأيت بمثل الذي رجعت به عن صاحبك، قال: لِمُنقَلَبي. فقلت: وهل لك من منقلب؟ قال: إي والله لأموتنَّ، ثم قال: لأبعثن ثم لأحاسبن [قال: قلت: هل أنت قابل أمانتي، قال: على ماذا، قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب. قال: فضحك، ثم قال: بلى والله يا أبا سفيان لنبعثن ثم لنحاسبن] وليدخلن قوم إلى الجنة، وقوم إلى النار. فقلت: ففي أيِّها أنت؟ فقال: لا أدري. قلت: ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" 459، و"الأغاني" 4/ 120، و"المنتظم " 3/ 142، و"البداية والنهاية" 2/ 220، و "الإصابة" 1/ 129. وقال ابن حجر: والمعروف أنه مات في التاسعة، وصح أنه عاش حتى رثى أهل بدر. (¬2) انظر "المعارف " ص 60، و"المنتظم" 3/ 142.

فهل أخبرك صاحبك بهذا؟ فقال: إن صاحبي لا يعلم بذلك. وسِرنا إلى دمشق فبعنا متاعنا، ثم رجعنا فمررنا بذلك المكان، فذهب إلى النصراني وجاء كئيبًا على حاله، فسرنا يومين وهو ساكت باهت. فقال: يا صخر، إني سائلك فأجبني، قلت: سل؟ فقال: أخبرني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المحارم والمظالم؟ قلت: نعم، ويصل الرحم وكريم الطرفين، ليس فينا قرشي أشرفُ منه. قال: فقد أخبرني هذا العالم، أن النبي الذي يخرج في هذا الزمان، رجل من أهل البيت الذي يحجه الناس، وقد كنت أرجو أن أكون أنا ذلك الرجل، فأصابني ما رأيت. قال أبو سفيان: فظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمية في اليمن، قد ذهب بتجارة ثم قدم الطائفَ، فخرجتُ فنزلتُ عليه، فقلت: أتذكر حديث النصراني يا أبا عثمان؟ قال: وكيف؟ قلت: قد ظهر ما قال، قال: ومن ذاك؟ قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: فتصبَّبَ عَرَقًا، ثم أتى مكة فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: ما هذا الذي تقول؟ قال: "فما الذي تقول أنت"؟ فقام فخطب، وأنشد شعرًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إلى آخر السورة. فبهت، وقام يجر رجليه، فتبعته قريش، وقالت له: ما تقول؟ قال: أشهد أنه على الحق، قالوا: فهل تتبعه؟ قال: أنظر في أمري، وقال أبياتًا منها: [من الوافر] إله محمَّدٍ حقًّا إلهي ... وديني دينُه غير انتحالِ قال أبو سفيان: لما عدنا من الشام، مضى أمية إلى الطائف ودخل مكة، وكان معي بضائع للناس، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضاعة، فجاء الناس يهنؤني بالسلامة ويسألوني عن بضائعهم، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم علي وهنأني بالسلامة، ولم يسألني عن بضاعته، فلما قام، قلت لهند: والله إن هذا الفتى ليعجبني، ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها إلا هو. فقالت هند: وما علمت شأنه؟ ففزعت وقلت: وما شأنه؟ قالت: زعم أنه رسول الله، فذكرت قول النصراني فوجمت، وخرجت إلى الطائف، وأخبرت أمية، فقال: لئن ظهر وأنا حي لأُبْلِيَنَّ الله في نُصرته عذرًا، فمضيت إلى اليمن وعدت إلى الطائف، فقلت له: أين أنت من محمد؟ فقال: ما كنت لأصدق شيئًا من غير ثقيف أبدًا، وفي رواية: قلت له: ما يمنعك منه؟ قال: هو على الحق، ويمنعني

ذكر وفاته

الحياء من نُسَيَّاتِ الطائف، كنت أحدثهن أنني هو، ثم أصير تبعًا لغلام من بني عبد مناف (¬1). ذكر وفاته: قال سعيد بن المسيب: قدمت الفارعة أخت أمية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة، وكانت ذاتَ جمالٍ وعقل وأدب. فقال لها: "هل تحفظين من شعر أخيك شيئًا"؟ قالت: نعم، وأعجب منه ما رأيت. قال: "وما رأيتِ"؟ قالت: قدم من سفر فدخل علي، فنام على السرير، إذِ انشق سقف البيت، ونزل منه طائران أبيضان، فوقع أحدهما على بطنه، ونقر صدره فاستخرج منه قلبه، فقال له الطائر الآخر: وَعَى، فقال: وعى، قال: أَفقَبلَ؟ قال: أبي، قالت: فردّا قلبه وطارا، فأتبعه أمية بصره، وقال: لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، لا مال يغنيني، ولا عشيرة تحميني، لا بَريءٌ فأعتذر، ولا ذو عشيرة فأنتصر. ثم عادا فشقا قلبه، وهو يقول كذلك، فعلاه مرارًا. ثم قال: [من الرجز] إن تغفِر اللهمَّ تغفر جَمَّا ... وأيُّ عبدٍ لك لا ألمّا ثم طارا من سقف البيت، فالتأم كما كان، واستوى أمية جالسًا. فقلت له: يا أخي، هل تجد شيئًا؟ قال: حرارة في صدري، ثم مسح يده على صدره وقال: [من الخفيف] إنَّ يومَ الحسابِ يومٌ عظيمٌ ... شَابَ فيه الصَّغيرُ شَيبًا طَويلًا كلُّ عيشٍ وإن تطاوَلَ يومًا ... صائرٌ أمرُهُ إلى أنْ يَزُولا فاجعَلِ المَوتَ بين عينَيكَ واحذَرْ ... غَولَة الدَّهر إنَّ للدَّهرِ غولا ليتَني كنتُ قبل ما قد بَدا لي ... في رؤوسِ الجبالِ أرعى الوُعُولا قالت: ثم خرج من عندي، فمات بين بيتي وبيته (¬2). ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ دمشق" 9/ 257، و"المنتظم" 3/ 142 - 146. وما بين حاصرتين زيادة من "تاريخ دمشق". (¬2) "تاريخ دمشق" 9/ 282 - 283.

وقال هشام: كان أمية قد آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالشام، فقدم الحجاز ليأخذ ماله من الطائف ويهاجر، فلما نزل بدرًا قيل له: إلى أين يا أبا عثمان؟ فقال: إلى الطائف، آخذ مالي وأعود إلى المدينة أتبع محمدًا. فقيل: هل تدري ما في هذا القليب؟ قال: لا. قيل: فيه شيبة وعتبة ابنا خالك، وفيه فلان وفلان ابنا عمك، وعَدّوا له أقاربه. فجدَع أنف ناقته، وهَلَبَ ذَنَبَها، وشقَّ ثيابه وبكى، فقال: [من مجزوء الكامل] ماذا ببدرِ والعَقَنْـ ... ــــــقَلِ من مَرازبةِ جَحاجِحْ الأبيات المتقدمة، ثم عاد إلى الطائف فمات به (¬1). وقال ابن السِّكِّيت: بينا أمية يشرب الخمر مع رُفْقَةٍ له، إذ سمع نَعيقَ غُراب نعق ثلاثة أصوات وطار، فقال أمية: هل تدرون ما قال: قالوا: لا. قال: إنه يقول: تشرب الكأس الثالث وتموت. فشربه فمات (¬2). ومن شعره يمدح عبد الله بن جُدْعان التيمي (¬3): [من الوافر] أأذكُرُ حاجَتي أَم قد كفاني ... حَياؤُكَ إنَّ شِيمَتَكَ الحياءُ وعِلمُكَ بالحقوقِ وأَنتَ فرعٌ ... لك الحَسَبُ المهذَّبُ والسَّناءُ إذا أَثنَى عليك المرءُ يومًا ... كَفاه من تَعَرُّضِه الثَّناءُ خليلٌ لا يغيِّرهُ صَباحٌ ... عن الخُلُقِ الكريمِ ولا مساءُ تباري الرِّيحَ مَكرُمةً بَناها ... بنو تَيمٍ وأنتَ لها سماءُ (¬4) وقال أمية (¬5): [من الكامل] لا يَنكُتون الأرضَ عند سُؤالهم ... لتَطلُّب العلَّات بالعيدانِ بل يُسفِرونَ وجوهَهم فَتَرى لها ... عندَ السُّؤالِ تَهلُّلَ الألوانِ ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 9/ 286، و"المنتظم" 3/ 146. (¬2) "تاريخ دمشق" 9/ 285، و"المنتظم" 3/ 149. (¬3) الأبيات في "ديوانه" ص 17. (¬4) هكذا في نسختنا وجاء البيت في الديوان ص 19: فأرضك كل مكرمة بناها ... بنو تَيم وأنت لها سماء (¬5) الأبيات في "ديوانه" ص 193 برواية أخرى.

وإذا المُقِلُّ أقامَ بين رِحَالِهم ... رَدُّوه ربَّ صَواهل وقِيانِ وإذا دُعوا يومًا لخطبِ مُلِمَّةٍ ... سَدُّوا شُعاعَ الشَّمسِ بالفُرسانِ زهير بن أبي أمية (¬1)، أخو أم سلمة - رضي الله عنه -، كان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه أعان على نقض الصحيفة، وأمه: عاتكة بنت عبد المطلب. قيل: إنه خرج إلى بدر مع الكفار، فسقط عن بعيره فمات. وقيل: إنه أسر يوم بدر، فأطلقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما وصل إلى مكة مات. وقيل: إنه شخص إلى اليمن فمات به كافرًا. وقيل: مات بالشام. وقيل: مات في السنة الثالثة بعد وقعة أحد، جاءه سهم فقتله. سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو أُحَيحةَ (¬2)، كان من وُجوه قريش، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرَّ به، يقول: إن محمدًا لَيُكَلَّم من السماء. فقال له النضر بن الحارث: بلغني أنك تحسن القول في محمد، وكيف تفعل هذا وهو يسب آلهتنا، ويزعم أن آباءنا في النار. فأظهر سعيدٌ عداوةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذمَّه، وكان ذا شرف بمكة، إذا اعتمَّ لم يعتمَّ أحد بمكة إعظامًا له، ويقال له: ذا التاج، وتوفي بالطائف. ورُئي قبره مشرفًا، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: لعن الله صاحبَ هذا القبرِ، فلقد كان يحادُّ الله ورسوله. فقال ابناه عمرو وأبان -وكانا قد أسلما-: لعن الله أبا قحافة، فإنه لا يقري الضيف، ولا يدفع الضيم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الأَمواتَ، فإنَّ سبَّهم يُؤْذِي الأَحياءَ، فإذا سَبَبْتُم فَعُمُّوا" (¬3). وكان لسعيد عدة أولاد، منهم: أُحَيحَة قُتل يوم الفِجار. وعبيدة (¬4) قتله علي - رضي الله عنه - يوم بدر كافرًا، وخالد وعمرو وأبان والعاص وسعيد والحكم (¬5)، وسنذكرهم إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته: في "الكامل" 2/ 70، و"الإصابة" 1/ 552. (¬2) انظر ترجمته: في "تاريخ دمشق" 21/ 105، و"المنتظم" 3/ 155، و"الإصابة" 2/ 126. (¬3) أخرج شطره الأول الترمذي (1982)، وأحمد (18209) من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، وأما قوله: "فإذا سببتم فعموا" فلم نقف عليه. (¬4) في "السيرة" 2/ 252، و"نسب قريش" ص 174: عبيدة قتله الزبير بن العوام، والعاص قتله علي بن أبي طالب. (¬5) سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله. "نسب قريش" ص 174، و"جمهرة أنساب العرب" ص 80.

أبو لهب عبد العُزَّى عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت وفاته بعد غزاة بدر بسبعة أيام (¬1)، ومات بالعَدَسةِ، وبقي ثلاثًا مطروحًا في بيته حتى أنتن، وكانت قريش تتقي العَدَسة كما تتقي الطاعون. فقال رجل لابنيه عتبةَ ومعتِّب: ألا تَدْفِنا أباكما، فإنه قد أَنتن؟ فقالا: نخشى هذه القرحة. قال: فانْطَلِقا وأنا معكمًا إليه. فما غسلوه إلا من بعيد، فقذفوا عليه الماء، وقد تفسخ وبقي كالزق، فأدرجوه في كساء ورموه في حفرة بأعلى مكة (¬2). وكان شديدَ الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أكابر المستهزئين به، ودعا عليه مرارًا. ومرَّ حمزة - رضي الله عنه - يومًا بأبي جهل (¬3) ومعه مِكْتَلٌ فيه قَذَرٌ وهو يطرحه على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه حمزة وطرحه على رأس أبي لهب، فجعل ينفضه ويقول: صابئ أحمق (¬4). وأولاده: عُتَيبَةُ وهو الذي أكله الأسد بالشام، وعتبة ومُعَتِّب، أسلما وشهدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينًا، ودُرَّة بنت أبي لهب، أسلمت وبايعت. المُطْعِم بن عَدي (¬5) أبو وهب، كان من رؤساء الكفار، وكان قليل الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخل - صلى الله عليه وسلم - مكة في جواره، وكان يقوم بأمر بني هاشم حتى خرجوا من الشعب. وكانت وفاته في صفر قبل غزاة بدر بستة أشهر، ودفن بالحَجون وهو ابن بضع وسبعين سنة (¬6)، وأقيم عليه النَّوْحُ سنة. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان المطعم حيًّا لوهبت له هؤلاء السبي" (¬7). ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 149. (¬2) "الطبقات الكبرى" 4/ 68، "تاريخ الطبري"2/ 462، و"تاريخ دمشق"4/ 254. والعدسة: هي بثرة تشبه العدسة، تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل صاحبها غالبًا. (¬3) كذا في النسخ، والصواب: أبو لهب. (¬4) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 149. (¬5) انظر ترجمته: "أنساب الأشراف" 1/ 176، و"المنتظم" 3/ 155. (¬6) في "أنساب الأشراف" و"المنتظم": "سبعين سنة". (¬7) ذكره بهذا اللفظ ابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 155، وأخرجه البخاري (3139) من حديث جبير بن مطعم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له".

السنة الثالثة من الهجرة

السنة الثالثة من الهجرة فيها: كانت غزاة ذي أَمَرّ (¬1). وسببها: أن جمعًا من بني ثعلبة بن سعد من غطفان، وبني محارب بن خَصَفة، جمعهم دُعْثُور بن الحارث المحاربي، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خبرُهم، فخرج في أربع مئة وخمسين رجلًا، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضوان الله عليه، فلما بلغ إلى ذي القَصَّة لقي بها رجلًا من بني ثعلبة، فقال له المسلمون: أين تريد؟ فقال: يثرب لأنظر لنفسي. فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، فأسلم، وأخبرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبر المشركين، ولما سمعوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تفرقوا في الجبال واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة، فأقبل دُعْثُور ومعه سيفه فقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله" فدفع جبريل - عليه السلام - في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "يا دُعْثُور مَن يمنعُكَ منِّي اليومَ"؟ فقال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فأعطاه - صلى الله عليه وسلم - سيفَه ومضى إلى أصحابه فأخبرهم بما رأى، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا وفيه نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيكُمْ أَيدِيَهُمْ} الآية [المائدة: 11]. وقيل: كانت قصة دُعْثور في سنة خمس من الهجرة. وفيها: كانت غزاة بني سُلَيْم بن منصور (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 3/ 4، "المغازي" 1/ 193، و"الطبقات الكبرى" 2/ 31، و"تاريخ الطبري" 2/ 487، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 167، و"البداية والنهاية" 4/ 2. (¬2) انظر "السيرة" 3/ 3، و"المغازي" 1/ 196، و"الطبقات الكبرى" 2/ 32، و"تاريخ الطبري" 2/ 487، و"دلائل النبوة" 3/ 172، و"المنتظم " 3/ 159، و"البداية والنهاية" 4/ 3. وهي غزوة الفُرُع من بُحران، وسببها أنه بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بها جمعًا كثيرًا من بني سليم بن منصور فخرج في ثلاث مئة رجل من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يظهر وجهًا للسير، حتى إذا كان دون نجران بليلة لقي رجلًا من بني سليم فأخبرهم أن القوم افترقوا فحبسه مع رجل، وسار حتى ورد نجران وليس بها أحد، فأقام أيامًا، ثم رجع ولم يلق كيدًا، وأرسل الرجل.

وفيها: كانت غزاة وَدَّان (¬1). وفيها: كانت سرية زيد بن حارثة إلى القَرَدَة (¬2) -اسم ماء بنجدٍ - في جمادى الآخرة، وهي أول غَزاةٍ خرج فيها زيد بن حارثة، وكان في العِير أبو سفيان بن حرب، وقد استأجر فُرات بن حَيَّان من بكر بن وائل يدلُّهم على الطريق إلى العراق، فوافاهم زَيدٌ وَهُمْ على ذلك الماء، فاستاق العير، وهرب أبو سفيان والرجال، وأسرَ زيدٌ صفوانَ بن أمية وفُراتَ بن حَيَّان، فهرب صفوان، وأطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فُراتًا دليلَهم، وكان الخُمْسُ عشرين ألفًا، وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأربعة أخماس بين السرية. وفيها: ولد الحسن بن علي - رضي الله عنهما - (¬3). [عن علي - رضي الله عنه - قال: ] لما وُلد الحسن سميته: حَرْبًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَرُوني ابنِي، ما سمَّيتَ ابني"؟ قلت: حربًا. قال: "لا، بَل هو حَسَن". فلما ولد الحسين سميته: حربًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَرُوني ابني ما سمَّيتَه"؟ قلت: حربًا. قال: "لا، بَل هو حُسَين". فلما ولد الثالث سميته: حربًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرُوني ابني ما سمَّيتُموه"؟ فقلت: حربًا. فقال: "بل مُحَسِّن"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَمَّيتُهم بأسماءِ ولدِ هارونَ: شَبَّر وشَبِير ومُشَبِّر (¬4). وذكر الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه في "الفضائل": عن علي كرم الله وجهه قال: لما ولد الحسن سميته باسم عمي حمزة، ولما ولد الحسين سميته باسم أخي جعفر، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أبا تُراب، إنَّ الله أَمَرني أنْ أُغَيِّر اسمَ هذينِ الغُلامَينِ" (¬5). فسماهما حسنًا وحسينًا. وعقَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين بشاتين (¬6). ¬

_ (¬1) وهي غزوة الأبواء نفسها، تقدم ذكرها ضمن حوادث السنة الثانية، وهي أولى غزواته - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) انظر "السيرة" 3/ 7، و"المغازي" 1/ 197، و"الطبقات الكبرى" 2/ 32، و"تاريخ الطبري" 2/ 492، و"المنتظم" 3/ 160، و"البداية والنهاية"4/ 5. (¬3) انظر "تاريخ الطبري"2/ 537، و"المنتظم" 3/ 161. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (769) وما بين حاصرتين زيادة منه. (¬5) "فضائل الصحابة" (1219)، وهو في "المسند" (1370). (¬6) أخرجه أبو داود (2841)، والنسائي (4230)، وفي "الكبرى" (4531) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، وأخرجه أحمد (23001) من حديث بريدة - رضي الله عنه -.

ووزنت فاطمة عليها السلام شعرهما لمّا حلقته، وتصدقت بوزنه ذهبًا (¬1)، وقيل: فضة، وبلغ وزنُ شعرهما درهمًا (¬2)، وذلك في اليوم السابع. وفي هذه السنة عَلَقت فاطمة - رضي الله عنها - بالحسين بعد ولادتها الحسن - رضي الله عنه - بخمسين ليلة، ويقال: إن الحسن - رضي الله عنه - ولد لستة أشهر (¬3). وفيها: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفصة بنت عمر - رضي الله عنه - في رمضان، وقيل: في شعبان (¬4). عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: تأيَّمت حفصةُ من خُنيَس بن حُذافة، قال عمر: فَلَقِيتُ عثمانَ، فقلت له: إن شئت أنكحتُكَ حفصة، فقال: سأنظرُ في ذلك. فلبثتُ ليالي، فلقيَني وقال. ما أريد أن أتزوجَ الآن، قال عمر: فلقيتُ أبا بكر، فقلت له: إن شئت أنكحتُكَ حفصةَ، فلم يرجع إليَّ بشيء، فكنت أوْجَدَ عليه مني على عثمانَ، فلبثتُ ليالي فخَطَبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتُه إيَّاها، فلقيني أبو بكر فقال: لعلَّك وَجدتَ عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة، فلم أرجع إليك شيئًا؟ قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجعَ إليك شيئًا حين عرضتها عليَّ، إلّا أنِّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكُرها، ولم أكُنْ لأُفشي سرَّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو تركَها لنكحتُها. انفرد بإخراجه البخاري (¬5). وقد رواه البلاذري وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: "ألا أدلك على خَتَنٍ خيرٍ لك من عثمان، وأدلُّ عثمانَ على ختنٍ خيرٍ له منك"؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: "زَوِّجْني ابنتك حفصة، وأزوِّجُ عثمان ابنتي أم كلثوم" (¬6) وأمُّ حفصة زينب بنت مظعون. وفيها: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت خُزَيمة بن الحارث العامرية الهلالية. وكانت ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (27183)، وابن أبي الدنيا في "العيال" (53) من حديث أبي رافع - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... احلقي رأسه ثم تصدقي بوزن شعره من فضة على المساكين". وجاء عند ابن أبي الدنيا: "من الورق أو الذهب". وأخرجه البيهقي 9/ 299 من حديث محمد بن علي بن حسين. (¬2) أخرجه البيهقي 9/ 304 من حديث أبي رافع. (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 537، و"المنتظم" 3/ 174. (¬4) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 499، و"المنتظم " 3/ 160. (¬5) أخرجه البخاري (4005). (¬6) "أنساب الأشراف" 1/ 509.

في الجاهلية تسمى: أم المساكين، لإطعامها إياهم وحُبِّها لهم (¬1). وفيها: كانت سرية محمد بن مسلمة الأنصاري (¬2) إلى كعب بن الأَشْرَف اليهودي في رمضان، وقيل: في ربيع الأول. وكان كعب بن الأشرف من طيء، ثم أحد بني نبهان حليف بني النَّضير، وكانت أُمُّه منهم، واسمها: عقيلة بنت أبي العقيق، وكان أبوه قد أصاب دمًا في قومه، فأتى المدينة فنزلها. ولما جرى ببدر ما جرى قال: ويحكم أحق هذا، أو أن محمدًا قتل أشراف العرب وملوكها؟ والله لئن كان هذا حقًّا، لبطن الأرض خير من ظهرها، فخرج (¬3) حتى قدم مكة، فنزل على المُطَّلب بن أبي وَداعة السهمي (¬4)، وعنده عاتكة بنت أَسِيد بن أبي العيص بن أمية، فأكرمه المطلب، فجعل ينوح ويبكي على قتلى بدر، ويحرِّض الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينشد الأشعار، فمن ذلك (¬5): [من الكامل] طَحَنَتْ رحى بدر لِمَهْلكِ أهلهِ ... ولِمِثْلِ بدر تَسْتَهِلُّ وتَدْمَعُ قُتِلَتْ سَراةُ الناس حول حياضه ... لا تبعدوا إن المُلوك تُصرَّعُ ليزور يثربَ بالجموعِ وإنّما ... يحمي على النسب الكريمُ الأورعُ وشبَّب بأم الفضل زوجة العباس وبغيرها، ثم رجع إلى منزله بظاهر المدينة، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقال: "من لكعب بن الأشرف"؟ فقال محمد بن مسلمة الأنصاري: أنا له يا رسول الله (¬6). قال جابر بن عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لكعب بن الأشرف، فقد آذى الله ورسوله"؟ فقال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: "نَعَم". قال: فأذن لي فَلْأَقُل. ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 3/ 161. (¬2) انظر "السيرة" 3/ 7، و"المغازي" 1/ 184، و"الطبقات الكبرى" 2/ 28، و"تاريخ الطبري" 2/ 487، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 187، و"البداية والنهاية" 4/ 5. (¬3) في (ك): حتى خرج، وليس في (أ، خ)، والمثبت من طبقات ابن سعد. (¬4) في النسخ: "التميمي"، والمثبت من"السيرة"، وانظر "جمهرة أنساب العرب" ص 163 - 164. (¬5) الأبيات في "السيرة" 3/ 8، وما بين حاصرتين زيادة منه. (¬6) "السيرة" 3/ 8.

قال: "قُل". فأتاه وذكر ما بينهم وقال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وقد عنَّانا، فلما سمعه قال: والله لتملُّنَّه. فقال: إنا قد اتبعناه الآن ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يؤول إليه أمره، وقد أردت أن تسلفني سلفًا، قال: فما ترهنني؟ قال: ما شئت، قال: ترهنني نساءكم، قال: أجملَ رجل في العرب، كيف نرهنك نساءنا؟ قال: فأولادكم، قال: يُسَبُّ ابن أحدنا، فيقال: رُهِنَ في وَسْق من طعام أو وَسْقين من تمر، ولكن نرهنك اللأمة -يعني السلاح- قال: نعم. وواعده أن يأتيه بالحارث بن أوس، وأبي عبس جبر (¬1)، وعباد بن بشر، قال: فجاؤوه فدعوه ليلًا، فنزل إليهم، فقالت له امرأته: إني لأسمع صوتًا كأنه صوت دم، فقال: إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، وإن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب. وقال محمد: إني إذا جاء سأمدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمسكت منه فدونكم، قال: فنزل وهو متوشِّح. فقالوا له: نجد منك ريح الطيب. قال: نعم، تحتي فلانةُ أعطرُ نساء العرب. فقال محمد: أتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم. فتناول شم، ثم عاد فشم، فلما استمكن منه، قال: دونكم. فقتلوه، ثم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخْبَروه. متفق عليه (¬2). وقال محمد بن مسلمة: ولما قتلنا ابن الأشرف، وأصبح الناس وشاع قتله، خافت يهود منا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن ظَفِرتُم به مِن اليَهودِ فاقتُلوهُ" (¬3). فوثب مُحَيِّصةُ بن مسعود -وكان قد أسلم- على رجل من اليهود يقال له: [ابن] سُنَينة فقتله، وكان يبايعهم ويلابسهم، فقال حُوَيِّصة أخو محيّصة -ولم يكن أسلم-: يا عدو الله قتلته، أما والله لرب شحم في بطنك من ماله. وجعل حُوَيِّصة يضرب أخاه مُحَيِّصةَ، فقال له مُحَيِّصةَ: والله لو أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلك لقتلتك. فقال حُوَيِّصةُ: والله إن دِينًا بلغ بك أن تقتل أخاك لدينُ حَقٍّ وأسلم. فكان ذلك أوَّلَ إسلام حُوَيِّصة (¬4). ¬

_ (¬1) في النسخ: "وأبي عبس بن جبير بن عسل" والمثبت من "الصحيحين". (¬2) أخرجه البخاري (4037)، ومسلم (1801). (¬3) أخرجه أبو داود (3002) من حديث محيصة. (¬4) "السيرة" 3/ 12 - 13.

وفيها: كان مقتل أَبي رافِع اليهودي (¬1)، واسمه سلام، وكان يسكن خيبر، قال عبد الله بن كعب بن مالك: كان مما صنع الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أَن هذين الحيين يعني الأوس والخزرج كانا يتصاولان تصاول الفحلين؛ لا تصنع الأوس شيئًا إلّا قالت الخَزْرج: والله لا ندعهم يذهبون بالفضل علينا، فلا ينتهون حتى يفعلوا مثله، فلما قَتَلتِ الأوس كعب بن الأشرف استأذن الخزرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبي رافع ليعادلوا به كعبًا، فأذن لهم في قتله وقال: "لا تَقتُلُوا امرَأَةً ولا وَليدًا" فخرجوا حتى قدِموا خيبر فقتلوه، ونَذِرَتْ بهم امرأة فأرادوا قتلها، فذكروا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتركوها، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت: [من الكامل] لله درُّ عِصابَةٍ لاقَيتَهُم ... يابنَ الحُقَيق وأنت يابن الأَشْرفِ يَسْرُونَ بالبِيضِ الخِفاف إليكم ... شُزُرًا كأُسْد في عَرينٍ مُغْرف (¬2) حتى أَتَوْكم في مَحَلِّ بلادكم ... فسقوكمُ حتفًا ببيضٍ ذُفَّفِ (¬3) مُستَبصرين لِنَصرِ دِينِ نبيِّهم ... مُسَتضعفينَ لكلِّ أمرٍ مُجحِفِ (¬4) وقال البراء بن عازب: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي رافع اليهودي رجالًا من الأنصار، وأَمَّرَ عليهم عبد الله بن عَتِيك، وكان أبو رافع يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بِسَرْحهم، قال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإنِّي مُنطلق ومتلطف للبواب لعلي أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنَع بثوبه كأنه يقضي حاجة وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عَبْدَ الله، إن كنت تريد تدخل فادخل فإني أُريدُ أن أُغلِقَ الباب، قال: ¬

_ (¬1) "السيرة" 3/ 170، و"المغازي" 1/ 391، و"الطبقات الكبرى" 2/ 87، و"تاريخ الطبري" 2/ 493، و"المنتظم" 2/ 261، واسمه سلام بن أبي الحقيق، اختلف في سنة قتله فعند المصنف والطبري مقتله في هذه السنة، وعند الواقدي في سنة أربع، وعند ابن هشام في سنة خمس بعد غزوة الخندق، وعند ابن سعد وابن الجوزي في سنة ست، وانظر الاختلاف في "تاريخ الطبري" 2/ 493 - 499. (¬2) بالبيض الخفاف: السيوف، مغرف: ملتف الشجر. (¬3) ذفف جمع ذفيف: وهو السريع الخفيف. (¬4) في (ك): "مستنصرين لدين نبيهم". وفي المصادر: "مستبشرين" والمثبت من (أ) و (خ)، ومجحف: الذي يذهب بالنفوس والأموال.

فدخلتُ فكمنتُ، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وتد، قال: فقمت فأخذتها وفتحت الباب، وكان أبو رافع يُسمَر عنده، وكان في عَلاليّ له، فلما ذهب عنه أهل سَمَره صعدتُ إليه، فجعلتُ كلما فتحتُ بابًا أغلقت عليَّ من داخل؛ قلت: إنِ القَومُ نَذِروا بي لم أخلُص إلى قتله، فانتهيتُ إليه وهو في بيت مظلم وَسْط عيالِه لا أدري أين هو من البيت، فقلت: أبو رافع، فقال: من هذا؟ فأهويتُ نحو الصوت، فأضربه ضربةً بالسيف وأنا دَهِشٌ، فَما أغنت عنه شيئًا، وصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ثم دخلت عليه، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لِأمِّكَ الويل، رجل في البيت ضربني بالسيف قَبْلُ، قال: فأَضْرِبُه ولم أقتله، ثم وضعت ضَبيبَ (¬1) السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أنِّي قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا بابًا حتى انتهيت إلى دَرَجةٍ له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت رجلي أو ساقي، فعصبتها بعصابة، ثم انطلقتُ، وجلست على الباب وقلت: لا أخرج الليلة حتى أسمعَ أو أعلمَ أقتلتُه أم لا؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور ينعاه، فقال: أنعي أبا رافعٍ تاجرَ أهل الحجاز، قال: فانطلقتُ إلى أصحابي، فقلت: النجاء النجاء، قُتِلَ عَدوُّ الله، فانتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدثته الحديث، فقال: "ابْسُطْ رِجلَكَ"، فبسطُتها، فمسح عليها فكأنها لم أشكها قط. انفرد بإخراجه البخاري. * * * وفيها: حُرِّمَتِ الخمرةُ، روى مجاهد، عن ابن عباس قال: قالت الصحابة: يا رسول الله، أَفْتِنا في الخمرِ والميسر، فإنهما مُذْهِبان للعقل سالبان للمال، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ} (¬2) [البقرة: 219] الآية. وقال ابن عباس: أنزل الله في الخمر أربعَ آيات بمكة، قوله: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]، فكان المسلمون يومئذ يشربونها وهي حلال, لهم، ثم نزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ} الآية، فقال رسول الله ¬

_ (¬1) في النسخ: "حلبة"، والمثبت من البخاري (4039). (¬2) "أسباب النزول" ص 64، وتفسير الثعلبي 2/ 141.

- صلى الله عليه وسلم -: "إن ربكم تقدم في تحريم الخمر"، فتركها قوم لقوله {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وقالوا: لا حاجة لنا إلى الإثم، وشربها آخرون وتأولوا قوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وأقاموا على ذلك مُدَّة (¬1). واختلفوا في سبب تحريمها على أقوال: أحدها: قصة حمزة رضوان الله عليه، قال علي - عليه السلام -: كانت لي شارف من الغُنْم من نصيبي يوم بدر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عارني (¬2) شارفًا من الخُمْس، فلما أردت أن أبني بفاطمة، واعَدْتُ رجلًا صوَّاغًا من بني قينُقاع يرتحل معي، فنأتي بإذخِر فنَبيعه من الصواغين أستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي متاعًا من الحبال، وشارفاي مُناخان إلى جانب حُجْرة رجل من الأنصار، أقبلت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد جُبَّت أسنمتهما وبُقِرت خواصرهما، وأُخذ من أكبادهن، فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر، فقلت: من فعل هذا؟ فقالوا: عمك حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شَرْب من الأنصار، غَنته قَينة: ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النِّواءِ فوثب حمزة إلى السيف ففعل بهما ما فعل، أوْ ما رأيت، قال علي - رضي الله عنه -: فانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده زيد بن حارثة فقلت: ألا ترى يا رسول الله ما فعل عمك حمزةُ بشارفيَّ، وأخبرته الخبر، فقام ولبس رداءه، ثم انطلق يمشي، واتّبعته أنا وزيد حتى جاء إلى البيت الذي فيه حمزةُ، فاستأذن فإذا هُم شَرْبٌ، فطفِقَ يلومُ حمزةَ على فعله، وإذا حمزةُ ثَمِلٌ محمرَّة عيناه فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصعَّد النظر إلى رُكبتيه ثم إلى سُرَّته ثم إلى وجهه أو في وجهه، وقال: وهل أنتم إلا عَبيدٌ لأَبي، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ثمل، فنكص على عقبيه القهقرى، وخرج وخرجنا معه وذلك قبل تحريم الخمر. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). قال ابن عباس: فكانت هذه القصَّةُ سببًا لتحريم الخمر. قال: وأصبح حمزةُ فغدا ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 436 من حديث الربيع. وانظر تفسير الثعلبي 2/ 143. (¬2) هكذا جاء في النسخ، وفي "الصحيحين": "أعطاني". (¬3) أخرجه البخاري (4003)، ومسلم (1979).

على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرُ إليه، فقال له: "مَهْ يا عمُّ، فإنِّي سألتُ الله فَعفَا عَنكَ". وذكر الأبيات الثعلبي (¬1) وغيره: [من الوافر] ألا يا حمزُ للشُّرُفِ النِّواءِ ... وهُنَّ معقَّلات بالفِناءَ ضَعِ السِّكين في اللَّباتِ منها ... فَضَرِّجْهُنَّ، حمزةُ بالدِّماءِ وعجِّل من أطايبها طبيخًا ... لشَرْبك من قَديرٍ أو شِواءِ فأنتَ أبو عُمارَةٍ المُرَجَّى ... لكشفِ الضرِّ عنا والبلاءِ والثاني: أن عبد الرحمن بنَ عوفٍ - رضي الله عنه - صنع دعوةً ودعا إليها جماعةً من الصحابةِ وسقاهم الخمرَ فسكروا، وحضر وقتُ الصلاةِ فقدَّموا بعضهم يصلِّي فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2] إلى آخر السورة بحذف "لا" فأنزل الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬2) [النساء: 43]. فَحُرِّم السُّكرُ في أوقاتِ الصلاةِ. فقال عمر: إن ربّنا ليقاربُ في تحريم الخمر وما أراه إلا سيحرِّمها، فتركها قوم وشربها آخرون في غير وقت الصلاة. فأقاموا على هذا الحال إلى سنةِ ثلاثٍ من الهجرةِ، فشربها رجل فسكر وجعل ينوح على قتلى بدرٍ ويبكي وينشد: [من الوافر] تُحيِّي بالسلامةِ أُمُّ بكرٍ ... وهل لي بعد رهطك من سلام الأبيات المتقدمة. وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء يسعى يجرُّ رداءه، حتى انتهى إلى الرجل، ورفع شيئًا كان بيده ليضربه، فقال الرجل: أعوذ بالله من سُخْط الله وسُخْط رسوله، والله لا أطعمُها أَبدًا، ونزل تحريمُها. والثالث: أن عِتْبان بن مالك الأنصاري صنع دعوةً، ودعا رجالًا من المهاجرين والأنصار فيهم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وكان قد شوى لهم رأسَ جَزور، فأكلوا منه، ¬

_ (¬1) في تفسيره 2/ 143 مع القصة. (¬2) أخرجه الترمذي (3026) وأبو داود (3671) من حديث علي بن أبي طالب وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وشربوا الخمر، وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد - رضي الله عنه - قصيدة فيها هجو الأنصار، وفخر بقومه، فضربه رجل من الأنصار بلَحْيِ جمل فشجه، فانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه، فقال عمر - رضي الله عنه -: اللهمَّ بين لنا رأيك في الخمر بيانًا شافيًا. فأنزل الله تحريم الخمر في المائدة إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 95] فقال عمر - رضي الله عنه -: انتهينا يا رب (¬1). وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّها النَّاسُ، إنَّ الله يُعرِّضُ بالخَمرِ، ولعَلَّه يُنْزلُ فيها أَمرًا، فَمَن كان عِندَه شَيءٌ [فليبِعْهُ ولينتفع به"، قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حرَّم الخمرَ، فمن أدركتهُ هذه الآيةُ وعنده منها شيءٌ]، . فلا يَبِعْهُ ولا يَشْرَبهُ". قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طُرقَ المدينة فسفكوها. انفرد بإخراجه مسلم (¬2). وفي المتفق عليه: عن أنس قال: نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا إن الخَمر قد حُرِّمت. قال: فجرت في سِكَك المدينة، فقال بعضهم: قد قتل قوم وهي في بطونهم. فأنزل الله تعالى: {لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية (¬3). وأخرج مسلم عن ابن عباس: أن رجلًا أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ عَلِمتَ أنَّ الله حَرَّمها"؟ قال: لا. فسارَّ الرجل إنسانًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بمَ سارَرْتَه"؟ فقال: أمرته ببيعها، قال: "إنَّ الذِي حرَّمَ شُربَها حرَّم ثَمَنها". ففتح الرجل المزادةَ حتى ذهب ما فيها (¬4). وقال أنس: لقد حُرِّمتِ الخَمرْةُ، ولم يكن للعرب شراب أعجب إليهم منها، وما حرم عليهم شيءٌ أشدُّ منها. قال: فأخرجنا الحِباب إلى الطريق، فصببنا ما فيها، فمنا من كسر حُبَّه، ومنا من غسله بالماء والطين. ولقد غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حينًا كلما أمطرت، استبان فيها لون الخمر وفاحت منها ريحها (¬5). ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 2/ 142 - 143 (وعنه نقل ما تقدم)، وذكره الزيلعي في "تخريج الأحاديث والآثار" 1/ 131 وقال: غريب بهذا اللفظ، وذكره الثعلبي هكذا من غير إسناد. (¬2) مسلم (1578) وما بين حاصرتين منه. (¬3) البخاري (2464)، ومسلم (1980). (¬4) أخرجه مسلم (1579). (¬5) تفسير الثعلبي 2/ 143.

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن شَرِبَ الخَمرَ في الدُّنيا ثم لم يَتُب مِنها، حُرِمَها في الآخِرَة، إلَّا أَن يتوبَ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). فصل وقد حرَّم شربَ الخمر في الجاهلية جماعةٌ منهم: حرب بن أمية، والزِّبرِقان بن بدر، وأبو أُحيحَةَ سعيد بن العاص، وأكثم بن صيفي، وشيبة بن ربيعة، وعبد الله بن جُدْعان، وعبد المطلب، وولده أبو طالب، وعامر بن الظَّرِب، وأمية بن خَلَف، وعثمان بن مَظْعون، والعباس بن مِرداس، وأبو مرداس، وصفوان بن أمية، والوليد بن المغيرة، وورَقَة بن نَوْفَل، وهشام بن المغيرة، ومِقْيَسُ بن صُبابة، وقيس بن عاصم. سكر قيس ليلة فراود ابنته على نفسها، فتغيبت عنه، فلما أصبح قالت له زوجته منفوسة بنت زيد الفوارس: أنت السيد الحليم منذ الليلة، فقال: ولم؟ فأخبرته، فآلى أن لا يشربها أبدًا، وقال: [من الوافر] رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها ... معايبُ تَفْضَح الرجل الحليما فلا واللهِ أشربُها صحيحًا ... ولا أشفي بها أحدًا سقيما وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، وعثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في خلق كثير يطول ذكرهم (¬2). * * * وفيها: كانت غزاة أحد (¬3) في منتصف شوال يوم السبت، وقيل: لتسع خلون منه. وسببها أبو سفيان، فإنه لما أصيب كفار قريش ببدر، جمعهم وفيهم: عبد الله بن زمعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وغيرهم. فقال لهم: قد أصيب آباؤكم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5575)، ومسلم (2003). (¬2) انظر "المحبر" ص 237، و "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 332. (¬3) انظر "السيرة" 3/ 14، و"المغازي" 1/ 199، و"الطبقات الكبرى" 2/ 33، و"أنساب الأشراف"1/ 368، و"تاريخ الطبري" 2/ 499، و"المنتظم" 3/ 161، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 201، و"البداية والنهاية" 4/ 9.

وأبناؤكم وأهلكم وإخوانكم وخياركم يومَ بدر، فأعينوني بأرباح هذه البضائع، فكان خمسين ألف دينار، وقيل: لم يأخذوا من المال ولا من العير شيئًا، وتجهزوا بالجميع (¬1). وانضم إليهم الأحابيش، وقبائل كِنانةَ، وأهل تِهامةَ، وخرج أبو عَزَّةَ الشاعر معهم يسير في قبائل كنانة يحرضهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج عمرو بن العاص وهُبَيرة بن أبي وهب المخزومي إلى قبائل العرب يستنجدونهم على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا جبير بن مُطْعِمٍ غلامَه وحشيًّا، فقال له: إن قتلتَ حمزة فأنت حر. وكانت له حربةٌ يقذف بها فقلَّ أن يخطئ. وخرجت قريش بحدها وحديدها ومن تبعها من الأحابيش والقبائل، وخرجوا بالظُّعن التماسًا للحفيظة ولئلا يفروا، فخرج أبو سفيان ومعه هند بنت عُتبة، وأُميم بنت سعد الكنانية (¬2)، وعكرمة بن أبي جهل، ومعه أم حكيم بنت الحارث بن هشام، والحارث بن هشام، ومعه فاطمة بنت الوليد، وصفوان بن أمية، ومعه امرأتاه بَرْزَة بنت مسعود الثقفية، والبَغُوم بنت المُعَدَّل الكنانية، وعمرو بن العاص، ومعه امرأته رَيطةُ بنت مُنبِّه بن الحجاج، وطلحة بن أبي طلحة، ومعه زوجته سُلافة بنت سعد أَوْسِيَّة، والحارث بن سفيان بن عبد الأسد، ومعه امرأته رملة بنت طارق كنانية، وكنانة بن عدي (¬3) بن ربيعة، ومعه امرأته أم حكيم بنت طارق، وسفيان بن عُريف، وامرأته قُتَيلَة بنت عمرو بن هلال، وخرجت خُناسُ بنت مالك بن المُضرِّب مع ابنها أبي عَزِيز بن عمير، وهي أم مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، وخرجت عمرةُ بنت علقمة إحدى نساء بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وهي التي رفعت لواء الكفار يوم أحد حين قتل بنو عبد الدار. وخرج بهم أبو سفيان وهو قائدهم، وبيده زمام أمورهم، وخرج معهم أبو عامر الراهب في سبعين فارسًا من الأوس، وساروا بالقَيْنَات والدفوف والمعازف والخمور والبغايا، وكانوا في ثلاثة آلاف من قريش والقبائل، وكان معهم سبع مئة دارع، ومئتا ¬

_ (¬1) وقيل: مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ... "السيرة" 3/ 14. (¬2) في "أنساب الأشراف" 1/ 369: أميمة بنت سعيد بن وهب بن أشيم الكنانية امرأته. ولم نقف عليها عند أحد غيره. (¬3) في النسخ: "علي" والمثبت من "جمهرة أنساب العرب" ص 78، و"الإصابة" 3/ 307.

فارس، وثلاثةُ آلاف بعير. وكان وحشي يمشي بالحربة في أوائلهم، فتماشيه هند بنت عتبة وتباسطه وتقول: إيهِ أبا دَسْمَةَ اشف اشف. وكتب العباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره بعدَّتهم وبما معهم، وبما قد عزموا عليه، وكانوا قد راودوه على الخروج معهم، فاعتذر بما لحقه من الغُرْم يوم بدر، ولم يساعدهم بشيء. وبَعث بكتابه مع رجل من بني غِفار، فوافى المدينة، فدفع الكتاب إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأه عليه أُبي بن كعب وقال له: اكتم ما فيه. وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلَ سعدِ بن الربيع فأخبره بما فيه واستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده، قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لا أم لكِ، وما أنت وذاك، فقالت: قد سمعتُ ما قال، فاسترجع سعد وأتى بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره، وقال: أخاف أن يفشو الحديث، فقال: "خَلِّ عنها" (¬1). وسار المشركون يَطوون المنازل حتى نزلوا ذا الحُلَيفَة، فَرَعَوْا زرع المدينة، وأفسدوا نخيلها، وباتوا، ثم أصبحوا فنزلوا شَفير الوادي مما يلي المدينة. وبات وجوه الأنصار سعد بن مُعاذ، وسعد بن عُبادة، وأسيد بن الحُضَير، يحرسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعهم الأشراف من الأوس والخزرج، وعليهم السلاح إلى الصباح، ولما نزل القوم خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "رَأيتُ في مَنامِي بَقَرًا تُذبَحُ، فأَوَّلْتُها حَرْبًا يُنْحَرُ فيها أَصحابي، ورَأيتُ سَيفي ذا الفَقار قد انفَصَم، ورأيتني مُرْدِفًا كبشَ الكتيبةِ، وكأنِّي أُدخِل يدي في حِصنٍ حَصينَةٍ، فأوَّلْتُها المدينةَ، وأوَّلْت ما في سَيفي هزيمة أصحابي، وقَتْل رجل مِن أَهلِ بيتي، فإنْ رَأيتُم أَن نُقيمَ بالمدينَةِ ونَدَعَهُم حيثُ نزلوا، فإنْ أَقامُوا أَقامُوا بشرٍّ، وإن دَخَلوا عَلينا قَاتلْنَاهم فيها". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره الخروج من المدينة، فقال رجل من المسلمين ممن أكرمهم الله يوم أحد بالشهادة: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هؤلاء الأَكْلُبِ لا يروا أَنّا جَبُنّا عنهم. ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 370 - 371.

فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، ولم يَدْعُه قبلها فاستشاره، فقال: يا رسول الله، لا نخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوٍّ قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا عدوٌّ إلا أصبنا منه، فَذَرْهُم، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مقام، وإن دخلوها علينا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين. فلما فصل عنه عبد الله بن أُبيّ، اجتمع إليه جماعة من الأنصار وقالوا: يا رسول الله، لا تحرِمْنا الشهادة. فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ومات في ذلك اليوم مالك بن عمرو من بني النجار، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخل بيته وخرج وقد لبس لأمته وحمل السلاح، فندمَ الذين كلّموه وسُقِطَ في أيديهم، وقالوا: استكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والوحي ينزل عليه، بئس ما صنعنا. فقاموا واعتذروا إليه، وقالوا: افعل ما بدا لك، فقال: "لا يَنبَغي لنبيٍّ أَن يَلبَسَ لأمَتَه فيَضَعَها حتَّى يُقاتِل" (¬1). فخرج بعدما صلى الجمعة، فبات بالشَّيخَين، وهما أُطمانِ في طرف المدينة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج في ألف من أصحابه، واستعمل على حرسه تلك الليلة محمد بن مسلمة الأنصاري في خمسين رجلًا، ولما بات بالشَّيخينِ سمع كتيبةً لها زَجَلٌ، فقال: ما هذا؟ فقالوا: حلفاء عبد الله بن أُبَيّ من اليهود، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسْتَنصِروا بالكُفَّارِ على أَهْلِ الشِّركِ" (¬2)، ثم قال: "مَن يَخرجْ بِنا على القَومِ مِن كَثَب"؟ أي: من قريب، فقال أبو خيثمة (¬3) بن الحارث: أنا. فتقدم بين يديه في حرة بني بياضة، فلعب فرس بذنبه فأصاب سيفًا فاستله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يحب الفأل ويكره الطيرة: "يا صَاحِبَ الفَرَس، شِمْ سَيفَكَ فإنِّي لأرى السُّيوف اليوم لتُسَلُّ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (14787) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. وانظر "المغازي" 1/ 214، و"تاريخ الطبري" 2/ 503. (¬2) "المغازي" 1/ 215 - 216، و"الطبقات الكبرى"2/ 36. (¬3) ويقال: أبو حثمة، ويقال: أبو حتمة، وانظر "الإصابة" 4/ 42، و"السيرة الشامية" 4/ 279. (¬4) ولفظه عند الواقدي 1/ 218، والطبري 2/ 506: "يا صاحب السيف، شم سيفك، فإني إخال السيوف ستسل فيكثر سلها". وشم سيفك: اغمده.

ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل بشِعبٍ من أُحُد في عُدْوَة الوادي، وجعل ظهره إلى أُحد، وانخزل عبد الله بن أبي في ثلاث مئة ونَيِّفٍ -ثلثِ المسلمين- ورجع وهو يهدُرُ كالفَنيقِ (¬1) ويقول: أطاع الأحداث ومَن لا رأي له وعصاني، سيعلم، ثم قال: على ماذا نقتلُ أنفسَنا، ارجعوا أيها الناس. فرجع معه قومه أهل النفاق، وتبعه عبد الله بن عمرو بن حَرَام يناشده الله، ويقول: قاتلوا عن حَوْزَتكم، فما رجع، فقال له: أَبْعَدَكَ الله يا عدوَّ الله ومن معكم، الله يغني عنكم، فقال ابن أبي: لو نعلم قتالًا لاتَّبعناكم. ولما رأت بنو سُلَيْم وبنو حارثة عبد الله بن أبي قد انخزل، همُّوا بالانصراف معه، وكانوا جناحَي العسكر، وفيهم نزل قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} الآية [آل عمران: 122]، ثم عصمهما الله تعالى (¬2). وعقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الألوية، وكان لواء المهاجرين الأعظم يومئذ بيد مصعب بن عمير، ولواء الأوس بيد أسيد بن حضير، ولواء الخزرج بيد سعد بن عبادة، وقيل: بيد الحُباب بن المنذر (¬3). وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسه، ولم يكن معه سوى فرسين أحدهما له، والأخرى لأبي بُرْدَة بن نِيار، وتَعبَّأَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعُ مئة دارع، ثم تنكَّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوسه، وأخذ بيده القناة وبين يديه مئة دارع، وأمّر عبد الله بن جبير على الرماة ورتب معه خمسين رجلًا من الرماة، وقال له: "انْضَح عنَّا الخيلَ بالنَّبْل، لا يَأتُونا مِن خَلفِنا، واثبُت مَكانَكَ سَواء كانت لنا أو علينا لا نُؤتى مِن قِبَلكِ، وأقم بأصل عَينَينِ (¬4)، فإنَّا لا نَزَال عَالِينَ ما ثَبَتُّم في مَكانِكُم ولم تفارقوا المَركز (¬5) ". وأقبلت قريش وعلى ميمنتها خالد بن الوليد في الخيل، وقيل: صفوان بن أمية، ¬

_ (¬1) الفَنيق: الفحل المكرمُ من الإبل الذي لا يُركَب ولا يُهان لكرامته عليهم. اللسان: (فنق). (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 504، والمغازي 1/ 219، والطبقات 2/ 37. (¬3) "أنساب الأشراف" 1/ 374. (¬4) عينين: هضبة جبل أحد. (¬5) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وانظر "السيرة" 3/ 18، و"تاريخ الطبري"2/ 507.

وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وأبو سفيان في القلب، والظعائن والقينات تبتدرهن هند بنت عتبة في أوائل الصفوف وبيدها دُفٌّ وهي تقول: نحنُ بناتُ طارق (¬1) نَمشِي على النَّمارق إن تُقبلوا نُعانِق أو تُدبروا نُفارِق فراقَ غيرِ وَامِق (¬2) ولما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول هند، قال: "اللَّهم بِكَ أَصُولُ وأجُولُ، وفيكَ أُقاتِلُ، وأَنتَ حَسبي ونِعمَ الوكِيلُ" (¬3). وكانت هند ترتجز وتقول: إيهِ بَني عَبدِ الدَّار إيهِ حُماةَ الأَدبار بكلِّ سَيفٍ بتَّار (¬4) فرآها أبو دُجانةَ فحمل عليها لِيقتُلَها، ثم كف عنها فلامه الأنصار، فقال: أكرمتُ سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها - وكان قد أعطاه سيفه في ذلك اليوم (¬5). وأولُ من أنشب الحرب أبو عامرِ الراهب، وكان يقول لقريش: متى التقينا لم يَختلفْ عليَّ منهم اثنان، فتقدم أبو عامر في الأحابيش وعُبْدان مكة، فنادى: يا معاشر الأوس، أنا أبو عامر الراهب. فقالوا: لا مرحبًا بك ولا أهلا، ولا أنعم الله بك يا ¬

_ (¬1) يقال: هي بنت بياضة بن رباح بن طارق الإيادي. انظر "الروض الأنف"2/ 129 - 130، و"السيرة الشامية"4/ 384. (¬2) وامق: فراق غير محب. (¬3) أورده البلاذري في "أنساب الأشراف"1/ 375 - 376. وأخرج شطره الأول البزار في "مسنده" (804) من حديث علي، ولفظه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا قال: "اللهمَّ بك أجول، وبك أصول، وبك أقاتل". (¬4) رواية "السيرة" 3/ 20: ضربا بكل بتَّار. (¬5) "تاريخ الطبري" 2/ 511.

فاسقُ، ورمَوْه بالحجارةِ، فانهزم وهو يقول: لقد أصاب قومي بعدي شر (¬1). ونادى أبو سفيان: يا معاشر الأوس والخزرج، خَلُّوا بيننا وبين ابن عمنا، وننصرفْ عنكم. فشتموه أقبح شتم ولعنوه، فتأخر. ونادى طلحةُ بنُ أبي طَلْحَةَ حاملُ اللواء: هلْ مِن مبارزٍ؟ فبرز إليه علي - رضي الله عنه - فقتله، فكبر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون، وقالوا: هذا كبشُ الكتيبةِ (¬2). وقال هشام: برز طلحةُ بن أبي طلحة وقال: يا أصحابَ محمد، إنكم تزعُمون أَن الله يُعَجِّلُنا بسيوفكم إلى النار، ويُعجِّلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يُعْجِّلُني بسيفه إلى النار أو أعجله بسيفي إلى الجنة. فبرز إليه علي - رضي الله عنه - فضربه، فأبانَ رِجْلَه ووقع إلى الأرض، فبدت عورته، فقال: يا ابن عم، أَنْشُدُك الله والرَّحِمَ، فرجع عنه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مَنَعك أن تُجهزَ عليه؟ " فقال: ناشدني الله والرحم، فقال: "اقتله"، فقتله (¬3). فأخذ اللواء عثمان بن أبي طلحة أبو شيبة، وهو يقول: [من الرجز] إنَّ على أهل اللواء حقًّا ... أن تُخْضَبَ الصَّعْدَةُ أو تَنْدَقّا فحمل عليه حمزة - رضي الله عنه - فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده وكَتِفَه. فقتله، ثم رجع وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج. فأخذ اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم فقتله، فأخذ اللواء مُسافِع بن طلحة فرماه عاصم بسهم فقتله، فأخذ اللواء كِلاب بن طلحة، فقتله الزبير بن العوام، فأخذه الخلاس بن طلحة، فقتله طلحة بن عُبَيد الله. فهؤلاء أربعة لِصُلْبِ طلحة قُتِلوا في ساعةٍ واحدة، وقُتِل أبوهم طلحة، وأخوه عثمان بن طلحة قبلهم وهم بنو عبد الدار، وأم بني طلحة سُلافة بنت سعد أوسِيَّةٌ. ثم أخذ لواءَ المشركين شُريح بنُ قارِظ فقُتِل، ثم أخذه صُؤاب غلامُ أبي طلحة وهو ¬

_ (¬1) "السيرة" 3/ 19، و"المغازي" 1/ 223. (¬2) "المغازي" 1/ 225 - 226. (¬3) انظر "السيرة" 3/ 23 - 24، و"المغازي" 1/ 225 - 226، و"تاريخ الطبري" 2/ 509 - 510.

آخِرُ مَنْ أخذه، قطعت يده، فأخذه بصدره واعتنقه فقتله قُزْمان، وهو يقول: اللهمَّ هل أَعذَرْت (¬1)، فقال حسان بن ثابت (¬2): [من الوافر] فَخَرتُم باللِّواءِ وشَرُّ فَخْرٍ ... لواءٌ حين رُدَّ إلى صُؤابِ جَعَلتُم فَخرَكُم فيه لِعَبْدٍ ... والأَمِ من يَطا عَفَر الترابِ ووقع لواءُ المشركين ولم يأخُذْه أَحدٌ، فجاءت عَمْرَةُ بنتُ عَلْقَمة الحارثية فأخذته فلاذوا بها، ولما قُتل أصحابُ الألوية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: "احْمِل عليهم". فحمل فبَدَّد شَملَهم، وقتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي (¬3). وسببُ قتلِ بني عبد الدار على اللواء: أن أبا سُفيانَ قال لهم يومَ أحد: يا بني عبد الدار، إنكم وَليتُم أَمرَ اللواء يَوْمَ بدر، فأصابنا ما أصابنا، وإنما يُؤتى الناس من قِبَلِ راياتهم، فإذا زالت زالوا، فإما أن تَكْفُونا أمر اللواء أَوْ تُخَلُّوا بيننا وبينه، فغضبوا وتواعدوه وهَمُّوا به، وقالوا: ستعلمُ إذا التقينا كيف نصنع؟ وكان قصدُ أبي سفيان أن يُقتَّلوا، فَقُتِلوا جميعًا (¬4). ولما قتل أصحاب اللواء، انهزم الكفار لا يَلْوُون على شيء، ونساؤهم يَدْعون بالويل والثُّبور، وأَنزلَ الله نصرَه (¬5). واختلف أصحاب عبد الله بن جُبير أميرِ الرماة، فقال بعضهم: نَنْتَهبُ الغنائمَ، وقال آخرون: لا نترك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانطلق عامتُهم إلى العسكر طلبًا للنهب، فلما رأى خالد بن الوليد قِلَّةَ الرماة، واشتغال المسلمين بالنهب، صاح في خيل المشركين، ثم حمل ومعه عِكْرمةُ بن أبي جهل وضِرارُ بن الخطاب بن مِرْداس الفهري من خَلْفِهم، فقتلوا أميرَ الرماة عبدَ الله بنَ جُبيرٍ وأصحابَه، فانتقضت صفوف المسلمين ووقعت الهزيمة (¬6). ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 226 - 228، و"الطبقات" 2/ 38 - 39. (¬2) البيتان في "السيرة" 3/ 27. (¬3) "تاريخ الطبري" 2/ 514. (¬4) "تاريخ الطبري" 2/ 512. (¬5) "المغازي" 1/ 229، و"الطبقات" 2/ 39. (¬6) "المغازي" 1/ 232، و"الطبقات" 2/ 39.

ولم يبق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى اثني عشر رجلًا (¬1): أبو بكر، وعمر، وعلى، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عُبَيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -، ومن الأنصار: الحُباب بن المنذر، وأبو دُجانة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأَقْلح، والحارث بن الصِّمة، وقيل: وأُسَيد بن حُضَير، وسَعْد بن معاذ، وسهل بن حُنَيف، وبايعه على الموت ثمانية فلم يُقتل منهم أحدٌ: علي، وطلحةُ، والزبيرُ، وأبو دُجانة، وعاصمُ بن ثابت، والحُبابُ بن المنذر، وسهل بن حُنيف، والحارث بن الصِّمة (¬2). وأنزل الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153]. قال البراءُ: فأصابوا منا سبعين (¬3). ورأى عبد الله بن قَمِيئَةَ الهذلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضربه بحجَرٍ، فشَجَّ وجههَ فوضَحه، ونادى: قتلتُ محمدًا، فقال له أبو سفيان بن حرب: إذًا نُسوِّركَ كما تفعل الأعاجم، وسمعه خالد بن الوليد، فقال: كذب ابن قَميئَةَ، أنا رأيت محمدًا في نفر من أصحابه مُصْعِدين في الجبل (¬4). ولما ضرب ابنُ قَميئَةَ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دخلت حلقتا المِغْفَرِ في وَجْنَتَيهِ، فانتزعهما أبو عبيدة بنُ الجرّاح - رضي الله عنه - فسقطت ثَنِيَّتاه، فلم يُرَ قَط أثرمُ كان أحسنَ فَمًا منه (¬5). ولما رمى ابن قَميئَةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: خذها وأنا ابن قَميئَة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْمأَكَ اللهُ". فسلَّط الله عليه بعد الوقعة كبشًا فنطحه حتى قتله (¬6). ورمى حِبّانُ بنُ العَرِقَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهم، وقال: خُذْها وأنا ابنُ العَرِقَةِ، فقال ¬

_ (¬1) البخاري (3039) من حديث البراء، وفي "المغازي" للواقدي، و"الطبقات": أربعة عشر رجلًا. (¬2) "المغازي" 1/ 240. (¬3) البخاري (3039). (¬4) انظر "المغازي" 1/ 236 - 237. (¬5) "المغازي" 1/ 247، والحاكم 3/ 29 من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬6) أخرجه الطبراني في "الكبير" (7596) من حديث أبي أمامة، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 117: وفيه حفص بن عمر العبدري وهو ضعيف، وانظر "المغازي" 1/ 246.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَرَّقَ الله وجهك في النار" (¬1). ورماه عتبةُ بن أبي وقاص فشجَّ وجهه وجبينه وكسر رَباعِيَتَه، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللهمَّ لا يحلْ عليه حَوْلٌ" (¬2). فمات كافرًا مِنْ وَجَعٍ أَزْمَنَهُ. وقال البلاذُري: كان عبد الله بن شهاب الزُّهري، وعتبة بن أبي وقاص، وعبد الله بن الأدرمي (¬3)، وأبي بن خلف، وعبد الله بن حميد بن زهير، قد تعاقدوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما ابن شهاب فأصاب جبهته، وأما عتبة فرماه بأربعة أحجار فكسر رَباعِيَته اليُمنى وشق شَفته العليا، وأما ابن قميئَة فكَلَمَ وَجْنَتيه وغَيَّب حَلَقَ المِغْفَر فيها، وعلاه بالسيف فلم يعمل فيه، وسقط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَجُحِشَت ركبتاه، وأما أُبَيُّ بنُ خَلفٍ فشدَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحربة، فأعانه الله عليه فقتله، وأما عبد الله بن حميد فشد عليه أبو دجانة فضربه بالسيف (¬4). وأما ابن شهاب فنهشته أفعى عند عوده إلى مكة فمات. وقال سهل بن سَعْد: جُرحَ وجهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وكُسِرت رَباعِيَتُه اليمنى، وهُشِّمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة - رضي الله عنها - تغسل الدم عن وجهه، وعلي رضوان الله عليه يسكب عليها، فلما رأت أن الماء يزيدُ الدمَ كثرةً، أخذت قطعة حصير، فأحرقته حتى صار رمادًا، ثم ألصقته بالجُرح، فاستمسك الدم. أخرجاه في "الصحيحين" (¬5). ¬

_ (¬1) هكذا جاء سياق الحديث في نسخنا، والصواب أن حبان بن العرقة إنما رمى سعد بن معاذ في أكحله، وكان ذلك في يوم الخندق كما أخرجه البخاري (4122)، ومسلم (1769) من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له: ابن العرقة رماه في الأكحل. وأخرجه الطبراني في "الكبير" 22 / (1091) من حديث الزبير بن بكار في معرض حديثه عن خديجة - رضي الله عنها - قال: وحبان بن عبد الله أخو هالة لأبيها وأمها هو الذي رمى سعد بن معاذ يوم الخندق فقال: خذها وأنا ابن العرقة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عرق الله وجهك في النار" فجعل هذا الدعاء من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانظر "المغازي" 1/ 469. وأخرجه ابن هشام في "السيرة" 3/ 135 - 136 من حديث عائشة، والحاكم 3/ 227 من حديث عبد الله بن كعب بن مالك قال: فلما أصابه قال: خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار. فجعلا الدعاء من كلام سعد. والله أعلم. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9649) من حديث مقسم، وانظر "السيرة" 3/ 28. (¬3) هو ابن قميئة. (¬4) "أنساب الأشراف" 1/ 378. (¬5) أخرجه البخاري (2911)، ومسلم (1790).

وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْلُت الدم عن وجهه ويقول: "كيفَ يُفلحُ قَومٌ شَجُّوا وَجْهَ نبيِّهم، وهو يَدعوهُم إلى الله تعالى". فأنزل الله تعالى: {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ} [آل عمران: 128] (¬1). وجعلت فاطمة - رضي الله عنها - تعتنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبكي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن ينالوا منا مثلها أبدًا" (¬2). وفشا في الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قُتِل، واختلط المسلمون، وصاروا يقاتلون على غير شعار، ويضرب بعضهم بعضًا، ونادى الكفار بشعارهم: يا لَهُبَل، يا لَلْعُزّى، وقتلوا في المسلمين، وافترق المسلمون فِرقًا (¬3)، فقال بعضهم: ليت لنا رسولًا إلى عبد الله بن أبي، وقال بعضُهُم: ليت لنا رسولًا إلى أبي سفيان بن حرب، يأخذ لنا منه أمانًا، وقال المنافقون: ارجِعوا إلى الدين الأول، وصاح فيهم أنس بن النَّضر: ويحكم إن كان محمدٌ قد قتل، فَرَبُّ محمدٍ لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قاتل حتى قُتل رضوان الله عليه (¬4). وتحامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصعد على صخرة وجعل يدعو الناس إليه. قال كعب بن مالك: فأنا أول من عرفه، عرفته بعينيه وهما يُزْهِران تحت المِغْفَر، فناديت: يا معاشر المسلمين، أبشروا فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إلي أَنِ اسْكُتْ (¬5). وفَوَّقَ رجلٌ سَهْمًا وأراد أن يرميه به. فقال: "أنا رسول الله" وانحازت إليه طائفةٌ من المسلمين فلامهم على الفرار، فقالوا: سمعنا أنك قد قتلت فَرَعَبَتْ قلوبنا فولَّينا مُدبرين (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1791) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 41. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 39. (¬4) "تاريخ الطبري" 2/ 520، وانظر "السيرة" 3/ 30. (¬5) "السيرة" 3/ 31. (¬6) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 520.

وقال ابن إسحاق: اجتمع إليه ثلاثون رجلًا فحموه، وكشفوا الكفار عنه، ورمى سعد بن أبي وقاص بالنبل حتى انكسرت سِيَةُ قَوْسِه، وأصيبت يدُ طَلْحَة بن عبيد الله؛ وقى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصار أشلَّ، وكان الذي رماه مالك بن زهير الجشمي، وكان قَصْدُه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاتقاه طلحة - رضي الله عنه - بيده، فأصاب السهم خِنْصَرَه فَشُلَّ، فقال: حَسِّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَو قال بِسمِ الله ولَم يَقُلْ حِسِّ دَخَل الجنَّة والنَّاسُ يَنظُرونَ إليه" (¬1). وَنَثَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كِنانته لسعد بن أبي وقاص وقال: "ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وأُمي". وقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: كان رجل من المشركين قد أحرق قلوب المسلمين، فرميته بسهم فأصبت جنبه، فوقع فبدت عورته، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال أنس: لما كان يوم أحد انهزم المسلمون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو طلحة مُجَوِّبٌ عليه بحَجَفَتِه، وكان أبو طلحة راميًا شديد النزع، وقد كَسَر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر ومعه الجعبة من النبل، فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انْثُرها لأَبي طَلحَةَ"، ويُشْرِفُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا يصيبك سهمٌ من سهامهم، نَحري دون نحرك. قال: ولقد رأيت عائشة وأمَّ سُلَيم لمشمِّراتٍ أرى خَدَمَ سوقهن، ينقلان القِرَبَ على مُتونِهن يُفْرِغانها في أفواه القوم، ولقد وقع سيف أبي طلحة من يده مرتين أو ثلاثًا، يعني لما يلقى من النعاس. متفق عليه (¬3). وقال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد الخَوْفُ علينا يوم أحد، أرسل الله علينا النوم، وإني لأسمع قول مُعَتِّبٍ والنعاس يغشاني، فما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، فحفظتها منه (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم 3/ 416 من حديث طلحة بن عبيد الله، وانظر "المغازي" 1/ 254، و"تاريخ الطبري" 2/ 520. وسية القوس: ما عطف من طرفيها. (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 20/ 307 من حديث سعد. (¬3) أخرجه البخاري (3811)، ومسلم (1811). ومجوب عليه: مترس عنه ليقيه السلاح، والخدم: الخلخال. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 180، والبيهقي في "دلائل النبوة" 3/ 273.

وقال أبو طلحة: رفعتُ رأسي يوم أحد، فجعلتُ ما أرى أحدًا إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس، وكان يقع السيف من يدي فآخذه، ثم يسقط السوط من يدي من النعاس فآخذه (¬1). وقال أنس: أُفْرِدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رُهِقوا قال: "مَن يَردُّهُم عَنَّا ولَه الجنَّةُ، أو هوَ رَفِيقِي في الجنَّةِ". فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتِلَ دونه، فلم يزل كذلك حتى قتل سبعة من الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَنْصَفْنا أَصْحَابَنَا" (¬2). وأُصيبت عينُ قَتادةَ بنِ النعمان فوقعت على وَجْنَته، فردَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فعادت أحسن ما كانت (¬3). وتقدم مُصعَبُ بنُ عُمَير وبيده لواء المهاجرين، فقاتل حتى قتل. فأخذ اللواء علي - رضي الله عنه -، وقاتل حمزة رضوان الله عليه قتالًا شديدًا، ومرَّ به سباع بن عبد العُزَّى الغبشاني، فقال له حمزة: هلم يا ابنَ مُقَطِّعَةِ البُظور، وكانت أمه خَتَّانةً بمكة، فقتله حمزة. قال وحشي: فنظرت إلى حمزة وهو يَهُذُّ الناس هَذًّا بسيفه كأنه جَملٌ أَوْرَقُ، فرميتُه بالحَرْبة، فوقعت في ثُنَّتِه حتى خرجت من بين رجليه، فأخذتها وتَنَحَّيتُ (¬4). وقيل: كان حمزة يجول في القوم فعثر فوقع على وجهه، فزرقه وحشيّ بحربته فقتله (¬5). ورُمي أبو رُهْم الغِفاري بسهم في نحره، فتفل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبرئ، فكان يسمى المنحُور (¬6). وقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: لقد حَرَصْتُ على قتل أخي عُتبة بن أبي وقاص، ¬

_ (¬1) أخرج شطره الأول الترمذي (3007)، وانظر "تفسير الطبري" 4/ 177. (¬2) أخرجه مسلم (1789). (¬3) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1549). (¬4) "السيرة" 3/ 21. (¬5) "المغازي" 1/ 285. (¬6) "المغازي" 1/ 243.

فراغ مني رَوَغان الثعلب، ولقد علمته والله عاقًّا لوالديه، سيِّئ الخلُق (¬1). وكانت أم أيمن حاضنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسقي المسلمين الماء في نِسوة من الأنصار، فرماها حِبّان بن العَرِقة بسهم فأصاب ذيلها، فاستغرب ضحكًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص: "ارمِهِ" فرماه فوقع ابن العَرِقة مستلقيًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استقادَ لها سعد أجاب الله دعوتك وسدد رميتك (¬2) ". فكان سعد مجاب الدعوة راميًا. وصعدت قريش على الجبل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ لا يعلونا". فأقبل عمر بن الخطاب في رهط من المهاجرين فأنزلوهم، ونهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صخرة ليعلوها، فلم يستطع فجلس تحته طلحة بن عُبَيد الله، فنهض فاستوى عليها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوْجَبَ طَلحَةُ" (¬3). وجاءت هند بنت عُتبة ومعها نساء المشركين، فجعلْنَ يَجْدَعْنَ الآذان والأنوف، واتخذت هند من ذلك قِلادةٌ ومعاضِدَ، وبقرت بطن حمزة رضوان الله عليه، وأخرجت كَبِده فمضغَتْها فلم تستطع ولفظتها، وأعطت وحشيًّا ما كان عليها من القلائد وقُرطَها، ووعدتُه إذا قدمت مكة بعشرة دنانير (¬4). وقال البلاذري: ناولها وحشي كبد حمزة، فجعلتها في فمها ثم رمتها، وقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، وقدمت مكة بجميع ذلك، ثم علت صخرة وقالت (¬5): [من الرجز] نحن جَزيناهُم بِيَومِ بَدرِ والحربُ بعد الحرب ذاتُ سُعْرِ ما كان بعدَ عِترتي من صَبْرِ ¬

_ (¬1) "السيرة" 3/ 32. (¬2) "المغازي"1/ 241. (¬3) "السيرة" 3/ 32 - 33. (¬4) انظر "السيرة" 3/ 36. (¬5) "أنساب الأشراف" 1/ 381، ونصه: فقتله وأخذ كبده، فأتي بها هند بنت عتبة، فمضغتها ثم لفظتها، وجاءت فمثلت به، واتخذت مما قطعت منه مَسْكَين ومعضدتين وخدمتين. ولم يذكر الشعر، وانظر "السيرة" 3/ 36.

أَبِي وعمِّي وأَخي وبِكْري شفيتَ وحشيُّ غليلَ صدري شفيتَ قلبي وقضيت نَذْري وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قولُها، فقال: "إن الله حرَّمَ لحمَ حَمزةَ على النار" (¬1). قال ابن إسحاق: وهذه شديدةٌ على هند المسكينة (¬2). ولما فقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمزةَ - رضي الله عنه -، قال للحارث بن الصمة الأنصاري: "ألا تعلمُ لي عِلْمَ عمي". فطاف فوجده بين القتلى، فكره أن يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسهل بن حُنَيف: "ألا تعلم لي عِلْمَ عمي"، ثم قال لعمار بن ياسر كذلك، فأخبره بقتله فبكى (¬3). ولمّا رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نزل بأصحابه من جَدْع الأنوف والآذان، وقطع المذاكير، قال: "لئن أَدالنَا الله عليهم لنُمَثِّلنَّ بهم مُثْلَةً لم يمثِّلْها أحد من العرب قط" (¬4). وقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبوه، ثم قال: أفي القومِ ابنُ أبي قُحافةَ؟ قالها ثلاثًا، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ قالها ثلاثًا، فرجع إلى أصحابه وقال: أما هؤلاء فقد قُتِلوا، فما ملك عمر بن الخطاب نفسه، فقال: كذبتَ يا عدو الله، إن الذين عددتَ لأحياءٌ كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك. فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سِجال، إنكم ستجدون في القوم مثْلَةً لم آمر بها ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز: اُعْلُ هُبَل، اُعل هُبَل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تُجيبُوهُ؟ " قالوا: وما نقول؟ قال: "قُولوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلّ". فقال: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا تُجيبُوهُ؟ " قالوا: وما نقول؟ قال: "قولوا: الله ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 70/ 175. (¬2) هذا القول ليس لابن إسحاق وإنما هو لمحمد بن سيرين كما في "الطبقات الكبرى" 3/ 11، و"تاريخ دمشق" 70/ 175. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 472. (¬4) انظر "السيرة" 3/ 39.

مَولانَا ولا مَولَى لَكُم" (¬1). وقال أنس: لما كان يوم أحد حاصَ أهل المدينة حَيصَة، وقالوا: قتل محمد. وكثرت الصوارخُ في نواحي المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار، فمرت على ابنها وأخيها وزوجها، فلم تلتفت إليهم حتى جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذت بناحية ثوبه وجعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي بمن عَطِبَ إذا سَلِمْتَ، كلُّ مصيبةٍ بعدك جَلَل (¬2). وكان عامة الناس قد حملوا موتاهم إلى المدينة، فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُدُّوا قتلاكم إلى مضاجعهم" (¬3). فأدرك مناديه رجلًا واحدًا لم يدفن وهو: شمّاس بن عثمان المخزومي، فرده إلى مضجعه (¬4). ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم وهو يوم السبت، فصلى بالناس المغرب. واستقبلته حَمْنةُ بنت جحش، فنعى إليها أخاها عبد الله بن جحش، فاستغفرت له، ثم نعى إليها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى إليها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَزوجُ المرأة منها بمكان" (¬5). وشَمِتَ المنافقون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعبدُ الله بن أبي (¬6). ولما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته، ناول فاطمةَ - رضي الله عنها - سيفه وقال: "اغسلي عنه الدم يا ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 44. (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7499)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 115 وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" عن شيخه عمد بن شعيب ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. أما قوله: كل مصيبة بعدك جلل، فهو من حديث سعد بن أبي وقاص كما في "السيرة" 3/ 43. (¬3) أخرجه أبو داود (3165)، والترمذي (1717)، والنسائي (2004)، وأحمد في "مسنده" (14169) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬4) انظر الخبر في "المغازي" 1/ 312، و"الطبقات الكبرى" 2/ 41. (¬5) "السيرة" 3/ 42. (¬6) "الطبقات الكبرى" 2/ 41.

ذكر شهداء أحد

بنية، فلقد صدقني اليوم" (¬1). وانهزم جماعة يوم أحد منهم: ثعلبة بن حاطب، والحارث بن حاطب، وخارجة بن عامر، وسَوَاد بن غَزيَّة، وسعد بن عثمان، وأوس بن قَيظي، وعقبة بن عمار، وعثمان بن عفان في آخرين (¬2). وفيهم نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] الآية. ذكر شهداء أحد قال ابن عباس: قتل من المسلمين يوم أحد سبعون. وقال ابن إسحاق: خمسةٌ وستون. وقال ابن سعد: سبعة وستون. وزاد غيرهم ونقص فيهم. الأَغرُّ بن ثعلبة: أنصاري اشترك في قتله جماعةٌ، ودفن هو وخارجة بن زيد في قبر واحد. أنس بن النَّضر بن ضَمْضَم بن زيد الأنصاري من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه هند بنت زيد نجارية. قال أنس بن مالك: غاب عمي أنس عن بدر، فقال: غبتُ عن أول غزاةٍ غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لئن أشهدني الله قتالًا لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنعُ. فلما انهزم الناس يومَ أُحد، قال: اللهمَّ إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين-، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني المشركين- ثم تقدم بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ فقال له: إلى أين؟ فقال: إني لأجد ريح الجنة قِبَل أُحُد. ومضى فقتل، فما عُرِفَ حتى عرفته أخته، وبه بضع وثمانون جراحةً بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). أُنَيس بن قَتادة بن ربيعة الأنصاري. أوس بن أرقم بن زيد بن النعمان، خزرجي. ¬

_ (¬1) "السيرة" 3/ 43، وأخرجه الحاكم 3/ 27 من حديث ابن عباس. (¬2) "المغازي" 1/ 277 - 278. (¬3) أخرجه البخاري (4048)، ومسلم (1903).

أوس بن المنذر الأنصاري. إياس بن أوس بن عتيك، أوسي، قتله ضرار بن الخطاب وكان ضرار يقول: زَوَّجت عشرةً من أصحاب محمد يوم أحد بالحور العين، وكان فارسَ قريش وشاعرها، والتقى في ذلك اليوم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فضربه بالقناة، ثم رفعها عنه وقال: ما كنت لأقتلك يا ابن الخطاب (¬1)، ثم منَّ الله على ضرار فأسلم وحسن إسلامه. ثابت بنُ الدَّحْداح بن نُعَيم الأنصاري من بني عمرو بن عوف، من الطبقة الأولى أو الثانية من الأنصار، وكنيته: أبو الدَّحْداح. قال يوم أحد والمسلمون متفرقون: يا معاشر الأنصار، ألا إن كان محمد قد قتل فَرَبُّ محمدٍ حيٌّ لا يموت، قاتلوا عن دينكم. فنهض إليه نفر من الأنصار وقد وقفت له كتيبة خشناء فيها خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، فجعل يحمل عليهم يمينًا وشمالًا، فحمل عليه خالد بن الوليد [بالرمح] فأنفذه فسقط ميتًا ومن كان معه (¬2). وقيل: إنه جُرح يوم أحد، وبرئ من جِراحته، ومات على فراشه من جرح كان أصابه، ثم انتقض عليه مَرْجِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية. ولم يكن لثابت غير ابن أخته وهو أبو لُبابة بن عبد المنذر، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميراثه (¬3). وهذا ثابت الذي أقرض ربَّه حائطه. قال زيد بن أسلم: لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)} [البقرة: 245] الآية، قال أبو الدحداح: يا رسول الله، فداك أبي وأمي إن الله يستقرض منا وهو غني عن القرض؟ قال: "نعم، يريد أن يُدخلكم به الجنة". قال: فإني قد أقرضتُ لربي عزَّ وجلَّ قرضًا تضمن لي به الجنة؟ قال: "نعم، مَن تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة". قال: وزوجتي أم الدحداح معي؟ قال: "نعم". قال: وصبيتي الدحداحة معي؟ قال: "نعم". قال: ناولني يدك. فناوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 6/ 135 - 136. (¬2) "المغازي" 1/ 281، و"الطبقات الكبرى" 4/ 297 - 298. (¬3) "الطبقات الكبرى" 4/ 298.

أملك غيرهما، وقد جعلتهما قرضًا لله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعل إحداهما لله والأخرى معيشة لك". قال: فإني أشهدك أني قد جعلت خيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ست مئة نخلة. قال: "إذًا يجزيك الله به الجنة". قال: فانطلق أبو الدحداح حتى أتى أمَّ الدَّحْداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور حول النخل، فأخْبَرها، فقالت: ربح بيعُك، بارك الله لك فيما اشتريتَ وبعت، وأقبلت إلى صبيانها تُخرج ما في أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم، حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كم من عَذْقٍ رَدَاحٍ في الجنة لأبي الدَّحْداح" (¬1). ثابت بن عمرو بن زيد، من بني غَنْم من الطبقة الأولى، ولا يُدْرى من قتله، ولا عقب له. ثابت بن وَقْش بن زُغبةَ، من بني عبد الأشهل، من الطبقة الثانية من الأنصار. ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عُبيد بن أمية، وهو الذي نزل فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] وقصته متأخرة عن أحد (¬2). ثعلبة بن سعد بن مالك، من الطبقة الثانية من الخزرج، عم أبي أسيد (¬3) الساعدي. ثقيف بن فروة، من الطبقة الثانية من الخزرج. الحارث بن أنس الأشهلي، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، واستشهد يوم أحد. الحارث بن ثابت بن عبد الله، من الطبقة الثانية من الأنصار. الحارث بن أوس بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، وكان في جملة من قَتَلَ كعبَ بن الأشرف، واستشهد وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة. ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 2/ 207 - 208. (¬2) ثعلبة بن حاطب المذكور هنا استشهد في أحد، أما صاحب القصة التي ذكر المصنف، فهو: ثعلبة بن أبي حاطب، وتوفي في خلافة عثمان - رضي الله عنه -، فهما رجلان. انظر "الإصابة" 1/ 198. وانظر قصته في "أسباب النزول" للواحدي ص 252 - 253. (¬3) هكذا في النسخ، وفي "الطبقات الكبرى" 4/ 367: "عم أبي حميد".

الحُباب بن قَيظي، من بني عبد الأشهل، قتله ضرار الفهري. حَبيب بن زيد بن تميم، من بني بَياضة. حُسَيل بن جابر بن ربيعة بن عمرو بن جِرْوةَ العبسي -وهو اليمان أبو حُذَيفة (¬1) - قُتِلَ يومَ أُحدٍ غلطًا. قال عروة: لمّا اختلط المسلمون يوم أحد وجالوا تلك الجولة، التقتْ سيوف المسلمين على حُسَيل ولم يعرفوه، فجعل ابنه حذيفة يقول: أبي أبي، فلم يفهموا قوله حتى قتلوه. فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ما صنعتم قتلتم أبي؟ فزاد قدر حذيفة وارتفع بقوله (¬2). حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو يعلى، وقيل: أبو عُمارة - رضي الله عنه -، عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمه: هالة بنت وُهَيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين. وكانت أمه تقول: والله ما حملته وُضْعًا، ولا وضعته يَتْنًا، ولا أرضعته غَيلًا، ولا أنمته على مَأقةٍ. وكان حمزة رضوان الله عليه رضيعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: أَسنَّ منه بثلاث سنين. وكان بيده يوم أحد سيفان يجاهد بهما في سبيل الله ويقول: أنا أسد الله وأسد رسوله (¬3). فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والذِي نَفسِي بيَده إنَّه لمَكتُوبٌ في السَّماءِ كذلِكَ" (¬4). وأوصى حمزة - رضي الله عنه - يوم أحد إلى زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بينهما، فلما حضر القتال أكَّدَ الوصية (¬5). ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 4/ 249: وجروة هو اليمان، ومن ولده حذيفة. (¬2) "الطبقات الكبرى" 4/ 250. (¬3) "الطبقات الكبرى" 3/ 11. (¬4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (2952)، والحاكم 3/ 219 من حديث أبي لبيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده إنه لمكتوب عند الله في السماء السابعة: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله. (¬5) انظر "المنتظم" 3/ 179.

وعن عثمان بن أبي عمار: أن حمزة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريه جبريل، فقال: "إنَّك لَن تَستَطِيعَ". قال: بلى. فأراه إياه في الكعبة، ورجلاه مثل الزبرجد الأخضر، فخر حمزة مغشيًّا عليه (¬1). ولما قتل حمزة - رضي الله عنه -، ومثَّلت به هند، مر به أبو سفيان بن حرب فجعل يضرب في شدقه بالرمح [ويقول]: ذُقْ عُقَقُ، فرآه الحُلَيسُ بن زَبّان سيدُ الأحابيش، فصاح: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون، قد صار لحمًا، فقال له أبو سفيان: اكتمها علي فإنها كانت زَلَّةً (¬2). واشترك معاوية بن المغيرة بن أبي وقاص (¬3) بن أمية، وهند بنت عتبة في المُثْلةِ بحمزة رضوان الله عليه، وكان حمزة صائمًا في يوم أحد، فقتل على حاله وأَذِنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لصفيةَ رضوان الله عليها أن تشاهد أخاها حمزة فشاهدته، وقالت: قد مثلوا بأخي وذلك قليل في ذات الله، والله لأصبرَنَّ ولأحتسبَنَّ. ثم صلَّت عليه واستغفرت له. وقال أبو هريرة: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة فنظر إلى شيء لم يَرَ مثلَه قط، ولا كان أوجع لقلبه منه وقد مثَّلوا به، فقال: "يَرحَمُكَ اللهُ، فَلَقد كُنتَ فِيما عَلِمتُ وَصولًا للرَّحمِ، فعَّالًا للخيراتِ، ولولا حُزنُ مَنْ بَعْدَك عَليك أو تكونَ سُنَّةً من بعدِك لسرَّني أَن أدَعَك حتى تُحشَرَ مِن بُطون السِّباعِ وحَواصِل الطَّير، أَمَا والله لأُمثِّلن بسَبعِينَ منهم مَكَانَكَ". فنزل جبريل بخواتيم سورة النحل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] إلى آخرها، فصبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمسك عما أراد. وفي رواية: فكفَّر عن يمينه، ونهى عن المُثْلة (¬4). وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة، وكبر سبعين تكبيرة (¬5). ولما حُفر لحمزة نزل في قبره أبو بكر وعمر وعلي والزبير - رضي الله عنهم-، وجلس رسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 11. (¬2) "السيرة" 3/ 37. (¬3) هكذا هو في النسخ، والصواب: بن أبي العاصي. انظر "جمهرة أنساب العرب" ص 110. (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 12، والطبراني في "الكبير" (2937)، والحاكم 3/ 218. (¬5) "الطبقات الكبرى" 3/ 14.

- صلى الله عليه وسلم - على شَفير القبر وقال: "لقد رأيت الملائكة غسلت حمزة" (¬1). وأمر أن يُوضَعَ على قدميه الحَرْمَلُ، ودفن حمزة وعبد الله بن جحش في قبر واحد (¬2). وقتل حمزة رضوان الله عليه وهو ابن تسعٍ وخمسين سنة، وقيل: ابن ثلاث وستين سنة. وبكت نساء الأنصار على قتلاهن، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذرفت عيناه، وقال: "لكن حمزة لا بواكيَ له". فسمعه سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، فرجعا إلى نسائهما فساقاهُنَّ إلى باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالا: ابكين حمزة، فبكينه، فدعا لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرهن بالانصراف (¬3). ولما رجع الكفار عن أحد، هرب معاوية بن المغيرة على وجهه فدخل المدينة، ثم أتى باب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وكان ابن عمه فضربه، فقالت أم كلثوم عليها السلام بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أنت؟ فقال: أين عثمان؟ فقالت: ليس هو ها هنا. فقال: أَرْسلي إليه فله عندي ثمن بعير كنتُ اشتريتُه منه. وجاء عثمان فنظر إلى معاوية فقال: أهلَكْتَني وأهلكتَ نفسك. فقال: يا ابن عم، لم يكن أحد أمسَّ بي رحمًا منك فأجرني، فأدخله عثمان منزله وصيره ناحية، ثم خرج عثمان ليأخذ له أمانًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ مُعاويةَ بالمدِينَةِ، فَاطْلُبُوهُ". فدخلوا منزل عثمان، فأشارت إليهم أم كلثوم عليها السلام بأنه في ذاك المكان الذي هو فيه، فأخرجوه وأتوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بقتله. فقال عثمان: والذي بعثك بالحق ما جئتُ إلا لآخذ له أمانًا، فهَبْه لي، فوهبه له وأجَّله ثلاثًا، وأقسم إن وجده بعدها قتله، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأَسد، وأقام معاوية ثلاثًا يستعلم أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأتي بها قريشًا، فلما كان في ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 3/ 9. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 9. (¬3) ذكره بهذا اللفظ الطبري في "تاريخه" 2/ 532، وأخرجه أحمد في "مسنده" (5666) من حديث ابن عمر ولم يذكر سعدًا ولا أسيدًا وزاد فيه: "يا ويحهن! أنتن ها هنا تبكين حتى الآن؟ ! مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم".

ذكر أولاد حمزة - رضي الله عنهم -

اليوم الرابع عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وقال: "إنَّ مُعاويةَ بالمدينةِ، فاقْتُلوهُ". فتبعه علي وزيد بن حارثة وعمار بن ياسر - رضي الله عنهم - فقتلوه بالجَمَّاء (¬1)، وكان قد هرب. وقيل: أدركوه على ثمانية أميال من المدينة فرموه بالنبل حتى قتلوه. وقيل: إنما تبعه علي رضوان الله عليه فقتله، وليس لمعاوية عَقِب إلا عائشة بنت معاوية تزوجها مروان بن الحكم، فولدت له عبد الملك بن مروان (¬2). وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لحسان بن ثابت: يا ابن الفُرَيعةِ، لو سَمِعْتَ هندًا يوم قتل حمزة وهي قائمة على صخرة ترتجز وتذكر ما صنعت بحمزة، وقد بقرت بطنَه، فلو رأيتَ أَشَرَها وهي تقول: شفيتَ وَحشيُّ غليلَ صدري. . . الأبيات. فقال حسان بن ثابت يهجوها (¬3): [من الكامل] أشِرَت لَكاعِ وكان عادتَها ... لؤمٌ إذ أَشِرَتْ مع الكُفْرِ (¬4) أَخَرَجْتِ مُرقِصَةً إلى أُحدٍ ... في القَومِ مُقْتِبةً على بَكْرِ أخرجتِ ثائرةً مُبادِرةً ... بأبيك وابنك يوم ذي بَدْرِ (¬5) وبعمّك المستوهِ ذي رَدَعٍ ... وأخيكِ منعفرين في قَبْرِ (¬6) ونَسيتِ فَاحِشةً أتيتِ بِها ... يا هندُ وَيحكِ سُبَّة الذِّكر زَعَم الولائِدُ أنَّها وَلَدتْ ... وَلَدًا صَغيرًا كانَ مِن عَهْرِ لَعَن الإلهُ وزَوجَها معها ... هند هَنودِ عظيمةَ الوزْرِ ذكر أولاد حمزة - رضي الله عنهم -: كان له أربعة: يعلى، وعامر وعُمارة، وأُمامة. ¬

_ (¬1) في النسخ: "الحمى" والمثبت من المصادر. (¬2) انظر الخبر في "المغازي" 1/ 332 - 333، و"أنساب الأشراف" 1/ 400 - 401. (¬3) انظر الخبر في "السيرة" 3/ 37، و"تاريخ الطبري" 2/ 525 - 526. (¬4) لكاع: اللئيمة. (¬5) في النسخ: "أفرحت ثائرة" والمثبت من "تاريخ الطبري" ورواية الديوان 384: "أقبلت زائرة". (¬6) جاء في هامش النسخ: المستوه: الكبير الاست.

فأما يعلى وعامر فأمهما بنت الملة بن مالك، أنصارية أوسية، وعامر دَرَج. وكان لحمزة ولد اسمه بكر من بنت الملة. وأما عمارة فأمه خولة بنت قيس بن قَهْد أنصارية، وأما أمامة فأمها أسماء (¬1) بنت عُمَيس. وزوَّج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمامةَ بنت حمزة سَلَمةَ بن أبي سلمة، وقال: هل جُزيت أبا سلمة (¬2)؟ فهلك قبل أن يصل إليها. وقيل: أصابه خبل فلم يجتمعا، وكان أخوه عمر أسن منه فتزوج أمامة. وهي التي عُرِضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنَّها ابنةُ أَخِي مِنَ الرَّضاعَةِ" (¬3). وقال الشيخ موفق الدين رحمه الله تعالى في "الأنساب" عن مصعب الزبيري: أنه كان لحمزة خمسة أولاد لصلبه: يعلى وعمارة وأمامة وأم الفضل وفاطمة، وماتوا من غير أن يُعْقِبوا (¬4). وروى علي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إليه بحلة مُسَيَّرة، وقال: "شَقِّقها خُمُرًا بينَ الفَوَاطِم". قال: فشققها بينهن، فأعطيت خمارًا لفاطمة بنت أسد -يعني أمه-، وخمارًا لفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخمارًا لفاطمة بنت حمزة (¬5). ولحمزة رضوان الله عليه رواية. وقال جابر بن عبد الله: لما أراد معاوية بن أبي سفيان أن يُجْرِيَ العَينَ التي تأخذ من أحد إلى المدينة، كتب إلى عامله بذلك، فكتب إليه: إنا لا نستطيع أن نُجريَها إلا على قبور الشهداء. فكتب إليه: انبشوهم. قال جابر: فرأيتهم يُحْملون على أعناق الرجال كأنهم قوم نيام، وأصابت المسحاةُ طرف رجل حمزة فانبعثت دمًا (¬6). ¬

_ (¬1) الصواب: سلمى كما في "الطبقات" 3/ 8، و"الإصابة" 4/ 332. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 8 وفيه: هل جزيت سلمة. (¬3) أخرجه البخاري (2645)، ومسلم (1447) من حديث ابن عباس. (¬4) التبيين 147. (¬5) أخرجه مسلم مختصرًا (2071) (18)، والطبراني في "الكبير" 24 / (887). (¬6) "الطبقات الكبرى" 3/ 10.

حنظلة بن أبي عامر الراهب، واسم أبي عامر: عبد عمرو بن صَيفي بن النعمان بن مالك بن أُميَّة بن ضُبيعة، وكان أبو عامر يقول: أنا على دين الحنيفية ودين النبي المبعوث. فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا محمد، أنت تخلط الحنيفية بغيرها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذبت"، فقال أبو عامر: ما كذبت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمات الله الكاذب منا طريدًا وحيدًا"، فقال: آمين، ثم حمله الحسدُ على أن خرج إلى مكة، وأقام عند الكفار وشهد أحدًا معهم، ثم رجع إلى مكة فأقام بها إلى عام الفتح، ثم خرج هاربًا إلى قيصر فمات بالشام طريدًا وحيدًا، واختصم في ميراثه عند قيصر علقمةُ بن عُلاثة وكنانة بن عبد ياليل، فقضى به قيصر لكنانة لأنه من أهل المَدَرِ، ولم يحكم به لعلقمة لأنه من أهل الوَبَر (¬1). وكان ابنه حنظلة من خيار المسلمين، مُباينًا لأبيه، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين شَمَّاس بن عثمان المخزومي، وحنظلة من الطبقة الثانية من الأنصار، واستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبيه فنهاه عن ذلك، وأوصاه به خيرًا. وكان حنظلةُ قد تزوّج جميلةَ بنت عبد الله بن أُبَيِّ بن سَلول، فأُدخِلت عليه في الليلةِ التي كان صُبْحُها يومَ أُحد، وكان قد استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المبيت عندها، فلما أَصبح غدا يُريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأُحدٍ وكان قد أَجنب منها، فأرسلت زوجته إلى أَربعةٍ من قومها فأشهدتهم عليه أنه دخل بها، فقيل لها في ذلك فقالت: رأيتُ كأنَّ السماءَ فُرجت له، ثم دخل فيها وأطبقت عليه فقلت: هذه الشهادة، وعَلِقَت منه تلك الليلة بعبد الله بن حنظلة. وأخذ حنظلةُ سلاحه، ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسوّي الصفوفَ، فقاتل معه، فاعترض أَبو سفيان حنظلةَ، فضرب حنظلةُ عُرقوبَ فرس أبي سفيان فوقع، وصاح بقريشٍ وقد استعلاه حنظلةُ، فرآه شدّاد بن الأسود بن شَعُوب (¬2)، فحمل عليه فقتله، فقال أبو سفيان: حنظلة بحنظلة، يعني ابنه. ¬

_ (¬1) الخبر في "الطبقات الكبرى" 4/ 290، و"المنتظم" 3/ 184. (¬2) هكذا في النسخ، والصواب أن اسمه: الأسود بن شعوب كما في المصادر و"جمهرة أنساب العرب" ص 182.

ومرَّ به أبوه فرآه قتيلًا، فوقف عليه وقال: يا بُنيَّ قد كنتُ أحذِّرُك مثلَ هذا المصرعِ ولقد كنتَ بارًّا بأبيك، شريفَ الخُلقِ في حياتك، وإن مماتك لمع سَراة أصحابك وأشرافهم؛ لأنه كان مقتولًا إلى جانب حمزةَ وعبد الله بن جحش، وصاح أبو عامر: يا معاشر قريش، لا تمثِّلوا بابني (¬1)، وفي ذلك يقول أبو سفيان بن حرب (¬2): [من الطويل] ولو شئت نجَّتني كُمَيتٌ طِمرَّةٌ ... ولم أَحملِ النعماءَ لابن شَعُوبِ (¬3) أُقاتِلُهم وأَدَّعي يال غالبٍ ... وأَدفَعُهم عنِّي بركنِ صليبِ (¬4) فبكِّي ولا تَرْعَي مقالةَ عاذلٍ ... ولا تَسأمي من عَبْرةٍ ونَحيبِ وسَلَّى الذي قد كانَ في النَّفسِ أنَّني ... قَتلتُ مِن النجَّارِ كلَّ نَجيبِ فأجابه حسان بن ثابت (¬5): [من الطويل] ألَم يقتلوا عَمرًا وعُتبةَ وابنَهُ ... وشَيبةَ والحَجَّاجَ وابنَ حَبيبِ ذكرتَ القُروم الصِّيدَ من آل هاشمٍ ... ولستَ لقولٍ قُلْتَه بمُصيبِ ولمّا قُتل حنظلة يوم أُحد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما شَأنُ حَنظَلةَ؟ فإنِّي رَأَيتُ المَلائِكَةَ تُغَسِّله بينَ السَّماءِ والأَرضِ بماءِ المُزْنِ في صُحفِ الفِضَّة". قال أبو أُسَيد الساعدي: فذهبنا ننظرُ إليه فإذا رأسُه يقطر ماءً، فرجعتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فأرسل إلى امرأته فسألها فقالت: إنه جامع، فلمَّا سمع الهَيعَةَ أعجله الأمر عن الغسل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلذلِكَ غَسَّلتهُ المَلائِكةُ" (¬6). قال ابن سعد: فولده يقال لهم: بنو الغَسيل. خارجة بن زيد بن أبي زهير، أبو زيد الخزرجي الذي نزل عليه أبو بكر الصديق ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 273 - 274، و"الطبقات الكبرى" 4/ 291 - 292. (¬2) الأبيات في "السيرة" 3/ 25. (¬3) الطمرة: الفرس السريعة الوثب. (¬4) الصليب: الشديد. (¬5) البيتان في "السيرة" 3/ 26. (¬6) الخبر في "السيرة" 3/ 25، و"المغازي" 1/ 274، و"الطبقات الكبرى" 4/ 292. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (7025) من حديث عبد الله بن الزبير.

رضوان الله عليه لما هاجر إلى المدينة، وتزوج ابنته، وخارجة من الطبقة الأولى من الأنصار. وأمه السيدة بنت عامر أوسيةٌ، شهد العقبة الثانية وبدرًا، وأخذته الرماح يوم أحد، وكانت بضعةَ عَشَر رمحًا، فمر به مالك بن الدُّخْشم، فوأى الجراحات قد أنفذت مقاتله، فقال: يا خارجة، أما علمتَ أن محمدًا قد قتل، فقال خارجة: فإن الله حي لا يموت، فقاتل عن دينك، فقد بلَّغ محمدٌ رسالاتِ ربه (¬1). ومر به صفوان بن أمية فَعَرفه، فقال: هذا ممن أغرى بأبي يوم بدر، فمثَّل به وقال: الآن شَفيتُ نفسي، قتلتُ الأماثل من أصحاب محمد، قتلتُ ابن قَوْقَل، وأوس بن الأرقم، وخارجة (¬2). ودُفِن خارجةُ وسعد بن الربيع في قبر واحد (¬3)، وقيل: هو والأغرُّ بن ثَعلبة. وكان لخارجة من الولد زيدٌ، تكلّم في عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬4)، وحبيبةُ تزوجها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، فولدت له أم كلثوم، وأُمُّ حبيبةَ بنت خارجة هُزَيلَةُ بنتُ عِنَبةَ خزرجية، وهي أم سعد بن الربيع (¬5). خَلَّاد بن عمرو بن الجَمُوح الأنصاري قتِل مع أبيه. خَيثَمةُ بن الحارث بن مالك الأوسي، وهو أبو (¬6) سعد، من الطبقة الثانية من ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 280. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 486. (¬3) "المغازي" 1/ 268. (¬4) هكذا جاءت العبارة في نسخنا، وصواب العبارة: وكان لخارجة من الولد زيد بن خارجة، وهو الذي سمع منه الكلام بعد موته في زمن عثمان بن عفان كما في "الطبقات"، وقصته: أنه لما سجي بثوبه سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم ثم قال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق، أبو بكر الضعيف في نفسه القوي في أمر الله في الكتاب الأول، صدق صدق، عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول صدق صدق، عثمان بن عفان على منهاجهم، مضت أربع وبقيت ثنتان أتت بالفتن وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة، وسيأتيكم عن جيشكم خبر بئر أريس؟ ! ذكر القصة: ابن شبة في "تاريخ المدينة" (1927)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (14)، والبيهقي في "الدلائل" وصحح إسناده، وابن كثير في "البداية والنهاية" 6/ 156، والصفدي في "الوافي بالوفيات" 15/ 27. (¬5) "الطبقات الكبرى" 3/ 486. (¬6) في النسخ: "ابن" والمثبت من "الطبقات" 4/ 314.

الأنصار، وأمه من بني جُشَم بن معاوية، وهو القائل يوم بدر لابنه سعد: آثرني بالخروج، فقال سعد: لو كان غَيرَ الشهادة لآثرتك بها، فقتل سعد ببدر شهيدًا، وقتل خيثمة بأحد شهيدًا، قتله هُبَيرة بن وهب المخزومي، وخيثمة أحد النقباء الاثني عشر (¬1). ذَكوان بن عبد قيس بن خَلْدَةَ، أبو السَّبُع، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه من أَشجع، شهد ذكوان العَقَبتين، ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأقام معه حتى هاجر إلى المدينة، فكان مهاجرًا أنصاريًّا، وشهد بدرًا، واستشهد يوم أحد، قتله [أبو] الحكم بن شريق، فرآه علي - عليه السلام - فحمل على [أبي] الحكم فضربه فقطع رجله، ثم ذفَّف عليه فقتله (¬2). رافع بن مالك بن العَجْلان، من بني زُريق، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه مارية (¬3) بنت العَجْلان خزرجية، وهو أول من لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة هو ومعاذ بن عَفراء، فأسلما وشهدا العقبة مع السبعين، ولم يشهد بدرًا، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل (¬4). رافع بن يزيد بن كُرْز بن سكن بن زَعوراء، من بني عبد الأشهل، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه عقرب بنت معاذ بن النعمان بن امرئ القيس من بني عبد الأشهل، أُخت سعد بن معاذ، شهد رافع بدرًا وأحدًا، وقُتِلَ في ذلك اليوم شهيدًا، وكان له من الولد أسيد قتل يوم الحرَّةِ، وعبد الرحمن، وأمهما عقرب بنت سلامة بن وَقْش بن زُغبة (¬5). رفاعة بن [وقش بن] زُغبة بن زعوراء، قتله خالد بن الوليد (¬6). رفاعة بن عمرو بن زيد أبو الوليد، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبة مع ¬

_ (¬1) هكذا جاء في النسخ، والصواب أن ابنه سعد بن خيثمة كان أحد النقباء الاثني عشر. انظر "السيرة" 2/ 65. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 548، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬3) هكذا جاء في النسخ، وجاء في في "الطبقات": "ماوية". (¬4) "الطبقات الكبرى" 3/ 573 - 574، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من الأنصار. (¬5) "الطبقات الكبرى" 3/ 407 - 408. (¬6) "الطبقات الكبرى" 4/ 240، وما بين معقوفين زيادة منه.

السبعين وبدرًا، وأمه أم رفاعة بنت قيس بن مالك. زياد بن السَّكَنِ بن رافع أشهلي، وقيل: هو عمارة بن زياد (¬1). سُبَيْع بن حاطِب بن قيس بن هَيْشةَ من الطبقة الثانية من الأنصار، قتله ضرار بن الخطاب (¬2). سعد بن خَوْلي بن سبرة من قضاعة، من الطبقة الأولى من الأنصار. سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس الخزرجي، وأمه هُزَيلةُ بنت عِنَبَة، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وهو أحد النقباء الاثني عشر. وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، وهو الذي انطلق بعبد الرحمن بن عوف إلى بيته، وقال: أُقاسِمُكَ مالي ونسائي. شهد سعد العقبة مع السبعين وبدرًا، ولما كان يوم أحد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يَأتيني بخَبَرِ سَعدِ بنِ الرَّبيعِ؟ " فقال رجل: أنا، فانطلق، فرآه بين القتلى، فقال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لآتيه بخبرك، فقال: اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام، وأخبره أني قد طُعِنْتُ اثنتي عشرة طعنة أنفذت مَقاتلي، وأخبر قومك أنه لا عُذْر لهم إن قُتِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وواحد منهم حي (¬3). ثم تشهد ومات، ودفن سعد بن الربيع وخارجة بن زيد في قبر واحد، ولما أجرى معاوية الماء إلى المدينة، أُخرجا من قبريهما طريين (¬4). قال جابر: قتل سعد يوم أحد وترك ابنتين وامرأة وأخًا، فاحتوى أخوه على ماله، فأتت امرأته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن سعدًا قُتِل بين يديك شهيدًا، وترك هاتين الابنتين، وإنهما لا ينكحان إلا بمال وجمال، وقد ذهب عمهما بالمال، ولا جمال، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبي حتى يقضي الله فيك قضاءه"، فذهبت وأقامت حينًا، ثم جاءت فبكت وشكت فنزل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] إلى آخرها. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخا سعد، وقال له: "أعط ابنتي سعدٍ الثلثين ¬

_ (¬1) اختلف في اسمه، انظر "الإصابة" 1/ 557. (¬2) "المغازي" 1/ 302، وفيه سبيق، وانظر الخلاف في اسمه في "الإصابة" 2/ 15. (¬3) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 465، وابن سعد في "الطبقات" 3/ 485، عن يحيى بن سعيد مرسلًا. (¬4) في النسخ: "طيرين" والصواب ما أثبتناه، انظر "الطبقات" 3/ 485.

وأمَّهما الثُّمُنَ وما بقي فهو لك" (¬1). ولم يورث الحمل، وورثه بعد ذلك، وولدت امرأة سعد بنتًا وهي امرأة زيد بن ثابت، فلما كانت خلافة عمر قال لها: تكلمي في ميراثك من أبيك [إن كنت] تحبين ذلك، فإن أمير المؤمنين قد ورث الحمل اليوم، فقالت: ما كنت لأطلب من أختي شيئًا (¬2). قال الزبيري: فهو أول ميراث قسم في الإسلام. سعد بن سويد بن عُبيد، من الطبقة الثانية من الخزرج. سلمة بن ثابت بن وقش بن زُغبة، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه ليلى بنت اليَمان أخت حُذيفة، شهد بدرًا، وقتله أبو سفيان، وقُتل أيضًا أبوه ثابت وعمه رفاعة شهيدين. سُلَيْم بن الحارث، وأمه السُّميراء ابنة قيس، نجارية، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار. سُلَيم بن عمرو بن حديدة، أنصاري. سهل بن رومي بن وَقْش، أوسي، من الطبقة الأولى من الأنصار، وهو ابن عم كعب بن مالك، شهد بدرًا (¬3). سهل بن عدي بن زيد، وأمه أُميمة بنت قَيظي، من الطبقة الثانية من الأنصار من بني عبد الأشهل. سهل بن قيس بن أبي كعب، وأمه نائلة بنت سَلامة بن وَقْش، من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2892)، والترمذي (2092)، وابن ماجه (2720)، وأحمد في "مسنده" (14798). (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 337 - 338، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬3) قوله: وهو ابن عم كعب. . . إلخ، هكذا جاءت هذه العبارة هاهنا في جميع النسخ، وهي مقحمة هاهنا، لأن سهل بن رومي لم يذكر أحد من العلماء أنه حضر بدرًا، ثم هو ليس ابن عم كعب بن مالك، وإنما ابن عمه هو سهل بن قيس بن أبي كعب الآتي ذكره عند المصنف، وانظر "الطبقات الكبرى" 4/ 242 - 243، و"الإصابة" 2/ 87. (¬4) هو ابن عم كعب بن مالك كما تقدم، وانظر "الطبقات" 3/ 538.

شمَّاس بن عثمان بن الشَّريد بن سويد بن هَرَميّ بن عامر بن مخزوم، من الطبقة الأولى من المهاجرين، كان يسمى: ابن ساقي العَسَل، لأن جده هرمي كان يسقي العسل بمكة، وكنية شماس: أبو المقدام، وقيل: اسمه عثمان وشماس لقب له. وأمه صفية بنت ربيعة بن عبد شمس، أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، وكانت معه امرأته أم حبيب بنت يربوع بن عَنْكَثة، ولما هاجر إلى المدينة نزل على مُبشِّر بن المنذر، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين حنظلة بن أبي عامر. شهد شماس بدرًا، وقاتل يوم أحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفداه بنفسه، وجُرِح جِراحاتٍ كثيرة، وحمل إلى منزل أم سلمة وبه رَمَقٌ لأنه كان ابنَ عمها، فلما مات أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برده إلى أحد فحمل فدفن هناك، قتله أبي بن خلف وهو ابن أربع وثلاثين سنة. صيفي بن قيظي بن عمرو، من بني عبد الأشهل، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه: أم الحُباب بنت التَّيِّهان، واسمها: الصعبة ولم يشهد بدرًا، وقتله ضرار الفهري، وضرار قتل أيضًا أخاه لأبيه وأمه الحُباب (¬1) بن قيظي. ضمرة الجهني (¬2). عامر بن أمية بن زيد بن وقش (¬3)، من الطبقة الأولى من الأنصار. عامر بن قيس بن نجاري (¬4). عامر بن مُخَلَّد بن الحارث، وأمه عمارة بنت خنساء، من بني غَنْم، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا. ¬

_ (¬1) في النسخ: "الحارث" والمثبت من "الطبقات الكبرى" 4/ 243 - 244، و"الإصابة" 1/ 302. (¬2) هو ضمرة بن عمرو بن كعب، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار. انظر "الطبقات" 3/ 519، و"الإصابة" 2/ 212. (¬3) ليس في نسبه وقش، ونسبه: عامر بن أمية بن زيد بن الحَسْحاس بن مالك. انظر "الطبقات" 3/ 475، و"جمهرة أنساب العرب" ص 350. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 439 فيمن استشهد بأحد، ولم نقف عليه عند غيره، انظر "السيرة" 3/ 60، و"المغازي" 1/ 306.

عبَّاد (¬1) بن سهل بن مخرمة من بني النجار، من الطبقة الثانية من الأنصار، قتله صفوان بن أمية الجُمَحيّ. عُبادة بن الخَشْخَاش (¬2). العباس بن عُبادة بن نَضْلة بن مالك بن العجلان، من الطبقة الأولى من الأنصار، من بني ساعدة، وأمه: عُميرة بنت ثعلبة خزرجية، وكان خطيبًا، شهد العَقَبتين وعاد إلى مكة، وهاجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أنصاريًّا مهاجريًّا، وهو من القَواقِلة، قتله صفوان بن أمية، وافتخر بقتله لأنه كان عظيمًا، وقيل: شاركه فيه سفيان بن عبد شمس السلمي والد أبي الأعور السلمي الذي كان مع معاوية بصفين. والعباس من الستة الذين لقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة أول الأمر فأسلموا. عبد الله بن ثعلبة، خزرجي من ولد طريف، وأخوه قيس بن ثعلبة (¬3). عبد الله بن جحش بن رِئاب بن يَعْمَر الأسدي أبو محمد، وأمه: أميمة بنت عبد المطلب. وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر الهجرة الثانية إلى الحبشة، ورجع إلى مكة، وهاجر إلى المدينة. وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. وسمع رجلٌ عبدَ الله بنَ جحش يقول قبل يوم أحد بيوم: اللهمَّ إنا ملاقو هؤلاء غدًا، وإني أقسم عليك لما يقتلوني، ويبقروا بطني، ويجدعوني، فإذا قلتَ لي: لم فعلوا بك هذا؟ قلتُ: فيك ومن أجلك. قال: فلما التقوْا، فعلوا به ذلك، فقال الرجل ¬

_ (¬1) في النسخ: "عبادة" والمثبت من "الطبقات" 4/ 243، و"الإصابة" 2/ 265. (¬2) هو عبدة بن الحساس كما سيأتي. (¬3) ذكرهما الواقدي في "المغازي" 1/ 302، ولم نجد لهما ذكرًا عند غيره هكذا، ولعل المصنف جعل قيسًا أخًا لثعلبة من سياق "المغازي". ونص "المغازي" هو: ومن بني طريف: عبد الله بن ثعلبة، وقيس بن ثعلبة، وطريف، وضمرة حليفان لهم من جهينة. ولعل الصواب ما ذكره ابن هشام في "السيرة" 3/ 61: ومن بني طريف رهط سعد بن عبادة: عبد الله بن عمرو بن وهب بت ثعلبة بن وقش بن ثعلبة بن طريف، وضمرة حليف لهم من بني جهينة رجلان. والظاهر أن قيسًا الذي ذكره المصنف مصحف عن وقش، والله أعلم. انظر "الطبقات" 4/ 369، و"الإصابة" 2/ 354.

الذي سمعه: أمَّا هذا فقد استُجيب له، وأعطاه الله ما سأل في الدنيا، ونرجو أن يعطى ما سأل في الأخرى، وقتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، ودفن مع خاله حمزة في قبر واحد، وكان له يوم قتل بضع وأربعون سنة. عبد الله بن جُبَير بن النعمان بن امرئ القيس، أخو خَوَّات صاحب ذات النِّحيين (¬1)، وأمه من بني عبد الدار (¬2) وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العَقَبة مع السبعين وبدرًا، واستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرماة. عبد الله بن سلمة العجلاني، من الطبقة الأولى من الأنصار، قتله عبد الله بن الزِّبَعْرى. عبد الله بن عمرو بن حَرَام بن ثعلبة، أبو جابر، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه الرَّباب بنت قيس أنصارية، شهد العقبة مع السبعين، وكان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدرًا. قال جابر: أصيب أبي يوم أحد، فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاني، وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَبْكِيهِ -أو لا تَبْكِيه- مَا زَالتِ الملائِكَةُ تُظلُّه بأجنِحتِها حَتَّى رَفَعتُمُوه". أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). وللبخاري عن جابر قال: قال لي أبي من الليل: يابني إني مقتول غدًا، وإنَّ عَلَيَّ دَينًا فاقضه، واستوص بأَخَواتِك خيرًا، قال: فلما أصبحنا كان أول قتيل (¬4). وأخرجه الحميدي، وفيه: ما أراني غدًا إلا مقتولًا، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك إلا نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فدفنَّا معه آخر في القبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بَعْدَ ستة أشهر، فإذا هو كما وضعته غير أذنه، فجعلته في قبر على حدة (¬5). ¬

_ (¬1) النحي: هو ظرف السمن، وسيذكر قصتها المصنف في سنة 45، وسلفت في الأمثال من الجزء الثاني. (¬2) "الطبقات 3/ 440: من بني عبد الله غطَفَان. (¬3) أخرجه البخاري (1244)، ومسلم (2471) (130). (¬4) أخرجه البخاري (1351). (¬5) "الجمع بين الصحيحين" (1585).

وقال جابر: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا جابر، أعلمت أن الله أحيا أباك؟ فقال له: تمنَّ. فقال: أُرَدُّ إلى الدنب فأُقْتَلَ مرة أخرى. فقال: إني قضيت أنهم لا يرجعون" (¬1). وقال جابر: صُرِخَ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين، فأخرجناهم بعد أربعين سنة ليِّنَةً أجسادُهم تنثني أطرافهم (¬2). عبد الله بن عمرو بن وهب، من الطبقة الثانية من الأنصار من بني ساعدة (¬3). عبد الله بن نَضْلة بن مالك العجلاني أنصاري. عبد الله بن الهُبَيْب وأخوه عبد الرحمن، من بني بكر بن عبد مناة من المهاجرين. عَبْدَة بن الحَسْحاس (¬4) بن عمرو، شهد بدرًا، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار. عُبيد بن التَّيِّهان أخو أبي الهيثم، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبة مع السبعين وبدرًا، قتله عكرمة بن أبي جهل، وولده عبيد الله بن عبيد قتل يوم اليمامة. عتبة بن الربيع بن رافع، من بني ثعلبة، أنصاري. عمرو بن ثابت بن وَقْش بن زُغبة، وأمه ليلى بنت اليمان أُختُ حذيفةَ، من الطبقة الثانية من بني عبد الأشهل، دخل الجنة ولم يسجد لله سجدة، وذلك لأنه كان شاكًّا في الإسلام إلى يوم أحد، فوقع في قلبه الإسلام، فأخذ سيفه وخرج فقاتل حتى أُلقي في القتلى وبه رمق، فقالوا: ما جاء بك؟ فقال: آمنت بالله وبرسوله، ومات على أيديهم، فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به، فقال: "هوَ مِن أَهْلِ الجنَّةِ" (¬5). عمرو بن الجَموح بن زيد بن حَرام الأنصاري، أبو معاذ، من بني سَلِمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: "قُومُوا إلى جنَّةٍ عَرْضُها السَّمَاوات والأَرضُ". فقام عمرو وكان أعرج فقال: والله لأَطأنَّ بعرجتي في الجنة (¬6). ثم قاتل حتى قتل. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (14881). (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 522. (¬3) هو عبد الله بن ثعلبة المتقدم. (¬4) هو عبادة بن الخشخاش ويقال له أيضًا: عبَّاد، وتقدم عند المصنف باسم عبادة بن الخشخاش. انظر "الإصابة" 2/ 268. (¬5) ذكره ابن سعد في "الطبقات" 4/ 241. (¬6) ذكره ابن سعد 4/ 374.

قال أبو طلحة. نظرت إلى عمرو حين انكشفت الناس، ثم ثابوا وهو في الرعيل الأول، وهو يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة، ورأيتُ ابنه خَلّادًا يعدو في أَثره، فقتلا جميعًا. ودفن عمرو وعبد الله بن عمرو بن حَرَام في قبر واحد، فأخرب السيل قبريهما، فحُفِرَ القبر ليعبرَ عنهما (¬1) فإذا بهما لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس. وكان أحدهما قد جُرح فوضع يده على جُرحه، ودفن كذلك، فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسلت فعادت كما كانت، وكان بين حفر القبر وبوم أحد سِتٌّ وأربعونَ سنةً. عمرو بن قيس بن زيد بن غَنْم، من الطبقة الأولى من الأنصار، قتله نوفل بن معاوية الدِّئلي. عمرو بن قيس بن مالك أبو حرام النجاري، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه: النَّجود بنت الأسود. عمرو بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أبو عثمان، من الطبقة الأولى من بني عبد الأشهل من القواقلةِ، وأمه: كَبْشَةُ بنتُ رافع، وهي أم سعد بن معاذ، وآخى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عُمير بن أبي وقاص، قتله ضِرار الفِهْري وله ثلاثون سنة. عمرو بن مُطَرِّف بن عمرو، وقيل: ابن علقمة، أنصاري. عمارة بن زياد. عنترة مولى سليم بن عمرو. قُرَّة بن عُقبة بن قُرَّة، من حلفاء بني عبد الأشهل. قَوْقَل بن عبد الله (¬2). قيس بن عمرو بن قيس النجاري، من الطبقة الأولى من الأنصار. قيس بن مُخَلَّد بن ثعلبة، أنصاري من الطبقة الأولى من بي النجار، شهد بدرًا. ¬

_ (¬1) جاءت العبارة في "الطبقات" 4/ 377: فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا. (¬2) هكذا جاء في النسخ: "قوقل"، ولم نقف له على ذكر بين الصحابة.

كيسان مولى الأنصار، وقيل: مولى بني مازن، والأصح أنهما اثنان (¬1). مالك بن ثعلبة بن دعد الخزرجي (¬2). مالك بن خلف بن عوف، من الطبقة الثانية من المهاجرين من بني دارِم، وكان هو وأخوه النعمان بن خلف طليعتين للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فقتلا، قتل النعمانَ صَفوانُ بن أُمية. مالك بن سنان بن ثعلبة أبو أبي سعيد الخدري، ومالك من الطبقة الثانية من الخزرج، وهو الذي شرب من دم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد لمّا نزعوا المِغْفَر عن وجهه، ولم يزل مالك يدافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى حمل عليه غُراب بن سفيان الكِناني، فأنفذه. ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحد، تلقاه أبو سعيد فعزّاه في أبيه. مالك بن عمرو بن ثابت بن كُلْفة بن ثعلبة بن عمرو بن عوف. مالك بن نُمَيلة وهي أمه، وأبوه ثابت المزني. ومالك من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، وذكره ابن سعد في شهداء أحد (¬3). المجذَّر بن ذياد بن عمرو البَلَويّ، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، وذكره ابن سعد في شهداء أحد (¬4)، قُتل يوم أحد غِيلةً، وكان قد قَتَلَ سويد بن الصامت في الجاهلية، وسببه: أن حُضَيرَ الكتائب استزارَ عدة من بني عمرو، منهم سويد بن الصامت، وخوّات بن جبير، وأبو لبابة بن عبد المنذر، والمجذَّر، فأقاموا عنده ثلاثًا ثم انصرفوا، وكان سويد بن الصامت قد ثَمِلَ من الخمر، فجلس يبول، وكان الشرُّ بين الأوس والخزرج مستعرًا، فقتله المجذَّر، وذلك الذي أهاج وقعة بُعاث (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "الإصابة" 3/ 310. (¬2) لم نجد له ذكرًا بين الصحابة، ولعله هو: النعمان بن مالك بن ثعلبة بن دعد، وسيأتي عند المصنف بعد قليل. انظر "الطبقات" 3/ 507، و"الإصابة" 3/ 565. (¬3) "الطبقات الكبرى" 3/ 436. (¬4) "الطبقات الكبرى" 3/ 512. (¬5) أنساب الأشراف 1/ 145، والمغازي 1/ 303.

وكان لسويد ابنٌ يقال له: الحارث، فلمّا انقضت وقعة بُعاث وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أسلم الحارث والمجذَّر، وشهد المجذَّر بدرًا، والحارث يطلب غِرَّته ليقتله بأبيه، فلم يَقْدِر على قتله، فلما كان يوم أحد رجال المسلمون تلك الجولة، أتاه الحارث من خلفه وهو لا يعلم فقتله، ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حمراءِ الأَسَد، أخبره جبريل - عليه السلام -، وقال: إنما قتله غِيلَةً، فاقتُلْه به. فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُباء، وكان يومًا حارًا، وكان لا يأتي قباء إلا يوم السبت والاثنين، فجعلوا ينكرون مجيئه في غير هذين اليومين، واجتمع الناس وطلع الحارث بن سويد في مِلْحفةٍ مُوَرَّسةٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعُوَيمر بن ساعدة: "قدِّمه إلى باب المسجد فاضرب عُنقه، فقد أخبرني جبريل أنه قتل المجذَّر غِيلةً" فقدمه عويمر دقتله (¬1). مصعب بن عُمَير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله القرشي، ويسمى مصعبَ الخير، وفتى مكة شبابًا وجمالًا، وأمه: خُناس بنت مالك بن لؤي. وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا في دار الأرقم بن أبي الأرقم وكتم إسلامه، وكان يختلف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرًّا من أبيه وقومه، وكان أبواه يحبانه، فرآه عثمان بن طلحة يصلي، فأخبر أباه فحبسه، فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى الحبشة، وكان من أنعم الناس عيشًا، وأعطرِهم بمكَّةَ قبل أن يسلم، فلما أسلم زهد في الدنيا فتخشَّفَ جلده. وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد البيعة الأولى فكان يُقْرِئُهم القرآن، ويفقههم في الدين، حتى أسلم على يده خلق كثير، ثم قدم مكة مع السبعين فأقام بها قليلًا، ثم قدم المدينة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرًا، وهو أول من قدمها، وأول من جمّع الجمعة بالمدينة بالمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: أول من جمع أَسعد بن زرارة. وقال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مُصعب بن عُمير مقبلًا وعليه إهابُ كبشٍ قد تنطَّق به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظُروا إلى هَذا الرَّجلِ الذي قد ¬

_ (¬1) أخرجه الواقدي في "المغازي" 1/ 305، ومن طريقه البيهقي في "السنن" 8/ 57. وانظر "المنتظم " 3/ 177 - 178.

نَوَّر اللهُ قَلبَهُ، لَقد رَأَيتُه بينَ أَبَوين يَغذُوانِهِ بأَطيبِ الطَّعامِ والشَّرابِ، فَدَعاه حُبُّ اللهِ ورَسولِه إلى مَا تَرونَ". فنكس أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤوسهم رحمةً له، وليس عندهم ما يُغيِّرونَ به عليه (¬1). وقال محمد بن شرحبيل: حمل مصعبُ بن عمير اللواءَ يومَ أُحُدٍ، فلما جال المسلمون، ثبت مصعب، فأقبل ابن قَميئة فضرب يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنى عليه فضربها فقطعها، فحنى على اللواء وضمه بِعَضُدَيه إلى صدره وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه (¬2). وكان مصعب رقيقَ البَشَرةِ، ليس بالطويل ولا بالقصير، وقُتِلَ وهو ابن أربعين سنة أو يزيد شيئًا. وقال عبد الله بن الفضل: قُتل مصعب فأخذ اللواء مَلَكٌ في صورة مصعب، [فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له في آخر النهار: تقدم يا مصعب] فالتفت إليه الملك وقال: لستُ بمصعب، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ملك أُيِّد به (¬3). ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحد، مرَّ على مصعب فرآه مقتولًا على طريقه، فقرأ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ} (¬4) [الأحزاب: 23] الآية. وقال خبَّاب: هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم: مصعب بن عُمير، قتل يوم أحد فلم نجد شيئًا نُكَفِّنُه فيه إلا نَمِرَةً كُنّا إذا غطينا بها رأسَه بدت رجلاه، وإذا غَطَّينا رجليه بدا رأسه، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي بها رأسَه، ونجعل الإذْخِرَ على رجليه، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدِبُها. أخرجاه في "الصحيحين" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 108، والبيهقي في "الشعب" (6189). (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 112. (¬3) "الطبقات الكبرى" 3/ 112، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬4) "الطبقات" 3/ 112 - 113. (¬5) أخرجه البخاري (4047)، ومسلم (940). ويهدبها: يجتنيها.

وكان مصعب من جِلَّةِ الصحابة وسُبَّاقِهم إلى الإسلام والهجرة، وهاجر قديمًا، وهاجر إلى الحبشة في أول من هاجر إليها، وشهد بدرًا. ولم يشهد بدرًا من بني عبد الدار غيره، وكانت له ابنة اسمها زينب وأمها: حَمْنة بنت جحش. مَعْبَد بن مَخْرمة بن قِلْع بن حَرِيش، من الطبقة الثانية من بني عبد الأشهل، قتله صفوان بن أمية. المغيرة بن الحارث بن هشام أبو سفيان، مختلف في صحبته (¬1). النعمان بن مالك بن ثعلبة بن عمرو، خزرجي، قتله صفوان بن أمية. النعمان بن عمرو (¬2) من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمُّه السُّمَيراء بنت قيس أنصارية، شهد بدرًا. نوفل بن عبد الله بن نَضْلة، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، قتله سفيان بن عُويف. وهب بن قابوس المزني، قُتِلَ ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس، قدما من جبل مُزينة بغَنمٍ لهما إلى المدينة فوجداها خالية، فقالا: أين الناس، فقيل: بأحد، فتشهدا وخرجا مسلمين، وقالا: لا نَسألُ أثرًا بعد عين، فقاتلا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتلا، فمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللَّهم إنِّي قد رَضِيتُ عنهما، فَارْضَ عنهُما". ولم يزل واقفًا على قدميه مع ما به من ألم الجراح حتى دفنهما معًا. فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: أَحب مَوتةٍ إليَّ أموتها موتةُ المُزَنيَّيْن (¬3). يزيد بن حاطب (¬4) أبو حَيَّة من بني ظَفَر، من الطبقة الثانية من الأنصار، وكان أبوه منافقًا. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في "الإصابة" 3/ 528: سقط بين المغيرة والحارث عبد الرحمن، كذلك ذكره البخاري في "تاريخه"، وعبد الرحمن بن الحارث له رؤية، وهو والد أبي بكر أحد فقهاء المدينة، والمغيرة هذا أخوه، وكان مولده في خلافة معاوية، ولم يدرك العصر النبوي قطعًا. (¬2) في "الطبقات" 3/ 481، و"الإصابة" 3/ 562 اسمه: النعمان بن عبد عمرو. (¬3) "المغازي" 1/ 274 - 275، و"الطبقات" 4/ 232. (¬4) ويقال: زيد بن حاطب، انظر "الإصابة" 1/ 564.

يزيد بن السَّكَن بن رافع بن امرئ القيس، من الطبقة الثانية من بني عبد الأشهل، وقتل معه ولده عامر بن يزيد. يسار مولى الهيثم بن التَّيهان. أبو أيمن مولى عمرو بن الجَموح. أبو النعمان (¬1). أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة، من الطبقة الثانية من الأنصار نجاري، طعنه خالد بن الوليد فأنفذه، وقال: أنا أبو سليمان. أبو سفيان بن قيس (¬2) بن زيد، من الطبقة الثانية من الأنصار. فهؤلاء شهداء أحد على اختلافهم. وقال الواقدي: قتل يومَ أحد أربعةٌ من المهاجرين: حمزة، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان. وقيل: وسعد مولى عتبة، وباقي القوم من الأنصار - رضي الله عنهم - أجمعين (¬3). وقد شهد أحدًا منافق ويهودي. فأما المنافق: فقُزْمان بن الحارث من بني عَبس، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى أحد عيَّره النساء، فقلن له: ويحك يا قُزْمان، خرج الناس وبَقيتَ أنت، فخرج شاكٍ في سلاحه، فخرق الصفوف حتى قَتَل من الكفار تسعةً، ونادى: يا معاشر الأوس والخزرج، قاتلوا على الأحساب، ويحمل ويقول: أنا الغلام الظَّفَري، فارْتُثَّ فَمَرَّ به قَتادةُ بنُ النعمان فقال: هنيئًا لك الشهادة. فقال: يا ابن عم، والله ما قاتلت على دينٍ بل على الأحساب والحُرَم، واشتد به ألمُ الجِراحة فقتل نفسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لَيؤيِّدُ هذا الدين بالرجل الفاجر" (¬4). ¬

_ (¬1) في "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 320: أبو النعمان بن عبد عمرو، وتقدم عند المصنف أنه النعمان بن عبد عمرو. والله أعلم. (¬2) هو أبو سفيان بن الحارث بن قيس "الطبقات" 4/ 293. (¬3) "المغازي" 1/ 300. (¬4) "المغازي" 1/ 263، و"الطبقات " 4/ 269 - 270. وانظر كلام الحافظ عليه في "الفتح" 7/ 473.

وأما اليهودي: فمُخَيريق بن مُحَيْريز، وكان يوم أحد يوم السبت فلم يلتفت، وأخذ سلاحه وقال: لا سبت، ثم قال: إن أُصِبت فمالي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يصنع فيه ما شاء. ثم جاء إلى أحد فقاتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مخيريق خيرُ يهود" (¬1). وقتل من المشركين نيف وعشرون، منهم حملة اللواء، وأُبي بن خَلَف الجُمَحي، وأبو عَزَّة الشاعر. ترجمة أُبَيّ: كان يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول له: عندي فرس أعلفها كل يوم فَرْقَ ذُرَة أقتلك عليها. فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا أقْتُلُك إنْ شَاءَ اللهُ تعالى". فلما كان يوم أحد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقصده وقال: لا نجوتُ إن نَجوْتَ. فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحَربةَ فَخَدَشه في عنقه، فتَدهدى عن فرسه يخور كما يخور الثور، ويقول: قتلني محمد، لو كانت هذه بربيعة ومضر لقتلتهم، فقال له أصحابه: لا بأس عليك، إنما هو خَدْش، فقال: أليس قد قال ابنُ أبي كَبْشة. أنا قاتلك؟ والله لو بصَق عليَّ بعد هذه المقالة لقتلني، فمات بسَرِفٍ (¬2). فقال حسان بن ثابت (¬3): [من الوافر] لقد وَرِثَ الضلالةَ عن أبيه ... أُبَيٌّ حين بارزَه الرسولُ أَتُقْسِمُ حين تلقاه بأحْدٍ ... وتُوعِدُه وأنت به جَهولُ وقد قَتَلَتْ بنو النجار منكم ... أميَّة إذ يضيق به السَّبيلُ وأما أبو عَزَّة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد منَّ عليه يوم بدر، فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة من أحد، أُخذ أبو عزة أسيرًا ولم يُؤْسَر غيره، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بقتله، فقال: عَفوَك يا محمد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المُؤمِنُ لا يُلْدَغُ مِن جُحْرٍ مَرَّتينِ، قد عَفَوتُ عنكَ وهَجَوتَني وأَصحابِي، واللهِ لا أَدَعُكَ تَمسَحُ على لحيتكَ بمكَّةَ وتَقولُ: خَدَعتُ مُحمَّدًا وأَصحابَه" فضرب عاصم عنقه (¬4). ¬

_ (¬1) "السيرة" 3/ 34. (¬2) "السيرة" 3/ 31، و"تاريخ الطبري" 2/ 519 - 520. (¬3) الأبيات في "الديوان" ص 296، وانظر "السيرة" 3/ 32. (¬4) "السيرة" 3/ 46، و"المنتظم" 3/ 173، وقوله: "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين" أخرجه البخاري =

وأنزل الله في قصة أحد آيات من القرآن منها: قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121] الآيات، ومنها قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139] الآية، ومنها قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] الآية. ومنها قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140] الآية، ومنها قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيتُمُوهُ} [آل عمران: 143]، الآية، ومنها قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] الآية، ومنها قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151] الآية، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] الآية، ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا} [آل عمران: 156] الآية، ومنها قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآية. ولما انصرف أبو سفيان بالمشركين عن أحد طالبًا مكة، نادى: موعدكم بدرٌ من قابِلٍ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُولُوا: نَعَم". ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وقال لعلي - عليه السلام -: "اتْبَعهُم فانْظُر مَاذَا يَصنَعُونَ؟ فإنِ امتَطَوا الإبِلَ وأَجْنَبوا الخَيلَ فإنَّهم يُريدُون مكَّةَ، وإن رَكِبُوا الخَيلَ وسَاقُوا الإِبِلَ، فإنَّهم يُريدُونَ المدِينَةَ، والذي نَفسِي بِيَده لَئن سَارُوا إليها لأُناجِزَنَّهم فيها". فقال علي رضوان الله عليه: فخرجت في آثارهم، فأجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وساروا نحو مكة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال لي: "أَيُّ ذلك كانَ فأَخْفِه حتَّى تَأتَيَني"، قال: فلما رأيتهم قاصدين مكة، أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم ما أمرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شدة الفرح حيث انصرفوا عن المدينة (¬1). ¬

_ = (6133)، ومسلم (2998) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬1) "السيرة" 3/ 38، و"تاريخ الطبري" 2/ 527 - 528.

وفيها كانت غزاة حمراء الأسد (¬1)، وهي عن المدينة بعشرة أميال. وسببها: أن أبا سفيان لما انصرف من أحد وبلغ الرَّوْحاء، تلاوم هو وأصحابه فقالوا: لا محمدًا قتلتم، ولا الكواعِب أردفتم، قتلتموهم حتى إذا لم يبق غير الشريد تركتموهم، ارجعوا إليهم فاستَأصِلوهم (¬2). وبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يُرْعِبَهم ويُرِيَهم من نفسه ومن المسلمين قُوةً، فندب أصحابه إلى الخروج إليهم. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انصرف من أحدٍ تلك الليلة، بات على بابه وجوهُ الأنصار يحرسونه، وبات المسلمون يداوون جراحاتهم، فلما أصبح نادى مناديه: لا يخرجنَّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فانتدب الناس على ما بهم من ألم الجراح، وكلَّمه جابر بن عبد الله: يا رسول الله، لم أشهد الحرب معك بالأمس فأذن لي في الخروج معك؟ فأذن له، ولم يخرج معه أحد ممن لم يشهد القتال يوم أحد غيره (¬3). وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسه وهو مُوْثَقٌ بالجراحات ومعه سبعون رجلًا من أعيان المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وابن عوف وأبو عبيدة وابن مسعود - رضي الله عنهم-، وغيرهم، وحمل لواءه علي، وقيل: أبو بكر، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وسار حتى بلغ حمراء الأسد وهي على طريق العَقيق متياسرةً عن ذي الحُلَيفةِ، فوجد القومَ على عزم الرجوع وصفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم ثلاثةً طليعة لهم فقتلوهم، وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل بحمراء الأسد فدفن القتلى، وأوقد المسلمون في تلك الليلة خمس مئة نار حتى يُرى ضوؤها من مكان بعيد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 3/ 44، و"المغازي" 1/ 334، و"الطبقات الكبرى" 2/ 45، و"أنساب الأشراف" 1/ 402، و"تاريخ الطبري" 2/ 534، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 312، و"المنتظم" 3/ 172، و"البداية والنهاية" 4/ 48. (¬2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (11017) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 45. (¬4) "الطبقات الكبرى" 2/ 46.

ومرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريقه بمَعْبَدٍ الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمُهم وكافِرُهُم عَيْبَة (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتهامة لا يخفون عنه شيئًا، ومَعْبَد يومئذ مشرك، فقال له: يا محمد، لقد عزَّ علينا ما أصابك، ولوَدِدْنا أن الله كفاك فيهم فما تأمرنا؟ قال: "تُخَذِّل عنَّا" (¬2). فسار حتى لحق بأبي سفيان فوجده على عَزْم الرجوع إلى حمراء الأسد، فقال له: ما وراءك يا مَعْبَدُ؟ قال: محمد قد خرج في جمع عظيم ما رأيت مثله، وقد اجتمع إليه من كان تخلف عنه بالأمس، وندموا على صنيعهم، وفيهم من الحَنَقِ شيء لم أر مثله قط. فقال: ويحك ما تقول؟ فقال: ما أظنك ترتحل حتى ترى الخيل أو نواصيها، ولقد حملني ما رأيت على أن قلت: [من البسيط] كادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأَصوَاتِ رَاحِلَتي ... إذْ سَالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأَبابِيلِ تَرْدِي بأُسْدٍ كِرامٍ سَادَةٍ فُضُلٍ ... عندَ اللِّقاءِ ولا خُرْقٍ معازيلِ من جَيشِ أحمدَ لا شيءٌ يماثِله ... وليسَ يُوصَفُ ما أَبديتُ بالقِيلِ وقلتُ: وَيحَ ابن حربٍ من لقائِكم ... إذا أَتيتُم بجيشٍ غيرِ مَخذُولِ فانثنى عزم أبي سفيان وعاد إلى مكة (¬3). وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراءِ الأَسَد يوم الأحد سادس عشر شوال، وغاب عن المدينة خمسَ ليال، ولقي أبا عزَّة الشاعر فقتله على ما ذكرنا. وأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172] الآية. وفي "الصحيحين": عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت لعروة بن الزبير: يا ابن أختي، كان والله أبوك وأبو بكر الصديق من {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية (¬4). ولقي أبو سفيان ركبًا من بني القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: المدينة نَمتار منها. فقال: هل أنتم مُبلِّغون محمدًا رسالة، وأُحَمِّلُ لكم إبلَكُم زبيبًا بعكاظ غدًا إذا ¬

_ (¬1) العيبة: موضع السر. (¬2) هذا الحديث لم يرد في أي من المصادر في هذه الغزوة، وإنما قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - لنعيم بن مسعود في غزوة الخندق كما في "السيرة" 3/ 137. (¬3) انظر "السيرة" 3/ 44 - 45، و"تاريخ الطبري" 2/ 535 - 536. (¬4) البخاري (4077)، ومسلم (2418).

عثمان بن مظعون

وافيتموها؟ قالوا: نعم. فقال: إذا لقيتموه فأخبروه أنا عائدون إليه لنستأصله وأصحابه. ثم سار إلى مكة ومر ذلك الركب بحمراء الأسد فبلغوا الرسالة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَسبُنا اللهُ ونِعمَ الوَكيلُ" (¬1). فصل وفيها توفي عثمان بن مَظْعون (¬2) وأمه سُخيلة، وعثمان من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا. قال يزيد بن رومان: انطلق عثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، [وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد] وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا في ساعة واحدة، وذلك قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم. وهاجر عثمان إلى الحبشة الهجرتين، وحرَّم الخَمْرَ في الجاهلية وقال: لا أشرب شيئًا يُذهب عقلي، ويُضْحِكُ بي من هو أدنى مني، ويحملني أن أُنْكحَ كريمتي من لا أريد. فنزل تحريم الخمر في سورة المائدة (¬3). وعثمان خال حفصة بنت عمر - رضي الله عنها -. عن ابن شهاب: أن عثمان بن مظعون أراد أن يختصي ويسيح في الأرض، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَليسَ لك فيَّ أُسوةٌ حَسَنةٌ، فأَنا أَصومُ وأُفطِرُ، وآكُلُ، وآتِي النِّساءَ، إنَّ خِصَاءَ أُمَّتي الصَّومُ، لَيسَ منِّي من خَصَى واختَصَى" (¬4). ومات عثمان - رضي الله عنه - في شعبان سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: في سنة اثنتين، وهو أول من دُفِنَ بالبقيع من المهاجرين، وقبّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَدَّه لما مات، وسماه السلف الصالح، وكان زاهدًا مشغولًا بالتعبد. ¬

_ (¬1) "السيرة" 3/ 45. (¬2) انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 3/ 365، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 153، و"الإصابة" 2/ 464. (¬3) "الطبقات الكبرى" 3/ 365، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 366.

ذكر أولاد عثمان

وعن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عثمان حين مات فأكبَّ عليه، ثم رفع رأسه وهو يشهق فعرفوا أنه يبكي، ثم قال: "اذهَبْ عنَا أَبا السَّائبِ، فَقَد خَرجتَ منها ولم تَلتَبِس منها بِشَيءٍ" (¬1). وقالت عائشةُ رضوان الله عليها: قبّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدَّ عثمان بن مظعون وهو ميت، قالت: فرأيت دموعه تسيل على خد عثمان بن مظعون (¬2). وقالت أم العلاء: اقتُسمَ المهاجرون قرعة، فطار لنا عثمان بن مظعون، فمرَّضناه حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه، دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: رحمك الله أبا السائب، فشهادتي عليك أن الله أكرمك. قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما يُدرِيكِ أنَّ الله أَكْرَمهُ؟ " فقالت: لا أدري. فقال: "أَمَّا عُثمان فقد جاءَهُ اليَقينُ، والله إنِّي لأَرجُو له الخَيْرَ، وَواللهِ ما أَدرِي وأَنَا رسُولُ اللهِ ما يُفعَلُ بي" فَواللهِ لا أُزَكي بَعدَه أحدًا، فأحزنني ذلك، قالت: فنمت فرأيت لعثمان عينًا تجري، فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: "ذَلِكَ عَمَلُهُ" (¬3). وعن ابن عباس قال: لما مات عثمان، قالت امرأته: هنيئًا لك الجنة. فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة غضبان، قال: "وما يُدرِيكِ؟ " قالت: صاحبك. فقال: "إنِّي لَرَسُول اللهِ ومَا أَدرِي ما يُفعَلُ بي ولا بِهِ". فاشتد ذلك على المسلمين حتى ماتت بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "الْحَقِي بِسَلَفِنا عُثمانَ بنَ مَظْعُونَ" (¬4). ذكر أولاد عثمان: كان له من الولد: عبد الله (¬5)، والسائب، وأمهما خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة، سُلَميّة. فأما السائب: فهاجر إلى الحبشة المرة الثانية مع أبيه، ثم قدم مكة وهاجر إلى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 105. (¬2) "الطبقات" 3/ 368. (¬3) أخرجه البخاري (2687). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2127). (¬5) هكذا ورد في النسخ، والصواب: "عبد الرحمن" كما في "نسب قريش" ص 394، و"الطبقات" 3/ 365.

المدينة، وكان من الرماة المذكورين، أصابه سهم يوم اليمامة في خلافة أبي بكر فمات وهو ابن بضع وثلاثين سنة (¬1)، وولد ولأبيه ثلاثون سنةً. وقال ابن سعد: كان لعثمان ابنة يقال لها: زينب، تزوجها عبد الله بن عمر بعد وفاة أبيها، زوجه إياها عمها قدامة، فأرغبهم المغيرة بن شعبة في الصَّداق، فقالت أم الجارية: لا تُجيزي، فكرهت الجارية النكاح، وأعلمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك هي وأمها، فنكحها المغيرةُ بن شعبة (¬2). أسند عثمانُ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * ¬

_ (¬1) توفي في سنة اثنتي عشرة، وسيذكره المصنف هناك، وانظر "الطبقات" 3/ 372. (¬2) "الطبقات" 10/ 255.

السنة الرابعة من الهجرة

السنة الرابعة من الهجرة فيها: كانت سرية أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي إلى قَطَنٍ (¬1)، جبلٍ بالحجاز ناحية قُدَيْد (¬2)، في هلال المحرَّم في مئة وخمسين رجلًا يقصد طُليحة وسَلَمة ابني خويلد، وكانا قد جمعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهربا، فساق أبو سلمة نَعَمَها وشاءهما إلى المدينة. وفيها: كانت سرية عبدِ الله بن أُنَيس (¬3)، في المحرم إلى سفيان بن خلف (¬4) الهذلي، وكان ينزلُ بطنَ عُرَنَةَ، وكان قد جمع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال عبد الله بن أُنَيس: فقلت: يا رسول الله، صفه لي. فوصفه فأخذت سيفي وقصدته، فلما جئته، قال: مَنِ الرجلُ؟ قلت: من خُزاعة، سمعت بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك. فاستحلى حديثي حتى إذا تفرق عنه أصحابه نام، فقتلته فجئت برأسه أحمله، فدخلت غارًا في جبل وجاءت عنكبوت فنسجت على بابه، وجاء الطلب فوجدوا العنكبوت قد سدت على الباب فرجعوا، وجئت برأسه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أَفلَحَ وجهُكَ". ودفع إلي عصاة، وقال: "تخصَّر بهذه في الجنة" (¬5). وفيها: كانت قصة بئر معونة (¬6)، قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر مُلاعِب ¬

_ (¬1) انظر "المغازي" 1/ 340، و"الطبقات الكبرى" 2/ 46، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 319 - 320، و"المنتظم" 3/ 197، و"البداية والنهاية" 4/ 61. (¬2) هكذا ورد في النسخ: "قديد" والصواب: "فيد" كما في "الطبقات" 2/ 46، و"معجم البلدان" 4/ 375. (¬3) انظر "السيرة" 2/ 619، و"المغازي" 2/ 531، و"الطبقات الكبرى" 2/ 47، و"تاريخ الطبري" 3/ 156، و"المنتظم" 3/ 197، و"البداية والنهاية" 4/ 104. اختلف في تاريخ هذه السرية: فذكرها المصنف في هذه السنة تبعًا لابن سعد، وذكرها الطبري في السنة العاشرة، وقال ابن حبيب في "المحبر" ص 119: إنها في سنة خمس، والله أعلم. (¬4) هكذا وردت في النسخ، والصواب؛ "خالد" كما في المصادر. (¬5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات "2/ 47 - 48 وأحمد في "مسنده" (16047). (¬6) انظر "السيرة" 2/ 183، و"المغازي" 1/ 346، و"الطبقات الكبرى" 2/ 48، و"تاريخ الطبري" 2/ 545، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 338، و"المنتظم" 3/ 198، و"البداية والنهاية" 4/ 71.

الأَسِنَّة -وكان سيد بني عامر بن صعصعة- على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ في صفَرٍ على رأس أربعة أشهر من أُحد، وأهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية، فأبى أن يقبلها وقال له: "يا أَبا بَرَاء، لا أقبلُ هديَّةَ مُشرِكٍ، فإن أردْتَ أن أقبَلَ هديَّتَكَ فأَسْلِم". ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما لَه فيه، وما وعد الله المؤمنين من الثواب، وقرأ عليه القرآن، فلم يسلم ولم يُبعده عن الإسلام، وقال: يا محمد، إن الله أمرك بهذا الذي تدعو إليه، والله إنه لحسن جميل، فلو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد، وإلى قومي تدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَخشَى عليهم أَهلَ نَجدٍ". فقال أبو براء: أنا لهم جار إن تعرَّض لهم أحد. فبعث لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنذر بن عمرو بن لَوْذان أخا بني ساعدة في سبعين رجلًا من خيار المسلمين من القُرّاء، فساروا حتى نزلوا بئر مَعُونة -وهي أرض بني عامر وحرَّة بني سُلَيم- فقال بعضهم لبعض: أيكم يُبَلِّغُ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ هذا الماء؟ فقال حَرامُ بنُ مِلْحان: أنا، فخرج بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل، فلما أتاه بالكتاب لم ينظر فيه عامر، فقال حَرَام: يا أهل بئر معونة، إني رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم فآمنوا بالله ورسوله، فخرج رجل من كَسْرِ البيت برمحٍ فضرب به جنبه، فخرج من الجانب الآخر، فقال: الله أكبر فزت وربِّ الكعبة. ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين، فأبَوْا أن يُنْجِدوه، وقالوا: أبو براء قد عقد لهم عقدًا وجوارًا فلا نَخفِرُ ذمَّتَه، فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم عُصَيَّةَ، ورِعْلًا، وذَكْوانَ، فأجابوه وأحاطوا بالقوم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد، فإنهم تركوه وبه رمق فعاش حتى قتل يوم الخندق. وكان في سَرْحِ المسلمين عمرو بن أمية الضَّمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف، فَلم يُنَبِّههما على مصاب أصحابهما إلا الطير يحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنًا، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم، والخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى؟ قال: نلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره الخبر. فقال الأنصاري: ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو. ثم قاتل القوم حتى قتل، وأُخِذَ عمرو بن أمية أسيرًا، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجزَّ ناصيته وأعتقه عن رقبة، وزعم أنها كانت عن أمه، فقدم عمرو

ابن أمية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر فقال: "هَذا مِن عَمَلِ أبي بَرَاءٍ، والله لقد كُنتُ كارِهًا لهذا مُتَخوِّفًا". وبلغ أبا براء فشق عليه إخفارُ عامرٍ إياه وما أصاب أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسببه وجواره (¬1). فقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي براء على عامر بن الطفيل (¬2): [من الوافر] بني أُمِّ البَنين أَلَم يَرُعْكُم ... وأَنْتُم مِن ذَوائبِ أَهلِ نَجدِ تَهكُّمُ عامرٍ بأَبي براءٍ ... ليُخفِرَه وما خَطأٌ كَعَمْدِ أَبُوكَ أَبو الحُرُوبِ أَبو براءٍ ... وخالُكَ ماجِدٌ حَكَمُ بن سعدِ وقال كعب بن مالك (¬3): [من الوافر] لَقَد طارَتْ شَعاعًا كلَّ وَجهٍ ... خِفارةُ ما أَجَازَ أَبو بَراءِ بَني أُمِّ البنين أَما سَمعتُم ... دُعاءَ المستَغيثِ معَ المساءِ وتنويه الصَّريخِ بلَى ولكنْ ... عَرَفتُم أَنَّه صَدقُ اللِّقاءِ قال: فلما بلغ ربيعةَ بنَ أبي بَراءٍ قولُ حسانَ وكعبٍ، حمل على عامر بن الطفيل فطعنه، فخرَّ عن فرسه فقال: هذا عمل أبي براء، إن مت فدمي لعمي لا يُتَّبعُ به، وإن أعش فسارى فيه رأيي (¬4). وقال أنس بن مالك: فأنزل الله في شهداء بئر معونة قرآنًا: (بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه) ثم نسخت بعد ما قرأناها زمانًا، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169] الآية (¬5). هذا كلام الثعلبي. ولما أطلقوا عمرو بن أمية الضمري، خرج قاصدًا إلى المدينة، حتى إذا كان بالقَرْقَرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر فنزلا تحت شجرة وناما وكان معهما عَقْدٌ وجِوارٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم به عمرو، وكان قد سألهما: من أنتما؟ فقالا: ¬

_ (¬1) النقل عن "السيرة" 2/ 183 - 184. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 548، والسيرة 2/ 187. (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 548 - 549. (¬4) "تاريخ الطبري" 2/ 549. (¬5) أخرجه البخاري (2814)، ومسلم (677) ولم يذكر الآية الناسخة، وانظر "تاريخ الطبري" 2/ 550.

ذكر أعيان شهداء بئر معونة

من بني عامر. فلما ناما قتلهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأرًا ممن قتل أصحابه، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فودى الرجلين الذين قتلهما عمرو. ذكر أعيان شهداء بئر معونة: أمير السرية: المنذر بن عمرو بن لَوْذان من الطبقة الأولى من الخزرج، وأمه هند بنت المنذر من بني سَلِمَةَ، وكان يكتب في الجاهلية بالعربية، شهد العقبة مع السبعين، وهو أحد النقباء الاثني عشر، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين طُلَيب بن عُمَير، وشهد المنذر بدرًا وأحدًا، ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَبَرُه، قال: "مَشَى إلى الموتِ فاعتَنَقَه وهو يَعرفُهُ" (¬1). عامر بن فُهَيرة مولى أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وهو أخو عائشة - رضي الله عنها - لأمها أم رومان، وكنيته أبو عمرو، واشتراه أبو بكر فأعتقه، وكان يعذَّب في الله بمكة، من المستضعفين، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا قبل أن يدخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دارَ الأرقم، وهاجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يرعى الغنم لمّا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار، وشهد بدرًا وأحدًا، وقتل ببئر معونة وهو ابن أربعين سنة. وقال عروة: كان عامر بن الطفيل يقول: من منهم الرجل الذي لما قتل رأيته قد رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه؟ قالوا: عامر بن فهيرة (¬2). وطعنه جَبَّار بن سُلمى فأنفذه، فقال: فزت ورب الكعبة. فقال جبار: فما معنى هذا؟ قالوا: الجنة، فأسلم جَبَّار. وقال الزهري: بلغني أنهم التمسوا جسده فلم يقدروا عليه، فيرون الملائكة دفنته (¬3). الحكم بن كَيْسان مولى بني مخزوم، من الطبقة الأولى من المهاجرين (¬4)، أسر في ¬

_ (¬1) "الطبقات" 3/ 514. (¬2) أخرجه البخاري (4093). (¬3) "الطبقات" 3/ 211 - 212. (¬4) عده ابن سعد في الطبقة الثانية من المهاجرين، "الطبقات" 4/ 128.

العير التي أخذها عبد الله بن جحش بنخلة، فلما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلم وحسن إسلامه. وهب بن سعد بن أبي سَرْح أخو عبد الله، من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأمهما مُهانة بنت جابر من الأشعريين، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سُويد بن عمرو، فقتلا جميعًا ببئر معونة (¬1). حَرام بن مِلْحان النجَّاري من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه مُلَيكةُ بنت مالك نجارية، هو خال أنس بن مالك، وقتل معه في ذلك اليوم أخوه سليم بن مِلْحان، شهد حَرامٌ العقبة مع السبعين وبدرًا وأحدًا. خالد بن ثابت بن النعمان، من الطبقة الثانية من الأنصار، ظَفَري شهد أحدًا. الحارث بن الصِّمة بن عمرو أبو سعد، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه تُماضِر بنت عمرو بن قيس عَيلان، وهو الذي كُسِرَ بالرَّوْحاءِ لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فضَربَ له بسهمه وأجره، وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت يوم أحد، وقَتَلَ يومَ أحدٍ عِتبانَ بنَ المغيرة المخزومي (¬2)، وأخذ سلبه ولم يُسْلَبْ سواه، وللحارث عقب بالمدينة وبغداد، وقتل ولده سعيد بن الحارث مع علي - عليه السلام - بصفين (¬3). عبد الله بن قيس بن صِرْمة الأنصاري، من الطبقة الثانية من بني النجار، وأمه زينب بنت قيس، شهد أُحدًا. سعد بن عمرو بن ثَقْف، من الطبقةِ الثانية من الأنصار، شهد أُحدًا ولم يُعْقِب. الضحَّاك بن عبد عمرو بن مسعود، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه السُّميراء بنت قيس أشهلية، شهد بدرًا وأحدًا. قُطبة بن عبد عمرو بن مسعود أخو الضحاك لأبويه، شهد أحدًا. ¬

_ (¬1) جاء في "الطبقات" 3/ 377، و"الإصابة" 3/ 642، أنهما قتلا يوم مؤتة، وعد ابن هشام وهب بن سعد في شهداء مؤتة. "السيرة" 2/ 388. (¬2) هكذا هو في النسخ، وفي "الطبقات" 3/ 471: عثمان بن عبد الله بن المغيرة. (¬3) "الطبقات الكبرى" 3/ 471.

مسعود بن سعد بن قيس، من الطبقة الثانية من بني زُريق من الأنصار، شهد أحدًا (¬1). معاذ بن ماعِص بن قيس بن خَلْدة من بني زُريق، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه من أشجع، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سالم مولى أبي حذيفة. وفيها: كانت سرية مَرْثَد بن أبي مَرْثَد الغَنَوي إلى الرَّجِيع (¬2)، وكانت في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من مهاجرته - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو هريرة: قدم رَهْطٌ من عَضَلٍ والقارةِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أُحد، فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلامًا وخيرًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يُفَقِّهونا في الدين، ويُعلِّمونا القرآنَ والشرائعَ، فبعث معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفرًا ستةً من أصحابه: مَرْثَد الغَنَوي حليفَ حمزة بن عبد المطلب، وخالد بن البُكَير حليف بني عدي بن كعب، وعاصمَ بنَ ثابت بن أبي الأَقْلح أخا بني عمرو بن عوف، وخبَيْبَ بنَ عدي أخا بني جَحْجَبى بن كُلْفة بن عمرو بن زيد (¬3) بن عوف، وزيدَ بن الدَّثِنَة أخا بني بَيَاضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليفًا لبني ظَفر، ويقال: ومُعتِّب بن عبيد، وأمَّر عليهم مَرثد بن أبي مَرثد. فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع -ماء لهُذَيل بناحية الحجاز بين أرض بني عامر وحَرَّةِ بني سُليم- غَدروا بهم واستصرخوا عليهم هُذيلًا، فلم يَرُعهم إلا وقد غشيهم القوم بالسيوف، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم فقالوا: إنا لا نريد قتالكم، ولكن نريد أن نصيب بكم من أهل مكة شيئًا، ولكم علينا عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم. فأما مَرْثَدُ بن أبي مَرْثَد، وخالدُ بن البُكير، وعاصمُ بن ثابت، فقالوا: والله لا نقبلُ من مشركٍ عهدًا. وقاتلوهم حتى قُتلِوا جميعًا. وأما زيدُ بنُ الدَّثِنَة، وخُبَيبُ بن عدي، وعبدُ الله بن طارق فرغبوا في الحياة وأعطَوْا ¬

_ (¬1) وشهد بدرًا أيضًا، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى "الطبقات" 3/ 551. (¬2) "السيرة" 2/ 169، و"المغازي" 1/ 354، و"الطبقات الكبري" 2/ 51، و"تاريخ الطبري" 2/ 538، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 323، و"المنتظم" 3/ 200، و"البداية والنهاية" 4/ 62. (¬3) ليس في نسبه "زيد" وانظر "جمهرة أنساب العرب" ص 330.

ذكر ترجمة عاصم

بأيديهم. فأُسِروا، فلما وصلوا إلى مَرِّ الظَّهْران، انتزع عبد الله بن طارق يده من القِران، ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه بمرِّ الظهران، وقدموا بخُبَيبٍ وزيدٍ إلى مكة فباعوهما، فأما خُبيب فابتاعه حُجَيرُ بن أبي إهاب التميمي أخو الحارث بن عامر لأمه ليقتله الحارث بن نوفل، وكان خُبيب قتل عامرًا يوم بدر فقتله به، وأما زيد بن الدَّثِنة فقتله صفوان بن أمية (¬1). ذكر ترجمة عاصم: واسم أبي الأَقلح قَيْسُ بن عِصْمَة بن مالك من بني ضُبيعة، وكُنيَةُ عاصمِ: أبو سليمان، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه الشَّموس بنت أبي عامر الراهب، وأمها عُميرة بنت الحارث، شهد عاصم بدرًا وأحدًا، وثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد لما انهزم الناس عنه، وبايعه على الموت، وكان من الرماة المذكورين، وقتَلَ يومَ أحدٍ أصحابَ اللواء مُسافعًا والحارث، وكانت سُلافةُ بنت سعد أُمُّهما نَذَرَتْ أن تشربَ الخمر في قِحْفِ عاصم، وجعلت لمن جاء برأسه مئة ناقة، فلما قال المشركون: إنا لا نريد قتلكم، قال عاصم: أما أنا فلا أقبل جوار مشرك. وجعل يقاتلهم حتى فني نَبْلُه، ثم طاعنهم حتى انكسر رمحه، فقال: اللهمَّ إني سميت دينك أول النهار، فاحم لحمي آخره، فجرح رجلًا وقتل واحدًا وقتلوه، وأرادوا أن يَحزوا رأسه، فبعث الله الدَّبْرَ فحمته، ثم بعث الله سيلًا في الليل فحمله، وكان قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك تنجسًا منه. فلهذا أكرمه الله باحتمال السيل إياه، فكان عمر بن الخطاب رضوان الله عليه يقول: عجبًا لحفظ الله العبد في حياته وبعد مماته. وكان لعاصم ولد اسمه محمد، وأمه هند بنت مالك، ومن ولد محمدٍ الأحوصُ الشاعرُ، وهو عبد الله بن محمد بن عاصم (¬2). خالد بن البُكَير بن عبدِ يَاليل بن كِنانة شهد بدرًا وأحدًا، وقتل في هذا اليوم، وله أربع وثلاثون سنة. ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 169 - 171. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 428.

خُبَيْب بن عدي الأنصاري من بني عمرو بن عوف، من الطبقة الأولى من الخزرج، لما أُسر على ما تقدم، وقدم مكة ابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف. وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث عندهم أسيرًا حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى ليستَحِدَّ بها فأعارته، فدرج لها ابنٌ صَغيرٌ وهي غافِلَةٌ عنه حتى أتاه، فأخذه فوضعه على فخذه والموسى بيده، ففزعت المرأة فَزْعةً عرفها خُبيب وقالت: أصاب الرجلُ واللهِ ثأرَه. فقال خُبيب: أتحسبين أَني أقتله؟ قالت: نعم. فقال: ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله، ليس الغَدْرُ من شأنِنا. وكانت المرأة تقول: والله ما رأيت أسيرًا قط مثلَ خُبَيب، لقد رأيته يومًا يأكل قِطْفًا من عنب في يده، وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لرزق الله ساقه الله إليه، وإنه لمُوْثَقٌ في الحديد. فلما خرجوا به من الحَرَم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم: دعوني أصلي ركعتين. فتركوه، فركع ركعتين وقال: والله لولا يحسبوا أن ما بي جَزَعٌ من الموت لزدت ثم قال: [من الطويل] ولستُ أُبالي حين أُقْتَلُ مُسلِمًا ... على أي جَنْبٍ كان في الله مَصرَعي وذلك في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ ... يُباركْ على أَوصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ ثم قال: اللهمَّ أحصهم عددًا، واقتلهم بدَدًا، ولا تبق منهم أحدًا. فقام إليه عقبة بن الحارث وكنيته أبو سِرْوَعةَ فقتله، وكان خُبَيْبٌ هو الذي سنَّ الصلاة لكل مسلم قُتِلَ صَبْرًا. وأَخبرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه يومَ أُصيبوا خَبَرهم (¬1). ثم أسلم أبو سِرْوعة بعد ذلك وحسن إسلامه. وقال سعيد بن عاصم: شهدت مصرعَ خُبيب، وقد بَضَعَت قريشٌ لحمَه وحملوه على جِذْع، وقالوا: أتحب أن محمدًا مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي، وأن محمدًا شِيكَ بشوكة، ثم نادى: وامحمداه، فقتلوه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وعن جعفر بن أمية، عن أبيه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدي عينًا إلى قريش، فجئت إلى خشبة خُبَيْب وأنا أتخوف العيون فَرَقِيتُ فيها، وحَلَلتُ خُبيبًا فوقع إلى الأرض، فانتبذت غير بعيد، ثم التفتُّ فلم أر خبيبًا وكأنما ابتلعته الأرض، فلم ير ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3989) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 246.

لخُبَيْبٍ أثرٌ حتى الساعة (¬1) زيد بن الدَّثِنة بن معاوية، من الطبقة الثانية من الأنصار شهد أحدًا، واشتراه في هذه السرية صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فأخرجه إلى التنعيم، ثم قام إليه نِسطاس غلامُ صفوان فقتله - رضي الله عنه - (¬2). * * * وفيها كانت سرية عمرو بن أمية الضَّمْري إلى مكة ليقتل أبا سفيان في ربيع الأول (¬3). * * * وفيها كان إجلاءُ بني النَّضِير (¬4)، في ربيع الأول، وهم حيٌّ من يهود خَيبر، دخلوا في العرب وهم على نسبهم إلى هارون - عليه السلام -، وسبب إجلائهم: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، صالحته اليهود على أن لا يقاتلوه ولا يظاهروا عليه، فلما ظهرَ يومَ بدرٍ على الكفار قالت النضير: هذا هو النبي المبعوث الذي لا تُردُّ له راية، فلما جرى يومَ أحد ما جرى ارتابوا، ونافقوا، وأظهروا العداوةَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: لو كان هذا نَبيًّا ما جرى عليه ما جرى، وأجمعوا على الفتك به، فبعثوا إليه أنِ اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون حَبْرًا حتى نلتقي بمكان كذا، وهو نَصَفٌ بيننا وبينك، فيسمعوا منك، فإن آمنوا آمنا كلّنا. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين من أصحابه، وخرجوا هم في ثلاثين حَبْرًا، فلما ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (17252) من حديث عمرو بن أمية الضمري. (¬2) "السيرة" 2/ 172. (¬3) "السيرة" 2/ 633، و"الطبقات الكبرى" 2/ 90، و"تاريخ الطبري" 2/ 542، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 333، و"المنتظم" 3/ 265، و"البداية والنهاية" 4/ 69. وذكرها ابن الجوزي وابن كثير في حوادث السنة السادسة. (¬4) "السيرة" 2/ 190، و"المغازي" 1/ 363، و"الطبقات الكبرى" 2/ 53، و"تاريخ الطبري" 2/ 550، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 176 و 354، وتفسير الثعلبي 6/ 138 - 139 و"المنتظم" 3/ 203، و"البداية والنهاية" 4/ 74.

أصحروا قالوا: كيف نخلُصُ إليه ومعه ثلاثون من أصحابه، وكل واحدٍ منهم يحب أن يموتَ قبله، فأرسلوا إليه: اخرُجْ في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا، فإن الكثرة تمنع السماع، فخرجوا في ثلاثة نفر، وخرج في ثلاثة، وكانوا قد اشتملوا على الخناجر المسمومة ليقتلوه، فأرسلت امرأة من اليهود إلى أخيها وكان مسلمًا من الأنصار، فأخبرته بما عزموا عليه، فسبقهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساره بذلك، فرجع من الطريق، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم (¬1). وقال الواقدي: وكان السبب في ذلك أن عامر بن الطُّفَيل بعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنكم قتلتم رجلين لهما منكم جِوارٌ وعَهْد، فابعث إلينا بِدِيَتِهما - يريد اللَّذَيْنِ قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْري عند مرجعه من بئر مَعونة - فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُباء، ثم مال إلى بني النَّضير يستعين بهم في دِيَة الرجلين - وكان بين بني عامر وبني النَّضير حِلفٌ وعَقْد -، وكان معه أبو بكر وعمر وعلي وأسيد بن الحضير - رضي الله عنهم -، فلما استعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببني النضير قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك بما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمدًا على مثل هذه الحالة - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا إلى جانب دار من بيوتهم -، فقالوا: مَن يعلو هذا الجدار فيرمي عليه صخرة فيقتله ونستريح منه، فانتدب لذلك عمرو بن جِحَاشٍ، فقال سلَّام بن مِشْكَم: لا تفعلوا فوالله ليُخْبرَنَّ بما قد عزمتم عليه، وأخذ عمرو الصخرة وعلا على الجدار، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخَبرُ من السماء، فقام من مكانه، وعاد إلى المدينة وأخبر أصحابه بما عزموا عليه، وتهيأ لحربهم، وكانت منازلهم بناحيةِ الغَرْسِ وما والاها، مقبرة بني خَطْمةَ اليوم، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم يوم السبت في ربيع الأول، وحمل لواءه علي - رضي الله عنه -، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مَكتوم وسار في المهاجرين والأنصار، فتحصَّنوا بالحصون، ورَمَوه بالنَّبْل والحجارة، فقاتلهم، وقطع نخلهم وحَرَّق، ثم أرسل إليهم محمَّد بن مسلمة يقول: قد نقضتم العهد، وهممتم بالغدر، فأخرجوا من بلادي ولا تساكنوني أبدًا. فلما بلّغ محمد الرسالة قالوا: يا محمَّد، ما ظننا أن يجيئنا بمثل هذه الرسالة رجل ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9733)، وأبو داود (3004)، والبيهقي في "الدلائل" 3/ 176.

من الأوس، فقال محمَّد: محا الإِسلام العهود وغيَّر القُلوبَ، فقالوا: نعم نتحمَّل إلى غير هذه البلاد. فأرسل إليهم عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول: لا تخرجوا فإنَّ معي من العرب ومن قومي ألفين، وأنا واصلٌ إليكم وداخل معكم حصونكم، وقُرَيْظة داخلون معي. وبلغ ذلك كعب بن أسيد صاحب عهد بني قريظة، فقال: لا والله لا ينقض العهد رجل من قريظة وأنا حي، فقال سلام بن مِشْكَم لحُيَيّ بن أخطب: يا حُيي، اِقْبل ما قال محمَّد، فأبى عليه وقال: لا ندع ديارنا وأموالنا، فاصنع ما بدا لك، فرجع محمَّد بن مسلمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر، فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبر المسلمون، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، وقيل: ست ليال، ثم خذلهم حُلفاؤهم بنو غطفان وعبد الله بن أُبَيّ بن سلول، فيئسوا من النصر، فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه الصُّلح على حَقْن دمائهم وله الحَلْقَةُ والمالُ، وأن يُسَيِّرهم إلى أذْرِعاتِ الشامِ، ويجعلَ لكل ثلاثةٍ منهم بعيرًا (¬1). وقال الزهري: إنما صالحهم على ما أقلَّتِ الإبل من شيء إلا الحَلْقة، فخرج رؤساؤهم إلى خيبر وهم: حيي وجُدَيٌّ وأبو ياسر ومالك بنو الأخطب، وسلاّم بن مِشْكَم، وكنانة بن الربيع، وسلام بن أبي الحُقَيْق، فأقاموا بخيبر، وتوجه الباقون إلى أذرعات الشام (¬2). قال ابن إسحاق: وكانت أموال بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها في المهاجرين الأولين دون الأنصار إلَّا سهلَ بنَ حُنَيْف، وأبا دُجانة سِماكَ بنَ خَرَشَة، والحارثَ بن الصَّمة، فإنهم شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرًا وفاقة، فأعطاهم منها, ولم يُسلم من بني النضير سوى يامينِ بنِ عُمَيْر بن كعب وأبي سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما (¬3). وكان في أموال بني النضير خمسون دِرعًا، وخمسون بيضة، وثلاث مئة وأربعون ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 364 - 375. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 554. (¬3) "السيرة" 2/ 192، و"تاريخ الطبري" 2/ 554 - 555.

غزاة بدر الصغرى للموعد

سيفًا، ولم يخمِّسها ولم يقسمها، وكانت حُبْسًا لنوائبه، ونفقة أهله سنة، وما فَضَلَ جعله في سبيل الله (¬1). قال ابن الكلبي: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها تبرعًا أبا بكر بئر حجر، وعمر بئر جرم، والزبير البُويرة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي حَزْنًا (¬2). وحَزنَ المنافقون وابنُ أُبي عليهم حُزْنًا كثيرًا. قال عكرمة: ولما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم وجدهم يبكون وينوحون على سيدهم كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمَّد، واعية على أثر واعية، وباكية على أثر باكية؟ قال: "نعم أنتم قومٌ غُدُر فُجُر". فقالوا: ذَرْنا نبكي شَجْوَنا، ثم ائتمر بأمرك، فقال: "اخرجوا من جواري"، فقالوا: الموت أهون علينا من فراق أوطاننا وأموالنا، وتَنادَوا بالحرب، ودربوا الأزقة وحصَّنوها، وقاتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم صالحوه ونزلوا على حكمه كما ذكرنا. وأنزل الله تعالى سورة الحشر بأسرها في بني النَّضير. غزاة بدر الصغرى للموعد (¬3) خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في شعبان، وقيل: في شوال، لموعد أبي سفيان في ألف وخمس مئة من المسلمين، وعشرة أفراس، وسلاحٍ كثيرٍ وعدة. وخرج أبو سفيان من مكة في ألفين ومعه خمسون فرسًا، فبلغ عُسْفان، وقيل: مَجَنَّة، وقيل: مَرَّ الظهران. وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر ينتظر أبا سفيان، فمر به مَخْشيُّ بن عمرو الضَّمري، فقال ¬

_ (¬1) "المغازي" 1/ 377 - 378. (¬2) النص في "الطبقات" 2/ 55: فكان ممن أعطى ممن سُمي لنا من المهاجرين أبو بكر الصديق بئر حجر، وعمر بن الخطاب بئر جرم، وعبد الرحمن بن عوف سوالة، وصهيب بن سنان الضراطة، والزبير بن العوام وأبو سلمة بن عبد الأسد البويلة، وسهل بن حنيف وأبو دجانة مالًا يقال له مال ابن خرشة. وانظر "المغازي" 1/ 379 - 380، وليس فيه ذكر عبد الله بن عبد الله بن أبي. (¬3) "السيرة" 2/ 209، و"المغازي" 1/ 384، و"الطبقات الكبرى" 2/ 55، و"أنساب الأشراف" 1/ 404، و"تاريخ الطبري" 2/ 559، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 384، و"المنتظم" 3/ 204، و"البداية والنهاية" 4/ 87.

له: يا محمَّد، أجئت للقاء قريش؟ قال: "نَعَم، وإن شِئتَ يا أخَا ضَمْرةَ رَدَدْنا إليك ما كانَ بينَنَا وبينَكَ، ثم جَالدْناكَ حتى يَحكُمَ اللهُ بينَنا وبينَكَ" فقال: لا والله يا محمَّد ما لي بذلك من حاجة (¬1). وقال الواقدي: كانت هذه الغزاة في ذي القعدة، وكان نُعيم بن مسعود قد اعتمر، فلما قدم مكة للعمرة، قال له أبو سفيان: من أين؟ قال: من يثرب قال: هل رأيت لمحمد حركة؟ قال: نعم تركته على تعبئة لغزوكم، وذلك قبل أن يسلم نُعَيْم. فقال له أبو سفيان: ونحن قاصدوه. ثم خرج إلى مَرِّ الظهران، وقال لنعيم: هل لك في عشر قلائص يضمنها لك عني سُهيل بن عمرو، وترجعَ إلى يثرب فتُثَبَّطَهم عنا، فإن هذا عامُ جَدْبٍ ولا يُصْلِحُنا إلا عامٌ غَيْداق - أي: خصيب - فرجع نُعيم إلى المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عزم الخروج، فجعل يُثَبِّط الناس: ألم يُجْرَحْ محمدٌ في نفسه؟ ألم يُقْتَل أصحابُه، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والذي نفسي بيده لو لم يخرج معي أحد، لخرجت بنفسي". ثم خرج وخرج معه المسلمون، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وحمل لواءه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وخرج التجار بتجاراتهم، وكان بدر سوقًا يقام في كل سنة، ولما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا، وبلغ أبا سفيان، ألقى الله في قلبه الرعب وقال: كانوا يوم أُحد شِرْذِمةً يسيرة وقد جاؤونا بالحد والحديد. فرجع إلى مكة (¬2)، وأنزل الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151] الآية، وأنزل الله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] الآية. وفيها: ولد الحسين بن علي - رضي الله عنه - (¬3)، لخمس ليال خَلَوْنَ من شعبان، وكان بين عُلوقِ فاطمةَ - عليها السلام - بالحسين - عليه السلام - ومولد الحسن - عليه السلام - خَمسون يومًا، وأذَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أُذُنِه وعَقَّ عنه، كما فعل بالحسن - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 210. (¬2) "المغازي" 1/ 385 - 388. (¬3) انظر "الطبقات" 6/ 399، و"تاريخ الطبري" 2/ 555، و"المنتظم" 3/ 204، و"البداية والنهاية" 4/ 90.

قالت أم الفضل: قلت: يا رسولَ الله، رأيتُ في منامي كأن في حِجْري عضوًا من أعضائك، قال: "تَلِدُ فاطمةُ إنْ شَاءَ اللهُ غُلامًا فَتَكفلينَهُ"، فولدت حسينًا، فدفعته إليها، فأرضعته بلبن قُثَمٍ. قالت: فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - أَزورُه، فأخذه فوضعه في حِجْره، فبال فأصاب إزاره، فقلت بيدي بين كتفيه، فقال: "أَوجَعْتِ ابْني أَصلَحَكِ اللهُ". فقلتُ: أَعطِني إزارك أغسِلْه، فقال: "إنَّما يُغسَلُ بَولُ الجارِيَة ويُصبُّ على بَولِ الغُلامِ". ثم دعا بماء فحدره عليه حَدْرًا (¬1). وفيها: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة - رضي الله عنها - (¬2)، واسمها هند بنت أبي أمية، ودخل بها في شوال، ولما انقضت عِدَّتُها، بعث إليها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: مرحبًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبرسوله، أَخْبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَني امرأةٌ غَيْرى وأَني مُصْبِيَةٌ، وأَنه ليس أحدٌ من أوليائي شاهدًا، فبعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما قولك: إنك مُصْبِية، فإن الله سيكفيك صبيانك، وأما قولك: إني غيرى، فسأدعو الله أن يذهب غَيْرتك، وأما الأولياء، فليس منهم أحد شاهد أو غائب إلا سيرضى بي" فقال (¬3): يا عمر، قم فزوِّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزوَّجه. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا إنِّي لم أَنقُصكِ عمَّا أَعطَيتُ فُلانةً" - وكان قد أعطى فلانة، جَرَّتينِ تضعُ فيهما حاجتها، ورَحًى، ووِسادةَّ مَن أَدَمٍ حشوها لِيفٌ - ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقد أخرج مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَا مِن مُسلِمٍ تُصيبهُ مُصيبَةٌ، فيقولُ ما أَمَرَ اللهُ به: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهمَّ أجُرْني في مُصيبَتِي واخلُفْ لي خَيرًا مِنها، إلا أَخلَفَ اللهُ عليه خَيرًا منها، وآجَرَه في مُصيبَتِهِ". قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمينَ خيرٌ من أبي سلمةَ، أَوَّلُ بيت هاجَرَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إني قلْتُها، فأَخلَفَ الله لي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (26875). (¬2) "تاريخ الطبري" 2/ 561، و"المنتظم" 3/ 206، و"البداية والنهاية" 4/ 90. (¬3) في "المسند": قلت. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (26669). (¬5) صحيح مسلم (918).

زينب بنت خزيمة

وفيها: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود (¬1)، وقال: "إنِّي لا آمنُهُم على كِتَابي" (¬2). فتعلمه زيد في خمس عشرة ليلة. وفيها: رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهوديَّيْن في ذي القعدة. عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ اليهودَ جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن رجلًا وامرأةً منهم زنيا، فقال: "مَا تَجِدونَ في التَّوراةِ في شَأْنِ الرَّجْمِ" قالوا: نفضحُهم ويُجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتُم إنَّ فيها الرَّجم، فأَتَوْا بالتَّوراةِ فَنشروها، فَوَضع أحدُهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال ابن سلام: ارفع يدك، فرفعها فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمَّد، فأمر بهما فرُجما، قال ابن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأةِ يقيها الحجارة. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). وفيها: كانت قصة طُعمة بن أُبَيْرِق (¬4). فصل وفيها توفيت زينب بنت خُزَيْمة ابن الحارث بن عبد الله الهلالية أخت ميمونة لأمها، في ربيع الآخر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها في رمضان سنة ثلاث، وصلى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودُفِنت في البقيع، ولم يمت عنده - صلى الله عليه وسلم - من نسائه رضي الله عنهن إلا خديجةُ رضوان الله عليها، وزينب (¬5) - رضي الله عنها -. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 2/ 561، و"المنتظم" 3/ 206. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (21618) من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البخاري (3635)، ومسلم (1699). (¬4) انظر "المنتظم" 3/ 206، وقصته أنه سرق درعًا لعبادة بن النعمان، وكان الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب , ثم خبأها عند رجل من اليهود، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده وحلف: مالي بها علم، فنظروا في أثر الدقيق فانتهوا إلى منزل اليهودي، فقالوا له، فقال: دفعها إلى طعمة، فقال قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنجادل عن صاحبنا، فهم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فنزل قوله: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. وانظر "أسباب النزول" للواحدي ص 172 - 173. (¬5) "الطبقات الكبرى" 10/ 111، "تاريخ الطبري" 2/ 545، و"المنتظم" 3/ 210، و"البداية والنهاية" 4/ 90، و"الإصابة" 4/ 315.

أبو سلمة

أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأمه: بَرَّةُ بنت عبد المطلب بن هاشم عمةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين. أسلم قديمًا قبل أن يدخلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، ومعه زوجته أم سلمة - رضي الله عنها -، ثم قدم مكة وهاجر إلى المدينة، وهو أول من هاجر إليها، قدمها لعشر خَلَوْنَ من المحرم، وقَدِمَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول. وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن خَيْثمةَ، وشهد أبو سلمة بدرًا وأحدًا، وجُرح يوم أُحد، رماه أبو أُسامةَ الجُشَمي بسهم في عَضُدِه، فأقام شهرًا يداويه حتى برئ. ثم بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة إلى بني أسد بقَطَنٍ - جبلٍ لهم - في المحرم، فغاب بضع عشرة ليلة، ثم قدم المدينة، فانتقض جرحه فمات في جمادى الآخرة، فأغمضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عند موته: اللهمَّ اخلفني في أهلي بخير (¬1). فخَلَفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وصارت أمُّ سلمة - رضي الله عنها - أمَّ المؤمنين، وصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَبيبَ أولاده. وأخرج مسلم عن أم سلمة قالت: دخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شَقَّ بصرُه، فأَغمَضَه، ثم قال: "إنَّ الرُّوحَ إذا قُبضَ تَبعَهُ البَصَرُ" فضجَّ ناسٌ من أهله، فقال: "لا تَدعوا على أَنفُسِكُم إلَّا بخَيْرٍ، فإنَّ الملائِكَةَ يُؤَمِّنونَ على ما تَقُولونَ"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ اغْفِرْ لأَبي سَلَمةَ، وارْفَعْ دَرَجتَه في المَهْدِيينَ، واخْلُفْه في عَقِبِه في الغابِرينَ، واغْفرْ لنَا وله يا رَبَّ العَالَمِينَ، وافْسَحْ له في قَبرِهِ ونَوِّر له فيه" (¬3). وكان لأبي سلمة من الولد: عمر، وزينب، ودُرَّة، وأم كلثوم، وسلمة. ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 220، و"المنتظم" 3/ 211، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 150، و"البداية والنهاية" 4/ 89، و"الإصابة" 2/ 335. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (26669) ضمن حديث طويل. (¬3) صحيح مسلم (920).

عبد الله بن عثمان

عبد الله بن عثمان ابن عفان (¬1) رضوان الله عليه من رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نقره ديك في عينه فمات وهو ابن ست سنين، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل عثمان - رضي الله عنه - في قبره. فاطمة بنت أسد (¬2) ابن هاشم بن عبد مناف، والدة علي - عليه السلام -، وأمها: فاطمة بنت هَرِم بن رواحة، من ولد عامر بن لؤي، وتلقب: بحُبّى، وأمها: خديجة (¬3) بنت وهب بن ثعلبة من بني فهر، وأمها: فاطمة بنت عبد بن معبد بن عمرو بن بَغيض (¬4) بن عامر بن لؤي، وأمها: سلمة (¬5) بنت عامر بن ربيعة بن هلال، من فهر، وأمها: عاتكة بنت أبي همهمة من فهر، وأمها: تماضر بنت أبي عمرو بن عبد مناف، وأمها: حبيبة، وهي: أمة الله بنت عبد يا ليل ثقفية، وأمها: حُبَّى بنت الحارث بن النابغة من هوازن. وفاطمة بنت أسد أول امرأة هاشمية تزوجت هاشميًا، وأول من بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النساء بعد خديجة، وأول هاشمية ولدت خليفة هاشميًا. وقال بريدة: سمعت فاطمةُ بنت أسد رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُحشَرُ النَّاس يومَ القِيامةِ عُراةً"، فقالت: واسوأتاه، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّي أَسأَلُ الله أَن يَبعَثَكِ كاسِيَةً". قال: وسمعته يذكر ضَغطةَ القبر، فقالت: واضعفاه، فقال: "إنِّي أَسأَلُ الله أَنْ يَكفِيَكِ ذَاكَ". وكانت صالحة تنقل الماء إلى بيت فاطمة - عليها السلام -، وتذهب للحاجة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها ويقيلُ في بيتها, ولما توفيت ألبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 2/ 555، و"المنتظم" 3/ 210، و"البداية والنهاية" 4/ 89، و"الإصابة" 3/ 62. (¬2) "الطبقات الكبرى" 10/ 51 و 211، و"المنتظم" 3/ 213، و "سير أعلام النبلاء" 2/ 118، و"الإصابة" 4/ 380. (¬3) في المحبر 16: جدية. (¬4) في المحبر 16: فاطمة بنت عبيد بن منقذ بن عمرو بن معيص. (¬5) في المحبر: سلمى.

قميصه، واضطجع معها في قبرها، فقال له أصحابه: ما رأيناك صنعتَ بأحد مثل ما صنعتَ بهذه؟ فقال: "إنَّه لم يَكُن بعدَ أبي طالبٍ أَحدٌ أبرَّ بي منها، وإِنَّما أَلْبَستُها قَميصِي لِتُكسَى مِن حُلَلِ الجنَّةِ، وإنَّما اضطَجَعتُ مَعَها لِيُهوِّنَ اللهُ عليها ضَغْطَةَ القَبرِ" (¬1). ودفنت بالبقيع إلى جانب رُقية - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6935) من حديث ابن عباس، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 257 وقال: وفيه سعدان بن الوليد ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وقال الذهبي في "السير" 2/ 118: غريب.

السنة الخامسة من الهجرة

السنة الخامسة من الهجرة فيها كانت غزاةُ ذات الرِّقاع على خلاف في ذلك (¬1)، غزا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - نَجدًا يريد بني مُحارب وغَطَفان، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬2)، وتقارب الناس للقتال، ولم يَجْرِ بينهم حرب، وغاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة خمس عشرة. وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزاة ونحن ستةُ نفر بيننا بعير نَعْتَقِبُه، قال: فَنَقِبَت أقدامُنا، وسقطت أظفاري، فكنا نَلُفُّ الخِرَق على أقدامنا وأرجلنا، فَسُمّيت غزاةَ ذاتِ الرقاع لما كنا به نَعْصب على أرجلنا من الخرق. قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك وقال: وما كنت أصنع بأن أذكره، كأنه كره أن يفشي شيئًا من عمله (¬3). لأن عمل السر أفضل من عمل العلانية. قال المصنف رحمه الله: هذا الحديث يدل على أن غزاة ذات الرقاع كانت بعد خيبر, لأن أبا موسى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر. وكذا روى ابن إسحاق القصة عن أبي هريرة، وأبو هريرة إنما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر (¬4). ¬

_ (¬1) اختلف في زمنها، فمن ذكرها في سنة أربع ابن هشام في "السيرة" 2/ 203، والطبري في "تاريخه" 2/ 555، والذهبي في "السيرة" 1/ 457، وابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 83. وذكر الواقدي في "المغازي" 1/ 395، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 57، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 405، وابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 214 أنها في سنة خمس. وذكر البخاري في باب غزوة ذات الرقاع قبل (4125) أنها بعد خيبر. (¬2) ويقال: أبا ذر الغفاري "السيرة" 2/ 203. (¬3) أخرجه البخاري (4128)، ومسلم (1816). (¬4) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 556. وقال البيهقي في "الدلائل" 3/ 372: وروينا عن الواقدي في الغزوة التي غزاها محاربًا وبني ثعلبة أنها سميت ذات الرقاع لأنه جبل كان فيه بقع حمرة وسواد وبياض، فإن كان الواقدي حفظ ذلك فيشبه أن تكون الغزوة التي شهدها أبو موسى وأبو هريرة وعبد الله بن عمر غير هذه والله أعلم. وانظر "فتح الباري" 7/ 417.

وفي هذه الغزاة صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، وفي هذه الغزاة نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] الآية. قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ نجد، فلما قَفل ومعه الناس أدركتهم القَيلُولة في وادٍ كثير العِضَاهِ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة وعلَّقَ سيفَه بغُصْنٍ من أغصانها، وتفرق الناس يَستظلون بالشجر، قال: فنمنا نومةً، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، فجئناه وعنده أعرابي، فقال: "إنَّ هذا أَتَاني وأَنَا نَائمٌ فاخْتَرَطَ سَيفِي، وهو قَائمٌ على رَأسي والسَّيفُ بيدِهِ صَلتًا، قال: مَن يَمنَعُكَ منَّي؟ قلت: الله، فَشَامَ السَّيفَ". أي: أعاده إلى جفنه، قال جابر: فلم يَعرِض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبه (¬1). وفيه: فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف من يد الرجل، وقال: "مَن يَمنَعُك منَّي"؟ فقال الرجل: كُن خَيْرَ آخذٍ، فقال: "أَتَشهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلا اللهُ، وأَنَّي رسولُ اللهِ". قال: لا، ولكن أُعاهِدُك على أن لا أُقاتِلَك، ولا أكونَ مع من يقاتلُك فخلّى سبيله، فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس (¬2). وفيها: كانت غزاةُ دُومَةِ الجَنْدَل (¬3)، وهي أرض فيها زرع ونخل وعيون، ولها مدينة وحصنٌ منيعٌ يدعى ماردًا، ويقال في المثل: تمرَّد ماردٌ وعزَّ الأَبلق (¬4). وهي أول غزاة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام، خرج إليها على رأس تسعة وأربعين شهرًا من مُهاجَرِه، واستخلف على المدينة سِباعَ بنَ عُرْفُطةَ الغِفاري، وكان قد بلغه أن بها جمعًا من الأعراب، فكان يَكمُن نهارًا ويسير ليلاً، ومعه دليل من بني [عُذرة يقال له: ] (¬5) مذكور، فهجم عليهم فهربوا، فأخذ رِجالًا، منهم فأسلم بعضهم، ورجع إلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2913)، ومسلم (843). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (14929) وفيه صلاة الخوف، وقد جمع المصنف هنا بين حديثين. (¬3) انظر "السيرة" 2/ 213، و"المغازي" 1/ 402، "الطبقات الكبرى" 2/ 58، و"أنساب الأشراف" 1/ 406، و"تاريخ الطبري" 2/ 564، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 389، و"المنتظم" 3/ 215، و"البداية والنهاية" 4/ 93. (¬4) والأبلق حصن للسموءل بن عادياء قصدته الزباء هو وماردًا فلم تقدر عليهما فقالت: تمرد مارد وعز الأبلق، فذهب مثلًا. "مجمع الأمثال" 1/ 126. (¬5) ما بين معقوفين زيادة من "الطبقات" 2/ 59.

المدينة ولم يلق كَيدًا. وفي هذه الغزاة وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُيَيْنةَ بنَ حِصْن الفَزاري على أن يكفَّ عنه ويرعى بتَغْلَمَيْن إلى المَراضِ من أرض الحجاز، وذلك لأن بلادَ عُيَيْنة أجدبت، وأخصبت تغلَمَيْنِ والمَراضُ لسحابةٍ وقعت فيها، فوادعه على أن يرعى هناك. وفيها: قدم وفد مُزَيْنَة (¬1) في رجب في أربع مئة، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم الهجرة في دارهم، وقال: "أَنتُم مُهاجِرُونَ حيثُ ما كُنتُم" (¬2). فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم. وأجدبت مكة في هذه السنة، فبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالًا فقبلوه (¬3). وفيها: كانت غزاة المُرَيْسِيع (¬4)، ويقال لها: غزاة بني المُصطَلِق، في شعبان، وكان الحارث بن أبي ضِرار سيدُ بني المصطلق قد جمع لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بُرَيْدة بنَ الحُصَيْبِ الأسلمي ليَعْلم له خبر القوم، فأتاهم فلقي الحارث، ورجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبَره، فخرج من المدينة لليلتين خلتا من شعبان في المهاجرين والأنصار وكثيرٍ من المنافقين فيهم عبد الله بن أبي، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة (¬5) وكان معه ثلاثون فرسًا، وبلغ الحارثَ فخاف، وتفرق عنه من كان معه من الأعراب. وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُريسيع ومعه عائشة وأم سلمة - رضي الله عنها -، وكان تحته فرسُه ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 252، و"المنتظم" 3/ 217، و"البداية والنهاية" 5/ 41. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 252 وورد الحديث في قصة أخرى عن سلمة بن الأكوع قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ابدوا يا أسلم، فتنسموا الرياح، واسكنوا الشعاب" فقالوا: إنا نخاف يا رسول الله أن يضرنا ذلك في هجرتنا قال: "أنتم مهاجرون حيث كنتم". أخرجه أحمد (16553). (¬3) انظر "المنتظم" 3/ 216. (¬4) اختلف في زمن هذه الغزوة، فذكرها الواقدي في "المغازي" 1/ 404، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 59، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 407، وابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 218 في السنة الخامسة، ورجحه في "الفتح" 7/ 430. وذكرها ابن إسحاق "السيرة" 2/ 289، والطبري في "تاريخه" 2/ 604، وابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 156 في سنة ست، وانظر "فتح الباري" 7/ 430. (¬5) ويقال: استعمل عليها أبا ذر الغفاري، انظر "السيرة" 2/ 289.

لِزاز، ودفع رايةَ المهاجرين إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، ورايةَ الأنصار إلى سعد بن عُبادة، وثبت الحارث في قومه واصطفُّوا للقتال، وترامَوْا بالنبل ساعة، ثم حمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فانهزم الحارث، وقُتِلَ من أصحابه عَشرةٌ، وسبى المسلمون مئتي أهل بيت من الرجال والنساء والذُّرَّيَّة، وأخذوا من الإبل ألفي بعير، ومن الشاة خمسة آلاف. قال ابن عمر: أغار عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم غارُّون، فقتل وسبى وقدم بالسبي إلى المدينة، وكان في السَّبي جُوَيْرية بنت الحارث سيد القوم (¬1)، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شَمَّاس وابن عمه فكاتباها على تِسْعِ أواقٍ. قالت عائشة: وكانت امرأةً حُلْوةً لا يكاد أحد أن يراها إلا أخذت بنفسه، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندي إذ دخلت عليه جُويرية تسأله عن كتابتها، فوالله ما هو إلا أن رأيتُها فكرهتُ دخولَها عليه، وعرفت أنه سيرى منها الذي رأيتُ، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث سيدِ القوم، وقد أصابني من الأمر ما قد علمتَ، فوقعتُ في سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عمه فكاتباني فأعنيّ في كتابتي، فقال: "أَوَ خَيْرٌ من ذلك"؟ قالت: وما هو؟ قال: "أُؤدِّي عنكِ كِتَابتَكِ وأَتَزوَّجُكِ". قالت: نعم. قال: "قَد فَعَلتُ". وخرج الخَبرُ إلى الناس، فقالوا: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسْتَرَقُّون. فأعتق الناس ما كان بأيديهم من نساء بني المصطلق، فبلغ عتقهم مئة بيت بتزويجه إياها، قالت عائشة: فلا أعلم امرأة أعظم بركة منها على قومها (¬2)، وجعل عِتقَها صَداقَها. وكان اسمها بَرَّة فغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجويرية (¬3). وفي هذه الغزاة قال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذَلَّ. وسبب ذلك: ازدحم الناس على الماء، ومع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جَهْجاه الغِفاري يقود فرس ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2541)، ومسلم (1730)، وانظر "الطبقات الكبرى" 2/ 60. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (26365). (¬3) أخرجه مسلم (2140) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

عمر، فزحمه رجل من الأنصار يقال له: سِنان الجُهَني حليف الخزرج، فاقتتلا على الماء، فصرخ الجهني: يا معاشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معاشر المهاجرين، فأعانه رجل من المهاجرين يقال له: جُعال وكان فقيرًا، فقال له عبد الله بن أُبي بن سَلول: وإنك لهناك؟ ! فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك؟ ! واشتد لسان جُعال على ابن أُبي، فغضب ابن أبي وقال: والذي يُحلَف به لأُرِيَنَّك غير هذا، وعند عبد الله رهط من قومه منهم: زيد بن أرقم وكان غلامًا حَدَثًا، وقال ابن أبي: أَوَقد فعلوها، قد نافرونا في بلادنا وكاثرونا، والله ما مَثَلُنا ومَثَلُهم إلا كما قال القائل: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، أما والله، أما والله، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وعنى بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زاده فضلًا وَشرفًا وعزة وتعظيمًا. ثم أقبل على قومه وقال: ما فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جُعالٍ وذويه فضلَ طعامكم يركبوا رقابكم، ولأَوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم، فلا تنفقوها عليهم حتى ينفضوا مِنْ حَوْلِ محمَّد. فقال له زيد بن أرقم: أنت والله الذليلُ الحقيرُ القليل المُبْغَضُ إلى قومك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عِزًّ من الرحمن ومودةٍ من المؤمنين، والله لا أحبك أبدًا، فقال له عبد الله: اسكت، فإنما كُنْتُ أَلْعَبُ. وجاء زيد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، وذلك بعد فراغه من الغزو وعنده عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عُنُقَ هذا المنافق، فقال: "إذًا تَرعُفُ له آنُفٌ كَثيرةٌ بيثرب"، فقال له عمر: فإن كرهتَ يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر سعد بن معاذ أو محمَّد بن مَسْلَمةَ فليقتلوه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتُريدُ يا عمرُ، أَن يَتَحدَّثَ النَّاسُ أنَّ محمدًا يَقتُلُ أَصحابَهُ، ولَكِنْ أذَّنْ بالرَّحيلِ" وذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها، فارتحل الناس وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد الله بن أبي فأتاه، فقال له: "أَنتَ صاحِبُ الكلامِ الذي بلغَني عَنكَ"؟ فقال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتابَ ما قلتُ شيئًا من ذلك، ولقد كذب زيدٌ. وكان عبد الله شريفًا في قومه عظيمًا، فقال مَن حضر من الأنصار: يا رسول الله، شيخُنا وكبيرُنا، تُصَدَّقُ كلامَ غُلامٍ من غِلْمان الأنصار؟ ! عسى أن يكون هذا الغلامُ

وَهِمَ في الحديث، فعذره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذَّبوه، وقال له عمر - وكان زيد معه -: ما أردتَ إلا أن كَذَّبك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والناسُ، ومَقَتوك. وكان زيدٌ يسايرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستحيى بعد ذلك أن يدنوَ منه، فلما استقل سائرًا لقيه أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ فسلَّم عليه، وقال: يا رسول الله، لقد رُحتَ في ساعة مُنكَرة ما كنتَ تروح فيها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ ما بَلغَكَ ما قالَ صاحبُكُم ابنُ أُبَيٍّ؟ ". قال: وما قال؟ قال: "زَعَم أَنَّه إذا رَجَع إلى المَدينَةِ يُخرِجُ الأَعَزُّ منها الأَذَلَّ". فقال أسيد: أنت والله تخرجه إن شِئتَ، هو والله الذليلُ وأنت الأعزُّ، ثم قال: يا رسول الله، اِرْفِقْ بهِ، فوالله لقد جاء اللهُ بِك، وإن قومه ليَنْظِمون له الخَرز لِيُتَوِّجوه، فهو يرى أنك سلبته ملكًا (¬1). وبلغ عبدَ الله بنَ عبدِ الله بن أُبيّ ما كان من أمر أبيه، فقال: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتلَ عبدِ الله بن أُبَيّ لِما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني لأحملَ إليك رأسه، فواللهِ لقد عَلِمَتِ الخزرجُ ما كان بها رجلٌ أَبرُّ بوالديه مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتلَه، فلا تطيبُ نفسي أن انظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار، وكان عبد الله بن عبد الله رجلًا مؤمنًا صَالحًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَرَفَّقْ به، وأَحْسِنْ صُحبتَهُ ونحن كذلك ما بقي معنا" (¬2). وسار بهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَهم ذلك حتى آذتهم الشمسُ، فنزل، فما هو إلا أن وجدوا مسَّ الأرضِ وقعوا نِيامًا، وإنما فعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ليشغَلَ الناسَ عن الحديث الذي جرى من ابن أبي. ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النَّقيع يقال لها: بَقعاء، فهاجت ريح شديدة فآذتهم وتخوَّفوا منها، وضلَّت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَخافُوا الرِّيحَ، فإنَّما هَاجَت لِمَوتِ عَظيمٍ من الكفَّار بالمدينة"، فقيل: من هو؟ قال: "رِفاعة بن التابوت"، فقال رجل من المنافقين: يزعمُ أنه يعلم الغيب ولا يعلمُ مكانَ ناقته، فأتاه جبريل - عليه السلام - فأخبره بقول المنافق وبمكان ناقته، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 290 - 292. (¬2) "السيرة" 2/ 293.

أصحابَه، وقال: "ما أَعلَمُ الغَيبَ ولكِنَّ الله أخْبَرني أنَّ النَّاقَةَ في شِعْبِ كَذا وكَذا، قد تَعلَّقَ زِمامُها بشَجَرةٍ". فذهبوا إلى الشعب فوجدوها كذلك. ولما قَدِموا المدينة وجدوا رِفاعةَ بنَ التابوت - وكان من عظماء اليهود وكَهْفَ المنافقين - قد مات في ذلك اليوم (¬1). ولما قَرُبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وجاء عبد الله بن أبي ليدخُلَها جاء ابنه عبد الله فأَناخَ على مجامع طريق المدينة وصاح بأبيه: وراءك، فقال: مالك ويلك؟ فقال: لا والله لا تدخُلُها أبدًا إلا بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولَيُعْلَمَنَّ اليومَ منِ الأعزُّ مِنَ الأذلِّ. فجاء عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه ما صنع به ابنُه، فأرسل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ابنه يقول: "خَلِّ عنه". فقال: أَمّا إذا جاء أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَعَم، فدخل (¬2). فقال زيد بن أرقم: فجلستُ في بيتي والله أعلم ما بي من الهمِّ والحُزن والحَياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، فأنزل الله تعالى في تصديق زيد وتكذيب ابن أبي سورة المنافقين، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذن زيد وقال: "يَا زَيدُ، إنَّ اللهَ قد صَدقكَ وأَوْفى بأُذُنِكَ" (¬3). ولما نزلت هذه الآياتُ، قيل لعبد الله: يا أبا حُباب، قد أنزل الله فيك آياتٍ شِدادًا، فاذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفرْ لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أُؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أُعطيَ زكاةَ مالي فأعطيتُ، وما بقي إلا أن أسجدَ لمحمد. وأنزل الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} (¬4) [المنافقون: 5]. وجعل قومُ عبد الله يلومونه ويوبَّخونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضوان الله عليه: "وكيف ترى؟ أما والله لو قتلته يوم أشرتَ بقتله لَرعُفَت له أُنوفٌ لو أمرتُها اليوم بقتله لقتلته". فقال عمر: إن رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَعظَمُ بركةً من رأيي. ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 292. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 61. (¬3) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وأخرجه البخاري (4900) بلفظ: "إن الله قد صدقك يا زيد". (¬4) انظر "أسباب النزول" للواحدي ص 461.

وفي هذه الغزاة قتل رجلٌ من رهطِ سَعْدِ بن عُبادةَ هشامَ بنَ صُبابة من بني عامر خطأً, لأنَّه ظنَّه من المشركين، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، قدم أخوه مِقْيَسُ بنُ صُبابةَ من مكة، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، جئتك مُسْلِمًا وأريد دِيَةَ أخي، فأمر له بِدِيَتِهِ، وأقام بالمدينة أيامًا، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدًا وقال (¬1): [من الطويل] شَفَى النَّفسَ أن قد بات بالقاعِ مُسنَدًا ... تُضَرَّجُ ثَوْبَيْهِ دِماءُ الأَخادعِ وكانت همومُ النفس من قبل قتلهِ ... تُلِمُّ فتَحْميني وِطاءَ المضاجعِ حَلَلْتُ به وِتْري وأدركت ثُؤرَتي ... وكنت إلى الأوثانِ أَوَّلَ راجع وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قوله، فأهدرَ دمَه، وقُتِل يوم الفتح لِما نذكر. * * * وفي هذه الغزاة كان حديث الإفك، وحديثه في "الصحيحين" (¬2). قال الإِمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمر، عن الزُّهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيَّب وعروةُ بن الزبير وعلقمةُ بن أَبي وقَّاص وعبيدُ الله بن عبد الله بن عُتْبةَ بن مسعود عن حديث عائشة - رضي الله عنها - حين قال لها أهلُ الإفْكِ ما قالوا فبرَّأَها الله تعالى ممّا قالوا، قال الزهري: كلُّهم قد حدَّثني بطائفةٍ من حديثها، وبعضُهم ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 293. (¬2) وفي هذه الغزوة نزلت آية التيمم وقيل في غير هذه الغزوة، أخرج البخاري (334)، ومسلم (367) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناسُ معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة أقامت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ليسوا على ماء ليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فاصبنا العقد تحته. وانظر الاختلاف في وقت نزول التيمم في "فتح الباري" 1/ 434.

كان أوعى لحديثها من بعض، وبعضُ حديثهم يَصْدقُ بعضًا، ذكروا أنَّ عائشةَ قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَراد سَفَرًا أَقْرعَ بين نسائهِ، فأيَّتهُن خرج سهمُها خرج بها معه؛ قالت: فأقرع بينَنَا في غزاةٍ غَزاها، فخرج فيها سَهمي فخرجتُ معه، وذلك بعد ما أُنزِل الحِجابُ، وكُنتُ أُحملُ في هَوْدَجي وأنزل فيه أو وأُتْرَكُ فيه، حتى إذا فرغَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من غزوتهِ تِلك وقَفَلَ يريدُ المدينةَ ودَنَوْا منها، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمتُ ومشيتُ حتى جاوزتُ الجيشَ، فلمَّا قضيت شأني، أَقبلتُ إلى الرَّحْلِ فلمستُ صَدْري فإذا عِقْدٌ لي من جَزْعِ أَظفارٍ قد انقطع، فرجعتُ ألتِمِسُ عِقْدي فحبسني ابتغاؤه، وأَقبل الرَّهط الذين كانوا يَرْحَلونَ لي فاحتملوا هَودجي، فَرَحلوه على بعيري وهم يَحسَبُون أني فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يُهَبَّلْهُنَّ ولم يَغْشَهُنَّ اللحمُ ولم يَثْقُلْنَ، وإنما كُنَّ يأكُلْنَ العُلْقَةَ من الطعامِ، فلم يستنكرِ القومُ حين حملوا الهَودَج وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدتُ عِقدي بعد ما استمرَّ الجيشُ، فجئتُ منازِلَهم وليس فيها داعٍ ولا مجيب، فتَيمَّمتُ منزلي الذي كنتُ فيه وظننتُ أن القوم سَيفقدونني فيرجعُون إليَّ، فبينَا أَنا جالسةٌ غلبَتْني عينايَ فنمتُ، وكان صفوان بن المُعطَّل السُّلَمي - ثم الذَّكواني - قد عرَّس من وراء الجيش، فادَّلَج فأصبح عند منزلي، فَرَأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فأَتاني فعَرَفَني حين رآني، وقد كان يراني قَبْلَ أن يُضربَ الحجابُ، فاستيقظتُ باسْتِرجَاعِه حين عرَفَني، فخمَّرتُ وجهي بجلبابي، ووالله ما كلَّمني كلمةً ولا سمعتُ منه غيرَ اسْتِرجاعِه، وهَوَى حتى أناخ راحلته ووطئ على يدَيْها فركبتُها، وانطلقَ بي يقودُها حتى أتينا الجيشَ - أو فانطلق يقود بي راحلتَه حتى أَتينا الجيشَ - بعد ما نزلوا معرّسين أَو مُوغِرين في نَحْرِ الظَّهيرةِ. قالت: فهلك مَنْ هلك في شأني، وكان الذي تولَّى كِبْرَهُ منهم عبدُ الله بن أُبيِّ بن سَلول، وقدِمنا المدينةَ فاشتكيتُ بها شهرًا، والناسُ يُفيضون في قول أَهلِ الإفكِ، ولا أشعر بشيءٍ من ذلك، وقد يَريُبني في وجعي أَنَّي لا أرى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ فيقول: "كيفَ تِيكُم" ثم ينصرفُ، فذلك الذي يَريبني، ولا أشعر بالشرَّ حتى خرجتُ بعد ما نَقِهْتُ من مرضي، وخرجَتْ معي أُمُّ

مِسْطَح قِبَلَ المناصِعِ وهو مُتَبَرَّزُنا، وكنَّا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قَبلَ أن نَتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا من بيوتِنا. فانطلقتُ أنا وأُمُّ مِسْطَح - وهي ابنة أبي وُهْم بن المُصَّلب بن عبد مناف، وأُمها بنت صخر بن عامر، خالةُ أبي بكرٍ الصديق، وابنها مِسْطَح بن أُثاثة بن عبَّاد بن المطَّلب - وأَقبلنا قِبَل بيتي حين فَرَغنا من شأنِنا، فعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَح في مِرطِها فقالت: تَعِسَ مِسْطَح، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلتِ! أَتَسُبِّين رجلًا قد شهد بدرًا؟ فقالت: ألم تسمعي يا هَنَتاه ما قال؟ قلتُ: وما ذاك؟ فأخبرَتْني بقولِ أَهلِ الإفكِ، فازدَدْتُ مَرَضًا على مرضي، فلمّا رجعتُ إلى بيتي، دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيفَ تيكُم"؟ فقلت: أَتَأذَنُ لي أَن آتي أَبَوَيَّ؟ وأنا أُريدُ أن أتيقَّنَ الخبرَ منهما، فأذِنَ لي فجئتُ أَبويَّ فقلتُ لأُمي: يا أُمَّاه، ماذا يتحدَّثُ الناسُ؟ فقالت: يا بُنيَّةُ، هوِّني عليكِ، فوالله لقلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضيئة عند رجلٍ يحبُّها ولها ضرائر إلاّ أَكثرن عليها، فقلتُ: سُبحان الله، أَوَ قَدْ تحدَّث الناسُ بهذا؟ قالت: نعم. فبكيتُ ليلتي حتى أَصبحتُ، لا يَرْقَأُ لي دمعٌ ولا أكتَحِلُ بنومٍ , وأَصبحتُ أَبكي، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بنَ أَبي طالبٍ وأُسامةَ بن زَيدٍ حين استلبث الوحيُ يستشيرُهما في فِراق أَهله، فأما أُسامةُ فأشار عليه بما يعلمُ من براءة أَهله، وبالذي يعلمُ في نفسِه من الوُدَّ لهم وقال: يا رسولَ الله، هم أهلُك ولا نعلمُ إلا خَيْرًا، وأما علي فقال: لم يُضيّقِ الله عليكَ، النساءُ سواها كثير، وإن تسألِ الجاريةَ تَصْدُقْكَ، قالت: فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَرِيْرةَ وقال لها: "هَلْ رَأَيتِ من عَائشةَ ما يَريبُكِ"؟ فقالت: لا والذي بعثك بالحقِّ، إنْ رَأيتُ منها أَمرًا أغْمِصُه عليها أكثرَ من أنّها جاريةٌ حديثةُ السنَّ، تنامُ عن عجينِ أَهلها، فيأتي الدَّاجنُ فيأكلُه. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أُبيِّ فقال: "يَا مَعَاشرَ المُسلِمينَ، من يَعْذِرُني مِن رَجُلٍ قَد بَلَغَني أَذاهُ في أَهْلِي، وواللهِ مَا عَلِمتُ على أَهْلِي إلَّا خَيرًا، [ولَقَد ذَكَروا رَجَلًا مَا] كانَ يَدخُلُ على أَهْلِي إلَّا مَعي، ومَا عَلِمتُ عليه إلَّا خَيرًا" فقام سعد بن معاذ الأنصاري أحدُ بني عبد الأشهل فقال: يا رسولَ الله، أنا أُعذرك منه، إنْ كان من الأَوسِ، ضربنا عُنُقَه، وإن كان من إخواننا الخزرج، أَمَرْتنا

ففعلنا فيه أَمركَ، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلًا صالحًا، ولكن احتملته الحَميّةُ، وكانت أُم حسَّان بن ثابت بنتَ عمِّه من فَخذِه، فقال لسعدِ بن معاذ: لعَمْرُ الله لا تقتلُه ولا تقدرُ عليه، فقام أُسَيْد بن حُضَير وهو ابن عمّ سعد بن معاذ فقال لسعد بنُ عُبادة: كذبتَ لعَمْرُ اللهِ، إنَّك لمُنافقٌ تجادل عن المنافقين، فثار الحيّانِ: الأَوسُ والخزرجُ، حتى هَمُّوا أن يَقْتَتِلُوا، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ على المِنْبر، فلم يَزَل يُخفّضهم حتى سَكَتُوا وسكَتَ. قالت: وبكيت يومي وليلتي القابلةَ، لا يرقأُ لي دمعٌ ولا أَكتحلُ بنومٍ، وأَصبح عندي أَبواي، وأَنا أَظن البكاء قد فَلَق كبدي، فبينما هما جالسانِ عندي وأنا أبكي استأذَنَتْ عليّ امرأة من الأنصارِ فدخَلَت فجلَسَت تبكي معنا، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلَّم وجَلَس، ولم يكن يَجلِسُ عندي منذُ قِيلَ ما قِيل، وقد مَكَث شهرًا لا يُوحَى إليه في أَمري بشيءٍ، فتشهَّد حين جَلَس ثم قال: "أمَّا بَعدُ يَا عَائشةُ، فإنَه قد بَلَغَني عنكِ كَذا وكَذا، فإن كُنتِ بَريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كُنتِ ألمَمتِ - أو هَمَمتِ - بذَنبٍ فاستَغفِري اللهَ وتُوبي إليه، فَإِنَّ العبدَ إذا اعتَرَفَ بذنبٍ ثم تَابَ تَابَ اللهُ عليه". قالت: فلمّا قضى مقالته قَلَص دمعي حتى ما أُحِسُّ منه قَطرة، وقلت لأَبي: أَجبْ عنَّي، فقال: واللهِ لا أَدري ما أَقولُ، فقلت لأُمِّي: أَجيبي عني، فقالت كما قال أبي، فقلت - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ كثيرًا من القرآن -: والله قد عرفتُ أَنَّكم سمعتم بهذا حتى استقرَّ في نُفوسِكُم وصدَّقتُم به، ولئن قلتُ: إنَّي بريئةٌ - والله يعلمُ أَني بريئةٌ - ما تصدِّقوني، [ولئن اعترفت لكم بأمرٍ - واللهُ عَزَّ وَجَلَّ يعلم أني بريئةُ - تصدّقوني] وما أَجد لي ولكم مَثَلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] , ثم تحوَّلتُ واضطجعتُ على فراشي وأنا أعلم أن الله يُبرِّئني، ولكن ما كنتُ أَظُن أَن الله يُنزِلُ في شأني قُراَنًا أو وحيًا يُتلى، أَنا أَحقَرُ في نفسي من أَن يتكلَّمَ اللهُ فيَّ بقُرآنٍ يُتلى، وإنّما كنتُ أَرجو أن يُريَ اللهُ رسولَه في المنامِ رؤيا يبرّئني بها. قالت: فوالله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيتِ، حتى أَنزل الله على نبيه، فأَخذه ما كان يأخذُه من البُرَحاءِ عند الوحي، حتى إِنه ليتحدَّر منه مثلُ الجُمانِ من العَرَقِ في اليوم الشاتي من ثِقَلِ القول الذي أُنزل عليه.

قالت: فَسُرَّيَ عنه وهو يضحك، فكان أولُ كلمةٍ تكلَّم بها أَن قال: "يَا عَائشةُ، احمَدي الله وأَبشِرِي، فإنَّ الله قد برَّأَكِ" فقالت لي أُمي: قومي إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: لا أَقومُ إليه، ولا أَحمَدُ إِلا اللهَ الذي أَنزل براءتي من السماء. وأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] العشر آيات. قالت: وكان أَبو بكرٍ يُنْفِقُ على مِسْطَحٍ لِقَرابته منه وفقرِه، فقال: والله لا أُنفق عليه أبدًا بعد ما قال في عائشة، فأنزل الله {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] فقال أبو بكر: بلى، إني أُحبُّ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مِسْطَح ما كان يُجري عليه، وقال: والله لا أنزعُها عنه أَبدًا. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينبَ بنتَ جَحْشٍ عن أَمري فقال: يا زينبُ، ما رأيتِ؟ ما بلغَكِ؟ فقالت: يا رسول الله، أَحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلَّا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تُساميني من أَزواجه فعصمها الله بالورعِ، وطَفِقَت أُختُها حَمْنةُ بنت جحش تجادلها فهلكَت فيمن هلك من أَصحابِ الإفك. قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أَمرِ هؤلاء الرهط. أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وأَمَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحسّان بن ثابت وحمنةَ بنت جحش ومِسْطَح فضُربوا الحدَّ لأنهم الذين أشاعوا الفاحشة (¬2). وقال مسروق: دخلتُ على عائشة وعندها حسان بن ثابت يُنشدها وقد أَلقت له وسادةً بعد ما عمي: [من الطويل] حَصانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ ... وتُصبحُ غَرْثى من لُحومِ الغوافلِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25623)، والبخاري (4750)، ومسلم (2770)، وما بين معقوفين زيادة من مسند أحمد. قولها: يهبلن: من هبله اللحم إذا كنز عليه وركب بعضه بعضًا، و"العلقة": أي قدر ما يمسك الرمق. "عرس" أي: نزل آخر الليل. "فاستعذر من عبد الله" أي: طلب العذر من عقوبته، أي: بيَّن أنه إن عاقبه فهو معذور. "البرحاء" شدة الكرب. "الجمان": اللؤلؤ الصغار. (¬2) "السيرة" 2/ 302، وأخرجه أحمد في "مسنده" (24066) دون تصريح بأسمائهم من حديث عائشة قالت: لما نزل عذري، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم.

فقالت له عائشة: لكنك لستَ كذلك، فقلتُ لها: أَتأذنين لهذا أَن يدخُلَ عليك وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] فقالت: وأيُّ عذابٍ أَشدُّ من العمى، أليس قد ذهب بصره وكَسَعَ (¬1). وهذا البيت من أبياتٍ يعتذر بها حسان إلى عائشة هو أولها، وبعده (¬2): [من الطويل] حَليلَةُ خيرِ النَّاس دُنيا ومَنصِبا ... نبيُّ الهُدى والمَكْرُماتِ الفَواضِلِ (¬3) عقيلةُ حيٍّ من لؤيِّ بن غالبٍ ... كرامِ المساعي مجدُهم غيرُ زائلِ مهذَّبةٌ قد طيَّب الله ذكرها ... وطهَّرها من كل شرٍّ وباطلِ (¬4) فإن كان ما قد قيل عَنِّيَ قلتُه ... فلا رفَعَت سوطي إليَّ أناملي وإن الذي قد قيل ليس بلائطٍ ... بكِ الدهرَ، بل قولُ امرئٍ بيَ ماحِلِ (¬5) وكيف ووُدّي ما حَيِيتُ ونُصرتي ... لآل رسولِ الله زَيْنِ المحافلِ له رُتَبٌ يعلو على الناسِ فضلُها ... تُقَصِّرُ عنها سَوْرَةُ المتطاولِ (¬6) فقالت عائشة رضوان الله عليها لمسروقٍ: إِنه كان يُنافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت: ما سمعت أحسن من قول حسان، وما تمثَّل به إلا رجوت له الجنة، فإنه هو القائل لأبي سفيان (¬7): [من الوافر] هَجوتَ محمدًا فأَجبتُ عنه ... وعندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4146)، ومسلم (2488) وفيه: وأي عذاب أشد من العمى؟ قالت له: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتزن: تتهم، وغرثي: أي خميصة البطن، كناية عن عدم استغابة الناس وأكل لحومهم. (¬2) الأبيات في "السيرة" 2/ 306. (¬3) لم نقف على هذا البيت في ديوان حسان، ولا في غيره من المصادر. (¬4) في الديوان: "خيمها" بدل ذكرها، والخيم: الطبع والأصل. (¬5) اللائط: اللصيق، والماحل: الواشي النمام. (¬6) السورة: الوثبة. (¬7) الأبيات في ديوانه ص 64 والخبر أخرجه ابن أبي الدنيا في "الأشراف على منازل الأشراف" (58)، وأبو يعلى في "مسنده" (4640).

فإنَّ أبي ووالدَتي وعرضي ... لعِرْضِ محمَّدٍ منكم وِقاءُ أتشتُمُهُ ولستَ له بكفءٍ ... فَشرُّكُما لخيرِكُما الفِداءُ وقال الزهري: قال لي الوليد بن عبد الملك: أَبَلَغَكَ أن عليًّا كان فيمن قذف عائشة؟ فقلت: لا, ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن عائشة قالت لهما: إنَّ عليًّا كان مُسلَّمًا في شأنها (¬1). وقال الزهري: كتب إليَّ الوليد بن عبد الملك: الذي تولى كِبْرَه منهم علي بن أبي طالب. قال: فكتبت إليه: حدثني سعيد بن المسيب، وعروة، وعلقمة وعبيد الله بن مسعود كلهم يحدث عن عائشة، أن الذي تولى كِبْرَه منهم عبد الله بن أبي (¬2). وقالت امرأةُ أبي أيوب الأنصاري لأبي أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ فقال: سبحانكَ، هذا بهتان عظيم، ثم قال: يا أم أيوب، لو كنتِ بدلَ عائشة أكنتِ تفعلينه؟ فقالت: لا والله. فقال: فعائشة والله خيرٌ مِنْكِ وأَطْهرُ (¬3). وقال الواقدي: غاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزاة ثمانية وعشرين يومًا، وقدم المدينةَ لهلال رمضان (¬4). وفيها: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينبَ بنت جَحْش في ذي القعدة، في قول الواقدي (¬5). والأصح أنه تزوجها قبل حديث الإفك (¬6)، لِما رَوينا عن عائشة أنها قالت: وهي التي كانت تُساميني، ولقولها: وذلك بعد ضرب الحجاب، والحجاب إنما ضُرِب في تزويجه - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش بن رِئاب بن يَعْمَر بن صَبِرةَ بن مرة، من بني أسد بن خُزَيْمةَ، وأمها أمَيْمَةُ بنت عبد المطلب عمةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4142). (¬2) أخرجه البخاري (4749) مختصرًا دون ذكر قصة الوليد بن عبد الملك، وأخرجه مطولًا وبتمامه عبد الرزاق في "تفسيره" 3/ 52، والطبراني في "الكبير" 23/ (145). (¬3) "السيرة" 2/ 302. (¬4) "المغازي" 1/ 404. (¬5) انظر طبقات ابن سعد 10/ 110 - 111، و"تاريخ الطبري" 2/ 562، و"المنتظم" 3/ 225. (¬6) وقيل كان في السنة الثالثة، انظر "الإصابة" 4/ 313، والذي في "الفتح" 1/ 378: أنه تزوجها في السنة الخامسة.

قال ابن عباس: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب من أخيها عبدِ الله بن جحشٍ على زيد ابن حارثةَ مولاه، وكان قد تبناه، فكان زيد مولى في الإِسلام، غريبًا في الجاهلية، فلما خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه أجابت، فلما علمت أنه خطبها لزيد أنكرت وأبت وقالت: أنا بنت عمتك، تزوجني مولىً لا أرضاه. وأبى أخوها عبد الله ذلك، وكانت بيضاءَ جميلة فيها حِدَّةٌ، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] , فقالت: رضيت. وجعلت أمرها بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفعل أخوها كذلك، فزوَّجها زيدًا وساق إليها عشرة دنانير وستين درهمًا ودرعًا وخمارًا ومِلْحَفَةً وإزارًا، وخمسين مُدًّا من طعام، وثلاثين صاعًا من تمر، فأقامت عند زيد حينًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل رابك منها شيء؟ " قال: هي سيئة الخلق، وتتعظَّمُ علي بشرفها، وتؤذيني بلسانها. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصبر عن زيدٍ ساعة، فغاب عنه يومًا فجاء إلى بيته يطلبه فلم يجدْه، وقامت إليه زينب فقالت: ليس ها هنا، فادخلْ، فداك أبي وأمي. وعَجِلت زينب أن تلبس ثوبها لمّا قيل لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الباب، فوثبت عَجِلَةً فأَعْجبتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فولى يُهَمْهِمُ بشيء لم يُفْهَمْ منه إلا "سبحان مُقَلَّبِ القلوبِ أو مصرَّفِ القلوب ... " وجاء زيدٌ إلى بيته فأخبرته زينبُ بما كان، فقال: هلَّا عرضتِ عليه الدخول؟ قالت: قد فعلت وأبى. قال: فهل قال شيئًا؟ قالت: نعم، قال كذا وكذا. فجاء زيد إليه فقال: يا رسول الله، بلغني أنك جئت إلى منزلي فهلّا دخلت؟ لعل زينب أعجبتك، أأُفارقها؟ فقال له: "أَمسكْ عَليكَ زَوجَكَ". فما استطاع زيد إليها سبيلًا بعد ذلك اليوم، ففارقها واعتزلها. فبينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عند عائشة إذْ أخذته غَشيةٌ فأفاق، ثم قال: "من يذهبُ إلى زينب فيبشَّرها، أن الله قد زَوَّجنيها من السماء، ثم قرأ {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] الآيات (¬1). ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 10/ 99، وقد ردَّ العلماء هذا الخبر وأمثاله، ونزهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عما نسب إليه فيها، انظر أحكام القرآن لابن العربي 3/ 1531، والشفا للقاضي عياض 2/ 425، والمفهم للقرطبي 1/ 406، وفتح الباري 8/ 523.

قال ابن عباس: فلو كتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لكتم هذه الآية: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] (¬1). قال ابن مسعود: ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آيةٌ أشدُّ عليه منها. ولما تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال المنافقون: أيتزوجُ الرجلُ زوجةَ ابنه؟ فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬2) [الأحزاب: 40] , وما كانوا يدعون زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما كانوا يدعونه زيد بن محمَّد، حتى نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (¬3) [الأحزاب: 5]. قالت عائشة: فأخذني ما قَرُبَ وما بَعُد لِما أَعْلَمُ مِن جمالها، وأخرى وهي أعظم الأمور، وهي: أن الله زَوَّجها، فكانت تَفْخَر علينا بذلك، وخرجت سَلْمى خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبشرتها بذلك فأعطتها أوضاحًا كانت عليها (¬4). وقال أنس: لما انقضت عِدَّةُ زينب بنت جحش قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة: "اذهَبْ فَاذكُرني لها". قال زيد: فلمّا قال لي ذلك عَظُمت في عيني أو في نفسي، فذهبت إليها فجعلت ظهري إلى الباب وقلت: يا زينب، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكُرُكِ، وقد بعث بي إليك. فقالت: ما كُنْتُ لأُحدِثَ شيئًا حتى أُؤامر ربي. فقامت إلى مسجدها، وأنزل الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] , فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن. انفرد بإخراجه مسلم (¬5). ومن حديث أنس قال: وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حتى أنزل الله، وكان أول ما نزل في مُبْتنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش، أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها عروسًا، فدعا القوم فأصابوا من الطعام، ثم خرجوا وبقي رَهْطٌ منهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطالوا المُكْثَ، فقام وخرج وخرجتُ معه لكي يخرجوا، فمشى ومشيتُ معه حتى جاء ¬

_ (¬1) لم نقف عليه من حديث ابن عباس، وأخرجه البخاري (4612)، ومسلم (177) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 41. (¬3) "الطبقات الكبرى" 3/ 41. (¬4) "الطبقات الكبرى" 10/ 99. (¬5) صحيح مسلم (1428) (89).

إلى عَتَبَةِ حُجْرةِ عائشة، وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه حتى إذا دخلَ على زينب فإذا هم جلوسٌ لم يقوموا، فرجعَ ورجعتُ معه، حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا فَضُرِبَ بيني وبينه السترُ وأُنزل الحِجابُ. أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وفيه: فلم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولم على امرأة من نسائه ما أوْلَم على زينب، فإنه ذبح شاة وأطعم خبزًا ولحمًا (¬2). * * * وفي هذه السنة كانت غزاة الخندق (¬3) - وهي غزاة الأحزاب - في شوال، وقيل: في ذي القعدة. وسبب هذه الغَزاةِ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لما أجْلى بني النضير عن ديارهم، خرج سلَّامُ بن أبي الحُقَيْق، وحُيَيَّ بن أخْطَب، وكِنانةُ بن الربيع، في نفر من اليهود، فقَدِموا مكة ودَعَوْا قريشًا إلى حربِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: نحن معكم حتى نستَأْصِلَ شأن هذا الرجل. فقالت لهم قريشٌ: أَنتم أصحاب كتابٍ وعلمٍ، أَدينُنا خيرٌ أم دينُ محمَّد؟ فقالوا: دينُكم، وأنتم أَوْلى بالحق منه، فَسَرَّ قُرَيْشًا ذلك، ونَشِطوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتفقوا معهم على ذلك، وأرسل أبو سفيان إلى القبائل، فجاؤوا إليه من كل وجه، وجَمعَ الأَحابيشَ، وانضمت إليه أَسَد وغَطَفان وغيرُهم، فعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن أبي طلحة، وساروا في عشرة آلاف، ومعهم ثلاث مئة فرس، وألفَا بعيرٍ، وقيل: وخمس مئة، وأربعة آلاف دارع، ووافاهم عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ في أُلوفٍ من غَطَفانَ وفَزارةَ. ولما نزل أبو سفيان مَرَّ الظهران، وافته سُلَيْمٌ في سبع مئة رجل عليهم سفيان بن عبد شمس السُّلَمي أبو أبي الأعور الذي كان مع معاوية بِصِفِّين، وكان سفيان حليفًا لأبي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5166)، ومسلم (1428) (93). (¬2) أخرجه البخاري (5171)، ومسلم (1428) (90). (¬3) انظر "السيرة" 2/ 214، و"المغازي" 2/ 440، و"الطبقات الكبرى" 2/ 62، و"أنساب الأشراف" 1/ 409، و"تاريخ الطبري" 2/ 564، و"دلائل النبوة" 3/ 392، و"المنتظم" 3/ 227، و"البداية والنهاية" 4/ 92.

سفيان بن حرب، وجاءت بنو أسد يقودها طُليحة بن خُوَيْلد الأسدي في ألف، وجاءت أشجع في أربع مئة يقودهم مسعود بن رُخَيْلة، وجاءت بنو مُرَّةَ في أربع مئة يقودها الحارث بن عوف، ووافاهم جميع اليهود فصاروا عشرين ألفًا. وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق وقال: هو عندنا في بلاد فارس. وأشار أيضًا بعمل المِنْجَنيق وقال: إنه يعمل عندنا بفارس يدفع العدو. وسلمان يومئذ حر (¬1). وقال الواقدي: هذا أول مشهد شهده (¬2). وخط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق من أُطُم الشيخين، طَرفِ بني حارثة إلى المَذادِ، وجعل كلَّ أربعين ذراعًا بين عشرة (¬3). وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة آلاف من المسلمين نزلوا قريبًا من سَلْعٍ جعلوه وراء ظهورهم، والخندق بينهم وبين الكفار. واستخلف على المدينة ابنَ أُمَّ مَكْتوم، وأَمَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذراري والنساء والضُّعفاء، فَرُفِعُوا في الآطام. قال: وخرج يوم الاثنين لثمانِ ليالٍ مَضَيْنَ من ذي القعدة، وحمل لواءه زيد بن حارثة، وحمل لواءَ الأنصارِ سعدُ بن عبادة، وصار المسجد والبنيان وراءَ الخندق، ورتَّب على المدينةِ الحرسَ، فيهم: سلمةُ بن أسلم، وزيد بن حارثه، وجَعلَ شِعارَ المسلمين "حم لا ينصرون". قال ابن إسحاق: فبينمَا هم على ذلك إذ طلعت طلائع الأحزاب، فقال المؤمنون: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬4) [الأحزاب: 22]. وأقبل أبو سفيان في قريش، فنزل بمُجْتَمعِ الأسيال بين الجرفِ ¬

_ (¬1) إشارة سلمان بالمنجنيق كانت في غزوة الطائف، كما في "المغازي" 3/ 927، و"تخريج الدلالات" ص 491. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 567. (¬3) "تاريخ الطبري" 2/ 568. (¬4) "السيرة" 2/ 247.

والغابةِ (¬1) في عشرة آلاف، وجاءت غَطفان وأهل نجد فنزلوا بِذَنَبِ نَقَمَى إلى طرف أُحد، وأحدق باقي القبائل بالمدينة، وأبطأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة من المسلمين، وجعلوا يتسللون إلى أهاليهم. وكان جُعيلٌ عمل مع جماعة فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرًا (¬2). وكان سلمانُ رجلًا قويًا، فاختصم فيه المهاجرون والأنصار، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سلمانُ مِنّا أهلَ البيت" (¬3). قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان، وحُذَيفة بن اليَمان، والنعمان بن مُقْرِّن المُزَني، وستة من الأنصار في أربعين ذراعًا، قال حذيفة: فظهرت علينا في الخندق صخرةٌ كسرت مَعاوِلنا، فأتى سلمانُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على جانب الخندق فأخبره بها، فقام ونزل إلى الخندق وضربها فانصدعت، وبرق منها بَرْقَةٌ أضاءت منها ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى كأنها مصباح، وكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ضربها ثانيًا وثالثًا وهي تَبْرُقُ كذلك، فسأله سلمان فقال: "أَمَّا في البَرقَةِ الأُولى: فإنِّي رَأَيتُ منها قُصُورَ الحِيرَةِ ومَدائنَ كِسْرَى، كأَنَّها أَنْيَابُ الكلَابِ، فأَخبرَني جبريلُ - عليه السلام - أنَّ أُمَّتي سَتَظهرُ عَليها، وأَمَّا في الثَّانية: فأَضاءَتْ لي القُصُورُ الحُمْرُ من أَرضِ الشَّامِ والرُّومِ، وأَخبرَني جبريلُ أنَّ أُمَّتي سَتَظهرُ عليها، وأمَّا في الثَّالثة: فَأَضَاءتْ لي قُصُورُ صَنْعَاءَ، وأَخبرني جبريلُ أنَّ أُمَّتي سَتَظهرُ عليها". فاستبشر المسلمون، فقال المنافقون: يا عجبًا، أيمنِّيكم الباطلَ، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن صنعاء والشام، وأنها ستُفْتَحُ لكم وأنتم تحفِرون الخندق، ولا تستطيعون أن تخرجوا من المدينة! وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)} (¬4) [الأحزاب: 12]. ¬

_ (¬1) هكذا جاءت في النسخ الخطية، وهي كذلك عند الطبري 2/ 570، وفي "السيرة" 2/ 219: زَغَابة، وهو ما رجحه ياقوت في "معجم البلدان" 3/ 141. (¬2) انظر "السيرة" 2/ 217، و"المغازي" 2/ 447، وصار المسلمون يرتجزون: سماه من بعد جعيل عمرًا ... وكان للبائس يومًا ظهرًا (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (6040)، والحاكم 3/ 691 من حديث عبد الله المزني، وانظر "السيرة" 2/ 224. (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 4/ 77، والطبري في "تاريخه" 2/ 567 - 570، والبيهقي في "الدلائل" 3/ 419 - 420.

فكان أبو هريرة يقول لما فتحت هذه الأمصار في زمن عُمَر وما بعده: افتحوا ما بدا لكم فوالذي نفسُ أبي هريرة بيده ما فتحتم مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلاّ وقد أعطي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - مفاتيحَها (¬1). وقال جابر: مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم يحفرون الخندق ثلاثًا لم يذوقوا طعامًا، فقالوا: يا رسول الله، إن ها هنا كُدْيَةً مَن الجبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُشُّوهَا بالمَاءِ"، فرشوها، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ المِعْوَل والمِسْحاة، ثم قال: "بِسْمِ اللهِ"، وضرب ثلاثًا فَصارت كثيبًا مُهالًا. قال جابر: فحانت مني التفاتة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شد على بطنه حجرًا. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وقال البراء بن عازب: رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ينقلُ معنا التراب ويقول: واللهِ لولا اللهُ ما اهتدَيْنا ... ولا تصدَّقْنا ولا صَلَّيْنا فأَنْزِلَنْ سَكينةً علَيْنا ... وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقَيْنا والمُشرِكونَ قد بَغَوا علينا ... إذا أرادوا فتنةً أبينا يرفع صوته وقد وارى التراب بياضَ إبطيه. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3)، والأبيات لعبد الله بن رواحة. قال أنس: وكانوا يُؤْتَوْنَ بملء كَفًّ من شعير، فَيُصْنَعُ لهم بإهالَةٍ سَنِخةٍ، ويوضع بين أيديهم والقوم جياعٌ وهي بشِعَةٌ في الحَلْق ولها ريح منكرة. انفرد بإخراجه البخاري (¬4). ولما استقر نزول الكفار على المدينة، خرج حُيَيُّ بنُ أَخْطَب إلى كعب بن أسد صاحبِ عَقْدِ بني قريظة، وكان كعب قد وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومه، وعاهده أن لا يُعينَ عليه، فلما علم كعب بمجيء حيي، أغلق باب الحصين دونه، فناداه: يا كعب، ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 219، و"تاريخ الطبري" 2/ 570. (¬2) البخاري (4101)، ومسلم (2039) بقصة المجاعة التي أصابتهم ووضعه - صلى الله عليه وسلم - الحجر على بطنه، وهذا لفظ أحمد في "مسنده" (14211). (¬3) أخرجه البخاري (3034)، ومسلم (1803)، واللفظ للحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (852). (¬4) البخاري (4100).

افتح لي. فقال: لا أفتح لك، إنك امرؤ مَشؤوم، وقد عاهدتُ محمدًا فلم أرَ منه غيرَ الوفاءِ والصدقِ، فلستُ بناقضٍ ما بيني وبينه، فقال: ويحك افتح الباب، فقال: ما أنا بفاعل، فقال: والله ما أغلقتَ بابَك دوني إلا خوفًا على جَشيشتك (¬1) لئلا آكلَ مَعك منها، فأَحْفَظَ ذلك كعبًا ففتح له الباب، فدخل وقال: يا كعب قد جئتك بعِزِّ الأبد وببحرٍ طام: أبي سفيان في قريش، والأحابيش، وقبائل العرب، فأنزلْتُهم حولَ المدينة في عشرين ألفًا، وعاهدتهم أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدًا وأصحابه، فقال له كعب: جئتني بذل الدهر، وجَهامٍ (¬2) قد أُهريقَ ماؤه، ورعد وبرق ليس فيه مطر، فَدَعْني وما أنا عليه مع محمَّد، فلم أر منه ما أكره، فلم يزل بكعب يفتله في الذِّرْوَةِ والغارب (¬3) حتى سمح له بنقض العهد الذي كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه إن رجعت قريش وغَطَفانُ، ولم يصيبوا من محمَّد شيئًا أنه يدخل معه حصنه فيصيبَه ما أصابه. ولما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ندب جماعة من أصحابه منهم: سعد بن عبادة، وعبد الله ابن رواحة، وخوّاتُ بن جُبَير، وقال: "انطلقوا إلى قريظة، واعْلَموا لنا عِلْمَها فإن كان حقًّا فالْحَنوا لَحْنًا ولا تفشوه، فَتَفُتُّوا في أعضاد الناس وإن كان كعب على الوفاء فأذيعوه". فخرج إليهم، فإذا هم أبلغ مِمّا بلغه عنهم، فعادوا وأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" (¬4). واشتد الحصار على المسلمين، وجاؤوهم من فوقهم ومن أسفلَ منهم حتى ظن المؤمنون الظنونَ، ونَجمَ النفاقُ وتحدث المنافقون، وقال معتِّب أخو بني عمرو بن عوف: يَعِدُنا محمدٌ أن نأكل كنوزَ كِسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط (¬5). ¬

_ (¬1) الجشيشة: طعام يصنع من البر، يطحن غليظًا. (¬2) الجهام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه. (¬3) الذروة والغارب على ظهر البعير، وأراد بذلك أنه لم يزل يخدعه كما يخدع البعير إذا كان نافرًا فيمسح باليد على ظهره، حتى يستأنس فيجعل الخطام على رأسه. (¬4) انظر "السيرة" 2/ 220 - 222، و"المغازي" 2/ 455 - 459، وعندهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين". (¬5) انظر "السيرة" 2/ 222.

وقال أوسُ بن قَيْظي أحد بني حارثة: يا رسولَ الله، إن بيوتنا عورةٌ - أي خالية -، فَأْذَنْ لنا أن نرجع إلى ديارنا فإنها خارجَ المدينة. وكان ذلك عن رأي رجال من قومه المنافقين (¬1). فلم يأذن لهم وأقاموا محاصَرين بضعًا وعشرين، ولم يكن بينهم قتال إلا الرميُ بالنبل يتناوبون عليهم. قال أنس: لما اشتد القتال جاءهم أبو سفيان بن حرب، وخالد بن الوليد، وعكرمة ابن أبي جهل، وعمرو بن العاص، وضرار بن الخطاب الفهري، ووجوه القبائل والأحابيش، واستمر القتال بينهم عامَّةَ النهار، وفاتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعُ صلوات، فلما رجع الناسُ إلى منازلهم، أمر بلالًا فأذَّنَ وأقام لكل صلاة (¬2). ولما طال الأمر، كتب أبو سفيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: باسمك اللهمَّ أحلف باللات والعُزَّى، وإساف ونائلة وهُبَل، لقد سِرْتُ إليك لأستأصِلَكَ وأصحابَك، فرأيتُك قد اعتصمتَ بمكيدة ما كانت العرب تعرفها، وإنما تَعرفُ ظِلَّ رماحها وشبا سُيوفها، وما فعلتَ هذا إلا فرارًا من سيوفنا ولقائنا، وإن لك مني يومًا كيوم أُحدٍ والسلام. وبعث بالكتاب مع أبي أسامة الجُشَمي، وأراد بالمكيدة الخندق، فقرأه أبي بن كعب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يكتب جوابه، فكتب: "بسم اللهِ الرَّحمن الرَّحيم، من محمدٍ رَسول الله إلى صَخرِ بن حربٍ، أما بعد، فقد أتاني كتابك يا أحمقَ بني [غالب] وسفيهَهم، وقديما غرك بالله الغرور، وسيحولُ الله بينكَ وبينَ ما حَاولتَ، ويجعلُ لنا العاقِبةَ، ولَيأتينَّ عليكَ يومٌ أكسِرُ فيه اللاَّت والعُزَّى، وإسافَ ونَائلةَ، وهبلَ، والسلام (¬3) ". ولما اشتد الحصارُ على الناس، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عُيَيْنَةَ بنِ حِصْن، والحارثِ ابنِ عَوْفٍ بن أَبي حارثة المُرِّي (¬4)، وهما قائدا غطفان، فصالحهما على أن يعطيَهما ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 222 و 246. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 65. (¬3) انظر "المغازي" 2/ 492 - 493، و"أنساب الأشراف" 1/ 411، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬4) في النسخ: المزني، وكذا جاء في "الإصابة" 1/ 286، وفي "السيرة" 2/ 223: المري، ولعله هو الصواب. انظر "جمهرة النسب" ص 418.

ثُلُثَ ثمار المدينة، ويرجعا بمن معهما. فأجابا وكتب بينهما كتاب الصُّلح، ولم يبق إلا الإشْهادُ. فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعدَ بن معاذ وسعدَ بن عبادة في ذلك، فقالا: يا رسول الله، آلله أمرك بهذا أم رأيٌ رأيتَ من عندك؟ فقال: "لَو أَمَرني اللهُ ما شَاوَرتُكُما، ولكنْ رأيتُ العربَ قد رَمَتكُم عن قَوسٍ واحدَةٍ، وكَالَبُوكُم من كلِّ جانبٍ، فأردتُ أن أكسِرَ شَوكَتَهم عنكم". فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وإياهم على شِرْكٍ وعبادةِ أوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يَطْمعون أن يأكلوا منها تمرة واحدة إلا قِرىً أو بيعًا، فحين أكرمنا الله بالإِسلام، وأعزَّنا بك نعطيهم أموالنا، والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنتُم وذَاكَ". فتناول سعد الكتاب فَمحاه وقال: ليَجْهَدوا علينا جهدهم. وكان عيينة بن حصن والحارث بن عوف قد جاءا مُستخفيين من أبي سفيان ليشهدوا الصلح، فمد عيينة بن حصن رجليه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أسيد بن حضير: يا عينَ الهِجْرِسِ (¬1)، اقبضْ رِجلَيْكَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا أخذت الذي فيه عيناك، والله لا نُعطيكم إلا السيف، والله يا رسول الله إن كانوا ليأكلون العِلْهِزَ من الجَهْد، وما طمعوا بهذا. فقاما وهما يقولان: والله لا نُدْرِكُ من هؤلاء شيئًا (¬2). وكان فوارسُ من قريش يقاتلون ويترامَون منهم: عَمرو بن عَبد وُدّ بن أبي قيس أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهُبَيْرَةُ بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله، وضِرار بن الخطاب الفِهْري، ومِرْداسُ (¬3) من بني محارب بن فِهْر، وغيرُهم قد لبسوا للقتال، فجاؤوا يومًا للقتال مشاة وركبانًا، فوقفوا على الخندق، فلما تأملوه عجبوا وقالوا: مكيدة ما كانت العرب تعرفها، فقال بعضهم: مع محمَّد رجل من فارس يدلُّه على مثل هذا، يعنون سلمان الفارسي. ثم قصدوا مكانًا ضَيِّقًا من الخندق فاقتحموه، وجالت خَيْلُهم في السَّبْخَةِ بين ¬

_ (¬1) الهجرس: ولد الثعلب. (¬2) "المغازي" 2/ 478 - 479، والخبر فيه مطول. (¬3) هكذا جاءت العبارة في النسخ، وفي "السيرة": ضرار بن الخطاب الشاعر ابن مرداس، وهو الصواب، انظر "الإصابة" 2/ 209

ذكر مقتل عمرو بن عبد ود

الخندق وسَلْع، وأقبل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في نفر من الصحابة - رضي الله عنهم -، فأخذ عليهم الثُّغْرة التي اقتحموها وأقبلتِ الفرسانُ تُعْنِقُ نحوهم (¬1). ذكرُ مَقْتَلِ عمرو بن عبد وُدّ: قال الواقدي: لم يشهد عمرو أحدًا، وإنما قاتل يوم بدر قتالًا شديدًا، فأُثخِنَ بالجِراحات وهرب إلى مكة، فلما كان يومُ الخندق خرج مُعْلمًا ليُرى مكانه، وهو يومئذ ابنُ سبعين سنةً، وكان يُعَدُّ بأَلْفِ مقاتل، فدعا إلى البِراز، فلم يبرز إليه أحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لهُ"؟ فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكرَّم وجهه: أنا، فعمَّمه بيده وأعطاه سيفه ذو الفقار، فبرز إليه وناداه: يا عمرو، إنك عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى خَطْبَيْن (¬2) إلا أجبته إلى أحدهما. قال: أجل. قال: فإني أدعوك إلى الله ورسوله والإِسلام. فقال: لا حاجة لي في ذلك. قال: فأنا أدعوك إلى البراز. فعرفه، فقال: ولم يا ابن أخي فوالله ما أُحِبُّ أن أَقْتُلَكَ. فقال علي - رضي الله عنه - وأرضاه: ولكني أُحِب أن أقتلك. وناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تقدم على اسم الله. فعند ذلك غضب عمرو وأنشد: [من مجزوء الكامل] ولقد بُحِحْتُ من النِّدا ... ءِ لجمعِهم هَل مِن مُبارِزْ وَوَقفتُ إذ جَبُنَ الشُّجا ... عُ توقُّفَ البَطلِ المناجِزْ إنَّي كذلِكَ لم أَزلْ ... متسرِّعًا نحو الهَزاهِزْ إنَّ الشجاعةَ في الفتى ... والجودَ من خير الغرائز فأجابه عليٌّ رضوان الله عليه: [من مجزوء الكامل] لا تعجلنَّ فقد أَتا ... كَ مُجيبُ صوتِك غيرُ عاجزْ ذو نيَّةٍ وبَصيرةٍ ... والصَّدقُ منجى كلَّ فائزْ إنَّي لأَرجو أَن أُقيـ ... ـمَ عليكَ نائحةَ الجنائزْ مِن ضَربةٍ فوهاءَ يَبْـ ... ـقَى ذكرُها عند الهزاهزْ ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 224، "تاريخ الطبري" 2/ 573 - 574. (¬2) في "السيرة": خلتين.

وفي رواية: فقال له عمرو: فارجع فإنك شاب. فأغلظ له علي - رضي الله عنه - في القول، فغضب وعَرْقَبَ فرسه. ثم تجاولا ساعةً وثار بينهما الغبار، فانجلى عن عمرو وهو قتيلٌ، اختلفا ضربتين سبقه علي - رضي الله عنه - ففلق رأسه، ويقال: أن عمرًا جَرح عليًا -- عليه السلام - في رأسه، ولما قَطع يَدَ عَمروٍ انقضَّتْ عُقابٌ فأخذت كفه وفي خِنْصَرِه خاتمُه، فحملتِ الخِنْصَر وطارت إلى مكة فألقته فعرفته أُختُه، فقالت: قتل أخي. فلما عاد أبو سفيانَ إلى مكةَ، قالت: من قتلَ أخي؟ قالوا: علي بن أبي طالب، فقالت (¬1): [من البسيط] لو كان قاتلُ عمروٍ غَيْرَ قاتِلهِ ... لطال حزني عليه آخر الأبدِ لكنَّ قاتلَه مَنْ لا يُقادُ به ... من كان يُدْعى أبوه بيضةَ البلدِ ولما قُتِلَ عمرو ولَّت خيولُ أهله وأصحابه خارجةً من الخندق منهزمة، وقتل معه رجلان: مُنَبَّه بنُ غَنم بن عبيد بن السبّاق بن عبد الدار، أصابه سهم فأثْخَنه فمات بمكَّةَ منه، ومن بني مخزوم نَوْفل بن عبد الله بنِ المُغيرة، وكان ممن اقتحم الخندق، فرمَوْه بالحجارةِ وقد تورّط فيه فنادى: يا معاشر العرب، قِتْلَةٌ أحسنُ من هذه. فقتله علي رضوانُ الله عليه، وقيل: الزبير رضوان الله عليه. فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبيعَهم جُثَّته، فقال: "لا حاجَةَ لنا في جِيفَتِهِ ولا في ثَمَنِهِ، فإنَّه خبيثٌ، خُذوه". فأخذوه (¬2). وقال ابن إسحاق: وكانت عائشة رضوانُ الله عليها وأمُّ سعدِ بن معاذ - رضي الله عنه - في أُطُمٍ من آطامِ بني حارثة، فمر سعدُ بن معاذ وعليه دِرْعٌ مُقَلَّصة قد خرج منها ذِراعُه وهو يقول: [من الرجز] لبِّثْ قليلاً يشهدِ الهيجا حَمَلْ ... لا بأسَ بالموتِ إذا جاءَ الأَجَلْ قالت عائشة: فقلت: يا أمَّ سَعْد، وَدِدْتُ أن دِرْعَ سَعْدٍ أسبغُ مما هي، فإني أخاف عليه. قالت: فرماه حِبّان بن قيس بن العَرِقَة بسهم فقطع أكحله، وقال: خُذْها وأنا ابن العَرِقَةِ، فقال سعد - رضي الله عنه -: عَرَّقَ الله وَجْهَكَ في النار، اللهمَّ إن كنتَ أَبقيتَ من حَرْبِ ¬

_ (¬1) البيتان في "ثمار القلوب" ص 496 وفيه أن القائلة ابنته، وفي "المنتظم" 3/ 234 أنها أمه. (¬2) سياق القصة مأخوذ من عدة مصادر لا عن الواقدي وحده، وقد وردت في "المغازي" 2/ 470 - 471، كما ذكر المصنف، والسياق من ابن إسحاق كما في "السيرة" 2/ 224 - 225، و"تاريخ الطبري" 2/ 573 - 574 - وهي عندهم دون ذكر أبيات الشعر - والبيهقي في "الدلائل" 3/ 437 - 439، و"المنتظم" 3/ 232.

حديث نعيم بن مسعود الغطفاني

قريش شيئًا فأبقني لها فإنه لا قومَ أحبُّ إلي أن أجاهدَهم من قومٍ كذَّبوا رسولَك، وآذَوْه، وأخرجوه، اللهمَّ ولا تُمِتْني حتى تُقِرَّ عَيْني من بني قريظة، واجعله لي شهادة (¬1). وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية. قالت عائشة - رضي الله عنها -: واقتحمتُ حَديقةً فيها نفرٌ من المسلمين، فيهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وفيهم رجل عليه تَسْبِغَةٌ لا يُرى منه إلا عيناه، والتسبغة: المِغْفر. فقال لي عمر: إنك لجريئةٌ ما جاء بك؟ وما يدريك لعله يكون تحوُّزٌ أو بلاءٌ. فوالله ما زال يلومُني حتى وَدِدْتُ أن الأرض انشقت ساعتئذٍ فدخلت فيها، فكشف الرجل عن وجهه فإذا هو طلحة بن عُبَيْد الله، فقال لعمر: ويحك يا عمر، قد أكثرتَ، فأين الفرار؟ أين التحوُّزُ إِلا إلى الله تعالى (¬2)؟ وقال عبدُ الله بن كعبِ بن مالك: ما أصاب سَعْدًا يومئذٍ إلا أبو أُسامةَ الجُشَمي، حليفُ بني مخزوم، رماه بالسهم في أكحله (¬3). حديث نُعَيْم بن مسعود الغطفاني: قال علماءُ السَّيَرِ: كان نُعيمُ بنُ مسعودٍ صديقًا لبني قُريظة، نديمًا لكعب بن أسد يَقْدمُ عليه فيكرمُه ويُزَوَّدُه من التمر، فلما اشتد الأمر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، قال نُعَيْمٌ: فأوقع الله الإِسلام في قلبي، فكتمت قومي ذلك، وأتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلًا، فقال: "مَا جَاءَ بِكَ؟ " فأخبرته بإسلامي، وقلت: قد كتمتُه عن قومي، فَمُرْني بما شئت، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَذِّل عنَّا ما استطعت، فإن الحربَ خَدْعَةٌ". فخرج نُعيمٌ فأتى بني قُريظة، فرحَّبوا به وقالوا: ما جاء بك؟ فقال: قد عرفتم وُدِّي إياكم، وكان صديقًا لهم في الجاهلية، قالوا: صدقت ولا نَتَّهِمُك في شيء. فقال: إن قريشًا وغطفانَ ليسوا من أهل هذه البلاد، وإنما جاؤوا طلبًا للغنائم، فإن أصابوها وإلا رجعوا إلى بلادهم، وخلَّوْا بينكم وبين محمدٍ، ولا طاقةَ لكم به، فلا تقاتلوه معهم ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 226 - 227، و"تاريخ الطبري" 2/ 575. (¬2) "تاريخ الطبري" 2/ 576. (¬3) "تاريخ الطبري" 2/ 576 - 577.

حديث صفية بنت عبد المطلب - رضي الله عنها - مع اليهودي

حتى تأخذوا رهائنَ من أشرافهم. فقالوا: نِعْمَ الرأيُ رأيتَ، ونِعْمَ ما أشرتَ به. ثم خرج من عندهم وأتى أبا سفيان ومن معه من قريشٍ، فقال: يا معاشرَ قريش، قد علمتم وُدي إياكم وفِراقي محمدًا، وقد بلغني أمرٌ فاكتموه عَليَّ. قالوا: وما هو؟ قال: إن بني قريظةَ قد ندِموا على نقضِ العهد بينهم وبين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وقد أرسلوا إليه يقولون: قد نَدِمْنا على ما فعلنا، فهل ترضى عنا بأن نأخذَ من أشراف قريش وغطفانَ أُناسًا رهائن، فندفعَهُم إليك فتضربَ أعناقهم؟ قال: نعم، فإن بَعَثَتْ إليكم يهودُ تطلبُ رهائنَ فلا تُعْطوهم. ثم خرج فأتى غَطَفانَ، فقال لهم كما قال لقريش، فلما كانت ليلةُ السبت، أرسل أبو سفيان ورؤوسُ غطفانَ إلى بني قريظةَ يقولون: لسنا بدار مُقام، وقد هلك الخُفُّ والحافِر فأعِدوا للقتال غدًا حتى نناجزهم. وكان الرسول عكرمةَ بنَ أبي جهل ووجوهَ قريشٍ وغطفان، فقالت بنو قريظة: إن غدًا يومُ السبت، والعملُ علينا فيه حرامٌ، ومع هذا فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهائنَ من أشرافكم يكونوا بأيدينا ثِقةً، فإننا نخشى أن تُضَرِّسكُم الحرب فترحلوا عنا وتتركونا ومُحمَّدًا في قُطْرٍ واحد، فيستأصلَنا. فلما رجعت الرسل إليهم قالوا: صدق نُعيمٌ والله. ثم أرسلوا إلى قريظة: إِنّا لا ندفع إليكم أحدًا، فإن شئتم أن تخرجوا فتقاتلوا وإلا فلا. فقالت قريظة: صدق والله نعيم. وانخذل الفريقان (¬1). حديثُ صَفيةَ بنتُ عبد المطلب - رضي الله عنها - مع اليهودي: كانت صفيةُ - رضي الله عنها - في حِصْنِ فارعٍ، وهو حصنُ حسّانَ بنِ ثابتٍ، قالت: وكان حسانُ معنا فيه مع النساء والصبيان، فجاء يهودي فجعل يُطيفُ بالحصنِ وليس بيننا وبين قريظة من يَدْفَعُ عنا، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في نُحور أعدائهم لا يقدرون أن يصلوا إلينا، ولا يدفعون عنا. قالت: فقلت: يا حسان، والله ما آمنُ هذا اليهوديَّ أن يَدُلَّهم على عَوْراتِ الحِصن فيأتون إلينا، فانزل فاقتله. ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 229 - 231، و"المغازي" 2/ 480، و"تاريخ الطبري" 2/ 578.

حديث رحيلهم

فقال حسان: يا بنت عبد المطلب، قد عَرَفْتِ ما أنا بصاحبِ هذا، وكان حسانُ من أجبن الناس. قالت: فلما يَئِستُ منه اعتَجَرْتُ وأخذتُ عمودًا ونزلتُ ففتحتُ باب الحصن، وأَتَيْتُه من خلفِه فضربته بالعمود حتى قتلتُه، وصعدتُ الحصن فقلت: يا حسان، أنزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعْني من سَلْبه إلا أنه رجل. فقال: يا بنت عبد المطلب، ما لي بِسَلَبِهِ حاجةٌ (¬1). حديث رحيلهم: خذلهم اللهُ وأَيْبَسَ ضُرُوعَ مواشيهم، وأرسل عليهم رياحًا شديدة باردة فأظلمتِ الدُّنيا، وجعلت تكفأُ قدورهم وترمي آنيتهم. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] الآيات. وتقلَّعتِ الأوتادُ، وطَفِئت النيرانُ، وجالت الخيل بعضُها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعبَ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيدُ كلَّ حي يقول: يا بني فلان، هَلمُّوا إلي. فإذا اجتمعوا إليه، قال: النجاءَ النجاءَ أُتيتم، فانْهَزموا من غير قتال. وقال محمَّد بن كعب القُرَظي: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفةَ بن اليمانِ: يا أبا عبد الله، رأيتُم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نَجْهَدُ، قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناهُ يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا ولفعلنا، فقال حذيفة: يا ابن أخي، والله لقد رأيتُني ليلة الأحزابِ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق في ليلة باردة لم أجد قبلها ولا بعدها بردًا أشدَّ منه، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هُوِيًّا من الليل، ثم التفت إلينا وقال: "مَن يَقومُ فَيذهَبُ ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 228، و"تاريخ الطبري" 2/ 577، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 442 - 443. وقال السهيلي في "الروض الأنف" 2/ 193 - 194: ومحمل هذا الحديث عند بعض الناس أن حسانًا كان جبانًا شديد الجبن، وقد دفع هذا بعض العلماء وأنكره، وذلك أنه حديث منقطع الإسناد، وقال: لو صح هذا لهجي به حسان، فإنه كان يهاجي الشعراء، كضرار وابن الزبعرى وغيرهما، وكانوا يناقضونه ويردون عليه، فما عيَّره أحد منهم بجبن ولا وسمه به، فدلَّ هذا على ضعف حديث ابن إسحاق، وإن صح فلعل حسان أن يكون معتلًا في ذلك اليوم بعلة، منعته من شهود القتال، وهذا أولى ما تأول عليه. وانظر "سبل الهدى والرشاد" 4/ 564.

إلى هَؤلاءِ القَومِ فَيأتِينَا بخَبرهِم، أَدخَلَه الله الجنَّةَ" فما قام أحد منا من الخوفِ والبردِ والجوعِ، فعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثلاثًا. فلما لم يقم أحدٌ، دعاني فقال: "قُم يا حُذيفةُ" فلم يكن لي بُد من القيام حين دعاني، فقلت: لبيك يا رسول الله، وقمت حتى أتيته وإن جَنْبَيَّ ليضربان، فمسح على رأسي ووجهي ثم قال: "ائتِ هَؤلاءِ القومَ حتى تأتيَني بخبرهم، ولا تُحدِثَنَّ شيئًا حتى تَرجِعَ إليَّ"، ثم دعا لي فقال: "اللهمَّ احفظهُ من بَين يَدَيْه ومِن خَلفِهِ، وعن يَمينِهِ وعن شِمَالِهِ، ومِن فَوقِهِ ومِن تَحتِهِ". قال: فشددت عليّ أَسلابي، وأخذت قوسي وأَسْهُمي، وانطلقت أمشي كأنما أمشي في حَمَّامٍ حتى دخلت في القوم، وأرسل الله عليهم ريحًا قَطَعَتْ أَطنابَ خيامهم، وذهبت خيولهم، فلم تدع لهم شيئًا حتى أهلكته، وأبو سفيان قاعد يصطلي، فأخذتُ سهمًا ووضعتُه في كَبِد قَوْسي وأردتُ أن أرميَهُ، فذكرتُ قولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُحدِثَنَّ حَدَثًا حتى ترجعَ" فرددت سهمي إلى كنانتي، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريحُ وجنودُ الله بهم، قام فقال: يا معاشر قريش، ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو، فأخذت بيد جليسي فقلت: من أنت؟ فقال: سبحان الله ما تعرفني؟ ! أنا فلان بن فلان، فإذا هو رجل من هَوازن، فقال أبو سفيان: يا معاشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مُقام، ولقد هلك الكُراع والخُفُّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلَغَنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذا الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جَمَلِهِ وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوقف على ثلاث قوائم، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، وسمعتْ غطفانُ بما صنعت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم، وهزم الله الأحزاب، فرجعتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته الخبر، فضحك حتى بدت ثناياه في سوادِ الليل، وذهب عني الدَّفْءُ، فأدناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنامَني عند رجليه، وألقى عليّ طرف ثوبه، وألزق صدري ببطن قدمه (¬1). وقد أخرج مسلم بمعناه عن حذيفة فقال فيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُم يا حُذَيفَةُ" فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي إلَّا أن أقوم، فقال: "لا تَذْعَرْهُم"، قال: فأردت أن أَرْميَ ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 231 - 233، و"المغازي" 2/ 488 - 490، و"تاريخ الطبري" 2/ 579 - 580.

أبا سفيان ولو رميته لأصبتُه، فرجعت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغتُ قُرِرْتُ فألبسني فَضلَ عباءة كانت عليه، فلم أزل نائمًا حتى أصبحت، فقال: "قم يا نَوْمانُ" وفيه: فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمّام (¬1). معناه: من شدة الخوفِ، يشير إلى حرارة الفَزَع. وللبخاري، عن سليمان بن صُرَد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُجْليَ الأحزابُ عنه -: "الآنَ نَغزُوهُم ولا يَغزُونَنَا، نحنُ نسِيرُ إلَيهم" (¬2) أي: نغزوهم في ديارهم. فغزاهم عام الفتح. وقال الواقدي: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الأحزاب يوم الإثنين والثلاثاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر. قال جابر: فعرفنا البِشْرَ في وجهه (¬3). وكان من دعائه: "اللهمَّ مُنْزِلَ الكتاب سريعَ الحساب، اهزم الأحزاب" وفي رواية: "ومجري السحاب اهزمهم وزلزلهم". أخرجاه في "الصحيحين" (¬4). قوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي: من فوق الوادي من قِبل المشرق، عليهم مالك ابن عوف النَّصْري، وعيينةُ بن حِصْن، وطُليحةُ بن خويلد الأسدي، وحُييُّ بن أخطب في بني قريظة، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} يعني: من بطن الوادي من قِبَل المغرب: أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه من الأحابيش، وأبو الأعور عمرو بن سفيان من قبل الخندق، ولم يقتل من المسلمين في غزاة الخندق سوى ستة نفر من الأنصار: منهم: عبد الله بن سهل بن زيد الخزرجي من الطبقة الأولى، وأمه: الصَّعْبة بنت التيِّهان بن مالك، شهد عبد الله بدرًا وَأحدًا، ورماه رجل من بني عوف بسهم في الخندق فقتله. ومنهم: كعب بن زيد بن قيس، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه: ليلى بنت عبد الله الأنصارية، شهد بدرًا، وأحدًا، وبئر معونة، وارتُثَّ في ذلك اليوم، واستُشْهِدَ بالخندق، قتله ضِرار الفِهْري، وليس له عَقِبٌ. ¬

_ (¬1) مسلم (1788). (¬2) البخاري (4110). (¬3) "المغازي" 2/ 488. (¬4) البخاري (4115)، ومسلم (1742) من حديث عبد الله بن أبي أوفى.

وفيها: كانت غزاة بني قريظة (¬1). قال علماء السير: لما انصرف الأحزاب عن المدينة، لحق أبو سفيان بمكة، وعُيينةُ بنجد، والأعراب بأماكنها، دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت عائشة - رضي الله عنها -، ووضع المسلمون سلاحهم، فجاء جبريل - عليه السلام - مُعْتَجِرًا بعِمامةٍ من إستبرق، وقيل: كانت سوداء، قد أرخى ذُؤابتيها بين كتفيه، وهو على بَغْلةٍ عليها قَطيفةٌ أو رِحالةٌ من ديباج، فوقف عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: "يا محمَّد، عَذيرُكَ (¬2) من مُحاربٍ! أَوَ قَدْ وَضعتَ السَّلاح، واللهُ يأمُرُكَ أن تَسيرَ إلى بني قُريظَةَ". فخرج راكبًا على حمار عُرْيٍ والناس يمشون بين يديه، ودعا عليًا رضوان الله عليه فدفع إليه لواءه، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مَكتوم، وسار إليهم في ثلاثة آلاف من المسلمين، وستة وثلاثين فرسًا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة، أو القعدة (¬3). وقال له جبريل - عليه السلام -: إني مُزلزلٌ عليهم حُصونَهم. وقد روى الإِمام أحمد رحمة الله عليه، عن عائشة رضوان الله عليها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من الأحزاب، دخل إلى المُغْتَسلِ ليغتسل، فجاءه جبريل - عليه السلام - فقال: أَوَقَدْ وضعتم السلاح، ما وضعت الملائكة أسلحتها، أو ما وضعنا سلاحنا أو أسلحتنا بَعْدُ، اِنْهَدْ إِلى بني قريظة. قالت عائشةُ: كأني انظر إلى جبريل من خلل الباب قد عصب رأسه من الغبار في زقاق بني غَنْم (¬4). فسار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاصرهم بضع عشرة ليلة. وفي رواية: خمس عشرة ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 233، و"المغازي" 2/ 496، و"الطبقات الكبرى" 2/ 70، و"أنساب الأشراف" 1/ 414، و"تاريخ الطبري" 2/ 581، و"المنتظم" 3/ 238، و"البداية والنهاية" 4/ 116. (¬2) أي: هات من يعذرك. (¬3) "المغازي" 2/ 497، و"الطبقات" 2/ 70. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24994)، وقوله: "في زقاق بني غنم" هو من حديث أنس الآتي، ولم نقف عليه من حديث عائشة.

ليلة، فاشتد عليهم البلاء ولم ينصرهم أحد، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ وكان مُثْخَنًا من الجرح الذي أصابه يوم الخندق. وللبخاري، عن أنس قال: كأنِّي أَنظُرُ إلى غُبار ساطع في سكة بني غَنْم، موكب جبريل حين سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة (¬1). وعن ابن عمر قال: لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب قال: "لا يُصَلَّيَنَّ أحدٌ العَصرَ إلَّا في بَني قُريظَةَ". فأدرك بعضهم العصرَ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يُرِدْ ذلك مِنّا. فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يُعَنِّفْ منهم أحدًا. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). قال ابن إسحاق: وسار علي - عليه السلام - بالراية حتى إذا دنا من الحصون، سَمع مقالةً قبيحة في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع، فلقيه في الطريق فقال له: يا رسول الله، لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: "أَظنُّكَ سَمعتَ لي مِنهم أَذًى" قال: نعم، قال: لو قد رأوني لم يقولوا شيئًا من ذلك. فلما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصونهم، ناداهم: "يَا إخْوَةَ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ، هَل أَخْزاكُمُ اللهُ وأَنَزلَ بِكُم نِقْمتَهُ؟ " فقالوا: يا أبا القاسم، ما كنتَ جهولاً. ومرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقال: "هل مرَّ بكم أحدٌ؟ " قالوا: نعم، مرَّ بنا دِحْيَةُ بنُ خليفةَ الكَلْبي على بغلة شهباء عليها قَطيفةٌ من ديباج. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَلكَ جبريلُ - عليه السلام - بُعِثَ إلى بَني قُريظَةَ، يُزَلزِلُ عَليهم حُصُونَهُم، ويَقذِف الرُّعبَ في قُلُوبهم". ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بئر من آبارهم، وتلاحق به الناس (¬3). وقال الواقدي: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت عائشة رضوان الله عليها، جاءه جبريل - عليه السلام - وعلى ثناياه النَّقع، فقال له: إلى بني قريظة (¬4). وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن معاذ في المسجد قبة، وترك عنده امرأة من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4118). (¬2) أخرجه البخاري (4119)، ومسلم (1770)، وعند مسلم: الظهر بدل العصر. (¬3) "السيرة" 2/ 234، و"تاريخ الطبري" 2/ 582. (¬4) "المغازي" 2/ 497.

المسلمين يقال لها: رُفَيْدَة، كانت تداوي الجرحى، وتقوم على المرضى تحتسب فعلها عند الله تعالى، وكان كَلْمُ سَعْدٍ قد انفجرَ (¬1). وقال هشام (¬2): حاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار، وكان حُييَ بن أخطب قد دخل في حصن كعب بن أسد وفاءً لكعبٍ بما عاهده عليه، فلما تيقنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير منصرف عنهم حتى يُناجزَهم، اجتمعوا وتشاوروا، فقال لهم كعب بن أسد: قد نزل بكم ما تَرَوْنَ فاختاروا إحدى ثلاث: إما أن نبايعَ هذا الرجل ونصدِّقَه وقد علمتم أنه نبي مُرْسَلٌ، وأنه الذي قد وجدتم نَعْتَه في كتابكم، فآمنوا به، واحقنوا دِماءَكم، وأحرزوا أموالكم وأولادكم ونساءكم، فأبَوْا وقالوا: لا نتركُ دينَنا، قال: فتعالَوْا حتى نقتلَ أبناءَنا ونساءنا، ونخرجَ بسيوفنا، فإما أن نُقْتَلَ أو نَظْفَرَ، فإن قُتِلنا لم يكن وراءنا هَمٌّ، وإن ظَفِرنا فما نعجزُ عن اتخاذ الأبناء والنساء. قالوا: فإذا قتلنا أهلنا فأي عيش يبقى لنا بعدهم. قال: فإن أبيتم فالليلةُ ليلةُ السبت ومحمدٌ وأصحابه آمنون من خروجنا إليهم، فأخرجوا فلعلنا أن نصيب منهم غِرَّة، فقالوا: لا تُفْسِدْ علينا سبْتَنا فنُمْسَخَ كما مُسِخَ غيرُنا. فقال لهم: يا إِخْوَةَ القِرَدَةِ، والله ما بات أحدكم منذُ ولدته أمه ليلة من الدهر حازمًا! ثم اتفقوا فيما بينهم أن يرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبوا منه أبا لُبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ليستشيروه في أمرهم، وكانوا حلفاء الأوس. قال أبو لبابة: فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهَب إلى حُلفَائِكَ، فإنَّهم أَرسَلُوا إليكَ من بَينِ الأَوسِ والخَزرَجِ"، فدخلت إليهم فمشَوْا إلي، وبكى النساءُ والصبيانُ وقالوا: نحن مواليك دون الناس كلهم، وقد عرفت ما صنعنا في أمرك وأمر قومك يومَ الحدائقِ ويومَ بُعاثٍ، وكلَّ حَرْبٍ كنتم فيها، وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، وخيَّرنا بأن [لا] يفارقنا حتى ننزل على حكمه، فماذا ترى؟ فإنا قد اخترناك على غيرك. فرقَّ لهم وقال: نعم فانزلوا على حكمه. وأشار إلى حلقه إِنه الذبح. ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 239. (¬2) هكذا جاء في النسخ، ولعله ابن هشام.

قال أبو لُبابةَ: فوالله ما زالَت قدمي عن مكانها حتى ندمت واسترجعت، وقلت: خُنْتُ الله ورسولَه، ونزلتُ، وإنَّ لحيتي مبتلةٌ بالدموع والناس ينتظرون رجوعي إليهم، فأخذت طريقًا من وراء الحِصنِ إلى المسجد، فربطت نفسي إلى ساريةٍ، وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - صنيعي. فقال: "دَعُوه حتَّى يُحْدِثَ الله فيهِ ما يَشَاءُ، لو كانَ جاءَني لاسْتَغفَرتُ له، فإذْ لم يَأتِني وذَهَب، فَدعُوهُ". فأقام سبعًا لا يأكل ولا يشرب في حَرٍّ شديد وقال: لا أزال كذا حتى أفارقَ الدنيا أو يتوبَ الله علي. قالت أم سلمة: فرأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَحُلُّ رباطه، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرفع صوته يكلمه ويخبره بتوبته، وما يدري كثيرًا مما يقول من الجَهْدِ والضعفِ، ولقد كان الرباط حَزَّ في ذراعه، وكان من شَعَرٍ، وكان يداويه بعد ذلك دهرًا (¬1). وقال ابن إسحاق: نزلتْ توبةُ أبي لبابة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سَلَمةَ. قالت: فقلت: ألا أُبَشَّره؟ قال: "بَلَى". فناديته: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. فثار الناس ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكونَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يطلقني بيده. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلقه (¬2). قال الواقدي: وأسلم في تلك الليلة جماعة من قُرَيظة والنَّضير منهم: عمرو بن سُعْدى القُرَظي، وكان قد أبى أن ينقض ما بينه وبيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نقضت قريظة، وقال: لا أَغْدِرُ بمحمد. فخرج في تلك الليلة، فمر بحرسِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيهم محمَّد بن مسلمة فلم يعرض له، فذهب فلا يدرى أين سلك (¬3). قال البلاذري: ومن أشراف قريظة أسيد بن أعصم الساحر أخو لبيد، ورفاعة بن زيد بن التابوت, والزَّبِير بن باطا، وقردم بن كعب، وكعب بن أسد، وكان المشار إليهم، في آخرين (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 235 - 237، و"المغازي" 2/ 503 - 508، وسياق القصة منهما جميعًا. (¬2) "السيرة" 2/ 237. (¬3) "المغازي" 2/ 503 - 504. (¬4) "أنساب الأشراف" 1/ 333، وذكرهم البلاذري في معرض حديثه عن عظماء اليهود فذكرهم، لا أنهم أسلموا.

ولما أصبحوا، نزلوا على حُكْمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتواثبت الأوس وقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دونَ الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج ما فعلت، يشيرون إلى بني قينقاع الذين شفع فيهم عبد الله بن أبي. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعَاشِرَ الأَوْسِ، أَمَا ترَضَوْن أَن يحكُمَ فيهم رَجلٌ مِنكُم؟ " قالوا: بلى. قال: "فَذَاكَ سعدُ بنُ معاذٍ". قالوا: رضينا، فقال: "عَليَّ بسَعدِ بن مُعاذٍ". فجيء به على حمار وعليه إِكافٌ من ليف، فجعلوا يقولون: يا أبا عمرو، حُلفاؤك ومواليك ومَنْ قَدْ عَلِمْتَ. وسعد يقول: أنا لا أبالي في الله لومة لائم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احكُم فِيهم". فقال: أحكم فيهم أن يُقْتَلَ مُقاتِلُهم، وتُسبى ذراريهم، وتُقْسَمَ أموالُهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد حكمت فيهم بحكم الله ورسوله، وأنزلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار ابنة الحارث، امرأةٍ من بني النجار (¬1). وكان من حكم سعد أن يقتل كل من جَرت عليه الموسى (¬2). قال عطية القُرَظي: وكانوا يقتلون من أنبت، فكنت فيمن لم يُنْبِت (¬3). ثُمَّ كُتِّفوا، وجعل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن سلام، ثم جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق الذي هو اليوم سوقُ المدينة، وحفر لهم الخنادق، وخدَّ لهم الأخاديد، وأُخْرِجوا رَسْلاً فضربت أعناقهم، وكان عِدَّتُهم من الست مئة إلى السبع مئة أو ثمان مئة، وقيل: أربع مئة، وفيهم كعب بن أسد، وحُيَيُّ بن أخطب، وعَزَّال بن شمويل (¬4). ولما جيء بحُييِّ بنِ أخطب، كان عليه حُلَّةٌ قضاعية (¬5) قد شقَّقها من كل جانب لئلا يلبسَها غيرُه، ويداه مجموعةٌ إلى عُنُقه، فلما رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والله ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنه من يَخْذُلِ اللهَ يُخْذَلْ، وهذا أمر قَدَّره الله، ومَلْحمةٌ كتبها على بني إسرائيل، ثم قُدَّمَ فَضُرِبَتْ عنقه (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 239 - 240. (¬2) انظر "المنتظم" 3/ 239. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (22659). (¬4) انظر "السيرة" 2/ 240 - 241، و"تاريخ الطبري" 2/ 590. (¬5) هكذا في النسخ، وفي "السيرة": "فقَّاحية" وهي التي تضرب إلى الحمرة. (¬6) "السيرة" 2/ 241.

وكان الزَّبِير بنُ باطا يكنى أبا عبد الرحمن قد منَّ على ثابت بن قيس بن شمّاس؛ أخذه يوم بُعاث أسيرًا، فجز ناصيته وأطلقه. وكان الزَّبير شيخًا كبيرًا فرآه ثابت في ذلك اليوم فعرفه وقال له: هل تعرفني؟ فقال: وهل أجهلك؟ قال: فإني أريد اليوم أن أجزيك بِيَدِكَ عندي، فقال: إن الكريم يجزي الكريم. فجاء ثابتٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستوهبه منه وعرَّفه يَدَهُ عنده فوهبه له، فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وهب لي دمك. فقال: شيخٌ كبيرٌ لا مال ولا أهل، فما يصنع بالحياة؟ فاستوهب ثابت ماله، وأهله وولده وأتاه فأخبَره، فقال: أي ثابت ما فعل الذي كأَنَّ وَجْهَه مرآةٌ صَقيلةٌ يترآى فيها العذارى وجوههن، كعبُ بن أسد؟ قال: قتل، قال: فما فَعَل سيِّدُ الحاضِر والبادي حُيَيُّ بنُ أخطب؟ قال: قتل، قال: فما فعل مُقَدَّمُنا إذا شدَدْنا، وحامينا إذا كررنا: عَزّال بن شمويل قال: قتل. وعدَّ جماعة، وثابت يقول: قتلوا. فقال له: يا ثابت، فإني أسألك بيدي عندك إلَّا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعدهم خَيْر حتى ألقى الأحبة. فقال له: تلقاهم في نار جهنم، فقتله (¬1). وقالت عائشة رضوان الله عليها: لم يقتلْ من نسائهم إلا امرأةٌ واحدة، والله إنها لقاعدة عندي تتحدث وتضحك ظَهْرًا وبطنًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق يقتلُ رجالَهم، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ فقالت: ها أنا والله. فقلت لها: مالك ويلك؟ قالت: أُقتلُ. قلت: ولم؟ قالت: لحَدَثٍ أحدثته. فذهبوا بها فضربوا عنقَها، فلا أنسى طيبَ نَفْسِها، وكثرةَ ضحكها. وقد عَرَفَتْ أنها تُقْتَلُ، وهذه المرأة رمت على خَلَّاد بن سويد رحًا فقتلته، فقتلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أموالهم، ونساءهم وأولادهم بين المسلمين، ووُجِدَ في حصونهم ألفٌ وخمس مئة سيف، وألف رمح، وألف وخمس مئة ترس، وأموالٌ عظيمة، ومواشي كثيرة، فكانت السُّهمانُ بعد ما أَخرجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخُمْسَ على ثلاثة آلافٍ ونَيِّفًا وسبعين سهمًا، للفارس سهمان (¬3)، وللراجل سهم، واستعمل على ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 242 - 243، والقائل له هذه المقالة هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -. (¬2) "السيرة" 2/ 242. (¬3) في "السيرة": للفرس سهمان، ولفارسه سهم.

الخُمس مَحْمِيَةَ بنَ جَزْءٍ الزُّبيدي، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن زيد الأنصاري إلى نجد بسبايا من قريظة، فابتاع له بها خيلًا وسلاحًا (¬1). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَهب ويَعتق من الخُمس، واصطفى رَيحانة بنت عمرو بن جُنافة، وكانت عنده حتى توفي عنها وهي في مِلكه، وكان أراد أن يتزوجها فأبت، وقالت: إذا كنت في المِلْكة، كان أخفَّ عليَّ وعليك. ولما سباها، أقامت مدة على يهوديتها، فهجرها حتى أسلمت، وبشره بإسلامها ثعلبةُ بنُ سَعْيَةَ فَسُرَّ بها (¬2). * * * وفيها: سقط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفرس، فجُحش على شقه الأيمن. قال الإِمام أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمَّد بن عمرو، حدثنا علي بن خلَّاد، عن أبيه، عن ثابت، عن أنس قال: سَقَط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فَرَس، فَجُحِشَ شِقه الأَيمنُ، فدخلوا عليه فصلى بهم قاعدًا وأشار إليهم أن اقعدوا، فلما سلم قال: "إِنَّما جُعِلَ الإمامُ إمامًا ليُؤْتَمَّ به، فلا تَختَلِفوا عليه، فَإذا كَبَّر فكَبِّروا, وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا صَلَّى قاعِدًا فَصلُّوا خلفه قعودًا". أخرجاه في "الصحيحين (¬3) ". * * * وفيها فُرضَ الحج (¬4)، قال الإِمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمر، عن الزهري، عن نافع، عن ابن عمر قال: قدم وفْدُ ضِمامِ بن ثَعلبةَ من بني سَعْد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة خمس من الهجرة، فذكر لهم فرائض الإِسلام من الصَّلاة، والزَّكاة، والصَّيام، والحجَّ (¬5). ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 244 - 245، وانظر 2/ 361. (¬2) "السيرة" 2/ 245. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (12656)، والبخاري (805)، ومسلم (411)، وقوله: "فلا تختلفوا عليه" هو من حديث أبي هريرة عند البخاري (722) ومسلم (414). (¬4) في "البداية والنهاية" 4/ 180: أنه فرض في سنة ست وهو الأصح كما رجحه ابن حجر في "الفتح" 3/ 378. (¬5) لم نقف عليه في "المسند" من حديث ابن عمر، وهو في "المسند" (2254) من حديث ابن عباس، وليس فيه ذكر للسنة الخامسة.

جليبيب

فصل وفيها توفي جُلَيبيب (¬1) من بني ثعلبةَ، حليف الأنصار، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار. قال الإِمام أحمد: حدثنا عفان، وقال ابن سعد: حدثنا عارم قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن كِنانة بن نُعَيم العَدَوي، عن أبي بَرْزَةَ الأسلمي: أن جُلَيبيبًا كان امرءًا من الأنصار، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لأحدهم أيَّمٌ، لم يزوَّجْها حتى يُعْلِمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ألَهُ فيها حاجةٌ أم لا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم لرجل من الأنصار: "أَتُزوَّجني ابْنَتَك"؟ قال: نعم. قال: "لَستُ أُريدُها لِنَفْسِي" قال: فَلِمَن؟ قال: "جُلَيبيب"، قال: حتى أستأمر أُمَّها، فأَخبرها. فقالت: حَلْقى، لَعَمْرُ اللهِ لا أُزوِّجُها، فلما قام أبوها ليأتيَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت الفتاةُ من خِدرها: من خطبني إليكما؟ قالا: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: أفتردَّانِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره؟ ادْفَعاني إليه، فإنه لا يُضَيِّعُني. فذهب أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: شأنك بها، فزوِّجْها من شئت. فزوَّجها جُلَيْبيبًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ صُبَّ عليهمُ الخَيْرَ صَبًّا، ولا تَجعَل عَيشَهُما كدًّا". فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغزى له، قال: "هَل تَفْقِدُونَ من أَحَدٍ"؟ قالوا: نفقد فلانًا وفلانًا. فقال: "ولَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيبيبًا. فَاطْلُبُوه"، فوجدوه في القتلى إلى جانب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا منَّي وأنا مِنهُ"، فوضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ساعديه حتى حفروا له، ماله سَريرٌ إلَّا ساعِدَيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وضعه في قبره. قال ثابت: فما كان في الأنصار أيِّمٌ أنْفَقَ منها (¬2). وقول المرأة: "حلقى" بإسكان اللام مخففة معناه: أصابها وجع في حلقها. خلاّد بن سُوَيْد ابن ثعلبةَ الأنصاري الخزرجي (¬3) من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه عَمْرة بنت ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 5/ 393، و"المنتظم" 3/ 241، و"الإصابة" 1/ 242. (¬2) أخرجه ابن سعد "الطبقات الكبرى" 5/ 393 - 394، وأحمد في "مسنده" (19784). (¬3) "الطبقات الكبرى" 5/ 491، و"تاريخ الطبري" 2/ 593، و"المنتظم" 3/ 242، و"الإصابة" 1/ 454.

سعد بن معاذ

سعد خزرجية، شهد العقبة مع السبعين، وبدرًا، وأحدًا، والخندق، ووثبت عليه بَنانةٌ من حِصْنٍ لبني قريظة فشدخت رأسه، فقتلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به - وقد ذكرناه - ولمّا قتل، جاءت أمه مُنْتَقِبَةً فقيل لها: أتنتقبين وقد قُتِلَ خَلادٌ؟ فقالت: إن كنت رُزِئتُ خَلّادًا فما رُزِئتُ حياءَ وجهي. سعد بن معاذ (¬1) ابن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، أبو عمرو، من الطبقة الأولى من الأخيار، وأمه: كَبْشةُ بنتُ رافع بن معاوية خزرجية، أسلمت وبايعت. وأسلم سعد على يَدَيْ مُصْعَبِ بن عمير، فأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل، وشهد بدرًا وأحدًا وثبت يومئذ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخى بينه وبين أبي عُبيدة بن الجراح، وقيل: بينه وبين سعد ابن أبي وقاص. وقال أبو المتوكل: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحمَّى حظُّ كلِّ مُؤمِنٍ مِنَ النَّارِ"، فسألها سعد فلزمته، فلم تفارقه حتى مات (¬2). قال أبو سعد: وكواه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنار مرتين بسبب جرحه، وكان جُرحَ في الخندق. وقال سعدٌ لمّا جرح: اللهمَّ إنك تعلمُ أنه ليس أحدٌ أحبَّ إلي أن أجاهدَهم فيك من قومٍ كذَّبوا رسولك وأخرجوه، اللهمَّ وإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان قد بقي من حرب قريش شيء فأبقني أجاهدهم فيك، اللهمَّ إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافْجُرْها واجعل موتي فيها. فانفجرت من ليلته، فلم يَرُعْهُم - وفي المسجد معه قومٌ من بني غِفار - إِلاّ والدمُ يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قِبَلِكُم؟ فإذا جرح سعد يَغْذو دَمًا، فما زال يسيل حتى مات (¬3). ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 3/ 388، و"المنتظم" 3/ 242، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 279، و"الإصابة" 2/ 37، و"البداية والنهاية" 4/ 126. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 389. (¬3) أخرجه البخاري (4122)، ومسلم (1769) (67) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

وقال جابر: رُمِيَ سعدُ بنُ معاذٍ يومَ الأحزاب فَقُطِعَ أكحلُه، فحسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنار، فحسمه أخرى فانتفخت يده فنزفه، فلما رأى ذلك قال: اللهمَّ لا تُخرجْ نفسي حتى تُقِرَّ عيني من بني قريظة. فاستمسك عِرْقُه فما قطر منه قطرة، فلما نزلوا على حكمه - وكانوا أربع مئة - فَقُتِلوا، انفتق عِرْقُه فمات (¬1). وقالت عائشة رضوان الله عليها: انفجر جرح سعد وقد كان برأ، فحضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر، والذي نفسي بيده إني لأَعْرِفُ بكاء أبي من بكاء عمر. قيل لها: فكيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع؟ قالت: كانت عيناه لا تدمعان على أحد ولكنه إذا وَجِدَ فإنما هو آخذ بلحيته (¬2). وقال ابن إسحاق: إنما توفي سعد قبل قتل بني قريظة وقسمة أموالهم، ويقال: مرت به عَنْز وهو مضطجع في المسجد فأصابت جُرحه، فما رَقَأ حتى مات. (¬3) وقال الواقدي: كانت وفاتُه في ذي القعدة وهو ابن سبع وثلاثين سنةً، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحمل جِنازته بين العَمودَيْنِ مقدار ثلاثين ذراعًا، وحفروا قبره فوجدوا منه رائحة المسك، ودفن بالبقيع (¬4). وعزّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمه فيه وقال لها: "ابنك أول من ضحك الله إليه" (¬5). وقال ابن سعد، يرفعه إلى رجل من الأنصار قال: لما قَضى سعدٌ في بني قريظة ثم رجع، انفجر جرحه، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فأخذ رأسه فوضعه في حِجره، وسُجِّيَ بثوب أبيض إذا مُدَّ على وجهه خرجت رجلاه، وكان رجلًا أبيضَ جسيمًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ إنَّ سَعْدًا قد جَاهَدَ في سَبيلِكَ، وصَدَّقَ رَسولَكَ، وقَضَى الذي عَليه، فَتقبَّلْ رُوحَهُ بِخَيرِ ما تَقَبَّلْتَ بهِ رُوحًا". وسمع سعد كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففتح ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2208) مختصرًا، والترمذي (1582)، وأحمد في "مسنده" (14773). (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 391. (¬3) لم نقف عليه في "السيرة" ولا غيرها من المصادر التي تأخذ عن ابن إسحاق، وأورده ابن سعد في "الطبقات" 2/ 73. (¬4) "المغازي" 2/ 527 - 528. (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (27581) من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن.

عينيه، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله، أما إني أشهد أنك رسول الله. فلما رأى أهل سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وضع رأسه في حجره ذُعِروا من ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أمَر مِنْ ملائكتِه عَدَدَكُم ليشهدوا وفاة سعد" (¬1). وقال الحسن: لما مات سعد، وكان سمينًا جَزْلًا، جعل المنافقون وهم يمشون خَلْفَ جِنازته يقولون: لم نرَ كاليوم رجلًا أخف. وقالوا: تدرون لم ذلك؟ لِحُكْمِه في بني قريظة، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والذي نَفْسِي بيَدِه لَقَد كَانَتِ المَلائِكَةُ تَحمِلُ سَرِيرَهُ". (¬2) وقال ابن عمر رضوان الله عليهما: بلغني أنه شهد سعد بن معاذ سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد ضُمَّ صاحبُكم ضمَّةً، ثم فُرَّجَ عنه (¬3) ". وفي رواية: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي في جنازته على رؤوس أصابعه، فقيل له في ذلك: فقال: أمَا قَدَرتُ أَن أَضَعَ قَدمي على الأَرْضِ مِن كَثْرةِ ما نَزَلَ مِنَ الملائِكَةِ في جَنَازتهِ (¬4) ". وفي رواية ابن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا العَبدُ الصَّالِحُ الذي تَحرَّكَ له العَرشُ، وفُتِحتْ له أَبوابُ السَّماءِ، وشَهِدَه سَبعونَ ألفًا مِنَ الملائِكَةِ لم يَنزِلوا الأرضَ قبلَ ذَلكَ، ولَقَد ضُمَّ ضَمَّةً، ثم أُفرِجَ عنه (¬5) ". وفي رواية عن سعيد المقبري قال: لما دَفَنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعدًا قال: لو نجا أحد من ضَغْطَةِ القبر، لنجا سعد، ولقد ضُمَّ ضمة اختلفت منها أضلاعه من أثر البول (¬6). وقال جابر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَد اهتَزَّ العَرشُ لمَوتِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ" (¬7). ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 3/ 395. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 397. (¬3) "الطبقات الكبرى" 3/ 397. (¬4) لم نقف على هذه الرواية. (¬5) "الطبقات الكبرى" 3/ 398. (¬6) "الطبقات الكبرى" 3/ 398. (¬7) أخرجه البخاري (3803).

وقالت أسماء بنت يزيد: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سعد بن معاذ: "أَلَا يَرقأُ دَمعُكِ ويَذهَبُ حُزنُكِ، فإنَّ ابنَكِ أَوَّلُ مَن ضَحِكَ الله لَه، واهتَزَّ له العَرشُ" (¬1). وروى الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَقَد اهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لوفاةِ سَعدٍ". فرحًا به، قوله: فرحًا به، تفسير من الحسن (¬2). وقال البخاري يرفعه إلى جابر بن عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اهتَزَّ العَرشُ لموتِ سَعدِ بن معاذٍ". فقال رجل لجابر: فإن البراءَ يقول: "اهتَزَّ السَّريرُ". فقال: إِنَّه كان بين هذين الحيين ضغائنُ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لموتِ سَعدِ ابن معاذٍ" (¬3). وعن البراء: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتيَ بثوبِ حريرٍ فجعلَ أصحابُه يتعجَّبون من لينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمناديلُ سَعدِ بن مُعاذٍ في الجنَّةِ أَلْيَنُ مِن هَذا" (¬4). وأُتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم بجُبَّةٍ من ديباجٍ منسوجةٍ بالذهب، بعث بها أُكَيْدِرُ دُوْمةِ الجَنْدَل في غَزاةِ تبوك، فعجب الناسُ منها، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَعجَبونَ منها، لَمَنادِيلُ سَعدٍ في الجنَّة أَحسَنُ مِمَّا تَرَونَ" (¬5). وكان لسعد - رضي الله عنه - من الولد: عمرو وعبد الله، أمهما هند بنت سِماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل. وكان لعمرو بن سعد من الولد تسعة نفر وثلاث نسوة، منهم: عبد الله بن عمرو، قُتِلَ يومَ الحَرَّة، ولسعدِ بن معاذٍ عَقِبٌ (¬6). أسند سعد الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (27581) وتقدم قريبًا. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 401. (¬3) أخرجه البخاري (3803). (¬4) أخرجه البخاري (3802)، ومسلم (2468). (¬5) أخرجه البخاري (2615)، ومسلم (2469) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬6) "الطبقات الكبرى" 3/ 389.

ذكر أخي سعد لأبيه وأمه

ذكر أخي سعد لأبيه وأمه: واسمه: عمرو (¬1)، من الطبقة الأولى من الأنصار وليس له عقب، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عُمَيْر بن أبي وقاص، شهد عمرو بدرًا، وقتل: يوم أحد، وكان له يومَ قُتِلَ ثنتان وثلاثون سنةً. عَمرة بنت مسعود (¬2) ابن قيس بن عمرو، أم سعد بن عُبادة الخزرجي، توفيت وسعدٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدُوْمَةِ الجندل، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى قبرها فصلى عليها، وسأله سعد عن نَذْرٍ كان عليها، فقال: "اقضِهِ عَنها" (¬3) أسلمت عمرة، وبايعت، وتوفيت في شهر ربيع الأول. وقال ابن عباس: قال سعد بن عبادة: يا رسول الله، إن أمي ماتت وأنا غائب عنها، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: "نَعَم". قال: يا رسول الله، فإني أُشهِدُك أن حائطي المِخْرافَ صدقةٌ عنها (¬4). وقال قتادة: سمعت الحسن يحدث عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت، فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت فأتصدق عنها؟ قال: "نعم". قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "سَقْيُ المَاءِ". قال: فتلك سقايةُ آلِ سعد بالمدينة (¬5). وكان الحسن يقول: قد شرب أبو بكر وعمر من سقاية أم سعد (¬6). وهب بن مِحْصَن بن حُرْثان (¬7) أبو سنان الأسدي أخو عُكّاشة، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، وأحدًا، والخندق، وتوفي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحاصر بني قُريظة، وله أربعون سنة. ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 3/ 402، و"الإصابة" 3/ 17. (¬2) "الطبقات الكبرى" 10/ 419. (¬3) أخرجه البخاري (2761)، ومسلم (1638) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه البخاري (2762). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (22459). (¬6) "الطبقات الكبرى" 3/ 568. (¬7) "الطبقات الكبرى" 3/ 87، و"تاريخ الطبري" 2/ 593، و"الإصابة" 4/ 96.

السنة السادسة من الهجرة

السنة السادسة من الهجرة فيها: كانت سرية محمد بن مَسْلَمة الأنصاري (¬1) لعشرٍ خَلَوْنَ من المحرم إلى القُرَطاءِ، بطنٍ من بني كلاب، كانوا ينزلون ماءً يقال له: البَكَرات قريبًا من ضَرِيَّةَ، وبين ضَرِيَّةَ والمدينةِ سبعُ ليال، فشنَّ عليهم الغارة، وأسر ثُمامةُ بن أُثال الحَنَفي وقتل منهم جماعة، وساق مئة وخمسين بعيرًا، وثلاثة آلاف شاة، وغاب عن المدينة تسع عشرة ليلة. وفيها: كانت غزاةُ بني لِحيان (¬2) في ربيع الأول، وقيل: في جمادى الأولى. خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في مئتي رجل، واستخلف عليها ابنَ أم مَكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، وسار نحو عُسْفانَ في طلب ثأر خُبَيْب بن عدي وأصحابه، وسلك على جبل يقال له: غُراب قريبًا من المدينة في طريق الشام، ثم عطف نحو ناحية المَحَجَّة فنزل على ماء لبني لَحيان يقال له: غُرَان، في واد بينه وبين عُسْفان خمسُ ليالي حيث كان مُصابُ أصحاب بئر مَعونة، فنزل هناك فترحَّم عليهم واستغفر لهم. وسمعتْ به بنو لحيان فهربوا إلى رؤوس الجبال، وبعث أبا بكر رضوان الله عليه في عشرة، فوصل إلى كُراعِ الغَميم ليُرْعِبَ أهلَ مكة، وقيل: في هذه الغزاة مر رسول - صلى الله عليه وسلم - بقبر آمنة بعُسْفان. وفيها: كانت غزاة الغابة (¬3) في ربيع الأول، ويقال لها: غزاة ذي قَرَدٍ، وهي على بَريدٍ من المدينة. ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 534، و"الطبقات الكبرى" 2/ 74، و"أنساب الأشراف" 1/ 454، و"المنتظم" 3/ 249، و"البداية والنهاية" 4/ 149. (¬2) "السيرة" 2/ 279، و"المغازي" 2/ 535، و"الطبقات الكبرى" 2/ 74، و"أنساب الأشراف" 1/ 415 - 416، و"تاريخ الطبري" 2/ 595، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 364، و"المنتظم" 3/ 249، و"البداية والنهاية" 4/ 81. (¬3) "السيرة" 2/ 581، و"المغازي" 2/ 537، و"الطبقات الكبرى" 2/ 76، و"أنساب الأشراف" 1/ 416، و"تاريخ الطبري" 2/ 596، و"المنتظم" 3/ 251، و"البداية والنهاية" 4/ 150.

قال ابن إسحاق: رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزاة بني لحيان، فأغار عُيَيْنَةُ بنُ حِصْن بن بدر الفَزاري في خيل غَطَفان على لِقاحِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت عشرين لَقْحةً ترعى بالغابة، وفيها رجل من بني غَطَفان وامرأة، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة، وكان عيينة في أربعين فارسًا. وقيل: إن الرجل الراعي كان ابن أبي ذر، وجاء الصَّريخُ إلى المدينة فنودي: يا خيلَ اللهِ اركبي. وهي أول ما نودي بها في المدينة، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عُبيدة بن الجرَّاح وسَلَمة بن الأكوع في آثارهم. قال البخاري: حدثنا حسان، عن محمد بن طلحة، عن حُميد، عن ثابت، عن سَلَمة بن الأكوع قال: خرجتُ قبل أن يؤذَّن بالأولى، وكانت لِقاحُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترعى بذي قَرَد، فلقيَني غلامٌ لعبد الرحمن بن عوف، فقال: أُخِذَتْ لِقاحُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: من أخذها؟ قال: غطفان. فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاهُ. قال: فأسمعتُ ما بين لابَتَيْها - أو لابَتَيِ المدينةِ - ثم اندفعت على وجهي فأدركتهم يسقون على الماء، فجعلت أرميهم بنبلي وكنت راميًا، وأقول: أنا ابن الأكوع، اليومُ يومُ الرُّضَّعِ. وأَرْتَجِزُ حتى استَعَدْتُ اللِّقاح منهم، واستلبت ثلاثين بُرْدَةً. قال: وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقلت: يا نبي الله، قد حَمَيْتُ القومَ الماءَ. فقال: "يا ابنَ الأَكْوَعِ، مَلكْتَ فَأَسْجِح". قال: فرجعنا، وأَرْدَفَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته حتى دخلنا المدينة. وهو حديث طويل متفق عليه (¬1). وفيه قال سلمة: فرجعنا من (¬2) الحديبية إلى المدينة، فنزلنا منزلًا، بيننا وبين بني لحيان جَبَلٌ - وذكر ما يدل على أن هذه الغزاة بعد غزاة الحديبية - وبنو لحيان مشركون، فاستغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن رَقيَ ذلك الجبلَ في تلك الليلة طليعةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. قال سلمة: فرقيته مرتين أو ثَلاثًا، ثم قَدِمْنا فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهره مع غلامه رَباح، فخرجت معه بفرس طلحة، وذكر غارةَ عبد الرحمن الفزاري على المدينة، وأَخْذَهُ ظَهْرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقَتْلَ راعيه. قال سلمة: فقلت: يا رَباحُ، خذ هذا الفرسَ، فأبلغه طلحةَ بن عُبَيْد الله، وأَخْبر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4194)، ومسلم (1806) والحديث بهذا السياق انفرد بإخراجه مسلم كما سيأتي. (¬2) في النسخ: إلى؟ !

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المشركين قد أغاروا على سَرْحِه، ثم قمت على أَكَمَةٍ فاستقبلت المدينة وناديت: يا صَبَاحَاهُ ثلاثًا، ثم خرجتُ في آثار القوم أرميهم بالنبل، فألحقُ رجلًا فأصكُّه (¬1) سَهْمًا حتى خَلَصَ نَصْلُه إلى كتفيه، وأقول: خذها وأنا ابن الأكوع، فما زلت أرميهم وأعْقِرُهم، فإذا رجع فارس إليَّ جلست في أصل شجرة ثم أرميه فأعقِره، حتى دخلوا في مضايق الجبل، فجعلت أعلو على الجبل وأرميهم بالحجارة حتى خَلَّصْتُ ظَهْرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمَعَهُ، وألقَوْا أكثر من ثلاثين بُردةً، وثلاثين رمحًا، ولا يطرحون من شيء إلا جعلت عليه آرامًا (¬2) من الحجارة يعرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، حتى إذا أتوا متضايِقًا من ثَنِيَّةٍ أتاهم فلان بن بدر الفزاري، فجلسوا يَتَضَحَّوْنَ، وجلست على رأس قَرْنٍ، فقال الفزاري: ما هذا؟ فقالوا: لقينا منه البَرْحَ، ما فارقنا منذ غَلَّس، يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا، فقال: فليقم إليه نفر منكم أربعة. قال: فصعد إلي منهم أربعة، فلما أمكنوني من الكلام قُلْتُ لهم: هل تعرفوني؟ قالوا: لا، قلت: أنا سلمة بن الأكوع والذي كَرَّمَ وَجْهَ محمد - صلى الله عليه وسلم - لا أطلب رجلًا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيُدركَني. فرجعوا، وإذا بفوارسِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلَّلون الشجَرَ وفي أوائلهم الأَخْرَمُ الأَسَدي على إثره أبو قَتادَةَ الأنصاري، وعلى إثره المِقدادُ بن الأسود الكِندي. قال: فأخذت بِعِنان الأَخرَم، وقلت: يا أخْرَم، احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، فقال: يا سلمة، إن كنتَ تؤمنُ بالله واليوم الآخر، وتعلم أنَّ الجنةَ حقٌّ والنار حق، فلا تَحُلْ بيني وبين الشهادة. قال: فخلَّيته، فالتقى هو وعبد الرحمن الفزاري، فعثر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحوّل على فرسه، ولحق أبو قتادةَ فارسُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الرحمن فطعنه فقتله، فوالذي كرَّم وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - لتبعتهم أعدو على رِجْلَيَّ حتى ما أرى ورائي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا ولا غبارهم شيئًا حتى يعدِلُوا قبل غروب الشمس إلى شِعْبٍ فيه ماء يقال له: ذا قَرَدٍ ليشربوا منه وهم عطاش قد ولَّوْا هاربين، قال: فحلَّيْتُهم عنه (¬3)، فما ذاقوا منه ¬

_ (¬1) صكه: ضربه. (¬2) الآرام: الأعلام. (¬3) أي: أجليتهم عنه.

قطرة. قال: ويخرجون فَيشتدون في ثَنِيَّةٍ، فأعدو فألحق منهم رجلًا فأصكُّه بسَهْم في نُغض (¬1) كتفه وقلت: خذها وأنا ابن الأكوع. فقال: يا ثكلته أمه، أكْوَعُه بُكْرَةَ (¬2)؟ قلت: نعم يا عدوَّ نفسه. قال: وأوردوا فرسين على ثنيَّةٍ، فجئت بهما أسوقُهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولحقني عامرٌ بسطيحةٍ فيها مَذْقَةٌ من لبن، وسطيحةٍ فيها ماءٌ فتوضأت وشربت، فأتيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على الماء الذي حَلَّيْتهم عنه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ تلك الإبلَ، وكلَّ بُرْدَةٍ ورُمحٍ استنقذته من المشركين، وكلَّ شيءٍ خلَّصتُه، وإذا بلال قد نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم وهو يشوي منها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله، خَلِّني، وأَنْتَخِبُ من القوم مئة رجل فأتبعُ القوم فلا أُبقي منهم مُخبِّرًا إلا قتلته. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه في ظل النار، وقال: "يا سَلَمةُ، أَتُراكَ كُنتَ فَاعِلًا"؟ قلت: نعم والذي أكرمك، فقال: "إِنَّهم الآَنَ ليُقْرَوْنَ في أَرضِ غَطَفانَ". فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جَزورًا، فلما كشطوا جلده رأوا غبارًا، فقالوا: أتاكم القوم، فخرجوا هاربين، فلما أصبحنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ فُرسانِنَا اليَومَ أَبو قَتَادَةَ، وخَيرُ رَجَّالَتِنا سَلَمةُ". قال: وأعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهمين: سهم للفارس وسهم للراجل، فجمعهما لي جميعًا، ثم أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على العَضْباءِ راجعين إلى المدينة. قال: فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وسنذكر تمام الحديث إن شاء الله تعالى في غزاة خيبر. ¬

_ (¬1) هو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف، وقيل هو أعلى الكتف. (¬2) أي: أأنت الأكوع الذي كنت بكرة هذا النهار. (¬3) إلي هذا الحد الذي ذكره المصنف انفرد بإخراجه مسلم (1807). وأما ذكر قصة خيبر فهي من المتفق عليها، وقال الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" 1/ 587: في هذا الحديث ذكر الإغارة على السرح، وقصة عامر وارتجازه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأعطين الراية" مما قد اتفق البخاري معه على معناه، ولكن فيه من الزيادة والشرح ما يوجب كونه من أفراد مسلم.

وفيها: كانت سرية عُكَّاشةَ بن مِحْصَن إلى الغَمْر (¬1)، في ربيع الآخرة، وهو ماء لبني أسد على ليلتين من فَيْد، ويقال له: غَمْر مرزوق، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) في أربعين رجلًا منهم ثابت بن أَقْرَم، وشجاع بن وهب، فنزل ماءهم فهربوا، فساق مئتي بعير إلى المدينة. وفيها: كانت سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القَصَّةِ (¬3)، في ربيع الآخر، وبين ذي القَصَّةِ والمدينةِ أربعةٌ وعشرون ميلًا من ناحية الرَّبَذةِ، وكان مع محمد عشرة من الأنصار، فَبَدرهُم العدوُّ فقتلوهم، ونجا محمد جريحًا مُثْخنًا. وفيها: كانت سرية أبي عبيدةَ بن الجراح - رضي الله عنه - إلى ذي القَصَّة أيضًا (¬4)، يطلب ثأرًا له، للذين قُتِلوا مع محمد، وكان هناك أنمار، وثعلبة، ومحارب، وكان أبو عبيدة في أربعين رجلًا، فلما بلغهم مجيئه هربوا في الجبال، فاستاق نَعَمَهمُ إلى المدينة، ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 550، و"الطبقات الكبرى" 2/ 81، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"تاريخ الطبري" 2/ 640، و"المنتظم" 3/ 253، و"البداية والنهاية" 4/ 178. (¬2) كذا، والذي في المصادر أن الذي خرج هو عكاشة. (¬3) "المغازي" 2/ 551، و"الطبقات الكبرى" 2/ 81، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"تاريخ الطبري" 2/ 641، و"المنتظم" 3/ 254، و"البداية والنهاية" 4/ 178. (¬4) "المغازي" 2/ 552، و"الطبقات الكبرى" 2/ 82، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"تاريخ الطبري" 2/ 641، و"المنتظم" 3/ 255، و"البداية والنهاية" 4/ 178. وقد جعل المصنف خروج أبي عبيدة لطلب الثأر وسريته خروجًا واحدًا، وقد ذكر علماء السير أن خروج أبي عبيدة خروجان، الأول: بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أربعين رجلًا إلى مصارع القوم، فلم يجدوا أحدًا، ووجدوا نعمًا وشاء فساقه ورجع كما ذكر ذلك ابن سعد 2/ 82، والبلاذري 1/ 455، وابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 255 عقب سرية محمد بن مسلمة. وأما الثاني: السرية التي خرج فيها كانت بعد شهر من سرية محمد بن مسلمة، وقصتها: قالوا: أجدبت بلاد بني ثعلبة وأنمار، ووقعت سحابة بالمِراض إلى تَغْلَمَين، والمراض على ستة وثلاثين ميلًا من المدينة، فسارت بنو محارب وثعلبة وأنمار إلى تلك السحابة، وأجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة وهو يرعى بهيفا - موضع على سبعة أميال من المدينة - فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلًا من المسلمين حين صلوا المغرب، فمشوا إليهم حتى وافوا ذا القصة مع عماية الصبح، فأغاروا عليهم فأعجزوهم هربًا في الجبال، وأصاب رجلًا واحدًا، فأسلم وتركه، فأخذ نعمًا من نعمهم فاستاقه ورثة من متاعهم، وقدم بذلك المدينة، فخمَّسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقسم ما بقي عليهم.

وأصابوا رجلًا واحدًا فأسلم، فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيها: كانت سرية زيد بن حارثة (¬1) إلى بني سُليم في ربيع الآخر، وكانوا بمكان يقال له: الجَموم، بينه وبين المدينة أربعةُ بُرُدٍ، فمروا بامرأة من مُزَيْنَةَ يقال لها: حليمة، فدلَّتهم على العدو وساعدهم زوجها (¬2)، فأصابوا من بني سُليم نَعَمًا وأسرى وشاءً، فلما عاد زيد إلى المدينة، حمل المرأة وزوجها ووهب الجميع لزوجها (¬3). وفيها: كانت سرية زيد أيضًا إلى العيص (¬4)، في جمادى الأولى، وبينه وبين المدينة أربعة أميال، في مئة وسبعين راكبًا يطلب عِير قريشٍ، جاءت من الشام، أخذها وما فيها، وأسر أبا العاص بن الربيع زوج زينب - عليها السلام - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدم به المدينة. وقال الواقدي: هرب أبو العاص من زيد، فدخل المدينة ليلًا وأتى باب زينب - رضي الله عنها - فاستجار بها فأجارته، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الفجر، صاحت زينب - عليها السلام -: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فلما سلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَمِعتُم ما سَمِعتُ"؟ قالوا: نعم، قال: "فَوَالذي نَفسِي بِيَده ما عَلِمتُ بشَيءٍ ممَّا كَانَ، حتى سَمِعتُ ما سَمعتُم، إنه يُجِيرُ على النَّاس أَدناهُم، وقد أَجرتُ مَن أَجارَتْ زَينَبُ"، ثم قال: "يا بُنيَّةُ، أَكرِمي مَثواهُ، ولا يَخْلُصْ إليكِ؛ فإنَك لا تَحِلِّينَ له" ثم ردَّ عليه ماله. وخرج أبو العاص إلى مكة، ثم عاد إلى المدينة مسلمًا. وذكر موسى بن عقبة: أن الذي أسر أبا العاص إنما هو أبو بَصير وأبو جَندل، قال: لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير بعد قتل جُحيش: "اذهَبْ أَينَ شِئتَ". خرج في خمسة نفرٍ كانوا قدموا معه من مكة مسلمين، فنزلوا بين العِيص وذي المَروْة يقطعون الطريق ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 2/ 83، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"تاريخ الطبري" 2/ 641، و"دلائل النبوة" 4/ 84، و"المنتظم" 3/ 256، و"البداية والنهاية" 4/ 178. (¬2) الصواب أنهم أسروه فيمن أسر. (¬3) العبارة في "الطبقات": وهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمزنية نفسها وزوجها. (¬4) "المغازي" 2/ 553، و"الطبقات الكبرى" 2/ 83، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 84، و"المنتظم" 3/ 256، و"البداية والنهاية" 4/ 178.

على قريش، وأفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين راكبًا أسلموا وهاجروا، وكرهوا أن يَقْدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في هدنة المشركين، فلحقوا بأبي بَصير، وكان أبو بَصير يَؤُمُّ بأصحابه، فلما قدم أبو جندل كان هو الإمامَ، واجتمع إليهم أُناس من بني غِفار وأسلمَ وجُهَينَة، وطوائفُ مسلمون حتى بلغوا ثلاث مئة مقاتل، فأرسلت قريش أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم أن يَقْدِموا عليه، وشكَوْا إليه ما يلاقون منهم، ولم يزل أبو بصير وأبو جندل وأصحابُهما بذلك المكان حتى مرَّ بهم أبو العاص من الشام في رِفْقة من قريش، فأخذوهم وأخذوا ما معهم، ولم يقتلوا منهم أحدًا لأجل أبي العاص وخَلَّوْا سبيله، فقدم المدينة فجاء إلى زينب - عليها السلام -، واستجار بها، وكلَّمها في أصحابه وما أُخِذَ لهم. فكلَّمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقام خطيبًا وقال: "إنَّا صَاهَرنَا أُناسًا، وصَاهَرنا أَبا العاصِ فَنِعم الصِّهْرُ وجَدناهُ، وإنَّه أَقَبَل من الشَّام ومَعَه رِفقَةٌ، فأَخَذَهم أَبو جَنْدَلٍ وأَبو بَصِيرٍ، وأَخَذوا ما كانَ مَعَهم، وقد سَأَلتني زَينبُ أَن أُجِيرَهُم، فَهَل أَنتُم مجيرونَ أَبا العاصِ وأصحابَه"؟ قال الناس: نعم. وبلَغ أبا بصيرٍ وأبا جندلٍ، فردوا عليهم جميع ما أخذوه حتى العِقالَ، وكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بالقدوم عليه (¬1). * * * وفيها: كانت سريةُ زيدٍ - أيضًا - إلى الطَّرَفِ (¬2) ما دون النُّخَيل على ستة وثلاثين ميلًا من المدينة قريبًا من المِراضِ في خمسةَ عشر رجلًا، فأغار على بني ثعلبة وعاد سالمًا. * * * ¬

_ (¬1) "دلائل النبوة" 4/ 174 - 175. (¬2) "المغازي" 2/ 555، و"الطبقات الكبرى" 2/ 84، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"تاريخ الطبري" 2/ 641، و"دلائل النبوة" 2/ 84، و"المنتظم" 3/ 257، و"البداية والنهاية" 4/ 178.

وفيها: كانت سرية زيد - أيضًا - إلى حِسْمى (¬1) وراء وادي القُرى، فيها جبالٌ شواهقُ مُلْسُ الجوانب لا يكاد القتامُ (¬2) يفارقها في جمادى الآخرة. قال الواقدي: وسببها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث دِحْيَةَ بنَ خليفةَ الكَلْبي إلى قيصر ملك الروم بكتابه، ثم عاد وقد أجازه قيصر وكساه، فلقيه الهُنيد بن عارض في ناسٍ من جُذام فقطعوا عليه الطريق، وأخذوا ما كان معه وأسروه. فسمع قوم من بني الضُّبَيب فاستنقذوه منهم، فلما قدم دِحية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبره، فبعث زيدًا في خمس مئة وردَّ معه دِحْيَةَ، وكان يسير ليلًا ويكمُنُ نهارًا حتى بغتهم، فقتل الهُنيدَ وأباه وابنه، وجماعةً من قومه، وسبى مئة من الرجال والنساء، وأخذ ألف بعير، وخمسة آلاف شاة، وكان فيهم قومٌ من جُذام، فقدم زيد بن رِفاعة الجُذامي المدينة بكتاب كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتبه له ولقومه ليالي الهجرة، فأسلم وقومه، فرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميع ما أخذوه منهم، وقال له زيد بن رفاعة: يا رسول الله، لا تحرِّم علينا حلالًا ولا تحل حرامًا. فقال: "كَيفَ أَصنَعُ بالقَتْلَى"؟ فقال أبو يزيد بن عمرو - وكان من قوم رفاعة -: أطلق لنا من كان حيًا، ومن قتل فهو تحت قدميَّ هاتَيْن. قال: صدق، فردَّهم عليه. قال المصنف رحمه الله: وقول الواقدي إن هذه الواقعة كانت بسبب دحية عند رجوعه من عند قيصر، وهمٌ لأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كتب إلى قيصرَ وغيرِه بعد غزاة الحديبية في آخر هذه السنة، وجاءه الجواب في سنة سبع من الهجرة. وفيها: كانت سرية عبد الرحمن بن عوف (¬3)، إلى دُوْمة الجندل إلى كلب، وعمَّمه رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بيده وقال له: "اغْزُ بسْمِ اللهِ، وعلى بَرَكةِ اللهِ، ولا تَغُلَّ ولا تَغْدِر، ولا تَقتُلْ وَليدًا ولا امْرأَةً". فسار حتى وصل إلى ماء بين خيبر وفَدَك يقال له: الهَمَج، فوجد ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 612، و"المغازي" 2/ 555، و"الطبقات الكبرى" 2/ 84، و"أنساب الأشراف" 1/ 456، و"تاريخ الطبري" 2/ 641 - 642، و"دلائل النبوة" 4/ 84، و"المنتظم" 3/ 258، و"البداية والنهاية" 4/ 179. (¬2) القتام: الغبار. (¬3) "السيرة" 2/ 631، و"المغازي" 2/ 560، و"الطبقات الكبرى" 2/ 85، و"أنساب الأشراف" 1/ 456، و"تاريخ الطبري" 2/ 642، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 85، و"المنتظم" 3/ 259، و"البداية والنهاية" 4/ 179.

رجلًا فأمّنه وسأله عنهم، فدلَّه عليهم، فصَبَّحهم وقت الغارة، فأسر سيدهم الأصبغ بن عمرو الكلبي فأسلم، وتزوج عبد الرحمن ابنته تماضر، فهي أم ولده سلمة بن عبد الرحمن، وهرب بعضهم فأخذ منهم خمس مئة بعير وألفي شاة (¬1). وفيها: كانت سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى فَدَك (¬2) في شعبان وفيها بنو سعد بن بكر، وكانوا قد عزموا على إمداد يهود خيبر، فأغار عليهم، وأخذ منهم خمس مئة بعير وألفي شاة، وكان معه مئة راجل. وفيها: في رمضان كانت سرية زيد بن حارثة إلى أم قِرْفَةَ (¬3) بوادي القرى، على سبع مراحل من المدينة. وسببه: أن زيدَ بن حارثة خرج إلى الشام تاجرًا في جماعة، فلما عاد إلى وادي القرى لقيه جماعة فيهم أمُّ قِرْفةَ، فأخذوا ما كان معهم، وقتلوهم، وأثخنوا زيدًا بالجراح، فارتُثَّ بين القتلى ثم تحامل في الليل إلى المدينة، وأقام حتى اندملت جراحه، وكان قد نذر أن لا يغتسل من جنابةٍ حتى يغزوَ أُمَّ قرفة، فسار إليها في جيش كثيف فقتل مَن كان بالوادي، وأخذ أم قرفة فربطها بين بعيرين وساق بها حتى قطعها نصفين، ومثَّل بها. وكانت عجوزًا كبيرة منيعة يضرب بها المثل: لو كنت أعز من أم قرفة، ما زاد على هذا. واسمها: فاطمة بنت ربيعة، وقيل: بنت ربعة، وقيل: بنت حذيفة بن بدر، وأخذ سلمة بن الأكوع ابنتها سلمى، وقيل: حارثة بنت مالك، فسأله النبي - صلي الله عليه وسلم - يهبُها له، فأهداها لخاله حَزْن بن أبي وهب، فولدت له عبد الرحمن بن حزن، ولما عاد زيد إلى المدينة طرق باب رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقام إليه عريانًا واعتنقه وقبله. وقال الهيثم بن عدي: كان أبو بكر - رضي الله عنه - أمير هذه السرية، والأصح: أن السرية التي كان أبو بكر رضوان الله عليه أميرها، وجرت له الواقعة مع سلمة كانت في سنة تسع. ¬

_ (¬1) هذا السياق لهذه السرية مخالف لما ورد في المصادر، بل فيه خلط سريتين: سرية عبد الرحمن وسرية علي - رضي الله عنهما -. (¬2) انظر "المغازي" 2/ 562، و"الطبقات الكبرى" 2/ 86، و"أنساب الأشراف" 1/ 456، و"تاريخ الطبري" 2/ 642، و"دلائل النبوة" 4/ 84 - 85، و"المنتظم" 3/ 260، و"البداية والنهاية" 4/ 178. (¬3) انظر "السيرة" 2/ 617، و"المغازي" 2/ 564، و"الطبقات الكبرى" 2/ 86، و"أنساب الأشراف" 1/ 456، و"تاريخ الطبري" 2/ 642، و"المنتظم" 3/ 260.

قال سلمة: خرجت مع أبي بكر في سرية، فأخذتُ امرأةً معها ابنةٌ لم يكن في العرب أحسنُ منها، فلما قدمنا المدينة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا سَلَمةُ، هَبْها لي". فقلت: هي لك يا رسول الله، والله ما كشفت لها ثوبًا. فبعث بها إلى مكة ففدى بها أسارى من المسلمين (¬1). * * * وفيها: كانت سرية عبد الله بن رَواحة (¬2) إلى أُسَيْرِ بن رِزام (¬3) اليهودي بخيبر في شوال، وكانت اليهود قد أمَّرته عليها بعد قتل أبي رافع، فسار في القبائل يحرضهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إليه عبدَ الله ابن رواحة، وعبدَ الله بن أُنَيس، وآخرَ، فلما جاؤوا إليه قالوا له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استعملك على خيبر، فاقدم عليه ليحسن إليك. فخرج معهم فلما وصل قَرْقَرةَ، ندم وعزم على الهرب، ففهم عبد الله بن أنيس حاله فقال: أغَدْرًا يا عدو الله، فقتله. * * * وفيها: كانت سرية كُرْز بن جابر إلى العُرَنِيِّين (¬4)، في شوال، في عشرين فارسًا. قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا ابن أبي عدي، عن حُمَيد، عن أنس قال: أسلَمَ ناسٌ من عُرَيْنةَ فاجتوَوا المدينة، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو خَرَجتُم إلى ذَوْدٍ لَنا فَشَربتُم من أَلْبانِها" - ما قال حميد، وقال قتادة عن أنس: "وأَبْوَالِها" - فلما صَحُّوا كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وساقوا الذَّوْدَ وهربوا، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم، فأُخِذوا، فقَطَّعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيديَهم وأرجلَهم، وسَمَر أَعينهم، وتركهم في ¬

_ (¬1) سيذكرها المصنف في السنة السابعة. (¬2) انظر "السيرة" 2/ 618، و"المغازي" 2/ 566، و"الطبقات الكبرى" 2/ 88، و"أنساب الأشراف" 1/ 457، و"المنتظم" 3/ 262. (¬3) في "السيرة": اليسير بن رزام، وقال ابن هشام: ويقال: رازم. (¬4) انظر "السيرة" 2/ 640، و"المغازي" 2/ 568، و"الطبقات الكبرى" 2/ 89، و"أنساب الأشراف" 1/ 457، و"تاريخ الطبري" 2/ 644، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 85، و"المنتظم" 3/ 263، و"البداية والنهاية" 4/ 179.

الحَرَّةِ حتى ماتوا. أخرجاه في "الصحيحين (¬1) ". قال الواقدي: وكانت اللِّقاح خَمْس عشرة غِزارًا، فردّها إلى المدينة، وفقدوا منها واحدة نحروها، ويقال لها: الحناء، والذي خرج في آثارهم يسار مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة نفر، وقيل: هم الرعاة، فعطفوا عليهم فقطعوا يد يسار ورجله، وغَرسوا في لسانه وعينيه شوكًا حتى مات، فبعث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - كُرْز بن جابر الفهري في خمسين فارسًا، فجاء بهم إلى المدينة، ففعل بهم ما ذكر أنس، وهذا كُرز هو الذي أغار على سَرْح المدينة، وخرج رسول الله - صلي الله عليه وسلم - خلفه فلم يدركه، ثم منَّ الله عليه بالإسلام، وقتل يوم الفتح، لما يذكر إن شاء الله تعالى. * * * وفيها: كانت غزاة الحُدَيْبية (¬2)، وهي شجرة حَدْباء على تسعة أميال من مكة، وقيل: هي اسم بئر. قال ابن إسحاق وغيره: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة معتمرًا في ذي القعدة لا يريد حربًا، واستنفر مَنْ حوله من الأعراب الذين يسكنون قريبًا من المدينة ليسيروا معه مخافة أن تَصُدَّهُ قريش عن البيت، فأبطأ عليه كثير منهم، فخرج في المهاجرين والأنصار، ولحقه بعض القبائل فصلى ركعتين، وركب راحِلَته القصواءَ بعد ما أحرمَ بعُمْرةٍ ليأمن الناس منه، وساق الهَدْيَ ليعلمَ الناسُ أنه جاء معظَّمًا للبيت، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخرج يوم الإثنين لهلال ذي القعدة، ولم يأخذ معه من السلاح إلا السيوف في القُرُبِ، وأشْعَرَ بُدْنَهُ في شقها الأيمن، وساق الصحابة بُدْنَهم وأشعروها، وكان في البُدْنِ جَمَلُ أبي جهل الذي غنمه يوم بدر، وكان في رأسه بُرَةٌ من فضة ليغيظ به الكفار. وفي "المسند": عن ابن عباس قال: أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة بَدَنَةٍ فيها جملُ أبي ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12042)، والبخاري (233)، ومسلم (1671). (¬2) انظر "السيرة" 2/ 308، و"المغازي" 2/ 571، و"الطبقات الكبرى" 2/ 91، و"أنساب الأشراف" 1/ 417، و"تاريخ الطبري" 2/ 620، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 90، و"المنتظم" 3/ 267، و"البداية والنهاية" 4/ 164.

جهل، في أنفه بُرَةٌ من فضة ليغيظ به المشركين (¬1). ولم يذكر في الحديبية. وقال هشام (¬2): كان معه سبعون بَدَنةً، البَدَنَةُ عن عشرة أنفس، وهذا يدل على أنهم كانوا سبع مئة. وفي الصحيح: أنهم كانوا بضع عشرة مئة (¬3). وقال ابن عباس: كانوا ألفًا وخمس مئة، وقيل: ألفًا وثلاث مئة (¬4)، ويحتمل أنهم كانوا حين خرجوا من المدينة سبع مئة، ثم لحقهم الناس فزادوا على ألف فارس. قال الواقدي: وأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه أم سلمة، فلما كان بعُسْفان لقيه بُسْر بن سفيان الخزاعي، وقيل: إنما لقيه بغَدير الأَشْطاط، فقال له: يا رسول الله، أو يا محمد، هذه قريش سمعت بمسيرك، فأَجْمَعَتْ على صدِّك عن البيت الحرام، وقد خرجوا بالعُوذِ المَطافيل، قد لبسوا جلود النمور، ونزلوا بذي طُوى يَأْلونَ بالله لا تدخُلُها عليهم أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدَّموه إلى كُراع الغَميمِ، وقدَّموا مئتي فارس مع خالد (¬5). قال المصنف - رحمه الله -: وذكر الطبري في "تاريخه": أن خالد بن الوليد كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ مسلمًا، وأن عكرمة بن أبي جهل خرج من مكة في خمس مئة فارس، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخالد بن الوليد: "هَذا ابنُ عَمِّكَ قَد أَتَاكَ في الخَيلِ". فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله، قال: فيومئذ سمي سيف الله. ثم قال خالد: يا رسول الله، ارم بي حيث شئت، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشِّعب فهزمه، فأنزل ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2362). (¬2) لعله ابن هشام، انظر "السيرة" 2/ 308 - 309. (¬3) الحديث مروي عن عدد من الصحابة: فأخرج البخاري (4153)، ومسلم (1856) من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: كانوا خمس عشرة مائة. وأخرج البخاري (4155)، ومسلم (1857) من حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: كان أصحاب الشجرة ألفًا وثلاثمئة. وللبراء بن عازب - رضي الله عنه - عند البخاري (4150) قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة مئة. ولسلمة بن الأكوع عند مسلم (1807) قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن أربع عشرة مئة. (¬4) أخرجه الطبري في "تاريخه" 2/ 621. (¬5) "المغازي" 2/ 579 - 580.

الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [الفتح: 24] الآية (¬1). قال المصنف - رحمه الله -: والعجب من الطبري أن يذكر مثل هذا، ولا خلاف بين عُلماء النقل أن خالد بن الوليد أسلم في سنة ثمان من الهجرة. قال ابن إسحاق: ولما قال بسْر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال، قال: "يا وَيْحَ قُريشٍ، ماذا عليهم لو خَلُّوا بَيني وبَين سائِرِ العربِ، فإنْ هُم أَصابُوني كان الذي أَرادُوا، وإنْ أَظْهَرَني اللهُ عليهم دَخَلُوا في الإِسلامِ وافِرينَ، واللهِ لا أَزالُ أُجاهِدُهم حتى يُظْهِرَ اللهُ أَمْرَه، أَو يَفْرق بَين سَالِفَتي وذاقِنَتي"، ثم قال: "مَن يخرج بنا على غير الطَّريقِ التي هُم عليها"؟ فقال رجل من أسلم: أنا. فسلك بهم طريقًا وَعِرَةً بين الشِّعاب، فشق ذلك على المسلمين، ثم خرجوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُولُوا: نَستَغفِرُ اللهَ ونَتُوبُ إليهِ". فقالوها، فقال: "والذِي نَفْسِي بِيَدهِ إنَّها لَلحِطَّةُ التي عُرِضَت على بني إِسْرائِيلَ، فلم يَقبَلُوها، وبدَّلُوها، ولم يَقُولُوها"، ثم قال: "اسْلُكُوا ذَاتَ اليَمينِ" في طريق يخرجه إلى ثَنِيَّةِ المُرار على مهبط الحديبية من أسفل مكة. فلما رأت قريش قَتَرَة الجيش، وأنه قد خالفهم في طريقهم، رجعوا ناكصين إلى مكة. ولما سلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثَنِيَّةِ المُرار، بَركت ناقتُه، فقال الناس: خَلَأَتِ القَصْواءُ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما خَلَأت، ولا هُو بخُلُقٍ لها، ولكِنَّها حَبَسَها حابِسُ الفِيلِ عن مَكَّةَ، أَمَا والله لا تَدْعُوني قُرَيشٌ اليومَ إلى خُطَّةٍ يَسأَلوني فيها صِلَةَ الرَّحِم أو رُشْدًا إلا أَعطَيتُهم إيَّاها" (¬2). وقد أخرج الإمام أحمد والبخاري - رحمهما الله - حديثًا رفعاه إلى المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية يُريد زيارة البيت، لا يُريد قتِالًا، وسَاق معه الهَدْيَ سبعين بَدَنَةً، وكان الناس سبعَ مئةِ رجلٍ، فكانت كل بدنة عن عَشَرَةٍ، حتى إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفان، لقيه بُسر بن سفيان الكَعْبي، فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجت معها العُوذُ المَطَافيل قد لبسوا جُلودَ النُّمور، معاهدون الله أن لا تدخُلَها عليهم عَنْوَةً أبدًا، وهذا خالد بن الوليد ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 2/ 622. (¬2) "السيرة" 2/ 309 - 310.

في خيلهم قد قدَّموه إلى كُراع الغَميم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا وَيْحَ قُرَيشٍ، لَقد أَكَلَتهُمُ الحَربُ، ماذا عليهم لو خَلَّوْا بيني وبينَ سائرِ النَّاسِ، فإنْ أَصابُوني كانَ الذي أَرَادُوا، وإنْ أَظْهَرَني اللهُ عليهم دَخَلُوا في الإسلامِ وهم وَافِرُونَ، وإنْ يَفعَلُوا قَاتَلُوا وبهم قُوَّةٌ، فماذا تَظنُّ قُرَيشٌ؟ واللهِ لا أَزَالُ أُجَاهِدُهم على الذي بَعَثَني اللهُ عليه - أوله - حتى يُظهِرَه اللهُ، أو تَنفَرِدَ هذه السَّالِفَةُ"، ثم أمر الناس فَسَلكوا ذات اليمين بين ظَهري الحَمْض على طريقٍ تخرجه على ثَنِيَّةِ المُرار والحديبية من أسفل مكة. قال: فسلكوا بالجيش تلك الطريق، فلما رأت قريش الجيش قد خالفوهم عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى مكة، ولما سلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثَنِيَّةَ المُرار بركت ناقته، فقال الناس: خَلَأَتْ. قال: "ما خَلَأَت وما هو بخُلُقٍ لها، ولكِنْ حَبَسَها حَابِسُ الفيلِ، أما والله لا تَدعُوني قُرَيشٌ اليومَ إلى خُطَّةٍ يَسأَلوني فيها صِلةَ رَحِمٍ إلا أَعطَيتُهم إيَّاها". ثم قال للناس: "انزِلُوا". فقالوا: يا رسول الله، ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس. فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهمًا من كِنانته، فأعطاه رجلًا من أصحابه، فنزل في قَليب من تلك القُلُبِ فغرزه فيه، فجاش الماء حتى ضرب الناس عنه بعَطَن، فلما اطمأن الناس (¬1) إذا بِبُدَيْل بن وَرْقاءَ الخُزاعي في رجال من خُزاعة، فقال لهم كقوله لبُسْر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش، فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تَعجَلون على محمد، إن محمدًا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرًا لهذا البيت معظِّمًا لحقه، فاتهموهم. قال محمد بن إسحاق: قال الزهري: وكانت خزاعةُ عَيْبَةَ نُصْحٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشركُها ومسلمها، لا يُخفون عنه شيئًا كان بمكة، قالوا: وإنْ كان إنما جاء لذلك، فلا والله لا يدخلها أبدًا علينا عَنْوةً، ولا تتحدث بذلك العرب. ثم بعثوا إليه مِكْرَزَ بن حَفْص أحدَ بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا رَجُل غَادِرٌ". فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كلَّمه بنحو ما كلَّم به أصحابه، فرجع إلى قريش فأخْبَرهم. فبعثوا إليه الحِلْسَ بنَ علقمة الكِنَاني وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله ¬

_ (¬1) في "المسند": فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

- صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا مِن قَومٍ يَتَأَلَّهونَ، فابعَثُوا الهَدْيَ". فلما رأى الهَدْيَ يسيل عليه من عُرْض الوادي في قلائده قد أكل أوبارَه من طول الحبس عن مَحِلِّه، رجع ولم يصلْ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعظامًا لما رأى، فقال: يا معاشر قريش، قد رأيتُ ما لا يَحلُّ صَدُّه، الهَديَ في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن مَحِلِّه، فقالوا: اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك. فبعثوا إليه عُرْوةَ بن مسعود الثقفي فقال: يا معاشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد من التعنيف وسوءِ اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعتُ من أطاعني من قومي، ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتَّهم. فخرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس بين يديه فقال: يا محمد، قد جمعتَ أوباشَ الناس وجئت بهم لبيضتك لتفُضَّها، إنها قريش قد عاهدت الله أن لا تدخلها عليهم عَنوةً أبدًا، وايْمُ اللهِ لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدًا. قال: وأبو بكر - رضي الله عنه - قاعدٌ خَلْفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: امْصَصْ بَظْر اللّاتِ والعزى، أنحن ننكشف عنه؟ فقال: من هذا يا محمد؟ فقال: "ابنُ أَبي قُحافَةَ". فقال: أما والله لولا يدٌ كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها، ثم تناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمغيرةُ بن شعبة واقف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديد، فقرع يده بقائم سيفه وقال: اكفُفْ يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل والله أنْ لا تصلَ إليك، فقال: يا محمد، من هذا؟ قال: "ابنُ أَخيكَ المُغيرةُ بنُ شُعبةَ". قال: يا غُدَرُ، وهل غَسَلْتَ سوأتك إلا بالأمس؟ ! فكلَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كلَّم به أصحابه، فقام من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ وضوءًا إلا ابتدروه، ولا يَبْصُق بُصاقًا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شَعْرِه شيءٌ إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: إني والله جئت قيصرَ وكِسْرى والنجاشي في مُلكهم، والله ما رأيت مَلِكًا قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيء أبدًا، فَرَوْا رأيكم. قال: وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك بعث خِراشَ بنَ أُمية الخُزاعي إلى مكة وحمله على جمل له يقال له: الثَّعلب، فأرادت قريش قتله فمنعهم الأحابيش حتى أتى

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا عمر ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بها من بني عدي أحدٌ يمنعني، وقد عَرَفَتْ قريشٌ عداوتي إيَّاها، وهذا عثمان بن عفان أعزُّ مني. فبعث إليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد، وإنما جاء مُعَظِّمًا لحُرْمةِ هذا البيت، وزائرًا له. فخرج عثمان حتى أتى مكة، فلقيه أبانُ بنُ سعيد بن العاص فنزل عن دابته، وحمله بين يديه، وردف خلفه، وأجاره حتى يُبَلِّغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى عثمانُ أبا سفيان ووجوهَ قريش، فبلَّغهم رسالةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطُفْ، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: واحتبسته قريش عندها، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عثمانَ قد قتل. قال محمد بن إسحاق: فحدثني الزهري: أن قريشًا بعثوا سهيل بن عمرو، وقالوا: ائت محمدًا، فصالحه على أن يَرْجِعَ عنا العام، فوالله لا تتحدَّثُ العرب أنه دخل علينا عَنْوة أبدًا. فأتاه سهيل، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَد أَرادَ القَومُ الصُّلحَ حينَ بَعَثوا هذا الرَّجلَ" فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تكلَّما وطال الكلام بينهما، وتراجعا، واستقر الصلح. فلما الْتَأَم الأمر ولم يَبْقَ إلا الكِتابُ، وثب عمر فأتى أبا بكر فقال له: يا أبا بكر، أَوَلَيْسَ برسولِ الله، أَوَلسنا بالمسلمين، أَوَليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نُعطي الذِّلَّةَ في ديننا، فقال أبو بكر: الزم غَرْزَهُ حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد. ثم أتى عمرُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال: "أَنَا عبدُ اللهِ ورَسُولُه، لَن أُخَالِفَ أَمرَهُ ولن يُضيِّعَني". قال عمر: فما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتقُ مِنَ الذي صنعتُ مَخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خَيْرًا. ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: "اكْتُب: بِسْمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيمِ"، فقال له سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهمَّ. فقال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم: "اكتُب: [باسْمِكَ اللَّهمَّ] هذا ما صَالَحَ عليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُهَيلَ ابنَ عَمْرٍو". فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله، لما قاتلتك، ولكن اكتب: محمد ابن عبد الله. قال: اكتُب: فكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عَشْرَ سنين يأمنُ فيها الناس، ويكفُّ بعضُهم عن بعض، وعلى أنه من أتى محمدًا بغير إذن وليه ردَّه عليهم، ومن أتى قريشًا ممن مع محمد لم يردّوه عليه، وأن بيننا عَيْبَةً مكفوفةً، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأن من أحب أن يدخل في عَقْد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عَقْد قريش وعهدهم دخل فيه. فدخلت خزاعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان في الكتاب: أن يَرْجِعَ عنا عامنا هذا فلا يدخلَ مكة، وإذا كان العام القابل خرجنا عنها، فدخلها بأصحابه ويقيم فيها ثلاثًا معهم سلاح الراكب، لا يدخلها بغير السيوف في القُرُبِ. فبينا علي يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد، قد أَفلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرجوا لا يشكُّون في الفَتْح لرؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأَوْا ما رأَوْا من الصلح والرجوع وما تحمَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسه، دخلهم من ذلك أمرٌ عظيم حتى كادوا يَهْلِكون. ولما رأى سهيلٌ أبا جندلٍ، قام إليه فضرب وجهه وقال: يا محمد، قد تَمَّتِ القضيةُ بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: "صَدَقتَ" فقام إليه فأخذ بتلابيبه. فصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معاشرَ المسلمين، أتردونَني إلى المشركين فيفتنونني عن ديني. قال: فزادَ الناسَ شرًا إلى ما بهم. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا جَندَلٍ، اصبِرْ واحْتَسِب، فإنَّ اللهَ جَاعِلٌ لكَ ولِمَن مَعَك من المُستَضعَفينَ فَرَجًا ومَخْرَجًا، إنَّا قد عَقَدنا بَيننا وبينَ القَومِ صُلْحًا، فأعطيناهُم على ذَلكَ عَهدًا، وأعطونا على ذلك عهدًا، وإنَّا لن نَغْدِرَ بهم". قال: فوثب عمر بن الخطاب وجعل يمشي إلى جنب أبي جَنْدَل ويقول: اصبر أبا جَنْدَل، فإنما هم المشركون وإنما هم دم كلب. ويُدْني إليه قائمَ السيفِ رجاءَ أن يأخذَهُ منه فيضربَ به أباه. قال: فضَنَّ الرجل بأبيه، فلما فرغا من الكتاب وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في

الحَرم وبعضه في الحل، فقام وقال: "أَيُّها النَّاسُ، انْحَروا واحلقُوا". فما قام أحد، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمِّ سَلَمةَ فشكا إليها الناسَ، فقالت: يا رسول الله، قد دخلهم ما رأيتَ فلا تكلِّمَنَّ منهم إنسانًا، واعْمِدْ إلى هَدْيكَ حيث كان فانحره واحلق رأسك، فلو قد فعلتَ ذلك فعله الناس. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل ذلك، فقام الناس ينحرون ويحلقون حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وَسَطِ الطريق نزلت سورة الفتح. وجاء نِسْوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} إلى قوله: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلّق عمر رضوان الله عليه امرأتين كانتا له في الجاهلية، فتزوج إحداهما معاويةُ بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة (¬1). قال موسى بن عقبة: وتفلَّت رجلٌ من أهل الإسلام من ثقيف يقال له: أبو بَصير بن أُسَيْد، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا مهاجرًا، فبعث في أثره الأخنسُ بن شَريق رجلين من بني مِنْقَر، أحدهما مولى، والآخر جحش بن خليفة من أنفسهم، وجعل لهما جُعْلًا في إحضاره، فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهما، فخرجا به حتى إذا كانا بذي الحُلَيْفةِ سلَّ جحش سيفه ثم هزه وقال: سأضرب بسيفي هذا في الأوس والخزرج يومًا إلى الليل. فقال له أبو بَصير: أَوَ صارِمٌ سيفُك هذا؟ قال: نعم. قال: ناولنيه لأنظر إليه. فلما قبضه ضربه به حتى بَرد، ويقال: بل تناول سيف المِنْقري وهو نائم فقطع به إسارَه ثم ضربه به حتى برد، وطلب الآخر ففرَّ مذعورًا حتى دخل المسجد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأى هذا ذُعْرًا". فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قُتِلَ والله صاحبي، وإني والله لمقتول. وجاء أبو بَصير بسَلَبِ المقتول فقال: يا رسول الله، خمِّسْه. فقال: "إذا خَمَّسْتُه لم أَفِ لهم بالذي عَاهَدتُهم عليه، ولكِنْ عليك بسَلَبِ صاحِبِكَ واذهَب حيثُ شِئتَ". وقيل: جاء أبو بَصير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويلُ امِّه مِسْعَرُ حَرْبٍ لو كان له رجال". فلما سمع ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (18910)، والبخاري (2731).

ذلك، عرف أنه سيرجع إليهم فخرج إلى سِيفِ البحر، وتفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عِصابة، فما يسمعون بعِيرٍ خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوها، فقتلوهم وأخذوا أموالَهم، فأرسلت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرَّحِمَ لَما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فإنه آمن، فأرسل إليهم. وأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] حتى بلغ: {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}، وكانت حَمِيَّتُهم أنه لم يُقِرّوا ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وحالوا بينه وبين البيت. وقد أخرجه الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" أتم من هذا (¬1). قال ابن إسحاق: والذي نزل بالسهم إلى القَليبِ ناجيةُ بن عمير الأسلمي سائقُ بُدْن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما نزل وقفت عليه جارية من الأنصار وقالت: [من الرجز] يا أَيُّها المائِحُ دَلْوِي دُونَكا إنِّي رَأَيتُ النّاس يَحْمَدونكا يُثنُونَ خيرًا ويُمجِّدونَكا فقال وهو في القليب: قد علمتْ جاريةٌ يمانِيَهْ أنِّي أنا المائِحُ واسمي نَاجِيَهْ (¬2) وقد فرقت العرب بين المائح والماتح، فجعلت النقطتين اللتين من تحت لمن تحت، واللتين من فوق لمن فوق. وقال جابر بن عبد الله: عَطِشَ الناس يوم الحديبية، وبين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَكْوَةٌ يتوضأ منها، إذ جهش الناس إليه أو نحوه، فقال: "ما شأنكم"؟ قالوا: يا رسول الله، ليس لنا ماء نشرب منه ولا نتوضأ به إلا ما بين يديك. فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده في الرَّكوة فجعل الماء يفيض من بين إصبعيه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قال سالم بن أبي الجعد: فقلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مئة ألف لكفانا، لكنا كنا خمس عشرة مئةً. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (18928)، والبخاري (2731)، والحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (2860). (¬2) "السيرة" 200/ 310 - 311.

أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). تفسير الألفاظ الغريبة: "العوذ المطافيل": هي النِّياق التي وَضَعَت، لأن أولادَها تعوذ بها وأطفالها يأوون إليها. و"قَتَرةُ الجيش": غبرته. و"خَلَأَت الناقة": مثل حَرَنتِ الفرس. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حَبَسَها حَابسُ الفيلِ" وهو الله تعالى، فعل بها كما فعل بالفيل لما جيء به لهدم البيت. فإن قيل: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء زائرًا معظِّمًا للبيت، فما معنى حِران الناقة؟ فالجواب: إن فيه إشارةً إلى تعظيم البيت، أي: من جاء معظمًا له، هكذا حاله. فكيفَ من جاء مقاتلًا. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنَّما أُحِلَّت ليَ ساعةً من نهارٍ" لمكان الضرورة. و"جاش": اضطرب وزخر. و"الجَهْشُ": أن يفزعَ الإنسان إلى غيره، وهو يريد البكاء. وقوله: "ضَرب الناس بعَطَن" أي: تُرِكَت الإبل لتشرب من كثرة الماء. و"المعاطن": مبارك الإبل عند الماء للشرب. قال الواقدي: ولما رجع الحُلَيْس إلى قريش، وأنكر عليهم حبس البُدْن وقالوا له: أنت أعرابي لا علم لك. غضب وقال: والله ما على هذا حالفناكم، ولا عليه عاقدناكم، أن تصدوا عن بيت الله من جاء له معظّمًا، والذي نفسُ الحليسِ بيده لتُخَلُّنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأَنْفِرَنَّ بالأحابيش نفرةَ رجل واحد. فقالوا: كُفَّ عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4152)، ومسلم (1856) (72)، ولم يخرج مسلم إلا قوله: لو كنا مائة ألف لكفانا ... وانظر "الجمع بين الصحيحين" (1577). (¬2) "المغازي" 2/ 599 - 600.

و"الأوباش": الأخلاط من الناس. وبيضة كل شيء: حوزته، ويقال: هم الأهل. وقول أبي بكر - رضي الله عنه -: "امصص بَظْرَ اللّات والعزى": هو سب لطاغية ثقيف وهي صنمهم. وأَخْذُ عُروةَ بلحية رسول - صلى الله عليه وسلم -: إنما هو على عادة العرب في الملاطفة عند الكلام. والغَرْزُ: موضع الركاب. وقول عمر - رضي الله عنه - ما قال إنما كان إعزازًا للدين لا اعتراضًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم باطن الأمر فوقف مع الظاهر، ثم ندم واستغفر ربه. وقوله: "بيننا عيبةٌ مكفوفةٌ" أي: مُشْرَجة، وأراد بالعِياب القلوب، ومعناه: في صدورنا بقية من الغِلِّ والخِداع. وقوله: "لا إسلال" أي: السرقة الخفيفة و"الإغلال": الخيانة. و"الثمد": الماء القليل، وقيل: البئر لا مادة لها، وأعداد مياه الحديبية، العَدُّ: الذي لا انقطاع لمادته. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَيلُ امِّه مِسعَرُ حَربٍ". معناه: كلمة تعجُّبٍ من الإِقدام، و"سِيْفُ البحر" جانبه. واسم أبي بَصير: عتبة بن أَسيد، والرجلان: حبيش بن جابر، ومولاه: كوثر، والمقتول: حبيش، والهارب: كوثر. ولما بلغ سهيل بن عمرو، قتلُ أبي بَصير صاحبهم أسند ظهره إلى الكعبة وقال: والله لا يفارق ظهري الكعبة حتى يَدُوا الرجل. فقال له أبو سفيان: إن هذا والله السَّفهُ، والله لا يَدُوه أبدًا (¬1). والمرأة التي طلقها عمر - رضوان الله عليه -: قريبة بنت أبي أمية، فتزوجها معاوية، وابنة جَرْوَل الخزاعي، وهي: أم كلثوم بنت عمرو بن جرول، وهي: أم عبد ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 324.

الله، تزوجها أبو جهم (¬1). قال المِسْوَر: كانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بعد ما شرط سهيل بن عمرو على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد إليهم من جاء مسلمًا، وكانت أم كلثوم عاتق فجاء أهلها يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُرْجِعها إليهم، فلم يرجعها لِما نزل فيهن: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآيات إلى قوله: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬2) [الممتحنة: 10]. قال عروة: فأخبرتني عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحنهن بهذه الآية إلى قوله {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 10]. قال: فمن أقرت بهذا الشرط منهن، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد بايَعْتُكِ" كلامًا يُكلِّمُها به، والله ما مسَّتْ يده يد امرأة قط في المبايعة، وما بايعهن إلا بقوله (¬3). وقال ابن عباس: لما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أهل مكة الكتاب، وفيه: من أتاه منهم رده عليهم، ومن أتى مكة من أصحابه لم يردوه عليه، وختم الكتاب، جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة، وزوجها مسافر من بني مخزوم وكان كافرًا - وقال مقاتل: إن زوجها صيفي بن الراهب - فقال: يا محمد، اردد علي زوجتي فقد شرطتَ لنا ما شرطتَ، وهذه طينةُ الكتاب لم تجفَّ بعد. فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} (¬4) [الممتحنة: 10] أي: اختبروهن، فيستحلفن أنهن ما خرجن بسببٍ غير الإسلام، فحلفت سُبيعةُ فأعطى زوجَها مهرَها، وما أنفق عليها ولم يردَّها عليه. فتزوجها عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يردُّ من جاءَهُ من الرجال، ولا يردُّ من جاءه من النساء بعد الامتحان، ويعطي أزواجهن مهورَهن وما أنفقوا عليهن. وقال مجاهد: كان عند طلحةَ بن عُبَيْدِ الله أروى بنتُ ربيعةَ بن الحارث بن عبد ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 327. (¬2) أخرجه البخاري (2711). (¬3) أخرجه البخاري (2713). (¬4) انظر "تفسير البغوي" 4/ 332.

المطلب، فَفَرَّقَتْ بينهما هذه الآيةُ يعني قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وكان طلحةُ قد هاجرَ وهي على دينها بمكة، ثم أسلمت فتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، وكانت فيمن فرَّ من نساء الكفار فلم يردَّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وزوَّجها خالدًا. وكانت آمنة بنت بشر عند ثابت بن الدحداحية ففرت منه وهو يومئذ كافر، فزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهلَ بنَ حُنَيفٍ فولدت له عبدَ الله بنَ سَهْلٍ. قال ابن عباس: وكان جميعُ من لحق بالكفار من نساء المسلمين المهاجرين راجعاتٍ عن الإسلام ستَّ نِسْوَةٍ: أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب كانت تحت عِياض بن شدّاد الفهري. وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما أراد أن يهاجر أبت وارتدت. وأم كلثوم بنتُ جَرْوَل كانت تحت عمر أيضًا. وبَرْوَع بنت عقبة كانت تحت عثمان بن عفان (¬1) - رضي الله عنه -. وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة وزوجها عمرو بن عبد ود. وهند بنت أبي جهل كانت عند هشام بن العاص بن وائل. فأعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهور نسائهم من الغنائم (¬2). وقال سلمة بن الأكوع: قدمنا الحديبية مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن أربعَ عشرة مئة وعلينا خمسون شاةً لا تُروينا، فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جَبَا الرَّكيّةِ، فإمَّا دعا وإما بَصَقَ فيها فجاشت فسَقَيْنا واستَقَينْا، ثم دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبيعة في أصل الشجرة، قال: فبايعتُه أوَّلَ الناس، ورآني أَعزلَ فأعطاني حَجَفَةً أوْ دَرَقَةً، ثم قال في أوسط الناس: "بَايِعْ"، فبايعته، ثم قال في آخر الناس: "أَلَا تُبايْعِني يا سَلَمةُ" فقلت: يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم وآخرهم، قال: فبايعته الثالثة، ثم قال لي: "يا سَلَمةُ، أينَ ¬

_ (¬1) في تفسير البغوي 4/ 333، وفتح الباري 5/ 348 أنها كانت تحت شماس بن عثمان. (¬2) انظر "تفسير البغوي" 4/ 334.

حَجَفَتُك - أو دَرَقَتُك - التي أَعْطَيتُكَ"؟ فقلت: يا رسول الله، لقيني عمي عامر وهو أعزل فأعطيته إياها فَضِحَكَ فقال: "إنَّكَ كالذي قَال: اللَّهمُّ ابْغِني حَبِيبًا هو أَحَبُّ إليَّ مِن نَفْسِي". ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشينا بعضُنا في بعض واصطلحنا، قال: وكنت تبيعًا لطلحة بن عُبَيْد الله أسقي فرسه وأَحُسُّه وأخْدُمه وآكُل من طعامه، وتركتُ أهلي ومالي مهاجرًا إلى الله ورسوله، فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا في بعض أتيت شجرة فكَسَحْتُ شوكَها واضطجعت في أصلها وإذ قد أتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحولت إلى شجرةٍ أُخرى فعلَّقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينا هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا لَلْمهاجرين، قُتل ابن زُنَيم فاخْتَرَطْتُ سيفي ثم شَدَدْتُ على أولئكَ الأربعةِ وهم رقود فأخذت سلاحَهم فجعلته ضِغْثًا في يدي، ثم قلت: والذي كرَّم محمدًا لا يرفع أحدٌ منكم رأسه إلا أخذتُ الذي فيه عيناه، ثم جئت بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء عمي عامر برجل من العَبَلاتِ يقال له: مِكْرز بن هَوْذةَ يقودُه على فرسٍ مُجَفَّفٍ في سبعين من المشركين يقودهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنظر إليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "دَعُوهُم، يَكُنْ لَهم بَدءُ الفُجورِ وثِناهُ" فعفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... } [الفتح: 24] الآية، قال: ثم رجعنا إلى المدينة فنزلنا منزلًا وبيننا وبين بني لِحْيان جَبَلٌ وهم مشركون، فاستغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن رَقى الجبل طليعةً، قال: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثًا (¬1). وعن أنس بن مالك قال: لما كان يومُ الحديبية هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ ثمانونَ رجلًا من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غِرَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا عليهم وأُخِذوا فَعفا عنهم، ونزل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... } الآية (¬2). تفسير ألفاظ غريبه: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1807). (¬2) أخرجه مسلم (1808).

"الجَبَا": بالفتح مقصور: نَثيلةُ البئر وهي ترابها الذي حولها تَراه من بعيد، و"الرَّكية": البئر قبل أن تُطوى. وقوله: "قتل ابن زُنَيم": ليس في الصحابة من يقال له ابن زنيم إلَّا سارية وأخوه أنس. و"الضِّغث": الحزمة من العيدان تجمع. و"العَبَلات": حي من قريش نُسِبوا إلى أمهم يقال لها: عبلة، وأمية الصغرى يقال لهم: العبلات، لأن أمهم اسمها عبلة. و"التجافيف": كل ما يمنع وصول الأذى إلى الإنسان. وعن جابر قال: نحرنا بالحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البَدَنَةَ عن عشرة والبقرة عن سبعة. متفق عليه (¬1). وقوله: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرارًا" هذه بيعة الرضوان، وسببها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عثمان إلى مكة فاحتبسته قريش عندها وبلغ المسلمين أنهم قتلوه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أبرح حتى أناجزهم"، وكان هذا قبل الصلح. وقال إياس بن سلمة [عن أبيه]: بينا نحن على الحديبية إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، قال: فَثُرْنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو تحت الشجرة فبايعناه (¬2). قال الواقدي: وأول من بايعه سنان بن أبي سنان الأسدي (¬3)، وقيل: أبو سنان (¬4)، وهو وهم؛ أبو سنان قُتِل في حصار بني قريظة (¬5). وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيمينه على شماله وقال: "هذِه عن عُثْمانَ" يعني: أنه ما غاب إلا في حاجة الله ورسوله. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1318)، وهو من أفراده كما في "الجمع بين الصحيحين" (1613). (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 632. وما بين معقوفين زيادة منه. (¬3) انظر "المغازي" 2/ 603. (¬4) انظر "السيرة" 2/ 316. (¬5) بل صوب ابن حجر أنه أبو سنان، وأن الذي مات في حصار بني قريظة غيره. انظر "الإصابة" 4/ 95 - 96.

قال ابن إسحاق: ولم يتخلف عن البيعة أحد (¬1)، وفيهم نزل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. قال يزيد بن أبي عبيد: قلت لسلمة بن الأكوع: على أيِّ شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية؟ قال: على الموت. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وقال جابر بن عبد الله: بايعنا نبي الله يومَ الحديبية على أن لا نَفِرَّ (¬3). وعن مَعْقِل بن يسار أنه شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية وهو رافعٌ غصنًا من أغصان الشجرة بيده عن رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع الناس، قال: فبايعوه على أن لا يفروا، وهم يومئذ ألف وأربع مئة (¬4). قال جابر: إلّا الجَدَّ بنَ قَيْسٍ فإنه اختفى تحت شجرة، وفي رواية: تحت بطن بعيره يستتر به من الناس (¬5). وكان منافقًا. وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يَدخُلُ النَّارَ أَحَدٌ ممَّن بايَعَ تَحتَ الشَّجَرةِ" (¬6). وقال جابر: جاء عبدٌ لِحاطبِ بنِ أبي بلتعة يشكو سيِّده فقال: والله يا رسول الله، ليدخُلَنَّ حاطبٌ النار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبتَ لا يُدخُلُها، إنَّه قد شَهِدَ بَدرًا والحُديبِيَةَ". انفرد بإخراجه مسلم (¬7). وقال جابر: كنَّا يوم الحديبية ألفًا وأربع مئة فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنتُمُ اليَومَ خَيْرُ أَهلِ الأَرضِ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬8). ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 316. (¬2) أخرجه البخاري (4169)، ومسلم (1860). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (14114). (¬4) أخرجه مسلم (1858). (¬5) أخرجه مسلم (1856) (69)، ولم نقف على الرواية الأولى. (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (14778). (¬7) أخرجه مسلم (2495). (¬8) أخرجه البخاري (4154)، ومسلم (1856) (71).

وقال ابن عمر: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الشجرة أنا وأبي، ثم رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان تحتها، كانت رحمة من الله، قيل لنافع: فعلى أي شيء بايعوه؟ على الموت؟ قال: لا، على الصبر (¬1). وقال ابن إسحاق: كانوا إذا مروا على الشجرة صلوا عندها، فأمر عمر بن الخطاب رضوان الله عليه بقلعها لئلا يتخذوها حَنانًا (¬2). وقال حبيب بن أبي ثابت: أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء الذين قتلهم عليٌّ رضوان الله عليه بالنَّهْروان، فقال: كنا بصِفِّين، فلما استحرَّ القتل بأهل الشام اعتصموا بتلًّ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى عليٍّ بمصحف وادْعُهُ إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك، فجاء به رجل وقال: بيننا وبينكم كتاب الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23]، فقال علي - رضي الله عنه -: نعم أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتابُ الله، قال: فجاءته الخوارج ونحن ندعوهم يومئذ القرَّاء وسيوفهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ما ننتظر بهؤلاء القوم الذين هم على التل؟ أَلا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فتكلم سهل بن حُنَيف وقال: أيها الناس، اتَّهموا أنفسكم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح - الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركين ولو نرى قتالًا لقاتلنا، فجاء عمرُ فقال: أَلَسنا على الحقِّ وهم على الباطل؟ قال: "بَلَى"، قال: أَلَيس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بَلَى"، وذكر بمعنى ما تقدم، قال: وأنزل الله سورة الفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه ذلك فقال: أَوَفَتْحٌ هو؟ قال: "نعم" فطابت نفسه ورجع (¬3). وقال أبو وائل: قال سهل بن حُنَيْفٍ: اتَّهموا رأيكم، فلقد رأيتُنا يوم أبي جندل لو نستطيع أن نردَّ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددناه - أو أرددناه يعني: أبا جندل - والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر أفظعناه إلا أَسْهَل بنا إلى أمرٍ نعرفه، إلا هذا الأمر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2958) من قوله: رجعنا من العام المقبل. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 96. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15975).

ما ندري كيف هو، ما شددنا منه خُصْمًا إلا انفتح خُصْمٌ آخرُ (¬1). "الخُصْمُ": جانب العِدْلِ وزاويتُه، وخُصْمُ كل شيء جانبه وناحيته. وأشار سهل إلى يوم صفين وهو كناية عن انتشار الأمر وصعوبة تلافيه. ومعنى قوله: "اتهموا رأيكم" أن الإنسان قد يرى رأيًا والصواب في غيره كما رأى عمر رضوان الله عليه ثم بان له أن الصواب ما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعناه أن عامة من صَدَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيت أسلموا كأبي سفيان وسهيلِ بن عمرو وغيرِهما، وقد أظهر الله تعالى من أصلابهم من أَعزَّ بهم الدينَ. قال ابن إسحاق: ولما فرغوا من الكتاب أَشهدوا رجالًا من المسلمين منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومن المشركين مِكْرَز بن حَفْص وحويطب بن عبد العزى وغيرهما (¬2). وقال المِسْوَرُ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يَحْلِقَ وكان الذي حلق رأسَه خِراشُ ابنُ أمية بنَ الفضل الخزاعي (¬3). وقال البخاري: الذي حلق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معمر بن نضلة بن عوف (¬4). وقال ابن عباس: حلق رجالٌ يوم الحديبية وقصَّر آخرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ اللهُ المُحلِّقينَ" قالوا: يا رسول الله، والمقصِّرين، فقال: "يَرحَمُ اللهُ المُحلِّقينَ" قالوا: والمقصِّرين، فقال: "يَرحَمُ اللهُ المُحلِّقينَ" قالوا: والمقصِّرين, قال لهم "والمُقَصِّرينَ" قالوا: فلم ظاهَرْتَ التَّرحمَ على المحلِّقينَ دون المقصِّرين؟ قال: "لأَنَّهمُ لم يَشُكُّوا" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى (3181)، ومسلم (1785) (95)، وأحمد (15974). (¬2) انظر "السيرة" 2/ 319، ووقع في "السيرة": محمود بن مسلمة بدل: محمد، وهما أخوان. (¬3) انظر "السيرة" 2/ 319، وأخرجه البخاري (1811) شطره الأول. (¬4) لم يذكره البخاري في "صحيحه" بل هو من زيادات الحميدي في "الجمع" (1352)، قال: قال أبو مسعود: زاد ابن جريج: وزعموا أن الذي حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معمر بن عبد الله بن عوف بن نضلة. وانظر "الفتح" 3/ 562. (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (3311).

وقال الواقدي: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية بضعة عشر يومًا، وقيل: عشرين يومًا ثم انصرف راجعًا إلى المدينة فنزل عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1] فهنأَه المسلمون (¬1). وقال عمر: أَفَتْحٌ هُو؟ قال: "نَعَم". قال جابر: ما كنا نَعُدُّ فتح مكة إلا يوم الحديبية بهذه السورة. ولما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم خيبر لم يُعْطِ إلا من شَهِدَ الحديبية. وقال البراء: أنتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية (¬2). وقال الشَّعْبي في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} قال: فتح الحديبية، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفتح عليه خيبر وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس (¬3). وقال أنس: المراد به فتح مكة. وقال مجاهد: خيبر. والأول أشهر. وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة عن أنس قال: نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] الآية مَرْجِعَهُ من الحديبية، فقال: "لَقَد أُنزِلَت عليَّ آيةٌ أَحبُّ إليَّ مما على الأرضِ" ثم قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هنيئًا لك مريئًا فنحن ما يُفعلُ بنا؟ فنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5]، إلى قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا}. أخرجاه في "الصحيحين" (¬4). وقال الواقدي: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام المقبل في الشهر الذي صُدَّ عنها فيه، وذلك قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} (¬5) [البقرة: 194]. وفي هذه الغزاة مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر أمه بالأبواء فنزل وصلى عندها ركعتين وبكى وأبكى الناس (¬6). ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 616 و 618. (¬2) أخرجه البخاري (4150). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 3/ 225. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13035)، والبخاري (4172)، ومسلم (1786). (¬5) "المغازي" 2/ 731 - 732. (¬6) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 95.

ولمسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: استأذنت ربي في زِيارَةِ قَبرِ أُمِّي، فأَذِنَ لي، واسْتَأْذَنتُه في الاستِغْفارِ لها فزُجِرْتُ، أو لم يُؤذَن لي" (¬1). وقال كعب بن عُجْرة: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ونحن محرمون وقد حصره المشركون، وكانت لي وَفْرَةٌ فجعَلَتِ الهوامُّ تسَّاقَطُ على وجهي، فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَيُؤذيكَ هَوامُّ رَأسِكَ"؟ قلت: نعم، فأمره أن يحلق، ونزل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} (¬2) [البقرة: 196] الآية. وفي هذه الغزاة صاد أبو قتادة حمار وحش، قال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم، فرأيت حمار وحش فحملت عليه فصدته وأتيت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرت له أني لم أكن محرمًا وإنما صِدْتُه لكَ، فأمر أصحابه فأكلوا ولم يأكل حين أخبرته أنه صيد له (¬3). وعن نافع مولى أبي قتادة: أن أصحابه أحرموا عام الحديبية ولم يحرم، ورأى حمار وحش وشدّ عليه فعقره، ثم جاء به فأكلوا منه، قال: وخبأت عضده معي فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عن ذلك فقال: "إنَّما هوَ طُعمَةٌ أَطعَمَكُم اللهُ، فَكُلوا فهو حَلالٌ" (¬4). وأخرجه الحميدي وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَل مَعَكم منه شيءٌ"؟ قلت: نعم، فناولته العضد فأكلها وهو محرم (¬5). وفي هذه الغزاة نزل قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} [الواقعة: 75] قال زيد بن خالد الجهني: صلّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: "هَل تَدرُونَ مَاذا قَال ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (976). (¬2) أخرجه البخاري (4191)، ومسلم (1201) (82). (¬3) أخرجه البخاري (1822)، ومسلم (1196). (¬4) أخرجه البخاري (2914)، ومسلم (1196) (57)، وأما قوله: "فكلوا فهو حلال" فهو من رواية صالح بن كيسان عن نافع عن أبي قتادة، انظر "الجمع بين الصحيحين" (721). (¬5) الجمع بين "الصحيحين" (721).

رَبُّكُم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال أَصبَحَ من عبادي مُؤمِنٌ بي كافِرٌ بالكَوكَبِ، مُؤمِنٌ بالكَوْكَبِ كافِرٌ بي، فأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنا بِنَوءِ كَذا وكَذا فذلِكَ كافِرٌ بي مُؤمِنٌ بالكَوْكَبِ، ومَن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب" (¬1). ولمسلم بمعناه، وفيه: فنزل قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} (¬2). "السماء": المطر، لأنه يأتي من السماء فنسب إليها. و"الأنواء": ثمانية وعشرون نوءًا، أي: نجمًا معروفة، فكانت العرب تنسب إليها المطر. * * * وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسلَ، قال ابن عباس: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستةَ نفر في ذي الحجة عند مرجعه من الحديبية مصطحبين: حاطب بن أبي بلتعة اللخمي إلى المقَوْقِس، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني صاحب دمشق، ودِحْيَة بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وسَليط بن عمرو العامري إلى هَوْذَة بن علي الحنفي، وعبد الله بن حُذافة السَّهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضَّمْري إلى النجاشي (¬3). قال عكرمة: وكان كل رسول يتكلم بلسان القوم الذي أرسل إليهم. وقيل: إنهم خرجوا أول المحرم سنة سبع من الهجرة. قال الواقدي: لما كتب الكتب قيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ الخاتم من فضة وفصه منه. قال ابن سعد: فقيل لأبي العالية: ما كان نقشه؟ قال: صدق الله. وإنما الخلفاء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (846)، ومسلم (71)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (17061). (¬2) أخرجه مسلم (73) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، ولفظه: "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء "كذا وكذا" قال: فنزلت هذه الآية {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 222، و"تاريخ الطبري" 2/ 644. وانظر "السيرة" 2/ 606 - 607.

بعده ألحقوا "لا إله إلا الله" سطر "محمد" سطر "رسول الله" سطر (¬1). وقال أنس: لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب كتابًا إلى الروم قالوا: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من فضة، قال أنس: كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقشه: محمد رسول الله (¬2). وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّي قدِ اتَّخذْتُ خاتمًا، ونَقَشتُ عليه محمدٌ رسُولُ اللهِ، فلا تَنقُشُوا عليه" (¬3). وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَسْتَضيئوا بنارِ المُشرِكينَ، ولا تَنْقُشُوا في خَواتِيمِكُم عَربيًّا" (¬4). أما الاستضاءةُ بنار المشركين فأخْذُ آرائهم، وأما النقش العربي فقال الحسن: لا تنقشوا عليه محمد رسول الله. وعن الشعبي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب في هذه الكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال: وكان يكتب في صدر الإسلام باسمك اللهمَّ كما كانت تكتب قريش حتى نزل قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، فكتب بسم الله، حتى نزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] فكتب: بسم الله الرحمن، حتى نزل قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] فكتبها (¬5). وفي رواية: وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى صاحب البحرين (¬6). قال ابن سعد: وقد كتب لجماعة لم يضبط لهم تاريخ، وكتب لأساقفة نجران ¬

_ (¬1) الخبر عند ابن سعد في "الطبقات" 1/ 409: ما كان نقش خاتم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صدق الله، ثم ألحق، بعده محمد رسول الله. وأخرج أبو الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " عن أنس قال: كان فص خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - حبشيًا وكان مكتوبًا عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، "لا إله إلا الله" سطر، و"محمد" سطر و"رسول الله" سطر. (¬2) أخرجه البخاري (2938)، ومسلم (2092) (56). (¬3) أخرجه البخاري (5877)، ومسلم (5092). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (11954). (¬5) "الطبقات الكبرى" 1/ 227. (¬6) انظر "السيرة" 2/ 607.

ورهبانهم: "أن لا يُغيِّرَ عليهم ما هُم فيه وما تَحتَ أيديهم، ولا يُغَيَّرَ أُسْقُفٌّ عن أُسْقفته، ولا راهِبٌ عن رَهبانيَّته، ولا كاهنٌ عن كهانَتِه" (¬1). قال المصنف رحمه الله: وقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلًا إلى الأطراف إنما الكلام فيمن بعثه في هذه السنة. فصل: فأما حاطب حليفُ بني أسد بن عبد العزى فإنه سار إلى المُقَوْقِس صاحبِ الإسكندرية، فقبله وأكرمه، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوابه: قد علمت أنه قد بقي نبي وقد أكرمتُ رسولك، وأهدى إليه هدية، وجعل كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حُقٍّ من عاج وختم عليه ودفعه إلى قَهْرمانته وقال: احتفظي به (¬2). وعاد حاطب من عنده في سنة سبع من الهجرة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. فصل: وأما شجاع فهو حليف حرب بن أمية، شهد بدرًا، كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يده كتابًا إلى الحارث بن أبي شَمِر: سلامٌ على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له وأني رسوله، فأجب ليدوم لك ملكك. والسلام (¬3). قال شجاع: فأتيتُه وهو بغوطة دمشق يهيئ الأموال لقيصر وكان قاصدًا إلى البيت المقدس، فأقمت على بابه أيامًا لا أصل إليه، وكان له حاجب يقال له: مري، فقلت له: أخبره بأني رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنك لا تصل إليه [حتى يخرج] في يوم كذا وكذا، وجعل يسألُني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفته وما يدعو إليه، فكنت أحدثه فيرق حتى يغلِبَهُ البكاءُ ويقول: هذه والله صفته في الإنجيل، وأنا أؤمن به وأصدقه وأخاف من الحارث أن يقتلني، قال: وكنت في ضيافة الحارث وإكرامه إلى أن جلس يومًا ووضع تاجَه على رأسه وأذن لي في الدخول عليه، فدخلت ودفعت إليه الكتاب فقرأه ورمى به وقال: من ينتزع مني ملكي، أنا سائر إليه ولو كان باليمن، ثم عرض الناس ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 1/ 229. (¬2) انظر "الطبقات" 1/ 224. (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 652.

وأمر بالخيل أن تُنْعَلَ وقال: أخبرْ صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره بالخبر وبما قد عزم عليه، فكتب إليه قيصر لا تَسِرْ إليه ولا تتعرضْ له، فدعاني وأمر لي بمئة مثقال من الذهب، ووصلني حاجبه مري بنفقة وكِسْوة وقال: اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام. قال: فقدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبلغته ما جرى فقال: "بادَ مُلكُه" وأقرأتُه سلام مري فقال: وعليه السلام. ومات الحارث عام الفتح وتمزق ملكه (¬1). فصل: وأما دِحْيَةُ فقدم بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[على قيصر] قال الإمام أحمد رحمه الله: حدَّثنا يعقوب، حدَّثنا ابنُ أخي ابنِ شِهاب، عن عمه محمدِ بنِ مُسلم، أخبرني عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبدَ الله بن عباس أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام وبعث بكتابه مع دِحْيَةَ الكلبي وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفعه إلى عظيم بُصرى ليدفعه إلى قيصر، فدفعه عظيمُ بُصرى إلى قيصر، وكان قيصرُ لما كَشَف الله عنه جنود فارس، مَشَى من حِمصَ إلى إِيلْيَاء على الزَّرَابي تُبسَطُ له، قال ابن عباس: فلما جاء قيصرَ كتابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين قرأه: التمسوا لي من قومه من أسألُه عنه. قال ابن عباس: فأخبرني أبو سُفيان بنُ حَرب أنه كان بالشام في رجال من قريش قدموا تِجارًا، وذلك في الهدنة التي كانت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، قال أبو سفيان: فأتاني رسول قيصر فانطلق بي وبأصحابي حتى قدمنا إِيلْيَاء فأُدخلنا عليه، وإذا هو جالس في مجلس ملكه، عليه تاجه، وحوله عظماء الروم، فقال لتَرْجُمانه: سلهم أيهم أقرب نسبًا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبًا إليه، قال: ما قرابتُك منه؟ قلت: هو ابن عمي، وقال أبو سفيان: وليس في الرَّكب يومئذ رجل من بني عبد مَناف غيري، فقال قيصر: ادن مني، فدنوت، وأمر أصحابي فَجُعِلوا خلف ظهري عند كتفي ثم قال لتَرْجُمانه: قل لأصحابه: إني سائل هذا عن هذا الرجل ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 224 - 225، و"المنتظم" 3/ 289.

الذي يزعم أنَّه نبي، فإن كَذبَ فكَذِّبوه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الاستحياء أن يأْثُر عني أصحابي الكذب لكذبته حين سألني، ولكن استحييت أن يأْثُروا عني الكذب فصدقته، ثم قال لتَرْجُمانه: قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القولَ فيكم أحدٌ قبله؟ قال: قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتَّبعوه أم ضُعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أفيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتدُّ أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: قلت: لا. قال: فهل يَغْدِرُ بأَحدٍ؟ قال: قلت: لا، ونحن الآن في مدَّةٍ ونحن نخاف ذلك. قال أبو سفيان: ولم تُمكِّني كلمةٌ أُدْخِلُ فيها شيئًا أنتَقِصه بها غيرها لأني أخاف أن يؤثر عني. قال: فهل قاتَلْتُموه أو قَاتلَكُم؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان حربكم وحربه؟ قلت: سجالًا نُدَال عليه مرَّةً، ويُدال علينا أُخرى. قال: فما يأمرُكم؟ قلت: يأمرُنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاةِ والصِّدْق، والوَفاء والعَفاف، والمحافظة على العهود، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام. قال: فقال لتَرْجُمانه حين قلت ذلك له: قل له: إني سألتك عن نسبه فزعمتَ أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله قط؟ فزعمت أنْ لا؛ فقلتُ: لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله، قلت: رجلٌ يأتمُّ بقولٍ قيل قبله. وسألتك: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أنْ لا، فقلتُ: لم يكنْ ليكذبَ على الناس فكيف على الله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فزعمت أنْ لا، فقلتُ: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجلٌ يطلب مُلْكَ آبائه. وسألتك: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فزعمتَ أن ضعفاءَهُم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتمَّ. وسألتك: هل يرتد أحد سَخْطةً لدينه. بعد أن يَدْخُلَ فيه؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشَتُه القلوبَ لا يَسْخَطُه أحد. وسألتك هل يغدِر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل. وسألتك هل قاتلتموه؟ فزعمت أنه قد فعل وأن الحرب بينكم تكون دُوَلًا تُدالون عليه ويُدالُ عليكم، وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة.

وسألتك: ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده لا شريك له ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصدق، والصلاة، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وهذه صفة نبي، قد كنتُ أعلم أنه خارج، ولكن لم أظن أنه منكم، وإن يكن ما قلت فيه حقًّا فيوشك أن يملك موضع قدميَّ هاتين، والله لو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لُقيَّهُ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. قال أبو سفيان: ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر به فقرئ عليه فإذا فيه: "بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ: من محمَّدٍ عبدِ اللهِ ورَسولِهِ إلى هِرَقْلَ عظيم الرُّومِ سَلامٌ على من اتَّبع الهُدَى، أمَّا بعدُ: فإنِّي أَدعوكَ بدِعَايةِ الإسلامِ، أَسلِمْ تَسلم، يُؤْتِكَ الله أجرَكَ مرتين، فإن توليت فعليكَ إثمُ الأَرِيسيِّينَ - يعني الأكَرَة - و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. قال أبو سفيان: فلما قضى مقالته، علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم، وكثر لَغَطُهم، فما أدري ماذا قالوا، وأمر بنا فأخرجنا. قال أبو سفيان: فقلت لأصحابي: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كَبْشَة؛ هذا ملك بني الأصفر يخافه، قال أبو سفيان: فوالله ما زلت ذليلًا مُستَيقِنًا أن أمره سيظهر حتى أدخل الله الإسلام قلبي، وأنا كاره. أخرجاه في "الصحيحين" و"المسند" (¬1). وللبخاري: وكان ابن الناطور - صاحبُ إِيلْيَاء وهِرَقْلَ - أُسْقُفَّهُ على نصارى الشام، فحدَّث أن هِرَقْلَ حين قدم إِيلْيَاء أصبح يومًا خبيث النَّفْس، فقال بعض بَطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور: وكان هرقل حزَّاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: رأيت الليلة حين نظرتُ في النجوم مَلِكَ الخِتان قد ظهر، فمن يَخْتَتنُ من هذه الأمة؟ فقالوا: اليهود فلا يُهِمَّنَّكَ شأنُهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيها من اليهود، فإنه ليس يختتنُ سواهم، فبينا هم على ذلك إذ أُتي هرقلُ برجل أرسله إليه ملكُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773)، وأحمد (2370).

غسَّان يخبره عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال هرقلُ: انظروا أمختتن هو أم لا؟ قال: فنظروا فإذا هو مختتن، فأخبروه، فسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا مَلِكُ هذه الأمةِ قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له بروميَةَ وكان نظيره في العلم يخبره، وسار هرقل إلى حمص ولم يَرِمْ حِمْصَ حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافقُ رأي هرقل على خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي، فأَذِن هرقل لعظماء الروم: هل لكم في الصلاح والرشد وأن يَثْبُتَ ملكُكُم فَتُبايِعُوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلى الأبواب فوجدوها مُغَلَّقة فقال: عليّ بهم فدعاهم وقال: إني اختبرت شدتكم في دينكم، فرأيت منكم الذي أَحْبَبْتُ، فسجدوا له ورضوا عنه، وكان ذلك آخر شأن هرقل (¬1). وقد ذكر هذا الحديث أرباب السير، فقالوا: قال ابن عباس، حدثني أبو سفيان قال: كنا قومًا تِجارًا وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنهكتنا وذهبت أموالنا، فلما كانت الهدنة بيننا وبينه، خرجتُ في نَفَر من قريش تجارًا إلى الشام، وكان وجهُ متجرنا غزَّةَ، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرض الشام من فارس وأخرجهم منها، وانتزع صليبه الأعظم، وكانوا قد سَلَبوه إيَّاه، وكانت حِمص منزله، فخرج يمشي على قدميه حين ردَّ الله عليه ما ردَّ، فصلى في بيت المقدس شكرًا لله تعالى وكانت تُبْسَطُ له البُسُطُ، ويلقى عليها الرَّياحينُ، فلما وصل إلى إيلْيَاء وقضى صلاته فيها ومعه بطارقته، أصبح ذات يوم مهمومًا يُقلِّبُ طرفه في السماء، فقيل له: ما لك؟ فقال: رأيت مَلِكَ الخِتانِ قد ظَهَر، فقال له بطارقته: ما نعلم أنَّه يختتن إلا اليهود، وذكر بمعنى ما تقدم، وقال: فبينا هم على ذلك إذ أتى رسولُ صاحبِ بُصرى برجل من العرب وكانت الملوك تَهادى الأخبار بينَها، فقال الرسول: أيها الملك، هذا من العرب من أهل الشاء والإبل، يحدث عن أمر عَجَبٍ حَدَثَ في بلادهم فَسَلْهُ عنه، فقال قيصر لتَرْجُمانه: سَلْهُ عن هذا الحديث الذي حدث ببلاده؟ فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي وقد اتَّبعه ناسٌ، وخالفه ناس، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة وقد تركتهم على ذلك. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (7).

فقال قيصر: جَرَّدوه، فجرَّدوه فإذا هو مختونٌ فقال قيصر: هذا والله الذي رأيت، لا ما تقولون، فأطلقه ثم دعا صاحب شُرطَتِه، وقال: اقلب لي الشام ظهرًا وبطنًا حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل الذي قد ظهر بالحجاز. قال أبو سفيان: فوالله إننا بغَزَّةَ إذ هجم علينا صاحب الشُّرطةِ فقال: أنتم من قوم هذا الرجل؟ قلنا: نعم، فقال: قوموا إلى الملك، قال: فانطلق بنا فدخلنا عليه فقال: أنتم من رَهْطِ هذا الرجل؟ قلنا: نعم، قال: فأيكم أمسُّ به رحمًا؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا - وايْمُ الله ما رأيت رجلًا كان أمكرَ من ذلك الأَقلف - فقال: ادْنُهْ، وأقعدني بين يديه وأقعد أصحابي خلفي، وقال: إني مسائله، فإن كذب فردوا عليه. قال أبو سفيان: فوالله لو كذبت ما ردوا علي ولكني كنت امرأً سيدًا أتكرم على الكذب، وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبتُه أن يحفظوا ذلك عليّ، ثم يتحدثوا به عني، فلم أكذبه، ثم قال: أخبرني عن هذا الرجل ما يدعي؟ فجعلت أزهد له شأنه وأصغر له أمره وهو لا يلتفت إلي، وقال: أنبئني عما أسألك عنه من شأنه، فقلت: سل. فقال: كيف نسبُه فيكم؟ قلت: هو من أَمْحضِنا نَسَبًا. قال: فهل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول فهو يتشبه به؟ قُلت: لا. قال: فهل كان فيكم ملكًا فسلبتموه ملكه فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه؟ قلت: لا. قال: فأخبرني عن أتباعه من هم؟ قلت: الضعفاء والمساكين وأحداث من الغِلمان والنِّساء، فأما ذوو الأنساب والأشراف من قومه فلم يتبعه منهم أحد. قال: فأخبرني عمن تبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قلت: ما تبعه أحد ففارقه. قال: فهل يَغْدِر؟ قلت: بيننا وبينه هدنة ولا نأمن فيها من غدره. ولم أجد شيئًا مما سألني عنه أن أغمزه فيه غيرها فوالله ما التفتَ إليها مني، ثم كر علي الحديث. فقال: سألتك عن نسبه فقلت: إنه محض من أوسطكم نسبًا، وكذلك الأنبياء، فإن الله لا يختار نبيًا إلا من أوسط قومه نسبًا ... وذكر بمعنى ما تقدم، وقال لأبي سفيان: قم، قال: فقمت من بين يديه وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى وأنا أقول: لقد أَمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة إذ أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه بالشام (¬1). ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 2/ 646 - 648، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 381 - 383.

قال الزهري: فحدثني أسقفٌّ للنصارى أدركته زمن عبد الملك بن مروان أنه أدرك ذلك من أمرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهرقل وعَقَلَهُ قال: لما قدم عليه دِحْيَةُ بكتابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى صاحب له بروميَةَ كان يقرأُ الكتبَ يخبره بأمر الكتاب ويصف له ما فيه، فكتب إليه صاحبه وكان يكتب بالعبرانية والعربية: إنه النبي الذي كنَّا ننتظره، لا شك فيه فاتَّبِعْهُ وصدِّقْهُ، فجمع بطارقته في دسكرةٍ (¬1) ثم أغلق الأبواب واطَّلع عليهم من عُلِّيةٍ له، فخافهم على نفسه، وقال: يا معاشر الروم إنه قد أتاني كتابُ هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه والله النبي الذي كنَّا ننتظره ونجده في كتبنا فهلموا نصدِّقه ونتَّبِعه فتسْلَم لنا دُنْيانا وأُخرانا. قال: فنخروا نَخْرةَ رجلٍ واحد، ثم ابتدروا الأبواب فوجدوها مغلَّقةً فردَّهم وقال: إنَّما اختبرتكم فسجدوا له ورضوا عنه. وقال ابن إسحاق: قال هرقل لدحية: والله إني لأعلم أنه نبي ولكني أخاف على نفسي، ولكن اذهب إلى ضغاطر الأسقف واذكر له أمر صاحبك. فجاء إليه دِحيَةُ وعرَّفَهُ صفةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يدعو إليه فقال: هذا صاحبك والله نبي، وهو الذي نجد صفته في كتبنا، ثم دخل بيتًا فنزعَ السواد عنه واغتسل ولبس ثيابًا بيضاء وأخذ عصاه وخرج إلى الروم في الكنيسة فقال: يا معاشر الروم إنه قد جاء كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله تعالى، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله. فوثبوا إليه فقتلوه، فرجع دحية إلى هرقل فأخبره بما جرى فقال: والله إن ضغاطر عندهم والله أعظم مني وأجوزُ قولًا، فكيف آمنهم على نفسي (¬2)؟ ! وفي رواية: أن هرقل قال لهم: هذا هو النبي المبعوث الذي بشر به عيسى وإني مُخيِّركم بين ثلاثةِ أَشياء: إما أن نَتَّبِعه فتسلم لنا بلادنا ودماؤنا وأموالنا، وإما أن نؤدي إليه الجزية فنكسر بها شوكته، وإما أن نصالحه على أرض سورية ويدع لنا الروم. فقالوا: أما دُخُولُنا في طاعته فكيف نفعل هذا ونحن أكثر أموالًا ورجالًا وأبعد بلادًا، وأما أداء الجِزْية فكيف نعطي العرب الذل والصَّغارَ ونحن أَعزُّ منهم، وأما أن ¬

_ (¬1) بناء على هيئة القصر، فيه منازل للخدم والحشم. (¬2) "تاريخ الطبري" 2/ 649 - 650، و"دلائل النبوة" 4/ 384.

نعطيه أرض سورية ويدع لنا الروم فكيف نعطيه بلادنا وأموالنا وأوطاننا، لا كان ذلك أبدًا، فوالله ما دعتنا ضرورة إلى ذلك. فقال: والله لتُؤَدُّنَّ أحد الأشياء الثلاثة إذا ضغطكم في بلادكم، ثم سار حتى وصل الدرب والتفت إلى الشام وقال: السلام عليك يا سورية، سلامَ مودِّع، ثم مضى حتى دخل القسطنطينية (¬1). فكان آخر العهد به. ويقال: إنه مات مسلمًا. وسورية أرض الشام وحَدُّها درب الروم. ورجع دِحْيَةُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخَبَرَ فقال: كان أحزمَ القوم. وقال موسى بن عقبة: خرج أبو سفيان إلى الشام تاجرًا فقدم على قيصر فأرسل إليه قيصر يسأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءه قال: أخبرني عن هذا الرجل أيظهر عليكم؟ قال: ما ظهر علينا إلا مرَّةً وأنا غائب، ثم غزوتهم مرتين فبقرنا البطون وجدعنا الأنوف وقطعنا الذكور. فقال قيصر: أتراه كذابًا أو صادقًا؟ قال: بل هو كاذب. فقال قيصر: لا تقولوا هكذا، فإن الكذب لا يظهر به أحد، فإن كان فيكم نبيًا فلا تقتلوه فإن أفعلَ الناس لذلك اليهودُ (¬2). فصل: وأما سَليطُ بن عمرو العامري فإنه قدم على هَوذة بن علي الحنفي ودفع إليه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الإسلام فقرأه وكتب إليه: ما أحسنَ ما تدعونا إليه وأجلَّه وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك. وأجاز سَليطًا بجائزة ونفقةٍ وثياب من نسج هَجَر، فقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: "والله لو سألني سيابةً من الأرض ما أعطيته، باد ملكه" فمات عام الفتح، وكان من عقلاء الملوك (¬3). والسَّيابة بفتح السين: البلحةُ. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 2/ 651. (¬2) "دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 385 - 386 عن موسى بن عقبة. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 225 - 226، و"المنتظم" 3/ 290.

فصل: وأما عبدُ الله بنُ حُذافةَ السَّهْمي فقدم على كسرى. قال الواقدي: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب إليه: "بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ، من محمدٍ رَسولِ اللهِ إلى كِسْرَى عَظيمِ فارِسَ، سَلامٌ على من اتَّبع الهُدَى وآمَن باللهِ ورَسولِهِ، وشَهِدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ إلى الناس كافة {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] الآية، أما بعدُ: فإنِّي أَدعوكَ بِداعِيَةِ اللهِ، فأَسْلِم تَسلَم، فإن أبيتَ فعليكَ إثمُ المجوسِ. والسَّلامُ". فلما قرأ كتابه خرقه وقال: يكتبُ إلي مثلُ هذا وهو عبدي، ثم كتب إلى باذان عاملِه باليمن أنِ ابعث إلى هذا الرجلِ الذي بالحجاز رجلين من عندك جَلْدين فليأتياني به. فبعث قَهرمانَه بابَوَيْه وكان كاتبًا حاسبًا ورجلًا آخر من الفرس يقال له: خُرَّخُسره وكتب معهما كتابًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمره بالانصراف معهما إلى كسرى، وبلغ قريشًا ففرحوا، وقالوا: كفيتم أمره فقد نصب له العداوة ملك الملوك كسرى، فقدم الرجلان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخلا عليه وكلَّمه القهرمان وقال: إن شاهنشاه قد كتب إلى الملك باذان يأمره بإنفاذك إليه، وقد بعث بي لتنطلق معي، فإن فعلت كتب فيك الملك كتابًا إلى ملك الملوك ينفعك عنده ويكف عنك، وإن أبيت فهو مَن قد علمت، وإنه مهلكُكَ وقومَك ومخرب بلادك، وكانا قد حَلقا لِحاهما وأعفيا شواربهما، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النظر إليهما فقال: "وَيلَكُما مَن أَمَركُما بهذا"؟ قالا: ربنا، يعنيان كسرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكنَّ ربِّي اللهُ أَمَرَني بإعفَاءِ لِحيَتي وقصِّ شَارِبي" ثم قال: "ارجِعا حتى تأتِياني غدًا" وأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ من السماء أنَّ الله قد سَلَّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا في ليلة كذا، فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول؟ فإنَّا قد نَقِمْنا عليك ما هو أيسر من هذا؟ أفنكتب عنك بهذا إلى الملك، قال: نعم وقولا له: "إنَّ دِيني وسُلطَاني سَيبلُغُ مُلكَ كِسْرَى، ويَنتهي إلى مُنتَهى الخُفِّ والحافرِ، وقولا له إن أَسْلَمتَ أعطيتك ما تحت قَدمَيكَ ومَلَّكتك على قومِكَ من الأَبناء" ثم أعطى خُرَّخسره مِنطَقَةً بها ذهب وفضة أَهداها له بعضُ الملوكِ، وخَرَجا من عنده، فقدما على باذان فأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا ملك، وإني لأراه كما يقول نبيًا، ولننظر ما قال،

فإن كان حقًّا فهو نبيٌّ مُرسلٌ، وإن لم يكن فسنرى فيه رَأْيَنا. فلم يلبث أن قدم عليه كتاب شِيرُويه بن كسرى يقول فيه: أما بعد: فإنِّي قد قتلتُ كِسْرَى ولم أقتله إلا غَضَبًا لفارس لِما كان استحل من قتل أشرافها وسوءِ سيرته، وما قتلته إلّا برأيهم، فانظر من قبلك فخذ عليه الطاعة، والرجل الذي كتب إليك أبي بسببه فلا تُهِجْهُ حتى يأتِيكَ أمري فيه. والسَّلام. فلما قرأ كتابه قال: آمنت أن هذا الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأَسلَم وأسلم معه الأبناء ومن كان باليمن من فارس، فكانت حمير تقول: لخُرَّخسره: ذو المِعْجَزة، للمنطقة التي أعطاه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي بلسان حمير كذلك، فبنُوه اليوم ينسبون إليها (¬1). وسأل باذان قَهْرمانَه: هل مع الرجل شُرَطٌ؟ قال: لا، قال: هو نبي. وقال الزهري: كتب كسرى إلى باذان: بلغني أن رجلًا خرج بمكة يزعم أنه نبي، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب وإلَّا ابعث إليَّ برأسه. فبعث باذان كتاب كسرى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ قَد وَعَدَني أَن يَقتُلَ كِسْرى في وَقتِ كَذا في شَهرِ كَذا" فقُتل في الوقت الذي ذكره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم باذان ومن كان عنده من الفرس باليمن (¬2). وقال الواقدي: قُتل كسرى ليلة السبت لست ساعات مضين من جمادى الأولى سنة سبع من الهجرة. وقيل: لعشر مضين منه سنة ست من الهجرة. وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا هَلَكَ كِسْرَى فلا كِسْرَى بعدَهُ، وإذا هَلَك قَيصَرُ فلا قَيصَرَ بعدَهُ، والذي نَفْسِي بيَدِه لَتُنْفقَنَّ كُنوزُهُما في سبيلِ الله". متفق عليه (¬3). وكان كما قال، لأن أمر فارس انحل بعد أَبرويز، وكذا هرقل ما عاد إلى الشام واستولى المسلمون في مدة يسيرة على العراق والشام. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 2/ 654 - 657، و"المنتظم" 3/ 282 - 283، وانظر "الطبقات الكبرى" 1/ 223. (¬2) "السيرة" 1/ 69. (¬3) أخرجه البخاري (3120)، ومسلم (2918).

فصل: وأما عمرو بن أمية الضمري فإنه قدم على النَّجاشي الأصحم ملك الحبشة، وكان قد كتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَلامٌ عليك، أما بعدُ: فإنِّي أَحمد إليكَ اللهَ الذي لا إلهَ إلا هُو، الملكُ القدوسُ السَّلامُ المؤمِنُ المُهيمنُ العزيزُ الجبَّارُ المتكبِّرُ، وأَشهَدُ أنَّ عيسى بنَ مريمَ روحُ اللهِ وكلمتُه أَلْقاها إلى مريمَ العذراءِ البَتُول الطيِّبة الحَصِينة، فحملَت بعيسَى فَهو مِن روح اللهِ، وإنِّي أدعوكَ إلى الله وحدَهُ لا شَريكَ له، وأن تَتَّبعني وتُؤمِنَ بي، فإنِّي رسولُ الله وحدَه لا شَريكَ له واستوصِ خيرًا بابن عمِّي جعفر وبمَن مَعَه من المُسلِمينَ وتواضَع لهم ولا تتكَبَّر عليهم، والسَّلام". فكتب إليه النجاشي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى محمد رسول الله من النَّجاشي الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، والحمد لله الذي هداني للإسلام، وقد بلغني كتابك فيما ذكرت [من أمر عيسى، فورب السماء والأرض، إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت] ثُفروقًا وقد عرفتُ ما بعثتَ به إلينا، وقد قرَّبنا ابن عمك وأصحابَه، وأشهد أنَّك رسول الله، وقد أسلمتُ على يد ابن عمِّك وبايعته وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثتُ إليك بابني أرها بن الأصحم، وإنِّي لا أملك إلا نفسي وإن شئت أن آتيكَ بنفسي فعلت (¬1)، والسَّلام. قال ابن إسحاق: فذكروا أنه بعث بابنه في ستين من الحبشة في سفينة ومعه هدايا حَبِرَة، فغرق في وسط البحر. وقال الواقدي: لما قرأ النجاشي كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عن سريره وجلس على الأرض تواضعًا لله تعالى وقال: لو قدرت على إتيانه لأتيته. "الأصحم": الأسود يضرب إلى الصفرة، وقيل: هو لقب لملوك الحبشة و"الثفروق" قمع البُسْرةِ وقيل: قمعُ التمرة. ¬

_ (¬1) في النسخ: وإن شئت أتيتك بنفسي فعلت، والمثبت من "تاريخ الطبري" 2/ 652 - 653، و"المنتظم" 3/ 287 - 288.

قال ابن إسحاق (¬1): ثم كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك كتابًا آخر إلى النجاشي بأن يزوِّجه أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ويبعث إليه بجعفر ومن عنده من المسلمين، فأخذ الكتاب وجعلهما في حُقًّ من عاج وقال: لا تزال الحبشة بخير ما دام هذان الكتابان بين أظهرهما. قال أنس: وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال المصنف: وظاهر هذا القول أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - نجاشي آخر ولم ترد الأخبار بذلك، والظاهر أن المشار إليه هو الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * وفيها: ذبح أبو بُردة بن نِيَار قبل صلاة العيد فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُعيد الأضحية. قال البراء بن عازب: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّ أَوَّلَ ما نَبدَأُ بهِ في يَومِنا هذا: أَن نُصلِّي، ثم نَرجِع فَنَنْحر، فَمَن فَعَل ذلِكَ فَقَد أَصابَ سُنَّتنا، ومَن ذَبَح قَبلَ الصَّلاةِ، فإنَّما هوَ لَحمٌ قَدَّمه لأَهلهِ ليسَ مِنَ النُّسُك في شيءٍ". قال: وذَبح خالي أبو بُردة بن نِيَار فقال: يا رسول الله، ذبحتُ قبل الصلاة وعندي جَذَعةٌ خيرٌ من مُسِنَّةٍ، قال: "اجعَلْها مَكانَها، ولَن تجزئَ - أو توفي - عَن أَحَد بَعدَكَ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). * * * وفيها: وقع طاعون بالمدينة فأفنى الخلق، وهو أول طاعون وقع في الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وَقَعَ بأَرضٍ وأَنتُم بها، فَلا تَخرُجُوا منها، وإِنْ سَمِعْتُم بهِ في أَرضٍ فَلا تَقْرَبُوها" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 2/ 653 عن الواقدي. (¬2) أخرجه مسلم (1774)، وقال ابن حجر في "الفتح" 8/ 129: والجمع بين القولين أنه كاتب النجاشي الذي أسلم وصلى عليه لما مات، ثم كاتب النجاشي الذي ولي بعده وكان كافرًا. (¬3) أخرجه البخاري (968)، ومسلم (1961). (¬4) أخرجه البخاري (5728)، ومسلم (2218) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -.

وفيها: تزوج عمر بن الخطاب رضوان الله عليه جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح، فولدت له عاصم بن عمر فطلقها عمر - رضي الله عنه - بعد ذلك فتزوجها يزيد بن جارية (¬1)، فولدت له عبد الرحمن بن يزيد، فهو أخو عاصم لأمه. * * * وفيها: أجدبت الأرض فاستسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال أنس بن مالك: أصابت الناسَ سَنةٌ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا أن يسقينا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وما في السماء قَزَعةٌ، فثار سحابٌ أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته، قال: فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره، فقال: يا رسول الله، غرق المال وتهدم البناء، ادع الله لنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: "اللَّهمَّ حَوَالينَا ولا عَلينا" قال: فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة مثل الجَوْبةِ، حتى سال وادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحيةٍ إلّا حدّث بالجَوْدِ. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). وقد رواه الهيثم بن عدي، وفيه أن الأعرابي أنشد: [من الطويل] أتيناك والعذراء يَدمى لبانُها ... وقد شُغِلَتْ أُمُّ الرّضيع عن الطِّفْلِ وليس لنا إلا إليك فِرارُنا ... وليس فِرار الناس إلّا إلى الرُّسلِ فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه إلى السماء وقال: "اللَّهمَّ اسْقِنا غَيثًا مُغِيثًا، عامًّا طَبَقًا سحًّا" فنشأت سحابةٌ من وراء سَلْعٍ مثلُ التُّرس ثم انتشرت وأمطرت سبعًا، فشكى الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللَّهمَّ على الآكَامِ والظِّرابِ والجبالِ والأوديةِ ومنابتِ ¬

_ (¬1) في النسخ: عبد الرحمن بن زيد بن حارثة، والمثبت من "الطبقات الكبرى" 7/ 86، و"تاريخ الطبري" 2/ 642، وانظر "المنتظم" 3/ 291. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 642، و"المنتظم" 3/ 291. (¬3) أخرجه البخاري (933)، ومسلم (897) (9).

الشَّجرِ". قال: فتقطعت وخرجنا نمشي في حر الشمس. وفي رواية: فانجاب السحاب مثل الإكليل عن المدينة فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "للهِ دَرُّ أبي طالبٍ لو كان حيًّا لَقَرَّت عينُه، فمن يُنشِدُنا قوله؟ فقام علي - رضي الله عنه - فقال: تريد قوله (¬1): [من الطويل] وأبيض يُستسقى الغَمامُ بوجههِ ... ثِمالُ اليَتامى عِصمةٌ للأَراملِ يَلُوذُ به الأَقْيالُ مِن أَهلِ هاشمٍ ... فهم عندَه في نِعمةٍ وفَواضلِ وهذان البيتان لأبي طالب في أبيه عبد المطلب لما استسقى فسُقي. وفيها: وَقَفَ عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أموالَه (¬2). قال ابن عمر: أصاب عمر أرضًا بخيبر فاستأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها فقال: "إن شِئتَ حَبَستَ أَصلَها وتَصَدَّقت بها". فتصدق بها في الفقراء والقربى والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضَّيف، لا جناح على مَن وَلِيها أن يأكل منها بالمعروف غير متأثِّلٍ فيها مالًا. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). * * * وفيها: ظاهرَ أوس بن الصامت من امرأته، واسمها خولة بنت مالك بن ثعلبة، وقيل في نسبها غير ذلك، وقيل: خويلة، وقيل: فاطمة، وقيل: جميلة. والأول أشهر (¬4). قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن تميم بن سَلَمة، عن عروة، عن عائشة، قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءَت المُجادلةُ إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في ناحية البيت لا أسمع ما تقول، فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} (¬5) [المجادلة: 1] الآية. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الدعاء" (2180)، والبيهقي في "الدلائل" 6/ 141. (¬2) انظر "المنتظم" 3/ 291. (¬3) أخرجه البخاري (2764)، ومسلم (1632). (¬4) انظر "المنتظم" 3/ 291. (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (24195).

وقد حكى الثعلبي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن اسمها جميلة، وكانت حسنة الجسم، فرآها أوس بن الصامت ساجدة في صلاتها، فنظر إلى عجزها، فلما انصرفت أرادها فامتنعت عليه، فغضب وكان امرءًا فيه سرعة ولَمَم، فقال: أنت عليَّ كظهر أمي، وكان الظهارُ والإيلاءُ من طلاق الجاهلية، فقال لها: ما أظنك إلا قد حرمت علي، فقالت: لا تقل ذلك، ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسله، فقال: إني لأستحي منه أن أسأله عن مثل هذا، قالت: فدعني أسأله، قال: سليه، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أغسل شق رأسه فقالت: يا رسول الله، إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابةٌ غَنِيَّةٌ ذاتُ مالٍ وأهلٍ، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي، وتفرق أهلي، وكبر سني، ظاهر مني، وقد ندم، فهل من شيء تبعثني به؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَرُمْتِ عليه". فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت صحبتي ونفضتُ له بطني. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أراك إلا حرمت عليه، ولم أُؤمر في شأنك بشيء" فجعلت تراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال لها حرمت عليه هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، اللهمَّ فأنزل على لسان نبيك، وكان هذا أوَّلَ ظِهارٍ كان في الإسلام. فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر فقالت: انظر في أمري جُعلتُ فداك يا رسول الله، فقالت لها عائشة: اقصري حديثك ومجادلتك أما تَرَيْنَ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه أخذه مثل السُّبات، فلما مضى الوحي قال: "ادْعِي زَوجَكِ" فجاء فتلا عليه الآيات {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] الآيات، وبيَّن حُكْمَ الظِّهار، وجعل فيه الكفارة، ثم قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَل تَستَطيعُ أنْ تَعتِقَ رَقَبةً"؟ قال: إذًا يذهب مالي كله وأنا قليل المال. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَهَل تَستَطيعُ أن تَصُومَ شَهرين مُتَتابعَينِ"؟ فقال: يا رسول الله، إني إن لم آكل في النهار ثلاث مرات كَلَّ بصري وخشيت أن تَعْشوَ عيني. قال: "فَهَل تَستَطيعُ أن تُطْعِمَ سِتينَ مِسكِينًا"؟ قال: لا إلَّا أن تعينني على ذلك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني مُعينُكَ بخمسةَ عَشَر صاعًا، وأنا داعٍ لكَ بالبركةِ" فأعانه

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر صاعًا، ونزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] الآية (¬1). قال الزهري: كان الظهار طلاقًا في الجاهلية، فنقل الشرع أصله، ونقل حكمه إلى تحريم مؤقت بالكفارة. وكذا الإيلاء. وخولة هذه هي التي مرَّ بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد ما ولي الخلافة ومعه الجارود العبدي فسلَّم عليها، فقالت له: إيهًا يا عمر، عهدتك بالأمس في سوق عكاظ تدعى عُميرًا تَزَع الصبيان بعصاك، ثم لم تذهب الأيام والليالي حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام والليالي حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أن من خاف الوعيد قرب عليه البعيد ومن حذر الموت خشي الفوت. فبكى عمر، فقال لها الجارود: لقد أغلظت لأمير المؤمنين، فقال له عمر: مه، دعها، أما تعرفها؟ هذه خولةُ التي سمع الله كلامها من فوق سبع سماواته، فعمر أولى أن يسمع كلامها (¬2). * * * وفيها: سابق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناقته العضباء وهو اسمها، فَسُبِقَتْ. قال أنس: كانت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تُسمَّى العضباء، وكانت لا تكاد تُسْبَقُ، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، حتى عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في وجوههم وقالوا: يا رسول الله سُبقت العضباء، فقال: "حقٌّ على اللهِ أنْ لا يرفعَ شيئًا من الدُّنيا إلَّا وَضَعه". أخرجه البخاري (¬3). وفي رواية: أن لا يُرْفَعَ شيءٌ من الدنيا ... وذكره (¬4). * * * ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 6/ 125 - 126. (¬2) أخرج الخبر ابن شبة في "أخبار المدينة" (760). (¬3) أخرجه البخاري (2872). (¬4) أخرجها النسائي في "الكبرى" (4417).

أم رومان

فصل وفيها توفيت أم رُومان (¬1) بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس، وقيل: أم رومان بنت عامر بن عميرة بن ذُهْل، وذكره إلى كنانة، وقيل: أم رومان بنت الحارث بن الحويرث بن قيس بن غنم. امرأة الحارث بن سَخْبَرة بن جُرثومة بن عاديةَ الأزدي، قدم بها من السَّراة إلى مكة وولده منها، فحالف أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ثم مات بمكة، فتزوجها أبو بكر - رضي الله عنه - فولدت له عائشة وعبد الرحمن - رضي الله عنهما -. أسلمت أم رومان بمكة قديمًا وبايعت وهاجرت إلى المدينة مع أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبناته، وكانت امرأةً صالحةً، توفيت في ذي الحجة سنة ست من الهجرة، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبرها وقال: "مَن سَرَّه أن يَنظُرَ إلى امرأةٍ من الحُورِ العِينِ فَلينظُر إلى أُمِّ رُومان". وقال بعض العلماء: عاشت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دهرًا طويلًا وروت عنه الحديث (¬2). وأخرج لها البخاري حديثًا واحدًا (¬3). عتبة بن أَسِيد (¬4) ابن جاريةَ الثقفي أبو بصير، وأمه سالمة، قرشية، وهو من الطبقة الأولى من ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 10/ 262، و"المنتظم" 3/ 291، و"الإصابة" 4/ 450. (¬2) هو قول أبي نعيم في "معرفة الصحابة"، ونفى الخطيب سماع مسروق من أم رومان وجعله من المرسل كما في "تحفة الأشراف" 13/ 79 - 80، وقال ابن حجر في "الفتح" 7/ 438: وعمدة الخطيب ومن تبعه في دعوى الوهم الاعتماد على قول من قال: إن أم رومان ماتت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أربع، وقيل: سنة خمس، وقيل: ست، وهو شيء ذكره الواقدي، وهو لا يتعقب الأسانيد الصحيحة، وذكر الزبير بن بكار بسند منقطع فيه ضعف: أن أم رومان ماتت سنة ست في ذي الحجة، وقد أشار البخاري إلى رد ذلك في "تاريخه الأوسط" و"الصغير" فقال بعد ذكر أم رومان في فصل من مات في خلافة عثمان: روى علي بن يزيد، عن القاسم قال: ماتت أم رومان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ست، قال البخاري: وفيه نظر، وحديث مسروق أسند. أي أقوى إسنادًا وأبين اتصالًا. (¬3) وهو حديث الإفك (3388) عن مسروق قال: سألت أم رومان، الحديث. (¬4) انظر "الطبقات" 5/ 180، و"المنتظم" 3/ 292، و"الإصابة" 2/ 452.

محرز بن نضلة

المهاجرين، وقد ذكرنا قصته زمن الحديبية، وأن قريشًا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخله ومن معه إلى المدينة، فكتب إليه فجاءه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مريض قد أشرف على الموت، فوضعه على عينيه وجعل يقرأُه ويبكي، ومات وهو في يده، فغسله أصحابه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه بناحية العِيصِ وبنوا عليه مسجدًا، وقدموا المدينة، فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترحم عليه واستغفر له. قال موسى بن عقبة: تولى أمره أبو جندل بن سهيل. مُحرِز بن نَضْلَة (¬1) ابن عبد الله بن مُرَّةَ، أبو نَضْلَة الأسدي، من الطبقة الأولى من المهاجرين، وكان يلقب: فُهَيرة، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عُمارة بن حَزم. شهد محرز بدرًا وأحدًا والخندق، وقتل يوم الغابة، وهي غزاة ذي قَرَد سنة ست مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال صالح بن كيسان: قال محرز بن نضلة: رأيت سماء الدنيا فرجت لي حتى دخلتُها، فانتهيت إلى السماء السابعة وسدرة المنتهى، فعرضتها على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان أعبر الناس، فقال: أبشر بالشهادة، فقتل بعد ذلك بيوم. خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغابة يوم السَّرْح، وهي غزوة ذي قَرد سنة ستٍّ، قتله مسعدة بن حكمة. شهد محرز بدرًا، وهو ابن إحدى أو اثنتين وثلاثين سنة، وكان يوم قتل ابن سبع أو ثمان وثلاثين سنة. والله أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات" 3/ 89، و"الإصابة" 3/ 368. (¬2) جاء في آخر الجزء الثاني من نسخة كوبريللي: تم الجزء الثاني من مرآة الزمان بحمد الله وعونه وحسن توفيقه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [4]

السنة السابعة من الهجرة

السنة السابعة من الهجرة فيها كانت غزاةُ خيبر (¬1). قال الطبري: لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية أقام بالمدينةِ بقيَّةَ ذي الحجّة، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم. وقال ابن إسحاق: كانت في صفر (¬2). وقال الواقدي: في جُمادى الأولى. واستخلف على المدينةِ سِباعَ بنَ عُرْفُطة (¬3)، ودفع لواءه إلى عليِّ ابن أبي طالب - رضي الله عنه -. وقيل: إلى الحُبابِ بن المنذر (¬4). وقال موسى بن عقبة: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رايتين، ولم تكنِ الراياتُ قبل خيبر وإنَّما كانتِ الألوية. وكان شعارُهم "يا منصورُ، أَمِتْ". وساروا إلى خيبر، وهي على ثمانيةِ بُرُدٍ من المدينةِ. وأَخرج معه أُمَّ سَلَمة، ومضى بالجيشِ حتى نزل قريبًا من خيبر، فقال له الحباب بن المنذر: يا رسولَ الله، اِنزلْ بين حصونهم لِنَقْطعَ عنهم الأخْبارَ والمادةَ، فنزل وادي الرَّجيع، بين خَيبر وغَطَفان، فحالَ بينهم، لأنهم كانوا مظاهرين لهم على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). فلما سمعت غَطَفانُ بنزولهم هناك جمعوا جمعًا عظيمًا لِيُساعِدوا اليهودَ، ثم خافوا على أهلهم وأموالهم فتخلَّوْا عنهم (¬6). ونازل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصونَهم، وكانت كثيرة، منها: القَموصُ، حصنُ كِنانةَ بن أبي الحُقَيْقِ، ونَطاةُ والصَّعْب والكَتيبةُ والوَطيحُ وناعِم والسَّلالم، وهو أحصنُها، وقيل: نطاةُ. ولم يعلموا بنزولهِ - صلى الله عليه وسلم -، حتى بَغَتهم، وكانوا قد خرجوا أوَّلَ النهار على عادتهم معهم المَساحي ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 328، و"المغازي" 2/ 633، و"الطبقات الكبرى" 2/ 100، و"أنساب الأشراف" 1/ 420، و"تاريخ الطبري" 3/ 9، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 194، و"المنتظم" 3/ 293، و"البداية والنهاية" 4/ 181. (¬2) في "السيرة" 2/ 328: المسير إلى خيبر كان في المحرم، وفي موضع آخر 2/ 341: وكان فتح خيبر في صفر. والقول بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر في صفر هو للواقدي في "المغازي" 2/ 634. (¬3) في "السيرة" 2/ 328: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي. (¬4) بل دفع للحباب بن المنذر الراية، وراية إلى سعد بن عبادة، انظر "الطبقات" 2/ 101. (¬5) انظر "المغازي" 2/ 643 - 644. (¬6) انظر "السيرة" 2/ 330.

والفؤوسُ للعمل، فلم يشعروا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد نزلَ بساحتهم فقالوا: محمدُ والخميسُ، فولَّوْا هاربين إلى حصونهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهُ أكبر خَرِبَتْ خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساءَ صباحُ المنذَرِين" (¬1). قال الواقدي: فقاتلهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قتالًا شديدًا، وقُتِلَ من أصحابه جماعة (¬2). وأَوَّلُ حصنٍ افتتحه حصنُ ناعم، وعنده قُتِل محمود بن مَسْلَمة، ألقت عليه امرأةٌ رحًى فقتلته، ثم فتح حِصْنًا حِصْنًا، فلما رأوا ذلك التجؤوا إلى نطاةَ والوَطيح والسَّلالم (¬3). حديث مَرْحَب: واختلفوا في قاتله، فروى الإمام أحمد رحمه الله يرفعه إلى بُرَيْدَة قال: حاصرنا خيبر، وأخذ أبو بكرٍ اللواءَ فلم يُفْتح له، ثم أخذه عُمَرُ فَلم يُفْتَحْ له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي دافعٌ اللِّواءَ غَدًا إلى رَجُلٍ يُحِبُّه اللهُ ورَسولُه [ويُحبُّ اللهَ ورَسُولَه] لا يَرجعُ حتى يُفْتَح له، أو على يَديه". قال: فَبقينا طيِّبةً نفوسُنا أن الفتح غَدًا، فلما صلى الفَجر قام فدعا باللِّواء، والناسُ على مصافِّهم، ودعا عليًا، فقال له: "اذهبْ فانزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام" فأخذ اللواء فبرز إليه مرحب وهو يقول: [من الرجز] قد عَلِمَتْ خيبرُ أني مَرْحَبُ ... شاكي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجرَّبُ أَطْعَنُ أحيانًا وحينا أَضْرِبُ ... إذا الليوثُ أقبلت تلهَّبُ ثم قال: هل من مبارز؟ فقال علي: أنا الذي سمَّتْني أمي حَيْدَرَهْ ... كليثِ غاباتٍ كريه المنظَرَهْ عَبْلُ الذراعين شديدُ القَسْورهْ ... أَضْرِبُ بالسيفِ رقابَ الكَفَرَهْ ثم ضرب رأس مَرْحَبٍ بالسيف فقتله، وجاء برأسه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَسُرَّ به ودعا له (¬4). وحكى الطبري عن بُرَيْدةَ قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ربما أخذتْه الشَّقيقةُ فلم يخرجْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4198)، ومسلم (1801) (120). وانظر "السيرة" 2/ 329 - 330. (¬2) انظر "الطبقات" 2/ 101. (¬3) انظر "المغازي" 2/ 645. (¬4) الحديث بهذا السياق ليس عند أحمد، وحديث بريدة عند أحمد (22993) إلى قوله: فدعا عليًا، وفيه أنه كان =

إلى الناس، فأخذ أبو بكرٍ الراية فقاتل ورجع، ثم أخذ عمرُ فقاتل ورجع، ثم أخذها عليٌّ - عليه السلام -، فبرز مَرْحَب وعليه مِغْفَرٌ مُعَصْفرٌ يمانٍ، وعلى رأسه حَجَرٌ قد ثقبه مثلَ البيضة، فضربه عليٌّ فَقَدَّ البيضةَ ورأسَه حتى وقع في أضراسه، وفتح الله الحصن (¬1). وقال موسى بن عقبة وابن إسحاق: لما برز مَرْحَبٌ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ لهذا؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسولَ الله، فبرز إليه فضرب محمدًا بالسيف فاتقاه بِدَرَقَتِه فنشب فيها، وضربه محمد بالسيف فقتله. فخرج أخوه ياسر فقال: قد علمت خيبرُ أني ياسرُ شاكِ السلاحِ بطل مُغاوِرُ إذا الليوثُ أقبلت تبادرُ وأحجمت عن صولتي المغاوِرُ أن حماي فيه موت حاضر فبرز إليه الزبيرُ بن العوام فقالت صفيةُ: أَيقتلُ ابني يا رسول الله؟ فقال: بل ابنك يقتله، فضربَهُ الزبير فقتله (¬2). وقال أبو رافع مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: خرجنا مع علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلى الحصن لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِرايتِه، فخرجوا إلينا فقاتَلونا، فطَرَح علي تُرسَه من يده وتناول بابًا كان عند الحصن، فَترَّس به، فلم يزلْ في يده حتى فتح الله على يده، ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في سبعةِ نفرٍ نجتهد أن نَقْلِبَ ذلك البابَ فلم نقدر عليه (¬3). وقال ابن إسحاق: حاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتح حصونهم إلا الوطيحَ والسلالمَ، فتحصن من بقي منهم فيهما، [حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم ويحقن ¬

_ = أرمد فتفل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عينيه، وفي (23031) القصة مطولة، فيها ارتجاز مرحب دون ارتجاز علي - رضي الله عنه -، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهب فانزل بساحتهم" فأخرجه البخاري (4210)، ومسلم (2406) من حديث سهل ابن سعد، وأخرجه أحمد قريبًا من هذا السياق مطولًا (16538) من حديث سلمة بن الأكوع. (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 12 - 13. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 10 - 11، و"دلائل النبوة" 4/ 217 - 218. (¬3) انظر "السيرة" 2/ 335، وأخرجه أحمد في "مسنده" (23858).

حديث الغنائم

دماءهم، ففعل، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حاز الأموال كلها، فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] يسألونه مثل ذلك. وكان الذي مشى بينهم مُحَيِّصةُ بن مسعود أخو بني حارثة، فلم يزل أهلُ خَيبر على ذلك حتى سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعاملهم بالأموال على النِّصْفِ، فعاملهم على أنه متى شاء أن يُخرجَهمُ أخرجهم، وصالحه أهل فَدَك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئًا للمسلمين، وفَدَكٌ خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم لم يُوجِفُوا عليها بخيلٍ ولا رِكابٍ (¬1). وقال ابن عمر: أتى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ خيبر عند الفجر، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قَصْرِهم، وغلبهم على الأَرْضِ والنخيل، وصالحهم على أن يحقُنَ دماءَهم ولهم ما حملَتْ رِكابُهم، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - الصفراءُ والبيضاءُ والحَلْقَةُ والسِّلاحُ، وشرطوا أن لا يكتموه شيئًا وأن يُخْرجَهم، وإن كتموا شيئًا فلا ذِمَّة لهم ولا عهد، فلما وجد المال الذي غَيَّبوه في مَسْكِ الجمل سبى نِساءهم وغلب على الأرض والنخيل ودفعها إليهم على الشطر، وكان ابن رواحة يخرُصُها عليهم ويضمنهم الشطر (¬2). وكان جبَّار بن صخر الأنصاري يخرصُها أيضًا (¬3). وعن ابن عباسٍ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع خيبر أرضَها ونخلها مقاسمةً على النِّصْفِ (¬4). حديث الغنائم: قال علماءُ السِّيَرِ: وأمر رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالغنائمِ، فجُمعت، واستعمل عليها فَرْوَةَ بنَ عمرو البَياضي، وكان المسلمونَ ألفًا، والخيلُ مئتي فرسٍ، وكان مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نساءٌ مسلماتٌ، فرضَخَ لَهُنَّ من الفَيءِ، ولم يَضْرِبْ لهنَّ بِسَهْمٍ، وكانت المقاسمةُ على خمسةِ أسهُمٍ: سهمٌ لله والرسول، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، والمساكين، ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 337، و"تاريخ الطبري" 3/ 14 - 15، وما بين معقوفين زيادة منهما. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 104، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (5199)، والمَسْك: الجلد. (¬3) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 533. (¬4) أخرجه أحمد في "المسند" (2255). وبهذا الخبر يتم الجزء الثاني من النسخة الخزائنية.

حديث صفية بنت حيي - رضي الله عنها -

وابن السبيل، وطعمةٌ لأزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقُسِّمت خيبر على أهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، ولم يغب عنها إلا اليسير، ولم يحضُرْها جابرُ بنُ عبدِ الله، فأعطاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منها كَمَنْ حَضَرها (¬1). قال ابن سعد: ولما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، جعل نِصْفَ سهمه لنوائبهِ ونَوازِله، فلما صارت الأموال بيده لم يكنْ للمسلمينَ مَنْ يعملُها، فدفعها إلى اليهودِ، يعملونَها على نِصْفِ ما يخرجُ منها، فلم يزالوا كذلك إلى زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأجلاهم إلى الشام، وقسم الأموال بين المسلمين (¬2). لِما نذكر. حديث صفية بنت حيي - رضي الله عنها -: كانت قد رأت في منامِها وهي عروسٌ بكِنانةَ بن أبي الحُقَيْقِ أن قمرًا وقع في حِجْرِها، فقصَّت رؤياها على كِنانة، فلطمها، فاخضَرَّت عينها، قال: وما ذاك إلّا لأنك تَتَمنَّيْنَ مَلِكَ الحجازِ محمَّدًا. فلما فُتِحت خَيْبَرُ أُتيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكنانة وكان عنده كَنْزُ بني النضير، فسأله عنه فأنكر، فقال رجلٌ من اليهود: رأيت كِنانةَ يُطيفُ كلَّ غداة بهذه الخَرِبَةِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرأَيتَ إِن وَجَدناهُ عندكَ، قَتَلنَاكَ؟ " قال: نعم، فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بتلك الخَرِبةِ فحُفرت، فأخرج منها بعض الكنز، فسأله عن الباقي فأنكر، فدفعه إلى الزبير وقال: "عذَّبه حتى يُقِرَّ بالباقي" وكان الزبير يقدح بزَنْدٍ في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه إلى محمد بن مَسْلَمةَ، فقتله بأخيه محمود بن مَسْلمة. ولما وصلت صفية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألها عن عينها فأخبرته فَعَجِبَ (¬3). وفي حديث أنسٍ الذي رواه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، قال: فصلَّيْنا عندها صلاةَ الغَداةِ بغَلَسٍ، فركبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة وأنا رديفُ أبي طَلحةَ، فأجرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زقاق خيبر، وإنَّ رُكْبتِي لتَمَسُّ فَخِذَ نبي الله، وانحسر الإزار عن فخذِ ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 349، ورضخ: أعطى وقسم. (¬2) انظر "الطبقات" 2/ 107 - 108. (¬3) انظر "السيرة" 2/ 336، و"تاريخ الطبري" 3/ 14.

نبي الله فإني لأرى بياضَ فَخِذه، فلما دخل القرية قال: "اللهُ أَكبَرُ خَرِبَت خَيبرُ؛ إنا إذا نَزَلنا بقوم فَساء صباحُ المنذَرين" قالها ثلاثًا، وقد خرج القوم إلى أعمالهم فقالوا: محمدٌ والخَميسُ، فأصبناها عَنْوةً، فجُمع السَّبْيُ، فجاء دِحْيَةُ فقال: يا رسول الله، أعطني جاريةً من السَّبْيِ، فقال: "اذهَبْ فَخُذ جارِيَةً" فأخذ صفيَّةَ بنت حيي، وذُكِرَ أن رجلًا (¬1) قال: يا رسول الله، أعطيت دِحْيَةَ صفية بنت حيي سيدة بني قريظة والنضير! ما تصلح إلا لك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادعوه". فجاء بها، فلما نظر إليها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذ جارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيرَها". قال: ثم إن نبي الله أعتقها وتزوجها. فقال ثابت لأنس: يا أبا حمزة، ما أَصْدَقها؟ قال: نَفْسَها، أعتقها وتزوجها، حتى إذا كُنّا بالطريق جَهَّزَتْها أمّ سُلَيْمٍ، فأهدَتْها له من الليل، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عروسًا، فقال: "مَن كانَ عندَهُ شَيءٌ فَلْيجئْ بهِ" وبسط نِطْعًا، فجعل الرجل يجيء بالبُرِّ والرجلُ يجيء بالسمن، قال: وأحسبه ذكر السَّوِيقَ، قال: فحاسوا حَيْسًا، وكانت وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وعن أنسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: "الْتَمِسُوا لي غُلامًا مِن غِلمانِكُم يَخْدُمُني" فخرج أبو طلحة يُرْدِفُني وراءه، فكنت أخدم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أسمعُه يكثرُ أن يقولَ: "اللَّهمَّ إنِّي أَعوذُ بكَ مِن الهمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَل، والبخلِ والجُبنِ، وضَلَعِ الدَّيْن وغَلبةِ الرجال" فلم أزل أَخْدُمُه حتى أقبلنا من خيبر، وأقبل بصفية بنت حُيَيّ قد حازها، فكنتُ أراه يُحَوِّي لها بعباءةٍ أو بكساءٍ، ثم يُرْدِفُها خلفه، حتى إذا كنا بالصَّهْباء صَنَع حَيْسًا في نِطْعٍ، ثم أرسلني فدعوت رِجالًا فأكلوا، فكان ذلك بناءَه بها، ثم أقبل حتى بدا له أُحُدٌ، فقال: "هَذا أُحُدٌ، هذا جَبَلٌ يُحبُّنا ونُحبُّه" فلما أشرف على المدينة قال: "اللَّهمَّ إنِّي أُحَرِّمُ ما بينَ لابَتَيْها، كما حرَّمَ إبراهيمُ - عليه السلام - مكَّةَ، اللَّهمَّ بارِكْ لهُم في صَاعِهم ومُدِّهم". أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). وقال موسى بن عقبة: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دِحْيَة مكان صفية ابنتي الربيع بن أبي الحُقَيْق. ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): دحية، والمثبت من صحيح البخاري ومسلم. (¬2) أخرجه البخاري (371)، ومسلم (1427) (84). (¬3) أخرجه البخاري (5425)، ومسلم (1365).

[ذكر من استشهد بخيبر]

وعن ابن عباسٍ قال: لما أراد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجَ من خيبر قال الناس: الآنَ نَعلمُ أَسُرِّيَّةٌ صَفِيَّةُ أمَّ امرأةٌ؟ فإن كانت امرأة [فإنه سيحجبها، وإلا فهي سرية، فلما خرج أمر بستر فسُتر دونها، فعرف الناس أنها امرأة]، ولما أراد أن يركب أدنى فَخِذَهُ منها لتركب عليها، فأبت إجلالًا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ووضعت ركبتها على فَخِذِه فحملها، فلما كان الليلُ ودخل الفُسطاطَ وهي معه جاء أبو أيوبٍ الأنصاريُّ فوضع رأسه على باب الفُسْطاط، فلما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع حركته فقال: من هذا؟ قال: أنا خالد، قال: ما شأنك؟ قال: يا رسول الله جاريةٌ شابةٌ حديثةُ عَهْدٍ بعُرْسٍ وقد صَنَعْتَ بأهلها وزوجِها ما صنعت، فإن تَحرَّكَتْ، كنتُ قريبًا مَنك، فقال: "يَرْحَمُكَ الله يا أبا أَيوب" (¬1). وقال ابن إسحاق: أُتِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بصفيةَ وامرأةٍ أخرى معها، فَمَرَّ بهما بلالٌ على قتلى يهود، فلما رأتهم المرأة التي مع صفية صاحت وصكَّت وَجْهَها وحَثَتْ على رأسها الترابَ، فلما رآها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَغْرِبُوا عنِّي هذه الشَّيطانَة" وأمر بصفِيَّةَ فَحِيزَتْ خلفه، وأَلقى عليها برِدائه، فعرف الناسُ أنه اختارها لنفسه، وقال لبلال: "أَنُزِعَتْ منكَ الرَّحمةُ حيثُ تمرُّ على قتلى رجالهما" (¬2) [ذكر من استشهد بخيبر] ثَقْف، وقيل: ثقاف بن عمرو بن سُمَيْط، أخو مالك ومِدْلاج، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، من حلفاء بني عبد شمس، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والحديبية، وقتله أُسير اليهودي في يوم خيبر (¬3). الحارث بن حاطب بن عمرو بن عبيد، وأمه أمامة بنت الصامت بن خالد، والحارث من الطبقة الثانية من الأنصار، وهو الذي بعثه (¬4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطريق ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 2/ 109 - 110 وما بين معكوفين منه. (¬2) "السيرة" 2/ 336. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 91. (¬4) في طبقات ابن سعد 3/ 427: ردّه، وهو الصواب.

لَمَّا توجَّهَ إلى بدر إلى بني عمرو بن عوف لشيءٍ بلغه عنهم، وضرب له بأَجْرِه وسَهْمِه، وشهد أحدًا والخندق والحديبية، فلما حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر رماه رجل من حصنٍ بحَجَرٍ فدمغَه، وهو أخو ثعلبة بن حاطب لأبيه وأمه، وفي ثعلبة نزل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] وسنذكره إن شاء الله. ربيعةُ بن أكثم بن سخبرة بن عمرو، أبو يزيد الأسدي من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا وأحدًا وهو ابن ثلاثين سنة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورماه الحارث اليهودي أبو زينب من النَّطاةِ بحجر فقتله في حصار خيبر، وهو ابن سبع وثلاثين سنة. رفاعة بن عبد المنذر بن رفاعة بن زَنْبَر، أبو رافع أخو أَبي لبابة الأنصاري، شهد رفاعة بدرًا، وله رؤيةٌ وروايةٌ (¬1). عامر بن الأكْوَعِ سنان بن عبد الله بن قُشير من بني أفصى، من الطبقة الثانية من المهاجرين، أسلم الأكوع قديمًا هو وابناه عامرٌ وعمرو، وصحبوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعامرٌ عمُّ سَلَمة بن الأكوع، فسلمة بن عمرو بن سنان، وسنان هو الأكوع (¬2). قال سلمة: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فَسِرْنا فقال رجل من القوم لعامر: ألا تُسْمِعُنا من هُنَيَّاتِكَ، وكان عامر رجلًا شاعرًا، فنزل يحدو بالقوم ويقول: تاللهِ لولا اللهُ ما اهتدينا ولا تصدَّقْنا ولا صَلَّينا ونحن عن فضلِكَ ما استغنَينا فثبِّتِ الأقدامَ إن لاقَيْنا وأَنْزِلَنْ سكينةً علينا فاغفِر فداءً لك ما اقتنَيْنا ¬

_ (¬1) الترجمتان في طبقات ابن سعد 3/ 89، 422. (¬2) انظر "السيرة" 2/ 328.

إنا إذا صيح بنا أَتَيْنا وبالصياح عَوَّلوا علينا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن هذا؟ " قالوا: عامر، قال: "يَرحَمُه اللهُ"، فقال رجل من القوم: وَجَبَتْ يا نبيَّ الله، لولا مَتَّعْتَنا به. وقيل: إن القائل عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. وخرج مَلِكُهم مَرْحَب يخطر بسيفه ويقول: قد علمت خيبرُ أني مَرْحَبُ ...... الأبيات المتقدمة. وقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاك السلاح بطل مُغاوِرُ ثم التقيا، فاخْتَلفا ضَرْبتين، فوقع سيفُ مَرْحَب في تُرس عامرٍ، وذهب عامر يَسْفُلُ له فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله، فكانت فيها نَفْسُهُ. قال سلمة: فخرجت فإذا بِنَفَرٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بطلَ عملُ عامرٍ، قَتَلَ نَفْسَه، قال: فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله بطَلَ عملُ عامر، قال: "مَن قالَ ذلكَ"؟ قال: قلتُ: نَفَرٌ من أصحابك، قال: "كَذَب مَن قالَ ذلكَ، بل له أَجْرُه مَرَّتَين" (¬1). وفي رواية عن سلمة قال: أتينا خيبر فحاصرناهم وأصابتنا مَخْمَصَةٌ شديدة، ثم إن الله فتحها، فلما أمسى الناس اليومَ الذي فتحت فيه خيبر، وأوقدوا نيرانًا كثيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذه النِّيرانُ؟ على أيِّ شيءٍ يُوقِدُونَ"؟ قالوا: على لحوم الحُمُرِ الإِنسِيَّة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَهريقُوها واكسِرُوا القُدُورَ" فقال رجل: يا رسول الله أو نَغْسِلُها؟ فقال: "أَو ذلك" فلمَّا تصافَّ القوم كان سيف عامرٍ فيه قِصَرٌ، فتناولَ به يهوديًا ليضربه فرجع ذُبابُ سيفه فأصاب ركبته فمات منها، فلما قَفَلوا قال سلمةُ: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاحبًا شاكيًا، قال سلمة: فأخذ بيدي أَو هوَ آخِذٌ بيدي، فقلت: فدًى لك أبي وأمي، زعموا أنَّ عامرًا حَبِطَ عمله، فقال: "من قاله"؟ قلت: فلانٌ وفلانٌ وأُسَيْدُ بنُ الحُضَيْر، فقال: "كَذَبَ مَن قاله، إنَّ له لأَجْرَينِ" وجمع بين أصابعه أَو أُصْبَعَيْه ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 2/ 105، و 5/ 208، وانظر "السيرة" 2/ 328.

"إنه لَجاهِدٌ مُجاهِدٌ، قلَّ عَرَبيٌّ مشى بها مثلَهُ" (¬1). وفي رواية: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شكُّوا فيه وقالوا: رجل مات بسلاحه، وقال سلمةُ: يا رسول الله إن قومًا ليهابون الصلاة عليه، فقال: "كذبوا" (¬2) وذَكَرَهُ. متفق عليه. ومعنى يهابون الصلاة عليه: أي الدعاء له، ومعنى يسفُل: أي يَخْطُرُ يده إلى أسفل. وروى ابن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن عامرًا يعوم في الجنة عوم الدُّعْمُوصِ (¬3). وهو دُويبةٌ تغوص في الماء. محمودُ بنُ مَسْلَمةَ بن سلمة بن خالد، حليف بني عبد الأشهل، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه خُليدَةُ بنت أبي عُبَيْدٍ، شهد أُحُدًا والخندقَ والحديبية، ألقت عليه امرأة (¬4) بخيبر رحًى قَسَمَتِ البَيْضَةَ على رأسه فمات، فَقُبِرَ هو وعامر بن الأكوع في قبرٍ واحدٍ لأنهما قُتِلا في يوم واحد، وقبرهما في غارٍ بالرَّجيع، وله رؤية ورِوايةٌ. وفي ذلك اليوم قُتِلَ مَرحَب. النعمانُ بنُ ثابت بن النعمانِ بن أُمية بن البُرَك وهو امرؤ القيس، وكُنْيةُ النعمان: أَبو ضَيَّاح - بضاد معجمة [وياءٍ] مشدَّدة وحاء مهملة - شهد بدرًا وأحدًا والخندقَ والحديبيةَ وخيبرَ وقُتِلَ بها شهيدًا، ضَربه رجلٌ منهم بسهم فأطَنَّ قِحْفَ رأسه، وليس له عَقِبٌ. * * * قال الواقدي: قُتِلَ من المسلمين في غزاة خَيبر ستةَ عَشَرَ رجلًا، ذكرنا أعيانهم، ومن اليهود سبعون رجلًا (¬5). منهم الحارث - أبو زينب التي سَمَّت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ومرحبٌ وياسرٌ وأُسَيْرٌ وكِنانةُ بن أبي الحُقَيْقِ، وغيرُهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6148)، ومسلم (1802). (¬2) هي رواية لمسلم (1802) (124). (¬3) "الطبقات" 5/ 209. (¬4) في "الطبقات" 4/ 247: أن مرحب اليهودي هو الذي ألقى عليه الحجر. (¬5) "المغازي" 2/ 700 وعنده: خمسة عشر من المسلمين، وثلاثة وتسعون رجلًا من اليهود.

وعن أبي هريرة قال: شهدنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبرَ، فقال لِرجلٍ ممن يدَّعي الإسلام: "هَذا مِن أَهلِ النَّارِ" فلما حضَر القتالُ قاتل الرجل قِتالًا شديدًا، فأصابه جِراحةٌ، فأُخبِرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقتاله، فلما كان في الليل لم يَصْبِرْ على ألم الجِراح فقتل نفسه، فأُخْبِرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهُ أكبَرُ، أَشهَدُ أَنِّي عبدُ اللهِ ورَسولُه" ثُمَّ أَمرَ بلالًا فنادى في الناس: "إِنه لا يَدْخُلُ الجنةَ إلا نفسٌ مُؤمنةٌ أو مُسلِمةٌ، وإنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هذا الدينَ بالرجلِ الفَاجِرِ". أخْرَجاه في "الصحيحين" (¬1). ولما فرغ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر أهدت له زينبُ بنت الحارث اليهودية - ابنة أخي مَرْحَب، امرأةُ سَلَّام بن مِشْكَم - شاةً مَصْلِيَّةً، وكانت قد سألت: أَيُّ الأعضاءِ أحبُّ إليه؟ فقيل لها: الذراعُ، فأكثرت فيه السُّمَّ، وجاءت بالشاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَتَناول من الذراع مُضغَةً فلم يُسِغْها، فلفظَها، وكان عنده بِشْرُ بن البراء بن مَعْرور فأخَذَ [كما أخذ] رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأساغها، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ هَذا الذِّراعَ لَيُخْبِرُني أنَّه مَسمُومٌ" فدعا بها فسألها فاعترفت، فقال: "ما حَمَلَكِ على هَذا"؟ فقالت: بلغتَ مِنْ قومي ما قد بلغتَ، فقلتُ: إن كان نبيًّا، فَسَيُخْبَرُ، وإن كان مَلِكًا، استرحنا منه (¬2). قال البخاري: فَعفا عنها ولم يقتلها (¬3). وقال الواقدي: الثابتُ عنْدنا أنه قتلها (¬4). وقال الهيثم: لما مات بِشْر بن البراء دفعها إلى أوليائه، فقتلوها به. وفيها: حرَّمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لُحومَ الحُمُرِ الإنْسِيَّة، وقد كانت مباحةً قبل ذلك. قال أبو ثعلبة: غزوتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر، فأصبنا بها حُمُرًا من الحُمُرِ الإنسية فذبحناها، وأُخْبِر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر عبد الرحمن بن عوف فنادى في الناس: "إنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3062)، ومسلم (111). (¬2) "السيرة" 2/ 337 - 338. (¬3) لم نقف عليه عند البخاري. (¬4) انظر "المغازي" 2/ 677 - 678.

لُحومَ الحُمُر الإِنسِيَّةِ لا تَحلُّ لِمَن يَشهَدُ أَنِّي رَسولُ اللهِ" (¬1). وقد روى هذه السُّنَّة جماعة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب (¬2) وجابر بن عبد الله (¬3)، والبراء بن عازب (¬4). وكذا يَحْرُمُ أكلُ البغال عند عامة الفُقهاءِ والعلماء، وعند مالك رحمة الله عليه لا يَحْرُم شيء من ذلك لقوله - عليه السلام - لغالب بن أبجر وكان له حُمُر: كُلْ من سَمينِ مالِكَ (¬5). إلَّا أَنه مَنْسُوخٌ بحديث خيبر. وقال جابر: حرَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحومَ البغال، وكلَّ ذي ناب من السباع، وذي مِخْلَبٍ من الطير (¬6). [وفيها: ] نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسقي الرجل ماءَه زَرْعَ غَيره. قال رويفع بن ثابت البَلَوِيُّ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: "مَن كانَ يُؤمنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، فلا يَسقِي ماءَهُ زَرعَ غيرِه، مَن كانَ يُؤمِن باللهِ واليَومِ الآخِرِ، فلا يَقَع على امرأةٍ مِنَ السَّبيِ حتى يَسْتَبرِئها" (¬7). * * * وفيها: قدم جعفرُ بن أبي طالب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر، فقام إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتنقه وقَبَّلهُ وقال: "ما أَدرِي بأَيِّهما أُسَرُّ: بقُدومِ جَعفر أو بفتح خيبر" (¬8) وسأل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمينَ أن يُسْهموا له ولأصحابه، ففعلوا. وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمة الله عليهما: حدثني أبي، عن علي بن المَديني ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (17741). (¬2) أخرجه البخاري (5115)، ومسلم (1407). (¬3) أخرجه البخاري (4219). (¬4) أخرجه البخاري (4226)، ومسلم (1938). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة (24826)، وابن أبي عاصم (1162). (¬6) أحمد في "مسنده" (14463). (¬7) أخرجه أبو داود (2158)، وأحمد في "مسنده" (16997). (¬8) أخرجه الحاكم 3/ 230، وانظر "السيرة" 2/ 359.

قال: كنتُ جالسًا في مجلس مالك بن أنس، فاستأذن عليه سفيان بن عُيينة، فأذِنَ له فدخل فسلَّم، وقال: السلام خاصٌّ وعام، السلام عليك أبا عبد الله، فقال مالك: وعليك السلام أبا محمد ورحمةُ الله وبركاته، وقام إليه فصافحه، وقال: لولا أنَّ المعانقة بِدْعَةٌ لعانَقْتُكَ، فقال سُفْيان: قد عانق من هو خير مني مَنْ هو خيرٌ منك، قال مالك: رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وجعفرًا؟ قال: نعم، قال مالك: ذاك خاصٌّ وليس بعامًّ، فقال سفيان: ما عَمَّ جعفرًا يعمنا وما خصَّه يَخُصُّنا. ثم قال سُفْيان: يا أبا عبد الله أتأذن لي أن أُحَدِّثَ في مجلسك؟ قال: نعم، حدثنا عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: أن جعفر بن أبي طالب لما قدم من أرض الحبشة تَلقَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعتنقه وقال: جعفرٌ أَشْبَهُهُم بي خَلْقًا وخُلُقًا (¬1). * * * وفيها: قَدِمَ أبو هريرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر. قال الواقدي: قدم الطُّفَيْلُ بن عَمْرو الدَّوْسيُّ وقومُه المدينةَ بعدما أسلموا، في سبعين راكبًا، وفيهم أبو هريرة، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فخرجوا إليه، فلقوه هناك، فأسهم لهم، وقَدِموا معه المدينة فقال الطفيل: يا رسول الله لا تُفَرِّقْ بيني وبين أصحابي، فأَنْزَلَهُم حَرَّةَ الدجاح، وقال أبو هريرة: لما أقبلتُ أُريدُ الإسلام كان معي غلام ضلَّ عني وأقبل غلامي بعد ذلك وأنا جالس عند رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا هريرة هذا غلامك قد أتاك، فقلت: يا رسول الله إني أشهدك أنه حر. وفي رواية: لما قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت وأنا في الطريق: [من الطويل] يا ليلةً من طولِها وعنائها ... على أنها من دارةِ الكفر نَجَّتِ فقدمتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعتُه، فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام فقال: هذا غلامك، فقلت: هو حر لوجه الله (¬2). وفي أفراد البخاري، عن أبي هُرَيْرَةَ قال: أتَيْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بعدما ¬

_ (¬1) أخرج القصة ابن عساكر في "تاريخه" 58/ 365. (¬2) انظر "الطبقات" 1/ 304، و 5/ 231.

افتتحها، فقلت: يا رسول الله أَسْهِم لي، فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تُسْهِمْ له، قال أبو هريرة: فقلت: يا رسول الله هذا قاتِلُ ابنِ قَوْقَل، فقال ابن سعيد بن العاص: واعجبًا لِوَبْرٍ تدلَّى علينا من قُدوم ضَأنٍ، ينعى عَليَّ قَتْلَ رجلٍ مسلم أكرمه الله بيَدَيَّ ولم يُهنّي بيده، أو على يده. قال عنبسةُ بن سعيدٍ راوي الحديث: فلا أدري أسهم له أم لا (¬1)؟ وأخرج البخاري بمعناه فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أَبان بن سعيد بن العاص على سَرِيَّةٍ من المدينةِ قِبَلَ نجدٍ، فَقدِم أبان وأَصحابه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر بعدما افتتحها. قال أبو هريرة: فقلتُ: يا رسولَ الله، لا تَقْسِمْ لهم. فقال أبان: وأنت بهذا يا وَبْرُ انْحَدَر من رأس ضال. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أَبانُ، اجْلِسْ". فلم يقسِم لهم (¬2). الوبْر بإسكان الباء: دويبة تشبه السِّنَّوْر (¬3). والقَدوم: بالتخفيف ما تقدَّم من الشاة. ورواه البخاري: ضال، وهو جبل. وغيره يقول: ضأن. والتدلّي: النزول. وابن قَوْقل: رجلٌ من الأنصارِ. وابنُ سعيد هو أَبان. وإنما قال ذلك احتقارًا لأَبي هريرة. وقيل: إنه لم يُسْهم له. وسنذكرُ أَخبار أَبي هريرة إن شاء الله تعالى في سنة ثمانٍ وخمسين. وفيها: كانت غزاةُ وادي القُرى (¬4). قال أبو هريرة: خرجنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فلم يغنم ذهبًا ولا فِضَّةً، وغَنِمنا المتاعَ والطعام والثيابَ، ثم انطلقنا إلى وادي القُرى مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ومع رسولِ الله عبدٌ - أهداه له رجل جاءه من جُذام يُدعى رفاعة بن زيد من بني ضُبَيب - يُقال له: مِدعَم. فلما نزلنا الوادي قام العبد يحلُّ رحله، فجاءه سهم عائر فقتله، فقلت: هنيئًا له الجنة، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلَّا والذي نَفسُ محمدٍ بيده، إن شَمْلَتَهُ الآن لتَحتَرقُ عليه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2827). (¬2) البخاري (4238). (¬3) في النسخ: "الأمر" والمثبت من "فتح الباري" 7/ 492. (¬4) انظر "السيرة" 2/ 338، و"المغازي" 2/ 707، و"تاريخ الطبري" 3/ 16، و"المنتظم" 3/ 297، و"البداية والنهاية" 4/ 218.

في النَّار، أو تحترقُ عليه نارًا" وكان قد غَلَّها من فَيْءِ المسلمين يَوْمَ خَيبر، فسمع ذلك رجلٌ من الصحابة فقال: يا رسول الله أصبت شِراكين لنَعْلٍ لي، فقال: "هذا لَكَ شِراكانِ مِن نارٍ" (¬1). واختلفُوا في غزاة وادي القرى: هل هي داخلة في غزاة خيبر أو منفردة عنها؟ وفيها: كانت ليلة التَّعريسِ. قال الترمذي: حدَّثنا محمود بن غَيلان، حدَّثنا النَّضْر، عن صالح بن أبي الأَخضر، عن الزُّهري، عن ابن المُسَيِّب، عن أبي هريرة قال: لما قفلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبرَ أسرى ليلةً، حتى إذا أدركه الكَرى أَناخَ فعرَّسَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هَل مِن رَجلٍ يَحفَظُ علينا الطَّريق لعلَّنا نَنامُ"؟ فقال بلال: أنا يا رسولَ الله، فنزل ونزل الناس، فنام وناموا، وقام بلالٌ يُصلي، فصلى ما شاء الله، ثم استند إلى بعيرِه واستقبل الفجر بطَرْفِه فغلبته عينُه فنام، فلم يُوْقِظْني إلَّا حر الشمس، فكان أوَّلَ من هَبَّ من نومِه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما صنَعْتَ يا بِلالُ"؟ فقال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفوسكم، فقال: "صدقْتَ" ثم سار غير كثير، ثم أناخ فتوضَّأ وصلى ركعتين ثم صلى الفَجْرَ (¬2). ولمسلمٍ: عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِيَأخُذْ كُلُّ رَجلٍ رَأسَ راحلته، فإنَّ هَذا مَنزِلٌ حَضَرنا فيه الشَّيطانُ" قال: ففَعلنا، فدعا بالماء فتوضأ ثم صلى ركعتين قبل صلاة الغَداة، ثم أقيمت الصلاة فصلى الغَداة (¬3). * * * وفيها: نزلت آية التيمم، وقيل: في غزاة ذات الرقاع، وقيل: في غزاة المريسيع. قال البخاري: حدَّثنا عبد الله بن يوسف، أَنبأنا مالكٌ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ أسفارِه، حتى إذا كنا بالبَيْداءِ - أو بذات الجيش - انقطع عِقْدٌ لي، فأقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6707)، ومسلم (115). (¬2) أخرجه الترمذي (3163). (¬3) أخرجه مسلم (680) (310).

التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، أو وَلَيْسَ معهم ماء، فأتى الناسُ أبا بكرٍ فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشةُ؛ أقامتْ بالناس على غير ماء، فجاء أبو بكر فأغلظ لها، قالت: ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نائمٌ، رأسُه على فَخِذي، وقال ما شاء، وجعل يَطْعُنُ بيده في خاصرتها، قالت: ولا يمنعني من التحرك إلا مكانُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنام حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آيةَ التيمم، فقال أُسَيْدُ بنُ حُضَيْر وهو أحد النقباء: ما هي بأول بركتِكُم يا آل أبي بكر، ما نزل بكِ أمرٌ تكرهينَه إلا جعل الله للمسلمين منه فرجًا ولكِ منه مخرجًا. قالت: فَبَعَثْنا البعيرَ الذي كان تحتي أو كنت عليه فإذا العقد تحته (¬1). وفيها: كانت قصة الحجَّاج بن عِلاط بن خالد بن ثُوَيْرَةَ السُّلَمي (¬2)، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين، شهد فتح خيبر. قال أرباب السير: كانت تحته أمُّ شَيْبَة أختُ بني عبد الدار، وكان كثير المال، فلما رجع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا رسول الله إن لي أموالًا بالحجاز وبمكة، وذهبي عند أُمِّ شيبة، وإن عَلِمَتْ بإسلامي هي ومَنْ عنده مالي ذهب، فَأْذَنْ لي في الذهاب قبل أن يفشو الخبر، فأذن له وقال: قل ما شئت. قال الحجاج: فخرجت وأسرعت المسير، فلما كنت بالثنية البيضاء رأيت رجالًا يتجسَّسون أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريش وقد علموا أنه صار إلى خيبر وهي قريةُ الحجاز، ريفًا ومَنَعَةً ورجالًا وعُدَّةً وسِلاحًا، فلما رَأَوْني قالوا: الحجاجُ؟ ! ولم يكونوا علموا بإسلامي، فقالوا: أخبرنا عن القاطعِ، فقلت: عندي من الخبر ما يسرُّكم، فالتبطوا بجانِبَيْ ناقتي يقولون: إيه يا حجَّاجُ، فقلت: هُزِمَ هَزيمةً لم يُهْزَمْ مثلَها قطُّ وأُسِر وقُتِلَ أصحابُهُ قتلًا ذريعًا، وأرادت اليهودُ قتله فقال رؤساؤهم: دَعُوه حتى نَبعثَ به إلى مكَّةَ فيقتلونه بين أظهرهم بِمنْ كان أصاب من رجالهم، ففرِحوا وانطلقوا إلى أهلها فبشَّروهم، فقلتُ: أَعينوني على جمع مالي من غُرَمائي حتى أَقْدُمَ على خيبر فأَشتري من الذين أصابوا من أموال محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ قبل أن يسبقَني التُّجَّار، فجمعوا مالي في أسرع وقت، وجئت إلى صاحبتي فأخذتُ ما كان عندها وقلت لها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (334). (¬2) انظر "السيرة" 2/ 345، و"الطبقات" 5/ 157، و"تاريخ الطبري" 3/ 17.

مثلَ ما قلت لهم، ولما شاع الخبر بمكة التقاني العباس فقال: ويحك يا حجاج، ما الذي جئت به؟ فقلت: اذهب إلى مكان كذا، فأخذتُ جميعَ مالي وخرجت، فقلت له: أبشر فَتَح الله على ابن أخيك خيبرَ وتركتُه عروسًا على بنت ملك خيبر، وقد أسلمتُ وجئتُ أَخَذْتُ مالي خوفًا من أَن أُغْلَبَ عليه، فاكتُمْ عني ثلاثًا. فلما كان بعد ثلاث لبس العباس حُلَّةً وتخلَّقَ ثم خرج يطوف بالبيتِ، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التَّجَلُّدُ في المصيبةِ، فقال: ويلكم فتح الله خيبرَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعرسَ بابنة ملكهم، وأحرز رسولُه أموالَهم ونخيلَهم وقسَّمها بين المسلمين، فقالوا: من جاء بهذا الخبر؟ قال: الذي جاءكم بما جاءكم به لقد دخل عليكم مسلمًا وأخذ أمواله وانطلق ولحق رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون معه، فقالوا: قُتِلْتَ عدوَّ الله، أما واللهِ لو عَلِمْنا لكان لنا وله شأن من الشأن. فلم يلبثوا أن جاء الخبر بذلك، فأعتق العباس في ذلك اليوم عبدًا له يقال له: أبو زبيبة. وقال موسى بن عقبة: لما سمع العباس بِما أخْبَرَ بهِ الحجاجُ أولًا أراد أن يقوم فلم يقدر على القيام. * * * قال الواقدي: وفيها رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب - عليها السلام - على أبي العاص بن الربيع - رضي الله عنه - (¬1) وفيها: قدمت أم حبيبة - رضي الله عنها - بنت أبي سفيان من الحبشة على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة، وكان قد كتب إلى النجاشي فزوَّجه إيَّاها، وكانت قد هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش فتنصَّر ومات هناك. وعن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: رأيت في المنام كأنَّ عبيدَ الله بنَ جَحْشٍ زوجي بأسوأ حال، وأشوهِ صورة، ففزعتُ وقلتُ: تَغيَّرتْ واللهِ حالُه. فإذا هو يقول حين أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في هذا الدين فلم أر دينًا خيرًا من دين النصرانية، وكنتُ قد دِنْتُ بها، ثم دخلتُ في دينِ محمد، ثم رجعت ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 3/ 21.

إلى النصرانية، قالت: فقلت له: والله ما خِيْرَ لك، وأخْبرتُه بما رأيت له فلم يحفَلْ بي، وأكبَّ على الخمر يشربُه حتى مات، فرأيت في المنام كأن آتيًا يقول: يا أمَّ المؤمنين، ففزعْتُ، وأوَّلْتُها أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يتزوجني، قالت: فما هو إلا أن انقضت عِدَّتي، فما شعرتُ إلَّا بجارية النجاشي يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابِه ودُهْنِهِ تستأذن عَلَيَّ، فأذِنْتُ لها فدخلتْ، وقالتْ: الملك يُسَلِّمُ عَلَيْكِ ويقول: إِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليَّ أن أزَوِّجَه إيَّاكِ، فقلت: بشَّرك اللهُ بالخير، فقالت: وَكِّلي من يُزَوِّجُك، فأرسلتُ إلى خالدِ ابنِ سعيد بن العاص فوكَّلْتُه، وأعطيت أبرهةَ سِوارَيْنِ من فِضَّةٍ وخَدَمَتَيْنِ كانتا في رِجْلي وخواتيم فضة كانت في أصابعي سرورًا بما بشَّرتني به، فلما كان العَشِيُّ أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن كان هناك من المسلمين فحضروا وخطب النجاشي خطبة بليغة؛ حَمِدَ الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وقال: أما بعدُ فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلي أن أُزَوِّجَه أم حبيبة، فأجبته إلى ما دعاني إليه وأصْدَقْتُها من مالي أربع مئة دينار وصبَّها بين يدي القوم، فحمد الله خالد بن سعيد وصلى على رسوله وقال: قد أجبت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما سأل، فبارك الله لرسوله. ثم حضَر الطعامُ فأكلوا وانصرفوا. وفي روايةٍ: أنَّ أم حبيبة دفعت إلى أبرهة خمسين دينارًا فلم تقبلها وردت عليها جميع ما أعطتها وقالت: إن الملك أمرني أن لا أَرْزَأَكِ شيئًا، وإني قد أَسْلَمْتُ وبايعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أمر الملك نساءه أن يبعثنَ إليك بكلِّ ما عندهُنَّ من العِطْر - ثم جاءتني بعودٍ وعَنْبرٍ ومسكٍ وحُلِيٍّ كثيرةٍ - فقَدِمْتُ بذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبريه أَني قد بايعته وهذه حاجتي إليك، قالت: فلما قدمت عليه أخبرته فقال: وعليها السلام، ولما بلغ أبا سفيان قال: ذاك الفحل الذي لا يُقدَعُ أَنْفُه (¬1). وفي تزويج أم حبيبة نزل قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} (¬2) [الممتحنة: 7]. قال الواقدي: وبعث النجاشي أم حبيبة - رضي الله عنها - مع شُرَحْبيل بن حَسَنَة. * * * ¬

_ (¬1) "الطبقات" 10/ 95 - 96. (¬2) "الطبقات"10/ 97.

وفيها: قدم حاطب بن أبي بلتعة (¬1) من عند المُقَوْقِس صاحب الإسكندرية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهديَّةٍ، وهي أربعُ جوارٍ منهن مارية وهي أم إبراهيم - عليه السلام - ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسيرين، وبغلتُه الدُّلْدُل، وحماره اليعفور، وأَلْفُ دينار من ذهب وعشرين ثوبًا، وخَصِيٌّ يقال له: مأبور، شَيْخٌ كبير كان أخًا لمارية، أقام على دينه حتى قدم المدينة. وكان حاطب قد دعا مارية وسيرين إلى الإسلام فأسلما قبل وصولهما إلى المدينة، فأنزلهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أم سُلَيْم بنت مِلْحان، وكانت أُمُّ إبراهيم وضيئةً بيضاءَ جميلةً جَعْدَةً من كورةِ أَنْصِنا، فَوطِئها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بملك اليمين، ثم حولها إلى مالهِ بالعالية، كان قد أخذه من بني النضير وكان يأتيها فيه، وكانت في مَشْرَبةٍ تعرف بمشربةِ أم إبراهيم - والمشربة: المَنْظَرةُ - وكان الخصيُّ يختلف إليها، فكثَّر الناس فيه وقَالوا: عِلْجٌ يَدْخُلُ على عِلْجَةٍ، فبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عليًا رضوان الله عليه وقال: انطلق، فإن وجدته عندها فاقتله، فقال: يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالسِّكَّةِ المُحْماةِ أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فقال؟ فأقبلتُ متوشَّحًا بالسيف وإذا به عندها فاخترطت السيف فأقبلت نحوه، فلما رآني صَعِد نخلةً هناك وألقى نفسه على قفاه وشغر برجليه فإذا هو أَجَبُّ مَمْسوحٌ، ليس له قليل ولا كثير، فأغمدتُ السيف وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: "الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت" (¬2). قال الواقدي: إنما أمر بقتْله لأنه كان كافرًا لم يسلم. وقال المنافقون: إنه فحل فأكذب الله المنافقين. وأما سيرين فوهبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسانَ بنِ ثابتٍ فأولدها عبد الرحمن. وأما بغلته الدُّلدُل فبقيت إلى أيام معاوية. وأما حماره اليعفور فَنَفَقَ في حِجَّة الوداع عند منصرفه منها. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 3/ 21، وانظر "الطبقات" 10/ 201. (¬2) انظر "تاريخ ابن عساكر" 3/ 236، و"البداية والنهاية" 5/ 304.

ولما قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب المقوقس قال: "ضَنَّ بمُلكِهِ". وفيها: قدم أبو موسى الأشعري (¬1) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ في خمسين رجلًا ومعه إِخْوتُه وكانوا قد ركبوا من اليمن في سفينة وأرسوا بجُدَّة، فلقوه وقد قَفَل من خيبر. قال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَقدُمُ عليكم غَدًا قَومٌ هم أَرَقُّ قُلوبًا للإسلامِ منكُم". قدم الأشعريون فيهم أبو موسى الأشعري، فلمّا دَنَوْا من المدينة جعلوا يرتجزون؛ يقولون: غَدًا نَلقَى الأَحبَّه محمدًا وحِزبَه فلما قدموا تصافَحوا، فكانوا أوَّلَ من أحدث المصافحة. أخرجه الإمام أحمد (¬2) رحمة الله عليه. وفيها: كانت سرية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى هَوازن (¬3) في شعبان إلى مكان يقال له: تُرَبَةُ، على أربعِ ليالٍ من مكة، وقيل: على أربعة أميال، في ثلاثين راكبًا فانهزموا وعاد إلى المدينة. وفيها: كانت سرية أبي بكر رضوان الله عليه إلى نجد (¬4)، قال سلمة بن الأكوع: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر إلى فَزارة وكنت معه، فلما دَنَوْنا من الماءِ عرَّسَ وشنَّ الغارةَ وقت الصبح، فقتلتُ سبعةً من الكفار، ورأيت عُنُقًا من الناس فيهم الذراري فخشيتُ أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم ورميت بِسَهْمٍ بينهم وبين الجبل، فلما رأَوْه قاموا - ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 300، و"المنتظم" 3/ 304. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (12582). (¬3) "المغازي" 2/ 722، و"الطبقات" 2/ 110، و"تاريخ الطبري" 3/ 22، و"المنتظم" 3/ 301، و"البداية والنهاية" 4/ 221. (¬4) "المغازي" 2/ 722، و"الطبقات" 2/ 111، و"تاريخ الطبري" 3/ 22، و"المنتظم" 3/ 301، و"البداية والنهاية" 4/ 220.

أي: وقفوا - وإذا أنا بامرأة من فَزارة عليها قَشْعٌ من أَدَم معها ابنةٌ لها من أجمل العرب، فجئت بها إلى أبي بكر فنفَّلني ابنتها، فلم أكشف لها ثوبًا [حتى قدمت المدينة، ثم باتت عندي فلم أكشف لها ثوبًا حتى لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق فقال: "يا سَلَمَةُ، هَب لي المَرأْةَ" فقلت: يا نبي الله، والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبًا، فسكت حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق ولم أكشف لها ثوبًا، فقال: "يا سَلَمةُ، هَبْ لي المَرأة، لله أبوك" فقلت: هي لك يا رسول الله قال: ] فبعث بها إلى مكة ففدى بها أسرى المسلمين. وفيها: كانت سرية بشير بن سعد إلى بني مرة (¬1)، في شعبان بناحيةِ فَدَك في ثلاثين راكبًا، وقيل: في ثلاثين راجلًا، فساق أموالهم ونَعَمهم فأدركوه فقتلوا أصحابه وجُرِحَ في كعبه فاَرتُثَّ بين القتلى فَعاد إلى المدينة. وفيها: كانت سرية علي - عليه السلام - (¬2) إلى بني سعد في شعبان، فَهزمهم وساق أموالهم إلى المدينة. وفيها: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى المَيْفَعةِ (¬3)، وراءَ بطن نخلةَ في رمضان إلى بني عدي وبني غزال، في مئةٍ وثلاثين رجلًا فاستاقوا النَّعَمَ والشاءَ. وقال ابن إسحاق: إنما كانت إلى يُمْنٍ وجُبَارٍ. وفيها: كانت سرية أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - إلى الحُرقات من جُهَيْنةَ (¬4). قال أسامة: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحُرْقةِ أو الحُرْقات من جُهَيْنةَ، فصبَّحناهم فقاتلناهم، قال: وكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا وإذا أدبروا كان ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 723، و"الطبقات" 2/ 112، و"تاريخ الطبري" 3/ 22، و"المنتظم" 3/ 302، و"البداية والنهاية" 4/ 221. (¬2) هي سرية علي بن أبي طالب إلى فدك، تقدم ذكرها عند المصنف في السنة السادسة. (¬3) "السيرة" 2/ 622، "المغازي" 2/ 726، و"الطبقات" 2/ 112، و"تاريخ الطبري" 3/ 22، و"المنتظم" 3/ 303. (¬4) أدرجها أصحاب السير مع سرية غالب كما في "السيرة" 2/ 623، و"الطبقات" 2/ 112، و"تاريخ الطبري" 3/ 22، و"المنتظم" 3/ 303.

حاميهم، قال: فَغَشيتُه أنا ورجل من الأنصار، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري وقتلته أنا، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أُسامةُ، أقَتَلْتَهُ بَعدَما قال لا إِلَه إلا اللهُ"؟ فقلت: يا رسول الله، إنما كان متعوِّذًا من القتل، قال: فكرّرها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. وفي رواية عن أسامة: أنه قال: لما قَتَلْتُه عرض في نفسي منه شيء، فَذُكِرَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَنْ لَكَ بلا إِله إلَّا الله يَومَ القِيامة"؟ قال: قلت: يا رسول الله قالها مخافةَ القتل، فقال: "أَلَا شَقَقتَ عَن قَلبِه حتَّى تَعلَمَ مِن أَجلِ ذلك أَم لا؟ مَن لَك بلا إِله إلَّا اللهُ يَومَ القيامة" فما زال يقول ذلك حتى وددت أني لم أسلم يومئذ. أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). ولمسلم: كيف تَصْنَعُ بلا إله إلا الله، قال: وأسامة يقول: يا رسول الله استغفرْ لي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزيده على ذلك (¬2). وفيها: كانت سرية بَشيرِ بن سَعْدٍ إلى الجِنابِ (¬3) مِن خيبر ووادي القرى، في ثلاث مئة رجل، وكان قد جمع عُيَيْنَةُ بنُ حصن في ذلك المكان جمعًا كثيرًا، فقدم حُسَيْل بن نُوَيْرةَ الأَشجَعي فأخبر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأَنَّ عُيَيْنَةَ قاصدُهُ، فأرسل إليه بشيرَ بنَ سَعْدٍ فانهزم عيينة، فساق بشير النَّعمَ والشاءَ إلى المدينة وقتل عبدًا لعيينة. وفيها: كانت عمرة القضاء (¬4) في ذي القعدة، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لهلال ذي القعدة - وهو المسير الذي صده المشركون فيه - في ألفين، وقادَ مئة فرس، معه السلاح، وساق ستين بَدَنةً، وجعل عليها ناجية بن جُنْدب الأَسلمي، واستخلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري، فلما سمعت به قريش صعدوا إلى الجبال ودخلوا في الشعاب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4269)، ومسلم (96)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (21802). (¬2) مسلم (97). (¬3) "المغازي" 2/ 727، و"الطبقات" 2/ 113، و"تاريخ الطبري" 3/ 23، و"المنتظم" 3/ 303. (¬4) "السيرة" 2/ 370، و"المغازي" 2/ 731، و"الطبقات" 2/ 113، و"تاريخ الطبري" 3/ 23، و"دلائل النبوة" 4/ 313، و"المنتظم" 3/ 304، و"البداية والنهاية" 4/ 226.

وقال أنس: لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل مكة استأذن أَهْلَها فأذنوا له، فدخلها من الثَّنِيَّةِ التي تُطْلِعُ على الحَجون، وبين يديه عبد الله بن رواحة آخِذٌ بزمام ناقته يرتجز ويقول: [من الرجز] خَلُّوا بني الكفارِ عن سبيلهِ خَلُّوا فكلُّ الخَيْرِ مع رسولهِ يا ربِّ إني مؤمن بقيلهِ أَعْرِفُ حقَّ الله في قَبولهِ نحن ضربناكُم على تَأْويلهِ كما ضربناكُم على تنزيلهِ ضربًا يُزيلُ الهامَ عن مَقيلهِ ويُذْهِلُ الخليل عن خليلهِ فقال له عمر بن الخطاب: يا ابن رواحة أفي حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَلِّ عنه يا عمرُ، فلَهِيَ أَسْرَعُ فيهم مِن نَضْحِ النَّبلِ" (¬1). وقال ابن عباس: اصطف من بقي من الكفار بمكة عند دار الندوة لينظروا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه، فلما دخل المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده الأيمن منه ثم قال: "رَحِمَ اللهُ امرءًا أَراهُم مِن نَفسِهِ قُوَّةً" ثم استلم الركن اليَماني، وخرج يُهَرْوِلُ وأصحابه معه يفعلون ذلك، فهرول ثلاثة أشواط ومشى باقيها، وإنما فعل ذلك لأن المشركين قالوا: قد وَهَنَتْهم حُمّى يثرب، فرمل في الطواف وسعى بين الصفا والمروة فصار ذلك سُنَّةً، ثم فعله في حجة الوداع (¬2). وعن ابن عباس قال: قدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد وَهَنَتْهُم حُمَّى يثرب فقال المشركون: إِنَّه يَقْدُمُ اليوم قومٌ قد وَهَنَتْهُم الحمّى ولقوا منها شرًّا، فأَطْلَعَ الله نبيَّهُ على ما قالوا، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2847)، وابن حبان في "صحيحه" (5788)، وانظر "السيرة" 2/ 371. (¬2) "السيرة" 2/ 371.

فأمرهم أن يَرمُلوا ثلاثةَ أشواط وأن يمشوا بين الرُّكْنين، فلما رَمَلوا قال المشركون: أهؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى وهنتهم، هؤلاءِ أجلدُ منا (¬1). وقال ابن الكلبي: خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة ومعه الخيل، واستعمل على الخيل محمد بن مسلمة وعلى السلاح بشير بن سعد، وبلغ قريشًا فخافوا منه، فبعثوا إليه مِكْرزَ بن حفص فلقيه بمَرِّ الظهران، فقال: يا محمد ما عُرِفْتَ صغيرًا وكبيرًا إلا بالوفاء، فما هذا السلاح؟ فقال: ما أَدْخُلُ عليكم به وإنما يكون قريبًا مني، فرجع فأخبرهم فاطمأنوا (¬2). وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا حُجَيْنُ، حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراءِ بن عازبٍ قال: اعتمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي القَعْدَة فأبى أهل مكة أن يَدَعُوْهُ يدخل مكة، حتى قاضاهم أن يعود في العام المقبل ويقيمَ بها ثلاثة أيام، وذكر حديث الكتاب وأَنْ لا يدخل مكة من السلاح إلا السيف في القِرابِ ولا يخرج من أهلها أحد إلا من أراد أن يتبعه، فلما دخلها ومضى الأجل أتوا عليًا وقالوا: قل لصاحبك يخرج عنا، فقد مضى الأجل، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وللبخاري ومسلم زيادة: فتبعتهم ابنةُ حمزةَ تُنادي: يا عمِّ، يا عمِّ، فتناولها عليٌّ فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونَكِ ابنةَ عمك فاحتمليها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها هي ابنة عمي، وقال جعفر: بنت عمي وخالتُها تحتي، وقال زيد: بنت أخي، فقضى بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: "الخالَةُ بمنْزِلَةِ الأُمِّ" وقال لعلي: "أَنتَ منِّي وأَنا منكَ" وقال لجعفر: "أَشبَهتَ خَلْقِي وَخُلُقِي" وقال لزيد: "أَنتَ أَخُونا ومَولانا" (¬4). واختلف العلماء في اسم بنت حمزة: فقيل: أمامة، وقيل: عنزه، وقيل: فاطمة، وخالتُها أسماء بنت عميس. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1602)، ومسلم (1266)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (2639). (¬2) انظر "المغازي" 2/ 734. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (18635). (¬4) أخرجه البخاري (2699)، ولم نقف عليه عند مسلم، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (858).

وقال الواقدي: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثلاثًا، فجاءه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش فقالوا: قد انقضى الأجل فاخرج عنا، وكان قد تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية، زَوَّجَها به العباس وهي خالة عبد الله بن عبد العزى (¬1). وقال البلاذُري: [وكانت ميمونة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند] أبي سَبرة بن أبي رُهْمٍ وتوفي، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا رافعٍ مولاه ومعه أوس بن خَوْليّ الأنصاري إلى العباس فزوَّجه إياها بمكة، فلما قال له المشركون: اخرج عنا قال: ما ضَرَّكم لو تركتموني فأعرستُ عندكم وصنعتُ لكم طعامًا فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك، ووكَّلوا به جماعةً منهم حُوَيْطب (¬2). قال ابن إسحاقَ: فقال لهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - رضي الله عنه -: البلدُ بلدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلد آبائه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مهلًا يا سعيدُ، أو: مَهْ، وخَلَّف رسولُ الله أبا رافع عند ميمونة، فخرج بها على قلوصٍ، فجعل أهل مكة يُنَفِّرونه ويقولون: لا باركَ اللهُ لك (¬3). ولما خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة نادى مناديه: لا يبقى بها أحد من المسلمين. قال هشام: والصَّحيحُ: أن العباسَ زوَّجه بها بموضع يقال له: سَرِف وبنى بها فيه لَمَّا حلَّ من عمرته عند عودته إلى المدينة. وتوفيت بهذا المنزل في سنة إحدى وستين، وسنذكرها هناك إن شاء الله تعالى. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: حدَّثنا عفان بن مسلم، حدَّثنا وهيب، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجَ مَيمونةَ وهو مُحرمٌ. متفق عليه (¬4). وعن ابن عباس أيضًا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَزوَّج ميمونةَ وهما مُحرمانِ (¬5). ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 739. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 534 - 535، وما بين معقوفيق زيادة منه. (¬3) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 535. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2273)، والبخاري (1837)، ومسلم (1410). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (2200).

بشر بن البراء

وفيها: كانت سرية ابن أبي العَوْجاءِ إلى بني سُلَيْم في ذي الحجة (¬1): لما رَجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عُمرَةِ القضاء، فنزل ابن أبي العوجاء بساحة بني سُلَيم في خمسين رجلًا فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا فيه واستمدوا الأَمداد من كل ناحية، فقاتلَ هو وأصحابه قتالًا شديدًا حتى قتل منهم عامتهم، واَرْتُثَّ ابن أبي العوجاء في القتلى فتحامل حتى قدم المدينة. فصل وفيها توفي بِشْرُ بن البراء (¬2) ابن معرور بن صخر بن خَنْساء الأنصاري، وأمه خُليدةُ بنت قيس أشجعية، وأبوه البراء شهد العقبة ومات بالمدينة في صفر قبل قدومِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها مهاجرًا بِشَهْرٍ، وبِشْرٌ من الطبقة الأولى، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا والخندق والحديبية وخيبر وأكل مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من الشاةِ المسمومةِ. واختلفوا في وفاته: فقيل: إنه لَمَّا أكل من الشاةِ ماتَ مكانه، وقيل: بعد شهر، وقيل: أقام شهورًا إلى آخر السنة. قال موسى بن عقبة: لما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرني أنه مسموم" قال بشر: والذي أكرمك لقَدْ وَجَدْتُ ذلك في أكلي الذي أكلت، وذكره، وفيه: فلم يَقُمْ بِشْر من مكانه حتى عادَ لَوْنُه مثل الطَّيلَسان وماطَلَهُ وَجَعُه حتى كان لا يتحوَّلُ إلا ما حُوِّلَ، واحتجم يومئذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الكاهل، حجمه أبو هلال مولى بني بياضه بالقَرْنِ والشفرة، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده ثلاث سنين حتى كان مرضه الذي توفي فيه فقال: "ما زَالَت أُكلةُ خَيبرَ تُعاودُني، وهذا أَوانُ قَطْعِ أَبْهَري" (¬3) ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 741، و"الطبقات" 2/ 115، و"تاريخ الطبري" 3/ 26، و"دلائل النبوة للبيهقي" 4/ 341، و"المنتظم" 3/ 306، و"البداية والنهاية" 4/ 235. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 528، و"المنتظم" 3/ 306، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 269، و"الإصابة" 1/ 150. (¬3) وأخرجه البخاري (4428) من حديث عائشة.

ثويبة مولاة أبي لهب

فكان المسلمون يرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدًا مع ما أكرمه الله به من النبوة (¬1). والأَبْهَرُ: عِرقٌ في القلب إذا انقطع مات صاحبه. ولما مرض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَضَ موتهِ دخلت عليه أم بشر تعودُهُ فقال لها ذلك (¬2). وكان لبشر ابنة يقال لها: سُلافة، وأمها حُمَيْمَةُ بنتُ صَيْفي من بني سَلِمة، تزوجها [أبو] قتادة بن ربعي بن بَلْدَمة من بني سَلِمةَ، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن (¬3). وأُمُّ بِشْرٍ خُليدةُ بنت قَيس بن ثابت بن خالد بن أشجع، أسلمت وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروت عنه. عن محمود بن لبيد، عن أم بِشْر أنها قالت: يا رسول الله، تَتَعارفُ الموتى؟ فقال: "تَرِبَت يَداكِ، النَّفسُ الطَّيَّبةُ طَيرٌ في الجنَّة، فإنْ كانَ الطَّيرُ يتَعارَفُونَ في رُؤوسِ الشَّجرِ، فإنَّهم يَتعارَفُون" (¬4). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت أم بشر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضِه الذي مات فيه وهو محموم فَمَسَّتْهُ، وقالت: ما وجدتُ مِثْلَ وَعْكٍ عَلَيْكَ على أَحَدٍ، فقال: "كما يُضاعَفُ لنا الأَجرُ، كَذلِكَ يُضاعَفُ عَلينا البَلَاءُ" وقال: "ما يَقولُ النَّاسُ"؟ قالت: زعموا أن بك ذات الجَنْبِ، فقال: "ما كانَ اللهُ ليُسَلِّطَها عليَّ، وإنَّما هي هَمزَةٌ من الشَّيْطان، ولكنَّه من الأُكْلَة التي أَكَلتُ أَنا وابنكِ يَومَ خيبرَ، ما زَالَ يُصِيبني منها عِدادٌ، حتى كان هذا أَوانُ انقطاع أبْهَري" (¬5). ثُويبةُ مولاة أبي لهب (¬6) وهي التي أرضعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلبن ابنها مسروحٍ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَصِلُها ¬

_ (¬1) أخرج الخبر عن موسى بن عقبة البيهقي في "الدلائل" 4/ 263 - 264. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (23933). (¬3) الصواب أنها ابنة البراء، فهي أخت بشر، انظر "الطبقات" 10/ 373. (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 10/ 296. (¬5) أخرجه ابن سعد 10/ 297. (¬6) "المنتظم" 3/ 307، و"الإصابة" 4/ 257 - 258.

حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية

ويحسنُ إليها، واختلفوا في إسلامها، وذكرها أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله من جملة النساء اللاتي لهن صُحْبَة ورُؤيَةٌ (¬1). حليمة بنت أَبي ذُؤيب (¬2) السعدية التي أرضعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أسلمت هي وزوجُها ودخلت على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فاحترمها وثنى لها وسادة وبسط لها رداءه وقال: "أُمِّي أُمِّي" (¬3). حدثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. سعدُ بنُ خَوْلَةَ (¬4) بن سعيد حليف بني عامر بن لؤي، وهو من أهل اليمن، أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وهو من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا وأُحُدًا والخندقَ والحديبية. قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: كنت معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فمرضتُ مرضًا أشْفَيتُ منه على الموت، فعادَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن لي مالًا كثيرًا وليس يَرِثُني إلا ابنةٌ لي، أَفَأُوْصي بِثُلثَيْ مالي؟ قال: "لا"، قلت: فبالشطر؟ قال: "لا"، قلت: فثلث مالي؟ قال: "الثُّلثُ، والثُّلثُ كَثيرٌ، إنَّكَ يا سَعْدُ، أن تَدَعَ وَرَثَتكَ أَغنِياءَ خَيرٌ لكَ مِن أَن تَدَعَهُم عَالةً يَتكَفَّفُون النَّاسَ، إنَّك يا سَعدُ، لَنْ تُنْفِقَ نَفَقةً تبتَغِي بها وَجهَ اللهِ إلَّا أُجِرْتَ عليها، حتى اللُّقمةَ تَجعَلُها في فِي امرَأتِكَ" قال: قلت: يا رسول الله، أُخَلَّفُ بعد أصحابي؟ قال: "إنَّكَ لنْ تُخَلَّفَ فتَعملَ عَمَلًا تَبتَغي بهِ وَجْهَ الله إلَّا ازْدَدْتَ بهِ دَرَجةً ورِفْعَةً، ولَعلَّك أن تُخلَّفَ حتى يَنفَعَ الله بكَ أَقوامًا ويَضُرَّ بكَ أَقوامًا آخرين، اللَّهمَّ أمضِ لأَصحابي هِجْرَتَهم ولا تَردَّهُم على أعقابِهِم، لكنِ البائِسُ سَعْدُ بن خَوْلَة" يرثي له النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان مات بمكة. أخرجاه في "الصحيحين" (¬5). ومعناه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكرهُ لمن هاجر إلى المدينة أن يُقيمَ بعد نُسُكِه بمكَّةَ. ¬

_ (¬1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 237. (¬2) "الإصابة" 4/ 274. (¬3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 93. (¬4) "الطبقات الكبرى" 3/ 378. (¬5) أخرجه البخاري (1295)، ومسلم (1628).

الوليد بن الوليد بن المغيرة

وقيل: إن سعد بن خولة إنما دخل مكة لحاجةٍ ويعود فأدركه الموت، وله رؤية وصحبة. وقيل: هو مولى أبي رُهْم. وقيل: مولى حاطب بن أبي بلتعة. وقيل: إن امرأته ولدت بعد وفاته بأَربعين يومًا فمرَّ بها أبو السنابل (¬1) فقال: أراك تتهيّأين للأَزواج، لا، إلَّا بعد أربعة أشهر وعشرٍ، فأخبرتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "انكَحِي مَن شِئْتِ" (¬2). الوليد بن الوليد بن المغيرة (¬3) أبو الوليد، من الطبقة الثانية من المهاجرين، كان أبوه من المستهزئين برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأمه أميمة بنت الوليد من بَجيلة، خرج مع الكفار يوم بدر وهو على دينهم، فأسره عبد الله بن جحش بن رِئاب، وقيل: سَليطُ بن قيس من الأنصار، فقدم في فدائه أخواه خالد وهشام، وأبى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفعه إلا بشِكَّةِ (¬4) أبيه، وكانت درعًا فَضفاضةً وسَيْفًا وبَيْضةً، فأبى ذلك خالدٌ وأطاع هشام أخوه لأبيه وأُمه فَفَدَوْهُ بأربعةِ آلاف درهمٍ، وقوَّمُوا الشِّكَّةَ بألف درهم منها، وقيل: بمئة دينار ودفعوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما خرجا إلى ذي الحُلَيْفةِ أفلت منهما إلى المدينة فعادا إليه، وقالا: هلّا كان ذلك قبل أن تَخْرُجَ من أيدينا مأَثَرَةُ أَبينا يعني الشِّكَّةَ؟ فقال: ما كنت لأُسلم حتى أَفْتَدِيَ، لئلا تقول قريش: إنما أسلم فرارًا من الفِداء، فرجعا به إلى مكة وحبساه فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنُتُ ويقول في قنوته: "اللَّهمَّ أنجِ الوَليدَ بن الوَليدِ، وسَلَمةَ بنَ هِشامٍ، وعيَّاشَ بنَ أبي رَبيعةَ" الحديث، وهو في "الصحيح" (¬5)، ثم إنه أفلت من مكة إلى الساحل فأقام مع أبي بصير يقطع الطريق على قريش، فلما مات أبو بصير قَدِمَ المدينةَ فأقام بها حتى توفي فبكته أم سَلَمة - رضي الله عنها - وقالت: [من مجزوء الكامل] ¬

_ (¬1) في النسخ: "أبو السائل" والمثبت من "الطبقات" 10/ 272. (¬2) أخرجه البخاري (5318). (¬3) "الطبقات" 4/ 123، و"المنتظم" 3/ 309، و"الإصابة" 3/ 639. (¬4) الشَّكة: ما يلبس من السلاح. (¬5) البخاري (804)، ومسلم (675) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

يا عينُ بَكِّي للوليـ ... ــد بن الوليد بن المغيرهْ كان الوليد بن الوليـ ... ـــد أبو الوليد فتى العشيرهْ فسمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تَقُولي كَذا، وقُولي {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19] " (¬1). وكان قد وُلدَ للوليدِ ولد فسمّاه الوليد، وكُنِّيَ به، فغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمَه وسماه عبدَ الله (¬2). ولعبد الله بن الوليد ابن اسمه سلمة، ولسلمة ابن اسمه أيوب ورث دار خالد بن الوليد بالقَعدد. وقيل: إن الوليد أفلت من الوثاق بمكة فقدم المدينة، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عيّاشٍ وسَلَمة، فقال: تركتهما في ضيق وشدة وهما في وَثاقٍ: رِجْلُ أَحَدِهما مع رِجْلِ صاحبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق حتى تنزل على القَيْنِ فإنه قد أسلم واحْتَل في إخراجهما"، فانطلقَ فأخْرجهما، فقدموا المدينة، وتبعهم خالد ونفَرٌ من قريش إلى عُسفان ثم رجعوا عنهم (¬3). وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" له حديثًا، فقال: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حِبان، عن الوليد بن الوليد بن المُغِيرة المخزومي أنه قال: يا رسولَ الله، إني أجد وَحْشَةً، فقال: "إذا أَخَذْتَ مَضجِعَكَ فَقُل: أَعُوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّةِ من غَضَبهِ وشَرِّ عِبادِه، ومِن هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وأَن يَحضُرونِ، فإنَّه لا يَضُرُّكَ وبالحَرَى أَن لا يَقْرَبكَ" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) "الطبقات" 4/ 124 - 125. (¬2) "الطبقات" 4/ 125. (¬3) "الطبقات" 4/ 124. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (16573).

السنة الثامنة من الهجرة

السنة الثامنة من الهجرة فيها: قَدِمَ عمرو بن العاص وخالدُ بن الوليد وعثمانُ بن طلحة العَبدري على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في صَفَر إلى المدينةِ مسلمين (¬1). قال عمرو: كنت للإسلام مجانِبًا مباعدًا معانِدًا، حضرتُ بدرًا مع الكفار فنجوتُ، وحضرت أحدًا والخندق فنجوتُ، فقلت في نفسي: كم أُوْضِعُ! فوالله لَيَظْهَرَنَّ محمدٌ على قريش، فلحقت بمالي بالوَهْطِ (¬2)، فلما حَضَرَتِ الحديبيةُ وانصرف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بالصلح، قلت: والله لَيَدْخُلَنَّ محمدٌ مكَّةَ من قابل، ولئن دخلها فليست لنا بمنزل، وكنت أقول: لو أسلمتْ قريشٌ ما أَسْلَمْتُ، فقدمتُ مكَّة فجمعت رجالًا من قريش كانوا يرون برَأْيي ويسمعون مني ويُقَدِّموني فيما نابَهم فقلت لهم: إني لأرى محمدًا يعلو الأمور عُلُوًّا مُنْكرًا، وإنِّي قد رأيت رَأْيًا فما تَروْن فيه؟ قالوا: وما ذاك؟ قلت: نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمدٌ على قومِنا، كنا تحت يد النجاشي أحبَّ إلينا من أن نكون تحت يدِ محمدٍ، وإن ظهر قومُنا، لا يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: هذا الرأي. فجمعنا أَدَمًا كثيرًا هًدِيَّةً وكان يحب الأَدَمَ، فقدمنا عليه فوالله إنّنا لعنْدَهُ إذ قدم عليه عمرو بن أمية الضَّمْري وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه في شأن جعفر وأصحابه وتزويجِ أُمِّ حبيبة، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: لو سألت النجاشيَّ فأعطاني عمرًا فضربت عنقه فترى قريش أنني قد قتلتُ رسولَ محمدٍ، فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبًا بصديقي هل معك هدية؟ قلت: نعم، الأَدَمُ الكثير فقدَّمْتُه إليه، فأعجبه وفرَّق منه شيئًا في بطارقته وأمر بحفظ الباقي، فلما رأيت طيبَ نَفْسِه قلت له: أَيُّها الملكُ، رأيت رجلًا خرج من عندك وهو رسول رجلٍ هو عَدُوُّنا قتل أشرافَنا ووتَرَنا، فادفعه إلي لأقتله. فغضب غضبًا شديدًا ورفع يده فضرب بها أنفي، فظننت أنه قد كُسِرَ، فلو انشقت الأرضُ لدَخَلْتُ فيها فرقًا ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 276، و"المغازي" 2/ 741، و"تاريخ الطبري" 3/ 29، و"المنتظم" 3/ 314، و"البداية والنهاية" 4/ 236. (¬2) في النسخ: بالرهط، والوهط: قرية بالطائف كانت لعمرو بن العاص. معجم البلدان 4/ 943.

منه، وسال الدم على ثيابي ووجهي من أنفي، وأصابني من الذل ما لا أقدر أن أصفه، وقال: ويحكَ أعطيك [رسولَ] رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - منْ يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى فتقتله. فقلت: أيها الملك أكذلك هو؟ قال: إيْ والله، وَيْحَكَ يا عَمْرو أطِعني واتَّبعه، فإنَّه والله على الحق وسيظهر على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون. فقلت: أيها الملك لو ظننتُ أنك تكره ذلك ما سألتك، فاستحيا مني، فقلت: أَتُبايعني على الإسلام وقد غيَّر الله ما في نفسي، فبسط يده فبايعتُه، فدعا بطَسْتٍ فغسل الدم عني وكساني غير ثيابي، فخرجت إلى أصحابي وكتمتُ إسلامي وأتيت إلى موضع السفنِ فوجدت سفينةً قد شُحِنَت فركبتُ فيها حتى إذا انتهوا إلى الشُّعَيْبةِ (¬1) خَرجتُ منها ومعي نفقة، فاَبْتَعْتُ بعيرًا وخرجتُ أريدُ المدينةَ، حتى إذا كنت بالهَدَّةِ إذا برجلين فتأملتهما فإذا خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة فقلت: أين تريدان؟ فقال خالد: نُريد محمدًا فقد دخل الناس في الإسلام فلو أقمنا لأُخِذْنا برِقابنا كما تُؤخذ الضبع برقبتها في مغَارها، فقلت: والله وأنا أريد محمدًا، فسرنا نحو المدينة وإذا بصائح يصيح: يا رباح، فتفاءلنا به، فلما رآنا قال: قد أعطت مكة المقادةَ بعد هذين، فظننتُ أنه يعني خالدًا وإيّايَ، ثم ولى مدبرًا إلى المسجد يُبَشِّرُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقدومنا وقد أَذَّنَ العصرُ فأنَخْنا ولبسنا صالح ثيابنا ودخلنا المسجد، فلما رآنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تهلَّلَ وجهُه والمسلمون حوله قد سُرُّوا بقدومنا، فتقدم خالد وعُثمانُ فأسلما، ثم تقدمت إليه، فوالله ما هو إلا أن جلستُ بين يديه فلم أستطع أن أرفع طَرْفي إليه حياءً منه، فقلت: أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرْني ما تأَخَّر، فقال: "إنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما قَبلَهُ، والهِجْرَةَ تَجُبُّ ما قَبْلَها" (¬2). وفي رواية: فقلت: على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، قال: "نعم". وأما خالدُ بن الوليد - رضي الله عنه - فقال: لما أراد الله بي من الخير ما أراد قذف في قلبي الإسلامَ وحَضَرَني رُشْدي، وقلت: كنت في هذه المواضعِ كُلِّها على محمد، وليس موطنٌ أحضره إلَّا وأَنْصَرِفُ وأنا أرى في نفسي أنني مُوْضِعٌ في غيرِ شيء، وأَنَّ محمدًا ¬

_ (¬1) هو مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز، وكان مرفأ مكة ومرسى سفنها. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (17777)، وانظر "السيرة" 2/ 76 - 278، و"المغازي" 2/ 741 - 745.

سيظهر، ودافَعَتْه قريشٌ يوم الحديبية بالرَّاحِ فقلت: أين المذهبُ؟ أَخْرج إلى هرقل فأدخل في النصرانية وأترك ديني وأقيم مع عجمٍ رومٍ أصير تبعًا لهم وذلك عيب علي؟ ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عامَ عمرة القضاء فتغيَّبْتُ فكتبَ إليّ أخي: لم أر أعجبَ من ذهابِ رأيك عن الإسلام وعَقْلُكَ عَقْلُكَ، ومِثْلُ الإسلام يجهله أحد؟ ! وقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنك فقلت: يأتي الله به فقال: "ما مثلُ خالدٍ مَن يَجْهَلُ الإسلامَ" فاستَدْرِكْ يا أخي ما فاتك. فلما جاءني كتابه نشطتُ للخروج وسرَّتني مقالةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجمعتُ الخروجَ إلى المدينة وطلبت مَنْ أُصاحبُ، فلقيمت عثمان بن طلحة فأخبرته بما أريد، فأسرع الإجابة وخرجنا جميعًا فأدلجنا سَحَرًا فلما كنا بالهَدَّةِ إذا بعمرو بن العاص فقال: مرحبًا بالقوم، فقلنا: وبك، فقال: إلى أين؟ قلنا: نريد رسول الله، فقال: وأنا أيضًا أريد ذلك، فقدمنا المدينة في أول يومٍ من صفرٍ سنة ثمان فسلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنُّبوة، فرد بوجه طَلْقٍ فقلت: يا رسول الله، اغفر لي كلَّ ما صنعتُ، فقال: "الإسلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَه". وتقدم عمرو وعُثمان فأسلما، قال خالد: فوالله ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أسلمتُ يَعْدِلُ بي أحدًا من أصحابه (¬1). وروى الواقدي (¬2) عنه قال: أوقع الله الإسلام في قلبي فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية خرجت في خيل المشركين فلقيته بعسفان فقمت بإزائه فصلى بأصحابه الظهر، فَيَمَّمْتُ أن أُغيرَ عليه، ثم لم يصحَّ عزمي وكانت خيرةً، فأطلعه الله على ما في نفسي، فصلى بأصحابه صلاة الخوف، وقت العصر فوقع ذلك مني موقعًا، وقلت: الرجلُ ممنوعٌ منا ومن غيرنا، ثم افترقنا فلما صالحته قريشٌ يومَ الحديبيةِ قلت في نفسي: أين أذهب؟ أذهب إلى النجاشي وهو قد اتبع محمدًا، وأصحابُه آمنون عنده؟ أفأخرج إلى هرقل فأتنصر وأقيم عنده؟ أو أقيمُ بمكة في داري؟ فبينا أنا في ذلك إذ قدم علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في عُمْرَةِ القضاء فتغيَّبْتُ ولم أشهد دُخُولَه، وكان أخي الوليد بن الوليد معه فأرسل إلي أخي ... وذكر بمعنى ما تقدم، فأجمعت الخروجَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 5/ 26 - 27. (¬2) في المغازي 2/ 746 - 749.

فلقيت صفوان بن أمية، فقلت: يا أبا وهب ما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أَكَلَةُ رَأْسٍ، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قَدِمْنا عليه واتبعناه فإن شرفَه شرفُنا. فقال: لو لم يَبْق من قريشٍ غيري ما تبعتُه أبدًا. فافترقنا وقلت: رجلٌ موتورٌ يطلب وِتْرَه، قُتِلَ أبوه وأخوه ببدر وعمُّه بأُحد، فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثلَ ما قلت لصَفْوانَ فردَّ علي كما ذكر صفوان، فقلت: فاطْوِ ما قلتُ لك، فلقيت عُثمانَ بنَ طَلْحَةَ فقلت له: إنما نحن بمنزلةِ ثَعْلَبٍ في جُحْرٍ لو صُبَّ عليه ماءٌ لخَرجَ، فقال: صدقت. واتَّعَدْنا بَطْنَ يَأْجَج فوافَينا، وأدْلَجْنا، فلقينا عمرو بن العاص بالهَدَّةِ فرافقنا إلى المدينة، فلقيني أخي فقال: أَسْرِعْ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في انتظاركم، فدخلنا عليه فأسلمنا. وقال خليفة بن خياط: كان إسلام خالد بين الحديبية وخيبر (¬1). وإسلام عمرو بن العاص سنة ست (¬2). وهو وهم، والأصح أن إسلامهما كان في هذه السنة في صفر. وفيها: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوِّح بالكُدَيْد (¬3)، في ربيع الأول، وكان في بِضْعةَ عَشَرَ رجلًا، فأخذوا الحارث بن مالك بن البَرْصاء فقال لهم: خرجت لأُسلم فقال له غالب: إن كنت خرجتَ لهذا فما يضرُّك رباطُ يوم وليلة، فربطه وسلَّمه إلى رُوَيْجلٍ وقال له: إن نازعك وثاقه فاحتزَّ رأسَه، فلما قدم المدينة أسلم واستاق غالبٌ أموالَهم ونَعمَهم. وفيها: كانت سرية غالب (¬4) أيضًا إلى [مُصابِ] أصحاب بشير بن سعد، فساق نعمهم وعاد إلى المدينة في ربيع الأول. وفيها: كانت سرية كعب بن عمير الغِفاري (¬5) إلى ذات أطلاح بناحية الشام بعد ¬

_ (¬1) "تاريخ خليفة" ص 86. (¬2) "تاريخ خليفة" ص 79. (¬3) انظر "السيرة" 2/ 609 و"المغازي" 2/ 750، و"الطبقات" 2/ 116، و"تاريخ الطبري" 3/ 27، و"المنتظم" 3/ 314، و"البداية والنهاية" 4/ 222. (¬4) انظر "الطبقات" 2/ 117، و"المنتظم" 3/ 315، و"البداية والنهاية" 4/ 221. وما بين معقوفين زيادة من المصادر. (¬5) انظر "المغازي" 2/ 752، و"الطبقات" 2/ 119، و"تاريخ الطبري" 3/ 29، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 357، و"المنتظم" 3/ 316، وجاء عند الطبري: عمرو بن كعب بدل كعب بن عمير، وانظر "الإصابة" 3/ 11 - 12.

وادي القرى، وهو مكان كثير الطَّلْح, في خمسة عشر رجلًا، وكانت قضاعةُ بذاتِ أطْلاح في خلق كثير، فقاتلوهم فأصابوا أصحاب كعب وعاد كعب إلى المدينة جريحًا. وقيل: كان أمير هذه السرية عمرو بن كعب الغِفاري. وفيها: كانت سرية سعد بن زيد بن مالك بن كعب بن عبد الأشهل (¬1)، في رمضان إلى مناةَ بالمُشَلَّلِ فهدمها. وفيها: كانت غزاة مؤتة (¬2) في جمادى الأولى. وسببها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رسولًا اسمه الحارث بن عُمَيْرٍ الأَزْدي، وقيل: ابن عمرو الأزدي إلى صاحب بُصرى بكتابٍ، فلما نزل أرْضَ مؤتة وهي أدنى أرض البلقاء إلى الحجازِ عَرَض له شُرَحْبيل بنُ عَمْرو الغساني فقتله، ولم يُقْتَلْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - رسولٌ سِواه، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فنَدَبَ المسلمين للمسير إلى الشام فخرجوا فعسكروا بالجُرْف في ثلاثة آلاف فارس، وأمّر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة، قال: "فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" وعقد لزيدٍ لواءً أبيضَ ودفعه إليه، وخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُشَيِّعُهم وقال لهم: ائتوا مقتل الحارث بن عُمَيْر فادعوا من هُناكَ إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلَّا قاتلِوهم واستعينوا بالله عليهم، ولم يزل معهم إلى ثَنِيَّةِ الوَداع. وودَّعَ الناسُ بعضُهم بعضًا فبكى عبد الله بن رواحة فقال الناس: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما أبكي على الدنيا ولا صَبابةً بها، ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فقد أخبرني أني وارد ولم يخبرني أني صادر، فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردَّكم إلينا سالمين، فقال: [من البسيط] لكنني أسألُ الرحمنَ مغفِرةً ... وضربةً ذات فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدا أو طعنةً بيَدَي حَرَّان مُجْهِزَةً ... بحربةٍ تُنفِذُ الأحشاءَ والكَبِدا ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات" 2/ 136، و"تاريخ الطبري" 3/ 66، و"المنتظم" 3/ 330. (¬2) انظر "السيرة" 2/ 373، و"المغازي" 2/ 755، و"الطبقات" 2/ 119، و"تاريخ الطبري" 3/ 36، و"المنتظم" 3/ 318، و"البداية والنهاية" 4/ 241.

ثم مَضَوْا حتى نزلوا أرض الشام فبلغهم أن هِرَقْلَ قد نزل أرض البلقاءِ في مئة ألف من الروم وانضمت إليه المُسْتَعْرِبةُ من لَخْمٍ وجُذام وبَلْقَيْن وغيرِهم في مئة ألف، فأقاموا ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا: نكتبُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره بعددِ عدونا، قال ابن رواحة: يا قوم والله إن الذي تكرهون لَلَّذي خرجتم له تطلبون الشهادةَ، إنا لا نقاتل الناس بِعُدَّةٍ ولا قُوَّةٍ ولا كَثْرةٍ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانْطَلِقُوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إمّا ظهورٌ وإمّا شهادةٌ، فقال الناس: صدق والله ابنُ رواحة، وساروا حتى نزلوا أرض مَعان، فبلغهم أن هِرَقْلَ قد نزل البلقاء في الروم والقبائل المستعربة، وكان على ميمنة العرب شُرَحْبيلُ بنُ عمرو الغساني وعلى الميسرة مالك بن زافلة والروم في القلب، وساروا حتى بلغوا مَشارف قرية عند مؤتة، وانحاز المسلمون إلى مؤتة وجعلوا على الميمنة قطبَةَ بن قَتادة العُذْرِي وعلى الميسرة عُبادة بن مالك الأنصاري وزيد وجعفر وابن رواحة في القلب. وفي معان يقول عبد الله بن رواحة: [من الوافر] أقمنا ليلتينِ على مَعانٍ ... وأعقب بعْدَ فَترتهم جُمُومُ فَرُحْنا بالجيادِ مسوَّماتٍ ... تنفَّسُ في مناخِرِها السَّمومُ إلى مأب نسيرُ مَسيرَ عَجْلٍ ... ولو كانت بها عَرَبٌ ورُومُ فرام الله أعينهم فجاءت ... عوابس والغبار لها يَريمُ بذي لَجَبٍ كأن البِيْضَ فيه ... إذا جُليت تُماثِلُها النجومُ وكان زيَد بن أرقم مقيمًا في حجر ابن رواحة، قال زيد: فكنت معه في هذه الغزاة فبينا هو يسير إذ تَمثَّلَ: [من الوافر] إذا أدنيتني وحملتِ رَحْلي ... مسيرةَ أربعٍ بعد الحِساءِ فشأنُك فانعمي وخلاكِ ذَمٌّ ... ولا أَرجعْ إلى أهلي ورائي وعادَ المسلمون وغادَرُوني ... بأرض الشَّام مُشتهي الثَّواءِ (¬1) هنالِكَ لا أُبالي هَجْرَ خِلٍّ ... من الخِلّان مُنْقطعِ الإِخاءِ ¬

_ (¬1) في النسختين (خ) و (أ): مسهر البرا؟ والمثبت من السيرة 2/ 376، والطبري 3/ 38.

قال زيد: فبكيت وارتفع صوتي فقال: يا لكع أتأنف لي بالشهادة؟ ! وترجع إلى المدينة على ناقتي، وكان كما قال، ثم التقى الفريقان فتقدم زيد بن حارثة فقاتل في نحر العدو قتالًا شديدًا لم يُرَ مثله، فمالوا عليه فاقتَسَمتْهُ الرماح فشاط عليها - أي هلك - فنادى الناس أين جعفرُ؟ فقال: ها أنا ذا وأخذ الراية وتقدم فقاتل قتالًا عظيمًا، فلما أَلحَمَهُ القتالُ اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، وهو أول من عَقَر فرسًا في الإسلام، ثم ارتجز: [من الرجز] يا حبذا الجنةُ واقترابُها طيّبةً وباردًا شرابها والرومُ رومٌ قد دنا عذابها عَلَيَّ إن لاقيتها ضِرابُها ولما أخذ جعفرٌ الرايةَ جاءه الشيطان فمنّاهُ الحياةَ وكرَّه إليه الموتَ فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلبي؟ ثم قاتل حتى قتل، فنادى الناس عبدَ الله بنَ رواحة في جانب العسكر ومعه ضِلَعُ جمل يَنْهَشُه ولم يكن ذاق طعامًا قبل ذلك بثلاثة أيام فرمى بالضِّلَعِ ثم قال: وأنتِ مع الدنيا، ثم تقدم فقاتل فأصيبت أُصبعه فجعل يقول: [من الرجز] هل أنت إلَّا أُصبعٌ دَميتِ وفي سبيل الله ما لَقِيتِ يا نفس إلَّا تُقتَلي تموتي إن تفعلي فِعْلَهما هُديتِ هذا حياضُ الموتِ قد صَليتِ وما تَمنيتِ فقد لقيتِ وإن تأخرتِ فقد شَقيتِ ثم قال: يا نفس إلى أي شيء تتوقين؟ إلى فلانةٍ فهي طالق ثلاثًا، وإلى فلان وإلى فلان - غِلْمان له - هم أحرار، وإلى معجفٍ - حائطٍ - فهو لله ولرسوله ثم قال:

يا نفسُ مالك تكرهينَ الجنَّهْ أُقسم بالله لتنزلِنَّةْ طائِعةً أو لتُكْرَهِنَّهْ فَطالما قد كنت مطمئنَّهْ هل أنت إلا نطفةٌ في شَنَّهْ قد أجْلبَ الناس وشدوا الرَّنَّهْ ولما قُتِلَ عبد الله بن رواحة صاح ثابتُ بنُ أَقْرم: يا قوم اتفقوا على واحد منكم فقالوا: أنت، فقال: ما أنا بفاعل، فاصطلحوا على خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء. وقال الهيثم: دفع عبد الله بن رواحة الراية إلى ثابت فدفعها ثابت إلى خالد وقال: أنت أعرفُ مني بالقتال، فقال خالد: لا بل أنت أحق، يعني أن ثابتًا كان قد شهد بدرًا، فقال ثابت: خذها أيها الرجل فوالله ما أخذتُها إلا لك فأخذها وواقع القوم فانحازوا. وأخرج البخاري عن خالد أنه قال: لقد انقطعت في يدي يوم مُؤتة تسعةُ أسياف فما بقي في يدي إلَّا صفيحةٌ يَمانِيَةٌ (¬1). وقال الواقدي: انهزم المسلمون يوم مؤتة أقبح هزيمة، فلما أخذ خالد الراية انهزم الروم أقبح هزيمة. وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، حدَّثنا الأسود بن شيبان [عن خالد بن سُمَير]، قال: قدم علينا عبد الله بن رَباح فاجتمعَ عليه الناس، فقال: حدَّثنا أبو قَتادة فارسُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَيْشَ الأمراء وقال: "عَليكُم زيدُ بنُ حارِثَةَ، فإنْ أُصيبَ زيدٌ فجعفرٌ، فإنْ أُصيبَ جعفرٌ فعبدُ الله بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4265).

ذكر من استشهد يوم مؤتة

رَواحةَ" فوثب جعفر فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما كنت لأرهب أن يستعمل علي زيد، فقال: "امْضُوا، فإنَّكَ لا تَدرِي أيُّ ذلكَ خيرٌ" فانطلق الجيش فلبثوا ما شاء الله، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر وأمر أن ينادى: الصلاةُ جامعة، فاجتمع الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكُم عن جَيشِكُم هذا الغازي؟ إِنَّهُم انْطَلَقُوا حتى لَقُوا العَدُوَّ، فأُصيبَ زيدٌ شَهيدًا فاستَغْفِرُوا له" فاستغفر له الناس، ثم قال: "فأخَذَ اللِّواءَ جعفرٌ، فشدَّ على القَوْمِ حتى قُتِلَ شَهيدًا، فاستَغفِرُوا له، ثم أَخَذ اللِّواءَ عبدُ الله بنُ رَواحَةَ فأَثْبتَ قَدَميهِ حتى قُتلَ شَهيدًا، فاستَغفِرُوا له، ثم أَخَذَ اللِّواءَ خالدُ بنُ الوليدِ" ولم يَكُن مِنَ الأُمَراءِ هو أمَّر نَفسَهُ، ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبعه وقال: "اللَّهمَّ هُو سَيفٌ مِن سُيوفِكَ فانْصُرْهُ" فسُمي خالدٌ يومئذٍ سَيف اللهِ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "انْفِرُوا فأمِدُّوا إِخوانَكُم ولا يتخلَّفَنَّ أَحَدٌ منكُم" فَنَفَر النَّاسُ في حرٍّ شديد مشاة وركبانًا (¬1). وعن أبي هريرة قال: رُفِعَت الأرضُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى مصارع القوم فَنَعاهم واحدًا واحدًا، فلما أخذ خالدٌ اللواءَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الآنَ حَمِيَ الوَطيسُ" (¬2). وقال ابن إسحاق: قدم جيشُ مؤتةَ إلى المدينة لم يُفْقَد من أعيانهم إلّا الأمراءُ الثلاثةُ ونفرٌ يسير، وخرج الناسُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - معهم، فجعلوا يحثون في وجوههم الترابَ ويقولون: يا فُرَّارُ، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لَيسُوا بفُرَّارٍ، ولكنَّهم الكُرَّارُ إنْ شاءَ الله تعالى" وكان قد حمل عبد الله بن جعفر بين يديه (¬3). ذكر من استشهد يوم مؤتة جابر بن عمرو بن زيد، أبو كلاب (¬4) النجَّاري، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه شيبة بنت عاصم نجارية. قال ابن عبد البَرِّ: شهد جابر بدرًا وأحدًا والخندق والعقبة، وجعله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (22551). (¬2) انظر "الطبقات" 2/ 120، و"دلائل النبوة" 4/ 369. (¬3) "السيرة" 2/ 382. (¬4) هكذا جاء في النسخ، والصواب: وأبو كلاب بن عمرو. فهما أخوان، انظر طبقات ابن سعد 4/ 339 - 340.

يوم بدر على الساقة (¬1). قال ابن سعد: كان له ثلاثة إخوة صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم: الحارث استشهد يوم اليمامة وقيسٌ قُتِلَ يومَ مُؤتَةَ (¬2). جعفر بن أبي طالب، أبو عبد الله - رضي الله عنه -، كان أَسَنَّ من علي كرَّم الله وجهه بعشرِ سنين، أسلم قديمًا قبل دخولِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دارَ الأرقمِ، وكان يسمى: ذا الهِجْرتَيْن، ويكنى أبا المساكين لأنه كان يتلطَّفُ بهم، وكان من المهاجرين الأولين، والمقدَّمَ بالحبشة على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمترجِمَ عنهم عند النجاشي، واختط له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دارًا بالمدينة إلى جانب مسجده، وآخى بينه وبين معاذ بن جبل، وأنكر الواقدي ذلك، لأن المؤاخاة كانت قبل بدر، ثم انقطعت بآيةِ الميراث وجعفر يومئذ بالحبشة (¬3). ذِكْرُ مَقْتَلِه: قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: أَمَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة زيدَ بنَ حارِثةَ، ثم جعفرًا، ثم ابنَ رواحة وكنت معهم في تلك الغزاة، فالتمسنا جعفرًا فوجدناه في القتلى ووجدنا فيما أقبلَ من جسده بضعًا وسبعين ما بين طعنةِ رمح وضربةِ سيف ورمية سهم، ليس في دبره منها شَيْءٌ. أخرجه البخاري (¬4). وقال الواقدي: ضربه رومي فقطعه نصفين، فوقعَ أحد نصفيه في كَرْمٍ، فوجدوا في نصفه ثلاثين جراحة (¬5). وقال البخاري: كان ابن عمر إذا سلم على عبد الله بن جعفر يقول: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين (¬6). لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك. وقال ابن [سعد] رَفَعَهُ إلى أبي عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رأيت أصحاب مؤتة ¬

_ (¬1) في الاستيعاب (2099)، وطبقات ابن سعد 3/ 479 أن الذي شهد العقبة وبدرًا وجعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الساقة هو قيس. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 479، ولم يذكر أن موت قيس كان في مؤتة. (¬3) انظر "الطبقات" 4/ 32. (¬4) أخرجه البخاري (4261). (¬5) "الطبقات" 4/ 35. (¬6) أخرجه البخاري (3709).

في الجنة على سرر متقابلين، ورأيت جعفرًا مَلَكًا ذا جناحين مضرَّجًا بالدماء مصبوغَ القَوادِمِ" (¬1). وقال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مرَّ بي البارحةَ جعفرٌ في نفر من الملائكة له جناحان مُخضَّبَ القوادم بالدم، يريدون أرض بيشة (¬2). قال الشعبي: بيشة من أطيبِ أراضي اليمن وأحسنِها، قريبةٌ من قبر هود - عليه السلام -، يجتمع إليها الشهداء والصائمون. قال الجوهري: بيشة - بكسر الباء - اسم موضع، قال الشاعر (¬3): سقى جَدَثًا أَعراضُ غَمْرةَ دُوْنَه ... وبيشةَ وَسْميُّ الربيع ووابِلُه وقال عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: جاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت جعفر فوجدهم يبكون عليه فقال: "لا تَبْكُوا على أَخِي، فإنَّه يَطِيرُ في الجنَّة" فحَلَق رُؤُوسَهُم، وقال: "أَمَّا مُحمدٌ: فَشبيهٌ بعَمِّنا أبي طَالِبٍ، وأمَّا عبدُ الله: فَشبيهٌ بخَلْقِي وخُلُقي" ثم صنع لهم طعامًا وجعلهم معه في أهله، وقال: "أنا وَلِيُّهُم في الدُّنيا والآخِرةِ" (¬4). وقال الواقدي: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأولاد جعفر وهم ثلاثةٌ: عبدُ الله ومحمدٌ وعونٌ، وأمهم أسماء بنتُ عُمَيْس فشمَّهم ودمعت عيناه وقال لأمهم: "استَوصي بهم خيرًا" ولم تكن علمت، فقالت: وما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: "أصيبَ جَعفرٌ وأَصحابُه في هذا اليَومِ" فأخذت تصيح فقال: "لا تَفعَلي فإنَّه يَطيرُ في الجنَّة بجَناحَينِ" ثم دخل على فاطمة - رضي الله عنها - وهي تبكي وتقول: واعمَّاه، فبكى وقال: "يا بنيةُ، على مثلِ جعفرٍ فلتَبكِ البَواكي" (¬5). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 120 - 121 ضمن حديث طويل. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 4/ 36 دون ذكر بيشة، من حديث عبد الله بن المختار. (¬3) هو الشمردل بن شريك اليربوعي، والبيت في "الصحاح" (بيش)، وفي "الوافي بالوفيات" 16/ 106. (¬4) الطبقات 4/ 34. (¬5) "المغازي" 2/ 766.

وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" عن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما - بمعناه، وذكر له في أوله: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا واستعمل عليهم زيد بن حارثة، ثم جعفرًا، ثم ابن رواحة، وذكر فيه: ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليهم، وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعِدَ المنبر وأخبر بمصارع القوم، ثم أمهل ثلاثًا، ثم أتى آل جعفر فقال: "لا تَبْكُوا على أَخِي بعدَ اليوم، ادْعُوا لي بَني أَخِي" فجيء بنا كأننا أَفراخٌ فدعا بالحلَّاقِ فحلَقَ رؤوسنا ثم قال: "أَمَّا محمدٌ فَشبيهٌ بعمِّنا أبي طالبٍ، وأمَّا عبدُ اللهِ فَشَبيهٌ بخَلْقي وخُلُقي" ثم أخذ بيدي فأشالها وقال: "اللهمَّ اخْلُفْ جَعفَرًا في أَهلِه، وبارِك لِعَبدِ اللهِ في صَفَقةِ يمنيه - قالها ثلاثًا -" فجاءت أُمُّنا فذكَرَتْ يُتْمنا فقال: "العيلةَ تخافين [عليهم] وأَنا وليُّهمُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ" (¬1). وفي "المسند" أيضًا عن عبد الله بن جعفر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اصْنَعُوا لآلِ جَعفرٍ طَعَامًا، فَقد جاءَهُم ما يَشغَلُهُم، أو أَمرٌ يَشْغَلُهُم" (¬2). وقال هشام: حضرت أَسْماءُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "وعَليكُمُ السَّلامُ" فقالت له: يا رسول الله، على من تَرُدُّ السلامَ؟ فقال: "هذا جَعفرٌ في كَبْكَبةٍ مِنَ الملائِكَةِ يُسَلِّمونَ عليَّ، وقد عوَّضه الله بجَناحَينِ" وفي رواية: "أَخَذَ اللِّواء بيدِه اليُمنى فقُطِعَتْ، ثم باليسرى فقطعت، فَعُوِّض بالجناحين فلذلك سُمِّي الطَّيار بجَناحَيهِ حيث شاء" (¬3). وقال سعيد بن المسيب في مراسيله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مُثِّلوا لي في الجنةِ في خيمةٍ مِن دُرَّةٍ، كلُّ واحدٍ على سرير من ذَهَب، ورأيتُ في عنقِ زيدٍ وابنِ رَواحةَ صُدودًا، وأمَّا عُنُق جَعفَرٍ فَمُستَقيمٌ ليس فيه صُدودٌ، قال: فقيلَ لي: إنَّهما لما غَشِيَهما الموتُ كأنَّهما صَدَّا بوَجهَيهِما، أما جَعْفَرُ فإنَّه لم يَفْعَلْ" (¬4). والصدود: الإعراض. وحكى شيخنا موفق الدين رحمه الله عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: وجدنا ما بين صَدْرِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (1750). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (1751). (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6936)، والحاكم 3/ 232 من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9562).

جَعْفَر ومنكبيه وما أقبل منه تسعينَ جراحة ما بين ضربة وطعنة ورمية (¬1). قال الشيخ موفق الدين أيضًا: ولما جاء رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَعْيُ جعفر وأصحابِه بكى وقال: "أَخَوَايَ ومُؤْنِسَايَ ومُحَدِّثَايَ" يعني جعفرًا وزيدًا (¬2). وكان سِنُّه يوم قتل سبعًا وثلاثين سنة، لأنه كان أسن من علي - عليه السلام - بعشر سنين، وقيل: كان له خمس وعشرون سنة، وقيل: ثلاثون سنة، وقيل: إحدى وأربعون سنة، والأول أقرب للصواب. ذكر أولاده: وهم: محمد، وعبد الله، وعون. فأما محمد فكان صغيرًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنيته أبو القاسم، تزوج أم كلثوم بنت عمه علي بعد موت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. واختلفوا في وفاته: فذكر الأموي في "مغازيه" أنه كان مع محمد بن أبي بكر حين بعثه علي - رضي الله عنه - واليًا على مصر، فلما قتل محمد بن أبي بكر هرب محمد بن جعفر إلى فلسطين، فاستجار بأخواله من خثعم فأجاروه، فطلبه معاوية منهم وقال للذي هو عنده: ادفعه إلينا، فقال: والله لا أدفعه إليك أبدًا، فقال: إنك لأَوْرَه، أي أحمق، فقال له الرجل: إني والله لأَوْرَه حين أقاتِلُ عن ابن عمك وأُقَدِّمُ ابن أختي حتى تَقْتُلَهُ، فأعرضَ عنه، فلم يزل عنده حتى مات (¬3). وقال الهيثم: استشهد بِتُسْتَر. وذكر أبو الفرج الأنصاري: أنه قتل يوم صفين، برز له عبيد الله بن عمر بن الخطاب فاعتنقا ووقعا عن فرسيهما ميتين. وليس هذا القول بشيء. ¬

_ (¬1) التبيين 114، وأخرجه الطبراني في "الكبير" (1464). (¬2) التبيين 115، وانظر "الاستيعاب" 1/ 548 بهامش الإصابة. (¬3) التبيين 119 - 120.

وكان لمحمد ولد اسمه: القاسم، تزوج أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر، وأُمهما زينبُ بنت علي - عليها السلام -، وأم زينب فاطمة - عليها السلام -، فولدت له طلحة وفاطمة، فتزوج فاطمة بنت القاسم حمزة بن عبد الله بن الزبير. وأما عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما - فسنذكره إن شاء الله تعالى في سنة ثمانين. وأما عون بن جعفر فكان غلامًا على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الهيثم: ادعى رجل اسمه المساور أنه ابن عون فأَقَرَّ به عبدُ الله بن جعفر وأعطاه عشرة آلاف درهم وزوجه ابنةً له كانت عمياء، فلما مات عبد الله نفاه أولاده، وليس لعون عَقِبٌ (¬1). أسند جعفر - رضي الله عنه - الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه ابنه عبد الله، وأبو موسى الأشعري، وابن عمر، وعمرو بن العاص، وابن مسعود، وعائشة، وأم سلمة وغيرُهم - رضي الله عنهم -. * * * حُنَيف بن رِئاب [بن الحارث] بن أمية من بني عمرو بن عوف، من الطبقة الثانية من الأنصار، شهد أحدًا والمشاهدَ كُلَّها معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، واَستُشْهِدَ يومَ مؤتة، وكان له ولد يقال له: رِئاب، شهد الحديبية وبايع تحتَ الشجرةِ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقُتِل يوم اليمامة شهيدًا (¬2). زيد بن حارثة بن شَراحيل بن عبد العزى بن امرئ القَيْس بن عامر، أبو أسامة الكَلْبي، مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ويقال له: زيد بن محمد، وزيد الحِبِّ، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأمه سُعْدى بنت ثعلبة بن عبد عامر من طيئ، زارت قومها ومعها زيد وهو غلامٌ يَفَعةٌ فأغارت عليهم خيل لبني القَيْن بن قُضاعة فاحتملوا زيدًا فوافوا به سوقَ عكاظ فباعوه، فاشتراه حَكيم بن حِزام بن خويلد لعمته خديجةَ بنت خويلد رضوان الله عليها بأربع مئة درهم، وقيل: ست مئة، فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة رضوان الله عليها وهبته له فتبناه. ¬

_ (¬1) المعارف 206، والتبيين 120. (¬2) تاريخ دمشق 5/ 372 (مخطوط)، وما بين معكوفين منه.

ويقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشتراه لما خرج إلى الشام في تجارة لخديجة، وهو وهم. وقال ابن عبد البَرِّ: تبناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة بثمانِ سنين (¬1)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر منه بعشر سنين. ولما اشتد حزن أبيه عليه حين فقده أقام مدة يَنْشُده ويبكي وقال الشعر، فمن قوله (¬2): [من الطويل] بَكيتُ على زيدٍ ولم أَدرِ ما فَعَل ... أَحَيٌّ فَيُرجى أَم أتى دونَه الأَجَلْ فَوَالله ما أدرِي وإن كنْتُ سائِلًا ... أَغالَكَ سهلُ الأَرْضِ أم غَالك الجبلْ أَلا لَيتَ شِعري هل لك الدَّهْرَ رجعةٌ ... فَحَسبي من الدُّنيا رجوعُكَ لي بَجَلْ تُذكِّرُنيهِ الشَّمسُ عند طُلوعِهِا ... وتَعْرِض ذِكراه إذا قارَبَ الطَّفَلْ وإن هبَّتِ الأرواحُ هيَّجْنَ ذِكْرَهُ ... فيا طول ما حزني عليه ويا وَجَلْ سأُعْمِلُ نَصَّ العِيسِ في الأرض جاهِدًا ... ولا أَسْأَمُ التَّطوافَ أو تسأمَ الإبِلْ حياتيَ أو تأتي عليّ مَنِيَّتي ... وكلُّ امرئ فانٍ وإن غَرَّهُ الأَمَلْ وأُوصي به كعبًا وعَمْرًا كِلَيْهِما ... وأُوصي يزيدًا ثم من بعدهِ جَبَلْ أراد كعب بن شراحيل أخا حارثة، وأما عمرو فهو ابن عم حارثة وهو عمرو بن الحارث بن عبد العزى، وكنيته أبو بشر، وهو جد محمد بن السائب الكلبي، وأما يزيد فهو أخو زيد بن حارثة لأمه وأبيه، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل، وأما جبل: أراد جبلة، وهو أخو زيد لأمه وأبيه. وذكر بعض النساب، أن حارثة تزوج امرأة من طيئ وقيل: من بني نَبْهان، فأولدها جبلة وأسماء وأسامة وزيدًا ثم توفيت أمهم وبقوا عند جدهم لأمهم، وأراد حارثة حَمْلَهم إلى أهله فأبى جدهم وقال: عندي أرفق لهم، ثم تراضوا على أن يَحملَ جبلةَ وأسماء وأسامة ويبقى زيد عنده، فجاءت خيل من تِهامةَ من فَزارة فأغارت على طيئ فسبت زيدًا فوافت به سوق عكاظ، فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث، فقال لخديجة: "رأيت في السوق غلامًا من صفته كذا وكذا" يصف عقله وأدبه، فأمرت خديجة ورقة ¬

_ (¬1) في "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 1/ 545: فتبناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين. (¬2) الأبيات في "الطبقات" 3/ 39.

ابن نوفل فاشتراه من مالها، فوهبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتبنّاه إلى أن جاء رجل من كَلْب فنظر إلى زيد فعرفه فقال: أنت زيد بن حارثة؟ فقال: بل أنا زيد بن محمد، فقال: إن أباك وعمومتَك وإخوتَك قد أتعبوا الأبدان وأنفقوا الأموال بسببك (¬1). وقيل: حجَّ قومٌ من كلب فرأَوْه بمكة فعرفهم وعرفوه، فقال: هل فيكم من يبلغُ أهلي هذه الأبيات: [من الطويل] ألِكْني إلى قومي وإن كنت نائيًا ... بأني قطينُ البيتِ عند المَشاعرِ فكُفُّوا عن الوَجْدِ الذي قد شَجاكمُ ... ولا تُعْمِلوا في الأرض نَصَّ الأَباعرِ فإني بحمد الله في خَيْرِ أُسْرَةٍ ... كرامِ مَعَدٍّ كابرًا بَعْدَ كابرِ فقالوا: نعم، وانطلقوا فأخْبَروا أهلَه، فخرج أبوه حارثة وكعب ابنا شراحيل فقَدِما مكَّةَ، فسألا عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: هو في المسجد، فدخلا فإذا هو في الحِجْرِ قاعدٌ فسلما عليه وقالا: يا ابنَ عبدِ المطلب، يا ابن سيَّدِ قومه أنتم أهلُ الله وجيرانُه وسكانُ حَرَمِه تفكُّون العاني وتطعمون الجائع وتكسونَ العاري وتحملون المنقطع، فقال: "ما الذي بكما"؟ قالا: جئناك في فداء زيدٍ ابننا فامنن علينا أَو أَحسن في فدائه إِلينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهلَّا غَيرَ ذلك"؟ قالا: وما هو؟ قال: خيراهُ، فإنِ اختارَكُما، فهوَ لكُما بغيرِ فِداءٍ، وإنِ اختارَني، فما أنا بالذي أخْتارُ على مَنْ يَختارُني أَحدًا" فقالا: أحسنت والله لقد زِدْتَ على النِّصَفِ، فدعاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "يا زَيْدُ، أتَعْرِفُ هذين"؟ قال: نعم، هذا أبي وعمي، فقال: "أنا مَنْ قد عَلِمْتَ ورأيت صُحبَتي، فاخْتَرني أو اخْتَرْهُما" فقال: ما أنا بالذي أختارُ عليك أحدًا، أنت مني بمنزلة الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيدُ، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأَهْلِكَ؟ قال: نعم، إني قد رأيت من هذا الرجل أشياءَ ما أنا بمفارقه ولا أختار عليه أحدًا أبدًا. فلما قال ذلك قام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحِجْرِ وفيه أعيانُ قريش فقال: "يا مَن حَضَرَ مِنَ المَلأ، اشهَدُوا أَنَّ زَيدًا ابني، أَرِثُه ويَرِثُني" فلما سمع ذلك أبوه وعمه طابت نفوسُهما وانصرفا شاكِرَيْن، فدعي من ذلك اليوم زيد بن محمد زمانًا حتى جاء الإسلام (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ ابن عساكر" 10/ 137. (¬2) "الطبقات" 3/ 39 - 41.

وزوجه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش وطلَّقها وتزوجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المنافقون: تزوجَ محمد زوجة ابنه فنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40] الآية، ونزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فدعي يومئذٍ زيد بن حارثة. ونُسب كل من تبنَّاه إلى أَبيه (¬1). وقال أسامة بن زيد: كان بين رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وبين زيدٍ عشرُ سنين، رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر منه، وكان رجلًا قصيرًا آدم شديد الأُدْمَةِ في أنفه فَطَس (¬2). قال المصنف رحمه الله: قوله: "كان آدم شديد الأُدْمَةِ" وَهْمٌ ولين، ففي حديث محرز المدلجي لما رأى أقدام زيد وأسامة، قال الدارقطني: وكان زيد أبيضَ أَحمرَ أشقرَ، وأسامة أسود (¬3). وكُنْيَتُهُ أبو أسامة، وهو أول من أسلم من الموالي، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والحديبية، واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة لما خرج إلى المرَيْسيع، وأمَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبع أو تسع سرايا وكان من الرماة المذكورين. وقالت عائشة رضوان الله عليها: لو عاش زيد لاستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأمة (¬4). وقال ابن عباس: لم يسم أحد من الصّحابة باسمه في القرآن إلّا زيد {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب: 37]. وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عمه حمزة فأوصى حمزة - رضي الله عنه - إليه. وقال أسامة بن زيد - رضي الله عنه -: اجتمع جعفر وعلي وزيد بن حارثة فقال جعفر: أنا أَحَبُّكُم إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عليٌّ كذلك، وقال زيد كذلك، فقالوا: انطلقوا بنا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نسأَلْهُ، فقال أسامة: فجاؤوا فاستأذنوا عليه فقال: "اخْرُج فانظُرْ مَنْ ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 3/ 41، وفيه: ودُعي الأدعياء إلى آبائهم. (¬2) "الطبقات" 3/ 42. (¬3) "سنن الدارقطني" (130). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (26410).

هَؤُلاءِ"؟ فخرجت فقلت: هذا جعفر وعلي يزيد ولم أقل: أبي، فقال: "إئْذَن لَهُم" فدخلوا فقالوا: يا رسولَ الله، من أَحبُّ النَّاس إليكَ؟ قال: "فاطمة"، قالوا: نسألُك عن الرجالِ؟ فقال: "أَمَّا أنتَ يا جعفرُ، فأشبَهَ خُلُقُكَ خُلُقي، وأَنتَ مني وشَجَرتي، وأمَّا أَنت يا عليُّ، فَخَتَني وأبو ولديَّ، وأَنا منكَ وأَنتَ منِّي، وأَمَّا أنتَ يا زيدُ، فَمولايَ ومنِّي وأَحبُّ القوم إليَّ" أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه في مسند أُسامةَ - رضي الله عنه - (¬1). وقالت عائشة رضوان الله علها: ما رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عُرْيانًا قط إلَّا مرَّةً واحدةً؛ جاء زيدُ بنُ حارِثَة من غَزاةٍ فاستفتح فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوتَه فقام عُرْيانًا يجر ثوبَه فاعتنقه وقَبَّله (¬2). وعن الهيثم وابن عبد البَرَّ عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: حدثني أبي قال: اكتريتُ دابَّةً من الطائف إلى مكة فمال بي الكاري إلى خَرِبة فقال: انزل فنزلت فإذا هي مملوءة قتلى، فأراد أن يقتلني فقلت: دعني أُصَلِّي ركعتين فقال: صَلِّ فقد صَلَّى هؤلاء قبلك فما نفعهم صلاتُهم، قال: فصلَّيْتُ ركعتين وأتاني ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين، فسمع صوتًا يقول: لا تَقْتُله، فخرج يطلب الصوتَ وهابه وعاد ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين فسمع صوتًا يقول: لا تقتله، فخرج يطلب الصوت وعاد ثالثًا، فبينا أنا كذلك إذا بفارس قد أقبل وبيده حربة فيها شعلة نار فطعنه بالحربة فقتله، فقلت: من أنت؟ فقال: ملك لما دعوت في المرة الأولى، كنت في السماء السابعة، فلما دعوت الثانية كنت في السماء الرابعة، فلما دعوت الثالثة كنت في السماء الدنيا، فقيل لي: أدركه، فأتيتك (¬3). وقال أبو قتادة فارسُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما أصيب زيد بن حارثة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهله فَجَهَشَتْ إليه ابنة زيد، فبكى حتى انتحب فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: "شَوقُ الحَبيبِ إلى حَبيبِهِ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (21777). (¬2) أخرجه الترمذي (2732). (¬3) "الاستيعاب" (بهامش الإصابة) 1/ 548 - 549. (¬4) "الطبقات" 3/ 44.

وقال علي - عليه السلام -: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيتُ جَعفَرًا يَطِيرُ في الجنَّةِ تَدمى قادِمَتَاه، ورَأَيتُ زَيدَ بنَ حارِثَةَ دُونَ جَعفَر، فقلتُ: ما أَظُنُّ زَيدًا دونَ جَعفر، فقال لي جِبريلُ: لَيسَ زيدٌ بدُونِ جَعفَرٍ، وإنَّما فضَّلْنا جَعفَرًا لقَرابَتهِ مِنكَ" (¬1). استشهد زيدٌ وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقيل: ابن ثلاث وخَمْسين سنة. ذكر أولاده كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد زَوَّجَ مولاتَه وحاضِنَتَهُ زيدَ بن حارثة فولدت له أسامة وكان زيد يكنى به، وكانت تزوجت في الجاهلية قَبْلَ زيدٍ عبيدَ بنَ عمر (¬2) بن بلال الخزرجي، فولدت له أيمن فكنيت به، استشهد أيمن يوم خيبر. وقال محمد بن السائب: قدِمَتْ أم كلثوم بنت عقبة - وأمها أروى بنت كُرَيْز وأم أروى أمُّ حكيمٍ البيضاءُ بنت عبد المطلب - مهاجرةً إلى المدينة، فخطبها جماعة منهم: زيد بن حارثة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، فاستشارت أخاها لأمها عثمانَ رضوان الله عليه فقال: استشيري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشارته فأشار عليها بزيد، فتزوجته فولدت له زيد بن زيد، مات وهو صغير، ورُقيَّةَ ماتت في حِجْر عُثمان - رضي الله عنه -، وطلَّقَ زيد أُمَّ كُلثوم فتزوَّجَها عبدُ الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ثم عمرو بن العاص، ولما طلَّق زيدٌ أم كلثوم تزوج دُرَّة بنتَ أبي لهب، ثم طلَّقها وتزوج هند بنت العوام (¬3). وأخرج الإمام أحمد رحمه الله في "المسند" لزيد حديثًا واحدًا عن أسامة بن زيد، عن أبيه زيد بن حارثة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ جبريلَ أَتاه في أَوَّلِ ما أُوحِيَ إليهِ فَعَلَّمهُ الوُضُوءَ والصَّلاةَ، فلمَّا فَرَغَ مِنَ الوُضُوءِ أَخَذَ غَرْفَةً مِنَ الماءِ فَنَضَح بها فَرْجَه" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) "الطبقات" 4/ 35. (¬2) في "الطبقات" 10/ 212: عبيد بن زيد. (¬3) "الطبقات" 3/ 43. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (17480).

سراقة بن عمرو بن عطية، وأمه عُتَيْلَة (¬1) بنت قيس نجارية، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، أبلى يوم مؤتة بلاء حسنًا وليس له عَقِب. عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الأنصاري الخزرجي، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه كبشة بنت واقد، وكنيته أبو رواحة، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو عمرو، وهو أحد النقباء الاثني عشر، شهد العقبة مع السبعين، وبدرًا وأُحُدًا والخندق والحديبية وعُمْرةَ القضاء وخيبر، واستخلفه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في غزاة بدر الموعد، وبعثه بشيرًا إلى أهل العالية بغزاة بدر، وأرسله إلى أُسير بن رِزام اليهودي فقتله بخيبر، وظلَّ يَخْرُصُ كلَّ عامٍ نخل خَيْبَرَ إلى أن استُشْهِدَ. وقال موسى بن عقبة: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر يَخْرُصُ نَخْلهم ويقاسِمُهم، جعلوا يُهدون له من الطَّعامِ وجمعوا من حُلِيِّ نسائهم وقالوا: هذا لك وخفِّفْ عنا وتهاونْ في القَسم. فقال: يا معاشر يهود، والله إنكم لَمِنْ أبغض خلق اللهِ إليَّ، وإنما بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَدْلًا بينه وبينكم، فلا إِرْبَ لي في دنياكم ولن أحيفَ عليكم، وإنما عرضتم علي السُّحْتَ وأَنا لا آكله، فلما أقام الخَرْصَ خيَّرَهم فقال: إن شئتم ضمنت لكم نصيبكم وإن شئتم ضمنتم لنا وقمتم عليه، فاختاروا أن يَضْمَنوا ويُقيموا عليه. وقالوا: يا ابن رواحة هذا الذي تعملون، به تقومُ السماء والأرض، وإنما يقومان بالحق. وقال أبو الدرداء: لقد رأيتُنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره في اليوم الشديد الحر، [حتى] إنَّ الرجلَ ليضَعُ يَدَهُ على رأسه من شدة الحر وما في القوم صائمٌ إلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وعبدُ الله بن رواحة (¬2). وقال النعمان بن بشير: أغمي على خالي عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي وتقول: واجَبَلاه وارُكْناه، وتُعَدِّد عليه، فلما أفاق قال: ما قلتِ شيئًا إلا وقيل لي: أنت كذلك؟ (¬3). ¬

_ (¬1) في النسخ: عقيلة، والمثبت من طبقات ابن سعد 3/ 480. (¬2) أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122) (109). (¬3) أخرجه البخاري (4267).

ومدح عبدُ الله بن رواحة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا، وكان شاعرًا فصيحًا، واستنشده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنشد: [من البسيط] يا هاشم الخَيْرِ إن الله فضلكم ... على البرية فضلًا ماله غِيَرُ إني تَفَرَّسْتُ فيك الخيرَ أعرِفُه ... والله يعلم أَنْ ما خانني البصرُ أَنتَ النبيُّ ومن يُحْرَمْ شفاعته ... يَومَ الحسابِ فقد أَوْدى به القدرُ فَثبَّتَ الله ما آتاكَ من حَسَنٍ ... تَثبيتَ موسى ونصرًا كالذي نُصِرُوا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأَنتَ يا عبدَ اللهِ فثبَّتَكَ اللهُ أَحسَنَ الثَّباتِ" (¬1). وقال قيس بن أبي حازم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن رواحة: "انزل، فَحرِّك بنا الرِّكابَ" فقال: يا رسول الله قد تركتُ قولي، فقال له عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: اسمع وأَطِع، فنزل وجعل يقول: يا رب لولا أنت ما اهتدينا ...... الأبيات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ ارحَمهُ" فقال عمر: وجبت (¬2). ومعنى قوله: "تركت قولي" لما نزل قوله تعالى {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)} [الشعراء: 224] قال ابن رواحة: هل ترى أنا منهم وترك الشعر، فنزل قوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227] الآية (¬3). وقد رثاه ورثى أصحابه - رضي الله عنهم - حسان بن ثابت فقال: [من الطويل] تأَوَّبَني ليلٌ بِيَثْرِبَ أَعْسَرُ ... وهمٌّ إذا ما نَوَّمَ القومُ مُسْهِرُ لذكرى حبيب هيجت ليَ عَبْرةً ... سَفوحًا وأَسباب البكاءِ التذكُّرُ بلى إن فِقْدانَ الحبيبِ بَليَّةٌ ... وكَمْ من كريمٍ يُبْتلى ثم يَصْبِرُ رأيتُ خِيار المؤمنين تتابعوا ... بمُؤتَةَ منهم ذو الجناحَينِ جَعفرُ وزيدٌ وعبدُ الله اِبنُ رواحة ... تداعوا وأسباب المنيَّةِ تخطرُ ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات" 3/ 489، و"تاريخ دمشق" 2/ 6، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 234. (¬2) "الطبقات الكبرى" 3/ 488. (¬3) "الطبقات الكبرى" 3/ 489.

غَداةَ [مضوا] بالمؤمنين يقودُهم ... إلى الموت مَيْمونُ النقيبةِ أَزْهَرُ أَغَرُّ كضَوْءِ البدر من آل هاشمٍ ... أَبيٌّ شريف القدر يَقْظانُ أَحْورُ (¬1) وليس لابن رواحة عَقِبٌ، وقد روى الحديث فأخرج له البخاري حديثًا موقوفًا (¬2). وعن عبد الله بن رواحة أنه قدم من سفرٍ ليلًا فتعجل إلى امرأته، فإذا في بيته مصباح، وإذا مع امرأته صبي، فأخذ السيف فقالت امرأته: إليك عني فهذه فلانةُ تُمشطني، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فنهى أن يطرق الرجل أهله ليلًا (¬3). وعن عكرمة مولى ابن عباس: أن عبد الله بن رواحة كان مضطجعًا إلى جنب امرأته، فقام وخرج إلى الحُجْرة فواقع جارية له، وانتبهت امرأتُه فلم تره، فخرجت فإذا هو على بطن الجارية، فرجعت وأخذت شَفْرةً وخرجت فلقيها فقال: مهيم؟ فقالت: أما إني لو وجدتُكَ حيث كُنْتَ لَوَجَأْتُك بها فقال: وأين كنتُ؟ فقالت: على بطن الجارية فقال: ما كنت، قالت: بلى، قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقرأ القرآن وهو جُنبٌ، فقالت: فاقرأ فقال: [من الطويل] أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الصبح طالع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أَنَّ ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجعُ فقالت المرأة: آمنت بالله ورسوله وكذبت بصري، قال: فغدوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته فضحك حتى بدت نواجذه (¬4). قال الإمام أحمد رضوان الله عليه: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الحجاج، عن الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله بنَ رواحة في سَرِيَّةٍ فوافق ذلك يومَ الجمعة فقدَّمَ أصحابه وقال: أَتَخَلَّفُ فأصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجُمُعَة ثم ألحقهم، ¬

_ (¬1) الأبيات في السيرة 2/ 384 وما بين معكوفين منها. (¬2) هو حديث الإغماء المتقدم عند المصنف، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (3020)، وجاء في النسخ بعد قوله: موقوفًا: "رفعه"، ولم يتضح لنا المراد منه، فأثبتناه هكذا. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15736). (¬4) أخرجه الدارقطني في "السنن" 1/ 120، وانظر سير أعلام النبلاء 1/ 138.

فلما صلى رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "لو أَنْفَقْتَ ما في الأَرضِ ما أَدرَكْتَهُم" (¬1). عبد الله بن الربيع بن قيس بن عامر الخزرجي، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه فاطمة بنت عمرو نجارية، شهد العقبة وبدرًا واستشهد بمؤتة. عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، من الطبقة الأولى من المهاجرين وأمه صفية بنت المغيرة مخزومية، وكان اسمه الحكم فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله. عَبَّاد بن قيس بن عَبَسة، وقيل: عُبادة بن قيس بن أمية، من الطبقة الأولى من الخزرج شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عبيد بن المُعلَّى بن لَوْذان الزُّرَقي، وأمه إِدامُ بنتُ عَوْفٍ نجارية، وهو من الطبقة الثانية من الأنصار. قيس بن عمرو بن زيد (¬2) بن مَبْذول، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه شَيْبَةُ بنتُ عاصم، شهِد المشاهد كُلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقُتِلَ معه يوم مؤتة أخوه لأبيه وأُمِّه: جابرٌ. مسعود بن سُوَيد بن حارثة، من بني عدي بن كعب، من الطبقة الأولى من المهاجرين. وهب بن سعد بن أبي سَرْح بن الحارث بن حبيب بن جَذيمة بن مالك بن حِسْلٍ بن عامر بن لؤي، وأمه مُهانَةُ بنت جابر من الأشْعريين، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا في قول أكثرهم، وشهد أحدًا والخندق والحديبية وخيبر، ولما هاجر إلى المدينة نزل على كلثوم، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سويد، فقتلا جميعًا يوم مؤتة شهيدين، ووهبٌ ابنُ أربعين سنةً (¬3). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (1966). (¬2) وهو قيس بن أبي صعصعة. (¬3) انظر التراجم السالفة في طبقات ابن سعد (على الترتيب) 3/ 499، 5/ 12، 3/ 494، 4/ 404، 3/ 479، 4/ 131، 3/ 377.

وفيها: كانت سرية عمرو بن العاص إلى ذات السَّلاسِل (¬1)، وهي وراء ذات القُرى، وبينها وبين المدينة عشر ليالٍ في جمادى الأولى، وقيل: كانت قبل غزاة مؤتة. قال أبو محمد ابن حزم: بلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن جَمْعًا من قُضاعةَ قد جمعوا للغارة على المدينة، فعقد لعمرٍو لواءً أبيضَ ورايةً سوداءَ، وبعث معه ثلاث مئة من المهاجرين والأنصار، فبلغه أن القوم في جمع عظيم، فبعث رافع بن مَكِيْثٍ الجُهَني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمدُّه، فأمدَّه بأبي عبيدةَ بن الجراح - رضي الله عنه - في مئتين من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهم، وإنما أمَّرَ عمرو بنَ العاص وقدَّمه على من ذُكِرَ لأنَّ جَدَّته أمَّ العاص بن وائل من قُضاعة، وقيل: من بَليٍّ، وأمَّره لهذا المعنى، وأوصى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة - رضي الله عنه - أن لا يخالف عمرًا فأدركه بأَرْضِ جُذام بذات السلاسل، وجاء وقت الصلاة فتقدم أبو عبيدة، فقال عمرو: أنا الأمير وأنت جِئْتَ مَدَدًا، فقال: يا عمرو، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصاني وقال "لا تختلفا"، فإن عصيتني أطعتك، دونَك فصلِّ بالنَّاس، فصلَّى، وساروا نحو القوم فهربوا، فغنم المسلمون أموالهم وبعثوا بها إلى المدينة، وكتب عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا يخبره بهزيمةِ العدو وَوَطْءِ بلادِهم، وأنْفَذَهُ مع عوف بن مالك الأشجعي (¬2). وقال عمرو: لما بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ ذاتِ السلاسل، فاحتلمتُ في ليلةٍ باردةٍ شديدةِ البَرْد فأشفقت إنِ اغتسلتُ أن أَهْلِكَ، فتيمَّمْتُ ثم صلَّيْتُ بأصحابي صلاةَ الصُّبحِ، فلما قدِمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرتُ له ذلك فقال: "يا عمرو صلَّيْتَ بأصحابكَ وأنت جُنُبٌ؟ " فقلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إنِ اغتسلتُ أن أهلِك، وذكرت قولَ الله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فتيممت ثم صليت، فضحك ولم يقل شيئًا (¬3). قال ابن إسحاق: ومنع عمرو أصحابه أن يُوْقِدوا في تلك الليلة نارًا وكانت ليلة ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 623، و"المغازي" 2/ 769، و"الطبقات الكبرى" 2/ 121، و"تاريخ الطبري" 3/ 32، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 397، و"المنتظم" 3/ 321، و"البداية والنهاية" 4/ 273. (¬2) انظر "الطبقات" 2/ 122. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (17812).

باردةً، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فسأله فقال: كان في أصحابي قِلَّةٌ وفي العدوِّ كَثْرَةٌ فخشيت فقال: "أصبتَ" (¬1). وفيها: كانت سرية الخَبَطِ (¬2)، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث مئة من المهاجرين والأنصار قِبَلَ جُهينةَ، فأصابهم جَهْدٌ عظيم، فأكلوا الخَبَط حتى صارت أشداقهم كأشداق الإبل. قال الإمام أحمد: حدَّثنا حسن بن موسى، حدَّثنا زهير، حدَّثنا أبو الزبير (¬3)، عن جابر قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمّر علينا أبا عبيدة نتلقَّى عيرَ قريش وزوَّدَنا جِرابًا من تمر، لم يَجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يُعْطينا تمرةً تمرةً، قال: فكيف كنتم تَصْنَعونَ بها؟ فقال: كُنَّا نَمُصُّها ثم نشرب عليها الماء فتَكْفِينا إلى الليل قال: وكنا نَضرِبُ بعصِيِّنا الخَبَطَ ثم نبلُّه بالماء فنأكله، قال: وانطلقنا إلى ساحل البحر فرُفِعَ لنا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العَنْبَر قال أبو عبيدة: مَيِّتَةٌ، ثم قال: لا، بل نحنُ رسلُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيله وقد اضطررنا فكُلوا، فأقَمنا عليه شهرًا ونحن ثلاث مئةٍ حتَّى سَمِنّا، ولقد رأيتُنا نَغْتَرِفُ من وَقْبِ عينيه بالقِلال الدُّهْنَ، ونقطع منه الفِدَرِ كقَدْرِ الثور، قال: ولقد أخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلًا فأَقعدهم في وَقْب عينه وأخذ ضِلَعًا من أضلاعه فأقامها ثم رَحَل أعظم بعير معنا فمر من تحتها وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا له ذلك فقال: "هوَ رِزْقٌ أَخرَجهُ الله لَكُم، فَهَل مَعَكُم مِن لَحمِهِ شَيءٌ فَتُطعِمُونا؟ " فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكله. أخرجه مسلم (¬4). * * * ¬

_ (¬1) وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (4540). (¬2) "السيرة" 2/ 632، و"المغازي" 2/ 774، و"الطبقات" 2/ 122، و"تاريخ الطبري" 3/ 32، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 406، و"المنتظم" 3/ 322، و"البداية والنهاية" 4/ 276. (¬3) في النسخ "أبو الوليد" والمثبت من مصادر التخريج. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (14338)، ومسلم (1935)، وأخرجه البخاري (4360) من طريق وهب بن كيسان عن جابر. قوله: "وقب": هو النقرة التي تكون فيها الحدقة. و"الفدر": جمع فَدْرة، وهي القطعة من اللحم و"وشائق" أن يؤخذ اللحم فيغلى قليلًا ولا ينضج، ويحمل في الأسفار.

وفيها: كانت سَرِيَّةُ أبي قَتادَةَ الأنصاري إلى خَضِرةَ (¬1)، وهي أرض مُحارب بنجد، في شعبان، بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ستة عشر رجلًا، فشنُّوا الغارة على غَطَفان، وقتلوا أَشْرافهم، وساقوا مئتي بعير وألفي شاة وأربعَ نِسْوَة. وقيل: كان أميرُ هذه السَّرِيَّةِ عبدَ الله بنَ أبي حَدْرَد الأسلمي، وهو وَهْم؛ لأن سرية ابن أبي حَدْرَد إلى قيس بن رفاعة الجشمي في شعبان. هذا ذكرُ سرية عبد الله بن أبي حَدْرَد: قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا يعقوب، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد (¬2) بن أبي عون، عن جدته، عن عبد الله بن أبي حَدْرَد الأسلمي أنَّه ذكر أنَّه تزوج امرأة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينه في صَداقِها، فقال: "كَم أَصْدَقتَها؟ " قال: مئتي درهم، قال: "لو كُنتُم تَغْرِفُونَ الدَّراهِمَ من وَادِيكُم هذا ما زِدْتم، ما عِندي ما أُعطيكَ" قال: فمكثتُ، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثني في سريَّة نحو نجد وقال: "لَعَلَّك أَنْ تُصيبَ شيئًا فأُنَفَّلَكَهُ". قال: فخرجنا حتى جئنا الحاضِرَ مُمْسينَ، فلما ذهبت فَحمةُ العِشاء، بَعَثَنا أميرُنا رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ فأَحطنَا بالعسكر، وقال: إذا كَبَّرْتُ وحَمَلْتُ فكبَّروا واحمِلُوا، قال: وسمعت رجلا منهم يصيح: يا خَضِرةُ، فتفاءلتُ بأَنا سنُصيبُ منهم خَضِرة، فلما أغْنَمنا كبَّر أميرُنا وحمل، فكبَّرنا وحملنا، وكلُّ اثنين مِنَّا في ناحيةٍ، قال: فمر بي رجل في يده سيف فاتَّبعته، فقال لي صاحبي: إن أميرنا عهد إلينا أن لا نُمْعِنَ في الطَّلبِ، فقلت: والله لأَتْبَعَنَّهُ، فتبعته ورميته بسهم على جُرَيْداءِ مَتْنِه فوقع، وقال: اُدْنُ يا مُسلمُ إلى الجنة، فلم أَدْنُ إليه ورميته بسَهْم آخرَ فأثخنتُه فرماني بالسيف فأخطأني، وأخذت السيف فقتلته به واحتززتُ به رأسه، وشددنا عليهم فأخذنا نَعمًا كثيرًا وغَنِمْنا وانصرفنا، فأصبحت فإذا بعيري مقطورٌ ببعير عليه امرأةٌ شابَّةٌ جميلةٌ، فجعلَتْ تلتفتُ إلى خلفها وتكثرُ الالتفات، فقلتُ لها: إلى أيَنَ تلتفتينَ؟ فقالت: إلى رجل لو كان حيًّا لخالَطَكُم، قال: وظننت أنَّه صاحبي، فقلت: والله قد قَتَلْتُه وهذا سيفه، وهو معلَّق في قَتَبِ البعير ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 777، و"الطبقات" 2/ 123، و"تاريخ الطبري" 3/ 34، و"المنتظم" 3/ 323. (¬2) في النسخ: "عبد الله" والمثبت من أحمد.

الذي أنا عليه، وغِمْدُ السيف الذي ليس فيه شيء معلَّقٌ بقَتَبِ بعيرها، فلما قلت لها ذلك قالت: دونَكَ هذا الغمد فشِمْهُ فيه إن كنت صادقًا، فأخذته فشِمْتُه فطبَّقته، فلما رأت ذلك بكت، وقدمنا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني من ذلك النَّعم الذي قَدِمْنا به (¬1). وقال الواقدي: كان عبد الله بن أبي حدرد قد تزوج امرأة، فاستعان برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في مهرها، فقال: "كَم مَهْرُها"؟ قال: أصدَقْتُها مئتي درهم، فقال: "سُبحان اللهِ، لو كُنتُم تأخُذُونَ الدَّراهِمَ مِن بَطن وادٍ ما زِدْتُم على هذا، ما عِندِي ما أُعطِيكَ" فأقمتُ أيامًا وأقبل قيس بن رِفاعةَ الجُشَمي في جيش كثيفٍ فنزل الغابةَ يريد أن يجمع النَّاسَ على حَرْبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلين من المسلمين وقال: "اخرُجُوا إلى هذا الرجُلِ، وأتُوني بخَبرِه" وأعطانا شارِفًا عجفاءَ فحملنا عليها أحدَنا فما قامت حتَّى دعمها الرجالُ من خلفها وقال: "تبلَّغُوا علَيها واعتَقِبُوها"، قال: فخرجنا إلى الحاضِرِ عشيّةً مع غُروبِ الشَّمس، وكمنْتُ في ناحية وكمن صاحباي في ناحية، وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبَّرتُ فكبَّروا وشدوا معي على القوم، ثم كبَّرتُ وكبَّرا وشددنا عليهم، وكان لهم راعٍ فأبطأ عليهم، وكان قيسُ بن رِفاعةَ قد خَرجَ في طلبه بنفسه، قال عبد الله: ومرّ بي فرميتُه بسَهْم فوقع في فؤاده فمات وسيفه في عنقه، فوثبت إليه فقطعت رأسه، ثم شددنا على القوم فصاحوا: النَّجاءَ النَّجاءَ، واستَقْنا إبلًا كثيرة وغَنِمنا وجئنا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضَعْتُ رأس قيس بين يديه فدعا لي وأعانني بثلاثة عشر بعيرًا، فسقت مهر امرأتي من بعضها (¬2). وفيها: كانت سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بَطْنِ إِضَم (¬3)، جبل بينه وبين المدينة ثلاثةُ بُرُدٍ، وكان في السَّرية مُحَلَّمُ بنُ جَثَّامة اللَّيثي وعبدُ الله بن أبي حَدْرَد المذكورُ آنِفًا. قال عبد الله: فلقينا عامِرَ بنَ الأَضْبط الأشْجعي على قَعودٍ، فسلَّم بتحية الإسلام فأمسكنا عنه، وحمل عليه مُحَلَّم بنُ جَثّامةَ فقتله لشيء كان في نفسه وأَخذ بعيره وسَلَبه، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (23882). (¬2) "المغازي" 2/ 777 - 780. (¬3) "الطبقات" 2/ 123، و"تاريخ الطبري" 3/ 35، و"المنتظم" 3/ 323، وفي "السيرة" 2/ 626 غزوة ابن أبي حدرد.

فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرناه الخبر، فأنكر علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] الآية (¬1). قال المصنف رحمه الله: وهذا أحد الأقوال في سبب نزول هذه الآية. والثاني: أن المقداد خرج في سرية إلى قوم، فوجدهم قد تفرقوا وبقي منهم رجلٌ كثيرُ المالِ، فقصده المقداد فقال: أشهد أن لا إله إلَّا الله، فقتله، فنزلت هذه الآية (¬2). والثالث: أن رجلًا من بني سُلَيمٍ مرَّ على نفر من المسلمين ومعه غنم فسلم عليهم فقالوا: ما سلَّم إلَّا مُتَعَوِّذًا، فقتلوه وأخذوا غنمه (¬3). والرابع: أنها نزلت في سرية كان فيها أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أغار على قوم فهربوا وبقي منهم رجل قد أسلم يقال له: مِرْداس، فسلَّم عليهم، فقتله أسامة (¬4). وقيل: إنَّما كان أميرُ السرية غالبَ بنَ فَضالةَ وأسامة معه. وقال الواقدي: إنَّما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه السرية في رمضان، وكانوا ثمانيةً، ثم خرجوا إلى غزاة الفتح فبلغهم خروجه فوافَوْه بالسُّقْيا (¬5). وفيها: عُمِلَ المنبرُ، وقيل: في سنة سبع، قيل: عمله غلام للعباس يقال له: كِلاب، وقيل: صُباح، وقيل: غلام لامرأة من الأنصار يقال له: مِيْنا. وقال أبو هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب إلى جذع في المسجد، فشق عليه القيام فقال له تميم الداري: يا رسول الله، ألا أصنع لك منبرًا كما يصنعون بالشام؟ فشاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فقالوا: لا بأس به، فقال العباس بن عبد المطّلب: يا رسول الله، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (23881). (¬2) أخرجه الطّبرانيّ في "الكبير" (12379) من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فيها المقداد بن الأسود ... وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول" ص 165 من حديث سعيد بن جبير قال: خرج المقداد بن الأسود في سرية .... (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (2023) من حديث ابن عباس. (¬4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 5/ 263 - 264. (¬5) انظر "الطبقات" 2/ 123 - 124.

إن لي غلامًا يقال له: كلاب، أَعمَلُ النَّاس لهذا، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "مُرهُ فَليَعْملْه"، فأرسله إلى أَثْلِ الغَابة فقطع أَثْلةً، وعمل فيها دَرَجَتَيْنِ ثُمَّ جاء به فوضعه موضعه اليوم، فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقام معه وقال: "مِنبَري هذا على تُرْعَةٍ من الجنة، وقَوائمهُ رَواتِب في الجنَّةِ" ثم سنَّ الإيمان على الحقوق عند منبره وقال: "مَن حَلَفَ عند مِنبَري كاذِبًا فَلْيَتبوَّأ مَقْعَده مِنَ النَّارِ" (¬1). وعن جابرِ بن عبد الله قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ ما بينَ مِنْبَري إلى حُجرَتي رَوضةٌ مِن رِياضِ الجنَّةِ، وإنَّ مِنْبَري على تُرْعَةٍ من تُرَعِ الجنَّةِ" (¬2). وقال جابرٌ: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ إلى جذع نخلة، فقالت امرأة من الأنصار كان لها غلام نجار: يا رسول الله إن لي غلامًا نجارًا، أفلا آمره يتخذ لك منبرًا تخطب عليه؟ قال: "بلى"، قال: فاتخذ له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة خطب على المنبر، فإنَّ الجذع الذي كان يقوم عليه كان يئنُّ كما يئنُّ الصبي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا بكى لِما فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ". انفرد بإخراجه البُخاريّ (¬3). وعن جابر بن عبد الله قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خَطَب يستند إلى جِذع نخلة من سَواري المسجد، فلما صُنِعَ له منبره واستوى عليه اضطَربت تلك الساريةُ كحنين الناقة، حتى سمعها أهل المسجد، حتى نَزل إليها فاعتنقها فسكتت. أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (¬4). ولم يزل المنبر على حاله حتَّى حج معاويةُ بعْدَما بُويعَ، فزاد فيه ستَّ درجات، فشق ذلك على الصحابة - رضي الله عنهم - وقالوا: غيَّر آثارَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابتدع في الإسلام، فقال لهم سعيد بن المسيب: يا قوم لا تعجبوا من هذا واعجبوا من مروان بن الحكم كيف يقوم مقامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يميت السُّننَ ويحيي البدع. وكان عزمُ مُعاويةَ إذا عاد من الحج نقْلَ المِنبرِ إلى الشام، فلما قفل من الحج أمر ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 215. (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (15187). (¬3) أخرجه البخاري (3584)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (14206). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (14142).

بنقله فأظلمت الدنيا وزُلزلت وجاءت الصواعقُ من كل مكان، فتركه وبقي على تلك الحال مدة أيام بني مروان، فلما ولي السفاح ردَّهُ إلى ما كان عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقيت آثاره. * * * وفيها: كانت غزاةُ الفتحِ في رمضان (¬1)، أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعد مؤتة جمادى الآخرة ورجب وشعبان. قال الواقدي: كانت خزاعة في الجاهلية قد أصابوا رجلًا من بكر وأخذوا ماله، فمر رجل من خزاعة على بني الدِّيل بعد ذلك فقتلوه، ووقعت الحرب بينهم (¬2). قال ابن إسحاق: كان الذي أهاج الحرب بين خزاعةَ وبكرٍ، أن رجلًا من بني الحضرمي يقال له: مالك بن عَبَّاد خرج (¬3) تاجرًا، فلما توسَّط أرض خُزاعةَ عَدَوْا عليه فقَتَلُوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجلٍ من خزاعة فقتلوه، واستمرتِ الحربُ، فمرَّ بنو الأسود بن رِزْن - وهم ذُؤَيب وكُلْثوم وسَلْمى - فقتلوهم عند أنْصاب الحرم بعرفة، وكان بنو الأسود يُدَوْن في الجاهلية بدِيَتَيْن لفَضْلِهم في بني بكر. فبينا بنو بكرٍ وخزاعة على ذلك جاء الإسلام فحجز بينهم، فلما كان صلحُ الحديبيةِ دخلت خزاعةُ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبكرٌ في قريش، على ما تقدم. قال الواقدي: وكانت خزاعة حُلَفاءَ لعبد المطلب، فجاءت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية بكتاب الصلح فقرأه أبيّ بن كعب عليه وفيه: باسمك اللَّهم، هذا حلف عبد المطّلب بن هاشم لخزاعة، إذْ قَدِمَ عليه سَرَواتُهم وأهل الرأي منهم، غائبُهم مُقِرٌّ بما قضى عليه شاهدهم، إن بيننا وبينهم عهودَ الله وعقودَه، ما لا يُنسى أبدًا، ما أشرفَ ثَبير وثبت حِراء، وما بَلَّ بحرٌ صُوفة، لا يزداد ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 389، و"المغازي" 2/ 780، و"الطبقات الكبرى" 2/ 124، و"تاريخ الطبري" 3/ 42، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 3، و"المنتظم" 3/ 324، و"البداية والنهاية" 4/ 278. (¬2) "المغازي" 2/ 781. (¬3) في "النسخ" مالك بن عباد بن خلف، وما أثبتناه من "السيرة" 2/ 389، و"تاريخ الطبري" 3/ 43.

فيما بيننا وبينكم إلّا تَجَدُّدًا أَبَدَ الدهر سَرْمدًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أعرَفَني بحقِّكُم وأَنتم على ما أسْلَفتُم عليه مِنَ الحِلْفِ، وكلُّ حِلفٍ كانَ في الجاهِليَّةِ لا يَزيْدُه الإسلامُ إلَّا تَأكِيدًا" (¬1). ولمسلم: عن جابر بمعناه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وأَيُّما حِلْفٍ في الجاهِليَّةِ لم يَزِدهُ الإسلامُ إلَّا شِدَّةً، ولا حِلْفَ في الإسلام" (¬2). قال الواقدي: وكان آخرَ ما كان بين خزاعة وكنانة وبكر أن أنس بن رهم الدِّيلي هجا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعه غلامٌ من خزاعةَ فضربه فشجَّه، فثار الشرُّ مع ما كان بينهم من العداوة، فلما دخل شعبان هذه السنة كلَّمت بكرٌ أشرافَ قريش في النُّصرة على خزاعة، فأعانهم على ذلك صفوان بن أميَّة ومِكْرَزُ بن حفص وحُوَيْطبُ بن عبد العزى وعِكرمةُ بن أبي جهل ولم يشاوروا أبا سفيان بن حرب، وقيل: إنهم شاوروه فأبى عليهم، ثم اتَّعدوا الوتيرَ: ماءٌ قريب من مكّة، وخرج رؤساء قريش بمن معهم إلى بكر، ورأس بكر نوفل بن معاوية الدِّيلي، فبيَّتُوا خزاعةَ ليلًا وهُمْ غارُّون، فلم يزالوا يقاتِلونهم حتَّى انتهَوْا إلى الحرم ودخلوا دارَ زَيْدِ بن وَرْقاء، وعاد رؤساء قريش في عمايةِ الصُّبْحِ إلى منازلهم وهم يظنون أنهم لم يُعْرَفوا وأَنَّ هذا لا يبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. وقَتَلوا من خُزاعة عشرين، فلما أصبحوا ندمت قريشٌ وعرفوا أنَّه سببٌ لنقض العهد بينهم وبين رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وجاء الحارثُ بن هشام وعبدُ الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان بن حربٍ وأخبراه بما فعل القومُ، فقال: هذا أمر لم أشهده ولم أغب عنه وإنه لشرٌّ، والله ليغزونا محمد، ولقد حدثتني هند بنت عتبة أنها رأت رؤيا كرهتها، رأت دمًا أقبل من الحَجون يسيلُ حتَّى وقف بالخَنْدَمةِ، فكره القومُ ذلك، فقال له الحارث: ما لها سِواك؛ اُخْرجْ إلى محمد فكلِّمه في تجديد العهد وزيادة المدة. ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 781 - 782. (¬2) أخرجه أحمد (16761)، ومسلم (2530) من حديث جبير بن مطعم، وليس من حديث جابر. (¬3) "المغازي" 2/ 783 - 784.

وقيل: إن أبا سفيان قال ذلك ابتداء، فخرج أبو سفيان ومولى له على راحلتين وهو يرى أنَّه أول من يخرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسرع السير (¬1). وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضوان الله عليها صبيحة كانت الوَقْعة بالوَتير: "يا عائِشَةُ، قد حَدَثَ في خُزاعةَ أَمرٌ"، فقالت: أفَترى قُريشًا تجترئ على نقض العهد بينك وبينهم وقد أفناهم السيف؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَنقُضونَ العَهدَ لأَمرٍ يُريدُهُ الله تعالى بِهِم". قالت عائشة: لخير أو لشر؟ قال: "لخيرٍ" (¬2). فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبًا من خزاعة يستنصرون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ويخبرونه بالذي أصابهم من قريش، فقوموا المدينة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ورأسُ خزاعة عمرو بن سالم، فاستأذن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الإنشاد فأذن له فقال: [من الرجز] لا هُمَّ إنِّي ناشدٌ محمدًا حِلْفَ أَبينا وأَبيكَ الأَتْلدا قد كُنْتُمُ وُلْدًا وكُنّا والدا ثُمَّتَ أسلمنا ولم نَنْزعْ يدا إن قريشًا أَخْلفوكَ المَوعِدا ونَقَضُوا مِيثاقَكَ المؤكَّدا فانصر هَداكَ الله نَصرًا أَيِّدا وادعُ عبادَ الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تَجرَّدا في فيلقٍ كالبحر يجري مُزْبِدا هم بيَّتونا بالوَتير هُجَّدا ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 785 - 786. (¬2) "المغازي" 2/ 788.

فقتَّلونا رُكَّعا وسُجَّدا وزَعموا أن لست تدعو أَحَدا وهُم أَذَلُّ وأَقلُّ عَدَدا فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يجر طرف ثوبه ويقول: "لا نُصرتُ إنْ لم أَنصُر بني كَعبٍ بما أنصُرُ منه نَفسِي" (¬1). وقال: "وكأنَّكُم بأبي سُفيانَ بن حرب وقَد جاءَ يقولُ: جدِّدِ العَهدَ وزِدْ في المدَّةِ وهو راجع بسَخَطِه". وكان القوم لما خرجوا من المدينة تفرقوا، وسلك بديل بن أصرم الطريق في نَفرٍ يسير، فلقيهم أبو سفيان فقال: أين كنتم؟ قال بديل: كنا في الساحل نصلح بين الناس في قتيل، قال: فهل أتيت محمدًا بيثرب؟ قال: لا نعلم أنه قد كان بالمدينة. فلما ارتحل بديلُ قام أبو سفيان إلى مباركهم ففتَّ أبعار إبلهم، فوجد فيها النوى فتيقن ذلك، فقدم المدينة فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إنِّي كنتُ غائبًا عن صلح الحديبية فجدِّدِ الهدنةَ وزِدْ في المدَّةِ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولهذا قَدِمتَ"؟ قال: نعم، قال: "فَهَل حَدَثَ منكُم حَدَثٌ"؟ قال: معاذ الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَنَحنُ على مُدَّتِنا وصُلْحِنا يَومَ الحُديبيةِ". فقام من عنده فدخل على ابنته أُم حبيبة - رضي الله عنها - فلما ذهب ليجلس على فراشِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته دونه، فقال: أرغبتِ بهذا الفراش عني، أو بي عنه؟ فقالت: بل هو فراشُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤٌ مشركٌ نَجِسٌ، فقال: يا بنية، لقد أصابك بعدي شر، فقالت: هداني الله للإسلام وأنت تعبد حجرًا لا يسمع ولا يُبْصِر، واعجبًا مِنْكَ يا أَبَتِ، وأنت سيد قريش وكبيرها. فقال: أفَأتْرُكُ ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد، ثم قام من عندها، فلقي أبا بكر - رضي الله عنه - فقال له: يا ابن أبي قحافة كلِّمْ محمدًا، أو تُجيرُ أنتَ بين الناس، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: جواري في جِوارِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم لقي عمرَ رضوانُ الله عليه فكلَّمه بمثل ما كلَّم به أبا بكر، فقال عمر: أنا أكلِّمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! والله لو وجدت الذَّرَّ يُقاتلكُم لأعْنتُها عليكم، فقال أبو سفيان: جُزِيتَ من فتى رحمٍ شرًا. ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 790 - 791.

ثم دخل على عثمان رضوان الله عليه فقال: ليس في القوم أحد أقربُ بي وأمسُّ رحمًا منك، فقال: جواري في جِوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فدخل على فاطمة - رضي الله عنها - وعندها علي رضوان الله عليه والحسن والحسين رضوان الله عليهما يَدِبّانِ بين يديهما فقال لها: يا بنت محمد، أَجيري بين الناس، فقالت: أنا امرأة، فقال: قد أجارت أختك أبا العاص بن الربيع وأجاز ذلك محمدٌ، فقالت: هذا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مُري أحدَ ابنيك هذين أن يجير بين النَّاس، فقالت: هما صَبِيَّان وليس مثلُهما يُجير، فقال لعلي رضوان الله عليه: يا أبا الحسن، أجر بين النَّاس أو كَلَّم محمدًا، فقال: ويحك يا أبا سفيان ليس أحد منا يستطيع أن يكلِّمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يكره، فقال: أشِرْ عليَّ. قال: ما أجد لك شيئًا مثل أن تقوم فتجير بين النَّاس، فإنَّك سَيَّدُ بني كنانة، قال: فهل ينفعني؟ قال: لا أظن ذلك ولكن لا أجد لك غيره (¬2). فقام وصاح: ألا إنِّي قد أجرتُ بين النَّاس، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنتَ تَقولُ هذا يا صخرُ" ثم ركب راحلته وسار نحو مكّة وكانت غَيْبتُه قد طالت واتهمته قريش وقالوا: قد صبأ واتبع محمدًا وكتم إسلامه، فدخل على امرأته هِنْد ليلًا، فقالت: قد طالت غيبتك حتَّى اتَّهَمَكَ قومُك، فإن كنت مع طول غيبتك جئتهم بنُجحٍ فأنت الرجل، ثم دنا منها وجلس مَجلِسَ الرجلِ من امرأته فجعلت تقول: ما الخبر؟ قال: لم أجد إلَّا ما قالَ عليٌّ، فضربت برجلِها في صدره وقالت: قم قُبَّحْتَ من رسولِ قومٍ، فلما أصبح حلق رأسه عند إِساف ونائلة وذبح لهما ومسح بالدم رؤسهما إبراءً لما اتهمته به قريش، ثم سأله أعيان قريش عما جرى فأخبرهم، قالوا: فأجاز محمد قولك؟ قال: لا، قالوا: والله ما زاد عليّ على أن لَعِبَ بك (¬3). وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضوان الله عليها: "جَهِّزينا ولا يَشعُر أَحدٌ"، فكتمت ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 791 - 793. (¬2) "المغازي" 2/ 793 - 794. (¬3) "المغازي" 2/ 794 - 795. (¬4) "المغازي" 2/ 796.

ولما أجْمَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى صفوان بن أميَّة وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وأعيان قريش يخبرهم الخبر، ودفع الكتاب إلى سارة مولاة المطلب - وقيل: اسمها كَنود من مُزينةَ - وجعل لها جُعْلًا على أن تبلغ الكتاب إلى قريش، فجعلته في رأسِها وفتلت عليه قُرونَها وخرجت به، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ من السماء، فقال لعلي والزبير - رضي الله عنهما -: "أَدركا المَرأَةَ فإن معها كتابَ حاطبٍ إلى الكفار بما أزْمَعْنا عليه"، فخرجا فأدركاها بذي الحليفة، فاستنزلاها وفتَّشا رحلها وفتشاها فلم يجدا شيئًا، فقال علي رضوان الله عليه: والله لتخرجن الكتاب أو لأكْشِفَنَّكِ، فلما رأت الجدَّ حلَّت قُرونها وأخرجته، فرجعا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا حاطبًا وقال: "ما دَعاكَ إلى هذا"؟ فقال: يا رسول الله، والله إنِّي مؤمن بالله ورسوله ما غيَّرْتُ ولا بدَّلْتُ، ولكن ليس لي في مكّة عشيرةٌ وأهل، وولدي بين ظهرانيهم فصانَعْتُهم عليهم. فقال عمر رضوان الله عليه: دعني أضرب عنقه فقد نافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما يُدرِيكَ يا عمرُ، لَعلَّ اللهَ اطلَعَ على أهلِ بدرٍ، فَقالَ: اعمَلُوا ما شِئتُم فقد غَفَرتُ لَكُم". وأنزل الله تعالى في حاطب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الآية (¬1). وقد أخرجا القصة في "الصحيحين" أن عبد الله بن أبي رافع سمع عليًّا يقول: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والزبيرَ والمقدادَ فقال: "انطَلِقُوا حتَّى تأتوا رَوْضَةَ خاخٍ، فإنَّ بها ظَعينَةً معها كتابٌ، فخُذُوه منها". فانطلقنا إليها تَعادَى بنا خَيْلُنا حتَّى أتينا الرَّوضة، فإذا نحن بالظَّعينةِ، فقلنا: أخرجي الكتابَ، فقالت: ما معي كتاب، فقلت: لُتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لتُلْقينَّ الثياب، قال: فأخرجت الكتاب من عِقاصِها، فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا حاطِبُ، ما هذا"؟ فقال: لا تَعْجَلْ عليَّ يا رسول الله، إنِّي كنت امرءًا ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان مَن معك من المهاجرين لهم قراباتٌ يَحمون أهاليهم بمكة، فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا - أو فيهم يدًا - يحمدون بها قرابتي، وما فعلتُ ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 398، و"المغازي" 2/ 797 - 798.

رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد صَدَقَكُم". فقال عمر: دعني أضرب رَقَبَةَ هذا المنافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه قد شَهدَ بدرًا، وما يُدرِيكَ لَعلَّ الله اطَّلَعَ على أَهلِ بَدرٍ، فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُم فَقَد غَفَرتُ لَكُم". متفق عليه (¬1). و"روضة خاخ": مكان قريب من المدينة. و"العِقاص": الخَيْط الذي يعقص به الشعرُ الملصق القريب. قال البلاذري: ومضت سارة من فورها إلى مكة وكانت مُغَنِّيةً، فأقبلت تهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتتغنى بذلك، فأمر يوم الفتح بقتلها (¬2). وقال الثعلبي: هي سارة مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكّة إلى المدينة بعد بدر بسَنَتين فقال لها: "أمسلمة جئت؟ " قالت: لا، قال: "أفمهاجرة؟ " قالت: لا، قال: "فما جاء بك؟ " فقالت: أنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد ذهب مواليَّ واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتحملوني وتكسوني، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [أَينَ] أنتِ مِن شَبابِ أَهلِ مكَّةَ"؟ وكانت مغنية نائحة، فقالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر. فحث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطّلب فكسوها وحملوها، فأتاها حاطب حليف بني أسد بني عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكّة كتابًا وأعطاها عشرة دنانير. وقال مقاتل: أعطاها عشرة دنانير وكساها بُرْدًا، وكتب معها إلى أهل مكّة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يريدكم] فخُذوا حِذْركم. وخرجت تريد مكّة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل عليًا وعمارًا وعمر والزبيرَ وطلحةَ والمقدادَ وأبا مَرْثَدٍ الغنويَّ وكانوا فرسانًا وقال: "انطَلِقُوا إلى رَوضَةِ خاخ فإنَّ بها ظَعِينَةً مَعَها كِتابٌ من حاطِبٍ إلى المُشرِكينَ، فَخُذُوهُ منها وخَلُّوا سَبيلَها، وإنْ لم تَدفَعْه إليكُم فاضرِبُوا عُنُقَها". فلما وصلوا إليها سألوها فأنكرت، ففتشوها فلم يجدوا معها شيئًا فهموا بالرجوع، فقال علي: والله ما كَذَبَنا ولا كُذبنا وسلَّ سيفَه، وقال: أخرجي الكتاب وإلا ضربت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494). (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 424، وليس فيه: فأمر بقتلها.

ذكر مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة

عنقك، فلما رأت الجدَّ أخرجتهُ من ذوائبها قد خبأته في شعرها، فخلوا سبيلها، فرجعوا بالكتاب وذكر بمعنى ما تقدم (¬1). ذِكْرُ مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكّة: كتب إلى القبائل فقدم عليه إلى المدينة أَسلمُ وغِفارُ ومُزينةُ وجُهينةُ وأشجعُ، وبعث إلى بني سُليم فوافوه بقُدَيْدٍ، فأما جميع العرب فخرجوا معه من المدينة في عشرة آلاف. قال علماء السير: وخرج يوم الأربعاء بعد العصر لعشر مضين من رمضان وهو صائم، واستخلف على المدينة أبا رُهْم كلثومَ بن حُصَين الغِفاري، وعلى الصلاة ابنَ أم مكتوم، وسار في المهاجرين والأنصار، ووافته القبائل على المياه. قال الواقدي: لقيه العباس بن مرداس بقُدَيد في ألف من بني سليم وأنس بن عباس (¬2)، وكان أنس وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة في بني سُلَيْم وفيهم قيس بن نُشْبَة، فسمع كلامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى بني سليم وقال: والله لقد سمعت تراجم الروم، وهَمْهَمةَ فارس، وكَهانة الكُهَّانِ، وقصائد العرب، فما يُشبه كلام محمد شيئًا من ذلك، فأسلموا ترشدوا، فأسلموا وكان لهم صنم وله سادن يقال له: غاوي بن عبد العزى، فدخل يومًا على الصنم فرأى ثعلبين يبولان عليه فقال: أَربٌّ يبول الثعلبانِ برأسه ... لقد ذَلَّ من بالت عليه الثعالب ثم شد على الصنم فكسره وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا فقال له: "ما اسمك"؟ فقال: غاوي بن عبد العزى، فقال: "أَنتَ راشدُ بنُ عبدِ رَبِّه" وحَسُنَ إسلامه، وأقطعه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رُهاطًا وفيها عين يقال لها: عين الرسول، وعقد له لواءً على قومه وقال: "خَيْرُ سليمٍ راشِد" وكان يَقْدُمُ سُلَيْمًا أنسُ بن عباس يوم الفتح (¬3). ولما نزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -قُدَيْدًا وافته القبائِلُ من الأعراب الذين حول المدينة: أسْلَم ¬

_ (¬1) انظر تفسير الثعلبي 9/ 291، و"أسباب النزول" للواحدي ص 447 - 448. (¬2) في "الطبقات": أنس بن عياض بن رعل. وفي "الإصابة" 1/ 70: أنس بن عباس بن رعل، نقلًا عن "الطبقات". (¬3) انظر "الطبقات" 1/ 265 - 266، ورواية البيت في كتب اللغة: "يبول الثُّعْلُبانُ"، والثُّعلُبان: ذكر الثعالب. أدب الكاتب 1/ 22، وفقه اللغة 1/ 1278.

وغِفار ومزينةُ وجهينةُ وأشجع ونحوهم، فعقَد لهم الراياتِ وفرَّقها فيهم، ولحقه عُيَينةُ ابنُ حِصن بالعرج والأقرع بن حابس بالسُّقْيا (¬1). قال البلاذري: ولقيه العباس بن عبد المطلب بذي الحليفة قد أظهر إسلامه، فأمره أن يبعث بثقله إلى المدينة ويعودَ ليشهدَ فتح مكّة وقال له: "يا عَمِّ، هِجرتُكَ آخِرُ هِجرَةٍ، كما أنَّ نُبُوَّتي آخِرُ نبوَّةٍ" (¬2). وعمّى الله الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبرٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يدرون ما هو فاعِلٌ. وقال الواقدي: نَزلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج، ولا يعلم النَّاس أين يقصد إلى قريش أو إلى هوازن أو إلى ثقيف، فقال كعب بن مالك: أنا أعلم لكم علمه، فجاء فجثا بين يديه وقال: [من الوافر] قضينا من تِهامةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وخيبرَ ثُمَّ أَجمَمْنا السُّيوفا نُسائِلُها ولو نَطَقت لقالَتْ ... قَواطعُهنَّ دَوسًا أو ثَقيفا ولستُ لمالك إن لم تَرَوْها ... بساحة دارهم مِنّا ألوفا ونَنتَزغُ الخيام ببطن وَجٍّ ... ونَتركُ دارَهم منهم خُلُوفا فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئًا، فلما نزل مَرَّ الظهران تيقنوا أنَّه قاصدٌ مكَّةَ (¬3). وعن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكَدِيدَ ثم أفطر (¬4). قال الزهري: وكان الفِطْر آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يؤخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالآخِر فالآخِر. أخرجه مسلم (¬5). وقال ابن عباس: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فصام حتى بلغ عُسْفان، ثم دعا بماءٍ ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 51 - 52. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 425. (¬3) "المغازي" 2/ 802. (¬4) أخرجه البخاري (1944)، ومسلم (1113). (¬5) مسلم 2/ 785.

فرفعه على يده ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكّة، وذلك في رمضان، وكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر (¬1). وأخرجه الحميدي وفيه: خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في عشرة آلاف وذلك على رأس ثماني سنين ونصف من هجرته أو من مقدمه المدينة، فسار بمن معه من المسلمين إلى مكّة يصوم ويصومون حتى بلغ الكَديد، وهو ما بين عُسْفانَ وقُدَيْد أفطر وأفطروا، فلم يزل مفطرًا حتى انسلخ الشهر فصبَّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة لثلاث عشرة مضت من رمضان (¬2). ولمسلم: عن جابر قال: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُراعَ الغَميم وصام الناس، قيل له: قد شق على الناس، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم وصام البعض، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أُولئكَ العُصاةُ" (¬3). قال الواقدي: ولما كانتِ الليلةُ التي نزل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ الظهران خرج أبو سفيان بن حرب وحكيمُ بن حزام وبُدَيْلُ بن ورقاء الخزاعي - وكان نازلًا بمكة - يتجسَّسون الأخبار، فقال العباس - رضي الله عنه -: واسوءَ صباحاه، والله لئن بَغَت ابن أخي قريشًا في دارها ودخل مكّة عَنْوَةً إنه لَهلاكُ [قريشٍ] آخرَ الدهر، قال: فجلست على بغلةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاء وقلت: أَخْرُجُ إلى الأَراك لعلي أرى حطَّابًا أو صاحبَ لبن يدخل مكّة فيخبرهم بمكانِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأتونه فيأخذون منه أمانًا. قال العباس: فوالله إنِّي لأطوف في الأَراك إذ سمعت صوتَ أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وأبو سفيان يقول: والله ما رأيت نيرانًا مثل هذه، فقال بُدَيْلٌ: هذه نيرانُ خُزاعةَ، وكانوا قد أوقدوا في تلك الليلة عشرة آلاف نار، فقال أبو سفيان: خزاعة أقلُّ من ذلك وأذلُّ، قال العباس: فناديته: أبا سفيان، فَعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، فقال: لبيك، فداك أبي وأمي ما وراءك؟ قلت: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دَلَفَ إليكم في عشرةِ آلافٍ من المسلمين ولا قِبَلَ لكم به، وقلت: اركب على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1948)، ومسلم بعد (1113). (¬2) "الجمع بين الصحيحين" (978)، وأخرجه البخاري (4275) و (4276). (¬3) مسلم (1114).

عَجُزِ هذه البغلة فأستأمنُ لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوالله لئن ظَفِرَ بك لَيَضْرِبَنَّ عُنقَكَ، قال: فَرَدِفَني فخرجت أَركضُ البَغْلةَ، فكلّما مررت بنارٍ قالوا: هذا عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته، حتَّى مررتُ بنارِ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما رأى أبا سفيان عرفه فقال: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدوَّ الله بغير عقد ولا عهد، ثم اشتد نَحو رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وركَضْتُ البغلةَ حتى اقتحمت باب القبة فسبقته، ثم جاء فقال: يا رسولَ الله، هذا عدوُّ الله ابنُ حرب قد أمكن الله منه فدعني أَضْرب عنقه، قال: فقلت: فإني قد أجرته فلا سبيل عليه، فأكثر عمر القول، فقلت: يا ابن الخطاب والله ما تَفْعَلُ هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان رجلًا من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال: مهلاً يا عباس، فوالله إن إسلامَك يومَ أسلمتَ كان أحبَّ إلي من إسلام الخطَّابِ لو أسلم، لأنَّ إسلامَك سرَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -[فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] "قد أجرنا من أجرتَ وأمنّا من أمنتَ فاذهب به حيثُ شئت، حتَّى تغْدوَ به عليَّ الغَداة"، قال: فذهبتُ به إلى منزلي ثم عدتُ به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "ويحَكَ يا أبا سُفيانَ، ألم يأْنِ لكَ أن تَعلَمَ أنِّي رسولُ الله" فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه ففي النَّفس منها شيء، فقال له العباس: ويحك أسلم وإلا قتلك، فأَسْلَمَ (¬1). وروي أنَّه قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلَّا الله؟ " فقال: بلى بأبي أنت وأمي، قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع الله إله لأغنى عنا شيئًا. ثم أسلم. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عم، اذهب به فاحبسه عند خَطْم الجبل بمضيق الوادي حتَّى يمرَّ عليه جندُ الله، قال العباس: فقلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجلٌ يُحِبُّ الفَخْرَ فاجعل له شيئًا يكون له فخرًا له في قومه، فقال: "مَن دَخلَ دارَ أَبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، ومَن أَغلَقَ بابَه فهو آَمِنٌ". ومضيت به إلى خَطْمِ الجبل وجعلتِ القبائلُ تمر به فيقول: من هؤلاء؟ فأقول سُلَيم، فيقول: مالي ولسُلَيْم، ويمر بجُهَيْنةَ فيقول: من هذه؟ فأقول جهينة، فيقول: مالي ولجهينة، كذلك حتى أقبل موكبُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والكتيبةُ الخضراءُ وفيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرون والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلَّا الحَدَقُ ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 816 - 818.

فقال: من هؤلاء؟ قلت: كتيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لقد أوتي ابن أخيك ملكًا عظيمًا، فقلت: ويحك إنَّما هو النبوة، فقال: نعم، فقلت: اِلحقْ بقومك فحذَّرهم، فذهب سريعًا حتَّى دخل المسجد فصرخ بأعلى صوته: يا معاشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبَلَ لكم به، قالوا: وما ترى؟ قال: من دخل داري فهو آمن، قالوا: ويحك فما تُغني عنا دارك؟ قال: من دخل المسجد أو أغلق بابه فهو آمن، ثم جاء ليدخل داره فقالت له هند: وراءك قبحك الله، فإنَّك شرُّ وافدٍ (¬1). فإن قيل: فلم خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار أبي سفيان؟ قلنا: لوجهين: أحدهما: لما ذكر العباس. والثاني: لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوذي بمكة ونالت قريش منه دخل دار أبي سفيان فأَمِنَ (¬2). قال الزهري: فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكافأته على ذلك وحَقْنَ دمِه، لأنَّ قلوب أصحابه - رضي الله عنهم - كانت حَرَّى عليه. وحكى الطبري في إسلام أبي سفيان وجهًا آخر: عن ابن عباس قال: لقي أبو سفيان بن حرب وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنيق العُقاب بين مكّة والمدينة، فحجبهما، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، ابنُ عمك وصِهْرُكَ، تشير إلى أبي سفيان وأخيها عبد الله، فقال: "لا حاجة لي بهما بعدما قالا وفعلا" فخرج الخبر إليهما، وكان مع أبي سفيان ولدٌ له صغير فقال: والله لتأذنن لي أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبنَّ في الأرض حتى نموت جُوعًا وعطشًا، فأذن لهما بعدما رقَّ لهما، فلما دخلا عليه أسلما، وقال أبو سفيان أبياتًا في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها: وهادٍ هداني غير نفسي ونالني ... مع الله من طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده في صدر أبي سفيان وقال: "أنت فعلت هذا" (¬3). ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 822 - 823. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 6/ 9 - 10 من حديث ثابت البناني مرسلًا. (¬3) "تاريخ الطبري" 3/ 50 - 51، وانظر "السير" 2/ 400 - 401، و"البداية والنهاية" 4/ 287، وهذه القصة وردت في جميع المصادر عن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، لا ابن حرب كما عند المصنف.

قال المصنف رحمه الله: وهذه رواية شاذة. وقد أخرج الحميدي من أفراد البخاري حديثًا: عن [هشام بن] عروة بن الزبير، عن أبيه قال: لما سار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكَّةَ عامَ الفتح وبلغ ذلك قريشًا، خرج أبو سفيان وحكيمُ بن حزام وبُدَيْلُ بن ورقاء يتحسسون الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مَرَّ الظهران، فإذا هم بنيرانٍ كأنها نيرانُ عَرَفَةَ، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنَّها نيرانُ عرفة، فقال بديلُ بن وَرْقاء: هذه نيران بني عمرو بن عوف، يعني الأنصار، فقال أبو سفيان: هم أقلُّ من هذا، فرآهم ناس من حرسِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركوهم فأخذوهم، فأتَوْا بهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم أبو سفيان، فلما سارَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس: "احتَبسْ أَبا سُفيانَ عندَ خَطْمِ الجبَلِ حتَّى يَنظُرَ إلى المُسلمِينَ" فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمرُّ عليه كتيبةً كتيبةً، فمرت كتيبة فقال للعباس: من هذه؟ قال: غِفار، فقال: مالي ولغِفار، ثم مرت جُهينة وبنو سليم وسعد بن هُذَيْم وهو يقول كذلك، حتَّى أقبلت كتيبةٌ لم يَرَ مثلَها قال: من هذه؟ قال: الأنْصار عليهم سعد بن عبادة بيده الرايةُ، فلما رأى سعدٌ أبا سفيان قال له: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستَحلُّ الكعبة - والملحمة: الحربُ - فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذِّمار - بذال معجمة - يوم يحمي الإنسان أهله، كأنه تمنى ذلك، ثم جاءت كتيبة وهي أجلُّ الكتائب فيهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرون ورايته بيد الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان قال له: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال: كذا وكذا، قال: "كَذَبَ سَعدٌ، ولكِنْ هَذا يَومٌ يُعظِّمُ اللهُ فيه الكَعْبةَ". وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُركَزَ رايتُه بالحَجون، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد أن يدخل مكّة من أعلاها من كَداء، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كُدًى، فَقُتِلَ من خيل خالد بن الوليد يومئذٍ رجلان: حُبَيشُ بنُ الأَشعر وكُرْزُ بنُ جابر الفِهْري. انفرد بإخراجه البخاري (¬1). وقال نافع بن جبير: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام لما رَكَزَ رايته بالحَجون: يا أبا عبد الله أههنا أَمَرَكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركُزَ الرايةَ؟ قال: نعم (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4280)، والحميدي في "الجمع بين الصحيحين" 3/ 325 - 326. (¬2) أخرجه البخاري (2976).

وفي رواية الواقدي: أَنَّ سعدًا نادى أبا سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اليومَ يومُ الرَّحمة، اليوم أَعزَّ اللهُ قُريشًا" (¬1). و"كَدَاءُ": بالمد وفتح الكاف: موضع بأعلى مكّة. و"كُدَى" بضم الكاف والقَصر: موضع بأرضٍ أسفَلَ مكّة. قال ابن إسحاق: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير - رضي الله عنه -: أقم هنا عند الحَجون بالراية ولا تبرحْ مكانك حتَّى آتيك، وكان في طريق خالد بنو بكر بن عبد مناف والأحابيش، كانت قريش قد استنفرتهم فمنعوا خالدًا من الدُّخُول فقاتَلهم فانهزموا، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوصى خالدًا والزبير رضوان الله عليهما وقال لهما: "لا تقاتلا إلَّا من قاتلكما". وقال الواقدي: أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزبيرَ أن يدخل من كَداء وسعد بن عبادة من كُدى، ولما عزم سعدٌ على الدخول سمعه رجل من المهاجرين يقول: اليوم يوم الملحمة وتُسْتَحلُّ الحرمة، فقال: يا رسول الله لا نأمن أن يكون لسعد في قريشٍ اليومَ صَوْلَةٌ؛ إنه يقولُ كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: "أَدْرِكْه فخذِ الرَّاية منه وادخُلْ بها ولا تُقاتِلْ أَحَدًا إلَّا أَن يُقاتلَكَ"، ولما قال سعد ما قال شق ذلك على قريش، فعارضت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت (¬2): [من الخفيف] يا نَبيَّ الهدى إليك لجا حيْـ ... ـيُ قُريشٍ ولاتَ حينَ لَجاءِ حين ضاقَتْ عليهمُ سعةُ الأَر ... ضِ وعادَاهم إله السَّماءِ إِنَّ سعدًا يُريدُ قاصمة الظهـ ... ـرِ بأَهل الحجونِ والبطحاءِ خَزْرجيٌّ لو يستطيعُ من الغيـ ... ـظِ رمانا بأَنْجُمِ العوَّاءِ فانهينه فإنه الأَسد الأسوَ ... دُ والليثُ والغٌ في الدماءِ فلئن أَقحم اللواءَ ونادى ... يا حماةَ اللواءِ يوم اللقاءِ لتكونَنَّ بالبقاعِ قُريشٌ ... نهبةَ القاعِ في أكفِّ الإِماءِ إنه مصلتٌ يديرُ لها الرأ ... يَ صَموتٌ كالحيَّةِ الرَّقطاءِ ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 821 - 822. (¬2) انظر "السيرة الشامية" 5/ 335، وقد وقع اضطراب في أوراق النسخ أعدنا ترتيبها.

وَغِرُ الصدر لا يَهمُّ بشيءٍ ... غير سفكِ الدما وسبي النساءِ وقيل: إن الشعر لضرار بن الخطاب الفهري. وروى ابن إسحاق عن أم هانئ أنها جاءت إلى فاطمة فقالت: ألا تعذريني من زوجك، استجار بي رجلان من أحمائي من بني مخزوم فزعَمَ زوجُكِ أَنه يقتلُهما، فقالت فاطمة: ومالك والمشركين تجيريهم علينا، فوجَدَتْها أشدَّ من زوجها، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجارهما (¬1). وقال الواقدي: دخل الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة على أم هانئ يومَ الفتح فاستجارا بها، فدخل عليها أخوها علي - رضي الله عنه - فلما رآهما شَهَرَ السَّيْفَ عليهِما، فقامت إليه أم هانئ فاعتَنَقَتْهُ وقالت: أتصنع بي هذا من بين سائر النَّاس لتبدأَنَّ بي قبلهما، فقال: أتجيرين المشركين؟ ! وخرج. قالت: فأتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: "قد أَجَرنا مَنْ أَجَرْتِ وأمَّنَّا مَن أمَّنْتِ" فرجعت إليهما فأخبرتهما فرجعا إلى منازلهما، فقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هما جالسان في ناديهما، فقال: "لا سَبيلَ عليهما قَد أمَّنَّاهُما"، ثم قال الحارث: فاستحييتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أراه وقد قاتلته في كل موطن، ثم أذكر بِرَّه وصِلَته فجئته مسلمًا فقال: "الحمدُ لله الذي هَداكَ للإسلَامِ" (¬2). وقال الواقدي: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وهو على ناقته وعلى رأسه المِغْفَرُ وأبو بكر - رضي الله عنه - إلى جانبه، فرأى بنات سعيد قد نشرن شُعورَهُنَّ وهُنَّ يَلْطمن وجوهَ الخيل بخُمُرِهِنَّ، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لأبي بكر رضوان الله عليه: أنشدني قول حسان فأنشد (¬3): [من الوافر] تظلُّ جيادُنا مُتَمطِّراتٍ ... يُلَطِّمُهُنَّ بالخُمُرِ النَّساءُ واختلفوا إلى من دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 411. (¬2) "الطبقات" 6/ 83 - 84. (¬3) "المغازي" 2/ 831.

أحدها: إلى علي رضوان الله عليه وقد ذكرناه. والثاني: إلى الزبير - رضي الله عنه -. والثالث: إلى قيس بن سعد بن عبادة. قال ابن الكلبي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقيس: "اذهب إلى أبيك فخذ منه الراية" فجاء قيس إلى أبيه فقال: ادفع إليّ الراية فامتنع وقال: لا أسلمها إلَّا بأمارة، فعاد قيس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فدفع إليه عمامته فعرفها سعد فدفع إليه الراية (¬1). قال الكلبي: فأحب رسول الله أن لا يخيب قصد المرأة ولا يشق على سعد فدفع الراية إلى ابنه. وقال الواقدي: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالدًا أن يدخل من الليط أَسفل [مكة وفيها أسلم وسليم] (¬2) وغفار وجهينة ومزينة، وكان خالد على المجنِّبة اليُمنى، والزبير - رضي الله عنه - على اليسرى، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أَذاخِرَ فنزل بأعلى مكّة وضربت له قبة هناك. وكان صفوان بن أمية، وعكرمةُ بن أبي جهل، وسُهيل بن عمرو، وأوباش قريش والعبيدُ قد اجتمعوا بالخَنْدَمَة ليُقاتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان خالد في مقابلتهم فانهزموا، وكان حِماسُ بن قيس بن خالد البكري قَبْلَ مَقْدَمِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَريشُ نَبْلاً له ويُصْلِحُه، فقالت له امرأته: لمن تصنع هذا؟ فقال: لمحمد وأصحابه، فقالت: والله ما أرى شيئًا يقوم لِمُحمدٍ، فقال: والله إني لأرجو أن أُخْدِمَكِ بعض أصحابه، ثم قال: إن يُقبلوا اليوم فمالي عِلّهْ ... هذا سلاح كاملٌ وأَلَّهْ ثم شهد الخندمة، وأقبل منهزمًا حتَّى أتى بيته، فدخل فقالت له زوجته: أين الخادم الذي وعدتني به ما زلت منتظرتك منذ اليوم؟ فقال: دعي عنك هذا، أَغْلقي بابي فمن أغلق بابه فهو آمن، فقالت: ويحك، أَلم أَنْهَكَ عن قتالِ محمدٍ؟ فقال: [من الرجز] إنك لو شهدتِ يوم الخَندمهْ إذ فَرَّ صَفْوان وفَر عِكْرِمهْ وأبو يزيد قائمٌ كالموتَمَهْ ¬

_ (¬1) انظر "المغازي" 2/ 822. (¬2) ما بين معقوفين زيادة لإيضاح النص، انظر "السيرة" 2/ 407، و"تاريخ الطبري" 3/ 57.

واستقبلتهم بالسيوفِ المسلمهْ يَقْطعْنَ كلَّ ساعدٍ وجُمجمهْ ضربًا فلا تَسْمَعُ إلَّا غمغمَهْ (¬1) لهم نَهِيتٌ خلفنا وهَمْهَمَهْ لم تنطقي في اللوم أَدنى كلمهْ (¬2) قال هشام: دَخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، وأُسَيد بن حُضير رضوان الله عليه في كتيبته الخضراء، على ناقته القصواء، وكان نهى عن القتال، فرأى بارقة السيوف فأرسل إلى خالدٍ وقال: أَلم أنْهَكَ عن السيفِ؟ فقال: ما وقع في أُذني إلَّا ضَعِ السيفَ، إنهم قاتلوني فقاتلتهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَمر الله خيرٌ. قال الواقدي: قُتِل من المشركين بالخَنْدَمةِ أَربعةٌ وعشرون من قريش، وأَربعةٌ من هُذَيْل، واستُشهد من المسلمين ثلاثةٌ: كُرْزُ بن جابر بن حُسَيْل أَبو عبد الرحمن الفِهري، وأُمه أسماء بنت مالك فِهريَّةٌ، وهو من الطبقة الثالثةِ من المهاجرين، وهو الذي أَغار على سَرْحِ المدينةِ وأَخذ لقاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة الثانيةِ من الهجرة، ثم منَّ الله عليه بالإسلام في السَّنةِ الثَّانية أيضًا، وشهدَ الحديبيةَ وخيبر (¬3). وعن أبي هريرة قال: أَقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فدخل مكَّةَ، وبعث الزُّبير على إحدى المجنَّبتين، وبعث خالدًا على المجنَّبةِ الأُخرى، وبعثَ أَبا عبيدةَ على الحُسَّرِ، فأَخذوا بطن الوادي، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبةٍ، وقد وبَّشَت قريشٌ أَوباشَها وقالوا: نُقَدِّمُ هؤلاءِ، فإن كان لهم شيءٌ، كُنّا معهم وإن أُصيبوا، أَعطينا الذي سُئِلنا. قال أبو هريرة: ففطن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: "اهتِفْ بالأَنصارِ" فهتفتُ بهم فجاءوا فأَطافوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَلا تَرَوْنَ إِلى أَوْباشِ قُريشٍ وأَتْباعهم"؟ ثم قال ¬

_ (¬1) الغمغمة: أصوات الأبطال في الحرب. (¬2) النهيت: صوت في الصدر. والهمهمة: صوت في الصدر أيضًا. وانظر الخبر في "المغازي" 2/ 827، و"تاريخ الطبري" 3/ 57 - 58، وانظر "السيرة" 2/ 408. (¬3) انظر "الطبقات" 5/ 97 - 98. وعند الواقدي في "المغازي" 2/ 828: أنهما رجلان، والثاني هو: خالد الأشعر، ويقال: حبيش بن خالد الأشعر. انظر "الطبقات" 5/ 197 - 198.

بيدَيْهِ إحداهما على الأخرى "احصُدُوهم حَصدًا حتى تُوافوني بالصَّفا" قال: فانطلقنا فما يشاء أَحد منّا أن يقتل منهم من شاء إلا قتله، وما أَحد منهم يُوجِّه إلينا شيئًا، فجاء أبو سفيان فقال: أُبيدَتْ أَو أُبيحت خَضراءُ قريش، لا قُريشَ بعد اليوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَغلَقَ بابَه فَهو آمِنٌ، ومَن دَخَل دارَ أَبي سُفيانَ فهو آمِنٌ" فغلق النَّاسُ أبوابهم، وأَقبل النَّاس إلى دار أبي سفيان، وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[إلى] الحِجْرِ وطاف بالبيتِ وفي يده قوسٌ قد أَخَذَ بِسِيَتِهِ، فأَتى في طوافه على صنم إلى جانب البيتِ يعبدونه، فجعل يطعن بها في عينه ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] ثم أتى الصفا فعلاه حيثُ ينظر إلى البيت ورفع يديه، وجعل يذكر الله بما شاء أَن يذكره ويدعوه [والأنصار تحته, قال] يقول بعضهم: أَما الرجلُ فقد أدركَتْه رغبةٌ في قرابته، ورأفةٌ بعشيرته، وجاءه الوحي، وكان إذا جاء لم يرفع أَحدٌ منا طَرْفَه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى يقضي. فلما قضى رفع رأسه وقال: "يا معاشرَ الأَنصارِ، أَقُلتُم كَذا وكَذا"؟ فقالوا: نعم، فقال: "كَلاَّ، ما اسمي إذًا، إنِّي عبد الله ورسولُه، هاجرتُ إلى الله وإليكم، فالمَحْيا مَحياكُم، والمَماتُ مماتُكُم"، فأقبلوا يبكون ويقولون: والله ما قُلنا إلَّا ضِنًّا بالله ورسوله، فقال: "إنَّ اللهَ ورَسُولَهُ يُصدِّقانِكُم". انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وعن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح وحولَ الكعبة ثلاث مئةٍ وستون صنمًا، فجعل يطعنُها بعودٍ في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]. أَخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وقال هشام: ما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكَّة إلَّا محرمًا، إلَّا في يوم الفتح فإنَّه دخلها وعليه السلاح. ولما استقر في المسجد طافَ وسعى وجلس في ناحية المسجد. وعن أَبي هريرة قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح مكّةَ وعليه عمامةٌ سوداء ورايتُه سوداء ولواؤه أسود (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1780)، وأحمد في "مسنده" (10948)، وما بين معقوفين منه. (¬2) أخرجه البخاري (2478)، ومسلم (1781). (¬3) أورده الواقدي في المغازي 2/ 824. وأخرج مسلم (1358) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكّة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام.

قال الواقدي: والتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بَعْضِ الأَنصارِ فقال له: كيف قال حسَّان ابن ثابت؟ فأنشده: [من الوافر] عَدِمنا خَيْلَنا إن لم تَرَوْها ... تُثير النَّقْع من طرفي كَداءِ (¬1) وهو إقواء من أبياتٍ أَوَّلُها: عَفَت ذاتُ الأَصابعِ فالجِواءُ ... إِلى عَذْراءَ منزلُها خَلاءُ كأنَّ سلافةً من بيتِ رأسٍ ... يكونُ مِزاجَها عسلٌ وماءُ ونَشربُها فَتَتركُنا ملوكًا ... وأُسْدًا ما يُنَهْنِهُنا اللِّقاءُ عَدِمنا خَيلنا إن لم تَروْها ... تَسيلُ بها كُديٌّ أَو كَداءُ يُنازِعْنَ الأعنَّةَ مُصغياتٍ ... على أكتافها الأَسَلُ الظِّماءُ تظلُّ جيادُنا متمطِّراتٍ ... يُلَطَّمُهُنَّ بالخُمُرِ النساءُ فإِمَّا تُعْرِضُوا عنا اعْتَمرنا ... وكانَ الفَتْحُ وانكشَفَ الغِطاءُ وإلَّا فاصبروا لِجلادِ يَومٍ ... يُعينُ الله فيه مَنْ يشاءُ وجبريلٌ رسولُ الله فينا ... وروحُ القُدْسِ ليس له كِفاءُ لنا في كلِّ يوم من مَعَدٍّ ... قِتال أو سِبابٌ أو هِجاءُ هَجَوْتَ محمَّدًا فأجَبْتُ عنه ... وعِنْدَ الله في ذاكَ الجزاءُ أتذكرُهُ ولستَ له بكُفءٍ ... فشرُّكُما لخيرِكُما الفِداءُ ومَنْ يَهجو رَسولَ اللهِ مِنكم ... ويَمدَحُهُ ويَنصُرُه سَواءُ فإنَّ أبي ووالدتي وعِرْضي ... لِعرضِ محمد منكم فِداءُ وعن أبيّ بن كعب قال: لما كانَ يومُ أُحُدٍ قُتِل من الأَنْصار ستّون رجلًا وستّةٌ من المهاجرين، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كان لنا يومٌ مثلُ هذا من المشركين لنُرْبيَنَّ عليهم، فلما كان يوم الفتح قال رجل لا يُعْرَفُ: لا قُريشَ بعد اليوم، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمِنَ الأسودُ والأبيضُ إلَّا فلانًا وفلانًا، ناسٌ سمّاهم رسول الله ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 825. ورواية "السيرة" 2/ 422: عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداءُ وعليه فلا إقواء.

ذكر حديث أخذ المفتاح

- صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَصبِرُ ولا نُعاقِبُ" (¬1). وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدّثنا يحيى، عن حسين المعلِّم، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لما فُتِحت مكَّةُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُفُّوا السِّلاحَ، إلَّا خُرْاعةَ عن بَني بَكْرٍ" فأذِنَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك حتى صلى العصر، ثم قال: "كُفُّوا السِّلاح" فلقي رجل من خزاعة رجلًا من بني بكر عِنْدَ المُزْدَلِفة فقتله، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقام خطيبًا مُسْنِدًا ظهرَهُ إلى الكعبة فقال: "إنَّ أَعدَى النَّاسِ على الله مَن قَتَل في الحَرَمِ، أو قَتَلَ غَيرَ قاتِلِه، أو قَتَلَ بذُحُولِ الجاهليَّةِ" (¬2). وقال الحارث بن البرصاء: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم الفتح: "لا تُغزى قريش بعد هذا اليومِ إلى يوم القيامة" يعني على: كفر (¬3). ذكر حديث أَخْذِ المفتاح: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: لما دخلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفَتْحِ إلى مكّة بعث إلى أم عُثمان بن طلحة أَنِ: "ابعثِي إلينا مِفتاحَ البَيتِ" قالت: لا واللات والعزى لا أبعث به إليه، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَبعث إليها من يأخذه منها قَهْرًا، فقال ابنها عثمانُ: يا رسول الله، إنَّها حديثة عهد بكفر فابعثني إليها، فقال له: "اذهب" فجاءها فقال: يا أماه، قد حدث أمر غير الذي كان، فإن لم تَدْفعي المِفتاحَ قُتِلْتُ أنا وأخي، فدفعته إليه، فجاء به مسرعًا، فلما دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثر فَوقَع المفتاحُ من يده، فقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فحنا عليه وفتح الباب ودخل، فَقام عند أركان البيت وأرجائِه يدعو، ثم صلى ركعتين بين الأسطوانتين ثم خرج، فقام على الباب، فتطاول إليه العباس رجاء أن يجمع له بين السقاية والحِجابة، فقال: "يا عُثمانُ، خذ ما أعطاكم الله، خذوها خالدةً ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (21229). قوله: "لنربين" أي: لنزيدن على ما قتلوا منا. (¬2) أحمد في "مسنده" (6681). والذَّحْل: الثأر. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15404).

تالدةً لا يَنْزِعُها عنكم إلا ظالم" (¬1). وفي "زاد المسير": عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلب مفتاحَ البيت يوم الفتح من عُثمان بن طلحة، فذهب عثمان ليعطيه إياه فقال له العباس: بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية، فكفَّ عثمانُ يده مخافة أن يُعْطِيَهُ للعباس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عُثمانُ، هاتِ المفتاحَ" فأعاد العباس قوله، وكف عثمانُ يدَه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هاتِ المفتاحَ إنْ كُنتَ تُؤمنُ بالله واليومِ الآخِرِ" فقال: هاكه يا رسول الله بأمانة الله، ففتح البيت ودخل فنزل جبريل بهذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬2) [النساء: 58]. قال العلماء: هذه الآية وإن نزلت على سبب فهي عامة في الودائع وغيرها من الأمانات. وقال الواقدي: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالًا أن يمضي إلى عُثمان بن طلحة ويأتيه بالمفتاح، فجاء بلال إليه وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة -[ومفتاح الكعبة] يومئذ عند أمه وهي بنت شُهَيْد - فقال لها عُثمان: يا أماه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل يطلب المفتاح، فقالت له: أعيذك بالله أن تكون الذي يذهب بمأثُرةِ قومِه، فقال: لتدفعنَّه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك، فأدخلته في حُجْزَتها وقالت: أي رجل يدخل يده ها هنا؟ ، فبينما هما على ذلك إذ سمع صوت أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما في الدار وعمر يقول: أخرج يا عُثمان، فقالت أمه: يا بنيَّ خُذْهُ أنت أحب إلي من أن يأخذه غيرك، فأتى به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فناوله إياه ... وذكر الحديث (¬3). قال الواقدي: وقد سمعت في المفتاح وجهًا آخر عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يوم الفتح على بعير لأسامة بن زيد، وأسامة رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (38055)، وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (9073) من حديث الزهري بنحوه. وأخرج الطبراني (11234) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم" وانظر "السيرة الشامية" 5/ 357. (¬2) "زاد المسير" 2/ 114. (¬3) "المغازي" 2/ 833، والحُجْزَةُ: مَعقدُ السراويل والإزار. اللسان (حجز).

بلال وعثمان بن طلحة، فلما بلغا رأس الثنية أرسل عثمان فجاءه بالمفتاح فاستقبله به، قالوا: وكان عثمان قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص مسلمًا قبل الفتح، فخرج معنا من المدينة (¬1). وقال الواقدي: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبض السقاية من العباس وقبض المفتاح من عثمان، فلما جلس قال: "ادعوا إليَّ عثمان" فدعي له عثمان بن طلحة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] قد قال لعثمان بن طلحة يومًا بمكة وهو يدعوه إلى الإسلام والمفتاح بيد عُثمان: "لعلَّكَ يا عثمانُ ترى هذا المفتاح بيَدِي أَضَعه حيثُ شِئتُ"، فقال له عثمان: لقد هَلكَت قُريشٌ وذلَّت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَل عَمَرَتْ وعَزَّت". فلما دفع إليه المفتاح وولى ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "يا عُثمان، أَتَذكُر يَومَ كَذا وكَذا؟ " فذكر عثمان فقال: أشهد أنك رسول الله (¬2). وعن ابن عباس قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه ثم قال: "أَيُّها النَّاسُ، إنَّكم مِن آدَمَ وآدَمُ من التَّرابِ" ثم قرأ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] ثم قال: "يا مَعاشِرَ قُريشٍ، ماذا تَرونَ أنِّي فاعِلٌ بِكُم؟ " قالوا: خيرًا، قال: "اذهَبُوا فَأَنتُمُ الطُّلَقاءُ". فأعتقهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان الله أمكَنَهُ من رِقابهم وكانوا قباله، فلذلك يسمون الطلقاء (¬3). ثم قال: "ألا كل دَيْن ودَمٍ ودَعْوى ومأَثُرةٍ كان في الجاهلية فهو تحت قدمي، وأول ما أضَعُ دمَ ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب" (¬4) وذكر بمعنى ما ذكر الواقدي ثم قال: "يا معاشر قريش قد أذهب الله عنكم نَخْوَةَ الجاهلية". وابن ربيعة بن الحارث اسمه آدم، وقيل: إياس، وقيل: تَمَّام، كان مسترضعًا في بني سعد أصابه حجر فقتله. قال ابن عباس: إنما خطب بعد الظهر، وفي رواية: خطب في اليوم الثاني. ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 833 - 834. (¬2) "المغازي" 2/ 837 - 838، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬3) انظر "المسيرة" 2/ 412، و"تاريخ الطبري" 3/ 61. (¬4) هذا الحديث إنما هو في حجة الوداع لا في الفتح كما أخرجه مسلم (1218).

صعود بلال على ظهر الكعبة

قال عكرمة: حدثني ابن عباس قال: وقف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالحَزْوَرةِ وقال: "واللهِ إنَّكِ لَمِنْ أَحَبِّ أَرْضِها إليَّ، وإنَّكِ لخيرُ البلادِ أو لَخيرُ أَرضِ اللهِ، ولَولا أنَّ قَومَكِ أَخرَجُوني مِنْكِ لَما خَرَجتُ" (¬1). "وإنَّما أُحِلَّت لي ساعةً مِن نَهارٍ، وقَد عادَت كحُرْمتِها بالأمسِ" (¬2). وعن أبي هريرة قال: لما فتح الله على رسوله مكة قام فيهم فحَمِد الله وأثنى عليه ثم قال: "إنَّ اللهَ حَبَسَ عن مكَّةَ الفيلَ، وسَلَّطَ عليها رسُولَه والمؤمنِينَ، وإنَّما أُحِلَّت لي ساعةً مِن نهارٍ"، ثم قال: "هي حَرامٌ إلى يَومِ القِيامَةِ لا يُعْضَدُ شَجَرُها، ولا يُنَفَّر صَيدُها، ولا تَحلُّ لُقَطَتُها، ومَن قُتِلَ له قتيلٌ فهو بخير النظرين: إمَّا أن يفدى، وإمَّا أن يَقْتُلَ". فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه، فقال: يا رسول الله، اكتبوا لي. فقال: "اكتبُوا لأَبي شاهٍ". قيل: للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي؟ ما يكتبون له؟ قال: خطبته التي سمعها. متفق عليه (¬3). صعود بلال على ظهر الكعبة: فأذَّنَ وصعد وقريش في رؤوس الجبال، منهم الخائف ومنهم من يطلبُ الأمان، فلما قال: "الله أكبر" تزعزت بيوتُ مكّة، فلما قال: "أشهد أن لا إله إلَّا الله" خرَّت الأصنام سجَّدًا، فلما قال: "وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله" تقول جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حيث لم يسمع نهيق عَبْدِ بني جُمَح على ظهر الكعبة، قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاةُ فنصلي، ولكن والله ما نحب من قتل الأحبة أبدًا. وقال خالد بن سعيد بن العاص: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم ير هذا اليوم ولم يسمع هذا الصوت. وقال الحارث بن هشام: واثكل أُماه ليتني مِتُّ قَبل اليوم. وقال الحكم بن مروان: هذا والله الحدث العظيم، أن يصيح عبد بني جمح ينهق على بنيَّة أبي طلحة. وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطًا من الله فسيُغيّره، وإن كان لله فيه رضى ¬

_ (¬1) لم نقف عليه من حديث ابن عباس، وأخرجه أحمد في "مسنده" (18715) من حديث عبد الله بن عدي الزهري - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (104)، ومسلم (1354) من حديث أبي شريح العدوي - رضي الله عنه -. (¬3) البخاري (2434)، ومسلم (1355).

ذكر النفر الذين أباح رسول الله دماءهم

فسيقره. وقال أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئًا، لو قلت شيئًا لأخبرته هذه الحصاة، وجاء رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الوحيُ بما قالوا، فجاء إليهم ووقف عليهم وقال: أنتَ قلت كذا وأنت قلت كذا، فقال أبو سفيان: وأنا قلتُ شيئًا؟ فقال: لا، وضحك (¬1). وقالت أم هانئ: ذهبتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فوجدته يغتسل وابنته فاطمة تستره بثوب، فسلَّمتُ عليه، فقال: "مَن هذِه؟ " فقلت: أنا أم هاني بنت أبي طالب. فقال: "مَرحَبًا يا أُمَّ هانئ". فلما فرغ من غُسْلهِ قام فصلى ثماني ركعات مُلتحفًا في ثوب واحد، فلما انصرف من صلاتِه قلتُ: يا رسول الله، زعم ابنُ أبي أنه قاتلٌ رجلًا قد أجرتُه، فلانُ بن هبيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أَجَرْنا مَن أَجَرْتِ يا أُمَّ هانئ". وكان ذلك ضُحىً. أخرجاه في "الصحيحين" ولمسلم بمعناه (¬2). وعنها قالت: لما فتح الله على رسولِه مكَّة فرَّ إليَّ رجلان من أحمائي من بني مخزوم، فأجَرْتُهما وأدخلتُهما بيتي، فجاء أخي فقال: لأقتلنهما، فقلت: إني قد أجرتُهما، وأَغلقتُ عليهما بابي، ثم جئت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكَّة فوجدته يغتسل من جَفْنَةٍ فيها من أَثر العَجين، وابنته فاطمة تسترُه بثوبٍ، فلما فرغ من غُسْلِه أخذ ثوبه فتوشحه، ثم ركع ثماني ركعات من الضحى، ثم أقبل عليّ وقال: "مَرحَبًا وأَهلًا يا أُمَّ هانئ، ما جاءَ بكِ؟ " فأخبرته الخبر فقال: "لَيسَ بقاتِلِهما" (¬3). ذِكْرُ النفرِ الذين أَباح رسول الله دِماءَهم: وهم أَنس بن زُنَيمٍ بن عمرو بن عبد الله من كنانة، وهو أخو ساريةَ بنِ زُنَيمٍ صاحب وقعة نهاوَنْد، والحارثُ بنُ نُقَيد، وصفوان بن أُمية، وعبدُ الله بن خَطَل، وعبد الله بنُ سعد بن أبي سَرْح، وعكرمةُ بن أبي جهل، ومِقْيَسُ بن صبابةَ، ووحشي قاتل حمزة، وهَبّار بن الأَسود. ومن النساءِ: سارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب، وفَرْتنى، وقُرَيبَةُ، وهند ¬

_ (¬1) انظر "المغازي" 2/ 846. (¬2) أخرجه البخاري (357)، ومسلم (336). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 12/ 452، وأحمد في "مسنده" (26892).

بنت عتبة امرأة أَبي سفيان بن حرب. فأما أنس بن زنيم فكان قد نقل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قد هجاه، فقال يعتذر (¬1): [من الطَّويل] أَنتَ الذي تُهدى مَعَدٌّ بأمرِهِ ... بلِ الله يَهديها وقال لَكَ اشهَدِ فما حَمَلَت مِن ناقَةٍ فَوقَ رَحْلِها ... أبرَّ وأَوفَى ذِمَّةً مِن مُحمَّدِ أَحثَّ على خيرٍ وأوسعَ نائلًا ... إِذا راحَ يهتزُّ اهتزازَ المهنَّدِ وأكسى لبُرْدِ الخالِ قبل احْتِذائِهِ ... وأعطى لرأسِ السابِح المتجَرِّدِ تعلم رسولَ الله أنَّكَ مُدْرِكي ... وأنَّ وعيدًا مِنْكَ كالأَخْذِ باليدِ تعلَّمْ رسولَ اللهِ أنكَ قادِرٌ ... على كلِّ سكن من تِهامٍ ومُنْجِدِ ونُبِّي رسولُ الله أَني هَجْوْتُه ... فلا رفَعَتْ سَوْطي إليَّ إذًا يدي سوى أنني قد قلتُ يا ويحَ فِتْيةٍ ... أُصيبوا بنحسٍ يَومَ طَلْقٍ وأَسْعُدِ ذُؤَيبًا وكُلثومًا وسَلمى تَبايَعُوا ... جميعًا فإِلَّا تَدمعِ العينُ أكْمَدِ على أن سَلْمى ليس فيهم كمِثْلهِ ... وإخوته أَوْ هَلْ ملوكٌ كأَعْبُدِ فإنِّيَ لا عِرضًا خَرَقْتُ ولا دَمًا ... هرقت، ففكّر عالم الحق واقْصُدِ وتعلم أن الركبَ ركبُ عُوَيْمرٍ ... هُمُ الكاذِبُونَ المُخْلِفُو كلَّ مَوْعِدِ يشير إلى خزاعة وما نَقلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه، عَنَى ذؤيبًا وكُلثومًا وسَلمى وكانوا من سادات العرب يُدَوْنَ بدِيَتَيْنِ لفضلهم في بني بكر، وهم: بنو الأسود بن رَزْن مروا على خزاعة فقتلوهم عند أنصاب الحرم، فكانوا سببًا لإعانةِ قريشٍ على خُزاعةَ (¬2). لما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله إن أنس (¬3) بنَ زُنَيْم الدِّيلي هجاك، فأهدر دمه، فلما قال هذه الأبيات كلَّمه فيه نوفل بن معاوية الدَّيلي سيِّدُ بكر، وقال: يا رسول الله كذبتْ عليه خزاعةُ، وأطنب فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد عفوت عنه". ¬

_ (¬1) السيرة 2/ 424، والمغازي 2/ 789، والطبقات 6/ 151 - 152. (¬2) انظر "السيرة" 2/ 424، وطبقات ابن سعد 6/ 151. (¬3) في النسخ: أنيس، والمثبت من السيرة 2/ 424.

وقال بُدَيْل بن أَصْرَم يرد على أنس (¬1): [من الطَّويل] بكى أنسٌ رَزْنَاً فأعوزه البُكا ... وأشفق لَمَّا أوقَد الحربَ مُوقِدُ ويبكي على سلمى وكلثومَ بعدَه ... سقاهم بكأس الموت قيسٌ ومَعْبَدُ * * * وأمَّا الحارث بن نقيد (¬2) بن وهب بن عبد بن قصي بن كلاب، ويقال له: الحويرث، كان شديدًا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يهجوه ويهجو أصحابه ويؤذيه، فلقيه علي - رضي الله عنه - يوم الفتح فقتله كافرًا (¬3). وكان له ولد اسمه جبير بن الحارث من التابعين، قال الواقدي: أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرو عنه شيئًا. وقال ابن عبد البر: في صحبته نَظَر (¬4). وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، روى عن أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما وغيرهما، وروى عنه عروة بن الزبير وابن المسيب وغيرهما، شهد اليرموك، فسمع صائحًا يصيح: يا خيل الله اركبي، يا معاشر المسلمين هذا يوم من أيام الله تعالى قاتلوا فيه بلا حياء. قال: فتأملتُه فإذا به أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد. * * * وأمَّا صفوان بن أمية فهرب يوم الفتح حتى أتى الشُّعَيْبَةَ ومعه غلامه يَسار فقال له: ويحك انظر من تَرى، فنظر فقال: هذا عمير بن وهب، فقال صفوان: ما أصنع بعمير، والله ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمدًا فلحقه، فقال: يا عمير ما كفاك ما صنعت ¬

_ (¬1) لم نقف على هذين البيتين بهذه الرواية في المصادر، ورواية "السيرة" 2/ 425: بكى أنس رزنًا فأعوله البكا ... فألَّا عديًا إذ تُطَلُّ وتُبعَدُ بكيتَ أبا عبس لقرب دمائها ... فتُعذِرَ إذ لا يوقد الحرب مُوقد أصابهم يوم الخنادم فتية ... كرامٌ فَسَل منهم نفيل ومعبد هنالك إن تسفح دموعك لا تلم ... عليهم وإن لم تدمع العين فاكمدوا (¬2) في النسخ: "معبد" والمثبت من "الطبقات" 7/ 5 في ترجمة ابنه جبير. (¬3) انظر "المغازي" 2/ 857، و"أنساب الأشراف" 1/ 431. (¬4) "الاستيعاب" بهامش الإصابة 1/ 232.

بي؛ حمَّلْتني دَيْنَكَ وعيالَكَ وجئت تريدُ قتلي، فقال: أبا وهب، جُعِلْتُ فِداكَ جئتك من عندِ أَبرِّ النَّاس وأوصلِ الناس وقد أَمَّنَك، فقال: والله لا أرجع معك حتَّى تأتيني بعلامةٍ أَعْرِفُها، فرجع وقال: يا رسول الله قال كذا وكذا، فقال: "خذ عِمامتي" وهي البُرْدَةُ التي دخل بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح مُعْتَجِرًا بها، فعاد بها إليه فجاء معه فوافى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّي العصرَ، فوقف حتَّى سلَّم وناداه: يا محمد إن هذا جاء ببردك وزعم أنك أَمَّنْتَني فقال: "نعم أَبا وهب"، فأقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حاله حتَّى خرج معه إلى هَوازن وهو كافِرٌ. وأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعير سلاحًا، فقال: أطَوْعًا أو كُرْهًا؟ قال: "بل عارِيَّة مؤداة" فأعاره مئة دِرْعٍ وسلاحًا وحمله إلى حنين وشهد حنَيْنًا والطائِفَ وهو على شركه، ثم رجع إلى الجِعْرانة، فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في الغنائم ينظر إليها وصفوان معه، فجعل ينظر إلى شِعْبٍ مُلئ نَعَمًا وشاءً ورِعاءً، فأدام النظر إليه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمُقه فقال: "أبا وَهبٍ، يُعجبُكَ هذا الشِّعْبُ؟ " قال: نعم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ لَكَ وما فِيهِ"، فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفسُ أحدٍ بمثل هذا إلا نفسُ نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأسلم مكانه (¬1). وكانت تحته فاختةُ بنت الوليد بن المغيرة، فأسلمت قبله ففرَّقَ الإسلامُ بينهما، فلما أسلم رُدَّت عليه بالنِّكاح الأول (¬2)، وقيل: بنكاحٍ جديد. وأمَّا عبدُ الله بنُ خَطَل فقال أنس: دخل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح مكَّة وعلى رأسه المِغْفَرُ، فلما نزعه جاءه جبريل فقال: ابن خَطَل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقْتُلُوه" فقتلوه (¬3). قال أبو بَرْزَةَ الأسلمي: أخرجتُه من بين أَستار الكعبةِ فضربت عنقه بين الركن والمقام، وهربت قَيْنتاه، فقُتِلَت إحداهما وعاشت الأخرى إلى زمن عثمان رضوان الله ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 853، و"الطبقات" 6/ 111 - 112، و"أنساب الأشراف" 1/ 435، و"المنتظم" 5/ 332، و"تاريخ دمشق" 24/ 112، و"السيرة الشامية" 5/ 379 - 380. (¬2) "الطبقات" 6/ 111. (¬3) أخرجه البخاري (1846)، ومسلم (1357).

عليه، فكُسِرَ ضِلَعٌ من أضلاعها فماتت فقضى عثمان فيها بثمانية آلاف درهم، الستة آلاف دِيَتُها وألفين تعظيمًا لأَمْرِ الجنايةِ في الحرم (¬1). * * * وأمَّا عبد الله بن سعد بن أبي سرح فأمه مُهانةُ بنت جابر من الأشعريين، قدمت على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمة، فأحسن إليها ووصلها، فعادت إلى مكة مرتدة تهجوه وتهجو المسلمين، فصادفها علي رضوان الله عليه يوم الفتح فقتلها (¬2). وعبد الله أخو عثمان رضوان الله عليه من الرَّضاعة، فلما كان يومُ الفتح جاء إليه وقال: أنت أخي من الرضاعة فكلِّمْ محمدًا فِيَّ، فإنَّه إن رآني قتلني، فإن ذنبي أعظم الذنوب. فلم يُرَعْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا وعثمانُ - رضي الله عنه - آخذٌ بيد عبد الله فقال: يا رسولَ الله، أخي من الرَّضاعة، فأعرض عنه، فردَّد عليه الكلام وأكبَّ عليه يقبِّلُ رأسَه ويقول: فداك أبي وأمي، قال: "نعم" وكان رجلٌ من الأنصار نذر أن يقتله وكان حاضِرًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هلَّا وَفَّيتَ بنَذرِكَ" فقال: انتظرتك أن تومئ إليَّ، فقال: "الإيماءُ خيانةٌ، ما كانَ لنبيًّ أَنْ يُومئَ" (¬3). * * * وأما عكرمة بن أبي جهل فإنه هرب يوم الفتح، فاستأمنت له زوجته رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأمَّنَه، فخرجت في طلبه، وكان قد ركب البحر فهبَّ بهم فجعل النَّواتي يَدْعون الله ويُوَحِّدونَه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى، فقال: هذا إله محمد الذي يدعو إليه فأرجعوني، فرجع ثم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوقف بين يديه ومعه امرأته فقال: إلامَ تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلَّا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصَّلاة وتؤتي الزكاة ... وعدَّ له خصال الإسلام. فقال عكرمة: والله ما دعوتَ إلَّا إلى ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 859 - 860. (¬2) لم نقف في مصدر من المصادر أن عليًا قتل مهانة ولا أنها قتلت ولا أسلمت، وإنما ذكر البلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 432 - 433 أن الذي قتلها علي يوم الفتح هي سارة صاحبة كتاب حاطب، وذكر صاحب "السيرة الشامية" 5/ 341 أنها أسلمت وعاشت إلى خلافة عمر بن الخطاب. والله أعلم. (¬3) "المغازي" 2/ 855 - 856، و"الطبقات" 6/ 130 - 131.

الحق. ثم أسلم، وردَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأته بالنكاح الأَول (¬1). وأما مِقْيسُ بن صبابة فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدر دمه، فلما كان يومُ الفتحِ شرب الخمرَ وأصبح مصطبحًا في ندامى له، فعلم بمكانه نُميلةُ بنُ عبد الله فأتاه فوجده يترنم: [من الوافر] دَعيني أَصطَبِح بَكْرًا فَإنِّي ... رَأيتُ الموتَ نقَّبَ عن هشامِ ونَقَّب عن أَبيك أبي يزيدٍ ... أَخي القَيْناتِ والشَّرْبِ الكِرامِ بهم أَرسَت رَواسِيَ من ثَبيرٍ ... ومن ثَوْرٍ ولم يُصْمم صَمامِ تُغنيني الحمامُ كأنَّ رَهْطي ... خُزاعةُ أو أناسٌ من جُذامِ قال: فبادره نُميلةُ فضربه بالسيف حتى برد. ويقال: إنه خرج وهو يتمثل بين الصفا والمروة، فرآه المسلمون فقتلوه (¬2). * * * وأما وحشي فهرب إلى الطائف، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُسْلِمًا (¬3). * * * وأما هبَّار بن الأسود فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدر دمه فهرب يوم الفتح. قال جبير بن مطعم: كنت جالسًا معَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجده بالمدينة منصرفه من الجِعِرَّانةِ فطلعَ هبَّارُ بن الأسود، فنظر إليه القوم وقالوا: هذا هبَّارٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَد رَأَيتُه"، وأراد بعض القوم أن يقوم إليه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجْلِس" فوقف عليه هبار وقال: السلام عليك يا رسول الله، وذكر الشهادتين، ثم قال: لقد هربت منك في البلاد وأردت اللحاق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وفضلك وبرك وصفحك، واعتذر طويلًا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد عَفوتُ عنك، وقد أحسنَ الله إليكَ إذ هَداكَ للإسلامِ، والإسلامُ يَجُبُّ ما قَبلهُ". وخرجت سلمى مولاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: لا أنعم ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 851 - 852، و"الطبقات" 6/ 85 - 86. (¬2) "المغازي" 2/ 860 - 861. وفيه أنه خرج وهو ثمل فيما بين الصفا والمروة. (¬3) "المغازي" 2/ 862 - 863.

الله بك عينًا، أنت الذي فعلت وفعلت، فقال: "إنَّ الإسلامَ مَحا ذلكَ" (¬1) ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبَّه وقال له: "سُبَّ من سَبَّكَ" (¬2). * * * وأما هند بنت عتبة فأسلمت. ولما قتل النفر الذين عيَّنَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سُمع النوح عليهم بمكة، وجاءه أبو سفيان بن حرب فقال: فداك أبي وأمي، البقيةَ على قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتل قرشي بعد اليوم صبرًا" يعني: على كفر (¬3). * * * وطُلبَ عبدُ الله بنُ الزَّبَعْرى فهرب إلى نجران، فحصنوا حصنهم، وأرسل حسانُ بن ثابت إلى ابن الزَّبَعْرى بأبيات منها: [من الكامل] لا تَعدَمَنْ رَجُلًا أحلَّكَ بُغْضُه ... نَجرانَ في عيشٍ أحَذَّ لئيمِ بَلِيَتْ قَناتُكَ في الحروبِ فأُلفِيَتْ ... خَمّانةً جوفاء ذاتَ وُصومِ غَضَبُ الإلهِ على الزَّبَعْرى وابنه ... وعذابُ سُوءٍ في الحياة مقيمِ فلما وقف على الأبيات تهيَّأ للخروج، فقال له هبيرة: أين تريد؟ قال: محمدًا، قال: تتبعه؟ قال: نعم، قال: يا ليت أني رافقتُ غيرك، والله ما ظننت أنك تتبع محمدًا أبدًا، قال: على أَيّ شيء أُقيمُ عِنْدَ الحارثِ بن كعب وأدع ابن عمي خير النَّاس وقومي وداري، وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والحمد لله الذي هداني للإسلام، لقد عاديتك وأَجْلَبْتُ عليك، وركبت الفرس والبعير، ومشيت على قدمي في عداوتك، ثم هربت منك إلى نجران ... واعتذر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحمدُ للهِ الذي هَداكَ إلى الإسلامِ، والإسلام يَجُبُّ ما قَبْلَهُ" (¬4). ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 857 - 858، و"الطبقات" 6/ 60. (¬2) "المغازي" 2/ 859، و"الطبقات" 6/ 62. (¬3) "المغازي" 2/ 862، والحديث أخرجه مسلم (1782) من حديث مطيع بن الأسود. (¬4) "المغازي" 2/ 847 - 848، و"الطبقات" 6/ 108 - 109.

ذكر مبايعة النساء

وقال لما أسلم (¬1): [من الكامل] منعَ الرُّقادَ بلابلٌ وهمومُ ... والليلُ معتلجُ الرواقِ بَهيمُ مِمّا أَتاني أَنَّ أَحمدَ لامَني ... فيه، فبتُّ كأَنَّني محمومُ يا خَيْرَ مَنْ حملتْ على أَوصالِها ... عيرانةٌ سُرُحُ اليدين غَشُومُ إِنِّي لمعتَذِرٌ إليك منَ الذي ... أَسْدَيْتُ إِذْ أَنا في الضلالِ أَهيمُ أَيام تأمرني بأسوأ خُطَّةٍ ... سَهْمٌ وتأمرني بها مخزومُ وأما هُبيرة فأقام بنجران ومات بها كافرًا. وأسلمت أم هانئ فكتب إليها لَمّا بلغه إسلامُها في أبيات (¬2): فإن كنتِ قد تابعتِ دينَ محمَّدٍ ... وقطَعَتِ الأَرحامَ مِنك حِبالُها فكوني على أعلى سحوق بهضبةٍ ... مُلَمْلَمةٍ حَمراءَ يَبْسٍ بلالُها * * * وأما سهيل بن عمرو فقال: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة أغْلَقْتُ بابي، وأرسلت إلى ابني عبد الله أن يطلب لي جوارًا من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فإني لا آمن القتل، وجعلتُ أتذكَّرُ آثاري وما فعلتُ يوم الحُدَيْبِيَةِ، وقتال رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ مَوْطنٍ، وطلب لي عبد الله أمانًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هو آمن" وقال لمن حوله: "من لقي منكم سُهَيْلًا فلا يُحِدَّ النظر إليه، فإن له عَقْلًا وشَرفًا وَلْيَخْرُجْ من بيته آمنًا"، فأخبره ابنه بمقالةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سهيل: كان والله بَرًّا صغيرًا وكبيرًا. وكان سهيل يُقْبِلُ ويُدْبِرُ ولا ينظر إليه أحد، وخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين وهو كافر فأسلم بالجِعِرَّانة (¬3). ذِكْرُ مُبايعةِ النِّساء: قال أبو حبيبة مولى الزبير: لما كان يوم الفتح أسلمت هند بنت عتبة، وأم حكيم ¬

_ (¬1) الأبيات في "السيرة" 2/ 419. (¬2) الخبر في "السيرة" 2/ 420 - 421، و"المغازي"، 2/ 848 - 849. (¬3) "المغازي" 2/ 846 - 847، و"الطبقات" 6/ 123.

بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وكلثوم بنت المعدل كنانية امرأة صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، ونسوةٌ من قريش، فأتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالأَبْطح وعنده زوجتاه وابنته فاطمة ونساء من بني عبد المطلب فبايعنه، فقالت هند: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتمسني رَحِمُك يا محمد، فإني امرأة مؤمنةٌ بالله، ثم كشفت عن نقابها وقالت: هند بنت عتبة، فقال لها: "مَرحبًا بكِ" فقالت: والله يا رسول الله، ما كان على الأرض من أهل خِباء أَحبُّ إلي من أن يَذِلّوا من خِبائك، ولقد أصبحتُ وما على الأرض من أهل خِباء أحبُّ إِليَّ من أن يَعِزُّوا من أهل خبائك. فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأ عليهن القرآن وبايعهن، فقالت هند: يا رسول الله ألا نصافحك؟ فقال: "إنَّي لا أُصافِحُ النِّساءَ" (¬1). وقال الهيثم: جاءت هند متنكرة في النساء إلى الصفا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس عنده، وعمر بن الخطاب رضوان الله عليه قائم على رأسه وبيده السيف صَلْتًا، فبايعه النَّاس وهند قد أرسلت خِمارَها على وجهها خوفًا من القَتْلِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبايعكُنَّ على أَن لا تُشرِكنَ باللهِ شَيئًا". قلْنَ: نَعم. قال: "ولا تَزْنين". فقالت هند: وهل تزني الحرَّة. فقال: "ولا تَسْرِقنَ ولا تَقْتُلنَ أَولادَكُنْ". فقالت: أما الأولاد فإنا ربَّيْناهم صغارًا وقتلتموهم كِبارًا، وأمَّا السَّرقة فقد كنت أصبت من مال أبي سفيان ولا أَدري أيحلُّ لي ذلك أم لا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنَّكِ لهِنْدٌ؟ "، قالت: نعم. فقال: "مَرحبًا وأَهْلًا". وكان أبو سفيان حاضِرًا فقال: أما ما مضى فأنت منه في حِلًّ، ومنَ الآن فلا. فقالت: يا رسول الله اعف عني. فقال: "عَفا الله عنكِ" (¬2). وهذا بمكة، وأمَّا في المدينة فقد بايعه معظم نساء الأنصار. ولما أسلمت هند كَسَرَت كلَّ صنم كان في بيتها وقالت: لقد كنا منهم في غرور، وأهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جدْيَيَنِ مَرْضُوفَيْن وسقاء من لبن، فأتت الجارية خيمته فاستأذنت، فأذن لها فدخلت وسلمت وقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية وهي معتذرة إليك، وتقول: إن غنمنا اليوم قليلة. ¬

_ (¬1) "الطبقات" 10/ 224 - 225. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 61 - 62.

ذكر إسلام أبي قحافة

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بارَكَ اللهُ لكُم في غَنَمِكُم وأَكثَر أَولادَها". فرجعت الجارية إليها فأخبرتها فَسُرَّت بذلك (¬1). ذكر إسلام أبي قُحَافة: قالت أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ - رضي الله عنها -: لما كان عامُ الفتح ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي طوى، قال أبو قحافة لابنة له صغيرةٍ أصغر ولده: يا بُنيَّةُ أشرفي بي على أبي قُبَيْسٍ، وكان قد كُفَّ بَصرُه، فأشرفت به عليه فقال: ماذا ترَيْن؟ فقالت: أرى سوادًا مُجْتمعًا وأرى رجلًا يَشْتَدُّ بين ذلك السواد، فقال: تلك الخيل، أسرعي بي إلى منزلي، فخرجت به سريعًا حتى هبطت الأَبْطح، فلقيتها الخيل وفي عنقها طوق من وَرِق فاقتطعه إنسان من عُنِقها، فلما دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد خرج أبو بكر رِضوانُ الله عليه فجاء بأبيه يقودُه، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وهلّا تركتَ الشيخَ في بيته حتَّى كنتُ أَجيئُه"، فقال: يا رسول الله، هو أحق أن يمشيَ إليك، فأجلسه بين يديه ثم مسح على صدره وقال: "أَسلِمْ تَسْلَم" فأسلم، ثم قام أبو بكر رضوان الله عليه فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والإسلامَ رجلًا رَأى طوق أختي فردَّه، قالها مرارًا، فما أجابه أحد فقال: يا أُخَيَّةُ احتسبي طوقكِ، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقَليل (¬2). * * * وجاء أبو أحمد الأعمى بن جحش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني لما هاجرتُ إلى الله ورسوله باع أبو سفيان داري بأربع مئة دينار وأُريدُ ثمنَها، فكان أبو سفيان حاضرًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا تَرضى بها دارًا في الجنَّةِ؟ " قال: بلى (¬3). ذكر إسلام عُتْبةَ ومُعتِّب ابني أَبي لهب: وأمهما أم جَميل بنت حَرْب، حَمَّالة الحطب، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح للعباس ¬

_ (¬1) "المغازي" 2/ 868 - 869. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (26956) دون قوله: فوالله إن الأمانة في النَّاس اليوم لقليل. (¬3) "الطبقات" 4/ 96.

ذكر ما استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المال

- رضي الله عنه -: "أينَ ابنا أَخيكَ عُتْبةُ ومُعتِّبٌ"؟ فقال: حاضران، فجاء بهما فَسُرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهما، وخرجا معه من فوره وشهدا حنينًا وثبتا، وأصيبت عين مُعتِّبٍ يوم حنين، وأقاما بمكة بعد الفتح، ولم يقم بها أحد من بني هاشم سواهما (¬1). ولما دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة قيل له: ألا تنزلُ بَعْضَ بيوتك؟ فقال: "وهل ترك لي عَقيلٌ من منزل" (¬2). وكان عَقيلٌ قد باع منزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنازل بني هاشم، فضربت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُبَّةٌ بالحَجون، فكان يمشي من الحَجونِ إلى المسجد وقتَ كل صلاة. وقال ابن عباس: كان لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - صديقٌ من ثقيف أو دوس، فلقيه يوم الفتح براويةٍ من خمر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَما عَلِمتَ أنَّ اللهَ حَرَّمَها"؟ فسارَّ غلامه بشيء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما الذي قُلْتَ له؟ " قال: قلت له: اذهب بها إلى الزورة فبعها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الذي حَرَّمها حَرَّم ثَمَنَها" فأمر بها فأُفْرِغَتْ بالبطحاء. انفرد به مسلم (¬3). ذكرُ ما استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المال: استسلف من عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم، واستقرض من صفوان بن أمية خَمْسين ألف درهم، ومن حُويطب بن عبد العزى أربعين ألفًا، فقسم الجميع بين أصحابه من أهل الضعْفِ، فلما فتح الله عليه هوازن أَوْفى الجميع وزادهم. ذكر تجديد أنصاب الحرم: وكان أَوَّلَ من وضعها آدمُ وإبراهيم وجبريل يريه ذلك، ثم لم تُحرّكْ حتى كان إسماعيل فجدَّدها، ثم لم تُحَرَّكْ حتى كان قصي فجددها، ثم لم تحرك حتى كان يوم الفتح فجدَّدَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ¬

_ (¬1) "الطبقات" 4/ 55 - 56. (¬2) أخرجه البخاري (1588)، ومسلم (1351) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه مسلم (1579)، وأحمد في "مسنده" (2041).

[فبعث مخرمةَ بنَ نوفل وأَزهر بنَ عبدِ عوف وحُوَيطبَ بنَ عبد العُزّى وسعيد بن يربوع المخزومي فجددوها، ثم كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه -] فبعث هؤلاء النفر فجددوها، ثم حج معاوية [فبعثهم فجددوها]، ثم جددها عبد الملك بن مروان (¬1). * * * وفي هذه الغزاةِ تزوجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مليكة بنت داود الليثية (¬2). وقيل: اسمها عَمْرة بنت كعب، وقيل: إنها كنانية، وأنه دخل بها وماتت عنده (¬3). وقال الزهري: ما تزوج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كِنانية قط، ولا دخل بهذه (¬4). وهي التي استعاذت منه، وتزوجها قبل الفتح، وقيل: بعده، وكان أبوها قُتلَ يوم الفتح. قال البلاذري: كانت حَدَثة جميلة، فجاء إليها بعض أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت لها: ألا تستَحينَ أن تنكحي قاتلَ أبيك؟ فاشمأزت، وقالت: فكيف أصنع؟ فقالت لها: إذا جاء إليكِ فقولي: أعوذ بالله منك، ففعلت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد عذت بمعاذ" وفارقها (¬5). والتي قالت لها عائِشةُ رضوان الله عليها. وقال أبو حصين الهذلي: قَدِمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكَّةَ امرأةٌ من نساءِ بني سعد بن بكر بِنِحْيٍ مملوءٍ سَمْنًا وجرابٍ فيه أَقِطٌ، فدخلت عليه وهو بالأَبطح، فانتسبت له فعرفها ودعاها إلى الإسلام فأسلمت، فقبل هديتها، وسألها عن حليمة فأخبرته بوفاتها فذرفت عيناه، ثم سألها: "من بقي منهم؟ " فقالت: أخواك وأختاك وهم والله محتاجون إلى بِرَّكَ وصِلَتك، ولقد كان لهم موئِلٌ فذهب، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين أهلُك؟ " فقالت: بذات أَوْطاس، فأمر لها بكسوة وأعطاها حمل ظعينة ومئتي درهم، فانصرفت وهي تقول: نِعْمَ والله المكفول كنت صغيرًا، ونعم المرءُ كبيرًا عظيمَ البركة (¬6). ¬

_ (¬1) المغازي 2/ 842 وما بين حاصرتين منه. (¬2) رجح ابن حجر أن اسمها مليكة بن كعب. انظر "الإصابة" 4/ 410. (¬3) "الطبقات" 10/ 143، و"أنساب الأشراف" 1/ 548 - 549. (¬4) "الطبقات" 10/ 144. (¬5) "أنساب الأشراف" 1/ 548، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد عذت بمعاذ" إنما قاله لأسماء بنت النعمان بنت الجون الكندية، انظر "أنساب الأشراف" 1/ 546. (¬6) "المغازي" 2/ 869.

فصل في المتعة

فصل في المتعة حدَّث الربيع بن سَبْرَةَ الجُهَنيُّ عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فأقمنا خمس عشرة ما بين يوم وليلة، فأذن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المتعة، فخرجت أنا وابنُ عمٍّ لي، فلقينا فَتاةً من بني عامر بن صعصعةَ كأنها البكرة وأنا قريب من الدَّمامة، وعليّ برد جديد وعلى ابن عمي بُرْدٌ خَلَق وابنُ عمي وَسيمٌ، فقلنا لها: هل لك أن يستمتع منك أحدُنا؟ قالت: وهل يصلح ذلك؟ قُلنا: نعم، فجعلت تنظرُ إلى ابن عمي، فقلتُ لها: بُردي هذا بُرْدٌ جَديد وبرد ابن عمي خلَقٌ، قالت: برد ابن عمك لا بأس به، فاستمتع منها، فلم نَخْرجْ من مكة حتى حرَّمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قال المصنفُ رحمه الله: وقد اختلف الناس في جواز المتعة، فعامة العلماء على أنها باطلة، وروي جوازها عن جماعة منهم علي (¬2)، وابن عباس (¬3)، وجابر بن عبد الله (¬4)، وأبي سعيد الخدري (¬5) وعطاء بن أبي رباح، وابن جُرَيْج، وابن أبي مُليكة، وطاووس (¬6) وحكاه أصحابنا. قال ابن عبد البَرِّ: حرَّم مالكٌ المتعة في أهل المدينة والشافعي في أهل الحجاز، وأبو حنيفة في أهل الكوفة، والأوزاعي في أهل الشام، والليث في أرض مصر، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1406) (20)، وأحمد في "مسنده" (15346). (¬2) لم نقف على قول لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في جواز المتعة، بل ورد عنه النهي عنها، وهو، كما سيذكره المصنف بعد قليل، دليل على أن علي بن أبي طالب يرى النسخ كما قال البخاري عقب (5119): وقد بينه علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه منسوخ. (¬3) أخرجه البخاري (5116) عن أبي حمزة قال: سمعت ابن عباس يسأل عن متعة النساء، فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه؟ قال: نعم. وقال الترمذي عقب (1121): وإنما روى عن ابن عباس شيء من الرخصة في المتعة، ثم رجع عن قوله حيث أخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيذكر المصنف عدول ابن عباس عن هذه الرخصة. (¬4) أخرجه البخاري (5117)، ومسلم (1405) عن جابر وسلمة بن الأكوع قالا: خرج علينا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أذن لكم أن تستمتعوا يعني متعة النساء. (¬5) ذكره ابن قدامة في "المغني" 7/ 136. (¬6) انظر "المغني" 7/ 136.

والحسن في أهل البصرة. واحتجَّ من أباحها بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، وبأحاديث منها: ما روي عن ابن مسعود قال: غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس معنا نِساءٌ، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ثم رخَّص لنا في المتعة، وكان أحدنا يأخذ المرأة أو ينكِح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ ابن مسعود {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] متفق عليه (¬1). ولعامة العلماء قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] والمتعة ليست من هذا القبيل، ألا ترى أنها ترتفع من غير طلاق ولا يجري بينهما توارث. وأخرج البخاري عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية (¬2). وكذا قال عمر: أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة ثم حرَّمها. وأما الآية فالمراد بها الاستمتاع بطريق النكاح المؤبد لا المؤقت، لأنه وسيلة إلى الأغراض المطلوبة من التناسل والتوالد وغيره، والتوقيت يبطله. وروي أن عروة بن الزبير قال لابن عباس: أهلكت نفسَك وأهلكت الناسَ، فقال له: وما هو يا عُرَيُّ؟ قال: إِباحةُ المتعةِ، وقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عنها فقال: أُخْبِرُكَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخبرني عن أبي بكر وعمر، فقال عروة: هما كانا أعلم بالسنة منك. وقال سعيد بن جُبير: قيل لابن عباس: لقد أكثرت في المتعة حتى سارت بها الركبان، وقال فيها الشاعر: [من البسيط] أقول وقد طال الثواء بنا معًا ... يا صاح هل لكَ في فتوى ابن عباسِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5075)، ومسلم (1404). (¬2) أخرجه البخاري (5115) وأخرجه أيضًا مسلم (1407).

ذكر هدم سواع صنم هذيل

يا صاحِ هل لك في بيضاءَ آنسِةٍ ... تكونُ مثواك حتى رجعةِ الناسِ فانزعج ابن عباس وقال: ما إلى هذا ذهبت، ثم قام خطيبًا في يوم عرفة وقال: أيها الناس إن المُتعةَ حرامٌ كالميتةِ والدمِ ولحمِ الخنزير (¬1). وقال جابر بن يزيد: والله ما فارق ابن عباس الدنيا حتى رجع إلى قول الصحابة في تحريم المتعة. وكان عمر رضوان الله عليه يقول: والله لا أوتى برجل أباح المتعة إلا رجمته (¬2). * * * وبثَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سراياه حول مكة وهو مقيم بها وسيَّر خالد بن الوليد لهدم العُزَّى، فخرج في ثلاثين فارسًا فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هَدَمْتَها"؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: "فَهَل رَأَيتَ شَيئًا"؟ قال: لا، قال: "فَإِنَّكَ لم تَهدِمْها، فارجعْ إِليها" فرجع وهو متغير، فجرَّد سيفه، فخرجت امرأة عُريانةٌ سوداءُ ناشرة شعرَها، قال خالد: فأخذني في ظهري قُشَعْرِيرَة وأقبل إليها وبيده السيف فضربها فجزَلَها اثنتيْنِ، ثم رجع إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: "تِلكَ العُزَّى، وقد يَئسَت أَن تُعبدَ بِبلادِكُم أَبَدًا". وكان هدمُها لخمس بقين من رمضان، وسادِنُها أفلح بن النَّضْرِ السُّلَميُّ (¬3). * * * وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطُّفَيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكَفَّيْنِ صنمَ عَمْرو بن حُمَمَةَ الدَّوْسي فهدمه وحَرَّقَهُ بالنار (¬4). ذكر هدم سُواع صنم هُذَيل: قال عمرو بن العاص: انتهيت إليه وعنده السادن فقال: ما الذي تريد منه؟ قلت: ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "السنن" 7/ 205. (¬2) أخرجه مسلم (1217). (¬3) "الطبقات الكبرى" 2/ 135، وانظر "السيرة" 2/ 436 - 437. (¬4) "الطبقات" 2/ 145.

ذكر مسير خالد إلى بني جذيمة

أَمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهدمه، فقال: لا تَقْدِرُ؛ إنه يمتنع عليك، فقلت له: وأنت إلى الآن في الباطل، وهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنوت منه فَهدمته وقلت للسادن: كيف ترى؟ فقال: أسلمت لله رب العالمين (¬1). ذكر مسير خالد إلى بني جَذِيمةَ: لما افتتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة بعث خالدَ بنَ الوليدِ داعيًا ولم يبعثه مقاتلاً، فخرج حتى نزل على بني جَذيمة بن عامر بن مناة بن كنانة وهم على ماء لهم يقال له: الغُمَيصاء، وكانوا قد أصابوا في الجاهلية عمه الفاكه بنَ المغيرة وعوفًا أبا عبد الرحمن - رضي الله عنه -، فلما غشيهم أخذوا السلاح، فقال خالد: إن الناس قد أسلموا فَضعوا السلاح، وأبى جَحْدَم - رجل منهم - أن يضع سلاحه، وقال: يا بني جَذيمة، إنه خالد، ولا والله ما بعد وضع السلاح إلاَّ الإِسارُ وما بعد الإِسارِ إلاّ ضَرْبُ الأعناق، فقالوا: يا جَحْدم، تريد أن تُصيبَ دِماءَنا، فإن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأَمِنَتِ الناس، فلم يزالوا به حتى أخذوا سلاحه، فنزل خالد وأمر برجال منهم فأسروا وضربت أعناقهم، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللَّهمَّ إنِّي أبرأُ إليك ممَّا عَمِلَ خالدُ بن الوليدِ" ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: "اخرُج إلى هؤلاءِ القومِ فدِ دِماءَهم وأَموَالَهمَ، واجَعْل أَمرَ الجاهليةِ تحت قَدمَيْكَ" وأعطاه مالًا، فخرج فوَدَى دماءهم وأموالهم حتى أعطاهم ثمنَ مِيْلَغَةِ الكلب، وبقيت بقيةٌ من المال فقال: أعطيكم هذا احتياطًا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما لا يعلم وفيما لا يعلمون فأعطاهم إياه، ثم قَدِمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستقبل القبلةَ ورفَع يديه حتى رُؤي بياض إبطيه، ثم قال: "اللَّهمَّ إنِّي أَبرَأُ إليكَ ممَّا فَعَل خالدُ بن الوليدِ" (¬2). وقال ابن سعد: لما رجع خالد من هَدْمِ العزى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مقيم بمكة بعث إلى بني جَذيمة داعيًا إلى الإسلام لا مقاتلًا، فخرج في ثلاث مئة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سُليم، فقيل لبني جَذيمة: هذا خالد في المسلمين، فقالوا: ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 135 - 136. (¬2) "السيرة" 2/ 428 - 430.

ونحن مسلمون قد صلَّينا وبَنينا المساجدَ وأذَّنّا فيها وصدَّقْنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم خالد: ما أنتم؟ فقالوا: مسلمون، وقال: فما بالُ سلاحكم عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوةً فَخِفْنا أن تكونوا هم، فأخذنا السلاح لندفع عن أنفسنا، قال: فضعوا السلاح، فقال لهم جَحْدم: ويحكم يا بني جذيمة، والله إنه خالد، ولا يريد منا ما يراد بالمسلمين وقد عرفتموه، فما زالوا يكلِّمونه حتى ألقى سيفه وقالوا: نحن مسلمون وقد فتح الله مكة، فقال: والله ليأخذنَّكم بما تعلمون من الأحقاد القديمة، فقال خالد: استأسروا، فاستأسروا وأمر بهم فكُتِّفوا ودَفَع إلى كلِّ رجلٍ من المسلمين الرجلَ والرجلين فباتوا في وَثاقٍ، فكانوا إذا جاء وقت الصلاة كلَّموا المسلمين فيصلون ثم يربطون، فلما كان في السحر والمسلمون قد اختلفوا بينهم، فقائل يقول: إنّما أسرهم ليذهبَ بهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وناس يقولون: إنما يختبرهم ليبلوَ طاعتهم، فلما كان وقت السحر نادى مناديه: من كان معه أسيرٌ فليدافّه، والمدافَّةُ الإجهاز عليه بالسيف، فأما بنو سُلَيْم فقتلوا كلَّ أسيرٍ في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأطلقوا أسراهم، وكان في الجيش عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - فأطلق أسيره (¬1). قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خالدَ بن الوليد إلى بني جَذيمة فدعاههم إلى الإسلام، فلم يجيبوا ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صَبَأْنا. وذُكر أنهم لما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَروه بما صنع خالد، فرفع يديه وقال: "اللَّهمَّ إنَّي أَبرَأُ إليكَ ممَّا صَنَعَ خَالدٌ" مرتين (¬2). وقال الواقدي: لما أرسل المهاجرون والأنصار أسراهم غضب خالد، فقال له أبو أسيد الساعدي: اتق الله يا خالد، والله ما كنا لنقتل قومًا مسلمين، قال: وما يدريك؟ فقال: قد سمعنا إقرارهم بالإسلام ورأينا مساجدهم (¬3). ولما قدم خالد على النبي - صلى الله عليه وسلم - عاب عليه عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ما صنع وقال: ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 136 - 137. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (6382). (¬3) "المغازي" 3/ 877.

ذكر من شهد الفتح ومدة مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -

يا خالد، أخذت القومَ بأمر الجاهلية قاتلك الله، وأعان عمر - رضي الله عنه - على خالدٍ، فقال خالد: أخذتُهم بقتل أبيك، فقال عبد الرحمن: كذبت والله لقد قتلتُ قاتلَ أبي بيدي، واستشهد بعثمانَ - رضي الله عنه - فقال: نعم، ثم قال عبد الرحمن: ويحك يا خالد، ولو لم أقتل قاتل أبي أكنت تقتل قومًا مسلمين بأبي في الجاهلية؟ فقال: من أخبرك أنهم أسلموا؟ فقال: أهلُ السَّرِيَّةِ كلُّهم (¬1). ذكر من شهد الفتح ومدة مُقام النبي - صلى الله عليه وسلم -: شهد مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الفتح عشرةُ آلافٍ من المهاجرين والأنصار والقبائل، وقيل: شهده اثنا عشر ألفًا، وبُرَيدةُ بن الحُصَيْب في خمس مئة وخزاعةُ في خمس مئة. وأقام بمكة تسع عشرة ليلة يَقْصُرُ، وإذا سلَّم من صلاته يقول: "يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْرٌ". وقيل: أقام خمس عشرة ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وكان قُدومُه لعشر ليالٍ بقين من رمضان، واستخلف على مكة عتَّابَ بنَ أَسِيْد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أميرًا وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: ابن عشرين، ومعاذَ بن جبل يعلَّمهم السُّنَنَ والفقه. * * * وفيها: كانت غزاةُ حُنَيْن (¬2) في شوال، وحُنَيْن: اسم موضع، وقيل: جبل بتهامة، وقيل: وادٍ إلى جانب ذي المجاز: بينه وبين مكة ثلاث ليال. وسبب هذه الغزاة، لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة بلغه أن أشراف ثقيف وهوازن اتفقوا وجمَّعوا، وجعلت هوازن أمرها إلى مالك بن عوف النَّصْري وهو يومئذ ابنُ ثلاثين سنةً، وكان في ثقيف سيدان: قاربُ بن الأسود بن مسعود، وذو الخِمار سُبَيْع ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 880، وانظر "السيرة" 2/ 431. (¬2) "السيرة" 2/ 437، و"المغازي" 3/ 885، و"الطبقات" 2/ 138، و"أنساب الأشراف" 1/ 438، و"تاريخ الطبري" 3/ 70، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 119، و"المنتظم" 3/ 331، و"البداية والنهاية" 4/ 322.

ابن الحارث، ويقال له: الأحمر بن الحارث (¬1)، وتجمعت كلها إلى هوازن، وكان مالك بن عوف قد مضى بنفسه إلى الطائف ودعاهم إلى قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابوه، وخرج غيلان بن سلمة الثقفي ومعه ثقيف وعشرة من ولده على عشرة أفراس، ولم يحضرها من هوازن كعبٌ ولا كِلابٌ. وحضرها دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ في بني جُشَم وهو ابن ستين أو سبعين ومئة سنة، شيخ كبير لا يراد منه إلا رأيُه ومعرفتُه بالحروبِ، وكان شيخًا مُجرّبًا قد ذهب بصره وأَمْرُ الناسِ يومئذ ثقيفٍ وغيرها إلى مالك بن عوف النَّصْري، وأمرَ الناسَ فجاؤوا بأموالهم ونسائهم وأهلهم فنزلوا بأَوْطاس وادٍ عند حُنَيْن فعسكروا به، والأمدادُ تأتيهم من كل ناحية. وأمرُ جُشَم إلى درَيْد بن الصِّمَّةِ [بن بكر بن] (¬2) علقمة بن خُزاعة بن غزية بن جشم ابن معاوية بن بكر، وقد جعلوه في شجارٍ مثل الهودج يقاد به على بعير، فلما نزل الناس (¬3) لمس بيده الأرض وقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوْطاس، فقال: نعم [مجال الخيل، لا حَزْنٌ ضَرِس، ولا سهل دَهِسٌ، مالي] (¬4) أسمع رُغاءَ البعير، ونُهاقَ الحمير، ويُعارَ الشاءِ، وخُوارَ البقر، وبكاء الصغير، قالوا: ساق مالكٌ مع الناس أولادَهم ونساءَهم وأموالهم، فقال: يا معاشر هوازن، أمعكم من بني كلاب أحد؟ قالوا: لا، قال: فمعكم من بني كعب بن ربيعة أحد؟ قالوا: لا، قال: فهل معكم من بني هلال بن عامر؟ قالوا: لا، فقال دريد: لو كان خيرًا ما سبقتوهم إليه، ولو كان ذِكْرًا وشرفًا ما تخلفوا، فأطيعوني وارجعوا وافْعلوا كما فعلوا، فأَبَوْا عليه، فقال: أين مالك؟ فدُعِيَ به فقال: يا مالك، إنك مقاتلٌ رجلًا كريمًا وأنت رأسُ قومِكَ، إن هذا اليوم كائن له ما بعده من الأيام، يا مالك مالي أسمع رُغاء البعير، ونهاق الحمير، وخوار البقر، ويعار ¬

_ (¬1) في "السيرة" 2/ 437: وأخوه أحمر بن الحارث. (¬2) ما بين معقوفين زيادة من "تاريخ دمشق" 17/ 231. (¬3) في "المغازي": "الشيخ". (¬4) ما بين معقوفين زيادة من "السيرة" و"المغازي"، و"الحزن": المرتفع من الأرض، و"الضرس" الذي فيه حجارة محددة، و"دهس": لين كثير التراب.

الشاء، وبكاء الصغير؟ فقال: سُقْتُ مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال دريد: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهلَه ومالَه وولده وشاءه حتى يقاتِلوا عنهم، فنفض دريد يده وقال: راعي ضأن، ماله وللحرب، وهل يردُّ المنهزمَ شيءٌ؟ إنها إن كانت لك، لم يَنْفَعْكَ إلا رجل بسيفه ورمحهِ، وإن كانت عليك، فُضِحْتَ في أهلك ومالك، يا مالكُ، إنك لن تصنع بتقديم بَيْضَةِ هوازن إلى نُحور الخيل شيئًا، فإن كانت لك لحِق بك مَنْ وراءَكَ، وإن كانت عليك ألفاكَ ذلك وقد أحرزت أهلَكَ ومالَكَ. فغضب مالك وقال: والله لا أُغَيِّرُ أمرًا أَصنعُه، إنك قد كَبرتَ وكبر عملك وحدث بعدك من هو أبصر منك بالحرب. فقال دريد: يا معاشر هوازن، والله ما هذا لكم برأي، هذا فاضحكم في عورتِكم وممكِّنٌ منكم عدوَّكم، ولاحقٌ بحصن ثقيف وتارِككم، فانصرفوا ودعوه. فسلَّ مالكٌ سيفه ثم نكسه، وقال: والله يا معاشر هوازن لتُطيعُنَّني أو لأتكئنَّ على السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكرٌ، فقال بعضهم لبعض: والله لئن عصينا مالكًا وهو شاب ليقتلن نفسه ونبقى مع دريد شيخ كبير لا قتال فيه، فأَجْمعوا رأيهم على مالك، فلما رأى ذلك دريدٌ قال: هذا يوم لم أشهده ولم أَغِبْ عنه: [من مجزوء الرجز] يا ليتني فيها جَذَعْ أخُبُّ فيها وأَضَعْ أقود وَطْفاءَ الزَّمَعْ كأنَّها شاةُ صَدَعْ وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكّة في عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار والقبائل الذين شهدوا معه الفتح، وفي ألفين من أهل مكة من الطُّلقاء، وكان المشركون أربعة آلاف فقال قائل: لن نُغْلَبَ اليوم من قِلَّةٍ، فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ساءَه (¬1). وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ الأصحابِ أربَعةٌ، وخَيرُ السَّرايا ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 437 - 440، و"المغازي" 3/ 885 - 889.

أَربعُ مئةٍ، وخَيرُ الجيوشِ أَربعةُ آلافٍ، ولا يُغلبُ اثنا عَشرَ ألفًا من قِلَّةٍ كَلمتُهُم واحدةٌ" (¬1). وقال أبو واقد الليثي: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين، وكان لكفارِ قريش ومَنْ سواهم شجرةٌ عظيمةٌ خضراءُ يقال لها: ذات أنواط، يأتونها في كل سنة يُعَلِّقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها ويعكفون عليها يومًا، فبينا نحن نسيرُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتينا شجرة عظيمة خضراء فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: "اللهُ أَكبَرُ، قُلتُم والذي نَفسِي بيَدهِ كما قالَ قَومُ مُوسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] لتَأخذُنَّ سَنَنَ مَن قَبلكم" (¬2). قال: وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء، لعشر ليالٍ خَلَوْنَ من شوال (¬3). وقال أمية بن عبد الله بن عثمان بن عفان: بعث مالك بن عوف عيونًا ممن معه، فأتوه وقد تقطعت أوصالُهم فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالًا بيضًا على خَيْلٍ بُلْقٍ، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فما ردَّه ذلك عن وجهه (¬4). ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنَ أبي حَدْرَدٍ الأسلميَّ فقال له: انطلق فادخل في الناس حتى تأتيني بأخْبارِهم، فانتهى إلى خِباء مالك فسمعه وهو يقول لأصحابه: إن محمدًا لم يلق قط مثل المرة، وإنما لقي قومًا أغْمارًا لا عِلم لهم بالحرب فيظهر عليهم، فإذا كان في السحر فصفوا مواشيكم وأبناءكم ونساءكم من ورائكم، ثم اكسروا جفون سيوفكم واحملوا حملة رجل واحد، فإنكم تلقونه بعشرين ألف سيف. وهذا يدل على أنهم كانوا عشرين ألفًا. ورجع ابن أبي حَدْرَدٍ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخْبَرهُ، فقال عمر: كذب ابن أبي حَدْرَدٍ، فقال ابن أبي حدرد: لئن كذَّبتني يا عمر، فلطالما كذَّبتَ بالحق، فقال عمر رضوان الله ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2718). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (21897). (¬3) "المغازي" 3/ 892. (¬4) "المغازي" 3/ 892.

ذكر القتال

عليه: أتسمع يا رسول الله ما يقول؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَق، كُنتَ ضالاَّ فَهَداكَ اللهُ" (¬1). وخرج من مكة رجالٌ فُرسانًا ومُشاةً ينظرون لمن تكون الدائرة، فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون أن يكون الصَّدْمُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وخرج أبو سفيان بن حرب في أثر العسكر، كلما مرّ بترس ساقط أو رمح أو متاع من متاع النبي - صلى الله عليه وسلم - حمله على بعيره، والأزلام في كنانته حتى أَوْقَر جمله. وخرج صفوان ولم يُسْلِم وهو في المدة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، وحكيم بن حزام، وحُويطب بن عبد العزى، وسُهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة، والكل ينظرون لمن تكون الدائرة وهم خلف الجيش (¬2). وعبّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه صُفوفًا في السحر، وعقد الألوية ووضع الرايات مع أهلها، فكان لواءُ المهاجرين بيد علي - رضي الله عنه -، ولواء الخزرج بيد الحُبابِ بن المنذر، وقيل: مع سعد بن عُبادة، ولواء الأوس بيد أُسيد بن حُضَيْر، ورايةٌ بيد عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، ورايةٌ بيد سعد بن أبي وقاص، في كل بطن وقبيلة لواء أو راية (¬3). ذِكْرُ القتال: انحدر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه وقد مضت مقدمته على تعبئته في وادي حُنين، وركب بغلته الدُّلدُل، وظاهَرَ بِدِرْعَيْنِ، ولبس المِغْفَرَ والبَيْضَةَ. وقال أنس بن مالك: لما انتهينا إلى وادي حنين وهو وادٍ من أودية تِهامة، له مضايقُ وشُعَبٌ، فاستُقْبِلنا من هوازن بشيء، لا والله إنْ رأيتُ مثله قط، من السَّوادِ والكَثرةِ، قد ساقُوا نِساءهم وأموالهم وأبناءَهم وذراريهم، ثم صَفُّوا صفوفًا، فجعلوا النساءَ فوق الإبل وراء صفوف الرجال، ثم جاؤوا بالإبلِ والبقرِ والغنمِ فجعلوها وراءَ ذلك لئلا يفرُّوا، فلما رأينا ذلك السوادَ حسبناه رجالًا، فبينا نحن في غَبَشِ الصُّبْحِ إنْ ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 893، وانظر "السيرة" 2/ 439 - 440. (¬2) "المغازي" 3/ 894 - 895. (¬3) "المغازي" 3/ 895 - 896.

شَعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضيق الوادي وشُعَبهِ، فحملوا علينا حملة رجل واحد، فانكشفتْ أوَّل الخيول مُوَلِّيةً، وتَبعهم أهلُ مكة وتبعهم الناسُ منهزمين لا يَلْوُون على شيء، فسمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والتفت عن يمينه ويساره والناس مُنْهزمون وهو يقول: "يا أَنصارَ اللهِ، وأَنصارَ رَسُولِهِ، أنا عبدُ اللهِ ورَسُولُه، أنا عبدُ اللهِ ورَسُولُه" ثم تقدم بحربته، فوالذي بعثه بالحق ما ضربنا بسيف ولا طعنَّا برمح حتى هَزَمَهُم الله، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العسكرِ وأمر بأن يُقتل كلُّ من قُدِرَ عليه منهم، وجعَلَت هوازن تؤول وثاب من انهزم من الناس (¬1). وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: سبق رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مالكُ بن عوف إلى الوادي، فانحطّ بهم في عَمايةِ الصبح، وثارت في وجوههم الخيلُ فشدَّت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين، وانحازَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ اليمين ثم قال: "أَيُّها الناسُ، هَلُمُّوا إليَّ، أنا رسُولُ اللهِ، أنا مُحمدٌ" ومعه رَهْطٌ من أهلِ بيته ورَهْطٌ من المهاجرين، والعباسُ آخذٌ برأسِ بَغْلته البيضاء، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليها قد شَجرها، وثبت معه من أهلِ بيته علي ابن أبي طالب رضوان الله عليه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأيمن بن عبيد، وهو ابن أم أيمن، وأسامة بن زيد، وثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما. قال: ورجلٌ من هَوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء على رأس رمحٍ طويل أمام هَوازن، وهوازن خلفه، إذا أدرك الناسَ طَعنَ برمحه، وإذا فاته الناسُ رفعَ رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فلما انهزم مَنْ كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من جُفاة أهلِ مكة، تكلَّم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من الضِّغْنِ (¬2). وعن جابر قال: لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ما رأى قال: "يا عباسُ اصرَخْ بالأَنْصار" فنادى العباس: يا أصحاب السَّمُرةِ، فأجابوه: لبيكَ لبيكَ، فجعل الرجلُ منهم يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر عليه، فيقذف درعه ويأخذُ سيفَه وقوسه ثم يَؤمُّ الصوتَ، حتى اجتمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم مئة، وأشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ركائبه ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 897 - 898، وفيها: تولّي وثاب. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (15027).

وقال: "الآن حَميَ الوَطِيسُ". وروى عبد الله بن بُرَيْدَةَ عن أبيه قال (¬1): انكشف الناسُ يومَ حُنينٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق معه إلا رجل يقال له: زيد، أخذ بعنان بغلته الشهباء فقال له: "وَيحكَ ادعُ النَّاسَ"، فنادى: أيها الناسُ، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه أحد، فقال: "ادعُ الأنصارَ" فنادى: يا معشر الأنصار، فلم يجبه أحد، فقال: "خُصَّ الأوسَ والخزرجَ" فنادى: يا معشر الأوسِ والخزرج، فلم يجبه أحد، فقال: "ويحكَ ادعُ المهاجرينَ، إن للهِ في أعناقِهم بيعتَيْنِ وهذا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعوهُم" فأقبل منهم ألف قد كسروا جفون سيوفهم، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مشوا قُدُمًا حتى فتح الله على يديه (¬2). وعن العباس - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم حنين التقى المسلمون والمشركون، فولَّى المسلمون يومئذ، ولقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معه إلا أبو سفيان بن الحارث آخذ بثَفَرِ (¬3) بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذتُ بلجامها وكنت رجلًا صيِّتًا، فقال: "يا عباسُ، اصرخ بالأنصار: يا أصحاب السَّمُرةِ" فناديت، فأقبلوا كأنهم الإبلُ إذا حنَّت إلى أولادها، يقولون: لبَّيكَ لبَّيكَ، وثاب الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الآنَ حميَ الوَطيسُ" ثم أخذ بيده من الحصى فرماهم به ثم قال: "انْهَزمُوا ورَبِّ الكَعبَةِ" فانهزموا، وركَضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغلته خَلْفَهم (¬4). وقيل: لما ناداهمُ العباسُ - رضي الله عنه - رجعوا وهم يقولون: الكرة بعد الفرة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهمَّ إنِّي أَنشُدكَ وعْدَكَ، اللَّهمَّ لا ينبغي لهم أَن يظهروا علينا" (¬5). وقال هشام بن الكلبي: ثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مئة رجل من أهل بيته وغيرهم. وسأل رجلٌ البراءَ بن عازب فقال: أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حُنَيْن؟ فقال ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 129. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 417، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 181، وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. (¬3) الثفر: بالتحريك، السَّيْر في مؤخر السرج. (¬4) "المغازي" 3/ 898 - 899. (¬5) "المغازي" 3/ 899.

ذكر أقوال أهل الأضغان

البراء: لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفِرَّ؛ كانت هوازن ناسًا رُماةً، وإنّا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسِّهام، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحارث آخذٌ بلجامها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أنا النَّبيُّ لا كَذِبْ أَنا ابْنُ عَبدِ المُطَّلِبْ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وقال سلمة بن الأكوع: لما غَشَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عن بغلته ثم قبض قَبْضةً من الأرض واستقبلهم بوجهه وقال: "شاهت الوجوه" فما خلق الله منهم إنسانًا إلا ملأ الله عينيه ترابًا بتلك القبضة، فولوا منهزمين، وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائمهم بين المسلمين (¬2). وقال البلاذري: قال العباس - رضي الله عنه -: كنت آخذًا يومَ حنين بحكمَة بغلةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل نفر من كِنانة يريدونه فدنا منه أحدهم، فاحتضنت الرجلَ وصحت بأقرب موالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليَّ وقلت: اضربه ولا تتق مكاني ولا تُبالي أَيَّنا قُتِلَ، فقتله المولى، ثم جاء آخرُ يريدُه ففعلت به كذلك، حتى قتلنا ستة أنفس من القوم، فقبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهي. وفي يوم حنين يقول العباس: [من الطويل] نصرنا رسولَ الله في الحرب سبعة ... وقد فرَّ من قد فرَّ عنه فأقشعوا وثامِنُنا لاقى الحِمامَ بسَيْفِهِ ... بما مسَّه في الله لا يتوجع يعني نفسه وابنه الفضل وعلي بن أبي طالب وأبا سفيان بن الحارث وأسامة بن زيد وأبا رافع وأيمن بن أم أيمن (¬3). ذكرُ أقوالِ أهلِ الأضْغَانِ: قال أبو سفيان بن حرب: ما تَنْتهي هزيمتهُم إلاّ إلى البحر، وأخرج الأزلامَ من كِنانتهِ يستقسم بها، فقال له رجل مِن أَسلم يقال له أبو مغيث: أما والله لولا أني سمعت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4317)، ومسلم (1776). (¬2) أخرجه مسلم (1777). (¬3) المذكورون هنا سبعة فقط، والثامن اختُلف فيه، انظر أنساب الأشراف 3/ 7 - 8، والاستيعاب 1/ 245.

ذكر هزيمة المشركين

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قتلك لقتلتك. وصرخ كَلَدةُ بن الحنبل وهو مع أخيه صفوان بن أمية وهما مشركان: ألا بَطَلَ السحرُ اليومَ، فقال له صفوان: اُسْكت فضَّ الله فاك، فوالله لأن يَرُبَّني رجلٌ من قُريش أحبُّ إلي من أن يربَّني رجلٌ من هوازن (¬1). وقال سهيل بن عمرو: لا يجتبرُها محمد وأصحابه، فقال عكرمة بن أبي جهل: إن هذا ليس بقول، إنما الأمر بيد الله ليس إلى محمد منه شيء، إن أُديل عليه اليوم فإن له العاقبة غدًا، فقال له سهيل: والله إن عهدك بخلافه لحديث، فقال له: يا أبا يزيد إنا كنا والله نُوضِعُ في غير شيء وعقولنا عقولنا، نعبد حجرًا لا يضر ولا ينفع (¬2). وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: خرجتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين وقد أضمرت غِرَّته وقلت: عسى أن أصيب بثأرِ قريش، فلما اختلطَ الناسُ اخترطتُ سيفي وقصدتُه، فلما رفعت يدي رفع لي شُواظٌ من نارٍ كالبرق فسقط السيف من يدي، وناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أعيذُك بالله يا شيبة" أَطْلعه على ما كان في نفسي، فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأحببتُه، فهو أحب إلي من سمعي وبصري (¬3). ذِكْرُ هزيمة المشركين: كانت الهزيمة أولاً على هوازن، فخلَّفوا الذَّراري، ثم تنادوا: يا حماة السوء اُذكروا الفضائح، فتراجعوا فانكشف المسلمون. فقال الطُلقاءُ بعضهم لبعض: اخذُلوه فهذا وقته، فانهزموا، فهم أول من انهزم. وقال جابر بن عبد الله: لما انكشف الناسُ والله ما رجعت راجعةُ هزيمتهم حتى وجدنا الأسرى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُكتَّفين، ولما انكشفَ الناسُ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحارثة بن النعمان: يا حارثة كم ترى من الرجال الذين ثبتوا؟ قال: فحزَرْتُهم فكانوا مئة رجل (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 443 - 444. (¬2) "المغازي" 3/ 910 - 911. (¬3) "المغازي" 3/ 909 - 910. (¬4) "المغازي" 3/ 900.

وكان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انهزم الناس وبقي في المئة الصابرة: "اللهمَّ لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان" فقال له جبريل عليه السلام: لقد لُقِّنْتَ الكلماتِ التي لَقَّنَ اللهُ موسى يوم فلق البحر أمامه وفرعون خلفه (¬1). ويقال: إن المئة الصابرة يومئذ ثلاثة وثلاثون من المهاجرين، وسبعة وستون من الأنصار. وقصد أبو دجانة الرجلَ الذي كان على الجمل الأحمر وبيده رايةٌ سوداء على رمح طويل، وكان قد أكثر القتل في الناس، فعرقَبَ جَمَله وشدَّ عليه هو وعلي فقتلاه (¬2). وبلغت هزيمةُ المسلمين مكّة، ثم تراجعوا، فأسهم لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعًا، وجعلت أم سُليمٍ تقول: يا رسول الله أرأيت هؤلاء الذين فروا عنك وخذلوك، لا تعْفُ عنهم إذا أمكنك الله منهم، اقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين، فقال: "يا أم سُلَيْمٍ قد كفى الله" (¬3). ولقد قَتل أبو طلحة يومئذ عشرين بطلًا وسَلَبهم. ولما حمل المسلمون على المشركين قتلوهم وأسرعوا إلى قَتْل الذُّريَّة [فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما بالُ أقوامٍ ذَهَب بهم القَتل حتى بَلغَ الذُّريّة] أَلا لا تُقْتَلُ الذُّريةُ" قالها ثلاثًا، فقال أُسيد بن حضير: أليس هم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوَليسَ خيارُكُم أولادَ المُشرِكينَ، كلُّ نَسَمةٍ تُولَدُ على الفِطْرةِ، حتى يُعْرِبَ عنها لسَانُها، فأَبَواها يهوِّدَانها ويُنَصِّرانِها" (¬4). وقال جبير بن مُطْعِمٍ: لما تراءينا نحن والقوم رأينا سوادًا لم نر مثله قط، فأقبل مثل الظلمة السوداء من السماء حتى أظلمت علينا وعليهم وسدت الأفق، فنظرنا فإذا وادي حنين يسيل بنمل أسود مبثوث لم نشك أنه نصر أيَّدَنا الله به (¬5). ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 901. (¬2) "المغازي" 3/ 902. (¬3) "المغازي" 3/ 903 - 904. (¬4) "المغازي" 3/ 904 - 905، وما بين معقوفين زيادة منه، وأخرجه أحمد في "مسنده" (15589) من حديث الأسود بن سريع. (¬5) "السيرة" 2/ 449، و"المغازي 3/ 905، و"دلائل النبوة" 5/ 146.

وقال رجل من المشركين: التقينا نحن وأصحاب محمد فلم يقفوا لنا حَلْبَ شاةٍ، فلما كشفناهم جعلنا نخترقهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء - يعني رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فلاقانا رجال بيضُ الثياب، حسانُ الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، فرجعنا ورَكِبونا (¬1). وحُكيَ أيضًا عن رجل يقال له: شجرة من بني نصر أنه قاله بعدما انهزموا، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تلك الملائكةُ". وقال الواقدي: نزلت الملائكة يوم حنين، سيماهم عمائم حمر قد أرخوها، فنظر إليهم الكفار فانهزموا (¬2). وقال مالك بن أوس بن الحدَثان: حدثني عِدَّةٌ من قومي أنهم رأوا يومئذ رجالاً بيضًا على خيلٍ بُلْقٍ، عليهم عمائم حمرٌ، أرخوها بين أكتافهم بين السماء والأرض، كتائب كتائب، ما يستطيع أحد من الرعب ينظرُ إليهم (¬3). وهربت ثقيف بعد أن قُتِلَ منهم مئة رجل تحت راياتهم حتى دخلوا حصن الطائف. وقال أبو قتادة: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين، فاستدرت له فأتيته من ورائه فضربته بالسيف على حَبْلِ عاتقه، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأَرْسلني، فلقيتُ عمرَ بنَ الخطاب - رضي الله عنه - فقال: ما بال الناس؟ فقلت: أَمْرُ اللهِ، ثم رجع الناسُ وجلس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَن قَتَلَ قَتيلًا فَلهُ سَلَبُه إذا كانت له بيِّنَةٌ" فقمت وقلت: من يشهدُ لي، ثم جلستُ، وقمت ثانيًا وثالثًا فقال: "مَالَكَ يا أبا قَتادَةَ؟ " فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله وسَلَبُهُ عندي، فأرضه من حقه، فقال أبو بكر: لاها اللهِ إذًا، لا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ من أُسْدِ الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سَلَبَه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدق فأعطِهِ إيَّاه" قال: فأخذت الدرع فابتعت به مَخْرَفًا، فإنّه لأول مال تأثَّلْتُه في الإسلام. ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 906. (¬2) "المغازي" 3/ 905. (¬3) "المغازي" 3/ 906.

ذكر الغنائم

أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وهذا الحديث يتضمن فتوى أبي بكر رضوان الله عليه بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومرّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة مقتولةٍ، وكان قد قدَّم خالدًا في مقدِّمتهِ مع بني سُلَيم فأرسل إليه وقال: "لا تَقتُلنَّ امرأةً ولا عَسِيفًا" (¬2) أي: أجيرًا. وفي رواية: "ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت". وجاءته الشيماءُ بنت الحارث بن عبد العزى أُخته من الرضاعة بعد أن أتعبوها من المشي وهي تقول: والله إني أخت صاحبكم، ولا يُصَدِّقُونها، فلما دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا محمد إني أختك من الرضاعة، فقال: "وما علامة ذلك"؟ قالت: عضضتني في إبهامي هذه وأنا مُتورِّكَتُكَ بوادي السرور ونحن نرعى بَهْمَ أبيك وأبي، وأَرَتْهُ مكان العضَّةِ، فعرف العلامة وقام لها قائمًا وبسط لها رداءه ثم أجلسها عليه، ورحَّب بها وسألها عن أمه وأبيه فأخبرته بموتهما، فدمعت عيناه، وخيَّرها بين المقام عنده وبين الرجوع إلى أهلها، وأسلمت فأحسن إليها ووهبها ثلاثة أَعْبُدٍ وجاريةً، فأحدهم يقال له: مكحول، فزوجوه الجارية (¬3). ثم عادت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجِعِرّانةِ فأعطاها نَعَمًا وشاءً (¬4). وهرب مالك بن عوف إلى حصن الطائف. ذِكْرُ الغَنائمِ: كانت الإبل أربعًا وعشرين ألفًا، والبقر ثلاثة آلاف، والغنم أربعين ألفًا، ومن الخيل ألفان، ومن السبايا ستة آلاف، وقيل عشرة آلاف، ومن الفِضَّة شيء كثير، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإصدار الجميع إلى الجِعِرّانةِ ليعودَ إلى الطائف، وولَّى مسعودَ بنَ عمرو القاري ذلك، وقيل: استعمل على السبي مَحْمِيةَ بن جَزْءٍ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3142)، ومسلم (1751). (¬2) "المغازي" 3/ 912، وأخرجه أحمد في "مسنده" (17610) من حديث حنظلة الكاتب. (¬3) "السيرة" 2/ 458، و"المغازي" 3/ 913 - 914. (¬4) "المغازي" 3/ 914.

ذكر من استشهد من المسلمين في ذلك اليوم

وقال الحَريش بن هلال القريعي من شعراء الحماسة (¬1): [من الوافر] شَهِدْنَ مع النبيِّ مُسَوَّماتٍ ... حُنَيْنًا وَهْيَ داميةُ الحوامي (¬2) ووقعة خالدٍ شهدَتْ وحكَّت ... سنابكَها على البلد الحرامِ (¬3) نُعرِّضُ للسيوف إذا التقينا ... وُجوهًا لا تُعَرَّضُ للِّطامِ ولستُ بخالعٍ عَنِّي ثِيابي ... إذا كَرَّ الكُماةُ ولا أُرامي ولكنِّي يجولُ المُهرُ تحتي ... إلى الغاراتِ بالعضْبِ الحُسامِ ذكر من استشهد من المسلمين في ذلك اليوم: أيمن بن عُبَيْد بن زيد، وقيل: ابن عمرو (¬4) الخزرجي، وهو ابن أم أيمن مولاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أخو أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - لأمه، وهو من الطبقة الثالثة، وثبت يوم حنين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووقاه بنفسه، وقُتِلَ بين يديه، ويقال له: الحبشي - رضي الله عنه -. آبي اللَّحْمِ، واسمه الحُوَيْرثُ بن عبد الله، وقيل: اسمه عبد الله بن عبيد بن مالك، من بني غِفار، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وإنما سمي آبي اللحم لأنه أبى أن يأكل من اللحم ما ذبح على النصب والأصنام. سراقةُ بن الحارث بن عدي الأنصاري من بني العَجْلان. أبو عامر الأشعري، واسمه عُبَيْد، وقيل: عبد الله، وقيل: عبيد الله بن وهب، حليف بني تميم رهطِ أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وهو عم أبي موسى الأشعري، قال أبو نعيم: قتله دُريد بن الصِّمة. وهو وهم لأن دريدًا كان شجاعًا شيخًا كبيرًا عاجزًا عن القتال، وإنما قتله سلمة بن دريد. وقال أبو موسى الأشعري: لما فرغ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من حُنَيْن بعث أبا عامر على جيش إلى أَوْطاس، فلقي دُرَيْدَ بن الصمة، فقُتِلَ دريدٌ وهزم الله أصحابه. ¬

_ (¬1) الأبيات في الحماسة، وفي "السيرة" 2/ 433 هي للحجاج بن حكيم السلمي. (¬2) المسومات: المعلمات. والحوامي: ما فوق الحافر. (¬3) سنابكها: مقدم أطراف الحوافر. (¬4) نسبه في "الطبقات" 5/ 368: أيمن بن عبيد بن زيد بن عمرو بن بلال ... بن خزرج.

ذكر من قتل من الكفار

قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر فرُميَ أبو عامرٍ في رُكبته، رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه وقلت: يا عم، من رماك؟ فقال: ذاكَ قاتلي الذي رماني تَراه؟ فلحقت الرجل فلما رآني ولّى هاربًا، فاتَّبَعْتُه وجعلت أقول: ألا تستحي، فوقف فالتقينا، فقتلته ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت له: قد قَتَل الله صاحبك، فقال: انزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماءُ، قال: فانْطَلِقْ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأقرِئه مني السلام واسأله أن يستغفر لي، ثم لِتَخْلُفْني على الناس، ومكث يسيرًا ومات، فلما رجعتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخلت عليه وهو في بيت على سرير مُرْمَل وعليه فِراش وقد أثر رِمال السرير في ظهره وجنبه، فأخبرته خبر أبي عامر، فدعا له واستغفر، فقلت: ولي، فقال: "اغفرِ اللَّهمَّ لعبدِ اللهِ بنِ قيسٍ ذَنبَهُ، وأَدخِلْهُ مُدْخَلًا كريمًا يومَ القيامةِ" (¬1). وقال الواقدي: بارز أبو عامر عشرة فقتل تسعة، وبرز له العاشر وهو مُتَعمِّمٌ بعمامة صفراء فقال أبو عامر: اللهمَّ اشهد، فقال الرجل: اللهمَّ لا تشهد، فضرب أبا عامر فأثبته، فحملوه وبه رَمَقٌ، واستخلف أبا موسى الأشعري ففتح الله عليه، وقتل قاتلَ أبي عامر وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستغفر لأبي عامر، فقال له أبو موسى: يا رسول الله، فهذا لأبي عامر فادع لي، فقال: "اللَّهمَّ اغفِر لأبي موسى، واجْعَلهُ في أَعْلَى أُمَّتي" (¬2). يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب، جمح به فرسه، فقتله المشركون. ذكر من قتل من الكفار: قتل منهم زيادة على المئة، وقيل: تسعون، وقيل: سبعون، فمن أعيانهم: دُرَيد بن الصِّمَّة (¬3)، واسم الصمة: معاوية، وكنية دريد: أبو قُرة الجُشَمي، وهو الذي خَطَبَ الخنساء ابنةَ عمرو بن الشريد فلم تُجِبْهُ فقال: [من الوافر] كفاك الله يا ابنة آل عمرو ... من الفتيان أمثالي ونفسي أَتَزْعمُ أنني شيخ كبيرٌ ... وهل أَنْبأْتُها أني ابنُ أمسِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4323)، ومسلم (2498). (¬2) "المغازي" 3/ 915 - 916. (¬3) انظر ترجمته في "تاريخ دمشق" 17/ 231.

ودريد يعد في الشعراء الفرسان، ووفد على الحارث بن أبي شَمِر الغَسَّاني. وقال أبو حاتم: كان مالك بن عوف يخرج بدريد في الحروب يتيمَّن برأيه، ولم يخالفه إلا في هوازن. ذكر مقتله: يقال: إن أبا عامر الأشعري قتله، فرماه ابنه سلمة بن دريد بسهم فقتل أبا عامر. وقال الواقدي: لما انهزم الناس يوم حنين أتوا الطائفَ، وعسكر ناس منهم بأَوْطاس، وتوجه بعضهم نحو نَخْلَةَ، فبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم، فأدرك ربيعةُ بن رُفَيعْ بن وهبان السلمي دريدَ بن الصمة، فأخذ بخِطام جمله وهو يظن أنه امرأة وهو في شِجارٍ له (¬1)، فأناخ الجملَ، وإذا فيه شيخ كبير ابن ستين ومئة وهو لا يعرفه، فقال له دريد: ما تريد؟ قال: قتلك، قال: وما تريد إلى المُرْعِشِ الكبير الفاني الأَدْرَدِ (¬2)، فقال الفتى: ما أُريد إلى غيره ممَّن هو على مِثْلِ دينه، فقال له دُرَيد: من أنت؟ فانتسب له، وضربه بسيفه فلم يُغْنِ شيئًا، فقال دريد: بئس ما سلَّحتكَ أُمُّكَ، خذ سيفي من وراء الرَّحْل في الشِجار واضرب به وارفع عن العِظامِ واخفض عن الدماغ، فإني كنتُ كذلك أقتُلُ الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قَتْلتَ دُرَيْد بن الصمة، فربَّ يوم قد منعت فيه نساءك، فلمّا ضَرَبَهُ تكشَّف عَجُزُه وبطونُ فَخْذَيْه فإذا بها مثلُ القراطيس من ركوب الخيل، فلما رجع ربيعةُ إلى أمه أخبرها فقالت: والله لقد أعتق دُرَيْدٌ أُمَّهاتٍ لك ثلاثًا في غَداة واحدة وجزَّ ناصية أبيك، فقال الفتى: لم أشعر (¬3). فقالت عَمْرة (¬4) في قتل ربيعةَ دريدًا: [من الوافر] جَزى عني الإلهُ بني سُلَيْمٍ ... وأَعقَبَهم بما فَعلوا عَتاقِ (¬5) وأسْقَانا إذا قُدنا إليهم ... دِماءَ خِيارِهم عندَ التلاقِي ¬

_ (¬1) الشجار: هو مركب مكشوف دون الهودج. (¬2) الأدرد: الذي لا سن له. (¬3) "المغازي" 3/ 914 - 915، وما بين معقوفين زيادة منه، وانظر "السيرة" 2/ 453 - 454. (¬4) هي عمرة بنت دريد بن الصمة، والأبيات في "السيرة". (¬5) في السيرة: وعقتهم بما فعلوا عَقاق.

فربَّ عظيمةٍ دافَعْتَ عنهم ... وقد بَلغَت نُفوسُهم التَّراقِي وربَّ مُنَوِّهٍ بكَ من سُلَيْمٍ ... أَجَبْتَ وقد دعاكَ بلا رِماق وربَّ كريمةٍ أَعْتَقْتَ منهم ... وأُخرى قد فَكَكْتَ مِنَ الوَثاق فكانَ جَزاؤُنا مِنْهم عُقوقًا ... وهمًّا ماعَ منهُ مُخُّ ساقِ وهرب سَلَمةُ بنُ دريد مع مالك بن عوف، فلما طلع مالك على ثَنيَّةٍ قال لأصحابه: قفوا حتى يمضيَ ضُعفاؤكم ويلحقوا بإخوانكم، ووقف حتى مضوا (¬1). واختلفوا في سِنِّ دريد، فقيل: ستون ومئة سنة، وقيل: مئة وسبعون سنة، وقيل: مئتا سنة وعِشْرون سنةً. وقال أبو عبيدة: كان دُريد ميمونَ النقيبة، غزا مئة غزوة، وأدرك أوَّلَ الإسلام ولم يسلم حتى قُتِلَ كافرًا. وكانت بنو يربوع قتلوا الصِّمةَ، فأوقع بهم دريدٌ فقتلهم. وكان له إخوة: عبد الله وعبد يغوث وقيس وخالد بنو الصِّمة، وأمهم جميعًا ريْحانةُ بنت معدي كَرِب الزبيدي أخت عمرو، وكان الصِّمة سباها (¬2) ثم تزوجها، فأولدها بنيه، وفيها يقول أخوها عمرو: [من الوافر] أَمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ ... يُؤرّقني وأصحابي هجوع وأما عبد الله فيقال له: العارض، أغار هو ودريد على نَعَمٍ لقيس فاستاقوها، فلما كانوا ببعض الطريق نزل عبد الله في مكان، فقال له دريد: لا تفعل، فجاءت قيسٌ فأحاطت بهم، فأول من قتل عبد الله وكان أشجع إخوة دريد، فقال دريد: [من الطويل] أَمَرْتُهُمْ أَمْري بِمُنْعَرَجِ اللِّوى ... فلم يستبينوا الرُّشْدَ إلا ضُحى الغَدِ فلما عَصَوني كنتُ منهم وقد أرى ... غَوايتهم وأَنَّني غَيْرُ مُهْتَدِ وما أنا إلاَّ من غَزِيَّة إِنْ غَوت ... غَوَيْتُ وإن تَرْشُد غَزيةُ أَرْشُدِ فقلت لهم ظُنّوا بأَلفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَراتُهم في الفارسيّ المُسَرَّدِ ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 916. (¬2) في النسخ: "سماها"، والمثبت من الأغاني 10/ 4.

غزاة الطائف

وإن يكُ عَبْدُ الله خَلّى مكانَه ... فما كان وَقَّافًا ولا طائِشَ اليَدِ كميشُ الإزارِ خارجٌ نصفُ ساقِه ... بَعيدٌ من الآفات طلاَّعُ أَنْجُدِ قليلُ التَّشكِّي للمصيباتِ حافظٌ ... منَ اليومِ أعقابَ الأحاديثِ في غَدِ صَبا ما صَبا حتَّى علا الشَّيبُ رَأْسَه ... فلمَّا علاه قال للباطل ابعُدِ وأوَّلها: أَرَثَّ جديدُ الحَبْل مِن أُمِّ مَعْبَدِ ... بعاقبةٍ وأخلفت كلَّ موعد وأُمُّ معْبَد: امرأة دريد، لما جزع على أخيه عاتبت وصغَّرت أمر أخيه عبد الله، فألحقها بأهلها وكان عبد الله يكنى أبا فُرغان، وأبا ذُفافَة، وأبا أوفى. واليوم الذي قتل فيه يسمى: يوم اللِّوى، واليوم الذي ظهر فيه دريد يسمى: يوم الدلائل، فإنه أخذ بثأر أخيه وقتل سادات غطفان واستَقْراهم حيًّا حيًّا. وأما عبدُ يغوث بن الصِّمة فقتله بنو مُرَّة. وأما قَيسُ بن الصمة فقتله بنو كلاب. وأما خالد بن الصمة فقتله بنو الحارث بن كعب (¬1). وأنزل الله تعالى في قصة حنين {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} الآية [التوبة: 25]. غزاة الطائف (¬2) وسار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من فَوْرٍ على تعبئته وقد تحصَّن القومُ بحصنهم، وقدَّم خالدَ بن الوليد في مقدَّمتهِ. وكان عروةُ بن مسعود وغَيْلانُ بن سَلَمة بجُرَشَ يتعلَّمان عمل الدباباتِ والمجانيق لأجل حصنهم (¬3). ¬

_ (¬1) الأغاني 10/ 5. (¬2) "السيرة" 2/ 478، و"المغازي" 3/ 922، و"الطبقات الكبرى" 2/ 145، و"تاريخ الطبري" 3/ 82، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 156، و"المنتظم" 3/ 341، و"البداية والنهاية" 4/ 345. (¬3) "السيرة" 2/ 478، و"المغازي" 3/ 924.

وسلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نَخْلةِ اليمانية ثم على لِيَّةَ، وابتنى بها مسجدًا بيده، وأصحابهُ ينقلون إليه الحجارة. وأُتي يومئذٍ برجلٍ من بني ليث قتلَ رجلًا من هُذيلٍ فسلَّمه إلى هذيل فقتلوه، وكان أوَّلَ دمٍ أُقيد في الإسلام، وحرقَ قصرَ مالك بن عوف بلِيَّة ولم يكن به أحدٌ، ومالك بن [عوف في] (¬1) حصن ثقيف، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل قريبًا من الطائف، فجاءهم النَّبْلُ كأنَّه الجرادُ، حتى أُصيبَ من المسلمين أناسٌ، فقال له الحُبابُ بن المنذر: إن كان نزولك يا رسول الله عن أمرٍ، سلَّمنا، وإن كان عن غيرِ أمرٍ، فالرأيُ أن نتأخَّر، فقال: "انظروا مَكانًا مُرتَفِعًا" فنزلوا في موضع مسجد الطائف خارجًا من القرية، وأبو محجن يرمي من فوق الحصن بمعابل (¬2) كأنها الرماحُ ما يسقُطُ له سَهْمٌ، وخرج من الحصنِ امرأةٌ ساحرةٌ فاستقبلت الجيش بعورتِها، يدفعون بذلك عن حصنهم (¬3). وشاور رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في ذلك، فقال له سلمان: قد كُنَّا بفارسَ ننصُبُ المجانيق [وإن لم يكن المنجنيق] (¬4) طال الثواءُ، فأمره بعملهِ ونصبه على الحصن، وعمل يزيدُ بن ربيعةَ دبابتين، ونثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَسَكًا من عيدانٍ حول حصنهم، ودخل المسلمون تحت الدبابتين وهما من جلود البقر، وقاتلوا ثم رجعوا إلى جدار الحصن ليحصروه، فرمى عليهم القوم سكك الحديد المُحْماةَ بالنار فأحرقوا الدبابتين، وخرج بعض المسلمين منهما، فسُمِّيَ: يوم الشَّدْخَةِ، ورماهم القومُ بالنَّبْلِ فقتلوا جماعةً، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع أعنابهم وتحريقها، فنادى منادي القوم: يا محمدُ، لمَ تقطعُ أموالَنا؟ إما أن تأخذَها إن ظَفِرت علينا، وإمّا أن تدَعَها لله والرَّحِمِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي أدَعها لله والرَّحمِ" فتركها (¬5). وتقدَّم أبو سفيان بن حرب والمُغيرةُ بن شعبةَ إلى ثقيفٍ فقالا: أمِّنونا حتى نتكلَّم، ¬

_ (¬1) ما بين معقوفين زيادة لتوضيح النص. (¬2) المعابل: جمع مِعبَلَة، وهي: نصل طويل عريض. (¬3) "المغازي" 3/ 925 - 926. (¬4) ما بين معقوفين زيادة من "المغازي". (¬5) "المغازي" 3/ 927 - 928.

فأَمّنوهما. فدَعَوا نساءً من قريشٍ ليخرجنَ إليهما وهما يخافان السبيَ عليهن، منهن ابنة أبي سفيان كانت عند عروة بن مسعود ولم يكن عروةُ حاضرًا، والفِراسِيَّةُ بنتُ سُويد بن عمرو بن ثعلبة عند قارِب بن الأسود، وامرأةٌ أُخرى (¬1). وكان رجلٌ يقومُ على الحِصْنِ فيقول: روحوا يا رعاءَ الشاء، يا عبيد محمد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ روّحه إلى النار" فرماه سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - بسهم فوقع في نَحْرهِ، فهوى من الحصن ميِّتًا، فَسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك (¬2). ورمى أبو محجن عبدَ الله بنَ أبي بكرٍ - رضي الله عنهما -، ثم أُخرجَ السهمُ من الجرحِ وبرِئ واندمل، وأمسك أبو بكر [السهمَ عنده، وتوفي عبدُ الله، وقدمَ أبو محجن في خلافةِ أبي بكر]، فأخرج له السهم وقال: هل تعرف هذا يا أبا محجن؟ فقال: [كيف] لا أعرفُه وأنا بَرَيتُ قدحه ورِشْتُه ورميتُ به ابنك، والحمد لله الذي أكرمه بيدي ولم يُهنِّي بيده (¬3). ونادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيما عبدٍ نزل إلينا من الحصن فهو آمن، فنزل جماعةٌ منهم: أبو بكرة نُفَيعُ بن الحارث بن مسروح، وكان [عبدًا] للحارث بن كَلَدةَ، وكُنِّي بأبي بكْرة لأنه نزل من الحصنِ في بكْرةٍ، فسلَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمرو بن العاص يعلِّمُه القُرآنَ والسُّنَنَ، وكذا فعل بالباقين؛ دفع إلى كلَّ واحدٍ من المسلمين رجلًا يمونُه ويعلِّمه (¬4). فلما أسلم هل الطائف تكلَّموا فيهم ليُرَدُّوا إلى الرِّقِّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك عتقاء الله، لا سبيلَ لكم عليهم" فبلغ ذلك من أهل الطائفِ. وقال ابن إسحاق: ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل عبدٍ إلى مولاه لمّا أَسلم مواليهم. وقال عُيَيْنةُ بن حصنٍ: يا رسول الله، ائذن لي حتى آتي الحصن فأُكلِّمهم، فأذن له فجاءهم وقال: أَدنو منكم وأنا آمِن؟ فعرفه أبو محجن فقال: أَدْنُوه، فدخل الحصنَ فقال: فداكم أبي وأُمي، واللهِ لقد سرَّني منكم ما رأيتُ، واللهِ إنْ في العربِ أحدٌ مثلكم، واللهِ ما لاقى محمد مثلكم قطُّ، ولقد ملَّ المُقامَ فاثبتوا في حِصْنِكم فإنه حصين، وسلاحكُم كثيرٌ. فلما خرج قالت ثقيف لأبي مِحْجَن: إنا كَرِهْنا دخوله علينا، ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 929، وانظر "السيرة" 2/ 483 - 484. (¬2) "المغازي" 3/ 929 - 930. (¬3) المغازي 3/ 926، وما بين حاصرتين منه. (¬4) "المغازي" 3/ 931 - 932.

ذكر رحيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وخَشينا أن يُخبِرَ محمدًا بخَللٍ رآه في حصنِنا. فقال أبو محجن: لا تخافوا، فليس على محمدٍ أشدُّ منه وإن كان معه. فلمّا رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ما الذي قُلْتَ لهم؟ قال: قلتُ لهم: ادخلوا في الإسلامِ؛ فواللهِ لا يبرحُ محمدٌ عُقْرَ داركم حتى تنزِلوا، فخُذوا لأنفسكم أمانًا، فإنه قد نزل ساحة غيركم: بني قينقاع والنضير وقُريظة وخيبر أهل العِدَّةِ والحَلْقةِ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كذبتَ، قلتَ لهم كذا وكذا، الذي قال، فقال عُيينةُ: أَستغفرُ اللهَ، فقال عمر - رضي الله عنه -: دعْني أَضرب عُنُقَه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتحدَّثُ الناسُ أَني أَقتلُ أصحابي". وأَغلظ له أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: ويحك يا عُيينة، إنّما أنت أبدًا تُوضعُ في الباطل، لنا مِنْكَ من يوم بني النضير وقريظة وخيبر والخندق، تُجْلِبُ علينا وتقاتِلُنا بسيفك، ثم أسلمتَ كما زعمتَ فتحرِّضُ علينا عدوَّنا؟ ! فقال: أستغفرُ اللهَ وأتوب إليه، لا أعود إليه أبدًا (¬1). ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة - رضي الله عنها - وعندها عبد الله بن أبي أمية والمخنث يقول له: إن فتح الله عليكم الطائفَ غدًا فعليك بابنة غَيْلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأم سلمة: "لا يَدخُلْ هذا عليكِ" (¬2). ذكر رحيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن إسحاق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر رضوان الله عليه وهو محاصرٌ ثقيفًا: "يا أبا بكر إني رأيت كأنني أُهْدِيَت لي قَعْبَةٌ مملوءة زُبْدًا، فنقرها ديكٌ فهرَاق ما فيها". فقال: يا رسول الله، ما أظنك تدرك منهم ما تريد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا أنا، ما أرى ذلك". ثم إن خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص السُّلَمِيَّةَ امرأة عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك الطائف حُلِيَّ باديةَ بنتِ غَيْلان بن سلمة أو حُلِيَّ الفارعةِ بنت عَقيل وكانتا من أجمل نساء ثقيف، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنْ لم يَكُن أُذِنَ لي في ثَقيفٍ"، فخرجت إلى عمر بن الخطاب رضوان الله عليه فأخبرته، ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 932 - 933، و"الطبقات" 6/ 177 - 178. (¬2) أخرجه البخاري (5235)، ومسلم (2180).

فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: "نَعَم" فقال: ألا أُوذِنُ الناسَ بالرحيل؟ قال: "بَلَى" فأذَّن فيهم بالرحيل (¬1). وبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حنظلةَ بن الربيع ابن أخي أكثم بن صيفي إلى أهل الطائف ينظرُ هل يريدون الصلح أم لا؟ فدخل عليهم فسألهم فقالوا: الموتُ دونَ ذلك، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ونادى سعيد ابن عمرو بن عِلاجِ الثقفي من الحصن: ألا إن الحي لمقيم، فقال عيينة: أجل والله، مَجَدةٌ كِرامٌ، فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة تمدح قومًا مشركين وقد جئت تنصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! فقال: إني والله ما جئت أقاتل معكم ثقيفًا، ولكن أردت إذا فتح محمد الطائفَ أن أُصيب من ثقيف جاريةً فأتَّطِئَها لعلها أن تلد ذكرًا، فإن ثقيفًا قومٌ مذاكِير (¬2). فلما ولّى عيينةُ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا الأحمق المطاعُ" (¬3). وقال أبو هريرة: لما مضت خمسةَ عَشَرَ يومًا من حصارهم استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نوفلَ بن معاوية الدِّيلي فقال: "مَا تَرَى؟ " قال: يا رسول الله ثَعْلَبٌ في جحر إن أقمت عليه أخَذْتَه، وإن تركته لم يضرك شيئًا، قال: ولم يؤذن له في فتحها، فأذَّن عمر في الناس بالرحيل فضَجُّوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فاغدُوا على القِتال" فغدَوْا فأصاب المسلمين جراحاتٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا قَافِلُونَ إنْ شاءَ اللهُ" فسرُّوا بذلك وجعلوا يرحلون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك (¬4). وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وعشرين ليلة - والله أعلم - وكل ذلك يصلي ركعتين. وقال أبو إسحاق الثعلبي: حاصر الطائف إلى آخر شوال. فلما دخل ذو القعدة وهو شهرٌ حرامٌ لا يَحِلُّ القتال فيه انْصَرفَ عنهم، وكان معه من نسائه أم سلمة وأخرى قيل: هي زينب بنت جحش. ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 484. (¬2) "السيرة" 2/ 485. (¬3) المغازي 3/ 937، والطبقات 6/ 178. (¬4) "المغازي" 3/ 936 - 937.

ذكر المستشهد من المسلمين

ولما رحل عن الطائف قيل له: ادع عليهم، فقال: "اللهمَّ اهد ثقيفًا وائتِ بهم" (¬1) فاستجاب الله دعاءه. ذِكْرُ المُسْتَشْهد من المسلمين: سعيد بنُ سعيد بن العاص بن أمية، وعُرْفُطةُ بن حباب (¬2) بن حبيب، وقيل: الحباب بن جُبير، وعبد الله بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - رمي بِسَهْمٍ فمات بالمدينة منه، وعبد الله بن أبي أمية مات من رميةٍ رُميها يومئذٍ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، والسائب ابن الحارث [بن قيس بن عدي، وأخوه عبد الله بن الحارث، وجليحة بن عبد الله بن محارب، والحارث] (¬3) بن سهل بن أبي صَعْصَعة، والمنذر بن عبد الله بن وَقْش بن ثعلبة، ورُقَيْم بن ثابت بن زيد بن لَوْذان، وقيل: ويزيد بن زمعة بن الأسود، جمح به فرسه إلى حصن الطائف فقتلوه، وثابت بن ثعلبة (¬4) بن زيد بن حَرام. ومما قيل في الطائف من الشعر لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة وحنين قول كعب بن مالك قبل نزوله على الطائف (¬5): [من الوافر] قضينا من تِهامةَ كلَّ رَيْبٍ ... وخيبرَ ثم أَجْمَمْنا السُّيوفا نُخبِّرُها ولو نطقت لقالت ... قواطِعُهنَّ دوسًا أو ثقيفا فلستُ لمالك إن لم يزركم ... بساحة داركم منها ألوفا وننتزع العُروشَ ببطن وَجًّ ... وتُترك دارُكم منكم خُلوفا نجاهد لا نبالي من لقينا ... أَأَهلكنا التِّلادَ أَم الطريفا بأمر الله والإسلام حتى ... أقَمنا الدين مُعْتَدِلاً حنيفا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3942)، وأحمد في "مسنده" (14702) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬2) ضبطه ابن حجر في "الإصابة" 1/ 301 عند ذكر والده الحباب: بضم المهملة والموحدتين الأولى خفيفة. وفي ترجمته 2/ 475 قال: وضبط ابن إسحاق أباه بجيم ونون، وابن هشام بمهملة مضمومة بعدها موحدة. (¬3) ما بين معقوفين زيادة من "السيرة" 2/ 486 - 487، و"المغازي" 3/ 938. (¬4) هو: ثابت بن الجزع، واسم الجذع ثعلبة. "الإصابة" 1/ 190. (¬5) الأبيات في "السيرة" 2/ 479.

ذكر رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجعرانة

ذكر رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجِعِرّانةِ: خرج من الطائف، ففي منحدره إلى الجِعِرَّانةِ لقيه سراقة بن مالك بن جُعْشُم الذي تبعهم في طريق المدينة لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال سراقة: فدفعت الكتابَ الذي كتبه لي أبو بكر وناديتُ: أنا فلان وهذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرفني، فقال: "اُدْنُ" فدنوت، فقال: "هذا يَومُ وَفَاءٍ وبِرٍّ" فأسلمت وسقت إليه الصدقة (¬1). وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجِعِرَّانة والغنائم والسبي بها، وقد اتخذ للسبي حظائر يستظلون بها من حر الشمس، وكان السبي ستة آلاف، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر بن سفيان الخزاعي أن يقدم مكة فيشتري للسبي ثيابًا يكسوهم بها ففعل (¬2). ذِكْرُ ما فَرَّق من السَّبْيِ: أعطى عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - جارية منهن فوطئها بالملك بعد أن حاضت. وأعطى صفوان بن أمية أخرى، وعلي بن أبي طالب أخرى يقال لها: رَيْطة، وأعطى عثمان رضوان الله عليه أخرى اسمها زينب بنت خُناس (¬3) فوطئها فكرهته، وأعطى عمر - رضي الله عنه - جاريةً فأعطاها لابنه عبد الله، فبعث بها إلى أخواله بني جمح بمكة ليصلحوها حتى يطوف بالبيت ثم يعود إليها قال: فبينا أنا أطوف بالبيت وفي عزمي أن أعود إليها فأطأها، فلما خرجتُ من المسجد وإذا بالناس يَشْتَدُّون، فقلت: ما لهم؟ قالوا: رُدَّ سَبْيُ هوازن، فقلت لأهلها: دونكم إياها، فأخذوها. وأعطى جبير بن مطعم جارية فلم يطأها، وأعطى طلحة بن عبيد الله وأبا عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام - رضي الله عنهم - جواري فوطئوهن، وهذا كله بحنين، فلما رجع إلى الجِعِرانة أقام يتربص أن يقدم عليه وفد هوازن (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الحميدي في "مسنده" (902)، والطبراني في "الكبير" (6602)، وانظر "المغازي" 3/ 941. (¬2) "المغازي" 3/ 943. (¬3) "في "السيرة" 2/ 490، و"المغازي" 3/ 944: بنت حيان. (¬4) "المغازي" 3/ 943 - 944.

ذكر وفد هوازن

وقال أنس: نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أوطاس: "أَلاَ لا تُوطأُ الحَبَالى حتى يَضعْنَ، ولا غَيرَ الحَبَالى حتى يَستبرِئْنَ بحَيضَةٍ" (¬1). وعن سلمة بن الأكوع قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها (¬2). وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما رجل وامرَأةٍ تَوافَقَا، فَعِشْرَةُ ما بَينهُما ثَلاثُ لَيالٍ، فإنْ أَحَبَّا أَن يَتَزايَدا، أَو يتَّارَكا" فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة (¬3). ذكر وفد هوازن: لما أصاب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب من أموال هوازن وسباياهم أدركه وفدهم بالجِعِرَّانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، نحن الأهل والعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يَخْفَ عليك، وقام خطيبهم زهير بن صُرَد فقال: يا رسول الله، إنّما في الحَظائر من السبايا خالاتُك وعماتُك وحواضِنُك اللاتي كن يكْفُلْنَك، ولو كنا ملَكَنا ابن أبي شمر الغسَّاني أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا بِرَّهما وعائِدتَهما وعَطْفَهما، وأنت خير المكفولين، وأنشده (¬4): [من البسيط] اُمنُنْ علينا رسولَ اللهِ في كَرَمٍ ... فإنك المرءُ نَرْجوه ونَدَّخِرُ اُمنُنْ على بيضةٍ اِعْتَاقَها قَدَرٌ ... مُمَزَّقٌ شملُها في دَهْرها غِيَرُ اُمنُنْ على نِسوَةٍ قد كنتَ تَرْضَعُها ... إذ فُوكَ يَملؤُهُ مِن مَحضِها دِرَرُ اللاَّئي إذْ كنتَ طفلًا كنت تَرضَعُها ... وإذ يزينُك ما تأتي وما تذرُ ألا تداركها نعماءُ تَنشُرُها ... يا أرجَحَ الناس حِلْما حين يُخْتَبَرُ لا تجعلنّا كمن شالت نَعامتُه ... واستبقِ منّا فإنا معشر زُهُر إنا لنَشْكُرُ آلاءً وإن قَدُمَتْ ... وعندنا بعد هذا اليوم مُدَّخَر ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2157) من حديث أبي سعيد الخدري، ولم نقف عليه من حديث أنس. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (16552). (¬3) أخرجه البخاري (5119). (¬4) الأبيات في "المغازي" 3/ 950 - 951.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِساؤُكُم وأَبناؤُكُم أَحبُّ [إليكم أم أموالكم؟ " فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحبُّ] (¬1) إِلينا، فقال: "مَا كانَ لي ولبَني عَبدِ المطَّلبِ فهوَ لكُم، وإذا صلَّيتُ الظهرَ بالناسِ فَقُومُوا وقُولُوا: إنا نَستَشفِعُ برسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى المُسلِمينَ وبالمُسلمينَ إلى رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في أَبنائِنَا ونِسائِنَا"، فلما صلوا الظهر فعلوا ما أمرهم به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم" وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لله ورسوله، وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال العباس بن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم [فلا، فقالت بنو سليم: ] بلى ما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستة فرائض من أَوَّلِ فَيءٍ نُصيبُه" فقال المسلمون: رضينا وسلمنا، ودفعوا ما كان بأيديهم من السبي إلى أهاليهم (¬2). وكان عيينةُ قد اختار من السبي عجوزًا كبيرة وقال: هذه أم الحي، لعلهم أن يُغلوا بفِدائها وعسى أن يكون لها في الحي نسبٌ، فجاء ابنها إليه فقال: هل لك في مئة من الإبل؟ قال عيينة: لا، فانصرف وجعلت العجوز تقول لابنها: دعه فوالله ليتركني بغير فداء، فرجع الفتى إليه فقال عيينة: هل لك فيما دعوتني إليه؟ قال: لا أزيدك على خمسين ناقة، فقال عيينة: خذها بغير شيء لا بارك الله لك فيها، لا حاجة لي إليها، فقال ابنها: هي عُريانةٌ، فأَخَذ لها منه شملة (¬3). وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن قدرتم على بجاد - رجلٍ من بني سعد بن بكر - فلا يفوتنكم" وكان قد أحدث حدثًا فظفر به المسلمون فأتوا به، وكانت الشيماء أخت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، فسألته فيه فأطلقه لها (¬4). ولما ردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هوازن نساءهم وأبناءهم اتبعه الناس يقولون: يا رسول الله اقسِم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعَتْ رِداءهُ، فقال: "أَيُّها ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين مستدرك من "السيرة" 2/ 489. (¬2) "السيرة" 2/ 489 - 490، و"المغازي" 3/ 950 - 952. (¬3) "المغازي" 3/ 952 - 954، وانظر "السيرة" 2/ 490. (¬4) "تاريخ الطبري" 3/ 80 - 81.

حديث الغار

الناسُ، رُدُّوا عليَّ رِدَائي، فَوَالذي نَفسِي بيَدهِ، لو كانَ لَكُم بِعَدَدِ شَجَرِ تِهامَةَ نَعمًا لقَسمتُه عليكُم، ثم ما ألفيتُموني بَخيلًا ولا جَبانًا ولا كذَّابًا" (¬1). حديث الغار: عن أبي سعيد قال: أصبنا سبايا يوم حنين، فكنا نلتمس فِداءهُنَّ، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العزل فقال: "اصنَعُوا ما بَدا لَكُم، فما قَضَى اللهُ فهو كائنٌ، ولَيسَ مِن كلِّ الماءِ يكونُ الولدُ". انفرد بإخراجه مسلم (¬2). وقال أبو سعيد: كانت اليهود تزعم أن العزلَ: الموْؤدةُ الصُّغْرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذبتِ اليَهودُ، ولو أَرَادَ اللهُ أنْ يَخلقَهُ لم يَستَطعْ أحَدٌ أنْ يَصرِفَهُ". أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" (¬3). ذكر ما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤلفة قلوبهم: أعطى أبا سفيان بن حرب مئة بعير، وابنه معاويةَ مئة بعير، وحكيمَ بن حِزام مئة بعير، والنَّضْرَ بن الحارث (¬4) بن كَلَدَة بن علقمة مئة بعير، والعلاء بن جارِيةَ الثقفي مئة من الإبل، وسهيل بن عمرو مئة من الإبل، وحويطب بن عبد العزى مِئةً من الإبل، وسهل بن مُطعِم مئة من الإبل، وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر دون المئة (¬5). وأعطى مَخْرمة بنَ نوفل الزهري وعُمير بن وهب الجُمَحي وهشام بن عمرو، وأعطى سعيد بن يَربوع بن عامر بن مخزوم خمسين من الإبل. وأعطى عبّاس بن مِرداسَ السُّلمي أباعِرَ (¬6) فسخطها، وعاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: وإيقاظِيَ القومَ أَن يرقُدُوا ... إذا هَجَعَ الناسُ لم أَهْجَعِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (16775) من حديث جبير بن مطعم. (¬2) أخرجه مسلم (1438) (133) واللفظ لأحمد في "مسنده" (11438) (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (11477). (¬4) ويقال: الحارث بن الحارث، كما في "السيرة" 2/ 493. (¬5) في "السيرة" 2/ 493، و"المغازي" 3/ 946: أنه أعطاه مئة بعير. (¬6) في النسخ: "أبا عامر" والمثبت من السيرة" 2/ 493.

فأصبحَ نَهْبي ونَهْبُ العُبَيـ ... ـدِ بينَ عُيينةَ والأَقْرعِ وقد كنتُ في الحَربِ ذا تُدْرَإٍ ... فلم أُعْطَ شيئًا ولم أُمْنَعِ إلا أَفائِلَ أُعْطِيتُها ... عديدَ قوائمها الأربعِ فما كان حِصنٌ ولا حابِسٌ ... يفوقان مِرداسَ في مَجْمَعِ وما كنت دون امرئٍ منْهما ... ومن تَضَعِ اليومَ لا يُرْفَعِ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهَبُوا فاقْطَعُوا لِسَانَهُ" فزادوه حتى رضي (¬1). وقال الواقدي: أخذ بلال بيده ليذهب به فيقطع لسانه فقال: يا معاشر المسلمين انقطع لساني، وأعطاه مئة من الإبل (¬2). وقال صفوان بن أميَّة: أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ (¬3). وقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطيت عيينة والأقرع وتركت جعيل بن سُراقة الضَّمْري؟ ! فقال: "والذي نَفسِي بيَدهِ، لَجعيلٌ أَحَبُّ إليَّ من طِلاعِ الأرض كلها مثل عيينةَ والأَقرعِ، ولكنِّي تَأَلَّفتُهما لِيُسْلِما، وَوَكَلْتُ جُعَيْلًا إلى إسلامِهِ" (¬4). وجُعيل من الطبقة الثانية من فقراء المهاجرين، شهد أُحدًا وما بعدها وكان صالحًا (¬5). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غنم فضة كثيرة، فقال أبو سفيان بن حرب: يا رسول الله أصبحت أكثر قريش مالاً! فتبسم، فقال: أعطني من هذا المال، فقال لبلال: "يا بلال زِنْ لأبي سفيان أربعين أوقية" فأعطاه ومئة من الإبل، فقال أبو سفيان: فداك أبي وأمي إنك لكريم، لقد حاربتك فنعم المُحارَبُ كنت، ثم سالمتك فنعم المسالَمُ كنت، جزاك الله خيرًا (¬6). ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 493 - 494، والأفائل جمعُ أفيل، وهي الصغار من الإبل. (¬2) انظر "الطبقات الكبرى" 5/ 162، والخبر فيه أوضح مما هنا. (¬3) "الطبقات" 6/ 112. (¬4) "السيرة" 2/ 496، و"المغازي" 3/ 948. (¬5) انظر "الطبقات" 4/ 231، وفيه: اسمه جعال. (¬6) "المغازي" 3/ 944 - 945.

ذكر معاتبة الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وقال حكيم بن حزام: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحنين مئة من الإبل فأعطانيها، ثم سألته مئة فأعطانيها، ثم سألته مئة فأعطانيها، ثم قال: "يا حكيمُ بنَ حزامٍ، إنَّ هذا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوٌ، فَمن أَخَذَه بسخَاءِ نفسٍ، بُورِكَ له فيهِ، ومَن أَخَذَه بإشرافٍ، لم يُبارَكْ له فيهِ، وكانَ كالذي يَأكُلُ ولا يَشبَعُ، واليدُ العُليا خَيرٌ مِنَ السُّفلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ". فكان حكيم يقول: والذي بعثك بالحق لا أَسْأَلُ أحدًا بعدك شيئًا. وكان عمر بن الخطاب رضوان الله عليه يقول: أيها الناس إني أشهدكم على حكيم أنِّي أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه (¬1). قال الواقدي: والثابت أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى هؤلاء من الخُمْسِ (¬2). وأَمَر زيدَ بنَ ثابتٍ بإحصاءِ الغَنائم ففعل، وكان أبو حذيفة العدوي يتقاسم الغنم (¬3). ذكر معاتبة الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال أبو سعيد الخُدري: لما أصاب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الغنائمَ يوم حُنينٍ، وقسم في المنافقِين من قريش وسائر العرب ولم يعطِ الأنصار شيئًا، وَجَدوا في نفوسهم وقالوا: لَقِيَ واللهِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قومه، فقال سعدُ بن عبادة: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنْصار قد وجدوا في نفوسهم عليك، قال: "ولم"؟ قال: لأنك قسمت الغنائم في قريش والعرب، ولم يك فيهم من ذلك شيء، قال: "فأَينَ أنتَ من ذلكَ يا سعدُ"؟ قال: ما أنا إلاّ امرؤ من قومي، قال: "فاجْمَعْ لي قَومَكَ"، فجمعهم في حظيرة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا فحَمِدَ الله وأثنى عليه وقال: "يا مَعاشِرَ الأنصارِ، أَلَم آتكُم ضُلَّالًا فَهَداكُمُ اللهُ بي؟ وعَالةً فَأَغناكُمُ اللهُ بي؟ وأَعَداءً فَألَّفَ بينَ قُلُوبكُم بي"؟ ، قالوا: بلى، قال: "أَلاَ تُجيبُونَني" قالوا: وما نقول؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1472)، ومسلم (1035)، وأما قوله: "وابدأ بمن تعول" فهو قطعة من حديث أخرجه البخاري (1427)، ومسلم (1034) من حديث حكيم بن حزام أيضًا، وهذا اللفظ بأجمعه من المغازي 3/ 945. (¬2) "المغازي" 3/ 948. (¬3) انظر "المغازي" 3/ 949.

ذكر إسلام مالك بن عوف النصري

قال: "قُولُوا، ولو شِئتُم لَقُلتُم فُصُدَّقْتُم: جِئتَنَا طرِيدًا فَآوَيناكَ، وعَائِلاً فآسَيْنَاكَ، وخائفًا فأَمَّناكَ، ومَخذْولاً فنَصرناكَ"، فقالوا: المنُّ لله ورسوله. فقال: "أَوجَدْتُم في لُعاعَةٍ مِنَ الدُّنْيا أَلَّفْتُ بها قومًا ليُسْلِموا، وَوَكَلْتُكُم إلى إسلامِكُم؟ أَلاَ ترضَوْنَ أَن يذهبَ الناسُ إلى رحالهم بالشَّاءِ والبَعيرِ، وتذهبون إلى رِحالِكُم برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والذي نَفسي بيَدهِ، لو أنَّ الناسَ سَلَكُوا شعْبًا وَسَلكتِ الأنصارُ شِعْبًا، لَسَلكْتُ شِعْبَ الأَنْصارِ"، فبكى القوم حتى اخْضَلَّتْ لِحاهُم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله (¬1). ذكر إسلام مالك بن عوف النّصري: [وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوفد هوازن، وسألهم عن مالك بن عوف: ما فعل؟ ] (¬2) فقالوا: هو بالطائف، فقال: "أخبروه فإن أتاني مُسلمًا رَدَدْتُ عليه أهلَه ومالَه وأعطيتُه مئةً من الإبل" فأُخْبِرَ مالكٌ فخرج من حصن الطائف فحبسوه (¬3)، فأمر براحلته فهيئت، وأمر بفرس له فأُتي به، فخرج ليلًا حتى لحق برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالجِعِرانة أو بمكَّةَ، فردّ عليه ماله وأهله، وأعطاه مئة من الإبل، واستعمله على من أسلم من قومه (¬4). * * * وفي هذه الغزاة قال ذو الخُويصرة واسمه - حُرقوص بن زهير - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اعدل فما عدلت. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: أتى ذو الخويصرة التميمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم الغنائم بحنين فقال: يا محمد، قد رأيتُ ما صنعتَ، فقال: "وكيفَ"؟ قال: لم أَرَكَ عَدَلْتَ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إذا لم يكُنِ العَدلُ عِندي، فَعِندَ مَن يَكُونُ؟ ! " فقال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، فقال: "دَعهُ، فإنَّه سيكونُ لهذا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (11730). (¬2) ما بين معقوفين زيادة من "السيرة". (¬3) هكذا جاء النص في نسخنا، وجاء في "السيرة": فخرج إليه من الطائف، وقد كان مالك خاف ثقيفًا على نفسه، أن يعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ما قال، فيحبسوه، فأمر .... (¬4) "السيرة" 2/ 491.

فصل في المؤلفة قلوبهم

شِيعَةٌ يتعَمّقون في الدِّين حتى يمرُقونَ منه كما يُمرقُ السّهمُ مِن الرَّمِيَّة" (¬1). وذكر الطبري: أنّ ذا الخُوَيصرة قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مالٍ بعثه علي - عليه السلام - من اليمن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). [عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي من اليمن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) بذهبة في أديم مقروظٍ لم تُحَصَّلْ من تُرابها، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة: بين زيدِ الخيل، والأقرعِ بن حابس، وعيينةَ بن حِصْن، وعلقمةَ بن عُلاثَةَ أو عامرِ بن الطُّفَيْلِ، فوجدَ من ذلك بعضُ الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ تَأَمَنُوني وأنا أَمينُ مَنْ في السَّماءِ يَأْتينِي خَبرُها صَباحًا ومَسَاء"؟ . ثم أتاه رجل غائرُ العينينِ مشرفُ الوجنتينِ، ناشِزُ الجبهةِ، كثُّ اللحيةِ، مشمِّرُ الإزارِ، محلوقُ الرأسِ فقال: اتّقِ الله يا رسولَ الله، فرفع رأسه إليه وقال: "وَيحكَ، أليسَ أَحَقُّ أَهلِ الأَرض أن يَتَّقيَ اللهَ أَنَا؟ " ثم أَدْبَرَ، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلَعلَّه يكونُ قد صلَّى" فقال خالد: رُبَّ مصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لم أُوْمَر أَن أُنَقِّبَ عن قلُوبِ النَّاسِ، ولا أَشقّ بُطُونَهم" ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "سَيخرُجُ مِن ضِئضِئِ هذا .. وذكره" (¬4). فصل في المؤلفة قُلوبهم فمنهم: الأَقْرع بنُ حابس التَّميمي المجاشعي، جُبَيْر بن مُطْعِم بن عدي، الحُرُّ بن قيس، الحارث بن هشام بن المغيرة، حويطب بن عبد العزى، حكيم بن حزام، حكيم ابن طليق، خالد بن قيس، سعيد بن اليربوع، سهيل بن عمرو، صَخر بن حرب، صفوان بن أمية، العلاء بن جارية الثقفي، العباس بن مِرداس السُّلَمي، عبد الرحمن بن يربوع، علقمة بن عُلاثة، عُمَيْر بن وهب، عمر بن مرداس، عمر بن مالك أبو السنابل، عيينة بن حِصْن، قيس بن عدي، قيس بن مَخْرمةَ، مالك بن عوف، مَخْرَمةُ بن نوفل، ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 496، وأخرجه أحمد في "مسنده" (11537). (¬2) "تاريخ الطبري" 3/ 92. (¬3) ما بين معقوفين زيادة من مصادر التخريج. (¬4) أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064).

معاوية بن أبي سفيان، الحارث بن علقمة بن كَلَدَة وأخُوه النَّضْر، هشام بن عمرو، وقيل: زيد الخيل. قال عمرو بن العاص: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس بين أصحابه يتحدَّثُ يُقْبِلُ بوجهه على أهلِ الرُّتَب يتألَّفُهم بذلك، فكان يقبل بوَجْههِ وحديثهِ عليَّ، حتى قلتُ: ما في أصحابه أحدٌ أحبُّ إليه مني، فسألته يومًا عن شيء ووَدِدْتُ أني لم أكن سألته فقلت: يا رسولَ الله، أَيما أحبُّ إليك أنا أم أبو بكر؟ فقال: "أَبُو بَكرٍ" فقلت: عمر فقال: عمر، وذكر عثمان وعليًا وجماعةً من أصحابه وهو يقول: فلان لمن أذْكُرُه ولم يذكرني، فعلمت أنه كان يتألَّفُني (¬1). وقال أنس: كان الرجل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء يعطاه من الدنْيا، فلا يمشي حتى يكون الإسلامُ أَحبَّ إليه من الدنيا وما فيها (¬2). وقال الشعبي: لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم أحدٌ، إنّما كانوا على عَهْدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما وَليَ أبو بكر رضوان الله عليه انقطعت الرشا (¬3). وقال الشافعي: المؤلفة قلوبهم صِنْفان: مسلمون مجاهدون في سبيل الله، ومشركون أشراف مُطاعون، فالمشركون لا يُعْطَوْن شيئًا، أما المسلمون فأَرى أن يُعْطَوْا من الخُمْس ما يُتَألَّفُون به سوى سهامهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتألَّفُ أقْوامًا في صدر الإسلام (¬4). وقال أبو جعفر محمد بن علي: سهم المؤلفة قلوبهم ثابت لم يتغير. قال المصنف رحمه الله: وكان أشدَّهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيينةُ بن حِصْن بن حذيفة بن بدر من بني فَزارة، [واسم فزارة] (¬5) عمرو، فضربه أخ له ففزره، وكنيته أبو مالِكٍ، ويقال لهم: بنو اللَّقيطة لأن جدَّتهُم وُجِدت لَقيطةً فَنُسِبوا إليها، وجدُّه حذيفةُ ¬

_ (¬1) أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 15 وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (12050). (¬3) ذكره البيهقي 7/ 20. (¬4) "الأم" 3/ 209. (¬5) ما بين معقوفين زيادة من "الطبقات" 6/ 174.

كان سيَّدَ غَطفان وقتلته بنو عبس، وابنه حِصْن كان سيدًا قتلته بنو عَقيل، وكان عيينة سَبَب الفِجار الثاني، لأنه أغار على سوق عُكاظ. وأسلم قبل الفتح وكان منافِقًا، وارتدَّ وقاتل المسلمين مع طُليحة، ثم عاد إلى الإسلام فقبله أبو بكر رضوان الله عليه وأمَّنه. وعاش إلى زمن عثمان - رضي الله عنه - ودخل عليه، فقال له: يا عثمان، سِرْ فينا بسيرة عمر، فإنه أعطانا حتى أغنانا، فقال: والله ما كنتَ راضيًا بسيرة عمر، ثم قال له: هل لك إلى العشاء؟ فقال: إني صائم، فقال: أتواصل؟ فقال: وما الوصال؟ قال: تَصِلُ يومَك بليلتِك، فقال: لا، صيامُ الليل أهونُ عليّ من صيام النهار. وذهبت عيناهُ في أيام عثمان - رضي الله عنه - ومات فيها، ولم يضبط تاريخُ وفَاته. وأما الأقرع بن حابس بن عِقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي، وكان سَيِّدَ قومِه، واسمه فراس، ولقب الأقرع لقرعٍ كان في رأسه، وهو نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحُجُرات، شهد حُنَينًا والطائف، قيل: وفتحَ مكة، وأسلم قبل الفتح، وشهد مع خالد بن الوليد مشاهده كلها واليمامة، ولم يذكر تاريخ وفاته، وقيل: إنه استعمل على جيش فدخل الجوزجان فأُصيبَ هو والجيش، وروى الحديث. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدَّثنا عفان، حدَّثنا وُهَيب، حدَّثنا موسى بن عُقبة، حدَّثني أبو سلمة ابنُ عبد الرحمن، عن الأقْرعِ بن حابِسٍ أنه نادى: يا رسول الله من وراءِ الحجرات، فقال: يا رسول الله، إن حَمْدي لزَيْنٌ، وإن ذمي لشَيْن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاكَ اللهُ عزَّ وجَلَّ" (¬1). وأما العباس بنُ مِرْداس بن أبي عامر، أبو الهيثم، وقيل: أبو الفضل السُّلَمي، وكان [العباس بن] (¬2) مِرداس ممّنْ حرَّم شربَ الخمر في الجاهلية وقيل: هو أول من حرَّمها. وقال الزبير بن بكار: كان العباس فارِسًا شاعرًا، وأسلم قبل الفتح، ووافى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقُدَيْدٍ في ألف فارسٍ من قومه. وقيل: في تسع مئة عليهم الدروع والسلاح التام، وبأيديهم القنا. وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين، ولم ينزل مكة ¬

_ (¬1) مسند أحمد (15991). (¬2) ما بين معقوفين زيادة من "الإصابة" 2/ 272.

ذكر رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة إلى المدينة

ولا المدينة بل البادية، وكان يغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع إلى بلاد قومه، وكانت له بدمشق [دار] وبقيَّةٌ (¬1). وقال أبو الفرج الأصبهاني (¬2): كان العباس فارسًا شاعرًا، شديد العارضة والبيان، سيدًا في قومه من كِلا طرفيه، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وأمه الخنساء بنت عمرو بن الشريد. ذكرُ رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجِعِرانة إلى المدينة وأقام بالجِعِرانة ثلاث عشرة ليلة، وخرج منها ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعْدة ليلًا، فأحرم من مُصَلّاهُ، فلم يزل حتى دخل مكة واستلم الركن، ويقال: إنه لما نظر إلى البيت قطع التلبية وأناخ راحلته عند باب بني شيبة، ودخل وطاف ثلاثة أشواط يرمل فيها وتمم طوافه، ثم خرج فسعى بين الصفا والمروة على راحلته، وحَلَق رأسه عند المروة أبو هند عَبْدُ بني بياضة، وقيل: حلقه خِراش بن أمية، ولم يَسُقْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هَدْيًا، ثم خرج من مكة فسلك على الجِعِرانة، ثم على سَرِف حتى انتهى على مَرِّ الظهران. واستعمل على مكة عتَّاب بنَ أَسِيد وقال له: "استعملتك على أهل الله" وخلَّفَ معاذ بن جبل وأَبا موسى الأشعري يُعَلِّمانِ الناسَ القرآنَ والفِقْهَ، وأقام الحج في هذه السنة عتاب بن أسيد، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مُدَّتِهم (¬3). وقدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة يومَ الجمعةِ لثلاثٍ بَقيْنَ من ذي القعدة. وفيها: تزوجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الكلابيةَ، واسمها: فاطمة بنت الضحاك، وقيل: عَمْرَةُ بنت يزيد بن عُبَيْد بن كِلاب، وقيل: العالية بنت ظبيان، وقيل: هي التي استعاذت منه فقال لها: "الحقي بأهلك"، فكانت تقول: أنا الشقيةُ. وقيل: إنها من بني بكر بن ¬

_ (¬1) هكذا جاء في نسخنا، وجاء في "الطبقات" 5/ 162: ولم يسكن العباس بن مرداس مكة ولا المدينة، وكان يغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرجع إلى بلاد قومه، وكان ينزل بوادي البصرة وكان يأتي البصرة كثيرًا، وبقية ولده ببادية البصرة وقد نزل قوم منهم البصرة. وما بين معقوفين زيادة من "تاريخ دمشق" 26/ 403. (¬2) "الأغاني" 14/ 294. (¬3) "المغازي" 3/ 959 - 960.

كلاب، ولما وصفها أبوها لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وأزيدك أنَّها لم تمرض قط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لهذه عند الله من خير" فطلَّقها. وقيل: إنه دخل بها، ولما خَيَّر نساءه اختارت قومها ففارقها. وقيل: وجد بكَشْحِها بياضًا ففارقها، وتوفيت سنة ستين في قومِها (¬1). وفيها: وَفَدَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - امرؤ القيس بن عابس بن المنذر بن امرئ القَيْس بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن كِنْدةَ، وهو ثور بن عقيل بن سبأ بن يَشجُب بن يعرُب بن قحطان الكندي، فأسلم ورجع إلى بلاده، ولما توفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثبتَ على إسلامه ومنع قومه من الردة لما ارتَدَّ بعضهم مع الأشعث بن قيس، وهو من الطبقة الرابعة ممن وفد وشهد اليرموك، ونزل بَيْسان من أرض الشام. وفيها: طلَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة بنت زمعة، فجعلت يومها لعائشة - رضي الله عنها - فردَّها، وقيل: إنّه عَزَم على طلاقها فتركها. وفيها: غلا السعر بالمدينة فقالوا: يا رسولَ الله سعِّر لنا، فقال: "إنَّ اللهَ هو الخَالِقُ البَاسِطُ الرزَّاقُ المُسَعِّرُ، وإنِّي لأَرجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ ولا أَحَدٌ يُطالِبُني بمَظْلِمةٍ ظَلمتُه إِيَّاها" (¬2). وفيها: قَدِمَ عُرْوَةُ بن مسعود الثقفي من الطائف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيها: وُلِدَ إبراهيمُ - عليه السلام - ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مارية، في ذي الحجة، وكانت قابلته سلمى مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته، فأخْبَرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فوهب له عبدًا، وعقَّ عن إبراهيم شاةً يوم سابعِهِ، وحلق رأسه وتصدق بوزنه فضةً على المساكين، ودفن شعره في الأرض، وشقَّ مولدُه على نساءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا مثلَ عائشة رضوان الله عليها (¬3). وتنافس فيه نساءُ الأَنْصار، أَيهنَّ ترضعه، فدفعه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أُمِّ بُرْدَة بنت المنذر بن زيد وزوجها البراء بن أوس أَنْصاري، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقيل عندها، وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثُلَّةُ غنَمٍ يروح عليها، ولبنُ لِقَاحٍ، فقال لعائشة: "انظُرِي إلى ¬

_ (¬1) "الطبقات" 10/ 136 - 137. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (14057) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) انظر "الطبقات" 1/ 112.

زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

شَبَهي" فقالت: ما أرى شبهه، فقال: "ألا تَرَيْ إلى بَيَاضِه ولَحمِهِ" (¬1). وقال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولد لي البارحة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، فجاءني جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم". قال أنس: ودفعه إلى أم سيف، امرأة قَيْنٍ بالمدينة، فجاء يومًا وقد امتلأ البيت دُخانًا، فقلت لأبي سيف: أمسك فقد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمسك، ودعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبي فضمَّه إليه، وقال ما شاء اللهُ أن يقول (¬2). وفيها توفيت زينبُ بنتُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأمها خديجة - رضي الله عنها -، وكانت أكبرَ بناته، وزوجُها: أبو العاص بن الربيع في الجاهلية ثم أسلم، وكانت زينب - عليها السلام - أسلمت قبله بست سنين، فردَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنكاح الأول، لم يحدث شهادة ولا صَداقًا. ورُويَ أنه ردَّها بنكاحٍ جديد وولدت له عليًا وأمامة، فأما علي فتوفي وقد ناهز الحُلُمَ، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح وهو رديفُه على ناقته وقيل: إنه عاش بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو وهم. وأما أمامةُ فهي التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحملها في الصلاة على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها (¬3). وأهدى النجاشي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حِلْيةً فيها خاتمٌ من ذهب، فبعث به إلى أمامة، وقال: "تحلَّيْ بهذا يا بُنيَّة" (¬4). ولما توفيت فاطمةُ - عليها السلام - تزوَّج علي رضوان الله عليه أمامةَ، زوجه إياها الزبير بن العوام - رضي الله عنه - وكان أبو العاص أوصى إليه، ولما احْتُضِرَ علي - عليه السلام - قال لها: لا آمن أن يَخْطُبَكِ هذا الطاغيةُ بعد موتي - يعني معاوية - فإن كان لك في الرجال حاجةٌ فقد رضيت لك المغيرة بن نَوْفل عشيرًا. ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 114. (¬2) "الطبقات" 1/ 113. (¬3) أخرج البخاري (516)، ومسلم (543) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا ركع وسجد وضعها، وإذا قام حملها. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24880).

عروة بن مسعود

فلما انقضت عِدَّتُها كتب معاوية إلى مروان بن الحكم يأمره أن يخطبها عليه وبذلَ لها مئة ألف دينار، فأرسلت إلى المغيرة وأخبرته وقالت: هذا خطبني، فإن كانت لك بي حاجة فأَقْبِل، فجاء إلى الحسن - عليه السلام - فخطبها إليه فزوَّجه إياها (¬1). وقال ابن سعد: لما قُتِلَ عليٌّ رضوان الله عليه خطبها معاوية، فقال لها المغيرة بن نوفل: أتتزوجين بابن آكلة الأكياد، فلو جعلت أمرك إلي، قالت: نعم، فقال: قد تزوجتُكِ، قال ابن أبي ذئب: فجازَ نِكاحُهُ (¬2). وقال شيخنا موفق الدين رحمه الله: أهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلادة من جَزْعٍ فقال: "لأَدْفَعَنَّها إلى أَحَبِّ أَهلِي إليَّ" فقال النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمامة بنت زينب فعلَّقها في عنقها (¬3). وقال الواقدي: كانت أم أيمن وسودة بنت زمعة وأم سلمة فيمن غَسَّل زينب - عليها السلام -، وقال لهنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسِلْنَها وِتْرًا: ثلاثًا أو خَمسًا أو سَبعًا، واجعَلْنَ في الماءِ سِدْرًا وفي الأخيرةِ كافورًا، وابْدَأْنَ بميَامِنِها ومواضعِ الوُضوءِ منها". قالت أم عطية: فجعلنا رأسها ثلاثة قرون: ناصيتها وقرنيها، وألقَيناه خلفها، ثم دفع إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إزاره وقال: "أَشْعِرْنَها إيّاهُ" ففعلنا، ثم أدنَيْناها منه فصلى عليها ونزل في قبرها (¬4). وقال أنَس: شهدنا ابنة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس على القَبْرِ وعيناه تدمعان فقال: "هَل فيكُم رجلٌ لم يقارِف الليلةَ"؟ فقال أبو طلحة: نعم أنا، قال: "انزل" فنزل في قبرها (¬5)، سلامُ الله ورحمته ورضوانه عليها. عروة بن مسعود ابن معتِّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، وهو قسي بن منبِّه ¬

_ (¬1) انظر "الإصابة" 4/ 237. (¬2) "الطبقات" 10/ 40. (¬3) التبيين 225. (¬4) انظر "الطبقات" 10/ 35، وأخرجه البخاري (1253)، ومسلم (939) من حديث أم عطية - رضي الله عنه -. (¬5) أخرجه البخاري (1285).

ابن بكر بن هوازن بن منصور، أَبو يَعْفور الثقفي، وأُمه سُبيعةُ بنت عبد شمس بن عبد مناف بن قُصيّ. قذف الله في قلبه الإسلام فقدِم المدينةَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم في ربيع الآخر فسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بإسلامه، ونزل على أبي بكر رضوان الله عليه وقال: يا رسولَ الله، ائذنْ لي أن أذهبَ إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، فأقدُمُ عليهم بِخَيْرِ ما وفد وافِدٌ على قومِه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم إذًا قَاتِلُوكَ" فقال: يا رسولَ الله، لأنا أَحبُّ إليهم من أَبكارِ أولادهم، ثم استأذنه ثانيًا، فقال له مِثْلَ قوله الأول، وقال له: يا رسولَ الله، لو وجدوني نائمًا ما أَيقظوني، ثم استأذنه ثالثًا فقال له: "إن شِئتَ فاخرُجْ". فسار إلى الطائف فقدمه عَشِيًّا ودخل منزلَه ليلًا، فأنكر قومُه دخولَه منزِلَه، فحيَّوْه بتحيَّةِ الشرك فقال: عليكم بتحية أهل الجنةِ، ثم دعاهم إلى الإسلامِ فاتهموه وقالوا: واللاتِ والعُزّى لقد وقع في نفوسنا حيث لم تحلقْ رأسَكَ أنك قد صبأتَ، ونالوا منه فحلُم عنهم، وخرجوا من عنده يأتمرون كيف يصنعون به، حتى إذا طلع الفجرُ أَوفى على غُرْفَةٍ له فأذَّن بالصلاة، فرماه رجلٌ من رهطه من الأحلافِ يقال له: وهب بن جابر بسَهْمٍ، وقيل: إنّ الذي رماه أَوسُ بن عوفٍ من بني مالكٍ وهو أَثبت، وكان عروةُ من الأحلافِ فأصابَ أكحله فلم يرقأ دمُه، وحَشَد قومُه ولبسوا السلاحَ، وفعل الآخرون كذلك، فلمّا رأى عروةُ ذلك قال: لا تقتلوا بي، فإني قد تصدَّقْتُ بدمي على قاتلي لأُصلحَ بينكم، فهي كرامةٌ أكرمني الله بها، وهي الشهادةُ ساقها الله إليَّ، ثم قال: أشهدُ أن محمدًا رسولُ الله، أخبرني أنكم تقتلوني، ثم قال لرهطهِ: ادفنوني مع الشُّهداء الذين قُتِلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يرتحلَ عنكم، فدفنوه معهم، وبلغَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قتلُه فقال: "مَثلُ عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الصلاة فقتلوه" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 960 - 961، و"الطبقات" 8/ 64 - 65.

السنة التاسعة من الهجرة

السنة التاسعة (¬1) من الهجرة فيها: قدم وفدُ بني أَسدٍ في أولِ المحرَّم إلى المدينة، وفيهم: طُلَيْحَةُ بن خُويلد بن نوفل، وكان يُعَدُّ بأَلفِ فارسٍ. وكان في الوفد ضرار بن الأزور والحضرمي بن عامر، فقال حضرمي: يا رسول الله، لقيناك مُتَدَرِّعين الليل البهيم في سنة شهباء لم تبعثْ إلينا بعثًا ولم تُرسِلْ إلينا رسولًا، ثم أسلم طُليحة وأخوه سلمة والقومُ، ثم ارتدّ طُليحة وأخوه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ويقال: إن فيهم نزل قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17]. وفيها: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى هلال المحرم المُصَدِّقين إلى العرب، فبعث بُريدةَ إلى أسلم وغفار، وعبادَ بنَ بِشرٍ إلى سُلَيْمٍ ومُزَيْنَة، ورافعَ بنَ مَكِيثٍ إلى جُهَيْنَةَ، وعمرو بنَ العاص إلى فَزارةَ، والضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كِلاب، وبُسْر بن سفيان إلى بني كعب، وابن اللُّتْبيَّة الأَزْدي إلى بني ذُبْيان، وبعث رجلًا من بني سعد على صدقاتِهم. وقيل: إنما سعى على بني كعب نُعيم بن عبد الله النَّحَّام العدوي، فجاء وقد حلَّ بنواحيهم من بني تميم بنو عمرو وهم يشربون على غدير بذات الأشطاط، وقيل: وجدهم على عُسْفان، فأمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منها الصدقة، فَحَسَرَتْ عليه خزاعة الصدقة من كل ناحية، فاستنكر ذلك بنو تميم وقالوا: ما هذا؟ أتؤخذ أموالكم منكم بالباطل؟ فقاموا إلى السلاح، فقال الخزاعيون: نحن قوم نَدينُ بدينِ الإسلام وهذا من ديننا، وقال التميميون: والله لا يصل إلى بعير منها أبدًا، فهرب المصدِّقُ خوفًا على نفسه، والإسلام يومئذٍ لم يَعُمَّ العربَ، وقَدِمَ المُصَدِّقُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر، وأخرجت خزاعةُ بني تميم من بلادهم، وقالوا: لولا قرابتكم لما وصلتم إلى بلادكم، ليدخُلَنَّ علينا من محمدٍ بلاءٌ وعداوة، وعلى نفوسكم، فقال ¬

_ (¬1) في النسختين: السابعة، وهو خطأ. (¬2) ثم أسلم طليحة بعد وفاة أبي بكر، وقال ابن سعد: وأسلم طليحة إسلامًا صحيحًا ولم يغمص عليه في إسلامه، وشهد القادسية ونهاوند مع المسلمين. "الطبقات" 6/ 156.

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لِهؤلاءِ الذين فَعَلوا ما فَعَلوا"؟ فقال عيينةُ بن حِصن: أنا والله لهم، أتبع آثارهم وآتيك بهم إن شاء الله فترى فيهم رأيك أو يُسْلموا. وخرج في خمسين فارسًا من العرب ليس منهم مُهاجريٌّ ولا أَنْصاريٌّ، وكان يكمن بالنَّهارِ ويسير بالليل، حتى انتهى إلى العَرج، فاقتصَّ آثارهم فوجدهم قد عدلوا من السُّقيا يريدون أرض بني سُليم، فنزلوا في صحراء وسرَّحوا مواشيهم والبيوت خُلوف ليس فيها إلا النِّساءُ ونفرٌ، فاخذ منهم أَحَدَ عَشَرَ رَجلًا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيًّا، وقَدِمَ بهم المدينةَ فحبسهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في دار رملة بنت الحارث (¬1). وفيها: قدم وفد تميم بهذا السبب وهم عشرة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب بن زُرارة، والزِّبْرِقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، وتميم (¬2) بن سعد، وعمرو بن الأَهتَم، والأقرع بن حابس، ورياح بن الحارث بن مجاشع، فدخلوا المسجد قبل الظهر وسألوا عن سَبْيِهم فأُخبروا أنهم في دار رملة، فجاؤوهم فبكى الذراري والنساءُ، فرجعوا حتى دخلوا المسجد ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ في بيت عائشةَ رضوان الله عليها وقد أذَّن بلال الظُّهرَ والناس ينتظرون خروجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتعجلوا خروجه، فنادَوْا: يا محمد، اخرج إلينا، فقال بلال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج الآن، وخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام بلالٌ الصلاةَ فتعلقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلِّمونه ويقولون له: أتيناك بخطيبنا وشاعِرِنا فاستمع لهم، وصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ، ثم دخل بيته فصلى ركعتين، ثم خرج فجلس، فقام عطارد بن حاجب فخطب وقال: الحمد لله الذي له الفضل علينا، والذي جعلنا ملوكًا وأعطانا الأموال نفعل بها المعروف، وجعلنا أَعزَّ المَشْرِق وأكثرهم مالًا وعددًا، فمن مِثْلُنا في الناس، فمن فاخَرنا فَلْيُعَدِّدْ مثلَ ما عَدَّدْنا، ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله، أقول هذا إلا أن يأتي من يقولُ ما هو أفضل منا (¬3). فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس بن شمّاس: "قُم فأَجِبهُم" فقال: الحمد لله الذي ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 973 - 975. (¬2) ذكره ابن حجر في "الإصابة" 1/ 185 وقال: كان في وفد تميم الذين قدموا وأسلموا، وذكره أيضًا 3/ 567 في نعيم وقال: ذكره ابن سعد فيمن قدم في وفد تميم. (¬3) انظر "السيرة" 2/ 562.

خلق السماواتِ والأرضَ، وقضى فيهما أمره، ووَسِعَ كلَّ شيءٍ علمُهُ، ثم كان فيما قدَّر لنا وأنعَم علينا أن اصطفى من خلقه رسولًا، أكرم الناس نَسبًا، وأشرفهم حسبًا، وأحسنهم زِيًّا، وأصدقهم حديثًا، أنزلَ عليه كتابَهُ، وجعله أمينًا على خلقه، وكان خِيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان بالله، فآمن به المهاجرون من قومه، ثم كنا أول الناس إجابةً له، فنحن أنصارُ الله ورسولهِ، نقاتِلُ الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلّا الله، فمن آمن بالله ورسوله مَنع منَّا دمَه وماله، ومن كفر بالله ورسولهِ جاهدناه وكان قتله علينا يسيرًا. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم قَعَدَ. فقالوا: يا رسولَ الله، ائذن لشاعِرنا، فأذن له، فقام الزبرقان بن بدر فقال: [من البسيط] نحن الملوك فلاحيٌّ يعادِلُنا ... فينا الملوك وفينا تُنْصَبُ البِيَعُ وكم قَسَرْنا من الأحياءِ كُلِّهِمُ ... عند النِّهاب وفَضلُ الخير يُتَّبَعُ ونحن نُطعِمُ عند القَحْطِ ما أَكلُوا ... من السَّديفِ إذا لم يُؤنَسِ القَزَعُ وننحر الكُومَ عَبْطًا في أَرومتِنا ... للنَّازلين إذا ما استُنْزِلوا شَبِعوا ولا ترانا إلى حَيٍّ نُفَاخِرُهم ... إلا استَعاذوا وكادَ الرأسُ يُقْتَطَعُ فمَن يُفاخِرُنا في النَّاس نَفْخَرُهُ ... فيَرجعُ القَولُ والأخْبَار تُسْتَمَعُ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان: "يا حسانُ، أَجبْ" فقام قال: [من البسيط] إنَّ الذَّوائبَ من فِهْرٍ وإخْوَتِهم ... قد شرَّعوا سُنَّةً للناسِ تُتَّبَعُ أكرِمْ بقومٍ، رسولُ الله شِيعتُهم ... إذا تفرَّقتِ الأهواءُ والشِّيَعُ وأَنَّهم أفْضَلُ الأحياءِ كُلِّهِم ... إنْ جَدَّ بالناسِ جِدُّ القولِ أو شَمِعُوا قومٌ إذا حاربوا رَدُّوا عَدُوَّهُمُ ... أو حاوَلُوا النَّفْع في أشْياعِهم نَفَعوا إن كان في الناس سَبَّاقون بَعدهُمُ ... فكلُّ سَبْقٍ لأَدْنى سَبقهم تَبَعُ أَهْدى لهم مِدَحًا قلبٌ يُؤازِرُهُ ... فيما أحب لسان حائكٌ صَنَعُ من أبيات (¬1). ¬

_ (¬1) المغازي 3/ 977 - 978، والسيرة 2/ 563 - 564.

وخلا الوفد بعضهم إلى بعض فقالوا: والله خطيبُهم أبلغُ من خطيبنا، وشاعرهم أَشعرُ من شاعِرنا وهم أَحْلَمُ منّا، وأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4] وردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسرى والسبي وأجازهم فأحسن جوائزهم، وكان عمرو بن الأهتم في رِحالهم وظَهْرِهم ومن أحدثهم سِنًّا، وقيس بن عاصم يبغضه فقال: يا رسول الله إنه قد تخلَّفَ غلام منا في رحالِنا وهو حَدَثٌ لا شرَف له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن كان فإنَّه وافدٌ وله حقٌّ". فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أعطى واحدًا من القوم، وبلغ عمرًا فقال يهجو قيس بن عاصم: [من البسيط] ظَلِلْتَ تغتابُني سِرًّا وتشتُمني ... عند الرسول فلم تصدقْ ولم تُصِبِ سُدْناكمُ سُودَدًا رَهْوًا (¬1) وسؤدَدُكُم ... بادٍ نواجذهُ مُقْعٍ على الذَّنَبِ إن تُبغضونا فإن الرومَ أصلُكُمُ ... والروم لا تملكُ البغضاءَ للعرب وقال أبو إسحاق الثعلبي: جاءت بنو تميم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادوا على الباب: يا محمد اخرج إلينا، فإن مدحَنا زَيْنٌ وذمنا شيْنٌ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "إنما ذلكم الله، مدحُه زَيْنٌ وذمُّه شَينٌ". فقالوا: نحن أناسٌ من بني تميم جئنا بشاعِرنا وخطيبنا لنُشاعِرَكَ ونفاخِرَكَ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالشَّعرِ بُعثتُ، ولا بالفخارِ أُمرتُ ولكن هاتوا" فقال الزبرقان لشاب فيهم: قم فاذكر فضْلَكَ وفضْلَ قومك، وذكر بمعنى ما تقدم. ثم إن حسانَ بنَ ثابتٍ أنشد بعد إجابته لشاعرهم بالأبيات المتقدمة: [من الطويل] نصرنا رسولَ الله والدينَ عَنْوَةً ... على رُغْمِ عاتٍ من مَعَدٍّ وحاضِرِ فأَحياؤنَا مِنْ خَيْرِ مَنْ وَطِئَ الحَصا ... وأمواتُنا من خيرِ أَهْلِ المقابرِ فقام الأقرع وقال: قد قلت شعرًا فاسمعه مني، فإني ما جئت لِما جاءَ له هؤلاء، فقال: "هات" فقال: [من الطويل] أتيناكَ كَيْما يَعْرِفَ الناسُ فَضْلَنا ... إذا جاء أَمْرٌ عند ذكر المكارمِ ¬

_ (¬1) في النسخ: نهزًا، والمثبت من السيرة 2/ 567، وانظر المغازي 3/ 980.

وأَنا رُؤوسُ الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كَدارِمِ وأَنَّ لنا المِرْباعَ في كلِّ غارَةٍ ... تكون بنَجدٍ أو بأَرْضِ التَّهائمِ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا حسان أجبه" فقال: [من الطويل] بني دارم لا تَفْخَروا إنَّ فَخركُم ... يعود وَبالًا عند ذِكْرِ المكارمِ هَبِلْتُم، علينا تفخرون؟ وأَنْتُم ... لنا خَوَلٌ مِنْ بين ظِئرٍ وخادِمِ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كُنْتَ غَنيًّا يا أَخَا بني دارمٍ أن تذكرَ الناس ما كانوا قد نَسوه" فكان قوله - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ من قول حسان. ثم عاد حسان إلى شعره فقال: فإن كُنْتُمُ جِئتُم لحقْنِ دمائِكم ... وأموالِكم أن تُقْسَموا في المقاسِمِ فلا تجعلوا لله نِدًّا وأَسْلِموا ... ولا تَفْخَروا عِنْدَ النبي بدارِمِ وإلاَّ وربِّ البيتِ مالت أكفُّنا ... على هامِكم بالمرهفاتِ الصوارمِ فقال الأقرع: والله إن محمدًا لَمُؤْتى له! تكلَّمَ خطيبُهم فكان أحسنَ قولًا، وتكلَّم شاعرهم فكان أشعرَ من شاعِرنا، ثم قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنك محمدٌ رسولُ الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما يَضُرُّك ما كان قَبْلَ هذا". ثم أعطاهم وكساهم وارتفعتِ الأصواتُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] الآيات، يعني جفاة بني تميم (¬1). * * * وفيها: كانت سرية قُطبَة بن عامر إلى الخَثْعمِ، في صَفَر (¬2). وفيها: كانت سرية الضَّحَّاكِ بنِ سفيان الكلابي إلى القُرَطاءِ إلى بني كِلاب في ربيع الأول (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 5/ 522 - 524، والخبر بتمامه في "تاريخ دمشق" 12/ 409 - 411، وانظر "السيرة" 2/ 564 - 567. (¬2) "المغازي" 3/ 981، و"الطبقات" 2/ 148، و"المنتظم" 3/ 358. (¬3) "المغازي" 3/ 982، و"الطبقات" 2/ 149، و"المنتظم" 3/ 359.

وفي ربيع الأول وَفَدَ وَفْدُ عبد قيسٍ إلى المدينة. قال الواقدي: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البحرين أن يَقْدُمَ عليه عشرون رجلًا من عبد القيس، فقدموا ورَأْسُهم: عبدُ الله بن عوف الأشجُّ، وفيهم الجارود العبدي، ومنقذ بن حيان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مرحبًا بكم وأهلًا، نِعْمَ الوَفْدُ وَفْدُ عَبْدِ القَيْس، أيُّكم الأشجُّ" وكان دَميمًا فقال: أنا، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الأشجُّ: يا رسول الله، المرءُ بأَصْغَرَيْهِ قلبهِ ولسانِه، فقال له: "فيك خَصْلتان يحبهما الله ورسوله: الحِلْمُ والأناةُ" فقال: أشيء حدث أم جُبِلْتُ عليه؟ فقال: "لا بل جُبِلْتَ عليه"، وكان الجارودُ نصرانيًا فأسلم وحسن إسلامَهُ، واسمه بشر، وأنزلهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دار رملة ومسح على وجه منقذ بن حيان، ثم أعطاهم جوائزهم وأحسن إليهم وانصرفوا (¬1). وفيها: كانت سرية الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب، غير السرية الأولى (¬2). وفيها: وَفْدُ بكر بنِ وائل، في ربيع الأول، وكان فيهم بشير بن معبد السَّدوسي وأُمُّهُ الخَصاصيّة أزْدِيّةٌ، قال هشام: هي أُمُّ أَحدِ أجدادِهِ، وأسلم وحَسُنَ إسلامه وصار من أهل الصُّفَّةِ، وماشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فأخذ بيده وقال له: "يا ابن الخصاصية، ما أصبحت تنقم على الله حيث أصبحتَ تُماشي رسول الله"؟ فقال: ما أصبحت أَنْقِمُ شيئًا، قد أعطاني ربي كل خير (¬3). وكان في الوفد حسَّانُ بنُ حَوْط، بحاءٍ مهملة، وفيه يقول بعض ولده (¬4): [من الرجز] أنا ابنُ حسان بن حوطٍ وأبي رسولُ بكرٍ كلها إلى النَّبي * * * ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات" 1/ 271 - 272. (¬2) لم نقف عليها ولعلها كانت في بعثه على الصدقات. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (20787). (¬4) "الطبقات" (1/ 272).

وفيها: كانت سرية علقمة بن مُجَزِّز المُدْلجي إلى جُدَّة في ربيع الآخر (¬1)، بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناسًا من الحبشة تَراآهُمْ أهلُ الشُّعَيْبَةِ: - ساحلٍ بناحية مكَّةَ - في مراكِب، فبعث علقمةَ في ثلاث مئة رجلٍ، فانتهى إلى جزيرة في البحر، فخاضَ الماءَ إليهم فهربوا مِنه فانْصَرف، فلما كان ببعض المنازل استأذنه بعض الجيش في الانصراف حيث لم يَلْقَوا كَيْدًا، فأذِنَ لهم، وأمّر عليهم عبدَ الله بنَ حُذافةَ السَّهْمي، وكان فيه دُعابةٌ فنزلوا ببعض [الطريق] وأوقدوا نارًا يصطلون بها، فقال عبدُ الله: عزمت عليكم إلا تواثبتُم في هذه النار، فقام بعض القوم فتحجَّزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها قال: اجلسوا، إنما كنت أضحك معكم، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَن أَمَركُم بمَعصِيَةٍ فَلا تُطيعُوهُ" (¬2). وفيها: كانت سرية علي - رضي الله عنه - في ربيع الآخر إلى الفُلْسِ (¬3) صنمِ طيّئ، بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في خمسين ومئة رجلٍ من الأنصار على مئة بعير وخمسين فرسًا، فأجنبوا الخيل واعتقبوا الإبلَ حتى أغاروا على حيٍّ من أحياء العرب، وسألوا عن محلَّةِ آلِ حاتمٍ فَدُلُّوا عَليها، فشنُّوا الغارة مع الفجر فسَبَوْا حتى ملؤوا أيديهم من السبي والنَّعم والشاء، وهَدَموا الفلْسَ وكان صنمًا لطيء. وفي رواية: خرج ومعه رايةٌ سوداء مع سهل، ولواء أبيض مع جبار بن صخر، وبين يديه دليلٌ خِرِّيتٌ، فسلكَ بهم طريق فَيْد، فلما انتهى بهم إلى موضع قال: قد بقي بينكم وبين الذي تُريدون يوم، فإن سرتم نهارًا رآكم رعاؤهم فيُنذِروا بكم، ولكن أَقيموا يومكم ها هنا ونمشي ليلتنا فَنُصَبِّحُهم في عماية الصبح، فنزلوا وسرَّحوا إبلهم، فبعث علي رضوان الله عليه أبا قتادة والحُبابَ بنَ المنذر وأبا نائلة على خيولهم يطوفون حول العسكر، فوجدوا غُلامًا أسودَ، فقالوا: من أنت؟ فقال: أطلب بُغْيتي، فأتَوْا به عَليًّا فشدد عليه، فقال: أنا غلام من طيء، بعثوني إلى هذا المكان وقالوا: إن رأيت خيل محمد فَطِرْ إلينا. فقال علي رضوان الله عليه: ما ترَوْنَ؟ ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 639 - 640، و"المغازي" 3/ 983، و"الطبقات" 2/ 149، و"المنتظم" 3/ 359. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (11639). (¬3) "المغازي" 3/ 984، و"الطبقات" 2/ 150، و"المنتظم" 3/ 360.

فقال جبار بنُ صَخْرٍ: أرى أن نَسري ليلًا على خيلنا والعبدُ معنا حتى نصَبِّحَهُم، فقال: سيروا واجعلوا العبد دليلًا وهو مكتوف يردفه بعضهم عقبه، فلما ابهارَّ الليل وقف وقال: أخطأت الطريق وتركْتُها ورائي فرجع بهم مقدارَ ميل ثم قال: أنا على خطأ، فقال علي رضوان الله عليه: أنا منك على خُدَعة، قدَّموه فاضْرِبوا عنقه. فلما رأى السيف قال: أرأيتكم إن صدقتكم أينفعني؟ قالوا: نعم، قال: فإني صنعت ما رأيتم لأنه أدركني ما يدرك الناس من الحياءِ فقلتُ: أقبلتُ بالقوم أدلهم على الحي من غير مِحْنَةٍ، فلما عايَنْتُ القتل كان لي عذرٌ، الحيُّ منكم قريب. فتَسمَّعوا نُباحَ الكلاب، فصبَّحوهم وَقت السَّحَر وسَبَوْا وأخذوا النساء والأموال، فنظرت جاريةٌ إلى العبد وهو موثوق فقالت: هذا عمل رسولِكم أَسْلَمَ، فقال: يا ابنة الأكارم والله ما فعلت حتى قُدّمْتُ لتُضْرَبَ عنقي. وأصابوا أُخْتَ عدي بن حاتم فعزلوها ناحِيةً (¬1). وقال هشام: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخت حاتم في حظيرة، فمرَّ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادته: يا محمد أنا ابنةُ سيد قومي، كان أبي يحمي الذِّمارَ، ويفكُّ العاني، ويَقْري الضَّيْفَ، ويُشْبعُ الجائع، ويُطْعِمُ الطعامَ، ولم يردَّ طالبَ حاجةٍ قط. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذه صِفَةُ المؤمنينَ، لو كانَ أَبوكِ مُؤمنًا تَرحَّمنا عليه، أَطلِقُوا عنها، فإنَّ اللهَ يُحبُّ مكارِمَ الأَخلاقِ". * * * وفي ربيع الآخر قدم وفْدُ تُجيب، وكانوا ثلاثة عشر، ساقوا صدقاتِ أموالِهم إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فسُرَّ بهم وأنزلهم وأحسن إليهم وأجازهم بأكثر مما كان يجيزُ الوفود، وقال: "هل بقي منكم أحد"؟ قالوا: غلام خَلَّفْناهُ في رحالنا، فدعاه وقال: "ما حاجتُكَ"؟ فقال: أن تدعو لي بأن يغفر الله لي ويجعل غِنايَ في قلبي، فدعا له، وأمر أن يُعطى مثل ما أعطى واحدًا مِنْهم، ورجعوا إلى بلادهم، ثم وافَوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالموسمِ سَنَةَ عشر فسألهم عن الغلام، فقالوا: ما رأينا أقنع منه بما رزقه الله تعالى، ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 984 - 987.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأرجو أن نموت جميعًا" فمات الغلامُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في يومٍ واحدٍ (¬1). * * * وفي ربيع الآخر بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الوليدَ بن عُقْبة بن أبي مُعَيْطٍ مُصَدِّقًا إلى بني المصطلق من خُزاعةَ وكانوا قد أسلموا وبَنَوُا المسجد، فلما دنا منهم الوليد خرج إليه عشرون رجلًا يتَلقَّوْنه بالجزور والغنم فرحًا به، فلما رآهم ولَّى راجعًا إلى المدينةِ وأخبرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّهم لقوْه بالسلاح وحالوا بينه وبين الصدقةِ، فهمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليهم من يغزوهم، وبلغ القوم، فقدم عليه الذين لقوا الوليد وقالوا: يا رسول الله هل ناطقَنا أو كَلَّمنا كلمةً واحدةً؟ فأنزل الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} الآية [الحجرات: 6]. وقيل: كان بين الوليد وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمعوا به تلقَّوْه تعظيمًا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فظنَّ أنهم يريدون قتله فهابهم ورجع (¬2). وفيها: قدم عدي بن حاتم إلى المدينة في جمادى الأولى. قال عدي بن حاتم: ما كان رجلٌ من العرب أشدَّ كراهيةً لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مني، لأني كنت رجلًا نصرانيًا شريفًا في قومي مَلِكًا عليهم، فخِفْتُ على مُلْكي ونَفْسي، فقلت لغلامي: أَعْدِدْ لي إبلًا سِمانًا فاحْتَبِسْها قريبًا مني، فإذا سمعت بجيش محمد وطئَ البلاد فآذنّي، فجاء يومًا فقال: هذه جيوشُ محمد، فاحتملتُ بأهلي وقلت: ألحقُ بالشام فأكون عندَ النَّصارى، وخلَّفتُ ابنةَ حاتمٍ بالحاضِر، وجاء علي بن أبي طالب فأصابها فيمن أصابَ وقدم بها على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سبايا طيّءٍ، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - هربي إلى الشام، فجعل ابنة حاتم في حظيرةٍ، وذكر بمعنى ما تقدم من قولها: هلك الوالد وغاب الوافد، فلما كان في اليوم الثالث قال لها: "قد مَنَنْتُ عليك فلا تخرجي حتى تجدي من قومك ثِقةً". قالت: فقدم قوم من قُضاعة فَقلت: يا رسولَ الله قد قدم ركبٌ من قومي لي فيهم ثقة وبلاغٌ، قال: فكساني وأعطاني وحملني ودفع إلي نفقةً، ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 279 - 280. (¬2) "السيرة" 2/ 296، و"المغازي" 3/ 980، و"الطبقات" 2/ 148.

فخرجتُ معهم حتى قدِمْتُ الشامَ. قال عدي: فواللهِ إني لقاعدٌ في قومي إذ نظرت إلى ظعينةٍ تضرب إليّ، فقلت: ابنةُ حاتم؟ ! فإذا هيَ هيَ، قال: فخرجتُ، فقدِمْتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسجده، فسلَّمْتُ عليه فقال: "مَنِ الرجُلُ"؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام وانطلق بي إلى منزله، فلقيته امرأة ضعيفةٌ فاستوقفَتْه فوقف لها، فكلَّمَتهُ في حاجتها فقضاها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملِكٍ، ثم دخل بيته وناولني وِسادةً من أدَمٍ حَشوُها من ليف وقال: "اجلِسْ عليها" فجلست عليها وجلس هو على الأرض، فقلت في نفسي: والله ما هذا بمَلكٍ، ثم قال: "إيهِ يا عديُّ، أَلَمْ تَكُ رَكوسِيًّا"؟ قلت: بلى، قال: "أَلَم تَسِرْ في قَومِكَ بالمِرْباعِ"؟ قلت: بلى، قال: "فإن ذلك لم يك في دينك". الركوسيون: قرية من النصارى والصابئين. والمِرْباعُ: ما يأخذُه المقدَّمُ من الغنيمة، ومعناه: أن الغنائم لم تَحِلَّ لأحد إلا لهذه الأمَّةِ. فقلتُ في نفسي: هذا نبيٌّ مرسلٌ يعلم ما نجهل، فقال: "لعلَّه إنما يمنعُكَ مِن الدُّخولِ في هذا الدِّينِ ما تَرَى من حَاجَتِهم، فَواللهِ لَيوشِكُ أن يَفيضَ المالُ فيهم، حتى لا يُوْجَدَ من يأخُذُهُ، [ولعلَّك إنما يمنعُكَ ما ترى مِن كَثرةِ عَدوِّهم وقلَّةِ عدَدِهم، فَوالله ليوشِكَنَّ يُسمع بالمرأةِ تخرجُ من القادسيَّةِ على بعيرِ، حتى تزورَ هذا البيت لا تخافُ] (¬1)، ولعلَّكَ إنما يمنعُكُ مِن الدُّخولِ فيه ما ترى من المُلكِ والسُّلطانِ، فَواللهِ لَيوشِكَنَّ أن تَسْمَع بالقُصُورِ البيضِ في أَرْضِ بابلَ قد فُتِحَتْ". وأسلم عدي وكان يقول: قد مضت اثنتان وبقيت واحدة، رأيتُ القصورَ البيضَ قد فُتِحَتْ، ورأيت الظَّعينةَ تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئًا حتى تأتي، وايْمُ اللهِ ليفيضَنَّ المالُ حتى لا يوجد من يأخُذُهُ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ما بين معقوفين زيادة من "الطبقات". (¬2) "السيرة" 2/ 578 - 581، و"الطبقات" 6/ 214 - 217، و"تاريخ الطبري" 3/ 112 - 115.

وفي جمادى الآخرة قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واثِلَةُ بن الأَسْقَعِ وهو يتجهَّزُ إلى تبوك فأسلم، ورجع إلى قومه فهجره أبوه وقال: والله لا أكلمه أبدًا، وسمعته أختُه فأسلمت وجهَّزتْهُ إلى تبوك، فلحق برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فجهزه مع خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِر دومةَ، فجاء بسَهْمه من الغنيمةِ إلى كَعْب بن عُجْرَةَ، وكان قد حمله من المدينة إلى تبوك على جمله، وكان واثلةُ قد قال: من يَحْمِلُني وله سهمي؟ فقال له كعب: إنما حملتُك للهِ، ولم يأخذْ منه شيئًا (¬1). وفيها: كانت غزاة تبوك (¬2). كانت الأنباط يَقْدُمونَ المدينة من الشام بالزيت ودقيقِ الحُوَّارَى، فكانت أخبارُ الشام عند المسلمين بهذا السبب، فقدمت قادمةٌ مِنْهم فأخبروا أن الرومَ جمعت جموعًا كثيرةً بالشام، وأن هِرَقْلَ رَزَقَ أصحابه رِزْقَ سَنةٍ، وأجلبت معه لَخْم وجُذامٌ وغَسَّان وعاملةُ وغيرهم، ونزلوا البلقاء، وعسكروا بها، وتخلف هِرَقلُ بحمص، وأنه يأتي إليهم ويقصدون الحجاز. قال الواقدي: ولم يكن شيء من ذلك ولم يكن عدوٌّ أخوف [عند المسلمين منهم]. وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغزو غزاةً إلا ورّى بغيرها لئلا تذهب الأخبارُ حتَّى كانت غزاةُ تبوك، كان الحرُّ شديدًا واستقبل سفرًا بعيدًا وعدوًا كبيرًا، فجلَّى للناسِ أمره ليتأهبوا، وأخْبَرهم بالوجه الذي يريد، واستنفر القبائل وأهل مكّةَ، ورغَّبهم في الجهادِ، وذلك في زمنِ عسْرَةٍ من الناس وجَدْبٍ من البلاد وحين طابت الثِّمارُ، فالناس يحبون المقامَ في ثمارهم وظلالهم، وتكرهُ الشُّخوصَ عنها. وأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بحمل الصدقات، فأول من جاء أبو بكر رضوان الله عليه بمالهِ كلَّه، وهو أربعةُ آلاف درهم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل أبقيت شيئًا"؟ قال: أبقيتُ الله ورسولَه. وجاء عمرُ رضوان الله عليه بنصف ماله فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل أبقيت شيئًا"؟ ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 1028، و"الطبقات" 5/ 129 - 130. (¬2) "السيرة" 2/ 515، و"المغازي" 3/ 989، و"الطبقات" 2/ 150، و"تاريخ الطبري" 3/ 100، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 212، و"المنتظم" 3/ 362، و"البداية والنهاية" 5/ 2.

قال: نعم نصف مالي، وبلغه ما جاء به أبو بكر رضوان الله عليه فقال: والله ما استَبقنا إلى خَيْرٍ قط إلا سبقني إليه أبو بكر. وجهَّز عثمان بن عفان رضوان الله عليه ثلثَ الجيشِ، وقيل: جاء بألف بعير والفِ دينار فصبَّها في حِجْرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقلبها ويقول: "ما ضرَّ عثمانَ ما فعل بعد هذا". وحمل عبدُ الرحمن بنُ عَوْفٍ - رضي الله عنه - مئتي أُوْقية، وحمل معظم الصحابة - رضي الله عنهم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحمل العباس وطلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مَسلمة مالًا، وحمل عاصم بنُ عديٍّ تِسْعينَ وَسْقًا من تَمْرٍ (¬1). وقال هشام: جلسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وحضَّ على الصدقة في سبيل الله، فجاءه العباسُ عمُّه بسبعين ألفًا، وعثمان بالف دينار ومئتي بعير. وقال ابن إسحاق: أنفق عثمان رضوان الله عليه في ذلك الوجه نفقةً عظيمةً لم ينفق أحدٌ أعظمَ منها، وحمل على مئتي بعير (¬2). وحمل كلُّ أحد حتى النساء كن يبعثْن بمعاضِدِهن وخلاخيلهن وخواتيمهن وغير ذلك. وضرب عسكرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في ثنيَّةِ الوداع والناس كثير لا يجمعهم كتاب ولا ديوان، واستخلف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة سِباعًا الغفاري، وقيل: محمد بنَ مَسْلَمةَ، وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، وخلَّفَ عليًا رضوان الله عليه في أهله، فقال: يا رسول الله خلَّفتني في النساء والصبيان؟ فقال: "أَلَا تَرضَى أَن تكُونَ منِّي بمنزِلَةِ هارُونَ من موسى" (¬3). وعقد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الألوية والراياتِ على الثنية، فدفَع لواءَه الأعظمَ إلى أبي بكر ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 990 - 991. (¬2) "السيرة" 2/ 518. (¬3) انظر "السيرة" 2/ 519، والحديث أخرجه البخاري (4416)، ومسلم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.

رضوان الله عليه، ورايته العظمى إلى الزبير - رضي الله عنه -، وراية الأوسِ إلى أُسَيْد بن حضير، ولواءَ الخزرج إلى أبي دُجانةَ، وقيل: إلى الحباب بن المنذر. وكانوا يرحلون عند مَيْلِ الشمس فما يزالون إلى الليل (¬1). وكان سيرُهم في خامسِ رجب، وقيل: في عاشره. وكان قد تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفرٌ من المسلمين أبطأت بهم النِّيَّةُ من غير شكٍّ منهم ولا ارتيابٍ، فمنهم: كعبُ بن مالك، ومُرارةُ بن الربيع، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة (¬2). ولما سار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك كان يتخلف رجلٌ، فيقولون: يا رسول الله تخلَّف فلان فيقول: "دعوه، إن يكُ فيه خَيْرٌ، فسَيُلْحِقْه الله بكم، وإن يك غير ذلك، فقد أراحكم الله منه"، فلاح راكبٌ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُن أبا ذَرٍّ" فقالوا: هو أبو ذر، فقال: "يَرحمهُ اللهُ يَمشِي وَحدَهُ" (¬3). ورجع أبو خيثمة بعد مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله في يومٍ حارٍ، فوجد امرأتين له قد رشَّت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماءً وهيأت له فيه طعامًا، فلما نظر إلى ذلك قال: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الضَّحِّ والريحِ والحرِّ، وأبو خيثمةَ في ظلٍّ وماء بارد وطعام مهيَّأٍ وامرأة حسناء، مقيمٌ في ماله، ما هذا بالنَّصَفِ، ثم قال لأهله: لا أدخل عريشَ واحدةٍ منكما حتى ألحق برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فهيِّئا لي زادًا، ففعلتا، ثم قدَّم ناضِحَه وارتحل في طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أدركه بتبوك حين نزلها، وقد كان وافق عُمَيْر بنَ وهبٍ الجمحيَّ في الطريق فقال له: تخلَّفْ عني فلي ذنب، فلما دنا قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبلٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُن أبا خَيثمةَ" فلما وصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره الخبَرَ فدعا له وقال خَيرًا (¬4). وحين مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالحِجْرِ ونزله ليستقي الناس من بئرها قال: "لا تشربوا من ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 996. (¬2) "السيرة" 2/ 519. (¬3) "السيرة" 2/ 523 - 524، و"دلائل النبوة" 5/ 221 - 222. (¬4) "السيرة" 2/ 520 - 521.

مائها ولا تتَوضَّؤا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلِفُوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئًا" ثم ارتحل حتى نزل على البئرِ التي كانت تشرب منها الناقة، وأسرع الناسُ إلى دخولِ الحِجْر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَدخُلونَ على قومٍ غَضِبَ اللهُ عليهم؟ ". ولما نهاهم عن الشُّربِ من مياه الحجر قال: "لا يَخرجنَّ أَحدُ منكم اللَّيلةَ إلا وَمَعه صاحبٌ له" ففعل الناس ما أمرهم به، إلا رجلين من بني ساعدة، خرجَ أحدهما لحاجته، والآخَرُ في طلب [بعيرٍ له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خُنِقَ، وأما الذي ذهب في طلب] بعيره فاحتَملته الريحُ فطرحَتْه بجبلِ طيّء، فأُخْبِرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَلَم أَنهكَمُ أَن يخرجَ رَجلٌ منكم إلا وَمَعه آخَرُ" ثم دعا لِلَّذي خُنِقَ فشفي، وأما الآخر فإن طيِّئًا أهدته للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قَدِم من تبوك (¬1). وأصبح الناسُ في طريق تبوك على غير ماء، فشكَوْا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - العطشَ. قال عبد الله بن أبي حدرد: فرأيته استقبل القبلةَ فدعا، ولا والله ما رأيت في السماء سحابًا، فما برح يدعو حتى إني لأَنْظُرُ إلى السحاب يتألف من كل ناحية، فما رامَ مقامَه حتى سحَّت علينا السماءُ بالرِّواءِ، ثم كشف الله عنا السماء من ساعتها وإن الأرضُ [إلا غدر تناخس فسقى الناس وارتَوَوا] (¬2)، فقلتُ لرجل من المنافقين: أبقي بعد هذا شيء؟ فقال: سحابةٌ مارةٌ (¬3). ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سار، حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقتُه، فخرج أصحابه في طلبها وعنده عُمارةُ بنُ حَزْمٍ الأنصاري، وكان في رَحْلِ عُمارةَ زيدُ بنُ اللُّصَيْت، فقال زَيدٌ: أليس محمد يزعم أنَّه نبي ويخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمارة: "إنّ رجلًا قالَ كذا وكذا، وإني لا أعلمُ إلا ما علَّمني الله، وقد دلَّني الله عليها، وإنها في الوادي الفُلاني قد حبستها شجرة بزمامها". فانطلقوا فجاؤوا بها، فرجع عمارة إلى رحله فأُخْبِر الخبرَ فقال رجلٌ: إنَّ زَيْدًا قال هذه المقالةَ قبلَ أن يأتي، فقام إلى زيد فوجأ عنقه وقال: يا عدو الله، في رَحْلي داهيةٌ ولا أدري، اُخْرُج عني. فيقال: إن زيدًا تاب، وقيل: لم يزل مُصِرًّا حتى هلك (¬4) والله أعلم. ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 521 - 522، وما بين حاصرتين منه. (¬2) في النسخ الخطية: "وإن الأرض لا عذرًا فسقى وأروى" والمثبت من "المغازي". (¬3) "المغازي" 3/ 1008 - 1009. (¬4) "السيرة" 2/ 522 - 523.

حديث مسجد الضرار

حديثُ مسجدِ الضِّرار قال يزيد بن رومان: أقبلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل بذي أَوان، وقد جاءه من أصحاب مسجد الضرار: مُعَتِّبُ بنُ قُشَيْر، وثعلبة وخِذَام، وأبو حبيبة، وعبد الله بن نَبْتَل، فقالوا: يا رسولَ الله إنّا رُسُلُ مَنْ خَلْفَنَا من أصحابنا، وإنا قد بنينا مسجدًا لذي العِلَّةِ والحاجةِ والليلةِ المطيرةِ، ونحن نحبُ أن تأتِيَنا فتصليَ بنا فيه - ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتجهز إلى تبوك - فقال: "إني على جَناحِ سفر، فإذا قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلَّيْنا بكم فيه"، فلما عادَ من تبوك ونزل بذي أوان، أتاه خبره وخبر أهلهِ من السماء، وكانوا إنّما بَنَوْهُ لأبي عامرٍ الراهبِ، فكان بالشَّام هاربًا، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فابنوا لي مسجدًا، فإني قادمٌ بخيول الروم من عند قيصر فأُخْرِجَ محمدًا وأصحابه، وكان الذي بنوه اثني عشر (¬1). وقال الثعلبي: جاء المنافقون إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه أن يصلِّيَ فيه، فدعا بقميصِهِ ليلبَسه ويأتيَهم فأنزل الله عليه خبرَ السماء وما هموا به، فدعا مالكَ بنَ الدُّخشُم ومعن ابن عدي وعامر بن السَّكَن وقال: "اذهَبُوا إلى هذا المسجدِ الظَّالمِ أهلُه فاهدموه" (¬2). وقال ابن إسحاق والواقدي: بعث مالك بن الدخشم وعاصم بن عدي وقال لهما: "انطَلِقا إلى هذا المسجدِ الظالم أهلُهُ فاهدماهُ واحرقاه". فخرجا مُسْرِعَيْنِ، وأخذ مالك سَعَفًا من النخل وأشعل فيه نارًا، وانتهيا إليهم بين المغرب والعشاء وهم فيه وإمامهم يومئذ مُجَمِّعُ بن جارِيَة، قال عاصم: فأَحْرقْناه وهدمناه وثبت فيه منهم زيدُ بن جارية بن عامر فاحترقَتْ إِلْيَتاهُ، وجَعَلْناهُ مع الأرض وتفرَّقُوا، فلما قِدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ أعطاه لعاصم بن عديًّ يتخذه دارًا، فقال: ما كنت لأتَّخِذَ مسجدًا - قد نزل فيه ما نزل - دارًا، وإني لفي غِنىً عنه، أَعْطِه يا رسول الله ثابتَ بن أقرم، فأعطاه ثابتًا، وكان قد احترق معه دار وديعة بن ثابت ودار عامر إلى جنبها، وكان أبو لبابة بن عبد المنذر قد أعانهم فيه بخشب، وكان غير مغموصٍ عليه في النفاق، فلما هدم أخذ أبو لبابة خشبه ذلك فبنى به منزلًا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 529، و"المغازي" 3/ 1045 - 1046. (¬2) تفسير الثعلبي 3/ 247. (¬3) "السيرة" 2/ 530، و"المغازي" 3/ 1046 - 1047.

والذين أسَّسوا مسجد الضِّرار كانوا خمسة عشر رجلًا (¬1)، فأنزل الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} الآية [التوبة: 107]. وقال الثعلبي: أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ ذلك المسجد كناسة يلقى فيها الجِيفُ والنَّتنُ والقُمامةُ. ومات أبو عامر بالشام وحيدًا فريدًا غريبًا، وفيه يقول كعب بن مالك: [من الوافر] معاذ الله من فعلٍ خبيثٍ ... كسَعيكَ في العَشيرةِ عبد عمروٍ وقُلْتَ بأنَّ لي شَرفًا وذِكرًا ... فَقِدْمًا بِعْتَ إيمانًا بكُفْرِ وقال الثعلبي: سأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلًا منهم: بماذا أعَنْتَ في هذا المسجد؟ قال: بسارية، فقال عمر - رضي الله عنه -: أبشر بها في عنقك في نار جهنم. وروي: أن بني عمرو بن عوف الذي بَنَوا مسجدَ قُباء سألوا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه في خلافته ليأذن لمجمِّع بن جارية أن يَؤُمَّ بهم في مسجدهم فقال: لا ولا نِعْمة، أليس بإمامِ المسجد الضِّرار؟ فقال له مجمِّع: لا يا أمير المؤمنين، فوالله لقد صلَّيْتُ وأنا لا أعلم ما أضْمَروا عليه ولو علمت ما صلَّيتُ فيه، كنت غُلامًا قارِئًا للقُرآنِ وكانوا شُيوخًا قد عَشَوْا لا يقرؤون من القرآن شيئًا، وكنت أظنهم يتقرَّبون إلى الله ولم أعلم بما في نفوسهم. فعذره عمر رضوان الله عليه وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قُباء (¬2). وروي عن ابن عباس، أن المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى مسجد قباء. وروي أنه مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة يومَ الخميس عاشر رمضان، فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين وجلس، وكان قد تخلَّف عنه رَهْطٌ من المسلمين والمنافقين، فصفحَ عن المنافقين ولم يَعْذِرْ مَنْ تخلَّف من المسلمين إلا من كان عاجزًا، ومدح ذوي الأعذار من المسلمين. ¬

_ (¬1) عدهم ابن إسحاق اثني عشر رجلًا، وسلف أنهم كذلك، انظر "السيرة" 2/ 530. (¬2) تفسير الثعلبي 3/ 247.

قصة الثلاثة الذين خلفوا

قال أنس: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من غزاة تبوك ودنا من المدينة قال: "إنَّ بالمدينةِ أَقوامًا، ما سِرْتُم مَسيرًا ولا قَطَعتُم واديًا إلا كانوا مَعَكم فيه"، فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: "وهُم بالمدينةِ، حَبَسهُم العُذْرُ". أخرجه البخاري (¬1). قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا لما قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك لم يُعْذِرْ مَنْ تخلَّفَ عنه من المسلمين من أهل القُدرة، منهم: كعب بن مالك الشاعر، ومُرارة بن الربيع العَمْري، وهلال بن أُميَّةَ، وهم من الأنْصار، تخلفوا من غير عُذرٍ مع صحَّةِ إسلامهم، وإنهم لم يُغْمَصوا بالنِّفاق، فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم، ونهى الناسَ عن كلامهم حتى نزلت تَوْبَتُهم في القرآن. وقد أخرج حديثهم الإمام أحمد والبخاري ومسلم رحمة الله عليهم: عن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائدَ كَعْبٍ من بَنِيهِ حين عَمِيَ قال: سمعتُ كعبَ بنَ مالكٍ يحدث حديثه حين تخلَّفَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، قال كعب: لم أتخلَّفْ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ غزاها إلّا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت عن غزوة بَدْرٍ ولم يعاتِبْ أحدًا تخلف عنه، إنّما خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عِيرَ قُريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غَيْرِ ميعادٍ، ولقد شهدتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام وما أُحبُّ أن لي بها مشهد بَدرٍ، وإن كانت بدرٌ أَذكَرَ في الناس منها. وكان من خبري حين تخلَّفتُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، أني لم أكن قطُّ أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلَّفْتُ عنه في تِلْكَ الغزوةِ، ولم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتَّى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا واستقبل عَدوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أَمْرَهُم ليتأهبوا أُهْبَة غزوِهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرٌ ولا يجمعهم كتابٌ حافِظٌ، فَقلَّ رجلٌ يريدُ أن يتغيَّب إلا ظنّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله عز وجل، وغزا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوةَ حين طابتِ الثمارُ والظلالُ، فتجهز ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4423).

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهزَ معهم فأرجع ولم أقضِ شيئًا وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتَّى استمرّ بالناس الجِدُّ، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غادِيًا والمسلمون معه، ولم أَقْضِ من جهازي شيئًا، ثم غَدَوْتُ فرجعتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى حتَّى أسرعوا وتفارطَ الغَزْوُ، فهممت أن أَرْتَحِلَ فأُدْرِكَهم فيا ليتني فَعلتُ ثم لم يُقَدَّرْ ذلك لي، فطفِقْتُ إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحْزِنُني أنَّني لا أرى لي أُسْوةً إلا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلًا ممَّن عَذَرَ اللهُ من الضعفاء، ولم يذكُرْني رسولُ الله حتَّى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: "ما فَعَل كَعبُ بنُ مالكٍ؟ " فقال رجلٌ من بني سَلمة: يا رسولَ الله، حبسه بُرْداه والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ، فقال له معاذُ بن جبل: بئس ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا هو على ذلك رأى رجلًا مُبَيَّضًا يزولُ به السرابُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُن أَبا خَيثَمةَ" فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الَّذي تصدق بصاعِ التمر حين لمزهُ المنافِقون. قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجه قافِلًا من تبوك، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقول: بِمَ أخْرجُ من سَخَطه؟ وأستعين على ذلك بكلِّ ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظلَّ قادِمًا زاح عني الباطلُ حتَّى عرفت أني لن أنجوَ منه بشيء أبدًا، فأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وصبَّح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا قدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجد فركَعَ فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءَهُ المخلَّفون فطفِقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رَجلًا، فقبلَ منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكَلَ سرائرهم إلى الله تعالى، حتَّى جئتُ, فلما سَلَّمت تبسم تَبَسُّمَ المغْضَبِ، ثم قال: "تعالَ"، فجئت أمشي حتَّى جلستُ بين يديه، فقال لي: "ما خلَّفكَ؟ أَلَم تكُن قدِ ابْتَعتَ ظَهْرَكَ"؟ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إني والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سَخَطهِ بعُذْرٍ، لقد أُعطيتُ جَدَلًا، ولكني والله لقد علمتُ لئن حدَّثتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ ترضى به عني ليوشِكَنَّ الله أن يُسخِطَك عَلَيَّ، ولئن حدثتك حديثَ صِدْقٍ تَجِدُ عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، والله ما كان بي من عذر، والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسرَ منى حينَ تخلَّفْتُ عنك. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

"أمّا هذا فَقد صَدَقَ، فَقُم حتَّى يقضيَ اللهُ فيك". فقمتُ، وثارَ رجالٌ من بني سَلِمَةَ فاتَبعوني فقالوا لي: والله ما علمناكَ أذْنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عَجَزْتَ في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذَرَ إليه المخلَّفُون، فقد كان كافيك ذَنْبَكَ استغفارُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والله ما زالوا يُؤَنِّبوني حتَّى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكَذِّبَ نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت من هما؟ قالوا: مُرارةُ بن ربيعة العَمْريُّ، وهلال بن أمية الواقِفيُّ، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا لي فيهما أسوة، قال: فَمَضَيتُ حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامِنا أيُّها الثلاثةُ مِنْ بَيْنِ من تخلَّفَ عنه. قال: فاجتَنبَنا الناسُ، أو قال: تَغيَّروا لنا حتَّى تنكَّرت إلى نفسي الأرضُ فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأمّا صاحبايَ فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أَشَبَّ القوم وأَجْلَدَهُم، فكنت أخرجُ فأشهدُ الصَّلاةَ وأطوف في الأسواقِ ولا يكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأسَلِّمُ عليه وهو في محله بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرَّكَ شَفتيه لردّ السلام أم لا؟ ثم أُصَلِّي قريبًا منه وأُسارِقُه النَّظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نَظر إليَّ، وإذا التفتُّ نحوهُ أعرض عني. حتَّى إذا طال عليَّ ذلك من جَفْوةِ المسلمين مشيتُ حتَّى تسوَّرْتُ جدار حائطِ أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبُّ الناس إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلامَ، فقلت له. يا أبا قتادة، أَنْشُدُكَ بالله هل تعلمُ أني أُحِبُّ الله ورسوله؟ قال: فسكتَ، فعدتُ فأنشدته، فقال: اللهُ ورسولُه أعلمُ، ففاضت عينايَ وتولَّيْتُ حتَّى تسوَّرْتُ الجدارَ. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نَبَطيٌّ من نَبَطِ أهل الشّام ممن قدم بالطعام يبيعُه بالمدينة يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ فطفِقَ الناسُ يشيرون له إلي، حتَّى جاءني فدفع إلي كتابًا من ملك غسان وكنت كاتبًا فقرأته، فإذا فيه: أما بعد، فإنّه قد بلغَنا أن صاحِبك قد جفاك، ولم يَجْعَلْكَ الله بدارِ هوان ولا مَضْيعةٍ، فالحَق بنا نُواسِكَ. قال: فقلتُ حين قرأتُها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيمَّمْتُ بها التَّنُّورَ فسجرتها.

حتَّى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحيُ إذا رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أُطَلِّقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزِلْها فلا تقرَبْها، قال: وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتَّى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأةُ هلال بن أمية رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: يا رسول الله، هلال بن أمية شيخ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا، ولكن لا يقربنَّكِ" فقالت: إنه والله ما به حركةٌ إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتك فقد أذن لامرأةِ هلال ابن أمية أن تخدمه، قال: فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يدريني ماذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنتُه فيها وأنا رجل شاب. قال: فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نهى عن كلامنا، قال: ثم صَلَّيْتُ صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيتٍ من بيوتِنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت عَلَيَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرضُ بما رَحُبت، سمعتُ صوتَ صارخٍ أَوْفى على سَلْعٍ يقول بأعلى صوته: يا كعبَ بنَ مالكٍ، أبشر، قال: فخررتُ ساجدًا وعرفتُ أنْ قد جاءَ الفَرجُ. قال: وآذنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ بتوبةِ الله علينا حين صلى صلاة الفَجر، فذهب الناسُ يبشروننا، فذهب قِبَلَ صاحبيَّ مُبَشِّرون، وركض إليَّ رجلٌ فرسًا، وسعى ساعٍ من أسلمَ قِبَلي، وأوفى على الجبل، فكانَ الصوتُ أسرع من الفَرسِ، فلما جاءني الذي سمعتُ صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوتُهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعَرْتُ ثوبَيْنِ فلبستُهما، وانطلقتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلقاني الناس فَوْجًا فَوْجًا يهنَّئونني بالتوبة، ويقولون: ليهنِكَ توبةُ الله عليكَ، حتَّى دخلتُ المسجدَ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حوله الناس، فقام طلحةُ بنُ عُبيد الله يهرولُ حتَّى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلَّمتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهُوَ يَبْرُقُ وجهه من السرور: "أَبْشِر بخيرِ يومٍ مرَّ عليكَ منذُ ولَدَتكَ أمُّكَ" قال: فقلت: أَمِنْ عِنْدِكَ يا رسولَ الله، أم من عند

الله؟ قال: لا، بل من عند الله، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُرَّ استنار وجهُه حتّى كأنّ وجهه قطعةُ قَمَرٍ، قال: وكنا نَعرِف ذلك، قال: فلما سلمتُ بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمْسِكْ بعضَ مالكَ فهو خيرٌ لك"، قال: فقلت: فإني أُمْسِكُ سَهْمي الَّذي بخيبر، قال: فقلت: يا رسولَ الله، إن الله إنما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنّ من توبتي ألِّا أحَدِّثَ إلا صدقًا ما بقيتُ، قال: فوالله ما علمتُ أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحْسَنَ مما أبلاني اللهُ، ووالله ما تعمَّدْتُ كَذبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: فأنزل الله عز وجل {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} حتى بلغ {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} حتى بلغ {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117 - 119]. قال كعب: والله ما أنْعمَ الله عليَّ من نِعمةٍ قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صِدقي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبته فأهْلِكَ كما هَلَك الذين كذبوا [فإن الله قال للذين كذبوا] حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحد، فقال الله سبحانه وتعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} إلى قوله {الْفَاسِقُينَ} [التوبة: 95]. قال كعب: كنا خُلِّفْنا أيُّها الثلاثةُ عن أمر أولئك الذين قَبِل منهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين حَلَفُوا له، فبايعهم واستغفرَ لهم وأرجأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَنا حتَّى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وليس الَّذي ذكر الله مما خُلِّفْنا تخَلُّفَنا عن الغزو، إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرَنا عمن حَلَف له واعتذر إليه فقبل منه (¬1). وفي حديث إسحاق بن راشد: ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلامي وكلام صاحبيَّ، ولم يَنْهَ عن كلامِ أحدٍ من المتخلفين غَيرنا، فاجتَنَبَ الناسُ كلامَنا، فلبثتُ كذلك حتَّى طال ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (15789)، والبخاري (4418)، ومسلم (2769).

عليَّ الأمر، وما من شيء أهم إليَّ من أن أموتَ فلا يصلي علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يموتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأكون من الناس بتلك المنزلةِ، فلا يُكَلَّمني أحد منهم ولا يسلِّم عليّ ولا يصلي عليَّ. قال: فأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه - صلى الله عليه وسلم - حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أم سلمة - رضي الله عنها -، وكانت أم سلمة - رضي الله عنها - مُحْسِنَةً في شأني مَعْنِيَّةً بأمري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أُمَّ سَلمة، تِيْبَ على كعبٍ" قالت: أفلا أرسل إليه فأُبشَّرُهُ؟ قال: "إذًا يَحْطِمَكُمُ الناسُ فيمنَعُونَكُم النَّوْمَ سائرَ اللَّيلِ"، حتَّى إذا صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر آذنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا (¬1). ونزل في غزاة تبوك جُمْلَةٌ من سورة براءة. ولما رجع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك قال له العباسُ بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: يا رسول الله، إني أُريدُ أن أمدحكَ. فقال: "قل لا يَفضُضِ اللهُ فاكَ"، قال: فقال (¬2): [من المنسرح] مِنْ قبْلِها طِبْت في الظَّلال وفي ... مُستودَعٍ حيث يُخْصَفُ الوَرَقُ ثم هبطت البلاد لا بَشَرٌ ... أنتَ ولا مُضْغَةٌ ولا عَلَقُ بل نطفةٌ تركبُ السَّفينَ وقد ... ألْجَم نَسْرًا وأهلَه الغَرَقُ وَرَدْتَ نارَ الخليلِ مُكتَتمًا ... فيها زمانًا ولست تحترق (¬3) تَنَقَّلُ من صُلْبٍ إلى رَحمٍ ... إذا مضى عالَم بدا طَبَقٌ حتَّى انتهى بيتكَ المهيمنُ من ... خِنْدفَ علياء تحتها النُّطُقُ وأنت لما ولدت أشرقت الـ ... أرضُ وضاء من نورِكَ الأُفُقُ فنحن في ذلك الضِّياء وفي النو ... رِ وسُبْلِ الرشادِ نَخْتَرِقُ وفي هذه السنة تتابعت الوفود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4677). (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (4167) من حديث خريم بن أوس، وانظر منال الطالب 440. (¬3) في سمط النجوم العوالي 1/ 164، وسبل الهدى والرشاد 5/ 470: وردتَ نارَ الخليل مكتتمًا ... في صلبه أنتَ كيف يَحترقُ

وفد الطائف

وفد الطائف: كان عمرو بن أمية أخو بني علاج مهاجرًا لعبد ياليل بن عمرو بن عمير، فجاء عمرو إلى باب عبدِ ياليل، فقيل له: عمرو واقف على بابك، فقال: هذا شيء ما كنت أَظُنُّه، وكان عمرو أَمْنَعَ في نفسه من ذلك، فخرج إليه ورحَّب به فقال له عمرو: إنه قد نزل بنا أمرٌ ليس معه هِجرَةٌ؛ إنه قد كان من أمْرِ هذا الرجلِ ما رأيتَ، وقد أسلَمَتِ العربُ كلُّها، وليس لكم بحربهم طاقة فانظروا في أمركم، فعند ذلك ائتمرت ثقيف، وقال بعضهم لبعض: الا تَرَوْنَ أنَّه لا يأمنُ لكم سِرْبٌ ولا يخرج منكم أحد إلا اقْتُطِعَ، فاتفقوا على أن يُرْسِلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا، فكلموا عبد ياليل فأبى أن يفعل، وخشي أن يفعلوا به إذا رجع كما فعلوا بعُرْوَةَ، وكانوا هم الذين أرسلوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قتلوه، وقال لهم عبدُ ياليل: لستُ فاعِلًا حتَّى تبعثوا معيَ رجالًا، فبعثوا معه خمسةً: رجلين من الأحلاف، وثلاثةً من بني مالك. من الأحلاف: الحكم بن وهب ابن مُعَتِّب، وشرَحْبيلُ بنُ غَيْلان بن سلمة بن معتِّبٍ، ومن بني مالك: عثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف، ونُمَيْرُ بن خَرَشَةَ، فخرج بهم عبد ياليل وهو نابُ القَوْمِ وصاحبُ أمرهم، فلما فصلوا قناةَ، لقوا بها المُغيرةَ بنَ شُعْبَة يرعى رِكابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت رعايتها نُوَبًا على أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآهم ترك الرِّكابَ عندهم وضَبَرَ يشتَدُّ ليبشَرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بهم، فلقيه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - فأخبره بقدومهم وأنهم قد جاؤوا يريدون الإسلام وأن يكتبَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا شرطوا فيه شروطًا على قومهم وبلادهم، فقال له أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: أَقْسَمْتُ عليك بالله لا تَسْبِقني إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى أكونَ أنا الَّذي أُبشره، ففعل، ودخل أبو بكرٍ - رضي الله عنه - فأخبر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقدومهم فسر، وقال لهم المغيرةُ: إذا دخلتُم على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فحيوهُ بتحية الإسلام، فلما دخلوا عليه حيوه بتحية الشِّرْكِ، فضرب عليهم قُبَّةً فَي المسجد، وكان خالدُ بن سعيد بن العاص يمشي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا يأكلونَ الطعامَ يأتيهم من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى يأكل هو منه، حتَّى أسلموا وبايعوا، وكتب لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا، وسألوه أن يَدَعَ لهم اللَّاتَ ولا يهدمها إلى ثلاث سنين، فأبى، فقالوا: سنة، فأبى، فسألوه فقالوا: شهرًا بعد قدومهم فأبى عليهم، وسألوه أن يُعفِيَهم

من الصلاة وأن يكسروا أوثانَهم بأَيْديْهم: فقال: "أما الصلاةُ، فلا خَيرَ في دينٍ لا صلاةَ فيه" وأعفاهُم أن يكسر غيرُهم أوثانهم وأمّر عليهم عثمانَ بنَ أبي العاص الثقفي وكان من أحدثهم سِنًّا، وإنما كان حريصًا على الفقه وتعلُّمِ القرآن. قال عثمان بن أبي العاص: آخرُ كلامٍ كلَّمني به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذِ استعملني على الطائف فقال: "خفِّفِ الصلاةَ على الناس" حتَّى وقِّتَ لي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} وأشباهَها من القرآن (¬1). وفي "المسند": "جوَّز في صلاتِكَ واقْدُرِ الناسَ بأَضْعفِهم، فإنَّ فيهمُ الصّغيرَ والكبيرَ وذا الحاجةِ" (¬2). وفي "المسند": "واتَّخِذْ مؤذَّنًا، فلا يَأخُذ على أذانه أجرًا" (¬3). وكان قدومهم في رمضان، فلما أسلموا صاموا، وكان بلال - رضي الله عنه - يأتيهم بفطرهم فيقولون: يا بلال، ما نرى الشمس توارت بَعْدُ، لما يرون من السَّدَفِ، فيضعُ بلالٌ يدهُ فيه ويأكل منه، ويقول: ما جئتكم حتَّى أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويأتيهم بسحورهم وقد تخوَّفوا الفجرَ وأمسكوا ويقولون: يا بلالُ، قد أصبحتَ، فيقول: نزلتُ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتسحَّرُ. ولما توجّهوا إلى الطائف بعث معهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان بن حرب والمُغيْرة بن شُعبة لهدم اللَّاتِ، فلما قدما الطائف قال المغيرة لأبي سفيان: تقدَّمْ، فقال: أنت أولى بالدخول على قومك، وأقام أبو سفيان في ماله بذي الهَدْمِ، فلما دخلَ المغيرةُ على اللَّاتِ علاها بمِعْوَلٍ يضربُها، وقامَ دونه بنو معتَّب بالسلاح خشيةَ أن يُصابَ كما أُصيب عروةُ بن مسعود، وخرج نساءُ ثقيف حُسَّرًا يبكين عليها، ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهًا لكِ، آهًا لكِ، ثم بعث إلى أبي سفيان بمالها وحُلِيِّها (¬4). وكان أبو مُلَيْحٍ بن عُرْوَةَ وقاربُ بنُ الأسود لما قُتِلَ عروةُ قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلما، وقال لهما: "توَلَّيا خالكما أبا سفيان بن حرب" فقال أبو مليح: يا رسول الله، ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 538 - 540، و"المغازي" 3/ 962 - 968. (¬2) أخرجه أحمد (17910). (¬3) أخرجه أحمد (16270). (¬4) "السيرة" 2/ 540 - 542.

اقض دينَ أبي من مال الطَّاغية؟ قال: نعم، وقال له قارب بن الأسود: يا رسول الله، وعن الأسود فاقضه، فإن عروة والأسود كانا أَخَوَيْنِ لأبٍ وأمٍّ، فقال رسول الله: فإن الأسود مات وهو مشرك، فقال قارب: يا رسول الله إنما الدَّيْنُ علي وأنا الَّذي أُطالَبُ به، فإذا فَعَلْتَ وَصَلْتَ مُسْلِمًا. وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي سفيان أنِ اقض دَيْنَ عروة والأسود من مال الطاغية، ففعل (¬1). وكانت سَدَنَةُ الطاغية من ثقيف بنو العجلَان. قال هشام: كان سبب إسلام ثقيف أن مالكَ بن عوف النَّصْريَّ لما قدِمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجِعِرّانةِ وردَّ عليه ماله وأهلَه أسلم وحَسُنَ إسلامُه، واستعمله على القبائل، فقال له: يا رسول الله، أنا أكفيك ثقيفًا، فأزعجهم بالغارات والنَّهْبِ، فلما رأت ذلك ثقيفٌ مشوا إلى عبدِ ياليل وسألوه أن يقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدم هو وابناه في سبعين رجلًا وهم رؤساؤهم. * * * وفيها: في رمضان قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب ملوك حمير وهَمْدان باليمن بإسلامهما، وبعث إليه زرعة بن ذي يزن (¬2) مالك بن مرة الرهاوي، فَسُرَّ بهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليهم بعد البسملة: "من محمدٍ رسولِ الله إلى ملوكِ هَمدانَ والمعافِر وحمير - وسماهم - أما بعد: فإني أَحْمَدُ إليكُم الله الَّذي لا إلَه إلا هو، والحمدُ للهِ الَّذي هَداكُم للإسلام، وإنا لَقينا رسُولكم ونحن قافلون من أرض الروم فبلَّغَنا رسالتكم، فأقيمُوا الصلاة وآتوا الزكاة وأدوا خُمْسَ أموالكم إلى الله ورسوله، وما يجب عليكم من الصدقات، وعليكم عُشْرُ ما سقت العيون والسماء ... وذكر أسنان الإبل والبقر والغنم وما يجب فيها". وفيه: "وعلى كل حالم وحالمة من اليهود والنَّصارى دينار أو قيمتُه من المعافِر". ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 542. (¬2) في "السيرة" 2/ 588: زرعة ذو يزن، وانظر "الطبقات" 1/ 306.

وقوله: وحالمةٍ: سهو من الكاتب أو الراوي، لأن المرأة لا جزية عليها بالإجماع. والمعافر: ضَرْبٌ من ثيابِ اليَمَنِ. * * * وفيها: قدمَ وفدُ فزارةَ، وكانوا سبعة عشر رجلًا ومنهم الحرُّ (¬1) بن حصن، وكان أصغرهم سنًا، فلقوه عند رجوعه من تبوك وهم على رحالٍ عِجاف، فسألهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أَسْنَتَتْ (¬2) بلادُنا وهلكتْ مواشينا، وسألوه الدعاءَ لبلادهم بالحيا، فخطب ودعا لهم، فقال: "اللهمَّ اسق بلادك عاجلًا نافعًا، سقيا رحمةٍ لا سقْيا عذاب، اللهمَّ حوالينا ولا علينا". فعادوا إلى بلادهم وقد سقوا (¬3). وفيها: قدم وفد هَمْدان (¬4)، وفيهم ذو المشعار مالك بن نَمَط فقام فقال: يا رسول الله أتَتْكَ نَصِيَّةٌ من همدان من كل حاضر وبادٍ، أتوك على قُلُص نواجٍ مُتَّصِلَةٍ بحبائلِ الإسلام، لا تأخُذُهُم في الله لومةُ لائم، من مِخْلافِ خارِف، وعهدهم لا يُنْقَضُ عن سنة ما قام لَعْلَعُ (¬5) وجرى اليَعْفُور بصلع، فكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا كتابٌ من محمد رسول الله لِمخلاف خارف وأهل جِنابِ الهَضْب وحِقافِ الرَّمْل، لوافدها ذي المِشْعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه، على أن لهم فِراعَها ووِهاطها وعَرارَها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون عُلَّافَها ويرعون حِقافها، وليأمن ذِمِّيهم وضامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقةِ: الثلب والنابُ والفَصيلُ والداجن والكبش الحواريُّ وعليهم فيه الضَّالع والقارِحُ. تفسيره: "النصية" من الإبل والقوم والمال: خياره، و"القَلوص" من النوق: بمنزلة الجارية من النِّساء، و"النواج": النّاجيةُ بصاحبها. والمخلافُ: لأهل اليمن واحدُ المخاليف، وهو كورها، ولكل مخلاف اسم يعرف به، و"اليعفور": اسم واد، ¬

_ (¬1) في النسخ: "الحارث" وانظر "الإصابة" 1/ 324. (¬2) أسنتت: أجدبت من قلة المطر. (¬3) "الطبقات" 1/ 257، و"المنتظم" 3/ 353. (¬4) السيرة 2/ 597 - 598. (¬5) لعلع: اسم جبل.

و"صلع": موضع لا يُنْبِتُ، و"الفِراع": أعالي الجبال، و"الوَهْطة": ما اطمأن من الأرض، و"العَرار": نَبْتٌ طيِّبُ الريح، و"العُلَّف": بتشديد اللام، ثمرُ الطَّلحِ، و"الحِقافُ": الرِّمال، و"الثِّلْبُ": الجمل الَّذي انكسرت أنيابه من الهَرَمِ وتناثر ذَنَبه، و"النَّاب": المسِنَّةُ من النوق، و"الفارض": البقرة الكبيرة، و"الداجن": الشاة تألف البيوت، و"الضِّلَعُ": الغَمْزُ في مَشْيِ البعير، و"القارح": ما أتت عليه خمس سنين. وفيها: وَفَد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَفْدُ الداريين. قال زياد بن أبي هند الداري، عن أبيه (¬1): قدِمْنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ونحن ستة أنفس: تميم الداري وأخوه نُعَيْم بن أوس، والفاكه بن النعمان، وزيد بن قيس، وأبو هند بن عبد الرحمن، وأخوه الطيب بن عبد الله، فَسَمَّاهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -[عبد الرحمن] (¬2) فأسلمنا وسألناه أن يعطينا أرضًا من أرض الشام، فأعطانا، وكتب لنا في جِلدِ أديم كتابًا فيه شهادة العباس وخُرَيْم بنِ قيس وشُرَحْبيل بن حسنة (¬3). قال أبو هند - فهو صاحب الحديث -: فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة هاجرنا إليه، وسألناه أن يجدد لنا كتابًا. وفي رواية: فقالوا: ما شئتم؟ فقال تميم: أرى أن أسأله بيت المقدس وكُورَها، فقال أبو هند: أخاف أن لا يتمَّ لنا ذلك لأنه يكون بها ملك العوب، فقال تميم: فسألُه بيت جبرين، فقال أبو هند: فهذا أكبر، اطلبوا منه عين، وجبرون، وبيت إبراهيم، وطلبناه فكتب لنا، ثم قال: "إذا سمعتم أني قد هاجرت فاقدموا عليّ"، فلما هاجر قدموا عليه فجدد لهم الكتاب. وقال الكلبي: قدم وفد الداريين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند منصرفه من تبوك وكانوا عشرة، فمنهم: تميم ونُعَيْم ابنا أوس بن خارجة، [ويزيد بن قيس بن خارجة (¬4)] ¬

_ (¬1) في النسخ: "زياد بن هند". والمثبت من الطبراني، و"الإصابة" 2/ 236. (¬2) ما بين معقوفين زيادة من المصادر. (¬3) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2548)، والطبراني في "الكبير" 22/ (806). وجاء عندهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمّى الطيب: عبد الرحمن، وعند الواقدي 2/ 695، وابن سعد في "الطبقات" 1/ 296 أنَّه - صلى الله عليه وسلم - سمَّى الطيب عبد الله. (¬4) ما بين حاصرتين ليس في النسخ وهو من الطبقات 1/ 296.

والفاكه بن النعمان بن جبلة بن صفَّارة، وعزيز ومرة ابنا مالك (¬1)، والطيبُ وأبو هند ابنا ذر، وجبلة بن مالك بن صفّارة، وهانئ بن حبيب بن هانئ، وخارجة بن أسود (¬2)، وقيل: وأسود بن جبير اللخمي، فأهدى هانئ بن حبيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خَمْر وأفراسًا وَقَباءً مُخَوَّصًا بالذهب - أي مَنْسوجًا - فقبِلَ القباءَ والأفراس وردَّ الخمر، وقال: "إن الله حرم شُرْبها وبَيْعَها" فانْطَلَقَ فأَهْرقها في بقيع الجُحْفَةِ، وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القباء للعباس - رضي الله عنه - فباعه من يهودي بثمانية الآف درهم. وسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزيزًا: عبدَ الرحمن، والطَّيِّبَ: عبدَ الله، فقال له تميم: يا رسول الله إن لنا جيرةً من الروم ولهم قريتان يقال لإحداهما: حِبْرى، والأخرى: بيت عينون، فإن فتح الله عليك بالشام فهبهما لي، فقال: "هما لك" (¬3). وقال الواقدي: وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنُعيم بن أوس وأخيه تميم بن أوس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما أنطى محمد رسول الله نعيم بن أوس وأخاه تميمًا الداريَّيْنِ حِبْرى وبيت عَيْنُونَ بالشام، سَهْلها وجَبَلها وماءَها وأنْباطها وبقرها، ولعقبهِ من بعده، لا يحاقهما فيها أحد ولا يلج عليهم فيها بظلم، فمن ظلمهم وأخذ منهم شيئًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وكتب علي بن أبي طالب (¬4). وقال الهيثم: نسخة الكتاب: هذا ما أنطى محمدٌ رسولُ الله لتميم الداري وأصحابه، أنْطاهم عين، وحَبْرون، والمرْطومَ بيت إبراهيم بذمتهم، وجميع ما فيها، نَطية بتَّةً، وهي لأعْقابهم من بعدهم أبد الآبدين، فمن آذاهم فيه آذاه الله. وشهد أبو بكر ابن أبي قحافة - رضي الله عنه -، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية ابن أبي سفيان وكتب، وأقاموا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حتَّى توفي، وقام أبو بكر رضوان الله عليه فأعطاهم ذلك، وأوصى لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمئة وَسْقٍ من تَمْر خيبر. ¬

_ (¬1) في النسخ: "وعزيز بن مرة بن مالك"، والمثبت من طبقات ابن سعد 1/ 296. (¬2) لم نقف على من اسمه خارجة بن أسود، ولا أسود بن جبير ضمن وفد الداريين في شيء من المصادر، ولا من ذكرهم في الصحابة، وذكر ابن سعد والواقدي بدله: يزيد بن قيس بن خارجة. (¬3) "الطبقات" 1/ 296. (¬4) انظر "الطبقات" 6/ 255.

ترجمة تميم الداري

وكتب أبو بكر رضوان الله عليه إلى أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -: أما بعد، فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفَسَاد في قُرى الداريين، وإن كان أهلها قد أجلوا عنها وأراد الداريون أن يزرعوها فلهم ذلك، وإن أراد أهلها الرجوع إليها فهي لهم وهم بها أحق (¬1). و"المرطوم": هو بيت إبراهيم - عليه السلام - وهو موضع قبره، و"حِبْرى" قرية إلى جانب المَرْطوم. ترجمة تميم الداري وكنيته: أبو رُقَيَّةَ، ولم يكن له ولدٌ ذكَرٌ، إنما كانت له هذه البنتُ فكُنِّيَ بها. قاله يعقوب بن سفيان. وقال ابن عبد البَرِّ: لم يُولَدْ له ولدٌ غَيْر رُقَيَّة، وكان نَصْرانيًّا فأسلم سنة تسع من الهجرة (¬2). وتميم من الطبقة الرابعة من الصحابة، نزل المدينة، وتحوّل إلى الشّام بعد قتل عثمان - رضي الله عنه -، وكان يقرأُ القرآن في ركعة، وربما ردّدَ الآية الواحدةَ إلى الصباح، وكان يشتري الرداء بألف درهم فيصلي فيه بالليل. وفي تميم نزل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية [المائدة: 106]. وقال الحميدي عن ابن عباس: خرج رجل من بني سَهْمٍ مع تميم الداري وعدي بن بَدَّاء، فمات السهمي بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلما قدموا بتَرِكَتِه فقدوا جامًا من فضةٍ مُخَوَّصًا بالذَّهَبِ، فأحلَفَهُما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وُجدَ الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بَدَّاء، فقام رجلانِ من أوليائه فحلفا لشهادتُنا أحقُّ من شهادَتهما وأن الجام لصاحبهم، فنزلت الآية، الكلام على الحديث (¬3). وقال تميم: خرجتُ من الشام إلى الحجاز حين بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركني الليل ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 11/ 66. (¬2) "الاستيعاب" 1/ 184. (¬3) كذا وردت هذه العبارة هنا، وهي دليل على كلام مختصر، والحديث أخرجه البخاري (2780)، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (1129).

في وادٍ فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة، فناداني منادٍ: عُذْ بالله، فإن الجن لا تجترئ على الله؛ قد خرج الرسولُ الأمين، وصلينا خلفه بالحَجونِ وأسلمنا واتَّبعناه، وذهب كيد الجن ورميت الشياطين بالشهب، فانْطَلِقْ إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبحتُ أتيتُ دَيْرَ أيوب وفيه راهبٌ فأخبرته، فقال: صدقَ، نجدُهُ يخرج من الحرم، وهو خير الأنبياء فلا تُسْبَقْ إليه. فقدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ فأسلمت (¬1). وهو أول من قصَّ في أيام عمر رضوان الله عليه، فقال له: ما تقولُ؟ قال: أقْرأ عليهم القرآن وآمرهم بالخَيْرِ وأنهاهم عن الشر، قال: افعل، فكان يقصُّ يومًا واحدًا في الجمعة، فلما قام عثمان رضوان الله عليه استزاده يومًا آخر (¬2). ومرّ به عمر رضوان الله عليه وهو يقص ومعه ابن عباس، فقال له: سَلْه عن زلَّةِ العالِمِ، فقال تميم: لأن العالِمَ إذا زلَّ زلَّ الناسُ فيؤاخَذ بهم (¬3)، فقال عمر - رضي الله عنه -: أحسنت. وقال أبو سعيد الخدري: أول من أسرج المسجدَ تميمٌ الداري (¬4). وسكن تميمٌ دمشقَ، ثم انتقل إلى فلسطين، فتوفي بها سنة أربعين، قاله الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى، وقبره ببيت حبرون. وروى الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه من الصحابة: ابن عباس وأنس وأبو هريرة وغيرهم، وقدم مصر لغزو البحر فروى عنه جماعة من المصريين، وأخرج له الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" ثمانية أحاديث. وقد روى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث الجسَّاسةِ عن تميم الداري: كانت فاطمة بنت قيس من المهاجرات الأُوَلِ، وسألها الشَّعْبيُّ - واسمه عامرُ بن شَراحيل من شَعْب هَمْدان - فقال: حدثيني حديثًا سَمِعتيه من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لا تُسْنديه إلى أحدٍ غيره، فقالت: لئن ¬

_ (¬1) "الطبقات" 6/ 255. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (5400) من حديث الزهري، وأحمد في "مسنده" مختصرًا (15715) من حديث السائب بن يزيد. (¬3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1449)، والخطيب في "الجامع لآداب الراوي" (389). (¬4) أخرجه ابن ماجه (760).

شئتَ لأفعلَنْ، فقال لها: أَجَلْ، حدَّثيني، قالت: نكحتُ ابنَ المغيرة وهو من خَيْرِ شباب قريش يومئذ، فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تَأَيَّمْتُ خطبني عبد الرحمن بنُ عوفٍ في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وخطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] على مولاه أسامةَ بن زيد، فلما كلَّمني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قلتُ: أمري في يَدِك فأنْكِحني من شئتَ، فقال: "انتَقِلي إلى أمِّ شَريك" وأُمُّ شريك امرأة غنيَّةٌ من الأنصار، عظيمة النفقة في سبيل الله، ينزل عليها الضِّيفانُ، فقلت: سأفعل، فقال: "لا تَفْعلي، إنَّ أُمَّ شَريكٍ كثيرةُ الضِّيفانِ، وأَكْرهُ أن يَسقُطَ خِمارُكِ وَينكَشِفَ الثَّوبُ عن ساقَيْكِ، فيرى القَوْمُ منك بعضَ ما تَكرهينَ، ولكِن انْتَقِلي إلى ابنِ عمِّكِ، ابنِ أُمِّ مكْتُومٍ". فانتقلتُ إليه، فلما انقَضَتْ عِدَّتي سمعنا نداءَ منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي: الصلاةَ جامعةً، فخرجت مع النساء إلى المسجد، فصَلَّيْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت من النَّساء اللاتي بين ظهور القوم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال: "ما جَمَعتُكُم لرَغبَةٍ ولا لِرَهْبةٍ، ولكِنْ جمَعتكُم لأنَّ تميمًا الداري حدَّثني حديثًا وافَقَ ما كُنتُ حَدَّثتُكُم عن المسيحِ الدجَّالِ، حدَّثني أنَّه رَكِبَ في سفينةٍ بحريةٍ مع ثلاثينَ رجلًا من لَخْم وجُذام، فلعب بهم الموجُ شهرًا في البحر، ثم أَرْفؤوا إلى جزيرةٍ في البحرِ حينَ تغرُبُ الشمسُ، فجلسوا في قاربٍ ودخلوا الجزيرةَ، فَلَقِيتهم دابَّةٌ أَهْلَبُ كثيرُ الشَّعَرِ، لا يَدرون ما قُبُلُه من دُبُرِه، فقالوا: ويلكِ ما أنتِ؟ قالت: أنا الجسَّاسةُ، قالوا: وما الجسَّاسةُ؟ قالت: أيُّها القومُ، انْطَلقوا إلى هذا الرجلِ الَّذي في الدَّير فإنّه إلى لقائكُم بالأشواقِ، قال: فلما سَمَّت لنا رجلًا فرِقْنا منها أنْ تكُونَ شَيطانةً - أو شيطانًا - فانْطَلقنا سِراعًا حتَّى دَخَلنا الدَّيرَ فإذا فيه أعظمُ إنسانٍ رأيناهُ قطُّ خَلْقًا، وأشدُّهُ وثاقةً، مجموعةٌ يداه إلى عُنقه، ما بين رُكبتيه إلى كَعبهِ بالحديدِ، قلنا: ويلَكَ ما أنتَ؟ قال: قد قَدَرتُم على خَبري، فأَخبرُوني ما أَنتُم؟ قالوا: نحن أُناسٌ من العَرَب ركبنا في سفينةٍ بحريةٍ فصادَفْنا البحر حين اغْتلمَ، فلعب بنا الموجُ شهرًا ثم أَرْفأنا إلى جزيرتكَ هذه، فجلَسنا في أَقْرُبها فدخَلْنا الجزيرةَ فلقينا دابةٌ أَهْلبُ كثيرُ الشَّعَرِ .. وذكر القصة إلى قوله: فإنّه إلى خَبركم بالأشواق فأقبلنا إليكَ سراعًا وفزعنا منها، ولم نأمَنْ أن تكونَ شيطانةً، فقال: أَخبروني عن نخل بَيْسانَ؟ قلنا: عن أيِّ شيء تَسْتَخبر؟ قال: أسألكم

عن نخلها هل يثمر؟ قلنا: نعم، قال: يوشك أن لا يُثْمِرَ، قال: أخبروني عن بحيرة طبريّةَ؟ قلنا: عن أيِّ شأنها تستخبرُ؟ قال: أسألكم هل فيها ماء؟ قلنا: هي كثيرة الماء، قال: إنّ ماءَها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زُغَر؟ قلنا: عن أيّ شأنها تَسْتخبرُ؟ قال: هل فيها ماء وهل يَزرَعُ أهلها بماء العين؟ قلنا: نعم هي كثيرةُ الماءِ وأَهلُها يزرعُون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأُمِّيينَ ما فَعَلَ؟ قلنا: قد خرج من مكَّةَ ونزل يَثْربَ، قال: قَاتَلتْهُ العَربُ؟ قُلنا: نَعَم، قال: كيفَ صَنَع بهم؟ فأَخبرناهُ أنَّه قد ظَهَر على من يَليهِ منَ العَرَبِ وأَطاعُوهُ، فقالَ: قد كانَ ذلك؟ قلنا: نَعَم، قال: أما إنَّ ذلك خير لهم أن يُطيعوهُ، وإنّي مُخبِرُكم عني، أنا المسيحُ، وإنِّي أُوْشِكُ أن يؤذنَ لي في الخُروج فأخرجَ، فأَسيرُ في الأرضِ فلا أَدَعُ قريةً إلا هَبطْتُها في الأربعينَ ليلةً غيرَ مكَّةَ وطَيبةَ: هما مُحَرَّمتانِ عليَّ كِلتاهُما، كلَّما أَردتُ أن أَدخُلَ واحدةً مِنها استَقبَلني مَلَكٌ بيدهِ السيفُ صَلْتًا يصدُّني عنها، وإنَّ على كل نَقْب منها ملائكةً يحرُسُونها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطَعَن بمِخْصَرَتهِ في المِنْبَرِ: "هذه طيبةُ" يعني المدينة. قال: فإنّه أعجَبني حديثُ تميمٍ أنّه وافقَ الَّذي كُنْتُ أُحدَّثكم عنه وعن مكَّةَ والمدينةَ، إلا أنّه من بَحْرِ الشام أو بحر اليمن لا من قِبَلِ المشرق ما هو من قبل المشرق" يكرره وأومأ بيده إلى المشرق. قالت: فحفظتُ هذا من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا حديث طويل أخرجه الحميدي (¬1) من أفراد مسلم. * * * وفيها: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سمعان بن عمرو الكلابي كتابًا يدعوه إلى الإسلام، فرقَعَ به دَلْوَه، فقالت له ابنته: عَمَدْتَ إلى كتاب سيدِ العرب فرقعتَ به دلوك ستصيبك قارِعةٌ، فمرت به سريةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فاستباحوا كل شيء كان له، فهرب، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا، فرد عليه من ماله ما لم يُقسَم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2942) والحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (3536). (¬2) "الطبقات" 1/ 242.

وفيها: وَفَدَ وَفْدُ بني البَكَّاء، وهم: معاوية بن ثَوْر بن عُبادة وهو يومئذ ابن مئة سنة، ومعه ابنه بِشر، والفُجَيْعُ بن جُنْدَع (¬1)، وعبد عمرو، فأكرمهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأجازهم، فقال له معاوية بن ثور: يا رسول الله، إني قد كَبرت فامسح على وجه ابني بِشر، فمسح عليه ووهبه أَعْنُزًا عُفْرًا - أي بيضاء - فكانت السَّنَةُ تُصيب بني البكَّاءِ ولا تصيبهم، وفي ذلك يقول محمد بن بِشْر بن معاوية: [من الكامل] وأبي الَّذي مَسَحَ الرَّسُولُ بوجههِ ... ودعا له بالخَيْرِ والبَرَكاتِ أعطاه أحمدُ إذ أَتَاهُ أَعْنُزًا ... عُفْرًا ثَواجِلَ لَسْنَ باللَّجِباتِ يملأْنَ رِفْدَ الحَيَّ كلَّ عَشِيَّةٍ ... ويعودُ ذاك المَلْءُ بالغَدَواتِ بُورِكنَ مِن مِنَحٍ وبُورِكَ مانِحًا ... وعليه منِّي ما حَييتُ صَلاتي وكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا فهو عند الفُجيع وقومه (¬2). وفيها: قدم وفد بني عُقيل بن كعب، وفيهم ربيع بن معاوية بن خفاجةَ بن عمرو بن عقيل، وعقال بن خويلد وغيرهما، وأخذ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، وقال لعقال ابن خويلد: قُلْ أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن هُبَيْرة بنَ النُّفاضة نِعْمَ الفارسُ يوم قرني لبان (¬3) - اسم موضع. فقال له: قل أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن الصريح تَحْت الرِّغْوة، فقال ثلاثًا له، فأَسْلَم، فكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقيق، ويُسمى: عقيق بني عُقيل، وفيه عيون ونخل، وكتب لهم في أديم أحمرَ (¬4). * * * وفي هذه السنة جرت قصة ثعلبة بن حاطب أحد المنافقين. قال أبو أمامة الباهلي: جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، اُدْعُ الله أن يرزقَني مالًا، فقال: "وَيْحَكَ يا ثَعْلَبةُ، أَمالَك في رسولِ الله أُسوةٌ حَسَنةٌ، والذي نَفسي بيدهِ، لو أَردْتُ أَن تسيرَ الجبالُ معيَ ذَهَبًا وفضةً لَسَارت". ثم ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 1/ 263: والفجيع بن عبد الله بن جندح. (¬2) "الطبقات" 1/ 262 - 263، والثواجل: العِظام البطون. (¬3) في النسخ: "موليان" والمثبت من "الطبقات". (¬4) "الطبقات" 1/ 260 - 261.

أتاه ثانيًا وثالثًا، فقال: يا رسولَ الله، ادعُ الله أن يرزقني مالًا، فوالذي بعثكَ بالحقِّ لئن رزقني الله مالًا لأؤدِّيَنَّ إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم ارزُقْ ثعلبةَ مالًا" قالها مرتين، فاتَّخذ غَنَمًا فنمت كما يَنْمو الدودُ، وضاقت عليه المدينةُ فتنحى عَنْها، ونزل واديًا من أوديتها وهي تزداد، وكان يصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظُّهرَ والعَصْرَ ويصلي في غنمه باقي الصلوات، ثم كثرت فتباعد عن المدينة وانقطع عن الصلوات والجُمَعِ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ذات يوم فقال: "ما فَعَل ثَعلبةُ"؟ فقالوا: يا رسول الله، كَثُرَ ماله فأبْعَد عن المدينة، فقال: "يا وَيحَ ثعلبةَ"، وأنزل الله آية الصدقات، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من بني سُلَيم وآخر من جُهينةَ على الصدقات وقال لهما: "مرَّا بثعلبةَ وببني سُلَيم"، فمرَّا بثعلبةَ فقرآ عليه أسنان الصدقة، فقال: ما هذه إلّا جزية، انطلِقا حتَّى تفرُغا ثم عودوا إليَّ، فذهبا إلى بني سُليم فاستقبلهما رجل من بني سُليم بصدقته وقد عزل لهما خِيارَ ماله، فقالا: ما هذا عليك، فقال: خُذَاها طيِّبةً من نفسي. وعادا إلى ثعلبةَ فلم يعطهما شيئًا، وقال: حتَّى أرى رأيي. وأقبلا لمّا رآهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال قبل أن يتكلما: "يا وَيحَ ثعلبةَ" مرتين، فأخبراه بقول ثعلبة وفِعلِ السُّلمي، فأنزل الله في ثعلبة: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] الآيات وعند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من أقارب ثعلبة، فخرج حتَّى أتاه فقال: ويحكَ يا ثعلبُ، قد أنزل الله فيكَ كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتَّى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يقبل صدقته، فقال: "إنّ الله مَنَعني أن أَقبَلَ صدقَتكَ" فحثى الترابَ على رأسه وجعل يبكي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا فِعْلُكَ بنَفْسكَ، قد أَمَرتُكَ فلم تُطِعْني". وتوفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبلْ منه شيئًا، ولما وَلِيَ أبو بكرٍ - صلى الله عليه وسلم - أتاه فعرض عليه أَخْذَ الصَّدقةِ فقال: لم يأخُذْها مِنْكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أفآخذها منك أنا؟ ثم مات أبو بكر - رضي الله عنه -، وقام عمر - رضي الله عنه - فجاءه يعرِضُها عليه، فقال له كذلك، ثم قام عثمان - رضي الله عنه - فجاءه فعرضها عليه، فقال: لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر، أفأقْبَلُها أنا؟ ولم يأخذ منه شيئًا، فمات في أيام عثمان - رضي الله عنه - (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (7873)، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 289، وفي "الشعب" (4357) وقال: وفي إسناد هذا الحديث نظر، وهو مشهور فيما بين أهل التفسير، وإنما يروى موصولًا بأسانيد ضعاف.

وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبان بن سعيد بن العاص بن أمية على الصدقات إلى البحرين، وأبان من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وأمه: هند بنت المغيرة المخزومي، وأبوه كنيته: أبو أُحَيْحَةَ، مات كافرًا بالطائف، وكان له أولاد: أبان، وعمرو، وخالد، وعبيدة، والعاص، أما خالد وعمرو فأسلما قديمًا وهاجرا إلى الحبشة، وأما العاص وأبان وعبيدة فخرجوا إلى بدر مع الكفار، فقتلَ عليٌّ العاص كافرًا، وقتلَ الزبير - رضي الله عنه - عبيدة كافرًا، وأفلتَ أبانُ صاحبُ هذه الترجمة، فكاتبه أخواه خالدٌ وعمرو من الحبشة: أَسْلِم، فقال: لا أَدَعُ دينَ آبائي، وأقام بمكة على كفره، حتَّى كان زَمَنُ الحُدَيْبية، ودخل عثمان - رضي الله عنه - إلى مكة رسولًا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجاره، ثم قدم خالد وعمرو من الحبشة سنة سبع مع أصحاب السفينتين وكتبا من الشُّعَيْبةِ إلى أبان وهو بمكّة: اقدُم علينا، فقدِم عليهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فأسلم وحسن إسلامه، وولَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقات البحرين سنة تسع فسار إليها، وأقام بها حتَّى ارتدتِ العربُ بعد وفاةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قد جمع مئة ألف، فقدم بها على أبي بكر - رضي الله عنه - فسُرَّ به، وكان معه ثلاثُ مئة من عبد القَيْسِ، فأكرمهم أبو بكر - رضي الله عنه -، وقال له: ارجع إلى عملك، فقال: والله لا عملتُ لأحدٍ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُكْرِهه أبو بكر - رضي الله عنه - (¬1). * * * وفيها (¬2): رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا والغامدية. [وقد روى القصة جماعة من الصحابة منهم بريدة بن الحصيب، وجابر بن سمرة، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعمران بن الحصين وغيرهم. فأما حديث بريدة فقال [أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال] (¬3): كنت جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل ¬

_ (¬1) "الطبقات" 5/ 8 - 12. (¬2) من هنا تبدأ نسخة كوبريللي والمرموز لها بـ (ك) وما فيها من زيادات على النسختين (خ، أ) يوضع بين معكوفين. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة من (ك).

يقال له: ماعز بن مالك، فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، وأريد أن تطهرني، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِع"، فلما كان من الغد أتاه، فاعترف عنده بالزنا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِع"، ثم أرسل إلى قومه، فقال: "ما تَعرِفُون من ماعِزِ بن مالكٍ الأَسْلَمي، هَل تَرونَ به بأْسًا، أو تُنْكِرون من عَقلِه شيئًا"؟ فقالوا: لا، ثم عاد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثالثة والرابعة، فأرسل إلى قومه، فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحفر له حفرة إلى صدره، ثم أمر الناس أن يرجموه. قال بريدة: كنا نتحدث - أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ماعزًا لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلبه، وإنما رجمه عند الرابعة (¬1). وقال أحمد رحمة الله عليه: حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن سعد، أخبرني أبي يزيد ابن نعيم بن هزَّال، عن أبيه قال: كان ماعز بن مالك في حِجر أبي، فأصاب جاريةً من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما صنعت، لعلَّه يستغفر لك، فخرج، فأتاه، فقال: يا رسول الله، إني زنيتُ فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه إلى أن أتاه الرابعة، فقال: "إنَّكَ قد قُلْتَها أَربَعَ مرَّاتٍ، فبِمَن؟ " قال: بفلانة، قال: "هَل ضاجَعْتَها؟ هل جامَعْتَها؟ " قال: نعم، فأمر به، فرجم، فوجد مَسَّ الحجارةِ، فخرج يشتد، فلقيه عبد الله ابن أُنَيس، فنزع له بوَظِيفِ بعير، فقتله، فذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال: "هَلَّا تَركتُموه، لَعلَّه يَتوبُ، فيَتُوبَ اللهُ عليه، يا هزَّالُ، لو كُنتَ سَترتَه بثَوبِكَ كانَ خيرًا لكَ مِمَّا صَنَعتَ بهِ" (¬2). وروى ماعز عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمانٌ باللهِ وَحدَهُ، ثم الجِهادُ، ثم حَجَّةٌ مَبرُورَةٌ - أو بَرَّةٌ - تَفْضُل سائِرَ العَمَلِ، كما بينَ مَطلِعِ الشَّمسِ إلى مَغربِها" أخرجه الإمام أحمد رحمه الله (¬3). وقال بريدة (¬4): كنت جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءته امرأة من غامدٍ، فقالت: يا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد بتمامه في "المسند" (22942)، ومسلم دون قول بريدة الأخير (1695). ومن هنا إلى بداية حديث الغامدية ساقط من (ك). (¬2) أحمد في "مسنده" (21890). (¬3) أحمد في "مسنده" (19010). (¬4) في (ك): "وبهذا الإسناد عن بريدة قال" وكأنه جمع بين حديث ماعز وحديث الغامدية.

رسول الله، إنِّي قد زنيتُ وأُريد أن تطهرني، فقال لها: "ارْجِعي" فجاءته ثانيًا وثالثًا، فاعترفت عنده، فقال لها: "ارْجِعي" فقالت: فلعلَّك أن تردَّني كما ردَدْتَ ماعزًا، فوالله إني لَحُبلى، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا الآنَ فاذْهَبي حتَّى تَلِدِي"، فلما وَلَدت جاءت بالصبي تحمله، فقالت: ها قد وَلَدت، قال: "فاذْهَبي فأَرْضِعيه حتَّى تَفْطمِيه". فلما فطمته، جاءت به، وفي يده كِسْرةُ خبز فقالت: يا نبي الله، هذا الصَّبي قد فطمته، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبي، فدفعه إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحفر لها حفرة، فجعلمت فيها إلى صدرها، ثم أمر الناس أن يرجُموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى به رأسَها، فنضح الدم على وجه خالد، فسبَّها، فقال - عليه السلام -: " [مهلًا يا خالد] فَوَالذي نَفسِي بيَدِه، لقد تابَت تَوبَةً، لو تابَها صاحبُ مَكْسٍ لغُفِرَ له". وأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى عليها، ودُفنت. انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وروى الجماعة بقية الحديث مشابهًا لحديث بريدة، وقد اختصرناه. * * * وفيها (¬2): لاعَنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجل وامرأته. روى الأَعمَش، عن إبراهيم بن عَلقمة، عن ابن مسعود قال: كنَّا جلوسًا عشيةَ الجمعة في المسجد، فقال رجل من الأنصار: أَحدُنا إذا رأى معَ امرأَتِه رجلًا قتله قتلتموه، وإن تكلم حديتموه، وإن سكت سكتَ على مضض أو غيظ؟ ! والله لئن أصبحت صالحًا لأسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فسأله كما سأل ابنَ مسعود، فقال: "اللَّهمَّ افتح" يرددها، فنزلت آية اللِّعان، فابتلي ذلك الرجل مِن بين الناس، فجاء هو وامرأته، فتلاعنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم قال في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والتعنت المرأة أيضًا (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1695) (23)، وأحمد في "مسنده" (22949). (¬2) الخبر ليس في (ك). (¬3) أخرجه مسلم (1495).

وفي أفراد البخاري، عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سَحماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "البَيِّنةَ، أو حدٌّ في ظَهرِكَ" فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البيِّنة؟ ! وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البَيِّنَةَ وإلا حدٌّ في ظَهرِكَ"، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، وليُنزلنَّ الله ما يُبرِّئ ظهري من الحد، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إلى قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6]. فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، فجاءت، وقام هلال، فشهد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهُ يَعلَم، إنَّ أَحدَكُما كاذِبٌ، فَهَل منكُما تائِبٌ؟ ". ثم قامت، فشهدت، فلما كان عند الخامسة، وقَّفوها، وقالوا: إنَّها موجبةٌ، قال ابن عباس: فتَلكَّأَت، ونَكَصت حتَّى ظنَّنا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضحُ قومي سائِرَ اليوم، فمضت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظُروها، فإن جاءَت به أَكْحَل العينَينِ، سابغَ الألْيَتَين، خَدَلَّجَ السَّاقَين، فهو لشَريك بن سَحماء" فجاءت به كذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَولا ما مَضَى مِن كِتابِ اللهِ لَكانَ لي ولَها شَأنٌ" (¬1). * * * وفيها: أسلم كعب بن زهير بن أبي سُلمى الشاعر (¬2)، وكان خرج كعب وأخوه بُجَير (¬3) بن زهير إلى أبرق العَزَّاف، وكان قريبًا من زرود، فقال بجير لأخيه: أقم أنت في النعم حتَّى آتي هذا الرجل، فأسمع كلامه، وأعرف ما عنده، فأقام كعب، ودخل بجير على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فدعاه إلى الإسلام، فأسلم، وبلغ كعبًا، فقال: [من الطويل] أَلَا أَبلِغا عنَّي بُجَيرًا رسالةً ... على أيِّ أمرٍ دِنْتَ غيرك دلكا على خُلُق لم تُلفِ أُمًّا ولا أبا ... عليهِ ولم تُدرك عليه أَخًا لكَا سقاك أبو بكر بكأسٍ رويَّةٍ ... وأَنْهَلَك المأمون منها وعلَّكا فاتصل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهدر دمه، وقال: "مَن لَقيَ كَعبًا فلْيقتُلْهُ"، فكتب إليه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4747). قوله "سابغ الأليتين": تامهما، و"خدلج الساقين": عظيمهما. (¬2) الخبر في (ك) إلى هنا فقط. (¬3) في (أ) و (خ): "يحيى" والمثبت من "الإكمال" 1/ 191 و"الإصابة" 1/ 138.

أخوه بُجَير يخبره بذلك، ويقول: النجاء، وما أظنك ناجيًا، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاءه أحد قط يفوه بالشهادتين إلا قَبله، ولم يؤاخذه بما تقدم قبل الإسلام، قال كعب: فقدمت المدينة، فأنخت راحلتي على باب المسجد، ودخلته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس بين أصحابه مثل موضع المائدة من القوم، وهم متحلقون حوله حلقة ثم حلقة ثم حلقة، فيقبل على هؤلاء مرة، ثم على هؤلاء، فدنوت منه، وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقال: "مَن أَنْتَ؟ " قلت: كعب بن زهير، فقال: "الَّذي يَقولُ ما يَقُولُ؟ " ثم أقبل على أبي بكرٍ - رضي الله عنه - فاسْتَنشَدَه الشعر إلى أن قال: سقاك أبو بكر بكأس روية ... وأنهلك المأمور ...... فقال: يا رسول الله، ما قلتُ هكذا، قال: "فَكَيفَ قُلتَ؟ " قال: قلت: وأنهلك المأمون بالنون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَأمُونٌ والله" ثم اسْتنشَدني، فأنشدته: [من البسيط] بانَت سُعادُ فقلبي اليوم متبولُ ............ فلما بلغت إلى قولي: نُبِّئتُ أنَّ رسولَ الله أَوعَدَني ... والعفوُ عندَ رسولِ الله مَأمولُ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والعفوَ عندَ رسولِ الله مأمولُ"، فلما قلت: لا تأخذنَّي بأقوالِ الوُشاةِ ولم ... أُذنبْ ولو كَثُرتْ فيَّ الأقاويلُ فقال: "لا"، ثم أعطاني بردته من على كتفيه، فبعتها بعد بعشرين ألفًا (¬1)، وهي التي اشتراها معاوية، فكانت عند بني أمية، ثم انتقلت إلى بني العباس. * * * وفيها: آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه شهرًا. واختلفوا في سببه على أقوال: أحدها: حديث العسل، قالت عائشة رضوان الله عليها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ الحلوى والعسلَ، وكان إذا صلى العصر دار على نسائه، فيدنو منهن، فدخل يومًا على ¬

_ (¬1) الخبر في "دلائل النبوة" 5/ 207، وانظر "السيرة" 2/ 501.

حفصة، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبسُ، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عُكَّةَ عسلٍ، فسقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، فقلت: والله لنحتالن له، فذكرتُ ذلك لسودة، وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك، فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافيرَ؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي: ما هذه الريح؟ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشتد عليه أن يوجد منه ريح، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة من عسل، فقولي له: جَرَسَت نحلُهُ العُرْفُط، وسأقول له ذلك، وقولي أنت له يا صفية، فلما دخل على سودة قالت له ذلك، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت له: الا أسقيك يا رسول الله منه؟ فقال: "لا حاجةَ لي فيه". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). والثاني: أن حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تزور أباها فأذن لها، فلما خرجت من البيت، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مارية القِبطية، فجاءت، فواقعها في بيت حفصة، وجاءت حفصة، فرأت الباب مقفلًا، فجلست تبكي عند الباب، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآها تبكي ووجهه يقطر عرقًا، فقال لها: "ما يُبكيكِ؟ " فقالت: إنما أذنت لي حتَّى تدخل أمتك بيتي، وتقع عينها في فراشي وفي يومي، ما رعيت حقي، ولا حفظت حرمتي، ما كنت تصنع هذا بامرأة من نسائك، فقال لها: "اسكُتي، فهي حرامٌ عليّ، أَلْتمسُ بذلك رضاكِ، فلا تُخبري بهذا امرأةً منهنَّ، هو عندك أمانة" ولما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند حفصة، قرعت الجدار الَّذي بينها وبين عائشة رضوان الله عليها وقالت: الا أبشرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حرم عليه أمته مارية، فقد أراحنا الله منها، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على جميع أزواجه، وأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية [التحريم: 1 - 2]. في العسل ومارية (¬2). والثالث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح شاة، فقسمها بين أزواجه، وبعث منها إلى زينب بنت جحش، فردته، ثم أرسل إليها، فردته، فاستشاط غضبًا، فآلى منهن. وقال البخاري: حدَّثنا أحمد بن محمد المُزني، حدَّثنا عمرو بن يحيى، عن جده، ¬

_ (¬1) البخاري (5268)، ومسلم (1474) (21). (¬2) الخبر عند البغوي في "تفسيره" 4/ 363.

عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن المرأتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتين قال الله تعالى فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] حتَّى حج عمر، وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل، وعدلت معه بالإداوة، فتبرَّز، ثم أتاني، فسكبت على يديه، فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}؟ فقال عمر: واعجبًا لك يا ابن عباس، قال الزهري: كره والله ما سأله عنه، ولم يكتمه، قال: هما عائشة وحفصة، ثم ساق الحديث، فقال: كنا معاشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، فغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت ذلك، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وتهجره إحداهن من اليوم إلى الليل، قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتهجره إحداكن إلى الليل؟ قالت: نعم، قلت: قد خاب من فعلَت ذلك منكن وخسرت، أفتأمن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعيه، ولا تسأليه شيئًا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك جارتك، هي أوسم منك، وأحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، يريد عائشة رضوان الله عليها، قال: وكان لي جار من الأنصار، قال: فكنا نتناوب النزول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فينزل يومًا، ويأتيني بخبر الوحي، وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدث أن غسان تنعِل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يومًا، ثم أتاني عشاء فضرب بابي، ثم ناداني، فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم، قلت: وما ذاك؟ جاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأهول، طلَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخَسِرت، قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون. حتَّى إذا صليت الصبح شددت عليَّ ثيابي، ثم نزلت، فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في مشربة، قال: فأتيت غلامًا له أسود، فقلت: استأذن لي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو استأذن لعمر، فدخل، ثم خرج، وقال: قد ذكرتك له فصمت، فخرجت، فجلست عند المنبر وإذا

عنده رهط يبكون، - أو يبكي بعضهم -، فجلست قليلًا، ثم غَلَبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل، ثم خرج، فقال مثل الأول، ثم فعلت ذلك الثالثة، فقال لي مثل ذلك، فوليت مدبرًا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، فقد أذن لك، فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه وهو متكئ على رمال حصير قد أثَّر في جنبيه، فقلت: يا رسول الله، أطلقت نساءك؟ فرفع رأسه إلي، وقال: "لا"، فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معاشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني، وذكر بمعنى ما ذكرنا، قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أستأنسُ يا رسول الله؟ قال: "نَعَم"، فجلست، ورفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت شيئًا يرد البصر إلا أهبة (¬1) ثلاثة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدع الله أن يوسع عليك وعلى أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه، فاستوى جالسًا، ثم قال: "أَفي شَكٍّ أنتَ يا ابنَ الخطَّابِ؟ أُولئكَ قَومٌ عُجِّلَت لهم طَيِّباتُهم في الحياةِ الدُّنيا" فقلت: استغفر لي يا رسول الله، وكان أقسم أن لا يدخل على نسائه شهرًا لأجل ذلك الحديث حين أفشته حفصةٌ إلى عائشة من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله عليه. قال الزهري: فأخبرني عروة، عن عائشة قالت: لما مضت تسع وعشرون ليلة بدأ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل علي فقلت: يا رسول الله، إنك أقسمت أن لا تدخل على نسائك شهرًا، أو علينا، وإنك دخلت عن تسع وعشرين، أعدُّهن، فقال: "إنَّ الشَّهرَ تسعٌ وعِشرونَ" وفي رواية: وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين ليلة، ثم قال: "يا عائشةُ، إنَّي ذاكرٌ لكِ أَمرًا، فلا عليكِ ألَّا تَعجَلي حتَّى تَستَأمِري أبوَيكِ"، ثم قرأ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى قوله: {أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 35] فقالت: قد علم والله أنَّ أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم قلت: يا رسول الله، لا تخبر نساءك أني اخترتك، فقال: "إنَّ اللهَ أَرسَلَني مُبَلِّغًا، ولم يُرسِلني مُتَعنَّتًا"، وقال عمر لحفصة: والله لقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحبك، ولولا أنا لطلقك، واستأذن عمر ¬

_ (¬1) في (ك) زيادة: "والأهبة هي الجلد لم يدبغ".

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه، فأذن له، فقام عند المنبر، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يطلق نساءه، وقال له عمر: يا رسول الله، إن كنت طلقتهن فإن الله معك، وملائكته، وجبريل، وميكائيل، وأنا، وأبو بكر والمؤمنون، ونزلت آية التخيير: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} (¬1) [إلى قوله: {وَأَبْكَارًا} الآية [التحريم: 5]. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ولمسلم عن جابر قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صباح تسعًا وعشرين فقلنا له في ذلك، فقال: "إنَّ الشهر يكونُ تسعةً وعشرين يومًا" ثم طبق رسول الله بيده ثلاثًا ثم خنس إبهامه في الثالثة (¬2)، وكذا في حديث ابن عمر أنَّه خنس إبهامه (¬3). وفي المتفق عليه عن عائشة: لما خيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: قد خيرنا رسول الله، فاخترناه، أفكان طلاقًا] (¬4). [فإن قيل: فقوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}] (¬5) يشعر بأن غيرهن خيرًا منهن، قلنا: هذا خرج مخرج التهديد، لا أن في الأمة من هو خير منهن، والدليل عليه أن الله قد علم أنَّه لا يطلقهن، وصار كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] فكان إخبارًا عن القدرة لا عن الكون في الوقت. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ثم أنزل الله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] إذا حلفتم أن تكفروها، وكفَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه، ورجع إلى جاريته، وإلى ما حلف عليه. * * * وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر رضوان الله عليه فحج بالناس. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تنزل براءة، قد عاهد أناسًا من المشركين عهدًا، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2468)، ومسلم (1479). (¬2) أخرجه مسلم (1084). (¬3) أخرجه مسلم (1081) (16). (¬4) أخرجه البخاري (5263)، ومسلم (1477)، وما بين معقوفين زيادة من (ك). (¬5) ما بين معكوفين من (ك).

فاستعمل على الحج أبا بكر رضوان الله عليه، فخرج من المدينة في ثلاث مئة، ومعه عشرون بدنة قلَّدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النعال، وأشعرها بيده في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جُنْدب الأسلمي، وساق أبو بكر خمس بدنات، وحج عامئذ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، فأهدى بدنًا، وأهلَّ أبو بكر رضوان الله عليه من ذي الحُلَيفة، وسار حتَّى إذا كان بالعَرْج في السحر سمع رُغاء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القصواء، فقال: هذه القَصْواء، وإذا بعليٍّ كرم الله وجهه فقال له: استعملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ على الناس براءة، وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى أبي بكر رضوان الله عليه أن يخالف المشركين، فيقف يوم عرفة بعرفة، ولا يقف بجمع، ولا يدفع من عرفة حتَّى تغرب الشمس، ويدفع من جمع قبل طلوع الشمس، فقدم أبو بكر رضوان الله عليه مكة، وكان مفردًا بالحج، فخطب الناس قبل يوم التروية بيوم بعد الظهر، فلما كان يوم التروية حين زاغت الشمس طاف بالبيت سبعًا، ثم ركب راحلته من باب بني شيبة، وخرج إلى منًى، فأقام بها، وصلى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح بمنًى، فلما طلعت الشمس على ثبير، ركب راحلته، فوقف بالهضبات من عرفة، فلما أفطر الصائم دفع، وكان يسير العَنَق حتَّى انتهى إلى جَمْع، فنزل قريبًا من الماء التي على قزح، فلما طلع الفجر صلى الفجرَ، ثم وقف، فلما أَسفَر دفع، وجعل يقول في وقته: أيها الناس، أَسفروا، قالها مرتين، ثم دفع قبل طلوع الشمس، وكان يسير العَنَق، حتَّى انتهى إلى مُحَسَّر، فأوضع راحلته، فلما جاوز وادي محسر عاد إلى مسيره الأول، حتَّى رمى الجمرة راكبًا بسبع حصيات، ثم رجع إلى المنحر، فنحر وحلق، وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يوم النحر براءة عند الجمرة، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحجُّ بعدَ هذا اليومِ مُشركٌ، ولا يطوفُ بالبيتِ عُريانٌ"، وكان أبو هريرة يقول: حضرت ذلك اليوم، فكان يقول: هو يوم الحح الأكبر، وخطب أبو بكر رضوان الله عليه في حجته ثلاث خطب في ثلاثة أيام لم يزد عليها، قبل يوم التروية بمكة بعد الظهر، وبعرفة قبل الظهر، وبمنًى يوم النحر بعد الظهر، ورمى أبو بكر رضوان الله عليه الجمار ماشيًا، فلما كان يوم الصَّدَر رمى ماشيًا، فلما جاوز العقبة ركب، ويقال: إنه رمى يومئذ راكبًا، فلما انتهى إلى الأبطح صلى به الظهر والعصر، ودخل مكة، فصلى المغرب

والعشاء، ثم خرج من ليلته قافلًا إلى المدينة (¬1). * * * وفيها: توفي النجاشي (¬2) - واسمه أَصْحَمة - ملك الحبشة، الَّذي هاجر إليه المسلمون فأحسن إليهم، وزوَّج رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّ حبيبة - رضي الله عنها - وجهز إليه جعفرًا، وكانت وفاته في رجب. [قال هشام: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك فنعاه إلى أصحابه، وصلى عليه لما عاد من تبوك وبلغه خبره]. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: حدَّثنا يحيى بن سعيد، حدَّثنا مالك، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: نَعَى لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي في اليوم الَّذي ماتَ فيه؛ فخرجَ إلى المصلَّى، فصفَّ أصحابَه خلفَه، وكبَّر عليه أربَعًا (¬3). [وفي الباب عن جابر وعمران بن الحصين، وأحاديثهم في "الصحيح" وفيها: "إنَّ أخًا لكم قد ماتَ، فقوموا فَصلوا عليه" (¬4)، وهذا يدل على أن النجاشي مات ورسول الله بالمدينة. وبهذه الأحاديث يحتج الشافعي وأحمد على جواز الصلاة على الميت الغائب، وعند أبي حنيفة ومالك: لا يجوز، وهذا الخلاف يبنى على أن صلاة الجنازة عند أبي حنيفة لا تعاد، لأن الأمة توارثت (ترك الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء والصحابة، ولو جاز لما ترك مسلم الصلاة عليهم) (¬5) والشافعي يقول بتكرار الصلاة كما في الصلاة على النجاشي، وجوابه من وجوه: أحدها: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان وليه، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ¬

_ (¬1) النقل عن "المغازي" 3/ 1076 - 1078. (¬2) "تاريخ الطبري" 3/ 122، و"المنتظم" 3/ 375. (¬3) أحمد في "مسنده" (9646)، وأخرجه البخاري (1245)، ومسلم (951). (¬4) أخرجه البخاري (3877)، ومسلم (952) (66) من حديث جابر - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم (953) من حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه -. (¬5) ما بين قوسين زيادة من بدائع الصنائع 1/ 311.

أم كلثوم - عليها السلام -

والثاني: لأن الأرض زويت له، ولهذا صف أصحابه خلفه، فكان من معجزاته. والثالث: لأنه لم يكن في الحبشة من يعرف الصلاة عليه، لأنهم كانوا حديثي الإسلام، فكان ذلك من خصائصه. وقد أخرج أبو داود (¬1) عن] عائشة - رضي الله عنها - لما مات النجاشي كانوا يتحدَّثون أنهم لا يزالون يرون النُّور على قبره (¬2). [وقد أخرج أحمد في "المسند" حديثًا يتعلق بالنجاشي، فقال: حدَّثنا ابن النضر بإسناده عن عامر بن شهر قال: سمعت كلمتين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "انظُروا قُريشًا فَخُذوا من قَولِهم وذَروا فِعلَهم" وكنت عند النجاشي جالسًا فجاء ابنه بشيء من الكتاب، فقرأ آية من الإنجيل فعرفتها أو فهمتها، فضحكت، فقال: مم تضحك؟ أمن كتاب الله؟ فوالله إن مما أنزل على عيسى بن مريم أن اللعنة تكون في الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان (¬3). ولم يخرج أحمد عن عامر بن شهر غير هذا الحديث]. وفيها توفيت أم كلثوم (¬4) - عليها السلام - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأمها خديجة، وقد ذكرنا أنَّه قد] كان تزوجها في الجاهلية عُتيبة بن أبي لهب، ثم طلقها لما نزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ] [أمره أبوه بطلاقها] ولم يكن دخل بها، وهي بكر. [قال جدي في "التلقيح"]: فأقامت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وأسلمت، وبايعت، [ولما أسلمت أمها وأخواتها] وهاجرت إلى المدينة، فلما توفيت رقية سلام الله عليها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم كلثوم، فتوفيت ¬

_ (¬1) ما بين معقوفين زيادة من (ك). (¬2) أخرجه أبو داود (2523). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده " (15536). وما بين معقوفين زيادة من (ك). (¬4) "الطبقات" 10/ 37، و"المنتظم" 3/ 375، و"الإصابة" 4/ 489.

في شعبان من هذه السنة، فصلى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل في حفرتها علي، والفضل، وأسامة - رضي الله عنهم - (¬1). وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرها، وقال: "لو كان لنا ثالثة لزوَّجناها عُثمان" (¬2)، ولم تلد من عثمان رضوان الله عليه. وغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب، وقيل: غسلتها نساء من الأنصار، منهم أم عطية، ونزل أبو طلحة في قبرها. [وذكر ابن سعد بإسناده عن] أنس: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا على قبر أم كلثوم وعيناه تدمعان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفيكم أحد لم يقارف الليلة" فقال أبو طلحة: أنا، فقال: "انزل في قبرها" فنزل (¬3). [ومعنى قارف: أي جامع، ومنه حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبًا من قرافٍ غير احتلامٍ، ثم يصوم (¬4). قلت: وفي الصحابيات أربع يقال لكل واحدة منهن: أم كلثوم، وإحداهن: ابنة رسول الله، لها رواية. والثانية: بنت أبي سلمة. والثالثة: بنت أبي بكر الصديق. قال ابن سعد: ولم ترو عن رسول الله شيئًا. والرابعة: بنت عقبة بن أبي معيط، وروت منهن اثنتان الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بنت أبي سلمة، وبنت أبي معيط، وأخرج عن هذه في "الصحيحين" (¬5). والكلثوم: الكثيرة لحم الخدين والوجه، هكذا ذكره الجوهري] (¬6). * * * ¬

_ (¬1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 31 - 32. (¬2) "الطبقات" 3/ 53، وأخرجه الطبراني في "الكبير" 17/ (490) من حديث عصمة بن مالك. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 83: وفيه الفضل بن المختار، وهو ضعيف. (¬3) "الطبقات" 10/ 38. (¬4) أخرجه أبو عبيد في "الغريب" 4/ 323. (¬5) أخرجه البخاري (2692)، ومسلم (2605) أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس الكذاب الَّذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا ... ". (¬6) "الصحاح": (كلثم). وما بين معقوفين زيادة من (ك).

سهيل بن بيضاء

سهيل بن بيضاء (¬1) وبيضاء لقب أمه، واسمها دعد بنت جحدم من بني فهر، وأبوه وهب بن ربيعة بن هلال من بني فهر، وكنية سهيل: أبو موسى، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، هاجر الهجرتين إلى الحبشة، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوفي مرجعه من تبوك، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد. قالت عائشة - رضي الله عنها -: ما أسرع ما نسي الناس، وهل صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل ابن بيضاء إلا في المسجد؟ أخرجه مسلم (¬2). وإنما قالت ذلك لما أنكر الناس عليها الصلاة على سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في المسجد. وتوفي سهيل - رضي الله عنه - وهو ابن أربعين سنة، وليس له عقب، وكان له أخوان: سهل، أسلم قبل الهجرة بمكة، فأكرهه المشركون على الخروج إلى بدر، فأسر، فشهد له ابن مسعود أنَّه رآه يصلي بمكة، فأطلقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير فدية. وصفوان بن بيضاء، أسلم وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وكنيته أبو عمرو، واختلفوا في وفاته، فقيل: استشهد يوم بدر، قتله طعيمة بن عدي بن الريان، وقيل: مات سنة ثمان [وثلاثين] (¬3)، وليس له عقب. روى سهيل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا قتيبة بن سعيد، أنبأنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن سعيد بن الصَّلت، عن سهيل بن البيضاء قال: بينا نحن في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا رديفه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا سُهيلُ" رفع صوته مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يجيبه سهيل، فسمع الناس صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظنوا أنَّه يريدهم، فحبس من كان بين يديه، ولحقه من كان خلفه، حتَّى إذا اجتمعوا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه مَن شَهدَ أن لا إله إلا الله، حرَّمَه الله على النَّار، وأَدخلَه الجنَّةَ" (¬4). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 3/ 384، و"المنتظم" 3/ 376، "الإصابة" 2/ 91. وهذه الترجمة ليست في (ك). (¬2) أخرجه مسلم (973). (¬3) زيادة من "الطبقات" 3/ 385. (¬4) أحمد في "مسنده" (15738).

عبد الله بن أبي

ويقال: إن ذلك كان في غزاة تبوك. [وفيها: توفي] عبد الله بن أبي [ابن سلول المنافق (¬1)]، وأبي هو ابن مالك بن الحارث بن عبيد بن مالك بن سالم، ويعرف سالم بالحُبْلَى، وسلول امرأة من خزاعة وهي أم أُبَي بن مالك، وأم عبد الله بن أبي خولة بنت المنذر بن حرام (¬2)، من بني النجار، وعبد الله سيد الخزرج في الجاهلية، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وقد جمعوا له الخرز ليتوجوه، حسد عبد الله بن أبي بن مالك (¬3) رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وبغى عليه، ونافق، فاتضع شرفه. [وقد ذكره الواقدي في "المغازي" فقال: ] ومرض في ليالي من شوال، ومات في ذي القعدة، فكان مرضه عشرين ليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده فيها، فلما كان اليوم الَّذي مات فيه دخل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يجود بنفسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد نهيتك عن حب يهود" فقال عبد الله: قد أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه، ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، ليس بحين عتاب، هو الموت، إن مت فاحضر غسلي، وأعطني قميصك أكفن فيه، فأعطاه قميصه الأعلى، وكان عليه قميصان، فقال: أريد الَّذي يلي جلدك، [فنزع قميصه الَّذي يلي جلده] فأعطاه، ثم قال: صل علي، واستغفر لي. [قال الواقدي: وكان جابر بن عبد الله يقول خلاف هذا، يقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موت ابن أبي إلى قبره فأمر به فأخرج، فكشف عن وجهه ونفث عليه من ريقه، وأسنده إلى ركبتيه وألبسه قميصه. قال الواقدي: والأول أثبت عندنا أن رسول الله] حضر [جنازته و] غسله، وتكفينه، ثم حمل إلى موضع الجنائز، فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فوثب عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد قال يوم كذا كذا، ويوم كذا كذا، يعدُّ عليه، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أَخِّر عنِّي يا عمرُ" فلما ¬

_ (¬1) ما بين معقوفين زيادة من (ك)، وانظر جمهرة ابن حزم 354، والمنتظم 3/ 377، وطبقات ابن سعد 3/ 500. (¬2) في طبقات ابن سعد 3/ 501 أن خولة أم عبد الله بن عبد الله، فهي زوجة عبد الله بن أبي. (¬3) في (ك): عبد الله بن أبي سلول.

أكثر عليه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّي قد خُيِّرت، فاختَرتُ، ولو أَعلَم أنِّي إذا زِدتُ على السبعينَ غُفر له زدتُ عليها" وهو قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ} [التوبة: 80] فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرف، فلم يكن إلا يسيرًا حتَّى نزل قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} الآية [التوبة: 84]. [ويقال: إنه لم تزل قدماه حتَّى نزلت عليه هذه الآية فعرف رسول الله في هذه الآية المنافقين، وكان من مات لم يصل عليه]. وقال مجمع بن جارية: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أطال الوقوف على جنازة مثل ما أطال على جنازة عبد الله. وقال أنس: شهدت رجليه وقد فضلتا السرير من طوله. وقالت أم عمارة: ما تخلف أحد من الأوس والخزرج عن جنازته، ورأيت ابنته جميلة بنت عبد الله تقول: واجبلاه، واأبتاه، ما ينهاها أحد، ولا يعيب عليها. وقال عمرو بن أمية الضمري: لقد جهدنا أن ندنو من جنازته أو سريره، فما قدرنا عليه، غلبنا عليه المنافقون من بني قينقاع وغيرهم سعد بن حُنيف، وزيد بن اللُّصَيت، وسلامة بن الحمام، ومعاذ بن أبي عمرو (¬1)، ورافع بن حرملة، وداعِس، وسويد، وكانوا يظهرون الإسلام وهم أخابث المنافقين، وكانوا هم الذين يمرضونه، وكان ابنه عبد الله بن عبد الله ليس عليه شيء أثقل ولا أعظم من رؤيتهم، وكان به بطن، فكان ابنه يغلق الباب دونهم، وكان أبوه يقول: لا يليني غيرهم، ويقول لهم: أنتم أحب إلي من الماء على الظمأ، ويقولون: يا ليت أنَّا نفديك بالأرواح والأولاد والأموال، فلما وقفوا على حفرته، [ورسول الله واقف يلاحظهم ازدحموا على النزول في حفرته] وارتفعت الأصوات حتَّى أصيب أنف داعس، وجعل عبادة بن الصامت يذبُّهم، ويقول لهم: اخفضوا أصواتكم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل في حفرته رجال من قومه أهل فضل وإسلام، ولم ينزل أحد من المنافقيق، فنزل ابنه (¬2) وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصامت، وأوس بن خَولي لما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حضره، وكفنه، ووقف عليه. ¬

_ (¬1) في "المغازي": "نعمان بن أبي عامر". (¬2) في النسخ: "أبوه" والمثبت من المغازي.

ذو البجادين

وزعم مجمع [بن جارية] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دلاه بيده إلى حفرته، ثم قام على القبر حتَّى دفن، وعزى ابنه، ثم انصرف، وجعل المنافقون يحثون التراب على رؤوسهم، ويقولون: ليت أنا فديناك بالأنفس وكنا قبلك (¬1). [هذا معنى ما ذكر الواقدي. وقال هشام: مرض عبد الله أول شوال، وأقام مريضًا إلى العشرين منه، ثم بعث إلى رسول الله، فجاء فجلس عنده، فقال: "يا عبد الله أهلكك حب اليهود" فقال: يا رسول الله، إني لم أبعث إليك لتؤنبني وتوبخني، ولكن لتشهدني وتكفنني في قميصك وتستغفر لي وتقف على قبري، ومات في هذا اليوم، وعاد رسول الله إلى منزله، ولما مات انطلق ابنه عبد الله بن عبد الله - وكان اسمه الحُباب، فسماه رسول الله: عبد الله، فقال: "أنت عبد الله، والحباب شيطان" وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وشهد بدرًا مع رسول الله مسلمًا، وكان يصعب عليه صحبة أبيه للمنافقين، وهو الَّذي جلس على باب المدينة ومنع أباه في غزوة المريسيع من دخولها، وقد ذكرناه - فقال: يا رسول الله، مات عبد الله، فقام رسول الله معه وشهد جنازة عبد الله وفعل ما ذكره الواقدي، وما كان إلا اليسير حتَّى نزلت هاتان الآيتان اللتان هما قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية [التوبة: 84] فما صلى على قبر منافق ولا قام عليه حتَّى قبضه الله تعالى. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وفيها توفي ذو البِجادين - بدال مهملة - واسمه] عبد الله بن عبد نُهْم بن عفيف المزني، وأمه جَهْمَة بنت الحارث، همدانية، وهو من الطبقة الثانية من المهاجرين، [قال ابن سعد: ] وكان يتيمًا لا مال له، مات أبوه ولم يورثه شيئًا، فكفله عمه حتَّى أيسر، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عليه خوفًا من عمه، حتَّى مضت المشاهد كلها، فقال له: يا عم قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدًا، فأُذَن لي في الإسلام، فقال له: والله لئن أسلمتَ لا تركت في يدك شيئًا كنت أعطيتُكَه إلَّا نزعتُه منك ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 1057 - 1060، وما بين معقوفين زيادة من (ك). (¬2) أخرجه البخاري (1366)، ومسلم (2774). وما بين معقوفين زيادة من (ك).

معاوية بن معاوية

حتَّى ثوبيك، فقال: أنا والله تابع محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وتاركٌ عبادة الحجر، وهذا ما بيدي فخذه، فأخذ ما بيده حتَّى جرَّده من إزاره، فأتى أمه، فقطعت له بجادها قطعتين، فاتزر بواحدة، وارتدى بالأخرى [والبجاد كساء مخطط من أكسية الأعراب] ثم قدم المدينة، وكان قد أقام بورقان جبل من جبالها، فدخل المسجد، فاضطجع فيه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتصفح وجوه الناس إذا انصرف من صلاة الصبح، فلم انظر إليه أنكره، فقال: "مَن أنت؟ " فانتسب له، وكان اسمه عبد العزى، فقال: "أنتَ عبدُ الله ذو البِجادَين"، ثم أنزله قريبًا منه، فكان في ضيافته، وعلمه القرآن حتَّى قرأ قرآنًا كثيرًا، وكان صيتًا يرفع صوته بالقرآن، فقال عمر رضوان الله عليه: يا رسول الله، ألا ترى إلى هذا الأعرابي قد منع الناس القراءة، فقال: "دعهُ يا عُمرُ، فإنَّه خرج مُهاجرًا إلى الله ورسولهِ"، ثم خرجوا إلى تبوك، فقال: يا رسول الله، ادع لي بالشهادة، فقال: "أَبغِني لحاء سَمُرةٍ" فربطها في عضده، وقال: "اللَّهمَّ إنِّي أُحرِّم دَمَه على الكفَّارِ" فقال: يا رسول الله، ليس هذا أردت، فقال: "إنَّك إذا أخذتكَ الحمَّى كنتَ شهيدًا وإن وقصتك دابتك فأنت شهيد"، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك أيامًا، فتوفي ذو البجادين بها. قال بلال بن الحارث: حضرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع بلال شعلة من نار عند القبر واقفًا بها، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر وأبو بكر وعمر رضوان الله عليهما يدليانه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "دَلِّيا إلي أخاكُما" فلما هيآه (¬1) لشقه في اللَّحد قال: "اللَّهمَّ إنِّي أمسيتُ راضيًا عنه فارضَ عنه" فقال ابن مسعود: ليتني كنت صاحب الحفرة، ولقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة، وترك ابنة فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمها. [وفيها توفي] معاويةُ بن معاوية الليثي، وقيل: المزني، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، قال [ابن سعد بإسناده عن العلاء أبي محمد الثقفي قال: سمعت] أنس بن مالك: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في (أ، خ): أنهياه، والمثبت من (ك)، و"الطبقات" 5/ 138، وانظر "المنتظم" 3/ 376، و"الإصابة" 2/ 338.

بتبوك إذ طلعت الشمس بيضاء مضيئة لا شعاع لها ولا نور، لم ير فيما طلعت لذلك، فسأل جبريل عن ذلك، فقال: مات اليوم بالمدينة معاوية بن معاوية الليثي، فبعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه، قال: "وفيمَ ذلك؟ " قال: كان يكثر قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} في الليل والنهار، وفي ممشاه، وقيامه وقعوده، ويحبها، فهل لك يا محمد أن أقبض لك الأرض حتَّى تصلي عليه؟ قال: "نعم" فقبضها، فصلى عليه (¬1). [وليس في الصحابة من اسمه معاوية بن معاوية غيره، وله صحبة ورواية، وأخرج له أحمد حديثًا واحدًا، فقال: حدثنا سليمان بن داود الطيالسي بإسناده إلى] معاوية بن معاوية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يكونُ الناسُ مُجْدِبينَ فينزِّلُ الله عليهم رِزقًا من رِزقهِ، فيُصبِحونَ مُشرِكينَ" فقيل له: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ فقال: "يَقُولونَ: مُطِرنا بنَوءِ كَذا وكَذا" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 130. (¬2) أحمد في "مسنده" (15537).

السنة العاشرة من الهجرة

السنة العاشرة من الهجرة وفيها: تتابعت الوفود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسمى سنةَ الوفودِ، قدم عليه فيها سبعون وفدًا، فنذكر أعيانهم: وفد الأزد: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صُرَد بن عبد الله الأزدي في وفد من الأزد، فأسلم، وحسن إسلامه، فأمَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من أسلم من قومه، وأمَرَه أن يجاهدَ بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فخرج صُرَد، فنزل جُرَش، وهي يومئذ مدينة مُغلقةٌ، وبها قبائل من اليمن، وقد ضوت إليهم خثعم، فحاصرهم قريبًا من شهر، وامتنعوا عليه، فرجع عنهم قافلًا، فنزل بجبل لهم يقال له: كَشْر، فظن أهل جرش أنَّه إنما ولَّى عنهم منهزمًا، فخرجوا في طلبه، فأدركوه، فعطف عليهم، فقاتل قتالًا شديدًا، وكانوا قد بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة يرتادان وينظران، فبينا هما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بأي بلاد كشر؟ " فقال الجرشيان: هو جبل ببلادنا، فقال: "ليس بكَشْر، ولكنَّه شُكر" قالا: فما له يا رسول الله؟ قال: "إنَّ بُدنَ الله لتُنحر عنده الآنَ" فقاما من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلسا إلى أبي بكر وعثمان - رضي الله عنهما - فقال لهما: ويحكما، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينعى لكما قومكما، فسلاه أن يدعو لكما فيرفع عن قومكما، فقاما إليه، فسألاه، فقال: "اللَّهمَّ ارفع عنهم" فرجعا إلى قومهما، فوجدوا صُردَ بنَ عبد الله قد أصاب قومهما في اليوم الَّذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال في الساعة التي ذَكَر فيها ما ذكر (¬1). ثم قدم وفد الأزد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا، وحمى لهم حمىً حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس والراحلة والميرة (¬2). وفد هلال بن عامر، وكان فيهم زياد بن عبد الله العامري، فنزل على ميمونة - رضي الله عنها - ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 587، و"تاريخ الطبري" 3/ 130، والطبقات 1/ 291. (¬2) "الطبقات" 1/ 291 - 292.

وكان ابن أختها، وهو يومئذ شاب، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه عندها، فغضب، ورجع، فنادته: يا رسول الله إنه ابن أختي، فرجع، وأكرمه، وصلى بعد الظهر والعصر، ومسح على رأسه وبعض وجهه، فكانت بنو هلال بن عامر يقولون: ما زلنا نعرف البركة في وجه زياد، وكان لزياد ابن اسمه علي، فقال فيه الشاعر (¬1): [من الكامل] يا بن الَّذي مسَحَ الرسول بوجههِ ... ودعا له بالخير عندَ المسجدِ أعني زيادًا لا أُريد سواهُ من ... متيمن أو غائرٍ أو منجدِ ما زالَ ذاك النُّور في عرنينه ... حتَّى تبوَّأ بيتَه في ملحَدِ وفد الرَّهاويين، وكانوا خمسة عشر رجلًا، فأَنزلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار رملة بنت الحارث، وجاءهم، فأسلموا، وأهدوا له هدية فيها فرس يقال له: المرواح، فأعجبه، وأجازهم، وكتب لهم بمئة وسق من خيبر، وعقَد لهم لواءً، فلم يزل عند عمرو بن سبيع الرَّهاوي، وكان عليهم حتَّى قاتل يوم صفين مع معاوية، وقال عمرو في طريقه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأبيات (¬2): إليكَ رسولَ الله أعملتُ نصَّها ... تجوزُ الفَيافي سَمْلَقًا بعد سَمْلَقِ على ذاتِ الواحٍ أُكلفها السُّرى ... تَخُب برحلي مرَّة ثم تُعنقِ فما لكِ عندي راحةٌ أو تَلجلجي ... بباب النبيِّ الهاشميِّ الموفَّقِ وفد بني عامر بن صعصعة، وكان فيهم عامر بن الطفيل، وأَربَد بن قيسٍ، وخالد بن روم (¬3)، وجبار بن سلمى بن مالك، وهؤلاء النفر رؤساء القوم وشياطينهم، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له عامر بن الطفيل: يا محمد، ما لي إن أسلمتُ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكَ ما للمسلمينَ، وعليكَ ما عليهم"، قال: لا، إلَّا أن تجعل لي الأمر بعدك, فقال: "ليسَ ذاكَ لكَ ولا لقومِكَ" قال: فتجعل لي الوبر، ولك المدر، قال: "لا، ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 267 - 268. (¬2) "الطبقات" 1/ 297. (¬3) كذا، وفي السيرة 2/ 568، وطبقات ابن سعد 1/ 268: فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر، وفي الطبري 3/ 144: وأربد بن قيس بن مالك بن جعفر.

ولكِن أجعلُ لك أعنَّة الخيلِ" فقال: أوليست لي؟ ثم قال: يا محمد، والله لأملأنها عليك خيلًا ورَجِلًا، ولأربطن بكل نخلة فرسًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ اكْفِنِي عامرًا وأربد، واهد بني عامر، واهد للإسلام عامرًا، وأغنِ الإسلام عن عامرٍ"، ثم انصرفوا إلى بلادهم حتَّى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعونَ في عُنقه، فاندلع لسانُه في فيه كضرع الشاة، فمال إلى بيت امرأة من سلول، وجعل يقول: غُدة كغدة البعير، والموت في بيت سلولية، ثم مات، وكان من فرسان العرب، فواراه أصحابه، وجعلوا على قبره أنصابًا ميلًا في ميل، وجعلوه حمًى، ولما رجعوا إلى قومهم، قالوا: ما وراءك يا أربد؟ فقال: لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنَّه عندي فأرميه بنبلي هذه حتَّى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين ومعه جمل، فأرسل الله تعالى عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما، وذلك ببركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أَربد أخو لبيد بن ربيعة لأمه. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أسلَمت عامرٌ لزاحَمَت بنو عامرٍ قُريشًا في بِرِّها". وفد كندة، ورئيسهم الأشعثُ بن قيس، قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمانين راكبًا أو ستين من كندة، فدخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجده، وقد رجَّلوا جُمَمهم، وكحلوا عيونهم، ولبسوا جِبابَ الحِبَرات مكفوفةً بالحرير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَلم تُسلموا؟ " قالوا: بلى، فقال: "فما بالُ هذا الحرير في أعناقِكُم؟ " فنزعوه، فقال الأشعث: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، فضحكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "نحن بنو النَّضر بن كنانَةَ لا نَنتَفي من أَبِينا، ولا نَقْفُوا أُمَّنا، ولكن انسُبوا هذا النَّسب للعباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث، كانا تاجرين، فكانا إذا سارا في الأرض سئلا: من أنتما؟ فقالا: نحن بنو آكل المُرار، فيدفعون بتلك عن أنفسهم، لأن مَن أكل المُرار من كندة كانوا ملوكًا"، فقال الأشعثُ عند ذلك: أفرغتم يا معاشر كندة؟ لا أسمع رجلًا يقولها بعد اليوم إلا ضربته ثمانين، ثم انصرفوا راجعين (¬1). ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 585.

وقال هشام: دخلُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليهم الدِّيباج المخوص باللُّؤلؤ والذهبِ، فأنزلهم دارَ رملةَ بنتِ الحارثِ وأكرمهم. وفد زبيد، ورأسهم عمرو بن معدي كرب، وقد كان قال لقيس بن المكشوح المرادي: يا قيسُ، إنَّك سيد قومك اليوم، وقد ذكر لنا أن رجلًا من قريش قد ظهر بالحجاز يقال له: محمد، يقول: إنه نبي، فانطلق بنا إليه حتَّى نعلم علمه، فإن كان نبيًا كما يزعم، فلن يَخفَى علينا إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس، فركب عمرو في جماعة من قومه، وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وصدقه، وبلغ قيسًا، فتوعده، وقال: خالفني (¬1)؟ وقيل: إن عمرًا لم يأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحكى ابن سعد قال: قدم عمرو بن معدي كرب المدينة في عشرة نفر من زبيد، فقال: مَن سيد هذه البحيرة؟ قالوا: سعد بن عبادة، فأناخ راحلته على بابه، فخرج سعد إليه، فرحب به، وأكرمه، وأنزله، وراح به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ومن معه، وأقاموا أيامًا، فأجازهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجيز به الوفد، وانصرفوا إلى بلادهم، فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتد عمرو، ثم أسلم، وحسن إسلامه، وأبلى يوم القادسية بلاءً حسنًا (¬2). وفد عبد القيس: عن ابن عباس: أن وفد عبد القيس لما وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالإيمان بالله، وقال: "أَتَدرُونَ ما الإيمانُ باللهِ؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: "شَهادةُ أَن لا إله إلَّا اللهُ، وأَنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاة، وصومُ رمضان، وأن تُعطوا الخمسَ من المَغنَمِ" أخرجاه في "الصحيحين" (¬3) مختصرًا. وكان فيهم الجارود، وكان نصرانيًا فأسلم، وأسلم أصحابه. وفد بني حنيفة [قال ابن إسحاق: قدم وفد بني حنيفة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، وفيهم مسيلمة بن حبيب الكذاب، [فأنزلهم في دار امرأة من الأنصار من بني النجار] فأتوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترونه بالثياب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس مع أصحابه، وفي يده ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 583. (¬2) "الطبقات" 1/ 283. (¬3) أخرجه البخاري (87)، ومسلم (17).

عسيب من سعف النخل، فكلم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله، فقال: "لو سألتَني هذا العَسِيبَ الَّذي في يدي ما أعطيتُكَه". فلما قدموا اليمامة ارتدَّ، وتنبأ، وكذب، وقال: إني قد أُشركت معه في الأمر، وجعل يسجع لهم الأسجاع [فيقول] مضاهاة للقرآن: [قد أنعم الله على الحُبلى، إذ أخرج نسمة تسعى من بين شراسيف وحشا] ووضع عنهم الصلاة، وأباح لهم الزنا والخمر، وهو يشهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نبي، فأصفَقَت معه حنيفة على ذلك (¬1). وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإني قد أُشركت معك في الأمر، ولكن قريش قوم يعتدون، وبعث به مع ابن النواحة وثمامة بن أثال الحنفي [وفي رواية: لنا نصف الأرض ولكم نصف الأرض]، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرسوليه: "وأَنتُما تقولانِ مثل هذا؟ " قالا: نعم، فقال: "أَما والله لولا أَنَّ الرُّسل لا تُقتَل لَقتَلتُكما" ثم كتب إليه: "مِن محمدِ رسولِ الله إلى مُسيلمَة الكَذَّاب، أمَّا بعد: فإنَّ الأرضَ لله يُورِثُها مَن يشاءُ من عبادِه والعاقبةُ للمتَّقين". [قال ابن إسحاق: وكان ذلك في آخر سنة عشر (¬2). قال: قال الحسن: كان ثمامة بن أثال الحنفي رسول مسيلمة إلى رسول الله] فدعا الله أن يمكنه منه [قال ابن إسحاق: فحدثني سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: كان إسلام ثمامة بن أثال الحنفي أنَّه] دخل المدينة، وقد اعتمر يريد مكة [وهو مشرك] فيتجر بها، فأخذ فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر به فرُبط إلى عَمودٍ في المسجد، [وكان قد عرض لرسول الله يريد قتله، فلما رُبِط مرّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مالك يا ثمام؟ هل أمكن الله منك؟ فقال: قد كان ذلك يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالًا تُعطه، فمضى رسول الله وتركه. فلما كان من الغد مرّ به وقال له مثل ما قال في اليوم الأول، وأجابه بمثل ذلك، ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 576 - 577. (¬2) "السيرة" 2/ 600 - 601.

فعل ذلك ثلاثة أيام، ثم قال: أطلقوه فقد عفوت عنه، أو قد عفوت عنك يا ثمام، فقام واغتسل وأسلم ثم قال: يا رسول الله، إني خرجت معتمرًا وأريد أن أتمم عمرتي، فعلمه رسول الله. فخرج فقدم مكة، وسمعته قريش يتكلم بأمر رسول الله، فقالوا: صبأ ثمامة، فقال: ما صبأت ولكني أسلمت. وايم الله لا يأتيكم حبة من اليمامة ما بقيت - وكانت ريف مكة -. ثم انصرف إلى اليمامة، ومنع الحمل منها حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يكتب إلى ثمامة كتابًا يسأله أن يخلي لهم الطعام، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قال هشام: كان مسيلمة بن حبيب الكذاب صاحب مخرقة ونارنجيات، وهو أول من أدخل البيضة في القارورة، وأوصل الجناح المقصوص من الطائر ونحوه، وسنذكره في سنة ثلاث عشرة]. وأما ابن النوَّاحة فإنه أمكن الله منه لابن مسعود - رضي الله عنه - فيما بعد، فقال له: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لولا أَنَّك رسولٌ لقَتلتُكَ" فأما اليوم فلست برسول، قم يا خرشة فاضرب عنقه، فقام إليه، فضرب عنقه (¬2). وفد طيّئ، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم زيد بن مهلهل بن يزيد بنُ مُنْهِب (¬3) الطائي، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ذُكرَ لي رجلٌ من العرب بفضلٍ، ثم جاءَني إلَّا رأيتُه دونَ ما يُقال فيه، إلَّا زيد الخَيْلِ، فإنَّه لم يَبلغ كل ما كان فيه" ثم سماه: زيدَ الخير، وقطع له أراضي من فَيْد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن يَسلَم زيدٌ من حُمَّى المدينةِ يَطُل عمُرُه" فمرض، فلما وصل إلى ماء من مياههم، يقال له: الفردة أخذته الحمى، فقال حين أحس بالموت: [من الطويل] ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 638 - 639 وما بين معكوفين من (ك)، وجاء بدله في (أ، خ): ثم عفى عنه وأطلقه فأسلم. (¬2) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 481، وانظر "دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 333. (¬3) في (أ، خ): زياد بن مهلهل بن زيد بن مهذب، والمثبت من طبقات ابن سعد 6/ 212، والأغاني 17/ 245، وتاريخ دمشق 6/ 675 (مخطوط)، وهذا الخبر ليس في (ك).

أُمام لقد جُنِّبْتُ بيتك غدوة ... وأنزلُ في بيت بفَردة منجد (¬1) ألا رُبَّ يومٍ لو مرضتُ لعادني ... عوائدُ من لم يَبْرَ منهن يَجهدِ فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان منه من كتاب القطائع التي أقطعه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحرقتها بالنار (¬2). وكان فارسًا، مغوارًا، شجاعًا، شاعرًا، مخضرمًا يقول الشعر في غاراته ومفاخراته، وسمي بزيد الخيل لكثرة خيله: الهطال، والكميت، والورد، والكامل، ودؤول، ولاحق، ولم يكن لأحد من العرب سوى فرس أو فرسين (¬3). وكان إذا ركب الفرس المشرف تخط رجلاه الأرض، وكان جميلاً، ولما ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرح له متكأً، فأبى أن يتكئ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجلالًا له، وكان من قوله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي أيدنا بك، وعصم لنا ديننا، فما رأيت أحسن مما تدعونا إليه، وقد كنت أعجب لعقولنا واتباعنا حجرًا نعبده يسقط منا فنظل نطلبه (¬4). قال محمد بن السائب الكلبي: خرج رجل من بني نَبهان من الحرة، وترك بها أهله، وقال: والله لا أرجع إليكم حتى أكسب خيرًا، أو أموت، فلم يزل يقطع الفيافي حتى انتهى إلى حي زيد الخيل، فإذا بخباء عظيم فيه قبة من أدم، وفي القبة شيخ كبير كأنه نسر، قال: فلما وجبت الشمس جلست خلفه فإذا بفارس قد أقبل لم أر فارسًا أعظم منه ولا أجسم على فرس مشرف، ومعه أسودان يمشيان إلى جنبيه، ومئة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل، وبركن حوله، فنزل، وقال لأحد عبديه: احلب فلانة، وأشار إلى ناقة، فحلبها في عُسًّ، ووضعه بين يدي الشيخ، وتنحى عنه، فكرع الشيخ منه مرة أو مرتين، ثم نزع، ومددت يدي فشربته، فجاء العبد، فأخذ العُس، وقال: يا مولاي، قد أتى على آخره، ففرح، وقال: احلب ثانيًا، ¬

_ (¬1) رواية "السيرة"، والطبري 3/ 145: أمرتحلٌ قومي المشارق غدوة .... والمثبت موافق لما في تاريخ دمشق 6/ 677. (¬2) "السيرة" 2/ 577 - 578، و"الطبقات" 1/ 277. (¬3) انظر "الأغاني" 17/ 248. (¬4) "تاريخ دمشق" 19/ 519.

وضعه بين يديه، فأخذت العُس، وشربت نصفه مخافة أن آتي على آخره فيعلمون بي، ثم ذبح شاة، وشوى منها، وأطعم الشيخ، وأكل هو والعبدان، وناموا، فثرت إلى الفحل، فأطلقت عقاله، وركبته، فاندفع بي، فتبعته الإبل، فما زلت ليلتي أسرع بها إلى الفجر، فلما تعالى النهار وإذا بفارس كأنه طائر، فتأملته فإذا به صاحبي، فنزلت، وعقلت الفحل، ونَثَرتُ كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل، فصاح بي: أطلق عقاله، فقلت: كلا، لقد خلفت نُسَيّات بالحيرة، وآليت أن لا أرجع إليهن حتى أفيدهن خيرًا أو أموت، فقال: إنك ميت، أطلق عقاله لا أم لك، فقلت: هو ما قلت لك، فقال: إنك لمغرور، انصب خطامه، واجعل فيه خمس عشر، ففعلت، فقال: أين تريد أن أضح سهمي، فأشرت إلى موضح، فرماه، فكأنما وضعه بيده، ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمسة بخمسة أسهم، فرددت نبلي إلى كنانتي، وألقيت قوسي، ووقفت مستسلمًا، فدنا، فأخذ السيف والقوس مني، ثم قال: ارتدف خلفي، وعرف أني الذي شربت عنده اللبن، ثم قال: ما ظنك بي؟ قلت: أحسن الظن، قال: وكيف؟ قلت: لما لقيت من تعب ليلتك وقد أظفرك الله بي، قال: أفتراني أهيجك وقد بتَّ تُنادم مهلهلًا يعني أباه؟ فقلت: أزيد الخيل؟ قال: نعم، قلت: كن خير آخذ، قال: ليس عليك بأس، ولو كانت هذه الإبل لي لما ذهبت إلا بها، ولكنها لابنة مهلهل، ثم عاد إلى مكانه، وقال: أقم عندي مكرمًا، فإني على شرف غارة، ثم أغار على بني نمير بالملح، فاستاق مئة بعير، فدفعها إليَّ، وبعث معي الخُفَراء من ماء إلى ماء، حتى وردت الحيرة، فلقيني نبطي، فقال: أيسرك يا أعرابي أن لك بإبلك هذه بستانان من هذه البساتين؟ قلت: وكيف؟ قال: هذا زمن نبي يخرج فيملك هذه الأرض ويحول بينها وبين أربابها، حتى إن أحدهم ليبيع البستان بثمن بعير، قال: فما مضت إلا هنيهة حتى بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمنا، وما مضت إلا مدة يسيرة حتى فتح الله علينا الحيرة، فاشتريت بثمن بعير من إبلي بستانًا بالحيرة (¬1). قال أبو الفرج: كانت الحمى تعتري زيدًا دائمًا، وكان له أربعة بنين كلهم يقول ¬

_ (¬1) الخبر في "الأغاني" 17/ 255 - 257.

الشعر، وهم: عروة، ومهلهل، وحريث، ومكنف، فأسلم مكنف وحريث، وشهدا قتال أهل الردة مع خالد بن الوليد، فلهما صحبة، وعروة شهد القادسية، وقُسَّ الناطف، ويوم مِهْران، وأبلى بلاءً حسنًا. وفد شيبان، كان فيهم حريث بن حسان الشيباني، فأسلم، وكانت تحته قَيْلة بنت مَخرمَة، هاجرت، وقدمت المدينة، فدخلت المسجد، فجلست خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذتها رعدة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا مسكينةُ عليك السَّكَينةُ" ولَحِقَها حريث، فقال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين بني تميم لا تُجاوِزُ الدهناء إلينا منهم إلا مسافرٌ أو مُجْتازٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلامُ، اكتُب لهم بالدَّهناءِ" فقالت قَيْلة: وكانت الدهناء وطني وداري، فقلت: يا رسول الله، الدهناءُ مرعى الإبل والغنم ونساء بني تميم فسراها (¬1)، فقال: "أَمسِكْ يا غلامُ، صَدَقت والله المسكينةُ، المسلِمُ أَخو المسلمِ" (¬2). وفد بَجِيْلَة، ومنهم: جرير بن عبد الله البَجَلي، قال جرير: لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي، ثم حللت عيبتي، ثم لبست حلتي، ودخلت المسجد، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يخطب، فرماني الناس بالحدق، فقلت لجليسي: يا عبد الله، ذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ] قال: نعم، ذكرك آنفًا بأحسن الذكر بينا هو يخطب إذ عرض له في خطبته، فقال: "يدخل عليكم من هذا الباب - أو من هذا الفج - من خيرِ ذي يَمَن، إلا أن على وجهه مسحة مَلَك". قال جرير: فحمدت الله على ما أولاني. أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه (¬3). وقال جرير: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصيحة لكل مسلم. أخرجاه في الصحيحين (¬4). ¬

_ (¬1) هذه الكلمة لا معنى لها هنا، ونص الخبر عند ابن سعد 1/ 276: يا رسول الله، إنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدهناء عندك مقيد الجمل ومرعى الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال: "أمسك يا غلام ..... ". (¬2) "الطبقات" 1/ 274 - 277. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (19180) وما بين معكوفين منه. (¬4) أخرجه البخاري (57)، ومسلم (56).

وقال جرير: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تُريحُنِي من أمرِ ذي الخَلَصةِ؟ " وكان بيتًا في خثعم يسمى: كعبة اليمانية، فانطلقت في خمسين ومئة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنني لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري، وقال: "اللَّهمَّ ثبِّتهُ، واجعَلْهُ هادِيًا مَهدِيًّا" فانطلقت إليها، فكسرتها، وحرقتها، وأرسل جرير [رجلًا] إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشره، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجرب، فبارك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خيل أحمس ورجالها خمس مرات (¬1). واعتماد الفقهاء في المسح على الخفين على حديث جرير، قال - رضي الله عنه -: أنا أسلمت بعد نزول المائدة، وأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح بعدما أسلمت (¬2). وفد العَنْس - بنون - فيهم ربيعة العَنْسي (¬3)، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَراغبًا جئتَ أم راهبًا؟ " فقال له: أما الرغبةُ، فوالله ما في يديك من مال فأرغب فيه، وأما الرهبةُ فوالله إنني في مكان ما تبلغه جيوشك، ولكن جئت مسلمًا، فأجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إن أَحسَسْت في الطريقِ بوَعَك فمِل إلى أَدنى قريةٍ منك"، فوعك في الطريق، فمال إلى قرية هناك، فمات فيها. وفد سعد العشيرة، وفيهم ذُباب بن أنس، فأسلم، وكسر صنمًا لهم يقال له: فَرَّاص، وقال: [من الطويل] تَبِعتُ رسولَ الله إذ جاءَ بالهُدى ... وخلَّفتُ فَرَّاصًا بدارِ هَوانِ ولَمَّا رأيتُ اللهَ أَظهرَ دينَهُ ... أَجبْتُ رسولَ اللهِ حينَ دعانِي شدَدْتُ عليه شدَّةً وتركتُهُ ... كأَن لم يكُن في الدَّهرِ ذُو حَدَثانِ فأصبحتُ للإسلامِ ما عشتُ ناصرًا ... وأبقيتُ فيه كَلكَلي وجِرانِي فمَن مبلغ سعدَ العشيرةِ أنَّني ... شريتُ الذي يَبقى بآخر فاني وعاش ذُباب حتى شهدَ مع علي - رضي الله عنه - صفين، وقيل: اسمه عبد الله (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3020)، ومسلم (2476). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (19221). (¬3) نص الخبر في نسخنا كالتالي: وفد عبد القيس - بنون - فهم بن ربيعة العبس. وانظر "الطبقات" 1/ 295. (¬4) "الطبقات" 1/ 295.

وفد جُهينة، وفيهم عمرو بن مرة سادِنُ صنم جُهينة، فكَسَره، وأسلم، وقال: [من الطويل] شهدتُ بأنَّ الله حقٌّ وأنَّني ... لِآلِهَة الأحجارِ أَوَّل تاركِ وشمَّرت عن ساقِي الإزارَ مُهاجرًا ... إليكَ أجوبُ الوَعْثَ بعد الدَّكادِكِ لأصحَبَ خيرَ الناس نَفسًا ووالدًا ... رسولَ مليكِ الناسِ فَوق الحبائكِ ثم بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه، فأسلموا إلا واحدًا ردَّ عليه، فدعى عليه عمرو، فسقط فوه، وخرس، وعمي، واحتاج إلى الناس، وقيل: إنما قدم وفد جُهينة المدينة حين قدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر الإسلام (¬1). وفد كَلْب، وكان فيهم حارثة بن قطن، وحَمَل بن سَعْدانة الكَلْبيان، فأسلموا، وعقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحارثة لواءً على قومه، فشهد به صفين مع معاوية، فأقطعه أرضًا بدومة الجندل، وكتب له بها كتابًا (¬2). وفد جَرْم، قال البخاري: حدَّثنا سليمان بن حَرْب، حدَّثنا حمَّاد بن زيد، عن أيوبَ، عن أبي قِلابة، عن عمرو بن سَلَمة قال: كنا بماء ممَرَّ الناس، وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم: ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله، وأوحى إليه بكذا، وكنت أحفظ ذلك الكلام، وكانت العرب تلوَّم بإسلامها الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنَّه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبادروا قومي بإسلامهم (¬3)، فلما قدم قال: جئتكم من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حقًا، قال: "صلُّوا صلاةَ كذا في حينِ كذا، وصلاةَ كذا في حينِ كذا، فإذا حَضرتِ الصلاةُ فليُؤذِّن أحدُكم، وليؤمَّكُم أكثَركُم قُرآنًا" فنظروا، فلم يكن أحد أقرأ مني لما كنت أتلقى الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلَّصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطُّوا عنا است قارئكم، فقطعوا لي قميصًا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. انفرد بإخراجه البخاري. ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 287. (¬2) "الطبقات" 1/ 288 - 289. (¬3) كذا؟ ! وفي صحيح البخاري (4302): وبدر أبي قومي بإسلامهم. وانظر "الطبقات" 1/ 289.

وفد النَّخَع، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم أرطاة بن شراحيل، والأرقم بن عمر، فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى من حُسنِ هيئتهما، فأسلما، وقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَل خلَّفتُما وراءَكما مِن قَومِكُما مِثلَكُما؟ " فقالا: خلفنا وراءنا سبعين رجلًا كلهم أفضل منا، فدعا لهما، وقال: "اللَّهمَّ بارِكْ في النَّخَعِ" وعقد لأرطاة لواءً على قومه، فكان في يده يوم الفتح، ثم شهد به القادسية، فقتل أرطاة يومئذ، فأخذه أخوه، فقتل، فأخذه سيف بن الحارث، فدخل به الكوفة. وقيل: إنما قدموا في المحرم سنة إحدى عشر، وهم مئتا رجل، فأنزلهم دار رملة بنت الحارثِ، وقالوا: بايعنا معاذًا باليمن، وكان منهم زرارة بن عمرو، وكان نصرانيًا، فأسلم، وهم آخر وفد وفدَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفد حَضرَمَوت، وكان فيهم وائل بن حجر، فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [وحكى ابن سعد عن هشام بن محمد: أن رسول الله سرَّ] بقدومه، ونادى الصلاةَ جامعةً، ثم خطب فقال: "أَيُّها الناسُ، هذا وائلُ بن حُجر أتاكم من حَضْرَمَوت - ومدَّ بها صوتَه - راغبًا في الإسلامِ" ثم قال لمعاوية بن أبي سفيان: "انطَلِق فأنزلهُ مَنزلاً بالحرَّة" قال معاوية: فانطلقت معه، فأحرقتِ الرَّمضاءُ رجليَّ، فقلت له: أردفني وراءَك، فقال: لست من أرداف الملوكِ، قال: فقلت: فادفع لي نعليك أمشي فيهما أتوقَّ بهما من الحرِّ، فقال: لا يبلُغْ أهل اليمنِ أنَّ سوقَةً لبسَ نعلَ ملكٍ، ولكن إن شئت فامشِ في ظلِّ ناقتي، وكفاكَ به شرفًا في قومك، قال: فسرت في ظل ناقته حتى أنزلته منزلًا، ولما رجع إلى بلاده أجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتب له كتابًا بأراضي وحصون. [وفي رواية]: فأخبَرَ معاوية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال له وائل، فقال: "إنَّ فيه لعُبيَّة من عبيَّةِ الجاهلية، ارفُقوا به فإنَّه قريبُ عهدٍ بمُلكٍ" (¬2). فلما استخلف معاوية قدم عليه وائل، فأكرمه، وأجلسه معه على سريره، وقال له: أتذكر يوم كذا وقولك لي؟ ووائل يقول: نعم، وهل هو إلا ذاك؟ قال وائل: وأنا أقول في نفسي ليتني حملته بين يدي (¬3). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 298. (¬2) "الطبقات" 1/ 300 - 303، وما بين معقوفين زيادة من (ك). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (27238) من حديث وائل بن حجر - رضي الله عنه -.

وبعثت امرأة من أهل اليمن يقال لها: تهناة بنت كُليب في ذلك الوفد بكسوة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ابن لها يقال له: كليب بن لبيد (¬1)، فدفعها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: [من البسيط] مِن وادِ بَرْهُوت تَهوي بي عذافرة ... إليك يا خَيرَ مَن يحفى ويَنتعلُ تجوب بي صفصفًا غُبْرًا مناهِلُه ... تزدادُ عفوًا إذا ما كلَّتِ الإبلُ (¬2) شهرين أُعمِلُها نصًّا على وَجَل ... أرجو بذاكَ ثَوابَ الله يا رجلُ أَنتَ النَّبي الذي كنَّا نخبَّرُه ... وبشَّرَتْنا به التَّوراةُ والرُّسلُ [وقد ذكر العلماء في تواريخهم وائل بن حجر، فقال خليفة: هو من حَضْرَموت، وسكن الكوفة. وقال أبو نعيم: من أبناء الأقيال باليمن، وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزله وأصعده معه على منبره، وقال: "هذا وائل بن حجر، سيد الأقيال جاءكم حبًا لله ولرسوله" وأعطاه وأقطعه القطائع، وكتب له كتابًا، ثم سكن الكوفة، وعقبه بها. وقال أبو بكر الخطيب: كان ملك قومه، قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا، فقربه وأدناه، وبسط له رداءه وأجلسه عليه، ثم نزل بعد رسول الله الكوفة وأعقب بها، ونزل المدائن في صحبة علي - عليه السلام - حين خرج إلى صفين، وكان على راية حضرموت يومئذ (¬3). وقال الهيثم: لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر وأخذ بيده فأقعده معه وقال: "أيها الناس، هذا وائل بن حجر قد أتاكم من أراض بعيدة، طائعًا لله ولرسوله غير مكره، وهو بقية أبناء الملوك، اللهمَّ بارك فيه وفي ولده وولد ولده" ثم نزل من المنبر وأنزله معه، وكتب له ثلاثة كتب بأراضي. وذكره جدي في "التلقيح" فقال: وائل بن حجر بن ربيعة الحضرمي، وهو وائل القيل (¬4). ¬

_ (¬1) في "الطبقات": كليب بن أسد بن كليب. (¬2) في النسخ: "مهمها غبرًا" والمثبت من "الطبقات" 1/ 302. (¬3) "تاريخ بغداد" 1/ 197 - 198. (¬4) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 190.

وروى وائل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرج عنه مسلم، وسنذكره فيما بعد. وفي الحديث: "أن حضرموت فيها وادي برهوت" (¬1)، وفي الحديث: "خير بئر في الأرض زمزم فيها أرواح المؤمنين، وشر بئر في الأرض برهوت وفيه أرواح الكفار" (¬2)]. وفيها: كانت سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب، ذكرها ابن إسحاق. وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، فخرج خالد إليهم، وبث الركبان في كل وجه يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الناس، وأقام فيهم خالد يعلمهم كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره بإسلامهم، وكان في كتابه: لمحمد رسول الله من خالد بن الوليد، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن القوم قد أسلموا، وإني مقيم فيهم أعلمهم كتاب الله ومعالم السنن والسلام. فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِن محمدٍ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالدِ بنِ الوليدِ، سَلامٌ عليكَ، أَمَّا بعدُ: فإنَّ كتابَكَ وَرَدَ عليَّ يُخبرني بإسلامِهم، فالحمدُ لله على ذلك، فبشِّرهُم، وأَنذِرهُم، وخَوِّفهُم، وحَذِّرهم، وليُقبِل مَعَك وَفْدُهم، والسَّلامُ". فقدم خالد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجماعة، منهم: قيس بن الحُصَين، ويزيد بن عبدِ المَدان، فلما دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "أَنتُمُ الذين إذا زُجِروا استَقدَموا؟ " فقال له يزيد: نعم، قال: "أَما واللهِ لَولا كتابُ خالدٍ وَرَد عليَّ بإسلامِكُم لأَلْقَيت رؤوسَكُم تحتَ أقدامِكُم" فقال له يزيد: أَما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدًا، بل حمدنا الله الذي هدانا بك، فقال: "صَدَقتُم" ثم قال لهم: "بمَ كُنتم تَغلِبونَ من قاتلكم في الجاهليةِ؟ " قالوا: كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ أحدًا بظلم، فقال: "صَدَقتُم" وأمَّر ¬

_ (¬1) لم نقف عليه. (¬2) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9118) من حديث علي موقوفًا قال: خير واديين في الناس ذي مكة، وواد في الهند هبط به آدم - صلى الله عليه وسلم -، فيه هذا الطيب الذي تطيبون به، وشر واديين في الناس وادي الأحقاف وواد بحضرموت يقال له: برهوت، وخير بئر في الناس زمزم، وشر بئر في الناس بلهوت وهي بئر برهوت، تجتمع فيه أرواح الكفار. وما بين معقوفين زيادة من (ك).

عليهم قيس بن الحصين، وأَجازهُم، فرجعوا إلى بلادهم. ثم بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عمرو بن حزم الأنصاري ليفقههم في الدين، ويعلمهم معالم الإسلام، وكتب معه كتابًا طويلًا، وذكر فيه أسنان الإبل، والصدقات، والعبادات وغيرها، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمرو عندهم باليمن (¬1). والكتاب مشهور أخرجه الدارقطني وغيره، وفيه: "بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، هذا كتابٌ منَ الله ورسولهِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] عهدٌ من محمدٍ رسولِ الله لعمرِو بن حَزْم حين بعثَه إلى اليمن، آمرُه بتَقوَى الله في أَمره كلِّه فـ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128] وآمرُه أن يأخذَ بالحقَّ كما أَمَره الله، وأن يُبشِّر الناسَ بالخيرِ، ويأمُرَهم به، ويعلَّمهم القرآنَ، ويفقَّههم فيه، ويَنهى الناسَ، فلا يمسّ القرآنَ إلا طاهرٌ، ويشدّد عليهم في الظُّلمِ {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، ويعلِّم الناسَ مَعالِم الحجِّ، وسُنَنه، وفرائضَه، وما أَمَر الله بهِ، والحجُّ الأكبرُ يوم النحر، والأصغر العمرةُ" (¬2) وذكر أسنانَ الإبل، وما يجبُ فيما تخرج الأرض، وذكر الجزية، وقال: "وعلى كلِّ حالِمٍ ذكرًا كانَ أو أنثى دينارٌ". وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى اليمن، فقاتلوه، فبعث عليًا - رضي الله عنه - والتقوا، فبرز علي بين الصفين، وقرأ عليهم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت همدان كلها، وأطاعوا؛ فكتب علي رضوان الله عليه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره، فخر ساجدًا، وقال: "السَّلامُ على هَمْدان" قالها ثلاثًا، ورجع خالد إلى المدينة، وأقام علي - رضي الله عنه - باليمن يفقههم في الدين، ويأخذ الصدقات، فلما كان في الموسم وافى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع (¬3). وفيها: كتب مسيلمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا يذكر فيه معنى ما تقدم، [وقيل: إنما كتب إلى رسول الله بعد انفصاله من حجة الوداع]. وفيها: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبلة بن الأيهم يدعوه إلى الله تعالى، فأسلم، ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 592 - 593. (¬2) ذكره الدارقطني في سننه مقطعًا في أبواب متفرقة، ولم يذكره بطوله، وانظر "السيرة" 2/ 594 - 596. (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 131 - 132، و"دلائل النبوة" 5/ 396.

وأهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية يخبره بإسلامه، ثم ارتد في أيام عمر رضوان الله عليه (¬1)، وسنذكره. وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي كلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع، ملك اليمن، [وقيل: اسمه سُميفع، وذو الكَلاع لقب له، قال الجوهري: ذو الكلاع بالفتح اسم ملك من ملوك اليمن من الأذواء]. وقيل: كان من ملوك الطوائف [فحكى ابن دريد عن الرياشي عن الأصمعي قال: كان رسول الله كاتب ذو الكلاع من ملوك الطوائف على يد جرير بن عبد الله] يدعوه إلى الإسلام، وكان قد استعلى أمره حتى ادعى الربوبية، وأطيع حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل عود جرير، وأقام ذو الكلاع على ما هو عليه إلى أيام عمر رضوان الله عليه ثم رغب في الإسلام، فقدم على عمر وسنذكره، وقيل: إنه أسلم على يد جرير، وأسلمت امرأته ضُريبة بنت أبرهة بن الصباح، والأول أصح (¬2). وفيها: كتب فروة بن عمرو الجُذامي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه، وأهدى له [هدية، وقد ذكره ابن سعد وقال: كانت الهدية] بغلة شهباء، وحمارًا، وثيابًا، وقباءً من سندس مخوص بالذهب، وبعث به مع مسعود بن سعيد الجُذامي، وكان عاملًا لقيصر على عمان البلقاء، فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما بعد، فإنه قد وصلني كتابك، ورسولك، والحمد لله على هدايتك" وأمر بلالًا فأعطى رسوله اثنتي عشرة أوقية ونشًا - أي نصفًا -[وقال هشام: ] وكان مسكنه بمعان وما حولها من الشام، وبلغ قيصر إسلامه وما فعل، فكتب يستدعيه، فلما دخل عليه قال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: لقد علمت أن عيسى - عليه السلام - بشر به وأنه نبي حق، فقال له: ارجع عما أنت عليه، فقال: لا والله ولا بملكك، فحبسه، ثم نصب له خشبة، [ليصلبه، وأخرجه فلما رفع على الخشبة قال: [من الكامل]: أبلغ سَراة المسلمين بأنني ... سِلْمٌ لربّي مُهجتي وعظامي قال الهيثم: ] ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 228. (¬2) انظر "الطبقات" 1/ 229، وما بين معقوفين زيادة من (ك).

وصلبه على ماء يقال له: عِفْرى من أرض فلسطين، فلما رفع على خشبته قال: [من الطويل] أَلا هل أتَى سَلمى بأنَّ حَليلَها ... على ماءِ عفرى فوقَ إحدى الرَّواحلِ على ناقةٍ لم يضربِ الفَحلُ أمَّها ... مشَذَّبة أطرافُها بالمناجل (¬1) وفيها: كانت حجة الوداع، وتسمى: حجة التمام، والكمال، والبلاغ، وحجة الإسلام [وحجة الوداع أشهر، وقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر عند الجمرات، وجعل يقول: "اللهمَّ اشهد" وودع الناس، وما كنا ندري ما حجة الوداع إلى ذلك اليوم (¬2). وقال ابن عباس: كرهوا أن يقولوا حجة الوداع، فقالوا: حجة الإسلام]. قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا يحيى بن آدم وأبو النَّضر، قالا: حدَّثنا زهير، حدَّثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: خَرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُهلِّين بالحج، معنا النساء والولدان، فلما قدمنا طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لم يكُن معَه هَديٌ فَلْيَحلِل" قلنا: أيُّ الحل؟ قال: "الحلُّ كلُّه" قال: فأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج، وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة، وأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كلُّ سبعة منا في بدنة، فجاء سراقة بن جُعشم فقال: يا رسول الله، بيِّن لنا ديننا كأنَّا خلقنا الآن، أرأيت عمرتنا هذه أَلِعامنا هذا أو للأبد؟ فقال: "لا، بَل للأَبدِ" قال: يا رسول الله، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت فيه الأقلام، وجرت به المقادير [أو فيما نستقبلُ؟ قال: لا، بَل فيما جفَّت به الأَقلامُ، وجرت به المَقاديرُ"] قال: ففيم العمل؟ قال أبو النضر: فسمعت من سمع من أبي الزبير يقول: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له" (¬3). وعن جابر قال: لم يكن معنا هدي يومئذ إلا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلحة، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَر أصحابَه أن يجعلوها عمرة، يطَّوَّفوا، ثم يقصِّروا، ويُحِلُّوا إلا مَن ¬

_ (¬1) انظر "السيرة" 2/ 591، و"الطبقات" 1/ 243، و"تاريخ دمشق" 48/ 271. (¬2) أخرجه البخاري (1742) و (4402). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (14116)، وما بين معقوفين زيادة منه.

فصل في التلبية

معه الهدي، قالوا: ننطلق إلى منًى، وذَكَرُ أحدنا يقطر، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لو أَنِّي استَقْبَلتُ من أَمرِي ما اسْتَدْبَرتُ ما أَهدَيتُ"، وحاضت عائشة فنسَكت المناسكَ كلَّها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طَهُرت طافت، ثم قالت: يا رسول الله، أتنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بالحج؟ فأَمَر عبد الرحمن أن يخرجَ معها إلى التَّنعيمِ، فاعتَمَرت بعد الحجِّ في ذي الحجة (¬1). وعن جابر بن عبد الله قال: رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة بمثل حصى الخذف (¬2). فصل في التلبية: ومعنى لبيك: أنِّي مقيم على طاعتكَ وأمرك، وقيل: هي مأخوذةٌ من الإجابة للخليلِ - عليه السلام - لما أذَّن في الحجِّ فنادى: "أَيُّها الناسُ، إنَّ رَبَّكم قد بَنَى بيتًا فحجوه" قال ابن عباس: فلا يأتي أحد هذا البيت إلا وهو يقول: لبيك اللهمَّ لبيك، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَّ بالتوحيد: "لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيكَ، لا شريكَ لكَ لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنَّعمةَ والملكَ لك، لا شَريكَ لك". وروي أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه كان يزيد: لبَّيكَ ذا النَّعماء والفضلِ الحَسَن، لبيكَ لبيكَ مرغوبًا إليك. وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والرغبة إليك. وكان أنس يقول: لبيك وسعديك حقًا حقًا، تعبدًا ورقًا. وقال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: عجبًا لاختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إهلاله بالحج! ؟ فقال ابن عباس: إنِّي لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت حجةً واحدةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن هنالك اختلفوا، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجًا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهلَّ بالحج حين فرغ من صلاته، فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالًا، فسمعوه حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما علا على شرف البيداء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1651)، ومسلم (1216). (¬2) أخرجه مسلم (1299).

أهلَّ، فأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهلَّ حين علا شرف البيداء، وايمُ الله، لقد أوجب في مصلاه، وأهلَّ حين استقلَّت به راحلته، وأهلَّ حين علا شرف البيداء. فمن أخذ بقول ابن عباس أهلَّ حين فرغ من ركعتيه (¬1). وأهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مئة بدنة، نحر منها بيده ثلاثين، ثم أمر عليًا، فنحر ما بقي منها، وقال: "اقسم جلالها ولحومها وجلودها بين الناس، ولا تعطين جزارًا منها شيئًا، وخذ لنا من كل بعير بضعة من لحم، ثم اجعلها في قدر واحدة حتى نأكل من لحومها، ونَحْسُوَ من مرقها" ففعل (¬2). وقال ابن عباس أيضًا: انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة بعد ما ترجَّل، فادَّهن، ولبس إزارَه ورداءَه هو وأصحابه، فلم ينهَ عن شيءٍ من الأَرْدِيَة والأزرِ إلا المُزَعْفَرة التي تَردَعُ - أي تصبغ الجلد - فأصبح بذي الحُلَيفة، ثم ركب راحلته، حتى إذا استوى على البيداء أهلَّ هو وأصحابه، وقلَّد بُدْنَه، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربع خَلَون من ذي الحجة، وطاف بالبيت، وسَعى بين الصَّفا والمروة، ولم يَحِلَّ لأحد بُدْنَه، لأنه قلَّدها، ثم نزل بأعلى مكة عند الحَجُون وهو مُهِلٌّ، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه، حتى رجع من عرفة، وأمر أصحابَه أن يطَّوَّفوا بالبيت، ويسعوا بين الصفا والمروةَ، ثم يقصِّروا رؤوسَهم، ثم يَحِلُّوا وذلكَ لِمَن لم يكن معه بَدَنةٌ قلَّدها، ومن كان معه امرأته فهي حلال له، والطيب، والثياب. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). وقال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السقاية، فاستسقى، فقال العباس: يا فضلُ، اذهب إلى أمِّك فأْتِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بشرابٍ من عندها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْقِني" فقال: إنَّهم يضعون أيديهم فيه، فقال: "اسْقِني"، فشرب منه، ثم أتى زمزمَ، فهم يستقون ويعملون فيها، فقال: "اعْمَلُوا فإنَّكُم على عَمَلٍ صالِحٍ"، فقال: "لولا أن يُغلَبُوا لَنزَلتُ حتى أضَعَ الحَبلَ على عاتِقي، أو على هذه" يعني عاتقه. انفرد بإخراجه البخاري (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2358). (¬2) أخرجه أحمد (2359)، وانظر "المغازي" 3/ 1108. (¬3) أخرجه البخاري (1545) وهو من أفراده انظر "الجمع بين الصحيحين" (1092). (¬4) أخرجه البخاري (1635) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

وفي رواية: "لولا أَن النَّاسَ يتَّخذُونَه نُسُكًا لَنَزعتُ" (¬1). وقال: طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت على ناقةٍ يَسْتَلمُ الحَجَر بمِحْجَنِه، وبين الصفا والمروة. متفق عليه (¬2). وقد أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه، وفيه: جاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وكان قد اشتكى، فطاف على بعير ومعه مِحْجَن، فلما مرَّ عليه استلمه، فلما قضى طوافه أناخ، فصلى العشاءين (¬3). وقال ابن عباس أيضًا: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إذا لم يجدِ المُحرمُ إِزارًا، فَلْيَلْبس السَّراوِيلَ، وإذا لم يجدِ النَّعلَينِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّينِ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬4). وقال أيضًا: إن رجلًا كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوَقَصته ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبدًا" (¬5). وفي رواية: "وهو يهل أو يلبي" (¬6). متفق عليه. والملبد: الذي يجعل في رأسه شيئًا من الصمغ ليلبد شعره ولا يقمل. وقال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة جَمْع: "هَلُمَّ الْقُط" فَلَقطْتُ له حَصَياتٍ مثل حَصَى الخَذْفِ، فلما وضعهنَّ في يدهِ فقال: "نَعَم، بأَمثالِ هؤلاءِ، وإيَّاكُم والغلُوَّ في الدينِ، فإنَّما هَلَك مَن كان قَبْلَكُم بالغلوِّ في الدينِ" (¬7). وقال: إن أسامة بن زيد كان رَدِيفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ عرفَةَ، فدخلَ الشِّعب، فنزل، فأَهْراقَ الماءَ، ثم توضأ، وركب ولم يصلِّ (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2227). (¬2) أخرجه البخاري (1607)، ومسلم (1272). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (2772) وفيه: "فصلى ركعتين". (¬4) البخاري (1841)، ومسلم (1179). (¬5) البخاري (1266)، ومسلم (1206) (99). (¬6) البخاري (1268)، ومسلم (1206) (94). (¬7) أخرجه أحمد في "مسنده" (1851). (¬8) أخرجه أحمد في "مسنده" (2265).

وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالروحاء، فلقي رَكْبًا، فسلَّم عليهم، فقال: "مَنِ القومُ؟ " قالوا: المسلمون، قالوا: فَمَن أنت؟ قال: "رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -"، فَفَزِعَت امرأةٌ، فأخذَتْ بعضُدِ صبيًّ فأخرجَتْهُ من مِحَفَّتها، وقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: "نَعَم، ولَكِ أجرٌ". انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وقال: صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الظهرَ بذي الحليفة، ثم دعا ببَدَنةٍ، فأَشْعَر صَفْحَة سَنامِها الأيمن، ثم سلت الدم عنه، وقلَّدها نعلين، ثم أتي براحِلَته، فلما قَعَد عليها واستَوتْ به على البَيْداءِ أهلَّ بالحجِّ (¬2). وقال ابن عباس: ليس المحصَّب بشي، إنما هو منزلٌ نَزَله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه (¬3). وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رميتُم الجمرةَ فقد حلَّ لكُم كلُّ شيءٍ إلَّا النساءُ" (¬4). وقال: وقَّت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأهلِ المدينةِ ذا الحُليفة، ولأهل الشامِ الجُحفةَ، ولأهلِ اليمنِ يَلَمْلَمَ، ولأهل نجدٍ قَرنًا، وقال: "هنَّ وَقْتٌ لأَهلهِنَّ ولِمَن مرَّ بهنَّ من غَيرِ أَهلهِنَّ - يريدُ الحجَّ والعمرةَ - ومَن كان منزلُه مِن وراءِ المِيْقَاتِ فإهلالُه من حيثُ يُنشِئُ، حتَّى أهلُ مكَّةَ إهلالُهم من حيث يُنشِئون". أخرجاه في "الصحيحين" (¬5). وقال: لما مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي عُسفان حين حجَّ، فقال: "يا أَبا بَكرٍ، أَيُّ وادٍ هذا؟ " قال: وادي عُسفان، فقال: "لقد مرَّ به هُودٌ وصَالحٌ على بَكَراتٍ خُطُمُها اللِّيفُ، أُزرهُم العَباءُ، وأَرديتُهم النِّمارُ، يُلَبُّون يحجُّونَ البيتَ العَتِيقَ" (¬6). وقال: إنَّ امرأة من خَثْعَم استَفْتَت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداعِ والفضلُ بن عباس ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1336) واللفظ لأحمد في "مسنده" (1898). (¬2) أخرجه مسلم (1243). (¬3) أخرجه البخاري (1766)، ومسلم (1312)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (1925). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2090). (¬5) أخرجه البخاري (1524)، ومسلم (1181) واللفظ لأحمد في "مسنده" (2128). (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (2067).

رديفه، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ فريضةَ الله في الحجَّ على عباده أَدْرَكَت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيعُ أن يستويَ على الراحلةِ، فهل يقضي عنه أن أحجَّ عنه؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَم"، فأخذ الفضل بن العباس يلتفت إليها، وكانت امرأة حسناء، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجه الفضل فحوله إلى الشق الآخر. متفق عليه (¬1). وفي رواية "المسند": فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا ابنَ أَخي، إنَّ هذا يومٌ مَن مَلَك فيه سَمعَه وبَصَره ولسانَه غُفِرَ له" (¬2). وقال: كانوا يَرَونَ العمرةَ في أشهر الحجَّ من أَفْجَرِ الفُجورِ في الأرض، ويجعلون المحرَّم صفرًا، ويقولون: إذا بَرَأ الدَّبَر، وعَفَى الأَثَر، وانْسَلَخ صَفَر، حلَّت العمرة لمن اعتمر، فلما أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة تعاظم ذلك عندهم (¬3). وقال: ما أعْمَر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عائشةَ ليلةَ الحَصْبَة، إلَّا قَطْعًا لأَمر الشَّركِ (¬4). وفي "المسند": عن عروة بن الزبير أنه قال لابن عباس: حتى متى تُضِلُّ الناسَ؟ فقال: وما ذاك؟ قال: تأمرهم بالعمرة في أشهر الحج وقد نهى عنها أبو بكر وعمر! فقال ابن عباس: قد فَعَلها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عروة: هما، أو كانا، أَتْبَع لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - منكَ (¬5). وقال ابن عباس: فلما أَمَرهم أن يجعلُوها عمرةً لُبِسَتِ القُمُص، وسَطَعت المجامِرُ، ونُكِحتِ النَّساءُ (¬6). وفي "المسند": عن ابن عباس قال: تَمتَّع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ماتَ، وأبو بكرٍ حتى ماتَ، وعمرُ حتى ماتَ، وعثمانُ حتى ماتَ، وكان أَوَّل من نَهى مُعاوية، فعجبتُ منه، وقد حدَّثني أنَّه قصَّر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِشْقَصٍ (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1854)، ومسلم (1334)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (2266). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (3041). (¬3) أخرجه البخاري (1564)، ومسلم (1240). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2361). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (2277). (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (2641). (¬7) أخرجه أحمد في "مسنده" (2664).

قال المصنف - رحمه الله -: وهذا وهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما حج مرة واحدة قارنًا وهي هذه الحجَّة، فكيف يقول: تمتَّع حتى مات؟ وفي "المسند": أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَبَح، ثم حَلَق (¬1). وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود: أنَّه رمَى جمرة العقبةِ من بطن الوادي، ثم قال: والذي لا إله غيرُه، هذا مَقامُ الذي أُنزِلَت عليه سُورَةُ البقرةِ (¬2). قال ابن عباس: وأشهرُ الحجِّ التي ذَكَر اللهُ: شوَّالُ، وذو القَعْدة، وذو الحَجَّة، فَمَن تمتَّع في هذه الأشهرِ فَعليه دمٌ أو صومٌ (¬3). قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: حدَّثنا عبد الرزاق، أَنبأنا مالكُ بن أنسٍ، عن ابن شِهاب، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نَوفَلٍ بن عبد المطَّلب، أنَّه سَمعَ سعدَ بن أبي وقَّاص، والضحَّاكَ بنَ قيسٍ عامَ حجَّ معاويةُ في صَفرٍ، وهما يذكران التمتع بالعمرةِ، فقال الضَّحاك: لا يصنع ذلك إلا من جَهِل، فقال سعد: بئسَ ما قلتَ، قال الضَّحاك: فإن عمرَ بن الخطاب يَنهى عنها، فقال سعد: قد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصنعناها معه (¬4). ولمسلم: فَعَلناها، وهذا كافرٌ بالعُرُش، يعني معاويَة (¬5). و"العُرُش": بيوت مكة، سميت بذلك لأنها عيدان تُنصب وتظلل. وقال أنس: كان على ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَحْل رث لا يساوي أربعة دراهم (¬6). وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب، عن محمد بن سِيرينَ، عن أبي بكرةَ قال: خطَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته، فقال: "ألا إنَّ الزَّمانَ قدِ اسْتَدارَ كهَيئتِه يومَ خَلَقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ، السنةُ اثنا عَشَر شهرًا، منها أربعةٌ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2638). (¬2) أخرجه البخاري (1747)، ومسلم (1296). (¬3) أخرجه البخاري (1572) وهو قطعة من حديث طويل. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (1503). (¬5) أخرجه مسلم (1225). (¬6) أخرجه ابن ماجه (2890).

ذكر الصيام بعرفة

حُرُم، ثلاثةٌ مُتوالياتٍ: ذُو القَعْدة، وذو الحجَّة، والمُحرَّم، ورجبُ مُضَر الذي بين جُمادى وشَعبانَ" ثم قال: "ألَا أيُّ يومٍ هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: "أَليسَ يومَ عَرَفَةَ؟ " قلنا: بلى، ثم قال: "أيُّ شَهرٍ هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: "أَلَيسَ ذا الحجَّة؟ " قلنا: بلى، ثم قال: "أيُّ بَلَدٍ هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أَلَيس البلدَ الحرامَ؟ " قلنا: بلى، قال: "فإنَّ دِماءَكُم وأَموالَكُم - قال: وأحسبه قال: وأَعراضَكُم - عليكُم حرامٌ، كَحُرمةِ يومِكُم هذا في بَلدِكُم هذا في شَهرِكُم هذا، وسَتَلقَون ربَّكم تبارك وتعالى فيَسألُكُم عن أعمالِكُم، أَلَا لا تَرجعُونَ بعدي كُفَّارًا، أو ضُلَّالًا، يضربُ بعضُكُم رِقابَ بعضٍ، أَلَا هلْ بلَّغتُ، أَلَا لِيُبَلِّغ الشَّاهدُ الغائب منكُم، فلعلَّ مَن يبلَّغُه يكونُ أَوعى له من بعضِ مَن سَمِعَه". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). ذكر الصيام بعرفة: قال عطاء الخراساني: إن عبد الرحمن بن أبي بكرٍ دخلَ على عائشة يوم عرفةَ وهي صائمةٌ والماء يرشُّ عليها، فقال لها عبد الرحمن: أَفطِري، فقالت: أُفطِر وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ صومَ يومِ عَرَفَةَ يُكفِّر العامَ الذي قَبلَهُ"؟ أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه (¬2). ولمسلم: عن أبي قتادةَ أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ الله، أرأيتَ صيامَ يومِ عرفةَ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحتَسِبُ على اللهِ أَن يُكفِّرَ السنَةَ الباقيَةَ والماضيةَ" (¬3). وقد اختلف العلماء في صوم يوم عرفة للحاج. فكرهه قوم لمعنَيَيْن: أحدهما: لأن الحجَّاج ضيوف الله تعالى، ولا يحسنُ صوم الضيف عند المُضيف، والثاني: ليتقوَّى الحاج على الدعاء. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (20386)، والبخاري (4406)، ومسلم (1679). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24970). (¬3) أخرجه مسلم (1162).

ذكر دخوله - صلى الله عليه وسلم - البيت في حجة الوداع

وقال ابن عمر: حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يَصُم يومَ عرفةَ، وحججتُ مع عُمرَ فلم يَصُمه (¬1). وقالت أم الفضل زوجة العباس: شكَّ الناس في صيامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفةَ، فبعثتُ إليه بلبَنٍ فَشربَه وهو يخطُبُ الناسَ (¬2). قال ابن عباس: إنما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لئلا يظنه الناس فرضًا، أما من كان قويًا على الدعاء فهو في صومه بالخيار. وقالت عائشة رضوان الله عليها: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن يَومٍ أكثرُ مِن أَن يَعتِقَ اللهُ فيهِ عبيدًا مِنَ النَّارِ مِن يَومِ عَرَفةَ، فإنَّه لَيَدنُو، ثم يُباهي بهمُ الملائِكَة، يقول: ماذا أَرادَ هؤلاءِ؟ " (¬3). انفرد بإخراجه مسلم. وقال الواقدي: وقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع عشرون ومئة ألف، قيل له: فمن أين كان هؤلاء؟ قال: من المدينة ومكة وما بينهما وحولهما من الأعراب، والمشهور: أنه وقف يوم الجمعة. قال طارق بن شهاب: قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، إنكم لتقرؤون آية في كتابكم لو أنزلت علينا معاشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال عمر: أي آية هي؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] قال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، نزلت في يوم عرفة يوم الجمعة. انفرد بإخراجه البخاري (¬4). ذكر دخوله - صلى الله عليه وسلم - البيت في حجة الوداع: قالت عائشة رضوان الله عليها: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت، ثم خرج وعليه كآبة، فقلت: ما لك يا رسول الله؟ فقال: "فعلتُ اليومَ أَمرًا وَدِدتُ أنَّي لم أكن فَعلتُه، دخلتُ البيتَ، ولعلَّ الرجلَ مِن أمَّتي لا يقدرُ أن يدخلَه فينصرفُ وفي نفسِه منه شيءٌ، إنَّما ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (7829). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (26881). (¬3) أخرجه مسلم (1348). (¬4) أخرجه البخاري (7268).

أُمرنا بالطوافِ حولَه، ولم نُؤمَر بالدخولِ" (¬1). وروى عروة، عن عائشة رضوان الله عليها: أنَّها كانت تحملُ ماءَ زمزمَ، وتُخبر أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحملُه (¬2). واتفقَت الروايات: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر ثلاثًا وستين بدنة بيده، وأتمها علي رضوان الله عليه مئة. وقال الواقدي: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين يُضحِّي كلَّ عامٍ ولا يحلقُ ولا يُقصِّر، حتى أجمع الخروج في سنة عشر إلى الحج، فخرج، وكان خروجه من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين، وأحرم من يومه ذلك في ثوبين صُحاريَّين، وأبدلهما عند التنعيم بمثلهما من جنسهما، وحج معه نساؤه في الهوادج، ثم أصبح يُقَلِّد هَدْيَه، وأشْعَر بُدْنَه. وأمر ناجية بن جُندب الذي استعمله على الهدي أن يشعر الباقي، فكان مئة، وقال ناجية: يا رسول الله، ما عطب منها كيف أصنع به؟ قال: "تَنحَرهُ، وتُلقي قَلائدَه في دَمِه، وتضربُ به صَفحتَه اليُمنى، ثم لا تَأكُل منه لا أَنتَ ولا رِفقَتُك شيئًا"، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر المشاة أن يركبوا بدنه. قال: وقالت عائشة: وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحد بمَلَل، ثم راح فتعشى بسرف، وأصبح بعِرْق الظبية بين الرَّوحاء والسيَّالة دون الروحاء في المسجد الذي عن يمين الطريق، ونزل الروحاء، ثم راح فصلى الظهر (¬3) بالمنصرف، ثم صلى المغرب والعشاء، وصلى الصبح بالأثاية، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج، ونزل السقيا يوم الأربعاء، ثم أصبح يوم الأربعاء فأهدى له الصعب بن جثامة حمار وحش أو عَجُزَ حمار، فرده، وقال: "إنَّا حُرُم" وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الذي ببطن وادي الأبواء، على يسارك وأنت متوجه إلى مكة، ثم راح من الأبواء فصلى بتَلَعات اليمن، ثم صلى في المسجد الذي يهبط من ثنية أراك (¬4) على الجحفة يوم الجمعة، ثم راح ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 162. (¬2) أخرجه الترمذي (963). (¬3) في "المغازي": "العصر" 3/ 1093. (¬4) في النسختين (خ، أ): غزال، والمثبت من المغازي 3/ 1096.

منها، فصلى في المسجد الذي يحرم منه خارج الجحفة وهو دون خمٍّ عن يسار الطريق، فكان يوم السبت بقُدَيد، فصلى في المسجد المُشَلَّلِ، وصلى في المسجد الذي دون لَفَت وكان يوم الأحد بعُسْفان، ونزل يوم الاثنين بمرِّ الظهران، وغربت الشمس عليه بسَرِف، فلم يصل المغرب حتى دخل مكة، وقيل: دخل مكة نهارًا من كُدى على راحلته من أعلاها، ودخل المسجد من باب شيبة. وقال العباس: كسا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت في حجته الحِبَرات، وقال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الثلاثاء فأقام الثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وهو يوم التروية، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة يوم السبت، قال: وكانت قريش تدفع في الجاهلية من عرفة والشمس على رؤوس الجبال كهيئة العمائم، فخالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفع حين غربت الشمس (¬1). قال الواقدي: حدثني [الثوري، عن] أيمن بن نابل، عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جمرة العقبة يوم النحر على ناقة صهباء لا ضَرْبَ، ولا طَرْدَ، ولا إليكَ إِليكَ (¬2). قال: ثم حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، وقسمه بين أصحابه، فأعطى ناصيته لخالد بن الوليد، وشقه الأيمن أبا طلحة، وجلس للناس، فما سئل يومئذٍ عن شيء قدِّم أو أخِّرَ إلا قال: "افعله ولا حرج" (¬3). وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسولَ الله، أين تَنزلُ غَدًا؟ في حجتهِ، فقال: "وهَل تَركَ لنا عقيلٌ منزلاً"، ثم قال: نحنُ نازلونَ غدًا إن شاء اللهُ بخِيفِ بَني كِنانَة، حيثُ حالَفَت قريشٌ على بني هاشِمٍ أن لا يُناكِحُوهم، ولا يُبايِعُوهم، ولا يُؤوهم"، ثم قال عند ذلك: "لا يَرثُ الكافرُ المسلمَ، ولا المسلمُ الكافِرَ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬4). ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 1088 - 1102، بتصرف من المصنف واختصار. (¬2) "المغازي" 3/ 1107، وما بين معكوفين منه. (¬3) "المغازي" 3/ 1108 - 1109 باختصار من المصنف. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (21766)، والبخاري (1588)، ومسلم (1351).

وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه عن عائشة رضوان الله عليها قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نَبني لك بمنًى بيتًا أو بناءً يُظلُّك من الشمسِ؟ فقال: "لا، إنَّما هو مَناخٌ لمَن سَبق إليه" (¬1). وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن، [وكان قد بعثه قبل ذلك وعاد، فلما فصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حجة الوداع بعثه إليها] فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ باليمن. وعن ابن عباس قال: لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن قال له: "إنَّك تَأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فَادْعُهم إلى شَهادةِ أَن لا إلَه إلَّا الله، وأَنِّي رسول الله، فإنْ هُم أَطاعُوكَ لذلِكَ، فَأَعلِمْهم أَنَّ الله قد افْتَرضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ، وصدقةً في أموالهم تُؤخذ من أَغنيائهم وتُردُّ في فُقرائهم، وإيَّاك وكَرائمَ أَموالِهم، واتقِ دَعوةَ المظلومِ فإنَّها ليسَ بينها وبينَ الله حجابٌ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه، عن معاذ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن خرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي تحتَ راحلتِه، فلما فرغ قال: "يا معاذُ، إنَّكَ عَسَى أن لا تَلْقاني بعدَ عامي هذا، ولَعلَّك تمرُّ بمسجدِي وقَبْري" فبكى معاذٌ خَشَعًا لفراقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الْتَفت، فأقبلَ بوجهه نحو المدينةِ، وقال: "إنَّ أَوْلَى الناسِ بي المتَّقون مَن كانوا وحيثُ كانوا" (¬3). وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه عنه أنه كان يقول: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال: "لعلَّك تمرُّ بقَبري ومسجدِي، قد بَعثتُكَ إلى قومٍ رَقيقةٍ قُلوبُهم، يُقاتِلونَ على الحقَّ مرتين، فقاتِل بِمَن أَطاعَكَ منهم مَن عَصاك، ثم يَفيئون إلى الإسلامِ حتى تُبادرَ المرأةُ زوجَها، والولدُ والدَه، والأخُ أَخاهُ، وانزِل بين الحيين السَّكون والسَّكاسِكِ" (¬4). وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص إلى جَيْفَر وعبد ابني الجُلَنْدَى مَلِكَي ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25541). (¬2) أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19)، وما سلف بين معكوفين من (ك). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (22052). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (22053).

إبراهيم - عليه السلام - ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

عُمان بعد رجوعه من حجة الوداع يدعوهما إلى الإسلام، قال عمرو: فلما قدمت البحرين بدأت بعبد، وكان أرقَّهما وأسهلهما خلقًا، وكان الكتاب مختومًا، فقال عبد: إن أخي أكبر سنًا مني، وهو الملك، ولكن أوصلك إليه، فأوصلني إلى جَيْفَر، فناولته الكتاب، فقرأه، ودفعه إلى أخيه عبد، وقال: أنا أضعف العرب إن ملَّكتُ ما في يَدي غيري، فقلت: أنا راجع غدًا، فلما كان من الغد دعاني، فأسلما، وخلَّيا بيني وبين الصدقة، فأخذتها من أغنيائهم، فدفعتها إلى فقرائهم. قال ابن الكلبي: وهو آخر بعث بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيها توفي إبراهيم - عليه السلام - ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمه مارية القبطية، يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الأول، وقيل: سلخه، وولد -عليه السلام - في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة، فكان عمره ستة عشر شهرًا [وبعضهم يقول: عاش شهرين وعشرة أيام، وهو وهم]، وغسّله الفضل بن العباس، وقيل: أم درة. [وقال أحمد بإسناده، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وُلد لي الليلةَ غلامٌ فسميتُه إبراهيمَ ... " وقد ذكرنا أول الحديث في مولدِ إبراهيم في سنة ثمان، وإنه دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له: أبو سيف ... وذكر الحديث، وقال في آخره: فلقد رأيته بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكيد بنفسه، فدمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "تَدمعُ العينُ، ويَحزنُ القلبُ، ولا نقولُ إلَّا ما يَرْضَى ربُّنا، والله إنَّا بكَ يا إبراهيمُ لَمحْزُونُونَ" أخرجه مسلم بلفظه، والبخاري بمعناه مختصرًا، وفيه: إن عبد الرحمن بن عوف قال حين بكى: وأنت يا رسول الله؟ فقال: "يا ابنَ عوفٍ؛ إنَّها رَحمةٌ" (¬1)]. وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا إسماعيل، حدَّثنا أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن أنسٍ قال: ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان إبراهيم مُسترضعًا في عَوالي المدينة، فكان ينطلقُ ونحن معه، فيدخلُ البيتَ، وإنه ليُدَّخَن، وكان ظِئره قينًا فيأخذُه فيقبله، ثم يرجع. قال عمرو: فلما توفي إبراهيم، قال رسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (13014)، ومسلم (2315)، والبخاري (1303)، وما بين معقوفات زيادة من (ك).

- صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ إبراهيمَ ابني، وإنَّه ماتَ في الثَّدي، وإنَّ له ظِئرَيْن يُكْمِلان رَضاعهُ في الجنَّةِ" (¬1). ["القين": الحداد، و"الظئر": المرضع، وكانت امرأته ترضع إبراهيم فأضيف إليها]. وقد أخرجه ابن سعد بمعناه، وفيه: فقال له ابن عوف: هذا الذي تنهى الناسَ عنه؟ متى يراكَ الناسُ تبكي بكوا، فقال: "مَن لا يَرحَم لا يُرحَم، إنَّما أَنهى الناسَ عن النِّياحةِ، ولولا أنَّه وَعْدٌ جامِعٌ، وسبيلٌ مَيْثاء، وأنَّ آخرَنا لاحقٌ لأَوَّلنا، لوَجَدنا عليه وَجْدًا غيرَ هذا" (¬2). [قال الجوهري: "المَيْثاء بفتح: الأرض السهلة (¬3)، وفي رواية: "وإنها لسبيل مئتة"]. وقال البلاذري: لما قبض إبراهيم كان مستقبل الجبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا جبل لو كان بك مثل ما بي لهدَّك ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون" (¬4). وللبخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: رأيت إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، مات صغيرًا، ولو قُضي أن يكون بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيٌّ لعاشَ ابنه، ولكن لا نبيَّ بعده (¬5). وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبر أربعًا، وقال: "هو صدَّيق، ادفنُوه عندَ سَلَفِنا الصالحِ عُثمان بن مظعونٍ" وجلس على شفير قبره ومعه عمه العباس، ونزل أسامة بن زيد في قبره، ورش عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قربة من ماء، ووضع عند قبره حجرين، وقبره إلى جانب الطريق قريب من دار عقيل (¬6). وقال ابن سعد: صرخ أسامة بن زيد فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: رأيتك تبكي، فقال: "البُكاءُ من الرحمةِ، والصُّراخُ من الشَّيطانِ" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12102). (¬2) الطبقات الكبرى" 1/ 114. (¬3) "الصحاح": ميث. (¬4) "أنساب الأشراف" 1/ 541 - 542. (¬5) أخرجه البخاري (6194). (¬6) "الطبقات" 1/ 117/ و"أنساب الأشراف" 1/ 540. (¬7) "الطبقات" 1/ 115.

باذان

ورأى في قبره بين اللبن فرجة، فقال: "أَمَا إنَّ هذا شيءٌ لا يضرُّ ولا يَنفَعُ، ولكِنْ إذا عَمِلَ الرجلُ عَمَلًا يَنبغي أن يُتقنَهُ" (¬1). وفي حديث أنس: فلقد رأيته بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يجود بنفسه، فدمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "تَدمعُ العينُ، ويَحزنُ القلبُ، ولا نَقُولُ إلا ما يُرضي الربَّ، واللهِ إنَّا بكَ يا إبراهيمُ لَمحْزُونُونَ" (¬2). [وقال علماء السير]: وفي يوم وفاة إبراهيم - عليه السلام - انكسفت الشمس، [وقد روى حديث الكسوف جماعة من الصحابة: ابن عباس، وأبو موسى، وعبد الله بن عمر، وابن العاص، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبو بكرة، وعائشة، وفي بعضها: كسفت وخسفت الشمس، وفي بعضها انكسفت، قال: حدثنا أحمد بإسناده عن ابن عباس قال: خسفت الشمس ... وذكره، ولم يذكر فيه موت إبراهيم، وذكره في حديث] أبي بكرة فقال: مات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن يقال له: إبراهيم، فقال الناس في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّهما آيتانِ من آياتِ الله، وإنَّهما لا ينكسفانِ لموتِ أَحَدٍ، فإذا رأَيتم ذلكَ فَصلُّوا وادعُوا حتى يُكشَفَ ما بكُم". انفرد بإخراجه البخاري (¬3). وأخرجه أحمد أيضًا بإسناده عن أبي بكرة قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام يجر ثوبه مستعجلًا حتى أتى المسجد، وثاب الناس، فصلى ركعتين فجُلِّي عنها، ثم أقبل علينا فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله" وذكره (¬4). وكان عروة بن الزبير يقول: لا تقل كسفت ولكن قل: خسفت (¬5). وقال ثعلب: كسفت الشمس وخسف القمر، هذا أجود الكلام. باذان والي اليمن من قبل كسرى، وكان قد أسلم، وتوفي في ذي الحجة بعد رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجة الوداع، ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمن بين جماعة، وهم: شهر بن ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 119. (¬2) "الطبقات" 1/ 116، وأخرجه البخاري (1303)، مسلم (2315). (¬3) أخرجه البخاري (1040)، وما بين معقوفين زيادة من (ك). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (20390). (¬5) أخرجه مسلم (905).

أبو عامر الفاسق

باذان، وعامر بن شمر الهمداني، وأبي موسى الأشعري، وخالد بن سعيد بن العاص، وبعث زياد بن لبيد على حضرموت، وعكاشة بن ثور على السكون والسكاسك (¬1). أبو عامر الفاسق واسمه عمرو بن صيفي، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، ودعى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أماتَ اللهُ الكاذِبَ منَّا طريدًا" فاستجاب الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فمات عند هرقل بالشام. سعد بن خولة (¬2) أبو سعيد، من الطبقة الأولى من المهاجرين، وهو من اليمن، وقيل: هو مولى أبي رُهْم، وقيل: مولى حاطب بن أبي بلتعة، وهو الذي مات بمكة بعد الهجرة، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حقه: "ولكن البائس سعد بن خولة" يرثي له أن مات بمكة بعد ما هاجر، هاجر سعد إلى الحبشة المرة الثانية، وشهد بدرًا وهو ابن خمس وعشرين سنة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: إنما شهد الحديبية، ثم رجع إلى مكة لأجل مال كان له بها فأدركه الموت، وله صحبة ورواية، وهو زوج سبيعة بنت الحارث. قال مسلم: حدثنا أبو الطاهر، أنبأنا وَهْب، حدثني يونُس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني عُبيد الله بن عبد الله بن عتبةَ، أنَّ أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سُبيعةَ بنتِ الحارث الأسلميةِ يسألُها عن حديثها وعن ما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استفتته، فكتب إليه عمر بن عبد الله يخبرُه أن سُبيعةَ أخبرته أنَّها كانت تحت سعد بن خولة، وكان ممن شهد بدرًا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعالت من نفاسها أو تعلت، تجملت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السَّنابل بن بَعْكَك، فقال لها: مالي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرًا، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت ثيابي علي حين أمسيت، وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك، فأفتاني أني قد حللت للأزواج حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي. انفرد بإخراجه مسلم، وأخرجه البخاري مختصرًا (¬3). ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 3/ 228، و"المنتظم" 4/ 6. (¬2) "الطبقات" 3/ 378، و"الإصابة" 2/ 24. (¬3) أخرجه مسلم (1484)، والبخاري (3991) مطولًا بمثل رواية مسلم.

السنة الحادية عشرة

السنة الحادية عشرة وفيها: جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد إلى الشام (¬1). ولم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر مقتل زيد بن حارثة وجعفر وأصحابه، وكان قد وجد عليهم وجدًا شديدًا، فلما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد يوم الثلاثاء دعا أسامة بن زيد، فقال له: "يا أُسامةُ، سِرْ على اسمِ اللهِ وبركَتِه حتى تَنتهي إلى مَقتلِ أبيكَ، فأَوطئهم الخيلَ، فقد ولَّيتُك هذا الجيشَ، فاغزُ صباحًا على أهل أُبْنَى وحرَّق، وأَسرع السَّير تسبق الخيرَ، وخُذ معكَ الأدلَّاء، وقدِّم الطلائعَ أمامَكَ والعيونَ"، فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، بُدئ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرضُ، فصُدع، وحُمَّ، فلما أصبح يوم الخميس دعى أسامَة، فعقد له لواءً بيده، ثم قال: "يا أسامةُ، اغزُ بسمِ الله في سبيلِ الله، قاتلوا مَن كفَرَ باللهِ، ولا تَغدِروا، ولا تميلوا، ولا تَقتُلوا وَلِيدًا ولا امرأةً، ولا تتمنَّوا لقاءَ العدوِّ، فإنكم لا تدرونَ لعلكم تُبتلون بهم، ولكنْ قولوا: اللهمَّ اكففْ بأسهم عنَّا، فإن لَقُوكم وأَجْلَبوا فعليكم بالسَّكينةِ والوَقارِ والصَّمتِ، ولا تَنازَعوا فتَفشَلوا وتذهَبَ ريحُكُم، واعلموا أنَّ الجنَّة تحت البارقةِ" فخرج، فعسكر بالجُرْف، وكانوا ثلاثة آلاف من أعيان المهاجرين والأنصار فيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد - رضي الله عنهم -، وقتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم وغيرهم. فقال رجال من المهاجرين منهم عياش بن أبي ربيعة: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين، وكثرت المقالةُ في ذلك، فجاء عمر رضوان الله عليه فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغضب غضبًا شديدًا، وخرج وقد عصَب رأسَه بعصابة، وعليه قَطِيفةٌ، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أمَّا بعد، فما مَقالةٌ بَلَغتني عنكم، أو عن بعضِكُم في تَأْمِيري أُسامةَ؟ واللهِ لئن طعنتُم في إمارتِه لقد طَعَنتُم في إمارَةِ أبيهِ من ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 606 و 641، و"المغازي" 3/ 1117، و"الطبقات الكبرى" 2/ 170، و"تاريخ الطبري" 3/ 184، و"المنتظم" 4/ 16.

قَبلِه، وايمُ الله لقد كانَ خَليقًا بالإمارَةِ، وإنَّ ابنَه بعدَه لَخليقٌ بها، وإن كانَ أَبوه لَمِن أحبَّ الناسِ إليَّ، وإنَّ هذا كذلكَ، فاستَوصُوا به خَيرًا فإنَّه من خِيارِكُم". ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خَلَون من ربيع الأول، فقام الناس إلى أسامةَ، وخرجوا معه إلى الجُرْف (¬1). قال هشام: إنما طعنوا فيه لأنه ابن مَولى، وكان صغير السنَّ، وقيل: إنما قال ذلك المنافقون. والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 1117 - 1119.

ذكر أبواب مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

ذكر أبواب مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الباب الأول في بداية المرض [وما اعتراه من الألم، اتفقوا على أن ابتداءه المرض لليلتين خلتا من صفر كما حكينا عن الواقدي وغيره، وحكى الطبري أنه ابتدأ به في المحرم (¬1). وهو وهم. ذكر استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لأهل البقيع: قال هشام بن محمد، عن أبيه: وقيل قبل وفاته بليال استغفر لأهل البقيع. فقال ابن سعد: حدثنا الواقدي بإسناده عن] أبي مُوَيهبة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي قد أُمرتُ أن أَستغفرَ لأهلِ البَقيعِ، فانْطَلِق معي" فانطلقنا ليلًا، فاستَغفَر لأهلِه، فقال: "السَّلام عليكم يا أَهلَ المقابِرِ، لِيَهْنِكُم ما أنتُم فيه مِمَّا النَّاس فيه، جاءَت الفِتَنُ كقِطَع اللَّيل المُظلمِ يَركَبُ بعضُها بعضًا، الآخرة شَرٌّ مِن الأُولى" ثم قال: "يا أَبا مُويهبة، إنَّ اللهَ خيَّرني بينَ لِقائهِ والجنَّة، وبين مَفاتيحِ كنوزِ الدنيا والخُلدِ فيها والجنَّة، فاخترتُ لقاءَه في الجنَّةِ" قال أبو مُوَيهبة: فقلت: بأبي أنت وأمي، فخذ مَفاتيح خزائن الدنيا والخُلد فيها ثم الجنة، فقال: "لقد اختَرتُ لقاءَ ربِّي" ثم انصرف، فلما أصبح ابتدأ بوجَعه الذي قَبَضه الله فيه (¬2)، [فمكث سبعًا أو ثمانيًا. وقال ابن إسحاق: وكان أول ما ابتدأ به مرضه أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل، فاستغفر لأهله، فلما أصبح ابتدأ به الوجع من يومه ذلك (¬3). وقال ابن إسحاق بإسناده عن] عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصدَع، وأنا أَشتكي رأسي، فقلت: وَارَأساهُ، فقال: "بَل أَنا يا عائشةُ وارَأسَاهُ"، ثم قال: "وما عليك لو متَّ قَبلي تَولَّيتُ أمركِ، وصلَّيتُ عليكِ، ووَاريتُكِ" فقلت: والله إني لأحسبُ لو كان ذلك لقد خلوت ببعضِ نسائك في بَيتي في آخر النَّهارِ فأَعْرَست ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 3/ 185. (¬2) "الطبقات" 2/ 182، وأخرجه أحمد في "مسنده" (15997)، وما بين معقوفين زيادة من (ك)، وما يأتي منها ولن أشير إليه. (¬3) "السيرة" 2/ 642.

بها، فضحكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تَمادى به وجعه (¬1). [قلت: وقد احتج الشافعي وأحمد بهذا الحديث على أنه يحل للرجل أن يغسل زوجته]. وقال يحيى بن سعيد: سمعت القاسم بن محمد يقول: قالت عائشة: وَارَأسَاهُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانَ وأَنا حيٌّ فأَستَغفِرَ لك، وأَدعوَ لكِ" فقالت عائشة: واثكلاه، والله إنَّي لأظنك تحب موتي، ولو كانَ ذلك لظِلْتَ آخر يومكَ معرَّسًا ببعضِ أَزواجك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَل أَنا وَارَأسَاهُ، لقد هَمَمت، أو أردتُ، أن أُرسِلَ إلى أبي بكر وابنهِ، وأَعهَدَ أن يقول القائِلُونَ، أو يتمنَّى المتمنّون، ثم قلتُ: يأَبى اللهُ ويَدفَعُ المؤمنونَ، أو يدفعُ اللهُ ويأَبَى المؤمنونَ" انفرد بإخراجه البخاري (¬2). وأخرجه أحمد رحمة الله عليه عنها، وفي آخره: "ادعُوا إلي أَباكِ وأَخاك حتى أكتُبَ كِتابًا، فإنِّي أخافُ أن يقولَ قائلٌ أو يَتمنَّى مُتمنِّ، ويأبى اللهُ والمؤمنونَ إلَّا أَبا بكرٍ" (¬3). وأخرجه أيضًا أحمد رحمة الله عليه وفيه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ثقل قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: "ائتِني بكَتِفٍ أو لَوحٍ حتى أَكتُبَ لأبي بكرٍ كتابًا لا يُختَلَفُ عليه" فلما ذهبَ عبد الرحمن ليقومَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبى الله والمؤمنونَ أن يُختَلَف عليك يا أبا بكرٍ" (¬4). وقال هشام: صدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة، ثم اشتد به المرض في بيت ميمونة، فاستأذنَ نساءه أن يمرّض في بيت عائشة فأذنَّ له. وفي هذا المرض دخلت عليه فاطمة - عليها السلام -. [قال أحمد بإسناده عن مسروق، عن] عائشة - رضي الله عنها - قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن ¬

_ (¬1) "السيرة" 2/ 642 - 643، وأخرجه أحمد في "مسنده" (25908). (¬2) أخرجه البخاري (5666). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (24751) من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة، وهو عند مسلم (2387) من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24199).

ذكر صلاة أبي بكر - رضي الله عنه - بالناس وما يتعلق بمرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

مشيتها مشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَرحبًا بابنَتي" ثم أجلسها عن يمينه، أو عن يساره، ثم إنه أسر إليها حديثًا، فبَكَت، ثم أسرَّ لها حديثًا، فضحكَت، فقلت لها: ما رأيت كاليوم فرحًا أقربَ من حزن، ما الذي أسرَّ إليك؟ فقالت: ما كنت لأُفشي سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا قُبض سألتها، فقالت: إنَّه أسرَّ إليَّ: "أنَّ جبريل كان يُعارضُني بالقرآنِ في كلِّ عامٍ مرَّةً، وإنَّه عارضَني العامَ مرَّتينِ، ولا أَراه إلا قد حَضَر أَجلي، وإنَّك أَول من يَلحقُني من أهل بيتي، ونعم السَّلف أنا لكِ" فبكيتُ لذلكِ، ثم قال: "ألا تَرضي أن تكوني سَيدة نساءِ هذه الأُمة [أو سيدة نساء المؤمنين] ", فضحكت لذلك. [أخرجاه في "الصحيحين"، وليس لفاطمة في الصحيح غيره (¬1). وقال هشام ابن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح عن] ابن عباس: دخلت فاطمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، فجعلت تبكي، وتقول: بأبي أنت وأمي، وأنت والله كما قال القائل: وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه فأفاق، وقال: "هذا قولُ عمَّك أبي طالبٍ" ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} الآية [آل عمران: 144]، ثم قال: "وَاكَرباهُ" فقالت: واكربَ أبَتاه، فقال لها: "لا كَربَ على أبيكِ بعدَ اليومِ". ذكر صلاة أبي بكر - رضي الله عنه - بالناس وما يتعلق بمرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [قد روت عائشة في هذا الباب حديثًا طويلًا جامعًا كثير الروايات، قال أحمد: حدَّثنا عبد الرحمن بن مهدي، بإسناده، عن] عبيد الله بن عبد الله قال: دخلتُ على عائشة، فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: بلى، ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صَلَّى الناسُ؟ " فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: "ضَعُوا لي ماءً في المِخْضَب" ففعلنا، فاغتسل، وذهب ليَنُوءَ، فأُغمي عليه، ثم أفاق، فقال: "أَصَلَّى الناسُ؟ " قلنا: هم ينتظرونك، فقال: "ضَعُوا لي ماءً في المِخْضَب"، فوضعناه له، فاغتسل، ثم ذهب ليتوضأ فأُغمي عليه، فعل ذلك ثلاثًا، وفي كلِّ مرة يغمى عليه، ¬

_ (¬1) مسند أحمد (26413)، وصحيح البخاري (3623)، وصحيح مسلم (2450).

والناس عُكُوف في المسجد ينتظرونه لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله إلى أبي بكر أن يصلِّي بالناس، وكان أبو بكر رجلًا رقيقًا، فقال: يا عمرُ، صلَّ بالناس، فقال له عمر: أنتَ أحقُّ بذلك، فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدَ خفَّةً، فخرج بين رجلين أحدهما العباسُ لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخَّر، فأومأ إليه أَن لا يتأخَّر، وأمرهما فأجلساه إلى جنبِه، فجعل أبو بكر يصلَّي قائمًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلَّي قاعدًا، قال: فدخلت على ابن عباس، فقلت: أَلَا أعرضُ عليك ما حدثتني به عائشة عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال. هات، فحدثته، فما أنكَرَ منه شيئًا، غير أنه [قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا] قال: هو عليٌّ (¬1). [طريق آخر: قال أحمد بإسناده، عن الأسود، عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلال يُؤْذنه بالصلاة، فقال: "مُرُوا أَبا بكرٍ فَلْيُصلَّ بالناسِ" قالت: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمعُ الناس، فلو أمرت عمر، فقال: "مُرُوا أبا بكرٍ فَلْيُصلِّ بالناسِ" قالت: فقلت لحفصة: قولي له مثل ما قلتُ له، فقال: "إنَّكنَّ لأنتنَّ صَوَاحبُ يوسف، مُرُوا أبا بكرٍ فَلْيُصلِّ بالناس" قالت: فأمروا أبا بكر فصلى بالناس، فلما دخل في الصلاة، وجد رسول الله من نفسه خِفَّةً، فقام يهادَى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسَّه ذهب ليتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قم كما أنت، وجاء رسول الله فجلس عن يسار أبي بكر، وكان رسول الله يصلي قاعدًا وأبو بكر قائمًا يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يقتدون بصلاة أبي بكر (¬2). والأسيف: السريع الحزن والبكاء]. وقال عبد الله بن زمعة: دخلتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعودُه، فقال: "يا عبدَ اللهِ، مُرِ النَّاسَ بالصلاةِ" فخرجتُ فرأيتُ رجالًا، لم أُكلمهم حتى رأيتُ عمرَ، فقلت: صل بالناس، فلما كبر سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبيره، فأخرج رأسه من حجرته، وقال: "لا لا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (26137)، والبخاري (687)، ومسلم (418). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (25761)، والبخاري (664)، ومسلم (418) (96).

لا" قالها ثلاثًا وهو مغضب، ثم قال: "ليُصَلَّ بالناسِ ابن أَبي قُحافةَ" فانصرف عمر، وقال: يا ابنَ أخي، أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تَأمُرني؟ قلت: لا، ولكنه قال لي: "يا عبدَ اللهِ، مرِ النَّاسَ بالصلاةِ" فلما رأيتك لم أبغ مَن وراءك، فقال: ما ظننتُ إلَّا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرك أن تأمرني، ولولا ذلك ما صليتُ (¬1). وعن أنس: أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - كان يصلِّي بالناس في وجعِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي توفِّي فيه، فلما كان يوم الاثنينِ وهم صُفوفٌ في الصلاة كَشَف رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سِتْرَ الحُجرةِ ينظرُ إلينا وهو قائمٌ كأَنَّ وجهَهُ ورقةُ مصحفٍ، ثم تَبسَّم يضحكُ، فهممنا أن نفتتنَ من الفَرَح برؤيتهِ، فنكصَ أبو بكرٍ على عقبَيْه ليَصِلَ الصفَّ ظنًّا منه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجٌ إلى الصلاة، فأشارَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتمُّوا صلاتكم، وأرخى الستر، وتوفِّي من يومهِ. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وفي "الصحيحين": أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَهرِيقُوا عليَّ سبعَ قُرَبٍ لم تُحْلَل أَوكِيَتهنَّ لعلَّي أعْهَدُ إلى الناسِ" قالت عائشة - رضي الله عنها -: فأجلسناه في مخضب، وطفقنا نصبُّ عليه من تلك القُرب حتى طَفِقَ يشيرُ إلينا بيدهِ: أن قَد فعلتنَّ، ثم خرج إلى الناس، فخطبَ (¬3). وقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوِّذ بهذه الكلمات: "أَذهِب الباسَ ربَّ الناسِ، اشْفِ فأنتَ الشَّافي شِفاءً لا يُغادِرُ سَقَمًا" قالت: فلما ثَقُل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضهِ أخذتُ بيده، فجعلتُ أمسحهُ بها، وأقولها، فنَزَع يدَه مني، ثم قال: "ربِّ اغْفِرْ لي، وألحِقْني بالرَّفيقِ الأَعلَى" فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه (¬4). [وفي لفظ: كان رسول الله إذا اشتكى يقرأ على نَفْسِه بالمعوِّذات وينفث] (¬5). وقال [البخاري: بإسناده عن] عروة عن عائشة: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في مرضهِ ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 195. (¬2) أخرجه البخاري (679)، ومسلم (418). (¬3) أخرجه البخاري (198)، ومسلم (418) (91) مختصرًا، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (3215). (¬4) أخرجه البخاري (5750)، ومسلم (2191) وقولها: فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه، أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 187، وابن ماجه (1619). (¬5) أخرجه البخاري (5016)، ومسلم (2192) (51).

الذي مات فيه: "أَينَ أنا غَدًا، أَينَ أنا غَدًا؟ " يريدُ يوم عائشة، فأذنَّ له أزواجُه يكونُ حيثُ شاء، فكان في بيت عائشةَ حتى مات عندها، قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدورُ عليَّ فيه في بيتي وإن رأَسه لبينَ سَحري ونَحري، وخالطَ ريقُه رِيقي، قالت: ودخلَ عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواكٌ يستنُّ به، فنظرَ إليه رسول الله، فقلتُ له: أعطني هذا السواكَ يا عبد الرحمن، فأَعطانِيه، فقَضمتُه، ثم مَضَغتُه، فأعطيتُه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستَنَّ به وهو مستند إلى صدري (¬1). ["السحر": - بفتح السين - الرئة وما يتعلق بها، وهذه الطرق كلها في "الصحيحين"]. وقالت عائشة رضوان الله عليها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يُقْبَضْ نبيٌّ قطُّ حتى يَرَى مقعَدَه من الجنَّةِ، ثم يُخيَّر" فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: "اللهمَّ الرَّفيقَ الأَعلَى" فقلت: إنَّه كان حديثه الذي كان يحدثنا به (¬2). وقالت: ما رأيت الوجع أشد على أحد منه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). [وقال البخاري: بإسناده، عن عائشة أنها كانت تقول: إن من نعم الله أن رسول الله توفي ببيتي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت]. وقالت: كان بين يديه رِكوَةٌ أو عُلبَةٌ فيها ماءٌ، فجعلَ يُدخلُ يدَه فيها، ويمسَحُ بالماءِ وجهَهُ، ويقول: "لا إِلَه إلَّا اللهُ، إنَّ للموتِ سَكَراتٍ" ثم نصبَ يدَه، فجعل يقول: "في الرَّفيقِ الأَعلَى" حتى قُبضَ ومالَت يدُه (¬4). وقالت: ماتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وإنَّه لبين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدًا بعدما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وعن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُدخِلُ يدَه في قَدَح فيه ماءً ويقول: "اللهمَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4450)، ومسلم (2443) مختصرًا. (¬2) أخرجه البخاري (4463)، ومسلم (2444) (87). (¬3) أخرجه البخاري (5646)، ومسلم (2570). (¬4) أخرجه البخاري (4449). (¬5) أخرجه البخاري (4446).

أَعِنِّي على سَكَراتِ الموتِ" (¬1). [وفي المتفق عليه عنها] قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضهِ الذي لم يَقُم منه: "لعنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، فإنَّهم اتَّخَذوا قُبُورَ أَنبيائهم مساجد". وقالت: ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا فحذَّرهم مثل ما صنعوا (¬2). [وهذا الحديث كثير الروايات. واختلفوا: كم صلى أبو بكر بالناس في مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ على قولين: أحدهما: تسع عشرة صلاة. ذكره ابن حبيب الهاشمي. والثاني: خمس عشرة صلاة. ذكره الواقدي، وثلاثة أيام لم يصلَّ فيها رسول الله]. وقالت: ما رأيت أحدًا كان أشد عليه الوجع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). [وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو موعوك عليه قطيفة، فوضع يده عليه فوجد حرارتها فوق القطيفة] فقلت له في ذلك، فقال: "نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء، ثم الأمثل فالأمثل، وكما يشدد علينا البلاء يضاعف لنا الأجر" (¬4). وقال ابن إسحاق: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه إذا أدير على نسائه يحمل في ثوب يأخذ أطرافه الأربعة مواليه أبو مُوَيهبة، وشُقران، وثوبان، وأبو رافع حتى استقر في بيت عائشة. وفي هذا المرض لدُّوه: فيروى عن عائشة قالت: لدَدْنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، فأشار أن لا تلدُّوني، قلنا: كراهية المريض الدواء، فلما أفاق قال: "أَلَم أَنْهَكُم أَن تَلُدُّوني؟ لا يَبْقَى منكم أحَدٌ إلَّا لُدَّ غير العباس فإنه لم يشهدكم". انفرد بإخراجه البخاري (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (24356). (¬2) أخرجه البخاري (435)، ومسلم (529). (¬3) أخرجه البخاري (5646)، ومسلم (2570) وسلف قريبًا. (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 185، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬5) أخرجه البخاري (5712).

قال [أحمد بإسناده عن] هشام بن عروة: أخبرني أبي أن عائشة قالت له: يا ابن أختي، لقد رأيت من تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه أمرًا عجيبًا، وذلك لأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَت تأخذُه الخاصِرة، فيشتدُّ به جدًا، فكنَّا نقول: أخذَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عرقُ الكلية لا نهتدي أن نقول الخاصرة، ثم أخذت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فاشتدَّت به حتى أغمي عليه، وخفنا عليه، وفزع الناس إليه، فظننا أن به ذات الجنب، فلَدَدْناه ثم سُرَّي عنه، وأفاق، فعرف أنه قد لُدَّ، ووجد أثر اللدود، فقال: "ظَنَنْتُم أنَّ اللهَ سَلَّطها عليَّ؟ ما كانَ اللهُ ليفعلَ ذلك، أَمَا والذي نَفسِي بيَدِه، لا يَبْقَى في البيتِ أَحدٌ إلَّا لُدَّ، إلَّا عمَّي العباسُ" فرأيتهم يلدونهم رجلًا رجلًا، وبلغ اللدود أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلدت امرأة امرأة، حتى بلغ اللدود امرأة منا [فقال ابن الزناد: لا أعلمها إلا ميمونة، قال: وقال بعض الناس: أم سلمة] قالت: إني والله صائمة، فقلنا: بئس ما ظننت أنا نتركك وقد أقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلددناها وإنها لصائمة (¬1)، [وفي رواية: فقالت أم سلمة: هذا من دواء الحبشة لُدُّوه، فلدَّ بالكُسْتِ والزيت. وفي رواية الواقدي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كانَ اللهُ ليُسَلِّطَها على رسولهِ، إنَّها هَمزَةٌ من الشيطانِ، ولَكِنَّها من الأَكلَةِ التي أَكَلتُ بخيبرَ" وكانت عنده أم بشر بن البراء ابن معرور، فقال: "هذه مِنَ الأَكلَةِ التي أَكلتُ أَنا وابنُك، ما زالَتْ تُعاوِدني وهذا أَوانُ قطَعَت أَبهَرِي" (¬2). و"الأبهر": عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. وقال الجوهري: "اللَّدود": هو ما يُصَبُّ من الأدوية في أحد شِقَّي الفم (¬3). وقال الزجاج: هو مثل السُّعوط يكون من الكست والزيت]. وقال الزهري: الذي لد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العود الهندي والزيت. وفي هذا المرض صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر، وذكر التخيير. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (24870). (¬2) "الطبقات" 2/ 208. (¬3) الصحاح (لدد).

قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا أبو عوانةَ، عن عبد الملك بن عُمير، عن ابن أبي العلاءِ، عن أبيه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطَبَ يومًا فقال: "إنَّ رجلًا خيَّره ربه عز وجل بينَ أن يَعيشَ في الدُّنيا ما شاءَ أن يَعيشَ فيها، ويَأكُلَ منها ما شاءَ أن يَأكُلَ، وبينَ لقاءِ ربِّه، فاختارَ لقاءَ رَبِّه"، قال: فبَكى أبو بكر، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تعجبون من هذا الشيخ يبكي أن ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا صالحًا خيَّره ربه بين لقائه وبين الدنيا، فاختار لقاء ربه، وكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: بل نفديك يا رسول الله صلى الله عليك بأموالنا وآبائنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنَ الناسِ أَحَدٌ أَمنَّ علينا في صُحبتِه وذاتِ يَدهِ مِنِ ابنِ أَبي قُحافَةَ، ولو كُنتُ متَّخذًا خَليلًا اتَّخذتُ ابنَ أبي قُحافَةَ، ولكنْ ودٌّ وإخاءُ إيمانٍ - قالها مرتين - ولكنْ صاحبُكم خليلُ اللهِ تعالى" (¬1). وفي هذا المرض نبغ مسيلمة والأسود العنسي [حدثنا أبو الطاهر الخزيمي بإسناده] عن ابن عباس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه عاصبًا رأسه، فصعد المنبر، فحمد الله، وقال: "أيُّها الناسُ، رأيتُ في مَنامي كأنَّ سِوارَيْن مِن ذَهَبٍ في يَدِي، فَكَرِهتُهما، فَنَفختُهما، فطارَا، فأَوَّلتُهما هذين الكذَّابين: صاحبِ اليمامَةِ، وصاحبِ اليمنِ" (¬2). وفي هذا المرض اقتصَّ من نفسه - صلى الله عليه وسلم -. [قال ابن سعد بإسناده، عن جعفر بن برقان، حدثني رجل من أهل مكة قال: ] دخل الفضل بن العباس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه، فقال: "يا فضلُ، اشْدُد رأسي بهذه العِصابةِ"، فشدّه، وأخذ الفضلُ بيده، فدخل المسجد، وصعدَ المنبرَ، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أَيُّها الناسُ، إنَّما أَنا بشَرٌ مثلُكُم، فأَيُّما رجلٍ جَلدتُ له ظَهْرًا فَهذا ظَهرِي، وأَيُّما رجلٍ أَصبتُ من عِرضِه فهذا عِرضي، ومِن بَشَرِه فهذا بَشَري فلْيَقتصَّ منِّي، أو مِن مالِه فَهذا مَالي، واعْلَمُوا أنَ أَوْلَاكُم بي رجلٌ كانَ له مِن ذلك شيءٌ فأخَذَه وحلَّلني، فَلقيتُ ربَّي وأنا محلَّل، ولا يقولُ أَحدُكُم: إنِّي أخاف العَدَاوةَ والشحناءَ من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فإنَّهما ليسَا من طَبيعَتِي ولا من خُلُقي" فقام رجل، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (159922). (¬2) أخرجه البخاري (3621)، ومسلم (2274)، وعندهما عنه عن أبي هريرة، وانظر "المسند" (2373).

فقال: يا رسول الله، إنَّك أخذتَ منِّي ثلاثةَ دراهمَ، فتصدَّقت بها على مسكينٍ، فقال: "يا فضلُ، أعطهِ إيَّاها" (¬1). [قال كثير بن هشام: وإنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعريف الأمة، أن من فعل ذلك ظلمًا ينبغي له أن يؤدَّب، ] وإلَّا فهو منزه عن الظلم. قلت: وقد أخرج جدي رحمه الله في "الموضوعات" بإسناده عن وهب بن منبه حديثًا من هذا الجنس، وفيه: فقام عكاشة بن محصن فقال: إنك ضربتني بقضيب وأريد القصاص، وأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحضر قضيبًا وأمره أن يقتص منه، وذكر ألفاظًا ركيكة ومعاني سمجة وحديثًا طويلًا. ثم قال جدي في آخره: هذا حديث موضوع محال، كافأ الله مَن وضعه، وقبَّح من شيَّن الشريعة بمثل هذا التخليط البارد والكلام الذي لا يليق بمثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، والمتهم بوضعه عبد المنعم بن إدريس، قال أحمد بن حنبل: كان يكذب على وهب، وقال يحيى: عبد المنعم كذاب خبيث، وقال ابن المديني وأبو داود: ليس بثقة (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 223 - 224. (¬2) "الموضوعات" (559).

الباب الثاني: في ذكر وصيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه وأتباعه وأحبابه

الباب الثاني: في ذكر وصيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه وأتباعه وأحبابه قال ابن سعد: حدثنا الواقدي، حدثنا عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن ابن مسعود قال: نعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلينا نفسه قبل موته بشهر، جمعنا في بيت أمِّنا عائشة، ونظر إلينا، فدمعت عيناه، وقال: "مَرحَبًا بكُم، حَيَّاكُم اللهُ بالسَّلامِ، رَحِمَكُم اللهُ، آَوَاكُم الله، حَفِظَكم اللهُ، رَفَعكُم اللهُ، نَصَركُم اللهُ، نَفَعكُم اللهُ، وَفَّقكُم اللهُ، هَداكُم اللهُ، سَلَّمكُم اللهُ، وَقاكُم اللهُ، [أيّدكم الله] أوصيكُم بتَقْوَى الله، وأُوصي اللهَ بكُم، وأَستَخلِفُه عليكم، وأُحذِّركُم اللهَ، إنَّني لكُم منه نذيرٌ وبشيرٌ، ألَّا تَعلُوا على الله في عبادِه وبلادِه، فإنَّه هو القائل: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 83] "، قال: فقلنا: يا رسول الله، متى الأجل؟ قال: "قد دَنَا، والمُنقَلَبُ إلى اللهِ وإلى سِدْرَةِ المُنْتَهى وجَنَّةِ المَأْوى والفردَوْسِ الأَعلى" قلنا: يا رسول الله، من يُغسَّلك؟ قال: "رجالُ أهلِ بَيْتِي، الأَدْنَى فالأَدْنَى" قلنا: يا رسول الله، ففيم نكفَّنكَ؟ قال: "في ثِيابِي هذه إن شِئتُم أو حُلَّة يمَانية أو بَياض مصرَ" قلنا: فمن يصلَّي عليك، وبَكَينا، فقال: "مَهْلًا رحمَكُم اللهُ، وجَزَاكم اللهُ عن نبيَّكُم خيرًا، إذا وضَعتُموني على سَريري بعدَ أن تغسَّلُوني وتُكفَّنوني، فَضَعُوني على شَفيرِ قَبري، ثم اخرجُوا عنِّي ساعةً، فأول مَن يصلِّي علي خَلِيلي وحَبيبي جبريلُ" وفي رواية: "الله تعالى، ثم ميكائيلُ، ثم إِسْرافيلُ، ثم ملَكُ الموتِ مع ملائكةٍ كثيرةٍ، ثم ادخُلُوا عليَّ فَوجًا فَوجًا، فصلُّوا عليَّ وسلَّموا تسليمًا، ولا تؤذوني بصيحة ولا برَنَّة، وليبدأ بالصلاةِ عليَّ رجالُ أهل بَيتي، ثم نِساؤُهم، ثم أَنتُم، وأقرِؤُوا السَّلام عنِّي مَن غابَ من أَصحابي ومَن تَبعَني على ديني من يَومي هذا إلى يوم القيامةِ، أَلَا وإنِّي أُشهِدُكُم أنَّي قد سَلَّمت على كلِّ من دخل في الإسلام إلى يومِ القيامةِ"، وفي رواية: فقلنا: من يدخلك قبرك؟ فقال: "أَهلي مع ملائكة كثيرة"، قلنا: وإلى أين المصيرُ؟

فقال: "إلى الرَّفيقِ الأَعَلى، والعيش الأهنأَ، والكأس الأَوفى" (¬1). قلت: وهذه الوصية العامة، فأما الخاصة فقال ابن سعد بإسناده، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته: "ادع لي عليًا، أو أخي عليًا"، فدعي له، فقال: "ادن مني" قال علي: فدنوت منه فاستند إليّ، فلم يزل يكلمني حتى إن بعض ريقه ليصلني، قال: ثم ثقل في حجري فصحت: يا عباس أدركني فإني هالك، فجاء العباس فكان جهدنا أن أضجعناه (¬2). وقد أنكرت عائشة أنَّ عليًا كان وصيًّا، فقالت: متى أوصى إليه، فقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت: في حجري، فدعا بالطست، فلقد انخنث في صدري وما شعرت أنه مات، فمتى أوصى إليه، أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). ومعنى "انخنث": انثنى. وقد ردَّ ابن عباس هذا وأنَّ رسول الله توفي بين سحرها ونحرها، قال: والله لقد توفي وإنه لمستند إلى صدر علي، وهو الذي غسله وأخي الفضل بن العباس (¬4). وروى ابن إسحاق، عن الشعبي قال: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه في حجر علي بن أبي طالب (¬5). وقال محمد بن إسحاق في "المغازي" في أولها: حدثنا عبد الله بن عينية العبدي، عن وهب بن كعب بن عبد الله بن سور الأزدي (¬6)، عن سلمان الفارسي قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، ليس من نبي إلا وله وصي، فمن وصيك؟ فقال: ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 2/ 224 - 225، وجاء بعدها في (ك): وقد ذكر الواقدي بمعناه. وما سيرد بين معكوفين منها. (¬2) "الطبقات" 2/ 230. (¬3) أخرجه البخاري (2741)، ومسلم (1636). (¬4) "الطبقات" 2/ 230 - 231. (¬5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 230 عن الواقدي. (¬6) كذا جاء في (ك)؟ ! وأخرجه الطبري في تفسيره 20/ 368 من طريق يونس بن بكير، عن عُتْبة بن عُتَيْبَة البصري العبدي، عن أبي سهل، عن وهب بن عبد الله بن كعب بن سور، مختصرًا.

"إن الله بعث أربعة آلاف نبي كان لهم أربعة آلاف وصي، وثمانية آلاف سبط، والذي نفسي بيده لأنا خير النبيين، وإن وصيي لخير الوصيين، وسبطاي خير الأسباط. وقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: إن علي بن أبي طالب لأقرب الناس عهدًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا به في مرضه، فناجاه طويلًا وأوصاه بما أراد (¬1). وأخرج أحمد رحمة الله عليه عن أنس قال: قلنا لسلمان: من كان وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فسأله سلمان] عن ذلك فقال: "مَن كانَ وصيَّ موسى"؟ قلت: يوشع بن نون، فقال: "إنَّ وصيّي ووارِثي ومُنجِزَ وَعدِي عليُّ بنُ أبي طالبٍ" (¬2). وقال الإمام أحمد - رحمة الله عليه -: حدثنا حجاج، حدثنا مالك بن مغول، أخبرني طلحة قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، قلت: كيف أمر المؤمنين بالوصية [ولم يُوصِ؟ قال: أوصى بكتاب الله. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). أشار ابن أبي أوفى إلى الوصية] التي كتبها الله في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] فكانت الوصية فرضًا ثم نسخت بآية الميراث. قال المصنف - رحمه الله -: وقد أخرج الحميدي حديث عبد الله بن أبي أوفى في "الجمع بين الصحيحين"، وقال على أثره: وقد أخرجَ أبو مسعود والبَرقاني في هذا الحديث زيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم، وهي أن هزيل بن شرحبيل قال: أبو بكرٍ يتأمَّر عَلَى وصيَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ودَّ أبو بكر لو وَجَد عهدًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَخُزِمَ أنفُه بخِزَامةٍ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (26565). (¬2) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1052). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (19123 والبخاري (2740)، ومسلم (1634). (¬4) الجمع بين الصحيحين (822)، وقد أخرج هذه الزيادة أحمد في "مسنده" (19408).

الباب الثالث: في ذكر ما أعتق - صلى الله عليه وسلم - في مرضه وما تصدق به

الباب الثالث: في ذكر ما أعتق - صلى الله عليه وسلم - في مرضه وما تصدق به [قال علماء السير]: أعتق جميع أعبده في موضه وإمائه [وسنذكرهم فيما بعد]، ولم يكن عنده سوى ستة دنانير، فأخرجها، [قال ابن سعد بإسناده، عن عائشة]: غُشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه، فلما أفاق قال لها: "هل أنفقت ذلك الذهب؟ " قالت: قلت: لا، قال: "فعليَّ به"، فجئته به، فوضعه في كفه، وعده، فإذا هو ستة دنانير، فقال: "ما ظن محمد بربه أن لو لقي الله وهذه عنده؟ " فأخرجها، وتوفي في ذلك اليوم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 2/ 209.

الباب الرابع: في ذكر وفاته [والكتاب الذي أشار إليه قبيل مماته ونحو ذلك

الباب الرابع: في ذكر وفاته [والكتاب الذي أشار إليه قبيل مماته ونحو ذلك: ذكر الواقدي في "المغازي" وقال: ] لما كان يوم السبت عاشر ربيع الأول جاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَنفِذُوا جيشَ أُسامَةَ" ودخلت عليه أم أيمن، فقالت: يا رسول الله لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل، فإنّ أسامة إن خرج على حاله هذه لم ينتفع بنفسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنفِذُوا بعثَ أُسامَةَ" فمضى الناس إلى المعسكر، فباتوا ليلة الأحد، ونزل أسامة يوم الأحد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثقيل مغمور، وهو اليوم الذي لَدُّوه فيه، فدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعيناه تَهْمُلان، وعنده العباس، والنساء حوله، فطأطأ عليه أسامة فقبله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم، وجعل يرفع يديه إلى السماء، ثم يصبهما على أسامة، يدعو له، وغدا أسامة إلى معسكره، فلما أصبح يوم الاثنين غدا من معسكره، وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُفيقًا، فجاء أسامة يُودِّعه، فقال: "اغْدُ على بَرَكةِ اللهِ" فودعه أسامةُ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُفيق، وجعل نساءه يتماشطن سرورًا. ودخل أبو بكر رضوان الله عليه فقال: يا رسول الله، أصبحتَ بحمد الله مُفيقًا، واليوم يوم ابنة خارجة، فأْذن لي، فأذن له، فذهب إلى السُّنح وخرج أسامة إلى معسكره، وصاح في أصحابه باللحوق به، ونزل أسامة بالجرف، وأمر الناس بالرحيل، وقد متع النهار [أي: ارتفع]، فبينا أسامة يريد أن يركب من الجرف أتاه رسول أم أيمن، وهي أمه، تخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يموت، [قال ابن إسحاق: إنما بعث رسولًا إلى أسامة امرأته] فأقبل أسامة إلى المدينة ومعه عمر وأبو عبيدة [بن الجراح]- رضي الله عنهم - فانتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يموت، فتوفي حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلَت من ربيع الأول، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجُرْف إلى المدينة، ودخل بُرَيدة بن الحصيب بلواء أسامة رضوان الله عليه معقودًا

حديث الكتاب

حتى أتى باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغرزه عنده، فلما ولي أبو بكر رضوان الله عليه أمَرَ بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة، وأن لا يحله أبدًا حتى يغزوهم أسامة، قال بريدة: فخرجت باللواء حتى انتهيت إلى بيت أسامة، ثم خرجت به إلى الشام معقودًا مع أسامة، ثم رجعت به إلى بيت أسامة فما زال معقودًا في بيته حتى توفي أسامة. هذا قول الواقدي (¬1). وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: خرج علي بن أبي طالب رضوان الله عليه من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أصبح بارئًا بحمد الله، فأخذ العباس بيد علي، وقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني لأرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يموت في مرضه هذا، وإني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب، فاذهب بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسأله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا، وإن كان في غيرنا أوصى بنا من بعده، فقال له علي: والله لئن سألناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعنا إياها لا يعطينا الناس إياها أبدًا، والله لا أسألها أبدًا (¬2). حديث الكتاب: [قال أحمد بإسناده] عن ابن عباس قال: لما حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوفاة قال: "هلُمَّ أكتُب لكُم كتابًا لن تَضِلُّوا بعدَه" وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال عمر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله أو القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت، واختصموا، منهم من يقول: يكتب لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا عني" فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب [من اختلافهم ولَغَطهم (¬3). وهذا حديث مختصر]. ¬

_ (¬1) "المغازي" 3/ 1119 - 1120. (¬2) أخرجه البخاري (6266). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (2990)، وأخرجه البخاري (5669)، ومسلم (1637) (22).

طريق آخر: قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدثنا سفيان، عن سليمان بن أبي مسلم، أنَّه سمع سعيد بن جُبير قال: قال ابن عباس: يومُ الخميس، وما يومُ الخميس؟ ثم بكى حتى بلَّ دمعُه الحصى، قلنا: يا أبا العباس، وما يومُ الخميس؟ قال: اشتدَّ المرضُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ايْتُوني أَكْتُب لكُم كِتابًا لا تضلُّوا بعدَه أَبَدًا" فتنازعوا، وما ينبغي عند نبيًّ تنازعٌ، فقالوا: ما شأنه؟ أهجر؟ اسْتَفْهِمُوه، فذهبوا يعيدون عليه، فقال: "دَعُوني، فالذي أَنَا فيه خيرٌ مِمَّا تَدعُوني إليه" وأمرهم بثلاث فقال: "أَخرِجُوا المشركينَ من جزيرةِ العَرَب، وأَجيزُوا الوَفْدَ بنحو ما كنتُ أُجيزُهم"، وسكتَ سعيد عن الثالثة، فلا أدري أسكت عنها أو نسيها (¬1)؟ وقد أخرج الحميدي هذا الحديث، وفيه: فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن الرجل ليهجر (¬2). قال المصنف رحمه الله: والظاهر من حال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أنه لا ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا، ولعلَّه من تحريف الرواة، ويحتمل أن يكون معناه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليهجركم، من الهجر الذي هو ضد الوَصْل لما قد ورد عليه من الواردات الإلهية، ولهذا قال: "الرَّفيقَ الأَعلَى" أَلَا ترى إلى قوله: "قُوموا عنَّي، فما أنا فيه خيرٌ مما أنتم فيه". وقال القاضي عياض: لا يصح أن يَهْجُرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معصوم، لأن الهجر ما لا حقيقة له، وأنه لا يقول في الصحة والمرض والنوم واليقظة والرضى والغضب إلا حقًا، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} (¬3) [النجم: 3]. [وفي رواية ابن سعد قال: لما بقي من أَجَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام جاءه جبريل فقال: يا محمد، إن الله أرسلني إليك إكرامًا لك وتفضلًا يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ فقال: "يا جبريلُ، أجدني مغمومًا، وأجدني مهمومًا، وأجدني مكروبًا" قالها مرتين أو ثلاثًا، فلما كان في الثالث هبط جبريل ومعه ملك يقال ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (1935)، وأخرجه البخاري (3053)، ومسلم (1637). (¬2) لم أقف عليه في "الجمع بين الصحيحين" والحديث فيه برقم (980)، وعزاه الحافظ في "الفتح" 8/ 133 إلى ابن سعد، وهو في "الطبقات" 2/ 213. (¬3) انظر "إكمال المعلم": 5/ 379.

له: إسماعيل، يسكن الهواء، لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض منذ خلق الله المخلوقات، وهو مقدَّم على سبعين ألف صف من الملائكة تحت يد كل ملك سبعون ألفًا من الملائكة، ثم هبط ملك الموت فقال: هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على أحد من قبلك، ولا يستأذن على أحد من بعدك، فقال: "إئذن له" فدخل فوقف بين يديه وسلم عليه وقال: يا أحمد، إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كل ما أمرتني به، إن أمرتني قبضت وإن أمرتني تركت، فالتفت إلى جبريل كالمستشير له، فقال: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك، فقال: "امض يا ملك الموت لما أمرت به" فقال جبريل - عليه السلام -: هذا آخر هبوطي الأرض، إنما كنتَ حاجتي من الدنيا (¬1). وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وارتفع جبريل وهو يقول: واصفيَّاه. وقد أخرج جدي في "الصفوة" بمعناه فقال: ] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى جبريلُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي قُبض فيه، فقال: إنَّ الله تعالى يُقرئك السَّلام، وكيف تَجدُك؟ قال: "أَجِدُني وَجِعًا يا أَمينَ اللهِ" ثم جاءَه من الغدِ، ومن بعدِ الغدِ، وهو يقول كذلك، وجاءَ معه في اليوم الثالث ملك الموت، وقال جبريل: هذا آخر عهدي بالدنيا بعدك، ولن آسى على هالك من بني آدم بعدك (¬2). [وفي رواية ابن سعد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا جبريل، ادن مني" قالها ثلاثًا] (¬3). وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساء ملبدًا وإزارًا غليظًا، وقالت: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين. متفق عليه (¬4). وقال الواقدي: بدئ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرض يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، وتوفي يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول. [قال: وهو الثبت عندنا، وكذا قال ابن عباس وأبو هريرة وأنس وغيرهم، أنه أقام مريضًا ثلاثة عشر يومًا، وقيل: اثني عشر يومًا. ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 226 - 227. (¬2) "صفوة الصفوة" 1/ 224 - 225. (¬3) "الطبقات" 2/ 225 - 226. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24037)، والبخاري (5818) , ومسلم (2080).

وقال ابن عباس: ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، وهاجر يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين (¬1). وقال أحمد بإسناده عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء من المدينة كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم كل شيء، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا (¬2). وفي رواية أحمد أيضًا، وفيه طرف من قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وفيه: فما رأيت يومًا قط كان أنور ولا أحسن من يوم دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وشهدت يوم وفاته، فما رأيت أقبح من اليوم الذي مات فيه] (¬3). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 3/ 67 - 68. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (13312). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (12234).

الباب الخامس: في ما جرى بعد وفاته

الباب الخامس: في ما جرى بعد وفاته قام عمر رضوان الله عليه يقول: ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولَيبعثنَّه الله فلَيُقطَّعن أيدي رجال وأَرجُلهم، وجاء أبو بكر رضوان الله عليه فكشف عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبَّله، وقال: بأبي أنت، طِبْتَ حيًّا ومَيتًا يا رسول الله، لا يجمعُ الله لك بين موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها، ثم خرجَ، فقال: أيها الحالف، على رِسْلِك، فلما تكلَّم أبو بكر رضوان الله عليه جلسَ عمر رضوان الله عليه فحمِدَ أبو بكر اللهَ، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] فمَن كان يعبدُ محمَّدًا فمحمدٌ قد مات، ومن كان يعبدُ الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت، وإنَّها لفي كتاب الله، فقال عمر: أيها الناس هذا أبو بكر فبايعوه. وقال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: والله ما هو إلا أن تلاها أبو بكر، يعني {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرج الخبر البخاري (3667) (3668)، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 234 - 235.

الباب السادس: في ذكر غسله وأكفانه والصلاة عليه ودفنه

الباب السادس: في ذكر غسله وأكفانه والصلاة عليه ودفنه قال ابن عباس: لما اجتمع القوم لغسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في البيت إلا أهله: عمه العباسُ، وعليٌّ، والفضلُ بن عباس، وقُثَمُ بن العباس، وأسامةُ بن زيد، وصالحٌ مولاه، فلما اجتمعوا لغسله نادى من وراء الباب أَوسُ بن خَوْليًّ الأنصاري ثم أحد بني عوف بن الخزرج، وكان بدريًا، عليَّ بن أبي طالب فقال: يا علي نَشدتُكَ الله، وحظَّنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له علي: ادخل، فدخل، فحضَر غسلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَلِ من أمره شيئًا، فأسنده علي إلى صدره، وعليه قميصه، وكان العباس والفضل وقُثَم يقلَّبونه مع علي، وكان أسامة بن زيد وصالح يصُبَّان الماءَ عليه، وعلي يغسله، ولم يُرَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء مما يرى من الميت، وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيًّا وميتًا. حتى إذا فرغوا من غسله، وكان يُغسل بالماءِ والسِّدر، ثم أَدرجوه في ثلاثةِ أثوابٍ، ثوبين أَبيضين وبردٍ حِبَرةٍ. قال: ثم دعا العباس رجلين، فقال: ليذهب أحدكما إلى أبي عبيدة بن الجراح، وكان أبو عبيدة يَضْرَحُ لأهل مكةَ، وليذهب الآخر إلى أبي طلحة بن سهل الأنصاري، وكان أبو طلحة يَلْحَد لأهل المدينة، ثم قال العباس حين سرحهما: اللهمَّ خر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فذهب فلم يجد صاحبُ أبي عبيدة أبا عبيدة، ووجد صاحبُ أبي طلحة أَبا طلحة، فجاء، فلحدَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" (¬1). [وقال ابن إسحاق: لما غسّل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي علي: ارفع طرفك إلى السماء (¬2). ¬

_ (¬1) أحمد في "المسند" (2357). (¬2) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 7/ 244 - 245، قال ابن كثير في البداية والنهاية 8/ 121: وهذا منقطع.

وقال ابن سعد: اسم الرجل الذي نادى عليًا: نَنْشُدك الله حَظَّنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو أوس بن خَوْليّ، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمه جميلة بنت أُبيّ بن مالك، أخت عبد الله بن أُبَيّ ابن سَلول. وكان يُسمَّى الكامل؛ لأنه جمع بين الرمي والكتابة والسباحة، وهو الذي جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الغنائم لما دخل مكة في غزوة القَضيَّة، وعاش إلى أيام عثمان (¬1). وأخرج أحمد عن جرير بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّحْدُ لنا والشَّقُّ لغيرنا" (¬2) يعني أهل الكتاب. وقد روي ذكر الكفن وحده في حديث: فقال أحمد: بإسناده] عن ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُفِّن في ثلاثةِ أثوابٍ: قميصه الذي ماتَ فيه، وحُلَّةٍ نجرانيَّةٍ (¬3). و[في رواية "المسند" أيضًا عن ابن عباس] (¬4) أنه قال: كفن في ثوبين أبيضين وبرد أحمر (¬5)، [قلت: وقد أخرج أحمد في "المسند" بإسناده عن] محمد بن الحنفية [عن أبيه علي - عليه السلام - قال: ] كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعة أثواب (¬6). [وقال أحمد بإسناده، عن هشام بن عروة عن أبيه] عن عائشة أن أبا بكر قال لها: يا بنيَّة، أيُّ يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: يوم الاثنين، قال: في كم كفنتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: يا أبةِ كفَّناه في ثلاثة أثواب بيض سَحوليَّة جُدُد يمانيَّة، ليس فيها قميصٌ ولا عِمامةٌ، أُدرجَ فيها إدراجًا (¬7). [أخرجاه في "الصحيحين" من غير قول أبي بكر لها. و"سحول": قرية باليمن يعمل فيها الثياب البياض. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 2/ 243 و 3/ 502. (¬2) مسند أحمد (19158). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (1942). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2284). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (728). (¬6) مسند أحمد (728). (¬7) أخرجه أحمد في "مسنده" (24869).

وقال أحمد بن حنبل بإسناده، عن] جعفر بن محمد قال: كان الماءُ يَستَنقِعُ في جُفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان علي يحسوه (¬1). [قال ابن سعد]: وكان علي رضوان الله عليه يقول: أوصى إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يغسله غيري (¬2). [قال الهيثم: ] وروي أنهم شدوا عيونهم بالعصائب إلا علي، فقال الشاعر: [من الكامل] غسل النبي وعينه مفتوحة ... وعيونكم معصوبة في الهام [وقال ابن سعد بإسناده عن] عائشة رضوان الله عليها قالت: لما أرادوا أن يغسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا فيه، وقالوا: ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله في ثيابه؟ فألقي عليهم النعاس حتى ما منهم رجل إلا وذقنه على صدره، ثم ناداهم مناد من ناحية البيت: غسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثيابه، فغسلوه كذلك، وكانت تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه (¬3). [قال ابن سعد: حدثنا الواقدي] قال علي - رضي الله عنه -: لما أخذنا في جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغلقنا الباب دون الناس جميعًا، فنادت الأنصار: نحن أخواله، وهو ابن أختنا، ومكاننا في الإسلام مكاننا، ونادت قريش: نحن عصبته، فقال أبو بكر: القوم أولى به، لا يدخل عليهم إلَّا مَن أرادوا (¬4). وغسل من بئر غَرس، وكان يشرب منها، وغسل في المرة الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالماء والسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور. [وقال هشام: ] ولما فرغوا من غسله وضعوه على سريره، وخرجوا كما أمرهم، فصلى عليه الله تعالى، وملائكته أفواجًا أفواجًا. ثم دخل المسلمون فصلوا عليه بغير إمام، الرجال أولًا، ثم النساء، ثم الصبيان، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2403). (¬2) "الطبقات" 2/ 242. (¬3) "الطبقات" 2/ 240، واللفظ لأحمد في "مسنده" (26306). (¬4) "الطبقات" 2/ 242.

وهم يبكون، ويقولون: السلام عليك يا رسول الله، لقد أديت، ونصحت، وجاهدت في سبيل الله، اللهمَّ اجمع بيننا وبينه. وقال الواقدي: لما أدرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكفانه وضع على سريره، ثم على شفير قبره. [فحدثني محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وابن عباس قال: ] وأول من صلى عليه من الناس العباس وبنو هاشم، ثم خرجوا، ودخل المهاجرون والأنصار، فلما صلَّوا دخل النساء والصبيان، ثم وضع أزواجه الجلابيب عن رؤوسهن، وجعلن يلتدمن في صدورهن، ونساء الأنصار يضربن الوجوه فذبحت حلوقهن من الصياح. [وقال الواقدي]: وكانت قريش تحب النوم على السرير، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أهدى له أسعد بن زرارة سريرًا قوائمه ساج، فكان ينام عليه، ثم وهبه لعائشة، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع عليه، وصلي عليه وهو فوقه، ثم حمل عليه أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - واشترى ألواحه عبد الله بن إسحاق الإسحاقي بأربعة آلاف درهم من موالي معاوية (¬1). [وذكر الشهرستاني في كتاب "الملل والنحل": أن الصحابة] اختلفوا في دفن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأراد أهل مكة من المهاجرين رده إلى مكة، وقالوا: هي مسقط رأسه ووطن أهله. وقال الأنصار: المدينة أولى لأنها دار هجرته وفيها أظهر الله دينه، وقال قوم: ننقله إلى بيت المقدس لأنها مقر الأنبياء ومنه عرج به إلى السماء [ثم اتفقوا على المدينة (¬2). وقال أحمد بإسناده، عن ابن جريج، عن أبيه: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدروا أين يقبروه] حتى قال لهم أبو بكر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يقبر نبي إلا حيث يموت" فأخّروا فراشه، وحفروا له تحته (¬3). ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 616. (¬2) "الملل والنحل" 1/ 23 - 24. (¬3) أحمد في "مسنده" (27).

وكان دفنه ليلة الأربعاء بعد نصف الليل (¬1) [وقال هشام: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين عند ارتفاع الضحى، فأقام يومين وليلة حتى دفنوه. وكذا روى جعفر بن محمد، عن أبيه. حكاه جدي في "الصفوة"، فإنه قال: قُبض - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين فمكث ذلك اليوم ويوم الثلاثاء، ودفن في الليل (¬2). وقال هشام: أرادوا أن يدفنوه في المسجد، فقالت لهم عائشة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬3) فدفنوه في حجرتها. وقال الواقدي: ] نزل في حفرته العباس وقثم والفضل وعلي وأسامة وأوس بن خَوْليّ - رضي الله عنه -، وبني عليه في قبره تسع لبنات، فلما فرغوا خرجوا من اللحد، وأهالوا التراب عليه. وروى الواقدي عن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعنا صوت المساحي في المسجد ليلة الثلاثاء (¬4). وقالت أم سلمى - رضي الله عنها -: فصحنا، وصاح أهل المسجد، فارتجت المدينة، فلما أذّن بلال الفجر بكى فانتحب، فزادنا حزنًا، [وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفن ليلة الثلاثاء، وليلةُ الأربعاء أصح. واختلفوا هل سنِّم قبره أو سطح على قولين ذكرهما الواقدي، فحكى عن موسى بن محمد، عن أبيه: أنّه جعل قبره - صلى الله عليه وسلم - ارتفاعه شبرًا (¬5). قال: ورشوا عليه الماء، وجعلوا على قبره طنًا من قصب (¬6). وأخرج مسلم عن سفيان التمار قال: أخبرني من رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنّمًا (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (1628) من حديث ابن عباس، وانظر "الطبقات" 2/ 238. (¬2) "صفوة الصفوة" 1/ 225. (¬3) أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (25129). (¬4) "الطبقات" 2/ 265. (¬5) انظر "الطبقات" 2/ 267 فالخبر فيه عن جعفر بن محمد، عن أبيه. (¬6) أي: حزمةً من قصب. (¬7) لم يخرجه مسلم، وإنما أخرجه البخاري بإثر (1390)، وهو من أفراده كما في "الجمع بين الصحيحين" (1179).

وقيل: ] كان قبره - صلى الله عليه وسلم - مسطوحًا (¬1). [وحكى ابن إسحاق عن أبي معشر عن محمد] بن قيس: لما انهدم الحائط الذي على قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[رأيت قبره] مرتفعًا من الأرض مقدمًا إلى القبلة، وقبر أبي بكر وراءه من قبل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقبر عمر وراء قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل رجليه بحذاء قبر أبي بكر، كان قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام وهما خلفه. وقال عامر بن سعد بن أبي وقاص: قال أبي: الحدوا لي لحدًا، وانصبوا عليَّ اللبن نصبًا كما صنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). [قلت: وقد اختلفوا في صفة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، وسنذكره في ترجمة عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -.] واختلفوا في آخر الناس عهدًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [فحكى ابن سعد عن الواقدي] أن المغيرة بن شعبة كان يقول: أنا أحدثكم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهدًا، ألقيت خاتمي في قبره، وقلت: خاتمي خاتمي [وإنما فعلته] لأمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأضع يدي على اللبن فأكون آخر الناس عهدًا به (¬3). قال الواقدي: فقالوا له: إنما ألقيت خاتمك لكي تنزل فيقال: نزل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوالله لا تنزله أبدًا، فنزل بعضهم فأخرجه إليه (¬4). وروي: أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه نزل فأعطاه إياه، أو أمر قثم بن العباس فأعطاه إياه. قال: وروي أن المغيرة نزل فأخذه. [وروي عن ابن عباس قال وقيل له بأن المغيرة يزعم أنه أقرب الناس عهدًا برسول الله؟ فقال: كذب، آخر الناس عهدًا برسول الله قثم ابن العباس (¬5). ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 664. (¬2) "الطبقات" 2/ 258. (¬3) "الطبقات" 2/ 264. (¬4) انظر "الطبقات" 2/ 264. (¬5) "الطبقات" 2/ 264.

وذكر البلاذري: أن عليًا - عليه السلام - قال لابنه الحسن: انزل فأخرج خاتم المغيرة، فنزل فناوله إياه، فكان الحسن آخر الناس عهدًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وحكى ابن سعد عن جابر بن عبد الله قال: فرش في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] قطيفة حمراء كان يلبسها (¬2). وفي روايةٍ: ألقاها غلامٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبره، وقال: والله لا لبسها أحد بعدك (¬3). [وقال ابن قتيبة: والذي ألقاها شقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقال وكيع: وهذا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة (¬5). وقال ابن سعد بإسناده] عن الحسن البصري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افرشوا لي قطيفتي في لحدي، فإن الأرض لن تسلط على أجساد الأنبياء" (¬6). قال الحسن: وهذه القطيفة أصابها يوم بدر. وكانت عائشة - رضي الله عنها - قد رأت في منامها كأنه سقط في حجرتها ثلاثة أقمار، فأخبرت أباها، فلما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرتها قال لها أبو بكر - رضي الله عنه -: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها (¬7). [ذكر تعزية الملائكة لأهل البيت: حكى ابن سعد والبلاذري عن المدائني، وذكره هشام، قالوا جميعًا: ] عن ابن عمر رضوان الله عليهما قال: لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسجِّي قعدنا نبكي ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 665. (¬2) في (أ، خ): ثم وضع تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء كان يلبسها، والمثبت من (ك)، وانظر "الطبقات" 2/ 261. (¬3) "الطبقات" 2/ 261. (¬4) "المعارف" ص 166. (¬5) "الطبقات" 2/ 260. (¬6) "الطبقات" 2/ 261. (¬7) أخرجه مالك في "الموطأ" (552)، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 256.

ذكر ندب فاطمة - عليها السلام -

حوله، فسمعنا صوتًا من الهوي يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله خلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإليه فارجعوا، وإنما المصاب من حُرِم الثواب، قال ابن عمر: فسمع هذا الكلام أهل البيت والمسجد والطرق، وبكى الناس حتى كادت أنفسهم تخرج من الصراخ، وخرج الولدان والنساء والصبيان، فظنناه جبريل يعزينا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: أتدرون من هذا؟ قالوا: لا، قال: هو الخضر - عليه السلام - (¬2). [ذكر ندب فاطمة - عليها السلام -: قال البخاري: بإسناده، عن أنس قال: لما ثَقُلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَعَل يتغشّاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال لها: "ليسَ على أَبِيكِ كَرْبٌ بعدَ اليومِ". فلما مات قالت: يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه]، فلما دفن قالت فاطمة رضوان الله عليها: يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب. [انفرد بإخراجه البخاري (¬3). ورواه أحمد مختصرًا وزاد فيه: يا أبتاه من ربه ما أدناه (¬4). كذا وقع في عامة النسخ: أنعاه، وهو غلط من الرواة، والصحيح ننعاه بغير ألف (¬5). وقد ذكره الجوهري وقال: هو نعيّ، والنَّعْيُ: خبر الموت، فيقال: جاء نَعْي فلان، والنَّعِيُّ: الناعي، قال: وقال الأصمعي: كان إذا مات من العرب ميت له قدرٌ ركب راكبٌ فرسًا وسار في الناس ويقول: نَعاءِ فلانًا أي: انْعَهِ (¬6). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 239، و"أنساب الأشراف" 1/ 652. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 653. (¬3) في صحيحه (4462)، وما سيرد بين معكوفين زيادة من (ك). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13031). (¬5) قال ابن حجر في فتح الباري 8/ 149: قيل: الصواب: إلى جبريل نعاه، جزم بذلك سبط ابن الجوزي في "المرآة"، والأول موجّه، فلا معنى لتغليط الرواة بالظن. (¬6) "الصحاح": (نعا).

قلت: وقد أشار محمد رحمه الله إلى هذا في "الجامع الصغير" بقوله: ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة (¬1). وهي من خواص "الجامع الصغير". وفي بعض النسخ: ولا بأس بالآذان، أي الإعلام بأن يُعلم بعض الناس بعضًا ليحضر إخوان الميت فيقضوا حقه، ولم يرد به في النداء في الأسواق لأنه فعل الجاهلية، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النعي (¬2)، لأن أهل الجاهلية كانوا ينعون موتاهم ويتكلمون بالكذب في مدح أهاليهم، فنهاهم عن ذلك. وقد اختلف السلف في الإعلام بالجنائز: فرخص فيه ابن عمر وأبو هريرة وأنس، وروي أنه لما مات رافع بن خديج قال ابن عمر: كيف تريدون أن تصنعوا به؟ قالوا: نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى قريات حول المدينة ليشهدوا جنازته، فقال: نعم ما رأيتم (¬3). وكره ذلك ابن مسعود وعلقمة والربيع بن خثيم، فإنهم قالوا عند الموت: لا تؤذنوا بموتنا أحدًا (¬4). والصحيح: أنه لا بأس به، وإنما المكروه النداء في الأسواق وهو فعل الجاهلية. وقد أشار إليه في "المحيط" فقال: لا بأس بالنداء لتكثير الجماعةِ والمستغفرين للميت وتحريض الناس على الطاعة وحثّهم على الاستعداد لمثله، وإنما المكروه فعل الجاهلية. وقال ابن منصور: يجوز النداء في الأسواق إذا كان الميت محتشمًا مثل الأئمة والصالحين، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج إلى المصلى وقد ذكرناه]. * * * ¬

_ (¬1) "الجامع الصغير" ص 116. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (23270) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. (¬3) أورده ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 327. (¬4) أخرج أقوال الثلاثة ابن أبي شيبة في "مصنفه" 2/ 475.

الباب السابع في مبلغ عمره

الباب السابع في مبلغ عمره [واختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنه عاش ثلاثًا وستين سنة، وعلى هذا عامة العلماء] قال الإمام أحمد - رحمة الله عليه -: حدّثنا يزيد بن هارون، ومحمد بن جعفر قالا: أنبأنا هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين سنة، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة. متفق عليه (¬1). وقال عمار مولى بني هاشم: قلت لابن عباس: كم أتى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات؟ قال: خمس وستون، بعث لأربعين، وأقام بمكة خمس عشرة، وبالمدينة عشرًا (¬2). [والثاني: ستون سنة، قال البخاري، قالت عائشة: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين بالمدينة، وأنزل عليه وهو ابن أربعين سنة] (¬3). والأصح ثلاثًا وستين سنة. * * * ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (2110)، والبخاري (3903)، ومسلم (2351). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2640). (¬3) أخرجه البخاري (4464).

الباب الثامن: في ذكر شيء مما رثي به من الأشعار وما ورد في ذلك من الآثار

الباب الثامن: في ذكر شيءٍ مما رثي به من الأشعار وما ورد في ذلك من الآثار وقد رثي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأشعار كثيرة فنقتصر على شيءٍ منها، [وقد ذكر ابن إسحاق والواقدي طرفًا من ذلك فقالا: وقال أبو بكر - رضي الله عنه - يرثي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبكيه (¬1): [من الكامل] لمَّا رأيتُ نبيَّنا مُتَجدِّلًا ... ضاقَت عليَّ بعَرْضِهنَّ الدُّورُ فارْتعتُ روعةَ مُستهامٍ والهٍ ... والعظمُ منِّي وَاهِنُ مكسورُ أعتيقُ ويحكَ إنَّ حِبَّك قد ثَوى ... وبقيتَ مُنجدِلًا وأَنتَ حَسيرُ يا ليتني من قبلِ مهلك صاحبي ... غُيِّبتُ في جَدَث عليّ صخورُ فلتحدثن بدائعٌ من بعدهِ ... تَعيا بهنَّ جوانحٌ وصدورُ قال ابن إسحاق: وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب هذه الأبيات (¬2): [من الوافر] أرقتُ وباتَ ليلي لا يزولُ ... وليلُ أخي المحبَّةِ فيه طولُ وأسعَدَني البكاءُ وذاك فيما ... أصيبَ المسلمونَ به قليلُ فقد عظُمَت مصيبتُنا وجلَّت ... عشيَّةَ قيل: قد قُبضَ الرسولُ فأضْحَت أرضُنا ممَّا عَرَاها ... تكادُ بها جوانبُها تميلُ فَقَدنا الوحيَ والتنزيلَ فينا ... يروحُ به ويَغدو جبرئيلُ وذاكَ أحقُّ ما سالَت عليه ... نفوسُ الناسِ أو كادت تسيلُ نبيٌّ كان يَجلو الشكَّ عنَّا ... بما يُوحَى إليه وما يقولُ ويهدينا فلا نَخشى ضلالًا ... علينا والرسولُ لنا دليلُ أُصبْنَا بالنبيِّ وقد رُزينا ... مصيبتَهُ فمَحمَلُها ثقيلُ ¬

_ (¬1) الأبيات في "الطبقات" 2/ 278، و"نهاية الأرب" 18/ 400. (¬2) الأبيات في "الروض الأنف" 2/ 379 - 380، و"البداية والنهاية" 5/ 282. وانظر "سير أعلام النبلاء" 1/ 205.

فلم نَرَ مثله في الناس حيًّا ... وليس له منَ الموتى عَديلُ أفاطمُ إن جَزِعت فذاكَ عذرٌ ... وإن لم تجزَعي فهو السبيلُ فعُوذي بالعزاءِ فإنَّ فيه ... ثواب الله والفضل الجزيلُ وقُولي في أبيكِ ولا تملِّي ... وهل يُجزي بفعلِ أبيك قيلُ فقبرُ أبيك سيِّد كلِّ قبرٍ ... وفيه سيِّد الناسِ الرسولُ وقال ابن إسحاق: و] قال عمر بن الخطاب يبكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحزن عليه فيما بلغني حزنه، فقال هذه الأبيات: [من الكامل] ما زلتُ مُذْ وضع الفراشُ لجنبهِ ... وثوَى مريضًا خائفًا أتوقَّعُ حذرًا عليه أن يزولَ مكانُه ... عنَّا فَنبقى بعده نَتفجَّعُ نفسي فداؤكَ مَن لنا في أَمرنا ... أَمن نُشاوره إذا نَتوجَّعُ ليتَ السماءَ تفطَّرت أكنافُها ... وتَناثَرت منها نجومٌ نُزَّعُ لما رأيتُ الناسَ هدَّ جميعهم ... صوتٌ ينادي بالنعي فيسمعُ والناسُ حول نبيهم يدعونَه ... يبكونَ أعينُهم تسيلُ وتدمعُ فسمعتُ صوتًا قبل ذلك هدَّني ... عباسُ ينعاه وصوت مفظعُ وإذا تحل بنا الحوادثُ من لنا ... بالوحي من ربٍّ عظيم يسمعُ فليبكهِ أهلُ المدينة كلهم ... والمسلمون بكلِّ أرضٍ يجزعوا (¬1) وقال ابن إسحاق: قال حسان بن ثابت (¬2): [من البسيط] والله ما حملَت أُنثى ولا وضعَت ... مثلَ الرسولِ نبي الأمةِ الهادي ولا مَشى فوقَ ظهر الأرضِ من أحدٍ ... أوفَى بذمةِ جارٍ أو بميعادِ هو الذي كان نورًا يُستضاءُ بهِ ... مباركَ الأمرِ ذا حَزمٍ وإرشادِ مصدقًا للنبيين الأُلى صَدقوا ... وأبذلَ الناس للمعروف في البادِ اللطفُ والبرُّ كانا من خلائقه ... والجودُ بالمال والإطعامُ للزادِ [فلتبكه الدهر عيني كلما ذرفت ... وما حدا بالمطايا خلفها حادي] ¬

_ (¬1) ذكر منها البلاذري في أنساب الأشراف 2/ 20 أربعة أبيات، وانظر "سمط النجوم العوالي" 2/ 318. (¬2) "السيرة" 2/ 671، وطبقات ابن سعد 2/ 279.

ما عشت حتى يكون الموت يأخذني ... والموت في كل ما وجه بمرصادِ وقال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: [من الطويل] ألا طرقَ الناعي بليلٍ فراعني ... وأرَّقني لما استقلَّ مناديا فقلتُ له لما رأيت الذي أتى ... أغير رسول الله إن كنتَ ناعيا فحقَّق ما أشفقتُ منه ولم يُبَلْ ... وكان خليلي عدَّتي ورجائيا فوالله ما أنساكَ أحمدُ ما مشَت ... بي العيسُ في أرض وجاوَزت واديا لتَبْك رسولَ الله خيلٌ مغيرة ... تثيرُ غبارًا كالضبابة كابيا (¬1) [وقال الواقدي: وقد رثاه بنات عبد المطلب: أروى وعاتكة وصفية. فأما أروى فقالت: ألا يا رسول الله كنتَ رجاءنا ... وكنتَ بنا بَرًّا ولم تكُ جافيا وكنت رحيمًا هاديًا ومعلمًا ... ليَبْكِ عليك اليوم من كان باكيا كأن على قلبي لذكر محمدٍ ... وما خفت من بعد النبي المكاويا لَعَمرك ما أبكي النبيَّ لموته ... ولكنْ لما أخشى من الهَرْجِ آتيا أفاطِمُ صلى الله ربُّ محمدٍ ... على جَدَثٍ أمسى بيثربَ ثاويا فِدىً لرسول الله أمي وخالتي ... وعمي وآبائي ونفسي وماليا فلو أن ربَّ الناس أبقى محمدًا ... سَعِدنا ولكنْ أمرُه كان ماضيا عليك من الله السَّلامُ تحيةً ... وأُدخِلتَ جَنّاتٍ من العَدْنِ راضيا] (¬2) وقالت عاتكة (¬3) بنت عبد المطلب: [من الطويل] أعينيَّ جودا بالدموعِ السَّواجمِ ... على المصطَفى والنورِ من آل هاشمِ أعينيَّ ماذا بعدَ ما قد فُجعتما ... به تبكيان الدهرَ من ولد آدمِ على المصطفى بالحقَّ والنور والهُدى ... وبالرشدِ بعد المعضلاتِ العظائمِ ¬

_ (¬1) جاءت هذه الأبيات في (ك) عقب مرثية أبي بكر - رضي الله عنه -، وهي في أنساب الأشراف 2/ 20. (¬2) طبقات ابن سعد 2/ 282 - 283، ونسبها البلاذري 2/ 22 إلى صفية بنت عبد المطلب. (¬3) في النسختين (أ، خ): عائشة، والمثبت من (ك)، والأبيات في "الطبقات" 2/ 284.

[على الطاهر الميمون ذي الحِلم والنهى ... وذي الجودِ والراعي لخير المراحمِ] فجودا بدمعٍ واندُبا كلَّ شارق ... ربيع اليتامى في السنين الأرازمِ (¬1) [وقالت صفية: عينُ جودي بدمعةٍ وسُهودِ ... وانْدُبي خيرَ هالكٍ مفقودِ وانْدُبي المصطفى بحُزْنٍ شديدِ ... خالَطَ القلبَ فهو كالمعمودِ فلقد كان بالعباد رَؤوفًا ... ولهم رحمةً وخيرَ رشيدِ فعليه السلام حيّا ومَيْتًا ... وجزاه الجِنانَ يومَ الخُلودِ ولهنّ فيه أشعار كثيرة ذكرها الواقدي وغيره] (¬2) وقدم أعرابي المدينة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوقف عند قبره - صلى الله عليه وسلم -، وقال (¬3): [من البسيط] يا خير مَن دُفنت في التُّرب أعظمُه ... فطابَ من نَشرهن القاعُ والأكمُ نفسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُه ... فيه العفافُ وفيهِ الجودُ والكرمُ لو كنتُ أبصرتُه حيًا لقلتُ لهُ ... لا تمشِ إلا على خدي لك القدمُ هدى به الله قومًا قال قائلهم ... ببطن يثربَ لما ضمَّه الرحمُ إن مات أحمدُ فالرحمنُ خالقُه ... حيٌّ ونعبده ما أورق السلمُ فأخذ هذين أحمد بن عبيد العزيز القرشي الواعظ بالرافقة فضمنها أبياتًا منها: أقول والدَّمع من عيني ينسجمُ ... لما رأيت جدارَ القبر يستلمُ والناسُ يغشونهُ باكٍ ومنقطعُ ... من المهابة أو داع فملتزمُ فما تمالكت أن ناديت من حرق ... في الصدرِ كادت لها الأحشاءُ تضطرمُ [يا خيرَ من دفنت في القاعِ أعظُمه ... فطابَ من نشرهن القاعُ والأكمُ ¬

_ (¬1) في "الطبقات": البوازم. (¬2) ما بين معكوفين من (ك)، والأبيات في الطبقات 2/ 286. (¬3) ذكر النووي في "أذكاره" ص 335 - 336 في فضل زيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذكارها عن العتبي قال: كنت جالسًا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي .... وذكر القصة وذكر البيتين الأولين، أما بقية الأبيات فلم نقف عليها. وانظر "الفتوحات الربانية" 5/ 39.

روحي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُهُ ... فيه العفافُ وفيهِ الجودُ والكرمُ] وفيه شمسُ التقى والدين قد غربت ... من بعد ما أشرَقت من نورِه الظلمُ حاشا لوجهكَ أن يبلى وقد هُديتْ ... بالشرقِ والغربِ من أنوارهِ الأمم لئن رأيناه قبرًا إن باطنَه ... لروضةٌ من رياضِ الخلدِ تبتسمُ طافت به من نواحيه ملائكةٌ ... تغشاهُ في كلِّ ما يوم وتزدحمُ [انتهت "مغازي" الواقدي عند ذكر أشعار بنات عبد المطلب ولم يبق من رواياته إلا ما رواه ابن سعد عنه. وقد روى الحكاية محمد بن حرب قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فزرته وجلست بإزائه، وإذا بأعرابي قد جاء فوقف عند القبر وقال: يا خير الرسل إنّ الله تعالى أنزل عليك كتابًا صادقًا قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وإني قد جئت مستغفرًا ومستشفعًا بك ثم بكى وأنشد البيتين، ثم انصرف. قال: فرقدت فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال: الحق الرجل فبشره بأن الله قد غفر له بشفاعتي، فاستيقظت وطلبت الرجل فلم أجده]. * * *

الباب التاسع في حديث السقيفة

الباب التاسع (¬1) في حديث السقيفة قال الزهري: لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله بن حضير في بني عبد الأشهل من بين الأنصار [فأتى آتٍ إلى] أبي بكر وعمر فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل تفاقم أمرهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته لم يفرغ من أمره بعد أن أُغلق دونه الباب. فقال عمر لأبي بكر رضوان الله عليهم: انطلق بنا إلى إخواننا الأنصار لننظر ما هم عليه. وقال هشام بن محمد: بلغ العباس أن سعد بن عبادة قد جمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأنهم قد بايعوه بالخلافة، فدخل العباس والمهاجرون من ذلك وحشة، فخرج العباس على الناس وأبو بكر لا يشعر، فقال: أيها الناس بلغني أن [سعد بن عبادة بنيت له وسادة ودعا إلى نفسه وأجابه من أجابه نقضًا لعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬2)، انهض يا أبا بكر إلى هؤلاء القوم يعني الأنصار. فقال له المهاجرون: إنه ليدلنا على صدقك يا أبا الفضل أنه لم يصل الظهر اليوم منهم أحد معنا، فنهض أبو بكر إلى الأنصار. طرف من حديث السقيفة: قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: وإنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عليًا والزبير ومن كان معهما تخلَّفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخلفت عنا الأنصار بأجمعها، واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا رجلان صالحان منهم ممن قد شهد بدرًا، فقالا: أين تريدون يا معاشر ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله: فصل وللبخاري عن عمرو، بعد عدة صفحات؛ ليس في (ك). (¬2) في النسخ بياض قدر سطر، وما بين معقوفين زيادة من "المنتظم" 4/ 52.

المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليك ألا تقربوهم، وأمضوا أمركم، وارجعوا، فقلت: لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة وإذا [بين ظهرانيهم رجلٌ مزمل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: ] توعك، فلما جلسنا قليلًا، قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة منكم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويحضنونا من الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت في نفسي مقالة أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أرى منه بعض الجد، وكان أعلم مني وأوقر، فلما أردت أن أتكلم قال: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، فما ترك شيئًا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا وقد جاء به أحسن منه، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا وقد قال في بديهته مثلها وأفضل منها حتى سكت، فقال: أما بعد يا معشر الأنصار، فإنكم ما تذكرون منكم فضلًا إلا كنتم له أهلًا، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا في هذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا، ولقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا [أيّهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قاله غيرها، وكان] (¬1) والله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهمَّ إلا أن تسول لي نفسي شيئًا عند الموت لا أجده الآن، فلما قضى كلامه قال قائل من الأنصار: أنا جُذَيلها المحَكَّك، وعذيقها المرجَّب، منا أمير ومنكم أمير، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى خشينا الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، وبايعه المهاجرون ثم الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعدًا، فقلت: قتل الله سعدًا، وقال عمر - رضوان الله عليه -: أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرًا هو أوفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم يكن لهم بيعة أن يبايعوا رجلًا منهم بعدنا، ¬

_ (¬1) في النسخ بياض قدر سطر في الموضعين، وما بين معقوفيق زيادة من "السيرة" 2/ 659، و"مسند" أحمد (391).

فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فسادًا، فمن بايع أميرًا عن غير مشورة من المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه تغرَّة (¬1) أن يقتلا. والرجلان اللذان لقياهم: عويم بن ساعدة، ومعن بن معدي، والذي قال: أنا جُذيلها المحكَّك وعذيقها المرجَّب الحبابُ بن المنذر (¬2). وقال أنس بن مالك: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وقالوا: نولي هذا الأمر سعد بن عبادة، فأخرجوه، وهو مريض، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا معاشر الأنصار، إن لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن، فما آمن له إلا قليل، والله ما كان من آمن له يستطيعون أن يمنعوه ولا أن يدفعوا عنه ولا عن أنفسهم ضيمًا حتى أراد الله بكم الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة، فرزقكم الإيمان بالله ورسوله، وأنتم أحق بهذا الأمر، وإن لم ترض قريش فمنهم أمير ومنا أمير، فقال سعد: هذا والله أول الوهن. وبلغ أبا بكر وعمر الخبر فجاءا إلى السقيفة، وذكر بمعنى ما تقدم، قال: وخطب أبو بكر، فقال: نحن المهاجرون الأولون أول الناس إسلامًا، وأكرمهم إحسانًا، وأوسطهم دارًا، وأحسنهم وجوهًا، وأمسهم رحمًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدمنا الله عليكم فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] وأنتم شركاؤنا في الفيء وأنصارنا على عدونا، فلا تنفسوا علينا ما منحنا الله به دونكم، ولا ننكر سابقتكم، ألا نحن الواسطة من القلادة وعِتْرَةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصله، وذكر كلامًا طويلًا. فقال الحُباب: دعوا هذا، منا أمير ومنكم أمير، فقال عمر: هيهات، لا يجتمع فحلان في شرك، ولا ترضى العرب أن تنافروا عليها وبينها حكم من غيركم، ونحن أولياؤه وعترته. ¬

_ (¬1) أي: خوفًا. (¬2) أخرجه ابن هشام في "السيرة" 2/ 657 - 658، وأحمد في "مسنده" (391) وقوله: "جذيلها المرجب: الجذيل: تصغير جذل، وهو العود الذي ينصب للإبل الجربي لتحتك به، أي: أنا ممن يستشفى برأيه كما تستشفى الإبل الجربي بالاحتكاك بهذا العود، والعذيق: هو النخلة، والمرجب: يقال: رجَّبتُ النخلة إذا أسندتها إلى خشبة ذات شعبتين لكثرة حملها، أي: أنا الذي ينبغي الرجوع إلى قوله.

فقال الحُباب: يا معاشر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم من بلادكم وتَولَّوه، فأنتم أحق به منهم، لأن ناسًا منكم (¬1) فأما والله لئن شئتم لنعيدنها جَذعة، فقال له عمر: إذًا يقتلك الله، فقال: بل إياك يقتل. فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير، فقال: يا معاشر الأنصار، لئن كنا أول من سبق إلى هذا الدين وجهاد المشركين فما قصدنا إلا رضى الله ورسوله، فلا ينبغي لنا أن نستطيل على الناس، ولا نطلب عرض الدنيا، وإن قريشًا أولى بهذا الأمر منا، فلا ننازعهم. فقال له الحباب: أنفست على ابن عمك، يعني سعد بن عبادة، فقال: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قومًا حقًّا جعله الله لهم، ثم قام أسيد بن حضير، فقال هو وبشير: يا أبا بكر مد يدك، فبسطها، فبايعاه، وتبايع الناس، فانكسر على سعد أمره، وكادوا يطؤون سعدًا، فقال ناس من أصحابه: اتقوا سعدًا لا تطؤوه، فقال عمر: اقتلوا سعدًا قتله الله، ثم قام عمر على رأس سعد، وقال: لقد هممت أن أطأك حتى يندر عضوك، فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر، وقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيكَ جارحة، فقال أبو بكر: مهلًا يا عمر الرفق الرفق فهو ههنا أبلغ، فقال سعد: أما والله لو كان لي قوة على النهوض لسمعتم مني في أقطارها وسككها [زئيرًا يُجحرك وأصحابك] حتى ألحقك بقوم كنت فيهم تابعًا غير متبوع، ثم عاد أبو بكر وعمر إلى مكانهما، وبعثا إلى سعد بن عبادة: بايع فقد بايع الناس، فقال للرسول: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب من دمائكم سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يداي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، والله لو اجتمع لكم الجن والإنس لما بايعتكم، فلما عاد الرسول فأخبرهم بما قال، قال له عمر: لا تدعه حتى يبايع، فقال بشير بن سعد: دعه فقد لج، وليس بمبايعكم حتى يقتل ويقتل معه قيس ولده وأهله ومن أطاعه من قومه، فاتركوه، فتركوه، فكان سعد لا يحضر معهم، ولا ¬

_ (¬1) كذا في (أ، خ)؟ ! وفي الطبري 3/ 220: فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان.

يصلي في المسجد، ولا يسلم على من لقيه منهم، فلم يزل مجانبًا لهم حتى خرج إلى الشام بعد وفاة أبي بكر رضوان الله عليه (¬1). وذكر الطبري أن سعدًا بايع مكرهًا، وهو وهم (¬2). ولما بويع أبو بكر رضوان الله عليه في السقيفة قال رجل من قريش كنيته أبو عمرو (¬3): [من الكامل] شكرًا لمن هو بالثناءِ حقيقُ ... ذهَب الحجاجُ وبويعَ الصديقُ من بعد ما دحضَت بسعد نعلُه ... ورجى رجاءً دونَه العيوقُ حفَّت به الأنصارُ عاصب رأسهِ ... فأتاهُم الصديقُ والفاروقُ وأبو عبيدةَ والذين إليهمُ ... نفسُ المؤمل للصلاح تتوقُ بالحقِّ إذ طلبوا الخلافةَ زلَّة ... لم يُخْطِ مثل خطائهم مخلوقُ إن الخلافةَ في قريشٍ ما لكم ... فيها وربِّ محمد ثُفروقُ الثفروق: قمع البسرة. وروى ابن سعد، عن ابن عباس أنه قال أرسل العباس إلى بني هاشم فجمعهم عنده، وكان علي عنده بمنزلة لم يكن أحد بها، فقال: يا ابن أخي إني قد رأيت رأيًا لم أقطع به حتى أستشيرك فيه، قال: وما هو؟ قال: ندخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنسأله عن هذا الأمر، فإن كان فينا بعده لم نسلمه إلى أحد ما بقي فينا عين تطرف، وإن كان في غيرنا لم نطلبه أبدًا، فقال له علي: يا عم، وهل هذا الأمر [إلا] إليك، وهل ينازعك فيه أحد؟ فقال له العباس: والله إني أظن أنه سيكون، فمد يدك حتى أبايعك، فهذا أمر لم يرد مثله، وسمع العباس التكبير في المسجد، فقيل: ما هذا؟ فقيل: بايع الناس أبا بكر، فقال العباس: هذا ما دعوتك إليه فأبيت عليَّ (¬4). وذكر ابن سعد: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لقي أبا عبيدة بن الجراح، فقال له: ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 3/ 218 - 223 من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري. (¬2) "تاريخ الطبري" 2/ 223. (¬3) "تحفة الصديق في فضائل أبي بكر الصديق" ص 128 - 129. (¬4) "الطبقات" 2/ 216 - 217.

ابسط يدك لأبايعك فأنت أمين لهذه الأمة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو عبيدة: ما رأيت لك فهَّة قبلها منذ أسلمت، أتبايعني وفيكم الصديق (¬1)؟ وقال الزهري: سألت سعيد بن المسيب، فقلت له: أشهدت وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قلت: فمتى بويع أبو بكر؟ فقال: في اليوم الذي توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كرهوا أن يبقوا بعض يوم بغير إمام وليسوا في جماعة. وذكر في كتاب "بيت العلوم" أنه قيل للعباس: بايع، فقال: لا أبايع إلا ابن أخي عليًا. وقال سلمان الفارسي: كردي بكردي، أي فعلتموها، فوجئ عنقه. وقال المغيرة بن شعبة لعلي - رضي الله عنه -: اصعد المنبر لنبايعك، فإنك إن لم تصعد صعده غيرك، فقال علي: والله إني لأستحيي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أصعد منبره ولم أدفنه احترامًا له (¬2). وقال الشريف في "نهج البلاغة": لما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو سفيان بن حرب والعباس لعلي: هلم لنبايعك بالخلافة، فقال أمير المؤمنين: أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا من تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح، ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقُلْ شيئًا يقولوا: حَرِصَ على الملك، وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والتي، والله لابن أبي طالب آنَسُ بالموت من الطفل بثدي أمه، ولقد اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة (¬3). قال المصنف رحمه الله: وقوله: إن أبا سفيان قال لعلي - رضي الله عنه -: أبايعك بالخلافة، فيه نظر، لأنهم اختلفوا في حضوره، فذكروا أن أبا سفيان قال لعلي: ما بال هذا الأمر ¬

_ (¬1) "الطبقات" 3/ 166. (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الإشراف في منازل الأشراف" (310). (¬3) انظر نثر الدر 1/ 277، ومنه أصلحت النص فهو في النسختين (أ، خ) غير واضح.

في أقل حي من قريش، والله إن شئت لأملأنَّها عليهم خيلًا ورجلًا، فقال له علي - رضي الله عنه -: طال ما عاديت الإسلام وأهله فلم يضره ذلك شيئًا، ولقد رُمْتَ هذا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يتم لك ذلك، وأتم الله نوره (¬1). وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو سفيان عامله على نجران ولم يكن بالمدينة (¬2). وقال صاحب "العقد": توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو سفيان في مسعاة، أخرجه فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف لقي رجلًا في طريقه مقبلًا من المدينة، فقال له: ما الخبر، أمات محمد؟ قال: نعم، قال: فمن قام بعده بالأمر؟ قال: أبو بكر، قال: فما فعل المستضعفان علي والعباس؟ قال: جالسان في بيت فاطمة، فقال: أما والله إن بقيت لهما لأرفعن من أعقابهما، ثم قال: إني لأرى غيرة لا يُطفئها إلا دم، فلما قدم المدينة جعل يطوف أسواقها وأزقتها، ويقول: [من الطويل] بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم ... ولا سيما تيم بن مرة أو عدي فما الأمر إلا فيكم وإليكم ... وليس لها إلا أبو حسن علي وبلغ عمر قوله فقال لأبي بكر: إن هذا قد قدم وهو فاعل شرًا، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستألفه (¬3) على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة، ففعل، فرضي أبو سفيان، وبايعه. وذكر صاحب "العقد" أن عليًا والعباس والزبير قعدوا في بيت فاطمة - عليها السلام -، فبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال: إن أبوا قاتلهم، فأقبل عمر وفي يده قبس من نار ليضرم عليهم البيت، فخرجت إليه فاطمة، وقالت: ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 3/ 209، وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (9767)، والحاكم في "مستدركه" 3/ 83 عن أبي الشعثاء الكندي، عن مرة الطيب قال: جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي طالب فقال: ما بال هذا الأمر في أقل قريش قلة، وأذلها ذلة - يعني أبا بكر - والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلًا ورجالًا، فقال علي: لطال ما عاديت الإسلام وأهله يا أبا سفيان فلم يضره شيئًا، إنا وجدنا أبا بكر لها أهلًا. (¬2) "تاريخ دمشق" 23/ 460. (¬3) في (أ) و (خ): يبايعه، والمثبت من العقد 4/ 257.

ويحك يا ابن الخطاب جئت لتحرق بيتي؟ قال: نعم، أريد أن تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة، فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه، فقال له أبو بكر: أكرهت إمارتي؟ قال: لا، ولكن آليت أن لا أرتدي بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أجمع القرآن، فعليه حبست نفسي (¬1). والصحيح: أن عليًا رضوان الله عليه إنما بايع بعد مدة لما نذكر، والله أعلم. وقال أنس: جلس عمر على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك من الغد في اليوم الذي توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتشهد وأبو بكر صامت، ثم قال: أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة، وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت تلك المقالة في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن كنت أرجو أن يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يَدْبُرَنا، فإن يك قد مات فإن الله قد جعل لكم نورًا تهتدون به هَدي محمد - صلى الله عليه وسلم - فاعتصموا به تهتدوا، وإنما هدى الله به بما هدى الله به رسوله، وإن أبا بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثاني اثنين، وإنه أولى الناس بأموركم، فقوموا، فبايعوه، قال: وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة عند المنبر، قال أنس: فرأيت عمر يزعج أبا بكر إلى البيعة إزعاجًا (¬2). ولم يبايع علي أبا بكر - رضي الله عنهما - إلا بعد ستة أشهر. وقال المسعودي: لما جددت البيعة لأبي بكر يوم الثلاثاء على العامة خرج علي بن أبي طالب فقال: أيفتأت علينا في أمرنا ولم نستشر فيه؟ فقال أبو بكر: بلى، خشينا الفتنة، قال: ولم يبايع أبا بكر أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة - عليها السلام - (¬3). وذكر الطبري: أن عليًا رضوان الله عليه كان في بيته، فقيل له: قد بايع الناس أبا بكر، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلًا كراهية أن يبطئ عنها، فبايع أبا بكر، وجلس إليه، وبعث إلى بيته فأتي بثوبه، فتجلله (¬4). وهو وهم من الطبري. قال المصنف رحمه الله: وقد ذكر ابن إسحاق قصة البيعة مطولًا، فاختصرته، قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الحباب بن المنذر: يا معاشر الأنصار، أمِّروا عليكم ¬

_ (¬1) "العقد" 4/ 259 - 260. (¬2) أخرجه البخاري (7219). (¬3) "مروج الذهب" 4/ 183. (¬4) "تاريخ الطبري" 3/ 207.

رجلًا منكم، فكره معن بن عدي وعويم بن ساعدة ما قال، ومضيا إلى أبي بكر، وأخبراه الخبر، وقالا: هم في سقيفة بني ساعدة، وذكر مجيء أبي بكر وعمر إليهما، فلما سمع المغيرة بن شعبة قول عويم ومعن، قال لأبي بكر وعمر: أيها الشيخان إن الناس إنما ينظرون إليكما وليس يرون لهذا الأمر أحدًا غيركما، فليضرب أحدكما على يد صاحبه قبل أن يحدث ما يتفاقم له الأمر، فأخذ عمر بيد أبي بكر ليبايعه، فكره ذلك أبو بكر، ونظر إلى الناس، وأراد البيعة بمحضر من المهاجرين والأنصار، وقال لعمر: قم بنا إلى إخواننا الأنصار، فإنه كان من آخر عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أوصانا بهم، فقام أبو بكر وعمر، وتبعهما المهاجرون، قال عمر: فانتهينا إليهم وهم في سقيفة بني ساعدة قد عصبوا سعدًا وهو يوعك، فذهبت لأتكلم، فقال أبو بكر: اسكت يا عمر حتى أتكلم، ثم قل ما أحببتَ، ثم خطب أبو بكر في السقيفة، فقال: الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونشهد به، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سراج الظلمة، ونبي الرحمة، بعثه الله بالحق نورًا وهدىً للعالمين، وذكر خطبة طويلة، وقال: وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره، وقد سمعتم ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران لئلا يقع الاختلاف، وتتفرق الجماعات، وتترك السنة وتظهر البدعة، وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة بن الجراح أو عمر بن الخطاب، وذكر بمعنى ما تقدم، فقال عمر: ما ينبغي لأحد من المسلمين أن يكون فوقك، أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المواطن كلها، واختياره لك في الصلاة دليل على أنك أحق بهذا الأمر، فقام خطيب الأنصار ثابت بن قيس بن شماس فقال: نعم أنتم أول من آمن به وصدقه، وأنتم أقرباؤه وقومه، وأفضل الناس حَسَبًا ونسبًا، لا يحسدكم والله على ما آتاكم الله، ولا خلق الله أحدًا أحب إلينا وأكرم منكم، فلو جعلتم رجلًا منا ورجلًا منكم كان أشفق للقرشي إذا زاغ مخافة أن ينقض عليه الأنصاري، [وكان أشفق للأنصاري] إذا زاغ مخافة أن ينقض عليه القرشي، وقد كانت منا فيكم دماء، ولا نأمن الوالي منكم أن يميل على السيد منا فيقتله أو يصرفه. فقام عمر، فخطب، وذكر خطبة طويلة، وفيها: وأن العرب لا ترضى بهذا، ولا تقرُّ به إلا لقريش، وأنا أنشد الله رجلًا سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الأمراء من قريش"

قالوا: بلى الآن ذكرنا، فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، ثم أخذ بيد أبي بكر، فبايعه، وبايع الناس، واجتمع أمر المسلمين، وصاروا يدًا واحدة، ولم يغب عن تلك البيعة أحد ممن يُؤْبَه له إلا علي بن أبي طالب، والزبير، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، فرجع الناس على ذلك يومهم، حتى إذا كان من الغد خرج أبو بكر، وذلك يوم الجمعة، فقال: اجمعوا لي المهاجرين والأنصار، فاجتمعوا، ثم أرسل إلى علي بن أبي طالب فأتاه والنفر الذين كانوا تخلفوا معه، فقال: ما خلفك يا علي عن أمر الناس؟ فقال: خلفني عظم المصيبة، ورأيتكم استغنيتم برأيكم، فاعتذر إليه أبو بكر لخوف الفتنة وتفاقم الحدثان، وإن كنت والله لها كارهًا وما شَهِدَها أحد أحب إلي أن يشهدها [منك]، ثم أشرف على الناس، وقال: أيها الناس، هذا علي بن أبي طالب، فلا بيعة لي في عنقه، وهو بالخيار من أمره، ألا وأنتم بالخيار جميعًا في بيعتكم، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من أبايعه، فلما سمع ذلك علي تحلل عنه ما كان قد دخله، فقال: أجل لا نرى لها غيرك، مد يدك، فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه (¬1). وهذا دليل على أن عليًا بايع أبا بكر بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أيام، ودل عليه أيضًا ما ذكره ابن سعد فإنه قال: حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن قال: قال علي بن أبي طالب: لما قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرنا في أمرنا، فوجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قدَّم أبا بكر في الصلاة، فرضينا بأمر رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، فبايعنا أبا بكر (¬2). ولما بلغ أبا قحافة بمكة وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو قحافة: من ولي بعده؟ قالوا: ابنك، قال: أرضيت بذلك بنو عبد شمس وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع (¬3). وقيل: إن بيعة علي - رضوان الله عليه - أبا بكر رضوان الله عليه تأخرت إلى وفاة فاطمة - عليها السلام -. ¬

_ (¬1) الاعتقاد والهداية للبيهقي 351. (¬2) "الطبقات" 3/ 167. (¬3) "الطبقات" 3/ 168.

الباب العاشر: في طلب آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الميراث

الباب العاشر: في طلب آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الميراث قالت عائشة رضوان الله عليها: جاء العباس وفاطمة أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نُورَثُ، ما تَرَكنا صَدَقةٌ". إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، أو يصنعه إلا صنعته، إني أخشى إن تركت أمره أو شيئًا من أمره أن أزيغ. أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). طريق آخر عن عائشة: أن فاطمة - عليها السلام - أرسلت إلى أبي بكر - رضي الله عنه - تسأله ميراثها مما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نُورثُ ما تَرَكنا صَدَقةٌ" فغضبت فاطمة، وهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر، فلما توفيت دفنها علي رضوان الله عليه ليلًا، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، قال: وكان لعلي حياةَ فاطمة من الناس وجهٌ، فلما توفيت استنكر عليٌّ وجوه الناس، فالتمس مصالحةَ أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايعه تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر: [أن ائتنا] ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر، فقال عمر: والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسى أن يصنعوا بي، والله لآتينهم، فانطلقوا، وانطلق أبو بكر، فدخل عليهم، فتشهد علي، وقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرًا ساقه الله إليك، ولكنكم استبددتم بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لنا في هذا الأمر نصيبًا، فلم يزل علي يذكر حتى بكى أبو بكر، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شَجَر بيني وبينكم في هذه الأموال فإني لم آل منها عن الخبر، فقال علي: موعدك للبيعة العشية، فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر به، وتشهد علي فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، ¬

_ (¬1) البخاري (4034)، ومسلم (1759) (53).

وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ثم قام إلى أبي بكر فبايعه، فأقبل الناس على علي، وقالوا: أصبت وأحسنت، وكان المسلمون إلى علي قريبًا حين راجع الأمر بالمعروف (¬1). وقال رجل للزهري: لم يبايع علي أبا بكر ستة أشهر؟ فقال: لا والله ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي. وقال مالك بن أوس بن الحدثان: أرسل إلي عمر، فجئته حين تعالى النهار، فوجدته جالسًا في بيته على سرير مفضيًا إلى رُمالة، متكئًا على وسادة من أدم، فقال لي: مالكٌ، إنه قد دفَّ أهل أبيات من قومك، وقد أمرت لهم برَضْخٍ، فخذه فاقسمه بينهم، فقلت: لو أمرت بهذا غيري، قال: خذه يا مالك، فدخل يرفأ، فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد؟ قال عمر: نعم، فأذن لهم، فدخلوا ثم جاء فقال: هل لك في علي وعباس؟ قال: نعم، فأذن لهما، فدخلا، فلما استقر بهما المجلس قال العباس: يا أمير المؤمنين، [اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن، فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين] اقض بينهما وارحمهما، قال مالك بن أوس: فخيل إلي أنهما قد كانا قَدَّموهم لذلك، فقال عمر: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نُورثُ ما تَرَكنا صَدَقةٌ"؟ قالوا: نعم، ثم أقبل على العباس وعلي، فقال لهما مثل ذلك، قالا: نعم، فقال عمر: إن الله تعالى كان خص رسوله بما لم يخص به غيره، فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] وقال الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6]. قال: فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر عليكم، ولا أخذها دونكم، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ نفقته ونفقة عياله منه، ثم يجعلُ ما بقي أُسْوَةَ مال الله، ثم نشدهم ونشد علي والعباس فقالوا: نعم، فلما ولي أبو بكر قال: أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئتما تطلبان أنت ميراثَك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال لكما أبو بكر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نورث"، ثم توفي أبو بكر، وأنا ولي أبو بكر وولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوليتهما حتى جئتني وهذا، وأنتما جميع، وأمركما واحد، فقلتما: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذتماها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1759) (52).

بذلك، كذلك هو؟ قالا: نعم، ثم قال: جئتماني لأقضي بينكما، والله لا أقضي بينكما أبدًا بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فردَّاها إلي (¬1). قال البرقاني: فكانت بيد علي، ثم كانت بيد زيد بن الحسن، ثم بيد عبد الله بن الحسن، قال: نعم، ثم وليها بنو العباس (¬2). فصل: وللبخاري عن عمرو بن الحارث الخزاعي قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا ولا أمة ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة (¬3). وسنذكر ما ترك بعد هذا. قلت: ولا خلاف أن فاطمة طلبت ميراثها من أبي بكر رويناه في "الصحيحين" وأنها هجرته حتى ماتت. وقال ابن سعد بإسناده عن أبي صالح، عن أم هانئ: أن فاطمة - عليها السلام - قالت لأبي بكر رضوان الله عليه: يا أبا بكر، من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي، قالت: فما بالك ورثت أبي دوننا؟ فقال: يا بنت رسول الله ما ورّث أبوك مالًا ولا ذهبًا، ولا فضة، ولا أرضًا، ولا غلامًا، قالت: فسهم الله الذي جعله لنا وصافيتنا التي بيدك؟ فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّما هي طُعمَةٌ أَطعَمَنيها اللهُ، فإذا متُّ عادت إلى المسلمين"، فهجرت فاطمة أبا بكر فلم تكلمه حتى ماتت (¬4). وقال هشام بن محمد: لما مُنعت فاطمة ميراثها دخلت على أبي بكر وقد لاثت خمارها على رأسها، ثم حمدت الله وأثنت عليه، ووصفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأوصاف، فكان مما قالت: كان كلما فغرت فاغرة من المشركين، أو نجم قرن من الشيطان وطئ روقه بأخمصه، وأخمد لهبه بسيفه، وكسر قرنه بعزيمته، حتى إذا اختار له الله دار أنبيائه، ومقر أصفيائه؛ أطلعت الدنيا رأسها إليكم فوجدتكم لها مستحبين، ولغرورها ملاحظين، هذا والعهد قريب، والأمد غير بعيد، والجراح لم تندمل، فأنى تكونون كذا وكتاب الله بين أظهركم، ثم قالت: يا أبا بكر، أترثُ أباك ولا أرث أبيَهْ، دونكها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3094)، ومسلم (1757) (49)، وما بين معكوفين منه. (¬2) انظر "أخبار المدينة" لابن شبة (572). (¬3) صحيح البخاري (2739)، وما بين معقوفين من (ك). (¬4) "الطبقات" 2/ 273 - 274.

مرحولة مزمومة، فنعم الحاكم الله، والموعد القيامة {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] ثم جاءت إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكت عنده طويلًا، ثم قالت هذه الأبيات: [من البسيط] قد كان بعدَك أنباءٌ وهَنْبَثَةٌ ... لو كنتَ شاهدهَا لم تعظمِ النُّوبُ إنا فقدْنَاك فقد الأرض وابِلَها ... واغتيلَ أهلُكَ لما اغتالَك التُّرَبُ وقد رُزئنا بما لم يُرزه أحدٌ ... من البريَّة لا عجمٌ ولا عربُ (¬1) قال [ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: ] أرسلت فاطمة إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نُورثُ ما تَرَكنا صَدَقةٌ" فإن اتهمتِني فسلي المسلمين يخبرونك ذلك. قال: وقد كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت أنا الذي رددتهن عن ذلك، أرسلت إليهن وقلت لهن: أما سمعتن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نُورثُ ما تَرَكنا صَدَقةٌ" فنزعن عن ذلك (¬2). [قال ابن إسحاق: ثم أقامت فاطمة على ذلك تطلب حقها من أبي بكر حتى قبضت بعد ستة أشهر. وقال ابن إسحاق: فحدثني القاسم بن حكيم قال: سمعت] علي بن الحسين يقول: جاءت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر وهو على المنبر، فقالت: يا أبا بكر أفي كتاب الله أن ترثك ابنتك ولا أرث أبي؟ فاستعبر أبو بكر باكيًا، ثم قال: بآبائي أبوك وبآبائي أنت، ثم نزل، فكتب لها بفدك، ودخل عليه عمر، فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة ميراثها من أبيها، قال: فماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثم أخذ عمر الكتاب، فشقه. * * * ¬

_ (¬1) انظر التذكرة الحمدونية (628). (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3717) (3718)، وأخرجه البخاري (3092)، ومسلم (1758) من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح، به. قوله: عن الزهري؛ ليس في النسخ، استدركناه من المصادر.

الباب الحادي عشر: في قضاء دينه - صلى الله عليه وسلم -

الباب الحادي عشر: في قضاء دينه - صلى الله عليه وسلم - [قال ابن سعد بإسناده، عن زيد بن أسلم وعمر بن عبد الله مولى غفرة قالا: ] لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء أبا بكر مال من البحرين، فقال: من كانت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عِدَةٌ فليأتني، فجاءه جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدني إذا جاءه مال من البحرين أن يعطيني كذا وكذا، وأشار بكفيه، فقال أبو بكر: خذ، فأخذ فعده فإذا هو خمس مئة دينار أو درهم، ثم فرق الباقي على من كان وَعَدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [وقال ابن سعد بإسناده] عن جابر بن عبد الله قال: قضى علي بن أبي طالب كل دين كان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووفى بعداته، وكان مناديه ينادي في الموسم كل عام يوم النحر بمنًى: ألا من كانت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة أو دين فليأتني حتى أوفيه، ثم كان الحسن يفعل ذلك، ثم الحسين، قال جابر: فما كان يأتي أحد بحق أو بباطل إلا أعطوه، ثم انقطع ذلك بعد الحسين (¬2). وقد ثبت في "الصحيح": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير (¬3). * * * ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 276، وأخرجه البخاري (2296)، ومسلم (2314) من حديث جابر بن عبد الله. (¬2) "الطبقات" 2/ 277. (¬3) البخاري (2068) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

الباب الثاني عشر: في ذكر أزواجه - صلى الله عليه وسلم - و - رضي الله عنهن -

الباب الثاني عشر: في ذكر أزواجه - صلى الله عليه وسلم - و - رضي الله عنهن - وهن أربعة أقسام: [قسم دخل بهن، وقسم عقد عليهن، وقسم خطبهن ولم يحملن إليه، والقسم الرابع من عرضن عليه فأباهن]. القسم الأول: فيمن دخل بهن، فأولهن: خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - وقد ذكرناها - سنة عشر من النبوة، ثم سَودة بنت زَمْعَة - رضي الله عنها - وقد ذكرنا طرفًا من أخبارها، وسنذكرها في سنة أربع وخمسين، ثم عائشة - رضي الله عنها -، ثم حفصة بنت عمر - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة خمس وأربعين]، ثم زينب بنت خزيمة - رضي الله عنها -[وقد ذكرناها في السنة الرابعة من الهجرة]، ثم زينب بنت جحش - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة عشرين]، ثم أم حبيبة - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة أربع وأربعين]، ثم أم سلمة - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة اثنتين وستين]، ثم جُويرية - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة خمسين]، ثم صفية - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة خمسين]، ثم ميمونة - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة إحدى وستين]. فهؤلاء أحد عشر امرأة [أولهن خديجة وآخرهن ميمونة]، توفي منهن في حال حياته - صلى الله عليه وسلم - اثنتان: خديجة وزينب بنت خزيمة، وتوفي عن تسع، منهن خمس قرشيات: عائشة من بني تيم، وحفصة من بني عدي، وأم حبيبة من بني عبد شمس، وسودة من بني عامر، وأم سلمة من بني مخزوم. وثلاث من سائر القبائل: ميمونة هلالية، وزينب بنت جحش أسدية، وجويرية مُصطلقية، وصفية من بني هارون - عليه السلام-[لا قرشية ولا عربية، بل] إسرائيلية.

القسم الثاني: من عقد عليهن، وهن خمس عشرة

[وذكر جدي في "التلقيح": ريحانة، وأنه تزوجها (¬1)، وفيها خلاف نذكره في سراريه]. القسم الثاني: من عقد عليهن، وهن خمس عشرة: الكلابية، وقد ذكرناها في سنة ثمان من الهجرة، والجَوْنية [واختلفوا فيها: فقال البلاذري، عن الكلبي] اسمها أسماء بنت النعمان بن الأسود بن الحارث بن آكل المُرار (¬2)، وقال [البخاري]: أميمة بنت شراحيل، وقال ابن قتيبة: أميمة بنت النعمان ابنة الجَوْن، ويقال: ابنة النعمان بن أبي الجون الكندية (¬3)، وقالت عائشة: هذه هي التي استعاذت منه، [قال هشام فيما رواه عنه البلاذري]: كانت من أجمل النساء، وأمهرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة أوقية ونشًا، فقالت لها بعض نسائه: أنت بنت ملك، وإن استعذت منه حظيت عنده، فلما دخلت عليه ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: "لقد عُذْتِ بمَعَاذٍ" وصرف وجهه عنها، وقال: "ارجعي إلى أهلك" فقيل: يا رسول الله خدعت وهي حدثة [أو حديثة]، فلم يراجعها، فتزوجها المهاجر ابن أمية المخزومي، ثم قيس بن هبيرة المرادي، فأراد عمر أن يعاقبها، فقيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل بها، ولم يقسم لها، ولم يضرب عليها الحجاب، فأمسك (¬4). وقد أخرج حديثها أبو أسيد الساعدي: قال أحمد بإسناده، عن حمزة بن أبي أسيد، عن أبيه وعباس بن سهل عن أبيه قال: مر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب له، فخرجنا حتى انطلقنا إلى حائط يقال له: الشوط، حتى انتهينا إلى حائطين، فجلسنا بينهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجلسوا" فدخل هو والجَوْنية وقد أتي بها فعزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها داية لها، فلما دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "هبي لي نفسكِ" فقالت: وهل تهب الملكة ¬

_ (¬1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 25. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 546. (¬3) "المعارف" ص 140. (¬4) "أنساب الأشراف" 1/ 546.

نفسها للسوقة، ثم قالت: إني أعوذ بالله منك، فقال لها: "عُذتِ بمعاذٍ" ثم خرج علينا فقال: "يا أبا أُسيد، اكسُها رَازقية وألحقها بأهلِها". انفرد بإخراجه البخاري (¬1). و"السوقة" عند العرب: من ليس بملك، والعامة تخص بهذا الاسم من لازم السوق، والعرب لا تعرف هذا، لأن الملك يسوقهم فينقادون إليه. وقال الجوهري: "الرازقية": ثياب كتان (¬2). وفي روايةٍ عن أبي أسيد قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بالجوْنية، فأنزلها في أطم بني ساعدة، فلما جاءها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقعى، ثم أهوى إليها ليقبلها فقالت: أعوذ بالله، فانحرف عنها ووثب، فخرج وأمرني بردها إلى قومها، فلما طلعت عليهم قالوا: إنك لغير مباركة، جعلتينا في العرب شهرة، فأقامت في بيتها لا يطمع فيها طامع ولا يراها إلا ذو رحم محرم حتى توفيت أيام عثمان بن عفان عند أهلها (¬3). وكان يقال: إنه تزوجها في ربيع الأول سنة تسع من الهجرة، وأنها هي التي أمرتها عائشة أن تستعيذ منه. وقال سهل بن سعد: وذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من العرب فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها، فأرسل إليها، فقدمت، فنزلت في أطم بني ساعدة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءها، فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: أعوذ بالله منك، فقال: "قد أعَذتُكِ منِّي"، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، قالوا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ليخطبك، قالت: أنا كنت أشقى من ذلك، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، وقال: "يا سَهلُ اسْقنا" فأخرجت لهم هذا القدح، فسقيتهم به. قال أبو حازم: وأخرج لنا سهل ذلك القدح، فشربنا منه، ثم استوهبه منه عمر بن عبد العزيز، فوهبه له سهل (¬4). وقال قتادة: كانت تبكي، وتقول: أنا الشقية. ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (16061)، والبخاري (5257). (¬2) "الصحاح": (رزق). (¬3) أخرجها ابن سعد في "الطبقات" 10/ 141. (¬4) أخرجه البخاري (5637)، ومسلم (2007).

قُتيلة بنت قيس [أخت الأشعث بن قيس الكندي]، وقيل: اسمها عمرة [ذكرها هشام والبلاذري (¬1) وجدي في "التلقيح" فقال: ] ولما ردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجونية قال له الأشعث بن قيس: ألا أزوجك أختي قتيلة؟ قال: "بلى" فانصرف إلى حضرموت، فجهزها، فبينا هي في الطريق توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث الأشعث فردها من الطريق، ولما ارتد أخوها ارتدت معه، فلما أسلم أسلمت معه، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، فوجد أبو بكر رضوان الله عليه من ذلك وجدًا شديدًا، فقال له عمر رضوان الله عليه: إنها ليست من أزواجه، ما رآها، ولا دخل بها، ولا حجبها، ولقد برأه الله منها بالردة، وكان عروة بن الزبير ينكر أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها (¬2). سبا (¬3) [ويقال: سنا - بنون -] بنت أسماء، ماتت قبل أن يدخل بها، وقيل: هي الكلابية التي تقدّم ذكرها. أم شَريك (¬4) [واسمها غُزَيَّة، وقيل: هي غُزيلة. وقد نسبها البلاذري: غزية بنت داود بن عوف من ولد عامر بن لؤي، قال: ] وهي التي وهبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت قبله عند أبي العَكَر، واسمه سَلْم بن سُمَيِّ بن الحارث الأزدي، وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقبلها ولم يردَّها (¬5). [وقال الطبري: تزوجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد زوجٍ كان لها قبله، وكان لها من الزوج ابن يقال له: شريك، فكنيت به]، فلما دخل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدها مسنَّةً فطلقها (¬6). وقال عكرمة: التي وهبت نفسها خولة بنت حكيم فلم يقبلها فأرجأ أمرها، فتزوجها عثمان بن مظعون. [وقال جدي في "التلقيح": كانت أم شريك قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أبي بكر بن أبي ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 546. (¬2) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 26. (¬3) انظر "الطبقات" 10/ 144، و"الإصابة" 4/ 324، و 335. (¬4) "الطبقات" 10/ 148، و"الإصابة" 4/ 372. (¬5) "أنساب الأشراف" 1/ 508. (¬6) "تاريخ الطبري" 3/ 168.

سلمة، فطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يدخل بها، قال: وقيل: إن التي وهبت له نفسها خولة بنت حكيم] (¬1). وكانت أم شريك من الصالحات المهاجرات، ذكرها أبو نعيم الأصفهاني قال: ودخل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو نعيم بإسناده، عن ابن عباس قال: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، فأسلمت، وكانت تحت أبي العَكَر الدَّوسي، فجعلت تدخل على نساء قريش سرًّا، فتدعوهنَّ إلى الإسلام، وترغبهنَّ فيه حتى ظهرَ أمرُها، فأخذها أهل مكة، وقالوا: لولا قومك لفعلنا بك وصنعنا، ولكن سنردك إليهم، فحملوها على بعير ليس تحتها شيء، قالت: وتركوني ثلاثًا لم يُطعموني شيئًا، ولم يسقوني، وكانوا إذا نزلوا منزلًا أَوثَقُوني في الشمس واستظلُّوا هم، فبينا هم قد نَزَلوا منزلًا وأنا موثَقَة في الشمس إذا ببَرْدِ شيءٍ على صدري، فتناولته، وشربت حتى رَوَيت، ثم صببته على جَسَدي، فلما استيقَظُوا إذا هم بأَثَر الماءِ على جَسَدي وثيابي، ورأوني حسنة الهيئة، قالوا: تحيَّلت فأخذت سِقاءنا فشربتِ منه؟ فقلت: لا والله، ولكنه كان من أمري كذا وكذا، فقالوا: لئن كنتِ صادقةً لدينُكِ خيرٌ من ديننا، ثم نظروا إلى أسقيتهم وإذا بها على حالها كما تركوها، فأَسْلَموا عند ذلك، ثم أقبَلَت إلى المدينةِ، فوَهَبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير مهر، فدخل بها من غيرِ مَهرٍ (¬2). قال المصنف رحمه الله (¬3): وعامة العلماءِ على أنه لم يدخل بها. روت أم شريك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرج عنها في "الصحيح" (¬4). خَولة بنت الهُذيل بن هُبيرة بن قُبيصة، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فماتت قبل أن تصل إليه (¬5). ¬

_ (¬1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 26. (¬2) انظر "المنتظم" 5/ 237. (¬3) في (ك): قلت. (¬4) لها حديثان فيهما، أحدهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها بقتل الأوزاغ. أخرجه البخاري (3307)، ومسلم (2237). والآخر أخرجه مسلم (2945) أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليفرن الناس من الدجال في الجبال"، قالت أم شريك: يا رسول الله، فأين العرب يومئذٍ؟ قال: "هم قليلٌ". (¬5) "الطبقات" 10/ 154، و"الإصابة" 4/ 293.

شَرَافُ بنت خليفة كلبيةٌ، تزوجها فماتت قبل أن تصل إليه (¬1). ليلى بنتُ الخَطِيم بن عدي بن عمر الخزرجي، [تزوجها وكانت غيورًا فاستقالته، فأقالها. وقال هشام ابن الكلبي]: دخلَت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مولي ظهره الشمس، فضربت على منكبه، فقال: "من هذه؟ " فقالت: أنا ابنةُ مُباري الريح، أنا ليلى بنت الخَطِيم، جئت أعرضُ عليك نفسي فتزوّجني، فقال: "قَد فعلْتُ"، فرجعت إلى قومها، فقالت: قد تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: بئس ما صنعت، أنت امرأة غَيرَى، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب نسوة، استقيليه، فرجعت، فاستقالته، فأقالها (¬2). وقال البلاذري: فحطَأَت على منكبه، فقال: "مَن هذا أَكَله أَسْودٌ، أو الأُسُود؟ " فلما رجعت إلى قومها دخلت بعض الحيطان فأكلها أسود (¬3). عَمْرة بنت معاوية، كندية، وقيل: هي أخت الأشعث بن قيس، وقيل: هي غيرها، ماتت قبل أن تصل إليه (¬4). ابنة جندب، جندعية، وأبوها ضمرة، وقيل: لم يعقد عليها (¬5). الغِفَارية [واختلفوا فيها: فقال الكلبي]: هي السنا، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى بكشحها بياضًا، فقال: "الحقي بأهلك"، وقيل: اسمها غزية. وقال هشام: هي التي عَوّذت حين دخلت عليه، واتفق موت ابنه إبراهيم - عليه السلام - فقالت: لو كان نبيًّا ما مات ولده وأعز الخلق عليه، فطلقها. هند بنت يزيد من القرطاء، وهي قبيلة، لم يدخل بها (¬6). العالية بنت ظبيان، كلابية، وقيل: عامرية. ¬

_ (¬1) "الطبقات" 10/ 154، و"الإصابة" 4/ 340. (¬2) انظر "الطبقات" 10/ 145، و"تاريخ الطبري" 3/ 168، و"البداية والنهاية" 5/ 301. (¬3) "أنساب الأشراف" 1/ 549 - 550. (¬4) "الإصابة" 4/ 367. (¬5) "الطبقات" 10/ 144. (¬6) "أنساب الأشراف" 1/ 546، و"الإصابة" 4/ 427.

القسم الثالث: في من خطبهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحملن إليه

[قال هشام: ] كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج اطلعت إلى المسجد، فأخبره أزواجه، فطلقها (¬1). وقيل: إنه دخل بها. (فتزوجت ابن عم لها، ودخل بها) (¬2)، [وقيل: إن ذلك كان قبل تحريم نكاحهن على الناس، وقال هشام: ما دخل بها]، وذكر البلاذري امرأة أخرى يقال لها: حمرة بحاء مهملة، ويقال لها: البرصاء (¬3). القسم الثالث: في من خطبهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحملن إليه: وهن ثمان: أم هانئ بنت أبي طالب، خطبها، فقالت: إني امرأة مصبية، ووالله لقد كنت أحبك في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟ ولي أولاد صغار، وأخاف أن يؤذوك، فعذرها ودعا لها (¬4). وعن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب أم هانئ بنت أبي طالب [أخت علي - عليه السلام -]. فقالت: يا رسول الله إني قد كبرت ولي عيال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده" قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا. متفق عليه (¬5). ضُباعة بنت عامر بن قُرْط بن سَلَمة، من بني عامر بن صعصعة، وكانت عند أبي هَوْذَة الحنفي (¬6)، فهلك، فورثت منه مالًا، فتزوجها عبد الله بن جُدعان التَّيمي، فلم تلد له، فسألته طلاقها، فطلقها، فتزوجها هشام بن المغيرة فولدت له سلمة بن هشام، وكان من خيار المسلمين، وكانت موصوفة بالجمال، فخطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ابنها ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 545، وانظر الاختلاف في اسمها، وهل دخل بها أم لا في "الطبقات" 10/ 136 و"الإصابة" 4/ 359. (¬2) ما بين قوسين زيادة من "أنساب الأشراف" وانظر "الإصابة". (¬3) "أنساب الأشراف" 1/ 551، وذكرها ابن حجر في "الإصابة" 4/ 260 في حرف الجيم. (¬4) "الطبقات" 10/ 146. (¬5) أخرجه البخاري (3434)، ومسلم (2527) (201). (¬6) هكذا في النسخ: عند أبي هوذة و"أنساب الأشراف"، وفي جميع المصادر هو: هوذة بن علي الحنفي، انظر "المنتظم" 3/ 290.

سَلَمة، فقال: حتى أستأمرها، فاستأمرها، فقالت: أفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستأمرني؟ زوجه، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها مسنة، فرجع ابنها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فسكت، ولم يجبه (¬1). وقيل: إنها هي التي طلبت ثوبًا تستتر وتطوف بالبيت فلم تجده فقالت (¬2): [من الرجز] اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه ... وما بدا منه فلا أُحلُّه صفيَّةُ بنت بَشَّامة بن نَضْلَة العنبري، أخت الأعور العنبري، قال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سباها، فخطبها، وخيرها، فقال: "إن شِئْتِ أنا وإن شِئْتِ زَوجَكِ" فقالت: زوجي، فأرسلها، فلعنتها بنو تميم (¬3). جَمْرة بنت الحارث بن عوف المري [وقيل: حمرة]، خطبها - صلى الله عليه وسلم - إلى أبيها، ولم يكن بها شيء، فقال أبوها: إن بها سوءًا، أي: بَرصًا، فرجع أبوها، فوجدها قد برصت، وقال ابن قتيبة: وهي أم شبيب بن البرصاء، والحارث (¬4) بن عوف، هو صاحب بني عبس وذبيان. [وحكى البلاذري عن المدائني أنها يقال لها: البرصاء، ولم يكن بها يرص، وإنما كانت أدماء، فسميت برصاء على القلب] (¬5). سودة قرشية، كانت مصبية، خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أكره أن يَضْغَوا صبيتي عنده، فدعا لها (¬6). وثلاث نسوة لم تذكر أسماؤهن: إحداهنَّ كلبية، قال هشام: بعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة لتنظر إليها، فلما عادت ¬

_ (¬1) "الطبقات" 10/ 148، و"أنساب الأشراف" 1/ 550. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 550. (¬3) "الطبقات" 10/ 148. (¬4) في (أ) و (خ): "والخزل"، والحارث بن عوف هو صاحب الحمالة بين هذين الحيين. "المعارف" ص 140. (¬5) "أنساب الأشراف" 1/ 551. (¬6) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 27، وفيه: يضغوا صبيتي عند رأسك، قوله: يضغوا؛ أي: يصيحوا.

القسم الرابع: من عرضن عليه - صلى الله عليه وسلم - فأباهن

قال لها: "ما رَأَيتِ"؟ قالت: ما رأيتُ طائلًا، فقال: "لقَدَ رأيتِ بخَدَّها خَالًا اقشَعرَّت له كلُّ شَعرَةٍ منكِ" فقالت: ما دونَكَ سِترٌ (¬1). والثانية من العرب خطبها، فقالت: حتى أستأمر أبويَّ، فشاورتهما، فأذنا لها، فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: "قد الْتَحفْنَا لِحافًا غَيرَكِ" (¬2). القسم الرابع: من عرضن عليه - صلى الله عليه وسلم - فأباهن: وهن ثلاث: دُرَّة بنت أم سلمةَ، [قال هشام: قالت أم حبيبة: يا رسول الله، بلغنا أنك تخطب درة، فقال: "لو لم تكن أمها عندي لما حلت لي، أرضعتني وأباها ثويبة مولاة بني هاشم" (¬3). قال أحمد بإسناده عن] زينب بنت أبي سلمة: أن أم حبيبة زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرتها أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، انكح أختي ابنة أبي سفيان، فزعمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "أَوَتُحبِّين ذلِكَ؟ " قالت: نعم [لست لك بمخلية، وأَحبُّ إليَّ من شاركني في خير أختي، قالت: فقال لي: "إن ذلِكَ لا يَحِلُّ لي" فقلت: يا رسول الله، إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة فقال: "أبِنتَ أَبِي سَلَمة؟ ! " قالت: نعم] قال: "وايمُ اللهِ إنَّها لو لم تكُن رَبِيبَتي في حِجري ما حلَّت لي، إنَّها بنتُ أَخي من الرَّضاعةِ، أَرضَعتني وأباها ثُويبة، فلا تَعْرِضن عليَّ بناتِكنَّ ولا أَخواتِكُنَّ"، أخرجاه في "الصحيحين" (¬4). وقد اختلفوا في عدد أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقال الطبري: تزوج خمس عشرة امرأة، دخل بثلاث عشرة، وجمع بين إحدى عشرة (¬5). ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 550 - 551. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 551. ولم يذكر المصنف الثالثة. (¬3) "أنساب الأشراف" 1/ 551. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (27412)، والبخاري (5106)، ومسلم (1449). (¬5) "تاريخ الطبري" 3/ 161.

فصل في سراري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وقال محمد بن كعب القرظي: تزوج ثلاث عشرة امرأة (¬1). وقال علي بن الحسين: خمس عشرة، وقد ذكرنا جملتهن نيفًا وثلاثين امرأة. [ذكر بعضهن هشام بن محمد، والبعض البلاذري، والمدائني، والواقدي، وجدي في "التلقيح" وشيخنا الموفق في "الأنساب"، فما ذكره الطبري وغيره بالنسبة] (¬2). فصل في سراري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [حكى أبو عبيدة وغيره قالوا: ] كان له أربع سراري يطؤهنَّ بملكِ اليمين: مارية [القبطية، وريحانة، وربيحة القرظية، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش (¬3). فأما مارية] بنت شَمْعُون القِبطية، وهي أمُّ إبراهيم - عليه السلام - بعث إليه بها صاحب الإسكندرية [وأختها سيرين وهبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت، فهي أم ولده عبد الرحمن، وقد ذكرنا هذا]، توفيت سنة ست عشرة (¬4). وأما رَيْحانة [فحكى جدي في "التلقيح" عن ابن سعد أنه قال: هي ريحانة] بنت زيد ابن عمرو بن خُنافة. [قال: وقال الكلبي: هي ريحانة بنت شمعون بن زيد] كانت عند رجل من بني قريظة يقال له: الحكم، فسباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فأعتقها وتزوج بها في سنة ست من الهجرة، وماتت مرجعه من حجة الوداع فدفنها في البقيع. قال: وقال الواقدي: ماتت سنة ست عشرة من الهجرة وصلى عليها عمر، قال: وقد سمعت من يقول: إنه كان يطؤها بملك اليمين، ولم يعتقها (¬5). هذا صورة ما ذكره جدي في "التلقيح". قلت: وقد اختلفوا فيها: فقال البلاذري: اصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح قريظة] ¬

_ (¬1) "الطبقات" 10/ 205. (¬2) ما بين معكوفين من (ك)، وانظر تلقيح فهوم أهل الأثر 28، والتبيين 71. (¬3) انظر "المستدرك" للحاكم 4/ 45. (¬4) "الطبقات" 10/ 201، و"الإصابة" 4/ 404. (¬5) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 23، وانظر طبقات ابن سعد 10/ 125.

فعرض عليها الإسلام فأبت إلا اليهودية، فعزلها عنه، ثم أسلمت بعد ذلك، فعرض عليها أن يتزوجها، فأبت، وقالت: أراني في ملكك، فهو أروح لي ولك، فكان يطؤها بحكم الملك. [وكانت تحت رجل يقال له: عبد الحكم، وهو ابن عمها من قريظة، وقيل أبو الحكم، وكان لها مكرمًا فأبت أن تتزوج بعده (¬1). وقال أبو معشر: اسمها ربيحة، تدعى القرظية. وقال البلاذري أيضًا: عن محمد الأعرابي قال: سمعت أزهر السمان يحدث عن ابن عون] عن ابن سيرين قال: لقي رجل ريحانة في الموسم فقال لها: إن الله لم يَرضَ أن يجعلك أمًا للمؤمنين، فقالت: وأنت لم يرضك الله لي ابنًا (¬2). [وهذا يدل على أنها لم تكن من أزواجه. وحكى ابن سعد عن الواقدي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري قال: كانت ريحانة قرظية ملكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أعتقها وتزوجها، ثم طلقها، فقالت: لا يراني أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). قلت: والأول أصح، ولو كانت من أزواجه لقسم لها وحجبها، إلى غير ذلك، ولم ينقل والله أعلم] (¬4). * * * ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 543. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 543. (¬3) "الطبقات" 10/ 127. (¬4) ما بين معكوفين من (ك)، وأما الجارية التي وهبتها له زينب بنت جحش، وهي أنه - صلى الله عليه وسلم - هجر زينب في حجة الوداع لما قال لها: أفقري أختك صفية جملًا، فقالت: أنا أفقر يهوديتك، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع ذلك منها، فهجرها شهرًا ثم رضي عنها ودخل عليها فوهبت هذه الجارية، والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" مطولًا (26866)، وسمى ابن حجر في "الإصابة" 4/ 420 هذه الجارية: نفيسة.

الباب الثالث عشر: في ذكر خدمه ومواليه - صلى الله عليه وسلم -

الباب الثالث عشر: في ذكر خدمه ومواليه - صلى الله عليه وسلم - [قال علماء السير: ] قد خدمه - صلى الله عليه وسلم - جماعة، منهم: أنس بن مالك، وكان خصيصًا به، خدمه عشر سنين حضرًا وسفرًا. وكان ابن مسعود صاحب نعليه، إذا قام ألبسه إياهما، وإذا خلعهما جعلهما في ذراعيه، حتى يقوم. وخدمه أسماء وهند ابنا حارثة الأسلميان، وربيعة بن كعب، وأبو السمح، واسمه إياد. [وقال ابن عبد البر: ضل فلا يدرى أين مات، وقيل: إنه مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬1). وكان عقبة بن عامر الجهني يقود بغلته وناقته في السفر. وكان الأسْلَع يرحل له ناقته، وهو الأَسْلَع بن شريك بن عوف الأَعرجي، وقيل اسم الأَسْلَع: ميمون بن سناد، وذكره جدي في "التلقيح" فقال: الأسلع بن شريك بن الحارث التميمي (¬2). والأسلع الذي روى حديث التيمم، قال: أجنبت ليلة فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أسْلَعُ، قُم فارحَلْ نَاقَتي" فقلت: يا رسول الله، أصابني جنابة، فأمره بالتيمم، فضرب ضربتين ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين (¬3). [وأما هند وأسماء ابنا حارثة الأسلميان، فكانا يخدمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلازمان ثيابه، وأسماء هو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من كان أكل يوم عاشوراء ... " ¬

_ (¬1) "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 4/ 99، وانظر "الإصابة" 4/ 95. (¬2) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 118. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (875)، وفي الأوسط، (541)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 262 وقال: فيه الربيع بن بدر، وقد أجمعوا على ضعفه.

الحديث (¬1). وقيل: بعث معه هند بن حارثة وكنيته أبو محمد، وهو وأخوه هند من أهل الصفة. قال ابن سعد عن الواقدي: مات أسماء بالبصرة في سنة ست وستين وهو ابن ثمانين سنة. قال ابن سعد: وغير الواقدي يقول: مات بالبصرة في أيام زياد في خلافة معاوية بن أبي سفيان (¬2). وقال ابن عبد البر: شهد هند بن حارثة بيعة الرضوان مع أخوة له سبعة، وهم: أسماء، وفراس، وذؤيب، وفضالة، وسلمة، ومالك، وحمران، ولم يشهدها أخوة في عددهم غيرهم، ومات هند بالمدينة في أيام معاوية (¬3). وقد خدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكير، ويقال: بكر] بن الشُّدَاخ الليثي وكان غلامًا، فلما احتلم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله قد كنت أدخل على نسائك وأهلك وأنا غلام، وقد بلغت مبلغ الرجال، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وهو الذي قتل اليهودي، روى ابن مَنْدَه، عن عبد الملك بن يعلى قال: خدم بكير ابن شُدَاخ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كان في زمن عمر بن الخطاب وجدوا يهوديًا مقتولًا، فصعد المنبر، وقال: أذكِّر اللهَ رجلًا كان عنده علمٌ من هذا الأمر إلَّا أَعلمني، فقام بكير بن شداخ، فقال: أنا قتلته، فقال عمر: الله أكبر بؤت بدمه وإلا هات المخرج، فقال: خرج فلان غازيًا، ووكلني بأهله، فجئت إلى بابه، فوجدت هذا اليهودي في منزله وهو يقول (¬5): [من الوافر] ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1924)، ومسلم (1135) من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلًا ينادي في الناس يوم عاشوراء: "إن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل". وأخرجه أحمد في "مسنده" (15962) عن هند بن أسماء قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومي من أسلم فقال: "مر قومك فليصوموا هذا اليوم يوم عاشوراء، فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه، فليصم آخره". (¬2) "الطبقات" 5/ 227. (¬3) "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 3/ 599 - 600. (¬4) انظر "البداية والنهاية" 5/ 333، و"الإصابة" 1/ 163 - 164. (¬5) "البداية والنهاية" 5/ 333.

وأشعثَ غرَّه الإسلامُ مني ... خلوتُ بعِرسهِ ليل التمامِ أبيتُ على تَرائبها ويُمسي ... على شدِّ الأعنَّة والحزامِ [كأنَّ مجامعَ الرَّبَلاَت منها ... فئامٌ ينهضون إلى فئام الربلات باطن الفخذ، قال: فصدق عمر قوله وأبطل دم اليهودي بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لبكير بن شُدَاخ وخدمته له]. وخدمه سعد مولى أبي بكر رضوان الله عليه فقال لأبي بكر: أعتقه، فقال: ما لنا خادم غيره، [قال: أتاك الرجال أي: السبي] فأعتقه. [قال ابن عبد البر: روى سعد مولى أبى بكر عن الحسن البصري] ويقال: اسمه سعيد وبُعد في أهل البصرة (¬1). فأما مواليه - صلى الله عليه وسلم -: فأحمر وكنيته أبو عَسِيب [وفي الصحابة من اسمه أحمر خمسة، منهم هذا] (¬2). أسلم وكنيته أبو رافع (¬3)، وكان عبدًا للعباس بن عبد المطلب، فوهبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أسلم العباس، بشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه، فأعتقه، [وقد كان أسم بمكة مع العباس] وشهد الخندق (¬4) [وهو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع رجلٍ من الأنصار يخطب ميمونة بنت الحارث (¬5). قال ابن سعد]: وهو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع زيد بن حارثة من المدينة إلى مكة ليحمل عيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة عند الهجرة (¬6). [قال ابن سعد: وهو الذي ضربه أبو لهب بالعمود بمكة لما جاء خبر بدر]، وهو الذي ¬

_ (¬1) "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 2/ 48، وفيه: أن الحسن البصري هو من روى عن سعد، وانظر "الإصابة" 2/ 39. (¬2) "الطبقات" 9/ 59، و"الإصابة" 4/ 133. (¬3) "الطبقات" 4/ 67، و"الإصابة" 4/ 67. (¬4) "الطبقات" 10/ 130. (¬5) "الطبقات" 4/ 68. (¬6) "أنساب الأشراف" 1/ 567.

بشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بولادة إبراهيم ابنه - عليه السلام -. ويقال: هو الذي عمل منبر رسول الله (¬1) - صلى الله عليه وسلم -. [وذكره ابن عبد البر فقال: شهد أسلم أحدًا والخندق وما بعدها] وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولاته سلمى [وشهدت خيبر، وولدت له عبيد الله بن أبي رافع (¬2). قال: ] وكان أبو رافع من فضلاء الناس إلا أنه كان فيه عي شديد. [رأته امرأته في المنام بعد موته، فقال لها: لي على فلان الصيرفي مائتي دينار، فلما انتبهت جاءت إلى الصيرفي فأخبرته، فقال: والله ما علمته قط، فدخلت المسجد فرأت أشياخًا من آل أبي رافع كلهم مقبول القول، فأخبرتهم، فقالوا: ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة، قدميه إلى الحاكم لنشهد لك عليه، وبلغ الصيرفي فجاء إليهم فقال: أصلحوا بيني وبينها على مئة دينار صلحًا عن مئتي دينار ادعاها عليَّ أبو رافع في النوم، وإنها قد أبرأتني، فربما ترى أبا رافع في النوم مرة أخرى، ففكر القوم فاستيقظوا من غفلتهم وقالوا للمرأة: قبح الله ما جئت به ولم يحصل لها شيء. واختلفوا في اسمه على أقوال: أحدها: أَسْلَم وهو المشهور. والثاني: هُرمز. والثالث: إبراهيم. والرابع: ثابت. والخامس: يزيد. وقال ابن عبد البر: توفي بعد مقتل عثمان بن عفان بيسير في سنة ست وثلاثين، وفي الصحابة ستة كل واحد اسمه أسلم أحدهم هذا، وفي اسمه خلاف كما ذكرنا] (¬3). أسامة بن زيد - رضي الله عنه - وسنذكره في سنة ستين [في آخر أيام معاوية]. أنسة، وكنيته أبو مسروح [وقيل: أبو مسرح] من مولدي السراة، [واختلفوا فيه: فحكى ابن سعد عن الواقدي]: أنه قتل يوم بدر شهيدًا (¬4). وقيل: إنه من الفرس، [وكانت أمه حبشية وأبوه فارسيًا، واسم أبيه كردويه. ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 567. (¬2) "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 1/ 85 - 87. (¬3) "الاستيعاب" 1/ 87، وفيه قبل قتل عثمان، ولم يذكر السنة. (¬4) "الطبقات" 3/ 46.

وروى عن الواقدي أنه قال: الثبت عندنا] أنه شهد بدرًا واحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوفي في خلافة أبي بكر رضوان الله عليه (¬1). [وقيل: إنه] كان يستأذن للناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وليس في الصحابة من اسمه أنسة غيره، وليس له رواية. أيمن بن أم أيمن الحبشي، له رؤية ورواية. وأبوه عبيد الخزرجي تزوج أم أيمن بمكة ثم فارقها، فزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدَ بن حارثةَ بعد أن أعتقها، [وقد ذكرنا أن أيمن قد قتل بحنين شهيدًا]. ثوبان، [واختلفوا في اسم أبيه، فقيل: ابن بجدد، وقال ابن يونس: بحدد، وقيل: جحدر (¬2)] وكنيته أبو عبد الله، اشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأعتقه. قال ابن يونس: وهو من أهل اليمن، وقيل: من السراة ولم يزل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] حتى قبض. [وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة (¬3). وقال هشام بن محمد] وكان يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصبر عنه. وفيه نزل قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. [وقال أبو سعيد بن يونس]: شهد ثوبان فتح مصر، واختط بها دارًا، [وكذا حكى أبو القاسم في "تاريخ دمشق" عن ابن منده أنه قال: لثوبان بمصر دار وبالرملة أخرى (¬4). واختلفوا في وفاته] فقيل: إنه توفي بمصر سنة أربع وأربعين، وقال ابن سعد: نزل بحمص ومات بها في سنة أربع وخمسين (¬5). ومنزله بحمص [عند] حمام جابر، وله بها عقب، وقيل: إنه لم يعقب، [وكانت وفاته في أيام عبد الله بن قُرظ]، وكان نزل دمشق، ثم نزل الرملة، ثم عاد إلى حمص. ¬

_ (¬1) "الطبقات" 3/ 46. (¬2) انظر "تاريخ دمشق" 1/ 166. (¬3) "الطبقات" 5/ 98. (¬4) "تاريخ دمشق" 11/ 172. (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 98 و 9/ 404.

[وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نيفًا وثلاثين حديثًا، أخرج له مسلم عشر أحاديث، ولم يخرج له البخاري شيئًا، وهو الذي روى حديث الحوض، وسنذكره في آخر السيرة. ومن مسانيده ما أخرجه أحمد في "مسنده"، فقال بإسناده، عن سليمان المنْبِهي عن ثوبان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر آخر عهده بإنسانٍ فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، قال: فقدم من غَزاةٍ فأَتاها، فإذا بمِسْحٍ على بابها ورأى على الحسن والحُسين قُلْبَين من فضة، فرجَعَ ولم يدخل عليها، فهتكت فاطمة السِّتر ونزعت القُلْبين فقطعتهما ظنًا أنه لم يدخل عليها لأجل ذلك، فبكى الصَّبيَّان، فقسَمت القُلْبين بينهما، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما يبكيان، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهما فقال: "يا ثَوبانُ، اذهَبْ بهذا إلى بَني فُلانٍ - أهل بيتٍ في المدينة - واشتَرِ لفاطمةَ قِلادةً من عَصَب وسِوارَيْن من عاجٍ، فإنَّ هؤلاءِ أهلُ بَيْتِي، ولا أحبُّ أن يَأكُلُوا طيِّباتِهم في حَياتِهمُ الدُّنيا" (¬1). "العصب": ثوب، أي يفتل ثم يغسل ثم يصبغ ثم يحاك (¬2). وقال الجوهري: "العَصْب" ضربٌ من برود اليمن (¬3). قلت: ولا معنى أن تكون القلادة من البرود، وإنما قد روي: "واشتر لفاطمة قلادة من جزع ظفار" وهو أولى. وأما "العاج" فقال الأصمعي: هو خشب الذبل. وقال الجوهري: العاج عظم الفيل (¬4). وفي هذا الحديث دليلٌ على طهارة عظم الميتة. وفي الصحابة من اسمه ثوبان ثلاثة أحدهم هذا. أفلح (¬5)، ذكره ابن البرقي، وقال: له حديث، وهو الذي يقال له: مولى أم سلمة، وليس في الصحابة من اسمه أفلح إلا هو وآخر، يقال له: أفلح أخو أبي ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (22363). (¬2) انظر "فتح الباري" 9/ 491. (¬3) "الصحاح" (عصب). (¬4) "الصحاح": (عوج). (¬5) "الإصابة" 1/ 57 - 58.

القعيس، وكنيته أبو الجعد، ولهما رؤية وليس لهما رواية]. حُنين (¬1)، كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوهبه العباس، فأعتقه [وليس في الصحابة من اسمه حنين غيره، وليس له رواية. وخدمه جماعة منهم من سميت ومنهم ما سميت مخافة التطويل]. ذكوان، وقيل: اسمه مهران، وقيل: طهمان، وقيل: ميمون، وقيل: كيسان، وقيل: باذام. رافع بن عبد الله. رويفع، غير رافع. رباح، كنيته أبو أيمن، كان يأذن للناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جعله على لقاحه مكان يسار لما قتل (¬2). زيد بن حارثة - رضي الله عنه -. زيد بن بَوْلا (¬3). زيد بن المنذر من بني قريظة، كان مكاتبًا، فابتاعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه (¬4). زيد أبو يسار (¬5)، من رواياته: قال بلال بن يسار بن زيد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سمعت أبي يحدِّث عن جدي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قال: أَستَغفِرُ اللهَ الذي لا إلَه إلَّا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه، غُفِرَ له وإن كانَ قد فَرَّ من الزَّحفِ" (¬6). سابق (¬7)، وليس في الصحابة من اسمه سابق غيره. ¬

_ (¬1) "الإصابة" 1/ 362. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 575، و"الإصابة" 1/ 502. (¬3) "الإصابة" 1/ 561. (¬4) ويكنى أبو لبابة، "أنساب الأشراف" 1/ 73. و"الإصابة" 4/ 168. (¬5) "الطبقات" 5/ 99، و"الإصابة" 1/ 561 وهو زيد بن بولا كما في "الإصابة". (¬6) أخرجه أبو داود (1517)، والترمذي (3577). (¬7) هو وهم كما قال الحافظ في "الإصابة" 2/ 119 - 120: وإنما جاء الحديث عن سابق بن ناجية عن خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانظر الحديث في "مسند" أحمد والاختلاف عليه (18967)، و"الإصابة" 4/ 93.

سالم (¬1)، مولد، شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلَّها، وتوفي أول يوم ولي عمر الخلافة. سعيد بن لبيد بن سلمان الفارسي، نذكره في سنة اثنتين وثلاثين. سليم (¬2) أبو كبشةَ الدَّوسي، من مُولَّدي أرض دوس، ابتاعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، فشهد معه بدرًا والمشاهد كلَّها. شُقْران (¬3)، وقيل: اسمه الصالح بن عدي، وقيل: أوس، وقيل: هُرمز، وشقران لقب له، وكان حبشيًا، ورثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمه وأبيه، وقيل: كان لعبد الرحمن بن عوف فوهبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وقيل: أخذه من عبد الرحمن باليمن، وقيل: هو من سبي الفرس. وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا، وكان على الأسرى، ولم يسهم له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل أجزاه كل رجل له أسير فحصل له أكبر ما حصل من المغنم، وله عقب بالبصرة والمدينة. واستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما وجد في رحال أهل المريسيع من المتاع، والسلاح، والنعم، والشاء، والذرية، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل المريسيع: "كيفَ وجَدتُم شُقْرانَ؟ " فقالوا: أشبع بطوننا، وشدَّ وثاقنا (¬4). وهو الذي نزل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطرح القطيفة فيه. ومات في خلافة عمر رضوان الله عليه، فبعث ابنه عبد الرحمن إلى أبي موسى الأشعري، وكتب إليه: قد بعثت إليك عبد الرحمن ابن الرجل الصالح شقران، فاعرف له مكان أبيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ضُميرة بن أبي ضُميرة (¬5)، وصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتقه، وخيَّره بين المقام ¬

_ (¬1) وهو أبو كبشة الآتي انظر "الطبقات" 3/ 46، و"الإصابة" 4/ 165. (¬2) تقدم باسم سالم وانظر التعليق السابق. (¬3) "الطبقات" 3/ 47، و"أنساب الأشراف" 1/ 568 - 569 و"الإصابة" 2/ 153. (¬4) "أنساب الأشراف" 1/ 569. (¬5) "الطبقات" 5/ 103، و"أنساب الأشراف" 1/ 574، و"الإصابة" 2/ 214.

عنده، وبين اللحاق بأهله، فاختار أن يقيم معه. ثم كتب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا يتضمن الوصية به وبأهل بيته، قال حسين بن عبد الله ابن أبي ضميرة: كتب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا: "بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم، هذا كتابٌ من محمدٍ رسولِ الله لأبي ضُميرة وأهل بيتهِ، إنَّهم كانوا أهلَ بيتٍ من العربِ، وكانوا ممَّا أفاءَ اللهُ على رسولهِ، فأعتقهم، وإنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خيَّر أبا ضميرة أن يَلحقَ بقومهِ، أو يكونَ معه، فاختارَ المُقامَ عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحَق لقيَه أو أحَدًا من أهله من المسلمين، فلا يتعرَّض لهم إلا بخير، وليستَوصِ بهم خيرًا"، وكتب أُبيُّ بن كعب، فخرج أبو ضُميرة في طائفةٍ من قومه فخرج عليهم قطاع الطريق، فأخذوا ما معهم، فأخرجوا الكتاب، فقرؤوا ما فيه، فردوا عليهم ما أخذوا منهم (¬1). ووفد حسين بن عبد الله بن أبي ضُميرة على المهدي فأراه الكتاب، فقبَّله، ووضعه على عينيه، وأعطى حسينًا ثلاث مئة دينار (¬2). عبيد بن أبي أسلم (¬3)، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا. فضالة اليماني (¬4) نزل الشام، بن أبي معجمه (¬5). ذكره ابن ماكولا. كركرة (¬6)، وقيل: هو الذي كان على ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُو في النَّارِ" فنظروا وإذا به قد غلَّ عباءة (¬7). كيسان، وقيل: هو سفينة. مأبُورا (¬8)، وهو الذي أهداه المقوقس مع مارية، وكان خصيًا. ¬

_ (¬1) "الطبقات" 5/ 104. (¬2) "الطبقات" 5/ 104. (¬3) "الطبقات" 5/ 99. (¬4) انظر أنساب الأشراف 1/ 570، و"الإصابة" 3/ 208، وتاريخ دمشق 58/ 41 (مجمع اللغة). (¬5) هكذا رسمت في النسخ ولم نهتد لها. (¬6) "أنساب الأشراف" 1/ 575، و"الإصابة" 3/ 293. (¬7) أخرجه البخاري (3074) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. (¬8) "الإصابة" 3/ 334. وضبطه الحافظ بغير ألف في آخره.

محمد (¬1)، كان مجوسيًا، فسمع بذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج ومعه تجارة من مرو حتى قدم المدينة، فأسلم على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماه محمدًا، ثم رجع إلى منزله بمرو مسلمًا، وداره قبالة المسجد الجامع. مِدْعَم (¬2) أسود، أهداه له رفاعة الجذامي، وكان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويرحل له فجاءه سهم عائر فقتله، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلَّا والذي نَفسي بِيَدِه، إنَّ الشَّمْلَة التي أخذها يومَ خيبرَ من الغَنائمِ لَتَشْتَعِلُ عليه نارًا" (¬3). مهران، من مولَّدي الأعراب، ولقبه: سفينة [واختلفوا في اسمه على أقوال: أحدها: هذا المشهور، قاله إبراهيم الحربي. الثاني: رُومان، قاله الهيثم بن عدي. والثالث: كَيسان، والرابع: طِهمان. والخامس: عبس. والسادس: رباح. والسابع: أحمر. والثامن: سبيه بن مارقية، ذكره الطبري قال: وهو من الفرس (¬4). والأول أصح، نص عليه إبراهيم الحربي]، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو البَخْتَري. وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من المهاجرين وقال: اشترته أم سلمة، وأعتقته على أن يخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عاش، فقال: لو لم تشترطي علي لخدمته، فخدمه عشر سنين (¬5). [وقال ابن سعد بإسناده عن سعيد بن جُمْهان قال: سألت مهران: لم سميتَ سفينة؟ فقال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فثقل عليهم متاعهم، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ابسُطْ كِسَاءَكَ" فبسطته فحولوا عليه أمتعتهم ثم حملوه على ظهري، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احمِلْ فما أنْتَ إلا سفينةٌ" ثم حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة فما ثقل علي (¬6). ¬

_ (¬1) "الإصابة" 3/ 385. (¬2) "أنساب الأشراف" 1/ 574، و"الإصابة" 3/ 394. (¬3) أخرجه البخاري (6707)، ومسلم (115) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) "تاريخ الطبري" 3/ 171. (¬5) "الطبقات" 5/ 100. (¬6) "الطبقات" 5/ 100.

وحكى عنه ابن سعد أيضًا قال: ركبتُ البحر، فانكسرت بنا السفينة، فتعلَّقتُ منها بشيءٍ، فخرجت إلى الجزيرة، فإذا بالأسدِ، فقلت له: يا أبا الحارثِ، أنا سفينةُ مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبيه يدلني على الطريق، فلما خرجت إلى الطريق هَمْهَم، فظننت أنه يودعني وانصرف (¬1). وليس في الصحابة من اسمه مهران غيره، ولا من يلقب بسفينة سواه، وقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث، قال الهيثم: روى عنه أربعة عشر حديثًا. قلت: وقد أخرج له أحمد ستة أحاديث]. نافع (¬2)، من مولَّدي السَّراة، روى عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. نبيه (¬3)، اشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه. نُفيع، وهو أبو بكرة، نذكره في سنة إحدى وخمسين. واقد (¬4)، ويقال له: أبو واقد. وَرْدان (¬5)، مات في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هشام (¬6)، يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث. يسار (¬7)، كان عبدًا نوبيًا، دُفع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته فأعتقه، وقيل: كان حبشيًا لعامر اليهودي، وهو الذي قتله العرنيون، وقيل: هما اثنان. * * * ¬

_ (¬1) "الطبقات" 5/ 101. (¬2) انظر "الإصابة" 3/ 547. (¬3) انظر "الإصابة" 3/ 552. (¬4) انظر "الإصابة" 3/ 628. (¬5) "الإصابة" 3/ 633. (¬6) "أنساب الأشراف" 1/ 575، و"الإصابة" 3/ 606. (¬7) ذكره ابن حجر في "الإصابة" 1/ 561 في زيد بن بولا، وسبق ذكره عند المصنف، وانظر "أنساب الأشراف" 1/ 569.

ذكر من عرف منهم بكنيته

ذكر من عرف منهم بكنيته: أبو الحمراء، واسمُه هلال بن الحارث، شهد بدرًا وأحدًا، ونزل حمص، وله بها عقب، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث (¬1). أبو رافع (¬2)، كان لأبي أُحيحة سعيد بن العاص، فورثه بنوه، فأعتق ثلاثة منهم، وقتلوا يوم بدر، أعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول: أنا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أبو السَّمْح (¬3)، واسمه سعد. أبو مُوَيهِبَة، من مولَّدي السَّراة، من مُزينة، اشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وهو الذي خرج معه إلى البقيع لما استغفر لأهله، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين، شهد المريسيع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يقود جمل عائشة رضوان الله عليها، وكان عبدًا صالحًا (¬4). وقال محمد بن حبيب الهاشمي في المحبر: من موالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو لُبابةِ، وأبو هند، وأبو لَقيط، وأبو أُثيلة وكلهم أعتَقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو هند كان يحجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مولًى لفروة بن عمرو البَياضي، فوهب بنو بياضة ولاءه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بدرًا (¬5). وأبو سلمى راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل: أبو سلامة، واسمه حريث (¬6). وأبو صفية، كان من المهاجرين (¬7). وأبو عَسِيب، له صحبة ورواية (¬8). وأبو كَبْشة (¬9). ¬

_ (¬1) انظر "الإصابة" 4/ 46. (¬2) انظر "تاريخ دمشق" 4/ 262، و"الإصابة" 4/ 67. (¬3) انظر "تاريخ دمشق" 4/ 323، و"الإصابة" 4/ 95. (¬4) "الطبقات" 5/ 101، و"أنساب الأشراف" 1/ 574، و"الإصابة" 4/ 188. (¬5) "المحبر" ص 128، وانظر "الطبقات" 4/ 403، و"الإصابة" 4/ 211. (¬6) "الطبقات" 8/ 180، و"الإصابة" 4/ 94. (¬7) "تاريخ دمشق" 4/ 292، و"الإصابة" 4/ 109. (¬8) "الطبقات" 9/ 59، و"الإصابة" 4/ 133. (¬9) "الطبقات" 3/ 46.

وأبو ريحانة (¬1)، واسمه شمعون بن زيد بن خنافة القرظي، أنصاري حليف لهم، وكانت ابنته ريحانة سرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، له صحبة وسماع، وكان من فضلاء الزاهدين في الدنيا، نزل الشام، وشهد فتح دمشق، واتخذها دارًا، ثم سكن بيت المقدس، ويقال: إنه سكن مصر، وحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، وكان يقصّ، ودعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ولده محمد بن حكيم بن أبي ريحانة، كان من كتاب الدمشقيين، وهو أول من طوى الطومار وكتب فيه مدرجًا مقلوبًا (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ريحانة: "عَليكَ بكَثْرةِ السُّجودِ" (¬3). قال ابن عساكر: كان أبو ريحانة مرابطًا بميَّافارِقِين، فاشترى رسنًا من بعض أهلها بفلوس، ثم سافر إلى الشام فلم يذكر الثمن حتى وصل إلى الرستن، وبين الرستن وحمص اثنا عشر ميلاً، فقال لغلامه: أعطيت لصاحب الرسن الفلوس؟ قال: لا، فنزل عن دابته، فدفعها إلى غلامه، وأوصى أصحابه، ثم انصرف إلى صاحب الرسن، ثم عاد إلى الشام (¬4). وقال ابن أبي الدنيا: ركب أبو ريحانة البحر، وكان معه إبرةٌ يخيط بها، فسقطت في البحر، فقال: عزمتُ عليك يا ربِّ إلا رددتَ عليَّ إبرتي، فظهرت على الماء حتى أخذها (¬5). واشتدَّ عليهم البحر فقال له: إنما أنت عبد، اسكن بإذن الله، فسكن حتى صار كالزيت (¬6). * * * ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 23/ 193، و"الإصابة" 2/ 156. (¬2) "تاريخ دمشق" 23/ 198. (¬3) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2327)، وابن عساكر في "تاريخه" 23/ 201، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 250 وقال رواه الطبراني في "الكبير" من رواية شيخه إبراهيم بن محمد بن عرق بن الحمصي قال الذهبي: غير معتمد. (¬4) "تاريخ دمشق" 23/ 203. (¬5) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2320)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 23/ 204. (¬6) "تاريخ دمشق" 23/ 204.

ذكر موليات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

ذكر موليات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [قال جدي رحمه الله في "التلقيح": أم أيمن، واسمها بركة، وأميمة، وخضرة، ورضوى، وريحانة، وسلمى، ومارية، وميمونة بنت سعد، وميمونة بنت أبي عَسِيب، وأم ضميرة، وأم عياش وقيل: هي مولاة ابنته رقية (¬1). [قلت: وقد اختلف أرباب السير فيهن، فقالوا: مارية وريحانة وربيحة هؤلاء الثلاثة كن لفراشه، ثم قالوا: وفي أسامي الصحابيات مارية أم إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومارية أخرى أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وبعضهم يجعلهم واحدًا. قلت: ] وأما سلمى (¬2) [فقال الواقدي] فهي التي زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع، فولدت له عبد الله، وقيل: رافعًا، وكانت لصفية بنت عبد المطلب فوهبتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت قابلة أولاد فاطمة - عليها السلام -، وإبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي التي ساعدت عليًا رضوان الله عليه في غسل فاطمة سلام الله عليها. [قلت: روت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج أحمد حديثًا واحدًا فقال بإسناده، عن أيوب بن حسن بن علي بن أبي رافع، عن جدته سلمى خادمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: ما سمعت أحدًا قط يشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعًا في رأسِه إلا قال له "احْتَجِم" ولا وَجَعًا في رجليه إلَّا قال: "اخْضِبهُما بالحِنَّاءِ" (¬3). قالت: وكنت أخدمه، فما كانت تصيبه قرحة ولا نكبة إلا أمرني أن أضع عليها الحناء] (¬4). وذكر ابن عبد البر ميمونة أخرى (¬5)، وذكر غيره ميمونة بنت أبي عنبسة (¬6)، وذكر رضوى أخرى. ¬

_ (¬1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 34 - 35. (¬2) "الطبقات" 10/ 216، و"الإصابة" 4/ 333. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (27617). (¬4) أخرجه الترمذي (2054)، وابن ماجه (3502). (¬5) "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 4/ 409. (¬6) وذكرها هو أيضًا 4/ 408.

الباب الرابع عشر: في ذكر مراكبه ومنائحه ونوقه

الباب الرابع عشر: في ذكر مراكبه ومنائحه ونوقه [قال الهيثم]: كان له - صلى الله عليه وسلم - تسعة أفراس. [وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: ] وأول فرسٍ ملكه السَّكْب، ابتاعه بالمدينة من رجل من بني فَزارة بعشر أواق فضة [وكان اسمه عند بائعه: الضرس فسماه رسول الله: السكب]، وأول غزاة غزا عليه أحد (¬1). وكان أشقر أغر محجلاً، وهو أول فرس سابق عليه فسبق، ففرح المسلمون [ويقال: إنه سابق بفرس اسمه سبحة] (¬2). والثاني: المرتجز، وهو الذي اشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعرابي من بني مرة، وشهد له خزيمة بن ثابت (¬3). والثالث: لِزَاز، أهداه له المُقَوقِس. والرابع: الظَّرِب، أهداه له الربيعة بن البراء، وقيل: فروة بن عمرو الجُذامي عامل البلقاء لقيصر. والخامس: اللُّخَيف، أهداه له سعد بن البراء. والسادس: الورد، أهداه له تميم الداري، فأعطاه عمر بن الخطاب فحمل عليه في سبيل الله، ثم وجده يُباع بعد ذلك فأخذه (¬4). والسابع: اليَعسوب (¬5). والثامن: المرواح، أهداه له وفد الرَّهاويين (¬6). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 421. (¬2) "الطبقات" 1/ 421. (¬3) "الطبقات" 1/ 422. (¬4) "انظر "الطبقات" 1/ 422. (¬5) "تاريخ الطبري" 3/ 174. (¬6) "الطبقات" 1/ 297.

والتاسع: سبحة. [قال هشام: ] وكانت له بغلتان شَهباوتان أحدهما دُلْدُل، أهداها له المُقَوقِس صاحب الإسكندرية [قال ابن سعد عن الواقدي: ] أول بغلة ركبت في الإسلام دُلْدُل، وبقيت إلى أيام معاوية فنفقت بيَنبُع (¬1). والأخرى: فضة، أهداها له فروة بن عمرو الجُذامي، فوهبها لأبي بكر رضوان الله عليه. وكان له حمار يقال له: يعفور، وقيل: عُفير، أهداه له المقوْقِس مع دلدل فنفق منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجة الوداع (¬2). وقيل: إن فروة بن عمرو الجُذامي أهدى له يعفور، وأما عُفير فأهداه له المقوقس. [وقيل: إنهما اسمان لحمار واحد، وقد أردف معاذ بن جبل على حمار يقال له: عفير. وقد ذكر جدي في "الموضوعات" حديثًا في أسماء مراكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بإسناده، عن ابن عباس قال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيف محلَّى، قائمتُه من فضة، ونعلُه من فضة، وفيه حِلَق من فضة، وكان يسمى: ذا الفقار، وكان له فرس يسمى: القرقر (¬3) وآخر يقال له: المرتجز، وفرس أدهم يقال له: السكب، وسرج يسمى: الداج، وكانت له بغلة تسمى: الدلدل، وناقة يقال لها: القصواء. وقد أجمع على هذه الأفراس عامة العلماء، كالواقدي وهشام وابن سعد وغيرهم. قلت: وقد أخرج جدي في "الموضوعات" حديثًا في الحمار فقال بإسناده، عن محمد بن مزيد أبي جعفر مولى بني هاشم، حكى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له حمار أسود أخذه من خيبر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألَه ما اسمك؟ فقال الحمار: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حمارًا كلهم لم يركبه إلا نبي، ولم يبق من نسل جدي إلا أنا، ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 422 - 423. (¬2) "الطبقات" 1/ 423. (¬3) في الموضوعات (555): وكان له محجن يسمى القرقر.

ولا من الأنبياء غيرك، وكنت أتوقع أن غيرك يركبني. وأن رسول الله قال له: سميتك يعفورًا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يركبه لحاجته، فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل فيقرعه برأسه فيخرج صاحب الدار فيومئ إليه برأسه: أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء الحمار إلى بئر فتردى فيها فهلك حزنًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: والمتهم بوضعه محمد بن مزيد فإنه ساقط الرواية (¬1)]. وأما لِقاحُه - صلى الله عليه وسلم - فكان له عشرون لِقْحَة بالغابة، وهي التي أغار عليها عُيينة بن حصن الفزاري، وهي التي كان يعيش بها أزواجه وأهله، كان يراح منها كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن، ومنها: الحَنَّاء، والسمراء، والعريس، والسعدية، والبغوم، واليسيرة والدَّبَّاء (¬2). فهذه السبع كانت غزارًا. وكان له من النوق العضباء، ابتاعها من أبي بكر رضوان الله عليه باربع مئة درهم لما هاجر إلى المدينة (¬3). [قال الواقدي: ] كان له - صلى الله عليه وسلم - مئة شاة، منها منائح سبعة: عجوة، وزمزم، وسُقيا، وبَرَكة، ووَرسة، وإطلال، وإطراف، وكانت أم أيمن ترعاهن (¬4). * * * ¬

_ (¬1) "الموضوعات" 2/ 26 - 27 عقب (555). (¬2) "الطبقات" 1/ 425. (¬3) "انظر "الطبقات" 1/ 424. (¬4) "الطبقات" 1/ 426.

الباب الخامس عشر: في ذكر لباسه وخاتمه وآنيته - صلى الله عليه وسلم -

الباب الخامس عشر: في ذكر لباسه وخاتمه وآنيته - صلى الله عليه وسلم - [قال ابن سعد بإسناده عن] البراء بن عازب قال: ما رأيت أحدًا أحسن من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمراء. [أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وقد أخرج أحمد بمعناه فقال بإسناده قال: سمعت أبا إسحاق يقول: سمعت البراء يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا مربوعًا بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجمة، شعره إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء، ما رأيت شيئًا قط أحسن منه - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه (¬2). وفي رواية: له شعر يضرب منكبيه (¬3)]. وقال [أحمد بإسناده عن] قتادة: قلت لأنس: أي اللباس كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: الحِبَرَة. [متفق عليه (¬4). قال الجوهري: الحِبَرة بُرْدٌ يمان، والجمع حِبَرات وحِبَر] (¬5). وقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: ربما صبغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه ورداءه وإزاره وعمامته بالزعفران والورس والعنبر (¬6). [قيل: والعنبر هو الزعفران عندهم. وروى ابن سعد عن] أبي رِمْثَة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوبان أخضران (¬7). [وروى ابن سعد عن] أنس قال: كان قميص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطنًا، قصير الكمين إلى الرسغ (¬8). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 387، والبخاري (5848)، ومسلم (2337) (92). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (18473)، والبخاري (3551)، ومسلم (2337). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (18558). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13377)، والبخاري (5812)، ومسلم (2079). (¬5) "الصحاح" (حبر)، وما بين معكوفات من (ك). (¬6) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 388. (¬7) "الطبقات" 1/ 389، وأخرجه أحمد في "مسنده" (7111). (¬8) "الطبقات" 1/ 394.

فصل في حديث الخاتم

وكان طول ردائه أربعة أذرع في ذراعين (¬1). وقال عمر (¬2): رأيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبَّة ضيقة الكمين (¬3) وكان أحب اللباس إليه البياض. [فصل في حديث الخاتم: قال أحمد بإسناده عن] ابن عمر قال: اتَّخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ذهب، وكان يجعل فَصَّه مما يلي كفه، فاتَّخذه الناس، فرمى به، واتَّخذ خاتمًا من وَرِق (¬4). [وقال أحمد بإسناده عن] ابن عمر قال: اتَّخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من وَرِق، فكان في يده، ثم كان في يدِ أبي بكر من بعدِه، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان، نقشُه: "محمد رسول الله". [الطريقان في "الصحيحين" (¬5). وفي حديث عائشة: كان يتختم في يمينه ثم يحوله إلى يساره (¬6). قال أحمد بإسناده عن] عقبة بن عامر الجهني قال: أهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرُّوجُ حرير، فلبسه، ثم صلّى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعًا شديدًا عنيفًا كالكاره له، ثم قال: "لا ينبغي هذا للمتّقينَ". [أخرجاه في "الصحيحين" (¬7). وفي رواية: "ليس هذا لباسَ المتَّقين" (¬8). و"الفروج": القباء المفرج من خلفه]. وقال محمد بن علي بن الحسين - رضي الله عنهم -: ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أثواب حبرة، ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 394 عن عروة بن الزبير. (¬2) في النسخ: "ابن عمر"، والمثبت من المصادر. (¬3) "الطبقات" 1/ 395، وأخرجه أحمد في "مسنده" (193). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (4677)، والبخاري (5865)، ومسلم (2091). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (4734)، والبخاري (5873)، ومسلم (2091) (54). (¬6) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 5/ 237. (¬7) أخرجه أحمد في "مسنده" (17343)، والبخاري (5801)، ومسلم (2075). (¬8) أخرجها الطبراني في "الكبير" 17/ (758).

وإزارًا عمانيًا وثوبين صحاريين وقميصًا صحاريًا، وقميصًا سحوليًا، وجبة يمانية، وملحفة مورَّسة، وخميصة وكساء أبيض، وثلاث قلانس لاطية صغارًا. وقال هشام: كان له بردان أخضران يصلي فيهما الجُمع والأعياد، وكساء أسود، وبرد أحمر يلبسه في الجمعة والعيدين، وكان له مِنتقة (¬1) من أديم فيها سُيور، وحلق فضة وإبريسم، وحصيرة، وعباء يبسطها طاقين، وينام عليها، وخفان أسودان أهداهما له النجاشي، كان يمسح عليهما، وكانت له فروة مدبوغة، وخمرة يصلي عليها - وهي السجادة - ونعلان لهما قبالان، فكان يصلي فيهما، وكانت له ربعة فيها مشط من عاج، ومرآة ومكحلة، ومقراض، ومسواك، وكانت الربعة لا تفارقه سفرًا وحضرًا، وكان يكتحل بالإثمد وهو صائم، وكان له قدح مضبَّب بالفضة. وأخرج البخاري، عن عاصم الأحول قال: رأيت عند أنس بن مالك قدحًا من نُضار قد انصَدع وقد سَلسَلَه بفضة، قال أنس: لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا القدح كذا وكذا مرة. قال ابن سيرين: وكان فيه حلقة من حديد، فاراد أنس أن يغيرها بحلقة ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: لا تغير شيئًا صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتركه (¬2). [وقال الواقدي: ] وكان له - صلى الله عليه وسلم - تور من حجارة، وطست من نحاس، وقدح من زجاج، وقصعة [وقدح] من عِيدان يبول فيه في الليل. فإن قيل: فقد رويتم في ميراثه - صلى الله عليه وسلم - أنه ما ترك دينارًا ولا درهمًا، ولا شاة ولا بعيرًا ولا شيئًا؟ قلنا: قد روى عروة، عن عائشة أنها سُئلت عن ذلك فقالت: فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك كله قبل موته. وروى الهيثم عن أشياخه أنهم قالوا: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا مما يسأل الإنسان عنه، وإنما ترك ما يُلبس ويُمتَهَن (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في (أ، خ)، وفي (ك): منيفة، ولم أتبينها. (¬2) أخرجه البخاري (5638). (¬3) رسمت في النسخ: يمنن، ولعل المثبت هو الصواب.

وقد ضعف الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله ما روي عن محمد بن علي بن الحسين، وهو أيضًا منقطع لأنه لم يرفعه. وذكر المدائني أن العباس خاصمَ عليًّا إلى أبي بكر رضوان الله عليه في ميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: العم أولى بالميراث أو ابن العم؟ فقال أبو بكر: العم، قال: فما بال درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبغلته دُلْدُل، وسيفه ذو الفقار عند علي، فقال أبو بكر رضوان الله عليه: هذا شيء وجدته في يده فأكره أن أنتزعه منه، فسكت العباس. قال المصنف (¬1) رحمه الله: وهذا محمول على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهب ذلك لعلي قبل موته، وخفي ذلك عن العباس، وإلا فكيف يظن بعلي أن في يده ما لا يستحقه؟ ! . * * * ¬

_ (¬1) في (ك): قلت.

الباب السادس عشر: في آلات حربه - صلى الله عليه وسلم -

الباب السادس عشر: في آلات حربه - صلى الله عليه وسلم - قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ ومعه سيف ورثه من أبيه يقال له: العَضْب، شهد به بدرًا، وأصاب - صلى الله عليه وسلم - من بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيفًا قَلَعيًا، وسيفًا يدعى بتَّارًا، وسيفًا يدعى الحَتْف، والمِخْذَم ورَسوب أصابهما من الفُلْس - اسم صنم (¬1) - بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا رضوان الله عليه فوجد الصنم مقلدًا بهذين السيفين، أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، وكانا للحارث بن أبي شمر الغساني وكان قد نذر إن ظفر ببعض أعدائه أهداهما إلى الصنم، وفيهما يقول علقمة بن عبدة التميمي (¬2): [من الطويل] مُظاهِرُ سِربالَيْ حديدٍ عليهما ... عقيلا سُيوفٍ مِخذَمٌ وَرسوبُ وذو الفَقار تنفَّله يوم بدر من ابن الحجاج، وكانت قبيعته وقائمه ونعله وحِلَقه من فضة (¬3). وهو الذي رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه الرؤيا ليلة أحد (¬4). ولم يزل عنده حتى وهبه لعلي رضوان الله عليه قبل موته، ثم انتقل إلى محمد بن الحنفية، ثم إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن حسين، وكان له سيوف أخر. وأصاب - صلى الله عليه وسلم - من بني قينقاع ثلاث قسي، اسمها الرَّوْحاء، وقوس من شَوْحَط تُدعى البيضاء، وقوس من نبع تُدعى الصفراء (¬5)، وقوس يقال لها: الكتوم، رمى عنها يوم أحد فأخذها قتادة بن النعمان، وكانت من نبع (¬6). وكان له جعبة يقال لها: الكافور، وسهام يقال لها: المفضلة. وأصاب - صلى الله عليه وسلم - من سلاح بني قينقاع درعين يقال لأحدهما: السُّغدية، والأخرى فضة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات" 1/ 417 - 418. (¬2) "الأصنام" ص 15. (¬3) انظر "الطبقات" 1/ 418. (¬4) حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتُ في سيفي ذي الفقار فَلَّا" انظر مسند أحمد (2445) و"الطبقات"1/ 418. (¬5) "الطبقات" 1/ 421، و"تاريخ الطبري" 3/ 177. (¬6) "تاريخ دمشق" 4/ 218. (¬7) "الطبقات" 1/ 419.

وكان له درع يقال لها: ذات الفضول، وهي التي ظاهر بها يوم أحد (¬1). قال ابن الكلبي: وكانت له درع يقال لها: ذات الوشاح، والخريق، والبتراء، وأحد هذه الدروع الدرع التي لبسها داود - عليه السلام - لما قَتَل جالوت، وكانت عند بني قينقاع يتوارثونها لأنهم يدعون أنها من قبيل داود، وهي التي رهنها عند اليهودي على آصع من شعير، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - وهي مرهونة. وكان له تُرس يقال له: الزلوق، وفيه تمثال كبش، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانه، فأصبح يومًا وقد محي (¬2). وكان له - صلى الله عليه وسلم - مِغفَر يقال له: اليسوع (¬3)، وهو الذي دخل يوم فتح مكة وهو على رأسه. وكان له - صلى الله عليه وسلم - آخر هُشِم على رأسه يوم أحد مع البيضة، ودخلت حلقتاه في وجنتيه. وكان له - صلى الله عليه وسلم - مِحْجَن قدر الذراع يمشي وهو بيده ويعلقه بين يديه على راحلته، وهو الذي طاف بالبيت وهو بيده يستلم به الأركان (¬4). وكانت له - صلى الله عليه وسلم - مِخْصَرَة تسمى العرجون، وهي كالقضيب يستعملها الأشراف للتشاغل بها في أيديهم، ويحكون بها ما بعد من البدن (¬5) عن اليد. وأهدى له النجاشي عَنَزة - وهي حربة صغيرة - كانت تحمل بين يديه في الأعياد، وإذا صلى في الصحراء جعلها سترة (¬6)، وكانت تحمل بين يدي الخلفاءِ في الأعياد، وبقيت إلى زمن المتوكل جعفر (¬7)، وقيل: هي مدفونة بسُرَّ مَن رأى (¬8). ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 177 - 178. (¬2) "الطبقات" 1/ 420، و"تاريخ الطبري" 3/ 178، وانظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 38. (¬3) هكذا ورد في (أ) و (خ)، وفي "أنساب الأشراف" 1/ 614 كان له مغفر يقال له: ذو السيوب. (¬4) انظر "التراتيب الإدارية" 1/ 82، و"سمط النجوم العوالي" 2/ 24. (¬5) انظر "سمط النجوم العوالي" 2/ 24. (¬6) انظر "الطبقات" 3/ 217، و"أنساب الأشراف" 1/ 614 - 615. (¬7) انظر "المنتظم" 11/ 322، و"الكامل" 6/ 129. (¬8) "أنساب الأشراف" 1/ 615.

الباب السابع عشر: في عدد غزواته وسراياه - صلى الله عليه وسلم -

الباب السابع عشر: في عدد غزواته وسراياه - صلى الله عليه وسلم - غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعًا وعشرين غزاة، قاتل منها في تسع غزوات: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقُرَيظة، وخَيبر، والفتح، وحُنين، والطائف (¬1). وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قاتل في بني النضير ووادي القُرى مُنصرفه من خيبر، وفي الغابة (¬2). وقال الطبري: جميع غزواته ست وعشرون بنفسه، وبعضهم يقول: سبعٌ وعشرون، فمن قال: ست وعشرون، جعل غزاة خَيبر ووادي القُرى غزاةً واحدةً (¬3). وقال البراء بن عازب: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزاةً (¬4). وقال برَيدة: سَبع عشرة، قاتل في ثمانٍ (¬5). وقال زَيد بنُ أَرقم: تسعَ عشرة غزاةً (¬6). وقال جابر: إحدى وعشرين (¬7). وقال سعيد بن المسيِّب: ثماني عشرة، وقال أيضًا مرَّةً أخرى: أربعًا وعشرين غزاة (¬8). والأصح القول الأول، وما نقل عن بُرَيدة، والبراء، وجابر، وغيرهم فمحمول على أنهم لم يحضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا فيما ذكروا، ولم يبلغوا سوى ذلك. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 152. (¬2) "تاريخ الطبري" 3/ 154. (¬3) "تاريخ الطبري" 3/ 152. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (18559)، وأخرجه البخاري (4472) بلفظ: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة. (¬5) أخرجه مسلم (1814)، وعنده: تسع عشرة. (¬6) أخرجه البخاري (3949)، ومسلم (1812) (144). (¬7) أخرجه مسلم (1813). (¬8) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9659).

وقال الواقدي: كانت سراياه - صلى الله عليه وسلم - ستًا وخمسين سريةً فيما أجمع لنا عليه. وقال ابن إسحاق: إنها كانت خمسًا وثلاثين سريةً ما بين بعثٍ وسريةٍ (¬1). وقال بُريدة: أربعًا وعشرين سرية (¬2). والأصحُّ أنها كانت ستًا وخمسين. * * * ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 3/ 154، وفي "السيرة" 2/ 609: ثمانيًا وثلاثين. (¬2) "دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 459.

الباب الثامن عشر: في ذكر كتابه للوحي وغيره - صلى الله عليه وسلم -

الباب الثامن عشر: في ذكرِ كُتَّابه للوحي وغيره - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوَحيَ بمكةَ أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان رضوان الله عليهم، ثم لما هاجر إلى المدينة كتب له عثمان رضوان الله عليه (¬1). وقيل: أول من كتب للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الوحيَ بالمدينة عند الهجرة أُبي بن كعب، وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان (¬2)، ثم داوم زيد على الكتابة، ثم كتب له عامر ابن فُهيرة، وثابت بن قيس بن شَمَّاس، وشُرَحبيل بن حَسَنة، وخالد بن سعيد بن العاص، وأَبان بن سعيد، والعلاء بن الحَضْرمي، وحنظلة بن الربيع بن صَيفي أبو رِبعي من بني تميم، ويعرف بحنظلة الكاتب، له صحبة وروايةٌ، صحب خالد بن الوليد في حروب العراق كلها، وهو أخو (¬3) أكثم بن صَيفي، ولما وقعت الفتنة، اعتزلها، وخرجَ إلى قَرْقِيسياء هو وجريرٌ البَجَلي وعديُّ بن حاتم، وتوفي في أيام معاوية بن أبي سفيان. قال حنظلة: كنَّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا الجنة والنارَ حتى كأنَّا رأْيَ عينٍ، فأتيتُ أَهلي وولدي، فضَحكتُ، ولَعبتُ، وذكَرتُ الذي كنَّا فيه، فخرجتُ، فلقيتُ أبا بكر: فقلتُ له: نافقَ حنظلةُ، فقال: إنَّا لَنفعَلُهُ، ثم أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك، فقال: "يا حنْظَلَةُ، لو كُنتُم يكونُونَ كما تكونون عِندي لصافَحَتْكُم الملائِكةُ على فُرُشِكُم، أو في طُرُقكُم، يا حَنظلَةُ ساعةً وساعةً". انفرد بإخراجه مسلم (¬4). وذكر شيخُنا موفَّقُ الدين رحمةُ الله عليه في "الأنساب" (¬5): أنَّ الكاتب لعَهده إذا عاهدَ، ولصلحِهِ إذا صالح عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه. ¬

_ (¬1) انظر "البداية والنهاية" 5/ 346. (¬2) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 173، و"الوافي بالوفيات" 6/ 122، و"الإصابة" 1/ 19. (¬3) هكذا جاء في (أ) و (خ)، والصواب أنه ابن أخي أكثم. انظر "الإصابة" 1/ 359. (¬4) أخرجه مسلم (2750). (¬5) التبيين 94.

وكتب له محمد بن مَسْلَمة، وعبد الله بنُ عبدِ الله بن أبي ابن سَلول، والمغيرة بن شعبة، وجُهيم بن الصلت، ومُعَيقِيب بن أبي فاطمة، وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وارتَدَّ عن الإسلام، ولحق بمكَّة، فأباح - صلى الله عليه وسلم - دمه، ثم أسلم بعد ذلك، وكتب له معاوية بعد الفتحِ، وكان الزبير يكتب أموال الصدقة، وحذيفة بن اليمان يكتب خَرْصَ (¬1) النخل، والمغيرة بن شُعبة يكتب كُتبَ المعاملات والمداينات، وزيد بن أرقم يكتب جواب كتبِ الملوك، وكتب علي بن أبي طالب رضوان الله عليه كتاب الحديبية، وكتاب أهل نَجران، وكتب له - صلى الله عليه وسلم - خالد بن سعيد بن العاص كتابًا لأهل وج. وذكر ابن عباس: أنَّه كان له كاتب يقال له: سجل، وهو المراد بقولِهِ تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] (¬2)، وكتبَ له عبد الله بن الأرقم ابن عبد يغوث بن وَهب الزهري، وكان قد أسلم عام الفتح وكان يجيب عن كتب الملوك، وكان إذا كتب كتابًا إلى بعض الملوك لا يقرؤه بل يجبه حفظًا لأمانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له، وقال يومًا: "اللهمَّ وَفَّقه" (¬3) وكان عمر بن الخطاب حاضرًا، فبقي ذلك في قلب عُمر، فلما وليَ، ولَّاه بيت المال لأمانته، وكذا عثمانُ وفرض له ثلاثَ مئة درهم، فردها، وقال: كنت أعملُ لله فلا آخذ عليه أجرًا، وكان عمر يثني عليه، وقيل: إن الذي أعطاه ثلاث مئة درهم عمر، وكتب عبد الله هذا لأبي بكرٍ وعمر، واستعمله على بيت المال عثمان، ثم استعفاه، فأعفاه، وكتب له عبد الله ابن زيد صاحب الأذان، وجهيم بن الصلتِ، والعلاء بن عقبة وغيرهم. * * * ¬

_ (¬1) الخَرصُ: حَزْرُ ما على النخل من الرطب تمرًا. الصحاح: خرص. (¬2) أخرجه أبو داود (2935)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 4/ 332. (¬3) أخرجه الحاكم 3/ 378 ولفظه: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كتاب رجل فقال لعبد الله بن الأرقم: "أجب عني" فكتب جوابه، ثم قرأه عليه فقال: "أصبت وأحسنت، اللهمَّ وفقه". وانظر طبقات ابن سعد 6/ 73.

الباب التاسع عشر: في ذكر مؤذنيه - صلى الله عليه وسلم -

الباب التاسع عشر: في ذكر مؤذنيه - صلى الله عليه وسلم - كان عبد الله بن زيد الأنصاري سبَبُ الأذان، وكان المداومَ عليه سفرًا وحضرًا. وكان عبد الله بن أمَّ مكتوم أعمى لا يؤذن حتّى يقال له: أصبحتَ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ بلالًا يُؤَذِّنُ بِليلٍ، فكُلُوا واشربُوا حتى يُؤَذَّنَ ابنُ أُمِّ مكتوم" (¬1). وأذن له - صلى الله عليه وسلم - أبو محذورة بمكة. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (617)، ومسلم (1092) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو مروي عن عائشة - رضي الله عنها - في "الصحيحين" أيضًا: البخاري (1918)، ومسلم (1092) (38).

الباب العشرون: في ذكر عماله وحرسه ونحوه

الباب العشرون: في ذكر عماله وحرسه ونحوه توفي - صلى الله عليه وسلم - وعامله على مكة: عتاب بن أسيد، وعلى البحرين: العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان: جَيْفَر وعَبْد ابنا الجُلَنْدَى، وغلب على الطائف عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان على مخاليف الجند وصنعاء: عمرو بن أمية المخزومي، وعلى مخاليف زبيد وأعمالها: خالد بن سعيد بن العاص، وعلى حرسه: أبو سفيان بن حرب (¬1)، وكان معاذ وأبو موسى على قضاء اليمن. وحرَسَه جماعة، منهم: سعد بن معاذ يومَ بدرٍ لما قام في العريش، وحرسه سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة، وسعد بن معاذ، ليلة أحد، وحرسه علي، والزبير، وسعد ابن أبي وقاص - رضي الله عنهم - ليالي الخندق، وحرسه أبو أيوب الأنصاري بخيبر ليلة بنى بصفية، وحرسه بلال المؤذن بوادي القرى ليلة التعريس، في آخرين، وما زال يُحرسُ حتى نزل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فترك الحرس، وكان يضرب الأعناق بين يديه - صلى الله عليه وسلم - علي، والزبير، ومحمد بن مسلمة، والمقداد بن الأسود، وعاصم ابن أبي الأفلح، وكان قيس بن سعد بن عبادة بين يديه بمنزلة الشرط من الأمير. * * * ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 1/ 620 أن أبا سفيان كان عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نجران.

الباب الحادي والعشرون: فيمن كان يشبهه - صلى الله عليه وسلم -

الباب الحادي والعشرون: فيمن كان يشبهه - صلى الله عليه وسلم - وكان يشبهه - صلى الله عليه وسلم - جماعة، منهم: جعفرُ بن أبي طالب، والحسن بن علي، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، والصائب بن عبيد، ومسلم بن مُعتِّب، وكابس (¬1) بن ربيعة بن مالك البياضي البصري، من بني سامة بن لؤي، وكان أشبَه الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خَلقه وخُلقِه، فكان أنس بن مالك إذا رآه عانقه، وبكى، وقال: من أراد أن ينظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلينظر إلى هذا، وبلغ معاوية بن أبي سُفيان خَبَره، فاستقدمه، فلما دخل عليه قام واعتَنَقه، وقبَّل ما بين عينيه، وأقطعه مالًا وأرضًا، فرد المال وقبل الأرض (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): "أنس" والمثبت من "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 59 و"تاريخ دمشق" 50/ 3. (¬2) "تاريخ دمشق" 50/ 4.

الباب الثاني والعشرون: في ذكر حجه وعمرته - صلى الله عليه وسلم -

الباب الثاني والعشرون: في ذكر حَجِّه وعمرته - صلى الله عليه وسلم - لم يحج في الإسلام إلا مرّةً واحدةً، وهي حَجّةُ الوداعِ، وأما في الجاهلية فقد كان يقف مع المشركين على عادتهم، وكذا بعد النبوة حتى هاجر، واعتمر أربع عمر. قال قتادة: سألتُ أنس بن مالك، قلتُ: كَم حجَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: حجَّةً واحدةً، واعتمر أربع عمر: عمرته زمنَ الحديبيةِ، وعمرته في ذي القَعدة قضاء عن الحديبية، وعمرته عن الجِعْرَانة في ذي القَعدة حيث قسم غنائم حُنين، وعمرته مع حجته. أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). قال المصنف رحمه الله: عمرة الحديبية لا تحسب لأنه ما دخلَ مكَّة، فكان حكمه حكم المحصَرِ. والأصحُّ أنه اعتمر ثلاث عمرٍ. وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع عمر: عُمرة في رجب، وقد أنكَرت عليه عائشة - رضي الله عنها - وقالت: ما اعتمر إلا ثلاث عمر (¬2). قال عروة بن الزبير: كنت أنا وابن عمر مستنديْن إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمعها تستنُّ بالسواك، قلت: أبا عبد الرحمن، اعتمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في رجب؟ قال: نعم، قلت: يا أمَّتاه، ما تسمعِين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقولُ؟ قلتُ: يقول: إِنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اعتمر في رجب، فقالت: يغفر الله له، ما اعتمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في رجَب، قال: وابن عمر يسمع، فما قال: لا، ولا نعم، سكت. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). وفي روايةٍ: أنَّها قالت: ولَعَمري، ما اعتمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو معه، وشاهده. ¬

_ (¬1) البخاري (1778)، ومسلم (1253). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (25910). (¬3) أخرجه البخاري (1775 - 1776)، ومسلم (1255).

وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه عن مُحرَّش بن عبد الله الكعبي الخزاعي، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلًا من الجعرانة معتمرًا، فدخل مكة، فقضى عمرته، ثم عاد إلى الجعرانة ليلًا، أو من ليلته، حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سَرفٍ، حتى جاء مع طريق المدينة، قال: فلذلك خفيت عمرته على الناس (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (15513).

الباب الثالث والعشرون: في ذكر صفته - صلى الله عليه وسلم -

الباب الثالث والعشرون: في ذكر صفته - صلى الله عليه وسلم - قال أنس بن مالكٍ ينعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان رَبْعَة من الرجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، رَجِلَ الشعر، ليس بالسَّبِطِ، ولا بالجَعْد القَطَطِ، بُعث على رأسِ أربعين، أقام بمكة عشرًا، وبالمدينة عشرًا، وتوفي على رأس سِتين، ليس في رأسه ولحيته عشرونَ شعرة بيضاء. متفق عليه (¬1). وقال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضَخْمَ القدمينِ، حَسَن الوجه [لم أر بعده مثله (¬2). وفي رواية عن أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شَثِنَ القَدَمين والكَفَّين (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ] ما مسِستُ حَريرًا ولا دِيباجًا ألينَ من كفَّه، ولا شَمِمت مِسكًا ولا عَنبرًا ولا عَرْفًا أطيب من ريحه - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وعن أُم سليم أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيها، فيقيل في بيتها، فتبسط له نطعًا، وكان كثير العرق، فتجمع عرقه، فتجعله في الطيب والقوارير، قالت: وكان يصلي على [الخمرة (¬5)، وهي] سجادة صغيرة تُنسج من الخُوصِ. وقيل للبراءِ: أكان وجهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلَ السيف؟ فقال: لا، بل مثلَ القمرِ (¬6). وقال أبو سعيد الخدري: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العَذراء في خِدْرِها، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3547)، ومسلم (2347). (¬2) أخرجه البخاري (5908) وفيه: عن أنس أو عن رجل عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (5910). (¬4) أخرجه البخاري (3561)، ومسلم (2330) (82)، ولم نقف على السياق الذي ذكره المصنف ولعله من تصرف النساخ، وما بين معقوفين زيادة من مصادر التخريج. (¬5) أخرجه البخاري (6281)، ومسلم (2332)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (27117)، وما بين معقوفين زيادة ضرورية لتوضيح السياق. (¬6) أخرجه البخاري (3552).

ذكر صفته - صلى الله عليه وسلم - في التوراة

كان إذا كَره شيئًا، عرَفناهُ في وجههِ (¬1). قال الزهري: معناه إذا كره شيئًا لم يواجه به صاحبه، بل يكتمه فيؤثَّر في وجهه. ذكر صفته - صلى الله عليه وسلم - في التَّوراة: قال [بن سعد باسناده عن] سهل مولى عثيمة، وكان رجلًا يهوديًّا قد قرأ التوراة قال: أخَذْت يومًا توراةَ عمِّي، فإذا ورقة ملصقة، ففتقتها، وإذا فيها سطورٌ: محمد رسول الله، لا طويل، ولا قصير، أبيض بض، بين كتفيه خاتم النبوة، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحلب الشاة، ويلبس القميص المرقوع، وهو من ضئضئ إسماعيل، واسمه أحمد، فقالَ لي عمِّي: ما تقرأ؟ قال: قلت: صفة محمد، قال: إنه لم يجئ بعد، ونهاني عن القراءة (¬2). وقال وهب بن منبه: في التوراة: يا ابن عمران، إني باعث في آخر الزمان نبيًا أميًّا، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وملكه بالشام والعراق، حبيب، محبّب، ليس بغليظ، ولا قوال بالفحش والخنا [أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم] (¬3). وقال كعب الأحبار: وفي التوراة: يا ابن عمران، إنَّي قد اخترت من عبادي نبيًا كريمًا اسمه أحمد، منحته الأخلاق الكريمة، وجعلت عليه الوقار والسكينة، التقوى لباسه، والبِرُّ شعارُه، والحلمُ دِثاره، والحكمةُ منطقه، والصدق سجيَّته، والعدلُ شِيمته، والحقُّ شريعته، والوفاء طريقَتُه، والعفو مِلَّته، والقرآن خُلُقه، والهدى دَلِيلُه، والجودُ والرحمةُ والبِرُّ طبيعتُه، أهدي به من الضلالة، وأجمع به من الفرقة، وأعلم به من الجهالة، وأؤلف به بعدَ الشتاتِ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمُرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فطوبى لهم، ثم طوبى لهم، فعند ذلك قال موسى - عليه السلام -: يا رب اجعلني من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3562)، ومسلم (2320). (¬2) "الطبقات" 1/ 312، وفيه: أنه كان نصرانيًا، وأنه كان يقرأ الإنجيل. (¬3) انظر "المنتظم" 2/ 258، و"البداية والنهاية" 2/ 81.

فصل في شيبه - صلى الله عليه وسلم -

فصل في شَيْبه - صلى الله عليه وسلم -: قال ثابت البُنَاني: سألت أنسًا: هل شمط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لقد قبض الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما فضحه بالشيب، ما كان في رأسه ولحيته يوم مات ثلاثون شعرة بيضاء، فقيل: أفضيحة هو؟ قال: أما أنتم فتعدونه فضيحة، وأما نحن فكنا نعده زينًا (¬1). وقال جابر بن سمرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شَمِطَ مقدَّمُ رأسه ولحيتهِ، فإذا ادَّهن ومشطه لم يتبيَّن، وإذا شَعِثَ رأسُه تبيَّن، وكان كثير شعرِ اللِّحيةِ، فقال له رجل: كان وجهه مثلُ السيفِ؟ فقال: لا، بل مثل الشمسِ والقمرِ، وكان مُستديرًا، قال: ورأيتُ الخاتَم عند كتفيهِ مثلَ بيضةِ الحمامةِ، يُشبه جسَدَه (¬2). وقال عثمان بن عبد الله بن مَوهَب: دخلنا على أم سلمة، فأخرجت إلينا شعرًا من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخضوبًا بالحناءِ والكَتَمِ (¬3). وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: ما روي عن أنس أنه قال: لم يخضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد شهد غير واحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه خضب، وليس من شهد بمنزلة من لم يشهد. وقال سفيان والزهري: ما خضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما احمرَّ شعره من كثرة الطيبِ، وإنما خضب أصحابه بالحناءِ والكَتمِ. وأما الخضاب بالسواد فحرام، ولو كان مباحًا لخضب به الصحابة. وقال أبو جُحيفة: قيل: يا رسول الله، أسرع إليك الشيبُ، فقال. "شَيَّبتني هودٌ وأَخَواتُها" (¬4). وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، أي: على أمر ربك والدعاء إليه، فما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية كانت أشد ولا أشق عليه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12474). (¬2) أخرجه مسلم (2344) (109). (¬3) أخرجه البخاري (5897)، وأحمد في "مسنده" (26539). (¬4) أخرجه الترمذي في "الشمائل" (42)، وأبو يعلى في "مسنده" (880)، والطبراني في "الكبير" 22/ (318).

منها، ولذلك قال له أصحابه: لقد أسرع إليك الشيب، فقال: "شَيَّبتني هودٌ" وأشار إلى هذه الآية (¬1). وقال ابن عباس: كان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يُسدِلون، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، فسَدَل ناصيتَه، ثم فرق بعد. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وقالت أم هانئ: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة مرة، وله أربع غدائر (¬3). وقال أنس: كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أذنيه وعاتقه (¬4). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحفي شاربه، وكان ابن عمر يفعل ذلك (¬5). وقال السَّائِبُ بن يزيد: ذهبت بي خالتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ الله، إن ابن أختي وَجِعٌ، فمسَحَ رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ، فشربت من وَضوئهِ، ثم قمتُ خلفَ ظهرهِ، فنظرتُ إلى خاتَمِ النبوة بين كتفَيْه مثل زِرِّ الحَجَلَة (¬6). * * * ¬

_ (¬1) تفسير الثعلبي 5/ 150. (¬2) البخاري (3944)، ومسلم (2136). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (26890)، وأبو داود (4191)، والترمذي (1781)، وابن ماجه (3631). (¬4) أخرجه البخاري (5905)، ومسلم (2338). (¬5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 386. (¬6) أخرجه البخاري (190)، ومسلم (2345).

الباب الرابع والعشرون: في ذكر محبته للطيب وحجامته - صلى الله عليه وسلم -

الباب الرابع والعشرون: في ذكر محبَّته للطيب وحجامته - صلى الله عليه وسلم - قال ثمامة بن عبد الله: إنّ أنسًا كان يردُّ الطيبَ، وزعم أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يردُّ الطيبَ (¬1). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعرف بريح الطيبِ إذا أقبلَ (¬2). وكان طيبه المسك والعنبر. وقالت عائشة رضوان الله عليها: طيَّبتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامِه حينَ أحرَمَ، ولإحلالهِ حينَ أحلَّ (¬3). وكان وَبيصُ الطيبِ يَبدو في مفارقهِ (¬4). وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يجعل الكافور على العود، ثم يستجمر به، ويقول: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع (¬5). وعن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حُبِّبَ إليَّ النساءُ والطيبُ، وجُعلَت قُرَّة عيني في الصلاةِ" (¬6). وقال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحتجمُ ثلاثًا، واحدة على كاهِلِه، وثنتين على الأخدعين (¬7). وقال مَعقِلُ بن يسار: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحِجامةُ يومَ الثلاثاءِ لسبعَ عشرة من الشهرِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12356)، والترمذي (2789). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (26858)، وابن سعد 1/ 343. (¬3) أخرجه البخاري (1754)، ومسلم (1189). (¬4) أخرجه البخاري (271)، ومسلم (1190) من حديث عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم. (¬5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 344. (¬6) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 342، والنسائي في "الكبرى" (8887). (¬7) أخرجه أحمد في "مسنده" (13001)، وأبو داود (3860)، وابن ماجه (3483).

فصل في اطلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنورة

دواءُ السَّنَةِ" (¬1). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - احتَجَم، وأَعطى الحجَّامَ أَجره. متفق عليه (¬2). وأخرج الإمام رحمة الله عليه، عن رافع بن خَدِيج، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَفطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُومُ" (¬3). فصل في اطلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنورة: حدّثنا جدي رحمه الله بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: اطَّلَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالنُّورَةِ، فلما فَرَغ منها قال: "يا مَعاشِرَ المُسلِمين، عليكم بالنُّورَةِ، فإنَها طَيَّبةٌ وطَهورٌ، وإنَّ اللهَ يُذهِبُ بها عنكم أَوساخَكُم وأَشْعارَكُم" (¬4). وقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اطلى وَلي عانَتَه بيدهِ (¬5). [وقد روى أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أولُ مَن دخلَ الحمامَ وصُنعت له النُّورةُ سليمانُ - عليه السلام -" وقد ذكرناه]. وقد كان جماعة من الصحابة يتنورون: الحسن بن علي، وأنس، وأبو الدرداء - رضي الله عنهم -، وكان جماعة منهم يحلقون الشعر، ولا يتنورون، منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -. وروى [أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَتَنوَّر، فإذا كَثُر شعرُه حَلَقه (¬6). وقال الأطباء: منفعة النورة أن تبرز ما تحت الجلد من الأوساخ وخصوصًا في ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" 20/ 499، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 93 وقال: وفيه زيد بن أبي الحواري العمي، وهو ضعيف. (¬2) أخرجه البخاري (2103)، ومسلم (1202). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15828). (¬4) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 2/ 360. (¬5) أخرجه ابن ماجه (3752). (¬6) أخرجه البيهقي 1/ 152.

زمان الربيع، فإن قيل: فقد قال] ابن سعد، عن قتادة أنه قال: ما تنوَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء بعده (¬1) [فالجواب: أن] عائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهما - أعرف بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتادة، وقد روتا قولًا، وفعلًا، وإثباتًا، وقتادة نفى، والعمل على الإثبات. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَكتحلُ بالإثمدِ كلَّ ليلةٍ قبل أن ينامَ، وكان يكتحلُ في كلِّ عينٍ ثلاثة أَميالٍ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 380 - 381. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (3320).

الباب الخامس والعشرون: في هبته وصدقته - صلى الله عليه وسلم -

الباب الخامس والعشرون: في هبته وصدقته - صلى الله عليه وسلم - أول وَقفٍ كان في الإسلام مال مُخَيريق اليهودي الذي قُتل بأحدٍ، وكان من أَحبار اليهود، خرج فقاتل وهو على دينهِ، وقال قبل أن يُقتَل لمحمد بن مَسلمة، وسلامةَ بن وقشٍ: إن أُصبت فأَموالي لمحمدٍ يَضعها حيثُ يشاءُ، وكان أَيسرَ بني قينقاع، وتصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ماله، وكان سبع حوائط: الأعراف، والصافية، والدلال، والميثب، وبُرقة، وحسنى، ومشربة أم إبراهيم، ولما حبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأماكن، حبس المسلمون بعد على أولادهم (¬1). وفي كل حائط من هذه الحوائط بئر ماء. وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشرب منها، بل من آبار أخر من آبار المدينة، منها بئر بضاعة، وبئر أريس، وبئر رُومة، وبئر غَرْس، وبئر جاسم، وبئر حساء واليسيرة، وبئر ذَرْوان، وهي التي وجد فيها السحر (¬2)، وبئر مالك ابن النضر والد أنس بن مالك، وكل هذه الآبار شرب منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واغتسل وتفل فيها (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات" 1/ 431 - 432. (¬2) صحيح البخاري (3268). (¬3) انظر "الطبقات" 1/ 433.

الباب السادس والعشرون: فيما كان يعجبه من الطعام، وما كان يكرهه منه - صلى الله عليه وسلم -

الباب السادس والعشرون: فيما كان يعجبه من الطعام، وما كان يكرهه منه - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الحلوى، والعسل، وقال عبد الله بن جعفر: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل القثاءَ بالرطبِ (¬1). متفق عليه. وقال محمد الفَهْمي، أنه سمع عبدَ الله بنَ جعفر يحدث عبد الله بن الزُّبير أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَطيَبُ اللَّحمِ لَحمُ الظَّهرِ" (¬2). وقال أنس: إن خياطًا دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طعامٍ صنَعَه، فذهبت معه، فقرَّب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبزًا من شعير، ومَرَقًا فيه دُبَّاء وقَديد، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَتبَعُ الدبَّاء من حولِ الصَّحْفةِ، فلم أَزل أُحب الدبَّاء من يومئذٍ (¬3). وقالت عائشة رضوان الله عليها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الثَّريد (¬4). وأما ما كان يكره فالثوم والبصل والكراث والضب. عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَكَل من هذهِ البَقلةِ، فلا يَقرَبَنَّ مَسجِدَنا، حتى يَذهَبَ رِيحُها" يعني الثومَ (¬5). وعن جابر، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى زمَنَ خيبرَ عن البصلِ والكُرَّاثِ، فَأكَلَهما قومٌ، وجَاؤوا إلى المسجدِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَم أَنْهَ عن هاتَيْنِ الشَّجرَتَينِ المنْتِنَتَينِ؟ " قالوا: بلى يا رسولَ الله، ولكن أَجْهَدَنا الجوعُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَكَلَهما فلا يَحضر مَسجِدَنا، فإنَّ الملائكةَ تتَأذَّى مما يَتأذَّى منه بنو آدَمَ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5440)، ومسلم (2043). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (1744). (¬3) أخرجه البخاري (2092)، ومسلم (2041). (¬4) أخرجه ابن سعد 1/ 338 من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬5) أخرجه البخاري (853)، ومسلم (561). (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (15159).

وأُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقِدْرٍ فيه خضراوات من بقولٍ، فوجَدَ ريحًا، فقال لبعضِ أصحابهِ: "كُل فإنَّي أُناجِي مَن لا تُناجي" (¬1). وقال ابنُ عباس - رضي الله عنهما -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عندَ ميمونةَ، وعندَه الفضلُ بنُ عباسٍ، وخالدُ بن الوليد، وامرأةٌ، فأُتي بِخوانٍ عليه خُبز، ولحمُ ضبًّ، فلما ذهبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليأكُلَ، قالت له ميمونةُ: يا رسولَ الله، إنه لحمُ ضبًّ، فكفَّ يَده، وقال: "إنَّه لحمٌ لم آكُلْه، ولكن كُلُوا"، فأكَلَ الفضلُ، وخالدٌ، والمرأةُ، وقالت ميمونةُ: لا آكلُ من طعامٍ لم يَأكُل منه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأكلُ بثلاثِ أصابعَ: الإبهامِ، والسبابةِ، والوسطى، ولا يمسحُ يَدَه حتى يَلْعَقَها، يَبدأ بالوسطى فيلعَقها، ثم بالتي تَلي الإبهامَ، ثم بالإبهامِ (¬3). وقال جابر: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَكَلَ أَحدُكُم طَعامًا، فلا يَمسحْ يَدَه في المنديلِ حتى يَلْعَقَها أو يُلْعِقَها، فإنّه لا يدري في أيّ طعامٍ البركةُ" انفرد بإخراجه مسلم (¬4). وقال أنس: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتنفَّسُ في الإناءِ ثلاثًا، ويقول: "هذا أهْنَأُ، وأَمرَأُ، وأَبرَأُ" أخرجاه في "الصحيحين" (¬5). ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشربَ الرجلُ قائمًا (¬6)، وفي رواية: ثم شرِبَ قائمًا (¬7). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (855)، ومسلم (564). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2684). (¬3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 328 من حديث كعب بن عجرة، وأخرجه مسلم (2032) مختصرًا. (¬4) مسلم (2031) (134)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (14221). (¬5) البخاري (5631)، ومسلم (2028)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (12186). (¬6) أخرجه مسلم (2024) من حديث أنس. (¬7) أخرجه الضياء في "المختارة" (2635) من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب قائمًا، وأخرجه البخاري (5617)، ومسلم (2027) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: شرب النبي -صلى الله عليه وسلم - قائمًا من زمزم.

الباب السابع والعشرون: في ذكر أخلاقه وتواضعه - صلى الله عليه وسلم -

الباب السابع والعشرون: في ذكر أخلاقه وتواضعه - صلى الله عليه وسلم - قال أنس: خدمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ قطُّ، ولا لمَ صنعتَ، ولا أَلَا صنعتَ، ولا عابَ عليَّ شيئًا قطُّ (¬1). وما صافحَه أحدٌ فنزعَ يدَه حتى يكونَ الرجلُ هو الذي يَنزِعُها من يدهِ، ولا صَرَفَ وجهَه عنه حتى يكونَ الرجلُ هو الذي يَصرِفُ وجهَه عنه (¬2). وقال أنس: كنتُ أَمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُردٌ نَجرانيٌّ غليظُ الحاشيةِ، فأَدركَه أعرابيٌّ، فجَبَذَه جَبْذَةً شديدةً، حتى رأيتُ صفحةَ عنقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أَثَّرت فيها حاشيةُ البردِ من شدَّةِ جَذْبتِهِ، وقال: يا محمدُ، أَعطني من مالىِ اللهِ الذي عِندَك، فالتَفَت إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وضَحكَ، ثم أَمرَ له بعَطاءٍ. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). وقال أنس: إن يهوديةً جعلت سمًّا في لحمٍ أَتت به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأكَلَ منه، وقال: "إنَّها جَعلَت فيه سُمًّا"، قالوا: يا رسولَ الله، ألا تقتُلُها؟ قال: "لا"، قال فجعلتُ أعرِفُ ذلك في لَهوات رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقال أنس: لم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَبَّابًا، ولا لَعَّانًا، ولا فحَّاشًا، كان يقولُ لأحدِنا عند المعيبةِ: "ما لَه، تَرِبَتْ جَبينُه؟ " (¬5). وللبخاري، عنه قال: إنْ كانَتِ الأمةُ من إماءِ المدينةِ لتأخذُ بيدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فتَنطَلِقُ به حيثُ شاءت (¬6). ¬

_ (¬1) مسلم (2309)، وأحمد في "مسنده" (11974). (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 325، والبيهقي 10/ 192. (¬3) البخاري (3149)، ومسلم (1057). (¬4) أخرجه مسلم (2190)، وأحمد في "مسنده" (13285). (¬5) أخرجه البخاري (6031). (¬6) أخرجه البخاري (6072).

وللبخاري، عنه أيضًا، قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عندَ بعضِ نسائهِ، فأرسَلَت إليه إحدى أُمَّهاتِ المؤمنينَ بصَحْفَةٍ فيها طعامٌ، فضَرَبت التي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَيتها يدَ الخادِمِ، فوقَعتِ الصَّحفَةُ، فانكَسَرت، فجمعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثم جعَلَ يجمعُ الطعامَ الذي كانَ فيها، ويقول: "غارَت أُمُّكُم، غَارَت أُمُّكُم"، ثم حبسَ الخادِمَ حتى أتي بصَحفَةٍ من عندِ الذي هو في بَيتِها، فدفعَ الصَّحْفَةَ الصَّحيحةَ إلى التي كُسرت صَحْفَتُها، وأمسكَ المكسورةَ في بَيتِ التي كُسرَت عندها (¬1). وذكر الإمامُ أحمد رحمة الله عليه في "المسند" أنَّ التي صنَعتِ الطعامَ صفيةُ، والتي كَسرت القصعةَ عائشةُ، وأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غضِبَ عليها (¬2). وقال أنس: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أينَ أبي؟ فقال: "في النَّار"، فلما قفَّى الرجلُ - أي ولَّى - ورأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما في وَجههِ، دَعاه، وقال: "إنَ أبي وأَبَاكَ في النَّارِ" (¬3). ولمسلم، عنه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى الغَدَاةَ، جاءَ خَدَمُ أهلِ المدينةِ [بآنِيَتِهم فيها الماءُ، فما يُؤتى بإناءٍ إلَّا غَمَس يدَه فيها، فربَّما جاؤوه في الغَدَاةِ البارِدَةِ فيغمسُ يدَه فيها] (¬4). وقال جابر بن عبد الله: مرضتُ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُني، وليسَ براكبٍ بَغلًا، ولا بِرْذَونًا (¬5). يعني: ماشيًا. قال الأسودُ: قلتُ لعائشةَ: ما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصنعُ في أهلهِ؟ فقالت: كان - صلى الله عليه وسلم - في مِهنَةِ أهلِه، فإذا حضَرتِ الصلاةُ خرجَ إلى الصلاةِ. انفرد بإخراجه البخاري (¬6)، والمهنة: الخدمة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5225). (¬2) أحمد في "مسنده" (26366). (¬3) أخرجه مسلم (203). (¬4) مسلم (2324) وما بين معقوفين زيادة منه. (¬5) أخرجه البخاري (5664)، وأحمد في "مسنده" (15011). (¬6) أخرجه البخاري (676).

وقال أبو عبد الله الجَدَلي: قلتُ لعائشة: كيف كان خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهلِه؟ قالت: كانَ أَحسنَ الناسِ خُلُقًا، لم يكن فاحشًا، ولا مُتَفحِّشًا، ولا صخّابًا بالأسواقِ، ولا يَجزِي بالسيئةِ مثلَها، ولكن يعفو ويَصفحُ (¬1). وقالت الرُّبَيِّع بنتُ مُعوِّذ: دخلَ عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداةَ بُنِيَ عليَّ، فجلسَ على فِراشي، وعندِي جُوَيْرِياتٌ يَضْربنَ بالدُّفِّ، ويَندبنَ من قُتل من آبائِهنَّ يومَ بدرٍ، فقالت إحداهنَّ: وفينا نبيٌّ يعلمُ الغيب في غدٍ فقال لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقولي كَذا، وقُولي ما كنتِ تَقولينَ" (¬2). وذَكرَ الحسن البصري النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا والله ما كان يغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يُغدَى عليه بالجفانِ ولا يراح عليه بها، ولكنه كان بارزًا، من أراد أن يلقى نبي الله لقيه، وكان يجلس على الأرض، ويوضعُ طعامُه على الأرضِ، ويلبسُ الغليظَ، ويردِفُ على الحمارِ، ويعودُ المرضى، ويشهدُ الجنائز، ويجيبُ دعوى المملوكِ، ويلعقُ أصابعَه (¬3). وقال أنس: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسلِّم على الصبيانِ، ولا يدعوه أحدٌ من الناسِ إلَّا أَجابَه ويقول: "لو دُعيتُ إلى كُراعٍ لأَجَبتُ" (¬4). وقال بُريدة بن الحُصَيبِ: بَينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمِنًى إذ جاءه رجلٌ معه حمارٌ، فقال: يا رسولَ الله، ارْكَب، وتأخَّر الرجلُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أنتَ أَحقُّ بصدرِ دَابَّتك منِّي، إلَّا أن تَجعَلَه لي" قال: قد جعلتُه لك، فركِبَ (¬5). وقال جابر بن عبد الله: ما سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قطَّ فقال: لا (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25417). (¬2) أخرجه البخاري (4001). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (19555)، والبيهقي 10/ 101. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13177). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (22992). (¬6) أخرجه البخاري (6034)، ومسلم (2311)، وأحمد في "مسنده" (14294).

وقال أنس: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا في المسجدِ، ومعه أصحابُه، إذ دخل أعرابيٌّ، فبالَ في المسجدِ، فقالَ أصحابُه: مَهْ، مَهْ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُزرموه، ودَعُوه" ثم دَعاه، فقال: "إنَّ هذِه المساجدَ لا تصلُحُ لشيءٍ من البولِ والقَذَرِ والخَلاءِ، إنَّما هي للصلاةِ والذكرِ وقِراءَةِ القرآنِ" ثم دَعا بدلوٍ من ماءٍ، فشَنَّه عليه (¬1). وقال أنس: ما أكَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئًا، ولا شَرِبَ قائمًا. وروي: أنه أكل مُومِيًا متَّكئًا، فجاءه جبريلُ، فقال له: أتأكُل أكلَ الجَبابِرَة؟ فما أكَلَ بعدَها متَّكئًا (¬2). وقال الزهري: بلَغَنا أنَّه أَتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ملَكٌ، لم يَأتِه قطُّ، ومعه جبريلُ، فقال له الملَكُ وجبريلُ: سألتَ الله يخيرُك بينَ أن تكونَ نبيًّا مَلِكًا، أو تكونَ نبيًّا عبدًا، فنظَر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريلَ [كالمسْتَأمِرِ له، فأشار] إليه أن تواضَع، فقال: "بَل عَبدًا نبيًّا" (¬3). وقال الزهري: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "آكُلُ كما يأكُلُ العبدُ، وأَجلِسُ كما يجلسُ العبدُ" (¬4). وعن أنس: أن يهوديًا دَعَا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى خبزِ شعيرٍ، وإهَالَةٍ سَنِخَةٍ، فأجابَه (¬5). وعن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بَعثَ اللهُ نبيًّا إلَّا رعى الغنَمَ" فقال له أصحابُه: وأنتَ؟ قال: "نَعَم، كنتُ أَرعاها على قَرارِيطَ لأَهلِ مكَّةَ" (¬6). وقال أبو سعيد الخدري: افْتَخَر أهلُ الإبلِ والغنَمِ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الفَخْرُ والخُيَلاءُ في أهلِ الإبِلِ، والسَّكينةُ والوَقارُ في أهلِ الغَنَمِ"، ثم قال: "بَعَثَ اللهُ مُوسى وهو يَرعى الغنَمَ على أَهلهِ، وبُعثتُ أنا وأَنا رَاعي غنمٍ لأَهلي بجياد" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (285). (¬2) انظر "الطبقات" 1/ 327. (¬3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 327 - 328 وما بين معكوفين منه. (¬4) انظر "الطبقات" 1/ 328. (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (13201). (¬6) أخرجه البخاري (2262). (¬7) أخرجه أحمد في "مسنده" (11918).

الباب الثامن والعشرون: في حيائه، ومداراته، وشفقته، وحلمه، وصفحه، ونحوه - صلى الله عليه وسلم -

الباب الثامن والعشرون: في حيائه، ومُداراته، وشَفقته، وحِلمه، وصَفحهِ، ونحوه - صلى الله عليه وسلم - وعن أنس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى على رجلٍ صُفرةً، فكرِهَها، وقال: "لو أَمرتُم هذا أن يَغسِل هذهِ الصُّفرةَ"، فكان لا يكادُ يواجهُ أحدًا، إنَّما يكره في وَجهه (¬1). وأخرج مسلم، عن جابرِ بن سَمُرة، وقد سأله [سماك بن حرب]: كنتَ تُجالس رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، كانَ طويلَ الصمتِ، قليلَ الضحِكِ، فكان أصحابُه يَذكرون عنده الشعرَ، وأَشياءَ من أُمورهم، فيضحكونَ، وربما تَبسَّمَ (¬2). وأما مُداراته، فقالت عائشة رضوان الله عليها: إن رجلًا استَأذَن على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ائْذَنُوا له، فبِئْسَ ابنُ العشِيرة"، أو "فَبِئْسَ أَخو العشِيرةِ"، فلما دخَلَ عليه، أَلَانَ له القَولَ، فلما خرَجَ، قالت له عائشةُ: قلتَ له الذي قلتَ، ثم أَلَنتَ له القولَ، فقال: "يا عائشةُ، شرُّ الناسِ منزلةً عندَ الله يومَ القيامةِ مَن ودَعَه الناسُ - أو تَركَه الناسُ - اتِّقاءَ فُحشِه" متفق عليه (¬3). وأما شفقته - صلى الله عليه وسلم - فقال أنس: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّي لأدخُلُ في الصلاة وأنا أُريدُ أن أُطِيلَها، فأَسمعُ بكاءَ الصبيِّ فأَتَجاوزُ في صَلاتي، مما أَعلمُ من وَجْدِ أمَّه به". متفق عليه (¬4). وأما حِلمه وصَفحه فقالت عائشةُ رضوان الله عليها: ما ضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَادِمًا له قطُّ، ولا امرأةً قطُّ، ولا ضربَ بيدهِ إلَّا أن يُجاهِدَ في سبيلِ اللهِ، وما نيلَ منه شيءٌ فانْتَقَم من صاحِبه إلاَّ أن تُنتَهكَ مَحارِمُ اللهِ، فيَنْتَقِم للهِ عزَّ وجلَّ، وما عُرضَ عليه أَمران أَحدُهما أيسرُ من الآخرِ إلَّا أخذَ بأَيسَرِهما، إلَّا أن يكونَ مأْثَمًا، فإن كانَ مأْثَمًا كانَ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12367). (¬2) صحيح مسلم (670) وما بين معكوفين منه، وأخرجه أحمد في "مسنده" (20810) واللفظ له. (¬3) أخرجه البخاري (6054)، ومسلم (2591). (¬4) أخرجه البخاري (710)، ومسلم (470).

أبعدَ الناسِ منه، أخرجاه (¬1). وقال الزهري: إن يهوديًا كان يجدُ صفةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التوراةِ، فأسلَفَه ثلاثين دينارًا إلى أَجَلٍ معلوم، فلمَّا بقي من الأجلِ يومٌ جاءَه، فقال: يا محمدُ، أَعطني حقِّي فإنَّكم يا بني عبدِ المطلبِ قومٌ مُطُلٌ، فقال له عمرُ: يا خبيثُ، واللهِ لولا مَكانُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لضربتُ عُنقك، فنهاهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "نحنُ إلى غيرِ هذا أَحوجُ، هلَّا أَمرتني بقضاءِ دينهِ أو أعَنْتَه على قضاءِ حقِّه" ثم قال له: "اذهَب به إلى حديقةِ كَذا وكَذا فأعطِه حقَّه وزِدْه" قال اليهودي: فمضَى بي عمرُ إلى الحديقةِ فأَعطاني حقِّي، وزادَني، ثم رجعَ اليهوديُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: واللهِ ما حَمَلني على ما قلتُ إلاَّ أنِّي وجَدتُ صفتَكَ في التوراةِ، فاخْتَبرتُ الجميعَ إلَّا الحلمَ، وقد رأيتُ من حلمكَ ما سَرَّني، وأشهدُ أنَّك رسولُ الله، ونصفُ مالي في فقراءِ المسلمين، وأسلمَ أهلُ بيت ذلكَ اليهوديِّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "إنَّ لصاحِبِ الحقِّ مقالًا" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2327) مختصرًا، وهذا لفظ أحمد في "مسنده" (24034). (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 310 - 311 دون قوله: "إن لصاحب الحق مقالًا"، وهو قطعة من حديث آخر أخرجه البخاري (2306)، ومسلم (1601) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه فأغلظ، فهَمَّ به أصحابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه، فإن لصاحب الحق مقالًا" ثم قال: "أعطوه سنًّا مثل سنه" قالوا: يا رسول الله، إلا أمثل من سنه، فقال: أعطوه، فإن من خيركم أحسنكم قضاء".

الباب التاسع والعشرون: في مزاحه ومداعبته - صلى الله عليه وسلم -

الباب التاسع والعشرون: في مزاحه ومداعبته - صلى الله عليه وسلم - عن أنس أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يدخلُ على أم سُليم، ولها ابن من أبي طَلحةَ يكنى أبا عُمير، فكان يُمازحه، فدخل عليه يومًا فرآه حزينًا، فقال: "مَالي أَرَى أَبا عُميرٍ حَزينًا؟ " قالوا: مات نُغَيرُه الذي كان يلعبُ به، قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أبا عُميرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيرُ؟ " (¬1). وعن أنس أنَّ رجلًا اسمه زاهِر، كان يُهدي لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الهديةَ من الباديةِ، فيجهزُه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ الخروجَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ زاهرًا بادِيتُنا، ونحنُ حاضِرُوه". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّه، وكان رجلًا دميمًا، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا وهو يَبيعُ مَتاعَه، فاحتضَنَه من خلفِه، ولم يُبصره الرجلُ، فقال: مَن هذا؟ أَرسلني، فالتَفَتَ، فعرفَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يألو أن أَلصَق ظهرَه بصدرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن يَشتري هذا العبدَ؟ " فقال: يا رسول الله، إذَنْ والله تجدُني كاسدًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَكِن عندَ اللهِ لستَ كاسِدًا" أو قال: "ولكن أنتَ عندَ الله غالٍ" (¬2). [وقال أحمد بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن] عائشة رضوان الله عليها قالت: خرجتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أَسفارِه، وأنا جاريةٌ لم أَحمِلِ اللَّحم، ولم أَبدُن، فقال للناس: "تقدَّموا" فتقدَّموا، ثم قال لي: "تَعالي حتى أُسابِقَكِ" فسابقتُهُ، [فسبقته، فسكتَ عني حتى إذا حمَلْتُ اللَّحم وبَدُنْتُ ونسيتُ، خرجتُ معه في بعض أسفاره، فقال للناس: "تَقدَّموا" فتقدَّموا، ثم قال لي: "تَعالي حتى أُسابِقَكِ" فسابقتهُ]، فسبقني، فجعل يضحك، ويقول: "هذهِ بِتِلْكَ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6203)، ومسلم (2150)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (12957). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (12648). (¬3) أحمد في "مسنده" (26277).

وقالت عائشة رضوان الله عليها: دخَلَت عجوزٌ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا يدخل الجنة عجوز" فبكت، فقال لها: "لا بأسَ، إنَّ هذه الصفةَ تتَبدَّل، وتَعودين بكرًا" وقرأ: {عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة: 37]، ففرحت المرأة (¬1). وقالت عائشة: قال - صلى الله عليه وسلم - يومًا لامرأة: "أنت الذي في عين زوجك بياض؟ " فبكت، فقال لها: "كل بني آدم في عينه بياض" (¬2). وقال [أحمد بإسناده، عن] أنس: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا ذا الأُذُنينِ" (¬3). [وقال أحمد بإسناده] عن أنس: أنَّ رجلًا أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَحمَله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا حامِلُوك على ولدِ ناقةٍ"، فقال: يا رسولَ الله، ما أصنعُ بولدِ ناقةٍ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهَل تلدُ الإبلَ إلَّا النُّوقُ" (¬4). وعن أبي هريرة عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه سأله بعضُ أصحابه فقال: إنَّك تُداعبنا، فقال: "إني لأَمزَحُ، ولا أقولُ إلَّا حقًّا" (¬5). وقال أبو سليمان الخطابي: كانت له - صلى الله عليه وسلم - مهابة، وكان يتبسط للدعابة. [حدّثنا جدي رحمه الله بإسناده عن أبي صالحٍ] عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن لي جارًا يؤذيني، [قال: "فانطلِق فأَخرج متَاعَك إلى الطريقِ" ففعل فاجتمع الناس، فجعلوا يقولون: ما شأنك؟ فقال: لي جار يؤذيني]، فذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اذْهَب، فأَخرج مَتاعَك إلى الطريقِ" فجعلوا يقولون: اللهمَّ العنه، اللهمَّ أخزِه، فبلغ الرجل، فأتاه، فقال: ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (5545)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 419: وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف. (¬2) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (8523). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (12164). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13817). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (8723). (¬6) أخرجه أبو داود (5153)، وابن حبان في "صحيحه" (520).

[وقد ذكر جدي بمعناه في كتاب "الأذكياء" قال: حدّثنا غير واحد عن أبي الفضل ابن ناصر بإسناده عن عاصم الأحول] عن الحسن قال: أتى رجل إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومعه رجل قد قتَل حميمًا له، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتأخذُ الديةَ؟ " قال: لا، قال: "أَفتَعفُو؟ " قال: لا، قال: "فاذْهَب به فاقتُله"، فلما جاوَزَه، [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن قتله، فهو مثله، فأخبر الرجل، فرجع الرجل، وتركه، فولى وهو يجر نسعه في عنقه. ولم يُرِد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مثله في المأثم لأن الله قد أباح له القصاص (¬1). [إنما أوهمه أنه مثله ليعفو، وهذا من أبلغ الفطن، لأن] معنى قوله: "إن قتله فهو مثله" يعني أنه يكون قاتلًا كما كان الذي وجب عليه القصاص قاتلًا، [فتوهم صاحب القصاص أنه مثله في الإثم، فخاف فعفى عنه. فإن قيل: ففيه إبطال حق المقتص من قاتل حميمه. قلنا: يحتمل أن ذلك كان خاصًا بهذا الرجل، ويحتمل أن رسول الله وداه]. * * * ¬

_ (¬1) "الأذكياء" ص 33.

الباب الثلاثون: في ذكر جوده وإيثاره - صلى الله عليه وسلم -

الباب الثلاثون: في ذكر جوده وإيثاره - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عباس: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناسِ، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ حين يَلقاهُ جبريلُ، وكان يَلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ، فيُدارِسُه القرآن، وكان أَجودَ بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ (¬1). ولمسلم، عن أنس قال: لم يَكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل شيئًا على الإسلامِ إلَّا أعطاه إيَّاه، فأَتاه رجلٌ فسأَلَه، فأمَرَ له بشاء بين جبلين من شاءِ الصدقةِ، فرجعَ إلى قومهِ، وقال: يا قومِ، أَسلِموا فإنَّ محمدًا يُعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر (¬2). وقال أنس: أُتي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمال من البحرين، فقال: "انثُروه في المسجد" وكان أكثرُ مالٍ أُتي به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة، ولم يَلتفِت إليه، فلما قضى صلاتَه جاء، فجلسَ إليه، فما كان يرى أحدًا إلَّا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال: يا رسول الله، أعطني، فإني فادَيْتُ نفسي، وفادَيْتُ عقيلًا، فقال له: "خُذْ" فحثى في ثوبهِ، ثم ذهب يُقلُّه، فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مر بعضَهُم يَرفَعه عليَّ، قال: "لا فارفعه أنت"، قال: لا، فنثر منه، ثم احتمله فالقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُتبعُه بصَره حتى خفي علينا، عجبًا من حِرصه، فما قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وثَمَّ منه درهمٌ (¬3). وعن سهل بن سعدِ الساعدي: أن امرأةً أَتَتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببُردَةٍ منسوجةٍ، قال سهل: وهل تدرون ما البردةُ؟ قالوا: نعم، قال: هي الشَّملة، فقالت: يا رسول الله، نسجت هذه بيدي، فجئتُ بها لأكسوكَها، فاخذها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - محتاجًا إليها، فخرج علينا وإنَّها لإزاره فجسَّها فلان بن فلان، رجل سماه، فقال: ما أحسنَ هذه البردة، اُكسُنيها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308). (¬2) أخرجه مسلم (2312). (¬3) أخرجه البخاري (421).

الباب الحادي والثلاثون: في ذكر شجاعته - صلى الله عليه وسلم -

يا رسول الله، قال: "نَعَمْ" فلما دخَل طواها، وأرسل بها إليه، فقال له القوم: والله ما أحسنت كُسِيَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محتاجٌ إليها، ثم سألته إياها وقد علمت أنه لم يردّ سائلًا، فقال: إني والله ما سألته إياها لألبسها ولكن سألته إياها لتكون كفني يوم أموت، قال سهل: فكانت كفنه يوم مات (¬1). * * * الباب الحادي والثلاثون: في ذكر شجاعته - صلى الله عليه وسلم - قال علي - عليه السلام -: كنَّا إذا احْمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). أي: إذا اشتدّ القتالُ قدَّمناه في نحرِ العدوِّ. وقد أشرنا إلى شيء من شجاعته في غزواته - صلى الله عليه وسلم -. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (22825)، والبخاري (1277)، واللفظ لأحمد. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (1347).

الباب الثاني والثلاثون: في ذكر عيشه وفقره وقصر أمله ونحو ذلك

الباب الثاني والثلاثون: في ذكر عيشه وفقره وقِصَر أمله ونحو ذلك [قال أحمد بإسناده عن] قتادة قال: كنَّا نأتي أنسًا وخبَّازه قائم، فقال لنا ذات يوم: كلوا فما أعلمُ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رَأى رَغيفًا مرقَّقًا بعينَيْه، ولا أكلَ شاةً سَمِيطًا قطُّ (¬1). ["السميط": المسموط عليه جلده، وهو من مأكول المترفين]. وروى البخاري: لم يأكل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على خِوانٍ قطُّ، ولا في سُكُرُّجَةٍ، ولا خُبز له خبز مرقق. [قال: فقال قتادة: فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على السفر] (¬2). وقال أنس: قد رهَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - درعًا له عند يهودي بالمدينةِ، وأخَذَ منه شعيرًا لأهلِه. قال: ولقد سمعته ذاتَ يومٍ يقول: "ما أَمْسَى عندَ آلِ محمدٍ صاعٌ من برًّ أو حبًّ"، وإنَّ عندَه تسعُ نسوةٍ يومئذٍ. انفرد بإخراجه البخاري (¬3). وقال ابن عباس: قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وإنَّ درعه مرهونةٌ عند يهودي على ثلاثين صاعًا من شعيرٍ أَخذها رِزقًا لأهله (¬4). [وقال أحمد بإسناده] عن أنس: أنَّ فاطمةَ - عليها السلام - ناوَلَت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كِسْرَة من خُبزِ شَعيرٍ، فقال: "هذا أَولُ طعامٍ أَكَله أَبوكِ منذُ ثلاثةِ أَيامٍ" (¬5). [وأخرجه محمد بن سعد عن هشام بن عبد الملك، وفيه]: فقال رسول الله: "يا بنية، ما هذه الكسرة؟ " فقالت: قرص خبزته. فلم تطب نفسي أن آكله، وذكره (¬6). وفيه قال أنس: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشدُّ صُلبه بالحجر من الغَرَث (¬7). وما كان طعامُهم إلاَّ الأسودان الماءُ والتمرُ (¬8). [و"الغرث": الجوع، فإن قيل: فلم سمي الماء والتمر أسودان؟ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12296) وهو في البخاري (5421)، والسَّميط: المشويّ، فعيل بمعنى مفعول. النهاية (سمط). (¬2) أخرجه البخاري (5415). (¬3) أخرجه البخاري (2069). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2109). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (13223). (¬6) "الطبقات" 1/ 344. (¬7) "الطبقات" 1/ 344 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬8) أخرجه أحمد في "مسنده" (9259) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قلنا: هذه عادة العرب لما كان الغالب تغير الماء بالتمر إلى السواد، أضيف الماء إليه على الاستعارة]. وقال سِماك: سمعت النعمانَ بن بشيرٍ يقول: أَلستُم في طعامٍ وشرابٍ، لقد رأيت نبيَّكم - صلى الله عليه وسلم - وما يجدُ من الدَّقَل ما يملأُ بطنَه، انفرد بإخراجه مسلم (¬1). [وقال أحمد بإسناده عن] سهل بن سعد أنه قيل له: هل رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النَّقي قبل موته بعينه، يعني الحُوَّارى؟ فقال: ما رأى النَّقي حتى لقيَ اللهَ، فقيل له: هل كان لكم مَناخِلُ [على عَهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما كانَ لنا مَناخِلُ، فقيل] فكيف كنتم تَصنعون بالشَّعير؟ قال: نَنْفُخه فيطيرُ ما طارَ منه. [انفرد بإخراجه البخاري (¬2). وفي رواية: ] ويبقى ما بقي (¬3). [وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن] أبي هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهمَّ اجعَلْ رِزْقَ آلِ محمدٍ قُوتًا". أخرجاه في "الصحيحين" (¬4). وقال أبو هريرة: ما شَبعَ نبيُّ الله وأهلُه ثلاثًا تِباعًا من خبزِ حنطةٍ حتى فارقَ الدنيا (¬5). ولقد خرجَ منها وما شَبعَ من خبزِ الشَّعيرِ (¬6). [وقال مسلم (¬7): حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده] عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ أو ليلة فإذا هو بأبي بكرٍ وعمر، فقال: "ما أَخرجَكُما من بُيوتِكُما هذهِ الساعةَ؟ " قالا: الجوعُ، فقال: "وأَنا والذي نفسي بيدهِ لأَخرجَني الذي أَخرَجَكُما، قُومَا"، فقاما معه، فأَتى رجلًا من الأنصارِ، فإذا هو ليس في بيتِه، فلما رأتهم المرأةُ قالت: مرحَبًا وأَهلًا، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأَينَ فلانٌ؟ " قالت: ذهب يَستعذِبُ لنا من الماءِ، إذ جاء الأنصاريُّ، فنظرَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحِبَيه، فقال: الحمدُ لله، ما أَحد اليوم أكرم أضيافًا مني، قال: فانْطَلَقَ، فجاءَهم بعِذْقٍ فيه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2977)، وما سلف بين معكوفات من (ك). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (22814)، والبخاري (5413). (¬3) أخرجها البيهقي في شعب الإيمان (5655). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (7173)، والبخاري (6460)، ومسلم (1055). (¬5) أخرجه مسلم (2976). (¬6) أخرجه البخاري (5414) من حديث أبي هريرة. (¬7) في (ك) وما بين معكوفين منها: محمد.

بُسْرٌ ورُطبٌ وتمرٌ، فقال: كُلوا من هذا، وأخذ المُديَةَ، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكَ والحَلوبَ" فذبحَ لهم، فأَكلُوا من الشاةِ ومن ذلك العِذْقِ، وشربوا من الماءِ، فلما أن شَبِعُوا، ورَوُوا، قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ وعمرَ: "والذِي نَفسِي بيَدِه لتُسأَلنَّ عن هذا النَّعيمِ يومَ القيامةِ، أَخرَجَكُم من بُيوتِكُم الجوعُ، ثم لم تَرجِعُوا حتى أَصابكُم هذا النعيمُ". انفرد بإخراجهِ مسلم (¬1)، وهذا الأنصاري هو أبو الهيثم ابن التَّيَّهان. [و"العِذْق": الكباسة من البسر والرطب]. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَتى فاطمةَ، فوجدَ على بابها سِترًا، فلم يَدخل، وقلما كان يدخل إلَّا بدأ بها، فجاء عليٌّ فرآها مُهتمَّة، فقال: ما لَكِ؟ فأخبَرَته، فجاء إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وأَخبره أنَّ فاطمةَ - عليها السلام - قد اشتدَّ عليها أنَك جِئتَها فلم تَدخُل عليها، فقال: "ما أَنا والدُّنيا، ما أَنا والرَّقْم" فذهب عليٌّ فأخبرَ فاطمةَ بقولِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: قُل له: ما يأمُرُني؟ فسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قُل لها تُرسِل به إلى بني فلانٍ، فإنَّهم أهل بيتٍ لهم به حاجةٌ" فأرسلته. انفرد بإخراجه البخاري (¬2). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَبيتُ اللَّيالي المتتابعةَ طَاويًا وأهلُه لا يَجدون عشاءً، وكان أكثرُ خبزهم خبز الشعير (¬3). [وقال أحمد بإسناده عن] عائشة رضوان الله عليها قالت: ما شبع آلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -[من خبز الشعير] يومين متتابعين حتى قُبضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وفي رواية: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام تِباعًا من خُبز برًّ حتى مضَى لِسَبيلهِ (¬5). الروايتان متفق عليهما (¬6). وقالت عائشةُ رضوان الله عليها: بعثَ إلينا أبو بكر بقائمةِ شاةٍ ليلاً، فأمسَك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقطعتُ، أو قَطَع فأمسكتُ، فقال الذي تحدثه: على غيرِ مصباحٍ؟ فقالت: لو كان عندنا مصباح لائْتَدَمْنا به، إن كان لَيأتي على آلِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الشهرُ ما يَختَبزون خُبزًا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2038). (¬2) أخرجه البخاري (2613)، وأحمد في "مسنده" (4727)، واللفظ له. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (2303)، والترمذي (2360)، وابن ماجه (3347). (¬4) أخرجه مسلم (2970) (22)، وأحمد في "مسنده" (24665) (¬5) أخرجه البخاري (6455)، ومسلم (2970) (21)، وأحمد في "مسنده" (24151). (¬6) انظر "الجمع بين الصحيحين" (3249).

ولا يَطبخون قِدرًا (¬1). [وقال أحمد بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه] عن عائشة أنها قالت: يا ابن أُختي كان شَعرُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فوقَ الوَفْرةِ ودونَ الجُمَّةِ، وايمُ الله، إنْ كانَ لَيمرُّ على آلِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الشهرُ لم يُوقَد في بيتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نارٌ إلَّا أَن يكونَ اللَّحيم، وما هنا إلَّا الأسودانِ الماءُ والتمرُ، إلا أنَّ حولَنا أهل دورٍ من الأنصارِ جَزاهُم اللهُ خيرًا - في الحديث والقديم - فكلَّ يومٍ يَبعثون إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بغَزيرةِ شاتِهم، فيتناولُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من ذلكَ اللَّبَن، ولقد تُوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما في رَفِّي من طعام يأكُله ذو كبِدٍ إلَّا قريبٌ من شَطرِ شَعيرِ، فأَكلتُ منه حتى طالَ عليَّ، فَكِلتُه فَفَني، فليتني لم أكِلْهُ، وايمُ اللهِ إنَّ ضِجاعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من أَدمٍ حَشوه ليفٌ. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وقالت: كان يمرُّ بنا الهلالُ والهلالُ فما يوقدُ في بيتنا نار (¬3). قالت: ولما فُتحت خيبرُ قلنا: الآنَ نشبعُ من التمرِ (¬4). وقال أنسٌ: دخلتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُضطجعٌ على سريرٍ مُرْمَلٍ بشريطٍ، وتحتَ رأسهِ وِسادةٌ من أَدَمٍ حَشوُها ليفٌ، ودخل عمرُ، فلم يَرَ بينَ جنبه والشريطِ ثوبًا، وقد أثَّر الشريطُ في جنب رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فبَكَى عمرُ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما يُبكِيكَ؟ " قال: أنتَ أكرمُ على الله من كسرى وقيصرَ وهما يعيثان (¬5) في الدنيا وأنتَ بالمكانِ الذي أَرَى؟ فقال له: "يا عمرُ، أَلاَ ترضى أن تكونَ لهمُ الدنيا ولنا الآخرةُ؟ " قال: بلى، قال: "فإنَّه كذلِكَ". وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: دخلَ عمر بن الخطاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على حصيرٍ، وقد أثَّر في جنبهِ، فقال: يا نبيَّ اللهِ لو اتّخذت فِراشًا أوثر من هذا، فقال: "ما لي وللدُّنيا، ما مَثَلي ومثلُ الدُّنيا إلا كَراكِبٍ سارَ في يوم صائفٍ، فاستظلَّ تحتَ شجرةٍ ساعةً من نهارِ، ثم رَاحَ وتَركَها" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25825) وإسناده ضعيف. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24768)، وهو في البخاري (6451)، ومسلم (2973) مختصرًا. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (24561). (¬4) أخرجه البخاري (4242). (¬5) في (أ، خ): لغنيان، وليس في (ك)، والمثبت من مسند أحمد (12417). (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (2744).

فصل في ذكر الصدقة وتحريمها عليه - صلى الله عليه وسلم -

وقال سِماك بن حَرْبٍ: سمعتُ النعمانَ بن بشيرٍ يخطبُ، قال: ذكر عمرُ بن الخطاب ما أصابَ الناسُ من الدُّنيا، فقال: لقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَظلُّ اليومَ يتلَوّى لا يجد دَقَلًا يَملأُ به بطنَهُ (¬1). وأما قصر أَملِه - صلى الله عليه وسلم - فقال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَخرجُ يهريقُ الماءَ، فيتمسَّح بالترابِ. فأقول: يا رسولَ الله، الماء منكَ قريبٌ، فيقول: "وما يُدريني، لعلَّي لا أبلُغُه" (¬2). فصل في ذكر الصدقةِ وتحريمها عليه - صلى الله عليه وسلم -: قال عبد الملك بن المغيرة: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بَني عبدِ المطَّلِبِ، إنَّ الصَّدقةَ أوساخُ الناسِ، فلا تَأكُلوها، وإنَّ اللهَ كَرِه لكُم غُسالةَ أَيدي الناسِ، وعوَّضَكُم عنها الخُمسَ" (¬3). وقال أنس: إنْ كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيصيبُ التَّمرةَ فيقول: "لَولا أنَّي أَخشى أن تكونَ من تمرِ الصدقةِ لأَكَلتُها". أخرجاه (¬4). وقال أبو هريرة: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله إنَّي لأَنقَلِبُ إلى أَهلي، فأجدُ التَّمرةَ ساقطةً على فِراشي، أو في بَيتِي فأَرْفَعُها لآكُلَها، ثم أخشَى أن تكونَ من تمرِ الصدقةِ فأُلقِيها". متفق عليه (¬5). وقال أبو هريرة: أخذَ الحسنُ بن عليٍّ تمرةً من تمرِ الصدقةِ، فجعلها في فِيه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كَخْ كَخْ" ليطرحها، ثم قال: "أَما شَعرتَ أنَّا لا نأكُلُ الصَّدقةَ". متفق عليه (¬6). وعن أبي هريرة قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتي بطعامٍ سأَلَ عنه: "أَهديةٌ هو أَم صدقةٌ؟ " فإن قالوا: هديةٌ، أكلَ منه، وإن قالوا: صدقةٌ، لم يَأكُل، وأمرَ أصحابَه أن يأكُلوا منه (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (353). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2614). (¬3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 336. (¬4) أخرجه البخاري (2431)، ومسلم (1071). (¬5) أخرجه البخاري (2432)، ومسلم (1070). (¬6) أخرجه البخاري (3072)، ومسلم (1069). (¬7) أخرجه البخاري (2576)، ومسلم (1077).

وقالت عائشة: أرسلتُ إلى نُسيبةَ بشاةٍ من الصدقةِ، فبعَثَت إليَّ من لَحمِها، فدخَلَ علي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هَل عِندَكُم شيءٌ؟ " قلت: لا، إلَّا ما أَرسَلت به نُسيبةُ، فقال: "هاتِ قد بلَغَت مَحِلَّها" متفق عليه (¬1). قالت عائشة: وتُصدِّق على بَريرةَ بلحم، فدخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَأى القِدرَ تَفورُ على النارِ، فقال: "ما هذا؟ " قلت: لحمٌ تُصدَّق به على بَريرةَ فأهدَت إلينا منه، وأنتَ لا تأكُلُ الصدقةَ، فقال: "هو لَها صَدقةٌ، ولنا هَديَّةٌ" فأكَلَ منه. متفق عليه (¬2). وتحرمُ الصدقة على أهل بيتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهم: آل عليًّ، وآل عَقيلٍ، وآل جعفرٍ، وآل العباس بن عبدِ المطَّلِبِ ومَواليهم. وقال يزيد بن حيان التيمي: انطلقت أنا وحُصين بن سَبرة، وعمرُ بن مسلم إلى زيدِ ابن أرقم، فقال له حصين: يا زيدُ، لقد لقيتَ خيرًا كثيرًا، رأيتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبتَه، وصلَّيتَ خلفَه، وغزوتَ معه، فحدِّثنا يا زيدُ مما سمعتَ منه، فقال: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فينا خطيبًا بماءٍ يُدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فحمِدَ الله، وأَثنى عليه، وذكَّرَ ووَعَظَ، وقال: "أيُّها الناسُ، إنَّما أَنا بشَرٌ مثلُكُم، يوشِكُ أن يأتيَني رسولُ ربِّي، فأُجيب، وإنِّي تاركٌ فيكم ثَقَلين: أولُهما كتابُ الله، فيه الهُدى والنورُ، فخذُوا به، واسْتَمْسِكُوا به" قال: "وأهلُ بَيتي، أذكَّركُم اللهَ في أهلِ بَيتي" قالَها ثلاثًا، فقال له حُصين: ومَن أهلُ بيتِه يا زيدُ، أَليسَ نساؤُه من أهل بيتِه؟ [قال: إن نساءَه من أهل بيته، ولكن أهل بيته] من حُرم الصدقةَ بعده، قال: ومَن هم؟ قال: آل عليًّ، وآل عَقيلٍ، وآلُ جعفرٍ، وآل العباسِ، قال: أكلُّ هؤلاءِ حُرمَ الصدقةَ؟ قال: نعم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2579)، ومسلم (1076). (¬2) أخرجه البخاري (2578)، ومسلم (1075). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (19265)، ومسلم (2408)، وما بين معكوفين منهما.

الباب الثالث والثلاثون: في حزنه وعبادته - صلى الله عليه وسلم -

الباب الثالث والثلاثون: في حزنه وعبادته - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة رضوان الله عليها: ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مُستجمعًا ضاحِكًا قطُّ، إنَّما كان يَتبسَّم، وكان إذا رَأى غَيمًا عُرف في وجههِ الكَراهيةُ، فأقولُ له في ذلك فيقول: "وما الذي يؤمِّنُني أن يكونَ فيه عَذابٌ، قد عُذَّب قومٌ بالريحِ، وقد رَأَى قومٌ العذابَ فقالوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا" (¬1). وكان إذا رأى مَخيلَةً في السماءِ دخَلَ، وخَرَج، وتغيَّر لونُه، فإذا أَمطَرت سُرِّي عنه (¬2). وكان إذا عصَفَتِ الريح قال: "اللَّهمَّ إنَّي أَسأَلُك خَيرَها وخَيرَ ما فيها، وخَيرَ ما أُرسِلَت به، وأَعوذُ بكَ من شَرِّها وشَرِّ ما فيها وشَرِّ ما أُرسِلَت به" (¬3). وقالت عائشة رضوان الله عليها: رخَّص رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر فتَنزَّه عنه أُناسٌ، فبلَغَه فغَضِبَ حتى بانَ الغضبُ في وجهِه، ثم قال: "ما بالُ قَومٍ يَرْغَبونَ عمَّا رُخَّص لي فيه؟ فواللهِ لَأَنا أَعْلَمُهم باللهِ وأَشدُّهم له خَشْيَةً" (¬4). وقالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمَرَهم بما يُطيقون قالوا: لَسنا كَهيئَتِك يا رسولَ الله؟ إنَّ الله قد غَفَرَ لكَ ما تقدَّم من ذنْبِكَ وما تأخَّرَ، فيَغضَبُ حتى يُعرفُ الغضَبُ في وجههِ، ثم يقول: "أَنا أَتقاكُم وأعلَمُكُم باللهِ" (¬5). وقال عبد الله بن الشَّخِّير: لقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ولصَدرهِ أَزيزٌ كأَزيزِ المِرْجَلِ من البُكاءِ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (24369)، والبخاري (4828)، و (4829)، ومسلم (899) (16). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (25342)، والبخاري (3206) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) أخرجه مسلم (899) (15) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24180)، والبخاري (6101)، ومسلم (2356). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (24319)، والبخاري (20). (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (16312)، وأبو داود (904).

وقال الأَغَرُّ المُزَني: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه ليُغَانُ على قلبي، وإنِّي لأَستغفِرُ الله كلَّ يومٍ أكثرَ من سبعينَ مرَّةً، وأَتوبُ إليه" (¬1). قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: بتُّ عندَ خالتي ميمونةَ زوجِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاضجَعتُ في عرضِ الوِسادَةِ، واضْطَجعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأهلُه في طولِها، فنامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتَصَفَ الليلُ، أو قبلَه بقليلٍ، أو بعدَه بقليلٍ، استيقظَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلَ يمسَحُ النومَ بيدِه عن وجهِه، ثم قرأَ العشرَ الآياتِ الخواتمِ من سورةِ آل عمرانَ، ثم قامَ إلى شَنٍّ معلَّق، فتوضَّأَ منه فأحسنَ الوضوءَ، ثم قام فصلَّى، فقمت فصنعتُ مثلَ ما صنَعَ، ثم ذهبتُ فقمتُ إلى جَنبِه فوضَع يدَه اليُمنى على رأسي، وأَخذَ بأُذني اليمنى فَفَتلَها، وصلَّى رَكْعَتين، ثم رَكْعَتين، ثم رَكْعَتَين، ثم رَكْعَتين، ثم رَكْعَتين، ثم رَكْعَتين، ثم أَوترَ، واضْطَجعَ حتى جاءَه المؤذَّنُ، فقامَ فصلَّى رَكْعَتين خَفيفتين، ثم خرجَ فصلَّى الصبحَ، ثم دعا فقال: "اللهمَّ اجْعَلْ في قلبي نُورًا، وفي بَصَري نُورًا، وفي سَمعي نُورًا، وعن يَميني نورًا، وعن شِمالي نورًا، وخلفي نورًا، ومن فوقي نُورًا، ومن تحتي نُورًا، وأَعظِم لي نُورًا" (¬2). وقال حُميد: سُئل أنسُ بن مالكٍ عن صلاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من الليلِ، فقال: ما كنَّا نَشاءُ أن نَراه من الليلِ مصلِّيًا إلَّا رَأيناهُ، وما كنَّا نَشاءُ أن نَراه نائمًا إلاَّ رَأَيناهُ، وكان يصومُ الشَّهرَ حتى نقولُ: لا يُفطِرُ منه شيئًا، ويُفطِرُ حتى نقولَ: لا يَصومُ منه شيئًا (¬3). وقال أبو وائل: قال عبدُ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: صلَّيتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ فلم يَزل قائمًا حتى هَمَمتُ بأمرِ سوءٍ، قلنا: وما هو؟ قال: هممتُ بأن أَجلِسَ وأَدَعه (¬4). وقال حذيفة: صليتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ فافْتَتَح البقرةَ، فقلتُ: يركَعُ عند المئةِ، قال: ثم مضَى، فقلتُ: يصلَّي بها في ركعةٍ، فمضَى، فقلتُ: يركَعُ فيها، ثم افتَتَح النساءَ فقرأَها، ثم افتَتَح آل عمرانَ فقرأها، يقرأ مترسِّلًا، إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (17848)، ومسلم (2702). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2567)، والبخاري (6316)، ومسلم (763) (187). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (12012)، والبخاري (1141). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (3646)، والبخاري (1135)، ومسلم (773).

سبَّح، وإذا مرَّ بآيةٍ فيها سُؤال سأَلَ، وإذا مرَّ بتعوُّذٍ تعوَّذَ، ثم ركَعَ فجعَلَ يقولُ: "سُبحان ربَّي العَظيم" فكان ركوعُه نحو قيامهِ، ثم قال: "سَمِعَ الله لِمَن حَمِدَه" ثم قامَ طويلًا قريبًا مما ركعَ، ثم سجَدَ فقال: "سُبحان ربِّي الأعلى" فكان سُجودُه قريبًا من قيامِه (¬1). وقال إبراهيم بن علقمة: سُئلت عائشةُ: أكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخصُّ شَيئًا من الأيامِ؟ قالت: لا، كان عَمَلُه دِيْمَةً، وأيُّكُم يُطيقُ ما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُطيقُ (¬2)؟ . وقال عبد الله بن شَقيق: سألتُ عائشةَ - رضي الله عنها - عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التطوعِ، فقالت: كان يُصلِّي قبلَ الظهرِ أَربعًا في بَيتي، ثم يخرجُ فيصلي بالناسِ، ثم يَرجعُ إلى بيتي فيصلَّي رَكعتَيْن، وكان يُصلَّي بالناسِ العصرَ، ثم يَرجع إلى بَيتي، ثم يخرجُ فيصلِّي المغربَ، ويَرجعُ إلى بَيتي فيصلَّي رَكعتَيْن بعد المغربِ، وكان يصلِّي بهمُ العشاءَ، ويدخلُ بَيتي فيصلَّي رَكعتَيْن، وكانَ يصلِّي من الليلِ تسعَ ركَعاتٍ منهنَّ الوترُ، وكانَ يصلَّي ليلًا طويلًا قائمًا، فإذا قَرأَ وهو قائمٌ ركَعَ وسجَدَ، وإذا قرأ وهو قاعدٌ ركَعَ وسجَدَ وهو قاعدٌ، وكان إذا طلَعَ الفجرُ صلَّى رَكعَتيْن ثم يخرجُ فيصلَّي بالناسِ صلاةَ الفجرِ. انفرد بإخراجه مسلم (¬3). وقالت عائشة - رضوان الله عليها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى قامَ حتى تَتَفطَّر رِجلاهُ، فأقولُ: يا رسولَ الله، أتصنعُ هذا وقد غُفر لك ما تقدَّم من ذَنبِكَ وما تأخَّر؟ فيقول: "يا عائشةُ، أَفَلا أكُونُ عَبدًا شَكُورًا؟ " (¬4). وقال أُبَيُّ بن كَعبٍ: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الوترِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، فإذا سَلَّم قال: "سُبحان الملِكِ القدُّوسِ" ثلاث مرات (¬5). وقال غضيف بن الحارث: قلت لعائشة: أكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُوتِرُ في أَولِ الليلِ أَم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (23367)، ومسلم (772). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24282)، والبخاري (1987)، ومسلم (783). (¬3) مسلم (730)، وأحمد في "مسنده" (24019). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24844)، والبخاري (4837)، ومسلم (2820). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (21141)، وأبو داود (1423)، وابن ماجه (1171).

فصل في قيام رمضان

في آخرِه؟ فقالت: ربَّما أوترَ في أوله، وربَّما أوترَ في آخرِه، فقلتُ: الحمدُ للهِ الذي جَعَل في الأمر سَعَةً (¬1). وقالت عائشةُ رضوان الله عليها: لم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على شيءٍ من النَّوافلِ أشدَّ تَعاهُدًا منه على رَكعَتَي الفجرِ (¬2). وقالت: ما تَرَكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتَيْن بعدَ العصرِ عِندي قطُّ (¬3). قال الزهري: كان مخصوصًا بذلك. وقالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ يُصلِّي من الليلِ افتَتَح الصلاةَ بركعتينِ خَفيفتين (¬4). فصل في قيام رمضان: قال زيدُ بن ثابت: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اتَّخذَ حُجرةً في المسجدِ من حصيرٍ فصلَّى فيها ليالٍ حتى اجتَمَع إليه ناسٌ، ثم فَقدُوا صوتَه، فظنُّوا أنَّه قد نامَ، فجعَلَ بعضُهم يتنَحنَحُ ليخرجَ إليهم. فقال: "ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكُم حتى خشيتُ أن يُكْتَبَ عليكُم، ولو كُتب عليكُم ما قُمتُم به، فصلُّوا في بُيوتِكُم، فإنَّ أفضَلَ صلاةِ المرءِ في بيتهِ إلَّا المكتوبةَ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬5). وقالت عائشةُ رضوان الله عليها: صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً في المسجدِ في شهرِ رمضانَ ومعهُ أُناسٌ، ثم صلَّى الثانيةَ فاجتَمعَ تلكَ الليلةَ أكثرُ من الأُولى، فلما كان في الليلةِ الثالثةِ أو الرابعةِ امتَلأَ المسجدُ حتى اغتصَّ بأهلِه، فلم يَخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعَلَ الناسُ يُنادونَه: الصلاةَ، فلم يَخرج إليهم، فلمَّا أصبحَ قال له عمرُ بن الخطاب: يا رسولَ الله، ما زالَ الناسُ يَنتظرونَكَ البارِحَة، فقال: "أَما إنَّه لم يَخْفَ عليَّ أمرُهم، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (24202)، وأبو داود (226). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24167)، والبخاري (1169)، ومسلم (724) (94). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (24645)، والبخاري (591)، ومسلم (835) (299). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24017)، ومسلم (767). (¬5) أخرجه البخاري (7290)، ومسلم (781). وأحمد في "مسنده" (21582).

فصل في ذكر قراءته

ولكنَّي خشيتُ أن تُكتَبَ عليهم". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وقال أُبيُّ بن كعبٍ: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكفُ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ، فسافَر سنةً فلم يَعتكف، فلما كانَ في العامِ المقبلِ اعتكفَ عشرين يومًا (¬2). فصل في ذكر قراءته: عن جابرِ بن سَمُرةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقرأُ في الفجرِ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ونحوها (¬3). وكان يقرأ في الظهر {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}، وفي العصر نحو ذلك، وفي الفجر أطول من ذلك (¬4). وفي رواية: وكان يقرأ في الجمعة بقاف وبسورة الجمعة والمنافقين (¬5). وأخرج مسلم عن أبي واقِدٍ اللَّيثي: أنَّ عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه سأَلَه بما كانَ يقرأُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في العيدِ؟ فقال: بـ {ق} و {اقْتَرَبَتِ} (¬6). وقال ابن عباس: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في صلاةِ الصبحِ يومَ الجمعةِ {الم (1) تَنْزِيلُ} و {هَلْ أَتَى}، وفي الجمعةِ بسورة الجمعةِ واذا جاءك المنافقون (¬7). فصل في صيامه - صلى الله عليه وسلم -: قال أسامةُ بن زيدٍ - رضي الله عنهما -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصومُ الأيامَ يَسرِدُ حتى يقال: لا يفطرُ، ويُفطر الأيامَ حتى لا يكادُ يَصومُ، إلَّا يومين من الجمعةِ، ولم يَكن يصومُ من شهرٍ من الشُّهورِ ما يَصومُه من شعبانَ، فقلت: يا رسولَ الله، إنَّك تصومُ لا تكادُ تُفطرُ، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (924)، ومسلم (761) (178)، وأحمد في "مسنده" (25362). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (21277). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (20971)، ومسلم (458). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (20963)، ومسلم (459) من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -. (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (3160) ومسلم (879) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬6) مسلم (891)، وأحمد في "مسنده" (21896)، وفيه أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد. (¬7) تقدم قريبًا.

وتُفطر حتى لا تكادُ تصومُ، إلَّا يومين إن دخلا في صيامِكَ وإلَّا صُمتَهما، قال: "أيَّ يَومَينِ؟ " قلت: يومَ الاثنينِ ويومَ الخميسِ. قال: "ذانِكَ يَومان تُعرضُ فيهما الأَعمالُ على ربِّ العالمينَ، فأُحبُّ أن يُرفَعَ عَملِي وأَنا صائمٌ". أخرجه الإمامُ أحمدُ رحمة الله عليه في "المسند" (¬1). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كانَ يصومُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أيامٍ من غُرَّة كلِّ شهرٍ، وقلما كان يُفطرُ يومَ الجمعةِ (¬2). وقد ثبتَ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ يصومُ الأيامَ البيضَ، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر (¬3). وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصوم يومَ عاشوراءَ قبل أن يُفتَرضَ صيامُ رمضانَ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (21753). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (3860)، وأبو داود (2450)، وابن ماجه (1725). (¬3) أخرج الإمام أحمد في "مسنده" (20316) عن قتادة بن مِلحان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بصيام أيام البيض، ويقول: "هن كصيام الدهر". وأخرج أحمد (25422) عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم الأيام المعلومة من الشهر؟ فقالت: نعم. (¬4) أخرجه قريبًا من هذا اللفظ أحمد في "مسنده" (6292)، ومسلم (1126) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه". وأخرجه عن ابن مسعود البخاري (4503)، ومسلم (1127) عن عبد الرحمن بن يزيد قال: دخل الأشعث ابن قيس على عبد الله وهو يتغدى، فقال: يا أبا محمد، ادن إلى الغداء، فقال: أوليس اليوم يوم عاشوراء؟ قال: وهل تدري ما يوم عاشوراء؟ قال: وما هو؟ قال: إنما هو يوم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان، فلما نزل شهر رمضان ترك.

الباب الرابع والثلاثون: في فضله - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء، ونحو ذلك

الباب الرابع والثلاثون: في فضله - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء، ونحو ذلك قال جابر بن عبد الله: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُعطِيتُ خَمسًا لم يُعطَهنَّ أحدٌ من الأنبياءِ قَبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ، وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا وطَهُورًا، فَأيُّما رجلٍ أَدْرَكتهُ الصلاةُ فليُصَلِّ، وأُحِلَّت ليَ الغَنائمُ ولم تَحلَّ لأحدٍ من قَبلِي، وأُعطِيتُ الشَّفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومِه خاصَّةً وبُعِثتُ إلى الناسِ عامَّةً". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وعن أبي هريرة، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُعِثتُ بجَوامِعِ الكَلِمِ، ونُصِرتُ بالرُّعبِ، وبَيْنا أنا نائمٌ رأيتُني أُتيتُ مفاتيحَ خَزائِنِ الأرضِ فَوُضِعَت بين يَدي" قال أبو هريرة: فقد ذهبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنتم تَنْتَثِلُونَها. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وقال حذيفةُ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فُضِّلْنا على الناسِ بثلاثٍ: جُعِلَت صُفُوفنا كصُفوفِ الملائكَةِ، وجُعلِت لنا الأَرضُ مَسجدًا، وتُربَتُها لنا طَهُورًا إذا لم نَجدِ الماءَ". انفرد بإخراجه مسلم (¬3). وقال أنسٌ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "آتِي بابَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ فأَسْتَفتِحُ فيقولُ الخازِنُ: مَن أنت؟ فأَقولُ: محمدٌ، فيقول: بِكَ أُمرتُ لا أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبلَكَ". انفرد بإخراجه مسلم (¬4). ولمسلم عن أنسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا أَولُ الناسِ يَشفَعُ يومَ القيامةِ، وأَنا أكثرُ الناسِ تَبعًا يومَ القيامةِ، وأَنا أَولُ من يَقْرَعُ بابَ الجنَّةِ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521)، وأحمد في "مسنده" (14264). (¬2) أخرجه البخاري (7273)، ومسلم (523) (6)، وتنتثلونها: تستخرجونها. النهاية: نَثَلَ. (¬3) أخرجه مسلم (522). (¬4) أخرجه مسلم (197). (¬5) أخرجه مسلم (196)، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (1971).

وقال أنسٌ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا أَولُ الناسِ خُروجًا إذا بُعِثُوا، وأَنا خَطيبُهم إذا وَفَدُوا، وأَنا مُبشِّرُهم إذا يَئِسُوا، لواءُ الحمدِ بِيَدِي، وأَنا أَكرَمُ ولدِ آدَمَ على ربِّي ولا فَخْر" (¬1). وفي "أفراد مسلم" من حديث أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَنا سيِّدُ ولَدِ آدَمَ يومَ القيامةِ، وأَولُ من يَنْشَقُّ عنه القبرُ، وأَولُ شافعٍ وأَولُ مُشَفَّعٍ" (¬2). وعن جابرِ بن عبدِ الله: أنَّ عمرَ بن الخطابِ رضوان الله عليه أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أَصابَه من بعضِ أهلِ الكتابِ فقَرَأه على النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: فغَضِبَ، وقال: "أَمُتهوِّكُونَ فيها يا ابنَ الخطَّابِ؟ والذي نَفْسِي بِيَدِه، لقد جِئتُكُم بها بَيْضاءَ نَقيَّةً، لا تَسألُوهم عن شيءٍ ويُخبروكُم بحقًّ فيكذَّبونَه أو باطِلٍ فيصدَّقونَه، والذي نَفْسِي بيَدِه لو كانَ مُوسى وعِيسى حيَّينِ لَما وَسِعَهما إلَّا اتِّباعِي" (¬3). وقال عبدُ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنكُم مِن أَحَدٍ إلَّا وَقَد وُكَّلَ بهِ قَرينُه من الجِنَّ وقَرينُه من الملائكةِ" قالوا: وإيَّاكَ يا رسولَ الله؟ قال: "وإيَّايَ، ولكنَّ اللهَ أعانَنِي عليه فلا يأمُرُني إلَّا بخيرٍ". انفرد بإخراجه مسلم (¬4). وعن أبي موسى، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إنَّما مَثَلي ومثَلُ ما بَعثَني اللهُ به، كمَثَلِ رجلٍ أَتَى قومَه، فقال: يا قَومِ إنَّي رأيتُ الجيشَ بعَيني، وإنِّي أنا النَّذيرُ العُريانُ، فالنَّجاءَ النَّجاءَ، فأَطاعَه طائفةٌ من قومِه، فأَدْلَجوا، وانْطَلَقُوا على مَهْلِهم فَنَجوا، وكذَّبتهُ طائفةٌ منهم فأَصْبَحوا مكانَهم فصَبَّحهُم الجيشُ فأَهلَكَهُم واجْتاحَهم، فذلكَ مثَلُ من أَطاعَني واتَّبعَ ما جِئتُ به، ومثَلُ مَن عَصاني وكذَّبَ ما جِئتُ به منَ الحقِّ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬5). وعن أبي هريرة، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن نَبيٍّ إلَّا وقد أُعطِيَ من الآياتِ ما ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3610)، وقال هذا حديث حسن غريب. (¬2) أخرجه مسلم (2278)، وأحمد في "مسنده" (10972). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15156)، التهوك، كالتهور: وهو الوقوع في الأمر بغير روية. (¬4) أخرجه مسلم (2814)، وأحمد في "مسنده" (3779). (¬5) أخرجه البخاري (6482)، ومسلم (2283).

مثلُه آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنَّما كان الذي أُوتيتُه وَحْيًا أَوْحاه اللهُ إليَّ، فأَرجُو أَن أكُونَ أكثَرهم تابِعًا يومَ القيامةِ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وقال أبو هريرة: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلِي [ومثل الناس] كمَثَلِ رجلٍ اسْتَوقَدَ نارًا، فلمَّا أَضاءَت ما حَولَها، جَعَلَ الفَراشُ وهذهِ الدَّوابُّ التي يَقعْنَ في النارِ يقَعْنَ فيها، وجَعَل يَحْجُزهنَّ وَيغْلِبنَه فيَقْتَحِمْنَ فيها قال: فَذَلِكُم مَثَلي ومَثَلُكُم، أنا آخِذٌ بِحُجَزِكُم عن النارِ هلمَّ عن النارِ فتَغلِبوني فتقْتَحِمونَ فيها". أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وعن جابر قال: كان أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمشُونَ أمامَه إذا خرجَ، ويَدعونَ ظهرَه للملائكةِ (¬3). قال عبد الله بن هشام: كنا مع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو آخِذٌ بيدِ عمرَ بن الخطابِ فقال له: يا رسولَ الله، لأَنتَ أحب إليَّ من كلَّ شيءٍ إلَّا نَفسِي، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا والذي نَفسِي بيَدِه حتى أكُونَ أحبَّ إليكَ من نَفسِك" فقال له عمر: فإنَّه الآنَ، والله لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسِي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الآنَ يا عُمرُ". انفرد بإخراجه البخاري (¬4). وفي الحديث دليلٌ على جوازِ تكلِيفِ ما لا يُطاقُ، لأنه إنما يُكلف الحبُّ الذي يدخلُ تحتَ الطاقةِ، أمَّا الحبُّ الطبيعي فليسَ إلَّا الإنسان. وفي المتفق عليه عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليَأتِيَنَّ على أحدِكُم زمانٌ لأن يَراني أحبُّ إليه من أن يكونَ له مثلُ أهلِه ومالِه" (¬5). وقال عبد الله بن شَقيق: قال رجل: يا رسولَ الله، متى كنتَ نبيًّا؟ فقال له الناس: مَهْ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوه، كنتُ نَبيًّا وآدمُ بينَ الرُّوحِ والجَسَدِ، أو بينَ الماءِ والطِّينِ، حينَ أُخِذَ منَّي الميثاقُ، وإنَّ آدمَ لمنجَدلٌ في طينَتهِ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4981)، ومسلم (152)، وأحمد في "مسنده" (9828). (¬2) أخرجه البخاري (6483)، ومسلم (2284) (16)، وأحمد (8117). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (14236). (¬4) أخرجه البخاري (6632)، وأحمد في "مسنده" (22503). (¬5) أخرجه البخاري (3589)، ومسلم (2364)، وأحمد (9794). (¬6) لم نقف على هذه الرواية التي ذكرها المصنف، لعلها مجموعة من عدة أحاديث كما سنبينها: =

وفي رواية: "أنا عبدُ اللهِ، وخاتَمُ النَّبيين، ودَعوةُ إبراهيمَ حينَ قال: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} وبشَّرَ بي عيسى" و"كنتُ أولَ الناسِ في الخلقِ وآخِرَهم في البَعْثِ" (¬1). وقال أنسٌ: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والحلاقُ يحلِقُه وقَد أطافَ به أصحابُه ما يُريدون أن يقَعَ شعرُه إلَّا في يدِ رجلٍ. انفرد بإخراجه مسلم (¬2). وفي "الصحيحين" عن أبي جُحيفةَ قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بالأَبْطَحِ في قُبَّةٍ له، فخرجَ بلالٌ بفضلِ وَضوئه، فرأيتُ الناسَ يَبتَدِرُون ذلك الوَضوءَ، فمَن أصابَ منه شَيئًا مسَحَ به وَجْهَه، ومَن لم يُصب منه أخذَ من بلَلِ يدِ صاحبِه، وخرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقامَ الناسُ فجَعَلوا يأخذونَ يدَه يمسحونَ بها وُجُوهَهم، فأخذتُ يَدَه فوضعتُها على وَجْهي، فإذا هي أبردُ من الثلجِ وأطيبُ من المسكِ (¬3). وقال أنس: ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رَأَوه لم يَقوموا لما يَعلمون من كراهيَّته لذلك. أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" (¬4). ¬

_ = أخرج الإمام أحمد في "مسنده" (16623) عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: قلت: يا رسول الله، متى جعلت نبيًا، قال: "وآدم بين الروح والجسد". وأخرج ابن سعد في "الطبقات" 1/ 123 عن مطرف بن عبد الله بن الشخير: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم متى كنت نبيًا؟ قال: "بين الروح والطين من آدم". وأخرج أيضًا 1/ 123 عن عامر قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: متى استنبئت؟ فقال: "وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق". وأخرج أحمد (17150) عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته ... ". (¬1) جمع المصنف رحمه الله بين روايتين: الأولى: أخرجها أحمد (17151) عن العرباض - رضي الله عنه -، والثانية: أخرجها ابن سعد في "الطبقات" 1/ 124 من حديث قتادة وتمام في "فوائده" (1003) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت أول الناس في الخلق .... ". (¬2) أخرجه مسلم (2325)، وأحمد في "مسنده" (12363). (¬3) أخرجه البخاري (376)، ومسلم (503) وأحمد في "مسنده" (18762)، ولم يذكروا وضع يد النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه أبي جحيفة، وذكر الزياده أحمد في "مسنده" (18767). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (12345).

وفي "الصحيحين": عن أنس قال: رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرةَ الأولى، ثم نحَرَ البُدنَ والحجَّامُ جالسٌ، ثم حلَقَ أحدَ شِقَّيه الأيمن، فقسَمَه بين الناسِ فأَخَذُوه، وحلَقَ الآخرَ فأعطاه أبا طلحةَ (¬1). وفي "المسند" عن أنس قال: ناوَلَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شِقَّ رأسِه الأيمنَ، وقال: "اذهَبْ بهذا إلى أمَّ سُلَيم" فلمَّا رأى الناسُ ما خصَّها به تَنافَسُوا في الشَّقَّ الآخر، هذا يأخذُ الشيءَ، وهذا يأخذُ الشيءَ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1305) (326)، والبخاري (171) ولفظه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره" وانظر "الجمع بين الصحيحين" (1905)، وأحمد في "المسند" (12092). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (13685).

الباب الخامس والثلاثون: في طرف من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -

الباب الخامس والثلاثون: في طرفٍ من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - وهي ثلاثة أقسام: قسمٌ خارج عن ذاته، وقسمٌ في ذاته، وقسمٌ في صفاته. فأما ما هو خارجٌ عن ذاته، فكانشقاقِ القمرِ، وتسليمِ الحَجَر عليه، ونبعِ الماءِ من بين أصابعِه، وإشباعِ الخلقِ الكثيرِ من الطعامِ اليسيرِ، وحنينِ الجذْعِ إليه، وتسبيحِ الحَصَى في يدَيْه، وشهادة الشاةِ المصْليَّةِ أنَّها مسمومةٌ، وتظليل الغمامِ إِيَّاه قبل مبعثه، إلى غير ذلك. قال أنس: سأل أهل مكة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُريهم آيةً، فأرَاهم انشقاقَ القمرَ شِقَّتين حتى رأَوا حراء بينهما، فقالت قريش: سَحَركم ابنُ أبي كَبْشَة، سلوا السفار، فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} (¬1) [القمر: 1]. وعن جابر بن سَمُرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّي لأَعرِفُ حَجَرًا بمكةَ كانَ يُسلِّمُ عليَّ قبلَ أن أُبعثَ، إنِّي لأَعرِفُه الآن" انفرد بإخراجه مسلم (¬2). وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدَّثنا يحيى، عن عَوف، حدَّثنا أبو رجاء، عن عِمرانَ بن الحُصَين قال: كنَّا في سفر مع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فسَرَينا حتى إذا كنَّا في آخرِ اللَّيل وقَعْنَا وَقْعَةً ليسَ عند المسافرِ أَحلى منها، قال: فما أَيقَظَنا إلا حرُّ الشمسِ، وكان أولَ من اسْتَيقظَ فلانٌ ثم فلانٌ، يُسمِّيهم أبو رجاءٍ، ونسيهم عوفُ، ثم عمرُ بن الخطابِ، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لم نُوقِظه حتى يكون هو الذي يَستيقظُ، لأنَّا لا نَدري ما يَحدُثُ له في نومِه، فلما استَيقَظَ عمرُ ورَأَى ما أصابَ الناسَ وكان رجلًا أَجوَفَ (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه بهذا اللفظ الطيالسي في "المسند" (295)، والشاشي في "مسنده" (404)، واللالكائي في "أصول الاعتقاد" (1460) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، أما حديث أنس فأخرجه البخاري (3868)، ومسلم (2802)، وأحمد في "مسنده" (13154). (¬2) أخرجه مسلم (2277)، وأحمد في "مسنده" (20828). (¬3) "أجوف": يخرج صوته من جوفه بقوة.

جَليدًا، فكبَّر ورَفَع صوتَه بالتكبيرِ، فما زال يكبِّر ويرفعُ صوتَه بالتكبيرِ حتى اسْتَيقظَ لصوتِه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فشَكَى إليه الناسُ ما أَصابَهم، فقال: "لا ضَيْرَ، ارْتَحِلُوا" فارتحلُوا فسارَ غيرَ بعيدٍ، ثم نَزَل، فدَعَى بالوَضوءِ، فتوضَّأ، ونادَى بالصلاةِ فصلَّى بالناسِ، فلما انْفَتَل من صلاتِه إذا برجلٍ معتزلٍ لم يصلِّ مع القومِ، فقال: "ما مَنَعكَ أن تصلِّي؟ " فقال: أَصابَتني جنابةٌ ولا ماءَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَليكَ بالصَّعيدِ، فإنَّه كافِيكَ" ثم سارَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى إليه الناسُ العطَشَ، فنزَل، فدَعى فلانًا كان يسمِّيه أبو رجاء ونسيه عوفٌ، ودَعى عليًّا رضوان الله عليه وقال: "اذْهَبا فابْغِيا لنا الماءَ" فانْطَلقا فلَقِيا امرأةً بين مَزادَتين من ماءٍ على بعيرٍ لها، فقالا لها: أينَ الماءُ؟ قالت: عَهدي بالماءِ أمسِ هذه الساعةَ ونَفَرُنا خُلُوف (¬1)، قالا لها: انْطَلقي إذَن، فقالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: هذا الذي يُقال له: الصابئُ؟ قالا: هو الذي تَعنين، فانْطَلقي إذًا، فجاءا بها إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فحدَّثاه الحديث، فاسْتَنْزلُوها عن بَعيرِها، ودَعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإناءٍ، فأفرغَ فيه من أَفواهِ المزادَتَين، وأَوكَأَ أَفواهَهما، وأطلَقَ العزاليَ (¬2)، ونودي في الناسِ أن اسقُوا واستَقُوا، فسَقى مَن شاءَ، واستَقَى من شاءَ، وكان آخر ذلك أن أَعطى الذي أصابَته الجنابةُ إناءً من ماءٍ، فقال: "اذهب فأَفرِغْهُ عليكَ"، قال: وهي قائمةٌ تَنظُر ما يُفعل بمائها، قال: وايْمُ اللهِ لقد أُقلِعَ عنها، وإنَّه ليخيل إلينا أنَّها أشد ملأَةً منها حينَ ابتدأَ فيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجمَعُوا لها طَعامًا" فجمَعُوا لها من بين عجوةٍ ودقيقةٍ وسَويقةٍ حتى جمعوا لها طعامًا كثيرًا وجَعلُوه في ثوبٍ، وحَملُوها على بَعيرها، ووَضَعوا الثوبَ بين يَديها، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعلَمينَ واللهِ ما رَزئناكِ (¬3) من مائِكِ شَيئًا، ولكن الله هو سَقانا" قال: فأتت أهلها وقد احتَبَست عنهم، فقالوا: ما حَبَسك يا فلانةُ؟ فقالت: العجبُ، لقيني رجلان، فذهَبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل بي وبمائي كذا وكذا، الذي كان، فواللهِ إنَّه لأسْحَرُ من بين هذه وهذه، وأشارت بأصبعيها الوسطى والسبابة تَرفعها إلى السماءِ - ¬

_ (¬1) "خلوف": جمع خالف: يقال لمن غاب. (¬2) "العزالي": هو مخرج الماء من المزادة. (¬3) "رزئناك": نقصناك.

تعني السماءَ والأرضَ - وإنَّه لرسولُ الله حقًّا، فكان المسلمون يُغيرون بعدُ على ما حولَها من المشركين، ولا يُصيبون الصَّرْمَ (¬1) الذي هي منه، فقالت يومًا لقومها: ما أرى هؤلاء القوم يَدَعُونَكم إلَّا عمدًا فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها ودَخَلوا في الإسلامِ. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وعن أنسٍ: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان بالزَّوراءِ، فأُتي بإناءٍ فيه ماء لا يَغمُر أصابعَه، فأَمَر أصحابَه أن يتوضَّؤوا، ووَضَع كفَّه في الإناءِ أو في الماءِ فجعلَ الماءُ ينبعُ من بين أصابعهِ وأطراف أصابعه حتى توضَّأ القومُ، قال: فقلنا لأنس: كم كُنتم؟ قال: كنا ثلاث مئةٍ. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). وفي المتفق عليه مثل هذه الواقعة جرت في الحديبيةِ، ورواه جابر بن عبد الله، وفيه: فوضعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يده في الرَّكوةِ، فجعَلَ الماءُ يفورُ من بينِ أصابعِه كأمثالِ العُيونِ، قال: فشرِبنا، وتوضَّأنا، قال سالم: فقلنا لجابرٍ: كم كُنتم؟ قال: كنَّا خمسَ عشرةَ مئةً، ولو كنَّا مئةَ ألفٍ لكَفانا (¬4). وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا الوليدُ بن القاسم، حدَّثنا إسرائيلُ، عن منصور، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، عن عبد الله بن مسعودٍ قال: سمعَ عبدَ الله يحدِّث قال: كنَّا أصحابَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نعدُّ الآياتِ بركةً، وأَنتم تعدُّونها تخويفًا، بَينا نحنُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وليسَ مَعَنا ماءٌ، فقال: "اطلبُوا مَن معه ماء ففَعلنا، فأُتي بماءٍ، فصبَّه في إناءٍ، ثم وضَع كفَّه فيه، فجعلَ الماءُ يخرجُ من بينِ أصابعهِ، ثم قال: "حيَّ على الطَّهورِ المبارَكِ والبركةِ من الله تعالى" فملأتُ بطني منه، فاستَقى الناسُ. قال عبد الله: وكنَّا نسمعُ تسبيحَ الطعامِ وهو يؤكلُ. انفرد بإخراجه البخاري (¬5). وقال عبد الله - رضي الله عنه -: كنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سفر فلم يجِدُوا ماءً، فأُتي بتَورٍ من ماءٍ، فوضعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَده فيه، وفرَّج بين أصابعِه [فرأيتُ الماءَ] يتفجَّر من بينها، فقال: "حيَّ ¬

_ (¬1) "الصرم": أبيات مجتمعة من الناس. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (19898)، والبخاري (344)، ومسلم (682). (¬3) أخرجه البخاري (3572)، ومسلم (2279) (7)، وأحمد في "مسنده" (12742). (¬4) أخرجه البخاري (3576)، ومسلم (1856) (72)، وأحمد في "مسنده" (14522). (¬5) أخرجه البخاري (3579)، وأحمد في "مسنده" (4393).

على الوَضوءِ والبركةِ من الله" قال سالم بن أبي الجعد: قلت لجابر بن عبد الله: كم كان الناس يومئذٍ؟ قال: كنَّا ألفًا وخمسَ مئةٍ (¬1). وقال سلمة بن الأكوع: خفَّت أَزوادُ الناس، وأَمْلَقوا، فأتَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَأذَنُوا في نَحرِ إبلِهم، فأذِنَ لهم، فلقِيَهم عمرُ، فأخبروه، فقال: ما بَقاؤكُم بعدَ إِبلكم، فدَخَل على النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله، ما بَقاؤُهم بعدَ نحر إِبلهم؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نادِ في النَّاسِ يأتونَ بفَضْلِ أَزوادِهم" فدَعا، وبرَّكَ عليها، ثم دَعَا بأَوعِيَتهم فاحْتَثى الناسُ حتى فَرَغُوا، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشهدُ أنْ لا إِلَه إلَّا اللهُ وأَنِّي رسولُ اللهِ". أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" وانفرد بإخراجه البخاري (¬2). وروى إياسٌ عن أبيه قال: خَرجنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فأَصابنا جَهدٌ حتى هَمَمنا أن نَنْحَر بعضَ ظهرِنا، فأمرَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فجمعنا مَزاوِدَنا، وبَسَطنا له نِطْعًا، فاجتَمَعَ زادُ القومِ على النِّطعِ، قال: فتَطاوَلْتُ لأَحزِرَه كم هو فإذا هو كرَبْضَةِ العَنْزِ، ونحن أربعَ عشرةَ مئةً، فأَكلنا حتى شَبعنا، وحَشَونا جُرُبنا، فقال نبيُّ الله: "هَل من وَضوءٍ؟ " فجاءَ رجلٌ بإداوَةٍ فيها نطفة، فأفرغَها في قدحٍ، فتَوضَّأنا كلُّنا ندغفقُه دغفقةً أربعَ عشرةَ مئةً. انفرد بإخراج هذا الطريق مسلم (¬3)، والدَّغفقة الصبُّ الشديدُ. وأما حنين الجذع فقد ذكرناه عند عمل المنبرِ. وتظليلُ الغمامِ له - صلى الله عليه وسلم - في حديث بَحِيرى، وخروجِه إلى الشامِ مع ميسَرةَ غلام خديجة رضوان الله عليها ونحو ذلك، وقد فرَّقنا معجزاتِه - صلى الله عليه وسلم - في أثناءِ سيرتِه، كإخبارِه أن الأرضة أكلت الصحيفة التي كتبتها قريش بينهم وبين بني هاشم، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا هلَكَ كِسْرى فلا كِسْرَى بعدَه، وإذا هلَكَ قَيصرُ فلا قيصرَ بعده، والذي نَفسي بيَدِه لتُنفقنَّ كُنوزَهما في سبيلِ اللهِ" متفق عليه (¬4)، وقولُه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (3807). (¬2) أخرجه البخاري (2484)، وأخرجه أحمد في "مسنده" (9466) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ولم نقف على حديث سلمة في "المسند". (¬3) أخرجه مسلم (1729). (¬4) أخرجه البخاري (3618)، ومسلم (2918)، وأحمد في "مسنده" (7184) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وسبق تخريجه.

- صلى الله عليه وسلم - في يومِ بدرٍ: "هذا مَصرعُ فلانٍ وفلان" فما أخطأَت تِلكَ المصارع (¬1). وإخباره - صلى الله عليه وسلم - بما يكون بعدَه من المغيباتِ، وهو الصادقُ المصدوقُ، فصلى الله عليه ما مطرت سُحُب، وخطَرَت بروق، وجَدَّت براكِبِها في فَسيحِ مَذاهبها نُوقٌ. وأما القسم الثاني: وهو في ذاته، كالنور الذي كان ينتقلُ في ظهرِ آبائِه من الأنبياءِ والرؤساءِ والأشرافِ حتى وصَلَ إلى أبيه عبد الله، وما ظهر من حسنِه وجمالِه مما ذَكرنا في صفتِه وأحوالهِ. وأما القسم الثالث: وهو في صفاتِه، فكصدقهِ الدائمِ، فلم يَنطق بباطلٍ قط، ولا ارتكَبَ قبيحًا قبل النبوةِ ولا بعدَها مما يشينُ ويحطُّ من القدرِ، بل عَصَمه اللهُ تعالى من جميعِ ذلك، وكان - صلى الله عليه وسلم - شُجاعًا، جَوادًا، مِقدامًا، فَصيحًا، عادِلًا، راحِمًا، رَؤوفًا بالمساكينِ، حَسَن الخلقِ، حَليمًا، حَييًّا، إلى غير ذلك من الأخلاقِ الرضيةِ والصفاتِ المرضيَّة، ومعجزاتُه - صلى الله عليه وسلم - كثيرةٌ، وآياتُه ظاهرةٌ غَزيرة، ومن أكبرِها القرآنُ الكريم الباقي على مرورِ الزمانِ وتقلُّب الحَدَثان لا يَفنى ولا يَبيدُ، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1779)، وأحمد في "مسنده" (13296) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

الباب السادس والثلاثون: في ذكر فصاحته - صلى الله عليه وسلم -

الباب السادس والثلاثون: في ذكر فصاحته - صلى الله عليه وسلم - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفصحَ العالمِ لِسانًا، وأَرجحَهم بيانًا، يتكلَّم بكلام قد حُفَّ بالعصمة، وينطقُ بلسانِ الحكمةِ، لم يَسقط منه كلمة ولا بادَت له حُجةٌ، أعجزَ الناطقين، وحازَ قصبَ السبقِ في السابقين، كلامُ معصوم من الزلل والتّوى، وما ينطق عن الهوى. قال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أفصحُ من نطَقَ بالضادِ" (¬1). وقد رَوينا عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بُعثتُ بجوامِعِ الكَلِم، واختُصِرَ لي الكلامُ اختصارًا" (¬2). وقال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: قلتُ: يا رسولَ الله، ما بالُك أفصحُنا؟ فقال: "لأنَّ العربيةَ كلامُ إسماعيلَ - عليه السلام - كانت قَد دُرِسَت، فأَتاني جبريلُ - عليه السلام - فعلمني إيَّاها" (¬3). قوله (¬4) - عليه السلام -: "إنَّ الله يغارُ، وإنَّ المؤمِنَ يغارُ وغَيرةُ الله أَن يَأتي الرجلُ ما حرَّم الله عليه" (¬5). ولمسلم عن ابن مسعودٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه، ومن أجلِ ذلك أنَّه حرَّم الفواحشَ ما ظهَرَ منها وما بَطَنَ (¬6). قوله - عليه السلام -: "مَن خَرَجَ عنِ الطَّاعةِ" قال أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن خَرَجَ منَ الطاعةِ وفارَقَ الجماعَةَ فماتَ، فميتَتُه جاهليةٌ، ومَن قاتَلَ ¬

_ (¬1) قال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 31: لا أصل له. (¬2) أورده الترمذي في "نوادر الأصول" 2/ 130. (¬3) لم نقف عليه. (¬4) من هنا إلى قوله: الباب السابع والثلاثون؛ ليس في (أ، خ) وهو زيادة من نسخة (ك). (¬5) أخرجه البخاري (5223)، ومسلم (2761) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬6) أخرجه مسلم (2760) ولفظه: "لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله لذلك مدح نفسه".

تحتَ رايةٍ عِمِّتَّةٍ، يغضَبُ لِعَصَبَتِه، أو يَنصرُ عَصَبَته فقُتلَ، فقتلتُه جاهليةٌ، ومَن خرَجَ على أُمَّتي يَضربُ بَرَّها وفاجِرَها، لا يَتحاشَى لمؤمنِها، ولا يَفِي لذي عَهدِها، فليسَ منَّي، ولستُ منه". انفرد بإخراجه مسلم (¬1). معنى عِمِّية أي: الأمرُ لا يستبان جهتُه. قال الجوهري: وعمي عليه الأمرُ: الْتَبسَ، ومنه قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص: 66] قال: وقولهم: ما أعماه، إنما يُراد به قلبه؛ لأنَّ ذلك ينسب إليه الكثيرُ الضلالِ، ولا يقال في عمَى العيونِ: ما أَعماه، ورجل أعمى القلبِ أي: جاهلٌ، وامرأةٌ عَمِية عن الصوابِ (¬2). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا" قال أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال: مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في السوقِ على صُبْرَةِ طعامٍ فأدخلَ يدَه فيها فنالَت أصابِعُه بلَلاً، فقال: "يا صاحِبَ الطعامِ، ما هذا؟ " فقال: يا رسولَ الله أَصابتهُ السماءُ، فقال: "أفَلا جَعلتَه فوقَه حتى يَراه الناس؟ " ثم قال "مَن غشَّنا فليسَ منَّا". انفرد بإخراجه مسلم (¬3). وروي: أنَّ الله تعالى أَوحى إلى رسوله أن أدخل يدَكَ في الطعامِ (¬4). وقال سفيان بن عيينة: إنَّما نهى عن الغشِّ لأنَّه من أخلاقِ اليهودِ. وقوله: "ليس منا" أي: مثلنا، ولا أخلاقُه مثل أخلاقنا. وقال ابن قتيبة: معنى "فليس منا" إشارة إلى الأنبياء - عليهم السلام - فإنهم منزهون عنه وكذا أمثالهم من العلماء. قوله - عليه السلام -: "نِعمَ الإدامُ الخلُّ" قال أحمد بإسناده عن جابر بن عبد الله أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سألَ أهلَه الإدامَ، فقالوا: ما عندنا إلَّا خلٌّ، فدعا به وجعلَ يأكلُ منه ويقول: "نِعمَ الإدامُ الخلُّ". انفرد بإخراجه مسلم. وفي رواية "المسند": "ما أفقَرَ بيتٌ فيه الخلُّ" وأخرجه الترمذي (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (8061)، ومسلم (1848). (¬2) " الصحاح": (عمي). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (9396)، ومسلم (102). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (7292). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (14807)، ومسلم (2052)، وأخرجه الترمذي (1841) من حديث أم هانئ - رضي الله عنها -.

وفي الخل فوائدٌ منها: أنه يقمعُ الصفراءَ، ويهضِمُ الطعامَ، ويقوَّي المعدةَ. وفيه من الفقه: لو حلف لا يأتدمُ فأكلَ خبزًا بخلًّ حنَث. قوله - عليه السلام -: "إذا وزنتَ فأَرجِح" قال أبو داود بإسناده عن سِماك بن حَرْب قال: حدثني سُويد بن قيس قال: جلبتُ أنا ومَخرفَة - وقيل: مَخرمة العبدي - بزًّا من هَجَر فأتينا به مكةَ، فجاءنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي فساوَمَنا بسراويلَ فبعناه، وثمَّ رجلٌ يزن بالأجر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "زِنْ وأَرجِح" (¬1). وأهلُ العلمِ يستحبون الرجحان في الوزن، وذكر بعض أهل النقل أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رآه يزنُ ناقصًا فقال: "زن راجحًا"، ويحتمل أنه أجاز الرجحان، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك إذا اشترى أو استقرض، ويحتمل أنه على وجه التهديد للوازن. قلت: وقوله: فساوَمَنا سراويلَ، وهمٌ من الرواة، لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يكونوا يعرفون السراويلات، وإنما هو زيُّ الأعاجم، وقيل: إن أول من لبسَ السراويلَ عثمان، وقد روي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ساوَمهما في رداءٍ وهو الظاهر. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَرادَ الله بعبدٍ خيرًا عَسَلَه" قيل: وما عَسْلُه؟ قال: "يفتحُ له عملًا صالحًا قبلَ موتِه، ثم يَقبضُه عليه" (¬2). قوله - عليه السلام -: "إنَّ أطيبَ ما أكَلَ الرجلُ من كَسبهِ". قال الترمذي بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها -: قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أطيبَ ما أكَلتُم من كَسبِكُم، وإنَّ أولادَكُم من كَسبِكُم" قال الترمذي: هذا حديث حسن. وفي الباب عن جابر بن عبد الله وابن عمرو، والعملُ عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، قالوا: إنَّ يدَ الوالدِ مبسوطةٌ في مال ولده يأخذ ما شاء، وقال بعضهم: لا يأخذ من ماله إلَّا عند الحاجة إليه، هذا كلام الترمذي (¬3). قلت: ولا خلاف أن نفقة الوالد تجب على الولد إذا كان موسرًا، واختلفوا هل يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه؟ قال أبو حنيفة: يجوز وقال الشافعي وأحمد: لا يجوز، واحتجوا بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3336)، وأخرجه أحمد في "مسنده" (19098). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (17784) من حديث أبي عنبة الخولاني - رضي الله عنه -. (¬3) سنن الترمذي (1358)، وأخرجه أحمد في "مسنده" (25296).

وإذا كان الولد كسب الوالد فقد ثبت له حق في مال الابن، ألا ترى أن الأب إذا وطئ جارية الابن وهو عالم بالتحريم لا يحل، فقد تزوج بأمة له فيها حق فلا يجوز، ولأبي حنيفة أنها غير مملوكة الأب فيجوز نكاحها كالأجنبية، ولهذا يملكُ الابن إعتاقها ووطأها وبيعها وهبتها، والجمع بين الملكين لشخصين في مجال واحد في زمان واحد محال، وأما الحديث فالمراد به الأخذ من مال الابن عند الحاجة، فإن الأب يملك ذلك، ولهذا سقط الجلد عنه في وطء أمة ولده؛ لأنا نقلنا الملك إليه قُبيل الوطء لما عرف في مسألة الاستيلاد، وتمامه في "الخلافيات". قوله - عليه السلام -: "خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة". ذكره القضاعي. قال أحمد بإسناده عن سويد بن هبيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ مالِ امْرئٍ" (¬1) وذكره. قال الجوهري: المهر ولد الفرس، والجمع أمهار ومِهارة، والأنثى مهرة والجمعُ مُهَر ومُهَرات (¬2)، والمأمورة، الكثيرةُ النِّتاج، والسِّكة: المُصْطَفَّة من النخل، قال الجوهري: ومنه قولهم خيرُ المالِ مهرة مأمورةٌ، أو سِكَّة مأبورة أي: ملقَّحة، قال: وكان الأَصمعي يقول: السِّكة ها هنا الحديدةُ التى يُحرث بها، ومأبورة مُصلحة، قال: ومعنى هذا الكلام: خيرُ المالِ نِتاج أو زَرع (¬3). قوله - عليه السلام -: "تَزوَّجوا الولودَ الودودَ". قال أبو داود بإسناده عن معاويةَ بن قُرَّة، عن مَعقِلِ بن يسار قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّي أَصبتُ امرأةً ذات جمالٍ وحَسَب، وإنَّها لا تلدُ أفأتزوَّجها؟ قال: "لا"، ثم أَتاه ثانيًا وثالثًا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَزوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فإنَّي مُكاثِرٌ بكمُ الأُمَمَ" (¬4). وفي رواية: "يومَ القيامةِ" (¬5). ¬

_ (¬1) القضاعي في "مسند الشهاب" (1250)، وأحمد في "مسنده" (15845). (¬2) "الصحاح": (مهر). (¬3) "الصحاح": (سكك). (¬4) أبو داود (2050). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (13569) من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالباءة، وينهى عن =

وأخرج عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا أُخبِرُكم بخَيرِ نسائِكُم من أَهلِ الجنةِ؟ " قالوا: بلى، قال: "الوَدُودُ الوَلُودُ العَؤودُ على زوجِها، التي إذا أُذيت أخذَتْ بيدِ زوجِها وقالَت: والله لا أَطعَمُ حتى ترضى" (¬1). وقد بينا فضل النكاح على العبادة فيما تقدم. قوله - عليه السلام -: "أَفضلُ الجهادِ كلمةُ حقًّ عند سُلطانٍ جائرٍ". قال الترمذي بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ مِن أَعظَمِ الجهادِ كلمةُ عَدلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ" (¬2). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي أمامة. قال: إنما كان ذلك أفضل الجهاد، لأن من جاهد العدو وكان مترددًا بين الخوف والرجاء لا يدري أيغلب أم يُغلب، والمجاهد للسلطان الجائر مقهورٌ في يده، لأنَّه متى أمره بمعروف ونهاه عن منكر فقد عرَّض نفسه للتلف، قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: حدَّثت بهذا الحديث إبراهيم بن طَهمان، فقال: اكتبه لي، فكتبتُه، فانصرف إلى خراسان، فدخل على أبي مسلم، فنهاه، وأَمره، وذكر له هذا الحديث، فقال له أبو مسلم: قد قَبلنا قولَك فهل لك أن تَجلِسَ في بيتك؟ فقال: لا، وذكر الحديث، فقال له ثانيًا: هل لك أن تجلس في بيتك؟ فقال: لا، وذكر له الحديث، فأمر بقتله، فاختَصَم فيه ثلاثة، فقال إبراهيم: لا تَختصموا كلُّكم شريكٌ، فضربه رجلٌ فلم يُجدِ الضربُ، فبقي حلقومه معلقًا فرموه في بئر، فكانوا يسمعون أنينه ثلاثة أيام. قوله - عليه السلام -: "خيرُ الصدقةِ ما كانَ على ظهر غِنى". قال أبو داود بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنَّا عند رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا برجلٍ جاءَ بمثل بيضةِ ذهبٍ، فقال: يا رسولَ الله، أصبتُ هذهِ في معدنٍ فخذها، فهي صدقةٌ ما أَملك غيرَها، فأعرض عنه رسولُ الله، ثم أَتاه من قِبَلِ رُكْنِه الأَيمنِ، فقال مثلَ ¬

_ = التَّبَتل نهيًا شديدًا، ويقول: تزوجوا الولود .... ". (¬1) أخرجه النسائي في "الكبرى" (9139). (¬2) الترمذي (2174)، وأخرجه أبو داود (4344)، وابن ماجه (4011).

ذلك، فأعرض عنه، ثم أَتاه من قِبَلِ رُكْنِه الأيسرِ، فأعرضَ عنه، ثم أَتاه من خَلفِه، فحذَفَه بها رسولُ الله، فلو أَصابته لأَوجَعته، أو عَقَرَته، وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأتي أحدُكم بما مَلَك فيقولُ هذِه صدقةٌ، ثم يقعدُ فيَسْتكفّ الناسَ" أو "يقعدُ يستَكف الناسَ! خيرُ الصَّدَقة ما كانَ عن ظهرِ غِنَى" (¬1)، وفي رواية أبي داود عن أبي هريرة: "وابْدَأ بِمَن تَعولُ" (¬2). قوله - عليه السلام -: "ارْحَم مَن في الأرضِ يَرحَمك مَن في السَّماءِ". قال الترمذي بإسنادِه عن عبدِ الله بن عَمرو قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّاحِمُونَ يَرحَمُهم الرَّحمنُ، ارْحَم مَن في الأَرضِ يَرْحَمُك مَن في السَّماءِ، الرَّحِمُ شُجنةٌ من الرَّحمنِ، فمَن وصَلَها وَصَلَه الله، ومَن قَطَعها قَطَعه الله" قال: وهذا حديث حسن صحيح (¬3). قلت: وهذا هو الحديث المسند الذي سمعته من شيخنا افتخار الدين أبي هاشم عبد المطلب الهاشمي، وهو أول حديث سمعته منه، قال شيخنا افتخار الدين أبو هاشم عبد المطلب بن الفضل بن عبد المطلب وذلك بمدينة حلب في شوال سنة ثلاث وست مئة بالمدرسة النورية، قال بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّاحمون يَرحمُهم الرَّحمن، ارْحَموا أهلَ الأرضِ يَرحَمكم أهلُ السماءِ". قال: وفي الباب عن أبي هريرة بإسناده قال: أبصر الأقرعُ بن حابسٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُ حَسَنًا، فقال: لي عشرةٌ من الوَلَد ما قبَّلتُ أحدًا منهم قطُّ! فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم". أخرجاه في "الصحيحين" (¬4). وروي عن أبي هريرة عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "جَعَل الله الرَّحمةَ مئةَ جُزءٍ، فأمسَكَ عندَه تِسعةً وتِسعين جُزءًا، وأَنزَلَ جُزءًا واحدًا، من ذلك الجزءِ يَتراحمُ الخلقُ، حتى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1673). (¬2) أخرجه أبو داود (1677)، وهو في البخاري (1426). (¬3) أخرجه الترمذي (1924)، وأحمد في "مسنده" (6494). (¬4) أخرجه الترمذي (1911)، والبخاري (5997)، ومسلم (2318).

تَرفَعَ الفرسُ حافِرَها عن ولدِها خشيةَ أن تصيبه" (¬1). وأخرج البخاري بمعناه عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفي آخره: "لو يَعلَمُ الكافرُ بكلِّ الذي عندَ الله مِن الرَّحمة، لم ييأس من الجنَّة، ولو يَعلَمُ المؤمنُ بكلِّ الذي عندَ الله مِن العَذابِ لم يَأمَن النارِ" (¬2). ولمسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لله مئةُ رَحمةٍ أَنزَلَ منها رحمةً واحدةً بينَ الإنسِ والجنِّ والهوامِّ، فبها يَتعاطَفون وفيها يَتراحمونَ، وبها تَعطِفُ الوحشُ على أَولادِها، وأَخَّر تسعةً وتسعين إلى يومِ القيامةِ يرحمُ بها عبادَهُ" (¬3). وفي "الصحيحين" عن أسامةَ بن زيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما يَرحَمُ الله مِن عبادهِ الرُّحَماء" (¬4). وقال أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تُنْزَع الرَّحمةُ إلَّا من شَقيًّ" (¬5). قوله - عليه السلام -: "إذا اسْتَشاطَ السُّلطانُ، تَسلَّطَ الشَّيطانُ" (¬6) وهذا مثل قوله - عليه السلام -: "إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ، والجملَ القدرَ" (¬7) ثم قال أبو عبيد: معناه أن الإنسان متى غضب تمكن إبليس منه، وشاطَ يَشيطُ: إذا احترق، وإنما خص السلطان لأن غضبه يعم. قوله - عليه السلام -: "القُضاةُ ثلاثةٌ" قال أبو داود بإسناده عن أبي هاشم، عن ابن بُريدة، عن أبيه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "القضاةُ ثلاثةٌ: واحدٌ في الجنَّةِ، واثنانِ في النَّارِ، فأمَّا الذي في الجنَّةِ فرجلٌ عَرَفَ الحقَّ فقَضَى به، ورجل عرَفَ الحَقَّ فجارَ في الحُكمِ، فهو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6000)، ومسلم (2752). (¬2) أخرجه البخاري (6469). (¬3) أخرجه مسلم (2752) (19). (¬4) أخرجه البخاري (7448)، ومسلم (923). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (9702). (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (17984) من حديث عطية السعدي. (¬7) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 6/ 408، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1057) من حديث جابر - رضي الله عنه -.

في النَّارِ، ورجلٌ قَضَى للنَّاس على جَهلٍ فهو في النَّارِ" (¬1). وقد فسره أبو عبيد فقال: الذي هو في الجنة هو الذي أُكره على القضاء فقضى بالحق والعلم، وأما الذي في النار فرجلٌ كان عالمًا بالقضاء ثم جار في الحكم، ورجل جاهل نصَّب نفسه للقضاء وليس بأهل للعلم، فقضى فَحاف، فأحلَّ ما حرم الله من الفروج والدماء والأموال فهو في النار. قوله - عليه السلام -: "مَن جُعِلَ قاضيًا فقد ذُبح بغيرِ سِكِّينٍ" (¬2) وقد فسره أبو عبيد فقال: إن الذبح الذي يحصل به إزهاق الروح وخلاص المذبوح من طول الألم وشدة العذاب إنما يكون بالسكين، فإذا ذبح بغير سكين كان حتفًا وتعذيبًا. وروى أنس قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سألَ القضاءَ وُكِلَ إلى نفسهِ، ومَن أُجبِرَ عليه نَزَل عليه مَلَكٌ يُسدَّدُه" (¬3). حديث آخر في القضاء: رَوت عائشة - رضي الله عنها -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُجاءُ بالقاضي العادِلِ يومَ القيامةِ، فيَلقَى مِن شدَّةِ الحِسابِ ما يَتمنَّى معه أنْ لا يَكونَ قَضَى بين اثنينِ قطُّ" (¬4). قوله - عليه السلام -: "لا رقيةَ إلَّا من عينٍ أو حمَةٍ، والعينُ حقٌّ" (¬5) ورخص رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية من العين والحمة والنملة، والحمة الحيات والعقارب وما أشبهها من ذوات السموم، وتُسمى إبرةُ العقرب حمة لأنها تجري مجرى السم، وحمة العقرب بالتخفيف: سمها، والهاءُ عوض، قال: والنَّمْلةُ بالفتح قروحٌ في الجنب وبثور صغار مع ورم يسير ثم يتقرَّح فتسعى وتتسع، وتسميها الأُدباء الذباب، والنملةُ أيضًا عيبٌ في حافر الفرسِ، فأما النُّمْلةُ بالضم فهي النميمة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يرقي أصحابه ويقول: "بسم اللهِ أَرقيكَ واللهُ يَشفِيكَ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3573)، وأخرجه الترمذي (1322)، وابن ماجه (2315). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (7145) من حديث أبي هريرة، - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (13302). (¬4) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (5055). (¬5) أخرجه البخاري (5705)، وأحمد في "مسنده" (19908) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -. (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (9757) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وروي عن أبي سعيد الخدري: أن ناسًا من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا في سفر، فمرُّوا بحيٍّ من أحياء العربِ، فاستضافوهم فأَبَوا أن يضيِّفوهم، فعرضَ لإنسانٍ منهم في عقلهِ، أو لُدغ، فقالوا لأصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: هل فيكم من راقٍ؟ قالوا: نعم، فَرَقاه رجل منهم بفاتحةِ الكتاب فبرئ، فأُعطي قطيعًا من الغَنَم، فأبى أن يقبلَ حتى أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك وقال: والذي بعثكَ بالحقَّ ما رقيتُه إلَّا بفاتحة الكتاب فبرئَ، فضحِكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: "وما يُدرِيكَ أَنَّها رقيةٌ؟ " ثم قال: "خُذُوا واضْرِبُوا لي بِسَهمٍ" متفق عليه (¬1). وفي بعض ألفاظ "الصحيح": فقال رجل: ما أنا براقٍ لكم حتى تَجعلوا لنا جُعلاً، فصالحوهم على قَطيع من الغَنَم (¬2). ولمسلم: عن عَوف بن مالك الأشجعي قال: كنَّا نَرقي في الجاهليةِ، فقلنا: يا رسولَ الله، كيفَ تَرَى في ذلك؟ فقال: "اعرِضُوا عَلَيَّ رُقاكم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم يَكن شِركٌ" (¬3). قوله - عليه السلام -: "حُبُّك للشيءِ يُعمِي ويُصِمُّ". قال أبو داود بإسناده عن أبي الدرداءِ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: وذكره (¬4). ورواه أبو بكر الخرائطي في "اعتلال القلوب" عن أبي بُردة الأَسلمي رَفَعه بهذا اللفظ، ذكره الخرائطي في: باب ما يستحب من الاقتصاد في الحب، وما يكره من الإفراط فيه، فإن الحبَّ يُعمي عن طريق التوبة، ويصمُّ عن استماع الحق (¬5). قوله - عليه السلام -: "تَداوَوا". قال الترمذي وإسناده عن أسامةَ بن شَريك قال: قالت الأعرابُ: يا رسولَ الله، أَلا نَتَداوَى؟ فقال: "نَعم يا عبادَ الله، تَداوَوا، فإنَّ الله لم يَضَع داءً إلَّا وضَعَ له شِفاءً، أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5007)، ومسلم (2201). (¬2) أخرجه البخاري (2276). (¬3) أخرجه مسلم (2200). (¬4) أخرجه أبو داود (5130). (¬5) "اعتلال القلوب" 175.

دواءً، إلَّا داءً واحدًا" قالوا: وما هو يا رسولَ الله؟ قال "الهرمُ" (¬1). وقد اشتمل هذا الحديث على فوائد: منها: أن الطبَّ تعليم أم قياس؟ اختلفَ الأوائل فيه، فقالت الصابئة: إن شيث بن آدم أول من أظهره، وأنه ورثه عن أبيه آدم، وظاهر قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] يدل عليه، وقال بعضهم: إن الهند استخرجته، وقال بقراط وجماعة من الأوائل: هو إلهام من الله عز وجل، وقال بعضهم: بل حصل بالتجربة، والظاهر أن أصله من تعليم الله ووحيه وبعضه من إلهامه، ثم أضاف الناسُ إليه التجاربَ والقياسَ. وقال أبو سليمان الخطابي: الطب قسمان: قسم يسمونه: القياسي، وهو طب اليونانيين؛ بقراط وجالينوس ومن سلك طريقهما، وهو مذهب عامة الأطباء. والقسم الآخر: طب التجارب، وهو مذهب الهند وكثير من العرب، وهؤلاء يستعملون القياس ولا يعتبرون الأصول، وإنما يَعتمدون مجرد الامتحان والتجربة في آحاد الأعيان، ويحتجون بأن لبعض الطباع خاصية ليست لغيرها، وللعادات تأثيرًا في الطباع، وفي الأهوية والبلدان اختلاف كثير يتغير باختلافهما بعض الأحكام، والقياس يستمر على وصف مطَّرد لا يختلف. ومنها: بيان فضيلة علم الطب وموافقته للشرع والعقل، لا خلاف أن الآدمي أفضل المخلوقات وأشرف الموجودات، وأن الله سبحانه شرفه بالعقل وأدواته، وبه توجه إليه الخطاب حتى عَرف الصانع بمصنوعاته، وأن جسدَه كالمركب، ومن الواجبِ حراسته لبقاء الراكب ليقطع ما قدِّر له من المسافة في بيداء الدنيا، ومن المعلوم أن البدنَ مركَّب من أمزجة مختلفة وأضداد متباينة، وقوامه بتعديل مزاجه، ومتى اعتدل حصلت له الصحة والعافية، وحصول العافية إنما يكون بشيئين: باعتدال البدن، وبما يصدر من الصحة عنه، والثاني: بإخراج الفضول المؤذية منه، وإذا ثبت هذا فالصحة والعافية من ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2038)، وأحمد في "مسنده" (18454).

أبلغ النعم، والغفلة عن شكرها من جملة النقم فما وجهٌ من أفقه الطب للشرع. وقد ورد الشرع بأشياء تنافي الطب منها قوله - عليه السلام -: "الحمَّى من فيحِ جهنَّم فابرِدوها بالماءِ" (¬1) والماء من أضر الأشياء على المحموم، لأن الاغتسال به يحقن الحرارة في باطن بدنه فيقع الهلاك في نظائر كثيرة، قلنا: قوله - عليه السلام - "ابرُدوها بالماءِ" لا يطَّرد في جميع البلادِ، فإن البلدان الباردة لا يصلحُ فيها ذلك، وإنما هو خطاب لأهل الحجازِ ومَن بلادهم حارة، وهذا الجواب عما يرد في هذا الباب. ومنها: اختلافُ العلماءِ هل التداوي أفضل أم تركه؟ ذهب قوم إلى أن التداوي أفضل لمن توكل على الله، واحتجوا بقوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] وبحديث عمران بن الحصين قال أحمد: حدّثنا يزيدُ بن هشام، عن الحسن، عن عمران بن الحصين، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يدخلُ الجنةَ من أُمتي سبعونَ ألفًا بغيرِ حِسابٍ، الذين لا يَكتَوون، ولا يَسترقون، ولا يَتَطيَّرون وعلى ربِّهم يتوكَّلونَ" قال: فقام عكَّاشة فقال: يا رسول الله، ادْعُ الله تعالى أن يَجعلَني منهم، فقال: "أَنتَ منهم" فقام آخر فقال: أنا كذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبَقَكَ بها عُكَّاشةُ". انفرد بإخراجه مسلم (¬2). وقيل: لأبي بكر - رضي الله عنه - أَلا تَتدَاوى؟ في مرضه فقال: الطبيبُ أَمرضني. وقد كان جماعة من السلف على هذا المذهب. وقال قوم: التداوي أفضلُ لقوله - عليه السلام -: "تَدَاوَوا" والأمر للوجوب، وعامةُ السلفِ تَداوَوا، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يَتَداوى على ما ذكرناه. قوله - عليه السلام -: "الجنَّةُ تحتَ أَقدامِ الأمهاتِ". أنبأنا جدِّي رحمه الله بإسناده عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجنَّةُ تحتَ أقدامِ الأمهاتِ" ذكَره جدِّي في كتاب "بر الوالدين" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3262)، ومسلم (2210) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (19913)، ومسلم (218). (¬3) أخرجه أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" 3/ 568، والقضاعي في "مسند الشهاب" (119).

إنما قدمت الأم في البر لمكان الشفقة والحضانة ومشقة الحمل والطلق والرضاع والتربية ونحوها. وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أحقُّ مني بحُسن الصُّحبةِ؟ فقال: "أُمُّك" قال: ثم مَن؟ قال: "أَبوك" (¬1). ورواه أحمد عن يزيد ابن هارون، عن بَهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسولَ الله، مَن أبرُّ؟ قال: "أُمَّك" قلت: ثم مَن؟ قال: "أَباكَ" (¬2). قوله - عليه السلام -: "طِيبُ الرجالِ ما ظَهَر ريحُه". قال الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله، وذكره (¬3)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن عِمران بن الحُصين. أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أنَّ المرأة عورة، وأن التبرج عليها حرام، وظهور الطيب نوع من ذلك. ولمسلم: عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما امرأةٍ أَصابَت بخورًا فلا تَشهدنَّ مَعنا العِشاءَ الآخرةَ". وفي رواية: "إذا جاءَت إحداكُنّ المسجدَ، فلا تَمسَّ طِيبًا" (¬4). وفي "الصحيحين" عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يَتَزعفَرَ الرجلُ (¬5). قوله - عليه السلام -: "المجالسُ بالأماناتِ" عن جابر بن عبد الله قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حدَّثَ الرجلُ الحديثَ ثم الْتَفَت، فهي أَمانةٌ" قال: هذا حديث حسن (¬6). قال أبو عبيد: فيه إشارة إلى أن القوم يجتمعون فيتحدثون ويستغرقون في الحديث، فمَن أفشى منهم سرًّا فهو خائن، وقد توهم قومٌ أن هذا الحديث ثم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (20028). (¬3) أخرجه الترمذي (2787)، وأخرجه أبو داود (2174)، والنسائي في "الكبرى" (9408)، وفي "المجتبى" (5117)، وتمامه: "طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه" (¬4) أخرجه مسلم (444). (¬5) أخرجه البخاري (5846)، ومسلم (2101). (¬6) أخرجه الترمذي (1959)، وأبو داود (4868).

قوله - عليه السلام -: "ليسَ الغِنى بكَثرَةِ العَرَضِ، وإنَّما الغِنَى غِنَى النَّفسِ". قال الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكره (¬1). وقال: حديث حسن صحيح. أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى شرف النفس والقناعة باليسير. قوله - عليه السلام -: "إنَّ المؤذِّنينَ أَطولُ النَّاسِ أَعناقًا يومَ القيامَةِ" قال أحمد بإسنادِه عن عيسى بن طلحة، قال: سمعتُ معاوية يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ (¬2)، وذكره. واختلفوا في معناه، فقال الخطابي: معناه الدنوُّ والقرب، وقال محمد بن زياد الأعرابي: معناه هم أكثر الناس أعمالًا يوم القيامة، يقال: لفلان عنق خير، أي: عمل كثير، وقال قوم: إنما هو من طول الأعناق، لأن الناس يعرقون يوم القيامة حتى يصل العرق إلى آذانهم، وقال أبو عبيد: يكونوا رؤساءَ يومئذٍ، والعرب تصف السادات بالأعناق وطولها، فيحتمل أن معنى الحديث: أنهم أطول الناس أعناقًا يوم القيامة ينتظرون ما أعد الله لهم من الثواب. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بَدا جَفا" قال أحمد بإسناده عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بَدا جَفا، ومَن اتَّبَعَ الصيدَ غَفَلَ، ومَن أَتَى أبوابَ الملوكِ افْتَتَن، وما ازْداد عبدٌ من السُّلطانِ قُربًا، إلَّا ازْداد من الله بُعدًا" (¬3). وقال: يغلب من سكن البادية غلظ طبعه وصار جافيًا، وبعد عن الطباع الكريمة ومكارم الأخلاق، وأما اتباع الصيد فلأن فيه ترك الجمعة والجماعات، والاشتغال عن مجالس الذكر والعبادات، فيصده ذلك عن أفعال الخيرات، وقيل معناه: من اتبع صيد الدنيا غفل عن صيد الآخرة. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قُتلَ دونَ ماله فهو شهيدٌ" قال الترمذي بإسناده عن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل [عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكره (¬4)، وقال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051)، والترمذي (2373). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (16861)، وهو عند مسلم (387). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (8836). (¬4) أخرجه الترمذي (1418).

أحمد] بإسناده عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قُتلَ دونَ مالهِ فهو شهيدٌ، ومن قُتلَ دونَ أهلهِ فهو شهيدٌ، ومن قُتل دونَ دَمهِ فهو شهيدٌ" (¬1). قال الترمذي: حديث صحيح. قوله - عليه السلام -: "مَن فرَّقَ بينَ والدةٍ ووَلَدِها". قال الترمذي بإسناده عن أبي أيوبَ الأنصاري عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن فرَّقَ بينَ وَالدَةٍ ووَلَدِها فرَّقَ الله بينَه وبينَ أحبَّتهِ يومَ القيامَةِ" (¬2). وقال أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عليَّ - عليه السلام - قال: أَمرَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أَبيعَ غُلامين أَخوين فبعتُهما وفرَّقت بينهما، فذكرتُ ذلك لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَدرِكهُما فارْتَجِعهما، ولا تَبعهُما إلا جميعًا" (¬3). وأخرج أبو داود بمعناه فقال: فرَّق عليٌّ بين جاريةٍ ووَلدِها، فنهاهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وردَّ البيعَ، وقال: "لا تُفرِّق بينَهما" (¬4). وقد كرهه بعضُ أهل العلمِ من الصحابةِ ورخَّص فيه بعضُهم، والكراهةُ أصح إلا أن البيعَ جائز. وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كنّا في البحر وعلينا عبد الله بن قيس الفزاري ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فمرَّ بصاحب المقاسم وقد قسم السبي، فإذا بامرأة تبكي فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: فرّق بينها وبين ولدها، قال: فأخذ بيد ولدها حتى وضعه في حجرها، فانطلق صاحب المقاسم إلى عبد الله بن قيس فأخبره، فأرسل إلى أبي أيوب يقول: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن فرَّقَ بينَ والدةٍ ووَلَدِها فرَّقَ الله بينَهُ وبين أحبَّتهِ يومَ القيامةِ" (¬5). وقال بإسناده عن عمرِو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحلُّ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (1652)، والترمذي (1421). (¬2) أخرجه الترمذي (1283). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (760). (¬4) أخرجه أبو داود (2696). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (23499).

لرجلٍ أن يفرِّقَ بين اثنينِ إلَّا بإذنِهما" (¬1). قلت: وقد أشارَ محمد رحمه الله تعالى إلى هذا في "الأصل" فقال: ومَن ملكَ مملوكين صغيرين أحدهما أكبر من الآخر لم يفرق بينهما. وفي حديث أبي هريرة قال: رَأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - امرأةً والِهةً من السَّبي فقال: "ما شَأنُها؟ " فقيلَ: بِيعَ ولدُها، فقال: "ردُّوه، لا تَجمعوا عليهما السَّبي والتَّفريقَ". لأن ذلك يؤدي إلى الإضرار بهما، وكذا الصغير يتضرر بمفارقة الكبير، لأنه يقوم به، ولو كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما، لأنهما لا يتضرران بذلكَ. قوله - عليه السلام -: "مَطلُ الغنيَّ ظلمٌ" (¬2). قوله - عليه السلام -: "ما نقَصَ مالٌ من صدقةٍ" قال الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نقَصَ مالٌ من صدَقةٍ" (¬3). وفي رواية: "ما نقَصَتْ صدقَةٌ من مالٍ، وما زادَ عبدٌ بعفوٍ إلَّا عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ إلا رَفعه الله" (¬4). وقد أشار أبو الدرداء إلى هذا فقال: لنا داران دار دنيا ودار أخرى، فإذا تصدق إنسان فقد نقلت من دار إلى دار، فما ينقص ماله. قوله - عليه السلام -: "ما مَثَلي ومثَلُ الدنيا، إلَّا كراكبٍ مالَ إلى ظلَّ شَجَرةٍ في يومٍ حارٍّ، ثم راحَ وتَرَكَها". قال الترمذي بإسناده عن ابن مسعود قال: نامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على حصيرٍ فقامَ وقد أثَّر في جنبه فقلنا: يا رسولَ الله، لو اتَّخذنا لك [وطاء] فقال: "ما مَثَلي" وذكر الحديثَ (¬5). قوله - عليه السلام -: "لا يَنبغي لصدَّيق أن يَكونَ لعَّانًا" (¬6). قال الترمذي بإسناده عن ابن عمر ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (6999). (¬2) أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه الترمذي (2325) بهذا اللفظ، وأحمد في "مسنده" (18031) من حديث أبي كبشة الأنماري وهو قطعة من حديث طويل. (¬4) أخرجه الترمذي (2029)، وهو عند مسلم (2588). (¬5) أخرجه الترمذي (2377)، وأخرجه أحمد في "مسنده" (3709). (¬6) أخرجه مسلم (2597) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَكونُ المؤمنُ لعَّانًا" (¬1). فإن قيل: فقد ثبتَ في الصحيح أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لعنَ جماعةً. فأخرجَ مسلم عن عليٍّ - عليه السلام - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ الله مَن لَعَن والدَيْه، لعَنَ الله من ذبحَ لغيرِ الله، لعَنَ الله مَن آَوى مُحدِثًا، لَعَن اللهُ من غيَّر مَنارَ الأرضِ" (¬2). وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ قال: لعَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الواشماتِ والمستوشماتِ، والمتنمَّصاتِ، والمتفلَّجاتِ للحُسنِ المغيِّراتِ خلقَ الله. فبلغَ ذلك أمَّ يعقوبٍ الأَسدية وكانت تقرأُ القرآنَ فأَتته فقالت: ما حديثٌ بلغني عنك كذا وكذا؟ وذكرته، فقال ابن مسعود: ومالي لا ألعنُ من لَعَن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته؟ فقال: لو كنتِ قرأتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3) [الحشر: 7] وأخرج الترمذي في الباب أحاديث عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما. فالجواب: أن لعْنَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمن ذكرنا لا يكون كلعنِ غيره، فإنَّ اللعنة من غيره قد تكون عَبَثًا أو لغرضٍ، ومنصب النبوة مُنَزَّه عن هذا، فلا يلعن إلا من كُتب عليه اللعنة، ومن لم يكن أهلًا للعن فلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون قربةً وكفارة على ما وردَ به الحديث (¬4). والوشم بشين معجمة: غرزُ الكفِّ والذراع بالإبرة، ثم يحشا بالكحلِ، والمستوشمة: التي يُفعل بها ذاك. والنامصةُ: التي تَنتف الشعرَ، والمتنمصةُ التي يفعل بها ذاك. قوله - عليه السلام -: "لا يُفلحُ قومٌ ولَّوا عليهم امرأةً" قد ذكرناه لَمَّا مات كسرى، أشار - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2019). (¬2) أخرجه مسلم (1978). (¬3) أخرجه البخاري (4886)، ومسلم (2125). (¬4) أخرجه مسلم (2601) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدًا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته، فاجعله له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة".

إلى أن المرأة ناقصة العقل والدين، ولا رأي لها، ولهذا لا تصلح أن تكون إمامًا ولا حاكمًا ونحوه. وقد أخرج الترمذي عن أبي بكرة نُفيع مَولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عَصَمني الله بشيءٍ سمعتُه من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمّا هلكَ كسرى قال: "مَن استَخلَفُوا؟ " قالوا: ابنته، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لن يُفلِحَ قومٌ وَلَّوا أَمرَهُم امرأةً" قال أبو بكرة: فلمّا قدمت عائشة البصرة ذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعَصَمني الله به (¬1). قال الترمذي: هذا حديث صحيح (¬2). قوله - عليه السلام -: "لا طاعةَ لمخلوقٍ في مَعصِيَةِ الخالِقِ" (¬3). قال أحمد بإسناده عن عِمران ابن الحُصين عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا طاعةَ في معصِيَةِ الله" (¬4). وقال الترمذي بإسناده عن ابن عمرَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "السمعُ والطاعَةُ على المسلمِ فيما أَحب وكَره، ما لم يُؤمر بمعصية الله، فإن أُمر بها فلا سَمعَ ولا طاعةَ" (¬5). قوله - عليه السلام -: "لا تحلُّ الصدقةُ لغنيًّ، ولا لِذي مرَّةٍ سَويٍّ" أو: "قويٍّ". قال أحمد بإسناده عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وذكره (¬6). قال: وجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة (¬7). والمِرَّة: القوةُ، ومنه قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)} [النجم: 6]. وقد أخرج الترمذي عن ابن مسعود عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن سَأَل الناسَ وله ما يُغنِيه، جاءَ يومَ القيامةِ ومَسأَلَتُه في وَجهِه خُموشٌ أو كُدُوحٌ أو خُدوشٌ" قلتُ: وما ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2262)، وأخرجه البخاري (4425). (¬2) جاء في نسخة كوبريللي: قال أبو داود. اهـ. والحديث لم يخرجه أبو داود ولعل المثبت هو المراد. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" 18/ (381) من حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (19824). (¬5) أخرجه الترمذي (1307). (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (8908). (¬7) ذكره الترمذي بعد الحديث (652).

يُغنِيه؟ قال: "خَمسُونَ دِرهَمًا" (¬1). قوله - عليه السلام -: "العِدَةُ دَينٌ" (¬2). عن أبي جُحيفة قال: أَتينا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأَمَر لنا بثلاثةَ عشرَ قَلُوصًا، فذَهبنا نَقبِضُها فأَتانا موتُه فلم يُعطونا شيئًا، فلمّا قَدِم أبو بكرٍ قال: مَن كانت له عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عِدةٌ فلْيَجئ، قال: فقمتُ إليه فأخبرتُه، فأمَرَ لي بها. قال: وهذا حديث حسن (¬3). وقد ذكرنا أن عليًا - عليه السلام - أنجزَ عِدات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله - عليه السلام -: "الحزمُ سوءُ الظنَّ" (¬4) ليس هذا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا من كلام معاوية بن أبي سفيان. قيل له: ما بلغ من حزمك؟ فقال: الحزم سوء الظن، وما وثقتُ بأحد قط، قال الأزهري في كتاب "تهذيب اللغة": الحزم: الحذرُ من الناس. وقال الجوهري: الحزم ضبط الرجل أمره وأخذه بالثقة (¬5). قوله - عليه السلام -: "الدَّينُ شَينٌ" (¬6) والذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أخذَ أموالَ الناسِ يُريدُ قَضاءَها وأَداءَها، أَدَّاها الله عنه، ومَن أَخَذَها يُريدُ إِتلافَها، أَتلَفَه اللهُ" (¬7) ومعنى الدين شَين: يعني في الدنيا بالمطالبةِ والحبسِ واستذلالِ المديونِ، وفي الآخرة بالمؤاخَذَةِ، وفي حديثِ أنس: "صاحبُ الدَّينِ مأسورٌ في قَبرِه يَشكُو إلى الله الوَحدَةَ" (¬8). قوله: "الخمرُ جِماعُ الإثمِ" (¬9) غريب. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (650). (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3513) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه الترمذي (2826). (¬4) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (24). (¬5) "الصحاح": (حزم). (¬6) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (31). (¬7) أخرجه البخاري (2387). (¬8) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (893) من حديث البراء بن عازب، ولم نقف عليه من حديث أنس. (¬9) أخرجه الدارقطني في "السنن" 4/ 247 من حديث زيد بن خالد.

قوله - عليه السلام -: "النَّياحةُ من عَمَلِ الجاهليةِ" (¬1) هذا اللفظ غريب، وقد وردَ في معناه أخبارٌ: منها: روى ابنُ مسعود عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليسَ منَّا مَن ضرَبَ الخُدودَ، وشَقَّ الجُيوبَ، ودَعا بدَعوَى الجاهليةِ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وروى أبو داود بمعناه، عن أم عطيةَ قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن النَّياحةِ (¬3). وأخرج أحمد في "المسند" بمعناه فقال: حدَّثنا وكيع، عن هشامٍ، عن يحيى بن أبي كَثير، عن أنس قال: أخذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على النساءِ حينَ بايَعهنَّ: أن لا ينُحْنَ، فقلنا: يا رسولَ الله، إنّ نساءً أَسعَدْنَنا في الجاهليةِ أَفنُسعِدُهن؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا إسعادَ في الإسلامِ، ولا شِغارَ، ولا عَقْرَ، ولا جَلَب، ولا جَنَب، ومَن انْتَهبَ فليسَ منَّا" (¬4). الإسعاد: أن تُسعد المرأةُ المرأةَ في مُصيبتها، والشغار: أن يزوَّج الرجلُ ابنتَه على أن يزوِّجه أُختَه أو قريبةً له، والعَقْرُ: الذبحُ عند قبورِ الموتى، والجلَبُ: الصياحُ على الفرسِ في السباقِ، والجنَبُ: أن يجنبَ فرسًا فإذا أعيت فرسهُ التي سابق عليها انتقل إلى تلك. وقال الجوهري: التناوح: التقابلُ، ومنه النوائحُ، لأن بعضهن يقابل بعضًا، ونساءُ نوائح ونوح وأنواح، والاسم واحد وهي النياحة (¬5). قوله: "الأمانةُ غِنَى" (¬6). ¬

_ (¬1) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وأخرجه أحمد في "مسنده" (7560) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ولفظه: "ثلاث من عمل أهل الجاهلية، لا يتركهن أهل الإسلام، النياحة، والاستسقاء بالأنواء، وكذا" قلت لسعيد: وما هو؟ قال: دعوى الجاهلية: يا آل فلان، يا آل فلان. (¬2) أخرجه البخاري (1297)، ومسلم (103). (¬3) أخرجه أبو داود (3127). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13032) لكن بغير هذا الإسناد. (¬5) "الصحاح": (نوح). (¬6) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (16) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

قوله - عليه السلام -: "النَّدمُ توبةٌ" (¬1) سئل الحسن البصري عن التوبة النصوح، فقال: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود أبدًا. وقيل: التوبة: الإقلاع، والندم على ما فات، وقال الجوهري: التوبة الرجوع من الذنب (¬2). قوله - عليه السلام -: "أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتَمَنك، ولا تَخن مَن خانَكَ". قال الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائْتَمَنك، ولا تَخُن مَن خانَك" (¬3). قوله - عليه السلام -: "دَفْنُ البَناتِ من المَكرُماتِ" (¬4). وأخرجَ مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلَتْ عليَّ امرأةٌ ومعها ابنَتان لها تَسألُ شيئًا، فلم تَجد عندي غيرَ تمرةٍ واحدةٍ، فقسَمَتْها بين ابنَتَيها ولم تَأكُل منها، ثم خرَجَت، ودخَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُه فقال: "مَن ابْتُلي بشيءٍ مِن هذه البَناتِ، فأَحسَن إليهنَّ كنَّ له سِترًا من النارِ". وقد أخرجه الترمذي (¬5). وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان في سفر فنُعيت إليه ابنتُه، فنزل فصلى ركعتين وقال: عورةٌ ستَرَها الله، ومؤنةٌ كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله إلينا، وقد فَعلنا ما أَمَرنا الله، ثم قرأَ {واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية [البقرة: 45] (¬6). وكان يقال: تقديم الحرم من أعظم النعم. قوله - عليه السلام -: "الحسَبُ المالُ". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (3568) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) "الصحاح": (توب). (¬3) أخرجه الترمذي (1264)، وأبو داود (3535). (¬4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12035) , والقضاعي في "مسند الشهاب" (250) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما عزي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابنته رقية امرأة عثمان بن عفان قال: "الحمد لله، دفن .... "، قال ابن الجوزي في الموضوعات (1779): هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) أخرجه مسلم (2629)، وأخرجه البخارى (1418)، والترمذي (1915). (¬6) أورده السخاوي في المقاصد الحسنة (491) و (723)، والعجلوني في كشف الخفاء (1304) و (1790).

روى سَمُرة بن جُندب عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحسَبُ المالُ، والكَرَمُ التَّقَوى" (¬1). ومن حديثِ أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَرمُ المرءِ دينُه، ومروءتُه عقلُهُ، وحسبه خُلقه" (¬2). وقال وكيع: الحسَبُ المالُ، ألا ترَى من كان ذا مال عظَّمه الناس؟ وقال الجوهري: الحسَبُ ما يعدُّه الإنسان من مفاخِرِ آبائه، قال ويقال: حسبهُ دينُه ومالُه (¬3). قوله - عليه السلام -: "كَرمُ الكِتابِ خَتمُه" (¬4). قد ذكرنا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا أرادَ أن يُكاتب الملوكَ قيل له: إنهم لا يقرؤونَ إلَّا كتابًا مختومًا، فاتخذَ الخاتم، وأما هذا اللفظ فيقال: إنه من كلام ابن عباس أخذه من قول الأوائل: كلُّ كتاب غير مختوم فهو أَقلَف، ومن لم يختم كتابه فقد استخفَّ بالمكتوب إليه، ومن ها هنا أخذ ابن المقفع فقال: الختم حتم. قوله - عليه السلام -: "مُداراةُ الناسِ صدقةٌ". حدّثنا عبد العزيز بن محمود البزاز بإسناده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُداراةُ النَّاسِ صدقةٌ" (¬5) وقال الأزهري: المداراة: الاحتمال بحسن الخلق والعفو واللين والتفضل على المسيء بالإحسان، وأن يصل من قطعه ويعطي من حرمه، وقال الجوهري: المداراة هي المداجاة والملاينة (¬6). قوله - عليه السلام -: "السَّماحُ رَباحٌ". أخرجه ابن قتيبة في كتاب "غريب الحديث" (¬7)، وقد قرأت الكتاب المذكور على ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (20102). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (8774). (¬3) "الصحاح": (حسب). (¬4) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (39) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وفيه السدّي الصغير والكلبي، اتُّهما بالوضع والكذب. (¬5) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (471). (¬6) "الصحاح": (درا) و (دجا). (¬7) لم نقف عليه في غريب الحديث، وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (23).

الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي ويعرف بالبهاء النابلسي في سنة اثنتين وعشرين وست مئة بقاسيون في الجامع المظفري، قال: حدَّثنا أبو الحسين عبد الحق بن عبد الخالق بن يوسف، عن عمه عبد الرحمن بن أحمد ابن يوسف، عن إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، عن أبي عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزَّاز، عن أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن السكري، عن أبي محمد عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدينوري قال: مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ يبيع شيئًا، فقال له: "عليكَ بالسَّومِ أولَ السُّوقِ، فإن السَّماحَ رَباحٌ، أو الرَّباحُ مع السَّماحِ" والسَّماحةُ الجودُ، وسمح به، أي: جادَ، والرباحُ: الربحُ، وتجارةٌ مربحةٌ ورابحة يربح فيها. وقال الجوهري: ورباح في قول الشاعر: هذا مقامُ قَدَمَي رَباحِ اسم ساقٍ، قال: والرباحُ أيضًا دُويبة كالسَّنَّورِ، والرباح: أيضًا بلدٌ يجلبُ منه الكافورُ، والرُّبّاح بالضم والتشديد: الذكرُ من القرودِ (¬1). ومعنى الحديث: المساهلة في البيع والمسامحة ولا يشدد، فإن المسامحة من أعظم الأرباح، وقد أخرجَ الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يحبُّ سمحَ البيعِ سمحَ الشراءِ سمحَ القضاءِ" (¬2). قوله - عليه السلام -: "الولدُ مَبخلَةٌ مجبنةٌ" (¬3). قوله - عليه السلام -: "الهمُّ نصفُ الهَرَمِ" (¬4) غريب. قال الجوهري: الهمُّ الحزن، والجمع الهموم، والهرم: كبر السن. وقال الخطابي: أشار - صلى الله عليه وسلم - في الحديث إلى دفع الهم عن نفسه، لا يفيد مع جريان المقدور، والهم عقوبةٌ، وفي الأثر عن عائشة - رضي الله عنها -: من هَمَّ عوقب بهمِّه. وقيل: الهم كل الهرم. ¬

_ (¬1) "الصحاح": (ربح). (¬2) أخرجه الترمذي (1319). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (17562) من حديث يعلى العامري - رضي الله عنه -. (¬4) أورده الديلمي في "مسند الفردوس" (7014) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

قوله - عليه السلام -: "البذاءُ من الجفاءِ". قال الترمذي بإسناده عن أبي أمامة الباهلي عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحياءُ والعيُّ شُعبتان من الإيمانِ، والبَذَاءُ والبيانُ شُعبتان من النِّفاق" (¬1). وقيل: البذاء طول اللسانِ والرمي بالفواحشِ والبهتان، والعيُّ قلة الكلام. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصبحةُ تمنَعُ الرِّزقَ". قال عبد الله بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لصُّبحة تمنعُ الرِّزقَ" (¬2) أي: ينامُ حتى يصبحَ، وقال غيرُه: هي نومةُ الغداةِ قبل ارتفاع النهار بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، ولأنه وقتُ الذكرِ وطلب الرزقِ، فإذا نام في تلك الساعة فاته حظه منه. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "العمائمُ تيجانُ العربِ" (¬3) غريب. وأخرج أبو داود بمعناه فقال: حدَّثنا قتيبة بن سعيد الثقفي بإسناده، عن رُكانة عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فرقُ ما بيننا وبينَ المُشركين العمائمُ على القلانسِ" (¬4) وركانةُ هذا صارَعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فصرعَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبتَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبسُ العمامةَ، وذكرنا أنَّه دخلَ يوم فتحِ مكة وعلى رأسه عمامةٌ سوداءُ قد أَرخى طرفها بين كَتفيه، واسم هذه العمامةِ السَّحاب، قال هشام: ووهبها لعليًّ - عليه السلام -، فقال الناس: ما أحسنَ عليًا في السحابِ، ومن هنا قالت الشيعة: علي في السَّحاب. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجمعةُ حجُّ المساكين" (¬5) وذلك لأن الأغنياء لايقدرون على الحج إلا بإنفاق الأموال والمشقات، والفقراء ليست لهم أموال ولا قوة، فيتعوضون بالجمعة عن الحج. ¬

_ (¬1) الترمذي (2027)، وأحمد في "مسنده" (22312). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (530). (¬3) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (68). (¬4) أخرجه أبو داود (4078)، والترمذي (1784). (¬5) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (78).

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسجدُ بيتُ كلِّ تقيًّ" (¬1) ومعناه صحيح، لأنه ما بُني إلا لذكر الله والصلاة والتسبيح، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فبنيت للتقوى ضرورة. قوله: "الكَرَمُ التَّقوَى" (¬2) وأما من حيث المعنى فلأن العبد إذا اتقى الله فقد تكرم على نفسه وجاد لها فصانها عن عذاب النار. قوله - عليه السلام -: "القاصُّ ينتظرُ المقتَ، والمستمعُ ينتظرُ الرحمةَ" (¬3). قوله - عليه السلام -: "الصَّدقةُ تمنعُ مِيتةَ السُّوءِ" روى أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ الصدقةَ لَتُطفِئُ غضَبَ الرَّبِّ، وتَدفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ" (¬4). وأخرج جدي في "التبصرة" عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ الله لَيدرَأُ بالصدقةِ سَبعينَ ميتةً من السُّوءِ" (¬5). وفي الباب أخبار وآثار في دفع البلاء عن المصدق. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نيةُ المؤمنِ أبلغُ من عَمَلهِ" (¬6) وقد ذكرنا قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ بالمدينةِ أَقوامًا ما قَطعتُم واديًا، إلَّا وقد سبَقُوكُم إليه". واختلفوا في معناه على قولين: أحدهما: أن المؤمنَ ينوي أشياء من أبواب البر، كالصلاة والصيام والصدقة ونحوه، ولعله يعجز عن إمضائها فتكون نيته أبلغ من عمله. وقال الحسن البصري: إنّما خُلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بنياتهم. وقال عكرمة: انهدمت قنطرةٌ بالمدينة فعزم عثمان على إصلاحها، فسبقه إليها يهودي فأصلحها، فشق على عثمان، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأسَ عليك، نيةُ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (20029)، والبزار في "مسنده" (2546)، والطبراني في "الكبير" (6140) من حديث سلمان - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه تمام في "فوائده" (1717) من حديث سمرة بن جندب. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (13567)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (311). (¬4) أخرجه الترمذي (664)، وابن حبان في "صحيحه" (3309). (¬5) "التبصرة" 2/ 256. (¬6) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (147)، والبيهقي في شعب الإيمان (6445) من حديث أنس - رضي الله عنه -، وضعف البيهقي إسناده، وقال الشوكاني في الفوائد المجموعة 250: لا يصح.

المؤمنِ أبلَغُ من عَمَلهِ، ونيةُ الكافرِ شرٌّ من عمَلهِ". وقيل معناه: أنّ عملهُ بنية خير من عمله بلا نية. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشتاءُ رَبيعُ المؤمن: قَصُرَ نهارُه فصَامَه، وطالَ ليلُه فقامَه" (¬1). وقال الخطابي: إنَّما خص الربيع لأنه أحد الفصول، ويكثر فيه الخصب، ويعتدل الزمان، ويرق الهواء، ويصفو الماء، ولهذا سمت العربُ الرجل الجواد: ربيع اليتامى، لقيامه مقام الخصب في أيام الربيع. قوله - عليه السلام - "الناسُ كأَسنانِ المُشطِ". حدَّثنا جدي رحمه الله بإسناده، عن أنس بن مالك قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الناسُ سَواءٌ كأسنانِ المُشطِ، وإنَّما يتفاضَلُون بالعافيةِ، والمرءُ كثيرٌ بأَخيهِ يرفدُه ويكسُوه ويحمِلُه، ولا خيرَ في محبةِ مَن لا يَرى لكَ مثل ما تَرَى له" (¬2). وقد تكلم عليه أبو عبيد فقال: معنى كأسنان المشط: أنَّهم مستوون في الأحكام، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعلم والتقوى، ومعنى يتفاضلون بالعافية، أي: من الذنوب، وما زالَ السلفُ ينهونَ عن التكثير من الإخوان حتى قال الفضيل: أنكر من تعرف، ولا تتعرَّف إلى من لا تعرف. وقال علي - عليه السلام -: [من الطويل] جَزَى الله عنا الخيرَ مَن ليس بيننا ... ولا بينه ودٌّ ولا مُتعارفُ فما ساءني إلَّا الذين عَرفتهم ... ولا سرَّني إلَّا الذي لستُ أعرفُ وقال ابن الرومي: [من الوافر] عدوُّك من صديقِك مُستفادٌ ... فلا تَسْتَكثرنَّ من الصحابِ فإنَّ الداءَ أكثرُ ما تراه ... يكونُ من الطعامِ أو الشرابِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البلاءُ موكَّلٌ بالمنطقِ" (¬3) ليس هذا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من ¬

_ (¬1) أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في "السنن" 4/ 297، وأحمد في "مسنده" (11716) مختصرًا من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) "الموضوعات" 2/ 273، وابن حبان في "المجروحين" 1/ 198، وابن عدي في "الكامل" 3/ 248. (¬3) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (227) من حديث حذيفة مرفوعًا.

كلام أبي بكر - رضي الله عنه - وقد ذكرناه في صدر السيرة. وقال أبو القاسم البابي (¬1) الوراق في "شرح الشهاب": وتمام قوله: "البلاءُ موكَّل بالمنطق: فلو أنَّ رجلًا عيَّر رَجلًا برضاعِ كلبة لرضعها" (¬2). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "زكاةُ البدَنِ الصومُ" أخرجه أبو نعيم الأصفهاني بإسناده، عن سهل بن سعد قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكلِّ شيء زكاةً، وزكاةُ الجسدِ الصومُ" (¬3) ومعناه صحيح، لأن قوله: لكل شيء زكاة، ظاهر، وذلك لأن الزكاة تطهر المال فكذا الجسد، لأن زكاة البصر غضه، وزكاة السمع صيانته عن الغيبة، وزكاة اللسان حفظه وإمساكه عن الفحش والخَنا، وزكاة الوجه السجود، وزكاة القدمين طول القيام والسعي فيما يرضي الله تعالى، وزكاة اليدين كفُّهما عما لا يليق ورفعهما بالدعاء، وزكاة القلب تطهيره عما سوى الله تعالى، وزكاة البدن الصيام عن المأكول والمشروب وعن الدنايا من طلب الدنيا وغير ذلك، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صامَ رمضان وأَتبَعه بستة أيامٍ من شوالٍ، فكأنَّما صامَ الدَّهرَ" (¬4)؟ وذلك لأن عظام البدن ثلاث مئة وستون عظمًا، والجسد يشتمل عليها كلها، فصيام ثلاثين يومًا بعشرة أشهر وستة أيام بشهرين. قوله - عليه السلام -: "الصيامُ في الشتاءِ الغَنيمةُ الباردةُ" قد ذكر محمد بن الأنباري فقال: كلُّ محبوبٍ عند العرب باردٌ، والغنيمةُ الباردة: هي التي يصل إليها الرجل من غير تعب ولا عناء، لأن الغنائم إنما يتوصل إليها بالحروب والمشقة، فإذا حصلت بغير مشقة كانت غنيمة باردة، ومعنى الحديث حصول الثواب من غير مشقة (¬5). قوله - عليه السلام -: "الإمامُ ضامِنٌ، والمؤذَّنُ مُؤتَمن" قال أحمد بن حنبل بإسناده، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإمامُ ضامِنٌ، والمؤذَّنُ مؤتَمنٌ، اللهمَّ أَرشِدِ ¬

_ (¬1) في كشف الظنون 1067: العابي. (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخه" 3/ 279 من حديث ابن مسعود، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" 2/ 276، وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) "الحلية" 7/ 136، وأخرجه ابن ماجه (1745) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد ضعيف. (¬4) أخرجه مسلم (1164) من حديث أبي أيوب - رضي الله عنه -. (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (18959)، والترمذي (797) من حديث عامر بن مسعود - رضي الله عنه -.

الأَئمةَ، واغفِر للمؤذَّنينَ" (¬1). فالضمان في كلام العرب: الرعاية والمحافظة على الشيء، ومنه قولهم للمسافر: في حفظ الله وضمانه، والإمام يحفظ للقوم صلاتهم، فيضمن عن الساهي سهوه ويتحمل القراءة عنهم ونحو ذلك، وأما المؤذن فإنه أمين على المواقيت، وربما أشرف وقت الأذان على حريم الناس عند دورانه في المنارة، وقيل: إن الخطاب لإمام ومؤذن لا يأخذان على الإمامة والأذان أجرًا، لأنهما متبرعان فيكونان أقرب إلى الإخلاص، فيضمن الإمام قبول الصلاة، ويؤتمن المؤذن على ما يؤذنه على الوجه المشروع من غير نقص. قوله - عليه السلام -: "أهلُ المعروفِ في الدنيا، هم أهلُ المعروفِ في الآخرةِ" حدَّثنا جدي رحمه الله بإسناده عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أهلُ المعروفِ في الدنيا، هم أهلُ المعروفِ في الآخِرةِ، وأهلُ المنكَرِ في الدنيا، هم أهلُ المنْكَرِ في الآخِرَةِ" (¬2). قوله - عليه السلام -: "السلطانُ ظِلُّ الله في الأرضِ يَأوي إليه كلُّ ملهوفٍ" (¬3). واختلفوا فيه فقال قومٌ: هذا مَثلٌ لأن الظل راحة يستريح إليه كل متعوب، وكذا السلطان يأوي إليه كل مظلوم، ومنه قول تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} [الواقعة: 30] أي: راحة دائمة، ومنه ظل الشجرة. وقال آخرون: الظل عام، وكذا السلطان عام، وقال سهل بن عبد الله: الظل لا يدوم، وكذا السلطان لا يدوم. وقال سهل: أظهر الله آثار الهيبة في الأرض على أربعة أشياء: على الكعبة بهاءَه، وعلى القرآن هيبتَه، وعلى القلوب نورَه، وعلى السلطان ظلَّه، قال: وإنما يكون السلطان في ظلِّ الله إذا كان عادلًا صالحًا جوادًا متواضعًا، أما إذا كان ظالمًا فاجرًا جبانًا بخيلًا قاسيًا متجبرًا متكبرًا، فإنه يكون سمومًا وعذابًا لا ظلًا. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (7169). (¬2) "العلل المتناهية" (835). (¬3) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (304). من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 196: فيه سعيد بن سنان أبو مهدي، وهو متروك.

قال أحمد بإسناده عن أبي بكرةَ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن أكرَمَ سلطانَ الله في الأرض، أكرَمَه الله يومَ القيامةِ، ومَن أهانَ سُلطانَ الله في الدنيا، أَهانَه الله يومَ القيامةِ" (¬1). وقيل للحسن البصري: ألا تقاتل الحَجاج؟ فقال: الحَجاج نقمة وسخط وعذاب من الله، والعذاب لا يقاتل بالسيف بل بالدعاء. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "التاجرُ ينتظِرُ الرزقَ، والمُحتَكِرُ ينتظرُ اللَّعنةَ" ذكر في كتاب "الموضوعات" طرفًا منه فقال: فيه عن العبادلة، وعن ابن عمر وحده، وعن أبي هريرة، وأنس، قال: وأما حديث العبادلة - وهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر [وعبد الله بن عباس] وعبد الله بن الزبير - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "القاصُّ ينتظرُ المقتَ والمستمعُ ينتظرُ الرحمةَ، والتاجرُ ينتظرُ الرزقَ، والمحتكرُ ينتظرُ اللعنةَ، والنائحةُ ومَن حولَها من امرأةٍ مستمعةٍ عليهم لعنةُ الله والملائكةِ والناسِ أَجمعين". وأما حديث ابن عمر، فله طريقان، في طريق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن احتَكَرَ طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه"، والطريق الثاني: " [مَن احتَكَر] طعامًا بَرِئ الله منه". وأما حديثُ أبي هريرةَ: فقال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُحشَرُ الحكَّارونَ وقتلةُ النفسِ في جهنَّمَ في درجةٍ واحدةٍ". وأما حديث أنس: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حَبسَ طعامًا أربعينَ ليلةً، ثم أخرجَه فطحَنَه وخبَزَه وتصدَّق به، لم يَقبل الله منه شيئًا". ثم قال جدي: هذه الأحاديث كلها لا تصح، وقد ضعفه (¬2). وقد وقَّت الاحتكار بأربعين ليلة. قال [أحمد] بإسناده عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن احتكَرَ طعامًا أربعينَ ليلةً، ¬

_ (¬1) أحمد في "مسنده" (20433). (¬2) "الموضوعات" 2/ 151 - 152 وما بين معكوفات منه، وقد تكلم ابن الجوزي على كل حديث وطرقه، فلعل مختصر المرآة حذف كل هذا وبقيت هذه الكلمة التي ندت عنه.

فقد برِئَ من اللهِ تعالى، وبَرِئ الله منه، وأيُّما أهلُ عرصَة أصبح فيهم امرأً جائعًا، فقد بَرِئت منهم ذِمَّة الله تعالى" (¬1). وقال أحمد بإسناده عن فروخ مولى عثمان: أن عمر وهو يومئذ أمير المؤمنين خرج إلى المسجد، فرأى طعامًا منثورًا فقالَ: ما هذا الطعام؟ قالوا: طعام جُلب إلينا، فقال: بارك الله فيه وفيمن جَلبه، قيل: يا أمير المؤمنين، فإنه قد احتُكر قال: ومن احتكَرَه؟ قالوا: فروخ مولى عثمان وفلان مولى عمر، فأرسل إليهما فدعاهما فقال: ما حملكما على احتكارِ طعام المسلمين؟ قالا: يا أمير المؤمنين، نَشتري بأموالنا ونبيعُ، فقال عمر: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن احتَكَرَ على المسلمين طَعامَهم ضربَه الله بالإفلاسِ أو بالجذامِ" فقال فروخ: يا أمير المؤمنين، أُعاهد الله وأعاهدك أن لا أعودَ في احتكارِ طعامٍ أبدًا، وأما مولى عمر فقال: إنما نَشتري ونبيعُ بأموالنا. قال أبو يحيى: فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا. وهذا الحديث أخرجه أحمد في مسند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬2). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صَمَتَ نَجا" (¬3). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تواضَعَ للهِ رفَعَهُ الله" روى أبو اليُمن زيد بن الحسن الكِندي اللغوي بإسناده عن عابسِ بن رَبيعة قال: سمعتُ عمرَ بن الخطاب يقول: أيُّها الناسُ تواضَعُوا فإنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن تواضَعَ للهِ رفَعَه، ومن تكَبَّر خفَضَه" (¬4). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صلَّى بالليلِ حسنَ وجهُه بالنهار" (¬5). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سافِرُوا تَغنَمُوا، وصُوموا تَصِحِّوا" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (4880). (¬2) أحمد في "مسنده" (135). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (6481)، والترمذي (2501)، من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1356). (¬5) أخرجه ابن ماجه (1333) من حديث جابر - رضي الله عنه -، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": حديث ضعيف، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" 2/ 34. (¬6) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8312)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 179 وقال: رجاله ثقات.

واختلفوا في معناه على قولين: أحدهما: أن معنى السفر الظاهر سفر الدنيا {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] وفيه مشاهدة آثار الأنبياء والعلماء، والربح في التجارة وعجائب الدنيا، والإسفار عن أخلاق الرجال بين كريم يسخو ولئيم يشح. والثاني: أن المرادَ به السفر الباطن، وقد أشارت إليه رابعة قالت: سافروا بقلوبكم إلى عالم الملكوت لترجعوا بأخبار الغيب والشهادة، وعلى هذا الصوم، فإنه من حيث الظاهر يصحح البدن، وفي الباطن صوموا بقلوبكم عن الدنيا تصحوا عما سوى الآخرة. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "زُرْ غِبًّا تَزدَدْ حُبًّا". أخرجه جدي في "الواهية" عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيت عائشة، فتبعتُه فالْتَفت إليَّ وقال: "يا أَبا هُريرةَ، زُرْ غِبًّا تَزدَدْ حبًّا" (¬1). قال أبو القاسم الوراق في شرح "الشهاب": لما قال رسول الله لأبي هريرة ذلك، قالت عائشة: يا أبا هريرة، أكثرت من زَوْرِك فمَلَّك، ودمت في ذاك فاستقلك، لو كنت ممن يزور غبًا أثر في قلبه محلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشةُ، والله ما مَللناهُ ولا قللناهُ، ولكن أَدّبناه". قوله - عليه السلام -: "اطلبُوا الخيرَ عندَ حِسانِ الوُجوهِ" (¬2). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تخيَّروا لنُطَفِكُم" (¬3) قيل: إنه موقوف على علي - عليه السلام -، وفيه: "فإنَّ العِرقَ دسَّاس" (¬4). ¬

_ (¬1) "العلل المتناهية" (1237)، وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب (629). (¬2) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (4759) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) أخرجه ابن ماجه (1968). (¬4) لم نقف عليه من حديث علي، وأخرج ابن عدي في "الكامل" 6/ 178، والقضاعي في "مسند الشهاب" (638)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1007) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصي رجلًا: "يا فلان، أقِلَّ من الذين تعش حرًّا، وأقِلَّ من الذنوب يهن عليك الموت، وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس".

قال أبو عبيدة: معناه: لا تجعلوا نطفكم إلا في محل طاهر، ولا خلاف في كراهية ابن العاهر، وقال أبو سليمان: معنى "العرق دساس" لئلا يدب الزنا في عروقه، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} فقضى بفساد الأصل على فساد الفرع. قوله - عليه السلام -: "لا يَنبغي للمؤمن أن يذل نفسه" (¬1) غريب، ومعناه أنه لا يتعرض لما يعجز عنه فيكون له سببًا لهوانه، قال الشاعر: [من الطويل] وأكرمُ نفسي إنَّني إن أَهنتُها ... وحقَّك لا تُكرم على أحدٍ بعدي ولهذا البيت حكاية نذكرها فيما بعد. قوله: "استَغنُوا عن الناسِ ولو بشَوصِ السَّواكِ" (¬2). أصل الشوصِ الغسل وكذا المَوْصُ، قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشوصُ فاه بالسّواكِ (¬3). وشوصُ السواك الشظية التي تكون بين الأسنان لا ينتفع بها، أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى القناعة باليسير. قوله - عليه السلام -: "الْتَمِسوا الجارَ قبلَ الدار" (¬4) غريب. وفيه حث على مجاورة الجار الحسن، والهرب من الجار السوء. قوله - عليه السلام -: "لا يحلُّ لمسلم أن يَهجُرَ أَخاه فوقَ ثلاثةِ أيامٍ، إلاَّ أن يكون مِمَّن لا تؤمَنُ بوائقُه". أخرجه جدي في "الواهية"، وقال أحمد بن حنبل: لا يصح هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو كذب (¬5). قلت: وكيف يكون هذا الحديث كذبًا وقد أَخْرَجا في "الصحيحين" عن أنس، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2254)، وابن ماجه (4016) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12257)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (687) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬3) لم نقف عليه بهذا اللفظ من حديث عائشة، وأخرجه بهذا اللفظ البخاري (245)، ومسلم (255) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (4379)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (709). (¬5) العلل المتناهية" (1252)، وأما كلام الإمام أحمد فإنكاره على قوله: إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه" انظر "البدر المنير" 9/ 472.

وقال أحمد بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَباغَضوا، ولا تَباغَوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَدابَروا، ولا تَقاطَعُوا، وكونوا عبادَ الله إِخوانًا، ولا يحلُّ للمسلمِ أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ" متفق عليه (¬1). وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة وعائشة، وأحاديثهم أخرجها أبو داود والترمذي (¬2)، وإنما الزيادة في الحديث وهي قوله: "إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه" هذه الزيادة ليست في "الصحيحين" فيحتمل إنهم أشاروا إليها، وقد كان ينبغي لجدي أن يتبين الصحيح من السقيم، وقد فعلوا هذا في أحاديث منها: قوله - عليه السلام -: "إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمالَ" أخرج مسلم (¬3) هذا اللفظ عن ابن مسعود، ثم قال في "الواهية": هذا الحديث لا يصح، روت عائشة أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ ذاتَ يومٍ فمرَّ ببركة فيها ماءٌ، فاطلَعَ فيه فسوى من لحيتهِ ورأسهِ، فقلت له في ذلك، فقال: "إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمالَ" (¬4) فقول عائشة "نظرَ في بركة" هو الذي تكلَّموا فيه، وباقي الحديث في الصحيح. وقال أبو داود: إذا كانت الهجرةُ لله فليسَ من قوله: "لا يحلُّ للرجلِ أن يهجُرَ أَخاه فوقَ ثلاث" قد رأى عمر بن عبد العزيز رجلًا فغطى وجهه (¬5). قوله: "لا يدخلُ الجنةَ رجلٌ لا يأَمنُ جارُه بوائِقَه" (¬6) واختلفوا في البوائق، فقال الجوهري: هي غشمه وظلمه، وقال الكسائي: غوائله وشره (¬7). وقيل: مكائده وشدائده. قوله: "لا تَكُونوا مُتَماوتين" (¬8) هذا من كلام عمر - رضي الله عنه -، رأى رجلًا يتخاشَع، فضربه بالدرَّة وقال: ارفع رأسك فإن التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6065)، ومسلم (2559)، وأحمد (12073). (¬2) سنن أبي داود (4911 - 4914)، وسنن الترمذي بعد (1935). (¬3) في صحيحه (91). (¬4) "العلل المتناهية" (1144). (¬5) ذكره عقب (4916). (¬6) أخرجه مسلم (46). (¬7) "الصحاح": (بوق). (¬8) أخرجه القضاعي (940) مرسلًا عن مكحول.

وقد روى عروة بن الزبير عن عائشة أنها نظرَت إلى بعض القرَّاء وهو يكاد يموت تخشعًا فقالت: بورك لكل سهل طلق مضحاك، وأبعد الله كلّ عبوس، يلقاك بوجه مكفهر يمن عليك بعمله، فلا كثر الله في المسلمين أمثالهم. قوله: "إنَّ لكلِّ شيءٍ قَلبًا وقلبُ القرآنِ يس" (¬1) فإن قيلَ: فالقلب جسم والقرآن ليس بجسم، فالجواب: إنما أشار إلى الترغيب في قراءة يس، وصار كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَنامُ القرآنِ البقرةُ" (¬2). قوله: "إنَّ الله يحبُّ الشجاعةَ ولو بقَتلِ حيةٍ" (¬3). قوله: "إذا أَرادَ اللهُ قبضَ روحِ عبدٍ في أرضٍ، جَعَل له فيها حاجةً" (¬4). وقد ذكرنا في سيرة سليمان - عليه السلام - أن ملك [الموت] قبض روح صديقه عند مطلع عين الشمس. قوله: "إذا أَرادَ اللهُ إنفاذَ قَضائهِ وقَدَرِه، سَلَب ذوي العقولِ عُقولَهم" (¬5) غريب، وقيل: هو موقوف على ابن عباس، ويروى أنه من كلام الحسن البصري، فإنه كان يقول: ما ابتلى الله قومًا بفتنة إلا وسلبهم عقولهم، فإذا رفع الفتنة عنهم، ردَّ عليهم عقولهم، ليرفعوا قبيح ما كانوا عليه. قوله: "لو علِمَت البهائمُ مثل ما تَعلمون من الموتِ ما أَكلتُم سمينًا قطُّ" (¬6) غريب. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2887)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1035) من حديث أنس - رضي الله عنه -، وفيه هارون أبو محمد، قال الترمذي: شيخ مجهول، وقال الذهبي (8666): أنا أتهمه بما رواه القضاعي في شهابه، وساق هذا الحديث. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (20300) من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 199، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1080) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -، وفيه عمر بن حفص العبدي متروك. (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (15539) من حديث أبي عزة - رضي الله عنه -. (¬5) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1408) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وفيه محمد بن سعيد المؤدب، قال الذهبي في الميزان (7665): لا أعرفه وأتى بخبر منكر، ثم ساق له هذا الحديث. (¬6) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1434)، والبيهقي في شعب الإيمان (10073) من حديث أم صبية الجهنية - رضي الله عنها -، وفيه عبد الله بن سلمة ضعفه الدارقطني وغيره. قاله المناوي في فيض القدير 5/ 315.

وقد أخرجه البخاري في أفراده، عن أبي هريرة: "لو عَلِمتُم ما أَعلَمُ، لضَحِكتُم قليلاً وبكيتُم كثيرًا" (¬1). وقال أبو عبيد: البهائم لا تعلم بالموت ولو علمت ما حملت لحمًا، وأنتم تعلمون وتحملون فأنتم أشد غفلة من البهائم وهي أعذر منكم. قوله: "بُورِكَ لأمَّتي فى بُكُورِ سَبتِها وخَميسِها" هذا المعنى فيه ثلاثة أحاديث: أحدها: "بوركَ لأمتي في بُكُورِها"، والحديث الثاني: "في كل اثنينٍ وخميسٍ"، والثالث: "في بكورِ يومِ السبتِ". فأما الأول: فاخرجه جدّي بإسناده إلى عليًّ - عليه السلام - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُورِكَ لأُمَّتي في بُكُورِها" (¬2). وأما الحديث الثاني: فأخرجه أبو محمد بن عدي عن جابر عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اطْلُبوا الحَوائجَ أو العلمَ كلَّ اثنينٍ وخميسٍ" (¬3). وأما الثالث: فأخرجه الدارقطني عن جابر عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن بكَّرَ يومَ السبتِ في طلبِ حاجةٍ فأنا ضامنٌ لقَضائِها" (¬4). قلت: والحديث وإن كان ضعيفًا غير أن السلف كانوا يستعينون بالبكور على قضاء حوائجهم، ومن بورك له في شيء فليلزمه، حتى قد صارت الأخبار بمنزلة التواتر، ولن يجمع الله العالم على ضلالة، ومن أمثالهم: بَكَّر بُكور الغراب. وقد أخرج أحمد في "المسند" بإسناده أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ بارِكْ لأُمَّتي في بُكُورِها" وكان إذا بعث جيشًا بعثه أول النهار (¬5). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6485). (¬2) "العلل المتناهية" (503). (¬3) "الكامل" 1/ 364، و"العلل المتناهية" (502). (¬4) "العلل المتناهية" (536). (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (15443) من حديث صخر الغامدي - رضي الله عنه -.

الباب السابع والثلاثون: في ذكر صلاتنا عليه - صلى الله عليه وسلم -

الباب السابع والثلاثون: في ذكر صلاتنا عليه - صلى الله عليه وسلم - [وقال أحمد بإسناده] عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صلَّى عليَّ مرةً واحدةً، صلَّى اللهُ عليه عَشرًا" أخرجه مسلم (¬1). [وقال أحمد: قرأت على عبد الرحمن بإسناده] عن أبي حميد الساعدي قال: قالوا: يا رسول الله كيفَ نصلِّي عليك؟ قال: "قُولُوا: اللهمَّ صلَّ على محمدٍ، وعلى أزواجهِ وذرِّيتهِ، كما صلَّيت على آل إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارِك على محمدٍ وعلى أزواجهِ وذرِّيته، كما بارَكتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ" أخرجاه (¬2). وقال [أحمد بإسناده عن أبي مسعود] عقبة بن عمرو الأنصاري قال: أقبل رجلٌ حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده، فقال: يا رسولَ الله، أمَّا السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلِّي عليك؟ فقال: "قُولُوا: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ النبيَّ الأميِّ، وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وآل إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ النبيَّ الأمِيِّ وعلى آلِه، كما بارَكتَ على إبراهيمَ [وعلى آل إبراهيم] إنَّك حميدٌ مجيدٌ" (¬3). [وفي رواية: فكيف نصلي عليك في صلاتنا؟ وذكره. انفرد بإخراجه مسلم (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَجفُوني" قالوا: وكيف نجفوك؟ قال: "أُذكَرُ فلا يُصلَّى عليَّ" (¬5). فصل في ذكر رد روحه إليه - صلى الله عليه وسلم -: قال أحمد بإسناده] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن أَحدٍ يُسلِّمُ عليَّ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (10287)، ومسلم (408). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (23600)، والبخاري (3369)، ومسلم (4071). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (17072). (¬4) أخرجه مسلم (405). (¬5) لم نقف عليه.

إلَّا ردَّ الله إليَّ رُوحي حتى أَردَّ عليه" (¬1). [حديث آخر في الصلاة عليه قال أحمد بإسناده عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس، ويقال: ] ابن أبي أوسٍ الثقفي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِن أَفضل أَيامِكُم يومُ الجمعةِ، فيه خُلق آدمُ، وفيه قُبِض، وفيه النفخةُ، وفيه الصعقةُ، فأكثروا عليَّ من الصلاةِ فيه، فإنَّ صَلاتَكُم معروضةٌ عليَّ" قالوا: يا رسولَ الله، وكيف تعرض عليك صلاتُنا وقد أَرِمتَ؟ فقال: "إنَّ اللهَ حرمَ على الأَرضِ أن تأكلَ أَجسادَ الأَنبياءِ" (¬2). ومعنى أرمت أي: بليت [والرمة: العظام البالية]. وقال [الترمذي بإسناده، عن عبد الله] ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَولى الناسِ بي يومَ القيامةِ أكثَرُهم صلاةً عليَّ" (¬3). [وقال أحمد بإسناده عن عبد الله بن مسعود] قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لله عزَّ وجلَّ ملائكةً سيَّاحين في الأرضِ يُبلِّغوني من أُمَّتي السَّلامَ" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (10815). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (16162). (¬3) أخرجه الترمذي (484). (¬4) أخرجه أحمد في "مسنده" (3666).

الباب الثامن والثلاثون: في ذكر حوضه وشفاعته - صلى الله عليه وسلم -

الباب الثامن والثلاثون: في ذكر حوضه وشفاعته - صلى الله عليه وسلم - [أما الحوض فقد اختلفت الروايات فيه: ] قال ابن مسعود: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا فَرَطُكُم على الحوضِ، وليُرفَعَنَّ إليَّ رجالٌ منكم، حتى إذا أَهويتُ لأُناوِلَهم اختُلِجُوا دُوني، فأَقولُ: يا ربِّ، أَصحابي، فيقال: إنَّكَ لا تَدرِي ما أَحدَثُوا بَعدَكَ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وفي "الصحيحين" عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حَوضِي مَسيرةُ شَهرٍ، ماؤُه أَشدُّ بياضًا مِنَ اللَّبَنِ، وريحُه أَطيَبُ من ريحِ المِسْكِ، وكِيزانُه مثل نجومِ السَّماءِ، مَن شَرِبَ منه شَربةً لا يَظمأ بعدَها أبدًا" (¬2). [وفي المتفق عليه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن أمامكم حوضًا بين جَرباء وأَذرُح" قال نافع: وهما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام (¬3)]. وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذِي نَفسِي بيَدِه، لأَذودَنَّ رِجالًا عن حَوضي كما تُذادُ الغريبةُ من الإبلِ عن الحوضِ، وليَرِدنَّ على الحوضِ رهطٌ فيُحَلَّون عنه، فأقول: يا ربِّ، أصحابي، فيقولُ: إنَّك لا عِلمَ لكَ بما أَحدَثُوا بعدَكَ، إنَّهم ارْتدُّوا على أَعْقَابهم القَهْقَرَى" (¬4) [وكان أبو هريرة يقول: فيجلون - بالجيم - وفيه يقول: "هلم، فأقول إلى أين؟ فيقول: إلى النار، فإنهم ارتدوا بعدك، فلا يخلص منهم إلا مثل هَمَلِ النَّعَم" (¬5). ومعنى: "أذودن": أطردن، و"يحلون" أي: يمنعون، كما يقال للإبل: حِلْ حِلْ إذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7049)، ومسلم (2297). (¬2) أخرجه البخاري (6579)، ومسلم (2292). (¬3) أخرجه البخاري (6577)، ومسلم (2299). (¬4) أخرجه البخاري (6585)، ومسلم (2302). (¬5) أخرجه البخاري (6587).

منعت، وأراد أبو هريرة بقوله: يجلون - بجيم - الرجوع إلى خلف، وقيل: هو من الجلاء وهو الطرد، و"الهَمَل": التي لا راعي لها. وفي "الصحيحين" عن سهل بن سعد بمعناه، وفيه: "ليَردَنَّ عليَّ الحوضَ أقوامٌ أَعرِفُهم ويَعرِفُوني، ثم يحال بيني وبينهم" وذكر بمعنى ما تقدم: "فأقول: بُعدًا وسُحقًا سحقًا لمن بَدَّل بعدي" (¬1). وقوله: "سحقًا": دعاء عليهم، أي: أسحقهم الله. وللبخاري، عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ قدرَ حَوضي كما بينَ أَيلَة وصنعاء اليمنِ، وإنَّ فيه من الأَباريقِ كعددِ نُجومِ السماءِ" (¬2)]. ولمسلم عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ما آنية حوضك؟ فقال: "والذي نَفسِي بيَده إِنَّها أكثرُ من عَددِ نجومِ السماءِ في الليلةِ المُصْحِيَةِ، آنيةُ أهلِ الجنةِ، مَن شَرِبَ منه لم يَظمأ أَبدًا آخر ما عليه، يَشخب فيه مِيزابانِ من الجنةِ، عرضُه مثل طولهِ، ما بينَ عَمَّانَ البلقاءَ إلى أَيلةَ" (¬3). وقوله: "آخر ما عليه" أي: أبدًا. ومعنى "تشخب" أي: تسكب، و"عمان" بالتشديد مكان بالبلقاء يقال: كانت مدينة البلقاء، وعامة العلماء على تشديد عمان إلا الخطابي فإنه قال: هي مخففة، أشار إلى عُمان التي عند البحرين. والأول أصح. ولمسلم عن جابر بن سمرة بمعناه، وفيه: "وإن بُعدَ ما بين طرفيه كصنعاء وأيلة، كأن الأباريق فيه مثل النجوم" (¬4). ولمسلم عن مَعدان بن أبي طلحة، عن ثوبانَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنِّي لبعُقْرِ حَوضي أذودُ الناسَ لأهلِ اليَمَنِ، أضربُ بعَصايَ حتى يَرفضَّ عليهم" فسئل عن عَرضهِ فقال: "مِن مقامي هذا إلى عمَّان، يَغُتُّ فيه مِيزابانِ يمدَّانِه من الجنةِ أحدُهما من ذهبٍ والآخر من وَرِقٍ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7050)، ومسلم (2290). (¬2) أخرجه البخاري (6580)، وما بين معكوفين من (ك). (¬3) أخرجه مسلم (2300). (¬4) أخرجه مسلم (2305). (¬5) أخرجه مسلم (2301) ويغت: يدفق.

[وقد أخرج أحمد عن ثوبان بمعناه، فقال ابن عفان بإسناده عن ثوبان وذكره، وقال: بعث عمر بن عبد العزيز إلى ثوبان ليسأله عن الحوض، فقدم عليه فسأله، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "حَوضِي مِن عَدَن إلى عمَّان البلقاء، وذكر بمعنى ما تقدم من وصف مائه وآنيته، وقال: "أَولُ الناسِ وُرُودًا عليه فقراءُ المهاجرين" فقال عمر بن الخطاب: يا رسولَ الله، من هم؟ فقال: "الشُّعثُ الغُبْر، أو الشُّعثُ رُؤوسًا الدُّنْس ثيابًا، الذين لا يَنكِحونَ المتنعمات، ولا تُفتح لهم أبواب السُّدَدِ". فقال عمر بن عبد العزيز: لقد نكحت المتنعمات، وفتحت لي أبواب السُّدَدِ إلا أن يرحمني الله، لا جَرَم والله لأدعنَّ رأسي حتى يشعَثَ، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتَّسخ (¬1). وفي الباب عن ابن عباس وأنس وحذيفة وأم سلمة وعائشة وغيرهم. وحديث حذيفة أخرجه مسلم، وفيه: فقلنا: يا رسولَ الله، أتعرفنا؟ قال: "نَعَم، إنَّكم تَرِدُون عليَّ الحوضَ غُرًّا مُحَجَّلين مِن آثارِ الوُضوءِ، ليست لأَحَدٍ غيرِكم" (¬2). وقد جاءت في الشفاعة أخبار منها حديث أنس مختصرًا]. قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ يومُ القيامةِ ماجَ الناسُ بعضُهم إلى بعضٍ، فيأتونَ آدمَ - عليه السلام - فيقُولُون: اشفَع لنا إلى ربك فأنت أبو الخلقِ خَلقَك الله بيَدِه، ونفخَ فيكَ من رُوحِه، وأَسجَدَ لك ملائكَتَه، فيقول: لستُ هناك، ويذكر خطيئَته التي أصابَ فيَستحي منها، ويقول: عليكم بنوحٍ فإنَّه أولُ نبيًّ بعثَه اللهُ إلى أهلِ الأرضِ، فيأتون نوحًا - عليه السلام -, فيذكُرونَ له ما ذَكرُوا لآدمَ، فيقولُ لهم كما قالَ آدمُ، ثم يقولُ لهم: ولكن ائتوا إبراهيمَ فإنَّه خليلُ الله، فيأتونَه، فيقول: لستُ هناكَ، ولكن عليكم بموسى فإنَّه كليمُ اللهِ، فيأتونَ إليه فيقولُ: عليكم بعيسى رُوحُ اللهِ وكلمتُه، فيأتونَ عيسى، فيقول: لستُ هناكَ، ولكن ائتُوا محمدًا، فإنَّ الله قد غَفَر له ما تقدَّم من ذَنبِه وما تأخَّر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيَأتونَ إليَّ، فأقولُ: أَنا لها، فأَنطَلِقُ، فأَستَأذنُ على ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (22367). (¬2) أخرجه مسلم (248).

ربَّي، فيُؤذَنُ لي، فأقوم بينَ يديهِ، فأحمَدُه بمحامدَ لا أقدرُ عليها إلَّا أن يُلهِمَنِيها اللهُ تعالى، ثم أَخِرُّ لربَّي ساجدًا، فيدَعُني ما شاءَ الله، ثم يقولُ: يا محمدُ، ارفَعْ رَأسَكَ، وسَلْ تُعطَه، وقُل يُسمَعْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، فأَرفَعُ رَأسِي، وأحمَدُ ربَّي بتحميدٍ يُعلِّمنيه، ثم أشفعُ، فيحُدُّ لي حدًّا، فأُخرِجُهم من النارِ وأُدخلُهم الجنةَ، فأقول: يا ربِّ، ما بقيَ في النارِ إلَّا مَن حبَسَه القرآنُ، أي وجبَ عليه الخلودُ، وأقول: يا ربِّ أمَّتي أمتي، فيقال لي: انطَلِق، فمن كان في قلبهِ مثقالُ حبَّةِ خَردَلٍ من إيمانٍ فأُخرِجه منها". قال معبد: فخرجنا من عند أنس، فدخلنا على الحسنِ وهو مستخفٍ في دارِ أبي خليفةَ، فسلمنا عليه، وقلنا: يا أبا سعيدٍ جئنا من عند أخيك أبي حمزةَ، فحدثنا بحديث الشفاعة، فقال: هِيهِ، فحدثناه الحديثَ، فقال: لقد تركَ شيئًا ما أَدري أَنسي الشيخُ أم كَرِه أن يحدِّثكم به، فتَتَّكلوا، ولقد حدثنا به منذ عشرين سنةً وهو يومئذ جميعٌ، أي: شاب مجتمع، فقلنا: حدِّثنا، فقال: "ثم أَرجعُ إلى ربِّي فأحمَدُه بتلكَ المحامدِ، وأَخِرُّ ساجدًا، وأقول: يا ربِّ إيذن لي فيمَن قال: لا إِلَه إلا اللهُ، فيقال: ليس لك ذلك، ولكنْ وعزَّتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي؛ لأخرجنَّ منها من قال: لا إله إلا الله". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وفي "الصحيحين" أيضًا عن أنسٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكلِّ نبيًّ دعوةٌ دَعا بها لأمَّته، وإنِّي اخْتَبأتُ دعوتي شَفاعتي لأمَّتي يومَ القيامةِ" (¬2). ولمسلم، عنه: "ولم يُصدَّق نبيٌّ ما صُدِّقتُ، وإنَّ من الأنبياء نبيًّا ما صدَّقَه من أمَّتِه إلاَّ رجلٌ واحدٌ" (¬3). وللبخاري، عن ابن عمر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الناسَ يصيرونَ يوم القيامةِ جُثًا، كلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبيَّها، يَقولُونَ: اشفَع لنا، حتى تنتهي الشفاعةُ إليَّ، فذلك المقامُ المحمود" (¬4). [و"الجثا": الجماعات، الواحدة جثوة، والمقام المحمود: الشفاعة]. وقال ابن عباس: يوضع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منبر فيرتقيه، ويُثني على الله ثناءً لم تَسمعِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12153)، والبخاري (7510)، ومسلم (193)، وما بين معكوفين من (ك) (¬2) أخرجه البخاري (6305)، ومسلم (200). (¬3) أخرجه مسلم (196). (¬4) أخرجه البخاري (4718).

الخلائقُ بمثلِه، فيشفِّعه في أمَّتِه (¬1). [وفي "الصحيحين" وأخرجه أحمد في "المسند" بإسناده] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعُهم الداعي، ويَنفُذُهم البصرُ، وتَدنو منهمُ الشمسُ فيبلغ الناسُ من الغَمِّ والكربِ ما لا يُطيقونَ، فيأتونَ إلى آدمَ، فيقولون: اشفَع لنا إلى ربِّكَ، فأنتَ أبو البشرِ، خلقَكَ الله بيَدِه، ونفَخَ فيكَ من رُوحهِ، وأَسجَدَ لكَ ملائكَتَهُ، وأسْكَنَك جنَّتَهَ، أَلَا ترى ما نحنُ فيهِ؟ فيقولُ لهم آدمُ: إنِّي عَصيتُ ربِّي، وقد غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لم يَغضَب قبلَه مثلَه ولا يَغضَبُ بعدَه مثله، وإنَّه نَهاني عن الشجرةِ فعصيتُ أمرَه، نَفسِي نَفسِي، لستُ بصاحبِ ذاك، اذهبُوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوحٍ، فيأتُونَ إلى نوحٍ، فيقولُون: يا نوحُ، أنتَ أَولُ الرسُل إلى أهلِ الأرضِ، وقد سَمَّاك الله عَبدًا شَكُورًا، أَلَا تَرى إلى ما نحنُ فيه؟ فاشفَع لنا إلى رَبِّك، فيقولُ: قد كانت لي دعوةٌ دَعوتُ بها على قَومِي، اذْهَبوا إلى إبراهيمَ، فيأتونَه، فيقولونَ له: أنتَ نبيُّ الله وخليلُه من أهلِ الأرضِ، اشفَعْ لنا إلى ربِّكَ، فيقولُ: إنِّي كذبتُ ثلاثَ كذباتٍ، فذكرها، وقال: نَفسِي نَفسِي، اذهبُوا إلى مُوسى، فيأتونَه، فيقولُونَ: أنتَ رسُولُ اللهِ وكَليمُه، فضَّلَكَ برسالَتِه وبكَلامِه على الناسِ، فيقولُ لهم: إنِّي قتلتُ نفسًا لم أُومر بقَتلِها، اذْهبُوا إلى عِيسى، فيأتونَه، فيقولُون: أنتَ رُوحُ اللهِ وكَلمتُه، فيردُّ عليهم ولم يذكر ذَنبًا: اذْهبُوا إلى محمدٍ، فيأتونَ إليَّ، فيقولُونَ: يا رسولَ اللهِ، أنتَ خاتَمُ الأنبياءِ، وقد غفَرَ اللهُ لكَ ما تقدَّم من ذنبِكَ وما تأَخَّر، فاشفَعْ لنا إلى ربِّكَ، فأَنطلِقُ إلى تحتِ العَرشِ فأقَعُ ساجدًا لربِّي". وذكر بمعنى حديث أنس، وفيه: "إنَّ كلَّ نبيًّ يقولُ: إن ربِّي قد غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لم يَغضَبْ قبلَه ولا يَغضَبُ بعدَه مثله" (¬2). وفي رواية: "فيقولُ آدمُ: وهل أَخرَجَكُم من الجنَّةِ إلا خَطِيئَةُ أَبيكُم، اذهبُوا إلى ابني خليلِ الله، فيذهبونَ إليه فيقولُ: إنما كنتُ خليلًا من وراءَ [وراءَ، أي من وراء] حجابٍ" (¬3). ¬

_ (¬1) لم نقف عليه. (¬2) أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194)، وأحمد (9623). (¬3) أخرجه مسلم (195).

عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ - أو تَلا - قولَ الله عزّ وجلّ في إبراهيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} الآية [إبراهيم: 36]. وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية [المائدة: 118]. فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: "أُمَّتي أُمَّتي" وبَكَى، فقال الله تعالى: يا جبريلُ اذهَب إلى محمدٍ - وربُّكَ أعلمُ - فسَلْهُ ما يُبكيكَ؟ فأتاه جبريلُ، فسَأَله، فأخبَره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال، فقال الله: يا جبريلُ، اذهَب إلى محمدٍ فقُل له: إنا سنُرضِيكَ في أمَّتِك ولا نَسُوؤكَ. انفرد بإخراجه مسلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (202).

الباب التاسع والثلاثون: في كونه - صلى الله عليه وسلم - آخر المرسلين وخاتم النبيين

الباب التاسع والثلاثون: في كونه - صلى الله عليه وسلم - آخر المرسلين وخاتم النبيين [أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين" فقد تقدم في فضائله، وأن الله أخذ ميثاق الأنبياء على تصديقه. وأما كونه آخر المرسلين، فلأن الختم إنما يكون على عنوان الكتاب، فتمم الله به مكارم الأخلاق والأسباب، وليكون شهيدًا على الأمم للأنبياء بما جاؤوا به من الأنباء. قال أحمد بإسناده] عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُدعَى نوحٌ يومَ القيامةِ فيقالُ له: هل بلَّغتَ؟ فيقول: نَعَم، فيُدعَى قومُه: هل بلَّغَكُم؟ فيقولُون: ما أَتانا من نذيرٍ، وما أَتانا من أحدٍ، فيقال لنوحٍ: من يَشهد لكَ؟ فيقول: محمدٌ وأمَّتُه، قال: وذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. قال: والوسط العدلُ، فيدعونَ، فيَشهدُون له بالبلاغِ، قال: ثم أشهدُ عليكم" انفرد بإخراجه البخاري (¬1). وعن أبي سعيد الخدري أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَجيءُ النبيُّ يومَ القيامةِ ومعهُ الرجلُ، والنبيُّ ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فيُدعَى قومُه فيقال لهم: هل بلَّغكُم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلَّغتَ قومَك؟ فيقولُ: نَعَم، فيقالُ له: من يَشهدُ لك؟ فيقولُ: محمدٌ وأمَّتُه، [فيدعى محمد وأمته] فيقال لهم: هل بلَّغَ هذا قومَه؟ فيقولون: نَعَم، فيقال: وما عِلمُكُم؟ فيقولونَ: جاءَنا نبيُّنا، فأَخبَرَنا أن الرُّسُلَ قد بلَّغوا، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية [البقرة: 143]. أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (11283)، والبخاري (4487). (¬2) أحمد في "مسنده" (11558).

[وقد ذكر الثعلبي في "تفسيره" (¬1) بمعناه في تأويل قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] قال السدي: فيشهد محمد - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء بالبلاغ، فذلك قوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] وكذا تقول في أمته: إنها جعلت آخر الأمم لهذا المعنى]. وقال كعب الأحبار: إنما جعلت هذه الأمة آخر الأمم لتطلع على قبائح الأمم ولا يطلعونَ على فضائحها، فإنِّي قد وجدت في بعض كتب الله المنزلة: أن الله خلَقَ لكل واحد من هذه الأمة تمثالًا تحت العرش، فكلما ركعَ وسجدَ ركع ذلك التمثال وسجدَ فتراه الملائكةُ، فإذا زلَّ ابن آدم زلةً ألقى اللهُ على ذلك التمثال سترًا لئلا تشاهده الملائكةُ، فذلك قولهم في الدعاء: يا مَن ينشر الجميلَ ويستر القبيحَ. * * * ¬

_ (¬1) الكشف والبيان 1/ 205.

الباب الأربعون: في ذكر أصحابه وفضلهم - رضي الله عنهم -

الباب الأربعون: في ذكر أصحابه وفضلهم - رضي الله عنهم - [وفيه فصول: حدّثنا أحمد بإسناده] عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَسبُّوا أَصحابي، فإنَّ أحدَكُم لو أنفَقَ مثلَ أُحدٍ ذَهبًا ما أدركَ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه". أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وفي المتفق عليه عن ابن مسعودٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ الناس قَرني، ثم الذينَ يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم، ثم يَأتي قومٌ تسبق شهادةُ أَحدِهم يَمينَه، ويَمينُه شهادَتَه" (¬2). [ولمسلم عن أبي هريرة بمعناه، وذكر فيه ثلاثة قرون (¬3). والقرن مئة سنة، وقيل: مئة وعشرون سنة. قال الجوهري: القرن ثمانون سنة. قال: ويقال: ثلاثون سنة (¬4)، والأول أصح. والمراد بالشهادة: شهادة الزور، لأنه قال في] حديث عمران بن الحصين المتفق عليه قال: فلا أدري أذكر بعد قرنين أو ثلاثة. وفيه: "ثم يَأتي بَعدَهم قومٌ يَشهدون ولا يُستَشهدون، ويَخونون ولا يؤتمنون، ويَنذُرُون ولا يَفُون، ويحلفون ولا يُستَحلفون، ويظهرُ فيهم السِّمَن" (¬5)، يعني من كثرة المطاعم. وفي المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأتي على الناسِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (11079)، والبخاري (3673)، ومسلم (2541). (¬2) أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533). (¬3) أخرجه مسلم (2534). (¬4) "الصحاح": (قرن). (¬5) أخرجه البخاري (2651)، ومسلم (2535).

[فصل في عدد الصحابة - رضي الله عنهم -

زمانٌ يغزو فيه فِئامٌ من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولُون: نَعَم، فيُفتَح لهم، ثم يَغزُو فئامٌ من الناس، فيقالُ: هل فيكم من صاحب أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولونَ: نَعَم، فيُفتَحُ لهم" (¬1). [فصل في عدد الصحابة - رضي الله عنهم - اعلم أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلق كثير تتعذر الإحاطة بعددهم، فروى أبو عبد الله الحاكم، عن أبي زرعة الرازي أنه سئل عن هذا فقال: قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مئة وستة وعشرين ألفًا ممن روى عنه وسمع منه ورآه، قيل له: فأين كان هؤلاء؟ فقال: أهل مكة والمدينة وما بينهما وما حولهما من الأعراب ومن شهد معه حجة الوداع والغزوات والسرايا وتبوكًا وغيرها. وروى الخطيب أبو بكر بإسناده عن أبي زرعة أيضًا أنه سئل عن ذلك، فقال ومن يضبط هذا؟ شهد معه حجة الوداع أربعون ألفًا، وتبوكًا سبعون ألفًا، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان معه يوم الفتح عشرة آلاف وخرج من المدينة إلى غزاة تبوك في ثلاثين ألفًا (¬2). فصل في عدد الأحاديث المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد ذكرنا في صدر الكتاب عن أحمد بن حنبل أنه قال: جمعت "المسند" من ألف ألف حديث، وروى عنه ابنه عبد الله أنه قال: صح من الحديث سبع مئة ألف وكسر، وقال: كان أبو زرعة الرازي يحفظ ست مئة ألف حديث. وذكرنا عن البخاري أنه قال: صنفت كتابي "الصحيح" في ست عشرة سنة، خرجته من ست مئة ألف حديث. وقال مسلم: جمعت كتابي من سبع مئة ألف حديث. فالحاصل أن حصر الأحاديث على التحقيق غير ممكن، وإنما الذي يظهر ما في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2897)، ومسلم (2532). (¬2) انظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 102 - 103.

ذكر الصحابة الذين تفرقوا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلوا البلدان

السنن المأثورة الأخبار المشهورة كـ "مسند" أحمد والبخاري ومسلم وأبي داوود والترمذي والدارقطني وابن ماجه وغيرهم. وروي أنه قيل لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يفتي، مئة ألف حديث؟ قال: لا، قيل: فمئتي ألف؟ قال: لا، قيل: فثلاث مئة ألف؟ قال: لا، قيل: فأربع مئة ألف؟ قال: لا، قيل: فخمس مئة ألف؟ قال: أرجو (¬1). ذكر الصحابة الذين تفرقوا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلوا البلدان ذكر جدي رحمه الله في "التلقيح" وقال: روى عبد الله بن بُريدة الأسلمي، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما أرض مات بها رجل] (¬2) من أصحابي فهو قائدهم ونورهم يوم القيامة". * * * ¬

_ (¬1) انظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 361 - 362. (¬2) من قوله: فصل في عدد الصحابة ... إلى هنا، ليس في (أ، خ)، أثبتناه من (ك)، وانظر تاريخ البخاري الكبير 2/ 141، والاستيعاب (219)، ولم نقف عليه في التلقيح.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [5]

المخطوطات المعتمدة في هذا الجزء والذي يليه 1 - نسخة أحمد الثالث (أ) من سنة (2 هـ) إلى نهاية سنة (21 هـ). 2 - نسخة كوبريللي (ك) من سنة (9 هـ) إلى سنة (31 هـ). 3 - نسخة العلائي (ع) عندنا منها من سنة (22 هـ) إلى سنة (31 هـ). 4 - نسخة الخزائنية مؤلفة من جزءين: ا - من سنة (7 هـ) إلى سنة (29 هـ). ب - من سنة (30 هـ) إلى سنة (50 هـ) وانظر وصفًا مفصلًا لهذه النسخ في مقدمة الجزء الأول من الكتاب. * * *

أبواب ذكر الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين

أبواب ذكر الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين

الباب الأول في ذكر أبي بكر رضوان الله عليه

الباب الأول في ذكر أبي بكر رضوان الله عليه قال علماء السِّيَرِ: هو عبد الله بنُ عثمان، وعثمان هو أبو قُحافةَ بن عامر بن عمرو ابن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّةَ بن كعب بن لؤي. ويلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في النسب عند مُرَّة بن كعب، وبين كلّ واحد منهما وبين لؤي تسعةُ آباء، فهو في تعداد النّسب مثلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأُم أبي بكر: سَلمى بنت صخر بن عمرو بن عامر بن كعب. وقيل: بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرَّة. وتُكنى أُمَّ الخيرِ، وماتت مُسلمة. ورُوي عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّها قالت: ما أسلم أَبَوا أحدٍ من المهاجرين إلا أَبَوا أبي بكر (¬1)، وكذا ليس في الصحابة مَن اسمُه عبد الله بن عثمان سوى أبي بكر. واختلفوا لم سُمّي الصِّدِّيق على قولين: أحدهما: أن جبريل سماه به، فحكى ابن سعدٍ بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل ليلة المعراج: "إنَّ قومي لا يُصدَّقوني"، فقال: يُصّدِّقُك أبو بكر، [وهو] الصديق (¬2). قال الزهري: فلذلك كان يحلفُ عليُّ بن أبي طالب أن الله أنزل اسمَ أبي بكر الصديق من السماء. وقال الثوري: إنما أشار عليٌّ عليه السلام إلى قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} (¬3) [الزمر: 33]. والثاني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمَّاهُ به. قاله ابن عباس (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 35 - 36/ 113 من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ونقل عن ابن منده قوله: هذا حديث غريب من حديث هشام بن عروة. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 170، وأخرجه ابن الجوزي في المنتظم 4/ 54 من طريقه، وعبد الله بن أحمد في زوائده على فضائل الصحابة لأبيه (116). (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره 20/ 204 - 205، وابن عساكر 35 - 36/ 450. (¬4) انظر تلقيح فهوم أهل الأثر 104، والمنتظم 4/ 54.

واختلفوا في تسميته بعَتيقٍ على أقوالٍ: أحدُها: أنه اسمٌ سمَّته به أُمه، فقال الهيثم: لم يكن يعيش لأُمِّه ولدٌ، فلما وَلدَتْه استقبلت به الكعبةَ وقالت: اللهمَّ إنّي قد جعلتُه للكعبة، فأعتِقْه من الموت، فعاش (¬1). قال: وكان له ثلاثةُ إخوةٍ: عَتِيق ومعتِّق وعُتَيْق. والثاني: أنه اسمٌ سمّاه به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن سعدٍ بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - أَنَّها سُئلت: لم سُمِّيَ أبو بكرِ عَتيقًا؟ فقالت: نظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: "هذا عتيقُ [الله] من النار" وفي روايةٍ: "مَن سَرَّه أن يَنظُرَ إلى عتيقٍ من النار فلْيَنْظر إِلى هذا" (¬2). والثالث: إنما سُمّيَ به لجمال وجهه، قاله الليث بن سعد (¬3). وحكى ابن قُتيبة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقَّبه بذلك لجمال وجهه (¬4). والرابعُ: لأنه كان عَتيقًا في الخير (¬5)، والعربُ تقول للشيء إذا بلغ النّهايةَ في الجَودة: قد عَتَق. قاله ابن الأنباري (¬6). والخامس: لأنه كان كريمَ الطَّرفين، لم يكن في نسبه ما يُعابُ به. قاله مُصعب الزُّبَيري (¬7). وروت عمرةُ عن عائشة قالت: كان اسم أبي عبدَ الكعبة، فسمّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله وعَتيقًا (¬8). ¬

(¬1) أخرجه الدولابي في الكنى (38) ومن طريقه ابن عساكر 35 - 36/ 110 عن موسى بن طلحة، سألتُ أبي طلحة بن عبيد الله. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 169 - 170. (¬3) أخرجه ابن عساكر 35 - 36/ 101. (¬4) المعارف 167. (¬5) أخرجه ابن عساكر 35 - 36/ 101 عن أبي نعيم. (¬6) ذكره الخطابي في غريب الحديث 2/ 34، والأزهري في تهذيب اللغة 1/ 211، وابن عساكر 35 - 36/ 112 عن ابن الأعرابي. (¬7) أخرجه ابن عساكر 35 - 36/ 112 عن مصعب، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب 373 (مرشد)، وابن قدامة في التبيين 305. (¬8) ذكره دون نسبة ابن قتيبة في المعارف 167، وابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر 104.

ذكر صفة أبي بكر - رضي الله عنه -

وقال النّخعي: كان أبو بكر يُسمَّى الأوّاه لرأفته ورحمته (¬1). وقال الهيثم: لم يتسمَّ بالصديق ولا بالفاروق ولا بذي النُّورَيْن أحدٌ في الجاهلية ولا في الإسلام قبل أبي بكر وعمر وعثمان، وإنما حدثت الألقابُ بعدُ. واختلفوا في مولده؛ فقال الزهري: وُلد بمِنىً قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين. وقال ابن مَنده: وُلد بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهرٍ إلا أيامًا، وتوفي بعد رسول الله بسنتين وأشهر، وهو ابن ثلاثٍ وستين سنةً (¬2). وقال الزهري: وَليَ الخلافةَ وهو ابن إحدى وستين سنةً (¬3)، ولم يتقلَّد الخلافةَ أحدٌ وأبوه حيٌّ سواه، ومات ووَرثه أبوه أبو قُحافة. وقال موسى بن عُقبة: لا يُعرف أربعةٌ في الإسلام تناسلوا وأدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى أبي بكر وأبيه أبي قُحافة، وابن أبي بكر عبد الرحمن وابنه محمد، ويُكنى أبا عتيق، ولم يتّفق لغير أبي قُحافة هذا (¬4). ذكر صفة أبي بكرٍ - رضي الله عنه - ذكر ابن سعدٍ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان أبو بكرٍ نحيفًا، خفيفَ اللَّحم، أبيضَ، أَجْنأَ، لا يَستمسكُ إِزارُه، يَسترخي عن حَقْوَيه، مَعروقَ الوجه، ناتئَ الجَبهة، عاري الأشاجع، وكان يَخضب رأسه ولحيته بالحِنّاء والكَتَم (¬5). قال الجوهري: الأَشاجعُ: أصولُ الأصابع التي تَتَّصلُ بعَصَب ظاهرِ الكفِّ (¬6). وللبخاري عن أنسٍ قال: قَدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وليس في أصحابه أَشْمطُ سوى أبي ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد 3/ 171. (¬2) أخرجه ابن عساكر 35 - 36/ 107. (¬3) بعدها في (ك): وكذا مروان بن الحكم. قلت: وهذا خطأ فإن مروان بن الحكم تقلد الخلافة ثمانية أشهر، وقيل: ستة أشهر، وتوفي وهو ابن أربع وستين سنة. (¬4) انظر فتح الباب في الكنى والألقاب لابن منده 107. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 188، وفيه: خفيف العارضين، وهي أشبه. (¬6) الصحاح (شجع). وقوله: أجنأ، من الجَنَأ وهو مَيل في الظهر أو العُنُق، والحقو: موضع الإزار، ومعروق الوجه: قليل لحمه. النهاية (جنأ حقو عرق).

ذكر سبب إسلامه

بكر، فغَلَفَها بالحِنّاء والكَتَم (¬1). والأَشمطُ: الذي يَختلطُ شيبُه بشبابه، وغَلَفها: عمَّها. وذكر ابن قتيبة في كتاب "غريب الحديث" عن قيس بن أبي حازم قال: كان أبو بكرٍ يَخرجُ إلينا وكأنَّ لِحيَتَه ضِرامُ عَرْفَج. الضِّرامُ: لَهيب النّار. وقال الجوهريّ: العَرْفَج: شجرٌ يَنبتُ في السَّهل، الواحدةُ عَرْفَجَة، ومنه سُمِّي الرَّجل (¬2). وقال الفَرَّاء: العرفجُ: نَبتٌ ضعيفٌ تُسرع النارُ فيه، ثم لا يَلْبَث يسيرًا حتى يَطفأ. ومعناه: أنه كان يَخضِبُ بالحِنَّاء والكَتَم، ويُشبعهما خِضابًا، فتشتدُّ حُمْرَتُها (¬3). ذكْرُ سبب إسلامه واختلفوا فيه على أقوالٍ: أحدها: ذكر البَلاذري في "تاريخه" عن ابن الكلبي، عن أبي صالح أنه قال: كان أبو بكرٍ صَديقًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِر غِشيانَه في منزله، ومحادثتَه، ويَتَعرَّفُ أخبارَه، فلما دُعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنبوة أتى معه ورقةُ بن نَوفلٍ، وسمع قولَه، وكان مُتوقِّعًا للرسالة وما اختصَّه الله به من كرامته، وكان أبو بكر قد شارك حَكيم بن حِزام في بضاعةٍ، وأراد السَّفَر معه، فإنه ذاتَ يومٍ لمع حَكيم إذ أتى حكيمًا آتٍ فقال: إن عَمَّتك خديجة تَزعمُ أن زوجها نبيٌّ مثلُ موسى، فقد هَجرت الآلهة، فانسلَّ أبو بكرٍ انسلالًا حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن خَبره، فقصَّ عليه قصَّتَه فقال: صدقتَ بأبي أنت وأُمي، وأهلُ الصِّدقِ أنت، وأسلم، ثم أتى حكيمًا فقال له: يا أبا خالدٍ، رُدَّ عليَّ مالي، فقد وجدتُ عند محمدٍ أَربحَ من تجارتك، فأخذ مالَه ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وذكر المدائنيُّ بمعناه فقال: قال أبو بكرٍ: بينا أنا أُريدُ الطائفَ مع حَكيم بن حِزام وأنا في منزلي بمكة، إذ دخل عليَّ الحارثُ بن صخرٍ، ودخل حكيم بن حِزام، فقال له ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3919). والكتم: ورق يُخضب به كالآس. (¬2) الصحاح (عرفج). (¬3) غريب الحديث 1/ 248 - 249. (¬4) أنساب الأشراف 5/ 123.

الحارث: يا أبا خالد، زعم نساؤنا أن عمَّتَك تزعُمُ أن زوجَها رسولُ الله، فأنكر حكيمٌ ذلك، وأكلوا وانصرفوا. قال: فخرجتُ، فلقيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ له: بَلغني كذا وكذا، وهذا أمرٌ لا يُقارُّكَ (¬1) عليه قوُمك، فقال: يا أبا بكرٍ، ألا أذكُرُ لك شيئًا إن رضيتَه قَبِلْتَه، وإن كرهتَه كَتمتَه، قال: فقلتُ: هذا أَدنى ما لك عندي، فقرأ عليَّ القرآن، وحدَّثني ببُدُوِّ أمره، فقلتُ: أشهد أنك لَصادقٌ، وأن ما دعوت إليه حقٌّ، وأن هذا كلامُ الله، فسمعتْني خديجةُ، فخرجَتْ وعليها خِمارٌ أحمر، فقالت: الحمد لله الذي هداك يا ابنَ أبي قُحافةَ. فما رُمْت من مكاني حتى أمسيتُ، فخرجتُ وإذا بمجلسٍ من بني أسدِ بن عبد العُزّى فيهم الأسودُ بن عبد المطَّلب وأبو البَخْتَريِّ، فقالوا: من أين أَقبلتَ؟ فقلتُ: من عند ابنِ عمِّكم وخَتَنِكم محمدٍ، ذُكِرتْ لي عنده سِلعةٌ يبيعُها بنَسيئةٍ، فجئتُ إليه لأَسومَه بها، فإذا هي سِلْعةٌ ما رأيتُ مثلَها، فقالوا: إنَّك لَتاجرٌ بصيرٌ، وما كنا نعلمُ أن محمدًا يبيعُ السَّلع بنَسيئةٍ ولا أنت أيضًا. وأتاني حكيم يَقودُ بعيرَه فقال: اركب بنا، فقُلتُ: قد بدا لي أن أُقيم؛ إني قد وقعتُ بعدك على بضاعةٍ نفيسةٍ، ما عالجتُ قطُّ أَبينَ رِبحًا منها، فقال: وعند مَن هي؟ فما أعلمها اليوم بمكة. قال: فقلتُ: بلى، وأنتَ دَلَلْتَني عليها، قال: وسمَّيتُها لك؟ قلتُ: نعم، فالله لي عليك أن تَكتُمَها ولا تذكُرَها لأحدٍ، قال: نعم، فقلتُ: إنَّها عند خَتَنِك محمد بن عبد الله، قال: وما هي؟ قلتُ: شهادة أن لا إله إلا الله، قال: فوَجمَ ساعةً فقلتُ: أتَتَّهمني يا أبا خالدٍ في عقلي؟ قال: لا، ولا أُحبُّ لك ما فعلتَ (¬2). والقول الثاني حكاه الهيثم، عن كعب الأحبار قال: خرج أبو بكرٍ في الجاهلية تاجرًا إلى الشام فنزل ببَحِيرى الرَّاهب، فقال له: من أين أنت؟ قال من مكة، فنام أبو بكرٍ فرأى رؤيا في تلك الليلة، فقصَّها على بَحيرى فقال: إنْ صدقتْ رُؤياك فأنت وزيرٌ لنبيًّ يُبعث من مكة في حياته، وتَخلُفُه في الأمة بعد وفاته. ¬

_ (¬1) في (ك): يوافقك. (¬2) أنساب الأشراف 5/ 125.

قال: فرجعتُ إلى مكة ورسولُ الله جالسٌ في الحِجْر، فقلتُ: يا محمد، ما الذي تقول؟ فقال: أقولُ: لا إله إلا الله وأني عبدهُ ورسولُه، قال: فما الدّليلُ على صِحَّةِ قولك؟ فقال: رؤياك التي رأيتَ بالشام وقَصصتَها على بَحيرى، وقال لك كذا وكذا. فقام أبو بكرٍ وقبَّل رأسَه وقال: صدقتَ، وأسلم (¬1). والثالث ذكره ابن داب قال: كان أبو بكرٍ جالسًا بفِناء الكعبة، وهناك زيد بنُ عمرو ابن نُفيل، فمرَّ به أُميَّةُ بن أبي الصَّلْت فقال له زيد: كيف أصبحتَ يا باغيَ الخير؟ فقال: بخيرٍ، قال: وهل وَجدتَ؟ قال: لا، ولم آلُ من طَلَبٍ، أي: لم أُقَصِّر، ثم أنشد أُميَّة: [من الخفيف] كلُّ دينٍ يومَ القيامة إلا ... ما قضى اللهُ في الحنيفة زورُ وقال: إن هذا النبيُّ المنتَظَر إمّا منّا، أو منكم، أو من أهل فلسطين. قال أبو بكر: ولم أكن سمعتُ بنبيًّ يُنتَظر ولا يُبعث، فخرجتُ حتى أتيتُ وَرقةَ بن نَوفلٍ، وكان كثيرَ النَّظر في السماء، كثير هَمْهَمةِ الصَّدر، قال: فقَصصتُ عليه القصّة فقال: نعم يا ابن أخي، إن هذا النبيّ المنتَظر من أوسط العرب نَسبًا، قال فقلتُ: يا عمّ، فما يقول؟ قال: يقول: لا ظُلمَ ولا تَظالُم، قال: وبُعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فآمنتُ به (¬2). والرابع ذكره محمد بن كعبٍ القُرظي قال: خرج أبو بكرٍ في تجارة إلى الشام، فنادتْه شجرةٌ في الطريق: ارجع يا ابنَ أبي قُحافة، فآمن بمحمدٍ رسول الله، فرجع فأسلم. وقال ابن إسحاق: لقي أبو بكرٍ رسول الله فقال: أحقًّا ما تقول قريش؛ من تركك آلهتنا، وتكفيرك آباءنا، وتسفيهك أحلامَنا؟ فقال: "إني رسولُ الله إليكم، بعثني لأُبلّغ رسالتَه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن تعبدَه"، ثم قرأ عليه القرآن، فلم يُقرّ ولم يُنكر، ثم أسلم بعد ذلك، ودعا إلى الإسلام، فأسلم على يده الزبيرُ، وطلحةُ، وعثمانُ، وسعدُ بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عَوف، والأرقم بن أبي الأرقم، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 35 - 36/ 118. (¬2) تاريخ دمشق 35 - 36/ 122 - 123، والبيت في ديوانه 393.

ذكر خلافته

وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل - رضي الله عنهم -، وقد أشرنا إلى هذا فيما تقدّم (¬1). وروى ابن إسحاقٍ عن أشياخه عن ابن عباس قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: "ما دعوتُ أحدًا إلى الاسلام إلا كانت له عنه كَبْوَةٌ إلا أبا بكرٍ، فإنه ما تَردَّد، وما عتَّم، وما تَلَعْثم عنه حين دعوتُه إليه" (¬2). وقال الجوهري: العَتْمُ: الإبطاءُ، ويقال: ما عتَّم أنْ فعل ذلك بالتشديد، أي: ما لَبِث (¬3). وتلعثم بمعناه. وقد ذكرنا في حديث الهجرة عن عائشة أنها قالت: ما عَقَلْتُ أبويَّ إلا وهما يدينان الدين (¬4). وكذا قالت أسماءُ بنت أبي بكر. وقد ذكرنا في السنة الحادية والأربعين من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلافَ العلماء في السابقين إلى الاسلام، وأنَ أبا بكرٍ أوَّلُ مَن أسلم من الرجال. ذكر خلافته قد ذكرنا أنه بويع قبل أن يُدفن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنَّ حديث السقيفة كان في اليوم الذي تُوفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإنّما اختلفوا في اليوم الذي بويع فيه. فقال الواقدي: بُويع يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقال الزهري: بويع يوم الثلاثاء. والأصحُّ أنه بويع يوم الاثنين في السَّقيفة، ويوم الثلاثاء البيعة العامة، وقد أشرنا إليه فيما تقدَّم من الكلام (¬5) ذكر أول خطبةٍ خطبها قال ابن سعد: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن هشام بن عروة، قال عبيد الله: ¬

_ (¬1) السير والمغازي 139 - 140 وأخرجه عن ابن عساكر 35 - 36/ 123 - 124. (¬2) السير والمغازي لابن إسحاق 139 عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، وأخرجه عنه ابن عساكر 35 - 36/ 133. (¬3) الصحاح (عتم). (¬4) أخرجه أحمد (25626)، والبخاري (476)، وسلف في سنة (41 من النبوة). (¬5) انظر طبقات ابن سعد 3/ 185 - 186، وتاريخ الطبري 3/ 217 فما بعدها، والمنتظم 4/ 64.

ذكر ما فرضوا له

أظنه (¬1) عن أبيه قال: لما ولي أبو بكرٍ خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعدُ أيها الناسُ، فإني قد وَليتُ أمرَكم ولستُ بخيركم، ولكن قد نزل القرآن، وسنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السُّنن، وعَلَّمنا فعَلِمنا. اعلموا أن أكيسَ الكَيْسِ التقوى، وأن أحمقَ الحُمقِ الفجورُ، وأن أقواكم عندي الضعيفُ حتى آخذ له بحقِّه، وأن أضعفكم عندي القويُّ حتى آخذَ منه الحقَّ. أيها الناسُ، إنَّما أنا متَّبعٌ ولستُ بمبتدع، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن زُغْتُ فقوِّموني. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن وهب بن جرير، عن أبيه قال: سمعتُ الحسن يقول: لمّا بُويع أبو بكرٍ قام خطيبًا، فلا والله ما خطب خُطبتَه أحدٌ بعد، فحمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني قد وَليتُ هذا الأمر وأنا له كارهٌ، ووالله لوَدِدْتُ أنّ بعضكم كفانيه، ألا وإنّكم إن كلَّفتُموني أن أعملَ فيكم مثلَ عملِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أقُم به. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدًا أكرمه الله بالوحي وعَصمه به، ألا وإنّما أنا بشرٌ، واعلموا أنَّ لي شيطانًا يَعتريني، فإذا رأيتُموني قد غضبتُ فاجتنبوني، لا أُؤَثّر في أشعاركم وأبشاركم (¬2). وأخرج أحمد في "المسند" طرفًا منه عن قيس بن أبي حازم، وفيه أنها أول خطبةٍ خُطبت في الإسلامِ، وفيها: ولوَدِدْتُ أن هذا كفانيه غيري، وإن أَخذتُموني بسُنَّةِ نبيّكم ما أُطيقُها، إنه كان معصومًا من الشيطان، ويأتيه الوحيُ من السماء (¬3). وسنذكر طرفًا من خُطبه في ترجمته. ذكر ما فرضوا له قال ابن سعدٍ بإسناده عن عطاء بن السّائب قال: لما استُخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق، وعلى رَقَبته أثوابٌ يَتَّجِرُ بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تُريدُ يا خليفةَ رسول الله؟ قال: السوق، قالا: تصنعُ ماذا وقد وَليتَ أمر المسلمين؟ قال: فمن ¬

_ (¬1) في (ك): قال ابن سعد بإسناده عن هشام بن عروة عن عبد الله أظنه، وهذا خطأ، وليس في (أ)، والمثبت من الطبقات 3/ 182، والمنتظم 4/ 68. (¬2) الطبقات 3/ 212، والمنتظم 4/ 68 - 69. (¬3) مسند أحمد (80).

أين أُطعِمُ عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نَفرِضَ لك شيئًا، فانطلق معهما، ففَرضا له كلَّ يوم سطرَ شاةٍ، وماكسوه في الرأس والبطن. وقال ابن سعد بإسناده عن حُميد بن هلال قال: لما وَلي أبو بكر الخلافة قال أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افرضوا لخليفة رسول الله ما يُغنيه، قالوا: نعم، بُرْداه إذا أَخلَقهما وضعهما وأخذ مثلَهما، وظَهْره إذا سافر، ونَفقته على أهله كما كان يُنفق قبل أن يُستخلفَ، فقال أبو بكر: رَضيتُ (¬1). وقال عُمَير بن إسحاق: خرج أبو بكر وعلى عاتقه عَباءة له، فقال له رجل: أَرني أكفِك، فقال: إليك عني، لا تَغُرّني أنت وابن الخطاب عن عيالي (¬2). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن عروة، عن عائشة قالت: لما وَلي أبو بكر قال: لقد علم قومي أن حِرفَتي لم تكن لتَعْجزَ عن مؤونة عيالي أو أهلي، وقد شُغِلتُ بأمور المسلمين، وسأحترفُ للمسلمين في مالهم، وسيأكل آلُ أبي بكر من هذا المال (¬3). ومعنى يحترف، أي: يَكتسب. وقال ابن سعد بإسناده عن عمرو بن مَيمون، [عن أبيه] قال: لما استُخلف أبو بكر رضوان الله عليه جعلوا له ألفين، فقال: زيدوني فإن لي عِيالًا، وقد شغلتُموني عن التِّجارة، فزادوه خمسَ مئةٍ (¬4). قال ابن عمر: وكان منزل أبي بكرٍ بالسُّنْح، عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد ابن أبي زهير، من بني الحارث بن الخزرج، فأقام هناك ستة أشهر بعدما بُويع يغدو على رجليه إلى المدينة، ثم تحوَّل إلى المدينة. وكان رجلًا تاجرًا، فكان يغدو كلَّ يوم إلى السوقِ فيبيع ويبتاع. وكانت له قطعة من غَنَم تروح عليه، وربما خرج بنفسه فيها، وربما كُفيها فرُعيت له. ¬

_ (¬1) الخبران في الطبقات 3/ 184، والمنتظم 3/ 71. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 184، والمنتظم 4/ 72. (¬3) الطبقات 3/ 185. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 185، وأنساب الأشراف 5/ 140، وتاريخ دمشق 35 - 36/ 433، والمنتظم 4/ 72 وما بين معكوفين منها.

ذكر أول ما بدأ به بعد البيعة

وكان يَحلُب للحيِّ أغنامَهم، فلما بويع بالخلافة قالت جاريةٌ من الحيّ: الآن لا يَحلبُ لنا مَنائحنا، فسمعها أبو بكرٍ - رضي الله عنه - فقال: بلى لَعَمري، لَأَحلُبنّها لكم، وإني لأرجو أن لا يُغيِّرني ما دخلتُ فيه عن خُلُقٍ كنتُ عليه، فكان يَحلُب لهم، وربما قال للجارية: أتُحبِّين أن أرغي لك أو أُصَرِّح؟ فربما قالت: أَرْغ، وربما قالت صَرِّح - والصَّريح: اللّبن إِذا ذهبت رَغْوَتُه (¬1). وذكر ابن قتيبة أن أبا بكرٍ كان يقول لهم: أَنْفُجُ أم أُلْبِد؟ فإن قالت: أَنْفِج؛ باعد الإناءَ من الضَّرع (¬2)، والنَّفْجُ بجيم: الارتفاع - فأقام كذلك ستة أشهر بالسُّنح. ثم نزل المدينة، فأقام بها، ثم نظر في أمره فقال: لا والله ما يُصلِحُ أمرَ الناس التجارة، وما يَصلُح لهم إلا التَّفرُّغُ والنَّظرُ في شأنهم، ولا بدّ لعيالي مما يُصلحهم، فترك التّجارة، واستَنفق من مال المسلمين ما يُصلحه ويُصلحهم يومًا بيوم. قال: وكان الذي فرضوا له في كلّ سنة ستة آلاف درهم، فلما حضرته الوفاةُ قال: أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبتُ من أموالهم، فدفعها إلى عمر - رضي الله عنهما - (¬3)، وسنذكره عند وفاته. ذكر أول ما بدأ به بعد البيعة أوَّلُ ما بدأ به بعد البيعة تجهيزُ أسامة بن زيد، وكان نازلًا بالجُرْف، وفيه ثلاثةُ آلاف من أعيان المهاجرين والأنصار، فاجتمع الأنصار إلى عمر بن الخطاب وقالوا: إن النفاق قد نَجَم، وارتدَّت العرب، ومالت اليهود والنصارى إلى منع الجزية، وجيش أسامة فيه أشرافُ الناس، فلو قلتَ لخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَتربَّصَ به، فإنا نخاف أن يَتخطَّفَه الناس، فإن أبى إلا المُضِيّ؛ فسَلْه أن يُولِّي علينا رجلًا منا، أسنَّ من أسامة. فدخل عمر على أبي بكر، فكلَّمه في تأخير جيشِ أسامة، وقال له: هؤلاء جُلُّ ¬

_ (¬1) الصحاح (صرح). (¬2) غريب الحديث 1/ 255. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 185 - 186، وتاريخ دمشق 35 - 36/ 434 - 435، وانظر أنساب الأشراف 5/ 141، والمنتظم 4/ 72 - 73.

العرب - على ما ترى - قد انتَقَضَتْ بك، وليس لك أن تُفرِّق جماعة المسلمين. فقال أبو بكر: والله لو تَخَطَّفني الطَّيرُ لأَنفذتُ جيشَ أسامة على ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يَبقَ غيري لأَنفذتُه، قال: فإن الأنصار يسألونك أن تُوَلَّي عليهم رجلًا منهم أقدمَ سنًا من أسامة، فوثب أبو بكر، وأخذ بلحية عمر، وقال: ابن الخطاب، أيَستعملُه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأَنزعُه أنا؟ أتأمُرُني أن أَرُدَّ قضاءً قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فخرج عمر إلى الناس، وقال: ثَكِلتكُم أمُّكم، ماذا لَقيتُ بسببكم من خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وخرج أبو بكر بنفسه حتى أتى جيش أسامة، فأَشخَصَهم، وشَيَّعهم ماشيًا، وأسامةُ راكبٌ، وعبد الرحمن بن عوف يقودُ دابَّةَ أبي بكر، فقال له أسامة: والله لترَكَبَنَّ أو لَأنزِلَنَّ، فقال أبو بكر: والله لا تَنزل ولا أركب، وما عليَّ أن أُغَبَّرَ قدميَّ في سبيل الله، فإن للغازي بكلَّ خُطوة يَخطوها سبع مئة حسنة، ويُمحى عنه سبع مئة سيئة. ثم أوصى الناس فقال: أُوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغدِروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا طفلًا ولا شيخًا ولا امرأة، ولا تحرِقوا نَخْلًا ولا تَعقِروه، ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيرًا إلا لمَأكَلَة، وسوف تَمرُّون بأقوامٍ قد فرَّغوا نفوسَهم في الصوامع، فدعوهم وما فَرَّغوا نفوسَهم له، وسوف تَلقَون أقوامًا قد فَحصوا أوساطَ رؤوسهم، وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفِقوهم بالسيوف خَفْقًا، اندفعوا بسم الله. وسأل أبو بكر أسامة أن يَأذن لعمر بن الخطاب في المقام عنده، وقال: لا غِنى لي عنه، فأذن له، ثم قال أبو بكر لأسامة: ابدأ بما أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به من الغارة على بلاد قُضاعة، ثم ائْتِ مُؤتة، ولا تُقَصِّرَنَّ في شيءٍ أمرك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأغر غارةً سِجالًا يتلاقى عليك جيوش الروم. فسار أسامة حتى انتهى إلى المكان الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بلاد قُضاعة والشام وفلسطين، حتى بلغ الدَّارُوم، وعاد سالمًا غانمًا لهلال جُمادى الأولى. وكانت غيبتُه أربعين يومًا، وقال عكرمة: غاب خمسين يومًا لأنه سافر في سادس عشر ربيع الأول، وعاد في خامس جمادى الأولى.

حديث الردة

ولما توجَّه أسامة جاء أبا بكر رضوان الله عليه خبرُ الأسودِ العَنْسي ومقتله، فكان أوّلَ فتحٍ أتاه. ولما جهَّز أبو بكر جيش أسامة وفدت عليه وفود العرب مُرتدّين، مُقرِّين بالصلاة مانعين الزكاة، فلم يَقبل ذلك منهم، ورَدَّهم، واستعدَّ لحربهم وجهادهم، وأقام على ذلك حتى قَدم جيشُ أسامة من الشام، فخرج إلى لقائه، وسُرَّ بسلامتهم، واستعان بهم على أهل الرِّدة. حديث الرِّدَّة لما تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقام أبو بكر - رضي الله عنه -؛ ارتدَّت العرب بعد خلافته بعشرة أيام، إلا أهل المسجِدَيْن وما بينهما، وأناسًا من الأعراب قليل، وفي رواية: والبحرين وثَقيف، فإنهم استشاروا عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان فيهم مُطاعًا، فقال: لا تكونوا آخر العرب إسلامًا وأوَّلَهم ارتدادًا، فنفعهم الله برأيه - ونَجم النِّفاق، والمسلمون كالغنم في الليلة المظلمة؛ لفقد نبيّهم، وقلَّتهم، وكثرةِ عدوِّهم، وخُلُوِّ المدينة من أبطال المسلمين، ووجوه الناس في جيش أسامة. وكان الأسود العَنْسي قد غَلَب على صَنْعاء ونَجْران والطائف، واستعجل أمره مسيلمة الكذّاب وطُلَيحة بن خويلد، وارتدَّت غَطَفان وطَيّئ، واجتمع إليهم مَن كان على مثل رأيهم. وقال ابن إسحاق: أول ردَّةٍ كانت في العرب مُسَيلِمة باليمامة في بني حنيفة، والأسود بن كعب العَنْسي باليمن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج طُليحة الأَسَدي في بني أَسَد، وادَّعى النُّبوَّة، وسجع لهم (¬1)، وكان فيما يقول: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم، ولا فتح أدباركم شيئًا، فاذكروا الله أَعِفَّةً قيامًا (¬2). وقال أبو هريرة: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستُخلف من بعده أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تُقاتل الناس وقد قال رسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 175. (¬2) ذكر كلامه ابن حبان في الثقات 2/ 166، والمقدسي في البدء والتاريخ 5/ 158، وابن عساكر في تاريخ دمشق 8/ 599، وابن الجوزي في المنتظم 4/ 24، وياقوت في معجم البلدان 1/ 408.

- صلى الله عليه وسلم -: "أُمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عَصموا مني دماءهم وأموالَهم إلا بحقِّهم، وحسابُهم على الله"؟ فقال أبو بكر: والله لأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، والله لو منعوني عَناقًا أو عِقالًا كانوا يُؤدُّونها - أو يُؤدُّونه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على ذلك. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ أن الله قد شرح صدرَ أبي بكر للقتال، فعرفتُ أنه الحق، أخرجاه في الصحيحين (¬1). وقد وافق أبا بكر بعد ذلك جميعُ الصحابة، وصَوَّبوا رأيه، فقال أبو رجاء العُطارِدي: دخلتُ المدينة، فرأيتُ الناس مجتمعين في المسجد، ورأيتُ رجلًا يُقبَّل رأس رجل وهو يقول: نحن فداؤك، لولا أنت هَلَكنا، فقلت: فمَن المقبِّل والمقبَّل؟ قالوا: ذلك عمر بن الخطاب يُقبِّل رأس أبي بكر في قتال أهل الردَّة إذ منعوا الزكاة حتى أَتَوا بها صاغرين (¬2). وأقام أبو بكر رضوان الله عليه بالمدينة يَحترس مدَّة غيبة جيش أسامة، وأقام جماعة على أنقاب المدينة، منهم علي وطلحة والزبير وابن مسعود. وقدمت عبس وذبيان، فنزل بعضهم بذي القَصَّة وبعضهم بالأَبْرَق، ودخل رؤساؤهم على أبي بكر، فكلَّموه وقالوا: نُصلِّي ولا نُزكّي، فقال: لا والله، فخرجوا من عنده، وعَزموا على الفَتْك به وبأهل المدينة، وكَمنوا لهم كَمينًا بذي حُسى. وجاؤوا إلى المدينة، فخرج إليهم أبو بكر والمسلمون على النَّواضِح، وعلى مَيمنة أبي بكر النّعمان بن مُقَرِّن، وعلى مَيسرته عبد الله بن مُقَرّن، وعلى السَّاقة سُويد بن مُقَرِّن. واختلفوا في أسامة هل كان قدم عند هذه الحادثة؟ قال قوم: لم يكن قَدم، وقال آخرون: قدم، ولكن أمره أبو بكر أن يستريح في جنده. ثم التَقَوا، فانهزم القوم، وتبعهم المسلمون إلى ذي حُسى، فخرج عليهم الكمين ¬

_ (¬1) البخاري (1399)، ومسلم (20)، وهو في مسند أحمد (67). (¬2) صفة الصفوة 1/ 250، والمنتظم 4/ 87.

وقد نفخوا زِقاقًا (¬1)، وشَدُّوا الحبال فيها، ودَهْدَهوها في وجوه النَّواضح التي عليها المسلمون، فنَفرت بهم إلى المدينة لا تلوي على شيء، فظنَّ الكفار أنهم قد ظهروا عليهم، فأرسلوا إلى من بذي القَصَّة من أصحابهم، فاجتمعوا وقصدوا المدينة، فخرج إليهم أبو بكر ماشيًا، ومعه المسلمون مُشاةً، وجعل على ميمنته عليًّا رضوان الله عليه، وبني مقرن على ميسرته وساقته، وحملوا على القوم حملةَ رجل واحد، فانهزموا، فما ذَرَّ قَرْنُ الشمس حتى وَلَّوْا، وغنم المسلمون ظهرَهم وأموالَهم. وبلغ أبو بكر إلى ذي القَصَّة، وعزم على أن يُعسكر هناك، فناشده المسلمون الله لا يفعل خوفًا على المدينة، فرجع وقد استراح جيشُ أسامة، فأقام ثلاثة أيام، ثم خرج بالمسلمين إلى ذي القَصّة فأقام ومعه جيش أسامة، فعقد بها الألوية، وكانت أحدَ عشر لواءً. فأوَّلُ لواءٍ عَقَده لخالد بن الوليد، وأمره أن يَسير إلى طُليحة بن خويلد، فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نُوَيْرَة بالبُطاح. قال وَحشيّ بن حَرْب: إن أبا بكر عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة، وقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نِعم عبدُ الله وأخو العشيرة خالد بنُ الوليد، وسيفٌ من سيوف الله سَلَّه الله على الكفار والمنافقين" (¬2). ثم عقد لواءً لعكرمة بن أبي جهل، وأمره أن يسير إلى مُسيلمة، وعقد لخالد بن سعيد بن العاص وأمره أن يسير إلى مشارف الشام إلى من اجتمع به، وعقد لعمرو بن العاص إلى قُضاعة ومن انضمَّ إليها، وعقد للمهاجر بن أبي أميَّة، وأمره بالمسير إلى اليمن، ومعونة الأبناء على جند الأسود العنسي، ثم يَتوجَّه بحضر موت (¬3) إلى كِندة، وعقد لحُذَيفة بن مِحْصَن الغَلْفَانيّ (¬4)، وأمره بأهل دَبا، وعقد لعَرْفَجة بن هَرْثمة وأمره ¬

_ (¬1) في (أ، خ): دقاقًا. (¬2) أخرجه أحمد (43). (¬3) في (أ): إلى حضرموت، والذي في تاريخ الطبري 3/ 249، والمنتظم 4/ 76: وعقد للمهاجر بن أبي أمية، وأمره بجنود العنسي، ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت. (¬4) في (أ): الغطفاني، وهو خطأ، فقد ذكره الحافظ في الإصابة 2/ 222 وقال: ضبطه الطبري بالغين المعجمة واللام والفاء، وضبطه أبو عمر بالقاف واللام والعين.

بمُهْرة، وعقد لشُرحْبيل بن حسنة وأمره بالمسير إلى عكرمة بن أبي جهل مَدَدًا له، وعقد لطُرَيْفة بن حاجز وأمره ببني سليم، وعقد لسُويد بن مُقرّن وأمره بتِهامة، وعقد للعلاء بن الحَضْرميّ وأمره بالمسير إلى البحرين. فبينا أبو بكر يَعقد الألويةَ قَدم عليه عَديُّ بن حاتم والزِّبرِقان بنُ بدر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث عديَّ بن حاتم على صدقات طيّئ، والزِّبرقان بن بدر على صدقات بني سعد، وطُليحة بن خُوَيلد على صدقات بني أسد، وعُيَينة بن حِصن على صدقات بني فَزارة، ومالك بن نُويرة على صدقات بني يربوع، والفُجاءة على صدقات بني سُلَيم، فلما بلغهم وفاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندهم أموال كثيرة رَدُّوها على أهلها، إلا عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فإنهما تمسَّكا بها ودفعا عنها الناس، حتى أدَّياها إلى أبي بكر، فتَقَوَّى بها على قتال أهل الرّدة، فلم يزل لعديّ والزبرقان بذلك شرفٌ على قومهما ومَن سواهما من أهل نَجد، قال الحارث بن مالك الطّائي: [من الطويل] وَفَينا وفاءً لم ير الناسُ مثلَه ... وسَرْبَلَنا مَجدًا عديُّ بن حاتمِ (¬1) وكان من حديث الزّبرقان أن بني سعد اجتمعوا إليه، فسألوه أن يَردَّ عليهم أموالَهم، وأن يَصنعَ بهم ما صنع مالك بقومه، فأبى، وقال: لا تَعجلوا، فإنه والله لَيَقومَنَّ قائمٌ بهذا الأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان ذلك القائم قاصرٌ ولم تُبدِّلوا دينكم، ولم تُفرّقوا، وإن كانت التي تَظنّون فهذه أموالكم في أيديكم، لا يغلبكم عليها أحد، فسكتوا، فلما جاءهم اجتماعُ الناس على أبي بكر خرج بها وقد تفرَّق القومُ عنه ليلًا، ومعه الرجال يَطردونها فما علموا به، حتى أتاهم أنه قد أدّاها إلى أبي بكر رضوان الله عليه، فكانت هذه الإبل التي قدم بها الزّبرقان وعديّ أوَّلَ إبلٍ وافت أبا بكر من إبل الصدقة، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الزّبرقان أبياتًا منها: [من الطويل] لقد علمتْ أفناءُ سعدٍ بأنني ... وَفيتُ إذا ما فارس الغَدْر أحجما سَرَيتُ بها ليلًا من اهلي فأصبحتْ ... تَدوس بأيديها الحصادَ المحرَّما ولن يَخبروني حين أُسألُ نائلًا ... بخيلًا ولا في النّائبات مُلَوَّما ¬

_ (¬1) البيت في كتاب الردة للواقدي 67، ومروج الذهب 4/ 183.

وفيتُ يمينًا للرَّسول وعهدِه ... ولم أَرتَقبْ فيها ابنَ عمًّ ولا ابْنَما (¬1) وقال ابن إسحاق: وكان من حديث عديّ أنه لما أسلم أَمّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات قومه، وذكر بمعنى ما ذكرنا، قال واجتمع إليه قومُه، وقد اجتمعت عنده إبلُ عطية، فقالوا له: هذا الرجل قد مات، وقد ارتدّ جيرانُنا من بني أسد وغيرهم، وقد انتَقض الناسُ بعده، وقَبض كلُّ قومٍ صدقاتهم، فنحن أحقُّ بأموالنا من غيرنا، فقال: ألم تُعطوا من نفوسكم العهودَ والمواثيقَ على الوفاء طائعين غير مكرهين؟ قالوا: بلى، ولكن قد حدث ما ترى، وما قد صنع الناس، فقال: كلا والذي نَفْسُ عديًّ بيده، لا أحبس بها أحدًا، ولو كنتُ جعلتُها لرجل من الزَّنج لوفيتُ له بها، ولئن أَبيتُم لأُقاتلَنّكم، يعني على ما في يده وما في أيديكم، فأكون أوّلَ قتيل يُقتل على وفاء ذِمَّتي، فلا تطمعوا أن يُسبَّ حاتم في قبره بجريرة عديًّ ابنِه، وذكر كلامًا طويلًا، فلما رأوا الجدَّ منه كَفُّوا عنه، ثم قَدم بها على أبي بكر رضوان الله عليه، وقال عدي: [من الطويل] وَفيتُ بعهدي أن أُسبَّ به غدًا ... وطهَّرَ أثوابي الوفاءُ على خُبْرِ ولما رَأَوا قومي دمي دون ذِمَّتي ... تَفرَّقَ بالقوم السَّبيلُ إلى الغَدْرِ فأدَّيتُها بعد النبيِّ بعهده ... إلى مَن تولّى بعده عُقدةَ الأمرِ فوافت أبا بكر معًا بفِصالها ... فسَرَّت أبا حفصٍ وسَرَّت أبا بكرِ وذَبَّيتُ عنها أن تُضام حَميَّتي ... وقلت كصدر السيف يهتزُّ في صدري فشرَّفْتُ في الإسلام بيت أبي الذي ... بناه أبي في الجاهلية للفَخْرِ قال الواقدي: ثم أمر أبو بكر - رضي الله عنه - عدي بن حاتم أن يتقدم إلى قومه طيّئ، وقال: أدرِكْهم لا يُؤكلوا، خوفًا عليهم من جموع طُليحة، وخرج خالد في إثر عديّ، وعاد أبو بكر إلى المدينة. وأما عديّ فإنه قَدم على قومه وقد ارتدُّوا، فقال: يا قوم، ارجعوا إلى الإسلام فأَبَوا، فقال: قد أتاكم من يَسبي حريمَكم، ويَستبيحُ دماءكم وأموالكم، فقالوا: قد ¬

_ (¬1) انظر كتاب الردة 68 - 69، وتاريخ الطبري 3/ 305

لحق منا قومٌ بطُليحة وهو ببُزاخَة، فَنَهْنِهْ عنا الجيش لنُرسلَ إليهم فيأتونا، فإنا إن خالَفْنا طُليحة وهم في يده قتلهم، فعاد عديّ إلى خالد وهو بالسُّنْح فقال له: أمسك عنا ثلاثًا أجمع لك خمس مئة مقاتل تَضربُ بهم عدوَّك، خيرٌ من أن تُعجِلَهم إلى النار، فأقام خالد، وعاد عديٌّ إلى قومه، وقد عاد من كان ببُزاخة من طيّئ باعتبار الاستعداد لخالد، وتوجه خالد إلى الأنسُر يريد جَدِيلة، فقال له عدي: إن جَدِيلة أحدُ جناحَيْ طيّئ، فأجِّلني أيامًا لعل الله أن يأتي بجَدِيلة كما أتى بطيّئ، فأقام خالد، وأتى عديّ جَدِيلة، فلم يزل يُخوِّفُهم حتى أجابوا، فقدم عديّ على خالد منهم بألف فارس مسلمين، فكان عدي بن حاتم خيرَ مولودٍ وُلد في طيّئ وأعظمَهم بَرَكة. وقال طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: كان أبو بكر يأمر أُمراءَه حين كان يَبعثهم في الرّدة: إذا غشيتُم دارًا فإن سمعتم بها أذانًا للصلاة فكُفُّوا حتى تسألوهم [ما الذي نقموا]، وإن لم تسمعوا أذانا فشُنّوا الغارة، وحَرّقوا، وانهكوا في القتل والجراح، لا يَرُدَّنَّكم وَهَنٌ لموت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال عروة بن الزبير: لما وَجَّه أبو بكر- رضي الله عنه - خالد بنَ الوليد إلى أهل الردّة قال له: إني لاقيك ببقية الناس من ناحية خيبر، وما يريد أبو بكر ذلك، قد كان أَوعَب خالدًا بمن عنده، وإنما أراد بذلك المكيدة، وأن يبلغ الناس، وخرج معه إلى ذي القَصّة، فنزل بها وهي على بريد من المدينة، فعبّأ جيوشَه، وعهد ليلة عهده، وأمَّر على الأنصار ثابت بن قيس بن الشمّاس، وأمرُه راجع إلى خالد، وخالد على المهاجرين وقبائل العرب، وأمَره أن يَصمُد إلى طُليحة بن خُويلد الأَسَدي، فإذا فرغ منه صَمَد إلى بني تميم حتى يَفرغ، وأسرَّ ذلك إليه. قال الواقدي: ثم إن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب كتابًا إلى أهل الردة مع أمرائه، نُسختُه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من أبي بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سلامٌ على مَن اتّبع الهُدى، ولم يَرجع إلى الضلالة والعمى، وذكر مَبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، ثم حَذَّرهم وأنذرهم، وقال: وقد بعثت إليكم جيوشًا من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 3/ 279 وما بين معكوفين منه.

وقعة بزاخة وهروب طليحة إلى الشام

بإحسان، وأمرتُهم أن لا يُقاتلوا أحدًا حتى يَدعونَه إلى داعية الله، فمن استجاب لهم وآمن وعمل صالحًا قَبلوا منه ذلك، ومن أبى قاتلوه وقتلوه أشرّ قِتْلة، وسَبَوا النّساء والذّراري، وعلى الله توكَّلتُ، وإليه أُنيب، والسلام، ثم أمر القوم بالمسير إلى الأماكن التي عيّنها لهم، فساروا. وقعة بُزاخَة وهروب طُليحة إلى الشام كان خروج طُليحة بعد مُسيلِمَة والأسود، ادَّعى النبوة، ونزل سَمِيراء، وقَوي أمرُه، فكتب سنان بن أبي سنان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يُخبره بأمره، وقال: الذي يأتيني يُقال له: ذو النون، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الموادعة، فردّ رسولَه خائبًا، ومن سَجعه: والحمام واليَمام، والصُّرَد الصَّوَّام، ليُفتَحنّ علينا العراقُ والشام. والتقى خالد وطُليحة في يوم بُزاخَة على ماء من مياه بني أسد يقال له: قَطَن، على بريد من المدينة، وقيل هي من أرض نجد، ولما قَرُب خالد من بُزاخَة أرسل ثابتَ بن أَقرم وعُكَّاشة بن محصن (¬1) طليعةَ الجيش، فساروا بين يديه، وكان طُليحةُ وأخوه سلمة قد خرجا من العسكر يَتحسَّسَان الأخبار، فلقياهما، فقتل طُليحة عُكَّاشة، وسلمةُ ثابتًا، وعاد طُليحة وأخوه إلى عسكرهما، وأقبل خالد بالناس فوجدهما مَقتولين، فشقَّ عليه وعلى الناس، وجَزِعوا جَزعًا شديدًا، ولما نظر المسلمون إليهما مقتولَيْن ثَقُلوا على المطيِّ، حتى ما تكاد المطيُّ ترفع أخفافها، ثم أمر بهما خالد فدُفنا بدمائهما، وأخبر طُليحةُ عيينةَ بن حصن بقتل ثابت وعُكّاشة ففرح، وقال: هذا أولُ الفتح، ثم صبَّحهم خالد على بُزاخة، والتقوا فاقتتلوا قتالًا شديدًا. وكان عيينة مع طليحة في سبع مئة فارس من بني فَزارة، وطليحة في أربعة آلاف، ومعه قُرَّة بن هُبَيرة في جَمعٍ عظيم، فنزل طُليحة فتزمَّل في كساء له بفِناء بيتٍ من شَعَر، بيتًا لهم يزعم أنه يُوحى إليه، فقاتل عُيينة حتى هَدَّته الحربُ وأضرستْه، فجاء إلى طُليحة وقال: أتاك جبريل بعد؟ قال: لا، أنا في انتظاره، فعل ذلك ثلاثًا، فلما كان في الرابعة قال: جاء جبريل بعد؟ قال: نعم، قال: فما الذي قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رَحًا ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): عكاشة بن قيس؟ !

قصة سلمى بنت مالك بن حذيفة

كرَحاه، وحديثًا لا تَنْساه، فصاح عُيينة: يا بني فَزارة، انصرفوا عنه فإنه والله كذّاب. وقال له الأقرع: أظنُّ أنه قد علم الله أنه سيكون لك حديثٌ لا تنساه، هذا والله يا بني فَزارة كذّاب، فانطلقوا لشأنكم. فَفَرُّوا عنه، وبقي طُليحة في أصحابه، وكان قد أعدَّ عنده فرسًا، وهيّأ لامرأته النّوار بَعيرًا، فركب الفرس، وحمل امرأته على البعير، وسلك الحُوشِيَّة حتى لحق بالشام، ولما سار إلى الشام هاربًا عطش هو وأصحابُه في الطريق، فقالوا: يا أبا عامر ما بقي من كَهانتك؟ فقال لرجل منهم يقال له مخراق: اركب فرسًا رِئبالًا، ثم سر عليه إقبالًا، فإنك ترى فارات طوالًا، فإنك تجد عندها ماءً زلالًا، وكان يعرف تلك الأماكن، فمضى مخراق إلى الفارات، فوجد عندها عينًا، فشربوا منها وسقوا. ونزل طليحة على كلب على النقع، وهو اسم مكان بالشام، ثم أسلم، وحضر فتح نهاوند، وقُتل شهيدًا، وأَسرَ خالد عيينةَ بنَ حصن وقُرَّة بنَ هُبيرة، وبعث بهما إلى أبي بكر - رضي الله عنه - موثقَيْن، فلما دخلا عليه قال له قُرَّة: يا خليفة رسول الله، إني كنت مسلمًا، وقد مرَّ بي عمرو بن العاص فأعطيتُه الصدقة، فأرسل أبو بكر إلى عمرو، فشهد بذلك، فتجاوز عنه، وحقن دمَه، ولما دخلوا بعُيَيْنة المدينة، مغلولة يده إلى عنقه، جعل صبيان المدينة يضربونه بالجريد، ويقولون: يا عدوَّ الله، أكفرت بالله؟ وهو يقول: والله ما كنت مسلمًا قط، فتجاوز أبو بكر عنه، وحقن دمه. وكرَّ خالد على بني عامر، وكانوا قد اعتزلوا ناحيةً ينظرون لمن الدَّبَرة، فهزمهم خالد، وأخذ أموالهم، وقتلهم، وقتل بني فَزارة. وقال الهيثم: لما رأى بنو عامر ما جرى على طُليحة، جاؤوا إلى خالد وأسلموا. قصة سَلمى بنت مالك بن حذيفة وأمّها أمُّ قِرْفَة بنت حذيفة (¬1)، وكانت سَلمى سُبيت في السنة السادسة، فوقعت لعائشة، فأعتقتها. قال هشام: فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة وهي عندها فقال: "إن إحداكنّ ¬

_ (¬1) كذا، وهو خطأ، فأم قرفة: هي بنت ربيعة بن فلان بن بدر زوجة مالك بن حذيفة. انظر تاريخ الطبري 3/ 263.

ذكر قدومهم عليه

لتَسْتَنْبِحُ كلابَ الحَوْأب"، ففعلت ذلك سلمى حين ارتدَّت، وقاتلت خالدًا (¬1). وقيل: إن سلمى وقعت في سهم سَلَمةَ بن الأكْوع لما قتل زيدُ بنُ حارثة أمَّها [أمّ] قِرْفة بوادي القُرى. وعامّةُ أرباب السير على أن الذي نبحَتْها كلابُ الحَوْأب عائشة، والحَوْأب: بناءٌ في طريق البصرة. قال ابن الكلبي: ولما هزم خالد طُليحةَ وعُيينةَ اجتمع فُلّال غطفان إلى سلمى، فأرفَدَتْهم، وكانت مُقيمةً على ظَفَر، وقَوَّتْهم بالسلاح والكراع والرجال، فصارت في جمع عظيم من أسد وغطفان وهوازن وسليم وبعض طيّئ واستفحلَ أمرُها، فسار إليهم خالد بجيوشه، والتَقَوا وهي راكبةٌ بينهم جَملَ أمِّها أمِّ قِرْفَة، وكان جملًا عظيمًا، وهي في مثل عِزِّ أمِّها، فقال خالد: مَن يَعقِرُ جملَها وله مئةُ بعير؟ فلم يُقدم عليه أحد، فحمل خالد والمسلمون فعَقروا جملَها، وقتلوها بعد أن قُتل حولها مئةُ فارس، ثم قَدم فَلُّهم على أبي بكر رضوان الله عليه. ذكر قدومهم عليه ولجأ وفدُ بُزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصُّلح، فخيَّرهم بين الحرب المُجْلِيَة، والسِّلْم المُخْزِية، فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ فقال: ننزعُ منكم الحلقة والسلاح والكُراع، ونَغنم ما أَصبْنَا منكم، وتَردُّون علينا ما أصبتُم منا، وتَدُون لنا قتلانا، ويكون قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، وتتبعون أذناب الإبل. فقام عمر بن الخطاب وقال: قد رأيتُ رأيًا، وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسِّلم المخزية، وأنا نَغنم ما أصبنا منهم ويَردُّون علينا ما أصابوا منا فنِعم ما قُلتَ، وأما ما ذكرتَ من أنهم يَدُون قتلانا، فقتلانا قاتلوا على أمر الله، ولتكون كلمةُ الله هي العُليا، فقتلوا، فأجورهم على الله، فليس لهم دِيات، فأعجب الناسَ ما قال عمر، وتبايعوا عليه (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 3/ 264، وأخرج أحمد (24254) عن قيس أن عائشة أقبلت حتى بلغت مياه بني عامر، فنبحتها الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، ... قالت إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها ذات يوم: "كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟ " (¬2) أخرجه مطولاً الحميدي في الجمع بين الصحيحين (17) من حديث طارق بن شهاب، وأخرج طرفًا منه =

قصة البطاح ومقتل مالك بن نويرة

قال قتادة: فكنا نتحدَّث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابِه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (¬1) الآية [المائدة: 54]. قصة البطاح ومقتل مالك بن نُوَيْرة لما فرغ خالد من أسد وغطفان ومَن وافقهم ورد البُطاح، فوجد مالك بن نُويرة قد فرَّقهم في أموالهم، ونهاهم عن الاجتماع، وقال: يا بني يربوع، قد دعانا أمراؤنا إلى دين محمد فخالفْناهم، فلم نُفلِح ولم نُنْجِح، وإني نظرتُ في أمر هؤلاء القوم، فوجدتُه يتأتَّى لهم بغير سياسة، فإياكم ومناوأةَ قوم صُنع لهم أمرُهم، فتفرَّقوا إلى دياركم، وادخلوا في هذا الدّين، فتفرَّق الناسُ على ذلك، وعاد مالك، فنزل موضعه. وقدم خالد البُطاح، فبثَّ السرايا، وكان خالد لا يُغير حتى يَقرب الصُّبحُ، فإن سمع أذانًا كف، وإلا أغار، فأتوه بمالك بن نويرة في نفر من قومه بني يَربوع، فسأل عنهم خالد هل أَذَّنوا؟ فقال أبو قتادة الأنصاري وكان معهم: نعم قد أَذَّنوا وسمعتُهم، وسكت البعض، فحبسهم خالد، وكانت ليلةً قَرَّة، لا يقوم لبردها شيء، فلما كان في بعض الليل نادى منادي خالد: أَدْفِئوا أَسراكم، وكان في لغة كنانة إذا قال الرجل: أَدفئوا الرجل فإنه يكون من الدِّفء، وفي لغة هُذَيل معناه القَتلُ (¬2)، وسمع خالد الواعية، فخرج وقد فرغوا منهم، فقال خالد: إذا أراد الله أمرًا أصابه، فقال له أبو قتادة الأنصاري: هذا رأيُك وعملُك. وقال عروة بن الزبير: لما فرغ خالد من يوم بُزاخة وانهزم طُليحة أعلن خالد أنه سائر إلى أرض بني تميم، فانخزلت عنه الأنصار وقالوا: ما عهد إلينا أبو بكر في ذلك، فقال خالد: بلى قد عهد إليّ، ولستُ بالذي أَستكرهكم، أنا أسير بمن معي من المهاجرين وقبائل العرب، فسار مَنْقَلَةً أو مَنقلَتين، فندمت الأنصار، وقال بعضهم ¬

_ = البخاري (7221)، وانظر فتح الباري 13/ 220. (¬1) انظر تفسير البغوي 2/ 45. (¬2) في تاريخ الطبري 3/ 278: وكانت في لغة كنانة إذا قالوا: دثروا الرجل فأدفئوه، دفئه قتله، وفي لغة غيرهم: أدفِه فاقتله.

لبعض: والله لئن أصاب القومُ فتحًا إنه لخيرٌ حُرِمتُموه، ولئن أصاب نكبةً ليقال: خذلتموه وأسلمتموه، فبعثوا إلى خالد أن انتظِرْ حتى نأتيك، فتوقّف خالد حتى لحقوا به، ثم مضى فنزل البُطاح من أرض تميم، فبثَّ السرايا، ولم يَلْقَ بها جَمْعًا، فأصاب مالك بنَ نويرة وأصحابَه فقتلهم. وقال الواقدي: لما أراد خالد قتلَ مالك قال له أبو قتادة: ناشدتُك الله لا تَقتلْه، فوالله لقد سمعتُهم يُؤذِّنون، ورأيتُهم يصلُّون، وإن الرجلَ مسلمٌ، ودمُه حرام، فلم يلتفت خالد إليه، وزبره، فغضب أبو قتادة، وقال: والله لا كنتُ في جيشٍ أنت فيه أبدًا، ثم لحق بأبي بكر، فأخبره الخبر، وقال: لم يَقبل قولي وقبل قولَ الأعراب الذين قَصدُهم النَّهبُ والسَّبيُ، ولم يعد إليه (¬1)، ويقال: إن أبا بكر أمره أن يرجع إلى جيش خالد، فما رجع، ويقال: إنه رجع حتى قدم مع خالد المدينة، وشهد عليه بما شهد، وقد ادَّعى خالد أن مالكًا راجعه بكلام فيه غلظ، لأن خالدًا لما أراد قتلَه قال: إن صاحبَكم أمر أن لا يُقتل مسلم، وأنه لا يُغار على حيًّ إذا سُمع منه الأذان، فقال له خالد: أي عدو الله، وما تَعدُّه لك صاحبًا؟ فقتله، وقتل أصحابه، والذي قتل مالكًا ضرار بنُ الأزور. وفي رواية: لما أراد خالد قتل مالك جاءت امرأتُه أمُّ تميم بنت المنهال، وكانت من أجمل النساء، فألقت نفسها عليه وقد كشفت وجهها، فقال: إليك عنّي، فقد قتلتيني، يشير إلى أن خالدًا لما رآها أعجبَتْه، فقتله ليأخُذَها. ورُوي عن بعض مَن حضر هذه السريّة قال: رُعنا القومَ تحت الليل، فرِيعت المرأةُ، فخرجت عريانة، فوالله لقد عرفنا حين رأيناها أنه سيُقتَل عنها صاحبُها. ولما قُتل مالك تزوّج خالد امرأتَه، فكتب إليه أبو بكر - رضي الله عنه - بالقُدوم عليه، ولما بلغ عمر بنَ الخطاب خبرُ خالد، وقتلُه مالكًا، وأخذُه لامرأته قال: أي عباد الله، قتل عدوُّ الله امرءًا مسلمًا، ثم وثب على امرأته، والله لنرجُمنّه بالحجارة، فلما قدم خالد ¬

_ (¬1) انظر كتاب الردة للواقدي 106.

المدينة دخل المسجدَ وعليه ثيابُه عليها صَدأُ الحديد، مُعتَجِرًا بعمامةٍ قد غرز فيها ثلاثة أسهم فيها أَثَرُ الدّم، فوثب إليه عمر، فأخذ الأسهُم من رأسه فحطمها، وقال: يا عدو الله، عدوتَ على امرئ مسلمٍ فقتلته، ثم نزوتَ على امرأته، والله لنَرجُمنّك بأحجارك، وخالد لا يَرجع عليه بلا ولا نعم، وهو يظنُّ أن رأيَ أبي بكر فيه كرأي عمر، فدخل خالد على أبي بكر وعمر في المسجد، فذكر لأبي بكر عُذرَه ببعض الذي ذكر له، فتجاوز عنه، ورأى أنها الحرب وفيها ما فيها، فرضي عنه، فخرج خالد من عنده وعمر في المسجد، فقال له خالد: هَلمَّ يا ابن حَنْتَمَة (¬1) إليّ، يريد أن يُشاتِمَه، فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فقام فدخل بيته. وقال الواقدي: لما دخل خالد المسجد قام إليه عمر وقال: يا عدو الله فعلتَ وفعلت، وقال لأبي بكر: عليك أن تَعزلَه، وتَستقيدَ منه لمالك، فإن في سيفه رَهَقًا، أي: غِشيانًا، وكان خالد يظنُّ أن الذي قال له عمر عن أبي بكر، فأخذ يَحلف ويعتذر، وعمر يُحرّض أبا بكر عليه، ويقول له: أَقِد أولياءَ مالك منه، فقد قتله ونزا على امرأته، ودخل مسجد رسول الله ومعه أَسهمٌ فيها دَم، وحضر مُتَمِّم أخو مالك، وطلب القَوَد من خالد، فقال له أبو بكر: هيه يا عمر، ارفع لسانك عنه، فما هو بأوَّل من أخطأ، فقال: أَقِد أولياءَ مالك منه، فقد وجب عليك ذلك، فقال أبو بكر: لا أشِيم سيفًا سلّه الله على الكفار أبدًا، وودى مالكًا، وأمر خالدًا بطلاق امرأته بعد أن عَنَّفه على تزويجه إياها. وقال أبو رياش: دخل خالد المدينة ومعه ليلى بنت سنان زوجة مالك، فقام عمر، فدخل على عليّ فقال: إن من حقِّ الله أن يُقاد من هذا لمالك، قتله وكان مُسلمًا، ونزا على امرأته مثل ما ينزو الحمار، ثم قاما فدخلا على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله فتبايعوا على ذلك، ودخلوا على أبي بكر، وقالوا: لا بُدّ من ذلك، فقال أبو بكر: لا أَغمِدُ سيفًا سلّه الله تعالى. ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): خيثمة، وفي تاريخ الطبري 3/ 280: يا ابن أم شملة، ولعل المثبت هو الصواب، فإن حنتمة هي أم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

حديث أبي شجرة الرهاوي

حديث أبي شَجَرة الرُّهاوِيّ (¬1) كان فيمن قاتل خالدًا يوم البُطاح أبو شجرة بن عبد العزّى السُّلَمي، أحدُ بني الشَّريد، وقال من أبيات: [من الطويل] سَلِ النّاسَ عنّا كلَّ يومِ كَريهةٍ ... إذا ما التَقَيْنا دارعين وحُسَّرا ألسنا نُعاطي المُهْرَ منّا لِجامَه ... ونَطعنُ في الهيجا إذا الرُّمحُ قَصّرا فروَّيتُ رُمْحي من كتيبةِ خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أن أُعَمَّرا (¬2) فلما قام عمر جلس يومًا يَقسِم الصدقات، فجاء رجل راكبٌ على ناقةٍ، فنزل فأناخها، وجاء إليه فقال: يا أمير المؤمنين أعطني، فقال: مَن أنت؟ فقال: أنا أبو شجرة الرُّهاوي، فقال: يا عدوَّ الله، فروَّيتُ رمحي من كتيبة خالدٍ؟ ثم قام عمر وضربه بالدِّرَّة، فانهزم. قصّة اليَمامة ومقتل مُسيلمة كان أبو بكر رضوان الله عليه قد بعث عكرمه بن أبي جهل إلى اليمامة نحو مُسيلمة، وأَتبعه شُرحبيل بن حسنة، فعجل عكرمة، فبادر نحو مسيلمة ليذهبَ بصِيتها وصوتها، فواقع بني حَنْيفة، فنكبوه وقتلوا بعضَ أصحابه، وبلغ شُرَحبيل فتوقَّفَ، وكتب عكرمة إلى أبي بكر يُخبره ويَستمدُّه، فكتب إليه أبو بكر: يا ابن أمِّ عكرمة لا أَراك ولا تَراني، ثم صرفه إلى وجه آخر، وكتب إلى شُرحبيل بن حسنة: أقِمْ مكانَك حتى يأتيكَ خالد. ثم كتب إلى خالد أن سِرْ إلى اليمامة، وبعث معه المهاجرين وعليهم أبو حُذيفة، والأنصار وعليهم ثابت بن قيس بن شَمّاس، والقبائل وعلى كل قبيلة رجلٌ، وسار حتى نزل اليمامة، فوجد شُرحبيل قد عَجِل، وفعل كما فعل عكرمة، فنُكب وقُتل جماعةٌ من ¬

_ (¬1) كذا، وهو خطأ، فإن أبا شجرة الرهاوي رجل آخر غير هذا المذكور، واسمه يزيد بن شجرة، مختلف في صحبته، كان أمير الجيش في غزو الروم، استشهد سنة ثمان وخمسين، انظر سير أعلام النبلاء 9/ 106، والإصابة 10/ 352، وأما هذا فاسمه عمرو بن عبد العزى السلمي من ولد الخنساء الشاعرة، انظر تاريخ الطبري 3/ 266، وكنى الشعراء لابن حبيب 2/ 284، وخزانة الأدب 1/ 434، وجمهرة ابن حزم 261. (¬2) الأبيات في كتاب الردة للواقدي 79 - 80، وتاريخ الطبري 3/ 266

أصحابه، فلامَه خالد على ذلك وعلى عجلتِه. وكان مسيلمة نازلاً بمكان يُقال له عَقرباء في أربعين ألف مقاتل، فخرج مُجَّاعة بن مُرارة الحنفيّ في سريّة، وطلب ثأرًا له فى بني عامر، وكان قد غلبه الكَرى، فنزل هو وأصحابه فعَرَّسوا، وكانوا ثلاثة وعشرين فارسًا، فمرَّت بهم خيل لخالد وهم نيام، فأخذوهم وأوثقوهم، وكانوا قد أخذوا خولة بنت جعفر العامريّة وهي معهم، فخَلَّصوها، وأتوا بهم خالدًا فقال: ما تقولون؟ فقالوا: منّا نبيٌّ ومنكم نبيّ، فأمر خالد بقتلهم، فقال له ساريةُ بنُ عامر رجلٌ منهم: يا خالد إن كنتَ تُريد غدًا بأهل اليمامة خيرًا أو شرًا فاستبْقِ مُجَّاعة ولا تَقتُلْه، فأوثقه بالحديد، وسلَّمه إلى زوجته أمِّ تميم، وقال: استوصي به خيرًا. وقيل: إنما نزل خالد بعقرباء، وهي ماء أو منزل في طريق اليمامة، ثم صفّ خالد عسكَرَه، وجعل على الميمنة زيد بنَ الخطاب، وعلى الميسرة أبا حُذيفة، وعلى المقدِّمة شُرَحبيل بن حسنة، وراية المسلمين مع سالم مولى أبي حذيفة، وصفَّ مسيلمة عسكَرَه، فجعل على ميمنته مُحَكَّم اليمامة وهو مُحَكَّم بن الطُّفيَل، وجعل على ميسرته الرَّجَّال بن عُنْفُوة الذي شهد لمُسيلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشركه في الأمر، وكان وزيرَ مسيلمة وصاحب أمره، وكان أبو بكر قد بعث الرَّجَّال إلى أهل اليمامة؛ وهو يظنُّ أنه على الصدق فخانه. قال أبو هريرة: كنتُ جالسًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رَهْطٍ، ومعنا الرجَّال بن عُنْفُوة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن فيكم لرجلاً ضرسُه في النار مثل أحد" (¬1). فهلك القوم، وبقيتُ أنا والرَّجَّال، فكنتُ متخوِّفًا منها حتى خرج الرجَّال مع مسيلمة، فشهد له بالنبوَّة، فكانت فتنةُ الرَّجَّال أعظمَ من فتنة مسيلمة، ثم التقى الناس. قال الواقدي: وكان زيد بن الخطاب حاملَ راية المسلمين، فانكشف المسلمون، وغلبت بنو حنيفة على الرجَّال، فجعل زيد يشد بالراية ويقول: أما الرجَّال فلا رجَّال، وجعل يصيح بأعلى صوته: اللهمَّ إنني أبرأُ إليك مما جاء به مسيلمة، وأعتذر إليك من ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 3/ 287 و 289، والحميدي في مسنده (1177).

فِرار أصحابي، وجعل يعدو بالراية في نحر العدو، ويضرب بسيفه حتى وقع قتيلًا. فأخذ الرايةَ سالم مولى أبي حُذيفة، فقال المسلمون لسالم مولى أبي حذيفة: رايةُ المسلمين بيدك، فانظر كيف تكون، فإنا نَخشى أن نُؤتى من قِبَلك، فقال: بئس حاملُ القرآن أنا إن أُتيتم من قبلي. ثم حمل مسيلمة وأصحابُه، فلم يَثبت لهم المسلمون، وجالوا جولة، حتى دخل جماعةٌ من بني حَنيفة فُسطاط خالد، وكان مُجَّاعة أسيرًا عند امرأته، فألقى عليها رداءه، وقال: أنا جارٌ لها، فنِعمت الجِيرةُ (¬1) هي، فخَلّوا عنها، وانكشف المسلمون، فنادى ثابت بن قيس بن شَمّاس وبيده راية الأنصار: يا معاشر المسلمين، بئس ما عَوَّدتُم أقرانكم الفِرار، ثم قال: اللهمَّ إني أبرأُ إليك مما جاء به هؤلاء، يعني الكفار، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثم قاتل حتى قُتل. وكان مُحَكَّم اليمامة في أوائل الخيل يقول: اليوم تُسْتَحقَبُ الكرائم غيرَ رَضِيَّات، ويُنكحْنَ غير خَطيبات، فجاءه سهمٌ فقتله، قتله عبد الرحمن بن أبي بكر، وقيل: قتله زيد بنُ الخطاب. وكان البراء بن مالك إذا حضر الحربَ أخذته الرِّعْدة حتى يَقعدَ عليه الرِّجال، ثم يبول في سراويله، ثم يثور كما يثور الأسد، فلما كان يوم اليمامة أصابه ذلك، فلما سُرِّي عنه صاح: يا معاشر المسلمين، إليّ إليّ فأنا البراء بن مالك، ففاءت إليه طائفة، وكان مسيلمة قد دخل حديقة، وقال له مُحَكّم اليمامة قبل أن يُقتل: يا معاشر بني حَنيفة، ادخلوا الحديقة وأنا أحمي أدبارَكم، فدخلوا. فلما قُتل مُحَكّم اليمامة جاء البراء بن مالك فدخل الحديقة ومعه المسلمون، فقتل من بني حنيفة عشرة، فلما رأت ذلك بنو حنيفة قالت لمسيلمة: أين ما كنتَ تَعِدُ؟ ويقول: قاتلوا اليوم عن الأحساب. وتسمى حديقة الموت (¬2)، وكان بنو حنيفة أغلقوا بابها، فقال البراء بن مالك: ألقوني على الجدار، فألقوه، فاقتحمها، وكسر الباب فألقاه، وحمل وَحشيّ وسماك بن خرشة أبو دُجانة الأنصاري على مسيلمة، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 3/ 288: فنعمت الحرة هي. (¬2) كذا في (أ) و (خ)، وليس في (ك)، وهذا نص مضطرب، وانظر تاريخ الطبري.

فضربه الأنصاري على رأسه بالسيف، وزَرقه وحشيّ بحربته فقُتل، وكان عبد الله بن عمر حاضرًا قال: فسمعتُ امرأةً تَصرخ على ظهر جدار تقول: وانَبيّاه، قتله العبد الأسود، وكان وحشيّ يقول وربُّك أعلمُ أيّنا قتلَه. ومرّ رجلٌ من بني حنيفة فرآه مقتولًا، فقال: أشهد أنك نبيٌّ، ولكنْ نبيٌّ شَقيّ، ثم قال [من مجزوء الكامل] لهفي عليك أبا ثُمامهْ ... لهفي على رُكْنَيْ شمامَهْ كم آيةٍ لك فيهم ... كالشمس تَطلعُ في غَمامَهْ (¬1) وكان مسيلمة قد خَفي عليهم في القَتلى فلم يَعرفوه، فأرسل خالد، فجيء بمُجَّاعة يَرسُف في قُيوده، فأخذ مُجَّاعة يَكشف عن القتلى، فمر بمُحَكّم اليمامة، وكان رجلًا جَسيمًا وَسيمًا، فقال خالد: هذا صاحبُكم؟ قال مُجَّاعة: لا والله، هذا خيرٌ منه وأكرم، هذا مُحكّم اليمامة، ثم مر بالرَّجَّال، فقال: هذا الرَّجَّال، حتى مر برجل أُصَيفر أُخَيْنِس، فقال مُجّاعة: هذا مسيلمة، فقال خالد: هذا الذي فعل بكم الأفاعيل؟ فقال مُجَّاعة: يا خالد قد كان ذلك، وإنه والله ما جاءكم إلا سَرَعَان الناس، وإن جَماهيرهم لفي الحصون، فقالها لرجل قد نهكته الحرب وأصيب معه أشراف الناس، فقال: ويحك ما تقول؟ فقال: والله إنه الحق، فهَلمَّ لأُصالحك على قومي، فدعني أذهب إليهم، وأشير عليهم بالصُّلح، فقال: اذهب على عهد الله، فذهب، فدخل الحصون، وأمرَ النساء بلُبسِ السِّلاح، وكَثّر السَّواد، فأشرفوا من الحصون، فظنّهم خالد رجالًا، فصالحه على الرّبع من السّبي والحمراء والصَّفراء والحَلْقة، وكان عامَّةُ القراء قد قُتلوا، فصالح خوفًا على الباقين، ثم قيل لخالد بعد ذلك: خدعك مُجَّاعة، فقال: يا مُجَّاعة خَدعتَني؟ فقال: قومي هم، أفنيتَهم فلا تَلُمْني. وقال سيف: كان خالد بن الوليد قد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن لمُسيلمة شيطانًا [لا يعصيه]، فإذا اعتراه شيطانُه أَزْبَدَ، فلا يَهُمُّ بخيرٍ إلا صرفَه عنه أو عدلَه عنه، فإذا رأيتم منه غِرَّة فلا تُقِيلوه العَثْرة" (¬2) فلما كان يومُ اليمامة جعل خالد يدنو منه يطلب غِرَّتَه، فرآه ثابتًا ورَحاهم تدورُ عليه، وعلم أنها لا تزولُ إلا بزواله، فنادى خالد مسيلمة ¬

_ (¬1) المعارف 405، والبدء والتاريخ 5/ 163. (¬2) أخرجه الطبري 3/ 293، وانظر البداية والنهاية 9/ 469.

فأجابه، فعرض عليه أشياء مما يشتهي مسيلمة، وقال له خالد: إن قَبِلنا النّصف فأيَّ الأنصاف تُعطينا؟ فكان إذا هَمَّ بجوابه أعرض بوجهه مُستشيرًا، فينهاه شيطانُه أن يَفعل، فأعرض عنه بوجهه مرَّةً من تلك المِرار، فركبه خالد فأَرهقه فأدبر. وقُتل من أهل اليمامة في ذلك اليوم عشرون ألفًا، ومن المسلمين ألف ومئتان، منهم سبعون من القراء أعيان، وقيل: مئة، فبينا هم كذلك إذ جاءهم كتابُ أبي بكر إلى خالد يقول فيه: إن افتتحتَ اليمامة عَنوة فلا تَدعَنَّ بها غلامًا أَنبتَ من بني حنيفة إلا ضربتَ عُنُقه، فلما قدم الرسول بالكتاب وجده قد صالح، فامتنع خالد وقال: أَبعد الصُّلح؟ ولما فرغ خالد من أمر بني حَنيفة خطب إلى مُجَّاعة ابنته، فقال له: أتتزوَّجُ النّساء وحولك من المسلمين ألف ومئتا دم؟ ! إن القاطِعَ لظهرك عند صاحبك إنما هو تزويجُ النّساء، فألحَّ عليه فزوَّجه إياها، وبلغ أبا بكر، فكتب إليه: إنك لفارغُ القلب، تتزوَّجُ النّساء وحولك ألف ومئتا دمٍ من المسلمين لم تَجفَّ بعد، فإذا جاءك كتابي هذا فالْحَقْ بمَن معك من جموع الشام إلى العراق، فلما قرأ خالد كتابَه قال: هذه من عَمل الأُعَيْسِر، يعني عمر بن الخطاب. قال ابن إسحاق: وكان سببُ تجهيز خالد إلى العراق [أن] أبا بكر ما زال يبعث الأُمراءَ إلى الشام والقبائل؛ حتى ظن أنهم قد اكتَفوا، وأنهم لا يريدون أن يزدادوا رجلًا، فكانوا يُغيرون على أطراف الشام. وكان المثنَّى بنُ حارثة الشَّيبانيّ يُغير على أهل فارس بالسَّواد، وكان بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قدم على أبي بكر، فأسلم في رَهْطٍ من قومه، وحَسُنَ إسلامه، وتفقَّه، ثم استأذن أبا بكر فقال: إنا أناس قد نزلنا بين أرض العرب والعجم من أبناء فارس، وقد قاتلناهم فأَظْهَرَنا الله عليهم، ولي عشيرةٌ أولو بأسٍ وعَدد، فاجعلْ لهم أشياءَ أستميلُهم بها إذا رجعتُ إليهم، فإنه مَنظورٌ إليَّ وإلى ما أرجع به، قال: وما الذي تريد؟ قال: أن تَعقِدَ لي على قومي ومَن اتَّبعني، وأن تَجعلَ لنا ما أَصَبْنا من الغنائم من أهل فارس، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: فذلك لك ولمن اتَّبعك من المسلمين، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أذن له فخرج حتى نزل مياه بني بكر بن وائل، فأخبرهم بإسلامه وما

جعل لهم أبو بكر، ودعاهم إلى الإسلام، فأجابه فِئامٌ من الناس. فكان يُغير على السَّواد ومما والاه، فيما بين الطَّفِّ إلى قَنطرة النهرين، حتى أحجزهم فى الجَواسق والحصون، فأخذ أموالًا كثيرة، وسبى سَبْيا عظيمًا، وقتل الأساورة والأكاسرة، وألحق أهلَ المسالح بالحيرة، وخَلُّوا له المناظر. فأقام المثنّى بعد فراق أبي بكر حولًا على ذلك، ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبي بكر يَطلب منه أن يُمِدَّه، فإن في ذلك إعزازَ الإسلام وذلَّ الكفّار، فإن العجم قد خافتنا، وجاءت كتُبهم تَطلب الصُّلح، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، ابعث إليهم خالد بن الوليد، فيطأ العراق مع المثنى، ويكون قريبًا منا، فإن احتاج إليه أهلُ الشام كان قريبًا منهم، وإن ألحَّ على العراق حتى يَفتحه كان زيادةَ خيرٍ، فقال أبو بكر لعمر: قد أَصبتَ ووُفِّقتَ وأحسنتَ الرَّأي، فكتب إلى خالد وهو باليمامة أن سِرْ إلى العراق بمَن معك من المهاجرين والأنصار والقبائل، والكتاب: من عبد الله أبي بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى خالد بن الوليد ومَن معه من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، سلامٌ عليكم، أما بعد، فإني أَحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي أنجز وَعدَه، ونصر دينَه وأعزَّه، وأذلَّ عَدوَّه، وغلب الأحزاب، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] وعدًا منه لا خُلْفَ فيه، ومقالةً لا ريبَ فيها. وقال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] فاستتموا موعود الله إياكم، وأطيعوه فيما فُرض عليكم، [وارغبوا في الجهاد] وإن عَظُمت فيه المؤونة، واشتدت الرَّزِيّة، وبَعُدت الشُّقَّة، فإن ثوابَ الله أعظم، {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} الآية [التوبة: 41]. وقد أَمرتُ خالد بن الوليد بالمسير إلى العراق، فلا يَبرحْها حتى ياتيه أمري، فسِيروا معه، ولا تتثاقلوا عنه، فإنه سَبيلٌ يُعظم الله فيه الأجرَ لمَن حَسُنت فيه نيَّتُه، وعَظُمت في الخير رغبتُه، كفانا الله وإيّاكم مُهمّات الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب الردة 218 - 219 وما بين معكوفين منه.

قصة البحرين وجواثا

وبعث بالكتاب مع أبي سعيد الخدري وقال له: لا تُفارقْه حتى تُشخِصه منها، وقل له فيما بينك وبينه: اقْدم العراق، فإن بها رجالًا من المسلمين من ربيعة، وهم أهلُ بأسٍ وعَددٍ وشَرفٍ، فإذا أنت قَدِمتَ فصُلْ بهم على عدوِّك مع مَن معك، وأقم هناك حتى يأتيك مددي إن شاء الله عاجلًا، وإن أنا حوَّلتُك عنها كنتَ الأمير على الناس أينما كنتَ، ليس عليك دوني أمير، فلما قرأ الكتاب قال: هذا رأي ابن حنتمة، وإني قد صاهرتُ هذا الحيَّ، وأُمِّرت عليهم، فظنَّ أن المقام يُعجبني بين أظهُرهم، فأشار على أبي بكر أن يُحوِّلَني من مكاني، لقد أعجب ابن الخطاب بخلافي، فلما ذكر له أبو سعيد الكلام الذي قاله أبو بكر طابت نفسُه، وحمد الله وأثنى عليه، وقرأ عليهم كتاب أبي بكر، وقال: إني سائر إن شاء الله، فمَن أراد الخير العاجل والثواب الآجل فلينكمِشْ. قصة البحرين وجُواثا وهو حِصنُ البحرين، قال ابن الكلبي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث العلاء بنَ الحَضْرَميّ إلى البحرين إلى المنذر بن ساوى، فأسلم، ومات المنذر فاوصى بثُلث ماله، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدَّت ربيعةُ بالبحرين إلا الجارود بن المُعَلَّى فإنه ثبت على إسلامه. قال ابن إسحاق: ولما بلغ أهلَ البحرين أن أبا بكر بعث العلاء بنَ الحَضْرميّ إليهم اجتمعوا وقالوا: نَردُّ الملك إلى بني المنذر، وفيهم رجلٌ منهم يُقال له: المنذر بنُ النعمان بن المنذر، يُكنى أبا جوعب، ويُلقَّب بالغَرور، فأتوه لذلك فأبى عليهم، فلم يزالوا به حتى قَبل منهم ذلك، فرأسوه عليهم، وخرجت سَريَّةُ المسلمين، فأصابوا رِعاء لبني قيس بن ثعلبة، فاستاقوا الإبلَ والرِّعاء فأَحرزوها، وكانت الإبل للحُطَم، واسمُه شُريح بن عمرو بن شرحبيل من قيس، والحُطَم لقبٌ له (¬1)، فجمع جمعًا من بني قيس ابن ثعلبة، واستمدَّ الحُرَّ بن جابر العجليّ فأمدَّه. ¬

_ (¬1) كذا، والذي في تاريخ الطبري 3/ 304، والأغاني 15/ 254، وفتوح البلدان 94: شريح بن ضبيعة بن عمرو بن مرثد، وفي كتاب الردة 149: أبو ضبيعة الحطم بن زيد، وفي أخبار مكة للفاكهي 2/ 258: الحُطَم ابن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن وائل، واسمه شريح.

وقال الهيثم: لمّا بعث أبو بكر - رضي الله عنه - العلاء بنَ الحَضرمي إلى البحرين، فلما وصل إلى اليمامة لحق به ثُمامة بن أثال الحَنَفيّ ومَن أسلم من بني حنيفة، فسلك على الدَّهنَاء، وانضمّ إليه من سَعد الرّباب مثلُ عَسكرِه, فلما جاء الليل نزل العلاء ونزل الناس، فلما كان نصف الليل نَفرت الإبلُ نَفْرَةً لم يبق منها بعيرٌ إلا شَردَ، وعليها أزوِدَتُهم، فاغتمَّ الناس، وقالوا: إن طَلَعت علينا الشمسُ غدًا صرنا كأمسِ الذَّاهبِ، فقال العلاء: يا قوم، ألستمُ في سبيل الله؟ ألستم أنصارَ الله؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا، فإن الله لا يَخذل مَن كان على ما أنتم عليه. فلما طلع الفجر صلّى بهم، ودعا، وتضرَّعَ إلى الله تعالى، فلما طلع الصبح إذا بسَرابٍ يَلمع، فتأمَّلوه وإذا به ماء، فكبَّروا وشربوا منه، فما تَعالى النهارُ إلا والإبلُ قد جاءت تَطرُدُ من كلَّ وَجْهٍ، فأناخت إليهم، فقام كلُّ واحدٍ إلى بَعيره فما فَقدوا عِقالًا، وكان في الرَّكْبِ أبو هريرة، فقال لمِنْجاب بن راشد وكان ماهرًا: كيف عِلمُك بهذا المكان؟ فقال: والله ما أَعرف به ماءً قبل اليوم. وسار العلاء حتى نزل هَجَر، وأرسل إلى الجارود، وكان قد اعتزل القومَ أن يأتيَه في عبْدِ القيس ليُنازلوا الحُطَم، وكان المرتدُّون قد اجتمعوا إليه، وخَندق الفريقان، فكانوا يَقتتلون ثم يَرجعون إلى خنادقهم، فأقاموا على ذلك شهرًا، فبينا المسلمون ذات ليلة يَتحسَّسون الأخبار إذ سمعوا في عسكر المرتدّين ضَوضاءَ شديدة، فقال العلاء: مَن يأتينا بخبرهم؟ فقال عبد الله بن حَذَف (¬1): أنا، وكانت أمُّه عِجْلِيَّة، فخرج حتى أتى الخندق فأخذوه، وقالوا: مَن أنت؟ فانتسب لهم، ونادى: يا أبجراه، فجاء أبجر بن بُجَير فعَرَفه، فقال: دعوا ابنَ أختي، ثم حمله إلى رحله، فوجد القومَ سُكارى وهم يَهذُون، فخرج من وقته إلى العلاء فأخبره، فركب العلاء والمسلمون، واقتحموا خنادقَهم، ووضعوا السيوفَ فيهم، فأصبحوا بين قتيلٍ وجريحٍ وأسير. وقام الحُطَم إلى فرسه ليَركبه، فلما وَضع رجلَه في الرِّكاب انقطع، فمرَّ به [عفيف] بن منذر التَّميميّ، فضرب رجلَه فأطَنّها من الفَخذِ، ومرَّ به قيس بنُ عاصم فقتله، وأسَرَ عفيفُ بنُ المنذر الغَرور بن [سويد، ابن أخي] النعمان (¬2)، وجاء به إلى العلاء، وكان الحَوفَزان ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): خندف، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ الطبري 3/ 308، والأغاني 15/ 259. (¬2) في (أ) و (خ): المعرور بن النعمان، والمثبت من تاريخ الطبري 3/ 309، والأغاني 15/ 260.

قصة دارين

الشّيباني قد أَنْجَد الحُطَم، ثم تخلَّى عنه، ثم نازل العلاء حصنَ جُواثا مدّةً فماتوا جوعًا، وقَصد جماعةٌ من الكفار دَارِين، فركبوا إليها في السُّفُن، فتحصَّنوا بها. وقال سيف بن عمر: خرج الحُطَم بمَن اتَّبعه على الردة من بكر بن وائل، فنزل القَطيف وهَجَر، وانضمَّ إليه مَن كان بها من الزُّطَّ والسَّبابجة، وبعث بعثًا إلى دارِين، وأرسل إلى الغَرور أن سِرْ إلى جُواثا واثبُت، فإن ظفرتُ مَلَّكتُك البحرين؛ كما كان النعمان ملك الحيرة. وقال سيف: مات المنذر بن ساوى بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقليل، وارتدَّ بعد موته أهلُ البحرين، فأمّا عبد القيس ففاءت بعد رِدّتها، وأما بكر فأقامت على رِدّتها، وكان الجارود بن المُعَلّى قد قَدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأسلم، وأقام عنده حتى تَفقَّه، ثم عاد إلى عبد القيس، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت عبد القيس: لو كان نبيًا ما مات، فقام الجارود فيهم خطيبًا، وقال: يا قوم هل تعلمون أنه كان لله أنبياءُ فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، فقال: إن محمدًا مات كما ماتوا، وإني أشهد أنه رسول الله، فقالوا: ونحن أيضًا نشهد كذلك، وأنت سيَّدُنا وأفضَلُنا. قصة دارِين وهي في البحر، بينها وبين الساحل يومٌ وليلة، يُركب إليها في خليج في البحر، ولمّا انهزم طائفةٌ من المشركين إليها جاء العلاء إلى الخليج وقد أخذوا السُّفُنَ إليهم، فصلى ودعا، وسأل الله تعالى، ونزل فخاضه والمسلمون معه، فكأنما يَمشون على الرَّمْل، فحاصروها، وفتحوها، فقَتلوا المقاتِلة، وسبوا الذرية، وأخذوا الأموال والغنائم، فبلغ سَهمُ الفارس ستّه آلاف، والرّاجل ألفين، ولما فتحها العلاء قال للناس: مَن أحبَّ أن يُقيم فليُقِمْ، ومَن أحبّ أن يَرجع إلى أهله فليرجع، فرجع البعض، وأقام البعض، وكان فيمن رجع ثُمامة بنُ أثال الحَنفيّ، وكان قد نَفَّلَه العلاء خَميصةَ الحُطَم، وكانت ذات أعلام، وكان الحُطَم يُباهي بها، فنزل ثُمامة على ماء لبني قيس بن ثعلبة وعليه خَميصةُ الحُطَم، فقالوا له: هذه خَميصةُ الحُطَم، وأنت قَتَلْتَه، فعَدَوْا عليه، فقتلوه بالحُطَم.

قصة هجر

قصة هَجَر ثم سار العلاء إلى هَجَر فافتَتحها صُلْحًا، وكان بها راهب فأسلم طوعًا، فقيل له: ما سببُ إسلامك؟ فقال: دُعاءٌ سمعتُه في السَّحَر على عَسكرهم: اللهمَّ أنت الرحمن الرحيم، الدّائمُ غير الغافل، والحيُّ الذي لا يموت، وأنت بكل شيء عليم، ورأيتُ فيضًا في الرمال، وتمهيد أَثْباج البحار حين عَبروا (¬1) في الخليج إلى دارين، فعلمتُ أن القومَ لم يُعانوا إلا وهم على الحق، وكان أهلُ هجر مجوسًا، فأسلم البعض، وضرب العلاءُ الجِزيةَ على البعض. قصّة عُمان ومَهْرَة نبغ بعُمان رجل يقال له لَقيط بنُ مالك الأزدي، ويُكنى ذا الوشاح (¬2)، وكان يُسامي الجُلَنْدى في الجاهلية، فادَّعى النَّبوةَ مثلَ مُسيلمة، وغلب على عُمان، فارتدَّ معه أهلُها، وكان بها جَيْفر وعَبْد ابنا الجُلَنْدى، فقاتلهما، فألجأهما إلى الجبال والبحار، فبعث أبو بكر حُذيفة بن مِحصن الحِميريّ إلى عُمان، وعَرْفَجة البارقيّ إلى مَهْرَة، وأمرهما أن يُجِدّا السيرَ، فإذا قَرُبا من عُمان كاتَبا جيفرًا وعبدًا، وعملًا برأيهما، فمضيا لما أمرهما له. وكان أبو بكر قد سَخِط على عكرمة لما سار إلى قتال مسيلمة ولم يتربّص، فكتب أبو بكر إلى عكرمة يأمره بالمسير إلى عُمان، ويكون عونًا لحُذيفة وعَرفجة، ويقول: لا أراك حتى تَفعل ذلك، فسار عكرمة بمَن معه على أَثَرهما حتى أدركَهما، فراسلوا جَيْفرًا وعبدًا. وبلغ لقيط، فجمع جُموعه، وعسكر بدَبا، وخرج جَيْفر وعَبْد إلى صُحَار فعسكرا بها، وجاء حُذيفة وعَرْفجة وعكرمة إلى جَيْفَر وعَبْد فنزلوا جميعًا، وكاتبوا مَن كان مع لقيط، وأرغبوهم وخوَّفوهم، فنَفروا عنه، وساروا إلى لقيط، فالتقوا على دَبا، فجعل ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): ورأيت تمهد ابتداح الرمل حين عبروا؟ ! والمثبت من تاريخ الطبري 3/ 312، والأغاني 15/ 262، والمنتظم 4/ 84. (¬2) كذا، وفي تاريخ الطبري 3/ 314، وفتوح البلدان 87، والخراج وصناعة الكتابة لقدامة 276، والكامل 2/ 372، والبداية والنهاية 9/ 480: ذو التاج.

قصة أهل اليمن

لقيط العِيالات (¬1) وراء الصّفوف ليَحفظوا حَريمَهم، ثم اقتتلوا قتالًا شديدًا، ورأى المسلمون الخَلَل، فبينا هم كذلك إذ قدم الخِرِّيت (¬2) بنُ راشد في عبد القيس وبني ناجية نجدة للمسلمين، فحملوا على الكفار فانهزموا، وتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم عشرةَ آلاف، وسَبَوا الذَّراري، وقسموا الغنائم، وبعثوا إلى أبي بكر - رضي الله عنه - بالخُمس. وأقام حُذيفة بعُمان، وتَوجَّه عكرمة إلى مَهْرة بوصيَّةٍ من أبي بكر، وقد اجتمع بها وبالنَّجد (¬3) خلقٌ من المرتدّين، فخرجوا إلى عكرمة، فقاتلوه، فنُصر عليهم، فقتل وسبى، وازداد قوّةً بالظَّهر والمتاع، وبعث إلى أبي بكر بالخُمس. قصة أهل اليمن ذكر الواقديّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ولّى على صنعاء المهاجر بنَ أبي أميّة، وعلى حضرموت زياد بنَ لبيد، فتُوفّي وهما على حالهما، فانتقضت كندة على زياد إلا طائفة يسيرة، فقيل له: إن بني عمرو بن معاوية قد جَمعوا لك، فأدركهم قبل أن يَستفحل أمرُهم، فسار إليهم بَغتةً فهزمهم، وحاز غنائمهم، فتعرّض له الأَشْعثُ بن قيس الكِندي (¬4) في قومه، فأُصيب أناسٌ من المسلمين، واستظهر عليهم الأشعث، فانحاز زياد بمَن معه، وكتب إلى أبي بكر رضوان الله عليه يُخبره، فكتب أبو بكر إلى المهاجر وهو بصّنعاء أن يُمدّ زيادًا، فسار إليه، وقصد الأشعث، فالتَقَوا، وكانت الدَّبَرة على الأشعث ومَن ارتدّ معه، فقتلوهم وسَبَوهم، وجاء عكرمة وقد فرغوا منهم فأشركوه معهم في الغنائم، وتحصَّن الأشعث وملوكُ كِندة في حصن النُّجَير، فحاصروهم مدة، فأرسل إليهم الأشعث يقول: أفتحُ لكم باب الحصن على أن تُؤمَّنوا لي عشرةً من كِندة؟ قالوا: نعم، ففتح لهم الباب فدخلوا، فقتلوا كلَّ مَن فيه، وقد عَزل عشرة أنفس، وهو يرى أنهم لا يحسبونه في العشرة، فقالوا له: إنا قاتلوك، قال: ولم؟ قالوا: لأنك لست ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): الغيلان، والمثبت من تاريخ الطبري 3/ 315. (¬2) في (أ) و (خ): الحارث، وهو خطأ، والمثبت من الطبري، والكامل 2/ 374. (¬3) في (أ) و (خ): وبالمحدم؟ ! والمثبت من الطبري 3/ 316 - 317. (¬4) في (أ) و (خ): المدني، وهو خطأ، انظر جمهرة ابن حزم 425، وسير أعلام النبلاء 2/ 38.

فصل [مسيلمة بن] ثمامة بن حبيب

من العشرة، فقال: ويحكم، أتظنّون أني أصالح عن غيري (¬1) وأخرج بغير أمان؟ ! فقالوا: نردُّ أمرك إلى خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: رضيتُ، فأرسلوا به إليه. فصل [مسيلمة بن] ثُمامةُ بن حبيب (¬2) وهو مسيلمة الكذّاب، وكُنيتُه أبو ثُمامة، وقيل: أبو هارون، وسمَّى نفسَه رحمانَ اليمامة، وكان قد ادَّعى النبوَّةَ قديمًا، ولما نزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] قالت قريش: ما نَعرفُ رحمانَ إلا رحمان اليَمامة (¬3)، فلما هاجر رسولُ الله إلى المدينة وفد عليه مسيلمةُ في وفد بني حنيفة وقد ذكرناها فلما عاد إلى قومه ادَّعى النبوَّة، وخاف ألا يَتمَّ له مُرادُه فقال: قد أُشْرِكْتُ مع محمَّد، وشهد له الرجَّالُ، وكان مُشَعْبِذًا. وهو أوَّلُ مَن أدخل البيضةَ في القارورة، وكان يَسجع لهم سَجْعًا يُضاهي به القُرآن في زعمه، فمن ذلك: والليلِ الأَسْحَمِ (¬4)، والذّئب الأَدْلَم، والجَذَع الأَزْلَم، ما انتهكت بنو حنيفة من مَحْرَم. والليل الدّامس، والذئب الهامس، ما قطعت حنيفةُ (¬5) من رطبٍ ويابس. سبَّح اسم ربك الأعلى، الذي يَسّر على الحُبلى، فأخرج منها نَسمة تَسعى، من بين شَراسيف وحَشا. والشاة وألوانِها، وأصوافها وألبانها، والسماء وعنانها. والزّارعات زَرْعا، والحاصدات حَصْدا, والذَاريات ذَرْوا، والطّاحنات طحنًا، والعاجناتِ عَجْنًا، فالخابزاتِ خَبْزًا، فاللاقماتِ لَقْما. يُعارض بها {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} [العاديات: 1]. ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): نفسي، والمثبت من المنتظم 4/ 87، وكتاب الردة 210. (¬2) ما بين معكوفين من جمهرة أنساب العرب 310، وهذه الفصول إلى ذكر فاطمة عليها السلام انفردت بذكرها نسخة (ك)، وقد سلف ذكر ردة مسيلمة أخزاه الله. (¬3) انظر تفسير الطبري 15/ 124. (¬4) في تاريخ الطبري 3/ 283، والمنتظم 4/ 21: الأطحم، وهما بمعنى. (¬5) في الطبري والمنتظم: أسيّد، بدل حنيفة في الموضعين.

حديث سجاح بنت الحارث بن سويد

ومنه: يا ضفدع يا ضفدع كم تَنُقّين، أعلاك في الماء وأسفلُك في الطّين، لا الشاربَ تَمنعين، ولا الماء تُكَدِّرين. ووضع عن بني حنيفة التكاليف من الصلوات والصيام والزكاة وغير ذلك (¬1). حديث سجاح بنت الحارث بن سويد من غطفان، وقيل: من بني يربوع (¬2)، وتُكنى أمّ صادر، ادَّعت النبوَّة. قال الواقدي (¬3): وكانت كاهنةً، ومن أسجاعها: أَعِدُّوا الرَّكاب، واستعِدُّوا للنَّهاب، لتُغيروا على الرِّباب، فليس دونهم حجاب (¬4)، ثم إنها سارت إلى مسيلمة، وكانت قبل مسيرها إليه قد عزمت على حرب أبي بكرٍ، فجمعت جمعًا من تغلبَ، واستنجدت مالك بن نويرة فمنعها من ذلك. وبلغ مسيلمة خبرُها، فأرسل إليها وطلب مُوادعتَها، فعزمت على قصدِه، وقالت لقومها: سيروا، فقالوا: إلى أين؟ فقالت: رفُّوا رَفيف النَّعامة (¬5)، فإنها غزوةٌ صَرَّامة، لا تلحقكم بعدها ملامة، فتجهَّزوا لقتال بني حنيفة. ولما بلغ مسيلمة قصدُها إياه خاف إن اشتغل بقتالها أن تَظهر عليه جُيوشُ أبي بكر، وكان أبو بكر قد جهَّز إلى مسيلمةَ شُرحبيل بن حسنة, فأهدى إليها مسيلمةُ، وطلب منها الأمان فأَمَّنتُه، فأتاها في أربعين من بني حنيفة، وكانت راسخةً في نصرانية بني تغلب، فلما نزل عليها سجع لها وزخرف عبارته فأعجبَها وكان مما قال: يا معاشر النساء، إنكنَّ خُلقتُنَّ لنا أزواجا، وجُعلتنَّ أَفراجا، لنُولج فيكنَّ إيلاجا، ثم نُخرجه ¬

_ (¬1) انظر في مسيلمة تاريخ الطبري 3/ 283 - 285، والمعارف 405، والبدء والتاريخ 5/ 160 - 161، والمنتظم 4/ 20 - 22. (¬2) كذا ذكر، والذي في الطبري 3/ 269، والمنتظم 4/ 22 أنها سجاح بنت الحارث بن سويد بن عُقفان، التميمية من بني يربوع، وانظر المعارف 405، وجمهرة ابن حزم 226، والبدء والتاريخ 5/ 164، والأغاني 21/ 33 فما بعدها، وكتاب الردة 111، ومروج الذهب 4/ 188، والتنبيه والإشراف 264. (¬3) انظر فتوح البلدان 108. (¬4) تاريخ الطبري 3/ 270، والمنتظم 4/ 22. (¬5) في الطبري 3/ 272: دفوا دفيف الحمامة.

منكنّ إخراجا، وقال لغُلامه: غَبِّر لها، أي: دَخّن، وقيل: ضرب لها قُبَّةً وقال لغُلامه: جَمِّر، أي: بَخِّر لعلها تَحِنُّ إلى الباه. ففعل، فقالت: مَن جاءك بهذا القرآن؟ قال: جبريل، فقالت: صدق الله وجبريلُ، ثم قال لها: هل لك أن أتزوّجك فيقال: نبيٌّ تزوَّج نبيّةً، فنأكل بقومي وقومك العرب؟ ولي نصف الأرض، وكان لقريشٍ نصفُها، وقد وهبتُه لك. فقالت: نعم، فتزوَّجها ثم سجع لها فقال: [من الهزج] [ألا] قومي إلى المخْدَع ... فقد هُيِّئ لك المَضْجَع وإن شئتِ سَلَقْناك (¬1) ... وإن شئتِ على أربع وإن شئت بثُلثيه ... وإن شئتِ به أَجمع فقالت: لا، بل به أجمع، فإنه للشَّملِ أَجمع، فقال مسيلمة: بذلك نزل عليَّ جبريل. فضربت العربُ بها المثل فقالت: أَغلمُ من سَجاح (¬2). وقال قيس بن عاصم المِنقري، وقيل إنَّه لعُطارد بن حاجب بن زراة التميمي: [من البسيط] أَضحتْ نبيَّتُنا أُنثى نُطيف بها ... وأصبحت أنبياءُ الناس ذُكرانا (¬3) ثم أقامت عنده ثلاثًا، وخرجت إلى قومها فقالوا: ما وراءك؟ فقالت: أشهد أنه نبيّ حق، وأخبرتهم أنها تزوّجتْه، فقالوا: مثلُك لا يتزوَّج على غير مَهْر، فارجعي إليه فاطلبي المهر، فرجعت إليه فقال: قولي لهم: قد وَضعتُ عنكم صلاةَ الفجر والعشاء الآخرة، وأبحتُهم الزنا والخمر، فقالوا: رضينا وانصرفوا. وقال لها مسيلمة: مَن مُؤذَّنُك؟ فقالت: شَبَث بن رِبْعي الرِّياحي، فقال: مُريه ينادي: إن رسول الله مسيلمة قد وَضع عنكم ما أتاكم به محمَّد من الصلوات، وأباحكم ¬

_ (¬1) في (ك): فملقاة، والمثبت من المصادر. (¬2) الأبيات في كتاب الردة 112، والطبري 3/ 273، والأغاني 21/ 34، والدرة الفاخرة 1/ 325، والبدء والتاريخ 5/ 164 - 165، والمنتظم 4/ 23. (¬3) البيت في المعارف 405، والطبري 3/ 274، والأغاني، والبدء والتاريخ, ومروج الذهب 4/ 188، وتاريخ دمشق 47/ 383، والتنبيه والإشراف 264.

فروجَ المومسات، وشُربَ الخمر في الكاسات والطاسات. وقال سيف: وكان لها مؤذِّنٌ آخرُ يقال له: زهير بن عمرو اليربوعي. وكان من أعيان أصحابها: الأقرعُ بنُ حابِس، والزِّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعطارد بن حاجب، وعمرو بن الأَهتم وكلهم من تميم، ثم أسلم الزبرقان والأقرع بن حابس في أيام أبي بكر. ولم تَزَلْ سجاح مقيمةً في بني تغلب إلى سنة أربعين ثم أسلمت وحَسُنَ إسلامُها. وذكرها الجوهري فقال: سجاح: اسم امرأةٍ من بني يربوع تنبّأت (¬1). وذكر ابن إسحاق أن خالد بن الوليد بعث وفدَ بني حنيفة إلى أبي بكر فقال لهم: ويحكم، ما هذا الذي جاء به صاحبُكم هذا الخبيث، يعني مسيلمة؟ فقالوا: جاءنا والله الكذبُ والباطلُ وبلاءٌ ابتُلينا به، فقال: فما قال لكم؟ فذكروا له من سَجعه بعضَ ما ذكرنا، فقال أبو بكر: ويحكم، والله إن هذا الكلامَ ما خرج من إِلٍّ ولا بِرّ (¬2). وقال الجوهري: والإلُّ بالكسر هو الله تعالى (¬3). وقال الهيثم: قال لهم أبو بكرٍ: فهذا سَجعُه، فما ظهر لكم من أحواله؟ فقالوا: أتتْه امرأةٌ فقالت: ادعُ لنخلنا ومائنا بالبركة، فإن محمدًا دعا لقومه فأثمر نخلُهُم، وجاشت مياهُهم. قال لها: فكيف؟ قالت: دعا بسَجْلٍ، فمَضْمَض فيه، ثم مجَّه في الآبار، فجاشت بالمياه، فدعا مسيلمةُ بسَجْلٍ وفعل ذلك فغارت المياهُ، ودعا للنّخل فيَبس. وأُتي بصبيّ، فقال له أبوه: بَرَّك عليه فإن محمدًا يُبرَّك على أولاد الصحابة، فمسح يده على رأس الصبي فقَرع وتَمعَّط شعرُه، وما مسح يدَه على رأس صبيًّ إلا قَرع، ولا حَنّكه إلا لَثِغ، فقال لهم أبو بكر: لقد كنتم في ضلالٍ مُبين (¬4). ¬

_ (¬1) الصحاح (سجح). (¬2) تاريخ الطبري 3/ 300، وانظر غريب الحديث لأبي عبيد 1/ 100 و 3/ 230. (¬3) الصحاح (ألل). (¬4) تاريخ الطبري 3/ 284 - 285، والمنتظم 4/ 21 - 22.

عبد الله بن أبي بكر

فصل وفيها تُوفي عبد الله بن أبي بكر وأمُّه قُتيلةُ بنت عبد العُزّى، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين. أسلم قديمًا. قال ابن سعد: ولم يُسمع له بمشهدٍ إلا يومَ الطائف، جُرح رماه أبو محجّن الثقفي بسهمٍ، واندمل جُرحُهُ، وعاش مدَّةً، ثم انتقض عليه في شوَّال من هذه السنة فمات فيه (¬1). وخلَّف سبعةَ دنانير فاستكثرها أبو بكرٍ. وكان له وَلدان: إبراهيم وإسماعيل، فهلكا وانقرض عَقِبُه (¬2). ونزل عمر بن الخطاب وطلحةُ بن عبيد الله وأخوه عبد الرحمن بن أبي بكر في حُفرته، ودُفن بالبقيع. وذكره الموفَّق رحمه الله في الأنساب وقال: هو شقيقُ أسماء بنت أبي بكر، وكان قد اشترى الحُلَّةَ التي أرادوا أن يُكفِّنوا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعة دنانير، فلما احتُضر قال: لا تُكفَّنوني فيها، فلو كان فيها خيرٌ لكُفِّن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وصلى عليه أبوه أبو بكر، ودُفِن بعد صلاة الظهر. وعبدُ الله هو الذي كان يأتي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأباه في الغار بأخبار قريشٍ كل يوم، ويُدلِجُ إليهما (¬3). وقال الشيخ الموفَّق: وعبد الله هو الذي تزوَّج عاتكة بنت زيد، أخت سعيد بن زيد فأمره أبوه بطلاقها، فقال فيها الأشعار، وكانت غَلبت عليه، وشغلته عن مغازيه فلذلك أمره أبوه بطلاقها فقال: [من الطويل] وإن فِراقي أهلَ بيتٍ أُحبّهم ... على كبرةٍ منّي لَإحدى العَظائمِ (¬4) ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد/ 158، وانظر الطبري 3/ 241، والمنتظم 4/ 9، والتبيين 314، والمعارف 173، والاستيعاب (1297). (¬2) كذا ذكر، وهو خطأ، صوابه ما في آخر ترجمته من أن عقبه انقرض وآخرهم إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله، وانظر المعارف 173، وأنساب الأشراف 5/ 177، وجمهرة ابن حزم 137، والتبيين 314. (¬3) التبيين 314، وانظر الاستيعاب (1297). (¬4) البيت في أنساب الأشراف 5/ 177، والاستيعاب (3403)، والتبيين 427.

ثم هجم عليه أبوه يومًا وهو يقول: [من الطويل] أَعاتِكُ لا أنساكِ ما ذرَّ شارِقٌ ... وما ناح قُمْرِيُّ الحمام المُطَوَّقُ ولم أر مثلي طلَّق اليومَ مثلَها ... ولا مثلَها في غير جُرْمٍ يُطَلَّقُ لها خُلُقٌ جَزْلٌ وحِلْمٌ ومَنْصِبٌ ... وخَلْقٌ سَوِيٌّ في الحياة ومَصْدَقُ (¬1) فرقَّ له أبوه وأمره برجعتها فقال: [من الطويل] أَعاتِكُ قد طُلَّقْتِ من غير رِيبةٍ ... ورُوجِعتِ للأمر الذي هو كائنُ كذلك أمرُ الله غادٍ ورائحٌ ... على الناس فيه إِلفةٌ وتَبايُنُ وما زال قلبي للتَّفرُّقِ طائرًا ... وقلبي لما قد قَرّب الله ساكنُ ليَهْنِكِ أني لا أرى فيك سَخْطَةً ... وأنك قد تمّتْ عليك المحاسنُ وأنك ممّن زيَّن الله وجهَه ... وليس لوَجْهٍ زيَّن اللهُ شائنُ (¬2) قال: ولما مات رَثَتْه وبكت عليه وقالت: [من الطويل] رُزِئتُ بخيرِ الناس بعد نبيّهم ... وبعد أبي بكرٍ وما كان قَصَّرا فآلَيْتُ لا تنفكُّ عيني حزينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلديَ أَغبرا فلله عينا مَن رأى قطُّ مثلَه ... أكرَّ وأَحمى في الهِياج وأَصبرا إذا أُشرِعت فيه الأَسِنّةُ خاضَها ... إلى الموت حتى يَتركَ النّقع أحمرا (¬3) قلتُ: وقد ذكر أبو تمام في "الحماسة" ثلاثة أبياتٍ، منها هذه، أولها: آليتُ لا تنفكُّ عيني حزينةً .... إلى آخرها (¬4). ثم خطبها عمر بن الخطاب فتزوّجته، فعمل وَليمةً، فحضرها عليٌّ عليه السلام، وقال لعمر: ائذن لعاتكة أن تُكلِّمني. فأذِن لها، فمال إليها عليٌّ وقال: يا عُدَيَّةُ نفسِها: فآليت لا تنفكُّ عيني حزينةً ¬

_ (¬1) الأبيات في أنساب الأشراف 5/ 176، والمردفات من قريش 1/ 61 - 62، والأغاني 18/ 59، والاستيعاب والتبيين. (¬2) الأبيات في التبيين 428، والمردفات 1/ 62، والأغاني 18/ 60. (¬3) الأبيات في التبيين والمردفات والأغاني والاستيعاب وفيها: حتى يترك الرمح أحمرا. (¬4) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 3/ 1102.

الأسود العنسي الذي ادعى النبوة

فخجلت، فقال له عمر: ماذا فعلت يا أبا حسن؟ دَعْها فكلُّ النساء يفعلن هذا، ثم قُتِل عنها فرثته وقالت: [من الخفيف] عينُ جُودي بعَبْرَةٍ ونَحيبِ ... لا تَمَلِّي على الإِمام النَّجيبِ فَجعَتْني المنونُ بالفارس المعـ ... ـلَم يوم الهياجِ والتَّأنيبِ قُل لأهلِ الضَّرَّاء والبؤس موتوا ... قد سَقَتْه المنونُ كأسَ شَعوبِ (¬1) ثم خطبها الزبير فتزوَّجته وقد خلا من سنّها، وبقي فيها بقيَّةٌ من جَمالٍ، وكانت تَخرجُ فتُصلّي في المسجدِ، وكان الزبيرُ غَيورًا يقول لها: لو صلَّيتِ في بيتك فتقول: لا تَمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله (¬2)، فقعد لها ليلةً في طريق المسجد، فقرص عجيزتَها وهي لا تعرفُه، فرجعت إلى بيتها وتركت الصلاةَ في المسجد، فقال لها في ذلك فقالت: كنتُ أخرجُ والناسُ ناسٌ، أما إذا فسدوا فبيتي أَولى بي (¬3). فلما قُتِل عنها الزبير رثتْه فقالت: [الكامل] غَدرَ ابنُ جُرموزٍ بفارس بُهْمَةٍ وسنذكر الأبيات في ترجمة الزبير في قصة عاتكة، ولما قُتِل الزبيرُ عنها تزوّجها محمَّد بن أبي بكر فقُتل عنها، فخطبها عليٌّ عليه السلام فقالت: إني لأضنُّ بك عن القتلِ (¬4) لما نذكر. وليس لعبد الله بن أبي بكر عَقِبٌ، انقرض نسلُهُ، وآخرُهم إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله له عقب لا غير (¬5). الأسود العنسي الذي ادّعى النُّبوة واسمه عَيْهَلَةُ بن كعب، واختلفوا فيه: فقال قوم: عَيْهلةُ اسمُه، وقيل: إنَّ عيهلةَ ¬

_ (¬1) المردفات من قريش 1/ 63، والأغاني 18/ 61، والاستيعاب والتبيين. (¬2) أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. (¬3) انظر عيون الأخبار 4/ 114 - 115. (¬4) المردفات من قريش 1/ 63 - 64، والأغاني 18/ 61 - 6، والاستيعاب (3403)، والتبيين 428 - 429، وتمام البيت: يوم اللقاء وكان غير مُعَرَّدِ. (¬5) انظر أول ترجمة عبد الله بن أبي بكر.

لقبٌ لملكِ اليمن، كما أن النجاشي لقب لملكِ الحبشة. وقال الجوهري: العاهل: الملك الأعظمُ كالخليفة، وريحٌ عَيْهَلٌ: شديدةٌ، والعَيْهل من النُّوق: السّريعة. قال: وقال أبو حاتم: ولا يُقال جَملٌ عَيْهَل (¬1). وذكر قصّتَه أربابُ السَّير كسيف بن عمر وابنِ إسحاق وهشام بنِ الكلبي والواقديّ وغيرهم على وجوه: الوجه الأول: أن أوَّل رِدَّةٍ كانت على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على يديْ الأسود، ويقال له: ذو الخمار؛ لأنه كان يقول: يأتيني ذو خِمارٍ، وكان كاهنًا مُشَعْبِذًا، يُري الناسَ العجائب، وكان يأتيه شيطان فيحدِّثُه بما يكون فيُخبرُ الناسَ به فافتُتنوا، وكان فصيحًا فسبى عقولَهم بمَنطقه، وكان أوَّلُ خروجه بعد رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجَّة الوداع، فكاتَبتْه مَذْحِج، وواعدوه نَجْران، وكانت دارُه بمكان يقال له: كهف خُبَّان، به وُلِدَ ونشأ. ولما خرج وَثبت مَذْحِج وأهلُ صنعاء، فأخرجوا منها عمرو بن حَزْمٍ وخالد بن سعيد بن العاص، وكانا عاملين عليها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخلها الأسودُ في سبع مئة فارسٍ من آل شَعوبٍ (¬2)، وخرج إليه من الأَبْناء شَهْرُ بن باذان - أو باذام - فقتله الأسود ومَن معه، وخرج معاذ بن جبل هاربًا، فلقي أبا موسى وهو بمأْرِب فاقتحما حَضْرَ مَوْتَ، وغلب الأسودُ على بلاد اليمن ومخاليفها، وجعل أمرُه يَستطير استطارةَ الحريق، ودانت له السواحلُ، وعامله المسلمون بالتَّقِيَّة، وكان خليفتُه في مَذْحج عمرو بن مَعْدي كَرِب. وأخذ الأسودُ امرأةَ شهر بن باذان، وقتل ابنتَه، واستخفَّ بالأبناء، وهرب فَرْوَةُ ابن مُسَيْك وكان على مُراد، وثب عليه قيس بن عبد يغوث فأجلاه. وبلغ رسولَ الله الخبرُ عند مَرْجعه من حجَّة الوداع، وقال الواقدي: كتب إليه فروةُ ¬

_ (¬1) الصحاح (عيهل). وقيل: اسمه عبهلة، بباء، انظر توضيح المشتبه 2/ 405 وحاشية محققه لزامًا. (¬2) كذا، وهو خطأ، صوابه ما في المنتظم 4/ 19: ثم خرج الأسود في سبع مئة فارس إلى شَعوب. قلت: وشعوب كما ذكر ياقوت بساتين في ظاهر صنعاء، وانظر تاريخ الطبري 3/ 229.

ابن مُسَيْكٍ بذلك، فكتب إلى الأَبناء ومَن بأرض اليمن من المسلمين أن يَقتلوا الأسودَ غيلةً أو مُصادَمةٌ، وأمرهم أن يستنجدوا رجالًا سمَّاهم من حِمْيَر وهَمْدان، وأرسل إلى أولئك. وكان الأسودُ قد أفسد وعاث، وانتهك المحارم، وتغيَّر على قيس بن عبد يغوث وعَزم على قتله، فاتفق مع الجماعة على قتله، فعملوا الحيلةَ عليه فلم يجدوا طريقًا غيرَ زوجتِه امرأة شهر بن باذان واسمها أزياد، وقالوا لها: قد قَتل زوجَك وبنتَك وفعل ما فعل، فما عندك فيه؟ فقالت: هو أبغض خَلْقِ الله إليَّ، فقالوا: نُريدُ قتلَه، فقالت: إنَّه مُحترسٌ، والحرسُ يُطيفون بقصره، إلَّا هذا البيتَ فانقُبوه، وتولّى أمرَه أخوها فيروز الدَّيلمي، وكان قد أبعده الأسود، فدخلوا عليه ليلًا فذَبحوه، فجعل يخور خُوارَ الثور، فقال الحرسُ: ما هذا؟ قالت: النبيُّ يُوحى إليه، فسكتوا وقد كان شيطانُه يأتي إليه فيوسوس له، فيغطُّ ويخور كما يخور الثورُ، ويعمل بما يقول له، فلما طلع الفجرُ اجتمع المسلمون وأَذَّنوا وقالوا: نشهدُ أن محمدًا رسولُ الله وأن عَيْهلَةَ كذّابٌ، وشَنُّوا الغارةَ على أَصحابه ومَن وافقه، فسَبَوْهم وقتلوهم ومزَّقوهم كلَّ مُمَزَّقٍ. وتراجع عُمّالُ رسول الله إلى مواضعهم، وكتبوا إلى رسول الله بذلك، فسبقهم خبرُ السماء، وذلك قبل موت رسول الله بيومٍ أو بليلةٍ، فأخبر الناسَ بقتلِه وقال: فاز فيروز، ووصل الكتابُ بعد وفاةِ رسولِ الله، فكان بين خروجِ الأسود إلى أن قُتِل أقلُّ من ثلاثة أشهر، وقيل: أربعة أشهر (¬1). والوجه الثاني: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا رجع من حجَّةِ الوَداع فرَّق أمراءه في اليمن، وقسَّمه بينهم، وقيل على حضرموت، وعُكَّاشة بن ثور الغَوْثي على السَّكاسك، ومعاوية بن كندة على السَّكون (¬2)، وعمرو بن حَزْم على ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 18 - 20. (¬2) كذا، وفي العبارة سقط وخطأ، وصوابها ما في الطبري 3/ 228 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى المدينة بعد ما قضى حجة الإِسلام، وقد وجه إمارة اليمن وفرقها بين رجال ... واستعمل على أعمال حضرموت على السكاسك والسكون عكاشة بن ثور، وعلي بني معاوية بن كندة عبد الله أو المهاجر، وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياضي ...

نجران، وخالد بن سعيد على ما بين نجران ورِمَع وزَبِيْد، وشَهْر بن باذان على صنعاء، وعامر بن شَهْر على هَمْدان، وأبو موسى على مَأرِب، ويَعلي بن أُميّة على الجَنَد، وكان معاذُ بنُ جبلٍ معلِّمًا يتنقّل في البلاد والقبائل، فتوفي رسولُ الله وهؤلاء عُمّالُه على اليمن. قال سيف بن عمر: فحدَّثني سهل بن يوسف عن أبيه عن عبيد بن صخرٍ قال: بينما نحنُ بالجند على أمورنا المستقيمة إذ وَرَدَ علينا كتابُ الأسودِ مع رسولٍ له يقول فيه: أيُّها المتورِّدون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتُم من أرضِنا، ووفَّروا ما جمعتُم، فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه. قال: فقُلنا للرسول: من أين جئتَ؟ فقال: من كهف خَبَّان، فبينما نحنُ ننظر في أمرنا إذ قيل: هذا الأسود بشَعوب، وخرج إليه شهر بن باذام، وذلك لعشرين ليلةً من مَنجمه، فبينما نحن نترقَّبُ الأخبار جاء الخبرُ أن الأسودَ قتل شهرًا، وهزم الأبناء، وغلب على صنعاء لخمسٍ وعشرين ليلةً من مَنْجَمه، وخرج معاذٌ هاربًا، فمر بأبي موسى، فاقتحما حضر موت، فنزل معاذٌ السَّكون، ونزل أبو موسى السَّكاسكَ، وانحاز سائرُ أمراء العرب إلى الأطراف فنزلوا الظواهرَ (¬1)، ولم يرجعْ إلى المدينة سوى عمرو بنِ حَزْمٍ وخالدِ بن سعيد بن العاص. وكان قُوّادُ الأسود: قيس بن عبد يغوث المُرادي ومعاوية بن فلان الليثي (¬2)، ويزيد ابن حُصين الحارثي، ويزيد بن أَفْكل الأزدي، وثبّت مُلكه (¬3)، ثم استَغلظ أمرُه حتى غلب على اليمن وانتهى إلى الطائف، وعاملهُ المسلمون بالتَّقِيَّة، والمنافقون بالردَّة عن الإِسلام، وكان خليفتُه في مَذْحج عمرو بن معدي كرب، وأمرُ جُنْدِه إلى قيس بن عبد يَغوث، وأسند أمرَ الأبناء إلى فيروز وداذَوَيْه. فلما أثخن في الأرض استخفَّ بقيسٍ وفيروز، وتزوَّج امرأة شهر وهي أختُ ¬

_ (¬1) في الطبري 3/ 230: وانحاز سائر أمراء اليمن إلى الطاهر - ابن أبي هالة - والطاهر يومئذ في وسط بلاد عكّ بحيال صنعاء. (¬2) في الطبري 3/ 230: معاوية بن قيس الجنبي، وفي تاريخ دمشق 14/ 484 (مخطوط): معاوية بن فلان الجنبي. (¬3) في (ك) وتاريخ دمشق: وابنا مليكة، والمثبت من الطبري.

فيروز (¬1)، فاتفق فيروز وداذَوَيْه وقيسٌ على قتله، فدخل عليه فيروز وهو نائم يَغُطُّ، فتكلم الشيطان على لسانه وقال: ما لي ولك يا فيروزُ؟ فلم يلتفت فيروز ودقَّ عُنُقَهُ وذَبحه، فلما قتله قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قتل الأسودَ الليلة رجلٌ مُبارَكٌ، من أهل بيتٍ مُبارَكين" قيل: يا رسول الله مَن قتله؟ قال: ["فيروز] , فاز فيروز" (¬2). الوجه الثالث: ذكر محمَّد بن إسحاق في آخر المغازي قَتْلَ الأسود وفيه زيادات فقال: كان سببُ قتلِه أنه كانت عنده امرأةٌ من بني غُطَيْفٍ سباها، وهي عمرةُ بنتُ عبد يَغوث المكْشُوح أختُ قيس، وامرأةٌ من الأبناء ممَّن سَبى يُقال لها: بَهرانةُ بنتُ الدَّيْلم، أختُ فيروز بن الديلمي، فكان فيروز يَدخل عليه [إذا شاء لمكان أخته، وكان قيس يدخل عليه] أيضًا لمكان أخته، وكانا نَديمَيْن له، وكان الأسود قد قتل عُمير بن [عبد] يغوث أخا قيس، واتفق قيسٌ وفيروز على قتله، وبلغ قيسًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمسلمين: "ستقتلون الأسود". فطمع قيس في قتله، ودخل معهما رجلٌ من الأبناء يُقال له: داذَوَيْه، فأفضى قيسٌ بذلك إلى أُخته وقال لها: قد عَرفتِ عداوتَه لقومك، وما قد ركبهم به، والرجلُ مَقتولٌ لا محالة، فإن استطعتِ أن يكون بنا فافعلي، فنُدرك به ثأرَنا، ويكون مَأثُرة لنا، فتَحيَّني لنا غِرَّته إذا سَكِر. فطاوعته على ذلك [وقال فيروز لصاحبته مثل ذلك] فقال لها: هذا الرجلُ يُريد أن يُجليَ قومَك من اليمن، فأجابتْه إلى ذلك، فكان مَقتلُه في بيت الفارسية، وذلك لأنها جَعلت في شرابٍ له البَنْج، فلما غلب على عقله بعثتْ إلى أخيها: شأنك وما تُريد، فأقبلوا ثلاثتُهم: قيسٌ وفيروز وداذَوَيْهِ حتى انتهَوْا إلى الباب فقالوا: أيّنا يَكفي الباب لئلا يدخُلَ علينا أحد؟ فقال داذويه: أنا، فوقف عند الباب، ودخلا فجثم فيروز على صدره فضَبَطه، وضربه قيسٌ بسيفه حتى قتله، واحتزَّ رأسَه، وبعث به إلى المهاجر بن أبي أميّة، فعاد المهاجر إلى صنعاء. ¬

_ (¬1) في الطبري وتاريخ دمشق والمنتظم 4/ 19 أنها ابنة عم فيروز. (¬2) أخرجه الطبري 3/ 236، وابن الجوزي في المنتظم 4/ 20 من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وما بين معكوفين منهما.

وقال قيس بن عبد يغوث المرادي حين قَتل الأسود العَنْسي في الأسود أبياتًا منها: ضربتُه بالسّيفِ ضَرْبَ الأَقْرانْ ضَرْبَ امرئٍ لم يَخْشَ عُقْبى العُدوانْ فمات لا يبكيه منّا إنسانْ ضلَّ نبيٌّ مات وهو سَكْرانْ قال: ثم تنازع هؤلاء الثلاثةُ نَفَرٍ في قتله، فقال قيس: أنا قتلتُه واحتززتُ رأسَه، وقال فيروز: أنا ضبطتُه لك، ولولا ذلك لم تَصِلْ إلى قتله، وقال داذَوَيه: أنا كفيُتكم الباب، وكان أشدَّ ثُغوركم، ولولا ذلك لم تَقدروا على قتله، فالتمس قيسٌ أن يَغتالَهما، فصنع لهما طعامًا، ثم دعا واحدًا واحدًا، فقَتل داذَوَيه، ونَذِر فيروزُ فخرج، فكان بينهما في ذلك أمرٌ تَعاظم فيه الشرُّ؛ حتى أصلح بينهما المهاجر، فقال قيس في ذلك: [من الكامل] زعم ابنُ حَمْراء القِصاص (¬1) بأنّه ... قَتلَ ابنَ كعبٍ نائمًا نَشوانا كلاّ وذي البيتِ الذي حجَّتْ له ... شعث المفارق تَمسح الأَركانا لأنا الذي نَبَّهتُهُ فقتلتُه ... ولقد تُكُبِّدَ (¬2) قائمًا يقظانا فعَلوتُه بالسيف لا مُتَهيِّبًا ... مما يكونُ غدًا ولا ما كانا فانصاع شيطانُ ابن كعبٍ هاربًا ... عنه وأَدبرَ ممعِنًا شيطانا انتهت ترجمتُه والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) كذا في (ك) وتاريخ دمشق 59/ 193 (مجمع اللغة)، و 14/ 487 (مصورة دار البشير)، ولعلها: العِجان، يقال: فلانٌ ابن حمراء العِجان إذا كان أعجميًا، أو كانت أمه أمَةً، والعجان: ما بين القُبُل والدُبُر، وهي كلمة تقولها العربُ في السبَّ والذمَّ. ينظر أساس البلاغة (عجن)، واللسان (حمر) و (عجن). (¬2) يعني: ضُرب كبده.

فصل في ذكر فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فصلٌ في ذكر فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرنا أنها وُلدت قبل النبوَّة بخمس سنين وقريشٌ تبني الكعبة، وكانت أصغرَ بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكرنا أن عليًا تزوَّجها في السنة الثانية من الهجرة، وذكرنا بعضَ فضائلها. وقال البخاري بإسناده عن المِسور بن مَخْرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فاطمة بَضْعَةٌ مني، فمَن أغضبها فقد أغضبني". وهذا حديث طويل أخرجاه في الصحيحين (¬1)، وأخرجه أحمد في "المسند" فقال: حدَّثنا أبو اليمان، عن شُعيب، [عن] الزُّهري عن علي بن الحسين أنَّ المسور بن مَخْرمة أخبره أن عليَّ بن أبي طالب خطب ابنةَ أبي جهلٍ، وعنده فاطمةُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت فاطمةُ لرسول الله: إن قومَك يتَّحدثون أنَّك لا تَغضبُ لبناتك، وهذا عليٌّ ناكحٌ ابنةَ أبي جهلٍ. قال: فقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فتشهَّد ثم قال: "أما بعدُ فإني أَنكحتُ أبا العاص بنَ الرَّبيع، فحدَّثني فصدقني، وإن فاطمةَ بَضْعَةٌ منّي، وأكرهُ أن يَفتِنوها، وإنه والله لا تجتمع ابنةُ رسول الله وابنةُ عدوِّ الله عند رجلٍ واحدٍ أبدًا". وفي روايةٍ "لا أُحرِّمُ حلالًا، ولا أُحلُّ حرامًا، ولكن والله لا تَجتمع ... " وذكره، فترك عليٌّ الخِطبة، وفي روايةٍ: "إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتَهم عليَّ بن أبي طالب، ألا فلا آذَنُ لهم، قالها ثلاثًا، فإنما ابنتي بَضْعةٌ مني يُرِيبني ما رابَها، ويُؤذيني ما آذاها". وكلُّ هذه الروايات في المتَّفق عليه (¬2). البَضْعَةُ: القطعة. والتي خطبها عليٌّ جويرية بنتُ أبي جهل، وكانت قد أسلمت مع أخيها عكرمة. ومعنى قوله: لا أُحَرِّمُ حلالًا، أي: إن هذا لا يكون، وقد ظنَّ بعضُ الجُهال أن عليًا ارتكب أمرًا منكرًا، وليس كما ظنَّ، فإن بني مَخزوم سألوا عليًا أن يُصاهِرهم، وقصدوا زوالَ الأضغانِ والإحَن التي كانت بينهم وبين بني هاشمٍ في الجاهلية، فأجابهم عليٌّ إلى ذلك طلبًا للتَّآلف، لا رَغبةً في النكاح، ولو علم أن ذلك يَصعبُ على ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3714)، وصحيح مسلم (2449). (¬2) مسند أحمد (18912) و (18913) و (18926)، وصحيح البخاري (3110) و (3729) و (3767) و (5230) و (5278)، وصحيح مسلم (2449).

رسول الله وفاطمة ما أجابهم إليه، فلما علم ترك، وهذا من الظنِّ بمثله. وقال أبو إسحاق الثَّعلبي بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: أقام رسولَ الله أيامًا لم يَطعَمْ طعامًا، فدار على منازل أزواجه، فلم يجد عندهنَّ شيئًا، فأتى فاطمةَ عليها السلام فقال: "يا بُنيَّةُ، هل عندك شيءٌ آكلهُ فإني جائع؟ " فقالت: لا واللهِ. فلما خرج من عندها بعثتْ إليها جارتُها برغَيفين وقطعةِ لحمٍ، فجعلت ذلك في جَفْنَةٍ وغَطَّتْهُ وقالت: والله لَأُوثِرَنَّ أبي، وكانت جائعةً هي ومَن عندها، ثم أرسلت الجَفْنةَ إليه مع الحسنِ والحسين، وفي رواية: فأرسلت إليه فجاء فقالت: يا أبه، قد أتانا الله بشيءٍ فخَبَّيْناه لك، فقال: هلمَّ، فأتَتْه بالجَفْنةِ، فكَشفها فإذا هي مملوءةٌ خُبزًا ولحمًا، فلما نظرت إليها بُهتَت وعرفت أنها بركةٌ من الله تعالى، فقال: يا بُنيَّةُ، أنَّى لك هذا؟ قالت: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] , فقال: "الحمد لله الذي جعلك يا بُنيَّةُ شبيهةً بسيّدة نساء بني إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئًا فسُئلت عنه قالت: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. ثم أكل رسول الله منها وعليٌّ وفاطمةُ والحسن والحسين وأزواجُ رسول الله وأهلُ بيته حتى شَبعوا. قالت: فاطمة: وبَقيت الجَفنةُ كما هي، فأوسعتُ منها على جيراني وجعل الله فيها بركةً وخيرًا (¬1). وقال أحمد بإسناده عن أنس بن مالك: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَمرُّ بباب فاطمةَ إذا خرج إلى الصلاة، أو إلى صلاة الفجر، فيقول: "يا أَهلُ، الصلاةَ" وفي روايةٍ: "يا أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} الآية [الأحزاب: 33]. فعل ذلك ستَّةَ أشهر (¬2). وقال أحمد بإسناده عن أنس: إن بلالاً أبطأ عن صلاة الصُّبح، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما حَبَسَك؟ " قال: مررتُ بفاطمة وهي تطحنُ، والصبيُّ يبكي، فقلتُ لها: إن شئتِ كَفيْتُك الرَّحى وكَفَيْتِني الصبيّ، وإن شئتِ كفيتُك الصبيَّ وكفيتني الرَّحى؟ فقالت: أنا أَرفَقُ بابني منك، فذاك حَبَسَني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فرَحِمْتَها يرحمك الله" (¬3). ¬

_ (¬1) قصص الأنبياء للثعلبي 376 - 377، وذكره ابن كثير في تفسير الآية (37) من آل عمران، وفي البداية والنهاية 8/ 646 - 647 وقال: هذا حديث غريب إسنادًا ومتنًا. (¬2) مسند أحمد (13728). (¬3) مسند أحمد (12524).

وقال أحمد بإسناده عن الحكم قال: سمعتُ ابنَ أبي ليلى يقول: حدَّثنا عليٌّ: أن فاطمةَ اشتكت ما تلقاه من أثر الرّحى في يدها، وأُتيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بسَبْيٍ، فانطلقتْ فلم تجِدْه، ولقيت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتْه بمجيء فاطمة إليها، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أخذنا مَضاجِعَنا، فذهبنا لنَقومَ فقال: "على مكانكما"، فقَعد بيننا حتى وجدتُ بَرْدَ قدميه على صَدْري، فقال: "ألا أُعلّمكما خيرًا مما سألتُما؟ إذا أخذْتُما مضاجعكما أن تُكبِّرا الله أربعًا وثلاثين، وتُسبّحاه ثلاثًا وثلاثين، وتحمداه ثلاثًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم". أخرجاه في الصحيحين، وفي رواية: "من خادمٍ وخادمة" (¬1). ذكر وفاتها: قال ابن سعد بإسناده عن عامر قال: جاء أبو بكرٍ إلى بيت عليًّ لما مَرضت فاطمةُ، فاستأذن عليها، فقال عليٌّ: هذا أبو بكرٍ على الباب يَستأذن، فإن شئتِ أن تأذني له فَأْذني، قالت: وذاك أحبُّ إليك؟ قال: نعم، فأَذِنت له، فدخل واعتذر إليها، فرضيت عنه (¬2). وهذا يدلُّ على صِحّة الرواية أنها هَجرت أبا بكر مُدَّةَ حياتها. واختلفوا في كيفيّة غسلها على أقوالٍ: أحدها: أن الملائكة غَسَّلتها، قاله الهيثم. والثاني: أن عليًّا عليه السلام غَسّلها، وهو الظاهر. والثالث: أنها غَسّلت نفسَها، فقال أحمد بن حنبل في كتاب "الفضائل" بإسناده عن عُبيد الله بن علي بن أبي رافع، عن أبيه، عن أمه سَلمى قالت: اشتكت فاطمة، فأصبحتْ يومًا كأَمثلِ ما كانت، فخرج عليٌّ، فقالت: يا أمّاه، اسكُبي لي غُسْلاً، فسكبتُ لها، فاغتسلتْ ثم قالت: هاتي ثيابي الجُدُد، فأتيتُها بها، فلبستْها ثم قالت: قَدَّمي الفِراشَ إلى وَسَط البيت، فقدَّمَتْه، فاضجعتْ عليه، واستقبلت القبلة، وتبسَّمت، وما رأيتُها مُتَبسِّمةً إلا يومئذ، ووضعَتْ يدها تحت نَحْرِها وقالت: إني مقبوضةٌ، وقد اغتسلتُ فلا يَكشِفني أحدٌ، ثم قُبِضَتْ، ودخل عليٌّ فأخبرتُه، فبكى ثم قال: والله لا يَكشِفها أحدٌ، ثم حملها بغُسْلها ذلك فصلى عليها ودفنها (¬3). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1141)، وصحيح البخاري (3113) و (3705) و (5361) و (6318)، ومسلم (2727). (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 27. (¬3) فضائل الصحابة (1074)، والمسند (27615).

ثم قال جدي: في إسناده محمَّد بنُ إسحاق وعليُّ بن عاصم، فأما ابن إسحاقٍ فكذَّبه مالك، وأما عليُّ بن عاصمٍ فكذَّبه يزيد بن هارون. قال جدي: والغُسْل إنما شرع لحَدَث الموت، فكيف يقعُ قبله؟ ثم قال: وقد احتجَّ أحمدُ والشافعيُّ في جواز غَسْلِ الرجل زوجته بأن عليًّا عليه السلام غَسَّل فاطمة (¬1). والجواب: أما محمَّد بن إسحاق فقد وثَّقه أحمد بنُ حنبل وعامّةُ العلماء، وأخذوا عنه المغازي والسِّير وغيرهما، وكلامُ مالكٍ فيه فلغرضٍ نذكره في ترجمة ابن إسحاق (¬2). وقولُه: الغُسْل للحديث بعد الموت، قلنا: يحتمل أنها كانت مخصوصةً بذلك لئلا يطَّلع عليها أحدٌ. وأما قولُه: إن عليًا غَسَّل فاطمة، فهذا موضعُ الخلاف، فإنَّ عند أبي حنيفة ومالك: لا يحلُّ للرَّجل أن يُغسِّل زوجتَه لانقطاع الزوجية بينهما من وجهٍ (¬3)، وقد ذكرنا هذا في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما غسل عليًّ فاطمة فقد منعناه، ولو سَلِم فقد رُوي أن ابن مسعودٍ قال لعلي: غَسَّلت فاطمة؟ فقال: أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرني أنها زوجتي في الدنيا والآخرة. فدلَّ على أن الزَّوجيَّة باقيةٌ بينهما. ولما غُسّلت حُمِلت على نَعْشٍ، قال ابن سعد: وهي أول من حُمِل عليه، ورواه ابن عباسٍ قال: فاطمة أوّلُ من جُعل لها النَّعشُ في المدينة، عملتْه لها أسماءُ بنت عُمَيْسٍ، وكانت قد رأتْه بأرض الحبشة (¬4). وفي رواية ابن الكلبي أنها لما اشتدَّ بها المرضُ قالت لأسماء: يا أُمّاه، أُحمَلُ على سرير يراني الناس! ؟ فقالت لها: أَصنعُ لك كما كنا نَصنع بالحبشة، فعَمَدت إلى أعوادٍ فقطعتها، ثم عَملتها نَعشًا على السرير، فكان عمر بن الخطاب إذا رآه بعد ذلك ¬

_ (¬1) الموضوعات (1842)، والعلل المتناهية (419). (¬2) انظر تهذيب الكمال وفروعه. (¬3) انظر المغني لابن قدامة 3/ 461. (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 28.

يقول: نعم هَوْدَجُ الظَّعائن - يعني النساء - يُحملن عليه، أو الظَّعينة (¬1). واختلفوا فيمن صلى عليها على أقوالٍ: أحدها: عليٌّ والعباس، ونزلا في حُفرتها ومعهما الفضلُ بن العباس، وكان عليٌّ الإمام. والثاني: أن العباس كان الإِمام. ذكر هذين القولين ابنُ إسحاق. والثالث: عليٌّ وحده، ودَفَناها ليلًا. رواه ابن سعدٍ عن الواقدي قال: سُئل ابن عباس: متى دُفنت فاطمةُ؟ فقال: ليلًا، قيل: فمَن صَلَّى عليها؟ قال: عليٌّ. والرابع: أبو بكر، حكاه ابنُ سعد عن شَبَابة بن سَوَّارٍ بإسناده عن إبراهيم قال: صلّى أبو بكرٍ على فاطمة وكبَّر عليها أربعًا. قال الواقدي: والثَّبت عندنا أن عليًا عليه السلام دفنها ليلًا، وصلَّى عليها ومعه العباس والفضل، ولم يُعلما بها أحدًا، ولا بايعا أبا بكرٍ إلا بعد فاطمة. وشبابة بن سوَّار ضعَّفه الحُفَّاظ (¬2). وقال علماء السَّير: لما دفنها عليٌّ وقف على قبرها وبكى وقال: [من الطويل] لكلَّ اجتماعٍ من خَليلَين فُرْقَةٌ ... وكلُّ الذي دون المماتِ قليلُ وإن افتقادي فاطمًا بعد أحمدٍ ... دليلٌ على أن لا يدومَ خليلُ (¬3) قال الهيثم: ولما دفن عليٌّ فاطمةَ أتى إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف عليه وقال: السلامُ عليك يا رسول الله، وعلى ابنتِك النازلةِ في جوارك، السريعةِ اللحاق بك، قلَّ تصبُّري عنها، وضَعُف تَجَلُّدي على فراقها، إلا أن لي في التأسّي بعظيم فراقك، وفادح مُصابك مَقْنَعًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد استُرْجعتِ الوديعةُ وأُخِذَتِ الرَّهينةُ، ¬

_ (¬1) أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (203) و (205)، وابن عبد البر في الاستيعاب (2411)، وذكره ابن الجوزي في المنتظم 4/ 95، وابن قدامة في التبيين 92، والذهبي في السير 54 (الخلفاء الراشدون)، والمحب الطبري في ذخائر العقبى 53. (¬2) انظر طبقات ابن سعد 8/ 29 - 30، وتاريخ الطبري 3/ 240 - 241، والمصادر في التعليق السابق، وتهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال 2/ 260. (¬3) التعازي للمبرد 205، والعقد 3/ 341، ومروج الذهب 4/ 161.

وستُنبِئك ابنتُك بما لقينا بعدك، هذا ولم يَطُل العهدُ، ولم تمتد المدَّةُ، فعليكما مني السلامُ، سلامَ مُوَدِّعٍ لا قالٍ ولا سَئمٍ، فإن أَنصرِفْ فلا عن مَلالةٍ، وإن أُقم فلا عن سوء ظنًّ بما وعد اللهُ الصابرين وأعدّ للمحزونِيْن (¬1). وقال أحمد بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "يا أبا الريحانتَيْنِ، عن قليلٍ يَذهبُ رُكناك، والله خليفتي عليك", قال: فلما قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال علي: هذا أحدُ الرُّكنَين، فلما تُوفَّيت فاطمةُ قال: هذا الركنُ الآخر (¬2). واختلفوا في المدَّة التي عاشت فيها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أقوال: أحدها: ستة أشهر، قال الواقدي: وهو الثبت عندنا، رواه عروةُ عن عائشة. والثاني: ثلاثة أشهر، قاله عمرو بن دينار. والثالث: شهران وعشرة أيام، قاله أبو الزبير. والرابع: أربعون يومًا، قاله الهيثم، والأول أصحّ. وقد فَسَّرته عائشةُ فقالت: توفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، وتُوفيت فاطمةُ ليلة الثلاثاء لثماني عشرة ليلةً خلت من رمضان، وفي روايةٍ: لثلاثٍ خلوْنَ منه (¬3). واختلفوا في مَبلغ سنِّها على أقوالٍ: أحدها ثمانيةٌ وعشرون سنةً وثمانية أشهر؛ لأنها وُلدت قبل النبوة بخمس سنين. قاله الواقدي. والثاني ثلاثون سنةً. والثالث: سبع وعشرون سنة، والأوَّل أصحّ. وذكر بعضُهم أَن عمرَها ثماني عشرة سنةً وليس هذا بشيءٍ (¬4). واختلفوا في موضع قبرها، فذكر ابن سعدٍ عن الواقدي أنها دُفنت في زاوية دار عَقيل، وبين قبرها وبين الطريق سبعةُ أذرعٍ، قال: وقال عبد الله بن جعفر: ما رأيتُ ¬

_ (¬1) نهج البلاغة 2/ 182. (¬2) فضائل الصحابة (1067) عن محمَّد بن يونس، عن حماد بن عيسى الجهني، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه عن جابر، وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 201، وابن عساكر في تاريخ دمشق 5/ 42 (مخطوط) بهذا الإسناد، قال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث جعفر، تفرد به عنه حماد بن عيسى ويعرف بغريق الجحفة، لم يكتبه إلا من حديث محمَّد بن يونس عاليًا. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 28، وتاريخ الطبري 3/ 240، والذرية الطاهرة 151 - 152، والاستيعاب (3411)، وصفة الصفوة 2/ 14 - 15. (¬4) انظر المصادر في الحاشية السابقة.

ذكر أولادها الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب

أحدًا يشكُّ أنَّها في ذلك الموضع. قال: وقال الواقدي: أخبرني عبد الله بن جعفر، حدثني عبد الله بن الحسين قال: وجدتُ المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام واقفًا ينتظرني بالبقيع نصفَ النهار في حرٍّ شديدٍ، فقلتُ: ما يُوقفُك يا أبا هاشم ها هنا؟ قال: أنتظرك، بلغني أن فاطمة دُفنت في هذا البيت، في دار عقيل مما يلي [دار] الجَحشيِّين، فأُحبُّ أن تَبتاعه لي بما بلغ، أُدفن فيه. فقال عبد الله: والله لأفعلن. قال: فجهد بالعقيليين أن يبيعوه فأبَوْا. قال الواقدي: وهذا الموضعُ مما يلي دار الجحشيين مستقبل خَرجة بني نبيه من بني عبد الدار بالبقيع (¬1). وقال قومٌ: إن عليًا عليه السلام لما دفنها عفَّى آثار قبرها، وقيل: بقي على حاله، فلما مات ولدُها الحسن دُفن إلى جانبها. وليس في الصحابيات من اسمها فاطمة بنت محمَّد - صلى الله عليه وسلم - غيرها. وقد روت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج لها ثمانية عشر حديثًا في المسند، منها ثلاثة أحاديث في الصحيحين. ذكر أولادها الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب: فتزوّج زينب عبد الله بن جعفر بن أبي طالبٍ، فولدت له عبد الله وعونًا، وماتت عنده. وأَما أُم كلثوم فتزوَّجها عمر بن الخطاب فولدت له زيدًا ورُقيَّةَ، ثم قُتِل عنها، فخلف عليها بعد عمر عونُ بن جعفر فلم تَلِدْ له، ثم مات. وخلف عليها محمَّد بن جعفر فولدت له جاريةً ففارقَها، ثم خلف عليها بعده عبد الله بن جعفر فماتت عنده ولم تلد له. فهؤلاء أولادُ فاطمة في أصحِّ الروايات. وزاد فيهم محمَّد بن إسحاق والليث بن سعد، فأما ابن إسحاق فقال: كان لها ولدٌ اسمه مُحَسِّن، وأما الليثُ فقال: كان لها رُقيةُ ماتت ولم تبلُغْ (¬2). وهذا ما انتهى إلينا. * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 30، وانظر الإصابة. (¬2) صفة الصفوة 2/ 9، وتلقيح فهوم أهل الأثر 32، ومن هنا إلى بداية السنة الثانية عشرة ليس في (ك).

فروة بن الحارث بن النعمان

فَرْوَة بن الحارث بن النعمان من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه من بني عَدي بن النجار، شهد أُحدًا، واستُشهد يوم اليمامة، وأبوه الحارث بن النعمان شهد أُحدًا وقتل يوم مؤتة (¬1). مالك بن عمرو حليف لبني عبد شمس من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتل يوم اليمامة شهيدًا باتفاقهم، وله رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). مالك بن نُوَيْرَة (¬3) ابن جَمْرَة بن شَدَّاد بن عُبيد بن ثعلبة بن يَرْبوع بن حَنْظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي اليَربوعي، وكان يُسمّى الجَفُول. قال حصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ: لما صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجّة الوداع سنة عشر، وقدم المدينة بعث المصدِّقين في أول المحرم في العرب، فبعث مالك بن نُويرة على صدقات بني يربوع، وكان قد أسلم، وكان شاعرًا. وقال أبو قتادة: كنا مع خالد بن الوليد حين خرج إلى أهل الردّة، فلما نزل البُطاح ادّعى أن مالكًا ارتد، واحتجَّ عليه بكلام بلغه عنه، فأنكر مالك ذلك، وقال: أنا على الإِسلام، وما غيَّرتُ ولا بَدَّلتُ، وشهد له أبو قتادة وعبد الله بن عمر، فقدَّمه خالد، وأمر ضِرار بنَ الأزور الأسدي فضرب عنقه، وكان من أكثر الناس شَعرًا، وقبض خالد امرأة مالك، وهي أم تميم، فتزوَّجها، وبلغ عمر بن الخطاب ما فعل، فقال لأبي بكر: إنه قد زنى فارجمه، فقال أبو بكر: إنه تأوَّلَ فأخطأ، ما كنت لأُشيمَ سيفًا سَلَّه الله عليهم أبدًا. وقال التبريزي: كان مالك قد أسلم قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتَصدَّق، وكان عريف [ثعلبة بن] يربوع، فقُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإبلُ الصَّدقةِ برَحْرَحان، وهو ماءٌ دُوين بطنِ نخل، كثير الكلأ، فأغار عليه مالك، فاقتطع منها ثلاث مئة، فلما قدم بلاد بني تميم لامه الأقرع بن حابس وضِرار بن القعقاع، وبلغ مالكًا أن الأقرع وضرار يمشيان به [في] بني تميم، فقال يُعتبهما، ويدعو على ما بقي من إبل الصدقة: [من البسيط] ¬

_ (¬1) انظر الاستيعاب (2070)، والإصابة في ترجمة فروة. (¬2) انظر الاستيعاب (2991)، والإصابة. (¬3) سلف ذكر مالك في حروب الردة وخبره مطولًا.

أَراني الله بالنَّعَم المنَدَّى ... ببُرْقَةِ رَحْرَحان وقد أَراني أإنْ قَرَّت عيونٌ واستُفيئتْ ... غنائمُ قد يجودُ بها بَناني حويتُ جميعَها بالسيف صَلْتًا ... ولم تُرْعَد يداي ولا جَناني تَمَشّى يا ابن عَوْذَةَ في تميمٍ ... وصاحبُك الأُقيرع تَلحَياني فقل لابن المذَبِّ يَغضُّ طَرْفًا ... على قطع المذَلَّةِ والهوانِ (¬1) من أبيات. فلما قام أبو بكر، وبلغه قول مالك بعث خالد بن الوليد إلى مالك وقومِه، وقال: إن سمعتَ فيهم مؤذَّنًا فلا تَقتلْ منهم أحدًا، وعزم [على] خالد أنْ يَقتل مالكًا إنْ أخذه، فأقبل خالد حتى نزل الجَوَّ جَوَّ البعوضة وبه بنو يربوع، فبات عندهم ولا يخافونه، ثم مرَّ ببني غُدانة وبني ثعلبة، فلم يَسمع فيهم مُؤذّنًا، فأوقع بهم، فثاروا ولا يدرون مَن أوقع بهم، ولا مَن بَيَّتَهم، فلما رأوا الجيش قالوا: ما أنتم؟ قالوا: المسلمون، وكان مالك فيهم، فقال: ونحن المسلمون أيضًا، فلم يَسمع منهم، ووضعوا فيهم السيف، وأَعجل مالك عن لبس السِّلاح، وقُتلت غدانة وثعلبة أشدَّ القتل، وقامت ليلى بنت سنان بن ربيعة بن حنظلة امرأة مالك عريانة دون مالك، فأنفذت الرَّماح ساقيها, ولبس مالك أدَاتَه، وخرج فنادى: يا آل عبيد، فلم يُجبْه أحدٌ غير بني بَهان، ففرغ خالد منهم، وبقي مالك، فقال له خالد: يا ابن نويرة هلمَّ إلى الإِسلام، فقال مالك: وتعطيني ماذا؟ فقال: أُعطيك ذِمَّةَ الله وذِمَّة رسوله وذِمَّة أبي بكر وذمة خالد أنْ لا أجاوزَ إليك، وأن أقبلَ منك، فأعطاه مالك يدَه وخالد على تلك العزيمة من أبي بكر في قتله، فقال: يا مالك إني قاتلُك، فقال: لا تقتلني، فقال: لا بدّ، وأمر بقتله، فتهيب المسلمون ذلك, وقال المهاجرون: أتقتل رجلًا مسلمًا، وقد أعطيتَه ذمَّةَ الله وذمة رسوله، فقام ضِرارُ بن الأَزْوَر من بني كُوز، فقتله، وقيل: قتله عَبد بن الأزور أخو ضرار، وأقبل المِنْهال بن عِصمة الرِّياحي، فكفَّنَ مالكًا، ودَفنه، فذلك قول متمم: [من الطويل] لقد كفَّنَ المِنهالُ تحت ردائه ... فتىً غيرَ مِبْطانِ العَشِيَّاتِ أَرْوَعا (¬2) قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لمُتَمّم بن نويرة: ما بلغ من حُزنك على أخيك؟ فقال: ¬

_ (¬1) شرح الحماسة للتبريزى 2/ 149، وطبقات ابن سلام 205 - 206، والأغاني 15/ 305، والخزانة 2/ 25. (¬2) في (أ) و (خ): لعمري لقد كفن، وكلمة لعمري، أول بيت في هذه القصيدة، وباقي البيت: =

لقد مكثتُ سنة ما أنام بليلٍ حتى أُصبح، وما رأيت نارًا رُفعت بلَيلٍ إلا ظننتُ أن نفسي ستخرج، أذكرُ بها نارَ أخي، إنه كان يَأمرُ بالنار فتُوقد حتى يُصبح، مخافةَ أن يبيتَ ضيفُه قريبًا منه، فمتى رأى النار يلوي إلى الرحل وهو بالطيف يأتي متهجدًا أسر من القوم يقدم عليهم القادم لهم من السفر البعيد، فقال عمر: أكرم به. وقال عمر يومًا لمتمم: خَبَّرنا عن أخيك، قال: يا أمير المؤمنين لقد أُسرتُ مرَّةً في حيٍّ من أحياء العرب، فأقبل أخي، فما هو إلا أن طَلع على الحاضر، فما أحدٌ كان قاعدًا إلا قام، ولا بقيت امرأة إلا تَطلَّعتْ من خِلال البيوت، فما نزل عن جمله حتى لقوه بي في رمتي، فحلَّني هو، فقال عمر: إن هذا لهو الشرف. ورثى متمم أخاه مالكًا، من أبيات (¬1): [من الطويل] وكنّا كنَدْمانَيْ جَذِيمةَ حِقبَةً ... من الدَّهر حتى قيل لن يَتصدَّعا وعِشْنا بخيرٍ في الحياة وقبلَنا ... أصاب المنايا رهطَ كسرى وتُبَّعا فلما تَفرَّقْنا كأني ومالكًا ... لطُول اجتماع لم نَبِتْ ليلةً معا لقد غَيَّبَ المِنهالُ تحت ردائه ... فتىً غيرَ مِبْطانِ العَشِيَّات أَروعا تَراه كنَصْلِ السَّيفِ يَهتزُّ للنَّدى ... إذا لم تجد عند امرئ السوءِ مَطْمَعًا وما كان وَقَّافًا إذا الخيل أَحْجَت ... ولا طالِبًا من خَشْيَةِ الموتِ مَفْزَعَا ولا بكَهَامٍ سيفُه عن عدوِّه ... إذا هو لاقى حاسرًا أو مُقَنَّعا وإني متى ما أدعُ باسمِك لم تُجِبْ ... وكنتَ حَريًّا أن تُجيبَ وتسمعا تحيَّتُه منِّي وإن كان نائيًا ... وأَمسى تُرابًا فوقه الأرضُ بَلْقَعا وما شارِفٌ حَنَّتْ حنينًا ورَجَّعتْ ... أنينًا فأبكى شَجْوُها البَرْكَ أَجمعا ولا ذاتُ أَظْآرٍ ثلاثٍ رَوَائمٍ ... رأَيْنَ مَجَرًّا من حُوارٍ ومَصْرَعَا ¬

_ = لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع مما أصاب فأوجعا انظر المفضليات 526، وشرحه لابن الأنباري 2/ 64، وللتبريزي 1167، وأمالي اليزيدي 18، وطبقات ابن سلام 209، والأغاني 15/ 307، والعقد الفريد 3/ 263 - 264، وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 150، والخزانة 2/ 27، وغيرها كثير. (¬1) سلف تخريج القصيدة، وسياق القصيدة هنا مختلف عن المصادر.

مسعود [بن سنان]

بأَوجدَ منّي يوم قامَ بمالكٍ ... مُنادٍ فَصيحٌ بالفِراقِ فأَسْمعا سَقى اللهُ أرضًا حَلَّها قبرُ مالكٍ ... ذِهابَ الغَوادي المُدْجِناتِ فأَمْرَعا وآثَرَ بطنَ الوادِيَيْنِ بمُزْنَةٍ ... تُرَشِّحُ وسْمِيًّا من النَّبتِ خِرْوَعا وقال الرِّياشِيّ: صلى أبو بكر - رضي الله عنه - ومُتَمّمٌ خلفَه، فقام مُتَمّم، وبكى بكاءً شديدًا وقال: [من الكامل] نِعْمَ القتيلُ إذا الرِّياحُ تَناوَحَتْ ... بين البُيوتِ قتلتَ يا ابن الأَزْوَرِ لا يُضْمِرُ الفَحشاءَ تحت رِدائه ... حُلْوٌ شَمائلُه عَفيفُ المِئزرِ أَدعَوْتَه بالله ثم قتلتَه ... لَوْ هُو دَعاكَ بذِمَّةٍ لم يَغدِرِ ثم بكى حتى سالت عينُه العوراء، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: والله ما دعوتُه ولا قتلتُه (¬1). وقال متمم: [من الطويل] لقد لامَني عند القبورِ على البُكا ... رَفيقي لتَذْراف الدُّموعِ السَّوافِكِ فقال أتَبكي كلَّ قبرٍ رأيتَه ... لقبرٍ ثَوى بين اللِّوى فالدَّكادِكِ فقلتُ له إن الشَّجا يَبعث الشَّجا ... فدَعْني فهذا كلُّه قبرُ مالكِ (¬2) مسعود [بن سنان] من الطبقة الثانية من الأنصار، حضر مع عبد الله بن عَتيك مَقتل سَلّام بنِ أبي الحقيق، وهو ممن شهد اليمامة، [واستُشهد فيها] (¬3). مَعْن بن عديّ ابن الحارث بن العَجْلان، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبةَ مع السّبعين، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين زيد بن الخطاب، واستُشهدا جمعيًا يوم اليمَامة (¬4). ¬

_ (¬1) التعازي والمراثي للمبرد 20، والأغاني 15/ 306. (¬2) التعازي والمراثي 88، والعقد الفريد 3/ 262 - 263، وشرح ديوانه الحماسة للمرزوقي 797، وللتبريزي 2/ 148. (¬3) انظر الاستيعاب (2440)، وسيرة ابن هشام 2/ 274، والبداية والنهاية 9/ 505. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 465، والاستيعاب (2430)، والمنتظم 4/ 96.

السنة الثانية عشرة من الهجرة

السنة الثانية عشرة من الهجرة قد ذكرنا انفصال خالد عن اليمامة، وكتاب أبي بكر رضوان الله عليه إليه بالمسير إلى العراق، فمن الناس مَن يقول: إنه رجع من اليمامة إلى المدينة، فقَدم على أبي بكر، فأوصاه بما يَعتمده، ثم سار إلى العراق. ومنهم مَن يقول: إنه سار من اليمامة إلى العراق، وهو الظاهر، فسار بمَن معه من بني تميم وأسد وقيس وعبد القيس والمهاجرين، وجاءه كتاب أبي بكر - رضي الله عنه -: أن دوخ (¬1) الغراق من أسفلها، فابدأ بفَرْج الهند، وهو الأُبُلَّة، وفارس، وتألَّف تلك الأمم (¬2). فخرج من اليمامة في أول المحرَّم من هذه السنة، فسلك على طريق الكوفة، فانتهى إلى السَّواد، فنزل بقُرَيّات يقال لها: بانِقْيا وبارُوسْما واُلَّيْس، وبها رجل يقال له: ابنُ صَلوبا، فصالحه على أهلها، فقبل خالد منه الصُّلح والجِزية، وكتب له كتاب أمان نُسختُه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا كتابُ أمانٍ من خالد بن الوليد سيف الله وسيف رسوله لابن صَلوبا السَّواديّ، ومنزلُه على شاطئ الفرات، إنه آمن بأمان الله تعالى، إذ حقن دمَه بأداء الجزية، وله ذِمَّةُ الله وذمة رسوله والمؤمنين. وأشهد في الكتاب أخاه هشام بنَ الوليد. ثم سار، فنزل الحيرة وبها إياس بنُ قَبيصَة الطائي، وكان كسرى قد ولَّاه إمارةَ العرب بعد النعمان بن المنذر، فلما رأى جيوش خالد خرج إليه في أعيان العرب وأشرافهم، فقال لخالد: ما الذي أَقدمك علينا؟ فقال: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أَجبتُم فأنتم من المسلمين، وإن أَبيتُم فالجزية، فإن أَبيتُم جاهدتُكم برجالٍ هم أحرص على الموت منكم على الحياة، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فقال له إياس: ما لنا بحربك من طاقة، بل نُقيم على ديننا، ونُصالحك على ما نَتَّفق عليه، فصالحه على تسعين ألف درهم كل سنة، وضمَّ خالد تلك إلى ما صالح عليه ابن صَلوبا، وبعث بها إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فكانت أول جزية وقعت بالعراق. ¬

_ (¬1) كذا، والذي في الطبري 3/ 343، والمنتظم 4/ 97: أن يدخل العراق من أسفلها. (¬2) في الطبري 3/ 343: وابدأ بفرج الهند وهي الأبلة، وتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم.

حديث عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة مع خالد بن الوليد

حديث عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حَيّان بن بُقَيْلة مع خالد بن الوليد قال محمَّد بن السائب الكلبي: سار خالد من اليمَامة إلى العراق فنزل النَّباج. قال الجوهري: النِّباجُ: قريةٌ بالبادية، أحياها عبد الله بن عامر فيما بعد (¬1). وكان المثنّى بن حارثة نازلًا بخَفَّان، وكان لمّا قَدِم على أبي بكرٍ قال له: أمِّرني على مَن قِبَلي من قومي أكفِك أهلَ فارس، فأَمَّره، وقد ذكرناه. وكان مُقيمًا بخَفَّان ويُغير على أسفل الفُرات. وقال المدائني: وهو أوّلُ من حارب الفُرسَ في أيام أبي بكرٍ. ولما نزل خالد النَّباج كتب إلى المثنى أن يَقدُم عليه، وبعث إليه بكتاب أبي بكرٍ يأمُره فيه بطاعة خالد. فسار المثنى إليه، وسار خالد والمثنى يَشُنّان الغارة على البلاد، والمثنى على مُقدّمته، فعرض لهما جابان صاحبُ أُلَّيْس، فبعث إليه خالدٌ المثنى، فهزمه وقتل مُعظم أصحابه، وكانت الوقعةُ إلى جانب نهرٍ، فجرى ذلك النهرُ من دماء أصحاب جابان، فسُمّي نهرَ الدم إلى اليوم. ثم إن جابان صالحهم على مالٍ فقبلوه، وأقبلوا نحو الحيرة فلقيتهم خيول زاديه صاحبُ خيل كسرى بمجمع الأنهار، وكانت مَسالح بينه وبين الحجاز، فهزمهم المثنى. ولما رأى ذلك أهلُ الحيرة خرج أشرافُهم للقاء خالد، وفيهم إياسُ بن قبيصة وعبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيّان بن بُقيلة، فجلسوا إلى خالد، فأقبل على عبد المسيح فقال له: من أين أقصى أَثرِك؟ قال: من ظهر أبي، قال: من أين خرجتَ؟ قال: من بطن أمّي، قال: على أيِّ شيءٍ أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففي أيِّ شيءٍ أنت؟ قال: في ثيابي، قال: ابنُ كم أنت؟ قال: ابنُ رجلٍ واحد، قال: ويلك أتَعقِل؟ قال: نعم وأُقيِّد، قال خالد: إنما أسألُك، قال: وأنا أُجيبُك، قال خالد: ما رأيتُ كاليوم، أسأله عن شيءٍ وَينحو في غيره. فقال: ما أنبأتُك إلا عما سألتني، فقال خالد: أعربٌ أنتم أم نَبَط؟ قال: عربٌ استَنْبَطنا, ونَبَطٌ استعربنا، قال: فكم أتى لك؟ قال ¬

_ (¬1) الصحاح (نبج).

خمسون وثلاث مئة سنة. قال: فما أَدْرَكْتَ؟ قال: السُّفن تأتي في هذا البحر - يعني النَّجف - بمتاع السَّند والهند، ورأيتُ المرأة تضعُ على رأسها المِكْتَل، لا تتزوَّد إلَّا رغيفًا واحدًا حتى تأتي الشام، ثم أصبحت الدنيا اليومَ خرابًا. فقال خالد: أسِلْمٌ أنت أم حَربٌ؟ قال: سِلْم. قال: فما هذه الحصونُ التي أرى؟ قال: بنيناها للسَّفيه نحبسُه عنَّا حتى يأتي الحليمُ فينهاه. فقال له خالد: فإني أدعوكم إلى الإِسلام، [فإن أبيتم فالجزية] فإن أبيتُم قاتلتكم برجالٍ يحبُّون الموت كما تُحبُّون شُربَ الخمر، فقال: لا حاجة لنا بقتالكم. فصالحه على تسعين ومئة ألف درهم. وفي رواية ابن الكلبي: فهي أول جزيةٍ حُملت من العراق. قال: ونظر خالد إلى عبد المسيح فرآه يُقلَّبُ شيئًا في يده، فقال له: ما هذا؟ قال: سَمُّ ساعةٍ، قال: وما تَصنع به؟ قال: إن وجدتُ عندك ما يُوافقُني وقومي قبلتُه، وإلا لم أكن بأول مَن ساق إلى قومه ذُلًّا وشرًا، فأشربه فأستريح من الحياة، فقال له خالد: فهاته، فناوله إياه، فقال خالد: بسم الله وبالله رب السماوات والأرضين الذي لا إله إلا هو, لا يضرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ثم أكله فتجلَّلَتْه غَشيةٌ، وضرب بذَقنه على صدره، ثم عَرقَ، وأفاق كأنما أُنشِط من عِقال، فرجع عبد المسيح إلى قومه، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: جئتُكم من عند شيطانٍ أكل سَمَّ ساعةٍ فلم يضرَّه، فصالحوه على ما أراد، فهذا أمره معمول لهم، فصالحوه، وشرط عليهم خالد أن يكونوا عونًا للمسلمين، فدخلوا تحت شرطه، وكان عبدُ المسيح نصرانيًا عاش خمسين وثلاث مئة سنة وقد ذكرناه. وهو الذي بعثه كسرى إلى سطيح بالشام يسألُه عن رؤياه، وقد ذكرناه. وفي روايةٍ عن هشام عن أبيه قال: لما نزل خالدٌ الحيرةَ تَحصّن منه أهلُها، فأرسل إليهم: ابعثوا إليَّ رجلًا من عُقلائكم، فبعثوا عبد المسيح، فلما أتى خالدًا قال له: أنعِم صباحا أيها الملكُ؟ فقال خالد: قد أغنانا الله عن تَحيَّتك، وذكر بمعنى ما تقدَّم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر كتاب الردة للواقدي 227 - 228، وتاريخ الطبري 3/ 344 - 345، وفتوح البلدان 244 - 245، ومروج الذهب 1/ 216 والبيان والتبيين 2/ 147، وأمالي المرتضى 1/ 262، والمنتظم 4/ 98 - 100، وأعمار الأعيان 118 - 120، وفيه فضل تخريج.

فصل في ذكر من عاش ثلاث مئة سنة فما زاد

وذكر ابنُ أبي الدنيا أن بعض أهل الحيرة خرج إلى ظاهرها، فحفر بئرًا قريبًا من ديرٍ خرابٍ فإذا كهيئة البيت، ورأى فيه رجُلًا على سريرٍ من زجاجٍ، وعنْد رأسه مكتوب: أنا عبد المسيح بن عمرو بن بُقيلة، عشتُ ثلاث مئةٍ وخمسين سنةً حاكمًا على الحيرة، ثم جاءني الموتُ فصيَّرني كما ترى، وتحته مكتوب: [من الوافر] حلبْتُ الدهرَ أَشْطُرَهُ حياتي ... ونِلْتُ من المنى فوق المزيدِ وكافَحْتُ الأمورَ وكافحتني ... ولم أَحفلْ بمُعْضلةٍ كَؤودِ وكِدْتُ أنالُ في الشَّرف الثُّريا ... ولكن لا سبيلَ إلى الخُلودِ (¬1) فصلٌ في ذكر من عاش ثلاث مئة سنةٍ فما زاد (¬2) قال الكلبي: عاش قُسُّ بن ساعدة ثلاث مئة وثمانين سنةً. وقد وهم، والصحيح مئةٌ وثمانون سنةً وقد ذكرناه في صدر السيرة. وعاش كعبُ بنُ حُمَمَة الدَّوْسي ثلاث مئة وتسعين سنةً، وعاش الرَّبيع بن ضَبُع الفَزاري ثلاث مئة وثمانين سنةً منها ستون سنةً في الإِسلام، وعاش المُسْتَوْغِر بنُ ربيعة ثلاث مئة وعشرين سنة وقال: [من الكامل] ولقد سئمتُ من الحياة وطُولِها ... وعَمَرْتُ من بعد السنين مِئينا مئةٌ حَدَتْها بعدها مئتان لي ... وازدَدْتُ من بعد الشُّهور سِنينا هل ما بَقى إلّا كما قد فاتني ... يومٌ يَمرُّ وليلةٌ تَحدونا فأما من عاش ثلاث مئةٍ فخلقٌ كثيرٌ، منهم: ذو الإصْبَع العَدْواني واسمه: حُرْثان ابن مُحرِّث بن الحارثِ بن ربيعة، وهو أحدُ حُكَّام العرب في الجاهلية. وروى الهيثم بن عديّ عمر مِسْعَر بن كِدام، حدثنا سعيد (¬3) بن خالد الجَدَلي قال: لمّا قَدِم عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل مُصعب دعا الناس، فأتيناه فقال: مَن ¬

_ (¬1) أمالي المرتضى 1/ 263، والمنتظم 4/ 100. (¬2) هذا الفصل من (ك)، وليس في (خ) و (أ)، والمصنف ينقل من كتاب جده أعمار الأعيان 114 - 123، وانظر فضل تخريج فيه. (¬3) وكذلك هو في أعمار الأعيان 114، وأمالي المرتضى 1/ 249، وصوابه: معبد، انظر جمهرة ابن حزم 244، والأغاني 3/ 91.

كتاب خالد إلى الفرس الذين بالمدائن

القومُ؟ فقلنا: جَدِيلة، فقال: جَدِيلةُ عَدْوان؟ قلنا: نعم، فتمثّل عبد الملك: [من الهزج] عَذيرَ الحيِّ من عَدْوا ... نَ كانوا حيَّةَ الأرضِ ومنهم كانت السَّادا ... تُ والمُوفون بالقَرْضِ ومنهم حَكمٌ يقضي ... فلا يُنْقَضُ ما يَقضي ثم أقبل على رجلٍ كنا قدَّمناه أمامنا، جَسيمٍ وسيمٍ، فقال: لأيّكم هذا الشعرُ؟ فقال: لا أدري، فقلتُ من خَلْفه: لحُرْثان، فقال: لِمَ سُمِّي ذا الإِصبع؟ فقال: لا أدري، فقُلتُ: نَهشتْه حيَّةٌ في إصبعه، فقال: من أيّكم كان؟ فقال: لا أدري، فقلتُ: من ناجٍ. فأقبل على الجَسيم وقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعُ مئة درهم، ثم أقبل عليَّ فقال: كم عطاؤك؟ قلتُ: أربع مئة درهم. فقال: يا أبا الزُّعَيْزِعَة، حُطَّ من عطاء هذا ثلاث مئةٍ، وزِدْها في عطاء هذا، يُشيرُ إليّ. ومنهم عمرو بن حُمَمَة الدَّوسي، وكان حاكما أيضًا على العرب، وهو القائل: [من الطويل] تقول ابنتي لمّا رأتني كأنَّني ... سَليمُ أَفاعٍ ليلُهُ غيرُ مُودَع وما الموتُ أفناني ولكنْ تتابعتْ ... عليَّ سنونٌ من مَصِيفٍ ومَرْبَع فأصبحتُ مثلَ النَّسْرِ طارت فِراخُه ... إذا رامَ تَطيارًا يُقالُ له قَعِ أُخبِّرُ أخبارَ القُرونِ التي مضت ... ولا بُدَّ يومًا أن يُطارَ بمَصْرعي ومنهم ذو جَدَن الحِميريّ، وشريةُ بن عبد الله الجُعْفي بن سعد العشيرة، وأدرك الإِسلام في زمان عمر، وكذا عبيد بن شَرِيَّة الجُرْهمي، وأسلم ووفد على معاوية في آخرين. وقال ابن قتيبة: عاش عَبيد بن الأبرص ثلاث مئة سنة (¬1). كتاب خالد إلى الفرس الذين بالمدائن روى مجالد عن الشعبي أنه وقف عليه، وفيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, من خالد ¬

_ (¬1) أعمار الأعيان 117.

ابن الوليد إلى مَرازِبة أهل فارس، سلامٌ على مَن اتَّبع الهدى، أما بعد، فالحمد لله الذي سَلبكم مُلكَكم، وفضَّ جُموعَكم، ووَهَّن كيدَكم، وإنه مَن صلَّى صلاتَنا، وأكل ذَبيحَتَنا فهو المسلم الذي له ما لنا، وعليه ما علينا، فإذا جاءكم كتابي هذا فابعثوا إلى بالرُّهُن، واعتَقدوا مني عقد الذِّمَّة، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثنَّ إليكم قومًا يُحبون الموتَ كما تُحبون الحياة، والسلام. فلما قرؤوا كتابَه جعلوا يَتعجَّبون (¬1). وقال سيف: لمّا فرغ خالد من اليمامة كتب إليه أبو بكر رضوان الله عليه: إنِ اللهُ فتح عليك فاقصد العراق حتى تلتقي عِياضَ بنَ غَنْم، وهو بين النَّباج والحجاز، وكتب إلى عياض أنْ سِرْ حتى تأتي المُصَيَّخ فابدأ بها، ثم ادخل العراق من أعلاها وعارِقْ حتى تلتقي خالدًا، وأْذَنا لمِن شاء بالرجوع، ولا تَفتح العراق بمُتكاره. واستمدَّ خالد أبا بكر، فأمدَّه بالقعقاع بن عمرو التميمي وحدَه، فقيل: أتمدّه برجلٍ واحد؟ فقال: لا يُهزم جيشٌ فيه مثل القعقاع، وأمدّ عِياضًا بَعَبد بن يَغوث الحِميري، وَكتب إليهما: استَنفِرا مَن ثَبت على الإسلام، ولا يَحضُرنَّ معكم مرتدّ، فلم يشهد تلك الأيام مرتدّ. فقدم خالد الأُبُلّة، وكان أبو بكر قد أمرهم بفَرْج الهند، وكان على موضع البصرة من قبل الفرس، قُطبة بن قتادة السَّدوسي، وعلى الأُبُلّة هرمز في ثمانية عشر ألفًا (¬2) - فكتب خالد إلى هُرمز: أما بعد، فأَسلِم تَسلَم، أو أَقِرَّ بالجزية، وإلا فلا تَلُومَنَّ إلا نفسَك، فقد جئتُك بقومٍ يُحبون الموت كما تحبون الحياة. ولم يَسلك خالد بالجيش جُملة، وإنما فَرّقهم في ثلاث طُرف، فسرَّح المثنى قبله بيومين ودليلُه ظَفَر، وسَرَّح بعده عَديَّ بن حاتم وعاصم بن عمرو، [ودليلاهما مالك بن عباد] وسالم بن نَصْر، أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد ودليله رافع بن عمرو، ووعدهم جميعًا الحَفير ليجتمعوا هناك، ويُصادموا هُرمزًا، وكان فَرْجُ الهند - وهو الأُبُلَّة - أعظمَ بلاد فارس شأنًا، وأشدّه شَوكةً، وكان صاحبُه يُحارب العرب في البَرّ، وأهلَ الهند في البحر. ¬

_ (¬1) كتاب الردة 225، والطبري 3/ 346، والمنتظم 4/ 100 - 101. (¬2) كذا، وانظر تاريخ الطبري 3/ 343 وما بعدها، والمنتظم 4/ 101.

وبعث هُرمز إلى [شيري بن] كسرى يَستمدُّه ويُخبره، ثم تَعجَّل إلى الكواظم في سَرَعان الناس ليَلقى خالدًا على الحَفير، فبادروهم، ونزل به، وتَهيَّأ للقتال، فجعل على مجنبته أخويه قُباذًا وأَنُو شجان - وقيل: إنهما كانا أخوين لأَرْدشير - واقترن القوم في السلاسل، فقال بعضهم: هذا طائرٌ مَشؤوم، قَيَّدتُم نفوسَكم لعدوّكم في السلاسل، فلم يلتفتوا، وقالوا: لعلكم تُريدون الهرب. وكان هرمز سيِّيءَ الجِوار للعرب، وهم له كارهون، وكانوا يَضربون المثَلَ بخُبْثِه فيقولون: أخبث من هرمز، وكان هُرمز قد سبق إلى الماء، فعطش المسلمون، فأرسل الله غَمامة، فشربوا منها. والتقى الفريقان، فقال هُرمز لأصحابه: إذا بارزتُ خالدًا فافتُكوا به، ونادى هرمز: ليَبرز إليَّ خالد، فبرز إليه، فتجاولا، واختلفا ضربَتين، واحتضنه خالد، وحمل أصحاب هُرمز عليه، فما شغله ذلك عنه حتى قتله، فلما قتله انهزمت الفُرس، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، ومنعتْهم السلاسلُ من الهزيمة، فقُتلوا وغَنمهم المسلمون. وقُتل من أهل فارس ثلاثون ألفًا سوى مَن غَرق، وقسم خالد الغنائم، وبعث بالأخماس إلى أبي بكر مع سعيد بن النعمان، وبعث بالسّلاسل أيضًا، فكانت وِقْرَ ألفِ بعير، على كلِّ بعير ألفُ رطل بالعراقي، فسُمّيت غزاة ذات السلاسل. وكان فيما بعث خالد إلى أبي بكر رضوان الله عليه قَلنسوة هرمز، وهي مُرَصَّعة بالجَوْهر، وقيمتُها مئةُ ألف درهم - وكان أحدهم إذا تم شَرفه جعل قلنسوتَه كذلك - وبعث معها بفيلٍ، فكان يُطاف به في المدينة، ويَتعجَّبُ منه الناس، ثم إن أبا بكر - رضي الله عنه - أعاد القلنسوة إلى خالد، نَفَّله إياها، وكان يَلبَسها في الحرب. ثم سار خالد فنزل الجسر الأعظم بالبصرة، وسار المثنّى في آثار القوم، وأرسل معقل بن مُقَرِّن إلى الأُبُلّة فجمع الأموال والسبايا. وقال الطبري: كانت وقعة الأُبُلَّة في سنة أربع عشرة على يد عتبة بن غزوان في أيام عمر - رضي الله عنه - (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 3/ 350.

قصة الحيرة

ولم يُزعج خالد أهلَ العراق لوصيّة أبي بكر، وإنما كان يَسبي أولادَ المقاتلة، وسار المثنى بن حارثة حتى انتهى إلى النهر المعروف بنهر المرأة، وعليه حصن فيه امرأة، فحاصره، وفتحه، وتزوَّج المرأة. قصة الحيرة كان بها مرزبان يقال له: آزاذبه، وقد بلغ نصف الشَّرَف، وقيمةُ قَلَنْسوته خمسون ألفًا، فلما أخرب خالد أَمْغِيشيا علم أنه غيرُ مَتروك، فتهيّأ للحرب، وقَدَّم ابنَه، ثم خرج في أثره، فعسكر خارجًا من الحيرة، وتُسمّى الحيرة فُرات بادَقْلَى وأمر ابنَه بسدّ الفرات، وأقام ابنُ آزاذبه على جانب الفرات، [ولما استقل خالد من أمغيشيا، وحمل الرجال في السفن مع الأنفال والأثقال، لم يفجأ خالد إلا والسفن جوانح، فارتاعوا لذلك، فقال الملّاحون: إن أهل فارس فجّروا الأنهار، فسلك الماء غير طريقه، فلا يأتينا الماء إلا بسدّ الأنهار، فتعجّل خالد في خيل نحو ابن آزاذبه، فتلقاه وجنده على فم فرات بادَقْلَى، فاقتتلوا فأنامهم، وفجّر الفرات] وسدّ الأنهار (¬1)، فعاد الماء إلى مجراه فجرت السفن، وبلغ آزاذبه مُصابَ ابنه، فقطع الفرات إلى المدائن. وجاء خالد فنزل الخَوَرْنق والسَّدير والنَّجف، وحاصر قُصور الحِيرة، ودفع كلَّ قصر إلى قائدٍ من قُوَّاده، فحاصر ضرار بن الأزور القصر الأبيض، وفيه إياس بن قَبيصة الطائي - وقد ذكرنا وفاة ضرار بن الأزور فيما تقدَّم، فإن صحّت هذه الرواية فقد تأخَّرت وفاتُه - وحاصر ضرار بن الخطاب قصرَ الفرس (¬2)، وفيه عَديّ بن عَديّ، وحاصر المثنّى بن حارثة قصر ابن بُقَيْلة [وفيه] عبد المسيح، [فدعوهم جميعًا] , وأَجَّلُوهم يومًا، فأبى [أهلُ] الحيرة، فناوشهم المسلمون. فكان أوَّل القُوَّاد أنشب القتال ضرار بن الأزور، وصَبَّح كلُّ أميرٍ ثَغْرَه، فأكثروا فيهم القتل، فصاحوا: كُفُّوا عنا، وأوّلُ من طلب الصلح عبد المسيح بن بقيلة (¬3)، ونزل أشرافُهم إلى خالد، فخيَّرهم بين الدُّخول في الإِسلام، وبين [الجزية، وبين] ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ الطبري 3/ 359. (¬2) وكذا جاء في المنتظم 4/ 104، وفي الطبري 3/ 360: العدسيّين. (¬3) في الطبري 3/ 361، والمنتظم 4/ 104: عمرو بن عبد المسيح، وقد سلف لعبد المسيح ذكر، وسؤال خالد له.

قصة سويد بن مقرن مع كرامة بنت عبد المسيح

المناجزة، فاختاروا الصُّلح، وأَدَّوا الجِزية، وصالحوه كلَّ سنة على مئة ألف وَتسعين ألف درهم، وأهْدَوا له هدايا، فبعث بالهدايا والفتح إلى أبي بكر رضوان الله عليه فقبلها، وكتب إلى خالد: احسب لهم هداياهم من الجزية. وكان هذا الفتح في ربيع الأوّل [من هذه] السنة، ثم إنهم كفروا بعد موت أبي بكر رضوان الله عليه، ومنعوا ما كانوا يُؤَدُّونه، فحاربهم المثنى فأذعنوا، ثم كفروا، فقاتلهم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وأجلاهم، لما نذكر. قصة سُويد بن مُقَرْن (¬1) مع كَرامة بنت عبد المسيح ولما فتح خالد الحيرة قام شُوَيل وقال: يا خالد، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَذكر فتح الحيرة ويقول: "كأن [شُرَفَ] قصورها أضراسُ الكلاب" (¬2)، وكانت قد وُصفت له كَرامة، فسألته إياها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فُتحت عَنوة فهي لك", فقال خالد: مَن يشهد لك؟ فقام جماعة، فشهدوا له، فلما حاصر خالد القصر الذي هي فيه، أرسل أبوها عبد المسيح يسألُه الصُّلْح عليها، فأبى خالد، وقال: لا بد منها، فقال أبوها: إنكم لم تفتحوا القصر عَنوة، وتوقّف الحال، فقالت كرامة: ادفعوني إليه، ما تخافون عليّ وأنا عجوز قد بلغتُ ثمانين سنة، وسأفدي نفسي، وهذا رجلٌ أحمق، رآني في حال شبيبتي، فظنّ أن الشباب يدوم ففعل هذا، فدفعوها إليه، فخدعتْه وقالت: ما أَرَبُك إلى عجوزٍ كما ترى، فاشترت نفسها منه بألف درهم، وكان يظنُّها شابَّة، فقال: ما أرى إلا عجوزًا، فدفعتها إليه وأطلقها، فقال له خالد: ويحك ما صَنعتَ؟ لو طلبتَ فيها أُلوفًا لأخذتَ، فقال: ما كنتُ أظنُ عددًا يزيدُ على أكثر من ألف درهم، فقال خالد: أردتَ أمرًا وأراد الله غيره. واستقام لخالد ما بين الفَلاليج إلى أسفل السَّواد، وقال هشام: استقام له من الكوفة إلى دجلة التي عليها المدائن. ¬

_ (¬1) كذا، وفي تاريخ الطبري 3/ 364 و 365، والمنتظم 4/ 104، والاكتفاء 4/ 92 و 93، والكامل 2/ 391، والبداية والنهاية 9/ 523: (هجر): شويل رجل من الصحابة. وهو الصواب. (¬2) في النسخ: أبيات للكلاب، والمثبت من الطبري 3/ 366.

قصة الأنبار

وكان المسلمون يَمخرون من أرض العرب إلى دجلة، وليس للفُرس حكمٌ ما بين دجلة والفرات، وخيلُ خالد ما بين الحيرة والأُبُلّة، فأقام على ذلك سنة، وسبُبه موت أردشير بن بابك (¬1)، فإنه توفي في هذه السنة، واختل ملك الفرس فلما علم خالد باختلافهم كتب كتابَيْن إلى خواصّ الفرس، وكتابًا إلى العامّة، فأما كتاب الخاصة ففيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس، الحمد لله الذي حَلَّ نِظامَكم، ووَهَّن كيدَكم، فادخلوا في أمرنا نَدعْكم وأرضَكم، ونَجُوز إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون. وفي الكتاب الآخر: أَسْلِموا تَسلموا، وإلا فأَدُّوا الجِزية. وتهدَّدهم فيه بمعنى ما تقدَّم من كُتبه، ودعا رجلين من السواد، فقال لأحدهما: ما اسمُك؟ فقال: مُرَّة، فقال: خذ هذا الكتاب، وادفعه إلى مَن كُتب إليه، ولعلَّ الله أن يُمِرّ عليهم عيشَهم، وقال للآخر: ما اسمُك؟ قال: هِزْقيل، فقال: اللهمَّ أزهِقْ نفوسَهم، وبعثهما بالكتابَيْن، فلما أَوصلاهما وَجدا القوم مختلفي الكلمة، يَخلعون ويُمَلّكون. قصة الأنبار وسار خالد إلى الأنبار، فتَحصَّن أهلُها منه، وبعث على مُقدّمته الأقرع بن حابس، وكان بها مَرزبان يقال له: شيرازاد من عظماء الفرس، فصَعِد المرزبان والفرس على السور، وجاء خالد فأحدق بالبلد، وقال للرُّماة: ارشقوهم، واقصدوا عيونهم، فرشَقوهم بالنَّبْل، ففقؤوا عشرة آلاف عين في ساعة، وقيل: ألفُ عين، فسُمَّيت تلك الوقعة ذات العيون، فأرسل المرزبان إلى خالد يَسأله الصُّلحَ على شيء لم يَرضَه خالد، فلم يُجبه، وقال للعسكر: أَلقُوا ما معكم من رَوَايا الإبل في الخندق في أضيق مكان، ففعلوا، فاقتحم خالد الخندق، فبعث إليه المرزبان يسأله الصُّلح، على أن يُلحِقه بمَأْمَنْه وليس معه شيء، فأجابه. ودخل البلد فوجد فيه أَنابيرَ الطعام من الحنطة والشعير والعنب والتين، وكان ¬

_ (¬1) يعني سبب اختلال ملك الفرس في هذه الأماكن.

ذكر موضع بغداد اليوم

كسرى يَرزق أصحابَه منه، فلذلك سُمَّي الأنبار، ووجد خالد في الأنبار قومًا يكتبون بالعربية وهم من العرب، فقال: من أنتم؟ فقالوا: من إياد نزلنا ههنا في أيام بختنصَّر (¬1). ولما سار خالد عن الأنبار استخلف فيها الزّبرقان بن بدر، وكاتب خالد مَن حول الأنبار؛ مثل أهل كَلْواذى والبَوازيج، فصالحهم، وكانوا عيونًا له من وراء دجلة، يُطالعونه بالأخبار، قال هشام: فلما فَصل خالد عن العراق نقض أهلُ الأنبار الصُّلح، وكذا مَن حولهم. ذكر موضع بغداد اليوم كان سوقًا لقُضاعة، فبعث خالد المثنّى، فأغار عليهم، وجمع ما كان فيه، وعاد إلى خالد، وقيل: إن هذه الوَقْعة والغارة كانت بعد انفصال خالد عن العراق في سنة ثلاث عشرة، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. قصة عين التَّمْر ولما فرغ خالد من الأنبار سار إلى عين التَّمْر، وبها جَمعٌ عظيم من الفرس والعرب، وعلى الفرس مِهران بن بَهرام، وعلى العرب عقَّة بن أبي عقّة، فقال عقّة لمهران: نحن أعرف بقتال بعضنا لبعض فدعني وخالدًا، فكلَّمت الفرسُ مهران في ذلك، فقال: إن كانت الغلبةُ لعقَّة فهو فتحٌ لكم، وإن كانت عليه وصلوا إليكم وقد ضَعُفوا، وقد نَهَكَتْهم الحرب، فتَظهروا عليهم. وخرج عقّة إلى خالد، فالتقوا دون عين التّمر، واقتتلوا، فحمل خالد على عقّة، فأسره وقتل أصحابه، وانهزم الباقون، وبلغ مهران فهرب من الحصن، ونزل فيه مَن انهزم من أصحاب عقّة، وسبق جماعةً من الحصن، ووجد في بِيعة الحصن أربعين غُلامًا يتعلّمون الإنجيل، ففرّقهم في المسلمين، وكان فيهم سيرين أبو محمَّد بن سيرين، وحُمران مولى عثمان بن عفان، وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، ¬

_ (¬1) في الطبري 3/ 375: فسألهم ما أنتم؟ فقالوا قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب، فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر، فقال: ممن تعلمتم الكتاب؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد.

قصة دومة الجندل

وأبو زياد مولى ثَقيف، ونُصَير أبو موسى بن نُصَير، وابن أخت النَّمِر، ويَسار مولى قَيْس بن مَخْرمة وغيرهم، واستُشهد جماعة من المسلمين في عين التَّمْر نذكر أعيانَهم في آخر السَّنة. قصة دُومَة الجَنْدَل ولما فرغ خالد من عين التَّمر استخلف عليها عُويمر بن الكاهن الأَسلمي، وسار إلى دومة الجندل، وكان عليها رئيسان: أكَيْدر بن عبد الملك والجُوديّ بن ربيعة، فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد، لا يرى أحدٌ وجهَه إلا انهزم، فصالِحوه، فأبى الجُوديُّ عليه، فقال: لا حاجةَ لي بقتال خالد، وخرج أكيدر من الحصن، فوقع عليه جندُ خالد فقتلوه، واستنفر الجُوديُّ قبائلَ العرب بَهراء وكَلْب وغسّان وتنوخ والضَّجاعم وأحلافهم، والتقوا، وخرج الجوديُّ من الحصن، فاقتتلوا قتالاً عظيمًا، وأُسِر الجُوديُّ فقُتل، وفُتح الحصن، وسبق خالد ابنةَ الجوديِّ، وكانت موصوفةً بالجمال، وقيل: إنها أُسرت فاشتراها خالد، وأقام بدومَة أيامًا. قصة الحُصَيد ولما فتح خالد دومة الجندل تحرَّكت الفُرس عليه، وكاتبهم عربُ الجزيرة، غضبًا لمَن قُتل من أصحاب عقّة وفرسانهم، فرجع خالد إلى الحيرة، وبعث الأقرع بن حابس إلى الأنبار، والقَعقاع بن عمرو إلى مكان يقال له: الحُصيد، وبعث عُروة بن الجَعْد البارقي إلى الخنافس، وفي رواية أن الفرس جَهَّزوا رُوزبة وزَرْمهْر من المدائن يقصدان عين التمر، وكان خالد قد نزل قريبًا من الحيرة، وكان خليفتَه على الجزيرة القعقاع بنُ عمرو، وأنه هو الذي رتّب هذا الترتيب، وسار القعقاع بجيوشه، فالتقى رُوزبه وزرمهر، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقتل رُوزبه وزرمهر، وانهزمت الفرس، ولم يَشهد خالد أوَّلَ الوَقْعة وأدرك آخرها، وبعث بالغنائم والسبايا إلى المدينة، فاشترى علي بن أبي طالب ابنة ربيعة بن بُجير، فولدت له عُمر ورُقيّة.

قصة الفراض

قصة الفِراض وهو حصن بين العراق والشام والجزيرة، فيه فُرسان وسلاحٌ كثير، وهو مجاور للروم، وعزم خالد على قَصْده، وبلغ الروم فغضبوا، واستعانوا بمَن يليهم من مسالح (¬1) أهل فارس والعرب: تَغْلب وإياد والنَّمِر وغيرهم، واستخلف خالد على الحيرة عياض بن غنم، وسار إليهم في جيوشهم، والتَقَوا والفرات بينهم، خالد من المغرب، وهم من المشرق، فراسلوه وقالوا: إما أن تَعبُر إلينا، أو نَعبر إليك، فقال: بل أنتم فاعبروا، فقالوا: تنحَّ من مكانك حتى نَعبر، فقال: لا نفعل، ولكن اعبُروا أسفلَ منا، فعبروا وكانت بينهم وقعة عظيمة، قُتل منهم مئةُ ألف، وأُسِرَ مَن بقي، وغنم المسلمون أموالهم، وذلك أول ذي القعدة، وقيل: في نصفه. ذكر حجة خالد قال سيف: لما فرغ خالد من الفِراض أظهر أنه قاصدٌ الحيرة، وكتم حَجَّه عن الناس، ثم استخلف على الجزيرة المثنّى بن حارثة، وأخذ معه عِدَّةً من أصحابه، وسار يَعتسف الفيافي والمفاوز بالسَّمْت، فتأتَّى له ما لم يَتأتَّ لغيره من الأَدِلّاء، وصار ذلك طريقًا من الحيرة إلى مكة وإلى هلمَّ جَرّا، وهي الجادَّةُ المعروفة لأهل العراق، وكان خروجُه إلى ذات عِرْق ثم إلى عرفات، فحجَّ مع الناس ونَسك المناسك، وعاد إلى العراق في الطريق الذي جاء فيه. وبلغ ذلك أبا بكر رضوان الله عليه، فشق عليه لكونه لم يستأذِنْه في ذلك، فعاتبه بأنْ كتب إليه، فصرفه من العراق إلى الشام، وهذا يدلُّ على أن أبا بكر لم يحجَّ في هذه السنة, لأنه لو حجَّ لاجتمعا, ولم يحتجْ إلى مكاتبته، ولم يُنقل ذلك، فكتب أبو بكر إلى خالد: من عبد الله بن عثمان خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، أما بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فسِرْ بمَن معك من المسلمين إلى اليرموك، وإياك أن تَعودَ إلى ¬

_ (¬1) في (خ) و (أ) والمنتظم 4/ 110: مشايخ، والمثبت من الطبري 3/ 383، والكامل 3/ 399، والمسالح: القوم المسلَّحون في الثغور.

ذكر انفصال خالد عن العراق إلى الشام

ما فعلتَ، ولا يَدخُلنَّك عُجبٌ فتَخسر، وتمِّم أبا سليمان النيَّة والحُظْوة، يُتمّم الله لك (¬1)، وإياك أن تُدِلَّ بعملك، فإن المنَّ لله، وهو وليُّ الجزاء والسلام. ولما قرأ خالد كتابَه قال: هذا من عمل الأُعَيسِر، حَسَدني أن يكون فتحُ العراق على يدي. قال ابنُ إسحاق: كتب أبو بكر رضوان الله عليه وهو بالعراق: أما بعد، فدَع العراق، وخَلِّف فيه أهلَه الذين قدمتَ عليهم وهم فيه، ثم امضِ متخفِّفًا في أهل القوَّة من أصحابنا، الذين قدموا معك من أهل الحجاز، حتى تأتي الشام، فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين، فإذا لَقيتَهم فأنت أميرُ الجماعة، والسلام. ذكر انفصال خالد عن العراق إلى الشام لما انفصل خالد عن العراق استخلف المثنى بن حارثة على مَن تخلَّف من المهاجرين، ومَن بقي معه من الصحابة والتابعين، فانحاز بهم نحو البرّيّة مما يلي الأنهار، مخافة عليهم من الفُرس حتى يأتيهم المدد، وأخذ خالد على السَّماوة حتى انتهى إلى قُراقر، وبينها وبين سُوَى خمس ليال، فلم يعرف الطريق، فدُلَّ على رافع بن عمرو، وكان هاديًا خِرّيتًا، فقال: ما عندك يا رافع؟ فقال: هذه مَفاوز موحشة، ومَهامِه مُقفرة، ما سلكها إلا مغرور، ومعكم أَثقال، فمن استطاع منكم أن يُصيِّر أُذنَ راحلته على ماء فليفعل، ثم قال: ابغِني عشرين جَزورًا عظامًا سمانًا، فأتاه بها، فظمَّأهُنّ حتى أَجْهَدَهُنَّ عطشًا، ثم سقاهنّ من الماء حتى روين، ثم قطع مَشافرَهُنَّ لئلا يَجتَررْن، وكَعَمَهُنَّ (¬2) لئلا يَفسُدَ الماء في أجوافهنَّ بالجرة، ولئلا يخرج، ثم قال لخالد: سِرْ. فسار، فكلما نزلوا منزلًا نحو من تلك الجزائر أربعًا، وسقى ما في بطونهنّ الخيل، وشرب الناس مما تزوَّدوا من الماء، فلما كان اليوم الخامس وقد نُحرت الجَزور كلها قال له خالد: ما ترى؟ وكان رافع قد رَمِدَ، فقال: انظروا هل تَرون شجرَ عَوسَج؟ فنظروا، فقالوا: لا، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هلكتَ يا خالد وأهلكْتَ، ثم وقف وقال: انظروا جيدًا، فنظروا، فلاح لهم شجرُ العَوْسَج على بُعد، فأخبروه، فقال: الله أكبر، أدركتُم الرِّواء، فلما وصلوا إلى شجر العَوْسج وجدوا عندها عينًا عذبة، فشربوا وسقوا، ¬

_ (¬1) في الطبري 3/ 385: فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتم الله لك. (¬2) كَعَم البعيرَ: إذا شدَّ فاه لئلَّا يعض أو يأكل. اللسان (كعم).

فقال رافع: والله ما سلكتُ هذا المكان إلا مرةً واحدةً مع أبي وأنا غلامٌ صغير، فقال أبو أحيحة القرشي من أصحاب خالد: [من الرجز]: لله دَرُّ رافع أنَّى اهتدى فَوَّز من قُراقرٍ إلى سُوى خِمسًا إذا ما سارها الجيشُ بَكى ما سارها قبلَك إنسيٌّ يُرى والعينُ عينٌ قد تَغشَّاها القذى فهو يَرى بقلبه ما لا يرى قلبٌ حَفيظٌ وفُؤادٌ قد وَعى والسَّيرُ زَعْزَاعٌ فما فيه وَنَى هذا لعَمْري رافعٌ هو الهُدى عند الصباح يَحمَدُ القومُ السُّرى (¬1) ورافع هذا من طيئ، ويقال له: رافع الخير، وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، غزا مع عمرو بن العاص غزاة ذات السَّلاسل، وصحب أبا بكر فيها، وروى عنه ولم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال ابن عساكر كُنيتُه أبو الحسن السَّنبِسي، وله صحبة، وروى عنه طارق بن شهاب، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا، وأمَّر عليهم عمرو بنَ العاص، وفيهم أبو بكر وعمر، فقال: دُلُّونا على رجلٍ يَختصر الأرض، [ويأخذ] غير الطريق، فدُلَّ عليَّ، فكنتُ دليلَهم في تلك الغزاة، ورافقتُ فيها أبا بكر، فكان يُنيمُني على فراشه، ويُلبِسني كساءً له من أكسية فَدَك، قال: وتُوفّي في أيام عمر بن الخطاب. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 1/ 232 (مخطوط)، وانظر تاريخ الطبري 3/ 415 - 416، والفتوح 1/ 132 - 138، وفتوح البلدان 118، والمنتظم 4/ 109 - 110، ومجمع الأمثال 2/ 3، وطبقات ابن سعد 6/ 68. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 67 - 68.

وقال الدارقطني: هو الذي قطع ما بين الكوفة ودمشق في خمس ليال (¬1). واستقامت لخالد الطريق، وتواصلت به المياه حتى نزل مَرْج عَذراء وبه ناس من غسان، فأصاب منهم، ومضى حتى نزل على قناة بُصرى وبها أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة والأمراء، فصالحهم أهلُ بُصرى على الجزية، فكانت أول جزية وقعت بالشام في أيام أبي بكر رضوان الله عليه، ولما وصل خالد إليهم صار أميرًا عليهم. وقال هشام: لما خرج خالد من البرّية، ووصل إلى أطراف الشام قال: مَن يأخذ بنا إلى اليرموك من وراء الروم؟ فأخرجوه قِبلي القريتين، فمرَّ بالغوطة وبها غسَّان، وعليهم الحارث بن الأَيهم الغساني، فانتَسف خالد عسكرهم وعيالهم، ثم نازل بُصرى فافتتحها، وهي أول مدينة فُتحت بالشام. وقال الهيثم: لما وصل خالد إلى سُوى شنَّ الغارات، وكان عليه بَهراء، وهم أهلُ ذلك الماء، فأغار عليهم قُبيل الصبح، وناس منهم يَشربون الخمر، فقيل: الغارة، فقال واحد منهم: تَمِّموا فلعلكم لا تشربونها بعد اليوم، وكان عندهم مُغنًّ وهو يقول: [من الطويل] ألا عَلِّلاني قبل جيشِ أبي بكر ... لعلّ منايانا قريبٌ وما ندري ألا عَلِّلاني بالزُّجاج وكَرِّرا ... عليَّ كُمَيتَ اللونِ صافيةً تَجري ألا فاسقياني من سُلافةِ قهوةٍ ... تُسَلِّي همومَ النفسِ من جَيِّد الخمر وسمعه خالد، فهجم عليه، فضرب رأسه، فأبانه ووقع في الجَفنة (¬2). وفي هذه السنة تزوَّج عمر بن الخطاب عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل بعد وفاة عبد الله بن أبي بكر الصديق، وكانت تحت عبد الله، وقد ذكرناها في ترجمته. وفيها اشترى عمرُ أسلمَ مولاه. وفيها تزوَّج عليٌّ أمامةَ بنت أبي العاص، وأمُّها زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخت فاطمة عليها السلام. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 183 - 187 (مخطوط). (¬2) انظر تاريخ الطبري 3/ 416 - 417.

وفيها جمع أبو بكر القرآن، قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، عن ابن السَّبَّاق، عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليَّ أبو بكر مَقْتَلَ أهلِ اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب جالسٌ عنده فقال: أَخبَرني عمر أنَّ القتلَ قد استَحَرَّ يومَ اليمامة بقُرَّاء القرآن، وأخشى أن يَستَحِرَّ القتلُ بهم في كل مَوطن، فيَذهبَ كثيرٌ من القرآن، وإني أرى أن تَجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلتُ لعمر: كيف أفعلُ شيئًا لم يفعلْه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل يُراجِعُني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدرَ عمر. ثم قال أبو بكر: يا زيد، إنك رجلٌ شابٌّ عاقلٌ لا نَتَّهمُك، وقد كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتَتبَّع القرآن فاجْمعه، قال زيد: فوالله لو كلَّفني نَقْلَ جبلٍ من الجبال ما كان أثقلَ عليَّ مما أمرني به، فقلتُ: كيف تفعلان شيئًا لم يفعلْه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أبو بكر: هو والله خيرٌ، فلم يزل يُراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -. فتتبَّعتُ القرآن، فجمعتُه من الرِّقاع والعُسُب والأكتاف وصدور الرجال، حتى وجدتُ من سورة التوبة آيتين مع خُزيمة بن ثابت لم أجدهما مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخرهما. فكانت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفّاه الله، ثم عند عمر حتى تَوفَّاه الله، ثم عند حَفصة بنت عمر. انفرد بإخراجه البخاري (¬1)، ثم إن عثمان رضوان الله عليه جمع القرآن مرةً ثانية. وفيها اعتمر أبو بكر في رجب، دخل مكةَ ضَحوة، فأتى منزلَه، وأبو قحافة جالس على باب داره، ومعه فِتيانٌ يُحدّثهم، فقيل له: هذا ابنُك، فنهض قائمًا، وعجل أبو بكر أن يُنيخ راحلته، فنزل عنها وهي قائمة، فجعل يقول: يا أبة لا تَقُم، ثم لاقاه فالتزمه، وقبَّلَ بين عيني أبي قحافة، وجعل الشيخ يبكي فرحًا بقُدومه. وجاء إلى مكة عَتَّاب بن أسيد، وسُهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4679).

والحارث بن هشام، فسلّموا عليه: سلامٌ عليك يا خليفة رسول الله، وصافحوه جميعًا، وأبو بكر يَبكي كلما ذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسلَّموا على أبي قُحافة، فقال أبو قحافة: يا عَتيق، هؤلاء الملأ من قريش فأَحسنْ صُحبتهم، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا أبه، لا حول ولا قوة إلا بالله، طُوِّقتُ عظيمًا من الأمر، لا قوة لي به ولا يدان إلا بالله تعالى (¬1)، ثم دخل إلى البيت، فاضطبع بردائه، ثم استلم الرّكن، ثم طاف سبعًا وركع ركعتين، ثم انصرف إلى منزله، فلما كانت الظهر خرج فطاف أيضًا بالبيت، ثم جلس قريبًا من دار الندوة وقال: هل من أحد يَتشكَّى من ظُلامة، أو يَطلبُ حقًا، فما أتاه أحد، وأثنى الناس على واليهم خيرًا، ثم صلّى العصر وودَّعه الناس، ثم خرج راجعًا إلى المدينة (¬2). وعزى أبو بكر سهيل بنَ عمرو في ولده عبد الله بن سهيل، وكان قد استُشهد باليمامة، فبكى سهيل وقال: لقد بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يشفع الشهيد في سبعين من أهله", وأنا أرجو ألا يَبدأ ابني بأحدٍ قبلي (¬3). وشكا إلى أبي بكر بعضُ أهل مكة [أبا] سفيان بن حرب، فأحضره، وجعل يَصيح عليه وينتهره، وأبو سفيان يَذلُّ له، فقال له أبو قحافة: يا عَتيق، أعلى أبي سفيان تَصيح، لقد تعدَّيتَ قدْرَك، وجاوزْتَ (¬4) طَوْرَكَ، فقال له: يا أبتِ، إن الله هدم بالإِسلام بيوتًا منها بيتُه، وعَمر به بيوتًا منها بيتُك، وفي رواية: إن الله أعزَّ بالإِسلام قومًا وأذل به آخرين (¬5). واختلفوا فيمن حج بالناس، فقال ابن سعد: حج أبو بكر بالناس تلك السنة، وأَفرد الحج، واستَخلف على المدينة عثمان بن عفان (¬6). وقال الهيثم: حجّ بهم عمر بن الخطاب، وقيل: عبد الرحمن بن عوف. ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 111. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 187، وأنساب الأشراف 5/ 142 - 143، وتاريخ دمشق 35 - 36/ 435 - 436. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 406، وأخرج الحديث أبو داود (2522)، وابن حبان (4660)، والبيهقي 9/ 164 من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -. (¬4) في (أ) و (خ): وجمرت؟ ! (¬5) انظر مروج الذهب 4/ 179 - 180. (¬6) طبقات ابن سعد 3/ 178.

بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري

وقال ابن إسحاق: لم يحجّ في خلافته؛ لأنه كان مشغولًا بتجهيز الجيوش إلى العراق والشام، وإنما اعتمر في رجب (¬1). وفيها توفي أردشير بن شيرويه، واختلف أهلُ مملكته يُولّون ويَعزلون، ويَخلعون ويُملّكون، وكان ذلك من سعادة الإِسلام والمسلمين. وكان شيرويه قد أفنى أولاد الملوك ومن كان يُناسبه إلى كسرى بن قباذ فلم يبق للفرس مَن يجتمعون إليه، فتحيّروا في أمرهم، ولم يبق لهم إلا الدَّفع عن المدائن، فولَّوا ابن أردشير، واسمه قباذ، وكان عمره سبع سنين، فأقام خمسة أشهر (¬2). وكان شهريار بن أبرويز مقيمًا بأنطاكية، قد جهزه أبوه شهريار إلى المدائن، وكان أخوه شيرويه قد قتل أباه أبرويز على ما تقدم، فلما وصل إلى المدائن ملكها، وقتل قباذ ابن أردشير وظلم وطغى وبغى، وفضح النساء، وهتك الحريم، فوثبوا عليه فقتلوه، وكان مُلكه عشرين يومًا. بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري وكنيته أبو النعمان، من الطبقة الأولى من الخزرج، شهد العقبة مع السبعين، وبدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمُّه أنيسة بنت خليفة من ولد امرئ القيس، وهو والد النعمان بن بشير، وكان يكتب بالعربية في الجاهلية، واستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السلاح في عُمرة القضيّة سنة سبع، وهو الذي كسر الأمر على سعد ابن عبادة يوم السقيفة، وبايع أبا بكر أول الناس (¬3). قال عمر بن الخطاب يومًا في مجلس فيه المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو تَرخَّصت في شيءٍ ما كنتم تصنعون؟ فقال بشير: لو فعلتَ قَوَّمناك تقويمَ القِداح (¬4). وكان بشير زوج أخت عبد الله بن رواحة، وله منها ابنة يقال لها عمرة (¬5)، واستشهد ¬

_ (¬1) انظر الطبقات الكبرى, وتاريخ الطبري 3/ 386. (¬2) انظر المنتظم 4/ 106. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 531، والاستيعاب (186)، والمنتظم 4/ 112. (¬4) تاريخ دمشق 3/ 372 (مخطوط). (¬5) كذا وهو خطأ، صوابه ما في طبقات ابن سعد 3/ 531، وجمهرة ابن حزم 364، وتاريخ دمشق 3/ 369 من أن ابنته اسمها: أُبيَّة، وأمها عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة.

عمير بن رئاب بن حذافة السهمي

بشير يوم عين التَّمر، وأسند الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه ابنه النعمان وغيرُه. عمير بن رئاب بن حُذافة السَّهمي وأمُّه أم وائل بنت معمر بن حبيب. وعمير من الطبقة الثانية من المهاجرين، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وقُتل بعين التمر شهيدًا، ولا عقب له، ولا رواية (¬1). كنّاز (¬2) بن الحُصين بن يربوع أبو مَرْثَد الغَنَوي، حليفُ حمزة بن عبد المطلب، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخى بينه وبين عبادة بن الصامت، وله صُحبة ورواية, وتوفي بالمدينة وهو ابن ستًّ وستين سنة، وولَدُه مَرْثَد بن أبي مرثد، شهد بدرًا على فَرسٍ يقال له: السَّبل، وشهد أحدًا، وقتل يوم الرَّجيع [شهيدًا، وكان أميرًا في هذه السرية، وذلك في صفر] على رأس ستة وثلاثين شهرًا من مُهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة (¬3). أبو العاص بن الربيع ابن عبد العُزَّى بن عبد شمس بن عبد مناف، واسمه مُهَشِّم، وأمُّه هالة بنت خويلد، أخت خديجة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزوَّجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنتَه في الجاهلية، فولدت له عليًّا وأُمامة. فأما علي فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح مكةَ وهو رديفُه، ومات صغيرًا قد ناهز الحُلُم. وأما أُمامة فتزوَّجها علي - رضي الله عنه -. وأبو العاص من الطبقة الثالثة من المهاجرين، أسلم بين الخندق وفتح مكة، وكان ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 197، والاستيعاب (1716). (¬2) في (أ) و (خ): حماد، وهو خطأ، صوابه من الطبقات الكبرى 3/ 47، والاستيعاب (2220)، والمنتظم 4/ 113. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 48 وما بين معكوفين منه، والاستيعاب (2394).

يقال له: جَرْو البطحاء, لأنه كان وَسيطًا في نسبه، وكان من رجال قريش المعدودين، ويقال له: الأمين، وكان صاحبَ مالٍ ومروءة وأمانة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَشكره ويُثني عليه، وقال: ما ذَمَمْنا صهر أبي العاص. وقال مَعروف المكي: خرج أبو العاص بن الربيع في بعض أسفاره إلى الشام في الجاهلية، فاشتاق إلى زينب - رضي الله عنها - فقال: [من البسيط]: ذكرتُ زينبَ لما ورَّكت إرما ... فقلتُ سَقيًا لشخص يَسكن الحَرَما بنت الأمين جزاها الله صالحةً ... وكلُّ بعلٍ سيثني بالذي علما وإرم: هي دمشق. وكان أبو العاص مصافيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يُكثر غِشيانه في منزل أمّه هالة. أسلم قبل الحديبية بخمسة أشهر، ولما أسلم رجع إلى مكة ولم يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشهدًا، وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة، وقيل سنة ثلاث عشرة. وقال ابن منده: قتل يوم اليمامة، ولم يتابعه على ذلك أحد، وليس له عقب إلا من قبل ابنة له، وأخوه عمرو بن الربيع من مسلمة الفتح (¬1). * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 31 - 32، والاستيعاب (3042)، والمنتظم 4/ 113، وتاريخ دمشق 19/ 109 - 120، والتبيين 223.

السنة الثالثة عشرة

السنة الثالثة عشرة وفيها جهّز أبو بكر رضوان الله عليه الجيوش إلى الشام، وقال الواقدي: بعد مُنصرفه من حجّه إلى المدينة، وعقد الألوية؛ فأولُ لواءٍ عَقَده لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم لواء عمرو بن العاص، ثم لواء يزيد بن أبي سفيان، ثم لواء أبي عبيدة بن الجراح، ثم لواء شُرحبيل بن حَسَنة، ثم لواء الوليد بن عقبة. وقَدَّم على الجميع خالد ابن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسيروا، وولّى عليهم يزيد بن أبي سفيان، وقال لعمرو بن العاص: اذهب إلى فلسطين، فخرج على طريق أيْلة، ثم قال للباقين: سيروا على تبوك واخرجوا على البَلْقاء، وكانوا سبعة آلاف، وأمَر خالد بن سعيد بن العاص أن يقيم بتيماء ردْءًا لهم. وخرج أبو بكر معهم ماشيًا يُشيَّعهم على عادته في جيش أسامة وغيره، وكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشام يزيد بن أبي سفيان. قال المصنف: وقد اختلفت الروايةُ في تجهيز أبي بكر الجيوشَ إلى الشام على قولين، أحدهما ذكره الهيثم وقال: إنه جَهّزهم في سنة اثنتي عشرة، ودليلُه قصَّة خالد لما جاء من العراق إلى الشام واجتمع بالأمراء على بُصرى، والثاني: أنه جهزهم في أول هذه السنة، والأول أظهر. ذكر وصيّة أبي بكر رضوان الله عليه لأمرائه: وكان مما أوصى الأمراء أن قال ليزيد بن أبي سفيان: يا يزيد، إذا أقبلتَ على أهل عملك فعِدْهُم الخير، وإذا وعدتَ فأنجز، ولا تُكثر الكلام فإن بعضَه يُنسي بعضًا، وإذا قَدم عليك رُسُل عدوِّك فأحسن نُزُلَهم، فإنه أولُ خيرك إليهم، ولا تُطِلْ مُقامَهم عندك؛ لئلا يَطَّلعوا على عورات المسلمين، واحفظ سِرَّك لئلا يَخرج أمرُك، وإذا استشرتَ فاصدُق الخبر، ولا تكتم المستشار فتُؤتى من قِبل نفسك، وإذا بلغك عن عدوِّك عَورة فاكتُمها حتى تواتيه، واستر الأخبار في عسكرك، وأَذْكِ العيون والحرس، واصدُق اللقاء إذا لقيت، ولا تَجبن فتُجبن مَن سواك (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ دمشق 18/ 311 (مخطوط).

ذكر سبب عزل خالد بن سعيد

وقال ابن عمر: مشى أبو بكر معهم ميلين، فقالوا: يا خليفة رسول الله ارجع، أولو انصرفت، قال: لا، إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن اغبرَّتْ قدماه في سبيل الله حرَّمَهما الله على النار" (¬1)، ثم قام في الجيش فقال: أوصيكم بتقوى الله، [لا تعصوا, ولا تغلوا] ولا تغدروا, ولا تُمثّلوا, ولا تهدموا بِيعةً، ولا تحرقوا نخلًا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تقتلوا شيخًا كبيرًا ولا صبيًا صغيرًا، وستجدون أقوامًا قد حبسوا أنفسَهم، فذروهم وما حبسوا أنفسهم له، وستَجدون مَن يغدوا عليكم بألوان الطعام ويروح، فلا يأتيكم [لونٌ] إلا ذكرتُم اسمَ الله عليه، بسم الله، سيروا على بركة الله، ثم عاد إلى المدينة (¬2). وقال يزيد بن أبي سفيان: أوصاني أبو بكر - رضي الله عنه - لما بعثني إلى الشام، فقال: يا يزيد، إن لك قرابةً عَسيتَ أن تُؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثرُ ما أخاف عليك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن وَلي من أمر المسلمين شيئًا فأَمَّر عليهم أحدًا مُحاباةً فعليه لعنةُ الله، لا يَقبل الله منه صرفًا ولا عدْلًا حتى يُدخله جهنّم، ومَن أعطى أحدًا حِمى الله فقد انتهك في حِمى الله شيئًا بغير حقِّه، فعليه لعنةُ الله، أو قال: فقد بَرِئت منه الذّمَّة، أو ذمَّةُ الله تعالى" (¬3). ذكر سبب عزلِ خالد بن سعيد قال ابن إسحاق: قدم خالد بن سعيد من اليمن بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتربص ببيعة أبي بكر شهرين، ولقي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، فقال: يا بني عبد مناف لقد طِبتُم نفسًا عن أمركم يليه غيرُكم، فأما أبو بكر فلم يحقدْها عليه، وأما عمر فاضْطَغَنها عليه، فلما أمَّره قال له عمر: أَتُؤمَّره وقد صنع ما صنع، وقال ما قال، فلم يزل به حتى عزله، وأمّر يزيد بن أبي سفيان (¬4). وقال سيف: قدم خالد بن سعيد من اليمن، وكان قد ولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمن، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (15935)، والبخاري (907) من حديث أبي عبس - رضي الله عنه -. (¬2) المنتظم 4/ 116، وتاريخ دمشق 18/ 310. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (21)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 18/ 310. (¬4) تاريخ الطبري 3/ 387، والمنتظم 4/ 116.

فأقام يتربّص ببيعة أبي بكر شهرين، وقال: أمّرني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يعزلْني حتى قبضه اللَّه، فخرج يومًا وعليه جُبَّةُ حرير أو ديباج، فلقي عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، فصاح عمر بمَن يليه: مَزِّقوا عليه جُبَّتَه، فصاح خالد: يا أبا الحسن، يا بني عبد مناف، أغُلِبتم عليها؟ فقال له عمر: فضَّ اللَّه فاك، واللَّه لا تزال تَخوضُ فيما قلت، ثم لا تضرَّ إلا نفسَك، فلما عقد له أبو بكر على الشام قال له عمر: أَتُولِّيه وقد قال ما قال، وإنه واللَّه لمَخْذولٌ، ضعيفُ الرؤية (¬1)، كاذبٌ أحمق، فلا تستنصر به، فأطاع أبو بكر عمر في بعض أمره، ثم عصاه في البعض، فعزله عن إمرة الشام، وجعله ردءًا بتيْماء، وقال له: أقم بها رِدءًا للمسلمين. وقال الواقدي: لما قدم خالد بن سعيد من اليمن أقام في بيته ثلاثة أشهر لم يبايع، ولا دخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم مرَّ عليه أبو بكر وهو على باب داره، فسلّم عليه فقال له خالد، أتحبُّ أن أُبايعك؟ فقال: أحبّ أن تَدخل في صالح ما دخل فيه المسلمون، فقال: مَوعدك العَشيَّة، فجاء وأبو بكر على المنبر فبايعه، وكان رأيُ أبي بكر فيه حسنًا، وكان مُعظّمًا له، فلما بعث أبو بكر الجيوش إلى الشام عقد له لواءً على المسلمين، وجاء أبو بكر باللواء إلى بيت خالد، فعاتبه عمر، ولم يزل به حتى عزله عن إمرة الشام، وأرسل إلى خالد أبا أَرْوى الدَّوْسي: ارْدُدْ علينا لواءَنا، فدفعه إليه وقال له: واللَّه ما سرَّتنا ولايتُكم، ولا ساءنا عزلُكم، وإن الملومَ لغيرُك -يعني عمر؛ لأنه هو الذي نقل الحديث، وألجأه إلى عزله- فما شعر خالد إلا بأبي بكر وقد دخل عليه داره، وأخذ يَعتذر إليه، ويعزم عليه أن لا يذكر عمر بحرف، قالت أم خالد بنت خالد: فواللَّه ما زال أبي يترحَّم على عمر حتى استشهد (¬2). ولما سار خالد إلى الشام مع الأمراء كان يسير تحت لواء أبي عبيدة، فقيل له: تدعُ المسير تحت لواء ابن عمك يزيد بن أبي سفيان وتسير تحت لواء الغير! فقال: مَسيري مع أخي في ديني أحبُّ إلى من مسيري مع ابن عمي (¬3). ¬

_ (¬1) في الطبري 3/ 388: ضعيف التروئة. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 99، وتاريخ دمشق 4/ 455 (مخطوط). (¬3) تاريخ دمشق 4/ 456.

قال هشام: سار خالد تحت لواء شرحبيل بن حسنة، فقيل له في ذلك فقال: لأن شرحبيل بن حسنة رفيقي في الهجرة إلى الحبشة، وكان على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنصرني على ابن عمي. وقال أبو بكر رضوان اللَّه عليه لشرحبيل: إن خالدًا قد اختارك على ابن عمِّه، فاعرف له ذلك، فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- توفي وهو راضٍ عنه، وولاه، وكنتُ قد ولَّيتُه، ثم رأيتُ عزلَه، وعسى أن يكون خيرًا له في دينه، وبلغ خالدًا فقال: واللَّه ما عزلني إلا طاعة للأعيسر، ثم ذكره بعد. ولما توجه الأمراء قال أبو بكر لخالد بن سعيد: إذا نزلت تيماء فادعُ ما حولَها من العرب، وأقم هناك حتى يأتيك أمري. فسار إليها فأقام بها، واجتمع إليه خلقٌ كثير، وبلغ الروم فضربوا البعْثَ على عرب الضاحية بالشام، فنفر إلى نُصرة الروم طوائف العرب: بَهْراء وكلب وتنوخ وجُذام وغسّان ولَخْم وغيرهم، فكتب خالد إلى أبي بكر يَستمدُّه، فكتب إليه أبو بكر: أَقدِمْ ولا تُحجم، واستنصر باللَّه، فسار إليهم خالد فتفرَّقوا، ودخل عامَّتُهم في الإِسلام. وسار إلى خالد بِطريقٌ من الروم في جمع عظيم، اسمه باهان، والتقوا، فهزمه خالد، وقتل جُنده، وكتب إلى أبي بكر -رضي اللَّه عنه- بالفتح وأن يُمدَّه فأمدّه. وأما عمرو بن العاص فإنه لما تَوَجه إلى فلسطين كتب إليه أبو بكر يُخيِّره بيّن أن يغزو إلى الشام، وبين أن يَرجع إلى ما ولاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من صدقات كلب وقضاعة، فاختار الجهاد في سبيل اللَّه، وكتب إلى الوليد بن عُقبة بمثل ذلك فأجابه مثل ما أجاب عمرو، فأمَّر عمرو على فلسطين والوليد على الأردن. وكان يزيد بن أبي سفيان أميرَ الجيوش، وفي جُنده سُهيل بن عمرو وأشراف مكة، واستعمل أبو بكر أبا عبيدة على حمص، وأمدّ خالد بن سعيد بعكرمة بن أبي جهل وذي الكَلاع، وكتب إلى الوليد بن عُقبة أن يجتمع مع خالد بن سعيد بمشارف الشام، فسار خالد إلى مرج الصّفَر، فاجتمع بالوليد، ثم نزلا بالواقوصة، وقيل: بيّن الواقوصة ودمشق. ولما سار خالد للقاء الوليد أخذ عليه الطريق بِطريق يُقال له: ماهان، وكان قد

فصل ذكر جموع الروم

تقدَّم خالدًا ابنُه سعيد في جماعة، فصادفهم البطريق وهم لا يشعرون، فهزمهم، وبلغ الخبر خالد بن سعيد فهرب في نَفرٍ يسير، فلم تنته [الهزيمة به] عن ذي المروة، ثم قدم المدينة منهزمًا، فغضب أبو بكر على خالد ونال منه، وقال: إنك لا تخوض الغمرات، ولا تصبر في الشدائد، وياليتني أطعتُ عمر فيك، ثم ردَّه إلى الشام، وأقام عكرمة بن أبي جهل بتيماء ردءًا للمسلمين، ثم أمّر أبو بكر معاوية بن أبي سفيان، وأَمَره أن يلحق بأخيه يزيد بن أبي سفيان، فسار إليه يسير تحت لوائه. فصل ذكر جموع الروم قال علماء السِّير: ولمّا بلغ الروم مسيرُ يزيدَ بن أبي سفيان والأمراء إلى الشام، كتبوا إلى هرقل وهو بحمص يُخبرونه بذلك، فجمع خواصَّه وعلماءَه واستشارهم وقال: الرأيُ عندي الصلحُ، وإن لا تُقاتلوا هؤلاء القوم. فخالفوه وقالوا: لا بد من قتالِهم وإخراجهم من الشام إلى حيث جاءوا. وقيل: إنما كان هرقل بالقسطنطينيةِ فسار حتى نزل حمص، وكانت دار الملك بالشامِ، ثم جمع العساكر وسيَّرهم إلى المسلمين، فبعث أخاه لأبيه وأمه واسمه تَذارق إلى عمرو بن العاص في تسعين ألفًا، فنزلوا قريبًا من فلسطين بثنيّة جلّق، وبعث جَرَجَه بن توذرا نحو يزيد بن أبي سفيان، فعسكر بإزائه في خمسين ألفًا، وبعث الدّراقص إلى شُرَحبيل بن حسنة في ستين ألفًا قريبًا منه، وبعث الفيقار بن نسطوس إلى أبي عبيدة بن الجراح، فنزل بإزائه في ستين ألفًا. وكان مقصود هرقل أن يُرعب المسلمين، ويحول بين بعضهم والبعض، فهابهم المسلمون؛ لأن جموعهم لم تبلغ سبعةً وعشرين ألفًا، وجموعُ الروم مئتان وستون ألفًا سوى مَن تأخَّر مع هرقل، ومَن كان في المدائن والحصون من المقاتلة، وكانوا يزيدون على أربع مئة ألف مقاتل. فكتب المسلمون إلى عمرو بن العاص ما الرأي؟ فكتب إليهم: أن نَجتمع، فإن مثلنا إذا اجتمعنا كالقِداح المجتمعة لن نُغلب عن قلّةٍ. وكتبوا إلى أبي بكرٍ فأجابهم بمثل ما قال عمرو، وقال: انزلوا اليرموك. فساروا إليه بأجمعهم فنزلوه. وكتب هرقلُ إلى جيوشه: انزلوا بإزائهم، فنزلوا، وصار الوادي خندقًا بينهم، وهو وادٍ عظيم لا يُدْرك، ونزلت الرومُ بمكانٍ ضيِّقٍ ليس لهم طريقٌ إلَّا

قصة اليرموك

من مكانٍ واحدٍ، فقال عمرو: هذا فتحُ باب النصر والظَّفر. فأقاموا على تلك الحال شهر صفر وشهريْ ربيعٍ لا يصلُ أحدٌ من الفريقين إلى الآخرْ فكتب المسلمون إلى أبي بكرٍ يستمدونه فأمدَّهم بخالدِ بن الوليد من العراق، فوافاهم خالدٌ في شهر ربيع الآخر على ما ذكرنا. وقال الواقدي: وافاهم خالدٌ قبل أن ينزلوا اليرموكَ، وإنما كان أبو عبيدة وشُرَحبيل بن حسنة على بُصرى، فوافاهم خالدٌ هناك فلما فصلوا عن بُصرى نزلوا اليرموك. وكان مع خالد لما قدم من العراق تسعةُ آلافٍ فصار المسلمون في ستةٍ وثلاثين ألفًا، وجاءهم عكرمةُ وفُلّالُ خالد بن سعيد بن العاص في عشرة آلاف، فصار المسلمون في ستة وأربعين ألفًا ففرحوا وقويت قلوبُهم. وكان الروم نحوًا من ثلاث مئة ألفٍ منهم ثمانون ألفًا قد قُرِنوا بالسلاسل. وقيل: كان جملةُ الروم مئتين وستين ألفًا. وقال الهيثم: كتب إليهم أبو بكرٍ: انزلوا اليرموكَ واجتمعوا كما قال عمرو بن العاص، وعسكِروا بمكانٍ واحدٍ، فلن يُؤتى مثلكم عن قِلَّةٍ، واللَّهُ ناصر من ينصرُه، وليصل كلُّ أميرٍ منكم بعسكره، وأذكوا الحرسَ والعيون والطوالع. وكتب إلى خالد: سِرْ من العراق إلى الشام، واستخلف المثنى بن حارثة. فسار خالدٌ ووافاهم في شهر ربيع الآخر. وقال هشام: فجهَّز إليهم هرقل جيشًا كثيفًا عليه بطريق يُقال له: ماهان. فطلع عليهم وبين يديه الشمامسة والرهبانُ والقُسس يُحرِّضونهم على القتال، فوافى قُدومُه قدوم خالدٍ فقال خالد: أنا له فالتقوا، وتحركت الروم من منزلها، فقاتلهم الأُمراءُ وقاتل خالد بن الوليد ماهان، فانهزم وقُتل من أصحابه خلق عظيم. قصة اليرموك قال علماءُ السِّير كابن إسحاق والواقدي وهشام وسيف بن عمر وغيوهم، قالوا: لما هزم خالد بن الوليد ماهان وألجؤوا الرومَ إلى الخنادق، خرجت الرومُ على تعبئةٍ لم

ير الراؤون مثلها؛ منهم ثمانون ألفًا مقرَّنون في السلاسل، والرجّالة وكانوا مئةً وخمسين ألفًا حولهم مثل الخنادق، والقسس والرُّهْبانُ والشمامِسة والأساقِفَةُ بين أيديهم قد نَشروا الأناجيل، والصُّلْبانُ في أعناقهم، وهم يُحرِّضونهم على القتال، فشاهد المسلمون أمرًا لم يُشاهدوا مثلَه، وهالهم ذلك، وكان في أول جُمادى الأولى. فقام خالدُ بن الوليد في الناس وقال: هذا يوم من أيام اللَّه تعالى. لا ينبغي فيه الجبنُ والعجزُ والفَشَلُ، أَخْلِصوا للَّه تعالى جهادَكم، وأريدوا وجهه بعملكم وعندي رأي، قالوا: وما هو؟ قال: نقسم الإمارة بيننا، واحدٌ اليوم، وواحد غدًا، وواحد بعد غد، فإنا إن أَلجأناهم إلى الخنادق اليوم لم نزل ظاهرين عليهم أبدًا، وإن هزمونا اليوم لم نُفْلح أبدًا. قالوا: فافعل. فقال: أنا اليوم أميرُكم. فأمَّروه عليهم فكردس الخيل ستة وأربعين كُردوسا (¬1)، وجعل أبا عبيدة في القلبِ، وعمرو بن العاص في الميمنة، ويزيد بن أبي سفيان في الميسرة، وفي الجناح الواحد شُرَحْبيل بن حسنة وفي الآخر القعقاع بن عمرو، وفرق الأمراء على الكراديس مثل الزبير بن العوام، وعكرمة بن أبي جهل، وعياض بن غَنْم، وهاشم بن عتبة، وعبد الرحمن بن خالد، وصفوان بن أُمية، ومعاوية بن خُدَيْج، وعبد اللَّه بن قيس، وعمرو بن عَبَسة، وزياد بن حنظلة، ودِحْية بن خليفة، وسعيد بن خالد، وحبيب بن مسلمة، وأبو الأعور السُّلَمي، وابن ذي الخِمار. وقال جدي في المنتظم (¬2): وجعل ذا الكلاع على كردوس. وهو وهم، لما ذكرنا أن ذا الكلاع أسلم في أيام عمر، وسنذكره. وكان القاضي على العسكر أبو الدرداء، وكان الواعظ والمحرِّضَ أبو سفيان بن حرب، وكان يقف على الكراديس ويقول: اللَّه اللَّه، أنتم أنصَارُ الدين، وهذا يوم من ¬

_ (¬1) في الطبري 3/ 396، والمنتظم 4/ 118: ستة وثلاثين كردوسًا إلى أربعين. (¬2) في 4/ 119.

قصة جرجة بجيمين

أيام اللَّه تعالى، وروي عنه خلاف هذا لما نذكر في ترجمته في سنة اثنتين وثلاثين. وكان على الطّلائع قَباث بن أَشْيَم، وعلى الأقباض عبد اللَّه بن مسعود، وكان القاري المقدادُ بن الأسود، وقيل: ابن مسعود، قال ابن عباس: وكان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد سنَّ عند لقاء المشركين قراءة سورةِ الأنفال، قال ابن إسحاق: وشهد اليرموك ألفٌ من الصحابة، منهم مئة من أهل بدر وتسع مئة من غيرهم. وتطاردت الفرسانُ، ونشب القتالُ، فبينما هم على ذلك إذ قدم البريد من المدينة وهو مَحْميةُ بن زُنَيم، فأخذته الخيولُ، وسألوه الخبرَ، فأخبرهم بالسلامة وبوصول المدد، وإنَّما جاء بكتاب عمر رضوان اللَّه عليه إلى أبي عبيدة يُخبره بوفاة أبي بكر، وتولية أبي عبيدة على الناس، فأبلغوه خالدًا، فأسرّ إليه بموت أبي بكر، وأخبره بما قال للجند فقال: أحسنت، وأخذ خالد الكتاب فجعله في كنانته، وخاف إن أظهره أن ينتشر عليه الأمرُ، ويضطربَ النَّاسُ. قال المصنف رحمه اللَّه: والأصح أن هذا الكتاب لم يكن فيه عزلُ خالدٍ، وإنما كان فيه وفاةُ أبي بكر، وأنه مات قبل اليرموك بعشر ليال، وإنما عُزِلَ خالدٌ في الكتابِ الثاني لما نذكر. قصة جرجة بجيمين قال علماء السير: فلما تراءى الفريقان خرج قائدٌ عظيم من قُوادِ الروم يقال له: جَرَجة بن توذرا، فوقف بين الصفين وقال: ليَبْرُز إليَّ خالدٌ بأمان، فبرز إليه وأمّنه، فقال له: يا خالد اصدُقني فإنَ الحرَّ لا يكذبُ، ولا تُخادعني فإن الكريم لا يُخادعُ المسترسل باللَّه، أسألك باللَّه هل أنزل اللَّه على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاه لك، فلا تَسُلُّه على أحد أو على قومٍ إلا هزمتَهم؟ قال: لا، قال. فبم سُمِّيتَ سيف اللَّه؟ فقال خالد: هذا لقبٌ لقَّبني به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما أسلمتُ فقال: "أنت سيفٌ من سيوف اللَّه سلَّه اللَّه على المشركين" ودعا لي بالنَّصْرِ، فلا ألقى أحدًا إلا هزمتُه. فقال له: يا خالد إلام تدعون؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، والإقرارِ بما جاء من

عند اللَّه. قال: فمن لم يُجِبكم إلى ذلك؟ قال فالجِزيةُ. قال: فمن لم يُؤدِّها؟ قال: نُؤذِنُهُ بحربٍ ثم نُقاتِله. قال: فما منزلةُ مَن أجابكم إلى هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتُنا. قال: فهل لمن دخل فيه اليوم مثل مالكم من الأجر؟ قال: نعم وأفضلُ. قال: فكيف يُساويكم وقد سبقتُموه؟ قال: لأنا دخلنا في هذا الأمر ونبيُّنا -صلى اللَّه عليه وسلم- حيٌّ بين أظهُرنا، يأتيه خَبرُ السماء، وحُقَّ لمن رأى ما رأينا أن يُبايعَ ويُسلمَ، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب، وما ظهر لنبينا من المعجزات، فمَن دخل في هذا الدين كان على بينةٍ من ربه وهُدى فكان أفْضلَ. فقال: صدقتَني، وقلب التّرس، ومال مع خالد وقال: علِّمني الإِسلام، فمال به خالد إلى فُسطاطِه فشنَّ عليه ماءً، ثم أسلم وصلَّى ركعتين. وحملتِ الرومُ على المسلمين لما شاهدوا ذلك حَمْلةً مُنكَرةً فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية، [عليهم] عكرمةُ بنُ أبي جهل والحارث بن هشام وغيرهما. وركب خالد وجَرجة، فتراجعت الرومُ إلى مواقفها، فزحف خالدٌ ومعه جرجة والمسلمون، فما زالوا يضربونهم بالسيوف من لدن ارتفاع النهار إلى أن جَنحتِ الشمسُ للغُروب، ثم أُصيب جَرَجَةُ، ولم يكن سجد للَّه تعالى إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما. -ويقال: إن ماهان بعث جَرَجَة رسولًا إلى خالدٍ، فلما، شاهد أحوال المسلمين أسلم- وصلى الناس الظُّهْرَ والعصر بالإيماءِ، ومال خالد عليهم بالقَلْب، فتفرَّقت خيولهم، وعدل نحو الرَّجَّالةِ فأبانهم، واقتحم خنادقهم، فاقتحموا الواقُوصَةَ خَوْفًا من القتل، فتردّى فيها المقرَّنون في السلاسل بأسرهم، وهلك معهم أربعون ألفًا، فكان جملةُ الهالكين عشرين ومئة ألف، ثمانون ألف مقيّدٍ، وأربعون ألف مطلقٍ، سوى من قُتل في المعركة من الفرسان والرَّجَّالة، وتجلَّل الفيقارُ نائبُ الملك وأشراف الرومِ بَرانِسَهم، وجلسوا وقالوا: لا نُحِبُّ أن نرى يومَ السوء بالنَّصْرانية (¬1)، فقُتلوا في تزمُّلِهم. ¬

_ (¬1) في الطبري 3/ 400، والمنتظم 4/ 122: لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور، وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية.

وكان الفيقارُ قد بعث قبل ذلك جاسوسًا إلى عسكرِ المسلمين ليأتيه بأخبارهم، فعاد إليه فقال: رأيتُهم بالنَّهار فرسانًا، وبالليل رُهبانًا، ولو سرق ابنُ ملكهم لقطعوا يده، ولو زنى لأُقيم عليه الحدُّ لإقامة الحقِّ فيهم، فقال الفيقارُ: لَبَطنُ الأرض لنا اليوم خيرٌ من ظهرها. وقُتل أخو الملك ووجوهُ أصحابهِ، وأُسرَ التذارق صاحبُ جيشه، وانتهت الهزيمةُ إلى هِرَقْل وهو دون حمص فارتحل وجعل حمص بينه وبينهم. وقال سيف: أُصيب يوم اليرموك وجوهُ المسلمين: عكرمةُ بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن العوام أخو الزبير بن العوام، وأبان بن سعيد، وأثبت خالد بن سعيد بن العاص فلا يُدرى أين ذهب. قلت: وهذا وهم، فإن خالد استُشهد بمرج الصّفَّرِ لما نذكُرُ. قال: وأُصيب ضرار بن الأزور فعاش بعد ذلك. وهذا وهم أيضًا، فإن ضرارَ بن الأزورِ قُتل يوم اليمامة. قال: واستُشْهِدَ الطفيلُ بن عمرو، وهذا وهم؛ لأن الطُّفيلَ استشهد يوم اليمامة، وسنذكرُ أعيان مَن استشهد باليرموك في آخر السنة. وقال الواقدي: قاتل النساءُ يومئذٍ قتالًا شديدًا منهن: جويرية بنتُ أبي سفيان. وأُصيبت عينُ أبي سفيان بن حرب، وأُخرج النَّصْلُ منها. وعامة علماء السِّير على أن وقعة اليرموك كانت في السنة الثالثة عشرة من الهجرة إلَّا الواقديَّ، فإنه قال في سنة خمس عشرة، حكاه ابن سعد عنه، وكذا قال ابن عساكر في تاريخه فإنه قال: المحفوظُ أنها كانت في سنة خمس عشرة، قال: وقال سيف: في سنة ثلاث عشرة ولم يُتابعه عليه أحدٌ (¬1). قلتُ: قد تابعه ابن إسحاق وهشام وعامة العلماء، فإنهم قالوا: أوَّلُ فتحٍ أتى عمر ابن الخطاب من الشام فتحُ اليرموك على عشرين ليلةً من وفاة أبي بكر -رضي اللَّه عنه-. وقال الهيثم: كان أبو بكرٍ قد هيَّأ لكل كُورةٍ أميرًا، ومرض في جُمادى الأُولى وتُوفي في نصفه قبل اليرموك بعشر ليالٍ. ¬

_ (¬1) انظر طبقات ابن سعد 4/ 139 و 196، وتاريخ دمشق 1/ 254 - 255، والمنتظم 4/ 123.

وقال ابن إسحاق: قدم بفتح اليرموك على عمر جريرُ بنُ عبد اللَّه الحميري، ثم أقام أبو عبيدة بمرج الصُّفَّرِ حتى ورد عليه كتابُ عمر بمنازلة دمشق. واختلفوا في أوَّل صلحٍ جرى بالشام في أوَّل الإِسلام، فقال الواقدي: كان ذلك على قريةٍ بالبلقاء يُقال لها: مَآب، مرَّبهم المسلمون فقاتلوهم ثم صالحوهم. وقال ابن إسحاق: أوَّل صُلحٍ جرى صلح خالد بن الوليد مع أهل بُصرى، لمَّا انفصل عن الغوطة، صالح على كل رأسٍ دينار وجريب حنطةً، أو قيمةُ الجريب دينارًا وذلك في كلّ عام. وقال الهيثم: كان ذلك أوَّل صلحٍ في الشام اتفقوا عليه: خالد وأبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة ثم انفصلوا عن بُصرى، وجرت وقعةُ اليرموك بعد ذلك. وقال القعقاع بن عمرو في يوم اليرموك: [من الوافر] ألم ترنا على اليرموك فُزنا ... كما فُزنا بأيام العراقِ فَتحْنا قبلَها بُصرى وكانت ... مُحرَّمةَ الجناب على العناق وعَذْراء المدائن قد فتحنا ... ومرجَ الصُّفَريْنِ على العِتاق قَتلنا الرّومَ حتى ما يُساووا ... على اليرموك ثُفروقَ الوِراقِ فَضَضْنا جمعَهم حتى استحالوا ... على الواقوص بالبُتْر الرِّقاق غداةَ تَهافتوا فيها فصاروا ... إلى أمرٍ يُعضّل بالذّواق وقال الأسود التميمي: [من الطويل] وكم قد أَغَرْنا غارةً بعد غارةٍ ... ويومًا كريهًا قد أضلت أهاوِلُه لقيناهم اليرموك لما تضايقتْ ... بقيصر باليرموك منه حمائلُهْ فلا يَعْدَ مَنْ منا هرقلُ كتائبًا ... إذا رامها رام الذي لا يحاولُه (¬1) فصل: وفيها في أَوَّلِ السنةِ كان قد استقام أمرُ شهريار بن كسرى (¬2) بعد خُروج خالد إلى الشام، فوجَّه شهريار إلى المثنى بن حارثة خليفة خالد على العراقِ جيشًا في ¬

_ (¬1) أبيات الأسود والقعقاع في تاريخ دمشق 1/ 266 - 267 (مخطوط). (¬2) في الطبري 3/ 411، والمنتظم 4/ 123: شهربراز بن أردشير بن شهريار.

ذكر استخلاف أبي بكر لعمر -رضي الله عنهما-

عشرة آلافٍ مع هرمز جاذَوَيْه، ومعه فيلٌ عظيم، وكتب شهريار إلى المثنى كتابًا يُرعبه فيه ويقول: قد بعثتُ إليك جندًا من وَحْشِ أهل فارس، إنما هم رُعاةُ الدَّجاج والخنازير، ولستُ أُقاتِلُك إلا بهم. فكتب إليه المثنى: الحمدُ للَّه الذي اضطرك إلى رُعاةِ الدجاج والخنازير. فقرأ كتابَه على أهل فارس، فجزع أهل فارس وقالوا: جَرَّأتَ علينا عدوَّنا. وإنَّما أُتيَ شهريارُ من حيثُ مولدُهُ ولؤمُ مَنشَئه؛ لأنه كان نشأ بمَيْسان، وقالوا له: إذا كتبتَ بعدها كتابًا إلى أحدٍ فاستَشِر. وسار المثنى من الحيرةِ فالتقوا ببابلَ فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكان الفيلُ يخرقُ الصفوفَ بحملاته، فقال المثنى: مَنْ له؟ فقصده رجلٌ من العربِ فقتله، فانهزمت الفرسُ، والمسلمون في آثارِهم يقتلون ويأسِرون، وانهزم هرمز جاذَوَيه، وقُتِلَ شهريار. وقيل: مات حين انهزم الجيشُ. والأصح أن أهلَ فارسٍ قتلوه وقد ذكرناه في صدر الكتاب في الفُرْسِ الثانية. ولمّا قُتِلَ شهريارُ لم يَبْقَ من الفُرسِ ذكرٌ؛ قتل شيرويه بن أبيرويز الجميع إلا ابنتين لأبرويز، وهما: بوران، فأقامتِ العدْلَ وأحسنت السيرةَ، فأقامت سنة وسبعة أشهر ثم ماتت، وقيل: قُتِلَتْ. فملكوا عليهم آزَرْمي دخت أُخت بوران، فأقامت ستَّة أشهر وقُتِلت. ثم ملكوا يَزْدَجرْدَ بنَ شهريار. قال هشام: وأبطأ على جيوشِ العراق خبرُ أبي بكرٍ ومَدَدُهُ، فاستخلف المثنى بنُ حارثة على الناس بشير بن الخَصاصية، وخرج إلى أبي بكر ليُخْبرَه خبرَ فارس ويستأذنه فيما يفعلُ، فقَدم المدينة وأبو بكرٍ مريضٌ، فقال أبو بكرٍ لعمر: إني لأرجو أن أموتَ في يومي هذا، فلا تُمْسِيَنَّ حتى تَندبَ الناس مع المثنّى، وإن تأخَرْتُ فلا تُصْبحنَّ حتى تَندبَ الناس معه. ولا تشغلنكَم مصيبةٌ عن دينكم، وقد رأيتَ ما صَنعتُ عند وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فمات أبو بكرٍ ونَدب عمرُ الناسَ مع المثنى. ذكر استخلاف أبي بكر لعمر -رضي اللَّه عنهما- لما اشتد بأبي بكر رضوان اللَّه عليه مرضُه دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر، فقال: ما تسألُني عن أمرٍ إلا وأنت أَخبرُ به مني، [فقال أبو بكر: وإنْ] فقال عبد الرحمن: هو واللَّه أفضلُ من رأيك فيه، ثم دعا عثمان فقال: أخبرني عن عمر،

فقال: أنت أَخبَرُنا به، فقال: على ذلك، فقال عثمان: علمي به أن سريرتَه خيرٌ من عَلانيته، وليس فينا مثله، فقال أبو بكر: لو تركته لما عدوتُك، وشاور معهما سعيد بن زيد وأُسيد بن حُضَير وغيرهما من المهاجرين والأنصار. وسمع بعض أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك، فدخلوا على أبي بكر، فقال له قائل منهم: ما أنت قائلٌ لربّك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد ترى غِلظَتَه؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أباللَّه تُخوِّفوني، خاب مَن تزوَّد من أمركم بظُلْمٍ، أقول: اللهم إني استخلفتُ عليهم خيرَ أهلك، أبلغ عني ما قلتُ لك من وراءك، ثم اضطجع. قالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: الذي قال لأبي بكر ذلك هو طلحة وعلي بن أبي طالب. ثم قال لعثمان: اكتب، فكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن [أبي] قُحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها إلى الآخرة، وعند أول [عهده] بالآخرة داخلًا فيها، إني قد استخلفتُ عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ اللَّه ورسولَه ودينَه ونفسي وإياكم خيرًا، فإن عَدَل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإنْ بَدَّلَ أو غيَّر فلكلِّ امرئٍ ما اكتسب [من الإثم] , والخيرَ أردتُ، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقلَبٍ يَنقلبون، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته. ثم أمر بالكتاب فخُتِم. وفي رواية: لمّا أَملى أبو بكر -رضي اللَّه عنه- صدرَ الكتاب، وبقي ذكر عمر، فذُهب به قبل أن يُسمِّي أحدًا، فكتب عثمان: إني قد استخلفتُ عليكم عمر، ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ عليَّ ما كتبتَ، فقرأ عليه ذكرَ عمر، فكبّر أبو بكر وقال: أراك قصدتَ أنني لو ذُهب بي في غَشيتي هذه أن لا يَختلف الناسُ، فجزاك اللَّه خيرًا عن الإِسلام وأهله، واللَّه لو سَمَّيتَ نفسَك لكنتَ لها أهلًا. ثم أمره فخرج بالكتاب مختومًا فقال للناس: أتُبايعون لمن في هذا الكتاب؟ قالوا: نعم، قال علي كرم اللَّه وجهه: قد عَلِمنا به، وهو عمر، وأَقَرُّوا بذلك، ورَضُوا به جميعًا وبايعوا، ثم دعا أبو بكر عمر خاليًا فأوصاه بما أوصاه (¬1). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 199 - 200، والطبري 3/ 428، والمنتظم 4/ 125 - 126.

الباب الثاني في ذكر عمر -رضي الله عنه-

الباب الثاني في ذكر عمر -رضي اللَّه عنه- هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العُزَّى بن رِياح بن عبد اللَّه بن قُرْط بن رَزاح بن عديّ بن كعب بن لؤي، أبو حفص العَدَويّ القرشي. قال وهب: اسمه في التوراة الفاروق. وكان أبوه الخَطّاب من رجالات قريش، وأمُّ الخطاب من بني فَهم، وأم عمر حَنْتَمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد اللَّه بن مخزوم. فصل: ذكر صفته: قال الواقدي: كان أبيضَ أَمْهَق تعلوه حُمرة طُوالًا (¬1). قال الجوهري: الأمهق: الشديد البياض كلونِ الجِصِّ (¬2). وكان أصلعَ شديدَ حُمرة العينين في عارِضه خفَّةٌ، يخضب عارضيه بالحِنَّاء والكَتَم، وصفته في التوراة: قرن من حديد، أمير شديد. قال ابن قتيبة وهذا وصفُ أهل الحجاز. أما وصفُ الكوفيين فيقولون: كان آدمَ شديدَ الأُدْمَةِ (¬3). قال الواقدي: والمثبت عندنا هو الأوَّلُ، اللهمَّ إلَّا أن يكون تغيَّر لونه عامَ الرمادةِ لما أكل الزيت (¬4). وقال ابن قتيبة: كان أرْوَحَ، وهو الذي يتدانى عَقباه إذا مشى، قال: وكان كأنه من رجال سدوس، يعني من طُوله، فكان إذا مشى كأنه راكبٌ والناسُ يمشون. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 324. (¬2) الصحاح (مهق). (¬3) المعارف 181. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 324.

ذكر خلافته

وقال ابن قتيبة أيضًا: كان أعسر من اليسار (¬1). وقال أبو جعفر الطبري في "تاريخه": كان أَعسرَ يَسَرَ (¬2)، ويُسمَّى الأيسر. قلتُ: وقال الجوهري: ويقال رجل أعسَرُ بيِّنُ العَسَرِ، للذي يعملُ بيساره، وأما الذي يعملُ بكلتا يَدَيه فهو أعسَرُ يَسَرٌ بغير ألف، قال: وكان عمر بن الخطاب أَعسرَ يَسَرًا (¬3). وقال المسعودي: كانت أم عمر سوداءَ (¬4)، وليس كما ذكر، بل كانت سمراءَ. وكان منزلُه في الجاهلية بمكة، في أصل الجبل الذي يقال له اليوم: جبل عمر، وكان في الجاهلية يقال له: العاقر، وبه كانت منازل عديّ بن كعب. ذكر خلافته: قال الواقدي: تُوفي أبو بكر -رضي اللَّه عنه- ليلة الثلاثاء، لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة، فاستقبل عمر بخلافته يوم الثلاثاء صبيحة يوم مات أبو بكر في ليلته (¬5)، وكان سنُّه يوم وَلي الخلافة اثنان وخمسون سنة، وكذا علي رضوان اللَّه عليه. ذكر أول خطبة خطبها: حمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد ابتُليتُ بكم، وابتُليتُم بي، وخَلفتُ فيكم بعد صاحبي، فمن كان بحضرتنا باشَرْناه بأنفسنا، ومَن غاب عنا وَلَّينا أهلَ القُوَّة والأمانة، فمن يُحسن نَزِدْه حسنًا، ومَن يُسئ نُعاقبْه، ويغفر اللَّه لنا ولكم. وقال ابن سعد: قال عمر: اللهمَّ إني شديدٌ فليِّنّي، وإني ضعيفٌ فقوِّني، وإني بخيلٌ فسَخِّني (¬6). وقال حُميد بن هلال: حدَّثنا مَن شهد وفاة أبي بكر رضوان اللَّه عليه، قال: لما فرغ عمر من دفنه نفض. يده من تراب قبره، ثم قام خطيبًا مكانه فقال: إن اللَّه ابتلاكم بي ¬

_ (¬1) المعارف 181. (¬2) تاريخ الطبري 4/ 196. (¬3) الصحاح (عسر). (¬4) مروج الذهب 4/ 192. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 266 و 274. (¬6) طبقات ابن سعد 3/ 274 وما قبله وما بعده منه.

ذكر تسميته بأمير المؤمنين

وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، فواللَّه لا يَحضرني شيءٌ من أمركم فيَليه أحدٌ دوني، ولا يتغيَّبُ عني فآلو فيه [عن الجَزْء والأمانة] ولئن أحسنوا لأُحسِنَنَّ إليهم، ولئن أساؤوا لأُنَكّلنَّ بهم، قال الرجل: فواللَّه مازال على ذلك حتى فارق الدينا. وقال: إنما يَحِلُّ لي من مال اللَّه حُلَّتان؛ حُلَّةٌ في الشتاء، وحُلَّةٌ في الصيف، وما أحجُّ عليه وأعتمر من الظّهر، وقُوتي وقوت أهلي كقوتِ رجلٍ من قريش، وما أنا إلا رجلٌ من المسلمين. وقال: إني أنزلتُ نفسي من مال اللَّه منزلةَ اليتيم، إن استغنيتُ استعفَفْتُ، وإن افتقرتُ آكل بالمعروف، [فإن أيسرتُ] قَضيتُ. إنما يحل لي من هذا المال ما كنتُ آكلًا من صُلْبِ مالي الخلّ والزيت. ذكر تسميته بأمير المؤمنين: لما وَلي قيل له: يا خليفة خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، [فقال المسلمون: فمن جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة خليفة رسول اللَّه] فيطول هذا, ولكن أجمِعوا على اسمٍ يُدعى به مَن بعده من الخلفاء، فقال بعض الصحابة: نحن المؤمنون وعمر أميرُنا، فدُعي أمير المؤمنين، وهو أوّل مَن سُمِّي بذلك (¬1). وقال المسعودي: أوَّلُ مَن سماه به عديّ بن حاتم، وقيل: المغيرة بن شعبة، وقيل: أبو موسى الأشعري كتب إليه: لعبد اللَّه [عمر] أمير المؤمنين، فلما قرأ الكتاب قال: إني لعبدُ اللَّه وأميرُ المؤمنين، والحمد للَّه ربّ العالمين (¬2). وقعة أجنادين وهي بلدة بين الرّملة وبيت جِبرين من أعمال فلسطين، وكانت في رجب، وقيل: كانت بعد فتح دمشق، وقيل: كانت قبل اليرموك في حياة أبي بكر، وقيل: كان بأجنادين وقعتان: وقعة في جمادى الأولى وأخرى في رجب. قال سيف: اجتمع عمرو بن العاص والأمراء بأجنادين فعسكروا بها، وجاءهم ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 281 وما بين معكوفتين منه. (¬2) مروج الذهب 4/ 192 - 193.

ذكر عزل خالد بن الوليد عن الشام

القُبُقلار نائب الملك، فاقتتلوا، فقُتل القبقلار، واستُشهد جماعة من المسلمين نذكرهم في آخر السنة (¬1). ذكر عزل خالد بن الوليد عن الشام لم يزل عمر ساخطًا على خالد مدة خلافة أبي بكر لكلامٍ كان يبلغه عنه من الاستخفاف به، واطّراح جانبه، وما كان يُسمّيه إلا باسم أمه وبالأعيسر، وكان أكبر ذنوب خالد عنده قتل مالك بن نويرة بعد إسلامه، وأخذه لامرأته، ودخوله المسجد وعلى رأسه السّهام فيها دم، وكان يحثُّ أبا بكر على عزله، ويُحرِّضه على قتله بسبب قتله لمالك، وكان أبو بكر يتوقّف. فلما مات أبو بكر وَولي عمر قال: واللَّه لا يلي خالد عملًا أبدًا. وقال ابن سيرين: قال عمر بن الخطاب: واللَّه لأعزلن خالدًا عن الشام، والمثنى مُثنَّى بني شيبان عن العراق؛ حتى يعلما أن اللَّه يَنصر هذا الدين، وليسا بناصِرَيْه (¬2). قال سيف: فكتب عمر إلى أبي عبيدة: سلام عليك، أما بعد فإني قد عزلتُ خالدًا عن جند الشام، وولَّيتُك أمرَهم، فقم به والسلام. فوصل الكتاب إلى أبي عبيدة، فكتم الحال حياءً من خالد، وخوفًا من اضطراب الأمور، ولم يوقفه على الكتاب حتى فُتحت دمشق، وكان خالد على عادته في الإمرة وأبو عبيدة يصلي خلفه، وقدم بهذا الكتاب شَدّاد بن أوس بن ثابت الأنصاري ومَحمِيَة بن جَزْء في رجب. وقعة فِحل وسار المسلمون من أجنادين إلى فِحل، وهي بلدة بأرض فلسطين، وقيل: بالأردن، وكان الروم قد اجتمعت بها ونزلت ببَيْسان، وتقدَّم خالد بن الوليد في المقدمة، فبثقت الروم المياه، وهي أرض سَبْخة، فصارت وَحْلًا، ولم يعلم المسلمون، فلما غشيها خالد وَحِلت خيولُهم، فلقوا منها عناءً، ثم سلمه اللَّه تعالى، وانحازت الروم إلى فِحل، وقصدهم المسلمون، فنصرهم اللَّه عليهم فانهزموا، وغنم ¬

_ (¬1) انظر الطبري 3/ 417 - 418، وفتوح البلدان 120 - 121، وتاريخ دمشق 1/ 236 (مخطوط). (¬2) في طبقات ابن سعد 3/ 284: حتى يعلما أن اللَّه إنما كان ينصر عباده، وليس إياهما كان ينصر.

ذكر فتوح دمشق ومرج الصفر

المسلمون أموالَهم، واستشهد جماعة من المسلمين نذكر أعيانهم في آخر السنة. وكانت الوقعة في ذي القعدة قبل فتح دمشق، وفيها يقول القعقاع بن عمرو: [من الكامل]: كم من أبٍ لي قد وَرثتُ فعالَه ... جَمِّ المكارم بحرُهُ تَيَّارُ وَرث المكارم عن أبيه وجدِّه ... فبنى بناءهمُ له استبصارُ وغداة فِحْل قد رَأَوني مُعلمًا ... والخيلُ تَنْحطُ والبَلا أطوارُ ما زالت الخيلُ العِرابُ تَدوسُهم ... في جوف فِحْل والهبا مَوَّارُ حتى رَمَيْنَ سراتَهم عن أسرهم ... في رَدْغَةٍ ما بعدها استِمرارُ (¬1) ذكرُ فتوح دمشق ومرج الصُّفَّر قال سيف: وسار أبو عبيدة والمسلمون إلى دمشق، فخرج إليهم ماهان قريبًا من دمشق، فقاتلهم فهزموه، فدخل دمشقَ. وقال الواقدي: سار أبو عبيدة نحو دمشق فنزل بمرج الصُّفَّر، واجتمعت الروم إلى ماهان فخرج بهم إلى المرج، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وانهزمت الروم، فدخلوا دمشقَ فتحصّنوا بها، وقُتل بمرج الصُّفَّر جماعةٌ من المسلمين نذكرُهم في آخر السنة. ثم سار المسلمون فنزلوا على دمشق، وبَثُّوا الخَيْلَ ما بين دمشق وحمص، وقطعوا الموادَّ عنها، ونصبوا عليها المجانيق، وجَدُّوا في القتال، وفرَّقَ أبو عبيدة الأُمراء على الأبوابِ: فنزل خالدٌ على باب الجابية، ويزيدُ بن أبي سفيان على باب الصغير, وأبو عبيدة على الباب الشرقي، ونزل أبو الدرداءِ ببَرْزَةَ في جماعةٍ من المسلمين. وجَدُّوا في القتال ستّين ليلةً، فوهن الرومُ وضَعُفوا، وانقطعت المواد عنهم، واتَّفق أنه وُلدَ لبطريقٍ ولدٌ، فأكلوا في الليلِ وشَرِبوا، وغَفلوا عن مواقفهم، ولم يعلم بهم إلا خالدٌ لأَنه كان يتعرَّفُ أخبارَهم، وكان قد عمل حبالًا مثلَ السلالمِ، واتَّفق مع القعقاع ابن عمرو ومذعور بن عديّ على أنَّهم يتسلَّقون في الحبالِ، وأرسل إلى يزيد بن أبي سفيان وأبي عبيدة وقال: إذا سمعتُم التكبير فاقصدوا الأبواب. وتسلَّق خالد ومَن معه ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 1/ 239 (مخطوط)، ومعجم البلدان (فحل) 4/ 237.

على باب الجابيةِ، ونزل فقتل البَوَّابين وكسر أغلاق الباب وفتحه، ودخل المسلمون، ووقع الصوت وكبَّروا وفتحوا الباب الصغير, والباب الشرقي، ودخل الناس فصاحوا: الأمان الأمان، والتقى المسلمون في وسط البلد، وقيل: إن الروم فتحوا الباب الصغير والباب الشرقي على الأمان، ودخل خالد من بابِ الجابيةِ عَنوةً، فالتقاه الْأُمراءُ في وسط البلد وهذا أصحُّ. وقال سيف: رابط المسلمون دمشق ستة أشهر (¬1)، وكان أبو عبيدة استخلف على اليرموك بشيرَ بن كعبٍ، وكانت الرومُ قد اجتمعت بفِحْلٍ، فلم يدر أبو عبيدة بأيِّهما يبدأ بدمشق أم بفِحْل، فكتب إلى عمر يستشيرُه، فضم خالد بن الوليد إلى أبي عبيدة، وأمر عمرو بن العاص بأن يكون مددًا لأهل فلسطين، وكتب: أن ابدؤوا بدمشق فإنَّها حصنُ الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهلَ فِحْلٍ بخَيلٍ تكون بإزائهم، فنازلوا دمشق نحوًا من سبعين ليلة وهرقل يومئذٍ بحمص، فحالت بين دمشقَ وبينه خيولُ المسلمين وفُتحت دمشق على الوجه الذي ذكرنا. وقد حكينا عن ابن إسحاق أن وقعةَ فِحْلٍ كانت قبل فتح دمشقَ، وهو الأصحُّ. وجرى الصلحُ بين أبي عبيدة وأهل دمشق على مُقاسمةِ الدينار والدرهم والعقار، وعلى كل رأسٍ دينار. واختلفوا في أي سنةٍ فُتحت دمشق؟ فقال سيف: في هذه السنة، وهي سنة ثلاث عشرة، وقال ابن إسحاق والواقدي: في سنة أربع عشرة (¬2). وأصيبت قدمُ أبي الزهراء القُشيري بدمشق، وقيل قدم أخيه، فلما هاجا بنو قُشَير بني جَعْدة فخروا عليهم بذلك، وعدوه من المآثر، فقال نابغة بني جَعْدة: [من البسيط] فإن تكن قَدمٌ بالشام نادِرَةً ... فإن بالشام أقدامًا وأوصالًا ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 3/ 441 أن هذا قول الواقدي. (¬2) انظر تاريخ الطبري 3/ 434 - 442، وفتوح البلدان 127، والمنتظم 4/ 142 - 146، وتاريخ دمشق 1/ 240 فما بعدها.

ذكر إظهار أبي عبيدة كتاب عمر بعزل خالد

وإن يكن حاجبٌ ممّن فَخرتَ به ... فلم يكن حاجبٌ عمًّا ولا خالا ثم فَخَر عليهم وقال: تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لَبَنٍ ... شِيبا بماءٍ فعاد الكلُّ أبوالا (¬1) ذكر إظهار أبي عبيدة كتاب عمر بعزل خالد ولما فتحت دمشق أظهر أبو عبيدة كتاب عمر بعزل خالد، وكان عمر كتب إلى أبي عبيدة يَلومه على إخفاء كتابه، فأوقف خالدًا عليه، فقال خالد: وهذا الكتاب له مدة وأنت تصلي خلفي ولم تعلمني، فجزاك اللَّه خيرًا، وهذا فعلُ ابن حنتمة. وقد أخرج الإِمام أحمد رحمة اللَّه عليه حديثًا في الباب فقال: حدثنا حسين بن علي الجُعفي , عن زائدة، عن عبد الملك بن عُمير قال: استعمل عمر أبا عبيدة بن الجراح على الشام، وعزل خالد بن الوليد، فقال خالد بن الوليد: بعَث عليكم أمينَ هذه الأُمَّة، سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول ذلك، فقال أبو عبيدة: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "خالد سيف من سيوف اللَّه، ونِعم فتى العَشيرة" (¬2). ذكر طبريّة وبَيْسان ثم بعث أبو عبيدة أبا الأعور السُّلَمي إلى طبرية، وعمرو بن العاص إلى بَيْسان وشرحبيل بن حسنة، ففتحوهما عَنوة، وقيل: صلحًا على صلح دمشق وهو الظاهر، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بما فتح اللَّه على المسلمين، وبعث إليه بالأخماس، وكتب إليه عمر: أن أبعث إلى العراق مددًا، فبعث القعقاع بن عمرو وهاشم بن عتبة في عشرة آلاف، وذلك بعد فتح دمشق. كتاب عمر إلى أبي عبيدة في مضي خالد وكتب عمر إلى أبي عبيدة: أما بعد، فإنْ أَكذب خالدٌ نفسَه فهو أميرٌ على مَن معه، وإن لم يُكذب نفسَه فأنت الأمير على ما هو عليه، ثم انزع عمامتَه عن رأسه، وقاسمه مالَه نصفَين، وبلغ خالدًا فقال: فعلها الأُعيسر ابن حنتمة، لا يزال كذا، ودخل على ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 1/ 250، وانظر ديوان النابغة الجعدي 109. (¬2) مسند أحمد (16823).

حديث المثنى بن حارثة وأبي عبيد الثقفي

أخته فاطمة بنت الوليد -وكانت عند الحارث بن هشام- فقال: ما يَرضى في كذا وكذا، فقالت: واللَّه لا يُحبّك عمر أبدًا، وما يريد إلا أن تُكذب نفسَك فيعزلك، فقبّل رأسَها، وأرسل إلى أبي عبيدة وقال: لا أُكذب نفسي أبدًا، تعال فقاسمني مالي، فقاسمه حتى أخذ نَعْلًا وأعطاه نعلًا (¬1)، فتكلّم الناس في عمر وقالوا: هذه واللَّه العداوة، ولم يعجب الصحابة ما فعل بخالد، وقد روي أن خالدًا امتنع من ذلك، فقام إليه بلال بنُ حمامة المؤذن ليَعْقِلَه بعمامته، فقال له: إيهًا، ما تُريد؟ ونال منه، ثم قال لبلال: افعل ما تُريد، فيقال: إنه عَقَلَه بعمامته. حديث المثنّى بن حارثة وأبي عبيد (¬2) الثقفي قد ذكرنا وصيّة أبي بكر لعمر -رضي اللَّه عنهما- أن يندب الناس مع المثنى، فندب عمر النّاس صبيحةَ البيعة بعد مافرغ من دفن أبي بكر، وكان المسلمون يكرهون قتال الفُرس لشدَّة بأسهم، فندب الناسَ ثلاثة أيام، فما انتدب له أحد، فقال: أيها الناس، إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النُّجعة، ولا يَقوى عليه أهلُه إلا بذلك، فسيروا في الأرض التي وعدكم اللَّه في كتابه أن يُورثكموها؛ فإن اللَّه تعالى يقول: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، واللَّه مُظهر دينه، ومعزّ ناصره، ومموّل (¬3) أهله مواريثَ الأمم. وقام المثنى فقال: أيها الناس، لا يَعظمنّ عليكم قتالُ فارس، فإنا قد غلبناهم على السّواد، وقاسمناهم البلاد، وصغُر أمرُهم، وحقر شأنهم. ورغَّب الناسَ في الجهاد، فأولُ مَن انتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وقال: أنا أول مَن أجاب، ثم أجاب سعد ابن عُبيد الأنصاري، وسَليط بن قيس وسلمة بن أَسلم وكانا من أهل بدر، فقيل لعمر: أمِّر على الناس رجلًا من المهاجرين الأوَّلين أو من الأنصار، لا تُؤَمِّر عليهم رجلًا من ثَقيف، يعني أبا عبيد، فقال: لا واللَّه، إن اللَّه إنما أعزّ الإِسلام بمَن بادر إلى نُصرته، وسارع إلى قتال عدوِّه، وإذا كرهتم لقاءَ العدوّ فأولى بالتَّقدُّم والرياسة مَن أجاب. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 3/ 437. (¬2) في (أ) و (خ): وأبي عبيدة، والمثبت من الاستيعاب (3041)، الإصابة 4/ 130، وانظر تاريخ الطبري 3/ 444، والمنتظم 4/ 144. (¬3) في الطبري والمنتظم: ومولي.

قصة النمارق

ثم أمَّر عمر أبا عبيد على الجيش، وكانوا خمسة آلاف، وقيل: سبعة آلاف، وأوصى أبا عُبيد وقال له: اسمع من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأشركهم في الأمر، لا تَقطع أمرًا دون سَليط بن قيس وسلمة، فإن الحرب لا يُصلحها إلا الرجل الذي يَعرف الفُرصة، فقال أبو عبيد: أنا لها. وكان أول جيش جهزه عمر رضوان اللَّه عليه إلى العراق، ثم بعث بعده يعلي بنَ أميّة إلى اليمن، وأمره بإجلاء أهل نجران؟ لوصيَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مرضه بأن يُخرجوا مَن بأرض العرب مِن اليهود والنصارى، وأوصى بذلك أبو بكر في مرضه. ثم ندب عمر أهل الردَّة، فأقبلوا سراعاَّ من كلّ وجه، فرمى بهم الشام والعراق، وتقدّم المثنّى إلى العراق، فوجد الفُرس قد قتلت شهريار وتوَّجت رُستمًا، وجعلت بوران بنت كسرى -وهي التي أهدت لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقبل هديَّتَها- عَدْلًا بين الناس؛ إلى أن يَصطلحوا على من يرونه أهلًا. وكان مسير المثنى من المدينة إلى الحيرة في عشر ليالٍ، ولحقه أبو عبيد بعد شهر، وقيل: بعد عشرين يومًا. قصة النَّمارق ولما رجع المثنى إلى الحيرة، ولحقه أبو عبيد بلغ رستمًا، فكتب إلى دهاقين السواد ومَن عندهم أن يثوروا على مَن يليهم من المسلمين، ووعدهم يومًا بعينه، وبعث جُندًا لمصادمة المثنى، وبعث جابان (¬1) إلى أسفل السواد ليثور على مَن فيه، فنزل بمكان يُقال له: النمارق، وبعث رستم نَرسي، فنزل مكانًا يقال له: زندورد، ونرسي ابن عمّ كسرى (¬2)، وكانت كَسْكَر قَطيعة له، وثار أهلُ فارس من الدَّهاقين والرَّساتيق وغيرهم من أعلى الفرات إلى أسفل. وجاء المثنى فنزل خَفّان لئلا يُؤتى من خلفه، فأقام حتى وصل أبو عبيد، وتهيّؤوا للقتال، وجعل أبو عبيد المثنّى على الخيل، وعلى الميمنة والق بن جيدارة، وعلى الميسرة عمرو بن الهيثم، والتقوا على النَّمَارق، فاقتتلوا، فانهزمت الفرس، وأَسر مطر ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): وبعث خالد، والمثبت من تاريخ الطبري 3/ 448، وتجارب الأمم 1/ 186. (¬2) في الطبري 3/ 450، والمنتظم 4/ 146، وتجارب الأمم 1/ 186: ابن خالة كسرى.

وقعة كسكر

ابن فضَّة التيمي جابان مقدّم العساكر، فخدعه بمال فأطلقه، فأخذه المسلمون وأتوا به أبا عبيد، وأخبروه أنه الملك، وقالوا اقتُله، فقال: إني أخاف اللَّه، كيف أقتله وقد أمَّنه رجلٌ من المسلمين، والمسلمون في الأمان كرجل واحد، فاستبقاه، وأسر أكتلُ بنُ شمَّاخ العُكلي (¬1) مردانشاه، فقتله ولم يعرفه، وكان من عظماء الفرس. ولما انهزمت الفرس التجؤوا إلى نرسي، وكان بكَسْكَر ومعه ابن خاله بندويه. وفي وقعة النمارق يقول عاصم بن عمرو: [من الطويل] لعَمري وما عمري عليَّ بهيِّنٍ ... لقد صُبِّحت بالخِزي أهلُ النَّمارقِ بأيدي رجالٍ هاجروا نحو ربِّهم ... يَجوسونهم ما بين دُرْنا وبارقِ (¬2) وبعث أبو عبيد بالغنائم إلى عمر، وهي أول غنيمة وصلت من العراق إليه. وقعة كَسْكَر وسار أبو عبيد إلى كسكر، وهي مكان بالعراق، والتقوا، وعلى ميمنة نَرسي وميسرته ابنا خاله بسطام، وهم ابن دويه وتيرويه، وأبو عبيد على تعبية، وكان رستم قد جهّز الجيوش مع الجالينوس، فأعجلهم أبو عبيد قبل وصوله، وكانت الوقعة بين كَسْكر والسَّقَاطِية، فاقتتلوا في صحارى مُلْس، فنصر اللَّه المسلمين وانهزمت الفرس، وهرب نرسي، وغنم المسلمون أموالَهم، وظفر أبو عبيد بحمًى كان لنرسي لم يكن بالعراق مثلُه، وهو حول كسكر، فلم يفرح المسلمون بشيء كفرحهم به لأجل دوابّهم، وأخذ خزائن نرسي، وبعث الأمراء إلى أماكن، فهزموا مَن كان بها، وأهدى بعضُ الدَّهاقين من أهل زَندورد إلى أبي عبيد طعامًا كثيرًا أكرموه به، فقال أبو عبيد: أَكُلَّ الجند أهديتُم له مثل هذا؟ قالوا: لا، قال: فبئس المرءُ أنا إن صحبتُ قومًا ثم أستأثِرُ عليهم بشيء، ولم يأكل منه لقمة. ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): العجلي، والمثبت من الطبري 3/ 459، والاستيعاب (158)، والإصابة 1/ 110، والاكتفاء 4/ 120. (¬2) تاريخ الطبري 3/ 450 - 451.

وقعة الجسر

وقعة الجسر ولما عاد نَرْسي إلى المدائن مهزومًا جهز رستم بَهْمَن جاذويه، وأعطاه درفش كابيان -راية أفويدون، وهي راية كسرى العُظمى، وكانت الفُرس تتيمَّن بها- فنزل على شرقي دجلة، وأقبل أبو عبيد فنزل غربي دجلة، بمكان يقال له: المَرْوَحَة، مقابلًا لبَهْمَن جاذويه، فأرسلوا إلى أبي عبيد: إما أن تَعبروا إلينا أو نَعبُر إليكم، فقال أبو عبيد: بل نحن نَعبر إليكم، وترك الرأي، ولامه المسلمون، وقالوا: لا، بل هم يَعبرون إلينا كما فعل بهم خالد، فقال أبو عبيد: لا يكونوا على الموت أجرأ منا، فعَبر أبو عبيد والمسلمون على جسر نصبوه لهم، في مكان ضيّق المَطْرَد، وقطع الجسرَ أبو عبيد، وقيل: غيره، فقال له سلمة بن أسلم: أيها الرجل، إنه ليس لك علم بما ترى، وقد خالفتنا، فسوف تهلك وتُهلكنا بسوء سياستك، وقال له سليط: ستعلم، فقال لهما أبو عبيد: أَجَبُنْتُما؟ ! فقال له سليط: إن العرب لم تقاتل فارسًا مثل اليوم، فاجعل لها ملجأ، فقال: ما بقي غيرُ القتال، وقد حُمَّ الأمر، فاقتتلوا يومًا. وكانت الخيول كما رأت الفِيلة عليها الرجال والتَّجافيف لم تُقدم عليها (¬1)، والفُرس تُنكي فيهم بالنُّشَّاب، وكان معهم فِيلة يقدمها قيل أبيض تَنفِر منه الخيول، فقال أبو عبيد: هل لهذه الدابّة من مَقتل؟ قالوا: نعم مِشفَره، فحمل عليه أبو عبيد راجلًا، ولم يكن -رضي اللَّه عنه- رأى فيلًا قط قبل ذلك، وهو ينشد ويقول: [من الرجز]: يالك من ذي أربعٍ ما أكبرك إني لعالٍ بالحُسام مِشْفَرَكْ يالك من يومِ وغى ما أنكرك وهالِكٌ وفي الهلاك لي دَرَكْ ثم قال للناس: اقصدوا الفِيَلة، وواثب هو الفيلَ الأبيض، فتعلّق ببطنه فقتله، وفعل القوم مثل ذلك، فما تَركوا فيلًا إلا وحَطُّوا رحلَه (¬2)، وقتلوا أصحابَه، وقُتل من ¬

_ (¬1) في المنتظم 4/ 147: وكانت الخيول إذا نظرت إلى الفيلة عليها الحلية, والخيل عليها التجافيف لم تقدم. والتجافيف من آلات الحرب، يوضع على الفرس يتقى بها، كالدرع للإنسان، وانظر تاريخ الطبري 3/ 456. (¬2) في (أ) و (خ): وحطمه رجل، والمثبت من المنتظم 4/ 147، والطبري 3/ 457.

الفُرس ستةُ آلاف في المعركة، وأشرفوا على الهزيمة، ثم أهوى أبو عبيد إلى مشفر الفيل الأبيض، فخطمه بالسيف فقطع مِشفره، وصاح الفيل صيحةً هائلةً منكرة، وخبط أبا عبيد خبطةً، ووقع عليه فمات، ولما رأى المسلمون أبا عُبيد تحت الفيل ضَعُفت نفوسُهم، وحاربوا الفيل حتى تَنحَّى عنه، فجرُّوه إلى الرَّحل. وجال المسلمون جولةً، وركبهم أهلُ فارس، وأخذ اللواءَ سبعةٌ من المسلمين فقتلوا، وقتل الفُرسُ من المسلمين أربعةَ آلاف، وانتهى الباقون إلى الجسر وهو مقطوع فتهافتوا في الفرات، فغرق منهم خلقٌ كثير، وحمى المثنى الناس، وعقد الجسر، وعبر من بقي وهم ثلاثة آلاف، وعبر بعضُ الفُرس في آثارهم، وقيل إن الجسر كان ممدودًا، فقطعه عبد اللَّه بن مَرثَد الثقفي، ثم مَدَّه المثنى وأصحابُه حتى عبر من بقي من المسلمين، ولما قطع الجسرَ عبد اللَّه بن مَرثَد نادى: أيها الناس، موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا، فجاء المثنى فضرب عبد اللَّه وقال: ويحك، ما حملك على ما صنعتَ؟ فقال: ليقاتلوا، فعقد المثنى الجسرَ وقال: أيها الناس اعبروا على هينتكم فأنا دونكم. وقتل سَليط وسلمة بن أسلم عند الجسر، وجُرح المثنى جراحةً كانت سببَ موته، ونجا بمن بقي من الناس، ولما عبروا ارفضُّوا إلى المدينة، وبقي المثنى في عددٍ يسير، ولما وصلوا المدينة استحيوا من الهزيمة، وسبق القومَ عبدُ اللَّه بن زيد، فوافى عمر رضوان اللَّه عليه على المنبر، فصعد إليه فسارّه، فترحَّم على أبي عبيد وقال: لو انحاز إليَّ لكنت له فئةً، ثم قال للمنهزمين: أنا فِئتُكم، فطابت قلوبهم. وقيل: إن الذي قطع الجسر عبد اللَّه بن يزيد [بن زيد] بن حُصين بن عمرو بن الحارث بن خَطْمة الأنصاري، من الأوس، وهو من الطبقة الخامسة من الصحابة ممن هم حدثاء الأسنان، وهو الذي جاء إلى عمر بن الخطاب بحديث الجسر. قال أبو طوالة وغيره: لما برك الفيل على أبي عبيد يوم الجسر فقتله هرب الناس، فسبقهم عبد اللَّه بن يزيد الخَطْمي فقطع الجسر، وقال: قاتلوا عن أميركم، وكان عمر يتوقَّع خبر أصحابِ الجسر، وكان قد رأى رؤيا فكرهها، فكان يُكثر الخروج يطلب الخبر؛ حتى قدم عليه عبد اللَّه بن يزيد الخطمي فأخبره الخبر. قال ابن سعد: جاء وعمر -رضي اللَّه عنه- على المنبر، فقال له: يا عبد اللَّه ما الخبر؟ قالت

وقعة أليس الصغرى

عائشة -رضي اللَّه عنها-: فقمت إلى صِير الباب انظر منه، ما رأيتُ أحدًا كان أثبتَ لذلك الخبر من عمر (¬1). وأمُّ عبد اللَّه بن يزيد ليلى بنتُ مروان بن قيس، من بني خَطْمة، وكان له أولاد: موسى وأمُّ الحكم والسَّرِيّة، أمُّهم أم بكر بنت حذيفة بن اليمان، وفاطمة وأمُّ عدي وأمُّ أيوب وحفصة، وسُلَيْمة، وأمُّهم أمُّ هارون بنت مسعود، وقيل: أمُّ الجميع أم بكر بنت حذيفة (¬2). وقيل: إن عبد اللَّه شهد الحديبية وهو مُدرك، وقال محمَّد بن عمر: لا نعلمه شهد مَشهدًا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وولَّاه عبدُ اللَّه بنُ الزبير الكوفة، وشهد أبوه يزيد أُحدًا (¬3). وأخرج الإِمام أحمد لعبد اللَّه بن يزيد حديثين (¬4). قال المصنف رحمه اللَّه: لم أقف على وفاة عبد اللَّه بن يزيد. وأما الفُرس فعبر بعضُهم، وهمَّ الباقون بالعبور، فجاءهم الخبر أن الفرس قد ثاروا في المدائن برستم، ونقضوا ما كان بينهم وبينه من العهد، فرجعوا، وتُسمّى هذه الوقعة وقعة قَسّ النّاطف أيضاَّ، وكانت في رجب سنة ثلاث عشرة، وقيل: كانت في سنة أربع عشرة، وقيل: سنة خمس عشرة، والأول أشهر. وقعة أُلَّيْس الصغرى ولما عبر المسلمون عبر خلفهم جابان، وقيل: بهمن جاذَويه، وفرَّق أصحابه ليأخذوا على المسلمين الطُّرق، ونزل جابان أُلّيس فتبعه المثنى في خيل فأخذه أسيرًا، وقال: أنت غَررْتَ أبا عبيد حتى عبر الجسر، فقتله بأبي عبيد، وقتل أصحابَه، وكتب كتاب أمان لأهل أُلَّيْس، ورجع إلى عسكره، وهرب أبو محجن الثقفي من أُلّيس إلى الطائف، ثم قدم بعد ذلك إلى القادسية مع سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد (1405) الخانجي، وانظر تاريخ الطبري 3/ 459. (¬2) في (أ) و (خ): حنظلة، والمثبت من طبقات ابن سعد (1405). (¬3) طبقات ابن سعد (1405). (¬4) هما في السند (18740) و (18741).

قصة البويب

قصة البُوَيب جمع المثنى بعد وقعة الجسر جمعًا عظيمًا من العرب، ومَن يليه من أهل البادية؛ ليغير على نهر سُليم، فيأخذ بثأر أبي عبيد، وبلغ الخبر رستم، فجهّز إليه مهران بن باذان ليأتيه من خلفه، وبلغ المثنى فعسكر بالسِّباخ من أرض القادسية وخَفَّان، وبعث إلى جرير ابن عبد اللَّه البَجلي -وكان قريبًا منه- في جمع، فتواعدا البوَيب، واجتمعوا هناك. وجاء مهران فنزل شرقي الفرات بإزائهم، على موضع يقال له: بَسُوسيا، فقال المثنى: هلك مهران، نزل البسوس والسوء، وأرسل إليهم مهران: إما أن تعبروا إلينا أو نعبرَ إليكم، فقال المثنى: لا نُلدغ من جُحر مرّتين، اعبروا إلينا، ونزل مهران منزلًا يقال له: شوميا فقال المثنى: انهضوا بنا إليهم فقد هلكوا وربِّ الكعبة، انتقلوا من السوء إلى الشؤم. وحمل المثنى فأبلى بلاءً حسنًا، فقُتل مهران، قتله غُلامٌ نصرانيّ من بني تغلب، وقُتل من الفرس مئة ألف، وكان المثنى سببَ الهزيمة، حمل على القلب فأزاله، وغنم المسلمون أموالًا عظيمة، وسار المسلمون ما بين دجلة والفرات، ومن الفرات إلى البرية مما يلي القادسية، واعتصم الفرس بساباط. وقال ابن إسحاق: لما بلغ عمر وقعة الجسر، شقّ عليه، واتّفق قدوم جرير بن عبد اللَّه البَجلي من اليمن في وفدٍ من بَجيلة، فقال عمر: سمعتُم ما جرى على إخوانكم يوم الجسر، فسيروا إلى العراق، وبعث معهم القبائل من بني عامر بن صعصعة، وأمّر على الجيش عرفجة، فغضب جرير وقال لعمر: استعملتَ علينا رجلًا ليس منا؟ وبلغ عرفجة فغضب، وقال (¬1): واللَّه لا أسير معهم، فأمّر عمر جرير بنَ عبد اللَّه البَجلي على بَجيلة. وسار فنزل قريبًا من المثنى، فأرسل إليه المثنى أن: أَقبِل فإنما أنت مَددٌ لي، فأرسل إليه جرير: أنا أمير وأنت أمير، وسأستأذن أميرَ المؤمنين. وسار جرير يريد الجسر، فلقيه مهران عند النُّخيلة، وكان مهران من عظماء الفرس، وكان شرقيَّ دجلة، فعبر إليه، والتقوا، فطعن المنذر بن حسّان الضبيّ مهران، ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): فغضب جرير وقال، وهو خطأ.

قصة الخنافس

فوقع عن فرسه، واقتحم عليه جرير بن عبد اللَّه فاحتز رأسه، ثم اختصما فيه واصطلحا، فأخذ جرير سلاحَه، وأخذ المنذر مِنطقته. وكان مهران قد نشأ باليمن مع أبيه باذان لما كان عاملًا لكسرى عليها, ولما التقى مهران جريرًا والمنذر قال: [من الرجز]: إن تسألوا عني فإني مهران ... أنا لمن أنكرني ابنُ باذانْ وكتب المثنى إلى عمر يشكو جريرًا، فكتب إليه: كيف أقدّمُك على رجل من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وكانت وقعة البُوَيْب في رمضان سنة ثلاث عشرة، وذكر ابن سعد أن جريرًا شهد وقعة جسر أبي عبيد. قصة الخنافس ولما قُتل مهران قيل للمثنى: هاهنا سوق عظيم يُقال له: الخنافس، يجتمع إليه خلقٌ عظيم من الفرس والعرب والدهاقين، فيقيمون بها أيامًا يبيعون ويشترون، وفيها أموال عظيمة، فقصدها يوم سوقها، فانتسف السوق ومَن فيه، وقتل وسبى، وغنم وعاد. قصة بغداد قال سيف: كان موضع بغداد في أيام الفرس سوقٌ عظيم يقوم في السنة، فذُكرت للمثنى. وقد أخرج القصّة الخطيب في تاريخه، عن ابن إسحاق بطوله قال: قال أهل الحيرة للمثنى: ألا ندلُّك على قريةٍ تأتيها تجارُ مدائنِ كسرى والسواد، ويجتمعُ بها في كلّ سنةٍ من أموال الناس مثلُ خراج العراق، وهذه أيام سوقهم يجتمعون فيها، فإن أنت قَدرت على أن تُغير عليهم وهم لا يشعرون، أصبتَ منه مالًا يكون منه عزٌّ للمسلمين، وقوَّةٌ على عدوِّهم، وبينها وبين مدائن كسرى يوم واحد. فقال: وأنَّى لي بها؟ فقالوا: خُذ على طريق الأنبار، وبين يديك الأدِلَّاء، فتسير أولَ الليل من الأنبار فتُصبّحها أو تأتيها ضُحًى. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 3/ 471 - 472.

الأخنس

قال: فخرج من النُّخَيلة ومعه الأدِلّاء من أهل الحيرة، حتى نزل الأنبار، فتحصّن منه صاحبُها، فأرسل إليه المثنى: أنزل فأنت آمنٌ على دمك وقريتك (¬1)، حتى ترجع سالمًا إلى حصنك، فنزل، فقال: أريد دليلًا إلى بغداد لأعبر منها إلى المدائن، فبعث معه دليلًا، وأخرج لهم الطعام والعلف، وسار حتى قَرُب من بغداد فنزل، وسار في الليل، فصبَّحهم وهم في أسواقهم، فوضع فيهم السيف، فقتل [وأخذ الأموال]، وقال لأصحابه: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة، ومن المتاع ما يقدر أحدكم على حمله، ففعلوا، وحملوا من الأموال ما أعجزهم حملُه، وعادوا غانمين (¬2). قال سيف: وكان أهلُ الأنبار قد نقضوا العهد بعد خالدٍ، فأمّنهم المثنى، فأرسلوا إليه بالإقامة عند ذهابه إلى بغداد وعند عوده. وقد ذكرنا أنَّ المثنى أغار على سوق بغداد في أيام خالد بن الوليد، فتكون غارتين. وحجّ بالناس عمر بن الخطاب، وعند مرجعه من الحج جهّز الجيوش إلى العراق، وقيل: لم يَحجّ في هذه السنة لاشتغاله بتجهيز الجيوش، وبعث عبد الرحمن بن عوف فحجّ بالناس، ثم حج عمر بعد هذه السنة مدّةَ خلافته. وكان على الطائف عثمان بن أبي العاص الثقفي، وعلى اليمن يَعلي بن مُنْية، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى العراق المثنى بن حارثة، وعلى البحرين العلاء بن الحضرميّ، وعلى القضاء علي بن أبي طالب عليه السلام. وفيها توفي. الأَخْنَس واسمه أُبيّ بن شَريق بن عمرو الثقفي، أسلم يوم الفتح، وسُمّي الأخنس لأنه أشار يوم بدر علي بني يربوع بالرجوع إلى مكة (¬3)، فرجعوا ولم يشهدوا بدرًا، فسلموا من ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): وقومك، والمثبت من (ك). (¬2) تاريخ بغداد 1/ 26، والمنتظم 4/ 150. (¬3) في السيرة 1/ 282 و 619، وطبقات ابن سعد (1077) الخانجي، والمنتظم 4/ 152، والإصابة 1/ 25 أنه رجع ببني زهرة.

أبان بن سعيد

القتل، فخَنَس بهم أي: تأخّر. شهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حُنينًا، وأعفاه مع المؤلَّفة قلوبهم، وله صحبة ورؤية، وليس له رواية, وفيه نزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204] (¬1). أبان بن سعيد ابن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو الوليد، وقيل: أبو سعيد، من الطبقة الثالثة من الصحابة، أسلم بين الحُديبية وخيبر، وهو الذي حمل عثمان على فرس عام الحديبية، وأجاره حتى دخل مكة، وبَلَّغ رسالة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال له: [من المنسرح]: أقبلْ وأدبِرْ ولا تَخَف أحدًا ... بنو سعيدٍ أعزَّةُ الحرمِ (¬2) واستعمله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعض سراياه، وولَّاه البحرين بعد العلاء بن الحَضْرميّ، ولما تُوفّي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قدم على أبي بكر، فقال له: ارجع إلى عملك، فقال: لا أعمل لأحد بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وخرج إلى الشام غازيًا فاستشهد بأجنادين، وقيل باليرموك، وقيل بمرج الصُّفَّر، وقيل: عاش إلى سنة تسعٍ وعشرين، والأول أَشهر. قال ابن عساكر: وهو الذي قدم على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال له: كيف تركتَ مكة؟ فوصفها وقال: تركتُ أهلمها وقد جبذوا، والإذخر قد اغْدَوْدَق، والثُّمام قد أَخْوَص، فاغرورقت عينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالدموع، ثم قال: أنا أفصحكم، ثم أبان بعدي (¬3). روى أبان الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فأما أبو سعيد بن العاص فكان من سادات قريش وأشرافِها، وكان له عدَّةُ أولاد، منهم أُحيحة، وعبيدة، والعاص، قتلوا كفارًا، وأبان وخالد وعمرو وسعيد والحكم، واستشهدوا في سبيل اللَّه. فأما أُحيحة فقتل يوم الفِجار، وأما عبيدة فطعنه الزُّبير يوم بدر في عينه بالعَنَزة ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري 4/ 229 - 230. (¬2) الاستيعاب (50)، والتبيين 192، وتاريخ دمشق 2/ 297، والإصابة 1/ 41. (¬3) تاريخ دمشق 2/ 296.

فمات، وهو الذي يُكنى: أبا ذات الكرش، وأما العاص فقتله علي يوم بدرٍ كافرًا، ولقي عمر -رضي اللَّه عنه- سعيد بن العاص يومًا، فقال له: تَزعم أني قتلتُ أباك، وَدِدتُ أني فعلتُ ذلك، ما قتله إلا علي، ولكن قتلتُ خالي بيدي العاص بن هشام، فقال له سعيد: يا أمير المؤمنين لو قتلتَه لكنت على حق، وهو على باطل (¬1). وأما الذي استشهد من ولد سعيد فسنذكرهم في نواحيهم. قال عبد اللَّه بن عمرو بن سعيد بن العاص: كان خالد وعمرو ابنا سعيد بن العاص قد أسلما، وهاجرا إلى الحبشة، وأقام غيرهما من ولد أبي أحيحة سعيد بن العاص على ما هم عليه، ولم يسلموا حتى كان يوم بدر، فخرجوا يوم بدر، ولم يتخلَّفْ منهم أحد، فقُتل العاص بن سعيد كافرًا، قتله عليّ، وقَتل الزبيرُ عبيدة بنَ سعيد، وأفلت أبان ابن سعيد. وكان خالد وعمرو ابنا سعيد يكتبان من الحبشة إلى أخيهما أبان، يقولان: اللَّه اللَّه أن تموتَ على ما ماتَ عليه أبوك، وقُتل عليه أخواك، فيغضب من ذلك ويقول: لا أفارق دينَ آبائي، وكان أبوه قد مات مسألة بالطائف بالظُّرَيْبة كافرًا، فقال أبان: [من الطويل]: ألا ليت ميتًا بالظُّرَيبة شاهدًا ... لما يفتري في الدين عمرو وخالدُ أطاعا بنا أمرَ النساء فأصبحا ... يُعينان من أعدائنا مَن نُكايدُ فقال خالد بن سعيد: [من الطويل]: أخي ما أخي لا شاتمٌ أنا عِرضه ... ولا هو عن سوء المقالة مُقْصِرُ يقول إذا اشتدّت عليه أمورُه ... ألا ليت مَيتًا بالظُّرَيْبة يُنشَرُ فدع عنك ميتًا قد مضى لسبيله ... وأقبلْ على الحي الذي هو أفقرُ وأقام أبان بمكة على حاله كافرًا إلى زمن الحُديبية، فلما بَعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عثمان بنَ عفان في رسالة إلى قريش، أجاره أبان حتى بلَّغ الرسالة، وعاد إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، [وعاد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] إلى المدينة. ¬

_ (¬1) التبيين 193 - 194.

وأقبل خالد وعمرو من الحبشة في السفينتين، وكانا آخر من هاجر منها، فكتبا إنى أبان يدعوانه إلى الإسلام، فأجابهما، وقدم المدينةَ على إثرهما مسلمًا، وخرجوا إلى خيبر سنةَ سبعٍ من الهجرة، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بها، فأسهم لهم، ثم قالوا بالمدينة إلى سنة تسع، فبعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبانًا عاملًا على البحرين، وكتب له كتاب الصدقات. وسأل أبان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يحالف عبد القيس، فأذن له، فقدم البحرين ومعه لواء أبيض وراية سوداء، فحمل لواءه أبو رافع مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما قارب البحرين تَلقَّاه المنذر بن ساوى في ثلاث مئةٍ من قومه، وعبد القيس على ليلةٍ من منزله، فاعتنقا، ورحَّب به المنذر، وسأله عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخبره أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد شفعه في قومه. وأقام أبان بالبحرين يأخذ الصدقات والجزية والعشور، فاجتمع عنده مال، فكتب إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخبره، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، فحمل المال إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فلما تُوفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وارتدّت العرب، وارتدّ أهلُ هجر، قال أبان بن سعيد لعبد القيس: بلِّغوني مَأمني، فقالوا: بل أقم عندنا نجاهد معك في سبيل اللَّه، فنحن قد ثبتنا على إسلامنا، واللَّه مُعزّ دينه ومظهره، فقال: أبلغوني مأمني، يكون لي أسوةٌ بأصحابي، فما مثلي مَن يَغيب عنهم في هذا الوقت، أحيا بحياتهم، وأموت بموتهم، فقال له الجارود العبدي: لا تفعل، أنت عندنا أعزّ الناس، وعلينا وعليك في هذا وَهن عظيم، يقال: فرَّ من القتال، ولامه الجارود، وقال: أَنشُدك اللَّه أن تَخرج من بين أظهُرنا، فإن دارنا مَنيعةٌ، ونحن لك سامعون مطيعون، ولو كنتَ اليوم بالمدينة لبعثك أبو بكر إلينا، فأبى عليهم، فجهّزوا معه ثلاث مئة منهم. وكان معه من مال الصدقة مئةُ ألف درهم، فلما قدم على أبي بكر لامه على القدوم، فقال ألا ثبتَّ مع قوم لم يُغيّروا ولم يُبدّلوا، فقال أبان: وهم على ذلك، وأثنى عليهم، قال: فأرجع إليهم، فقال أبان: لا أعمل لأحدٍ بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال له عمر: ما كان حقّك أن تَقدم المدينة بغير إذن إمامك، وقال لأبي بكر: أَكرِهْه على

بشير بن عنبس

العمل والرجوع إليهم، فقال أبو بكر: لا واللَّه لا أُكرهه بعد أن قال لا أعمل لأحدٍ بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم بعث أبو بكر العلاء بن الحَضرميّ إليهم (¬1). بَشير بن عَنْبس ابن زيد بن عامر بن سواد بن ظفر، من الطبقة الثانية من الأنصار، شهد أحدًا وما بعدها, ولم يشهد بدرًا، وأمُّه من الأزد، ويُقال له: فارس الحواء، اسم فرس له، واستشهد يوم جسر أبي عُبيد (¬2). ولده سهل بن بشير، استشهد يوم القادسية، فولد سهل عبد اللَّه، وأمُّه الفُرَيعة بنت مالك، وخالاه قتادة بن النعمان وأبو سعيد الخدري، وهما أخوال الأم (¬3). تميم بن الحارث ابن قيس بن عديّ السَّهمي، من الطبقة الثانية من الصحابة، هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية. وكانوا ستة أخوة: تميم وسعيد وأبو قيس وعبد اللَّه والسائب والحجاج بنو الحارث. فأما تميم فاستشهد يوم أجنادين، وأما أخواه سعيد وأبو قيس فمن مهاجرة الحبشة، وأما السائب فخرج يوم الطائف واستشهد بفِحْل، وأما الحجَّاج فأُسر يوم بدر. وكان أبوهم الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هُصَيْص القرشي، أحد المستهزئين برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو ابن الغَيْطلة، وهي أمُّه (¬4). ثعلبة بن عمرو بن مِحْصَن الأنصاري من الطبقة الأولى من بني النجار، وأمُّه كَبْشة بنت ثابت أخت حسّان الشاعر، شهد ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 295 - 298. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 260 (510)، والاستيعاب (187)، والاستبصار 257، والمؤتلف والمختلف للدارقطني 3/ 1536، والإكمال 1/ 288 و 6/ 82، والإصابة 1/ 159. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 260 (510). (¬4) طبقات ابن سعد 4/ 194 - 196، والاستيعاب (236)، والتبيين 466 - 468، والإصابة 1/ 184.

الحجاج بن الحارث

بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واستشهد يوم جسر أبي عبيد، وله عقب، وقيل توفي في خلافة عثمان -رضي اللَّه عنه- (¬1). الحجاج بن الحارث هاجر إلى الحبشة المرة الثانية، من الأنصار، شهد أحدًا وما بعدها، وفي شهوده بدرًا خلاف، واستشهد بأجنادين (¬2). الحارث بن عدي ابن مالك بن حَرام، من الطبقة الثانية من الأنصار، شهد أحدًا وما بعدها، واستشهد يوم جسر أبي عبيد (¬3). الحارث بن هشام ابن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مَخزوم، أخو أبي جهل، وكنيته أبو عبد الرحمن، حضر أحدًا مع المشركين، ولم يزل متمسِّكًا بالشرك إلى يوم الفتح؛ حتى استأمَنَتْ له أمُّ هانئ بنت أبي طالب، فأسلم وحسن إسلامه، وهو من الطبقة الخامسة، شهد حُنَينًا والطائف مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأعطاه مئةً من الإبل مع المؤَلَّفةِ قلوبهم. ولم يزل مقيمًا بمكة بعد [أن أسلم حتى] وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو غير مَغْموصٍ عليه في إسلامه، وهو الذي انهزم يوم بدر وكان مع المشركين، فعيَّره حسان بن ثابت فقال: [من الكامل] إن كنتِ كاذبةَ الذي حَدَّثْتِني ... فنجوتِ مَنْجى الحارث بنِ هشامِ ترك الأحبَّةَ أن يُقاتلَ عنهمُ ... ونجا برأسِ طِمِرَّةٍ ولجامِ (¬4) وقال الحارث يعتذر: [من الكامل] اللَّه يَعلمُ ما تركتُ قتالَهم ... حتى رَمَوا فرسي بأشقَرَ مُزْبِدِ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 508، والاستيعاب (272)، والإصابة 1/ 200. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 196، والاستيعاب (521)، والإصابة 1/ 310. (¬3) الاستيعاب (450)، والإصابة 1/ 284. (¬4) ديوانه 1/ 29، والسيرة 2/ 17.

ووجدتُ ريحَ الموت من تلقائهم ... في مأزقٍ والخيلُ لم تَتَبَدَّدِ فعلمتُ أني إن أُقاتل عنهم ... أُقتلْ ولا يَنْكِي عدوّيَ مَشهدي وصددْتُ عنهم والأحبَّةُ فيهمُ ... طمعًا لهم بعقابِ يومٍ مُفْسِدِ (¬1) قال خلف الأحمر: أبياتُ هُبيرة بن أبي وَهْب في الاعتذار عن الفرار خيرٌ من أبيات الحارث، وهي: [من الطويل] لعَمْرُك ما وَلَّيتُ ظهري محمدًا ... وأصحابَه جُبْنًا ولا خِيفةَ القتلِ ولكنني قَلَّبْتُ أمري فلم أجد ... لسَيفي غناءً إن ضربتُ ولا نَبْلي وقفتُ فلما خِفتُ ضيعةَ مَوقفي ... رجعتُ لعَودٍ كالهِزَبْر أبي الشِّبْلِ (¬2) وكان الحارث سيِّدًا في قومه، شريفًا في الجاهلية، ورُوي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكرَ فِعلَه في الجاهلية في قِرى الأضياف وإطعامِ الطعام، فقال: إنه لسَرِي، وكان أبوه سَريًّا، ووَدِدْتُ أن اللَّه هداه إلى الإِسلام. وكان الحارث جوادًا شاعرًا فاضلًا، وفيه يقول الشاعر: [من الكامل] أحسبت أن أباك حيق تَسبُّني ... في المجد كان الحارثَ بنَ هشامِ أَولى قريشٍ بالمكارم كلِّها ... في الجاهلية كان والإِسلامِ (¬3) قال الواقدي: لم يزل الحارث مُقيمًا بمكة، حتى جاء كتابُ أبي بكر يَستنفر الناس إلى الشام لجهاد العدوّ، فاستعدّ للخروج (¬4). وقال الزبير بن بكار: تجهَّز الحارث من مكة غازيًا، فخرج بماله إلى الشام وأهله، وتبعه أهلُ مكة يبكون عليه، وذلك في خلافة عمر بن الخطاب، فبكى وقال: واللَّه لو كنت مستبدلًا دارًا بدار، وجيرانًا بجيران، ما أردتُ بكم بدلًا، وفي رواية: واللَّه ما خرجتُ رغبةً بنفسي عنكم، ولا أختار بلدًا غيركم، ولكن كان هذا الأمر، فخرجتْ فيه ¬

_ (¬1) السيرة 2/ 18، والاستيعاب (466)، والتبيين 357. (¬2) في (خ): كالهزبر بن الشبل، وفي التبيين 357: كالهزبر إلى الشبل، وفي السيرة 2/ 267: صددتُ كضرغام هزبر أبي شبل. (¬3) التبيين 357، والاستيعاب (466). (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 444 و 7/ 404.

رجالٌ من قريش، واللَّه ما كانوا من ذوي أسنانها, ولا في بيوتها، فأصبحنا ولو أن جبال مكة ذهبٌ أنفقناها في سبيل اللَّه ما أدركنا يومًا من أيامهم، ولئن فاتونا في الدّنيا لنَلْتَمسنَّ أن نُشاركهم في الآخرة (¬1). وقال الواقدي: إنما خرج الحارث إلى الشام في خلافة أبي بكر، هو وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل غزاة، فنزلوا المدينة، فأتاهم أبو بكر في منازلهم، فسلَّم عليهم ورَحَّب بهم، وسُرَّ بقُدومهم (¬2)، وهذا أَصَحّ. واستشهد الحارث في سنة ثلاث عشرة بأجنادين. وقال ابن الأعرابي: مرَّ خالد بن الوليد يوم اليرموك بالحارث وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وجماعة من بني المغيرة وغيرهم وهم صَرعى عِطاش، [فأتوا بماء] فتدافعوه، ينظر عكرمة إلى سهيل وهو ينظر إليه، فقال ابدؤوا به، فماتوا ولم يشربوا، فبكى خالد وقال: بنفسي أنتم (¬3). وقال الواقدي: مات الحارث بطاعون عمواس سنة ثماني عشرة (¬4)، ويقال: إنه عاش إلى أيام عثمان، وذهب بصره. ذكر أولاده: كان له من الولد عبد اللَّه: وُلد على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا صُحبة له، وحديثُه مُرسل. وعبد الرحمن، كنيته أبو محمد، وكان اسمُه إبراهيم، فغيَّره عمر لما غيَّر إسامي الناس، وكانت عائشة رضوان اللَّه عليها تُثني عليه (¬5)، وسنذكره سنة تسع وخمسين. وأم حكيم زوجة عكرمة بن أبي جهل، أسلمت يوم الفَتْح، وتزوَّجها خالد بن سعيد بن العاص. روى الحارث الحديثَ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) الاستيعاب (466)، والتبيين 357 - 358، وتاريخ دمشق 4/ 140 (مخطوط)، والتوابين 145. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 404. (¬3) الاستيعاب (1991)، والتوابين 143 - 144، والتبيين 365. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 444 و 7/ 404، وانظر تاريخ دمشق 4/ 141 - 144. (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 5 وأنساب الأشراف 5/ 240، والتبيين 360.

خالد بن سعيد

خالد بنُ سعيد ابن العاص بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصَيٍّ، أبو سعيد الأموي، من الطبقة الأولى من المهاجرين. قال ابن سعدٍ: وأمُّ خالد بنتُ خَبَّاب بن عبد ياليل من كنانة (¬1). أسلم قديمًا لرؤيا رآها، ذكرها أبو اليقظان وموسى بنُ عقبة، عن أمِّ خالد بنت خالد بن سعيد قالت: قال أبي: لما كان قُبيل المبعث، رأيتُ في المنام كأن ظُلمة غَشِيت مكَّة، حتى لا يُبصِرُ أحدٌ كفه، ثم ظهر نورٌ فعلا في السماء، فأضاء البيتَ ومكَّة، ثم امتدَّ الضوء إلى نجدٍ ويثرب، حتى إني لأنظر إلى البُسْر في النخل، قال: فانتبهتُ، فقصصتُها على أخي عمرو بن سعيد، وكان جَزْلَ الرأي فقال: يا أخي، إنَّ هذا الأمر سيكون في بني عبد المطلب، قال خالد: فهداني اللَّه إلى الإِسلام، ثم ذكرها بعد إسلامه لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أنا ذلك النورُ" (¬2). قالت أم خالد: فأبي واللَّه أوَّل الناس إسلامًا، ثم عمّي عمرو بن سعيدٍ بعده. وقد ذكر هذه الرؤيا ابن سعدٍ عن خالدٍ قال: رأيتُ ظُلمةً غشِيت مكَّة، فخرج نورٌ من زمزم مثل ضوء المصباح، فارتفع وعلا وسطع، فملأ السهل والجبل، ثم انحدر إلى يثرب حتى أضاءَ البُسْرَ في النخل، وسمعتُ قائلًا يقول في الضوء: سبحانه سبحانه، ذهبت الظُّلمةُ، وهلك ابن ماردٍ بهضبة الحصى بين أَذْرح والأكمة، سَعِدت هذه الأُمة، جاء نبيُّ الأميين، وبلغ الكتابُ أجلَه، كذبته هذه القرية، بَعدت بَعدت مرَّتين، فقصها على أخيه عمرو بن سعيد فقال له: إن هذا الأمر في بني عبد المطلب، ألا ترى أن النور من حُفْرة أبيهم (¬3)؟ ! وذكر الشيخ الموفق في الأنساب قال: قالت أم خالد بنت خالد: كان أبي خامسًا في الإِسلام تقدَّمه عليٌّ وأبو بكر وزيد بن حارثة وسعد بن أبي وقّاص. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 94. (¬2) تاريخ دمشق 5/ 448 (مخطوط)، وقال الدارقطني: هذا حديث غريب. (¬3) طبقات ابن سعد 1/ 166.

قال: وقال الواقدي: كان بدءُ إسلامه أنه رأى في المنام أنه وُقِف به على شفير النار، فذكر من نعتها ما اللَّه أعلم به، وكأن أباه يدفعه فيها، ورأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- آخذًا بحَقْوَيْه يمنعُه من الوقوع فيها، ففزع، فلما أصبح لقي أبا بكرٍ فأخبره، فقال له: قد أُريدَ بك خيرٌ، هذا رسول اللَّه فاتَّبعْه، فإنه يُخلّصك من أن تقع في النار، وأبوك واقعٌ فيها. فلقي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأجياد، فقال له: الأم تدعو يا محمَّد؟ فقال: إلى اللَّه وحده لا شريك له، وأني عبده ورسوله، وخَلْعِ ما أنت عليه من عبادة حجرٍ لا يضرُّ ولا ينفع، ولا يُبصر ولا يسمع، قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسولُ اللَّه، فسرَّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بإسلامه. وعلم أبوه أبو أُحيحة بإسلامه، فأرسل في طلبه مَن بقي من إخوته، ولم يكونوا أسلموا، فأَتَوْه به، فأنَّبه أبوه وشتمه، وضربه بمِقرعة في يده حتى كسرها على رأسه، وقال له: أتبعت محمدًا وأنت ترى خلافَه قومَه، وما جاء به من عيبِ آلهتهم وآبائهم؟ فقال خالد: أي واللَّه قد اتَّبعتُه فافعل ما بدا لك، فقال: اذهب يا لُكَع حيث شئت، فواللَّه لأمنعنَّك القُوت، فقال خالد: إن منعتَني فإن اللَّه يَرزقني ما أعيشُ به، فأخرجه وقال لإخوته: لا يكلِّمه أحدٌ منكم إلا صنعتُ به مثل ما صنعت به، فانصرف خالد إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فلزمه، وكان يعيش معه حتى خرج أصحابُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الحبشة الهجرة الثانية فخرج معهم (¬1). وقال هشام: مرض أبو أحَيْحة فقال. لئن عافاني اللَّه من مرضي هذا لا يُعبد إله ابن أبي كَبْشةَ بمكة أبدًا، فقال خالد: اللهم لا تَشفه، فمات من مرضه ذلك. وقال الواقدي: قالت أم خالد بنت خالد: هاجر أبي إلى الحبشة المرة الثانية، فأقام بها بضعَ عشرة سنة، ووُلدتُ أنا بها، ثم قدم على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخيبر، فكلَّم المسلمين فيه فأسهموا لنا، ثم رجعنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة فأقمنا بها، وشهد أبي مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عمرة القَضيَّة وفتح مكة وحنينًا والطائف وتبوك، وبعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على صدقات اليمن، فتُوفّي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي باليمن (¬2). ¬

_ (¬1) التبيين 187 - 188، وطبقات ابن سعد 4/ 94 - 95. (¬2) التبيين 188 - 189، وطبقات ابن سعد 4/ 95 - 96.

قالت: وأول من كتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم بين يدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبي. وقال هشام: كان خالد بن سعيد على اليمن، وأخوه أبان على البحرين، وأخوهما عمرو على تيماء وخيبر، فلما توفي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قدموا المدينة، فقال لهم أبو بكر رضوان اللَّه عليه: ما لكم رجعتم عن عمالتكم، ارجعوا إليها، فما أجد أحدًا أحق بالعمل من عمال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالوا: نحنُ بنو أبي أحيحة لا نعمل لأحدٍ بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم مضوا إلى الشام فاستشهدوا جميعًا. ويقال: ما فُتحت بالشام كورةٌ إلا ووجدوا عندها رجُلًا من بني سعيد قتيلًا (¬1). وقد ذكرنا أن أول لواءٍ عقده أبو بكر لخالد بن سعيد، وأن عمر كلَّمه فيه فعزله، وولَّى يزيد بن أبي سفيان. وقال ابن قتيبة: استعمل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خالد بن سعيد على صدقات بني زبيد، فصارت إليه الصَّمصامة التي لعمرو بن معدي كرب، فلم تزل عند ولده حتى اشتراها محمَّد بن المهدي بن أبي جعفر بعشرين ألف درهم (¬2). وقال سيف بن عمر: تزوَّج خالد بن سعيد بأم حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومي، وأمُّها فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، أخت خالد بن الوليد، وإليها تُنسب قَنطرة أمِّ حكيم بمرج الصُّفَّر، ولها صحبةٌ، وهي التي أسلمت يوم الفتح، واستأمنت لزوجها عكرمة بن أبي جهل، وخرجت خلفه، وكان قد هرب إلى البحر، وقد ذكرناه. واختلفوا في وفاة خالد بن سعيد (¬3): فقال الواقدي: استشهد بمرج الصُّفر. وقال الهيثم: بأجنادين. وقال أبو اليقظان: بفِحْل. والأول أصحّ. قال الواقدي: شهد خالد أجنادين وفِحلًا، وجاء فنزل مرجَ الصُّفَر، وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل، فقُتل عنها باليرموك، فاعتدت بأربعة أشهر وعشرة أيامٍ، ثم تزوَّجها خالد بن سعيد، وأصدَقها أربع مئة دينارٍ، وكان ¬

_ (¬1) التبيين 189. (¬2) المعارف 296. (¬3) انظر لاختلافهم طبقات ابن سعد 4/ 98، والمعارف 296، والاستيعاب (606)، وتاريخ دمشق 5/ 451 - 459، والإصابة 1/ 406 - 407، والتبيين 189.

الروم بمقابلة المسلمين، فأراد خالد أن يُعرّس بها فقالت: لو أخَّرت ذلك حتى تنفضَّ الجموعُ، فقال: نفسي تُحدّثني أنني أصابُ في هذه المرة، فقالت: دونك، فأعرس بها عند القنطرة التي بمرج الصُّفَّر، وبها سُميت قنطرة أم حكيم، وأولم عليها، ودعا أصحابه، فما فرغوا من الطعام، حتى صَفَّت الرومُ صفوفَها، والتقوا، وصبر الفريقانِ، وتصافحوا بالسيوف، حتى سُمع وقْعُها على الحديد، وقاتلت أم حكيم بعمود الفُسطاط، حتى قتلت سبعةً من الروم (¬1). وقال الموفق في الأنساب عن الأموي قال: حمل خالد وهو يقول: [من الكامل]: مَن فارسٌ كَرِه الطِّعانَ يُعيرني ... رُمحًا إذا نزلوا بمَرْج الصُّفَّرِ فحمل عليه رجلٌ من القوم، فقتله، ثم قلب الروميُّ ترسه، وجاء إلى صفِّ المسلمين مُستأمِنًا، فقيل له: مالك؟ فقال: رأيتُ حين قتلتُه قد سطع منه نورٌ مثلُ السارية، حتى بلغ عَنان السماء (¬2). وقال هشام: حمل خالد في وسط الروم، فخرق الصفوف، فقتلوه على النهر. وقال ابن عائذ: أقام مع أم حكيم سبعةَ أيامٍ، والأوَّل أَشهر، وقيل: إن خالد بن سعيد فُقِد يوم اليرموك (¬3)، والأصحُّ أنه قُتل بمرج الصفر على ما ذكرنا. قلت: وربما سمع سامع قول الواقدي: فأعرس بها عند قنطرة أم حكيم وبها سُميت، فظنها قصرَ أم حكيم، وليس كذلك؛ لأن قنطرة أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام عند النهر القريب من الكسوة، وقصر أم حكيم قِبَليّ مرج الصفر، قريبًا من غباغب، وأم حكيم التي نُسب إليها القصر هي بنت يحيى، وقيل: بنت يوسف بن يحيى ابن الحكم بن العاص بن أمية، وذكرها الزبير بن بكارة وأمها زينب بنت عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، كانت شاعرة، تزوجها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، وطلقها، فتزوجها هشام بن عبد الملك، فولدت له يزيد بن هشام. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 98 - 99. (¬2) التبيين 195، وتاريخ دمشق 5/ 457. (¬3) انظر تاريخ الطبري 3/ 402.

السائب بن الحارث

وكانت لها دارٌ بدمشق، وسوق يقال له: سوق أم حكيم، وبنت القصر المشار إليه، وكانت تخرج فتقيم به. ويقال: إنه لما تزوجها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك تزوج عليها ابنة لأبي بكر ابن عبد الرحمن بن أبي بكر، فحظيت عنده، فطلَّق أمَّ حكيم، فتزوَّجها هشام بن عبد الملك، فلما مات عبد العزيز بن الوليد تزوج هشام ابنة أبي بكر بن عبد الرحمن، فجمع بينهما، ثم طلَّق هشام ابنة أبي بكر وأبقى أم حكيم، وقال لها: قد أَقَدْتُك منها، كما فعل بك عبد العزيز حيث طلقك وأبقاها، فولدت لهشامٍ محمدًا ويزيد ابني هشام (¬1). ذكر أولاد خالد بن سعيد: كان له من الولد عبد اللَّه وسعيد وأم خالد، ولدوا بالحبشة، فأما سعيد فكساه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حلةً فيها حرير، فيها سُمّيت الثياب السعيدية، وولد سعيدٌ بن خالد أربعين ولدًا: عشرين ذكرًا وعشرين أنثى، ومن ولده عمرو بن سعيد الأشدق الذي قتله عبد الملك بن مروان، وكان شُجاعًا فَطِنًا، قال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: أوصى إليّ، وما أوصى بي (¬2). وأما أم خالد فاسمها أمة، وأمُّها هُمينة بنت خلف بن أسعد الخُزاعية، ولدتها بأرض الحبشة، قالت أم خالد: سمعت النجاشيَّ يوم خرجنا يقول لأصحاب السفينتين: اقرؤوا جميعًا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مني السلام، قالت أمة: فكنتُ فيمن أقرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من النجاشي السلام. وروت أم خالد عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحاديث. وقال الواقدي: تزوج الزبير بن العوام أمة بنت خالد، فولدت له عمرًا وخالدًا ابني الزبير (¬3). السائب بن الحارث ابن قيس بن عديّ السَّهمي، من الطبقة الثانية من المهاجرين، هاجر إلى الحبشة ¬

_ (¬1) انظر الأغاني 16/ 277، ومعجم البلدان 4/ 355. (¬2) المعارف 296، والتبيين 190. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 97، والاستيعاب (3241)، وتاريخ دمشق 5/ 452، والتبيين 190.

سعد بن سلامة بن وقش

الهجرة الثانية، وجُرح يوم الطائف، وقُتل بعد ذلك بفِحْل بسواد الأردن سنة ثلاث عشرة، في أول خلافة عمر (¬1). سعد بن سلامة بن وَقْش من الطبقة الثانية من الأنصار، من بني عبد الأَشْهل، وأمه سُهيمة بنت عبد اللَّه من الأوس، شهد أحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واستشهد يوم جسر أبي عبيد، وليس له عقب (¬2). سَلمة بن أَسلَم ابن حَريش بن عَدي بن مَجْدَعة، أبو سعد، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو الذي كُسر سيفُه يوم بدر، وأعطاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَحْي جمل، فصار بيده سيفًا، وخرج به في جيش أسامة بن زيد، الذي جَهزه أبو بكر رضوان اللَّه عليه إلى البلقاء، وأمُّه سعاد بنت رافع من بني النجار. قُتل سلمة يوم جسر أبي عبيد، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقُتل في هذا اليوم أيضًا أخوه مسلمة بن أسلم، وهو من الطبقة الثانية من الأنصار (¬3). سَلمة بن هشام ابنِ المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، وأمُّه ضُباعة بنت عامر بن قُرْط، من ربيعة، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى في قول بعضهم، ولما رجع إلى مكة حبسه أخوه أبو جهل، وضربه وعذَبه، وهو أحد الثلاثة الذي كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدعو لهم إذا قَنَت في صلاة الفجر، فيقول: "اللهمَّ أَنْجِ الوليد ابنَ الوليد، وسلمة بنَ هشام، وعيَّاش بنَ أبي ربيعة" (¬4)، ثم نُسخ القنوت بعد. وكان سلمة من كبار الصحابة وفُضلائهم، وهو أخو أبي جهل، وكانوا خمسة ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 195، والاستيعاب (1062)، والتبيين 467، والإصابة 2/ 8 - 9. (¬2) الاستيعاب (899) و (1129) و (3175)، والاستبصار 222، والإصابة 2/ 82، 4/ 195. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 446، والاستيعاب (1017)، والاستبصار 248، والإصابة 2/ 63، وانظر السيرة 686، وجمهرة ابن حزم 342. (¬4) أخرجه أحمد (7260)، والبخاري (6200)، ومسلم (375) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

سليط بن قيس

أخوة: أبو جهل والحارث وسلمة وخالد والعاص بنو هشام، فأما أبو جهل والعاص فقُتلا كافِرَين ببدر، وأُسر خالد يومئذ، ثم فُدي ومات كافرًا، وأما سلمة والحارث فكانا من خيار المسلمين. ولم يشهد سلمة بدرًا لأنه كان محبوسًا، ثم أفلت بعد الخندق، ولحق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقام معه، فقالت أمّه ضُباعة: [من الرجز]: اللهمَّ ربَّ الكعبةِ المحرَّمة ... أظهرْ على كلِّ عدوٍّ سَلَمة له يدان في الأمور المبهمة ... كفٌّ بها يُعطي وكفٌّ مُنْعِمة وشهد سلمة غَزاةَ مؤتة، واستشهد بأجنادين قبل موت أبي بكر رضوان اللَّه عليه بليالٍ، في سنة ثلاث عشرة، وقيل: استشهد في مرج الصُّفَّر، في المحرم سنة أربع عشرة، في أول خلافة عمر (¬1). سَليط بن قيس ابن عمرو الأنصاري، من الطبقة الأولى من بني النجار، وأمُّه زُغَيبة بنت زُرارة بن عُدَس نجارية أيضًا، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان لما أسلم يَكسر أصنام بني عَديّ بن النجار (¬2). سُلَيم مَولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكُنيتُه أبو كبشة، وقيل: اسمه أوس، من مُوَلّدي السراة، وقيل [من مولّدي] أرض دوس، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتوفي بالمدينة يوم الثلاثاء لثمانٍ بقين من جُمادى الآخرة، في اليوم الذي استُخلف فيه عمر رضوان اللَّه عليه (¬3). سَهل بن عَتيك بن النُّعمان من الطبقة الأولى من الأنصار، من بني عمرو بن عوف (¬4)، وأمُّه جَميلة بنت ¬

_ (¬1) طبقال ابن سعد 4/ 130، والاستيعاب (1019)، والتبيين 355، والإصابة 2/ 68. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 512، والاستيعاب (1598)، والاستبصار 43، والإصابة 2/ 72. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 49، والاستيعاب (989)، والإصابة 4/ 165. (¬4) كذا في (أ) و (خ)، والذي في طبقات ابن سعد 3/ 510، والاستيعاب (1039)، وجمهرة ابن حزم 349، =

طليب بن عمير

علقمة، من بني مَبذول، شهد العقبة مع السبعين، وبدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واستشهد يوم جسر أبي عبيد، وقيل: إن الذي استشهد يوم الجسر أخوه لأبيه وأمّه، واسمه الحارث بن عَتيك، له صُحبة، ولم يشهد بدرًا، وكُنيته أبو أَخْزم، ولسهل رواية عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. طُلَيب بن عمير ابن وهب بن كثير بن عبد بن قصي، أبو عدي، وأمُّه أروى بنت عبد المطلب، عمَّةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا في دار الأرقم، ثم هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وآخى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين المنذر بن عمرو الساعدي، وشهد بدرًا في قول بعضهم، وهو أول من دَمَّى مشركًا في سبيل اللَّه، ضرب أبا جهل بلَحْي جمل بمكة في سنة خمس من النبوة (¬1)، واستشهد بأجنادين وهو ابن خمس وثلاثين سنة، وقيل: باليرموك، والأول أشهر. والذي استشهد باليرموك: طُلَيب بن عمرو بن وهب بن عبد اللَّه بن قصي بن كلاب (¬2). عبد اللَّه بن الزُّبير ابن عبد المطلب بن هاشم، ابن عمّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أسلم وحَسُن إسلامُه، وثبت مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم حُنين، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ابن عمي وحِبّي", واستشهد بأجنادين. قال أبو الحويرث: أول قتيلٍ من الروم يوم أجنادين بِطريق خرج معلمًا، فدعى إلى البِراز، فبرز إليه عبد اللَّه بن الزبير، فاختلفا ضربتين، فقتله عبد اللَّه ولم يعرض لسَلَبه، ثم برز إليه آخر، فضربه على عاتقه بالسيف، وقال: خُذها وأنا ابن عبد المطلب، فقطع الدرع، وأسرع السيفُ في منكبه، وعزم عليه عمرو بن العاص أن لا يبارز أحدًا، فقال عبد اللَّه: واللَّه إني لا أجدني أصبر، ثم اختلطوا، فوجدوه قتيلًا بين عشرة من الروم، ¬

_ = والاستبصار 77، والإصابة 2/ 88 أنه ابن عمرو بن عتيك بن عمرو بن مبذول بن مالك بن النجار. (¬1) في المنمق لابن حبيب 269، والإصابة 2/ 233 أن المضروب عوف بن صبرة السهمي. (¬2) كذا، وانظر ترجمة طليب بن عمير في المحبر 72، وطبقات ابن سعد 3/ 123، والاستيعاب (1266)، والتبيين 285.

عبد الله بن سفيان

في رِبضة (¬1)، قد قتلهم وقتلوه، وقائمُ سيفه في يده، فما نُزع من يده إلا بعد نهار، ويقال: إنه استشهد بفِحل. قال الواقدي: كان لعبد اللَّه يوم قُبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوٌ من ثلاثين سنة، ولا نعلمه غزا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا روى عنه حديثًا (¬2). عبد اللَّه بن سفيان ابن عبد الأسد المخزومي، من الطبقة الثانية من المهاجرين، أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة المرّة الثانية، وقتل بأجنادين، وقيل: باليرموك، وقيل: بمؤتة، وأخوه هبَّار ابن سفيان، وعبد اللَّه له رؤية، وهو ابن عمِّ أبي سلمة (¬3). أبو بكر الصديق رضوان اللَّه عليه واسمُه عبد اللَّه بن عثمان، وقد ذكرنا نسبه وجُمْلةً من فضائلهِ (¬4)، وهو من الطبقة الأُولى من المهاجِرين، وأحدُ العَشَرة المبشَرين، المجاهدُ بنفسه وماله في سبيل اللَّه، شهد بدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كُلَّها مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لم يَفُتْهُ مشهدٌ، وثبت معه يوم أُحُد لمّا انهزَمَ الناسُ، بايعه على الموت، ودفع إليه رسولُ اللَّه رايتَه العُظمى يوم تبوك. وهو أوَّلُ من أسلم من الرجال، وأوَّلُ من جمع القرآن، وتنزَّه عن شُرْب المُسكر في الجاهلية والإِسلام، وكان رئيسًا في الجاهلية، إليه مَساق الديات والمغارم، وكان أنسبَ العربِ، ولم يُفْتِ بحضرةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سواه. وذكرنا (¬5) أنَّه قال في غزاةِ حنين في حديث أبي قتادة: لا ها اللَّه ذا، وذكرنا (¬6) أن ¬

_ (¬1) مقتل كل قوم قتلوا في بقعة واحدة. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 471 (1376)، والاستيعاب (1374)، والتبيين 140، وتاريخ دمشق 9/ 229 (مخطوط)، والإصابة 2/ 308. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 135، والاستيعاب 1499، والتبيين 385، وتاريخ دمشق 9/ 364، والإصابة 2/ 319. (¬4) في أول هذا الجزء، وانظر في ترجمة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-: طبقات ابن سعد 3/ 169، وتاريخ الطبري 3/ 419، وأنساب الأشراف 5/ 121، والاستيعاب (1296) و (2845)، والمعارف 167، والتبيين 305، والمنتظم 4/ 53، وصفة الصفوة 1/ 235، وتاريخ دمشق 35 - 36/ 3 والإصابة 2/ 341. (¬5) سلف في السيرة. (¬6) في أول هذا الجزء.

أمَّه أُمُّ الخير، واسمُها سلمى بنت صخر بن عامر [بن كعب] بن سعد بن تَيْم، وتُوفّيت في صدر الإِسلام بعد أن أسلمت وبايعت. وأسلم على يد أبي بكر من العشرة خمسةٌ: عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف. وقال الموفق في الأنساب: وأسلم على يده الأَرْقَم بنُ أبي الأرقم (¬1). وهو أوَّلُ مَن أجاب على المنبر وهو يخطب عن ميراث الجدة، قال: لا أَجدُ لها في كتاب اللَّه شيئًا، فشهد عبدُ الرحمن بن عوف والمغيرة بن شعبة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطاها السُّدس، فعمل بما شهدا به. وكان أول من قضى للجدة بسهم، وأوَّل من أسقط الأخوة من الأب بالجد، وأول مَن قاء مخافةَ الحرام، وأول مَن غَسَّلتْه زوجتُه في الإِسلام، وأول من نصَّ على خليفةٍ بعده، وأول مَن دُفن إلى جانب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأول من وَلَّى قاضيًا بحضرته وهو عمر ابنُ الخطاب، وأوَّل مَن ولَّى صاحبَ شرطةٍ وهو أبو عبيدة، وهو أَوَّل مَن اتخذ حاجبًا من الخلفاء، وهو سَديف مولاه (¬2). وكان زاهدًا، عابدًا، ورعًا، باكيًا، خائفًا، خاشعًا، متواضعًا، يحلب أغنام الحيِّ، وقد ذكرناه (¬3). وحكى ابن سعد أن نَقْشَ خاتمه: نعم القادر اللَّه (¬4)، وقيل: عبد ذليل بين يدي رب جليل (¬5). وكان يلبس في خلافته الشَّملة والعباءة، وقدم عليه أشراف العربِ وملوك اليمن لما ولي الخلافةَ وعليهم التيجان والحرير والوشي، فلما رأوا لباسَه رموا ما كان عليهم، وسلكوا طريقه في التواضع ومكارم الأخلاق. ¬

_ (¬1) التبيين 306. (¬2) انظر تخريج الدلالات السمعية 66. (¬3) في أول هذا الجزء. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 211. (¬5) الاستيعاب (1296).

ذكر إنفاقه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما أعتق

ذكر إنفاقه على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وما أعتق: قال ابن سعدٍ بإسناده عن أسامة بن زيد ابن أسلم عن أبيه قال: كان أبو بكرٍ معروفًا بالتجارة، لقد بُعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعنده أربعون ألفًا -قال عروة بن الزبير: أربعون ألف دينار، وغيره يقول: أربعون ألف درهم- فلم يزل يُقوي المسلمين، ويُعتِق منها؛ حتى قدم المدينة ومعه خمسةُ آلاف درهم، فكان يفعل فيها ما يفعل بمكة، حتى تُوفِّي ولم يترك دينارًا ولا درهمًا (¬1). وقال أحمد بن حنبل: حدثنا [أبو] معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما نَفعَني مالٌ كمال أبي بكرٍ" فبكى أبو بكر وقال: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول اللَّه (¬2). وفي روايةٍ: "ما لأحدِ عندنا يدٌ إلَّا وقد كافيناه عليها ما خلا أبا بكرٍ، فإن له عندنا يدًا يكافيه اللَّه عليها" (¬3). فإن قيل (¬4): فقد أنفقت عليه خديجة أضعافَ ذلك، وما قال: ما نفعني مالٌ كمالِ خديجة، فالجواب: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُثنى على خديجة، ويَعترف بإنفاقها عليه، وإحسانها إليه، على ما ذكرناه في ترجمتها (¬5). وقولُه: "ما نفعني مال كمال أبي بكرٍ", أراد به المبالغةَ في الثناء عليه. وقد ذكر جدي رحمه اللَّه في كتاب "المنتخب" وقال: إذا أراد اللَّه قَبول نَفقةٍ قَدَّر لها فاقةَ مُحتاجٍ، وأَحوجُ ما كان الإِسلامُ إلى نفقة أبي بكرٍ، فلهذا حُلِّي حليةَ: "ما نفعني مال كمالِ أبي بكرٍ". وقال في إنفاق خديجة: أنفقت خديجةُ لشائبةِ هواها، ونفقةُ أبي بكرٍ لقاعدةٍ بناها. قلت: فأبو بكرٍ -رضي اللَّه عنه- إنما أنفق بعد الرسالة ونزول الوحي، وذلك في سنة أربعين من النبوَّة، ورسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوَّج خديجة وهو ابن خمسٍ وعشرين سنة، قبل النبوة بخمس عشرة سنةً، فإنفاقُ خديجةَ عليه مُتقدّم على إنفاق أبي بكر بخمس عشرة سنةً، ثم شاركت ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 172. (¬2) مسند أحمد (7446)، وفضائل الصحابة له (25). (¬3) سنن الترمذي (3661). (¬4) من هنا، إلى قوله: وآمن برسالته. . . في الصفحة التالية ليس في (أ) و (خ). (¬5) سلف في السيرة.

فصل في ذكر ما نزل فيه من الآيات

أبا بكرٍ بعد النبوة في الإنفاق عشرَ سنين؛ لأنها تُوفِّيت في السنة العاشرة من النُّبوَّة. ولا يُقال. أنفقتْ خديجةُ لشائبةِ هواها؛ لأنها إنما تزوجت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما أخبرها غلامها ميسرةُ بحديث بَحيرى الرّاهب، وتظليلِ الغمامة لرسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحوِ ذلك، فتزوَّجته لذلك المعنى، والدليلُ عليه أنها أوّلُ مَن أسلم وصدَّق بنُبوَّته وآمن برسالته، وقد ذكرناه (¬1). وقد ذكرنا أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمّا حثَّ على الصدقة في غزاة تبوك، جاء أبو بكرٍ بكلِّ ماله، وجاء عمر بنصف ماله، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي بكر: ما أبقيتَ لعيالك؟ قال: اللَّه ورسوله، وقال لعمر: ما أبقيت لعيالك؟ قال: مثلَ ما جئتُ به، وكان عمرُ قد قال: لأُسابقنَّ اليوم أبا بكرٍ، فلما جاء بالكلِّ قال عمر: واللَّه لا أُسابقُك إلى شيءٍ أبدًا (¬2). وأما ما أعتق أبو بكرٍ، فقال هشام: أعتق سبعةً ممن كان يعذبُ في اللَّه تعالى: أعتق بلالًا وعامر بن فُهيرة وزِنيرة والنَّهْدية وابنتها وجارية بني عمرو وأم عُمَيْسٍ أو عُبَيْس (¬3). وقال هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: قال أبو قُحافة لابنه أبي بكرٍ: يا بُنيّ، أَراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك تُعتِق رجالًا جُلدًا يمنعونك ويقومون دونك، فأنزل اللَّه {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} (¬4) الآية [الليل: 5]. وقد ذكرنا أنه اشترى بلالًا فيما تقدَّم، وقول المشركين: غُبِنْتَ: فقال: المغبونُ من كل ثمنَ بلالٍ (¬5). فصل في ذكر ما نزل فيه من الآيات: قال ابن عباس: عاتب اللَّه أهل الأرض بقوله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} الآية [التوبة: 40]، إلَّا أبا بكرٍ -رضي اللَّه عنه-, فإنه أثنى ¬

_ (¬1) سلف في السيرة. (¬2) سلف في غزاة تبوك في الجزء الرابع، وأخرجه أبو داود (1678)، والترمذي (3675)، وابن الجوزي في المنتظم 4/ 57 - 58 عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. (¬3) سيرة ابن هشام 1/ 318 - 319، وتاريخ دمشق 35/ 157 - 158. (¬4) سيرة ابن هشام 1/ 319، وتفسير الطبري 24/ 479 (هجر)، وأسباب النزول للواحدي 487، وتاريخ دمشق 35/ 160. (¬5) سلف في قسم السيرة.

حديث الأبواب

عليه حيث قال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (¬1). قال: وفيه نزل قوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} الآيات (¬2) [الليل: 19]. وفيه نزل: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} (¬3) [الحديد: 10]. وفيه نزل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} (¬4) [التوبة: 100] في آياتٍ كثيرةٍ. حديث الأبواب: في آخر حديث التَّخيير، وقد تقدم (¬5)، "سدوا هذه الأبواب إلا باب أبي بكر", وفيه: "إن أَمَنَّ الناسِ بصُحبته وماله أبو بكر، ولو كنتُ مُتَّخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا" (¬6). فإن قيل: فما الحكمة في سد الأبواب؟ قُلنا: تعظيمًا لحقِّ أبي بكر -رضي اللَّه عنه-، واعترافًا لفضله، إذ سُدَّت جميعُ الأبواب -وهي الخوخات- وبقيت خوخته لم تُسَدّ. حديث المفاخرة: قال أبو الدرداء: كنت جالسًا عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبتيه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمَّا صاحبُكم فقد غامر" فسلَّم ثم جلس، وقال: كان بيني وبين عمر بن الخطاب شيءٌ، فأسرعتُ إليه ثم ندمتُ، فسألتُه أن يَغفرَ لي، [فأبى عليَّ] فأقبلتُ إليك، فقال: "يَغفر اللَّه لك يا أبا بكر" قالها ثلاثًا، ثم إن عمر نَدم، فأتى منزلَ أبي بكر فسأل: أَثَمَّ أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجعل وَجهُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَمعَّر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه وقال: يا رسول اللَّه، أنا كنتُ الظَّالم، وأنا كنتُ أظلم له، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه بعثني إليكم، فقُلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ أو صدق، وواساني بنَفسِه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي"؟ قالها مرّتين، فما أُوذي بعدها. انفرد بإخراجه البخاري (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر 35/ 186 عن ابن عيينة. (¬2) أخرجه ابن عساكر 35/ 160 - 161. (¬3) انظر أسباب النزول للواحدي 431. (¬4) أخرجه ابن مردويه -كما في الدر المنثور 3/ 269 - عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬5) سلف في قسم السيرة. (¬6) أخرجه البخاري (466)، ومسلم (2382)، وأحمد (11134) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬7) في صحيحه (3661).

حديث في الصلاة

حديث في الصلاة: قد ذكرنا صلاةَ أبي بكر رضوان اللَّه عليه بالناس في مرض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا حديثا يختصُّ بحالة الصّحة. قال سهل بن سعد: كان قتالٌ في بني عمرو بن عوف حتى تَرامَوا بالحجارة، فبلغ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأتاهم ليُصلح بينهم بعد الظهر، وقال: يا بلال، إن حَضرت الصلاة ولم آتِ فَمُرْ أبا بكر أن يُصلّي بالناس، وجاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من حيث ذهب، فجعل يَتخلّل الصفوف، حتى بلغ الصفَّ الأوّل، ثم وقف، وجعل الناس يُصفِّقون ليُؤذِنوا أبا بكر برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان أبو بكر لا يَلتفتُ في الصلاة، فلما أكثروا عليه التفت، فإذا هو برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلفه مع الناس، فأشار إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن اثْبُتْ، فرفع يديه كأنه يدعو، ثم استأخر القَهْقَرى حتى جاء الصف، فتقدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فصلى بالناس، فلما فرغ من صلاته قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بالكم، أَنابَكم في صلاتكم شيءٌ فجعلتم تصفِّقون؟ ! إذا ناب أحدَكم شيءٌ في صلاته فليسبِّح اللَّه تعالى، فإنما التسبيحُ للرجال، والتَّصفيقُ للنساء", ثم قال لأبي بكر: "لم رفعتَ يديك، ما منعك أن تَثبُتَ حين أشرتُ إليك؟ ", فقال: رفعتُ يديَ لأني حَمدتُ اللَّه عز وجل على ما رأيتُ منك، ولم يكن لابن أبي قُحافة أن يَؤمَّ برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). حديث المرأة: قال جُبير بن مُطعم: أتت امرأةٌ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمرها أن ترجعَ إليه، فقالت: أرأيتَ إن جئتُ فلم أرك أو أجدَك؟ كأنها تقول: الموت، قال: "فأتي أبا بكر". متفق عليه (¬2). فصل في حديث التَّخَلُّل بالعباءة: قال جدي رحمه اللَّه بإسناده عن عبد اللَّه بن عمر قال: كنتُ عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعنده أبو بكرٍ الصديق، وعليه عباءةٌ لا قد خَلّها في صدره بخِلالٍ، فنزل عليه جبريل فقال: يا محمَّد، ما لي أرى على أبي بكرٍ عباءةً قد خَلَّها في صدره؟ فقال: يا جبريل، إنه أنفقَ عليَّ مالَه قبل الفتح، فقال: قُلْ له: الحقُّ يُقرئك السلام، ويقول لك: أراضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أأسخط على ربي؟ أنا عن ربي راضٍ. قالها ثلاثًا (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (22807)، والبخاري (684)، ومسلم (421). (¬2) صحيح البخاري (3659)، وصحيح مسلم (2386). ومن قوله: حديث الأبواب. . . إلى هنا زيادة من (خ). (¬3) المنتظم 4/ 61، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 35/ 162 - 163.

فصل في حديث ورعه

وذكر أبو القاسم بن عساكر في تاريخه عن ابن عباس، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمعناه، فقال: هبط عليَّ جبريل وعليه طِنفسَةٌ، وهو مُتخلِّلٌ بها فقلتُ: "يا جبريلُ، ما نزلتَ إليَّ في مثل هذا الزيِّ! " فقال: إن اللَّه أمر الملائكةَ أن تتخلَّل في السماء؛ لتخلُّلِ أبي بكرٍ في الأرض (¬1). فصل في حديث وَرَعِه: قال أبو نُعيم بإسناده عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكرٍ مملوكٌ يَغلُّ عليه، فأتاه ليلةً بطعامٍ، فتناول منه لقمةً، فقال له المملوكُ: مالك كُنتَ تسألُني كلَّ ليلةٍ، ولم تسألني الليلة؟ قال: حملني على ذلك الجوعُ، من أين جئتَ بهذا؟ قال: مررتُ بقومٍ في الجاهلية، فرَقيتُ لهم فوعدوني، فلما أن كان اليوم مررتُ بهم، فإذا عرسٌ لهم، فأعطوني، فقال: أفٍّ لك، كدتَ تُهلكني، فأدخل يده في حلْقه، فجعل يتقيّأ، وجعلتْ لا تخرج، فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء، فدعا بعُسٍّ من ماءٍ، فجعل يشرب ويتقيّأ، حتى رمى بها، فقيل له: يَرحمك اللَّه، كلُّ هذا من أجل لُقمةٍ؟ فقال: لو لم تَخرُج إلا مع نفسي لأخرجتُها، سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "كلُّ جسدٍ نَبت من سُحْتٍ فالنارُ أولى به" فخشيتُ أن يَنبتَ شيءٌ من جسدي من هذه اللقمة (¬2). وقد أخرج البخاري في أفراده عن عائشة بمعناه، وفيه: كان لأبي غلامٌ يَغُلُّ عليه، وكان أبي يأكلُ من خَراجه (¬3)، والخراج: الضَّريبةُ التي يَتَّفق العبدُ مع سيِّده عليها، يؤدّيها إليه، والكهانة: تعاطي علم الغيب. وقد ذكرنا أن أبا بكرٍ كان أول من تاجر مخافة أكل الحرام. ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 5/ 442، ومن طريقه ابن عساكر 35/ 163 - 164 من طريق محمَّد بن عبد اللَّه بن إبراهيم بن ثابت الأشناني، عن حنبل بن إسحاق، عن وكيع، عن شعبة، عن الحجاج، عن مقسم، عن ابن عباس. وقال الخطيب عقبه: ما أبعد الأشناني من التوفيق، تراه ما علم أن حنبلا لم يرو عن وكيع، ولا أدركه أيضًا، ولست أشك أن هذا الرجل ما كان يعرف من الصنعة شيئًا، وقد سمعت بعض شيوخنا ذكره فقال: كان يضع الحديث، وأنا أقول: إنه كان يضع ما لا يحسنه، غير أنه، واللَّه أعلم، أخذ أسانيد صحيحة من بعض الصحف فركب عليها هذه البلايا، ونسأل اللَّه السلامة في الدنيا والآخرة. (¬2) حلية الأولياء 1/ 31، والمنتظم 4/ 62. (¬3) صحيح البخاري (3842).

ذكر تواضعه وخوفه

وقد روى ابن أبي الدنيا عنه أنه كان يأخذ بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد (¬1). ذكرُ تواضُعِه وخوفِه: قال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل بإسناده، عن أبي عمران الجَوْني قال: قال أبو بكر: وَدِدتُ أني شَعرةً في جَنب عبدٍ مؤمن. وفي روايةٍ: يا ليتني كنتُ شجرة تُعضَدُ، أي: تُقطَعُ، ثم تُؤكل، يا ليتني كنتُ كَبْشًا، فأكلني أهلي ولا أُبعثُ (¬2). وقال عبد اللَّه بن أحمد بإسناده، عن ابن أبي مُليكة قال: ربّما سقط السَّوطُ أو الخِطام من يد أبي بكرٍ، فيَضرب بذراع ناقته، فيُنيخُها، فيأخذُه، فيُقال له: ألا أمرتنا نناولكه؟ فيقول: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرني أن لا أسأل الناسَ شيئًا (¬3). ذكرُ طرفٍ من خُطبه: قد ذكرنا عند خلافته طوفًا من ذلك. وحدَّثنا غير واحدٍ، حدثنا إسماعيل بن أحمد بإسناده عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، أن أبا بكرٍ -رضي اللَّه عنه- كان يقول في خُطبته: أين الوِضاء، الحسنةُ وجوهُهم، المعجَبون بشبابهم؟ أين الملوك الذين بَنَوْا المدائن، وحصَّنوها بالحيطان؟ أين الذين كانوا يُعْطَوْن الغَلَبةَ في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم الدهرُ، فأصبحوا في ظلماتِ القبورِ. الوحا الوحا، النجاءَ النجاءَ (¬4). وقال عبد اللَّه بن عُكيم: خطبنا أبو بكرٍ فقال: أما بعد فإني مُوصيكم بتقوى اللَّه، وأن تُثنوا عليه بما هو أهلُه، وأن تَخلِطوا الرَّغبةَ بالرَّهبة، وتجمعوا الإلحافَ بالمسألة فإن اللَّه تعالى أثنى على زكريا وأهلِ بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]. ثم اعلموا عباد اللَّه أن اللَّه قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقَكم، واشترى منكم القليلَ الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب اللَّه فيكم، لا تَفنى عجائبُه، ولا يُطفأ نورُه، فصدِّقوا قولَه، واستضيؤؤوا بنوره ليوم الظلمة، وإنما خلقكم لعبادته، ووَكل بكم الكرامَ الكاتبين، يعلمون ما تفعلون. ¬

_ (¬1) الصمت وآداب اللسان (13)، وأخرجه أحمد في الزهد 135 - 136 و 139، ومالك في الموطأ 2/ 988. (¬2) الزهد لأحمد 135 و 139. (¬3) مسند أحمد (65). (¬4) المنتظم 4/ 69، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (10111)، وابن عساكر 35/ 444.

ذكر مرض أبي بكر

ثم اعلموا عباد اللَّه أنكم تَغدون وتَروحون في آجال قد غُيِّبت عنكم، أو غُيِّب عنكم علمُها فإن استطعتُم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل اللَّه فافعلوا, ولن تستطيعوا ذلك إلا باللَّه تعالى، فسابقوا في مهل آجالكم، قبل أن تنقضي آجالكم، فتُردُّون إلى أسوأ أعمالكم، فإن أقوامًا جعلوا آجالَهم لغيرهم، ونَسُوا أنفسَهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالَهم، الوحا الوحا، النَّجاء النَّجاء، إن وراءكم طالبًا حثيثًا، أمره سريع (¬1). ذكر مرض أبي بكر: واختلفوا في سبب ذلك على أقوال: أحدها ما رواه سيف بن عمر قال: حدثنا مبشر بن الفضيل، حدثنا سالم بن عبد اللَّه ابن عمر، عن أبيه قال: كان سبب موت أبي بكر -رضي اللَّه عنه- وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، كَمِدَ فما زال جِسْمُه ينحلُ ويذوب حتى مات. وفي روايةٍ عن سالم عن ابن عمر، ولم يذكر عمر (¬2). والثاني أنَّه سُمَّ، فقال ابن سعدٍ بإسناده عن ابن شهابٍ، أنَّ أبا بكرٍ والحارثَ بن كَلَدَة كانا يأكلان خَزيرةً أُهدِيت لأبي بكرٍ، فقال له الحارث: ارفع يدك يا خليفةَ رسول اللَّه، واللَّه إنَّ فيها لَسَمَّ سنةٍ، وأنا وأنت نموتُ في يومٍ واحدٍ عند إنتهاء السنة، فماتا عند انقضائها, ولم يزالا عليلَيْن حتى ماتا (¬3). وقد ذكرنا أن الخزيرة أن تقطع اللحم وتَذرَّ عليه الدقيقَ، فإن لم يكن في القدر لحمٌ فهي العصيدةُ (¬4). وقال أبو جعفرٍ الطبري: الذي سمَّتْهُ امرأةٌ من اليهودِ في أرُزَّةٍ (¬5). والثالث: أنه اغتسل في يومٍ باردٍ، فحُمَّ خمسة عشر يومًا وتُوفّي. حكاه الواقدي عن عائشة (¬6). ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 69 - 70، وأخرجه هناد في الزهد (495)، وأبو نعيم في الحلية 1/ 35، والبيهقي في شعب الإيمان (10109) (10110)، وابن عساكر 35/ 448، ومن قوله: قال عبد اللَّه بن عكيم، إلى هنا ليس في (ك). (¬2) تاريخ دمشق 35/ 532، وليس فيه ذكر لعمر! ؟ (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 198. (¬4) سلف في أسماء الولائم والأطعمة من أخبار الأمم الماضية. (¬5) تاريخ الطبري 3/ 419. (¬6) طبقات ابن سعد 3/ 201 - 202.

والرابعُ: أنه علق به سِلٌّ قبل وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يَزلْ به حتى قتله. حكاه عكرمة، عن ابن عباسٍ. قال: وكان يأمرُ أبو بكر عمرَ فيصلي بالناسِ، ويدخلُ عليه الناسُ فيعودونه، وكان عثمانُ ألزمَ الناس له في مرضه. وقال عبد اللَّه بن أحمد بإسناده عن أبي السَّفْر قال: مرض أبو بكرٍ فعاده الناسُ، وقالوا: ألا ندعو لك طبيبًا؟ فقال: الطبيب أمرضني، وقد رواه أبو نُعيمٍ: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: قد رآني، قالوا: فأي شيءٍ قال لك؟ قال: قال: إني فعَّالٌ لما أُريد (¬1). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن مسروقٍ، عن عائشة قالت: لمَّا مرِض أبو بكرٍ مرضَه الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذُ دخلتُ الإمارةَ، فابعثوا به إلى الخليفة بعدي، قالت: فلما مات نظرنا؛ فإذا عبدٌ نوبيٌّ كان يحملُ صبيانَه، وناضحٌ كان يَسني عليه، أي: يسقي له بستانًا، وقطيفة، فبعثنا به إلى عمر، فبكى عمرُ وقال: يرحمُ اللَّهُ أبا بكرٍ، لقد أتعب مَن بعده تعبًا شديدًا. وفي روايةٍ عنها: ما كان عنده يومَ مات درهم ولا دينارٌ، ما كان عنده إلا خادمٌ ولقْحَةٌ ومِحْلَبٌ. وروى ابن سعدٍ: أن أبا بكرٍ بعث إلى عمر بالعبدِ النُّوبي والناضح والقطيفة، وكانت تُساوي خمسة دراهم، فقال له عبد الرحمن بن عوفِ: سبحان اللَّه تسلبُ عيالَ أبي بكرٍ هذا؟ رُدَّه عليهم فقال: لا واللَّه، لا يتأثَّمُ بها أبو بكرٍ حالَ حياته وأتحمّلُها بعد مماتهِ. وفي روايةٍ: فقال عمرُ لعبد الرحمن: ما تأمرُ؟ قال: رُدَّه عليهم. فقال: لا يَخرُج عن شيءٍ وقتَ الموت وأردُّه في عيالِه (¬2). وقال الشعبي: نظروا فيما وصلَ إليه فكان ستَة آلاف درهم فقال: حائطي الفُلاني عِوَضُها، وكان يُساوي أضعافها فأدخله في بيتِ المال. وأوصى بعد ذلك بخُمْسِ ماله ¬

_ (¬1) الزهد لأحمد 140، وحلية الأولياء 1/ 34، وأخرجه هناد في الزهد (382)، وابن سعد 3/ 198، والبلاذري 5/ 155، وابن عساكر 35/ 533 - 534. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 192 و 193 و 196.

في سبيل اللَّه. وأخرج ابنُ سعدٍ بمعناه، وفيه: فقال عمر: أنا وليُّ الأمر بعده فردَّها في عياله (¬1). وذكر ابن سعدٍ: أن عائشة لما احتُضِر أبو بكرٍ تمثَّلت يقول حاتم: [من الطويل] لعَمرك ما يُغني الثراءُ عن الفتى ... إذا حَشرَجَتْ يومًا وضاق بها الصَّدْرُ (¬2) ففتح عينيه وقال: يا بُنَيَّةُ، لا تقولي كذا, ولكن قوفي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} [ق: 19] وهي قراءة أبي بكر -رضي اللَّه عنه- (¬3). وذكر ابن سعدٍ أيضًا عن عائشة أنها تمثَّلت وأبو بكر رضوان اللَّه عليه يَقضي: [من الطويل] وأبيض يُستسقى الغَمامُ بوجهه ... ثمالُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ ففتح عينيه وقال: ذاك رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). وقال أحمد بإسناده عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: لما ثَقُل أبي قال: أيّ يومٍ هو؟ قالوا: يوم الإثنين. قال: ففي أي يومٍ قُبض رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قالوا: فيه. قال: فأني أرجو ما بينه وبين الليل. قالت: وكان عليه ثوب به رَدْعٌ من مِشْقٍ، فقال: إذا مِتُّ، فاغسلوا ثوبيَّ هذين، أو ثوبي هذا، وضُمُّوا إليه ثوبَين جديدَين، فكفِّنوني في ثلاثة أثوابٍ. قالت: فقُلنا: ألا نجعلُها كلها جُددًا؟ قال: لا إنما هي للمهلة. فمات ليلة الثلاثاء. انفرد بإخراجه البخاري (¬5). وروى ابن سعدٍ عن عائشة قالت: قال أبي: انظروا مُلاءتيَّ هاتين، فاغسلوهما، ¬

_ (¬1) الطبقات 3/ 193. (¬2) ديوانه 50. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 195 - 197، وأخرجه كذلك أحمد في الزهد 136، وابن عساكر 35/ 552 - 553. وأخرجه الطبري في التفسير 21/ 427 - 428، والبلاذري في أنساب الأشراف 5/ 154، وابن عساكر 35/ 554، وعندهم أن قراءته {وجاءت سكرة الحق بالموت}، وانظر إعراب القرآن للنحاس 4/ 225، والمحتسب 2/ 283. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 197 - 198. (¬5) مسند أحمد (34186)، وصحيح البخاري (1387).

ذكر ما سمع من أبي بكر عند وفاته

وكفِّنوني فيهما؛ فإن الحي أحوجُ إلى الجديد من الميِّتِ، إنما هو للمُهْلِ والصديد والتُرابِ (¬1). ذكر ما سُمع من أبي بكر عند وفاته: [كان آخر ما تكلم به أبو بكر: ] {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] (¬2) ولما احتُضر قال: ما آسى على شيء من الدنيا، إلا على ثلاثٍ فعلتُهنَّ وَدِدت أني تركتُهن، وثلاثٍ وَددتُ أني لو فعلتهن، وثلاثٍ وَدِدتُ أني سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عنهنّ. أما الأوَّل: فوددت أني [لم] أكن كشَفْتُ بيتَ فاطمة عن شيء، وإن كانوا أغلقوه على حرب، ولم أكن حَرّقتُ الفُجاءةَ السُّلَمي، وحيث لم أقذف الأمر يوم السقيفة إلى أحد الرجلين -يعني: عمر وعبد الرحمن بن عوف- فكان أميرًا وكنت وزيرًا (¬3). وأما الثلاث الأخر: فوَدِدْتُ أني يوم أُتيتُ بالأشعث بن قيس أسيرًا في الردة كنتُ ضربتُ عُنقَه، فإنه لا يرى شرًا إلا أعانه، ووَدِدْتُ أني لما أرسلتُ خالدًا إلى الشام أني قذفتُ بعمر بن الخطاب المشرق، فكنتُ قد بَسطتُ يميني وشمالي في سبيل اللَّه، ووددت أني كنتُ في جيوش أهل الرّدة وأقمتُ بذي القَصَّة رِدْءًا للمسلمين. وأما الثلاث الأول: فوَدِدْتُ أني سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ميراث العمَّة وبنت الأخ، فإن في نفسي منهما شيء، ووَدِدْتُ أني سألتُه عن هذا الأمر فيمن هو، فلا يُنازَع أهلُه، ووددت أني سألته هل للأنصار فيه نصيبٌ، فنعطيهم إياه (¬4). وقال الواقدي: تُوفي أبو بكر ليلةَ الثلاثاء، ما بين المغرب والعشاء، لثماني ليالٍ بَقين من جُمادى الآخرة (¬5). وقال ابن قتيبة (¬6): توفي يوم الجمعة، وقيل ليلة الجمعة، والأول أصحّ. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 205 - 206. (¬2) أنساب الأشراف 5/ 155. (¬3) في تاريخ الطبري 3/ 430، وتاريخ دمشق 35/ 542 - 549: ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت لأمر في عنق أحد الرجلين يريد عمر وأبا عبيدة، فكان أحدهما أميرًا، وكنت وزيرًا. (¬4) من قوله: ذكر ما سمع من أبي بكر عند وفاته، إلى هنا ليس في (ك). (¬5) أخرجه ابن سعد 3/ 201 - 202، والطبري 3/ 419 - 420. (¬6) المعارف 171.

ذكر الصلاة عليه

وقال هشام: أوصى أن تَغسِله زوجتُه أسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ، وكانت صائمةً، فقال لها: باللَّهِ أفطري، فقالت: واللَّهِ لا أتبِعُه اليومَ حِنْثًا، فشربت ماءً. وقال ابن سعدٍ: لمّا غسلته خرجت إلى من حضر من المهاجرين والأنصار، فقالت: إني صائمةٌ، وهذا يومٌ شديدُ البرد، فهل على من غُسْلٍ؟ قالوا: لا. وروى القاسم بن محمد بن أبي بكرٍ أنّه أوصى أن تَغسِله أسماءُ، فإن عجزت أعانها محمد ابنُه. قال الواقدي: وهذا وهم؛ لأنَّ الروايةَ الثانية أن أبا بكرٍ أوصى أن تَغسِله أسماءُ، فإن عجزت أعانها عبد الرحمن بنُ أبي بكرٍ؛ لأنَّ محمدًا وُلدَ بذي الحُليفة في سنة عشرٍ من الهجرة، فقد كان لمحمَّدٍ يوم مات أبو بكرٍ ثلاثُ سنين أو نحوها، أما عبدُ الرحمن فكان كبيرًا يوم مات أبوهُ (¬1). ذكرُ الصلاة عليه: قال علماءُ السير: صلَّى عليه عمر بين القبر والمنبر، وكبَّر عليه أربعًا، ودُفِن عند رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلًا. قال الواقدي: سُئل عقبةُ بن عامرٍ: أيُدْفَن الميتُ ليلًا؟ فقال: قد دَفن عمرُ أبا بكرٍ ليلًا، ونزل في حفرتهِ هو وعثمان وطلحةُ وولده عبد الرحمن بن أبي بكرٍ، وقال ابن عمر: وأردْتُ أن أنزِل، فقال عمرُ: كُفيت، ودُفِنَ ورأسُه عند كَتِفي رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، وسُنِّم قبرُه في أصحِّ الروايات (¬3). وقال ابن إسحاق: حُمِل على سريرِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان من خشب السَّاج، منسوجًا باللِّيف، وهو الذي أعطاه إياه سعدُ بن عُبادة لمّا قَدِم المدينة، ثمَّ بيع في ميراث عائشة، فاشتراه معاويةُ بأربعة آلاف درهم، وجعله في المدينة وَقْفًا على المسلمين. وقال ابن قتيبة: إنما اشتراه بعضُ موالي معاوية (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 203 - 204. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 206 - 208، وتاريخ الطبري 3/ 422. (¬3) كذا، والذي في طبقات ابن سعد 3/ 209 و 210، وتاريخ الطبري 3/ 422 - 423، وأنساب الأشراف 5/ 164، وتاريخ دمشق 35/ 576، والمنتظم 4/ 130، أن لحده ألصق بقبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنه جُعل مثل قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مُسَطَّحًا، لا مُشرِفًا، ولا لاطئًا. (¬4) المعارف 171، وانظر تاريخ دمشق 35/ 574.

ذكر سنه

ذكر سِنِّه: حكاه الواقدي عن أشياخه قال: تُوفّي أبو بكرٍ وهو ابن ثلاثٍ وستين سنةً، قال الواقدي: وهو الثَّبت عندنا، قال: لأنه ولد بعد رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بثلاث سنين (¬1)، وقيل: ابن ستين سنةً. والأوَّل أصحُّ، وعليه عامّةُ أربابِ السِّيَرِ. ذكر خلافته: قال الواقدي: أقام خليفةً سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليالٍ. وقال هشام: سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليالٍ. ذكر النَّوح عليه: ذكر ابن سعدٍ أن عائشة أقامت النَّوْح عليه، فبلغ عمر بن الخطاب، فجاء فنهاها، فأبت، فقال لهشام بن الوليد: ادخل على ابنة أبي قُحافة، فاضربها بالدِّرّة، فدخل فعلاها ضَرْبًا، فتفرَّق النوائح، ثم قال عمر: أردْتُنّ أن تُعذِّبْنَ أبا بكرٍ بنَوحكنَّ عليه، أو ببكائكنَّ عليه، إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ الميّت لَيُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه" (¬2). وذكر أبو جعفر الطبري في تاريخه (¬3) أن المضروبة هي أمُّ فروة أخت أبي بكرٍ، وقال عمر لهشام: ادخل فأخرجها من بيت عائشة، فدخل فقالت له عائشةُ: اخرج من بيتي، فأخرج أمَّ فروة، ثم ضربها ثلاث دررٍ. قلتُ: وهذا الأصحُّ؛ لأن عمر ما كان يَجهل فضلَ عائشة، وأنها أمُّ المؤمنين وزوجةُ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد كانت مُحْتَرمةً بين الصحابةِ، فكيف يضربها بالدِّرَّة وهي أمّه؟ وقولُ عمر: ابنة أبي قُحافة يدلُّ عليه؛ لأن ابنة أبي قُحافة هي أمُّ فروة لا عائشة. وقوله: "إن الميِّت ليُعذَّب ببكاء أهله عليه", قد أنكر هذا ابنُ عباسٍ، ولو سلم كان معناه إذا أوصى بذلك، وإلّا فلا ذَنبَ للميت (¬4). ذكر ثناءِ عليّ عليه السلام عليه: حدثنا غيرُ واحدٍ قالوا: حدثنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القَزّاز بإسناده، عن أَسِيد بن صفوان قال: لما قُبضَ أبو بكرٍ -رضي اللَّه عنه- وسُجّي، ارتجَّت المدينةُ بالبكاء كيوم قُبِض رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجاء عليُّ بن أبي طالب ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 202. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 208 - 209، وأخرج الحديث أحمد (180)، والبخاري (1292)، ومسلم (927). (¬3) فيه 3/ 423. (¬4) انظر شرح النووي لصحيح مسلم 6/ 228، وفتح الباري 3/ 161.

مُسرعًا، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكرٍ وقال: رحمك اللَّه يا أبا بكرٍ، فلقد كُنتَ إِلْفَ رسول اللَّه، وأنيسَه، وثقتَه، وموضعَ سرِّه، ومشاورَه، وكنتَ أوّلَ القوم إسلامًا، وأخلصَهم إيمانًا، وأشدَّهم يقينًا، وأخوفهم للَّه، وأعظمَهم غناءً في دين اللَّه، وأحوَطَهم على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأحدَبَهم على الإِسلام، وأحسنَهم صُحبةً، وأكثرَهم مناقبَ، وأفضلَهم سَوابقَ، وأرفعَهم درجةً، وأقربَهم وسيلةً، وأشبَههم هَدْيًا وسَمْتًا برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأشرفَهم منزلةً، وأرفعَهم عنده، وأكرمَهم عليه، فجزاك اللَّه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن الإِسلام أفضل الجزاء. صَدَّقتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين كذَّبَه الناس، وكنت عنده بمنزلةِ السَّمعِ والبصر، سَمَّاك اللَّه في تنزيله صِدِّيقًا فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] (¬1). آسيته حين بَخِلوا، وقمتَ معه في المكاره حين قَعدوا، وصحِبتَه في الشدَّة أكرمَ الصُّحبة، ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأنت المنزل عليه السكينة، ورفيقُه في الهجرة، وخليفتُه في دين اللَّه. قُمتَ حين ارتدُّوا بما لم يَقُمْ به خليفةُ نبيٍّ، ونهضتَ حين وَهَن أصحابُه، وبَرزْتَ حين استكانوا، وقويتَ حين ضَعُفوا, ولزِمتَ منهاج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ جبنوا ووَهنوا، فكنت خليفتَه حقًا، لن تنازع ولن تضارع برغم المنافقين وبكَبْتِ الحاسدين. قمتَ بالأمر حين قَعدوا، فاتَّبعوك فهدوا، وكنتَ أخفَضَهم صوتًا، وأعلاهم فوقًا، وأقلَّهم كلامًا، وأصدقَهم منطقًا، وأبلغَهم قولًا، وأكرمَهم رأيًا، وأشجعَهم نفسًا، وأشرفهم عملًا، كنتَ واللَّه للدين يعسوبًا، أولًا حين نفر الناس عنه، وآخرًا حين أقبلوا، كنت للمؤمنين أبًا رحيمًا حين صاروا عليك عيالًا، حَملت أثقالَ ما عنه ضَعُفوا، ورعيتَ ما أهملوا، وعلمتَ ما جهلوا، وشَمَّرت إذ ظلعوا، وصَبرتَ إذ جَزِعوا، وأدركتَ أوتار ما طلبوا، وراجعوا برأيك رُشْدَهم، فظَفِروا، ونالوا بك ما لم يحتسبوا. كنتَ واللَّه على الكافرين عذابًا صَيِّبًا ولهبًا، وللمؤمنين رحمةً وأنسًا وحصنًا، ¬

_ (¬1) بعدها في (ك): من كلام طويل، واختصر بذلك الخطبة.

ذكر ميراثه

ذهبتَ واللَّه بفضائلها، وأدركتَ سوابقَها, لم تُفْلَل حُجَّتُك، ولم تَضعُف بصيرتُك، ولم تَجبُن نفسُك، ولم يُرَعْ قلبُك. كنتَ كالجبال لا تُحرّكها العواصف، ولا تُزيلها القواصف، كنتَ كما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أمنَّ الناس عليه في صُحبتك وذاتِ يدك، وكنتَ كما قال: "ضعيفًا في بدنك، قويًا في أمر اللَّه", متواضعًا في نفسك، عظيمًا عند اللَّه، جَليلًا في أعين الناس، كبيرًا في نفوسهم، لم يكن لأحدٍ فيك مَعْمَرٌ، ولا لقائل فيك مَهْمَز، ولا لمخلوقٍ عندك هوادة، الضعيفُ عندك قويّ حتى تأخُذَ بحقِّه، والقريبُ والبعيد عندك في ذلك سواء. أقربُ الناس إليك أطوعُهم للَّه وأتقاهم، شأنُك الحقُّ والصدقُ، والعفوُ والرِّفقُ، قولك حُكْمٌ وحَتْم، وأمرُك حِلمٌ وحَزم، ورأيُك علمٌ وعَزم، اعتدل بك الدِّين، وقوي الإيمان, وظهر أمرُ اللَّه، فسبقتَ واللَّه سَبْقًا بعيدًا، وأتعبتَ مَن بعدك إتعابًا شديدًا، وفُزتَ بالخير فوزًا مُبينًا، فجَلِلتَ عن البكاء، وعَظُمت رزيَّتُك في الأرض وفي السماء، وهدَّت مُصيبتُك الأنامَ، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون. رضينا بقضاء اللَّه، وسلَّمنا لأمره، ولن يُصابَ المسلمون بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمثلك أبدًا، ألحقك اللَّه بنبيِّك، ولا حَرَمنا أجرَك، ولا أضلَّنا بحدك، وسكت الناس حتى سمعوا وقضى كلامَه، ثم بكوا حتى ارتفعت أصواتُهم، وقالوا: صدقتَ يا خَتَن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). ذِكرُ ميراثِهِ: قال الواقدي: لما تُوفي أبو بكرٍ سمع أبو قُحافةَ الواعيةَ بمكَّة، فقال: ما هذا؟ قالوا: مات ابنك بالمدينة، فقال: رُزْءٌ جليل، فمن قام بعده بالأمر؟ قالوا: عمر بن الخطّاب، فقال: صاحبُه. وورث أبو قُحافة من ولده السُّدس -يعني أبا بكر- فكُلِّم فيه فقال: قد رددتُه في ولد عتيق، يعني أبا بكر، ولم يأخذ منه شيئًا (¬2). وقد روى بعضهُم: فسمع أبو قُحافة بمكة صوتَ الهائعة، وهو خطأٌ, لأنَّ الهائعة إنَّما تكون في الحرب، والواعيةُ في الموت. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 35/ 567 - 571، منال الطالب 395. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 210، وفيه: سمع الهائعة. وسيتكلم عليها المصنف.

فصل في ذكر أزواجه

وحكى ابن سعدٍ عن الواقديِّ وغيرِه، قالوا: لمّا مات أبو بكرٍ دعا عمر بن الخطّاب الأمناء، ودخل بهم بيتَ مال أبي بكرٍ، ومعه عبدُ الرحمن بن عوفي وعثمان ابن عفان وغيرُهما، فلم يَجدوا في بيتِ ماله شيئًا ولا درهمًا ولا دينارًا، ووجدوا خَيْشَةً للمال، فنُفِضتْ، فوجدوا فيها درهمًا، فترحَّموا على أبي بكر، وكان الواردُ عليه من المعدن وغيره مُدَّة خلافته مئتي ألفٍ، فكان يُنفقُها في سبيلِ اللَّه، وعلى الفقراء والمساكين (¬1). فصل في ذِكر أزواجِه: قال علماءُ السِّير: تزوَّج أبو بكرٍ في الجاهلية قُتيلَةَ بنتَ عبد العُزّى من ولد عامر بن لؤي، فولدتْ له عبدَ اللَّه وأسماءَ. وتزوَّج أيضًا في الجاهليةِ أمَّ رومان بنت عامر بن عميرة الكنانية. وقيل: أُمِّ رومان بنت عامر بن عويمر، حكى القولين ابنُ سعدٍ، ونسبها إلى كنانة (¬2). وقال ابن قُتيبة: هي أُمُ رومان بنت الحارث بن الحويرِث، من بني فراس بن غَنْم ابن كنانة (¬3). وقال البلاذري: من قال هذا فقد أخطأ، وإنما هي بنت عامرٍ، وقيل: بنت عويمر. فولدت له عبد الرحمن وعائشة. وكانت أم رومان قبل أبي بكرٍ عند عبد اللَّه بن الحارث ابن سخبرة. فولدت له الطفيل بن عبد اللَّه فكان الطفيل أخا عائشة لأُمِّها (¬4). فأما في الإِسلامِ فتزوَّج أسماء بنت عُميس بن معد بن تيم بن الحارث، ونسبها ابن سعدٍ إلى خثعم، فولدت له محمدًا (¬5). وكانت قبله عند جعفر بن أبي طالب فولدت له محمَّدًا. ثم تزوَّجها علي بن أبي طالب فولدت له محمَّدًا، فكانت تُدعى أُمَّ المحمَّدين. وآخرُ مَن تزوَّج أبو بكر في الإِسلام: حبيبةَ ابنةَ خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي، كان أبو بكر قد نزل عليه بالسُّنْحِ لمّا هاجر إلى المدينة، فولدت له أُمَّ كلثوم ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 213. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 169. (¬3) المعارف 173. (¬4) أنساب الأشراف 5/ 168 و 169، وانظر المعارف. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 169.

بعد وفاةِ أبي بكرٍ. فأما عبدُ اللَّه بن أبي بكر فشهد الطائف مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجُرح، فمات في خلافة أبيه، وقد ذكرناه (¬1). وأما أسماءُ فتزوَّجها الزبيرُ بن العوَّام بمكة، فولدت له عدَّة أولادٍ، ثم طلَّقها، فكانت عند ابنها عبد اللَّه بن الزبير حتى قُتلِ، وسنذكُرُها عند مقتل ابنها. وأما عبدُ الرحمن بن أبي بكر فشهد بدرًا مع الكُفّار، ودعا أباه أبا بكرٍ في ذلك اليوم أن يُبارِزه، فمنعه رسولُ اللَّه وقال له: "يا أبا بكرٍ متِّعنا بنفسك", ثم أسلم في هدنةِ الحديبيةِ وهاجر إلى المدينةِ، وسنذكرهُ في سنة بضعٍ وخمسين. وأما محمد فسنذكره في سنة ثمانٍ وثلاثين. وأما أُمُّ كلثوم فذكر ابن الزبير عن عائشة أنها قالت: لما احتُضِر أبو بكرٍ دعاني، فقال لي: إنه ليس في أهلي أحدٌ أحبُّ إليَّ منك، وإن أعزَّ الناس على فقرًا بعدي أنت، وإني كُنْتُ نَحلتُك جِداد عشرين وَسْقًا من مالي، فوَدِدْتُ واللَّه أنك كنت جَدَدْتِه وأخذتيه، فإنَّما هما أخواك وأختاك، قالت: قلت: هذان أخواي، فمن أُخْتاي؟ قال: ذات بطن بنت خارجة، فإني أظنُّها جاريةً وفي رواية ابن سعد: إني كنتُ نحلتُك أرضي التي تَعلمين بمكان كذا وكذا، وأنا أحبّ أن تَردِّيها إليَّ، فيكون ذلك قسمةً بين ولدي على كتاب اللَّه، فألقى ربي حين ألقاه ولم أفضِّل بعض ولدي على البعض (¬2). وقال الواقدي: خطب عمر بن الخطاب أُمَّ كلثوم بعد وفاة أبي بكرٍ، فأجابته عائشةُ، وكرهته أمُّ كلثوم، فاحتالت حتى أمسكَ عنها -وسنذكرُه فيما بعد- فتزوَّجها طلحةُ بن عبيد اللَّه، فولدت له زكريا ويوسف مات صغيرًا وعائشة، ثم قُتل عنها يوم الجمل، ثم خلف عليها عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة المخزومي، فولدت له إبراهيم الأحول، وموسى، وأمَّ حُميدٍ، وأمَّ عثمان (¬3). ¬

_ (¬1) في بداية هذا الجزء. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 195، وما سبق فيه 194. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 462، والمعارف 175، وجاء في (ك) عقبها: انتهت ترجمة أبي بكر، السنة الرابعة =

ذكر مواليه

ذكر مواليه: بلال بن رباح، وعامر بن فُهَيْرة، وصَفيّة، وهي أم محمد بن سيرين، وأبو نافع، وكان كثيرَ المال، نزل البصرة، وله بها دار، وقيل: إنه كان لعبد الرحمن بن أبي بكر، وفيه يقول يزيد بن مُفَرِّع الحميري: [من الطويل] سقى اللَّه أرضًا لي ودارًا تركتُها ... إلى جنب دارَيْ معقل بن يسار أبو نافع (¬1) جارٌ لها وابن بُرْثن ... فيا لك جارَيْ ذِلَّةٍ وصَغارِ ومُرَّة مولى أبي بكر، وقيل: إنه كان لعبد الرحمن أيضًا، وكتبت عائشة إلى زياد بن أبيه توصيه به، فسُرَّ بكتابها، وأقطعه نهرًا بالبصرة. وقد ذكرنا أن الصديق أعتق جماعةً ممن كان يُعذب في اللَّه تعالى. ذكره عُمَّاله: كان عاملُه على مكة عَتَّاب بن أَسِيد، وعلى الطائف عثمان (¬2) بن أبي العاص الثقفي، وعلى صنعاء المهاجر بن أبي أميّة، وعلى حضرموت زياد بن لَبيد، وعلى زَبيد أبو موسى الأشعري، وعلى الجَنَد معاذ بن جبل، وعلى البحرين العلاء بن الحَضْرميّ، وعلى نجران جرير بن عبد اللَّه البَجلي، وعلى دُومة الجندل عياض بن غَنْم، وعلى الشام أبو عبيدة وخالد بن الوليد ومَن سَمّينا من الأمراء، وعلى العراق المثنى بن حارثة، وكان قاضيه عمر بن الخطاب، أقام مدة ولايته لم يحتكم عنده أحد، وكتب له زيد بن ثابت وعثمان بن عفان. فصل في ذكر من كتب لخليفة ثم صار هو خليفة: كتب عثمان لأبي بكر، ثم ولي عثمان الخلافة، وكذا مروان بن الحكم، وكذا عبد الملك بن مروان، كتب لمعاوية على ديوان المدينة، ثم ولي الخلافة. ذكر مسانيده: قال ابن الرَّقِّي: أسند عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئة واثنين وأربعين حديثًا، أخرج له في "الصحيحين" ثمانية عشر، المتَّفق عليه فيها ستة، وانفرد البخاري بأحد عشر، ومسلم بحديث واحد، وأخرج له الإِمام أحمد في "المسند" ستةً وثلاثين حديثًا، منها متفق عليه، ومنها أفراد. ¬

_ = عشرة من الهجرة. (¬1) في (أ) و (خ): محمد بن مفرغ. . . أبو رافع، والمثبت من المعارف 177، وانظر ديوانه 86، والكامل 558. (¬2) في (أ) و (خ): عمار، والمثبت من الطبري 3/ 427، والمنتظم 4/ 70.

عبد الله بن مربع الأنصاري

وقال أبو نُعيم: أسند أبو بكر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من المتون سوى الطرق مئةَ حديث ونيفًا بمراسيلها (¬1). وروى عن أبي بكر جماعة من الصحابة، منهم: عمر، وعثمانا، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمرو، وحذيفة، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري, وعبد اللَّه بن عمر، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأنس، وأبو هريرة، وعقبة بن عامر، وأبو بَرزة الأسلمي، وأبو أُمامة، ومَعْقل بن سنان، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو موسى، وعمران بن الحُصين، وابن الزُّبير، وعائشة -رضي اللَّه عنهم- في آخرين. عبد اللَّه بن مِرْبَع الأنصاري من الطبقة الثانية، وكان أبوه مِربَع من المنافقين، وهو الذي حثا الترابَ في وجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما خرج إلى أُحد، وأم عبد اللَّه عُميرة بنت ظُهَيْر بن رافع، شهد عبد اللَّه أحُدًا وما بعدها من المشاهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واستُشهد يوم جسر أبي عُبيد، وقُتل معه أخوه عبد الرحمن لأمه وأبيه (¬2). عبد الرحمن بن العوّام من الطبقة الرابعة من المهاجرين، شهد بدرًا مع المشركين، ثم نجا، وأسلم عام الفتح، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، فسماه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد الرحمن. هرب عبد الرحمن يوم بدر، ومعه أخوه عبيد اللَّه، ومعهما جمل، وكان عبيد اللَّه أعرج، فركب عبد الرحمن الجمل، وأردف أخاه، فلَقيهما حكيمُ بن حزام ماشيًا مُنهزمًا، فلما رآه عبد الرحمن قال لأخيه عبيد اللَّه: أنزل، فقال له: أنشدك اللَّه فيّ فإني أعرج، فقال: ألا تَنزل لرجل إن قُتلت كفاك، وإن أُسرت فداك، فنزلا عن الجمل، وحملا عليه حكيمًا، فنجى حكيم وعبد الرحمن على قدميه، وأُدرك عبيد اللَّه، فقُتل كافرًا. استشهد عبد الرحمن يوم اليرموك، وكان له ولد اسمه عبد اللَّه، قتل يوم الدار (¬3). ¬

_ (¬1) معرفة الصحابة 1/ 186. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 278 (545)، والاستيعاب (1403)، والاستبصار 236، والإصابة 2/ 366. (¬3) الاستيعاب (1532)، والتبيين 270، والإصابة 2/ 415.

عتاب بن أسيد

عَتَّاب بن أَسيد ابن أبي العيص (¬1) بن أمية بن عبد شمس، أبو عبد الرحمن، من الطبقة الرابعة ممن أسلم يوم الفتح، وأمُّه أروى بنت أبي عمرو بن أمية. استعمله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على مكةَ عام الفتح لما خرج إلى حُنين، وسِنُّه يومئذ ثماني عشرة سنة، وقيل: عشرون، وقيل: خمس وعشرون، ورزقه كلَّ يوم درهمًا، فأقام عَتَّاب للناس الحجَّ في تلك السنة، وهي سنة ثمان، حج بالمسلمين والمشركين. وقال ابن عباس: قيل لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: استخْلَفْتَ هذا الأعرابيَّ على مكة؟ فقال: "إني رأيتُه في المنام قد أخذ بحلقة باب الجنة، ففُتح له فدخل" (¬2). وأمر عتاب مناديًا ينادي: لا أجد أحدًا لا يصلي إلا ضربتُ عنُقَه، فكان المسجد يمتلئ حتى يصلي الناس خارجَ المسجد، ولم يزل عَتَّاب على مكة حتى تُوفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأقرّه أبو بكر رضوان اللَّه عليه عليها، فلم يزل واليًا إلى اليوم الذي مات فيه أبو بكر بالمدينة. فمات عَتَّاب بمكة، وقيل: إن نعي أبي بكر وصل إلى مكة يوم مات عَتَّاب. وقال عمرو بن أبي عقرب: سمعتُ عَتَّاب بن أَسيد وهو يخطب مستندًا بظهره إلى الكعبة، يحلف باللَّه تعالى: ما أصبتُ في عملي الذي بعثني عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا ثوبين، كسوتُهما مولاي كيسان (¬3). وكان عَتَّاب قد سُمّ في اليوم الذي سُمّ فيه أبو بكر -رضي اللَّه عنه- (¬4). ذكر أولاده: كان له من الولد عبد الرحمن وأبو عثمان وأمية، وأمهم ريطة بنت عبد اللَّه خزاعية (¬5)، قتل عبد الرحمن وأبو عثمان يوم الجمل، وسنذكره هناك. وكان لعتَّاب أخٌ اسمه خالد بن أَسيد، أسلم عام الفتح، وكان فيه تِيهٌ شديد، روى ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): العاص، والمثبت من طبقات ابن سعد 5/ 446، والمعارف 73، والاستيعاب (2002)، وجمهرة ابن حزم 113، والتبيين 198، والإصابة 2/ 451. (¬2) ذكره ابن قدامة في التبيين 198، وانظر الإصابة 2/ 451. (¬3) أخرجه الطيالسي في مسنده (1356)، والبخاري في التاريخ الكبير 7/ 54، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب، وابن قدامة في التبيين. (¬4) المنتظم 4/ 157. (¬5) كذا ذكر، وفي طبقات ابن سعد 6/ 35 أن أبا عثمان وأمية من أولاد خالد بن أسيد.

عكرمة بن أبي جهل

الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان له ولدٌ اسمُه عبد اللَّه، وإليه يُنسب شِعب عبد اللَّه بن خالد، وكان لعبد اللَّه بن خالد من الولد: خالد وأُميّة وعبد العزيز. ولي خالد بن عبد اللَّه البصرة لعبد الملك بن مروان، وولي أخاه أمية حرب أبي فُدَيك الحَروري، فهزمه أبو فُديك، وكان عبد الملك قد عهد إلى خالد بن عبد اللَّه أن يُولّي المهلَّبَ بن أبي صُفْرة حرب الأزارقة، فخالفه وولّاه جبايةَ الخراج، وولى أخاه عبد العزيز بن عبد اللَّه حرب الأزارقة، فخرج إليهم في ثلاثين ألفًا، وهو يقول: زعم الناس أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلّب، فسوف يعلمون، فلما دنا من عسكر الأزارقة أتاه سعد الطلائع، في خمس مئة فارس، وأعدَّ له من الخمس مئةً، وخرج الكمين واقتتلوا، فانهزم عبد العزيز، وقُتل معظم أصحابه، وتبعهم الخوارج نحو فرسخين، واستباحوا عسكرَه، وأخذوا امرأته، وبلغ عبد الملك فعزل خالدًا، وولّى مكانَه أخاه بشر بن مروان. وكان لعَتَّاب أختٌ يقال لها: عاتكة بنت أَسيد. قال محمد بن سلام: أرسل عمر بن الخطاب إلى الشّفاء بنت عبد اللَّه الأموية (¬1): أن اغدي عليّ، قالت: فغدوتُ، فوجدتُ عاتكة بنت أَسيد ببابه، فدخلنا عليه، فتحدَّثنا ساعةً، فدعا بنَمَطٍ فأعطاها إياه، ودعا بنَمَطٍ دونه فأعطاني إياه، فقلت: تربت يداك يا عمر، أنا قبلها إسلامًا، وأنا بنتُ عمك دونها، وأرسلتَ إليّ، وجاءتك هي من قِبَلها! ؟ فقال: ما كنتُ رفعتُ ذلك إلا لك، فلما اجتمعتُما ذكرتُ أنها أقربُ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- منك. ولعتّاب بن أَسيد رواية. عكرمة بن أبي جهل من الطبقة الرابعة من المهاجرين، ويُقال: من الخامسة، وأمُّه أمُّ مجالد بنت يَربوع، عامرية، وكان عكرمة من رؤساء الكفّار على منهاج أبيه، وهو الذي كان يوم أُحد على خيل المشركين، وفعل تلك الأفاعيل، وأسلم يوم الفتح وحسن إسلامُه، وصحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان عكرمة ممن هرب يوم بدر، فكان إذا أجهد اليمين قال: لا والذي نجَّاني يوم بدر، وكان يضع المصحف على وجهه ويقول: كلامُ ربِّي، أو: كتاب ربي. ¬

_ (¬1) في الاستيعاب (3457)، والتبيين 202، والإصابة 4/ 356: العدويّة.

عمرو بن أوس

واستعمله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عام حجَّ على هوازن، لصدقتها، واستعمله أبو بكر على أهل عُمان لما ارتدُّوا، واستشهد عكرمة باليرموك في أيام أبي بكر، وقيل: بأجنادين، وقيل: بمرج الصُّفَّر، وقيل: على دمشق، والقول الأول أصحّ. قال سيف: لما رأى عكرمةُ يوم اليرموك غَلَبةَ الروم قال: قاتلتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في كلِّ موطن، وأفرّ من هؤلاء اليوم؟ ! ، ثم قال: مَن يُبايع على الموت، فبايعه أربع مئةٍ من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا بين يدي فُسطاط خالد بن الوليد، فانثنوا جمعيًا جرحى وقتلى، وأُتي خالد بعكرمة جريحًا، فوضع رأسَه على فخذه، وأتي بعمرو بن عكرمة، فوضع رأسه على ساقيه، وجعل يمسح الدم عن وجهيهما، ويقطر الماء في حلقيهما ويقول: زعم ابن حنتمة أننا لا نحب الشهادة (¬1)، وكان عكرمة يركب الأَسِنَّة حتى أنفَذَتْه، وخالد يقول: ليت ابن حَنْتمة ينظر إلى ابن عمي كيف يركب الأسِنّة. وقال الشيخ موفق الدين: ترجّل عكرمة يوم اليرموك، فقال له خالد: لا تفعل؛ فإن مُصابك على المسلمين شديد، فقال: دَعْني يا خالد، فإنه كانت لك مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سوابق، ثم قاتل قتالًا شديدًا، فوجدوا به بضعًا وسبعين جِراحة (¬2). ولعكرمة رواية عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). عمرو بن أوس ابن عَتيِك الجُشَمي، من الطبقة الثانية من الأنصار، شهد أُحدًا وما بعدها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واستشهد يوم جسر أبي عبيد، وأخوه الحارث بن أوس قُتل بأجنادين، وأخوهما عُمَير بن أوس قتل يوم الحَرَّة (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 3/ 401. (¬2) التبيين 365. (¬3) انظر في ترجمته طبقات ابن سعد 5/ 444 - 445 و 7/ 404، والاستيعاب (1991)، والمنتظم 4/ 155 - 157، والإصابة 2/ 496. (¬4) في طبقات ابن سعد 4/ 245 - 246 أن المقتول يوم الحرة هو عامر بن أوس، وأن عمير بن أوس قتل يوم اليمامة، وانظر الاستيعاب (1755) و (408) و (1713)، والإصابة 2/ 525.

عمرو بن سعيد بن العاص

عمرو بن سعيد بن العاص أبو عتبة. من الطبقة الثانية من المهاجرين، أسلم قديمًا بعد أخيه خالد بيسير، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وقدم مع جعفر إلى خيبر، وشهد الفتح وحُنينًا والطائف وتبوك، واستعمله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على خيبر ووادي القرى وتيماء وتبوك، ولما خرج المسلمون إلى الشام كان ممن خرج، فقُتل بأجنادين سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر، وعلى الناس عمرو بن العاص، وقيل: استشهد باليرموك، وقيل: بمرج الصُّفَّر، وقيل: بفِحْل (¬1). عياش بن أبي ربيعة ذي الرُّمحَين (¬2)، عمرو بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، من الطبقة الثانية من المهاجرين، أسلم قديمًا قبل أن يدخل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم، وكُنيته أبو عبد اللَّه، وكان من المستَضْعَفين الذين يُعذَّبون بمكة في اللَّه تعالى، وهو أحد الذين كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقنت في الصلاة ويدعو لهم. وأم عيّاش: أسماء بنت مُخَربة، من بني دارم، وهي أم أبي جهل والحارث، واستشهد عياش باليرموك، وقيل: با يمامة، وقيل: مات بالمدينة، وقيل: بمكة، وقال البخاري والدارقطني وابن منده وابن ماكولا: مات بالشام في فتح عمر (¬3). أسند عياش الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. أولاد عياش: كان له من الولد عبد اللَّه، أبو الحارث، وكان رجلًا صالحًا، يصحب عبد اللَّه بن عمر في الأسفار فيصوم، فكان [ابن] عمر يأمر له بسحور. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 94، والاستيعاب (1735)، وتاريخ دمشق 13/ 446 (مخطوط)، والتبيين 191، والإصابة 2/ 539. (¬2) في (أ) و (خ): ذو الرمحين، وهو خطأ، فإنه لقب أبيه، لا لقبه، انظر التبيين 375، وتاريخ دمشق 13/ 798 (مخطوط)، وانظر ترجمة عياش في طبقات ابن سعد 4/ 120 و 8/ 5، والاستيعاب (1924)، والإصابة 3/ 47. (¬3) التاريخ الكبير 7/ 46، والمؤتلف والمختلف 1562، والإكمال 6/ 64 - 65، وتاريخ دمشق 13/ 800 - 801.

فائد بن عمارة

وابنه الحارث بن عبد اللَّه روى عنه الحديث، وابنه عبد الرحمن بن الحارث روى عنه الحديث والعلم، وابنه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث فقيه أهل المدينة بعد مالك، عرض عليه الرشيد هارون قضاء المدينة، وأجازه بأربعة آلاف دينار على ذلك فأبى، ورد المال، فأراد هارون أن يُلزمه فقال: واللَّه لأن يخنقني الشيطان أحبُّ إليَّ من أن أتقلّد القضاء، فأعفاه وقال: ما بعد هذا غاية، وأجازه بألفي دينار. وكان لعياش أخٌ يقال له: عبد اللَّه بن [أبي] ربيعة، أسلم يوم الفتح، وولّاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الجَنَد ومخاليفها، فلم يزل واليًا عليها حتى قتل عمر بن الخطاب، ويقال: إن عمر ولّى عبد اللَّه اليمن وصنعاء والجَنَد، ثم ولّاه عثمان، فلما حُصِر عثمان جاء من اليمن في نُصرته، فسقط من راحِلته بقُرب مكة فمات. روى عبد اللَّه الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان له من الولد الحارث القُباع، وسنذكره، وعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة، وكان من وجوه قريش، وتزوّج أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضوان اللَّه عليه بعد طلحة بن عبيد اللَّه -رضي اللَّه عنه-، وحلف أن لا يعطي بني مروان طاعة، فوفى بيمينه (¬1). فائد بن عمارة ابن الوليد بن المغيرة المخزومي، وكانوا ثلاثة إخوة: فائد وعبد الرحمن وهشام بنو عمارة، ولم يدرك منهم أحدٌ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل: الذي لم يدركه فائد، وإنما أدرك زمانه، والكل أولاد أخي خالد بن الوليد، وكلّهم استشهدوا، واستشهد فائد بفِحْل، وقيل: مات باليمن في حياة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفائد هو الذي طلَّق فاطمة بنت قيس البتة وهو غائب، فأتت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: لا نفقةَ لك. وقال ابن عبد البر: بعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى اليمن لما بعث معاذًا، فطلّق فاطمة بنت قيس، وبعث بطلاقها، الحديث. قلت: هذا كلام مضطرب، فإنه قال: لم يدرك فائد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما أدرك ¬

_ (¬1) التبيين 376 - 378.

فراس بن النضر

زمانه، ثم إنه قال: مات باليمن في حياة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعثه إلى اليمن، وذكر حديث طلاقه فاطمة بنت قيس، ويحتاج ذلك إلى تحقيق (¬1). فراس بن النَّضْر ابن الحارث بن علقمة بن كَلَدة بن عبد مناف، وأبوه النضر الذي قتله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كافرًا بالصَّفْراء لما فصل من بدر. وفراس من الطبقة الثانية من المهاجرين، وأمُّه زينب بنت النبّاش بن زرارة، أسديّة، أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة المرة الثانية، واستشهد باليرموك (¬2). قيس بن السكن بن قيس من الطبقة الأولى من الأنصار، من بني النجّار، وكان ممن جمع القرآن على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكنيته أبو زيد، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، واستشهد يوم جسر أبي عُبيد (¬3). منصور بن عُمَير ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصيّ، أبو الرُّوم، من الطبقة الثانية من المهاجرين، وهو أخو مصعب بن عمير لأبيه، أسلم قديمًا، وفي هجرته إلى الحبشة خلاف، ولما قُتل أخوه مصعب يوم أحد دخل المدينةَ منصورٌ ولواء المهاجرين بيده، واستشهد يوم اليرموك، وأمه روميّة، ولم يشهد بدرًا (¬4). النُّضَير بن الحارث عمُّ فراس بن النَّضْر المذكور آنفًا، والنُّضير من الطبقة الرابعة، من مُسلمة الفتح، ¬

_ (¬1) انظر تاريخ دمشق 14/ 194 و 10/ 62، والإصابة 3/ 199 و 2/ 413. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 114، والاستيعاب (2085)، وتاريخ دمشق 14/ 204، والتبيين 248، والإصابة 3/ 202. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 476، والاستيعاب (2101) , والاستبصار 41، والإصابة 3/ 250. (¬4) طبقات ابن سعد 4/ 114، والاستيعاب (2924)، وتاريخ دمشق 17/ 232، والتبيين 245، والإصابة 3/ 462.

نعيم بن عبد الله بن أسيد العدوي

وكان ممن خرج مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى حُنين، ينتظر الدبرة عليه، فلما نصره اللَّه لقي النُّضير فقال له: يا نضير، هذا خيرٌ مما أردتَ، فقال: يا رسول اللَّه، واللَّه ما خرجت إلا لأغتالك، أو تكون الدبرة عليك، فأعين عليك، وأما الآن فقد أراد اللَّه غير ذلك، وأطلعك على ما في نفسي، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأسلم وحسن إسلامه، وأعطاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئةً من الإبل مع المؤلفة قلوبهم، ولما عاد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة من حُنين هاجر معه، وأقام حتى تُوفّي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وخرج إلى الشام غازيًا، فقتل يوم اليرموك شهيدًا، وكان يُعدُّ من حُلَماء قريش. وقال البلاذري: هاجر إلى الحبشة، ثم قدم مكة فارتدّ عن الإِسلام، ثم أسلم يوم الفتح (¬1). وقال الزبير: كان يحمد اللَّه على ما من به عليه من الإِسلام، وحيث لم يمت على ما مات عليه أخوه وأبوه، ولما أمر له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمئة من الإبل يوم حنين، توقف في أخذها، وقال: إنما أسلمتُ للَّه، لا على رشوة، ثم قال: ما سألتُها، فأخذها وأعطى الذي بَشَّره بها عشرةً منها، وكان رجلًا من الدّيل (¬2). نُعَيم بن عبد اللَّه بن أَسيد العدوي وهو النَّحّام، أسلم قديمًا قبل عمر بن الخطاب، بعد ثمانيةٍ وثلاثين إنسانًا، وهو التاسع والثلاثون، وقيل إنه أسلم بعد عشرة، ولم يزل مُقيمًا بمكة، يحوطه قومه وأهلُه لشرفه، حتى كان إلى زمن الحُدَيبية؛ لأنه كان يُنفق على أرامل بني عدي وأيتامِهم لشرفه، وهو من الطبقة الثانية. شهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الحُدَيبية وما بعدها، وقدم على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في سنة ستّ، ومعه أربعون من أهله، فاعتنقه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقبَّله، وقيل: وسمّي النّحام لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دخلتُ الجنة، فسمعتُ نَحْمَة من نُعيم". وروي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "يا نُعيم، إن قومَك خيرٌ من قومي، إن قومي ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 26. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 65، والاستيعاب (2627)، وتاريخ دمشق 17/ 580، والتبيين 247، والإصابة 3/ 557.

واقد بن عبد الله

أخرجوني، وقومك أقرُّوك", فقال: يا رسول اللَّه بل قومك خير, قال: "لم؟ ", قال: لأنهم أخرجوك إلى الهجرة، وقومي حبسوني عنها. استشهد نُعَيم باليرموك، وقيل: بأجنادين، وقيل: إنه قُتل بمؤتة مع زيد بن حارثة (¬1). واقد بن عبد اللَّه ابن عبد مناف بن عزيز التميمي، من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا، وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين بشر بن البراء بن مَعرور، وهاجر إلى المدينة، فنزل على رِفاعة بن عبد المنذر، وهو الذي كان في سريّة عبد اللَّه بن جحش إلى نخلة، وقتل يومئذ عمرو بن الحَضْرمي. شهد واقد بدرًا وأُحدًا والمشاهد كلها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتوفي في هذه السنة، وليس له عقب (¬2)، هبَّار بن سفيان ابن عبد الأسد المخزومي، [وكان قديم الإِسلام بمكة]، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية بالاتفاق، وقتل بأجنادين، وقيل: باليرموك. وهبَّار من الطبقة الثانية من المهاجرين، وقد وهم البخاري في هذه الترجمة، فجمع بين هبَّار بن سفيان، وهبار بن الأسود، فجعلهما واحدًا وهما اثنان، هذا مخزومي (¬3). وهبَّار بن الأسود بن المطَّلب بن عبد العُزّى، أسديّ، وهو الذي نَخَس جملَ زينب ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 129، والاستيعاب (2599)، والمستدرك 3/ 259، والمنتظم 4/ 157، وتاريخ دمشق 17/ 618، والتبيين 433؛ والإصابة 3/ 567. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 362, والاستيعاب (2712)، والمنتظم 4/ 159، والإصابة 3/ 628، ومن قوله: وهاجر إلى المدينة. . . إلى هنا ليس في (أ). (¬3) انظر في ترجمة هبار بن سفيان طبقات ابن سعد 4/ 126 و 6/ 97، والاستيعاب (2674)، والتبيين 385، والإصابة 3/ 599.

هشام بن حكيم بن حزام الأسدي

بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأسقطت، وقتل يوم أحد عشرةً من الصحابة، وأباح النبيُّ دمَه، وكان في الشَّراة مع النَّفر الذين كانوا مع عُتيبة بن أبي لهب، وعقره الأسد باللَّفَّاء (¬1)، وكان لهبّار دارٌ بدمشق في زقاق صفوان، ثم أسلم، وهو من الطبقة الرابعة، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد قتل يوم بدر أخويه ربيعة وعقبة ابني الأسود، وابن أخيه الحارث بن معاوية (¬2). وعبد اللَّه بن سفيان أخو هبَّار لأبيه وأمه، وهاجر إلى الحبشة، وقتل باليرموك شهيدًا في أيام عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. هشام بن حكيم بن حِزام الأسدي كان من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، وكان عمر بن الخطاب إذا أنكر الشيء يقول: لا يكون هذا ما عشتُ أنا وهشام بن حكيم. مرّ هشام بعُمَير بن سعد وهو يُعذّب الناس على الجِزية بالشمس، فقال له: ويحك يا أعور، ما هذا؟ سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن اللَّه يُعذِّب الذين يُعذّبون الناس في الدنيا" (¬3)، فخلَّى سبيلَهم، وفي رواية: أنه مرَّ بفلسطين وعياض بن غَنْم يُعذّب الناس (¬4). استشهد هشام في حياة أبيه بأَجنادين، وكانت له ولأبيه صُحبة ورواية (¬5). هشام بن العاص بن وائل أخو عمرو، أسلم قديمًا بمكة، وهو من الطبقة الثانية من المهاجرين، وكنيته أبو العاص (¬6)، وسمّاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا مُطيع، وشهد له بالإيمان, وكان أصغر من أخيه ¬

_ (¬1) في النسخ: باللقاء، والمثبت من تاريخ دمشق 38/ 303. وغيره من المصادر. (¬2) انظر في ترجمة هبار بن الأسود طبقات ابن سعد 6/ 60، والاستيعاب (2675)، والتبيين 285، والإصابة 3/ 597. (¬3) أخرجه أحمد (15330)، ومسلم (2613). (¬4) أخرجها أحمد (15333). (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 57، والاستيعاب (2647)، وأنساب الأشراف 5/ 66، والتبيين 272، وأسد الغابة 5/ 399، والإصابة 3/ 603. (¬6) في (أ) و (خ): أبو العباس، والمثبت من أنساب الأشراف 5/ 342، والإصابة 3/ 604، وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 4/ 178، والمعارف 285، وطبقات خليفة (148) و (2821)، والجرح والتعديل 9/ 63، =

عمرو، وهاجر إلى الحبشة المرة الثانية، ثم قدم مكة يريد الهجرة إلى المدينة لما بلغه مهاجر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة، فحبسه أهله، فهرب بعد الخندق إلى المدينة، فشهد ما بعد الخندق من المشاهد. وكان شريفًا في قومه، فقيل لأخيه عمرو: أيّما أفضل أنت أم أخوك؟ قال: احكموا بيننا، أمُّه حَرْملة بنت هشام بن المغيرة، وأمي النابغة من بني عَنَزة، وكان أحبَّ إلى أبيه مني، وعُرِضْتُ أنا وإياه على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقبله وتركني (¬1)، وهاجر قبلي، واستبقنا إلى اللَّه يوم اليرموك فسبقني، فأيّنا أفضل؟ ! وقال هشام: بعثني أبو بكر إلى دمشق رسولًا إلى ملك الروم ندعوه إلى اللَّه تعالى، فخرجتُ أنا ورجل من قريش، فقَدِمنا الغوطة، فنزلنا على جَبَلَةَ بن الأَيْهم الغسّاني، فإذا عليه ثيابُ سواد، فقلنا: ما هذا؟ قال: لَبِستُها، وحلفتُ أني لا أَنزِعها حتى أُخرجَكم من الشام، فقلت: نحن نُخرجك، ونَملك مجلسَك هذا إن شاء اللَّه تعالى، ونأخذ مُلكَ هرقل، قال: ومن أين لكم هذا؟ ! قلتُ: أنبأنا به نبيُّنا -صلى اللَّه عليه وسلم-. ثم دخلنا على الملك فأكرَمَنا، وأخرج إلينا صُورًا في خِرق الحرير، في كلِّ خِرقَةٍ صورة نبيٍّ، حتى أخرج لنا خِرقةً فيها صورةُ نبينا، وزعم أن تلك الصُّور أنزلت على آدم، واستخرجها ذو القرنين من مَطلع الشمس، من خزانة آدم، فدفعها إلى دانيال الأكبر (¬2). واستشهد بأجنادين، وقيل باليرموك، وقيل بموج الصُّفَّر. وقال الواقدي: كان هشام رجلًا صالحًا، رأى من المسلمين يوم أَجنادين بعضَ التقصير، فرمى المِغفَر عن رأسه وصاح: إليَّ إليَّ أيها الناس، أمن الجنَّة تَفِرّون، أنا هشام بن العاص، وقاتل حتى قُتل، فوقع في ثُلمةٍ فسَدَّها، وكان العدوُّ فيها، فهاب ¬

_ = والثقات 3/ 433، وجمهرة أنساب العرب 163، والمستدرك 3/ 240، والاستيعاب (2648)، والتبيين 465، والمنتظم 4/ 158، وأسد الغابة 5/ 401، والسير 3/ 86. (¬1) كذا، والذي في المصادر السالفة: عرضنا أنفسنا على اللَّه فقبله وتركني. (¬2) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 1/ 386 - 390، وابن عساكر في تاريخ دمشق 47/ 161 - 166، وانظر الإصابة 3/ 604 - 605.

يزيد بن قيس بن الخطيم الأنصاري

المسلمون أن يَطؤوه بخيولهم، فصاح عمرو أخوه: أيها الناس، إن اللَّه قد استشهده، ورفع درجتَه، فأوطئوه الخيول، فأوطؤوه حتى قطعوه، فجعل عمرو بعد ذلك يجمع عظامَه وأوصالَه في نِطع حتى واراه. وقال سيف: استشهد هشام باليرموك، وأُصيب معه ثلاثةُ آلاف، منهم سبعون من بني سهم (¬1). يزيد بن قيس بن الخَطيم الأنصاري من بني ظَفَر، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمُّه حَوّاء بنت يزيد بن السَّكن، أشهليّة، وكانت من المبايعات، شهد أحدًا وما بعدها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأبوه قيس وافى رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بذي المجاز، ولم يسلم، قتلتْه بنو سَلِمة. قال ابن سعد: كان قيس بن الخَطيم شاعرًا، وكُنيته أبو يزيد، فوافى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بذي المجاز، فدعاه إلى الإِسلام، وجعل يَرفُق به ويكنيه، فقال قيس: ما أحسن ما تدعو إليه، ولكن الحرب شغلتني عنك، وقد بلغك الذي بيننا وبين قومنا، فأَقْدِم المدينةَ وانظر وأرجع إليك، وكانت امرأتُه حواء قد أسلمت، فأوصاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بها، وقال: "احفظني فيها"، فقال: أفعل، فقدم المدينة، فقال: يا حواء، إن محمدًا أوصاني بك، وسألني أن أحفَظَه فيك، وأنا فاعل، فغَدتْ بنو سلمة فقتلتْه ولم يكن أَسلم (¬2). أبو عُبيد بن مسعود بن عمرو الثَّقفي وأبوه مسعود عظيم القريتين، الذي نزل فيه قوله تعالى {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31] والقريتان مكة والطائف (¬3). وولد مسعود أبا عُبيد وسعدًا، فأما أبو عُبيد فهو الذي جَهّزه عمر -رضي اللَّه عنه- مع المثنّى ابن حارثة، فقدم العراق، وشنَّ الغارات على الفُرس، واستشهد يوم الجسر، وكان ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري 3/ 402. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 261، وانظر الاستيعاب (2746) والاستبصار 258، والإصابة 3/ 661. (¬3) انظر تفسير الطبري 20/ 580 - 583.

شجاعًا جوادًا شريفًا ورعًا حسنَ العِشرة والمواساة، وكان له من الولد مُختار وجَبْر وأسيد وصفيّة. فأما المختار فنذكره، وأما جَبْر فقُتل يوم الجسر، وأما صفيّة فتزوّجها عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، وأما سعد بن مسعود فولّاه علي رضوان اللَّه عليه المدائن، وله عَقِبٌ بالكوفة (¬1)، وهو الذي قال له المختار بن أبي عُبيد: سَلّم الحسن بنَ علي إلى معاوية لما استشهد علي -رضي اللَّه عنه-. * * * ¬

_ (¬1) المعارف 400 - 401، وانظر الاستيعاب (3041)، والإصابة 4/ 130.

السنة الرابعة عشرة من الهجرة

السنة الرابعة عشرة (¬1) من الهجرة وفيها كانت وقعةُ القادسيّةِ، وإنَّما سُمِّيت القادسيّة لأن إبراهيم الخليل عليه السلامُ قَدَّسها وبارك حولها، أو عليها، وذكرها الجوهري فقال: ويُقال: إنَّ القادسية دعا لها إبراهيم بالقدُس، وأن تكون مَحَلَّة الحاجّ (¬2). وقال هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: لمَّا خرج ابراهيمُ عليه السلام من كُوثى -وهي محلَّةُ بأرضِ بابل- مُهاجرًا إلى اللَّه، كان راكبًا على حمارٍ، ومعه ابنُ أخيه لوط عليه السلام يسوق غَنَمًا له، فنزلوا بقريةٍ يُقال لها: بانِقْيا، وكانت تُزَلْزَلُ كلَّ ليلةٍ، فبات بها يُصلّي طولَ ليلته، فلم تُزلزل في تلك الليلةِ، فاجتمع إليه أهلُها، وسألوه المقام عندهم، فأبى، ثم رحل إلى القادسيةِ، فجاءته عجوز بغَسولٍ فقالت: أراك شعثًا، اغسِلْ بهذا رأسَك ولحيتَك، ففعل، ثم قال لمكان القادسيةِ: كوني مُقَدَّسةً، فيك ينزلُ وَفدُ اللَّه، وفيك تحطُّ رحالُهم، فسمِّيت القادسيةُ بدعوته (¬3). قال: ولمّا مرَّ بموضعِ جامع الكوفة وَجد أساسه الذي بناه نوحٌ قائمًا، وكان قد نسفه الغرقُ فاشتراه بالحمار، ورفعه مقدارَ ذراعٍ، ثم خرج إلى الجزيرة، ومرَّ بحرّان، وقد ذكرنا طرفًا منه في ترجمته (¬4). ذكر السبب الذي أهاج أمر القادسيّة لما مَخَرَ المثنى بن حارثة بلادَ فارس بالغارات ما بين دجلة والفرات اجتمع أهل فارس إلى رُستم والفَيرزان -وكانا مختلِفَيْن- فقالوا لهما: قد أوهنتُما مملكةَ فارس، وأطمعتُما فينا عدوَّنا، وما بعد ساباط إلا المدائن، فإما أن تتَّفقا، وإلا ذهبت المدائن، وذهب ملك فارس، ولولا أن في قتلكما وَهَن فارس لقتلناكما، وإن قتلكما أهونُ من ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): السنة الثالثة عشرة، وهو خطأ. (¬2) الصحاح (قدس). (¬3) المنتظم 4/ 219 - 220، وانظر معجم ما استعجم 1/ 222، ومعجم البلدان 4/ 291، والروض المعطار 447. (¬4) من هنا إلى قوله: فصل وقد مدح بعض الناس الكوفة، ليس في (ك)، وهو دليل على الاختصار.

شماتة الأعداء بنا، فأرسل رستم والفيرزان إلى بوران بنت كسرى: سلي نساء كسرى وسراريّه، هل له ولد، فأرسلت إليهن، فأَنْكرن، فهُدِّدنَ بالعذاب، فأَقْررَرْن بغلامٍ اسمه يَزْدَجِرد، من ولد شَهْريار بن كسرى، وأنه عند أمِّه، وهي من أهل بادَرايا (¬1)، فأرسلوا إِلى أمه، فجاءت وهو معها، فسألوها عنه، فقالت: كنا في القصر الأبيض، فلما قتل كسرى الذّكور من أولاد الملوك، هربتُ به إلى أخواله خوفًا عليه، وكان ابنَ إحدى وعشرين سنة، فملّكوه عليهم. وهو يزدجرد بن شَهْريار بن أبرويز، وسمّي المشؤوم؛ لأن الفُرس كانت ترى أنه يزول مُلكهم على يده، وصِغر سِنّه هو الذي أوجب تمليك بوران وأختها، وقيل: كان قد نُفي إلى خراسان، فأحضروه وهو ابن خمس وعشرين سنة، ومَلّكوه عليهم، واستقام أمرُ فارس على يد يزدجرد في هذه السنة، فجلس على سرير الملك، وقال كلمات حُفظت عنه، منها: إن بالعدل والسياسة يتمُّ الملك، وبالإحسان يستعبد الأحرار. وأقام واليًا عشرين سنة، حتى زال مُلك فارس على يده في أيام عثمان. ولما ولي رتّب الأمور، وأخرج الأموال، وجهّز الجيوش إلى الحيرة والأنبار والأُبُلّة وكَسْكَر وما بيّن دجلة والفرات. وانحاز المثنى إلى خَفَّان، وكتب إلى عمر يُخبره بذلك، فلم يَرِد جوابُه، حتى كفر أهلُ السواد ونَقضوا العهد، فجاء كتابُ عمر يَأمر المثنى بأن يَخرجوا من بيّن ظَهرانَي الفرس، وأن يتفرّقوا في المياه التي في البرية، حتى يأتيهم المدد، فنزل المثنّى بذي قار، وهو مكان بيّن الحجاز والعراق، ونزل جرير بن عبد اللَّه في البرّية، وكتب عمر إلى القبائل يَستَنْفرهم ويقول: الوحا الوحا، العَجَل العَجَل، فوافَوْا إليه من كلّ مكان. وخرج عمر في أول المحرم سنة أربع عشرة، فعسكر بماءٍ يُدعى صِرارًا، وفي عَزْمِه أن يَسير بنفسه إلى العراق، ولا يَعلم الناسُ بما في قلبه، وكان مَهيبًا، فأقام، ولا يدري الناس أيُقيم أو يَسير، وكان لا يقدم عليه أحدٌ من الناس إلا عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وكان الناس إذا أرادوا منه شيئًا رَمَوْه بأحد الرَّجلين، وكان عثمان ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 3/ 477، وتجارب الأمم 1/ 196، والمنتظم 4/ 151: بادوريا.

ذكر مسير سعد -رضي الله عنه- إلى العراق

يُدعى في أيام عمر رَديفًا -والرَّديف الذي بعد الرَّجُل- وكان العباس ممن يقدم عليه أيضًا، فاجتمع الناس إلى عثمان، وسألوه أن يسأله ما الذي يريد أن يفعل، فسأله, فنادى عمر: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فأخبرهم باجتماع الناس على يزدجرد، واتّفاق الفرس عليه الخاصّ والعام، فقال عامّة الناس: سِرْ ونحن معك، فدخل من ورائهم (¬1) وقال: وأنا معكم، اللهمَّ إلا أن يَحضر رأيٌ هو أَمثلُ من هذا، ثم بعث إلى أهل الرأي من الصحابة وأشراف العرب، فاجتمع مَلَؤهم على أن يُقيم، وَيبعث بعض الصحابة، ويُمدّه بالجنود، فإن كان الفتح، وإلا نَدب آخر وآخر. وكان عمر قد استخلف عليًا على المدينة، فأرسل إليه ليَحضر، وكان قد جعل طلحة على أحد المُجَنبَتيْن، والزبير على الأخرى، وعبد الرحمن في المقدّمة، وقيل إن طلحة كان في المقدمة، فحضر الجميع، فاستشارهم، فأشار طلحة بالمسير، وأشار علي وعبد الرحمن بن عوف بالمقام، قال عبد الرحمن: فما فَديتُ أحدًا بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأبي وأمي غيره، وقلت: ليس هَزْم جيوشك كهزيمتِك، فأَقِمْ وابعث الجيوش، وقال له علي: إذا سَلِم الرأس سلم سائر الجسد، وإذا عَطِب عطب الجميع، فقال: إنما أنا كرجلٍ منكم، وحيث صدَفْتموني عن المسير فأشيروا عليَّ مَن أبعث، فقال عبد الرحمن بن عوف: عليك بالأسد في بَراثنه؛ سعد بن مالك، يعني: ابن أبي وقّاص، فاتّفق الجميع. ذكر مسير سعد -رضي اللَّه عنه- إلى العراق وكان سعد على صدقات هوازن، فكتب إليه عمر، فقدم عليه، فقال له: يا سعد، [سعد] بني وهيب، قد أمّرتك على العراق، فلا يَغُرنّك من اللَّه قول الناس: خال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وصاحبه، فان اللَّه لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، وليس بين اللَّه وبين أحد [نسبٌ] إلا طاعته، فشريفُ الناس ووضيعُهم عند اللَّه سواء، اللَّه ربُّهم وهم عباده، فانظر إلى الأمر الذي بُعث فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أن فارقنا عليه ¬

_ (¬1) كذا، وفي تاريخ الطبري 3/ 480، وتجارب الأمم 1/ 197، والكامل 2/ 450: فدخل معهم في رأيهم، وكره أن يدعهم حتى يخرجهم منه في رفق.

فالزمْه (¬1)، وإنك قادمٌ على أمرٍ شديدٍ كريهٍ، لا يخلص منه إلا بالحق، فالصبر الصبر، وذكر وصيَّة عامة، ثم عرض الجُند، فجاءت كندة، فأعرض عنها مرارًا، ثم قال: إني منهم لمتردّد، ثم أمضاهم على كُرهٍ منه، وكان منهم سودان بن حُمْران قاتل عثمان رضوان اللَّه عليه، وابن مُلجم قاتل عليّ كرم اللَّه وجهه، فسار سعد في سبعة آلاف، منهم ثلاث مئةٍ وستون من الصحابة، منهم ثمانية وعشرون من أهل بدر، والباقون ممن صحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما بيّن بيعة الرضوان إلى وفاته، وسبع مئة من أبناء الصحابة، ومن أشراف العرب خلقٌ كثير، وكان عمر قد قال: واللَّه لأضربنّ ملوك العجم بملوك العرب، فلم يدع رئيسًا إلا وبعث به مع سعد وأمدّه به. وجاء سعد فنزل القادسية، وانضاف إليه جيش المثنّى في ثمانية آلاف، وكان المثنى قد مات من الجراحة التي أصابته يوم الجسر، وكتب عمر إليه وإلى جرير بطاعة سعد، فتكامل عنده بالقادسية تسعة وثلاثون ألفًا، وقيل تسعة وعشرون ألفًا، وهو الأصح، وجاءت القبائل من كلِّ وَجْه. ولما بلغ يَزْدَجِرد نزولهم القادسية، جهّز إليهم الجيوش، وولّى حربَهم رستم بن الفَرُّخْزاذ، ويُعرف بالأرمنيّ، وقدم الجالينوس في مقدّمته في أربعين ألفًا، وجعل على الميمنة الهُرْمزان في أربعين ألفًا، وعلى الميسرة مِهْران بن مهران في أربعين ألفًا، ورستم في المقدمة في مئة وعشرين ألفًا، ومعهم ثلاثون فيلًا عليهم المقاتلة والسلاح، وانضمَّ إليهم دهاقين السواد، فصاروا في ثلاث مئة ألف. فكتب سعد إلى عمر يُخبره بجمع القوم، فكتب إليه عمر: لا يَكثُر بك (¬2) ما يأتيك عنهم، ولا [ما] يأتونك به، واستعن باللَّه عليهم، وتَوكَّل عليه، وابعث إليهم رجلًا من أهل الرأي والنَّظر، يدعوهم إلى اللَّه تعالى. فبينا سعد على هذا العزم إذا برسول رستم قد جاء يقول: ابعثوا إلينا رجلًا عاقلًا يبين إلينا ما الذي جاء بكم إلينا، فقال المغيرة بن شعبة: أنا ذلك الرَّجل، فسار إليه، ¬

_ (¬1) في الطبري 3/ 483، وتجارب الأمم 1/ 198: فانظر الأمر الذي رأيتَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه، منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمه. (¬2) في الطبري 3/ 495: لا يكرُبنك.

فلما دخل عليه جلس معه على سريره، فنخر أصحابُه وصاحوا، فقال المغيرة: هذا شيءٌ لم يَزِدْني رِفعة، ولم يَنقص صاحبَكم، قال رستم: صدق، فقال له رُستم: ما الذي جاء بكم إلينا؟ فقال: إن اللَّه بعث إلينا رسولًا؛ فهدانا من الضَّلالة، وأنقذنا من الجهَالة، وأمرنا بجهادكم، فإن قَتلتمونا دخلْنا الجنة، وإن قتلْناكم دخلتُم النار، أو تُؤدّون الجزيةَ إلينا، فقال رستم وأصحابُه: لا صُلحَ بيننا وبينكم. وقال الهيثم: بعث رستم إلى سعد يَطلب جماعةً لهم رأيٌ وعقل، فأرسل إليه بجماعة فيهم المغيرة بن شعبة ومَعبَد بن مُرّة، فقال لهم معبد (¬1): دعوني أتقدَّمكم، فإن أتينا جميعًا رأونا قد احتَفَلْنا لهم، فقالوا: تقدَّم، فجاء وقد بسط رستم النَّمارق والوسائد، وأظهر اليواقيت واللآلئ والزينة العظيمة وجلس على سرير من ذهب، ولبس تاجَه، فجاء معبد على فرسٍ له قصير، ورُمحُه مشعوب، وسيفُه خَلَق (¬2)، فاقتحم البساط بفرسه، ونزل فربطه بين وِسادتين، وعليه عباءة قد خلّها بخلال، فقال رستم: فرع سلاحَك، فقال: لا أَضعُه، أنتم دعوتموني، فإن أكرهتموني على وَضعِه رجعتُ، فقال رستم: دعوه، ثم قال له: ما الذي أَقدَمَكم علينا، فردَّ عليه مثل ما قال المغيرة، فقال رستم: أَخِّرونا حتى نَنظُرَ في هذا الأمر، فقال: لا نُؤخّركم أكثرَ من ثلاث، فإما أن تُسلموا، أو تُؤدّوا الجزية، وإلا قاتلناكم، فمال رُستم إلى الصُّلْح، فنهاه أصحابُه وقالوا: أيُّ قَدرٍ لهذا الأعرابي، أما ترى زِيَّه وثيابَه، فقال رستم: لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام، فإن العرب تَستخفُّ الثياب، وتَصونُ الأحساب، فقال (¬3): قد أمرتُ لأميركم بكُسوة وألفِ درهم وبغْلٍ، وتنصرفون، فقال المغيرة: أبعد أن أَوْهَنّا مُلككم، وضَعْضَعْنا عِزَّكم، ولنا مدَّة نَمخر بلادَكم، ونأخذ الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، وستصيرون لنا عبيدًا على رَغمكم، فاستشاط رُستُم غضبًا وقال: واللَّه لا تَرتفعُ الشمسُ غدًا حتى أقتلَكم أجمعين، فقال له المغيرة: ستعلم وتندم، ثم قال ¬

_ (¬1) في الطبري 3/ 518 أن القائل ربعي بن عامر، وهو الذي دخل على رستم. (¬2) في الطبري 3/ 519: معه سيف مَشوف، وغمده لفافة ثوب خلق، ورمحه معلوب بقدّ. اهـ. والمعلوب: الذي حُزم مقبضه بعِلْباء البَعير، والعِلْباء: عَصبٌ في عنق البعير يؤخذ ويُلَفُّ على المقبض. والمشوف: المجلوّ. (¬3) رجع الحديث إلى خبر المغيرة، والقائل هو رستم.

رستم: إما أن تَعبروا إلينا أو نَعبر إليكم، فقال المغيرة: بل أنتم فاعبروا، فنصبوا الجسر وعبروا، فصاروا غربيّ الفرات. وكتب سعد كتابًا إلى عمر يخبره الخبر، فكتب إليه وصيَّةً بالغة، منها: كونوا أشدَّ الناس احتراسًا من المعاصي بينكم، من عدوّكم، فإن ذُنوبَ الجيش أخوفُ عليهم من عدوِّهم، وإنما يُنصر المسلمون بمَعصية عدوِّهم، ولولا ذلك لم يكن لنا بهم قُوَّة؛ لأن عَددنا ليس كعددهم، وقوَّتنا ليست كقُوَّتهم، فإن استَوينا في المعصية كان لهم الفضلُ علينا في القوة. واعلموا أن عليكم من اللَّه حَفَظة في مسيركم وإقامتكم، يعلمون ما تفعلون، فاستَحيُوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي اللَّه وأنتم في سبيله، ولا تقولوا عدوُّنا شرٌّ منا، فلن يُسَلَّط علينا وإن أسأنا، فرُبَّ قومٍ سُلِّط عليهم مَن هو شرٌّ منهم، كما سُلّط علي بني إسرائيل لما عملوا بالمعاصي مَن هو شرٌّ منهم، فجاسوا خلال الديار، وكان وعد اللَّه مفعولًا، وذكر ألفاظًا أُخر، وقال: وإياكم وقُرى أهلِ الذِّمّة والصلح، ولا يدخلنَّها منكم إلا الموثوق بدينه وأمانته، فإن لهم حُرمة وذِمامًا، ولا تُروا أهلها شيئًا، ولتَنْتَقِ للطلائع أهلَ الرأي والنَجدةِ والصِّدقِ، وتخيَّر لهم سوابقَ الخيل، ولا تُعاجلوا العدوَّ بالقتال ما لم يَستكرهوكم عليه، وأبصروا عورات عدوِّكم، ومن أين يُؤتى، وأقيموا الحرس، واحذروا من البَيات، ولا تُؤتَوا بأسيرٍ له عهد إلا قتلتموه؛ لتُرهبوا به عدوَّكم، والسّلام (¬1). ولما رحل رستم عن المدائن نزل بساباط، وقَدَّم الجالينوس، ثم سار حتى نزل بكُوثى، فغصب أصحابُه أموالَ الرعيَّة، وفضحوا نساءهم، وعاثوا، فقال لهم رستم: قد كان اللَّه ينصركم بحُسن السيرة، وكفِّ الظُّلم، والوفاء بالعهود، فأما إذا تَغيَّرتُم عن هذه الأحوال فما أرى اللَّه إلا مُغيِّرًا ما أنتم فيه. ثم رحل فنزل النَّجَف، فخرج إليه رُؤساء الحيرة -وفيهم ابن بُقَيلة- فلامهم على أداء الجزية، وأراد قتلَهم، فقال له ابن بُقَيلة: لا تَجمع علينا اثنتين: القتل والعَجْز عن ¬

_ (¬1) العقد الفريد 1/ 130 - 132.

نُصرتنا، والدفع عنا وعن بلادنا، فسكت. وكان رستم لما نزل الدير رأى في منامه كأن ملكًا نزل من السماء، يختم على جميع سلاحهم، فتطيَّر من ذلك، وسار فنزل النَجف، فأقام عليه، وسعد بالقادسيّة لا يتقدَّم ولا يتأخّر، فأقام رُستم بالنَّجف أربعةَ أشهر؛ رجاء أن يَضجر سعد فينصرف، مخافةَ أن يَجري على رستم ما جرى [على] مَن تَقدّمه، وأرسل يَزْدَجِرد يحثُّ رُستم على لقائهم. وكان طُليحة قد أسلم وحَسُن إسلامه، وسار مع سعد في ذلك الجيش، فدخل عسكر رستم ليلًا، فرأى فرسًا على باب مِضْرَب، فقطع مِقوَده، وقرنه بفرسه، وساقه وسط العسكر، ونَذِروا به، فخرجوا في إثره، فقتل كل مَن تبعه ونجا، وتبعه مَرزبان منهم فأسره، وجاء به إلى سعد، فقال: حَدَّثني عن فُرسانكم، فقال: رأيتم فارسًا قطع عسكرًا فيه ما بين ألوف، ويخرج سالمًا غير هذا؟ ! يعني طُليحة، وأسلم الرجل وقال: أبشر بالنصر، فسمّاه سعد مُسلما. ثم عاد رستم إلى رؤياه، ورأى ذلك الملك بعينه قد نزل من السماء، وختم على سلاحه ومعه نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، فدفع الخَتْم إليه، فدفعه إلى عمر، فازداد حُزنًا. وعمر -رضي اللَّه عنه- يُمدُّ سعدًا بالسلاح والقبائل والميرة وغيرها، فلما علم رستم أنهم غيرُ مُنتَهين عنه، وإن أقام نازلوه، قرن عشرين ألفًا في السلاسل، وفَرَّق الفيلة ميمنةً وميسرة، وقدَّم بين يديه فيلًا أبيض كان لسابور يُعَدُّ بألف فيل، وجاء فنزل المكان المعروف بالعتيق، وكان ينظر في النجوم، فرأى تلك الليلة أهوالًا عظيمة، وأن النجوم تتساقط، فلما أصبح ركب وصَعد تلًا دون القَنْطرة -وكان سعد قد غلبهم على القنطرة التي على العتيق- فنظر إلى عساكر الإِسلام فوافاهم قليلًا، فاحتقرهم بالنسبة إلى عسكره، فأرسل إليهم زُهرة بن الحويّة يقول: أنتم جيرانُنا، وما زلنا مُحسنين إليكم، فارجعوا عنا، فقال سعد: إنا لم نَأتكم لطلب الدنيا، وإنما مَقصودُنا الآخرة، وإن اللَّه أرسل إلينا رسولًا، فدعانا إلى دينه، فأرسل رستم يقول: وما الدين؟ فقال سعد: عموده شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، وإخراج العباد من عبادة النيران والأوثان إلى عبادة الرحمن، فقال رستم: ما أحسن ما قلتُم، أرأيتُم إن أَجبناكم إلى ما

تَدعون إليه هل تَرجعون عنّا؟ قالوا: نعم، فقال أعيان الفُرس: لا نفعل هذا أبدًا، ونفارق ديننا. وبات الفُرس يسكّرون العَتيق بالقَصب والتُّراب، فأصبحوا وهم على مواقفهم -وهذا اليوم الأول يُسمّى يوم أَرْماث، وهو اسم بُقعة كان القتال عندها- فجلس رستم على سرير، وضُربت عليه طيَّارة، ورتَّب الصفوف، وكان يَزدجِرد [وضع] على باب إيوانه رجلًا يُبَلِّغه أخبارَ رستم، وآخر على باب القصر، وآخر على باب المدائن، وكذا إلى رستم. ورتّب سعدٌ المسلمين، ولم يَقدر على الرُّكوب، كان به عِرق النَّسا وحُبون، أي: دَماميل، وكان مُلْقَى على وجهه في صدره وسادة، وهو مُنكَبٌ عليها، ينظر إلى الناس من سطح قصر القادسية، وقَدم على الناس خالد بن عُرْفُطة، فاختلف على خالد جماعةٌ منهم أبو مِحْجَن الثقفي، فقيَّده سعد وحبسه في قصر القادسيّة، وكان هذا اليوم يوم الإثنين سادس رجب. وأمر سعد خطباء الناس وشعراءهم، مثل: المغيرة بن شعبة وعمرو بن معدي كرب وطليحة بن خويلد وقيس بن هبيرة والشمّاخ والحطيئة وأوس بن مَغْراء أن يقوموا في الناس، فيُذكّرونهم بأيّام اللَّه، ويحرضونهم على القتال، ويُحذّرونهم الفرار، ففعلوا، فكان ما قال قيس بنُ هُبَيرة الأسدي: أيها الناس، احمدوا اللَّه على ما هداكم، وارغَبوا إليه فيما أبلاكم، فإن الجنة أمامكم، وليس وراء هذا القصر -يعني قصر القادسية- إلا العَراء، والقفار الموحشة، والمفاوز المعطِشة التي لا يَقطعها إلا كلُّ خِرِّيت ماهر بالدّلالة، فاحذروا أن تكونوا طُعمةً لها، ثم ذكر كلُّ واحد فصلًا في هذا المعنى، وفعلت الفُرس كذلك، وتعاهدوا على الموت، وقدّموا مع كلّ فيل أربعة آلاف مُقاتل. وكانت صفوف الفُرس مع العتيق على شَفيره، وصفوف المسلمين مع حائط قادس، قرية، وقال سعد: اجعلوا العَتيق أمامنا، والخندق من ورائنا، والمسلمون بين العَتيق والخندق. وكان رُستم مما يلي العراق، وسعد مما يلي الحجاز، والقَنطرةُ بين الفريقين،

وجعل سعد على الميمنة جرير بنَ عبد اللَّه البَجَلي، وعلى الميسرة قيس بنَ المكشوح، وفي المقدمة القعقاع بن عمرو وعمرو بن معدي كرب والأشعث بن قيس وغيرهم، وقال سعد إذا كَبَّرتُ بعد الظهر فاستَعِدُّوا، وإذا كبَّرتُ الثانية فانشطوا، وإذا كبَّرتُ الثالثة فاحملوا، فإن اللَّه هدى هذه الأمة بالتَّكبير، والنَّصرُ مَقرون به. وخرج أهل النَّجدات يَطلبون المبارزة، فخرج إليهم أمثالُهم من أهل فارس، فبرز هُرمز وكان من ملوك باب الأبواب، وعليه تاجُه ومِنطَقَتُه وزينتُه، فخرج إليه غالب بن عبد اللَّه الأسدي فأسره، وجاء به إلى سعد، وخرج إلى طُليحة عظيمٌ من الفُرس فقتله طُليحة، وصلّى الناس الظُّهرَ، وكبَّر سعد فاستعدُّوا، ثم كبَّر الثانية فنشطوا، ثم كبَّر الثالثة فدارت رحى الحرب، وحملت الفيَلة على الميمنة والميسرة، فانذَعَرت الخيول منها وأحجَمتْ، فترجلت أَسَد وتميم وبَجيلة، وحملوا على الفِيَلة حملةً عظيمة، فقطعوا أحزمتها، ووقع مَن عليها فقتلوهم، وكان يومًا عظيمًا، قُتل فيه من أَسَد خمس مئة رجل؛ لأنهم باشروا الفيلة بنفوسهم، فأنْكَتْ فيهم. وجال المسلمون جولةً لما شاهدوا من قتال الفُرس، وكان [سعد قد تزوج سلمى بنت خَصَفة امرأة المثنّى قبله، فنزل بها القادسية، فلما رأت ما يصنع أهلُ فارس قالت: وامُثنَّياه ولا مُثَنَّى للخيل اليوم، فلطم] سعد وَجْهَها، وقال: أين المثنَّى من هذه الكتيبة التي تدور عليها رحى الحرب أو المنون، يعني بني أسد وبَجيلة وبني تميم، فقالت سلمى: أغَيْرةً وجُبنًا، فقال سعد: لا يَعذرني اليوم أحدٌ إذا أنت لم تَعذريني وأنت ترين ما بي، وحجز الليل بينهم، وأمر سعد بنقل القتلى إلى وادي العُذَيب وعين الشمس، ففعلوا. وأصبحوا في اليوم الثاني على تَعبية -ويقال له: يوم أغواث؛ لأن اللَّه أغاث المسلمين بجيش هاشم بن عُتبة بن أبي وقاص- فلما تزاحف الفريقان إذا بطلائع من نحو الشام قد ظهرت، وكان عمر قد جَهَّز هاشم بن عُتبة في ستة آلاف فارس. قال سيف: وتقدَّم القعقاع بن عمرو فطلب المبارزة، فبرز إليه بَهْمن جاذَويْه، ويقال له: [ذو] الحاجب، فقال له: مَن أنت؟ فقال: بهمن جاذَوْيه، فقال القعقاع: يا ثارات أبي عُبيد، وحمل عليه فقتله، وتواترت الجيوشُ من الشام، وفرح المسلمون

قصة العجوز

وبشروا مما لَقوه بالأمس، ولم يزل القتال يعمل إلى الليل، ولم يقاتل الفُرس في هذا اليوم على فيل؛ لأن توابيتها كانت قد تكسَّرت، وفي هذا اليوم جرت وقائعُ عظيمة، أكثر المسلمون القتلَ في فارس، وألبس المسلمون الخيل جُلودَ الجِمال، على هيئة الفيلة، فلقي الأعاجم يوم أغواث أشدّ مما لقي المسلمون يوم أرماث. قصة العجوز ولما اجتمع الناس بالقادسيّة دعت خنساء بنت عمرو النَّخعيّة بنيها الأربعة، فقالت: يا بَنيّ، إنكم أسلمتُم طائعين، وهاجرتُم غير مُكرَهين، لم تَنْبُ بكم الدار، ولم تُقْحِمكم السَّنَة، ولا أرداكم الطَمع، واللَّه إنكم لبنو رَجُلٍ واحد، كما أنكم لبنو أمَّ واحدة، واللَّه ما فَضَحْتُ خالكم، ولا خُنتُ أباكم، ولا غَبَّرتُ نَسبَكُم، ولا أوطأتُ فِراشَ أبيكم غيرَه، فإذا شاهدتُم الحربَ غدًا قد أَبدت ساقَها، ومَدَّت رُواقَها، فتيمَّموا وَطيسها، وجالِدوا خَميسها، تَظفروا بالغَنيمة والسلامة، والفَوز والكرامة، في دار الخُلد والمقامة، يا بَنيّ، جئتُم بأُمِّكم العجوز الكبيرة، فألقيتُموها طُعمةً لأهل فارس، فاللَّه اللَّه فيها وفي أحسابكم، فانصرفوا وهم لأمرها طائعون، وبنُصحِها عارفون، فلما كان يوم أَغواث تَقدَّم الأول فقال: [من الرجز] يا إخوتي إن العجوز النَّاصِحه قد أيقظَتْنَا إذ دَعتنا البارِحَه نصيحة ذات بيانٍ واضحه فباكروا الحربَ الضَّروس الكالِحَه فإنما تَأتون عند الصائحه من آل ساسان كلابًا (¬1) نابحه قد أيقنوا منكم بوَقْعِ الجائحه ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): فباكر، الطروس، عند الصالحة، كلاب، والمثبت من الاستيعاب (3298)، والمنتظم 4/ 174، وصفة الصفوة 4/ 386.

وأنتم بين حياةٍ صالحه أو مِيتَةٍ تُورث غُنمًا رابحه ثم حمل على القوم فأزالهم عن مَواقفهم، ثم حمل الثاني وقال: [من الرجز] واللَّه لا نَعصي العجوز حَرفا قد أمرتنا حَدَبًا وعَطْفا منها وبِرًّا صادقًا ولطفا فباكروا الحَربَ الضَّروس زَحْفا حتى تَلفُّوا آل كسرى لَفَّا وتَكشِفوهم عن حِماكم كَشْفا إنَّا نرى التَّقصيرَ عنهم ضَعفا والقَتْلَ فيهم شِيمةً وعُرفا ثم حمل الثالث وقال: [من الرجز] لستُ لخنساءَ ولا للأَدْرَمِ (¬1) ولا لعمرٍو ذي السَّناء الأقدم إن لم أَدُرْ في آل جَمعِ الأعجمِ جَمْعِ أنو شروان جَمْعِ رُستُمِ بكلِّ مَحمود اللقاء ضَيغمِ ماضٍ على الهول خِضَمِّ خِضرِمِ إما لقَتل عاجلٍ أو مغْرمِ أو لحياةٍ في الأَسَدِّ الأكرمِ ¬

_ (¬1) في الاستيعاب (3298)، والمنتظم 4/ 175: للأخرم، وفي صفة الصفوة 4/ 386: للأخزم.

نَفوزُ فيها بالنَّصيبِ الأَعظمِ ثم شدَّ الرابع فقال: [من الرجز] إن العجوز ذاتُ حَزْمٍ وجَلَدْ والنَّظرِ الأَوفقِ والرَّأي الأسَدّ قد أمرتنا بالصَّواب والرَّشَدْ نَصيحة منها وبِرًّا بالوَلَدْ فباكروا الحرب وشدوا في العَدد (¬1) إما لقَهْرٍ واحْتياز (¬2) للبَلَدْ أو مِيتَةٍ تُورث خُلدًا للأبَدْ في جنَّةِ الفردوس في عَيشٍ رَغَدْ فلما غابوا عن عينها رفعت يديها إلى السماء وقالت: اللهمَّ ادفع عن بَنيَّ، فأبلَوا بلال حسنًا، وعادوا إليها سالمين، لم يُكْلَم منهم أحدٌ، فكانوا يَأخذون أعطيتَهم ألفين ألفين، فيَصبُّونها في حِجر العجوز، فتَقسِم بينهم حَفْنَةً حفنة، لا يُغادر واحدٌ من عطائه دِرهمًا (¬3). اليوم الثالث وهو يوم أغماس (¬4)، وسُمّي بذلك لأن الفريقين انغمسوا في الحرب، ولم يَجْر في الجاهلية والإِسلام مثل هذا اليوم والليلة، وتُسمّى ليلة الهَرير، وهي أعظم من ليلة صِفّين. قال سيف: وأصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم، فلما ذرَّ قَرن الشمس إذا بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص قد وصل، وكَردس الكراديس، وتزاحف القوم، وقَدَّمت ¬

_ (¬1) في المنتظم 4/ 175، وصفة الصفوة 4/ 387: نماء في العدد، وفي الاستيعاب: حُماةً في العدد. (¬2) في (أ) و (خ): إما بقهر واختيار، والمثبت من صفة الصفوة. (¬3) ذكرها الطبري 3/ 544، وابن أعثم في الفتوح 1/ 206 مختصرة. (¬4) في الطبري 4/ 550، ومروج الذهب 4/ 219، والمنتظم 4/ 175، والاكتفاء 4/ 228، ومعجم البلدان 1/ 225 و 4/ 149، 292: عِماس.

الفُرس الفيلَ الأبيض الذي يُعدُّ بألف فيل، فحمل وحملت الفيول، فمَزَّقت الكتائب، فقال سعد: مَن للفيل، فقال عمرو بن معدي كرب والقعقاع: نحن له، وحملا عليه، فوضعا رُمحيهما في عينيه، وضربه المسلمون بالسيوف فقتلوه، وكانت الفِيلة تأنس به، فلما رأته صريعًا نَفرت، فخاضت العَتيق وصفوفَ الفرس، وتعثَّرَت في توابيتها، فوقع مَن كان عليها فهلكوا, ولحقت بالمدائن. وجنّ الليل والقتال يعمل للصباح، فسُمِّيت ليلةَ الهَرير؛ لأن الأصوات انقطعت عن سعد، ولم يَبق إلا هَريرُ الرجال، وشاهدت العجم من العرب ما لم يَروا مثله قَطّ، وفي هذا اليوم الثالث كانت قِصة أبي محجن الثقفي: لما اشتدَّ القتال -وكان سعد قد حبس أبا مِحْجَن في قصر القادسية وقيَّده- أتى أبو محجن سلمى بنت حفصة، امرأة سعد، فقال لها: يا بنت حفصة، هل لك في خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تُخلِّين عنّي، وتُعيريني البَلْقاء -يعني فرس سعد- وللَّه عليَّ إن سلّمني اللَّه أن أَرجعَ حتى أضعَ رِجلَيَّ في قيدي، وإن أُصِبتُ فما أكثر مَن أُصيب، فقالت: وما أنا وذاك؟ فرجع يَرْسُفُ في قيوده ويقول: [من الطويل] كفى حَزَنًا أن تَرْدِيَ الخيلُ بالقَنا ... وأُتركَ مَشدودًا عليَّ وَثاقِيا إذا قُمتُ عَنَّاني الحديدُ وغُلّقَتْ ... مَصاريعُ دوني قد تُصِمُّ المناديا وقد كنتُ ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ ... فقد تركوني واحدًا لا أخا لِيا وللَّه عهدٌ لا أَخيسُ بعهده ... ليِّن فُرِجَتْ أن لا أزورَ الحوانيا وسمعتْه سلمى، فقالت: استخرتُ اللَّه، ورضيتُ بعهدك، وأطلقَتْه، فاقتاد الفرس، فأخرجها من باب القصر، وركبها ثم دبَّ عليها، يَلعب برُمحه بين الصَّفَّين، حتى إذا كان بحيال الميمنة، كَبَّر، ثم حمل على الميسرة، ثم رجع إلى القَلْب، فبرز أمام الناس، وحمل على القوم، فتعجَّب الناس منه، وهم لا يعرفونه، ولم يَرَوْه من النهار، وقال بعضهم: هذا من أوائل خيل هاشم أو هاشم نفسه، وقال بعضهم: إن كان الخضر يشهد الحروب فليكن صاحب البلقاء، وقال آخرون: لولا أن الملائكة لا تُباشر الحروب لقلنا إنه ملك، وكان سعد في أعلى القصر، فقال: لولا مَحبَس أبي محجن لقلت: [هذه] شمائلُه، وهذه البلقاء.

فلما انتصف الليل وتحاجز الناس، رجع أبو محجن، فدخل القصر ووضع رجليه في قيده. قال ابن سيرين: وكان لا يزال يشرب الخمر، فكان يُجلد فيها، فلما أكثر عليهم حبسوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية فعل ما فعل، وجاء سعد فقالت له سلمى: كيف كان قتالُكم اليوم؟ فجعل يَصف لها حتى قال: فبعث اللَّه رجلًا على فَرسٍ أَبْلَق، لولا أني تركتُ أبا محجن في قيده لقلتُ إنها شمائلُه، فخَرق الصفوف، وفعل وفعل، فقالت: واللَّه إنه لأبو محجن، وقَصَّت عليه القصّة، فدعاه وحلَّ عنه قُيودَه، وقال: واللَّه لا نَجلِدُك في الخمر أبدًا، فقال أبو محجن: واللَّه لا أَشربُها أبدًا؛ لأني كنتُ آنف أن أدَعها من أجل جَلْدكم، وكنتُ أشربُها إذ يُقام عليَّ الحدّ فأطهَّرُ منها، أما إذا بَهْرَجْتَني، فواللَّه لا أشربُها أبدًا. وقال سيف: قالت امرأةُ سعد لأبي محجن: لِمَ حبسك هذا الرجل؟ فقال: واللَّه ما حبسني على حرامٍ أكلتُه، ولكني صاحبُ شَراب، وأنا امرؤٌ شاعر يَدبُّ الشعرُ على لساني، فقلت: [من الطويل] إذا متُّ فادفِنِّي إلى ظلِّ كَرمةٍ ... تُروّي عظامي بعد مَوتي عُروقُها ولا تدفِنَنّي بالفَلاة فإنني ... أخافُ إذا ما متُّ ألا أذوقُها فحبسني سعد لهذا، فأخبرت سلمى سعدًا، فقال له: اذهب، فلستُ أُواخِذُك على شيءٍ تقولُه بعدها حتى تَفعلَه، فقال: لا جَرَم، لا أُجيبُ لساني إلى صفة قبيحة أبدًا (¬1). دخل ابن أبي محجن على معاوية بن أبي سفيان، فقال له: أبوك القائل: [من الطويل] إذا متُّ فادفِنّي إلى ظلِّ كَرمةٍ فقال: لو شئتَ لذكرتَ من شعره غير هذا، قال: وما هو؟ قال: قولُه: [من البسيط] ¬

_ (¬1) أخرج القصة مطولة ومختصرة ابن قتيبة في الشعر والشعراء 423، والطبري في التاريخ 3/ 548، 573، وأبو الفرج في الأغاني 19/ 4 - 8 والمسعودي في مروج الذهب 4/ 213 - 219، وابن أعثم في الفتوح 1/ 209 - 209، وابن عبد البر في الاستيعاب (3156)، وابن قدامة في التوابين 148 - 152.

لا تسألِ الناسَ عن مالي وعن حَسبي ... وسائلِ القومَ عن شَأني وعن خُلُقي القوم تَعلمُ أني من سَراتِهم ... إذا تَطيشُ يَدُ الرِّعديدةِ الفَرِقِ قد أركب الهولَ مَسدولًا عَساكِرُه ... وأكتُمُ السِّرَّ فيه ضَربةُ العُنُقِ أُعطي السِّنانَ غداةَ الرَّوعِ حصَّتَه ... وعاملُ الرُّمحِ أروِيهِ من العَلَقِ فقال معاوية: رحم اللَّه أبا مِحجن، هو واللَّه كما وَصفَ نفسَه، ثم ذكر فِعلَه يومَ القادسية (¬1). وقال رجل يوم القادسية وسعد -رضي اللَّه عنه- على سطح القصر: [من الطويل]: نُقاتلُ حتى أنزل اللَّه نصرَه ... وسعدٌ بقصر القادسيَّةِ مُعصِمُ فأُبنا وقد آمَت نساءٌ كثيرةٌ ... ونسوةُ سعدٍ ليس فيهن أيِّمُ وبلغ سعدًا، فخرج إلى الناس، فأراهم ما به من الحبون والقروح، وقال: اللهمَّ إن كان قَصد الرِّياء فاقطع لسانَه، فبينا الرجل واقِفٌ في الصفِّ، جاء سهمٌ فشقَّ لسانَه، فوقع ميتًا (¬2). اليوم الرابع، وهو آخر أيام القادسية، قال هشام: اقتتلوا إلى الظهر، فهَّبت ريحٌ عاصف، فسَفَتِ التُّرابَ على الفُرس، وقطعت طيارة رُسْتم، فألقتها في العَتيق، وقَدمت في تلك الساعة من المدائن بغالٌ عليها مالٌ، وقام رستم عن سريره لما وقعت الطَّيّارة، فاستظلَّ بظل بغل منها، وحمل القعقاع وهلال بن علقمة (¬3) والأشعث بن قيس وعمرو بن معدي كرب على الفُرس، وتبعهم الأمراء، وبادر هلال بن علقمة إلى البغال، فضرب الحِمْل الذي تحته رستم فقطعه، ووقع أحد العِدلَين على رستم، فأزال فقارًا من ظهره، فهرب إلى القنطرة، فتبعه هلال فقتله، وجرَّ برجله فألقاه في العتيق، وصعد على سريره وصاح: قتلتُ رُستم وربِّ الكعبة، إليّ إلي، فاجتمع إليه المسلمون، وهربت الفُرس، وتهافتوا في العتيق، فقُتل منهم في ذلك اليوم ثلاثون ألفًا، وفي غيره من الأيام ثمانون ألفًا، وقُتل من المسلمين ستة آلاف، وقيل ثمانية آلاف، وأمر سعد بدفن الشهداء في مواضعهم. ¬

_ (¬1) الشعر والشعراء 424، والأغاني 19/ 10 - 11، والاستيعاب (3156). (¬2) تاريخ الطبري 4/ 576 و 579 - 580، والبدء والتاريخ 5/ 176. (¬3) في الطبري 4/ 564: هلال بن عُلفة.

ذكر الغنائم

ذكر الغنائم جُمع في ذلك اليوم من الأموال والغنائم ما لا يُحصى، وجدوا في خزائن رستم ست مئة ألف ألف دينار، ومن الجواهر واليواقيت مثلها، ومن الخيل والبغال والخيام والثياب والأثاث والأمتعة والأسلحة ما عجزوا عن إحصائه، ووجدوا حِملًا من الكافور، فظنّوه ملحًا، فطُبخ منه في القدور فتمَرمر الطعام، فقالوا: هذا مِلحٌ مُرّ، كذا يكون ملح هذه البلاد؟ فباع واحد جرابًا من الكافور بدرهمين، وكان هلال قد أخذ سَلَب رُستم ومِنطَقَته وسلاحَه، وكانت قيمتُه خمس مئة ألف دينار، وقتل زهرة بن الحويّة الجالينوس وأخذ سلَبه، وكان دون سَلَب رستم، فاستكثر سعد السَّلَبين، فكتب إلى عمر بالفتح، وبعث إليه بالغنائم، وأخبره بالسلبين، فكتب إليه: قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قتل قتيلًا فله سلَبه" (¬1)، فادفع إلى القاتلين أسلابَ المقتولين، ففعل سعد. وكانت هذه الوقعة في هذه السنة، وقيل: سنة خمس عشرة، وقيل: سنة ست عشرة، والأول أظهر. ولما انهزمت الفرس إلى المدائن بعث سعد إلى يَزدجرد جماعةً يدعونه إلى الإِسلام، فيهم النعمان بن مُقَرِّن، والمغيرة بن زرارة الأسدي، وعاصم بن عمرو، فجمع كسرى مرازبته وأهلَ مملكته، وأدخلهم عليه فقال لترجمانه: قل له: ما الذي دعاكم إلى التَّعرُّضِ لبلادنا؟ فقال له النعمان: إن اللَّه أرسل إلينا رسولًا يَدلُّنا على الخير، ويأمرنا أن ندعوَ الناس إلى التوحيد والإنصاف، ونحن ندعوكم إلى ديننا، فإن أبيت وإلا فالمناجزة، فقال يزدجرد: إني لا أعلم في الأرض أُمّةً أشقى منكم، فقال المغيرة بن زرارة: فاختر إن شئتَ الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، وإن شئت الإِسلام، وإلا فالسيف، فقال: أتستَقْبلُني بمثل هذا؟ فقال: ما استقبلتُ إلا مَن كلّمني، فقال: لولا أن الرُّسل لا تُقتل لقتلتُك، فقال: هو ما سمعت، فقال: ائتوني بوِقْر من تراب، واحملوه على أشرافهم، ثم سوقوه حتى تَخرجوا به من المدائن، فنظروا، فإذا عاصم ابن عمرو، فحَمَّلوه التراب، وقال: لا شيءَ لكم عندي، لأبعثنَّ إليكم مَن يَدفِنُكم في ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (22607)، والبخاري (3142)، ومسلم (1751) من حديث أبي قتادة -رضي اللَّه عنه-.

ذكر دخول حرقة بنت النعمان بن المنذر على سعد -رضي الله عنه-

خنادق القادسية، فلما عادوا إلى سعد قال: أبشروا، قد مَلّككم اللَّه أرضَهم. ولما أتى عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- الخبر بنزول رستم القادسية؛ كان يخرج صبيحةَ كلِّ يوم [يستخبر الرُّكبان] ثم يَرجع إلى أهله، فبينا هو ذات يوم إذا براكبٍ، فسأله, فقال: أنا [البشير] هزم اللَّه العدو، وفعل وفعل، وعمر يمشي إلى جانب ناقة الرجل، ولم يعرفْه حتى دخل المدينة، فلَقيه رجل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال الرَّجل: فهَلّا أخبرتَني رحمك اللَّه أنك أمير المؤمنين، فجعل عمر يقول: لا عليك يا أخي. ذكر دخول حُرقة بنت النعمان بن المنذر على سعد -رضي اللَّه عنه- ودخلت حُرَقَة بنت النعمان عليه في جَوارٍ كلُّهن مثلها، فقال: أيّتكن حُرَقة؟ قالت: أنا، فقال كيف حالكم؟ قالت: إن الدنيا دارُ زوال، لا تدوم على حال، كنا مُلوك هذا المِصر، يجيءُ إلينا خَراجُه، ويُطيعنا أهلُه مدّةً، فلما أدبر الأمر، صاح بنا صائحُ الدهر، وإنا نجد في الكتب أنه ليس من قومٍ كانوا في حَبْرة إلا والدهرُ يُعقبهم بعَبْرة، وإني قد قلتُ في ذلك شعرًا، ثم أنشدت: [من الطويل] فبَيْنا نَسوسُ الناسَ والأمرُ أمرُنا ... إذا نحن فيهم سُوقَةٌ نَتنَصَّفُ فأُفٍّ لدنيا لا يَدوم نعيمُها ... تَقَلَّبُ تاراتٍ بنا وتَصرَّفُ فقال سعد قاتل اللَّه عديَّ بن زيد، كأنه حاضر حيث يقول: [من الخفيف] إن للدَّهر صَولةً فاحذَرَنْها ... لا تَبيتنَّ قد أَمِنتَ الشُّرورا قد يبيتُ الفتى مُعافًى فيُرزى ... ولقد كان آمنًا مَسرورا ثم أكرمها، ووَصلها، وأحسن جائزتَها، فقالت: ملكتك يدٌ افتقرت بعد غِنى، ولا ملكَتْك يدٌ استغنت بعد فقر، ولا جعل لك اللَّه إلى لئيمٍ حاجة، ولا أزال عن كريمٍ نعمةً إلا وجعلك السببَ في عودها إليه، وردها عليه، فلما خرجت من عنده قُلنَ لها نساءُ المِصر: ما الذي رأيتِ من الأمير؟ فقالت: [من الخفيف] حاط لي ذِمَّتي وأكرم وَجهي ... إنما يُكرم الكريمَ الكريمُ فلما ولي المغيرة بن شعبة الكوفة خطب حُرقة، فقالت لرسوله: قل له: ما أردْتَ

فصل

إلا أن يُقال: تزوَّج المغيرةُ الثقفي ابنةَ النعمان بن المنذر، وإلا فأيُّ حظٍّ لشيخٍ أعور في عجوزٍ عَمياء (¬1). وسار سعد من القادسية إلى الحيرة، وبعث الرَّوَّادِين يَرتادون له منزلًا، فخرج إليه ابنُ بقيلة من الحيرة، فقال: هل لك في أرضٍ ارتفعت عن البحر، وانحدرت من الفَلاة؟ قال: نعم فأشار إلى مَوضع الكوفة، فنزلها سعدٌ وخَطَّها، وخَطَّ الناس. فصل: وقد مدح بعضُ الناسِ الكوفةَ وذمَّها آخرون. أما المادحون لها فقالوا: قد قال عمر بن الخطاب: بالكوفةِ وُجوه الناسِ. وقال سلمان الفارسي: هي قُبَّةُ الإِسلام. وقد نزلها خلقٌ من الصحابة والعلماء، ونزلها ثمانيةٌ من الخُلفاء: عليٌّ والحسن ومعاويةُ وعبد الملك والسفَّاحُ والمنصورُ والمهدي والرشيد. وكان بها أعيانُ العلماء كإبراهيم النَّخَعي والتيمي أبي حنيفة وابن شُبْرمة والشَعبي وربيعة وسادات الفقهاء. وأما الذامُّون لها فقالوا: هي منشأُ الفِتَن والغَدْر والفساد، وما زالوا يَحْصِبون الولاة ويشكونهم حتى عزل عمرُ سَعْدًا، ودعا سعدٌ عليهم فأعمى اللَّهُ عينَ مَن دعا عليه، وشكوا عمار بنَ ياسر إلى عمر وكانوا ظالمين له، فعزله عنهم، وتربَّصوا على عليٍّ وقتلوه. وطعنوا الحسن في فَخِذِه، وخذلوه، ونزعوا بِساطه من تحته، وأرادوا تسليمَه إلى مُعاوية، وكاتبوا الحسين ثم خذلوه حتى قُتِل، وقَتلوا إخوتَه، وسَبَوْا أهلَه، وسلبوهم ثيابهم، وأخذوا سَراويل الحسين، وخذلوا زيد بن عليّ حتى قُتِلَ أقبحَ قِتْلةٍ، ومثَّلوا به شر مُثْلَةٍ، وكان فيهم المختارُ بن أبي عُبيد الكذابُ الذي ادّعى النبوةَ، ومنهم الخوارج: ابن مُلجَم، وابن السَّوداء، وابن الكَوَّاء وغيرهم (¬2). قالوا: وما رُوي عن عمر وسلمان محمولٌ على زمانهما، لمّا كان بها وجوهُ الصحابةِ الذين فتحوا العراقَ، وجاهدوا الكفارَ، وأما بعد ذلك فقد حدث جميع ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 4/ 352 (مخطوط)، وانظر المجالسة وجواهر العلم (2225) وتخريجها فيه. (¬2) انظر فتوح البلدان 287، وآثار البلاد 250 - 255، والعقد 6/ 249.

فصل في ذكر اختطاط البصرة

فصل في ذكر اختطاط البصرة قال الجوهري: البصرة حجارةٌ بيضٌ خَشِنَةٌ، وبها سُمّيت البصرة، وهي رِخوةٌ إلى البياض (¬1) وقال أبو الحسن المدائني: بعث عمر بن الخطاب عُتبةَ بن غَزْوان إلى البصرةِ في سنة أربع عشرة وأمره أن يقطع مادَّةَ أهلِ فارس عن المدائن. وكان استيطان الكوفةِ والبصرةِ في شهرٍ واحدٍ. والبصرة باب الهند قال المدائني (¬2): ولمّا نزل عتبةُ بن غزوان البصرة، كان بالأُبُلَّة خمسُ مئةٍ من الأساورة يَحمونها، وهي مَرفأُ السُّفُنِ من الهندِ والصين، وهي من أقدمِ بلاد الدنيا، فسار إليها عتبةُ، فناهضَ أهلَها، فركبوا في السفنِ وهربوا، فدخلها فوجد فيها غنائمَ كثيرةً، فكتب إلى عمر بالفتح مع نافع بن الحارث. قال المدائني: وكان اختطاط البصرةِ في شهر ربيع الآخر، وفتوحُ الأُبُلَّة في شعبان. قال: ولما فتحوا الأُبُلَّة وجدوا جِرارًا فيها صَحْناةٌ (¬3)، فذاقوها فقالوا: قبَّحَ اللَّه الفُرس، أيدَّخرون العَذِرةَ في الجِرار؟ وأصابوا جَرَّة فيها جوز فلم يدروا ما هو، وأصابَ بعضُهم سراويل، فلم يحسن أن يلبسها فقال: قبَّحك اللَّه من ثوبٍ، فما تركَكَ أهلُك لخيرٍ، ثم رمى بها، وجعلوا يأكلون الخُبز ويبصرون أَذرعتهم: هل سمنوا أم لا؟ وقال سيف: إنما بعث عتبةَ إلى البصرة والأُبُلَّة سعد بنُ أبي وقاص، لما فرغ من المدائن وبَهُرسير وتكريت وجَلولاء في سنة ست عشرة بأمر عمر، والأول أظهر. وجمع أهل دُسْتِمَيْسان لعُتبة، فسار إليه مَرزبانها (¬4)، فقاتلوه، فهزمهم عُتبة، وأخذ المرزُبان أسيرًا، وبعث سلاحَه ومِنطَقته إلى عمر مع [أنس بن] حجيَّة اليَشكري (¬5). ¬

_ (¬1) الصحاح (بصر). (¬2) في (ك): وكان استنباط الكوفة والبصرة في شهر واحد، وقيل هي حجارة بيض تشبه حجارة أهل الهند، وهي باب الهند، قال المدائني. (¬3) إدام يُتَّخذ من السمك الصغار. (¬4) في (أ) و (خ): مرازبتها، والمثبت من الطبري 3/ 595، وما سيرد بين معكوفين منه. (¬5) من قوله: وقال سيف. . . إلى هنا ليس في (ك).

ذكر مسير عتبة بن غزوان إلى عمر بن الخطاب

ذكر مسير عتبة بن غزوان إلى عمر بن الخطاب (¬1) ذكرَ هشام بن الكلبي عن أبيه قال: قال عمر لعتبةَ بن غزوان: إني موجِّهك إلى أرض الهندِ، يعني البصرة، لتمنع أهلها أن يُمِدّوا أهلَ فارس، فنزلها في ربيع الأوّل سنة أربع عشرة، وبها سبعُ دَساكر. وكتب إلى العلاء بن الحَضْرمي أن يُمِدَّ عتبةَ بعَرْفجة ابن هَرْثمة. قال: واجمعِ الناسَ من الدَّساكر مَوضعًا واحدًا، ففعل، وأقام بها شهرًا وخرج إلى الأُبُلَّة فانهزموا، وكان الفتحُ (¬2) على يد أبي بكرة نُفيعٍ. وشهد فتح الأُبُلَّةِ مئتان وسبعون من الصحابة، فحكى موسى بن المثنّى بن سلمة بن المحبّق الهُذَلي، عن أبيه، عن جدِّه قال: شهدتُ فتح الأُبُلَّة، وأميرُنا قُطبةُ بن قتادةَ السدوسي، فاقتسمنا الغنائمَ، فدُفعت إليَّ قِدْرٌ من نُحاسٍ، فلما صارت في يدي تبيَّن لي أنَّها ذهبٌ، وعرف ذلك المسلمون فنازعوني فيها إلى أميرنا، فكتب إلى عمر بن الخطاب يُخبرُه بذلك، فكتب إليه: اطلُبْ يمينَه أنَّه لم يعلم أنَّها ذهبٌ إلا بعدما (¬3) صارت إليه، فإن حلف فادفعها إليه، وإن أبي فاقسمها بين المسلمين، فحلفَ فدفعها إليه وكان فيها أربعون ألفَ مِثقالٍ، قال ابن المحبِّق: وقال جدّي: فمنها أموالُنا التي نَتوارثُها إلى اليومِ. قلتُ: وهذا مَذهبُ عمر -رضي اللَّه عنه-، ولعله أراد استمالةَ قلوب المؤمنين بهذا في أوَّل الأمرِ. أما مذهبُ عامةِ الصحابةِ والفقهاء أنه أُسوةٌ للغانمين، وأنَّها تُقسَمُ بينهم، إلا ما نفَّله الإمامُ قبل القِسمة، أو من الخُمْسِ. وقال المدائني: وكان قُطبةُ بنُ قتادةَ السدوسيّ هو السببَ في إيْفاد عمرَ عُتبةَ بن غزوان المازني إلى البصرة. وقُطبةُ أوَّلُ مَن أغار على السَّواد من ناحية البصرة، كتب إلى عمرَ يستمدُّه، فبعث به إليه، وذكر بمعنى ما ذكرنا (¬4). وكتب عتبةُ بن غزوان إلى عمر يستأذنُه في الحجِّ، فأذن له، فولّى الحربَ مُجاشِع ¬

_ (¬1) كذا, ولعل صواب العنوان: ذكر مسير عتبة بن غزوان إلى البصرة بأمر عمر بن الخطاب. (¬2) من قوله: وذكر هشام بن الكلبي. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬3) في (أ) و (خ): لم يعلم أنها ما صارت ذهبًا إلا بعدما. (¬4) من قوله: قلت وهذا مذهب عمر. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

فصل

ابنَ مسعود، والصلاةَ المغيرة بنَ شُعبة، وكان مجاشعٌ بناحية الفُراتِ، والمغيرةُ بالبصرةِ، وقال له عتبةُ: إذا قَدِم مجاشع فهو الأمير. وكان بنواحي العراق مَرزبان عظيم يقال له: الفلتان (¬1). فلما قَفل عُتبةُ عن البصرةِ سار الفلتان إليها في جمع عظيمٍ من الفُرسِ، قبل وصول مجاشعٍ، فخرج إليه المغيرةُ، فهزمه وغَنِم عسكرَه، وكتب إلى عمر بالفتح، فقال عمر لعُتبة وقد اجتمعا بمكَّة: مَن استعملتَ على البصرة؟ فقال: مجاشعًا، فقال له عمر: أتستعملُ رجلًا من أهل الوَبر على أهلِ المدَر؟ أهل علمتَ ما جرى؟ وأخبره الخبر، فلما قضى مناسِكَه قال له عمر: ارجع إلى عملِكَ، فسار من مكة يُريدُ البصرة، حتى إذا كان بالفَرَعِ -وقيل بالمعدِن- وَقَصَتْ به ناقتُه فمات، وسنذكره في آخر السنة. فصل: وفي هذه السنة أقام عمر التّراويحَ للناس، وأمرهم بها في المساجد في شهر رمضان بمجمعٍ من الصحابة. وقد ذكرنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلّى في رمضان ثلاث ليالٍ أو أربعَ ليالٍ ركعتين بعد العشاء، ثم امتنع وقال: "خشيتُ أن تُكْتَب عليكم" (¬2). وتُوفي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والأمرُ على ذلك، وكذا خلافةُ أبي بكرٍ، وصدر من خلافة عمر، فحكى البخاري (¬3)، عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجتُ مع عمر بن الخطاب ليلةً إلى المسجدِ، فإذا الناسُ أَوزاعٌ متفرّقون، يُصلّي الرجلُ لنفسه، ويصلّي الرجل فيصلي بصلاتهِ الرَّهطُ، فقال عمر: لو جَمعتُ هؤلاء على قارئٍ واحد لكان أمثل، فجمعهم على أُبيّ بن كعب. قال: ثم خَرجتُ معه ليلةً أُخرى والناس يُصلّون بصلاةِ قارئهم، فقال عمر: نِعم البدعةُ هذه، والتي ينامون عنها أفضلُ من التي يقومون، يُريدُ آخِرَ الليل، وكان الناس يقومون أوَّله. وكتب عمر إلى الأمصار بإقامةِ التَّراويح. ¬

_ (¬1) في الطبري 3/ 595: الفيلكان. (¬2) أخرجه أحمد (25362)، والبخاري (2012)، ومسلم (761) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬3) في صحيحه (2010).

فصل

قلت (¬1): وقد ادّعى قومٌ أن عمر -رضي اللَّه عنه- فعل شيئًا لم يَفعلْه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أبو بكر، وقد سمَّاها بِدعةً، والصحابةُ لم يُنكروا عليه خوفًا منه. والجواب أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد بيَّن السببَ الذي امتنع من صَلاةِ التراويحِ لأجله؛ وهو مخافة أن تكتبَ علينا، وبعد انسداد باب الوحي زال هذا المعنى، وقد كانوا يُصلُّون مُتفرِّقين، فجمعهم على إمامٍ واحدٍ. وأما البدعةُ فبدعتان: مكروهةٌ ومستحبَّة، فالمكروهةُ ما ليس لها أصل في الشرع وتلك هي الضلالة، والمستحبَّةُ ما لها أصل في الشرع، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصلاة خيرٌ موضوع" (¬2). وأما الصحابة فقد استمروا بعد موته عليها، وكان عليٌّ إذا مرّ ليالي رمضان فرأى القناديل تزهرُ، وسمع القُرَّاء يقرؤون قال: نوَّرَ اللَّه قبر مَن نوَّر علينا مساجدَنا (¬3). فإن قيل: فلم كانت التراويحُ عشرين ركعةً؟ قلنا: لأنهم وزَّعوا القرآن عليها في ذلك الوقت؟ ليكون الختمُ في آخر الشهر. فصل: وفيها جلد عمر بنُ الخطاب ولده عبد الرحمن في شرابٍ شربه، وكان عمرو بنُ العاص قد جلده قبل ذلك بمصر، وبلغ عمر، فكتب إلى عمرو بن العاص أن يَبعث به إليه، فبعث به إليه، فحدَّه عمر ثانيًا لأجل مكانه منه، فأقام شهرًا ومات، فكانوا يَرون أنَّه مات من جَلْد عمر إيّاه. وقد اختلفوا في اسم المضروب، فقال الطبري (¬4): هو عبيد اللَّه بن عمر، وقال غيره: هو أبو شَحْمة. وقد أخرج جدّي رحمه اللَّه في آخر كتاب "الموضوعات" حديثًا طويلًا في جلد عمر ولده، فقال بإسناده عن سعيد بن مسروق قال: كانت امرأةٌ تدخلُ منزل عمر، ومعها صبيٌّ، فقال لها عمر: مَن هذا الصبيُّ معك؟ فقالت: هو ابنُك، وقع عليَّ أبو ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): قال المصنف. (¬2) أخرجه أحمد (21546) من حديث أبي ذر -رضي اللَّه عنه-. (¬3) المنتظم 4/ 180. (¬4) في تاريخه 3/ 597.

شَحمة فهو ابنُه، قال: فأرسل إليه عمر فأقرَّ، فقال لعلي: اجلِده، فضربه عليٌّ خمسين، وضربه عمر خمسين، فقال لعمر: يا أبة قتلتَني، فقال: إذا لقيت ربَّك فأخبره أن أباك يُقيمُ الحدود. ثم قال جدي: هذا حديثٌ موضوع، وضعه القُصّاص فأَبدؤوا فيه وأعادوا، وشرحوا فأطالوا (¬1). ثم أخرجه جدي من طرقِ: أحدها عن سعيد بن مسروق، ومجاهد عن ابن عباس، وعبد القدوس بن الحجاج. فأما طريقُ سعيد بن مسروقٍ فقد ذكرناه. وأما طريقُ مجاهد عن ابن عباس، فقال مجاهد: تذاكر الناسُ فضلَ أبي بكرٍ وعمر في مجلس ابن عباس، فبكى ابنُ عباسٍ وقال: رحم اللَّهُ رجلًا لم تأخذْه في اللَّه لومةُ لائم، أقام الحدود كما أُمر، لم يَزدجر عن قريبِ لقرابتهِ، ولم يَحِف على البعيد لبُعدِه، ولقد أقام الحدَّ على ولدهِ حتى قتله. بينما أنا عنده ذات يوم ونحن بالمسجد، إذا بجاريةِ قد أقبلت تتخطّى رقاب المهاجرين والأنصار، ومعها ولدٌ تحملُه، فقالت: السلامُ عليك يا أمير المؤمنين، خذ هذا الولدَ فأنت أحقُّ به مني. قال: ومن أين؟ قالت: هو ولدُ ولدِك أبي شَحْمة؛ مررتُ في بعضِ الأيّام لحاجتي عند حائط لبني النّجار، فإذا بصائحِ يَصيح من ورائي، فالتفتُّ فإذا بابنك أبي شحمة يتمايل سُكْرًا، وكان قد شرب عند نُسَيكةَ اليهوديِّ، فجرَّني إلى الحائط، وتوعَّدني فأُغمي عليَّ، فما أفقتُ إلا وقد نال مني ما ينالُ الرجلُ من امرأته، ثمَّ كتمتُ أمري عن أهلي، وإذا بي حاملٌ، فوضعتُ هذا الغُلام، فأردتُ قتلَه ثم نَدمتُ، وقد أتيتُك به، فاحكُم بيني وبين ولدِك بحكم اللَّه. فأمر عمرُ مُناديه فنادى: يا معاشر المهاجرين والأنصار، فأقبلوا مُسْرِعين، فقام وأتى بيتَ أبي شَحمة وأنا معه، فدخل عليه فقال: يا بُنيّ، أمالي طاعةٌ؟ قال: بلى، طاعتان: طاعةُ الوالد، وطاعةُ الخلافة، فقال: باللَّه وبحقّي عليك، هل كنتَ ضيفًا لنُسَيْكةَ اليهودي، فشربتَ عنده الخمرَ، وواقعتَ امرأةً في وقت كذا؟ فقال: يا أبة، قد كان ذلك وأنا تائبٌ، فقال عمر: التوبةُ رأسُ مال المذنبين، وقبض عمرُ على يده، ¬

_ (¬1) الموضوعات (1836).

ولبَّبه، وجرَّه إلى المسجدِ، فقال: يا أبة، لا تفضَحْني على رؤوسِ الناس، اقتُلني هاهُنا، فقال: أما سمعتَ قول اللَّه تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. ثمَّ جاء به إلى المسجد، وأمر غُلامًا له يُقال له: أَفْلَح فقال: انزع ثيابَه، وافعل ما آمرُك به، اضربه مئةَ سوطٍ، ولا تُقَصِّر في ضَرْبهِ، فبكى أفلحُ، وقال: ليتني لم تَلدْني أمي؛ حيثُ أُكلَّف ضَرْبَ ولدِ سيدي، فقال: اضربْه، وضجَّ الناسُ بالبكاء والنَّحيب، وجعل الغُلامُ يقول: يا أبة، ارحمني، وعمرُ يبكي ويقول: يرحمُك ربُّك، فلما ضربه السَّوط الأوَّل قال الغلامُ: بسمِ اللَّه، فقال عمرُ: نِعمَ الاسمُ سَمَّيتَ، فلما ضربه ثانيًا قال الغُلام: ما أمرَّه، فقال عمر: اصبر كما عصيتَ، فلما ضربه ثالثًا قال: الأمان الأمان، فقال عمر: ربُّكَ يُعطيك الأمان، فلما ضربه رابعًا قال: واغَوْثاه، فقال عمر: الغَوْثُ عند الشِّدَّة، فلما ضربه خمسًا قال: الحمدُ للَّه، فقال عمر: حمدُ اللَّهِ واجبٌ، فلما ضربه عشرًا قال: يا أبة، قتلتَني، قال: ذنبُك قتلك، فلما ضربه ثلاثين قال: أحرقتَ قلبي، فقال عمر: النارُ أشدُّ حرًّا، فلما ضربه أربعين قال: يا أبة، دَعْني أذهب على وجهي، فقال عمرُ: يا بنيّ، إذا أخذتُ حدَّ اللَّهِ منك فاذهبْ حيثُ شئتَ، فلما ضربه خمسين قال: أنشدكَ بالقُرآن لمَا خَلَّيتَني، فقال: يا بُنيّ، هلّا وعظكَ القُرآنُ [وزَجَرك] عن المعاصي؟ فلما ضربه ستين قال: يا أبة، أغِثني، قال: إنَّ أهل النار إذا استغاثوا لم يُغاثوا، فلما ضربه سبعين قال: يا أبة، اسقِني شربةً من ماءٍ، قال: [يا] بُنيّ، إن كان ربُّك يطهرك فيسقيك محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- شربةً لا تظمأُ بعدها أبدًا، فلما ضربه ثمانين قال: يا أبة، السلام عليك، فقال: يا بُنيَّ، إذا لقيتَ محمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقرئه عني السلام، وقُل له: خَلفتُ عمر يقرأُ القُرآنَ ويُقيمُ الحدود، فلما ضربه تسعين ضَعُفَ وانقطع كلامُه، فوثب أصحابُ رسول اللَّه من كلِّ جانبٍ وقالوا: يا أميرَ المؤمنين، أخِّر ما بقي إلى وَقْتٍ آخر، فقال عمر: كما لم تُؤخَّر المعصيةُ لا تُؤخَّر العقوبةُ، وبلغ أمّ الغُلام فجاءت صارخة تقول: يا عمرُ، أحجُّ بكل سوطٍ حجَّة ماشيةً، وأتصدَّقُ بكذا وكذا درهمًا، فقال عمر: إن الحجَّ والصدقة لا تَنوبان عن الحدِّ، فضربه مئةً فمات الغُلامُ، فجعل عمرُ رأسَه في حِجره، وجعل يبكي ويقول: بأبي مَن قتله الحقُّ، بأبي مَن لم يَرحمه أبوه ولا أقاربُه، وضجَّ الناسُ بالبكاء والنحيبِ، وجاء حُذيفةُ بن اليمان

بعد ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيتُ الغلام في المنام وعليه حُلَّتان خضراوان، وهو مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا حُذيفة، اقرأ على عمر مني السلام، وقيل: هكذا أمرك ربُّكَ أن تقرأ القُرآن وتُقيمَ الحدود. وقال الغُلامُ: قل لأبي: طهَّركَ اللَّهُ كما طهَّرتني (¬1). وهذه روايةُ مجاهدٍ عن ابن عباسٍ اختصرتُها. وذكر الزبيرُ بن بكارٍ أن عبد الرحمن الأوسط من أولاد عمر كان يُكنى أَبا شَحمة، وعبدُ الرحمن هذا كان بمصر، خرج غازيًا، فاتَّفق أنه شرب نبيذًا، فسَكِرَ، فجاء إلى عمرو بن العاص فقال له: أقم عليَّ الحدَّ، فامتنع، فقال له: إني أُخبرُ أبي إذا قدمتُ عليه، فضربه عمرو الحدَّ في داره، ولم يُخْرِجْه، وبلغ عمر، فكتبَ إلى عمرو يلومُه في مراقبته لعبد الرحمن ويقول له: ألا فعلتَ به ما تفعلُ بجميع المسلمين؟ فلما قدِم على عمر ضربه، واتفق أنه مرض فمات. قال جدي: هذا الذي ذكره ابن سعدٍ في الطبقات وغيرُهُ. ويحتمل أنه شرب النَّبيذ متأوِّلًا، فسكر من غير اختيار، وأنَّ عمر ضربه ضَرْبَ تأديبٍ، لا ضربَ حدٍ، ومرض لسببٍ آخر، ومات لا من الضَّرْبِ. ثمَّ قال: [وفي] الإسناد الأوَّلِ مجهولٌ (¬2). وفيها ولّى عمر النعمان بن عَديّ بن نَضْلة العدويّ دُسْتَ مِيسان، وعديّ أبو النعمان أوَّلُ مَن هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، ومات بها، وورثه النعمان، وهو أول ميراثٍ في الإِسلام. وكان النعمان شاعرًا، ولما ولي دُسْت مِيسان قال: [من الطويل] ألا هل أتى الحسناءَ أن خَليلَها ... بميسان يُسقى في زجاجٍ مُخَتَّمِ إذا شئتُ غَنَّتْني دَهاقينُ قريةٍ ... وصنَّاجةٍ تَجثو على كلِّ مَبْسِمِ فإن كنتَ نَدماني فبالأكبر اسقني ... ولا تَسقني بالأصغرِ المتثَلِّمِ لعل أمير المؤمنين يَسُوءُه ... تنادُمُنا في الجَوْسَقِ المتهدِّمِ فبلغ عمر ذلك، فقال: إي واللَّه إنني ليَسُوءني ذلك، ثم عزله، فقدم عليه فقال: يا ¬

_ (¬1) الموضوعات (1837). (¬2) الموضوعات 3/ 613 - 615 وانظر تتمة كلامه على الحديث، ومن قوله: وقد اختلفوا في اسم المضروب. . إلى هنا، ليس في (أ) و (خ).

الحارث بن قيس

أمير المؤمنين، واللَّه ما شربتُها قطّ، وإنما أنا شاعر فقلتُ، فقال: على ذلك، واللَّه لا تلي لي ولايةً أبدًا (¬1). فصل وفيها توفي الحارث بن قيس ابن خالد بن مخلد الأنصاري، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبة مع السبعين، وبدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشهد اليمامة مع خالد بن الوليد، فجُرح، وبرئ، ثم انتَقض جُرحُه في هذه السنة فمات، يُعدُّ من شهداء اليمامة، وكنيتُه أبو خالد (¬2). زياد بن لبيد ابن ثعلبة بن [سنان] عامر بن عَديّ، أبو عبد اللَّه، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبة مع السبعين، وخرج من المدينة، فقدم على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مكة، ثم هاجر معه إلى المدينة، ولما أسلم كان يكسر أصنامَ بني بَيَاضة، شهد بدرًا وأُحدًا والخندقَ والمشاهدَ كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واستعمله على حَضْرَ موت، فلما توفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وارتدت العرب، قاتلَ كِندة وحِصنَ النُّجير وفيه الأشعث بن قيس. وقد ذكرناه في قتال أهل الردة (¬3)، وزياد (¬4) له صُحبة ورواية (¬5). فصل وفيها توفي عُتبة بن غَزوان ابن جابر بن وَهب المازني، أبو عبد اللَّه، وقيل أبو غزوان، وهو من الطبقة الأولى ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 130 - 131، والاستيعاب (2587)، والمنتظم 4/ 138، والتبيين 434، والإصابة 3/ 562، وانظر المعرب 145. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 547، الاستيعاب (2902)، والمنتظم 4/ 185، والاستبصار 170، والإصابة 4/ 50. (¬3) سلف في سنة 11، أول الجزء. (¬4) في (أ) و (خ): وابن زياد؟ ! وانظر ترجمة زياد في طبقات ابن سعد 3/ 553، والاستيعاب (825)، والمنتظم 4/ 185، والاستبصار 176، والإصابة 1/ 558. (¬5) من قوله: وفيها ولى عمر النعمان بن عدي. . . إلى هنا، ليس في (ك).

من المهاجرين، من حُلفاءِ نوفل بن عبد مناف بن قُصيّ، أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشةِ المرة الثَّانية، وكان من الرُّماة المذكورين، وهاجر إلى المدينةِ وهو ابن أربعين سنة فنزل على عبد اللَّه بن سَلمةَ (¬1) العَجْلاني، وآخى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين أبي دُجانة، وكان خَطيبًا فصيحًا. وقال ابن سعد عن الواقدي: هو الذي اختطَّ البصرة -وكانت قبل ذلك الأُبُلّة- وبنى المسجد بقَصَب، وولَّاه عمرُ البَصرة، فأقام عليها ستَة أشهر، ثم حجَّ واعتمر، واجتمع بعمرَ فردَّه واليًا على حاله، مات بطريق البصرة بمرضِ البطن، وهو ابن سبع أو خمس وخمسينَ سنة (¬2). واختلفوا في أيِّ سنةٍ مات على أقوالٍ: أحدُها في هذه السنة، ذكره المدائني. والثاني في سنة سبع عشرة، حكاه ابنُ سعدٍ عن الواقدي. قال: أصابه بطنٌ فمات بمعدِنِ بني سُلَيم (¬3). وقول المدائني أَظهر. وليس في الصَّحَابَة من اسمُه عتبةُ بن غزوان غيره (¬4). وقد روى عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الحديث، فقال الإمامُ أحمدُ: حدثنا ابن أَسَد، حدثنا سُليمان بنُ المغيرة، حدثنا حُميد بنُ هلال، عن خالد بن عُمير قال: خطب عُتْبةُ بن غزوان -أو خطبنا- فحَمِد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: أمَّا بعد، فإنَّ الدُّنيا قد آذنتْ بصُرْمٍ، وولَّت حذَّاءَ، لم يَبقَ منها إلَّا صُبابةٌ كصُبابةِ الإناء، يَتصابُّها صاحبُها، وأنتُم مُنتقلوَن منها إلى دارٍ لا زوال لها، فانتقلوا بخيرٍ؛ فإنَّه قد ذُكِرَ لنا أنَّ الحَجر يُلقى من شفيرِ جهنَّم، فيَهوي فيها سَبعين خريفًا ما يُدْرِكُ قَعْرَها, ولقد ذُكر لنا أنّ ما بين مِصْراعَي الجنَّةِ مسيرةُ أربعينَ عامًا، وليأتينَّ عليه يومٌ كَظِيظُ الزِّحام. ولقد رأيتُني وأنا سابعُ سبعةٍ مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ما لنا طعامٌ إلَّا ورقُ الشجرِ، حتَّى قَرِحَتْ أشداقُنا, ولقد التقطتُ بُرْدَة فشقَقْتُها بيني وبين سعد نِصفين، فاتَّزرَ بنِصفها، واتَّزرتُ بالنصفِ الآخر، وما أصبح مِنّا أحد إلَّا وهو أميرٌ على مِصرٍ من الأمصارِ، ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): سهل، وهو خطأ. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 92 دون شك في سنّه عندما توفي، وانظر تلقيح فهوم أهل الأثر 126. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 93 و 9/ 8. (¬4) من قوله: واختلفوا في أي سنة مات. . . إلى هنا، ليس في (أ) و (خ).

عثمان بن عامر

وإني أعوذُ باللَّه أن أكونَ في نفسي عظيمًا وعند اللَّه صغيرًا. وإنَّها لم تكن نُبوَّةٌ قطّ إلَّا تناسَخَت، حتَّى تكونَ مُلْكًا، وستُجَرّبون الأُمراءَ بعدنا. انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وليس لعتبةَ في الصحيح غيرُه. ولما مات عتبةُ قَدِمَ غلامُه سُويد على عمر بتَرِكَته (¬2). وقال ابن سعد: كان لعُتبةَ مولى يقال له: خَبّاب، وكُنيتُه أبو يحيى، آخى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين تميم مولى خِراش بن الصِّمَّةِ، وخَبَّاب من الطَّبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهدَ كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتُوفي سنة تسع عشرة بالمدينة، وصلّى عليه عمرُ، وهو ابن خمسين سنةً (¬3). وليس في الموالي مَن اسمُه خبَّابٌ غيرُه، وله صحبةٌ، وليس له روايةٌ. فصل وفيها توفي عثمان بن عامر ابن عمرو بن كعب، أبو قُحافة، والد أبي بكر الصِّدِّيق -رضي اللَّه عنه-، وأمه قَيْلة بنت أَذَاة، من بني كعب بن لؤي. وقد ذكرنا إسلامَه يومَ الفتح (¬4)، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يَا أَبا بكر، هلّا تركتَ الشيخَ حتَّى أكون أنا الذي أمشي إليه". وكان أبو قُحافة من عقلاء الناس، واستدلُّوا على عقله أن ابنَه لما وَلي الخلافة لم يكترث بذلك، ولا وَفَد عليه، ولا مَنَّ على النَّاس به، ولم يزل يُسمّيه عتيقًا، ويخاطب به ما ولي الخلافة إلى أن مات. قال ابن قتيبة: وقدم أبو قُحافة المدينة (¬5). وهو وهم منه، لاتفاق العلماء على أنه ¬

_ (¬1) مسند أحمد (17575)، وصحيح مسلم (2967). (¬2) انظر ترجمة عتبة في طبقات ابن سعد 3/ 92 - 93 و 9/ 5 - 8, والاستيعاب (1914)، والإصابة 2/ 455. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 93. (¬4) سلف في السيرة. (¬5) المعارف 168.

لم يزل مُقيمًا بمكة. وكان أبو قُحافة قد أضرَّ، وكانت وفاتُه في المحرم في هذه السنة، وكان بينه وبين وفاة ابنه سبعةُ أشهر وستةُ أيام، وعاش سبعةً وتسعين سنة، وورث من ابنه أبي بكر السُّدس، فردّه في أولاد أبي بكر. ذكْرُ أولاده: كان له أبو بكرٍ وعبد اللَّه وأمُّهما أمّ الخير سلمى. وأُمُّ فَرْوَة تزوَّجها الأشعثُ بن قيس. وقال ابن قُتيبة: تزوَّج أمَّ فَرْوَة رجلٌ من الأزْدِ فولدت له جاريةً، ثم تزوَّجها تميم الداريّ، ثم الأشعثُ بنُ قيسٍ (¬1). فولدت له محمَّدًا وإسحاقَ وجُمانةَ (¬2) وقريبة. وذكرها الشيخ الموفَّق في الأنساب، وقال: أسلمت وبايعت، وروتِ الحديثَ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: وفي بعض المغازي أن أَبا قُحافةَ قال لابنته يوم الفتح: خُذي بيدي، واصعدي بي إلى أبي قُبيس، ففعلت فقال لها: ما تَرَيْنَ؟ قالت: أرى سوادًا مُجتمعًا قال: تلك الخيلُ. [قالت]: وبين أيديها فارسٌ يُقبلُ ويُدبِرُ، فقال: ذاك الوازعُ -قال الجوهري: الوازعُ: الذي يتقدَّم الصفَّ فيُصلحُه، ويُقَدِّمُ ويُؤخِّرُ. قال: ويُسمَّى الكلبُ وازعًا؛ لأنَّه يكفّ الذئبَ عن الغنم (¬3) - فقال: ما تَرين؟ قالت: قد انتشر السوادُ، فقال: أغارت الخيلُ، فالحقي بي المنزلَ، فنزلتْ فأدركتها الخيلُ قبل بلوغِ المنزلِ، فأخذ بعضُهم طَوْقًا كان في عُنُقِها، فلما فتح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مكَّة قال أبو بكرٍ: أَنشُدُ اللَّه رجلًا أخذ طَوْقَ أختي إلَّا رَدَّه، فلم يُرَدَّ. فقال أبو بكر لأخته: احتسبي طَوْقَك، فإن الأمانةَ في الناسِ اليوم قليل (¬4). وليس في الصحابيات من يُكنى أمّ فَرْوة إلَّا هذه، وأمّ فروة أنصارية (¬5). ¬

_ (¬1) المعارف 168. (¬2) في طبقات ابن سعد 6/ 78: حِبَّانة. (¬3) الصحاح (وزع). (¬4) التبيين 319، وسيرة ابن هشام 2/ 405 - 406. (¬5) تلقيح فهوم أهل الأثر 352.

عفراء بنت عبيد

وذكرها ابن سعدٍ في طبقات النساء فقال: وأمُّها هند بنت نُفيل (¬1) بن بُجَيْر بن عبد ابن قُصيّ، زوَّجها أبو بكرٍ من الأشعثِ بن قيسٍ، فولدت له محمّدًا وإسحاق وإسماعيل وحبابة وقريبة. وقال: وكان لأبي قُحافةَ ابنةٌ تُسمّى قريبة، تزوّجها قيس بن سعد بن عُبادة بن دُليم، فلم تَلِدْ له شيئًا. قال: وأُمُّها هندُ بنتُ نُفيلٍ أَيضًا. وكان لأبي قُحافة ابنةٌ يُقال لها: أم عامر، وأمُّها هند بنت نُفَيل أَيضًا، تزوجها سعد بن أبي وقاص (¬2)، فولدت له ضعيفة، وقيل: اسمها أم عاصم، وتُسمّى ضعيفة. وليس في الصحابة مَن اسمُه عثمان بن عامر، ويُكنى أَبا قُحافة غيره. وليس له رواية, وإنما أسلم على يد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الفتح. وقال موسى بن عقبة (¬3): ما نعلم أن أربعةً تناسلوا، ورأَوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في نسق واحد، إلا عثمان بن عامر، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن، وابنه محمد ويُكنى أَبا عتيق (¬4). عفراء بنت عُبيد ابن ثعلبة الأنصاريّة، من بني النجار، وأمُّها الرعاة بنت عديّ بن سواد، نجارية أَيضًا، أسلمت وبايعت، وولدت سبع بنين مُسلمين، شهدوا بدرًا، تزوّجها الحارث بن رفاعة من بني النجار، فولدت له مُعاذًا ومُعوِّذًا، ثم طلَّقها، فقدمت مكة، فتزوجها كثير (¬5) ابن عبد ياليل، فولدت له خالدًا وإياسًا وعاقلًا وعامرًا، ثم طلَّقها، فرجعت إلى المدينة، فراجعها الحارث بن رفاعة، فولدت له عوفًا، فأسلموا، وحضروا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بدرًا، فاستشهد معاذ ومعوذ وعاقل قبل يوم بدر، واستشهد خالد يوم الرَّجيع، وعامر يوم بئر معونة، وإياس يوم اليمامة، وانقرض نسلهم إلَّا عوف فإنه أعقب (¬6). ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 10/ 236 - 237: نُقَيد، هنا وفي المواضع الآتية. (¬2) في طبقات ابن سعد 6/ 78 و 10/ 237: عامر بن أبي وقاص. (¬3) من هنا إلى بداية ترجمة أم عمارة نسيبة، ليس في (ك). (¬4) انظر ترجمة أبي قُحافة في طبقات ابن سعد 6/ 78 و 8/ 12 - 13، والاستيعاب (1889) و (3109)، والتبيين 317، والمنتظم 4/ 186، والإصابة 2/ 460. (¬5) في المنتظم 4/ 187: بكر، وفي الإصابة 4/ 364: بُكير. (¬6) انظر طبقات ابن سعد 10/ 412، والاستبصار 61، والمنتظم والإصابة.

أبو سفيان بن الحارث

أبو سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب بن هاشم، ابنُ عم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. واسمه المغيرة، وأمُّه غزيّة بنت قيس، وهي أمُّ نوفل بنت الحارث، وكان أبو سفيان ونوفل أخوان لأم وأبي، وربيعة وعبد اللَّه ابنا الحارث أخوان لأب وأم، وقيل: بل غزيّة أمُّ الكلّ. وكان أبو سفيان أخا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الرضاعة، أرضعته حليمةُ أيامًا، وكان تِربَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإلْفَه، فلما بُعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نصب له العداوة، وهجاه، وهجا أصحابَه، وأقام عشرين سنة عدوًّا للَّه ورسوله والمؤمنين، لا يتخلَّف عن مَوضعٍ تسير فيه قريش لقتال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلَّا وهو معهم، وإليه أشار حسان بن ثابت الأنصاري -رضي اللَّه عنه-، يقول: [من الوافر] هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه ... وعند اللَّه في ذاك الجزاءُ (¬1) وأقام على ذلك حتى تحرك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لغَزاة الفتح، فألقى اللَّه الإِسلامَ في قلبه، قال: فقلتُ: قد ضرب الإِسلامُ بجِرانه، فمع مَن أكون، ولمن أصحب؟ فقلتُ لزوجتي ولولدي: تهيَّؤوا للخروج، فقد أظلَّ قُدوم محمد، فقالوا: قد آن لك أن تُبصرَ أن العرب والعجمَ قد اتَّبعت محمدًا، وأنت مُوضعٌ في عداوته، وكنتَ أولى الناس بنصره! قال: فخرجتُ حتى نزلتُ الأَبواء، ومعي غُلامي مَذكور، وقد نزلت مُقَدِّمتُه الأبواء، وكان قد نذر دمي، فتنكّرتُ حتى طلع بركبه، فقَصدتُه من تلقاء وجهه، فأعرض عني، فتحوَّلتُ إلى الناحية الأخرى، فأعرض عني، فأخذني ما قَرُب وما بَعُد، وقلت: أنا مقتولٌ قبل أن أصلَ إليه، فأسلمتُ، وكنتُ أظنُ أن أصحابَه يَفرحون بإسلامي، وأنه يَسرُّه ذلك، فلما رأى النَّاس [إعراض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] عني، أعرضوا جميعًا، وكان معي جعفر وعبد اللَّه ابن أبي أمية، أخو أمِّ سلمة زوج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وابن عمّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالت له أمُّ سلمة: يَا رسول اللَّه، لا يكون ابن عمِّك، وأخي ابنُ عمتك (¬2) أشقى النَّاس بك، فقال: ¬

_ (¬1) ديوانه 1/ 18. (¬2) في (أ) و (خ): عمك، هنا وفي الموضع الآتي، والمثبت من مغازي الواقدي 810، والتبيين 105.

أما ابنُ عمي فهو الذي هجاني وقال ما قال، وأما ابن عمتي فهو القائل: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90]. قال: ونظر إليّ عمر بن الخطاب، فأغرى بي رجلًا من الأنصار، يقال له نعمان بن الحارث، قال لي: يَا عدوَّ اللَّه، أَنْتَ الذي كنتَ تُؤذي رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابَه، واستطال عليَّ حتى جعلني مثلَ الحَرَجَة (¬1)، والناسُ يُسرُّون بما يفعل بي، فدخلتُ على العباس، فقلتُ: يَا عمّ، قد كنتُ أرجو أن يَفرح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بإسلامي؛ لقَرابتي منه، وشرفي في قومي، وقد كان منه ما رأيتَ، فكلّمه فيّ ليَرضى عني، فقال: لا واللَّه لا أُكلِّمه فيك أبدًا بعد ما رأيتُ منه ما رأيت، إلَّا أن أرى وجهًا، إني أُجِلُّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأهابُه، قلت: فكُفَّ عني الرَّجل، فأرسل إليه: يَا نُعَيمان، إن أَبا سفيان ابنُ عمّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وابن أخي، وإن يكن ساخطًا عليه فسَيرضى عنه، فكُفَّ عنه. قال: فبعد لأي ما كفَّ عني. ولزمتُ بابَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يُعرض عنّي، فلم أزل كذلك حتى فتح مكة، وأنا لا أُفارقُه، ودخل عليه نساءُ بني عبد المطلب فرَقَّقْنَه عليَّ وقلن: برّك وعطفك، فنظر إليَّ نظرًا هو أَلينُ من ذلك، حتى خرج إلى هوازن وخرجتُ معه. فلما لَقيناهم حملوا الحملةَ التي قال اللَّه تعالى فيها: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]. وثبت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على بغلته المثل هباء، فاقتحمتُ عن فرسي، وبيدي السَّيف صَلْتًا قد كسرتُ جَفْنَه، واللَّه يَعلم أني أُريد الموتَ دونه، وهو ينظر إليّ، وقد أخذ العباس بلجام بَغلته، وأَخذتُ بالجانب الآخر، فقال للعباس: "مَن هذا؟ " قال: أخوك وابنُ عمك أبو سفيان، فقال: "أخي لعَمري"، فقال: يَا رسول اللَّه، ارضَ عنه، فقال: "قد فعلت"، قال: فأُقبِّلُ رجلَه في الرِّكاب، ثم هزم اللَّه القوم (¬2). وحَسُن إسلامُ أبي سفيان، وهاجر إلى المدينة، وأقام بها ملازمًا للمسجد، ناسكًا زاهدًا، وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج، وأقام لا يرفع طَرفه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) الشجر الملتف. (¬2) مغازي الواقدي 806 - 810، وطبقات ابن سعد 4/ 46، والمعارف 126، والاستيعاب (2965)، والتبيين 105، والتوابين 130 - 134، والإصابة 4/ 90.

ذكر أولاده

حياءً منه، وكان من أماثل قريش. وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من المهاجرين (¬1). شهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتح مكة وحُنينًا والطائف، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول بعد ذلك: "أخي وابنُ عمي وخيرُ أهلي، وقد أعقبني اللَّه من حمزة أَبا سفيان" وكان يُقال له: أسد اللَّه وأسد رسوله، وأطعمه بخيبر مئةَ وَسْق. وله في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أشعار كثيرة، منها: قال: [من الطويل] لَعمرك إني يوم أحملُ رايةً ... لتَغْلِبَ خيلُ اللاتِ خيلَ محمدِ لكا لمُدْلِجِ الحَيْران أظلمَ ليلُه ... فهذا أوان اليوم أُهدى وأَهتدي هَدانيَ هادٍ غير نفسي ودَلَّني ... على اللَّه مَن طَرَّدْتُ كل مُطَرَّدِ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بل نحن طردناكم كلَّ مُطَرَّد" (¬2). وكان أبو سفيان يشبه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال يوم حنين: [من الطويل] لقد علمتْ أفناء كعبٍ وعامرٍ ... غداةَ حُنَين حين عمَّ التَّضَعْضُعُ بأني أخو الهَيجاءِ أركبُ حدَّها ... أمام رسول اللَّه لا أتَتَعْتَعُ رجاءَ ثواب اللَّه واللَّه واسِعٌ ... إليه تعالى كلُّ أمرٍ سيَرجِعُ (¬3) ولما احتضر بكى أهلُه، فقال: لا تَبكوا، فواللَّه ما تَنظَفتُ بخَطيئةٍ منذ أسلمتُ، أي: ما تلطَّختُ، وكان قد حجَّ، فحلق الحلاقُ رأسَه بمنى، وكان فيه ثُؤلول، فقطعه، فعاد إلى المدينة فمات منه، فكانوا يرون أنه شهيد، وذلك في سنة أربع عشرة، وصلَّى عليه عمر بن الخطاب، ودُفن في دار عقيل بن أبي طالب، وهو الذي حفر قبرَ نفسِه قبل موته بثلاثة أيام، وقيل: مات في سنة خمس عشرة، وقيل: في سنة عشرين، وقيل: بعد ذلك، والأوّل أَشهر. ذكر أولاده: كان له من الولد جعفر، وأمُّه جُمانة بنت أبي طالب، شهد مع أَبيه ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 45. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 47، والاستيعاب (2965). (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 49.

أم عمارة

الفتح وحُنينًا والطائف، ومات في أيام معاوية، وعبد اللَّه ويُكنى أَبا الهيجاء (¬1)، رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وروى عنه الحديث، فمن روايته عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما قُدِّست أمَّةٌ لا يُؤخذُ لضعيفها حقّه من قويِّها غير مَتَتعتِع" (¬2). وقال البلاذري: جعفر وعبد اللَّه أمُّهما جُمانة، ولا عقبَ لهما (¬3)، وجُمانة وحَفصة أمُّهما فغمة من بني دُهْمان، وقيل: إنها أمُّ أبي الهيجاء أَيضًا، وأمه وأم كلثوم لأم ولد (¬4)، وقد انقرض عَقب أبي سفيان. وقد أخرج ابن سعد حديثًا فقال: حدثنا يزيد بن هارون وعَفّان بن مُسلم قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عُروة، عن أَبيه، عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أبو سفيان بن الحارث سَيِّدُ فِتيان أهلِ الجنة" (¬5). أم عُمارة (¬6) واختلفوا في اسمها، فقال ابن سعد: هي نَسيبة بنت كعب بن عمر وابن عوفٍ، من بني النجار، وكذا نسيها ابن ماكولا وعامة النُّسَّابِ (¬7). شهدت العقبة مع السَّبعين، وأسلمت وبايعت، وشهدت أُحدًا والحُديبيةَ وخيبرَ وحُنينًا وعمرة القضيَّة واليمامة. ¬

_ (¬1) في الطبقات 4/ 45، والإصابة 2/ 320، وتاريخ دمشق 9/ 366 (مخطوط) وأنساب الأشراف 3/ 344: أبو الهياج. (¬2) أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة 2/ 113، وابن عساكر في تاريخ دمشق 9/ 366، وأورده ابن عبد البر في الاستيعاب (1393)، وابن قدامة في التبيين 108، والحافظ في الإصابة 2/ 320. (¬3) أنساب الأشراف 3/ 344. (¬4) في طبقات ابن سعد 4/ 45: وجمانة وحفصة وأمهم فغمة. . . وأميّة وأمها أم ولد، ويقال بل أمّها أم أبي الهياج، وأم كلثوم وهي لأم ولد. (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 49. (¬6) من قوله: وقال موسى بن عقبة، في ترجمة أبي قُحافة، إلى هنا ليس في (ك). (¬7) طبقات ابن سعد 10/ 383، والإكمال 7/ 338، والاستيعاب (3549)، والمنتظم 4/ 189، وتلقيح فهوم أهل الأثر 345، والاستبصار 82، والإصابة 4/ 479، وتوضيح المشتبه 9/ 78، وتهذيب الكمال (8588) وفروعه.

وقال ابن سعد: وأمُّها الرباب بنت عبد اللَّه بن حبيب، من الخَزْرَج، وهي أختُ عبد اللَّه بن كعب شهد بدرًا، وأختُ أبي ليلى عبد الرحمن بن كعب أحدِ البكَّائين لأبيهما وأمِّهما. وتزوَّج أمَ عُمارة بنت كعب: زيدُ بن عاصم بن عمرو النّجاري، فولدت له عبدَ اللَّه وحبيبًا، صحبا رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم خلف عليها غَزيّة بن عمرو بن عطيّة من بني النجار أَيضًا، فولدت له تميمًا وخولة. وحكى ابنُ سعدٍ عن الواقدي قال: شهدت البَيعة ليلةَ العَقَبة، وبايعتْ مع القوم، وشهدت أُحدًا مع زوجها غَزيّة بن عمرو؛ لأنها تزوَّجت به أَيضًا، شهدت هي وابنَيْها، وخرجت معهم بشَنِّ في أول النهار، تُريدُ أن تَسقي الجرحى، فقاتلت يومئذٍ، وأبلت بلاءً حسنًا، وجُرِحت اثني عشر جُرحًا بين طعنةٍ برمحٍ أو ضربةٍ بسيفٍ. قال: وقالت: لما انهزم المسلمون انحزْتُ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجعلتُ أُباشر القتال بنفسي، وأذبُّ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالسيف، وأرمي بالقوسِ حتى خَلَصَتْ إليَّ الجراحُ، وأقبل ابنُ قَميئة يُريد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فضربني هذه الضَّربة، وكان على عاتقِها ضربةٌ لها غورٌ أَجوفُ، قالت: ولقد ضربتُه ضربات، ولكن عدوَّ اللَّه كان عليه دِرعان (¬1). وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لمَقَامُ نَسيبة بنت كعب اليوم خيرٌ من مقام فُلان وفلان، ما التفتُّ يَمينًا وشمالًا إلَّا رأيتُها تُقاتل دوني"، وجُرحت ثلاث عشرة جراحة، وضربها ابنُ قَميئة على عاتقها ضربةً فداوتها سنةً، ولما نادى منادي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى حَمْراء الأَسَد شَدَّت عليها ثيابَها، فما استطاعت من نَزْف الدَّم، فلما رجع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الحمراء، ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد اللَّه بن كعب يَسأل عنها، فرجع فأخبره بسلامتها فسُرَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك. وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أُحد: "ومَن يُطيق ما تُطيقين يَا أمَّ عُمارة"، وكانت قد قتلتْ يوم أُحد جماعة. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 383 - 384، ومغازي الواقدي 1/ 268 - 269، ومن هنا إلى قوله: وقالت أم عمارة دخل علي. . . ليس في (ك).

نوفل بن الحارث

وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عنْ أم عُمارة وابنيها وزوجها لما وَلَّوا عنه يوم أُحد (¬1). "اللهمَّ اجعلهم رِفاقي في الجنة"، فقالت أمُّ عُمارة؟ ما أُبالي ما أصابني من الدنيا. قال ضَمْرة بنُ سعيد: أُتي عمر بن الخطاب بمُروط، فكان فيها مِرْطٌ جيّد، فقال بعضهم: لو أرسلتَ به إلى صَفيَّة بنت أبي عُبيد، زوجة عبد اللَّه بن عمر، وذلك حِدْثانُ ما دخلتْ على ابن عمر، فقال: ابعثوا به إلى مَن هو أحق منها: أمّ عُمارة، سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول يومَ أُحد: "ما التفتّ يمينًا وشمالا إلَّا وأنا أَراها تُقاتل دوني" (¬2). وقال محمد بن يحيى بن حَبَّان: جُرحت أمّ عُمارة بأُحد اثني عشر جُرحًا، وقُطعت يدُها باليمامة، وجُرحت يوم إليمامة سوى يدها أحد عشر جُرحًا، فقدمت المدينة وبها الجراحات، فلقد رؤي أبو بكر وهو خليفة يَأتيها ويَسأل عنها، وابنُها حَبيب بن زيد الذي قطّعه مُسيلمة، وابنُها عبد اللَّه بن زيد قُتل يوم الحَرَّة (¬3). روت أمّ عُمارة الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقالت أمُّ عمارة: دخل عليَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عائدًا، فقرَّبتُ إليه طَفَيْشَلةً (¬4) وخُبزَ شعير، قالت: فأصابَ منه وقال: تعالي كُلي، فقلت: يَا رسول اللَّه إنِّي صائمة فقال: "إن الصائم إذا أُكلَ عنده لم يزلْ تصلي عليه الملائكةُ حتى يُفْرغَ من طعامِهِ" (¬5). نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب بن هاشم، ابنُ عمّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأمُّه غَزِيّة بنت قيس بن طَريف، فِهريّة، ونوفل من الطبقة الثانية من المهاجرين، وكُنيته أبو الحارث. قال ابن الكلبي: إن قريشًا أخرجتْ مَن كان بمكة من بني هاشم مُكرَهين إلى بدر، فقال نوفل: [من الطويل] ¬

_ (¬1) يعني لما ولّى عنه الناس وثبتت أم عمارة وزوجها وابنيها، انظر مغازي الواقدي 270 - 273، وطبقات ابن سعد 10/ 384 - 386. (¬2) مغازي الواقدي 271، وطبقات ابن سعد 10/ 386. (¬3) طبقات ابن سعد 10/ 387. (¬4) نوع من المرَق. (¬5) أخرجه ابن سعد 10/ 386، وأَحمد في مسنده (27060). ومن قوله: وقالت أم عمارة دخل علي. . إلى هنا، ليس في (أ) و (خ)، وقد جاءت ترجمة أم عمارة في (ك) بعد ترجمة هند بنت عتبة.

ذكر أولاده

حرامٌ علينا حَربُ أحمدَ إنني ... أرى أحمدًا منا قريبًا أواصِرُه فإن تكُ فهِرٌ ألَّبتْ وتَجَمَّعتْ ... عليه فإن اللَّه لا شكَّ ناصِرُه فأُسِر يوم بدر، وحضر بين يدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال له: "افْدِ نفْسَك"، قال: ليس لي مال، قال: "فأين رِماحُك التي بجُدَّة (¬1)؟ "، وكانت ألفَ رُمح لم يعلم بها أحد، فقال له: أشهدُ أنك رسول اللَّه، وفدى نفسه بها، ثم رجع إلى مكة، وأسلم، ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة هو والعبّاس أيام الخندق، وشهد فتح مكة ويومَ حُنين، وثبت مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان عن يمينه، وأعان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بثلاثة آلاف رُمح. وقال لما أسلم: [من الطويل] إليكم إليكم إنني لستُ منكمُ ... تَبَرَّأتُ من دين الشّيوخِ الأكابرِ لعَمريَ ما ديني بشيءٍ أبيعُه ... وما أنا إن أسلمتُ يومًا بكافرِ شهدتُ على أن النبيَّ محمدًا ... أتى بالهُدى من ربِّه بالبَصائِرِ وإن رسولَ اللَّه يدعو إلى التُّقى ... وإن رسولَ اللَّه ليس بشاعرِ على ذاك أحيا ثم أُبعثُ مُوقِنًا ... وأُثوى عليه مَيِّتًا في المقابرِ ولما قدم نوفل والعباس على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة آخى بينهما، وكانا شَريكَين في الجاهلية، مُتَفاوِضَين [في المال]، مُتَحابَّين مُتصافِيَيْن، وأَقطَعهما رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة منزِلَيْن متجاوِرَين. وتوفي نوفل في سنة أربع عشرة بالمدينة بعد استخلاف عمر بسنة وثلاثةِ أشهر، وصلَّى عليه عمر، ومشى في جنازته، ودُفن بالبقيع، وتوفي قبل أخيه أبي سفيان بأربعة أشهر إلا ثلاثة عشر ليلة، وقيل: مات سنة خمس عشرة (¬2). ذكر أولاده: كان له من الولد الحارث وعبد اللَّه والمغيرة وسعيد وعبد الرحمن وربيعة. فأما الحارث فكان رجلًا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أسلم مع أَبيه، وصحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وروى عنه، واستعمله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على بعض أعمال مكة، ووُلد له ولدٌ ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): الذي تجده، والمثبت من طبقات ابن سعد 4/ 42، والمنتظم 4/ 188. (¬2) انظر في ترجمة نوفل طبقات ابن سعد 4/ 41 - 43، والمعارف 127، وأنساب الأشراف 3/ 338، والاستيعاب (2565)، والمنتظم 4/ 188، والتبيين 99، والإصابة 3/ 577.

سمَّاه عبدَ اللَّه، فأتى به النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فحنّكه بيده، ودعا له، وعبدُ اللَّه هو الذي يُلَقَّب بَبَّه. وقال الواقدي: ولَّى أبو بكر وعمر وعثمان الحارث بن نوفل مكة، وتزوَّج دُرَّة بنت أبي لهب، وسكن المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، واختطّ بها دارًا، ونزلها في ولاية عبد اللَّه بن عامر، ومات في آخر خلافة عثمان، وكان له أولاد، منهم: عبد اللَّه ومحمد الأكبر وربيعة وعبد الرحمن ورَمْلة وأم الزُّبير، وأم الجميع هند بنت أبي سفيان ابن حرب، وأمُّها أم عمرو بنت أمية. فأما عبد اللَّه فسبب لقبه أن أمَّه كانت تُرقّصه وتقول: [من الرجز] لأُنكِحَنّ بَبَّهْ جاريةً خِدَبَّهْ عَظيمةً كالقُبَّهْ إذا بدتْ في نقبهْ تَمشُط رأسَ لعبهْ تحبُّ أهلَ الكَعبةْ كريمةً في النِّسبهْ مُكرَمَةً مُحَبَّهْ قال عمرو بن دينار: قدم بَبَّة مكة، فجاء ابنَ عمر، فسلَّم عليه فلم يَبَشَّ به، فقال له: أما تعرفني؟ قال: بلى ألستَ بَبَّة، فشق عليه، وتضاحك القوم، ففَطِن ابنُ عمر، وقال: ليس هذا يَعيب الرجلَ الحادر يُقال له: بَبَّة (¬1). وكان بَبَّة قد سفر بين الحسن ومُعاوية في الصُّلح، وسأل معاويةَ أن يُولِّيه فقال: لام ألف، فنزل عبد اللَّه البصرة مع أَبيه، فلما مات يزيد بن معاوية، ووثب أهل البصرة على عبيد اللَّه بن زياد واختفى، بايع أهلُ البصرة بَبَّة حتى يجتمعَ النَّاس على إمام، فأقام عليهم شهورًا، ثم قال: ولُّوا أمرَكم مَن شئتم، فأمَّروا عليهم عمر بن عبيد اللَّه بن معمر ¬

_ (¬1) المعرفة والتاريخ 3/ 373، وتاريخ دمشق ص 100 (مجمع اللغة، عبد اللَّه بن جابر - عبد اللَّه بن زيد)، وفيهما: إن الذي قلت لا بأس به، ليس يعيب الرجل، إنما كان غلامًا نادرًا. . .

التَّيمي، وأقام بَبَّة بالبصرة إلى زمن الحجَّاج [ثم خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث، فلما هُزم ابن الأشعث خاف بَبَّة الحَجَّاج]، فهرب إلى عُمان، فمات بها في سنة أربعٍ وثمانين، وهو شيخٌ كبير في أُذُنه ثِقل. وكان لعبد اللَّه بَبَّة ولدٌ اسمُه عبد اللَّه، ويقال له: الأرجوان لحُسنه، وكنيتُه أبو يحيى، خرج مع سليمان بن عبد الملك إلى الحج، فقتلته السّموم وحرُّ الشَّمس بالأَبواء سنة تسعٍ وتسعين، فصلَّى عليه سُليمان، وحَزِن عليه. وأما عبد اللَّه بن نوفل بن الحارث فوُلد على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يَحفظ عنه شيئًا، وكان يُشبه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ووَلي قضاءَ المدينة لمعاوية، ومروان واليًا على المدينة، وقال أبو هريرة: وهو أولُ قاضٍ رأيتُه في الإِسلام بها. قال ابن سعد: وأهلُه ينكرون هذا، مات سنة أربعٍ وثمانين، وقيل في أيام مُعاوية. وأما المغيرة بن نوفل فإنه وُلد على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة، وقيل لم يُدرك من حياة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سوى ستّ سنين، وكنيته أبو يحيى، وابنه يحيى من أُمامة بنت أبي العاص، وأمها زينب عليها السلام بنتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان قد تزوّجها بعد عليّ -رضي اللَّه عنه-، وقيل إن عليًّا أوصاه أن يتزوَجها خوفًا لا يتزوَّجها معاوية. روى المغيرة الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل: إنه لم يسمع منه، فحديثُه مُرسَل، وكان قاضيًا في زمن عثمان -رضي اللَّه عنه-، ولما ضرب ابنُ مُلْجم عليًا كرم اللَّه وجهه، وخاف النَّاس منه، حمل عليه المغيرة بقَطيفة، فرمى بها عليه، واحتمله فضرب به الأرض، وقَعد على صدره، وأخذ السيفَ منه، ثم حمله إلى الحبس. قال الواقدي: وولَّاه الحسن الكوفة، وسار إليه معاوية وهو عليها، وأعقب المغيرة أولادًا فُضلاء، فوُلد له عبد اللَّه بن المغيرة، وكُنيته أبو محمد، مات في أيام عمر بن عبد العزيز، وإسحاق بن المغيرة، وابنُه لوط بن إسحاق، كان عالمًا زاهدًا عابدًا فقيهًا، مات في أيام أبي جعفر المنصور، وابنُه محمد بن لوط كان عالمًا فقيهًا، مات في أيام أبي جعفر أَيضًا، وعبد الملك بن المغيرة بن نوفل، وُلد له يزيد بنُ عبد الملك، وكُنيته أبو خالد، كان فقيهًا فاضلًا.

هند بنت عتبة

[وأما سعيد فكان فقيهًا]، وكانت له ابنةٌ اسمُها رُقَيَّة، تزوَّجت بكر بنَ حُصين، من بني عامر بن لُؤيّ، فقال لها عبد الملك: ترون أن تنكح المرأة عبدها فقالت: [من الرجز] إن القُبورَ تنكح الأيامى ... النّسوة الأرامل اليتامى المرءُ لا تبقى له السُّلامى وأما عبد الرحمن وربيعة ابنا نوفل فلا بقيةَ لهما. وكان لنوفل بنات، منهن أمّ سعيد وأمّ المغيرة وأمّ حكيم وأم ظريبة بنت سعد بن أبي وقّاص (¬1). ولنوفل عَقِبٌ كثير بالمدينة والبصرة وبغداد، وليس له رواية (¬2). هند بنت عُتبة ابن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. قال ابن سعد: وأُمُّها صفية بنت أُمية بن حارثة بن الأَوْقص بن مُرَّة، من بني سُلَيم (¬3)، وأوَّل مَن تزوَّجها حفص بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم (¬4)، فولدت له أبانًا. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن عبد الملك بن نوفل بن مُساحق، شيخٍ من أهل المدينة من بني عامر بن لؤي قال: قالت هند لأبيها: إنِّي امرأةٌ قد ملكتُ أمري، فلا تُزوِّجْني رجلًا حتى تَعْرِضَه عليَّ. فقال لها: ذلك لك. ثم قال لها يومًا: إنَه قد خطبك رجلانِ من قومك، ولستُ مُسمِّيًا لك واحدًا منهما حتى أصفَه لك (¬5). ¬

_ (¬1) كذا، والذي في طبقات ابن سعد 4/ 41: أم سعيد وأم المغيرة وأم حكيم وأمهم ظريبة بنت سعيد بن القشب، وأم ظريبة أم حكيم بنت سفيان بن أمية، وهي خالة سعد بن أبي وقاص. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 52 - 53 و 5/ 21 - 26، وأنساب الأشراف 3/ 338 - 346، والاستيعاب (435)، والتبيين 100 - 103، والإصابة 1/ 292، وترجمة نوفل بن الحارث ليست في (ك). (¬3) في (أ) و (خ) زيادة بعد هذا الكلام نصها: وكانت هند امرأة حازمة شاعرة، ذات نفس وأنفة. وموضعها في (ك) بعد صفحتين. (¬4) في (خ) زيادة: ولقبه الفاكه كذا قيل، وانظر الصفحة التالية. (¬5) طبقات ابن سعد 10/ 223، وقول ابن سعد هذا ليس في (أ) و (خ).

وحكى الرَّبيع عن الشافعي قال: كان عتبةُ قد زوَّج ابنتَه هندًا رجلًا من قريشٍ، فطلَّقها أو مات عنها، فقالت لأبيها: إنَّك زوَّجْتَني ولم تُشاورني، فإن عُدْتَ فشاورني، فخطبها أبو سفيان بن حربٍ وسُهيل بن عمرو، فقالت: صِفهما لي. فقال: أما سهيل فتقضين عليه في أهله وماله، وأما أبو سفيان فلا تُخالفينه إلَّا نهاك (¬1)، وكلاهما سيِّدان. فاختارت أَبا سفيان، وقالت: إن أتاني منه ولد يكن سيِّدًا، وإن أتاني ولدٌ من سُهيلٍ يكن (¬2) أحمق. فتزوَّجها أبو سفيان فولدت له مُعاوية، وتزوَّج سهيلٌ امرأةً فولدت له ولدًا، فمرَّ عليه ذات يومٍ رجلٌ ومعه ناقةٌ وشاةٌ، فقال لأبيه سهيل: يَا أبه، هذه بنتُ هذه، فقال سُهيل: يرحمُ اللَّه هندًا. ولم يذكر ابنُ سعد الفاكه في أزواجِ هند، ويقال: إن الفاكه [هو] حفص، والفاكه لقب (¬3). وذكر ابن عبد ربِّه في كتاب "العقد" وقال: كانت هند عند الفاكه بن المُغيرة المخزومي، وكان له بيتٌ للضيّافة يغشاه النَّاسُ فيه بغير إذن، فخلا ذلك البيتُ يومًا، فدخل الفاكهُ وهند فناما فيه وقت القائلةِ، فانتبه الفاكه وخرج لبعض حاجته، وجاء رجلٌ ممَّن كان يدخلُ بيت الضيافة، فدخل، فرأى هندًا نائمةً فولَّى هاربًا، وعاد الفاكه فرأى الرجل خارجًا، وهند نائمةٌ، فضربها برجله فانتبهت، فقال: من هذا الخارج من عندك؟ فقالت: واللَّه ما رأيتُ أحدًا، فقال لها: الحقي بأهلك، وخاض النَّاسُ في أمرها، فقال لها أبوها: أخبريني خبرك، فإن كان صادقًا دسستُ إليه مَن يقتلُه، فينقطع العارُ، وإن كان كاذبًا حاكمته إلى الكاهن، فقالت: واللَّه إنَّه لكاذِبٌ، فقال عتبةُ للفاكه: إنَّك قد رَميتَ بنتي ببُهتانٍ عظيمٍ، فإما أن تُبيّن، وإمَّا أن تُحاكمني إلى الكاهن، فقال: أُحاكمك. فخرجا إلى الكاهن في جماعةٍ من أهلهما، فلما شارفوا بلادَ الكاهن تغيَّر وجهُ هند، فقال لها أبوها: هلا كان هذا قبل أن يَشتهر خُروجُنا بين النَّاس، فقالت: واللَّه ما ذاك لمكروهٍ [قبلي] ولكنكم تأتون بشرًا يُصيبُ ويُخطئُ، ولعله يُخطئ فيَسِمني بميسمٍ ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 19/ 568: وأما أبو سفيان فرجل شرس، لا تتكلمين إلا نهاك، ولا تخالفينه إلا ضربك. (¬2) في النسخ: يكون، في الوضعين. (¬3) من قوله: ولم يذكر ابن سعد. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

يَبقى على ألسنة العرب، فقال لها أبوها: صدقتِ، ولكني سأختبره لك، ثم صفر لمهره فبال وأدلى، فعمد إلى حَبَّةِ بُرٍّ، فتركها في إحليله وأوكى عليها، ثم نزلوا على الكاهن فأكرمهم، فقال له عُتبة: قد أتيناك في أمر وقد خبأت لك خبيئًا. فقال الكاهن: ثمرة في كَمَرة. فقال: أُريد أبينَ من هذا. فقال. حَبَّةُ بُرٍّ في إحليل مُهر. فقال: صدقتَ، فانظر في أمر هذه النسوة، وكان قد خَرج معها نسوة من بني عبد مناف -فجعل يَمسح على رأس كل واحدةٍ منهن ويقول: قومي لشأنِك، فلم يَبقَ غير هندٍ فقال: تقدمي ومسح على رأسها وقال: قومي غير رَسْحاء ولا زانية، وستلدين ملكًا يقال له معاوية. فقامت، فأخذ الفاكه بيدها، فنترتها منه، وقالت: واللَّه لأَجتهدنَّ أن يكون من غيرك، وفارقته، فتزوَّجها أبو سفيان، فولدت معاوية (¬1). وقال الجوهري: الرسحاءُ -بسين وحاء مُهملتين- القليلةُ لحم العَجُز والفخذَين (¬2). قلت: وكانت هند على غير هذه الصفة، [ذكر قصتها الموفق] بغير هذه العبارة، وزاد فيها بأن قال: كانت هند امرأة حازمةً شاعرة، ذات نفسٍ وأَنَفةٍ، فيُروى أنها كانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة، وكان من فتيان قُريشٍ، له مجلسٌ يأتيه فيه نُدماؤه، فيدخلون بغير استئذان، فدخلتْه هند يومًا وليس فيه أحدٌ، فنامت فيه، وجاء بعض نُدَماء الفاكه فدخل البيت فرآها نائمة فخرج، فلقيه الفاكهُ خارجًا، فدخل فوجدها نائمةً، فقذفها بالرجل، ثم خرجوا إلى الكاهن، فلما قربوا من الكاهن اصفرَّ لونُها، فقال لها أبوها: إن كنت قد ألممت بذنبٍ فأخبريني حتى أحل هذا الأمر قبل الفضيحة، وذكرها. وفيه: فضرب الكاهنُ بين كتفيها وقال: قومي حصانًا غير زانية (¬3). قال: ولما ولدت معاوية مر بها رجلٌ وهي ترقصه وهو صغير، فقال الرجلُ: إنِّي أراه سيسود قومَه، فقالت هند: ثكلتُه إن لم يَسُد غير قومه (¬4). ¬

_ (¬1) العقد الفريد 6/ 86 - 87. (¬2) الصحاح (رسح). (¬3) من قوله: قلت وكانت هند على غير هذه الصفة. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ)، وما سلف بين معكوفين زيادة يقتضيها السياق. (¬4) التبيين 218 - 219.

وقد ذكرنا أن هندًا أسلمت يوم الفتح وبايعت بعد إسلام زوجها أبي سفيان، وردَّها رسولُ اللَّه إما بنكاحٍ جديدٍ أو بالنكاح الأول على اختلاف الروايات. وذكرنا في غزاة الفتح أنها كَلَّمت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقالت: أنا هند بنتُ عتبة، فقال: مرحبًا بك، وأنها قالت: يَا رسول اللَّه، إن أَبا سفيان رجلٌ شحيح، لا يُعطيني وولدي ما يكفيني، فقال: "خُذي من ماله ما يَكفيك وولدك بالمعروف" (¬1)، وأنها لما بايعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: "ولا تقتلن أولادَكن" قالت هند: أَنْتَ قتلتَهم (¬2). وقد أخرجه ابنُ سعدٍ عن عبيد اللَّه بن موسى، عن عمر بن أبي زائدة (¬3)، عن الشعبي. ولم يذكر ابن سعدٍ تاريخَ وفاتها، وذكره ابن إسحاق والزُّبير بن بكار والموفق في الأنساب فقال: تُوفّيت هند بنت عتبة في سنة أربع عشرة، في اليوم الذي تُوفّي فيه أبو قُحافة والد الصديق بمكة (¬4). وذكرها جدّي في "التلقيح" (¬5) وقال: لما قال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولا تقتلْنَ أولادكن" قالت (¬6) له: وهل تركتَ لنا ولدًا إلا قتلتَه يوم بدر. وفي الصحابيات جماعةٌ اسمُ كلِّ واحدة منهن هند، إحداهن هذه، وهند بنت أسيد ابن حُضَير، وهند بنت [أبي] أُميَّة وهي أم سلمة زوجةُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهند خولانية امرأة بلال بن رباح، وهند بنت أوس بن شريق، وهند بنت أبي سفيان بن حرب وأمُّها صفية بنت أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2211)، ومسلم (1714). (¬2) سلف في السيرة. (¬3) في (ك) عن عبد اللَّه بن موسى بن عمران بن أبي زائدة، وليس، في (أ) و (خ) إلى نهاية الفقرة، والمثبت من تاريخ دمشق 19/ 573، وتهذيب الكمال 5/ 64 (ترجمة عبيد اللَّه) و 364 (ترجمة عمر بن أبي زائدة)، وانظر طبقات ابن سعد 10/ 226. (¬4) التبيين 219. (¬5) في ص 319. (¬6) من قوله: قالت هند أنت قتلتهم. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬7) تلقيح فهوم أهل الأثر 346، وما بين معكوفين منه.

أم سليط بنت عبيد بن زياد

وقال الهيثم (¬1): حضرت هند مع زوجها أبي سفيان يوم اليرموك، وكان لها من الولد: معاويةُ وحنظلة ومحمد، قُتل حنظلة يوم بدرٍ. انتهت ترجمة هند (¬2). أم سَليط بنت عُبيد بن زياد أنصاريّة، وهي أمُّ قيس أَيضًا، أسلمت وبايعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشهدت أُحدًا وحنينًا، وكان عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- يَتعاهَدُها. فأخرج البخاري عن عمر أنه قَسم مُروطًا بين نساء أهل المدينة، فبقي منها مِرطٌ جيّد، فقيل له: أعطِه لابنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- التي عندك -يُريدون أمَّ كلثوم بنت علي -رضي اللَّه عنهما- فقال: أمُّ سَليط أحقُّ به منها، فإنَّها ممن بايع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانت تَزْفِرُ لنا القِربَ يوم أُحد، فبعث به إليها (¬3). * * * ¬

_ (¬1) من قوله: وفي الصحابيات جماعة. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) هذه العبارة من (ك)، وجاء عقبها ترجمة أم عمارة، سلفت قريبًا، وانظر في ترجمة هند إضافة إلى ما سبق الاستيعاب (3477)، والإصابة 4/ 425. (¬3) صحيح البخاري (2881)، وانظر ترجمة أم سليط في طبقات ابن سعد 10/ 389، والاستيعاب (3531)، والمنتظم 4/ 189، والإصابة 4/ 460. وترجمة أم سليط ليست في (ك).

السنة الخامسة عشرة من الهجرة

السنة الخامسة عشرة من الهجرة وفيها كانت وقعةُ المرجِ بدمشق، جهَّز هِرَقْلُ بِطريقًا يُقال له: توذرا من عُظماء أصحابهِ، فنزل المرجَ، فخرج إليه يزيد بنُ أبي سفيان، فقتله واستباح الرومَ، وكان أبو عُبيدة وخالدٌ -رضي اللَّه عنهما- قد أَوْغلا في بلاد الروم، فقتلا جمعًا من البطارقة، وهرب هِرَقْلُ إلى الرُّهاء، وجاء أبو عبيدة وخالد فنزلا حمص. فصل في ذكر فتوح حمص أقام عليها عسكر المسلمين مُدَّة، وكان بها جَمْعٌ عظيمٌ، واشتدّ عليهم الحصارُ، واتفق أنها زُلزلت، فوقعت دورٌ كثيرةٌ وقطعةٌ من سور البلد، فبادروا إلى الصُّلح، ولم يعلم أبو عبيدة بما حدث فيهم، فصالحهم على صلح دمشق، وكتب بالفتح إلى عمر، وبعث بالغنائم مع عبد اللَّه بن مسعود وقال له: أخبره بأن هرقل قطع الفُرات. ذكر فتح حصن قِنَّسرين كان على الحاضر بِطريقٌ يقال له: مساس في جمع، وكان مثل هرَقْلَ في عيونِ الروم، فنازله خالدٌ، فخرج إليه فاقتتلا، فقتله خالد وفتح حصن قِنَّسرين وأخربهُ، وصالح أهلها على صلح دمشق. ذكر مسير هِرَقْلَ إلى القسطنطينية لما عبر هِرَقْلُ إلى الفُرات جهَّز إليه أبو عبيدة الجيوش، فنازلوا الرُّهاء، فسار إلى سُمَيْساط، ثم تحمَّل إلى الروم، والتفت إلى الشَّام وقال: السلامُ عليك يَا سورية -يعني الشَّام- قد كنت (¬1) أُسلِّم عليك سلامَ مُوَدِّع، وهذا سلامُ مفارقٍ لا اجتماع بعده أبدًا، وهذا قولُ ابن إسحاق، وقال سيف: إنما خرج هرقل إلى القسطنطينية في سنة ست عشرة (¬2). ¬

_ (¬1) في (ك): يعني الشام قال يا سورية قد كنت. (¬2) من قوله: وهذا قول ابن إسحاق. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

وفيها كتبَ عمر بن الخطَّاب إلى أبي عبيدة أن يُولّي معاوية بن أبي سفيان حرب قَيْسارية، ويولي عمرو بن العاص حرب إيلياء يعني بيت المقدس، وقال هشام: إنَّما وَليَ حربَ الساحل عمرو بن العاص (¬1). وفيها جرت وقعةٌ أخرى بأجنادين. قال سيف وغيره: لما فتحت حمص وقِنَّسرين اجتمع عسكرُ الروم بأجنادين وقَيْساريّة وغزّة والسواحل، فجهَّز إليهم أبو عبيدة شُرَحبيل بن حَسَنة ومعاوية وعمرو بنَ العاص وعلقمة بن مُجَزِّز، وكان بأجنادين الأرطَبون من عظماء الروم، وبغزة القيقار عظيمٌ آخر، فنازل معاوية قيسارية، فخرجوا إليه مرارًا وهو يهزمهم، فيقال: إنه قتل منهم ثمانين ألفًا، ثم افتتحها، وكان الأرطبون ملكًا ذا رأي داهيةً، وهو نائب هرقل بالسواحل والقدس. ومضى علقمة بن مجزز فنازل القيقار بغزة، والأرطبون نازلٌ بأجنادين، وعساكر المسلمين بإزائه، عليهم عمرو بن العاص لا يَقدرون على شيءٍ، وكان عمر قد استخلف أَبا الأعور السُّلَمي على الأردن، وجعل على مقدّمته شرحبيل بن حَسَنة، وعلى الميمنةِ ولده عبد اللَّه بن عمرو، وعلى الميسرة جُنادة بن تميم المالكي، فنازل أجنادين، والروم في الحصون قد خَندقوا عليهم، ورتَّب الأَرطبون العساكر بالرَّملة وإيلياء، فأقام عمرو مُدَّةً لا يقدرُ منهم على شيء، فسار (¬2) فنزل على غزة، فبعث إليه عِلْجُها: أبعث إليّ رجلًا من أصحابك حتى أكلّمه، [ففكّر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري، فخرج حتى دخل على العِلْج فكلّمه، فسمع كلامًا لم يسمع مثلَه قط، فقال العِلج: حدِّثني هل في أصحابك أحدٌ] مثلُك (¬3)، فقال: لا تسأل عن هواني عليهم إذ بَعثوني إليك، وعَرَّضوني لما عَرّضوني له، [ولا يَدرون ما تصنع بي] فأمر له بجائزةٍ وكُسوة، وأرسل إلى بوّابه: إذا مرَّ عليك فاقتُله وخُذْ ما معه، فمرّ عمرو برجلٍ من نصارى غَسّان فعَرفه، فقال: يَا عَمرو، قد أحسنتَ الدخول فأحسن الخروج، ففَطِن، ¬

_ (¬1) قوله: وقال هشام. . . ليس في (أ) و (خ). (¬2) في (ك): لا يقدر منهم على شي، فدخل عمرو على الأرطبون في زي رسول، فعرفه، فأراد قتله، فخدعه عمرو ونجا منه. وبهذا اختصر القصة التي وردت في (أ) و (خ). (¬3) في (أ) و (خ): أبعث إلى رجلان من أصحابك حتى أكلمه يقال مثلك، والمثبت من العقد الفريد 1/ 124.

ذكر خروج عمر بن الخطاب إلى الشام المرة الأولى

فعاد إلى العِلج، فقال له: ما الذي رَدَّك؟ فقال: نظرتُ فيما أعطيتَني، فلم أجد ذلك يَسَعُ بني عميّ، وقد أردتُ أن آتيك بعشرةٍ منهم لتُعطيهم هذه العطيّة، فيكون معروفُك عند عشرة خيرًا [من أن يكون] عند واحد، فقال: صدقتَ، وأرسل إلى البوّاب: لا تقتلْه، وخرج، فلما صالح العِلْج بعد ذلك ودخل على عمرو قال له: أَنْتَ هو، قال: نعم على ما كان من غَدرِك، ولما بلغ ذلك عمر بنَ الخطاب رضوان اللَّه عليه أنكر على عمرو وقال: غَرَّرْتَ بنفسك فلا تَعُدْ، وقيل: إن الواقعة كانت لعلقمة بن مُجزّز (¬1). وقال ابن الكلبي -وقد حكاه جدي في كتاب "الأذكياء"- إن الواقعة كانت مع القيقار صاحب غزَّة (¬2). وقال سيف (¬3): ثم التقوا بأجنادين، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقُتل بينهم خلقٌ كثير، وهرب الأرطبون إلى إيلياء، وقيل: بل سار على حاميةٍ (¬4) حتى نزل القدسَ بجموعه، ونزل عمرو بأجنادين، فأرسل إليه الأَرطبون: واللَّه لا تفتحُ بعد أجنادين من فلسطين شيئًا، فأرجع ولا تتعب، فإنَّ صاحب هذا الفتح رجل اسمه على ثلاثة أحرف، ففهم عمرو أنه عمر، فجمع الأمراءَ وأخبرهم، فقالوا: اكتب إلى أبي عُبيدة، فكتب إليه، وقيل: إن عَمرًا هو الذي كتب إلى عمر، فأخبره بما قال الأرطبون، فعزم عمر على الخروج إلى الشام، وكان في كتاب عمرو إلى عمر: إنَّ القوم قد وجدوا في كُتبهم صفتك، وقد اجتمع ببيت المقدس من الملوك والبطارقة والعظماء والعَدد والعُدد ما لا يدخُلُ تحت حد ولا حصر، فاقدُم لعلَّ اللَّه أن يَجعل هذا الفتح العظيم على يدك. ذكر خروج عمر بن الخطاب إلى الشام المرة الأولى وقد اختلفوا في صفة قُدومِه، قال علماء السير: وهذه أوَّلُ خَرْجةٍ خرجها في الإِسلام، أما في الجاهلية فقد خرج تاجرًا مرارًا ودخل دمشق. وقيل: إن خَرْجاته إلى ¬

_ (¬1) من قوله: فسار فنزل. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) الخبر في الأذكياء 45 عن ابن الكلبي بين عمرو بن العاص وعلج غزة، كما وردت عن العقد. (¬3) من قوله: وقال ابن الكلبي. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬4) في (أ) و (خ): على حاله.

ذكر خطبة عمر بالجابية

الشام، فما وصل إلى دمشق (¬1). قال سيف: ولما عزم على المسير قال له علي بن أبي طالب: أين تُريد بنفسك وبين يديك عدوٌّ كَلِبٌ؟ ! أقم ولا تُغرّر بنفسك، فقال: أبادرُ بجهاد العدوّ موتَ العباس (¬2)، إنكم إن فقدتم العباس انتقض (¬3) بكم الشرّ كما يُنتقض الحبْل، فمات العباس [لستّ خلون من إمارة عثمان] فانتقض بالنَّاس الشر (¬4)، واستخلف على المدينة عليَّ بن أبي طالب، وكتب إلى أمراء الأجناد (¬5) بالشام أن يَستخلفوا على أعمالهم، ويُوافوه بالجابية، فكان أوّل مَن لَقيه يزيدُ بن أبي سُفيان، ثم أبو عبيدة، ثم خالدُ بنُ الوليد. قال الهيثم: وكان عليهم أَقبيةُ الدِّيباج والحرير، وهم على الخيول المسومة (¬6)، فنزل عمر عن بعيره، وأخذ الحجارة، وجعل يرميهم بها، وقال: ويحكم إيّاي تَستقبلون بهذا؟ ما أسرع ما نسيتم، لقد كَثُرت فيكم البِطنة، وإنما شبعتُم منذ سنين، ولو فعلتموها على رأس المئة لاستبدلتُ بكم غيركم، فقالوا: يَا أمير المؤمنين، إن علينا السلاح، ونحنُ في مقابلة العدوِّ، فقال: نعم إذن. ثم نزل الجابية فرآه رجلٌ من يهود دمشق، فقال: السلامُ عليك يَا فاروق، أَنْتَ واللَّه صاحبُ إيلياء، لا تَرجعُ عنها حتى تفتحها، فقال عمر: إن شاء اللَّهُ تعالى. ذكر خطبة عمر بالجابية قال أحمد بن حنبل بإسناده عن ابن عمر: إن عمر خطب بالجابية فقال: قام فينا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مَقامي فيكم فقال: "استوصوا بأصحابي خيرًا، ثم الذين يَلونهم، ثم ¬

_ (¬1) من قوله: ذكر خروج عمر. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) في هامش (خ) حاشية نصّها: يعني أن عمر -رضي اللَّه عنه- يستفتح بعمه عليه السلام ويستبشر ويتبرّك بوجوده الشريف، فأراد فتح المسجد الأقصى قبل موته. (¬3) في (خ) و (م): لا ينقض، والمثبت من المنتظم 4/ 192، والطبري 3/ 608. (¬4) من قوله: وبين يديك عدو كلب. . . إلى هنا، ليس في (ك). (¬5) في (ك): الأمراء والأجناد. (¬6) في هامش (خ) حاشية نصها: حكمة في بيان المغلوبية للعدو فتأمل.

حديث راهب دير العدس

الذين يَلونهم، ثم يَفشو الكذبُ، حتى إن الرجل ليَبتدئ بالشهادة قبل أن يُسألها, فمَن أراد بَحْبَحَة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطانَ مع الواحد، وهو من الاثنين أبعده لا يَخلُونَّ أحدُكم بامرأةٍ، فإن الشيطان ثالثُهما، ومَن سَرَّته حسنتُه وساءته سيئته فهو مؤمن" (¬1). هذا لفظُ المسند، وأما الخطبةُ فقد رواها ابن إسحاق والواقدي وهشام، وهي خطبةٌ طويلةٌ كثيرة الروايات، منها أنَّه قال بعد حمدِ اللَّه والثناء على رسولهِ: أيُّها النَّاسُ (¬2)، أَصلحوا سرائركم تَصلح علانيتُكم، واعملوا لآخرتكم تُكفَوْا أمرَ دُنياكم، واعلموا أن رجلًا ليس بينه وبين آدم أبي لمعرِق في الموتى، سمعتُ حبيبي -وبكى وقال- رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول. . . وذكر هذا الحديث (¬3). وقال الواقدي: وجاءه أهلُ الجابية فصالحوه على الجزية. حديث راهب دير العَدَس روى زيدُ بن أسلم عن أَبيه قال: لما نزل الجابيةَ عمرُ، أتاه راهبُ دير العَدَس بكتابٍ فقال: أوفِ بشرطي، فلما رآه عجِب ووفى له، فقيل لعمر: ما هو؟ فقال: خرجتُ في الجاهلية إلى الشام، فدخلتُ دمشق ومعي تجارةٌ، فبينما أنا أمشي في بعض أسواقها إذا ببِطريقٍ قد قبض على يدي، وجاء بي إلى كنيسةٍ فيها تُراب كثير فقال: أخرجه، وجاءني بمِجرْفةٍ وزِنْبيل، قال: فوقفتُ مُتحيرًا في أمري لا أدري ما أصنع؟ وجاءني وقت الهاجرة فقال: ما أراك صنعتَ شيئًا، ولطمني في رأسي لطمةً هائلةً، فضربته بالمجرفة في رأسه فنثرتُ دماغَه، وحفرت له في التُّراب ودفنتُه، وخرجت من البلد لا أدري أين أذهب؟ فمشيتُ يومي وليلتي، فانتهيتُ إلى ديرٍ، فجلستُ تحت حائطه، وإذا بهذا الشيخ الراهب قد خرج من الباب، فصوَّب النَّظر فيَّ وقال: أرى عينك عينَ خائفٍ، ادخل. فدخلتُ فقدَّم إليَّ طعامًا، فأكلتُ، وهو يُصوِّبُ النظر ويُصعِّدهُ فيَّ، فقلت: مالك؟ فقال: أعلم أنه لم يَبق على وجه الأرض أعلمُ مني بالكتب السالفة، وإني أجد هذه ¬

_ (¬1) مسند أحمد (114). (¬2) من قوله: هذا لفظ المسند. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬3) من قوله: سمعت حبيبي. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ)، وإنما جاء بدله فيهما: وهي طويلة.

الصفةَ في كُتبنا، وأنك تُخرجنا من هذه الأرض، فقلت: لقد ذهبتَ كلَّ مَذهب، وضَللتَ وما أَنْتَ إذًا من المهتدين، فقال: ما اسمُك؟ قلت: عمن، قال: أنت واللَّه صاحبُنا من غير شكّ، ثم أخرج إليَّ هذا الكتاب، وقال: اكتب لي على ديري وما فيه، فإن كنتَ ذاك فما يَضرُّك، فكتبتُ له، وختمتُ عليه، وزوَّدني طعامًا كثيرًا، ونفقةً وثيابًا، ودفع إلى أتانًا وقال: اركبها، فإنك لا تمرُّ بأهل دَيرٍ إلا أكرموك وعلفُوها وسقوها، فإذا بلغتَ مَأمنك فا ضرب وجهها مدبرة، فإنها ترجع إلي. قال: فخرجتُ، فوجدتُ ما قال، ووجدتُ رِفقةً من أصحابي، فضربتُ وجهها فولَّت مُدبرةً، ثم أكرم الراهب، وكتب في كتابه: وعليكم أن تُضيفوا المسلمين، وتقوموا بأمر المرضى وتدلوا الحائرين (¬1)، قال: نعم. وقال طارق بن شهاب: لما قدم رضوان اللَّه عليه الشام تلقته (¬2) الجنود وعليه إزارٌ وخُفَّان وعمامة، وهو آخذٌ برأس راحلته يخوض الماء، وقد نزع خُفَّيه ووضعهما (¬3) تحت إبطيه، فقيل له: يَا أمير المُؤْمنين، الآن تَلقاك الجنود وبطارقةُ الشام وأنت على هذه الحال، فقال: إنا قوم أعزَّنا اللَّه بالإِسلام، فلا نطلب العزَّ بغيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعتَ اليوم صنيعًا عظيمًا عند الناس، فصكَّ عمر في صدره وقال: لو غيرك يقولها، ثم قال: ويحك يَا عامر، كنتم أذلَّ الناس وأقلَّهم وأحقرهم، فأعزَّكم اللَّه بالإِسلام، فمهما تَطلبون العِزَّ بغيره يُذلَّكم اللَّه. ثم جيء ببِرذونٍ، فقيل له: اركب هذا ليراك العُظماء، فقال: دعوني، وأشار بيده إلى السماء (¬4)، ولم يركبه. وقال زيد بن أسلم: لما خرجَ عمر إلى الشام سلك على طريق أَيلة، فلما قرب من الشام عمد إلى مَركب أسلم فركبه وعليه فَروٌ مقلوب، وحوَّل غلامَه إلى مركبه، وكان على جملٍ أحمر قد ارتدى بعمامته، وتحته حقيبة على فرو، والعباس بين يديه على ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): وتنزلوا الجائزين، والخبر في المجالسة (2001)، وتاريخ دمشق 4/ 53 - 5 و 18/ 145 - 146 (مخطوط). (¬2) في (ك): لقيته. (¬3) في (ك): وجعلهما. (¬4) في تاريخ دمشق 2/ 53: إنما الأمر من هاهنا وأشار بيده إلى السماء.

فرس، وكان العباس وسيمًا جميلًا، فجعل البطارقةُ والعظماء يُسلمون على العباس، وهو يُشير إلى عمر، فيرجعون فيُسلّمون عليه، وسجد له جماعةٌ من القِسّيسين والرهبان فمنعهم وقال: لا ينبغي السجودُ إلا للَّه تعالى، وقالوا: ما رأينا أحدًا أشبه بأوصاف الحواريين من هذا الرجل (¬1). وقال هشام: تلقّاه أهلُ الأديان والمقلِّسون بالسيوف والرَّيحان، فكره عمر النظر إليهم، وقال: ردُّوهم، فقال له أبو عبيدة: إنها سنة الأعاجم، فإن منعتَهم ظنوا في نفوسهم أنَّه نقضٌ لعهدهم، فقال عمر: دعوهم، عمر وآل عمر في طاعة أبي عبيدة (¬2). قال الجوهري: التقليس: الضرب بالدف والغناء (¬3). وكان أبو عبيدة لما التقي عمر قبَّل عمر يدَ أبي عبيدة. وقال الواقدي: قدم عمرُ الشام على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف، فتلقَّاه معاوية بن أبي سفيان في موكبٍ نبيلٍ، فجاوز عمر ولم يعرفه، فأُخبر أنَّه قد تقدّمه، فرجع إليه فترجَّل، وقبَّل يده، ومشى إلى جنبه وعمر مُعرض عنه، فقال له عبد الرحمن: أتعبت الرجل فقال له عمر: يَا ابن أبي سفيان، أنت صاحبُ الموكب آنفًا مع ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات على بابك؟ ! فقال: يَا أمير المؤمنين، إنا في بلاد فيها جواسيس العدو، ولا بد ما نردعهم بما نُروّعهم به من هيبة السلطان، فإن أمرتَني أقمتُ على ما أنا عليه، وإن نهيتَني انتهيتُ، فلم يرد عليه شيئًا (¬4)، وفي رواية: علمني وفهِّمني -وهي جيدة في الجواب- فلم يردّ عليه شيئًا. وقال أبو العالية الرِّياحي (¬5): قدم عمر رضوان اللَّه عليه الشام على جملٍ أَوْرق، تلوح صَلعتُه [في الشمس] ليس عليه عمامةٌ ولا قلنسوة، قد طبق رجليه بين شُعْبَتَي ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 902 - 903. (¬2) أخرجه البلاذري في فتوح البلدان 145، وابن عساكر في تاريخ دمشق 32/ 116 - 117 (الفكر) (¬3) الصحاح (قلس). (¬4) تاريخ دمشق 59/ 112 (الفكر). (¬5) في تاريخ المدينة 824 - 825، ومناقب عمر 126: أبو الغالية الشامي، وفي المجالسة (986): أبو الغادية =

ذكر وقف عمر الشام

رحْلِه بغير ركاب، وتحته كساء من دبر، وهو فراشه إذا نزل، وعليه قميص من كرابيس قد دَسِم وتَخَرَّق جَيْبه (¬1)، فقال: ايتوني بقميص، واغسلوا قميصي هذا، فأَتوه لقميص كتّان، [فقال: ما هذا؟ قالوا: كتان، قال: وما الكتان؟ فأخبروه] به، وقال: ايتوني بكرابيس، فأتوه به، فنزع ثوبَه وقال: اغسلوه، فقال له دهقان الجابية: أنت ملك العرب، وهذه البلاد لا تصلح فيها الإبل (¬2)، فلو ركبتَ بِرذونا، فأُتي ببرذون، فطرح عليه قطيفةً، بغير سَرْج ولا رَحْل، فركبه وسار هُنيَّةً وقال: احبِسوا، ما كنتُ أظنُّ أن الناس يَركبون الشياطين قبل هذا، عليَّ بجملي، فجيء به فركبه (¬3). وقال هشام: لمّا نزل عمر الجابيةَ جاء إليه عظماءُ أنباط الشام، وقالوا: قد صنعنا لك طعامًا، ونُريدُ أن تدخُل كنيستَنا، فقال عمر: في كنائسكم الصُّورُ، وإنَّ الملائكةَ لا تدخُلُ بيتًا فيه صورةٌ، ومَن دخل بيتًا فيه صورةٌ حبط عملُه أربعين صباحًا، ثم قال لأبي عبيدة: انطلق معهم، فذهب ومعه المسلمون، فدخل كنيستهم، وتغدّى ومَن معه من المسلمين، وجعل يقول: ما ضَرَّ أمير المؤمنين لو دخل وتغدَّى (¬4). ذكر وقف عمر الشام ذكر علماءُ السير أن عمر لمّا قدم الجابية استشار الصحابةَ في الشام: هل يقسمه بين الغانمين، أو يُوظِّف عليه الخراج، أو يوقفه على جميع المسلمين؟ فأشار بعضهم بالقسمة، وبعضهم بتوظيف الخراجِ، فقال له معاذ بن جبل: يَا أمير المؤمنين، أوقفه على المسلمين فهو أنفعُ لهم، فأجابه عمر إلى ذلك، وأثنى عليه وشكره. ذكر مسير عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس قال سيفٌ وغيره: لما توجَّه عمرُ من الجابية إلى فلسطين هرب الأرطبونُ والتذارق ¬

_ = الشامي، وفي تاريخ دمشق 53/ 260: أبو العادية الشامي، وفي تهذيب الكمال (ترجمة عبد اللَّه بن مسلم): أبو العالية الشامي. (¬1) في (أ) و (خ): جنبه. (¬2) في (أ) و (خ): لا يصلح ما فيها إلا بك. (¬3) من قوله: وفي رواية علمني وفهمني. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬4) تاريخ دمشق 12/ 113 (مخطوط).

صاحب الرملة ومَن في الحصون الساحلية إلى مصر، وكانت الرومُ قد أخذتها من اليونان على ما ذكرنا في صدر الكتابِ (¬1). فجهّز عمر عَمرو بنَ العاص، وأردفه الزبير معاونًا له، ولما وصل عمر إلى القُدس خرجَ الرهبان والأقِساءُ والشمامسة والأكابرُ، ودخلوا بين يديه، فأتى محراب داود عليه السلام فصلى فيه، وقرأ سورة "ص" وسجد، وسأل عن الصخرةِ فلم ير لها أثرًا. كانت الروم أو اليهودُ قد ألقت عليها الكُناسة، وكان معه كعب الأحبار فقال له: أين الصخرةُ؟ فقال: اذْرَع من الحائط الشرقي كذا وكذا ذراعًا، فذرع فبدت الصخرة، فنظَّفها، وأراد أن يجعل المحرابَ فيها، فقيل له: يضيقُ المسجد بالناس، فوضعه في آخر الحرمِ عند مهد عيسى عليه السلام، وصلى عمرُ فيه وعاد إلى الجابية، ثم عاد إلى المدينة. فصل: وفيها فرض عمر الأُعطية للمسلمين على قَدر السوابق في الإِسلام، ودوَّن الدواوين، وقد اختلفوا في ذلك؛ فقال ابن الكلبي: فعل ذلك في هذه السنةِ. وحكى ابن سعدٍ عن الواقدي أنه فعل ذلك في سنةِ عشرين (¬2). وقولُ الكلبيّ أصحُّ. وكان رضوان اللَّه عليه استشار المسلمين في تدوين الدواوين، فقال له عليّ رضوان اللَّه عليه: تقسم كلَّ سنة ما اجتمع عندك من مال، ولا تُمسك منه شيئًا، وقال عمار رضوان اللَّه عليه (¬3): أرى مالًا كثيرًا يسع الناس وإن لم يُحصوا، حتى تعرف من يأخذ ممن لم يأخذ، خشية أن ينتشر الأمر، فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين، إني جئتُ الشام، فرأيت ملوكها يُدوِّنون ديوانًا، ويجنّدون جنودًا، فأخذ بقوله، فدعا عَقيل بن أبي طالب ومَخرمة بن نوفل وجُبير بن مُطعِم، وكانوا من نُسَّاب قريش فقال: اكتبوا للناس على منازلهم، فبدؤوا ببني هاشم، ثم أتبعوهم بني تميم أَبا بكر رضوان اللَّه عليه وقومَه، فنظر فيه عمر -رضي اللَّه عنه- فقال: ابدؤوا بقرابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، الأقرب فالأقرب، حتى تَضعوا عمر حيث وضعه اللَّه، فجاءت بنو عدي إليه فقالوا: أنت خليفةُ أبي بكر، وأبو بكر خليفةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: وعلى ذلك؟ ! قالوا: فلو ¬

_ (¬1) سلف في أخبار الأمم الماضية. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 276. (¬3) في طبقات ابن سعد 3/ 275، وفتوح البلدان 436: عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-.

جعلتَ نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم، فقال: بخٍ بخ يا بني عديّ، أردتم الأكلَ على ظهري، وأن أذهب لكم بحسناتي، لا واللَّه، حتى تأتيكم الدعوة، وإني أطبق عليكم الدفتر، إن لي صاحبَيْن سلكا طريقًا، فإن خالفتُهما خولف بي، واللَّه ما أدركنا الفضلَ في الدنيا، وما نرجو من الأجر في الآخرة إلا بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهو شرفنا، وقومُه أشرف العرب. ثم أمر بالأقرب فالأقرب، حتى انتهى إلى الأنصار، فقالوا: بمَن نبدأ؟ فقال: برهط سعد بن معاذ الأشهلي -رضي اللَّه عنه-، ثم أهلِ السوابق والمشاهد، قيل له: إن أَبا بكر رضوان اللَّه عليه سوَّى بين الناس، فقال: لا أجعل مَن قاتل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كمن قاتل معه، فبدأ بعد الأقرب فالأقرب بمن شهد بدرًا من المهاجرين، ثم بالأنصار، يفرض لكل واحدٍ منهم خمسةَ آلاف درهم في كل سنة، حليفُهم ومولاهم معهم على السواء، وفرض للعباس -رضي اللَّه عنه- خمسة آلاف درهم، وقيل: سبعة آلاف درهم، وفرض لأزواج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لكلّ واحدة اثني عشر ألفًا، وفرض لمن هاجر قبل الفتح، لكلّ رجل ثلاثة آلاف درهم، وفرض لمسلمة الفتح، لكلّ رجل ألف درهم (¬1)، وفرض لغلمان أحداث أبناء المهاجرين والأنصار كمسلمة الفتح، وفرض لعمر بن أبي سلمة أربعة آلاف درهم، فقال محمد بن عبد اللَّه بن جحش: لِمَ يُفضّل علينا عمر؟ فقد هاجر آباؤنا وشهدوا المشاهد، فقال عمر رضوان اللَّه عليه: أُفضِّله لمكانه من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنه ربيبُه، فليأت الذي يَستعتب بأمٍّ مثل أمّ سلمة أُعتبه، وفرض لأسامةَ بن زيد -رضي اللَّه عنهما- أربعة آلاف درهم، [فقال عبد اللَّه بن عمر: فرضتَ] لي ثلاثة آلاف، وقد شهدت ما لم يَشهد أُسامة، فقال: إنما زِدتُه لأنه كان أحبَّ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- منك، وكان أبوه أحبّ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أبيك، ثم فرض (¬2) للناسِ على قَدْرِ منازلهم وقرابتهم، وفرض للنساءِ المهاجِرات: لصفية بنت عبد المطلب ستة آلاف درهم، ولأسماء بنت عُميس ألفَ درهم، وكذا لأُمِّ كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيْطٍ، ولأُمِّ عبد اللَّه بن مسعود. وفرض للمنفوس مِئة درهم، فإذا ترعرع فرض له مئتي درهم فإذا بلغ زاده مئةً، [وكان إذا أُتي ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 3/ 277: وفرض لمسلمة الفتح لكل رجل منهم ألفين. (¬2) من قوله: وكان عمر رضوان اللَّه عليه استشار المسلمين في تدوين الدواوين. . . إلى هنا ليس في (ك).

باللقيط فرض له مئة درهم، وفرض له رزقًا يأخذه وليه كل شهرٍ بقدر ما يصُلحه,] وكان يَنقله من سنةٍ إلى سنةٍ، ورضاعُه ونفقتُه في بيت المال. وكان يقول: واللَّه الذي لا إله إلا هو، ليس أحدٌ من الناس إلا وله في هذا المال حقٌّ، ولئن بقيتُ لأبعثنَّ إلى الراعي بجبل صنعاء حقَّه منه قبل أن يحمرَّ وجهُه، يعني في طلبه (¬1). وروى ابن سعدٍ عن أبي هريرة قال: قدمت على عمر من البحرين بخمس مئة ألف درهم، فصلَّيتُ معه العشاءَ فقال: ماذا جئتَ به؟ قلتُ: بخمس مئة ألف درهم، قال: ويحك، هل تدري ما تقولُ؟ قال: قلتُ: جئتُ بمئة أَلْفٍ ومئةِ أَلْفٍ حتى عددتُها خمس مئة ألف، قال: أنت ناعسٌ، ارجع فنم عند أهلك، فإذا أصبحتَ فأتني، فلما أصبحتُ جئته من الغد، فأعاد عليّ القول، فأجبتُه بمثل ذلك، قال: فقسمه في الناس فلم يدع منه دِرهمًا (¬2). وحكى ابن سعدٍ عن الواقدي عن أشياخه قالوا: أرسل عمرُ إلى زينب بنت جحش بمالٍ، فقالت: يرحم اللَّهُ عمر! غيري من أَخواتي كان أحقَّ مني، وسترت بينها وبين المال بثوبٍ ثم فرَّقته، واختلفوا فيه: فقال قومٌ: كان اثني عشر ألفًا، وقال آخرون: أربعين ألفًا، ثم رفعت يديها إلى السماءِ وقالت: اللهمَّ لا يُدْركني عطاءُ عمر بعدها، فماتت قبل العطاء (¬3). قال: وكان عمر يقول: لئن عشتُ لأدعنَّ أرامل العراق لا يَحتَجْن إلى أحدٍ بعدي، وإني لأرجو أن أكيلَ لهم المال بالصَّاع كَيلًا. ولما أعطى الناس على مقدار السَّوابق، كلّمه سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وأقرانُهما في تقليل أعطياتهم، فقال: إنما أعطي على السوابق في الإسلام، لا على الأحساب، ثم أعطى بعد ذلك سهيل بن عمرو والحارث (¬4) بن هشام أربعة آلاف أربعة ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 276 - 279، وما بين معكوفات منه، وفتوح البلدان 435 - 438. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 279. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 280. (¬4) في (أ) و (خ): بن الحارث، وهو خطأ، ومن بداية الفقرة ليس في (ك).

آلاف؛ معونةً لأجل جهادهما. ولما كتب الديوان قال له كبار الصحابة؛ كعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنهم-: ابدأ بنفسك أوّلَا، فقال: لا واللَّه، بل أبدأ بعمّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم بالأقرب فالأقرب من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبدأ بالعباس -رضي اللَّه عنه-، ففرض له خمسة وعشرين ألفًا، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف درهم لكلّ رجل، وأدخل في أهل بدر الحسن والحسين -رضي اللَّه عنهما- لقرابتهما، وأدخل أَبا ذر وسلمان -رضي اللَّه عنهما- لسابقتهما، ثم فرض لأهل الحُديبية أربعة آلاف درهم لكلّ رجل، ثم لمَن بعد الحديبية إلى وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسة آلاف درهم، ودخل فيمن شهد الفتح (¬1)، ثم لمن شهد اليرموك والقادسية ألفين ألفين، وزاد فيهم مَن أبلى بلاءً حسنًا خمس مئة خمس مئة، فقيل له: لو ألحقت أهل اليرموك والقادسية بمَن تقدَّم، فقال: لاها اللَّه ذا، لم أكن لأُلحقهم بدرجةٍ لم يدركوها، ثم فرض للمردفين الذين بعد القادسية ألفًا ألفًا، ثم لمن بعدهم (¬2) ثلاث مئة ثلاث مئة، وسوّى كلَّ طبقة في العطاء, الضعيف والقوي، والعربي والعَجمي. ولما فرض لأزواج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زاد عائشة -رضي اللَّه عنها- ألفين، فأبت أن تَقبلها، فقال: هذا لمكانِكِ من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا أخذتيها فشأنك بها، وسأل أزواج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن القَسْم فقلن: ما كان يُفضّل منا واحدة، وكان قد أراد أن يَنقص مَن جرى عليها الرّق، فلما قُلن ذلك سوَّى بينهن، ثم جعل لنساء أهل بدر خمس مئة خمس مئة، ثم لنساء أهل الحديبية أربع مئة أربع مئة، ثم ما بين الحديبية إلى وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاث مئة ثلاث مئة، ولنساء أهل اليرموك والقادسية مئتي درهم مئتي درهم، وللصبيان من أهل بدر وغيرهم مئة مئة، فقال له قائل: يَا أمير المؤمنين، لو تركتَ في بيوت الأموال بيثرب عدَّة لنائبة تنوب، أو لحادثة تحدث، فقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك، وقاني اللَّه شرَّها، وهي فتنة لمن بعدي (¬3)، بل أعدّ لهم طاعةَ اللَّه وطاعة رسوله؛ فهما ¬

_ (¬1) في الطبري 3/ 614: ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن أهل الردة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، وانظر المنتظم 4/ 194. (¬2) في (أ) و (خ): بدرجة لم يدركونها، ثم فرض للمردلاف الذين بعد القادسية ألفًا ألفًا، ثم لمن بعدهما. (¬3) في (أ) و (خ): بعدك، والمثبت من الطبري 3/ 615، والمنتظم 4/ 195.

ذكر ما فرضوا لعمر

عُدَّتنا التي أفضينا بها إلى ما ترى، فإذا كان هذا المال ثمن دين أحدكم هلكتم (¬1). قال الإِمام أحمد -رضي اللَّه عنه- في "المسند" (¬2): حدثنا عليّ بن إسحاق، حدثنا عبد اللَّه بن المبارك، أخبرنا سعيد بن يزيد قال: سمعتُ الحارث بنَ يزيد الحَضْرميّ، يحدث عن عُلَيّ ابن رباح، عن ناشرة بن سُمَيِّ اليَزَنيّ قال (¬3): سمعتُ عمر بن الخطاب يقول يوم نزل الجابية وهو يخطب الناس: إن اللَّه جعلني خازنًا لهذا المال وقاسمًا له، وإني بادئٌ بأهل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم أشرفِهم، ففرض لأزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عشرة آلاف عشرة آلاف إلَّا جُوَيرية وصَفيّة ومَيمونة، فقالت عائشة: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يعدل بيننا، فعدل بينهن عمر. ثم قال: إنِّي بادئ بأصحابي المهاجرين الأولين، فإنا أُخرجنا من ديارنا ظُلمًا وعُدوانًا، ثم أشرفِهم، ففرض لأصحاب بدر منهم خمسةَ آلاف، ولمن شهد بدرًا من الأنصار أربعةَ آلاف، ولمن شهد أُحدًا ثلاثةَ آلاف، قال ومَن أسْرع في الهجرة أسرع بالعطاء، ومَن أبطأ في الهجرة أبطأ في العطاء، فلا يَلومنَّ أحدُ إلَّا مُناخَ راحلته. ثم قال: وإني أَعتذرُ إليكم من خالد بن الوليد، إني أمرتُه أن يَحبس هذا المال على ضُعفاء المهاجرين، فأعطاه ذا العباس والشرف واللسان، فنزعتُه، وأمّرت أَبا عبيدة بن الجرَّاح، فقال له أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: واللَّه لقد نزعتَ عاملًا استعمله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وغَمدتَ سيفًا سَلّه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ووضعتَ لواءً نَصبه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقطعتَ الرَّحِم، وحسدتَ ابنَ العمّ، ولقد كنتَ عدوًّا لبني مَخزوم في الجاهلية والإِسلام، فقال له عمر رضوان اللَّه عليه: إنك قريبُ القرابة، حديثُ السّنّ، تَغضب لابن عمّك. ذكر ما فرضوا لعمر قال ابن سعدٍ بإسناده عن أيوب بن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن أَبيه قال: مكث عمر زمانًا لا يأكل من بيت المالِ شيئًا، حتى دخلت عليه في ذلك خَصاصةٌ، ¬

_ (¬1) من قوله ولما أعطى الناس على مقدار السوابق كلمة سهيل. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) برقم (15906). (¬3) في (ك): وأخرج أحمد في المسند فقال بإسناده عن ناشرة بن سمي اليزني.

فأرسل إلى الصحابة فاستشارهم وقال: قد شغلتُ نفسي بهذا الأمر، فما يصلح لي منه؟ فقال عثمان بن عفان وسعيد بن زيد: كل وأطعِمْ، فقال لعلي: ما تقول؟ فقال: غَداء وعَشاء، فأخذ بقول علي. وفي رواية ابن سعدٍ أَيضًا: أن عمر (¬1) كان يَستَنْفِقُ درهمين كلَّ يومٍ له ولعياله، وأنفق في حجّته ثمانين ومئة درهم، وقال: قد أسرفنا (¬2). ولما فتح اللَّه على المسلمين وقعة رستم (¬3)، وقدمت عليه فتوح الشام، شاور الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وقال: ماذا تَرون يحلُّ للوالي من هذا المال؟ وإني كنت امرءًا تاجرًا أُعين أهلي بتجارتي، وقد شغلتموني بأمركم، فانظروا ماذا ترون؟ فأكثر القومُ وعليٌّ رضوان اللَّه عليه ساكت، فقال: يا علي، ما تقول؟ فقال: يحلُّ لك ما أصلحك وأصلح عيالَك بالمعروف، ليس لك غيرُ ذلك، فقال القوم: القولُ ما قال علي بن أبي طالب، فرضي به. وعن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- (¬4) قال: لما ولي عمر قعد على رزق أبي بكر (¬5) الذي كانوا فرضوا له، فكان على ذلك مدّة، فاشتدت حاجتُه، فاجتمع نفرٌ من المهاجرين، منهم: عثمان وعلي وطلحة والزبير -رضي اللَّه عنهم-، فقال الزبير: لو قلنا لعمر في زيادة تزيدونه إياها في رزقه، قال علي: وَدِدنا أنه فعل بنا ذلك، فانطلقوا بنا، فقال عثمان، : إنه عمر! فهلموا لنَسبر ما عنده من وراء وراء، تعالوا ندخل على حفصة، فنكلِّمها ونَستكتمها أسماءنا، فدخلوا عليها، وسألوها أن تُخبره الخبر من غير تسميتهم، فأخبرته، فغضب وقال: مَن هؤلاء؟ فقالت لا سبيل إلى تسميتهم، فقال: لو علمتُ مَن هم لَسُؤتُ وجوهَهم، أَنْتَ بيني وبينهم، أُناشدك اللَّه، [ما أفضل] ما اقتنى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيتك من الملبَس؟ قالت ثوبَين مُمَشَّقَيْن كان يَلبَسهما للوفد، ويخطب فيهما للجُمَع والعيدين، قال: فأيّ ¬

_ (¬1) من قوله: فأرسل إلى الصحابة فاستشارهم. . . إلى هنا ليس في (خ) و (أ). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 286 - 287. (¬3) في الطبري 3/ 616، والمنتظم 4/ 196: وقتل رستم، وقد جمع المصنف بين روايتين لهذا الخبر واختصرهما. (¬4) الخبر في الطبري 3/ 616: والمنتظم 4/ 197، وتاريخ دمشق 53/ 230 (الرسالة) من رواية سالم ابن عبد اللَّه. (¬5) في (أ) و (خ): على رزق أرمل؟ ! والمثبت من الطبري والمنتظم وتاريخ دمشق.

سعد بن عبادة

الطعام [ناله عندك] كان أرفع؟ قالت: خُبزة شعير بإهالةٍ سَنِخَةٍ (¬1) يأكل منها، قال: فأيّ البِسِاط كان يُبسط له؟ قالت: كساء ثخين، كنا في الشتاء نَبسط نِصفَه تحتنا ونصفَه نَتدثَّر به. ثم ذكر عيش رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم قال: أبلغيهم ذلك، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ترك فُضول الدنيا، وسأسلك ما سلك هو وصاحبه حتى ألحقَ بهما، وإلا حدتُ عن طريقهما، فيُحال بيني وبينهما (¬2). وقالت حفصةُ: مرض عمر، فوُصف له العسلُ، وفي بيت المال عُكَّةٌ من عسل، فصعِد المنبر وقال: أيّها الناس، إني مريض، وقد وُصف لي العسلُ، وفي بيت المال عُكَّةٌ من عسل، فإن أَذنتم لي فيها، وإلا فهي حرام عليّ، وفي رواية: أذنوا له فيها (¬3). وحجَّ عمر بالناس. فصل وفيها تُوفّي سعدُ بن عُبادة ابن دُلَيم بن حارثة بن أبي حَزِيمة بن ثعلبة بن طَريف بن الخزرج بن ساعدة، وأمُّه عَمرة بنت مسعود بن قيس، خَزرجيّة، وسعد من الطبقة الأولى من الأنصار، وكنيتُه أبو ثابت، وقيل: أبو قيس، شهد العقبة مع السّبعين، وهو أحد النُّقباء الاثني عشر، وشهد المشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما خلا بدرًا، فإنه تهيَّأ للخروج إليها فنُهش، فأقام، وكان يأتي دُورَ الأنصار فيُحرِّضهم على الخروج إلى بدر، وبلغ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه نُهش, فقال: لئن كان سعد لم يشهد بدرًا لقد كان حريصًا عليها. وقال ابن سعد: كان سعدٌ سيّدًا جوادًا، يكتب بالعربية، وكانت الكتابة في العرب قليلًا، وكان يُحسن العَوْم والرَّميَ، وكان مَن أَحسن ذلك في الجاهلية يُسمّى الكامل. ¬

_ (¬1) الإهالة: اسم للشحم والودك أو ما أُذيب منه، والسَّنِخَةُ: المتغيرةُ الريح. النهاية في غريب الأثر (أهل، سنخ). وفي الطبري 3/ 617، والمنتظم 4/ 197، وتاريخ دمشق 53/ 231: خبزنا خبزة شعير، فصببنا عليها وهي حارة أسفل عُكّةٍ لنا -والعكة زق صغير للسمن- فجعلناها هشَّة دعة، فأكل منها. (¬2) من قوله: ولما فتح اللَّه على المسلمين وقعة رستم. . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬3) أخرجه ابن سعد 3/ 257، والطبري 4/ 208، وابن عساكر 53/ 257 عن ابن البراء بن معرور.

وكان سعد وعدَّة آباءٍ له في الجاهلية يُنادى على أُطُمهم: مَن أحبَّ الشَّحمَ واللحم فليأتِ أُطُم دُلَيم بن حارثة، ثم صار يُنادى على باب سعدٍ في الإِسلام كذلك (¬1). وقال ابن إسحاق والواقدي: كانت قَصعة سعدٍ تدورُ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلَّ ليلةٍ في بيوت أزواجه، وكان إذا خطب امرأة يشترط لها جفنة سعدٍ، وكانت مرَّةً بلحمٍ، ومرةً بلَبن، ومرةً بسمن يبعث بها إليه حيث كان. قال هشام: جاء سعدٌ ليلةً بجَفْنةٍ مملوءةٍ مُخًّا، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا أَبا ثابتٍ، ما هذا؟ فقال: لقد ذبحتُ أربعين ذاتِ كبدٍ، فأحببتُ أن أُشبِعَك من المخّ، فأكل ودعا له بخير. وحكى الهيثم عن ابن سيرين قال: كان أهلُ الصُّفَّة إذا أمسَوْا انطلق الرجلُ بالرجل والرجلين والخمسة، وينطلقُ سعد بثمانين رجلًا كلَّ ليلةٍ. وقد ذكرنا أنَّ سعدًا صاحبُ السقيفة، وأنَّه امتنع من بيعةِ أبي بكرٍ واعتزلهم في قومه؛ فلم يكن يحضر معهم الجماعات، ويقف بعرفة ناحيةً عنهم، فلما تُوفي أبو بكرٍ استمر على ذلك (¬2). وحكى ابن سعد عن الواقدي أن أبا بكرٍ لمّا ولي أرسل إلى سعدٍ: أن أَقبل فبايع، فقال: لا واللَّه لا أبايعُ حتى أرميكُم بما في كنانتي، وأقاتلُكم بمن تبعني من قومي وعشيرتي، فقال بشير بن سعد لأبي بكرٍ: يا خليفة رسول اللَّه، إنه قد أبي ولجَّ، وليس بمبايعكم حتى يُقتل، ولن يُقتل حتى يُقتل معه ولدُه وعشيرتُه، ولن يُقتلوا حتى يَقتلوا الأوس، فلا تُحرّكوه، فقد استقام لكم الأمرُ، وليس بضارّكم، إنه رجلٌ واحد، فاتوكوه ما ترك. فقبل أبو بكرٍ مشورة بشير، وقد ذكرنا هذا فيما تقدّم (¬3). قال الواقدي (¬4): فلما ولي عمر لَقِيَه ذات يومٍ في بعض طُرُق المدينة، فقال: إيه يَا سعد! فقال: إيه يا عمر! فقال عمر: أنت صاحب المقالة؟ قال سعد: نعم أنا ذاك، وقد ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 566. (¬2) سلف في حديث السقفة. (¬3) سلف في حديث السقيفة. (¬4) من قوله: فلما توفي أبو بكر استمر على ذلك. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

أفضى إليك هذا الأمر، كان واللَّه صاحبُك خيرًا لنا -أو أحبَّ إلينا- منك، وقد أصبحتُ كارهًا لجوارك فقال عمر: إنه من كَره جوار جاره تحوَّل عنه، فقال سعد: إني مُتحوِّلٌ إلى جوار من هو خيرٌ من جوارك، وخرج إلى الشام، فتُوفي بحَوران. وهذه رواية ابن سعد عن الواقدي (¬1). وقال أبو اليقظان؟ لما قال له عمر ذلك قال له سعدٌ: هلا تحولت أنت يا عمرُ عن منازلنا وديارنا وأوطاننا حتى ترجع من حيثُ جئتَ، فأنت أولى بذلك، ثم قال: واللَّه لا جاورتُك ولأتحوَّلَنَّ إلى جوار مَن هو خيرٌ من جوارك، وخرج سعدٌ إلى الشام معتزلًا لا يُخالطُ أحدًا من الأمراء ولا غيرهم، ولا يُقاتل معهم، ولا يشهدُ مشهدًا، حتى تُوفّي على ذلك. واختلفوا في وفاتِه، فحكى ابنُ سعدٍ، عن الواقديّ، عن يحيى بن عبد العزيزِ بن سعيد بن سعد بن عُبادة، عن أَبيه: أنه تُوفّي بحَوران من أرض الشام، لسنتين ونصف من خلافة عمر. قال: وكأنَّه مات سنة خمس عشرة (¬2)، فما عُلمَ بموته بالمدينة حتى سمع غِلمان في بئر نصف النهار يتبرَّدون في حرِّ شديدٍ قائلًا يقول من البئر: [من مجزوء الرمل] قد قتلنا سيِّدَ الخَزْ ... رَجِ سَعْدَ بنَ عُبادهْ فرَمَيْناه بسَهْمَيْـ ... ـنِ فلم نُخْطِ فؤادَهْ فذُعر الغلمان، فحُفِظ ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه سعدٌ، وإنما جلس يبول في نفقٍ، فاقتُتل من ساعته، ووجدوه قد اخضرَّ (¬3). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن محمد بن سيرين أنَّه قال: بال سعدٌ قائمًا، فلما رجع قال لأصحابه: إني لأجِدُ دَبيبًا، فمات، فسمعوا الجنَّ تقول: قتلنا سيد الخزرج، وذكر البيتين (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 569. (¬2) من قوله: وهذه رواية ابن سعد عن الواقدي. . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 570، وما بعد هذا الكلام إلى نهاية ترجمة سعد ليس في (أ) و (خ). (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 570.

وحكى البلاذريُّ في تاريخه (¬1) أن سعدًا امتنع من بيعة أبي بكرٍ، فوجَّه إليه رجلًا ليأخذ له عليه وهو بحوران، فأبى، فرماه بسهمٍ فقتله، قال: وفيه يُروى هذا الشعر الذي تنتحله الجن. قلت: وهذا وهمٌ من البلاذريِّ؛ لاتِّفاق أهل السّير على أن سعدًا ما خرج من المدينة إلا بعد موت أبي بكر. وقال أبو عبيدٍ القاسمُ: مات سعد سنةَ أربع عشرة، وقيل: سنة ست عشرة، والأول أصحّ وأثبتُ، وذكر أبو القاسم بن عساكر في تاريخه (¬2) أن سعدًا سكن دمشق. قلت: ولا يُعرفُ بحوران قبرُ سعدٍ، وإنما بغوطة دمشق بقريةٍ يُقال لها: المنيحة، فيها قبرٌ يُعرف بسعدٍ، فيحتمل أنه مات بحَوران، ثم نُقل إليها (¬3). وليس في الصحابةِ من اسمه سعد بن عبادة غير اثنين: أحدهما هذا، والثاني سعد ابن عبادة الزُّرقي، أنصاريٌّ أَيضًا (¬4). وأسند سعدُ بنُ عبادة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الحديث، فأخرج له أحمد في "المسند" سبعة أحاديث، وليس له في الصحيح شيءٌ. قال أحمد بإسناده عن قتادة قال: سمعتُ الحسن يُحدِّث عن سعد بن عبادة: أن أمَّه ماتت فقال: يا رسول اللَّه، إنَّ أمّي ماتت، فأتصدَّق عنها؟ قال: "نعم"، قال: فأيّ الصدقةِ أفضل؟ قال: "سقي الماء"، قال: فتلك سقايةُ آل سعدٍ بالمدينة. وقال أحمد بإسناده عن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه، [عن] ابن عباس، عن سعد بن عُبادة أنه أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إن أمي ماتت وعليها نَذرٌ، أفيُجزئ أن أُعتِق عنها؟ قال: أعتق عن أمك (¬5). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 16 - 17. (¬2) تاريخ دمشق 7/ 126 (مخطوط)، وما قبله منه. (¬3) انظر معجم البلدان 5/ 217، وتاريخ دمشق 7/ 111. (¬4) كذا ذكر، واسم هذا الأخير سعد بن عمارة أو عمارة بن سعد، أبو سعيد الزرقي، انظر الاستيعاب (945)، وتلقيح فهوم أهل الأثر 198، والإصابة 4/ 88. (¬5) الحديثان في المسند (23845) و (23846).

عبد الله بن الزبعرى

وقال ابن سعد بإسناده عن سُويد أبي حاتمٍ قال: سمعتُ الحسن، وسأله رجل: أشربُ من ماء هذه السِّقاية التي في المسجد فإنَّها صدقةٌ؟ فقال الحسنُ: قد شرب أبو بكر وعمرُ من سقاية أمِّ سعدٍ، فمَهْ؟ وقال ابن سعدٍ بإسناده عن ابن عباسٍ، أن سعد بن عُبادة ماتت أمّه وهو غائبٌ عنها، فسأل رسول اللَّه: أفينفعُها أن أتصدَّق عنها؟ قال: "نعم"، قال: فإنِّي أُشهِدُك أن حائطي المِخْراف صدقةٌ عنها (¬1). قلتُ: وقد ذكرنا [أن] أمَّ سعد تُوفيت وسعدٌ مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزاة دومة الجَنْدل، وكانت في شهر ربيعٍ الأول سنة خمسٍ من الهجرة، فلما قَدِم رسول اللَّه المدينة أتى قبرَها فصلَّى عليها (¬2). واسمُ أمِّ سعد عَمرة بنتُ مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة، وكانت من المبايعات، وليس في الصحابيَّات من اسمها عَمرة بنت مسعودٍ غيرها. فأما عمرة غير بنت مسعود فكثير (¬3). عبد اللَّه بن الزِّبَعْرَى ابن قيس بن عديّ بن سعد بن سهم (¬4) الهاشمي الشاعر، كان يهجو رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابَه، فلما كان يومُ الفتح هرب إلى نَجران، فكتب إليه حسان بن ثابت رحمه اللَّه: [من الكامل]: لا تَعدَمَنْ رجلًا أحلَّك بُغضُه ... نجرانَ في عَيشٍ أحذَّ لئيمِ غضب الإله على الزِّبَعْرى وابنِه ... وعذابُ سوءٍ في الحياةِ مُقيمِ (¬5) ¬

_ (¬1) الخبران في طبقات ابن سعد 3/ 568. (¬2) سلف. (¬3) انظر تلقيح فهوم أهل الأثر 339، وانظر في ترجمة سعد بن عبادة إضافة إلى ما سبق: المعارف 259، والاستيعاب (896)، والمنتظم 4/ 198، والاستبصار 93، وتهذيب الكمال (2198) وفروعه، والإصابة 2/ 30. (¬4) في (أ) و (خ): تميم، وترجمة ابن الزبعرى ليست في (ك)، والمثبت من طبقات ابن سعد 6/ 108، وطبقات فحول الشعراء 233، والأغاني 15/ 179، والاستيعاب (1378)، والمنتظم 4/ 200، والتبيين 469، والإصابة 2/ 308. (¬5) ديوان حسان 416.

ولم يَزدْ على هذا، فقدم على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأسلم وحَسُن إسلامُه، وكان من أشعر الناس، شهد ما بعد الفَتْح من المشاهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن شعره: [من الخفيف]: يَا رسولَ المليك إنّ لساني ... راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُورُ جئتَنا باليقين والصِّدقِ والبر ... ر وفي الصِّدقِ واليقين السرور أذهب اللَّه ضَلَّةَ الجهلِ عنَّا ... وأتانا الرَّخاءُ والميسورُ (¬1) وله صُحبة ورواية. * * * ¬

_ (¬1) ديوانه 36.

السنة السادسة عشرة

السنة السادسة عشرة وفيها فُتحت المدائنُ، واستولى المسلمون على مدينة كسرى وإيوانه وذخائره، وقيل: إن ذلك في سنة أربع عشرة، والأول أصحُّ، ذكره علماءُ التواريخ بأيام الفرس، وحكى أبو بكر الخطيب في تاريخه طرفًا منه (¬1)، وقالوا بأن المدائن على جانبَي دجلة شرقًا وغربًا، ودجلة بينهما، فالمدائنُ الشَّرقية تُسمّى العَتيقة، وبها إيوانُ كسرى، وهي للخواص من أصحابه وأساورته، وكان هو ينزلُ الإيوان، وهو القصر الأبيض، ويعرف بأَسْبانَبْر (¬2). واختلفوا في مَن بناه؟ فقال قوم: لا يُعلم مَن بناه، وقال قوم: بناه سابور ذو الأكتافِ. وأما المدينةُ الغربية فتُسمَّى بَهُرَسِير، وهي للتجار والعوام لا يُخالطون الأساورة. وكان على دجلة من طرفي المدينتين جِسران، فإذا جاء الليلُ قفلوا كلَّ جسر، وجعلوا عليه الحرس، فلا يصلُ إلى المدينتين أحدٌ لا من ناحية البصرة ولا من ناحية الشمال. وكان الإسكندرُ قد طاف الدنيا وبنى المدائن: سَمَرْقَنْد وهراة وما ذكرناه في ترجمته، وجاء إلى مكان المدائن فاستطابه، فبنى المدائن وسماها الرومية، وأثرُها باقٍ إلى اليوم, لأنه لما بنى الإسكندرية وجاء إلى العراق بني المدائن وشبّهها بها، ويُقال إنه تُوفي بها أو ببابل، وحمل إلى الإسكندرية، وقد ذكرناه في ترجمته (¬3). وإنما سُمِّيت المدائن لكثرة من بني بها من الملوك والأكاسرة. وقال الجوهري: المدائن: جمعُ مدينةٍ، وأصلُها من مَدن بالمكان: إذا أقام به. قال: والإيوان: الصُّفَّةُ العظيمةُ كالأَزَج، ومنه إيوان كسرى (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ بغداد 1/ 128. (¬2) في تاريخ بغداد، والمنتظم 4/ 203: وتسمى المدينة الشرقية العتيقة، وفيها القصر الأبيض القديم الذي لا يُدرى مَن بناه، ويتصل بها المدينة التي كانت الملوك تنزلها، وفيها الإيوان، وتعرف بأسبانبر. (¬3) سلف في أخبار الأمم الماضية. (¬4) الصحاح (مدن، أون)، ومن قوله: وقيل إن ذلك في سنة أربع عشرة. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

وأقام سعد -رضي اللَّه عنه- بالكوفة يَشنُّ الغارات بعد وَقعة القادسية، وله مع الفرس وقائع إلى أن دخلت هذه السنة، فكتب عمر بن الخطاب رضوان اللَّه عليه إلى سعد -رضي اللَّه عنه-: سِرْ إلى المدائن، واجعل مع نساء المسلمين وعِيالهم مَن يحرسهم من العدو، واجعل لهم نَصيبًا من المغنم، ففعل سعد -رضي اللَّه عنه- ذلك، وسار إلى بابل، فلقي جُموعًا من الفُرس فهزمهم، وكان مسيره من الكوفة في شوال، ونزل ببابل، وجاء إلى كُوثى في المكان الذي حبس فيه الخليل عليه السلام، فصلَّى فيه، وقدَّم بين يديه زَهرة بن الحويّة إلى بَهُرَسِير، فَبَيْنَا زَهرة يسير إذ لَقيه شيرزاد بالصَّلح، وكان شيرزاد نائبَ يَزدجرد فبعث به إلى سعد، وجاء سعد فنزل على بَهُرَسِير وقد خندقت الفُرس، ونصبوا المناجيق وآلة القتال (¬1). ولما سار سعدٌ من الكوفة إلى بَهُرَسير أغار ما بين الفُرات ودجلة، فأصاب مئةَ ألف دِهقان أو أَكَّار، فاستشار المسلمين فيهم فقالوا: شاوِرْ أميرَ المؤمنين، فكتب إلى عمر بسببهم فكتب إليه: إن البلاد بأهلها، وإن لم يُعينوا عليكم فدعوهم وشأنَهم، ومَن هرب منهم إلى القوس فلا عهدَ له. فأطلقهم سعدٌ، وجاء فنزل على بَهُرَسير، وقد تحصَّنت الفُرسُ منه، فنصب عليهم سعدٌ عشرين منجنيقًا والعرّاداتِ، وقاتلهم أشدَّ قتالٍ، ومنعهم الميرة، وشُغِل عنهم أهلُ المدينة الشَّرقية بما هم فيه من الخوف، حتى أكلوا لحوم الكلاب والقِطاط. وقُتل زَهرةُ بن الحَوِيَّة بعد أن قتل شيرزاد (¬2)، وقيل إنه لم يُقتل وإنما قتل شيرزاد. فبينما هم كذلك إذ بعث إليهم يَزدَجرد رسولًا، فأَشرف عليهم وقال: الملكُ يقول لكم: هل لكم في الصُّلح، على أنّ لنا ما يَلينا من دجلة إلى المشرق والجبل، ولكم ما يليكم من دجلة إلى الحجاز؟ فبدر النَّاسَ أبو مُفَزِّر الأسودُ بن قطبة، فأجابه بكلمةٍ أنطقه اللَّه بها، لم يدر ما قال ولم يفهمها النَّاسُ، فنزل الرسول إلى البلد، فقيل للأسودِ: ما قلتَ؟ فقال: واللَّه ما أدري، وإنما هي كلمات أجراها اللَّه على لساني. وشرع أهلَ بهُرَسير يَقطعون دِجلة في السفن إلى المدينةِ الشرقيةِ، واستأمن رجلٌ ¬

_ (¬1) من وقوله: وأقام سعد بالكوفة. . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) في الطبري 4/ 6، والمنتظم 4/ 204: فضرب بسيفه شهربراز من أهل إصطخر فقتله.

حديث فتح مدينة كسرى

من أهل بَهُرَسير، فخرج إلى سعدٍ فقال: ما الذي يَمنعكم من دخول بَهُرَسير؟ فواللَّه ما بقي فيها أحد، فقال له سعد: فما السببُ في كونهم هربوا؟ قال: لأن الملكَ لمَّا بعث إليكم في الصلح، أجبتموه بما أوجب ذلك، قال: فما الذي قُلنا؟ قال: قال إنسان منكم: لا صُلح بيننا وبينكم حتى نَأكلَ عسلَ أفريذين بأتْرُجِّ كُوثى، فقال الملك: إن الملائكة لتتكلَّم على ألسنتهم، فيقال إن أفريذين مدينة قاطع نهر جيحون (¬1). ثم تَسوّر المسلمون الأسوار، ونزلوا وفتحوا الأبواب، ووجدوا فيها من الأموال والذخائر والأطعمة ما لا يُحصى، وكان دُخولُهم في الليلة العاشرة من صَفَر، فلما لاح لهم أبيضُ كسرى كبَّروا وقالوا: هذا ما وعدَ اللَّه ورسولُه، وأقاموا أيّامًا من صفر لا يقدرون على العُبور إلى المدينةِ الشرقية، وكانت الفُرس قد أخذت السفن والمعابر إلى ما يليهم، فكانت من البطائح إلى تكريت. حديث فتح مدينة كسرى قال هشام: وقال سعد: مَن يَدلُّنا على مَخاضة؟ فجاء قومٌ من النَّبط فدلُّوهم على مخائض، فتوقَّف سعدٌ في ذلك ورأى الإبقاء على المسلمين، فرأى سعدٌ في المنام أنّ خُيولَ المسلمين اقتحمت دجلة وعَبرتْ، فأصبح عازمًا على العُبور، فقال للناس: رأيتُ كذا وكذا وإني عازِمٌ على قطع هذا البحر، وجاءه علجٌ فقال: إنْ أقمتَ ثلاثًا ذهب يَزْدَجِرْدُ بكلِّ شيء في المدائن، فقوي عزمُه على العبور، وأصبح المدُّ في دجلة زائدًا على الحدِّ، فقال سعد: مَن يتقدَّم فيَحمي لنا الفِراضَ حتى يَتلاحقَ به النَّاسُ؛ لئلا يَمنعوهم من الخروج؟ فقال عاصم بن عمرو: أنا، وخاضَ أوَّلَ الناسِ، وانتدب معه ستّ مئةٍ من أهل النَّجدات، فجاؤوا إلى الفِراضِ، وعليها جماعة من الفُرس فقتلوهم وانهزم الباقون، فحينئذٍ قال سعد للناس: اقتحموا، فقدَّموا الرِّماك (¬2)، ثم الفُحول بعدها، فيقال إن الخيل أحجَمت، فصاح سعد: إنْ كُنتِ خيلَ اللَّه فاعبُري، وإن كنتِ خيلَ سعد فلا تَعبُري، فاقتحمت الماء وإن دجلة ليَقذف بالزَّبَد من شِدَّة الزيادة، وجعل ¬

_ (¬1) قوله: فيقال إن أفريدين مدينة قاطع نهر جيحون، ليس في (أ) و (خ)، ولم نتبينه. (¬2) جمع رَمَكة، وهي أنثى البراذين.

الناسُ يُحادث بعضُهم بعضًا كما يتحدَّثون على الطُّرق، وكان الفرسُ يَعوم براكبه، فربَّما لم يَبلغ الماءُ إلى الحزام، وربما أعيا الفرسُ فتَظهر له تَلْعَةٌ يَستريحُ إليها، وكان سلمان يسايرُ سعدًا ويتحادثان، وسعدٌ يقول: حسبُنا اللَّه ونعم الوكيل، حتى خرجوا ولم يفقدوا شيئًا، إلَّا قَدَحًا من خشب، فأخذه رجلٌ فجاء به إلى العسكرِ، فعرفه صاحبُه فأخذه. فلما رأت الفُرس ذلك قالوا: إنما نُقاتل الإنس لا الشياطين والجن، فهربوا وتركوا جمهور أموالهم، وكان يوم عبورهم يُدعى يوم الجراثيم، ومعناه: أنه لا يَعيا أحدٌ من المسلمين إلَّا ظهرت له جُرثومةٌ يستريح عليها. والجرثومةُ: الأصلُ، كان يَظهر لهم في دجلة جراثيم، وهي الرمل يجتمع في أماكن مثل الجزيرة. ورأى عظماءُ الفرس أمرًا عظيمًا لم يكن في حسابهم، فأعجلوهم عن أموالِهم، فدخلوا القصرَ الأبيض فتحصَّنوا به، وطلبوا الأمانَ على نُفوسهم، فأمَّنوهم، وهرب يزْدَجِرْد بعياله إلى حُلْوان، وترك أموالَه وذخائرَه، ولم يَحمل إلا شيئًا يسيرًا، واستولى المسلمون على الباقي. ونزل سعد القصرَ الأبيض واتَّخذه مُصلَّى، وقرأ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 25] ولم يغيِّر سعدٌ ما كان في الإيوان من التماثيل، وصلى فيه الجمعة في أول ربيع الأوَّل، وهي أوَّل جُمعةٍ جُمِعت بالعراق في سنة ست عشرة. وأتمَّ سعد الصلاة لأنه كان على نيّة الإقامة. وقال الخطيب: ولما دخل عليٌّ عليه السلام الإيوان في مسيره إلى صِفّين أمر بالتماثيل فقُطعت رؤوسُها ثم صلَّى فيه (¬1). وقال الخطيب: ولما بنى المنصورُ بغداد عزم على نقض الإيوان ليستعين في بنائها، ثم انصرف عن ذلك (¬2). وسنذكر القصة في سنة خمسٍ وأربعين ومئة عند بناء بغداد. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 3، والمنتظم 4/ 207. (¬2) تاريخ بغداد 1/ 130.

ذكر ما وجد في بيوت أموال كسرى

قال الخطيب في إسناده عن أبي بكر (¬1) بن عيّاش (¬2) قال: لما خرج عليٌّ عليه السلام إلى صفين؛ مرَّ بخراب المدائن، فتَمثَّل رجلٌ من أصحابه فقال: جَرت الرِّياحُ على مَحلِّ ديارهم ... فكأنَّهم كانوا على مِيعادِ فإذا النَّعيمُ وكلُّ ما يُلهى به ... يومًا يصيرُ إلى بِلى ونَفاد من أبيات، فقال علي: لا تَقلْ هكذا ولكن قُل {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)} إلى قوله: {قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28] إن هؤلاء كانوا وارِثين فأصبحوا مَوروثين، وإنهم استحلُّوا الحرم، فحَلَّت بهم النِّقم، ولا تكونوا أمثالَهم (¬3). ذكر ما وُجد في بيوت أموال كسرى وُجد ثلاثةُ آلاف ألفِ ألفِ دينار -ثلاث مرات- ومن الجواهر والتُّحفِ والألطاف (¬4) والأمتعة أكثر من قيمة ذلك، وأما من الأسلحة والبقر والغنم والأطعمة وما أعدُّوا للحصار فشيءٌ لا يحصى. وروى سيف بن عمر، عن الأعمش، عن حبيب بن صُهبان قال: دخلْنا المدائن، فأتينا على قِبابٍ تُركيّة مملوءةٍ سلالًا مختومة بالرّصاص، فما حسبناها إلا طعامًا، فإذا آنيةُ الذّهب والفضّة، فقسمت بعدُ بين الناس، فلقد رأيتُ الرَّجل يطوف ويقول: مَن معه بيضاء بصفراء؟ وأَتينا على كافورٍ كثيرِ، فما حَسِبناه إلا مِلحًا، فجعلنا نَعجِنُ به حتى وجدنا مرارتَه في الخُبز (¬5). ذكر بساط الإيوان (¬6) قال سيف: ووجدوا بساط الإيوان، وكان ستين ذراعًا في مثلها، فيه طرقٌ كالأنهار، وقصورٌ كالدُّرِّ، ووسطه كالأرض المزروعة مثل زهر الرَّبيع، ويُقال له: ¬

_ (¬1) من قوله: وقال الخطيب ولما دخل علي. . . إلى هنا يشير في (خ) و (أ). (¬2) في (أ) و (خ): عن ابن عباس، وهو خطأ. (¬3) تاريخ بغداد 1/ 132 - 133، والبيتان للأسود بن يعفر في المفضليات 217. (¬4) في (أ) و (خ): واللطائف. (¬5) تاريخ الطبري 4/ 17، والمنتظم 4/ 208. (¬6) هذا العنوان ليس في (أ) و (خ).

ذكر ستر الإيوان

البَهار، وكانوا يُعِدُّونه للشتاء، إذا ذهبت الرياحينُ والأزهار فرشوه وجلسوا عليه للشُّرب، فكأنهم في البساتين والرِّياض، وقيل: إن العرب كانت تسمّيه القِطف، وكان مُوشّى بأنواع الجواهر والفُصوص، ولونه مثلُ الذهب (¬1). ذكر ستر الإيوان قال هشام: كان طولُه خمسَ مئة ذِراعٍ في مثلها، فيه من الجواهر واليواقيت ما لا يُحدُّ ولا يُقَوَّمُ. وذكر الخطيب في تاريخه عن أبي العباس المبرّد أن ستر الإيوان أحرقه المسلمون لما فتحوا المدائن، فوجدوا فيه أو أخرجوا منه ألفَ ألفِ مثقال ذهبًا، فبيع المثقالُ بعشرة دراهم، فبلغ ذلك عشرة آلاف ألفِ دِرهم (¬2). قال سيف: وتبعهم زهرة بن الحَويّة إلى جسر النَّهروان، فازدحموا عليه، فوقع بَغْل في الماء، فتكالبوا عليه، فقال زهرة: إن لهذا البغل شأنًا، فتكاثروا عليه وأخذوه، وإذا عليه حِليةُ كسرى، ووشاحُه وسلاحُه ودِرعه، فبعثوا به إلى عمر (¬3). ذكر قسم الغنائم قال علماء السير: كانوا ستين ألفًا، فقسم سعدٌ بينهم الغنائم، فأصاب الفارس اثني عشر ألفًا بعد الخُمس، وقسم دور المدائن بين الناس، وبعث إلى العيال فأنزلَهم إياها. قال سيف: وجمع سعد الخُمس، وأدخل فيه كلَّ شيء أراد أن يَعجب به عمر، من ثياب كسرى وحليته وسيفه ونحوه، وأحضر بِساطَ كسرى فلم يُقَوَّم، فقال للناس: هل لكم أن تطيبَ نُفوسُنا عن أربعةِ أخماسه، ونبعثه إلى عمر فيَضعه حيث يرى؟ قالوا: نعم، فبعث به إليه، فلما قدم على عمر هاله وقال: أشيروا عليَّ فيه، فقالوا: قد طابت نُفوسُ المسلمين لك به، فَرَ رأيَك فيه، إلا ما كان من علي فإنه قال: يا أمير المؤمنين، ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 22، والمنتظم 4/ 210. (¬2) أخرجه الخطيب 1/ 131 وعنه ابن الجوزي في المنتظم 4/ 210 من رواية المبرد عن القاسم بن سهل النوشجاني. (¬3) تاريخ الطبري 4/ 17، والمنتظم 4/ 207.

الأمرُ على ما قالوا, ولم يبق إلا التَّروية، إنك إنْ تَقبلْه اليوم لم تَعدَم في غدٍ من يستحقُّ به ما ليس له، فقال: صدقتَني، فقطعه بينهم. وروى سيف عن عبد الملك بن عمير قال: لما قَدم البساطُ على عمر جمع الناسَ واستشارهم فيه، فمن مُشيرٍ بقَبْضه، وآخر مفوّض إليه (¬1)، فقام علي عليه السلام فقال: لِمَ تجعلُ علمَك جَهلًا، ويقينَك شكًّا! إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيتَ فأَمضيتَ، أو لبستَ فأبليت، أو أكلتَ فأفنيت، فقال: صدقتَني، فقطعه وقسمه بين الناس، فأصاب عليًا قطعةٌ، فباعها بعشرين ألفًا، وما هي بأجود تلك القِطع. وقال سيف: قال سعد للمسلمين: خُصُّوا أمير المؤمنين بحلية كسرى، فبعثوا بها إلى عمر، ومعها سَفَطٌ فيه جواهر ليس لها قيمة، فلما رآها عمر عجب وقال: إنَّ قومًا أدوا إلينا هذا لذَوو أمانةٍ، فقال له علي: عَفَفْتَ فعفَّت رعيَّتُك (¬2). قال: ولما حضرت حِليةُ كسرى بين يديه قال عمر لمُحَلِّم، وكان أجسمَ أهل المدينة: قم فالبس ثيابَ كسرى وتاجَه، ففعل، فرأى الناسُ أمرًا عظيمًا، فقال له: اخطر، فخَطَر في ثيابِ كسرى، فقال له عمر: إيه، أعرابيٌّ يَلبَس ثيابَ كسرى وسلاحه! انزع لا أمَّ لك، فنزعها، ويقال: إن عمر أعاد الجميع إلى سعد وقال: لم أشهد معكم فكيف آخذُه. وذكر الخطيب عن السائب بن الأقرع: أنه كان جالسًا في إيوان كسرى، فنظر إلى تمثالٍ يُشير بأصبعه إلى موضع، قال: فوَقع في روعي أنه يشير إلى كنزٍ، فاحتَفرتُ ذلك الموضع، فاستخرجتُ كنزًا عظيمًا، فكتبتُ إلى عمر أقول: هذا شيءٌ أفاءه اللَّه عليَّ دون الناس، فكتب إليَّ عمر: إنك أميرٌ من أُمراء المسلمين، فاقسمه بينهم (¬3). وحكى سيف عن عِصمة بن الحارث الضبِّي قال: خرجتُ فيمن خرج من المدائن نطلب الفُرسَ، فإذا حمَّارٌ معه حِمار، فلما رآني حثَّه حتى لحق بآخر قُدّامه فحثا حمارَيهما، فانتهيا إلى جدولٍ قد كُسر جسرُه، فأتيتُهما، فقتلتُ واحدًا منهما وأفلت ¬

_ (¬1) من قوله: إلا ما كان من علي. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) الأخبار الثلاثة في تاريخ الطبري 4/ 20 - 23، والمنتظم 4/ 207 - 210. (¬3) تاريخ بغداد 1/ 203، والمنتظم 4/ 211.

وقعة جلولاء

الآخرُ، فرجعتُ إلى الحمارين، فأتيتُ بِهما صاحب الأَقباض، فنظر فيما على أحدهما، فإذا سَفطان في أحدهما فرسٌ من ذهبٍ مُسْرَجٌ بسرج من فضَّة، على ثَفَره ولَبَبِه الياقوتُ والزمرُّد، وعليه فارسٌ من فضَّةٍ مكلَّل بالجواهر، وإذا في الآخر ناقةٌ من فضَّة، عليها رجلٌ من ذهبٍ، مكلَّلٌ بالجواهر، كان كسرى يَضعُهما على إسطوانتي التاج الذي على رأسه. وقال سيف، عن هبيرة بن الأشعث، عن أبي عُبيدة العَنْبَريّ قال: لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض، أقبل رجلٌ بحُقّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقالوا: ما رأينا مثل هذا قط، هل أخذتَ منه شيئًا؟ فقال: أما واللَّه لولا اللَّه ما أتيتُكم به، فقالوا: مَن أَنْتَ؟ فقال: واللَّه ما أنا بمُخبِركم لتَحمَدوني، ولكن أرضى بثواب اللَّه، فأَتْبعوه رجلًا ليعرفه، فإذا هو عامر بن عبد قيس. وقال سيف عن مُبشِّر بن الفُضَيل، عن جابر بن عبد اللَّه قال: واللَّه الذي لا إله إلا هو، ما اطَّلعنا على أحدٍ من أهل القادسية يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتَّهمْنا ثلاثةَ نفرٍ: طُلَيحة بن خُوَيْلد، وعمرو بن معدي كرب، وقيس بن المكشوح، فإذا هم على خلاف ما ظننا من الأمانة والزُّهد (¬1). وقعة جَلُولاء (¬2) قال علماء السير: لما نزل سعد القصرَ الأبيض، واستوطن المسلمون المدائنَ، وبعث إلى عمر بالأخماس، بلغه أنَّ مِهْرانَ الرازيَّ -وكان من عُظماء الفرس- قد عسكر بجلُولاء وخندق، وأنَّ أهلَ الموصل قد عسكروا بتكريت، وحشد يَزدجرد الأعاجمَ عند مهران، وأقام هو بحُلوان، كتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه: أن سَرِّح هاشمَ بنَ عتبة، فسرَّحه في اثنيْ عشرَ ألفًا، وكان القعقاعُ بنُ عمرو على مُقدِّمته، وعلى ميمنته سِعْر (¬3) بن مالك، وعلى الميسرة أخوه عمرو بن مالك، وعلى ساقتِه عمرو بن مُرَّة الجُهنيّ. ¬

_ (¬1) الأخبار الثلاثة في تاريخ الطبري 4/ 18 - 20، والمنتظم 4/ 208 - 209. (¬2) في هامش (خ) حاشية نصها: جلولاء قرية بفارس. (¬3) في النسخ والمنتظم 4/ 213: سعد، والمثبت من الطبري 4/ 24، والمؤتلف للدارقطني 1180، والإكمال 4/ 298 - 299.

فصل في ذكر غنائم جلولاء

وكانت الفُرسُ لما هربوا من المدائن ووصلوا إلى جَلُولاء قال بعضهم لبعضٍ: إنِ افترقتُم بعدها لم تجتمعوا أبدًا، فاثبتوا على قتالهم، فإن كانت لنا فهو الذي نُريد، وإن كانت علينا كنّا قد قضينا ما علينا، فاجتمعوا وخندقوا عليهم، ويزدجرد مقيمٌ بحُلْوان يُمدُّهم بالأموال والرجال. وجاءهم هاشمٌ في وجوه المهاجرين والأنصار، وسادات العرب وأشرافهم، وخرج إليهم مهران، واقتتلوا قتالًا عظيمًا، وأرسل اللَّه عليهم ريحًا سوداء أظلمت الدنيا، فتهافتوا في الخندق، وقُتل منهم يومئذٍ مئةُ ألفٍ، فجَلَّلَتِ القتلى الأرضَ والمحال والطرق، فسُمِّيت جَلُولاء لما جلَّلها من قتلاهم، وهربوا إلى حُلوان، فأدرك القعقاع مِهرانَ بخانقين فقتله، وبلغتِ الهزيمةَ يزدجرد فسار من حلوان نحو الجبل. وأصاب خارجةُ بن الصَّلتِ يومئذ ناقةً من ذَهبٍ، عليها رجلٌ من ذهبٍ مُرَصَّع بالدرِّ والياقوت، فدفَعها إلى هاشم بن عُتبة، فبعث بها إلى سعد، وكان الهرمزانُ مع مهران، فقُتل مهران ونجا الهرمزان. فصل في ذكر غنائم جَلُولاء قال علماء السير: اقتسموا غنائمَ جَلُولاء على كل فارسٍ سبعة آلاف وتسعة من الدواب. وحكى سيف عن الشعبيّ قال: اقتسم النَّاسُ فَيء جَلُولاء على ثلاثين ألف ألف، فكان الخُمْس ستةَ آلاف ألف. قال سيف: فلما قدِموا به على عمر قال: واللَّه لا يُجِنُّه سقفُ بيتٍ حتى أقسمَه، فبات عبدُ الرحمن بن عوف وعبد اللَّه بن أرقم في المسجد يَحرُسانه، فلما أصبح عمرُ جاء فكشف عنه الأَنْطاع، فلما نظر إلى ياقوتِه وجوهرِه ولُؤلؤِه وزبرجده بكى، فقال له ابن عوفٍ: ما يُبكيك يَا أمير المؤمنين؟ واللَّه إنه لمَوطنُ شكرٍ، فقال عمر: واللَّه ما ذاك يُبكيني، وواللَّه ما أعطى اللَّه هذا قومًا إلا تحاسدوا وتباغضوا، وما تحاسدوا إلا أُلْقِي بأسُهم بينهم، ثم قسمه بين الناس (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 4/ 29 - 30، والمنتظم 4/ 213 - 214.

وقعة حلوان

وكان عبد اللَّه بن عمر حاضرًا وقعة جَلُولاء، فاشترى من الغنائم بأربعين ألفًا، فدعا عمر التُّجار فباعهم ذلك بأربع مئة ألف، فأعطى ابنه عبدَ اللَّه ثمانين ألفًا، وقال: هذا ربحٌ كثير، وبعث بالباقي إلى سعدٍ فقال: اقسمه فيمن شهد الوقعة، ومَن كان قد مات فادفعه إلى وارثه، وقال لابنِه: يا عبد اللَّه، لو أُمر بي إلى النّار أكنتَ تَفديني؟ قال: نعم، قال: هو ذاك (¬1). قال هشام: وكان في سَبْي جَلُولاء أمهاتُ أولادٍ، منهنَّ (¬2) أم عامر الشّعبي، وقعت إلى رجلٍ من بني عبس، فولدت منه ثم مات، فخلف عليها شراحيل، فأولدها الشعبي. وكان بين وقعة جَلُولاء والمدائن تسعةُ أشهر؛ لأنها كانت في ذي القعدة. وقيل: كانت في سنة سبع عشرة، والأوّل أصحُّ (¬3). وقعة حُلْوان حكى سيف بن عمر، عن محمد وطلحة والمهلَّب وعمرو وسعيد قالوا: كان عمر قد كتب إلى سعد: إنْ فتح اللَّهُ عليكم جَلُولاء فسَرِّح القعقاع بنَ عمرو في آثار القوم، حتى ينزلَ حُلوانَ، فيكون رِدْءًا للمسلمين، ويُحْرِزَ اللَّه لكم سوادَكم، فلما فُتِحت جَلُولاء أقام بها هاشمُ بن عتبة، وسار القعقاعُ في آثارهم، فقتل مهران، وأفلت الهرمزان (¬4)، وسبق وغنم، وسار يزدجرد إلى الرَّي والجبال، وخَلَّف بحُلْوان خيلًا عليها خسروشنوم، فخرج إلى القعقاع، فاقتتلوا، فقُتل خسروشنوم، وأقام القعقاعُ بحُلوان إلى أن عاد سعد إلى الكوفة، فلَحق به. وقعة تكريت قد ذكرنا أنَّ أهل الموصل اجتمعوا بها وخندقوا، وانضافت إليهم تغلبُ وإيادُ والنَّمرُ والشهارجة والقبائل، فأرسل إليهم سعدٌ عبدَ اللَّه بن المعتِّم، فحاصرهم، وكانوا ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 214. (¬2) في النسخ: منهم. (¬3) من قوله: وقعت إلى رجل. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬4) في الطبري 4/ 34، والمنتظم 4/ 215: الفيرزان.

قصة قرقيساء

جميعًا بتكريت (¬1). ورأتِ الرومُ الغلبة من جانب المسلمين، فعزموا على الهربِ، وعلمت القبائلُ فأرسلت إلى عبد اللَّه يسألونَه الصُّلْحَ على الروم فقال: حتى تُسلموا فأسلموا، فقال لهم: إذا سمعتُم التكبير فافتحوا الأبوابَ ففعلوا، ودخل وقتل الروم. قصة قَرقيساء كان بها جُموعٌ من الروم، فبعث إليها سعد عمر بنَ مالك بن عُتْبة بن نوفل بن عبد مناف، فاجتاز بهيت فافتتحها عَنوةً، ثم افتتح قَرْقيسياء عَنْوةً، وحجّ بالناس عمر. فصل وفيها توفي سعد بن عُبيد بن النعمان ويقال له: سعد القاري، وكُنيتُه أبو زيدٍ الأنصاري، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وهو ممَّن جمع القُرآن على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قول الكوفيين. وقد حكاه ابن سعد (¬2). شهد بدرًا وأُحدًا والخندقَ والمشاهد كلَّها مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس في الصحابة من يقال له سعدٌ القاري غيره (¬3). وكان حاضرًا جسر أبي عُبيد (¬4)، فكان من جملةِ المنهزمين إلى المدينة، فعاتبه عمر. قال ابن سعدٍ بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال عمر بن الخطاب لسعدٍ بن عُبيد لمّا انهزم يوم الجِسر (¬5): هل لك في الشام لعلَّك أن تَغسل عنك الهُنَيهة؟ قال: لا، بل الأرض التي فَررْتُ منها، والعدوُّ الذي هربتُ منه، أو الذي صنع بي ما صنع أولى، فخرج إلى العراق فاستُشهد وهو ابن أربعٍ وستين سنةً. ويقال: إنه استُشهد في القادسية، فحكى ابن سعدٍ عن ابن أبي ليلى قال: خطب ¬

_ (¬1) من قوله: فأرسل إليهم سعد. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 423 - 424. (¬3) انظر تلقيح فهوم أهل الأثر 198. (¬4) من قوله: وليس في الصحابة. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬5) من قوله: قال ابن سعد بإسناده. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ)، جاء بدله: فعاتبه عمر فقال له.

أم سليم بنت ملحان

سعدٌ يوم القادسية فقال: إنا ملاقو العدوِّ غدًا ومستشهدون، فلا تَغسلوا عنا دمًا ولا نكفن إلا في ثوبٍ كان علينا، فاستُشهد (¬1). وولدُه عُميرُ بن سعد صاحبُ عمر بن الخطاب، ولاه بعضَ بلاد الشام، وسنذكرُه. ولسعدٍ صحبةٌ وليس له رواية (¬2). وفيها تُوفيت أُمُّ سُلَيم بنت مِلْحان ابن خالد بن زيد بن حَرَام الأنصاريّةُ، وهي أمُّ أنس بن مالك. واختلفوا في اسمها على أقوالٍ: أحدُها سَهْلةٌ، والثاني رُمَيْلةُ، والثالث رُمَيْثة، والرابع أُنَيفة، حكاها ابن سعد (¬3). وأمُّها مُلَيْكةُ بنت مالك بن عدي، من بني النجّارِ، وأُمُّ سُليم أمُّ أنس بن مالك، قال: ويُقال: هي الغُمَيْصاء والرُّمَيْصاء. وهذه أُمُّ سُليم (¬4) تزوَّجها في الجاهليةِ مالكُ بن النَّضْر، فولدت له أنس بن مالكٍ، فقُتِل عنها مُشركًا، فخطبها أبو طلحة وكانت قد أسلمتْ، فقالت له: أنت مُشركٌ، فإن أسلمت فنعم. وقد ذكر القصةَ ابنُ سعدٍ بإسناده عن إسحاق بن عبد اللَّه، عن جدَّتِه أُمِّ سُليم أنها قالت: آمنتُ برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قالت: فجاء أبو أنس وكان غائبًا، فقال: أصبَوْتِ؟ قالت: ما صَبَوْتُ، ولكني آمنتُ بهذا الرجل، قال: فجعلت تُلقَنُ أنسًا وتشيرُ إليه: قل لا إله إلَّا اللَّه، قل: أشهدُ أن محمدًا رسول اللَّه، ففعل، قال: يقول لها أبوه: لا تُفْسدي على ابني دينهُ، ولا تُفسدي عليَّ ابني، فتقول: إنِّي لا أُفْسِدُه. قال: فخرج مالك أبو أنسٍ، فلَقِيه عدوٌّ فقتله، فلما بلغها قَتْلُه قالت: لا جَرَمَ، لا ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 424. (¬2) انظر ترجمة سعد في الاستيعاب (897)، والاستبصار 280، والإصابة 2/ 31. (¬3) في طبقات 10/ 395. (¬4) من قوله: واختلفوا في اسمها. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

أفطم أنسًا حتى يَبلغ الثدي حُبًّا (¬1)، ولا أتزوَّجُ حتى يَأمُرني أنس (¬2)، فخطبها أبو طلحة وهو مشرك، فأبت وقالت: أرأيتَ حجرًا تعبدُه لا يضرُّكَ ولا ينفَعُك، أو خشبةً تأتي بها النجَّار فيَنجُرُها لك، هل تضرك أو تنفعك؟ قال: فوقع في قلبه ما قالت، فأتاها وقال: لقد وقع في قلبي ما قُلتِ، وآمن، قالت: فإنِّي أتزوَّجُك، ولا آخذُ منك صَداقًا غير الإِسلام، فكان صَدَاقها الإِسلام. وقد رواه أبو نُعيم، وفيه: فقالت لابنها أنس: يا أنسُ، زوِّج أَبا طلحة فقد أسلم وذلك صَداقي، قال ثابت: فما سمعنا بمَهرٍ كان أكرمَ من مَهرِ أُمِّ سُليم، الإِسلام (¬3). وقال ابن سعد: لا أتزوَّجُ حتى يَبلُغَ أنسٌ، ويجلسَ في المجالس، ويقول: جزى اللَّه أُمي عني خيرًا، لقد أحسنتْ وِلايتي، فقال لها أبو طلحة: فقد جلس أنسٌ في المجالس وتكلَّم (¬4). وقال ثابت: فتزوَّجها أبو طلحة، فوَلدت له عبد اللَّه وأبا عُمير. وقال ابن سعد (¬5): شهدت حُنينًا وهي حاملٌ بعبد اللَّه بن أبي طلحة، وشهدت أُحدًا قبل ذلك، فكانت تَسقي العَطشى، وتُداوي الجَرحى، وبيدها يوم أُحدٍ خَنْجر، وكذا يوم حنين. وكان يدخل عليها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويَقيلُ عندها. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن إسحاق بن عبد اللَّه، عن أنس بن مالك قال: لم يكن رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدخلُ بيتًا بالمدينة غير بيتِ أُمّ سُليم، إلَّا على أزواجه، فقيل له، فقال: "أَرحَمُها، قُتل أخوها معي". وقد أخرجاه في الصّحيحين (¬6). وقيل: لأنها كانت خالتُه من الرَّضاع، وكان يدخلُ أيضًا على أُختها أُمِّ مِلحان. ¬

_ (¬1) كذا في (ك)، وليس في (أ) و (خ)، وفي طبقات ابن سعد 10/ 396، والسير 2/ 305: حتى يدع الثدي حبًّا. (¬2) من قوله: فخطبها أبو طلحة. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬3) حلية الأولياء 2/ 60، وثابت هو راوي الحديث عن أنس -رضي اللَّه عنه-. (¬4) طبقات ابن سعد 10/ 396. (¬5) من قوله: وقد رواه أبو نعيم. . إلى هنا ليس في (أ) و (خ)، والخبر في الطبقات 10/ 397. (¬6) طبقات ابن سعد 10/ 398، وصحيح البخاري (2844)، وصحيح مسلم (2455).

وقد ذكرنا في السيرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَقيل في بيتها، فكانت تَبسطُ له نِطْعًا، فيَعرقُ فتأخذُ عَرَقه، فتجعله في الطِّيب (¬1). وقد أخرجه ابنُ سعد أيضًا، فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهي تَمسحُ العرقَ: ما تَصنعين يَا أُمَّ سُليم؟ فقالت: آخذُ هذا للبركة التي تخرجُ منك (¬2). وهي التي كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُداعب وَلَدها فيقول: "أَبا عُمير، ما فعل النُّغَيْرُ؟ ". وقال أحمد: حدثنا هُشَيم، عن حُمَيد، عن أنسٍ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دخلتُ الجنَّةَ، فسمعتُ خَشْفة بين يديّ، فإذا هي الغُمَيْصاء بنت مِلْحان" أُمُّ أنس (¬3)، والخَشفة: الحركةُ، وقيل: الصوتُ. وقال البخاري بإسناده عن أنس بن مالك قال: اشتكى ابنٌ لأبي طلحة من أُمِّ سُلَيْم، وخرج أبو طلحة، وقُبِضَ الصبيّ، فلما رجع أبو طلحة قال: كيف ابني؟ فقالت: هو أسكَنُ مما كان، وقرَّبتْ إليه العَشاء فتَعشَّى، وأصاب منها، فقالت: وارِ الصبيَّ، فأخبر أبو طلحة رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أَعْرستُما الليلة؟ " فقال: نعم، قال: "اللهمَّ بارك لهما في ليلتهما"، فوَلَدت غُلامًا، فحمله إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخذ تَمراتٍ فمضغها، ثم جعلها في فَم الصبي، وحنكه، وسمّاه عبد اللَّه. أخرجاه في الصحيحين (¬4). وأخرجه أحمد في "المسند" عن أنسٍ وفيه: مات ابنٌ لأبي طلحةَ، فقالت أُمُّ سليم: لا تُحدِّثوا أَبا طلحة حتى أكون أنا أُحدِّثُه، ثم قامت فتصنَّعت أحسن ما كانت تصنَّع قبل ذلك. وقَرَّبت إليه عَشاءً، فأكل وأصابَ منها، فقالت له: أرأيتَ لو أنَّ قومًا أعاروا أهلَ بيتٍ عارِيَّةً ثم طلبوها منهم، أكان لهم أن يَمنعوهم منها؟ قال: لا -وفي روايةٍ: ألا أُعجبك من جيراننا؟ قال: وما لهم؟ قالت: أُعيروا عارِّيةً، فلما طُلِبت منهم جَزعوا، فقال: بئس ما صنعوا- قالت: فاحتسب ابنَك فهو العارِّيةُ، وفيه: أن رسول ¬

_ (¬1) سلف في السيرة. (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 398، وما بعده منه. (¬3) مسند أحمد (11955). وأخرجه مسلم (2456). (¬4) صحيح البخاري (5470)، وصحيح مسلم (2144).

مارية القبطية

اللَّه لما حنَّكَ الغُلامَ جعل يَتلَمَّظُ، فقال رسول اللَّه: "إنَّ الأنصارَ يُحبّون التمر" (¬1). وقد أخرجه ابنُ سعدٍ برواياتٍ كثيرةٍ، وقال أنس: لما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهمَّ بارك لهما في ليلتهما" فلقد رأيتُ لهم في المسجد سبعةً يقرؤون القرآن (¬2). وقيل: إنَّ الولد الذي مات لأبي طلحة اسمُه حفص، وكان قد تَرَعْرَع. وروت أُمُّ سُليم عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الحديث، فقال ابن سعدٍ بإسناده عن حسين بن أبي سفيان، عن أنس بن مالك (¬3) قال: زار رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّ سليم، فصلَّى في بيتها صلاةً تطوُّعًا، فقال: "يَا أُمَّ سليمٍ، إذا صلَّيْتِ المكتوبةَ فقولي: سبحانَ اللَّه عشرًا، والحمد للَّه عشرًا، واللَّه أكبر عشرًا، ثم سلي اللَّه ما شئتِ، فإنَّه يُقال لك: نعم نعم نعم" (¬4). وأُمُّ سُليم هي اختُ أمِّ حَرام بنت مِلْحان، وسنذكرُها في سنةِ ثمانٍ وعشرين. وفي الصحابيات جماعةٌ يُقال لكلِّ واحدةٍ منهن أُمَّ سليم، إحداهُنَّ هذه (¬5). فصل وفيها توفّيت (¬6) مارِيَة القِبطية أُمُّ إبراهيم ابن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقد ذكرنا أخبارها فيما تقدَّم (¬7). ولما مات رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أبو بكرٍ يُنْفِقُ عليها، وكذا عمر إلى حين ما فَرض لها، وكانت وفاتُها في المُحرَّم، وصلَّى عليها عمر، ودفنها في البقيعِ. وذكرها ابن سعدٍ (¬8) عن الواقدي فقال: بعث بها المُقَوْقِسُ صاحب الإسكندرية ¬

_ (¬1) مسند أحمد (12028). (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 401 - 404. (¬3) من قوله وقال ابن سعد بإسناده عن إسحاق بن عبد اللَّه. . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬4) طبقات ابن سعد 10/ 397. (¬5) انظر في ترجمة أم سليم الاستيعاب (3521)، والاستبصار 36، والمنتظم 4/ 216، وتهذيب الكمال (8578) وفروعه، والإصابة 4/ 361. (¬6) من قوله: وأم سليم هي أخت أم حرام. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬7) سلف في السيرة. (¬8) من هنا إلى نهاية السنة ليس في (أ) و (خ).

إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في سنة سبعٍ من الهجرة، وبأُختها سيرين، وبألف مثقال ذَهبٍ، وبالدُّلْدُلِ واليعفور (¬1) وعشرين ثوبًا ليّنًا. وذكر ما ذكرناه فيما تقدَّم، وحديث الخصيّ (¬2). قال: وقال الواقدي: كانت مارية من حَفْن، من كُورة أَنْصِنا، وقيل: هي بنتُ ملك مصر. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن ابن كعب بن مالك قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "استوصوا بالقِبطِ خيرًا، فإن لهم ذِمَّة ورحمًا". قال: ورَحمهم أن أم إسماعيل بن إبراهيم [منهم]، وأمُّ إبراهيم ابن رسول اللَّه منهم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 10/ 201: وبغلته الدلدل، وحماره عفير، ويقال يعفور. (¬2) سلف في السيرة. (¬3) طبقات ابن سعد 10/ 203، وانظر في ترجمة مارية المعارف 143، والاستيعاب (3464)، والمنتظم 4/ 218، والتبيين 86، والإصابة 4/ 404 - 405.

السنة السابعة عشرة من الهجرة

السنة السابعة عشرة من الهجرة وفيها عاد سعدُ بن أبي وقاصٍ من المدائن إلى الكوفة، وتمَّم خِططها. قال هشام بن الكلبي: لما نزلوا المدائنَ استَوخموها، فاصفرَّت ألوانُهم، وعَظمت بطونُهم، وقدم جماعةٌ منهم على عمر فأنكرهم وقال: ما هذا؟ وكان فيهم عبد اللَّه بن المعتَمّ، فقال: يا أمير المؤمنين، وباءُ البلاد ووَخَمُها. قال سيف: فعجَّل عمر سراحَهم بعد أن قضى حوائجَهم، وكتب إلى سعدٍ: أنبئْني ما الذي غيَّر ألوانَ العرب ولحومهم؟ ! فكتب إليه سعد: وَخَمُ المدائن ودجلة، فكتب إليه عمر: إنَّ العرب لا يُوافقُها إلَّا ما يُوافق إبلَها من المباركِ، فابعث حُذيفة وسلمان يرتادان لكم منزلًا برِّيًّا بحريًّا، لا يكون بيني وبينكم بحرٌ ولا جسرٌ. فخرجا يرتادان، فلم يريا أصلحَ من الكوفة فإنها على حَصْباء رَمْلةٍ، وكلُّ حَصْباء رَمْلة فهي كوفة، وكان في أرضها ثلاثةُ أديرةٍ: دير حُرَقة، وديرُ هند ابنتي النعمان بن المنذر (¬1)، ودير قُرّة أو دير سلسلة، فأعجبهما ذلك المكان، فرجعا إلى سعدٍ بالخبر، فارتحل سعدٌ بالناس من المدائن، وخيَّر مَن شاء منهم بين الإقامة والرَّحيل، وجاء فنزل مَوضع الكوفة، وصلَّى ركعتين وقال: اللهمَّ بارك فيه، واجعله منزلَ قَرارٍ وثباتٍ، ودار سلام (¬2). قال الواقدي: وكان نزوله بالكوفة في المحرم سنة سبع عشرة، وقيل: سنة ثماني عشرة. والأوّل أصحُّ. وكتب سعدٌ إلى عمر: إنَّني قد نزلتُ الكوفة، منزلًا بين الحيرة والفُرات بَرِّيا بحريًّا، يُنبت الشِّيح والقَيصوم والنِّصِيَّ والكَلأ، وإنّي خَيَّرتُ المسلمين، فاختار بعضهم المقام بالمدائن فتركتُه. فكتب إليه عمر يُباركُ له في منزله. قال الهيثم: وبنى سعدٌ قصر الإمارة، ونزل المسلمون في أكواخ القَصب، فوقع ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): دير حرقة بنت النعمان ودير هند أختها. (¬2) في الطبري 4/ 40، والمنتظم 4/ 222 أن الذي قال ذلك حذيفة وسلمان.

فصل في ذكر خروج عمر إلى الشام المرة الثانية

حريقٌ فاحترق الجميعُ، فاستأذنوا عمر في البناء باللبن، فأذن لهم وقال: لا تَطاولوا في البُنيان، والزموا السنَّة تَدُمْ لكم الدولة. قال هشام: أوَّلُ مَن بني بظاهر الكوفة بالآجُرِّ خَبَّابُ بن الأرتّ وعبدُ اللَّه بن مسعود، ثم بني سعدٌ بعد ذلك قصرَ الإمارة. وكان مقدارُ الكوفة ستةَ عشر ميلًا، فما مضت إلا مدّةٌ حتى صار فيها مئةُ ألف دار، وفي جامعها مئةُ حلقةٍ للعلم والحديث والفقه. فصل في ذكر خروج عمر إلى الشام المرة الثانية قال علماء السير منهم سيف بن عمر: كان سببُ خروج عمر إلى الشام المرّة الثانية: أن ملك الروم جَهَّز الجيوش إلى الشام، وكاتب أهلَ الجزيرة، فعسكر أبو عبيدة بفِناء حمص، وكان خالد بن الوليد بقِنَّسرين فانضم إليه، وكان عمر قد اتَّخذ في كلِّ مِصرٍ خيلًا مُعَدَّةً للعدوِّ، وكان من ذلك أربعةُ آلاف فارسٍ بالكوفة، فكتب أبو عبيدة إلى عمر يُخبره الخبر، فكتب عمر إلى سعدٍ يخبره أن أَبا عبيدة قد أُحيط به. فندب الناسَ مع القعقاع بن عمرو إلى حمص، وأمره أن ينفذ سُهيل بن عديّ إلى الجزيرة، فإنهم الذين أشاروا على الرُّوم بالخروج، وأن تُسيِّر الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط إلى الجزيرة والرقّة، ردْءًا للقعقاع ولسُهيل بن عديّ، وعبد اللَّه بن عِتبان إلى نَصيبين، وعِياض بن غَنم على المقدِّمة، وإليه أمرُ أمراء الجزيرة. وجمع عمر المسلمين وقال: لابُدَّ من المسير إلى نجدة أبي عبيدة، واستخلف على المدينة عليَّ بن أبي طالب، وسار في وجوه المهاجرين والأنصار حتى نزل سَرْغ، وقيل: الجابية. وأما أبو عبيدة فاستشار المسلمين في التَّحصُّن إلى أن يأتيهم الغِياث، أو مُناجزة العدو، فقال خالد بن الوليد: ناجِزهم وقال الباقون: تحصَّنْ حتى يأتي الغياث، فأطاع الناس وعصى خالدًا. ومضى القعقاع في أربعة آلافٍ مُجدًّا نحو حمص، ورأى أبو عبيدة مُناجزةَ القوم، فسار إليهم، فهزمهم اللَّه وفتح عليه، ووصل القعقاع بعد ثلاثة أيام من الوقعة، فكتب عمر إلى أبي عبيدة أسهِمْهم في الغنيمة؛ فإنهم نفروا إليك، وتفرَّق عدوُّكم بهم.

حديد الطاعون ورجوع عمر إلى المدينة

وانتهى سُهيل بن عديّ إلى الرقَّة وقد تفرَّق جمعُ أهل الجزيرة، فحاصرهم فصالحوه. وجاء عبد اللَّه بن عِتبان إلى نَصِيبين، فصالحوه كما فعل أهلُ الرَّقّة، وسار عياض إلى حَرَّان، والوليد إلى الرُّهاء، ووقع الصلحُ على الجزية، وأقام الأمراء بالجزيرة، فاستعمل عمر حبيبَ بنَ مَسلَمة على عَجَم الجزيرة وحربِها، والوليد على عربها، وأقام هو بالجابية، وكان الطاعون قد وقع بالشام، فلم يدخله عمر، وأقام بسَرْغ (¬1). حديد الطاعون ورجوع عمر إلى المدينة وقد اختلف الروايات فيه: فقال البخاري بإسناده عن عبد اللَّه بن عباسٍ قال: خرج عمر إلى الشام، حتى إذا كان بسَرْغٍ لقيه أُمراءُ الأجنادِ: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابُه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فقال عمر: ادعُ لي المهاجرين، قال ابن عباسٍ: فدعوتُهم فاستشارهم فاختلفوا، قال بعضهم: خرجتَ لأمرٍ، ولا نرى أن تَرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقيةُ الناس وأصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا نرى أن تُقدِمهم على الوباء، فقال (¬2): ارتفعوا عني. ثم قال: ادعُ لي الأنصار فدعوتُهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادعُ لي مَن كان هاهنا من مَشْيخة قريشٍ من مُهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان، وقالوا: نرى أن تَرجعَ بالناس. فنادى عمر في الناس، إني مُصبح على ظهرٍ فأصبِحوا عليه، فقال أبو عبيدة: أفرارًا من قدر اللَّه؟ فقال عمر: لو غيرك قالها -وكان عمر يكره خِلافه- نعم، نفِرُّ من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه، أرأيتَ لو كان لك إبلٌ فهبطت واديًا له عُدْوَتان إحداهما خَصبة والأخرى جَدبة، أليس إنْ رعيتَ ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): بترع، وفي هامش (خ): الترع بفتح التاء المثناة الفوقية قرية بالشام. قلت: وهذا خطأ. (¬2) من قوله: فاختلفوا فقال بعضهم. . . إلى هنا ليس في (ك)، بدله فيها: فأشار بعضهم بالدخول وبعضهم بالرجعة.

ذكر اختلاف العلماء في خرجات عمر إلى الشام

المخصِبة رعيتَها بقدر اللَّه، وإنْ رعيتَ المجدبة رعيتَها بقدر اللَّه؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوفٍ وكان مُتغيِّبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علمًا، سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتُم به في أرضٍ فلا تَقربوبها ولا تَقدُموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا مَنه"، قال: فحمد اللَّه عمر، ثم انصرف، وقال لعبد الرحمن: أنت عندنا الصادق المصدوق، أخرجاه في الصحيحين (¬1). ومعنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فلا تَقدموا عليه"، نَهيٌّ عن التعرُّض للتَّلف، و"لا تخرجوا منها" له معنيان: أحدُهما: أنَّه يُعلّم التسليمَ لأمر اللَّه والتوكُّلَ عليه، والثاني: لأنه إذا خرج الأصِحَّاء لم يبقَ للمرضى مَن يقوم بهم ولا بأمرهم ولا بخدمتهم فيهلكوا. وروى بمعناه جماعةٌ من الصحابة، منهم أسامةُ بن زيدٍ قال: سمعتُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن هذا الوباء رِجزٌ أهلك اللَّه به الأممَ قبلكم، وقد بقي منه شيءٌ في الأرض، يجيءُ أحيانًا ويذهب أحيانًا، فإذا وقع بأرضٍ فلا تأتوها". والطريق الثاني أخرجه أحمد بإسناده عن أسامة بن زيدٍ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا سمعتُم بالطاعون في أرضٍ فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه". والطريقان في الصحيحين، وهذه روايات الصحيح (¬2). فأما أقوال علماء السِّير، فقال ابن إسحاق والواقدي وهشام: خرج عمر إلى الشام غازيًا سنة سبع عشرة، حتى إذا كان بسَرْغٍ لقيه أمراءُ الأجناد، فأخبروه أن الأرض سقيمة، فعاد بالناس إلى المدينة، وكان فيهم كعب الأحبار، وكان ممّن أشار عليه بالرجوع، وقالوا: وأسلم كعب في هذه السنة، وقيل: في سنة خمس عشرة. ذكر اختلاف العلماء في خرجات عمر إلى الشام ذكر جدي رحمه اللَّه في "المنتظم" (¬3) وقال: خرج عمر إلى الشام أربع مراتٍ: مرّتين في سنة ست عشرة، ومرّتين في سنة سبع عشرة، فأما في هذه المرة فإنه لم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5729)، وصحيح مسلم (2219). (¬2) مسند أحمد (21798)، وصحيح البخاري (6973) (6974)، وصحيح مسلم (2218). (¬3) في 4/ 224.

يَدخُلها لأجل الطاعون، والخرجة الرَّابعة أَذَّن له بلالٌ حين حضرت الصلاةُ، فبكى الناس عند ذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان أشدَّهم بكاءً عمرُ -رضي اللَّه عنه-. هذا صورة ما قال. وقال الواقدي: إن عمر خرج إلى الشام أربع مرّاتٍ: فالأولى جاء على فرسٍ، والثانية على بعيرٍ، والثالثة: على حمار، والرابعة لم يتعدَّ الجابية لاشتعال الطاعون بالشام. وقال سيف بن عمر: قال عمر بن الخطاب: ضاعت مواريثُ الناس بالشام، وأريد أن أبدًا بها، فأقسمها على ما في نفسي، ثم أرجع فأنقلبُ في البلاد، فأتى عمر الشام أربع مراتٍ: مرتين في سنة ست عشرة، ومرَّتين في سنة سبع عشرة، ولم يدخل دمشق في المرَّتين الأوَّلتين. وقال أبو مِخْنَفٍ، واسمُه لوط بن يحيى: توجه عمر إلى الشام في سنة ست عشرة، فلما أشرف على الغوطة ونظر إلى دمشق والقصور والبساتين قرأ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)} الآية [الدخان: 25]. وحكى ابن سعدٍ عن الواقدي أنه قال: روى أهل الشام أن عمر دخل الشام في خلافته مرّتين، ورجع في الثالثة أو الرابعة من سرغٍ. قال: وهذا لا يُعرف عندنا، وإنما قدم عمرُ الشام عام الجابية، سنة ستّ عشرة، حين فتح البيت المقدَّس، وصالح أهله، وجاء عام سَرْغ سنة سبع عشرة، ورجع من سَرْغ لأجل الطاعون، لا يكون غير هاتين المرتين الدَّخلتين، وهم يقولون إنه دخل دمشق وحمص في المرّة الثالثة، وهذه الرحلة الثالثة لا تُعرف عندنا، سنين عمر معروفةٌ: عام الجابية سنة ست عشرة، وعام سَرْغٍ سنة سبع عشرة، ولا غير ذلك (¬1). وقال سيف: وعاد عمر على أَيْلة، فلما نزلها دفع قميصَه إلى أُسقُفِّها وقال له: اغسله وارقَعْه، وكان من كرابيس قد غيَّره مرُّ السنين، فغسله ورقعه وخاط مثله قَباطيًا، وأحضرهما، فلبس عمر قميصه وردَّ عليه القباطي، وكان رجوعه إلى المدينة في صفر (¬2). وفي هذه السنة كَتَب التاريخ, وحمى عمر الرَّبَذة لخيل المسلمين، واتَّخذ دار ¬

_ (¬1) انظر تاريخ دمشق 53/ 3 - 4 و 6، والطبري 4/ 56 - 57 و 63، والمنتظم 4/ 193. (¬2) من قوله قبل صفحتين: ومعنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فلا تقدموا عليه. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

فصل

الضيافة، وأعد فيها الدقيق والسمن والعسل وغيره، وجعل بين مكة والمدينةَ مَن يحمل المنقطِعين من ماء إلى ماءٍ حتى يوصلوهم إلى البلدِ. فصل: وفيها غزا خالد بن الوليد وعياض بنُ غَنْم دَرْبَ الروم، وأوغلا فيه، وعادا بالغنائم والسبايا، وبلغ أهلَ الآفاق فانتجعوا خالد بن الوليد، منهم الأشعث بن قيس، فأجازه خالد بعشرة آلاف درهم، وكان عمر له عُيونٌ على عُمّاله وأمرائه، يكتبون إليه بما يكون منهم، فكتب إلى أبي عبيدة أن يُقيم خالدًا، ويَعقِله بعمامته، وينزع عنه قَلنسوته، حتى يُقرّ من أين أجاز الأشعث بن قيس، فإن زعم أنه من ماله فقد أسرف، وإن زعم أنه من مال أصابه من الدَّرْبِ فقد باء بخيانة، فاعزِلْه على كلّ حال. فكتب أبو عبيدة إلى خالد فقدِم، وجمع له الناس، وقام البريد الذي حمل كتاب عمر على المنبر فقال: يا خالد، من أين أجزْتَ الأشعث بن قيس، أمن مالك، أم من مالٍ أصبتَه من بلد العدو؟ وخالد لا يتكلّم، فقام بلال فقال: إن أمير المؤمنين أمر أن تُعقَل بعمامتك، وتناول عمامته فنفضها، ووضع قَلنْسوَته، ثم عقله بعمامته وقال: ما تقول؟ قال: هو من مالي، فأطلقه، وأعاد قَلنْسُوَته، ثم عمَّمه بيده. وفي روايةٍ أن عمر كتب إلى أبي عُبيدة: فإن اعترفَ أنه من ماله فقد أسرف، فاعزلْه وضُمَّ ما في يده إلى يدك من العمل، وكذا إن أقرَّ أنها ليست من ماله. وكان خالد بقِنَّسرين، فكتب إليه فحضر، ولما قام إليه بلال ليعقله قال له: يا عبدَ بني جُمَح ما هذا؟ فقال له أبو عبيدة: إن كتاب عمر ورد بكذا وكذا، فقال: يا عامر، هي من مالي، فأعاد إليه قَلنسوته وعمامته، ولم يخبره أبو عبيدة أنه قد عزله حياءً منه، وأقام متحيِّرًا، فخرج من الشام فقَدم على عمر فقال له: واللَّه يَا عمر لقد شكوتُك إلى اللَّه والمسلمين؛ فإنك غيرُ مُجملٍ في أمري، فقال له عمر: من أين هذا الثراءُ؟ فقال: من الأنفال والسُّهمان، فقدَّم أموالَه فكانت عشرين ومئة ألفٍ، فأدخلها عمر في بيت المال، ثم عَوَّضه عنها. وكتب عمر إلى الأمصار: لم أعزل خالدًا عن خيانة، ولكن الناس فُتِنوا به، فخفتُ أن يُوكلوا إليه، فأحببت أن أُعلِمهم أن اللَّه هو الصَّانع، فقال خالد: واللَّه ما به إلا النَّفاسة على الصِّيت والذكر، وواللَّه لا وليتُ له ولاية أبدًا، وخرج إلى الشام، فاعتزل

فصل

الناس، وأقام بحمص إلى أن مات. فصل: وفيها اعتمر عمر في رجب، واستخلف على المدينة زيد بنَ ثابت، وأقام بمكة عشرين ليلةً، ووسَّع المسجد الحرام، وهدم على قوم أَبَوا أن يبيعوه دُورَهم، ووضع أثمانَها في بيت المال لما امتنعوا من أخذها، ثم أخذوها بعد ذلك. وتزوَّج ابنةَ حفص بن المغيرة، فأُخبر أنها عاقر، فطلقها قبل أن يَدخل بها. وفي هذه العمرة أمر بتجديد أنصاب الحرم، ووَلَّى ذلك جماعة من قريش: مَخرمة ابن نوفل، والأزهر بن عبد عوف، وحاطب بن عبد العُزَّى، وسعيد بن يربوع، وكان عمر لمَّا مرَّ في طريقه إلى مكة كلّمه أهلُ المياه أن يَبنوا منازل بين مكة والمدينة، فأمرهم بذلك، وقد ذكرناه (¬1). وفي هذه السنة كانت قصَّة المغيرة بن شُعبة، والشهادة عليه بالزنا (¬2). وقد اختلفوا فيه، فقال ابن إسحاق: كان المغيرة يختلفُ إلى امرأة من بني هلال يقال لها: أمّ جميلٍ بنت الأفقم، من بني عامر بن صَعصعة، وكانت تَغشى الأُمراءَ والأشراف، وليس لها زوج، وعلم به أهل البصرة فأعظموا ذلك، ووضعوا له الرَّصَد، فدخل عليها يومًا، فهجموا عليه فرأوه يُواقعها، فركب أبو بكرة إلى عمر فأخبره، فولّى أَبا موسى الأشعريَّ البصرة، وكتب بإشخاص المغيرة إليه. وقال الهيثم: عَشِق المغيرةُ امرأةً من بني هلال بن عامر بن صعصعة يقال لها: أم جميل بنت مِحْجَن، وكانت عند الحجاج بن عتيك الثقفي، وكان أبو بكرة لا يزال يَلقى المغيرة وحده خارجًا من عندها، فيقول: أين كنتَ؟ فيقول: عند مَن أحبُّ، فيقول أبو بكرة: إن الأمير يُزار ولا يزور، فدخل المغيرة يومًا عليها، فاطَّلع أبو بكرة فإذا هي تُقبّل المغيرة، فاستدعى أبو بكرة شِبْل بن مَعبد البَجَلي، ونافع بن الحارث وزيادًا أخويه (¬3)، فشاهدوا المغيرة وهو يَنكحها، فارتحل أبو بكرة والشهود إلى المدينة، ¬

_ (¬1) من قوله: وكان عمر لما مر. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) في (خ) و (أ): والشهادة عليه بأمر أم جميل. وما بعدها إلى فتح الأهواز ليس فيهما. (¬3) في أنساب الأشراف 1/ 582: فدعا شبل بن معبد ونافع بن الحارث أخاه وزياد بن عبيد.

فشهدوا عليه عند عمر. وقال الواقدي: كان بين المغيرة وبين أبي بكرة مُنافرة، وكانا متجاورَيْن في مَشربتين متقابلتين، في كلِّ واحِدةٍ منهما كُوَّة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة قومٌ يتحدَّثون عنده، فهبت الريحُ ففتحت باب الكُوَّة، فقام أبو بكرة ليَصفِق بابَها، فبصُر بالمغيرة وهو بين رجلَي امراةٍ، فقال للنفرِ: قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا، فقال: اشهدوا، فقالوا: مَن هذه؟ قال: أمُّ جميل بنتُ الأَفقم، وعرفوها حين قامت، ثم خرج المغيرة إلى الصلاة، فحال أبو بكرة بينه وبينها وقال: واللَّه لا تصلي بنا بعدها. وكتبوا إلى عمر وأخبروه، فبعث أَبا موسى وقال له: استعِنْ بأنس بن مالك، وعمران بن الحُصَين، وهاشم بن عتبة، فلما قدم أبو موسى البصرة أَشخص المغيرة وأبا بكرة وزياد بن أَبيه ونافع بن الحارث بن كَلَدة وشِبل بن مَعبد البَجَلي، وهم الذين عاينوا القصة، فلما قدموا على عمر شهدوا على المغيرة بما عاينوا، فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين، سَلْ هذه الأعبد كيف رأوني؟ فإن كانوا استقبلوني، فكيف لم أستتر عنهم. وإن كانوا استدبروني، فكيف يَحلُّ لهم أن ينظروا في منزلي؟ واللَّه ما أتيتُ إلَّا امرأتي وكانت تُشبهها، فقام أبو بكرة فقال: كذبتَ، أشهد أنه بين رجلي أمِّ جميل بنت الأفقم، وهو يدخله في فرجها كالمُلْمول في المُكْحُلَة، ثم شهد شبل ونافع بمثل ذلك، وبقي زياد فقال له عمر: بم تَشهد؟ فقال: رأيتُه جالسًا بين رجلي امرأةٍ، ورأيتُ قدمين مَخضوبتَيْن تَخفِقان، وسمعت حَفَزانًا شديدًا، قال: هل رأيت كالملمولِ في المُكحلة؟ قال: لا، قال: هل تَعرف المرأة؟ قال: لا، قال: فتنحَّ، وقرأ عمر: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، وأمر بالثلاثة فحُدُّوا، وقيل: كان ذلك في سنة خمس عشرة. وقال الواقدي: ولما حُدُّوا حدَّ القذف قال المغيرة: يا أمير المؤمنين، اشفني من هذه الأعبد، فقال له عمر: اسكت أسكتَ اللَّه نَأمَتك -أي: صوتَك- واللَّه لو كملت الشهادةُ لرجمتُك بأحجارك (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الطبري 4/ 69 - 72، والمنتظم 4/ 231 - 232.

وقد ذكر القصّة البلاذري (¬1) وقال: ولمَّا بلغ عمر فعلُ المغيرة عزله عن البصرة، وولّى أَبا موسى، وبعث معه أنس بن مالك، وأخاه البراء بن مالك، وأبا نُجَيد عمران ابن الحصين الخُزاعي، وأمره بأن يُشخِص المغيرة والشهود، فلما قدموا على عمر جمع الناس، وأُقيم المغيرة، وقام أبو بكرة فشهد عليه، فقال عمر: ذهب رُبعُ المغيرة، وقام نافع بنُ الحارث فشهد بمثل ذلك، فقال عمر: ذهب نصفُ المغيرة، فقام شبل بن معبد فشهد بمثل ذلك، فقال عمر: ذهب ثلاثةُ أرباع المغيرة، ثم تقدّم زياد، وكان شابًا طريرًا جميلًا، فلما نظر إليه عمر قال: واللَّه إني لأرى وجهًا خليقًا أن لا يُخزي اللَّه به رجلًا من أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم قال له عمر: بم تَشهد؟ فقال: أشهدُ أني سمعتُ نَفَسًا عاليًا، ورأيتُ أمرًا قبيحًا، فأما ما ذكره هؤلاء فلا -يعني الملمول في المكحلة- فانتضى المغيرةُ السيف، وقصد أَبا بكرةَ وصاحبَيْه، فصاح عمر: لعنك اللَّه يَا أعور أمسِكْ -وكانت إحدى عينيه قد ذهبت باليرموك أو بالقادسية-. ثم أمر عمر بالثلاثة فحُدُّوا، ودرأ عن زيادٍ حدَّ القَذْف، وعن المغيرة حدَّ الزِّنا، ثم قال عمر: توبوا، فقال له أبو بكرة: واللَّه لا أتوبُ من الحق أبدًا، أشهدُ أن الأعور الفاسق زانٍ، فأراد عمر أن يَحُدَّه ثانيًا، فقال له علي: لا تفعل، فإنك إن جعلتَها شهادةً رجَمْنا المغيرة، فسكت عمر، وقال أبو بكرة لزياد بن أَبيه، وهو أخوه لأمِّه سميَّة: نافقتَ وداجيتَ وكذبتَ! ؟ واللَّه لا كلّمتُك أبدًا، فلم يُكلِّمه حتى مات. وذكر جدي في "المنتظم" (¬2) وقال: من الجائز أن يكون قد تزوَّجها ولم يَعلم أحدٌ، وقد كانت تُشبه زوجتَه، قال: وقال ابنُ عقيل: للفقهاء تأويلات؛ فقد كانت المتعةُ عَقدًا في الشرع، وكان نكاحُ السرِّ عند قوم زنا, ولا يجوز أن تُنسبَ الصحابةُ إلى ما لا يجوز. قلت: والعجب من هذا الاعتذار، وقد ارتكب المغيرةُ أعظمَ من الزنا لمّا ولاه معاوية بن أبي سفيان الكوفة؛ بعد ما استشهد أمير المؤمنين، كان يَلعن أمير المؤمنين على منبر الكوفة وفي مجالسه، ويَختلق له المساوئ لما سنذكر (¬3)، وقد ثبت أن النبي ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 1/ 582 - 583. (¬2) في 4/ 232. (¬3) هذا من تشيّع المصنف، وانظر ما سيرد.

فصل

-صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لعن اللَّهُ من سبَّ أصحابي" (¬1). واستحلال عِرض المؤمن أعظمُ من الزّنا لأنه كفرٌ، وأما المتعة فحرامٌ عند عامة العلماء على ما تقدَّم. وكيف يُبيحها ابنُ عقيلٍ بعد التحريم؟ اللهمَّ أن يكون مذهبه، فإنه كان يرى ذلك على ما حكت الحنابلةُ عنه، أنه كان يرى رأيَ الشيعة، وسنذكره في ترجمته. وقد كان الواجبُ على عمر أن يَحُدَّه؛ لأنه كان يُقيم الحدود على ما تقدّم، وإنما قصد السترَ على المغيرة لئلا يَفضحه. وروي عن أبي بكرة أنه لما عاد إلى البصرة قيل له في ذلك فقال: عمرُ لقَّن زيادًا الرجوع، أشار إلى ما ذكرنا من قول عمر: واللَّه إني لأرى وجهًا خَليقًا أنه لا يُخزي اللَّه به رجلًا من أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. فصل: وفيها فُتحت (¬2) الأهواز ومَناذر ونهر تِيرَى وتُستَر ورامَهُرْمُز والسُّوس، وأُسر الهرمزان. قال علماء السِّير منهم سيف بن عمر عن أشياخه قالوا: لم يزل يَزْدَجرد منذ انفصل عن المدائن وهو مقيمٌ بمَرْو، يُراسل أهلَ هذه الأماكن، ويقول لهم: رَضيتُم بغَلَبة العرب عليكم حتى حكموا على أموالكم وحريمكم، وسلبوكم عزَّكم! فراسلوه. ابعث ¬

_ (¬1) أخرجه العقيلي في الضعفاء 2/ 264، والطبراني في المعجم الكبير (13588)، والأوسط (7015)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (2348)، والسهمي في تاريخ جرجان 252 من طريق عبد اللَّه بن سيف، عن مالك بن مغول، عن عطاء، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه-. وعبد اللَّه بن سيف، قال ابن عدي: رأيت له غير حديث منكر، وقال العقيلي: حديثه غير محفوظ. وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 3/ 150 من طريق محمد بن الفضل، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر. وأخرجه أبو يعلى (2184)، والخطيب 3/ 148 - 149 من طريق محمد بن الفضل، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد اللَّه، ومحمد بن الفضل قال فيه أحمد: ليس بشيء، حديثه حديث أهل الكذب، وقال ابن معين والجوزجاني: كان كذابًا، وقال مسلم والنسائي والدارقطني: متروك الحديث. وأخرجه الطبراني في الأوسط (7771) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1001) عن عطاء مرسلًا. وفي النهي عن سب أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحاديث صحيحة، منها حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه أحمد (11079)، ومسلم (2540) بلفظ: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه". (¬2) إلى هنا ليس في (أ) و (خ) مما سلفت الإشارة إليه قبل أربع صفحات.

إلينا مَن تختار، فجهَّز إليهم الهرمزان في جيشٍ كثيفٍ، فنزل رامَهُرْمز، واتَّفق أهل الأهواز وتعاهدوا على المسلمين، وكُتب إلى عمر بذلك، فبعث إلى سعد: ابعث إلى الأهواز النعمان بنَ مُقَرِّن، وسويد بنَ مقرن، وجرير بنَ عبد اللَّه، وكتب إلى أبي موسى: أن ابعث إلى الأهواز جيشًا كثيفًا، وأمَّر عليهم سهل بنَ عديّ، وابعث معه البراء بنَ مالك في جماعةٍ سمَّاهم، وعلى أهل الكوفة والبصرة أبو سبرة بن أبي رُهْم، وكلُّ مَن أتاه كان مدَدًا له. وخرج النُّعمان بن مقرِّن في أهل الكوفة حتى قطع دجلة بِحيال مَيْسان، ثم أخذ طريق البرِّ إلى الأهواز فانتهى إلى نهر تِيرى فجاوزها، ثم انتهى إلى مَناذرٍ وسوق الأهواز وقصد الهُرمزان -وهو يومئذ برامَهُرْمُز- فسار إلى النّعمان وبادره قبل أن تنضمّ إليه جيوش المسلمين، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وانهزم الهرمزان إلى تُستَر، وجاء النعمان فنزل برامهرمز. وكان الهرمزان قد صالح المسلمين ثم نكث، فحاصروه في تستر، وأقاموا عليه مدَّةً، وزحفوا عليهم ثمانين مرة، فلما كان في آخر زحفٍ واشتدَّ القتال قال الناس للبراء بن مالك: يا براء، أقسم على ربك ليهزمنَّهم لنا فقال: اللهمَّ اهزمهم واستَشْهدني، فاستشهد البراءُ في ذلك اليوم، وهزموهم حتى ألجؤوهم إلى الخنادق، وتقدَّم المسلمون فأحاطوا بالمدينة، وأزالوهم عن أماكنهم، وخرج إليهم رجلٌ مُستأمن، فدلَّ النعمان بنَ مُقرِّن على مكانٍ يَدخلُ منه إلى البلد، وجاؤوا فدخلوا، وهرب الهرمزان إلى القلعة، فأحاطوا به، فاطَّلع عليهم وبيده قوسُه وجَعبته وقال: في هذه الجَعْبة مئةُ نُشَّابة، واللَّه لا تَصلون إلي حتى أقتل مئةَ رجل من أعيانكم، قالوا: فماذا تريد؟ قال: أنزل على حُكم عمر يَفعلُ بي ما شاء، قالوا: نعم، فنزل فأخذوا سلاحَه وأوثقوه، واقتسموا الغنائم، فكان سهمُ الفارس ثلاثة آلافٍ، والراجل ألفًا. وخرج من تُستَر جماعةٌ من الفُرس، فقصدوا السُّوس، واتبعهم أبو سَبْرة، ثم إن أَبا سَبْرة كتب إلى عمر بالفتح، وبعث إليه بالهُرمزان ومعه أنس بنُ مالك والأحنف بن قيس وجماعةٌ من الأعيان، فلما وصلوا المدينة أَلبسوا الهرمزان ثيابَه الدِّيباج وسلاحَه، ووضعوا على رأسه تاجَه -وكان مُرَصَّعًا باليواقيت والجواهر- ليراه المسلمون على

هيئته، وكان عمر نائمًا في المسجد، فقال الهُرمزان: أين عمر؟ فقالوا: ها هو ذا، فقال: أين حُجَّابُه وحُرَّاسُه؟ قالوا: ليس له حاجبٌ ولا حارسٌ، فقال: هذا واللَّه الملكُ الهَنيُّ من غير تعبٍ، وفي روايةٍ: يَنبعْي أن يكون هذا نبيًا. وانتبه عمر فقال: أين الهُرمزان؟ فقالوا: ها هو ذا يَا أمير المؤمنين، فلم يُكلّمه، قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا ملكُ الأهواز فكلّمه، فقال: لا، حتى لا يَبقى عليه من حِليته شيء، فرمَوا جميع ما عليه، وألبسوه ثوبًا صَفيقًا، وأحضره بين يديه، وقال له: كيف رأيتَ وَبالَ الغدر؟ فقال له: يا عمر، إنَّا غَلبناكم في الجاهليّة حيث كان اللَّه معنا، فلما صار معكم غلبتمونا، فقال له عمر: ما عُذرك في انتقاضك مرَّة بعد مرة؟ قال: أخاف أن تَقتلني قبل أن أُخبرك، قال: لا تَخفْ، لا بأسَ عليك. فاستسقى ماءً، فأُتي به في قَدَح غليظ، فقال: لو متُّ عَطشا لم أستطع الشُّرب في هذا، فأُتي بإناء يرضاه، وقيل: بإناء زجاجٍ، فأخذه بيده، وجعلت يده ترعد فقال عمر: مالك؟ قال: أخاف أن أُقتل قبل أن أَشرب، فقال: لا بأس عليك حتى تَشربَه، فضرب به الأرضَ فكسره، فقال عمر: أعيدوا عليه الماء، ولا تَجمعوا عليه القتلَ والعطش، فقال الهرمزان: لا حاجةَ لي في الماء، وإنما أردتُ أن أستَأمن به، فقال عمر: فإني قاتلُك، قال: إنك قد أمَّنتني، قال: كذبتَ، فقال أنس: صدق قد أَمَّنتَه، قال: ويحك يا أنس، أنا أُؤمِّنه وقد قتل البراء بن مالك وغيره، واللَّه لتأتينَّ بالمخرج أو لأُعاقبنَّك، قال: نعم يَا أمير المؤمنين، قلت: لا بأس عليك حتى تُخبرَني، ولا بأس عليك حتى تشرب الماء، وقالت الصحابة مثلَ قول أنسٍ، فأقبل عمرُ على الهُرمزان وقال: أتَخْدعُني؟ واللَّه لا أنخدع إلا أن تُسلم، فأسلم، ففرض له ألفين وأنزله المدينة، وقال هشام: أنزله دار رملة، وأحسن إليه، وسُرَّ بإسلامه. وقال الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، إنك نهيتَنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتَنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وما دام مَلك فارس حيًّا بين أظهرهم لا يزالون يساجلونا، وإنه هو الذي يَبعثهم على ذلك، ولن يجتمع مَلكان قط، فأْذن لنا في الانسياح في بلإدهم حتى نُزيلَه عن مُلك فارس، فإما أن نَقتُلَه، وإما أن نُزيلَه ونُلجئه إلى مَملكةٍ أخرى غير مملكته، ورعيةٍ غير رعيته, فنَأمن شرَّه، ويَنقطع رجاءُ أهل فارس منه، قال: صدقتَ، ثم إنه انتهى إلى رأي الأحنف، وأذِنَ لهم في الانسياح في البلاد،

فصل حديث السوس

وبعث كلَّ أميرٍ إلى ناحية (¬1). هذا ويزدجرد بن كسرى مُقيمٌ بمَرْو، وقد أمِن على نفسه، وبنى القصور، واتَّخذ بيت نارٍ، واتّخذ بُستانًا عظيمًا، وبنى فيه القِباب، وغرس الأشجار، وأقام إقامةَ مُطمئن، وكانت الفرس تُكاتبه وتَحفظ عهدَه في الأماكن التي لم يصل إليها المسلمون، وورد على عمر كتاب بأن الفرس قد اجتمعوا في نهاوند. فصل حديث السّوس قال علماءُ السير: كتب عمر إلى ابن أبي رُهمٍ بمُنازلة السُّوس، فنازلها، وحاصرهم أيامًا وقاتلهم، وأشرف عليهم الرُّهبان، وقالوا: يا معاشر العرب، إن مما عَهد إلينا علماؤنا ألا يَفتح السوسَ إلا الدجالُ، أو قومٌ فيهم الدجال، وكان ابن صيّادٍ مع المسلمين، فأتى بابَ السوس فضربه برجله وقال: انفتِح، فتقطعت السلاسلُ وتفتَّحت الأبواب، ودخل المسلمون، فألقى الكفار بأيديهم وقالوا: الصُّلحَ الصلح، فأجابوهم. قلت: وقد ذكر ابن سعدٍ ابنَ صيّادٍ فقال: اسمه عبد اللَّه، ويقال: صاف، كان أبوه من اليهود، ولا يُدرى من هو، ولد على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أعور مَختون (¬2). وكان جماعة من الصحابة يظنون أنه الدجال، وكان جابر بن عبد اللَّه يحلف باللَّه أنه الدجال، قال محمد بن المنكدر: فقلتُ لجابر: أتحلف باللَّه؟ فقال: سمعتُ عمر ابن الخطاب يَحلف على ذلك عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُنْكِرُهُ (¬3). ولمسلم عن أبي سعيد قال: صحبتُ ابن صيّاد إلى مكة، فقال لي: يا أبا سعيد، أما قد لقيتُ من الناس، يزعمون أني الدّجال، ألستَ سمعتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنه لا يُولَد له"؟ قلتُ: بلى، قال: فقد وُلد لي، أو ليس سمعتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول إنه: "لا يدخل الدجالُ المدينة ولا مكة"؟ قلتُ: بلى، قال: فقد وُلدتُ بالمدينة، وها أنا أريد مكة، ثم قال: أما واللَّه، إني لأعلم مَولد الدجّال ومكانَه وأين هو؟ قال: فلَبَسَني، ¬

_ (¬1) من قوله: وقال الأحنف بن قيس. . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 565 - 566. (¬3) أخرجه مسلم (2929)، ومن قوله: وكان جماعة من الصحابة. . . إلى هنا ليس في (ك).

حديث دانيال

وأخذَتْني منه ذَمامة. وفي رواية: فقال: مالي ولكم يا أصحاب محمد! ألم يَقل نبيُّ اللَّه: "إن الدجَّال يهوديٌّ" وقد أسلمتُ، و"إن اللَّه قد حرَّم عليه المدينة" وقد حججتُ، قال: فما زال حتى كاد أن يَأخذني من قوله، ثم قال. واللَّه إني لأعرف الآن حيث هو، وأعرف أباه وأمَّه (¬1)، فقيل له: أيَسرُّك أنك ذلك الرجل؟ فقال: لو عُرض عليَّ ما كرهتُ (¬2). وروى ابن سعدٍ عن محمد بن كعبٍ القرظي قال: كنا بالأهواز، فقيل: مات ابن صائد، فأخرج بنوه نعشًا لا يُدرى ما فيه. قال ابن سعد: ومن ولده عمارةُ بن عبد اللَّه بن صيّاد، من خيار المسلمين، وكان من أصحاب ابن المسيّب، وروى عنه مالك بنُ أنس (¬3). حديث دانيال قال أبو اليقظان وغيره: ولما فُتحت السوس، قيل لأبي سبرة بن أبي رُهم (¬4): إن في السوس جسد دانيال -وكان في مغارةٍ يَستسقون به- وتوجَّه أبو سبرة إلى جُنْدَيْ سابور، وأقام أبو موسى الأشعري بالسُّوس، وجاء إلى المغارة فرآه مُلقى وفي يده خاتم من حديدٍ، وعليه منقوشٌ صورة رجلٍ بين أسدَين، وكان بُختنصَّر قد رماه بين أسدين فنجاه اللَّه منهما، فنقش ذلك على خاتمه شُكرا للَّه تعالى، وكتب أبو موسى الأشعريُّ إلى عمر يُخبره بذلك، فكتب إليه يَأمره بمواراته، وكتب عمر إلى لسعدٍ بأن يشن الغارات في بلاد فارس. وفيها تزوَّج عمر أمَّ كلثوم بنت عليِّ بن أبي طالب، وأمُّها فاطمة بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان قد خطبها وهي جاريةٌ لم تَبلُغ، وقيل: كانت بنت أربع سنين. ¬

_ (¬1) من قوله: وفي رواية. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) صحيح مسلم (2927) (89 - 90). (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 566. (¬4) في النسخ: قيل لسبرة بن أبي رهم، والمثبت من الطبري 4/ 92، والمنتظم 4/ 236، والبداية والنهاية 10/ 66، والكامل 2/ 550 - 551.

البراء بن مالك

وقال ابن سعد بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب خطب إلى عليٍّ ابنتَه أمَّ كلثوم (¬1)، فقال علي: إنما حبستُ بناتي علي بني جعفر، فقال عمر: واللَّه مالي بالنساء حاجة، ولكني سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "كلُّ حَسبٍ ونَسبٍ يَنقطع يومَ القيامة إلَّا حسبي ونسبي"، وإني صحبتُه، وأحببتُ أن يكون لي هذا. فقال علي: قد فعلتُ، فخرج عمر إلى الصحابةِ وقال: رفِّئوني، فرفئوه، وقالوا: بمن؟ فأخبرهم. وقال الواقدي: لما خطبها عمرُ قال له علي: يا أمير المؤمنين، إنها صبية، فقال عمر: قد علمنا ما بك، فأمر عليٌّ بها فصُنّعت، ثم أمر ببُرده فطواه، ثم قال: انطلقي بهذا إلى أمير المؤمنين وقولي له: إن رضيتَ بهذا البُرد فأمسكه، وإلا فاردُدْه، فجاءت إلى عمر فقال لها: بارك اللَّه فيك وفي أبيك، قد رضينا، فرجعت إلى أبيها فقالت: ما نَشر البُردَ، ولا نظر إليه، فزوّجها إياه (¬2). وسنذكرها عند وفاتها، وحج عمر بالناس. فصل (¬3) وفيها توفي البراء بن مالك ابن النَّضر بن ضَمْضَم، أخو أنس لأمه وأبيه، وهو من الطبقة الثانية من الأنصار، شهد أُحدًا وما بعدها من المشاهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان شجاعًا، قتل مئةَ رجلٍ مُبارزة، وكتب عمر رضوان اللَّه عليه إلى العراق: لا تستعملوا البراء على جيشٍ من جيوش المسلمين؛ فإنه مَهلكة يَقدم [بهم]. وهو الذي هزم الكفارَ يومَ اليمامة، ووقف في ثُلمة الحديقة وقال: ارفعوني على ¬

_ (¬1) من قوله: وقيل: كانت بنت أربع سنين. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 430، وانظر المنتظم 4/ 237 - 238، وأخرج الحديث عبد الرزاق (10354)، وأَحمد في فضائل الصحابة (1069) (1070)، والطبراني في الكبير (2634) (2635)، والأوسط (5606) (6609)، وابن عدي في الكامل 1/ 270، والحاكم 3/ 142، وأبو نعيم في الحلية 2/ 34 و 7/ 314، وتاريخ أَصبهان 1/ 199، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 63 - 64، والضياء المقدسي (101) (102)، وانظر تلخيص الحبير 3/ 143. (¬3) من هنا إلى ترجمة حدير ليس في (ك).

الحباب بن المنذر

رماحكم، وجلس في تُرس، فرفعوه فألقَوه، فقتل عشرةً، وقتل مسيلمة. قال أنس بن مالك: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كم من ضعيفٍ مُستضعَفٍ، ذي طمرين، لو أقسم على اللَّه لأبرَّه، منهم البراءُ بنُ مالك" (¬1)، وإن البراء لقي زَحْفًا من المشركين، وقد أوجف (¬2) المشركون في المسلمين، فقالوا له: يا براء، إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال إنك لو أقسمتَ على اللَّه لأبرَّك، فأقسمْ على ربِّك، فقال: يا رب، أقسمتُ عليك لما مَنحتَنا أكتافَهم، فمُنحوا أكتافَهم، ثم التقوا على قَنطرة السُّوس، فأوجفوا في المسلمين، فقال: أقسمتُ يا ربّ لما مَنحتَنا أكتافَهم وألحقتَني بنبييّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمُنحوا أكتافهم، وقُتل البراءُ شهيدًا -رضي اللَّه عنه- (¬3). الحُباب بن المنذر ابن الجموح بن زيد بن حرام، وكنيته أبو عمرو، من الطبقة الأولى من الأنصار شهد بدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان لِواءُ الخزرج بيده يوم بدر، وهو ابن ثلاثة وستين سنة (¬4). وهو القائل يوم بدر لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: آللَّه أمرك أن تَنزل هذا المنزل؟ قال: لا، قال فارتحِل، فجاء جبريل فقال: الرأيُ ما قال حُباب، وهو الذي قال يوم حاصر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّضير وقُريظة: أرى أن نَنزل بين قصورهم، فنمنع خبرَ هؤلاء عن هؤلاء، فأخذ بقوله. وهو القائل يوم السَّقيفة: أنا جُذَيلُها المُحَكَّك وعُذَيْقُها المُرَجَّب، منّا أميرٌ ومنكم [أمير] وله صحبة ورُؤية، وليس له رواية -رضي اللَّه عنه- (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): عازب، وهو خطأ، وأخرج الحديث الترمذي (3854)، وأبو يعلى (3987)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (676)، والحاكم 3/ 292، والبيهقي في شعب الإيمان (10000) (10001)، وابن الجوزي في المنتظم 4/ 239. (¬2) كذا في (أ) و (خ) والمنتظم، وفي الاستيعاب (165): أوجع، وهي الأشبه. (¬3) انظر في ترجمته طبقات ابن سعد 4/ 328 و 9/ 16، والاستبصار 34، والإصابة 1/ 143، إضافة إلى المراجع السابقة. (¬4) كذا، وفي طبقات ابن سعد 3/ 526 أنه شهد بدرًا وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، قال الحافظ في الإصابة 1/ 302: مات في خلافة عمر وقد زاد على الخمسين. (¬5) الاستيعاب (535)، والاستبصار 157، والمنتظم 4/ 240، وطبقات ابن سعد 3/ 525، والإصابة 1/ 302.

حدير

حُدَيْر رجل من الصحابة (¬1)، ولم يُذكر له نسب. حدثنا جدي رحمه اللَّه بإسناده عن ابن عمر: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث جيشًا فيهم رجل يُقال له: حُدير، وكانت تلك السنة قد أصابتْهم شِدَّةٌ من قلَّة الطعام، فزوَّدهم رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونسي أن يزوِّدَ حُدَيرًا، فخرج حدير صابرًا مُحتسبًا في آخر الركب يقول: لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، والحمدُ للَّه، وسبحان اللَّه، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم، ويقول: نِعم الزادُ زادُك يَا حُدَير، يُردِّدها وهو في آخر الركب. فجاء جبريل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إن ربي أرسلني إليك يُخبرك أنك زوَّدتَ أصحابك ونسيتَ أن تُزوِّد حُدَيرًا، وهو يقول كذا وكذا، وكلامه نورٌ له يوم القيامة ما بين السماء والأرض، فابعث إليه بزاد. فدعا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجُلًا، فدفع إليه زادًا لحُدَيرٍ، وأمره إذا انتهى إليه حَفِظ ما يقول، وإذا دفع إليه الزاد حَفِظ ما يقولُ، وقال له: اقرأ عليه السلام وقيل له: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نسي أن يُزوِّدك، وإنما جاءه جبريل فذكَّره بك. فانتهى إليه وهو يقول تلك الكلمات، فأدَّى إليه الرسالة، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وصلّى على رسوله وقال: الحمد للَّه الذي ذكرني من فوق عرشه وسبع سماواته، ورَحِم جوعي وضَعفي، ياربّ، كما لم تنس حُدَيرًا فاجعل حُدَيرًا لا ينساك. قال: فحفظ عنه الرجل ما قال، ورجع فأخبر النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بما قال، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما إنك لو رفعتَ رأسَك إلى السماء لرأيتَ لكلامه نورًا ساطعًا بين السماء والأرض" (¬2). وفي الصحابة مَن اسمُه حُدير رجلان: أحدهما هذا وليس له رواية, والثاني حُدَير مولى بني سُلَيم وكنيته أبو فروة، له صحبةٌ وروايةٌ (¬3). ¬

_ (¬1) من هنا إلى نهاية ترجمة حدير ليس في (أ) و (خ). (¬2) المنتظم 4/ 240، وانظر صفة الصفوة 1/ 743 - 745، والإصابة 1/ 317. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر 180، وانظر في ترجمة الأخير الاستيعاب (3097)، والإصابة 1/ 316. قال =

ربيعة بن الحارث

ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب بن هاشم، ابنُ عمِّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكنيته أبو أروى، من الطبقة الثانية من المهاجرين، وكان أسنَّ من العباس بسنتين، وقيل بسبع سنين. ولما خرج العباس ونَوفل إلى المدينة مُهاجرَيْن أيام الخندق شيّعهما إلى الأبواء، وهَمَّ بالرجوع إلى مكة، فقالا له: إلى أين تَرجع؟ إلى دار الشِّرك إلى قوم يُحاربون اللَّه ورسوله، وقد أعزَّه اللَّه، وكثَّر أنصارَه، فرجع معهما إلى المدينة مُسلِمين، ثم شهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتحَ مكة وحنينًا، وثبت معه يومئذٍ، وشهد الطائف، وذكره بالمدينة في بني حُديلة، وقال فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نِعم الرجلُ ربيعة لو قصَّر من شعره، وشَمَّر من ثوبه" ففعل، وأطعمه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بخيبر مئةَ وسْق (¬1). العلاء بن الحَضْرميّ واختلفوا في اسم الحضرمي. فقال ابن سعد: اسمه عبد اللَّه بن ضِماد بن سلمى ابن أكبر، من حضر موت من اليمن (¬2)، وقيل: عماد بن مالك، وقيل: عبد اللَّه بن عماد، والعلاءُ حليف (¬3) لبني أمية بن عبد شمس. وذكر ابن سعد العلاء في الطبقة الثانية من المهاجرين، وأخوه ميمون بن الحَضْرميّ صاحبُ البئر التي بأعلى مكة بالأَبطح، يقال لها بئر مَيمون، مشهورةٌ على طريق العراق، وكان حفرها في الجاهلية (¬4)، وعندها مات أبو جعفر المنصور. بعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى بالبحرين بكتابه، يدعوه فيه إلى اللَّه تعالى، مُنصرَفَه من الجِعِرَّانة، وفيه فرائض الصَّدقة، ولما وَلَّى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العلاء البحرين، بعث معه نفرًا منهم أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-، وقال له: "استوص به خيرًا"، قال أبو هريرة: فقال ¬

_ = الحافظ: أبو فوزة، بفتح الفاء وسكون الواو بعدها زاي، وقال بعضهم: أبو فروة، وهو وهم. (¬1) ترجمة ربيعة ليست في (ك)، وانظر في ترجمته طبقات ابن سعد 4/ 43، والمعارف 127 - 128، والاستيعاب (756)، والمنتظم 4/ 241، والتبيين 103، والإصابة 1/ 506، والسير 1/ 257. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 276. (¬3) من قوله: واختلفوا في اسم الحضرمي. . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 276.

لي العلاء: انظر ما تحب فقال: تجعلني أُؤذّن لك، ولا تَسبقني بآمين، فأعطاه ذلك. وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد كتب إلى العلاء أن يَقدم عليه بعشرين رجلًا من عبد القيس، فقدم عليه بهم، ورئيسُهم عبد اللَّه بن عوف الأشجّ، واستخلف العلاءُ على البحرين المنذر بن ساوَى، فشكا الوفدُ العلاءَ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فعَزله عنهم، وولَّى أَبان بن سعيد بن العاص عليهم، وقال له: "استَوصِ بعبد القيس خيرًا وأكرم سَراتهم". فلم يزل أَبان على البحرين حتى قبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقدَم على أبي بكر رضوان اللَّه عليه، فقال له: ارجع إلى عملك، فقال: لا واللَّه، لا أعملُ لأحدٍ بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما امتنع دعا العلاءَ، فولاه البحرين، فخرج من المدينة في ستةَ عشر راكبًا، معه فُرات بنُ حيَّان العجليّ دليلًا، وكتب معه كتابًا أن يَنفر معه كلُّ مَن مَرَّ به من المسلمين. فسار حتى نزل بحِصن جُواثا، فقاتلهم فلم يُفلت منهم أحد، ثم أتى إلى القَطيف وبها جمع من العجم فقاتلهم، فأصاب منهم طرفًا، فانضمَّت الأعاجم إلى الزَّارة، فأتاهم العلاء، فنزل الخَطّ على ساحل البحر، فقاتلهم وحاصرهم؛ إلى أن توفي أبو بكر رضوان اللَّه عليه، وولي عمر رضوان اللَّه عليه، وطلب أهلُ الزَّارة الصُّلْحَ، فصالحهم العلاء، ثم عبر إلى أهل دَارِين فقاتلهم، فقتل المقاتلة، وحوى الذَّراري، وبعث عَرْفَجة ابن هَرْثَمة إلى أسيافِ فارس، فقطع في السفن، فكان أوَّل مَن فتح جزيرةً بأرض فارس، واتخذ فيها مسجدًا، وأغار على بارِنْجان والأسياف، وذلك في سنة أربعَ عشرة. قال الشعبي: كتب عمر بن الخطاب رضوان اللَّه عليه إلى العلاء بن الحَضْرميّ وهو بالبحرين أن سِرْ إلى عُتبة بن غزوان، فقد وَليتُك عملَه، واعلم أنك تَقدم على رجلٍ من المهاجرين الأوَّلين، الذين سبقتْ لهم من اللَّه الحُسنى، لم أعزِلْه ألا يكون عفيفًا صَليبًا في دين اللَّه، شديدَ البأس ولكنني ظننتُ أنك أغنى عن المسلمين في تلك الناحية منه، فاعرف له حقَّه، وقد ولَّيتُ قبلَك رجلًا، فمات قبل أن يَصل، فإن يُرد اللَّه أن تليَ وليت، وإن يرد اللَّه أن يليَ عُتبة فالخلقُ والأمر للَّه رب العالمين، واعلم أن أمر اللَّه مَحفوظ بحِفظه الذي أنزله، فانظر الذي خُلقتَ له فاكْدَح له، ودَعْ ما سواه، فإن الدنيا أمَدٌ، والآخرة أبد، فلا يُشغلنكم شيءٌ مُدبِرٌ خيرُه، عن شي باقٍ خيرُه، واهرب إلى اللَّه من سَخَطِه، فإن اللَّه يجمع لمن شاء الفَضيلة حِلمه وعلمه، نسألُ اللَّه لنا ولكم العَونَ على طاعته، والنجاةَ من عذابه.

فخرج العلاءُ من البحرين في رهطٍ منهم أبو هريرة وأبو بَكرة، فلما كانوا بتِياس قريبًا من الصّعاب -والصّعابُ من أرض بني تميم- مات العلاء -رضي اللَّه عنه-، ورجع أبو بكرة إلى البصرة، فكان أبو هريرة يقول: رأيتُ من العلاء ثلاثةَ أشياء، لا أزال أحبُّه أبدًا، رأيتُه قطع البحر على فرسه يوم دارِين، وقدم من المدينة يُريد البَحرين، فلما كان بالدهناء نَفِد ماؤهم، فدعا اللَّه فنبع لهم ماء من تحت رَمْلة، فارتَووا وارتحلوا، وأُنسِيَ رجلٌ منهم بعضَ مَتاعه، فرجع فلم يَجدِ الماء، وخرجتُ معه من البحرين إلى سِيف البصرة، فلما كنا بتِياس مات العلاء، ونحن على غير ماء، فأبدى اللَّه سحابةً فمُطِرنا، فغسّلناه، وحفَرنا له بسيوفنا ولم نُلحِد له، ودَفَنَّاه ومَضينا، فقلنا: رجلٌ من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دَفنّاه ولم نُلحد له، فرجعنا فلم نجد مَوضع قبره (¬1). وقال هشام: كان العلاءُ مُجاب الدعوة. قال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل بإسناده عن سهم بن مِنجاب قال: غزونا مع العلاء ابن الحَضرميّ دارِين، فدعا بثلاث دَعوات، فاستجاب اللَّه له فيهن، نزلنا مَنزلًا، فطلبنا الماء لنتوضأ فلم نجدْه، فصلَّى ركعتين وقال: اللهمَّ إنَّا عبيدك، ونقاتل عدوَّك في سبيلك، فاسقِنا غيثًا نَتوضأ منه ونشرب، فإذا توضأنا لم يكن لأحدٍ فيه نصيبٌ غيرنا. قال: فسرنا قليلًا وإذا نحن بماءٍ حين أقلعت السماءُ عنه، فتوضَّأنا وشربنا منه وتزوَّدنا، وملأت إداوتي، وتركتُها مكانَها حتى أَنظرُ هل استُجيبَ له أم لا؟ فسرنا قليلًا، فقلتُ لأصحابي: نسيتُ إداوتي في ذلك المكان، فجئتُ وإذا بمكانه كأنه لم يُصبْه الماء قط. ثم سِرنا، فأتينا دارِين والبحرُ بيننا وبينهم، فقال: يا عليم يا حكيم يا عليّ يا عظيم، إنَّا عبيدُك وفي سبيلِك، ثم اقتحم البحرَ فخُضنا وما يَبلغُ الماءُ لُبودَنا، فخرجْنا إليهم، فلما رجعنا أخذه البطنُ فمات، فطلبنا ماءً لنغسله به فما وَجدنا، فلففناه في ثيابه ودفنّاه، وسِرنا غير بعيدٍ، وإذا نحن بماءٍ كثيرٍ، فقلنا: لو رجعنا فاستخرجناه فغسلناه، فرجعنا فلم نجدْه، فقال رجل من القوم: إنّي سمعتُه يقول: يا عليُّ يَا عظيم يا حكيم، أخف عنهم موتي، ولا تُطلع على عورتي أحدًا، قال: فرجعنا وتركناه. قال: وكان الحسن يزيد فيه: يا حليم (¬2). وروي أن رجلًا من أهل البصرة دخلت في أُذنه ¬

_ (¬1) من قوله بعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى. . . إلى هنا ليس في (ك)، والخبر بطوله في طبقات ابن سعد 5/ 267 - 280، والمنتظم 4/ 242 - 243. (¬2) الزهد 212 - 213، وأخرجه مختصرًا أبو نعيم في الحلية 1/ 7 - 8، وأورده بطوله ابن الجوزي في صفة =

عمرو بن عبسة

حصاةٌ، فوصلت إلى صِماخه، فأسهرت ليلَه، ونَغَّصتْ عيشةَ نهاره، وعجز الأطباء عن استخراجها، فقال الحسن: فأين أنتَ من دعوة العلاء بن الحَضْرميّ التي كان يدعو بها؟ فدعا بها، فخرجت الحصاةُ من أُذنه ولها طنينٌ، فضربت الحائط (¬1). أسند العلاء الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتوفي العلاءُ في سنة سبعَ عَشْرة، وقيل: سنةَ خمس عشرة، والأوَّل أصحُّ (¬2). عمرو بن عَبَسة ابن خالد بن حُذيفة السُّلَميّ، من الطبقة الثالثة من بني سُلَيم، أسلم قديمًا بمكّة، ورجع إلى بلاد قومه، ثم قَدِم المدينة بعد خيبر، وأقام بها حتى تُوفّي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فخرج إلى الشام، فشهد اليرموك، وكان أحد الأُمراء يومئذٍ، ثم نزل حمص، فأقام بها حتى توفي بها سنة سبع عشرة، وشهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الطائف ورمى إليه بأَسهم، وكان يقول: رميتُ قصرَ الطَّائف بستة عشر سهمًا، وكان يقول: أنا رابعُ أربعة في الإِسلام، وكنيتُه أبو نَجيح. حديث إسلامه: قال عمرو بن عَبَسة: فَكَّرتُ في آلهة قومي، وإذا بها حجارةٌ لا تضرُّ ولا تَنفع، فعلمتُ أن ذلك باطل، فلقيت رجلًا من أهل تيماء، فقلتُ: إني امرؤٌ ممَّن يَعبدُ الحجارة، فينزل الحيّ ليس معهم إله، فيخرج الرجل منهم، فيأتي بأربعة أحجار، فيَنصِبُ ثلاثةً لقِدره، ويَجعلُ أحسنَها إلهًا يَعبُده، ثم لعله يَجد ما هو أحسن قبل أن يَرتحل، فيأخُذه ويتركه، فقال: يَخرج رجل من أهل مكة، يَرغب عن آلهة قومه، فاتَّبعْه فإنه على الحقّ. فكنتُ آتي مكة، فاسألُ عنه، وأتجسَّسُ (¬3) الأخبار، حتى قالوا: حدث رجلٌ يَرغبُ عن آلهةِ قومه، فتلطَّفتُ حتى رأيتُه، فقلتُ له: مَن أَنْتَ؟ فقال: "أنا نبيٌّ أرسلني ¬

_ = الصفوة 1/ 695 - 696. (¬1) صفة الصفوة 1/ 696 - 697. (¬2) انظر في ترجمة العلاء: المعارف 283 - 284، والاستيعاب (1986)، وتهذيب الكمال (5150) وفروعه، والسير 1/ 262، والإصابة 2/ 497 - 298. (¬3) في صحيح مسلم (832)، وبقية المصادر: أَتَخبَّرُ الأخبار.

أبو خيثمة

اللَّه"، قلتُ: بأيّ شيء؟ قال: "بصِلَةِ الأرحام، وكسر الأوثان، وأن نُوحِّدَ اللَّه لا نُشرِكَ به شيئًا"، قلتُ: فمَن معك على هذا؟ قال: "حرٌّ وعبد"، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فقلتُ له: إني مُتَّبعُك، فقال: "لا تستطيع ذلك يَومك هذا"، قلتُ: ولمَ؟ قال: "ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعتَ أني قد ظهرتُ فائتني"، فذهبتُ إلى أهلي، وقَدِم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، فقدمتُ عليه، فقلتُ: يا رسول اللَّه، أتعرفني؟ قال؟ "نعم، أَنْتَ الذي لقيتَني بمكة". أسند عمرو -رضي اللَّه عنه- الحديث (¬1). أبو خيثمة واسمُه مالك بن [قيس بن] ثعلبة بن العَجْلان الأنصاريّ -رضي اللَّه عنه-، من الطبقة الثانية من الأنصار، شهد أُحدًا وما بعدها من المشاهد، وهو الذي تأخَّر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزاة تبوك، ثم قَدم عليه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُن أَبا خيثمة". وليس له رواية (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (832) باب إسلام عمرو بن عَبَسة، وانظر طبقات ابن سعد 4/ 200 و 9/ 406، والمعارف 290، والاستيعاب (1748)، وتاريخ دمشق 55/ 320، والمنتظم 4/ 243، والإصابة 3/ 5. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 371، والاستيعاب (2906)، والمنتظم 4/ 246، والإصابة 4/ 54.

السنة الثامنة عشرة من الهجرة

السنة الثامنة عشرة من الهجرة وتُسمّى عامَ الطَّاعون، وعامَ الرمادة، تفانى فيه الناس. قال الجوهري: وطاعون عَمْواس أولُ طاعونٍ كان في الإِسلامِ بالشام، والطاعون: الموتُ [الوَحيُّ] في الوَباء (¬1). وعَمْواس: قريةٌ من قُرى الساحل في الأَطْرُون معروفة. وقال هشام (¬2): مات بطاعون عَمْواس في الشام ثلاثون ألفًا، وقيل: خمسةٌ وعشرون ألفًا. ولما وقع كتب عمر رضوان اللَّه عليه إلى أبي عبيدة -رضي اللَّه عنه-: أما بعد، فقد عرض لي أمرٌ، وأُريد أن أُشافِهَك به، فعزمتُ عليك إذا نظرتَ في كتابي هذا ألا تضعه من يديك حتى تَقدم عليّ، وإنما أراد أن يُخرجه من الوباء، فعرف أبو عبيدة مَقصودَه، فكتب إليه: إني قد عرفتُ حاجتَك، وإني في جُندٍ من المسلمين، لا أجدُ بنفسي رغبةً عنهم، فلستُ أُفارقَهم حتى يَقضي اللَّه فيَّ وفيهم أمرَه وقضاءَه، فحلِّلني من عَزمتك، فلما قرأ عمر -رضي اللَّه عنه- كتابَه بكى، فقال الناس: أماتَ أبو عبيدة؟ ! قال: لا (¬3). وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن شَهْر بن حَوْشب الأشعري، عن رجلٍ من قومه كان قد خلف على أُمِّه بعد أَبيه، وكان قد شهد طاعون عَمْواس قال: لمّا اشتعل الوجعُ، قام أبو عُبيدَة خطيبًا فقال: أيُّها النَّاسُ، إنَّ هذا الوجعَ رحمةٌ من ربكم، ودعوةُ نبيِّكم، وموتُ الصالحين قبلكم، وإنَّ أَبا عُبيدة يسألُ اللَّه أن يَقسمَ له حظًّا منه. قال: فطُعِن فمات، واستُخلف على الناس معاذ بنُ جبل، فقام خطيبًا بعده فقال: أيّها النَّاسُ، إن هذا الوجعَ رحمةٌ من ربكم، ودعوةُ نبيّكم، وموتُ الصالحين قبلكم، وإنَّ مُعاذًا يسألُ اللَّه أن يقسِمَ لآلِ مُعاذٍ حظًّا منه. قال: فطُعِنَ ابنُه عبد الرحمن فمات، ¬

_ (¬1) الصحاح (عمس، طعن)، وما بين معكوفين منه. (¬2) من قوله: والطاعون الموت. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬3) تاريخ دمشق (عاصم - عايذ) 313 - 315، ومن قوله: ولما وقع كتب. . . إلى هنا ليس في (ك).

فصل حديث الغار الذي وجد بجبل لبنان

ثم قام فدعا ربَّه لنفسِه، فطُعِنَ في راحته فلقد رأيتُه ينظر إليها، ثم يُقَبِّلُ ظهر كفِّه، ثم يقول: ما أُحبُّ أنَّ لي بما فيك شيئًا من الدنيا، ومات. فاستُخلف على الناس عمرو بنُ العاص، فقام فينا خطيبًا فقال: أيُّها الناسُ، إن هذا الوَجعَ إذا وقع اشتعلَ اشتعالَ النَّار، فتحيَّزوا منه في الجبالِ، فقال له أبو واثِلة الهُذَلي: كذبتَ، ولقد صحبتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنتَ شرٌّ من حماري هذا! فقال: واللَّه ما أردُّ عليك، ولا نُقيمُ عليه. ثم خرج، وخرج الناسُ، فتفرقوا عنه، ورفعه اللَّه عنهم. قال: وبلغ عمر بنَ الخطاب ذلك من رأي عمرو، فواللَّهِ ما كَرِهه (¬1). وقيل: إن القائل لعمرٍو ذلك شُرَحْبيل بن حسنة، وسنذكره. وقال الواقدي: أول ما ظهر الطاعون من قريةٍ بالساحلِ يُقال لها: عَمْواس، نبع الماء من بئرها، مات من المسلمين في شهرٍ واحدٍ خمسةٌ وعشرون ألفًا، ما كان أحدٌ يقول لأحدٍ: كيف أصبحتَ ولا كيف أَمسيتَ، وكان القبرُ يُرمى فيه جماعة، وعلَّق عمرو بنُ العاصِ بعمود خِبائه سبعين سيفًا، كلّها وَرِثه عن كَلالةٍ، أولا عن كلالة، وطمع العدوُّ في المسلمين. واختلفوا في أيِّ سنةٍ كان الطاعونُ على أقوالٍ: أحدُها في هذه السنة، ذكره الواقدي، والثاني في سنة سبع عشرة، قاله سيف، والثالث في سنة عشرين، والأوَّل أَشهر. وسنذكر أعيانَ مَن مات في هذه السنةِ في آخرها. فصل (¬2) حديث الغار الذي وُجد بجبل لبنان روى أبو الفضلِ بن ناصر بإسناده إلى الهيثم بن عدي قال: افتُتح غارٌ في جبل لبنان، فإذا فيه رجلٌ مُسَجَّى على سريرٍ من ذهبٍ، وإلى جانبِه لوحٌ من ذهبٍ مكتوب عليه بالرومية: أنا ساب ابن بوناس بن سابا، خدمتُ العيص بن إسحاق بن إبراهيم خليلِ الربِّ الأكبرِ، وعشتُ بعده دهرًا طويلًا ورأيتُ عجبًا كثيرًا، فلم أرَ أعجب من غافلٍ عن الموت وقد عاين مصارعَ آبائه، ووقف على قُبور أحبّائه، وعلم أنَّه صائرٌ إليهم لا ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1697). (¬2) من قوله: واختلفوا في أي سنة. . . إلى هنا ليس في (أ) (خ).

فصل

محالة، والذي بعد الموت من حساب الديّانِ أعظمُ. حفرتُ قبري هذا بيدي قبل أن أصير إليه بمئةٍ وخمسين عامًا، ووضعتُ سريري هذا فيه، وقد علمتُ أن الجفاةَ الأَجلاف يخرجوني من غاري، ويُنزلوني عن سريري، وهم يومئذٍ مُقِرُّون بربوبيّة الديّان الأعظم، وعند ذلك يتغيَّرُ الزمان، ويتأمَّرُ الصبيانُ، ويكثر الحَدَثان، ويظهرُ البُهتان، فمَن أدرك ذلك الزمان عاش قليلًا ومات ذليلًا، وبكى كثيرًا، ولا بُدَّ مما هو كائن أن يكون، والعاقبةُ للمتّقين، وقد رأيتُ الثلج نازلًا على هذا الجبلِ في تموز مرارًا، فإن رأيتُم ذلك، فلا تَعجبوا (¬1). فصل: وفيها أصاب جماعةٌ من المسلمين من الشَّراب بالشام، فسألهم أبو عبيدة: كيف تأوَّلتموه؟ فقالوا: تأوَّلنا قولَه تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فقد خيّرنا فاخترنا شُربه، فكتب أبو عبيدة فيهم إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه: اسألهم، فإن زعموا أنها حلالٌ فاقتُلهم، وإن زعموا أنَّها حرامٌ فاجلدْهم ثمانين، فسألهم فاعترفوا أنها حرامٌ، فجلد كلَّ واحد ثمانين، ثم قال عمر: لَيَحدُثَنَّ في هذا العام حادث، فحدث القحطُ والجوعُ والطاعون. وقال هشام: إنَّما حدث الطَّاعون بالشام لأجلِ هؤلاء الذين شربوا الخمر، وكان فيمن شرب أبو جندل. وفيها أَجدبتِ الأرضُ فكانت تَسفي الريحُ تُرابًا كالرَّماد، فسُمّي عام الرمادة، واختلطت الوحوشُ بالإنس، فصارت تَأوي إليهم. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن حزام بن هشام، عن أَبيه قال: لمَّا صَدر النَّاسُ من الحجّ سنة ثماني عشرة أصابَ النَّاسَ جَهدٌ شديدٌ، وأجدَبت البلادُ، وهلكت الماشيةُ، وجاع الناسُ وهلكوا، حتى كان الناسُ يُرَوْن يَستفُّون الرُّمَّةَ، ويَحفرون نُفَق اليرابيع والجُرذان يُخرِجون ما فيها. قال: وقال الواقدي فيما حكاه عن أشياخه: إنما سُمّي عامَ الرَّمادة لأن الأرضَ كلَّها صارت سوداء، فشُبِّهت بالرَّماد، وكانت تسعةَ أشهر (¬2). ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 247 - 249. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 288.

وكان عمر يُصلّي الليل كلَّه، فإذا كان السَّحَرُ بكى وقال: اللهمَّ لا تجعلْ هلاكَ أمَّةِ مُحَمَّدٍ على يديّ، أو على رجلي. وآلى عمرُ أنْ لا يذوقَ لحمًا ولا سَمنًا حتى يَحيا الناسُ، وكان يأكلُ الزيتَ فيُقَرْقِرُ جَوفُهُ فيقول: قَرْقِر، فواللَّه لا تأكلُه حتى يَأكُلَه الناسُ. وقال الواقدي: حدثني أُسامةُ بنُ زيدٍ، عن نافعٍ مَولى الزبير قال: سمعتُ أَبا هُريرة يقول: رحم اللَّهُ ابن حَنْتَمة، لقد رأيتُه عامَ الرَّمادة وإنه ليَحملُ على ظهره جرابَيْن وعُكَّةَ سمنٍ أو زيتٍ في يده، وإنَّه ليَعْتَقِبُ هو وأَسلم، فلما رآني قال: من أين؟ قلتُ: من هاهُنا قريبًا، قال: فأخذتُ أُعقِبهُ، فحملْناه حتى انتهينا إلى صِرار، فإذا صِرْم نحوٌ من عشرين بيتًا، فقال: ما أَقدَمكم؟ قالوا: الجهدُ، وأخرجوا لنا جلدَ الميتة مشويًّا يأكلونه، ورِمَّة عظامٍ مَسحوقة يَستفّونها، فطبخ لهم عمر، وأطعمهم حتى شبعوا، وأرسل إلى المدينة، فجيء بأربعة أَبعِرةٍ، فحمل عليها ما يُصلحهم، وكساهم، وكان يَختلفُ إليهم وإلى غيرهم حتى رفع اللَّه ذلك. قال: وقال الواقدي: وحدثني عبد اللَّه بن يزيد، عن عِياض بن خَليفة قال: رأيتُ عمر عامَ الرَّمادة وهو أسود اللون، ولقد كان أبيض اللون، أكل الزيت فتغيَّر لونُه. وقال الواقدي عن بعض نساء عمر قالت: ما قَرُب عمر امرأةً زمان الرَّمادة حتى أحيا الناس. قال: وقال الواقدي: نظر عمر إلى بطّيخةٍ في يد بعض أولاده، فقال عمر: بَخْ بَخْ يَا ابن أمير المؤمنين، تأكلُ الفاكهة وأُمَّة محمدٍ هَزْلى؟ فخرج الصبيُّ هاربًا، فقالت أُمُّه: اشتراها بكفٍّ من نَوى. وقال الواقدي: حدثني عبد اللَّه بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: كتب عمر إلى عمرو بن العاص عام الرمادة: من عبد اللَّه أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي، أما بعد أفتُراني هالكًا ومَن قِبَلي وتعيشُ أَنْتَ ومَن قِبَلك؟ واغَوْثاه، قالها ثلاثًا (¬1). وكتب إلى أُمراء الأجناد والشام والعراق كذلك، فجاءته الأمدادُ والمِيرةُ من بعد، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 288 - 294.

حديد استسقاء عمر بن الخطاب بالعباس

وكانت مدّة الجهد تسعة أشهر. حديد استسقاء عمر بن الخطاب بالعباس روى سيف بن عمر، عن سهل بن يوسف، عن عبد الرحمن بن كعب قال: أقبل بلالُ بن الحارث المزنيُّ إلى عمر فقال: أنا رسولُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إليك؛ إنَّه يقرأ عليك السلامَ ويقول لك: لقد عَهِدتُك كَيِّسًا، فما شأنُك؟ قال: فخرج عمر فصعد المنبرَ ونادى: الصلاة جامعةٌ، فاجتمع النَّاسُ فقال: أَنشُدُكم اللَّه، هل تعلمون مني أمرًا غيرُه خيرٌ منه؟ قالوا: اللهمَّ لا، قال: فإن بلالَ بنَ الحارث يقول ذَيَّة وذَيَّة، قالوا: صدق بلال، فاستَغِث إلى اللَّه بالطلب والاستسقاء، فقال عمر: اللَّه أكبر! بلغ البلاءُ مُدَّتَه؛ ما أُذِنَ لقومٍ في الطلب إلَّا وقد رُفع عنهم البلاء. ومعنى ذَيَّة وذَيَّه، أي: كَيْتَ وكَيتَ (¬1). فخرج إلى المصلَّى، فصلّى ركعتين واستسقى، وأخذ بيد العباس -رضي اللَّه عنه- وقال: اللهمَّ إنَّا نَتقرَّب إليك بعمِّ نبيِّك ونَستشفع به، فاحفَظْ به نبيَّك كما حفظتَ الغُلامَيْن بصلاح أبيهما، وقد أتيناك مُستغفِرين ومُستشفعين، اللهمَّ إن الرَّاعي لا يُهمل الضالّة، ولا يَدع الكَسير بدار مَضِيعة، وقد ضَرع الصغير, ورقَّ الكبير، وارتفعت الشكوى، وعَظُمت البَلوى، وأنت تعلم السِّرَّ والنَّجوى، اللهمَّ فأَغِثْهم بغياثك من قبل أن يَقنطوا فيَهلكوا، فإنه لا يَيأس من رَوح اللَّه إلَّا القومُ الكافرون، فنشأت طَريرةٌ من سحاب، فقال الناس: تَرون تَرون! ثم تلاءمت واستَتَمَّتْ، ثم هَدرت ودَرَّت، فواللَّه ما بَرحوا حتى اعتقلوا الحِذاء، وقَلَّصوا المآزر، والعباس -رضي اللَّه عنه- يبكي، وعيناه تَنضحان، فطَفِق الناس يَمسحون أركانَه ويقولون: هنيئًا لك يَا ساقي الحرمَيْن. قال الفضل بن عُتبة بن العباس بن أبي لهب: [من الطويل] بعمّي سقى اللَّه الحجازَ وأهلَه ... عَشِيَّةَ يَستسقي بشَيبته عُمرْ توجَّه بالعباس في الجَدْب راغبًا ... فما كرَّ حتى جاء بالدِّيمة المطرْ (¬2) وقال هشام: ذبح رجلٌ من مُزَينةَ شاةً، فسلخها عن عظمٍ أحمر فنادى: وامحمَّداه ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 98 - 99، والمنتظم 4/ 250. (¬2) تاريخ دمشق (عبادة - عبد اللَّه بن ثوب) 187 و 189، ومن قوله: فخرج إلى المصلى. . . إلى هنا ليس في (ك).

فصل

ثلاثًا، ثم نام فرأى رسول اللَّه في المنام، فقال له: ائتِ عمر، وقُل له: عهدي بك وأنت شديدُ العهد والعَقْدِ، الكَيْسَ [الكَيْس]، فجاء عمَر فأخبره، فصعِد المنبر وقال بمعنى ما ذكرنا، ففطِنوا، وقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء لنا، فاخرج إلى المُصلَّى، فخرج إلى المُصلَّى فصلى ركعتين واستسقى. وقال ابن سعد بإسناده عن الشعبي: أنَّ عمر خرج يستسقي، فقام على المنبر وقرأ هؤلاء الآيات: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] ثم نزل، فقيل له: ما منعك أن تَستسقي؟ فقال: قد طلبتُ المطرَ بمَجاديح السَّماء التي ينزل بها القَطْرُ (¬1)، ومَجاديح السماء: أنواؤها. وقال الواقدي: فقيل إنَّه أخذ بيد العباس وخرجا ماشيَين، وعبدُ اللَّه بن العباس معهما، فصَعِد عمر المنبر، ووقف بين العباس وابنه، ولزم بعَضُد العباس وقال: اللهمَّ إنَّا كنَّا نتوسَّلُ إليك بنبيّك -صلى اللَّه عليه وسلم- فتَسقينا، ونحن نتوسَّل إليك بعمِّ نبيّك، ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} الآيات [نوح: 10]. وقال ابن إسحاق: فما وصلوا إلى بُيوتهم إلا وهم يخوضون في الماء، فقيل لعمر: قد اختصرتَ في الدُّعاء، هلّا قلتَ: غيثًا مُغيثًا؟ فقال: لقد استسقيتُ بمَجاديح السماء، وذكره. ثم قَدِمت السُّفنُ من مصر من عمرو بن العاص، فيها الحنطةُ والأطعمة، وبعث أبو عبيدة بأربعة آلاف راحلةٍ من الشام، وبُعث إليه من العراق، وعاش الناسُ. وهل كان هذا قبل طاعون عَمْواس أو بعده؟ فيه قولان. وقال هشام: أوَّل ما قدم عليه طعامُ أبي عُبيدة في أربعةِ آلاف راحلة، فأمر له بأربعةِ آلافِ درهم، فلم يقبَلْها وقال: إنما أردتُ وجهَ اللَّه، فلا تُدخل عليَّ الدنيا، فقال عمر: لا بأس، فقد جرى لي مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مثل هذا، وذكر الحديث، فأَخَذها. فصل: وفيها فُتحت حرَّان والرُّها وعينُ وَرْدة بالخابور، بعد غاراتٍ كثيرةٍ، وصالحوهم على صُلح دمشق. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 298.

وقال خليفة: إنَّما فُتحت هذه الأماكنُ على يد أبي موسى الأشعري، سار إليها من البصرة بأمر عمر، وكان أبو عبيدة قد جهَّز إليها عياض بن غَنْم، فاتفقا على الفتوح، وقيل: إن خالد بن الوليد افتتح الرُّها ونَصيبين وآمِد وسُمَيْساط (¬1). وفيها فُتحت أماكنُ العراق منها الأهوازُ، وكانوا قد نقضوا العَهد، فبعث إليهم عمرُ أَبا موسى الأَشعريّ، واستخلف على البصرة عمران بنَ الحُصين، وسار إليها فافتتحها، ووظَّفَ عليها عشرةَ آلاف ألف وأربع مئة ألف درهم، ثم سار إلى جُنْدَي سابور والسُّوس وجُرجان وأَذْرَبِيجان وطَبَرِسْتان. وقيل: إنما سُمِّيت جُرجان لأنه بناها جُرجان بن لاوِذ بن سام بن نوح، وقيل: إنها فُتحت في سنة اثنتين وعشرين. وقال أبو الحسن المدائني: إنما فُتحت جُرْجان في سنة ثلاثين في خلافة عثمان -رضي اللَّه عنه-، وأما أذربيجان ففُتحت على يد عُتبة بن فَرْقَد صُلْحًا. قال سيف بن عمر: قَدِم عتبةُ على عمر ومعه سِلالٌ فيها خَبيصٌ، فوجد بين يديْ عمر جفنةً فيها فِدَرٌ من سَنام جَملٍ، فقال له: كُلْ، فأخذ قطعة منه، فلم يَسِغْها، وكشف السِّلال فقال: ما هذا؟ قال: خَبيصٌ أهديتُه لك من أَذْرَبيجان، فقال: أكلّ المسلمين أهديتَ لهم مثلَ هذا؟ قال: وأيُّ مالٍ يتَّسِعُ لهم؟ فقال: ضُمَّ إليك هدَّيتك، فلا حاجةَ لي في شيءٍ لا يَسعُ المسلمين (¬2). وقد قيل: إن طَبَرِسْتان فُتِحت على يد عُتبة أيضًا، وقيل: على يد سُوَيد بن مُقَرِّن. وفيها استَقضى عمر شُرَيحَ بن الحارث على الكوفةِ، واستقضى كعبَ بنَ سُوْر على البصرةِ، وسببُ استقضائه كعبَ بن سُورٍ ما أَنْبأنا به غيرُ واحدٍ عن فخر النساء شُهْدَة بنت أحمد بن الفرج بن عُمر الإِبَري قالت: حدثنا نقيبُ النُّقباء، ذو الرِّئاستَين، شهابُ الحضْرتَين أبو الفوارس طِراد بنُ محمد بن عليّ الزَّينبي بإسناده، عن عبد الكريم بن أُمية قال: جاءت امرأةٌ إلى عمر بن الخطاب فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يَصوم ¬

_ (¬1) تاريخ خليفة 139. (¬2) المنتظم 4/ 252 - 254، والفدر: قِطع اللحم.

النهار ويَقوم الليل، وأنا أكره أن أَشكُوَه، فقال عمر: نِعم الرجلُ زوجُك، فجعلت تُردّد كلامَها وعمرُ لا يزيدُ على ذلك، وكان عنده كعبُ بنُ سُورٍ فقال: يا أمير المؤمنين، إنها تَشكو زوجَها في هجرِه فراشَها، فقال له عمر: كما فهِمتَ إشارتَها فاقضِ بينهما، فأرسل إلى زوجها فجاء، فقال لها كعبٌ: ما تَقولين؟ فقالت: [من الرجز]: يَا أيُّها القاضي الحكيمُ أرشدهْ أَلهَى خليلي عن فراشي مَسجِدُهْ زهَّده في مضجعي تعبُّدُه نهارُه وليله ما يَرقُدُه ولستُ في أمر النّساء أَحمَدُهْ فقال كعبٌ لزوجها: ما تقول أنت؟ فقال: زهَّدني في فَرْشِها وفي الكِلَلْ أني امرؤٌ أَذهلَني ما قد نَزَلْ في سُورة النَّمل وفي السَّبْعِ الطُّوَل فقال له كعبُ بن سُوْر: إن لها عليك حقًّا يَا رجُلْ نصيبُها في أربعٍ لمَن عَقَلْ فأدِّها ذاك ودَعْ عنك العِلَلْ فقال له عمر: ولمَ؟ قال كعبٌ: لأن اللَّه أباح للمسلم أربعَ زوجاتٍ، ولكل واحدةٍ منهن يومٌ وليلة، ولما لم يكن له سوى زوجةٍ واحدة فنصيبُها على تقدير الأربع يومٌ وليلة، فقال عمر: واللَّه ما أدري ممَّ أعجب؟ من فهمك إشارتها، أو من قَضائك بينهما (¬1). ¬

_ (¬1) أخبار القضاة 1/ 276 - 277، والاستيعاب (2187)، والمنتظم 5/ 115 - 116. وأخرج القصة دون الشعر ابن سعد 7/ 92، ووكيع في أخبار القضاة 1/ 275 - 276.

أويس القرني

قلتُ: والعجبُ من هذا الحكم وإمضائه! ولا خلاف بين العلماء أن عماد القَسْم الليلُ، وأنه متى كان للرجل زوجةٌ لم يَجُزْ له أن يَبيتَ عنها ثلاث ليالٍ من غير عُذرٍ، وهل يكون القَسْمُ إلَّا بين الزَّوجات؟ أما مع الواحدة فلا قائل به، بل الزمان كلُّه حظُّ المرأة الواحده، وإن كانتا اثنتين كان القَسْمُ بينهما، وهذا كعبُ بن سُوْر الأَسدي قُتل يوم الجمل، وسنذكره هناك (¬1). وحجَّ بالناس عمرُ، وحوَّل المقام إلى موضعه اليوم، وكان مُلصقًا بالكعبة. فصل وفيها توفي أُوَيْس القَرَني قال ابن سعد في "الطبقات": أويسٌ من الطّبقة الأولى من التابعين، من أهل الكوفة، وفي رواية أنه من أهل اليمن (¬2)، ونزل الكوفة، وأدرك حياة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يره، ووفد على عمر بعرفات. وذكره (¬3) البخاري فقال: أُويس القَرَني من أهل اليمن، مُراديٌّ (¬4). وقال أبو أحمد بن عدي: له نُتَفٌ وحكايات وأخبار في زُهده (¬5). وكان أُويس ثقةً صدوقًا، وقصَّته مشهورةٌ، أخرجها مسلم فقال: حدثنا محمد بن المثنى بإسناده، عن أُسَيْر بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتتْ عليه أمدادُ أهل اليمن يسألهم: هل فيكم أُوَيس بن عامر؟ حتى أتى على أُوَيس فقال له: أنت أُوَيس؟ قال: نعم، قال: أمن مُرادٍ؟ قال: نعم، قال: من قَرَنٍ؟ قال: نعم، قال: كان بك بَرَصٌ فبَرِأتَ منه إلا مَوضِعَ درهم؟ قال: نعم، قال: ألك والدةٌ خَلَّفْتَها باليمن؟ قال: نعم، فقال عمر: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يأتي عليكم أُوَيسُ بنُ عامرٍ مع أمداد أهل اليمن، كان به بَرَصٌ فبَرئ منه إلا موضعَ درهم، له والدةٌ هو بارٌّ بها, لو أقسم ¬

_ (¬1) من قوله: قلت والعجب. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) انظر طبقات ابن سعد 8/ 281. (¬3) من هنا إلى ما بعد صفحات ليس في (أ) و (خ). (¬4) التاريخ الكبير 2/ 55. (¬5) الكامل في الضعفاء 1/ 404.

على اللَّه لأَبرَّه، فإن استطعتَ أن يَستغفِر لك فافعل"، فاستغفِرْ لي، فاستغفر له، ثم قال له عمر: أين تُريدُ؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتبُ لك إلى عاملها فيستوصي بك؟ فقال: لأن أكونَ في غَبْراء الناس أحبّ إليَّ. فلما كان في العام المقبل حجَّ رجلٌ من أشرافهم، فوافق عمرَ، فسأله عن أُويس: كيف تركْتَه؟ قال: رب البيت قليلَ المتاع، فقال عمر: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول، وذكره، ثم قال عمر للرجل: إن استطعتَ أن يَستغفرَ لك فافعل، فلما قدم الرجلُ الكوفة أتى أويسًا القرنيَّ فقال: استغفِر لي، فقال: أنت أحدثُ عهدًا بسفرٍ صالحٍ، فردَّد عليه القول فقال: هل لقيتَ عُمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، وفَطِن له الناس، فانطلق على وجهه. قال أُسير بن جابر: فكسوتُه بُرْدةً فكان كلَّما رآها عليه إنسان قال: من أين لأُويسٍ هذه البردةُ؟ انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وروى عكرمةُ عن ابن عباسٍ قال: مكث عمر يَطلبه عشرَ سنين حتى ظَفِر به في آخرِ خلافته. وقال عبد الغني بن سعيد: أُوَيس القَرَني، وقَرَنٌ: بَطنٌ من مرادٍ، أخبر به رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل وُجوده (¬2). وقال ابن سعد بإسناده عن أُسَيْر بن جابر قال: كان محدِّثٌ بالكوفةِ يُحدِّثنا، فإذا فرغ من حديثِه تفرَّقوا، ويبقى رهطٌ فيهم رجلٌ يتكلَّمُ بكلامٍ لا أسمعُ أحدًا يتكلَّم كلامَه، فأحببتُه ففقدتُه، فقلتُ لأصحابي: هل تعرفون رجلًا كان يُجالسُنا كذا وكذا؟ فقال رجلٌ من القوم: نعم أنا أعرفُه، ذاك أُوَيس القَرَني، قال: فتعلمُ منزلَه؟ قال: نعم، قال: فانطلقتُ معه حتى ضربتُ حُجْرتَه، فخرج إليَّ، فقلتُ: يا أخي، ما حَبَسك عنا؟ قال: العُرْيُ، وكان أصحابُه يُؤذونه ويَسخرون به، قال فقُلتُ: خُذ هذا البُرْدَ فالبَسه، قال: لا تَفعل، فإنَّهم إذًا يُؤذونني إن رأَوه عليَّ، قال: فلم أزل بهِ حتى لَبِسه، وخرج عليهم، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2542) (220). (¬2) تاريخ دمشق 3/ 194 (مخطوط).

فقالوا: مَن تَرَوْن خدع عن بُرْدهِ هذا؟ قال: فجاء فوضعه وقال: أتَرى؟ قال أُسَيْرٌ: فأتيتُ المجلسَ فقلتُ: ما تُريدون من هذا الرَجل؟ قد آذَيْتموه، الرجل يَعْرى مرَّةً ويكتسي أُخرى. قال: فقُضي أن أهلَ الكوفةِ وفَدوا على عمرَ، فوفد رجلٌ ممَّن كان يَسخرُ به، فقال عمر: هل هاهنا أحدٌ من القَرَنيين؟ فجاء ذلك الرجل، فقال: إن رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد قال: إن رجلًا يَأتيكم من اليمن، يُقال له أُوَيس، لا يَدعُ باليمن غيرَ أُمّ، وقد كان به بياض، فدعا اللَّه فأذهبه عنه إلا مثل الدرهم، فمَن لَقيه منكم فمُروه فليستغفر لكم. قال: فقدم علينا فقلتُ: من أين؟ قال: من اليمنِ، قال قلتُ: ما اسمُك؟ قال: أُوَيس، قلتُ: فمَن تركتَ باليمنِ؟ قال: أُمًّا لي، قال: أكان بك بَياضٌ فدعوتَ اللَّه فأذهبه عنك؟ قال: نعم، قال: استغْفِر لي، قال: أو يستغفِرُ مِثلي لمثلك يَا أميرَ المؤمنين؟ قال: فاستغفر له. قال: قلت له: أنتَ أخي لا تُفارقني، فامَّلَس مني، فأُنبئتُ أنَّه قَدِم عليكم الكوفةَ. قال: فجعل ذلك الرجل الذي قال يَسخَرُ به ويَحتقره يقول: ما هذا؟ هذا عندنا وما نَعرفُه؟ ! فقال عمر: بلى إنَّه رجل كذا، كأنَّه يضعُ من شأنِه، قال: فينا يا أمير المؤمنين رجلٌ يقالُ له أُوَيس يُسْخَرُ به، قال: أَدركْ ولا أُراك تُدْرِك. قال: فأقبل ذلك الرجل حتى دخل عليه قبل أن يَأتيَ أهلَه، فقال له أُويس: ما هذه بعادتِك فما بدا لك؟ قال: سمعتُ عمر بنَ الخطاب يقول فيك كذا وكذا، فاستَغْفِر لي يَا أُوَيسُ، فقال: لا أفعل حتى تجعلَ لي عليك ألا تسخَرَ بي فيما بعد، ولا تذكر الذي سمعتَ من عمر إلى أحدٍ، قال: فاستغفر له. قال أُسير: فما لبثنا أن فشا أمرُهُ في الكوفةِ، فأتيتُه فدخلتُ عليه، فقلتُ له: يا أخي، ألا أراك العجبَ ونحن لا نشعر؟ قال: ما كان في هذا ما أتبلَّغُ به في الناسِ، وما يُجْزى كلُّ عبدٍ إلَّا بعملهِ، ثم امَّلس منهم فذهبَ (¬1). وقال ابن سعد بإسنادِه عن سلّام بن مسكين: حدثني رجل قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خليلي من هذه الأمة أُويس القَرَني" (¬2). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 282 - 283. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 283.

وقال أبو نُعَيم الحافظ بإسناده عن أبي هُريرة قال: قال رسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه يحبُّ من خَلْقه الأصفياءَ الأخفياءَ، الشَّعثةَ رؤوسُهم، المُغْبَرَّةَ وجوهُهم، الخَميصةَ بطونُهم، الذين إذا استأذنوا على الأُمراء لم يُؤذَن لهم، وإن خَطبوا المُنَعَّمات لم يُنكحوا، وإن غابوا لم يُفْتَقدوا، وإن طَلعوا لم يُفْرَح بطلعتهم، وإن مَرِضوا لم يُعادوا، وإن ماتوا لم يُشهدوا، قالوا: يا رسول اللَّه، وكيف لنا برجلٍ منهم؟ قال: ذاك أُوَيس القَرَني، أشهلُ ذو صُهوبةٍ، بعيدُ ما بين المَنْكبَيْن، مُعتدِلُ القامة، آدمُ شديدُ الأُدْمَة، ضاربٌ بذَقنه على صدره، رامٍ ببصره مَوضعَ سجوده، واضعٌ يمينَه على شماله، يَتلوا القُرآن ويَبكي على نفسه، ذو طِمْرَيْن لا يُؤبه له، مُتَّزرٌ بإزارٍ من صوفٍ، ورداءٍ من صوف، مجهولٌ في أهل الأرض، معروفٌ في أهل السماء، لو أقسم على اللَّه لأبرَّه، ألا وإن تحت مَنكبه الأيسر لَمعةً بيضاء، ألا وإنه إذا كان يومُ القيامة يُقال للعباد: ادخلوا الجنَّة، ويُقال لأُويسٍ: قف فاشفَعْ، فيُشفِّعه اللَّه في مثل عدد ربيعة ومُضر. يَا عمر ويا علي، إذا أنتُما لقيتماه فاطلبا إليه أن يَستغفر لكما، يَغفر اللَّه لكما". قال: فمكثا يَطلبانه عشرَ سنين، لا يَقدران عليه، فلما كان في آخر السنة التي هلك فيها عمر قام على أبي قُبيس، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الحجيج من اليمن، أُوَيسٌ فيكم؟ فقام شيخ كبير، فقال: إنَّا لا ندري ما أُوَيس؟ ولكن لي ابنُ أخٍ يُقال له أُوَيس، هو أخملُ ذكرًا، وأقلُّ مالًا، وأهون أمرًا من أن تَرفعه إليك، وإنه ليرعى إِبِلَنا بأَراك عَرفات، وهو حقيرٌ بين أظهُرنا. فركب عمر وعليٌّ حمارَيْهما، وأسرعا إلى عرفات، وإذا به قائمٌ يُصلِّي إلى شجرة، والإبلُ ترعى حوله، فشدّا حمارَيهما، وأقبلا إليه فسلَّما عليه، فخفَّف من صلاته، وردَّ عليهما، فقالا: مَن الرَّجُل؟ قال: راعي إبلٍ وأجيرُ قومٍ، قالا: لسنا نَسألُك عن هذا، وإنما سألناك عن اسمك، فقال: اسمي عبد اللَّه، قالا: قد علمنا أن أهل السماء والأرض كلَّهم عبيدُ اللَّه، فما اسمُك الذي سمَّتك به أمُّك؟ فقال: يا هذان، ما تُريدان مني؟ قالا: وصف لنا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أُوَيْسًا القَرَني، فقد عرفنا الصُّهوبةَ والشُّهولةَ، وأنبأنا أن تحت مَنكبك الأَيسر لَمعةً بيضاءَ، فأَوضِحْها لنا، فإن كانت بك، فأنت هو. فأوضح مَنكبه فبدت اللمعةُ البيضاءُ، فابتدراه يُقَبِّلانه ويقولان: نشهدُ أنك أُويسٌ،

فاستغفِر لنا يَغفر اللَّه لنا، فقال: ما أخصُّ باستغفاري نفسي ولا أحدًا من ولد آدم، ولكنه في البرِّ والبحر، وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، ثم قال: يا هذان، قد شَهر اللَّه لكما حالي، وعَرَّفكما مَكاني، فمَن أنتُما؟ فقال له عليّ: أما هذا فأميرُ المؤمنين، وأما أنا فعلي بن أبي طالب، فقام أُويس قائمًا وقال: السلامُ عليك يَا أمير المؤمنين ورحمةُ اللَّه وبركاتُه، فردَّ عليه فقال: وأنت يَا ابن أبي طالب، فجزاكم اللَّه عن هذه الأُمة خيرًا، فقالا: وأنت فجزاك اللَّه عن نفسك خيرًا، ثم قال له عمر: مكانَك يَرحمك اللَّه؛ حتى أَدخُلَ مكة، فآتيك بنفَقةٍ من عطائي، وكسوةٍ من ثيابي، هاهُنا ميعاد ما بيننا، فقال له أُويس: لا ميعاد بيني وبينكم، لا أَراك بعد اليوم، ما أَصنع بالنَّفقة والكسوة؟ أما ترى عليَّ إزارًا من صوفٍ ورداءً من صوف؟ متى تراني أُخْلِقُهما؟ أما ترى نَعليَّ مَخصوفَتَين؟ متى تراني أُبليهما؟ أما تراني أخذتُ من رعاية الإبل أربعةَ دراهم؟ متى تراني آكلُها؟ يَا أمير المؤمنين، إن بين يديك عَقبةً كَؤودًا، لا يُجاوزُها إلا كلُّ ضامِرٍ مُخفٍّ مَهزول، فخفِّف يَرحمك اللَّه، فلما سمع عمر ذلك ضرب بدرَّته الأرض، ثم نادى بأعلى صوتِه: يا ليت عمر لم تَلدْه أمّه، يَا ليتها كانت عاقرًا لم تُعالج حملَها، ألا مَن يَأخذُها بما فيها؟ فقال أويسٌ: خُذا هاهُنا حتى آخُذَ هاهُنا، فأخذا ناحية مكة، وساق أُويسٌ الإبل، فدفعها إلى أصحابها، وأقبل على العبادة حتى لحق باللَّه تعالى (¬1). وقال أبو نعيم: إنما منع أُويسًا أن يَقدم على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بِرُّه بأمِّه (¬2). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن هَرِم بن حيّان العَبدي قال: قدمتُ من البصرة، فلقيتُ أُوَيسًا القَرَني على شطِّ الفُرات بلا حذاءٍ, فقلتُ: كيف أَنْتَ يَا أخي؟ حدِّثني؟ قال: أكرهُ أن أَفتح هذا الباب على نفسي، يعني أن أكون مُحدِّثًا أو قاصًّا أو مُفتيًا، ثم أخذ بيدي وبكى، قال: قلتُ: فاقرأ عليَّ، فقال: أعوذُ باللَّه السميع العلم من الشيطان: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} إلى قوله: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 1 - 6] قال: فغُشي عليه، ثم أفاق وقال: الوحدةُ أحبُّ [إليَّ] (¬3). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 80 - 83، قال الذهبي في السير 4/ 28: وهذا سياق منكر لعلّه موضوع. (¬2) الحلية 2/ 87. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 285 وما بين معكوفين منه.

قلتُ: وقد روى قِصَّته مع هَوِم بن حَيَّان غيرُ ابن سعدٍ، فأنبأنا غيرُ واحدٍ، عن أبي الفضل محمد بن ناصر بإسناده (¬1)، عن علقمة قال: انتهى الزُّهد إلى ثمانيةٍ من التابعين، منهم أُوَيس القَرَني، ظنَّ أهلُه أنَّه مجنون، فبَنَوْا له [بيتًا] على باب دارهم، فكانت تأتي عليه السِّنون لا يَرودْ له وجهًا، وكان طعامُه مما يَلتقط من النوى، فإذا أمسى باعه وأفطر على ثَمنه. فلما ولي عمر بن الخطاب قال في الموسم: أيها الناسُ، قوموا، فقاموا، فقال: اجلسوا إلا مَن كان من اليمن، فجلسوا، فقال: اجلسوا إلا مَن كان من مُراد، فجلسوا، فقال: اجلسوا إلا مَن كان من قَرَن، فجلسوا إلا رجُلًا، وكان عمَّ أُويسٍ، فقال له عمر: أقَرَنيٌّ أَنْتَ؟ قال: نعم، قال: أتعرفُ أُوَيسًا؟ قال: وما تَسأل عنه؟ فواللَّه ما فينا أجنُّ ولا أحوجُ ولا أحمقُ منه، فبكى عمر ثم قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يدخُل الجنَّة بشفاعته مثلُ ربيعةَ ومُضر". وقال هَرِم بن حَيَّان: فلما بلغني ذلك قدمتُ الكوفة فلم يكن لي همٌّ إلا طَلَبه، حتى سقطتُ عليه جالسًا نصفَ النهار على شاطئ الفرات يتوضَّأ، فعرفتُه بالنَّعت الذي نُعِت لي، فإذا رجلٌ نحيلٌ آدمُ شديدُ الأُدمة، أشعثُ مَحلوقُ الرأس، مهيبُ المنظر، فسلَّمتُ عليه فردَّ عليَّ، فمددتُ يدي لأُصافحه فأبى، فقلتُ: رحمك اللَّه يَا أُويسُ وغفر لك، كيف أَنْتَ؟ وخَنَقتْني العَبْرة من حبِّي إياه ورقَّتي عليه، لما رأيتُ من حاله، وبكيتُ وبكى وقال: وأنت فحيَّاك اللَّه يَا هَرِم بن حَيَّان، مَن دلَّك عليّ؟ فقلتُ: اللَّه، فقال: لا إله إلا اللَّه، سبحان ربِّنا إن كان وَعدُ ربِّنا لمَفعولا. قلتُ: فمن أين عرفتَ اسمي واسمَ أبي، وما رأيتَني قطُّ، ولا رأيتُك قبل اليوم؟ فقال: أنبأني العليمُ الخبير، عرفتْ روحي روحَك حين كلَّمتْ نَفسي نفسَك، إن المؤمنين يَعرف بعضُهم بعضًا، ويتحابون بروح اللَّه وإن لم يَلتقوا، وإن نأَت بهم الدار، وتفرَّقت بهم المنازل. قلتُ: حدِّثني عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إني لم أُدْركْه، ولم يكن لي معه صُحبةٌ، ¬

_ (¬1) إلى هنا ليس في (أ) و (خ) مما أشير إليه قبل صحائف.

بأبي وأُمي رسولُ اللَّه، ولكني قد رأيتُ مَن رآه، ولستُ أُحبُّ أن أفتح هذا الباب، فأكون محدِّثًا أو قاصًّا أو مُفتيًا، في نفسي شُغلٌ عن الناس. قلتُ: اقرأ عليَّ آياتٍ من كتاب اللَّه، وأوصني بوصيةٍ، فقال: أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم، قال ربِّي وأصدقُ الحديثِ حديثُ ربي: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)} الآية [الدخان: 38]، ثم شَهق شَهقةً فطننتُه قد مات، ثم أفاق فقال: يا هَرِم بن حيَّان: مات أبوك، ويوشك أن تموت أنت، فإما إلى الجنّة وإما إلى النار، ومات آدم وحوَّاء ونوحٌ وإبراهيم ومحمد صلى اللَّه عليهم أجمعين، ومات أبو بكر خليفةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومات أخي وصديقي عمرُ بنُ الخطاب، فقلتُ له: إن عمر لم يَمُت، فقال: بلى، قد نعاه إليَّ ربّي، ونَعى إليَّ نفسي، وأنا وأنت في الموتى، ثم دعالي وأوصاني وقال: السلام عليك، لا أَراك بعد اليوم؛ فإنِّي أكره الشُّهرة، خُذْ أَنْتَ هاهُنا، حتى آخذ أنا هاهُنا، ودخل بعضَ السّككِ، ثم طلبتُه بعد ذلك أشدَّ الطَّلب فلم أجد أحدًا يعرفُه، وأنا باكٍ عليه، وأَراه كل وقتٍ في منامي (¬1). قلتُ: وهذا هَرِم بن حَيّان العَبْدي ذكره ابن سعدٍ في الطبقةِ الأولى من التَّابعين من أهل البصرة، استعمله عمر بن الخطاب (¬2)، وروى عن عمر الحديث وعن جماعةٍ من الصحابة، وكان عالمًا زاهدًا صالحًا، وروى عنه الحسنُ البصري وغيرُه، وإنما سُمّي هَرِمًا لأن أمَّه حملتْ به سنتين، وولدته وقد بدت ثناياه، وسنذكره في سنة ستٍّ وأربعين (¬3). وقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: كان أُويسٌ يلقُطُ الكِسَرَ من المزابل، فيغسلها في الفرات، ويفطر على بعضها، ويتصدَّقُ بالباقي، ويأخذُ الرُّقَع من المزابل، فيغسلها في الفُرات، ويَرقعُ بها ثوبَه، وعَري حتى جلس في قَوْصَرة. وجاء يومًا إلى مَزْبَلةٍ أو كُناسةٍ يَتَقمَّمُ منها وعليها كلبٌ، فنبح عليه، فقال له أُويس: كُلْ ممّا يَليك، وآكلُ أنا مما يَليني، إن دخلتُ الجنّةَ كنتُ خيرًا منك، وإن دخلتُ النَّار كنتَ خيرًا مني. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية 2/ 84 - 86، وابن عساكر في تاريخ دمشق 3/ 206 - 208، قال الذهبي في السير 4/ 29 عن هذه القصة: لم تصح، وفيها ما يُنكر. (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 131. (¬3) من قوله: قلت وهذا هرم. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

ذكر وفاته

وقال أُويس: لا تنظُر إلى صِغَر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة مَن عصيتَ. وقال: إني لأصلُ إخواني بالدعاء بظهر الغيب؛ لأن الزيارة واللقاء قد يعرضُ فيهما التصنُّع والرِّياءُ (¬1). وقال أبو نُعيم بإسناده: كان أُويسٌ إذا أمسى يقول: هذه ليلةُ السجود، فيسجد حتى يُصبح، وإذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع إلى الصَّباح (¬2). ذكر وفاته: واختلفوا فيها ولم يذكرها ابن سعد في "الطبقات"، وروى أبو نعيم، عن عبد اللَّه ابن سلمة قال: غزونا أَذْرَبيجان في أيام عمر بن الخطاب ومعنا أُوَيس، فمرض بعد رجوعنا، فحملناه فلم يَستمسكْ، فمات في منزل، فإذا قبرٌ محفورٌ، وماءٌ مَسكوب، وكفنٌ وحَنوط، فغسلناه وكفنَّاه، وصلَّينا عليه ودفنَّاه، ثم مَضَينا، فقال بعضُنا لبعضٍ: لو رجعنا فعلَّمْنا قبرَه، فرجَعْنا إلى المكان فلاعَينٌ ولا أَثَر (¬3). وقد حكى جدِّي هذا في "المنتظم"، ثم قال: وقد رُوي أنه عاش بعد ذلك طويلًا، حتى قُتل مع عليّ عليه السلام يومَ صِفّين، قال: والأَوَّلُ أَثبت (¬4). يعني: أنَّه مات في هذه السنةِ. قلتُ: الرواياتُ الظاهرةُ تدلُّ على أنَّه عاش إلى أيام صِفّين. قال ابنُ سعد بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادى رجلٌ من أهل الشام فقال: أفيكم أُوَيسٌ القَرَني؟ قالوا: نعم، قال: إني سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنَّ من خير التَّابعين أُوَيسًا القَرَنيَّ"، ثم ضرب دابَّته فدخل فيهم (¬5)، يعني عسكر عليٍّ عليه السلام. ¬

_ (¬1) انظر صفة الصفوة 3/ 55، والمنتظم 4/ 254 - 255، وشذرات الذهب 1/ 214. (¬2) حلية الأولياء 5/ 87. (¬3) الحلية 2/ 83 - 84. (¬4) المنتظم 4/ 256 - 257. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 283.

الحارث بن هشام

وكذا حديث أبي هريرة الذي أخرجه أبو نُعيمٍ (¬1)، وفيه: فلما كان في آخر السنة التي هلك فيها عمر قام على أبي قُبَيْسٍ، وذكره. وعمر إنما هلك في سنة ثلاثٍ وعشرين، وهي متأخرةٌ عن هذه السنة. وقال ابنُ أبي ليلى: وُجِد أُويسٌ قتيلًا يوم صِفّين، وقال عبد الغني بن سعيد: شهد أُوَيس صِفِّين مع عليٍّ عليه السلام، وكان من خيار المسلمين. وقال ابن أبي ليلى: قبرُه بالرَّقَّةِ، حمله عليٌّ عليه السلام فدفنه بها في جُملة الشُّهداء. وذكر ابن عساكر في "تاريخه" وقال: ويُقال إن قبرَ أُوَيسٍ بباب الجابية (¬2). الحارث بن هشام ابن المغيرة بن عبد اللَّه بن مخزوم، اختُلف في وفاته؛ فقيل في طاعون عَمْواس، وقيل استُشهد باليرموك وهو أولى (¬3). سهيل بن عمرو ابن عَبْد شَمْس بن عبد وُد بن نَصْر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي بن غالب، وكُنيتُه أبو زيد، من الطبقة الرابعة من المسلمة (¬4) بعد الفتح، وكان من سادات قُريش وأشرافِهم، والمنظور إليه منهم، شهد بدرًا كافرًا، فأسره مالك بن الدُّخْشُم، وكان ابنُه عبد اللَّه قد أسلم قديمًا، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، فلما كان يومُ الفتح أخذ لأبيه أمانًا، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الفتح: "لا تتعرَّضوا لسُهيل؛ فإن له عقلًا وشَرفًا"، وأسلم سُهيل بالجِعْرانة، وأعطاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئةً من الإبل. ولم يكن أحدٌ من كُبراء قريش؛ الذين تأخَّر إسلامُهم فأسلموا يوم الفتح أكثرَ ¬

_ (¬1) سلف قريبًا. (¬2) تاريخ دمشق 3/ 218 و 194 و 192، ومن قوله: ذكر وفاته. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ)، وجاء بدله فيهما: واختلفوا في وفاته، فقيل هذه السنة، وقيل في أيام صفين، وقيل فيما بين ذلك. (¬3) سلفت ترجمته في سنة (13 هـ)، ومن بداية ترجمة الحارث إلى ترجمة أبي عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنهما-، ليس في (ك). (¬4) في (أ) و (خ): بهن مسلمة؟ !

صلاةً، ولا صيامًا، ولا صدقةً، ولا أَقْبلَ على ما يَعنيه من أمر الآخرة من سُهيل بن عمرو، حتى إن كان لقد شَحِب وتَغيَّر لونُه، وكان كثيرَ البكاء، رقيقًا عند سماع القرآن وقراءته. ولقد رُئي يَختلف إلى مُعاذ بن جبل يُقرئه القرآن وهو بمكة، حين خرج معاذ إلى مكة (¬1)، حتى قال له ضِرار بنُ الخطاب: يا أَبا يزيد، تَختلف إلى هذا الخزرجيّ يُقرئك القرآن! هلا يكون اختلافُك إلى رجلٍ من قومك؟ فقال: يا ضرار، إن هذا الذي صنع بنا ما صنع، حتى سبقنا كلّ السَّبْق، إني لعَمري اختلف إليه، فقد وَضع اللَّه أمرَ الجاهلية، ورَفع بالإِسلام أقوامًا كانوا لا يُذكرون، فليتنا كنا مع أولئك فتقدمنا، وإني لأذكر قَسْم اللَّه لي في تقدُّم [إسلام] أهلي، حتى الرجال والنساء، ومولاي عُمير (¬2) بن عوف، فأُسَرّ به، وأَحمَد اللَّه عليه، وأرجو أن يكون اللَّه نفعني بهم ودعائهم؛ ألا أكون متُّ أو قُتلت على ما مات عليه نُظرائي أو قتلوا. وقد شَهدت مَواطنَ كلّها أنا فيها مُعانِد الحق: يوم بدر واحد والخندق، وأنا وَليتُ أمرَ الكتاب يوم الحديبية، وإني لأذكُر مُراجعتي رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومئذٍ، وما كنتُ أَلطُّ به من الباطل، وأنا بمكة وهو بالمدينة، فأستحيي منه، ولكن ما كان فينا من الشرك أعظم من ذلك، ولكن رأيتني يوم بدر وأنا في حَيِّز المشركين، وأَنظُر إلى ابني عبد اللَّه وعُمير ابن وهب مولاي قد فرَّا مني، فصارا في حيِّز محمد، وما عمي عني يومئذٍ من الحق لما أنا فيه من الجهالة، وما أرادهما اللَّه به من الخير، ثم قُتل ابني عبد اللَّه يوم اليمامة، فعَزّاني فيه أبو بكر وقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الشَّهيد لَيَشفع لسبعين من أهل بيته" (¬3)، وإني لأرجو أن أكون أوَّلَ مَن يشفع [له]. قال الحسن رحمه اللَّه: حَضر بابَ عمر بن الخطاب سُهيل بنُ عمرو، والحارث بنُ هشام، وأبو سفيان بنُ حَرْب، ونَفرٌ من قُريش من تلك الرؤوس، وصُهيب وبلال وتلك ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 6/ 125، والمنتظم 4/ 259: حتى خرج معاذ من مكة. (¬2) في (أ) و (خ): عمرو، وهو خطأ، وسيترجم له المصنف قريبًا. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 125، والمنتظم 259 - 260، وأخرج الحديث أبو داود (2522)، وابن حبان (4660)، والبيهقي في الكبرى 9/ 164 من حديث أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه-.

عمرو بن حاطب بن عمرو

الموالي، فخرج إذْن عمر للموالي، وترك أولئك، قال أبو سفيان بن حَرْب لسُهيل بن عمرو وأصحابِه: لم أرَ كاليوم، يَأذن للعبيد ونحن على بابه لا يَلتفِتُ إلينا، فقال سهيل ابن عمرو وكان عاقلًا: أيها القوم، إنْ كنتم غِضابًا فعلى نفوسكم فاغضبوا، دُعي القومُ ودُعيتُم، فأسرعوا وأبطأتُم، فكيف بكم إذا دُعوا يوم القيامة وتُركتم، أما واللَّه لما سَبقوكم إليه من الفَضْل مما لا ترون أشدُّ عليكم فَوْتًا من بابكم هذا الذي تُنافسوهم عليه، ونَفض ثوبه وانطلق. قال الحسن: صدق واللَّه سُهيل، لا يجعل اللَّه عبدًا أسرع إليه كعبد أَبْطأ عليه. ولما قُتل عبد اللَّه بن سُهيل باليمامة شهيدًا قال أبوه سُهيل: لا أزال بالشام حتى أموتَ شهيدًا، فمات بعَمْواس رحمه اللَّه (¬1). عمرو بن حاطب بن عمرو (¬2) من الطبقة الأولى من السابقين إلى الإِسلام، أسلم قبل دخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دارَ الأَرْقم، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعًا، ولما هاجر إلى المدينة نزل على رِفاعة بن عبد المنذر، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها. وكان له ولدان: أحدهما سَليط بن عمرو (¬3)، من المهاجرين الأوَّلين، وشهد أحدًا، وفي بدر خلاف، وبعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هَوْذَة بن عليّ وثُمامة بن أُثال الحنفييْن رئيسي اليمامة، وابنه سَليط بن سَليط، شهد اليمامة مع أبيه. كسا عمر -رضي اللَّه عنه- الصحابة -رضي اللَّه عنهم- حللًا، ففضل عنده حُلَّة فقال: دلُّوني على فتى هاجر ¬

_ (¬1) انظر في ترجمته طبقات ابن سعد 6/ 119 و 8/ 14 و 9/ 408، والمعارف 284، والاستيعاب (1079)، والمنتظم 4/ 258، والتبيين 473، والإصابة 2/ 93. (¬2) كذا في (أ) و (خ) وهو خطأ، صوابه حاطب بن عمرو، فالترجمة التالية له، ولم يذكر مَن ترجموا له وفاته في هذه السنة، ولعل المصنف أورده لأنه أخو سُهيل. انظر طبقات ابن سعد 3/ 375، والاستيعاب (527)، وأنساب الأشراف 1/ 251، والتبيين 477، والإصابة 1/ 301. (¬3) كذا، وهو خطأ، فإن سليط بن عمرو أخو سهيل وحاطب والسكران وسهل، وكان لحاطب من الأولاد عمرو، انظر طبقات ابن سعد 4/ 203 (صادر)، وأنساب الأشراف، والاستيعاب (1097)، والتبيين 478، والإصابة 2/ 71.

عمير بن عوف

هو وأبوه، فقالوا: عبد اللَّه بن عمر، فقال: لا, ولكن سَليط بنُ سَليط، فكساه إياها. ومن إخوة سُهيل بن عمرو: سَهْل بن عمرو، أسلم يوم الفتح، ومات بالمدينة في أيام عمر رضوان اللَّه عليه. عُمَير بن عوف مولى سُهيل بن عمرو، من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهدَ كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولما هاجر إلى المدينة نزل على كُلثوم بن الهِدْم، مات بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، وصلّى عليه [عمر] (¬1). شُرَحْبيل بن حَسَنة وهي أمُّه، من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة المرّة الثانية، وكان من كبار الصحابة، وغزا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عدَّةَ غزوات، وهو أحد الأُمراء الذين عَقد لهم أبو بكر رضوان اللَّه عليه على الشام، وافتَتح الأُردُنَّ كلَّه عَنوة، ما خلا طَبَريّة؛ فإن أهلَها صالحوه. ولما قدم عمر رضوان اللَّه عليه الشام نزع شُرحبيل عن الإمرة، فقال لعمر رضوان اللَّه عليه: أعَجَزْتُ أم خُنتُ؟ فقال: لا, ولكن تَحرَّجتُ أن أُؤَمِّرَك، وأنا أجدُ مَن هو أكفأُ منك، قال. فقُم فاعْذِرني، فقام في الناس فقال: ما عزلتُ شُرحبيل عن خيانة، ولكن أردتُ أَجلَدَ منه، وتُوفّي بعَمْواس -رضي اللَّه عنه- (¬2). فصل (¬3) وفيها توفي أبو عبيدة بن الجراح واسمه عامر بن عبد اللَّه بن الجراح بن هلال بن أُهَيْب بن ضَبّة بن الحارث بن فِهر ابن مالك بن النُّضْر بن كنانة، وعند فِهر يلتقي مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في النسب، وأمُّه أُميمة بنت ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 377، والاستيعاب (1710)، والإصابة 3/ 34. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 127 (صادر) و 9/ 397، والاستيعاب (1153)، وتاريخ دمشق 8/ 26 (مخطوط)، والمنتظم 4/ 261، والإصابة 2/ 143. (¬3) إلى هنا ليس في (ك) مما أشير إليه قبل صفحات.

ذكر جملة من فضائله

غَنْم بن جابر بن عبد العُزّى، وأُمّها دَعْد بنت هلال بن أُهيب، فِهْريَّةٌ. وحكى البلاذريّ، عن المدائني، عن أبي اليقظان أنَّه قال: أسلمت أمُّ أبي عبيدة وزوجُها (¬1). وقال عبد اللَّه بن شَوْذَب: خرج أبو أبي عُبيدةَ يوم بدرٍ مع الكفّار، وابنُه أبو عبيدة مع المسلمين، فجعل أبوه يتعرَّضُ له ليقتله، وجعل ابنُه أبو عُبيدة يَحيد عنه، فلما كثر قَصْدُه له قتله أبو عبيدة، ونزل قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المجادلة: 22] (¬2). وأبو عُبيدة -رضي اللَّه عنه- من الطبقة الأولى من المهاجرين، واحد العشرة المبشرين، أسلم قديمًا هو وعثمان بن مَظعون وعبد الرحمن بن عوف وعبيدة بن الحارث وأبو سلمة بن عبد الأسد (¬3) في ساعة واحدة، قبل دخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم. وكان طُوالًا، نَحيفًا، أَجْنأ، مَعْروقَ الوجه، خفيفَ اللحم، أَثْرَم الثَّنيَّتَين، هُتِما يومَ أحد لما نزع حَلْقَتَيْ المِغفَر من وَجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان يَخضِبُ بالحِنَّاء والكَتَم، ونَقْش خاتَمه: الخُمُس للَّه. ذِكرُ جملةٍ من فضائله: حكى ابن سعدٍ عن ابن إسحاق والواقديّ أنه هاجر إلى الحبشة الهجرةَ الثانيةَ. ولم يذكُره موسى بن عقبة وأبو معشر (¬4). وقال البلاذري: هاجر الهجرتين جميعًا، ثم هاجر إلى المدينةِ فنزل على كلثوم بن الهِدْم (¬5). وشهد بدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وثبت يوم أُحدٍ لمّا انهزم النَّاسُ، ولما دخلت حَلَقَتا المغْفَرِ في وجْنتَي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نزعهما، فسقطت ثنيَّتاه، فكان أحسنَ الناس هَتْمًا، وقد ذكرناه في غزاةِ أُحد (¬6). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 1/ 258 و 9/ 325. (¬2) تاريخ دمشق (عاصم - عايذ) 226، والحلية 1/ 101، ومن هنا إلى ذكر جملة من فصائله ليس في (ك). (¬3) في (أ) و (خ): الأشهل، والمثبت من تاريخ دمشق 263، وكتب التراجم والسير. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 379. (¬5) أنساب الأشراف 1/ 259 و 9/ 324. (¬6) سلف في السيرة.

وقال ابن سعدٍ بإسناده عن أنسٍ قال: لما قَدِمَ وَفْدُ اليمن على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سألوه أن يَبعث معهم رجلًا يُعلِّمهم الفرائض والسننَ، ويُعلّمهم الإِسلام، فأخذ بيدِ أبي عبيدة وقال: "إنَّ لكلّ أمّةٍ أمينًا، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة". أخرجاه في الصحيحين (¬1). ولما بلغ عمر سَرْغ حُدِّث أن بالشام وباءً شديدًا، فقال: بلغني شدَّة الوَباء بالشام، فقال: [إنْ] أدركَني أجلي وأبو عبيدة حيٌّ استَخْلَفتُه، فإن سألني اللَّه: لمَ استخلفتَه على أمّة محمد؟ قلتُ: سمعتُ نبيَّك -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لكلِّ أمّة أمينٌ، وأمين هذه الأمَّة أبو عبيدة ابنُ الجراح"، فإن أدركَني أجلي وقد تُوفّي أبو عبيدة استخلفتُ مُعاذ بنَ جَبَل، فإن سألني ربّي: لمَ استَخلفتَ معاذًا؟ قلتُ: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مُعاذٌ يوم القيامة بين يدي العلماء، بيده اللواء" (¬2). وقال ابن سعدٍ عن أبي هريرة قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نِعم الرجلُ أبو عبيدة بن الجراح" (¬3). ورُوي أن عمر بن الخطاب قال لأصحابه: تمنَّوْا، فقال رجلٌ: أتمنّى لو أن لي هذه الدارَ مملوءةً لؤلؤًا وزَبَرْجَدًا وجوهرًا أُنْفقه وأَتصدَّقُ به، فقال: تمنَوْا، فتمنَّوا، فقال عمر: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةً رجالًا مثلَ أبي عُبيدة (¬4). وقال أبو نُعيم بإسناده عن هشام بن عروة، عن أَبيه قال: لمّا قَدِم عمر الشَّامَ تلقَّاه الناسُ وعُظماءُ أهلِ الأرضِ، فقال عمر: أين أخي أبو عُبيدة؟ قالوا: الآن يَأتيك، فلما أتاه نزل فاعتنقه، ثم دخل بيته فلم يَرَ فيه إلَّا سيفَه وتُرْسَه ورَحْلَهُ، فقال له عمر: ألا اتَخذتَ ما اتَّخذ أصحابُك؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، هذا يُبَلِّغُني المَقيلَ (¬5). وقد ذكرنا أن عمر قَبَّل يده لمَّا لَقِيه، وقال ابنُ سعدٍ بإسناده عن قتادة، عن العِرْباض قال: قال أبو عبيدة: وَدِدْتُ أني كنتُ كَبْشا فذبحني أهلي، وأكلوا لحمي، وحَسَوْا مَرَقي (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 381، وصحيح البخاري (3744)، وصحيح مسلم (2419). (¬2) تاريخ دمشق (عاصم - عايذ) 285 - 287، ومن قوله: ولما بلغ عمر سَرْغ. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 381. (¬4) تاريخ دمشق 302، والحلية 1/ 102. (¬5) حلية الأولياء 1/ 101 - 102. (¬6) طبقات ابن سعد 3/ 382، وتاريخ دمشق 312، وليس فيها العرباض.

وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين طلحة بن عُبيد اللَّه -رضي اللَّه عنه- (¬1)، وكان يُدعى القويّ الأمين، وبعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على عِدَّةِ سرايا، وبعثه في سرية أميرًا وفيهم أبو بكر وعمر رضوان اللَّه عليهما. وقيل لعائشة رضوان اللَّه عليها: مَن كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مُستخلِفًا لو استَخْلَف؟ فقالت: أبو بكر، قيل: فمَن بعده؟ قالت: عمر، قيل لها: فمَن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة (¬2). وقال له أبو بكر رضوان اللَّه عليه يوم السقيفة: مُدَّ يدك لأُبايعك، فقال له أبو عبيدة -رضي اللَّه عنه-: ما كنتُ لأُصلّيَ برجل أَمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأَمَّنا حتى قُبض (¬3). وقال ابن سعدٍ بإسنادهِ عن العِرْباضِ بن سارِية قال: دخلتُ على أبي عُبيدَة في مرضِه الذي مات فيه، فقال: يَغفِرُ اللَّه لعمر بن الخطاب رجوعَه من سَرْغٍ؛ سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويقول: "المطعون شهيد، والمبطون شهيد، والغَريقُ شهيد، والحَرِقُ شهيد، والهَدَمُ شهيد، وذاتُ الجَنْب شهيد، والمرأةُ تموت بِجُمْعٍ شهيدة" (¬4). وله معنيان: أحدُهما: أن تموتَ عَذْراءَ، والثاني: أن تموت وفي بَطنها ولدُها. وقال هشام: لما أتى عمرُ الشام نزل بمنزل أبي عُبيدة، فقالت له امرأتُه: أهلًا وسهلًا يا أمير المؤمنين، فقال: أفلانةُ؟ قالت: نعم، قال: والذي نفسي بيده لأسوءنَّك، قالت: هل تستطيعُ أن تَسلِبني الإِسلامَ؟ قال: لا واللَّه، قالت: فما أُبالي ما كان بعد ذلك. قال: وكانت أهدت امرأةُ عظيمِ الرومِ عند فتح دمشق لامرأة أبي عبيدة عِقدًا فيه خرزٌ ولؤلؤٌ وشيءٌ من ذهب، يُساوي ثلاث مئة درهم أو دينار -اشتبه على الراوي، وقيل: إنَّما أهدت لها تاجًا مُرَصَّعًا- فلما نزل عمر منزل أبي عُبيدة جاءت ابنةٌ له ¬

_ (¬1) كذا ذكر، وفي طبقات ابن سعد 3/ 379، وأنساب الأشراف 9/ 324، وتاريخ دمشق 256، وتهذيب الكمال: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- آخى بين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومحمد بن مسلمة، وفي سيرة ابن هشام 1/ 505 أن أبا عبيدة وسعد بن معاذ أخوين. (¬2) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (204)، (1286)، وابن عساكر 299 - 300. (¬3) تاريخ دمشق (عاصم- عايذ) 289، ومن قوله: وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 383.

جُوَيْرِية، فجلست بين يدي عمر، فجعل يَستطعمها الكلامَ ما حَلْيُك؟ فقالت: كذا وكذا، وسمعتْه أُمُّها من داخل البيت فقالت: كأنك تُريد العِقد أو التاج؟ قال: نعم، فقالت: نعم، قسمه أبو عبيدة بين المسلمين، ولم يُعطِنا منه شيئًا، فسكت. ولم يذكر هشام اسمَ امرأة أبي عبيدة، وذكرها الحافظ ابن عساكر في آخر تاريخه، في ذكر النساء، في حرف التاء وقال: اسمُها تحيفة بالتاء (¬1). قال الشيخ موفق الدّين رحمه اللَّه في الأنساب: لما قدم عمر رضوان اللَّه عليه الشام [قال لأبي عُبيدة]: ألا تَسْتَزيرُني؟ فقال: أخاف أن تعصر (¬2) عينيك، فاستزاره، فلم يجد في بيته إلَّا طِنْفِسَة رَحْلِه، فقدم إليه خبزًا يابسًا ومِلحًا، فقال له عمر رضوان اللَّه عليه: هلا اتَّخذتَ ما اتَّخذه غيرُك؟ فقال: هذا يُبلّغني المحل، فبكى عمر رضوان اللَّه عليه وقال: أنت أخي، ما أجد إلا مَن غَرَّتْه الدُّنيا غيرك. وكان يسير في العسكر ويقول: ألا رُبَّ مُبَيّضٍ لثيابه مُدَنِّس لدِينه، ألا رُبَّ مُكرِمٍ نفسَه وهو لها مُهين، فادْرؤوا السِّيئات القديمات بالحسنات الحَديثات، فلو أن أحدكم عمل من السيّآت ما بينه وبين السماء، ثم عمل حَسنةً لعلت فوق سيئاته حتى تَقهرهنّ (¬3). ودخل عليه بعضُ أصحابه في مرضه فوجده يبكي، فقال: ما يُبكيك؟ فقال: أبكي أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر يومًا ما يَفتح اللَّه على المسلمين ويَفيءُ عليهم، حتى ذكر الشام فقال: "إنْ يُنسَأ في أجَلك يَا أَبا عبيدة، فحسبُك من الخَدَم ثلاثة: خادم يَخدُمك، وخادم يُسافر [معك]، وخادم يَخدُم أهلَك، وحَسبُك من الدَّوابّ ثلاثة: دابّة لرجلك (¬4)، ودابة لثَقَلِك، ودابّة لغُلامك"، وها أنا أنظُر إلى بيتي قد امتلأ رَقيقًا، وإلى مَرْبَطي قد امتلأ دوابًّا وخيلًا، فكيف ألقى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد هذا؟ وقد أوصانا: "إن أحبكّم إليَّ وأقرَبكم منّي مَن لَقيني على مثل الحال التي فارقَني عليها" (¬5). وقد ذكرنا أن أَبا عبيدة شهد بَدْرًا والمشاهِدَ كلّها، واليرموكَ وأجنادين وفحْلًا ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 5/ 327 - 328، وليس في المطبوع أو المخطوط من تاريخ دمشق. (¬2) في (أ) و (خ): تعصب، والمثبت من التبيين 494 وما بين معكوفين منه. (¬3) الزهد لأحمد 230، والحلية 1/ 102. (¬4) في (خ): لرحلك. (¬5) تاريخ دمشق (عاصم - عايذ) 308 - 309، ومن قوله: قال الشيخ موفق الدين. . إلى هنا ليس في (ك).

ذكر وفاته

ومرجَ الصُّفَّر ودمشقَ وغيرَ ذلك. ذكر وفاته: روى ابن سعدٍ عن الواقدي قال: شهد أبو عبيدة بدرًا مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ابن إحدى وأربعين سنةً، ومات بطاعون عَمْواس سنة ثماني عشرة، ومات عن ثمانٍ وخمسين سنةً (¬1)، أو سبعٍ وخمسين سنةً (¬2). واختلفوا في مَوضع قبره، فقال ابن الكلبي: قبره بعَمْواس، وهي قريةٌ بينها وبين الرَّمْلة ثلاثةُ أميالٍ، أو أربعةُ أميالٍ. وقال الواقديّ وضَمْرة بن ربيعة: قبرُه ببَيْسان. قلتُ: ورأيتُ بطَبَريّة مشهدًا، وفيه قبر، وعلى حائطه بَلاطة عليها مكتوب: هذا قبرُ أبي عبيدة بن الجراح، تُوفّي بطاعون عَمْواس سنة عشرين، وقيل: إنه بِفِحْل، واللَّه أعلم. وصلى عليه معاذ بن جبل، ونزل في قبرِه، والمشهور أنَّه بعَمْتا من الغَورِ (¬3). أسند الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). عامر بن غَيْلان بن أَسْلَم الثَّقفي (¬5) أسلم قبل أَبيه وهاجر، وله صحبة، وكان شاعرًا وأُمُّه خالدة بنت أبي العاص. ولما هاجر عامر إلى المدينة عمد خازن غَيْلان إلى مالٍ له، وسَرقه ودفنه في خارج الححن، وقال لغَيْلان: إن ابنَك سَرق مالك، وراح به إلى المدينة، فشكاه إلى الناس، وبلغ عامرًا فلم يَعتذر إلى أَبيه، ولم يذكر براءته مما قيل عنه، ولما شاع ذلك جاءت أَمَةٌ لبعض آل ثَقيف، فقالت لغيلان: أيّ شيءٍ [لي] عندك إن دَلَلْتُك على مالك؟ قال: مهما شئتِ، قالت: تَشتريني وتُعتِقني، قال: نعم، فأخرجَتْه إلى ظاهر الحِصْن، وقالت رأيتُ عبدك فُلانًا قد دفن ههنا شيئًا في بعض الليالي، وإنه يَتعاهَدُه في كلِّ وقت، فنبش المكان، وأخذ المال، فاشترى الأمَةَ وأَعتقها. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 383 - 384 و 9/ 389. (¬2) في (أ) و (خ): وقيل تسع وخمسين. (¬3) انظر تاريخ دمشق 316 - 322. (¬4) انظر في ترجمتة إضافة إلى ما سلف: المعارف 247 - 248، والاستيعاب (3036)، والمنتظم 4/ 261 - 262، والإصابة 2/ 252، والسير 1/ 5. ومن هنا إلى بداية ترجمة معاذ بن جبل ليس في (ك). (¬5) كذا، والذي في الأغاني 13/ 200، والاستيعاب (1846)، وجمهرة ابن حزم 268، وتاريخ دمشق (عاصم - عايذ) 426، والإصابة 2/ 255: عامر بن غيلان بن سلمة بن معتب.

عامر بن مالك

وبلغ الخبرُ عامرًا فقال: واللَّه لا يَراني غَيْلان أبدًا، وخرج عامر وعُمارة أخوه إلى الشام مُجاهِدين، فمات عامر بطاعون عَمْواس في حياة أَبيه، وأسلم غَيْلان، وقدم المدينة، رحمه اللَّه تعالى. عامر بن مالك أخو سعد بن أبي وَقّاص لأبَويْه، من الطبقة الثانية من المهاجرين، هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، ولَقي من أُمّه حَمْنَة بنت سفيان بن أُميَّة أَذًى، آلت لا تَستَظِلُّ بظِلٍّ، ولا تَأكلُ طعامًا، ولا تَشرب شرابًا حتى يعود عامر إلى الكُفر، واجتمع عليها الناس، وأقبل سعد بنُ أبي وَقَّاص -رضي اللَّه عنه-، فرأى الناس مُجتمعين عليها، قال: مالَك؟ فقالت: حلفتُ على كذا وكذا، فقال سعد -رضي اللَّه عنه-: يا أُمّه، عليَّ فاحْلِفي، إنك لا تَستَظلِّي بظِلٍّ، ولا تَأكُلي طعامًا، ولا تشربي شَرابًا حتى تَرَيْ مَقعدَك من النَّار، فقالت: إنما حلفتُ على ابني البَرّ، فأنزل اللَّه تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية [لقمان: 15]. شهد عامر أُحدًا، وكُنيتُه أبو صفوان، وتُوفّي بطاعون عَمْواس، وقيل باليرموك، وقيل بأَجْنادين، وليس له زوجة، رحمه اللَّه تعالى (¬1). عُمير بن عديّ ابن خَرشَة بن أُميَّة بن عامر بن خَطْمة، أسلم قديمًا، وكان ضَريرًا، وهو الذي قتل عَصْماء بنت مَروان اليهوديّة، كانت تُؤذي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتُحرض عليه، وتقول الأشعار، فلما غاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ببدر؛ نَذر عُمير (¬2) إن عاد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سالمًا أن يقتُل عصماء، فلما عاد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من بدر؛ أتاها عُمير نِصفَ الليل، فقَتلَها، وكانت وَفاتُه بالمدينة، -رضي اللَّه عنه- (¬3). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 115، والاستيعاب (1820)، وتاريخ دمشق (عاصم - عايذ) 435، والتبيين 291، والإصابة 2/ 257. (¬2) في (أ) و (خ): فلما غاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نذر زيد بن عمير، والمثبت من طبقات ابن سعد 4/ 317، والمنتظم 4/ 263. (¬3) انظر في ترجمته إضافة إلى ما سبق الاستيعاب (1728)، والاستبصار 268، والإصابة 3/ 33.

الفضل بن العباس

الفَضْل بن العبّاس ابن عبد المطلب بن هاشم -رضي اللَّه عنه-، كُنيتُه أبو محمد، وقيل: أبو العبّاس، من الطبقة الثانية من المهاجرين، وأمُّه لُبابة الكُبرى بنت الحارث بن حَزْن الهِلاليّة، أُخت (¬1) ميمونة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكان أَسَنَّ وَلد العباس، وبه كان يُكنى، وكان رجلًا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وغزا معه عامَ الفتح ويومَ حُنين، وثَبتَ يومئذٍ. وكان جَميلًا، فكان يُقال: من أراد الجَمَالَ والسَّخاءَ والفِقهَ فلْيَأتِ دارَ العباس، فالجمال للفضْل، والسَّخاءُ [لعُبيد اللَّه، والفقه] لعبد اللَّه. وشهد حَجّة الوداع، وأَرْدَفَه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من جَمْعٍ إلى مِنًى، فكان يُقال له: رديفَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشهد غسلَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكان صالحًا، زاهدًا، عابدًا، خرج إلى الشام مُجاهدًا، فتُوفّي بطاعون عَمْواس. وكان إذا نزل مَنزلًا يُرْخي عِنان فرسه ويُطيل لها فتَرعى، وهو أوَّلُ مَن فعل ذلك بالشام. قال أبو علاقة: حضرتُ الفَضْلَ وقد نال الطَّاعون من الناس، فقلتُ: بأبي أَنْتَ وأُمّي، لو انتقلتَ إلى مكان كذا وكذا، فقال: واللَّه ما أخافُ أن يسبقَ أجلي، ولا أُحاذر أن يَغلط بي ملكُ الموتُ، إنه لَبَصيرٌ بأهل كلِّ بلَد. أسند الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). أبو مالك الأشعَري من الطبقة الثالثة، أسلم، وصحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشهد فتحَ مِصر، طُعن هو وأبو عبيدة -رضي اللَّه عنهما- في يوم واحد، وعَقدَ له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على خيل الطَّلَب، وأمره أن يَطلُبَ هوازن حين انهزمت (¬3). ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): ابنة, وهو خطأ. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 50 و 9/ 403، والاستيعاب (2083)، وتاريخ دمشق 58/ 67، والمنتظم 4/ 263، والتبيين 155، والإصابة 3/ 208. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 275 و 9/ 403.

معاذ بن جبل

فصل وفيها تُوفّي معاذ بنُ جَبَل ابن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أُدَيّ بن سعد بن عليّ بن أسد بن سارِدة بن يَزيد بن جُشم بن الخَزْرَج, وكُنيتُه أبو عبد الرحمن، وأمّه هند بنت سهل [من بني] رِفاعة، من جُهينة. ومعاذ من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العَقَبة مع السبعين، وبدرًا وأحدًا والخندق، والمشاهدَ كلَّها مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأسلم وهو ابن ثماني عشرة سنةً، وقيل: ابن عشرين. وكان يكسِرُ أصنامَ بني سَلِمة، وأردفَه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وراءه، ومشى في رِكابه لمّا شيَّعه إلى اليمن ومعاذ راكبٌ، وقد ذكرناه في سنة تسع. وكان يُفتي بالمدينة في حياةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر، وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين ابن مسعود. وقال ابن سعد: شهد مُعاذ بدرًا وهو ابن عِشرين أو إحدى وعشرين سنةً. وخرج إلى اليمنِ بعد غَزاة تبوك وشهدها، وخرج إلى اليمن وهو ابن ثمانٍ وعِشرين سنةً (¬1). ذكر صفته: قال ابن سعدٍ، عن الواقدي، عن أشياخٍ له قالوا: كان معاذ طُوالًا، أبيض، حَسَنَ الثغْرِ، مجموعَ الحاجبين، أكحَلَ العينين، برّاقَ الثنايا، جَعْدًا، قَطَطًا (¬2). وقال ابن مسعود (¬3): كان يُسمّى القانتَ والخاشِعَ. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن أبي مُسلم الخَولاني قال: دخلتُ مسجدَ حمص، فإذا فيه نحوٌ من ثلاثين كَهْلًا من أصحابِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإذا فيهم شابٌّ أكحلُ العينين، برّاقُ الثَّنايا، ساكتٌ لا يتكلّم، فإذا امتَرى القومُ في شيءٍ أقبلوا عليه فسألوه، فقلتُ اجَليسي: مَن هذا؟ قال: معاذ بن جبل (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 540 و 9/ 391. (¬2) الطبقات 3/ 545 و 9/ 393. (¬3) من قوله: وقال ابن سعد شهد معاذ. . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 545 و 9/ 392 - 393.

ذكر زهده وورعه وتعبده وجوده وقضاء دينه وسخائه

ثم تفرقوا، فلما كان الغد جاء معاذ، فصلّى إلى سارية، فصليتُ عنده، فلما انصرف من صلاته جلستُ إليه وقلت: واللَّه إني أُحبُّك لغير دنيا أرجوها منك، ولا لقرابةٍ بيني وبينك، قال: فلأيِّ شيءٍ، قلتُ: للَّه عَزَّ وَجَلَّ، فقال أَبشِر إن كنتَ صادقًا، فإنِّي سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "المتحابُّون في اللَّه في ظِل العرش، يوم لا ظل إلَّا ظِلُّه، يَغبطهم بمكانهم النبيُّون والشهداء". ثم خرجتُ فلقيتُ عُبادةَ بنَ الصَّامت، فحدَّثتُه بالذي حدَّثني به معاذ، فقال عُبادة: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يروي عن ربه تعالى أنه قال: "حقَّت محبَّتي للمتحابِّين [فيَّ] والمتناصِحين فيَّ، والمتزاوِرين فيَّ، والمتباذِلين فيَّ، هم على مَنابرَ من نور، يَغبطُهم النبيُّون والصدِّيقون" (¬1). وقال أبو بَحريَّة [بن] قُطَيْب السَّكوني: دخلتُ مسجد حمص، فإذا أنا بفتًى جَعْدٍ قَطَطٍ، حوله الناس، فإذا تكلّم كأنما يخرج من فِيه نورٌ ولُؤلؤ، فقلتُ: مَن هذا؟ قالوا: مُعاذ بن جَبَل (¬2). ذكر زهده وورعه وتعبُّده وجُوده وقضاءِ دَينه وسَخائه: قال أبو نعيم بإسناده عن عبد الرحمن بن سعيد بن يَربوع، عن مالكٍ: أن عمر بن الخطاب أرسل بأربع مئة دينارٍ إلى أبي عُبيدة، وقال للغُلام: تَلَهَّ بالبيتِ ساعةً، وانظُر ماذا يصنعُ؟ فجاء الغلامُ فقال لأبي عبيدة: يقول لك أميرُ المؤمنين: اجعلْ هذه في بعضِ حاجتك، فقال: وَصله اللَّه ورَحِمَه، ثم قال: يا جاريةُ، اذهبي بهذه السبعةِ إلى فُلانٍ، وبهذه الخمسةِ إلى فُلانٍ، حتى أنفدَ الجميع، فرجع الغُلامُ إلى عمرَ فأخبره، فوجده قد أعدَّ مثلَها لمعاذِ بن جَبل، وقال للغُلام: اذهب بها إلى مُعاذٍ، وتلَهَّ ساعةً حتى تنظرَ ما يصنعُ بها؟ فذهب بها إليه وقال: إن أميرَ المؤمنين يقول لك: اجعل هذه في بعضِ حاجتك، فقال: رَحمَه اللَّه ووَصله، ثم قال: تعالى يَا جاربةُ، اذهبي إلى بيت فُلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأةُ معاذٍ فقالت: ونحنُ واللَّهِ مساكين فأعطِنا, ولم يبق في الخِرْقةِ إلَّا ديناران، فدحا بهما إليها، فرجع الغلامُ إلى عمر فأخبره، فقال: إنهم إخوةٌ بعضُهم من بعض. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 58/ 426 (الفكر)، وأخرجه أحمد (22080). (¬2) حلية الأولياء 1/ 231، ومن قوله: ثم تفرقوا فلما كان الغد. . إلى هنا ليس في (ك).

حديث قضاء دينه

وقال أبو نُعيمٍ بإسناده عن يحيى بن سعيد قال: كانت تحت معاذٍ امرأتان، فإذا كان عند إحداهما لم يشربْ من بيت الأُخرى الماء، وفي روايةٍ: لم يتوضأ من بيتِ الأُخرى، ثم تُوفِّيتا في الطاعونِ، فدُفِنتا في حُفْرَةٍ، فأسهم بينهما؛ أيتهما تُقَدَّمُ في القبرِ؟ (¬1) وروى ابن سعد قال: كان معاذ يأكلُ تُفّاحةً ومعه امرأتُه، فمرَّ غُلامٌ له، فناولتْه امرأتُه تفاحةً قد عَضَّتها، فضَربها معاذ. وحكى ابن سعدٍ عنه أنه قال: ما بَصَقتُ عن يميني منذ أسلمتُ وصحبتُ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال: ورأى معاذ امرأتَه تَطَلَّع من رَوْزَنَةٍ فضربها (¬2). وقال أبو نعيم بإسناده قال (¬3): كان معاذ بن جبل إذا تهجّد من الليلِ قال: اللهمَّ قد نامتِ العيونُ، وغارتِ النجومُ، وأنت حيٌّ قيوم، اللهمَّ طَلبي الجنَّةَ بطيءٌ وهَربي من النار ضَعيف، اللهمَّ اجعل لي عندك هُدًى، تَرُدُّه إليَّ يومَ القيامة، إنك لا تُخلِفُ الميعاد. حديثُ قضاءِ دَيْنه: قال أبو نُعيم بإسناده عن ابن كعب بن مالك قال: كان معاذ بنُ جَبل شابًا جَميلًا سَمْحًا، من خَيْرِ شباب قومهِ، لا يُسْألُ شيئًا إلَّا أعطاه، حتى ادّان دَينًا أغلق مالَه، وكلَّم رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُكلِّمَ غُرماءه أن يَضعوا له شيئًا ففعل، فلم يضعوا له شيئًا، فدعاه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يَبْرَح حتى باع مالَه، وقسمه بين غُرمائه، فقام مُعاذٌ ولا مالَ له (¬4). قال جابر بن عبد اللَّه: كان معاذ قد ادَّان دينًا كثيرًا، فلَزمه غُرماؤه، حتى تغيَّب عنهم أيامًا في بيته، فطلبه غُرماؤه وقالوا: يا رسول اللَّه، خُذْ لنا منه حقَّنا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَن يَتصدَّقُ عليه؟ "فتصدَّق عليه ناس وأبى آخرون، فخَلَعه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من ماله، وقَسمه بينهم، فأصابهم خمسةُ أسباعِ حُقوقهم، فقالوا: يا رسول اللَّه، ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 1/ 237، 234. (¬2) الأخبار الثلاثة في طبقات ابن سعد 3/ 542، والرَّوزنة: الكُوَّة. (¬3) من قوله: وروى ابن سعد. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ)، والخبر في الحلية 1/ 233. (¬4) حلية الأولياء 1/ 231.

ادفَعْه لنا، فقال: "خَلُّوا عنه، فليس لكم عليه سبيل"، فانصرف معاذ إلى بني سَلِمة، فقال له قائل: يا أَبا عبد الرحمن، لو سألتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد أصبحتَ اليوم مُعدمًا، فقال: ما كنتُ لأسألَه. ثم دعاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد يوم، فبَعثه إلى اليمن، وقال له: "لعلَّ اللَّه يَجبُرُك ويُؤدِّي عنك دَيْنك". فخرج إلى اليمن، فلم يَزلْ بها حتى تُوفّي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فوافى مُعاذ مكّة وقد حجَّ عمر رضوان اللَّه عليه بالناس في تلك السنة، فالتقيا، فاعتنقا وبَكيا، وعزَّى كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورأى عمر رضوان اللَّه عليه معه غِلمانًا، فقال له: ما هؤلاء؟ فقال: أُهدوا إليّ، فقال: اذكُرهم لأبي بكر، فقال: لا أفعل، وإنهم مالي. فرأى في تلك الليلة في المنام كأنه على شَفير النار، وعمر رضوان اللَّه عليه آخِذٌ بحُجْزته، يَمنعه أن يقع فيها، وكان معاذ -رضي اللَّه عنه- أعتقهم لما رآهم يُصلّون، ثم قضى أبو بكر رضوان اللَّه عليه لبقيَّة غُرمائه، وقال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لعلَّ اللَّه يَجبُرك" (¬1). وكان معاذ -رضي اللَّه عنه- يُصلّي مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم يَرجع فيُصلّي بقومه، فأخَّر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصلاةَ مرَّةً، فصلَّى مُعاذ معه، ثم جاء يَؤُمُّ لقومه، فقرأ البقرة، فاعتزل رجلُ من القوم فصلّى، فقيل: نافقتَ يَا فلان، فقال: ما نافَقْتُ، فأتى رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إن معاذًا يُصلِّي معك، ثم يَرجع فيؤمُّنا يَا رسول اللَّه، إنما نحن أصحابُ نَواضِح، ونعملُ بأيدينا، وإنه جاء يَؤُمُّنا، فقرأ سورةَ البقرة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا معاذ، أفتَّانٌ أَنْتَ؟ اقرأ باسم ربك الأعلى، والليل إذا يَغشى" (¬2). وقال (¬3) عبد اللَّه بن أحمد بإسناده عن أنس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أعلمُ أمَّتي بالحلال والحرام معاذُ بنُ جبل" (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 543 - 544. (¬2) أخرجه أحمد (14307)، والبخاري (6106)، ومسلم (465) من حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. (¬3) من قوله قال جابر بن عبد اللَّه وكان معاذ قد ادان. . إلى هنا ليس في (ك). (¬4) مسند أحمد (12904).

ذكر مرضه ووفاته

وقال ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: إن معاذ بنَ جبل كان أُمّةً، قانتًا للَّه حَنيفًا، فقيل له: إن إبراهيم كان أُمَّة قانتًا للَّه حَنيفًا، فقال: ما نسيتُ، هل تدري ما الأُمَّة وما القانِت؟ الأُمَّةُ الذي يُعلّم الخير، والقانت المطيعُ للَّه ولرسوله، وكان معاذ كذلك (¬1). وقالت شَهْر بن حَوْشَب: كان أصحابُ محمّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- وإذا تحدَّثوا وفيهم معاذ؟ نظروا إليه هَيبةً له (¬2). وقال هشام: كان معاذ ممَّن جمع القرآن. وكتب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أهل اليمن: "إني قد بعثتُ إليكم من خير أهلي، واليَ علمهم، واليَ دينهم" (¬3). وقال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حين خرج معاذ إلى الشام: لقد أَخَلَّ خروجُه بالمدينة وأهلها [في الفقه وما كان يُفتيهم به]، ولقد كلَّمتُ أَبا بكر أن يَحبِسَه لحاجة الناس، فأبى عليَّ وقال: رجل أراد [وَجْهًا يريد الشهادةَ فلا أحبسه، فقلتُ: واللَّه إن الرجل لَيُرزق] الشهادةَ وهو في بيته على فراشه (¬4). وكان معاذ -رضي اللَّه عنه- قد جمع القرآن، وقال لابنه: يا بُنيّ، إذا صلّيتَ فصلِّ صلاةَ مُوَدّع، لا تَظنُّ أنك تَعودُ إليها أبدًا، واعلم أن المؤمن يموتُ بين حَسَنتَين: حسنةٍ عملها، وحسنةٍ أخَّرها (¬5). وروى أبو نعيم، عن معاذ أنه قال: أخوفُ ما أخاف عليكم فتنةَ النساء إذا تَسوَّرْنَ الذَّهبَ، ولَبِسنَ رِياطَ الشام، وعَصْبَ اليمن، فأتعبْنَ الغنيَّ، وكلَّفْنَ الفقيرَ ما لا يجد (¬6). ذِكرُ مرضِه ووفاتهِ: قال أبو نُعيم بإسناده عن طارق بن عبد الرحمن قال: وقع طاعونٌ بالشامِ فاستعر فيها، فقال النَّاسُ: ما هذا إلَّا الطُّوفانُ، إلَّا أنَّه ليس بماءٍ، فبلغ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد 2/ 301 - 302، وأبو نعيم 1/ 230. (¬2) الحلية 1/ 231. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 541. (¬4) طبقات ابن سعد 2/ 300 وما بين معكوفين منه. (¬5) أخرجه أحمد في الزهد 225، وأبو نعيم في الحلية 1/ 234. (¬6) حلية الأولياء 1/ 236.

مُعاذًا، فقام خطيبًا فقال: إنَّه قد بلغني ما تقولون، وإنّما هذه رحمةُ ربِّكم، ودعوةُ نبيّكم، وكَفْتُ الصالحين قبلَكم، ولكن خافوا ما هو أشدُّ من ذلك؛ أن يَغدُوَ الرجلُ منكم من منزلهِ لا يدري: أمؤمن هو أم منافِقٌ؟ وخافوا إمارةَ الصِّبيان (¬1). وروى ابنُ سعدٍ قال: لمّا قال معاذ: اللهمَّ آتِ آل مُعاذٍ نَصيبَهم من هذه الرحمةِ طُعِن ابناه، فقال: كيف تَجِدانِكما؟ قالا: يا أبانا {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} [آل عمران: 60]، قال: وأنا ستَجداني إن شاء اللَّه من الصابرين، ثم طُعِنت امرأتاه فهلكتا (¬2)، وطُعِنَ هو في إبهامه فجعل يمصُّها بفيه ويقول: اللهمَّ إنَّها صغيرةٌ فبارك فيها، فإنك تُبارك في الصغير, حتى هلك. وروى أبو نُعيم أنَّه كان كُلَّما أفاق -وكان شديدَ النَّزْعِ- فتح عينيه وقال: اخنُقْ خَنْقَك، فوَعِزَّتِك إنك تَعلم أني أُحبُّك، وأنَّ قلبي يُحبُّك (¬3). وقال عبد اللَّه بن أحمد بإسناده عن عَمرو بن قيس، عمَّن حدَّثه، عن معاذٍ أنَّه لما احتُضِرَ قال: انظروا هل أصبحنا؟ قالوا: لم نُصْبح، ثم قيل له: قد أصبحتَ، فقال: أعوذُ باللَّهِ من ليلةٍ صباحُها النَّار، مَرْحبًا بالموتِ مرحبًا، زائرٌ مُغِبٌّ حبيب جاء على فاقةٍ، لا أَفلحَ من نَدِم، اللهمَّ إني قد كُنتُ أخافُك وأنا اليومَ أرجوك، اللهمَّ إنك تعلمُ أني لم أكُن أُحبُّ الدنيا وطولَ البقاء فيها لكَرْي الأنهار، وغرسِ الأشجارِ، ولكن للظمأ في الهواجرِ، ومكابَدَةِ الساعات، ومُزاحمةِ العلماء بالرّكَبِ عند حِلَقِ الذكْر (¬4). ولم يبق من آل معاذ من الجمعة إلى الجمعة أحد. وقال ابن سعدٍ بإسناده قال: وحدثنا إسحاقُ بنُ خارجة بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، عن أَبيه، عن جدِّه قال: شهد معاذ بَدْرًا وهو ابنُ عشرين، أو إحدى وعشرين سنةً، وخرج إلى اليمن بعد أن غزا رسولُ اللَّه تبوكًا وهو ابنُ ثمانٍ وعشرين سنةً، وتُوفي في طاعون عَمْواس بالشام بناحية الأُردُن سنة ثماني عشرة وهو ابنُ ثمانٍ وثلاثين سنةً، وليس له عَقِبٌ. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 1/ 240. والكفت: الضمُّ والقبضُ. (¬2) من قوله: ذكر مرضه ووفاته. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ)، والخبر في الطبقات 3/ 544 و 9/ 392. (¬3) حلية الأولياء 1/ 240. (¬4) الزهد 226، وحلية الأولياء 1/ 239.

وقال ابن سعد بإسناده عن سعيد بن المُسَيّب قال: رُفع عيسى وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنةً، ومات مُعاذ وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنةً (¬1). وقيل: كان له ست وثلاثون سنةً. وقيل: أربعٌ وثلاثون (¬2). أسند مُعاذٌ عن رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الحديث. فالمشهورُ عنه أنَّه رُوي عنه مئةُ حديثٍ وسبعةٌ وخمسون حديثًا. أُخرج له في "الصحيحين" ستَّةُ أحاديث، اتّفقا على حديثين، وأخرج البخاري ثلاثةً، وانفرد مسلم بحديث (¬3)، وأخرج له أحمد سبعةً وخمسين حديثًا (¬4). منها ما روى أنسٌ، عن معاذ (¬5) حدَّثه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "يَا مُعاذَ بن جَبل" قال: لبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ يَا رسولَ اللَّه، قال: "لا يَشهدُ عبدٌ أن لا إله إلَّا اللَّه ثم يموتُ على ذلك إلَّا دخل الجنَّةَ"، قال: فقلتُ: ألا أُحَدِّثُ الناس؟ قال: "لا، إني أخشى أن يَتّكِلوا". أخرجاه في "الصّحيحين" (¬6). والحديث (¬7) الثاني المتَّفقُ عليه أيضًا لمّا بعثه إلى اليمن وفي آخرِه: "واتَّقِ دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب" (¬8). وقال أحمد بإسناده عن يؤيد بن قُطَيب السَّكوني -وكُنيتُه أبو بَحريَّة- قال: سمعتُ معاذَ بنَ جبل يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الملْحَمة العُظْمى، وفتحُ قُسطَنْطِينيَّة، وخروج الدَّجال في تسعةِ أشهر" (¬9). وقال أحمد بإسناده عن الوالبيّ صديق لمُعاذٍ قال: قال معاذ: سمعتُ رسول اللَّه ¬

_ (¬1) الخبران في طبقات ابن سعد 3/ 545 - 564 و 9/ 393. (¬2) من قوله: وقال ابن سعد -قبل سبعة أسطر- إلى هنا ليس في (خ) و (أ). (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر 400. (¬4) من قوله: فالمشهور عنه. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬5) في (أ) و (خ): ومن مسانيده عن أنس عن معاذ. (¬6) صحيح البخاري (128)، وصحيح مسلم (32). (¬7) من هنا إلى نهاية الترجمة ليس في (أ) و (خ). (¬8) صحيح البخاري (2448)، وصحيح مسلم (19). (¬9) مسند أحمد (22045) وفيه: عن يزيد بن قُطيب السكوني، عن أبي بحريّة، في سبعة أشهر.

يزيد بن أبي سفيان بن حرب

-صلى اللَّه عليه وسلم- تلا هذه الآية: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} [الواقعة: 27 - 41] فقَبض قَبضتين فقال: "هذه في الجنةِ ولا أُبالي، وهذه في النَّار ولا أُبالي" (¬1). وقال أحمد بإسناده عن مُعاذِ بن جبل قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إلَّا تُؤذي امرأةٌ زوجَها في الدنيا إلَّا قالت زوجتُه من الحورِ العين: لا تُؤذيه قاتلك اللَّه، فإنَّما هو عندك دَخيل يُوشِكُ أن يفارِقَك إلينا" (¬2). الدَّخيل: الضَّيف. يزيد بن أبي سفيان بن حرب كُنيته أبو خالد، وأمُّه زينب بنت نَوفل، من بني فراس بن غَنْم (¬3)، وهو من الطبقة الرابعة ممّن أسلم يوم الفتح، وكان أفضلَ أولاد أبي سُفيان، ويقال له: زيد الخير. شهد مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حُنينًا، وأعطاه مئة من الإبل، وأربعين أُوقيّة، ولم يزل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَذكره بخير، واستعمله على صدقات بني فراس بن غَنْم؛ لأن يزيد منهم (¬4). وولاه أبو بكر رضوان اللَّه عليه الشام، وخرج معه ماشيًا يُودِّعه ويُوَجِّهُهُ وقال: إنك شاب تُذكر بخير، وقد أردتُ أن أختبرَك، فإن أحسنتَ زدتُك، وإن أسأتَ عزلتُك، وأوصاه بأبي عُبيدة ومعاذ خيرًا، فقال: يا خليفة رسول اللَّه أوصِهما بي. وأقام أميرًا على الشام حين مات أبو بكر رضوان اللَّه عليه، وولي عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، فولّى أَبا عبيدة على الجيوش، وولّى يزيدَ بنَ أبي سفيان دمشق، فأقام عليها حتى مات بعَمْواس، واستَخلف أخاه معاوية، فأقرَّه عمر رضوان اللَّه عليه. ولما مات يَزيد جزع عمر رضوان اللَّه عليه جزعًا شديدًا ونَعاه إلى أبيْه، فقال: عند اللَّه أحتسبُ يزيد، فمَن أَمَّرتَ بعدَه، فقال: معاوية، قال: وصلتْك [رحم] (¬5). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (22077)، والحديث فيه عن الحسن، عن معاذ، وحديث الوالي عن معاذ هو الحديث السابق لهذا في مسند أحمد (22076)، وانظر أطراف المسند لابن حجر 5/ 320. (¬2) مسند أحمد (22101). وانظر في ترجمة معاذ: المعارف 254، والاستيعاب (2270)، والمنتظم 265، والاستبصار 136، والسير 1/ 443 (¬3) في (أ) و (خ): زينب بنت يزيد من بني قريش بن غنم، وهو خطأ، انظر طبقات ابن سعد 6/ 13 و 9/ 409 وتاريخ دمشق 18/ 306 (مخطوط)، والسير 1/ 329 والمصادر في حاشيته، والإصابة 3/ 656. (¬4) فهم أخواله. (¬5) تاريخ دمشق 18/ 313 وما بين معكوفين منه، وترجمة يزيد ليست في (ك).

السنة التاسعة عشرة

السنة التاسعَة عَشْرَة قال خليفة: وفيها أَسرتِ الرومُ عبدَ اللَّه بن حُذافة السَّهْميَّ (¬1)، وذهبوا به إلى ملكهم وقالوا: هذا من أكابرِ أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال له الطاغيةُ: تَنَصَّرْ وأُشْرِكُكَ في مُلْكي، فقال: لو أعطيتَني جميعَ ما تَملك ما رجعتُ عن ديني، فقال له: تَنَصَّرْ وإلّا ألقيتُك في البَقَرةِ، فأبى، فدعا ببَقَرةٍ أو بقِدْرٍ من نحاسٍ، فصُبَّ فيها ماءٌ، وأُوقد عليها حتى التَهبت، ودعا بأسيرٍ من المسلمين، فألقاه فيها فإذا عظامُه تلوحُ، فأمر بعبدِ اللَّه أن يُلقى فيها فبكى، فظنَّه قد جَزع فقال: واللَّه ما بُكائي من الموتِ، وإنَّما أبكي حيثُ لم يكن لي إلَّا نَفْسٌ واحدةٌ تَفْعَلُ بها هذا في سبيل اللَّه، وكنتُ أتمنّى أن يكون لي عددُ كُلِّ شعرةٍ فيَّ، أو في جسدي، أَنفسٌ تفعلُ بها هذا في اللَّه تعالى. فقال له الطاغية: هل لك أن تُقَبِّلَ رأسي وأُطْلقك؟ فقال: لا حتى تُطْلِقَ جميعَ أُسارى المسلمين، قال: نعم، فقبَّله فأطلق له ثمانين أسيرًا، فلما دخل المدينةَ كان عمرُ في المسجدِ، فقام إليه وقَبَّل رأسَهُ، وكان المسلمون بعد ذلك يُداعبونه فيقولون: قَبَّلْتَ رأسَ عِلْجٍ (¬2)! وفي روايةٍ: أنَّ عمرَ كتب إلى الطّاغيةِ يتهدَّده فأطلقَه. وقد روى لنا الشيخ المُوَفَّقُ رحمه اللَّه القصَّةَ بإسناده عن سليمان بن حبيب قال: ما اخْتُبِر أحدٌ من المسلمين مثل ما اختُبِر عبد اللَّه بنُ حُذافةَ السَّهْمي، وكان قد شُكي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه صاحُب مُزاحٍ وباطلٍ، فقال: "اتركوه، إن له بطانةً يُحبُّ اللَّه ورسوله"، فرُمي على قَيْسارِيَّة، فأخذوه وبعثوا به إلى الطاغيةِ وهو بالقُسْطنْطينية، فقال له: تنصَّر وأُنكِحك ابنتي، وأُشْرِكك في مُلكي، فقال: لا أفعل، فقال: أقتُلُك، قال: فعجِّل، فأتى بأُسارى، فضرب أعناقَهم، فمدَّ عُنُقَه وقال: اضرِبْ، قال: فأتى ببَقَرةٍ من نُحاسٍ، فمُلِئت زيتًا، قال: وحَبَسه في بيتٍ وعنده لحمُ خِنْزيرٍ مشويّ، وخمرٌ ممزوج، فلم يأكُل ولم يشرب. . . وذكر إطلاقَ الأُسارى وتقبيل رأسِهِ (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ خليفة 142. (¬2) تاريخ دمشق (عبد اللَّه بن جابر - عبد اللَّه بن زيد) 134. (¬3) التبيين 468 - 469، وأخرجه ابن عساكر 134 - 135، ومن قوله: وكان المسلمون بعد ذلك يداعبونه. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

فصل

فصل وفيها وسَّع عمر مسجدَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واشترى له الدُّور وأدخلَها فيه، وسقفه بالجَريدِ والعَمَدِ والخَشب. وفيها ظهرت نارٌ عظيمة من حَرَّةِ ليلى، بحيث سألت الحرَّةُ نارًا، قال الواقدي: فخرج عمر وجميعُ الصحابة إليها، فقيل له: إنَّ هذه آية من آياتِ اللَّه لا تَنْدَفعُ بالقتالِ بل بالصّدَقة، ففتح عمر بيتَ المال، وجاء كلُّ واحدِ من الصحابةِ بمال: عثمانُ وطلحةُ وعبد الرحمن، فتصدَّقوا بهِ فطَفِئت. وقال محمد بن حبيب الهاشمي: إنَّما ظهرت النار بخَيبر، ويحتمل أنَّها ظهرت في الموضِعَيْن. وفيها بعث عمرُ عُثمانَ بن أبي العاص الثقفي إلى أَرْمينية غازيًا في جيشٍ، فاستُشْهِد فيه صفوانُ بن المعَطَّل السُّلَمي، الذي قيل بسببه في الإفكِ ما قيل. وقيل: إن غَزاةَ نَهاوَند كانت في هذه السنة، وقال ابن إسحاق وابن سعدٍ عن الواقدي: كانت في سنة إحدى وعشرين. واختلفت الروايات في غزاة نهاوند: فروى ابنُ ناصر بإسناده إلى الحسن قال: كانت الأعاجم من أهل قُومِس وأهل الرّي وهَمَذان ونهاوند قد تكاتبوا، وتعاقدوا على أن يُخرجوا العربَ من بلادهم، وكتب أهلُ الكوفة إلى عمر رضوان اللَّه عليه بالخبر، فصَعِد المنبر، وأخبرهم الخبر، وقال: أَشيروا عليَّ، فقام طلحةُ -رضي اللَّه عنه- فقال: أنت وليُّ الأمر، قد أحكمتَ التَّجارِب، وأنت مَيمون النَّقيبة، فمُرنا بأمرك، ثم قعد. وقام عثمان رضوان اللَّه عليه فقال: أرى أن تكتب إلى أهل الشام، [فيسيرون] من شامهم، [وتكتب إلى] أهل [اليمن فيسيرون] من يَمنهم، [وتسير] أنت بنفسك [من هذين الحَرمَين إلى هذين المِصرين] من أهل الكوفة [والبصرة، فتلقى جموع المشركين في جموع المسلمين. ثم قام علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- فقال: إنك إنْ أشخصتَ أهلَ الشام] سارت الرُّومُ

إلى أهلهم وذَراريهم، وإن أشخصتَ أهلَ اليمن سارت الحَبَشةُ إلى ذَراريهم، وإنك متى شَخصتَ من هذين الحرمين انتَقَضَت عليك الأرضُ من أقطارها، حتى يكون ما تُخلّف خلفك من العَورات أهمَّ إليك مما بين يديك، ولكن أرى أن تكتب إلى أهل البصرة فيتفرقون؛ فِرقة تُقيم في أهلها، وفرقة يسيرون إلى إخوانهم بالكوفة، ثم يَسيرون إلى العدو. فقال عمر رضوان اللَّه عليه: صَدقتَ، فأشيروا عليَّ برجلٍ أُوَلّيه ذلك الثغر، قالوا: أَنْتَ أفضلُنا رأيًا، قال: أشيروا عليّ واجعلوه عراقيًّا، قالوا: أنت أعلمُ بأهل العراق، فقال: لأُوَلِّينَّ رجلًا يكون قتيلًا في أول وَهْلة، قالوا: ومَن هو، قال: النعمان بن مُقَرِّن المزَني. وكان النعمان بالكوفة فكتب إلى أهل الكوفة: أما بعد، فقد استعملتُ عليكم النعمان، فإن قُتل فعليكم حُذيفة بن اليمان، فإن قُتل فعليكم جرير بن عبد اللَّه، فإن قتل فعليكم المغيرة بن شُعبة، فإن قُتل فعليكم الأَشعث بن قيس. وكان في كتابه إلى النعمان: أما بعد فإن في عَسكرك عمرو بن مَعدي كَرِب، وطُليحة بن خُوَيلد، وهما يُعدّان بأَلْفَي رجل، فشاوِرْهما في الحرب، ولا تُولِّهما عَملًا، ثم دعا السَّائب بنَ الأَقْرع، فدفع إليه الكتاب وقال: انطلق فاقرأ كتابي على الناس، وانظر ذلك الجيشَ، فإن نَصرهم اللَّه كنتَ الذي تَلي مَغانمهم، وإن وَهنوا فاذهب في الأرض، ولا أراك بعدها أبدًا. فسار السَّائبُ حتى قَدم الكوفة، فقرأ الكتاب على الناس، وبَعث إلى أهل البَصرة بكتابهم، فأقبلوا، وسار الناس مع النعمان، وأقبلت الأعاجم بجمُوعها حتى نزلت نَهاوَنْد (¬1). وقيل: إن كتاب عمر رضوان اللَّه عليه لما وَرد النعمان يَأمُره بالمسير إلى المشرق كتب إليه: يا أمير المؤمنين، أُمَّ بي أَشَدَّ الوُجوه وهي نَهاوَنْد، فإن الفُرس قد اجتمعت بها، وعليهم ذو حاجب نائب يَزدجرد، فكتب إليه: سِر إليها، فسار ومعه وُجوه ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 272 - 274 وما سلف بين معكوفين منه، وانظر تاريخ الطبري 4/ 124 - 126.

حديث الوقعة

الصحابة: حُذيفة بنُ اليَمان، وعبد اللَّه بنُ عمر، وجرير بن عبد اللَّه، والمغيرة بنُ شُعبة، وعبد اللَّه بنُ الزبير، وقيس بن المَكشوح، وطُليحة بن خُوَيْلد، وعمرو بن مَعدي كَرب وغيرهم. حديثُ الوَقْعَة قال علماءُ السير: سار النعمانُ بن مُقَرِّن بالناسِ على راياتهم، وكان مَسيرُ النعمان بأمر عمر بن الخطاب، وجعل يَقفُ على رايةٍ رايةٍ، فيحمَد اللَّه ويُثني عليه ويقول: قد علمتُم ما أعزَّكم اللَّه به من هذا الدِّين، وما وَعدكم به من الظُّهور، وقد أنْجَزَ لكم هَوادِيَ ما وَعدكم، وإنَّما بقيتْ أعجازُه وأَكارِعُه، واللَّهُ مُنجِزٌ وَعدَه، ولا يَكونُنَّ على دُنياهم أَحمى منكم (¬1) على دينكم؛ فإنكم تَنتظرون إحدى الحُسنيَيْن: إمّا الشهادةُ، وإمّا الفتحُ القريبُ، فاستعِدُّوا فإنِّي مُكبِّرٌ ثلاثًا، فإذا كبَّرْتُ الأولى فتهيّؤوا، وإذا كبَّرتُ الثانية فتأهَّبوا، وإذا كبَّرْتُ الثالثة فاحمِلوا. فأقاموا ثلاثًا يقتتلون قتالا شديدًا، وكَثُرتِ الجراحاتُ بين الفريقين والقتلى، وباتَ المسلمون في ليلةٍ قَرَّةٍ، يُداوون جِراحاتهم، ويوقدون النّيران، وبات الكفار يَشربون الخمور، ويضربون بالطبولِ والمعازفِ. وكان أهلُ نَهاوَنْد قد طرحوا حول البلد حَسَكَ الحديد، وبعث النعمان عُيونًا، فساروا لا يَعلمون بالحَسَكِ، فوَطئت دوابُّهم عليه، فعادوا وأخبروا النعمان، فرحل فنزل ناحيةً، فلما كان يوم الجمعة ركب النعمان فرسًا أَشهبَ، وعليه قَباءٌ أبيضُ، وعِمامةٌ بيضاء، وكان رجلًا آدمَ قصيرًا، وخطب فقال: أيها النَّاسُ، إنكم اليومَ بابُ العربِ، فإن كُسِرَ البابُ اليوم دخل على المسلمين أمرٌ عظيم، فقالوا: نحنُ عند أمرِك، فمُرنا بما شئتَ، فقال: إني أُحت القتالَ إذا زالت الشمسُ وهبَّتِ الرّياحُ، فلما زالت صلى بالناسِ صلاةَ الخوفِ، وهزَّ الرايةَ ثلاثًا، وكبَّر ثلاثًا، وحمل وحمل المسلمون. وكان قد كتَّب الكتائبَ، وكان في مُقَدِّمتهِ ساريةُ بنُ زُنَيم أميرًا على كُرْدوس، قد استبطن الوادي، وقد كَمن له جمعٌ من الفُرس، وحمل النعمانُ والناسُ معه قد كسروا ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): فلا يكونن على دنياكم أحنّ منكم، والمثبت من الطبري 4/ 131، وانظر المنتظم 4/ 271.

جُفون سُيوفهم، فكان النعمانُ أوَّل قتيلٍ، فطرح عليه أخوه سُويدُ بن مُقَرِّن ثوبَه لئلا يُعرف، وأخذ سويدٌ الراية فإذا هي تَنْضَحُ دمًا، وقيل: إن فرس النعمان زَلَق به في الدِّماء فصَرَعه، وأن الذي أخذ الرَّايةَ نُعيم بن مُقَرِّن، وقال المغيرةُ بن شعبة: اكتُموا مُصابَ أميركم حتى نَنظُرَ ما نَصنع. وكان النعمان قد قال: اللهمَّ أعِزَّ دينَك، وانْصُرْ عبادَك، واجعل النعمانَ أوَّلَ شهيدٍ. وأخذ اللواءَ حُذيفةُ بن اليمان، واقتتلوا إلى الليلِ، ونصر اللَّه المسلمين، وكان الكفار قد قَرنوا ثمانين ألفًا في السلاسلِ، وحفروا حولهم خَندقًا، فلما هزمهم المسلمون، وقع منهم في الخندقِ مئةُ أَلْفٍ فماتوا، وقُتل عامّتهم في المعركةِ، وكان عليهم الفَيرزان أو ذو حاجب، فانهزم إلى هَمَذان، فأدركه القَعقاعُ على ثَنيَّة هَمَذان، والثنيَّةُ مَشحونةٌ بأحمالٍ فيها عَسَلٌ، فلم يَتخلَّصِ الفَيرُزانُ من الزحام، فقتله القعقاعُ، فقال المسلمون: للَّه جنودٌ من عَسَل. وفي هذه الغزاةِ صاح عمر: يا ساريةُ، الجبلَ، قالها ثلاثًا، ثم خطب ونزل، فقيل له: ما هذا؟ فقال: واللَّه ما ألقيتُ له بالًا، ولكنه شيءٌ أجراه اللَّه على لساني. وفي رواية ابن سعد: يا سارِيةُ بن زُنَيْم، الجبلَ الجبل، ظلم مَن استَرعى الذئبَ الغَنَم، فلما كان بعد أيامٍ وصل كتابُ سارية إلى عمر: إن اللَّه فتح علينا يومَ الجمعة، في ساعة كذا وكذا، سمعنا صوتًا يقول: الجبلَ الجبلَ، وكان العدوُّ قد كَمن لنا في الوادي، فلما ارتفعنا الجبَلَ هَزمهم اللَّه وكان الفتحُ. وفي روايةٍ: إن عمرَ رأى ذلك في منامِه، فأصبح فصَعِد المِنْبَر وصاح، فقيل لساريةَ: أسمعتَ الصوتَ؟ قال: إي واللَّه. وقال هشام: ولما فتح اللَّه نَهاوَنْد جاء راهبٌ إلى السائبِ بن الأقْرَعِ، وكان أميرًا على كُردوسٍ، فسارَّه بشيءٍ وقال: إن دَلَلْتُك على كُنوزِ كسرى أأنا آمنٌ على نفسي وأهلي؟ قال: نعم، فجاء به إلى مكانٍ، فاستخرج منه سَفَطَيْن عظيمين، فيهما اليواقيت التي كانت ذخائرَ كِسرى ومَن تَقدَّمه، فرأى السائبُ ما أذهله، وقسم حُذيفةُ الأخماسَ، وأصاب الفارسُ ستَّةَ آلاف، والراجلُ ألفَين، وأما من الثيابِ والأمتعةِ والأطعمةِ

وغيرها فلا يُحَدُّ ولا يُحصى. وكتم السائبُ السَّفَطين عن حُذيفة وعن المسلمين، وسار بالأخماسِ إلى المدينةِ، قال: فلقيتُ عمر فقال: ما الخبرُ؟ فقلتُ: استُشهِدَ النعمان، فبكى حتى اختلج صُدْغاه، وقلتُ: فتح اللَّه نهاوَنْد، وقُتِل من العدوِّ مئةُ أَلْفٍ، ودفعتُ إليه الأخماسَ، ثم خلوتُ به فكشفتُ عن السفطين، فلما رآهما تَحيَّر -ويقال: إن قيمتهما أربعُ مئة ألف ألف دينار- فقال: اختُم عليهما، وأدخِلْهما بيتَ المالِ حتى أنظرَ في أمرِهما، قال: ففعلتُ، فقال: الحَق بجُنْدكَ، فخرجتُ، فبَعثَ في إثري رسولًا، فقال: ما نمتُ البارحةَ؛ ما زال السفطانِ يشتعلانِ نارًا، والملائكةُ تَسحبُني إليهما يقولون: لنكوينَّك بهما، فخُذهما عني فاقسِمْهما بين المسلمين، فأخذتُهما ورجعتُ فقسمتُهما بين المسلمين. وفي روايةٍ: إن الذي جاء بالسَّفَطَيْنِ الهِرْبِذُ، وقال: هُما عندي وَديعةٌ، فاتفق حُذيفةُ مع المسلمين أن يخبر بهما عمرَ، فبعثوا بهما إليه، فردَّهما إلى حُذيفة وقال: اقسمهما على مَنْ أفاءَ اللَّه عليه. وفي رواية أبي الفضل بن ناصر: أن دِهقانًا أتى إلى السائبِ بن الأقرعِ، وقال له: هل لك أن تُؤمنني على دَمي ودمِ ذوي قَرابتي وأدلّك على كنز النَّخيرجان نائب كِسرى؟ قال: وما هو؟ قال: إنه كان للنَّخيرجان امرأةٌ يَنتابُها العالَمُ، وإنَّ كسرى كان يَختلفُ إليها ومعه وصائفُ عليهن الحليُّ والديباجُ، وكان لكسرى تاجٌ من الياقوتِ، وهو مدفون في مكانٍ لم يعلم به غيري، وأنَّ السائبَ أخرج السفطَيْن، وذهب بهما إلى عمر، وذكر بمعنى ما تقدَّم. وفي هذه الرواية: فدعا عمرُ عليًّا وابن مسعودِ وعبد اللَّه بنَ أرقَم صاحب الخِزانة وقال: ضعوا خَوَاتِيْمَكُمْ عليهما حتى أنظرَ فيهما، ثم دفعهما بعد إلى السائب، فقسمهما في جامعِ الكوفةِ. وقال سيف بن عمر: حدثنا عمر بن محمد، عن الشعبيّ (¬1) قال: لما قُدِم بغنائم ¬

_ (¬1) من قوله: وفي رواية إن الذي جاء بالسفطين الهربذ. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

فصل

نَهاوَند على عمر بكى، فقال له عبد الرحمن بنُ عَوف: ليس هذا مكانَ بُكاءٍ وحُزنٍ، لكن بُشرى من اللَّه وفَتخ، فافرحْ واحَمد اللَّه فقال: ويحكَ يَا ابن عوفٍ، إنَّه واللَّهِ ما كثُرتِ الصفراءُ والبيضاءُ في قومٍ قط إلا فُتِنُوا وتقاتلوا وتدابَروا، حتى يُدَمِّرَ اللَّه عليهم. قال: وجعل أبو لؤلؤةَ لا يَلْقَى من السَّبي صغيرًا إلَّا ووضع يده على رأسهِ ومسحها وبكى، ولا يَلقى كبيرًا إلا اشتكى إليه وقال: أكل عمرُ كَبدي، وكان أبو لؤلؤة من نَهاوَنْد. وكان عمر يقول: ما بتُّ بليلةٍ بعد وفاةِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعظم من ليلةِ نَهاوَنْد خَوفًا على المسلمين. وروى دَعْلَجُ بن أحمد [بإسناده] عن شَقِيق بن سَلَمة الأسدي: أنَّ عمرَ جهَّزَ سَلمة ابن قيس الأَشْجَعيَّ إلى فارس، وأنه أصاب سَفَطَيْنِ من جنْسِ السَّفَطَيْنِ اللذَين ذكرناهُما، وأنه بعث بهما إلى عمر برِضى المسلمين، وأنه ردَّهما على سَلَمة بعد أن وَقف عليهما بالمدينةِ، وأنَه أمره فقسمهما بين الغانمين (¬1)، وهي قصة طويلة حاصلها ما ذكرنا. فصل: وحجَ بالناس عمرُ بن الخطاب، وكان عُمّاله في هذه السنة على الأمصار الذين كانوا في العام الماضي. فصل وفيها تُوفّي الأغلبُ بن جُشَم ابن سعد بن عِجْل بن جُشَم، كان شاعِرًا مُفْلِقًا فصيحًا، عُمِّر دهرًا طويلًا؛ فيقال: إنه عاش في الجاهلية مئة وثلاثين سنة، ثم أسلم وهاجر ونزل الكوفةَ واختطَّ بها، وشهد القادسية، وهو أوّلُ مَن قال الأراجيزَ على قولِ هشام. ولما ولّى عمر المغيرة بنَ شُعبة الكوفة قال له: اكتب إليَّ مما قال الشعراء في الإِسلام، فأحضر لبيدًا والأغلب، وقال: أنشِداني، فأمّا الأغلب فقال: [من الرجز] ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 276 - 277، ومن قوله: وروى دعلج. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

خباب

أرَجَزًا تُريدُ أم قَصيدا لقد سألتَ هيِّنًا موجودًا وقال للبيد: أَنشِد، فقال: قد أبْدَلَني اللَّه سُوَرَ القرآن عِوضَ الشعر، فكتب المغيرة إلى عمر رضوان اللَّه عليه بذلك، فكتب إليه: أَنقِص من عَطاءِ الأَغلب خمس مئة، ورُدَّها في عطاء لَبيد، فكتب الأغلب إلى عمر رضوان اللَّه عليه: أتَنْتَقِص من عَطائي أن أَطعتُك؟ فردّ عليه الخمس مئة، وأقرَّها في عطاء لَبيد. واستُشهد الأَغلب في وقعة نَهاوَنْد رحمه اللَّه تعالى (¬1). فصل وفيها تُوفّي خبّابُ مولى عُتبةَ بنِ غَزْوان الذي اختطَّ البصرةَ، وكُنْيتُه أبو يحيى، من الطبقةِ الأولى من المهاجرين، آخى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين تميم مولى خِراش بن الصّمَّة، شهد خبَّاب بدرًا وأُحدًا والخندقَ والمشاهدَ كلَّها مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال ابن سعد: وتُوفّي بالمدينةِ في سنة تسع عشرة، وصلّى عليه عمر، وليس له رواية (¬2). وفيها توفي صفوان بن المعطَّل ابن رُحيْضةَ الذَّكْواني السُّلَميّ صاحبُ الإفْكِ، من الطبقة الثالثة من الصحابة، وكنيتُه: أبو عمرو، أسلم قبل المُرَيْسيع، وكان على ساقةِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشهد الخندق وما بعدها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان مع كُرْز بن جابر في طلب العُرَنيّين الذين أغاروا على لِقاح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان شُجاعًا فاضلًا خَيّرًا، أثنى عليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) ترجمة الأغلب في طبقات ابن سلام 737، والشعر والشعراء 613، والأغاني 21/ 29، والمنتظم 4/ 281، والإصابة 1/ 56. ومن قوله: ولما ولى عمر المغيرة إلى هنا ليس في (ك). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 93، وانظر الاستيعاب (658)، والإصابة 1/ 417.

وقال: "ما علمتُ عليه إلَّا خَيرًا" (¬1). وقال ابن عبد البرِّ: لمّا نزل المسلمون على دمشق حمل صفوان على رجلٍ من الرُّوم بدارَّيا، وعليه حِلْيةُ الأعاجم، فطعنه صَفوان فصرعه، فصاحت زوجةُ الرُّوميّ على صفوان، وأقبلتْ نحوه فقال: [من الكامل] ولقد شَهِدْتُ الخيلَ يَسطعُ نَقْعُها ... ما بين داريّا دمشق إلى نَوى فطعنتُ ذا حُلْيٍ فصاحت عِرْسُه ... يَا ابنَ المعطَّلِ ما تُريد بما أرى فأجبتُها إني لأَتركُ بَعْلَها ... بالديرِ مُنْعَفِرَ المضاحكِ بالثّرى (¬2) واختلفوا في وفاته، فقال أبو حذيفة إسحاق بن بِشر (¬3): بعث عمر بنُ الخطابِ عثمانَ بن أبي العاص إلى أرمينية في سنة تسع عشرة، وكان معه صفوانُ بنُ المعطَّلِ، فقُتل شهيدًا. قال أبو إسحاق السّنجاريّ: أتينا بَوْلاءَ في بَعْثٍ، فقال لي شيخ من أهلها قد جاوز المِئة: أتُريدُ أن أُريك قبر صفوان بن المعطَّل؟ قلتُ: نعم، فقال: ها هو على بابها قَدْرَ رمية حَجَرٍ، رَميناه فقتلناه، وبلغ عمرَ، فدعا علينا دعوة إنّا لنَعْرِفُها إلى الساعةِ. وكان يوم (¬4) استُشهدَ ابنَ بِضْعٍ وستين سنةً، وحكى ابن سعدٍ عن الواقدي: أنَّه اسُتشهد بسُمَيْساط سنة ستين، وكذا قال جدّي في "المنتظم" وذكره في سنة ستين، واللَّه أعلم (¬5). وقال ابن عبد البرِّ: غزا الرومَ سنة ثمانٍ وخمسين، فجعل يُطاعنُ، فاندقَّت ساقُه فمات (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4141)، ومسلم (2770) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬2) أخرجه ابن عساكر 8/ 346 (مخطوط)، ولم نجده عند ابن عبد البر. (¬3) جاء في (أ) و (خ) بدل هذا الكلام: استشهد بأرمينية وقيل تأخرت وفاته، وفي (ك): واختلفوا في وفاته فقال ابن إسحاق عن بشير، والمثبت من تاريخ دمشق 8/ 355. (¬4) من هنا إلى نهاية ترجمة صفوان ليس في (أ) و (خ). (¬5) الطبقات 5/ 156، والمنتظم 4/ 282. (¬6) الاستيعاب (1202).

طليحة بن خويلد

قلت: والأوَّلُ أشهر، نصَّ عليه أبو أحمد الحاكم، فقال: وقولُ مَن قال إنه استُشهدَ بأرمينية أثبتُ (¬1). وليس في الصحابةِ مَن اسمُه صفوان بن المعظَل غيرُه، فأما غيرُ ابن المعطَّل فكثير. وروى أحمد بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: جاءت امرأةُ صفوان بن المعطَّل إلى رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحن عنده، فقالت: يا رسول اللَّه، إن زوجي صَفوانَ يَضربني إذا صلَّيْتُ، ويُفَطِّرني إذا صُمْتُ، ولا يُصلّي الفجرَ حتى تَطلع الشمسُ، قال: وصفوان عنده، فسأله عما قالت فقال: أما قولُها يَضربني إذا صلَّيْتُ، فإنَّها تقرأُ سورَتي، وقد نَهَيتُها عنها، فقال له: "لو كانت سورةً واحدةً لكفَت الناس"، وأما قولُها إني أُفطِّرها وهي صائمة، فإنَّها تَصومُ وأنا رجلٌ شاب لا أَصبرُ، فقال رسول اللَّه يومئذ: "لا تصومُ امرأةٌ منكن إلَّا بإذن زَوْجِها"، وأما قولُها إني لا أُصلّي حتى تطلع الشمسُ، فإنا أهلُ بيتٍ لا نكاد نستيقظ حتى تَطلعَ الشمسُ، فقال: "إذا استيقظتَ فَصَلِّ" (¬2). طُليحَة بن خُوَيْلد ابن نَوْفَل بن نَضْلَة بن الأَشْتر الأَسدي، الذي تَنبَّأ بعد مُسيلمة، وكان مع الأحزاب على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزاة الخندق، وَفَد على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة تسعٍ وأسلم، فكان يُعد بألفِ فارس، ولما انفصل عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ارتدَّ عن الإِسلام، وكتب إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخبره بنبوَّته، وأن الذي يَأتيه يُقال له: ذو النُّون، لا يَكذب ولا يَخون، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد ذكر مَلكًا عظيمًا"، وبَعث بالكتاب مع ابن أخيه، فأَغلظه لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فدعا عليه، فقُتل في الرِّدّة كافرًا. ومن سَجْعه: والحمامِ واليَمام، والصُّرَدِ [الصَّوَّام] (¬3)، وما مضى من الأعوام، لأملكنّ العراقَ والشَّام. وكان له سيفٌ يُقال له: الجراز. وهزمه خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- إلى الشام، فنزل في كَلْب وآل جفنة الغَسّانيين، ثم ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 349. (¬2) مسند أحمد (11759)، وينظر مشكل الآثار للطحاوي 5/ 52. (¬3) في (أ) و (خ): والحمام والصرد واليمام، والمثبت من تاريخ دمشق 8/ 599 (مخطوط).

أسلم، وخرج إلى مكة معتمرًا في أيام أبي بكر -رضي اللَّه عنه-، فمرَّ بجنَبَات المدينة، فقيل لأبي بكر -رضي اللَّه عنه-: هذا طُليحة، فقال بعد أن أسلم: دَعوه فقد هداه اللَّه إلى الإِسلام، وعاد إلى الشام بعد ما قضى عُمرته. ولما قام عمر رضوان اللَّه عليه جاء طُليحةُ إليه مُبايعًا له، فقال له عمر رضوان اللَّه عليه: أنت قاتلُ عُكَّاشة وثابت بن أَقرم، لا أُحبُّك بعدهما، فقال: يا أمير المؤمنين، وما تنقم من رَجُلين أكرمهما اللَّه تعالى بيدي، ولم يُهنّي بأيديهما، وما كلُّ القلوب جُبلت على الحبّ، ولكن صَفحة جميلة، فإن الناس يَتصافحون على الشَّنَآن، فبايعه عمر رضوان اللَّه عليه، وأسلم إسلامًا صحيحًا وقال: [من الطويل] نَدمتُ على ما كان من قَتْلِ ثابتٍ ... وعُكَّاشَةَ الغَنْميِّ ثم ابنِ مَعْبَدِ وأعظمُ من هاتَين عندي مُصيبةً ... رُجوعي عن الإِسلام فِعْلَ التَّعَمُّدِ وتَركي بلادي والحوادثُ جَمَّةٌ ... طَريدًا وقِدْمًا كنتُ غيرَ مُطَرَّدِ فهل يَقبلُ الصِّدّيقُ أني راجِعٌ ... ومُعطٍ بما أحْدَثْتُ من حَدَثٍ يَدي وأنّيَ من بعد الضَّلالةِ شاهدٌ ... شهادةَ حقٍّ لستُ فيها بمُلْحدِ بأنّ إله النّاسِ ربي وأنني ... مُقرّ وأن الدّين دينُ محمّد ولما خرج طُليحة إلى الشام هاربًا هو وأصحابُه يُريدون الرُّوم ركبوا البحر مُلَجِّجين، وإذا بقَادِس من قَوادِس الرُّوم (¬1)، فيه جماعةٌ منهم، فنادَوْهم: إما أنْ تَثِبوا إلى سفينتنا، أو نَثِبَ إلى سفينتكم، فدنا منهم طُليحة، ووَثب حتى صار معهم في السّفينة، وغَشيَهم بسيفه، فقتل منهم مَن قَتَل، واستسلم مَن استسلم، وألقى نفسَه في البحر منهم جماعة فغرقوا، وبلغ ذلك عمر رضوان اللَّه عليه فأعجبه. وأقام طُليحة إلى أيام القادسيّة مُسلمًا في قومه، لم يُغمَضْ عليه شيء، حتى جَهّزه عمر رضوان اللَّه عليه إلى العراق، فقُتل بنَهاوَنْد رحمة اللَّه عليه (¬2). ¬

_ (¬1) القادس: سفينة عظيمة. (¬2) ترجمة طليحة ليست في (ك)، وانظر الردة للواقدي 100، وطبقات ابن سعد 6/ 155، والاستيعاب (1283)، وتاريخ دمشق 8/ 589، والمنتظم 4/ 282، والتبيين 513، والتوابين 152 - 154، والسير 1/ 316، والإصابة 2/ 234.

عمرو بن معدي كرب

فصل وفيها توفي عمرو بن معدي كَرِب ابن عبد اللَّه بن عمرو بن عُصْم بن عَمرو بن زُبَيد الأصغر، وكُنيتُه أبو ثور، وكان شُجاعًا فارسًا، يُعدُّ بألفِ فارسٍ، كخالد بن الوليد والقَعقاع بن عمرو وطليحة وغيرهم، وله الغاراتُ المشهورة، والواقعات المذكورةُ، وكان قد كتب على سَيفه: [من الكامل] ذَكَرٌ على ذكرٍ يَصولُ بصارمٍ ... ذكَر يَمانٍ في يمين يَماني وقد ذكرنا أن عَمْرًا وفد على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في السنةِ العاشرةِ وأسلم (¬1). وحكى هشام، عن أَبيه، عن عمرو قال: قَدِمتُ المدينةَ، فوافيتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قافِلًا من تبوك، فأردتُ أن أَدنُوَ منه فمنَعني مَن حولَه، فقال لهم: دَعوه، فدنوتُ منه فقلت: انعَم صباحًا، أبيت اللعنَ، فقال: "يَا عمرو، أسلِم تَسلم، ويؤمِّنُك اللَّه من الفزعِ الأكبرِ، ذلك يومٌ يُصاحُ فيه بالناسِ، فلا يبقى ذو روحٍ إلَّا مات، ولا ميّتٌ إلا انتَشر، وتَسيرُ فيه الجبالُ، وتنشقُّ الأرضُ، وتَبرزُ النَّار لها لسانٌ، تَرمي بشَررٍ مثلِ قُلَلِ الجبالِ، فلا يبقى ذو روحٍ إلا انخلعَ قلبُه، وذكر ذَنْبه، فأين أَنْتَ من ذلك الفَزع يَا عمرو؟ " قال: فقُلتُ يَا رسولَ اللَّه، أما الآن فنعم، فأسلمتُ. قال الواقدي: ولم يَحْسُن إسلامُه، وفي النفوسِ منه شيءٌ، وكان تَأثيرُ ذلك أنَّه ارتدَّ بعد وفاةِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم عاد إلى الإِسلام. وبعثه عمر إلى القادسية، وكتب إلى سعدٍ: قد أمددتُكَ بألفَي رجلٍ، منهم عمرو وطُليحةُ، فشاوِرْهما في أمر الحرب، ولا تُوَلِّهما من أمر المسلمين شيئًا، وهذه كانت عادة أبي بكرٍ وعمر، لا يُوَلِّيانِ مَنْ أَسلم ثم ارتدّ ثم أسلم شيئًا (¬2). وأبلى عمرو بلاءً حسنًا يوم القادسيّة، وهو كان سبب هزيمة الفُرْس، قطع خراطيمَ الفِيَلة حتى انهزموا, ولعمروٍ يومئذٍ ثلاثون ومئةُ سنةٍ. ¬

_ (¬1) سلف في السيرة. (¬2) من قوله: وبعثه عمر إلى القادسية. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

قال ابن سعدٍ بإسناده عن عبد الملك بن نَوْفل: إن عمرو بن معدي كَرِب قال: كانت خيلُ المسلمين تَنْفِرُ من الفِيَلة يوم القادسيةِ، فأمرتُ رجلًا فترَّسَ عني، ثم حملتُ على الفيلِ الأكبرِ، فضربتُ خَطْمَهُ بالسيفِ فقطعتُه، فنَفَر ونَفَرت الفِيَلةُ فحطَّمت العسكرَ، فانهزموا. وقال عمرو (¬1): إن الفِيَلَة ليس لها مَقتلٌ إلَّا خراطيمَها, وليس للخراطيم إلا السُّيوفُ. وقال ابن سعد بإسناده عن قَيس بن أبي حازم قال: شهدتُ القادسية، فسمعتُ عمرو بنَ معدي كَرِب وهو يمشي بين الصفَّين ويقول: يا معاشِرَ المسلمين، كونوا أُسودًا، إنّما الفارسيّ تَيْسٌ بعد أن يُلقي نَيْزَكه، فَحمل عليه أُسوارٌ، فالتقاه فألقاه، ثم جلس على صدرهِ فذبحه، وأخذ سَلَبه (¬2). ولعمروٍ واقعاتٌ عجيبة، فحكى هشام، عن أَبيه، عن عمرو قال: حضرتُ في الجاهلية بذي المجَازِ -وهو سوقُ عرفات- فرأيتُ حُبَّى الكِنْديّةِ، فأعجبني جمالُها، فعرضتُ نفسي عليها وقلتُ: هل لكِ في كُفءٍ كريم، ضَروبٍ لهامِ الرجالِ غَشُوم، مُواتٍ لكِ، طيِّبِ الخِيم، من سعدِ العَشيرةِ في الصَّميَّمَ، قالت: من أيّ سعدِ العَشيرةِ؟ قلتُ: من أُرومةِ مَحْتِدِها وغُرَّتِها المُنيرةِ، إن كُنتِ بالنَّسب بَصيرة، فقالت: إن لي بَعْلًا يَصدقُ اللقاءَ، ويُخيفُ الأعداءَ، ويُجزِلُ العطاءَ، قال فقلتُ: لو علمتُ أنَّ لكِ بعلًا لما سُمْتُكِ نَفسَك، ولا عَرضتُ نفسي عليكِ، فكيف أَنْتَ إن قتلتُه؟ قالت: لا أَصِيفُ عنك، ولا أَعدِلُ بك، ولا أُقَصِّرُ دونك، وإياكَ أن يَغُرَّك قولي، فتُعرِّضَ نفسك للقَتلِ؛ فإنِّي أراك مُفْرَدًا من الناصرِ، وبعلي في عِزٍّ من المالِ والأهلِ. ثم قامت ومَشَت، فتبعتُها من حيثُ لا تَشعرُ، فلما قَدِمَت على زَوْجها سألها عمّا رأتْ في طريقها، فقالت: رأيْتُ رجُلًا مَخيلًا للبَأسِ، يتعرَّضُ للقتالِ، ويَخطبُ حَلائل الرِّجال، فعَرضَ عليَّ نفسَه، فوصفتُك له، فقال: ذاك -يعني بعلها-[عمرو]، وَلَدتني أُمُّه إن لم آتِكِ به مَقْرونًا مَجنوبًا إلى جملٍ صعب المراس، غير ذَلول. ¬

_ (¬1) من هنا إلى ما بعد صفحات ليس في (أ) و (خ). (¬2) الأخبار الثلاثة في طبقات ابن سعد 6/ 270.

فلما سمع عمرو كلامَه دخل عليه بغتةً، فقتله ووَقع عليها، فلما قضى وَطَرَه منها قال لها: إني لم أقَعْ على امرأةٍ قطّ إلَّا حَمَلت، ولا أُراكِ إلَّا قد حَملتِ، فإن رُزِقتِ غلامًا، فسمّيه الخُزَز، وإن رزِقتِ جاريةً فسمِّيها عِكْرِشة,, وجعل ذلك بينهما أَمارةً، ثم فارقها مُدّةً، ووَلدت غلامًا، فسمَّتْه الخُزَز. فخرج عمرو في بعضِ أيّامه يتعرّض للقتالِ، فالتقى فارسًا مُدَجَّجًا في سلاحه، فالتقيا فصَرع عَمْرًا، وجَثَم على صدرهِ ليَذبحه، فقال له: انتَسِب، فقال: أنا عمرو، فقام عنه وقال: اللَّه أكبر، أنا ابنُك الخُزَز، فقال له عمرو: لا تُساكِنِّي بعد اليوم في أرضٍ، فخرج إلى اليمنِ فسادَهم، وشكَوْا إليه غاراتِ أَبيه فيهم، وقَتْلَه إيّاهم، وأمروه بقتله، فخرج يُريد قَتلَ أَبيه، فالتقيا فقتله عمرو، ثم جاء الإِسلامُ عُقَيْبَ ذلك فأسلم (¬1). وكان عمر بن الخطاب يَسأله عن أشياء، أخبرنا غيرُ واحدٍ عن أبي الفضلِ بن ناصر بإسناده عن الشعبي قال: دخل عمرو بن مَعدي كَرِب يومًا على عمر بن الخطاب فقال له: يا عمرو، أخبرني عن أَشجع مَن لَقيتَ وأجبنِ من لَقيتَ، وأَحْيَلِ مَن لَقِيتَ، قال: نعم. خرجتُ مرَّةً أُريد الغارَةَ، فمررتُ ببيتٍ في البرِّيّةِ وعنده فرسٌ مَشدود، ورُمحٌ مَركوزٌ، ورَجُلٌ جالسٌ بِفنائه، مُحتَبٍ بسيفٍ، وهو كأعظمِ الرجالِ خِلْقَةً، فقلتُ: خُذ حِذْرَكَ؛ فإني قاتِلُك، قال: ومَن أنت؟ قلت: عمرو بن مَعدي كَرِب، فشَهَق شَهقةً فمات، فهذا أجبنُ مَن رأيتُ. قال: وخرجتُ مرَّةً فأتيتُ على حي وإذا بفَرسٍ مَشدودٍ، ورمحٍ مَركوزٍ، وصاحبُه في وَهْدَةٍ يَقضي حاجتَه، فقلتُ له: خُذ حِذْرَك فإنِّي قاتُلك، فقال: مَن أَنْتَ؟ قلتُ: عمرو بن مَعدي كَرِب، فقال: ما أنصفتَني يَا أَبا ثور؛ أَنْتَ على ظهرِ فرسك وأنا في بئر، فأعطني عهدًا أنك لا تَقتلني حتى أركبَ فرسي، وآخذَ رُمحي. فأعطيتُه عهدًا أنني لا أقتله حتى يركبَ فرسه، ويأخُذَ حِذره، فخرج من الوَهْدَةِ، ثم احتَبى بسيفه وجلس، فقلتُ: ما هذا؟ فقال: ما أنا براكبٍ فرسي ولا بمقاتلك، فإن نكثتَ العهد فأنت أعلم، ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 283، وأمالي القالي 3/ 150 - 151.

فتركتُه ومضيتُ، فهذا أحْيَلُ مَن رأيتُ. وخرجتُ يومًا، حتى انتهيتُ إلى مَوضعٍ كنتُ أقطعُ فيه الطريقِ، وإذا بفارسٍ أوَّلَ ما بَقَلَ وجهُه، من أجملِ الفتيانِ، قد أقبل من نحوِ اليَمامةِ، فلمّا دنا مني سقَم، فردَدْتُ عليه وقلتُ: من الفتى؟ فقال: من نحو اليمامة، فقلتُ: انتَسِب، فقال: الحارث بن سعيد فارس الشهباء، فقلتُ: خُذْ حِذْرَك فإنِّي قاتِلُك، فمضى ولم يلتفت، فأعدتُ عليه القولَ فقال: ويَلك مَن أَنْتَ؟ فقلت: عمرو بن مَعدي كَرِب، فقال: الحقير الذّليل، واللَّه ما يَمنعُني من قتلك إلا استصغارُك، قال: فتصاغرَتْ إليَّ نفسي، وعَظُمَ عندي ما استقبَلني به، فقلتُ: خُذ حِذْرَك، فواللَّه لا ينصرِفُ إلَّا أحدنا، فقال: ويلك، اغرُبْ، فإنّا أهلُ بيتٍ ما نكَلْنا عن فارسٍ قطَّ، فقلتُ: هو الذي تَسمعُ، واخْتَرْ لنَفْسك، فقال: إمّا أن تَطرُد لي وإمَّا أن أَطردَ لك، فاغتنمتُها منه وقلتُ: اطرُدْ لي، وحَمْلتُ عليه، حتى إذا قلتُ إني قد وضعتُ الرُّمحَ بين كتِفيه، إذا هو قد صار حِزامًا لفَرَسهِ، ثم اتَّبعني فقرع برُمحه أو بقَناته رأسي، وقال: يا عمرو، خُذْها إليك واحدة، فواللَّه لولا أني أكرهُ قتلَ مثلك لقتلتُك. قال: فتصاغَرَتْ إليَّ نفسي، وكان الموتُ أحبَّ إليَّ مما رأيتُ، فقلتُ: واللَّهِ لا ينصرفُ إلَّا أحدُنا، فقال: اختر لنفسك، فقلتُ: اطرُد لي، فطرد، فحملتُ عليه حتى إذا ظننتُ أني قد وضعتُ الرُّمحَ بين كتفيه، وثَبَ عن فرسِه، فإذا هو على الأرضِ، فأخطأتُه ومضيتُ، فاستوى على فرسهِ، وقَرَعَ بالقناةِ رأسي، وقال: ويحك يَا عمرو، خُذْها ثانيًا، واللَّهِ لولا أني أكرهُ قتلَ مثلك لقتلتُك. فلما كان في الثالثة فعل ما فعل في الأولى والثانيةِ، وقال: إن عُدْتَ قتلتُك، فقلتُ له: اقتُلني فهو أحبُّ إليَّ مما أرى بنَفسي، وأن تسمعَ فتيانُ العربِ هذا، فقال: إنَّما العفوُ ثلاثٌ، وإن استمكنتُ من الرَّابعةِ قتلتُك، ثم قال: [من الرجز] وَكَّدْتُ أغلاظًا من الأَيْمان إن عُدْتَ يَا عمرو إلى الطِّعانِ لتُزْجرنَّ لهبَ السنان

أو لا فلستُ من بني شيبانِ قال: فهِبتُه هيبةً عظيمةً، وقلتُ له: إنَّ لي إليك حاجةً، قال: وما هي؟ قلتُ: أكونُ من أصحابك، أو أكون لك صاحبًا -ورَضيتُ واللَّه بذلك يَا أمير المؤمنين- فقال: لستَ من أصحابي، فكان ذلك أشدَّ عليَّ وأعظمَ مما صَنع، فلم أزل أخضَعُ إليه، فقال: ويحكَ! وهل تَدري أين أُريدُ؟ قلتُ: لا، قال: أُريدُ الموتَ عِيانًا، فقلتُ: وقد رَضيتُه معك، فقال: امضِ بنا. فسِرنا جميعًا يومَنا حتى جَنَّنا الليلُ وذهب شَطرُه، ودنَونا من حيٍّ من أحياء العرب، فأومأ إلى قُبَّةٍ من قِبابِ الحيّ، وقال: يا عمرو، في تلك القُبَّةِ الموتُ الأحمرُ، فإمّا أن تُمْسِك عليَّ فرسي، فأنزل فآتي بحاجتي، وإمَّا أن أُمسكَ عليك فرسَك، فتَنزل فتأتيني بحاجتي، فقلتُ: لا بل انزِلْ أَنْتَ؟ فأنت أعرفُ بموَضع حاجتك مني، فرمى إليَّ بعِنان فرسه ونزل -ورضيتُ واللَّه أن أكون له سائسًا- ثم مضى فدخل القُبَّةَ، واستخرج منها جاريةً لم تَرَ عيناي مثلَها حُسْنًا وجمالًا، فحملها على ناقةٍ، ثم سِرنا. فلما طلع الفجرُ قال: يا عمرو، انظر هل ترى من أحدٍ؟ فنظرتُ فإذا بثلاثةِ فوارسٍ، فيهم شيخٌ كبير -وهو أبو الجاريةِ، وأخواها غلامانِ شابّان- فسلَّموا علينا، فردَدْنا السلامَ، ووقفوا ووقفنا، فقال الشيخُ: يا حارثُ، يَا ابنَ أخي، خلِّ عن الجارية، فقال: ما كنتُ لأُخلِّيها، وما أخذتُها لهذا، فقال لأصغر ابنَيْه: اخْرُج إليه، فخرج وهو يجرُّ رُمحَه، فحمل عليه الحارثُ وهو يقول: [من الرجز] من دون ما تَرجوه خَضبُ الذَّابلِ من فارسٍ مُستَلئمٍ مُقاتلِ يَنمي إلى شيبانَ خيرِ وائلِ ما كان سَيري نحوها بباطلِ ثم طعنه فدقَّ صُلبَه، فوقع ميتًا. فقال الشيخُ لابنه الآخر: أخرج إليه، فلا خيرَ في الحياةِ على ذلّ، فخرج إليه،

فأقبل الحارث عليه وهو يقول: [من الرجز] لقد رأيتَ كيف كانت طَعنتي اليومَ للقِرْنِ شديد همَّتي والموتُ خيرٌ من فِراقِ خُلَّتي فقَتْليَ اليوم ولا مَذَلَّتي ثم طعنه فألقاه مَيتًا. فقال له الشيخ: خلِّ عن الظَّعينةِ؛ فإني لستُ كمَن رأيتَ، فقال: ما كنتُ لأخَلِّيها، فقال له الشيخ: احْتَر، فإن شئت طاردْتُك، وإن شئتَ نازلتُك، قال: نازِلني، فنزل الشَّيخُ والفتى، فقال الشيخُ: [من الرجز] ما أَرتَجي عند فَناءِ عُمْري سأجعلُ السنينَ مثلَ الشَّهرِ شيخٌ يُحامي دونَ بَيْضِ الخِدْرِ إنَّ استِباحَ البَيضِ قَصْمُ الظَّهْرِ سوف تَرى كيف يكون صَبْري وتقدَّم الحارث وهو يقول: [من الرجز] بعد ارتحالي وطويلِ سَفري وقد ظَفِرْتُ وشَفيتُ صَدْري والموتُ خيرٌ من لباسِ الغَدْرِ والعار أُهديه لحيِّ بَكْرِ ثم اختلفا ضَرْبتَيْن، ورفع الحارث السيف، فلما نظر الشيخ إلى أنه قد أهوى به إلى رأسه، ضربَ بطنَ الحارث ضَرْبةً قدَّ أمعاءه، ووقعت ضربةُ الحارثِ في رأسِ الشيخِ، فوقعا مَيِّتَينِ.

قال عمرو: يا أميرَ المؤمنين، فأخذتُ أربعةَ أفراسٍ وأربعةَ أسيافٍ، وقُدْتُ ناقةَ الظَّعينةِ، فقالت: إلى أين يَا عمرو، وما أَنْتَ لي بصاحبٍ، ولو كنت صاحبي لسلكت سبيلَهم، فقلتُ: اسكُتي، فقالت: أَسْكتَ اللَّهُ نَأْمَتك -أي: صَوْتَك- ثم رَمَتْ بنَفْسها إلى الأرض، وقالت: واللَّهِ لا تَصِلُ إلي أبدًا، ولستُ كمَن رأيتَ، وإن كنتَ ذاك الرجلَ فأعطني سيفًا، فإن غلبتَني فأنا لك، وإن غلبتُك قتلتُك، قال: فقلت لها: ما أنا مُعْطيكِ ذلك، وقد عرفتُ أصلَك، وشجاعةَ قومِك، فأقبلتْ إليَّ وهي تقول: [من الرجز] أبعد ما شيخي وبعد إخوتي أطلبُ عيشًا بعدهم في لذَّتي هلّا يكون قبل (¬1) ذا مَنِيّتي ثم أهوتْ إلى الرُّمح، وكادت تَنتزعه من يدي، فلما رأيتُ ذلك منها خِفْتُ إن هي ظَفِرت بي أن تَقتُلني، فقتلتُها، فهذا أعجبُ ما لقيتُ يَا أمير المؤمنين، فقال عمر: صدقتَ، وعجبَ من ذلك. وقال الهيثم (¬2): كان عمر يحبُّه ويُكرمُه ويَسألُه، قال له يومًا: أبعث إليَّ بصَمْصَامتك، فبعث بها إلى عمر، فلم يَرَ فيها ما بَلَغه عنها، فقال له عمر في ذلك، فقال: سألتَني أن أبعثَ إليك بالصَّمْصَامةِ، ولم تَسألْني أن أبعثَ إليك بالساعدِ الذي يَضربُ بها. قال: وقال له عمر: ما تقول في الحربِ؟ فقال: مُرَّةُ المذاق، إذا كشفتْ عن ساق، من صبرَ فيها عُرِف، ومن ضَعُفَ فيها تَلِفَ، ثم قال: [من الكامل] الحربُ أوَّل ما تكون فَتيَّة ... تَسعى بزينتها لكلِّ جَهولِ حتى إذا حَمِيتْ وشبَّ ضِرامُها ... عادتْ عجوزًا غيرَ ذاتِ خَليلِ شمطاء جَزَّتْ رأسَها وتنكَّرتْ ... شمطاء لا للشمِّ والتَّقبيلِ قال: فما تقول في الرُّمحِ؟ قال: أخوك وربما خانك، قال: فالنَّبْلُ؟ قال: منايا ¬

_ (¬1) في (ك): بعد، والمثبت من المنتظم 4/ 289. (¬2) إلى هنا ليس في (أ) و (خ) مما أشير إليه قبل صفحات.

ذكر وفاته

تُصيبُ وتُخطئُ، قال: فالسيفُ؟ قال: رفيقٌ صالح، قال: فالدرعُ؟ قال: حِصنٌ حصينةٌ، قال: فالتُّرس؟ قال: عليه تَدورُ الدوائر، وفي رواية: فالسيف؟ قال: عندها قارَعَتْكَ أُمُّك عن الثُّكْلِ، فقال له عمر: بل أُمُّك، قال: أُميّ، والحُمّى أَضْرَعَتْني لك، وهذا مثل (¬1)، ومعناه أن الإِسلام أذلَّني، ولو كنتُ في الجاهليةِ ما تجاسَرْتَ أن تَرُدَّ عليَّ، وعمرو من شعراء الحماسة، رحمه اللَّه تعالى (¬2). ذكْرُ وفاته: واختلفوا فيها؛ فالمشهور أنَّه قُتِلَ بنَهاوَنْد مع طُليحةَ والنعمان بن مُقَرّن، وقُبورُهم في مكانٍ واحدٍ. وقال الهيثم: استُشهد برُوْذةَ بين قُمّ والرَّيّ، خرج في غارةٍ فقُتِلَ، وقيل: إنَّه عاش إلى أيامِ معاوية. وليس في الصحابة من اسمه عمرو بن معدي كَرِب سواه، وله روايةٌ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرَثَتْه امرأتُه، يعني امرأة عمرو بن معدي كَرِب (¬3). النعمان بن مُقَرِّن من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وكُنيتُه أبو عمرو، وشهد الخندق والحُدَيْبية مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو وإخوتُه الستّة، وحمل أحدَ ألوية مُزَينة الثلاثة، التي كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عَقدها لهم يوم الفَتْح، وكانت مُزَينَة قد أُلِّفت يومئذٍ، ولم يُؤلَّف من قبائل العرب غيرُها, ولمزينة مَحلَّتان بالمدينة، وليس لغيرهم ذلك. حَدَّث كَثير بنُ عبد اللَّه المزَنيّ، عن أَبيه، عن جدّه -وكان قد حضر نَهاوَنْد- قال: كان أميرُ الناس يومئذٍ النُّعمان بن مُقَرّن، وكان أوَّلَ قتيلٍ، فأخذ [الراية] سويد (¬4) بن ¬

_ (¬1) جمهرة الأمثال 1/ 348، ومجمع الأمثال 1/ 205. (¬2) في (أ) و (خ): وعمرو شعير الحماسة رحمه اللَّه تعالى، وليست في (ك). وقد رُوي له في الحماسة ثلاث مقطعات، انظر شرح المرزوقي (29) و (34) و (35). (¬3) انظر ترجمته وأخباره في طبقات ابن سعد 6/ 268 و 8/ 85، والشعر والشعراء 372، والاشتقاق 411، والمؤتلف والمختلف 234، والأغاني 15/ 208، ومعجم الشعراء 15، والاستيعاب (1776)، والعقد الفريد 1/ 93 و 179، وسمط اللآلي 3/ 63 - 64، وتاريخ دمشق 13/ 619 (مخطوط)، والمنتظم 4/ 382، والإصابة 3/ 18، والخزانة 2/ 444، وديوانه 154. (¬4) في (أ) و (خ): يزيد، وهو خطأ، وترجمة النعمان ليست في (ك)، والمثبت من طبقات ابن سعد 5/ 146.

مُقَرّن، حتى إذا اجتمعت الغنائم قَسمها السَّائب بنُ الأَقْرع الثَّقَفي، فأسهم للفرس سَهمَين، ولصاحبه سَهْمًا، فأصابَني اثنا عشر ألف سهم، وكنت راجلًا. وله صُحبة ورواية, وذكر [ابن سعد] إخوته: سُوَيد بن مُقَرّن، ويُكنى أَبا عَدِيّ، وله صُحبة ورواية, وسِنان بن مُقَرّعا، له صُحبة، وكذا عَقيل بن مُقَرّن، وعبد الرحمن بن مُقَرّن، له صُحبة، رحمهم اللَّه تعالى (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ترجمته في طبقات ابن سعد 8/ 141، والمعارف 299، والاستيعاب (2589)، والمنتظم 4/ 290، والإصابة 3/ 565، والسير 2/ 356.

السنة العشرون من الهجرة النبوية

السنةُ العِشرون من الهجرةِ النبوية وفيها فُتحت مصرُ والإسكندريةُ في أشهرِ الرواياتِ عن ابن إسحاق وأبي مَعشر والواقدي ويزيد بن أبي حَبيب، قالوا: فُتحت مصرُ يوم الجمعةِ غُرَّةَ المُحرَّم سنةَ عشرين. وقال سيف: فُتحت مصر سنة ستَّ عشرة، وفي روايةٍ عنه سنة ستٍّ وعشرين، والأَوَّل أصحُّ، وقيل في سنة إحدى وعشرين، وسنة اثنتين وعشرين (¬1). واختلفوا في كيفية فَتْحِها، قال [ابن] إسحاق: لما فرغ عمر رضوان اللَّه عليه من الشام، كتب إلى عمرو بن العاص: أن سِرْ إلى مصر، وكان بفلسطين، وأردَفَه بالزُّبير ابن العَوّام -رضي اللَّه عنه-، وقد كان الأَرطبون هرب من الشام إلى مصر فيما تقدّم، وكان ملك الساحل، فصار إلى الإسكندريّة وبها المقَوْقِس. وكان المقوقس يُؤدّي خراجَ مصر إلى الرُّوم، وكذلك ملوكُ مصر قبلَه، فسار عمرو والزبير -رضي اللَّه عنه- حتى نزلا البابَيْن، فجاءا قُرى ما بين البُويب والصَّعيد ومصر والإسكندرية، فجاءت رُسلُ ملك مصر، وهو المقوقس، وكان مقيمًا بالإسكندرية إلى عمرو بن العاص يقول: إنني كنتُ أُؤدِّي الخراج إلى مَن هو أبغضُ إليَّ منكم -وهم فارس والروم- فإن أحببتَ أن أُعطيَك الجِزية، وتَردّ عليّ ما أصبتُم من السبايا فعلتَ. فبعث إليه عَمرو يقول: إن فوقي أميرًا لا أقدرُ أن أقطعَ أمرًا دونه، فإن شئت أن أُمسكَ عنك، وتُمسك عني؛ حتى أكتبَ إليه فافعل، فكتب إلى عمر رضوان اللَّه عليه يُخبره الخبر، فكتب إليه: أجِبْه إلى ما سأل، على أن تُخيِّروا مَن في أيديكم من سَبْيهم بين الإِسلام وبين دين قومِهم، فمَن اختار الإِسلام فهو من المسلمين، ومن اختار دينَ قومه أُخذت منه الجِزية، أمّا مَن تفرَّق من سَبْيهم بأرض العرب، ووصل إلى الحَرمَيْن واليمن وما والاه؛ فإنا لا نَقدر على ردِّهم، ولا يَنبغي أن نُصالحهم على أمر لا نقدر ¬

_ (¬1) من قوله: في أشهر الروايات. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ)، ومن هنا إلى ذكر الفسطاط ليس في (ك).

على الوفاء به. فكتب عمرو إلى المقَوْقِس بذلك فرضي، وجمع المسلمون ما عندهم من السّبايا، واجتمع النصارى وخَيَّروهم، فمنهم مَن اختار الإِسلام، ومنهم من عاد إلى دينه، وانعقد الصُّلح وعمر مُقيمٌ في أرض مصر. وقال سيف عن أشياخه: خرج عَمرو إلى مصر بعد أن عاد عمر بنُ الخطاب رضوان اللَّه عليه إلى المدينة، فانتهى إلى باب مِصر، واتّبعه الزُّبير -رضي اللَّه عنه-، واجتمعا، فلقيهم هناك أبو مريم جاثَليق مصر (¬1)، ومعه الأُسقُفّ الذي بَعثه المقوقس لمنع بلاده، وشرعوا في القتال، فأرسل إليهم عمرو: ابرُزا إليّ ولا بأس عليكما، فبَرَزا، وخرج إليهما عمرو فقال لهما: أنتما راهِبا هذه المدينة، فاسمعا ما أقول: إن اللَّه سبحانه وتعالى بعث محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحق، وأَمَره فقام به أحسنَ قيام، وأدّى إلينا كُلّ ما أُمر به، ثم مضى، وتَرَكَنا على بيضاءَ نَقيَّةٍ واضحةٍ، وكان فيما أَمَرَنا به الإعْذارُ إلى الناس قبل القتال، ونحن نَدعوكم إلى الإِسلام، فإن أجبتُم قبِلْنا، ومَن لم يُجب عَرضْنا عليكم الجِزية، وكان فيما أَمَرَنا به الوَصيَّة بكم، وأخبرنا أنا نَفتحَ أرضَكم فقال: "ستفتحون أرضًا يُقال لها مصر، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذِمَّةً ورَحِما". فقالا: قَرابةٌ بعيدة، فلا يَصلُ مثلَها إلا الأنبياء وأتباعُ الأنبياء، وهي شريفة، كانت بنتَ مَلِكنا، فصارت إلى إبراهيم خليلِ اللَّه، فمرحبًا بكم وأهلًا، آمِنّا حتى نَرجع إليك، فقال عَمرو: مثلي لا يُخدع، وقد أجَّلتُكما ثلاثًا لتَنظُرا وينظر قومكما، وإلا ناجَزتُكما، قالا: زِدْنا أيّامًا فزادهما. فرجعا إلى المقوقس وأخبراه، فهَمَّ أن يُجيب، فنهاه الأرطبون وقال: ناهِدْهم، فقاتلوا المسلمين عند عين شَمس -وهي كانت دارَ فرعون، فانهزم القوم، وظَفِر بهم المسلمون، فقالوا للمُقَوْقِس: قومٌ قَهروا كسرى وقَيْصر، وأزالوا مُلكهما، لا طاقةَ لنا بهم، فأرسل إلى عمرو يَسأله الصُّلح، فصالحهم على نفوسهم وأموالهم وكَنائسهم على أن يُعطوا الجزية، ثم جاء عمرو فنزل مكان الفُسطاط اليوم. ¬

_ (¬1) هو رئيس النصارى في بلاد الإِسلام.

ذكر الفسطاط

ذِكْرُ الفُسْطاط قال الجوهري: الفُسْطاط بيتٌ من شَعَرٍ، قال: وفسطاط مدينةُ مصر (¬1). وقال هشام: لما امتنعوا من الصُّلْحِ عزمَ عَمرو أن يسيرَ إلى الإسكندرية، فأمر بفُسطاطِه أن يُقَوَّضَ، فقيل له: إن حمامةً قد عشَّشت في أعلاه، ولها بَيْضٌ، فقال: نحنُ أولى مَن عَرفَ حُرمةَ الجِوار، وقد تَحرَّمت بجِوارنا، أقِروّا الفُسطاط حتى تَطيرَ فِراخُها، ووكَّل به مَن يَحرُسه، فمازال حتى طارتِ الفِراخُ، فلذلك سُمّيَ الفُسْطاط. وسار عمرو إلى الإسكندرية في شعبان فافتتحها، وقال الهيثم: بعث عمرو أبرهةَ ابنَ الصباحِ إلى الفَرَما، وهي مدينةٌ عتيقةٌ على ساحل بحرِ الرُّومِ، مقابل القُلْزُمِ، وبعث عوفَ بن مالك إلى الإسكندرية ففتحها. قال: وكان الإسكندر [والفَرَما] أخوَيْن فبنى الإسكندرُ الإسكندريّةَ، وبنى الفَرَما الفَرَما على نَعْتِ الإسكندرية، وهي الآن مدينةٌ رَثَّةٌ، ولم تزلُ منذُ بُنيتْ رَثَّةً، ومازالت الإسكندرية بَهِجَةً، يرتاحُ إليها كلُّ من رآها، فسأل عوفٌ أهلَ الإسكندرية فقال: ما أحسن مدينتكم؟ ! فقالوا: إنَّ الإسكندرَ لمّا بناها قال: قد بَنيتُ مدينةً فقيرةً إلى اللَّه، غنيّةً عن الناسِ، فبقيت بَهْجَتُها. وقال أبرهةُ لأهلِ الفَرَما: ما أخلقَ مدينتكم؟ ! قالوا: إن الفَرَما لمّا بناها قال: هذه مدينةٌ غنيّةٌ عن اللَّه فقيرةُ إلى الناسِ، فذهبت بَهْجتُها. وأقام عمرو على مِصرَ أميرًا من قِبَلِ عمر، وبعث إلى عمر بالفتحِ والأخماس. وقد روى أحمد بإسناده عن أبي ذرٍّ قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ستَفتحون مِصرَ، وهي أرضٌ يُذكر فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسِنوا إلى أهلها، واستوصوا بهم خيرًا، فإنَّ لهم ذِمَّةً ورَحِمًا وصِهْرًا، وإذا رأيتَ يَا أَبا ذرٍّ رجلين يختصمانِ في لَبِنَةٍ فاخرُج"، قال: فرأيتُ عبد الرحمن بن شُرَحْبيل بن حَسَنَةَ وأخاه ربيعةَ يَختصمان في مَوْضعِ لَبِنَةٍ، قال: فخرجتُ منها. انفرد بإخراجه مسلم (¬2). ¬

_ (¬1) صحاح الجوهري: (فسط). (¬2) مسند أحمد (21250)، وصحيح مسلم (2543).

ذكر كتاب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى نيل مصر

وفي قوله عليه السلام: "إنَّ لهم ذِمَّةً ورَحمًا" قولان: أحدُهما أنَّه أَرادَ هاجَرَ أُمَّ إسماعيل، كانت قبطيةً. والثاني: مارية أُم إبراهيم كانت قبطيّةً. رَجَعْنا إلى الحديث، وبعث إلى عمرَ بالفتحِ والأخماسِ، ونزل عمرو بالفُسْطاط واختطَّه المسلمون، ووضع عمر المسالح على السواحل إلى الشامِ، خوفًا من الرُّومِ، وكان هِرَقْلُ قد جَهَّزَ المراكب في البحرِ، وعزمَ على قصدِ الشامِ بنَفْسهِ وأن ينزل سوريَّةَ. ذكر كتاب عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- إلى نيل مصر حدثنا غيرُ واحدٍ عن أبي الفضل بن ناصر بإسناده، عن قيس بن الحجّاجِ، قال: لمّا فُتِحت مصرُ أتى أهلُها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤنه -من أَشهُرِ العَجَم- فقالوا له: أيُّها الأميرُ، إن لنيلنا هذا سُنَّةً لا يَجري إلَّا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا دخلت اثنتا عَشْرَةَ ليلةً من هذا الشهرِ عَمَدْنا إلى جاريةٍ بِكْرٍ بين أبَوَيها فأرضَيْنا أهلها، وحملنا عليها من الحُليِّ والثيابِ أفضلَ ما يكون، ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم: إنَّ هذا لا يكون في الإِسلام، وإنَّ الإِسلامَ يَهدمُ ما كان قبله. فأقاموا بُؤنه وأبيب ومَسرى، وهي أَشهُرٌ معروفةٌ، لا يجري النيلُ قليلًا ولا كثيرًا، حتى همُّوا بالجَلاء عنها، فلما رأى ذلك عمرو، كتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: إنَّكَ قد أصبتَ؛ لأنَ الإِسلامَ يهدِمُ ما قبله، وكتب بطاقةً داخل كتابه، وكتب إلى عمرو: قد بعثتُ إليك ببطاقةٍ في داخلِ كتابي، فألقِها في النيل. فلما قَدِم كتابُ عمر إلى عَمرو أخذ البطاقةَ، فإذا فيها: من عبدِ اللَّه عمر أميرِ المؤمنين إلى نيلِ مصر، أما بعدُ: فإن كنتَ تَجري من قِبَلكَ فلا تَجرِ، وإن كنتَ إنما تجري بأمرِ اللَّه الواحدِ القهار -أو وإن كان اللَّه هو الذي يُجريك- فنسألُ اللَّه الواحد القهارَ أن يُجرِيَك، فألقى البطاقه في النّيل قبل يوم عيد الصَّليبِ بيومٍ، وقد تهيّأ أهلُ مصرَ للجلاء والخروج؛ لأنه لا يقومُ بمَصْلحتهم إلَّا النيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا وقد أجراه اللَّه ستَّة عشر ذراعًا في ليلةٍ واحدةٍ، وقطع اللَّهُ تلك السُّنَّةَ عن أهل مصر إلى اليومِ.

فصل

فصل: وفيها زُلزلت المدينةُ، ووقعتِ الدورُ، أَنْبأنا جدّي بإسناده عن صَفية بنت أبي عبيد -وأخرجه أبو بكر الخطيب بإسناده عن صفية- قالت: زُلزلت المدينةُ على عهد عمر، فقال عمر: أيها الناس، ما هذا؟ ما أسرع ما أحدثتُم، لئن عادت لا ساكنتكم فيها أبدًا (¬1). وذكر جدّي في كتابٍ يُقال له: "معاني المعاني": فضربها عمر بالدِّرَّةِ فسكنت. قال هشام: وهي أَوَّلُ زَلزلةٍ كانت في الإِسلام. وقد أخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بحدوثِ الزلازل، روى أبو هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تقومُ الساعةُ حتى يُقْبَضَ العلمُ، وتكثرَ الزلازلُ، وتظهَرَ الفِتَنُ، ويَكثُرَ الهَرْجُ"، قيل: وما الهرج؟ قال: "القتل" (¬2). وفي رواية: "وإذا ظهرتِ الفاحشةُ كانت الرجْفَةُ" (¬3). وفي حديث أبي هريرة أيضًا قال: رجفت الأرضُ على عهدِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أيُّها النَّاسُ، إن ربكم قد عَتِبَ عليكم، فأعتبوه". وفيها عزل عمر رضوان اللَّه عليه قُدامة بن مَظعون عن البحرين، وولّاها أَبا هُريرة، وقيل: إنما ولّاها أَبا بكرة، وكان قُدامة قد شرب الخمر، فحدَّه عمر رضوان اللَّه عليه. وفيها تزوّج عمر فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزوميّ، أمّ عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكان زوجُها الحارث بن هشام قد مات بالطاعون، وفاطمة أختُ خالد بن الوليد، خرجت مع زَوْجِها الحارث يوم أحد مع الكفّار، ثم أسلمتْ يومَ الفتح، وحَسُن إسلامُها، وروت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفيها عزل عمر بن الخطاب رضوان اللَّه عليه سعد بنَ أبي وقّاص -رضي اللَّه عنه- عن الكوفة، وولّاها عمار بن ياسر -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 294، 295. (¬2) أخرجه أحمد (10863)، والبخاري (1036). (¬3) أخرجه ابن عدي في الكامل 7/ 2703 من حديث ابن عمر، وفيه يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي، قال أبو حاتم: منكر الحديث لا أدري منه أو من أبيه، انظر لسان الميزان 8/ 483.

وكان بعض أهل الكوفة شَكَوْا سعدًا -رضي اللَّه عنه-، وقالوا: إنه لا يُحسن أن يُصلّي، فأرسل إليه عمر رضوان اللَّه عليه، فقال: يا أَبا إسحاق، إن هؤلاء يَزعمون أنّك لا تُحسِن أن تُصلّي! فقال: أما أنا فإنِّي واللَّه كنتُ أُصلّي بهم صلاةَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لا أَخْرِمُ عنها، أُصلّي صلاتَي العشاء، فأرْكُدُ في الأوَّلَتين، وأَحْذِف في الآخرتين، قال: ذلك الظَّنُ بك يَا أَبا إسحاق، إن هؤلاء يَزعمون أنك لا تُحسن أن تُصلّي (¬1). فأرسل عمر رضوان اللَّه عليه معه رجالًا إلى الكوفة، فسأل عنه أهلَها، فلم يَدعْ مسجدًا إلا سأل عنه، ويُثنون عليه معروفًا، حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم يُكنى أَبا سَعدة، اسمه أسامة بنُ قتادة فقال: أما إذ نَشَدْتنا، فإن سعدًا كان لا يَسير بالسَّرِيّة، ولا يَقسم بالسَّوِيّة، ولا يَعدِل في القَضيّة، فقال سعد -رضي اللَّه عنه-: أما واللَّه لأدعُونّ بثلاث: اللهمَّ إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياءً وسُمعةً، فأطِلْ عُمُره، وأطل فَقرَه، وعَرِّضه للفِتن، فكان بعد ذلك إذا سُئل يقول: شيخ مَفتون أصابَتْه دَعوةُ سعد. قال جابر بن سَمُرة: فأنا رأيتُه بعد ما سقط حاجباه على عينيه من الكِبَر، وإنه ليَتعرَّضُ للجَواري في الطُّرق يَغمِزهُنّ (¬2). وفيها قسم عمر بن الخطّاب رضوان اللَّه عليه خيبر بين المسلمين، وأَجْلى اليهودَ عنها، وسببه أنَّهم فَدَعوا ابنه عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. قال نافع: لما فَدَع أهلُ خَيبر عبد اللَّه بن عمر قام [عمر] خطيبًا فقال: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان عامَل أهلَ خَيبر على أموالهم، وقال: "نُقِرُّكم على ما أَقَرَّكم عليه اللَّه"، وإن عبد اللَّه بن عُمر خرج إلى ماله هناك، فعُدِي عليه من الليل، فَفُدِعَتْ يداه ورجلاه، وليس هناك عدوٌّ غيرَهم، وقد رأيتُ إجلاءَهم، فإنهم عَدوُّنا وتُهْمَتُنا، فلما قال عُمر ذلك أتاه أحدُ بني أبي الحُقَيق فقال: يا أمير المؤمنين، أتُخرِجُنا وقد أقرَّنا محمد، وعامَلَنا على الأموال، وشرط لنا ذلك؟ فقال له عمر: أتظنُ أني نسيتُ قولَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كيف بك إذا أُخرِجْتَ من خيبر تَعدو بك قَلُوصُك ليلةً بعد ليلة؟ "، فقال: كانت تلك هُزَيْلةً كانت ¬

_ (¬1) هذه العبارة مكررة بسبب انتقال النظر، واللَّه أعلم. (¬2) أخرجه أحمد (1510)، والبخاري (755)، ومسلم (453)، والخطيب في تاريخ بغداد 1/ 145، وابن الجوزي في المنتظم 4/ 229.

أسيد بن حضير

من أبي القاسم، فقال: كذْبتَ يَا عدوَّ اللَّه، فأَجْلاهم، وأعطاهم قيمةَ ما كان لهم من الثمر مالًا وإبلًا وعُروضًا من أَقْتابٍ وحِبال وغير ذلك. انفرد بإخراجه البخاري (¬1). وعن جابر بن عبد اللَّه، عن عمر بن الخطاب رضوان اللَّه عليه قال: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لأُخرجنَّ اليهودَ والنّصارى من جزيرة العرب، حتى لا أَتْرُكَ فيها إلا مُسلِمًا". انفرد بإخراجه مسلم (¬2). وفيها أجلى عمر يهودَ نَجْران إلى العراق فسكنوا الحِيرة، قال ابن إسحاق: وأمّا يهودُ خَيبر فخرجوا إلى أَذْرِعات في الشام. وفيها قسم عمر فَدَك ووادي القُرى على يد أبي حَبيبة، فأقام لهم نِصْفَ الأرضِ. وفيها آلى عمر أن لا يجهِّزَ سفينةً في البحرِ أبدًا، قال الواقدي: كان أهلُ الحبَشةِ يتعدَّوْنَ على أطرافِ المسلمين من ناحيةِ جُدَّةَ والساحلِ، فبعث عُمر عَلقمةَ بنَ مُجَزِّز المُدْلجيّ في أربعِ سُفُن، فأُصيب منها ثلاث سُفن، في كلِّ واحدةٍ خمسون رجُلًا، وبقيت سفينةٌ واحدةٌ، فرجع بها علقمةُ. فصل: وحجَّ بالناسِ عمر (¬3). فصل وفيها تُوفّي أُسَيْد بنُ حُضَيْر ابن سِماك بن عَتيك (¬4) بن رافع بن امرئ القيس الخَزْرجي، وكُنيتُه أبو الحُضَيْر، وقيل: أبو يحيى، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وكان الحضير كاتبًا شريفًا في الجاهلية، وكان (¬5) رئيسَ الأوس يوم بُعاث، وهي آخر وَقْعةٍ كانت بين الأوس والخَزْرج، وكان يُسمّى الكامل، وفيه يقول خُفاف بن نُدْبَة، وقُتل الحُضَير يومئذٍ: [من الطويل] ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2730)، ومسند أحمد (90). (¬2) صحيح مسلم (1767)، ومسند أحمد (201)، ومن قوله قبل: وفيها عزل عمر قدامة بن مظعون. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬3) من هنا إلى بداية ترجمة بلال، ليس في (ك). (¬4) في (أ) و (خ): عبيد، وهو خطأ. (¬5) في (أ) و (خ): له يحيى، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار وكان، وهو تكرار للسطر السابق.

أنيس بن [مرثد بن] أبي مرثد

لو أنَّ المنايا حِدْنَ عن ذي مهابةٍ ... لَهِبْنَ حُضَيرًا يومَ غَلَّق واقمًا يَطوف به حتى إذا الليلُ جَنَّه ... تبوَّأ منه مَقعدًا مُتَناعِما (¬1) واقِم: أُطُم حُضَيْر، وكانت وقعةُ بُعاث قبل الهجرة بستِّ سنين. أسلم أُسَيد على يدَيْ مصعب بن عُمير -رضي اللَّه عنه- قبل سعد بن مُعاذ -رضي اللَّه عنه- بساعة، وشهد العَقَبة مع السَّبعين، وكان أحد النُّقبَاء الاثني عشر، ولم يَشهد بدرًا؛ لأن أكابر الأنصار ظَنُّوا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج في طَلَب العِير، لا أنه يَلقى عدوًّا، وشهد أحدًا، وثبت يومئذٍ، وجُرح سبع جِراحات، وشهد الخندقَ والمشاهدَ كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكان يُسمَّى الكامل كأبيه، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُثني عليه ويقول: "نِعمَ الرّجل أُسَيد بنُ حُضَير"، وشهد خُطبة [عمر] رضوان اللَّه عليه بالجابية، وأمّره لما خرج إلى الشام على رُبع الأنصار، وخرج معه الخَرْجَة الأولى والثانية، وشهد معه فُتوحَ القدس، وكان معه لما خرج من سَرْغ. قال أنس: كان أُسيد بن الحُضَيْر وعَبَّاد بنُ بِشر عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ليلةٍ مُظلمة حِنْدِس، فتحدَّثا عنده، حتى إذا خرجا أضاءت لهما عَصى أحدِهما، فمَشَيا في ضوئها، فلما تَفرَّق بهما الطّريق أضاءت لكل واحدٍ منهما عصاه، فمشى في ضوئها. انفرد بإخراجه البخاري (¬2). وتُوفّي -رضي اللَّه عنه- في شعبان بالمدينة سنة عشرين، فحمله عمر بن الخطاب رضوان اللَّه عليه بين العمودين من بني عبد الأشهل، حتى وضعه بالبَقيع، ثم صلّى عليه ودفنه، أسند الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). أُنَيْس بن [مَرْثَد بن] أبي مَرْثَد كَنَّاز بن الحُصَين الغنوي، حَليف حمزة -رضي اللَّه عنه-، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وكُنيتُه أبو يزيد، شهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ الفتح وحنينًا والطائف، [وكان] عَيْن ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 558، والأغاني 17/ 128، وشعره المجموع في (شعراء إسلاميون) 488. (¬2) صحيح البخاري (3805)، وانظر طبقات ابن سعد 3/ 560. (¬3) انظر ترجمته في الاستيعاب (6)، وتاريخ دمشق 3/ 12 (مخطوط)، والمنتظم 4/ 296، والاستبصار 1/ 213، والسير 1/ 340، والإصابة 1/ 49.

بشر بن عمرو بن حنش الأنماري

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأَوْطاس، وتُوفّي في ربيع الأول بالمدينة، وصلّى عليه عمر رضوان اللَّه عليه، له صُحبة ورواية -رضي اللَّه عنه- (¬1). بِشر بن عمرو بن حَنَش الأَنْماري ويُلقّب بالجارود, لأنه كان له إبلٌ جَرْباء يُورِدُها على أخواله من بني شيبان، فأَعدتْ إبلَهم فهلكتْ، فقال الناس: جَرَدهم بِشر، وفيه يقول الشاعر: [من الطويل] جَرَدْناهمُ بالبِيض من كلِّ جانبٍ ... كما جَرد الجارودُ بكرَ بنَ وائل وفد على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في السنة العاشرة من الهجرة. وأمّه دَرْمكة بنت رُوَيم من بني شيبان. وكان الجارود شريفًا، سيِّدَ عبد القَيْس، وهو الذي شَهد على قُدامة، [فقدم على عمر فقال: يا أمير المؤمنين، إن قُدامة قد شرب الخمر، قال: فمَن يَشهد معك؟ قال: أبو هريرة، فكتب إلى قُدامه فحَضَر، فقام الجارود فقال: أقِمِ الحدَّ على قُدامة، فقال له عمر رضوان اللَّه عليه: لتَملكَنّ عليك لِسانَك أو لأسُوأنّك، فقال الجارود: يَشرب ابنُ عمِّك الخمر وتَسوءُني؟ ! فوَزَعه عمر رضوان اللَّه عليه، ثم دعا بقُدامة فحَدَّه. قُتل الجارود بعَقَبة الطين شهيدًا رحمه اللَّه، وكان له من الولد: المنذر وحَبيب وغياث وعبد اللَّه وسلمة (¬2) ومسلم والحكم، قُتل الحكم بِسجِسْتان، والمنذر كان سيِّدًا [جوادًا]، ولاه عليّ عليه السلام إصْطَخْر، فلم يأتِه أحدٌ إلَّا وَصَله، ووَلّاه عبيد اللَّه بن زياد ثغرَ الهند، فمات به، أسند الجارود الحديثَ رحمه اللَّه تعالى (¬3). بلال بن رَباح -رضي اللَّه عنه- (¬4) من الطبقة الأولى من المهاجرين، واختلفوا في كُنيته، والأشهر أبو عبد اللَّه. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 105، والاستيعاب (20)، والإصابة 1/ 73. (¬2) في طبقات ابن سعد 8/ 122: وسلم. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 85، والاستيعاب (352)، وتهذيب الكمال (868)، والإصابة 1/ 216. (¬4) بعدها في (ك): واسم أمه حمامة، وكانت تلقب سكينة لبعض بني جُمح فنسب إليها فقيل عبد. ثم يقع سقط في المخطوط بمقدار صفحتين.

سبب إسلامه -رضي الله عنه-

كان آدّم، شديدَ الأُدْمَة، نحيفًا، طُوالًا، أَجْنَأ، [كثيرَ] الشَّعر، خفيفَ العارضَين، لا يُغيِّر شَيْبَهُ. وكان يُعذَّب في اللَّه تعالى حين أسلم ليَرجعَ عن دينه، وكان من المُستَضعفين من المؤمنين، فما أعطاهم قط كلمةً مما يُريدون، وكان إذا اشتدّ به العذابُ قال: أَحَدٌ أَحد، فيعذّبونه ويقولون: قُل كما نقول، فيقول: إن لساني لا يُحسِنُه، وأتى عليه أبو بكر -رضي اللَّه عنه- فقال: عَلام تُعذِّبون هذا الإنسان؟ فاشتراه بسبع أَواقٍ فأعتقه، فذكر ذلك للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "الشَّرِكَةَ يَا أَبا بكر"، فقال: قد أعتقتُه يَا رسول اللَّه. قال مجاهد: أوَّلُ مَن أظهر الإِسلام سبعة: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبو بكر رضوان اللَّه عليه، وبلال، وخَبَّاب، وصُهيب، وعمّار، وسُميّة أم عمّار -رضي اللَّه عنهم-. فأما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فمنعه عمُّه، وأما أبو بكر رضوان اللَّه عليه فمنعه قومُه، وأُخِذ الآخرون، فألبسوهم أدراع الحديد، ثم صَيّروهم في الشمس، حتى بلغ الجهد منهم كلَّ مَبلغ، فأعطَوْهم ما سألوا، إلَّا بلالًا فإنه هانت عليه نفسُه في اللَّه حتى مَلُّوه، فجعلوا في عُنُقِه حَبْلًا، ثم أمروا صبيانَهم أن يَشتدُّوا به (¬1) بين أخشَبَيْ مكة، وبلالٌ يقول أَحَد أَحَد. وكان أميَّة بن خَلَف يُخرجه إذا حَمِيت الظَّهيرةُ، فيَطرحُه على ظهره في حرِّ الرَّمْضَاء، ثم يَجعل على صدرِه صخرة عظيمة، ثم يقول: لا تزالُ كذا حتى تموتَ أو تكفُرَ محمدًا، وتعبُدَ اللاتَ والعُزّى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أَحَد أَحَد. قال المصنّف رحمه اللَّه: قال جدّي في "المنتخب": [من الوافر] أبو بكر حبا للَّه مالًا ... وأعتق خَيِّرًا عَبْدَهْ بِلالا لو أنّ البحر عانده بسُوءٍ ... لما أبقى الإله له بِلالا وقد آسى النبيَّ بكلِّ خيرٍ ... وأبدى فيه لفظَ نعم بلالا (¬2) سبب إسلامه -رضي اللَّه عنه-: اعتزل أبو بكر رضوان اللَّه عليه ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غار، فمرّ ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): يشدونه، والمثبت من طبقات ابن سعد 3/ 214. (¬2) الأبيات في معجم الأدباء 6/ 94 لأسعد بن علي البارع.

ذكر جملة من مناقبه

بهما بلال -رضي اللَّه عنه- وهو في غَنَم لعبد اللَّه بن جُدْعان، وكان له بمكة مئةُ عبدٍ من مُوَلّديها، فلما بُعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخرجهم ابن جُدْعان من مكة خوفًا عليهم، إلا بلالًا فإنه كان يرعى عليه غنمه تلك، فأطلع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأسَه من الغار، فقال: يا راعي، هل من لَبَن؟ ! فقال: مالي فيها إلا شاة منها قُوتي، فإن شئتُما آثرتُكما اليوم بلَبنها، فقال: ائت بها، فجاء بها فاعتَقَلها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحَلَب في القعب، وشرب هو وأبو بكر -رضي اللَّه عنه-، ثم سقى بلالًا -رضي اللَّه عنه-، وأرسلها وهي أَحفَلُ مما كانت، فقال: يا غُلام، هل لك في الإِسلام؟ وقرأ عليه القرآن فأسلم، فقالا: اكتُم إسلامَك. وانصرف بغَنَمه وقد أَضْعفَ لبنُها، فقال له أهله: لقد رعيتَ اليوم مَرعى طَيِّبًا فعليك به، فعاد إليهما ثلاثةَ أيام يسقيهما اللبن، ويَتعلّم الإِسلام. ودخل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مكة، فاختفى في دارٍ عند المروة، فدخل بلال -رضي اللَّه عنه- يومًا إلى الكعبة وقريش في ظاهرها (¬1) وهو لا يعلم، فجعل يَبصُقُ على الأصنامِ ويقول: خابَ وخَسِرَ مَن عَبَدكم من دونِ اللَّه، فطلبَتْه قُريشٌ فهرب، فدخل دار سيِّده عبد اللَّه بن جُدْعان فاختفى فيها، فجاؤوا إلى الباب، ونادَوْا عبدَ اللَّه بنَ جُدعان، فخرج إليهم فقالوا: صبوتَ؟ فقال: ألمثلي تقولون هذا؟ عليَّ نَحْرُ مئةِ ناقةٍ للّاتِ والعُزّى إن كنتُ صَبَوْتُ، قالوا: فإن أسوَدَك صنع كذا وكذا، فدخل فأخرجه إليهم وقال: شَأنُكم به، افعلوا به ما أحببتُم، فخرج به أبو جهل بن هشام وأُميَّةُ بنُ خَلَف إلى الرّمْضاءِ، وبسطاه عليها، وجعلا على عُنُقه رَحًى، وقالا: اكفُر بمحمّدٍ، وهو يقول: أحدٌ أحَدٌ. ومرَّ بهما أبو بكر فقال: واللَّه ما تُدْرِكان بعذابه ثأرًا، فقال له أُمية: هو على دينك فاشتَره منّا، قال: نعم، قال: بعبدِك نِسطاس، وكان حدَّادًا، وخراجُه كلَّ يوم نصفُ دينار، فقال: قد فعلتُ، فأعطاهم إياه، وأخذ بلالًا (¬2). ذكْرُ جملةٍ من مناقبهِ: قال علماءُ السِّيَرِ: شهد بلالٌ مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كلَّها، وهو أوَّلُ من أذَّن له سَفَرًا وحضرًا، وكان خازِنَه على بيت المال. ¬

_ (¬1) هنا ينتهي السقط في (ك) المشار إليه من قبل. (¬2) تاريخ دمشق 3/ 448 - 449 (مخطوط).

وقال أبو نُعيمٍ بإسنادهِ عن أنسٍ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بلال سابقُ الحبشة" (¬1). قال أنس: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد أُخِفتُ في اللَّه وما يُخاف أحدٌ، ولقد أوذيتُ في اللَّه وما يُؤذى أحدٌ، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة، مالي ولبلال طعامٌ يأكله ذو كَبِدٍ إلَّا شيءٌ يُواريه إبِطُ بلال" (¬2). وقال أحمد بإسناده عن عبد اللَّه بن بُريدة، عن أَبيه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا بلالُ، بم سبقتَني إلى الجنة؟ ما دخلتُها قط إلَّا سمعتُ خَشْخَشَتَك أمامي"، فقال: ما أحدثتُ حَدَثًا إلَّا توضَّأتُ وصليتُ ركعتين، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بهذا" (¬3). وفيه: فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أخبرْني يَا بلال بأَرجى عملٍ عملتَه في الإِسلام، فإني سمعتُ خَشْف نَعْلَيك الليلةَ بين يَدَيَّ في الجنَّة"، فقال: ما عملتُ عملًا أرجى منفعةً عندي من أني لم أتطهَّر طُهْرًا قطُّ في ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ إلَّا توضَّأتُ وصليتُ ركعتين. الحديث (¬4). الخَشْفُ هنا: الصوتُ ليس بالشديد. وقال أحمد بإسناده (¬5) عن أنسٍ قال: أبطأ بلالٌ عن صلاةِ الفجر، فقال له رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما حَبَسك؟ " قال: مررتُ بفاطمة وهي تَطحنُ والصبيُّ يَبكي، فقلتُ لها: إن شئتِ كَفيتُك الرَّحى وكَفَيتِني الصّبيّ، وإن شئتِ كفيتِني الرَّحى وكفيتُك الصبيَّ، فقالت: أنا أرفقُ بابني منك، فذاك الذي حَبَسني، فقال له رسول اللَّه: "رحمتَها يَرحمك اللَّه" (¬6). وروي عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 62 - 63] قال: يقول أبو جهل: أين بلالٌ؟ أين فُلانٌ؟ كنّا نعدُّهم في الدنيا من الأشرارِ، فلا نراهم في النارِ، أم هم في مكانٍ لا نَراهم فيه، وفي روايةٍ: أم هم في النَّارِ لا نَرى مكانهم (¬7). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 1/ 149. (¬2) أخرجه أحمد (14055)، وأبو نعيم 1/ 150. (¬3) مسند أحمد (22996). (¬4) أخرجه أحمد (8403)، والبخاري (1149)، ومسلم (2458) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬5) من قوله: وفيه قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬6) مسند أحمد (12524). وسلف في سنة (11 هـ) في مناقب فاطمة. (¬7) طبقات ابن سعد 3/ 214.

وذكره البلاذري وفيه: يقول أبو جهل: أين بلال؟ أين عمَّارٌ؟ أين صُهَيْبٌ؟ أين خبَابٌ (¬1)؟ وقال ابن سعد بإسناده عن عامرٍ قال: كان لرسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة مؤذِّنين: بلالٌ وأبو مَحْذورةَ وعمرو بن أُمِّ مَكتوم، فإذا غاب بلال أذَّن أبو محذورة، وإذا غاب أبو محذورة أذَّنَ ابنُ أُمّ مكتوم (¬2). ودخل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه وعنده صُبَر من تمر، فقال: "ما هذا؟ "، فقال: ادَّخرتُه لك ولضِيفانك يَا رسول اللَّه، قال: "أما تخشى أن يكون له بُخارٌ في النَّار؟ أنفق يَا بلال ولا تَخْشَ من ذي العرش إقلالا" (¬3). وكان عمر -رضي اللَّه عنه- يقول: أبو بكر سيِّدُنا، وأعتق سيِّدَنا، يعني بلالًا. ولما هاجر بلال -رضي اللَّه عنه- إلى المدينة نزل على سعد بن خَيثمة، وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين عُبَيدة بن الحارث، وقيل: بينه وبين أبي رُوَيحة عبد اللَّه بن عبد الرحمن الخَثْعَمي. أهدى النجاشي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه عَنَزة، فكان بلال يَحملها بين يديه إلى صلاة العيدين والاستسقاء، فيأتي بها المصلَّى فيَركُزُها، ثم مشى بها بين يدي أبي بكر رضوان اللَّه عليه، ثم كان سعد القَرظي يمشي بها بين يدي عمر وعثمان -رضي اللَّه عنهما- في العيدين، ويَركزها بين أيديهما، ويُصلّيان إليها (¬4). وقال ابن سعد: لما تُوفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جاء بلال إلى أبي بكرٍ فقال: يا خليفةَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إني سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أفْضَلُ عمل المؤمن الجهادُ في سبيلِ اللَّه"، فقال أبو بكر: فما تشاءُ يَا بلالُ؟ قال: أُرابِطُ في سبيلِ اللَّه حتى أموت، فقال أبو بكر: أنشدُكَ اللَّه يَا بلالُ، وحُرْمَتي وحَقِّي، فقد كبرتُ وضعفتُ واقتربَ أجلي، فأقام ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 1/ 210. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 215. (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير (1020) و (10300)، وأبو نعيم في الحلية 1/ 149 من حديث عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-. (¬4) من قوله: ودخل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعنده صبر. . . إلى هنا ليس في (ك).

فصل في ذكر وفاته -رضي الله عنه-

بلال مع أبي بكرٍ حتى تُوفي أبو بكر، فجاء إلى عمر، فقال كما قال لأبي بكر، وردَّ عليه عمرُ كما ردَّ أبو بكرٍ، فأبى بلالٌ عليه، فقال عمر: فإلى مَن ترى أن أجعلَ النداءَ؟ فقال: إلى سعد القَرَظِ، فإنَّه قد أذَّن لرسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فدعاه عمر فجعل الأذانَ إليه وإِلى عقبِه من بعده (¬1). والقَرَظُ بالظاء القائمةِ: وَرقُ السَّلَمِ، كانوا يَجْنونه فنُسب إليه. ثم خرج بلالٌ إلى الشامِ فتوفي به رحمه اللَّه. ولما تُوفِّي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أذن بلال ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُقْبَر، فلما قال: أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، انتحب الناسُ في المسجد، فلما دُفن قال له أبو بكر -رضي اللَّه عنه-: أَذّن، فقال: إن كنتَ إنما أعتَقتَني لأن أكونَ معك فسبيلُ ذلك إليك، وإن كنتَ أعتَقتَني للَّه فخَلِّني ومَن أعتقَتَني له، فقال: ما أعتقتُك إلا للَّه، قال: فإني لا أؤذّن لأحدٍ بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال فذاك إليك. وجاء بنو أبي البُكَير إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: زَوِّج أختَنا فُلانًا، قال لهم: "فأين أنتم عن بلال؟ "، فجاؤوا مرّةً أخرى وأخرى وهو يقول لهم كذلك، ثم قال لهم في الثالثة: "أين أنتم عن رجل من أهل الجنة؟ "، فزوَّجوه (¬2). فصل في ذِكرِ وفاتِه -رضي اللَّه عنه-: حكى ابن سعد، عن الواقدي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارثِ التَّيْمي، عن أَبيه قال: تُوفّي بلال بدمشق سنة عشرين، ودُفِنَ عند البابِ الصغيرِ في مقبرةِ دمشق، وهو ابنُ بِضْعٍ وستين سنةً. قال الواقدي: وكان بلالٌ تِرْبَ أبي بكرٍ، يعني قَرينَه (¬3). قلتُ: وقد اختلفوا في وَفاتهِ ومَوضعِ قبرهِ على أقوالٍ، أحدها ما حكاه ابنُ سعدٍ عن الواقدي. وقال ابن عساكر عن أبي سليمان بن زَبْر قال: مات بلالٌ بداريّا في سنةِ الطاعون، وحُمِل من داريّا على أعناقِ الرجالِ فدُفِنَ بمقبرةِ بابِ كيْسان (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 214 و 217. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 218 و 219. ومن قوله: ولما توفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 219 و 220. (¬4) تاريخ دمشق 3/ 472 - 473.

وقال خليفة: مات بدمشق سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة ثماني عشرة (¬1). وقال الهيثم: مات بحلب سنة عشرين أو ثماني عشرة، ودُفِنَ بباب الأربعين. وقال ابن عساكر في تاريخه: مَن قال إنَّ بلالًا مات بحلب فقد وَهِمَ، الذي مات بحلب خالد بن رباح، وكنيتُه أبو رُويحة الخثعمي، له صُحبةٌ، ولم نعلم له رواية, ويقال: إنه أخو بلالٍ في الإِسلام دون النسبِ، آخى بينهما رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وقال هشام (¬3): خالد بن رباح أخو بلالٍ في النسب، وهو مولى أبي بكرٍ الصديق، وكذا قال ابن عساكر أيضًا، قال: واستعمله عمر على الأُردن، وهو القائل لسُهيل بن عمرو: ما منعك أن تُعجل الغدو (¬4) إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا النفاق، والذي بعث محمدًا بالحق لولا شيءٌ لضربتُ بهذا السيف فَلْحَتك، وكان سُهيل أعلمَ، وكان قد أَقْبَل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد طلوع الشَّمس، وهو نازل بالأَبْطح ثاني يوم الفتح، فقال سُهيل لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا محمد، ألا ترى إلى ما يقول لي هذا العُبَيد؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعْه، فعسى أن يكون خيرًا منك"، فكانت هذه أشدّ على سُهيل من الأولى (¬5). وقال أبو حاتم بن حِبّان البُسْتي: مات بلال بفلسطين، وقيل بعَمْواس (¬6). قلتُ: والأصحُّ أنَّه مات بدمشق سنة عشرين، وقيل: وهو ابن ستّين سنةً. وقال ابن عساكر: تزوَّج بل الذي خَوْلانَ امرأةً اسمُها ليلى، من أهلِ داريّا لها صُحْبَةٌ، وهي التي حكت عن بلالٍ أنَّه (¬7) قال لما احتُضِرَ، فقالت: واحُزْنَاه، فقال: لا، بل واطَرَبَاه؛ غدًا نلقى الأحبَّه ... محمدًا وحِزْبَه ¬

_ (¬1) طبقات خليفة 19 و 198، وتاريخه 149. (¬2) انظر تاريخ دمشق 3/ 473 و 5/ 420 - 422. (¬3) من قوله: وقال خليفة. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬4) في (أ) و (خ): الرواح، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ دمشق 5/ 420. (¬5) من قوله: وهو القائل لسهيل. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬6) الثقات 3/ 28. (¬7) من قوله: وقال أبو حاتم بن حبان. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

وقيل: اسمُها هند (¬1). وأسند بلال عن رسولِ اللَّه أربعةً (¬2) وأربعين حديثًا، أُخرج له منها في "الصحيحين" أربعةُ أحاديث. قال أحمد بإسناده عن مُجاهدٍ، عن ابن عمر أنه سأل بلالًا، فأخبره أن رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ركع رَكعتين، يعني في البيت، فجعل الأسطوانةَ عن يمينهِ، وتقدّم قليلًا، وجعل المقام خلف ظهره. وقال أحمد بإسناده عن ابن عمر، وذكر دخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الفتح إلى الكعبةِ، قال ابن عمر: فوجدتُ بلالًا قائمًا على البابِ فقلتُ: أين صلَّى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: بين العَمُودين المتَقَدِّمَيْنِ، فنسيت أن أسأله: كم صلّى (¬3). وحكى ابن عبد البَرِّ (¬4) قال: قالت أم الدرداء: حدَّثني أبو الدرداء قال: أقام بلالٌ بداريّا، فرأى رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في منامِه فقال له: يا بلالُ، ما هذه الجَفْوُة؟ أما آنَ لكَ أن تَزورَني؟ فانتبه فَزِعًا، وركب ناقتَه، وأتى المدينةَ، فجعل يُمَرِّغُ خدَّيْه على التُّراب بين يَدَي الحجْرةِ ويبكي، وأخذ الحسنَ والحسينَ فجعل يُقَبِّلُهما ويبكي، وبكى المسلمون وقالوا: يا أَبا عبد اللَّه، نَنْشُدُك اللَّه، ألا أسْمَعْتَنا أذانك الذي كُنْتَ تُؤذِّنُ به لرسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في السَّحَرِ؟ فلما كان وقتُ السَّحَرِ صعدَ المكانَ الذي كان يُؤذِّنُ عليه للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما قال: اللَّه أكبر ارتجَّت المدينةُ، فلما قال: أشهدُ أن لا إله إلَّا اللَّه ازدادت رجَّتُها، فلما قال: أشهدُ أن محمدًا رسولُ اللَّه، خرج العَواتِقُ من خُدورِهنَّ وقُلْنَ: بُعِثَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فما رُئيَ باكٍ ولا باكية بعد وفاة رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعظمَ من ذلك اليوم (¬5). وقال هشام بن الكلبي: كان بلال يقلبُ الشِّينَ سينًا، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ سِينَ بلال عند اللَّه شِينٌ" (¬6). انتهت ترجمة بلال -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 471 (مخطوط)، وقسم النساء 342 و 466 (مجمع اللغة). (¬2) من هنا إلى نهاية ترجمته ليس في (أ) و (خ). (¬3) مسند أحمد (23905) و (23923). (¬4) كذا, ولعل الصواب ابن عساكر، فالخبر في تاريخه 2/ 506 (مخطوط). (¬5) قال الذهبي في السير 1/ 358: إسناده ليّن، وهو منكر. (¬6) ذكره القاري في المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 65 و 113، وقال: لا أصل له، وانظر كشف =

أبو خراش الشاعر

فصل وفيها تُوفي أبو خِراش الشاعر واسمُه خويلد بن مُرَّة الهُذَليّ، شاعر مُجيدٌ من شُعراء هُذَيل، مُخَضرَمٌ، أدركَ الجاهلية والإِسلام وأسلم، وكان إذا عدا سَبقَ الخيلَ. فرُويَ عن الأصمعيّ أنَّه قال: حدَّثني رجلٌ من هُذَيل قال: دخل أبو خِراش الهُذَليُّ إلى مكة وللوليد بن المغيرةِ فَرَسانِ يُريدُ أن يُرْسِلَهما في الحلبة، فقال له الوليد: أنتَ الذي تزعمُ أنك تَسبِقُ الخيلَ؟ قال: نعم، فما تَجعلُ لي إن سبقتُهما؟ قال: هما لك، فأرسلهما، وعدا بينهما فسبقهما فأخذهما. وقال هشام: ليس لأبي خِراشٌ ذكْرٌ في الصحابةِ، وعاش إلى أيامِ عمر، نَهشَتْه أفعى فمات، وقد استشهد أهلُ اللغةِ بأشعاره، وأهلُ التفاسير بها في تفاسيرهم (¬1). فصل وفيها تُوفّيت زينب بنت جَحش ابن رئاب بن يَعْمَر بن صَبِرَة بن مُرّة بن كثير بن غَنْم بن دُودان بن أسد بن خُزَيمة، زوجةُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأُمُّها أُميمةُ بنت عبد المطلّب بن هاشم، عمَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. تزوَّجها رسول اللَّه في السنة الخامسة من الهجرة، وكانت قبل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عند زيد بن حارثة، فطلَّقها زيدٌ (¬2)، وتزوَّجها رسولُ اللَّه، وبسببها نزل الحجابُ، ونزل أيضًا: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب: 37] الآيات، وقد ذكرنا جميع ذلك (¬3). وهي التي بعث إليها عمر بنُ الخطاب بمالٍ، فسَتَرتْ بينها وبينه بثوبٍ وقالت: اللهمَّ لا يُدْركني عطاءُ عمر بعدها، فماتت قبل العطاء. ¬

_ = الخفاء 1/ 263, 564. (¬1) الشعر والشعراء 663، والاستيعاب (2913)، والأغاني 21/ 205، والمنتظم 4/ 299، والإصابة 1/ 464. (¬2) في (ك) وهي التي زوجها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زيد بن حارثة، ثم رآها رسول اللَّه فأعجبته، فطلقها زيد، والمثبت من (أ) و (خ). (¬3) سلف في قسم السيرة.

وهي التي ذكرتها عائشة في حديث الإفكِ وقالت: وهي التي كانت تُسامِيني من أزواجِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فعصمها اللَّه بالوَرَعِ، ولم أرَ امرأةً أكثرَ خيرًا ولا صدقةً منها، ما عدا سَوْرَةً من حِدَّةٍ كانت فيها، يُوشكُ منها الفيئَة، أي: الرجوع (¬1). وكانت زينب تُسمّى أُمَّ المساكين؛ كانت تعملُ بيدِها وتتصدَّقُ به على المساكينِ. وقال الواقدي: أطعمها رسول اللَّه بخيبر ثمانين وَسْقًا من تمرٍ، وعشرين وَسْقًا من قمحٍ، ويقال، من شعير. وقال ابن سعد بإسناده عن سالم، عن أَبيه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا وهو جالسٌ مع نسائهِ: "أطوَلُكنّ باعًا أسْرَعُكُنَّ لُحوقًا بي"، فكُنَّ يتطاوَلْنَ إلى الشيء، وإنَّما عني رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك الصدقةَ، وكانت زينب امرأةَ صَنعًا، فكانت تتصدَّقُ به، وكانت أسرعَ نسائهِ لحوقًا به (¬2). وقال ابن سعد بإسناده عن موسى بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن حارثة بن النعمان، عن أَبيه، عن أُمِّه عَمْرَةَ، عن عائشة قالت: يرحمُ اللَّهُ زَينب بنت جَحش، لقد نالت في هذه الدنيا الشرفَ الذي لا يَبلغه شرف؛ إنَّ اللَّه زوَّجها نبيَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدنيا، ونطق به القُرآنُ، وإنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لنا ونحن حوله: "أسرعُكُنّ بي لُحوقًا أطولكنَّ باعًا"، بشَّرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بسرعةِ لحوقِها به، وهي زوجتُه في الجنَّة. وفي روايةِ ابن سعدٍ عن عائشة قالت: فكنّا إذا اجتمعنا في بيتِ إحدانا بعد رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نمدُّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعلُ ذلك حتى تُوفيت زينبُ، وكانت امرأةً قصيرةً، ولم تكن أطْوَلَنا، فعرفنا حينئذٍ أنَّما أراد بطول اليد الصدقةَ والخيرَ. قالت: وكانت امرأةً صَناعَ اليد، فكانت تَدبُغ وتَخْرُزُ، وتتصدَّق به في سبيلِ اللَّه. وروى ابن سعدٍ عن الواقدي بإسناده قال (¬3): لمّا حَضرتها الوفاةُ قالت: إني ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2442)، ومن قوله: وقد ذكرنا جميع ذلك. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) من قوله: وقال ابن سعد. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬3) من قوله: وفي رواية ابن سعد. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

أعدَدْتُ كَفني، وإن عمر سيَبعثُ إليَّ بكَفَنٍ، فإن بعث فتصدَّقوا بأحدِهما (¬1). وقال هشام: ولما ماتت بعث إليها عمرُ بخمسةِ أثوابٍ، وقال: كفنها وغسَّلها أزواجُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحُمِلت على السرير الذي حُمِل عليه رسول اللَّه وأبو بكر. وقال ابن سعد بإسناده عن الواقدي: لمّا أرسل إليها عمرُ بالمال وفرَّقَتْه قال: هذه امرأةٌ يُرادُ بها الخيرُ، ثم جاء فوقف على بابِها، وأرسل إليها بالسلامِ وقال: قد بَلَغني ما فَرَّقتِ، وأرسلَ إليها بألفِ دِرهم، وقال: أنفقيها، فسلكت بها سبيلَ ذلك المال. قال الواقدي: ولما احتُضِرت بعث إليها عمر بخمسةِ أثوابٍ من الخزائن، يَتخيَّرها ثوبًا ثوبًا، فكُفِّنت فيها، وتصدَّقت عنها أُختُها حَمْنةُ بكَفَنها الذي أعدّته تتكفَّنُ فيه (¬2)، وقالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: لقد ذهبتْ زينبُ حَميدةً فَقيدة مَفزَع اليتامى والأرامل. قال الواقدي: وماتت في يومٍ صائفٍ، فمشى عمرُ في جَنازتها، وصلّى عليها وكبَّر أربعًا، وضرب على قبرها فُسْطاطًا لأجل الحَرِّ، فقالوا لعمر: مَن ينزِلُ في قبرِها؟ فقال: مَن كان يدخلُ عليها في حياتها، وهو أَوَّل فُسطاطٍ ضُرِبَ على قبرِ امرأةٍ بالمدينةِ. ودُفنِت بالبَقيعِ، ونزل في قبرِها محمد بن طلحة بن عبيد اللَّه التيمي، وهو ابنُ أُختِها، وهو السجَّادُ، قُتِل مع أبيهِ يوم الجمل، وأُسامةُ بن زيدٍ وكان مَحْرمًا لها؛ لأنها كانت زوجةَ أبيه، وأبو أحمد بن جَحْشٍ، وكان ضريرًا وهو أخوها، فرآه عمر وهو يروم [حَمْل] سريرها وهو يَبكي، فقال له عمر: تنحَّ يا أبا أحمد عن السرير، لا يَبْغتك الناس، فقال: يا عمر، هذه التي نِلْنا بها الشرفَ في الدنيا والآخِرةِ، وإنَّ هذا يُبْرِدُ حرَّ ما أجدُ، فقال له عمر: الزمْ الزمْ. قال الواقدي: وماتت في سنة عشرين، ووقف عمر بن الخطاب على قبرِها، والأكابرُ من أصحابِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أرجُلهم، وأمر عمرُ محمَد بنَ عبد اللَّه بن حجشٍ ومَن سمَّيْنا فنزلوا في قبرها. وحكى ابن سعدٍ عن الواقدي، عن أشياخه قالوا: تزوَّج رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زينب بنت ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في طبقات ابن سعد 10/ 104 - 105. (¬2) من قوله: وقال ابن سعد عن الواقدي. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

سعيد بن عامر

جحش لهلالِ ذي القعدة، سنةَ خمسٍ من الهجرةِ، وهي يومئذٍ بنتُ خمسٍ وثلاثين سنة، وتُوفّيت سنةَ عشرين، وهي بنتُ ثلاثٍ وخمسين سنةً (¬1). وقيل: ماتت سنة إحدى وعشرين وهي بنتُ إحدى وخمسين سنةً. وليس في الصحابياتِ مَن اسمُها زينب بنت جَحْشٍ سواها، فأما غيرُ بنت جحشٍ فقد ذكرناهُنَّ في ترجمةِ زينب بنت رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وروت زينبُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحد عشر حديثًا، أخرج لها في "الصحيحين" حديثين متفق عليهما، وأخرج لها أحمد في المسند ستَّة أحاديث. والحديثان المتَّفقُ عليهما أخرجهما أحمد في "المسند" فقال بإسناده عن نافع، عن زينب بنت جحش قالت: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على المنبر: "لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤمِنُ باللَّه واليوم الآخرِ أن تَحُدَّ على ميِّتٍ فوق ثلاثِ ليالٍ، إلّا على زَوْجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا" (¬2). والحديث الثاني قوله عليه السلام: "ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقتربَ" (¬3). وأختها حَمْنَة بنت جَحْش، صاحبةُ الإفك، كانت تحت مُصعب بن عُمير، قُتل عنها يوم أحد، فتزوّجها طلحة بن عُبيد اللَّه، فولدت له محمدًا وعمران، وكُنيتها أمُّ حَبيبة (¬4)، حضرت أُحدًا تَسقي الماء وتُداوي الجَرحْى رحمها اللَّه. سعيد بن عامر ابن حِذْيَم بن سَلامان بن ربيعة الجُمَحي، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، أسلم قبل غزاة خيبر، وشهد ما بعدها من المشاهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأمُّه أَروى بنت أبي مُعَيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شَمْس بن عبد مَناف، هاجر إلى المدينة، وولّاه عمر ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 106 - 111، وانظر أنساب الأشراف 1/ 524. (¬2) مسند أحمد (26754)، وصحيح البخاري (1282) و (5335)، وصحيح مسلم (1487) من طريق حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، عن زينب بنت جحش -رضي اللَّه عنها-. (¬3) مسند أحمد (27413)، وصحيح البخاري (3346)، وصحيح مسلم (2880). ومن قوله: وليس في الصحابيات من اسمها زينب. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ)، ومن هنا إلى بداية السنة (21 هـ) ليس في (ك). (¬4) بل هي كنية أختها، انظر طبقات ابن سعد 10/ 230، والتبيين 508، والإصابة 4/ 275، والاستيعاب (3260).

رضوان اللَّه عليه حمصَ وما يليها من الشام. أرسل عمر رضوان اللَّه عليه إلى سعيد بن عامر فقال: إنّا مُستعملوك على هؤلاء، تَسيرُ بهم إلى أرض العدوّ، فتَجاهدونهم، فقال: يا عمر، لا تَفتِنّي، فقال عمر رضوان اللَّه عليه: لا واللَّه لا أَدَعُكُم، جعلتموها في عُنقي ثم تخلَّيتُم عني، إنما أبعثُك على قومٍ لستَ بأفضلهم، ولستُ أبعثُك لتضربَ أبشارهم، ولا لتهتك أعراضَهم، ولكن لتُجاهدَ بهم عَدُوَّهم، وتَقسم بينهم فَيْئَهم. فقال: يا عمر، اتَّقِ اللَّه، أحبَّ لأهل الإسلام ما تُحبُّ لنفسِك، وأقم وَجهَك وقضاءَك لمَن استَرعاك اللَّه من قريب [المسلمين وبعيدهم]، ولا تَقضِ في أمرٍ واحدٍ قضاءين، فيَختلِفَ عليك أمرُك، وتُنْزَعَ عن الحقّ، والزم الأمرَ ذا الحُجَّة يُعِنْك اللَّه على ما ولّاك، وخُضِ الغَمرات إلى الحقّ حيث عَلمتَه، ولا تَخشَ في اللَّه لَوْمَةَ لائم. فقال عمر رضوان اللَّه عليه: وَيحك يا سعيد، ومَن يُطيق هذا؟ فقال: مَن وَضع اللَّه في عُنقه مثلَ الذي وَضع في عُنقك، إنما عليك أن تَأمُرَ فيُطاع أمرُك، أو يُترك فتكون لك الحُجَّة، فقال عمر رضوان اللَّه عليه: إنا سنجعل لك رزقًا، قال: لقد أُعطيتُ ما يكفيني دونه -يعني عطاءه- وما أنا بمُزْدادٍ من مال المسلمين شيئًا. وكان إذا خرج عَطاؤه نظر إلى قُوتِ أهلِه من طعامهم [وكسوتهم وما يصلحهم فيعزله، وينظر إلى بَقيّته فيتصدّق به، فيقول أهله: أين بقيّة المال؟ ] فيقول: أقرضتُه، فأتاه نَفرٌ من قومه فقالوا: إن لِأَهْلِكَ عليك حقًا، وإن لأصهارِك عليك حقًا، فيقول: ما أستأثر عليهم، إن يدي لمع أيديهم، وما أنا بطالبٍ رِضى أحدٍ من الناس بطلبي الحورَ العين، لو اطّلعت واحدةٌ منهنّ لأشرقت لها الأرض، [وما أنا بمتخلّفٍ عن العُنُق الأول] بعد إذ سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يجيء فقراء المهاجرين يَزفّون كما يَزفُّ الحمام، فيقال لهم: قِفُوا للحساب، فيقولون: واللَّه ما تَركنا شيئًا نُحاسَب عليه، فيقول اللَّه: صدق عبادي، فيدخلون الجنةَ قبل الناس بسبعين عامًا". وقال خالد بن معدان: ولّى عمر رضوان اللَّه عليه سعيد بنَ عامر حمص، فبلغه فقرُه وفاقتُه، فبعث إليه بألف دينار، فتصدق بها، فقالت له زوجتُه: هلّا تصدَّقتَ علينا منها بشيءٍ، فنحن أَفقرُ الناس، فقال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لو اطّلعت امرأةٌ

من نساء الجنة إلى الأرض لملأتها ريحَ المسك"، وإني واللَّه ما أختارها عليك، فرضيتْ. ولما أتى عمر رضوان اللَّه عليه الشام طاف كُوَرَها، وبعث إلى حمص قال: اكتبوا لي فُقراءكم فكتبوا إليه أَساميهم، فكتبوا له اسمَ سعيد بنِ عامر، فلما رأى اسمَه قال: مَن سعيد بنُ عامر؟ قالوا: أميرُنا، قال: وأين عَطاؤه؟ قالوا: لا يُمسك منه شيئًا، فبكى عمر رضوان اللَّه عليه، وبعث إليه بألف دينار، فجعلها كالصُّرَر في مِخلاة، واعترض جيشًا من المسلمين، ففرَّقها فيهم. وكان يَمضي عليه الشهر لا يَصعد من بيته دُخان. وشكا أهلُ حمصَ سعيد بنَ عامر -رضي اللَّه عنه-، قالوا: نَشْكُو منه أربعًا، لا يَخرج إلينا حتى يَتعالى النهار، ولا يُجيب أحدًا بليل، وله يومٌ في الشهر لا يَخرج إلينا، ويُغْنَظُ الغَنظَةَ بين الأيّام (¬1)، فسأله عمر رضوان اللَّه عليه عن ذلك فقال: واللَّه إني لأكره ذِكرَ ذلك. أمّا كوني لا أَخرجُ حتى يَتعالى النهار، فإنه ليس لي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يَختمر، ثم أخبز خُبزي، ثم أتوضأ وأخرج إليهم، وأما كوني لا أُجيبهم بليل، فإني جعلتُ لهم النهار، وجعلت الليل للَّه، وأما كوني لا أخرج إليهم يومًا في الشهر، فإنه ليس لي خادم يغسل ثيابي، ولا لي ثوب غير الذي عليّ، فأغسِله وأجلس حتى يَجفّ، وألبسَه، ثم أخرج إليهم، وأما الغنظة فإني شهدتُ مَصرَعَ خُبَيب الأنصاري بمكة، وقد بَضَعت قُريش لحمه، ثم حملوه على جِذع وقالوا: تُحبُّ أنّ محمدًا مكانك؟ فقال: واللَّه ما أحب أني في أهلي ومالي وأن محمدًا شِيك بشوكة، ثم نادى: وامحمداه، فما ذكرتُ ذلك اليوم وتركي نُصرته في تلك الحال إلا ظننتُ أن اللَّه لا يَغفر لي الذّنبَ أبدًا، فتُصيبني تلك الغنظة، فقال عمر رضوان اللَّه عليه: الحمد للَّه الذي لم يُفَيّل فراستي فيك. وبعث إليه بالف دينار وقال: استَعِنْ بها على أمرِك، ففرَّقها في الأرامل ¬

_ (¬1) يعني يغمى عليه، وتأخذه موتة.

عويم بن ساعدة بن عائش

والمساكين، فقالت له زوجته: ألا تَشترى لنا خادمًا؟ قال: [بِمَ؟ ] قالت: فما فعل ذلك المال؟ فقال: سيأتيك أحوجَ ما تكونين إليه، وله صحبة ورواية ولم يُقب -رضي اللَّه عنه- (¬1). عُوَيْم بن ساعِدة بن عائِش أبو عبد الرحمن الأنصاري، من الطبقة الأولى من الأوس، وأمُّه عميرة بنت سالم ابن عَوف، وكان من النَّفَر الثمانية الذين لَقوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة قبل العَقَبة الثانية، وأسلموا ثم شهدوا العقبة الثانية، فشهدوا العَقَبتَيْن. وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين عُوَيم وحاطب بنِ أبي بَلْتَعة، وفيه نزل قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]. وهو أوّلُ من استنجى بالماء، وهو أحدُ الرَّجُلَين الذين لقِيا أبا بكر وعمر رضوان اللَّه عليهما يوم السَّقيفة، أسند الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). عِياض بن غَنْم ابن زهير بن [أبي] شدّاد بن ربيعة الفِهري، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، أسلم قبل الحُدَيبية، وشهدها مع رسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكنيته أبو سعد، وكانت عنده أمّ الحكم بنت أبي سفيان، فلما نزل قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] طلّقها، فتزوّجها عبد اللَّه بن عثمان الثقفي، فولدت له عبد الرحمن بن أمِّ الحكم. شهد عياض فُتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه-، وهو من رهط أبي عبيدة -رضي اللَّه عنه-، وله الفتوح الكثيرة بالشام والجزيرة، وهو أولُ مَن جاوزَ دَرْبَ الروم غازيًا، وكان على حمص. وكان جَوادًا سمحًا، يُعطي ما يَملك لا يعدوه إلى غيره، ولما حَضرتْ أبا عبيدة الوفاةُ ولّاه عملَه الذين كان يليه، فلما نُعي أبو عبيدة إلى عمر -رضي اللَّه عنهما- استَرجع، وأكثر الترحُّمَ عليه، وقال: من الذي استخلف على عمله؟ قالوا: عِياض، فأَقَرّه. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 90 و 9/ 402، والاستيعاب (878)، وتاريخ دمشق 7/ 274 (مخطوط)، وحلية الأولياء 1/ 244، والمنتظم 4/ 301، والتبيين 459، والإصابة 2/ 48، وما بين معكوفين منها. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 424، والاستيعاب (2039)، والاستبصار 279، والإصابة 3/ 44، والسير 1/ 503.

وجاءه غُلامه فقال: ليس عندنا ما نَتغدّى به، فقال: خُذْ هذا الثوب، فبِعْه واشترِ به دقيقًا، قال: أفلا تَقترضُ خمسةَ دراهم من هذا المال الذي في ناحيةِ بيتك إلى غدٍ، ولا تبيع ثوبَك، فقال: واللَّه إني لأُدخل يدي في جُحْر أفعى فتنال مني؛ أحبُّ إليّ من أن أُطْمِعَ نفسي في هذا الذي تقول. وقيل لعمر رضوان اللَّه عليه: إنه يُبذّر المال، وإنما عزلتَ خالد بن الوليد لتَبذيره، ولأنه كان يُعطي الناس دونك! فقال: إن سَماحَ عِياضٍ في ذات يده حتى لا يُبقي من ماله شيئًا، فإذا بلغ إلى مال اللَّه لم يُعط منه شيئًا، مع أني لم أكن لأَعزلَ أميرًا أمّره أبو عبيدة. ولما وَلي حمص قَدم عليه نفرٌ من أهل بيته يَطلبون صِلتَه، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا خمسة، فدفع لكلِّ واحدٍ منهم عشرة دنانير، فسخطوا ونالوا منه، فقال: إني ما أُنكرُ قَرابتَكم، ولا بُعدَ شُقَّتكم وحقَّكم، ولكن واللَّه ما خَلَصتُ إلى ما وُصلتم به إلا ببيعِ خادمي، وبيع ما لا غِنى لي عنه، فاعذروني، فقالوا: [إنك والي نصف الشام، وتعطي الرجل منا ما جهده أن يبلغه إلى أهله! قال: فتأمروني أسرق مال اللَّه؟ ! ] واللَّه لأن أُشَقَّ بالمناشير أحبُّ إليَّ من أن أَخُونَ فَلسًا وأتعدّى، فقالوا: قد عَذَرْناك في ذات يدك، فوَلِّنا أعمالًا من أعمالك، نُؤدّي إليك ما يُؤدّي الناس، ونُصيبُ من المنفعة ما يصيبون، قال: أخافُ عَتَبَ عمر، وأن يقول: ولَّيتَ نفرًا من قومك، قالوا: فقد وَلّاك أبو عبيدة، وأنت في القرابة بحيث أنت، وأنفذ لك عُمرُ ذلك، فلو وَلّيتَنا أنفذه، فقال: إني لستُ عنده كأبي عُبيدة، فانصرفوا وهم لائمون له، غير عَاذرين. ومات عياض ولا مال له، ولا دَين عليه، وكان شريفًا في قومه، وذكره ابن قيس الرُّقَيّات في أشراف قريش فقال: [من الخفيف] وعِياضٌ وما عياضُ بنُ غَنْمٍ ... كان من خيرِ مَن أَجَنَّ النّساءُ (¬1) وكان أحد الأمراء والولاة باليرموك، وله صحبة ورواية -رضي اللَّه عنه-، وتوفّي وهو ابن ستين سنة (¬2). ¬

_ (¬1) ديوان عبيد اللَّه بن قيس 94، والاستيعاب (1939)، والتبيين 495، وتاريخ بغداد 1/ 184. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 94 و 9/ 402، وتاريخ دمشق 56/ 431، والمنتظم 4/ 303، والسير 2/ 354، والإصابة 3/ 50.

أبو الهيثم بن التيهان

أبو الهيثم بن التَّيِّهان واسمه مالك بن عمرو بن زعوراء (¬1) الأنصاري، من الطبقة الأولى من الأنصار، حَليفُ بني عبد الأشهل، وهو أحد النُّقَباء الاثني عشر، وأمُّه ليلى بنت عَتيك، خَزرجيّة، وهو أول من أسلم من الأنصار بمكة، وهو من الثمانية الذين لَقوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل قومهم وأسلموا، وقَدِموا المدينة وأظهروا الإسلام. شهد العَقَبتَيْن وبدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين عُثمان بنِ مَظْعون -رضي اللَّه عنه-، وبعثه إلى خيبر يخرص التمر، بعدما استُشهد عبد اللَّه ابن رواحة -رضي اللَّه عنه- بمُؤْتَة، فلما توفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعثه أبو بكر رضوان اللَّه عليه فأبى، فقال: قد خَرَصتَ التمر للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-! فقال: كنتُ إذا خَرصْتُ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورجعتُ دعا لي بالبركة، فتركه، وله صُحبة ورواية -رضي اللَّه عنه- (¬2). أم ورقة بنت عبد اللَّه بن الحارث أنصارية، أسلمت، وبايعت، وجمعت القرآن، فأذن لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تَؤمَّ نساءَ أهلِ بيتها، وكان لها مُؤذِّن، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَزورُها، ويسمِّيها الشّهيدة، فلما أراد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الخروجَ إلى بدر استأذنَتْه في الخروج معه، وقالت: يا رسول اللَّه أخرجُ معك فأداوي الجَرحى، وأقوم على المَرْضى، لعل اللَّه أن يَرزُقَني الشهادة، فقال: "إن اللَّه مُهديها إليك". وكانت أعتقتْ جاريةً لها وغلامًا عن دَبرٍ منها (¬3)، فطال عليهما الأَمَد، فغمّاها في قَطِيفةٍ حتى ماتت وهربا. فأتي عمر رضوان اللَّه عليه، فأُخبر الخبر، فقام في الناس فقال: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يزور أمَّ ورقة ويقول: "انطلقوا نزور الشهيدة"، وصدق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإن جاريتها وغلامَها غمَّاها تم هربا، فلا يُؤويهما أحدٌ، ومَن وجدهما فليأت بهما، ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ): زيد، والمثبت من مصادر ترجمته، وليس في أجداده من اسمه زيد. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 412، 561، والمعارف 270، والاستيعاب (3181)، والمنتظم 4/ 305، والاستبصار 288، والسير 1/ 189، والإصابة 4/ 212. (¬3) في (أ) و (خ) عن دَين منها، وهو خطأ، والثبت من مصادر الترجمة، يعني أعتقتهما بعد موتها.

فصل

فصَلبهما، وكانا أوَّلَ مَصلُوبَيْن في الإسلام بالمدينة (¬1). فصل: وفيها مات هِرَقْل بالقُسطَنْطينية، وهو الذي كاتبه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فى سنة ستٍّ من الهجرة بعد الحُدَيبية، وهو الذي هرب من الشام إلى القُسطنطينية، وفُتح الشام في أيامه، وقام بعده ولده قسطنطين. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 424، والاستيعاب (3589)، والمنتظم 4/ 305، والاستبصار 358، والإصابة 4/ 505، وتهذيب الكمال (8614)، وفروعه.

السنة الحادية والعشرون

السنة الحادية والعشرون وفيها بثَّ عمر جيوشَه في العراق في طلب يَزدَجِرد، وكتب إلى عُمَّاله بالعراق: اطلبوه، وعقد لنُعَيم بن مُقَرّن على هَمَذَان، وبعث عُتْبة بن فَرْقَد وبُكَيْر بن عبد اللَّه إلى أَذْرَبيجان، وأمدَّهما بأبي موسى، فالتقى نُعَيم بن مُقَرِّن بطائفةٍ من الأعاجم، فاقتتلوا وانْهَزَمت الفرس، وفتح أصبهان وغيرها، وجدّ في طلب يَزدَجِرد (¬1). وقيل: إن غزاة نهاوند كانت في هذه السنة، وقد ذكرناه (¬2). وفيها ولّى عمرُ الكوفةَ عمار بنَ ياسر، وابنَ مسعود بيتَ مالها، وعثمان بنَ حُنَيف مَساحةَ الأرض، وسلمانَ المدائنَ. قال حارثة بن مُضَرّب: قُرئ علينا كتابُ عمر بنِ الخطاب: أما بعد، فإني قد بعثتُ إليكم عمار بنَ ياسر أميرًا، وابنَ مسعود مُعلّمًا ووزيرًا، وعلى بيت مالكم، وإنهما من النُّجَباء من أصحاب محمدٍ من أهل بدرٍ، فاسمعوا لهما وأطيعوا، واقتدوا بهما، وقد آثرتُكم بابنِ أمِّ عَبْدٍ على نفسي، وولَّيتُ حُذَيفة بنَ اليمان ما سَقَت دجلة، ووَلَّيتُ عُثمان بن حُنَيف الفرات، وما سقى أذربيجان، ورِزقُهم كلَّ يومٍ شاةٌ، فاجعلوا شَطْرها وبطنَها لعمار، والشَّطرَ الثاني بين هؤلاء الثلاثة. ثم قال عمر رضوان اللَّه عليه: ما أرى قريةً يُؤخَذُ منها كلّ يومٍ شاةٌ إلا سريعًا في خرابها. وأمَر عثمان بن حُنَيْف بمساحة سَقْي الفرات، فمسح الكُور والطَّسَاسيج بالجانب الغربي من دجلة، وكان [أولها] كورة فيروز -وهي طَسُّوج الأنبار- وكان أوَّل السَّواد شُربًا من الفُرات، ثم طسُّوج مَسْكِن، وهو أوَّلُ حُدود السَّواد في الجانب الغربي من دجلة، وشُرْبُه من دُجَيل، ويَتْلُوه طَسُّوج قُطْرَبُّل، وشُربُه أيضًا من دُجَيْل، ثم طسوج بادوريا، وهو طسوج مدينة السَّلام، وكان أجلَّ طَسَاسيج السَّواد جميعًا، وكان كل ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 4/ 138، والمنتظم 4/ 307 ففيهما تفصيل أوضح مما هنا. (¬2) في سنة (18 هـ).

ذكر السواد

طسوج يَتقلَّدُه فيما تقدّم عاملٌ واحد، سوى طسوج بادوريا، فإنه كان يَتقلَّدُه عاملان؛ بجلالته وكَثرةِ ارتفاعه، ولم يزل خطيرًا عند الفُرس، ومُقَدَّمًا على ما سواه (¬1). ولما مسح عثمان بنُ حُنَيْف الأرض جعل على جَريب الكَرْم عشرة دراهم، وعلى جَريب النَّخْل خَمسةَ في راهم، وعلى جَريب القَضْبِ ستَّةَ دراهم، وعلى جَريب البُرِّ أربعةَ دراهم، وعلى جَريب الشعير دِرهمين. وقال الشعبي: مسح عُثمانُ السَّواد فوجده ستّةً وثلاثين ألفَ ألف جَريب، فوضع على كلِّ جَريب درهمًا (¬2). ذكر السواد (¬3) قال الجوهري: سوادُ الكوفةِ والبصرةِ: قُراهما (¬4). وقال أبو عُبيد: إنَّما سُمِّيَ السوادُ سوادًا؛ لأن العربَ لمّا خَرَجوا من البَرِّيَّةِ نَظروا إلى مثلِ الليلِ من النَّخْلِ والشجرِ، فسمّوه سوادًا، وهم يُسَمُّون الخُضرَةَ سوادًا، ومنه قوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ (64)} [الرحمن: 64] أي: خضراوان من الريّ يميلان إلى السوادِ. واختلفوا في حدِّ السوادِ الذي وقع عليه الخراجُ، فقال أبو عُبيد: هو من تُخومِ المَوْصِل مادًّا مع الماء إلى ساحلِ البحرِ من عَبَّادان وشرقي دِجْلَةَ، هذا طولُه، وأمَّا عَرْضُه فحدُّه مُنْقَطَعُ الجبلِ من أرضِ حُلْوان إلى منتهى طرفِ القادسية المتَّصلِ بالعُذَيْبِ من أرضِ العرب (¬5). والأصحُّ ما ذكره أصحابُنا قالوا: هو ما بين العُذَيب إلى عَقبة حُلْوان عَرْضًا، ومن العَلْث إلى عَبَّادان (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 170، والمنتظم 4/ 308. (¬2) تاريخ بغداد 1/ 11، والمنتظم 4/ 309، ومن قوله: قال حارثة بن مضرب. . . إلى هنا ليسر في (ك). (¬3) في (أ) و (خ): حد السواد. (¬4) الصحاح: (سود). (¬5) الأموال لأبي عبيد ص 74، وتاريخ بغداد 1/ 11 - 12، والمنتظم 4/ 309. (¬6) انظر بدائع الصنائع 2/ 503، وحاشية ابن عابدين 4/ 177.

وقيل: من بَلَدٍ، قريةٌ بالمَوْصلِ، وقيل: طولُه مئةٌ وخمسون فَرْسَخًا، وعَرْضُه ثمانون فوسخًا، وقد ذكرنا فيما تقدَّم لمَ سُمّي العراق؟ وقال أبو مِجلَز (¬1): بعث عمر بن الخطاب رضوان اللَّه عليه عثمان بنَ حُنَيف، وأمره أن يَمسح السَّوادَ: عامرَه وغامِرَه، ولا يَمسح سَبخَه، ولا تِلالَه، ولا أُجُمه، ولا مُستَنقعَ ماء، ولا ما لا يَبلغه الماء، فمسح كلَّ شيء دون جَبل حُلوان إلى أرض العَرب، وهو أسفل الفرات، وكتب إلى عمر رضوان اللَّه عليه: إني وجدتُ كلَّ شيءٍ يَبلُغُه الماء من عامرٍ وغامر، ستَّةً وثلاثين ألفَ ألف جَريب، وكان الذّراع الذي مَسح به السَّواد ذراعًا وقَبضة والإبهام مُضجعة. فكتب إليه عمر رضوان اللَّه عليه أن افرِض على كلّ جَريبٍ عامر وغامر عمله صاحبُه أو لم يَعمله درهمًا وقفيزًا. وفرض على الكرم على كلِّ جَريب عشرة دراهم، وعلى الرِّطاب خمسةَ دراهم، وأطعمهم النَّخْل والشجر، وقال: هذا قُوَّةٌ لهم على عمارة بلادهم. وفرض على رقاب أهل الذمّة: على الموسِر ثمانيةً وأربعين درهمًا، وعلى مَنْ دون ذلك أربعة وعشرين درهمًا، وعلى مَنْ لا يجد اثني عشَر درهمًا، فحُمل خراجُ العراق سوى الكوفة إلى عمر رضوان اللَّه عليه أوّل سنة ثمانون ألف ألف درهم، وحُمل من قابل عشرون ومئةُ ألف ألف درهم، فلم يزل على ذلك. وجباه عمر بن عبد العزيز -رضي اللَّه عنه- مئة ألف ألف درهم، وأربعة وعشرون ألف ألف درهم، وكان الحَجاج قد جَباه مئة ألف ألف درهم وثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان قد منع من ذَبْح البقر؛ ليَكثر الحرث والزرع والرَّيْع، فقال الشاعر: [من المتقارب] شَكونا إليه خرابَ السَّوادِ ... فحَرَّم فينا لحومَ البَقَرْ (¬2) وقال عمر رضوان اللَّه عليه لعثمان بن حُنَيْف وحُذيفة بن اليَمان: أخاف أن تكونا حَمَّلْتُما الأرضَ فوق طاقتها, فقال عثمان: لو شئتَ لأضعفتُ أرضي، وقال حُذيفة ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله وفيها ضرب عمر الدنانير، ليس في (ك). (¬2) المنتظم 4/ 309 - 310، والبيت في الأغاني 16/ 378، وجمهرة الأمثال 1/ 143، والأوائل 1/ 246.

مثلَ ذلك، فقال عمر رضوان اللَّه عليه: واللَّه، لئن عشتُ لأدعنَّ أراملَ أهلِ العراق لا يَحتجْنَ إلى أحدٍ بعدي أبدًا. ووضع عمر رضوان اللَّه عليه عن أهل السَّواد الرّقَّ بالخراج الذي وَضعه عليهم، وجعله أكرة في الأرض. ولما فتح المسلمون السواد قالوا لعمر رضوان اللَّه عليه: اقسِمْه بيننا فأبى، فقالوا: إنا فتحناه عَنوة, قال: فما لمَن جاء بعدكم من المسلمين، أخافُ أن يُفتتنوا ويَقتتلوا، ويتقاعدوا عن الجهاد، فأقرّ أهلَ السَّواد في أرضهم، وضرب عليهم الضَّرائبَ في الخراج. وكان سواد العراق يُجبَى في زمن الفُرس مئة ألف ألف وخمسين ألف ألف درهم، وقيل: إن الفرس كانت تَجبي خراجَ فارس أربعين ألف ألف مِثقال، وتَجبي كَرْمان ستين ألف ألف مثقال، لأنها كثيرةُ العيون متسعة، وفارس بلادٌ ضيّقة قليلة العيون، وكانت تَجبي خُوْزِسْتان خمسين ألف ألف درهم، ومن الجَبل إلى حُلوان ثلاثين ألف ألف درهم. وأما خراج مصر فقد كان يُجبى في أيام فرعون ستة وستين (¬1) ألف ألف دينار، وجباها عبد اللَّه بن الحَبْحَاب في أيام بني أمية ألفي ألف وسبع مئة ألف وثلاثة وعشرين ألف وسبعة دنانير. وأما الشام والعواصم وقِنَّسْرين فقد كان خراجها أربع مئة ألف دينار، وكذا الجزيرة، وأما الموصل وما والاها فقالوا: أربعة آلاف ألف دينار، وثلاثة وعشرون ألف دينار. وفيها ضَرَبَ عمر الدنانير والدراهمَ على نُقوشِ الأكاسرة، وجعل عليها: لا إله إلّا اللَّه، وعلى بعضِها محمد رسول اللَّه، وعلى بعضِ الدراهم عمر، وقيل: إنَّما ضَرَبَ الدراهم لا غَيْر. وفيها غزا عمرو بنُ العاصِ بَرْقَةَ، وانتهى إلى طرابلس، وصالح أهلَها على مالٍ. ¬

_ (¬1) في المنتظم 4/ 310: ستة وتسعين.

حممة بن أبي حممة

وفيها وُلد الحسنُ البصريُّ وعامِرٌ الشَّعبيُّ. وفيها عزل عمر مُعاويةَ عن دِمشق، وولّاه فِلسطين، وولّى دِمشقَ سعيد بن عامر بن حِذْيَم، وحجَّ بالناسِ عمر، واستخلف على المدينةِ زيد بن ثابت. فصل وفيها تُوفي حُمَمة بن أبي حُمَمة وكُنيتُه أبو سلمة، وقال ابن عبد البَرِّ. ابن خالد الدَّوسي (¬1). ذكره ابن سعد في آخرِ الطبقةِ الخامسةِ من الصحابةِ: حُممة، وكان عبدًا صالحًا عابِدًا خائفًا. حدَّثنا غير واحدٍ عن أبي البركات الحافظ الأنماطي بإسناده عن عبد الأعلى بنِ عبد اللَّه قال: كان في أصحابِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلٌ يُقال له: حُمَمَة، أصابته شَرارةٌ، فكان لا يضحك، فقيل له في ذلك فقال: واللَّهِ لا ضحكتُ حتى أعلم أفي الجنَّةِ أنا أم في النار؟ مات حُمَمَةُ بأصبهان في هذه السنة، قال ابن سعدٍ بإسناده قال: كان رجلٌ من أصحابِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقال له: حُمَمَة خرج إلى أصبهان غازيًا وفُتحت في خلافة عمر فقال: اللهمَّ إنَّ حُمَمةَ يزعمُ أنَّه يُحبُّ لقاءَك، فإن كان صادقًا فاعزم له بصِدْقهِ، وإن كان كاذِبًا فاعزم له عليه وإن كره، اللهمَّ لا تَردَّ حُمَمَة من سَفرِه هذا، فمات بأصبهان، فقام أبو موسى فقال: ما بلغ علمُنا إلا أنَّ حُممةَ شهيد. وحُمَمَةُ هذا الذي هبط واديًا وأقام فيه أربعين يومًا يُصلِّي، وسيأتي هذا في أخبارِ عامر بن عبد قيس، وحُمَمةُ هذا الذي بات عنده هَرِمُ بنُ حَيّان يبكي إلى الصباحِ، وسنذكرهُ في ترجمة هرم بن حيّان. وليس في الصحابةِ من اسمُه حُمَمَةُ غيره، وله صحبةٌ وليس له رواية، وسنذكره في سنةِ ثمانٍ وستين (¬2). ¬

_ (¬1) الاستيعاب (593) وليس فيه ما ذكر. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 319، وأخبار أصبهان 1/ 7، والمنتظم 4/ 312، وصفة الصفوة 1/ 742، والإصابة 1/ 355.

خالد بن الوليد

فصل وفيها تُوفي (¬1) خالد بن الوليد ابن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مَخزوم، من الطبقة الثالثةِ من المُهاجرين، وأُمُّه عصماء وهي لُبابةُ الصُّغرى بنتُ الحارث الهلاليّة، أُختُ لُبابةَ الكبرى أُمِّ الفَضْلِ زوجة العباس، وهي أيضًا أخت ميمونة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقد ذكرنا إسلامَه، وأنَّه قَدِمَ على رسولِ اللَّه مُهاجِرًا ومعه عمرو بن العاص وعثمان ابن طلحة، وقد ذكرناه في السنة الثامنة. وقال الواقدي: كان خالد يشبه عمرَ بنَ الخطاب في خلقه وصِفَتهِ وهمّته، وكلَّم عَلقمةُ بنُ عُلاثة عمر بنَ الخطاب ليلةً في السَّحَرِ، فظنَّ أنه خالد لشَبَههِ. وشهد خالدٌ مع رسولِ اللَّه عامَ الفَتْحِ وحُنَيْنًا والطائف وتبوكًا، وخرج معه في حَجَّةِ الوداع. ولمّا حلق رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأْسَه ناوله شِقَّه الأيمنَ -وقيل: ناصيتَه- فجعلها في مُقَدّمة قَلَنْسُوَته، فما كان يلقى أحدًا إلا هزمه. قال الواقدي: ووقعت قلنسوته يومَ الحيرةِ، فغضب غضبًا شديدًا وقال: واللَّه ما بي إلا شَعَرُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وثبت خالد يوم مُؤْتَة، وحمل اللواءَ، وتثلَّمت في يده تسعةُ أسيافٍ في ذلك اليوم أو ثمانية، وسمَّاه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سيف اللَّه، وقد ذكرناه في غَزاةِ مُؤتة. وذكر ابن أبي الدنيا عن رجلٍ قال: كُنْتُ في عسكرِ خالد، فذهبتُ فجئتُ بزِقِّ من أجودِ الخمرِ، فلقيني خالد فقال: ما هذا؟ قلتُ: خَلٌّ، فقال: جعله اللَّهُ خَلًا -أو قال: خلٌّ إن شاء اللَّه- قال: فجئتُ ففتحتُه عند أصحابي، فإذا به خَلٌّ (¬3). ¬

_ (¬1) من قوله: مات حممة بأصبهان. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 35 - 36. (¬3) التبيين 347، وهو بنحوه في مجابي الدعوة لابن أبي الدنيا (52).

ذكر وفاته

وذكر ابن سعد بمعناه بإسناده عن محاربِ بن دِثار قال: قيل لخالد بن الوليد: إنَّ في عسكرك مَن يشربُ الخمَر، فركب دابَّته وجال في العسكرِ، فلقي رجلًا على مَنْسِج فَرَسِه زقُّ خمرٍ، فقال: ما هذا؟ قال: خَلٌّ، فقال خالد: اللهمَّ اجْعَلْهُ كذلك، قال: فجاء الرجلُ إلى أصحابه فقال: قد أتيُتكم بخمرٍ ما شرِبتِ العربُ مثله، فلما فتحوه وإذا به خَلٌّ، فقالوا: ما جئتَنا إلّا بخَلٍّ، فقال: هذه دعوةُ خالد (¬1). وخالد -رضي اللَّه عنه- سيفٌ من سيوف اللَّه، ذو الفضائل الكثيرة، والمناقب الجميلة، ميمون النَّقيبة، فلّ اللَّه به أهلَ الرّدّة، وفتح الفتوح، ونَصر به الدّين، وكان من أشراف قريش في الجاهلية، كانت إليه القُبَّة والأَعِنَّة، أما القُبَّة فقبة كانوا يَنْصبونها إذا أرادوا الحرب، يُديرون فيها أمرَ حربهم، وأما الأَعِنَّة فأعنة الخيل يكون على خيلهم. ولم يزل منذ أسلم يُوَلّيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعِنَّة الخَيل، فيكون في مُقَدّمتها في نحر العدوّ، وولّاه أبو بكر رضوان اللَّه عليه قتال أهل الردّة، وحربَ أهل العراق، فيقال: إنه لَقي ثلاثين زَحْفًا، وفتح الحِيرةَ والأنبار وعيْن التَّمْرِ وأماكن كثيرة، ثم بعثه أبو بكر رضوان اللَّه عليه إلى الشام، وأمَّره على جميع مَن به من المسلمين، وكان مُجابَ الدَّعوة (¬2). وقال الزبير بن بكار: كان خالد في مقدمة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعدما هُزِمَت هوازن، فجُرحَ في رِجْله، فنفث على جُرحه فبرئ. ذِكْرُ وفاته: قال ابن سعدٍ بإسناده أن خالد بن الوليد لما احتُضِرَ بكى وقال: لقد لقيتُ كذا وكذا زَحْفًا، وما في جَسَدي شِبْرٌ إلّا وفيه ضَرْبةٌ بسيفٍ، أو رَمْيةٌ بسهمٍ، أو طعنةٌ برمحٍ، وها أنا أموتُ على فِراشي حَتْفَ أنفي كما يَموت العَيْرُ، فلا نامت أعينُ الجُبناء. فحكى من غسَّله أنَّه ما كان في جسمهِ موضعٌ صحيح ما بين ضربةٍ بسيفٍ، أو طعنة برُمحٍ، أو رمية بسهم. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 40 - 41، ومن قوله: وذكر ابن أبي الدنيا. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) من قوله: وخالد سيف من سيوف اللَّه. . . إلى هنا ليس في (ك).

وقال ابنُ سعدٍ عن الواقدي: مات خالدٌ في بعضِ قُرى حمص، على ميلٍ من حمص، سنة إحدى وعشرين (¬1)، وهذا قول عامة المؤرخين. واعتزل خالد -رضي اللَّه عنه- بثَغْر حمص، فأقام فيه مُرابِطًا وحَبس خيلًا وسلاحًا في سبيل اللَّه، ولم يزل مُرابِطًا بحمص حتى نزل به الموت، فدخل عليه أبو الدرداء عائدًا له، فقال له: إني قد حبستُ خيلي وسلاحي في سبيل اللَّه، وتُعْلَفُ من مالي، وداري بالمدينة صدقة حبسٌ لا تُباع ولا تُورث، وقد كنتُ أشهدتُ عليها عمر ليالي قَدم الجابية، وهو كان أَمَرني أن أتصدَّق بها، ولنِعْمَ العَونُ هو [على] الإسلام. واللَّه يا أبا الدرداء، لئن مات عمر لترَينَّ أمورًا تُنكرها، وقد كنتُ وَجَدتُ عليه في نفسي أمورًا، لما تَدَبَّرتُها في مرضي هذا، وحَضرني ما ترى، عرفتُ أن عمر كان يُريد اللَّه بكلّ ما فعل، وإني وَجدتُ عليه حين قاسَمَني مالي، فرأيتُه قد فعل ذلك بأهل السَّوابق ومَن شهد بدرًا، وكان يُغلظ عليّ، وغِلظتُه على عُمَّاله أعظمُ، وكنتُ أُدِلُّ عليه بقرابتي، فرأيتُه لا يُبالي قريبًا في اللَّه، ولا لومةَ لائم، فذاك الذي أذهب ما كنتُ أَجِد، وقد جعلتُ وَصيَّتي وإنفاذَ عهدي إليه، فقدم بالوَصيَّة على عمر رضوان اللَّه عليه فترحَّم عليه، وقبلها، وتزوج امرأتَه بعد (¬2). وهي التي حَسَده عليها قبل؛ لأنها امرأةُ مالك بن نُوَيْرة اليَربوعي، فلما تزوَّجها عمر تكلم المسلمون فيه، وقالوا: هذه واللَّه العداوةُ والحقدُ والشغبة، فلم يُمتّع بها عمر رضوان اللَّه عليه، ولم يَطِبْ بها نفسًا، لأنها كانت مُمتنعة عليه، ومات عنها سريعًا. وكان عمر -رضي اللَّه عنه- قد نَقم على خالد -رضي اللَّه عنه- أشياء، منها قتلُ بني جَذيمة في غزاة الفتح، وقتل مالك بن نُوَيْرة، وأخذُ امرأتِه، ودخولُه مسجدَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفي عِمامته سِهامٌ فيها دَمٌ، وتحريقُ أهلِ الرّدّة بالنار، فإنه حَرَّق منهم جماعة شَتَموا رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأقبحِ شَتْم، فقال لأبي بكر رضوان اللَّه عليه: انزع خالدًا، فقد فعل وفعل، انزع رجلًا ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 34، 39 و 9/ 401، وتاريخ دمشق 5/ 564، والمنتظم 4/ 316. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 41 - 42.

قد عَذَّب بعذاب اللَّه، فقال أبو بكر رضوان اللَّه عليه: لا أَشِيْمُ سيفًا سَلَّه اللَّه (¬1). وقال جدي في "المنتظم" بإسناده إلى سيف بن عمر، عن مُبشِّر، عن سالم قال: حجَّ عمر، واشتكى خالد بعده وهو خارج المدينةِ زائِرًا لأُمِّه، فقال لها: احدُروا بي إلى مُهاجَرَتي، فقَدِمَتْ به المدينةَ ومرَّضَتْه، فلما ثَقُلَ وأظَلَّ عمر، لَقِيه لاقٍ على مسيرةِ ثلاثةِ أيَّامٍ وقد صَدَر عمر عن الحج، فقال له عمر: مَهْيَمْ؟ فقال: خالدُ بنُ الوليد لما لهِ، فطوى ثلاثًا في ليلةٍ، فأدرَكَه حين قضى، فرقَّ عليه واسترجع، وجلس ببابه حتى جُهِّزَ، وبكته البَواكي، فقيل لعمر: ألا تَنْهَاهُنَّ؟ فقال: وما على نساء بني المُغيرة أن يَبكينَ أبا سليمان، ما لم يكن نَقْعٌ ولا لَقْلَقةٌ، فلما خرج بجنازته رأى عمرُ امرأةً مخزوميةً تبكيه وتقول (¬2): [من الخفيف] أنتَ خيرٌ من ألفِ ألفٍ من النا ... سِ إذا ما كُبَّت وُجوهُ الرجالِ أشُجاعٌ فأَنْتَ أشْجَع من لَيْـ .... ــثِ عَرِيْنٍ جَهْمٍ أبي الأشبالِ أجَوادٌ فأنتَ أجْوَدُ من سيـ ... ــلِ سحابٍ يسيلُ بين الجِبالِ فقال عمر: مَن هذه؟ فقيل له: أُمُّ خالد، فقال: وهل قامتِ النساءُ عن مِثلِ خالد، والنَّقْعُ: الشَّقُّ، واللّقْلَقة: الصوت، قال جدِّي: وهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّه مات بالمدينة. وحكى ابن سعدٍ، عن الواقدي، عن ابن عكرمة قال: عَجبًا لقولِ الناس: إنَّ عمر كان يَنهى عن النَّوحِ! لقد بكى على خالدٍ بالمدينةِ، وبكى معه نساءُ بني المغيرة سبعًا (¬3). وقال الموفَّقُ في الأنساب عن محمد بن سلام قال: لم يَبْقَ امرأةٌ من نساءِ بني المُغيرةِ إلّا وضعت لِمَّتَها على قبرِ خالد، أي: حلقتْ رأسَها (¬4)، وشَقَقْنَ الجيوبَ، ¬

_ (¬1) من قوله: واعتزل خالد بثغر حمص. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) في (أ) و (خ): فلما خرج خرجت بجنازته امرأة وهي تتبرم وتقول، وفي المنتظم 4/ 315، وتاريخ دمشق 5/ 562، والبداية والنهاية 10/ 138 (هجر): رأى عمر امرأة محتزمة تبكيه وتقول، وقال الذهبي في السير 1/ 381: إسناده ساقط. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 44، ومن قوله: النقع الشق. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬4) التبيين 347.

ولَطَمْنَ الخُدودَ وتطعمن الطعام ما نهاهُنَّ عمرُ (¬1). وعامّةُ العلماء على أنه مات بحمص، كالواقدي وهشام والزبير بن بكّار وغيرهم. قال الزبير بن بكار: قَدِم خالد المدينةَ معتَمِرًا لمّا عزله عمر، ثم رجع إلى حمص فمات بها في سنةِ إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين، فلما بلغ عمرَ مَوْتُه ترحَّم عليه. وكذا قال ابنُ سعدٍ عن الواقدي: قَدِم قومٌ من حمص على عمر، فسألهم عن خالدٍ فقالوا: مات خالد يوم خَرَجْنا منها، فجزع لموتهِ وبكى وترحَّم عليه، فقال له عليّ: فلِمَ عزلْتَه؟ فقال: لبَذْلهِ المال لأهل الشّرفِ وذي اللسان، فقال له عليٌّ: فكنتَ عزلتَه عن التَّبذير في المالِ، وتركتَه على الجُنْدِ، فقال: لم يكُنْ ليَرْضى، فقال: كنتَ بَلَوْتَهُ (¬2). وفي رواية هشام (¬3): أن عمر لمّا بلغه وفاةُ خالدٍ بكى وترحَّم عليه وقال: كان واللَّهِ سَدادَ الثُّغور، مَيمونَ النَّقيبة، فقال له علي عليه السلام: فلمَ عزلتَه؟ فقال: ليعلم أن اللَّه ناصرُ المؤمنين، ولقد ثَلَمَ واللَّه موتُه في الإسلامِ ثَلْمَةً لا تُرْتَقُ، وكذا ذكره جدّي في "التَّلقيح" وقال: لمّا عزله عمر لم يزل مُرابطًا بحمص حتى مات (¬4). وفي رواية ابن سعدٍ عن الواقدي أن عمر قال: لقد نَدِمْتُ على عَزله (¬5). فالحاصلُ أن في مكانِ وفاته قولين: أحدهما في حمص، والثاني بالمدينة، حكاه جدي عن سيف (¬6). وذكر الموفَّقُ وابن عساكر القولين، والأوَّل أشهرُ (¬7). وقال ابن عساكر: إن عمر رضوان اللَّه عليه خرج حاجًّا، فنزلوا منزلًا، وإذا براكبٍ ¬

_ (¬1) هذا الكلام من تمام خبر ابن عكرمة السالف قبل هذا الخبر. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 42 - 43. (¬3) من قوله: أي حلقت رأسها. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬4) تلقيح فهوم أهل الأثر 148. (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 43. (¬6) سلف قريبًا في قصة وفاته. (¬7) من قوله: وكذا ذكره جدي في التلقيح. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

ذكر أولاد خالد

قد أقبل، فأناخ عند عمر -رضي اللَّه عنه-، فنادى عمر وقام قائمًا: يا طلحة، قال: ما الذي بك؟ فقال: هلك واللَّه أبو سليمان، فقال طلحة -رضي اللَّه عنه-: [من البسيط] لا أَلفَيَنَّك بعد الموتِ تَندُبُني ... وفي حياتيَ ما زَوَّدْتَني زادي فقال: واللَّه ما نَقَمتُ عليه إلا قَتلته لمالك بن نُويرة، وأخذ زوجته (¬1). ذكر أولاد خالد: قال ابن قُتيبة: كان لخالدٍ من الولدِ عدد كثير قَتل الطّاعونُ منهم أربعين رجلًا (¬2). وقال ابن سعدٍ: كان لخالد من الولدِ المهاجِرُ، وعبد الرحمن، لا بَقيَّةَ له، وعبدُ اللَّه الأكبرُ قُتلَ بالعراقِ، وأُمُّهم أسماءُ بنت أنس بن مدرك الخَثْعمي، وسليمان بن خالد وبه كان يُكنى، وأُمّه كَبشَةُ بنت هَوْذَةَ بن أبي عمرو، من قُضاعة، وعبدُ اللَّه الأصغر، وأُمُّه أُمُّ تميم. هذا قول ابن سعد (¬3). وقال هشام: كان له من الولدِ: المهاجِرُ وعبد الرحمن وعبدُ اللَّه الأكبرُ وعبدُ اللَّه الأصغر وسليمان، فأما المهاجِرُ وعبدُ الرحمن فكانا غُلامَيْنِ على عهدِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانا مُختلفَيْن؛ المهاجِرُ مع عَلِيٍّ، وعبدُ الرحمن مع مُعاوية، وكذا قال ابن عبد البَرِّ (¬4). وقال الموفَّقُ رحمه اللَّه: ويُقال إنَّ المهاجِرَ قُتِل مع عليٍّ عليه السلام بصِفّين، وترك ولدًا اسمه خالد (¬5)، والأشهرُ أنَّ المُهاجِرَ عاشَ زمانًا بعدما استُشْهِد علي (¬6). وأما عبدُ الرحمن بن خالد فكان من ساداتِ قُريش وفُضلائهم، وكان قد مال إليه أهلُ الشامِ، فعزَّ على مُعاوية، فسقاه طبيبٌ يهودي سمًّا فمات، وسنذكره في ترجمته في أيّامِ مُعاوية. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 5/ 564، وهذا الخبر ليس في (ك). (¬2) المعارف 267. (¬3) الطبقات 5/ 26. (¬4) الاستيعاب (1551) و (2403). (¬5) التبيين 347. (¬6) من قوله: وكذا قال ابن عبد البر. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ).

ذكر أخوة خالد

وأما عبدُ اللَّه الأكبر فقال الزبير بن بَكَّار: قُتِل باليرموكِ، وقيل: بالعراقِ. وأما عبدُ اللَّه الأصغرُ فأُمُّه أُمُّ تميم. وقال الزبير بن بَكّار: وكان لخالد بن الوليد من الولدِ محمدُ بنُ خالد، بعثه عبد الملك بن مروان مع ابنه مَسْلَمة إلى القسطنطينية لمّا خرج غازيًا. وقال الزبير بن بكار (¬1): كان خالد بن المهاجر بن خالد من أشرافِ قريشٍ وفُضلائهم، قَدِم دمشقَ بعد وفاة عمِّه عبد الرحمن بن خالد، وقَتَلَ ابنَ أَثال اليهودي الذي اتَّهمه بأنه سمَّ عمه عبد الرحمنِ، ثم لحق بالحجازِ وخالفَ بني أُمية، وأقام مع عبد اللَّه بن الزُّبير، وتزوَّج حميدة بنت النعمان بن بشير، وهو القائل لما عزم على القتال مع عبد اللَّه بن الزبير: [من الطويل] تقولُ ابنةُ العمريِّ هل أنت مُشئِمٌ ... مع القوم أم أنتَ العَشِيَّةَ مُعرِقُ فقلتُ لها مروان هَمِّي لقاؤه ... بجيشٍ عليه عارضٌ مُتَأَلِّقُ (¬2) أسند خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ذكر أخوة خالدٍ: كان له أربعةُ إخوَةٍ وأُختان. فأمَّا الإخوةُ: فالوليدُ وهشامٌ وعُمارةُ وحَرْملة، وأمَّا الأُختان ففاطمة وفاختة. وأما من ولد هشام بن الوليد: فهشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد، وَليَ المدينةَ في أيامِ عبد الملك بن مروان، وكان مُسَدَّدًا في ولايته، وتزوَّج عبد الملك بنْتَ هشام ابن إسماعيل، وأصدقَها أربعَ مئة دينار، وأولدها هشام بن عبد الملك، ولما احتُضِرَ عبد الملك أوصى ابنه الوليد بهشامٍ، وقال له: استَوْصِ به خيرًا، فإنَّ له رَحِمًا، فكان أوَّلَ ما بدأ به الوليدُ أنه عزل هِشامًا عن المدينةِ، فلما ولي هشام بن عبد الملك الخِلافةَ استعمل ابنَيْ هشام بن إسماعيل: إبراهيمَ ومحمدًا على المدينة. وأما عُمارةُ بن الوليد بن المُغيرة فهو الذي حملَتْه قُريش إلى أبي طالب، وقالوا: ¬

_ (¬1) من قوله: وسنذكره في ترجمته. . . إلى هنا ليس في (أ) و (خ). (¬2) تاريخ دمشق 5/ 530 (مخطوط). (¬3) من هنا إلى ترجمة عتبة بن مسعود، ليس في (أ) و (خ).

عتبة بن مسعود

نُعطيك إياه تتعوَّضُ به عن محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ذكرناه في السيرةِ (¬1)، وهو الذي سافر مع عمرو بن العاص إلى الحبشةِ في سفينةٍ، وقال لامرأةِ عمرو: قَبِّليني، وكان من أجملِ فتيانِ قُريشٍ، ووشى به عمرو إلى النجاشي، فأمرَ السواحِرَ أن يَنْفُثْنَ في إحليله، فهام مع الوحشِ، وقد ذكرناه أيضًا. وكان لعُمارة ولدان: الوليد وأبو عُبيدة، قُتِلا بالبُطاحِ شهيدَيْن لمّا قاتل خالد أهل الردَّةِ. وقال الزبير بن بكار: قُتِل أبو عبيدة بن عُمارةَ مع خالد بأَجْنادِين (¬2). وأما حَرْملةُ بن الوليد بن المُغيرةِ، فقال أبو القاسم بن عساكر: شهد فتحَ دمشقَ، وأقطعه أبو عُبيدة بن الجراح دَيْرًا في الغوطةِ خارج باب تُوما، يُعرف بديرِ حَرْمَلَة (¬3). وأما فاطمةُ بنت الوليد بن المُغيرةِ فقد ذكرنا أنَّها أسلمت يوم الفتحِ، وبايعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي امرأةُ الحارثِ بن هِشام، وتزوَّجها عمرُ بنُ الخطاب. وأما فاخِتَةُ بنت الوليد بن المُغيرةِ فهي امرأةُ صفوان بن أُمية، أسلمت قبله بشَهْرٍ ثم أسلم بعدها، فأُقِرّا على نِكاحهما، ذكر ذلك الموفَّقُ في الأنساب (¬4) وهشام والواقدي وغيرُهُم. عُتبة بن مسعود أخي عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- لأبويه، من الطبقة الثانية من المهاجرين، أسلم قديمًا بمكة، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، ثم قدم المدينة، فشهد أحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومات بالمدينة في خلافة عمر رضوان اللَّه عليه، وصلى عليه. ولما جاء عبد اللَّه بنَ مسعود نَعيُه دمعت عيناه، وقال: إن هذه رحمة جعلها اللَّه، لا يملكها ابن آدم (¬5). ¬

_ (¬1) سلف في أوائلها. (¬2) التبيين 351 - 353. (¬3) الإصابة 1/ 321. (¬4) التبيين 353 - 354. (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 118، والاستيعاب (1922)، والإصابة 2/ 456. وترجمة عتبة ليست في (ك).

عمير بن سعد

فصل وفيها تُوفي عُمير بن سعد ابن عُبَيْد بن النعمان، وكان يُقال له: نَسيجُ وَحْدِه؛ لزُهْدهِ وورعه وعبادتِه، وأبوه يُقال له: سَعد القارئ، شهد بدرًا واستشهد يوم القادسية، وكُنيةُ سعدٍ أبو زيدٍ، وهو الذي يَزعمُ الكوفيون أنَّه جمع القُرآن على عهدِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ذكرناه في شُهداءِ القادسية. وولدُه عميرٌ هذا صحبَ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وولّاهُ عمرُ حمص، وله معه قصَّةٌ ذكرها أبو نُعيم وغيرُه. قال أبو نُعيم الأصفهاني بإسناده عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جدِّه، عن عُمير بن سعد قال: بعثه عمر بن الخطاب عامِلًا على حمص، فمكثَ حولًا لا يأتيه خبرُه، فقال عمر لكاتبه: اكتُب إلى عُمَير، فواللَّه ما أراه إلا قد خاننا: إذا جاءك كتابي هذا فأَقْبِلْ، وأَقْبِلْ بما جبيتَ من فَيءِ المسلمين حين تنظرُ في كتابي هذا. قال: فأخذ عُمَيْرٌ جِرابه، فجعل فيه زادَه وقَصْعَتَه، وعلَّق إدواتَه، وأخذ عَنَزَتَهُ، ثم أقبل يمشي من حمص حتى دخل المدينةَ، وقد شَحُبَ لَونُه، واغبرَّ وجهُه، وطال شَعرُه، فدخل على عمر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمةُ اللَّه، فقال عمر: ما شأنُكَ؟ فقال عمير: ما ترى من شأني؟ ألستَ تَراني صحيحَ البَدَنِ طاهِرَ الدّمِ، معي الدنيا أجرُّها بقَرْنِها؟ قال عمر: وما معك؟ وظنَّ أنَّه قد جاء بمال -فقال: معي جرابي أجعلُ فيه زادي، وقَصْعتي آكُل فيها وأغسِلُ فيها رأسي وثيابي، وإداوَتي أحملُ فيها وَضوئي وشرابي، وعَنَزَتي أتوكّأُ عليها، وأُجاهِدُ بها عدوًّا إن عَرَضَ لي، فواللَّه ما الدُّنيا إلا تبَعٌ لمَتاعي، قال عمر: فجئتَ تمشي؟ قال: نعم، قال: أما كان لك أحدٌ يتبرَّع لك بدابَّةٍ تركبُها؟ قال: ما فعلوا وما سألتُهم ذلك، فقال عمر: بئس المسلمون خرجْتَ من عندهم، فقال عمير: اتَّقِ اللَّه يا عمرُ، فقد نَهاك اللَّه عن الغِيبة، وقد رأيتُهم يُصلُّون صلاةَ الغَداة، ويصلون ويُوحِّدون، وفي روايةٍ: ألم ينهك ربُّك عن التجسُّسِ؟ فقال عمر: بعثتُك، وأيّ شيءٍ صنعتَ؟ قال: وما سُؤالك؟ فقال عمر: سبحان

اللَّه! ؟ فقال: أتيتُ البلدَ، فجمعتُ صُلَحاءَ أهلِه، فوَلَّيْتُهم جِبايتَه، حتى إذا جمعوه وضعتُه في مواضعِه، ولو نالك منه شيءٌ لأتيتُكَ به، فقالى: جَدِّدوا لعُميرٍ عهدًا، فقال: هذا شيءٌ لا عملتُه لك ولا لأحدٍ بعدكَ، واللَّهِ ما سَلِمْتُ ولا أَسْلَمُ، قلتُ يومًا لنَصْراني أو لذِمّيّ: أخزاكَ اللَّه، وقد سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أنا خَصْمُ ظالمِ اليتيمِ والمعاهد"، وما الذي يُؤمِنني أن يَخصِمَني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فخرج عمر حتى أتى قبرَ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يبكي ويقول: السلام عليك يا رسولَ اللَّه وعلى صاحبك، ماذا لقيتُ بعدكما؟ ثم استأذن عمرَ رضوان اللَّه عليه فأذن له، فرجع إلى منزله وبينه وبين المدينة أميال، فبعث إليه عمر رضوان اللَّه عليه رجلًا يقال له الحارث بمئة دينار، وقال: انطلق إلى عُمير حتى تنزل به كأنك ضَيف، فإن رأيتَ أثر شيء فأَقبِلْ، وإن رأيتَ حالًا شديدًا فادفعها إليه. فانطلق الحارث، وإذا بعُمَير رضي اللَّه عنه جالس إلى جانب الحائط يَفْلي قميصًا، فنزلى وسلّم عليه، فردّ وقال: من أين جئتَ، قال: من المدينة، قال: كيف تركتَ أميرَ المؤمنين؟ قال: ضرب ابنًا له على فاحشة فمات من ضَرْبه، فقال عُمير: اللهمَّ أَعِنْ عمر، فإني لا أعلمه إلا [شديد] الحبّ لك، فأقام عندهم ثلاثة أيام، وليس لهم إلا قرصٌ من شعير كانوا يَخصُّونه به ويَطوون. فقال له عمير: يا هذا، أنتَ قد أَجَعْتَنا، فإن رأيتَ أن تَرتَحِل عنا فافعل، فأخرج الدَّنانير فدفعها إليه، وقال: بعث بها إليك أمير المؤمنين، فاستعن بها، فصاح عُمير وبكى وقال: لا حاجةَ لي بها، رُدَّها، صحبتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكر، ولم أُبْتَلَ هذا، فقال: ما لي شيءٌ أجعلُها فيه، فشقَّت المرأةُ أسفلَ دِرعها وأعطَتْه خرقةً فجعلها فيها، ثم خرج فقَسَمها بين أبناء الشُّهداء والفُقراء، ثم رجع فقال للرسول: أقرئ مني السلامَ أمير المؤمنين. فرجع الحارث إلى عمر رضوان اللَّه عليه، فقال: ما رأيتَ؟ قال: حالًا شديدًا، قال: فما صنع بالدَّنانير؟ قال: لا أدري، فأرسل إليه عمر رضوان اللَّه عليه فجاء، فقال: ما صنعت بالدَّنانير؟ قال: وما سُؤالك عنها؟ قال: أَنشدك إلا ما أخبرتَني،

عويمر بن الحارث

قال: قدَّمتُها لنفسي، قال: رحمك اللَّه، فأمر له بوَسْقٍ من طعام وثوبان، فقال: أما الطعام فلا حاجةَ لي إليه، قد تركتُ في المنزل صاعَين من شعيرٍ إلى أن آكلهما، قد جاء اللَّه بالرزق، ولم يأخذ الطعام، وأخذ الثوبَيْن وقال: أمُّ فلان عارية، ورجع إلى مَنزله (¬1). قال: ولم يلبثْ عُمَيْرٌ أن هلكَ، فبلغ عمرَ فشقَّ عليه وترحَّمَ عليه، وخرج يمشي في جِنازته ومعه المهاجرون والأنصارُ إلى بَقيعِ الغَرْقَدِ، فجلس عند قبرِه وقال: ليَتَمَنَّ كلُّ رجلٍ منكم أُمنيةً، فقال رجلٌ: ودِدتُ أنَّ عندي مالًا فأُعتِق لوجهِ اللَّه كذا وكذا، وقال آخر: وَدِدتُ أنَّ عندي مالًا فأُنفقه في سبيلِ اللَّه، وقال آخَرُ: ودِدْتُ لو أن لي قُوَّةً فأمْتَح بدَلوِ زمزم لحُجّاجِ بيتِ اللَّه، فقال عمر: وَدِدْتُ أنَّ لي رجُلًا مثل عُمَيْرٍ، أُولِّيه أو أستعينُ به في أعمالِ المسلمين (¬2)، أسند عمير الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. انتهت سيرة عمير. عُوَيْمر بن الحارث ابن زيد بن حارثة بن الجدّ العجلاني، من الطبقة الثانية من الأنصار، شهد بدرًا وما بعدها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * * * ¬

_ (¬1) من قوله: ثم استأذن عمر فأذن له. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) حلية الأولياء 1/ 247 - 250، وانظر في ترجمته: طبقات ابن سعد 5/ 293 و 9/ 406، والاستيعاب (1718)، وتاريخ دمشق 56/ 135، والمنتظم 4/ 316، والاستبصار 281، والسير 2/ 103 و 557، والإصابة 3/ 32، وتهذيب الكمال (5102). (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 294، والاستيعاب (1853)، والمنتظم 4/ 319، والإصابة 3/ 45، وترجمة عويمر ليست في (ك). وجاء في (أ) عقب هذه الترجمة ما نصه: "تم الجزء المبارك بحمد اللَّه وعونه، وصلواته على سيدنا محمد وآله، يتلوه في الجزء الرابع، السنة الثانية والعشرون، وفيها كتب عمر رضوان اللَّه عليه إلى معاوية بن أبي سفيان، والحمد للَّه وحده".

السنة الثانية والعشرون

السنة الثانية والعِشْرون وفيها كتب عمرُ إلى مُعاوية بن أبي سُفيان أن يَغْزُوَ الرومَ، فدخل الدَّرْبَ، وجاوزه في عشرةِ آلافٍ من المسلمين، فيهم أبو أيوب الأنصاري وعبادةُ بنُ الصامتِ وأبو ذرٍّ وشدّادُ بن أوسٍ وغيرُهم. وقيل: إنَّ في هذه الغَزاةِ أُسِرَ عبدُ اللَّه بنُ حُذافة السَّهميُّ وقد ذكرناه، وبلغ معاوية عَمّورية، وقيل القسطنطينية. وفيها: كان فتوح هَمَذان. كتب عمر إلى نُعيم بن مُقَرّن أن يسير إلى همذان، وعلى مقدّمته أخوه سويد بن مقرِّن، وعلى مجنّبتَيْه ربعي بن عامر ومهلهل بن زيد الطائي، فسار نُعيم بجيوشه، فنزل ثنيّة العَسَل، ثم نازل همذان، واستولى على رُسْداقها، فلما رأى ذلك أهلُها راسلوه وسألوه الصُّلح على الجزية فصالحهم. وقال الواقدي: إن فُتوحَ هَمَذان كانت في سنةِ ثلاثٍ وعِشرين في جُمادى الأُولى، على رأس ستّة أشهر من مقتلِ عمر، وكانت جيوشُ عمر عليها. وفيها فُتح الرّيّ وقُومِس على يَدِ نُعيم بن مُقَرِّنُ، وقيل: إن ذلك كان في سنةِ ثلاثٍ وعشرين. وفيها كتب عمر إلى عبد الرحمن بنِ ربيعة أن يَقطع النهر، فقطعه في جيشٍ كثيفٍ، فتحصَّن التُّرْكُ بحصونهم، وخافوا منه وقالوا: ما قطع النهرَ إلا ومعه الملائكةُ والإلهُ الأكبرُ، فأوغل في بلادِهم، وسبى، وعاد سالمًا بالغنائم. واختلفوا في ولادة يزيد بن مُعاوية وعبد الملك بن مروان، فقال الواقدي في هذه السنة، وقال هشام: في سنة خمسٍ وعشرين، وحجَّ بالناس عمرُ. فصل وفيها تُوفي قَتادةُ بنُ النعمان ابن زيد بن عامر بن سواد بن ظَفَر، وأُمُّه أُنَيْسَةُ بنت قيس بن عمرو، خَزْرجيّةٌ،

وكُنيتُه أبو عمرو، وقيل: أبو عبد اللَّه، وقيل: أبو عُثمان. وهو من الطبقةِ الأُولى من الأنصارِ، شهد العقبةَ مع السَّبعين، وبَدْرًا وأُحدًا، وسالت عينُه يومئذٍ على خدِّه من سَهْمٍ أصابه. قال الهيثم بن عدي: فأتى رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعينُه في يده، فقال: ما هذا يا قتادةُ؟ قال: هو ما ترى، فقال: "إن شِئْتَ صَبَرْتَ ولك الجنَّةُ، وإن شِئْتَ رَدَدْتُها، ودعوتُ اللَّه لك فلم تَفتقِدْ منها شيئًا"، فقال: يا رسولَ اللَّه، واللَّه إنَّ الجنَّةَ لجزاءٌ جَزيلٌ، وعطاءٌ جَليلٌ، ولكني رجلٌ مُبْتلًى بحبِّ النساء، وأخافُ أن يَقُلْنَ أعور، فلا يُرِدْنَني، ولكن تَردُّها، وتسألُ اللَّه لي الجنَّة، فأخذها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيدِه، وأعادها إلى مكانِها، فكانت أحسنَ عينَيْه إلى أن مات، ودعا له بالجنَّةِ. قال الهيثم: دخل ابنُ قتادة على عمر بن عبد العزيز فقال: مَن أنت يا فتى؟ فقال: [من الطويل] أنا ابنُ الذي سالتْ على الخدِّ عَيْنُه ... فرُدَّت بكَفِّ المصطفى أحسنَ الردِّ فعادتْ كما كانت كأحسنِ حالِها ... فيا حُسْنَ ما عَيْنٍ ويا طيبَ مايدِ فقال عمر: بمثلِ هذا فليتوسَّل إلينا المتوسِّلون، ثم قال: [من البسيط] تلك المكارمُ لا قَعْبان من لَبَنٍ ... شِيبا بماءٍ فعادا بعدُ أَبْوالا وشهد قتادةُ المشاهدَ كلّها مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانت رايةُ بني ظَفَرٍ بيدِه يوم الفتح. وقيل: إنه تُوفي سنة ثلاثٍ وعشرين، وهو ابن خمسٍ وستين سنةً، قال الواقدي: وصلّى عليه عمر بن الخطاب، ونزل في قبرهِ أخوه لأُمِّه أبو سعيدٍ الخُدري، ومحمد بن مَسلمة، والحارث بنُ خَزْمة (¬1). أسند قتادة الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) في (ك) بعد هذا: وذهبت عيناه قبل موته؟ ! ولم أجد من ذكر ذلك، انظر طبقات ابن سعد 3/ 414، والاستيعاب (2134)، والمنتظم 4/ 333، والاستبصار 254، وصفة الصفوة 1/ 463، والإصابة 3/ 225، وتهذيب الكمال (5440)، والسير 2/ 331، وتاريخ دمشق 58/ 450 والمصادر في حاشيتهما.

معمر بن الحارث

مَعْمَر بن الحارث ابن مَعْمَر بن حَبيب الجُمحيّ، من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأمّه قَتيله بنت مَظعون بن حَبيب، جُمَحيّة. أسلم قديمًا قبل أن يَدخُل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دارَ الأَرقم، وشهد بدرًا وأُحدًا والخندقَ والمشاهدَ كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين مُعاذ بن عَفْراء. توفي -رضي اللَّه عنه- في خلافة عمر رضوان اللَّه عليه، وليس له رواية (¬1). * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 373، والاستيعاب (2413)، والإصابة 3/ 448.

السنة الثالثة والعشرون

السنةُ الثالثة والعِشرون وفيها كَثُرت الفتوحاتُ بالعراقِ والشامِ على عمر، وقُدِم عليه بالأموالِ والأخماسِ، وكان عمرُ قد بثَّ جُيوشَه في الدنيا، وفتح نُعيم بن مُقَرِّن قُومِس وطَبَرِسْتان وصالح أهلها. وبعث عمر الأحنفَ بنَ قيس إلى خُراسان، فافتتح هَراة عَنْوَةً، وتوجَّه إلى مرو، وأرسل مُطَرِّفَ بنَ عبدِ اللَّه بن الشّخِّير إلى نَيْسابور، وكان يَزْدَجِرْد بمَرْو، فكتب إلى خاقان ملك التُّركِ يستمدُّه، وإلى ملك الصُّغْدِ يَستنصرُ به، وتواترت أمدادُ أهلِ الكوفة والبصرةِ إلى الأحنفِ، وهرب يَزْدَجِرْدُ إلى بَلْخ، وتَبعه الأحنف فهزمه وقطع النهرَ، وعاد الأحنفُ إلى مَرو فنزلها، وجاء خاقان إلى يَزْدَجِرْدَ، واجتمعا وعادا إلى مَرْوَ، وجاء يَزْدَجِرْد ومعه خاقان فنزلا على مَرْو، وطال الحصارُ، فخرج الأحنفُ ليلةً يتجسَّسُ الأخبارَ، لعلَّه أن يَسمعَ كلامًا يَنتفعُ به، فسمع رجلًا يقولُ لآخر: لو كان أميرُنا يُسْنِدُنا إلى الجبلِ فكان النهرُ بيننا وبين عدوِّنا خندقًا وكان الجبلُ وراء ظهورنا، أمِنّا أن يأتيَ عدوُّنا من خلفنا، ورجَوْنا النَّصْرَ من اللَّه. فارتحل الأحنفُ، وأسندهم إلى الجبلِ، ثم التقَوْا فقتل الأحنفُ جماعةً من كُبرائهم، وقيل: إنَّما قتلهم غِيلةً، فقال خاقان: ليس لنا في قتالِ هؤلاء حاجة، ولا خيرَ لنا فيه، فارتحل إلى بَلْخ، فهَمَّ يَزْدَجِرْدُ أن يَتبعَه، فقال أصحابُه: تَدَعُ أرضك وقومَك وتصير في مملكةِ الغَيْر؟ ! عُدْ بنا إلى العربِ؛ فإن مُقامنا مع عدوِّنا في بلادنا خيرٌ لنا من مُقامِنا مع عدوِّنا في بلادهِ، فقال: لابُدَّ أن أَتبَعَ خاقان فآمن على نفسي، فقالوا: فدَعْ خَزائنَنا عندنا نتقوّى بها على عدوِّنا، فأبى، فاعتزلوه، وبقي مُفردًا في حاشيتِه، فقاتلوه فهرب، فأخذوا الخزائنَ واستولَوْا عليها، وقطع يَزْدَجِرْدُ النهرَ إلى فَرْغانة والتُّركِ، وأقام عندهم حتى تُوفي عمرُ، فعاد إلى مَرْو. وصالح أهلُ تلك البلاد الأحنفَ على مالٍ، ودفعوا إليه من تلك الخزائن، فعقد بينه وبينهم الصُّلح، فأقاموا في بِلادهم على أحسَنِ حالٍ، وأصاب الفارسُ يومئذٍ ما

فصل

أصاب الفارسُ يومَ القادسية، وهذا قولُ الواقدي. أما سيفٌ فإنه قال: إنّما التقى الأحنفُ بنُ قيسٍ بيَزْدَجِرْدَ في سنة ثماني عشرةَ لما انهزم يزدجرد من جَلولاء يُريد الرَّيَّ، وكان في مَحمِلٍ على جملٍ نائمًا، وكان إذا سارَ ينام، فانتهى به السير إلى مخاضةٍ، فأيقظه أصحابُه خوفًا عليه، فقال: بئسَ ما فعلتُم، فإني رأيتُ أني الساعةَ ومحمدًا تَناجينا عند اللَّه في مدَّة مُلكنا، فأيقظتموني ولم يتقرَّر شيءٌ، فلو تركتموني لعلمتُ ما مُدَّةُ مُلكنا ومُلكِهم. ثم وصل إلى مَرْو، واستمدَّ ملوكَ التّركِ والهندِ والصين فأمدّوه، وسار إليه الأحنفُ بنُ قيسٍ في عشرة آلافٍ من البصرةِ والكوفةِ بأمر عمرَ، وأسند ظهره إلى الجبلِ على ما ذكرنا، والتقى الفريقانِ، فخرج فارسٌ من التُّرْكِ، فطلب المبارَزةَ، فبرز إليه الأحنفُ بن قيسٍ وهو يقول: [من الرجز]: إنَّ على كلِّ رئيسٍ حَقَّا أن يَخْضِبَ الصَّعْدةَ أو تَنْدَقَّا إنَّ لنا شَيخًا بها مُلَقَّى سيفَ أبي حَفْصِ الذي تَنَقّى وحمل على التُّركي فقتله، ثم برز إليه آخر فقتله، وآخر فقتله، فقال ملِكُ التُّرْكِ لأصحابه: ارتَحلوا، فقد تشاء متُ بقَتْلِ ثلاثةٍ من فرسانِنا، فارتحل وقطع النهر (¬1). فصل: وفيها فُتِحت تَوَّج، كانتِ الفُرْسُ قد خرجت منها ليَحموا حُصونهم، فقصدها مُجاشع بن مسعود ففتحها. وفيها فُتِحت إصْطَخْرُ على يد عثمان بن أبي العاصِ الثقفي بعد قتالٍ شديد. قال زياد الأعجم: قدم علينا أبو موسى الأشعري إصْطَخْر وعثمان يُحاصرها، أقدمه عمر رضوان اللَّه عليه مددًا لعثمان، وأمرهما بالاتّفاق، فاتفقا، وطال الحصار، فقال عثمان لأبي موسى: أريد أن أبعثَ أُمراء إلى هذه الرساتيق التي حولنا يُغيرون ¬

_ (¬1) من قوله: ثم وصل إلى مرو. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع).

عليها، فما ظفروا بشيء قاسموه العسكر الذي على المدينة، فقال أبو موسى: لا أرى هذا، وإنما أرى أن يكون لهم، فقال عثمان: لو فعلنا هذا لم يبق على المدينة أحد، كانوا يطلبون الغنيمة، ثم اتفق المسلمون على ما قال عثمان، فبعث ثلاثًا وستين عاملًا على نَيّف وثلاثين رُستاقًا، ثم فتح اللَّه البلد (¬1). وفيها فُتِحت فَسا ودَرابَجِرْد على يدي سارية بن زُنَيْم. وفيها فُتِحت كَرْمان على يدي سُهيل (¬2) بنِ عَدي، ووجد فيها من الجمالِ البُخْتِ شيئًا كثيرًا. وفيها فُتحت سِجِسْتان على يدي عاصم بن عمرو وعبد اللَّه بن عُمَير. وفُتحت مُكْران على يدِ الحكم بن عمرو، وبعث الحكمُ إلى عمر بالغنائم، فقال عمرُ للرسولِ: صِف لي مُكْرانَ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، ما أقول في أرضٍ سهلُها جَبلٌ، وماؤها وَشَلٌ، وتَمْرُها دَقَلٌ، وعدوُّها بَطَل، خيرُها قليل، وشرُّها طويل، وما وراءها أشرُّ منها، فقال عمر: واللَّه لا يجوزُ لي جيشٌ ما وراء النهرِ ما أُطِعْتُ، ثم كتب إلى أُمراءِ الجيوشِ: اقتصِروا على ما دون النهر. وفيها عزل عمر عمارًا عن الكوفة، وولّى أبا موسى الأشعري. وكان أهل الكوفة قد كتبوا إلى عمر رضوان اللَّه عليه يقولون: إن عمارًا ليس بأمين، فاستقدمه عمر رضوان اللَّه عليه، ومعه جماعةٌ من أعيان الكوفة، فيهم سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار، وجرير بن عبد اللَّه البَجلي، فقال لهم عمر رضوان اللَّه عليه: ما تعرفون من أميركم؟ فقال جرير بن عبد اللَّه: هو واللَّه غيرُ كافٍ ولا مُجزٍ ولا عالم بالسياسة، فقال له عمار: كذبت، فقال له عمر رضوان اللَّه عليه: أنت أكذبُ منه، لستَ بصاحبِ عمل، ولكني تأوَّلتُ قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] الآية، فقيل لعمار بعد ذلك: أساءك العَزْلُ؟ فقال: ما سَرَّتني الولاية، ولقد ساءني العَزْلُ. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 473 (مخطوط)، ومن قوله: قال زياد الأعجم. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) في النسخ: إسماعيل، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ الطبري 4/ 180، وانظر الإصابة 2/ 89.

وفيها حجَّ عمر بأزواجِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الهوادج، قال سيف بن عمر: حدَّثني أبو عثمان وأبو حارثة والربيع بإسنادِهم قالوا: حجَّ عمر بأزواجِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- معهن أولياؤهنَّ ومَن لا يَحتجبْنَ منه، وجعل في مقدّمة قِطارهن عبد الرحمن بنَ عوف، وفي مؤخّره عثمان بن عفان. وحجَّ عمر عشر حجّاتٍ في خلافته أوَّلهن سنة أربع عشرة، وأخِرهُنَّ سنة ثلاثٍ وعشرين، واعتمر في خلافته ثلاث عُمَر، عمرة في رجب سنة سبع عشرة، وعمرة في رجب سنة إحدى وعشرين، وعمرة في رجب سنة اثنتين وعشرين. قالت عائشة رضوان اللَّه عليها: لما كان آخر حجّةٍ حجَّها عمر بأمهات المؤمنين إذ صدرنا عن عرفة، ومررتُ بالمُحَصَّب، فسمعتُ رجلًا على راحلته يقول: أين كان أمير المؤمنين؟ فسمعتُ رجلًا آخر يقول: كان هاهنا، فأناخ راحلتَه، ثم رفع عَقيرتَه فقال: [من الطويل] عليك سَلامٌ من إمام وباركتْ ... يدُ اللَّه في ذاك الأديم الممَزَّقِ فمَن يَسْعَ أو يركبْ جناحَيْ نَعامةٍ ... ليُدرِكَ ما قدَّمتَ بالأمس يُسبَقِ قضيتَ أُمورًا ثم غادرتَ بعدها ... بَوائقَ في أكمامها لم تُفَتَّقِ وما كنتُ أخشى أن تكونَ وفاتُه ... بكفِّ سَبَنْتَى أزرقِ العينِ مُطرقِ أبعدَ قتيلٍ بالمدينة أظلمتْ ... له الأرضُ تَهتزُّ العِضاهُ بأَسْؤقِ فقلتُ: مَن قائلُ هذه الأبيات؟ فقالوا: مُزَرِّد بن ضِرار، فلقيتُ مُزَرّدًا بعد ذلك، فحلف باللَّه ما شهد تلك السَّنة الموسم، فكانوا يَرون أن بعض الجنِّ رثاه. وقال جُبَير بنُ مُطعِم: بينما عمر رضوان اللَّه عليه واقفٌ على جبال عرفة سمع رجلًا يقول: يا خليفة يا خليفة، فسمعه رجلٌ آخر وهم يَعتافون، فقال: ما لك؟ فَكّ اللَّه لَهواتك! فأقبلتُ على الرجل فصحتُ عليه قلتُ: لا تَسُبَّنَّ الرجل، فإني الغَدَ واقفٌ مع عمر رضوان اللَّه عليه على العقبة يَرميها جاءتْ حَصاةٌ عائرة، فنَقَفتْ رأسَ عمر، ففَصَدَتْه، فسمعتُ رجلًا من الجبل يقول: أشعرت؟ ! وربِّ الكعبة لا يَقفُ عمر هذا الموقف بعد العام، قال جُبير بن مُطعم: فإذا هو الذي صرخَ فينا بالأمس، فاشتدّ ذلك عليّ. قال سعيد بنُ المسيّب رحمة اللَّه عليه: لما أفاض عمر -رضي اللَّه عنه- من مِنى أناخ بالأبطح،

صفية بنت عبد المطلب

فكوَّم كَوْمةً من بطحاء، طرح عليها طَرفَ ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهمَّ كبرتْ سنّي، وضَعفَتْ قُوَّتي، وانتشرتْ رَعيَّتي، فاقبِضني إليك غيرَ مُضيّعٍ ولا مُفَرِّط -وذكر آية الرجم- فواللَّه ما انسلخ ذو الحِجّة حتى طُعن (¬1). وفيها استقامت الأحوال، وتمّت الأمور، وكَثُرت الفُتوحات، ووصل إلى المدينة من الغنائم والأخماس والأموال ما لم يصل إليها، فاستشهد عمر رضوان اللَّه عليه وكان عامل مكة نافع بن عبد الحارث الخُزاعي، وعلى الطائف سفيان بن عبد اللَّه الثقفي، وعلى صنعاء يَعلى بن مُنْيه، وعلى الكوفة أبو موسى الأشعري، وعلى دمشق معاوية، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى البحرين عثمان بن أبي العاص الثقفي. فصل وفيها توفيت صفية بنت عبد المطلب ابن هاشم -رضي اللَّه عنها- عمة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأمها هالة بنت وُهَيب بن عبد مَناف بن زُهرة ابن كِلاب، وهي أخت حمزة -رضي اللَّه عنه- لأبويه. كانت في الجاهلية عند الحارث بن حَرْب بن أُميّة بن عبد شمس، فوَلَدتْ له صفيَّةُ رجلًا، ثم خَلَفه عليها العَوّام بن خُوَيْلد، فوَلَدتْ له الزبير -رضي اللَّه عنه- والسّائب وعبدَ الكعبة، ثم أسلمت وبايعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهاجرت، وأطعمها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بخيبر أربعين وَسْقًا، واتفق العلماء على إسلامها، وفي غيرها من عمات رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف، واختصم في ولاء مواليها عليّ والزّبير -رضي اللَّه عنهما-، فقال علي: أنا أولى بهم لأنها عمتي، وأنا أَعقل عنهم، وقال الزبير: أنا أولى بهم وميراثهم؛ لأنهم موالي أمّي، فقضى عمر بن الخطاب رضوان اللَّه عليه بولائهم للزبير -رضي اللَّه عنه- (¬2). وقال ابنُ سعدٍ: توفيت صفيةُ في خِلافةِ عمر بن الخطاب، ودُفنت بالبقيعِ، وعاشت ثلاثًا وسبعين سنةً، ودُفنت بالبقيعِ بفِناء دار المُغيرة بن شُعبة. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 308 - 310، وتاريخ دمشق 53/ 338 - 314، ومن قوله: قالت عائشة لما كان آخر حجة. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) من قوله: واختصم في ولاء مواليها علي والزبير. . . إلى هنا ليس في (ك).

عمر بن الخطاب

وكانت امرأةً حازِمةً جَلْدَةً، وقد ذكرنا أنَّها قتلتِ اليهوديَّ الذي تعرَّض للأُطْمِ الذي كانت فيه في غَزاةِ الخندقِ. وقال ابن سعد: وقد روتِ الحديث عن رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال ابن سعد بإسناده عن عروة: أنَّ صفيةَ بنت عبد المطلب جاءت يومَ أُحُدٍ وبيدِها رُمْحٌ تضرِبُ به وجوه الناس وقد انهزموا وتقول: انهزمتُم عن رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-! ؟ فلما رآها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يا زبيرُ، المرأة"، وكان حمزةُ قد بُقِر بطنه، فكره رسول اللَّه أن تراه وكانت أُختَه، فقال الزبير: إليك إليك، فقالت: تَنَحَّ لا أُمَّ لك، فجاءت فنظرت إلى حمزة، وقد ذكرنا طرفًا منه في غزاةِ أُحد (¬1)، وليس في الصحابياتِ من اسمُها صفيةُ بنت عبد المطّلبِ سواها. وذكرها أبو تمام في "الحماسة"، وأنشد لها فقال: قالت: [من الوافر]: ألا مَن مُبلِغٌ عنا قريشًا ... ففيمَ الأمرُ فينا والإمارُ لنا السَّلَفُ المقَدَّمُ قد علمتُم ... ولم توقد لنا بالغدر نارُ وكلُّ مناقب الخيرات فينا ... وبعضُ الأمر مَنْقَصَةٌ وعارُ (¬2) فصل وفيها توفي عمر بن الخطاب ابن نُفيل بن عبد العُزّى بن رِياح بن عبد اللَّه بن قُرط بن رِزاح بن عدي بن كعب، وكنيتُه أبو حفص، وأمُّه حَنْتَمةُ بنت هاشم بن المغيرة بن عبد اللَّه بن مخزوم، وقد ذكرنا نسبَه ونسبَ أمِّه، وخلافتَه وبعضَ أيامه فيما تقدَّم (¬3). وإسلامُه في سنة خمسٍ أو ستّ من النبوة، وأن اللَّه أتَمَّ به الأربعين. وهو من الطبقةِ الأُولى من المهاجرين، والعشرة المبشَّرين. شهد بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهدَ كلَّها مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وثبت معه في ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 41 - 42، وسلف. (¬2) حماسة أبي تمام بشرح المرزوقي (805)، ومن قوله: وذكرها أبو تمام. . . إلى هنا ليس في (ك). وانظر في ترجمتها الاستيعاب (3371)، والتبيين 167، والإصابة 4/ 348. (¬3) في بداية خلافته سنة (13 هـ).

المواطن كلِّها، وخرج معه في عِدَّةِ سرايا، وكان أميرًا على بعضها. وهو أولَ خليفةٍ دُعي بأميرِ المؤمنين، وأوَّلُ مَن كتب التاريخَ، وجمع الناسَ على التراويح، وأوَّلُ مَن عَسَّ، وحمل الدِّرَّة وأدَّبَ بها، وجلد في الخَمْرِ ثمانين، وفتح الفُتوحَ، ومصَّر الأمصارَ: الكوفةَ والبصرةَ وغيرَهما، ووَضع الخَراجَ، ودوَّن الدَّواوين، واستقضى القُضاةَ، وفرض الأعطِيةَ، وكوَّر كُوَرَ السَّوادِ والأهوازِ والجبال وفارس وغيرها. وقال ابن سعد: فتح عمرُ الشامَ كلَّه ما خلا أجنادين؛ فإنَّها فُتحت في خلافة أبي بكرٍ -رضي اللَّه عنه-، قال: وفتح الجزيرةَ، والمَوْصلَ، ومَيَّافارِقين، وآمِد، وأرمينية، ومصر، والإسكندرية، ومات وخيلُه على الرَّيِّ (¬1). وقال هشام: فتح عمر اليرموكَ، ودمشق، والأردنَ، وبَيْسانَ، وطبريّة، وفِلَسْطين، والرَّملة، وغزة، وعَسقلان، والسواحل، والقدس، ومصر، وبَرْقةَ، والإسكندرية، وطرابلس الغَرْب، ومدنَ الشام: بَعلبكّ، وحمص، وقِنَّسْرين، وأنطاكية، والجزيرةَ، وحَرّان، والرُّها، والرَّقَّةَ، ونَصيبين، ورأسَ عين، وسُمَيْساط، وعين وَرْدة، وديارَ بَكرٍ، وربيعة، وبالعراقِ: القادسيّة، وبَهُرَسير, وساباط، والمدائن، وكُوَر الفُرات ودجلة، والأُبُلَّة، والبصرة، والأهواز، وفارس ونهاوَنْد، وهَمَذان، وخُراسان، وإصطخر، وأصفهان، والسّوسَ، ومَرْوَ، ونَيسْابور، وأذْرَبيجان، وقطعت جُيوشُه النهر مِرارًا وغير ذلك، وقد فصَّلناه فيما تقدَّم. وقال الواقدي: وحجَّ بأزواجِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكان مُتواضعًا في اللَّه، خَشِنَ المَلْبَسِ، خَشِنَ المَطْعَمِ، شديدًا في ذاتِ اللَّه، وكان يَلبَسُ الصّوفَ، وَيرقَعُ الثّوبَ بالأَديمِ، ويَشتمَل بالعباءةِ، ويَحمل القِرْبَةَ على كَتِفِه مع عظيمِ هَيْبَتهِ، ويركبُ الحمار مُعرًى، والبعيرَ مَخْطومًا بالليفِ، مُرَحّلًا بالشعر، وكان قليل الضحك لم يُمازح أحدًا قط، إلى غيرِ ذلك [من] الصفاتِ الجميلةِ والأدوات الجليلةِ. قال ابن مسعود: كان إسلامه فتحًا وعزًّا، وهجرته نصرًا، ورضاه عدلًا (¬2)، وكان ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 262. (¬2) جاء بدلًا عنها في جميع المصادر: وكانت إمامته رحمةً.

ذكر صلابته في دين الله وشدته

نقش خاتمه: كفى بالموت واعظًا يا عمر. ذكر صلابته في دين اللَّه وشدّته: قال ابن سعد بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أشدُّ أمتي في دين اللَّه عمر بنُ الخطاب". جاء عُيَيْنة بنُ حِصن والأقرع بنُ حابِس إلى أبي بكر رضوان اللَّه عليه، فقالا: يا خليفة رسول اللَّه، إن هاهنا أرضًا سَبِخة، ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيتَ أن تُقطِعنا إياها ننتفع بها، فقال لمن حوله: ما تَرون؟ قالوا: لا بأس بذلك، فأقطعهما إياها، وكتب لهما بها كتابًا، وأشهد فيه مَن حضر، وقال فيه: اذهبا إلى عمر ليَشهد عليه. فانطلقا نحو عمر رضوان اللَّه عليه، فإذا هو قائم يَهنَأ بعيرًا له، فأخبراه ودفعا إليه الكتاب، فأخذه ونظر فيه، ثم تَفل عليه فمحاه، فتذَمَّرا، فقال لهما: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَتَألّفكما على الإسلام، والإسلام يومئذٍ ضعيف، وقد أعزّ اللَّه الإسلام، فاذهبا فاجْهَدا جَهدَكما، لا رَعى اللَّه عليكما إن قصَّرْتُما. فأقبلا إلى أبي بكر رضوان اللَّه عليه فقالا: واللَّه ما نَدري أنتَ الخليفةُ أم عمر؟ فقال: لا بل هو أرادني. وجاء عمر رضوان اللَّه عليه في تلك الحال، فقال -وقد اشتدّ غضبه- لأبي بكر رضوان اللَّه عليه: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتَها هذين، هي لك خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال: لا، بل للمسلمين عامة، فقال: ما الذي حَملك على أن تَخصَّ بها هذين؟ قال: استشرتُ مَن حولي فأشاروا عليَّ بذلك، فقال: أكُلّ المسلمين أوسعتَهم مشورةً ورِضى؟ فقال له أبو بكر رضوان اللَّه عليه: قد قلتُ لك إنك أَجلدُ على هذا الأمرِ منّي وأقوى، ولكنك غَلبتَني (¬1). وحكى ابن سعد عن راشد بن سعد، أن عمر بن الخطاب أُتي بمال، فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه، فجاء سعد بن أبي وَقّاص -رضي اللَّه عنه- يُزاحم الناس، حتى خلص إليه، فعلاه بالدّرّة وقال: يا سعد، إنك أقبلتَ لا تَهابُ سُلطانَ اللَّه في الأرض، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في التاريخ الصغير 56، والفسوي في المعرفة والتاريخ 3/ 293 - 294، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1683)، وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة 3/ 55. وهذا الخبر بطوله ليس في (ك).

ذكر زهده وورعه

فأحببتُ أن أُعلمك أن سُلطانَ اللَّه لن يَهابَك (¬1). قال الأحنَفُ بن قيس: كنّا جُلوسًا بباب عمر رضوان اللَّه عليه، فمرَّت جاريةٌ فقالوا: سُرَيَّةُ أمير المؤمنين، فقالت: ما هي (¬2) لأمير المؤمنين بسُرِّيَّة، ولا تحلُّ له، إنها من مال اللَّه، فقلنا: فماذا يَحلُّ له من مال اللَّه؟ فقال (¬3): أنا أُخبركم بما أَستحِلُّ منه، يَحلُّ لنا حُلَّتان: حُلَّةٌ في الشتاء وحُلَّةٌ في القَيظ، وما أحُجُّ عليه وأَعتِمر من الظَّهْر، وقُوتي وقُوتُ أهلي كقُوت رجلٍ من قريش، ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعدُ رجلٌ من المسلمين، يُصيبُني ما أصابهم. وكان أنسٌ يقول: إنَّ دِرَّةَ عمر أهيبُ من سيوفكم. وقال ابن سعد بإسناده عن عكرمة، أن حجَّامًا كان يَقصُّ شاربَ عمر، وكان عمرُ رجلًا مَهيبًا، فتَنَحْنَح عُمر فأحدثَ الحجَّامُ، فأمر له عمر بأربعين درهمًا، قال ابن سعد: الحجّام هو سَعيد بن الهَيْلم (¬4). ذكر زهده وورعه: قال أبو نعيم بإسناده عن مصعب بن سعد قال (¬5): قالت حفصةُ لعمر: يا أمير المؤمنين، لو لبستَ ثوبًا هو أَلْيَنُ من ثوبك، وأكلتَ طعامًا هو أَليَنُ من طعامك، فقد وسَّع اللَّه من الرزقِ وأكثر من الخيرِ، فقال: سأخصِمُك إلى نفسك، أما تَذكُرين ما كانَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَلقى من شِدَّة العيشِ؟ قال: فمازال يُذكِّرُها حتى أبكاها، ثم قال: أما واللَّه لأُشاركنَّهما في مثلِ عَيْشِهما الشديد لَعَلِّي أُدرك عَيْشَهما الرَّخِيَّ، يعني النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والصديق -رضي اللَّه عنه- (¬6). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن أنسٍ قال: كان بين كَتِفيْ عمر ثلاثُ رِقاعٍ من أَدِيم. وفي روايةِ ابن سعدٍ عن الحسنِ قال: خطب عمر الناس وهو خليفةٌ، وعليه إزارٌ، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 267. (¬2) في (خ) و (ع): فقال وما هي، والخبر ليس في (ك)، والمثبت من طبقات ابن سعد 3/ 256. (¬3) يعني: عمر -رضي اللَّه عنه-. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 267. (¬5) من قوله: وكان أنس يقول. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬6) حلية الأولياء 1/ 48 - 49، وأخرجه ابن سعد 3/ 258.

وفيه اثنتا عشرة رُقعةً. وفي روايةِ ابن سعدٍ أيضًا قال: أبطأ عمرُ يوم جمعة عن الخُطبةِ، فلما صَعِد المِنْبَرَ اعتذر إلى الناسِ وقال: إنَّما حَبَسني قَميصي هذا؛ لم يكن لي سواه، يعني أنَّه غَسَلَهُ. قال: وكان يُخاط له قميصٌ سُنبلانيّ، لا يُجاوِزُ كُمُّه رُسْغَ كفِّه (¬1). وقال هشام بن عروة: خطب عمر يومًا الناسَ وعليه إزارٌ جديد فلما قال: أيُّها الناسُ، أدار سلمانُ الفارسيُّ ظهره إليه، فقال عمر: يا عبد اللَّه، يعني ولَده، هذا الإزارُ لمن؟ فقال: لي، فقال عمر: أيُّها الناسُ، غسلتُ ثوبي، ودَهَمَني وقتُ الصلاةِ، ولم يَجِفَّ، فأخذتُ ثوبَ عبد اللَّه، فأدار سلمانُ وجهه إليه وقال: قُلِ الآن حتى نَسْمَعَ. وقال عبد اللَّه بن أحمد بإسناده عن ابن عمر قال: أُتي عمر بشَرْبَةٍ من عَسَلٍ، فذاقها وقال: اعزلوا عني حسابها، اعزلوا عني مُؤنتها (¬2). وروى عبد اللَّه بن أحمد بإسناده إلى ابن عباسٍ قال: دخلتُ على عمر، وبين يديه مالٌ، فنَشَج حتى اختلفتْ أضلاعُه، ثم قال: ودِدْتُ أن أنجُوَ منه كفافًا، لا لي ولا عليَّ (¬3). وقد ذكرنا أنَّه حجَّ فأنفق في حَجَّته ستَّةَ عَشَرَ دينارًا، وكان يَسْتظِلُّ بالشجر ولا خيمةَ له ولا فُسْطاط، وقال لابنه عبدِ اللَّه: قد أَسْرَفنْا. وفي روايةٍ أن عمر رأى جاريةً وهي تمشي تترنَّح من الجوعِ، فقال: وَيْحَ هذه! من يَعْرِفُها؟ فقال ابنُه عبد اللَّه: هذه ابنتي، قال: فما بالُها؟ قال: تحبِسُ ما في يدِكَ فيُصيبنا كذا، فقال: يا عبدَ اللَّه، بيني وبينكم كتابُ اللَّه، ما أُعطيك إلّا ما فَرَضَ اللَّه لك (¬4). وقال ابن سعد: كان عمر وهو خليفة يَتَّجر (¬5). وحكى ابن سعدٍ أيضًا عن الحسن قال: كان خبزُ عمر مَأْدومًا يومًا بزيتٍ، ويومًا بسَمْنٍ، ويومًا بقَديدٍ يابسٍ، فقيل له في ذلك فقال: لو شِئتُ لكنتُ أطيبَكم طعامًا، أما ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 304، 305. (¬2) الزهد 149. (¬3) أخرجه ابن سعد 3/ 268 مطولًا. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 257. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 258.

واللَّه ما أجهلُ عن كراكِر وأسنِمةَ، وعن صِلاءٍ وصِنابٍ وصَلائق، ولكني سمعتُ اللَّه يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية [الأحقاف: 20]. الصِّلاء: الشِّواء، والضِّناب: الخَرْدَل، والصَّلائق: الخبزُ الرقيق، وأراد أسنمةَ الجِمال وظُهورَها. وقال ابن سعدٍ بإسناده، قال ابن للبراء بن معرور: إن عمر خرج يومًا حتى أتى المِنْبَرَ، وقد كان اشتكى شكوى له، فنُعِتَ له العسلُ، وفي بيتِ المالِ عُكَّةٌ من عسلٍ، فقال: أيّها الناسُ، إني مريضٌ، وقد وُصِفَ لي العسلُ، وفي بيتِ المال عُكَّةٌ، فإن أذِنتُم لي فيها أخذتُها، وإلا فهي عليَّ حَرام، فأذِنوا له فيها. وحكى ابنُ سعدٍ عن الواقدي قال: أهدى أبو موسى الأشعري إلى عاتكة بنت زيد زوجةِ عمر طِنْفِسةً تكون قَدْرَ ذِراعٍ وشِبرٍ، فقال لها عمر: من أين لكِ هذه؟ قالت: أهداها إليَّ أبو موسى، فدعاها عمر وضرب بها رَأْسَها حتى نَفَضَ رَأْسَها، ثم قال: عليَّ بأبي موسى، فجاء، فقالى له: ما حَملكَ على أن تُهديَ لنِسائي؟ ثم ضرب بها رأسَه وقال: خُذْها لا حاجةَ لنا بها (¬1). وحكى الواقدي أيضًا عن ابن عباسٍ قال: أهدت امرأةُ ملكِ الروم إلى زوجةِ عمر أُمِّ كلثوم بنت عليّ عقدًا وطِيبًا على دوابِّ البريدِ التي للمسلمين، وكان عمر قد بعث البريد إلى ملك الروم في مُهمٍّ، فبعثتْ معه أُمُّ كلثوم بهدية إلى امرأةِ ملك الروم، فبعثت إليها امرأةُ ملكِ الروم بهديَّةٍ فيها طِيبٌ، وعِقدُ لؤلؤٍ فيه جوهر له قيمةٌ، فلما بلغ عمرَ ذلك جمع المسلمين وأخبرهم الخبرَ وقال: ما تَرونَ؟ فقالوا: مازلنا نُهدي إليهم ويُهْدون إلينا، فقال: نعم، ولكنَّ البريدَ الذي حُمِلت عليها الهديّة إنَّما هو للمسلمين، فردَّ الطيبَ والعِقْدَ إلى بيتِ المال وقال: أعطوها قيمةَ ما أهدت (¬2). وكان عمر رضوان اللَّه عليه إذا احتاج أتى صاحبَ بيت المال فاستقرضه، فربما أَعْسَر، فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه وبلزمه، فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه (¬3). ¬

_ (¬1) الأخبار الثلاثة في طبقات ابن سعد 3/ 259 - 260، 257، 287. (¬2) المنتظم 4/ 139. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 257، وهذا الخبر ليس في (ك). ومعنى يحتال له: يُحيله بالدَّين على رجل آخر يتقاضى منه.

ذكر تعبده

ذِكْرُ تعبُّدِه: قال ابن سعد بإسناده قال: كان يصوم الدهرَ، وكان زمانَ الرَّمادة إذا أمسى أُتي بخُبزٍ وزيتٍ قد لُتَّ به، ونَحروا يومًا جَزورًا، فقدَّموا إليه منها فقال: بئسَ الوالى أنا إنْ أكلتُ طَيِّبَها وأطعمتُ المسلمين كراديسها، ولم يأكلْ منها، وقد ذكرناه. وكان يصلي بالناس العشاء، ثم يدخل بيتَه، فلا يزال يصلي، حتى إذا كان آخر الليل خرج فيأتي الأنقاب فيطوف عليها. وروى ابن سعدٍ عن ابن المسيّب قال: كان عمر يُحِبُّ الصلاة في كَبدِ الليل. يعني في وسط الليل (¬1). وروى سفيان بن عُيينةَ بإسناده عن ابن عمر قال: ما مات عمر حتى سَرَد الصَّوْمَ (¬2). ذِكْرُ خوفِه: رُوي عن عبد اللَّه بن عمر قال: كان عُمر يقول: لو ماتَ جَدْيٌ بطَفِّ الفُراتِ لخَشيتُ أنا يُحاسبَ اللَّه به عمر. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن عبد اللَّه بن عامر قال: رأيتُ عمر بنَ الخطاب قد أخذَ تِبنَةً من الأرض وقال: ليتني كُنتُ هذه التِّبْنَةَ، ليتني لم أُخلق، ليتني لم تلدني أمي، ليتني لم أكن شيئًا، ليتني كنتُ نَسْيًا مَنْسيًّا (¬3). وقال أبو نُعيم بإسناده عن عبدِ اللَّه بن عيسى قال: كان في وَجهِ عمرَ خَطّانِ أسودانِ من البكاء. ورُوي عن ابن أبي الدنيا، عن ابن عمر قال: كان عمر يسمع الآيةَ فيُغشى عليه، فيُحملُ صريعًا إلى منزله، فيُعاد أيامًا، ما به مَرَضٌ غير الخوف (¬4). قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قد كان في الأمم مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي [منهم أحد] فعمر". أخرجه مسلم. وقال البخاري: وزاد زكريا بن أبي زائدة: "قد كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ ¬

_ (¬1) الأخبار الثلاثة في طبقات ابن سعد 3/ 290 - 291، 266. (¬2) أخبار عمر لابن الجوزي 139. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 284، 334. (¬4) حلية الأولياء 1/ 51.

حديث هرب الشيطان من عمر

يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن أحد من أمتي فعمر" (¬1). حديث هرب الشيطان من عمر: قال أحمد بإسناده، قال سعد بن أبي وقاص: استأذن عمر بن الخطاب على رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعنده نِسْوَةٌ من قُريشٍ يسألْنَه ويستَكثِرْنَه، عاليةً أصواتُهن على صوته، فلما استأذن عمر ابتدَرْنَ الحجابَ، فأذِن له رسولُ اللَّه، فدخل ورسولُ اللَّه يضحكُ، فقال عمر: أضحكَ اللَّه سِنَّك يا رسول اللَّه، ممَّ تَضحك؟ قال: عجبتُ من هؤلاء اللاتي كُنَّ عندي، فلما سَمِعْنَ صوتَك ابتَدَرْن الحجابَ، قال عمر: فأنتَ أحقُّ يا رسولَ اللَّه أن يَهَبْنَ، ثم قال عمر: أي عدوَّاتِ أنفُسهنَّ، أتَهبنَني ولا تَهَبْنَ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قُلن: نعم، أنت أفَظُّ وأغلظُ من رسولِ اللَّه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لَقيك الشيطانُ سالكًا فجًّا إلا سلك غير فَجِّكَ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رأيت فيما يرى النائم كأني [أنزع أرضًا إذ] وردت عليَّ غنم سود وعُفْر، فجاء أبو بكر فنزع ذَنوبًا أو ذَنُوبَيْن، وفي نَزْعه ضَعفٌ واللَّه يغفر له، ثم جاء عمر فنزع فاستحالت غَرْبًا، فملأ الحوض، وأروى الواردة، فلم أر عبقريًّا أحسن نزعًا من عمر، فأوَّلتُ أن السَّواد العرب، والعُفْرَ العَجمُ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). حديث القَدَح: قال أحمد بإسناده عن سالم، عن أبيه قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحَدِّث قال: "بينما أنا نائمٌ رأيتُ أني أُتيتُ بَقدَحٍ، فشربتُ حتى أرى الريَّ يَخرج من أطرافي، ثم أعطيتُ فَضْلي لعمر"، قالوا: فما أوَّلْتَ ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: "العلم". أخرجاه في "الصحيحين" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2398)، وصحيح البخاري (3689) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. وهذا الحديث ليس في (ك). (¬2) مسند أحمد (1472)، وصحيح البخاري (3683)، وصحيح مسلم (2396). (¬3) أخرجه بهذا السياق أحمد (23801)، وابن عساكر 53/ 204 من حديث أبي الطفيل -رضي اللَّه عنه-، وأخرجه بغير هذا السياق من حديث ابن عمر وأبي هريرة -رضي اللَّه عنهم- (على الترتيب): أحمد (4814) و (8239)، والبخاري (3682) و (3664)، ومسلم (2393) و (2392). وهذا الحديث ليس في (ك). (¬4) مسند أحمد (6142)، وصحيح البخاري (3681)، وصحيح مسلم (2391).

حديث القميص

قال عمر رضوان اللَّه عليه: وافقتُ ربّي في ثلاث؛ قلتُ: يا رسول اللَّه، لو اتَّخذنا من مقام إبراهيم مصلَّى، فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وقلتُ: يا رسول اللَّه، إن نساءك يَدخل عليهنّ البرُّ والفاجر، فلو أمرتَهنَّ أن يحتَجِبْنَ، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول اللَّه نساؤه في الغَيْرة، فقلت لهنّ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} [التحريم: 5]، فنزلت كذلك. أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). قال عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-: فضَل الناسَ عمرُ بأربع: بذكر الأُسارى يوم بدرٍ، أمر بقتلهم، فأنزل اللَّه تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية [الأنفال: 68]، وبذكر الحجاب، أمر نساءَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَحتجِبْن، فقالت له زينب: وإنك علينا يا ابن الخطاب، والوحيُ يَنزل في بيوتنا؟ ! ، فأنزل اللَّه {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 54]، وبدعوة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهمَّ أيِّد المسلمين بعمر". وبرأيه في أبي بكر، كان أول مَن بايعه من الناس (¬2). حديث القميص: قال أحمد بإسناده عن أبي سعيد الخُدريِّ قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بينما أنا نائمٌ رأيتُ الناسَ يُعرَضون عليَّ، وعليهم قُمُصٌ، منها ما يَبلغ الثُّدِيَّ، ومنها ما يبلغُ دون ذلك، وعُرِضَ عليَّ عمرُ وعليه قميصٌ يَجُرُّه"، قالوا: فما أوَّلتَ ذلك يا رسولَ اللَّه؟ قال: "الدِّين". أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). حديث القصر: قال أحمد بإسناده عن أنسٍ قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دخلتُ الجنَّةَ، فإذا بقصرٍ، فقلتُ: لمن هذا القصرُ؟ قالوا: لشابذٍ من قريشٍ، قلتُ: لمَن؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فلولا ما علمتُ من غَيْرَتِك لدخلتُه"، فقال عمر: عليك يا ¬

_ (¬1) مسند أحمد (157)، وصحيح البخاري (402)، وصحيح مسلم (2399) مختصرًا. (¬2) أخرجه أحمد (4362)، وابن عساكر 53/ 51، والحديثان ليسا في (ك). (¬3) مسند أحمد (11814)، وصحيح البخاري (3691)، وصحيح مسلم (2390).

حديث منكر ونكير

رسولَ اللَّه أغار. أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). حديث "لو كان بعدي نبي": قال أحمد بإسناده عن عُقبة بن عامر قال: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لو كان بعدي نبيٌّ لكان عمرَ بنَ الخطاب" (¬2). وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه جعل الحقّ على لسان عمر وقلبِه" (¬3). وقال أحمد بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عمر بن الخطابِ سِراجُ أهلِ الجنَّةِ" (¬4). قال الزهري: ومعناه أنَّهم يستضيئون بنورِ عَدْلهِ وزُهده وشِدَّته في اللَّه. وقال أحمد بإسناده عن ابن عمر عن أبيه عمر قال: استأذَنْتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في العمرةِ، فأذِن لي وقال: "يا أخي، لا تَنْسَنا من دُعائِكَ"، وفي روايةٍ: "يا أخي، أشرِكْنا في دعائك"، قال عمر: ما أُحبُّ أن لي بها ما طلعت عليه الشمس، لقوله: "يا أخي". حديث مُنكر ونَكير: قال أحمد بإسناده عن عبد اللَّه بن عَمرو قال: ذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتَّانَ القبر -أو فتَّانَي القَبْرِ- فقال عمر: أَتُرَدُّ علينا يا رسول اللَّه عقولُنا؟ قال: "نعم، كهيئتكم اليوم"، فقال عمر: بفِيه الحجر (¬5). وسنذكر هذا عند وفاة عمر. قال أسلم: خرجتُ مع عمر إلى السوق، فلحقته امرأةٌ شابة فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صِبيةً صغارًا، واللَّه ما يُنضِجون كُراعًا، ولا لهم زَرْعٌ ولا ضَرْع، وقد خشيتُ عليهم الضَّبُع، وأنا ابنةُ خُفاف بن إيْماء الغِفاري، وقد شهد أبي الحُديبيةَ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فوقف عمر معها ولم يَمضِ، وقال: مَرحبًا بنسبٍ قريب، ثم انصرف إلى بعيرٍ ¬

_ (¬1) مسند أحمد (12046)، وصحيح البخاري (5226) و (5227)، وصحيح مسلم (2394) و (2395) من حديث جابر بن عبد اللَّه وأبي هريرة -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) مسند أحمد (17405). (¬3) مسند أحمد (5145) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬4) فضائل الصحابة (677)، وتاريخ دمشق 53/ 144. (¬5) الحديثان في مسند أحمد (195) و (6603).

ظَهير، كان مَربوطًا في الدار، فحمل عليه غِوارتَيْن ملأهما طعامًا، وجعل بينهما نَفقةً وثيابًا، وناولها خِطامَه وقال لها: اقتاديه، فلن يَفنى هذا حتى يأتيَكم اللَّه بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرتَ لها! فقال عمر: ثَكلتْك أمُّك، واللَّه إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حِصنًا زمانًا فافتتحاه، ثم أصبحنا نَستَفيْءُ سُهْمَانَهما فيه. انفرد بإخراجه البخاري (¬1). وقال أبو نعيم بإسناده عن الأوزاعي أن عمرَ بنَ الخطاب خرجَ في سوادِ الليل، فرآه طلحةُ، فدخل عمر بيتًا، ثم دخل بيتًا آخر، فلما أصبح طلحةُ ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوزٌ عَمياء مُقْعَدَةٌ، فقال لها: ما بالُ هذا الرجل يَأتيك؟ فقالت: إنَّه يَتعاهَدُني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلحني، ويُخرِجُ عنّي الأذى، فقال طلحةُ: ثكلتْكَ أُمُّك يا طلحة، أعَثراتِ عمر تَتبَّع (¬2)؟ وقال ابن سعدٍ بإسناده عن ابن عمر قال: قَدِمت رُفْقَةٌ من التُجّارِ فنزلوا المصلَّى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوفٍ: هل لك أن نَحْرُسَهم الليلةَ من السَّرق؟ قال: نعم، فباتا يَحرسانهم ويصلِّيان ما كتب اللَّه لهما، فسمع عمرُ بكاءَ صبيِّ، فتوجَّه نحوه وقال لأُمِّه: اتَّقي اللَّه وأحسِني إلى صبيِّكِ، ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه، فعاد إلى أُمِّه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان آخر الليل سمع بكاءَه، فأتى أُمَّه فقال لها: وَيحكِ، إني لأراك أُمَّ سوءٍ، مالي أرى ابنَك لا يَقِرُّ منذ الليلة؟ فقالت: يا عبدَ اللَّه، قد أَبْرَمْتَني منذ الليلةِ، إني أُرِيغُه عن الفِطام فيأبى ذلك، قال: ولمَ؟ قالت: لأنَّ عمرَ لا يَفْرِضُ إلا للفُطُم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرًا، قال: وَيحكِ لا تُعجِليه، فصلّى الفجرَ وما يَستبينُ الناسُ قِراءتَه من غَلَبة البُكاءِ، فلما سلَّم قال: بُؤسًا لعمر كم قتلَ من أولادِ المسلمين، ثم أمر مناديه فنادى: لا تُعجِلوا صِبيانَكم عن الفِطام، فإنا نَفرِضُ لكلِّ مولودٍ في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق (¬3). قال أسلم: أتينا الحرَّة مع عمر فإذا امرأة تمخض وتبكي، فسألها عمر عن حالها ¬

_ (¬1) في صحيحه (4160). وهذا الخبر ليس في (ك). (¬2) حلية الأولياء 1/ 48. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 280 - 281.

حديث امرأة أخرى

فقالت: يا عبد اللَّه، أنا امرأة غريبة، وليس عندنا شيء، فبكى عمر، وعاد يُهرول إلى بيته، فقال لامرأته أمِّ كلثوم بنت علي: هل لك في أجرٍ ساقه اللَّه إليك، وأخبرها الخبر، فقالت: نعم، فحمل على ظهره الدَّقيق والشَّحْم، وحملت أمُّ كلثوم ما يَصلُح للولادة، وجاء فدخلت أمُّ كلثوم على المرأة، وجلس عمر يتحدث مع زوجها، وهو إلى جانبه ولا يعرفه، ووضعتْ المرأةُ غُلامًا، فنادت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين، بَشِّر صاحبَك بغُلام، فلما سمع الرجل قولَها استأخر عنه، فقال: على رِسلك، فوصلهما وانصرف (¬1). حديث امرأةٍ أخرى: قال عبد اللَّه بن أحمد بإسناده، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: خرجنا مع عمرَ إلى حَرَّةِ واقمٍ، حتى إذا كنّا بِصِرار إذا بنارٍ، فقال لي: يا أسلم، إني أرى هاهُنا ركبًا قد قَصَّر بهم الليلُ والبردُ، انطلق بنا، فأخذنا نُهَرْوِلُ حتى أتيناهم، فإذا امرأةٌ معها صِبْيان صغار، وإذا بقِدْرٍ منصوبةٍ على النارِ، وصبيانُها يَتَضاغَوْن، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحابَ الضَّوء، وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فردَّتِ السلامَ فقال: ما بالُكم؟ قالت: هؤلاء الصبيان يَتَضاغَوْن جوعًا، قال: فأيُّ شيءٍ في هذه القِدرِ؟ قالت: ما أُعلِّلُهم بهِ حتى يناموا، واللَّه بيننا وبين عمر، فقال: رحمكِ اللَّه، وما يُدري عمرَ بكم؟ قالت: يتولّى أمرَنا ويَغفُلُ عنا؟ ! قال: فبكى بكاءً شديدًا وقال: اتبعني، وهرول حتى أتى دار الدقيقِ، فأخرج عِدْلًا من دقيقٍ وكُبَّةَ شَحْم، وقال: يا أسلم، احمِلْه على ظَهْري، فقلتُ: أنا أحمِلُه عنك، فقال: لا أُمَّ لك، أنت تحملُ وِزْري يومَ القيامة؟ فحملتُه على ظهرِهِ، وانطلقنا إلى المرأةِ، فألقاه عن عاتِقِه، فأخرج من الدقيقِ فَذَرَّه في القِدْرِ، وألقى عليه من الشَّحْمِ، وجعل يَنفُخ تحت القِدْرِ ساعةً، ثم أنزلها وقال: ابغني صَحْفة، فغرف فيها، ثم تركها بين يَدَي الصبيانِ وقال: كُلوا، فأكلوا حتى شبعوا، والمرأةُ تدعو له وتقول: جزاك اللَّهُ خيرًا، كنتَ أولى بهذا من عمر، فقال: قُولي خيرًا، ثم تنحّى عنها فربضَ مَرْبضًا، ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في سيرة عمر 77، وابن كثير في تاريخه 10/ 186 هجر، والخبر ليس في (ك).

حديث ركوب البحر

فقلتُ له: ألك شأنٌ غيرُ هذا؟ فقال: يا أسلم، الجوعُ أسهَرهم وأبكاهم، فما أُحِبُّ أن أنصرفَ حتى يناموا، فناموا شباعًا وانصرفْنا (¬1). حديث ركوب البحر: قال ابن سعدٍ بإسناده عن زيدِ بن أسْلَم قال: كتب عمر بنُ الخطاب إلى عمرو بن العاص يسأله عن ركوبِ البحرِ، فكتب إليه عمرو يقول: دُودٌ على عُودٍ، فإن انكسر العودُ هلك الدّود، فأمسك عمر عن ركوبِ البحر، وفي رواية ابن سعدٍ أيضًا أن عمر قال: لا يَسألُني اللَّه عن ركوب المسلمين البحر أبدًا (¬2). وروى عنه ابنُه عبد اللَّه أنه قال: لولا آية في كتاب اللَّه لعلوتُ راكبَه بالدِّرَّة، وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]. وحضر بين يديه عام الرَّمادة من لحم جَزور في قصعة، فقال لغلامه يرفأ: اذهب بهذه القصعة إلى أهل بيت بثَمْغ، فإني لم آتهم منذ ثلاث، ودعا بالخبز والزيت، وأفطر عليه. وكان يُدخل يدَه في دُبُر البعير ويقول: إني لخائف أن أُسألَ عمَّا بك (¬3). وقال: لو مات جمل ضياعًا بشط الفرات لخفت أن يسألني اللَّه عنه. رأى علي عمر رضوان اللَّه عليهما يَعْدُو على قَتَب، فقال له: إلى أين يا أمير المؤمنين؟ فقال: قد نَدّ بعير من إبل الصدقة، فقال: لقد أتعبتَ الخلفاء بعدك، فقال: يا أبا الحسن لا تَلُمْني، فواللَّه لو مات جَدْيٌ بطَفِّ الفُرات لخِفْتُ أن أطلَبَ به (¬4). وجاء أعرابي إليه فقال له: يا أمير المؤمنين، إن بَعيري قد نَقِب فاحملْني، فنظر عمر رضوان اللَّه عليه إليه، وقال: ليسى ببعيرك شيء، فولّى الأعرابي وهو يقول: [من الرجز] أقسم باللَّه أبو حَفْصٍ عُمَرْ ما مَسَّه من نَقَبٍ ولا دَبَرْ ¬

_ (¬1) فضائل الصحابة (382). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 265. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 290، 267. (¬4) سيرة عمر لابن الجوزي 133.

فصل قصة نصر بن حجاج

فاغفرْ له اللهمَّ إن كان فَجَرْ فقال عمر: اللهم اغفرْ لي وله، وحمله (¬1). وخرج رجل اسمُه كِلاب مجاهدًا إلى الشام، وله والدان كبيران، فقال أبوه: [من الوافر] تركتَ أباك مُرْعَشَةً يداه ... وأمَّك ما تُسيغُ لها شرابا إذا غَنَّتْ حمامةُ بطْنِ فَجٍّ .... على بيضاتها ذكسرتْ كِلابا وبلغ عمرَ رضوان اللَّه عليه الشعرُ، فكتب إلى يزيد بن أبي سفيان أن سَرِّح كلابًا، فلما قدم قال له: كن مع أبوَيْك حتى يَموتا أو تموت (¬2). فصل قصة نصر بن حجَّاج قرأتُ على أبي القاسم عبد المحسن بن عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي الخطيبُ بالموصلِ في سنة خمسٍ وستٍّ مئةٍ، قلتُ له: أخبركم والدك أبو الفضل عبد اللَّه بن أحمد، وعمُّك أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الطوسي، قالا بإسنادهما عن أبي بكرٍ محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي، وكانت قِراءة الكِنْدي على الخرائطي بمكة في المسجد الحرام سنة ثلاثٍ وخمسين وثلاثِ مئةٍ، قال الخرائطي بإسناده عن محمد بن الجَهْم بن عثمان بن أبي الجهم، عن أبيه، عن جَدِّه، وكان على ساقة غنائم خيبر حين افتتحها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: بينما عمر -رضي اللَّه عنه- يطوف ليلة في سِكَّةٍ من سِكَكِ المدينةِ إذ سمع امرأةً؛ وهي تَهتف في خِدْرِها وتقول: [من البسيط] هل من سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشربَها ... أم هل سبيلٌ إلى نَصْرِ بن حجَّاجِ إلى فتًى ماجدِ الأعراقِ مُقْتَبلٍ ... سهلِ المُحيّا كريمٍ غيرِ مِلْجاجِ نَمَتْهُ أعراقُ صِدْقٍ حين تَنْسبُه ... أخي حِفاظٍ عن المكروه فرَّاجِ فقال عمر: أرى معي في المِصْرِ رجلًا تهتِفُ به العواتقُ في خِدْرِها -أو في ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 203، وأنساب الأشراف 9/ 76. (¬2) تاريخ دمشق 14/ 617 (مخطوط)، وأخرجه عبد الرزاق (20125)، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (239) و (240)، والفاكهي في أخبار مكة (1976)، وأبو الفرج في الأغاني 21/ 9 - 11، والقالي في أماليه 3/ 108. ومن قوله: وحضر بين يديه عام الرمادة. . . إلى هنا ليس في (ك).

خُدورِها- عليَّ بنَصرِ بن حجَّاج، فأُتي به، فإذا هو من أحسنِ الناسِ وَجْهًا وعَينًا وشَعَرًا، فأمر بشَعرِهِ فجُزَّ، فخرجتْ له جبهةٌ كأنَّها شِقَّة قَمرٍ، فأمره أن يَعتَمَّ، فاعتمَّ فافتُتنَ النساءُ بعَيْنيه، فقال عمر: واللَّه لا تُساكِنُني في بلادٍ أنا بها، قال: اللَّه اللَّهَ يا أمير المؤمنين، قال: هو ما أقول لك، فسيَّره إلى البصرة. وخشيت المرأةُ التي سمع منها عمرُ أن يبدرَ إليها منه شيءٌ، فدسَّت إليه أبياتًا تقول: [من البسيط] قُلْ للإمامِ الذي تُخْشى بَوادِرُه ... مالي وللخَمْرِ أو نَصْرِ بن حجَّاجِ إني غَنِيتُ أبا حَفْصٍ بغيرهما ... شُربِ الحليبِ وطَرْفٍ فاترٍ ساجِ إن الهوى زمَّه التَّقوى فخَيَّسه ... حتى أَقَرَّ بإلجامٍ وإسراجِ لا تَجعلِ الظنَّ حقًّا أو تُيَقِّنَه ... إنَّ السبيلَ سبيلُ الخائفِ الراجي قال: فبكى عمرُ وقال: الحمدُ للَّهِ الذي حبسَ التُّقى الهوى. قال: وأتى على نصرٍ حينٌ، واشتدَّ على أُمِّه غيبةُ ابنها عنها، فتعرَّضت لعمرَ بين الأذانِ والإقامةِ، فقَعدتْ له على الطريقِ، فلما خرج يُريد صلاةَ العصرِ قالت: يا أمير المؤمنين، لأُجاثيَنَّكَ يبن يدي اللَّه تعالى ثم لأُخاصمنَّك؛ أيبيتُ عبدُ اللَّه وعاصمٌ إلى جنبك، وبيني وبين ابني الفيافي والقِفار، والمفاوِزُ والجبالُ؟ فقال لها: يا أُمَّ نصرٍ، إن عبد اللَّه وعاصمًا لم تهتفْ بهما العواتقُ في خُدُورِهن، وانصرفتْ. ومضى عمر إلى الصلاةِ، وأَبْرَد عمر بَريدًا إلى البَصْرةِ، فمكث بالبصرةِ أيامًا، ثم نادى مُناديه: مَن أراد أن يَكتُبَ إلى المدينةِ فليَكتُبْ، فإنَّ بريدَ المسلمين خارجٌ، قال: فكتب الناسُ، وكتب نَصر بنُ حجَّاج: سلامٌ عليك، أما بعدُ يا أميرَ المؤمنين: [من الطويل] لعَمري لئن سيَّرتَني وحَرَمْتَني ... فما نِلْتَ من عِرْضي عليك حرامُ أإن غَنَّتِ الذَّلْفَاءُ يومًا بمُنْيَة ... وبعضُ أمانيِّ النساءِ غَرامُ ظننتَ بي الأمرَ الذي ليس بعده ... بقاءٌ فمالي في النَّدِيِّ كلامُ ويَمنعُني مما تقولُ تَكَرُّمي ... وآباءُ صدقٍ سالفون كِرامُ ويَمنعُها مما تمنَّت صَلاتُها ... وحالٌ لها في قومِها وصِيامُ

فهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... فقد جُبَّ منّا غارِبٌ وسَنَامُ فقال عمر: أمّا ولي الإمارةُ فلا، وأقطعه أرضًا بالبصرة ودارًا. قال أبو بكرٍ الخرائطي: رحمةُ اللَّه على عمر، ما كان أنظرَه بنورِ اللَّه، وأفْرَسَه في ذاتِ اللَّه! كان واللَّهِ كما قال الشاعر: [من الطويل] بَصيرٌ بأعقابِ الأُمورِ برأيه ... كأنَّ له في اليوم عَينًا على غَدِ وكما قال الآخر: [من السريع] تَزيده الأيامُ إن ساعَفَتْ ... شدَّةَ حَزْمٍ بتَصاريفها كأنها في حالِ إسعافِها ... تُسمعُه ضَجَّةَ تخويفها وفي مثله يقال: [من الطويل] يرى عَزَماتِ الرَّأي حتى كأنما ... تُلاحِظُه في كلّ أمرٍ عَواقِبُهْ قال: وذلك أن نَصر بن حجَّاجٍ لمّا نفاه عمر -رضي اللَّه عنه- إلى البصرةِ، كان يدخُلُ على مُجاشع بن مسعود السُّلَمي، وكان به مُعْجَبًا، وكان لمجاشعٍ امرأةٌ يُقال لها الخُضَيراء تكتبُ وتقرأ، وكانت من أجمل النساء، وكان مُجاشِعٌ لا يَصبِرُ عنها وعن نصر بن حجَّاج، وهو يومئذٍ على البصرةِ أميرٌ، فكان لشَغَفِهِ بهما يَجمعهما في مَجلسهِ، فحانت من مُجاشعٌ التفاتةٌ ونَصرٌ يَخُطُّ على الأرضِ خُطوطًا، فقالت الخُضيراء: وأنا، فعلم مجاشعٌ أنَّه جوابُ كلامٍ، وكان مُجاشعٌ لا يقرأ. وانصرف نَصرٌ إلى منزلهِ، ودعا مجاشعٌ كاتبًا، فقرأ فإذا هو: إني لأُحبُّك حُبًّا لو كان فوقَك لأظلَّكِ، ولو كان تحتك لأقَلَّكِ، وبلغ نَصرًا من فعلِ مُجاشع بن مسعود فاستحيا لذلك، واشتد وجدُه بها، وظهر دَنَفُه، وعَظُمَتْ بَليَّتُه، وحلَّتْ رزِيَّتُه، والتحَف عليه الضَّنَى، وامتنع من الغِذاء حتى شارفَ الفَناء، ولزمَ بيتَه حتى صار كالفَرْخِ، فقال مجاشع لامرأته: اذهبي إليه فأَسْنِديه إلى صَدرِك، وأطعميه الطعام بيدك، فأبت، فعزم عليها فذهبت، ففعلت به ذلك، فلما تحامل نصر خرج من البصرةِ فلم يُوقف له على خَبَرٍ (¬1). ¬

_ (¬1) اعتلال القلوب 337 - 339، وانظر طبقات ابن سعد 3/ 265، وأنساب الأشراف 9/ 102 - 103، والدرة الفاخرة (397)، ومجمع الأمثال 1/ 414 - 416، ومصارع العشاق 2/ 266, 268 وفي حواشي تلك المصادر فضل تخريج.

وذكر المبرِّدُ في كتاب "الكامل" أن عمرَ لمّا جزَّ شَعرَ نَصْرِ قال نَصْر: [من الطويل] ضَنَّ ابنُ خَطّابٍ عليَّ بجُمَّةٍ ... إذا رُجِّلَت تهتَزُّ هزَّ السَّلاسِلِ فصَلَّعَ رأسًا لما يصلِّعْهُ ربُّه ... يرِفُّ رفيفًا بعد أسودَ جاثِلِ (¬1) الجاثل: الكثيرُ الشَّعر. وقال هشام بن الكَلْبي: نصرُ بن حجَّاج بن عِلاط السُّلَميُّ، لأبيه حجَّاج صحبةٌ. ومُجاشع بن مسعود كان خليفة أبي موسى الأشعريِّ على البصرةِ، وطلَّق مُجاشعٌ امرأتَه بسبب نَصرٍ، وبلغ أبا موسى فقال لنَصرٍ: ما أخرجَكَ أمير المؤمنين من خيرٍ، اخرُج عنّا، ونفاه إلى فارس، فنزل على دِهقانةٍ فأعجبها، فراسلتْه وراسَلها، وكان على فارس عُثمان بن أبي العاص الثقفي، فأراد أن يَنفيَه فقال له نصر: واللَّهِ لئن سيَّرْتني لألحقنّ بالكفار، فسكت عنه (¬2). وقال الهيثم: فيقال إن المُتَمَنِّية التي قالت: هل من سبيلٍ إلى خمرٍ فأشربها، الفارعةُ أُمُّ الحجاج بن يوسف الثقفي، واللَّه أعلم. وبينا عمر يَطوفُ بالمدينة ذات ليلة إذا بنسوةٍ يَتحدَّثْنَ، فإذا هنَّ يَقُلن: أيُّ أهلِ المدينة أَصْبَح؟ ! فقالت امرأة منهن: أبو ذُؤيب، فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو من بني سُليم، فأرسل إليه، فإذا هو منَ أجملِ الناس وَجهًا، فلما نظر إليه قال: واللَّه أنتَ ذِئبُهنّ، مرتين أو ثلاثًا، والذي نفسي بيده لا تُجامِعْني بأرض أنا بها، فقال له: إن كنتَ لابدَّ مُسيِّرَني فسَيِّرْني إلى حيثُ سيَّرتَ ابن عمّي، فأمر له بما يُصلحُه وسيَّره إلى البصرة (¬3). وخرج رجل من المسلمين غازيًا وترك امرأتَه، وكان إلى جنبها رجلٌ يُقال له: مَعقِل؛ له جَمال وشَعر، فكتب زوجُها إلي عمر: [من الطويل] أعوذُ بربِّ الناس من شَرِّ مَعقِل ... إذا مَعقِلٌ راح البَقيعَ ورَجَّلا ¬

_ (¬1) الكامل 706. (¬2) تاريخ دمشق 17/ 538 - 539 (مخطوط). (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 265 - 266، وأنساب الأشراف 9/ 103، واعتلال القلوب 339.

ذكر تواضع عمر -رضي الله عنه-

فقال عمر رضوان اللَّه عليه للرجل: الحق بناحية أهلك حتى يَقدم فُلان (¬1). وكان بالمدينة رجلٌ يُقال له: جَعْدَة؛ يتعرَّضُ للنّساء يَلبس الحُلَّة، ويُرَجِّل شَعره، وكان عمر -رضي اللَّه عنه- قد جَهَّز جيشًا إلى الشام للغزو، وبلغ الأنصار الذين في الجيش خبرُ جَعْدَة، فكُتب إلى عمر رضوان اللَّه عليه: [من الوافر] ألا أبلغْ أبا حَفْصٍ رَسولا ... فدًى لك من أخي ثِقَةٍ إزاري قَلائِصَنا هَداك اللَّه إنّا ... شُغِلْنا عنكمُ زَمنَ الحِصارِ يُعَقِّلُهُنَّ جَعْدةُ شَيْظَمِيٌّ ... وبئس مُعَقِّلُ الذَّوْدِ الظُّؤارِ فلما وقف عمر رضوان اللَّه عليه على الأبيات سأل عن الرجل، فدُلَّ عليه، فجزَّ شَعره، ونفاه عن المدينة (¬2). ذكر تواضع عمر -رضي اللَّه عنه-: قال أحمد بإسناده عن عُبيد اللَّه بن عباس قال: كان للعباسِ مِيزابٌ على طريقِ عمر، فلبس عمرُ ثيابَه يومَ الجمعة، وقد كان ذُبِحَ للعباس فَرْخان، فلما وافى المِيزابَ صُبَّ ماءُ دمِ الفَرْخَين فيه، فأصاب عمرَ، فأمر بقَلْعهِ، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس غيرها، ثم جاء فصلّى بالناس، فأتاه العباس فقال له: واللَّه إنَّه الموضع الذي وضعه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-, فقال عمر للعباسِ: وأنا أعزِمُ عليك إلا صَعدتَ على ظهري، حتى تضعه في الموضعِ الذي وضعه فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ففعل العباسُ ذلك (¬3). قدم الأَحْنَف بن قيس المدينة، فقال له عمر رضوان اللَّه عليه: أين نزلتُم؟ قال: في مكان كذا وكذا، قال الأحنف: فقام معنا حتى انتهى إلى مُناخ رِكابنا، فجعل ينظر إلى الرّكاب ويقول: ألا اتَّقيتُم اللَّه فيها، أما علمتم أن لها عليكم حقًا، ثم انصرف راجعًا فلقيه رجل فقال: أعْدِني على فُلان فقد ظلمني، انطلق معي إليه، فخفق رأسَه بالدِّرَّة فقال: تَدَعون عمر وهو مُعرَّضٌ لكم (¬4)، حتى إذا اشتغل بأمور المسلمين أتيتموه ¬

_ (¬1) اعتلال القلوب 339، وأنساب الأشراف 9/ 105. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 266، وأنساب الأشراف 9/ 103 - 105. (¬3) مسند أحمد (1790). (¬4) في (خ) و (ع): معرض عنكم، والمثبت من تاريخ دمشق 53/ 248. وهذا الخبر وما بعده، إلى ذكر جملة من كلامه، ليس في (ك).

تقولون أَعْدِني على فلان، فانصرف الرجل، ثم ندم عمر رضوان اللَّه عليه وقال: عليَّ به، فأُتي به، فألقى إليه المِخْفَقَة وقال له: امتثل، فقال: لكن أدعُها للَّه ولك، فقال عمر: بل له، فقال: للَّه، فقعد عمر يبكي ويقول: يا ابن الخطاب، ويلك، كنتَ وَضيعًا فرفعك اللَّه، وذَليلًا فأعزَّك اللَّه، وضالًا فهداك اللَّه، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاءك رجل يَستَعديك على ظالمه فضَربتَه، فماذا تقول لربك غدًا؟ قال الأحنف: فمازال يُعاتبُ نفسَه ويقول: يا ابن الخطاب، واللَّه لتَتَّقِيَنَ اللَّه أو لَيُعَذِّبَنَّك. وكان يقول: رحم اللَّه امرأً أهدى إلي عُيوبي. واجتمع عمر وطلحة والزبير وسلمان وكعب الأحبار -رضي اللَّه عنهم-، فقال عمر رضوان اللَّه عليه: ما الخليفةُ من الملك؟ فقال سلمان: الخليفة الذي يَعدِلُ في الرَّعيَّة، ويقسم بينهم بالسَّوِيَّة، ويُشفق عليهم شَفَقةَ الرَّجُلِ على أهله، وَيقضي بينهم بكتاب اللَّه. فقال كعب: ما كنتُ أحسِبُ أن في المجلس أحدًا يعرف الخليفةَ من الملك غيري، ولكن اللَّه ألهم سلمان علمًا وحكمًا (¬1). وكان عمر رضوان اللَّه عليه ينام في المسجد، فيقوم وقد أَثَّر الحصى في جَنْبِه. ومرَّ بضَجَنان فقال: لقد رأيتُني وإني لأرعى على آل الخَطّاب في هذا المكان، وكان (¬2) واللَّه ما علمتُ فَظًّا غليظًا، ثم أصبحتُ ألي أمر أمّةِ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم قال متمثلًا: [من البسيط] لا شيءَ مما ترى تَبقى بَشاشَتُه ... يَبقى الإلهُ ويُودي المالُ والوَلَدُ ثم قال لبعيره: حَوْبَ، كنتُ أرعى هاهنا، وأحتَطِبُ هاهنا، وليس فوقي اليوم أحد والناسُ دوني، إنا للَّه وإنا إليه راجعون. وكان عمر -رضي اللَّه عنه- يَحمل في السنة الواحدة على أربعين ألف بعيرٍ (¬3). هجا النَّجاشي الشاعر رهطَ تَميم ابن مُقبل، فاستعدَوْا عليه عمر رضوان اللَّه عليه، ¬

_ (¬1) انظر الأموال لابن سلام (12)، وطبقات ابن سعد 3/ 285. (¬2) في طبقات ابن سعد 3/ 246، وتاريخ دمشق 53/ 268: لقد رأيتني وإني لأرعى على الخطاب في هذا المكان، وكان. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 284 وفيه: ثلاثين ألف بعير.

فقال: ما قال فيكم؟ فقالوا: قال: [من الطويل] إذا اللَّه عادى أهلَ لُؤمٍ ودِقَّةٍ ... فعادى بني عَجْلانَ رهطَ ابنِ مُقْبِلِ فقال عمر رضوان اللَّه عليه: هذا رجل دعا، فإن كان مَظلومًا استُجِيبَ له، وإن لم يكن مَظلومًا لم يُستَجَبْ له، قالوا: فإنه قال: قُبَيِّلَةٌ لا يَخفِرون بذِمَّةٍ ... ولا يَظلمون الناسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ فقال عمر رضوان اللَّه عليه: ليت آل الخطاب كانوا مثل هؤلاء، قالوا فإنه يقول: ولا يَرِدون الماءَ إلا عَشِيَّةً ... إذا صَدرَ الوُرَّادُ عن كلِّ مَنْهَلِ فقال عمر رضوان اللَّه عليه: فذاك أَجَمُّ لهم وأَمْكَن، قالوا: فإنه يقول، وذكروا بيتًا فيه تَذَلُّل (¬1)، فقال عمر رضوان اللَّه عليه: سَيِّدُ القوم خادِمُهم. وقال عمر رضوان اللَّه عليه لجرير والناس يَتحامَون العراق وقتال الأعاجم: سِرْ بقومك، فما غلبتَ عليه فلك رُبعه، فلما جُمعت غنائمُ جَلولاء ادَّعى جرير أن له رُبع ذلك، فكتب سعد -رضي اللَّه عنه- يُخبره بذلك، فكتب إليه عمر رضوان اللَّه عليه: صدق جرير، قد قلتُ له ذلك، فإن شاء أن يكون قاتَل هو وقومُه في جُعْلٍ فأَعطوه جُعْلَه، وإن يكن إنما قاتَل للَّه ولدينه وحَسَبه فهو رجل من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم. فلما قدم كتابُه على سعد -رضي اللَّه عنه- بذلك، أخبر جريرًا فقال: صدق أمير المؤمنين، لا حاجةَ لي به، أنا رجلٌ من المسلمين (¬2). وسأل رجلًا عن شيء فقال: لا، أطالَ اللَّه بَقاءك، فقال عمر رضوان اللَّه عليه: ما هذا، قد عُلّمتُم فلم تتعلّموا، هلا قلت: لا، وأطال اللَّه بقاءك. وسمع امرأةً تَطوف بالبيتِ وتقول: [من الطويل] وفيهنّ مَن تُسقى بَعذْبٍ مُبَرَّدٍ ... نُقاخٍ فتلكم عند ذلك قَرَّتِ وفيهنّ مَن تُسقى بأَخْضَرَ آجِنٍ ... أُجاج ولولا خشيةُ اللَّه فَرَّتِ ¬

_ (¬1) والبيت -كما في الشعر والشعراء 331، والعقد 5/ 319 - هو: وما سُمِّي العَجْلان إلا لقولهم ... خُذ القَعْبَ واحْلُبْ أيها العبدُ واعْجَلِ (¬2) المنتظم 5/ 245.

ذكر جملة من كلامه

ففهم عمر رضوان اللَّه عليه، فاستَدعى زوجَها، فوجده أَخضرَ الأسنان، مُتَغَيِّر الفم، قبيحَ المنظر، فخُيّر بين جاريد من الفيء، أو خمس مئة درهم، ويُطلّق امرأتَه، فاختار الخمس مئة درهم، وطلّق المرأة (¬1). ذكر جملةٍ من كلامه: حدَّثنا غير واحدٍ عن فخرِ النساء الكاتبة بإسنادها، عن وديعة الأنصاري قال: سمعتُ عمر بن الخطاب يقول وهو يَعِظُ رجلًا: لا تتكلَّم فيما لا يَعنيك، واعتزلْ عدوَّك، واحذرْ صديقَك إلا الأمين، ولا أمينَ إلا مَن يَخشى اللَّه، ولا تَمْشِ مع الفاجرِ فيعلِّمك من فُجورهِ، ولا تُطلِعْهُ على سِرِّك، ولا تُشاورْ في أمرِك إلا من يَخافُ اللَّه وَيتَّقيه (¬2). وروى مالك بن دينار، عن الأحنف بن قيس قال: قال لي عمر: يا أحنَفُ، مَن كثر ضَحِكُه قَلَّتْ هَيْبَتُهُ، ومَن مَزَحَ استُخِفَّ به، ومَن أكثر من شيءٍ عُرِف به، ومَن كَثُرَ كلامُه كَثُر سَقَطُه، ومَن كَثُر سَقَطُه قلَّ حَياؤه، ومَن قلَّ حياؤه قلَّ وَرَعُه، ومَن قلَّ وَرَعُه مات قَلْبُهُ (¬3). وقال ابن عباس: بعث ملكُ الروم إلى عمر بقارورةٍ فقال: امْلَأْها من كلِّ شيءٍ، فملأها ماءً وقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]. وكتب إلى أبي موسى: من عبد اللَّه أمير المؤمنين عمر، إلى عبد اللَّه بن قيس: سلام عليك، أما بعد، فإن للناس نَفْرةً من سلطانهم، فاحذر أن تُدرِكَك عَمياءُ مَجهولة، وضَغَائن مَحْمولَة، وأهواء مُتَّبَعة، ودنيا مُؤثَرة، فأقِمِ الحُدود ولو ساعةً من نهار، وأخِف الفُسَّاق، ومتى وقعت مُنَافرةٌ بين القبائل فتَنَادَوْا: يا لَفلان؛ فإنما تلك نَخْوة الشيطان، فاضربهم يالسيف حتى يفيئوا إلى أمر اللَّه، واستَدِمِ النِّعَم بالشُّكر، والطَّاعةَ بالتّأليف، والقُدرة بالعفو، والنَّصْرَ بالتَّواضُع. وبلغني أن ضَبَّةَ قالت: يا آل ضَبَّة، ومَن ضَبَّة، واللَّه ما أعلم أن اللَّه ساق بها خيرًا، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 53/ 304. (¬2) حلية الأولياء 7/ 268، وتاريخ دمشق 53/ 307 - 309. (¬3) تاريخ دمشق 53/ 309.

ولا دفع بها شَرًّا. واشهد جنائز المسلمين، وعُدْ مَرضاهم، وباشر أمورَهم، وافتح بابَك لهم، فإنما أنت رجلٌ منهم، غير أن اللَّه جعلك أثقلَهم حِملًا. وقد بلغني أنه قد فَشَتْ لك ولأهلك هَيْئةٌ في لباسك ومَطعمك ومَرْكَبِك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا ابن قيس أن تكون مثلَ البَهيمة؛ هَمُّها في السِّمَن وفيه حَتْفُها. واعلم أن مَن تزيَّن للناس بما يَعلَمُ اللَّه خِلافه هتك اللَّه ستره، وأن العامل إذا زاغ زاغتْ رَعيَّتُه، وأشقى الناس مَن شَقِي به الناس (¬1). وخطب عمر رضوان اللَّه عليه فقال: الحمد للَّه الذي أعزَّنا بالإسلام، وأكرَمَنا بالإيمان، ورَحِمنا بمحمد عليه السلام، وجَمَعَنا بعد الشَّتات، وألَّفَ بين قُلوبنا، ونصرنا على عَدوِّنا، وفتح لنا البلاد، وأَدان لنا العباد، وجَعَلنا إخوانًا على سُرُرٍ مُتَقابِلين، وفيه مُتَحابِّين، فنَحمد اللَّه على هذه النِّعمة، ونَسألُه المزيدَ من فضله، وقد صَدَقَنا وَعْدَه، ووَعَدنا نَصْرَه، فإياكم والمعاصي وكُفْران النِّعَم، فقلَّ أن كفرَ قومٌ النِّعَم، ولم يَفزعوا إلى التَّوبة إلا سُلِبوا عِزَّهم، وسُلِّط عليهم عَدُوُّهم. فمَن أراد أن يسأل اللَّه المال فلْيَأتِني، فإن اللَّه جَعلني خازنًا وقاسمًا، ومَن أسرع إلى الهجرة أسرع إليه العَطاء، ومَن أبطأ عنها أبطأ عنه، فلا يَلُومَنَّ أحدٌ إلا مُناخَ راحِلَته. وقد أتى علينا زمانٌ ونحن نرى قُرَّاء القرآن يُريدون وَجْهَ اللَّه، وأما الآن فيُخَيَّل لي بأن أقوامًا يُريدون به الدُّنيا، فأَرِيدوا اللَّهَ بأعمالكم، ومَن رأينا به خيرًا ظننَّا به خيرًا وأحْبَبْناه، ومَن رأينا به شرًّا ظنَنَّا به شرًّا وأبغضناه، سرائركم بينكم وبين ربّكم (¬2). قال حُذيفة: كنتُ واقفًا مع عمر بن الخطاب بعرفات، وإن راحلتي لبجَنْب راحلته، وإن رُكبتي لتَمسُّ رُكبتَه، ونحن نَنتظرُ أن تَغرُبَ الشمس فنُفيض، فلما رأى تكبيرَ الناس ودُعاءهم وما يَصنَعون أعجبه ذلك، فقال: يا حُذيفة، كم ترى هذا يبقى للناس؟ فقلتُ: ¬

_ (¬1) العقد الفريد 1/ 88 - 89. (¬2) العقد الفريد 1/ 63 - 64.

ذكر وفاة عمر وما يتعلق به

على الفِتنة بابٌ، إذا كُسر أو فُتح خرجتْ، ففزع فقال: وما ذاك الباب، وما كَسْرُ بابٍ أو فَتْحُه؟ ! فقلتُ: رجلٌ يموتُ أو يُقتَل، فقال: يا حُذيفة، مَن تَرى قومَك يُؤمِّرون بعدي؟ فقلتُ: رأيتُ الناسَ قد أسندوا أمرَهم إلى عثمان بنِ عفان (¬1). ذِكْرُ وفاة عمر وما يتعلَّق به: حدَّثنا إسماعيل (¬2) بإسناده عن حفصة زوجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّها سمعت أباها يقول: اللهمَّ ارزُقْني قَتْلًا في سبيلكَ، ووفاةً في بلد نبيِّك، قالت: فقلت: وأنّى ذلك؟ فقال: إنَّ اللَّه يأتي بأمره أنَّى شاء. وفي روايةٍ: شهادةً في سبيلك ووفاةً ببلد رسولك. ورأى عوف بن مالك أن الناس قد جمعوا في صعيدٍ واحد، فإذا رجل قد علا الناس ثلاثةَ أَذْرُع، قال: قلتُ: مَن هذا؟ قالوا: عمر بن الخطاب، قلتُ: بمَ يَعْلُوهم؟ قالوا: إن فيه ثلاثَ خِصال: لا يَخاف في اللَّه لَوْمةَ لائم، وإنه شهيدٌ مُستَشهد، وخليفةٌ مُستَخْلَف. فأتى عوف أبا بكر رضوان اللَّه عليه فأخبره، فبعث إلى عمر رضوان اللَّه عليه فبَشّره، فقال أبو بكر رضوان اللَّه عليه: قُصَّ رُؤياك، فلما قال: خليفةٌ مُستَخلف انتَهره عمر رضوان اللَّه عليه فأسكته. فلما وَلي عمر رضوان اللَّه عليه انطلق إلى الشام، فبينا هو يَخطب إذ رأى عوفَ بنَ مالك، فدعاه، فصَعِدَ معه المنبر فقال: اقصُصْ رُؤياك، فقَصّها، فقال: أما أني لا أخافُ في اللَّه لومةَ لائم فأرجو أن يَجعلني اللَّه منهم، وأما خليفةٌ مُستَخْلَف فقد استُخلفتُ، فأسالُ اللَّه أن يُعينَني على ما وَلّاني، وأما شهيدٌ مُستَشهَد فأنّى لي بالشهادة، وأنا بين ظَهْرانَي جزيرة العرب، لست أغزو، والناس حولي، ثم قال: وَيلي ويلي، يأتي اللَّه بها إن شاء (¬3). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن سعدٍ الجاري مولى عمر بن الخطاب: أنَّ عمر دعا أمَّ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 308، ومن قوله: وكتب إلى أبي موسى. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) كذا في (ك)، وليس في (خ) و (ع)، وفي طبقات ابن سعد 3/ 307: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 307، والخبر ليس في (ك).

كلثوم بنتَ عليٍّ، وكانت عنده، فوجدها تبكي فقال: ما يُبْكيكِ؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، هذا اليهوديُّ -تعني كعبَ الأحبارِ- يقول: إنَّك على بابٍ من أبواب جهنَّم، فقال عمر: ما شاء اللَّه، واللَّه إني لأرجو أن يكونَ ربّي خلَقني سعيدًا، ثم دعا كعبًا، فلما جاءه قال: يا أمير المؤمنين، لا تَعْجَلْ عليَّ، والذي نفسي بيدهِ لا يَنْسَلِخ ذو الحجّةِ حتى تدخلَ الجنَّةَ، فقال عمر: وأيُّ شيءٍ هذا؟ مرَّةً في الجنَّةِ ومرَّةً في النار، فقال: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده إنَّا لنَجدُكَ في كتابِ اللَّه على بابٍ من أبوابِ جهنّم، تَمْنَعُ الناسَ أن يَقعوا فيها، فإذا متَّ لا يزالون يَقتحمون فيها إلى يوم القيامة. قال أنس بن مالك: قال أبو موسى الأشعري: رأيتُ كأني أخذتُ جَوادَّ كثيرة، فاضمحلَّت حتى بقيت جادَّةٌ واحدة، فسلكتُها حتى انتهيتُ إلى جبل، فإذا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فوقه وإذا أبو بكر إلى جنبه، وإذا هو يُومئ إلى عمر أن تعال، فقلتُ: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، مات واللَّه عمر، فقلتُ: ألا تكتبُ إليه بهذا؟ فقال: ما كنتُ لأَنْعَى إليه نفسَه (¬1). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن سعيد بن أبي هلال: أن عمرَ بن الخطاب خطب الناسَ يوم الجمعة، فحمِدَ اللَّه، وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: أما بعدُ، أيها الناسُ، إني رأيتُ رُؤيا لا أُراها إلّا لحُضور أجلي، رأيتُ كأنَّ ديكًا أحمرَ نقرني نَقْرتَين، فحدَّثتُها أسماء بنت عُمَيْس، فحدَّثَتْني أنه يَقتُلني رجلٌ من الأعاجم (¬2). وإن أقوامًا يأمروني أن أستَخْلِف، وإن اللَّه لم يكن ليُضيع دينَه ولا خلافته والذي بعث به نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإن عَجِل بي أمرٌ فالخلافةُ شورى بين هؤلاء الرهط الستة الذين تُوفّي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، وقد علمتُ أن أقوامًا سيَطعُنون في هذا الأمر بعدي، أنا ضربتُهم على الإسلام بيدي هذه، فإن فَعلوا فأولئك أعداءُ اللَّه الكُفّار الضُّلال. ثم إني لم أدع شيئًا هو أهمُّ إليَّ من الكَلالة، وما راجعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في شيءٍ ما راجعتُه فيها، وما أَغلَظ لي في شيء منذ صاحبتُه ما أغلظَ لي في الكلالة، حتى طعن ¬

_ (¬1) الخبران في طبقات ابن سعد 3/ 307, 308، والثاني منهما ليس في (ك). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 310 - 311.

ذكر مقتله -رضي الله عنه-

بأصبعه في بطني، وقال: يا عمر، تكفيك الآية التي في آخر سورة النساء، وإنْ أعِشْ أَقْضِ فيها بقضيَّةٍ يَقْضي بها مَن يقرأ القرآن [ومَن لا يقرأ القرآن]. ثم قال: اللهمَّ إني أُشهِدُك على أُمراء الأنصار، فإني إنما بعثتُهم ليُعلّموا الناس دينَهم وسنَّةَ نبيِّهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويَعدلوا عليهم، ويَقسِموا فَيْئَهم، وَيرفعوا إليَّ ما أشكل عليهم من أمرهم. ثم قال: إنكم أيها الناس تأكلون من شَجرتين خَبيثتَيْن: البصل والثّوم، وقد رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا وجد ريحَهما من رجل في المسجد أمر بإخراجه إلى البقيع، فمَن أكلهما فليُمِتْها طَبْخًا (¬1). وروى الشعبي أن أبا بكر رضوان اللَّه عليه قال: إني رأيتُ في الكَلالة رأيًا، فإن يك صَوابًا فمن اللَّه، وإن يك خطأ فمن الشيطان ومني، هي ما خلا الوالد والولد. ولما قام عمر رضوان اللَّه عليه اتَّبعه على ذلك وقال: إني لأستَحي من اللَّه أن أُخالف أبا بكر، فلما طُعن عمر رضوان اللَّه عليه وأَيِس من نفسه دعا بالصحابة وقال: توفّي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يَعهد إلينا في الكلالة شيئًا، وإنما اجتهد أبو بكر، وما أمكنني مُخالفتُه، اشهدوا عليَّ أني لا قَوْلَ لي فيها (¬2). وهذا من وَرَعه وتَحرِّيه في أمر دنياه وآخرته، رضوان اللَّه عليه (¬3). ذكرُ مَقتله -رضي اللَّه عنه-: قال البخاري بإسناده عن عمرو بن مَيمون قال: قال عمر لحُذيفةَ بن اليَمان وعثمانَ ابن حُنَيْف وهُما بالمدينةِ قبل أن يُصاب بأيامٍ: كيف فعلتُما؟ أحمَّلْتُما الأرضَ ما لا تُطيقُ؟ -يعني الخراج- فقالا: ما حمَّلناها إلّا ما هي له مُطيقةٌ، فقال عمر: واللَّه لئن سلَّمني اللَّهُ لأدَعَنَّ أرامِلَ العراقِ لا يَحتَجْن إلى أحدٍ بعدي أبدًا، قال عمرو بن مَيمون: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 311 - 312، ومسند أحمد (89)، وصحيح مسلم (567) من طريق معدان بن أبي طلحة اليعمري عن عمر -رضي اللَّه عنه-. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (19191)، وابن أبي شيبة 11/ 415 - 416، والدارمي في سننه (3015)، والطبري في تفسيره 8/ 53 - 54، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 223. (¬3) من قوله: وإن أقوامًا يأمروني أن أستخلف. . . إلى هنا ليس في (ك).

فما أتَتْ عليه إلا أربعةُ أيامٍ حتى أُصيبَ. قال عمرو: إني لقائمٌ ما بيني وبين عمر إلا عبد اللَّه بن عباس غداةَ أُصيبَ، وكان إذا مرَّ بين الصفَّينِ قامَ بينهما، فإذا رأى خللًا قال: استَووا، حتى إذا لم يَرَ خَللًا تقدَّم فكبَّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعةِ الأُولى ليجتمعَ الناسُ، فما هو إلّا أن كبَّر حتى سمعتُه يقول: قتلني -أو أكلني- الكلبُ حين طعنه، فطار العِلْجُ بسِكّينٍ ذاتِ طَرَفين، لا يَمرُّ على أحدٍ يمينًا وشمالًا إلا طَعنه، حتى طَعن ثلاثة عشرَ رجُلًا مات منهم سبعةٌ، فلما رأى ذلك رجلٌ من المسلمين طرح عليه بُرْنُسًا، فلما ظنَّ العِلْجُ أنَّه مأخوذٌ نَحَرَ نَفْسَه. وتناول عمر بيدِ عبد الرحمن بن عوف فقَدَّمه، فمَن يَلي عمرَ فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجدِ فإنَّهم لا يَدرون، غير أنَّهم قد فقدوا صوتَ عمر، وهم يقولون: سبحان اللَّه سبحان اللَّه، فصلّى بهم عبدُ الرحمن صلاة خفيفةً، فلما انصرفوا قال عمر لابن عباس: انظُر مَن قتلني، فجال ساعةً ثم جاء فقال: غُلامُ المغيرةِ بن شُعبة، فقال: الصَّنَعُ؟ قال: نعم، قال: قاتله اللَّه، لقد أمرتُ به معروفًا، الحمدُ للَّهِ الذي لم يَجعل مِيتتي بيدِ رجلٍ يدَّعي الإسلام، قد كُنتَ أنتَ وأبوك تُحبّان أن تَكثُرَ العلوجُ بالمدينة -وكان العباسُ أكثرَهم رقيقًا- فقال: إن شئتَ فعلتُ، أي: قتلتُهم، فقال: أبعدما تكلَّموا بلسانِكم، وصلَّوْا إلى قِبلتِكم، وحجّوا حَجَّكم؟ قال: واحتُمِل إلى بيته، وانطلقنا معه، وكأنَّ الناسَ لم تُصِبْهم مُصيبةٌ قبل يومئذٍ، فقائلٍ يقول: لا بأسَ، وقائل يقول: أخافُ عليه، فأُتي بنَبيذٍ فشربه، فخرج من جُرْحِه، فعرفوا أنَّه ميِّت، ودخل المسلمون يُثنون عليه. وجاء (¬1) رجل شابٌّ فقال: أبشِرْ يا أمير المؤمنين ببُشْرى اللَّه لك؛ من صُحبةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقَدَمٍ في الإسلام ما قد عَلمتَ، ثم وليتَ فعدلتَ، ثم الشهادة، فقال عمر: يا ابن أخي، وددتُ أن ذلك كان كفافًا، لا لي ولا عليّ. فلما أدبر الرجل إذا إزارُه يَمَسُّ الأرض، فقال رُدُّوه عليّ، فرَدُّوه فقال: يا ابن ¬

_ (¬1) من هاهنا إلى قوله: وروى سالم (بعد صفحتين) ليس في (ك).

أخي، ارفَعْ ثوبَك؛ فإنه أَبْقى لثوبك، وأَتْقى لربّك، يا عبد اللَّه بن عمر، انظُر ما عليَّ من الدَّين، فحسَبَوه فوجدوه ستًا وثمانين ألفًا أو نحوَه، فقال: إنْ أَوْفَى له مالُ آل عُمر فأدِّه من أموالهم، وإلا فَسَلْ في بني عديِّ بن كعب، فإن لم تَفِ أموالُهم فسَلْ في قُريش، ولا تَعْدُهُم إلى غيرهم، فأدِّ عنّي هذا المال. انطلق إلى عائشة أمِّ المؤمنين، فقل لها: يَقرأ عليك السلامَ عمر، ولا تَقُلْ أميرُ المؤمنين، فإني لستُ اليوم بأمير المؤمنين، وقُل: يَستأذِن عمر أن يُدفَن مع صاحبه، فمضى عبد اللَّه، فاستأذن عائشة، ودخل فرآها قاعدةً تبكي على عمر، فأبلغها رسالتَه فقالت: كنتُ أريدُ هذا المكان لنفسي، ولأُوثرَنَّه اليومَ على نَفْسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد اللَّه بن عمر قد جاء، فقال عمر: ارفَعوني، فأسنده رجلٌ إليه، فقال: ما لَدَيك؟ قال: الذي تُحبُّ، أَذِنَتْ، فقال: الحمد للَّه، ما كان شيءٌ أهمَّ إليَّ من ذلك، فإذا أنا قضيتُ فاحمِلوني، ثم استأذِنْ ثانيًا، فإنْ أذِنَتْ فأدخِلوني، وإن رَدَّتْني فرُدُّوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أمُّ المؤمنين حَفصة والنساء تَسيرُ معها، فلما رأيناها قُمنا، فوَلَجتْ عليه، فبكتْ عنده ساعة، واستأذن عليه الرجال، فولجَتْ داخلًا، فسمعنا بُكاءها من داخل، فقالوا: أَوْصِ يا أمير المؤمنين استَخْلِف، فقال: ما أرى أحدًا أحقَّ بهذا الأمر من هؤلاء الرَّهطِ الذين تُوفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو راضٍ عنهم، فسَمّى عثمان وعليًا وطلحة والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف. ثم قال: ولْيَشْهَدكم عبد اللَّه بن عمر، وليس له من الأمر شيءٌ -كهيئة التّعزية لعبد اللَّه- فإن أصابت الإمارةُ سعدًا فذاك، وإلا فلْيَسْتَعِنْ به أيّكم أُمِّر، فإني لم أعزِلْه عن خيانةٍ ولا عَجْز. وأُوصي الخليفةَ بعدي بالمهاجرين الأَوَّلين، أن يَعرفَ لهم حَقَّهم، ويَحفظَ حُرمَتَهم، وأُوصيه بالأنصار خيرًا، الذين تبَوّؤا الدَّارَ والإيمان، أن يَقبلَ من مُحسنهم، ويَعفو عن مُسيئهم، وأُوصيه بأهل الأَمْصار خيرًا؛ فإنهم رِدْءُ الإسلام، وجُباةُ المال، وغَيظُ العدوّ، وأُوصيه بالأَعراب خيرًا، فإنهم أصلُ العَرب، ومادَّةُ الإسلام؛ أن يُؤخَذَ من حواشي أموالهم، وتُردَّ في فُقرائهم، وأُوصيه بأهل الذّمّة خيرًا، وأن يَفي لهم بعَهدهم، فإنهم ذِمّةُ اللَّه وذِمَّةُ رسوله، وأن يُقاتل من ورائهم، ولا يكلَّفون فوق طاقَتهم.

قال: فلما قُبض خرجنا نَمشي به، فجاء عبد اللَّه إلى عائشة فقال: يَستأذن عمر، فقالت: أَدخلوه، فأُدخل فوُضع هناك مع صاحبَيْه (¬1). والذي طرح على أبي لؤلؤة البُرنس عَبد اللَّه بن عوف. وكان عمر رضوان اللَّه عليه لا يَأَذَنُ لسَبْيٍ قد احتَلم في دُخول المدينة، حتى كتب إليه المغيرة بن شعبة -وهو على الكوفة- يَذكر له غُلامًا صَنَعًا، ويَستأذِنُه أن يُدخله المدينة، ويقول: إن عنده أعمالًا كثيرة فيها منافِعُ للناس، إنه حَدّاد نقَّاشٌ نَجّار، فكتب إليه عمر رضوان اللَّه عليه، وأذِن له أن يُرسل به إلى المدينة، فضَرب عليه المغيرة في كلِّ شهر مئةَ درهم، فجاء إلى عمر رضوان اللَّه عليه يَشتكي شِدَّةَ الخراج، فقال له: وما تُحسِنُ من العمل؟ فقال له الأعمال التي يُحسِن، فقال له: ما خَراجُك بكثير في كُنْه عَملك. فانصرف ساخطًا يَتَذمَّر. فمكث عمر رضوان اللَّه عليه ليالي، وبلغه عن العبد كلامٌ، فمرَّ به، فدعاه عمر رضوان اللَّه عليه فقال: ألم أُحَدَّث أنك تقول: لو أشاءُ لصنعتُ رحًى تَطحنُ بالرِّيح، فالتفتَ العبدُ ساخِطًا عابِسًا إلى عمر رضوان اللَّه عليه، ومعه رَهْطٌ، فقال: لأَصْنَعَنَّ لك رحًى يَتحدَّث الناس بها، فلما وَلَّى العبد أقبل عمر رضوان اللَّه عليه على الرَّهط الذين معه وقال لهم: أَوعَدَني العبدُ آنفًا. قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: فلم أزل عند عمر، ولم يزل في غَشيةٍ واحدة حتى أفاق فقال: أصُلّي بالناس، قلت: نعم، فدعا بوضوء، وقال: لا إسلام لمن ترك الصلاة، ثم توضأ وصلّى. وروى سالم، أنَّه سمع عبد اللَّه بنَ عمر يقول: قال عمر: أرسلوا إلى طبيبٍ ينظرُ إلى جُرحي هذا، فأرسلوا إلى طبيبٍ من العربِ، فسقاه نبيذًا، فشبه النبيذُ بالدمِ حين خرَجَ من الطَّعنةِ التي تحت السُّرَّةِ، قال: فدعوتُ طبيبًا آخَرَ من الأنصار من بني مُعاوية، فسقاه لَبنًا، فخرج من الطَّعنةِ يَصْلِدُ أبيض، فقال له الطبيب: يا أميرَ المؤمنين، اعهَدْ، فقال عمر: صَدَقني أخو بني مُعاوية، قال: فبكى القومُ عليه حين سمعوا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3700).

كلامه، فقال عمر: لا تَبكوا، ألم تسمعوا ما قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ الميّتَ يُعَذَّبُ ببكاء أهلهِ عليه" (¬1) وذكر الحديث. ولما طُعن اجتمع إليه الناس البدريون المهاجرون والأنصار، فقال لابن عباس: اخرج إليهم فسَلْهم: أعن مَلأمنكم ومَشورة كان هذا الذي أصابَني؟ فخرج ابن عباس إليهم فسألهم، فقال القوم: لا واللَّه، ولوَدِدْنا أن اللَّه زاد في عُمره من أعمارنا. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن أبي الحُوَيرِثِ قال: لمّا قَدِم غُلامُ المغيرةِ بن شُعبة ضربَ عليه المغيرةُ عشرين ومئة درهم في كلّ شهر، في كلِّ يومٍ أربعةُ دراهم، وكان خَبيثًا، إذا نظر إلى السَّبْي الصغار بكى ومسح على رؤوسهم ويقول: إنَّ العربَ أكلت كَبِدي. فلما قَدِم عمرُ من الحجِّ جاء أبو لؤلؤة، فوجده غاديًا إلى السوقِ، وهو متَّكَئٌ على يد عبد اللَّه بن الزبير فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ سيِّدي المغيرة يكلِّفني ما لا أُطيقُ من الضَّريبة، قال عمر: وكم كلَّفك؟ قال: أربعة دراهم كلَّ يومٍ، قال: وما تعملُ؟ قال: الأَرْحاء، وسكت عن سائرِ أعمالهِ، فقال: في كم تَعملُ الرَّحى؟ فأخبره، قال: وبكم تَبيعُها؟ فأخبره، فقال: لقد كلَّفَكَ يسيرًا، انطلق فأعط مولاك ما سألك. فلما ولّى قال عمر: ألا تَجعلُ لنا رَحَى؟ قال: بلى، أجعلُ لك رحًى يتحدثُّ بها أهلُ الأمصارِ، ففَزع عمر من كلمتِه، قال: وكان معه علي بنُ أبي طالب، فقال: ما تراه أرادَ؟ قال علي: أوعدكَ، قال عمر: يكفيناه اللَّهُ، قد ظننتُ أنه يُريدُ بكلمتهِ غَوْرًا. وقال ابنُ سعدٍ بإسناده: كان أبو لؤلؤة من سَبْي نهاوَنْدَ. وقال ابن سعدٍ بإسناده: لمّا طُعِنَ عمرُ هرب أبو لُؤلؤة، وجعل عمر يُنادي: الكلب الكلب، فطعن أبو لؤلؤة نَفَرًا، فأخذه رهطٌ من قُريشٍ: عبد اللَّه بن عوفٍ الزُّهري، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ورجلٌ من بني سَهْمٍ، فطرح عليه عبدُ اللَّه خميصةً كانت عليه، فانتحر بالخَنْجرِ حين أُخِذ، واحتزَّ عبد اللَّه بن عوفٍ رأسَ أبي لؤلؤة. وروى الواقديّ أن عمرَ لمّا طُعِنَ قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 320 - 321، وأخرج الحديث أحمد (289)، والبخاري (1287)، ومسلم (928).

[الأحزاب: 38]، ثم قال: مَن هذا؟ قالوا: غُلامُ المغيرة، فقال: ألم أقُل لكم لا تَجْلُبوا علينا من العُلوجِ أحدًا ممَّن جَرَت عليه المواسي. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن ابن عمر قال: لمّا طُعِنَ عمرُ حُمل فغُشي عليه فأفاق، فأخذتُ بيده وأخذ بيدي، فأجلسني خلْفه، وتسانَدَ إليَّ، وجِراحُه تَثْعَبُ، ثم توَضّأ وصلّى الفجر، فقرأ في الأولى بالعصر، وفي الثانية: قُل يا أيُّها الكافِرون. وفي رواية ابن سعدٍ أنَّ أبا لؤلؤة اسمُه فيروز. وقال ابنُ عباس: صلى عمر وجُرْحُه يَثْعَبُ دمًا. وروى أيضًا عن ابن عباسٍ قال: جعلتُ أُثني على عمر فقال: بأيِّ شيءٍ تُثني عليَّ؟ بالإمْرَة أو بغيرها؟ قال: قلتُ: بكلِّ شيء، فقال: ليتَني أخرجُ منها كفافًا، لا أَجْرَ ولا وِزْرَ، وفي روايةٍ: لوَدِدْتُ أني أنجو كَفافًا لا لي ولا عليَّ (¬1). وقال الواقدي: لما طُعن عمر قال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]. وقال الواقدي أيضًا (¬2): دخل كعبُ الأحبارِ على عمر فقال له: يا أميرَ المؤمنين، اعهَدْ عهدَك، فإنَّك ميِّتٌ بعد ثلاثٍ، قال: وما يُدريكَ؟ قال: أجِدُ صفتَك في التوراة، وإنه قد فَنِيَ أجلُك، وعمر يومئذٍ صحيح ما به قَلَبَةٌ (¬3)، وجاءه كعبٌ في اليومِ الثاني فقال: قد بقي من أَجَلِك يومانِ، ثم جاءه في اليوم الثالث فقال: قد بقي هذا اليومُ والليلةُ، فقال عمر: [من الطويل] وأوْعَدَني كعبٌ ثلاثًا أَعُدُّها ... ولا شكَّ أن القولَ ما قاله كعبُ وما بي حِذارُ الموتِ إني لميِّتٌ ... ولكن حِذارُ الذَّنْبِ يَتبعُه الذَّنْبُ فلما كان من الغَدِ ضربه أبو لؤلؤة في صلاةِ الفجر سِتَّ ضَربات، إحداهُنَّ تحت سُرَّتِه، وهي التي قَتلَتْه، وقتل معه جماعةً منهم كليب بن بُكَير اللَّيثي وكان خلفَه. قال: ودعَوْا له طبيبًا من بني الحارث بن كعب، فسقاه لَبَنًا فخرج من جُرْحهِ، فقال ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في طبقات ابن سعد 3/ 322 - 326. (¬2) من قوله: وقال ابن سعد بإسناده عن أبي الحويرث. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬3) أي: عِلّة.

له: اعهدْ عهدكَ، فقال: قد فعلتُ، قال. وصلّى عمر في ثيابِه التي جُرِح فيها ثلاثًا، والدّمُ فيها، وجُرْحُه يَثْعَبُ دمًا. ولما حُمل إلى بيته دعا عبد الرحمن بنَ عوف -رضي اللَّه عنه- فقال له: إني أُريدُ أعهدُ إليك، فقال: يا أمير المؤمنين إذا أشرتَ عليَّ قَبِلتُ، فأنشُدُك اللَّه، هل تُشير به عليّ؟ قال: لا، فقال: واللَّه لا أَدخُلُ فيها أبدًا. ودعا عثمان رضوان اللَّه عليه وقال له: إنْ عَرفَ لك أصحابُك سِنَّك فاتَّقِ اللَّه، ولا تَحمِلْ بني أبي مُعَيْط على رقاب الناس. ثم دعا عليًا رضوان اللَّه عليه فقال: يا علي، لعلّ هؤلاء القوم يَعرفون لك قرابتَك من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وصِهرَك، وما آتاك اللَّه من الفقه والعلم، فإن وَليتَ هذا الأمرَ فلا تَحملْ بني هاشم على رقاب الناس. ثم قال لصُهيب: صَلِّ بالناس ثلاثًا، وليَخْلُ هؤلاء القوم في بيتٍ، فإذا اجتمعوا على رجل فمَن خالَفَهم فاضربوا رأسَه. فلما خرجوا من عنده قال: لو وَلَّوها الأَجْلَح سَلَك بهم الطريق، فقال له ابنه عبد اللَّه: فما يَمنَعُك؟ فقال: أكره أن أَتَحمّلَها حيًا وميتًا. ثم دخل عليه كعب فقال له: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} [البقرة: 147] قد أنبأتُك أنك شهيد فقلتَ: وأنّى لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب (¬1)؟ ! وقال سِماك: إن عمر رضوان اللَّه عليه لما احتُضر قال: إنْ أستَخلِف فسُنَّة، وإلا أستَخلِف فسُنَّة، توفّي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يَستَخلِف، وتوفي أبو بكر فاستَخْلَف، قال: فعرفتُ واللَّه أنه لن يَعدِلَ بسُنَّةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا، فذاك الذي جعلها شُورى في الستَّة، ثم قال للأنصار: أدخِلوهم بيتًا ثلاثةَ أيام، فإن استقاموا وإلا فاضربوا أعناقَهم. قال عبد الرحمن بن أبْزَى: قال عمر: هذا الأمرُ في أهل بدر ما بَقي منهم أحد، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 316 - 317، وأخبار المدينة 891 - 892، وتاريخ الطبري 4/ 191 - 193، وأنساب الأشراف 9/ 199 - 200، وتاريخ دمشق 53/ 349.

ثم قال: في أهل أُحُدٍ ما بقي منهم أحد، وليس فيها لطَليق ولا لوَلدِ طَليق ولا لمسلمة الفتح شيءٌ (¬1). وقيل له: ألا تَستَخْلِفُ وَلَدَك؟ فقال: يَكفي واحدٌ من آل الخَطّاب، يُؤتى به يوم القيامة مَغْلُولَة يَدُه إلى عُنُقِه. وقال: إن هذا الأمر لا يَصلُح إلّا بالشدَّةِ التي لا جَبريّة فيها، وباللين الذي لا وهن فيه. وقال عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-: دخل الرَّهْطُ على عمر قبل أن يَنزِلَ به فقال: إني قد نظرتُ لكم في أمر الناس؛ فلم أجد عند الناس شِقاقًا إلّا أن يكون فيكم -وكان طلحةُ -رضي اللَّه عنه- في أمواله بالسَّراة- ثم قال: قوموا فتشاوروا وأمِّروا أحدَكم. فقاموا يَتشاورون، فدعاني عثمان مرةً أو مرَّتَين ليُدخِلَني في الأمر، فقلتُ: ألا تَعقِلون؟ ! أتُؤَمِّرون وأمير المؤمنين حيٌّ؟ فواللَّه لكأنما أَيقَظتُ عمر من مَرْقَدِه، فقال: أمْهِلوا، فإن حدث بي حَدَثٌ فلْيُصَلِّ لكم صُهيبٌ ثلاثًا، ثم أَجمِعوا أمرَكم، فمن تأمَّر منكم على غير مَشورة من المسلمين فاضربوا عُنُقَه (¬2). وقال المِسوَر بنُ مَخْرَمة: لما طُعن عمر جعل يتألّم، فقال له ابنُ عباس وكأنّه يُجَزّعُه: يا أمير المؤمنين، ولم كلُّ ذلك؟ لقد صَحِبتَ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأحسنتَ صُحبتَه، وفارقْتَه وهو عنك راضٍ، ثم صَحِبتَ أبا بكر كذلك، ثم صحبتَ المسلمين فأحسنتَ صُحبتَهم، ولئن فارقتَهم لتُفارقَنَّهم وهم عنك راضون. فقال: أمّا ما ذكرتَ من صُحبةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر فذلك من منِّ اللَّه وفضله علي، وأمّا ما ذكرتَ من جَزعي فإنه من أجلك ومن أجل أصحابِك، واللَّه لو أن لي طِلاع الأرض ذهبًا لافتَديتُ بها من عذاب اللَّه قبل أن أراه (¬3). وأوصى إلى ابنته حفصة -رضي اللَّه عنها-، وإلى الأكابر من آل عمر، وأوصى برُبع ماله في ¬

_ (¬1) الخبران في طبقات ابن سعد 3/ 317. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 319. (¬3) صحيح البخاري (3692).

ذكر وفاته

سبيل اللَّه (¬1)، وبَيَّن ما في كل واحد من الستَّةِ نَفَرٍ فقال: لئن وَليها ابنُ عفان حمل آل أبي مُعَيط على رقاب الناس، ولئن وَليها علي بن أبي طالب حمل الناس على المحَجَّةِ البيضاء، إلا أن فيه دُعابة، وأما طلحة فإنه لا يدع في يده ما يُصلح به هذا الأمر، يعني أنه يُفَرِّق المال، وأما الزُّبير فإنه لا يَضع عصاه عن عاتقه، وأما ابنُ عَوف فظنّي أنه لا يَدخل فيها، وأما سعد فتَبَعٌ لابن عَوفٍ، يَسلك حيثُ سلك، ولو كان سالم مولى أبي حُذيفة ما خالجني فيه شَكُّ، ثم أقام عليهم المِسْوَر بن مَخْرَمة، ومعه ثلاثون نفسًا من الأنصار، وقال: إن ثبت أمرُهم على واحد منهم إلى ثلاثة أيام -وهي تمام ذي الحجة- وإلا فاضربوا رقابَ الكلّ (¬2). ذِكْرُ وفاته: قال محمد بن سعد، عن عثمان بن عفّان قال: أنا آخرُكم عهدًا بعمر، دخلتُ عليه ورأسُه في حِجْرِ ابنه عبدِ اللَّه، فقال له: ضَع خَدِّي بالأرض، فقال له: هل فَخذِي والأرض إلا سواء؟ قال: ضَع خَدِّي بالأرض لا أُمَّ لك، في الثانية أو الثالثة، وسمعتُه يقول: ويلي وويل أمِّي إن لم يَغفِر اللَّهُ لي، حتى فاضَتْ نَفْسُه. وفي روايةِ ابن سعدٍ أن عثمان بنَ عفّان وَضع رأسَ عمر في حِجْرِه، فقال له: أعِدْ رأسي بالأرضِ، فويلٌ لي ولأُمي إن لم يُغْفَر لي (¬3). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن ابن أبي مُلَيْكَةَ قال: لمّا طُعِن عمر جاء كعبُ الأحبارِ، فوقف بالباب يَبكي ويقول. واللَّه لو أنَّ أميرَ المؤمنين يُقْسِمُ على اللَّه أن يُؤَخِّره لأخَّرَه، فدخل ابن عباسٍ عليه فقال: يا أمير المؤمنين، هذا كعبٌ يقولُ كذا وكذا، قال: إذًا واللَّه لا أسألُه، ثم قال: ويلٌ لي وويلٌ لأُمّي إن لم يَغْفِر اللَّهُ لي. وقال ابن سعد: قال صُهيب: واعُمَراه، واأخاه، من لنا بعدك؟ فقال عمر: مَهْ يا أخي، أما عَلمتَ أن المعولَ عليه يُعَذَّبُ؟ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 331. (¬2) من قوله قبل ثلاث صفحات: ولما حمل إلى بيته دعا عبد الرحمن بن عوف. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬3) الخبران في طبقات ابن سعد 3/ 334.

ونَدَبَتْه حفصةُ، فنهاها، وقال لها كذلك، ثم جعل يقول: اللهمَّ تَوَفَّني مع الأبرارِ، ولا تُلْحقني في الأشرارِ، وقِني عذابَ النار، وألحِقْني بالمُصْطَفَيْن الأخيار، ثم تُوفّي رحمه اللَّه. واختلفوا في وفاته؛ فحكى ابن سعدٍ عن الواقدي، عن أبي بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن أبيه قال: طُعِنَ عمر يوم الأربعاء لأربع ليالٍ بَقين من ذي الحجَّة، سنةَ ثلاثٍ وعشرين، ودُفن يوم الأحد صَباحَ هلال المحرّم، سنة أربعٍ وعشرين، فكانت وِلايتُه عشرَ سنين وخمسةَ أشهر وإحدى وعشرين ليلةَ من مُتوفى أبي بكرٍ الصديق، وعلى رأسِ اثنتين وعشرين سنةَ وتسعة أشهر وثلاثة عشر يومًا من الهجرة (¬1). وذكر ابن قُتيبة في "المعارف" (¬2) أنَّه طُعِن يومَ الأربعاء لسبعٍ بقين من ذي الحجَّةِ، فأقام ثلاثًا، ثم تُوفّي لأربعٍ بقين من ذي الحجَّةِ. وقال قتادة: طُعِنَ يوم الأربعاءِ ومات يومَ الخميس، وما حكاه ابن سعدٍ عن الواقدي أصحُّ، وعليه عامَّةُ المؤرخين. واختلفوا في سنِّه على أقوالٍ؛ أحدُها أنه عاش ستين سنةً، والثاني: ثلاثًا وستين سنةً مثل سنِّ أبي بكر، قاله معاوية، والثالث: إحدى وستين سنة، والرابع: ستَّةً وستين. وحكى الطبري وابن سعد أقوالًا كثيرة، منها: أنَّه عاش خمسةً وخمسين سنةَ، وقيل: ثلاثًا وخمسين سنة، وقيل: اثنتين وخمسين، وقيل: سبعة وخمسين، وقال ابن عمر والزهري: عاش خمسة وستين سنةً، وقال الواقدي: وهذا لا يُعرفُ عندنا بالمدينةِ والثبتُ عندنا أنه عاش ستين سنةً (¬3). وقال الشيخُ الموفَّقُ رحمه اللَّه في الأنساب: وُلدَ عمر بعد الفيل بثلاث عشرة سنةً (¬4)، والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- توفي ابنَ ثلاثٍ وستين سنةً، في السنة الحادية عشرة من الهجرةِ، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 335، 338. (¬2) ص 183. (¬3) تاريخ الطبري 4/ 197, 198، وطبقات ابن سعد 3/ 338 - 339. (¬4) التبيين 402.

ذكر غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه

وعاش عمرُ بعد رسولِ اللَّه ثلاثَ عشرة سنةً، فقد مات عمر عن خَمْسٍ وستين سنةً وشُهور كما قال ابن عمر والزهري، وذكره سعيد بن عامر. ذِكْرُ غسله وتكفينه والصلاةِ عليه ودفنِه: حكى ابن سعدٍ عن ابن عمر قال (¬1): غُسِّلَ أبي بالماءِ والسِّدْرِ ثلاثًا، وأوصى أن لا يَقرَبه طِيبٌ، وكُفِّن في ثلاثةِ أثوابٍ أو ثوبَيْن سَحوليَّيْن، وصلَّى عليه صُهَيْبٌ. وحكى ابن سعدٍ عن الواقدي قال: لمّا وُضع ليُصَلّى عليه أقبل عليٌّ وعثمان ويدُ أحدِهما في يد الآخرِ، فقال عبد الرحمن بن عوفٍ ولا يظُنُّ أنَّهما يَسمعان ذلك: قد أوشكتُما يا بني عبد مناف، فسمعاها، فقال كلُّ واحدٍ منهما لصُهيبٍ: يا أبا يحيى، قُم فصَلِّ عليه، فقام فصلَّى عليه. وفي رِواية ابن سعدٍ عن الواقدي قال: لمّا وُضع عمرُ ليُصَلَّى عليه أقبل علي وعثمانُ أيّهما يصلّي عليه، فقال عبد الرحمن بن عوف: إنَّ هذا لهو الحِرْصُ على الإمارةِ، لقد عَلمتُما ما هذا إليكما، ولقد أُمِرَ به غيرُكما، تقدَّم يا صُهَيْب فصلِّ عليه، فتقدَّم صُهَيب فصلَّى عليه في مسجدِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكبَّر عليه أربعًا بين القَبْرِ والمِنْبرِ (¬2). وقال الطبري في تاريخه: وقف علي عند رأسِ عمر، وعثمانُ عند رجليه، فقال عبد الرحمن بن عوف: لا إله إلا اللَّه، ما أحرصَكما على الإمرَةِ! أما علمتُما أنَّ أمير المؤمنين قال: ليُصَلِّ بالناسِ صُهَيْب؟ فتقدَّم صهيبٌ فصلَّى عليه (¬3). وقال هشام: إنَّما أوصى عمر ليُصَلِّي عليه صُهيب لأنَّه ما أحبَّ أن يتقدَّم عليه رجلٌ من أصحاب الشورى، وما تَعيَّن بَعْدُ منهم إمام، وما أحبَّ أن يُصَلِّيَ عليه ذوو الأرحام وهناك إمام منصوصٌ عليه. وحكى ابن سعدٍ عن الواقدي عن أشياخهِ قالوا (¬4): نزل في قبرهِ عثمان وسعيد بنُ ¬

_ (¬1) من قوله: من متوفى أبي بكر الصديق. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 339 - 341. (¬3) تاريخ الطبري 4/ 193. (¬4) من قوله: وقال الطبري في تاريخه. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع)، والخبر في الطبقات 3/ 342.

حديث الطعام

زيدٍ وصهيب وعبد اللَّه بن عمر. واختلفوا في كيفيةِ دَفْنِ أبي بكرٍ وعمر عند رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ثلاثةِ أقوالٍ؛ أحدُها رواه الواقدي عن خالد بن أبي بكر قال: دُفن عمرُ في بيتِ عائشة، وجُعل رأسُ أبي بكرٍ عند كَتِفي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وجُعل رأسُ عمر عند حَقْوي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: مازِلْتُ أضَعُ خِماري عن رأسي وأقول: ما معي في الحُجْرَة إلّا رسول اللَّه -رضي اللَّه عنه- وأبي، حتى دُفن عندي عمر، فلم أزل مُتَحفِّظةً في ثيابي، حتى بنيتُ بيني وبين القبورِ جدارًا (¬2). حديث الطعام: حدثنا عبد اللَّه بن أبي المجدِ الحربي بإسناده عن الأحنفِ بن قيسٍ قال: سمعتُ عمرَ بنَ الخطّابِ يقول: إنَّ قُريشًا رؤساءُ الناس، لا يَدخلون بابًا، إلا فَتح اللَّه عليهم منه خيرًا، قال: فلما مات عمر واستخلف صُهَيْبًا على إطعام الناس، وحضر الناسُ وفيهم العباسُ، فأمسكَ الناسُ أيديهم عن الأكل، فحسرَ ذِراعيه وقال: أيُّها الناسُ، إنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مات فأكلْنا، وإنَّ أبا بكرٍ مات فأكلنا، وإنَّه لابُدَّ من الأكلِ، وضربَ بيدهِ وضرب القوم بأيديهم، فعُرِفَ قولُ عمر: إنَّ قُريشًا رؤساءُ الناس (¬3). فصلٌ في ثناء الصحابةِ عليه: قال أحمد بإسناده عن ابن أبي مُلَيْكَةَ، أنَّه سمع ابن عباسٍ قال: إني لواقفٌ وقد وُضِع عمرُ على سريرهِ؛ فتكنَّفه الناسُ يَدعون له قبل أن يُرْفَعَ ويُصَلُّون، فلم يَرُعْني إلّا رجلٌ قد أخَذَ بمنكبي من ورائي، فالتفت إليه، فإذا عليّ بن أبي طالب، فترحَّم على عمر وقال: ما خَلَّفْتُ أحدًا على وجه الأرضِ أُحبُّ أن أَلقى اللَّه بصَحيفتهِ من هذا ¬

_ (¬1) في النسخ: حقوي أبي بكر، والمثبت من طبقات ابن سعد 3/ 342، وتاريخ المدينة 944، وأنساب الأشراف 9/ 214. وأخرج ابن سعد 3/ 342، وعنه ابن عساكر 36/ 576 أن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير قال: رأس أبي بكر عند كتفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورأس عمر عند حقوي أبي بكر. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 337. (¬3) المنتظم 4/ 332.

المُسَجَّى بالثوبِ. وفي روايةٍ: واللَّهِ ما خَلَّفْتُ أحدًا أُحبُّ أن أَلقى اللَّه بمثلِ عمله منك، وايْمُ اللَّهِ، إن كنتُ لأظنُّ أنَّ اللَّه يَجعلك مع صاحبيك؛ لأني كنتُ كثيرًا ما أسمعُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ذهبتُ أنا وأبو بكرٍ وعمر، ودخلتُ أنا وأبو بكرٍ وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكرٍ وعمر" وإني لأرجو أن يَجعلك اللَّه معهما. أخرجاه في "الصحيحين"، وهو في مسند عليٍّ عليه السلام (¬1). وقال المغيرة بن شُعبة: لما دُفن عمر أتيتُ عليًا وأنا أحبُّ أن أسمعَ منه في عمر شيئًا، وكان قد سمع زوجةَ عمر ابنةَ أبي خيثمة تَندُبه (¬2) وتقول: واعمراه، أقام الأَوَد، ونصر الصَّمد، وخاض الغُمَر، وأمات الغِيَر، وأحيا السُّنن، وقلد المِنَن، خرج من الدنيا واللَّه نقيَّ الثَّوب، بريئًا من العَيب، فقال علي: لقد صَدقتْ بنتُ أبي خيثمة، لقد ذهب واللَّه بخيرها، ونجا من شرّها، أما واللَّه ما قالت ولكنها قُوِّلت. وروى عكرمةُ، عن ابن عباسٍ قال: كنا نتحدَّثُ أن الشياطين مُصفَّدةٌ في إمارةِ عمر، فلما أُصيبَ بُثَّت في الأرضِ (¬3)، وفي روايةٍ: وما كان في الأرضِ شيطان إلّا وهو يَفرُّ من عمر. وقال الواقدي: كان عمرُ عظيمًا في أعينِ الصحابةِ، فلما كانت الليلةُ التي مات فيها وُلِد لجماعةٍ منهم أولاد، فسمّى كلُّ واحدٍ منهم ولدَه باسمِ عمر، منهم عثمان وعلي وعبد اللَّه بن عمر (¬4). وروت عمرةُ عن عائشة أنَّها قالت: كان عمرُ أحْزمَ من أن يُخْدَع، وكان واللَّه أحْوَزِيًّا نَسيجَ وَحْدِه، قد أعدَّ للأُمور أقرانَها، وكان يقول: لستُ بخِبِّ والخِبُّ لا يَخدَعُني (¬5). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (898)، وصحيح البخاري (3677)، وصحيح مسلم (2389). (¬2) كذا في (خ) و (ع)، وهذا الخبر ليس في (ك)، وفي تاريخ الطبري 4/ 218: لما مات عمر بكته ابنة أبي حَثْمة فقالت. (¬3) أخرجه ابن عساكر 53/ 78 عن مجاهد. (¬4) في (خ) و (ع): منهم عمار وعلي وعبيد اللَّه بن معمر. (¬5) أخرجه ابن عساكر 36/ 421 - 425.

ذكر شهادة رسول الله له أنه يكون بعد الموت كما كان

وحكى ابن سعدٍ عن حُذيفة قال: كان الإسلامُ في أيامِ عمر لا يَزيدُ إلّا إقبالًا، وفي روايةٍ: كان الإسلام كالرَّجُلِ المقبِل، فلما ولَّى عمرُ صار كالرجلِ المُدْبِر، لا يَزدادُ إلا إدبارًا (¬1). ذكر شهادة رسولِ اللَّه له أنَّه يكون بعد الموتِ كما كان: حدَّثنا غير واحدٍ عن محمد بن أبي القاسم بإسناده، عن ابن عمر، عن عمر قال: قال لي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كيف بك يا عُمر إذا صِرتَ في أربعةِ أذرُعٍ من الأرض في ذِراعين، ونزل عليك مُنكر ونكير فتّانا القَبرِ، يَبحثان الأرضَ بأنيابهما، ويُطارُ في أشعارِهما، أصواتُهما كالرَّعدِ القاصفِ، وأبصارهما كالبَرقِ الخاطفِ، معهما مِرْزَبَةٌ لو اجتمع عليها أهلُ الأرضِ لم يُطيقوا رفعَها، هي أيسرُ عليهما من عصاي هذه، يَضربانِ العبدَ بها ضَربَةً لو ضَرَبا بها جبال تِهامةَ لذابتْ؟ " قال: فقلتُ: يا رسولَ اللَّه، وأكون على حالتي هذه؟ قال: "نعم"، فقلت: إذًا أكفيكَهما. ذكر جدّي رحمه اللَّه هذا الحديثَ في بعضِ مجالسهِ، ثم قال: بلغني أنَّ عمر رُؤي في المنامِ، فقيل لَهُ: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: لما نزل عليَّ الملَكان أجلساني، وقالا: مَن ربُّكَ؟ فجذبتُ بذُؤابتَيْهما وقلتُ: بل أنتُما مَن ربُّكما (¬2)؟ ذكر رؤيا العباس له بعد موتهِ: قال ابنُ سعدٍ بإسنادهِ عن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن العباس قال: كان العباسُ خِلًّا أو خليلًا لعمر، فلما أُصيبَ عمرُ جعل يدعو اللَّه أن يُريَه عمرَ في المنامِ، قال: فرآه بعد حَوْلٍ وهو يَمسحُ العَرَقَ عن وَجهه، فقال: ما فعلتَ؟ وفي روايةٍ: ما فعل بك ربُّك؟ قال: هذا أوانُ فَرغتُ، إن كاد عرشي ليُهَدّ [أو] ليهوي بي لولا أني لقيتُه رؤوفًا رحيمًا (¬3). وفي روايةِ هشام أن العباس رآه بعد عشر سنين، أو اثنتي عشرة سنةً، مَكشوفَ الرأْسِ يعدو ويقول: الآنَ أَفلتُّ من الحسابِ، أكثر من زمانِ ولايته. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 346. (¬2) من قوله: ذكر شهادة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 348 - 349.

وقال الواقدي: وقد رآه رجلٌ من الأنصارِ كذلك بعد عشر سنين. وروى [عن] ابن عباسٍ أيضًا بإسناده، وفي رواية الزُّهري عن ابن عباسٍ قال: دعوتُ اللَّه أن يُريَني عمرَ في المنام، فرأيتُه بعد سنةٍ وهو يَسْلتُ العَرَقَ عن وَجْنَتَيْهِ ويقول: الآن خرجتُ من الحِناذِ، أو مثل الحِناذِ (¬1). وقال هشام بن الكلبي (¬2): قد رثاه جماعةٌ منهم زوجتُه عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفيَلٍ، فقالت: [من الخفيف] عينُ جُودي على الإمامِ الأريبِ ... لا تَملِّي بعَبْرَةٍ ونَحيبِ فَجَّعَتْني المنونُ بالفارس المَيْـ .... ــــمون يومَ الهِياجِ والتَّأنيبِ (¬3) عِصمةُ الناس والمُعينُ على الدَّهـ ... ــرِ وغَيثُ المُنْتابِ والمَحْروبِ قل لأهلِ الثَّراءِ والبُؤسِ موتوا ... قد سَقَتْه المنونُ كأس شَعوبِ وقالت أيضًا: [من الطويل] وأفْجَعَني فيروزُ لا درَّ درُّه ... بأبيضَ تالٍ للكتابِ مُنيبِ رَؤوفٍ على الأَدْنى غَليظٍ على العِدى ... أخي ثِقَةٍ في النَّائباتِ مُجيبِ متى ما يَقُلْ لا يُكْذِبُ القولَ فِعْلُه ... سريعٍ إلى الخيراتِ غيرِ قَطوبِ (¬4) وقال ابن سعدٍ بإسناده عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: سمعتُ ليلًا ما أراه إنسيًا نَعى عمر يقول: [من الطويل] جَزى اللَّهُ خيرًا من إمامٍ وباركَتْ ... يدُ اللَّهِ في ذاك الأَديمِ المُمزَّقِ فمَن يَمشِ أو يركَبْ جَناحَيْ نَعامةٍ ... ليُدْرِكَ ما قَدَّمْتَ بالأمسِ يُسْبَقِ قَضيتَ أُمورًا ثم غادَرْتَ بعدها ... بوائِقَ في أكمامِها لم تُفَتَّقِ وفيها زيادةٌ وهي: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 349. (¬2) من قوله: وفي رواية هشام. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬3) في تاريخ الطبري 4/ 219، والأغاني 18/ 61، وتاريخ دمشق 53/ 413: والتلبيب، وفي تاريخ المدينة 3/ 948: والتثويب، وفي المردفات من قريش 1/ 63 (نوادر المخطوطات): والتذبيب. (¬4) تاريخ الطبري 4/ 219، وتاريخ المدينة 3/ 948.

ذكر زوجاته وأولاده

وما كنتُ أَخشى أن تكونَ وفاتُه ... بكَفَّي سَبَنْتى أزرَقِ العينِ مُطْرِقِ أبَعْدَ قَتيلٍ بالمدينةِ أظلمتْ ... له الأرضُ تهتَزُّ العِضاهُ بأَسْؤقِ وقال ابنُ سعدٍ بإسنادهِ عن سليمان بن يَسار أنَّ الجِنَّ ناحت على عمر (¬1). ذِكرُ زوجاتِه وأولاده: قال ابنُ سعدٍ: كان لعمر من الولدِ عبدُ اللَّه وعبد الرحمن وحفصةُ، وأُمُّهم زينب بنتُ مَظْعون الجُمَحِيَّةُ. وزيدٌ الأكبرُ لا بقيَّةَ له، ورُقَيَّةُ، وأُمُّهما أُمُّ كلثوم بنت علي. وزيدٌ الأصغر، وعُبَيْد اللَّه قُتِلَ بصِفين مع مُعاوية، وأُمُّهما أُمُّ كلثوم بنت جَرْوَل خُزاعية، وهي التي فرّق الإسلام بينها وبين عمر رضوان اللَّه عليه، وعاصم وأمه جَميلة بنت أبي الأقْلَح. وعبدُ الرحمن الأوسط وهو المرجومُ، وأُمُّه لُهيَّةُ أُمُّ ولدٍ، وعبدُ الرحمن الأصغر لأُمِّ ولد. وفاطمة وأُمُّها أُمُّ حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وزينبُ أصغرُ ولدِ عمر، وأُمُّها فُكَيْهَةُ أُمُّ ولدٍ. وعِياض وأُمُّه عاتكةُ بنت زيد بن عمرو بن نُفَيْل. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن ابن عمر قال: غيَّرَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اسمَ أمِّ عاصم بن عمر، كان اسمُها عاصِية، فقال: "لا، بَلْ أنت جَميلة" (¬2). وقال هشام بن الكلبي عن أبيه قال: تزوَّجَ عمرُ في الجاهليةِ مليكةَ بنت جَرْولٍ الخزاعيِّ، فوَلدت له عبدَ اللَّه الذي قُتِل بصِفِّين. وتزوَّجَ في الجاهليةِ قُريبةَ بنت أبي أُميّة المخزومي، فلم تَلِد له. وأما في الإسلامِ فتزوَّج أُمَّ حكيم بنت الحارث بن هشام بن المُغيرة، فوَلدت له فاطمة ثم طَلَّقها. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 347 - 348. ومن قوله: وقال ابن سعد بإسناده عن عائشة. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 246.

وتزوَّج جميلةَ بنت ثابت بن أبي الأقْلَحِ، فوَلدت له عاصمًا ثم طلَّقها. وتزوَّج فاطمةَ بنتَ الوليد بن المغيرة أُخت خالد بن الوليد، ثم تزوَّج أُمَّ كلثوم بنت عليّ، فولدت له زيدًا الأكبر ورُقَيَّةَ. وتزوَّج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفَيْلٍ، فولدت له عِياضًا. وقال الواقدي: كانت عاتكةُ بنت زيد بن عمرو بن نُفيَل عند عبد الرحمن بن أبي بكرٍ، فقُتِل عنها، فتزوَّجها عمر فقُتِل عنها، فتزوَّجها الزبير فقُتِل عنها، ووَلدت من عمر عِياضًا (¬1). وقال المدائني: خطب عمرُ أُمَّ كلثوم بنت أبي بكرٍ الصديق وهي صغيرةٌ، فأبت عليه، فأرسل إلى عائشة بسببها، فقالت لها عائشةُ: أتَرغَبين عن أميرِ المؤمنين؟ فقالت: نعم، لا حاجَةَ لي فيه، خَشِن العيش، شديدٌ على النساء، فأرسلت عائشةُ إلى عمرو بن العاص فقال: أنا أكفيكِ، ثم دخل على عمر فقال: يا أمير المؤمنين، قد بَلغني خبرٌ أُعيذُك باللَّه منه، قال: وما هو؟ قال: خَطَبْتَ ابنةَ أبي بكر؟ قال: نعم، قال: إنَّ لها لشأنًا، وهي حَدَثةٌ، وتَعيشُ تحت ظلِّ أُمِّ المؤمنين عائشة في عَيشٍ رقيقٍ، وعَيْشُك غَليظ، وربَّما خالَفَتْكَ فتَسْطو بها، فتكون قد خَلَفْتَ أباها في ولدهِ بغيرِ ما يَجبُ عليك ويُحِبُّ في ولدهِ، وإني أدلُّك على خيرٍ منها، أُمُّ كلثوم بنت علي لقُرْبِها من رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفي رواية: فيك غِلْظَةٌ، ونحنُ نهابُكَ، وما نَقْدِرُ أن نَردَّكَ عن خُلُقٍ من أخلاقِكَ، وابنةُ أبي بكر ليست كأحدِنا، فسكت عمر. وقال المدائني: خطب عمر أُمَّ أبان بنت عُتبة بن ربيعة فقالت: لا حاجة لي به؛ يُغلقُ بابَه، ويَمنعُ خيرَه، ويدخلُ عابسًا، ويَخرج عابسًا (¬2). وقال ابن عساكر في تاريخِه: وزيدُ بن عمر بن الخطاب أُمُّه أُم كلثوم بنت علي، وأُمُّها فاطمة بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 252. (¬2) تاريخ الطبري 4/ 199 - 200.

وقال أبو عمرو بن العلاء (¬1): كان زيدٌ قد وفد على مُعاوية بن أبي سفيان، فأجلسه معه على سريره، وكان حسنًا جميلًا، فقال له بُسْرُ بن أبي أرطاة: يا ابن أبي تُراب، فقال زيد: إيّاي تَعني لا أُم لك! أنا واللَّهِ خيرٌ منك ومن أبيك وجَدِّك ومن هذا، يعني مُعاوية، ثم قام فنزل من السرير، فأخذ بعُنقِه فصرعه، وبرك على صَدْرِه، وجعل يَخنقُه، فنزل معاويةُ من السريرِ فحال بينهما، فقال زيد: يا معاويةُ، واللَّهِ ما شكرتَ الحُسْنى، ولا حَفِظْتَ ما كان منّا إليك، سلَّطْتَ عليَّ عبد بني عامر؟ ! فقال له معاوية: يا ابن أخي، أما قولُك إني كفرتُ الحسنى، فواللَّه ما استَعمَلَني أبوكَ إلّا من حاجته إليَّ، وأما ما ذكرتَ من الشُّكْرِ؛ فلقد وَصَلنا أرحامَكم، وقضينا حقوقَكم وأنتُم في منازلكم، فقال زيد: إني لأعلمُ أنَّ هذا لم يكن إلّا عن رأيكَ، واللَّه لا تَراني بعدها، وأنا ابنُ الخليفَتَيْن. ثم قام وركب راحلتَه، وتوجَّه إلى المدينة، فأرسل إليه معاويةُ يَعزِم عليه إلا أتاه وقال: واللَّه إن أتَيْتَ وإلا أتيتُك، فرجع وقال: واللَّه لوِلا العَزيمة لما رجعتُ، فقام له مُعاوية، وأجلسه معه على سريره وقال: يا بُنيَّ، مَن نسي بلاءَ عمرَ فواللَّه ما أنساه، ولقد استَعمَلَني وأصحابُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- متوافِرون، وأنا يومئذٍ حَدَثُ السنِّ، فأخذتُ بأَدَبه، واهتديتُ بهَدْيه، واتَّبعتُ أَثَرهُ، واللَّهِ ما قَوِيتُ على العامة إلّا بمكاني منه. وقضى مُعاويةُ جميعَ حَوائجه، وأمر له بمئة ألفِ درهم، وبعث إلى مَن كان مع زيدٍ وكانوا عشرين رجلًا فأعطى كل واحدٍ أربعةَ آلاف درهم (¬2)، وخَرَج فقَدِم المدينةَ، فأقام يسيرًا، ثم جَرَت تلك الكائنةُ فتُوفّي، وليس لزيدٍ عَقِبٌ. وأما رُقيةُ أُختُ زيدٍ فتزوَّجها إبراهيم بن النَّحامِ، فماتت عنده. وقال ابن قُتيبة: كان لعمر ولدٌ يقال له: مُجَبِّر، ولم يُعقِب (¬3). وسنذكر أولاد عمر في تراجمهم على السنين إن شاء اللَّه تعالى (¬4). واستَقضَى عليَّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- على المدينة، وشُريحًا على الكوفة، وكعب بنَ ¬

_ (¬1) من قوله: وقال ابن سعد بإسناده عن ابن عمر. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬2) تاريخ دمشق 6/ 658 - 659 (مخطوط). (¬3) المعارف 188. (¬4) من هنا إلى نهاية ترجمة عمر ليس في (ك).

سُور على البَصرة، واستقضى أيضًا عليها عُبيد اللَّه بن مَعمر. وكان حاجبُه يَرْفَأ، وأسلمُ مولاه، وكان له من الموالي يَرفأ، ومِهْجَع، ومالك الدّار، وأَسْلَم، وهُنَيّ، وأبو أُميَّة. فأما يَرفأ فكان حاجِبَه خَصيصًا به، وكان زاهدًا عابِدًا ورعًا، قال المغيرة بنُ شُعبة: واللَّه إنْ كنا لنُصانِع يَرفَأ مولى عمر وآذِنَه. وهو الذي قَدم بكتاب عمر رضوان اللَّه عليه على أبي عبيدة بالجابية بموت أبي بكر، وقَدم عليه أيضًا وهو يُحاصر دمشق، وأسند الحديث عن عمر وعلي وعثمان والعباس وطلحة والزبير -رضي اللَّه عنهم-، وغيرهم (¬1). وأما مِهجَع فاستُشهد يوم بدر. وأما مالكُ الدَّار فمن الطبقة الأولى، روى عن أبي بكر وعمر -رضي اللَّه عنهما-، وولاه عمر رضوان اللَّه عليه دارًا، وأمُّه حبّى، أرضعته -لعثمان- فأقطعها دارًا بالمدينة، فقيل لابنها مالك الدار (¬2). وأما أسْلَم فحَبَشيّ بَجَاوي، وكُنيتُه أبو زيد، اشتراه سنةَ اثنتي عشرة، وكان يَحجُبه، وروى الحديث، وابنه زيد بن أسلم كثير الرواية عن أبيه، وخالد بن أسلم، وهو الذي أصاب رأسَ زيد بن عمر -رضي اللَّه عنه- بالحَجَر (¬3). وأما هُنَيّ فحضر مع معاوية صِفّين، وهو من الطبقة الأولى من التابعين، وُلد على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأما أبو أمية فكاتَبَه عمر رضوان اللَّه عليه، وهو جدُّ المبارك بن فَضالة بن أبي أميّة. وكان عامِله على مكة حين تُوفّي نافع بن عبد الحارث، وعلى الطائف سفيان بن عبد اللَّه الثقفي، وعلى صَنعاء يَعلى بن مُنية، وعلى الكوفة أبو موسى، وقيل: المغيرة، وعلى البصرة أبو موسى، وعلى دمشق مُعاوية، وعلى مصر عمرو بن العاص. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 19/ 219 - 221 (مخطوط). (¬2) في المعارف 189: وأم ولده حُتبى، وكانت قد أرضعت عثمان بن عفان، وكانت مليحة، فقال لها عثمان: أريد أن أُقطعك. وانظر تاريخ دمشق 66/ 144. (¬3) المعارف 189، وتاريخ دمشق 2/ 809 (مخطوط).

وكان عمر رضوان اللَّه عليه يُقاسم عُمَّاله ويقول: أشكو إلى اللَّه جَلَد الخائن وعَجْزَ الثّقة، وكان يَضع عليهم العُيون. وقاسم أبا موسى مالَه، وكان قد وَلّاه البصرة، ثم أَقدَمَه عليه، فقال له: ما جاريتان عندك إحداهما تُدعَى عقيلة، والأُخرى من بنات الملوك؟ ! فقال: أمَّا عقيلة فبيني وبين الناس، وأما التي من بنات الملوك فأردتُ بها غلاءَ الفِداء، قال: فما جَفْنتان عندك؟ ! قال: رَزقْتَني كلَّ يوم شاةً، أعمل نصفَها بُكرةً، ونصفَها عشيَّةً، قال: فما مِكيالان عندك؟ قال: أما أحدُهما فأُوفّي به أهلي ودابَّتي، وأما الآخر فيتعاملُ به الناس، فقال: ادفع إلينا عقيلة، وارجع إلى عَملك عاقِصًا بقَرْنِك، مُكتَسِعًا بذَنبك، وإن بَلغَني بعدها أمرٌ عَزلتُك، وأخذتُ جميعَ مالك. ووَلّى أبا هريرة البحرين، وشاطره مالَه، ثم أقدمه عليه وقال: يا عبد شمس، هل علمتَ أني استعملتُك على البحرين وأنت بغير نَعلَين، ثم بَلَغني أنك بِعتَ أفراسًا بألفٍ وست مئة دينار؟ فقال: كانت لنا أفراس تَناتَجتْ، وعطايا تَلاحَقَتْ، قال: قد أخذتَ مالَ اللَّه فأدِّه، قد حَسَبْنا رزقَك ومؤنتَك، ومعك فضلٌ فأَدِّه، قال: ليس لك ذلك، فقال: بلى وأُوجعُ ظَهرَك، ثم قام إليه فضربه بالدرّة حتى أدماه، ثم قال: ائتِ بها، فقال: عند اللَّه أحتَسِبُها، فقال: يا لُكَع، ذلك لو أخذتَها من حَلال، أو أدَّيتَها طائعًا، أجئتَ من أقصى حَجْر بالبحرين يَجبي الناسُ لك، لا واللَّه، وهل وَرَّثت لك أُميمة -يعني أمّه- إلا رَعْي الحُمُر؟ ! يا عدوَّ اللَّه، وعدوَّ كتابه ورسوله، سرقتَ من مال المسلمين، فقال: ما أنا عدوُّهم، أنا عدؤُ مَن عاداهم، وما سرقتُ شيئًا، قال: فمن أين لك عشرة آلاف درهم؟ ! فأخذها منه، ثم قال له: ألا تَعمل؟ قال: لا، قال: قد عَمل مَن هو خيرٌ منك؛ يوسف الصدّيق حيث قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55] فقال له: يوسف نبيّ، وأنا ابنُ أُميمة، أخشى أن يُشتمَ عِرضي، ويُضرَبَ ظَهري، ويُنزَعَ مالي. وقاسم عمرو بنَ العاص مالَه، وبعث إليه محمد بنَ مَسْلَمَة الأنصاري، وكتب إليه عمر: عَهدي بك وأنت فقيرٌ لا مالَ لك، وقد بلغني أنه نَشَأتْ لك ماشِيةٌ من خيلٍ وإِبلٍ وبَقَرٍ وعَبيد، فمن أين لك هذا المال؟ !

فكتب إليه عمرو: إنني ببَلدٍ السِّعرُ فيه رَخيصٌ، وإني أُعالِج من الزِّراعة ما يُعالجُ الناس، وفي رزقِ اللَّه ورزقِ أمير المؤمنين سَعَة، وواللَّه لو رأيتُ خيانتَك حلالًا ما خُنتُك، فأَقصِرْ أيها الرجل، فإن لنا أحسابًا، وهي خيرٌ من العمل لك، فإن رَجَعنا إليها عِشنا بها. فكتب إليه عمر رضوان اللَّه عليه: ما أنا من أَساطيرك التي تُسطِّر، ونَسْقك الكلام في غير مَرْجع، وما يُغني عنك أن تُزكِّي نَفسَك، وقد بَعثتُ إليك محمد بن مَسْلَمة، فشاطِرْه مالَك، فإنكم أيها العُمال جلستُم على عُيون المال، تَجمعون لأبنائكم، وتُمهِّدون لأنفُسكم، وإنما تَجمعون للنار، والسلام. فلما قَدم محمد على عمرو صَنع له طعامًا، فقال محمد: واللَّه لا أكلتُ لك طعامًا، ولو كنتُ ضيفًا لأكلتُ، ولكن قَدَّمْتَه إلي تَقدِمة شرّ، واللَّه لا شربتُ لك ماءً، فشاطره مالَه جميعَه، وبقيت نَعلان، فأخذ إحداهما وترك الأخرى، وقال: قبَّح اللَّه زمانًا عمل فيه ابنُ العاص لابن الخطاب، واللَّه إني لأعرفُ الخطاب يَحمل على رأسه حُزمَة حطب، وعلى رأس ابنه مثلَها، وما منهما إلا في نَمِرة ما تَبلغُ رُسْغَه، واللَّه ما كان العاص يرضى أدْ يَلبس الدِّيباج مُزَوَّرًا بالذهب والفضة، فقا في له محمد: اسكُتْ، فواللَّه إن عمر خَيرٌ منك، وإن أباك وأباه في النار، فقال عمرو: هي عندك أمانة، فلم يُخبِر بها عمر رضوان اللَّه عليه. ومرّ عمر رضوان اللَّه عليه ببناء يُبنى بالجَصّ والآجُرّ، فقال: لمن هذا؟ قيل: لعاملك على البحرين، فقال: أبَت واللَّه الدَّراهم إلا أن تُخرِجَ أعناقَها، فأرسل إليه فشاطره مالَه. واستدعى الحارث منَ وَهْب عاملَه على صَنْعاء وقال له: ما قِلاصٌ وأَعبُدٌ بعتَها بمئتَي دينار؟ ! فقال: خرجتُ معي بنَفقةٍ فتَجرتُ فيها، فقال: أما واللَّه ما بَعثْناكم لِتَتَّجِرُوا في أموال المسلمين، أَدِّها أدِّها، فقال: واللَّه لا عَملتُ لك عملًا أبدًا، قال: انتظر حتى أستَعْمِلَك، ثم قاسمه مالَه. وقاسم سعد بن أبي وَقّاص -رضي اللَّه عنه- مالَه، فلما عَزلَه عن الكُوفة، وكان سعد مُستجاب الدَّعوة، فلما شاطره مالَه قال: لقد هَممتُ، قال عمر رضوان اللَّه عليه: أن تَدعُوَ عليَّ؟ قال: نعم، قال عمر: إذًا لا تَجِدني بدُعاء ربي شقيًا.

فصل: غيلان بن سلمة الثقفي

وزار أبو سفيان ابنَه معاوية بالشام، ثم رجع فدخل على عمر رضوان اللَّه عليه، فقال له: أجِزْنا يا صخر، فقال: ما أصبْنا شيئًا فنُجِيزك منه، فأخذ عمر رضوان اللَّه عليه خاتَمه من يده، وجعل يُقلِّبه، وغافله ثم بعث به إلى هند، وقال للرسول: قل لهند: يقول لك أبو سفيان: ابعثي إليَّ بالخُرجَيْن اللذين وصلا معي من الشام، فبعثَتْ بهما، وإذا فيهما عشرة آلاف درهم، فألقاهما عمر رضوان اللَّه عليه في بيت المال، فلما ولي عثمان -رضي اللَّه عنه- رَدَّ الخُرجَيْن إلى أبي سفيان، فقال: لا آخذُ ما لم يَرْضَه لي عمر (¬1). وكان سببُ مُقاسمته لهم أنه ولّاهم وهم فقراء، فأَثْرَوْا وكَثُرتْ أموالُهم. وسمع قائلًا يقول: [من الطويل] نَحُجُّ إذا حَجُّوا ونَغزو إذا غَزَوْا ... كأنا لهم وَفْرٌ ولسنا بذي وَفْرِ إذا التّاجرُ الهنديُّ جاء بفارَةٍ ... من المِسك أضحت من مَفارِقهم تَجري فدُونَك مال اللَّه حيث وَجَدْتَه ... سيَرضَون إن شاطرتَهم منك بالشَّطرِ (¬2) أسند الحديث، قال ابنُ البَرْقي: روى عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خمس مئة وتسعة وثلاثين حديثًا، وروى عنه جملةٌ من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أجمعين. انتهى ما يتعلق بعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. فصل: غَيْلان بن سَلَمة الثقفيّ ذكره ابن سعد فيمن أسلم يوم الفتح، وقد ذكرناه في غزاة الطائف وهو الذي أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يختار منهن أربعًا، فلما كان في عهد عمر طَلَّقَ نساءه، وقسم ماله بين ورثته، فلقيه عمر بن الخطاب، فقال: إني أظن أن الشيطان فيما يسترقُ من السَّمع سمع بموتك، فقذفه في نفسك، ولعلَّك لا تمكُثُ إلّا قليلًا، وايْم اللَّه، لتُرجِعنَّ نِساءَك، أو لأُورثهنَّ من مالك، ولآمُرَنَّ بقبرك أن يُرْجَمَ كما رُجم قبرُ أبي رِغال، يعني أبا ثقيف، قال: فراجع نساءه ورجع في مالهِ، فما مَكث سبعًا حتَّى مات. ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة كلها في العقد 1/ 44 - 49. (¬2) العقد 5/ 281.

ذكر وفاته

وقال ابن سعد: وكان شاعرًا، وَفَد على كسرى، وسأله أن يَبنيَ له حِصْنًا بالطائفِ فبناه، قال: وأسلم وعنده عشر نسوة، فقال له رسول اللَّه: "اختَرْ منهنَّ أربعًا، وفارِق بقيَّتَهُنَّ"، فقال: قد كُنَّ لا يعلمن أيَّتُهنَّ آثَرُ عندي، وسيَعلمنَ اليوم ذلك، فاختار منهن أربعًا، وجعل يقول لمن أراد منهن: أَقْبلي، ولمن لا يُريد: أدبِري (¬1). وغيلان هذا أبو بادِيَة التي قال عنها هيتُ المخنَّثُ في غزاة الطائف: تُقْبلُ بأربعٍ وتُدْبِرُ بثمانٍ، وقد ذكرناه. ذكر وفاته: قال الواقدي: تُوفي في سنة ثلاثٍ وعشرين، وقال ابن سعد: في آخر خلافة عمر ابن الخطاب، وكذا قال ابنُ عساكر. ولغَيْلان شِعر، وليس في الصحابة مَن اسمُه غَيْلان بن سَلَمة غيره، وأسند غَيلان ابن سلمة الحديث عن رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). فصل: وفيها قُتِل الهرمزان (¬3). * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 66. (¬2) انظر الاستيعاب (2059)، والإصابة 3/ 189، وتاريخ دمشق 57/ 361 وفي حواشيه مصادر أخرى. (¬3) من قوله: فاختار منهن أربعًا. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع).

السنة الرابعة والعشرون

السنة الرابعة والعشرون فيها أمر الشورى. روى البخاريّ عن المِسور بن مَخْرمة أن الرَّهطَ الذين وَلّاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا، فقال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أُنافِسُكم هذا الأمر، ولكنكم إنْ شئتم اخترتُ لكم، فجعلوا ذلك له، فلما وَلَّوه أمرَهم انثال عليه الناس ومالوا إليه، حتى لا أرى أحدًا من الناس يَتبع أولئك الرّهط ولا يَطأ عقبه، ومال الناس إلى عبد الرحمن يُشاورونَه ويُناجونه تلك الليالي، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا بايَعْنا فيها عثمان. قال المِسوَر: طرقني عبد الرحمن بعد هَجْعٍ من الليل، فضرب الباب حتى استيقظتُ، فقال: ألا أراك نائمًا، فواللَّه ما اكتحلتُ في هذه الليلة بكثير نوم، فادعُ لي الزبير وسعدًا، فدعوتُهما له، فشاوَرَهما، ثم قال: ادعُ لي عليًّا، فدعوتُه، فناجاه حتى ابْهَارَّ الليل، ثم قام من عنده وهو على طَمَع، وكان عبدُ الرحمن يَخشى من عليٍّ شيئًا، ثم قال: ادعُ لي عثمان، فدعوتُه، فناجاه حتى فَرَّق بينهما مؤذن الصّبح، فلما صلّى الناس الفجر اجتمع أولئك الرهط عند عبد الرحمن عند المنبر، فأرسل عبد الرحمن إلى مَن كان خارجًا من المهاجرين والأنصار، وإلى أُمراء الأجناد -وكانوا وافَوْا تلك الحجّة مع عمر- فلما اجتمعوا تشهّد عبد الرحمن وقال: أما بعد؛ فإني نَظرتُ في أمر الناس، فلم أرهم يَعدلون بعثمان أحدًا، ثم أخذ بيده وقال: أُبايعك على سُنَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والخَليفتين من بعده، وبايعه عبد الرحمن والناس. هذا لفظ البخاري (¬1). قال الواقدي: لما استُخلف عثمان دخل عليٌّ على العباس، فقال له العباس: إني ما قَدَّمتُك إلا تأخَّرتَ، قلت لك: هذا الموتُ في وجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتعال نَسأله عن هذا الأمر فأَبَيْت، ثم قال: أنت المنظور إليه، فقلتُ لك: تعال أُبايعك فلا يَختلف عليك اثنان فأبَيْت، ثم مات عمر بعد ذلك، قد أطلق اللَّه يَديك، ليس لأحدٍ عليك بَيعة، ولا تَدخل في الشَّورى فأَبَيْتَ عليّ، فقال علي: عسى أن يكون خيرًا. ¬

_ (¬1) في صحيحه (7207).

وكان العباس قد قال لعليٍّ يوم طُعن عمر: الزَمْ بيتَك، ولا تدخل في الشورى، فلا يَختلفُ عليك اثنان (¬1). ولما أخذ عبد الرحمن -رضي اللَّه عنه- منهم المواثيق خلا بعليّ -رضي اللَّه عنه- وقال له: إنك تقول إنك أحقُّ بهذا الأمر لقَرابتك، وسابقتك، وحُسْنِ أثرك، ولم تبعد، ولكن أرأيتَ لو صُرِف هذا الأمرُ عنك ولم تَحْضُرْه، مَن كنتَ تَرى أحقّ به من هذا الرَّهط؟ فقال: عثمان. ثم خلا بعثمان رضوان اللَّه عليه وقال له: أنت تقول: إني شيخُ بني عبد مَناف، ولي سوابق، فلو صُرِف عنك هذا الأمرُ ولم تَحْضُر، مَن كنتَ ترى أحقّ به؟ قال: علي. ثم خلا بالزبير -رضي اللَّه عنه-، فقال له مثلَ ذلك، فقال الزّبير: عثمان، ثم خلا بسعدٍ -رضي اللَّه عنه-، فقال له مثل ذلك، فقال: عثمان، ثم قال لعلي -رضي اللَّه عنه-: أَنشدك اللَّه أن تكون ظَهيرًا لعثمان (¬2)، وكان طلحة -رضي اللَّه عنه- غائبًا. ثم شاور المهاجرين والأنصار، فكلٌّ أشار بعثمان، ثم قال للزبير: خلِّ نصيبَك لبني عبد مَناف، فقال: نَصيبي لعَليّ، فقال عبد الرحمن لسعد: أنا وأنت كَلالة، فاجعل نصيبَك لي فأَختار، فقال سعد: إن اخترتَ نَفسَك فنعم، وإن اخترتَ عثمان فعليٌّ أحبُّ إليّ، ثم قال له سعد: أيها الرجل، بايعْ نَفْسك وأرِحْنا، وارفع رؤوسَنا، فقال: واللَّه لا يَقوم أحدٌ مقام أبي بكر وعمر فيَرضى الناسُ عنه. فقام سعد والزبير غَضْبى. وجمع عبد الرحمن وُجوهَ الناس وقال: أشيروا عليّ، فقال له سعيد بن زيد -رضي اللَّه عنه-: إنا لنراك أهلًا لها، فقال: أشيروا عليّ بغير هذا، فقال عمّار بن ياسر: إن أردتَ ألا يَحْتلفَ عليك اثنان فبايعْ عَليًّا، فقال المقداد: صدق، إن بايعتَ عليًّا سَمِعنا وأطعنا، فقال عبد اللَّه بن سعد بن أبي سَرْح: إن أردتَ أن لا يَختلفَ عليك اثنان من قُريش فبايعْ عثمان، فقال عبد اللَّه بن أبي ربيعة: صدق ابنُ أبي سَرْح، فشتم عمار ابنَ أبي سرح وقال: متى كنت ناصِحًا للمسلمين. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 119 - 120. (¬2) في الطبري 4/ 231 أن عليًا قال لسعد -رضي اللَّه عنهما-: أسألك برحم ابني هذا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبرحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرًا عَلَيَّ.

وتكلم بنو هاشم وبنو أُمية، فقال عمار: أيها الناس، أنّى تَصرفون هذا الأمرَ عن بيت نبيّكم؟ فقال رجل من بني مَخزوم: لقد عَدوتَ طَورَك يا ابن سُميَّة، وما أنتَ وتَأمير قريش؟ ! فبايع عبدُ الرحمن عثمانَ -رضي اللَّه عنهما-، فقام عليٌّ -رضي اللَّه عنه- وخرج مُغضبًا، فتبعه عبد الرحمن فقال: بايع وإلا ضربتُ عُنقك، فبايَعَ. وروي أن عبد الرحمن -رضي اللَّه عنه- رأى في المنام أن أمِّر أقرأَهم، فإن استَووا فأَفْقهُهم، فإن استَووا فأسنُّهم، فانتبه فقال: هل تَعلمون أحدًا اجتمع فيه هذا غير عثمان، فبايعوه. وجلس عبد الرحمن -رضي اللَّه عنه- على مِنبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، دون المكان الذي كان يَقعد فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم أقعد عثمان رضوان اللَّه عليه على الدَّرجة الثانية وبايعه، فلما كان بعد ذلك صعد عثمان -رضي اللَّه عنه- فقعد مكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأعظم الناس ذلك، وكان أوَّلَ ما أُخذ عليه. وقدم طلحة -رضي اللَّه عنه- في اليوم الرابع وقد بُويع عثمان -رضي اللَّه عنه-، فقال له عثمان: أنت على رأس أَمرِك، إن أَبيتَ رَدَدْتُها، قال: أوَ تَرُدُّها؟ قال: نعم، فبايعه طلحة -رضي اللَّه عنه-، وكان في عهد عمر رضوان اللَّه عليه: إن لم يَحضُر طلحة إلى ثلاثة أيام فأَمْضُوا الأمور (¬1). * * * ¬

_ (¬1) من بداية السنة إلى هنا ليس في (ك).

الباب الثالث في ذكر عثمان -رضي الله عنه-

الباب الثالث في ذكر عثمان -رضي اللَّه عنه- [هو عثمان] بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي -رضي اللَّه عنه-، وكان يُكنى بأبي عمرو وبأبي عبد اللَّه، وأمُّه أَروى بنت كُرَيْز بن ربيعة بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مَناف، أسلمت أم عثمان، وأمُّها أمُّ حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، عَمَّةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمُّ عثمان بنتُ عمِّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ووُلد في السَّنة السادسة بعد الفيل (¬1)، قال سيف: وبويع لثلاثٍ مَضَينَ من المحرَّم سنة أربع وعشرين، فصلَّى بالناس العصر، وكان مُؤذِّنُ صُهَيب قد أَذَن (¬2). وولي وهو ابن تسع وستين سنة، وهو أوّل خليفةٍ اختَلفوا عليه. ولما بُويع خرج إلى الناس فخَطَبهم، فحمِد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن أوَّلَ مَركَبٍ صَعبٌ، وإن بعد اليوم أيامًا، وإن أَعِش تأتِكم الخُطَب على وَجْهها، وما كُنّا خُطباء، وسيُعَلِّمنا اللَّه تعالى (¬3). ذكر صِفته: قال الواقدي: كان عثمان [رجلًا] ليس بالطويل ولا بالقصير، أبيضَ رَبْعَة -وقيل: أسمر اللون- رقيقَ البشرة، حسنَ الوَجْه، عَظيمَ الكَراديس، بعيدَ ما بين المنكِبَيْن، كثيرَ شعر الرأس، وكان يُصَفِّر لحيتَه. وقال الحسين: رأيتُ عثمانَ وبوَجهه جُدَريٌّ، وشَعرُ يديه قد كسا ذراعيه. وحكى أبو بكرٍ النقاشِ أنَّه كان وَضيئًا، أبيض مُشْربًا بصُفْرةٍ، حَسَنَ الثَّغْرِ، له جُمَّةٌ أسفلَ أُذنَيْه، خَدَلَّجَ الساقين. وقال هشام: كان أَضْلَع، وأعداؤه يُسَمُّونه نَعْثَلًا. وقال الجوهري: ونَعْثَلٌ: رجلٌ ¬

_ (¬1) من قوله: الباب الثالث. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) تاريخ الطبري 4/ 242. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 59، ومن قوله: وولي وهو ابن تسع وستين سنة. . . إلى هنا ليس في (ك).

ذكر سبب إسلامه

طويل اللحيةِ، وكان عثمان إذا نيلَ منه شُبِّه بذلك الرجل لطولِ لحيته (¬1). وكان عثمان يَشُدُّ أسنانَه بالذَّهب. قلتُ: وقد اختلف العلماءُ في شدِّ الأسنانِ بالذَّهب؛ فكره أبو حنيفة ذلك، قال في "الأصل": إذا تحرَّك سِنُّ الرجلِ فشدَّه بالذهبِ، أو سقط سنُّه فاتَخذَ سنًّا من ذهبٍ، أو كان مَقطوع الأنفِ فاتَّخذَ أنفًا من ذهب، يُكره عند أبي حنيفة، وقال محمد: لا بأس به، وأبو يوسف مع أبي حنيفة في رواية، ومع محمد في روايةٍ. واحتجَّ محمد بأنَّ عَرْفَجة بن أسعد أُصيبَ أنفُه يوم الكُلابِ، فاتَّخذ أنفًا من فِضَّةٍ فأنْتَن، فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يتَخِذَ أنفًا من ذهب (¬2). وعثمان كان يشدُّ أسنانه بالذهب ولم يُنكر عليه أحدٌ (¬3). وكان نَقْشُ خاتَمه: آمن عثمان باللَّهِ العظيمِ. ذِكرُ سبب إسلامه: قد ذكرنا أنه أسلم قديمًا قبل دخولِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دارَ الأرقم. وحكى ابن سعدٍ عن الواقدي قال: خَرَج عثمان وطلحةُ بنُ عبيد اللَّه على أَثَرِ الزّبير ابن العوام، فدخلا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فعرض عليهما الإسلامَ، وقرأ عليهما القُرآن فأسلما (¬4)، وقال عثمان: يا رسول اللَّه، قدمتُ من الشام حديثًا، فلما كنّا بين مُعان والزَّرْقاء ونحن كالنيّام إذا مُنادٍ يُنادينا: أيُّها النُّوام هُبُّوا؛ فقد خرج أحمدُ بمكة، فقَدِمْنا فسَمِعنا بك (¬5). وحكى أبو بكر النقَّاش، عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: حدَّثني أبي عن سبب إسلامه قال: كنتُ رجلًا مُسْتَهْتَرًا بالنّساء، وإني لَقاعدٌ بفِناء الكعبةِ ذات ليلةٍ في رهطٍ ¬

_ (¬1) الصحاح (نعثل). (¬2) أخرجه أحمد (19006)، وأبو داود (4232)، والترمذي (1770)، وانظر شرح معاني الآثار 4/ 257، وبدائع الصنائع 6/ 524، والحاشية 6/ 362. (¬3) من قوله: وقال هشام. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬4) من قوله: وحكى ابن سعد. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 52.

من قريشٍ إذ قيل لنا: إن محمدًا قد أنكح ابنتَه رُقيَّةَ عُتبة بن أبي لهب -وكانت رُقيَّةُ ذات جمالٍ رائعٍ. قال عثمان: فدخلَتْني الحَسرةُ لمَ لا أكونُ سبقتُه إليها! قال: فلم ألبث أن انصرفتُ إلى منزلي، فأصبتُ خالتي سُعدى بنت كُرَيْز قاعدةً، وكانت قد طَرَقَتْ وتكَهَّنتْ عند قومها، فلما رأتني قالت: [من الرجز] أَبشِرْ وحُيِّيتَ ثلاثًا تَتْرى ثم ثلاثًا وثلاثًا أُخرى ثم بأُخرى كي تتمَّ عَشْرا أتاك خيرٌ ووُقيتَ شرّا أُنكِحْتَ واللَّه حَصانًا زَهْرا وكُنْتَ بِكْرًا ولَقِيتَ بِكْرا وافَيتَها بنتَ عظيمٍ قَدْرا بنتَ نبيِّ قد أشادَ ذِكْرا قال عثمان: فعجبتُ من قولها وقلتُ: يا خالةُ، ما تقولين؟ فقالت: عثمان، لك الجَمالُ و [لك] اللسان هذا نبيٌّ معه البُرهان أرسله المُهَيْمنُ الدَّيَّان وجاءه جبريلُ بالفرقان فاتْبَعْه لا تَغْتَالُك الأَوْثان قال: فقلتُ: يا خالةُ، إنَّك تَذكُرين رجلًا أو شيئًا ما وقع ببلدنا، فبَيِّنيه لي، فقالت: محمد بن عبد اللَّه، رسولٌ من عند اللَّه، جاء بتنزيلِ اللَّه، يدعو إلى اللَّه، قال: فوقع كلامُها في قلبي، وأتيتُ أبا بكرٍ فأَخبرتُه، فقال: ويحك يا عثمان، أنتَ رجلٌ

فصل في ترجمة الهرمزان

حازِمٌ، ما يَخفى عليك الحقُّ من الباطلِ، ما هذه الأوثانُ التي تَعبُدها؟ هل هي إلا حجارةٌ صمٌّ بُكْمٌ، لا تسَمعُ ولا تُبصرُ، ولا تضرُّ ولا تَنفع؟ ! قال: قلتُ: بلى، قال: فواللَّه لقد صَدَقَتْ خالتُكَ، هذا رسولُ اللَّه قد بعثه اللَّه إلى خلقه، فهل لك أن تأتيَه فتسمع كلامه؟ فقلت: بلى، فأتيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال لي: "يا عثمان، إني رسول اللَّه إلى خلقه، فأجب اللَّه إلى جَنَّتهِ"، قال: فواللَّهِ ما تمالكتُ حين سمعتُ كلامَه أن أسلمتُ، فزوَّجني رسولُ اللَّه رُقيَّةَ ابنته، فقالت خالتي: [من الطويل]: وأنكَحه المبعوثُ بالحقِّ بنتَه ... فكان كبَدْرٍ مازجَ الشَّمسَ في الأُفْقِ (¬1) وقد ذكر أنه أسلم على يد أبي بكرٍ، وأن أبا بكرٍ كان السببَ في إسلامه. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن محمد بن إبراهيم التّيمي، عن أبيه قال: لمّا أسلم عثمان أخذه عمُّه الحكم بن أبي العاص بن أمية، فأوثقه رِباطًا وقال: أترغَبُ عن دين آبائك؟ فقال عثمان: واللَّهِ لا أدَعُ ديني أبدًا، فلما رأى الحكم صَلابتَه في دينه تَركه (¬2). فصل في ترجمة الهرمزان وكان ينبغي أن يُذكر في السنة الماضية، لأن فيها كانت القاضية. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي اللَّه عنهما- حين قتل عمر رضوان اللَّه عليه: قد مَررتُ على أبي لُؤلؤة قاتل عمر، ومعه جُفينة والهرمزان وهم نَجِيّ، فلما بَغَتُّهم ثاروا، فسقط من بينهم خَنجرٌ له رأسان ونِصابُه وَسطه، فانظروا ما الخَنجرُ الذي قُتل به عمر؟ ! فنظروا فوجدوه ذلك الخنجر. فانطلق عُبيد اللَّه بن عمر حين سمع ذلك من عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه السيف، فدعا الهرمزان، فلما خرج إليه قال: انطلق معي حتى نَنظُرَ إلى فَرسٍ لي، فانطلق وتأخّر عنه عُبيد اللَّه، حتى إذا صار بين يديه علاه بالسيف، قال عُبيد اللَّه: فلما وَجد حَرَّ السَّيف قال: لا إله إلا اللَّه. قال عُبيد اللَّه: ودعوتُ جُفَينة، وكان نصرانيًّا من نصارى الحِيرة، وكان ظِئْرًا لسعد ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق (عثمان) 20 - 21. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 52.

ابن أبي وَقّاص، أقدَمَه المدينة للمِلْح الذي بينه وبينه، وكان يُعلّم الكتابة بالمدينة، قال عبيد اللَّه: فلما عَلوتُه بالسيف صَلَّب بين عَينيه. ثم انطلق عُبيد اللَّه فقتل ابنةً صغيرةً لأبي لُؤلؤة، تَدَّعي الإسلام، وأراد عبيد اللَّه أن لا يَترك سَبْيًا بالمدينة يومئذٍ إلا قَتَله، فاجتمع عليه المهاجرون الأَوّلون فنَهَوْه وتوعَّدوه، فقال: واللَّه لأَقتُلَنَّهم وغيرَهم، وعَرَّض ببعض المهاجرين. فلم يزل عمرو بن العاص به حتى دفع إليه السيف، فلما دفع إليه السيف أتاه سعد ابن أبي وقاص، فأخذ كلُّ واحدٍ منهما برأسِ صاحبه، فتناصَيا حتى حُجز بينهما، ثم أقبل عثمان بن عفان رضوان اللَّه عليه قبل أن يُبايع له في تلك الليالي، حتى واقع عبيدَ اللَّه فتناصيا، وأظلمت الأرضُ يوم قَتل عُبيد اللَّه الهرمزان وجُفَينة وابنةَ أبي لؤلؤة على الناس، ثم حُجز بينه وبين عثمان رضوان اللَّه عليه. فلما استُخلف كان أوَّل ما قضى فيه أن أحضر عبيد اللَّه، واستشار الصحابةَ فيه، فقال علي رضوان اللَّه عليه: اقتُلْه، فإن اجتماع الهرمزان بجُفينة وأبي لُؤلؤة لا يُوجب قتلَهما؛ لأن السَّبْيَ يأوي بعضُهم إلى بعض، وقال بعض المهاجرين: قُتل عمر بالأمس، ويُقتل ابنه اليوم! ؟ أبعد اللَّه جُفينة والهرمزان، وقال عمرو بن العاص: إن اللَّه قد أعفاك من هذا، إن هذا الأمرَ وَقع وليس لك على المسلمين سُلطان، فقال عثمان رضوان اللَّه عليه: أنا وَليُّهم، وقد جعلتُ ديتهم في مالي. وقال في ذلك [محمود بن] لَبيد: ما كان عُبيد اللَّه يومئذ إلا كهيئةِ السَّبُعِ الحَرِب، جعل يَعترض العَجمَ بالسيف حتى جلس يومئذ في السّجن، فكنتُ أحسِب لو أن عثمان وَلي سيقتُله؛ لما كنتُ أراه صَنع به، [كان هو] وسعد أشدَّ أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه (¬1). وقال زياد بن لَبيد الأنصاري البياضي: [من الطويل] ألا يا عُبيدَ اللَّه مالك مَهرَبٌ ... ولا مَلجأٌ من ابن أرْوى ولا خَفَرْ أصبتَ دمًا واللَّه في غير حِلِّهِ ... حَرامًا وقتلُ الهُرمُزانِ له خَطَرْ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 329 - 331.

فصل

على غيرِ شيءٍ غير أنْ قال قائلٌ ... أتَتَّهمون الهُرمُزان على عُمَرْ فقال سَفِيْهٌ والحوادثُ جَمَّةٌ ... نعم أتَّهِمْهُ قد أشار وقد أَمَرْ فشكاه عُبيد اللَّه إلى عثمان رضوان اللَّه عليه، فنَهاه عنه فقال: [من الوافر]: أبا عَمروٍ عُبيد اللَّه رَهْنٌ ... فلا تُهوِن بقتلِ الهُرمُزانِ فإنك إن غَفرتَ الجُرْمَ منه ... فأسبابُ الخَطا فَرَسا رِهانِ أتعفو إذ عفوتَ بغير حَقٍّ ... فمالك بالذي تَحكي يَدانِ (¬1) وذكره ابنُ سعدٍ في الطبقةِ الأُولى من التّابعين من أهل المدينة، فقال: الهُرمزان كان من أهلِ فارس، أسلم، وفرض له عمر في ألفَين ألفين. وقد ذكرنا أنه قَدِمَ على عمر، وأنه امتنع من شُرب الماء، وذكرنا حديثه. وقد رُوي أنَّ عمرَ سمّى الهُرْمُزان عُرْفُطة. وقال المِسْوَر بن مَخْرَمة: رأيتُ الهُرْمُزان بالرَّوْحاء مُهِلًّا بالحجِّ مع عمر، عليه حُلَّةٌ حِبَرَة (¬2). فصل: وفي المحرَّمِ من هذه السنةِ أصابَ الناسَ رُعافٌ شديدٌ، فسُمّيَ عامَ الرُّعافِ، وأخذ منه عثمانُ بحَظٍّ وافرٍ، وتطيَّر الناسُ منه وقالوا: افتتح عثمان خِلافتَه بدَمٍ، ثم كان عاقبةُ ذلك أن خَتَم خلافتَه بالدمِ. وفيها منع عثمانُ الناس من اللعب بالحَمام، والرَّمي بالجُلاهِقات، قال عمرو بن شُعيب: وعثمانُ أوَّلُ مَن منع الحَمام الطيَّارَ، والرَّميَ بالجُلاهقاتِ حين ظهرت بالمدينةِ. وردَّ عمه الحكم بن أبي العاص إلى المدينةِ، قال سيف: وكان رسولُ اللَّهِ قد نفاه، ولم يردَّه أبو بكرٍ ولا عمرُ، فردَّه عثمان إلى المدينةِ، فكان أوَّلَ ما نَقَم الناسُ عليه، وسنذكره في ترجمتِهِ. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 239 - 240، ومن قوله: وقال عبد الرحمن بن أبي بكر (في أول ترجمة الهرمزان). . . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 92.

وفيها استقضى عثمان زيد بن ثابت، ورزقه على ذلك ستين درهمًا. وفيها ولّى عثمان سعد بن أبي وقاصٍ على الكوفة بوصيَّةِ عمر. وقال الواقدي: كان عمرُ قد أوصى أن يُقَرَّ عُمَّالُه على ولاياتهم سنةً، فأَمضى وَصيَّتَه، فلم يَعزِل له عامِلًا حتى مضتِ السنةُ، فأقرَّ المغيرةَ بنَ شعبةَ على الكوفةِ سنةً ثم عزله وولّى سعد بن أبي وقاص -وهو أول عامل استعمله- ثم عزله، واستعمل الوليد ابن عُقبة بن أبي مُعَيْطٍ، وكان الوليد أخا عثمان لأُمِّه، قال الواقدي: وهذه الأخذة الثانية التي نَقمها الناسُ على عثمان، وقالوا لعبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه-: أما أخذتَ عليه العهد أن لا يَرفع أحدًا من بني أمية على الناس؟ قال: بلى. وفيها زاد الناسَ في العطاء مئةً مئةً، ، وأقام الضِّيافةَ لأبناء السبيل والمتعبِّدين في المسجد. وفيها أغزى أخاه الوليد بنَ عُقبة أَرْمينيَة وأذرَبيجان، وسببُها أن أهلها طَمعوا بموت عمر رضوان اللَّه عليه، وامتنعوا من أداء ما كانوا يُؤدُّونه إليه، وكان بالكوفة أربعون ألف مُقاتل برسم الجهاد في مقابلة الرّي وأذربيجان، وكان قد صالحهم حُذيفة سنة اثنتين وعشرين على ثمان مئة ألف درهم، فلما امتنعوا بعد موت عمر رضوان اللَّه عليه سار إليهم الوليد بن عقبة، وقَدّم في مُقدّمته عبد اللَّه بن شُبيل الأحمسي، فشنّ الغارات، ثم اتبعه سلمان بن ربيعة الباهلي في اثني عشر ألفًا، ثم تبعه الوليد في أربعين ألفًا، وقيل: في عشرين ألفًا، واستُشهد في هذه الغزاة عمرو بن عُتبة (¬1). وفيها جاشت الرُّوم وجمعت جُموعًا عظيمة، وقَصدت الشام، فكتب معاوية إلى عثمان يَستمدُّه، فكتب عثمان إلى الوليد بن عُقبة -وقد عاد من المشرق فنزل الموصل- بأن يُمدَّ معاوية، فأرسل الوليد سلمان بنَ ربيعة الباهلي في عشرة آلاف، فسار إلى الشام، فاجتمع بجُنْد الشام، وعليهم حبيب بن مَسْلَمة الفِهري، فشنَّ الغارات على الروم، وفتحوا حصونًا كثيرة (¬2). ¬

_ (¬1) من قوله: وفيها أغزى أخاه الوليد. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬2) من قوله: فكتب معاوية إلى عثمان يستمده. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع)، وانظر تاريخ الطبري 4/ 247 - 248، والمنتظم 4/ 345.

أم أيمن مولاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

[وقيل: ] كان عثمان رضوان اللَّه عليه كتب إلى معاوية يَأمره أن يُغزي حبيبَ بن مَسْلَمة أرمينية، فسار إليها، وبلغ حبيبًا أن ملك الروم -ويقال له: المُوريان الرّومي- قد قَصده في ثمانين ألفًا من الرُّوم والتُّرك، فأرسل حبيب إلى معاوية يُخبره، فكتب معاوية إلى عثمان رضوان اللَّه عليه، فأمر عثمان رضوان اللَّه عليه سعيد بنَ العاص أن يُمدَّه، فأمَدّه بسلمان بن ربيعة الباهلي في ستة آلاف، وكان حبيب صاحبَ كَيْد، فأراد أن يكيد الموريان، فقالت له امرأتُه أم عبد اللَّه بنت يزيد الكلبية: أتُبيِّتُهم؟ قال: نعم، وأوَّلُ ما أقصِد سُرادق الموريان، قالت: افعل، فبيَّتَهم، ووصل إلى السُّرادق، فوجد امرأةً قد سبقَتْه إليه، فقتلهم وهزمهم، ووهب لها السُّرادق فضرَبتْه عليها، فهي أولُ امرأة من العرب ضُرب عليها السّرادق، ومات عنها حبيب فتزوجها الضَّحاك بن قيس الفهري، فهي أمُّ ولده (¬1). واختلفوا فيمن حجَّ بالناسِ في هذه السنة، فقال أبو مَعشر والواقدي: حجَّ بهم عبد الرحمن بن عوفٍ بأمرِ عثمان، وقال آخرون: حجَّ بهم عثمان، وقال البلاذري: حجَّ بالناسِ في سنة أربعٍ وعشرين عبد الرحمن، وحجَّ عثمان في خلافتِه كلِّها عشرَ سنين إلّا السنةَ التي حُوصِرَ فيها، فإنه بعث عبد اللَّه بن عباس فحجَّ بالناسِ (¬2). فصل وفيها توفيت: أُم أيمن مولاةُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد نسبها الواقدي وقال: اسمُها بَرَكَة بنت ثعلبة بن عَمرو بن حصن، وَرِثَها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أبيه عبد اللَّه بن عبد المطلب وخمسةَ أجمالٍ أَوارِك وقِطْعَةَ غَنَمٍ، وقد ذكرناه في السيرةِ، فاعتقها حين تزوَّج خديجة، وزَوجُها عبيدُ بن زيد، من بني الحارث بن الخزرج، فولدت له أيمن فكنِّيت به، صحب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم قُتل يوم أُحد شهيدًا، ثم تزوَّجها زيد بنُ حارثة بعد النبوّة، فولدت له أُسامةَ بنَ زيدٍ. ¬

_ (¬1) من قوله: وقيل كان عثمان كتب إلى معاوية يأمره أن يغزي. . . إلى هنا ليس في (ك)، وانظر تاريخ الطبري 4/ 248. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 60، وتاريخ الطبري 4/ 249، وأنساب الأشراف 5/ 121، والمنتظم 4/ 340.

وكانت سوداء صالحةً، وتُعرفُ أيضًا بأمِّ الظِّباء، هاجرت الهجرتين إلى الحبشةِ والمدينةِ جميعًا. وكان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول لها: "يا أُمَّاه، وهذه أُمي بقيَّةُ أهلِ بيتي". قال الواقدي: ولمّا سمع زيد بنُ حارثة رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مَن سَرَّه أن يَتزوَّج امرأةً من أَهلِ الجنةِ فليتزوج أُمَّ أيمن"، فتزوَّجها فوَلدت له أُسامة. وكان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُمازِحُها، قال ابن سعدٍ بإسناده عن محمد بن قيس قال: جاءت أُمُّ أيمن إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: احمِلْني، فقال: "أحملُكِ على وَلَدِ الناقةِ"، فقالت: إنَّه لا يُطيقُني، فقال: "لا أحمِلُك إلّا على ولدِ الناقةِ"، أشار -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الجملِ، والإبلُ كلُّها ولدُ النُّوقِ. وقال ابن سعد بإسناده عن جَريرِ بن حازم قال: سمعتُ عثمان بنَ القاسم يُحدِّث قال: لما هاجَرَتْ أُمُّ أيمن أَمْسَتْ بالمُنْصَرَفِ دون الرَّوْحاءِ فعَطِشت، فدُلِّي عليها من السماء دلوٌ فيه ماءٌ برِشاء أبيض، فشربت حتى رَوِيتْ، فكانت تقول: ما عَطِشتُ بعدها، ولقد تعرَّضْتُ للعطشِ بالصومِ في الهواجرِ، فما أعطشُ (¬1). وذكر القِصَّةَ أبو نُعيم عن عثمان بن القاسِمِ، وقال إنها (¬2) خرجت من مكَّةَ ماشِيةً مهاجِرةً إلى اللَّه ورسولِه، وليس معها زادٌ، وهي صائمة في يومٍ شديد الحَرِّ، فأَصابها عطشٌ شديدٌ حتى كادت تموتُ، وهي بالرَّوحاءِ، فلما غابت الشمسُ سمعت على رأسِها حفيفًا، فرفعته فإذا هي بدَلْوٍ من السماء مُدَلّى، وذكره. وقال الواقدي: كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يزورُها، وكذلك أبو بكر وعمر من بعده. وقال أبو نُعيم بإسناده عن أنسٍ قال: ذهبتُ مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أُمِّ أيمن نزورُها، فقرَّبتْ إليه طعامًا وشرابًا، فأبى لأنَّه كان صائمًا، فجعلت تُخاصِمه؛ أي: كُلْ، فلما تُوفي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال أبو بكرٍ لعمر: قُمْ بنا، أو مُرَّ بنا إلى أُمِّ أيمن نزورُها كما كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يزورُها، فأتيا إليها، فلما رأتهما بَكتْ، فقالا: ما يُبْكيك؟ فقالت: إني ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 213. (¬2) من قوله: وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمازحها. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع)، والخبر في الحلية 2/ 67.

سراقة بن مالك

لأعلمُ أن رسولَ اللَّه صار إلى خيرٍ مما كان فيه، وإنَّما أبكي خبرَ السماء كيف انقطع عنا، فجعلا يَبكيان معها، فهيَّجَتْهما على البكاء (¬1). وقال الواقدي: كانت أُمُّ أيمن عَسِرَةَ اللسانِ، فكانت إذا دخلت على رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالت: سلام لا عليكم، فرخَّص لها رسولُ اللَّه أن تقول: سلام، أو السلام. وقال الواقدي: قالت أُمُّ أيمن يومَ حُنَيْن: سبَّتَ اللَّه أقدامَكم، فقال لها رسولُ اللَّهِ: "اسكتي يا أُمَّ أيمن، فإنَّك عَسِرَةُ اللسان" (¬2). وروت عمرةُ عن عائشة قالت: شربَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا ماءً وأُم أيمن عنده، فقالت: يا رسول اللَّهِ، اسقِني، قالت: فقلتُ لها: ألرسولِ اللَّه تَقولين هذا؟ قالت: ما خَدَمتُه أكثرُ، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صدقَتْ" فسقاها. وقال الواقدي: ولمّا قُتِل عمر بكتْ أُم أيمن وقالت: اليوم وَهَى الإسلام. واختلفوا في وفاتها، فقال الواقدي: حضرتْ أُمُّ أيمن أُحدًا، وكانت تَسقي الماءَ وتُداوي الجَرْحى، وشهدتْ خيبر، وتُوفّيت في أولِ خلافة عثمان، وقيل: تُوفّيتْ بعد رسول اللَّهِ بخمسة أشهر، والأوَّل أصحُّ (¬3). سراقة بن مالك ابن جُعْشم بن مالك بن عمرو بن مالك بن تميم بن مُدْلِج بن مُرّة بن عبد مَناة بن كنانة المُدْلِجي، من الطبقة الرابعة ممّن أسلم من قبائل العرب، ورجع إلى بلاد قومه، وكُنيته أبو سفيان، وهو الذي لحق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر رضوان اللَّه عليه في طريق المدينة، وجرى له معهما ما جرى، وله صُحبة ورواية، رحمه اللَّه (¬4). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 68. (¬2) من قوله: وقال أبو نعيم بإسناده عن أنس. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع)، والخبر في طبقات ابن سعد 10/ 214 - 213. (¬3) من قوله: وقال الواقدي لما قتل عمر. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). وانظر في ترجمتها المعارف 145، والاستيعاب (3225)، والمنتظم 4/ 340، والسير 2/ 223، والإصابة 4/ 432. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 148، والاستيعاب (1106)، والمنتظم 4/ 341، والإصابة 2/ 19. وترجمة سراقة ليست في (ك).

عثمان بن قيس

فصل وفيها توفّي عثمان بن قيس بن أبي العاص السَّهْمي، صحابي شهد فتح مصر مع عمرو بن العاص، وهو أوَّل من وَليَ القضاء بمصر، وكان جوادًا شريفًا صاحبَ ضِيافةٍ، وهو أوَّلُ مَن بنى بمصر دار ضيافةٍ للناسِ. وقال يزيد بن [أبي] حبيب: كتب عمرُ بنُ الخطاب إلى عمرو بن العاص: أن افرِض لمَن قِبَلَك ممَّن بايع تحت الشجرةِ في مئتين من العطاء، وافرِضْ لخارجة بن حُذافةَ في الشوفِ لشجاعته، وافرِضْ لعثمان بن قيس لضيافته (¬1). وليس في الصحابةِ مَن اسمُه عثمان بن قيس غيرُه، وله صُحْبةٌ وليس له رِواية. عمرو بن عُتبة بن فَرْقَد بن حَبيب السُّلَمي من الطبقة الأولى من التابعين، وأبوه عُتبة من الصحابة، كان يتولى الولايات، وكان يَسألُ ابنَه عمرو أن يُولّيه شيئًا منها فلا يَفعل، زُهدًا ووَرعًا، وكان يقول: يا بُنيّ، ألا تُساعدني على ما أنا فيه من العمل؟ ! فيقول: يا أبه، إنما أَعمل في فِكاك رَقَبتي، فبكى أبوه وقال: يا بني، إني أحبك حُبَّين: حبًا للَّه وحبَّ الوالد للولد، وكان قد أعطاه أبوه سبعين ألفًا فأنفقها في سبيل اللَّه، فلم يُبق منها درهمًا. وقال مولى لعمرو بن عُتبة: رآني عمرو وأنا مع رجل، وهو يقع في آخر، فقال لي: وَيْحك، نَزّه سَمعَك عن استماع الخَنا، كما تُنزِّه لسانَك عن القول؛ فإن المُستَمع شريكُ القائل، وإنما نظر إلى شرِّ ما في وِعائه فأفرغه في وِعائك، ولو رُدَّت كلمةُ سَفيهٍ في فيه لسَعد بها رادُّها، كما يَشقى بها قائِلُها. وكان يَخرج على فَرسه ليلًا، فيَقِفُ على القبور فيقول: يا أهلَ القبور، طُويت الصُّحف، ورُفعت الأقلام، ثم يَنزل فيَصِفُّ قدَميه، ويبكي ويُصلّي، حتى يَطلع الفجر، ثم يَرجع فيَشهد صلاةَ الصُّبح. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 502، والمنتظم 4/ 341، والإصابة 2/ 464.

أم الفضل

وكان يُصلّي يومًا في جبل، فجاء الأسد، فهرب مَن كان عنده، وهو قائم يُصلّي لم يَنصرف، ومضى الأسد، فقيل له: أما تَخافُ الأسد؟ فقال: إني لأستحي من اللَّه أن أخافَ سواه. استشهد في هذه السنة بأذربيجان. قال عبد الرحمن بن يزيد: خرجنا في جيشٍ فيهم عمرو بن عُتبة، وعليه جُبّةٌ بيضاء جديدة، فقال: ما أحسنَ الدَّمَ يتحدَّرُ على هذه، فأصابه حَجرٌ فتحدَّر الدَّمُ عليها، فمات فدفَنّاه. وقال ابن عمٍّ لعمرو بن عُتبة: نَزلْنا في مَرْجٍ حَسَنٍ، فقال عمرو: ما أحسن لو أن مُناديًا يُنادي: يا خيلَ اللَّه اركبي، فنادى المنادي، فخرج عمرو في سَرَعان الناس، فأُخبِر أبوه -وكان على الناس- فقال: عليَّ عَمْرًا، فأرسل في طَلبه، فما أُدرك حتى أُصيب، فما أُراه دُفن إلا في مَرْكز رُمحه، رحمه اللَّه تعالى (¬1). فصل وفيها تُوفّيت أمُّ الفضل وهي لُبابَةُ الكُبرى بنتُ الحارث بن حَزْن بن البُجَيْر بن الهُزَم بن رُويبَة بن عبد اللَّه ابن هلال بن عامر بن صَعْصعة بن مُعاوية بن بكر بن هَوازن بن منصور بن عكرمة بن خَصَفة بن قَيس بن عَيْلان بن مُضَر، وأُمُّها هند، وهي خولةُ بنت عَوْف بن زهير بن الحارث. وكانت أُمُّ الفضل أوَّلَ امرأةٍ أسلمت بمكَّةَ بعد خديجة بنت خُويلد، وكان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَزورُها، ويَقيلُ في بيتِها. قال: وأخوات أُمِّ الفضل: مَيمونةُ بنت الحارث بن حَزْن، زوجةُ رسول اللَّه، وهي لأبيها وأُمِّها، ولُبابةُ الصُّغرى، وهي العَصْماء بنت الحارث بن حَزْن، وهي أُمُّ خالد بن الوليد، [وكانت أختها] لأبيها (¬2). [فتزوج أم الفضل العباسُ بن عبد المطلب]، فولدت ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 4/ 155 - 158، والمنتظم 4/ 349 - 351 في وفيات سنة خمس وعشرين. (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 263. وذكر لها أخوات أخر.

للعباس: الفضل، وعبد اللَّه، وعبيد اللَّه، ومَعْبدًا، وقُثم، وعبد الرحمن، وأمَّ حبيب، فقال عبد اللَّه بن يزيد الهلالي: [من الرجز]: ما وَلدتْ نَجيبةٌ من فَحْلِ كسِتَّةٍ من بطنِ أمِّ الفَضْل أكرِمْ بها من كَهْلَةٍ وكَهْلِ عمِّ النبيِّ المصطفى ذي الفضلِ وخاتم الرسْلِ وخيرِ الرُّسْلِ (¬1) وحكى ابن سعد عن الواقدي أن أُمَّ الفَضْلِ كانت تصومُ الاثنين والخميس، وحكى الواقدي أنَّها هاجرت إلى المدينة بعد إسلامِ العباس. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن الأَجْلحِ قال: سمعتُ زيد بنَ علي بن حُسين يقول: ما وضَعَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأسَه في حِجْرِ امرأةٍ لا تِحَلُّ له بعد النُّبَّوة إلا أُمّ الفضلِ، فإنَّها كانت تُفَلِّيه وتُكحّله، فبينما هي ذات يوم تُكحله إذ قَطرت قَطرةٌ من عَينِها على خَدِّه، فرفع رأسَه إليها وقال: "مالكِ؟ " فقالت: إنَّ اللَّه نَعاكَ لنا، فلو أوصيتَ بنا مَن يكونُ بعدك إن كان الأمرُ فينا أو في غيرِنا، فقال: "إنكم مَقْهورون مُستَضعَفون بعدي". وأُمُّ الفَضْلِ هي التي رأت في المنام كأن عُضْوًا من أعضاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سقط في بيتِها، فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَلِدُ فاطمةُ غُلامًا، فتُرضعينه بلبن ابنكِ قُثَم" فولدت الحُسين، فكَفِلَتْه أُمُّ الفَضْل وأرضعَتْه، وقد ذكرنا الحديث فيما تقدَّم. وأُمُّ الفضلِ هي التي بعثتْ إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقَدَح لبنٍ، وهو واقفٌ بعَرَفةَ على بعيرٍ، فشربه، وقد ذكرناه أيْضًا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) من قوله: فولدت للعباس. . . إلى هنا ليس في (ك)، ومن هنا إلى نهاية ترجمة أم الفضل، ليس في (خ) و (ع). (¬2) وانظر ترجمتها في طبقات ابن سعد 10/ 262، والمعارف 121، والاستيعاب (3445)، والمنتظم 4/ 342، والتبيين 84 و 155، والسير 2/ 314، والإصابة.

السنة الخامسة والعشرون

السنة الخامسة والعشرون وفيها عزل عثمانُ ولاةَ عمر عن الأمصار من غير جِنايةٍ ولا خِيانةٍ، وولّى مُعاويةَ حمص وقِنسرين والعواصم وفلسطين، فجمع له عثمان الشامَ بأسرِه في هذه السنة مُضافًا إلى دمشق. وفيها نَقض أهلُ الإسكندرية العهد، فسار إليهم عمرو بن العاص فقاتلهم، فعادوا إلى الصُّلح. وفيها عزل عثمان عمرو بنَ العاصِ عن مصر وولّاها عبد اللَّه بن سعد بن أبي سَرْح، وأمره بغزو إفريقية، وجهَّز معه عشرين ألفًا، وهذا ثالث أمرٍ نُقمَ على عثمان، لأن عبد اللَّه بن سعدٍ هو الذي كان يكتب لرسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وارتدّ، وأباح رسولُ اللَّه دَمَهُ، وقد ذكرناه. وكان معه عبد اللَّه بن الزّبير في غزاة إفريقية، قال عبد اللَّه بن الزبير: فهجم علينا جرجير؛ في مئة ألف وعشرين ألفًا، فاختلطوا بنا في كلِّ مكان، وسُقط في أيدي المسلمين، واختلف الناسُ على عبد اللَّه بن سعد، فدخل سُرْداقَه، ورأيتُ غُرّةً من جرجير بَصرتُ به خلف عساكره على بِرذَوْن أَشهب، معه جاريتان تُظلان عليه برِيش الطَّواويس، وبينه وبين جُنده أرضٌ بيضاء ليس فيها أحد. فجِئتُ إلى عبد اللَّه بن سعد أطلبُه في فُسْطاطه، فمنعني الحاجبُ، فدُرتُ من خلف الفُسطاط، فدخلتُ عليه فقال: ما الذي أدخَلك عليَّ يا ابن الزبير؟ فقلتُ: قد رأيتُ عَوْرةً من جرجير، فاندُب معي الناس. فخرج فقال: أيها الناس، انتدبوا مع ابن الزُّبير، فاخترتُ ثلاثين فارسًا، وقلتُ للناس: اثبتوا (¬1) على مَصافّكم، وحملتُ في الوَجْه الذي رأيتُ فيه جرجيرًا، فقلتُ لأصحابي: احموا ظَهري، فواللَّه ما نَشبتُ أن خَرقتُ الصّفوفَ إليه، وما يَحسِب هو ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): اركبوا.

ابن أم مكتوم

وأصحابُه إلا أني رسولٌ إليه، حتى دنوتُ منه، فعرف الشرَّ، فثنى بِرذَونَه مُوَلِّيًا، فأدركتُه فطعنتُه فسقط، وسقطت الجاريتان عليه، وأَهْوَيْتُ إليه مُبادرًا، فدَفَفْتُ عليه بالسيف حتى قتلتُه، واحتَزَزْتُ رأسَه، فنصبتُه في رُمْحي، وقطعتُ يدَ إحدى الجاريتين، وكبَّرتُ، وأَقبلتُ وأنا أكبِّر، فكبَّر المسلمون، وارفَضَّ العدوُّ من كلِّ وَجْه، ومنح اللَّه المسلمين أكتافَهم. فلما أراد عبد اللَّه بن سعد [أن يوجّه] بشيرًا إلى عثمان قال: أنت أولى بذلك، فانطلقْ إلى أمير المؤمنين فأخبرْه الخبر، فقدمتُ عليه فأخبرتُه، فقال: اخرُجْ فاصعد المنبر وأخبر الناس، ففعلتُ وقلتُ: إن أبي الزبير قال: سمعتُ أبا بكر الصديق يقول: مَن أراد أن يتزوَّج امرأةً فلينظر إلى أبيها وأخيها، فإنما تأتيه بأحدهما. وجاءت غنائمُ أفريقية، فدفع عثمان رضوان اللَّه عليه الخُمسَ إلى مروان بن الحكم، وكان خمس مئة ألف دينار، فضجَّ المسلمون فقالوا: تُعطي ابن لعينِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وطريدَه أموالَ المسلمين، فكان هذا رابع أمر أُخذ عليه. ولما عَزل عثمان -رضي اللَّه عنه- عمرو بن العاص عن مصر ووَلّاها عبد اللَّه بن سعد؛ كان ذلك بَدْءُ الشرِّ بين عثمان رضوان اللَّه عليه وعمرو، وقيل: في سنة سبع وعشرين. وفيها وُلد يزيد بنُ معاوية وعبد الملك بن مروان، وقيل قبل ذلك (¬1). وحجَّ بالناسِ في هذه السنة عثمان بن عفان من غير خِلافٍ. وفيها تُوفّي ابنُ أُم مَكتوم واختلفوا في اسمه، فقال ابن سعد: أمَّا أهلُ المدينةِ فيقولون: اسمُه عبد اللَّه، وأما أهلُ العراق وهشام بن محمد بن السَّائب فيقولون: اسمُه عمرو. وأُمُّه عاتكة، وهي أُمُّ مَكتوم بنت عبد اللَّه. وكان من الطبقة الأُولى من المهاجرين، قال ابن سعد: أسلم قديمًا بمكة، وذهبت ¬

_ (¬1) من قوله: وكان معه عبد اللَّه بن الزبير. . . إلى هنا ليس في (ك).

عيناهُ وهو غُلامٌ، وقَدِمَ المدينةَ مُهاجِرًا بعد بَدْرٍ بيسيرٍ، فنزل دار القُرَّاء، وهي دار مَخْرَمةَ بنِ نوفل. وروى عن الشعبي قال: غزا رسولُ اللَّه ثلاثَ عشرة غزوةً، ما منها غَزوةٌ إلّا استخلف ابنَ أُمِّ مكتوم على المدينةِ، فكان يُصَلِّي بهم وهو أعمى. وكان يُؤذِّن مع بلالٍ بالمدينة. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن بلالًا يُنادي بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يُنادي ابنُ أُمِّ مَكتوم". قال: وكان ابن أُمِّ مكتومٍ رجُلًا أعمى لا يُنادي حتى يُقال له: أصبَحْتَ أصبَحْتَ. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن عبدِ اللَّه بن جابر الأنصاري قال (¬1): جاء ابنُ أُمّ مكتوم إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه، إن مَنزلي شاسِعٌ، وأنا مَكفوف البصرِ، وأنا أسمعُ الأذان، قال: "فإن سمعتَ الأذانَ فأجِبْ ولو زَحْفًا" أو قال: "ولو حَبْوًا". وفي روايةٍ: تَشكّى ابنُ أُمِّ مكتوم قائدَه إلى رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: بيني وبين المسجدِ شجر، قال: "تَسْمَعُ الأذان؟ " قال: نعم، فلم يُرَخص له. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن الضحاكِ في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} [عبس: 1 - 2] قال: كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تصدَّى لرجلٍ من قريشٍ يَدعوه إلى الإسلام، فأقبل عبد اللَّه بنُ أُمِّ مكتوم، فجعل يسألُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورسولُ اللَّه يُعْرِضُ عنه وَيعبسُ في وَجهه، ويُقبِل على الآخر، وكُلَّما سأله عَبس في وَجهه وأعرضَ عنه، فعيَّر اللَّه رسولَه، وأنزل السورة إلى قوله: {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} [عبس: 10]. فلما (¬2) نزلت هذه الآيةُ دعاه رسولُ اللَّه فأكرمه، واستَخْلَفه على المدينة مرَّتين. وقال الواقدي: كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَستخلفُه على المدينةِ، وكان يَجمعُ بهم، ويَخطبُ إلى جَنْبِ المنبرِ، يَجعلُ المِنبرَ عن يساره. ¬

_ (¬1) من قوله: وقال ابن سعد بإسناده عن سالم. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). والأخبار السالفة في الطبقات 4/ 191 - 194. (¬2) من قوله: وفي رواية تشكى. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). والأخبار في الطبقات 4/ 194.

عروة بن حزام

وقال ابن سعدٍ بإسناده عن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95]، قال ابنُ أم مكتوم: يا ربِّ، ابتَلَيتَني، فكيف أَصنعُ؟ فنزلت: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}. وفي روايةِ ابن سعد: فكان ابنُ أُمِّ مكتوم بعد ذلك يَغزو ويقول: ادفَعوا إليَّ اللواءَ، وأقيموني بين الصَّفَّين. وفي روايةِ ابن سعدِ عن البراء: لمّا نزلت هذه الآيةُ دعا رسولُ اللَّه زيدًا، وأمره أن يَكتُبها في كَتِفٍ فكتبها، فجاء ابنُ أُمِّ مكتوم فشكا ضَرارته إلى رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فنزلت: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (¬1). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن أنسٍ: أن ابنَ أُمِّ مكتوم شهد القادسيَّةَ ومعه الراية، وعليه دِرْعٌ سابغة. قال الواقدي: ثم رجع إلى المدينةِ فمات بها، ولم يُسْمَعْ له بذِكْرٍ بعد عمر بن الخطّابِ (¬2). وقال هشام: كان يقول: ادفعوا إليّ اللواءَ، وأقيموني بين الصفوفِ فإني لا أستطيعُ أن أهربَ، وليس له رواية -رضي اللَّه عنه-. فصل وفيها توفي عُروة بنُ حِزام ابن مُهاصِر بن مالك، الشاعرُ، العُذْريُّ، أحدُ المُتيَّمين الذين قَتلهم الهوى. وصاحبتُه عَفراء بنت مالك، وقيل: بنتِ عِقال بن مُهاصِر بن مالك. فأخبرنا عبد الوهاب بإسناده أن عروةَ بن حِزامٍ وعَفراءَ ابنةَ مالكٍ العُذرِيَّيْن، وهما بطنٌ من عُذْرة، يقال لهم: بنو هند بن حِزام بن ضِنَّة بن [عبد] بُكير بن عُذْرة (¬3)، ¬

_ (¬1) من قوله: وفي رواية ابن سعد عن البراء. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). وانظر الطبقات 4/ 195 - 196. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 198. وانظر في ترجمته المعارف 290، والاستيعاب (1299) و (1474) و (1750)، والمنتظم 4/ 348، والتبيين 488، والسير 1/ 360، والإصابة 2/ 523. (¬3) كذا في (ك)، ومصارع العشاق 1/ 316، والمنتظم 4/ 352، وذم الهوى 407، وفي الأغاني 24/ 145، =

ويُقال: إنَّهما نشآ جميعًا، فعَلِقا عِلاقةَ الصِّبا، وكان عُروةُ يتيمًا في حِجْرِ عمِّه حتى بَلَغَ، وكان يَسألُ عمَّه يُزوِّجه عَفراء فيُسَوِّفُه، إلى أن خَرَجَت عِيرٌ لأهله إلى الشام؛ وخرج عروةُ معها، ووفَدَ على عمِّه ابنُ عمٍّ له من البلقاءِ يُريدُ الحجَّ، فخطبها فزوَّجه إياها. وأقبل عروةُ في عِيرِهِ تلك، حتى إذا كان بتَبوك نَظر إلى رِفْقَةٍ مُقبِلةٍ، فيهم امرأةٌ على جمَلٍ أحمرَ، فقال لأصحابهِ: واللَّه لكأنَّها شمائلُ عَفراء، فقالوا: أما تَتركُ ذِكْرَ عفراء؟ فلما قَربوا وتبيَّنَ الأمر، أبلس قائمًا لا يَحيرُ جوابًا حتى بَعُد القومُ، فذلك حين يقول: [من الطويل] وإني لتَعروني لذِكراكِ رَوْعَةٌ ... لها بين جلدي والعِظامِ دَبيبُ [وما] هو إلّا أن أَراها فُجاءةً ... فأُبْهَتَ حتى ما أكادُ أُجيبُ وقلتُ لعرَّافِ اليَمامةِ داوِني ... فإنَّك إن داوَيْتَني لَطَبيبُ وما بيَ من حُمَّى وما بيَ جِنَّةٌ ... ولكن عمِّي الحِميريَّ كَذوبُ فواللَّهِ ما أنساكِ ما هبَّتِ الصَّبا ... وما أَعْقَبَتْها في الرياحِ جَنوبُ وانصرف عروةُ إلى أهلهِ باكيًا والِهًا، فنَحِلَ ولم يَبْقَ منه شيءٌ، فقال بعضُ الناسِ: هو مسحورٌ، وقال بعضُهم: هو مجنون، وقال آخرون: مُوَسْوس. وكان باليَمامة طبيبٌ له تابعٌ من الجنِّ يَأتيه، وكان أطبَّ الناسِ، فقالوا: لو خَرجتُم إليه، فخرجوا به إليه، فجعل يَزداد سُقْمًا، فقال له عروةُ: يا هَناه، هل عندكَ للحبِّ دواءٌ أو رُقْيَةٌ؟ فقال: لا واللَّهِ، فانصرفوا من عنده، ومرُّوا بطبيب بحَجْر بنَجْدٍ، فصَنع به مثلَ ذلك، فلم يَنجح، فقال له عُروةُ: واللَّه ما دَوائي إلا عند شَخْصٍ بالبَلْقاء فهي دائي ودوائي، فانصرفوا به، فأنشأ يقول عند انصِرافهم به من عند الطّبيبِ: [من الطويل] جعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حُكْمَهُ ... وعرَّافِ نَجْدٍ إنْ هُما شَفَياني فقالا نعم نَشْفي من الدّاءِ كلِّه ... وقاما مع العُوَّادِ يَبْتَدِراني فما تَركا من رُقْيةٍ يَعلمانِها ... ولا سَلْوَةٍ إلّا وقد سَقَياني ¬

_ = وجمهرة أنساب العرب 315، وتاريخ دمشق 47/ 225 و 226: بن عبد بن كبير بن عذرة.

فقالا شَفاك اللَّهُ واللَّهِ ما لنا ... بما ضُمِّنَتْ منك الضُّلوعُ يَدانِ قال: فلما قَدِم على أهلهِ -وكان له والدةٌ وخالةٌ وأربعُ أخواتٍ- فمرَّضْنَهُ دَهرًا، فقال لهنَّ يومًا: لو نظرتُ إلى عَفراءَ نَظرةً ذهبَ وجعي، فذهبوا حتى نَزلوا البَلقاءَ مُسْتَخْفِين، وكان لا يَزالُ يَنظُرُ إلى عَفراءَ ويُلِمُّ بها، وكانت عند رجلٍ كريمٍ كثيرِ المال والغاشية. فبينما عُروةُ يومًا بسُوقِ البَلقاء لَقِيه رجلٌ من عُذْرَةَ، فسأله عن حالهِ ومَقْدَمهِ فأخبره، فجاء العُذْريُّ إلى زَوج عَفْراء، فقال له: متى قَدِم هذا الكلبُ الذي قد فَضَحكم؟ فقال زوجُ عَفراء: أيُّ كَلبٍ هو؟ قال: عُروةُ، [قال: ] وقد قَدِم؟ [قال: نعم]، قال: أنتَ أولى بها [منه] أن تكون كلبًا، واللَّه ما علمتُ بقُدومهِ، ولو علمتُ لضَمَمْتُه إليَّ. فلما أصبح غَدا يَستدلُّ عليه حتى عَرفَ مَوضعه، فجاءه فقال: قَدِمتَ هذا البلدَ ولم تَنزِل بنا؟ ولم نَرَ مَن يُعْلِمنُا بمكانكَ فيكون منزلُكَ عندنا؟ عليَّ وعَليَّ إن كان لك مَنزلٌ إلا عندي. قال: نعم، نتحوَّلُ إليك الليلةَ أو في غَدٍ، فلما ولَّى قال عروةُ لأهله: قد كان ما تَرَوْنَ، وإن أنتم لم تخرجوا معي، لأركبَنَّ رأسي، فارتَحلوا معه، ونُكِسَ عُرْوَةُ فلم يَزَلْ مُدْنَفًا حتى نزلوا بوادي القُرى (¬1). وفي روايةٍ أُخرى أن حِزامًا هلك، وترك ابنَه عُروةَ صغيرًا في حِجْرِ عمِّه عِقال بن مُهاصِر، وكانت عفراءُ تِرْبًا لعُروَةَ يَلعبانِ جميعًا ويكونان معًا، حتى ألِفَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه إِلْفًا شديدًا، وكان عِقال يقول لعُروة: أَبشِرْ، فإنَّ عفراءَ امرأتُك إن شاءَ اللَّه؛ لما يَرى من إلْفِهِما، فكانا كذلك حتى بَلغا، فشكا عُروةُ إلى عَمّته هند بنت مُهاصر ما يَجِدُ من حبّ عفراءَ، وطلب نَجازَ وَعْدِ عمِّه، فجاءت هندُ إلى أخيها عِقال وقالت: قد أتيتُك في حاجةٍ أُحبُّ أن تُحْسِنَ قضاءَها، وإنَّ اللَّه يؤجرك على صلة رحمكَ، فقال: اسألي، قالت: تُزوِّج عروة ابنَ أخيك عفراء، فقال: ما عنه مَذْهَبٌ، ولا بنا عنه رَغْبَةٌ، ولكنَّه ليس بذي مال، وليست عليه عجَلَةٌ. وكانت أُمُّها لا تُريدُ إلّا ذا مال، وعَلِمَ عروةُ أن رَجُلًا ذا مالٍ خَطبها، فجاء إلى ¬

_ (¬1) من قوله: فأخبرنا عبد الوهاب بإسناده. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع).

عمَّه وقال: يا عمّ، اتَقِ اللَّه فيَّ، وقد عرفتَ قَرابتي ورَحِمي، فإن زوَّجتَها غيري قَتلتَني وسَفَكْتَ دَمي، فأَنشُدُك اللَّه ورَحِمي، فرقَّ له وقال: يا بُنيَّ، أنت مُعْدَم، وقد أبَتْ أُمُّها أن تُخْرِجَها إلّا بمَهْرٍ غالٍ، فاذهب فاستَرزِق اللَّه في البلادِ واكتَسِبْ، فجاء إلى أُمَّها ولاطفَها وسألَها، فأبتْ إلّا بما تَحتكمُ من المهر، فعَزم على قَصْدِ ابنِ عم له باليمن مُوسِرٍ، فأَخبر عمَّه وامرأتَه بذلك، وأخذ عليهما العُهودَ أنهما لا يُحْدِثا حَدَثًا حتى يعود، وسافر، فلما قَدِمَ على ابن عمِّه عرَّفه حاله، فوَصله وكساه، وأعطاه مئةً من الإبلِ، فانصرف بها. وكان قد نزل حيَّ عفراء رجلٌ من أهلِ الشامِ مُوسِرٌ، فرأى عَفراء فأعجبَتْه، فخطبها إلى أبيها، فاعتذر وقال: قد سمَّيتُها على ابنِ أخي، فأرغبه في المالِ فقال: لا حاجَةَ لي فيه، فعَدَل إلى أُمَّها، وأرغَبها بالمال فأجابَتْه، وقالت لزوجِها: أيُّ خيرٍ في عُروة حتى تَحبِسَ بنتي عليه؟ واللَّهِ ما نَدري أحيٌّ هو أم ميَّت؟ وهل يَنقلبُ إلينا بخيرٍ أم لا؟ ولم تزل به حتى أجاب، وزوَّجه إيّاها، وحوَّلها إليه، فقالت عفراءُ عند ذلك: [من مجزوء الكامل] يا عُرْوَ إن الحيَّ قد نَقضوا ... عَهْدَ الإله وحاولوا الغَدْرا ودخل بها الرجلُ، وأقام عندهم ثلاثًا ثم ارتحل إلى الشامِ. وعمد أبوها إلى قبرٍ عَتيقٍ، فجدَّده وسوَّاه، وسأل الحيَّ كِتمانَ أمرِها. وقَدِم عروةُ بعد أيامٍ، فنعاها أبوها إليه، وذهب إلى ذلك القبرِ، وكان يَختلفُ إليه أيامًا حتى أخبرته جارِيةٌ من الحيِّ الخبرَ، فخرج إلى الشامٍ، فنزل على زوجِها وهو لا يعرِفُه، فأكرمه وأحسنَ إليه، فقال عروةُ لجاريةٍ لهم: هل لكِ في يَدٍ تُولينيها؟ قالت: وما هي؟ قال: تَدفعين خاتَمي هذا إلى عَفراء، فقالت: سَوْءةً لك، أما تَستحي من هذا القولِ؟ فأمسك عنها، ثم خاطبها مرارًا وهي تَردُّ عليه، فقال: وَيحك، واللَّه إنَّها ابنةُ عمي، فاطرحي هذا الخاتَمَ في صَبوحِها، فإن أنكَرَتْ عليك، فقولي: اصطَبَح ضَيْفُنا قبلَكِ، ولعلَّه سَقط منه، فرقَّت له الأَمَةُ وفعلت، فلما رأتْ عَفراءُ الخاتَمَ عَرفَتْه فقالت: اصدُقيني، فأخبرَتْها. فلما جاء زوجُها قالت له: هل تَدْري مَن ضَيْفُكَ؟ قال: لا. قالت: إنَّه عُرْوَةُ، وقد

كَتَمَ نَفسَه حياءً منك، فبعث إليه ودعاه، وعاتَبه على كِتمانهِ نَفسَهُ وقال له: بالرَّحْبِ والسَّعَةِ، نَشدتُك اللَّه إن رُمْتَ هذا المكان أبدًا. وخرج وتركه مع عفراء يتحدَّثان، وأوصى خادمًا له بالاستماعِ عليهما، وإعادةِ ما يَسمعُه منهما. فلما خليا تشاكيا ما وَجَدا بعد الفِراقِ، وطالتِ الشّكوى وهو يَبكي أحرَّ بكاءٍ، ثم أَتَتْه بشرابٍ، وسألته أن يَشربَه فقال: واللَّهِ ما دخل جوفي حرامٌ قَطّ، ولا ارتكبتُه منذ كنتُ طِفلًا، ولو استحللتُ حرامًا لكنتُ استَحللتُه منكِ، وأنتِ حَظّي من الدنيا، وقد ذهبتِ مني وذهبتُ منك، وما أعيشُ بعدكِ، وقد أجمل هذا الرجلُ الكريمُ وأحسنَ، واللَّهِ إني لمسْتَحي منه، وواللَّه إني لا أُقيمُ بعد علمه بمكاني، وإني أعلمُ أني راحلٌ إلى مَنيَّتي، وبكت وبكى وأنصرف. فلما جاء زوجُها أخبره الخادم بما جرى بينهما، فدعاه وقال: يا أخي، اتَّقِ اللَّه في نَفسك، فقد عرفتُ خبركَ، وإنَّك إن رحلتَ تَلِفْتَ، وواللَّه ما أَمنَعُكَ من الاجتماعِ بها أبدًا، وإن شئتَ نزلتُ لك عنها، وقال: يا عفراءُ، امنَعي ابنَ عمكِ من الخروجِ، فقالت: هو واللَّه أكرمُ وأشدُّ حياء من أن يُقيمَ بعدما قد علمتَ به. وقال عروةُ: جُزِيتَ خيرًا، ووُقيتَ شَرًّا، ولابُدَّ من الرجوعِ إلى أهلي، وإن عِشْتُ، رَجَعْتُ إليكم، فأعطته عفراءُ خِمارَها، وزوَّده زوجُها، وخرج، فكان كلما غُشي عليه أُلقي الخِمارَ على وَجهه [فيفيق]، فبينما هو يسيرُ لقيه ابنُ مَكحول عَرّافُ اليمامةِ، فسأله عمّا به، وهل به خَبَلٌ؟ فقال: [من الطويل]: وما بي من خَبْلٍ وما بي جِنَّةٌ ... ولكنَ عمّي يا أُخيَّ كَذوبُ أرى كَبدي أمستْ رُفاتًا كأنَّما ... يُلَذّعُها بالموقِداتِ لَهيبُ عشيَّةَ لا عَفراءُ منك بَعيدةٌ ... فتَسلو ولا عَفْراءُ منك قَريبُ وأَصدِفُ عن رأيي الذي كنتُ أرتئي ... وأَنسى الذي أَزمعتُ حين تَغيبُ ويُظهرُ قلبي عُذرَها ويُعينها ... عليَّ فمالي في الفؤاد نصيبُ وقد علمتْ نفسي مكانَ شِفائها ... قريبًا وهل ما لا يُنالُ قَريبُ حلفتُ بربِّ السّاجدِين لربَّهم ... خُشوعًا وربُّ الساجِدِين رَقيبُ

لئن كان بردُ الماءِ حَرّانَ صاديًا ... إليَّ حَبيبًا إنَّها لَحبيبُ (¬1) وقد ذكر أبو الفَرج الأصفهاني بمعناه وقال: وهو أحدُ المُتيَّمِين الذين قَتلهم الهوى، ولا يُعْرَف له شعرٌ إلا في ابنةِ عمّه عَفراء، ومازال به الحبُّ حتى مات. وقال ابن الكلبي: كان إذا اشتد به الهيامُ أَلصق خَدَّه بحِياضِ النَعَمِ التي كانت تَرِدُ عليها إبلُ عفراءَ، فقيل له: ارفُق بنفسكَ، فقال: [من الطويل] بي اليأسُ أوداءُ الهُيامِ أصابَني ... فإياكَ عني لا يكنْ بك ما بيا فما زادَني النَّاهونَ إلا صَبابَةً ... ولا كثرةُ الواشين إلا تمادِيا واختلفوا في وفاته، ذكر هشام بن الكلبي عن أبيه قال: لمّا عاد عروةُ من البَلقاءِ إلى أهلهِ وقد ضَنيَ، وكان له أخَواتٌ وخالة قد كانوا يُعلَّلونه، وهو لا يَزدادُ (¬2) إلا سُقْمًا حتى مات. وأنبانا غيرُ واحدٍ عن أبي الفضلِ محمد بن ناصرٍ بإسناده، عن النعمان بن بشير قال: استعملني عمر بن الخطاب -أو عثمان بن عفّان، شكَّ الهيثم- على صدقات سعد بن هُذَيْم وهم: عُذْرةَ، وسلامان، والحارث، وهم من قُضاعة، فلما قَبضتُ الصَّدقةَ وقَسمتُها بين أهلها، وأقبلتُ بالسَّهْمَيْنِ الباقِيَيْن إلى عمر أو عثمان، فلما كنتُ ببلادِ عُذرةَ في حيًّ يقال له: حيُّ بني هند، إذا ببيتٍ خارج عن الحيَّ، فملتُ إليه، وإذا بعجوزٍ جالسةٍ عند كسْرِ البيتِ، وإذا شابٌّ نائم في ظلِّ البيتِ، فسلَّمتُ عليه، فترنَّم بصَوتٍ له ضَعيفٍ، وقال: جعلتُ لعرَّافِ اليَمامةِ حُكْمَهُ ... وعرَّافِ نَجْدٍ إنْ هُما شَفَياني فذكر الأبيات، ثم شَهق شَهقةً خفيفةً، فإذا به قد مات، فقلتُ للعجوزِ: ما أظنُّ هذا النائمَ بفِناء بيتكِ إلا قد مات، فقامت فنظرتْ إليه وقالت: فاض وربِّ محمدٍ، فقُلتُ: يا أمةَ اللَّهِ، مَن هذا؟ قالت: عروةُ بن حِزامٍ العُذرِيُّ، وأنا أُمُّه، قلتُ: فما صيَّره إلى هذا؟ قالت: العِشقُ، وواللَّه ما سمعتُ له أنَّةً منذ سنةٍ إلّا في صَدره، وفي يومنا هذا ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 354 - 357، وذم الهوى 410 - 411. (¬2) في (خ) و (ع): وكان له أهل فما زلن يعللنه وهو يزداد سقمًا.

سمعتُه يقول: [من البسيط] مَن كان من أُمّهاتي باكيًا أبدًا ... فاليومَ إني أُراني اليوم مَقبُوضا يُسْمِعْنَنِيهِ فإنّي غيرُ سامعِه ... إذا علوتُ رقابَ القومِ مَعروضًا قال النعمان: فأقمتُ واللَّه حتى غُسِّلَ وكُفِّنَ وحُنّطَ، وصُلِّيَ عليه ودُفِنَ، قال: فقلتُ للنعمانِ: ما دعاكَ إلى ذلك؟ قال: احتسابُ الأجرِ فيه. وذكر أبو بكرٍ بن داود في كتاب "الزهرة" أن عروةَ لمّا مات مرَّ به رَكْبٌ فعرفوه، فلما انتهَوْا إلى منزلِ عَفراءَ صاحَ بعضُهم وقال: [من الطويل] ألا أتُّها الميتُ المحجَّبُ أهلُه (¬1) ... بحقَّ نَعَيْنا عُروةَ بنَ حِزامِ فأجابتْه عفراءُ وقالت: ألا أيّها الرَّكْبُ المُخِبّونَ وَيحكم ... بحقَّ نَعيتُم عُروةَ بن حِزامِ فأجابها بعضهم وقال: نعم قد تَركناه بأرضٍ بعيدةٍ ... مقيمًا بها في دَكْدَكٍ ورُخامِ فقالت: فإن كان حقًّا ما تقولون فاعلموا ... بأنْ قد نَعيتُم بَدْرَ كلِّ تَمامِ فلا لَقي الرّكبانُ بعدك لَذَّةً ... ولا رَجعوا من غَيْبةٍ بِسَلامِ ولا وَضَعتْ أُنثى تمامًا بمِثْلِهِ ... ولا فَرِحَتْ من بعدهِ بغُلامِ ولا لا بلغتُم حيث وُجِّهْتُمُ له ... ونُغِّصْتُمُ لذَّاتِ كلِّ طَعامِ ثم قالت: فأين دُفِنَ؟ فأخبروها، فسارت إلى قبرِه، فلما قَرُبت من قبرهِ قالت: إني أُريد قضاءَ حاجةٍ، فأنزلوها، فانسَلَّت إلى قبرِه، فانكبَّت عليه، فما راعهم إلا صوتُها، فلما سمعوها با دروا إليها، فإذا هي ممدودةٌ على القبرِ، قد خرجت نفسُها، فدفنوها إلى جانبهِ. وروى أبو بكرٍ الخطيبُ بإسنادهِ عن معاذ بن يحيى الصَّنعاني قال: خرجتُ من مكة أُريد صنعاءَ، فلما كان بيننا وبينها خمسًا رأيتُ الناسَ يَنزلون عن مَحامِلهم، ويَركبونَ ¬

_ (¬1) في (ك): ألا أيها الحي المعطل أهله، وفي الزهرة 1/ 480، وتاريخ دمشق 251 (تراجم النساء)، وذم الهوى 417، والمنتظم 4/ 358: ألا أيها القمر المغفّل أهلُه.

دوابّهم، فقلتُ: أين تُريدون؟ قالوا: نُريدُ أن ننظرَ إلى قبر عُروة وعفراء، فنزلتُ عن مَحملي وركبتُ حِماري، واتَّصلتُ بهم، فانتهيتُ إلى قبرَيْنِ مُتلاصِقَيْنِ، وقد خَرَج من هذا القبرِ ساقُ شجرة، ومن هذا ساقُ شجرة، حتى إذا صارا على قامةٍ التقيا، وكان الناسُ يقولون: تآلفا في الحياةِ وفي الموتِ. ورُوِي أن هذه القصَّة كانت في زمنِ عمر بن الخطاب، وقال عمر: لو أدركتُ عُروةَ وعفراء لجمعتُ بينهما. وروي عن مُعاوية أنه قال: لو علمتُ بهذين الشريفَيْنِ لجَمعتُ بينهما (¬1). وروي (¬2) أن عروة مات بعرفات، فذكر محمد بن حبيب الهاشمي، عن هشام بن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباسٍ، قال أبو صالح: كنتُ مع ابن عباسٍ في عرفاتٍ، فأتاه فِتْيانٌ يَحملون فتىً لم يَبقَ منه إلّا خيالُه، فقالوا: يا ابنَ عمِّ رسولِ اللَّه، ادْعُ اللَّه لهذا الفتى، فقال: وما الذي به؟ فقال الفتى: [من الطويل]: بنا من جَوى الأحزانِ والحبِّ لَوعةٌ ... تكادُ لها نَفْسُ الشَّفيق تَذوبُ ولكنَّما أبقى حُشاشةَ مُعْوِلٍ ... على ما بهِ عُودٌ هناك صَليبُ ثم خَفَتَ على أيديهم فمات، فقال ابن عباس: قَتيلُ الحبِّ لا قَودَ فيه ولا دِيَة، ثم سأل الفِتيان عنه فقالوا: هذا عُروةُ بن حِزام العُذري، ثم كان ابن عباسٍ يَسأل اللَّه العافية بعد ذلك. وقال أبو سعيد النُّميري (¬3): لقي مجنونُ ليلى الأَحْوصَ بنَ محمد الأنصاري، فقال له: حدِّثني حديثَ عُروةَ، فحدَّثه، فلما فَرَغَ قال المجنون: [من الوافر]: عَجبتُ لعُروةَ العُذْريِّ أمسى ... أحاديثًا لقومٍ بعد قَوْمِ وعُروةُ مات مَوتًا مُسْتَرِيحًا ... وها أنا ذا أموتُ بكلِّ يومِ انتهى حديث عروة بن حزام. ¬

_ (¬1) المنتظم 4/ 359، وذم الهوى 417 - 418. (¬2) من هنا إلى نهاية ترجمته ليس في (خ) و (ع)، والخبر في الأغاني 24/ 165 - 166. (¬3) في مصارع العشاق 2/ 75، وتاريخ دمشق 47/ 235: أبو معاذ النميري.

عمير بن وهب

فصل وفيها تُوفّي عُمير بن وَهب ابن خَلَف بن وَهب بن حُذافة السَّهْمي، كان قد شهد بدرًا مع الكفار، وبعثوه طَليعةً ليَحْزُرَ لهم الصحابةَ ففعل، وأُسِرَ ابنُه وهب بن عُمَيْرٍ، أسره رِفاعةُ بن رافعٍ، فلما قدم عُمير مكة جلس في الحِجْرِ وقال: لولا عيالي ودَيْني لاغتلتُ محمّدًا وقتلتُه، فقال له صفوانُ بن أُمية: عليَّ دَيْنُك، وعِيالُكَ عِيالي. فخرج إلى المدينةِ، فدخل على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: ما الذي أَقْدَمَك؟ قال: قَدِمتُ في فكاكِ ابني، فقال له رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: كُنْتَ قاعِدًا في الحِجْرِ، وقلتَ لصفوان كذا، وقال لك كذا، فقال: واللَّهِ ما كان معنا ثالث، فأشهدُ أن لا إله إلا اللَّه، وأنَّك رسولُه (¬1)، وأسلم وحَسُنَ إسلامُه، وشَهِد أُحُدًا مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ذكرنا قِصّته مع صفوان بن أُمية عقيب غزاة بدر، وبقي إلى هذه السنةِ، فتوفّي بالمدينةِ، وليس له رواية، رحمه اللَّه. انتهت ترجمته (¬2). قُطبة بن عامر ابن حَديدة بن عمرو بن سواد الأنصاري، من الطبقة الأولى من الأنصار، وكُنيته أبو زيد، من الستة الذين أَتَوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة فأسلموا قبل الناس. شهد العَقَبَتَيْن وبدرًا وأُحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان من الرُّماة المشهورين المذكورين، وجُرح يوم أُحد تسعَ جِراحات، وكانت معه يوم الفتح راية بني سلمة من الأنصار، وألقى يوم بدر حَجَرًا بين الصَّفَين وقال: لا أَفِرُّ حتى يفرّ هذا الحَجَر، وبعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى تبَالَة إلى حيٍّ من خَثْعَم، فاستاق الغنم وسبى، سنةَ سبعٍ من الهجرة، وليس له عَقِبٌ، والعقب من أخيه لأبويه: ¬

_ (¬1) من قوله: أسره رفاكة بن وافع. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع) (¬2) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 4/ 186، والاستيعاب (1715)، والتبيين 450، والمنتظم 4/ 351، والإصابة 3/ 36.

يزيد بن عامر بن حديدة

يزيد بن عامر بن حديدة وكنيته أبو المنذر، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كلَّها، وكان له من الولد عبد الرحمن والمنذر، ومن ولده الإمام أبو العباس أحمد النّاصري رحمه اللَّه (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر في ترجمتهما طبقات ابن سعد 3/ 535 - 536، والاستيعاب (2148) و (2732)، والاستبصار 163، والإصابة 3/ 237، 659، وتاريخ دمشق 59/ 40، وترجمة قطبة ويزيد ليستا في (ك).

السنة السادسة والعشرون

السنةُ السادسةُ والعِشْرون وفيها أمر عثمانُ بتَجديد أنصابِ الحرم، ووسَّع في المسجدِ الحرامِ، وابتاعَ من قومٍ دُورَهم وامتنع آخَرون، فهدمها عليهم، ونزَّل أثمانَها في بيت المال، فاستغاث أصحابُها، فحبسهم وقال: ما جَرَّأكم عليَّ إلا حِلْمي، قد فعل بكم هذا عمرُ فلم تَستغيثوا به، ثم كلَّمه فيهم خالد بن أُسَيْد فأطلقهم. وفيها عزل عثمان سعدًا عن الكوفةِ لأمرٍ جوى بينه وبين ابن مسعود، وقال الزهري: وهذا خامِسُ أمرٍ أخذَ الناسُ على عثمان؛ توليةُ الفاسقِ الوليد بنِ عُقْبَةَ، وعزلُ سعد بن أبي وقّاصٍ صاحب رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأحدِ العشرة الذين بشَّرهم رسولُ اللَّه بالجنَةِ، وأحدِ أصحابِ الشّورى (¬1). وذلك أن سعد بن أبي وقاص استَقرض (¬2) من عبد اللَّه بن مسعود من بيت المال مالًا، فأقرضه، فلما تقاضاه لم يَتيسَّر عليه قضاؤه، فأتى ابنُ مسعود فقال لسعد: أدّ المال الذي قِبَلك، فقال له: هل أنت إلا عبدٌ من هُذَيل، قال: وأنت ابنُ حُمينة، فطرح سعد عُودًا في يده، وكانت فيه حِدّة، ورفع يده وقال: اللهمَّ رب السماوات والأرض، فقال له عبد اللَّه: قُل خيرًا ولا تَلعن، فقال سعد -رضي اللَّه عنه-: أما واللَّه لولا اتّقاءُ اللَّه لدعوتُ عليك دعوةً لا تُخطِئك، فولّى ابنُ مسعود خارجًا مُسرعًا، فعُزل سعد، وأُقِرَّ ابنُ مسعود على بيت المال. وقال هشام: وكان الوليد بن عُقبة قد ولّاه عمرُ الجزيرةَ على عربِها، فنقله عثمان إلى الكوفةِ فتلطَّفَ بالناسِ، وأقامَ خمسَ سنين ليس على دارِه بابٌ، وقد ذكرنا أنَّه أخو عثمان لأُمِّه، واستردَّ عثمانُ ما أخذَ سعدٌ من بيتِ المال، وحجّ عثمان -رضي اللَّه عنه- بالناس. ¬

_ (¬1) من قوله: وقال الزهرى. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬2) في (خ) و (ع): وكذلك ابن سعد بن أبي وقاص يستقرض، ومن هذه العبارة إلى قول هشام الآتي ليس في (ك).

عمرو بن سراقة

فصل وفيها توفي عمرو بن سُراقة [بن] المعتمر بن أنس [بن أداة] بن رياح العَدَوي، من الطّبقة الأولى من المهاجرين، وأمه آمنة بنت عبد اللَّه بن عُمير، جُمحيّة، شهد بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهدَ كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس له رواية (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر في ترجمته طبقات ابن سعد 3/ 358، والاستيعاب (1761)، والتبيين 430، والإصابة 2/ 537، وترجمة عمرو ليست في (ك).

السنة السابعة والعشرون

السنة السابعةُ والعِشْرون وفيها فُتحت الأندلسُ، قال سيف عن أشياخهِ: أرسل عثمانُ عبدَ اللَّه بنَ الحُصَيْنِ وعبدَ اللَّه بن عبد القيس إلى الأندلس، فأتياها من قِبَلِ البحرِ، وكتب إليهما: إن القسطنطينية إنَّما تُفْتَحُ من قِبل الأندلس، فإن فتحتُم الأندلسَ، كنتم شُركاءَ مَن يَفتح القسطنطينية في الأجرِ، فسارا إليها، فقاتلاها في البحر والبر، ففتحها اللَّه تعالى. وقال يزيد بن أبي حبيب: نزع عثمان رضوان اللَّه عليه عمرو بنَ العاص عن خراج مصر، واستعمل عليها عبد اللَّه بدتَ سعد بن أبي سَرْح، فكتب إلى عثمان رضوان اللَّه عليه يَشكو عَمرًا ويقول: كسر الخراج. وقال الواقدي: وكان عثمان رضوان اللَّه عليه لا يَعزل أحدًا إلا عن جناية أو شِكاية أو استعفاء، فكتب إلى عمرو بالقُدوم عليه، فقَدم مُغضَبًا، وعليه جُبَّةٌ مَحشُوَّةٌ قُطنًا، فقال له عثمان رضوان اللَّه عليه: ما حَشْوُ جُبَّتك؟ قال: حَشْوُها عمرو، قال له عثمان رضوان اللَّه عليه: لم أُردْ هذا، إنما سألتُ: أقُطْنٌ هو أم غيره؟ وأقام عمرو بالمدينة يَطعن في عثمان رضوان اللَّه عليه، ويُؤلِّب الناسَ عليه، وسعى في فساد أمره، وبعث عبد اللَّه بن سعد إلى عثمان -رضي اللَّه عنه- من مصر بمالٍ كثير، فقال لعمرو: يا عمرو، هل علمتَ أن تلك اللِّقاح بعدك دَرَّت؟ ! فقال له عمرو: هل علمتَ أن فُصلانَها هَلكتْ. وفيها غزا معاويةُ قبرس، وقيل: إنما غزاها في السنة الثامنة والعشرين، والذي غزاها في هذه السنة أبو الأعور السُّلمي، وحجّ بالناس عثمان رضوان اللَّه عليه. عبد اللَّه بن كعب ابن عَمرو بن عَوف بن مَبْذول، وكُنيتُه أبو يحيى، وقيل أبو الحارث، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وشهد بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهدَ كلَّها، وكان عاملَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على مغانم بدر، وله عَقب، وليس له رواية (¬1). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 479، والاستيعاب (1385)، والا ستبصار 83، والإصابة 2/ 362، وترجمة عبد اللَّه ليست في (ك).

السنة الثامنة والعشرون

السنة الثامنة والعشرون وفيها فُتِحت قُبرس على يد معاوية بن أبي سفيان في قولِ الواقدي، وقال أبو معشر: كان ذلك في سنة سبعٍ وعشرين. وقال الواقدي: كان عمر قد منع المسلمين من الغَزْوِ في البحرِ شفقةً عليهم، واستأذنه معاويةُ في ذلك فلم يأذن له، فلما وَليَ عثمانُ استأذنه فأذِنَ له وقال: لا تُكْرِه أحدًا، مَن غزا طائعًا فاحمِلْه، ولا تُكرِه أحدًا، فسار في جماعةٍ من الصحابةِ منهم: أبو ذَرّ وعُبادة بن الصامت، ومعه زوجته أُمُّ حَرام بنت مِلْحان، خالةُ أنس بن مالك، أُخت أُمَّ سُلَيم، وشدَّاد بن أوسٍ وأبو الدرداءِ في آخرين. وهو أوَّل من غزا الجزائِرَ في البحرِ، وقيل: كان ذلك في سنة ستٍّ وثلاثين، يعني غزاة الصحابة معه. وقال الواقدي: صالحه أهلُها على مالٍ، والأصحُّ أنَّها فُتِحت عَنْوةً. وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن (¬1) جبير بن نُفَير قال: لمّا افتتح المسلمون قُبرس فرَّقوا بين أهلِها، فجعل بعضُهم يَبكي إلى بعضٍ، فبكى أبو الدرداءِ، فقلتُ له: ما يُبكيكَ في يومٍ أعزَّ اللَّهُ فيه الإسلامَ، وأذلَّ الشِّركَ وأهله؟ فقال: دَعْنا منك يا جُبَيْرُ، ما أهونَ الخَلْقَ على اللَّه إذا تركوا أمره! بينما هي أُمَّةٌ قادِرةٌ قاهرة، تركوا أمر اللَّه، فصاروا إلى ما ترى، وفي روايةٍ: فسلَّط اللَّه عليهم السَّبْيَ، وإذا سُلِّطَ على قومٍ فليس له فيهم حاجَةٌ (¬2). وفيها التقى عبد اللَّه بن سعد بن أبي سَرْح بمعاوية على قُبرس. فصل: وفيها تزوَّج عثمان بن عفان نائلة بنت الفَرافِصة. واختلفت الروايةُ في سبب تَزويج عثمان نائلة، فقال هشام: كان الفَرافصةُ يسكنُ السَّماوَةَ -سَماوَةَ كَلْبٍ- وكان نصرانيًا وابنتُه نصرانيّة، وكانت بارِعةَ الجَمالِ، فبلغ ¬

_ (¬1) من قوله: وهو أول من غزا الجزائر. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬2) المنتظم 4/ 364، وأخرجه الطبري 4/ 262.

عثمانَ فخطبها، فحُملِت إليه، فتَحَنّفت قبل أن يَدخُلَ بها. وقيل: إنَّ عثمان استعمل الوليد بنَ عُقبة على صَدَقاتِ كَلبٍ فزوَّجه نائلة. وروى الهيثم بن عَدي أن سعيد بن العاص تزوَّج هند ابنةَ الفَرافِصةَ، وبلغ عثمان، فكتب إليه: زَوِّجني أُخْتَها نائلة فقد بلغني جَمالُها، فزوَّجه إيّاها، وبعث بها إليه. وفي روايةٍ أُخرى قالوا: لمّا جهَّزَ الفَرافِصَةُ ابنتَه من السَّماوةِ بعث معها أخاها ضَبًّا، وكان مُسلمًا، وهو الذي زوَّجها من عثمان، وكان أبوها على دِينه، أوصاها وقال: يا بُنَيَّةُ، إنَّكِ تَقْدُمينَ على نساءِ قريشٍ، وهُنَّ أقْدَرُ على الطّيبِ منكِ، فعليك بالماءِ والكُحْلِ. قال هشام: وكانت نَصرانيةً، وقال ابن عساكر في تاريخه: إنما أسلمتْ على يد عثمان، فلما فارقَتْ أهلَها استَوحَشَتْ وجَزِعت لفراقِ أهلها وبلادِها، فقالت تُخاطبُ أخاها: [من الطويل] ألستَ ترى باللَّهِ يا ضَبُّ أنَّني ... مُصاحبةٌ نحو المدينةِ أَركُبا أما كان في فِتيانِ حِصْنِ بن ضَمْضَمٍ ... لك الويلُ ما يُغني الخِباءَ المُحَجَّبا قضى اللَّه إلّا أن تموتي غريبةً ... بيَثربَ لا تَلْقَيْنَ أُمًّا ولا أبا وكتب الوليدُ إلى عثمان يُخْبِرُه، فلما قَدِمَت عليه قام عثمان فصلّى ركعتين ثم قال: يا هذه، أتَأتينا أم نَأتيك؟ فقالت: قد تَجَشَّمْنا إليكَ المسيرَ من السماوة، وهي أبعدُ ممّا بيننا من مسافةِ البيتِ، وقامت فجلست إليه فقال لها: لعلَّكِ تَرَيْنَ شَيْبًا وتعلّيًا في السِّنِّ، وإنَّ وراء ذلك بقيَّة من عُلالةٍ من الشبابِ. فقالت: إنَ أحبَّ الخُلطاء إليَّ من ذهبت عنه مَيْعَةُ الشبابِ، واجتمع حِلْمُهُ، ووَثق رَأْيُهُ، فكان عثمانُ يقول: ما رأيتُ أعقَلَ منها. وفي روايةٍ أنَّ الوليد بنَ عُقبة قَدِمَ على عثمان فقال: قد زوَّجتُك نائلةَ، فقال له عثمان: زوَّجتَني نَصرانيةً؟ فقال: إذا دخلت عليك أسلمتْ، فلما قَدِمَتْ عليه وضع عِمامتَه، فبدا الصَّلَعُ فقال: لا يهولنَّكِ ما تَرَيْنَ من صَلَعي؛ فإنَّ وراءَه ما تُحبِّين، وقال: إمّا أن تَقومي إليَّ أو أقومَ إليك. وفي روايةِ ابن الكلبي أن امرأةَ عبد الرحمن بن عوف قالت لعثمان: هل لكَ في

أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد

بِكْرٍ جميلةٍ، ممتلئةِ الخَلْقِ، أسيلةِ الخَدَّ، أصيلةِ الرأي؟ قال: نعم، فذكرتْ له نائلةَ، فتزوَّجها، فلما قَدِمت عليه وَضع القَلَنْسوة عن رأسهِ، فبدا الصَّلَعُ فقال: لا يهولنَّكِ ما تَرَيْنَ من صَلَعي؛ فإنَّ وراءه ما تُحبّين، فقالت: إني امرأةٌ من نسوةٍ أحبُّ أزواجِهنَّ إليهن الصُّلْع الكهول. فقال: قد جاوزتُ حدَّ الكهول، وأنا شيخٌ، فقالت: أذهبت شبابَكَ مع رسولِ اللَّه في خير ما ذَهَبَتْ فيه الأعمارُ، فقال: إمَّا تتحولين إليَّ أو أتحوَّل إليك، فقالت: ما قطعتُ من عرضِ السماوة -أو جَنباتِ السماوةِ- أبعدُ مما بيننا، ثم قامت فتحولَّت إليه، فقال: انزعي دِرعَك، فألقَتْه، قال: وخماركِ، فطرحتْه، قال: وإِزارَكِ، قالت: ذاكَ إليكَ، فحلَّه فكانت أحظى نسائهِ عنده. وقال هشام: أقامت عند عثمان حتى قُتِل، وهي التي أرسلت بقميصِ عثمان وأصابِعها الخمسِ إلى مُعاوية، فعلَّقه على مِنْبر دمشق سنةً، وخطبها مُعاويةُ فقالت: واللَّهِ لا قعَدَ موضعَ عثمانَ مني أحدٌ. ودعت يومًا بمرآةٍ فنظرت فيها، وكانت من أحسنِ الناس ثَغرًا، فأخَذَت فِهْرًا فدقَّت به أسنانَها، فهَتَمتْ ثناياها، فسال الدَّمُ على صَدْرِها، فبكين جواريها وقُلنَ لها: ما صَنَعْتِ بنفسكِ؟ فقالت: إنَ الحُزْن يَبلى كما يَبلى الثوبُ، وإني خِفْتُ أن يَبلى حُزْني على عثمان فأتزوَّج غيره، فيطَّلعَ مني رجلٌ على ما اطَّلعَ عليه عثمان، وواللَّه لا يَجتلي ثغري أحدٌ بعد عثمان (¬1). وسنذكرها في زوجاتِ عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-. فصل وفيها توفيت أُمُّ حَرام بنت مِلْحان بن خالد بن زيد وذكرها ابنُ سُمَيعٍ في الطبقةِ الأولى من الصحابياتِ. وقد ذكرنا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يزورُها ويَقيلُ في بيتِها، وأنَّها أسلمتْ وبايعتْ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانت صالحةً، وتزوَّجها عبادةُ بن الصامت. واختلفوا في وفاتِها: ¬

_ (¬1) انظر ترجمتها في تاريخ المدينة 981 - 982، وأنساب الأشراف 5/ 101 - 103، والأغاني 16/ 322، والمنتظم 4/ 365 - 367، وتاريخ دمشق (تراجم النساء) 404 - 409.

قال أحمد بإسناده عن أنسِ بن مالك عن أُمِّ حَرام أنها (¬1) قالت: بينما رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قائلًا في بيتي، إذا استيقظ وهو يضحكُ، فقلتُ: بأبي أنت وأُمّي، ما يُضْحِككَ؟ فقالت: "عُرِضَ عليَّ ناسٌ من أُمتي يركبون ظهرَ هذا البحرِ كالملوكِ على الأَسِرَّة"، فقلتُ: ادعُ اللَّه أن يَجعلني منهم، فقال: "اللهمَّ اجعلها منهم"، ثم نام أيضًا واستيقظ وهو يضحك، فقلتُ: بأبي أنْت وأُمي، ما يُضحكك؟ فقال: "عُرِضَ عليَّ ناسٌ من أُمَّتي يركبون هذا البحرَ، كالملوكِ على الأسِرَّة"، فقلتُ: ادعُ اللَّه أن يَجعلني منهم، قال: "أنتِ من الأَوَّلِين"، فغزتْ مع عُبادةَ بنِ الصامتِ، وكان زوجَها، فوَقَصَتْها بغلةٌ لها شَهباءُ، فوقعت فماتت، ذكره (¬2) جَدّي في "جامع المسانيد" وقال: أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). وذكره ابنُ عساكر وقال: أخرجه مسلم وفيه: يركبون البحر الأخْضَرَ، قال: فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامتِ أوَّلَ ما ركبَ المسلمون البحر مع معاوية بن أبي سفيان، فلما انصرفوا قافلين من غَزاتهم قَدِموا الشام، فقُدِّمتْ إليها دابَّتُها لتَركَبها؛ فصَرعتْها فماتت (¬4). ومعنى قولِه عليه السلام: أنتِ من الأوَّلين، أي: لا تركَبين البحر ثانيًا، ولم يُذْكَر في هذه الرواياتِ مكانُ وفاتِها، وقال أبو نعيم: هو مكان يقال له: قاقيس. قال أبو نعيم بإسناده عن خالد بن مَعْدان، عن عُمير بن الأسود العَنْسي أنَّه حدَّثه، أنه أتى عُبادة بنَ الصامتِ وهو بساحلِ حمص، وهو في بناءٍ له، ومعه امرأتُه أُمُّ حَرامٍ، قال عمير: فحدَّثتْنا أُمُّ حَرامٍ أنَّها سمعت رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أوَّل جيشٍ من أُمتي يَغزون البحر قد أوجبوا"، قالت أُمُّ حَرام: يا رسول اللَّه، أنا منهم؟ قال: "أنتِ منهم". قال هشام بن عمار راوي الحديث: فأنا رأيتُ قبرها، ووقفتُ عليه بالساحلِ بقاقيس، وذكر أبو نُعيم أن قبرها بقُبرس، فقال أبو نُعيم بإسناده عن هشام بن الغاز قال: قبرُ أُمَّ ¬

_ (¬1) من قوله: وقد ذكرنا. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬2) من هنا إلى نهاية ترجمة أم حرام ليس في (خ) و (ع). (¬3) مسند أحمد (27032)، وصحيح البخاري (2799 - 2800)، وصحيح مسلم (1912). (¬4) تاريخ دمشق (تراجم النساء) 487، وصحيح مسلم (1912) (162).

حَرام بنت مِلحان بقُبرس، وهم يقولون: هذا قبرُ المرأةِ الصالحةِ (¬1). وكذا قال ابن مَنْدَه وأبو سليمان بن زَبْرِ، حكى عنهما ذلك ابنُ عساكر، وكان أميرهم معاوية بن أبي سفيان. وقال ابن سُمَيْعٍ: قبرُها برُودِس، مكانٌ بالساحلِ، قال: غزت مع زَوْجِها عُبادة بن الصّامتِ، وكان معهم أبو ذر وأبو الدّرداءِ، فسقطت من دابّتها فماتت ودُفنت بالساحل (¬2). واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 62. (¬2) تاريخ دمشق 494، 496. وانظر في ترجمتها طبقات ابن سعد 10/ 404، والاستيعاب (3500)، والاستبصار 40، والإصابة 4/ 441، وسير أعلام النبلاء 2/ 316 وفيه مصادر أخرى.

السنة التاسعة والعشرون

السنةُ التاسعة والعشرون قال الواقدي: وفيها عزل عثمانُ أبا موسى عن البصرة، وولّاها عبد اللَّه بن عامرِ ابن كُرَيْز، ابن خال عثمان، وهو يومئذٍ ابنُ خمسٍ وعشرين سنةً، وكان في وصيَّةِ عمر الخليفةَ بعده أن يُقرَّ أبا موسى الأشعري على وِلايته ولا يَعزله. وقال سيف: وهذا سادسُ أمرٍ أُخِذَ على عثمان، لمّا ولي عثمان أقرَّ أبا موسى على البصرةِ ثلاث سنين، وعزله في الرابعة. وقال ابن مَنده: إنَّما عزل عثمانُ أبا موسى عن البصرةِ لأنَّه حثَّ الناسَ على الجهاد إلى كابُل، فقالى الناسُ: لنا أُسوةٌ بك، إذا خَرَجْتَ خرجنا، فخرجَ ثَقَلُهُ من القصرِ على أربعين بَغلًا، فتعلَّقوا بها وقالوا: احمِلْنا على بعضها، فقَنَّع بعضَهم بالسَّوطِ فاستغاثوا، وبلغ عثمانَ فعزله. وفي روايةٍ: أن الأكراد أفسدوا وكفروا، وكذا أهلُ إيذَج، فقام أبو موسى خَطيبًا، وزهَّد في الدنيا ورغَّب في الآخِرة، فقالوا: واللَّهِ ما نخرجُ معه حتى نَنظُرَ هل يُوافِقُ قولُه فِعلَه أم لا؟ فلما خَرَج في المغالىِ وعليها الأثقالُ تَعلَّقوا بها، وكتبوا إلى عثمان فعزله، وأمَّر عبد اللَّه بن عامرٍ (¬1). وفيها ولّى عثمان على خُراسان عُمير بنَ عثمان بن سعد، وعلى سجستان عبد اللَّه ابن عُمير الليثي، فسيّر عُمير إلى فَرغانة، وشنّ الغارات، فصالحه أهلُ الكُوَر، وكذا عبد اللَّه بن عُمير أثخن في البلاد حتى بلغ النهر. وفيها انتقضَتْ خُراسان وسجستان، فأمر عثمان عبدَ اللَّه بنَ عامر، فسار إليها في جنود العراق، وكان عُبيد اللَّه بن مَعمر قد تقدَّم عبد اللَّه بن عامر في جيشه، فالتقى به العدوّ على باب اصطَخْر، فقتلوا عبيد اللَّه بن مَعمر، وهزموا جيشَه، وبلغ الخبر عبد اللَّه ¬

_ (¬1) من قوله: وفي رواية أن الأكراد. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع).

ابن عامر، فقَدَّم بين يديه عثمان بن أبي العاص الثقفي، فالتَقَوا، فقتل منهم مقتلةً عظيمة، واستقامت البلادُ وفتح اصطَخْر، وعاد إلى البصرة، وبعث إلى عثمان رضوان اللَّه عليه بالفتح والغنائم (¬1). وفي هذه السنةِ رجم عثمان بن عفان امرأةً من جُهينةَ دخل بها زوجُها، فولدت لستّة أشهر، قال محمد بن حبيب الهاشمي: فدخل عليه عليٌّ عليه السلام فقال: ما فعلتَ؟ فإن اللَّه تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وقال: {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فأقلُّ مُدَّةِ الحملِ ستَّةُ أشهُر، فأرسل عثمان في أثرِها وقد فات الأمر، وهذا سابعُ أمرٍ أُخِذَ على عثمان. وقال الواقدي: وفي هذه السنةِ وسَّع عثمانُ مسجدَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وابتدأ في بنائهِ في شهرِ ربيعٍ الأوّلِ، وبناه بالحجارةِ المنقوشةِ، وزَخْرَفَه بالذهبِ والفضَّة، وسَقَفه بالسّاجِ، وجعل طُولَه ستين ومئةَ ذِراعٍ، وعرضَه خمسين ومئةَ ذِراعٍ، وجعل له ستَّة أبوابٍ، قال: وإنَّما وسَّعه لأنه ضاق بالناسِ. وذكر جدّي في "المنتظم" وقال: رأيتُ لأبي الوفاءِ بن عَقيل كلامًا حسنًا في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ في غيرهِ إلا المسجد الحرام"، قال: هذا الفضل يتعلَّقُ بمسجدِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي كان في زمانهِ، لا بما زِيدَ فيه بعده (¬2). وقد عَلَّمَ أهلُ المدينةِ مكانَ المسجدِ القديمِ بالحبالِ، وهو مُعَلَّم إلى هَلُمَّ جَرًّا. قلتُ: وقد ضَيَّق ابنُ عَقيلٍ على الزوّارِ أماكنَ الصلاةِ، وقد يَحتمل أن يَحجَّ خَلْقٌ كثيرٌ فلا يَصِلون إلى ذلك المكان المُعَيَّنِ، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جُعِلت لي الأرضُ مسجدًا"، وما قصد إلّا دَفعَ الحَرَجِ، والظاهر أنْ ليس في المدينةِ مكانٌ إلّا قد وَطِئه بقَدِمهِ، ¬

_ (¬1) من قوله: وعلى سجستان عبد اللَّه بن عمير. . . إلى هنا ليس في (ك)، وانظر الطبري 4/ 264 - 265، والمنتظم 5/ 3 - 4. (¬2) المنتظم 5/ 5، والحديث في مسند أحمد (1605) و (4646) و (7253) و (14694) و (16117) و (16731) و (7734) و (26835) عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة وجابر وابن الزبير وجبير ابن مطعم وعائشة وميمونة -رضي اللَّه عنهم-، وانظر صحيح البخاري (1190)، وصحيح مسلم (1394 - 1396).

فصل

فصارت كلّها مسجدًا، فيحتمل أن معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "صلاةٌ في مسجدي"؛ تَرغيبٌ في الصلاة فيه، فأما إذا زِيَد فيه، فإنَّ الزائدَ يَصير تبَعًا، فيكون له حُكْمُ الكُلَّ؛ لأن بَركتَه -صلى اللَّه عليه وسلم- تعمُّ الدنيا بأسرِها، ألا ترى أن عمر وسَّع في المسجدِ الحرامِ، والصلاةُ فيه في الفضيلةِ سواءٌ (¬1). فصل: وحجَّ بالناس عثمان، وأتمَّ الصلاةَ بمكَّةَ وعَرفة، وضرب بمنًى فُسْطاطًا، وصلّى أربعًا. وقال الواقدي: صلّى عثمان بمنى ومكَّةَ وعرفة أوَّل خلافته ركعتين ركعتين، حتى إذا كانت السنة السادسة من خلافتهِ صلّى أربعًا، فعاب الناسُ عليه ذلك، وهذا ثامنُ أمرٍ عابوه عليه، قال: وجاءه عليٌّ فقال: ما هذا؟ ما حَدَث أمرٌ ولا قَدُم عَهدٌ، وقد صلَّينا هاهُنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكرٍ وعمر ركعتين، وفعلتَه صَدرًا من خلافتك، فلمَ أحدثتَ هذا؟ فقال: رأيٌ رأيتُه، فقال: بئس ما رأيتَ. وجاءه عبد الرحمن بنُ عوف فأغلظ له، فقال: إني اتَّخذتُ بمكة أهلًا، ولي بالطائف مالٌ، وربما أقمتُ بعد الصَّدَرِ، فقد صرتُ من أهلها، وإن حُجّاجَ اليمنِ قالوا في العام الماضي: الصلاةُ للمقيمِ ركعتان، وهذا إمامكم يُصَلِّي ركعتين وهو مقيمٌ، فقال له عبد الرحمن: لا عُذْرَ لك فيما ذكرتَ. وأما أهلُ اليمنِ فقد ضرب الإسلام بجِرانِه، وفعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك، وكان الناس حينئذٍ قليلًا، ولم يَفهموا ما قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى بيَّنه بفعلهِ وقولهِ: "أتِمُّوا صلاتكم فإنا قومٌ سَفْرٌ" (¬2). وأما قولُك: إنك صِرتَ من أهلِ مكَّةَ، فلست من أهل مكة، زوجتك بالمدينة، ¬

_ (¬1) من قوله: وذكر جدي. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع)، والحديث أخرجه أحمد (14264)، والبخاري (335)، ومسلم (521) عن جابر -رضي اللَّه عنه-. (¬2) أخرجه الطيالسي (840) و (858)، وأبو داود (1229)، وابن خزيمة (1643)، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 154 من حديث عمران بن حصين -رضي اللَّه عنه-.

تَقدم بها إذا شئتَ، وتَخرجُ بها إذا شئتَ، فهي تَسكُنُ بسُكْناك. وأما مالُك بالطائف؛ فبينك وبين الطائفِ ثلاثُ ليالٍ، فلستَ من أهلِ الطائف. ثم خرج عبد الرحمن فلَقي ابنَ مسعودٍ، فعرَّفه ما قال عثمان فقال: الصلاة ركعتان واتفقت الصحابةُ على ذلك (¬1). وقال الهيثم: اعتذر عثمانُ بكثرةِ الخَلْقِ، وأن فيهم الأعجميَّ الذي لا يفهم، فخاف أن يعتقدوا أن صلاةَ الظهرِ ركعتان. فلم يقبلوا عُذْرَه وقالوا: خالَفتَ رسول اللَّه والخليفتين. وأخرج أحمد في "المسند" بمعناه، بإسناده إلى محمد، عن القاسم بن عوف الشيباني (¬2)، عن رجلٍ قال: كُنّا قد حَملْنا لأبي ذَرٍّ شيئًا نُريدُ أن نُعطيَه إيّاه، فأتينا الرَّبَذةَ، فسألنا عنه فلم نَجِدْه، وقيل: استأذن في الحجِّ فأُذِنَ له، فأتيناه وهو في مِنًى بمكانٍ يُقال له: البلدة، فبينما نحنُ عنده إذ قيل: صلّى عثمان أربعًا، فاشتدّ ذلك على أبي ذَرٍّ وقال: صلَّيْتُ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكرٍ وعمر ركعتين، ثم قام أبو ذَرٍّ فصلّى أربعًا، فقيل له: عِبتَ على أمير المؤمنين شيئًا ثم صَنعْتَه؟ ! فقال: الخلافُ أشدُّ، إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خطبنا فقال: "إنَّه سيكون بعدي سُلطانٌ فلا تُذِلُّوه، فمَن أذلَّه فقد خلع رِبْقَةَ الإسلام من عُنُقِه، وليس بمقبولٍ منه [توبةٌ] حتى يَسُدَّ ثُلْمتَه التي ثَلَم، وليس بفاعلٍ، ثمَّ يعود فيكون فيمن يُعِزُّه". ثم أمرنا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا يَغلبونا على ثلاثٍ: أن نَأمُرَ بالمعروفِ، ونَنهى عن المنكرِ، ونُعلِّمَ الناسَ السُّنَنُ. وهذا الحديث يدلُّ على أنَّ أبا ذَرّ إنَّما قال ذلك بعدما نفاه عثمان إلى الرَّبَذَةِ. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 4/ 267 - 268. (¬2) في (ك): بإسناده إلى محمد بن القاسم بن عوف الشيباني، وهذا الخبر ليس في (خ) و (ع)، والمثبت من مسند أحمد (21460).

سلمان بن ربيعة

فصل وفيها تُوفي سلمان بن ربيعة ابن يزيد، أبو عبد اللَّه الباهلي، وذكره ابنُ سعد في الطبقةِ الأولى من أهل الكوفةِ ممن يروي عن عمر بن الخطاب، ولم يَرْوِ عن عليٍّ وابن مسعود، قال: وولّاه عمرُ القضاءَ على الكوفةِ (¬1). وحكى أبو بكر الخطيبُ، عن أبي وائلٍ قال: رأيتُ سلمان بن ربيعةَ جالسًا بالمدائنِ على قضائِها لما استقضاه عمر أربعين يومًا، فما رأيتُ بين يديه رَجُلَيْن يَختصمان، فقيل لأبي وائل: فممَّ ذلك؟ فقال: من انتصافِ الناسِ فيما بينهم (¬2). وقال هشام بن محمد، عن أبيه (¬3): شهد سلمانُ فُتوحَ الشامِ والعراقِ، ثم سكن الكوفةَ فنُسِبَ إليها. وولّاه عمر القضاء على الكوفةِ، وهو أوَّلُ من وَليَ القضاءَ بها. ثم ولي غَزْوَ أرمينية في خلافة عثمان. وقال الواقدي: كان يحجُّ سنةً ويغزو سنةً، وكان أبو موسى أميرًا على الكوفة، وسلمانُ يقضي في المسجدِ، وقد ذكرنا أنَّه قُتِل ببَلَنْجَر، قال أبو وائل: ولاه عثمانُ غَزْوَ أرمينية (¬4) فاستُشهد هناك، وقبرُه ظاهِرٌ يُتبارَك به، وجعلوا عِظامَه في تابوتٍ، فإذا احتبَس عنهم القَطْرُ أخرجوه، فاستسقوا به فيُمطرون، فقال الباهلي الشاعر: وإنَّ لنا قَبرين قبرُ بَلَنْجَرٍ ... وقبرٌ بأعلى الصّين يا لكَ من قَبرِ فهذا الذي بالصينِ عمَّتْ صِلاتُه ... وهذا الذي بالتُّرْكِ يأتيكَ بالقَطْرِ وأراد بالذي بالصين: قبرَ قُتيبة بن مُسلم، وهو بفَرْغانة، فجعله بالصين، وببَلَنْجَر قبر سلمان (¬5). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 252. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 206. (¬3) من قوله: ولم يرو عن علي. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬4) من قوله: وكان أبو موسى أميرًا. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬5) المعارف 433، والاستيعاب (949)، وفتوح البلدان 206، وتاريخ دمشق 7/ 437، والمنتظم 5/ 5 - 6، =

عبيد الله بن معمر بن عثمان التيمي

عُبيد اللَّه (¬1) بن مَعمر بن عثمان التّيمي أبو معاذ، رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي صُحبته وروايته خلاف، وَفَد على معاوية فأنشده: [من طويل] إذا أنتَ لا تُرخِ الإزارَ تَكَرُّمًا ... على الكِلمةِ العَوراءِ من كلِّ جانبِ فمَن ذا الذي نَرجو لحقنِ دمائنا ... ومَن ذا الذي نَرجو لحَمْلِ النّوائب وقال يزيد بن هارون: كان عُبيد اللَّه (¬2) أميرًا على فارس، كتب إلى عبد اللَّه بن عمر وهو أمير عليها (¬3): أما بعد، فإنا قد استقررنا فلا يُخاف علينا العدو، وقد أتتْ علينا سبعُ سنين، وولد لنا الأولاد، فكم صَلاتُنا؟ فكتب إليه ابنُ عمر: ركعتان. غزا عبد اللَّه بنُ عامر اصْطَخْر سنة تسعٍ وعشرين، وعلى مُقدّمته عبيد اللَّه بن معمر، فقتل وسبى، وقاتلوه قتالًا شديدًا، وقُتل ابنُ معمر، فأقسم ابن عامر لئن افتتحها عَنوةً ليَقتُلَنّ بها حتى يَسيلَ الدّمُ من باب البلد، ففتحها عَنوةً، فوضع السيف فيها، فقتل خلقًا كثيرًا، ولم يَسل الدّم، فقيل له: أفنيتَ الناس، فأمر بصبّ الماء على الدّم، حتى خرج من أبواب المدينة. وكان له من الولد: عمر ومعاذ وعثمان وموسى. فأما عمر فأحدُ أجواد العرب، وأنجادها وسادتها وفُرسانها، كان يلي الولايات، وهو الذي قتل أبا فُدَيْك الحَروري وهزم جيشه، ووَلي قتالَ الأزارقة، وضرب أميرَهم قَطَري بن الفُجاءة ففَلق جَبينه، فقيل لقطري: المفَلَّق، قال الشاعر: [من الطويل] وشَدُّوا وِثاقي ثم أَلْجَوْا خُصومَتي ... إلى قَطَريِّ ذي الجَبينِ المُفَلَّقِ وشهد عمر مع عبد الرحمن بن سَمُرة فتحَ كابُل، وهو صاحبُ الثُّغرة، قاتل عليها ¬

_ = والإصابة 2/ 61، ومعجم البلدان 1/ 490. (¬1) في (خ) و (ع): عبد اللَّه، ومن هنا إلى بداية السنة ثلاثين ليس في (ك). (¬2) في (خ) و (ع): كان أبو عبد اللَّه. (¬3) في تاريخ دمشق 44/ 430: كتب عبيد اللَّه بن معمر القرشي إلى عبد اللَّه بن عمر وهو أمير على فارس. وهو أوضح مما هنا.

حتى أصبح. واشترى جاريةً بمئةِ ألفٍ، فقال مولاها وهو يُودِّعها: [من الطويل] سلامٌ عليكم لا زيارةَ بيننا ... ولا وَصْلَ إلا أن يَشاءَ ابنُ مَعْمَرِ فقال: قد شِئتُ، خذها وثَمنَها. ومات بضُمَيْر على خمسةَ عشر ميلًا من دمشق، وسببُ موته أن ابنَ أخيه خَرج مع ابن الأشعث فأخذه الحجّاج، وبلغ عُمر وهو بالمدينة، فخرج إلى عبد الملك يَسأله فيه، فلما بلغ ضُمَيْر وصله خبرُ ابنِ أخيه أن الحجّاج قتله، فماتَ عُمر كَمدًا، فقال الفرزدق: [من البسيط] يا أيّها النّاس لا تَبكُوا على أحَدٍ ... بعد الذي بضُمَيرٍ وافق القدرا وذلك سنة اثنتين وثمانين (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة عبيد اللَّه وابنه نسب قريش 288، والاستيعاب (1614)، وتاريخ دمشق 44/ 426 و 54/ 229، والتبيين 332، والإصابة 2/ 440، والكامل 1268، وديوان الفرزدق 1/ 235 (صادر).

السنة الثلاثون

السنة الثلاثون (¬1) وفيها عزل عثمانُ الوليدَ بن عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطِ عن الكوفة، وولّاها سعيد بن العاص، وكان الوليد قد شَرب الخمرَ، وأمر عثمان به فجُلِدَ، يعني أخذ الحدَّ منه (¬2). واسم أبي مُعَيط: أيان، قتل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عُقبة بعد غزاة بدرٍ صَبْرًا، وأبو مُعَيط هو ابن أبي عَمرو بن أُمية بن عبد شمس، وكان أبو عَمرو قد سمى نفسه ذكوان، وكان عبدًا، فاستلحقه أُميّة، وكنّاه أبا عمرو، فخلف على امرأة أمية، وهي بنتُ أبان أمُّ الأعْياص. وكان خرج أُميةُ بن عبد شمس إلى الشام، فأقام بها عشرَ سنين، فوقع على أَمةٍ للخم يهوديّة من أهل صَفّورية، فولدت ذكوان بن أمية، وهي على فراش اليهودي، فاستلحقه أمية، ثم قدم به مكة؛ ولذلك قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعُقبةَ بن أبي مُعَيْط يوم قتله بالصفراء لما قال له: يا محمد، ناشدتُك اللَّهَ والرَّحِم، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل أنت إلا يهوديٌّ من أهل صَفُّورية". وأم الوليد بن عُقبة: أروى بنتُ كُرَيْز بن ربيعة أم عثمان بن عفان رضوان اللَّه عليه. وكان الوليد يدعى الأشعر (¬3)، وأسلم يوم الفتح، وبعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الصدقات فخاف. وفيه نزل: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وكان يُدعى الفاسق. ولما عَزل عثمان رضوان اللَّه عليه سعدَ بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- عن الكوفة، وولّى الوليد قال الناس: بئس ما فعل، عَزل أبا إسحاق الهيِّن اللّيّن، الديّن الوَرع المستجاب، وولّى أخاه الخائن الفاسق. ¬

_ (¬1) قوله: السنة الثلاثون، ليست في (خ) و (ع). (¬2) من هنا إلى قوله: وقال الواقدي ولما ولى عثمان سعيد، ليس في (ك). (¬3) انظر العقد الفريد 2/ 466.

وأقام الوليد على الكوفة خمسَ سنين لم يُغلق له باب، وكان أحبَّ الناس إليه فُسَّاقهم وسفاؤهم، لرفقه بهم (¬1). وكان عمر رضوان اللَّه عليه قد وَلّى الوليد على عرب الجزيرة، وكانوا أخوالَه، وفيهم أبو زُبَيْد النَّصراني، فنادمه الوليد على الخمر، وقطعه إليه، وكان شاعرًا. وكان سببُ شهادة أهل الكوفة على الوليد بُشرب الخمر: أنه كان بالكوفة رجلٌ يقال له: ابن الحَيْسُمان الخُزاعي (¬2)، ذو مال، وإلى جانبه أبو شُرَيح الخُزاعي من الصحابة، فاجتمع شبابٌ من أهل الكوفة، فنقبوا دار [ابن] الحَيسُمان، فخرج عليهم وبيده السيف، وصاح فأشرف عليه أبو شُريح وعلم بهم، وقاتلهم ابنُ الحيسمان فقتلوه، وكَثُر الناس عليهم، فأخذوهم، وفي الناس زهير بن جُندب الأزديّ ومُوَرعّ بن أبي مُوَرّع الأَسَدي، وشُبَيل بن أُبَيّ الأزدي وغيرهم، وشهد عليهم أبو شُريح الخزاعي وابنُه أنهم دخلوا على ابن الحيسمان فقتلوه. وكتب الوليد إلى عثمان رضوان اللَّه عليه يُخبره، فكتب إليه: اقتلهم، فقتلهم. وارتحل أبو شُريح الخزاعي إلى المدينة، وأقام أولاد المقتولين (¬3) يتربّصون بالوليد بن عُقبة الدّوائر، ويَحفرون له الحفائر، ويَضعون عليه [العيون]، فرصدوه ليلةً وهو يُنادِمُ أبا زُبَيد النصراني على الخمر، فاقتُحم عليه داره، ولم يكن لها باب، والوليد بين يديه طَبقٌ فيه عِنَب، فأدخل النّصرانيّ تحت السرير، فاستحيى منهم فخرجوا. وطوى الوليد ذلك عن عثمان رضوان اللَّه عليه، وجاء جماعةٌ منهم: جُندب بن زهير الأزدي إلى ابن مسعود، فقال له: الوليد يَعكِف على شرب الخمر، فقال: مَن استَتَر عنّا لم نَتْبَعْه، وبلغ الوليد فعتب على ابن مسعود في استماعه كلامهم، فتلاحَيا وافترقا عن تغاضُب. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): لزيقه بهم؟ ! ولعل المثبت هو الصواب. (¬2) في (خ) و (ع): أبو الجشماني الخزاعي، والمثبت من الطبري 4/ 272. (¬3) كذا، والذي في الطبري 4/ 273 - 274 أنهم آباء المقتولين.

وأُتي الوليد بساحر يهودي من أهل بابل، وكان يَصنع ضُروبًا من السِّحر، دخل يومًا على الوليد، فأراه فيلًا يَركض على فرسٍ في المسجد، ثم أراه حمارًا دخل في فِيه وخرج من دُبره، ثم ضرب عُنقَ رَجُلٍ وفرَّق بين رأسه وجسده، ثم أحياه، وكان أعيان أهل الكوفة حاضرين عند الوليد، فاخترط جُندب الخير السيفَ وقال: جاء الحقُّ وزهق الباطل، وضرب رأسَ السَّاحر فأبانه، فحبسه الوليد، وأراد قتلَه، فأطلقه السَّجَّان، وهرب جُندب إلى المدينة، فقتل الوليد السَّجَّان، وصَلبه بالكُناسَة، فثار الناس بالوليد. قال عُبيد بن لاحق: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في سفر، فنزل رجلٌ من القوم فساق بهم ورجز، ثم نزل آخر، ثم بدا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُواسي أصحابَه، فنزل، فجعل يقول: "جندب وما جندب، والأقطع زيد الخير" فقال له أصحابه: ما هذا؟ قال: "رجلان يكونان في هذه الأمة، يَضرب أحدُهما ضَربةً يُفرِّقُ بها بين الحقّ والباطل، والآخر تُقطَع يدُه في سبيل اللَّه، ثم يُتبع اللَّه آخرَ جسده أَوَّلَه". فجُندب بن زهير العامريّ الأزديّ هو المذكور، وزيد الخير هو زيد بن صُوحان، شهد جَلولاء وقُطعتْ يدُه، وشهد الجَمل وقُتل يومئذ زيد أخو صَعْصَعة بن صُوحان (¬1). ولما فعل الوليد بجُندب ما فعل غضب الأزد، وقدم أعيانُهم على عثمان رضوان اللَّه عليه، وفيهم جَثّامة بن الصَّعْب، وطلبوا عَزْلَ الوليد، فغضب عثمان رضوان اللَّه عليه وقال: خرجتُم بغير إذن وَاليكُم، فقال جَثّامة: أبعد اللَّهُ والينا، وخرجوا غضابًا على عثمان رضوان اللَّه عليه، فقَدِموا الكوفة، ولم يلتفتوا إلى الوليد، وأقاموا يَطلبون غِرَّتَه، حتى سَكِر ليلةً، فدخل عليه جُندب بن زُهَير، وزهير بن عَوْف، وأبو مُوَرّع، وكلُّهم من الأزد، وأبو خُشَّة الغِفاري (¬2)، فقدموا المدينة، فشهدوا عليه عند عثمان رضوان اللَّه عليه. وقال سيف: كان عند الوليد امرأتان: ابنةُ ذي الخِمار وابنةُ أبي عَقيل، فدخل عليه ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 243. (¬2) في (خ) و (ع): أبو جهينة، والمثبت من الطبري 4/ 275، وانظر أنساب الأشراف 5/ 138.

أبو مُوَرِّع وأبو زينب وهو نائم سَكران، قأكبّا عليه، وأخذوا خاتمه، وانتبه الوليد، فسأل الوليد عن الخاتم فقالا: ما رأيناه. وقال ابن عيّاش: كان الوليد مُدمنًا على شُربِ الخمر، فشرب ليلةً مع نُدَمائه من أول الليل إلى الفجر، فلما أَذَّن المؤذّن لصلاة الفَجر خرج إلى المسجد، فصلّى بالناس أربع ركعات، وهو في غِلالة، وجعل يقول في سجوده وركوعه: اشرب واسقني، ثم قاء في المحراب وهو في الصلاة، فلما سَلَّم من الرابعة قال: أَزيدُكم، ولا يَدري أين هو، فقال له ابنُ مَسعود: مازِلْنا منك في زيادةٍ منذ اليوم، لا زادك اللَّه خيرًا، ولا مَن بَعثَك إلينا، وأخذ فَردَةَ خُفٍّ فضرب بها وَجه الوليد، وحَصبه الناس، فدخل القَصْرَ والحَصْباءُ تأخذه، وهو يَترنَّح ويقول أبيات تأبَّط شرًّا: [من الطويل] ولستُ بعبدٍ غير خمرٍ وقَيْنةٍ ... وإني عن الدِّين الحنيف بمَعْزِلِ ولكنني أَروي من الخمر هامتي ... وأمشي مَشْيَ السَّاحبِ المتَسَلْسِل ثم خرجوا إلى عثمان رضوان اللَّه عليه فشهدوا عليه، فقال لجندب: أنتَ رأيتَ أخي يَشربُ الخمر؟ قال: نعم، رأيتُه سكران يَقلِسُها في المحراب من جَوْفه، وصلّى بنا الفجر أربعًا، وشهد الجماعة بذلك، فقال: ومن أين علمتُم أنها خمر؟ ! فقالوا: شرب الخمرَ التي كنا نَشربها في الجاهلية، فكتب إليه بالقُدوم عليه، فلما قَدِم قال له: ويحك، فقالْ اتّقِ اللَّه فيَّ فإنهم خُصوم، فقال: قد شهدوا عليك أنك كنتَ تَقيءُ الخمر، وما يقيئُها إلا شاربُها. قال المِسْوَرُ بن مَخْرمة وعبد الرحمن بن أبي الأسود لعُبيد اللَّه بن عَديّ بن الخيار: ما يمنعُك أن تُكلِّم أمير المؤمنين في شأن الوليد بن عُقبة، فقد أكثر الناسُ فيه، قال عبيد اللَّه: فقصدتُه حين خرج إلى الصلاة، فقلتُ: إن لي إليك حاجَة، وهي نصيحة، فقال: أيها المرء، أعوذُ باللَّه منك، فلما انصرف من الصلاة دعاني فقال: ما حاجتُك، ما نصيحتُك؟ ! فقلتُ: إن اللَّه بعث محمدًا بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، وكنتَ فيمن استجاب للَّه وللرسول، فهاجرتَ الهجرتَين، وصحبتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورأيتَ هَدْيَه، وقد أكثر الناسُ في شأن الوليد، فقال لي: أدركتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قلت: لا ولكن

فصل

خلص إليَّ من علمه ما يَخلُص إلى العذراء في سِترها، فقال: إن اللَّه بَعث محمدًا بالحق، فكنتُ فيمن آمن بما بُعث به، واستَجبتُ اللَّه ولرسوله، وهاجرتُ الهجرتَين كما قلتَ، ونِلتُ صِهرَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبايعتُه، فواللَّه ما غضبتُه (¬1) ولا غَشَشْتُه حتى توفاه اللَّه، وصحبتُ أبا بكرٍ وعمر مثله، ثم استُخلفتُ، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟ قلت: بلى، قال: فما هذه الأحاديث التي تَبلغُني عنكم، أمَّا ما أحدث من شأن الوليد فسآخذُ فيه بالحقِّ إن شاء اللَّه تعالى، ثم دعا عليًّا فجلده، وفيه يقول الحُطيئة: [من الكامل] شهد الحُطيئةُ يومَ يَلقى ربَّه ... أنّ الوليد أحقُّ بالعُذْرِ نادى وقد تَمَّتْ صَلاتُهم ... أأزيدُكم ثَمِلًا ولا يدري ليزيدَهم أخرى ولو قبلوا ... لأتَتْ صَلاتُهم على العَشْرِ فأبَوْا أبا وَهْب ولو قَبلوا ... لَقَرَنْتَ بين الشَّفْعِ والوِتْر حَبَسوا عِنَانَك إذ جَمَحْتَ ولو ... خَلّوا عِنانَك لم تَزل تجري (¬2) فصل وقد حُدَّ في الخمر في صدر الإسلام جماعةٌ منهم: عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضوان اللَّه عليه، وقيل: عبد الرحمن أخوه، وقُدامة بن مَظْعُون، حدَّه عمر رضوان اللَّه عليه ولم يُحدَّ من أهل بدر في شُرب الخمر سواه، وعاصم بن عمر بن الخطاب، حدَّه على ما قيل بعضُ ولاة المدينة، وأَبو مِحْجَن الثقفي، حدَّه سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه-، وعبد اللَّه بن عروة بن الزبير، حدَّه هشام بن إسماعيل المخزومي، وعبد العزيز بن مروان، حَدّه عمرو بن سعيد الأَشْدَق في آخرِين. وقال الواقدي: ولما ولَّى عثمانُ سعيدَ بنَ العاصِ الكوفةَ وقَدِمها قال: لا أصعَدُ ¬

_ (¬1) في تاريخ المدينة 971: فما خالفتُه ولا غششتُه. (¬2) انظر خبر الوليد في طبقات ابن سعد 6/ 37 و 8/ 147 و 9/ 481، ونسب قريش 138، وأخبار المدينة 9760 - 976, والفتوح 2/ 166، وتاريخ اليعقوبي 2/ 165، والمعارف 318، والطبري 4/ 271، ومروج الذهب 4/ 257، وأنساب الأشراف 5/ 130، والأغاني 5/ 122، والاستيعاب (2705)، وتاريخ دمشق 17/ 867 (مخطوط)، والتبيين 210، والسير 3/ 412، والإصابة 3/ 637.

المنبرَ حتى تَغْسِلوه من آثار الوليد بن عُقبةَ الفاسق، فإنه نَجِسٌ، فغسلوه. ثم ظهرت بعد ذلك من سعيد بن العاصِ هَناتٌ. وفيها غزا سعيد بنُ العاصِ طَبَرِسْتان، خَرَج من الكوفة في جُيوشِها، وكان فيهم جماعةٌ من الصحابةِ، منهم الحسنُ والحسين وحُذيفةُ بنُ اليمانِ والعبادِلَةُ: عبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن الزبير، وخرج عبد اللَّه بنُ عامرٍ في جُيوشهِ من البصرةِ يُريد خُراسان، فسبق سعيدُ بن العاص فنزل قُومِس، ونزل ابنُ عامر أبْرَ شهْر (¬1)، وقتلوا وسَبَوا. وسار سعيد إلى جُرْجان، ثم أتى طَمِيسة -وهي من طَبَرِسْتان، وهي مدينةٌ على لمعاحلِ البحرِ- فقاتلهُ أهلُها، حتى صلَّى المسلمون صلاةَ الخوف، ثم طلبوا منه الأمان، فصالحهم على مئتي ألف درهم، وقيل: إنَّه فتحها بالأمان على أن لا يَقتل منهم رجلًا واحدًا، وكانوا قد قتلوا في المسلمين، فلما دخلها قتلهم كُلَّهم إلا رجلًا واحدًا، واحتوى على ما كان فيها، وصالح أهلَ جُرجان على مالٍ، وعاد سعيد إلى الكوفةِ، وابنُ عامر إلى البصرة. ثم إنَّ أهلَ جُرْجان نَقضوا العهدَ، ومنعوا الطُّرُقَ التي فتحها سعيد، حتى فتحها قُتيبةُ بنُ مُسلم. وفيها سقط خاتَمُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من يَدِ عثمان في بئرِ أَريس، وهي على ميلين من المدينة. قال الواقدي: جلس عثمان على جانبِ البئرِ، فجعل، يَعبَثُ بالخاتم في إصبعه، فسقط فيها، وكانت أقلَّ الآبارِ ماءً وطينًا وحَمأة، فغرم عثمان أموالًا كثيرةً على نَزْحِها، فلم يُوجَدْ، وكان من فِضَّةٍ ونَقْشُه: محمد رسولُ اللَّه، وكان عثمان قد زاد على الكتابةِ: آمنتُ بالذي خلق فسَوَّى، ولمّا لم يَقْدِروا عليه قال عبدُ اللَّه بن سلام: إنّا للَّه وإنّا إليه راجِعون، ستضطربُ الأُمور بعد اليومِ، فكان كما قال. وقيل: إنَّما سقط من يدِ مُعَيْقيب، تَخَتَّم به بأمرِ عثمان. والأوَّلُ أصحُّ. ¬

_ (¬1) في النسخ: منوشهر، ولم أجدها في معاجم البلدان، والمثبت من الطبري 4/ 269.

وفيها زاد عثمان النّداءَ على الزَّوراءِ، وهي دارُه التي بناها، وكان أذانًا واحدًا يومَ الجُمعةِ، فلما كَثُر الناسُ زاد هذا النداء الثاني، ويُسَمّى ثالثًا، وإنَّما صار ثالثًا بإضافته إلى الإقامة (¬1). وفيها أشْخَصَ معاوية -رضي اللَّه عنه- أبا ذر إلى المدينة من الشام بأمر عثمان؛ وذلك أنهما اختلفا في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ. . .} الآية [التوبة: 34]. قال أبو ذر: نزلت فينا، وقال معاوية: في أهل الكتاب، وجعل أبو ذر يقول: يا معشر الأغنياء، واسُوا الفقراء، ويتلو الآية، وكان معاوية يقول: المال مال اللَّه، فقال أبو ذر: لا تقل كذا، ولكن قل: مال المسلمين. ورُوي عن محمد بن سيرين أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لأبي ذر: "إذا بلغ البِناءُ سَلْعًا فاخرُج منها، ونَحَا بيده نحو الشام، قال: ولا أرى أُمراءَك يَدَعونك"، قال: يا رسول اللَّه، أفلا أُقاتل مَن يحول بيني وبين دارك (¬2)؟ قال: لا، قال: فما تأمُرني؟ قال: "اسمَع وأطِعْ ولو لعبدٍ حَبَشيٍّ". قال: فلما كان ذلك خرج إلى الشام، فكتب معاوية إلى عثمان: أبا ذرّ، قد أفسد الناس بالشام، فبعث إليه عثمان، فقَدِم عليه، ثم بعثوا أهله من بعده، فوجدوا عندهم كيسًا، أو شيئًا، فظنُّوا بها دراهم، فقالوا: ما شاء اللَّه، فإذا هي فلوس. فلما قدم المدينة قال له عثمان: كُن عندي، تَغدو عليك وتَروح اللّقاح، قال: لا حاجةَ لي في دُنْياكم، ثم قال: ائذَن لي حتى أخرجَ إلى الرَّبذة، فأذن له، فخرج إلى الرَّبَذة وقد أُقيمت الصّلاة، وعليها عبدٌ لعثمان حَبَشي، فتأخَّر، فقال له أبو ذرّ: تَقدَّم فَصَلِّ، فقد أُمِرتُ أن أسمعَ وأُطِيعَ ولو لعبدٍ حَبَشيٍّ، فأنتَ عبدٌ حَبَشيّ. ورُوي عن شيخٍ وامرأتِه من بني ثعلبة قالا: نزلْنا الرَّبَذَة، فمرَّ بنا شيخٌ أشعثُ أبيض الرأس واللّحية، فقالوا: هذا من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فاستأذنّاه أن نَغسِل رأسَه، فأذِن لنا، واستأنَس بنا، فبينا نحن كذلك إذ أتاه نفرٌ من أهل العراق، فقالوا: يا أبا ذرّ، فعل بك هذا الرجل وفعل، فهل أنت ناصبٌ لنا رايةً، فنُمَلّكك برجالٍ ما شئتَ؟ ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله: وفيها توفي أي بن كعب، ليس في (ك). (¬2) في طبقات ابن سعد 4/ 212: أمرك.

أبي بن كعب

فقال: يا أهلَ الإسلام، لا تَعرضوا عليّ ذاكم، ولا تُذِلُّوا السُّلطان، فإنه مَن أَذَلَّ السُّلطان فلا تَوبةَ له، واللَّه لو أن عثمان صَلَبني على أطول خَشبةٍ لسَمعت وأَطعتُ واحتسبتُ، ورأيتُ أن ذلك خيرًا لي، ولو سَيَّرني ما بين المشرق والمغرب لسمعتُ وأطعتُ، وصبرتُ واحتسبتُ، ورأيتُ أن ذلك خيرًا لي، ولو رَدَّني إلى منزلي لسَمِعتُ وأطعتُ واحتسبتُ، ورأيتُ أن ذلك خيرًا لي. وقال عبد اللَّه بن سيدان: تناجى أبو ذَرّ وعثمان حتى ارتفعت أصواتُهما، ثم انصرف أبو ذرّ مُبتسِمًا، فقيل له: مالك ولأمير المؤمنين؟ فقال: سامعٌ مُطيع، ولو أمرني أن آتيَ صَنْعاء أو عَدَن، ثم استطعتُ أن أفعل ذلك لفَعلتُ. ولما سَيَّر عثمان رضوان اللَّه عليه أبا ذرّ إلى الرَّبَذَة خرج معه عليٌّ وابناه الحسن والحسين، وأخوه عَقيل، وابنُ أخيه عبد اللَّه بن جعفر، وعمار رضوان اللَّه عليهم، فاعترضهم مروان بن الحَكَم وقال: يا عليّ، إن أمير المؤمنين نهى الناس أن يُشيِّعوا جُندبًا، فإن كنتَ لم لّعلم فقد أعلمتُك، فقال له: يا ابن الملعون، وحمل عليه بالسَّوط، وضربه على وَجهه، فحاد عنه فوقع بين أُذُنَي راحلته، فانهزم، ومضى عليّ رضوان اللَّه عليه يودع أبا ذرّ، فبكى أبو ذر وقال: رحمةُ اللَّه عليكم أهلَ البيت، إذا رأيتُك ورأيتُ وَلَدَيْك فكأني رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ونَفيُ أبي ذر -رضي اللَّه عنه- تاسِعُ أمرٍ أُخِذَ على عثمان رضوان اللَّه عليه. وفيها سار ابنُ عامر حْلفَ يَزدجرد إلى فارس، فهرب إلى كَرْمان، فبعث ابنُ عامر خَلْفه مُجاشِع بن مسعود السُّلَمي، فسقط الثَّلجُ عليه وعلى من معه، فمات مُعظمُ أصحابه، فنزل قصرًا على خمسة فراسخ من السِّيرَجان، فهو يُسمّى قصرَ مُجاشع إلى اليوم. وحجَّ بالناس عثمان رضوان اللَّه عليه. فصل وفيها تُوفي أُبيّ بن كعب ابن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، وأمُّه صُهيلة بنت

ذكر صفته

الأسود بن حرام. وهو أحدُ بني حُدَيْلة. واختلفوا فيها: فقال ابنُ مَنْدَه: حُدَيْلَةُ اسمُ أبيهم معاوية بن عمرو. وكُنيةُ أُبيّ: أبو المنذرِ، كنَّاه بها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكنّاه عمر بن الخطاب أبا الطُّفَيْلِ. وقال ابنُ مَنْدَه: سمَّاه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سيَّدَ الأنصارِ وأوحدَ القُرَّاء. وأُبيّ من الطبقة الأولى من الأنصارِ، وشهد العَقَبةَ مع السبْعِين، وبدرًا وأُحدًا والمشاهِدَ كُلَّها مع رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكان يُسَمّى الكامل في الجاهليةِ؛ لأنه كان يُحسِنُ الكتابةَ والرَّميَ والسّباحةَ، وهو كاتِبُ الوحي، وأحدُ القُرَّاءِ الذين جمعوا القُرآن على عهدِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حِفْظًا، وأحدُ أربابِ الفتوى على عهدِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأَمَرَ اللَّهُ رسولَه أن يقرأ عليه القُرآن. ذِكرُ صفته: حكى ابنُ سعد عن الواقدي، عن أشياخهِ قال: كان أُبيٌّ رجلًا دَحْداحًا، ليس بالقصير ولا بالطويلِ، أبيضَ الرأسِ واللحيةِ، لا يُغيِّرُ شَيْبَه. وقال ابن سعدِ بإسناده عن أبي نَضْرةَ قال: قال رجلٌ منّا يقال له جابر أو جُوَيبر: طلبتُ حاجةً إلى عمر في خلافتِه، وإلى جَنْبهِ رجلٌ أبيضُ الشّعر أبيضُ الثيابِ، فقال: إنَّ الدنيا فيها بلاغُنا وزادُنا إلى الآخِرةِ، وفيها أعمالُنا التي نُجْزى بها في الآخِرَةِ، فقلتُ: مَن هذا يا أميرَ المؤمنين؟ فقال: هذا سيَّدُ المسلمين أُبيُّ بن كعب (¬1). وفي روايةٍ: إن الدنيا فيها بلاغُنا، وهي زادُنا إلى الآخرةِ. ذِكرُ بعض فضائله: قال أحمد بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأُبيّ بن كعب: "إنَّ اللَّه أمرني أن أقرأَ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1]، قال أُبيّ: أوَسمَّاني اللَّه لك؟ قال: "نعم"، فبكى. أخرجاه في "الصحيحين"، وللبخاري: أوَذُكِرْتُ عند ربّ العالمين؟ قال: نعم فذَرَفَتْ عيناه (¬2). وإنما خصَّ سورة "لم يكن" لما فيها من التوحيدِ والرسالة والمعاد وغير ذلك. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 462. (¬2) مسند أحمد (12320)، وصحيح البخاري (3809) و (4961)، وصحيح مسلم (799).

وقال أبو نُعيم بإسناده عن معاذ بن محمد بن أُبيّ بن كعب، عن أبيه، عن جدِّه، عن أُبيّ قال: قال لي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أُبيّ، إني أُمرتُ أن أعرِضَ عليك القُرآن" قال: فقلت: يا رسولَ اللَّه، باللَّه آمنتُ، وعلى يَدِكَ أسلمتُ، ومنك تعلَّمتُ، فردَّ عليه رسولُ اللَّه القولَ، فقال: يا رسولَ اللَّه، أوَذُكِرْتُ هناك؟ قال: "نعم باسمِكَ ونَسبِك في الملأ الأعلى"، قال: فاقرأ إذن يا رسولَ اللَّه (¬1). وعن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيّ بن كعب قال: قال لي النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني أمرتُ أن أقرأ عليك القرآن"، قلتُ: يا رسول اللَّه، وقد ذُكرتُ هناك؟ قال: "نعم"، فقلتُ له: يا أبا المنذر، ففرحتَ بذلك، قال: وما يَمنعنُي أن أفرح واللَّه تعالى يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} الآية [يونس: 58] (¬2). وقال ابن سعدٍ بإسناده عن أنسِ بن مالك قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أقرأ أُمتي أُبيُّ ابن كعب" (¬3). وقال مسلم بإسناده عن أُبيّ بن كعب قال: قال لي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أبا المنذر، أتدري أيّ آيةٍ في كتابِ اللَّهِ معك أَعظَمُ؟ " قال: فقلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، قال: فضرب في صَدْري وقال: "ليَهْنِكَ العلم أبا المُنْذِر". انفرد بإخراجه مسلم (¬4). وقال ابن سعدِ بإسناده عن عمران بن عبد اللَّه قال (¬5): قال أُبيّ بن كعب لعمر بن الخطاب: مالَكَ لا تستعملني؟ قال: أكره أن يَدْنَسَ دِينُك (¬6). قال مسروق: سألتُ أبيَّ بن كعب عن مسألة، فقال: يا ابن أخي، أكان هذا؟ ¬

_ (¬1) من قوله: ذكر بعض فضائله. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬2) الخبران في الحلية 1/ 251، ومن قوله: عن عبد الرحمن بن أبزى. . . إلى هنا ليس في (ك). (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 463. (¬4) صحيح مسلم (810). (¬5) من قوله: وقال ابن سعد بإسناده عن أنس. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬6) في هامش (ع) حاشية نصّها: قوله إنه سأل عمر الولاية ليس بصحيح، ولم ينقله أصحاب الأخبار، والثبت أنه سئل في ذلك مرارًا كثيرة، ولعل هذا من النقل بعد المصنف.

ذكر وفاته -رضي الله عنه-

قلت: لا، قال: فأجمَّنا حتى تكون، فإذا كانت اجتهدنا رأيَنا (¬1). وقال ابن سعدِ بإسناده عن أبي المهلب، عن أُبيّ بن كعب أنَّه كان يَختم القُرآن في ثماني ليالٍ، وكان تَميم الدّاريّ يَختمه في سبعٍ (¬2). وقال الواقدي (¬3): شهد أُبيٌّ الجابيةَ مع عمر بن الخطاب، وكتب كِتابَ الصُّلْحِ لأهل بيتِ المَقْدِس. وقال الهيثم بن عَديّ: تقاضى العباسُ وعمر إلى أُبيّ في شيءٍ، فحكم على عمر، فقال له عمر: ما من أحدٍ من أصحاب رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجرأُ عليَّ منك، فقال أُبيٌّ: لا، بل ما فيهم أنصحُ لك مني (¬4). وقال أبو نُعيم بإسناده عن أُبيّ بن كعب أنَّه سأل رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما جزاءُ الحُمّى؟ قال: "تُجري الحسنات على صاحبها ما اختَلَج عليه قَدَمٌ، أو ضَرَبَ عليه عِرْق"، فقال أُبيٌّ: اللهمَّ إني أسألُكَ حُمَّى لا تَمنعُني خُروجًا في سبيلك، ولا خُروجًا إلى بيتكِ، ولا مسجد نبيّك -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: فلم يُمْسِ أُبيٌّ قط إلا وبه الحُمّى حتى مات (¬5). وكان يَحجُّ ويَعتمر ويَصوم ويُصلّي ويُجاهدُ في سبيلِ اللَّه إلى أن ماتَ. ذِكْرُ وفاته -رضي اللَّه عنه-: واختلفوا فيها، زعم قومٌ أنَّه مات في سنة اثنتين وعشرين، واحتجّوا بأنَّ عمر قال: اليوم مات سيَّدُ المسلمين، والذي قال: اليوم مات سيِّدُ المسلمين غيرُ عمر. قال ابنُ سعدٍ بإسناده (¬6) عن عُتَيّ بن ضَمْرة السَّعدي قال: قَدِمتُ المدينة في يومِ ريحٍ وغُبْرة، وإذا الناسُ يَموجُ بعضُهم في بعضٍ، فقلتُ: ما بالُ الناسِ؟ فقالوا: ما ¬

_ (¬1) هذا الخبر ليس في (ك). (¬2) الأخبار الثلاثة في طبقات ابن سعد 3/ 463 - 464. (¬3) من قوله: وقال ابن سعد بإسناده عن أبي المهلب. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬4) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1807)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (عبادة - عبد اللَّه بن ثوب) 192 عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬5) الحلية 1/ 255 دون قوله: حتى مات. (¬6) من قوله: وكان يحج ويعتمر. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع).

أنت من أهل هذا البلد؟ قلتُ: لا، قالوا: مات اليومَ سيَّدُ المسلمين أُبيُّ بن كعب. وقال الواقدي فيما حكاه عنه ابنُ سعدٍ: إنَّ أهل أُبيٍّ وغيرَ واحدٍ من أصحابنا يقولون: إنَّه مات في خلافة عمر بن الخطاب، سنة اثنتين وعشرين بالمدينة. قال: وسمعتُ مَن يقول: ماتَ في خلافةِ عثمان سنة ثلاثين، وهو أثبتُ الأقاويل عندنا، وصلى عليه عثمانُ، ودُفِنَ بالبقيعِ؛ وذلك لأن عثمانَ أمره أن يجمعَ القُرآن (¬1). قلتُ: والدليل عليه ما روى البُخاري (¬2) عن عبد الرحمن بن أَبْزى قال: قلتُ لأُبيّ ابن كعب لمّا وقع الناسُ في أمر عثمان: يا أبا المنذِرِ، كيف المَخْرَجُ من هذا الأمرِ؟ قال: كتابُ اللَّه، ما استبانَ فاعمل به، وما اشتبه فكِلْهُ إلى عامله. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن محمد بن سيرين: أن عثمان جمع اثنَيْ عشر رجُلًا من قُريشٍ والأنصار، فيهم أُبيُّ بن كعب وزيد بن ثابت في جمع القُرآن (¬3)، وكذا ذكر جدي في "التّلقيح" (¬4) أنَّه مات في سنة ثلاثين، وروى أن الصُّحُفَ التي جُمع فيها القُرآن كانت عند أبي بكرٍ حتى توفّاه اللَّه، ثم عند عمر حتى توفّاه اللَّه، ثم عند حفصة بنت عمر. زاد البخاري، عن ابن شهابٍ، عن أنسٍ: أنَّ حُذيفةَ بن اليمان قَدِمَ على عثمان وهو يُغازي أهلَ الشامِ في فَتْح إرْمِينية وأَذْرَبيجان مع أهل العراقِ، فأفْزَعَ حذيفةَ اختلافُهم في القِراءةِ، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين، أَدْرِكْ هذه الأُمَّةَ قبل أن يَختلفوا اختلافَ اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر: أن أرسلي إلينا بالصُّحفِ نَنْسَخُها في المصاحفِ ثم نردُّها إليك، فأرسلت بها إليه، فأمر زيدَ بنَ ثابت، وعبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن العاصِ، وعبد اللَّه بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحفِ، وقال عثمان للرَّهط القُرشِيّين: إذا اختَلفتم أنتم وزيدٌ في شيءٍ فاكتبوه بلسانِ قُريش؛ فإنَّما أُنزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا المصاحِفَ ردَّ عثمان الصُّحُفَ إلى حفصة، وأرسل إلى كلَّ أُفُقٍ بمُصْحفٍ مما نَسخوا، وأمر بما سِوى ذلك ¬

_ (¬1) الخبران في طبقات ابن سعد 3/ 465، 466. (¬2) من قوله: وقال الواقدي فيما حكاه. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع)، والخبر في التاريخ الكبير 2/ 40. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 466. (¬4) ص 132.

أوس بن ثابت

من القُرآنِ فأُحرِقَ، فحرقوا ما كان في صحيفةٍ أو مصحف. قال زيدٌ: فَقَدْتُ آيةً من سورةِ الأحزابِ حين نَسَختُ الصحفَ، وكنتُ أسمعُ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأُ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خُزيمة بن ثابت الذي جعل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شهادتَه شهادة رَجُلين، وهي قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، فألحقناها في سُورتها (¬1). رَجَعْنا إلى الحديثِ (¬2)، فعامَّةُ العلماء على أن أُبيًّا تُوفّي بالمدينةِ. وبباب شَرقي من دمشق قبرٌ يقال إنَّه قبرُه، واللَّه أعلم بالصوابِ. وكان له -رضي اللَّه عنه- من الولد الطُّفيل، ومحمد، وعبد اللَّه، وأم عمر. وأسند عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئة حديث وأربعة وستين حديثًا، وروى عنه جماعةٌ من الصحابة والتابعين، -رضي اللَّه عنهم- أجمعين (¬3). أوس بن ثابت ابن المنذر بن حرام، من بني النجَّار، أخو حسان بن ثابت، وهو أبو شَدّاد بن أوس، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبة مع السبعين، وبدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وآخَى بينه وبين عثمان بن عفان رضوان اللَّه عليه، وكانت وفاتُه بالمدينة، وصلّى عليه عثمان رضوان اللَّه عليه، وأُمّه سُخطى بنت حارثة، وكان ثابت خَلَف عليها بعد أبيْه، وكانت العرب لا ترى بذلك بَأسًا، ولأوس -رضي اللَّه عنه- رواية (¬4). أوس بن خَوْليّ ابن عبد اللَّه بن الحارث بن عُبيد بن مالك بن سالم الحُبْلي، من الطبقة الأولى من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4987 - 4988). (¬2) من قوله: وقال ابن سعد بإسناده عن محمد بن سيرين. . . إلى هنا ليس في (خ) و (ع). (¬3) انظر في ترجمة أُبّي: المعارف 261، وطبقات ابن سعد 2/ 294 و 3/ 462، والاستيعاب (2)، وصفة الصفوة 1/ 474، والمنتظم 5/ 8 - 9، وتاريخ دمشق 2/ 583 (مخطوط)، والاستبصار 48، والسير 1/ 389، والإصابة 1/ 18. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 466، والاستيعاب (52)، والمنتظم 5/ 9، والاستبصار 54، والإصابة 1/ 80.

جبار بن صخر

الأنصار، وأمُّه جَميلة بنت أبي مالك بن الحارث بن عبيد بن مالك ابن سالم الحُبْلي، أختُ عبد اللَّه بن أُبيّ بن سَلول، وكان يُسمَّى الكامل في الجاهلية وأوّل الإسلام، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهدَ كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وخَلَّفه على السلاح حين دخل مكة لعُمرة القَضيّة ومعه مئتا رجل، وهو الذي نادى عند باب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما تُوفّي: يا عَليّ، أنشدك اللَّه حَظَّنا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأدخلوه معهم، وآخى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين شُجاع بن وهب، وكنيتُه أبو ليلى، وليس له رواية (¬1). جَبَّار بن صخر ابن أُميّة بن خَنْساء، من الطبقة الأولى من الأنصار، أحد بني سَلمة، وأمه عتيكة بنت خَرَشة، من بني بَياضة، شهد العَقَبة مع السبعين، وبدرًا وأحدًا والخندق، والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وآخى بينه وبين المقداد بن عمرو، وكُنيته أبو عبد اللَّه، وحرس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم بدر، وبعثه خارِصًا إلى خَيبر وغيرِها (¬2). حاطب بن أبى بَلْتَعة ابن عَمرو بن عُمَير اللَّخمي، أحد بني راشدة، من ولد قَحطان، حَليف لبني أسد ابن عبد العُزَّى، وكُنيته أبو محمد، من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها، وهاجر إلى المدينة قديمًا، وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين رُخيلة بن خالد. وهو الذي كتب إلى أهل مكة يُخبرهم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قاصِدُهم في فتح مكة. وبعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بكتابه إلى المقَوْقِس صاحب الإسكندرية، فأقام عنده أيامًا ثم استدعاه فقال: إني سائلُك عن شيءٍ فأخبرني، قال: اسأل، قال: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبيٌّ؟ قال: بلى، قال: فما له لم يَدْعُ على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيره؟ قال (¬3): ما تقول في عيسى، أنبيٌّ هو؟ قال: نعم، قال: فما بالُه حين أخَذه قومُه فأرادوا أن يَصلبوه؛ لم يَدْعُ عليهم فيهلكوا حتى رفعه اللَّه إليه؟ فقال: أنت ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 502، والاستيعاب (53)، والمنتظم 5/ 9، والاستبصار 186، والإصابة 1/ 84. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 533، والاستيعاب (312)، والمنتظم 5/ 9، والإصابة 1/ 225. (¬3) القائل هو حاطب.

عبد الله بن مظعون

حَكيمٌ، جاء من عند حكيم، وإني مُرسلٌ معك بهدايا إلى صاحبك، وأرسل معك بَذْرَقَةً يُبَذْرِقُونك (¬1) إلى مكانك، ثم بعث معه بهدايا: منها مارية القبطية، وأختها سيرين، والدُّلْدُل وغير ذلك. وكان حاطب من الرماة المذكورين، وكانت وفاتُه بالمدينة في سنة ثلاثين، وصلّى عليه عثمان رضوان اللَّه عليه، ودُفن بالبَقيع، وهو ابن خمسٍ وستين سنة، وكان له من الولد: عبد الرحمن ومحمد، وترك يوم مات أربعةَ آلاف دينار، ودراهم وغير ذلك، وكان يتّجر في الطعام وغيره، وله بقيَّةٌ بالمدينة. ومولاه سعد بن خَوْليّ من قُضاعة، من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا مع مولاه وأحدًا، وقتل يوم أُحد شهيدًا رحمه اللَّه (¬2). عبد اللَّه بن مَظْعون ابن حَبيب الجُمحي، من الطبقة الأولى من المهاجرين، وكُنيته أبو محمد، وأمه سُخَيلة بنت العَنْبَس (¬3)، أسلم قبل دخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وقيل الثانية بغير خلاف، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وآخى بينه وبين سهل بن عُبيد بن المعَلَّى الأنصاري، وتُوفّي بالمدينة وهو ابن ستين سنة، وقيل ثلاث وستين، وليس له رواية -رضي اللَّه عنه- (¬4). عمرو بن أبي عمرو ابن ضَبَّة الفِهري، كُنيته أبو شَدّاد، من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا وهو ابنُ ثلاثين سنة، وأحدًا والمشاهد كلَّها، وليس له رواية -رضي اللَّه عنه- (¬5). ¬

_ (¬1) البذرقة: الحراس يكونون مع القافلة. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 106، 107، والمعارف 317، والاستيعاب (529)، والمنتظم 5/ 9 - 10، والسير 2/ 43، والإصابة 1/ 300. (¬3) في (خ) و (ع): العباس، والمثبت من نسب قريش 394، وطبقات ابن سعد 3/ 371. (¬4) الاستيعاب (1390)، والمنتظم 5/ 10، والتبيين 447، والسير 2/ 163، والإصابة 2/ 371. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 387، والاستيعاب (1765)، والإصابة 4/ 101.

عياض بن زهير

عِياض بن زهير ابن أبي شَدّاد الفِهوي، كُنيته أبو سعد، من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأمُّه سَلمى بنت عامر فِهريّة، هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). مسعود بن الرَّبيع القاري من القارة، من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قبل دخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم، وآخى بينه وبين عُبيد بن التَّيِّهان، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها، وكنيته أبو عمير، تُوفي بالمدينة وقد زاد على الستين سنة، وليس له رواية (¬2). مَعْمَر (¬3) بن أبي سَرْح ابن ربيعة بن هلال الفِهوي، كنيته أبو سعد، من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأمُّه زينب بنت ربيعة، من بني لؤي، أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحَبَشة الهجرةَ الثانية، وقيل الهجرتين معًا، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانت عنده بنت الجَرَّاح أختُ أبي عبيدة -رضي اللَّه عنه-، وأولدها عُميرًا، وكان له ولدٌ آخر اسمُه عبد اللَّه، أمُّه أُمامة بنت عامر بن ربيعة، فِهريّة، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم (¬4). * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 386، والاستيعاب (1938)، والمنتظم 5/ 10، والتبيين 494، والإصابة 3/ 48. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 154، والاستيعاب (2436)، والمنتظم 5/ 10، والإصابة 3/ 410. (¬3) ويقال: عمرو، انظر طبقات ابن سعد 3/ 385، والاستيعاب (1736)، والمنتظم 5/ 11، والتبيين 495، والإصابة 3/ 448. (¬4) من ترجمة أوس بن ثابت. . . إلى هنا ليس في (ك). وجاء في (خ) عقب هذا ما نَصُّه: آخر الجزء الثالث، يتلوه في الجزء الرابع السنة الثلاثون إن شاء اللَّه تعالى، فيها كانت غزاة ذات الصواري وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل، كتبه علي بن عيسى الحيري.

السنة الحادية والثلاثون

السنةُ الحاديةُ والثلاثون (¬1) وفيها كانت غزاةُ ذاتِ الصَّواري في قولِ الواقدي، وقال أبو معشر: كانت فى سنة أربعٍ وثلاثين. قال الواقدي: وسببُها أن المسلمين لمّا فتحوا إفريقية، وقتلوا مَن قتلوه بها، وسَبَوْا وغَنموا الغنائمَ، وكان خُمسُها خمسَ مئة ألف دينار، ومن السَّبْي والخُيولِ والمتاعِ والكُراعِ والسلاح وغيره ما لا يُحَدُّ، وهلك خلق من عظماء الروم، فَتَّ ذلك في عَضُدِ الرومِ وقالوا: ما بعد هذا الأمر إلّا مركزُ عِزِّنا، ودارُ مُلْكِنا، وهي القُسْطنطينيةُ، فحشدوا وجمعوا، وخرجوا من القسطنطينية في خمسِ مئة مركبٍ، وجُموعٍ وأموالٍ وعُدَدٍ لم يُرَ مثلُها، عليهم قُسطنطين بن هِرَقْل. وبلغ عبد اللَّه بنَ سعد بن أبي سَرْحٍ، فسار إليهم في مراكبَ كثيرةٍ، وجمعٍ عظيمٍ، وتَوافَوْا على جزيرةٍ في البحرِ، واجتمعت السُّفنُ، وقامت الصواري، فسُمِّيت غزاة ذات الصَّواري، وقيل: اسمُ ذلك المكان: ذاتُ الصَّواري. وأرسل المسلمونَ إليهم: إن شئتُم اللقاءَ على الجزيرةِ، أو في البحرِ، فقالوا: في البَحْرِ، فربطوا السُّفُنَ بعضها إلى بعضٍ، وبات المسلمون يَقرؤن القُرآن ويُصَلّون ويَدْعون، وبات الروُّمُ يَضربون بالنَواقيسِ، وَيشربون الخمورَ، فلما طلع الصباحُ التَقَوْا، فاقتتلوا قِتالًا لم يُرَ مثلُه في الإسلامِ، حتى صار البحرُ دَمًا عبيطًا، لا يظهر فيه لونُ الماء، وبقيت الدِّماءُ تَضربُها الأمواج إلى السواحلِ، وصارت أجسادُ الرجال على السواحل أمثالَ الجبالِ، وتقاتلوا بالخناجرِ والسيوفِ، وقُتِلَ من الفريقين مَقتَلَةٌ لا يُقتل مثلها، بحيث إنَّ دوابَّ البحرِ شَبعت من لحومهم. ثم إنَّ اللَّه عز وجلَّ بعث على مراكب الرومِ ريحًا فنكس مُعظمها، وانهزم القومُ، ¬

_ (¬1) في (خ): بسم اللَّه الرحمن الرحيم، رب يسر بخير يا كريم، السنة الثلاثون، وفي هامشها: الحمد اللَّه، وجد في الأصل المنقول منه سنة إحدى وثلاثين، وكذا هو في أصله المنقول منه، فلتراجع غيرها. وفي هامش (ع): لم يوجد في النسخة المنقول منها ولا في نسخة أخرى غيرها سنة ثلاثين فلتراجع نسخة ثالثة (كذا).

فصل

وهرب ابنُ هرقل بعدما جُرِحَ جِراحاتٍ كثيرةً، وغنمهم المسلمون، ومات ابنُ هرقل في طريقهِ، وأقام ابن سعدٍ أيامًا، ثمَّ قَفَلَ راجعًا إلى مصر منصورًا بعد كَسْرِه الرُّومَ. فصل: وفيها تكلَّم الناسُ في عثمان ظاهرًا، وقالوا: خالف سيرةَ الشَّيخَيْنِ، حتى قال محمد بنُ أبي حُذيفة: لو كُنّا جاهدنا في عثمان كان أولى من جهادِنا في غَزاةِ ذات الصَّواري، فأفسد قلوبَ الناس على عثمان، وتكلّم معه محمد بن أبي بكر، وبالغ وقال: قد خالف سيرةَ الشيخَيْن، أو السنَّةَ وسيرةَ الخليفتين، وولَّى عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرحٍ على المسلمين، وقد أباح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دَمَه، وعزل عُمّالَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَن أوصى به عمر -رضي اللَّه عنه-، وولّى الوليد بن عُقبةَ الفاسقَ، وعبد اللَّه بن عامرٍ، وبني أُميَّة. وبلغ ذلك عبد اللَّه بنَ سعدٍ وهم بغزاةِ ذات الصواري، فقال لهما: لا تركبا معنا في هذه الغَزاةِ، فركبا مركبًا ناحيةً، واعتزلا ولم يُقاتِلا، وقالا: لا يحلُّ لنا القِتالُ مع نائبِ عثمان، فأفسدا قُلوبَ الناسِ، فبعث إليهما عبد اللَّه بن سعدٍ يقول: لو علمتُ أن فعلي يُوافقُ أمير المؤمنين لحبَسْتُكما وعاقبتُكما، وأقاما بمصر على حالهما. فصل: وفيها هلك يَزْدَجِرد، وسنذكره في آخر السنة. وفيها سار عبد اللَّه بن عامر في جُيوشِ البصرة إلى خُراسان، ففتح أبْرَشَهر وطُوس ونَسا، وبلغ سَرْخَس ومَرو، وصالح أهلها على ألفَيْ ألف ومئتي ألف دينار، كذا ذكر جدي في "المنتظم" (¬1)، وهذا مالٌ عظيم. والذي رواه هشام: على مئتي ألف دينار. وسار سعيد بن العاص إلى نيسابور فافتتحها، وكان كنار صاحب نيسابور كتب إلى سعيد بن العاص وهو والي الكوفة، وإلى عبد اللَّه بن عامر وهو والي البصرة في خلافة عثمان رضوان اللَّه عليه، يَدعوهما إلى خُراسان، ويُخبوهما أن أهل مرو قتلوا يَزْدَجِرد، فانتدب عبد اللَّه بن عامر وسعيد بن العاص أيهما يسبق إليها، وفي جُند سعيد بن العاص الحسن بن علي رضوان اللَّه علمهما وعبد اللَّه بن الزبير -رضي اللَّه عنهما-. وكتب عثمان رضوان اللَّه عليه إلى عبد اللَّه وسعيد: أيّكما سبق إلى خُراسان فهو أميرٌ عليها، فقَدِم ابنُ عامر نَيسابور، وجاء سعيد حتى بلغ الرّيّ، وكانت فتوح خراسان ¬

_ (¬1) 5/ 15.

فصل

على يَدَيْ عبد اللَّه بن عامر، فقال له الناس: ما فتح اللَّه تعالى لأحدٍ بمثل ما فتح عليك: فارس وكرمان إلى سجستان (¬1) وعامة خراسان، فقال: لا جَرَم، لأجعَلَنّ شُكري للَّه تعالى أن أخرجَ من مَوضعي هذا مُحرِمًا، فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عُثمان رضوان اللَّه عليه لامَه على ما صَنَع، وقال: ليتك تَضبط من الوقت الذي يُحرم فيه الناس. وكنار المذكور كان ملِك تلك الدّيار في زمن كسرى، وكان مجوسيًا يَعبد النار، وكأنه أحسَّ بانقراص دولة الفُرس وغَلَبةِ المسلمين، فلما غَلبوا تَقَبَّل أهلُ البلدة منهم. فصل: وحجَّ بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضوان اللَّه عليه (¬2). فصل وفيها توفي أبو الدرداء واسمه عُوَيمر بن زيد بن قيس بن عائِشة بن أمية بن مالك بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج، وقيل غير ذلك، وأمه محبَّة بنت واقد بن عمرو بن الإطْنابة، وهو من الطبقة الثانية من الأنصار، وكان آخِرَ أهل داره إسلامًا، وكان عبد اللَّه بن رواحة أخًا له في الجاهلية، وكان يدعوه إلى الإسلام وهو يأبى عليه، فرَصَده يومًا، فخرج من بيته، فجاء ابن رواحة، فدخل بيتَه وامرأتُه جالسة تَمشُط رأسها، فقال: أين أخي؟ قالت: قد خرج، فدخل بيت الصَّنَم ومعه قَدُوم، فكسره أفلاذًا وقال: [من الطويل] تَبَرَّأْتُ من أسما الشَّياطين كلِّها ... ألا كلُّ ما يُدعى مع اللَّه باطلُ فلما سمعت المرأةُ صوتَه قالت: ما فعلتَ يا ابن رواحة؟ ! أهلكْتَني. وجاء أبو الدرداء فرأى الصنمَ أفلاذًا، فقال: مَن فعل هذا؟ قالت امرأتُه وهي تبكي ¬

_ (¬1) هنا ينتهي ما لدينا من نسخة (ع). (¬2) بعدها في (ك): وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل. تمّ الجزء الرابع من مرآة الزمان في تواريخ الأعيان لابن الجوزي (كذا)، تغمده اللَّه برحمته، يتلوه إن شاء اللَّه تعالى في الجزء الخامس: فصل في وفاة أبي الدرداء وما يتعلق بها من إسلامه وصفته وأخباره، والحمد للَّه وحده وصلى اللَّه على محمد وآله. طالعه من أوله إلى آخره. . . أضعف العباد. . . عيسى بن داود بن فضل بن يحيى بن غافر. . . وملك في الحادي عشر. . . سنة أربع وتسعين وسبع مئة سابع كانون الثاني. . .

خوفًا منه: أخوك ابنُ رواحة، فغضب غضبًا شديدًا، فقالت له أمُّ الدرداء: لو كانت له قُدرةٌ لمنع، فقام أبو الدرداء، فاغتسل ولَبس حُلَّةَّ، وأتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وابنُ رواحةَ عنده، فلما نظر إليه ابنُ رواحة مُقبلًا قال: يا رسول اللَّه، هذا أبو الدرداء جاء في طَلبي، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما جاء ليسلم، أخبرني ربي بذلك" وأسلم. وفي شهوده بدرًا وأُحدًا خِلافٌ، وآخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين عوف بن مالك الأشجعي، وقيل بينه وبين سلمان الفارسي. وكان من عِلية الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وأهل البَيِّنةِ فيهم، وقد حدَّث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحاديثَ كثيرة، وشهد معه مشاهدَ كثيرة. وكان زاهدًا عالمًا واعظًا فاضلًا قانِعًا، ولاه عمر بن الخطاب رضوان اللَّه عليه قضاءَ دمشق، فأصبح الناس يُهنِّئونه فقال: أتُهَنِّئوني بالقضاء وقد جُعلتُ على رأس مَهْواةٍ مَزَلَّتُها أبعدُ من عَدَن أَبْيَنَ، ولو علم الناسُ ما في القضاء لأخذوه بالدُّوَل، رغبةً عنه وكراهيةً له، ولو يَعلم الناسُ ما في الأذان لأخذوه بالدّوَل، رغبةً فيه وحِرصًا عليه. شَهد اليرموك، وكان قاضي أهلِه، وكان عمر رضوان اللَّه عليه نقله إلى قضاء حمص، ثم أعاده إلى دمشق. وكانت له دارٌ بدمشق تُعرف بدار البريد، وتُعرف اليوم بدار الغَزّي، فقالت أم الدرداء: كان لأبي الدرداء ستون وثلاث مئة خليلٍ في اللَّه، يدعو لهم في الصلاة، فقلتُ له في ذلك فقال: يا أمّ الدرداء، إنه ليس رجلٌ يَدعو لأخيه في ظَهر الغيب إلا وَكّل اللَّه به مَلَكين يقولان: ولك بمثل ذلك، أفلا أرغَبُ أن تَدعوَ لي الملائكة. وقال: تَفكُّرُ ساعة خيرٌ من قيام ليلة. وكان أفضلُ عمله التّفكُّر والاعتبار. وكان يشتري العصافير من الصِّبيان فيُرسِلُهُنّ ويقول: اذهبْنَ فعِشنَ. وقال: مَن يَزدَدْ عِلمًا يزدد وَجَعًا. وقال: إن أخوفَ ما أخافُ أن يُقال لي يوم القيامة: علمتَ؟ فأقول: نعم، فيقال: فما عملتَ فيما عَلِمتَه؟

قالت أمُّ الدَّرداء: قلتُ لأبي الدرداء: ألستُ زوجتَك في الجنة؟ قال: نعم ما لم تتزوَّجي بعدي. وقيل له: كم تُسبَّح كل يوم؟ قال: مئة ألف، إلا أن تُخطئ الأصابعُ. وقالت أتمُّ الدَّرداء: قلتُ لأبي الدرداء: إن احتجتُ بعدك أكلَ الصَّدقةِ آكُلُها؟ قال: لا، اعملي وكُلي، قلتُ: فإن ضَعُفتُ عن العمل؟ قال: التقطي السُّنبُلَ، ولا تأكلي الصَّدقة. وقال: أُحبُّ الفقراء تواضُعًا، وأحبُّ الموتَ اشتياقًا إلى ربّي، وأحبُّ المرضَ تكفيرًا لخطيئتي. وكان يقول: لولا ثلاث لم أبال متى متُّ، لولا أن أظمأَ بالهَواجر، ولولا أن أُعفِّرَ وَجهي بالتُّراب، ولولا أن آمُرَ بمعروف أو أنهى عن مُنكر. وقال: كنتُ تاجرًا قبل أن يُبعثَ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما بُعث زاولتُ التجارةَ والعبادةَ فلم يجتمعا، فأخذتُ العبادة، وتركتُ التّجارة. وقالت أمُّ الدرداء: قدم علينا سلمان الفارسي، فقال: أين أخي؟ قلتُ: هو في المسجد، قال: كيف أخي؟ قلتُ: يَصوم النهار، ويَقوم الليل، وما يريد النساء، فأتاه في المسجد، فلما رآه أبو الدرداء قام إليه فالتزمه. ومرض أبو الدرداء، ففَزع إلى نفقةٍ كانت عنده، فوجدها خمسةَ عشرَ درهمًا، فقال: ما كانت هذه مُبقيةً مني شيئًا، إن كانت لَمُحْرِقَة ما بين عانَتي إلى ذَقَني. وكان يقول: أعوذُ باللَّه من علمٍ لا ينفع، ونفسٍ لا تَشبع، ودُعاءٍ لا يُسمَع. قالت أم الدرداء: دخل علينا أبو الدرداء يومًا مُغضَبًا، فقلت: مالك؟ فقال: واللَّه ما أعرفُ فيهم شيئًا من أمر محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا أنهم يُصلُّون الخَمْس. وقال أبو الدرداء: مُعاتَبةُ الأخِ خيرٌ من فَقْدِه، ومَن لك بأخيك كُلَّه، أعطِ أخاك، ولِنْ له، ولا تُطعْ فيه حاسدًا فتكون مثله، غدًا يأتيه الموت فيكفيك موتُه، كيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة قد تركتَ وَصْلَه. وقال: إن ناقدتَ الناسَ ناقدوك، وإن تركتَهم لم يَتركوك، وإن هربتَ منهم

أدركوك، هَبْ عِرضَك ليوم فَقرِك. وقال: ما تَجرَّع مؤمنٌ جَرعةً قط أحبّ إلى اللَّه من غَيظٍ كَظَمه، فاعفوا يُعزّكم اللَّه. وقال: إياكم ودَمعة اليتيم، ودعوة المظلوم، فإنها تَسري بالليل والناسُ نيام. وخطب يزيد بنُ معاوية إلى أبي الدرداء ابنتَه فردَّه، وخطبها رجلٌ من الفُقراء فزوَّجه إياها، فقيل له في ذلك فقال: ما ظنكم بالدَّرداء إذا قام على رأسها الخِصيان، ونظرت في بيوت يَلتمع فيها بَصرُها، أين دِينها منها يومئذٍ. وقال: لو تعلمون ما أنتم راؤون بعد الموت ما أكلتُم طعامًا على شَهوة، ولا شربتُم شرابًا على شهوة، ولا دخلتُم بيتًا تستَظلُّون فيه، ولخرجتُم إلى الصُّعُدات تَضربون صُدورَكم، وتَبكون على أنفُسكم، لَوَدِدتُ واللَّه أني شجرةٌ تُعضَدُ ثم تُؤكَل. وقال: ذُروة الإيمان الصبرُ للحكم، والرِّضى بالقَدَر، والإخلاص في التوكل، والاستسلام للربّ عز وجل. وقال: تَبنون مشيدًا، وتأملون بعيدًا، وتموتون قريبًا. وقيل له: مالك لا تَشعُر، فإنه ليس رجلٌ له بيتٌ في الأنصار إلا وقد قال شِعرًا، فقال: وأنا قد قلتُ فاسمعوه: [من الوافر] يُريد المرءُ أن يُعطى مُناه ... ويَأبى اللَّه إلا ما أرادا يقولُ المرءُ فائدتي ومالي ... وتَقوى اللَّه أفضلُ ما استَفادا قال محمد بن كعب: إن ناسًا نزلوا على أبي الدرداء في ليلةٍ قَرَّة، فأرسل إليهم بطعام سُخن، ولم يُرسل إليهم بلُحُف، فأنكروا ذلك، فجاء واحد منهم فقام على الباب، فرآه جالسًا وليس على امرأته من الثياب إلا ما يُذكر، فقال له: ما أراك إلا بتَّ بنحو ما بِتنا به! فقال: إن لنا دارًا نَنتَقِلُ إليها قَدَّمنا لُحفنا وفُرشنا إليها، وإن بين أيدينا عَقَبةً كَؤودًا، المُخِفُّ فيها خيرٌ من المثْقِل، أفهمت ما قلت لك؟ قال: نعم. وقال: نعمَ صومعةُ المرءِ المسلم بيتُه، يكفُّ لسانَه وفَرجَه وبَصرَه، وإياكم ومجالسَ الأسواق، فإنها تُلهي وتُلغي. وقال: إياكم ودَعوةَ المظلوم، فإنها تَسري بالليل والناسُ نيام.

ذكر وفاته

وقال: أدركتُ الناس وَرَقًا لا شوكَ فيه، فقد أصبحوا شوكًا لا وَرقَ فيه. وقال: ما من أحدٍ إلا وفي عقله نَقْصٌ؛ لأنه متى جاءتْه الدنيا ظلَّ فرحًا بها، والليل والنهار دائبان في هَدْم عُمره، ولا يُحْزِنُه ذلك، وما نَفْعُه بعُمرٍ يَنقص، ومالٍ يزيد. ذكر وفاته: قال معاوية بن قُرَّة: إن أبا الدرداء اشتكى، فدخل عليه أصحابُه فقالوا: ما تَشتكي؟ قال: ذُنوبي، قالوا: ما تَشتهي؟ قال: الجنة، قالوا: أفلا نَدعو لك طبيبًا؟ فقال: هو الذي أَضجَعَني. وقالت أمُّ الدرداء: اللهمَّ إن أبا الدرداء خَطبني فتزوَّجني في الدنيا، اللهمَّ فأنا أَخطبُه إليك، فأسألك أن تُزوَّجنيه في الجنة، فقال لها أبو الدرداء: إن أردتِ ذلك وكنتُ أنا الأوَّلَ، فلا تَزوَّجي بعدي، فمات أبو الدرداء، وكان لها جَمالٌ وحُسنٌ، فخطبها معاوية، فقالت: لا واللَّه، لا أتزوَّجُ زوجًا في الدنيا حتى أتزوّجَ أبا الدرداء إن شاء اللَّه تعالى في الجنة. وقالت أم الدرداء: إن أبا الدرداء لما احتُضر جعل يقول: مَن يَعمل لمثل يومي هذا؟ مَن يعمل لمثل ساعتي هذه؟ مَن يَعمل لمثل مَضجَعي هذا؟ ثم يقول: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] ثم قُبض رحمه اللَّه ورضي عنه. وتوفي بدمشق في خلافة عثمان رضوان اللَّه عليه، وله عَقِبٌ بالشام، وقَبرُه بالباب الصغير، في الحومة التي فيها قبورُ الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. قال عَوف بن مالك الأشجعي: رأيتُ في المنام كأني أَتيتُ مَرْجًا أخضر، فيه قُبَّةٌ من أَدَم، حولها غَنمٌ رُبوض، تَجترُّ وتَبعَرُ العَجوة، فقلت: لمن هذه؟ فقيل: لعبد الرحمن بن عوف، فانتظرتُه حتى خرج من القُبَّة، فقال: يا ابن مالك، هذا ما أعطانا اللَّه تعالى بالقرآن، ولو أشرفتَ على ما في هذه الثنيَّة لرأيتَ ما لم تر عينُك، ولسمعتَ ما لم تَسمع أُذنُك، ولم يَخطر على قلبك، أعدّه اللَّه لأبي الدرداء؛ لأنه كان يدفع الدنيا بالرَّاحَتَين والنَّحر. وكان لأبي الدرداء من الولد: بلال، وأمُّه أم محمد بنت أبي حَدْرَد الأسلمي،

نعيم بن مسعود

ويزيد لا عَقِبَ له، والدرداء وبها كان يُكنى، ونَسيبة، وأمهم محبَّة بنت الربيع بن عمرو، أختُ سعد بن الربيع. فأما الدرداء فتزوَّجها عبد اللَّه بن سعد بن خَيثمة من الأوس، فولدت له. وأما نَسيبة فتزوجها سعيد بن سَعد بن عُبادة بن دُلَيم، فولدت له، ولهم بقيَّةٌ بالشام. وكان له زوجتان، وكلاهما يُقال لها أم الدرداء، أدركتْ إحداهما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واسمها خيرة بنتُ أبي حَدْرَد الأسلمي، لها صُحبة ورواية. والثانية تزوّجها بعد وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي التي تَروي عنه، واسمها هُجَيمة بنت حيي، وهي التي خطبها معاوية بعد موت أبي الدرداء، فأبت أن تتزوَّجَه. أسند أبو الدرداء عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئةً وتسعةً وتسعين حديثًا، وروى عنه جماعةٌ من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أجمعين (¬1). نُعيم بن مسعود ابن عامر الأشجعي، وكُنيته أبو سلمة، وهو الذي خَذّل الأحزاب حتى تَفرَّقوا في غزاة الخندق، وهاجر إلى المدينة بعد غزاة الأحزاب، وحَسُنَ إسلامُه، وبعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى قومه يستَنْفِرهم لما خرج إلى تبوك، وله صُحبة ورواية (¬2). يَزدَجرد بن شَهريار ابن أبرويز ملك فارس، وسببُ هلاكه أنه هرب من كرمان إلى مرو في جماعةٍ من أصحابه، فسأل مَرزُبانَها مالًا فمنعه، وأرسل المرزبان إلى الترك يَستنصرهم عليه فأَبَوا، فبَيَّتوه ليلًا، وقتلوا أصحابَه، وهرب وَحده، فأتى منزلَ رجل يَنقُر الأَرْحاء على شطِّ المَرْغاب ليلًا، فأوى إليه، فقتله وأخذ ما عليه من الجواهر والسلاح، وألقى جسدَه في المرغاب. ¬

_ (¬1) انظر ترجمة أبي الدرداء في: طبقات ابن سعد 4/ 351 و 9/ 395، والمعارف 268، والاستيعاب (2916)، وحلية الأولياء 1/ 208، وتاريخ دمشق 56/ 253، والمنتظم 5/ 16، وصفة الصفوة 1/ 627، والاستبصار 125، والسير 2/ 335، والإصابة 3/ 45. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 166 والاستيعاب (2601)، والمنتظم 5/ 18، والإصابة 3/ 568.

وأصبح أهل مَرو، فقَصُّوا أثره، حتى خَفي عليهم عند منزل النقَّار، فقرَّروه فأقرَّ بقتله، فقالوا: هات ما كان عليه، فاخرجه لهم، فأخذوه، وقتلوا النَّقَّارَ وأهلَ بيته، وأخذوا متاعهم، ومَضَوا إلى المرغاب، فأخرجوا جسده، وجعلوه في تابوت، وحملوه إلى إصطَخر فدفنوه بها. وكان مُلكه عشرين سنة، منها أربع سنين في دَعَة، وستة عشر في الحروب والهرب من مكان إلى مكان، وانتهى بموته مُلك الأكاسرة، واستقام بعده الملك للعرب. * * *

السنة الثانية والثلاثون

السنة الثانية والثلاثون فيها غزا معاوية من مضيق القسطنطينية في عشرة آلاف من المسلمين، ومعه جماعةٌ من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، فوصل الخليج، ومعه زوجتُه فاختة بنت قرظة، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، وتَحضَن الروُم منهم بالحصون، وعاد إلى دمشق. وفيها غزا عبد الرحمن بن ربيعة بَلَنْجَر، وكان نازلًا قريبًا من باب الأبواب، وطلب من سعيد بن العاص المدد، فأمدّه بحَبيب بن مسلمة الفِهري، وأبطأ على عبد الرحمن ابن ربيعة المدد، فسار نحو بَلَنْجَر، فحصرها، ونصب عليها المناجيق، وبلغ التُّرك فقصدوه، وقتلوه ومعظمَ أصحابِه، فيقال: إن القوم أخذوا جسد عبد الرحمن فجعلوه في سَفَط من رُخام، وحملوه معهم، فكانوا يستسقون به. وفيها سار عبد اللَّه بن عامر من البصرة إلى المشرق، فافتتح بلادًا كثيرة: الطَّالَقان وجُوزَجان وبَلْخ وطَخارِسْتان، وكان على مقدّمته الأحنفُ بنُ قيس، وقيل: إنما جَهَّز ابنُ عامر الأحنف، وأقام هو بالبصرة يُمدُّه بالمال والرجال، فنازل الأحنف مَرْورُوذ وضايقها، وإذا بفارس قد برز، فوقف بين الضَفَّين -وبيده كتاب- وقال: أنا رسول، فجاؤوا به إلى الأحنف، فأخذ الكتاب فقرأه، وإذا فيه: من باذان مَرزبان مَرْو إلى أمير المؤمنين: إنّا نحمد اللَّه الذي بيده تغييرُ الدُّوَل، يَرفع مَن يشاء بعد الذُّل، وَيضع مَن يشاء بعد العزّ، إن الذي دعاني إلى مُوادَعَتك ما كان من إسلام جَدّي الهرمزان، وما كان من رأي صاحبكم فيه وإكرامه إياه، وقد دعوتكم إلى الصُّلح، وأن أُؤدّي إليكم في كل سنة ستين ألفَ ألفِ درهم خراجًا (¬1)، وتُقرُّوا بيدي ما كان مَلك الملوك كِسرى أقصعه جدّي الهرمزان. فأجابه الأحنف إلى ذلك، وسار إلى بَلْخ، فصالحوه على أربع مئة ألف درهم، ثم عبر النهر، ووصل إلى خُوارِزْم، وهجم الشتاء، فقال لأصحابه: ما تَرون؟ فقال بعضُهم: قال عُمرو بن مَعدي كرِب: [من الوافر] ¬

_ (¬1) في الطبري 4/ 310: ستين ألف درهم.

أبو ذر الغفاري -رضي الله عنهم-

إذا لم تَستَطعْ أمرًا فدَعْه ... وجاوِزْه إلى ما تستطيعُ (¬1) فعاد إلى البصرة بالأموال والغنائم. وحجَّ بالناس عثمان بن عفان رضوان اللَّه عليه. فصل وفيها توفي أبو ذرّ الغِفاري -رضي اللَّه عنهم- (¬2) واسمُه جُندُب بن جُنادة بن كعب بن صُعَير بن الوَقْعَة بن حَرَام بن سفيان بن عُبيد بن حرَام بن غِفار بن مُلَيل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خُزيمة بن مُدرِكة بن إلياس بن مُضَر، من الطبقة الثانية من المهاجرين، وكان آدَم طُوالًا، أبيضَ الرأس واللّحية، لا يُغيِّر شيبَه، وكان شُجاعًا فاتكًا، يقطع الطريق وحده، ويُغير على الصّرم كأنه أسد، ثم قذف اللَّه الإسلام في قلبه، فقدم مكة، وسمع من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان يتعبّد قبل مبعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإسلامه قديمًا بمكة، قال: كنتُ في الإسلام رابعًا أو خامسًا، ورجع إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى مضت بدر وأحد والخندق، وقدم المدينة بعد ذلك. ذكر إسلامه: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، واعلم لي علمَ هذا الرجل الذي يَزعم أنه نبيٌّ يأتيه الخبرُ من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني. فانطلقَ حتى قدم مكة، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: رأيتُه يَأمرُ بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو الشعر، فقال: ما شَفَيتَني مما أردتُ، فتزوّد، وحمل معه شنَّة له فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا يَعرِفُه، وكره أن يَسأل عنه، حتى أدركه الليل، فاضطجع، فرآه علي رضوان اللَّه عليه، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يَسأل واحدٌ منهما صاحبهَ عن شيء حتى أصبح. ثم احتمل قِربتَه وزادَه إلى المسجد، فظلَّ ذلك اليوم ولا يرى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، حتى أمسى، فعاد إلى مَضجعه، فمرَّ به عليٌّ رضوان اللَّه عليه، فقال: ما أنى للرجل أن يَعلم ¬

_ (¬1) ديوانه 145، والطبري 4/ 313. (¬2) سلفت بعض أخباره في سنة ثلاثين.

منزلَه؟ فأقامه علي رضوان الله عليه، فذهب معه ولا يسأل واحدٌ منهما صاحبَه عن شيء. حتَّى إذا كان اليوم الثالث أقامه علي رضوان الله عليه معه، ثم قال له: ألا تُحدِّثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتَني عهدًا وميثاقًا لَتُرشِدَني، فأعطاه العهد والميثاق، فأخبره، وقال: إنه رسول الله حقًّا، فإذا أصبحتَ فاتْبَعني، فإن رأيتُ شيئًا أخافُه عليك قُمتُ مكاني [كأني] أُهريق الماء، فإن مضيتُ فاتبعني حتَّى تدخل مَنزلي، ففعل، فانطلق يَقفوه حتَّى دخل على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانَه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع إلى قومك، فأخبرهم حتَّى يأتيك أمري"، فقال: والذي نفسي بيده لأَصرخنَّ بها بين ظَهرانيهم. فخرج حتَّى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدًا رسول الله، فثار القوم، فضربوه حتَّى أضجعوه، فأتى العباسُ فأكبَّ عليه وقال: ويلكم، ألستُم تعلمون أنَّه من غِفار، وأن طريقَ تجارتكم إلى الشام عليهم، فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه فأنقذه العباسُ منهم. قال خُفاف بن إيماء بن رَحَضَة: كان أبو ذر رجلًا يُصيب الطَّريق، وكان شجاعًا يتفرَّد وَحدَه، يَقطع الطَّريق، ويغير على الصِّرم في عَمايَة الصُّبح على ظهر فرسه أو على قَدميه، كأنه أسد، وَيطرق الحيَّ، وَيأخذ ما أخذ، ثم إن الله عزَّ وجلَّ قَذف في قلبه الإسلام، وسمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذٍ بمكة يَدعو مُختفيًا، فأقبل يَسأل عنه، حتَّى أتاه في منزله، وكان قبلَ ذلك قد طلب مَن يُوصله إليه فلم يجد، فانتهى إلى الباب، فاستأذن ودخل، وعنده أبو بكر رضوان الله عليه، وقد أسلم قبل ذلك بيوم أو يومَين، وهو يقول: يا رسول الله، والله لا نَستَسرّ بالإسلام وَلنظْهِرَنّه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَردُّ عليه شيئًا. قال أبو ذر: فقلتُ: يا محمد، إلام تَدعو؟ فقال: إلى الله وحده لا شَريك له، وخَلعِ الأوثان، وتَشهدُ أني رسول الله، فقلت: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله، ثم قال أبو ذر: يا رسول الله، إنِّي مُنصرفٌ إلى أهلي وناظرٌ متى تَأمر بالقتال فألحق بك، فإني أرى قومَك عليك جميعًا، قال: أصبتَ فانصرف.

ذكر بعض مناقب أبي ذر وأخباره - رضي الله عنه -

فكان بأسفلِ ثنيَّةِ غزال يَتَعرض لعِيرات قريش، فيقطعها ويقول: لا أردُّ إليكم شيئًا حتَّى تشهدوا أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن فعلوا ردَّ عليهم ما أخذَ منهم، وإن أَبَوْا لم يَردَّ عليهم شيئًا، فكان على ذلك حتَّى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ومضت بدرٌ وأحد، ثم قدم فأقام بالمدينة مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ذكر بعض مَناقب أبي ذر وأخباره - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أقَلَّت الغَبْراء، ولا أظَلَّت الخَضْراء على رَجل أَصدَقَ من أبي ذر". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سَرَّه أن يَنْظُرَ إلى تَواضُع عيسى بن مريم، فليَنْظُر إلى أبي ذَرّ" (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّكم يَلقاني على الحال التي أُفارقُه عليها؟ "، فقال أبو ذر: أنا، فقال له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "صَدقتَ". قال عِراك بن مالك: قال أبو ذرّ: إنِّي لأقربُكم مَجلسًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، وذلك أني سمعتُه يقول: "أقربُكم مني مَجلسًا يوم القيامة مَن خَرج من الدُّنيا كهَيئةِ ما تركتُه فيها"، وإنه والله ما منكم من أحدٍ إلا وقد تَشبَّثَ منها بشيءٍ غيري (¬2). وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبي ذرّ وبين المنذر بن عمرو، أحد بني ساعدة. وقال أبو ذرّ: أوصاني خليلي بسبع: "أمرني أن أُحبَّ المساكين، والدّنوّ (¬3) منهم، وأمرني أن أنظرَ إلى مَن هو دوني ولا انظر إلى مَن هو فَوقي، وأمرني أن لا أسألَ أحدًا شيئًا، وأمرني أن أَصِلَ الرَّحم وإن أَدبرتْ، وأمرني أن أقولَ الحقَّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخافَ في الله لَومةَ لائم، وأمرني أن أكْثِرَ من: لا حول ولا قوَّةَ إلَّا بالله العليِّ العظيم، فإنهن من كنزٍ تحت العرش". ولما قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذر، فجعل يَلزمُه ويقول: مَرحَبًا بأخي، وأبو ذر يَدفعُه ويقول إليك عنّي، لستُ بأخيك، إنَّما كنتُ أخاك قبل أن تُستَعْمَل. ¬

_ (¬1) أخرجهما أحمد (6519) و (21724)، وابن سعد 4/ 214، والترمذي (3801) و (3802)، والحاكم 3/ 342 عن عدد من الصّحابة، وانظر سير أعلام النبلاء 2/ 59. (¬2) أخرجهما ابن سعد 4/ 214 - 215. (¬3) كذا، والذي في المسند (21415)، وطبقات ابن سعد 4/ 215: أمرني بحب المساكين والدنو منهم.

ثم لقي أبا هريرة، فالتزمه وقال: مرحبًا بأخي، فقال له أبو ذر: هل كنتَ عملتَ لهؤلاء؟ قال: نعم، قال: هل تطاولتَ في البناء أو اتَّخذت زرعًا وماشية؟ قال: لا، قال: فأنت أخي، أنت أخي (¬1). وقال أبو ذر: قال لي رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذر، إنِّي أراك ضعيفًا، وإني أحبُّ لك ما أحبُّ لنفسي، لا تَأمَّرَن على اثنين، ولا تَوَلَّيَنّ على مال يتيم" (¬2). وقال عليٌّ رضوان الله عليه: لم يبق اليوم أحدٌ لا يُبالي في الله لومةَ لائم غير أبي ذر ولا نَفسي، ثم ضرب بيده على صَدره (¬3). وقال سفيان الثوري: قام أبو ذر عند الكعبة فقال: أيها الناس، أنا جُندب الغِفاري، هلمّوا إلى الأخ النّاصح الشَّفيق، فاكتَنَفه الناس فقال: أرأيتم لو أن أحدَكم أراد سفرًا، أليس يَتَّخذُ من الزَّاد ما يُصلحُه ويُبَلِّغُه؟ قالوا: بلى، قال: فسفر طريق القيامة أبعدُ ما تُريدون، فخذوا ما يُصلحكم، قالوا: وما يُصلحنا؟ قال: صوموا يومًا شديدَ الحرّ لحرِّ يوم النُّشور، وصَلُّوا ركعتين في ظلام الليل لوَحْشَةِ القبور، وحُجُّوا حجَّةً لعَظائم الأمور. كلمةُ خيرٍ تَقولُها، أو كلمةُ شرٍّ تَسكُتُ عنها، ذخيرةٌ لوقوف يومٍ عظيمٍ، اجعل الدُّنيا مَجلسَين: مجلسًا في طَلب الحلال، ومَجلسًا في طلب الآخرة، والثالث يَضرُّك ولا يَنفَعُك، اجعل الدُّنيا درْهَمَين: درهم تُنفقُه على عيالك، ودِرهم تُقدِّمُه لآخرتك، الثالث يَضرُّك ولا يَنفعُك ولا تُرِدْه، ثم نادى بأعلى صوته: يا أيّها الناس، قد قَتلكم حِرصٌ لا تُدركونه أبدًا (¬4). قال عبد الله بنُ خِراش الكعبي: وجدتُ أبا ذرّ في مظلَّةِ شعر بالرَّبَذة، تحته امرأةٌ سَحْماء، فقلت له في ذلك فقال: أتزوَّجُ مَن تَضَعُني أحبّ إليَّ ممن تَرفَعُني، مازال بي ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 216. (¬2) أخرجه أحمد (21563)، وابن سعد 4/ 217، ومسلم (1826). (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 218. (¬4) حلية الأولياء 1/ 165.

الأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر حتَّى ما ترك لي الحقُّ صديقًا (¬1). وبعث إليه حَبيب بن مَسلمة وهو أمير الشام بثلاث مئة دينار، وقال: استَعِن بها على حاجتك، فقال أبو ذرّ لرسوله: ارجع بها إليه، أما وَجَد أحدًا أغرَّ بالله منا، ما لنا إلَّا ظلٌّ نتوارى به، وثَلَّةٌ من غَنَم تَروح وتغدو علينا، ومولاة لنا تصدَّقتْ علينا بخِدمَتِها، ثم إنِّي لأَتَخَوَّفُ الفَضْلَ (¬2). ودخل رجل على أبي ذر، فجعل يُقَلِّبُ بَصَرَه في بيته، فلم يَرَ فيه شيئًا، فقال: يا أبا ذرّ؛ أين مَتاعُكم؟ فقال: إن لنا بيتًا آخر، نُوجّه إليه صالِحَ متاعنا، قال: إنه لابُدَّ لك من متاع ما دُمتَ ها هنا، فقال: إن صاحبَ المنزل لا يَدَعُنا فيه. وكان يقول: الجليسُ الصّالح خيرٌ من الوَحدة، والوَحدة خيرٌ من جَليس السُّوء، ومُمْلي الخير خيرٌ من الصَّامت، والصَّامتُ خيرٌ من مُملي الشَرّ، والأمانةُ خيرٌ من الخيانة، والخائن خيرٌ من ظنِّ السُّوء (¬3). قال أبو ذر - رضي الله عنه -: كنتُ أخْدُمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم آتي المسجدَ إذا أنا فرغتُ من عَملي، فأَضْطَجع فيه، فأتاني رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يومًا وأنا مُضطجعٌ، فغَمَزني برِجله، فاستويتُ جالسًا، فقال لي: "يا أبا ذر، كيف تَصنع إذا أُخرجتَ منها؟ "، قلتُ: أنطلقُ إلى السَّعةِ والدَّعة، فأكون حَمامًا من حمام مكّة، قال: "فكيف تَصنعُ إذا أُخرجتَ من مكّة؟ "، قلت: "إلى، السَّعةِ والدَّعة، أنطلقُ إلى الأرض المقدَّسة والشام، قال: "فكيف تَصنَعُ إذا أُخرجتَ من الشام؟ "، قال: إذا أَضَع سيفي على عاتِقي، قال: "أَوَخيرٌ من ذلك؟ تسمعُ وتُطيعُ وإنْ كان عبدًا حَبَشيًّا" (¬4). قالت أمُّ ذرّ: لما حضرت الوفاةُ أبا ذرّ بكيتُ، فقال: ما يُبكيكِ؟ قلتُ: وما لي لا أبكي وأنتَ تموتُ بفَلاةٍ من الأرض، ولا يَدان لي بتَغييبك، وليس معنا ما يَسعُك كَفَنًا، فقال: لا تبكي وأَبشِري، فإني سمعتُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول لنفَرٍ أنا فيهم: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 222. (¬2) حلية الأولياء 1/ 161. (¬3) الخبران في تاريخ دمشق 19/ 37، 39 (مخطوط). (¬4) مسند أحمد (21551).

"لَيَموتَنَّ رجلٌ منكم بفَلاةٍ من الأرض، يَشهده عصابةٌ من المؤمنين"، وليس من أولئك النَّفَرِ أحدٌ إلَّا وقد مات في قريةٍ، أو في جماعة غيري، وأنا الذي أموتُ بالفَلاة، والله ما كَذبْتُ ولا كُذِبتُ، أبصري الطَّريق، فقلتُ: أنّى وقد ذهب الحاجُّ، وانقطعت الطُّرق؟ فقال: انظري. فكنتُ أشتدُّ إلى الكَثيب، فأقومُ عليه وأعود، وإذا برجال على رَواحلهم، كأنهم الرَّخَمُ، فألحتُ بثوبي، فأسرعوا، ووَضعوا السِّياطَ في نُحورها يَستَبقون إليّ، فقالوا: يا أمةَ الله مالك؟ قلتُ: امرؤٌ من المسلمين يَموتُ، تَحضرونه فتُكفِّنونه، قالوا: ومَن هو؟ قلت: أبو ذر، قالوا: صاحبُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؟ قلتُ: نعم، ففَدَوْه بآبائهم وأمّهاتهم، فأسرعوا إليه، فدخلوا وسَلَّموا عليه، فرحَّب بهم وقال: أبشروا، فإني سمعتُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: "لَيَموتَنَّ رجل منكم بفَلاةٍ من الأرض ... " وذكر الحديث، وقال: وما بقي من القوم غيري، وأنتم عِصابة من المؤمنين، وليس لي كفنٌ إلَّا ثوبٌ هو لي ولأمِّ ذر. وإني أَنشدكم الله، لا يُكفنّي منكم رجلٌ كان أميرًا ولا عَريفًا، ولا بَريدًا أو نَقيبًا، وقالت: وليس في القوم إلّا من قارَفَ من ذلك شيئًا، إلَّا فتىً من الأنصار، قال: أنا أكَفِّنُك في رداءٍ من غَزلِ أمي، قال: فأنت تُكفّني، فكَفَّنَه الأنصاري، ودَفَنه في النَّفر الذين كانوا معه، وكان الرَّهطُ منهم: مالك بن الحارث الأشتر، وحُجْر بن عَديّ، وجرير بن عبد الله البَجلي، والأسود بن قيس النَّخعي وغيرهم. وقال جرير: هذه غنيمة نادرةٌ ساقها الله إلينا، فتولّى أمرَه (¬1). وروى محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما نَفى عثمان رضوان الله عليه أبا ذر إلى الرَّبَذة، لم يكن معه إلَّا امرأتُه وغلامُه، فأوصاهما: إذا متُّ فغَسلاني وكفّناني، وضعاني على قارعة الطَّريق، فأوّلُ رَكْبٍ يَمرُّ بكم فقولوا: هذا أبو ذرّ صاحبُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلًا ذلك به، ووضعوه على قارعةِ الطَّريق، وأقبل عبد الله بنُ مسعود في رهط من أهل العراق عُمَّارًا، فلم يَرُعْهم ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 220، والحلية 1/ 170.

الحارث بن نوفل

إلَّا بالجنازة على ظهر الطريق، قد كادت الإبل أن تَطأَها، فقام إليهم الغلام وقال: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فأعينونا على دَفْنه، فاستهلَّ عبد الله يبكي ويقول: صدق رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "تمشي وَحدَك، وتموتُ وحدَك، وتُبعَثُ وحدك"، ثم نزل هو وأصحابُه فوَارَوْه، ثم حَدَّثهم ابنُ مسعود حديثه، وما قال له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في مسيره إلى تبوك، ثم قدم عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - المدينة، فمات بعد عشرة أيَّام (¬1). وأسند أبو ذر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مئتي حديث وأَحَدًا وثمانين حديثًا، وشهد فتح بيت المقدس والجابية مع عمر رضوان الله عليه، وليس له عَقِب، ويقال: كانت له ابنةٌ. وحكى ابن سعد قال: وتبعتْه جُوَيرية سوداء، قيل له: هذه ابنتُك؟ قال: تَزعمُ أمُّها ذلك (¬2). وعبادة بن الصَّامت ابنُ أخي أبي ذر. الحارث بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وأمه ظُرَيبة من بني دُهْمان من الأزد، من الطبقة الثَّانية من المهاجرين، كان رجلًا على عهد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وأسلم عند إسلام أبيه نَوفل، وصحب رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وروى عنه الحديث، واستعمله رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - على بعض أعمال مكّة، ثم ولّاه أبو بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم مكّة، ثم انتقل إلى البصرة، واختطَّ بها دارًا، ونزلها في أيَّام عبد الله [بن عامر بن كريز]، ومات بالبصرة في خلافة عثمان رضوان الله عليه. وكان له من الولد عبد الله الملقَّب بَبَّة، وهو الذي اصطلح عليه أهلُ البصرة أيَّام ابن الزُّبير، وولد في زمن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وحَنّكه ودعا له، ومحمد الأكبر، ورَبيعة وعبد الرحمن ورَمْلة وأمُّ الزُّبير وظُرَيبة، وأمّهم هند بنتُ أبي سفيان صخر بن حرب بن ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 221. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 223، وانظر في ترجمته المعارف 252، والاستيعاب (2919)، والطبري 4/ 283، وأنساب الأشراف 5/ 170، وتلقيح فهوم أهل الأثر 140 و 174، وصفة الصفوة 1/ 584، والسير 2/ 46، والإصابة 4/ 62، والمنتظم 4/ 346 وفيات سنة (25 هـ).

الحكم بن أبي العاص

أميَّة بن عبد شمس، وعُتبة ومحمد الأصغر والحارث ورَيْطة وأمُّ الحارث، وأمهم أمُّ عمرو بنت المطَّلب بن أبي وَدَاعةَ السَّهمي، وسعيد لأمّ وَلَد. وأخرج له ابنُ سعد حديثًا رفعه إلى عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمهم الصلاةَ على الميِّت فقال: "اللَّهمَّ اغفِرْ لحيِّنا ومَيِّتنا -أو لأحيائنا وأمواتنا- وأصلح ذاتَ بيننا، وألِّفْ بين قلوبنا، اللَّهمَّ عبدك فلان بن فلان، لا نعلم إلَّا خيرًا، وأنت أعلمُ، فأغفر لنا وله"، قال: فقلتُ وأنا أصغرُ القوم: يا رسول الله، فإن لم نعلم خيرًا؟ [فقال: ] "فلا تقُلْ إلَّا ما تَعلم" (¬1). الحكم بن أبي العاص ابن أميّة بن عبد شمس، عمُّ عثمان رضوان الله عليه، وأمه رُقَيَّة بنت الحارث، مَخزوميّة، ويسمّى طَريَد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولَعينَه. أظهر الإسلام يوم الفتح خوفًا من القتل، ولم يَحسُن إسلامُه، ولما انتقل من مكّة إلى المدينة نزل على ابن أخيه عثمان رضوان الله عليه، فكان عينًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يُطالع الإعراب والكفار بأخباره، فنفاه إلى الطائف. بينا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يمشي ذات يوم، مشى الحكمُ خَلفَه، فجعل يَخلج بأنفه وفيه، أي: يُحاكي رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، ويتكفَّأُ ويَتمايل، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه، فقال له: "كن كذلك"، فما زال عُمرَه على ذلك. وقد لَعنَه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وما وَلَد، ولهذا قالت عائشةُ رضوان الله عليها لمروان: أشهد أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - لعن أباك وأنت في صُلْبِه. وهجا عبد الرحمن بن حسَّان بن ثابت مروانَ بنَ الحكم فقال: [من الكامل] إن اللعينَ أباك فارْمِ عظامَه ... إن تَرْمِ تَرْمِ مُخَلَّجًا مجنونا يُضْحي خميصَ البَطْنِ من عمل التُّقى ... ويظلُّ من عَملِ الخبيث بَطينا (¬2) ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 52 - 53، وانظر ترجمته في: نسب قريش 86، والاستيعاب (435)، والتبيين 100، والسير 1/ 199، والإصابة 1/ 292. (¬2) الموفقيات 257، وأنساب الأشراف 1/ 174 و 5/ 284، والاستيعاب (482).

وما زال مَطرودًا مَنْفيًّا بأرض الطائف حتَّى تُوفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما ولي أبو بكر رضوان الله عليه كلَّمه عثمان فيه فقال: عَمّي، فقال: عمك إلى النَّار، هيهات هيهات يا ابن أبي العاص أن أُغَيِّر شيئًا فعله رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، لا رَدَدْتُه أبدًا، فلما توفّي أبو بكر رضوان الله عليه كَلَّم فيه عمر رضوان الله عليه، فأغلظ له وقال: وَيحك يا عثمان، تتكلَّمُ في لعين رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وطريدِه، وعدوِّ الله وعدوِّ رسوله. فلما مات عمر رضوان الله عليه وولي عثمان رضوان الله عليه كان أوَّل ما أحدث من الأحداث رَدّ الحكم إلى المدينة، فاشتد ذلك على المهاجرين والأنصار وأعيان الصحابة، وأنكروا عليه، وكان ذلك أوَّل ما أنكروا. وأقام من سنة أربع وعشرين إلى سنة اثنتين وثلاثين مُكَرَّمًا عند عثمان رضوان الله عليه؛ يُعطيه الأموال، ويُكرم بنيه، ويَرفعهم على رؤوس الصّحابة، فلما توفّي الحكم غَسّله وكَفَّنه وصَلّى عليه، ومشى في جنازته، وضرب عليه فُسطاطًا، ولم يَشْهده أحد من المهاجرين والأنصار، سوى عثمان رضوان الله عليه وبني أميَّة، فاشتدّ ذلك على المسلمين، وأظهروا سبَّ عثمان رضوان الله عليه والوقيعةَ فيه، وناداه الأشتر النَّخعي وهو على المنبر: يا عثمان، تَذبَح حمامَ المدينة، وتُؤوي طَريدَ رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ولَعينَه، وتَضرب على قبره فُسطاطًا؟ ! ستَعلم. وكتبوا إلى الأطراف بإباحةِ دمه، فكان ذلك من أكبر الأسباب لقتل عثمان رضوان الله عليه. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: كُنَّا جلوسًا عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقد ذهب عمرو بنُ العاص يَلبَسُ ثيابَه ليَلحقني، فقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "يَدخُلُ عليكم الساعةَ رجلٌ لَعين"، فوالله ما زلتُ وَجِلًا، أَتَشَوَّفُ داخلًا وخارجًا حتَّى دخل فلان، يعني الحكم (¬1). وقال الشَّيخ موفق الدين رضوان الله عليه في "الأنساب": كان الحكم من مُسلمة الفتح، وقدم المدينة، فأخرجه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إلى الطائف؛ لأنَّه كان من المستهزئين برسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وكان يُؤذيه، ولعلّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - كان يَمقُته لما أطلعه الله عليه ممَّا يكون ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6520)، وابن عبد البر في الاستيعاب (482).

من ذُرِّيته، فقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلًا اتّخذوا دين الله دَخَلًا، وعَبيد الله خَوَلًا، وماله دُوَلًا" (¬1). وكان له من الولد عشرون ذكرًا وإحدى عشرة أنثى، وهم: عثمان الأكبر، والحارث، ومروان، وعبد الرحمن، وصالح، وأمّ البنين، وزينب الكبرى، وأمّهم آمنة بنت عَلقمة بن صَفوان، وقيل: أمُّهم صَفيّة بنت أبي طلحة، من بني عبد الدّار، وأمُّها مارية بنت مَوهَب الكِندي، وهي الزّرقاء التي كانوا يُعيَّرون بها. وعثمان الأصغر، وأبان، ويحيى، وحَبيب، وعَمرو، وأمُّ يَحْيَى، وزينب الصغرى، وأم شيبة، وأمُّ عثمان، وأمُّهم مَليكة بنت أَوفى، من بني ذُبيان. وعمرو، وأوس، والنعمان، وأمُّ أبان، وأمُّ عَمرو، وأُمامة، وأمُّهم أمُّ النعمان، من بني جُشَم. وعُبيد الله، وداود، والحارث الأصغر، والحكم، وعبد الله، وأمُّ الحكم، وأمُّهم [ابنة] مُنبِّه من بني عجلان. ويوسف وأمه أم هاشم بنت عُتبة، وقيل: بنت أبي هاشم بن عُتبة. وخالد وأم مُسلم لأم ولد. فأمَّا عثمان فيُسمّى الأزرق. وأمَّا الحارث بن الحكم فتزوج مفداة بنت الزّبرقان بن بدر، فولَدَت له، ومن ولده خالد بن عبد الملك بن الحارث، ولّاه هشام المدينة، وكان مَذْمومَ السيرة، يُلقَّب فَرقَدًا. وسعيد بن عبد العزيز بن الحارث، كان صهرَ مسلمة بن عبد الملك على ابنته، وولاه مَسلمة خُراسان في أيَّام يزيد بن عبد الملك، فلَقي التُّركَ من وراء النهر، فهزمهم ولم يَتبعهم خورًا منه وجُبنًا، ثم التقاهم ثانيًا، فقتلوا مُعظَمَ أصحابه وهزموه، وهو الذي ولّى نصر بن سيار طَخارستان. ¬

_ (¬1) التبيين 182، وأخرجه أحمد (11758) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

وكان سعيد يُلقّب خُدَينة، وهي الدّهقانة بلسان فارس، وسببُه أنَّه دخل عليه دِهقانٌ من وراء نهر بلخ، فوجده قد رَجَّل شعرَه، ولبس ثوبًا مُعَصْفرًا، فقال: ما هذا إلَّا خُدَينة، شبّهه بالمرأة. وكان يقول: إنَّما سُمِّيتُ خُديْنة لأني لم أوافق على قتلِ اليَمانية فضَعَّفوني، وكلَّم رجلٌ من أسد خُدَينَة في شيءٍ فأغلظ له، فقال للرجل: يا مِلْط، فقال الرجل: [من الكامل] زعمتْ خُدَينةُ أنني مِلْطٌ ... ولخدْنَة المِقراضُ والمِشطُ ومَكاحِلٌ ومَجامِرٌ ولها ... من دَلِّها في خَدِّها نَقْطُ (¬1) ودخل الحارث بن الحكم على أبي هريرة فجلس معه على وسادته، ودخل رجل فجلس بين يدي أبي هريرة، وقال: على عليَّ الحارث، فقال له أبو هريرة: قُم يا حارث، فبكى الحارث، فقال له: قم يا حارث فاجلس مع خَصمِك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بمساواة الخَصمين بين يدي الحاكم، ومَضت السنةُ بذلك، فقام الحارث فجلس مع خصمه (¬2). وأمَّا مروان بن الحكم فوُلد على عهد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، قال مالك بن أنس: وُلد يوم أُحد بالطائف، فلما تُوفِّي أبوه ضَمَّه عثمان رضوان الله عليه إليه، واستَكتَبه فاستولى عليه، وكان يُقال له: خيط باطل. ونظر إليه عليّ رضوان الله عليه يومًا فقال له: ويلك، وويلٌ لأمة محمد - صَلَّى الله عليه وسلم - منك ومن بَنيك إذا شابت ذراعاك. وكان لا يُتَّهم في الحديث، روى عنه جماعة من التّابعين؛ منهم عروة بن الزُّبير - رضي الله عنهما - وعلي بن الحسين - رضي الله عنهما - (¬3). وأمَّا عبد الرحمن بن الحكم فيُكنَى أبا مُطرِّف، ويُقال: أبا الحارث، وكان يُهاجي ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 335 - 337. (¬2) تاريخ دمشق 4/ 93 (مخطوط). (¬3) التبيين 183 - 184.

عبد الرحمن بن حسَّان فيَنتصِفُ منه ويُقاومه، وهو القائلُ لمروان: [من الطَّويل] تجبَّرتَ واستكبرتَ حتَّى كأنما ... نَرى بك فإنا قيصرًا وابنَ قيصرا فذا العرش لا تغفِر لمروانَ إنني ... أراه بأخلاق المكارم أَعْسرا (¬1) أراد العُسرة لا من اليد، ومن شعره: [من الوافر] ألا [مَن] مُبلغٌ مروانَ عنّي ... رسولًا والرسولُ من البَيانِ فإنَّك لن ترى طَردًا لحُرٍّ ... كإلصاقٍ به طرفَ الهَوانِ وهل حُدِّثتَ قبلي عن كريمٍ ... مُعينٍ في الحوادث أو مُعانِ يُقيمُ بدارِ مَضْيَعةٍ إذا لم ... يَكن حَيرانَ أو خَفِقَ الجَنانِ فلو أنّا بمَنزلةٍ جميعًا ... جريت وأنتَ مُضطرِبُ العِنانِ ولولا أن أُمَّ أبيك أُمِّي ... وأنْ مَن قد هَجاك فقد هجاني لقد جاهَرْتُ بالبَغضاءِ إني ... إلى أمر الجهارة والعلان (¬2) وأدرك عبد الرحمن يوم الدّار مع إخوته مروان والحارث، وعثمان الأكبر بن الحكم. وكانت ابنةُ عبد الرحمن تحت يَحْيَى بن سعيد بن العاص فطلّقها البتَّة، فانتقلها عبد الرحمن إليه، فأرسلت عائشة رضوان الله عليها إلى مروان: اتَّقِ الله ورُدَّ المرأةَ إلى بيتها (¬3). ولما عزل معاويةُ مروانَ عن المدينة بعث مروان أخاه عبد الرحمن إلى معاوية ليَستَصلحَه، وكان معاوية ولَّى سعيد بنَ العاص المدينة، فقال عبد الرحمن لمعاوية: [من الوافر] أتتْكَ العِيسُ تَنفُخُ في بُراها ... تكَشَّفُ عن مَناكبها القُطوعُ بأبيضَ من أُميَّةَ مِضرَحِيٍّ ... كأنّ جبينَه سيفٌ صَنيعُ فقال له معاوية: أزائرًا جئتَ أم مُفاخِرًا مَكاثرًا؟ فقال له: على أيّ ذلك شئتَ، ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 340. (¬2) التبيين 185. (¬3) تاريخ دمشق 9/ 921 (مخطوط).

فقال معاوية: ما أشاءُ من ذلك شيئًا، وأراد معاوية أن يَقطَعَه عن الكلام الذي عَنَّ له، ثم قال له معاوية: على أيِّ فَرسٍ أتيتَ؟ قال: على فرس أَجَشَّ هَزِيمِ، وأراد قولَ النَّجاشِيّ لمعاوية: [من الطَّويل] ونجَّى ابنَ حَرْبٍ سابِحٌ ذو عُلالةٍ ... أجَشُّ هَزيمٌ والرِّماحُ دَواني إذا خِلتَ أطرافَ الرَّمَّاح تَنالُه ... مَرَتْه به السَّاقانِ والقَدَمانِ فغضب معاوية وقال: أما إنه لا يَركبه [صاحبه] في الظُّلَم إلى الرِّيَب، ولا هو ممّن يتسَوَّر على جاراته، ولا يَتوثَّبُ على كنائِنه بعد هجعة النَّاس، وكان عبد الرحمن يُتَّهم بذلك في كنائنه، فخجل عبد الرحمن (¬1). وكان مروان يطوف بالبيت ويقول: اللَّهمَّ أذهب عني قولَ الشعر، وأخوه عبد الرحمن يقول: اللَّهمَّ إنِّي أسألُك ما استعاذ منه، فذهب الشعر عن مروان وقاله عبد الرحمن (¬2). وقال معاوية لعبد الرحمن: أراك تُعجَبُ بالشّعر، فإن قُلتَه فإياك والتَّشبيب بالنساء، فإنَّك تَعُرُّ به الشريفة، وتَرمي به العَفيفة، وتُقِرُّ على نفسك بالفَضيحة، وإياك والهجاء؛ فإنَّك تُحنِقُ به كريمًا، وتَستَثير لئيمًا، وإياك والمدح؛ فإنَّه كَسب الوَقاح، ولكن افخَرْ بمفاخِر قومِك، وقُلْ من الأمثال ما تَزينُ به نَفسَك، وتَتوَدَّدُ به إلى غيرك، فإن الشِّعرَ أدنى مُروءَةِ السَّرِيّ، وأفضلُ مروءةِ الدَّنيّ. وعبد الرحمن هو القائل لما ضرب يزيد بنُ معاوية رأسَ الحسين بن علي - رضي الله عنهما - بالقضيب؛ بكى وصاح وقال: [من الطَّويل] لَهَامٌ بجنبِ الطَّفِّ أدنى قَرابة ... من ابنِ زياد العبدِ ذي النسَّبِ الوَغْلِ سُميَّةُ أمسى نَسلُها عددَ الحَصى ... وبنتُ رسول الله أمستْ بلا نَسْلِ فضرب يزيدُ صَدرَه بيده وقال: يا ابن الحَمقاء، ما لك ولهذا (¬3). ¬

_ (¬1) الأغاني 13/ 259 - 260. (¬2) الأغاني 15/ 113. (¬3) تاريخ دمشق 9/ 922 - 923 (مخطوط)، والأغاني 13/ 263 - 264.

وهو القائل أيضًا: [من الوافر] لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا وأما أبان بنُ الحكم فتزوج أم عثمان بنت خالد بن عُقبة بن أبي مُعَيط (¬1). وأمَّا عثمان الأصغر بن الحكم فولاه عبد الملك المدينة. وأمَّا عبيد الله بن الحكم فقتله الحنتفُ يوم الرَّبَذة. وأمَّا يَحْيَى بنُ الحكم -كُنيته أبو مروان- فولاه عبد الملك المدينة، وكان خائنًا بخيلًا، وفيه يقول [أيمن بن] خُرَيم بن فاتِك الأسدي: [من الطَّويل] ترَكتُ بني مروان تَنْدى أكفُّهم ... وصاحبتُ يَحْيَى ضَلَّةً من ضَلاليا لقد كان في ظلِّ الخليفةِ وابنِه ... وظلِّ ابنِ ليلى ما يَسُدُّ اختِلاليا أميرًا إذا ما جئتُ طالبَ حاجةٍ ... تَهيَّا لشَتْمي أو أراد قِتاليا فإنَّك لو أَشْبهتَ مروانَ لم تَقُلْ ... لقوميَ هُجرًا إذ أَتَوك ولاليا وتزوَّج يَحْيَى بنُ الحكم زينبَ بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال عبد الملك: أدرِكوا بيتَ المال، يعني أنَّه خائن، وولاه عبدُ الملك حمص. وكان يَحْيَى أحمق، وَفَد على عبد الملك بغَير إذنه، فقال له: ما الذي أقْدَمَك بغير إذني، ومَن استَعملتَ على المدينة؟ ! فقال: أبانَ بنَ عثمان، فقال: لا جَرَم، لا تعودُ إليها أبدًا، وأقرَّ عبدُ الملك أبانًا عليها، فأقام واليًا تِسعَ سنين، وحج فيها بالنَّاس سنتين، وفي ولايته تُوفّي محمد بن الحنفية وجابر بنُ عبد الله بالمدينة، فصلّى عليهما. وكان شُخوص يَحْيَى إلى الشام في سنة خمس وسبعين، وقدم عبد الملك حمص؛ فقتل إسحاق بنَ الأشعَثِ صَبْرًا، فتكلّم أهلُ حمص، فبلغه، فصَعِد المنبر وقال: ما حديثٌ بلغني عنكم يا أهل الكُوَيفة الصُّغرى؟ ! فقام إليه عبد الرحمن بن ذي الكلاع فقال: لسنا أهل الكُوَيفة، وإنَّما نحن أهل الكوفة الذين قاتلنا معك مصعبَ بن الزُّبير، وأنت القائلُ يومئذٍ: والله يا أهلَ حمص لأُواسينَّكم ولو بما ترك مروان، وعليك يومئذٍ قَباؤك الأصغر، فسكت عبد الملك. ¬

_ (¬1) في (خ): فتزوج أم عثمان بنت أبان بن الحكم، والمثبت من أنساب الأشراف 5/ 336، ونسب قريش 171.

سلمان الفارسي

وقال له رجلٌ من أهل حمص: اعزِلْ سَفيهك عنا، فالتفتَ عبد الملك إلى يحيى بن الحكم وقال له: ارتحلْ عن جِوار القوم. وكان يحيى بن الحكم حَسَنَ المَحْضَرِ للناس عند عبد الملك، وهو القائل حين قَتل عبد الملك عمرو بنَ سعيد الأشْدَق فقال: [من الطَّويل] أعينَيَّ جُودا بالدُّموعِ على عَمرِو ... عشيّةَ تُبْتَزُّ الخلافةُ بالغَدْرِ كأنّ بني مروانَ إذ يَقتلونه ... بُغاثٌ من الطّيرِ اجتمعْنَ على صَقْرِ غَدرتُم على عمرو بني خَيطِ باطِلٍ ... وأنتم ذَوو قُرْبى به وذَوُو صِهْرِ فرُحْنا وراح الشَّامِتون عشيَّةً ... كأن على أكتافنا فلَقُ الصَّخرِ لحى الله دُنْيا تُدخِل النارَ أهلَها ... وتَهتِكُ ما دون المحارمِ من سِتْرِ (¬1) وأمَّا يوسف فأمُّه أمُّ يوسف بنت هاشم بن عُتبة. وأمَّا خالد بن الحكم فكان مع عبد الملك يوم قَتل عمرو بنَ سعيد، وانتدب قومٌ يُقاتلون مع عمرو، فبعث عبد الملك خالدًا إليهم، فهَزمهم. وأما بناتُ الحكم؛ فتزوَّج أمَّ البنين سعيد بنُ العاص، وتزوّج زينبَ أسيدُ بن الأَخْنَس الثَّقفيُّ، وتزوَّجَ أُمَّ يحيى عُروةُ بنُ الزُّبَير، وكانت أصغرَ وَلَد الحكم، وتزوّج أمَّ أبان عبد الله بنُ المطَّلب بن حَنْطب المخزومي، ثم خلف على أُختها أمِّ الحكم، وتزوَّج أُمامةَ بنت الحكم عبدُ الرحمن بنُ الحارث بن أبي ذِئب، من بني عامر بن لُؤيّ (¬2). سلمان الفارسي كُنيته أبو عبد الله، ويُقال له: سلمان الخير، وكان يقول: أنا ابنُ الإسلام، وهو من الطبقة الثَّانية من الصّحابة، قال: أنا من رَامَ هُرْمُز، تَداوَلَني بِضعةٌ وعشرون من ربّ إلى ربّ، وقيل: أصلُه من اِصْطَخْر، وقيل: من أهل أَصبهان، من قرية يُقال لها: جيّ، وقال: كان أهلُ قريتنا يَعبدون الخيلَ البُلْق. ¬

_ (¬1) نسب قريش 179، وأنساب الأشراف 5/ 339، والأغاني 20/ 310، وتاريخ دمشق 18/ 56 - 57، والتبيين 184 - 185. (¬2) أنساب الأشراف 5/ 336.

أسلم سلمان عند قدوم رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - المدينة، ومنعه الرّق من شهود بدرٍ وأُحدٍ، وشهد الخندق، وهي أوّلُ غزواته مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وكان قد سافر يَطلبُ الدِّين مع قومٍ، فغَدروا به وباعوه، وتقلَّبتْ به أحوالٌ عجيبة، وأهوالُ غريبة، وولاه عمر رضوان الله عليه المدائن. وحكى الواقدي عن أشياخه، عن سلمان الفارسيِّ قال: كنتُ أنطلقُ مع غِلمان من قريتنا إلى جبلٍ فيه كَهفٌ، فانطلقتُ وَحدي يومًا، فإذا في الكهف رجل طويل، عليه ثيابٌ من الشَّعر، فأشار إليَّ، فدنَوتُ منه فقال: يا غُلام، أتعرفُ عيسى بنَ مريم؟ قلتُ: لا، قال: بلى هو رسول الله، فآمِنْ بالله ورسوله، وبرسول يأتي من بعده اسمُه أحمد، يُخرجُه (¬1) الله من غَمِّ الدُّنيا إلى رَوح الآخرة ونعيمها، قلت: وما نَعيمُ الآخرة؟ قال: نعيمٌ لا يَفنى. فرأيتُ النُّورَ يَخرج من شَفته، فعَلِقَه فؤادي، فكان أوَّل ما علَّمني الشَّهادة، فقال: قل أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأن عيسى روحُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم، ورسولُه، ومحمّدٌ رسولُه بعده، وأن الإيمانَ بالبَعْثِ حقُّ، وكذا الجنة والنار، ثم قال: إن أدركتَ محمدًا - فإنَّه يَخرجُ من جبال تِهامة- فأقرِئْه مني السَّلامَ، وقل: وصيُّ عيسى يُسلِّم عليك. وقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: سلمانُ سابِقُ الفُرس، وخطّ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - الخندقَ، وقطع لكل عشرةٍ أربعين ذِراعًا، فاحتجَّ المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلًا قويًّا، فقال المهاجرون: سلمانُ منّا، وقال الأنصار: لا بل منّا، فقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "سلمانُ منّا أهل البيت". وآخى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء، وقيل: بينه وبين حُذيفة. وذهب أبو الدرداء مع سلمان يَخطُب عليه امرأةً من بني ليث، فدخل فذكر فضلَ سلمان، وسابقتَه وإسلامَه، وأنه يَحْطب إليهم فتاتهم فلانة، فقالوا: أما سلمان فلا نُزَوِّجه، ولكنا نُزَوِّجُك، فتزوَّجها، ثم خرج فقال: إنه قد كان شيءٌ، وإني أستحيي أن أذكره، قال: وما ذاك؟ فأخبره الخبر، فقال سلمان: فأنا أحقُّ أن أستحيي منك، أن أخطُبَها وكان الله تعالى قد قضاها لك. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 7/ 394 (مصورة دار البشير): أخرجه.

وسئل علي رضوان الله عليه عن سلمان فقال: أُوتي العلمَ الأوّلَ والعلمَ الآخر، لا يُدرَك ما عنده. وسئل عنه أيضًا فقال: ذاك امرؤٌ منّا وإلينا أهل البيت، ثم قال: مَن لكم بمثل لُقمانَ الحكيم، قرأ الكتاب الأولَ والكتابَ الآخر، وكان بحرًا لا ينزَف. وكان عطاءُ سلمان خمسةَ آلاف، وكان على ثلاثين ألفًا من النَّاس، وكان يَخطب النَّاسَ في عباءة، يَفترشُ بعضَها ويَلبَس بعضَها، وكان إذا خرج عَطاؤه أمضاه، ويَأكلُ من سَفيف يده، وكان يتصدَّقُ بعطائه، ويَحمل الخُوصَ، وكان يستظلُ بالفَيءِ حيث ما دار، ولم يكن له بيت، فقال له رجلٌ: ألا نَبني لك بيتًا تَستظلُ به من الحَرِّ، وتَسكنُ فيه من البَرد؟ فقال له سلمان: نعم، فلما أدبرَ صاح به سلمان فسأله: كيف تبنيه؟ فقال: أبنيه إن أقمتَ فيه أصابَ رأسَك، وإن اضطجعتَ فيه أصابَ رجليك، قال سلمان: نعم. وتزوَّج امرأة من كِندة، فلما كانت ليلةُ البِناء مشى معه أصحابُه، فلما بلغ بابَ امرأته قال: ارجعوا جزاكم الله خيرًا، ولم يُدخِلْهم، ودخل وحده، فلما نظر إلى البيت وهو مُنَجَّدٌ قال: أمَحمومٌ بيتُكم؟ ! أم تحوَّلَت الكعبةُ في كِندة؟ ! فلم يَدخل حتى نَزعَ كلَّ سترٍ في البيت، فلما دخل رأى مَتاعًا كثيرًا، قال: لمن هذا؟ قالوا: لك ولامرأتك، فقال: ما بهذا أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم -، أوصاني ألا يكون متاعي من الدُّنيا إلَّا كَزَادِ الرَّاكب، ثم رأى خدمًا فقال: لمن هؤلاء؟ فقالوا: لك ولامرأتك، فقال: ما بهذا أوصاني خليلي، [أوصاني] أن لا أُمسِك إلَّا ما أنكح أو أُنكح، فإن فعلتُ فعليَّ مثلُ أوزارهنّ، ثم قام فصلّى وصلَّت المرأةُ معه، ثم قضى حاجتَه. فلما أصبح غدًا عليه أصحابُه فقالوا: كيف وَجَدَت أهلك؟ فأعرض عنهم، فألَحُّوا عليه فقال: إنَّما جعل الله السُّتورَ والأبوابَ والجُدُرَ ليُوارى ما فيها، حسبُ امرئ منكم أن يسأل عما ظهر له، أما ما غاب عنه فليس له أن يَسأل عنه، سمعتُ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "المتحدِّثُ في ذلك كالحمارَيْن يتسافَدان في الطَّريق". ودخل عليه رجل وهو يَعجِن فقال: ما هذا؟ فقال: بعثنا الخادم في عمل، فكرهنا أن نَجمع عليه عَمَلين، ثم قال له: إن فلانًا يُقرِئُك السلامَ، فقال له سلمان: منذ كم

قَدِمتَ؟ قال: ثلاثة أيَّام، قال: أما إنك لو لم تُؤَدِّها كانت أمانةً لم تُؤَدِّها. قال النُّعمان بن حُمَيد: دخلتُ مع خالي على سلمان بالمدائن وهو يَعمل الخُوص، فسمعتُه يقول: أشتري خُوصًا بدرهم، فأبيعه بثلاثة دارهم، فأُعيدُ درهمًا فيه، وأنفق درهمًا على عيالي، وأتصدَّقُ بدرهم، ولو نهاني عنه عمر بن الخطاب ما انتَهيتُ. قال ثابت: كان سلمان أميرًا على المدائن، فجاء رجلٌ من أهل الشام معه حِملُ تين، وعلى سلمان أنْدَرْوَرْد وعباءة، فقال لسلمان: تعال احمِلْ هذا، وهو لا يَعرفُه، فحمله سلمان، فرآه الناسُ فعرفوه، فقالوا: هذا الأمير، فقال الرجل: لم أعرفه، فقال سلمان: لا حتَّى أبلُغ منزلَك. وقال شيخٌ من بني عَبْس: أتيتُ السُّوقَ فاشتريتُ عَلَفًا بدرهم، فرأيتُ سلمانَ ولا أَعرفُه، فسَخَّرتُه فحَملتُ عليه العَلَفَ، فمرّ بقومٍ فقالوا: أنحمل عنك يا أبا عبد الله؟ فقلتُ: مَن هذا؟ قالوا: سلمانُ صاحبُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فقلتُ: ضَعْه عافاك الله، فأبى حتَّى أتى به مَنزلي وقال: قد نَويتُ فيه نيَّة، فلا أَضعُه حتَّى أبلُغَ مَنزِلَك. وكان إذا أصابَ الشَّيءَ اشترى به لحمًا، ثم دعا المجَذَّمِين فأكلوا معه. وقال عمرو بن أبي قرَّةَ الكندي: عرض أبي على سلمان أُختَه فأبى، وتزوّج مَولاةً له يُقال لها بُقَيرة، فبلغ أبا قُرَّة أنَّه كان بين سلمان وبين حذيفةَ شيءٌ، فأتاه يَطلُبه، فأُخبِر أنَّه في مَبْقَلَةٍ، فتَوَجَّه إليه، فلقيه معه زِنْبيل فيه بَقْل؛ قد أدخل عصاه في عُروة الزِّنْبيل وهو على عاتقه، فقال: يا أبا عبد الله، ما كان بينك وبين حُذَيفة؟ قال: يقول سلمان: وكان الإنسان عَجولا، فانطلقا حتَّى أتيا دار سلمان، فدخل سلمان الدّار، فقال: السَّلام عليكم، ثم أَذِن، فإذا نَمطٌ موضوع على باب، وعند رأسه لَبِنات، وإذا قرطان فقال: اجلس على فِراش مولاتك التي تُمهِّد لنفسها. ثم أنشأ يُحدِّث أن حُذيفة كان يُحدِّث بأشياءَ كان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقولُها في غَضبه لأقوام، فأُسألُ عنها فأقول: حُذيفةُ أعلمُ بما يقول، وأكره أن تكون ضَغائنُ بين أقوام، فأُتي حُذيفةُ فقيل له: إن سلمان لا يُصدّقك ولا يُكَذِّبُك بما تقول، فجاءني حُذيفةُ فقال: يا سلمان يا ابن أمِّ سلمان، فقلتُ: يا حُذَيفة يا ابن أمِّ حُذيفةَ، لتنتَهينَّ أو لأكتُبنَّ

إلى عمر، فلما خَوَّفتُه بعمر تركني، وقد قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "من ولد آدم أنا، فأيُّما عبدٍ مؤمنٍ لَعَنْتُه [لَعنةً] أو سببتُه سَبَّةً في غير كُنْهه، فاجعلْه صلاةً له" (¬1). وقال رجلٌ من عبد القَيس: رأيتُ سلمان في سريَّةٍ وهو أميرُها على حمارٍ، عليه سَراويل، وخَدَمَتاه تُذَبْذِبان، والجندُ يقولون: قد جاء الأمير، فقال سلمان: إنَّما الخيرُ والشّرُّ بعد اليوم. وافتخرت قريش عنده فقال سلمان: لكني خُلقتُ من نُطفةٍ قذرة، ثم أعودُ جِيفةً مُنتنة، ثم يؤتى بي إلى الميزان، فإن ثَقُل فأنا كريم، وإن خَفَّ فأنا لئيم. وروى خليفةُ بنُ سعيد المراديّ عن عمِّه قال: رأيتُ سلمان الفارسي بالمدائن في بعض طُرُقها يمشي، فزَحَمتْه حملة من قَصَبٍ فأوجَعَتْه، فتأخَّر إلى صاحبها الذي يَسُوقها، فأخذ بعَضُدِه فحرَّكه ثم قال: لامِتَّ حتَّى تُدرِك إمارة الشباب. قال رجل من عبد القَيْس: مرَّ سلمان بصبيان من فِتيان الجُند، فضحكوا وقالوا: هذا أميرُكم؟ فقلتُ: ألا تسمع؟ فقال: إن استطعتَ أن تأكلَ من التّراب فكُلْ، ولا تكونَنَّ أميرًا على اثنين، واتَّقِ دعوةَ المظلومِ والمضطرّ فإنَّها لا تُحجَب. وكان خِباؤه من عَباءة وهو أمير النَّاس. وسُرق عَلَفُ دابَّته فقال لجاريته أو غُلامه: لولا أني أخاف القِصاص لضَرَبْتُك. وقدم المدينة فقال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: اخرجوا بنا نتلقَّى سلمان. وقال سلمان لحذيفة: أخا بني عَبْس: إن العلم كثير، والعُمر قصير، فخُذْ من العلم ما تحتاجُ إليه في أمرِ دِينك، ودَعْ ما سواه فلا تُعانِه. وقال: إنَّما مثل المؤمن في الدُّنيا كمريض معه طَبيبُه الذي يَعلم داءه ودواءه، فإذا اشتهى شيئًا يَضُرُّه منعه وقال له: لا تَقرَبْه؛ فإنَّك إن أتيتَه أهلكك، فلا يزالُ يَمنعُه حتَّى يَبرأَ من وَجَعه، وكذا المؤمن؛ يَشتهي أشياءَ كثيرة ممَّا قد فُضّل به غيرُه من العَيش، فيَمنعه الله إياه، ويَحجُزه حتَّى يتوفّاه فيُدخله الجنة. قال جرير: قال سلمان: يا جرير، تواضَعْ لله، فإنَّه مَن تواضَعَ لله رَفَعه الله يوم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد بطوله (23721).

القيامة، يا جرير، هل تَدري ما الظُّلُمات يوم القيامة؟ قلتُ: لا، قال: ظُلمُ النَّاس فيما بينهم في الدُّنيا، ثم أخذ عُودًا لا أكاد أراه بين أُصبعَيه وقال: يا جرير، لو طَلبتَ في الجنة مثلَ هذا العُود لم تجدْه، قلت: أبا عبد الله، فأين النَّخلُ والشَّجَرُ؟ قال: أُصولُها اللؤلؤ والذهب، وأعلاها الثَّمر. دخل سعد بنُ أبي وَقَّاص على سلمان يَعودُه، فبكى سلمان، فقال له سعد - رضي الله عنه -: ما يُبكيك يا أبا عبد الله؟ تُوفّي رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وهو عنك راضٍ، وتَرِدُ عليه الحوضَ، قال سلمان: والله ما أبكي جَزَعًا من الموت، ولا حِرْصًا على الدُّنيا، ولكنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَهِد إلينا عَهْدًا فقال: "لتَكُنْ بُلْغةُ أحدكم من الدُّنيا مثل زادِ الرّاكب"، وحَولي هذه الأساوِد، وإنّما حوله جَفنةٌ أو مَطهرة أو إجّانة، فقال له سعد: يا أبا عبد الله، اعهَدْ إلينا بعهد نأخُذُ به بعدك، فقال: يا سعد، اذكُر الله عند هَمِّك إذا هَمَمتَ، وعند حُكمك إذا حَكَمْتَ وعند يدك إذا قَسمتَ، والأمير يومئذٍ سع - رضي الله عنه -، فلما مات نظروا في بيته فلم يَرَوا فيه إلَّا إكافًا ووطِاءً، ومَتَاعًا قُوِّمَ نحوًا من خمسةَ عشر دِرهمًا. ولما حضرت سلمانَ الوَفاةُ قال لصاحبةِ منزله: هَلُمِّي خَبيئك الذي استَخبأتُك، فجاءت بصُرَّة مِسْك، فقال: ائتيني بقَدَحٍ فيه ماء، فنثر المسك فيه، ثم ماثَه بيده، ثم قال: انضَحِيه حَولي فإنَّه يَحضُرني خَلْقٌ من خَلْق الله تعالى، يَجدون الريحَ ولا يأكلون الطَّعام، ثم اجْفَئي عليَّ الباب وانزلي، ففعلت وجلست هنيهة، ثم صعِدت فإذا هو قد مات. وعاش مئتين وخمسين سنة، لا يَشكُّون في هذا، ويقول بعضهم: ثلاث مئة وخمسين سنة. ومات بالمدائن في عِلِّيّةٍ لأبي قرَّةَ الكِندي. قال سلمان لعبد الله بن سلام: يا أخي؛ أيّنا مات قبل صاحبه فليَتَراءى له، قال ابن سلام: أوَ يكون ذلك؟ قال: نعم، إن نَسَمةَ المؤمن مُخَلّاة تذهب في الأرض حيث شاءت، ونَسَمةُ الكافر في سجّين. فمات سلمان، قال عبد الله بن سلام: فبينا أنا ذات يوم قائل نصفَ النهار على سرير لي، فأغفيتُ إغفاءةً، إذ جاء سلمان فقال: السَّلام عليكم ورحمة الله، فقلتُ: أبا عبد الله، كيف وَجَدتَ مَنزلك؟ قال: خيرًا، وعليك

سنان بن أبي سنان

بالتّوكُّل؛ فنِعْم الشيء التوكل، وجدتُ التوكل شيئًا عجيبًا، وردّده ثلاث مرات. ولم يكن لسلمان - رضي الله عنه - ولدٌ ذكر، وكان له ابنتان بمصر وواحدة بأصبهان. أسند سلمان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ستين حديثًا، وروى عنه جماعة من الصّحابة، منهم: ابن عباس وسعد بن مالك وأنس وعُقبة بن عامر وأبو سعيد الخُدري وكعب بن عُجرة وأبو الطُّفيل عامر بن واثلة في آخرين، ومن التّابعين أبو عثمان النهدي، وعبد الله بن أبي زكريا وغيرهما (¬1). سِنان بن أبي سِنان ابن مِحْصَن الأسدي، من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). أبو سفيان صَخْرُ بنُ حَرْب بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مَناف بن قصيّ، وأمه صفيَّة بنت حَزْن بن قيس عَيلان، لم يزل في عَداوة رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، مُقيمًا على كُفره، يُحاربُه في كلِّ موطن إلى عام الفتح، فأسلم، وكان الإيمانُ في قلبه مُتَزلْزلًا، يُعدُّ في المؤلَّفةِ قُلوبُهم، ثم استقرَّ إيمانُه، وقوي يَقينه، وكان قد كفَّ عن القتال بعد الخندق، وبعث إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هديَّة من تمر عَجوة، وكتب إليه يَستهديه أدمًا، فقَبل هديَّتَه وأهدى إليه. وقال الشَّيخ موفّق الدين - رضي الله عنه - في "الأنساب": كان حَرْبُ بن أميَّة رئيسَ بني عبد شمس ومُقَدَّمها في حروب الفِجار وغيرها، وكان ابنه أبو سفيان من أشراف قريش، وكانت إليه رايةُ الرُّؤساء المعروفة بالعُقاب، لا يَحملها في الحرب إلَّا هو أو رئيسٌ مثلُه، وكان ذا رأيٍ وحلمٍ ودهاءٍ؛ إلَّا أنَّه كان جاهدًا في عداوة رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة سلمان: طبقات ابن سعد 4/ 69 و 8/ 139 و 9/ 319، والمعارف 270، والاستيعاب (948)، وحلية الأولياء 1/ 185، وتاريخ دمشق 7/ 389 (مخطوط)، والمنتظم 5/ 20، وصفة الصفوة 1/ 523، وتاريخ بغداد 1/ 163، والسير 1/ 505، والإصابة 2/ 62، وتهذيب الكمال وفروعه. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 88، والاستيعاب (1000)، والتبيين 509، والإصابة 2/ 82.

ومُحاربتِه، وكان قائدَ قريش يومَ أحد والأحزاب. ويقال: كان أفضل قريش في الجاهلية ثلاثة: عُتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو سفيان، فلما جاء الإسلام أدبروا في الرأي. وفُقئت عينُه يومَ الطَّائف، فلم يزل أعور حتَّى شهد اليرموك (¬1). قال مُبشّر بن الحُوَيرث: فُقِدت الأصواتُ يومَ اليرموك إلّا صوتَ رجلٍ واحد يقول: يا معاشرَ المسلمين، يومٌ من أيَّام الله، أبلُوا فيه بلاءً حَسَنًا، يا نصرَ الله اقترب، والقتال يعمل، وإذا به أبو سفيان تحتَ راية ابنه يزيد. ومات بالمدينة وله ثلاثٌ وثمانون سنة، وقيل: بِضعٌ وتسعون، وصلّى عليه ابنُه معاوية، وقيل: بل صَلَّى عليه عثمان رضوان الله عليه. خرج أبو سفيان تاجرًا إلى الشام ببضائعَ فيها بضاعةٌ لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ فلما عاد وَجد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله، فلم يُعطِه بِضاعتَه، ولقي رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -فقال له: يا ابنَ عبد الله، أما تُريد بِضاعتَك؟ فقال: "أنت صاحبُ أمانة، ذاك إليك" فبعث بها إليه. أقبلَ أبو سفيان من الشام ومعه هند ومعاوية على حمار، فلما دَنَوا من مكّة لقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجَ مكّة؛ وذلك أوَّل الإسلام، فقال أبو سفيان: انزلا ليَركبَ محمد، فقالت هند: أتُنزِلُنا لأجلِ هذا الصابئ؟ ! فقال لها: هو والله خيرٌ منك ومن ابنك ومني. لطم فاطمةَ أبو جهل، فلَقيتْ أبا سفيان وشكَتْ إليه، فرجع معها إليه وقال: الطِميه لَعنه الله، فلَطمتْه، فقال أبو جهل: أَدْرَكَتْك المنافِيَّةُ؟ ! قال: نعم، وجاءت فاطمةُ سلام الله عليها فأَخبرتْ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فرفع يديه وقال: "اللَّهمَّ لا تَنسَها لأبي سفيان". ورماه سعيد بنُ عُبيد الثَّقفي من حِصن الطائف بحَجَرٍ فقلع عينَه، فجاء إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وعينُه في يده، فقال له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أيما أحبُّ إليك؟ أن أسألَ الله فيَردّها عليك، أو يُعَوِّضك عَينًا في الجنة؟ " فقال: لا، بل عينًا في الجنة. ولما أعطاه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - الإبل يوم الجِعرانة والوَرِق -أعطى ابنَيه- قال له: والله ¬

_ (¬1) التبيين 202.

إنك لكريم، فداك أبي وأمي، لقد حاربْتُك فلَنِعْمَ المحارَب كنتَ، وسالمتُك فلَنعم المسالم كنت، فجزاك الله خيرًا. وأهدى مَلكُ اليمن إلى الكعبة سبعةَ جَزَائرَ أو عشرة، وأمر أن لا يَنْحرها إلَّا سيِّدُ قريش، وكان أبو سفيان قد عَرَّس بهند بنت عُتْبة، وكان من عادتهم أن يُقيموا عند العَروس سبعةَ أيَّام، فقالت هند: أيها الرَّجل، لا يَشغلنّك النساء عن هذه المكرُمَة، وربما فاتت، فقال لها: دعي عنك هذا، فوالله لا يَنْحَرُها غيري، فأقامت في عُقُلها؛ حتَّى خرج في اليوم السابع فنحرها. ولم يكن في قُريش أشَحّ من أبي سفيان، وشكَتْه هند إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قالت: يا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، إن أبا سفيان رجلٌ شَحيحٌ، وليس لي إلَّا ما يدخل بيتي، فقال: "خُذي ما يَكفيك وولدك بالمعروف". ولما اعتَمر أبو بكر رضوان الله عليه شكى إليه ناسٌ أبا سفيان، فانتَهره، فقال له أبو قُحافة: يا عَتيق، أتَرفع صوتَك على ابنِ حَرْبٍ؟ فقال: يا أبتِ، إن الإسلام هدم بُيوتًا منها بيتُه، وعمر بُيوتًا منها بيتُك. وقف أبو سفيان بباب عثمان رضوان الله عليه وهو خليفة فحَجَبه، فقيل له: ما كُنَّا نظنُّ أنك تقفُ بباب مَن يَحجُبُك؟ ! فقال: لا عَدِمتُ من قومي مَن أقفُ ببابه فيَحْجُبُني. ومات أبو سفيان أعمى، وكان له قائدٌ يقودُه. زار أبو سفيان ابنَه معاوية بالشام وهو أمير، ومعه ابنُه عُتبة وعَنْبَسة، فَكَتَبَتْ هند إلى ابنها معاوية: احمل أباك على فَرس وأعطِه أربعةَ آلاف درهم، واحمل عُتبة على بَغل وأعطه ألفَي درهم، واحمل عَنْبسة على حمار وأعطه ألف درهم، ففعل معاوية، فقال أبو سفيان: أشهد بالله إن هذا عن رأي هند. وبعث معاويةُ إلى عمر رضوان الله عليه من الشام بأَدَاهِمَ، وهي القيود، وقال: هذه وَجَدْناها في بعض حُصون الرُّوم، وبعث معها بمال، وقال للرسول: أَوصِلْها إلى أبي سفيان ليُوصِلَها إلى عمر، فبعث أبو سفيان بالقُيود إلى عمر رضوان الله عليه وحبس المال، فلما قرأ عمر رضوان الله عليه الكتاب وفيه ذِكرُ المال استَدعى أبا سفيان،

وقال: أين المال؟ قال: أنفقتُه، فأمر عمر رضوان الله عليه بوَضعِ الأَداهم في رجله، وقال: والله لا يَخرج إلَّا بالمال، فأحضر المال، وبلغ معاوية ذلك فقال للرسول: أَعجَبَتْ أميرَ المؤمنين الأَداهِمُ؟ فقال: نعم، وأول ما طرح أباك فيها، فقال: لو فعل الخطَّابُ ذلك لفَعَل به مثلَ ما فعل بأبي سفيان. بنى أبو سفيان دُكّانًا بمكة، فكان يَسْمُر عليه، فلما حجَّ عمر رضوان الله عليه شكاه أهلُ مكّة، فجاء فوقف عليه وقال: أخرِبْ هذا الدّكان، فأبى، فضربه بالدّرّة فصاح، فضربه ثانيًا وثالثًا وهو يَستغيث، وعمر رضوان الله عليه يقول: الحمد لله الذي أذل أبا سفيان؛ فأصبح يَستغيثُ بمكة فلا يُغاث، ثم قال: والله لتَنقُلَنَّ الحِجارةَ على ظهرك أو على عُنقك، ففعل. وحجّ عمر رضوان الله عليه، فاستعدى رجل من بني مَخزوم على أبي سفيان في أرض غصبه إياها، فقال له عمر رضوان الله عليه: ادفع إليه أرضه، فقال: لا أفعل، فضربه بالدرة، فصاح: يا آل قُصيّ، فخفَقَه ثانيًا وقال: يا ملعون (¬1)، أدعوى الجاهلية، فقالت له هند: يا عمر، أتضرب ابنَ حَرب بالدرة؟ ! أما لرُبّما رُمتَ ذلك فاقشعَرَّت منه بُطونُ البَطحاء، فقال عمر رضوان الله عليه: الحمد لله الذي أذلّكم بهذا اليوم. ذكر أولاده: كان له من الذّكور سبعة: حَنْظلة، ويزيد، ومعاوية، وعمرو، ومحمد، وعُتبة، وعَنبَسَة، ومن البنات عشرة: أمُّ حَبيبة، وهي رَمْلَةُ الكبرى - رضي الله عنها-، وعَزة، وأمُّ الحكم، وجُوَيرية، وصَخْرة، وهند، وميمونة، ورَمْلَةُ الصغرى، وأُميمة، وأمُّ حَبيب (¬2). فحَنظلة أخو أمِّ حَبيبة - رضي الله عنها - لأبيها وأمّها [أمهما] صفيّة بنت أبي العاص. ومعاوية وعُتبة وجُويرية وأمُّ الحكم أمُّهم هند بنت عُتبة. فأمَّا حَنظلةُ فقتله عليّ رضوان الله عليه يوم بدر كافرًا، وبه كان يُكنى أبو سفيان. وأمَّا يزيد فتقدَّم ذِكره (¬3). ¬

_ (¬1) كذا؟ ! وليست هذه العبارة في المصادر التي روت الحادثة. (¬2) كذا، والذي في المصادر أن أميمة هي أم حبيب، انظر طبقات ابن سعد 6/ 5، والتبيين 204. (¬3) في سنة ثمان عشرة.

وأمَّا عمر فهو الذي أُسر يوم بدر. وأمَّا عُتبة فكُنيته أبو الوليد، وُلد على عهد النبي - صَلَّى الله عليه وسلم-، وولاه عمر رضوان الله عليه الطائف، ثم وَلاه معاويةُ مصر، وولاه المدينة والموسم، وشهد يوم الدّار، وشهد الجَمل، ثم هرب فعيّره عبد الرحمن بن الحكم. وكان من فُصحاء قريش، ولم يكن في بني أميَّة أَخطَبُ منه، خطب بمصر وهو والٍ عليها فقال: يا أهل مصر، خفّ على ألسنتكم مَدْحُ الحقِّ فلا تأتونه، وذمُّ الباطل وأنتم تَفعلونَه، كالحمار يحمل أسفارًا، يُثقله حملُها، ولا يَنفعُه علمُها، وإني لا أُداوي داءَكم إلَّا بالسيف، ولا أَبلُغُ بالسيف ما كفاني السَّوط، ولا أبلغُ بالسوط ما صَلح بالدرّة، فالزموا ما ألزَمَكم الله لنا تَستوجبوا ما فرض الله لكم علينا، وهذا يوم ليس فيه عقاب، ولا بعده عِتاب. وولدُه عَمرو بن عُتبة كان من رجالات قُريش، قدم على عمه معاوية، وسمع منه الحديث ومن جماعةٍ من الصّحابة، وسكن البصرة، وقدم على يزيد بن معاوية فأقطعه الزاوية ونهر مَعْقِل، وقدم على عبد الملك فأقطعه قَطيعة، وذكره ابن عَيّاش في الحُوْل من الأشراف، ومدحه الفرزدقُ فقال: [من البسيط] لولا ابنُ عُتبةَ [عمرو] والرَّجاءُ له ... ما كانت البصرةُ الحمقاءُ لي وَطَنا (¬1) وأمَّا محمد وعَنْبَسَة فأمُّهما عاتكة بنت أبي أُزَيهر، أَزديّة، وقيل: دَوسِيَّة، ولمحمد بن أبي سفيان ولدٌ اسمُه عثمان بن محمد، كان عاملَ يزيد بن معاوية على المدينة سنةَ الحَرَّة. وعَنْبَسة كُنيتُه أبو عامر، روى عن أمّ حبيبة زوجِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن حافظ على أربعٍ قبل الظُّهر وأربعٍ بعدها حَرَّمه الله على النَّار"، قال: فما تَركتُهنّ منذ سمعتُ أمَّ حبيبة تقول ذلك. واستعمله معاوية على الصَّائفة سنة اثنتين وأربعين، فبلغ مَرج الشّحم، وولاه الموسم بمكة، وروى عنه مَكحول وشَهْرُ بن حَوْشَب وغيرهما، وابنُه عثمان بن عَنْبَسة ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة عتبة وابنه تاريخ دمشق 45/ 113 و 55/ 347، إضافة إلى ما سنذكر من مصادر قريبًا.

الطفيل بن الحارث

الذي صَلَّى على معاوية بن يزيد (¬1). الطُّفَيل بن الحارث ابن المطلب بن عبد مَنَاف بن قُصيّ، من الطبقة الأولى من المهاجرين، واسم أمه سُخَيلة بنت خُزاعي، ثقفيّة، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخى بينه وبين المنذر بن عُقبة بن أُحَيحة بن الجُلاح، وقيل بينه وبين سفيان بن نَسْر بن زيد بن الحارث الأنصاري. والطفيل أخو عُبيدة بن الحارث لأبيهما وأمّهما، والحُصَين من المهاجرين الأوَّلين، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وتوفي أيضًا في هذه السنة، وآخى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بينه وبين رافع بن عَنْجَدَة (¬2)، وكان للحُصين من الولد عبد الله الشاعر. وأمَّا عُبيدة فإنَّه جُرح يوم بدر، ثم مات في جِراحه شهيدًا - رضي الله عنهم -. وللطُّفيل والحُصين - رضي الله عنهما - صُحبة، وليس لهما رواية (¬3). العباس بن عبد المطلب بن هاشم - رضي الله عنه - عمُّ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وأمه نُتَيلة بنت جَناب بن كُلَيب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مَناة بن عامر، وهو الضَّحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النّمر بن قاسط بن هِنْب بن أَفْصى بن دُعْميّ بن جَديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان، كُنيتُه أبو الفضل، من الطبقة الثَّانية من المهاجرين، فيمن لم يشهد بدرًا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ولد قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسنَّ من رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بثلاث سنين، وكان أبيضَ، بَضًّا، رَجِلَ الشَّعر، حَسنَ اللحية، تامَّ القامَة، رَحْبَ الجبهة، أهدبَ الأشْفَار، ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة أبي سفيان وأولاده: نسب قريش 121، وطبقات ابن سعد 6/ 5، وأنساب الأشراف 4/ 9، والاستيعاب (2967)، وتاريخ دمشق 8/ 237 (مخطوط)، و 47/ 13، 21 و 56/ 177، والمنتظم 5/ 27، والتبيين 202، والسير 2/ 105، والإصابة 2/ 178. (¬2) في (خ): وآخى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بينه وبين الحصين وابن رافع بن عجرة، والمثبت من طبقات ابن سعد 3/ 50. (¬3) انظر في ترجمتهم نسب قريش 93 - 94، وطبقات ابن سعد 3/ 48 - 50، والاستيعاب (1268)، والمنتظم 5/ 29، والتبيين 232، والإصابة 2/ 224.

أقْنَى الأنف، عظيم [العرنين، سهل] الخدَّين، بادِنًا، ربقًا، جميلًا، عاقلًا، مَهيبًا، جوادًا. وكان يَتّجر في الجاهلية إلى خُراسان وغيرها، وكان رئيسًا في الجاهلية، إليه السِّقايةُ وعمارةُ المسجد الحرام، ولا يمكّن أحدًا يتكلّم في المسجد الحرام بهُجْر. أسلم بمكة قبل بدر، وقيل: قبل أن يُهاجر رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وأسلمتْ أمُّ الفضل معه، وكان مُقامُه بمكة عينًا ومُعينًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يكتب إليه بالأخبار، وكان مَن كان بمكة من المؤمنين يَتَقَوَّوْنَ به، ولقد كان يَطلبُ أن يَقدُمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مقامُك بمكة مُجاهدًا أحسنُ" فأقام بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يَكتُم إسلامه. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ بدر: "مَن لَقي العبّاسَ منكم فلا يَقْتُلْه؛ فإنَّه خرج مُستكرَهًا"، فلَقيه أبو اليَسَر، فقال له: أتُقاتل ابنَ أخيك وقد نهى عن قَتلك؟ فقال: ليس ذلك بأوَّلِ صِلتِه وبرِّه، فأسره أبو اليَسَر. وقال سهل بن سعد: استأذن العبّاسُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، فقال: "اطمئنَّ يا عمّ؛ فإنَّك خاتَم المهاجرين كما أنا خاتم النبيّين". وفادى العباسُ نوفلًا، وعَقيلًا ابنَ أخيه، ثم رجعوا إلى مكّة ثم أقبلوا إلى المدينة مُهاجِرين. قال عَقيل بن أبي طالب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: مَن قتلْتَ من أشرافهم، أنحن فيهم؟ فقال له: "قُتل أبو جهل" فقال: الآن صفا لك الوادي، وقال له عَقيل: إنه لم يَبقَ من أهل بيتك أحدٌ إلَّا وقد أسلم، فقال له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "فقُلْ لهم فلْيَلْحقوا بي"، فلما أتاهم عَقيل بهذه المقالة خرجوا فقوموا المدينة بأولادهم وأهاليهم. وكان قُدومُ العبّاس ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب من مكّة على رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في أيَّام الخندق، وشيَّعهما ربيعةُ بن الحارث بن عبد المطَّلب في مَخرجهما إلى الأبواء، ثم أراد الرجوع إلى مكّة، فقال له عمّه العباس وأخوه نَوفل بن الحارث: إلى أين تَرجع؟ إلى دار الشِّرك، يُقاتلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويُكذّبونه؛ وقد عز رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وكثف أصحابُه، امضِ معنا، فسار معهما حتَّى قدموا على رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مُسلمين مهاجرين. وشهد العبّاس ليلةَ العَقَبة، وأخذ البَيعةَ لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - على الأنصار، واستوثق له، وشهد معه فتح مكّة ويوم حُنَين، وثبت معه، وفَداه بنفسه، وشهد الطائف وما بعده. وكان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يُكرمُه ويُجلُّه ويُعظِّمُه، وكان وَصولًا للرَّحم، يقومُ بأمر الحَجيج، يسقي ويُطعم، وكان عظيمًا عند الخُلفاء والصحابة، وكانت منزلتُه أن مَن لَقيَه من الخلفاء: أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما مُدَّةَ ولايتهما وهما راكبان؛ إلَّا نزلا، وقال كلُّ واحدٍ منهما دابته، ومشى مع العباس إلى داره. قال الزُّهري: لقد جاء الإسلام وإن جَفْنةَ العباس لتدورُ على فقراء بني هاشم، وإن سَوطه وسيفَه لمُعَدٌّ لسُفهائهم. وقال رجلٌ: هذا العباس، ما أسلم حتَّى لم يبقَ كافر، فشكى العبّاس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج مُغْضَبًا فقال: "إن العبّاسَ عمي، وعمُّ الرَّجل صِنْوُ أبيه". قال ابن عباس: إن رجلًا من الأنصار وقع في أبٍ كان للعبّاس في الجاهلية، فلَطَمه العبّاس، فليس قومُ الرجلِ السّلاح وقالوا. والله لنَلْطِمنّه كما لطمه، وبلغ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فصعد المنبر وقال: "أيها النَّاس؛ أيُّ أهلٍ أكرمَ على الله؟ " قالوا: أنت، قال: "فإن العبّاس مني وأنا منه، لا تَسبُّوا مَوتانا فتُؤذوا أحياءَنا"، فجاء القوم فقالوا: يا رسول الله، نَعوذ بالله من سَخطك. قال عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث: دخل العبّاس على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - مُغضَبًا، فقال له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ما أغضبك؟ "، فقال: يا رسول الله، ما لنا ولقريش؟ إذا تَلاقَوا بينهم تلاقوا بقُلوبٍ مُنشرحة، وإذا لَقونا لقونا بغير ذلك؟ ! فغضب رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - حتَّى احمرَّ وَجهُه، واستَدَرَّ عِرْقٌ بين عينيه، وكان إذا غَضب استَدرّ، فلما سُرِّي عنه قال: "والذي نفسي بيده، لا يَدخل قلبَ رجلٍ الإيمانُ حتَّى يُحبّكم لله ولرسوله"، ثم قال: "أيّها النَّاس، مَن آذى العبّاس فقد آذاني، إنَّما عمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أبيه". جاء أسقفُّ غزَّة إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وهو بتبوك، فقال: يا رسول الله هلك عندي

هاشم وعبد شمس، وهما تاجران، وهذه أموالهما، فدعا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عباسًا فقال: "اقسم مال هاشم على كُبَراء بني هاشم"، ودعا أبا سفيان بن حَرْب فقال: "اقسم مال عبد شمس على كُبراء ولد عبد شمس". ولما قدم العباسُ ونَوفل - رضي الله عنهما - مُهاجِرَين آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وأقطعهما بالمدينة في موضعٍ واحد، وفَرَع بينهما بحائط، فكانا مُتَجاورَين، وكانا شريكَين في الجاهليَّة مُتحابّين مُتَصافِيَين وكانت دارُ نوفل التي أقطعه إياها رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في موضع رَحْبة القضاء وما يليها إلى مسجدِ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وهي اليوم رَحْبَةُ القضاء، وهي تُقابل دارَ الإمارة التي يُقال لها دار مروان، وكانت دار العباس حديدها، وهي التي في دار مروان إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي دار الإمارة، وأقطع العَبَّاسَ دارَه الأخرى التي بالسوق؛ في الموضع الذي يُسمَّى مَجزرة ابن عباس. ولما كَثُر المسلمون في عهد عمر رضوان الله عليه ضاقَ بهم المسجد، فاشترى عمر رضوان الله عليه ما حول المسجد من الدُّور؛ إلَّا دارَ العبَّاس وحُجَرَ أمهات المؤمنين، فقال عمر رضوان الله عليه للعباس: يا أبا الفضل، إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم، وقد ابتعتُ ما حولَه من المنازل، نُوسِّع به على المسلمين في مسجدهم، إلَّا دارك وحُجَر أمَّهات المؤمنين فلا سبيلَ إليها، وأمّا دارُك فبعنيها بما شئتَ من بيتِ المال، فقال العباس: ما كنتُ لأفعلَ ذلك، فقال عمر رضوان الله عليه: اختَرْ منّي إحدى ثلاث: إما أن تبيعها بما شئتَ من بيت المال، وإما أن أُخَطِّطَك حيث شئتَ من المدينة، وأبنيها لك من بيت المال، وإما أن تتصدَّق بها على المسلمين، فقال: لا واحدة منها، فقال عمر رضوان الله عليه: اجعل بيني وبينك مَن شئتَ، فقال: أُبيّ بن كعب. فانطلقا إلى أبيّ، وقصّا عليه القصة، فقال أبي: إن شئتُما حَدَّثتُكما بحديثٍ سمعتُه من رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قالا: حدِّثنا، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "أوحى الله إلى داود: ابنِ لي بيتًا أُذكَر فيه، فَخَطّ له هذه الخِطّة؛ خطبة بيت المقدس، فإذا تَربيعُها يُزَوِّيه بيت رجلٍ من بني إسرائيل، فسأله داودُ أن يبيعه إياه فأبى، فحدَّث داود نفسه أن يَأخذَه منه، فأوحى الله إليه يا داود، أمرتُك أن تبنيَ لي بيتًا أُذكَرُ فيه، فأردتَ أن تُدخِلَ في بيتي

الغَصْبَ، وليس من شأني الغَصْب، وإن عُقوبتَك أن لا تَبنيَه، فقال: يا رب، مَن يَبنيه؟ قال: يَبنيه مِن ولدك". فأخذ عمر رضوان الله عليه بمجامع ثياب أبيّ بن كعب فقال: جئتُك بشيءٍ فجئتَ بما هو أشدُّ منه، لتَخرُجَنَّ ممَّا قلتَ، فجاء به يَقودُه، حتَّى أدخلَه المسجد، فأوقفَه على حلقةٍ من أصحاب رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فيهم أبو ذر، فقال أبيّ: نَشدتُ اللهَ رجلًا سمع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يَذكر حديثَ بيت المقدس، حيث أمر الله داودَ أن يبنيه إلَّا ذكره، فقال أبو ذرّ: أنا سمعتُه من رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وقال آخر: أنا سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال آخر: أنا سمعتُه يعني من رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فأرسل أبيًّا فأقبل أبيٌّ على عمر - رضي الله عنهما - وقال له: يا عمر، أتَتَّهمني على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر: يا أبا المنذر، لا أتهمك عليه، ولكن كرهتُ أن يكون الحديثُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا، وقال عمر للعباس: اذهب فلا أَعرض لك في دارِك، فقال العباس - رضي الله عنه -: أما إذا فعلتَ هذا فإني قد تصدَّقتُ بها على المسلمين، أُوسِّع بها عليهم في مسجدهم، فأمّا وأنت تُخاصمني فلا، فخطَّ له عمر رضوان الله عليه دارَه التي هي دارُه اليوم، وبناها له من بيت مال المسلمين. ولما قدم صفوان بن أُميَّة الجُمَحي المدينة قال له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "على مَن نَزلتَ يا أبا وَهْب؟ " قال: على العباس، قال: "نزلتَ على أشدِّ قريشٍ لقريش حبًّا". قال العباس - رضي الله عنه -: يا رسول الله، ألا تُؤَمِّرني؟ فقال: "نَفْسٌ تُنجيها خيرٌ من إمارةٍ لا تُحصيها". وبقي في بيت المال بَقية، فجاء العباس بعدما قسم عمر رضوان الله عليه بين النَّاس، فقال العباسُ لعمر - رضي الله عنهما - والنّاس: أرأيتم لو كان فيكم عمُّ موسى أكنتم تُكرمونه؟ قالوا: نعم، قال: فأنا عمُّ نبيِّكم، فكلَّم عمر رضوان الله عليه النَّاس؛ فأَعطَوه تلك البقيَّة التي في بيت المال. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أعتق أبي عند مَوته سبعين مملوكًا. وأوَّلُ مَن أشار بالعَوْل في مسألةِ الفرائض العباس - رضي الله عنه -، وهي أولُ مسألةٍ حدثت في زمن عمر رضوان الله عليه، وهي: امرأةٌ ماتت وخَلَّفت زوجَها وأختَها وأمَّها، وهي

مسألة المباهلة، فجمع لها عمر رضوان الله عليه الصّحابة - رضي الله عنهم-، ثم قال: أشيروا عليَّ فيها، فقال العبّاس - رضي الله عنه -: أرى أن يُقسم المالُ بينهم على قَدْر فُروضِهم، وتابعه مَن حضر، وعمل عمر - رضي الله عنه - بقوله. وكُفَّ بَصرُه قبل مَوته بخمسِ سنين، وكان قد خَضَب وترك، وكان يقول: اللَّهمَّ اسبق بي أمرًا ما أحبُّ أن أُدرِكَه، يُشير إلى فتنة عثمان رضوان الله عليه. وتوفّي العباس رضوان الله عليه يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من رجب، سنة اثنتين وثلاثين، في خلافة عثمان رضوان الله عليه، وهو ابنُ ثمان وثمانين سنة، ودُفن بالبقيع في مَقبرة بني هاشم، وقيل: كانت وفاتُه في رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنةَ تسعٍ وعشرين، أو أربع وعشرين، والأوّلُ أصحُّ. ولما توفيَّ بعث بنو هاشم إلى أهل العَوالي مُؤذّنًا يؤذنهم ويقول: رحم الله مَن شهد العباس، فحشد النَّاس، ونزلوا من العَوالي، فلما أُتي به إلى موضع الجنائز تضايق، فتقدَّموا به إلى البقيع؛ فلم يَقدر أحدٌ يَدنو منه ومن سريره لكثرة الزِّحام، وبعث عثمان رضوان الله عليه الشُّرَط يَضربون النَّاس، وعلى سريره بُرْدُ حِبَرَة قد تَقطّع من الزِّحام. ولما مات أرسل عثمان رضوان الله عليه يقول: إن رأيتُم أن أَحضُرَ غَسلَه فعلتُ، فأذِنُوا له، فجاء فجلس ناحيةَ البيت، وغَسله علي وعبد الله وعبيد الله وقُثَم بنو العباس - رضي الله عنه -، وحَدَّتْ نساءُ بني هاشم عليه سنة، وصلّى عليه عثمان رضوان الله عليه بالبقيع، ودُفن بالبقيع في مَقبرة بني هاشم، واجتمع في جنازته خَلْقٌ لم يجتمع لغيره، ونزل في قبره عليّ وابناه الحسن والحسين، وعبد الله وعبيد الله وقُثَم بنو العباس - رضي الله عنهم-، وقيل: إن عثمان رضوان الله عليه نزل في قبره، وقيل: جلس على شَفير قبره - رضي الله عنه -. ذكر أولاده: كان له عشرةٌ من الذُّكور، وخمس من البنات، فالذكور: الفضل، وعبد الله، وعُبيد الله، ومَعبد، وقُثَم، وعبد الرحمن، وتَمّام، وعَون، وكَثير، والحارث، والإناث: أمُّ حَبيب، ويقال: إنَّها أمُّ حبيبة، وصفيَّة، وأُميمة، وأمّ كلثوم، وآمِنة. فأمَّا الفضلُ فكان أكبرَ وَلَده، وبه كان يُكنى، ومات بطاعون عَمَواس، ولم يُعقِب. وأمَّا عبد الله فهو الحَبْر أبو الخُلَفاء، توفي سنة ثمان وستين.

وأمَّا عُبيد الله فهو الجواد، توفي سنة سبعٍ وخمسين. وأمَّا عبد الرحمن فمات بالشام، وقيل: استُشهد باليرموك. وأمَّا قُثم فكان أشبهَ النَّاس برسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه آخر مَن خرج من قبره، وولاه عليّ رضوان الله عليه مكّة، فلم يَزل عليها إلى أن مات (¬1)، وقيل: المدينة، وليس له عَقِب، وغزا خُراسان وعليها سعيد بنُ عثمان بن عفّان، فقال له: يا ابن عمّ، أضربُ لك بألف سهم؟ فقال: يَكفيني سهمٌ واحد، وكان ذلك في أيَّام مُعاوية. وكان قُثَم ورعًا فاضلًا، مات بسَمَرقند، وكان رَضيع الحسين - رضي الله عنه -، أرضعتْه لُبابَة بلبانها. وأمَّا مَعْبَد بن العباس فكان من أصاغر وَلَدِ العباس، ووَلَد مَعْبد عبدَ الله والعباس وميمونة، أمُّهم أمُّ جَميل بنت السَّائب، هلاليّة، وعمر وآيبة وحفصة لأمّهات الأولاد، ولمعبد بقيّةٌ وعَقبٌ كثير. وكان مَعبد شخص في خلافة عثمان رضوان الله عليه إلى إفريقية غازيًا مع عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح فاستُشهد بها، وكُنيتُه أبو عبد الرحمن. ومن ولده عبد الله الأكبر بن مَعْبد، رُوي [عنه] الحديث، وولدُه العباس بن عبد الله بن مَعْبد، وَلّاه أبو جعفر مكّة والطائف، وهو أوّلُ مَن أظهر السَّوادَ بالحجاز. فهؤلاء الستة، وهم: الفضل وعبد الله وعُبيد الله وعبد الرحمن وقُثَم ومعبد من أمِّ الفضل لُبابَة الكُبرى، وفيهم يقول عبد الله بنُ يزيد الهِلالي، وقيل: يزيد بن عبد الله: [من الرجز] ما وَلَدتْ نَجيبَةٌ من فَحْلِ كسِتَّةٍ من بطنِ أمِّ الفَضْلِ وفيهم يقول أيضًا: [من الطَّويل] ونحن وَلَدْنا الفَضْلَ والحَبْرَ بعده ... عَنَيتُ أبا العبَّاسِ ذا الفَضْل والنَّدى ¬

_ (¬1) أي: علي.

ألا وعُبيدَ الله ثمَّ ابنَ أمِّه ... ألا قُثَمًا أعني وذا البدع مَعْبَدا غُيوثٌ على العافِين خُرسٌ عن الخَنَا ... لُيوث إذا ما مُوقِدُ الحربِ أوقَدا وكان يُقال: ما رأينا بني أمَّ وأبٍ قطُّ أبعدَ قُبورًا من بني العباس - رضي الله عنه -، فالفضلُ بالشام، وعبد الله بالطائف، وعُبيد الله بالمدينة، وقُثَم بسَمَرْقَند، ومَعبد بإفريقية، وعبد الرحمن باليرموك، وأختُهم لأبيهم وأمِّهم أمُّ حَبيب. وأمَّا تَمّام بن العباس فأمُّه أمَّ ولد رومية، وتُسمّى سَبَا، وقيل: حِميريّة تُسمّى سيا بالياء، وهي أمُّ كَثير بن العباس. وكان تَمّام أصغر وَلدِ العباس، وكان من أشدِّ [أهلِ] زَمانه بَطشًا. فوَلَد تمّام جعفرًا، رُوي عن جعفر بن تَمّام الحديث، وولد أمَّ حبيب بنت تمام، أمُّها العالية بنت نَهيك بن قيس، من بني صَعْصَعة، ووَلَدَ تَمّام أيضًا: العباس وقُثمًا والعالية وكثيرة وصفيّة، وأمُّهم أمُّ حازم بنت نَهيك بن قيس أيضًا، خلف عليها تمام بعد أُختها، ونفيسة بنت تمام أمُّها أم كلثوم بنت عبد الله بن عقيل بن أبي طالب، وكان لتمام أولاد وأولاد أولاد انقرضوا، وكان آخر مَن بقي منهم يَحْيَى بن جعفر بن تمام، فهلك في خلافة أبي جعفر المنصور، فوَرِثه سليمان وعيسى وصالح وعبد الصمد وإسماعيل بنو علي بن عبد الله بن عباس بالقُعْدُد، فوهبوا حقَّهم لعبد الصمد بن علي، فصار مِيراثُه كلُّه إليه. وكانت ابنةُ أبي جعفر المنصور عند [ابن] قُثَم بن تمام بن العباس، وقيل: إنَّما كانت عند يحيى بن جعفر بن تمام. روى تمام الحديثَ عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فقال أحمد - رضي الله عنه -: حدَّثنا جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يَصُفُّ عبد الله وعُبيد الله وكَثيرًا بَني العباس ثم يقول: "مَن سبق إليّ فله كذا وكذا" قال: فيستَبِقون إليه، فيَقَعون على ظهره، فيَلزمُهم ويُقَبّلُهم (¬1). وأمَّا عَون بن العباس فوُلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا روايةَ له، ولم يُعرف اسمُ أُمِّه. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1836).

وأمّا كَثير بن العبَّاس فروى عن أبيه وغيره، وكان فقيهًا صالحًا قليلَ الحديث، وليس له عَقِب، روى عنه الزُّهريّ وأبو حازم الأعرج، وكان يَسكن على فراسخ من المدينة بالمعرَّس، ثم يأتي يوم الجمعة إلى المدينة، فيَنزل دار أبيه العباس - رضي الله عنه -، فيُصلّي الجمعة ثم يَنصرف، وكانت وفاتُه بيَنْبُع. ولما احتُضر كتب على كَفَنه: كَثير بن العباس يشهد أن لا إله إلّا الله. وولد كَثير: يَحْيَى بنَ كَثير، وأمُّه أمُّ كلثوم بنت علي عليه السَّلام، وهي الصغرى، دَرَج، ووَلدَ الحسنَ بنَ كثير، دَرَج. وأمَّا الحارث بن العبَّاس فأمُّه حُجيلة بنت جُنْدب بن الرَّبيع بن عامر، هُذَليَّة، وقيل: لأمِّ وَلَد، ويُلَقَّب أبا عَضَل، وكان العباس - رضي الله عنه - قد وَجَد عليه، فلحق بالزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه - وهو في بعض مَغازيه بمصر، فكلَّمه فيه فرضي عنه، وذهب بصرُ الحارث بعدما ذهب بصرُ العباس، فقال: أنتم زعمتُم أنَّه ليس أبي؟ ! ها قد ضَعفتُ وقد عَميتُ كما عَمي. ووَلَد الحارث عبدَ الله، وولد عبدُ الله السَّرِيَّ بنَ عبد الله، ووَلّاه أبو جعفر مكّة، وقيل: المدينة واليمامة، وكان جَوادًا مُمَدَّحًا، وأمُّ السَّرِيّ جمال بنتُ النُّعمان بن عمرو بن مَبذول، وقد مَدح السَّرِيَّ الفرزدقُ وابنُ هَرْمَة وحبيبُ بن شَوْذب وغيرهم، ولما عُزل عن اليمامة قال حَبيب بن شَوْذب: [من البسيط] راح السَّرِيُّ وراح الجودُ يَتبعُهُ ... وإنَّما النَّاسُ مَذْمُومٌ ومَحمودُ لقد يَروحُ إذا راحتْ ركائبُه ... عن أرضِ حَجْرٍ وربِّ الكعبةِ الجُودُ مَن كان يَضمن للسُّؤَّال حاجتَهم ... ومَن يَقولُ إذا أعطاهم عُودوا وأما بنات العباس - رضي الله عنه -: فأمُّ حَبيب من أمِّ الفضل، وهي لُبابَةُ الكُبرى، وليس للعباس - رضي الله عنه - من أمّ الفضل ابنة غيرها. قالت أمُّ الفضل: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لو بلغتْ أمُّ حبيب وأنا حيٌّ لتزَوَّجتُها"، وتزوَّجها الأسود بنُ سفيان بن عبد الأسد المخزومي، وولدت له رزق ولُبَابَة. وأمَّا صفية وآمنة فلأمّ ولد، وشقيقهما كَثير وتَمّام، تزوَّج صفيّة محمد بن عبد الله

عبد الله بن حذافة

ابن مَسروح من بني سعد بن بكر، وآمنة بنت العباس كانت عند العباس بن عُتبة بن أبي لهب، فوَلَدت له الفضلَ بنَ العباس الشاعر، وأمها أمُّ ولد، وأم كلثوم بنت العباس لأمِّ ولد. أسند العباس الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمشهور عنه أنَّه روى عنه خمسةً وثلاثين حديثًا (¬1). عبد الله بن حُذافة ابن قيس بن عديّ بن سعد بن سَهْمٌ بن عَمرو بن هُصَيص الهاشمي، وكُنيته أبو حُذافة، وأمُّه تميمة بنت حُرْثان، من بني الحارث بن عبد مَنَاة، هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وبعثه بكتابه إلى كسرى، وأمّره رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - على سريّة، فأمرهم أن يَجمعوا حطبًا ويَقتَحموا النّارَ، [فأبوا، فصوَّبَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فعلَهم]، وأَسَرَتْه الروم في سنة تسع عشرة. قال أنس: خطب رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - خُطبةً ما سمعتُ مثلَها قط، فقال: "لو تَعلمون ما أعلم لضَحكتُم قليلًا ولبَكيتُم كَثيرًا"، فغطَّى أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوهَهم ولهم حَنين، فقال عبد الله بنُ حُذافَة: مَن أبي؟ فقال: "حُذافَة"، فبرك عُمر على رُكبتَيه وقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا، قال ابنُ شهاب: فقالت أمُّ عبد الله بن حُذافَة لابنها: ما رأيتُ ولا سمعتُ بأعقّ منك أأمِنْتَ أن تكون أمُّك قد قَارفَتْ بعضَ ما يُقارِفُ أهلُ الجاهلية، فتفضَحها على أعيُنِ النَّاس؟ فقال عبد الله: والله لو أَلحَقَني بعبدٍ أسود للَحِقْتُ به (¬2). وتوفي بمصر ودُفِن بمَقبرتها، وهو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى في الموسم: ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة العباس وأولاده: طبقات ابن سعد 4/ 5 - 30 و 6/ 347 - 351 و 10/ 49، ونسب قريش 18 و 25 و 27 - 28 و 37 - 39، والمعارف 121، وأنساب الأشراف 3/ 5 و 28 - 29 و 72 - 77، والاستيعاب (1890)، وتاريخ دمشق (عبادة- عبد الله بن ثوب) 104 فما بعدها، والمنتظم 5/ 35، وصفة الصفوة 1/ 506، والتبيين 149، والسير 2/ 78، والإصابة 2/ 271، وانظر مصادر أخرى في حواشي تاريخ دمشق والسير. (¬2) صحيح مسلم (2359)، وانظر مسند أحمد (12659).

عبد الله بن زيد

إنَّها أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرِ الله تعالى، وله رواية - رضي الله عنه - (¬1). عبد الله بن زيد ابن عبد ربّه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخَزْرج الأنصاري، وهو صاحبُ الأذان، كُنيته أبو محمد، من الطبقة الأولى من الأنصار، لقي رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في النّفر الستّة الذين أسلموا، وشهد العقبة مع السبعين، وبدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وكانت معه رايةُ بني الحارث بن الخزرج يوم الفتح. وكان عبد الله بن زيد يكتب في الجاهلية بالعربية تُوفّي بالمدينة في هذه السنة وهو ابنُ أربعٍ وستين سنة، وصلّى عليه عثمان رضوان الله عليه، ودُفن بالبقيع. وله عَقب بالمدينة منهم: محمد وأمّه سَعدة بنت كُلَيب بن يساف، وأمُّ حُميد بنت عبد الله، أمُّها من أهل اليمن، وكان له إخوة: حُرَيث بن زيد بن عبد ربه، شهد بدرًا وأحدًا، وله عَقِب (¬2). * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 176، والاستيعاب (1345)، وتاريخ دمشق (عبد الله بن جابر- عبد الله بن زيد) 120، والمنتظم 5/ 32، والتبيين 468، والسير 2/ 11، والإصابة 2/ 296. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 497 - 498، والاستيعاب (1379)، والمنتظم 5/ 35، والاستبصار 132، والسير 2/ 375، والإصابة 2/ 312.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [6]

عبد الله بن مسعود

عبد الله بن مسعود ابن غافل بن حَبيب بن شَمْخ بن فار بن مَخزوم بن صاهِلة [بن كاهل] بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذَيل بن مُدرِكة، واسمه عمرو بن إلياس بن مُضر، وأمُّه أمُّ عبد بنت عبد ودّ بن سُويّ بن قُرَيْم بن صاهِلة، هُذَليّة، وأمها هند بنت عبد الحارث بن زُهرة بن كِلاب. وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين الأوَّلين، أسلم قديمًا بمكة قبل دخول رسول الذي - صلى الله عليه وسلم - دارَ الأرقم، ويُقال: كان سادِسًا في الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وشهد اليرموك، وهو الذي ضرب عُنُق أبي جهل يوم بدر بعد أن أَثْبَته ابنا عَفراء. وكان صاحبَ سرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووسادِه وسِواكِه ونَعلَيه وطهورِه في السَّفر، وكان يُلبسُه نَعلَيه، ويَمشي أمامَه بالعصا، فإذا جلس رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - نزع نعلَيه وجعلهما بين أصابعه. وكان يُشبه رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في هَدْيه وسَمْتِه كلِّه، وكان أجودَ النَّاسِ، وأطيبَهم ريحًا، وأحسنَهم ثوبًا، وولاه عمر رضوان الله عليه القضاءَ على الكوفة وبيتَ المال، وأقام عليهما صَدرًا من خلافة عثمان رضوان الله عليه، ثم رجع إلى المدينة فمات بها. وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الزُّبير بن العوام - رضي الله عنه -، وقيل: بينه وبين مُعاذِ بن جبل - رضي الله عنه -. صفته: كان خفيفَ اللحم، شديدَ الأدمة، دحداحًا، يكاد الجالسُ يُواريه من قِصره، وشَعرُه يَبلغ تَرقُوته، فإذا صلّى تركه وراء أذنيه، له ضفرتان، عليه مِسحَةُ أهلِ البادية، لا يُغيِّر شيبه، ويَتختّم بالحديد. ذكر إسلامه: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: كنتُ أرعى غنمًا لعُقبة بن أبي مُعَيط، فمرَّ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فقال: "يا غُلام، هل من لَبَن؟ " قلتُ: نعم ولكني مُؤتَمن، قال: "فهل من شاةٍ لم يَنْزُ عليها الفَحل"، فأتيتُه بشاة، فمسح على ضَرعها، فنزل لَبن، فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضَّرع: "اقلِص" فقَلص، ثم أتيتُه بعد هذا فقلت: يا رسول الله، علِّمني من هذا القول، فمسح على رأسي وقال: "يرحمك الله فإنَّك غُلَيِّمٌ مُعَلَّم" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3598).

وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: لقد أخذتُ من في رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بِضعًا وسبعين سورةً، وزيدُ بن ثابت غُلام، له ذُؤابتان، يَلعب مع الصّبيان. وقال: "لقد رأيتُني سادسَ سِتَّةٍ ما على وجهِ الأرض مُسلمٌ غيرنا. قال أبو موسى الأشعري: لقد أتيتُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أُرى إلَّا ابن مسعود من أهله. وقال: قدمتُ أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينًا ما نَرى ابنَ مسعودٍ وأمَّه إلَّا من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لما نَرى من كَثرة دُخوله وخُروجِه، ودُخول أمِّه عليه، وملازمتهما إياه. وقال أبو المليح: كان ابنُ مسعود يُوقظ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إذا نام، ويَستُره إذا اغتسل. وأخرج البُخاريّ عن حُذيفة بن اليَمان وسئل فقيل له: أخبِرنا برجلٍ قريبِ السَّمتِ والدَّلِّ والهَدْيِ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نأخذ عنه، فقال: ما نَعلم أقربَ سَمْتًا ودَلًّا وهَدْيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ابنِ أمِّ عبد حتَّى يَتوارى بجُدران بيته، ولقد عَلم المحفوظون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أو أصحاب محمد- أن ابنَ أمّ عبد من أقربهم إلى الله وسيلة، وفي رواية: من أقربهم إلى الله زُلْفى (¬1). قال علقمة: جاء رجلٌ إلى عمر بن الخطاب رضوان الله عليه وهو بعرَفَة فقال: جئتُ يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركتُ بها رجلًا يُملي المصاحفَ عن ظَهر قلبه، فغضبَ وانتفخ حتَّى كاد أن يَملأ ما بين شُعبَتَي الرَّحل، ثم قال: ويحك مَن هو؟ قال: ابن مسعود، فما زال ينطفئ ويُسرَّى عنه الغضب حتَّى عاد إلى حاله التي كان عليها، ثم قال: ويحك والله ما أعلم بقي من النَّاس أحد هو أحق بذلك منه وسأحدّثك عن ذلك: كان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - لا يزال يَسمُر عند أبي بكر -الليلَ كلَّه في أمور المسلمين -أو في الأمر من أمور المسلمين- فإنَّه سَمَر عنده ذات ليلة وأنا معه، فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وخرجنا معه، فإذا رجلٌ قائمٌ يُصلِّي في المسجد، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَستمع قراءتَه، فلما كِدنا نعرفه قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "من سَرَّه أن يَقرأ القرآن رَطبًا كما أُنزل فلْيقرأه على قراءةِ ابنِ أمِّ عبد"، ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "سلْ تُعْطَه، ¬

_ (¬1) صحيح البُخاريّ (3762).

سلْ تُعْطَه"، فقال عمر - رضي الله عنه -. فقلتُ: والله لأَغدُونَّ عليه ولأُبَشِّرنّه، قال فغدوتُ إليه، فإذا أبو بكر قد سَبقني إليه فبَشَّره، لا والله، ما سابَقتُه إلى خيرٍ قط إلَّا سَبقني إليه (¬1). وأقبل ابنُ مسعود ذات يومٍ وعمر رضوان الله عليه جالس، فقال: كُنَيفٌ مُلِئ عِلمًا. قال الشعبي: ذكروا أن عمر بن الخطاب لَقي رَكبًا في سَفر له، فيهم عبد الله بنُ مسعود، فأمر عمر رجلًا يُناديهم: من أين القوم؟ فأجابه عبد الله: أقبلْنا من الفَجِّ العَميق، قال: فأين تُريدون؟ قال عبد الله: البيتَ العَتيق، فقال عمر: إن فيهم عالمًا، ثم أمر رجلًا فناداهم: أيُّ القرآن أعظم؟ فأجابه عبد الله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] حتَّى ختم الآية، قال: فناداهم: أيُّ القرآن أحكم؟ فقال ابن مسعود: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية [النحل: 90]، فقال عمر: نادِهم، أيُّ القرآن أجمع؟ فقال ابن مسعود: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ (7)} الآية [الزلزلة: 7]، فقال عمر: نادهم؛ أيُّ القرآن أخوف؟ فقال ابن مسعود: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} الآية [النساء: 123]، فقال عمر: نادهم؛ أيُّ القرآن أرجى؟ فقال ابن مسعود: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]، فقال عمر: نادهم، أفيكم ابنُ مسعود؟ قالوا: اللَّهمَّ نعم. سُئل علي رضوان الله عليه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، فقال: انتهى إليه علمُ القُرآن والسُّنَّة. قال أبو الأحوص: شهدتُ أبا موسى وأبا مسعود حين مات ابن مسعود أحدُهما يقول لصاحبه: أتُراه تَرك مثلَه؟ قال: إن قلتَ ذلك، إن كان لَيُؤذَن له إذا حُجِبنا، وَيشهَدُ إذا غِبْنا. كان أبو موسى يقول: لا تَسألوني عن شيءٍ ما دام هذا الحَبْر فيكم، يعني ابنَ مسعود. قال مَسروق: انتهى عِلم الصّحابة إلى ستَّةِ نَفر: عمر، وعلي، وعبد الله، وأبي بن كعب، وأبي الدَّرداء، يزيد بن ثابت، ثم انتهى علم هؤلاء إلى رجلين: علي وعبد الله. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (175).

قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: قال لي النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "اقرأ عليَّ"، فقلتُ: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: "نعم، إنِّي أُحبُّ أن أسمعَه من غيري"، قال: فقرأتُ سورةَ النساء، حتَّى أتيتُ هذه الآية {فَكَيفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}، قال: "حَسْبُك الآن"، فالتفتُّ فإذا عيناه تَذرِفان (¬1). قال شقيق بن سَلَمة: خَطَبنا ابنُ مسعود فقال: على قراءةِ مَن تأمرونني أن أقرأ؟ ! والله لقد أخذتُ من في رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة، ولقد علم أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم - أني من أعلمِهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، ولو أَعلمُ أن أحدًا أعلمُ مني لرحلتُ إليه، قال شقيق: فجلستُ في حِلَقٍ من أصحاب رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فلم أسمع أحدًا يَردُّ ذلك ولا يَعيبه. قال مَسروق: قال عبد الله: والله الذي لا إله إلَّا هو، ما نزلتْ آية في كتاب الله إلَّا وأنا أعلم أين نَزلتْ، وفيم نَزلتْ، ولو أعلم أحدًا أعلمَ بكتاب الله مني تَنالُه المَطِي لأتيتُه. كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يصوم الاثنين والخميس، وكان يقول: إنِّي أختارُ الصلاةَ على الصوم؛ لأني إذا صُمتُ ضَعفتُ عن الصَّلاة. قال عمرو بن مَيمون: اختلفتُ إلى ابن مسعود سنة ما سمعتُه يُحدِّثُ فيها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقولُ فيها: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، إلَّا أنَّه حَدَّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فعَلاه الكَربُ وأُرعِد، حتَّى رأيتُ العَرَقَ يَتَحدَّرُ عن جبهته، ثم قال: إن شاء الله تعالى. قال مَسروق: قال رجل لعبد الله بن مسعود: ما أحبُّ أن أكونَ من أصحاب اليَمين، أحبُّ أن أكونَ من المقَرَّبين، فقال عبد الله: لكن ها هنا رجلٌ ودَّ أنَّه إذا مات لا يُبعَث، يعني نفسَه. وقال: لو وقفتُ بين الجنة والنار، وقيل لي: اختر لاخترتُ أن أكونَ رَمادًا. قال زيد بن وَهب: بكى عبد الله بن مسعود، حتَّى رأيتُه أخذ بكفّه من دُموعه فقال به هكذا. ¬

_ (¬1) أخرجه البُخاريّ (5050)، ومسلم (800).

قال حبيب بن ثابت: خرج ابنُ مسعود ذات يوم فاتّبعه ناسٌ، فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا: لا، ولكن أردنا أن نَمشي معك، قال: فارجعوا فإنه ذِلّةٌ للتابع، وفِتنةٌ للمَتبوع. قال عبد الله بن مسعود: لو تعلمون ما أعلم من نَفسي لحَثيتُم على رأسي التُّراب. قال أبو الأحوص الجُشَمي: دخلنا على ابن مسعود وعنده بَنُون له، ثلاثة غِلمان، كأنهم الدَّنانيرُ حُسْنًا، فجعلْنا نتعجَّبُ من حُسنِهم، فقال لنا: كأنكم تَغبِطوني بهم؟ ! قلنا: إي والله، بمثل هؤلاء يُغبَطُ المرءُ المسلم، فرفع رأسه إلى سقفِ بيتٍ له صغير؛ قد عَشَشَ فيه خُطَّافٌ وباض، فقال: والذي نفسي بيده، لأنَّ أهونَ نَفَضْتُ يَدي من تُراب قُبورِهم أحبُّ إليَّ من أن يَسقُطَ عِشقُ هذا الخُطَّاف ويَنكسرَ بيضُه. وكان يقول: ما أُبالي إذا رجعتُ إلى أهلي على أيِّ حالٍ أَراهم؛ بسَرَّاء أم بضَرَّاء، وما أصبحتُ على حالٍ فتمنَّيتُ أني على سواها. وكان يقول: أكرَه المكروهات الموتُ والفقرُ، والله لا أبالي بأيِّهما بُليت. ذكر جملة من كلامه ومواعظه - رضي الله عنه -: كان يقول: إنكم في مَمَرِّ الليل والنهار، في آجالٍ مَنقوصَة، وأعمالٍ مَحفوظَة، والموتُ يأتي بَغْتَةً؛ فمَن زرع خيرًا فيوشِك أن يَحصدَ رَغْبةً، ومَن زرع شرًّا فيوشك أن يَحصِدَ نَدامةً، ولكل زارعٍ مثل ما زرع، لا يَسبق بطيءٌ بحظِّه، ولا يُدركُ حَريصٌ ما لم يُقَدَّر له، فمَن أُعطي خيرًا فالله أعطاه، ومَن وُقِيَ شرًّا فالله وَقاه، المتَّقون سادَة، والعلماءُ قادَة، ومَجالسُهم زيادة. قال أبو الأحوص: إن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يَقوم يوم الخميس قائمًا ويقول: إنَّما هما اثنان: الهَديُ والكلام، فأفضلُ الكلامِ كلامُ الله، وأفضلُ الهَديِ هَدْيُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرُّ الأمور مُحدثاتُها، وكلُّ مُحدَثَةٍ بِدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، فلا يَطولَنَّ عليكم الأَمَد، ولا يُلهِيَنّكم الأمَل، فإن كل ما هو آتٍ قريبٌ، ألا وإن بعيدًا ما ليس بآتٍ، ألا وإن الشَّقي مَن شَقي في بطن أُمِّه، ألا وإن السَّعيدَ مَن وُعِظَ بغيره، ألا وإن قتال المسلم كُفر، وسبابَه فُسوق، ولا يَحِل لمسلمٍ أن يَهجُرَ أخاه فوق ثلاثة أيَّام حتَّى يُسَلِّم عليه إذا لَقِيَه، ويُجيبه إذا دعاه، وَيعوده إذا مَرِض، ألا وإن شَرَّ الرَّوايا [روايا] الكَذِب، ألا وإن

الكَذب لا يَصلُح منه جِدٌّ ولا هَزْلٌ، ولا يَعِدِ الرَّجلُ صَبيَّه شيئًا ثم لا يُنجِزُ له، ألا وإن الكَذبَ يَهدي إلى الفُجور، وإن الفُجورَ يَهدي إلى النَّار، وإن الصّدقَ يَهدي إلى البِرِّ، وإن البِرَّ يَهدي إلى الجنَة، ألا وإنه يُقال للصّادق: صَدقَ وبَرَّ، ويُقال للفاجر: فَجر وكَذب، وإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حدَّثنا أن الرجل يَصْدُق حتَّى يُكتبَ عند الله صِدِّيقًا، ويَكذب حتَّى يُكتبَ عند الله كذابًا، ألا وهل أُنَّبِّئكم بالعَضْهِ؟ قالوا: وما العَضْه؟ قال: النَّميمة، وهي تُفسِدُ ما بين النَّاس. وقال ابنُ مسعود - رضي الله عنه -: إن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأوثقَ العُرى كلمةُ التَّقوى، وخيرَ المِلَل ملَّةُ إبراهيم، وأحسنَ السِّيرة سيرةُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وخيرَ الهَدْي هَدْيُ الأنبياء، وأشرفَ الحديثِ ذكرُ الله، وخيرَ القصص القرآنُ، وخيرَ الأمورِ عواقبُها، وشرَّ الأمور مُحدَثاتُها، وما قَلَّ وكفى خيرٌ ممَّا كَثُر وأَلهى، ونَفْسٌ تُنْجيها خيرٌ من إمارةٍ لا تُحصيها، وشَرّ النَّدامة ندامةُ يوم القيامة، وشرّ الضَّلالِ الضلالةُ بعد الهُدى، وخير الغِنى غِنى النَّفس، وخير الزَّاد التَّقوى، وخير ما أُلقِي في القلب اليقينُ، والرّيبُ من الكُفر، وشرّ العَمي عَمى القَلب، والخَمرُ جِماعُ الإثم، والنساء حَبائلُ الشَّيطان، والشّبابُ شُعبةٌ من الجُنون، والنَّوحُ من عمل الجاهلية، ومن النَّاس مَن لا يَأتي الجمعةَ إلَّا دَبْرا، ولا يَذكر الله إلَّا هَجرا، وحُرمَةُ مالِ المسلمِ كحُرمَةِ دَمِه، ومَن يَعْفُ يَعفُ الله عنه، ومَن كَظَم الغَيظَ يَأجُره الله، ومَن صَبر على الرَّزِيَّة أَعقَبَه حُسنَ الأجر، وشَرُّ المكاسبِ كَسْبُ الرِّبا، وشَرُّ المآكِل [أكلُ] مالِ اليتيم، وإنَّما يَكفي أحدَكم ما قنعتْ به نَفْسُه، وإنَّما يَصيرُ إلى أربعةِ أَذْرُعٍ في ذِراعين، ومِلاكُ الأمرِ خَواتيمُه، وأشرفُ الموتِ قَتْلُ الشُّهداء، ومَن يَعرف البلاء يَصبر عليه، ومَن يَستكبر يَضَعْه الله، ومَن يُطِع الشَّيطان يَعصِ الله، ومَن يَعصِ الله يُعَذّبْه. وقال عبد الله بن مسعود: يَنبغي لحاملِ القرآن أن يُعرَفَ بليله إذ النَّاسُ نائمون، وبنهاره إذ النَّاسُ مُفطرون، وبحُزنه إذا النَّاسُ يَفرحون، وببكائه إذا النَّاس يَضحكون، وبصَمْته إذا الناسُ يَخلُطون، وبخُشوعه إذا النَّاس يَختالون، ويَنبغي لحامل القرآنِ أن يكون باكيًا مَحزونًا، حكيمًا حليمًا سكينًا، ولا يَنبغي له أن يكون جافيًا، ولا غافلًا، ولا صخَّابًا، ولا صَيَّاحًا، ولا حَديدًا.

وقال: إنِّي لأُبغِضُ الرجلَ أن أراه فارغًا، ليس في شيءٍ من عمل الدُّنيا ولا عمل الآخرة. وقال: من اليقين أن لا تُرضي النَّاسَ بسَخَطِ الله، ولا تَحمدَنَّ أحدًا على رزق الله، ولا تلومَنَّ أحدًا على ما لم يُؤتِك الله؛ فإن رزقَ الله لا يَسوقُه حِرصُ الحَريص، ولا يَردُّه كُره الكاره، والله تعالى بحُكمه وعِلمه جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرِّضا، وجعل الهَمَّ والحزنَ في الشكِّ والسَّخط. وقال: ما دمتَ في صلاةٍ فأنت تَقرع باب الملك، ومَن يقرع باب الملك يوشك أن يُفتَح له. وقال: كونوا يَنابيعَ العلم، مَصابيحَ الهُدى، أحْلاسَ البيوت، سُرُجَ الليل، جُددَ القلوب، خُلْقان الثياب، تُعرفون في أهل السماء، وتَخْفَون على أهل الأرض. وقال: إن للقُلوب شَهوةً وإقبالًا، وإن لها فَترةً وإدبارًا، فاغتنموها عند شَهوتها وإقبالها، ودعوها عند فَترتها وإدبارها. وقال: ليس العلم بكَثرة الرِّواية، لكنّ العلمَ الخَشيَةُ. وقال: إن الرجل لَيَخرجُ من بيته ومعه دِينُه، فيَرجع وما معه شيءٌ، يَلقي الرجلَ لا يَملك له ولا لنفسِه ضُرًّا ولا نفعًا، فيُقسِم له بالله إنك لَذَيتَ وذَيت، فيَرجع وما ظَفِر من حاجته بشيءٍ، وقد أسخطَ الله عليه. وقال: مع كلِّ فَرحة تَرْحَة، وما مُلئ بيتٌ حَبْرةً إلَّا مُلئ عَبرة. وقال: ما منكم إلَّا ضَيف ومالُه عارِيّة، فالضيف مُرتَحِل، والعارِيّة مُؤداة إلى أهلها. وقال: مَن جاءك بالحقّ فاقبلْ منه وإن كان بَعيدًا بَغيضًا، ومَن جاءك بالباطل فاردُدْه وإن كان حبيبًا قريبًا. وقال: الحقُّ ثَقيل مَريء، والباطلُ خَفيفٌ وَبيء، وربَّ شَهوة أورثتْ حُزنًا طويلًا. وقال: واللهِ الذي لا إله إلَّا هو، والله ما على وَجْهِ الأرض أحْوَج إلى طُولِ سَجْنٍ من لسان. وقال: إذا ظهر الرِّبا والزنا في قرية أُذِنَ بهَلاكها، ومَن استطاع أن يَجعل كَنْزَه في السماء حيث لا يَأكُلُه السُّوس، ولا يَناله السُّرَّاق فليفعل، فإن قَلبَ الرجلِ مع كَنْزِه.

وقال له رجل: أوصِني، قال: ليَسَعْك بيتُك، واكفُفْ لِسانَك، وابْكِ على خَطيئتك. وقال: لا تكونَنَّ إِمَّعَة، قالوا: وما الإِمَّعَة؟ قال: تقول: أنا مع النَّاس، إنْ اهتَدوا اهتَدَيتُ، وإن ضَلُّوا ضَلَلْت. وقال: مَن لم تَأمرْه صَلاتُه بالمعروف وتَنهاه عن المنكر؛ لم يَزدَدْ بها من الله إلَّا بُعْدا. ذكر وصيّته ووفاته: أوصى الزبيرَ بنَ العوام - رضي الله عنه - في ماله ووَلدِه، ثم إلى عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - من بعد أبيه، وكتب في وصيّته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما أوصى به عبد الله بنُ مسعود إن حَدَثَ به حَدَثٌ في مرضه هذا؛ أن مَرجعَ وَصيّته إلى الله وإلى الزُّبير بن العوّام وابنه عبد الله بن الزُّبير؛ أنهما في حِلٍّ وبِلٍّ ممَّا وَييا، وأنه لا يُزَوَّجُ أحدْ من بناتِ عبد الله إلَّا بإذنهما. وفي رواية: أنَّه لا حَرَج فيما وَليا من ذلك، ولا تُزوَّجُ امرأةٌ من بناتِه إلَّا بعلمهما، ولا يُحْجَزُ [ذلك] عن امرأته زينب بنت عبد الله الثقفيّة، وأن يُكفَّن في حُلَّةٍ بمئتَي دِرهم، وأن يُدفَنَ عند قبر عثمان بن مَظْعُون. واختلفوا في وفاته، فقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وهو [ابن] بِضْعٍ وستّين سنة، وقيل: سنة ثمان وعشرين، أو سنة وثلاثين، أو إحدى وثلاثين، والأول أصحُّ، وصلى عليه عمار بن ياسر بوصيَّةٍ منه، فلما علم عثمان رضوان الله عليه غضب وقال: سَبقتموني به، فقال له الزُّبير - رضي الله عنه -: [من البسيط] لا ألفَينّك بعد الموتِ تَندُبني ... وفي حياتي ما زَوَّدتني زادي وذلك لأنَّ عثمان رضوان الله عليه كان غَرّبه إلى الكوفة، وحَرمَه العطاء سنتين لإنكاره على الوليد بن عُقبة، وقيل: صَلَّى عليه عثمان رضوان الله عليه، واستغفر كلُّ واحدٍ منهما لصاحبه قبل موت ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهو أثبت. وقيل: صَلَّى عليه الزُّبير - رضي الله عنه - وترك تسعين ألف درهم. ودخل الزُّبير - رضي الله عنه - على عثمان أنَّه بعد وَفاةِ ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال: أعطِني عطاءَ عبد الله، فأهلُ عبد الله أحقُّ به من بيت المال، فأعطاه خمسةَ عشر ألفَ دِرهم، وقيل:

عشرين ألفًا، أو خمسة وعشرين ألفًا (¬1). ذكر أولاده: كان له من الولد عبد الرحمن وعُتبة وأبو عُبيدة، وبنات عِدّة. فأمَّا عبد الرحمن فكان على قضاء الكوفة، وابنُه معن بن عبد الرحمن والد القاسم بن معن، وَلي قضاءَ الكوفة (¬2)، ولم يَرتزِق على القضاء شيئًا حتَّى مات، وكان عالمًا بالقرآن والحديث والفقه والشعر وأنساب العرب وأيام النَّاس، وكان يُقال له: شَعبيّ زمانه. وأمَّا عُتبة بن عبد الله فله عَقِبٌ، منهم: أبو عُمَيس عُتْبة بن عبد الله بن عُتبة بن عبد الله بن مسعود، مات ببغداد، وهو المسعوديّ الأكبر، فأمَّا المسعوديّ الأصغر فهو عبد الله بنُ عبد الملك بن أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود. وزوجةُ عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - زينب بنتُ أبي معاوية الثقفيّة، روت الحديث عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، من ذلك ما رواه عَمرو بنُ الحارث، عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنّساء: "تَصدَّقْنَ ولو من حُلِيِّكُنَّ"، قالت: وكان عبد الله خفيفَ ذاتِ اليد، فقلتُ له: يا عبد الله؛ أيَسعُني أن أضعَ صَدقتي فيك وفي بني أخ لي يتامى؟ فقال عبد الله: سَلي عن ذلك رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. قالت: فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا على بابه امرأةٌ من الأنصار يُقال لها: زينب، تَسألُ عما أسألُ عنه، فخرج إلينا بلال، فقلنا: انطلق إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. فاسأله عن ذلك، ولا تُخبره مَن نحن. فانطلق إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فأخبره، فقال: "مَن هما؟ " قال: زينب، قال: "أيُّ الزَّيانِب؟ ! قال: زينب امرأةُ عبد الله، وزينب الأنصارية، فقال: "نعم، لهما أجران: أجرُ القَرابة، وأجرُ الصّدقة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة ابن مسعود: طبقات ابن سعد 2/ 295 و 3/ 139 و 8/ 136، والمعارف 249، والاستيعاب (1391)، وأنساب الأشراف 10/ 152، وتاريخ بغداد 1/ 147، وحلية الأولياء 1/ 124، وتاريخ دمشق 39/ 1 - 139، والمنتظم 5/ 29، وصفة الصفوة 1/ 395، ومعظم ترجمته منه، والسير 1/ 461، والإصابة 2/ 368. (¬2) في المعارف 249: فأمَّا عبد الرحمن فولد القاسم بن عبد الرحمن وكان على قضاء الكوفة، ومعن بن عبد الرحمن. وولد معن القاسمَ بنَ معن، وكان على قضاء الكوفة. (¬3) أخرجه أحمد (16082)، والبخاري (1466)، ومسلم (1000).

عبد الرحمن بن عوف

واختلفوا في مسانيد عبد الله بن مسعود، فقيل: روى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثمان مئة حديث وثمانيةٍ وأربعين حديثًا، وقيل: نيِّفًا وثلاث مئة، وقيل غير ذلك. وروى عنه جماعةٌ من الصّحابة، منهم: ابن عباس، وابن عمر، وأبو موسى، وعمران بن حُصين، وأنس بن مالك، وابن الزُّبير، وجابر بنُ عبد الله، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأبو رافع مولى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبو أُمامةَ الباهلي، وأبو جُحَيفة، ووَابِصة بن مَعْبد، وأبو واقد اللّيثي، وأبو شُرَيح الخُزاعي، وعَمرو بن حُرَيث، وقُرَّة بن إياس، والبراء بن عازب، وأبو الطُّفَيل عامر بن واثلة، في خلقٍ كثير. وأمَّا من التّابعين فالجَمُّ الغَفير، منهم: الأسود بن يزيد، وعَلقَمة بن قيس، والرَّبيع بن خُثَيم، وأبو وائل شَقيق بن سَلَمة، وزِرُّ بن حُبَيش وغيرهم. ولما دخل علي رضوان الله عليه الكوفة ورأى هؤلاء قال: لقد تَركَ ابنُ مسعود هؤلاء سُرُجَ هذه القرية. وروى ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه خطَّ خطًّا مُربَّعًا، وخطَّ خطًّا وَسَط الخطِّ المربَّع، وخُطوطًا صِغارًا إلى جنب الخطِّ الذي وَسَط الخطِّ المربَّع، وخطًّا خارجًا من الخطِّ المربّع، وقال: "هل تدرون ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا الإنسان، الخطُّ الأوسط، وهذه الخُطوط التي إلى جَنبِه الأعْراضُ؛ تَنْهَشُه من كلِّ مكان، إن أخطأه هذا أصابَه هذا، والخطُّ المربَّعُ: الأَجَلُ المحيطُ به، والخطُّ الخارجُ الأَمَلُ". انفرد بإخراجه البُخاريّ (¬1). وفيها تُوفيّ. عبد الرحمن بنُ عَوف ابن عبد [عَوف بن عبد بن] الحارث بن زُهْرة بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب، يلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّسب عند مُرَّة بن كعب، وقُتل أبوه عوفٌ بالغُميصاء في الجاهلية، قتله بنو جَذيمة. وأمه الشِّفاء بنت عَوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة، وقيل: صفية بنت عبد مَناف بن زُهرة، والشّفاء لَقَبٌ لها، وهي ابنةُ عمّ أبيه، أسلمتْ وبايعتْ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وأمُّها سلمى ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3652)، وصحيح البُخاريّ (6417).

بنت عامر بن بَياضة، من خُزاعة، تَزوَّجها عَوف بن عبد عَوف، فولدت له: عبدَ الرحمن والأسود، أسلم وهاجر قبل الفتح، وعاتكة وأمة بني عوف، وأسلمتْ عاتكة وبايَعَتْ. وكانت الشّفاء أمُّ عبد الرحمن من المهاجرات، وتُوفّيت في حياة رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فقال عبد الرحمن - رضي الله عنه -: يا رسول الله، أَعتِق عن أمّي؟ فقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "نعم"، فأَعتَقَ عنها. وكان اسمُ عبد الرحمن - رضي الله عنه - في الجاهلية: عبد عمرو، وقيل: عبد الكعبة، وقيل: عبد هُبَل، فسمّاه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عبد الرحمن. ذكرُ صِفته: كان رجلًا طويلًا، حسنَ الوَجْه، رقيقَ البَشَرة، فيه جَنأ، أبيضَ مُشربًا حُمرة، لا يُغَيِّر شَيبَه، ضَخمَ الكفَّين، أَقنى الأنفِ، أَهتَم ساقط الثنيتين، أعرج، أُصيب يوم أُحد فُهتِم، وجُرح عشرين جِراحة أو أكثر، أصابه بعضُها في رجله فخَمَعَ منها. ذكر إسلامه: أسلم قديمًا على يد أبي بكر رضوان الله عليه، وكان خرج في الجاهلية إلى اليمن في تجارة، فاجتمع بشيخٍ كبيرٍ من مشايخ حِمْيَر، فسأله عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وقال: أتعرف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قال: نعم، هو فينا وَسيط، فقال: إنه قد بُعث فيكم، فاحذرْ أن تُخالفَه فإنَّه نبيُّ الأمة. فرجع عبد الرحمن - رضي الله عنه - إلى مكّة وقد بُعث النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم-، فأخبر أبا بكر رضوان الله عليه بقول الشَّيخ فقال: صَدق، هذا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قد بُعث، ثم قام أبو بكر رضوان الله عليه، وأخذ بيد عبد الرحمن - رضي الله عنه -، فأدخله على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وكان في بيت خديجة رضوان الله عليها، فقال عبد الرحمن - رضي الله عنه -: [من الطَّويل] أجبتُ منادي الله لما سمِعْتُه ... يُنادي إلى الدين الحَنيفِ المكرَّمِ فقلتُ [له] لبّيك لبّيك داعيًا ... إليك مَثَابي بل إليك تَيَمُّمي ألا إن خيرَ النَّاس في الأرض كلِّهم ... نبيٌّ جَلا عنّا شكوكَ التَّرجُّمِ نبيٌّ أتى والنَّاسُ في أعجميَّةٍ ... وفي سَدَفٍ من ظُلمةِ الكفرِ مُعْتِم فأقْشَعَ بالنُّور المضيءِ ظَلامَه ... وساعده في أمرِه كُلُّ مُسلِم وخالفه الأَشقَون من كلِّ فرقةٍ ... فسُحْقًا لهم في قعرِ مَثوى جَهنَّمِ (¬1) ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 41/ 240 - 243.

وعبد الرحمن - رضي الله عنه - من الطبقة الأولى من المهاجرين الأوَّلين، وأحدُ العشرة المبشَّرين، وأحدُ الستّة المنصوص عليهم في الشُّورى، وأخرج نفسَه من الأمر لعَقله ووَرعه، واجتهد للمسلمين، وهو أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر رضوان الله عليه. ولد بعد الفيل بعشرِ سنين، وأسلم قبل أن يَدخل رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - دارَ الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتَين جميعًا، وقدم من الحبشة إلى مكّة، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وثبت معه يوم حُنَين لما انهزمَ النَّاس عنه (¬1)، وفَداه بنفسه، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفَه في غزاةِ تبوك، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صلّى خلفَ عبد الرحمن: "ما قُبضَ نبي قط حتَّى يُصلِّي خلف رجلٍ صالحٍ من أمته"، وبعثه في سرايا، وعَمَّمه بيده. وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: بعث رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بنَ عَوف في سبع مئة إلى دُومَةِ الجَندل، وذلك في شعبان سنةَ ستٍّ من الهجرة، فنقَض عِمامته بيده، ثم عَمَّمه بعِمامة سوداء، فأرخى بين كَتفيه منها، فقَدِم دُومةَ الجَندل، فدعاهم إلى الإسلام، فأسلم الأَصبْغ بن عمرو الكلبي -وكان نصرانيًّا، وكان رأسَهم فبعث عبدُ الرحمن فأخبرَ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بذلك، فكتب إليه أن: "تزوَّجْ تُماضر بنت الأصبغ" فتزوَّجها عبد الرحمن، وبنى بها، وأقبل بها، فهي أمُّ ولده أبي سلمة بن عبد الرحمن. وآخى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الرَّبيع، ولما هاجر من مكّة إلى المدينة نزل عليه في بَلْحارث بن الخَزْرج، وقيل: آخى بينه وبين سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وقيل بينه وبين عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -. قال أنس: لما قدم عبد الرحمن المدينة آخى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الرَّبيع، فقال له سعد: أقاسمُك مالي نِصفَين، ولي امرأتان، أُطلق إحداهما، فإذا انقضَتْ عِدَّتُها تزوجْتَها، فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلَّني على السوق، فدَلَّه على سوق بني قينُقاع، فانطلق فما رجع إلَّا ومعه شيءٌ من أَقِطٍ وسَمْن قد ¬

_ (¬1) في المصادر أنَّه ثبت معه يوم أحد.

استَفْضله، ثم تابع الغُدُوَّ، فرآه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بعد ذلك وعليه أَثَرُ صُفْرَة، فقال: "مَهْيَمْ؟ " قال: تزوَّجتُ امرأةً من الأنصار، قال: "ما أصدَقْتَها؟ " قال: وَزنَ نَواةٍ من ذَهَب، قال: "أَوْلم ولو بشاة" (¬1). قال ابن سعد، رفعه إلى أنس بن مَالِكٌ: أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة، فآخى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الرَّبيع الأنصاري فقال له سعد: أخي، أنا أكثرُ أهلِ المدينة مالًا، فانظُرْ شطرَ مالي فخُذْه، وتحتي امرأتان، فانظُرْ أيتهما أعجبُ إليك حتَّى أُطلقَها لك، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلّوني على السوق، فاشترى وباع، فربح، فجاء بشيء من أَقِط وسَمْنٍ، ثم لبث ما شاء الله أن يلبث، فجاء وعليه رَدْعٌ من زَعْفَران، فقال: يا رسول الله، تزوَّجتُ امرأةً، قال: "ما أصدَقْتَها؟ "، قال: وَزْنَ نَواةٍ من ذهب، قال: "أَوْلمْ ولو بشاة"، قال عبد الرحمن - رضي الله عنه -: فلقد رأيتُني ولو رفعتُ حَجَرًا رجوتُ أن أصيبَ تحته ذهبًا أو فِضة (¬2). وكان عبد الرحمن - رضي الله عنه - مَجدودًا في التجارة. قال المسور بن مَخرمة: بينما أنا أسير في رَكْبٍ بين عثمان وعبد الرحمن بن عوف؛ وعبد الرحمن قُدّامي عليه خَميصةٌ سَوداء، قال عثمان: مَن صاحبُ الخَميصةِ السَّوداء؟ قالوا: عبد الرحمن بن عوف، فناداني عثمان: يا مِسْوَر، فقلتُ: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: مَن زَعم أنَّه خيرٌ من خالك في الهجرة الأولى وفي الهجرة الأخيرة فقد كَذب. قال حَبيب بن أبي مَرزوق: قَدِمَت عِير لعبد الرحمن بن عوف، فكان لأهل المدينة يومئذٍ رَجَّةٌ، فقالت عائشة: ما هذا؟ قيل لها: هذه عِيرُ عبد الرحمن قَدِمتْ، فقالت عائشة: أما إنِّي سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصّراط يَميل [به مرَّة] ويَستقيمُ أُخرى، حتَّى يُفلِت ولم يَكَدْ"، قال: فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال: هي وما عليها صَدَقة، قال: وما كان عليها أفضلُ منها، وهي يومئذٍ خمس مئة راحِلة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (12976)، والبخاري (2049)، ومسلم (1427). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 116 - 117.

وأخرج ابنُ سعدٍ حديثًا يَرفعه ويرويه عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ابنَ عوف، إنك من الأغنياء، ولن تَدخُلَ الجنّةَ إلَّا زَحْفًا، فأقِرضِ الله يُطلِقْ لك قَدميك"، قال ابنُ عوف: وما الذي أُقرض يا رسول الله؟ قال: "تبَرَّأ ممَّا أَمسيتَ فيه"، قال: أمن كُلِّه أجمع؟ قال: "نعم"، فخرج ابنُ عوفٍ وهو يَهُمُّ بذلك، فأرسل إليه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فقال: "إن جبريل قال: مُرِ ابنَ عوفٍ فليُضِفِ الضَّيفَ، وليُطعِم المسكين، وليُعطي السَّائل، ويبدأ بمَن يَعول، فإنَّه إذا فعل ذلك كان تَزْكيةَ ما هو فيه" (¬1). قال المِسور بنُ مَخْرَمَة: باع عبد الرحمن بنُ عَوف أرضًا له من عثمان بأربعينَ ألف دينار، فقسم ذلك المال في بني زُهْرَة وفُقراء المسلمين وأُمّهات المؤمنين، وبعث إلى عائشةَ معي بمالٍ من ذلك المال، فقالت عائشة: أما إنِّي سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لن يَحنُوَ بعدي علَيكُنَّ إلَّا الصالحون الصابرون"، سقى الله ابنَ عوفٍ من سَلْسبيل الجنة. قالت أمُّ سلمة - رضي الله عنهما -: سمعتُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول لأزواجه: "إن الذي يُحافظُ عليكنَّ بعدي لَهو الصَّادقُ البارّ"، اللَّهم اسقِ عبد الرحمن بنَ عوفٍ من سَلْسبيل الجنَّة. وباع عبد الرحمن - رضي الله عنه - أمواله من كَيدَمة، وهو سَهْمُه من بني النَّضِير بأربعين ألف دينار، فقسمها على أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الزُّهريّ: تصدَّق عبد الرحمن بنُ عوف على عهد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بشَطْرِ ماله أربعة آلاف، ثم تصدّق بأربعين ألفًا، ثم تصدقَ بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس مئةِ فرسٍ في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمس مئةِ راحلة في سبيل الله، وكان عامّةُ أمواله من التجارة، وأعتق ثلاثين ألف بيت. وأُتي بطعامٍ، وكان صائمًا فقال: قُتل مُصعبُ بنُ عُمَير وهو خيرٌ منّي، وكُفِّن في بُرْدة؛ إن غُطِّي رأسُه بَدتْ رجلاه، وإن غُطِّي رجلاه بدا رأسُه، وقُتل حمزة وهو خيرٌ مني، فلم يُوجَد له ما يُكَفَّن فيه إلَّا بُرْدة، ثم بُسِط لنا من الدُّنيا ما بُسِط، وقد خشينا أن تكونَ حَسناتُنا عُجّلَتْ لنا، ثم جعل يبكي وترك الطَّعام (¬2). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 122. (¬2) أخرجه البُخاريّ (4045).

قال نَوفل بن إياس الهُذَليّ: كان عبدُ الرحمن لنا جليسًا، وكان نِعمَ الجليس، وإنه انقلب بنا يومًا إلى بيته، وأتانا بصَحْفَة فيها خُبز ولحم، فلما وُضعت بكى، فقلنا له: يا أبا محمد، ما يُبكيك؟ فقال: قُبِض رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ولم يَشبع هو وأهلُه من خُبزِ الشّعير، ولا أُرانا أُخِّرنا لما هو خيرٌ لنا. وكان عبد الرحمن - رضي الله عنه - لا يُعرف [من بين] عبيده. قال الحسن: كان عبد الرحمن بن عوف رجلًا شَرِيًّا، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قميص من حرير، فأذِن له. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: شكا عبد الرحمن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثرةَ القَملِ وقال: يا رسول الله، تأذنُ لي أن ألبسَ قميصًا من حرير؟ فأذِن له، فلما تُوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وقام عمر أقبل بابنه أبي سلمة وعليه قميص من حرير، فقال عمر: ما هذا؟ ثم أدخل يده في جيب القَميص فشَقَّه إلى أسفله، فقال له عبد الرحمن: أما علمتَ أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أحَلَّه؟ فقال: إنما أحلَّه لك؛ لأنك شكوتَ إليه القَمل، أمّا لغيرك فلا. وكان عبد الرحمن - رضي الله عنه - يَلبَسُ البُرْدَ أو الحُلَّةَ تُساوي خمسَ مئة أو أربعَ مئة. قال المِسوَر: لما وَلي عبد الرحمن الشُّورى كان أحبُّ النَّاس إليَّ أن يَليَه، فإن تركه فسعد بنُ أبي وقّاص، فلحِقَني عمرو بن العاص، فقال: ما ظنُّ خالك بالله إن وَلّى هذا الأمرَ أحدًا وهو يعلم أنَّه خيرٌ منه؟ ققال لي ما أحبُّ، فأتيتُ عبد الرحمن، فذكرتُ له ذلك فقال: مَن قال لك ذلك؟ قلتُ: لا أُخبرك، قال: لئن لم تُخبِرني لا أُكلّمك أبدًا، فقلت: عمرو بنَ العاص، فقال عبد الرحمن: والله لأنَّ تُؤخَذَ مُدْيَةٌ، فتُوضَعَ في حَلْقي، ثم يُنفَذَ بها إلى الجانب الآخر؛ أحبّ إليَّ من ذلك. ذكر وفاته: قال إبراهيم بن عبد الرحمن: أُغمِيَ على عبد الرحمن، ثم أفاق فقال: أغُشِي عليَّ؟ قالوا: نعم، قال: فإنَّه أتاني مَلَكان أو رجُلان [فيهما فَظاظةٌ وغِلظة، فانطلقا بي، ثم أتاني رجلان أو مَلكان] لم أر أرأفَ منهما وأرحم فقالا: أين تُريدان به؟ قالا: إلى العزيز الأمين، قالا: خَليا عنه؛ فإنَّه ممّن كُتبت له السعادة وهو في بطن أمه.

ومات سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابنُ خمسٍ وسبعين سنة، وقيل: سنة إحدى وثلاثين، وهو ابنُ ثمان وسبعين سنة، والأوّل أَثبت، وصلى عليه عثمان رضوان الله عليه، ومشى في جنازته إلى البقيع، وقيل: سعد بن أبي وَقاص، وقيل: علي، وقيل: الزُّبير - رضي الله عنهم -. لما أحدث عثمان - رضي الله عنه - ما أحدث من تَأمير الأحداث من أهل بيته على الجِلَّة من الصّحابة - رضي الله عنهم -؛ قيل لعبد الرحمن: هذا فِعلُك، فدخل على عثمان رضوان الله عليه، فعاتبه ولامه، وقال: إنّما قَدمتُك لتَسيرَ بسِيرة الشيخَين، وقد خالفتَهما وحابَيتَ أهلَ بيتك وأوطَأتَهم رقابَ المسلمين، فقال عثمان رضوان الله عليه: إن عمر كان قطع أقاربه في الله، وأنا أصلُ قرابَتي في الله، فقال له عبد الرحمن - رضي الله عنه -: على أن لا أكلّمَك أبدًا، فلم يُكلمه حتَّى مات. ودخل عليه عثمان رضوان الله عليه عائدًا في مرضه، فحوَّل وَجهه إلى الحائط، ولم يُكلمه حتَّى مات. قال إبراهيم: رأيتُ سعدَ بنَ مالك عند قائمتَي سريرِ عبد الرحمن وهو يقول: واجبَلاه. قال [إبراهيم بن] سعد، عن أبيه: أنَّه سمع عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه يقول يوم مات عبد الرحمن: اذْهَب ابنَ عَوف فقد أدركتَ صَفوَها، وسَبَقْتَ رَنْقَها. قال أبو الأسود: أوصى عبد الرحمن في السبيل بخمسين ألف دينار. وترك ألف بعير، وثلاثة آلاف شاةٍ بالنَقيع، ومئة فَرسٍ تُرعى بالنَقيع، وكان يَزرع بالجُرُف على عشرين ناضِحًا، فكان يدخل قوت أهله من ذلك سنة. قال محمد بن عبد الرحمن بن عَوف: تُوفِّي عبدُ الرحمن، فكان فيما ترك ذَهَب قُطِع بالفؤوس؛ حتَّى مَجِلَتْ أيدي الرجال منه، وترك أربعَ نِسْوة، فأخرجت امرأة من ثُمنها ثمانين ألفًا. قال صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن: أصابتْ تُماضر بنت الأصبغ الكلبي رُبُع الثمن، فأخرجتْ بمئةِ ألف، وهي إحدى الأربع.

ذكر أولاده: كان له من الولد: سالم، مات قبل الإسلام، وأمه أمُّ كلثوم بنت عُتبة بن ربيعة، ومحمد، وبه كان يُكنى، وإبراهيم، وحُمَيد، وإسماعيل، وحَميدة، وأَمَةُ الرحمن، وأمهم أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيط، ومَعْن، وعمر وزيد، وأمَةُ الرحمن الصغرى، وأمهم سَهْلَة بنت عاصم بن عديّ الأنصارية، وعُروة الأكبر، قُتل يوم إفريقية، وأمه بحرِيّه بنت هانئ بن قَبيصة، من بني شيبان، وسالم الأصغر قُتل يوم فتح إفريقية، وأمه سَهلة بنت سُهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ، وأبو بكر، وأمه أمُّ حكيم بنت قارظ بن خالد بن عُبيد، حليفٌ لهم، وعبد الله قُتل بإفريقية يوم فُتحت، وأمه ابنة أبي الخَشْخاش (¬1) أنصارية، وأبو سلمة وهو عبد الله الأصغر، أمه تُماضر بنت الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن حِصن بن ضمضم بن عديّ بن جَناب من كلب، وهي أوّل كلبّية نكحها قُرشيّ، وعبد الرحمن، وأمّه أسماء بنت سلامة بن مُخَربة بن جندل بن نَهْشَل بن دارم، ومصعب وآمنة ومريم، وأمُّهم أمُّ حُرَيث من سَبْي بَهْراء، وسُهيل وهو أبو الأبيض، وأمه مَجْد بنت يزيد بن سلامة ذي فائش الحميرية، وعثمان، وأمّه غزال بنت كِسرى، أمَّ وَلَد، من سَبْي سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - يوم المدائن، وعُروة دَرَج، ويحيى وبلال لأمَّهات أولاد دَرجوا، وأم يَحْيَى وأمُّها زينب بنت الصبّاح بن ثعلبة بن عوف بن شبيب بن مازن، من سَبْي بَهراء أيضًا، وجُوَيرية بنت عبد الرحمن، وأمها بادية بنت غيلان بن سلمة بن مُعَتب الثَّقفيُّ، وتزوَّج جويرية المِسور بنُ مَخْرَمَة. فالحاصل أنَّه كان له ثمانية وعشرين ولدًا. فمن أعيانهم محمد، كان شديدَ الغَيرة، وله عقِب بالمدينة. ومنهم إبراهيم، كان سيد القوم، تزوَّج سُكينة بنت الحسين - رضي الله عنه -، ولم يُرضِ ذلك بنو هاشم، فاختلعَت منه، كنيته أبو إسحاق، مات سنة سبعٍ وتسعين وهو ابنُ خمس وسبعين سنة. وأبو سلمة بن عبد الرحمن الفقيه الإمام، وابنه سلمة وَلي قضاء المدينة. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) وصفة الصفوة 1/ 351، ونسختي (ت) و (ث) من طبقات ابن سعد 3/ 118، وصوابه: الحَيْسَر، انظر حواشي طبقات ابن سعد (طبعة الخانجي).

ومصعبُ بن عبد الرحمن كان شجاعًا، وكان على شُرطة مروان بن الحكم، فأمره مروان أن يهدم دورَ بني هاشم، و [مَن] في حَيّزهم، فقال: أيها الأمير، إنه لا ذَنْب لهؤلاء ولستُ أفعل، فقال مروان: انتفخ سَحْرُك، ألْقِ سيفَنا، فألقاه ثم خرج إلى عبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنهما - فكان معه. وأمَّا سُهيل بن عبد الرحمن فكان تزوَّج امرأةً من بني أميَّة يُقال لها: الثريّا، وهي التي كان يُشَبّب بها عمر بن أبي ربيعة، وفيها يقول: [من الخفيف] أيُّها المُنكِحُ الثريّا سُهيلًا ... عَمرك الله كيف يَجتمعانِ هي شاميَّةٌ إذا ما استقلت ... وسُهيلٌ إذا استقلَّ يَماني ولسُهيل عَقب بالمدينة، منهم عُتَير بن سُهيل، وكان صاحبَ شراب، وفيه يقول الشاعر: [من الطَّويل] إذا أنت نادمتَ العُتَيْرَ وذا النّدى ... جُبيرًا وعاطَيتَ الزّجاجةَ خالدا وجُبير هذا هو ابنُ أمِّ أيمن حاضنةِ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وخالد ابنُ أبي أيوب الأنصاري. وأمَّا عمر بن عبد الرحمن فكان من دُهاة قريش، وهو أحدُ مَن عَمل في عزل الحجّاج عن المدينة حتَّى عَزله عبدُ الملك، ومن ولده محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن، وكان على قضاء المدينة وبيتِ مالها زمن أبي جعفر المنصور، وكان عالمًا فقيهًا. وأمَّا مَعن بن عبد الرحمن فله عَقِب، منهم هارون بن عبد الله بن كَثير بن مَعن، كان فقيهًا على مذهب أهل المدينة، ولاه المأمون قضاءَ المَصِّيصَة ثم صرفه، وولاه قضاءَ الرقة ثم صرفه، وولاه قضاءَ عسكر المهدي، ثم ولاه قضاءَ مصر. ذكر نساء عبد الرحمن - رضي الله عنه -: أمّ كُلثوم بنت عُقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مَناف، أمها أروى بنتُ كُريز بن ربيعة بن حَبيب بن عبد شمس، أسلمت قبل الهجرة، وبايعت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وهي أوَّلُ امرأةٍ هاجرت من النساء بعدما هاجر رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -إلى المدينة، لا نعلم قرشيةً خرجتْ من بيت أبويها مُسلمةً مهاجرةً إلى الله ورسوله إلّا هي، خرجت من مكّة وَحدَها وصاحبتْ رجلًا من خُزاعة، فقدمت المدينة في هُدنة الحُدَيبية، وخرج في طَلبها أخواها: الوليد وعُمارة ابنا عُقبة، فقَدِما المدينة، فقالا: يا

محمد، فِ لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} الآيات [الممتحنة: 10] فقال لهما رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إن الله قد نقض العهد في النساء، فارجعا فلا سبيلَ لكما عليها" فرجعا. ولم يكن لأم كلثوم بمكة زوجٌ، فتزوّجها بالمدينة زيد بن حارثة بقول النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم-، فوَلدت له، فقُتِل عنها يوم مُؤتة، فتزوَّجها الزُّبير بن العوّام - رضي الله عنه -، فولدت له زينب، وكان في الزُّبير - رضي الله عنه - شِدَّة على النساء، وكانت تكرهه، فكانت تَسألُه الطلاق فيأبى عليها، فضربها الطَّلْقُ ولم يعلم، فألحَّت عليه وهو يتوضّأ للصلاة فطلَّقها تَطليقة، فخرجت فوضعت، فأخبر بوَضعها فقال: خدعَتْني خدعها الله، فأتى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فأخبره بوَضْعها، فقال: "سبق فيها كتابُ الله فاخطُبها" فقال: لا ترجع إليَّ أبدًا. فتزوّجها عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، فولدت له إبراهيم وحُميدًا، ومات عنها فتزوجها عمرو بن العاص، فماتت عنده. وأمّا أمُّ كُلثوم بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس زوجة عبد الرحمن - رضي الله عنه - فأمها ابنةُ حارثة بن الأَوْقَص، ولَدت لعبد الرحمن سالمًا الأكبر، أسلمت وبايعت. وأمَّا سَهْلة بنت سهيل بن عمرو فأمّها فاطمة بنت عبد العُزَّى، من بني عامر بن لؤي، أسلمت سَهلة قديمًا، وهاجرت إلى الحبشة الهجرتين مع زوجها أبي حُذيفة بن عُتبة بن ربيعة، وولدت هناك محمدًا، وتزوّجها بعد أبي حُذيفة عبد الله بنُ الأسود بن عمرو، من بني مالك بن حِسْل، فوَلدت له سَليطَ بنَ عبد الله، ثم خَلَف عليها شَمّاخ بن سعيد، من بني سُليم بن منصور، فوَلدت له عامر بن شماخ، ثم خَلف عليها عبدُ الرحمن بنُ عَوف - رضي الله عنه -، فوَلدت له سالمًا الأصغر. وسهلة هي التي قال لها رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: أرضعي سالمًا مولى أبي حُذيفة خمسَ رضعات يَدخل عليك. وأمَّا تُماضر بنت الأصبغ -أمّها جُويرية بنت وَبْرة بن رُومانس، من كلب- فوَلدت له أبا سلمة لا غير، وهي التي طلَّقها عبد الرحمن - رضي الله عنه - في مرضه ثلاثًا، فوَرَّثها عثمان - رضي الله عنه -. وقال: نُؤمن بكتاب الله، ونحمي حمى الله.

وكان في تُماضر سُوءُ خُلُق، وكانت على تطليقتين، فلما مرض عبد الرحمن - رضي الله عنه - جرى بينه وبينها شيءٌ فقال لها: والله لئن سألتِني الطَّلاقَ لأُطَلِّقنَّك، فقالت: والله لأسألنَّك، فقال: أمّا إذًا، فاعلميني إذا حِضْتِ وطَهُرتِ، فلما طَهُرت أرسلت إليه تُعلِمه، فمرَّ رسولُها ببعض أهله، فظنّ أنَّه لذلك، فدعاه وسأله، فأخبره، فقال له: ارجع إليها فقل لها: لا تفعلي، فوالله ما كان ليَرُدَّ قَسَمه، فرجع فأخبرها فقالت: وأنا والله لا أردّ قَسَمي أبدًا، اذهبي إليه فأعلميه، فذهبت فأعلمتْه فطلّقها. ثم تزوج تُماضر بعد عبد الرحمن - رضي الله عنه - الزبيرُ بنُ العوام - رضي الله عنه -، فأقامت عنده سبعَ ليالٍ ثم طلّقها، فكانت تقول للنساء: إذا تزوَّجتْ إحداكن فلا يَعُرَّنَّكنّ السَّبع بعدما صَنع بي الزُّبير. وكان لعبد الرحمن - رضي الله عنه - إخوة، منهم: الأسود بن عَوف، له صُحبة، وليس له رواية، هاجر قبل الفتح، وجابر بن الأسود، وَلي لابن الزُّبير - رضي الله عنهما-، ومحمد وعباس ابنا الأسود، قُتلا مع ابنِ الأشعث. وحَمْنَن بنُ عوف لم يُهاجر، وعاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، وليس له رواية، ومن ولده القاسم بن محمد بن المعتمر بن عِياض بن حمنن، وفيه يقول الشاعر: [من الكامل] إن المكارمَ أحرزَتْ أسبابَها ... للقاسم بن محمد بن المعتَمِرْ إن الفتى الزُّهريَّ سَيْبُ بَنانِه ... كالنيل أو فَيضِ الفُرات إذا زَخَرْ ما يُعرَفُ المعروفُ إلَّا فيهم ... وهم الأُلى حازوا السَّماحَ على البَشَر وعبد الله بن عَوف لم يُهاجر أيضًا، وابنُه طلحةُ الندى بن عبد الله، كان من سَرَوات قريش، كُنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو محمد، وأمه بنت مُطيع بن الأسود، رُوي عنه الحديث، وكان هو وخارجة بن زيد من أرباب الفَتْوى بالمدينة، ويَقسمان المواريث، ويكتبان الوَثائق للناس بغير جُعْلٍ، وفي طلحة يقول الفرزدق: [من الكامل] يا طلحُ أنت أخو النَّدى وعَقيدُه ... إن النَّدى إنْ مات طلحةُ ماتا أعطى السلطانُ طلحة بنَ عبد الله بن عوف سبعةَ آلاف درهم، فخرج بها مع غلامٍ يَحملها، فلقيَه أعرابيٌّ حديثُ عهدٍ بعِلّة، فقال له: أعدني على الفقر وأعنّي عليه، فقال للغُلام: انثُر ما معك في كساء الأعرابيّ، فذهب الأعرابي يُقلُّها فلم يَقدر وعَجز عنها،

فقعد يبكي، فقال: لعلك استَقْلَلْتَها؟ قال: لا والله، ولكن نظرتُ في يَسير ما سألتُك، مع جَزيلِ ما أعطيتَني، وتفكَّرتُ فيما تأكُلُ الأرض من كَرمِك فبكيتُ. وقدم الفرزدقُ المدينةَ زائرًا، فوجد رجلًا خارجًا منها، فسأله عن أخبار النَّاس فقال: تُوفّي طلحة بن عبد الله، فقال: بفِيك الحَجَر، ودخل من رأس الثَّنيّة يُولولُ ويقول: يا أهلَ المدينة، كيف تركتُم طلحة يموت؟ ! روى طلحةُ عن عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي بَكرة، وعائشة وغيرهم - رضي الله عنهم-، وروى عنه الزّهري، وسعد بن إبراهيم، وأبو عُبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر في آخرين. وولي المدينة لابن الزُّبير - رضي الله عنهما-، وفيه يقول حُرَيث بن عنَّاب الطَّائي: [من الطَّويل] أَبي طلحةَ الفَيَّاضِ أعملتُ نَصَّها ... تَخبُّ برَحْلِي ساعةً ثم تُرقِلُ إلى ماجدِ الجدَّين رَحْبٍ فناؤه ... له في قديم الدّهر مجدٌ مُؤثَّلُ وعمُّ عبد الرحمن - رضي الله عنه - أزهر بنُ عبد عوف، هو أحد الذين بعثهم عمر رضوان الله عليه فنصبوا أنصابَ الحَرَم، وابنُه عبد الرحمن بن أزهر من الصّحابة، شهد حُنينًا، وأروى النَّاسِ عنه الزّهري. أسند عبد الرحمن بنُ عوف - رضي الله عنه - الحديثَ عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، روى خمسة وستين حديثًا، روى عنه عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وجابر، وبنو عبد الرحمن: إبراهيم، وحُميد، وأبو سلمة، ومُصعب، وعمرو بن العاص في آخرين. وقدم مع عمر رضوان الله عليه الجابية، وشهد في كتاب الصُّلح الذي لأهل بيت المقدس، وكان على مَيمنة عمر رضوان الله عليه في أوَّلِ خَرْجة خَرجها إلى الشام، وفي الثَّانية التي رجع فيها من سَرْغ على الميسرة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة عبد الرحمن وأولاده ونسائه وإخوته: طبقات ابن سعد 3/ 115 و 10/ 218، 226، 256، 382، ونسب قريش 265، والمعارف 235، وأنساب الأشراف 8/ 122، والاستيعاب (1530)، وحلية الأولياء 1/ 98، وتاريخ دمشق 41/ 225 و 8/ 531 (مخطوط)، والمنتظم 5/ 33، وصفة الصفوة 1/ 349، والتبيين 295، والسير 1/ 68، والإصابة 2/ 416.

أبو برزة الأسلمي

أبو بَرزة الأسلمي واسمه نَضْلَة بن عُبيد وفيه خلاف، أسلم قديمًا، وشهد فتح مكّة، وهو الذي قتل عبد الله بنَ خَطَل لما كان مُتعلّقًا بأستار الكعبة، [ولم يزل يغزو مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - حتَّى قُبض، فتحوّل] فنزل البصرة، وبنى بها دارًا، وله بها عقب، وغزا خُراسان فمات بمَرْو، وأسند الحديث عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - (¬1). أبو سَبْرَة ابن أبي رُهْم ابن عبد العُزّى، من بني عامر بن لُؤيّ، وأمُّه بَرَّة بنتُ عبد المطلب بن هاشم عمَّةُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، من الطبقة الأولى من المهاجرين، هاجر إلى الحبشة الهجرتين، وكانت معه في الهجرة الثَّانية أمُّ كلثوم بنت سُهيل بن عمرو، وآخى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بينه وبين [سَلَمة بن] سَلامة بن وَقْش، ولما هاجر إلى المدينة نزل على المنذر بن محمد بن عُقبة بن أُحَيحة بن الجُلاح. وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، ورجع إلى مكّة بعد وفاة رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فكره المسلمون له ذلك، ووَلَدُه يُنكرون رُجوعه (¬2). كعب الأحبار بن ماتع الحِميريّ من مُسلمةِ أهل الكتاب، قدم في خلافة أبي بكر رضوان الله عليه فأسلم على يده، وقيل: على يد عمر رضوان الله عليه، وهو من الطبقة الأولى من التّابعين، كُنيتُه أبو إسحاق، كان على دين يَهود فأسلم، وقدم المدينة، ثم نزح إلى الشام فسكن حمص. وكان أبو الدرداء يقول: إن عند ابنِ الحميَرِيَّة لعِلمًا كثيرًا، وتُوفّي بحمص، على خلاف فيه، وأسند عن عمر رضوان الله عليه، وصُهيب، وعائشة، وروى عنه ابنُ عمر، وابنُ عباس، وأبو هُريرة، وعبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنهم-، وقال: لا يَصعد طيرٌ في ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 202 و 9/ 9، 369، والاستيعاب (2853)، والمنتظم 5/ 32، والسير 3/ 40 وفيه مصادر أخرى، والإصابة 2/ 19. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 373 و 8/ 5، ونسب قريش 428، والاستيعاب (2961)، والتبيين 480، والإصابة 4/ 84.

أبو مسلم

السماء أكثر من اثني عشر ميلًا، ومُعظم رواياته عن التوراة (¬1). أبو مُسْلم الجَليلي -بالجيم- وهو جبل صيدا بساحل دمشق، أدرك رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ولم يُسْلم، وأسلم على عهد أبي بكر رضوان الله عليه، وقيل بعد ذلك، وهو من الطبقة الأولى من التّابعين، وأسند عن معاوية، وروى عنه أبو مُسلم الخولاني، وأبو قِلابة، وأبو مَيسرة، وسعيد بن عبد العزيز وغيرُهم (¬2). نَوف وتُبَيْع ابنا امرأةِ كعب الأحبار، فنَوف بن فَضالة الحميريّ، كُنيتُه أبو يَزيد، من الطبقة الثَّانية من تابعي أهلِ الشام، كان قاضيًا بحمص، ثم انتقل إلى الكوفة في إمرة مصعب بن الزُّبير، وكان من العلماء الفُضَلاء، إمامَ أهل دمشق، واستشهد مع محمد بن مروان، وقتل [في] غزاة الطُّوانة (¬3). قال نَوف: ذبح نبيٌّ أو صدِّيقٌ عِجلًا بين يدي أمِّه فخبل، فبينما هو كذلك ذات يوم تحت شجرة فيها طائر؛ إذ وقع فَرخُ ذلك على الأرض في التُّراب، فجاء الطائر فجعل يُرفرف على رأس فَرخِه، فأخذه النبيُّ أو الصدِّيق، فمسح التُّرابَ عنه، وأعاده إلى وَكْره، فردّ الله عليه عَقْلَه. أسند نوف عن علي - رضي الله عنه -، وأبي أيوب الأنصاري، وثوبان، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم، وروى عنها أبو عمران الجَوْني، وأبو إسحاق الهَمْداني، وشَهْر من حَوْشَب في آخرين (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 449، والمعارف 430، والمنتظم 5/ 38، وتاريخ دمشق 59/ 371، والسير 3/ 489 وفيهما مصادر أخرى، والإصابة 3/ 315. (¬2) تاريخ دمشق 19/ 167 (مخطوط)، والإصابة 4/ 191. (¬3) في النسخ: مروان بن محمد، والمثبت من تاريخ دمشق 17/ 687 (مخطوط). وقوله: في غزوة الطوانة، وهم فهي وقعت سنة (88) للهجرة، وسيذكرها المصنف 9/ 423. (¬4) انظر في ترجمة نوف طبقات ابن سعد 9/ 455، والحلية 6/ 48، وتاريخ دمشق 17/ 683 (مخطوط)، وتهذيب الكمال (7093) والمصادر في حواشيه.

معيقيب

وأمَّا تُبَيْع فذكره ابن سعد في الطبقة الثَّانية من التّابعين من أهل الشام، وكان عالمًا، قرأ الكُتب، وسمع من كعب كثيرًا، وكُنيته أبو عُبيد، وقيل: أبو عامر (¬1). مُعَيْقيب ابن أبي فاطمة الدَّوْسيّ الأزْديّ، حليفُ بني عبد شمس بن عبد مَناف، أسلم بمكة قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، وقيل: رجع إلى بلاد قومه، ثم قَدم مع وَفْد الأشعريّين ورسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بخيبر، فشهدها، وعاش إلى خلافة عثمان رضوان الله عليه، وهو من الطبقة الثَّانية من المهاجرين، وكان قد أسرع إليه الجُذام. قال محمود بن لَبيد: أمَّرني يَحْيَى بن الحكم على جُرَش، فقَدمتُها، فحدّثوني أن عبد الله بن جعفر حَدَّثهم، أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال لصاحب هذا الوَجع -يعني الجُذام: "اتَّقوه كما يُتَّقى السَّبُعُ، إذا هبط واديًا فاهبطوا غيرَه"، فقلتُ لهم: والله لئن كان ابنُ جعفر حدَّثكم هذا ما كَذبكم، فلما عَزلني يَحْيَى عن جُرَش، قدمتُ المدينة، فلَقيتُ عبد الله بن جعفر، فقلتُ ما حديثٌ بَلَّغني عنك أهلُ جُرَش، وذكرته له، فقال: كذبوا، والله ما حدَّثتُهم هذا، ولقد رأيتُ عمر بن الخطاب يُؤتى بالإناء فيه الماء فيُعطيه مُعَيقيبًا، وكان رجلًا قد أسرع فيه ذلك الوجع- فيشرب منه، ثم يتناوله منه فيضع فيه مَوضعَ فمه فيَشرب منه، فعرفتُ أنما صنع عمر ذلك فرارًا أن يَدخُلَ شيءٌ من العَدْوى. وكان يَطلُب له من الطِّبِّ من كل مَن سمع له بطبّ، حتَّى قدم عليه رجلان من أهل اليمن، فقال: هل عندكما من طِبٍّ لهذا الرجل؟ فإن الوَجع قد أسرع فيه، فقالا: أمّا شي: يُذهبُه فلا، أو فإنا لا نقدر، ولكنا سنداويه دواءً يَقِفُه ولا يَزيد، فقالا له: هل تُنبتُ أرضُك الحنظلَ؟ قال: نعم، قالا: فاجمع لنا منه، فأمر فجُمع منه مِكتَلَين عظيمين، فعمدا إلى كلِّ حَنظلة فشَقّاها نِصفَين أو ثِنتين، ثم اضطجعا مُعيقيبًا، ثم أخذ كلُّ واحدٍ منهما بإحدى قدمَيه، ثم جَعلا يَدلُكان بطون قدميه بالحنظلة، حتَّى إذا امَّحَقَتْ أخذا الأخرى، حتَّى رأيا مُعَيقيبًا يَتنخّم أخضرَ مُرًّا، ثم أرسلاه، فقط لا لعمر: لا يَزيد وَجعه بعد هذا، فوالله ما زال مُعَيقيب متماسكًا، [لا يزيد] وجعه حتَّى مات. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 455، والسير 4/ 413 والمصادر فيه، والإصابة 1/ 187.

قال خارجة بن زيد: إن عمر قال لمعيقيب لما أكل معه: خُذْ ممَّا يليك، فلو كان غيرك ما يأكل معي في صَحْفة، ولكان بيني وبينه قِيدُ رُمْحٍ. وكانت وفاةُ مُعيقيب - رضي الله عنه - في هذه السنة بالمدينة. أسند الحديثَ عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم-، وقد أخرج البُخاريّ تعليقًا من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "فِرَّ من المجذوم فِرارَك من الأسد" (¬1). وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُديموا النَّظرَ إلى المجذوم" (¬2). وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "كَلِّم المجذومَ وبينك وبينه قِيدُ رُمْحٍ أو رُمحَين" (¬3). وفي حديث عمرو بن الشَريد: أن مجذومًا أتى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ليُبايعَه، فذكرتُ ذلك له فقال: "ائتِه فأعلمه أني قد بايعتُه" (¬4). وقيل: إنه قد يَسْقَمُ مُقارِبُ المجذومِ وصاحبِ السِّلِّ بالرّائحة لا بالعَدوى، وقد رُوي أن نَباتَ الشعرِ في الأنف أمانٌ من الجُذَام (¬5). * * * ¬

_ (¬1) صحيح البُخاريّ (5707). (¬2) أخرجه أحمد (2075). (¬3) أخرجه ابن عدي في الكامل 2/ 703، وأبو نعيم في الطب، فيما ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري 10/ 159 وقال: إسناده واهٍ. (¬4) أخرجه أحمد (19468)، ومسلم (2231). (¬5) أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (350 - 360) من حديث جابر وأنس وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم-، وقال: هذا حديث ليس له صحة، ثم تكلم على كل طريق منها. وانظر في ترجمة معيقيب: طبقات ابن سعد 4/ 109، والمعارف 316، والاستيعاب (2496)، والمنتظم 5/ 38، والسير 2/ 491، والإصابة 3/ 451.

السنة الثالثة والثلاثون

السنة الثالثة والثلاثون فيها غزا معاويةُ بلادَ الرُّوم، ووصل إلى حصن المرأة، من أعمال مَلَطْية فافتتحه. وفيها غزا عبد الله بن [سعد بن] أبي سَرْح إفريقية، وكانوا قد نَقضوا العَهْدَ، فقتل وسبى، واستشهد في هذه الغزاة جماعة، منهم: معبد بن العباس بن عبد المطّلب. وفيها بعث عبد الله بنُ عامر بن كُريز الأحنفَ بنَ قيس إلى خُراسان، وكانوا قد نَقضوا العَهدَ، فقاتلهم فظَفِر بهم، ولحقه ابنُ عامر فهَدَمَها. وفيها نَفى عثمانُ جماعةً من أهل الكوفة إلى الشام؛ كانوا يُعيبون عليه ويَطعنون فيه، وَيسبُّون سعيد بن العاص والي الكوفة، فكتب إلى عثمان رضوان الله عليه يَشكوهم، فكتب إليه: سَيِّرهم إلى الشام، فسيَّرهم؛ منهم: عُروةُ بن الجَعْد البارِقيّ، ومالك بن الحارث الأشْتَر، وجُندب بن زهير، وعمرو بن الحَمِق، وكُمَيل بن زياد، يزيد بن صُوحان، وابن الكَوّاء وغيرهم، فلما قَدموا على معاوية أكرمهم، وأنزلهم، وأحسنَ إليهم، وأجرى عليهم الضيافات ثم قارضهم فتَسمّحوا في عثمان رضوان الله عليه ونالوا من سعيد بن العاص، فقال: لا خيرَ فيكم، فنفاهم إلى حمص وكان بها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عاملًا من معاوية، فلما دخلوا عليه قال: لا مرحبًا ولا أهلًا، يا آلةَ الشَّيطان، الجوَّالين في الفتن، فنفاهم إلى فلسطين ثم عادوا إلى الكوفة، وهم أعيانُ أهل الكوفة. أما عُروة بن الجَعْد البارِقيّ فكان من الأشراف، وهو من الصّحابة، ورُوي الحديث عنه قال: عَرضَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - جَلَبٌ، فأعطاني دينارًا وقال: "أَي عُروة، ائت الجَلَبَ، فاشترِ لنا شاةً" فأتيتُ الجَلَبَ، فساومتُ صاحبَه، فاشتريتُ منه شاتَين بدينار، فجئتُ أسوقهما فلَقيني رجلٌ، فساوَمَني فأبيعُه شاةً بدينار، وجئتُ بالدينار والشاة، فقلتُ: يا رسول الله، هذا دينارُكم، وهذه شاتُكم، قال: "فكيف صنعتَ؟ " فحدَّثتُه الحديث فقال: "اللَّهمَّ بارك له في صَفقةِ يَمينه"، فلقد رأيتُني أقفُ بكُناسَةِ الكوفة، فأربح أربعين ألفًا قبل أن أَصِل إلى أهلي (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (19362).

وكان عُروة نزل الكوفة، ووَلي القضاءَ بها، ثم نزل المدائن، وانتقل إلى بَراز الرُّوز على مرحلة من النَّهْرَوان، وأقام بها مُرابطًا، وكان في داره سبعون فَرسًا مربوطةً للغَزاة في سبيل الله، منها فرسٌ واحد أخذه بعشرة آلاف دِرهم (¬1). وأمَّا جُندب بن زهير بن الحارث بن كَثير الأزديّ، يُقال إن له صُحبة، وكان على رجَّالةِ عليّ عليه السَّلام يومَ صِفّين، وقُتل معه (¬2). وفيها نفى عثمان رضوان الله عليه حُمران مولاه إلى البَصرة بسبب امرأةٍ تَزوَّجها في عِدَّتها، ففَرَّق بينهما وجَلده، فأقام بالبصرة، ثم عاد إلى المدينة. وفيها سَيَّر عثمان رضوان الله عليه عامر بنَ عبد الله ويُعرف بابن عبد القيس التَّميمي من البَصرة إلى الشام، وسببُه لما قَدم حُمران المدينة قدم معه قومٌ من أهل البصرة، فسَعَوا بعامر، وقالوا: لا يَرى التَّزويج، ولا يَأكلُ اللحم، ولا يَشهدُ الجمعة، فكتب عثمان رضوان الله عليه إلى عبد الله بن عامر أن يُسيِّرَه إلى الشام، فلما قدم على معاوية وافقه وبين يديه ثَريدةٌ في قَصْعة وعليها لَحم، فأكل معه أكلًا غريبًا، فعرف أن الرجل مَكذوب عليه، فأخبره بما قيل عنه، فقال عامر: أما اللحم فقد أكلتُ معك، وما امتنعتُ منه إلّا لأن الذَّبَّاحين بالبصرة ذبائحُهم مَيتة؛ لأنهم لا يذكرون اسمَ الله عليها، وأمَّا النكاح فلأني رجلٌ كبيرٌ لا طاقةَ لي بالنساء، وأمَّا الجمعة فإني أشهدُها في آخرهم، وأخرجُ في أولهم خوفَ الفتنة، فقال له معاوية: فارجع إلى بلدك، فقال: لا والله، لا أرجع إلى بلدٍ استحلَّ مني أهله ما استحلُّوا، ولكني أقيم بهذا البلد الذي اختاره الله لي، فكان يكون بالسَّواحل، وكان يلقاه معاوية فيقول له: هل من حاجة؟ فيقول: لا، فلما كثر عليه قال: تَردُّ عليَّ من حَرِّ البصرة لعل الصوم يشتدُّ علي شيئًا، فإنَّه يَخِفُّ في بلادكم. وفيها وُلد عليّ بن الحسين زين العابدين - رضي الله عنه -. وفيها خرج محمد بنُ أبي حُذَيفة إلى مصر، وكان رَبيبَ عثمان رضوان الله عليه، وخرج معه محمد بن أبي بكر فحرَّضا النَّاسَ على عثمان رضوان الله عليه، فكتب ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 285 و 8/ 156، وتاريخ بغداد 1/ 193. (¬2) تاريخ دمشق 4/ 34 (مخطوط)، والإصابة 1/ 248.

المقداد بن عمرو

عبد الله بن سعد إلى عثمان رضوان الله عليه يُخبره، فلم يُجِبْه بشيء وحج عثمان رضوان الله عليه بالنَّاس. فصل وفيها تُوفِّي. المقداد بنُ عَمرو ابن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثُمامة الكندي، ونسبه ابنُ سعد إلى بَهراء بن [عمرو بن] الحاف بن قُضاعة، وكُنيته أبو مَعبد، ويقال له: ابن الأسود؛ لأنَّه كان حالف الأسود بنَ عبد يَغوث بن وَهْب بن عبد مناف بن زُهرة في الجاهلية، فتبنّاه، وإنَّما قيل له الكِنديّ لأنَّ أباه حالف كِندة. وكان شجاعًا، آدم، ذا بطن، كثيرَ الشَّعر، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين الأوّلين، هاجر الهجرةَ الثَّانية إلى الحبشة، وشهد بدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. وكانت أمُّه عند الأسود بن عبد يَغوث في الجاهلية، فخلف عليها بعده ابنُه عمرو، ولم يكن ذلك عيبًا عندهم. وكان المقداد من الرُّماة المذكورين، ويُقال له: فارس الإسلام، واسمُ فرسه يوم بدر: سَبْحَة، وهو القائل يوم بدر: لو ضربتَ بُطونها إلى بَرْكِ الغِماد لتابعناك، وهو أولُ مَن عدا به فَرسُه في سبيل الله. وعن أنس أن المقداد خطب إلى رجلٍ من قريش، فأبى أن يُزوِّجه، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "ولكني أُزوّجك ضُباعة بنت الزُّبير بن عبد المطلب، جنتُ عمِّ رسول الله" فزوَّجه إياها، وأطعمه رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بخيبر خمسة وعشرين وَسْقًا [شعيرًا] طُعمةً، فاشتراها معاوية من أهله بمئة ألف درهم (¬1). ولما هاجر إلى المدينة نزل على كُلثوم بن الهِدْم، وآخى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين جَبار بن صَخْر. ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 3/ 149: خمسة عشر وسقًا.

قال أنس: بعث رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - المقدادَ على سَرِيَّة، فلما قدم قال له: "يا أبا مَعْبَد، كيف وجدتَ الإمارة؟ قال: كنتُ أُحْمَل وأُوضَع، حتَّى رأيتُ أن لي على القوم فَضْلًا، قال: "هو ذاك، فخُذْ أو دَعْ"، فقال: والذي بعثك بالحق، لا أتأمَّر على اثنين أبدًا. وشهد المقداد مع عمر رضوان الله عليه الجابية، وكان على ربع أهل اليمن، وخرج معه في خَرْجته التي رجع فيها من سَرْغ أميرًا على رُبْع اليمن. وشهد اليرموك، وهو القارئ لآيات الجهاد من سورة الأنفال؛ التي سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند لقاء العدو، وشهد فتحَ مصر، وغزا إفريقية مع عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح سنة سبعٍ وعشرين. وقالت كريمة بنت المقداد: أوصى المقداد لكلِّ واحدٍ من الحسن والحسين بثمانية عشر ألف درهم، وأوصى لكل واحدة من أزواج رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بسبعة آلاف درهم، فقبلوا وصيَّتَه. قال أبو فائد: مرض المقداد، فسُقي دُهنَ الخِرْوَعِ فمات، وكان بالجُرُف على ثلاثة أميالٍ من المدينة، فحُمل على أعناق الرجال، حتَّى دُفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان رضوان الله عليه، وهو ابنُ سبعين سنة أو نحوها، وجعل عثمان - رضي الله عنه - يُثني عليه بعد وفاته، فقال له الزبير - رضي الله عنه -: [من البسيط] لا أَلفيَنَّك بعد الموتِ تَنْدُبُني (¬1) وذلك لأنَّ عثمان رضوان الله عليه كان قَصَّرَ في حقّه. أسند المقداد - رضي الله عنه - الحديث عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، واختلفوا في عددها، والمشهور اثنان وأربعون حديثًا. روى عنه علي، وابن مسعود، وابن عباس، وطارق بن شهاب، والمستورد بن شداد، وسعيد بن العاص، والسائب بن يزيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجُبير بن نُفَير، وعبيد الله بن عدي بن الخِيار وغيرهم (¬2). ¬

_ (¬1) تمامه: وفي حياتي ما زَوَّدتني زادى. وهو لعبيد بن الأبرص، ديوان 63. (¬2) انظر في ترجمة المقداد: طبقات ابن سعد 3/ 148، والمعارف 262، والاستيعاب (2495)، وحلية الأولياء 1/ 172، والسير 1/ 385، والإصابة 3/ 454.

السنة الرابعة والثلاثون

السنة الرابعة والثلاثون فيها تكلم النَّاس في عثمان رضوان الله عليه مُجاهرةً، وطلبوا أن يُناظِروه على الأشياء التي نقموها عليه، منها: رَدُّ عمّه الحكم بن أبي العاصي إلى المدينة وإعطاؤه الأموال، وعزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة، وولايته إياها للوليد بن عُقبة، وتوليته إفريقية ومصر لعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإعطاؤه لمروان خمس إفريقية، ولتَسليطِه أحداثَ بني أميَّة على رقاب المسلمين، ونحو ذلك من الأحداث المتقدّمة. قال الزُّهريّ: لما وَلي عثمان عاش اثنتي عشرة سنة أميرًا، يعمل ستّ سنين لا يَنقم النَّاسُ عليه شيئًا، وإنه لأحبُّ إليهم من عمر بن الخطاب؛ لأنَّ عمر كان شديدًا عليهم، فلما وَليَهم عثمان وإن لهم ووَصَلهم، ثم توانى في أمرهم، واستعمل أقرباءه وأهلَ بيته في الستِّ الأواخر، وكتب لمروان بخُمس [إفريقية]، وأعطى أقرباءه المال، وتأوَّلَ في ذلك الصِّلَةَ التي أمر الله بها، واتَّخذ الأموال، واستسلف من بيت المال وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من المال ما هو لهما، وإني أخذتُه فقسمتُه في أقربائي، فأنكر النَّاسُ عليه ذلك. وقال البلاذري: لما وَلي عثمان رضوان الله عليه كره ولايتَه نفرٌ من الصّحابة لأنَّه كان يُحبُّ قومَه، وكان كثيرًا ما يُولّي بني أميَّة ممن لم يكن له مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - صُحبة، فكان يجيءُ من أُمرائه ما يُنكرُه الصّحابة، وكان يُستَعْتَبُ أفيهم، فلا يَعزِلُهم، فلما كان في الستّ سنين الأواخر استأثر ببني عمّه وأهله فولاهم، وقدم عليه أهلُ مصر يَتَظلّمون من عبد الله، فلم يرفع مَظالمهم. وكان من عثمان رضوان الله عليه قبل ذلك هَناتٌ إلى أبي ذرّ وابن مسعود وعمار - رضي الله عنهم -؛ فإنَّه غَرَّبهم، وكان في قلوب هُذيل وبني زُهرة وبني غِفار وبني مَخزوم لأجل هؤلاء ما فيها. وقدم عليه سبعُ مئةٍ من المِصريين يَتظلَّمون من عبد الله بن سعد، وما صنع في أوقات الصَّلاة وتأخيرها فلم يُنصفْهم، فدخل عليه طلحة - رضي الله عنه - فكلمه بكلام شديد، وأرسلت

إليه عائشة - رضي الله عنها - تأمُره أن يُنْصِفَهم، ودخل عليّ فنهاه وقال له: اعزِله عنهم، وأقده منهم، فقال: اختاروا رجلًا أَوَلّيه، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فكتب له عَهده، وبعث معهم جماعةً من المهاجرين والأنصار يَنظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح. ومن الأحداث المتجدّدة أنَّه قَدمت إبلُ الصَّدقة؛ نحو ثلاث مئة، فطلبها منه عمُّه الحكم فأعطاه إياها. وقَدم عليه بثلاث مئة ألف درهم من صدقات قُضاعة، فطلبها الحكمُ فأعطاه إياها. وحمى نَقيع الخَضمات لخيله، فأنكر عليه المسلمون. وبعث إليه أبو موسى من البصرة بألفِ درهم ففرّقها في أهله وأقربائه. وأقطع مروان فَدَكًا، وكانت صدقةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان في بيت المال سَفَطٌ فيه جَوهر وحُلي، فأخذ منه مروان ما حلّى به نساءه، فأنكر عليه المسلمون، فقام عثمان رضوان الله عليه على المنبر وقال: لَنأخُذَنَّ حاجتَنا من هذا المال وإن رَغمتْ أُنوف، فناداه علي رضوان الله عليه: إذا يُحال بينك وبين بيت مال المسلمين، وقال عمار: أشهد بالله أن أنفي أول راغم، فقال له عثمان: أعليَّ تَجترئ؟ وضربه، فقام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان عمار حليفًا لهم، فقال: يا عثمان، أمّا علي بن أبي طالب فاتقيتَه وبني أبيه، وأمَّا نحن فاجتَرأتَ علينا، وضربتَ أخانا أبا يَحْيَى حتَّى أشفيتَ به على التَّلف، أما والله لئن مات لأقتلنَّ به رجلًا قَبيح السِّيرة من بني أميَّة، فقال له عثمان رضوان الله عليه: وإنك ها هنا يا ابن القَسْرِيّة، فقال: يا عثمان، فإنهما قَسْرِيّتان. قوله هشام: هما قَسْرِيّتان، يشير إلى أم عثمان وجدَّته، فإنهما كانتا قَسْرِيّتَين من بَجيلة. وغضبت أم سلمة وعائشة - رضي الله عنهما - لذلك، واجتمع أعيانُ الصّحابة، منهم طلحة والزبير - رضي الله عنهما - وغيرهما، فكتبوا كتابًا، وعدَّدوا فيه أحداث عثمان، وأعلموه أنهم مُواثِبوه إن لم يُقلع عما هو عليه (¬1). وعثمان رضوان الله عليه أولُ خليفةٍ نُخل له الدقيق بمناخل الشّعر، ووُضع بين يديه ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف للبلاذري 2/ 275.

ذكر قيام الناس عليه

الحُملان الصِّغار، والدَّرْمَك والحلوى، وأول مَن لبس الثياب الطِّوال، والعمائم الكِبار، والسراويلات، وضُربت له الطُّبول والبُوقات، واتَّخذ الحُجَّاب والبَوّابين، وصفَّ بين يديه المُؤَذِّنين، وأول من فوَّض الزكاة إلى أربابها في الأموال الباطنة، إلى غير ذلك. ذكر قيام النَّاس عليه مرَّ عثمان رضوان الله عليه بجَبَلة بن عمرو السَّاعديّ وهو على باب داره، فناداه جَبَلة: يا نَعْثَل، والله لأحمِلَنَّك على قَلُوصٍ أجرب (¬1)، ولأُخرِجَنَّك إلى حَرَّة النَّار، ثم أتاه يومًا آخر بجامعةٍ وهو على المنبر فقال: والله لتَنزِعَنَّ عن بِطانتِك من آل أبي مُعَيط أو لأَطرَحَنَّها في عُنُقك، ويحك يا نَعْثَل، أطعمتَ أسواقَ المدينة بُنيّ الحكم الملعون، طَريد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، يَشتري الجَلَبَ ويَبيعُه، ويجيءُ مَقاعد المتسوِّقين، وكان عثمان رضوان الله عليه قد أقطع الحارث بنَ الحكم في سوق المدينة مكانًا يُقال له: مَهْزور، وكان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - تَصدَّق به على المسلمين. وجَبَلة أولُ من اجترأ على عثمان رضوان الله عليه، وكان في مَنَعَةٍ من قومه وساعده المسلمون، واجتمع النَّاس إلى عامر بن عبد قيس، وكلَّموه ليدخلَ على عثمان رضوان الله عليه، فيُعَدِّد عليه أحْداثَه، ويُناظِره فيما نَقَموا عليه، فدخل وقال: إن ناسًا من المسلمين قد اجتمعوا ونَظروا في أعمالك، فوَجَدوك قد ركبتَ أمورًا عِظامًا، فاتَقِ الله، وتُبْ إليه، وانزع عنها. فقال عثمان رضوان الله عليه: انظروا إلى هذا، يَزعم أنَّه قارئ، ثم يُكلّمني في المحقرات، فوالله ما يَدري أين الله، فقال له عامر: والله إنني لأدري أين الله، إنه لك لبالمرصاد. ولما رأى عثمان رضوان الله عليه ضَجيجَ النَّاس عليه كتب إلى أُمرائه فاستَقدمهم، فقَدم عليه معاوية من الشام، وابن أبي سَرْح من مصر، وسعيد بن العاص من الكوفة، وعبد الله بن عامر من البصرة، ودعا بعمرو بن العاص، فلما اجتمعوا عنده قال لهم: ¬

_ (¬1) في الطبري 4/ 365: جرباء. والقلوص: الناقة الشابة، وهي مؤنثة.

إن لكلِّ أميرٍ وُزراء، وقد طلبوا مني عَزْل عُمّالي، والرّجوع عما يكرهون إلى ما يُحبُّون، فأشيروا عليّ. فقال له ابنُ عامر: أرى أنك تَأمُرُهم بالجهاد لتَشغَلَهم عنك، وقد نَقَموا عليك مَنعَ المال، فأعطهم إياه، فقال سعيد بن العاص: إن كنتَ على رأينا فاحسم عنك الداء، [واعمل برأيي تُصِبْ] قال: وما هو؟ قال: لكلّ قومٍ قادة، فمتى يَهلكوا تفرّقوا، فلم يجتمع لهم رأي ولا أمر. وقال معاوية: أرى أن تَخرج إلى الشام، فقال: لا أخرج من مُهاجَر رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وجِواره، قال: فأبعثُ إليك جيشًا يُقيم عندك، قال: لا أكون أول مَن وَطِئ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنصارَه بجيش. وقال ابن أبي سَرْح: اشْغَلِ القوم بالعَطاء تَستعطِفْ قلوبَهم. وقال عمرو بن العاص: إنك قد ركبتَ النَّاس بما يكرهون، فإما اعتدَلْتَ وإما اعتزلتَ، فقال له: قد قَمِلَ فَرْوُك، يعني من عَزْلِه إياه عن مصر، فقال له عَمرو: ستَعلم، فردّ عثمان رضوان الله عليه عُمَّاله إلى أمصارهم على تَجمِير النَّاس في البُعوث، وقيل رَدَّهم على غير شيء. قال أبو اليَقظان: لما اجتمع عند عثمان رضوان الله عليه عُمَّالُه هؤلاء اتفقوا على نَفْيِ المشنِّعين عليه في الأمصار، وتَجميرهم في البعوث، ومنع أعطيتهم، والتَّضييق عليهم. وكان الأشتَر ورؤساءُ الكوفة قد قدِموا على عثمان رضوان الله عليه يَشكون سعيد بنَ العاص، وسألوه عَزلَه عنهم فامتنع، وكان الأشتر حينئذ بالمدينة، فجاء هو وأصحابُه إلى طلحة والزبير - رضي الله عنهما-، وكان عندهما عمرو بنُ العاص وقد حضر المشورة، فقال له الأشتر: ما وراءه؟ فقال: ما ترك شيئًا من الشرِّ إلَّا وأمر به أمراءه، إنه قد أمرهم بتَجميركم في البُعوث، ومَنعِ أعطيتكم، والتّضييق عليكم، فقال الأشتر: لو كان معي نَفَقة لسبقتُ سعيد بنَ العاص إلى الكوفة، فمنعتُه من دُخولها، فأقرضه طلحة مئةَ ألف درهم، والزبير كذلك، فقسم المال في أصحابه، وسبق سعيدًا إلى الكوفة، فصعد المنبر وقال: إن عاملكم الذي شكوتُم سُوءَ سيرته قد رُدَّ إليكم، وقد اتَّفق عثمان وعُمَّالُه

على كذا وكذا، فبايعوني على أن لا يَدخُلها ابنُ العاص، فبايعه منهم عشرةُ آلاف. وخرج سعيد من المدينة طالبًا الكوفة، فخرجوا إليه فرَدُّوه، وقالوا: والله لا وليتَنا ما حَملْنا سيوفَنَا، وتقدَّمهم الأشتر وقد تَقلد سيفَه، وعلى وجهه الغُبار وهو يقول: والله لا يَدخلها علينا، وقتلوا غُلامَه، ونهبوا مَتاعَه، وكاد يُقتل، فرجع إلى عثمان رضوان الله عليه خائفًا طريدًا، فشقَّ ذلك على عثمان رضوان الله عليه. ولما عاد سعيد إلى المدينة قال عثمان رضوان الله عليه: ليت شِعري ما يُريدون؟ قال سعيد: الاستبدال، وكتب أهل الكوفة إلى عثمان رضوان الله عليه: إنّا ما مَنَعْنا عاملَك دخولَ مِصرنا مُخالفةً لك؛ وإنَّما مَنعناه لسُوءِ سِيرته، فابعَثْ إلى عملك مَن تُريد، فكتب إليهم: اختاروا، فاختاروا أبا موسى وقالوا: إنه كان عامِلَنا في أيَّام عمر، فبعث به إليهم. وقال: لما قدم أبو موسى الكوفة خطب وقال: أيها النَّاس، لا تعودوا لمثلها، وعليكم بالطّاعة، ولُزوم الجماعة، وإياكم والعَجلة فإنَّها من الشَّيطان. ولما دخلت سنةُ أربع وثلاثين كتب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضُهم إلى بعض: إن أردْتُم الجهادَ الأكبر فاقدموا علينا فإنَّه عندنا، فإن عثمان قد بدَّل وغيَّر. وكثر النَّاس على عثمان رضوان الله عليه، ونالوا منه أقبحَ مَنال، والصحابةُ يَرون ويَسمعون، وليس أحدٌ منهم يَنهى عن ذلك، إلَّا نفرٌ منهم زيد بن ثابت، وأبو أسَيد السَّاعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فاجتمع النَّاس إلى علي رضوان الله عليه، فسألوه أن يُكلِّمَه، فدخل عليه فقال له: النَّاسُ قد كثروا عليك، وإنهم ورائي، ووالله ما أدري ما أقول، وما أعرفُ شيئًا تَجهلُه، ولا أدُلُّك على أمر [لا] تَعرِفُه، وقد صَحِبتَ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ونِلتَ صِهرَه، وما ابنُ أبي قُحافة وابن الخطاب بأولى بعملِ الحقِّ منك، وأنت أقرب إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - رَحِمًا منهما، ونلتَ من صهره ما لم يَنالا، وما سَبَقاك إلى شيءٍ، فاللهَ اللهَ في نفسك، فإنَّك لا تُبصَّر من عَمَى، ولا تُعلَّم من جَهل، وإن الطَّريق لَوَاضِحٌ، وإن أعلامَ الدِّين لَقَائمةٌ، وأفضلُ عباد الله عند الله إمامٌ عادل؛ أقام سُنَّة وأمات بِدعة، وإن شرَّ النَّاس عند الله إمام جائر، أمات سُنَّة وأحيا بِدعة. فقال له عثمان رضوان الله عليه: قد والله كنتُ أظنّ أنك لَتَقولَنَّ ما قُلتَ، ولو كنتَ

مكاني لما عَنَّفتُك ولا عِبتُ عليك، ثم قال: أَنشُدُك الله، هل تعلم أن عُمر وَلّى المغيرة بنَ شُعبة البَصرة وليس هناك؟ قال: نعم، قال: فلِمَ أُلام أن وَلَّيتُ ابنَ عامر في شرفه وجُوده وقرابته؟ فقال عليّ رضوان الله عليه: إن عُمر كان إذا ولى واليًا فإنما يطأُ على صِماخِه إنْ بَلَغه عنه [حرف] وأنت لا تَفعلُ ذلك رِقَّة على أقربائك. فقال عثمان رضوان الله عليه: ألست تَعلم أن عُمر وَلّى مُعاويةَ الشامَ خلافتَه كلّها؟ قال: نعم، [قال علي: ] ألستَ تعلم أن مُعاوية كان أخوفَ لعمر من غُلامه يَرفَأ؟ قال: نعم، قال: فإن مُعاوية يَقتَطِع الأمورَ دونك، وَيبلُغُك فلا تُغَيِّر عليه ولا تُنكره، ويقول النَّاس: هذا أمرُ عثمان. ثم قام عليّ رضوان الله عليه فخرج، وقام عثمان رضوان الله عليه فصَعِد المنبر وقال: إن لكلِّ شيءٍ آفة، وإن لكلِّ أمرٍ عاهة، وإن افةَ هذه الأمة عَيَّابون طَعَّانون، يُرونكم ما تُحبّون، ويُسِرُّون عنكم ما تكرهون، ألا وإنكم عِبْتُم عليَّ ما أقررتُم ابنَ الخطاب على مِثله، وإني أعزُّ ناصرًا منه، وأكثرُ عَددًا، وأمنعُ عَشيرةً، ولكنه وَطِئكم برِجله، وضربكم بيده، وقَمعَكم بلسانه، فَدِنْتُم له على ما أحبَبْتُم وكَرِهتُم، ووَليتُكم فأوْطَأتكم كَنَفي، وكفَفْتُ يدي ولساني عنكم فاجترأتُم عليّ، فإن كنتُ إمامًا فلِمَ يُعتَرضُ عليّ، أفعلُ ما أُريد في المال وغيره، فكُفّوا عني ألسنتنكم وطَعنكم على وُلاتكم. فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتُم حَكَّمْنا بيننا وبينكم السيف، ونحن وإياكم كما قال القائل: [من الطَّويل] فَرَشْنا لكم أَعْراضَنا فنَبَتْ بكم ... مَعارِسُكم تَبْنُون في دِمَنِ الثَّرى فقال له عثمان رضوان الله عليه: اسكُت لا سكتَّ، دَعني وأصحابي، ما كلامُك في هذا، ألم أتقدَّمْ إليك أنك لا تَنطق بحَرف، فسكت مروان، ونزل عثمان رضوان الله عليه. وحجّ عثمان رضوان الله عليه في هذه السنة، وحجّ معه أزواجُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -كما فعل عمر رضوان الله عليه، وجعل في مُقدّمة القطار عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما-، وفي مؤخرته سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، وهي آخر حجَّة حَجّها عثمان رضوان الله عليه.

أبو طلحة

فصل وفيها تُوفّي. أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرَام بن عمرو بن زيد مناة بن عديّ بن عمرو بن مالك بن النّجار الأنصاري، وأمُّه عُبادة بنت مالك بن عديّ، نَجَّارية أيضًا. وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العَقَبة مع السّبعين، وبدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وآخى بينه وبين الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي. وكان راميًا، ورمى يومَ أُحد بين يدي رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - خلفَه، وهو يقول له: بأبي أنت وأمي، لا يُصيبُك سَهم، نَحري دون نَحرك، وثبت معه يومئذٍ، ووقاه بنفسه. وكان صَيِّتًا، قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لَصوتُ أبي طَلحة في الجيش أشدُّ على الكفّار من فئة". وكان فارسًا راميًا، ويَخْطُر (¬1)، ويقول: [من الرجز] أنا أبو طلحةَ واسمي زَيدُ ... وكلّ يومٍ في سلاحي صَيدُ وهو أولُ من أُنزل عليه النُّعاس يوم أحد، فسقط السيفُ من يده مِرارًا. قال أنس: لما حلق رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - رأسَه في حِجَّته بدأ بشِقّه الأيمن، وقال هكذا، فوَزّعه بين النَّاس، فأصابهم الشعرةُ والشعرتان وأقلّ من ذلك وأكثر، ثم قال بشِقِّه الآخر كذا، وقال: "أين أبو طلحة"، فدفعه إليه، الحديث. وقال أنس: قتل أبو طلحة يوم حُنَين عشرين رجلًا، ولم يُفطر بعد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إلَّا في مَرضٍ أو سَفَر حتَّى لَقي الله تعالى. ومات بالمدينة في سنة أربع وثلاثين، وصلّى عليه عثمان رضوان الله عليه، وهو يومئذٍ ابنُ سبعين سنة، ودُفن بالبقيع، وقيل: مات بالشام سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: مات بالبحر غازيًا. ¬

_ (¬1) أي: يتبختر.

سويد بن شعبة

وقيل: قرأ أبو طلحة {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} الآية [التوبة: 41] فقال: أرى ربّي يَستنفِرُنا شُيوخًا وشُبّانًا، جَهزوني أي بَنيَّ، فقالوا: قد غزوتَ مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، ونحن نغزو عنك، فقال: جَهِّزوني فجهزوه، فمات في البحر، فلم يجدوا جزيرةً إلَّا بعد سبعةِ أيَّام، فدفنوه بها ولم يَتغيَّر - رضي الله عنه -. وكان له من الولد: عبد الله وأبو عُمَير، أمّهما أمُّ سُلَيم بنت مِلْحان، وأبو عمير هو الذي قال له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أبا عمير ما فعل النُّغَيْر". وعبد الله وُلد على عهد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وحَنّكه بيده، استُشهد بفارس. أسند أبو طلحة - رضي الله عنه - الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). سُوَيد بن شُعبة اليَربوعي التَّميمي، من الطبقة الأولى من التّابعين المجتهدين، من أصحاب الخِطَط الذين اختطُّوا بالكوفة في أيَّام عمر رضوان الله عليه، ولم يُروَ عنه شيءٌ. روى أبو حيان التَّيميُّ عن أبيه قال: دخلتُ على سويد بن شُعبة وعليه ثوب، فلولا أني سمعتُ امرأتَه تقول: أهلي فِداؤك، ما نُطعمك، ما نَسقيك؟ ما شعرت أنّ تحت الثوب شيئًا، وكان قد ضَني على فِراشه، فقال: يا أخي، دَبِرت الحَراقِفُ والصُّلْب، فما من ضَجعَةٍ غير ما ترى، وكان مُتكئًا على وَجهه، قال: والله ما أحبُّ أني نُقصتُ منه قُلامَةَ ظُفْر (¬2). عُبادة بن الصَّامت ابن قيس بن أصْرَم بن فِهر بن ثعلبة بن غَنْم بن عَوف بن عمرو بن عَوف بن الخَزْرج الأنصاري، من الطبقة الأولى من القَواقِلة، وكَناه النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أبا الوليد، وأمُّه قُرَّة العَين ¬

_ (¬1) انظر ترجمة أبي طلحة في: طبقات ابن سعد 3/ 468، والاستيعاب (3029)، وتاريخ دمشق 6/ 608 (مخطوط)، والمنتظم 5/ 46، والاستبصار 49، والسير 2/ 27، والإصابة 1/ 566. (¬2) الزهد لابن المبارك (463)، وطبقات ابن سعد 8/ 280 وفيهما: سويد بن مثعبة، والزهد لأحمد 429، والصبر لابن أبي الدُّنيا (178) و (185)، والمنتظم 5/ 46 - 47، وصفة الصفوة 3/ 42. وانظر التاريخ الكبير للبخاري 4/ 143.

بنت عُبادة بن نَضْلة بن مالك خزرجية، وأمها عميرة بنت ثعلبة بن سنان خزرجيّة. تزوج قُرَّةَ العين الصامت، فولدت له عُبادة وأُويسًا ابنَيْ الصَّامت، أسلمت قُرَّة وبايعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. شهد عُبادة العَقَبة مع السبعين، وبدرًا وأحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحدُ النُّقَباء الاثني عشر. وكان طُوالًا حسنًا جميلًا، وآخى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مَرْثَد الغَنَوي، وكان قد بايع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أن لا تأخُذَه في الله لومَةُ لائم. ذكر معاويةُ الطاعون في خطبته فحذَّر منه، فقال له عُبادة: أمُّك هند أعلمُ منك، فلما نزل معاوية أرسل إليه فجاء، فقال: أما استَحْييت إمامك؟ فقال: أليس قد علمتَ أني بايعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ليلة] العَقَبة أني لا أخافُ في الله لَومةَ لائم؟ ثم خرج معاوية فقال: أيها النَّاس، إنِّي حدَّثتُكم حديثًا، ثم دخلتُ البيت فإذا الحديثُ كما حدثَني عبادة، فاقتبسوا منه فإنَّه أفقَهُ مني. وأنكر عبادة على معاوية شيئًا فقال: لا أُساكِنُك بأرض، فرحل عبادة إلى المدينة، فرآه عمر رضوان الله عليه فقال: ما أقدمك؟ فأخبره فقال: ارجع إلى مكانك، فقبَّح الله أرضًا لست فيها وأمثالك، ارجع فلا إمرةَ لمعاوية عليك، فرجع. وكان ممَّا أنكر على معاوية أن بعض الخطباء مدحه، فقام عبادة فحثى في وَجهه التُّراب، فغضب معاوية، فقال له عُبادة: أما سمعتَ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "احثوا في وُجوه المدَّاحِين التُّراب". وجرى بينه وبين معاوية كلامٌ، فقال له: يا معاوية، أنت والله أحقَرُ في عيني من أن أخافَك في الله تعالى. ولما أكثر النَّاسُ على عثمان رضوان الله عليه قال عُبادة: والله لا أقمتُ بهذا البلد، فخرج من المدينة ولحق بالساحل، فأقام بعَسْقلان حتَّى جرى في أمر عثمان رضوان الله عليه ما جرى. وفيه نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآية

[المائدة: 51] وذلك [لما حاربت بنو قَينُقاع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - تشبَّث عبد الله بن أُبيّ وقام دونهم، فمشى عبادة بن الصَّامت إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حِلْفهم] (¬1)، فنزلت هذه الآية. شهد عُبادة فتح مصر، وكان أميرًا على رُبع المدَد، وكان ممن جمع القرآن على عهد النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -. واختلفوا في وفاته، فقيل: مات بالرَّمْلَة سنةَ أربع وثلاثين، وهو ابنُ اثنتين وسبعين سنة وله عَقِب، وقيل: تُوفّي في خلافة معاوية بالشام. قال عبد الحميد بن يزيد الجُذامي: شهدتُ جنازة ببيت المقدس مع رجاء بن حَيوة، فقال لي: يا أبا عَمرو، ها هنا قبرُ أخيك عُبادة بن الصَّامت، إلى جانب الحائط الشرقي. وكان له من الولد: الوليد، وأمه جَميلة بنت أبي صَعصعة، ومحمد، وأمّه أم حرام بنت مِلْحان الأنصارية، وكان له عُبيد الله وداود وأمّ محمد، والكلّ من أمِّ حرام. دخل معاوية المدينةَ حاجًّا فلم يَخرجوا للقائه، فلقي بعض الأنصار فقال: أين نَواضِحُكم هلا لَقيتموني عليها؟ فقال له [أبو] الوليد عُبادة (¬2): أنضيناها في طلب أبيك يوم بدر. أسند عبادة عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مئةً وثمانين حديثًا، فمن مسانيده: عن عبادة بن الصَّامت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأبدال في هذه الأُمَّة ثلاثون مثلُ إبراهيم الخليل، كما مات رجلٌ أبدل الله مكانه رجلًا" (¬3). روى عن عبادة أنس بن مالك، وأبو أُمامة الباهِليّ، ومحمود بن الرَّبيع وغيرهم، ومن التّابعين أبو مسلم وأبو إدريس الخولانيّان، وخالد بن مَعدان، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعُبيد الله وداود والوليد بنو عُبادة. ¬

_ (¬1) في (خ): وذلك لأنَّ عبد الله بن أبي لما قام بأمر بني قينقاع من خلفهم فنزلت؟ ! والمثبت من تاريخ دمشق (عبادة بن أوفى- عبد الله بن ثوب) 20 - 21. (¬2) في (خ): الوليد بن عبادة، والمثبت من تاريخ دمشق 29. (¬3) أخرجه أحمد (22751) وهو خبر منكر، وإسناده ضعيف.

أبو عبس بن جبر

وأخوه أوس بن الصّامت لأبيه وأمه، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وأدرك زمنَ عثمان رضوان الله عليه، وهو الذي ظاهر من امرأته خَولة بنت مالك، وهي المجادلة التي نَزل فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]، وهو أول ظهار كان في الإسلام. وكان لأوس ولد اسمه الرَّبيع بن أوس من خولة (¬1). أبو عبس بن جبر ابن عمرو بن زيد بن جُشَم بن حارثة الأنصاري، واسمه عبد الرحمن وقيل عبد الله، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه ليلى بنت رافع حارثية. وكان يكتب بالعربية في الجاهلية، وكان هو وأبو بُردة الأسلمي يَكسران أصنامَ بني حارثة. شهد أبو عبس بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وآخى بينه وبين خُنَيس بن حُذافة السهمي زوجِ حفصة بنت عمر رضوان الله عليها. وكان في الذين قتلوا كعب بن الأشرف، وكان يَخضِب بالحِنَّاء، ويبعثه عمر وعثمان رضوان الله عليهما على الصدقات. وتوفي بالمدينة في هذه السنة وهو ابن سبعين سنة، وصلّى عليه عثمان رضوان الله عليه ودُفن بالبقيع، ونزل في قبره أبو بُرْدَة بن نيار، وقتادة بن النُّعمان، ومحمد بن مَسْلَمة، وسلمة بن سَلامة بن وَقْش، وكلُّهم شهد بدرًا، وله صحبة ورواية. وكان له من الولد محمد ومحمود، أمهما أم عيسى بنت مَسلمة، أخت محمد ومحمود ابنَي مَسلمة لأبيها وأمها، أسلمتْ وبايعَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعُبيد الله بن أبي عَبْس، أمُّه أمُّ الحارث بنت محمد بن مَسْلمة، وزيد وحُميدة، ولأبي عَبْس عَقِب كثير بالمدينة وبغداد (¬2). ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة عبادة وأخيه: طبقات ابن سعد 3/ 506، 573 و 9/ 391، والمعارف 255، وتاريخ دمشق (عبادة بن أوفى- عبد الله بن ثوب) ص 5 فما بعدها، والمنتظم 5/ 47، والاستيعاب (1674) و (54)، والاستبصار 188 - 191، والسير 2/ 5، والإصابة 2/ 268 و 1/ 85، وتهذيب الكمال وفروعه. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 415، والمعارف 326، والاستيعاب (3038)، والمنتظم 5/ 47، والاستبصار =

عوف بن أثاثة

عوف بن أُثاثَة ابن عُبادة (¬1) بن المطلب بن عبد مناف، ويُلقّب مِسطَحًا، كنيته أبو عبَّاد، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين. شهد بدرًا وأُحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وآخى بينه وبين زيد بن المزَيَّن، وأطعمه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - خمسين وَسْقًا [بخيبر]، وهاجر مع عَبيدة بن الحارث. وكانت أمُّه بنت أبي رُهْم بن المطّلب بن عبد مَناف، ابنة خالة أبي بكر الصِّديق رضوان الله عليه، وكانت من المبايعات، وهي التي كانت تقوم بأمر عائشة - رضي الله عنها -. وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يُنفق على مِسْطَح حتَّى تكلّم في الإفك، فقطع عنه نفقتَه ثم أعادها، وأمُّ مِسْطَح التي أخبرت عائشة رضوان الله عليها بقول أهلِ الإفك، وكان من أشدّ النَّاس مِسْطَح حين تكلم في عائشة. وتُوفّي مِسطَح سنة أربع وثلاثين بالمدينة، وهو ابن ست وخمسين سنة، وقيل سنة سبع وثلاثين، وقيل إنه شهد صِفّين، والأوّل أصحّ، وليس له رواية رحمة الله عليه، وأخته لأبويه هند بنت أُثاثَة، كانت تَمدح رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - (¬2). كلثوم بن حُصَين أبو رُهْم الغِفاري، أسلم بعد قُدوم رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - المدينة، وشهد معه أُحدًا، فرُمي يومئذٍ بسَهم في نَحْره، فجاء إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فبصَق عليه، فكان يُسمّى المنحور. قال محمد بن عُمر: بينا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يسير من الطائف إلى الجِعرانة، وأبو رُهْم إلى جنبه على ناقةٍ له، وفي قَدَمَيه نَعلان غَليظان، ازدحمت ناقتُه مع ناقة رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، قال أبو رُهْم: فوقع حَرْفُ نَعْلِي على ساقه فأوجَعه، فقال: "أوجَعْتَني، أخِّر رجلَك"، ثم قَرع رجلي بالسَّوط، فأخذني ما قَدُم وما حَدث، وخشيتُ أن يَنزل فيَّ ¬

_ = 337، والسير 1/ 188، والإصابة 4/ 130. (¬1) كذا في (خ) والمنتظم 5/ 48، وفي المصادر: عوف بن أثاثة بن عَبَّاد. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 50، ونسب قريش 95، والمعارف 328، والاستيعاب (1945)، والمنتظم 5/ 48، والتبيين 232، والسير 1/ 187، والإصابة 4/ 41.

قرآن، فلما أصبحنا بالجِعرانة خرجتُ أرعى الظَهر وما هو يَومي، فَرَقًا أن يأتي لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - رسولٌ يَطلُبني، فلما رَوَّحتُ الرّكاب سألتُ فقالوا: طَلبَك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فجئتُه وأنا أرتَقِب، فقال: "إنني قَرَعْتُك بالسَّوط فأوجَعتُك، فخُذْ هذه الغنم عوضًا من ضربتي" قال: فرِضاه عني كان أحب إليَّ من الدُّنيا وما فيها. وبعثه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إلي قومه يَستنفِرهم إلى تبوك. ولكلثوم بن الحُصين رواية (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في (خ): ولكلثوم بن الحصين وحبات عليه رواية؟ ! وانظر في ترجمته مغازي الواقدي 3/ 939، وطبقات ابن سعد 4/ 229، والاستيعاب (2208)، والمنتظم 5/ 48.

السنة الخامسة والثلاثون

السنة الخامسة والثلاثون وفيها قُتل عثمان - رضي الله عنه -، وحجَّ بالنَّاس عبد الله بن عباس، وولي أمير المؤمنين علي عليه السَّلام الخلافة، وسنذكر سيرة عثمان في ترجمته إن شاء الله تعالى. فصل في ذكر خلافته وكُنيته أبو الحسن وأبو تُراب؛ قال البُخاريّ بإسناده عن سهل بن سعد وجاءه رجل فقال: هذا فلان عند المِنبر يَذكر عليَّ بن أبي طالب أو يَسبُّه، قال: وماذا يقول؟ قال: يقول: أبو تُراب، فغضب سهل وقال: والله ما كَناه به إلّا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وما كان اسمٌ أحبَّ إليه منه؛ دخل علي يومًا على فاطمة، فأغضبتْه في شيء فخرج إلى المسجد، فنام على التُّراب، فخَلَص إلى ظَهره، فجاءه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فمسح التّراب عن ظهره وقال له: "اجلس أبا تُراب" قالها مرتين. متّفق عليه (¬1). وقد أخرجه الحُميدي وفيه: فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتَ فاطمة وقال: "أين ابنُ عمّك؟ " فقالت: كان بيني وبينه شيءٌ، فغاضبني وخرج إلى المسجد، ولم يَقِل عندي، فخرج إليه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وهو مُضطجِعٌ على التّراب فجعل يقول: "قم أبا تراب" (¬2). وفي نسخة الحميديّ أيضًا عن سهل وفيه: استُعمل رجلٌ من آل مروان على المدينة فقال: لعن الله أبا تُراب، أو يلعن عليًّا، فقال سهل بن سعد، وذكره. وأخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: دخل سعد بن أبي وَقّاص على معاوية فقال له: ما مَنَعك أن تَسُبَّ أبا تُراب (¬3)، وسنذكر الحديث. قال الحميدي: كان بنو أميَّة يَعيبون عليًّا بهذا، قال سهل: ووالله ما كَناه به إلَّا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. وقيل: إن الذي سَبَّه مروان بن الحكم. ¬

_ (¬1) صحيح البُخاريّ (3703)، وصحيح مسلم (2409). (¬2) الجمع بين الصحيحين (916). (¬3) صحيح مسلم (2404) (32).

وقال هشام: كان يُكنى أبا قَصْم، وذكره جدِّي في "التّلقيح" (¬1) ولم يُفسِّره، وقال الفراء: القَصْم: الكَسْر، وكان عليّ يَكسرُ أعداءَ الله ورسولِه ويُبيدُهم. وقال الواقدي: لما وضعته أمّه سمَّته باسم أبيها أسدًا، وكان أبوه غائبًا، فلما قَدم سمَّاه عليًّا. وقال ابنُ الكلبي: لما وضَعتْه أمُّه سَقَته حَيدرة، وهو من أسامي الأسد، وسُمِّي به لغِلَظِ عُنُقه وذراعيه، وهذه من أوصاف عليّ، قال: والدّليل عليه أنَّه ارتَجز يومَ خيبر: أنا الذي سَمَّتْني أُمّي حَيدَرَهْ (¬2) ثم سمَّاه أبوه عليًّا. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وقد ذكرناها. ذكر صفته: قال ابن سعد: حدَّثنا يزيد بن هارون قال: حدَّثنا إسماعيل بن [أبي] خالد، عن الشعبي قال: رأيتُ عليًّا عليه السَّلام، وكان عريضَ اللحية قد أخذت ما بين مَنْكِبَيه، أصلع، على رأسه زُغَيبات. قال: وقال أبو إسحاق: رأيت عليًّا أبيضَ الرّأس واللّحية، أصلع أجْلَح. وروى ابن سعد عن أبي جعفر محمد بن علي، وسُئل عن صفة علي، فقال: كان آدم شديدَ الأُدمة، عظيمَ العينين، ليس بالطويل ولا بالقصير، عظيمَ اللحية، أصلع، أبيضَ الرأس واللحية، ذا بَطن. لم يَصفه بالخضاب سوى سَوادة بن حَنظلة فإنَّه قال: رأيتُه خَضَب. وقال ابن سعد: قال سَوادة بن حَنْظلة القُشَيري: رأيت عليًّا أصفَرَ اللحية. وروى ابن سعد أيضًا عن محمد ابن الحَنَفيّة قال: خضب عليّ بالحنّاء مرةً ثم ترك (¬3). وسنذكر ما يتعلَّق به في سنة أربعين إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ص 110. (¬2) غريب الحديث لابن قتيبة 1/ 350، وانظر تاريخ دمشق 12/ 118 (مخطوط). (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 23 - 25.

ذكر خلافته: اتّفق علماءُ السِّيَر على أنَّه وَلي الخلافة في ذي الحجَّة سنةَ خمسٍ وثلاثين في الأصح، وإنَّما اختلفوا في أيِّ يوم بُويع فيه على أقوال؛ أحدها: يوم الجمعة لخمسٍ بقين من ذي الحِجَّة، قاله ابن الكلبي، وحكاه الطبري عن سيف بن عمر عن أشياخه. والثاني: يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، رواه أبو بكر بن أبي الدُّنيا عن أشياخه. والثالث: يوم السبت صَبيحةَ اليوم الذي قتل فيه عثمان، قاله الواقدي. والرابع: يوم الأحد لثلاث عشرة أو ثمان عشرة بقين من ذي الحجة. والأصح ما ذكره الواقدي، فإن ابن سعد قال في "الطبقات" (¬1): قُتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشرة ليلةً من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وبُويع لعلي في الغد من اليوم الذي قُتل فيه عثمان. وروى سيف عن أشياخه: محمد بن عبد الله بن سَواد، وطلحة بن الأعلم، وأبو حارثة قالوا: بقيت المدينةُ شاغِرةً خمسةَ أيَّام من إمام، وأميرُها الغافقي بن حرب، وهم يلتمسون مَن يُجيبُهم إلى القيام بالأمر فلا يَجدونه، فأتى المصريون عليًّا، فاختبأ منهم، وخرج إلى ظاهر المدينة، ولاذ بحيطانها، وتبرَّأ منهم، وتبعه المصريّون فلم يَقدروا عليه. وطلب الكوفيون الزّبير فتباعد منهم، وطلب البصريّون طلحة فتبرَّأ منهم، فعدلوا عن الثلاثة، وبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص وقالوا: أنت من أهل الشُّورى، فأقبلْ نُبايعك، فرأيُنا قد اجتمع عليك، فبعث إليهم: قد خرجتُ أنا وابنُ عمي منها فلا حاجة لي فيها، ثم تمثَّل وقال: [من البسيط] لا تخلِطنَّ خبيثاتٍ بطيِّبةٍ ... واخلع ثيابَك منها وانجُ عُريانا قال سيف: ولما عرضوها على طلحة قال: [من الطَّويل] ومن عَجَبِ الأيَّام والدهرِ أنني ... بَقيتُ وحيدًا لا أُمِرُّ ولا أُحلي ¬

_ (¬1) 3/ 29، وانظر الأخبار السابقة في تاريخ الطبري 4/ 415 - 418، والمنتظم 5/ 65 - 66، وتاريخ بغداد 1/ 135.

فتركوه وقالوا: إنك لتُوعِدنا، ثم لقوا الزُّبير فعرضوها عليه فأنشد: [من الطَّويل] متى أنت عن دار بفَيحانَ راحلٌ ... وباحتِها تَخنو عليك الكتائبُ فقالوا: إنك لتُوعِدنا، فلقوا عليًّا، فعرضوها عليه فتمثل: [من الطَّويل] ولو أن قومي طاوَعَتْني سَراتُهم ... أمرتُهمُ أمرًا يُديخُ الأعاديا فقالوا: إنك تُوعدنا، ووالله لئن لم تفعل لنُلحقَنَّك بعثمان. وقال سيف: لَقوا عبد الله بن عمر فعرضوها عليه، فقال: إن لهذا الأمر انتقاضًا، فالتمسوا غيري، فبقوا حيارى لا يَدرون ما يَصنعون، فقالوا: يا أهل المدينة، قد أجَّلناكم يومَكم هذا، فوالله لئن لم تتَفقوا اليوم على أحدٍ لنقتُلَنَّ عليًّا وطلحة والزبير وأُناسًا كثيرًا، فأقبل النَّاسُ على عليٍّ وقالوا: قد ترى ما نزل بالإسلام، فهلُمَّ لنُبايعك، فامتنع. وقال الطبري (¬1): اجتمعت الصحابةُ إلى علي، وسألوه أن يَليَ أمرَهم، فأبى وقال: لأنَّ أكونَ وزيرًا خيرٌ من أن أكونَ أميرًا، ولا حاجةَ لي في أمركم، أنا معكم، مَن اخترتُم رضيتُ به، ثم دخل حائط عمرو بن مَبْذول، وأغلق الباب، فتسوَّروا عليه الحائط، وبايعوه وقالوا: لا نُريد سواك. وحكى داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: لما قُتل عثمان أتى النَّاسُ عليًّا وهو في سوق المدينة، وقالوا: ابسُطْ يدَك نُبايعْك، فقال: لا تَعجَلوا، فإن عمر كان رجلًا مُبارَكًا، وقد أوصى بها شُورى، فأمهِلوا حتَّى يجتمع النَّاسُ عليّ ويتشاورون، فرجع النَّاس عنه، ثم قال بعضُهم لبعض: إن رجع النَّاسُ إلى أمصارهم بقتل عثمان، ولم يَقُمْ إمام، لم نَأمَن اختلافَ الأمَّةِ وفسادَها، فعادوا إلى على، فقبض الأشترُ على يده، فقبضها عليٌّ وقال: أبعد ثلاثة! فقال له: والله لئن تركتَها اليوم لتعْصِرنَّ عينيك عليها حينًا، فبايعه العامّة، قال: وأهل الكوفة يقولون: أوَّلُ مَن بايعه الأشتر. وروى سيف بن عمر عن أشياخه: محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان قالوا: لما ¬

_ (¬1) في تاريخه 4/ 427 - 428.

كان يوم الخميس على خمسة أيَّام من مقتل عثمان؛ هرب من بني أميَّة مَن أطاق الهرب إلى مكّة، فيهم مروان وسعيد وغيرهما، فقالوا أهلُ مصر لأهل المدينة: أنتم أهل الشورى، وأنتم تَعقدون الإمامة، وأمرُكم جائز على الأمة، فانظروا رجلًا تُنصّبونه، ونحن لكم تَبع، فقال الجمهور: نحن بعليٍّ راضون، فبايعوه. وقال هشام: وقد قيل إن الزُّبير لم يُبايع، وليس كما زعموا بل بايع. وقال سيف: حدثني محمد بن قيس، عن الحارث الوالِبيّ قال: جاء حكيم بن جبلة بالزبير حتَّى بايع؛ فكان الزُّبير يقول: جاءني لُصوص عبد القيس فبايعتُ واللّجُّ على عُنقي، يعني السيف. وحكى الطبري أيضًا عن عمر بن شَبَّة بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال: كنتُ مع أبي حين قُتل عثمان، فأتاه أصحابُ النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل، ولا بدَّ للناس من إمام، ولا نَجدُ أحدًا اليوم أحقَّ بهذا الأمر منك؛ لا أقدمَ سابقةٌ، ولا أقربَ إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فقال: لا تفعلوا، فقالوا: والله ما نحن بفاعِلين حتى نُبايعَك، قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون إلَّا عن رِضى المسلمين، فدخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم تتابع النَّاس (¬1). وقال في "نهج البلاغة": إن عليًّا كرّم الله وَجهه قال لهم: دَعوني والتمسوا غيري، فإنا مُستقبلون أمرًا له وجوه، وأسبابًا لا تقوم لها القلوب، ولا تثبتُ علها [العقول]، إن الآفاق قد أغامت، والمحجَّة قد تنكَّرتْ، وإني [إن] أحببتُكم ركبتُ بكم ما أعلم، ولم أُصغِ إلى قولِ قائلٍ، وعيبِ عائب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعُكم وأطوعُكم لمن تُولُّونه أمرَكم، وأنا لكم وزيرٌ خيرٌ مني لكم أمير (¬2). قال الجوهري: يقال غامت السماء وأغامت؛ أي: تغيَّمت (¬3)، ومعناه: أن الآفاق قد أظلمت بالفِتَن. واختلفوا في أول من بايعه؛ فقال الواقدي: أول مَن بايعه طلحة بن عُبيد الله ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 429، وانظر: 427. (¬2) شرح نهج البلاغة 7/ 20. (¬3) الصحاح: (غيم).

التَّيميُّ، وكان أشلّ، شلَّت يدُه يومَ أُحد، فنظر إليه حَبيب بن ذُؤيب، وقيل قَبيصة بن ذؤيب فقال: إنا لله، يدٌ شَلاء، أمرٌ لا يَتمّ. وقال ابن أبي الدنيا: بايعه النَّاس في دار عمَرو بن مِحصن الأنصاري ثم بويع البيعةَ العامة في المسجد. وقال الهيثم عن الشعبي: لما جاء النَّاسُ أرسالًا إلى عليّ امتنع من البيعة، فأخذ الأَشتر بيده وقال: اقبل، قال علي: أبعد ثلاثة! ؟ لا حاجةَ لي فيها، فقال الأشتر: والله لئن تركتَها اليوم لتَعصِرَنّ عليها عينيك غدًا، ثم بايعه فهو أول مَن بايع وبايعه النَّاس. وروي أن عمارًا أوّلُ مَن بايَعه، فقال البلاذري: قُتل عثمان وعلي بأرضٍ يقال لها البُغَيبغة؛ فوق المدينة بأربعة فَراسخ، فلما أُخبر أقبل نحو المدينة، فلقيه عمار بن ياسر فقال: مُدَّ يدك، فهو أول من بايعه. ذكر من تخلَّف عن بيعته: قال هشام: بايعه أعيانُ المهاجرين والأنصار، وعامّة الصّحابة: طلحة، والزبير، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل، وعمار بن ياسر، وسَهْل بن حُنَيف، وأبو أيّوب الأنصاري، وخُزَيمة بن ثابت، ومعظم أهل بدر وبيعة الرضوان، وامتنع من بيعته: حسَّان بن ثابت الشاعر، وكان عثمان قد أعطاه مالًا طائلًا، يزيد بن ثابت، وكان عثمان قد أعطاه مئة ألف درهم، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، وصُهَيب، ورافع بن خَديج، وعبد الله بن سلام، والنعمان بن بشير، وقُدامة بن مَظعون، وكعب بن مالك، وفَضالة بن عُبيد، وكعب بن عُجرة، قال: وكانوا خمسة عشر، ولم يمتنع من البيعة غيرهم، وهؤلاء يُسمّون العثمانية. قلت: وذكر ابن سعد في "الطبقات" (¬1) مَن سَمَّينا وقال: بايعه سعد بن أبي وقّاص، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مَسلمة، يزيد بن ثابت، وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. ¬

_ (¬1) 3/ 29.

وقال هشام وسيف وغيرهما: لما جيء يهؤلاء إلى المسجد ليُبايعوا بدؤوا بطلحة والزبير، فقيل لهما: بايعا، فقالا: نحن أول مَن بايع طوعًا. وقال الطبري عن الزُّهريّ: تَلَكَّأا، فسَلَّ الأشترُ سيفَه وقال: بايعا وإلا ضربتُ عُنقكما، فقال طلحة: وأين المذهب عنه؟ ! فقال لهما علي: إذ أحببتُما بايعتُكما، قالا: لا بل أنت أولى، فبايعاه، ثم طلبا منه أن يكونا على بيت المال فامتنع علي، فقالا: ما لنا في هذا الأمر إلَّا كلَحْسَةِ الكنبِ أنفَه، وكانا لما قُتل عثمان أخذا مفتاح بيت المال، فلما لم يولّهما علي إياه قالا: بايعناه خشيةً على أنفُسِنا (¬1). وقيل إن طلحة قال لعلي: أمِّرني على البصرة، وقال الزُّبير: أمِّرني على الكوفة، فقال: لا بل أَقيما عندي أتحمَّل بكما. قال هشام -وقد حكاه الطبري- وجيء بسعد بن أبي وقاص فقالوا له: بايع، فقال: إذا بايع كافّة النَّاس بايعتُ، وفي رواية الطبري: فقال علي لسعد: بايع، فقال: لا حتَّى يبايع النَّاس فما عليك مني بَأسٌ، فقال الأشتر لعلي: دَعْني أضرب عُنُقَه، فقال له علي: دَعْه فأنا حَميلُه أي: كفيلُه، وقال علي لسعد: إنك ما علمت سيِّء الخُلُق صغيرًا وكبيرًا (¬2). وجيءَ بعبد الله بن عمر، فقيل له: بايع فامتنع، فلبَّبه الأشتر وأراد قتلَه، فمنعه علي. قال الزُّهريّ: والعجب لابن عمر: تَمنّع من بيعة علي ويُبايع ليزيد بن معاوية ولعبد الملك بن مروان. قال: وجيءَ بأسامة بن زيد، فقيل له: بايع فاعتذر بقتل الرجل الذي قتله في السّرية وقال: لا أقاتُل من قال لا إله إلَّا الله على الدُّنيا، وإن ممَّا عَهد إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أُجاهدَ معكم الكفار، أما إذا قاتل بعضكم بعضًا كسرتُ سيفي، واتخذتُ سيفًا من خَشَب. وقيل لزيد بن ثابت: بايع، فقال: قد كان بيننا مَودَّة، ولكن لا مُواساةَ في النَّار، ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 429. (¬2) في تاريخ الطبري 4/ 428 أن عليًّا قال ذلك لابن عمر.

وقيل لمحمد بن مسلمة: بايع، فامتنع. وقد أخرج أحمد في "المسند" قصةَ محمد بن مسلمة من طريقين؛ أحدهما: قال أحمد بإسناده عن الحسن بن علي قال: لما بُويع أميرُ المؤمنين بعث إلى محمد بن مَسلمة، فجيءَ به، فقال له علي: ما خَلَّفك عن هذا الأمر؟ قال: دفع إليّ ابنُ عمك -يعني النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - سيفًا وقال: "قاتلْ به ما قوتل العدوّ، فإذا رأيتَ النَّاسَ يضربُ بعضُهم بعضًا، فاعْمِد به صخرةً فاضرِبْه بها، ثم الزم بيتَك حتَّى تأتيك مَنِيَّةٌ قاضِيَةٌ، أو يَدٌ خاطئة"، فقال علي: خلُّوا عنه (¬1). الطَّريق الثَّاني: قال أحمد بإسناده، عن علي بن زيد، عن أبي بُردة قال: مررتُ بالرَّبَذَة، فإذا فُسْطاط مَضروب، فقلت: لمن هذا؟ قيل: لمحمد بن مَسلمة، فاستأذنتُ عليه، فأَذِن لي، فدخلتُ عليه فقلتُ: رحمك الله، إنك من هذا الأمر بمكان، فلو خرجتَ إلى النَّاس فأمرتَ ونهيتَ، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ستكون فِتنةٌ وفُرقَةٌ واختلاف، فإذا كان كذلك، فأتِ بسيفك أُحُدًا فاضربْ به عُرضَه، واكسِرْ نَبْلَك، واقطَعْ وَتَرك، واجلِسْ في بيتك" فقد كان ذلك، وفعلتُ ما أمرني به رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، ثم استَنْزلَ سيفًا كان مُعَلَّقًا بعَمود فُسطاطه فاخترَطَه، وإذا سيفٌ من خَشَب، قال: فقد فعلتُ ما أمَرني رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - واتخذتُ هذا أُرْهِبُ به النَّاس (¬2). وذكر المسعودي في تاريخه (¬3) أن جماعة من بني أميَّة ممن تخلَّف عن بيعة علي عليه السَّلام؛ منهم: مروان بن الحكم وسعيد بن العاص والوليد بن عُقبة جاؤوا إلى علي، فقال له الوليد: إنا لم نتَخلَّف عن بيعتك رغبةً عنك، ولكنّك قتلت أبي، وجَلَدْتَني حَدًّا، وقال سعيد بن العاص: قتلتَ أبي، وقال مروان: شَتمتَني، ولعنتَ أبي، وعِبتَ على عثمان تقريبَه إياي، ثم بايعوه. قلت: وقد وهم المسعودي، فإن هؤلاء المذكورين لما قُتل عثمان هربوا إلى مكّة، وكانت عائشة بها، فاتّفقوا على ما اتفقوا عليه، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (17979). (¬2) مسند أحمد (16029). (¬3) 4/ 296 - 297.

ذكر أوَّل خطبةٍ خطبها أمير المؤمنين: قال هشام بن محمد، عن أبيه قال: لما بويع علي عليه السَّلام صَعِد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: يا أيها النَّاس، إن الله أنزل كتابًا هاديًا؛ بيَّنَ فيه الخير والشر، فخُذوا بالخير، ودَعوا الشرّ، وامتَثِلوا الأوامر تُؤدّيكم إلى الجنة، واجتنبوا النّواهي لئلا تُؤذيكم إلى النَّار. ذكر أول ما بدأ به بعد البيعة: قال هشام ومَن سمَّينا، ورواه سيف بن عمر، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن عليّ بن الحسين، دخل حديثُ بعضهم في حديث بعض، قالوا: لما استقرَّت له البيعةُ اجتمع إليه المهاجرون والأنصار وقالوا: إن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل، يعنون عثمان، فماذا ترى؟ فقال: يا إخوتي، لستُ أجهل ما قلتُم، ولكن كيف أمتنعُ بقومٍ يَملكوننا ولا نَملكُهم، وقد ثار معهم أعداؤكم وعُبدانكم، وثابت إليهم الأعرابُ من كلِّ أُفُقٍ، وهم خِلالكم يَسومونكم ما شاؤوا، فهل تَرون مَوضعًا للقُدرة على شيءٍ ممَّا تُريدون؟ قالوا: لا، قال: فالصَّبرَ الصَّبر؛ حتَّى تهدأ النَّاس، ويتفَرّقوا عنهم، وننظر ما يكون، قالوا: نعم، ثم أمر مُنادِيه فنادى: بَرئت الذمَّةُ من الأعراب الذين بالمدينة إن لم يَخرجوا إلى مياههم، ومن عبدٍ لا يَرجع إلى مواليه، فتَذَمَّرت السَّبَئيَّةُ، وخرجت الأعرابُ إلى مياهها، ورجعت العبيدُ إلى مَواليها، فدعى عليّ طلحة والزبير وأعيانَ الصّحابة، وقال: دونكم الآن وعَدُوّكم فخذوا ثأرَكم، فتقاعدوا وخافوا، فأنشد: [من الطويل] ولو أنّ قومي طاوَعَتْني سَراتُهم (¬1) وقال له طلحة: دَعْني آت البصرة، فلا أَفجؤك إلَّا بالخيل، وقال له الزُّبير: دعني آت الكوفة فلا أفجؤك إلَّا بالخيل، فقال: الأناةَ الأناة حتَّى أنظرَ في أمري. ¬

_ (¬1) تمامه: أمرتهم أمرًا يُديخ الأعاديا، وهو في تاريخ الطبري 4/ 438، وسلف قريبًا.

ذكر دخول المغيرة بن شُعبة عليه: قال علماء السير منهم سيف بن عمر قالوا: دخل المغيرة بن شُعبة على أمير المؤمنين عقيب البيعة فقال له: إن لك حقَّ الطباعة والنّصيحة، وإن الرأيَ اليوم تُحرِزُ به ما في الغد، وإن الضَّياع اليوم تُضيّع به ما في الغد، أَقِرَّ معاوية وابنَ عامر على عملهما، وعمالَ عثمان على أعمالهم، حتَّى إذا أتَتْك طاعتُهم وبيعةُ الجنود استَبْدَلْتَ أو تركتَ، فإنَّك إذا أرسلتَ إليهم بعُهودهم مَهدوا البلاد، وسَكّنوا العباد، فقال له: والله لو كانت ولايتي ساعة من نهار لا وَلَّيتُهم وأمثالهم على المسلمين. فخرج المغيرةُ من عنده، فلما كان من الغَد دخل عليه فقال: قد كنتُ أشرتُ عليك أمسِ برأيٍ، وقد رأيتُ اليومَ غيرَه؛ وهو أن تُبادِرَهم بالعَزْل ليُعرفَ المطيعُ من المخالف، ويُستقبَل أمرُك. قال سيف: ثم خرج المغيرة من عنده، فاستقبله ابنُ عباس داخلًا -وقد كان ابنُ عباس على الحجِّ، أمَّره عثمان- فقال له: رأيتُ المغيرة خارجًا من عندك؟ ! فقال: جاءني بالأمس بذيَّة وذَيَّة، وجاءني اليوم بذَيَّة وذَيَّة. وفي رواية هشام بن محمد عن أبيه قال: قَدِم ابنُ عباس المدينة بعد خمسةِ أيَّام من قتل عثمان، فوجد النَّاس يُبايعون عليًّا؛ وقد خرج المغيرة بن شعبة من عنده، فقال له ابن عباس: ما يصنع هذا الدَّاهيةُ عندك؟ فأخبره بما قال، فقال: أمّا أمسِ فقد نَصَحك، وأمَّا اليوم فقد غشَّك، قال: فما الرّأي؟ قال: كان الرأيُ قبل اليوم أن تخرج حين قُتل الرجل، فتأتيَ مكّة، فتدخُلَ دارَك، وتُغلقَ بابَك، فإن كانت العربُ لجائِلةً ومُضطرِبةً في أثرك فلا تَجدُ غيرَك، وأمَّا اليوم فإن بني أميَّة يَطلبون بدم الرَّجل، وسيُلزمونك إياه، ويُموِّهون على النَّاس. وقال الواقدي: حدثني ابن أبي سَبْرة، عن عبد المجيد بن سُهيل، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن ابن عباس قال: دعاني عثمان، فاستعملني على الحج، فأقمتُ للناس الحج، ثم قدمتُ المدينةَ وقد بويع لعلي، فأتيتُه في داره، فوجدتُ عنده المغيرة بن شُعبة مُستخْلِيًا بَه، فحبَسَني حتَّى خرج من عنده، فدخلتُ فقلتُ له: ما قال لك؟ فقال: قال لي مرَّةً قَبل هذه: أرسل إلى ابن عامر ومعاوية وعمالِ عثمان بعُهودهم،

وأَقِرَّهم على أعمالهم، ويبايعون لك النَّاس، قال: فأبَيتُ عليه وقلت: لا وَلَّيتُ هؤلاء أبدًا، ولا يجوز أن يُولَّى أمثالهم. فانصرف وأنا أعرفُ أنَّه يَرى أني مُخطئ، ثم عاد إليَّ الآن فقال: قد رأيتُ بعد ذلك أن تصنَعَ الذي رأيتَ؛ فتَنزعهم وتستعين بمن تثق، فقلت: أما في المرّة الأولى فقد نَصَحك، وأمَّا في الثَّانية فقد غَشّك، لأنك إذا عَزَلْتَهم يقولون: هو قتل صاحبَنا، فيُؤلّبون عليك، فقال: والله لا أُولّي أحدًا منهم أبدًا، فإن قَبِلوا فذلك خيرٌ لهم، وإن أدبروا بذلتُ لهم السيف. قال ابن عباس: ثم قال لي: سر إلى الشام فقد وَلَّيتُكها، فقلتُ: ما هذا برأي، معاويةُ رجلٌ من بني أميَّة، وهو ابنُ عمِّ عثمان وعاملُه عليها، ولستُ آمَنُ أن يضربَ عُنُقي بعُثمان، أو أدنى ما يَصنَعُ بي أن يَحبسني، فيتحكَّمَ عليّ، ولكن اكتُب إلى معاوية فمَنِّهِ وعِدْه، فأبى عليّ وقال: والله لا كان هذا أبدًا. وهذه رواية الواقدي، وقال هشام: لما قال له ابن عباس: نصحك بالأمس وغشَّك اليوم، فقال: وكيف؟ قال: لأنَّ بني أميَّة ومعاوية أصحابُ دنيا، فمتى أبقيتَهم لم يُبالوا مَن وَلِيَ هذا الأمر، ومتى عَزلتَهم أخذوا هذا الأمر بغير شورى، وقالوا: قَتل صاحبَنا، وألَّبوا عليك؛ فانتقَضَ أهلُ الشام وأهلُ العراق، مع أني لا آمَنُ طلحة والزبير أن يكونا عليك. فقال له علي: أمّا ما ذكرتَ من إقرارهم؛ فما أشكُّ أنَّه خيرٌ في عاجل الدنيا وصلاحها، وأمّا الذي يَلزَمُني من الحقِّ والمعرفةِ بهم فلا يحلّ لي أن أُبقي منهم واحدًا ساعةً من نهار. وبلغ المغيرة قول ابن عباس فقال: صدق، نصحتُه أولًا، فلما لم يَقبل غششتُه، فخرج المغيرة بعد هذه المقالة إلى مكّة. وقال الهيثم: قال المغيرة لعلي: وَلِّهم شهرًا واعزلْهم دهرًا، فقال: لا والله ولا ساعة، ثم تمثل فقال: [من الطَّويل] فما مِيتةٌ إن مِتُّها غيرَ عاجزٍ ... بعارٍ إذا ما غالت النَّفْسَ غُولُها

فقال له المغيرة: اعزل من شِئتَ، واستَبْق من شئت، وفي رواية: اعزل من شئت واستبق معاوية، فلم يقبل، وكذا أشار عليه ابن عباس فامتنع. وفي رواية أن ابن عباس قال لعلي: ألم تسمعْ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "الحربُ خَدْعَة" (¬1)، فقال: والله لأَصدُرنَّ بهم بعد وُرود، ولأَترُكنَّهم يَنظُرون في دُبُر الأمور، ثم لا يَعرفون ما كان منها، فقال له ابن عباس: ستعلم. وفي رواية الطبري: فقال علي: يا ابنَ عباس، لستُ من هناتك وهنات معاوية في شيءٍ، أنت تُشير علي وأنا أرى، فإذا عصيتُك فأطِعني، فقال له ابن عباس: إن أيسَرَ ما لك عندي الطاعة (¬2). ذكر دخول الأشعث بن قيس عليه: حكى أبو اليقظان، عن الأشعث قال: دخلتُ على أمير المؤمنين بعدما بويع بالخلافة، فقلتُ له: أَبْقِ معاوية على الشام، فإن عمر ولَّاه مُدَّةَ خلافتِه، وولّى طلحةَ البصرة، والزبير الكوفة، ثم بعد ذلك أنت بالخيار فيهم، فامتنع علي، قال أبو اليقظان: فخرج الأشعث وهو يقول: [من الطَّويل] نصحتُ عليًّا في ابن هنْدٍ مقالةً ... فردَّتْ ولا يسمع لها الدهر ثانيه وقلتُ له أرسلْ إليه بعهده ... على الشام حتَّى يستقرّ معاويه فتحكم فيه ما تراه فإنَّه ... لَداهيةٌ فارفِقْ به أي داهِيه فلم يَقبل النُّصحَ الذي جئتُه به ... وكانت له تلك النصيحةُ كافيه (¬3) وقال الواقدي: ولما ولي علي الخلافة انتزع إقطاعات كان أقطعها عثمان لبني أميَّة وغيرهم، ورَدَّها في بيت المال، وقسم ما كان في بيت المال، ولم يُفضّل أحدًا على أحد، وأول من أجاب إلى بيعته أهل الكوفة ومصر. وفي هذه السنة سار قُسْطنطين بن هرقل ملك الروم من بلاده قاصدًا بلاد الإسلام فغرق. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (697) من حديث علي، والبخاري (3027) و (3030)، ومسلم (1739) و (1740) من حديث أبي هريرة وجابر. (¬2) تاريخ الطبري 4/ 441. (¬3) في مروج الذَّهب 4/ 342 أن الشعر للمغيرة.

عامر بن ربيعة

قال الواقدي: فحدثني هشام بن الغاز، عن عُبادة بن نُسيّ قال: سار ابنُ هرقل من القسطنطينية في ألف مركب؛ مملوءة من العُدد والأموال والرجال، وبِحمْلٍ لم يُرَ مثله، فلما توسَّطَت المراكبُ اللجَّة أرسل الله عليها قاصفًا، فغرق الجميع، ونجا ابنُ هرقل في مركب صغير؛ ألقته الريح إلى جزيرة صِقِلية، فدخل الحمّام، فدخلوا عليه وقالوا: أهلكتَ دين النصرانية بشُؤم زُحَلِك، فقتلوه. فصل وفيها تُوفّي. عامر بن ربيعة ابن مالك بن عامر بن ربيعة بن حُجْر بن سلامان بن مالك بن ربيعة بن رُفَيدة بن عَنْز بن وائل بن عبد الله العَنْزي العَدوي، حليفُ الخطّاب بن نُفَيل والد عمر بن الخطاب. قال البُخاريّ: عَنْز بإسْكان النون حيّ من اليمن. وقال الدارقطني: عَنْز بن وائل؛ أخو بكر بن وائل. وقال ابن سعد: ولما حالف الخطَّاب تبنّاه، فكان يُقال: عامر بن الخطاب؛ حتَّى نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فرجع عامر إلى نسبه، فقيل عامر بن ربيعة (¬1). وعامر من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا قبل دخول النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وكانت معه امرأتُه ليلى بنت أبي حَثْمة العدويّة، وهاجر إلى المدينة، فلم يَقدُمها أحدٌ قبله إلّا أبو سلمة بن عبد الأسد، وزوجةُ عامر أولُ ظَعينةٍ قَدِمت المدينة مُهاجرة. وآخى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بينه وبين يزيد بن المنذر (¬2) الأنصاري، وشهد عامر بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدم مع عمر الجابية في سنة ست عشرة، وعقد عمر لواءه ودفعه إلى عامر. قال ابن عبد البر (¬3): ويزيد بن المنذر الذي آخى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بينه وبين عامر؛ شهد ¬

_ (¬1) التاريخ الكبير 6/ 445، والمؤتلف والمختلف 1662، وطبقات ابن سعد 3/ 359. (¬2) في (خ): يزيد بن عبد المنذر، وسيرد كذلك، وهو خطأ. (¬3) في الاستيعاب (2728).

العقبة وبدرًا، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار. ذكر وفاة عامر: قال ابن سعد بإسناده عن يَحْيَى بن سعيد قال: أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قام أبي يصلي في بيته بالليل، وذلك حين نَشِب النَّاس في الطعن علي عثمان، فصلَّى من الليل، ثم نام، فأُتي في المنام فقيل له: قم فاسأل الله أن يُعيذك من الفِتنة التي أعاذ منها صالحَ عباده، فقام فصلّى، ثم اشتكى فما أُخرج إلَّا جنازة. قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: كان موتُ عامر بن ربيعة بعد قتل عثمان بأيام، وكان قد لزم بيتَه فلم يَشعر النَّاس إلَّا بجنازته وقد أُخرج (¬1). وقيل: إنه مات قبل قتلِ عثمان بأيام. وقال ابن عبد البرّ: كان لعامر ولدان كلاهما يقال له عبد الله، وأمّهما ليلى بنت أبي حَثْمة، وكُنيةُ الأكبر أبو محمد، قُتل يوم الطائف شهيدًا، وعبد الله الأصغر وُلد على عهد النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وتوفي رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وهو ابنُ خمس سنين، وله إدراك. قال عبد الله: جاءنا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في دارنا وأنا ألعب (¬2). أسند عامر بن ربيعة عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - الحديث، فأخرج له أحمد في "المسند" أحد عشر حديثًا، وأُخرج عنه في "الصحيحين" حديثان متَّفقٌ عليهما. وروى عامر عن أبي بكر وعمر، وروى عنه ابن عمر، وابنُه عبد الله بن عامر، وابنُ الزُّبير عبد الله وغيرهم، وليس في الصّحابة مَن اسمُه عامر بن ربيعة غيره، وذكره جدِّي في "جامع المسانيد". ومن مَسانيده؛ قال أحمد: حدَّثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصي يَتَسَوَّك وهو صائم (¬3). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 360. (¬2) الاستيعاب (1449) و (1450). (¬3) مسند أحمد (15678)، وانظر في ترجمته الاستيعاب (1822)، وتاريخ دمشق (عاصم- عايذ) 112، والسير 2/ 333، والإصابة 2/ 249، والمنتظم 5/ 73.

عبد الله بن سراقة

وفيها توفي. عبد الله بن سُراقة ابن المعتمر العَدَويُّ، من الطبقة الثَّانية من الصّحابة، ولم يشهد بدرًا، وشهد أُحدًا وما بعدها، وأمُّه ابنةُ عبد الله بن عُمَير بن وهب الجُمحيّ. روى عبد الله الحديث عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وليس في الصّحابة مَن اسمُه عبد الله بن سُراقة غيره (¬1). وفيها توفي. عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - ابن أبي العاص بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ، وأمُّه أروى بنت كُرَيز بن ربيعة بن حَبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ، وقد ذكرها ابن سعد في طبقات النساء (¬2) وقال: وأمُّها أم حكيم، وهي البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، تزوَّجها عفَّان بن أبي العاص، فولدت له عثمان وآمنة، ثم تزوَّجها عُقبة بن أبي مُعَيط فوَلدت له الوليد وعمارة وخالدًا وأمّ كلثوم وأم حكيم وهندًا. أسلمت أروى وهاجرت إلى المدينة بعد ابنتها أمِّ كلثوم بنت عُقبة، وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم تزل بالمدينة حتَّى توفّيت في خلافة ابنها عثمان، فحمل عثمان سريرها، وصلّى عليها، ودفنها بالبقيع، وقد ذكرنا مَن اسمها أروى في عمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان عثمان في الجاهلية يُكنى أبا عمرو، فلما وُلد له في الإسلام عبد الله من رُقَيَّة بنت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - اكتَنى به، وكنّاه المسلمون به، وعاش عبد الله ستَّ سنين، فنقره ديك في عينه فمات، وقد ذكرناه في سنة أربع من الهجرة. ذكر عثمان - رضي الله عنه -: من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأحد العشرة المبشَّرين بالجنّة، وثالث الخلفاء ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 132، والاستيعاب (1485)، والتبيين 430، والإصابة 2/ 315. (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 217.

الراشدين، أسلم قديمًا قبل دخول رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين ومعه زوجتُه رُقَيَّة بنتُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، ولم يشهد بدرًا؛ لأنَّ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - خلّفه على ابنته رقية يُمرّضها، وقيل: كان مريضًا بعلَّةِ الجُدَري، فضرب له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بأجره وسهمه، وزوّجه أمَّ كلثوم أخت رقية؛ ولذلك سُمِّي ذا النُّورَين لجمعه بين بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجمع قبلَه أحدٌ بين بنتي نبيٍّ غيره، وبايع عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعةَ الرضوان بيده، وقد ذكرنا تفاصيل ذلك. وكان لَيِّن الجانب، حسنَ الخُلُق حَييَّ الطّرف، أحد حُفَّاظ القرآن على عهد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، ونافع وابن عامر يقرآن على قراءته. وذكره الموفق رحمه الله في "الأنساب" وأثنى عليه وقال: قيل للمهلَّب بن أبي صُفرة: لمَ قيل لعثمان ذي النُّورَين؟ فقال: لا نعلم أحدًا أرخى سترًا على ابنتي نبيٍّ غيره، وقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لو كان لنا ثالثة لزوَّجناها عثمان" (¬1). وهو أحدُ أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر للخلافة، وقد ذكرنا إسلامَه فيما تقدَّم، في السنة الرابعة والعشرين عند ولايته، وبعضَ سيرته، وكان صوّامًا قوّامًا، وكان من أغنى الصّحابة. وقال الواقدي: وسبب غنائه أن أباه عفانًا وعبدَ المطَّلب وأبا مسعود الثَّقفيّ لما سلَّط الله على أبرهةَ الطيرَ الأبابيل؛ كانوا أول مَن نزل إلى خِيَم الحبشة، فأخذوا من أموال أبرهة وأصحابِه شيئًا كثيرًا، ودفنوها عن قريش، فكان ذلك سببًا لغنائهم، ومات عفَّان فأخذها عثمان. وقال ابن عمر: كان عثمان يقوم الليل يَتلو القرآن، فنزل فيه قولُه تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} الآية [الزمر: 9] (¬2)، وكان يُسمّى الوَقور لحيائه. وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن يَحْيَى بن سعيد بن العاص، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - كان جالسًا كاشفًا عن فَخِذه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال، ثم ¬

_ (¬1) التبيين 179. (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 56، وابن عساكر في تاريخ دمشق (عثمان) 224.

استأذن عمر، فأذن له وهو على تلك الحال، فاستأذن عثمان، فأرخى عليه ثيابَه، قالت: فقلت له في ذلك فقال: "ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه ملائكةُ السماء" (¬1). وقال أحمد بإسناده عن عثمان بن عبد الله بن مَوْهَب. وقال البُخاريّ: حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا أبو عوانة، حدَّثنا عثمان هو ابن مَوْهَب قال: جاء رجلٌ من أهل مصر يَحجُّ البيت، فرأى قومًا جُلوسًا، فقال: مَن هؤلاء؟ قالوا: قريش، قال: فمَن الشيخُ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، فقال: يا ابن عمر، إنِّي سائلُك عن شيءٍ فحدِّثني، قال: اسأل، قال: هل تعلم أن عثمانَ فرَّ يوم أُحُد؟ قال: نعم، قال: هل تعلم أنَّه تَغيَّب عن بدرٍ فلم يَشهدها؟ قال: نعم، قال: فهل تعلم أنَّه تَغيّب عن بيعة الرِّضوان فلم يَشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، فقال ابن عمر: تعال أُبَيِّنْ لك، أما فرارُه يوم أحد، فأَشهد [أن] الله عفا عنه وغفر له، وأمَّا تَغَيُّبُه يوم بدر، فإنَّه كانت تحته ابنةُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وكانت مريضة، فقال له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لك أجرُ مَن شهدها"، وضرب له بسَهمه، وأمَّا تَغَيُّبه عن بيعة الرِّضوان، فلو كان أحدٌ أعزَّ ببطن مكّة من عثمان لبَعَثه مكانه، وكانت بيعةُ الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكّة، فقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "هذه يدي عن عثمان" فبايع عنه، وضرب باليُمنى على اليُسرى، وقال له ابن عمر: [اذهبْ] بها الآن معك (¬2). وقد أخرجه الحميدي في أفراد البُخاريّ، وفيه: ثم قال ابن عمر للرجل: لعلّ يَسوؤك ذلك؟ قال: نعم، قال: فأرغم الله أنفَك، فانطلق بها جْهَد جَهدك، وسأله عن علي فذكر مَحاسنَ عملِه (¬3). وحدثنا جدِّي بإسناده عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعًا يديه يدعو لعثمان يقول: "اللَّهمَّ عثمان، رضيتُ عنه فارضَ عنه" (¬4). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (514) و (25216). (¬2) مسند أحمد (5772)، وصحيح البُخاريّ (3698). (¬3) الجمع بين الصحيحين (1483). (¬4) صفة الصفوة 1/ 298، وأخرجه ابن عساكر 47 - 49.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو موسى العَنَزي بإسناده، عن عبد الرحمن بن خَبّاب السّلَمي قال: خطب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فحثَّ على جيش العُسْرَة، فقال عثمان: عليَّ مئةٌ من الإبِل، أو مئةُ بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم حثَّ، فقال عثمان: عليَّ مئةٌ أخرى بأَحلاسِها وأقتابها، ثم نزل مِرقاةً مَن المِنبر، ثم حثَّ فقال عثمان: عليَّ مئة أخرى بأحلاسها وأقتابها، قال: فرأيتُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول بيده يُحرَكُها: "ما على عثمان ما عَمِل بعد هذا" (¬1). وقد ذكرنا طرفًا من هذا في غَزاة تبوك، وأنه جَهَّز جيشَ العُسرة بخمس مئةِ بعير، وجاء بألف دينار فصبَّها في حِجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى أبو نعيم بإسناده إلى رُهيمة قالت: كان عثمان يصوم الدهر، ويقوم الليل إلَّا هَجعةً في أوَّله (¬2). وقال عبد الله بن أحمد بإسناده عن الحسن -وسُئل عن القَيلولة في المسجد- فقال: رأيتْ عُثمان يَقيل في المسجد وهو يومئذٍ خليفة، ويقوم وأثرُ الحَصى بجَنبه، قال: فيقولون: هذا أميرُ المؤمنين (¬3). وقال الحسن: رأيتُ عثمان نائمًا فَي المسجد ورداؤه تحت رأسه، فيجيءُ الرَّجل فيَجلس إليه، ثم يجيءُ الرجل فيجلُس إليه، فيجلس كأنه أحدُهم (¬4). وقال عبد الله بن أحمد بإسناده عن شُرَحبيل بن مُسلم: أن عثمان كان يُطعم النَّاسَ بطعام الإمارة، ويَدخل بيتَه فيأكل الخلَّ والزيت (¬5). وروى ابن أبي الدُّنيا، عن عبد الله بن المبارك، عن الزّبير بن عبد الله قال: حدثتني جدَّتي: أن عثمان كان لا يُوقظ أحدًا من أهله في الليل؛ إلَّا أن يَجده يقظانًا، فيدعوه ¬

_ (¬1) مسند أحمد (16696) وهو من زيادات ابنه عبد الله. (¬2) الحلية 1/ 56، وأخرجه أحمد في الزهد 161. (¬3) الزهد 158، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 60، وابن عساكر 219. (¬4) أخرجه ابن عساكر (عثمان) 218. (¬5) الزهد 160، وأخرجه أبو نعيم 1/ 60.

فيُناوله وُضوءه، وكان يصوم الدَّهر (¬1). وقال ابن سعد عن الواقدي أيضًا، عن عبد الله بن محمد، عن ثابت بن عجلان، عن سُليم أبي عامر قال: رأيتُ على عثمان بُردًا يَمانيًّا ثمنَ مئة دِرْهم أو مئتي درهم (¬2). وقد ذَكَرَ أن أبا بكر - رضي الله عنه - لما أملى على عثمان وصيَّتَه؛ أُغمي عليه عند موته، ثم أفاق فقال لعثمان: مَن كتبتَ؟ قال: عمر، قال: والله لو كتبتَ لنفسك كنتَ لها أهلًا (¬3). وقال البُخاريّ بإسناده عمر ابن عمر قال: كُنَّا نُخيِّر بين النَّاس في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنُخَيرُ أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان. انفرد بإخراجه البُخاريّ (¬4). ذكر لباسه: قال ابن سعد بإسناده عن شيخ من الحاطِبيّين قال: رأيت على عثمان قميصًا قُوهِيًّا على المنبر (¬5). القُوهيّ: الغليظُ من الثّياب. وقال هشام عن أبيه: لما وَلي عثمان الخلافة، خطب وعليه ثوبٌ قيمتُه خمسة دراهم. وقد ذكرنا طرفًا من لباسه، وشدِّه أسنانَه بالذهب (¬6). ذكر طرف من أخبار عثمان - رضي الله عنه -: حكى سيف بن عمر، عن عُمارة بن القعقاع، عن الحسن البصري قال: كان عمر بن الخطاب قد حَجَر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج إلى البلدان إلَّا بإذنٍ وأَجَل، فشَكَوه، فقام خطيبًا فقال: أما بعد، فإني قد سنَنْتُ الإسلام سَنَّ البَعير، يبدأ فيكون جَذَعًا، ثم ثَنيًّا، ثم رَباعيًّا، ثم بازِلًا، فهل يَنتظر البازلُ غيرَ النُّقصان؟ ألا وإن الإسلام قد بَزَل، ألا وإن قريشًا يريدون أن يَتَّخِذوا مال الله مَعوناتٍ دون عباده، أما ¬

_ (¬1) الزهد لابن المبارك 438، والزهد لأحمد 157 (من زيادات ابنه عبد الله)، وتاريخ دمشق (عثمان) 228 - 229. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 54. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 184. (¬4) في صحيحه (3655). (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 54. (¬6) في سنة أربع وعشرين.

وابنُ الخطاب حيٌّ فلا، ألا وإني آخذٌ بحُجَز قُريش أن يتهافتوا في النار. وقال سيف فيما رواه عن محمد وطلحة: فلما قام عثمان لم يَأخُذهم بما كان يَأخُذهم به عمر، فانساحوا في البلاد، فلما رَأَوْها ورَأوا سَعَةَ البلاد ورآهم الناس، انقطع [إليهم] مَن لم يكن له طَولٌ ولا مَزِيَّة في الإسلام، فصاروا أوزاعًا، فكان ذلك أوّل وَهْنٍ دخل في الإسلام، وأوّل فتنةٍ كانت في العامّة. وحكى سيف، عن عمرو، عن الشعبي قال: لم يَمُتْ عمر حتى مَلَّته قريش، وكان قد حَصَرهم في المدينة وقال: أخوف ما [أخافُ] على هذه الأمة الانتشار في البلاد، فلما وَلي عثمان خَلّى سبيلَهم، فانفسحوا في البلاد، وانقطع إليهم الناس، فكان أحبَّ إليهم من عمر، فلم تمض سنةٌ من إمارة عثمان حتى اتَّخذ رجالٌ من قريش أموالًا في الأمصار، وانقطع إليهم الناس، وثبتوا على الأمر الأوّل سبعَ سنين، كلّ يوم يُحبُّون أن يَليَ صاحبُهم، ثم أسلم ابنُ السَّوداء، وتكلَّم وقد فاضَتِ الدّنيا، وطلعت الأحداثُ على يديه، فاستطالوا عُمْرَ عثمان. وقال سيف بإسناده: أوَّلُ مُنكَرٍ ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا طَيرانُ الحمام، والرَّميُ بالجُلاهِقات (¬1)، فاستعمل عثمان رجلًا من بني لَيث في سنة ثمانٍ، فقصَّ الحمام وكسر الجُلاهِقات، وكَثُرت الأحداثُ كشرب النّبيذ وغيره، فكان عثمان يُسَيِّر من المدينة مَن أحدث حَدَثًا، فقال الناس: ما أحدثَ التَّسييرَ إلا [أن] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَيَّر الحكم بن أبي العاص، وبلغ عثمان فصَعِد المنبر وقال: يا أهل المدينة، أنتم أَصلُ الإسلام، وإنما يَفسدُ الناسُ بفسادكم، ويَصلحون بصلاحكم، والله لا يَبلغني عن أحدٍ منكم أنه أحدث حَدَثًا إلا سَيَّرتُه، وأما الحكم فإنه كان مَكيًّا، فسيَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، [ثم ردَّه] إلى بلده، وقد سَيّر الخلفاءُ بعده. قال سيف، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت ويحيى بن سعيد قالا: سُئل سعيد بن المسيّب فقيل له: ما دعا محمد بن أبي حذيفة إلى الخروج على عثمان، وقد كان يتيمًا في حِجْره، وكان عثمان واليَ [أيتام] أهل بيته، ومُحتمِلَ كَلِّهم؟ ! فقال: سأل عثمانَ ¬

_ (¬1) الطين الأملس المدوَّر، والبندق الذي يرمى به، وقوس الْبندق.

ذكر اجتماع المصريين والبصريين والكوفيين وغيرهم على قتل عثمان - رضي الله عنه -، وحصرهم في داره، ونزولهم بذي خشب وذي المروة ونحو ذلك

العملَ حين وَلي فقال: يا بُنيّ، لو كنتَ رِضًا لاسمتعنتُ بك ولكنك لستَ هناك، قال: فَأْذن لي أن أخرجَ فأطلُبَ ما يُقَوِّيني، فقال له: اذهبْ حيث شِئتَ، فذهب إلى مِصر، فكان يُحَرِّضُ عليه لأنه منعه الإمارة. وقال سيف، عن مُبَشِّر: سألتُ سالم بن عبد الله: ما دعا محمدَ بن أبي بكر إلى الخروج على عثمان؟ قال: الطّمعُ، إنه كان من الإسلام بالمكان الذي هو به، فأغراه قوم فطَمِع، وكانت له دالَّة فلَزِمه حقٌّ، فأخذ عثمان الحدَّ من ظهره، فاجتمع هذا إلى هذا، فصار مُذمَّمًا بعد أن كان محمدًا (¬1). وسنذكرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى. ذكر اجتماع المصريين والبصريين والكوفيين وغيرهم على قتل عثمان - رضي الله عنه -، وحَصرهم في داره، ونزولهم بذي خُشُب وذي المروة ونحو ذلك فروى أربابُ السِّيَر منهم هشام والواقدي وسيف وغيرهم، فروى سيف بن عُمر، عن يزيد الفَقْعَسي قال: كان عبد الله بن سبأ يهوديًّا من أهل صنعاء، وأمُّه يهودية سوداء، أسلم في أول خلافة عثمان، وقيل في خلافة عمر، وكان قَصدُه بَوارَ الإسلام، فكان يَنتقلُ في البُلدان يحاول الفِتنة، فطاف الحجاز والشام والعراق، فأخرجوه، فلم يتأتّى له ما يُريد، وعُرف بالشَرّ في هذه الأمصار، فلم يَسَعْه فيها مُقام، وكلما دخل مِصرًا نَفَوه منها، فدخل مِصر، وطاف في كُوَرها، وأظهر الأمرَ بالمعروف، وتكلَّم في الرَّجْعَة، وقَرَّرها في قلوب المصريين، وكان يقول: العَجبُ ممن يَزعُم أن عيسى يَرجع إلى الدنيا ويُكذّب برجعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] فمحمد أحقُّ بالرُّجوع من عيسى، فقرَّر الرَّجعة في قلوبهم، وهو مع هذا يَغمز عثمان. ثم شرع في تقرير الوَصيّة فقال: قد كان ألفُ نبيّ، ولكلِّ نبيٍّ وَصيّ، وعليٌّ وصيُّ محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومحمد خاتم النبيِّين، فعليٌّ خاتم الوصيِّين، ثم قال: ومَن أظلَمُ ممّن أبطل وصيَّةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووَثَب على وَصيِّه فابتَزَّه حقَّه، وحكم في الأمة بغير حقّ، ثم إن عثمان أخذ الخلافةَ يغير حقّ، ووصيُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوْلى، وقد غيَّر عثمان وبَدّلَ ما كان ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة كلها في الطبري 4/ 396 - 400.

عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والشيخان بعده، فانهضوا في الأمر فحرِّكوه، وابدؤوا بالطَّعن علي أمرائكم، وأظهِروا الأمرَ بالمعروف، والنّهيَ عن المنكر، تَستميلوا الناس، وبثّ الدُّعاة. وكاتبَ الأمصارَ ممَّن كان قد استَفسدَهم فأجابوه، ودَعَوا في السّرِّ إلى ما دعا إليه، فأجابهم الناس، فقيل لعثمان: إن الأمصارَ قد فَسَدت عليك، وأخبروه الخبر، فقال: والله ما سمعتُ من هذا شيئًا، قالوا: بلى، فأرسِلْ رجالًا يَكشفوا لك الأمر، وَيرجعوا إليك بالأخبار، ويكونوا ممّن تَثقُ بهم. فبعث بمحمد بن مَسلَمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمار بن ياسر إلى مصر، فرجعوا جميعًا إلّا عمار بن ياسر، فإنه أقام بمصر، ولما رجع الرّسُل إلى عثمان استَبطؤوا عمار بن ياسر، فبينما هم كذلك إذ وَرد كتابُ عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح: إن عمارًا قد استماله قومٌ بمصر، وقد انقطعوا إليه، منهم: عبد الله بن السوداء، وخالد بن مُلْجَم، وسُودان بن حُمران وكنانة بن بِشْر. وروى الواقدي عن أشياخه، دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قال: كتب عثمان إلى أهل الأمصار: أما بعد، فقد رُفع إليّ أن أقوامًا يُشَنّعون عليَّ وعلى أمرائي؛ بغَصْب الأموال، وظُلم العباد، وفِعل المنكرات، فمن ادَّعى شيئًا من ذلك فلْيُوافِني بالموسم، فليأخُذْ بحقِّه مني ومن عُمّالي، فإنه لا يُرفع عليّ ولا عليهم شيءٌ من ذلك إلا رَددتُه، وليس لي ولعُمَّالي حقٌّ قبل الرَّعيَّة، فإما أن أدفعَ إليهم ذلك، أو تَتصدّقوا فإن الله يَجزي المتصدِّقين. فلما قُرئ كتابُه على أهل الأمصار بَكَوا ودعوا له وقالوا: إن الأمّة لتَتَمخَّضُ بالشرّ. ثم كتب إلى عُمَّاله فقدِموا عليه: عبد الله بن عامر ومعاوية وعبد الله بن سعد، وأدخلَ معهم في المشورة سعيد بن العاص وعمرو بن العاص، فقال: ويحكم، ما هذه الشِّكايات والإذاعات، والله إني لخائف أن تكونوا مَصدوقًا عليكم، وما يُعصَب هذا إلا بي، فقالوا: قد رجع إليك الرُّسُل الذين بعثتَهم إلى الأمصار بخلاف ما أُذيع وأُشيع، وما هي إلا شَناعة. قال: فأشيروا عليّ، فقال له سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع، يُعمَل في السّرّ، ثم يُلقى به غيرُ أهل المعرفة، فيُخبرون به، فيتحدَّثُ به الناسُ في مجالسهم، قال: فما

الحيلة؟ قال: طَلبُ مَن يَفعلُ ذلك، وقتلُ مَن خرج من عنده. وقال له عبد الله بن سعد: خُذْ من الناس الذي عليهم؛ فإنه أنفعُ لك من أن لا تأخُذَ منهم (¬1). وقال له معاوية: لا يأتيك من الشام إلا ما تُريد، قال: فما ترى؟ قال: حسْنُ الأدب. قال: يا عمرو، فما ترى؟ قال: إنك قد وَلَّيتَهم، وتراخيتَ عنهم، وزدتَهم على ما كان يَصنع عمر، فأرى أن تُديمَ طريقةَ صاحبَيك، فشِدَّةٌ في موضع الشِّدَّة، ولينٌ في مَوضع اللين. فقال عثمان: قد سمعتُ ما أشرتُم به، ولكلِّ أمرٍ باب يُؤتى منه، وهذا الأمر الذي يُخافُ منه كائنٌ لا مَحالة، وإن رَحَى الفتنةِ لدائرة، فطُوبى لعثمان إن مات ولم يُحرِّكها. وحكى الطبري عن موسى بن طلحة بن عبيد الله قال: أرسل عثمان إلى طلحة يَدعوه، قال موسى: فخرجت معه، فدخل على عثمان، وإذا عليّ وسعد والزبير ومعاوية، فحمد معاوية [الله]، وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: أنتم أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخِيرتُه في الأرض وولاةُ أمر هذه الأمة، لا يَطمع في ذلك أحدٌ غيركم، اخترتُم صاحبَكم من غير غَلَبةٍ ولا طَمَع، وقد كبرت سِنُّه، وولَّى عُمرُه، ولو انتظرتم به الهَرَم كان قريبًا، مع أني أرجو أن يكون أكرمَ على الله من أن يَبلُغَ به ذلك، وما عِبتُم عليه من شيءٍ فهذه يدي لكم به، ولا تُطمعوا الناسَ في أمركم، فوالله لئن طَمِعوا فيها؛ لا رأيتُم منها إلا إدبارًا. فقال علي - عليه السلام -: ومالك وهذا الأمر لا أُمَّ لك؟ ! فقال معاوية: دعْ عنك أمِّي، فليست بشرِّ أُمَّهاتكم؛ قد أسلمت وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجبني عما أقولُ لك. فقال عثمان: صدق ابنُ أخي -يعني معاوية- ثم قال عثمان: إني أُخبركم عني وعمّا وَليتُ: إن صاحبيّ اللذين كانا قبلي ظلما أنفُسَهما ومَن كان بسبيلٍ منهما احتسابًا، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعطي قرابتَه، وأنا في رَهْطٍ وعَيلَةٍ وفقرٍ وقلَّةِ معاش، فبسطتُ يدي ¬

_ (¬1) في الطبري 4/ 342: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتَهم الذي لهم، فإنه خير من أن تدعهم.

في شيءٍ من ذلك؛ لمكاني مما أقومُ به فيه، ورأيتُ أن ذلك لي، فإن رأيتُم أن ذلك خطأ فردُّوه، فإن أمري لأمركم تبَع. فقالوا: أعطيتَ عبد الله بن خالد بن أَسِيد خمسين ألفًا، ومروان خمسة عشر ألفًا، فقال: نَردُّ ذلك، فرضوا وانصرفوا راضِين. وكان معاوية قد قال لعثمان: اخرجْ معي إلى الشام، فإن أهل الشام لم يُغيِّروا ولم يُبدِّلوا، فقال: لا أختار على جِوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ولو كان فيه قَطعُ عُنُقي، قال: فأبعثُ إليك جيشًا يُقيم عندك، قال: لا أُقتِّر الأرزاقَ على أهل دار الهجرة، فقال: والله لتُغتالنَّ ولتُقتلَنّ، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، ومضى معاويةُ إلى الشام. وقال هشام عن أبيه: أولُ مَن خلع عثمان بالكوفة عَمرو بن زُرارة بن قيس والكُمَيل بن زياد النَّخعيَّان وقالا: إن عثمان قد تَرك الحقَّ وهو يَعرفه، وولّى شراركم على صُلحائكم، واستأثر بالأموال، وقد خَلَعناه وبايَعنا عليًّا - عليه السلام -. قال: وأوّلُ مَن خلعه بالمدينة عمار بن ياسر، نزع عِمامته وقال: اشهدوا أني قد خلعتُ عثمان كما خلعتُ عِمامتي هذه، ورمى بها إلى الأرض، فقال له سعد بن أبي وقاص: إنا لله، حين كَبرَ سِنُّك، ورق عظمُك خلعتَ رِبقةَ الإسلام من عُنقك، فقال عمار: مه إنه قد بدَّل وغَيَّر. وروى سيف عن مُبشِّر بن الفُضَيل وسهل بن يوسف، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص بمعناه، وقال: قدم عمار من مصر وأبي مريض، فبلغه فبعثني أدعوه، فلما دخل على سعد قال له: ويحك يا أبا اليقظان، إن كنتَ فينا لمن أهل الخير، فما الذي بلغني من سعيك في إفسادٍ بين المسلمين، والتَّأليب على أمير المؤمنين، فاهوى عمار إلى عمامته فنزعها، وذكره، فبكى سعد وقال: يا بُنيّ، مَن يَأمَنُ الفتنة، لا يَخرُجَنَّ منك ما سمعتَ منه. وروى سيف عن أشياخه والبلاذري وهشام قالوا: لما رأى الناسُ ما صنع عثمان كتبوا من المدينة إلى الآفاق: هَلُمّوا إلى الجهاد الأكبر، فاتّفق أهلُ الأمصار على المسير إلى عثمان، وتواعدوا أن يُوافوا المدينة في شوال أو في رجب هذه السَّنة، فخرج من مصر أربع رِفاق على أربعة أمراء: عبد الرحمن بن عُدَيس البَلَوي على رُبع،

وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي على رُبع، وكِنانة بن بِشْر التُّجيبي على رُبع، وسُودان بن حُمران السَّكوني على رُبع. واختلفوا في عددهم؛ هنقال سيف: المقلِّل يقول: كانوا ست مئة، والمكثر يقول: ألف، وقال هشام: كانوا أربع مئة، وقال الواقدي: كانوا خمس مئة، وقيل: سبع مئة، قال: وأميرُهم الغافقيّ بن حَرب العَكِّيّ، وكان فيهم ابنُ السَّوداء، وأظهروا أنهم يريدون الحجّ أو العُمرة، فإن كانوا خرجوا في رجب أظهروا العُمرة، وإن كانوا خرجوا في شوال فالحج، والظاهر أنهم خرجوا في شوال. قالوا: وخرج أهلُ الكوفة [في] أربع رِفاق، على عدد المصريين، وأُمراؤهم: الأشتر النَّخَعي، وزيد بن صُوحان العبدي، وزياد بن النَّضر الحارثي، وعبد الله بن الأصمّ أحد بني عامر بن صعصعة، وأميرُهم عمرو بن الأصم. وخرج أهل البصرة [في] أربعِ رفاق، وعددُهم على عدد أهل الكوفة، على كل رُبع أمير: حُكَيم بن جَبلة العبدي، وذَريح بن عَبّاد العبدي، وبشر بن شُريح الحُطَم القيسي، وسدوس بن عُبيس الشَّنِّي، وقيل: وابن المحرّش بن عبد عمرو الحنفي، وأميرهم جميعًا حُرقوص بن زهير السعدي، فأما أهل مصر فإنهم كانوا يُريدون عليًّا، وأما أهل الكوفة فهواهم مع الزبير، وأما أهل البصرة فيريدون طلحة. وكتب عبد الله بن سعد إلى عثمان يُخبره بخروجهم، فقال عثمان: والله ما خرجوا إلا طلبًا للفتنة، ولقد طال عُمري على الناس، ولئن فارقتُهم ليَتمنّون يومًا من أيامي. ثم دخل عثمان على علي في منزله وقال: يا ابن عمّ، إن لي قرابةً قريبة، ورَحِمًا ماسّة، وحقًّا عظيمًا، وهؤلاء قد عزموا على قتلي، وأنا أعلم أن لك عند الناس قدرًا، وأنهم يَسمعون منك فاركب إليهم فرُدَّهم عني، وأنا أصيرُ إلى ما تُريدون، ولا أخرج عن أمرك، وكانوا بذي خُشُب، فركب عليٌّ ومعه سعد، وسعيد بن العاص، وزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة وحسان بن ثابت، وعبد الرحمن بن عَتَّاب بن أسيد وجماعة من الصحابة، فالتقاهم ووَبَّخهم، وعنَّفهم في أمر عثمان، وضَمِن لهم ما أرادوا، فأظهروا أنهم راجعون إلى مصر، وجاءت الجموع فعادوا، فنزل بعضُهم ذا خُشُب، وبعضُهم الأعْوَص، وعامَّتُهم بذي المَرْوة.

قال البلاذري: وَرَد أهلُ مصر المدينة قبل ورود أهل العراق، فأتوا دار عثمان، ووثب معهم رجالٌ من الصحابة؛ منهم: عمار بن ياسر، ورِفاعة بن رافع الأنصاري وكان بدريًّا، والحجّاج بن عمرو بن غَزيّة وكان صحابيًّا، وعامر بن بُكَير الكِناني، فحصروه في داره، وهذا يُسمّى الحصار الأول. قال: ولم يُنكر أحدٌ من الصحابة عليهم، بل كانوا يأمرونهم بجهاد عثمان؛ إلّا ثلاثة: زيد بن ثابت، أعطاه عثمان مئة ألف درهم، وحسان بن ثابت، وأبو أُسَيد الساعدي، وهذه روايات الواقدي والبلاذري (¬1). رجع الحديث إلى سيف قال: فسار القوم من مصر والعراق، حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاثة أيام تقدَّم ناسٌ من أهل البصرة فنزلوا ذا خُشُب، وناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص، وناس من أهل مصر فنزلوا بذي المروة، وهم يُظهرون أنهم يَأمرون بالمعروف، ويسألون عثمان عن أشياء، ومشى فيما بين أهل مصر والعراق زياد بن النَّضْر وعبد الله بن الأصم وقالا: لا تَعجلوا حتى نَدخل المدينة ونَرتاد؛ فإنه قد بَلَغنا أنهم قد عسكروا لنا، فإن كان ذلك صحيحًا فقد خافوا واستَحلُّوا قتالنا، وإن كان باطلًا لم يخافوا منا، فقالوا: اذهبا. فدخل الرجلان المدينة، فأتيا أزواجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحةَ والزبير وعليًّا وقالا: إنما جئنا نَؤمُّ هذا البيت، ونستعفي هذا الرجل من بعض عُمّالنا، ما جئنا إلا لهذا، واستأذنوهم في الدُّخول، فأبوا عليهما، فرجعا إلى إخوانهم. ثم أتى نَفَرٌ من أهل مصر عليًّا، ونفرٌ من أهل الكوفة الزبير، ونفرٌ من أهل البصرة طلحة، وكلُّ طائفةٍ تقول: إن بايعنا صاحبنا (¬2)، وإلّا قاتلناهم وفرَّقنا جماعتَهم. قال سيف: فأتَوا عليًّا وهو في السُّوق عند أحجار الزيت، مُتقلِّدًا سيفَه؛ وقد سَرَّح الحسن إلى عثمان، فالحسن جالسٌ عند عثمان، وعليّ عند أحجار الزَّيت، فسلَّم المصريون على علي، وعرضوا له، فصاح بهم وطرَدَهم وقال: لقد علم الصالحون أن ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 180 - 181. (¬2) في الطبري 4/ 350: إن بايعوا صاحبنا.

جيشَ ذي المروة وذي خُشُب والأَعْوص مَلعون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فارجعوا لا صَحِبكم الله، قالوا: نعم وانصرفوا على ذلك. وأتى البصريون طلحة، وقد أرسل ابنه محمدًا على عثمان، فعرضوا له، فصاح بهم، وقال لهم مثلَ ما قال علي، وأتوا الزبير وقد سرّح ابنه عبد الله إلى عثمان، فردّ عليهم كذلك، فانصرفوا إلى عساكرهم مُظهرين الرجوع إلى أمصارهم، حتى تَفرَّق أهل المدينة، ويَكُرُّوا، فتفرَّق الناس، فلم يَشعروا إلا بالتكبير في جوانب المدينة، فأحاطوا بعثمان والمسجد، ونادى مُناديهم: مَن كفَّ يدَه فهو آمن. وصلّى عثمان بالناس أيامًا، ولزم الناس بيوتَهم، وجاءهم علي فقال: ما رَدَّكم بعد ذهابكم؟ فقالوا: وَجْدنا مع بريدٍ كتابًا بقتلنا، وقال البصريون لطلحة مثل ذلك، والكوفيون للزبير كذلك، قال: فقالوا: لا حاجةَ لنا في هذا الرَّجل، فليَعْتَزِلنا، وثبتوا على ذلك، وعثمان مع هذا يُصلّي بهم، ويَغشى عثمان من شاء منهم، وهم أحقرُ في عينه من التُّراب. وكتب عثمان إلى عماله يَستَمدُّهم ويقول: قد أغار الأعداء علينا في جِوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودارِ الهجرة، وتحزَّبوا كما تَحزَّبت الأحزاب، فالوَحا الوحا، فبعث معاوية حَبيبَ بن مَسلَمة الفِهريّ، وبعث ابن أبي سَرْح معاوية بن حُدَيج السَّكوني، وبعث أبو موسى من الكوفة القعقاع بن عمرو، فساروا نحو المدينة. وذكر هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: لما رأى عثمان ما قد نزل به ومَسيرَ الناس لقتله، كتب إلى معاوية: إن أهلَ المدينة قد كفروا وخلَعوا الطاعة، فابعث إليَّ مِن قِبلك من أهل الشام من المقاتِله على كلِّ صَعْبٍ وذَلول. فلما وَقف معاوية على كتابه تربّص عليه، وكره مُخالفةَ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد علم اجتماعهم عليه، فلما أبطأ جوابُه كتب إلى يزيد بن أسد والي أهل الشام يَستنفرهم، ويُعظّم حَقَّه عليهم، ويذكر ما يَجب من طاعته، ويقول في آخر كتابه: فإن كان عندكم غِياث فالعَجَل العَجَل، فنفر يزيد في أهل الشام. وكتب عثمان إلى ابن عامر بالبصرة مثل ذلك، فقرأ ابن عامر كتابَه على أهل البصرة، فأجابوا إلى قتال مَن قصد عثمان، وأول مَن تكلَّم يومئذ مُجاشع بن مسعود

السُّلمي، فقدَّمه على الناس وساروا. فأما يزيد بن أَسَد فلما وصل وادي القُرى بلغه قتل عثمان فرجع، وأما مُجاشع فلما وصل إلى الرَّبَذَة، ونزلتْ مُقدّمته عند صِرار، أتاه قَتْلُ عثمان فرجع. وكان جماعةٌ من الصّحابة والتابعين يُحرِّضون الناس على نُصرة عثمان والذَّبِّ عنه، منهم بالكوفة: عُقبة بن عامر، وعبد الله بن أبي أوفى، وحَنظلة بن الربيع التميمي، في خلق من الصحابة، ومن التابعين أصحاب عبد الله بن مسعود: مسروق بن الأجدَع، والأسود بن يزيد، وشُريح القاضي وغيرهم، وكانوا يمشون على المجالس ويقولون: انهضوا لنَصْر خليفتكم وعصمةِ أمركم، وبالبصرة عمران بن الحصين وأنس بن مالك وأمثالهما من الصحابة، ومن التابعين: كعب بن سُور وهَرِم بن حَيَّان العبدي وأشباههما، وبالشام عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وغيرهما، ومن التابعين أيضًا أبو مسلم الخولاني وعبد الرحمن بن غَنْم وغيرهما، وبمصر خارجة وأمثاله. وقال ابن سعد بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: لما نزل المصريون بذي خُشُب دعا عثمان محمد بن مَسلمة وقال: اذهب إليهم فاردُدْهم عني وأعطهم الرضى، وأخبرهم أني فاعلٌ وفاعلٌ بالأمور التي طَلبوا، ونازع عن كذا وكذا للأمور التي تكلَّموا فيها، فركب محمد بن مسلمة إليهم إلى ذي خُشُب، وأرسل معه عثمان خمسين فارسًا من الأنصار، وقال جابر: أنا فيهم. وكان رؤساؤهم أربعة: عبد الرحمن بن عُدَيس البَلَوي، وسُودان بن حُمْران المرادي، وابن البَيَّاع، وعمرو بن الحَمِق الخُزاعي، وقد كان الاسم غلب محليهم، حتى كان يقال: جيشُ ابنِ الحَمِق. فأتاهم محمد بن مسلمة فقال: إن أمير المؤمنين يقول كذا وكذا، وأخبرهم بقوله، فلم يزل بهم حتى رجعوا، فلما كانوا بالبُوَيب رَأَوا جملًا عليه مِيسَمُ الصَّدَقة، فأخذوه، فإذا غلامٌ لعثمان، فأخذوا مَتاعَه ففتَّشوه، فوجدوا فيه قَصَبةً من رَصاص، فيها كتاب في جَوفِ الإداوة في الماء: إلى عبد الله بن سعد أن افعل بفلان كذا، وبفلان كذا وكذا، من القوم الذين شرعوا في عثمان، فرجع القوم ثانيةً حتى نزلوا بذي خُشُب، فأرسل عثمان إلى محمد بن مَسلمة أن: اخرُج فاردُدْهم عني، قال محمد: لا أكذب

في سنةٍ مَرَّتين ولم يَخرُج، قال: فقدموا حتى حصروا عثمان. وروى ابن سعد، عن الواقدي، عن أشياخه: أن عثمان أنكر أن يكون كتب الكتاب، أو أرسل ذلك الرسول، وقال: فُعل ذلك دوني (¬1). وقال محمد بن السائب الكلبي، وروى الطبري طرفًا من ذلك، عن أشياخه قالوا: لما صار القوم بظاهر المدينة خرج إليهم عثمان بنفسه، وكره أن يدخلوا عليه المدينة، فأتاهم فسلَّم عليهم، فدَعَوا بالمصحف فقالوا: افتح السابعة (¬2) -يعنون سورة يونس، وكانوا يُسمّونها بذلك- وقالوا: اقرأ: {قُلْ أَرَأَيتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} فلما قرأها ووصل إلى قوله {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [59] قالوا: قف، فوقف، فقالوا: أرأيتَ ما حَميتَ من الحِمى، وما فعلتَ وفعلتَ، وعَدُّوا أفعاله، منها: إتمامُه الصلاةَ بمنى، وردُّ عمِّه الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، واستعمالُه الأحداث من بني أمية، وإعطاؤه مروان خُمس إفريقية، وإحراقُه المصاحف، ونفيُه أبا ذرّ وابنَ مسعود وعامر بنَ عبد قيس، وضربُه لعمار وابن مسعود، وصعودُه إلى مكان رسول الله ونحو ذلك- ثم قالوا: الله أذِن لك في هذا أم على الله تفتري؟ ! فاعتذر إليهم، واستغفر الله، وأخذ رؤساءهم، ودخل المدينة فقام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: والله ما رأيتُ وفدًا خيرًا من وَفدنا هؤلاء، أما كوني صليتُ بمنى أربعًا؛ فإنه كان لي أهلٌ بمكة، وأما كوني حميتُ الحِمى؛ فقد حماه عمر قبلي، وأما كوني رددتُ عَمِّي الحكم؛ فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَعَدني برَدِّه في مرضه الذي تُوفّي فيه، فشهدتُ عند أبي بكر فقال: إنك شاهد واحد، ولا تُقبل شهادةُ الواحد، ثم قال لي عمر كذلك، فلما صار الأمر إليّ قضيتُ فيه بعلمي، ولي أن أفعل ذلك. وقولهم: استعملتُ الأحداث، فقد استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَتَّاب بن أَسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة، واستعمل زيد بن حارثة وابنه أسامة وهما صبيان، وأعطيت ¬

_ (¬1) الخبران في طبقات ابن سعد 3/ 62 - 63. (¬2) وكذا في تاريخ دمشق (عثمان) 327، وفي الطبري 4/ 354: التاسعة.

مروان الخمس وإنما هو من مالي، فلما كرهوا ذلك رددتُه. وأما تحريق المصاحف فلأنّي نسختُ مصحفًا واحدًا، وخِفتُ اختلافَ الناس في الزيادة والنقصان، فحسمتُ مادَّة الخلاف بجَمعي لهم على مصحف واحد. وأما نفيي لأبي ذر فإنه كَثَّر عليَّ وشَنَّع، فدفعتُ الفتنة، وقد رددتُه فأبى، ولم أر في تأديبه أبلغ من إبعاده عن المدينة. وأما صِلتي لأقاربي فإنما وصلتُهم من مالي، وأما إبعادي للمسيَّرين من الكوفة فإنهم قصدوا إفساد الأمور فأبعدتُهم عنها. وأما اتِّخاذي الحُجَّاب فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُستَأذن عليه. وأما صعودي إلى مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كقيامي مكانَه في المحراب، فأردتُ أن أُعلم الناس جوازَ ذلك. وفي رواية: ولو لم أفعل لنزل كلُّ إمام درجة، فيَخطبون تحت الأرض. وأما تفويضي الزكاةَ في الأموال إلى أربابها؛ فإنما فعلتُ ذلك لأني رأيتُ الأموال قد كَثُرت، فخشيتُ أن يُطالبَ الرَّجلُ بباطن حاله، وما لا يعلمه المطالب، فيُحْرجه ذلك إلى العصيان، فاكتفيتُ بالأموال الظاهرة. وأما مَن مات ممن نفيتُه فارضوا بالله حكمًا بيني وبينه، ومَن بقي فردُّوه، ومن ضربتُه فليقتَصَّ مني. وأما عمَّالي فمَن شئتم فاعزِلوه، ومَن شئتُم فابقوه، واكتبوا عليَّ صِكاكًا بالمال الذي قلتُم إني فرَّطتُ فيه، فما قدرتُ عليه قمتُ به، وما عجزتُ عنه سعيتُ فيه. فقالوا: لا تُعطوا العطاءَ إلا للمقاتلة، قال: نعم، فأخذوا عليه المواثيق والعهود، وأخذ عليهم أيضًا، ووقّع الرضى بمحضرٍ من الصحابة، ونادى عثمان: مَن كان له ضَرْع فليلحق بضرْعه، ومَن كان له زَرعٌ فليَلْحق بزرعه، ألا لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، وللشّيوخ من الصحابة، فغضب أهل المدينة وقالوا: هذا من مكر بني أمية. ورحل المصريون إلى مصرهم، فبينما هم في الطريق إذا براكب يتعرَّض لهم، ثم

يُفارقهم، فأخذوه ففتَّشوه، وإذا معه كتابٌ إلى ابن أبي سرح بقتلِهم، فرجعوا إلى المدينة، فدخلوا على علي وطلحة والزبير والصحابة، فأوقفوهم على الكتاب وقالوا: قد أباح الله دمه، ثم أتوا إلى داره فحصروه، وخرج علي إلى ظاهر المدينة فأقام بقرية. وحكى الطبري عن عمرو بن حماد بن طلحة القَنَّاد، وعلي بن الحصين، بإسنادهما إلى عبد الرحمن بن يسار قال: لما رأى الناسُ ما صنع عثمان، كتب مَن بالمدينة من الصحابة إلى مَن بالآفاق منهم، وكانوا قد تفرّقوا في البعوث: إنكم إنما خرجتم لتجاهدوا في سبيل الله، تنصرون دينَ محمد - صلى الله عليه وسلم -، ودينُ محمد قد أُفسِدَ خلفَكم، فهلمُّوا فأقيموا دينَ محمد، فأقبلوا من كل أُفق إلى عثمان. وكتب عثمان إلى ابن أبي سَرْح عاملِه على مصر -حين تراجع الناس، وزعم عثمان أنه تائب، وكان أهل مصر أشدَّ الناس عليه، فكان في كتابه: انظر فلانًا وفلانًا إذا قدموا عليك فاضرب أعناقَهم، وعاقب فُلانًا بكذا وكذا، وفلانًا بكذا وكذا، منهم نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونفرٌ من التابعين، وكان رسوله في ذلك أبو الأعور السُّلَمي، حمله عثمان على جَمل له، وأمره أن يَسبق القوم إلى مصر، فلحقهم أبو الأعور ببعض الطريق، فقالوا: إلى أين فقال: إلى مصر، ففتَّشوه فوجدوا الكتابَ المذكور، فعادوا إلى المدينة فقتلوه. وحكى الطبري عن ابن الكلبي أنهم قالوا لعثمان: هذا غُلامك على جملك قال: انطلق بغير أمري، وأخذ الجملَ بغير علمي، قالوا: فنقش خاتمك؟ قال: نُقِش عليه (¬1). وقال الواقدي: لما قال عثمان ما علمتُ بالكتاب قالوا: لا يخلو، إما أن تكون كاذبًا أو صادقًا، فإن كنتَ كاذبًا فقد استحققْتَ الخلع لما أمرتَ به من سفك دمائنا، وإن كنتَ صادقًا فقد وجب خلعُك لضعفك وغَفْلتك وخُبث بِطانتك، وإنه لا يجوز تركُ هذا الأمر مع مَن يكون بهذه الصفة، ثم إنك أحدثتَ أحداثًا عظيمة، فاستحققتَ بها الخلع، فإذا كُلِّمتَ فيها أعطيتَ التوبة ثم نكَثْتَ، فقال: فأنا تائبٌ، فقالوا: لا نَقبل ¬

_ (¬1) الخبران في الطبري 4/ 367 - 368.

توبةَ ناكث، ولا نزال حتى تخلعَ نفسَك من هذا الأمر، ونُولّيه مَن يَصلح، فقال: لا أفعل، ولو أردتُ قتالكم لكتبتُ إلى أمُراء الأجناد، فجاؤوا بالجيوش فقاتلوكم، فقالوا: فقد كتبتَ. وقال هشام: وكان في الجمع الذين ساروا من مصر إلى عثمان محمد بنُ أبي حُذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس، ومحمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وكان السبب في خروج محمد بن أبي حُذيفة على عثمان، أنه كان يتيمًا في حِجْر عثمان، وكان مُحسنًا إليه، فلما شبَّ محمد سأل عثمانَ أن يَستعمله فأبى، فاستأذنه في الخروج فقال: اذهب أين شئتَ، فخرج إلى مصر، وقام يُؤلّب عليه. قال ابن سيرين: وأما محمد بن أبي بكر فكان في الإسلام بمكان عظيم، ومنزلةٍ عالية من عثمان، فما زال مروان بن الحكم يُغري بينهما ويقول: إن محمدًا يَروم الخلافة، حتى مَنعه عثمان العطاء، ونال منه، وكتب في حقّه ذاك الكتاب، وأما عمرو بن العاص فعزله عن مصر، وكان أشدَّ الناس عليه هو وعمار لأنه ضربه، كما ذكرنا. ولما جاء المصريون، ونزلوا ذا خشب، وقال عثمان لمحمد بن مَسلمة: اخرج إليهم فامتنع؛ قال عثمان للمغيرة بن شُعبة: اخرج إليهم فخرج، فصاحوا به: يا أعور، يا فاسق، يا زاني، يا عدوَّ الله، ارجع وإلا قتلناك، فقال عثمان لعمرو بن العاص: اخرج إليهم فخرج، فصاحوا به: يا ابن النابغة، ارجع فلستَ عندنا بأمين، فقال عثمان لعلي: اخرج إليهم، فقال: على أن تُعطيني عهدَ الله وميثاقَه أن لا تُخالِفَني، فأعطاه، فخرج إليهم، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: بل أمامي، إن عثمان يَدعوكم إلى كتاب الله وسنَّة رسوله، فقالوا: أضامِنٌ عنه أنت؟ قال: نعم، قالوا: رَضينا. وخرج أشرافُهم معه، فدخلوا على عثمان، فعاتبوه وعاتبهم، وضَمِن لهم كلَّ ما أرادوا، فقالوا: اكتب بيننا وبينك كتابًا، فكتب: من عبد الله عثمان لمن نَقم عليه من المسلمين، أن لهم عليه العمل بكتاب الله، وسنّة رسوله، وأنه يُعطي المحروم، ويؤمّن الخائف، وَيردُّ المنفي، ويُوفِّر الفيءَ، وعلي بن أبي طالب ضَمينٌ عنه بالوفاء بما فيه، شهد بذلك طلحة والزبير وسعد وابن عمر وزيد بن ثابت وآخرون، وكتب في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين، وأخذوا بالكتاب نُسخًا وانصرفوا.

فقال علي لعثمان: إن البلاد قد تَمخَّضت عليك، ولا آمَنُ أن يأتيَ ركبٌ آخر من بعض الأمصار فتقول لي: اخرج إليهم، فإن لم أفعل قلتَ: قطعتَ رَحِمي، فاصعد المنبر، فتكلَّم بكلام يَحمله الناس عنك، وأشْهِد اللهَ على ما في قلبك. فصعد عثمان المنبر، فأقرَّ بما فعل، واستغفر ربّه وقال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن زلَّ فليَتُبْ، ومَن أخطأ فليتُبْ، ولا يَتمادى في الهَلكة"، فوالله لئن رَدَّني إلى الحقّ عبدٌ لأتَّبعتَّه، ولأستَنَّ بسنَّة العَدْل، ولأذِلَّنَ ذلَّ العبد المرقوق، إن مُلِك صبر، وإن عَتق شكر، وأنا أوَّل مَن اتَّعظ، وما عن الله مَذهب، فإذا نزلتُ فليأتِني أشرافُكم، فلْيَروا فيَّ رأيَهم، فقام إليه سعيد بنُ زيد بن عمرو بن نُفَيل فقال له: الله الله في نفسك، فأتمّ على ما أنت. ونزل عثمان، وسُرَّ الناسُ بقوله، واجتمعوا إلى بابه مُبتهِجين بما كان منه، فخرج إليهم مروان فزبرهم، وقال: شاهت الوجوه، انصرفوا فإن أمير المؤمنين مشغول. وبلغ عليًّا ما قال مروان، فدخل على عثمان وقال له: ما رضي مروان منك إلا بإفساد دِينك، وخديعته إياك عن عقلك، والله إني لأراه يُوردُك ولا يُصدرك، وما أنا بعائدٍ إليك بعد يومي هذا، ثم خرج وعثمان ساكت، فقالت له زوجه نائلة بنت الفَرافِصة: إنه لا قَدرَ لمروان عند الناس ولا هيبة، فابعث إلى عليٍّ فأرضه، فأرسل إليه فلم يأته. وأما المصريون فإنهم لما وصلوا أَيلَة لَقَوا عندها عبدًا على بعير، فاستخرجوا منه كتابًا إلى عبد الله بن سعد، وفيه ضَربُ عُنقِ ابن عُدَيس، وقطع أيدي الباقين وأرجلهم، ويتركون يَتشحَّطون في دمائهم حتى يموتوا، فعادوا إلى المدينة، فدخلوا على عليّ وناولوه الكتاب، فعرف أنه خَتْم عثمان، فجمع عليٌّ كبارَ الصحابة، ودخلوا على عثمان فقالوا: أتعرفُ هذا الكتاب؟ فقال: أما الخطُّ فخطُّ كاتبي، وأما الخاتم فخاتمي، فقال له علي: فمن تَتَّهم؟ فقال: لا أتَّهِمُك ولا أتَّهم كاتبي، فقام علي مغضبًا وهو يقول: والله إنه لكتابُك وأمرُك. وقال ابن إسحاق: أشار كبار الصحابة على عثمان بعزل عبد الله بن سعد عن مصر، وتَوليةِ محمد بن أبي بكر، فكتب لمحمد عهدَه، وخرج مع المصريين، فأرسل مروان كتابًا إلى ابن سعد بقتل محمد والمصريين، فالتقوا عبدَ عثمان على بعير، ومعه الكتاب

المذكور -والكتاب بخطّ مروان- فعادوا إلى علي، فدخل علي وطلحة والزبير على عثمان، فقالوا: ما هذا؟ فأنكر، فقال: العبدُ عَبدُك، والبعير بعيرُك، والكتاب بخطِّ كاتبك، والختم خاتمك، فإن كنتَ فعلتَ فاعترف، فقال: والله ما عَلِمتُ به، فقالوا: فسلّم إليهم مروان، فأبى، فقاموا من عنده، ولَزِموا منازلَهم حنقًا عليه. وقال هشام: وكان في الكتاب: واذبحْ محمد بنَ أبي بكر، واحشُ جلدَه تبنًا. وقال له المصريون: يا عثمان قد حلفتَ لنا ونكثتَ وأنكرتَ، وقد وجب خلعُك وقتلُك؛ لأنه لا يَخلو إما أن تكونَ كاذبًا أو صادقًا، وقد ذكرناه. وقال سيف بن عمر عن أشياخه: ولما جاءت الجمعة التي على أثر نُزولِ الجموع حول المدينة، وقد دخل منهم جماعةٌ إلى المسجد، ونزلوا حوله، خرج عثمان، فصعِد المنبر فقال: يا هؤلاء العِدى، اللهَ اللهَ، إن أهل المدينة ليَعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فامحوا الخطايا بالصَّواب فإن الله لا يَمحو السِّيِّئَ إلا بالحَسَن. فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهدُ بذلك، فأخذه حُكَيم بن جَبَلة فأقعده، وقام زيد بن ثابت فثار إليه محمد بن أبي قُتَيرة فأقعده، وثار القوم بأجمعهم، فحَصَبوا عثمان حتى وقع عن المنبر مَغشيًّا عليه، وحَصَبوا الناس فأخرجوهم من المسجد، واحتُمل عثمان فأُدخل دارَه، وتفرَّق الناس من أهل المدينة في حيطانهم، ودخل علي وطلحة والزبير والصحابة على عثمان يَعودونه من صَرعته، وعزم قومٌ على القتال، منهم: سعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، والحسن بن علي، فأرسل إليهم عثمان يَنهاهم فكَفُّوا. وقال سيف: صلّى بهم عثمان عشرين يومًا، ثم مَنعوه من الصّلاة. وفي رواية سيف أيضًا عن محمد وطلحة وأبي حارثة قالوا: صلّى عثمان بالناس ثلاثين يومًا بعدما نزل القوم في المسجد، ثم مَنعوه الصَّلاةَ، وصلَّى بالناس أميرُ المصريين الغافقي، وتفرَّق أهلُ المدينة في حيطانهم، ولزموا بيوتَهم، لا يَخرج أحدٌ منهم ولا يَجلس ولا يَمشي إلا وعليه سيفُه خوفًا على نفسه، وكان الحصار الأوَّل عشرين يومًا، والحصار الأخير أربعين يومًا. وحكى الواقدي عن أشياخه، منهم: عبد الله بن جعفر، حدَّثه عن أبي عَوْن مولى

المِسوَر قال: كان عمرو بن العاص عاملًا لعثمان بمصر على الخراج، فعزله عن الخراج، واستعمله على الصلاة، واستعمل عبد الله بن سعد على الخراج، ثم جمعَهما لعبد الله بن سعد. فلما قدم عمرو بن العاص المدينة جعل يَطعن علي عثمان، فأرسل إليه عثمان يومًا وكان خاليًا، فجاءه فقال: يا ابن النابغة، ما أسرع ما [قَمِل جُرُبَّانُ] جُبَّتك، إنما عَهدُك بالعمل عامَ أوَّل، أتطعن عليَّ، وتأتيني بوَجهٍ وتَذهبُ عني بآخر؟ ! والله لولا الله لفعلتُ وفعلتُ، فقال له عمرو: اتّقِ الله يا أمير المؤمنين، فإن كثيرًا مما يَنقل الناسُ إلى وُلاتهم باطل. فقال له عثمان: والله لقد استعملتُك على ظَلَعِك وكَثرةِ القالة فيك، فقال عمرو: قد كنتُ عاملًا لعمر بن الخطاب قَبلَك، ففارقَني وهو عني راضٍ، فقال له عثمان: والله لو أخذتُك بما أَخَذك به عمر لاستقمتَ، ولكنني لِنتُ لك، فاجترأتَ عليّ، أما والله لأنا أعزُّ منك نَفرًا في الجاهلية، وقبل أن ألي هذا السُّلطان. فقال له عَمرو: دع عنك هذا، إن الإسلام قد جَمعنا، فالحمد لله الذي هدانا بمحمد وأكرمنا به، قد رأيتُ العاص بن وائل ورأيتُ أباك عفّان، فوالله لَلعاص كان أشرفَ من أبيك، فانكسر عثمان وقال: ما لنا ولذِكر الجاهلية. ثم خرج عمرو ودخل مروان فقال: يا أمير المؤمنين، قد بلغتَ مَبلغًا يَذكر عمرو بنُ العاص أباك! فقال عثمان: دع هذا عنك، مَن ذكر أبا الرجل ذكر أباه. وخرج عمرو من عند عثمان وهو حَنقٌ عليه، فأتى عليًّا فألّبه على عثمان، وأتى طلحة والزبير ففعل كذلك، وجعل يتعرَّض للحاج، فيُخبرهم بما أحدث عثمان، فلما كان الحصار الأول خرج عمرو من المدينة، فنزل فلسطين بمكان يقال له: السَّبْع، في قصرٍ يقال له: العَجلان، وجعل يقول: العجب مما يأتينا عن ابن عفان. قال: فبينا هو جالسٌ في القصر ومعه ابناه محمد وعبد الله وسلامة بن رَوْح الجُذاميّ؛ إذ مرَّ بهم راكب، فناداه عمرو: من أين قَدِم الرجل؟ قال: من المدينة، قال: ما فعل الرجل -يعني عثمان؟ قال: تركتُه محصورًا شديد الحصار، فقال عمرو: الله أكبر، أنا أبو عبد الله، قد يَضْرُطُ العَيرُ والمِكواةُ في النَّار (¬1). ¬

_ (¬1) انظر جمهرة الأمثال 2/ 123، ومجمع الأمثال 2/ 95.

فلم يبرح مجلسَه حتى مرَّ به راكبٌ آخر، فناداه عمرو: ما فعل الرجل؟ قال: قُتل، قال: الله أكبر، أنا أبو عبد الله، إذا حَككتُ قَرحةً نَكأتُها، إن كنتُ لأُحرِّضُ عليه حتى الراعي في غنمه في شواهق الجبال. فقال له سلامة بن رَوْح الجُذاميّ: يا معاشر قريش، إنه قد كان بينكم وبين العرب بابٌ وَثيقٌ فكسرتُموه، فما حملكم على ذلك؟ فقال: أردْنا أن نُخرجَ الحقَّ من خاصرة (¬1) الباطل، وأن يكون الناس في الحقِّ شَرَعًا سواء. وكانت عند عمرو يومئذ أمُّ كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيط، أخت عثمان لأمِّه، ففارقها حين عَزله عثمان. فقال أبو القاسم السِّمناني: أوَّلُ رجلٍ لَقيه عمرو قال له: ما اسمُك؟ قال: حرب، قال: حورب والله الرجل، وسأل الثاني فقال: ما اسمُك؟ فقال: مقتول، قال: قُتل الرجل، ثم قال: ما وراءك؟ قال: وَلَّوا ابن أبي طالب، فقال: جاءنا والله شرٌّ من الذي ذهب. وقال الواقدي: حدثني شُرحبيل بن أبي عَون، عن أبيه قال: سمعتُ عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يَغوث يقول: قبَّح الله مروان بن الحكم، خرج عثمان إلى الناس فأعطاهم الرِّضا، وبكى على المنبر، وبكى الناسُ حتى نظروا إلى لحية عثمان مُخضلَّةً بالدُّموع، وهو يقول: اللهمَّ إني أتوب إليك -ثلاثًا- والله، لو رَدَّني الحق إلى أن أكون عبدًا لأرضيَنَّ به، إذا دخلتُ إلى منزلي فادخلوا عليَّ، فوالله لا أحتجبُ منكم، ولأُعطينّكم الرِّضا، ولأزيدنّكم على الرِّضا، ولأُنَحِّيَنَّ مروان وذريته (¬2). قال: فلما دخل أمر بالباب ففُتح، ودخل عليه مروان، فلم يزل يَفتِلُه في الذِّروة والغارب حتى ألفته عن رأيه، وأزاله عما كان يُريد أن يفعل، فلقد مكث عثمان ثلاثةَ أيام لا يَخرج حياءً من الناس، وخرج مروان إلى الناس فقال: شاهَت الوجوه، ارجعوا إلى منازلكم، فإن يكن لأمير المؤمنين حاجةٌ إلى أحدٍ منكم يُرسل إليه، وإلا قَرَّ في بيته. قال عبد الرحمن: فأتيتُ عليًّا وهو بين القبر والمنبر، وعنده عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر، وهما يقولان: صَنع مروان بالناس وصَنع وصَنع، فقال لي علي: ¬

_ (¬1) في الطبري 4/ 357: حافرة. (¬2) في الطبري 4/ 363: وذويه.

حَضرتَ خُطبةَ عثمان؟ قلتُ: نعم، قال: أفحضرتَ مقالةَ مروان للناس؟ قلتُ: نعم، فقال علي: إن قعدتُ في بيتي قال: تركتَني وقرابتي وحقِّي، وإن تكلَّمتُ فجاء بما يريد يَلعبُ به مروان كيف أراد، ويَسوقه حيث شاء، بعد كِبَر السنِّ وصُحبةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال عبد الرحمن: فلم يقم عليّ حتى جاء رسول عثمان يقول: ائتِني، فقال علي بصوتٍ مُرتفعٍ مغضبًا: قل له ما أنا بداخل عليك، ولا عائدٍ إليك، قال: فانصرف الرسول، فلقيتُ عثمان بعد ذلك بليلتين جائيًا، فسالتُ غُلامَه: من أين جاء؟ فقال: كان عند علي. قال عبد الرحمن: فغدوتُ على عليّ فقال: جاءني عثمان البارحة، فجعل يقول: إنني غيرُ عائدٍ، وإني فاعل كذا وكذا، فقلتُ له: أبعد ما تكلَّمتَ على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعطيتَ من نفسك، ثم دخلتَ بيتك، وخرج مروان إلى الناس يَشتمهم على بابك، ويؤذيهم وأنت تَسمع، قال: فرجع وهو يقول: قطعتَ رَحِمي، وخذلتَني، وجرَّأتَ الناس عليّ، فقلتُ: والله إني لأذبُّ الناس عنك، ولكن كلما جئتُك بهَنَةٍ أظنُّها لك رضًا سمعتَ قولَ مروان، واستدخلتَ مروان، ثم لم يزل علي حتى أدخل الرَّوايا على عثمان. وقال أحمد بإسناده عن محمد بن عبد الملك بن مروان، أنه حدثه عن المغيرة بن شعبة: أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال له: إنك إمامُ العامّة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أَعرضُ عليك خصالًا ثلاثًا اختر إحداهُنّ: إما أن تَخرج فتُقاتلَهم، فإن معك عَددًا وقوَّة، وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن نَخرق لك بابًا سوى الباب الذي هم عليه، فتَقعُدَ على رَواحِلك، فتَلحقَ بمكة، فإنهم لن يَستَحِلُّوك وأنت بها، وإما أن تَلحقَ بالشام، فإنهم أهلُ الشام، وفيهم معاوية. فقال عثمان: أمّا أن أخرجَ فأُقاتلْ، فلن أكونَ أوَّلَ مَن خَلَف رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته بسفك الدِّماء، وأمّا خُروجي إلى مكة فإنهم لن يَستَحلُّوني بها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُلحِد رجلٌ في الحَرم من قريش أو بمكة، يكونُ عليه نصفُ عذاب العالم"، وأمّا أن ألحَقَ بالشام، فلن أُفارقَ دارَ هجرتي، ومجاوَرةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (481).

وقال أحمد: حدثنا إسماعيل بن أبان الوَرَّاق، بإسناده عن ابن أَبْزى، عن عثمان بن عَفَّان قال: قال لي عبد الله بن الزبير: إنّ عندي نجائبَ أعدَدْتُها لك، فهل لك أن تتحوَّلَ إلى مكة فيَأتيك مَن أرادَ أن يأتيك؟ قال: لا، إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُلحِد بمكة كَبْشٌ من قُريشٍ، اسمُه عبد الله، عليه مِثلُ نصفِ أوزارِ الناس" (¬1). ذكر ما قالوا لعثمان في خلْعه وما قال لهم: قال ابن سعد بإسناده عن نافع، عن ابن عمر قال: قال لي عثمان وهو مَحصورٌ في الدار: ما ترى فيما أشار به عليَّ المغيرةُ بنُ الأخنس؟ فقلت: وما الذي أشار به؟ قال: قال لي: إن هؤلاء القوم يُريدون خَلعي، فإن خَلَعْتُ تركوني، وإن لم أخلَع قتلوني، قال: فقلتُ: أرأيتَ إن خَلَعْتَ تُتْرَك مُخَلَّدًا في الدنيا؟ قال: لا، قلتُ: فهل يَملكون الجنةَ والنّار؟ قال: لا، قلتُ: أرأيتَ إن لم تَخْلَع هل يَزيدون على قتلك؟ قال: لا، قلتُ: فلا أرى أن تَسُنَّ هذه السُّنَّةَ في الإسلام، كلما سَخِط قومٌ على أميرهم خَلَعوه، لا تَخْلَع قميصًا قَمَّصَك الله. وروى ابن سعد عن عثمان أنهم كانوا يَدخلون عليه وهو مَحصور، فيقولون: اعتزِلْنا، فيقول: لا أَنزِعُ سِربالًا سَرْبَلَنيه الله عزَّ وجلَّ، ولكن أَنزِعُ عما تكرهون. قال ابن سعد بإسناده عن عبد الرحمن بن جُبير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمان: "إنْ كساك الله يومًا سِربالًا، فأرادك المنافقون على خَلْعه فلا تَخْلَعْه لظالم". وقال ابن سعد بإسناده عن أبي سَهْلة مولى عثمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه: "وَدِدْتُ أنّ عندي بعضَ أصحابي"، فقالت عائشة: فقلتُ: يا رسول الله، أدعو لك أبا بكر؟ فسكتَ، فعرفتُ أنه لا يُريده، فقلتُ: أَدْعُو لك عمر؟ فسكتَ، فعرفتُ أنه لا يُريده، فقلتُ: أدعو لك عثمان بن عفان؛ قال: "نعم"، فدعوتُه، فلما جاء أشار إليَّ ¬

_ (¬1) مسند أحمد (461) وإسناده والذي قبله ضعيف، ومتنه منكر، وانظر الكلام عليهما في المسند. وجاء في هامش (خ) ما نصه: أنا أتعجب من أمره غاية العجب، فإني ما رأيتُ كتابًا فيه تفصيل قصة عثمان - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد كتب فيه أنه - رضي الله عنه - كلما عُرض عليه من أمر الحرب شيء يمنعه غاية المنع، حتى نقل عنه نقلًا مستفيضًا أنه قال يومًا لعبيده وقد رأى بعضهم يريد القتال: مَن ألقى سلاحه فهو حرّ، ومع هذا فقد أجمع أهل التاريخ أن عثمان - رضي الله عنه - كتب إلى عماله بإرسال الجيوش إليه، وقد ذكر في هذا الكتاب أيضًا في مواضع كثيرة.

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن تَباعدي، فجاء عثمان، فجلس إليه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له ولَونُ عثمانَ يتغيَّر. قال قيس: فأخبرني أبو سَهْلةَ قال: لما كان يومُ الدَّار قيل لعثمان: ألا تُقاتل؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَهِد إليَّ عهدًا وأنا صابرٌ عليه، قال أبو سهلة: فيرُون أنه ذلك اليوم. وقال ابن سعد بإسناده عن أبي أمامة بن سهل، قال: كنتُ مع عثمان في الدار وهو مَحصور، فخرج إلينا مُنْتَقِعًا لونُه فقال: إنهم لَيَتَوعَّدونني بالقتل آنِفًا، قلنا: يَكفيكَهم الله، فقال: ولمَ يَقتلونني وقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجلٍ كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نَفْسًا بغير حقّ، أو بغير نفس"، ووالله ما رنيتُ في جاهليةٍ ولا إسلام قط، ولا تمنَّيتُ أن [لي] بدِيني بَدَلًا منذ هداني الله، ولا قتلتُ نفسًا، ففيم يَقتلونني؟ وقال ابن سعد بإسناده عن مجاهد قال: أشرفَ عثمان على الذين حصروه فقال: يا قوم، لا تقتلوني فإني والٍ وأخٌ مُسلم، فوالله إنْ أردتُ إلا الإصلاح ما استطعتُ، أصبتُ أو أخطأتُ، وإنكم إنْ تقتلوني لا تُصلُّون جميعًا، ولا يُقسَم فَيئكُم بينكم أبدًا، فلما أَبَوا قال: اللهمَّ أَحْصِهم عددًا، واقتُلْهم بَدَدًا، ولا تُبقِ منهم أحدًا. قال مجاهد: فقتلَ الله منهم مَن قتل في الفتنة، وبعث يزيد إلى أهلِ المدينة عشرين ألفًا، فأباحوا المدينة ثلاثًا؛ يَصنعون ما شاؤوا لمداهَنَتِهم (¬1). وفي رواية فقالوا: اخلع نفسَك، فقال: لا ولا كَرامة، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عثمان، إن الله مُقَمِّصُك قميصًا، فإن أرادوك على خَلْعه فلا تخلَعه لهم ولا كَرامة" قالها مرتين أو ثلاثًا (¬2). وقد أخرج أحمد في "المسند" (¬3) بمعناه فقال: حدثنا موسى بن داود بإسناده، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كنتُ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا عائشة، لو كان ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في طبقات ابن سعد 3/ 62 - 64. (¬2) تاريخ دمشق 279 (عثمان). (¬3) برقم (24466).

عندنا مَن يُحدِّثنا"، قالت: فقلتُ: يا رسول الله، ألا أبعَثُ إلى أبي بكر؟ فسكتَ، قالت: ثم قال: "لو كان عندنا مَن يُحدِّثنا"، فقلتُ: ألا أبعَثُ إلى عمر؟ فسكت، ثم دعا وَصيفًا بين يديه، فسارَّه بشيءٍ فذهب، فإذا عثمان يَستأذن، فأذن له، فدخل، فناجاه طويلًا، ثم قال: "يا عثمان، إن الله مُقَمِّصُك قميصًا، ... " وذكره. وقال أحمد بإسناده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أشرف عثمان وهو محصور في القصر، فقال: أَنْشُدُ بالله مَن سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حِراء إذِ اهتزَّ الجَبل فرَكَله برِجله، ثم قال: "اسكُنْ حِراء، فما عليك إلا نبيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شَهيد" وأنا معه؟ فانتشَدَ له رِجال. ثم قال: أَنْشُدُ بالله مَن شَهد بَيعةَ الرِّضوان وقد بَعَثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهلِ مكة، فقال: "هذه يدي، وهذه يدُ عثمان" فبايع لي؟ فانتَشَد له رجال. ثم قال: أَنْشُدُ بالله من سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن يُوَسِّع لنا بهذا البيت في هذا المسجد بنى الله له بيتًا في الجنة"، فاشتريتُه بمالي، فوَسَّعتُ به في المسجد؟ فانْتَشَد له رجال. ثم قال: أَنْشُدُ بالله مَن سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو شَهد رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يومَ جيشِ العُسرة: "مَن يُنفِق اليوم نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةً"، فجهَّزتُ نِصفَ الجيش بمالي؟ فانتَشَد له رجال. ثم قال: أَنْشُدُ بالله رجلًا شَهِد بئرَ رُوْمَةَ يُباع ماؤها، فابتعتُها بمالي، أو من مالي، وأَبَحتُها ابنَ السبيل؟ فانتَشَد له رجال. أخرجه أحمد في "المسند" (¬1). وأخرج البخاري طرفًا منه عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال: إن عثمان لما حَصَروه أشرفَ عليهم من دارِه وقال: أَنْشُدكم اللهَ يا أصحابَ محمد، ولا أَنْشُدُكم إلا أنتم، ألستُم تَعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن جَهَّز جيشَ العُسْرَةِ فله الجنَّة" فجهَّزتُه؟ ألستُم تَعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن حفر بئر رُومَةَ فله الجنة" فحفرتها؟ قال: فصدَّقوه بما قال (¬2). ¬

_ (¬1) برقم (420). (¬2) صحيح البخاري (2778).

وقال ابن سعد بإسناده عن أبي ليلى الكِندي قال: شهدتُ عثمان وهه محصور، فاطَّلع من كَوٍّ وهو يقول: أيها الناس، لا تَقتلوني واستتيبوني، فوالله لئن قتلتُموني لا تُصلُّون جميعًا أبدًا، ولا تجاهدون عدوًا جميعًا أبدًا، ولتَختَلفُنّ حتى تَصيروا هكذا، وشبَّك بين أصابعه، ثم قال: {وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} الآية [هود: 90]، ثم أرسل إلى عبد الله بن سلام فقال: ما ترى؟ فقال: الكفَّ الكفَّ، فإنه أبلغُ لك في الحُجَّة. وفي رواية أنه قال: والله لئن قَتلتُموني لا تَضعون السَّيفَ عن أعناقكم أبدًا إلى يوم القيامة، فقالوا: أمّا ما ذكرتَ مما يُصيبنُا من البلاء، فإنه لا يحلُّ تَركُ إقامةِ الحقِّ مخافةَ الفتنة في المستقبل، وأما قولك: فإنه لا يَحلُّ قتلُ غير الثلاثة الذين ذكرتَهم، فقتلُ السَّاعي بالفساد في الأرض، والباغي، ومَن حال بين الحقِّ وأهله واجبٌ، وقد بغيتَ، ومنعتَ الحقَّ، وكابرتَ، فلو خلعتَ نفسَك لانصرفنا عنك (¬1). ذكر من كان يصلي بالناس وعثمان محصور: واختلفوا في ذلك: أخرج البخاري عن عُبيد الله بن عديّ بن الخيار، أنه دخل على عثمان وهو محصور، فقال له: إنك إمامُ العامَّة، وقد نزل بك ما ترى، وإنه يُصلّي بنا إمامُ فتنة، وأنا أتحرَّجُ من الصلاة معه؟ فقال عثمان: إن الصلاة من أحسن ما يَصنَعُ الناس، فإذا أحسن الناسُ فأحسِنْ معهم، وإذا أساؤوا فاجتنِبْ إساءَتَهم (¬2). وإنما قال ابنُ الخيار هذا لأنه أقام القومُ على الصلاة الغافقيَّ، وقيل ابن عُدَيس، وقيل كِنانة بن بشر. وروى ابن إسحاق عن أشياخه قال: وأشرف عثمان وهو محصور فقال: أين عبد الله بن عباس؟ فأجابه، فقال: اذهب على الموسم فحُجَّ بالناس، فقال: يا أمير المؤمنين، الجهاد في هؤلاء أحبُّ إليّ، فأقْسم عليه، ثم قال عثمان: ليُصَلِّ بالناس الجمعة والعيد ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 67. (¬2) صحيح البخاري (695).

عليُّ بن أبي طالب، وباقي الصلوات سَهْل بن حُنَيف، وقيل صلى بهم طلحة، وقيل الزبير الصلوات الخمس. وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رومان قال: لما حُصر عثمان جاء المؤذِّنُ سعدٌ القرظي إلى علي - عليه السلام -، فقال: مَن يُصلّي بالناس؟ قال: سهل بنُ حُنَيف، فلما كان يوم العيد صلّى عليّ بالناس، وقيل صلى بهم كِنانة بن بشر. وقال ابن سعد بإسناده عن محمد بن سيرين قال: جاء زيد بن ثابت إلى عثمان فقال: هذه الأنصار بالباب يقولون: إن شئتَ كنا أنصار الله مرتين، فقال عثمان: أما القتال فلا. وقال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قال عثمان يومَ الدَّار: أعظمُكم عنّي غَناءً رجلٌ كفَّ يده وسلاحَه. وروى ابن سعد أيضًا بإسناده عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: دخلتُ على عثمان يومَ الدار، فقلتُ: يا أمير المؤمنين: طاب امْضَربُ، فقال: يا أبا هريرة، أيَسُرُّك أن تَقتُلَ الناس جميعًا وإيّاي؟ قلت؟ لا، قال: فإنك والله إنْ قتلتَ رجلًا واحدًا فكأنما قتلتَ الناس جميعًا، قال: فرجعتُ ولم أُقاتل (¬1). قلتُ: والظاهر أن قولَ أبي هريرة: طاب امْضَرْبُ ليس له معنى، والأصحُّ ما ذكره الشيخ الموفَّق رحمه الله في "الأنساب" (¬2) عن أبي هريرة قال: إني لمحصورٌ مع عثمان في الدار، إذ رَمى رجلٌ بسهم، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، طاب الضراب، قتلوا منا رجلًا، فقال عثمان: عَزَمْتُ عليك يا أبا هريرة إلا ما رميت سيفَك، فإنما تُراد نَفْسي، وسَأقي المسلمين أو المؤمنين بنفسي، قال: فرميتُ بسيفي، فلا أدري أين هو إلى الساعة. وقال ابن سعد بإسناده: أمّر عثمان عبد الله بن الزُّبير على الدار، وقال: مَن كانت ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في طبقات ابن سعد 3/ 66، وقوله: طاب امضرب، قال ابن الأثير في النهاية (طيب) أراد: طاب الضرب، فأبدل لام التعريف ميمًا، وهي لغة معروفة. (¬2) التبيين 180.

لي عليه طاعةٌ فليُطع ابنَ الزبير. وفي رواية ابن سعد، قال ابنُ الزبير: يا أمير المؤمنين، قاتلْهم، فوالله لقد حلَّ لك قتالُهم أبدًا، وإن في الدّار عصابة مُستنصِرةً بنصر الله بأقلَّ منهم، فأذنْ لي فلأُقاتِلْ، فقال: أَنشُدُ الله -أو أُذكِّر الله- رجلًا أهراق فيَّ دمَه، أو فيَّ مِحْجَمةَ دمٍ. وقال ابن سعد بإسناده عن ابن سيرين قال: كان مع عثمان في الدَّار يومئذٍ سبعُ مئة، لو يَدعهم لضَربوهم حتى يُخرجوهم من أقطارها، ابنُ عمر والحسن بن علي وابن الزبير. وقال ابن سعد عن الواقدي بإسناده، عن أبي جعفر القاري مولى ابنِ عياش المخزومي قال: كان المصريّون الذين حصروا عثمان ستّ مئة، رأسُهم عبد الرحمن بن عُدَيس البَلَوي، وكِنانة بن بشر بن عَتَّاب الكِندي، وعمرو بن الحَمِق الخزاعيّ، والذين قَدِموا من الكوفة مئتين، رأسُهم مالك الأشتر النّخَعي، والذين قدموا من البصرة مئة، رأسُهم حُكَيم بن جَبَلة العبدي، وكانوا يدًا واحدة في الشرّ، وكان حُثالةٌ من الناس قد ضَوَوا إليهم، قد مَرِجَت عُهودُهم وأمانتهم، مَفتونون، وكان أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين خَذلوه كرهوا الفِتنة، وظنوا أن الأمر لا يَبلُغُ قتلَه، ثم ندموا على ما صنعوا في أمره، ولعَمري لو أقاموا أو أقام بعضُهم فحثا في وجوههم التُّراب لانصرفوا خائبين. وحكى ابن سعد، عن الواقدي، عن الحكم بن القاسم، عن أبي عون مولى المِسور بن مَخْرَمة قال: ما زال المصريُّون كافّين عن دمه وعن القتال حتى قدمت أمدادُ وفود أهل العراق من الكوفة والبصرة، فلما جاؤوا شَجُعَ القوم حين بلغهم أن البُعوثَ قد فَصَلَتْ من العراق من عند ابن عامر، ومن مصر من عند ابن سعد، فقالوا: نُعاجِلُه قبل أن تَقدم الأمداد. وفي رواية: وكان عثمان قد كتب إلى عُمَّاله: الوَحا الوَحا، فنَفروا على الصَّعبة والذَّلول. وحكى ابن سعد، عن الواقدي، عن أشياخه، قال مالك بن أبي عامر: خرج سعد بن أبي وقاص من عند عثمان وهو محصور، فرأى عبد الرحمن بنَ عُدَيس، والأَشتر النَّخَعيّ، وحُكَيم بن جَبَلَة، فصَفّق بيده على الأُخرى، ثم استَرجعَ وقال: إن أمرًا

هؤلاء رؤساؤه لأمرُ سوء (¬1). وقال محمد بن إسحاق: كتب أهلُ مصر من ذي خُشُب، وكتب أهلُ المدينة إلى عثمان، لا نَرضى منك إلا بالتوبة، والرجوعِ عما أنت عليه، فلما خاف القتل شاور بني أمية فقالوا: الرأيُ أن تبعثَ إليهم عليًّا، فيَرُدَّهم ويعطيهم ما يطلبون، ويُطاولهم مُدّة، فقال: إن القوم لن يَقبلوا التعليل، ومتى أعطيتُهم ذلك سألوني الوفاءَ به، وقد أعطيتُهم في الأول عهدًا ولم أفِ لهم به، فقال له مروان: إنما هم بُغاةٌ، ولا عهدَ لهم، فطاولْهم مُدَّةً إلى أن تأتيك الأمداد. فدعا عليًّا وقال له: يا أبا الحسن، إنه قد كان من أمر الناس ما رأيتَ، ولستُ آمنُهم على قتلي، فارددْهم عني، ولله عليَّ أن أُعطيَهم كلَّ ما يَطلبون، وأُزيل عنهم ما يَكرهون مني ومن غيري، وإن كان في ذلك سَفْكُ دمي. فقال له علي: الناسُ إلى عَدْلك أحوجُ منهم إلى قَتْلك، وقد كنتَ أعطيتَهم في قَدمَتهم الأولى عهدًا لتَرجعَنَّ عن جميع ما نقموا عليك، فرددتَهم عنك، ثم لم تفِ لهم بشيء من ذلك، فلا تَغُرّني في هذه المرة كما فعلتَ، ووالله لئن أعطيتَهم الحقّ لأفينَّ لهم (¬2). ثم خرج عليّ إلى الناس فقال: إن عثمان قد زعم أنه مُنصِفُكم من نفسه ومن غيره، وراجعٌ عن جميع ما تكرهون، فقالوا: قد قبلنا ورضِينا، فاستوثِقْ لنا منه، فإنّا والله لا نَرضى بقولٍ دون فعل، فعاد إليه فأخبره، فقال عثمان: اضرب بيني وبينهم أجلًا يكون لي فيه مُهلة، فإني لا أقدِرُ على ردِّ ما كَرهوا في يوم واحد، فقال له علي: ما كان حاضرًا بَالمدينة لا أجلَ فيه، وما غاب فأجَلُه وصولُ أمرِك. فقال: نعم، ولكن أجِّلني فيما كان في المدينة ثلاثةَ أيام، قال علي: نعم، وخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك فرَضُوا، وكتبوا بينهم وبينه كتابًا أجَّلوه ثلاثة أيام؛ على أن يَردَّ كلَّ مَظلمة، وَيعزِلَ كلَّ عاملٍ كرهوه، وأخذ عليه في الكتاب أعظمَ ما أخذ الله على أحدٍ من خلقِه من عهدٍ ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في طبقات ابن سعد 3/ 67 - 68. (¬2) في الطبري 4/ 370: فلا تغرني ... فإني معطيهم عليك الحق، قال [يعني عثمان]: نعم فأعطهم، فوالله لأفينّ لهم.

وميثاق، وأشهد عليه وُجوهَ المهاجرين والأنصار. فكفَّ المسلمون عنه، ورَجَوا أن يَفيَ لهم من نفسه بما أخذوا عليه، فجعل يَتأهَّبُ للقتال، ويَستعدُّ بالسلاح، وقد كان اتّخذ عَبيدًا [من رقيق] الخُمْس، فلما مضت الأيامُ الثلاثة -وهو على حاله لم يردّ مَظلمة، ولم يَعزل عاملًا، ولم يُغيِّر شيئًا مما يَكرهون- ثار به الناس. وخرج ابن حَزْمٍ الأنصاري، فأتى المصريّين بذي خُشُب، فأخبرهم الخبر، فدخلوا المدينة، وأرسلوا إلى عثمان: ألم تُعطِنا عهدَ الله على إزالة ما نكره، وأنك تائبٌ من إحداثك؟ وأين العهود والمواثيق؟ وكانوا قد وجدوا كتابَه إلى ابن سعد بقتلِهم، فلما بعثوا إلى عثمان بهذا قال: بلى، وأنا مقيمٌ على ذلك، قالوا: فما هذا الكتاب، وما هذا الفعل؟ فقال: الخَطُّ قد يُشبه الخط، والجمل فيُسرق، قالوا: فقد رضينا وقَبِلنا عُذرَك، من الآن فاردُد المظالم، واعزِلْ عُمَّالك، واستعمل علينا مَن لا نتَّهمه في أموالنا وحَريمنا ودمائنا، فقال عثمان: فما أُراني إذن في شيءٍ إن كنتُ أستعمِل مَن هَويتم، وأعزِل مَن كَرِهتُم، فقالوا: والله لنَقتُلَنّك، فحصروه أَربعين ليلة، وطلحةُ يُصلّي بالناس، ثم قتلوه. وقال ابن سعد بإسناده عن أبي جعفر محمد بن علي قال: بعث عثمان إلى عليّ يَدعوه وهو محصور في الدار، فأراد أن يأتيَه، فتعلَّقوا به ومنعوه، قال: فحلَّ عمامةً سوداءَ عن رأسه وقال: اللهمَّ لا أرضى قتلَه ولا آمُر به، يُكرّرها. وفي رواية ابن سعد، عن أبي فَزارة العبسيّ قال: فقام عليّ ليأتيه؛ فقام بعض أهله فمنعه، وفي رواية: فقام بنو هاشم فمنعوه وقالوا: أما تَرى إلى ما بين يديك من الكتائب؟ لا تَخلُصُ إليه أبدًا، فنقض علي عِمامته، ورمى بها إلى رسول عثمان وقال: أخبِرْه بالذي رأيتَ، ثم خرج عليّ من المسجد حتى انتهى إلى أحجار الزيت في سوق المدينة، فأتاه قتلُه فقال: اللهمَّ إني أبرَأُ إليك من دمه [أن أكون قَتلتُ]، أو أكونَ ما لأتُ على قتلِه (¬1). ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في طبقات ابن سعد 3/ 64 - 65.

وقال هشام: كتب عثمان إلى عليّ وهو محصور: [من الطويل] فإن كنتُ مأكولًا فكنْ أنت آكِلي ... وإلا فأدرِكْني ولما أُمَزَّقِ (¬1) فقام علي متقلِّدًا سيفَه، وقام إليه بنو هاشم فقالوا: نخافُ عليك القتل، والله لا نُمكّنك من المضيّ أبدًا. وروى ابن إسحاق، عن أشياخه قال: لما طَلب عثمان عليًّا جاء مُتقلدًا لسيفه، يَشُقُّ الصّفوف، حتى وقف بباب عثمان، وقال لابنه الحسن: ادخل إليه، وقل له: إنما جئتُ لنُصرتِك، فما تأمُرني؟ فقال: قلْ له: لا حاجةَ لي في إهراق الدّماء، فخرج إليه فأخبره، فرمى عمامتَه وقال: الله أكبر {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيبِ} [يوسف: 52]. وقال البلاذريّ: الأصح أن عثمان قُتل وعلي بظاهرِ المدينة، في قريةٍ يُقال لها البُغَيبِغَة (¬2). وقال المسعودي: لما أحدقوا بالدار طَلبوا من عثمان أن يُسْلم إليهم مروان، فأبى (¬3). ولما بلغ عليًّا أنهم قاتلوه أرسل إليه بالحسن والحسين مع مواليه بالسلاح يقاتلون عنه، وبعث إليه طلحةُ ابنَه محمد، والزبير ابنَه عبد الله. وقال الواقدي: جاءهم عبد الله بن سلام، فوقف عليهم وصاح: يا قوم، إنه والله ما قتلت أمّةٌ نبيًّا إلا قُتل مكانه سبعون ألفًا، ولا قتل قومٌ خليفةً إلا قُتل مكانه خمسةٌ وثلاثون ألفًا، فسَبُّوه وقالوا: يا ابنَ اليهوديّة. وقال عثمان لعبيده: مَن أغمد سيفَه فهو حُرّ، فبينما عثمان كذلك أحرقوا الباب. قال الواقدي: لما مضى من الحصار خمسةٌ وثلاثون يومًا، وقد طرحوا رُقَباء على علي وطلحة والزبير، وقالوا: إن تَحرّكوا اقتُلوهم، فلما حِيل بينهم وبين عثمان بعثوا ¬

_ (¬1) البيت في الأصمعيات 166 للممزّق العبدي. (¬2) انظر أنساب الأشراف 2/ 148. (¬3) انظر مروج الذهب 4/ 281.

إليه بأولادهم، فقال عثمان: أَغمِدوا سيوفكم، وما صَبري إلا بالله، فإني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر في المنام وهم يقولون: اصبر، فإنك ستصلُ إلينا في وقت كذا وكذا، في اليوم الذي قُتل فيه. قال: وبلغ القوم أن الأمدادَ واصلةٌ إليهم، فجَدُّوا في أمره، ومَنَعوه الماء، فأرسل إلى علي وطلحة والزبير وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: قد مَنعوني الماء، فجاء عليّ إليهم، فوقف عليهم وقال: إن الروم تأسِر فتُطعم وتَسقي، وفِعلُكم لا يُشبِه فعلَ المسلمين ولا فعلَ الكافرين، فقالوا: لا ولا كَرامة، لا نَسقيه ولا نُطعمه حتى يَخلعَ نَفْسَه. وجاءت أمُّ سلمة، وقيل أم حبيبة، زوجةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كبةً على بغلةٍ، وهي مُشتملةٌ على إداوةٍ، فقالت لهم: إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل، وإني أحبُّ لقاءه، فقالوا: كذبْتِ، وقُطع ذَنب بَغْلتها بالسيف، فلم تصل إليه. قال: وخرجت عائشة هاربة إلى مكة، سألت أخاها محمدًا أن يَصحَبها فأبى. وقال هشام: عَزمَتْ عائشةُ على الحجِّ وعثمان مَحصور، فجاءها مروان فقال: أتخرجين وأميرُ المؤمنين محصور؟ لا تفعلي، فإن مقامك مما يَدفع الله به، فأبت فتمثّل مروان: [من المتقارب] وحَرَّقَ قيسٌ عليَّ البلادَ ... حتى إذا استَعَرَتْ أجذَما فقالت عائشة: أيُّها المتمثِّل عليَّ بالأشعار، وددتُ والله أنك وصاحبَك هذا الذي يَعْنيك أمرُه؛ في رِجل كلِّ وإحدٍ منكما رَحى، وأنكما في البحر، ثم خرجت. وقال ابن إسحاق: أشرف عثمان من داره وقد اشتدَّ به العَطَش، فقال: هل فيكم من يُبلِّغ عليًّا عَطَشنا، فأبلغوه، فأرسل إليه بثلاث قِرَب من الماء مع عبيده وطائفةٍ من بني هاشم، فما وصلت إليه إلا بعد مشقّة. وكانوا قد وَكلوا بعلي وطلحة والزبير رُقَباء، فوضعوا على علي خالد بن مُلْجَم في نفرٍ، وعلى طلحة سُودان بن حُمْران، وقالوا: إن تحرّكوا اقتلوهم. ذكر مقتله - رضي الله عنه -: قد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك.

قال أحمد بإسناده عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنةً، فمرَّ رجلٌ مُقَنَّع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُقتَل فيها هذا المقنَّعُ مظلومًا"، قال ابن عمر: فنظرت فإذا الرجل عثمان (¬1). رَجَعْنا إلى قتل عثمان، قال الطبري في تاريخه: حدثني يعقوب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن عَوْن بإسناده، وقال ابن سعد بإسناده عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد: أن محمد بن أبي بكر تَسوَّر على عثمان من دارِ عمرو بن حزم، ومعه كِنانة بن بِشْر بن عتَّاب وسُودان بن حُمران وعمرو بن الحَمِق، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة، وهو يقرأ سورة البقرة من المصحف، فتقدَّمهم محمد بن أبي بكر، فأخذ بلحية عثمان وقال: قد أخْزاك الله يا نَعْثَل، فقال عثمان: لستُ بنَعْثَل ولكني عبد الله وأميرُ المؤمنين، فقال محمد: ما أغنى عنك مُعاوية وفلان وفلان؟ فقال عثمان: يا ابن أخي، دعْ عنك لحيتي فما كان أبوك ليَقْبضَ على ما قبضتَ عليه، فقال محمد: ما أريدُ بك أشدَّ من قبضتي على لحيتك، فقال عثمان: أَستنصِرُ بالله عليك وأستعينُ به، ثم طعن جبينَه بمِشْقَصٍ في يده، ورفع كِنانةُ بن بشر بن عتّاب مَشاقِصَ كانت في يده فوَجأ بها في أصل أُذُن عثمان، فمضت حتى دخلت في حَلْقه، ثم علاه بالسيف حتى قتلَه. قال عبد الرحمن بن عبد العزيز: فسمعتُ ابنَ أبي عون يقول: ضرب كِنانة بن بِشر جبينَه ومُقَدَّم رأسِه بعمود حديد، فخرَّ لجَنبه، وضربه سُودان بن حُمران المراديّ بعدما خَرَّ لجَنبه فقتله، وأما عمرو بن الحَمِق فوَثب على عثمان، فجلس على صدره وبه رَمَقٌ، فطعنه تسعَ طَعْنات وقال: أما ثلاثٌ منهنّ فإني طعنتُهنّ لله، وأما ستّ فإني طعنتُه لما كان في صدري عليه (¬2). وقال ابن سعد بإسناده عن الزبير بن عبد الله، عن جدّته قالت: لما ضربه بالمشاقِص قال عثمان: بسم الله توكَّلتُ على الله، وإذا الدَّمُ يَسيل على لحيته يَقطُر، والمصحف بين يديه، فاتّكأَ على شِقّه الأيسر وهو يقول: سبحان الله العظيم، وهو في ذلك يَقرأ في ¬

_ (¬1) مسند أحمد (5953). (¬2) تاريخ الطبري 4/ 371، وطبقات ابن سعد 3/ 70 واللفظ له.

المصحف، حتى وقف الدَّمُ عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، وأطبق المصحف، وضربوه جميعًا ضربةً واحدة فقتلوه، ولقد كان يُحيي الليلَ في ركعة، ويَصلُ الرَّحم، ويُطعم الملهوف، ويَحمل الكَلّ، فرحمه الله. وقال ابن سعد عن الزهري قال: قُتل عثمان عند صلاةِ العصر، وشدَّ عبدٌ لعثمان أسود على كِنانه بن بِشر فقتله، وشدَّ سُودان على العبد فقتله، ودخلت الغَوغاء دار عثمان، فصاخ إنسانٌ منهم: أيَحِلُّ دمُ عثمان ولا يحلُّ مالُه؟ فانتهبوا مَتاعَه، فقامت نائلة وقالت: لُصوص وربِّ الكعبة، أعداءَ الله، ما ركبتُم من دم عثمان أعظم، أما والله لقد قتلتموه صوَّامًا قوَّامًا، يَقرأ القرآن في ركعة واحدة، ثم خرج الناس من دار عثمان، وأُغلق بابُه على ثلاثةٍ قُتلوا: عثمان، وعبد عثمان، وكنانة بن بشر. وقال ابن سعد بإسناده ويزيد بن هارون قالا: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن يَعلى بن حكيم، عن نافع قال: أصبح عثمان بن عفان يوم قُتل يَقُصُّ رؤيا على أصحابه رآها، قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - البارحةَ فقال لي: يا عثمان، أفطِرْ عندنا، قال: فأصبح صائمًا، وقُتل في ذلك اليوم. وفي رواية ابن سعد: نام عثمان يوم الجمعة، وأتيتُه فقال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في منامي هذا فقال: إنك شاهدٌ فينا الجمعة. وفي رواية ابن سعد أيضًا، عن نائلة قالت: أغفى عثمان، فلما استيقظ قال: إني مقتول، فقلت: كلا يا أمير المؤمنين، قال: إني رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر فقالوا: أفطِرْ عندنا الليلة، أو قالوا: إنك تُفطر عندنا الليلة. وقال ابن سعد بإسناده، عن محمد بن سيرين قال: لما أحاطوا بعثمان ودخلوا عليه ليقتلوه قالت امرأتُه: إن تَقتلوه أو تَدَعوه فقد كان يُحيي الليلَ بوكعةٍ يَجمع فيها القرآن. وقال ابن سعد فيما رواه، عن عطاء بن أبي رباح: أن عثمان بن عفان صلّى بالناس، ثم قام خلف المقام فجمع كتاب الله في ركعة كانت وتره، فسُمَيت البُتَيراء (¬1). قلت: وهذا حاصل ما ذكره ابن سعد في "الطبقات" في مَقتل عثمان. ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في طبقات ابن سعد 3/ 70 - 72.

وقال الواقدي: صَعدوا من دار عَمرو بن حَزْم، وكان قد دنا بعضُهم من الباب، فشغلوا مَن كان عليه بالقتال، مثل الحسن بن علي، وابن عمر، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وبني أمية، وجاءت طائفة من وراء الدار فصعدوا إلى دار عمرو بن حزم، فتسوَّروا عليه منها، ولم يَعلم بهم مَن على الباب، فلما رآهم عثمان أخذ المصحف، فجعله في حجره فقتلوه. واختلفوا في قاتله؛ فحكينا عن ابن سعد أن محمد بن أبي بكر باشر قتلَه ومعه ثلاثة وسمَّيناهم (¬1). وأنكر جماعة أن يكون محمد باشر قتلَه، منهم البلاذري فإنه قال: لما قال له ما قال استرخت يده وخرج، وكذا قال المسعودي، فإنه لما أمسك لحيةَ عثمان قال له: يا محمد، لو رآك أبوك لساءه فِعلُك، فخجل، واسترخت يدُه، وخرج من الدار، ولم يَشهد قتلَه (¬2). وقال ابن سعد بإسناده عن كِنانة مولى صفيّة قال: رأيتُ قاتلَ عثمان في الدار، رجلًا أسود من أهل مصر يُقال له: جَبَلَة، رافع يديه يقول: أنا قاتلُ نَعْثَل. وروى ابن سعد، عن حجَّاج بن نُصَير، عن أبي خَلدة، عن المسيّب بن دارم قال: إن الذي قَتل عثمان قام في قتال العدوِّ سبعَ عشرة سنة، يُقتَل مَن حوله، لا يُصيبه شيءٌ حتى مات على فراشه (¬3). وقال هشام: ضربه الغافقيّ بحَرْبةٍ فشجّه بها، فقطر الدّمُ على المصحف، فأبقى الحربةَ بيده ورفع المصحف، فضربه الغافقيّ برجله، ثم ضربه سودان بن حُمران بالسيف، فاتّقته نائلة زوجةُ عثمان، فقطع أصابعَ يديها، وضربه نيار بن عِياض الأسلمي بالسيف على وجهه. وفي رواية عن هشام بن محمد: أن الذي باشر قَتْلَه الأسود النَّخَعيّ المصري. ¬

_ (¬1) في (خ): ثلاثة عشر وسميناهم. (¬2) أنساب الأشراف 5/ 196، ومروج الذهب 4/ 280 - 281. (¬3) الخبران في طبقات ابن سعد 3/ 79.

ولما ضرب سودان بن حُمران يدَ نائلة فأطنّها وثب غلامٌ لعثمان فقَتل سودان، وقاتل مروان وبنو أمية حتى أُثخثوا بالجراح، وجُرح الحسن بنُ علي، وقَنْبر، وابنُ الزبير، وابن عمر جراحات كثيرة، وكان مروان يَحمل ويقول: لا يُقتل [ابنُ] عَمّي وأنا أسمع الصوت. وقال الواقدي: لما أحرقوا الدار قال عثمان: ما بعد الحريق من خير، فاحترقت السّقوف والأبواب، وقال عثمان: مَن كان لي عليه طاعة فليُمْسك يده، فإنما يُريد القومُ قتلي، وسيندمون بعدي، ولو تركوني لظننتُ أني لا أُحبُّ الحياة، قد تغيَّر حالي، وسقطت أسناني، ورقّ عظمي، ثم قال لمروان: اقعُدْ ولا تَخرجْ، فقال مروان: والله لا يُخلَص إليك وأنا أسمع الصَّوت، ثم حمل مروان وهو يقول: [من الرجز] قد عَلمتْ ذاتُ القرونِ المِيلِ ... والكَفِّ والأناملِ الطُّفولِ أني أَرُوعُ أوَّلَ الرَّعيل ... بغارَةٍ مثلِ قَطا الشَّليلِ فضربه ابنُ البيّاع بالسيف على رقبته من خلفه فأثبته، فوقع على وجهه صريعًا، فأخذتْه فاطمة بنت أوس جدَّةُ إبراهيم بن العربي، فأدخلتْه بيتَها، فكان بنو عبد الملك يَعرفون ذلك لآل عَربي. وفي رواية هشام: أن مروان خرج من الدَّار وصاح: هل من مُبارز؟ فقال عبد الرحمن بن عُدَيس لرجل: قُمْ إليه، والذي برز إليه يُقال له عُروة، فضربه على عُنُقه فأثبَتَه، فخرَّ صريعًا، فأراد عُبيد بن رفاعة الزُّرقي أن يُدَفّفَ على مروان، فوَثبت فاطمة أَمُّ إبراهيم بن عَربي صاحب اليمامة، وكانت قد أرضعت مروان، فقالت: إن كنتَ تُريد قتلَ الرجل فقد قُتل، وإن كنتَ تُريد تَلعبُ بلحمه فهذا قبيحٌ، فكفَّ عنه، فما زال بنو مروان يَعرفون لها ذلك حتى استعملوا ابنَها إبراهيم فيما بعد. وحكى الطبري عن حُسين بن عيسى، عن أبيه قال: لما مضت أيامُ التّشريق أطافوا بدار عثمان، وأبي إلا الإقامة على أمره، فأرسل إلى حَشَمه وحاشيته فجَمَعهم، فناداه

رجلٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أسلم، يقال له: نيار بن عِياض، وكان شيخًا كبيرًا: يا عثمان، فأشرف عليه من داره، فناشده الله وذكّره لما اعتزلهم، فرماه رجلٌ من أصحاب عثمان بسهمٍ فقتله، وزعموا أن الذي رماه كثير بن الصَّلْت الكِندي، فقالوا لعثمان: ادفع إلينا قاتلَ نيار لنقتُلَه به، فقال: لم أكن لأدفعَ رجلًا نَصَرني، وأنتم تُريدون قتلي، فلما قال لهم ذلك ثاروا إلى بابه فأحرقوه، وخرج عليهم مروان من دار عُثمان في عصابة، وخرج سعيدُ بن العاص في عصابة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا. وكان الذي جَرَّأهم على القتال أنه بلَغهم أن مَدَدًا من أهل البصرة نزلوا صِرارًا -وهي من المدينة على لَيليةٍ- وأن أهلَ الشام قد توجَّهوا مُقبِلين، فاقتتلوا، وجُرح عبد الله بنُ الزبير جِراحات كثيرة، وحمل رفاعة بن رافع الأنصاري على مروان فأثبته، ونزع عنه وهو يرى أنه قد قتلَه. ثم انهزم أصحابُ عثمان فالتجؤوا إلى القصر، واعتصموا ببابه، فلم يزل الناس يَقتتلون حتى فتح عمرو بن حَزْم الأنصاري بابَ داره، وهي إلى جانب دار عثمان، ثم نادى الناس، فأقبلوا إليه، فدخلوا عليهم في داره فقتلوهم في جوْفِ الدار، حتى انهزموا وخَلّوا لهم عن باب الدّار، فخرجوا هاربين في أزِقَّة المدينة، وبقي عثمان في ناس من أهل بيته وأصحابه، فقُتل عثمان وقُتلوا معه. وحكى الطبريّ عن يعقوب بن إبراهيم بإسناده، عن أبي سعيد مولى أبي أسَيد الأنصاري: أن عثمان أشرف عليهم وقال: السلام عليكم فما ردَّ أحدٌ منهم عليه، فقال: أَنشُدكم بالله، هل علمتُم أني اشتريتُ بئرَ رُومَةَ من مالي؟ قيل: نعم، قال: فعلام تَمنعوني أن أشربَ منها؟ ! وذكر أنه اشترى قطعة من الأرض فأدخلها في المسجد، وذكر أشياء. ثم فتح الباب، ووَضَعَ المصحفَ في حجره، فدخل محمد بن أبي بكر، فأخذ بلحيته، فقال له: لقد أخذتَ مني مَأخذًا، وقعدتَ مني مقعدًا، ما كان أبوك ليَأخُذَه ويَقعُدَه، فخرج وتركه. قال: فدخل عليه رجلٌ يُقال له: الموت الأسود، فخَنقه ثم خرج وهو يقول: والله ما رأيتُ شيئًا ألينَ من حَلْقه، ولقد خنقتُه حتى رأيتُ نَفَسه يَتردَّدُ في جسده كنَفَس

الجانّ، يعني الحيّة (¬1). قلت: وعامة الرّواة على خلاف ما ذكر الطبري، فإنهم أجمعوا على أن عثمان قُتِل قتلًا ولم يُخْنَق. قال هشام: وجعل الغافقيُّ يَضرب برجله رأسَ عثمان، وهو مُلقى إلى جانب المصحف. وقال جدّي رحمه الله في "التّلقيح" (¬2): واختلفوا في قاتله؛ فقيل: قتله الأسود التُّجيبي من أهل مصر، وقيل: جبلة بن الأيهم من مصر، وقيل: قتله سُودان بن رومان المرادي، وقيل: وَجَأه محمد بن أبي بكر بمِشْقَص، ثم دَفّف عليه التُّجيبي ومحمد بن أبي حُذيفة، فضرباه بأسيافِهما حتى أثبتاه، وكان صائمًا. قلت: محمد بن أبي حذيفة لم يشهد قتلَ عثمان، وعامّة المؤرّخين على أنه كان بمصر. وقال هشام: ودخل عُمَير بنُ ضابئ فنَزا على عثمان، فكسر ضِلعًا من أضلاعه، وقال: سجنتَ أبي ضابئًا حتى مات في السِّجن. وكان السّببُ في حبس عثمان ضابئَ بن الحارث؛ أنه استعار كلبًا من قومٍ من الأنصار في زمان الوليد بن عُقبة يُدعى قُرحان لصيد الظَّبي، فمنعه منهم، فأخذوه قَهرًا، فقال: [من الطويل] وكلبُكم لا تتركوا فهو أمّكم ... فإن عُقوقَ الأُمَّهات كبيرُ من أبيات، فاستعدَوْا عليه عثمان، فَعَزَّرهُ وحبسه حتى مات في السّجن، وهذا مما أُخذ أيضًا على عثمان. وعمير هو القائل (¬3): [من الطويل] هَمَمْتُ ولم أفعلْ وكِدتُ وليتَني ... تركتُ على عثمانَ تَبكي حَلائلُهْ ¬

_ (¬1) الخبران في الطبري 4/ 381 - 384. (¬2) ص 110. (¬3) الذي في المصادر أن القائل ضابئ البرجمي أبو عمير، ورواية البيت السابق في المصادر: لا تتركوه وأمكم، وفيه فحش كبير.

وقائلةٍ قد مات في السِّجنِ ضابئٌ ... ألا مَن لخَصْمٍ لا يَجدْ مَن يُجادِلُهْ وقيل: إن عُميرًا أنفذ السيفَ في بطن عثمان (¬1). وقال الواقدي: أقبل عُمير بن ضابئ والكُميل بن زياد ليقتلا عثمان، ثم نكصا، وسوف نذكر قتلَ الحجاج عمير بن ضابئ والكُميل بنَ زياد في أيام الحجاج. وقال أبو اليقظان: ولما انتهبوا ما في دار عثمان أخذوا مُلاءَةَ نائلة، فتنحَّت فقال: ويح أم هذه ما أتمَّ عَجيزَتَها، فوَثب عليه غلامٌ لعثمان فقتله. وذكره الطبري فقال: الذي أخذ مُلاءة نائلة اسمُه كُلثوم بن تُجيب (¬2). وحكى سيف، عن مُجالد، عن الشعبي، عن المغيرة بن شُعبة قال: قُلْتُ لعلي: إن هذا مقتولٌ، وإنه إن قُتِل وأنت بالمدينة ألحدوا فيك، فاخرجْ فكُن في موضع كذا وكذا، فإنك إنْ فعلتَ ذلك وكنتَ في غارٍ باليمن طلبك الناس، قال: فأبى حتى قُتل عثمان، وألزموه دمَه. وقال سيف بهذا الإسناد: لما أُغشي على عثمان جَرُّوا برجله، وصاحت نائلة وبناتُه، وجاء التُجيبي مخترِطًا سيفَه ليَضَعه في بطنه فوَقَتْه نائلة، فقطع إصبعَها، وأتّكأ بالسيف على صدره فأخرجه من ظهره. وقال الطبري بإسناده عن يزيد بن أبي حبيب: وَليَ قتلَ عثمان نهران الأصبَحيّ (¬3). وقال البلاذري: قال عليّ للحسن والحسين: اذهبا بسيفكما فقِفا على الباب، فلا يَصل أحدٌ إلى عثمان، وبعث الصحابة أولادهم، فرُمي الحسنُ بسهم فشُجَّ في وجهه، وشُجَّ قَنْبَر ومحمد بن طلحة، فخاف محمد بن أبي بكر أن ترى بنو هاشم الدماءَ على وجهِ الحسن والحسين فيَكشفوا الناس عن عثمان، فقال: تَسوَّروا عليه الجدار، فتَسوَّروا فقَتلوه، ولم يكن عنده أحدٌ سوى نائلة، فصرخت فلم يَسمع الناسُ صُراخَها من شدَّةِ الجَلَبة والصِّياح، فصعِدت إلى السَّطح وصاحت: قُتل أميرُ المؤمنين، وبنو ¬

_ (¬1) طبقات فحول الشعراء 173 - 175 (والمصادر فيه)، وتاريخ الطبري 4/ 402 - 403، وأنساب الأشراف 5/ 220. (¬2) تاريخ الطبري 4/ 391. (¬3) تاريخ الطبري 4/ 394 وما قبله منه.

هاشم على الباب لا يَعلمون. وبلغ عليًّا قتلُه، فأقبل إلى الباب، وقال للحسن والحسين وقنبر وابن الزّبير وابن طلحة: وَيحكم، كيف قُتل وأنتم بالباب، وشتمَهم، فقال له ابن طلحة: وكان أمرُ الله قَدرًا مَقدورًا، فدخل وقال لنائلة: مَن قتَله؟ فقالت: دخل محمد بن أبي بكر، فقال له عثمان: كذا وكذا، فاستَرْختْ يدُ محمد، وكان معه رجلان فقتلاه، فجلس علي والحسن والحسين وابن الزبير وابن طلحة يَبكون، وذهب المصريّون إلى بيت المال فانتَهبوه، فلم يَجدوا فيه سوى غِرارتين (¬1). واختلفوا في الوقت الذي قُتل فيه على أقوال؛ أحدها ذكره ابن سعد عن الواقدي فقال: حدثنا محمد بن عمر بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال: بُويع عثمان بالخلافة أوَّلَ يوم من المحرّم سنة أربعٍ وعشرين، وقُتل يوم الجمعة لثماني عشرة ليلةً خلت من ذي الحجّة سنة ستّ وثلاثين بعد العصر، وكان صائمًا، ودُفن ليلةَ السبتِ بين المغرب والعشاء في حُشّ كوكب بالبقيع، فهو مقبرة بني أمية اليوم، وكانت خلافتُه اثنتي عشرة سنة غير اثني عشر يومًا، وقُتل وهو ابنُ اثنتين وثمانين سنة، قال: وكان أبو معشر يقول: قُتِل وهو ابن خمس وسبعين سنة (¬2). قلت: وقول الواقدي سنة ست وثلاثين وَهم، وقد حكاه الطبري (¬3)، والأصحّ سنة خمس وثلاثين. وقال ابن سعد بإسناده عن الربيع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه قال: كان الناس يَتَوَقَّون أن يَدفنوا مَوتاهم في حُشِّ كَوكب، فكان عثمان بن عفان يقول: يوشكُ أن يَهلك رجلٌ صالح فيُدْفَنَ هناك، فتتأسّى به الناس، قال مالك بن أبي عامر: فكان عثمان بن عفان أوّلَ مَن دُفن هناك (¬4). قال الجوهوي: الحَشّ -بفتح الحاء وضمّها- البُستان، قال: والحشر أيضًا ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 196 - 197. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 73. (¬3) في تاريخه 4/ 415. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 73.

المخرج؛ لأنهم كانوا يَقضون حوائجَهم في البساتين (¬1). وروي عن أبي بَشير العابدي قال: نُبِذ عثمان ثلاثةَ أيام لا يُدفن، ثم إن حكيم بن حِزام وجُبَير بنَ مُطعم النَّوفلي كلّما عليًّا - عليه السلام - في دَفنِه، وطلبا أن يَأذن لأهله في ذلك، فأذِن لهم، فلما سمع القوم ذلك قَعدوا له على الطريق بالحجارة، وخرجوا به يُريدون حُشَّ كوكب؛ مكانًا كانت اليهود تَدفن فيه موتاهم، فلما خرجوا به رَجموا سَريره بالحجارة، وهمُّوا بطَرْحه، وبلغ عليًّا، فأرسل إلى الناس يَعزم عليهم ليَكُفُّوا عنه، فانطلقوا به، فدفنوه في حُشّ كوكب، فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بذلك الحائط فهُدِم حتى أفضى به إلى البَقيع، وأمر الناسَ أن يَدفنوا موتاهم حول قبره، حتى اتّصل ذلك بمقابر المسلمين. وروى الطبري عن أبي كَرِب -وكان عاملَ عثمان على بيت المال- قال: دُفن عثمان فيما بين العشاء والعَتَمة، ولم يكن في جنازته إلا مروان بن الحكم، وثلاثة من مَواليه، وابنتُه الخامسة، فرفعت ابنتُه صوتَها تَندُبه، فأخذ الناسُ الحجارة وقالوا: نَعثَل نعثل، فكادت أن تُرجَم، فدفنوه في الحائط. وحكى الطبري عن سيف: أن مروان بن الحكم حضر جنازته وصلّى عليه (¬2)، وهو وهم، لم يحضر مروان جنازته، كان مجروحًا مُثْخَنًا، وهرب إلى مكة. قال الواقدي: الثّبتُ عندنا أنه صلى عليه جُبير بن مطعم. قال الواقدي بإسناده عن مَخرَمة بن سليمان الوالبي قال: قُتل عثمان يوم الجمعة ضَحوةً، فلم يَقدروا على دفنه، وأرسلت نائلة بنتُ الفَرافضة إلى حُويطب بن عبد العُزَّى، وجُبير بن مُطعم، وأبي جَهم بن حُذيفة، وحَكيم بن حزام، ونِيار الأسلمي فقالوا: إنا لا نَقدر أن نَخرُجَ به نهارًا، هؤلاء المصريون على الباب، فأمْهِلوه إلى ما بين المغرب والعشاء. فدخل القوم فحِيل بينهم وبينه، فقال أبو جَهم: والله لا يَحول بيني وبينه أحدٌ إلا متُّ ¬

_ (¬1) الصحاح: (حش). (¬2) تاريخ الطبري 4/ 415 وما سلف من الأخبار فيه 412.

دونه، احملوه، فحملوه حتى انتهَوا إلى البقيع، وتبعتهم نائلة وبيدها سراج، فانتهوا به إلى نَخَلات عليها حائط، فرَقَوا الجدار، ثم دفنوه في تلك النّخلات، وصلى عليه جُبير بن مُطعِم، وذهبت نائلة تتكلّم فزَبَرها القوم وقالوا: إنا نَخاف عليك من هؤلاء السّفهاء، فرجعت إلى منزلها. وقال الواقدي بإسناده عن عبد الله بن ساعدة قال: لَبث عثمان بعدما قُتل لَيلتين لا يستطيعون دفنَه، [فلما وُضع ليُصَلّى عليه جاء نفرٌ من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه] فقال أبو جهم: ادفنوه، فقد صلى الله عليه وملائكتُه فقال المصريون. لا والله، لا يُدفَن في مقابر المسلمين أبدًا، فدُفِن في حُشّ كوكب، ملكت بنو أمية أدخلوا ذلك الحشّ في البقيع، فصار مقبرة بني أمية. وقال الواقدي: حدثتي عبد الله بن موسى المخزومي قال: لما قُتل عثمان أرادوا حزَّ رأسِه، فوَقعت عليه نائلة وأمُّ البنين، وصِحْنَ وضربْنَ الوجوه وخَرقن الثياب، فقال ابنُ عُدَيس: اتركوه، فأُخرج عثمان إلى البقيع، ولم يُغسل، وأرادوا أن يُصلّوا عليه في موضع الجنائز فأبَت الأنصار (¬1). وفي رواية ابن سعد: فحملوه على باب، وإن رأسه ليَقْرعُ الباب لإسراعهم به من شدَّة الخوف (¬2). وقال سيف عن أشياخه: ولم يُغسل عثمان ولا غُلاماه اللذان قُتلا معه، وهما نجيح وصبيح، فأمّا عثمان فدُفن، وأمّا الغلامان فجرُّوا برجلَيهما، وألقوهما على البَلاط فأكلتهما الكلاب. وقال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن نِيار الأسلمي، عن أبيه قال: لما حجّ معاوية نظر إلى بيوت أسلم شَوارع في السوق فقال: أَظلِموا بيوتَهم أظلم الله عليهم قبورَهم قتلةَ عثمان. قال نِيار بن مُكرم: فخرجتُ إليه وقلتُ: أتُظلِم عليّ بيتي وقد حملتُ عُثمان وقبرتُه ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في الطبري 4/ 413 - 414. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 75.

وصلّيتُ عليه، فعرفه معاوية فقال: اقطعوا البناء، لا تبنوا على وجه داره، ثم دعاني خاليًا فقال: متى حملتُموه، ومتى قبرتموه، ومن صلى عليه؟ قلت حملناه ليلةَ السبت بين المغرب والعشاء، فكنتُ أنا وجُبير بن مُطعم.، وحَكيم بن حزام، وأبو وجهم بن حُذَيفة العَدَوي، وتقدّم جُبير بن مُطعم فصلّى عليه، فصدّقه معاوية، وكانوا هم الذين نزلوا في حُفرَته (¬1). واختلفوا فيمن صلّى عليه؛ فقال جدي رحمه الله في "التلقيح" (¬2) قيل: الزبير، وقيل: حكيم بن حِزام، وقيل: جبير بن مطعم. قلت: والأشهر جُبير بن مُطعم، قال ابن سعد بإسناده عن محمد بن يوسف قال: خرجت نائلة بنتُ الفرافضة تلت الليلة، وقد شقّت جَيبَها قُبلًا ودُبُرًا، ومعها سراج، وهي تَصيح: وأمير المؤمنين، فقال لها جُبير بن مُطعم: أَطفئي السّراج فلا يُفطَنُ بنا، فأَطفأتْه، وانتَهوا إلى البقيع، فصلّى عليه جُبير بن مُطعم، وخلفه: حكيم بن حزام، وأبو جهم بن حُذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، ونائلة وأمّ البنين بنت عُيينة امرأتا عثمان، ونزل في حُفرته نيار بن مكرم، وأبو جهم، وجُبير، وكان حكيم بن حزام وأمّ البنين يُدَلّونه على الرّجال حتى ألحدوا له، وبَنَوا عليه، وطيَّنوا قبرَه، وتفرَّقوا. وقال ابن سعد: وقد قيل: إنه صلى عليه سبعة عشر رجلًا، والأول أثبت؛ أنه صلّى عليه أربعة (¬3). وقال ابن سعد: إن الزّبير لم يَشهد قتلَ عثمان، وسنذكره. والقول الثاني: أنه قُتل يوم الأربعاء بعد العصر، ودُفن يوم السبت بعد العصر، قاله هشام. والثالث: أنه قُتل لثلاث عشرة خلت من ذي الحجّة، والأوّل أشهر. وقال الموفّق رحمه الله في "الأنساب": قُتل في ذي الحجّة أو في المحَرَّم (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 74. (¬2) ص 110. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 74 - 75. (¬4) التبيين 179.

وقال ابن سعد بإسناده عن مُعتمر بن سليمان قال: سمعتُ أبي يقول: حدثنا أبو عثمان: أن عثمان قُتل في أول أيام التّشريق (¬1). وقال جدّي رحمه الله في "التلقيح" (¬2): قُتل عثمان يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة، وقيل: لثمان عشرة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وقيل: أول سنة ستّ وثلاثين، وأُخفي قبرُه. وقال البخاري بإسناده، عن أبي موسى الأشعري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا إلى حائطٍ من حَوائط المدينة لحاجته، وخرجتُ في إثْره، فلما دخل الحائط جلستُ على بابه وقلتُ: لأكونَنّ اليوم بَوَّاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهب فقضى حاجتَه، وجلس على قُفِّ البئر، وكشف عن ساقيه، ودَلّاهما في البئر، فجاء أبو بكر يَستأذن، فقلتُ: يا رسول الله، إن أبا بكر يَستأذن عليك، فقال: "ائذنْ له وبَشِّره بالجنة" فدخل، فجلس عن يمينِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفعل كما فعلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كشف عن ساقَيه، ودلّاهما في البئر، وجاء عمر يَستأذن، فقال: "ائذنْ له وبَشِّره بالجنة" فدخل، فجلس على القُفّ، وفعل كما فعل أبو بكر" كشف عن ساقيه ودَلّاهما في البئر، فامتلأ القُفُّ، فلم يكن فيه مجلس، فجاء عثمان يَستأذن فقال: "ائذَنْ له وبَشّره بالجنة مع بَلاءٍ أو بَلوى تُصيبُه" فدخل فلم يَجد معهم مَجلسًا، فتحوّل حتى جاء مُقابِلَهم علي شَفير البئر، فكشفّ عن ساقَيه، ثم دَلّاهما في البئر. قال ابنُ المسيّب: فأوَّلتُ ذلك قبورَهم، اجتمعت ها هنا وانفرد عثمان عنهم. أخرجاه في "الصحيحين" (¬3). واختلفوا في سنّه على أقوال: أحدها: اثنان وثمانون سنة، وقد حكيناه عن الواقدي. والثاني: خمس وسبعون، وقد حكيناه عن أبي معشر. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 75. (¬2) ص 110. (¬3) صحيح البخاري (7097)، وصحيح مسلم (2403).

والثالث: أنه كان ابنَ تسعين سنة. والرابع: ابنَ ثمان وثمانين سنة. والخامس: ابن ستة وثمانين سنة، قاله قتادة. والسادس: ابنَ ثلاث وستين، حكاه سيف عن أشياخه. وقد حكى الطبري هذه الأقوال (¬1). وقال جدي رحمه الله في "التلقيح" (¬2): وفي سنه ثلاثة أقوال: أحدها: تسعون سنة، والثاني: ثمان وثمانون، والثالث: اثنان وثمانون، وقيل: لم يَبلغ الثمانين. وقال في "الصفوة" (¬3): خمسة وتسعون. واختلفوا في مبلغ خلافته، فحكَينا عن الواقدي أنه أقام اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يومًا. والثاني: اثنتي عشرة سنة إلا إحدى عشرة ليلة، قاله أبو معشر ويعقوب بن شيبة. ذكر ما نُقل عن الصحابة في قتل عثمان: قال ابن سعد بإسناده عن ابن عباس قال: لو أجمع الناس على قتل عثمان لرُموا بالحجارة كما رُمي قومُ لُوط. وفي رواية ابن سعد عن ابن عباس قال: لو لم يَطلب الناس بدم عثمان لرُمُوا بالحجارة من السماء. وقال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن عُكَيم قال: لا أُعينُ على دم خليفة أبدًا بعد عثمان، قال: فقيل له: يا أبا مَعبد، أوَأعنتَ على دمه؟ فقال: إني لأعُدُّ ذكر مساوئه عونًا على دمه. ¬

_ (¬1) في تاريخه 4/ 417 - 418. (¬2) ص 110. (¬3) 1/ 305.

وقال ابن سعد بإسناده عن أبي قلابة قال: لما بلغ ثُمامةَ بن عديّ قتلُ عثمان -وكان أميرًا على صنعاء، وكانت له صحبة، وهو من قريش- بكى فطال بُكاؤه، ثم قال: هذا حين انتزِعتْ خلافةُ النبوَّةِ عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وصار مُلكًا وجَبريَّة، مَن غلب على شيءٍ أكله. وحكى ابن سعد عن أبي أحمد السَّاعدي -وكان قد شهد بدرًا- أنه قال لما قُتل عثمان: اللهمَّ إن لك عليَّ أن لا أفعلَ كذا وكذا، ولا أضحك حتى ألقاك. وكان أبو هريرة إذا ذكر ما فعلوا بعثمان يبكي وينتحب، يقول: هاه هاه، وكان معه يومَ الدّار. وروى ابن سعد عن عبد الله بن سلام أنه قال يوم قُتل عثمان: هَلكتِ العرب، قيل له: فما تَجدون صفةَ عثمان في كُتبكم؟ فقال: نَجِده أميرًا يوم القيامة على القاتل والخاذِل، وفي رواية عنه: يُحكَّم في القاتل والخاذِل. وقال ابن سعد بإسناده عن طاووس، عن ابن عباس قال: سمعتُ عليًّا يقول حين قُتل عثمان: والله ما قَتلتُ ولا أَمرتُ، ولكن غُلبتُ، قالها ثلاثًا. وفي رواية ابن أبي ليلى عنه قال: رأيت عليًّا عند أحجار الزّيت رافعًا ضَبْعَيه يقول: اللهمَّ إني أبرأُ إليك من أمر عثمان. وكان عليّ يقول: إنما وَهنتُ يوم قُتل عثمان. وقال ابن سعد بإسناده عن مَسروق، عن عائشة قالت حين قُتل عثمان: تركتموه كالثّوب النقيِّ من الدَّنَس، ثم قَرّبتموه، تَذبحونه كما يُذبَح الكَبش، هلّا كان هذا قبل هذا؟ فقال لها مسروق: هذا عَملُك، أنت كتبتِ إلى الناس تَأمرينهم بالخروج إليه، فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبتُ إليهم بسوداءَ في بيضاء حتى جلستُ مجلسي هذا. قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كُتِبَ على لسانها. وقال عُروة: كانوا يتَّهمونها أنها كتبت إلى مصر والعراق، وهذا معنى قولِ مروان لها: حرَّق قيسٌ عليَّ البلاد. وروى ابن سعد عن عمرو بن عاصم الكِلابي، عن أبي الأشهب، عن الحسن قال:

لما أُدرِكوا بالعُقوبة -يعني قتلةَ عثمان- قال الحسن: أُخِذ الفاسق ابنُ أبي بكر -قال أبو الأشهب: وكان لا يُسمّيه إلا الفاسق، ولا يُسمّيه باسمه- قال: أُخِذ فجُعِل في جَوف حمار، ثم أُحرق عليه. وقال ابن سعد بإسناده عن أبي المَليح، عن ابن سلام قال: ما قُتلَ نبيٌّ قطّ إلا قُتل به سبعون ألفًا من أُمّته، ولا قُتل خليفةٌ إلا قُتل به خمسةٌ وثلاثون ألفًا (¬1). وذكر الموفَّق في "الأنساب" وقال: كان مع عثمان في الدار: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن سلام، والحسن بن علي، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، ومحمد بن حاطِب، ومروان بن الحكم، والمغيرة بن الأخنَس وغيرهم (¬2)، قُتل عثمان والمغيرة بن الأخنس وغلامٌ لعثمان، فأغلق البابُ على ثلاثة مقتولين. قلت: لم يذكر ابنُ سعد وهشام المغيرةَ بن الأخنَس. قال الموفَّق: رأى رجلٌ من أهل "العَسكرِ الذين حصروا عثمان ليلةً في منامه مراجلَ يَغلي فيها الماء، فقال: ما هذه؟ فقيل: لقاتل المغيرة بن الأخنس، فأصبح الرجل فَزِعًا وقال: والله لا قاتلتُ بعدها، ولَزِم المسجد يُصلّي فيه، وكان في مَوضعٍ يُشاهد القتال، فكان يَرى الناس كلّما دَنَوا من باب الدار التي فيها عثمان خرج إليهم رجلٌ فطَردَهم، فجعل يَغِيظُه ذلك ويقول: ألا رجلٌ يَكفي الناسَ أمرَ هذا الخارج عليهم، فلما طال ذلك عليه أخذ سيفَه، وخرج من المسجد، فحَمل على الخارج من الدار، فضَربه فقتله، ثم سأل عنه فقالوا: هذا المغيرة بنُ الأخنس (¬3). ذكر ما رُثي به من الأشعار: قد رثاه خلقٌ كثير، منهم حسان بن ثابت، قال في بعض ما رَثى به عثمان بنَ عفان: [من البسيط] ضَحَّوا بأشْمَطَ عُنوانُ السُّجود به ... يُقَطِّع الليلَ تَسبيحًا وقرآنا ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في طبقات ابن سعد 3/ 75 - 79. (¬2) التبيين 180. (¬3) التبيين 180.

مَن سرّه الموتُ صِرفًا لا مِزاجَ له ... فلْيَأتِ مَأسَدَةً في دار عُثمانا صبرًا فِدى لكمُ أمِّي وما وَلَدتْ ... قد يَنفعُ الصَّبرُ في المكروه أحيانا وقد رضيتُ بأهل الشام نافرةً ... وبالأمير وبالإخوان إخوانا إني لمنهم وإن غابوا وإن شَهِدوا ... ما دُمتُ حيًّا وما سُمِّيتُ حسّانا لتَسمَعنَّ ضجيجًا في ديارِهم ... الله أكبر يا ثاراتِ عُثمانا (¬1) وقال: [من الخفيف] وعليٌّ في بيته يسألُ النا ... سَ رُويدًا وعنده الأخبارُ باسط بالذي يُريد دراعَيهِ ... عليه سَكينةٌ ووَقارُ يَنظُر الأمرَ كي يَصيرَ إليه ... كالذي سُبّبت له الأقدارُ قد رأى كثرةَ الكلام قبيحًا ... كلُّ قولٍ يَشينُه الإكثارُ (¬2) قلت: إن صحَّ عن حسّان أنه قال هذا فقد أعمى الله بصيرتَه كما أعمى بصرَه، لأنه ذَمَّ أهلَه الأنصار، ونَسبهم إلى خِذلان عثمان في أمرٍ أمضاه الله وقدّره، ونسب أمير المؤمنين إلى أمرٍ قبيحٍ ذَميم، ويكفي حسانًا أنه نزل فيه قولُه تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]، وقد ذكرنا قصّتَه في حديث الإفك، وإنما جرَّأه على ذلك لأن عثمان أعطاه مئةَ ألف درهم من بيت المال، وقيل أكثر من ذلك، وكان ذلك مما أُخذ على عثمان، وقد ذكرناه. وأما قوله: لتسمعنّ ضجيجًا في ديارهم، يَتوعَّد المهاجرين والأنصار. وقد أكثرت الشعراء في عثمان، وقال الشعبي: قد أكثر الشعراء في مَراثي عثمان، فلم أسمع أحسنَ مما قال كعب بن مالك من أبيات: [من الطويل] فكفَّ يدَيهِ ثم أغلق بابَه ... وأيقن أن الله ليس بغافلِ ¬

_ (¬1) ديوانه 1/ 96، وذكر بعض أبياتها ابن قتيبة في المعارف 197، وابن عبد ربه في العقد 4/ 297، والبلاذري في أنساب الأشراف 5/ 249، والطبري في تاريخه 4/ 425، وابن أعثم في الفتوح 2/ 240 - 241، والمسعودي في مروج الذهب 4/ 284، وابن عبد البر في الاستيعاب (1878). (¬2) ليست في ديوانه، ومنها بيتان في الفتوح لابن أعثم 2/ 239، ونسبها ابن عبد ربه في العقد 4/ 297 إلى رجل من أهل الشام، وانظر مروج الذهب 4/ 284.

وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا الله عن كلِّ امرءٍ لم يُقاتلِ فكيف رأيتَ الله ألقى عليهم ... العداواةَ والبَغْضاءَ بعد التَّواصُلِ وكيف رأيتَ الخير أدبرَ بعده ... عن الناسِ إدبار النَّعام الجوافِلِ ويقال هي لحسان بن ثابت، وقيل: للوليد بن عقبة (¬1). ذكر ما خلّف عثمان من المال: حكى ابن سعد عن الواقدي بإسناده، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كان لعثمان بن عفان عند خازنه يوم قُتل ثلاثون ألفَ ألف درهم وخمس مئة ألف درهم وخمسون ومئة ألف دينار فانتُهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالرَّبذَة، وترك صَدَقاتٍ كان يتصدق بها ببئر أرِيس وخيبر ووادي القرى، قيمته مئتي ألف دينار (¬2). وقال هشام: ترك عثمان ألفَ ألفِ درهم، وقيل: مئة ألف ألف درهم، وخيلًا بالحِمى، وأغنامًا لا تُحصى، وعشرةَ آلاف بعير، فنُهب الجميع. ذِكر عمّال عثمان - رضي الله عنه -: قال الواقدي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد قال: قُتِل عثمان وعُمَّاله على الأمصار: على مكة عبد الله بن الحَضْرميّ، وعلى الطّائف القاسم بن ربيعة الثقفي، وعلى صنعاء يَعلي بن أميّة، وعلى الجَنَد عبد الله بن [أبي] ربيعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر بن كُرَيز، وعلى الكوفة أبو موسى الأشعري، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، غلبه عليها محمد بن أبي حُذيفة فأخرجه منها، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى قِنّسرين حُبيب بن مَسْلَمة، وعلى الأردن أبو الأعور السُّلَمي، وعلى فلسطين عَلقمة بن حكيم الكِناني، وعلى البحر عبد الله بن قيس الفَزاري، وكلُّ هؤلاء الذين بالشام من قِبل معاوية. وحكى سيف بن عمر، عن أبي حارثة وأبي عثمان قالا: مات عثمان وعلى الكوفة ¬

_ (¬1) ديوان كعب 207، والأغاني 16/ 233، وأنساب الأشراف 5/ 201، والاستيعاب (1878)، وتاريخ دمشق 547 - 548، والتبيين 180. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 72 - 73.

أبو موسى على صلاتها، وعلى خراج السَّواد جابر بن فُلان المزنيّ -وهو صاحب المُسَنَّاة إلى جانب الكوفة- وعلى حَربها القعقاع بن عمرو، وعلى قرقيسياء جرير بن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى حُلوان عتبة بن النّهّاس، وعلى الرّي سعيد بن قيس، وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وكان على قضاء عثمان يومئذ زيد بن ثابت (¬1). وقال جدي في "المنتظم" (¬2): وكان على قضاء عثمان لما مات أبو الدرداء. قلت: وأبو الدرداء مات في سنة اثنتين وثلاثين، وقد ذكرناه. فصل في ذكر فتوحات عثمان: ذكر يعقوب بن سفيان وأبو مَعشر قالا: وفي العام الذي بُويع فيه عثمان وهو سنة أربع وعشرين فُتحت الرّي، وفي عام خمسٍ وعشرين فُتحت أرمينية، وفي سنة ست وعشرين فُتحت الإسكندرية، وفي سنة سبع وعشرين فُتحت إفريقية، وفي سنة ثمان وعشرين فُتحت إصطَخر، وفي سنة تسع وعشرين فُتحت فارس الأخيرة، وفي سنة ثلاثين فتحت إصطخر الثانية، وفي سنة إحدى وثلاثين كانت غزاة البحر، وفي سنة اثنتين كانت غزاة المضيق، وفي سنة ثلاث وثلاثين كانت غزاة قبرس، وفي سنة أربع وثلاثين كانت غزاة الصّواري، وفي سنة خمس وثلاثين كانت ذات الخُشُب وفيها قُتل عثمان (¬3)، وقد ذكرنا تفاصيل ذلك وما فيه من التقديم والتأخير. ذكر إرسال قميص عثمان - رضي الله عنه - إلى الشام: روى هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: دمُ عثمان في هذه الأمة كدم يحيى بن زكريا في بني إسرائيل، فكلُّ دمٍ يُسفَك إلى يوم القيامة فهو السّبب، كدم علي بن أبي طالب وأولاده الحسين وإخوته، ومَن قُتل يوم الجمل، وأيام صفين، وهلمّ جرًا من الصحابة والتابعين وأهل البيت والخلفاء وبني أمية وغيرهم، قرنًا بعد قرن وخَلَفًا بعد سلف. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 421 - 422. (¬2) 4/ 59. (¬3) تاريخ دمشق (عثمان) 204.

وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رُومان. قال: بعثتْ نائلةُ بقميص عثمان، وعليه دمُه وأصابعُ يدِها، مع النعمان بن بشير، وكتبت كتابًا فيه: وأمير المؤمنين، بُغي عليه، وحُصِر في داره، ومُنع الماء، واحترق بابُه، ودخلوا عليه فأخذوا بلحيته، وضربوه على رأسه، وطعنوه بمشاقِصَ، وكسروا أضلاعَه، ولوَّثوا مُصحفَه بدمه، واستجار فلم يُجره أحدٌ منهم، ولعبوا برأسه بأرجُلهم، ونهبوا أمواله، واستحلوها مع دمه، ودفنّاه ليلًا ونحن نرتقبُ القتلَ ... وذكرت كلامًا طويلًا. فلما قدم النعمان بن بشير وقَرُبَ من دمشق نشر القميصَ وعليه الدّم، وعَلّق أصابعَ نائلة، وخرج معاوية إلى لقائه ومعه الناس، وقيل: بل جلس له مَجلسًا عامًّا، فلما قرأ الكتاب قام قائمًا، أو نزل من دابّته، وحثى التراب على رأسه، ومَزّق ثيابَه، وفعلوا بنو أمية كذلك، وارتفع البكاءُ والنّحيب، وكان يومًا عظيمًا لم يُرَ في الإسلام مثلُه، ثم صَعد منبرَ جامع دمشق، وقرأ الكتاب على الناس، فازدادوا بكاءً وعويلًا، وعلَّق القميصَ والأصابع على المنبر سنة، يَنتابُه الناس من كلّ مكان، وآلى أهلُ الشام أن لا ينامون على فُرُشٍ، ولا يأكلون سمينًا، ولا يَقربون النّساء حتى يَقتلوا قَتلةَ عثمان. ذكر حاجبه وكاتبه وقاضيه ونَقش خاتمه: قال هشام والواقدي وغيرهما: كان مروان بن الحكم كاتبه، وحُمران مولاه حاجبه، وزيد بن ثابت قاضية، وقيل شُريح بن الحارث، والأوّل أصحّ، وفي نقش خاتمه قولان، أحدهما: آمن بالله العظيم عثمان مخلصًا، والثاني: لتَصبِرَنَّ أو لتَندَمَنّ. ذكر أولاد عثمان - رضي الله عنه - وأزواجه: قد ذكرهم علماء السِّيَر: كابن سعد، والواقدي، وهشام بن محمد والبلاذري والطبري وغيرهم. فقال ابن سعد: كان لعثمان من الولد سوى عبد الله بن رُقَيّة: عبد الله الأصغر دَرَج، وأمُّه فاختة بنت غزوان بن جابر، ونسبها إلى قيس بن عَيلان، قال: وعمرو، وخالد، وأبان، وعمر، ومريم الكُبرى، وأمُّهم أمّ عمرو بنت جُندب بن عمرو، أزديّة. قال: والوليد، وسعيد، وأمّ سعيد، وأمهم فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مَخزوم.

قال: وعبد الملك دَرَج، وأمُّه أمُّ البَنين بنت عُيَينة بن حِصن بن حُذيفة بن بدر الفَزاري. قال: وعائشة، وأمّ أبان، وأمّ عَمرو، وأمُّهنّ رَمْلة بنت شَيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مَناف بن قُصيّ. ومريم الصُّغرى وأمها نائلة بنت الفَرافِصَة الكلبيّة، وأمُّ البَنين لأُمّ وَلَد، وهي التي كانت عند عبد الله بن يزيد بن أبي سفيان هذا قولُ ابنِ سعد (¬1). وقال الطبري: ذكرُ أزواجه، كانت عند عُثمان: رُقيَّة وأمّ كُلثوم ابنتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلَدت له رُقيَّة عبد الله. قال: وكانت عنده فاخِتة بنتُ غَزوان -ونسبها كما نسبها ابن سعد- قال: ووَلدت له وَلدًا فسمّاه عبد الله الأصغر هلك. قال: وكانت عنده أمُّ عمرو ابنةُ جُندب بن عمرو، أزديّة، وَلَدتْ له عَمرًا، وعُمر، وخالدًا، وأبانًا، ومريم، كما ذكر ابن سعد. قال: وكانت عنده فاطمة بنت الوليد [بن عبد شمس] بن المغيرة، وَلَدت له: الوليد وسعيدًا وأمّ سعيد. قال: وأمّ البَنين بنت عُيينة بن حِصن، وَلَدت له عبدَ الملك. قال: ونائلة بنت الفرافصة، وَلَدت له مريم. وإلى ها هنا وافق الطبريُّ ابنَ سعد في أولاد عثمان، وابن سعد شيخُ شيخِ الطبريّ؛ لأنه روى عن واحد عن ابن سعد. ثم قال الطبري: وقال هشام: وَلدت أم البنين بنت عُيينة بن حِصن لعثمان عبد الملك وعُتبة، قال: وقال أيضًا: ولدت له نائلةُ عَنبسة. قال الطبري: وزعم الواقدي أن لعثمان ابنة تُدعى أمّ البَنين من نائلة، وهي التي كانت عند عبد الله بن يزيد بن أبي سفيان. قال: وقُتل عثمان وعنده رَمْلة بنت شَيبة، ونائلة، وأمّ البنين بنت عُيينة، وفاختة بنت غزوان، وقيل: إنه طلق أمّ البنين وهو مَحصور. ¬

_ (¬1) في الطبقات 3/ 51 - 52.

قال الطبري: فهؤلاء أزواجه اللاتي كن [له] في الجاهلية والإسلام وأولاده؛ رجالهم ونساؤهم (¬1). قلت: انتهى كلامُ الطبري وابن سعد في هذا الباب، فنذكرُ أقوال غيرهما فنقول: ذكر هشام والواقدي والبلاذري وغيرُهم، دخل حديثُ بعضهم في حديث بعض قالوا: أما عبد الله الأكبر ابنُ رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي عاش ستَّ سنين، ونَقَره ديكٌ في عينه فمات، وقد ذكرناه في سنة ستّ من الهجرة. وأما عبدُ الله الأصغر فأمُّه فاختة بنت غَزوان، فاختة أختُ عتبة بن غزوان، وكان عبد الله مُمَدَّحًا، مَدحه الفرزدق وغيره. وقال البلاذري: وفاطمة بنت الوليد [بن عبد شمس] بن المغيرة، زوجة عثمان، تُكنى أم عبد الله، وأمُّها أسماء بنت أبي جهل بن هشام، وأمُّها [أروى] بنت أبي العِيص بن أمية، وأمُّها رُقيَّة بنت الحارث بن عُبيد بن مخزوم، وأمّها رُقية بنت أسد بن عبد العُزّى بن قُصيّ، وأمّها خالدة بنت هاشم بن عبد مناف بن قصي (¬2). قال: وأمّا أمُّ البنين بنت عُيينة بن حصن زوجة عثمان فاسمُها مُليكة بنت عُيينة. قال: وأما رَملة بنت شَيبة بن ربيعة بن عبد شمس فكانت من المبايعات المهاجرات، ولها تقول هند بنتُ عُتبة بن ربيعة أمُّ معاوية، وهي ابنةُ عمِّها تهجوها لما أسلمت: [من الوافر] عَدِمنا كلَّ صابئة بوَجٍّ ... ومكةَ أو بأطراف الحَجُونِ تدينُ لمعشرٍ قتلوا أباها ... أقتلُ أبيكِ جاءكِ باليقينِ قال: وكان لعثمان ولد يُقال له: المغيرة من أسماء بنت أبي جهل (¬3). وذكر الزبير بن بكار أن عثمان أولد نائلةَ بنتَ الفَرافصَة: أمَّ خالد ورُقيَّة وأروى وأمَّ أبان (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 420 - 421. (¬2) لم أجد هذا الكلام في مطبوع أنساب الأشراف، وهو بهذا السياق في طبقات ابن سعد 7/ 152 وما بين حاصرتين منه. (¬3) أنساب الأشراف 5/ 252 - 253. (¬4) أخرجه ابن عساكر في تاريخه 405 (تراجم النساء) عن الزبير دون ذكر رقية، وانظر نسب قريش 105.

وقال الواقدي: الثّبت عندنا أنها ما أولدها غير مريم. وقد ذكرنا أنه تزوّج نائلة في سنة ثمان وعشرين. وقال أبو القاسم بن عساكر: روت نائلة عن عثمان الحديث، وروى عنها النعمان بن بشير (¬1). وكانت مريم أصغر بنات عثمان، وكلُّ نساء عثمان وَلَدْن له إلا أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال هشام: وكانت نائلة تحته يوم قُتل في أصحِّ الروايات، واختُلف فيما عداها، فقيل: كانت عنده رملة وفاختة وأمّ البنين، وقيل: إنه طلَّقهن وهو محصور ما عدا نائلة، وقيل: إنما طلق أمَّ البنين وقد ذكرناه. ذكر أعيان أولاد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: منهم عمرو بن عثمان: كان أسنَّ ولد عثمان، وأعقلَهم، وأشرفَهم، وأكثرَهم عَقِبًا، وبه كان عثمان يُكنى. وقال الشيخ الموفق رحمه الله: ويقال إن عمرو بن عثمان صلّى على أبيه بعدما قُتل (¬2). ذكره ابن سعد في موضعين في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وقال: له أحاديث، قال: وأمُّه أمُّ عمرو بنت جُندب بن عمرو بن حُمَمة بن الحارث بن رفاعة ان سعد بن ثعلبة بن لؤي بن عامر بن غَنْم بن دُهمان بن مُنهِب بن دَوْس (¬3). وقال الوليد بن مسلم: قدم عمرو على معاوية، فأغزاه أنقرة من بلاد الروم، ففَتَحها فزوّجه ابنتَه رَمْلة بنت معاوية، وهو يومئذ خليفة، فولدت له عثمان الأكبر لا عَقِب له، وخالدًا وله عقب. وقال الوليد بن مسلم: وكان مروان قد أغرى بينه وبين معاوية، ووَثَّبه على الخلافة ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 404 (تراجم النساء). (¬2) التبيين 181. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 149 - 150، ولم يرد في موضع آخر، وإنما ورد أخوه عقبه.

وقال: إنما نالها معاوية باسم أبيك، وتَمويهه على أهل الشام بطلَبه بدمه، وأنت أولى، ونحن أكثر عددًا من آل حرب، وجعل يُعدّد رجال بني العاص، وكانت زوجته رَمْلة بنت معاوية تسمع من وراء الحجاب. ثم خرج مروان وعمرو إلى مكة حاجَّين أو معتمِرَين، وخرت رملةُ إلى الشام، فأخبرت أباها وقالت: مازال مروان يُعَدِّدُ رجال بني [أبي] العاص ويُفضِّلُهم علي بني حَرْب حتى عَدَّ ابنيَّ: عثمان وخالدًا، فتمنيّتُ أنهما ماتا، فحَقَدها معاويةُ على مروان (¬1). وحكى ابن سعد عن عَمرو بن عثمان: أنه كان يَصبغ بالسَّواد (¬2). وقال البلاذري: عاش عمرو بن عثمان إلى أيَّام الحَرَّة، وكان مع أهل المدينة حين قدم مُسلم بن عُقبة المزي لقتال أهلِ الحَرَّة في أيام يزيد بن معاوية، فدعا به مُسلم، وقال له: إيه يا فاسق، إذا خرج أهلُ المدينة قلتَ: أنا رجلٌ منكم، وإذا ظهر أهلُ الشام قلتَ: أنا ابنُ أمير المؤمنين، ثم التفت إلى مَن حوله وقال: هذا الخبيثُ ابنُ الطيِّب، هانما أُتي مِن قِبَل أمّه الحمقاء، لقد بلغني أنها كانت تَجعل في فِيها خُنفساء، وتقول: حاجتُك في فمي، وفي فمها ما ساءها، ثم أمر به فضُرب بالسّياط (¬3). أسند عمرو بن عثمان بن عفان الحديث. قال ابن سعد: روى عن أبيه، وعن أسامة بن زيد، وكان ثقةً له أحاديث (¬4). وقال أبو القاسم بنُ عساكر: وروى عنه عليّ بنُ الحسين وابنُ المسيّب وأبو الزّناد. قال: ومما روى عنه علي بن الحسين، عن أسامةَ بن زيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ" (¬5). قلت: وهذا الحديثُ في "الصحيحين" (¬6). ¬

_ (¬1) نسب قريش 109 - 110، وتاريخ دمشق 55/ 372 - 373. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 150. (¬3) أنساب الأشراف 5/ 254. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 150. (¬5) تاريخ دمشق 55/ 361. (¬6) صحيح البخاري (6764)، وصحيح مسلم (1614).

قلت: قد ثبت أن في أولاد عثمان بن عفان مَن اسمُه عُمر -بغير واو- وهو أخو عَمرو لأبيه وأُمِّه، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة في أولاد عثمان. قال: وروى عُمر عن أسامة بن زيد، وروى عنه الزهري. قال: وولد عمر بن عثمان: زيدًا وعاصمًا لأمّ ولد. وكان لعمر دارٌ بالمدينة، وله عَقِب، وكان قليلَ الحديث، ومن ولده العَرْجيّ الشاعر (¬1). وذكره البلاذري فقال: وَلد عُمر بن عثمان بن عفان: زيدًا وعاصمًا وأمَّ أيّوب، قال: فأما عاصم بن عمر بن عثمان فكان يُبَخَّل، وفيه يقول الشاعر: [من الطويل] ألا أيّها الرُّكبانُ سِيروا وأدْلِجوا ... فقد خاب مَن يَبغي القِرى عند عاصمِ فما لي من ذنبٍ إليه عرفتُه ... سوى أنني قد زُرتُه غيرَ صائمِ (¬2) وأما زيد فتزوَّج سُكَينة بنت الحسين - عليه السلام -، فنهاه سليمان بن عبد الملك عنها فطلَّقها؛ لأن سليمان خطبها بعد قتل مُصعب (¬3). قلت: وهذا وهم من البلاذري؛ لأن الذي خطب سُكينة بعد قتلِ مصعب عبد الملك ابن مروان، فلم تُجِبْه لكونه قتل زوجَها مُصعبًا، وقالت: أيَخطبني أبو الذِّبَّان، لما نذكر. قال: وأما أمّ أيوب بنت عمر بن عثمان بن عفان فتزوَّجها عبد الملك بن مروان (¬4). وأما أبان بن عثمان بن عفان فذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، قال: وأمُّه أم عَمرو بنت جُندب من دَوْس، وهو أخو عُمر وعَمرو ابني عثمان لأمهما وأبيهما، وأمّ عمر هي الحمقاء. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 150، والمعارف 250. (¬2) البيتان للحزين الكناني في هجاء عاصم بن عمرو بن عثمان في الأغاني 15/ 339 - 340، وفي هجاء عاصم بن عمر بن عمرو بن عثمان في أنساب الأشراف 5/ 267 - 268، وفي هجاء عاصم بن عمر بن عثمان في المعارف 201 وكأن المصنف ينقل عنه. (¬3) أنساب الأشراف (1584) (عباس)، 5/ 271 (العظم)، وفيه أن الذي خطبها عبد اللك لا سليمان، وبذلك فلا وهم من البلاذري كما سيذكر المصنف. (¬4) لم أجده في أنساب الأشراف، وهو في المعارف 201.

قال ابن سعد بإسناده عن محمد بن عمر، عن بعض أصحابه قال: كان يحيى بنُ الحكم بن أبي العاص بن أُميّة على المدينة عاملًا لعبد الملك بن مروان، وكان فيه حُمْق، فخرج إلى عبد الملك وافدًا عليه بغير إذنه، فلما قدم عليه قال: ما أقدمك عليَّ بغير إذني؟ ! مَن استعملتَ على المدينة؟ قال: أبان بن عثمان، قال لا جَرَمَ، لا تَرجعُ إليها، فأقرَّ عبد الملك أبانًا على المدينة، فعزل أبان عبد الله بنَ قيس بن مَخرمة عن القضاء، وولّى نوفل بن مُساحِق قضاءَ المدينة. وأقام أبان واليًا على المدينة سبعَ سنين، وحجّ بالناس سبع سنين (¬1)، وفي ولاية أبان تُوفّي جابر بن عبد الله ومحمد بنُ الحنفية، فصلى عليهما بالمدينة، [ثم عزل عبد الملك أبانًا عن المدينة] وولاها هشام بن إسماعيل. وروى ابن سعد عن الواقدي: أنه كان بأبان وَضَحٌ كثير، فكان يَخضب مَواضعه [من يده] ولا يَخضبه في وجهه، وكان به صَمَمٌ، وكان يُصفّر لحيتَه ورأسَه بالحِنّاء، وكان مَفلوجًا. قال ابن سعد بإسناده عن الحجّاج بن فُرافصَة، عن رجلٍ قال: دخلتُ على أبان بن عثمان، فقال أبان: مَن قال حين يصبح: لا إله إلا الله العظيم، سبحان الله العظيم وبحمده، لا حول ولا قوَّة إلا بالله، عُوفي من كلِّ بلاءٍ يومئذ. قال: وبأبان يومئذٍ الفالِج، قال: أما إن الحديث كما حدَّثتُك؛ إلا أنه يومَ أصابني هذا لم أكن قلتُه. قال: وقال الواقدي: أصاب أبانًا لفالجُ سنةً قبل أن يَموت، وكان يُقال بالمدينة: فالج أبان، لشدّته. قال: وتُوفّي أبان في المدينة في خلافة يزيد بن عبد الملك. وروى أبان عن أبيه، وكان ثقةً، وله أحاديث، وكان له من الولد سعيد، وبه كان يُكنى، وأمُّه بنت عبد الله بن عامر بن كُرَيز (¬2). هذا صورةُ كلام ابن سعد عن الواقدي. ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 7/ 151: وحج بالناس سنتين. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 150 - 151.

قد ذكر أرباب السِّيَر سيرةَ أبان بن عثمان، فقالوا: شهد الجَمل مع عائشة وكان ثاني المنهزِمين. وقال ابنُ قتيبة: وهو ابنُ الحمقاء التي كانت تَجعل الخُنفساء في فيها وتقول حاجتُك في فمي. قال: وكان من أصحاب العاهات؛ أبرص، أصمّ، أحول، سيّئ السيرة، صاحبَ رشوة وجَورٍ في ولايته، وقد وَلي مكة والمدينة، وكان يُلقَّب بُقَيعًا، وكانت عنده أمُّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ثم خلف عليها بعدَه الحجَّاج بن يوسف (¬1). وقال الموفق رحمه الله: كان أبان فقيهًا، وقد رُوي عنه الحديث، وولدُه عبد الرحمن بن أبان من خيار المسلمين، قال: وكان عبد الرحمن يَشتري أهلَ البيت فيَكسوهم ويُعتقهم، ويقول: أنتم أحرار لوجه الله، أستعينُ بكم على غَمَرات الموت، قال: فزعموا أنه صلّى يومًا في مسجده، فوجدوه مَيتًا في مُصَلّاه (¬2)، وكان في سنة أربع ومئة. وأما خالد بن عثمان فأمُّه الحمقاء أيضًا، قال البلاذري: تُوفّي في خِلافة أبيه، ويُلَقَّب كَسِيرًا. قال الواقدي: ركب بغلةً من السُّقْيا ليَدخل المدينة فيُدرِكَ صلاةَ الجمعة مع أبيه عثمان، فعثرت البغلةُ فنفَقَتْ، وكُسِر خالد، أصابه قطعٌ فهلك منه، وله عَقِب، كان عندهم مصحف عثمان الذي دَمُه عليه (¬3). وأما سعيد بن عثمان فكُنيتُه أبو عثمان، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، قال: وأمُّه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مَخزوم، وأمُّها أسماء بنت أبي جهل بن هشام، وكان سعيد قليلَ الحديث (¬4). هذه صورة كلام ابن سعد. ¬

_ (¬1) المعارف 201 و 578، وانظر أنساب الأشراف 5/ 276 - 277. (¬2) التبيين 182. (¬3) أنساب الأشراف 5/ 271. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 152.

وقال الواقدي: ولّاه معاوية بعضَ خُراسان، ففتح سَمَرقند، وأُصيبت عينُه بها، وفتح بُخارى، وكان يُبَخَّل، فعزله معاوية عن خُراسان. قال البلاذري: إنما عَزله معاوية عن خُراسان لأنه طلب الخِلافة. ولما بايع معاوية لابنِه يزيد بلغ صبيانَ المدينة، فجعلوا، يقولون: [من الرجز]. والله لا ينالُها يزيدُ حتى ينال رأسَه الحديدُ إن الأميرَ بعده سعيدُ وبلغ معاوية، فاستقدمه فقال: يا ابن أخي، ما شيءٌ يَقوله صبيانُ أهلِ المدينة؟ فقال له: يا معاوية، وما تُنكر من ذلك؟ والله إن أبي لخيرٌ من أبي يزيد، وإن أمّي لخيرٌ من أمه، وإني لخيرٌ منه، وقد استعملناك فما عَزلناك، ووَصَلْناك فما قطعناك، وصار أمرُنا بيدك. فولاه معاوية بعض خُراسان ليَشغَلَه عنه، ثم عزله وحبسه خوفًا منه (¬1). وقال البخاري: غزا سعيدُ بن عثمان ما وراء النهر. وقال أبو أحمد الحاكم: فتح سعيد فُتوحًا كثيرة، وأُصيبت عينُه مع الأحنف بن قيس. وقال خليفة: عزل معاويةُ عبيد الله بنَ زياد عن خراسان في سنة ست وخمسين، ووَلّاها سعيد بنَ عثمان، فغزا سعيد ومعه المهلّب بن أبي صُفرة، وطلحة الطّلحات، وأوس بن ثَعْلبة من بني تَيم اللات، وربيعة بن عَسّال اليَربوعي، فنازل سَمَرقَنْد، فخرجوا إليه فقاتلوه، فألجأهم إلى المدينة، فصالحوه وأعطَوْه رهائن، ثم عَزله معاوية في سنة سبعٍ وخمسين، وولاها عُبيد الله بن زياد (¬2). وقدم سعيد المدينة، ومعه الرَّهائن من أولاد الصُّغد، فأخذ كِسوتَهم ومناطِقَهم، ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 273 - 274. (¬2) تاريخ دمشق 7/ 312 - 313 (خ)، وانظر التاريخ الكبير 3/ 503، وتاريخ خليفة 224.

فدفعها إلى غِلمانه، وألبسهم جِباب الصُّوف، وكلَّفهم العملَ الصَّعب والسواني، وكانوا من أولاد الملوك، فاستعملهم يومًا في حائطٍ له، فقتلوه بالمَساحي، وطُلِبوا فقتلوا نفوسهم. وهل قُتل قبل وفاة معاوية أو بعده؟ فيه قولان. وذكر أبو الفرج الأصبهاني عن العُتبي قال: لما قُتل سعيد قالت أمُّه: أشتهي مَن يَرثيه بما في نفسي، فقال عبد الرحمن بن أرطاة بن سَيحان: [من مجزوء الكامل] إن كنتِ باكيةً فتًى ... فابكي هُبِلتِ على سعيدِ فارقتَ أهلَك بغتةً ... وجلبتَ حتفَك من بعيدِ أذْرِي دموعَكِ والدِّماء ... على الشّهيد ابنِ الشهيدِ فقالت: هذا والله الذي كان في نفسي، ووصَلتْه (¬1). وأما الوليد بن عثمان بن عفان فأمُّه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو أخو سعيد لأمّه وأبيه. قال أبو اليقظان: كان صاحب شراب، قُتل أبوه عثمان وهو في حَجَلةٍ سكران، عليه المصبّغات من الأحمر والأصفر والأخضر، وقد خَلّق رأسَه ولحيتَه. وذكره المدائني وقال: كان للوليد هذا ولدٌ اسمه عبد الله بن الوليد، يسبُّ علي بنَ أبي طالب، وأمُّه ابنةُ الزبير بن العوام، وهو الذي قام إلى هشام بن عبد الملك يومَ عَرَفة وقال له: لم لا تَسبُّ أبا تُراب؟ ! فزَبَره هشام وقال له: اسكت، ما أتَينا إلى ها هنا لهذا (¬2). وأما عبد الملك بن عثمان فمات في حياة أبيه وهو غلام. وأما بناتُ عثمان بن عفان فسبع: مريم الكُبرى، وأمُّها أمُّ عمرو بنت جُندب الحمقاء، وأمُّ سعيد، وأمُّها فاطمة بنت الوليد، وعائشة وأمّ أبان وأمّ عمر، وأمُّهن رَمْلة بنت شَيبة بن ربيعة، ومريم الصُّغرى، وأمُّها نائلة بنت الفَرافِصَة، وأمُّ البَنين لأُمِّ وَلَد. ¬

_ (¬1) الأغاني 2/ 253، وانظر نسب قريش 110، وأنساب الأشراف 5/ 275. (¬2) المعارف 202، وأنساب الأشراف 5/ 269 - 271.

فأما مريم الكُبرى فتزوّجها سعيد بنُ العاص بن أمية، وكان قد تزوَّج سعيدٌ قبلها أختها أمَّ عمرو بنت عثمان فهَلَكت عنده، فتزوّج بعدها أختَها مريم، فهلك عنها، فتزوَّجها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فهلكت عنده. وأما عائشة بنت عثمان فتزوَّجها الحارث بنُ الحكم بن أبي العاص، ثم خلف عليها بعده عبد الله بنُ الزبير. وأما أم أبان بنت عثمان فتزوَّجها مروان بنُ الحَكَم. وأما أم سعيد بنت عثمان فتزوَّجها عبد الله بن خالد بن أَسِيد بن أبي العِيص. وأما مريم الصُّغرى فتزوَّجها عَمرو بن الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط. وأما أمّ البَنين فتزوّجها عبد الله بن يزيد بن أبي سفيان بن حرب. ذكر موالي عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: كان لد عِدَّة من الموالي، المشهور منهم: حُمران وكَيسان. فأما حُمران بن أبان فكُنيتُه أبو زيد، وهو من سَبْي عينِ التَّمر، سباه المسيَّب بن نَجَبة الفَزاري في أيام أبي بكر - رضي الله عنه -، وكان الأمير خالد بن الوليد، وكان حُمران يهوديًّا فأسلم، فأعتقه عثمان، وكان يَكتب له، ثم تزوَّج امرأةً في عِدَّتها، فجلده عثمان ونَفاه إلى البصرة، وهو الذي سعى بعامر بن عبد القيس حتى نفاه عثمان بن عفان إلى الشام، وقد ذكرناه. وقد ذكره ابنُ سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة في الموالي فقال: حُمران بنُ أبان مولى عثمان، روى عن عثمان، وتحوَّل إلى البصرة فنزلها، وادَّعى وَلَدُه أنهم من النَّمِر بن قاسط بن ربيعة، وكان كثيرَ الحديث، ولم أرهم يَحتجُّون بحديثه (¬1). وقيل: إنه أفشى سرَّ عثمان، فنفاه إلى البصرة، وقيل: سببُ نفيه أن عثمان بعثه إلى الكوفة ليكشِفَ عما قيل عن الوليد بن عُقبة، فرشاه الوليد، فلم يُخبر عثمان وأخبر مروان، فأخبر مروان عثمان، وقله ذكرناه (¬2). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 279. (¬2) انظر ترجمة حمران في المعارف 202 و 435، وتاريخ دمشق 5/ 288، والسير 4/ 182.

وأما كَيسان مولى عثمان فكُنيتُه أبو فَروة، وولدُه عبد الله بنُ أبي فروة كان عظيمَ القَدْر، وكان مع مُصعب بن الزبير لما قُتل، فحَمل أموال مصعب إلى مكة، وكانت عشرة آلاف ألف درهم (¬1). ذكر مسانيد عثمان بن عفان: واختلفوا فيها، قال قوم: روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئةً وَستةً وأربعين حديثًا، وقال ابن البرقي: أسند نحوًا من أربعين حديثًا، وقال أبو نُعيم: نيّفًا وستين حديثًا سوى الطُّرق. وأخرج له أحمد أحدًا وَخمسين حديثًا، ذكرها جدي في "جامع المسانيد"، أخرج له منها في "الصحيحين" ستة عشر، المتفق عليها منها ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة (¬2). وروى عثمان عن أبي بكر وعمر، وروى عنه أعيانُ الصحابة: العبادلة، وزيد بن ثابت، وعمران بن حُصين، وأنس، وأبو هريرة، والمغيرة بن شُعبة، وزيد بن خالد الجُهَني، وأبو قتادة في آخَرين، ومن التابعين عبد الله بن عامر بن كُرَيز ابنُ خال عثمان، ومروان بن الحكم ابنُ عمه، وبنو عثمان: أبان وسعيد وعُمر في آخرين. وليس في الصحابة مَن اسمُه عثمان بن عفان سوى رجلين؛ أحدهما صاحب هذه الترجمة، والثاني عثمان بن عفان الثقفي، ذكره جدّي في "التّلقيح" في أسامي الصحابة (¬3)، ولم يَذكره فيمن له رواية، والظاهر أنه عثمان بن أبي العاص الثقفي، وقد فرّقنا في الكتاب جملةً من مَسانيد عثمان. قال أحمد بإسناده، عن محمود بن لبيد، عن عثمان بن عفان قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن بنى لله مسجدًا بنى الله له مثلَه في الجنة". أخرجاه في "الصحيحين" (¬4). انتهت ترجمة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه (¬5). ¬

_ (¬1) في المعارف 202: فحمل عشرة آلاف درهم، فذهب بها إلى المدينة. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر 364، 396. (¬3) في مطبوع التلقيح 229: عثمان بن عثمان الثقفي. (¬4) مسند أحمد (434)، وصحيح البخاري (450) ومسلم (533). (¬5) انظر في ترجمة عثمان- إضافة إلى ما ذكر هن مصادر: تاريخ المدينة 3/ 952، والاستيعاب (1878)، =

عياض بن زهير

فصل وفيها توفي. عِياض بن زهير ابن أبي شدّاد بن ربيعة بن هلال الفِهريّ، وكُنيته أبو سعد، من الطبقة الأولى من المهاجرين وأمه سَلْمى بنت عامر بن ربيعة، فهريّةٌ أيضًا، هاجر إلى الحبشة الهجرةَ الثانية في قول ابن إسحاق والواقدي، ثم قدم المدينة مهاجرًا قبل بدر، فشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: وهو عمُّ عياض بن غَنْم الفهري والي الجزيرة. ومات عياض بنُ غَنْم في سنة عشرين، وصاحبُ هذه الترجمة في سنة خمس وثلاثين، وليس في الصحابة مَن اسمُه عياض بن زهير غيرُه، وله رواية وصُحبة (¬1). وفيها تُوفّي. فيروز الدَّيلمي الحِميريّ نُسِب إلى حِمْيَر لأنه نزل فيهم، وذكره ابن سعد، في الطبقة الرابعة في الوافِدِين على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: هو من أبناء فارس الذين بعثهم كسرى لنَفْي الحبشة من اليمن، فنَفَوْهُم عنها وأقاموا بها (¬2). وفيروز هو الذي حضر قتلَ الأسود العَنْسي، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما جاء الخبرُ من السماء بقتل الأسود: "فاز فيروز الرجلُ الصّالح". وكُنية فيروز أبو عبد الرحمن. وقال جدّي رحمه الله في "التلقيح" (¬3): فيروز ابن أخت النَّجاشي. ¬

_ = والحلية 1/ 55، والمنتظم 4/ 334 و 5/ 49، وصفة الصفوة 1/ 294، وتهذيب الكمال وفروعه، والإصابة 2/ 462. (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 386، والاستيعاب (1938)، وتلقيح فهوم أهل الأثر 239، والتبيين 494، والإصابة 3/ 48. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 317. (¬3) ص 242.

وقال الواقدي: وكان لفيروز ثلاثةُ أولاد: عبد الله والضحاك وعيَّاش، وكُنية عبد الله أبو بِشر، ويُقال: أبو نَسْر بنون وسين (¬1). صحب عبد الله معاذ بنَ جَبَل بالشام إلى أن مات، وسكن فلسطين والأردن، وحدّث عن معاذ، وأبيّ بن كعب، وابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحُذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وحَنَش بن عبد الله، وعن أبيه فيروز. وروى عنه يحيى بن أبي عمرو السَّيباني، ومحمد بن سيرين، وحُكَيم بن زُرَيق الأيلي. وَفَد على عمر بن عبد العزيز. والضحاك بن فيروز صحب عبد الملك بن مروان (¬2). وليس في الصحابة مَن اسمُه فيروز سواه. وقيل: مات في هذه السنة، قال ابن سعد: مات في خلافة عثمان بن عفان، ولم يَذكر تاريخَ وفاتِه (¬3). أسند فيروز عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، أخرج له أحمد في "المسند" ثلاثةَ أحاديث. الحديث الأول: قال أحمد بإسناده عن الأوزاعي، عن عبد الله بن فَيروز الدَّيلمي، عن أبيه: أنهم أسلموا وبعثوا وَفْدَهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيعتهم وإسلامِهم، فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم، فقالوا: يا رسول الله، نحن مَن قد عَرفتَ، وجئنا من حيث قد عَلمتَ، وأسلمنا فمَن وَليُّنا؟ فقال: "الله ورسولُه"، قالوا: حَسبُنا. الحديث الثاني: قال أحمد بإسناده عن ابن فَيروز الدَّيلمي، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليُنْقَصنّ الإسلامُ عُروةً عُروة". الحديث الثالث: قال أحمد بإسناده عن الضحاك بن فيروز: أن أباه فيروز أدركَه الإسلام وتحته أختان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "طَلِّق أيَّتهما شِئتَ" (¬4) وأخرج له غيرُ أحمد أحاديث. ¬

_ (¬1) لم يذكر هذا أحد ممن ترجم له، والصواب: أبو بُسر، انظر الإكمال 1/ 60، وتاريخ دمشق 27/ 295. (¬2) في (خ): وفد على عمر بن عبد العزيز والضحاك بن قيس وصحب عبد الملك بن مروان، والمثبت من تاريخ دمشق 37/ 392 و 8/ 406 (خ). (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 318 و 8/ 93. (¬4) مسند أحمد (18037) و (18039) و (18040).

معاذ بن عفراء

وقال ابن سعد: وَفَد فيروز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه أحاديثَ، منها حديثٌ في القِدْر، قال وبعضُهم يَروي عنه فيقول: حدَّثني الدَّيلمي، وبعضهم يقول: الحِميريّ، وبعضهم يقول: عن الدَّيلم، وهذا كلُّه واحد. قال ابن سعد بإسناده عن مَرْثَد بن عبد الله اليَزَني، عن الدَّيلمي قال. قلتُ: يا رسول الله، إنا بأرضٍ باردة، وإنا نَستعين بشرابٍ من القمح، قال: "أيُسْكِر؟ " قلتُ: نعم، قال. "فلا تشربوه"، ثم أعاد ققال له كذلك، فقال: إنهم لا يَصبرون عنه، قال: "فإن لم يَصبروا عنه فاقتُلْهم" (¬1). وفيها تُوفّي. مُعاذ بن عَفْراء وعفراء اسمُ أمّه، وأبوه الحارث بن رِفاعة بن الحارث بن سَواد بن مالك بن غَنْم، ومعاذ من الطبقة الأولى من الأنصار، وسنذكر أمّه في آخر ترجمته. وحكى ابن سعد عن الواقدي أنه قال: ويُروى أن معاذ بنَ الحارث ورافع بن مالك الزّرَقي أول مَن أسلم بمكة من الأنصار، ويُجعل في الثمانية نَفَرٍ الذين أسلموا أوَّل مَن أسلم من الأنصار بمكة، قال: ويُجعل في الستّة النفر الذين يُروى أنهم لقوا النبي بمكة من الأنصار فأسلموا، ولم يَتقدَّمهم أحد. قال محمد بن عمر: وأمرُ الستة أثبتُ الأقاويل عندنا. قال: وشهد معاذ العَقَبَتين في روايتهم جميعًا، وبدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين معاذ ومَعمر بن الحارث (¬2). وكان معاذ يَتصدّق بجميع ما يُفتح به عليه. قال هشام: وكان عمر بن الخطاب يَبعث إلى أهل بدر حُلَلًا، ويبعث إليه بالحُلّة، فيبيعها ويَشتري بثمنها رقابًا فيُعتقهم. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 318 و 8/ 93. وانظر ترجمة فيروز في المعارف 335، والاستيعاب (2081)، وتاريخ دمشق 58/ 198، والإصابة 3/ 212. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 456.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده إلى ابن أبي ليلى قال: كان معاذ بن عَفراء لا يَدع شيئًا إلا تصدق به، فلما وُلد له مولودٌ استشفعت إليه امرأتُه بأخواله، فكلّموه وقالوا: إنك قد أَعَلْتَ، فلو جمعتَ شيئًا لوَلَدك، فقال: إن نَفْسي قد أبتْ إلا أن تَستترَ بكلِّ شيءٍ أجده من النار. فلما مات ترك أرضًا إلى جَنْب أرضٍ لرجل، فاحتاج إليها جارُه، فباعها وليُّ صبيانه بثلاث مئةِ ألف درهم، وكانت تُساوي عشرة دنانير (¬1). ذكر أولاده: قال ابن سعد: كان له من الولد عُبيد الله، وأمُّه حَبيبة بنت قيس بن زيد، من الأوس، والحارث وعوف وسلمى، وهي أمُّ عبد الله، ورَمْلة، وأمُّهم أمُّ الحارث بنت سَبْرة بن رِفاعة، من بني النّجّار، وإبراهيم وعائشة، وأمُّهما أمُّ عبد الله بنت نُمَير، من جُهَينة، وسارة، وأمُّها أمُّ ثابت، وهي رَمْلة بنت الحارث بن ثعلبة، من بني النجّار (¬2). وليس في الصحابة مَن اسمُه معاذ ويُنسب إلى أمِّه عفرء غيرُه. وذكر جدّي في "المنتظم" (¬3) أنه توفي في هذه السنة، ولم يذكر ابن سعد تاريخَ وفاته بل قال: تُوفّي معاذ بن الحارث بعد قتلِ عثمان بن عفان؛ أيّام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وله اليوم عَقِب (¬4). ذكر أمِّه عَفْراء: قال ابن سعد: وهي عَفْراء بنت عبيد بن ثَعْلبة بن غَنْم بن مالك بن النجّار، وأمُّها الرعاة بنت عديّ، من بني النجّار، تزوّجها الحارث بن رِفاعة، فوَلَدت له معاذًا ومعوّذًا وعوفًا، وشهدوا بدرًا، أسلمت وبايعتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وليس في الصحابيات مَن أسمُها عفراء سوى اثنتين: إحداهما هذه، والثانية عفراء بنت السَّكَن بن رافع، أنصارية أيضًا (¬6). ¬

_ (¬1) المنتظم 5/ 73 - 74، وصفة الصفوة 1/ 472 - 473. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 456. (¬3) 5/ 73. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 456، وانظر في ترجمته: الاستيعاب (2272)، والاستبصار 65، والسير 2/ 358، والإصابة 3/ 428. (¬5) طبقات ابن سعد 10/ 412. (¬6) تلقيح فهوم أهل الأثر 339.

أبو لبابة

قلت: وعَفراء بنت عبيد [أمّ] صاحب هذه الترجمة هي التي شهد لها بدرًا سبعُ بنين مُسلِمين، وقد ذكرناهم في غزاة بدر. فصل وفيها توفّي. أبو لُبابةَ ابنُ عبد المنذر بن رفاعة بن زَنْبر بن أمية، من الطبقة الأولى من الأنصار [من] بني عمرو بن عوف، وقيل: اسمه بَشير، وإنما اشتهر بكنيته، وأمه نسيبة بنت زيد بن ضُبَيعَة، من بني عمرو بن عوف. شهد أبو لبابة المشاهدَ كلّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عدا بدرًا، فإنه ردّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى بدر من الرَّوحاء، واستعمله على المدينة، وضرب له بأجره وسَهْمه، فكان كمن شَهدها، وقد ذكرناه. وشهد أُحدًا، واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة أيضًا حين خرج إلى غزوة السَّويق، وكانت معه راية بني عمرو بن عوف يوم الفتح. وهو الذي ربط نفسه إلى سارية لما قال لبني قُرَيظة: الذَّبح الذّبح، ثم تاب الله عليه، وفي الصحابة آخر يُقال له أبو لبابة من بني أسلم. وقد روى أبو لُبابة بن عبد المنذر الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ذكر أولاده: كان له من الولد: السّائب وأمُّه زينب بنت خِذام أنصارية، ولُبابَة وبها كان يُكنى، تزوّجها زيد بن الخطاب فوَلَدت له، وأمُّها نسيبة بنت فَضالة أنصارية. وكان لأبي لُبابة أخوان: مُبَشّر ورفاعة لأبيه وأمه، شهد مُبَشّر بدرًا، وقُتل يومئذ شهيدًا، قتله أبو ثور، وأخوه رفاعه قُتل يوم أحدٍ شهيدًا (¬1)، وقد ذكرناه، وهذا ما انتهى إلينا. * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 422 و 423، والمعارف 325، والاستيعاب (3123)، وتلقيح فهوم أهل الأثر 191 و 280، والاستبصار 276، والإصابة 4/ 168.

السنة السادسة والثلاثون

السنة السادسة والثلاثون قال علماء السير كابن هشام والواقدي وسيف بن عمر عن أشياخهم: لما دخلت سنة ست وثلاثين فرَّق أميرُ المؤمنين عُمَّاله على الأقطار، قال سيف: فحدّثني محمد وطلحة قالا: بعث عثمان بنَ حُنَيف إلى البصرة، وعُمارة بن حسان بن شهاب الثوري على الكوفة، وكان من المهاجرين، وعبيد الله بن العباس إلى اليمن، وقيس بن سعد بن عُبادة إلى مصر، وسهل بن حُنَيف إلى الشام. فأما سهل بن حُنَيف فإنه لما وصل إلى تبوك لَقيَتْه خيلٌ، فقالوا: مَن أنت؟ قال: أمير، [قالوا: على أي شيء؟ قال: ] على الشام، فقالوا: إن كان عثمان بَعَثَك فحَيَّهَلا بك، وإن كان غيرُه فارجع، فليس لك علينا إمرة، فقال: أوَما سمعتُم بنا جرى؟ قالوا: بلى، فرجع إلى المدينة، وأخبر عليًّا بذلك. وأما قيس بن سعد فإنه لما وصل إلى أيلة لقيتْه خيلٌ، فقالوا: مَن أنت؟ قال: من فالَّة عثمان، أطلبُ مَن آوي إليه، قالوا: ادخل، فدخل مصر وقال: أنا قيس بنُ سعد، وافترق أهلُ مصر عليه فِرَقًا؛ فرقة دخلت في الجماعة فكانوا مع قيس، وفرقة اعتزلت إلى مكان يُقال له: خَرِبْتا، ووافقهم أهلُها وقالوا: الأمر موقوف؛ إن قتل عليٌّ قتلةَ عُثمان فنحن معه، وإلا كنا على حالنا، وفرقة قالوا: نحن مع علي إلا أن يَقتُل إخواننا، يعنون قتلةَ عثمان، وهم في ذلك مع الجماعة. فكتب قيس إلى علي بذلك، وسنذكر قصة قيس بن سعد بعد هذا. وأما عثمان بن حُنَيف فسار حتى دخل البصرة، فلم يَرُدّه عنها أحد، وافترق أهلُها، ففِرقة دخلت في الجماعة، وفرقة اعتزلت، وفرقة قالوا: نحن مع أهل المدينة، نَنظُر ما يصنعون فنصنع كذلك. قال أبو جعفر الطبري في "تاريخه" (¬1): وأما عُمارة فإنه لما وصل إلى زُبالة تلقّاه طُليحة بن خُويلد -وقد كان حين بلغه قتلُ عثمان خرج يدعو إلى الطلب بدمه ويقول: ¬

_ (¬1) 4/ 422 - 443 وما سبق منه.

لَهْفي على أمرٍ لم أُدركْه- فقال لعُمارة: ارجع، فإن القوم لا يُريدون بأميرهم بديلًا، فإن أبيتَ ضربتُ عُنُقَك، فرجع عُمارة إلى المدينة. قلت: وقولُ الطبري: لَقيَه طُليحة بن خُويلد وَهم، فإن طُليحة بن خويلد استشهد بنَهاوَنْد في سنة إحدى وعشرين، في أيام عمر بن الخطاب من غير خلاف. ولما حكى جدّي رحمه الله في "المنتظم" (¬1) قصةَ عُمارة قال: ولما وصل إلى زُبالة رُدّ، ولم يذكر سوى هذه اللفظة، ولم يحْكِ ما حكاه الطبري عن طليحة بن خويلد. وأما عُبيد الله بن عباس فإنه لما وصل إلى اليمن، جمع يَعلى بن أُميَّة ما كان بها من مال، وسار على حامية، حتى نزل مكة، وهذا يَعلي بن أُمَيّة؛ أميةُ أبوه، وأمه مُنْيَة بنون، وهي بنت غزوان، وأخت عُتبة بن غزوان، وسنذكره فيما بعد. قالوا: ولما رجع سهل بن حُنَيف من الشام دعا عليّ طلحةَ والزبير، وقال لهما: إن الفتنة قد وقعت، والذي كنا نَحذره من معاوية قد كان، وإن الفتنة تُسعّر، كالنار تزداد بالوَقود، فماذا تريان؟ قالا: ائذن لنا في الخروج من المدينة، فإما أن نُكاثر وإما أن تَدَعنا، فقال: سأمسك الأمرَ ما استمسك، فإذا لم أجد بُدًّا فآخر الدَّاء الكيّ. وحكى جدي رحمه الله في "المنتظم" القصة وقال: آخر الدواء الكي (¬2). وكتب علي إلى أبي موسى الأشعري أن يَأخذ البيعةَ على أهل الكوفة، وبعث بكتابه مع مَعْبد الأسلمي، فكتب إليه ببيعة أهل الكوفة، وبَيَّن الراضي منهم والكاره، حتى كان علي - عليه السلام - على الواضحة من أهل الكوفة (¬3). ثم كتب أمير المؤمنين إلى معاوية، قال علماء السير ممّن سمَّينا: كتب مع الجُهَنيّ كتابًا يَدعو فيه معاوية إلى الطاعة، ويَتواعده على المخالفة، فقدم عليه، فدفع الكتاب إليه، فلما قرأه تَمثَّل وقال: [من البسيط] أدِمْ إدامةَ حصنٍ أو خُذًا بيدي ... حَرْبًا ضروسًا تَشُبُّ الجَزْلَ والضَّرَما ¬

_ (¬1) 5/ 76. (¬2) المنتظم 5/ 76. (¬3) في الطبري 4/ 443: حتى كأن عليًّا على المواجهة من أمر أهل الكوفة.

في جاركم وابنكم إذ كان مَقتلهُ ... شَنعاءَ شَيَّبَتِ الأصداغَ واللّمَما أعيا المسُودُ بها والسَّيِّدون فلم ... يُوجَدْ لها غيرُنا مَولًى ولا حَكَما فأقام الجُهَنيّ عنده ثلاثة ألثمهر إلى سَلْخِ صَفَر، كلما سأله الجواب تمثّل بهذه الأبيات، فلما مضى الشهرُ الثالث من مَقتل عثمان؛ دعا معاويةُ برجلٍ من بني عَبْس يُدعى قَبيصة، فدفع إليه طُومارًا مَختومًا عنوانه: من معاوية إلى علي، وقال له: إذا دخلتَ المدينة فاقبض على أصلِ الطُّومار وارفعه، ثم أوصاه بما يقول، وأشخص معه رسولَ عليّ الجُهني، وخرجا، فقدما المدينةَ في ربيعٍ الأول، فلما دخلا رفع العبسيُّ الطُّومار، وقد خرج الناس ينظرون إليه، فلما رأوا الطومار تَفرَّقوا إلى منازلهم، وعلموا أن معاوية مُخالفٌ معتَرِض. ودخل العبسيُّ على أمير المؤمنين، فدفع إليه الطُّومار، ففضَّ خاتمه فوجده كلّه بياضًا ليس فيه كتاب، فقال للرسول: وَيحك، ما وراءك؟ فقال: أنا آمن؟ قال: نعم إن الرُّسُلَ لا تُقتل، قال. تركتُ ورائي أقوامًا لا يَرضَون إلا بالقَود، قال: ممّن؟ قال: منك، وتركتُ ستين ألفَ شيخٍ يَبكون تحت قميص عثمان، وهو مَنصوبٌ لهم على منبر دمشق، قد ألبسوه إياه، فقال عَلي: أمنّي يَطلبون دمَ عثمان؟ ! نجا والله قَتَلةُ عثمان إلا أن يشاء الله، فإنه إذا أراد أمرًا أصابه، اخرج، فقال: وأنا آمِن؟ فقال: نعم. فخرج، وصاحت السّبئية: اقتُلوا الكلب وافِدَ الكلاب، فصاح: يا [آل] قَيس، الخيل والنَّبْل، وأقسم بالله: ليَردنَّها عليكم أربعةُ آلاف خصيّ، فانظروا كم الفحول والرّكاب، فمالوا عليه، فمنَعتْه مُضر، وجعلوا يقولون له: اسكت، وهو يقول: لا والله لا يُفلح هؤلاء أبدًا، ولقد أتاهم ما يُوعَدون، وحلَّ بهم ما يَحذرون، انتهت والله أعمالُهم، وذهبت ريحُهم، وكلما قالوا: اسكُتْ وهو يكرِّر الكلمات، فوالله ما أمسوا من يومهم حتى عُرف الذلُّ فيهم. وقال سيف: حدثني أبو حارثة وأبو عثمان قالا: واستأذن طلحة والزبير عليًّا في العُمرة، فأذِن لهما، فلحقا بمكة، وفي رواية: فقال لهما علي: لعلكما تُريدان الشام؟ قالا: لا والله، وقَدِما مكة. وقال سيف: حدثني محمد وطلحة قالا: وأحبَّ أهلُ المدينة أن يَعلموا رأي علي

في معاوية، ليعلموا بذلك رأيَه في قتال أهلِ القبلة؛ هل يَجسُر عليه أو يَنكُل عنه، وقد بلغهم أن الحسن بن علي دخل عليه، وخلى [به]، ودعاه إلى القُعود وتركِ الناس، فدسُّوا إليه زياد بنَ حَنظلة التميميّ -وكان منقطعًا إلى علي- فدخل عليه، فقال له علي: يا زياد، تجهَّز؟ قال: إلى أين؟ قال: إلى غزو أهلِ الشام، فقال زياد: الأناةَ الأناةَ، والرِّفقَ الرِّفق، فخرج زياد على الناس وهم يَنتظرونه، فقالوا: ما وراءك؟ قال: السيف، فعرفوا ما هو فاعل. ذكر تجهّز أمير المؤمنين إلى الشام قال سيف: وأخذ في المسير إلى الشام، وعبَّأ جيوشَه، فجعل على مُقدّمته أبا ليلى بن عمر بن الجرَّاح، ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح، وعلى الميمنة عبد الله بن عباس، وعلى الميسرة عُمر بن أبي سلمة، ومعه عمرو بن سفيان بن عبد الأسد (¬1)، ودفع لواءه إلى محمد بن الحنفية، واستخلف على المدينة قُثَم بن العباس، ولم يُولِّ أحدًا ممن خرج على عثمان شيئًا، وكتب إلى أبي موسى وعثمان بن حنيف أن يَندُبا أهلَ العراق إلى غزو أهل الشام، وكتب إلى [قيس بن] سعد بن عُبادة بمثل ذلك. وأقبل على أخذ العُدَّة، ثم خطب أهلَ المدينة، ودعاهم إلى قتال أهل القِبلة (¬2)، وقال في خطبته: انهضوا إلى قتال هؤلاء الذين يُريدون تفريقَ جَماعتِكم، وتبديدَ كلمتِكم، لعلّ الله أن يُصلح بكم ما أفسد أهلُ الآفاق، أو تَقضوا الذي عليكم. فبينما هم على ذلك إذ جاءه الخَبَر باجتماع طلحة والزبير بعائشة على نحوٍ آخر، فثنى عَزمَه عن المسير إلى الشام، وعزم على المسير إلى مكة، ثم خطب فقال: أيّها الناس، إن الله جعل لظالم هذه الأمة العَفوَ والمغفرة، وجعل لمن لَزِم الأمرَ واستقام الفوزَ والنّجاة، ألا وإن طلحة والزبير وعائشة قد تمالؤوا عليَّ وسخطوا إمارتي، وسأصبر ما لم أَخَفْ على جماعتكم، وأكفّ إن كَفّوا، وأقتصر على ما بَلغني عنهم. ثم أتاه الخبر أنهم يُريدون البصرة للإصلاح بين الناس. ¬

_ (¬1) في الطبري 4/ 445، والمنتظم 5/ 78: عمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد. (¬2) في الطبري 4/ 445، ومطبوع المنتظم 5/ 78: أهل الفرقة، والمثبت موافق لما في أصل المنتظم.

قال هشام: فقام خطيبًا وقال: أيها الناس إن طلحةَ والزّبير خرجا يَجُرّان حُرمةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تُجَرُّ الأمَةُ عند شرائها، وحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيسَ الله وحبيسَ رسوله، وما مثهما إلا مَن أعطاني الطاعة، وسألني البيعةَ طائعًا غيرَ مُكره، فتهيّؤوا للمسير إليهم، ثم نزل. قال سيف: فثَقُل ذلك على أهل المدينة وتثاقلوا، وقالوا: لا ندري كيف نَصنع، وإنه أمرٌ مشتبه، ونحن مُقيمون حتى يُضيء لنا، فبعث كُميل بن زياد إلى عبد الله بن عمر، فجاء فقال له: انهض معي لقتال هؤلاء القوم، قال: إنما أنا رجل من أهل المدينة، إن خرج أهلُها خرجْتُ، وإن قَعدوا قعدتُ، فقال له علي: أعطِني زعيمًا بأنك لا تخرج، فقال: لا أعطيك زعيمًا، فقال علي: أنا أعرفُ الناس بك. ثم خرج عبد الله من تحت ليلته، وأخبر أمّ كلثوم بنت علي أنه خرج مُعتمرًا، مقيمًا على الطاعة، وكان صدوقًا. وأصبح علي فأُخبر بخروجه، وقيل له: خُروجه أشدُّ عليك من معاوية وطلحة والزبير، وأنه قد ذهب إلى الشام، فبَثّ علي في طَلَبه الرجال والخيلَ، وماجت المدينة، فجاءت أمّ كلثوم إلى أبيها وقالت: ما لك وللرجل؟ إن الأمر على خلاف ما بلَغك، ما خرج إلَّا مُعتمرًا، وأنا ضامِنَتُه، فطابت نفسُه فقال: إنه عندي ثِقةٌ صَدوق. ذكر اجتماع طلحة والزبير وعائشة وبني أمية بمكة قال علماء السير منهم سيف بن عمر، عن أشياخه، دخل حديثُ بعضهم في حديث بعض قالوا: لما قُتل عثمان وقل أن يُبايَع عليّ، هرب بنو أمية إلى مكة، وبويع علي لخمسٍ بقين من ذي الحجة -كذا وقعت هذه الرواية- وكانت عائشة مُقيمةً بمكة تُريد العُمرة في المحرَّم، فلما قضت عُمرتها، وخرجت تقصد المدينة، وانتهت إلى سَرِف، لقيَها رجلٌ من أخوالها من بني ليث؛ يقال له: عُبيد بن أبي سلمة، فقالت له: مَهْيَمْ؟ فهَمْهَمَ ودَمْدَمَ، فقالت له: ويحك علينا أولنا؟ فقال: قُتل عثمان، وبقوا خمسة أيام بغير إمام، قالت: ثم ماذا؟ قال: اجتمع أهلُ المدينة على علي فبايعوه، فعادت إلى مكة وهي ساكتة.

وفي رواية سيف: فدخلت المسجد، وقصدت الحِجر، فتستّرت فيه، واجتمع إليها الناس، فقالت: أيها الناس، إن الغَوغاء من أهل الأمصار، وأعراب أهل المياه، وعَبيد أهل المدينة، اجتمعوا على هذا الرجل المقتول بالأمس ظُلمًا، فبادَروه بالعدوان، فسَفكوا الدم الحرام، واستَحلُّوا الشهرَ الحرام والبلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، فاجتماعُكم عليهم يُنَكّل بهم غيرَهم، ويُشرِّدُ بهم مَن خَلفهم. وفي رواية سيف أيضًا أنها لما رجعت قال لها عبد الله بن عامر الحضرمي: ما رَدَّك يا أم المؤمنين؟ وكان عبد الله عامل عثمان على مكة، فقالت: رَدَّني أن عثمان قُتل مَظلومًا، وأن أمر الأمة لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمرٌ، فاطلبوا بدم عثمان تُعِزُّوا الإسلام، فكان أول مَن أجابها عبد الله بن عامر، وذلك أوّل ما تكلّمتْ بنو أمية بالحجاز ورفعوا رؤوسهم. وروى الطبري بإسناده عن عبيد الله بن عمرو القُرشي قال: خرجت عائشة وعثمان محصور إلى مكة، فقدم مكة رجلٌ يُقال له: أخضر، فقالت له عائشة: ما صنع الناس؟ قال: قتل عثمان المصريين، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أيُقتلُ قومٌ جاؤوا يَطلبون الحقّ ويُنكرون الظلم، والله لا نرضى بهذا. ثم قدم آخر فقالت: ما صنع الناس؟ فقال: قتل المصريون عثمان، فقالت: عجبًا للأخضر، زعم أن المقتول هو القاتل، فكان يُضرب به المثل فيقال: أكذبُ من الأخضر (¬1). وقال سيف بن عمر بإسناده: الذي لقي عائشة في الطريق عُبيد بن أمِّ كلاب، فقالت: مَهْيَم، قال: قتلوا عثمان، قالت: ثم ماذا؟ قال: واجتمع الناس على علي، فقالت: بِفيك الحَجَر، والله وَدِدْتُ أن هذه انطبقت على هذه، يعني السماء على الأرض، ولا وَلي علي، رُدّوني، والله لأطلُبنّ بدم المظلوم عثمان، فقال لها عُبيد: فأنت والله أول مَن حَرَّض الناسَ على قتله، ألستِ القائلة: اقتلوا نَعثَلًا فقد كفر؟ فقالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، فأنشد عبيد: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 449.

ذكر الأموال التي جهزوا بها الجيش

فمنكِ الرياحُ ومنك المطرْ ... ومنك البَداءُ ومنك الغِيَرْ وأنتِ أمرتِ بقتلِ الإمامِ ... وقلتِ لنا إنه قد كَفَرْ فهبْنا أطعناكِ في قتله ... فقاتلُه عندنا مَن أَمَرْ ولم يَسْقُطِ السقفُ من فوقنا ... ولم تَنكسِف شمسُنا والقمر وقد بايع الناسُ ذا تُدْرَأ ... يُزيل الشَّبَا ويقيم الصَّعَر ويَلبسُ للحرب أوزارَها ... وما مَن وَفَى مثلُ مَن قد غَدَرْ وقد ذكر الأبيات الطبري (¬1). وقال سيف: حدثني عمرو بن محمد، عن الشعبي قال: أولُ مَن أجاب عائشة إلى الطَّلَب بدم عثمان عبد الله بنُ عامر الحضرميّ، وسعيد بنُ العاص، والوليد بنُ عُقْبة، وسائر بني أمية، وقدم عليهم عبد الله بن عامر بن كُرَيز من البصرة، ويَعلي بن أمية من اليمن، واجتمع مَلَؤهم بعد نَطرٍ طويل في مسيرهم إلى البصرة، وقالت لهم عائشة: إن هذا حدثٌ عظيم، فانهضوا فيه إلى إخوانكم بالبصرة، فقد كفاكم أهلُ الشام ما عندهم، لعل الله يُدرك لعثمان ثأرَه. ذكر الأموال التي جَهّزوا بها الجيش روى سيف عن أشياخه قال: قدم يعلى بن أمية من اليمن إلى مكة ومعه ستُّ مئة ألف ألف درهم، وست مئة بعير (¬2)، فأناخ بالأَبْطَح -وقيل: كان معه ست مئة ألف دينار زيادة على ما ذكرنا- وقدم ابنُ عامر من البصرة بأكثر من ذلك، واجتمع بنو أمية بالأبطح فقالت لهم عائشة: ما تَرون؟ فأشار كلّ واحدٍ بقَصْد جِهةٍ. وقال عبد الله بن عامر بن كُريز: اقصدوا البصرة؛ فإن لي بها صنائع وأيادي، وقد كفانا معاويةُ الشام، فقالوا له: قاتلك الله، والله ما كنتَ لا بالمحارب ولا بالمسالم، هلا أقمتَ بها كما أقام معاوية بالشام؛ فنكتفي بك، ونأتي الكوفة فنَسُدّ عليهم المذاهب، فلم ينطق ابنُ عامر بحرف، واتفق قَصْدُهم إلى البصرة. ¬

_ (¬1) في تاريخه 4/ 459. (¬2) في الطبري 4/ 450، والمنتظم 5/ 80: ومعه ست مئة بعير وست مئة ألف.

واختلفوا في الجمل الذي ركبتْه عائشة، فقال الواقدي: قدم به يَعلى بن أمية من اليمن، اشتراه بثمانين دينارًا. وقال الهيثم: جاء به معه عبد الله بنُ عامر من البصرة، اشتراه بمئتي دينارٍ، فدفعه إلى عائشة، وقيل: اشترته عائشة من رجل من عُرَينَة بست مئة درهم، وأخذته يدلُّ بها الطريق إلى البصرة، وسنذكره. وقال خليفة بن خياط: الأصحُّ أن يَعلى بن أمية اشتراه من اليمن بمئتي دينار، ولم يُرَ مثلُه. وقال سيف: حدثني محمد وطلحة قالا: قدم يَعلى بن أمية من اليمن ومعه ست مئة بعير وست مئة ألف، فأناخ بالأبطح مُعَسكِرًا، وقدم عليهم طلحة والزبير، فلقيا عائشة فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: إنا تحمَّلنا هُرَّابًا من المدينة من غَوْغاء وأعراب، وفارَقْنا قومًا حَيارى، لا يَعرفون حقًّا ولا يُنكرون باطلًا، ثم قالوا: يا أمَّ المؤمنين، دعي المدينة، واشخَصي معنا إلى البصرة، فإن صَلُح هذا الأمر وإلا دَفَعنا بجهدنا، قالت: نعم. فانطلقوا إلى حفصة، فقالت حفصة: رأي [تبَعٌ لرأي] عائشة، حتى إذا لم يَبق إلا الخروج قالوا: [كيف] نستَقِلُّ ولا مال معنا نتَجهَّز به؟ فقال يعلى بن أمية: معي المال والجمال فاركبوها، وقال ابن عامر كذلك، فنادى المنادي: إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن كان يُريد إعزازَ الإسلام، وقتال المحِلِّين، والطلبَ بثأر عثمان فليَخرُج، فخرجوا واستقلّوا سائرين. وأرادت حَفصة الخروج، فأتى عبد الله بن عمر، فسألها أن تَقعُد فقعَدت وبعثتْ إلى عائشة: إن عبد الله مَنَعني، أو حال بيني وبين الخروج، فقالت: يَغفر الله لعبد الله. وخرج المغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص معهم مَرحلة من مكة، فقال سعيد للمغيرة: ما الرّأي؟ قال: الرَّأيُ والله الاعتزال، فأيّهم أظفره الله أتيناه فقلنا: كان صَفوُنا معك، فَجَلسا. وقال الطبري: وبعثت أمُّ الفضل ابنة الحارث امرأةُ العباس رجلًا من جُهينة يُدعى

ظفرًا، فاستأجَرتْه على أن يَطوي البلاد ويأتي عليًّا بكتابها، فقَدِم على عليّ بكتاب أمّ الفضل بالخبر (¬1). قلت: ليس في الصحابيات مَن كُنيتُها أمُّ الفضل سوى أم الفضل ابنة الحارث الهلالية، زوجة العباس بن عبد المطلب، وقد تقدَّمت وفاتُها (¬2)، فإن كان الطبري أشار إليها فقد وَهم. وقال الواقدي: قالت عائشة لابن عمر: تخرُجُ معنا؟ فقال: مَعاذ الله أن أدخل في الفتنة. وذكر هشام: أن أم سَلَمة جاءت إلى عائشة فقالت لها: إن حجابَ الله عليك لم يُرفع، وما أنتِ يا هذه وهذا الأمر، وقد تنازعته الأيدي وتهافتَ فيه الرجال، وتسكينُه للمسلمين أصلح، فأبقِ على رسول الله من الافتضاح في زوجته، واتَّقِ دمًا لم يُبح الله لك، فلما رأتها لا تُصغي إلى نُصحها قالت هذه الأبيات: [من الطويل] نصحتُ ولكن ليس للنُّصح قابِلٌ ... ولو قبلتْ ما عنَّفَتْها العواذِلُ كأني بها قد رَدَّت الحرب رحلها ... وليس لها إلا التَّرَحُّلُ راجِلُ وقال الجوهري: قالت أمُّ سَلَمة لعائشة: قد جَمّع القرآنُ ذَيلَكِ فلا تَنْدَحِيه، أي: لا تُوسِّعيه بالخُروج إلى البصرة، والنُّدْحُ بالضم: الأرض الواسعة (¬3). قلت: إلا أن الصحيح من الروايات أنه لم يكن بمكة في هذه السنة إلا عائشة وحفصة، وفي حفصة خلافٌ، وأن أم سلمة كانت بالمدينة، ويُحتمل أنها كتبت إلى عائشة بذلك، ولما عادت عائشة من البصرة إلى المدينة كانت تُنشد البيتين وتبكي. وقال سيف والهيثم بنُ عديّ: لما خرجت من مكة خرج نساءُ أهل مكة معها إلى ذات عِرْق لوَدَاعِها، فلم يُرَ باكيًا في الإسلام مثل ذلك اليوم، ويسمَّى يوم النَّحيب. وحكى سيف عن الأغرّ قال: لما أجمع القوم على الطلب بدم عثمان وقتال السبئيّة ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 451. (¬2) في سنة أربع وعشرين. (¬3) الصحاح: (ندح).

قالت لهم عائشة: اخرجوا إلى المدينة، فرَدُّوها إلى البصرة، وقال لها طلحة والزبير: كيف نأتي أرضًا قد صارت لعلي؟ ! وله في رقابنا بَيعةٌ، فيحتجُّ علينا بذلك، ونحن في ست مئة بعير، ولا تقدرون على قتال الغَوغاء والأعراب والعَبيد، وقد افتَرَشوا أذرِعَتَهم مُستعدّين لأول واعِية. فسارت إلى البصرة، وأمَّرت على الصلاة عبد الرحمن بن عتّاب بن أَسِيد، فكان يصلِّي بهم في الطريق وبالبصرة حتى قُتِل، وخرج جميعُ بني أمية إلا مَن خَشَع. وحكى الطبري عن أبي كثير، عن ابن عباس قال: خرج أهل الجَمل في ست مئة، معهم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (¬1) وعبد الله بن صفوان الجُمَحي، فلما جاوزوا بئرَ مَيمون إذا بجَزورٍ قد نُحِرت ونَحرُها يَثعَبُ دمًا، فتطيَّروا من ذلك، وأذَّن مروان بن الحكم -وهو كان المؤذّن- حين فَصَلوا من مكة، فلما أذَّنَ عند بئر ميمون جاء فوقف على طلحة والزبير فقال: على أيّكما أُسَلّم بالإمرة وأُؤذّن بالصلاة؟ فقال عبد الله بن الزبير: على أبي عبد الله، يعني أباه، وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد يعني أباه، وبلغ عائشة فأرسلت إلى مروان: مالك يا مروان؟ أتُريد أن تُفرِّقَ أمرَنا؟ ليُصلِّ ابنُ أختي، فكان يُصلّي بهم عبد الله بن الزبير حتى قدموا البصرة. وحكى سيف بإسناده عن محمد وطلحة قالا: لقي طلحة والزبير عبد الله بن عمر بمكة، فدعواه إلى الخروج معهم، فقال لهم: إني امرؤ من أهل المدينة، وقد زعمتم أنكم خرجتم في الطَّلب بدم عثمان، وقتل قَتَلَته، وما قتله إلا مَن أشار بقَتله، وهي زعيمتكم ورئيستكم، وأخوها الذي أخذ بلحيته، فهزّها حتى صارت أضراسُه تتقَلْقَل، وضربه بالمِشقَص فقتله، أما تخافون الله أيّها القوم، وتَدَعون هذه الأباطيل عنكم؟ ! وكيف أضرب في وجه علي بن أبي طالب بالسيف وقد عرفتُ فضلَه وسابقتَه ومَكانتَه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! وإنكما بايعتُما وسألتُماه القيامَ بهذا الأمر، ثم نَكثتُما ونقضتُما عهدَه بعدما جعل الله عليكما شهيدًا، وإنه ما بدَّلَ ولا غيَّر، ولا حلّ ولا عقد، ولا حال عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عمل عملًا يُخالف كتابَ الله، ولكنكم أيها القوم أطعنتم ¬

_ (¬1) في الطبري 4/ 454: عبد الرحمن بن أبي بكرة.

ذكر مسير أمير المؤمنين خلفهم

له، وكمنتم له العداوة بين ضُلوعكم، والله حَسيبُه عليكم، فلما سمعا كلامَه تركاه وذهبا. ذكر مسير أمير المؤمنين خلفهم حكى سيف بن عمر عن أشياخه قالوا: لما بلغ عليًّا خبرُهم، خرج من المدينة على تَعبيته التي كان يريد الخروجَ فيها إلى الشام، واستخلف على المدينة تَمّام بن العباس، وبعث إلى مكة قُثَم بن العباس، وخرج معه تسع مئةٍ من أهل مصر والكوفة والبصرة، فلقيه عبد الله بن سَلام، فأخذ بعِنان فرسه وقال له: يا أمير المؤمنين، لا تخرجْ منها، فوالله لئن خرجتَ منها لا يعود إليها سلطانُ المسلمين أبدًا، وفي رواية: لا تعودُ إليها أبدًا، فسَبُّوه، فقال علي: دعوه، فنِعمَ الرجل هو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسار حتى انتهى إلى الرَّبَذة ففاتوه، وجاء بخبرهم عطاء بنُ رِئاب مولى الحارث، فأقام بالرَّبَذة يأتَمرُ في أمره، وقد كان يَرجو أن يأخُذَهم في الطريق. وقال أبو مِخْنَف: بعثت إليه أمُّ سَلَمة تقول: يا أمير المؤمنين، لولا أن الله نهاني عن الخروج من بيتي لخرجتُ معك، وقد أمرنا الله بالقرار في بيوتنا، وهذا ابني عُمر، هو أعزُّ عليّ من نفسي، خارجٌ معك، وشاهدٌ مَشاهدَك، فخرج عمر معه ولَزمَه، فاستعمله على البحرين، ثم عزله واستعمل النعمان بنَ عَجْلان الزُّرَقيّ. وقال سيف: حدثني خالد بن مِهران بإسناده، عن طارق بن شهاب قال: لما نزل علي - عليه السلام - الرَّبَذة صلّى الفجر بغَلَس، فلما انصرف من صلاته جاءه وَلدُه الحسن، فأراد أن يتكلَّم فخنقَتْه العَبْرة، فقال له: يا بُنيّ تكلَّم، فقال: يا أمير المؤمنين، إني أمرتُك أمرًا فعَصيتَني، وما أخوفني أن تُقتل غدًا بمَضِيعَة ولا ناصرَ لك، فقال له علي: يا حسن، لا تزال تخِنُّ خَنينَ الجارية، ما الذي أمرتَني به فعَصَيتُك؟ ! قال: قلتُ لك يومَ أُحيطَ بالرجل -يعني عثمان- اخرج من المدينة فيُقتل ولستَ بها فخالفتني- وفي رواية: فإن قُتل لم تكن بها فخالفتني. وقلتُ لك يوم قُتل: لا تقبل البيعةَ حتى تأتيك وُفودُ العرب وبيعةُ أهل الأمصار فَعَصَيْتَني، ثم أمرتُك يومَ فعل هذان الرجلان ما فعلا -يعني طلحة والزبير- أن تجلسَ

ذكر ما جرى لطلحة والزبير وعائشة في طريق البصرة

في بيتك، فإن كان الفساد يكون على يد غيرك فعصيتَني. فقال له: يا بنيّ، أما قولُك: لو خرجتَ من المدينة يوم أُحيط بعثمان، فوالله لقد أُحيط بنا كما أُحيط به، وأما قولُك: لا تقبلِ البيعةَ حتى تأتيك وُفودُ العرب، فإن الأمر أمرُ أهل المدينة، وهم الذين يُولُّون، وكرهتُ أن يَضيعَ هذا الأمر، وأُكرهتُ عليه. وأما قولُك حين خرج طلحة والزبير؛ فإن ذلك وَهْنًا على الإسلام، ووالله مازلتُ مقهورًا منذ وليت، لا أصل إلى شيءٍ مما يَنبغي. وأما قولك إنني أجلسُ في بيتي، فكيف لي بما قد لَزِمَني؟ أتريدُني أن أكون كالضَّبُع اللدم، التي يُحاط بها ويُقال: دَبابِ دَبابِ ليست ها هنا، حتى يثقب عرقوبها ثم تُخْرَج، وإذا لم أنظُر في هذا الأمر فمَن يَنظُر فيه؟ ! فكُفَّ عني يا بُني. ومعنى اللّدْم: أن صائدَ الضَّبُع يضرب الأرضَ بشيءٍ، فتخرج الضبعُ فتُصاد، وقال الجوهري: اللَّدْمُ: صوتُ الحَجَر والشيء يَقع على الأرض، وليس بالصوت الشديد، قال: ودَبابِ: ضربٌ من الصوت، ومنه الدَّبْدَبَةُ (¬1). وقال سيف: حدثني سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة قال: لما نزل أمير المؤمنين الرَّبَذَةَ قيل له: لا تَخَفْ فإن البصرة والكوفة في يديك، فقال: ويحكم، إني ابتُليتُ بثلاثةٍ ما رُمي عليهم أحد؛ ابتُليتُ بفتى العرب وأجودِهم طلحة، وبفارس العرب وأحرَبهم الزبير، وبأم المؤمنين أطوَعِ الناس في الناس. ذكر ما جرى لطلحة والزبير وعائشة في طريق البصرة قد ذكرنا خروجَهم من مكة، ووصولَهم إلى ذات عِرْق، ولما انفصلوا عن ذات عِرق لقيهم العُرَني. فحكى الطبري عن صفوان بن قبيصة قال: حدثنا العُرَنيّ صاحب الجمَل -رجل من عُرَينة- قال: بينما أسير على جَملي إذ عرض لي راكب فقال: يا صاحبَ الجمل، أتبيعُ جملَك؟ قلتُ: نعم، قال: بكم؟ قلت: بألف درهم، قال: أمجنون أنت؟ جملٌ يُباع بألفِ درهم؟ قلت: نعم جملي هذا، قال: ولمَ؟ قلت: ما طلبتُ عليه أحدًا إلا أدركتُه، ¬

_ (¬1) الصحاح: (لدم، دبب).

حديث الحوأب

ولا طَلَبني أحدٌ إلا فُتُّه، فقال: لو تعلم لمن نُريدُه؟ قلت: لمن؟ قال: لأمِّك، قلت: إني تركتُ أمّي قاعدةً في بيتي ما تُريد بَراحًا، قال: إنما نُريده لأم المؤمنين عائشة، فقلت: خُذه بغير ثَمَن، فقال: لا، ولكن ارجع معنا إلى الرَّحْل، فرجعتُ فأعطَوني ناقةً مهريّة، وزادوني ست مئة درهم أو أربع مئة، ثم قالوا لي: يا أخا عُرَينة، هل لك دلالة بالطريق؟ قلت: نعم، أنا أدَلُّ الناس، قالوا: فسِرْ معنا، فسرتُ بين أيديهم، فلا أمرُّ على ماءٍ ولا وادٍ إلا سألوني عنه. حديث الحَوْأب قال العُرَني: فسرنا حتى طرَقْنا ماءَ الحَوْأب، فنبَحتنا كلابُه، فقالوا: أيُّ ماءٍ هذا؟ قلت: ماء الحَوْأب، قال: فصرخت عائشة بأعلى صوتها، وضربت عَضُدَ بعيرها فأناختْه وقالت: والله أنا صاحبةُ الحَوْأب طروقًا، ردُّوني ردُّوني -تقول ذلك ثلاثًا- وأناخوا حولها، وهم على ذلك وهي تأبى المسير، حتى إذا كانت الساعة التي أناخت فيها من الغد فَجاءها عبد الله بنُ الزبير فقال: النَّجاء النَّجاء، فقد أدرككم علي بن أبي طالب. قال: فرحلوا وشتموني وانصرفتُ، فما سرتُ إلا قليلا وإذا بأمير المؤمنين علي ومعه ركْبٌ نحو ثلاث مئة، فلما رآني قال: عليَّ بالرّاكب، فأتيتُه فقال: أين لقيتَ الظَّعينة؟ قلت: في مكان كذا وكذا، وهذه ناقتُها، وبعتُهم جملي، قال: وركبتْه؟ قلت: نعم، وأعطوني ستَّ مئة درهم، ووصلنا الحَوْأب، ونبحتْها كلابُه وقالت كذا وكذا، فقال علي: هل لك دلالة بذي قار؟ قلت: نعم. فسرتُ معهم إلى ذي قار، فلما جئناها نزل، وقام خطيبًا على رَحْلِ جَمَل، فخطب وقال: قد رأيتُم ما صنع هؤلاء القوم وهذه المرأة، فقام إليه الحسن بن علي فبكى، فقال له علي: قد جئتَ تَخنُّ خنينَ الجارية، وذكر بمعنى ما تقدم. وقال علي: يا بُنيّ، قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أعلم أحدًا أحقَّ بهذا الأمر منّي، فبايع الناس أبا بكر، فبايعتُ كما بايعوا، ثم هلك وبايعوا لعمر، فبايعتُ كما بايعوا، وما رأيت أحدًا أحقّ بهذا الأمر مني، فجُعِلْتُ سهمًا من سمتة أسهم، فبايع الناس لعثمان، فبايعتُ كما بايعوا، ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه، ثم أتَوني طائِعين غير

مُكرَهين، فأنا مُقاتلٌ من خالفني بمَن اتَّبعني، حتى يَحكمَ الله بيني وبينهم وهو خير الحاكمين (¬1). كذا وقعت هذه الرواية؛ أن مُعاتبةَ الحسن لأمير المؤمنين كانت بذي قار، وفي تلك الرواية بالرَّبَذَة، ويُحتمل أن الواقعتين كانتا في المكانَين. انتهى كلامُ الطبري في الحَوْأب. وقد أخرج حديث الحَوْأب أحمد في "المسند" فقال: حدثنا يحيى، عن إسماعيل، عن قيس قال (¬2): لما أقبلت عائشةُ تُريد البصرة بلغت مياه بني عامر ليلًا، فنَبحت الكلاب، فقالت: أيُّ ماءٍ هذا؟ قالوا: الحَوْأب، قالت: ما أظنني إلا راجعة، فقال بعضُ من كان معها: بل تَقدَمين، فيراكِ المسلمون، فيُصلح الله بك ذات البَين، قالت: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي ذات يوم: "كيف بإحداكُنّ إذا نَبحتْها كلابُ الحَوْأب؟ ". وقال هشام بن الكلبي: لما قيل لعائشة: هذا ماء الحوأب خافت، وذكرت قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كيف بك إذا نبحتْك كلابُ الحوأب؟ " وقالت: ردّوني، لا حاجةَ لي في المسير. وفي رواية فقالت: وإني لَهيَهْ، وقد كانت سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لنسائه وهنّ عنده: "أيّتكن تَنبَحُها كلابُ الحوأب؟ ". فلما أصرّت على الرجوع أحضر طلحة والزبير خمسين رجلًا، فشهدوا أن هذا ليس بماء الحوأب، وأن العُرَنيَّ كذب، قال الشعبي: فهي أوَّلُ شهادة زُورٍ أُقيمت في الإسلام. ولا خلافَ أن ماء الحوأب لبني عامر بين البصرة والحجاز، وأن عائشة مرَّت به. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 456 - 458. (¬2) في (خ): حدثنا يحيى بن إسماعيل بإسناده عن أبي سهلة. اهـ. وهذا الإسناد للحديث الذي قبل هذا في مسند أحمد (24253) ونصه: حدثنا يحيى، عن إسماعيل قال: حدثنا قيس، عن أبي سهلة (وهو مولى عثمان بن عفان)، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادعوا لي بعض أصحابي قلت: أبو بكر؟ قال: لا. قلت: عمر؟ قال: لا قلت: ابن عمك علي؟ قال: لا قلت: عثمان؟ قال: نعم فلما جاء قال: تنحَّي فجعل يُسارُّه ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحُصر فيها قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إليّ عهدًا، وإني صابر نفسي عليه. اهـ. وأما الحديث المثبت فهو في المسند برقم (24354).

ذكر وصولهم إلى البصرة

ذكر وصولهم إلى البصرة حكى سيف عن أشياخه قالوا: كان علي - عليه السلام - في همٍّ من توَجُّه القوم، لا يَدري أين يأخذون، وكان إتيانُهم البصرةَ أحبّ إليه، لأن الكوفة بها رجالُ العرب وأشرافُهم، فقال له ابن عباس: إن الذي يَسرُّك من ذلك يَسوؤني، قال: ولمَ؟ قال: لأن الكوفة فُسطاط الإسلام، وبها أعلامُ الناس، وفيهم من تَسمو هِمَّتُه إلى الأمر، فربما فسد الأمر أو مال إليهم، فقال علي: الأمر يَختصّ بأهل السَّوابق، فلا يُزاحمهم غيرُهم. وقال سيف: حدثني محمد وطلحة قالا: لما كان القوم بفناء البصرة، لقيهم عمير بن عبد الله التميمي، فقال لعائشة: يا أمَّ المؤمنين، أما تَتَّقِين اللهَ في فِعلك هذا؟ فقالت: إليك عني يا تميمي، فقال لها: أنشدك الله إذا أنت لا تهوّني هذا الأمر أن تَقدَمي على قوم ولم تُراسِليهم أو أحدًا منهم، فقالت: جئتَ الآن بالرأي، فقال: أرسلي إليهم عبد الله بن عامر، فإن له فيهم الصَّنائع، فكتبت كُتبًا إلى رجالٍ من البصرة؛ منهم الأحنف بن قيس وصَبْرة بن شَيمان وغيرهما، ومضت حتى إذا كانت بالحُفَير أقامت تنتظر الجواب. قال سيف: ولما بلغ عثمان بنَ حُنَيف عاملَ علي - عليه السلام - على البصرة قال لعمران بن الحُصَين وأبي الأسود الدِّيلي: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمَها، وإلى هؤلاء القوم فاعلموا علمَهم، فخرجا حتى انتهيا إليها وهي بالحُفَير، فاستأذنا عليها فأذِنت لهما، فدخلا وسلّما وقالا: إن الأمير أرسلنا إليك، نسألُك عن مسيرك هذا، فهل أنت مُخبِرتنا؟ فقالت: أمثلي يسير بالأمر المكتوم؟ إن الغَوْغاء من أهل الأمصار ونُزّاع القبائل غَزَوْا حريمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحدثوا فيه الأحداث، وآوَوْا فيه المحدثين، واستوجبوا لعنةَ الله ورسوله، مع ما نالوا فيه من قتلِ أمير المؤمنين، واستحقُوا الدّمَ الحرام، والشهرَ الحرام، وانتهبوا المال الحرام، ومزَّقوا الأعراض، وقتلوا إمامَ المسلمين من غير تِرةٍ ولا حَدثٍ ولا عُذرٍ، وأقاموا في دار قوم كارهين لمقامهم، ضارِّين غير نافِعين، لا يَقدرون على الامتناع، ولا يأمَنون على النفوس والأموال، فخرجتُ في المسلمين أُعلمهم ما أتى هؤلاء القوم، وما فيه

الناس وراءنا. ثم قرأت: {لَا خَيرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَينَ النَّاسِ} [النساء: 114]، فالنهوض في الإصلاح مما أمر الله به ورسوله، فهذا شأنُنا الذي قدمنا له؛ نامركم بمعروفٍ ونحضُّكم عليه، وننهاكم عن مُنكرٍ ونحُثّكم على تغييره والسلام. قال سيف: فخرجا من عندها، فأتيا طلحة فقالا: ما أقدمَك؟ قال: الطلبُ بدم عثمان، قالا: ألم تُبايع عليًّا؟ قال: بلى واللُّجُّ على عُنقي -يعني السيف- وما أستقيلُه البيعة إن خلّى بيننا وبين قَتَلة عثمان، فقالا له: أتركتم قتلةَ عثمان بالمدينة، وقصدتُم العراقَ لإفساده وتوهينِ أمر أمير المؤمنين؟ ! أما تستحيون من هذا الفعل، وتخافون الله، ألستم المهاجرين وأصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ . ثم انصرفا عنه وأتيا الزبير، فقالا له مثلَ ما قالا لطلحة، وردُّوا عليه مثل ما ردوا على طلحة، ثم رجعا إلى عائشة فودعاها، وقالا لها مثلَ ما قالا لطلحة والزبير، فودَّعت عمران، وقالت عائشة: يا أبا الأسود، إياك أن يَقودَك الهوى إلى النار، فقد قال الله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} الآية [لنساء: 135] فقال لها أبو الأسود: لو اتّعظتِ بما وعظتيني للزمتِ بيتَك أو منزلك، ولم تهتكي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سترًا، وقد عرفتِ محلَّك منه، وموضعَك من قبله، وقد أدَّبك بأحسن ما أدَّبَه الله به، ألم يأمركنَّ الله يا أزواج رسول الله بالقرار في البيوت؟ فقال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]، فقالت: اغرُبا عني، فخرجا من عندها، ونادت بالرّحيل. ومضى عِمران وأبو الأسود إلى عثمان بن حُنَيف، فبَدَر أبو الأسود عمران فقال: [من الرجز] يا بنَ حُنَيفٍ قد أتيتَ فانفِر وطاعِن القومَ وجالِدْ واصبِر وابرُزْ لهم مُسْتَلئمًا وشمِّر

فقال عثمان بن حُنيف: إنا لله وإنا إليه راجعون، دارت رحا الحرب على الإسلام وربّ الكعبة، ثم قال لعمران بن حُصين: ما ترى؟ قال: إني قاعِدٌ فاقعُدْ، فقال عثمان: لا والله، بل أمنعُهم حتى يأتيَ أميرُ المؤمنين، فقال عمران: بل يَحكم الله بما يُريد. ثم انصرف عمران إلى بيته، وقام عثمان في أمره، فأتاه هشام بن عامر فقال له: إن هذا الأمر الذي تَرومُ يصير إلى ما تَكره، وإن هذا فَتْقٌ لا يُرتَق، وصَدْعٌ لا يَنْجَبر، فسامِحْهم حتى يأتيَ أمرُ علي ولاتحادّهم، فقال: لا والله. ونادى عثمان بن حُنَيف في الناس، فلبسوا السلاح، واجتمعوا إلى المسجد الجامع، وأراد عثمان أن يَختبر أهلَ البصرة، فدسَّ رجلًا كوفيًّا خُدَعة فقال: أيّها الناس، أنا ابنُ العَقَديّة الحُميسي، إن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤوكم خائفين، فقد جاؤوكم من المكان الذي تأمَنُ فيه الطيرُ والوحش، وإن كانوا طالبين بدم عثمان فما نحن قَتَلَة عثمان، أطيعوني ورُدُّوهم من حيث جاؤوا. فقام الأسود بن سريع السَّعديّ فقال: أوَ زعموا أنّا قتلةُ عثمان؟ ! إنما جاؤوا إلينا -أو فَزِعوا إلينا- يَستعينون بنا على قَتَلةِ عثمان، ثم حَصَب الناسُ ابن العَقَديّة وتحاصبوا، فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصرًا ممن معه، فكسره ذلك. وأقبلت عائشة ومَن معها حتى انتَهوا إلى المِرْبَد، فدخلوا من أعلاه، وأمسكوا ووقفوا، حتى خرج عثمان ومَن معه، وخرج إلى عائشة من أهل البصرة مَن أراد. وتكلَّم طلحة، وكان في مَيمنة المِرْبَد، وعثمان بن حُنَيف في ميسرته يَسمع، وأنصت الناس، فحمِد اللهَ طلحةُ وأثنى عليه، وذكر عثمان وفضْلَه، والمدينةَ وما استحلَّ منها، ودعا إلى الطّلَب بدمه وقال: الخليفةُ المظلوم، وإن الطلبَ بدمه حدٌّ من حدود الله، فإن فعلتم أصبْتُم وعاد أمرُكم، وإن لم تفعلوا لم يَقُم لكم [نظام]، ولم يَثبُت لكم سُلطان، فقال مَن في مَيمنة المِربد: صدق وبَرّ، وقال مَن في مَيسرته: كذب وفَجَر وغَدرَ. وفي رواية أن طلحة والزبير خطبا وقالا ذلك، وأن مَن في ميمنة المِربد قال: صدقا وبرَّا، ومَن في ميسرته قال: كذَبا وفجرا وغَدَرا، إنهما قد بايعا أمير المؤمنين وجاءا يقولان ما يقولان.

ثم تحاصَب الناس وأرهجوا، فتكلَّمت عائشة وكانت جَهْوَريّة الصوت، فحمدت الله وأثنت عليه، وقالت: كان الناس يَتجنَّون على عثمان ويزرُون على عُمّاله، ويأتوننا بالمدينة فيَستشيروننا فيما يُخبروننا عنهم، فننظر في ذلك، فنجد عثمان برًّا نقيًّا وفيًّا، ونجدهم فَجَرةً غَدَرةً كَذَبة، فلما قَوُوا على المكاثرة اقتحموا عليه داره فقتلوه، وإن مما ينبغي لكم أخذ قَتَلَته، والطلب بثأره، وإقامة كتاب الله، ثم قرأت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَينَهُمْ} الآية [آل عمران: 23]. فافترق أصحاب عثمان بن حُنَيف فرقتين؛ فرقة قالت: صدقتْ وبرَّتْ، وجاءت بالحق وأمرت بالمعروف، وقال الآخرون: كذبتم، والله ما نعرف ما تقولون، فتحاصَبوا وأرْهجوا، فلمّا رأت عائشة ذلك انحدرت، وانحدر أهلُ الميمنة مفارقين لعثمان، حتى وَقفوا بالمربد في موضع الدَّبّاغين، وبقي أصحابُ عثمان على حالهم حتى تحاجَزوا، ومال بعضُهم إلى عائشة، وبقي بعضهم مع عثمان على فم السّكّة، فوقف عليها. قال سيف فيما رواه عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد قال: وأقبل جارية ابن قُدامة السعديّ فنادى: يا أمّ المؤمنين، والله لَقتلُ عثمان أهونُ من خُروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عُرضةً للسلاح، إنه قد كان لك من الله سِترٌ وحُرمة، فهتكتِ سترَك، وأبحتِ حُرمتك، إنه مَن يرى قتالك فإنه يرى قَتْلَك، فإن كنتِ أتيتنا طائعةً فارجعي إلى منزلك، وإن كنتِ مُستَكرهةً فاستعيني بالناس. قال: وخرج غلامٌ شاب من بني سعد، فصاح بطلحة والزبير: أما أنت يا زبير فحَواريُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما أنت يا طلحة فوَقَيته بيدك يوم أحُد، وإني أرى أُمَّكما معكما، فهل جئتُما بنسائكما؟ قالا: لا، قال: فما أنا منكما في شيءٍ، واعتزل، ثم قال: [من الكامل] صُنتُم حَلائلكم وقُدْتُم أُمَّكم ... هذا لعَمَري قِلَّةُ الإنصافِ أُمِرتْ بجَرِّ ذيولها في بيتها ... فهَوَتْ تشُّقُّ البِيدَ بالإيجافِ غَرَضًا يقاتلُ دونَها أبناؤها ... بالنَّبْل والخَطِّيِّ والأسيافِ هُتِكت بطلحةَ والزبير سُتورُها ... هذا المخَبّر عنهم والكافي

قال سيف: وأقبل غُلامٌ من جُهينة على محمد بن طلحة -وكان ابنُ طلحةَ رجلًا عابدًا- فقال: أخبرني عن دم عثمان، فقال: نعم، هو ثلاثة أثلاث، ثلث على صاحبة الهَودَج -يعني عائشة- وثلث على صاحب الجمل الأحمر، وثلثٌ على علي بن أبي طالب، فضحك الغلام وقال: لا أُراني إلا على ضلال، ولحق بعلي - عليه السلام -، وقال الغلام في ذلك شعرًا: [من المتقارب] سألتُ ابنَ طلحةَ عن هالِكٍ ... بجَوفِ المدينة لم يُقبَرِ فقال ثلاثة رَهْطٍ هم ... أماتوا ابنَ عفان فاستَعْبِرِ فثلْثٌ على تلك في خِدرِها ... وثلثٌ على راكب الأحمرِ وثلثٌ على ابن أبي طالبٍ ... ونحن بداويَّةٍ قَرْقَرِ فقلتُ صدقتَ على الأوَّلَينِ ... وأخطأتَ في الثالث الأزهرِ قلت: إنما ضحك الغلامُ على محمد بن طلحة لأنه عَنى بقوله صاحب الأحمر الزبير، ونَسي أباه طلحة (¬1)، وبنو أمية ما نسبوا قتل عثمان إلا إلى طلحة، ولهذا قتله مروان بن الحكم يوم الجمل لما نذكر. قال سيف: وأقبل حُكيم بنُ جَبَلة على خيل عثمان بن حُنَيف فأنشب القتال، وأشرع أصحابُ عائشة رماحَهم، وأمسكوا بعضَ التَّمسُّك فلم يَنْتَهِ، فاقتتلوا على فم السّكة، وأشرف أهلُ الدُّور ممن كان له في أحد الفريقين هوًى، فرمَوا الآخرين بالحجارة. وأمرت عائشةُ أصحابها فتيامنوا، حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، فوقفوا عندها مليًّا، وثاب إليهم الناس، فحجز الليل بينهم، ورجع عثمان إلى القصر، ورجع الناس إلى قبائلهم. وجاء أبو الجَرْباء -أحدُ بني عثمان التميمي- إلى عائشة وطلحة والزبير، فأشار عليهم بالنزول في مكانٍ أمثل من مكانهم فقَبلوا رأيَه، فساروا من مقبرة بني مازن، فأخذوا على مُسَنّاة البصرة من قِبل الجبّانة، حتى انتَهوا إلى الزّابُوقة، [ثم أتوا] مقبرةَ بني حِصن فنزلوا بها، وباتوا على تعبية، وأصبحوا على القتال. ¬

_ (¬1) صرّح سيف -كما ذكر الطبري 4/ 465 - بأن المقصود بصاحب الأحمر هو طلحة.

وغدا حُكيم بن جَبَلة، وبيده الرُّمح ويبربِر، وهو ينال من عائشة، فقال له رجل من عبد القيس: مَن هذه التي تسُبُّ؟ قال: أمّك، قال: عائشة؟ قال: نعم، قال: يا ابنَ الخبيثة، ألأمّ المؤمنين تقول هذا؟ فطعنه فقتله، وقتل امرأة أخرى بهذا السَّبب، واقتتلوا عامَّةَ النهار، وقيل إلى الزَّوال، وكَثُرت القَتلى والجِراحات في الفريقين، ومُنادي عائشة يَدعوهم ويُناشِدُهم الله أن يَكُفُّوا ولم يَفعلوا، فلما كان في آخر النهار كَثُرت القتلى في أصحاب عثمان بن حُنَيف، وعضّتْهم الحرب، فسألوا أصحابَ عائشةَ الصُّلحَ والمهادنة، فأجابوهم. وكانت هذه الوقعة في شهر ربيع الآخر، سنة ست وثلاثين، لخمس ليالٍ بقين منه، واصطلحوا على أن يَكتبوا بينهما كتابًا إلى المدينة، ويبعثوا رسولًا إليها، ومَضمون الكتاب: إن كان طلحة والزبير أُكرِها على البيعة لأمير المؤمنين؛ خرج عثمان من البصرة فخلّاها لهم، وإن لم يكونا أكرِها، رجع طلحة والزبير وعائشة عن البصرة، وخَلّوها لعثمان بن حُنَيف، وتواعدوا وتعاقدوا وتعاهدوا على ذلك، وبعثوا بالكتاب مع كعب بن سُور قاضي البصرة، وكان قد قَعَد في بيته، وطيَّن بابَه، واعتزل القوم، فجاءت عائشة بنفسها إليه وأخرجتْه لما نذكر. قال سيف: وصورة الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومَن معهما من المسلمين، وعثمان بن حنيف ومَن معه من المؤمنين ... وذكر بمعنى ما ذكرنا. وخرج كعب حتى قدم المدينة يوم جمعة، وأقام عند المنبر وقال: إني رسولُ أهلِ البصرة إليكم، هل أُكرِه طلحةُ والزبير على بيعة علي أو أتيا طائعَين؟ فأرَمَّ القومُ؛ إلا ما كان من أسامة بن زيد، فإنه قام فقال: لم يُبايعا إلا مُكرهَين، فأمر به تَمَّامُ بنُ العباس، فداسَه سهل بنُ حُنَيف والناس حتى كادوا يَقتلونه، وثار صُهيب بنُ سِنان وأبو أيُّوب الأنصاري ومحمد بن مَسلمة وجماعة من الصحابة خافوا أن يَقتلوا أسامة، فقالوا: اللهمَّ نعم، وأخذ صُهيب يدَه فأدخله منزلَه، وقال له: أما علمتَ أن أمَّ عامر جائعة، أما وَسِعَك ما وَسِعَنا من السّكوت؟ قال: ما كنتُ أظنُّ أن الأمر يَترامى إلى ما رأيت، أو يُفضي إلى هذا.

وعاد كعب إلى البصرة، وبلغ عليًّا الخبر، فكتب إلى عثمان بن حُنَيف يلومه ويُعَجِّزُه ويقول: والله ما أُكرِها، ولقد بايعا طوعًا، فإن كانا يُريدان الخلع فلا عُذرَ لهما، وإن كانا يُريدان غير ذلك نظرنا. وقدم كعب إلى البصرة، وقدم كتابُ علي إلى عثمان، فأخبر كعب الناسَ بما رأى، فأرسلت عائشة إلى عثمان تقول: اخرج عنا فقد أقرَّ الجمُّ الغَفِير بالحقّ، فاحتجَّ عليهم بكتاب على وقال: هذا كتابُ أمير المؤمنين، وقد جاء أمرٌ آخر، وما لكم عندنا سوى السيف. فأمهل طلحةُ والزبير، حتى إذا كانت ليلةٌ مُظلمةٌ ذاتُ رياح، قصدا المسجد بالرجال والسّلاح، وكان عثمان يُؤخّر الصلاة فقَدَّم القومُ عبد الرحمن بن عَتَّاب، وجاء عثمان في جماعةٍ من أصحابه، فدخل في الصلاة، فوضع فيهم أصحابُ طلحة والزبير السِّلاح، فقتلوا منهم أربعين رجلًا، وأخذوا عثمان قبضًا، وأخرجوه من المسجد وقد نتَفوا رأسه ولحيتَه فما أبقوا فيه شعرة، وأرسلوا إلى عائشة يَستطلعون رأيَها فيه، فأرسلت إليهما: خَلُّوا سبيلَه ولا تَحبسوه، وليذهب أين شاء. وفي رواية الطبري عن أبي مِخنَف قال: لما أخذوا عثمان بن حُنَيف أرسلوا أبانَ بن عثمان إلى عائشة يَستشيرونها في أمره، فقالت: اقتلوه، فقالت لها امرأة كانت عندها: نَشدتُك الله يا أمّ المؤمنين في عثمان وصُحبتِه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: احبسوه ولا تقتلوه. وقال مُجاشع بن مسعود: اضربوه، وانتِفوا شعرَ لحيته ورأسِه وحاجبيه وأشفار عينيه، واضربوه أربعين سَوطًا واحبسوه، ففعلوا به ذلك (¬1). وروي عن الزهري أنه قال: إنما لم يَقتلوا عثمان بن حُنَيف لأنهم خافوا غَضَبَ الأنصار بالمدينة على أهاليهم أن يُقتِّلوهم. رجع الحديث إلى سيف بن عمر، عن محمد وطلحة قالا: وأصبح طلحة والزبير وبيتُ المال في أيديهما، فبعث إليهما حُكيم بن جَبَلة وهو في جمعٍ كثير يقول: أطلِقا ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 468 - 469 وما قبله وما بعده منه.

عثمان، فأطلقاه، فخرج عثمان، ومضى لِطِيَّته، فوافى عليًّا بذي قار وهو على تلك الحال، فقال: يا أمير المؤمنين، بعثتَني ذا لحية فجئتُك أمرد، فقال: بعثتُك شيخًا وجئتَنا شابًّا، أصبتَ أجرًا وخيرًا، ودعا له. وقال الهيثم: لم يكتبوا كتابًا إلى المدينة، ولم يَبعثوا رسولًا؛ لأن أمير المؤمنين ما أقام في طريق البصرة مدةً يُرسلون فيها رسولًا ويعود إليهم بالجواب، وإنما اتّفقوا مع عثمان أن يُوقف الأمر حتى يَرَوا ما يكون من أمير المؤمنين، ولا يَعترض أحدٌ لأحد، وتكون دارُ الإمارة والمسجد وبيت المال بيد عثمان، ويترك طلحة والزبير وعائشة أين شاؤوا. فلما كتبوا كتاب الصُّلح على هذه القاعدة خلا طلحة بالزبير، فقال له طلحة: والله لئن قَدِم ابنُ أبي طالب ليَأخذنَّ بأعناقنا، فاتفقا على تَبييتِ عثمان والغدرِ به، فهجموا عليه، فأخذوه من المسجد غيلة وهو غار. فقال لهما: وَيحَكما، أغَدرًا بعد العهود والمواثيق والأيمان؟ فقالا خِفنا من ابن أبي طالب، وأرادا قتلَه فقال لهما: والله لئن شاكني أحدٌ منكم بشوكة لَيَضعنَّ أخي سَهل بنُ حُنَيف السيفَ في المدينة في آل طلحة والزبير، وليَقتُلنّ أولادَكما، ويَسبي حريمَكما، فكفّا عنه، وقالا لعائشة: ما نَصنع به؟ فقالت: أطلِقوه، وفي رواية: انتِفوا رأسَه وشعرَ وَجهه، ففعلوا. وأصبح حُكيم بن جَبَلة ومَن تبعه من عبد القيس، ومَن نزع إليه من ربيعة، [فانتهى بهم إلى الزَّابوقة عند دار الرِّزق] فقالت عائشة: لا تقاتلوا إلا مَن قاتلكم، ونادَوا: مَن لم يكن من قَتلَةِ عثمان فليَكفُفْ عنا، فأنشب حُكيمٌ القتال وهو يَنال من عائشة. وكان مع حُكيم بن جَبَلة ثلاثة: ذَرِيح بحِيال الزبير، وابن المحرِّش بحيال عبد الرحمن بن عتّاب، وحُرْقوص بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وحكيم بن جبلة بحيال طلحة، فحمل عليه طلحة في ثلاث مئة رجل، وحُكيم يضرب بسيفه ويقول: [من مجزوء الرجز] أضرِبهمُ باليابس ضربَ غلامٍ عابِس

من الحياةِ آيس في الغُرُفات نافِس فضرب رجلٌ من أصحاب طلحة رِجْلَ حكيم فأطنَّها، فحَبا حتى أخذها، ورمى بها نحو الرجل الذي قطعها فأصاب عينيه، ثم أتاه حكيم فقتله وقال: [من مجزوء الرجز] يا فَخْذلن تُراعي إنّ معي ذِراعي ثم وقع، فمرَّ به رجل وهو رَثيث، ورأسُه على آخره، فقال: ما لك يا حكيم؟ فقال: قتلتُ، فاحتمله وضمَّه في سبعين من أصحابه، فتكلّم يومئذٍ، وإن السيوف لتَأخُذُه وهو قائمٌ على رِجلٍ واحدة ما يتتعتع، وأشار إلى طلحة والزبير: إنا خلَّفنا هذين، وقد بايعا أميرَ المؤمنين وأعطياه الطاعة، ثم أقبلا مُخالفَين محاربَين، يطلبان دمَ عثمان، فناداه مُنادٍ: يا حكيم، جَزِعتَ حين عَضَّك نَكالُ الله أنت وأصحابك بما ركبتم من الإمام المظلوم، وفرَّقتم الجماعة، وأصبتُم الدِّماء، وذكر كلامًا طويلًا. وقُتل ذَريح ومَن معه، وأفلت حُرقوص بنُ زهير في نفرٍ من أصحابه، فلجؤوا إلى قومهم بني سعد فحمَوْهم، ونادى مُنادي طلحة والزبير: ألا مَن كان فيهم من قبائلهم من غزا عثمان بالمدينة فليأتِنا بهم، فجيءَ بهم فقُتلوا، ولم يُفلت من القوم إلا حُرقوص؛ منعه بنو سعد، فطُلب منهم فغضبوا، وغضبت عبدُ القيس حين غضب بنو سعد لمن قُتل منهم بعد الوَقعة، مَن كان لَجأ إليهم مع طاعتهم لأمير المؤمنين. وقال هشام: كان حُكيم بن جَبَلة من ربيعة، وكان شجاعًا يحمل على القوم ويقول: وَيحك يا زبير ويا طلحة، صُنتُما نساءكما في الخدور، وأبرزتُما عِرسَ رسول الله للحرب والحرور؟ ! ولما قُتل عَزَّ قتلُه على عبد القيس وبني سعد، فخرجوا من البصرة في ستّة آلاف ينتظرون قُدوم علي - عليه السلام -. ولما قَتل طلحة والزبير الغوغاء ممن اتّهموه بقتل عثمان، خرج الباقون مع بني سعد وعبد قيس، فقعدوا على طريق العراق للقاء أمير المؤمنين.

وقال سيف عن محمد وطلحة: وكتب طلحة والزّبير إلى أهل الشام يُخبرونهم بما صنعوا بقتَلَة عثمان، ويُحرِّضونهم على القيام معهم، ويقولون: قَتَلْنا من قتلَةِ عثمان ست مئة إلا واحدًا - يُشيرون إلى حُرقوص- ونحن في طَلَبه، وبعثوا بالكتاب مع سَيَّار العِجلي، وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثل ذلك، وبعثوا بالكتاب مع مُظفَّر بن مُعرّض الأسدي، وكتبوا إلى اليمامة مع الحارث السَّدوسي، وعليها سَبْرة بن عمرو العنبري، وكتبوا إلى أهل المدينة، وبعثوا به مع جعونة بن قُدامة القُشيريّ. وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة كتابين؛ أحدهما خاص والآخر عام. فأما الخاص فقال الطبري، عن الشعبي قال: كتبت عائشة إلى زيد بن صُوحان: من عائشة ابنة أبي بكر، أم المؤمنين، وحبيبة رسول رب العالمين، إلى ابنها الخالص زيد بن صُوحان، أما بعد: فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم علينا لتَنصُرنا على أمرنا هذا، فإن لم تفعل فخَذل الناسَ عن علي بن أبي طالب. وأما كتابُها العام فمضمونُه إلى أهل الكوفة: أما بعد، فإني أذكركم الله والإسلام، أقيموا كتاب الله واعتصموا بحَبله، وإنا قَدِمنا البصرة، فدَعَونا أهلَها إلى كتاب الله، فأجابنا الصالحون، واستقبلنا الغَوغاء بالسلاح، وقاتلونا فنَصَرنا الله عليهم، فقتَلْنا قتلَةَ عثمان، ولم يُفلت منهم إلا واحدٌ -تُشير إلى حُرقوص- وذكرت كلامًا طويلًا حاصِلُه التَّخذيل عن أمير المؤمنين والتقاعد عنه، فما أجابها أحدٌ منهم بشيء. قال الطبري: وأما زيد بن صُوحان فكتب إليها: من زيد بن صُوحان إلى عائشة بنت أبي بكر، أما بعد، فإن الله أمرك أن تلزمي بيتك، وأمَرنا أن نُقاتل، فتركتِ ما أُمرت به، ونهيتِنا أن نفعل ما أُمِرنا، فإن اعتزلتِ هذا الأمر وعُدتِ إلى بيتك، وإلا قاتلناك حتى ترجعي إلى الموضع الذي أُمرتِ بالقرار فيه (¬1). ولما بلغ عليًّا وهو بالثعلَبيّة قتلُ حُكَيم بن جَبَلة، استرجع وعزَّ عليه. واختلفوا في قاتله على قولين؛ أحدهما: سُحيم الحُدَّاني، والثاني يزيد بن الأَسْحَم الحُدَّاني، وُجِدا قتيلَين قد قتل كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 476 - 477، 472 - 473.

ذكر مسير أمير المؤمنين علي إلى البصرة

وحكى الطبري عن أبي المَليح قال: لما قُتل [حكيم بن] جَبلة أرادوا أن يَقتلوا عثمان بن حُنَيف فقال لهم: أما إن أخي سَهل بن حُنَيف والٍ على المدينة، فإن قتلتموني انتصر، فخَلَّوا سبيلَه (¬1). وقال ابن عبد البرّ: لما قدمت عائشة البصرة أرسلت إلى الأحنف بن قيس فلم يأتها، فأرسلت إليه ثانيًا تقول: عَقَقْتَ أمَّك؟ ! فأتاها فقالت له: وَيحك يا أحنف، بم تعتذر غدًا إلى الله من تركك جهاد قتلَةِ عثمان؟ فقال لها: ما كبرت السنّ، ولا طال العهد، ولعَهدي بك عام أوّل تنالين من عثمان، وتأمرين بقتله، وهذا قولك اليوم، لا آخذ بأمرك وأنت راضية وأَدَعهُ وأنت ساخطة، ثم اعتزل الفريقين، ولم يقاتل مع أحد منهم. وقال الهيثم بن عدي: قدم الأحنف بن قيس المدينة وعثمان محصور في داره، وكان الأحنف يُريد الحج، قال: فأتيتُ طلحة والزبير فقلتُ: ما أرى هذا الرجلَ إلا مقتولًا، فما تأمراني؟ فقالا: عليك بعلي، فقلت: أترضَياه؟ قالا: نعم، فأتيتُ مكة، فأقمت الحج، وبلغني قتلُ عثمان، فأتيتُ عائشة وهي بمكة، فقلت: مَن تأمريني أن أُبايع؟ قالت: عليًّا، قلت: أتَرضينَه؟ قالت: نعم، فعدتُ إلى المدينة، فبايعتُ عليًّا، ثم عُدتُ إلى البصرة إلى أهلي، فما شعرتُ إلا بعائشة وطلحة والزبير قد قدموا، قال: فأتيتُهم فقلت: ما الذي أقدمكم؟ قالوا: نَستنصر بكم على دم عثمان فإنه قُتل مَظلومًا، فقلت: ألستُم بايعتم وقلتم: بايعه فإنا نرضى به؟ قالا: بلى، ولكنه بدَّل، فقلت: ومتى كان هذا؟ والله لا أقاتل ابنَ عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين، واعتزل بالجَلْحاء على فرسخين من البصرة ومعه زهاءُ ستةِ آلاف. ذكر مسير أمير المؤمنين علي إلى البصرة روى سيف عن أشياخه قالوا: لما أتى عليًّا - عليه السلام - خبرُ طلحة والزبير وعائشة وهو بالمدينة، وأنهم قد ساروا نحو العراق، خرج غُرَّةَ ربيع الأول مبادرًا، وهو يرجو أن يُدركهم فيَرُدَّهم، فلما نزل الرَّبَذَة أتاه الخبرُ أنهم قد أمْعنوا نحو البصرة، فسُرِّي عنه، وقال: إن أهل الكوفة أشدّ لي حبًّا، وفيهم فرسانُ العرب وأعلامُهم، فكتب ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 474.

إليهم: إني قد اخترتكم على أهل الأمصار، وإني على الأثر. وحكى الطبري عن [محمد بن] عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه قال: كتب علي إلى أهل الكوفة: من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى سادات أهل الكوفة، أما بعد، فإني قد اخترتُكم، واخترتُ النُّزولَ بين ظَهرانيكم؛ لما أعرف من مودَّتِكم وحبّكم لله ورسوله، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحقَّ وقضى ما عليه. قال ابن أبي ليلى: بعث بالكتاب مع محمد بن أبي بكر ومحمد بن عوف، وقيل: محمد بن جعفر، فجاء الناس إلى أبي موسى يَستشيرونه في الخروج، فقال أبو موسى: أما سبيلُ الآخرة فأن تُقيموا، وأما سبيلُ الدنيا فأن تَخرجوا، وأنتم أعلم، وبلغ المحمَّدَين فأتيا أبا موسى فأغلظا له، فقال: أما والله إن بيعة عثمان في عُنقي وفي عُنق صاحبكما الذي أرسلكما، وإن أرادنا أن نُقاتل معه لا نُقاتل حتى لا يَبقى أحدٌ من قتَلَةِ عثمان إلا قُتل. فانطلقا إلى علي، فوافياه بذي قار، فأخبراه الخَبَر، فقال علي للأشتر ولعبد الله بن عباس: اذهبا إلى أبي موسى، فقدِما عليه وكلَّماه، واستعانا عليه بأناس من أهل الكوفة، فأجاب بنحو ما أجاب في الأول، وذكر خُطبة طويلةً منها: أيها الناس إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين صحبوه في المواطن أعلم بالله ورسوله ممّن لم يصحبه، وإن لكم علينا حقًّا فأنا مُؤدِّيه إليكم، كان الرأي أولًا أن لا تستخِفّوا بسلطان الله، ولا تجترؤوا على الله، وكان الرأي الثاني أن تأخذوا مَن قَدِم عليكم من أهل المدينة، فتردّوهم إليها حتى يَجتمعوا، فهم أعلم بمَن تصلح له الإمامة منكم، ولا تَكلَّفوا الدخولَ في هذا، فأمّا إذا كان ما كان فإنها فتنةٌ صَمَّاء، النائم فيها خيرٌ من اليقظان، واليقظان فيها خيرٌ من القاعد، والقاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الرّاكب، فكونوا جُرثومةً من جراثيم العرب، فأغمِدوا السّيوف، وأنصِلوا الأسنة، واقطعوا الأوتار، وآووا المظلوم المضطهد، حتى يلتئمَ هذا الأمر، وتَنجليَ هذه الفتنة. وقال سيف، عن أشياخه منهم محمد وطلحة: ولما بلغ عليًّا - عليه السلام - الخبرُ أرسل الحسن بن علي، وأرسل معه عمار بن ياسر، وقال لعمار: انطلق فأصلح ما أفسَدْتَ، فأقبلا حتى قدما الكوفة، فدخلا المسجد، فأول مَن أتاهما مَسروق بن

الأجْدَع، فسلَّم عليهما وقال لعمار: يا أبا اليقظان عَلام قتلتم عثمان؟ قال: على شَتْم أعراضِنا وضَربِ أجسادنا، فقال: والله ما عاقبتُم بمثل ما عُوقِبتم به، ولا صبرتم فكان خيرًا للصّابرين. ولقي أبو موسى الحسن فضمه إليه، وأقبل على عمار فقال: يا عمار، أعَدوتَ فيمن عدا على أمير المؤمنين، فأحلَلْتَ نفسَك محلَّ الفُجّار؟ فقال: لم أفعل، ولم تسؤني؟ فقطع الحسن عليهما الكلام وقال: يا أبا موسى، لم تُثَبِّط الناسَ عنا؟ فوالله ما نُريد إلا الإصلاح، وما مثل أمير المؤمنين مَن يُخاف على شيء، فقال: صدقتَ بأبي أنت وأمي، ولكن المستشار مؤتَمن، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ستكون فتنةٌ، القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الراكب"، وقد جعلنا الله إخوانًا، وحرَّم علينا دماءنا وأموالنا، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ} {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [النساء: 29]، وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآية [النساء: 93]. فسبّ عمار أبا موسى، فقال رجلٌ من بني تميم لعمار: اسكت أيّها العبد، بالأمس أنت مع الغَوغاء، وتُسافِه اليوم أميرَنا بهذا؟ وثار زيد بن صوحان وأتباعُه، وثار الناس، وجعل أبو موسى يُكفكف الناس، ثم انطلق حتى أتى المنبر، وسكن الناس. وأقبل زيد بن صوحان ومعه الكتابان اللذان كتبتهما عائشة إلى الكوفة؛ كتاب الخاصة وكتاب العامة، وقال: أُمِرت بالقَرار في بيتها، وأُمِرنا بالقتال، فأَمرتنا بما أُمرت، وركبت ما أُمِرنا به! وقال أبو موسى: أيها الناس، أطيعوني، شيموا سيوفكم، وقصّدوا رماحَكم، فإن الفتنة قد أقبلت، وذكر كلامًا طويلًا. وقال عمار: هذا ابنُ عمّ رسول الله، وهو مُستنفِرُكم إلى زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإني أشهد أنها زوجتُه في الدنيا والآخرة، فانظروا في الحق، وقاتلوا معه طلحة والزبير. وقام الحسن بن علي فقال: أيها الناس، أجيبوا دعوةَ أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر مَن يَنفر إليه، ولأن يليه أولو النُّهى أمثلُ في العاجلة، وخيرٌ في العاقبة، فأجيبوا دعوتَنا [وأعينونا] على ما ابتُلينا به وابتُليتم، فتسامح الناس،

وأجابوا ورضوا. وقال الحسن: إني غادٍ، فمَن شاء منكم أن يَخرج معي على الظَّهر، ومَن شاء في الماء، فنفر معه تسعةُ آلاف، أخذ بعضهما البرّ، وأخذ بعضهم الماء، ففي البرّ ستة آلاف ومئتان، وأخذ الماء ألفان وثمان مئة. قلت: وقد أخرج البخاري طرفًا من هذا عن شقيق قال: لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، بعث علي عمارًا وحسنًا فقدما الكوفة، فصعدا المنبر، فكان الحسن في أعلاه وعمار في أسفله، فاجتمع الناس إليهما، فقال عمار: أما بعد، فإن عائشة قد صارت إلى البصرة، ووالله إنها زوجةُ نبيكم ... وذكره، وقال: ليَنظر إياه تُطيعون أم هي (¬1). وفي رواية الطبري عن بعض أهل العلم: أن الأشتر قال لأمير المؤمنين: إنك قد بعثتَ إلى أهل الكوفة قبل هذين رجالًا، فلم أرَهم أبرموا وأحكموا أمرًا، فإن رأيتَ أن تُتبعني في إثرهم، فإن أهل المِصر أحسنُ شيءٍ لي طاعة، ولو قَدمتُ عليهم رجوتُ أن لا يُخالفني منهم أحدٌ، فقال علي: الحق بهم. فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة، فجعل لا يمرُّ بقبيلة إلا ويقول: اتّبعوني إلى القصر، وكان أبو موسى قائمًا يخطب، يُثبِّط الناس عن علي ويقول: أيها الناس، إنها فتنة عمياء صمّاء، وذكر بمثل ما تقدّم، وعمار ينهاه، والحسن يقول له: اعتزل عملَنا، وتَنحَّ عن منبرنا لا أُمَّ لك. قال نُعَيم عن أبي مريم الثقفي: والله إني في المسجد يومئذٍ، وعمار يُخاطب أبا موسى ويقول له: أنتَ سمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن هذه فتنة عمياء صمّاء، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي فيها خير من الراكب؟ " قال: نعم، إذ خرج علينا غِلمانٌ لأبي موسى يشتدّون يُنادون: يا أبا موسى، هذا الأشتر قد دخل القصر، فنزل وأتى إلى القصر، فقال له ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري بهذا السياق (7100) من رواية أبي مريم عبد الله بن زياد الأسدي، عن عمار، به. أما رواية شقيق فأخرجها البخاري (3772) و (7101) مختصرة، وانظر مسند أحمد (18331).

ذكر اجتماعهم لأمير المؤمنين ومسيرهم إلى البصرة

الأشتر: أخرج الله نفسَك، فإنك من المنافقين قديمًا، فقال: أجِرْني فأجاره، وقال: اخرُج العشيَّة، قال: نعم، ودخل الناس فانتهبوا متاعَ أبي موسى (¬1). وذكر المسعودي في تاريخه وقال: كتب عليّ - عليه السلام - إلى أبي موسى: اعتزل عَمَلَنا يا ابن الحائك مَذمومًا مَدْحورًا، فما هذه بأوّل هَناتنا منك، وإن لك لهنات وهنات، وفي رواية: فهذا أول يوم منك (¬2). وروى سيف بن عمر، عن محمد وطلحة قالا: لما أراد عليّ الخروجَ من الرَّبذة إلى البصرة قام إليه [ابن] رِفاعة بن رافع فقال: يا أمير المؤمنين، [أيّ شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح، إن قبلوا منا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبوا إليه؟ ] قال علي: [ندعهم بعُذرهم ونعطيهم] الحق [ونصبر، قال: فإن لم يرضَوا؟ قال: ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنعم إذًا]. وسار الحسن وعمار ومعهما رؤساء أهل الكوفة. ذكر اجتماعهم لأمير المؤمنين ومسيرهم إلى البصرة روى سيف بن عمر، عن الشعبي، ومحمد وطلحة قالوا: التقوا بذي قار فالتقاهم علي، ورحّب بهم، وقال: يا أهل الكوفة، أنتم جُرثومةُ العوب ووجوهها، وقال ابن عباس: أنتم فَضَضْتُم جموعَ العَجم، حتى صارت إليكم مواريثهم ... وذكر كلامًا في هذا المعنى. وكان رؤساء الجماعة القعقاع بن عمرو، وشَدّاد (¬3) بن مالك، وهند بن عمرو، والهيثم بن شهاب، وزيد بن صُوحان، والأشتر النَّخعي، والمسيّب بن نَجَبة، وعَدي بن حاتم، وحُجر بن عدي الكندي، وابن مَجْدوح الذهلي في آخرين، وهؤلاء كانوا على رأي أمير المؤمنين، وكان القعقاع وعدي صحابيَّيْن. قال هشام: وكان فيهم زياد بن النَّضْر الحارثي، وسعد بن مسعود الثقفي عمّ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 486 - 487. (¬2) في مروج الذهب 4/ 308: فما هذا أول يومنا منك. (¬3) في الطبري 4/ 488: وسِعْر.

ذكر إرسال علي القعقاع إلى أهل البصرة

المختار بن أبي عبيد، ومِخنَف بن سُلَيم الأزدي، ووَعْلة وهو ابن مَجْدوح، ومعقل بن قيس الرياحي (¬1)، وسعيد بن قيس الهمذاني. وقال هشام: وكمل أهل الكوفة بذي قار اثني عشر ألفًا، وجعلهم علي أرباعًا وقيل أسباعًا، فكان القعقاع بن عمرو على سُبع، وسعيد بن قيس الهمذاني على همذان وحمير، وزياد بن النَّضْر الحارثي على مَذْحِج والأشعريين، وحُجر بن عديّ على كِندة وحضرموت، وسعد بن مسعود على غيلان وعبد القيس، ومخنف بن سُلَيم على الأزد وبَجيلة وخَثْعَم، ووعلة بن مَجْدوح الذُّهلي على بكر بن وائل وتغلب وربيعة، ومعقل بن قيس الرِّياحي على قريش وتميم وكِنانة وضَبَّة والرِّباب ومُزَينة. قال هشام بن الكلبي، عن أبيه: فشهد هؤلاء الجمل وصفّين والنَّهروان مع أمير المؤمنين على هذا الترتيب. قال سيف: اجتمعوا على ذي قار، وهل لَقيهم عثمان بنُ حنيف الذي نتفوا رأسَه ولحيته على الرَّبَذَة أم على ذي قار؟ ؟ فيه قولان. ذكر إرسال علي القعقاع إلى أهل البصرة قال علماء السير: لما نزل عليّ الثَّعلَبيّة خرج إليه خلقٌ كثير من أهل الكوفة، ولما قَرُب من البصرة جاءه عبد القيس، وبنو سعد، وربيعة، وخلقٌ عظيم، فصار في تسعة عشر ألفًا، اثنا عشر من أهل الكوفة، وستة آلاف من أهل البصرة، وخرج من المدينة في تسع مئة، وقيل: في ألف، فلما عزم على البصرة بعث إليهم القعقاع بن عمرو يُنذرهم ويُخوِّفُهم. فقال سيف بن عمر: حدثني محمد وطلحة قالا: لما نزل أمير المؤمنين بذي قار دعا القعقاع بنَ عمرو -وكانت له صُحبة- فقال له: اذهب إلى أهل البصرة، والْقَ هذين الرجلين، فادعُهما إلى الأُلفة والجماعة، وعَظِّم عليهما الفُرقة. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة، فبدأ بعائشة وقال: يا أُمّاه، ما الذي أقدَمَك إلى ها هنا؟ قالت: أُصلح بين الناس، قال: فابعثي إلى طلحة والزبير لتَسمعي كلامي ¬

_ (¬1) في الطبري 4/ 500: معقل بن يسار الرياحي، وفي أنساب الأشراف 2/ 167: معقل بن سنان الرياحي.

وكلامهما، فأرسلت إليهما فحضرا، فقال لهما: إني سألتُ أم المؤمنين ما الذي أقدمها إلى هذه البلاد، فقالت: الإصلاحُ بين الناس، فما تقولان أنتما؟ قالا: ونحن نقول كذلك، قال: فأخبراني ما وَجْهُ الإصلاح؟ قالا: قَتَلةُ عثمان، فإن عَمِل به كان إحياءً للقرآن، وإن لم يَعمل به كان تارِكًا له، قال: قد قتلتُما قَتَلةَ عثمان من أهل البصرة، وأنتم قبل قتلهم أقربُ إلى الاستقامة منكم اليوم؛ حين قتلتُم ست مئة إلا رجلًا -يعني حُرقوص- فغضب له ستة آلاف، واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهُركم، وطلبتم ذاك الذي أفلت، يعني حُرقوص، فمنعه ستة آلاف، وهم على رجل واحد، فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون ... وذكر كلامًا في هذا المعنى. فقالت عائشة: فتقول أنت ماذا؟ قال: أقول: إن هذا الأمر دواؤه التَّسكين، فإذا سَكن اختُلجوا -يعني قتلة عثمان- فإن أنتم بايعتمونا فعَلامةُ خير، وتباشير رحمة، ودَرْكُ ثأرِ هذا الرجل، وعافيةٌ وسلامة لهذه الأمة، وإن أبيتُم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامةُ شرّ، وذهابُ هذه الأمة، فاطلبوا العافيةَ تُرزَقوها، وكونوا مفاتيحَ خير، ولا تكونوا مفاتيح شرّ، ولا تتعرّضوا للبلاء وتعرّضونا له، فيَصرعنا وإياكم، وايمُ الله، إني لأقول هذا وأدعوكم إليه وإني لخائفٌ أن لا يَتمّ حتى يَأخذ الله حاجتَه من هذه الأمة. فقالوا: نِعم ما قلتَ، فلقد أحسنتَ وأصبْتَ المقالة، فارجع إلى علي، فإن قَدِم على مثل رأيك صلَح هذا الأمر. فعاد إلى أمير المؤمنين، وأخبره بما قال وقالوا، فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك مَن كرهه، ورضيَه مَن رضيه. وأقبلت وُفود البصرة نحو علي لما نزل بذي قار؛ وفد تميم وبكر قبل رجوع القعقاع، ليَنظروا ما رأيُ إخوانهم من أهل الكوفة، وعلى أيّ حالٍ نهضوا إليهم، لا يَخطر لهم قتالُهم على بال. وروى الهيثم بن عدي، عن أشياخه قالوا: لما قدم علي ذا قار كتب إلى طلحة والزبير وعائشة كتابين، أحدهما إلى طلحة والزبير، والآخر إلى عائشة، فأما كتاب طلحة والزبير فنُسخته:

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى طلحة والزبير، أما بعد، فقد علمتما أني لم أُرد البيعةَ حتى أكرهتُ عليها، وأنتما ممن رَضي ببيعتي، وألزمني إياها، فإن كنتما بايعتما طائعَيْن فتوبا إلى الله، وارجعا عما أنتما عليه، وإن كنتما بايعتما مُكرَهَين فقد جعلتما لي السبيلَ عليكما بإظهاركما المعصية، وأنت يا طلحة شيخ المهاجرين، وأنت يا زبير فارس قريش، لو دفعتما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه لكان أوسع لكما من خروجكما منه، والسلام. وأما كتاب عائشة فكان فيه: أما بعد، فإنك قد خرجتِ من بيتك عاصية لله ولرسوله، تطلبين أمرًا كان عنك موضوعًا، ثم تزعمين أنك تُريدين الإصلاح بين المسلمين، فخَبِّريني ما للنساء وهنَّ عورات وقَوْد الجيوش، والبروز للرجال؟ ! وطلبتِ بزعمك دمَ عثمان، وعثمان رجلٌ من بني أمية، وأنت من بني تميم، ثم بالأمس تُؤلّبين عليه، وتقولين في ملأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقتلوا نَعْثلًا فقد كفر، قتله الله، واليوم تطلبين بثأره؟ ! فاتقي الله، وارجعي إلى بيتك، وأسبِلي عليك سترك قبل أن يَفضحك الله، ولا حول ولا قوَّةَ إلا بالله العلي العظيم. ولما قرؤوا الكتابين لم يكن لهم جواب، وعرفوا أنه الحق فسكتوا. وقال أبو اليقظان: ولما قَرُبَ أمير المؤمنين من البصرة خرج إليه شيعته منها، وهم ثلاثة آلاف، وكان شقيق بن ثَوْر السَّدوسي على بكر بن وائل، وعمرو بن مَرْجوم على عبد قيس، واجتمع بعضُ القبائل إلى طلحة والزبير كضبَّة والرِّباب وعامر وباهلة، وكان على ضَبَّةَ والرِّباب هلال بن وكيع بن بشر بن عُدس، قُتل يوم الجمل، وكان رئيسُ الأزد صَبْرة بن شَيْمان الحُدَّاني، نهاه كعب بن سُور فلم يَنته، فقُتل يوم الجمل أيضًا. ورتّب أمير المؤمنين الجيوش، فجعل على الميمنة عبد الله بن عباس والأشتر وهو مالك بن الحارث النخعي، وعلى الميسرة عمر بن أم سلمة وعمار بن ياسر، وعلى الرَّجَّالة أبا قتادة النعمان بن ربعي الأنصاري، وأعطى الراية العُظمى ولدَه محمد بن الحنفية، وقيل: إنما كان يوم الجمل على الترتيب الذي خرج به من المدينة، ورتب القبائل من أهل الكوفة والبصرة على مراتبها، وأقام كلَّ قبيلة في منزلتها. ثم خطب الناس فقال: إني قد كتبتُ إلى هؤلاء القوم، وناشدتُهم الله في دماء هذه

ذكر اجتماع أمير المؤمنين بالأحنف بن قيس

الأمة كي يرجعوا فأبَوا، وأنذرتُهم فلم يُبالوا، وتأنّيتُ بهم فلم يَنظروا لنفوسهم وللمسلمين في مصلحة، وإنهم يَتهدَّدوني بالحرب، والآن فقد أنصفَ القارة مَن راماها (¬1)، وإني على بَيِّنةٍ من ربي من النّصر عليهم، والظَّفَر بهم، ومَن لم يُقتَل يَمُت، والذي نفسي بيده لألفُ ضربةٍ بسيف أهونُ عليَّ من الموت على فراشي. ثم رفع يديه وقال: اللهمَّ إن طلحة أعطاني صَفقةَ يمينه طائعًا، ثم نَكث بيعتي، اللهمَّ فعاجله، اللهمَّ إن الزبير قطع قرابتي، ونَكث بَيعتي، وظاهر عدوّي، ونصب إلي الحرب بغيًا وعدوانًا، وهو ظالم لي، فاكفنيه بما شئت، ثم تمثّل، وقيل إنهما له: [من الخفيف] إن يومي من الزبير ومن طلـ ... ـحة فيما يسوؤني لطويلُ ظَلماني ولم يكن علم اللـ ... ـــــه إلى الظُّلمِ حاجةٌ وسبيلُ (¬2) ذكر اجتماع أمير المؤمنين بالأحنف بن قيس قال سيف: ولما نزل أمير المؤمنين قريبًا من البصرة جاءه الأحنَفُ بنُ قيس وبنو سعد؛ وقد منعوا حُرقوصَ بن زهير من القتل، وهم لا يُريدون القتال مع أحد من الفريقين، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قومًا يَزعمون أنك إن ظهرتَ غدًا عليهم أنك تقتل رجالهم وتَسبي نساءهم، فقال: ما مثلي من يُخاف منه مثلُ هذا، وهل يجوز ذلك إلا في مثل مَن تولَّى وكفر؟ ! وهم قومٌ مسلمون. وقال له الأحنف: اختر مني واحدة من اثنتين: إما أن آتيك فأكون معك بنفسي، وإما أن أكفَّ عنك عشرة آلاف سيف، فقال: لا بل هذه، فخرج الأحنف وهو يقول -أو قال: يا لَخِنْدِف، فأجابه قوم، ثم نادى: يالَ تميم فأجابه آخرون، ثم نادى يالَ سعد فلم يبق لسعدي إلّا وأجابه، فاعتزل ناحية عن الناس. وقد ذكر الطبري للأحنف أخبارًا كثيرة في اجتماعه بأمير المؤمنين (¬3). ¬

_ (¬1) مثل، انظر جمهرة الأمثال 1/ 55. (¬2) ديوان علي 84. (¬3) تاريخ الطبري 4/ 496 - 500.

ذكر حديث الوقعة

ذكر حديث الوقعة رجع الحديث إلى سيف، عن محمد وطلحة، وأن أمير المؤمنين أرسل إليهم القعقاع بن عمرو، وجرى له مع عائشة وطلحة والزبير من الاتّفاق ما جرى على أن يتَّفقوا ويَختلجوا قتلَةَ عثمان فيما بين ذلك. وعاد القعقاع إلى أمير المؤمنين، وأخبره بما جرى، وسُرَّ أمير المؤمنين بقوله، وأشرف القوم على الصلح رَضيه مَن رَضيه وكرهه مَن كرهه. قال سيف بن عمر عن محمد وطلحة، قال: لما رجع القعقاع من عند أمير المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم، جمع علي - عليه السلام -[الناس]، ثم قام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه وعلى رسوله، وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام وسعادتَه، وإنعام الله على هذه الأمة [بالجماعة]، وذكر الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ثم حَدث هذا الحدث الذي جَرى على هذه الأمة من أقوام طلبوا الدنيا حَسَدًا لمن أفاءها الله عليه، وأرادوا ردَّ الأشياء إلى أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد، ألا وإني راحلٌ غدًا، فلا يَرحلنّ معنا أحدٌ ممن أعان على عثمان بشيء، وليُغْنِ السفهاء عني أنفسَهم. فلما قال هذه المقالة اجتمع نفرٌ منهم عِلباء بن الهيثم، وعدي بن حاتم، وسالم بن ثعلبة القيسي (¬1)، وشُريح بن أوفى بن ضُبَيعة، والأشتر النَّخَعي، في عدّةٍ ممن سار إلى عثمان، وجاء معهم المصريون: ابن السوداء، وخالد بن ملجم، فتشاوروا وقالوا: ما الرأي؟ فهذا علي أبصر بكتاب الله ممن يَطلب قتلَة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفِر إليهم، فكيف إذا شام القوم وشاموه، ورأوا قلَّتنا في كثرتهم، إياكم والله يُراد، وما يريد إلا أنتم. فقال الأشتر: أما طلحة والزبير وعائشة فقد عرفتم أمرَهم، وأما علي فما عرفنا أمره إلّا اليوم، ورأيُه ورأيُ الناس فينا واحد، وإنهم قد اصطلحوا على دمائنا، فهلموا نتواثب على علي فنُلحقه بعثمان، فتعود فتنة يُرضى منا فيها بالسكون. فقال ابن السوداء: بئس الرأي رأيتَ، نحن نحو من ست مئة، وهذا ابنُ الحَنظليّة ¬

_ (¬1) في الطبري 4/ 493: العبسي.

وأصحابُه في خمسة آلاف، وهم بالأشواق إلى أن يَجدوا إلى قتالكم سبيلًا. وقال علباء بن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم، ودعوهم وارجعوا، وتعلَّقوا ببعض البلدان حتى يأتيكم فيه مَن تثقون به. قال ابن السَّوداء: بئسَ ما رأيت، لو فعلتُم هذا تخطَّفكم الناس. وقال عدي بن حاتم: إن لنا خيولًا وسلاحًا، فإن أقدمتُم أقدَمْنا، وإن أمسكتُم أحجمنا، فقال له ابن السوداء: أحسنت. وقال ابن السوداء: الرأيُ عندي أنكم تُنشبون القتال، ولا تُفرّغوا عليًّا وطلحة والزبير للنظر، فإنهم لا يجدون بُدًّا من الامتناع، ويَشغلهم الله عنا بما يَكرهون، وإذًا تقاتلوا، فأنشِبوا القتال في السَّحَر، وتفرَّقوا على هذا والناسُ لا يَشعرون. وأصبح أمير المؤمنين على ظَهْر، وسار حتى نزل بعَبْد القيس وهم أمام ذلك، ثم سار بالناس فنزل بإزاء القوم، فقال أبو الجَرْباء للزبير: الرأيُ أن تبعث إلى علي ألفَ فارس فيُبيتوه أو يُصبّحوه قبل أن يَتوافى أصحابُه، فقال: يا أبا الجَرْباء، لسنا نجهل أمرَ الحرب ولكنهم أهلُ دَعوتِنا، وقد فارقَنا وافدُهم على أمر، ونرجو أن يَتمَّ الصُّلح. وقال صَبْرة بن شَيْمان: يا طلحة، الرأي في الحرب خيرٌ من الشّدّة، وأشار بمثل ما أشار أبو الجَرْباء، فقال طلحة: إنا وإياهم مسلمون، وإنه علي ومَن معه. وقال كعب بن سور: ما تنتظرون؟ اقطعوا هذا العُنُق من هؤلاء، فقالوا يا كعب، هذا أمرٌ بيننا وبين إخواننا، وهذا أمر مُلتبس، ونحن نرجو الصُّلح، فإن أجابوا وإلا فآخر الداء الكي. وقال سيف: وقام إلى علي أقوامٌ من أهل الكوفة يَسألونه عن إقدامهم على القوم، وفيهم الأعور بن بُنان المِنقري، فقال: يا أمير المؤمنين، علامَ عزمتَ؟ فقال: على الإصلاح وإطفاء النائرة، لعل الله يَجمع شملَ هذه الأمة، قال: فإن لم يُجيبوا؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: نَدفعُهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم بمثل ما عليهم من هذا؟ قال: نعم. قال: وقام إليه أبو سلامة الدّألاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجّة فيما طلبوا من

هذا الدم إن كانوا أرادوا الله بذلك؟ قال: نعم، قال: أفترى لنا حجة بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم إن الشيء إذا كان لا يُدرك فالأناة والحلم فيه أحوط، قال: فما حالنا وحالهم إن ابتُلينا غدًا؟ قال: إني لأرجو أن لا يُقتل أحدٌ منا ومنهم وفي قلبه تُقى لله إلا أدخله الله الجنة. ثم قام علي - عليه السلام - فخطب الناس وقال: أيها الناس، املِكوا أنفسَكم، واصبروا على ما نالكم، وإياكم أن تسبقونا فإن المخصوم مَن خصم اليوم. قال: وارتحل على تعبيته التي خرج فيها، حتى إذا أطلّ على القوم بعث إليهم حَكيم بن سلامة ومالك بن حبيب يقول لهم: إن كنتم على ما فارقتُم عليه القعقاع، فكفُّوا لننزل ونَنظر في هذا الأمر. رجع الحديث إلى سيف عن محمد وطلحة قالا: فلما نزل الناس واطمأنوا خرج علي وطلحة والزبير، وتواقفوا، وتكلّموا فيما بينهم، فلم يَجدوا أمرًا هو أمثل من الصلح ووضْعِ الحرب، وافترقوا على ذلك، ورجع علي - عليه السلام - إلى عسكره، وطلحة والزبير إلى عسكرهما، ثم بعث إليهما وقتَ العشاء عبد الله بن عباس، وبعثا هما عبد الله بن الزبير إلى علي، وأن يُكلّم كلّ واحد منهما أصحابه، فقالوا: نعم، فلما أمسَوا - وذلك في جُمادى الآخرة، [أرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه]. وفي رواية: لما نزل علي جاء إليه طلحة والزبير، واتفقوا على الصُّلح، وخرجا، فخرج علي مشيّعًا لهما، وأرسلا إلى أصحابهما بالصلح، وأرسل علي إلى أصحابه بمثل ذلك، وبات الفريقان بلَيلةٍ لم يبيتوا بمثلها للعافية التي قد أشرفوا عليها، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرِّ ليلةٍ باتوها قط؛ قد أشرفوا على الهَلَكة، وجعلوا يتشاورون ليلتَهم كلّها، حتى إذا اجتمعوا على إنشاب الحرب أسرُّوا ذلك خيفةَ أن يُفطَن بهم، وحاولوا أمر الشر في الغَلَس، فأثاروا الحربَ ولم يَشعر بهم جيرانُهم، بل انسلُّوا انسِلالًا، فخرج مُضَرِيّهم إلى مُضَريّهم، وربيعتهم إلى ربيعتهم، ويمانيتهم إلى يمانيتهم، فوضعوا السلاح فيهم، فثار أهل البصرة، وخرج طلحة والزبير في وجوه الناس من مُضر، وبعثا عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى الميمنة، وعبد الرحمن

ابن عَتّاب بن أسيد إلى الميسرة، وثبتا في القلب، وقالوا: ما هذا؟ قالوا: طَرَقنا أهلُ الكوفة ليلًا، فقالا: قد علمنا أن عليًّا غير مُنتهٍ حتى يَسفك الدماء، ويَستحلّ الحُرمة، وأنه لن يُطاوعَنا، وزحفا بأهل البصرة حتى ردّوهم إلى عسكرهم. وسمع علي الصوت، وقد وضع القوم رجلًا قريبًا من علي يُخبره بما يريدون، فلما قال علي: ما هذا؟ قال الرجل: إن القوم قد بَيَّتونا، فرددناهم من حيث جاؤوا، فقال علي لصاحب ميمنته: الحق بالميمنة، ولصاحب الميسرة: الحق بالميسرة، وقال: لقد علمتُ أن طلحة والزبير غير منتهيين حتى يَسفكا الدماء، ويَستحلّا الحُرمة، ونادى علي - عليه السلام - في الناس: كُفّوا، وكان من رأيهم جميعًا في تلك الفتنة ألا يقتلوا حتى يُبدؤوا، ولا يُجهزوا على جريح، ولا يستحلّوا سَلبًا، ولا يأخذوا مالًا. قال سيف: فأقبل كعب بن سُور إلى عائشة فقال: الحقي القوم فقد أبَوا إلا القتال، لعل الله يُصلح بك، فركبت، وألبسوا هَودَجَها الأدْراع، ووقَفت على الجمل، فسمعت غَوغاء كثيرة، فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضَجَّةُ العسكر، قالت: بخير أو بشَرّ؟ قالوا: بشَرّ، قالت: فأيّ الفريقين كانت فيهم هذه الضجّة فهم المنهزمون، فما فَجِئها إلا هزيمةُ أهل البصرة، وهذا قول سيف. وأما هشام بن الكلبي فإنه قال: لما وصل علي - عليه السلام - إلى البصرة، نزل بالزاوية، ثم سار منها يريد القوم، فالتقوا عند قصر عبيد الله بن زياد. وقال البلاذري: التقوا في مكان يُقال له: الخُرَيبَة في جمادى الأولى، سنة ست وثلاثين ... وذكر الوقعة (¬1). رجع الحديث إلى سيف وغيره من علماء السير، قالوا جميعًا: لما توافَوا خرج طلحة والزبير على فرسين، وخرج إليهما علي - عليه السلام -، ودنا كل واحد من الآخر، فقال لهما علي: لعَمري لقد أعددتُما خيلًا ورجالًا وسلاحًا، إن كنتُما أعددتُما عند الله عُذرًا فاتقيا الله، ولا تكونا كالتي نَقضت غزلَها من بعد قوَّةٍ أنكاثًا، ألم تكونا إخوتي في الله، تُحرّمان دمي وأُحرِّم دمكما؟ [فهل من حَدَثٍ أحلّ لكما دمي؟ ] فقال له طلحة: ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 174.

ألّبتَ الناس على عثمان، فقال: أنتما خذلتُماه حتى قُتل، فسلّط الله اليوم على أشدّنا على عثمان ما يَكره. ثم قال: يا زبير، أتذكر يوم مررتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني غَنْم، أو في بني بَياضة، فنظر إليّ وضحك فضحكتُ إليه، فقلت أنت يا زبير: لا يدع ابنُ أبي طالب زَهْوه، فقال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليس بمَزْهُو، ولتُقاتلَنّه يا زُبير، أو لتقاتلنّ ابنَ عمتك، وأنت ظالم له". فوجم الزبير، وقال: والله لو ذكرتُ ذلك ما قاتلتُك، ولا سرتُ مَسيري هذا، ولكن كيف أصنعُ وقد التقت حَلَقتا البِطان، ورجوعي عين العار؟ فقال له علي: تَرجع بالعار، ولا تَرجع بالنار، أو ترجع بالعار خيرٌ من أن ترجع بالنار، يا زُبير قد كنا نَعدُّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنُك [ابن] السّوء ففرَّق بيننا، فذكّرتك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فرجع الزبير وهو يقول: والله لا قاتلتُك أبدًا، وقال: [من البسيط] اخترتُ عارًا على نارٍ مُؤجَّجةٍ ... أنى يَقوم لها خَلْقٌ من الطّينِ نادى عليّ بأمرٍ لستُ أجهلُه ... عارٌ لعمرك في الدنيا وفي الدّينِ فقلتُ حسبُك من لَوْمٍ أبا حسنٍ ... فبعضُ هذا الذي قد قلتَ يكفيني (¬1) قال هشام: ولما رجع الزبير إلى أصحابه قالت له عائشة: مالك؟ فقال: ما كنتُ في موطن منذ عقلتُ عقلي إلا وأنا أعرف فيه أمري إلا هذا الموطن، فإنه مالي فيه بالحرب بَصيرة، قالت: فما تُريد أن تصنع؟ قال: أذهبُ وأدعُكم، فقال له ابنه عبد الله: جمعتَ هذين الغارَين، حتى إذا جدّ بعضهم لبعض أردتَ أن تتركَهم وتذهب، ولقد خرجتَ على بصيرة، ولكنك رأيتَ رايات ابن أبي طالب، فنظرتَ تحتها الموتَ الأحمر فجَبُنت. فأرعد الزبير غضبًا وقال: ويحك، قد حلفتُ أن لا أُقاتلَه، فكيف أصنع؟ قال: تُكفِّر عن يمينك، فأخذ رُمحه، وحَمل فخرق الصُّفوف يمينًا وشمالًا، فحمل عليه الأشتر ليَطعنه، فقال علي: دَعه فإنه مُحرَج، ثم أعتق غلامًا له يقال له مكحول، فقال الشاعر: [من الرجز] ¬

_ (¬1) مروج الذهب 4/ 317 - 318، وانظر التدوين في أخبار قزوين 1/ 193 - 194.

أعتق مكحولًا لصَون دِينه كفّارةً لله عن يمينه والغَدرُ قد لاح على جَبينه وقال الطبري: اسم الغلام سَرْجَس (¬1)، وقال عبد الرحمن بن سليمان التيمي: [من الرجز] لم أر كاليوم أخا إخوانِ أعجبَ من مُكَفِّر الأيمان بالعتقِ في معصيةِ الرحمن وقال أبو اليقظان: ثم صاح أمير المؤمنين، يا طلحة، أنشدك الله، ألم تسمع رسول الله يقول: "مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه"؟ قال: بلى، قال: فلمَ تُقاتلني وقد بايعتَني؟ فانصرف طلحة، ثم أنشب القوم القتال. وحكى الطبري عن الزهري قال: قال علي: يا طلحة، أجئتَ بعِرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تُقاتل بها، وخَبَأتَ عِرسَك في البيت، أما بايعتَني؟ فقال: بايعتُك وعلى عُنقي اللُّجّ. وقال أيضًا: قال أميرُ المؤمنين: أيُّكم يَعرض على القوم هذا المصحف، فإن قُطعت يدُه أخذه بيده الأخرى، فإن قُطعت يدُه أخذه بأسنانه؟ فقال فتى من القوم: أنا، فقال له: اعرِض عليهم هذا، وقل لهم: بيننا وبينكم كتابُ الله، ففعل، فحمل عليه فتى من القوم فقتله، فقال علي: الآن طاب الضِّراب، احملوا عليهم فحَملوا، وما كان يَبدؤهم بالقتال حتى يَبدؤوه. وفي رواية: فقطعوا يدَه فأخذه بالأخرى، فقُطعت فأخذه بأسنانه، فقتلوه (¬2). وقال الهيثم: واسمُ الغلام المقتول مُسلم، فقالت أُمُّه وكانت عجوزًا كبيرة: [من الرجز] ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 509، وفي 4/ 502 أن اسمه مكحول. (¬2) تاريخ الطبري 4/ 509، 551.

يا ربِّ إن مُسلمًا أتاهُمُ يَتلو كتابَ الله لا يَخشاهمُ فخَضَّبوا من دمه لِحاهُمُ وأُمُّه قائمةٌ تَراهُمُ (¬1) وقال أبو اليقظان: وقف عمار بين الصفَّين وصاح: ما أنصفتُم نبيكم حين أبرزتُم عَقيلَتَه للسيوف، وصُنْتُم حَلائلَكم عن الحُتوف، ثم دنا من هودج عائشة وقال: ما الذي تَطلبين؟ فقالت: دَمَ عثمان، فقال: خذل الله اليوم الباغي منا. قال علماء السير: ثم اقتتلوا قتالًا لم يَجْرِ في جاهلية ولا إسلامٍ مثلُه. فحكى سيف، عن فِطر بن خليفة، عن أبي بشير قال: شهدتُ الوَقعة، فوالله ما سمعتُ دقّ القصَّارين إلا ذكرتُها. وقال الواقدي: كان زِمامُ الجمل بيد كعب بن سُور، فقالت عائشة: خلِّ عنه، وادعُهم إلى كتاب الله، وناولتْه مصحفًا، فنشره وصاح: هذا كتاب الله، فاستقبلتْه السَّبئية فقتلوه. قال الزهري: ما شوهِدت وقعةٌ مثلها، فَني فيها الكُماة من فُرسان مُضَر، وما كان يَأخذ زِمام الجمل إلا مَن هو مَعروف بالشجاعة، وما أخذه أحدٌ إلا قُتل أو أُصيب، حمل عليه عديُّ بن حاتم، ولم يبق إلا عشرة، ففُقِئت عينُ عدي. وحكى الطبري عن الزهري قال: أخذ عبد الله بن الزبير بخِطامه، فقالت عائشة: مَن هذا؟ قالوا: ابنُ الزبير، فقالت: واثُكلَ أسماء (¬2). واجتمع بنو ضَبَّةَ حول الجمل، وقاتلوا دونه قِتالًا لم يُسمع بمثله، قُطِعت عنده ألفُ يد، وقُتل عليه ألفُ رجلٍ منهم، وكان بين يديه وسيم بن عمرو الضبِّي يَرتجز بهم، وهم يقولون مثلَ قوله: ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 511 - 512، ومروج الذهب 4/ 514، وأنساب الأشراف 2/ 170 - 171. (¬2) تاريخ الطبري 4/ 509.

نحن بنو ضَبَّةَ أصحابُ الجَمَلْ نَنْعى ابنَ عفّان بأطرافِ الأَسَلْ الموتُ أحلى عندنا من العَسَلْ رُدُّوا علينا شيخَنا أو نقتتل يَعنون بشيخهم عُثمان، والأبيات في "الحماسة" (¬1). وحكى الطبري عن ابن الزبير أنه قال: جُرحتُ على زمام الجمل سبعةً وثلاثين جِراحة، وما أخذ أحدٌ رأسَه إلا قُتل، أخذه عبد الرحمن بن عتّاب فقُتل، ثم أخذه الأسود بن [أبي] البَختَري فقُتل، وعدّ جماعةً. قال ابن الزبير: ومَرَّ بي الأشتر فعرفني، فقصدَني وقصدتُه، واعتنقنا فسقطنا جميعًا إلى الأرض، فناديتُ: اقتلوني ومالكًا، أو اقتلا مالكًا معي، فجاء قوم فحجزوا بيننا (¬2). وقال البلاذري: لو قال اقتلوني والأشتر لقُتلا جميعًا. وقيل لعائشة: هذا الأشتر يُعارك عبد الله، فقالت: واثُكلَ أسماء، وأعطت مَن بَشَّرها بخلاصِه منه مالًا (¬3). وحكى هشام، عن علقمة، عن الأشتر قال: كنتُ أسأل الله أن ألقى عبد الله بن الزبير؛ فإنه هو الذي أخرج عائشة إلى البصرة، وأقام الفتنة، قال: فالتقيتُه كفةً لِكفّة، فقمتُ في الرِّكاب، وضربتُه على رأسه فصرعتُه، وعانقني وصاح: اقتلوني ومالكًا، ولو عرفوا أنني مالك لقتلوني ولو قُتلوا كلّهم. ثم أخذ زِمامَ الجمل عمرو بن يَثرِبيّ، فقاتل قتالًا شديدًا، فحَمل عليه عمار، وهو يومئذ ابن سبعين سنة وأكثر، وعليه فَروٌ قد شدَّ وَسَطه بحبلٍ من ليف، فقطع رجلَ عمرو بن يَثرِبي. ¬

_ (¬1) نسبها أبو تمام للأعرج المعني، شرح ديوان الحماسة (88)، وهي في أنساب الأشراف 2/ 172، وتاريخ الطبري 4/ 518، ومروج الذهب 4/ 527، والعقد الفريد 4/ 327، وعند الجميع: ثم بَجَل، بدل: أو نقتتل. (¬2) تاريخ الطبري 4/ 519. (¬3) أنساب الأشراف 2/ 172 - 173.

ذكر عقر الجمل

وكان عمرو قد قتل في ذلك اليوم زيدَ بن صُوحان وكُنيته أبو عائشة، وهند بن عمرو، ويُقال له الجَمليّ، [وعلباء بن الهيثم السدوسي]. قال سيف وكان يَحمل ويقول: [من الرجز] إني لمن أنكَرَني ابنُ يثرِبي قاتلُ عِلباءَ وهندَ الجَملي ثم ابن صُوحانَ على رأي عليّ وجاء عمار بعمرو بن يَثربي إلى بين يدي أمير المؤمنين، فقال: يا عمار، اقتُلْه، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، استَبْقِني، فقال: ويَحك بعدما قتلتَ خيار أصحابي: زيد بن صُوحان، وعلباء بن الهيثم، وهند بن عمرو، أستبقيك؟ ! لا والله، فقتله عمار. وقال أبو اليقظان: لما رأى أمير المؤمنين يومئذ الرُّؤوسَ تُنْدَر، ضمّ الحسنَ ابنَه إلى صدره وقبَّله وقال: يا حسن، أيُّ خيرٍ يُرجى بعد هذا اليوم؟ فقال: يا أبتِ قد كنتُ نَهيتُك عن مثل هذا، فقال: ما كنتُ أظنُّ أن الأمر يَبلغ إلى مثل هذا، ليت أنني متُّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. ومضى الزبير هاربًا على وجهه، فقُتل بوادي السّباع. وجاء طلحةَ سهمٌ غَرْبٌ فخلَّ رُكبتَه بصَفحة الفرس، فحملوه إلى البصرة فمات، وسنذكر سيرتَهما في آخر السنة. وقُتل محمد بن طلحة، وغُلب ابنُ الزبير من الجراحات، فألقى نفسه بين القتلى. ذكر عَقْرِ الجمل قال علماء السير: وحملت السَّبَتيَّةُ على الجمل والأشتر يَقدمُها، وزِمامه بيد عبد الله بن حكيم بن حِزام، فضربه الأشتر فجرحه جُرحًا موثقًا، ولم يبقَ أحدٌ من بني عامر وضَبّة إلا وأُصيبَ عنده. قال سيف: وكان آخر مَن قاتل عليه زُفَر بن الحارث، وزِمامُه بيده وهو يقول: [من الرجز]

يا أمَّنا يا عَيشَ لن تُراعي وزحف إليه القعقاع بن عمرو وصاح: اعقِروا الجملَ الملعون قبلَ أن تُصابَ أمُّ المؤمنين. وحكى عروةُ عن عائشة قالت: جال الناسُ حولي جَولةً، فصرتُ مثل اللُّجَّة، ولو قَدرتُ على الخلاصِ لبادرتُ إليه، وحمل بُجَير بن دُلْجة الضّبي الكوفي، فقطع بِطانَه، وعَقره، وقطع ثلاث قوائم من قوائمه، فبرك. وقال بُجَير: رأيتُ قومي قد فَنوا عليه، فأبقيتُ بعَقْره على مَن بقي منهم. ووقع الهَوْدج على الأرض وجعلت تقول: يا بَنيّ، البقية البقية. وقال سيف: وجاء محمد بن أبي بكر وعمار فاحتملاه ووضعاه، فأدخل محمد يَده فيه ليَنظر هل أُصيبت عائشة أم لا، وكان علي - عليه السلام - قد قال لما وقع الهَوْدج: انظر أختَك هل أصابها شيء؟ أو وصل إليها شيء؟ فلما أدخل يده قالت له: مَن أنت؟ قال: ابن الخَثْعمية، قالت: محمد؟ قال: نعم، قالت: بأبي أنت وأمّي، الحمد لله الذي عافاك، ورأى خُموشًا في يدَيها، وأصابها مِشقص في عَضُدها فأخرجه منها، وبقي الجمل والهودج مثل القنفد من كثرة النُّشّاب. وفي رواية أن عائشة قالت له: مَن أنت؟ قال: أخوك محمد البارّ، فقالت: أنت مُذَمَّم عُقَق، أو عَقَقْتَ، وقال لها عمار: يا أُمّاه، كيف رأيتِ ضَربَ بنيك اليوم؟ فقالت: لستُ لك بأُم، فقال: بلى وإن كرهتِ. قال الهيثم: وجاء أعين بن ضبَيعَةَ المجاشعي، فاطّلع في الهَوْدَجِ وقال: ما أرى فيه حُميراء، فدعت عليه بكشفِ العَورة، فقُتل بالبصرة، ورُمي بها في خَرِبةٍ بادية عورتُه. وقال الهيثم وغيره: ضرب عليها محمد فُسطاطًا. وقال البلاذري: وجاء أمير المؤمنين، فوقف على الهَودج، وضربه برُمحه وقال: إن حميراء أختُ إرَم، هذه أرادت أن تَقتلني كما قتلت عثمان (¬1). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 178.

واختلفوا في الذي قال لها أمير المؤمنين على أقوال: أحدها: ما ذكره البلاذري. والثاني: أنها قالت: مَلكْتَ فأسْجِحْ، وهذا مَثَلٌ للعرب (¬1)، والإسْجاحُ حسن العفو. والثالث: أنه ضرب الهودج برُمحه وقال: يا حُميراء، الله أمرك بهذا، إنما أمرك بالقَرار في بيتك، واللهِ ما أنصفَك مَن أخرجَك، صانوا حَلائلَهم وأبرزوك، فلم تقل شيئًا. وقال سيف: ووقف عليها علي وقال: السلام عليك يا أمّاه، فقالت: وعليك السلام يا بُنيّ، فقال: يَغفر الله لك، فقالت: ولك. وقال ابن إسحاق والواقدي: ولما انهزم الناس يُريدون البصرة رأَوا الجمل قائمًا، فأطافت به مُضَر، فقالت عائشة لكعب بن سُور: خلِّ رأسَ البعير وخُذِ المصحف، ففعل، فرَشَقوه رَشْقًا واحدًا فقتلوه، ولما رأت عائشة اشتدادَ الأمر جعلت تصيح بأعلى صوتها: يا بَنيّ، البقيّةَ البقيّةَ، اذكروا الله واليوم الآخر، وهم يَأبَون إلا القتال، فصاحت: أيها الناس، العَنُوا قتَلَةَ عثمان وأشياعَهم. وكان القتال من وقت السَّحَرِ إلى نصف النهار، وذلك في يوم الخميس عاشر جمادى الآخرة في أظهر الروايات، وقيل في مُنتَصَف جمادى الآخرة، وكان القتال أوّلَ النهار مع طلحة والزبير، وفي وَسَطه مع عائشة. وظهر الخللُ في الفريقين، وكثُرت القتلى، وعَظُمت الجراحات، ولم يكن في وقعةٍ قط أكثر من يد مَقطوعةٍ منها، لا يُدرى مَن صاحبُها، فلما فَنِي الكُماة قال أميرُ المؤمنين ومعظم فُرسان طلحة والزبير: مادام هذا الجمل الملعون قائمًا لا يبقى أحد من الفريقين، فقصدوه. وقال سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان لا يجيءُ أحدٌ فيأخذ بزِمام الجمل إلا يقول: أنا فلان بن فلان. ¬

_ (¬1) مجمع الأمثال 2/ 248، وانظر الصحاح: (سجح).

قال سيف: فوالله ما بَقي يومئذ أحدٌ من بني عامر شيخ إلا وأُصيب قُدَّامَ الجمل. وحكى الطبري عن أبي رجاء قال: بينما أنا أمشي يوم الجمل، إذا برجل يَفْحَصُ برجليه ويقول: [من الطويل] لقد أورَدَتْنا حَوْمةَ الموت أُمُّنا ... فلم نَنْصرف إلّا ونحن رِواءُ أطعْنا قُريشًا ضَلَّةً من حُلومنا ... ونُصرتنا أهلَ الحجازِ عَناءُ من أبيات، قال: فقلتُ له: قل لا إله إلا الله، فقال: من أين أنت؟ فقلتُ: من أهل الكوفة، فقال: في أُذني ثِقَل ما أسمع ما تقول، ادْنُ مني، فدنوتُ منه، فوثب على أُذني فاصطَلَمها وقال: إذا أتيتَ أُمّك فقل لها: عُمير بن الأهلَب فَعل بي هذا (¬1). وقيل: إن أمَّ هذا المقتول قُتل لها ابنٌ آخر، فلما مَرَّت بهما، ورأتهما قتيلين قالت: [من المتقارب] شهدتُ الحروبَ فشَيَّبْنني ... فلم أرَ يومًا كيوم الجَملْ أمَرَّ على مُؤمنٍ فتنةً ... وأقْتلَه لشجاعٍ بَطَلْ فليت الظَّعينةَ في بيتها ... وليتك عَسْكَرُ لم تُرتحل عسكر اسمُ جمل عائشة (¬2). وقال أبو اليقظان: مَرّوا على صبيٍّ يَفْحَصُ برجليه وقال: أنا قَتيلُ المرأة التي أرادت أن تكون أمير المؤمنين. وقال سيف عن محمد وطلحة: لما كان من آخر الليل خرج محمد بعائشة فأدخلها البصرة، وأنزلها في دار عبد الله بن خَلَف الخُزاعي، على صفية بنت الحارث بن طلحة، وهي أمُّ طَلْحة الطَّلْحات، وبكت عائشة بكاء شديدًا وقالت: وَدِدتُ أني متُّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. قال هشام: واتفق أن أمير المؤمنين قال ذلك في ذلك الوقت، فخرج كلامُهما في وقتٍ واحد. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 524. (¬2) مروج الذهب 4/ 332 - 333.

ذكر عدد أصحاب الجمل

قال أبو اليقظان: ويُقال: إنها قالت: وَدِدتُ أني ثَكلت عَشرةً من الولد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كلُّهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ولم أسِر إلى البصرة. وقال أحمد بإسناده عن عَمرو بن غالب قال: انتهيتُ إلى عائشة أنا وعمار والأشتر، فقال عمار: السلام عليك يا أُمَّتاه، فقالت: السّلام على مَن اتّبع الهدى، حتى أعادها ثلاثًا أو مرتين، ثم قال: أما والله إنك لأمي وإن كرهتِ، قالت: فمَن هذا معك؟ قال: الأشتر، قالت: أنت الذي أردتَ أن تَقتل ابنَ أختي؟ قال: نعم، قد أردتُ ذلك، فقالت: أما إنك لو فعلتَ ما أفلحتَ، وأما أنت يا عمار، فقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَحلُّ دمُ امرِئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث ... " الحديث (¬1). وقال الواقدي: وجيءَ بمروان بن الحكم أسيرًا إلى بين يدي أمير المؤمنين، فشفع فيه الحسن والحسين فأطلقه، فقالا: ألا يُبايُعك؟ فقال: قد بايَعَني يوم قُتل عثمان، لا حاجةَ لي في بَيعتِه، إنها كفٌّ يهودية، أما والله إن له أمارة كلَعْقَةِ الكلبِ أنفَه، وسيرى الناسُ من نَسلِه يومًا أحمر. وقيل: إن مروان استجار ببيتٍ من عَنَزة. وقيل: إن عائشة ضَمَّتْه إليها مع مَن ضَمّت من المجروحين؛ كابن الزبير وغيره. قال: وأما عبد الله بن عامر فأمَّنه رجلُ من بني حُرقوص، وأخرجه إلى الشام، وأما عبد الرحمن ويحيى ابنا الحكم بن أبي العاص فلحجا في البرية، فلَقيهم عِصمةُ بن أُبير فأمَّنهما، وأخرجهما إلى الشام. ذكر عَدد أصحاب الجمل واختلفوا فيهم على أقوال: حكى سيف عن محمد وطلحة قالا: كان قتلى الجمل عشرةُ آلاف، نصفُهم من أصحاب علي، ونصفُهم من أصحاب عائشة، من الأزد ألفان، ومن سائر اليمن خمس ¬

_ (¬1) مسند أحمد (24304).

مئة، ومن مُضر ألفان وخمس مئة، وخمس مئة من قيس، وخمس مئة من تميم، وألف من بني ضَبّة، وخمس مئة من بكر بن وائل، والباقون من الأعراب. وقال هشام: كان مع أمير المؤمنين، ثلاثون ألفًا. وقال الواقدي: كان مع علي عشرون ألفًا، ومع عائشة خمسة عشر ألفًا. وقال الهيثم: كان مع علي اثنا عشر ألفًا، ومع عائشة ثمانية آلاف. وقال ابن الكلبي: قُتل من أصحاب عائشة ثمانية آلاف، وقيل ثلاثة عشر ألفًا، ومن أصحاب علي ألف. وقيل: من أهل البصرة عشرة آلاف، ومن أهل الكوفة خمسة آلاف. وحكى الطبري عن سعيد القُطعي قال: كنا نُحدّث أن قتلى يوم الجمل [يزيدون على ستة آلاف. وحكى الطبري عن ابن أبي يعقوب قال: قتل علي يوم الجمل] ألفين وخمس مئة؛ ألفًا وثلاث مئة وخمسين من الأزْد، وثمان مئة من بني ضَبَّة، وثلاث مئة وخمسين من سائر أفناء الناس (¬1). قال هشام: وكانت الوَقعةُ يوم الخميس منتصف جمادى الآخرة، وقيل: يوم السبت. وقال سيف: علم أهلُ المدينة بالوَقْعة في يومها قبل أن تَغرب الشمس، أقبل نَسرٌ ومعه شيءٌ مُعلَّق، فسقط منه كفٌّ وفيها خاتم، فتأمَّلُوه وإذا به خاتم عبد الرحمن بن عَتَّاب بن أسيد، وعلم مَن بين مكة والمدينة ممن قَرب من البصرة من الأعراب بيوم الجمل؛ مما نَقلت إليهم النُّسوو من الأقدام والأيدي. وقال سيف: قُتل تسعون شيخًا يوم الجمل من بني عَديّ، كلّهم قد قرأ القرآن سوى الشباب. ¬

_ (¬1) في (خ): وحكى الطبري عن سعيد القطيعي قال: كنا نحدث أن قتلى يوم الجمل ألف وخمس مئة، ثلاث مئة وخمسون من الأزد ... والمثبت من تاريخ الطبري 4/ 545.

ذكر دخول أمير المؤمنين البصرة

قال: وقالت عائشة: ما زلتُ أرجو النّصر حتى خَفيتْ أصواتُ بني عدي. ذكر دخولِ أمير المؤمنين البصرة قال هشام: فأقام بظاهر البصرة ثلاثة أيام، وصلّى على القتلى من الفريقين، وجمع ما كان من الأسلاب في العَسكر، وبعث به إلى جامع البصرة وقال: مَن عَرف شيئًا أخذه، وأمر علي بدَفنِ مَوتاهم. وقال سيف عن محمد وطلحة: دخل عليّ البصرة يوم الاثنين، فانتهى إلى المسجد، فصلى فيه، وأتاه الناس، ثم راح على عائشة على بَغلته، فلما انتهى إلى دار عبد الله بن خَلَف -وهي أعظم دارٍ بالبصرة- وجد النساء يَبكين على عبد الله وعثمان ابنَي خَلَف؛ قُتل أحدُهما مع علي، والآخر مع عائشة، وصفية بنت الحارث مُتَخمّرة تبكي، فلما رأته قالت: يا علي يا قاتلَ الأحبّة، يا مُفَرّقَ الجمع، أيتم الله بنيك منك كما أيتمتَ ولدَ عبد الله، فلم يردَّ عليها شيئًا، ولم يزل على حاله حتى دخل على عائشة، فسلّم عليها، وقعد عندها وقال: جَبَهَتْنا صفية، أما إني لم أَرَها منذ كانت جارية حتى اليوم. فلما خرج من عند عائشة مرَّ عليها، فأعادت عليه ذلك الكلام، فكفَّ بغلتَه ثم قال: أما والله لقد هممتُ -وأشار إلى باب من أبواب الدار- أفتحُ هذا الباب، وأقتل مَن فيه، وكان أناسٌ جَرحى قد لَجؤوا إلى عائشة، وأُخبر علي بمكانهم عندها فتغافل عنهم، فسكتت صفيّة، فقال له رجل من الأزد: والله لا تغلبنا هذه المرأة، فغضب وقال: لا تَهتكنَّ سِترًا، ولا تَدخلنّ دارًا، ولا تَهيجنّ امرأة؛ وإن شتمنَ أعراضكم، وسَفَّهنَ أمراءكم وصُلحاءكم؛ فإنهن ضِعاف، ولقد كنا نُؤمَر بالكفِّ عنهن وهن مُشركات، فلا يبلغنِّي عن أحدٍ أنه تَعرَّض لامرأة، فأنكِّل به شرار الناس. فلحقه رجل وقال: يا أمير المؤمنين، إن رجلين قد نالا -أو تناولا- مَن هو أَمسُّ بك من صفيّة، قال: لعلها عائشة، قال: نعم، قام أحدهما على باب الدار فقال: [من الرجز] جُزيتِ عنا أمَّنا عُقوقا

وقال الآخر: يا أمَّنا تُوبي من خروجك لقد أخطأتِ، فأرسل القعقاع بنَ عمرو إلى الباب، وأراد أن يَضرب عُنق الرجلين فضربهما مئةً مئة، وأزال مَن كان بالباب. وهذا قول سيف. وأما هشام والواقدي والهيثم فإنهم قالوا: لما دخل علي مسجدَ البصرة صلَّى ركعتين، ثم خطب خُطبته المعروفة؛ حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسوله، وعَظَّم حق الإسلام، وخَوَّفَ من الفتن، ثم قال: يا أهل البصرة، ويا جُندَ المرأة، دِينكم نِفاق، وماؤكم زُعاق، وعهدُكم شِقاق، دعاكم الشيطان فأجبتموه، المقيمُ بين أظهركم مُرتَهن بذَنْبه، والشَّاخصُ عنكم مُتَدارَكٌ برحمة الله، كأني والله أنظرُ إلى مسجدكم هذا قد بعث الله عليه العذابَ من فوقه ومن تحته، فهو كجُؤجئ سفينة، أو كنَعامةٍ جاثمة، أو كجُؤجُئ طائرٍ في لُجَّةِ بحر، أرضكم بعيدةٌ من السماء، قريبةُ من الماء، خَفَّتْ عُقولُكم، وسَفِهتْ أحلامُكم، في ألفاظٍ أُخَر (¬1). قال الجوهري: الماء الزُّعاق: المالح (¬2). وقال سيف عن محمد وطلحة قالا: بايع الأحنف بن قيس عليًّا من عَشيَّة ذلك اليوم؛ لأنه كان خارجًا مع بني سعد، ثم دخل البصرة، وبايع أهلُ البصرة عليًّا وهم على راياتهم. قال: ولما فرغ علي من بيعةِ أهل البصرة نظر في بيت مال البصرة، فإذا فيه ست مئة ألف درهم، وقيل: ست مئة ألف ألف، فقسمها فيمن شهد معه الوَقْعة، فأصاب كلُّ واحدٍ خمس مئة درهم خمس مئة درهم، وقال: إن أظفركم الله بالشام فلكم مثلُها إلى أُعطياتكم، وخاض في ذلك السبئيَّة، وطعنوا على عليّ من وراء وراء. قال سيف: وكان من سيرة علي أنه لا يَقتل مُدبرًا، ولا يُدَفِّفُ على جريح، ولا يَكشف سترًا، ولا يَأخذ مالًا، فقال قوم يومئذٍ: ما الذي أحلَّ لنا دماءهم وحَرَّم علينا أموالهم، وبلغ أمير المؤمنين فقال: القومُ أمثالكم، مَن صَفح عنا فهو منا ونحن منه، ¬

_ (¬1) انظر الخطبة في العقد 4/ 81، ومروج الذهب 4/ 329، ومصادر نهج البلاغة 1/ 342، 348. (¬2) مختار الصحاح: (زعق)، ولم أجده في الصحاح.

ذكر جهاز عائشة إلى المدينة

وإن لكم في خمس مئة لغُنية، فيومئذ تكلَّمت الخوارج. وحكى الطبري عن ابن كُليب، عن أبيه قال: لما فرغوا يومَ الجمل أمرني الأشتر فانطلقتُ، فاشتريتُ له جملًا بسبع مئةِ درهم من رجل من مَهْرة، وقال: انطلق به إلى عائشة، وقل لها: بعث به إليك مالك بن الحارث وقال: هذا عِوض من بعيرك، قال: فانطلقتُ به إليها، وقلت لها: مالك بن الحارث يُقرئك السلام ويقول كذا وكذا، فقالت: لا سَلَّم الله عليه، يَقتل يُعسوب العرب محمد بن طلحة السَّجَّاد، ويَفعل بابن أختي ما فعل، ويُسلّم عليَّ؟ رُدَّه إليه، قال: فردَدْتُه إليه، وأخبرتُه بما قالت، فقال: أراد قتلي فما كنتُ أصنع (¬1)؟ ! ذكر جَهاز عائشة إلى المدينة قال سيف: وجَهَّز أمير المؤمنين عائشة أحسنَ جَهاز؛ بكلِّ شيءٍ يَنبغي لها من مَركب وزادٍ ومَتاع، وأخرج معها كلَّ من نجا ممن خرج معها إلا من أحبَّ المقام، واختار لها أربعين امرأةً من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال: يا محمد، تَجهَّز معها. فلما كان اليوم الذي تَرتحل فيه جاءها فوقف لها، وحضر الناس، وخرجت فودَّعها ووَدَّعتهم وقالت: يا بَنيّ، والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على مَعتبتي عليه عندي لمن الأخيار، وذكرتْ كلامًا في هذا المعنى. وقال علي: أيها الناس، صَدقتْ والله وبَرَّت، ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لَزوجةُ نبيكم في الدنيا والآخرة. فخرجت يوم السبت غُرَّة رجب سنة ستّ وثلاثين، وشيَّعها علي أميالًا، وسَرَّح بنيه معها يومًا. وهذه رواية سيف عن محمد وطلحة. وقد اختلفوا في جهاز عائشة، فقال الواقدي: أعطاها علي اثني عشر ألفًا، فاستقلّها عبد الله بن جعفر، فدفع إليها ضِعفها. وقال أبو اليَقظان: أرسل علي عبد الله بنَ عباس إلى عائشة يَأمرها بالمسير إلى المدينة، فدخل عليها عبد الله بغير إذنها، فوجد عندها وِسادة فقعد عليها، فقالت له: ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 541 - 542.

يا ابن عباس، أخطأتَ السُّنة، دخلتَ علينا بغير إذنِنا، وجلستَ على وسادتنا بغير أمرنا! فقال لها: لو كنتِ في البيتِ الذي خَلَّفكِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعلنا ذلك إلا بإذنك وأمرك، إن أمير المؤمنين يَأمُرك بسرعةِ الأوبَةِ إلى دار قَرارك، فامتنعتْ، فقال: إنه أمير المؤمنين، وقد عرفتيه، فأجابت. ثم جاءها أمير المؤمنين ومعه بنوه فقالت: أحبّ أن أكون معك أُجاهد عدوَّك، فقال: رُجوعُك إلى البيت الذي أمرك الله بالقَرار فيه أَولى. وسألتْه في مروان وابن الزبير وبني أمية فأمنهم، وجهَّز معها أخاها عبد الرحمن في جماعة من شيوخ الصحابة، وبعث معها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة، وذوات الدّين من هَمْدان وعبد القيس، وأمرهنَّ بلُبس العَمائم وتَقَلّد السيوف، ثم قال لهن: لا تُعلمنها أنكن نِسوة، وتلثَّمن مثلَ الرجال، وكنَّ حولها من بعيد ولا تقرَبْنها. وسارت على تلك الحال، فأقامت بمكة حتى حَجَّت، واجتمع إليها نساء أهل مكة يبكين وهي تبكي، وسُئلت عن مَسيرها فقالت: لقد أعطى علي فأكثر، ولكنه بعث معي رجالًا. وبلغ النساء فأتينها، وكشفن عن وُجوههن، وعرَّفْنَها الحال، فسجدت وقالت: والله لا يَزداد ابنُ أبي طالب إلا كرمًا (¬1). وروى سيف عن محمد وطلحة قالا: قصدت عائشة مكة، وانصرف مروان والأسود ابن [أبي] البَخْتَريّ من الطريق إلى المدينة، وقيل: إنه لحق بمعاوية، وقيل: إنه لم يرجع إلى المدينة حتى لحق بصفّين، وأقامت بمكة حتى حجّت، وعادت إلى المدينة. وقال هشام: ولما دخلت على أم سلمة بكت، وبكت أمُّ سلمة، وجعلت تتذكر قولَها وتبكي. وروى الخطيب بإسناده إلى هشام بن عروة، عن أبيه قال: ما ذكرت عائشة مَسيرها قط إلا بكت؛ حتى تَبُلَّ خمارها وتقول: ليتني كنتُ نسيًا مَنسِيًّا. قال سفيان: النَّسيُ المنسِيّ: الحَيضة الملقاة (¬2). ¬

_ (¬1) مروج الذهب 4/ 330 - 331، 334 - 335. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 185، والمنتظم 5/ 95.

وأنبأنا جدي بإسناده عن قيس بن أبي حازم، عن عائشة أنها كانت تقول: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت ولم أكن خرجتُ على علي، كان أحبّ إليّ من أن يكون لي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة من الولد؛ كلهم مثل أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (¬1). وقد ذكرناه. وفي الباب حديثان يَتعلّقان بهذا المعنى؛ أحدهما: أخرجه البخاري عن أبي بكرة قال: لقد نفعني الله تعالى بكلمةٍ سمعتُها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الجمل، بعد ما كدتُ أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتلَ معهم، وهي أنه لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل فارس مَلّكوا عليهم بنت كسرى قال: "لن يُفلحَ قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة" (¬2)، أشار إلى بُوران بنت كسرى؛ فإن الأمور اختلَّت في زمانها، فكذا كلُّ امرأةٍ تولَّت أمرًا تحتاج فيه إلى الإشهار والرأي، ولهذا إن المرأة لا تَلي إمامةَ الرجال، والإمارةَ، والجمعة، والموسمَ، والقضاءَ ونحوه، لأن مَبنى حالهنّ على السّتر. والحديث الثاني: قال أحمد بإسناده عن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "سيكون بينك وبين عائشة أمرٌ"، فقال علي: أنا؟ قال: "نعم"، قال علي: فإذًا أنا أشقاهم، قال: "لا، ولكن إذا كان ذاك فاردُدْها إلى مأمنها" (¬3). إلّا أن هذا الحديث ضعيف، ذكره جدي في "الواهية" (¬4). وذكر الزمخشري في كتاب "ربيع الأبرار" عن جُميع بن عُمير قال: دخلتُ على عائشة فقلتُ لها: مَن كان أحبَّ الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: فاطمة، فقال: إنما سألتُكِ عن الرجال، فقالت: زوجُها، وما يَمنعُه، ولقد كان والله صوّامًا قوَّامًا، قال: فما حمَلَك على قتاله؟ فأرسلتْ خِمارها على وجهها وبكت، وقالت: أمرٌ قُضي (¬5). وذكر ابن عبد ربه في كتاب "العقد" وقال: قال المغيرة بن شُعبة: دخلتُ على عائشة ¬

_ (¬1) المنتظم 5/ 95 - 96. (¬2) صحيح البخاري (4425). (¬3) مسند أحمد (27198). (¬4) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (1419)، وذكره في المنتظم 5/ 95. (¬5) ربيع الأبرار 2/ 228 - 229.

حديث زياد بن أبيه مع علي - عليه السلام - وولاية علي ابن عباس البصرة

بعد رُجوعها من البصرة، فقالت له: يا أبا عبد الله، لو رأيتَني يومَ الجمل وقد أنفذ النبلُ هَودجي حتى وصل بعضُه إلى جِلدي، فقال لها المغيرة: وَدِدْتُ أن بعضَه قتَلك، قالت: ولمَ؟ قال: لعلَّه أن يكون كفارة لك على سَعْيك على عثمان، فقالت: أما والله لئن قلتَ ذلك لقد علم الله أنني ما أردت قَتلَه، ولكنني أردتُ أن يُقاتَل فقوتلتُ، وأردتُ أن يُرمى فرُميتُ، وأردتُ أن يُعصى فعُصيتُ، ولو علم الله مني أنني أردتُ قتلَه لقُتلتُ (¬1). قال سيف: وأعجلت السبئيَّةُ أمير المؤمنين، وارتحلوا بغير إذنه، فارتحل في آثارهم ليَقطع عليهم أمرًا كانوا أرادوه. انتهت وَقعةُ الجمل، وبينها وبين الهجرة خمس وثلاثون سنة وأشهر، وسار أمير المؤمنين إلى الكوفة عقيب مسير عائشة، فقدم الكوفة لاثنتي عشرة ليلة مضت من رجب، فأقام بظاهرها، وكان الأشعث بن قيس عاملًا على أرمينية وأذربيجان لعثمان، فعزله عنها لأمرٍ بلغه عنه، وحقدها عليه الأشعث، وما كانوا يُولّون مَن ارتدّ عن الإسلام ثم أسلم. حديث زياد بن أبيه مع علي - عليه السلام - وولاية علي ابن عباس البصرة حكى سيف عن أشياخه قالوا: كان زياد بن أبيه مُقيمًا بالبصرة، ولم يشهد الوقعة، واعتزل الفريقين، وجلس في بيته، وجاء عبد الرحمن بن أبي بكرة إلى أمير المؤمنين مُستأمنًا، فسلّم عليه فردّ السلام وقال: عمُّك من المتربِّصين علي، المتقاعدين بي، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه والله لك لَوَادٌّ، وعلى مَسرَّتِك لحريص، وهو في بيت نافع بن الحارث مريض، وقيل: إن علي لما سأله عنه كتم مكانه، فقال له أمير المؤمنين: لا بأس عليك، امشِ أمامي، ففعل، فلما دخل عليه قام زياد من فراشه، فسلّم عليه أمير المؤمنين وقال له: تقاعدتَ عني، ووضع يده على صدره وقال: هذا عُذرٌ بَيِّن، فاعتذر إليه زياد فقبل عُذرَه وأكرمه، وأراده على ولاية البصرة، وكان له عند علي مكانة، ¬

_ (¬1) العقد 4/ 296.

ذكر إرسال جرير إلى معاوية وكتاب علي - عليه السلام - إليه

فامتنع من الولاية وقال: وَلِّ رجلًا من أهل بيتك تطمئنُّ إليه الناس، وسأشير عليه وأكفيك، فولّى عبد الله بن عباس إمارةَ البصرة، وولّى زيادًا الخراجَ وبيتَ المال، وأمر ابنَ عباس أن يسمعَ له ويُطيعَ، ففعل. وكان ابن عباس يقول: استشرتُ زيادًا في هَنَةٍ كانت من الناس، فقال: إن كنتَ تعلم أنك على الحق، وأن غيرك على الباطل ممن خالفك؛ أشرتُ عليك بما ينبغي، قال: فقلتُ: إني على الحق، وهم على الباطل، قال: اضرِبْ بمن أطاعك مَن عصاك، ومَن ترك أمرك فاقتُله، فعلمت أنه قد اجتهد رأيَه، قال: فلما وُلِّي رأيتُ ما صنع، وعلمت أنه قد أجهد لي رأيَه. قال الواقدي: لما قدم أمير المؤمنين الكوفة لم يَنزل قصر الإمارة الذي كان يَنزله الأُمراءُ قبلَه، وإنما نزل برَحْبَة الكوفة في أخصاص كانت بها، وكان معاوية قد أظهر الخلاف لما قال أمير المؤمنين: والله لا أُقرُّه على عمله، فقال معاوية: والله لا أَلي له ولاية، ولا أُبايعه، ولا أقدم عليه. وكان جرير بن عبد الله البَجَلي عاملًا لعثمان على همذان، فاستقدمه أمير المؤمنين بعد أن أخذ له البيعةَ على أهل همذان، فلما قدم عليه قال: يا جرير إني أريد أن أبعثك إلى معاوية؛ تأخُذَ لي عليه البيعة. ذكر إرسال جرير إلى معاوية وكتاب علي - عليه السلام - إليه قال أبو جعفر الطبري عن عَوانة قال: لما قال علي - عليه السلام - لجرير إني أريد أن أبعثَك إلى معاوية، قال له جرير: ابعثني إليه فإنه لي وَادٌّ، فأدعوه إلى طاعتك، فشاور علي أصحابَه، فقال له الأشتر: لا تبعثه، فوالله إني لأظنّ أن هواه معه، فقال علي عليه السلام: دعه حتى نَنظر ما الذي يَرجع به إلينا، فبعثه إليه، وكتب معه كتابًا يُعلمه فيه اجتماعَ المهاجرين والأنصار على بيعته، ونكث طلحة والزبير، وما كان من حَربه إياهما، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار. هذا قول الطبري (¬1). وقال هشام بن محمد الكلبي، عن أبيه: كتب أمير المؤمنين إلى معاوية: أما بعد: ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 561.

فإني قد لزمَتْك بيعتي وطاعتي في المدينة وأنت بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، فلم يكن للشاهد أن يَختار، ولا للغائب أن يردّ، وإنما الشّورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل ونَصبوه إمامًا كان ذلك رضًى لله، فإن خرج عن أمرهم خارج رَدُّوه إلى ما خرج منه، فإن أبي قاتلوه على اتّباعه غيرَ سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولّى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا. ثم إن طلحة والزبير بايعاني، ثم نَقضا بيعتي، وكان نقضُهما كردّهما، فجاهدتُهما بعد ما أعذرتُ إليهما، حتى جاء الحقُّ وظَهر أمرُ الله وهم كارهون، ومَن نكث فإنما يَنكثُ على نفسه، فادخُل فيما دخل فيه المسلمون، ولا تتعرَّض للبلاء، فإن عصيتَ قاتلتُك واستعنتُ بالله عليك، وقد بلغني إكثارُك في قَتَلَة عثمان، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكمهم إليّ أحملْكم على كتاب الله. وأما التي تُريدها فهي خُدعة الصبي عن اللبن، ولَعمري لئن نظرتَ بعين عَقلك دون عين هواك لَتجدَنّي أبرأَ الناس من دم عثمان، وقد علمتَ أنك من الطُّلقَاء الذين لا تحلُّ لهم الخلافة، ولا تجوزُ لهم الشورى، وقد بعثتُ إليك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة والصحبة، فبايع ولا قوَّةَ إلا بالله والسلام (¬1). وقد ذكر القصة محمد بن إسحاق والواقدي وقال: قال له جرير: هذا كتاب أمير المؤمنين يدعوكم إلى الدخول في طاعته، فقد اجتمع له الحَرمان، والمِصران، والعراقان، والحجاز، واليمن، ونَجران، واليمامة، وعُمان، ومصر، وفارس، وخُراسان، ولم يبقَ إلا بلادكم هذه، فإن سال عليها وادٍ من أوديته غَرّقها. رجع الحديث إلى هشام قال: فلما قدم عليه جرير ماطَلَه، ودعا عمرو بن العاص، فاستشاره فيما كتب به إليه، فأشار عليه أن يُلزمَ أميرَ المؤمنين دمَ عثمان، ويقاتله بأهل الشام، وكان قميص عثمان معلَّقًا على منبر دمشق ومعه أصابع نائلة، والناس يَنتابونه من كلِّ ناحية، ومعاوية يُؤلِّبُ على أمير المؤمنين، ويستعدُّ لقتاله، وَيبذل الأموال، ويتقوَّى بالسلاح. ¬

_ (¬1) العقد 4/ 332 - 333.

فلما يئس منه جرير طلب الانفصال عنه، فكتب إلى أمير المؤمنين جوابَ كتابه: أما بعد: فإنه لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريءٌ من دم عثمان، كنتَ كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريتَ المهاجرين والأنصار بعثمان، وخَذّلتهم عنه، حتى أطاعك الجاهلُ، وتقوَّى بك الضعيف، وقد عَزم أهلُ الشام على قتالك؛ اللهمَّ إلا أن تَدفع إليهم قتلةَ عثمان فيكفُّوا عنك، وتَجعل الأمر شورى بين المسلمين، ويكون ذلك بالشام لا بالحجاز، فأما سابِقتُك في قريش، ومكانتُك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني لا أدفعُه والسّلام. وكتب بأسفله أبياتَ كعب بن جُعيل قال: [من المتقارب] أرى الشام تكره أهلَ العراق ... وأهلُ العراق لهم كارهونا وكلٌّ لصاحبِه مُبغِضٌ ... يَرى كلَّ ما كان من ذاك دِينا إذا ما رَمَوْنا رَمَيناهمُ ... ودِنَّاهُم مثلَ ما يُقرِضونا وقالوا عليٌّ إمامٌ لنا ... فقلنا رَضِينا ابنَ هندٍ رضينا وقالوا نرى أن تَدينوا له ... فقلنا لهم لا نَرى أن نَدينا وكلٌّ يُسَرُّ بما عنده ... يَرى غثَّ ما في يديه سَمِينا من أبيات (¬1). فلما قدم جرير على أمير المؤمنين أخبره خبر معاوية، واجتماعَ أهل الشام معه على قتاله، وأنهم يبكون على عثمان، ويقولون: إن عليًّا قتله، وأنهم لا ينتهون عنه حتى يَقتلهم أو يَقتلوه. فقال له الأشتر: قد كنتُ نهيتُك أن تبعثَ جريرًا، وأخبرتُك بعداوته وغِشّه، ولو بعثتَني كان خيرًا من هذا الذي أقام عنده؛ حتى لم يَدَع بابًا يُرجى فتحُه إلا فتحه، ولا بابًا يُخاف منه إلا أغلقه. فقال له جرير: والله لو كنتَ هناك لقتلوك، لقد ذكروا أنك من قَتَلة عثمان. فقال الأشتر: أما والله لو أتيتُ معاوية لحملتُه على خُطَّةٍ أُعجلُه فيها عن الفكر، ولو ¬

_ (¬1) الأبيات في الأخبار الطوال 160، ووقعة صفين 56 - 57.

طاوَعَني أميرُ المؤمنين لحبسَك وأمثالك من أهل الظنَّة في مجلس لا تخرجون منه حتى تستقيم هذه الأمور. فخرج جرير إلى قَرْقِيسياء، وكتب إلى معاوية، فكتب إليه يَأمره بالقدوم عليه، وخرج علي - عليه السلام - فعسكر بالنُّخَيلة، وقدم عليه عبد الله بن عباس بمن نهض معه من أهل البصرة. وقال ابن إسحاق والواقدي: قال جرير للأشتر: ما يَمنعك من إتيانهم الآن؟ فقال الأشتر: بعد أن أفسَدْتَهم، والله ما أحسِبُك أتيتَهم إلا لِتَتَّخِذَ عندهم يدًا، والدليل عليه أنك تُخَوِّفُنا بكثرة جُموعهم. فخاف جرير مما استقبلَه به الأشتر، فخرج من الكوفة ليلًا في أُناسٍ من أهل بيته، فلحق بقَرْقِيسياء، وهي كُورةٌ من كُوَر الجزيرة. وبلغ عليًّا فغضب، وأمر بإحراق دارِه، فخرج أبو زُرعة بن عمرو بن جرير فقال: إن كان إنسانٌ واحدٌ قد أجرم، فإن في هذه الدار أَناسيَّ كثيرًا لم يُجرِموا، فقال علي: أستغفر الله، ثم خرج. وقال هشام، عن أبيه: وأمر أمير المؤمنين عبد الله بن الحر (¬1) أن يكتبَ جوابَ كتاب معاوية، فكتب إليه: أما بعد: فقد أتاني كتابُ أمير (¬2) ليس له بَصرٌ يَهديه، ولا قائدٌ يُرشِده، دعاه الهوى فأجابَه، وقادَه فاتَّبعه، زعمتَ أني خَذّلت عن عثمان، ولَعمري إني ما كنتُ إلا كواحدٍ من المهاجرين والأنصار، أُوردتُ كما أورِدوا، وأصدِرتُ كما أُصدروا. وأما قولُك عن الشورى وأهلِ الشام، فمَن بالشام ممن يَصلح للخلافة؟ فإن سمَّيتَ واحدًا كذَّبك الله ورسولُه والمسلمون، وأما اعترافُك بسَوابقي؛ فلو استطعتَ دفعتَها، ولكنك عاجزٌ عن ذلك، ثم كتب في أسفل الكتاب: [من المتقارب] مَعاويَ دعْ عنك ما لا يكونا ... وقَتْلةَ عثمان إذ تَدَّعونا أتاكم عليٌّ بأهل العراقِ ... وأهلِ الحجاز فما تَصنعونا ¬

_ (¬1) كذا، ولعله عبد الله بن الحارث أخو الأشتر. (¬2) في وقعة صفين 57، والعقد 4/ 333: كتاب امرئ.

فصل في حديث قيس بن سعد بن عبادة وتوليته مصر

من أبيات، وأرسله إلى معاوية (¬1). فصل في حديث قيس بن سعد بن عبادة وتوليته مصر قد ذكرنا أن أمير المؤمنين ولَّى قيس بن سعد مصر عَقيب قتلِ عثمان، وأنه دخلها، وأنهم افترقوا عليه، وتوقَّف أهلُ خَرِبْتا حتى يَتَّضح الأمر. وحكى القصةَ هشام بن محمد، عن أبي مِخنَف، عن محمد بن يوسف بن ثابت، عن سهل بن سعد قال: لما قُتل عثمان وولي علي دعا قيس بنَ سعد بن عُبادة الأنصاري فقال له: سِرْ إلى مصر فقد وَلَّيتُكها، واجمع إليك ثقاتك، ومَن أحببتَ أن يَصحبَك، حتى تأتيها ومعك جُند، فإن ذلك أرْعَبُ لعدوِّك، وأعزُّ لسُلطانك، فإذا قَدمتَها فأحسنْ إلى المحسِن، واشْدُد على المريب، وارفُق بالعامَّة والخاصة، فإن الرِّفقَ يُمن، وقال (¬2): أمّا الجُنْد فدَعْهم عندك عُدَّةً لك، وأمّا أنا فأسيرُ بنفسي وأهلِ بيتي، وبالله المستعان. وخرج قيس في سبعة نَفَرٍ حتى دخل مصر، فصعِد المنبر، فقعد عليه، وقرأ كتاب عليّ - عليه السلام - على الناس، وفيه: من عبد الله عليّ أميرِ المؤمنين إلى مَن بلغه كتابي هذا من المسلمين والمؤمنين، سلامٌ عليكم، أما بعد؛ فإني أحمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأُصلِّي على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الأنبياء، وأن الله تَوفّى رسولَه، واستخلف بعده خليفتين صالحَين، عَمِلا بالكتاب والسنّة، وأحسنا السيرة، ثم توفّاهما الله على ما كانا عليه، ثم وَلي بعدهما وَالٍ أحدث أحداثًا، فوجَدَت عليه الأمة مقالًا، فنَقَموا عليه وغيَّروه، ثم جاؤوني فبايعوني، ولله عليّ العملُ بكتابه وسنَّةِ رسوله، والنُّصحُ للرعية بالغيب، والله المستعان. وبعثتُ إليكم قيس بنَ سعد بن عُبادة أميرًا، فوازِروه وعاضِدوه، وأعينوه على الحق، وقد أمَرتُه بالإحسان إلى مُحسنِكم، والشدَّةِ على مُريبكم، والرِّفقِ بعوامّكم ¬

_ (¬1) وقعة صفين 57 - 59، والأخبار الطوال 160 - 161، والعقد 4/ 333 - 334. (¬2) يعني قيس، كما في الطبري 4/ 548.

وخواصِّكم، وهو ممَّن أرضى هَديَه، وأرجو صلاحَه ونَصيحتَه، وأسألُ الله لنا ولكم عملًا زاكيًا، وثوابًا جزيلًا، ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة الله. وكتب عُبيد الله بن أبي رافع في صفر سنة ستٍّ وثلاثين. وقال قيس: أيها الناس، قد جاء الحق وزهق الباطل، وبايَعْنا خيرَ من نعلم بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن نحن لم نعمل بذلك فلا بيعةَ لنا عليكم. فقام الناس فبايعوا، واستقامت مصر، وبعث عليها عُمَّاله، إلا أن قريةً من قُرى مصر يقال لها: خَرِبْتا، فيها أناسٌ قد أعظموا قتلَ عثمان، وبها رجلٌ من كِنانة من بني مُدلِج يُقال له: يزيد بن الحارث بن مُدْلِج، فأرسلوه إلى قيس بن سعد: إنا لا نُقاتلك، فابعث عُمَّالك، فالأرضُ أرضُك، ولكن أقِرَّنا على حالنا حتى نَنظرَ ما يصير إليه أمر الناس. ووثب مَسلمة بن مخلّد الأنصاري، فنعى عثمان، ودعا إلى الطلب بدمه، فأرسل إليه قيس بن سعد: ويحك، عليَّ تَثب؟ ! فوالله ما أحبُّ أن لي مُلكَ مصر إلى الشام وأني قتلتُك، فبعث إليه مَسلمة يقول: إني كافٌّ عنك ما دمتَ والي مصر. وكان قيس بن سعد له حَزمٌ ورأيٌ، فبعث إلى الذين بخَربتا: إني لا أُكرهكم على البيعة، وأكفُّ عنكم. فهادنَهم وهادن مسلمة بن مخلد، وأقام قيس يَجبي الخراج، لا يُنازعه أحدٌ من الناس. وخرج أمير المؤمنين إلى الجمل، ورجع إلى الكوفة وقيس مكانَه، فكان أثقلَ خلقِ الله على معاوية بن أبي سفيان؛ لقُربه من الشام، مخافةَ أن يَصلَ إليه أمير المؤمنين من العراق، ويُقبلَ إليه قيس في أهل مصر، فيقع معاوية بينهما، فأخذ يَخدعُه، فكتب معاوية إلى قيس: من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد، سلامٌ عليك، أما بعد؛ فإنكم إن كنتم نَقَمتم على عثمان في أثرةٍ رأيتموها، أو ضربةِ سَوطٍ ضربها، أو شَتمةٍ شَتَمها، أو في تسييرٍ سيَّره، أو في استعماله الفيءَ، فقد علمتم أن دمَه لم يكن حَلالًا لكم، فقد ركبتم

عظيمًا من الأمر، وجئتم شيئًا إِدَّا، فتُبْ إلى الله يا قيس بن سعد؛ فإنك ممّن أعان على عثمان، إن كانت التوبةُ من قتلِ المؤمن تُغني شيئًا. وأما صاحبُك فقد تيقَّنّا أنه الذي أغرى به، وحَمَلهم على قتله حتى قتلوه، وأنه لم يَسلم من دمه عُظْمُ قومِك، فإن استطعتَ أن تكون ممَّن يَطلب بدم عثمان فافعل، فإن بايعتَنا على هذا الأمر فلك سُلطان العراقَين، ولمن شئتَ من أهلك سُلطانُ الحجاز ما دام لي سلطان، وسَلْني غير هذا مما تُحبّ، فإنك لا تسألني شيئًا إلا أُوتيتَه، واكتب إلي برأيك فيما كتبتُ به إليك، والسلام. فلما جاءه كتابُ معاوية أحب قيس أن يُدافعَه، ولا يُبدي له أمرَه، ولا يَتعجَّل حَرْبَه، فكتب إليه: أما بعد؛ فقد بلغني كتابُك، وفهمتُ ما ذكرتَ فيه، فأما ما ذكرتَ من أمر عثمان فذلك أمرٌ لم أُقارِفه، ولم أتَنَطَّف به. وأما قولُك إن صاحبي أغرى الناس بعثمان، فهذا أمرٌ لم نَطَّلع عليه، وذكرتَ أن مُعظم عشيرتي لم يَسلموا من دم عثمان، فأوّلُ الناس فيه قيامًا عشيرتي، ولهم أُسوةٌ غيرهم. وأما ما ذكرتَ من مُبايعتي إياك، وما عرضتَ عليّ؛ فلي فيه نظرٌ وفكرة، وليس هذا مما يُسارَع إليه، وأنا كافٌّ عنك، ولن يَبدوَ إليك من قِبلي شيءٌ تكرهه، والسلام. فلما قرأ كتابَه معاوية لم يره إلا مُباعدًا مُفارِقًا، ولم يأمن مَكيدتَه فكتب إليه: أما بعد؛ فقد قرأتُ كتابَك فلم أرك تدنو فأَعُدُّك سِلمًا، ولم أرك مُباعدًا فأعُدُّك حَرْبًا، وليس مثلى من يُخدَع وبيده أعِنَّةُ الخيل، ومعه أعداد الرجال، والسلام. فلما قرأ قيس كتابَه، ورأى أنه لا يَقبل منه المدافَعة والمماطَلَة، أظهر له ما في نفسه، وكتب إليه: أما بعد، فالعَجَبُ من اغتِرارك يا معاوية، وطمعِك فيَّ، تسومُني الخروجَ من طاعة أَولَى الناس بالإمْرة، وأقومِهم بالخلافة، وأقولِهم بالحق، وأهداهم سبيلًا، وأقربِهم إلى رسوله وَسيلةً، وأوفرِهم فضيلة، وتأمرني بالدخول في طاعتك؛ طاعةِ أبعدِ الناس من هذا الأمر، وأقولِهم بالزُّور، وأضلِّهم سبيلًا، وأبعدِهم من الله ورسوله، ولدِ ضالّين

مُضلّين، طاغوتٍ ابن طاغوت. وأما قولك: إن معك أعنَّةَ الخيل، وأعدادَ الرجال، فوالله لتُشْغَلَنَّ بنفسك حتى تَتمنّى العَدَم. قال هشام: ولما رأى معاويةُ قيس بنَ سعد لا يَلينُ له كاده من قِبَل أمير المؤمنين. وكذا روى عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه بإسناده، عن الزهري، وحكى الطبريّ طرفًا منه قال: كان قيس بن سعد من ذوي البَأس، صاحبَ راية الأنصار مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان على مصر من قِبَل علي - عليه السلام -، وكان معاوية وعمرو بن العاص جاهدَين على أن يُخرجاه منها ليَغلِبا عليها، وكان قد امتنع منهما بالدَّهاء والمكايدة، فلم يقدرا على أن يَفتتحا مصر، حتى كاد معاوية قيس بنَ سعد من قبل أمير المؤمنين. فكان معاوية يُحدِّث رجالًا من ذوي الرأي من قريش يقول: ما ابتدعتُ قطّ مُكايدةً كانت عندي أعجبَ من مَكيدةٍ كِدتُ بها قيس بنَ سعد من قبل علي وهو بالعراق، حين امتنع مني قيس، قلتُ لأهل الشام: لا تسبُّوا قيسًا فإنه لنا شِيعةٌ، وتأتينا كُتُبه ونصائحُه سرًّا، ألا ترون ما فعل بإخوانكم أهل خَرِبتا؛ يُجري عليهم أُعطياتهم وأرزاقَهم، ويُحسن إليهم. قال معاوية: وكتبتُ إلى جواسيسي بالعراق يَتحدَّثوا به، فرفعه إلى علي محمد بنُ أبي بكر وعبد الله ومحمد ابنا جعفر بن أبي طالب، فلما بلغ عليًّا اتهم قيسًا، وكتب إليه يأمُره بقتال أهل خَرِبْتا، وأهلُ خربتا يومئذ عشرةُ آلاف، فأبى قيس أن يُقاتلهم، وكتب إلى علي: إنهم وجوه أهل مصر وأشرافُهم، وأهل الحِفاظ منهم، وقد رَضُوا مني أن أؤمِّن سِربَهم، وأُجري عليهم أرزاقهم، وقد علمت هواهم مع معاوية، فلستُ مُكايدهم بأمرٍ أهون علي وعليك من الذي أفعل بهم، فلو غَزوناهم كانوا أشدَّ العرب، وهم أُسود، منهم بُسْر بن أرطأة ومَسلمة بن مخلَّد ومعاوية بن حُديج، فذرني فأنا أعلم بما أُداري به منهم. فكتب إليه علي: لا بدَّ من قتالهم، فكتب إليه قيس: إن كنتَ تَتَّهمني فاعزلني عن

عملك، وابعث إليه غيري، فبعث إليه علي الأشترَ أميرًا على مصر، حتى إذا صار بالقُلْزُم شرب شَربة من عسلٍ كان فيه حتفُه، فبلغ أمره معاوية فقال: إن لله جنودًا من عَسَل، وبلغ عليًّا موتُ الأشتر، فبعث محمد بنَ أبي بكر أميرًا على مصر (¬1). قلت: والأصحُّ أن أمير المؤمنين بعث الأشتر على مصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر، وأن الأشتر حَضر حروب صفّين لما نذكر في موضعه، وقد نص عليه هشام بن محمد. وقال هشام بن محمد، عن أبي مِخْنَف -وجه آخر في حديث قيس بن سعد ومعاوية- قال: لما أيس معاوية من قيس بن سعد مُتابَعته على أمره، شقَّ عليه لما يَعرف من حَزْمِه وبأسِه، فأظهر للناس أن قيسًا قد بايعه، واختَلقَ معاوية كتابًا، فقرأه على أهل الشام، وفيه: أما بعد، فإني لما نظرتُ رأيتُ أنه لا يَسَعُني مُظاهرةُ قومٍ قتلوا إمامَهم مُحرمًا مسلمًا بَرًّا تقيًّا مستغفِرًا، وإني معكم على قَتَلَتِه بما أحبَبْتُم من الأموال والرجال، متى شئتم عَجِلتُ إليكم. قال: فشاع في الشام أن قيسًا قد بايع معاوية، وبلغ ذلك أمير المؤمنين، فأكبر ذلك وأعظمَه، فقال له عبد الله بن جعفر: دَعْ ما يَريُبك إلى ما لا يَرِيبُك (¬2)، اعزلْ قيسًا عن مصر، فقال علي: والله ما أُصدّق هذا على قيس، قال: اعزله، فبينما هم على ذلك إذ جاء كتابُ قيسٍ إلى علي: أما بعد، فإني أُخبر أمير المؤمنين أن قِبَلي رجالًا معتزلِين، قد سألوني أن أَدعَهم على حالهم، حتى يستقيم أمرُ الناس ويَرون رأيَهم، وقد رأيتُ أن أكفَّ عنهم، ولا أتعجَّل حربَهم، وأن أتألَّفَهم فيما بين ذلك، لعل الله أن يُقبل بقلوبهم. فقال عبد الله بن جعفر: ما أخوَفَني أن يكون هذا مُمالأةً لهم منه، فَأمُره بقتالهم. فكتب إليه علي: أما بعد، فسِرْ إلى القوم الذين ذكرتَ، فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون وإلا فناجِزْهم. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 552 - 553. (¬2) قوله: دع ما يريبك ... حديث أخرجه أحمد (1723) عن الحسن - رضي الله عنه -.

ذكر قدوم محمد بن أبي بكر إلى مصر

فكتب إليه: قد عجبتُ لأمرك؛ أن تأمُرَني بقتال قومٍ كافِّين عنك، ومتى حاربتَهم ساعدوا عليك عدوَّك، فأطِعْني واكفُف عمْهم، فإن الرأيَ تركُهم، والسلام. فلما أتاه هذا الكتاب قال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، ابعث محمد بن أبي بكر إلى مصر يَكفيك أمرَها، واعزل قيسًا؛ فقد بلغني أن قيسًا يقول: والله إن سلطانًا لا يقوم إلا بقتل مَسلمه بن مخلّد لسلطانُ سوء، والله ما أحبُّ أن مُلكَ الشام إلى مصر لي وأني قتلتُ ابنَ مخلّد، وكان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمّه، فولَّى محمدًا وعزل قيسًا. ذكر قُدومِ محمد بن أبي بكر إلى مصر فلما قدم محمد بن أبي بكر مصر قال له قيس بن سعد: ما بالُ أمير المؤمنين، ما غَيّره؟ أدخل أحدٌ بيني وبينه؟ قال: لا والله، وهذا السلطانُ سلطانُك، فقال له: والله لا أُقيم معك ساعةً واحدة، وغضب حين عُزل، وخرج مُقبلًا إلى المدينة فقدمها، فجاءه حسان بن ثابت شامِتًا به -وكان عثمانيًّا- فقال له: نَزعك عليّ بن أبي طالب، وقد قتلتَ عثمان، وبقي عليك الإثمُ، ولم يَحسن لك الشّكر، فقال له قيس: يا أعمى القلب والبصر، والله لولا أن أُلقي بين رهطي ورهطِك حربًا لضربتُ عُنُقك، اخرج عني. ثم إن قيسًا خرج هو وسَهل بنُ حُنَيف، حتى قدما الكوفةَ على علي، فأخبره الخبر، فصدّقه على ما قال، قال: وشهد قيس وسهل معه صفين. وفي رواية: لما قدم قيس بن سعد على علي استحيى من قيس وقال: والله ما أنت عندي بالمتَّهم، ولكني بلغني عن معاوية كذا وكذا، فارجع إلى عملك، فقال: لا والله، روحي دون روحك، وأخرج له كُتُب معاوية وقال: أَراد أن يَخدعَني، فلما يئس مني مَوَّه عليك، فقال: صدقتَ، وكان أحظى الناس عنده. وهذه روايات هشام عن أبي مخنف، وقد ذكرها الطبري مُطوَّلة (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 553 - 555.

وقال هشام عن أبي مخنف: لما قدم محمد مصر قرأ عليهم كتابَ أمير المؤمنين يدعوهم فيه إلى الطاعة، وهو من جِنْس كتابه لقيس بن سعد، وفي آخره: وكتب عُبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغُرَّة شهر رمضان. قال: ثم إن محمدًا لم يَلبَث شهرًا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين وادعهم قيس بن سعد، فقال لهم: إما أن تَدخلوا في طاعتنا، وإما أن تَخرجوا من بلادنا، فقالوا: لا تَعجَلْ علينا، دعنا ننظر في أمورنا إلى ما نصير إليه، فأبى عليهم، فامتنعوا منه، وأخذوا حِذرَهم وهم لمحمد هائبون، حتى كانت وقعة صفّين، وصار أمرُهم إلى الحكومة، ورجع علي إلى العراق، ومعاوية إلى الشام، اجترؤوا حينئذ على محمد بن أبي بكر، وبارزوه بالعصيان، فبعث إليهم محمد الحارثَ بنَ جُمهان الجُعْفيّ إلى خَرِبْتا، وفيها يزيد بنُ الحارث من بني كِنانة، فقاتلهم فقتلوه، ثم بعث إليهم محمد رجلًا آخر من كلب، يُدعى ابن مصاهر (¬1) فقتلوه، وظهروا على محمد، وصاروا مع معاوية، وقَتل بعد ذلك معاوية بنُ حُدَيج محمد بنَ أبي بكر لما نذكره. وقال أبو اليقظان: لما يئس معاوية من قيس بن سعد كتب إليه: أما بعد، فإنك يهوديّ ابن يهودي، مات أبوك طَريدًا بحوران. فكتب إليه قيس: أما بعد، فإنك وَثَنٌ ابنُ وثن ابن وثن، دخلتَ في الإسلام كُرهًا، وخرجتَ منه طَوعًا، لم يتقدَّم (¬2) إيمانُك، وظهر نِفاقُك، ونحن أنصارُ الدين الذي دخلتَ فيه كُرهًا، ومرقتَ منه طَوعًا. وأما أبوك فملعونٌ على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب، وأنت وأخوك -أو وأخواك- معه، والسلام. وفيها قدم مَرزُبان مَرْو على علي - عليه السلام -واسمه: ماهَوَيه- بعد الجمل مُقِرًّا بالصّلح، فصالحه علي، وكتب له كتابًا إلى الدَّهاقين، ثم كفر بعد ذلك، فبعث إليه علي خُلَيْدَ بن قُرَّةَ اليَربوعي. ¬

_ (¬1) في الطبري 4/ 557: ابن مضاهم. (¬2) في العقد 4/ 338: فأنت وثني ابن وثني ... لم يَقْدُم.

ذكر اتفاق عمرو بن العاص ومعاوية على أمير المؤمنين في هذه السنة

ذكر اتفاق عمرو بن العاص ومعاوية على أمير المؤمنين في هذه السنة واختلفوا فيه، روى سيف بن عمر، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان قالوا: لما أُحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص من المدينة إلى الشام، وقال: يا أهلَ المدينة، والله لا يُقيم بها أحدٌ فيُدرِكه قَتلُ هذا الرجل إلا ضربه الله بذُلّ، مَن لم يستطع نصرَه فليذهب، فسار ومعه ابناه عبد الله ومحمد، وتتابع الناس على ذلك إلا من شاء الله. فنزل بقصر العَجْلان، وقيل: نزل بفِحْل، فبينما هم على ذلك إذ مرَّ بهم راكبٌ، فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة، قال له عمرو: ما اسمُك؟ قال: حصيرة، قال: حُصِر الرجل، فمر بهم راكب آخر فقال: ما اسمك؟ فقال: قَتّال، قال عمرو: قُتِل الرجل، فمر بهم راكب آخر فقال له: ما اسمك؟ قال: حَرْب، قال عمرو: يكون حرب، ثم سأله فقال: قُتل عثمان، فارتحل عمرو ومعه ابناه، وهو يبكي كما تبكي المرأة ويقول: واعثماناه، أنعى الحياءَ والدين، حتى قدم دمشق. وفي رواية: فقال له ابنه عبد الله: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنك راض، وكذا أبو بكر وعمر، وأرى أن تكُفَّ يدَك، وتجلس في بيتك، حتى يَجتمعَ الناس على إمام فتبايعه، وقال له ابنه محمد: أنت نابٌ من أنياب العرب، فلا أرى أن يَجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صَوتٌ ولا ذِكر. فقال عمرو: أما أنت يا عبد الله فأمرتَني بالذي هو خيرٌ لي في آخرتي، وأسلم لي في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتَني بما فيه خيرٌ لي في دُنياي، وشرٌّ لي في آخرتي. ثم خرج عمرو ومعه ابناه حتى قدم على معاوية، فوجد أهلَ الشام يَحضُّون معاويةَ على الطَّلبِ بدم عثمان، فقال عمرو: أنتم على الحق، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم، ومعاوية لا يَلتفتُ إليه، ولا يَعبَأُ بقوله لما بلغه عنه، فقال له ابناه: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفتُ إلى قولك! انصرف إلى غيره. فدخل عمرو على معاوية، فقال له: عجبًا لك! أنا أرفِدُك بما أرفدك وأنت مُعرضٌ عني؟ ! أما والله لئن قاتَلْنا معك بطلب دم عثمان إن في النفس من ذلك ما فيها؛ حيث نقاتل من نَعلم سابقتَه وفضلَه وقرابتَه، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا، فصالحه معاوية

وعَطف عليه. وهذا قول الواقدي. وأما الهيثم بن عدي فإنه قال: أقام عمرو بفلسطين يَتربّص، ولم يَقدم على معاوية، فلما عزم معاوية على قتال أمير المؤمنين شاور أصحابه، فقالوا له: هذا أمرٌ عظيم لا يَتمّ إلا بعمرو؛ فإنه قَريعُ زمانه في الدَّهاء والمكر والخديعة، يَخدع ولا يُخدع، وكان معاوية يتَّهمه بأمير المؤمنين لما بدا منه في حقّ عثمان، فقال معاوية لأخيه عُتبة بن أبي سفيان: فما الرأي؟ قال: اكتب إليه، واخدَعْه بالمال والبلاد. فكتب إليه معاوية: من معاوية بن أبي سفيان خليفةِ أمير المؤمنين عثمان إلى عمرو بن العاص صاحبِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأميرِ عسكره بذات السَّلاسل، المعظَّمِ رأيُه، المفَخَّم تدبيرُه، سلام عليك، أما بعد: فقد علمتَ احتراقَ قلوب المؤمنين، وما أُصيبوا به من الفَجعة بقتل إمام المتَّقين، وما ارتكب جارُه من البغي، وامتناعه من نُصرته، وخِذلانه إياه، حتى قُتل في محرابه صائمًا، فيا لها من مُصيبة أوجبت على جميع المسلمين الطَّلبَ بدمه، وأنا أدعوك إلى الحظّ الجزيل من الثواب، والنصيبِ الأوفَر من الأجر، قتل مَن آوى قَتَلةَ عثمان. فلما وقف عمرو على كتابه عرف مَقصودَه، فكتب إليه: أما بعد، فإني قرأتُ كتابَك وفهمتُه، فأما ما دعوتَني إليه من خَلْعِ رِبْقةِ الإسلام من عُنقي، والتَّهوّر في الضلالة، وإعانتي لك على الباطل، واختراطِ السيف في وجه أمير المؤمنين؛ أخي رسول الله، ووصيِّه، وقاضي دينه، وصهرِه على ابنته، وأبي السبطين الحسن والحسين سيِّدَي شباب أهلِ الجنة، فمعاذ الله أن أشارِك في الغيّ والضّلال. وأما قولك إنك خليفة عثمان فقد عُزلتَ بموته، وأما قولُك إني صاحب جيش رسول الله فإني لا أعتز بالتزكية، ولا أميل بها عن الملَّة، وأما نِسبتُك أمير المؤمنين إلى قتلِ عثمان، وزعمِك أن أصحاب رسول الله فَسَقة، وأنه أَشلاهم عليه، فهذا زُورٌ وبُهتان. وَيْحك يا معاوية، ألم تعلم أن أبا الحسن بذل نفسه لله، وبات على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ هجرته، يَفديه بنفسه, ويقيه بروحه، أليس هو القائل في حقّه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" "من كنت مَولاه فعليّ مَولاه" وكتابُك الذي هذا جوابُه ليس يَخدع ذا عقلٍ ودين، والسلام.

فلما قرأ معاوية كتابه يئس منه، فقال له أخوه عُتبة: لا تيأس منه، وعِدْهُ ومَنِّه، ورَغّبه في الولايات، وأشرِكْه في سُلطانك، وإلا لم تأمَنْه، فكتب إليه معاوية: [من الطويل] جهِلتَ ولم تعلم مَحلَّك عندنا ... فأرسلت سيبًا من عتاب ولا تدري فثِقْ بالذي عندي لك اليوم آنفًا ... من العزِّ والإكرام والجاه والقَدْرِ فكتب إليه عمرو وقال [من الطويل] أبي القلبُ مني أن يُخادع بالمكرِ ... بقتل ابن عَفّانٍ أُجَرُّ إلى الكُفرِ وإني لَعمري ذو دَهاءِ وفِطنةٍ ... ولستُ أبيع الدِّينَ بالمال والوَفْرِ أليس صغيرًا مُلكُ مصرَ تَبيعُه ... هي العارُ في الدنيا على الآل من عمرو فقال له عُتبة: أقطِعْه مصر فإنها ليست في يدك، ألا ترى أنه قد تعرَّض لها؟ ! فكتب إليه بعهده على مصر، فكتب إليه عمرو: [من الطويل] مُعاويَ لا أُعطيك ديني ولم أنَلْ ... به منك دُنيا فانظُرنْ كيف تَصنعُ فإن تُعطِني مصرًا فأرْبِحْ بصَفقةٍ ... أخذتَ به شيخًا يَضرُّ وَينفعُ وبات عَمرو طول ليلته مفكّرًا، فدعا غلامًا له يُقال له: وَرْدان -وهو الذي يُنسب إليه سوق وَردان بمصر- فاستشاره فقال: إن مع علي آخرة ولا دنيا، وإن مع معاوية دنيا ولا آخرة، والتي مع علي تَبقى، والتي مع معاوية تَفنى، فقال: صدقتَ. ثم أصبح فركب فَرسه ومعه ولداه عبد الله ومحمد، فعبد الله يَمنعه عن قَصْدِ معاوية، ومحمد يُريده أن يَقصد معاوية، فلما وصل إلى طريق تأخذ إلى المدينة، وطريق تأخذ إلى دمشق، وقف ساعة يُفكّر، ثم ضرب رأس فرسه إلى دمشق وقال: معاوية أرفقُ بنا من علي، فقدم على معاوية. وقال الواقدي وابن إسحاق: ولما قدم جرير على معاوية بكتاب أمير المؤمنين استشار معاوية عَمرًا، فقال له: ما ترى؟ فقال عمرو: إنه قد أتاك في هذه البيعة رجلٌ من أعيان الصحابة، من عند خير الناس، ولستُ أرى لك أن تَدعو أهلَ الشام إلى الخلافة، فإن ذلك خطرٌ عظيم، حتى تتقَدّم قبل ذلك بتَوطين الأشراف منهم، وإشرابِ قلوبهم اليقينَ أن عليًّا قتل عثمان، ورأسُ أهل الشام شُرَحْبيل بن السِّمْط الكندي،

ذكر مسير أمير المؤمنين إلى صفين

فأرسل إليه ليأتِك، ثم وَطِّن له الرجال على طريقه؛ يُخبرونه بأن عليًّا قتل عثمان، فإن عَلِقت هذه الكلمةُ بقلبه لم يُخرجها شيءٌ أبدًا، فأقام له على طريقه يزيد بن أسد، وسفيان بن عمرو، ومُخارق بن الحارث وغيرهم، فوَطَّنهم على ذلك. وقدم شُرحبيل، فأمر معاوية أشرافَ أهل الشام باستقباله، وأوصى كلَّ واحدٍ إذا خلا به ألقى في سمعه تلك الكلمة، فلما دخل على معاوية مغضبًا قال له: ألا إن ابنَ أبي طالب قتل عثمان، ووالله لئن بايعتَه لنُخرجَنّك من الشام، فقال معاوية: إنما أنا واحدٌ منكم، والأمرُ أمرُكم، قال: فاردُدْ هذا الرجلَ إلى صاحبه -يعني جريرًا- فقال له معاوية: إن هذا الأمر لا يَصحّ حتى تَمشي في مدائن الشام مدينة بعد مدينة وتقول: إن عليًّا قتل عثمان، فغضب له طلحة والزبير، فسار علي خلفَهم فقتلَهم، وغلب على أرضهم، ولم يبق إلا هذه البلاد، وهو واضعٌ سيفَه على عاتقِه، ولابد له منكم. وكان شرحبيل مُطاعًا في الشام عظيمًا، أعظم من معاوية ففعل ذلك، فأجابه الناس إلا نفرًا من أهل حمص نُسَّاكًا؛ فإنهم لزموا بيوتَهم ومساجدهم وقالوا: أنتم أعلم. فلما ذاق معاوية أهلَ الشام، وعرف أنه قد وَقَر في قلوبهم ما وَقَر قال لجرير: الحق بصاحبك، وأخبِرْه أني وأهل الشام لا نُبايعه أبدًا. ولهذا ضبط جريرًا ثلاثةَ أشهر. ذكر مسير أمير المؤمنين إلى صِفِّين قد ذكرنا أنه كان نازلًا بالنُّخيلة، وأنه جهَّز جريرًا بكتابه إلى معاوية، وعَوده بالجواب. وقال أبو اليقظان: لما قدم جرير على معاوية قال: وافَقْتُه على المنبر قد عَلَّق عليه قميصَ عُثمان وهو يَندُبُه، وأهلُ الشام يَبكون حولَه، قال: وكان قد رافَقَني في طريقي رجلٌ لا أعرفه، يَسير لمسيري ويُقيم لمقامي ولا أشعرُ به، فلما قَدِمنا إلى دمشق تَقدَّم إلى معاوية وقال له: [من الرجز] إن بني عمِّك عبدِ المطَّلِبْ قد استحلُّوا شيخَنا غيرَ كَذِبْ وأنت أَوْلى الناس بالوَثْبِ فثِبْ

ثم ناوله كتابًا من الوليد بن عُقبة بن أبي معيط، وكان نازلًا بالجزيرة على البَليخ؛ بقريةٍ يُقال لها: عين رومية، وقيل: عين أبي سنان، من أعمال الرقّة، وبها مات، ولم يشهد صفّين مع معاوية على ما قيل. قال جرير: وكان في كتابه إلى معاوية: [من الطويل] مُعاويَ إن الملك قد جُبَّ غارِبُه ... وأنت بما في كفِّك اليوم صاحبُهْ أتاك كتاب من عليٍّ بخُطَّةٍ ... هي الفَصْلُ فاختر سِلْمَه أو تُحارِبُهْ فإن كنتَ تَنوي أن تُجيبَ كتابَه ... فقُبِّحَ مُمْليه وقُبِّحَ كاتِبُهْ وإن كنتَ تَنوي تَرْكَ رَجْعِ جوابه ... فأنت بأمرٍ لا محالةَ راكِبُهْ من أبيات. قال جرير: فلما قرأ معاوية كتاب أمير المؤمنين قال: ما ترى [ما] الناس فيه من النُّفْرَة؟ ! أقم حتى يَسكنوا، فأقمتُ عنده أربعةَ أشهر، فبينما أنا عنده إذ وَرَد كتابٌ آخر من الوليد بن عُقبة يقول: [من الوافر] ألا أبلغْ معاويةَ بنَ حَرْبٍ ... بأنّي في الكُفاةِ له مُليمُ قطعت الدهر كالشَّذَبِ المعَنّى ... تُهدِّر في دمشق وما تَريمُ (¬1) من أبيات. قال الجوهري: الشَّذَبةُ بالتحريك: ما يُقطع مما تَفَرّق من أغصان الشجر ولم يكن في لُبِّه (¬2). قال جرير: فلما وقف معاوية على أبيات الوليد، وصل معاوية بين طُومارَين أبيضين وختمه، وكتب على عُنوانه: من معاوية إلى علي، ودفعه إليّ، وبعث معي رجلًا من عَبْس، فلما قَدِمنا الكوفة، ودخلنا على أمير المؤمنين في المسجد، فناولتُه الطُّومار، ففتحه فلم يجدوا فيه شيئًا، وقام العبسيّ وقال: لقد تركتُ أكثر من خمسين ألف شيخ حول قميص عثمان، خاضبي لحاهم بدموعهم [يبكون] على عثمان، مُتعاقِدِين ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 564، وأنساب الأشراف 2/ 202. (¬2) صحاح الجوهري: (شذب).

مُتعاهِدين ليَقتُلُنّ قَتَلةَ عثمان، وبالله أُقسم ليُصَبّحنكم خمسون ألف عَنان، فصاح الأشتر والناس: اقتلوا الفاسق رسولَ الفاسق، فوالله ما نُبالي بخيلك ولا شيوخك، وسيعلمُ ابنُ هند، وثار الناس ليَقتلوه فهرب فلا يُدرى أين ذهب، فحينئذٍ خرج أمير المؤمنين إلى النخيلة. وقال هشام: كتب أمير المؤمنين قبل رحيله من النُّخيلة إلى معاوية كتابًا يَتهدّده فيه، أبرَق فيه وأرعد، ووعد وأوعد، وخوَّف وهَدّد، ودعا بالأصبغ بن نُباتة التميمي فقال: اذهب به إليه. قال الأصبغ: فدخلتُ على معاوية، وعن يمينه عمرو بن العاص، وعن يساره ذو الكلاع، وحوله عبد الله بن عامر بن كُريز، وأخوه عتبة بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وشُرَحبيل بن السّمط، وبين يديه أبو هريرة، والنعمان بن بشير، وأبو أمامة الباهلي. قال: فناولته الكتاب، فقرأه وقال: إن عليًّا لا يَدفع إلينا قتلَةَ عثمان، قال: فقلت له: يا معاوية، لا تَتعلَّل بدم عثمان فإنك والله لا تَطلب إلا الملك، ولو أردتَ نُصرة عثمان حيًّا لفعلتَ، ولكنك تربَّصتَ به لما أرسل يَستصرخ بك، وأخفيتَ كتابَه، وتقاعدت عليه حتى قُتل؛ لتجدَ سبيلًا إلى ما في نفسك بقتله. قال: فاستشاط غضبًا، فأردتُ أن أزيدَه فقلت: يا أبا هريرة، أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أُقسم عليك بالله الذي لا إله إلا هو، هل سمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه"؟ قال: إي والله، سمعتُه يقول ذلك يوم غدير خُمّ، قال: فقلت: فأنت يا أبا هريرة واليتَ عدوَّه وعاديتَ وَليّه، فتنفَّس أبو هريرة واسترجع، وقال معاوية: يا هذا كفَّ عن كلامك؛ فإنك لا تستطيع أن تَخدع أهلَ الشام عن الطلب بدم عثمان؛ فإنه قُتل مظلومًا في حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في شهر حرام، عند صاحبك، وهو الذي أغراهم به حتى قَتلوه، وهم اليوم معه: أنصاره وأعوانه، ويده ورجله، وما مثلُ عثمان مَن يُهدر دمُه. قال ذو الكَلاع وحَوشب: لننَصُرنّك حتى تحصّل مُرادك أو نقتل عن آخرنا، فقام الأصبغ وهو يقول: [من المتقارب]

مُعاويَ لله من خلقه ... عباد قلوبُهم قاسيَهْ وقلبُك من شرِّ تلك القلوب ... وليس المطيعة كالعاصيه دع ابنَ خُديج ودع حَوشبًا ... وذا كَلعٍ واطلُب العافيه فصاح معاوية: انصرف، أرسولًا جئتَ أو منفّرًا؟ ! قال علماء السير: ولما نزل أمير المؤمنين النُّخَيلة استشار أصحابَه في المسير إلى صفّين، فأشار عليه قوم أن يُقيم ويَبعثَ الجيوش، وأشار عليه قوم بالمسير والمباشرة، وقدم عليه عبد الله بن عباس من البصرة بمَن نَفَر معه من أهلها. وقال الواقدي: واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري، وكتب إلى عماله بالقدوم عليه، واستخلف ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدّيلي. ولما تحقّق عزم أمير المؤمنين على المسير بلغ معاوية، فاستشار عمرو بن العاص، وقال له: قد أشار علي القوم بأن أبعث الجيوش وأقيم، فقال له: سِرْ بنفسك لئلا يَنسبكم إلى الجُبن والخَوَر والضّعف، فقال له معاوية: فقم فحرِّض الناس، وضَعِّف عليًّا وأصحابَه، فقام عمرو فقال: إن أهل العراق والبصرة مخالفون لعلي، قد قتلهم ووَتَرهم، وأفنى صناديدَهم وصناديدَ أهل الكوفة، وإنما سار في شِرذمةٍ قليلة منهم، وقد قتل خليفتَكم، فالله الله في دم عثمان أن تُضيّعوه، وحقكم أن تُبطلوه. وعقد لولدَيه لوائين، ولغلامه وَرْدان، [وعقد عليٌّ لغلامه] قَنْبَر، وقال عمرو: [من الرجز] هل يُغنيَنْ وَرْدانُ عنِّي قَنبَرا وتُغنيَ السَّكونُ عنّي حميَرا إذا الكماةُ لَبِسوا السَّنَوَّرا وبلغ أمير المؤمنين فقال: [من الرجز] لأصبِحنَّ العاص وابنَ العاص سبعين ألفًا عاقِدي النَّواصي مجتَنبينَ الخيلَ بالقِلاص

مُستَحْقِبينَ حَلَقَ الدِّلاصِ (¬1) وسار معاوية نحو العراق، وخرج أمير المؤمنين من النُّخَيلة، فنزل المدائن، وولى عليها سعد بنَ مسعود الثقفي عمَّ المختار بن أبي عبيد، وجَهَّز الطلائع بين يديه، فبعث زياد بن النَّضْر الحارثي في ثمانية آلاف، وشُريح بن هانئ في أربعة آلاف، ومَعقِل بن قيس في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل، حتى يُوافيه بالرقّة، ورحل من المدائن في جيوشه، وسار بين دجلة والفرات. وقال أبو اليقظان: لما أراد أمير المؤمنين المسير قَدَّم بين يديه زياد بن النَّضْر الحارثي، وشُرَيح بن هانئ، وعقد لكل واحدٍ منهما على ستة آلاف. وقال هشام بن محمد: فوصل إلى الرقة، فلم يجد عندها سفينة، كانوا قد أحرزوا الكلّ، فقال: يا أهلَ الرقة، اجْسُروا لي جِسرًا لأعبر إلى الشام، فلم يفعلوا. وقال الهيثم: ناداهم أمير المؤمنين: يا أهل الرّقّة، أين سُفنكم؟ فقالوا: راحت تَرعى، فدعا عليهم بالذلّة والمسكنة. قال هشام: وعزم أمير المؤمنين على النّهوض إلى مَنْبج ليَعبرَ على جسرها، فناداهم الأشتر: يا أهل الجزيرة -أو يا أهل الحصن- أقسم بالله، لئن لم تَمدُّوا لنا الجسر لأضَعنَّ فيكم السَّيف، ولأقتُلنّ رجالكم، ولأسْبِينّ ذَراريكم، ولآخُذنَ أموالكم، فخافوا وقالوا: إنه الأشتر، والله ليَفينّ بما حلف عليه، فصاحوا: إنّا ناصِبون لكم الجسر، فنصبوه، وجاء أمير المؤمنين فعبر عليه بالأثقال والرّجال، ووقف الأشتر عند الجسر في ثلاثة آلاف، حتى لم يَبقَ أحدٌ غيره، وهو آخر الناس. وقال أبو مخنف: لما عَبروا ازدحمت الخيل، فسقطت قَلَنْسُوة عبد الله بن أبي الحُصين الأزدي، فنزل فأخذها وركب، فسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجّاج الأزدي، فنزل فأخذها ثم ركب. وقال أبو مخنف: وسار أمير المؤمنين وبين يديه زياد بن النَّضْر الحارثي وشُرَيح بن هانئ، فلما انتَهوا إلى سُور الروم لَقيهم أبو الأعور السُّلَمي -وهو عمرو بن سفيان- ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 563.

في جُندٍ من أهل الشام، فأرسلا إلى علي فأخبراه، فقال للأشتر: يا مالك، اذهب إليهما فأنت الأمير على الناس، وإياك أن تَبدأهم بقتالٍ حتى يَبدؤوك، واجعل على ميمنتك زيادًا، وعلى الميسرة شُريحًا، وأنا قادم عليكم، ولا تَدْنُ من القوم دُنُوَّ مَن يُريد أن يُنشب الحرب، ولا تتباعد عنهم، بل كن وَسطًا. فسار الأشتر ففعل ما أُمر به. وقيل إنما بعث إليه الحارث بنَ جُهمان الجُعفي، فأمره بذلك. وبعث علي إلى زياد وشُريح: إني قد أَمَّرتُ عليكما الأشتر أو مالكًا، فاسمعا له وأطيعا. والتقى الأشتر وزياد وشُريح بأبي الأعور، فاتَّبع الأشتر ما أمره علي، وكفّ عن القتال، ولم يزالوا مُتواقِفَين، حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور، فثبتوا له، ثم انصرف أبو الأعور، فلما كان من الغد عاد أبو الأعور، فأرسل إليه الأشتر سنانَ بنَ مالك النَّخَعي يَطلب منه أن يُبارِزَه، فقال له سنان: فأنا أُبارزه، فقال: يا ابن أخي، إنك حَدَثُ السّنّ، وإن كنتَ من أهل الشَّرف والكفاءة، وإن الحَدَثَ لا يُبارز الكَهْل، ولكن اذهب إليه وادعُه إلى مُبارزتي. فذهب سنان إلى أبي الأعور فقال: إن الأشتر يَدعوك إلى أن تُبارزَه، قال: فسكتَ عني طويلًا، فقال: إن خفّةَ الأشتر وسوءَ رأيه يُقبّح محاسِنَه، ومن خِفّته وسوءِ رأيه أنه سار إلى ابن عفان إلى دارِه وقراره، فكان في جُملة مَن قتله، فأصبح مَطلوبًا بدمه، لا حاجة لي في مُبارزته، قال: فقلتُ: إنك قد تكلَّمتَ فاسمع جوابَك، فقال: لا حاجةَ لي في سَماع كلامِك اذهب، قال: فانصرفتُ إلى الأشتر، فأخبرتُه فقال: لنفسه نظر. وخرج هاشم بنُ عُتبة الزُّهري فاقتتلوا، وحمل عليهم الأشتر، فقُتل عبد الله بن المنذر التَّنوخي، قَتله ظَبيان بن عُمارة التميمي من أصحاب الأشتر وهو حَدَث، وكان عبد الله بن المنذر التَّنوخي فارسَ أهل الشام، وجعل الأشتر يقول: وَيحكم، أروني أبا الأعور، ووقفوا إلى الليل. ثم انصرف أبو الأعور وأصحابُه تحت الليل، وصبَحهم علي من الغد، وساروا إلى صفّين، فوجدوا معاوية قد اشتَرف مكانًا على شاطئ الفرات سهلًا أَفيَح، قد اختاره قبل وُصول أمير المؤمنين، ليس في ذلك الموضع كلّه شَريعةٌ غيرها، وجعلها في

حَيِّزه، وبعث عليها أبا الأعور يحميها. قال هشام عن أبي مخنف: فحدثني تميم بن الحارث الأزدي، عن جُندب بن عبد الله قال: كنتُ مع أمير المؤمنين، فلما رآهم قد فعلوا ذلك أتيناه فأخبرناه -وكان قد نزل ناحيةً عن الفرات- وقلنا: قد عَطِش الناس، ولا نَجد شَريعة غير شريعةِ القوم، فقال الأشعث بن قيس الكندي: أنا أسير إليهم، فقال علي: سِرْ، قال: فسار وسرنا معه، فلما دَنونا من الماء ثاروا في وُجوهنا، فحَصَبونا وَرَشقونا بالنَّبْل، ورَشَقناهم ساعة، ثم اطَّعَنّا بالرماح وتضارَبْنا بالسيوف. ثم جاء يزيد بن أَسَد البَجَلي مَددًا للقوم، وجاء عمرو بن العاص من عسكر معاوية في جُندٍ كثير يُمِدُّ أبا الأعور، وخرج شَبَثُ بنُ رِبْعيّ والأشتر من عسكر علي في جَمعٍ عظيم، واشتد القتال، فارتجز عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي يقول: خَلُّوا لنا ماءَ الفراتِ الجاري ... أو اثبُتُوا لجَحْفَل جَرَّارِ لكلِّ قِرْنٍ مُستميت شاري ... مُطاعِن بُرمْحِه كَرَّار ضَرَّابِ هاماتِ العِدا مِغوارِ قال أبو مِخنف: وجعل ظَبيان بن عُمارة يقاتل ويقول: [من الرجز] هل لك يا ظَبيانُ من بَقاء في ساكنِ الأرضِ بغير ماءِ لا وإلهِ الأرضِ والسماء فاضرب وُجوهَ القوم بالأعداءِ حتى يُجيبوك إلى السَّواءِ (¬1) ثم إن القوم خَلّوا عن الماء، فما أمْسَوا إلا وسُقاةُ العسكَرَين يَزدحمون على ¬

_ (¬1) في وقعة صفين 172، والطبري 4/ 570: فاضرب وجوه الغُدر الأعداء بالسيف عند حَمَس الوغاءِ حتى يجيبوك إلى السواء

الشّريعة، لا يُؤذي إنسانٌ إنسانًا. وروى الطبري عن أبي مخنف قال: لما مَنعوا أصحابَ أمير المؤمنين الماء، بعث أميرُ المؤمنين صَعصعة بنَ صُوحان إلى معاوية، وقال: قُلْ له: إنا سِرْنا إليكم، ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قَدَّمتَ إلينا خيلَك ورَجِلك، فقاتلتَنا قبل أن نُقاتِلَك، وبدأتَنا بالقتال، وكففنا عنك قبل أن نَدعوَك ونَحتجّ عليك، وهذه أُخرى قد فعلتَها؛ حُلتَ بين الناس وبين الماء، والناس غيرُ منتَهِين حتى يَشربوا، فابعث إلى أصحابك فليُخَلُّوا بينهم وبين الماء، ويكفُّوا حتى نَنظُرَ فيما قَدِمنا وقدمتُم له، وإن كان أعجبَ إليك أن تَترُكَ ما جئنا له، ونَترك الناس يَقتتلون على الماء حتى يكون الغالبُ هو الشارب فعلنا. قال: فقال معاوية لأصحابه: ما تَرون؟ فقال الوليد بن عُقبة: امنعْهم الماء كما منعوه عثمان، حصروه أربعين صباحًا يَمنعونه بَرْدَ الماء، اقتلْهم عطشًا. وقال له عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح: امنعهم الماء إلى الليل؛ فإنهم إن لم يَقدروا عليه رجعوا، فيكون رجوعهم ذُلًّا لهم. قلت: وقول الطبري إن الوليد بن عُقبة وعبد الله بن سعد شهدا صفّين وَهم، فإن الواقدي قال: لم يشهداها. قال: فقال له عمرو بن العاص: يا معاوية، خَلِّ بين القوم وبين الماء، فإن القوم لن يَعطشوا وأنت رَبّان. فقال صَعصَعة بن صُوحان للوليد وابن أبي سرح: إنما يمنع الله الماءَ يوم القيامة مِثلكما؛ الكفَرةَ الفَسقةَ، فشتماه وشتمهما، فقال معاوية: كُفَّا عن الرجل فإنه رسول. وقال هشام: قال عمرو لمعاوية: خلِّ بينهم وبين الماء، أترى ابن أبي طالب ومعه المهاجرون والأنصار وأفاعي العراق يَموتون عطشًا، والله لتطيرنَّ قحاف دون ذلك، فارض بالموادعة أيها الرجل، ولا تعجل بالشرّ فإن مَرتَعه وَخيم. فقال معاوية: لا سقى الله أبا سفيان من حوض محمد قَطرة إن شربوا منه، وإن هذا لأوَّلُ الظَّفَر.

فقام فياض بن الحارث الأزدي فقال: يا معاوية، والله ما أنصفتَ القوم، لو كانوا من الروم لما جاز مَنعُهم من الماء، فكيف وهم أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيهم ابنُ عمه والمهاجرون والبدريُّون والأنصار؟ ! وكان هذا الرجل صديقًا لعمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: اكفِني صديقَك، فقام فياض وهو يقول: [من الوافر] أتَحمون الفراتَ على أُناسٍ ... وفي أيديهم الأَسلُ الظِّماءُ وفي الأعناق أسيافٌ حِدادٌ ... أن القوم عندكم نِساءُ ألا لله دَرُّك يا ابنَ هندٍ ... لقد ذهب الحياءُ فلا حَياءُ ولستُ بتابع دينَ ابنِ هندٍ ... طِوال الدَّهرِ ما أوفى حِراءُ ثم عطف دابتَه ودخل في عسكر علي - عليه السلام -. قال هشام: وقال الأشتر: يا أمير المؤمنين، أنموتُ عطشًا وسيوفنا على عواتقنا، ورماحُنا في أيدينا، ثم قال: [من المتقارب] أيَمنعُنا القومُ ماءَ الفراتِ ... وفينا الرِّماحُ وفينا الحَجَفْ وفينا عليٌّ له صَولَةٌ ... إذا خَوَّفوه الرَّدى لم يَخَفْ ونحن الذين غداةَ الزبيرِ ... وطلحةَ خُضنا غِمارَ التَّلَفْ قال: وسمع أمير المؤمنين ليلةَ منعوهم الماء امرأة تقول: [من المتقارب] أيَمنعُنا القومُ ماءَ الفراتِ ... وفينا عليٌّ إمامُ الهُدى وفينا الصلاةُ وفينا الصيامُ ... وفينا المصَلُّون تحت الدُّجى (¬1) فبكى علي وقال: لا ها الله إذن، ثم قال للأشتر وللأشعث بن قيس: عليكما بالقوم، فركبا في اثني عشر ألفًا في وقت السَّحَر، وحملوا على القوم، فأزالوهم عن الشرائع فانهزموا، ولحق الأشتر أبا الأعور فضربه على رأسه بالسيف، فجرحه جُرحًا موثقًا، وملك الأشتر الشّرائع ووَهن أهلُ الشام، وكان هذا القتال في آخر يوم من ذي القعدة، وهو أول يوم جرى فيه قتال، ويسمّى يوم الحَميَّة؛ لأن الحميَّةَ أدركت أميرَ المؤمنين لما سمع كلامَ المرأة. ¬

_ (¬1) وقعة صفين 163 - 165، ومروج الذهب 4/ 346، وأنساب الأشراف 2/ 209.

وقال هشام بن محمد، عن أبيه: فلما كان أول يوم من ذي الحجّة دعا أمير المؤمنين بشير بن عمرو بن مِحْصن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهَمداني، وشَبَث بن رِبعي التّميمي، وقال لهم: اذهبوا إلى هذا الرجل، فخوِّفوه وحَذّروه وأنذِروه، وأشيروا عليه بالطّاعة، والدخولِ مع الجماعة، وانظروا ماذا رأيُه. فجاؤوه فدخلوا عليه، فافتتح الكلام بشير وقال بعد حمد الله: يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجعٌ إلى الآخرة، وإن الله مُحاسبُك ومُجازيك على عملك، ونحن نَنشدك الله؛ أن تُفرِّق جماعةَ هذه الأمة، وأن تَسفك دماءها. فقال له معاوية: هلّا أوصيتَ صاحبَك بمثل هذا؟ ! فقال: إن صاحبي لا يحتاج إلى وصيّة لأنه ليس مثلَك، إن صاحبي أحقُّ البريَّةِ كلّها بهذا الأمر في فضله ودينه، وسابقته في الإسلام، وقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإني آمُرك بتقوى الله، وإجابةِ ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق؛ فإنه أسلَمُ لك في دُنياك، وخيرٌ لك في عاقبة أمرك، فقال معاوية: ويَبطل دمُ عثمان (¬1)؛ لا والله لا أفعل ذلك أبدًا. فذهب سعيد بن قيس يتكلَّم فبادره شبث بن رِبعي وقال: والله يا معاوية ما يَخفى علينا مَغزاك ومَطلَبُك، إنك لم تجد شيئًا تَستغوي به الناس، وتَستميلُ به أهواءهم، وتستخلص لك به طاعتَهم إلا دمَ عثمان، فاستجاب لك السّفهاء، وقد علمنا أنك تَربَّصتَ به وأبطأتَ عنه، وأحببتَ له القتلَ لهذه المنزلة التي أصبحتَ تطلب، ورُبَّ مُتَمَنٍّ أمرًا يحول الله بينه وبينه. فقال له معاوية: إن أول ما عُرف من سَفَهك وخِفَّةِ حِلمك أنك قطعتَ على هذا الشريف الحَسِيب سَيِّدِ قومه مَنطقَه، ثم عَتِبتَ بعد فيما لا علمَ لك به، فقد كَذبتَ في كلّ ما ذكرتَ ووصَفْتَ، انصرفوا فليس بيني وبينكم إلا السيف، فقال له شَبث: أعلينا تُهوّل بالسيف؟ أقسم بالله لنَعجلَنّ به إليك. ثم عادوا فأخبروا أمير المؤمنين بالذي كان، ونَشِب بينهم القتال، فكان أمير المؤمنين يُخرج إليهم أعيانَ أصحابه، ومعاوية يُخرج إليهم أعيانَ أصحابه، فلما كان ¬

_ (¬1) في الطبري 4/ 573، والمنتظم 5/ 104: ونُطلّ دمَ عثمان، وفي وقعة صفين 178: ويُطَلّ دمُ عثمان.

ثالث يوم من ذي الحجة

في هذا اليوم وهو أول يوم من ذي الحجة بدأ معاوية بالقتال، فأخرج إليهم عبد الرحمن بنَ خالد بن الوليد، وذا الكَلاع، وعُبيد الله بن عمر بن الخطاب، وبرز إليهم الأشتر، وحُجر بنُ عديّ، وقيس بن سعد، فتجاولوا ثم انصرفوا. وكان أمير المؤمنين يُخرج إليهم مَرّةً الأشتر، ومرة حُجر بن عَديّ، ومرة شَبَث بن رِبعي، ومرة زياد بن النَّضرِ الحارثي، ومرة قيس بن سعد، ومرّة مَعقِلَ بن قيس الرّياحي، وكان أكثر القوم إليهم خروجًا الأشتر. وكان معاوية يخرج إليهم مرة أبا الأعور السُّلَمي ومرة حَبيبَ بن مَسلمة الفِهري، ومرة ذا الكَلاع الحِميريّ، ومرة عُبيد الله بن عمر بن الخطاب، ومرة شُرَحْبيل بن السِّمط الكنديّ، فاقتتلوا ذي الحجة كلّه، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين، وربما أقاموا أيامًا لا يقتتلون. ثالث يوم من ذي الحجة (¬1) قال الواقدي: برز حُرَيث (¬2) مولى معاوية، وكان إذا لبس سلاحَه لا يشكُّ أحد أنه معاوية، وكان دائمًا يَطلب مبارزةَ أمير المؤمنين، وكان معاوية يَنهاه، فخلا عمرو بن العاص بحَوْشَب وقال له: لو كنتَ قُرشيًّا ما نهاك معاوية عن مُبارزته، ولكنه يَكره أن يَقتُل مولاه ابنَ عمِّه فابرُز إليه، فبرز وطلب المبارزة، فخرج إليه أمير المؤمنين، فقيل له: يا أمير المؤمنين، خَفِ الله وعز على حسبك، أتَبرزُ إلى هذا الكلب؟ فقال: هذا أعظم غناءً عندي من معاوية، ثم حمل عليه علي، وضربه على رأسه بالسيف فقتله، ولما رآه معاوية قتيلًا التفت إلى عمرو وقال: ما أنصفتَه حيثُ أمرتَه بمبارزته، قال: ولمَ؟ قال: لأنك أمرتَه بأمرٍ كرهتَه لنفسك، ثم اقتتلوا يومًا بعد يوم. اليوم الثامن عشر قال علماء السير: جمع معاوية في هذا اليوم أصحابَه وقال: ما فينا إلا من قَتل عليّ أخاه أو أباه أو ابنَه أو قريبَه، فتعالوا حتى نَجتمعَ اليوم عليه، فقال بعضهم: [من ¬

_ (¬1) كذا، ولعل المصنف ذكر أيام صفين، فاختصرت إلى ما ترى. (¬2) في (خ): حوشب، والمثبت من وقعة صفين 272، والفتوح لابن أعثم 3/ 39، وتاريخ دمشق 4/ 330 (مخطوط).

الوافر] أتأمُرنا بحيَّةِ بطنِ وادٍ ... إذا نَهشتْ فليس لها طَبيبُ فسَلْ عَمرًا وسَلْ عن خُصيَتَيه ... نجا ولقلبه منها وَجِيبُ ثم التفت القائل وقال لمعاوية: وإن لم تُصدِّقني فسَلْ عَمرًا، وقيل: البيتان للوليد بن عُقبة، وقيل لحَبيب بن مَسلمة (¬1). وقال ابن الكلبي: رأى أمير المؤمنين في بعض أيام صفّين عمرو بن العاص في جانب العسكر ولم يَعرفه، فحمل عليه، فطعنه فسقط، فبدتْ عورتُه فاستقبل بها أميرَ المؤمنين، فأعرض عنه، وعَرفه وقال له: ويلك يا ابنَ النّابغة، أنت طَليق دُبُرِك أيَّامَ عُمرك، وكان قد تكرَّر منه ذلك. وقال السّدي عن أشياخه: لما كان في آخر ذي الحجّة، وكَثُر القتلُ في الفريقين، قال علي للكُمَيل بن زياد: نادِ معاوية: دَعوناك إلى الطاعة ولُزوم الجماعة فأبيتَ، وقد كثر القتلُ في هذه الأمة، فابرز إليّ حتى نُخَلِّص الناسَ مما هم فيه، فناداهم الكُميل بذلك، فقال معاوية لأصحابه: ماذا تَرون؟ قالوا: لا تفعل فلست له بكُفُؤ في القتال، فقال له عمرو: قد أنصفَك، إنما هو بشر مثلك، فابرز إليه، فقال له معاوية: ما هذه العَداوة التي بيني وبينك؟ أتراني لو قُتلتُ أكنتَ تَنال الخلافة؟ ! فقال له عمرو: دعاك رجلٌ عظيمُ القدر، كبيرُ الشَّرف، فكنت في مبارزته في إحدى الحسنيَين: إن قتلتَه قتلتَ سيدًا، وإن قتلك جُزيتَ خيرًا، فقال معاوية: إن هذه لَشديدةٌ عليّ، فقال له عمرو: فإن كنتَ في شك من جهاده فتُبْ وراجِع. وقال الهيثم بن عدي: رأى أمير المؤمنين يومًا معاوية واقفًا على تلٍّ، فقصده، فقال لبُسر بن أرطاة: اشغَلْه عني، وهرب معاوية، فطعن أمير المؤمنين بُسرًا فألقاه، فاتَّقاه بعَورته، فأعرض عنه، فقال الأشتر: [من الرجز] في كل يومٍ رِجْلُ شيخٍ شاغِرَهْ وعَورةٌ تحت العَجاجِ ظاهره ¬

_ (¬1) انظر وقعة صفين 417، وأنساب الأشراف 4/ 135.

أسلم مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

ولما عاد معاوية إلى فُسطاطه جلس وأصحابُه حولَه، فنظر إلى عمرو بن العاص وضحك، فقال له عمرو: ما أضحكك؟ قال: يومُك مع ابن أبي طالب، فقال له عمرو: فاضحك على نفسك، ألستُ الذي أشرتُ عليك بمُبارزته فاحوَلَّتْ عيناك، وأزبَدَ شِدقاك، وبدا منك ما أكرهه أنا وغيري، ووالله لو بدا له منك مثل ما بدا من صَفحتي لأَيتمَ عيالك، وأوجع قَذالك، ولكنك احترزتَ منه بالرجال في أيديها السُّمر العَوالي. وقال هشام: نظر معاوية يومًا من أيام صفين إلى إحدى مَجنَبتَيْ العسكر وقد مالت، فلَحظها بطَرْفه فاستَوتْ، فقال له عمرو بن العاص أهذا شيءٌ دَبَّرتَه يوم قُتل عثمان؟ قال: بل يوم قُتلَ عمر بن الخطاب. وحجّ في هذه السنة بالناس عُبيد الله بن العباس بأمر أمير المؤمنين. وفيها توفي. أسلم مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكُنيته أبو رافع، وقد ذكرناه في الستة الحادية عشرة من الهجرة في موالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان مملوكًا للعباس بن عبد المطلب، فوهبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما بَشَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلام العباس أعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهاجر بعد بدر إلى المدينة، وشهد أحدًا والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوَّجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولاته سَلمى، وتُوفّي في هذه السنة بعد قتل عثمان، وولدت له سَلمى عبيدَ الله على ما قيل، وقد ذكرنا مَن اسمُه أسلم في السنة الحادية عشرة، وليس في موالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن اسمُه أبو رافع غيره. وقد أسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، واختلفوا فيها، فقال ابن البَرْقي: هي بضعة عشر حديثًا، وقال غيره: ثمانية وستون. وأخرج له في "الصحيحين" أربعة أحاديث، انفرد البخاري بحديث، ومسلم بثلاثة، وأخرج أحمد سبعة عشر حديثًا، منها حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اردُدْها إلى مَأمَنها" (¬1). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (27198) ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر =

حديفة بن اليمان

ومنها حديث الصدقة، قال أحمد: حدثنا يحيى بإسناده عن ابن أبي رافع، عن أبي رافع قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من بني مَخزوم على الصدقة، فقال: ألا تَصحَبُني تُصِب قليلًا؟ [قال: قلت: ] حتى أذكرَ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرتُ له فقال: "إنا آل محمد لا تَحِلُّ لنا الصدقة، وإن موَلى القوم من أنفُسهم". قال الترمذي: هذا حديث صحيح (¬1). وقد أخرجه ابن سعد بمعناه فقال: حدثنا الفضل بنُ دُكَين، حدثنا حمزة الزيّات، عن الحكم قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأرقم بن أبي الأرقم ساعيًا على الصدقة، فقال لأبي رافع: هل لك أن تُعينني وأعطيك -أو أجعل لك- سَهمَ العاملين؟ فقال: حتى أذكُرَ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره له، فقال له: "يا أبا رافع، إنا أهلُ بيتٍ لا تحلُّ لنا الصدقة، وإن مولى القوم منهم -أو من أنفسهم" (¬2) "وإن حليفَنا منّا، وابن أُختِنا منا" (¬3). وفيها تُوفّي. حُديفة بن اليَمان أبو حذيفة حُسَيل بن جابر بن ربيعة بن عمرو بن جِروة بن الحارث بن قَطيعة بن عبس بن بَغِيض بن ريث بن غَطَفان بن سعد بن قيس بن عَيلان بن مُضر، وجِروة هو اليَمان الذي في أجداد حُذيفة، وإنما قيل له اليَمان لأن جِروة أصاب دمًا في قومه، فهرب إلى ¬

_ = قال: أنا يا رسول الله؟ قال: نعم قال: أنا؟ قال: نعم قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله، قال: لا، ولكن إذا كان ذلك فاردُدْها إلى مأمنها، وإسناده ضعيف، وسلف ص 180. (¬1) مسند أحمد (27182)، وسنن الترمذي (657) وفيه: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 68. (¬3) هذا حديث آخر، أخرجه ابن سعد 4/ 68 عن محمد بن عبد الله الأسدي وقبيصة بن عقبة قالا: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة الزّرقي، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حَليفنا منا، ومولانا منا، وابن أختنا منا. وأخرجه أحمد (18992) عن وكيع، عن سفيان، به. وانظر ترجمة أبي رافع في المعارف 145، والاستيعاب (2925)، والمنتظم 5/ 104، والسير 2/ 16، وتهذيب الكمال وفروعه، والإصابة 4/ 67.

ذكر نبذة من أخباره وفضائله

المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسمّاه قومُه اليَمان؛ لأنه حالف اليَمانية؛ ولهذا ذكر ابن سعد حُذَيفة في الطبقة الثانية من الأنصار الذين شهدوا أحدًا وما بعدها من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال الحسن البصري: كان حُذيفة رجلًا من عَبْس، فخيَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون من المهاجرين أو من الأنصار، فاختار أن يكون من الأنصار، فأثبت فيهم لما ذكرنا. وأبوه حُسَيْل قُتل يوم أحد غلطًا، وتصدَّق حُذيفة بدمه على المسلمين. قال ابن سعد: وشهد حُسَيل وابناه حُذَيفة وصفوان أحدًا (¬2). وكان حذيفة يُكنى أبا عبد الله، وأمّه الرَّباب بنت كعب بن عدي بن [كعب بن] عبد الأشهل. قالوا: وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عمار بن ياسر. وحُذيفة هو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة الأحزاب إلى عسكر الكفّار، ووجد أبا سفيان يَصطلي بالنار، وقد ذكرنا القصة هناك. ذكر نبذة من أخباره وفضائله: قال ابن إسحاق: كان حذيفة صاحبَ سرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[لقربه منه] وثقتِه، وأخبره بأسماء المنافقين الذين نَخسوا بعيرَه ليلةَ العَقَبة عند رجوعه من تبوك، وكانوا اثنَي عشر، كلّهم من الأنصار، وحُلفائهم، ولم يكن فيهم قرشي. وكان عمر بن الخطاب إذا رأى حذيفة يقول له: هل أنا منهم؟ لثقته به، وعلوّ منزلته. وقال ابن سعد بإسناده عن صِلَةَ بنِ زُفَر، عن حذيفة قال: قمتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة في شهر رمضان، فقام يَغتسل وستَرتُه، ففَضلَتْ منه فَضْلَةٌ في الإناء، فقال: "إن شئتَ فأرِقْه، وإن شئتَ فصُبَّ عليه"، قلتُ: يا رسول الله، هذه الفَضْلَةُ أحبُّ إليّ مما أصُبّ عليه، فاغتسلتُ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَستُرني، فقلت: لا تَستُرني، فقال: "بلى، لأستُرنَّك كما ستَرتَني". ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 250. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 249.

ذكر ولاية حذيفة المدائن

وقال ابن سعد بإسناده عن إبراهيم، عن علقمة قال: قَدِمتُ الشام، فدخلتُ المسجد، فجلستُ إلى أبي الدَّرداء، فقال: مَن الرجل؟ قلتُ: من أهل الكوفة، قال: أليس فيكم صاحبُ السِّرِّ الذي كان لا يَعلَمه غيرُه، يعني حُذيفة. وقال ابن سعد بإسناده عن أبي البَختَري، عن حذيفة قال: إن أصحابي تَعلّموا الخير وإني تَعلّمتُ الشرّ، قال: وما حَملك على ذلك؟ قال: إنه مَن تعلم مكان الشرّ يَتَّقِه. وفي رواية ابن سعد أيضًا، عن حذيفة قال: كان الناس يَسألون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنتُ أسألُه عن الشرّ، فقلتُ له: يا رسول الله، إنا كنا في شرٍّ فجاءنا الله بالخير، فهل بعد الخير شرّ؟ قال: "نعم"، قلتُ: هل وراء الشر خيرٌ؟ قال: "نعم"، قلت: فكيف يكون؟ قال: "سيكون بعدي أئمّةٌ لا يَهدون بَهدْيي، ولا يَستنون بسُنَّتي، وسيقوم رجالٌ قلوبُهم قلوبُ شياطين في جُثمان إنسان". قال فقلت: فكيف أصنع إن أدركَني ذلك؟ قال: "اسمع للأمير الأعظم وأطع، وإن ضرب ظهرَك وأخذ مالك" (¬1) وقد أخرجاه في "الصحيحين" بمعناه (¬2). وروى ابن سعد عن الواقدي قال: لم يُخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسماء المنافقين الذين نَخسوه ليلةَ العَقبة إلا حذيفة (¬3). وقد ذكرناه. ذكر ولاية حذيفة المدائن: وقال ابن سعد بإسناده عن محمد بن سيرين، قال: كان عمر بن الخطاب إذا بعث عاملًا كتب في عهده أن: اسمعوا وأطيعوا ما عَدل عليكم، فلما استعمل حُذيفة على المدائن كتب في عهده أن: اسمعوا له وأطيعوا وأعطوه ما سألكم. قال: فخرج حُذيفة من عند عمر على حمار مُوكفٍ، وعلى الحمار زادُه، فلما قدم المدائن استقبَلَه أهلُ الأرض والدَّهاقين، وبيده رغيفٌ وعَرْق لحم، على حمارٍ على إكاف، فقرأ عهدَه عليهم، فقالوا: اسألْنا ما شئتَ، قال: أسألكم طعامًا آكله، وعَلفَ حماري هذا مرّتين ما دمتُ فيكم. ¬

_ (¬1) الأخبار الثلاثة في طبقات ابن سعد 4/ 251 - 252. (¬2) صحيح البخاري (3606)، وصحيح مسلم (1847). (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 253.

قال: فأقام فيهم ما شاء الله، ثم كتب إليه عمر أن اقْدُم، فلما بلغ عمر قدومُه كمَن له على الطريق في مكان لا يراه، فلما رآه على الحال التي خرج عليها من عنده أتاه فالتزمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك. وفي رواية ابن سعد عن عكرمة: أنه كان سادِلًا رجلَيه من جانب، قال: وهو ركوب الأنبياء (¬1). وقد روى أبو بكر الخطيب القصة، وقال فيها: إن أهل المدائن لَقَوه على بَغلٍ عليه إكاف، وهو مُعترض عليه رجلاه من جانبٍ واحد، فلم يَعرفوه فأجازوه، فلَقيهم الناس فقالوا: أين الأمير؟ قالوا: هو الذي لَقيتُم، قالوا: فركضوا في أثره، وفي يده رغيف وفي الأخرى عرق وهو يأكل، وذكره (¬2). وقال ابن سعد بإسناده عن حماد، عن مجاهد: أن حذيفة بن اليمان مَرَّ بدِهقان وهو مُتوجِّهٌ إلى المدائن، فأضافه، وجاءه بماء في إناء من فضّة، فأخذ حُذيفة الإناء فضرب به في وَجه الدِّهقان، وقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تشربوا في آنية الذَّهب والفضَّة، ولا تأكلوا فيها، ولا تَلبَسوا الحريرَ والديباج، فإنه للمشركين في الدنيا، وهو لكم في الآخرة" (¬3). ذكر نبذة من كلامه: قال أبو نعيم بإسناده عن عمارة بن عبد، عن حُذيفة قال: إياكم ومواقف الفِتن، قيل: وما مواقف الفِتن؟ قال: أبوابُ الأُمراء، يَدخل أحدكم إلى الأمير فيُصدّقه بالكذب، ويَقول ما ليس فيه. وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن أم سلمة قالت: قال حُذيفة: وَدِدتُ أني أُغلق عليَّ بابًا، فلا يَدخل عليَّ أحدٌ حتى ألحق بالله عزَّ وجلَّ (¬4). وهذه أمُّ سلمة ليست زَوجةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هي أمُّ موسى بن عبد الله. ¬

_ (¬1) الخبران في طبقات ابن سعد 4/ 253 - 254. (¬2) تاريخ بغداد 1/ 162، والمنتظم 5/ 105. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 254. (¬4) حلية الأولياء 1/ 277، 278.

وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين بإسناده إلى الأعمش قال: بكى حذيفة في صلاته، فلما فرغ التفتَ فإذا رجلٌ خلفه، فقال: لا تُعلِمَنَّ بهذا أحدًا (¬1). وقال ابن سعد بإسناده عن أبي عاصم الغَطَفاني قال: كان حُذيفةُ لا يزال يُحدّثُ الحديث يَستَفظِعونه، فقيل له: يوشك أن تُحدّثَنا أنه يكون فينا مَسْخٌ، قال: نعم، ليكوننّ فيكم مَسْخٌ قِرَدة وخنازير (¬2). وقال ابن أبي الدنيا عن أبي الطُّفَيل قال: قال حُذيفة: [من الخفيف]: ليس مَن مات فاستراح بميتٍ ... إنما الميتُ مَيّتُ الأحياءِ قيل له: يا أبا عبد الله، وما مَيّتُ الأحياء؟ قال: الذي لا يَعرف المعروف بقلبه، ولا يُنكر المنكَر بقلبه. وذكر أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" أن هذا البيت لحُذيفة (¬3). قلت: وقد كان مَعروف الكَرْخي يَتمثُّل به دائمًا. ذكر خاتَمه: قال ابن سعد بإسناده عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن أُمّه قالت: كان في خاتم حذيفة كُركِيّان بينهما الحمد لله. وفي رواية ابن سعد أيضًا عن موسى بن عبد الله بن يزيد عن أمه، وكانت ابنةَ حذيفة، قالت: رأيتُ على حذيفة خاتمًا من ذهب، نَقشُه كُركِيّان بينهما الحمد لله. وفي رواية ابن سعد أيضًا عن موسى بن عبد الله، عن أمه قالت: كان خاتم حُذيفة من ذهب، فيه فصُّ ياقوت، وذكرتْه (¬4). ذكر وفاته: قال ابن سعد بإسناده عن يزيد بن إبراهيم التستري، عن الحسن قال: لما حَضر حذيفةَ الموتُ قال في مرضه: حَبيبٌ جاء على فاقَةٍ، لا أفلح مَن نَدِم. ¬

_ (¬1) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا 1/ 171، والمنتظم 5/ 106. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 253. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 306 - 307 (مخطوط). والبيت لعدي بن الرَّعلاء الغساني، انظر الأصمعيات 152، والعقد 5/ 491، وأمالي ابن الشجري 1/ 232. (¬4) طبقات ابن سعد 4/ 255.

وفي رواية ابن سعد عن خالد بن ربيعة العَبْسي قال: لما بلَغنا ثقل حذيفة خرج إليه نفرٌ من بني عَبْس، ونفر من الأنصار، معنا أبو مسعود عُقبة بن عمرو، فأتيناه في الليل، فقال: أيّةُ ساعة هذه؟ قلنا ساعة كذا وكذا، قال: أعوذ بالله من صباح إلى النار، هل جئتُم معكم بأكفان؟ قلنا: نعم، قال: فلا تُغالوا بكَفني، فإن يكن لصاحبكم عند الله خيرًا يُبدل خيرًا منها، وإلا سُلب سَلْبًا سريعًا (¬1). وفي رواية أبي نعيم عن حذيفة أنه قال في مرضه الذي مات فيه: لولا أني أرى هذا اليوم آخرَ يوم من أيام الدنيا، وأولَ يوم من الآخرة لم أتكلَّم به، اللهمَّ إنك تعلم أني كنتُ أحبُّ الفقرَ على الغنى، وأحب الذل على العز، وأحبُّ الموتَ على الحياة، حبيبٌ جاء على فاقة، لا أفلح مَن نَدم، ثم مات (¬2). وفي رواية ابن سعد: أنه أُتي بكَفَنٍ بثلاث مئة درهم، فقال: ليس هذا لي بكَفَن، إنما يكفيني رَيْطتان بَيضاوان؛ فاني لا أُترك إلا قليلًا حتى أُبَدَّلَ خيرًا أو شرًّا منها. وقال ابن سعد: جاء حذيفةَ نعيُ عثمان بن عفان وهو بالمدائن، ومات بعد ذلك بأَشْهُر بالمدائن، سنة ستٍّ وثلاثين، وله بها عقب (¬3). وذكر الخطيب بإسناده إلى بلال بن يحيى قال: مات حذيفةُ بعد قتل عثمان بأربعين ليلة، وكان يقول: اللهمَّ اشهد أني لم أشهد ولم أرضَ بقتل عثمان (¬4). وقيل: إنه مات بالكوفة والأولُ أصحّ، وقبرُه بالمدائن ظاهر يُزار. وقال ابن سعد: وأخوه صفوان بن اليمان لأبيه وأمه، وشهد أحدًا أيضًا (¬5). وقال الواقدي: وَرد أمير المؤمنين المدائنَ بعد وفاة حُذيفة، ووَلّى بها سعد بن مسعود، وقد مات حذيفة، ولم يشهد حُذيفة الجملَ ولا غيره. وذكر المسعودي وقال: كان لحذيفة ابنان سعيد وصفوان، استشهدا مع أمير ¬

_ (¬1) الخبران في طبقات ابن سعد 4/ 256 - 257. (¬2) حلية الأولياء 1/ 282. (¬3) الخبران في الطبقات 4/ 258. (¬4) تاريخ بغداد 1/ 163، والمنتظم 5/ 107. (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 258.

المؤمنين يوم صفين في اليوم الثاني الذي قُتل فيه عمار، وكان حُذيفة قد قال لهما: اخرجا مع أمير المؤمنين أينما كان وحيثما كان، فإنه على الحق وغيره، أو ومَن خالفه، على الباطل. وكان لحذيفة أُختان لأبيه وأمه فاطمة وليلى، أخرج أحمد في "المسند" لفاطمة حديثًا واحدًا، وسنذكره. أسند حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، واختلفوا فيها؛ قال ابن البَرْقي: أسند سبعة وثلاثين حديثًا، وأخرج له أحمد نيفًا وسبعين حديثًا. وأخرج البخاري ومسلم بعضَ أحاديثه، والمتَّفق عليه منها اثني عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر (¬1). وروى عن حُذيفة: عمر وعثمان وعلي، وابنُه أبو عبيدة بن حذيفة، وطارق بن شهاب، ورِبْعيّ بن حِراش، وأبو إدريس الخولاني، وأبو وائل، وابنُ حُبَيش وغيرُهم. وفي الصحابة مَن اسمه حُذيفة أربعةُ نَفَر: أحدُهم صاحب هذه الترجمة، والثاني حُذيفة بن أَسيد بن الأَغْوز، بغين وزاي معجمتين، ويقال: الأغوس بالسّين والغين معجمة في الموضعين، وكُنيته أبو سَريحة الغِفاري، والثالث حُذيفة بن عُبيد المرادي، والرابع حُذيفة البارِقي، وفيه وفي البارقي نظر (¬2)، وليس فيهم من له رواية إلا حذيفة بن اليمان والغِفاري. ومن مَسانيده -يعني مسانيد حذيفة- قال أحمد بإسناده، عن خالد اليشكري. وقال البخاري بإسناده إلى بُسْر بن عُبيد الله الحَضْرمي، أنه سمع أبا إدريس الخولاني، أنه سمع حذيفة يقول: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنتُ أسألُه عن الشرِّ مَخافة أن يُدرِكَني، فقلتُ: يا رسول الله، إنا كنّا في جاهلية وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم، وفيه دَخَن"، قلت: وما دَخَنُه؟ قال: "قومٌ يَهدون بغير هَدْيي"، قلتُ: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، مَن أجابهم قَذفوه فيها"، قلتُ: يا رسول الله، صِفهم لنا؟ قال: "هم ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر 390. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر 180.

الزبير بن العوام

من جِلدتنا، ويتكلّمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامَهم" قلت: فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزِلْ تلك الفِرقَ كلّها، ولو أن تَعَضَّ بجِذْلِ شجرة، حتى يُدركك الموتُ وأنت على ذلك". أخرجاه في "الصحيحين"، وهو حديث طويل (¬1)، والدَّخَن: الدُّخان، ومعناه على غير صفاء، وجلدتنا؛ أي: منا، يُشير إلى العرب، والجِذْلُ: الأصْلُ. وأما الحديث الذي أخرجه أحمد لأخته فاطمة؛ فقال أحمد بإسناده عن أبي عبيدة بن حُذيفة، عن عمته فاطمة قالت: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَعُودُه في مرضه مع نساء، وإذا سِقاءٌ مُعلَّقٌ نحوه، يَقطر ماؤه عليه من شِدَّة ما يجد من حَرِّ الحمَّى، فقلنا: يا رسول الله، لو دعوتَ الله فشفاك، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يَلونهم" (¬2). وفيها تُوفي الزُّبَير بن العَوّام ابن خُوَيلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيّ بن كِلاب بن مُرّة بن كعب، ويلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النسب عند قُصي. وقال الشيخ الموفَّق رحمه الله في "الأنساب": قال الزُّبير بن بَكّار: كان لأسد بن عبد العُزَّى خمسةَ عشر ذكرًا، منهم: خُوَيلد بن أسد، وكان رئيسَ بني أسد في أحد حروب الفِجار، وقيل: في حرب الفجار. وخُوَيلد هو أبو خديجة زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر المطَّلبَ ونوفلًا والحارث وحَبيبًا، والكلّ بنو أسد (¬3). وأم العَوَّام من بني مازن بن منصور، ووَلد خُويلد نَوفلًا، ويقال له: أسد قريش، ¬

_ (¬1) مسند أحمد (23282)، وصحيح البخاري (3606)، وصحيح مسلم (1847). (¬2) مسند أحمد (27079). وانظر في ترجمة حذيفة: المعارف 263، والاستيعاب (390)، وصفة الصفوة 1/ 610، والاستبصار 233، وتهذيب الكمال وفروعه، والسير 2/ 361، والإصابة 1/ 317. (¬3) التبيين 255.

قتله علي - عليه السلام - يوم بدر كافرًا. وقال الزبير بن بَكَّار: ولا يُعرف عَشرة من أهل بيت واحد قُتلوا على نَسَقٍ واحد أو قريبًا منه سوى بيت الزبير: قُتل خُويلد وابنه العَوَّام في الجاهلية، وقُتل الزبير يوم الجمل، وقُتل ولده عبد الله بمكة، وقُتل ولد الزبير مُصعب بالعراق في حرب عبد الملك بن مروان ومعه ولدُه عيسى (¬1) بن مصعب، وقُتِل حمزة والمنذر ابنا الزبير مع أخيهما عبد الله بمكة، وقَتَل عبد الله بن الزبير أخاه عمرًا بمكة؛ لأنه كان قد مالأ عليه، وقُتِل خالد بن الزبير مع [محمد بن] عبد الله بن حسن بن حسن. قلت: وقد ذكر جدي رحمه الله في "التلقيح" (¬2) وقال: مسألة، هل تعرفون مَن قُتل هو وأبوه وجدُّه كذلك إلى ستة آباء؟ والجواب: أنه عُمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العَوّام بن خويلد، قُتل عُمارة وأبوه حمزة يوم قُدَيد، وقُتل مصعب في حرب عبد الملك بن مروان، وقُتل الزبير بوادي السِّباع، والعوَّام يوم الفِجار، وخويلد في الجاهلية. وأم الزبير بن العوام صَفيَّة بنت عبد المطلب بن هاشم، عمةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكُنية الزبير أبو عبد الله. وقال ابن سعد بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قاتل الزبير رجلًا بمكة، فضربه الزبير ضَربًا شديدًا وكسر يده، فمُرَّ بالرجل على صفية وهو يُحمَل فقالت: ما شَأنُه؟ فقالوا: كسر الزبير يدَه، فقالت: [من الرجز] كيف رأيتَ زَبْرا أأقطًا أم تَمْرا (¬3) أم مُشمَعِلًا صَقْرا ¬

_ (¬1) في (خ) عمار، وليس في أولاد مصعب من اسمه عمار، والذي قتل معه في حرب عبد الملك ولَدُه عيسى، انظر طبقات ابن سعد 7/ 181، وأنساب الأشراف 8/ 72، ونسب قريش 249، والمعارف 244. (¬2) ص 701، وذكره ابن قتيبة في المعارف 589، وابن حبيب في المحبر 189. (¬3) في (خ) وأصول ابن سعد: أأقطًا حسبته أم تمرا، والمثبت من المطبوع 3/ 94.

ذكر إسلامه: واختلفوا فيه، قال ابن سعد بإسناده عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل قال: كان إسلامُ الزبير بعد أبي بكر، كان رابعًا أو خامسًا. قال: وأخبرت عن حماد بن أسامة، عن هشام بن عروة قال: أسلم الزبير وهو ابن ست عشرة سنة (¬1). وذكر الموفق رحمه الله أنه أسلم هو وعلي وهما ابنا ثمان سنين. قال: وقال موسى بن طلحة: ولد الزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص في عام واحد. وقال هشام: أسلم وله اثنتا عشرة سنة (¬2). وقال ابن إسحاق: لما أسلم عَذّبه عمه نوفل وجعله في حَصير، وكان يُعذبه بالدُّخان ليَرجع عن دينه فقال: والله لا أرجع عن ديني أبدًا، فتركه. ذكر صفته: حكى ابن سعد، عن الواقدي قال: كان الزبير بن العوام رجلًا ليس بالقصير ولا بالطويل، إلى الخِفّة ما هو في اللحم، ولحيتُه خفيفة، أسمر اللون أشعَر. وحكى الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: ربما أخذتُ بالشعر على مَنْكبي الزبير وأنا غُلام، فأتَعلَّق به على ظهره (¬3). وقال هشام: كان أبيض طويلًا، وقيل: أسمر خفيفَ العارِضَين. وحكى أبو اليقظان، عن هشام بن عروة قال: كان جَدّي الزبير إذا ركب تَخُطّ الأرضَ رجلاه، وكان لا يُغَيِّر شيبَه، قال: وكنتُ وأنا غلام أجذب بشعر كَتفيَه حتى أقوم (¬4). ذكر جملة من مناقبه: قال ابن سعد: هاجر الزبير إلى الحبشة الهجرتَين، ولم يتخلَّف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاةٍ غزاها، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 95. (¬2) التبيين 255. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 100. (¬4) المعارف 220.

الأولين، وأحد العشرة المبَشَّرين، وابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحواريّه، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجمع له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبوَيه، ولم يجمعهما إلا له ولسعد بن أبي وقاص (¬1). وذكر الموفق رحمه الله، عن أبي إسحاق السبيعي قال: وقفتُ على مجلسٍ فيه أكثر من عشرين رجلًا من الصحابة، فقلت لهم: مَن كان أكرمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: علي والزبير. وقد ذكرنا أنه كان على الزبير يومَ بدرٍ مُلاءةٌ صفراء، فنزلت الملائكة على سيماه، وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وبايعه على الموت. وقال الموفق رحمه الله عن هشام بن عروة، قال: نَفخت نفخةٌ من الشيطان أُخذ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل الزبير يَشقُّ الناس بسيفه والنبي - صلى الله عليه وسلم - بأعلا مكة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لك يا زبير؟ " فقال: أُخبرت أنك أُخذت، قال: فصلّى عليه ودعا له ولسيفه (¬2). وقد رواه ابن المسيب فقال: أول مَن سلَّ سيفًا في ذات الله الزبير بن العوام، بينما هو بمكة إذ سمع نغمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قُتل، فخرج عُريانًا ما عليه شيء، في يده السيف صَلْتًا، فتلقّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَفةً بكفة، فقال: "ما لك يا زبير؟ " قال: سمدتُ أنك قد قتلت، قال: "فما كنتَ صانعًا" قال: أردت والله أن أستعرِضَ أهلَ مكة، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال مصعب بن الزيبر: قاتل أبي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمره اثنتا عشرة سنة (¬3). وقال أبو نعيم الأصفهاني بإسناده عن أبي الأسود قال: أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين، وهاجر وهو ابن ثماني عشرة سنة، وكان عمُّهُ يُعذِّبه (¬4)، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 95، 97، 99. (¬2) التبيين 256. (¬3) صفة الصفوة 1/ 346، وانظر الاستيعاب (854). (¬4) حلية الأولياء 1/ 89.

وقال ابن سعد بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكلِّ نبيٍّ حواري، وحواريّي الزبير" (¬1)، أخرجاه في "الصحيحين" (¬2)، والحواريُّ: الناصر. وحكى ابن سعد عن الواقدي بإسناده، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما هاجر الزبير من مكة إلى المدينة نزل على المنذر بن محمد بن عقبة بن أُحَيحة بن الجُلاح. واختلفوا في الذين آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الزبير وبينهم على أقوال؛ أحدها: بينه وبين ابن مسعود، والثاني: بين الزبير وطلحة، والثالث: بينه وبين كعب بن مالك، حكى هذه الأقوال ابن سعد عن الواقدي وغيره (¬3). وقيل: آخى بينه وبين [سلمة بن] سلامة بن وَقْش (¬4). وقد روينا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص له في لُبْسِ الحرير بعُذْرِ القمل، وأقطعه نخلًا من أموال بني النَّضِير. وقال هشام بن عروة، عن أبيه: أن أبا بكر - رضي الله عنه - أقطعه الجُرُف، وأقطعه عمر العَقيقَ أجمع. وقال الزبير بن بكار بإسناده عن الأوزاعي، قال: كان للزبير ألفُ مَملوك يُؤدُّون الضّريبة، لا يَدخل بيتَ ماله منها دِرهم، يَتصدَّق بها. وقال الزبير بن بكار أيضًا بإسناده عن جُويرية، قالت: باع الزبير دارًا بست مئة ألف، فقيل له: غُبِنتَ، فقال: كلا والله، لتَعلَمُنَّ أنني لم أُغبَن، هي في سبيل الله تعالى. وقال عبد الله بن أحمد باسناده، عن علي بن زيد، قال: أخبرني مَن رأى الزبير، وإن في صدره لأمثال العيون من الطَّعنِ والرَّمْي. وأخرج البخاري عن مروان بن الحكم، قال: أصاب عثمانَ رُعافٌ شديدٌ عام الرُّعاف، حتى حبسه عن الحجّ، وأوصى، فدخل عليه رجلٌ من قريش، فقال له: استخلِفْ، فقال: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 98. (¬2) من حديث جابر - رضي الله عنه -، البخاري (3719)، ومسلم (2415). (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 95. (¬4) الاستيعاب (854)، والتبيين 255.

ذكر مقتل الزبير بن العوام

نعم، ودخل عليه رجلٌ آخر فقال له كذلك، فقال: نعم، قال: ومن هو؟ فلما كان في الثالثة قال: الزبير؟ والذي نفسي بيده إنه لخيرُهم وأحبهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال ابن عباس: وفي الزبير نزل قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ} [النساء: 65] (¬2). وروى الزبير بن بكار، عن هشام بن عروة قال: أوصى إلى الزبير جماعة من الصحابة، منهم: عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، والمقداد، فكان يَحفظ عليهم أموالهم، ويُنفق على أبنائهم من ماله. قال: وأوصى إليه مُطيع بن الأسود، فامتنع من قَبول الوصيّة، فقال له مُطيع: فإني أَنشُدك اللهَ والرَّحم، فإني والله ما أتبع في ذلك إلا رأي عمر بن الخطاب، سمعتُه يقول: لو تركتُ تَرِكة، أو عهدتُ إلى أحدٍ، لعهدتُ إلى الزبير، إنه ركنٌ من أركان الدّين. قال: وأوصى إليه أبو العاص بنُ الربيع بابنته أُمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزوَّجها الزُّبير من علي - عليه السلام -. وقال عروة: شهد الزبير فتحَ مصر لما بعثه عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص، وهو أول من صعد السُّلَّم في فتح حِصنها، ولما قَرب من مصر وكان بها الطّاعون، قيل له: احذرِ الطّاعون، فقال: إنما خرجتُ للطَّعنِ والطاعون (¬3). ذكر مقتل الزبير بن العوام: قد ذكرنا أنه خرج من العسكر يوم الجمل يَقصد المدينة، فقتله عمرو بن جُرْموز بوادي السِّباع، باتّفاق من الأحنف بن قيس (¬4). وقال الهيثم بن عدي: سأل الزبير يوم الجمل فقال: أفيكم عمار بن ياسر؟ قالوا: نعم، فأغمد سيفَه وقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعمار: "تَقتلُك الفئةُ الباغية"، ورجع يطلب المدينة، فقتله ابن جرموز بوادي السباع. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3717). (¬2) أخرجه أحمد (1419)، والبخاري (2361)، ومسلم (2357) من حديث الزبير - رضي الله عنه - ضمن قصة. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 100، وتاريخ دمشق 6/ 378 (مخطوط)، والسير 1/ 55. (¬4) لم يجر ذكر مقتل الزبير - رضي الله عنه - في أحداث الجمل، وهذا من دلائل الاختصار.

وقال الموفق رحمه الله في "الأنساب": شهد الزبير الجمل، فذكَّره علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا زبير، أما إنك ستقاتلُه وأنت ظالم له" فذكر ذلك، فانصرف عن القتال، فاتّبعه ابنُ جُرموز فاغتَرَّه، وقتله بوادي السِّباع، وجاء بسيفه إلى علي، فقال: بَشِّر قاتلَ ابنِ صَفيَّةَ بالنار (¬1). وقيل: إن ابن عباس وَبَّخه يوم الجمل. وقال ابن سعد بإسناده عن أبي خالد -يعني الوالبيّ- قال: دعا الأحنفُ بن قيس بني تميم فلم يُجيبوه، ثم دعا بني سعد فلم يُجيبوه، فاعتزل في رهطٍ، فمر به الزبير على فَرس يُقال له: ذو النّعال، فقال الأحنف بن قيس: هذا الذي كان يُفسد بين الناس، قال: فأتْبَعَه رجلين ممن كان معه، فحمل عليه أحدهما فطعنه، وحمل عليه الآخر فقتله، وجاء برأسه إلى باب علي، فقال: ائذَنوا لقاتل الزبير، فسمعه علي فقال: بَشّر قاتلَ الزبير بالنار، فألقاه وذهب. وفي رواية: فحمل القوم عليه جميعًا فقتلوه، وأخذ ابنُ جُرموز رأسَه وسيفَه، وحملهما حتى أتى بهما إلى علي، فأخذ علي السيف وقال: سيفٌ طال والله ما جَلى به الكَرْبَ عن وَجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الحَيْنُ ومَصارعُ السُّوء، وجلس علي يبكي عليه هو وأصحابه وأولاده، ودُفن الزبير بوادي السِّباع (¬2). وقال أحمد: حدثنا معاوية بإسناده، عن زِرّ بن حُبَيش قال: استأذن ابنُ جُرموز على علي وأنا عنده، فقال عليّ: بَشِّر قاتلَ ابنِ صَفيَّةَ بالنار، ثم قال علي: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لكلّ نبيٍّ حَواريّ، وحواريَّ الزبير" (¬3). وقال أبو أحمد الحاكم: دُفن الزبير بسَفَوان. وقال ابن سعد: كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفَيل تحت الزبير، وكان أهلُ المدينة يقولون: مَن أراد الشهادة فليتزوَّج عاتكة بنت زيد، وكانت عند عبد الله بن أبي بكر فقُتل عنها (¬4). ¬

_ (¬1) التبيين 256. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 103 - 104. (¬3) مسند أحمد (681). (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 104.

ذكر سن الزبير

وقد ذكرناها (¬1) في ترجمة عبد الله بن أبي بكر، وما قال فيها من الشعر لما أمره أبوه بطلاقها، وكانت من المهاجرات، وسنذكرها بعد هذا. وقال ابن سعد: وقال جرير بن الخَطَفَى: [من الكامل] إن الرَّزِيَّةَ مَن تَضمَّنَ قَبرَه ... وادي السّباع لكلِّ جَنْبٍ مَصرَعُ لما أتى خَبَرُ الزبيرِ تواضعتْ ... سُوُرُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ وبكى الزبيرَ بناتُه في مَأتَمٍ ... ماذا يَرُدُّ بكاءَ مَن لا يَسمعُ (¬2) ذكر سن الزبير: واختلفوا فيه، حكى ابن سعد، عن الواقدي، عن عبيد الله بن عروة بن الزبير، عن أخيه عبد الله بن عروة، عن عروة بن الزبير قال: قُتل أبي يوم الجمل وقد زاد على الستّين بأربع سنين. وحكى ابن سعد، عن الواقدي قال: سمعتُ مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يقول: شهد الزبير بدرًا وهو ابن تسعٍ وعشرين سنة، وقُتل وهو ابن أربعٍ وستّين (¬3). وحكى جدي في "الصفوة" ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قتل وهو ابن بضع وخمسين سنة. والثاني: ابن ستين سنة. والثالث: ابن خمسٍ وسبعين سنة (¬4). وقال في "التّلقيح": ابنَ أربع وستين (¬5). وقال أبو اليقظان: ابن ثلاث وستين. ذكر أولاده: قال ابن سعد: كان للزبير من الولد أحد عشر ذكرًا وتسع نسوة، عبد الله وعروة ¬

_ (¬1) سنة (11) من الهجرة. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 105، والأبيات في النقائض 969، وديوانه 913 نقلًا عنها. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 105. (¬4) صفة الصفوة 1/ 347. (¬5) تلقيح فهوم أهل الأثر 115 وذكر الأقوال الثلاثة السابقة.

والمنذر، وعاصم والمهاجر دَرَجا، وخديجة الكبرى وأم الحسن وعائشة، وأمُّ الجميع أسماء بنت أبي بكر الصديق. وخالد وعمرو وحبيبة وسَودة وهند، وأُمّهم أم خالد، وهي أمَة بنت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية. ومصعب وحمزة ورَمْلة، وأمُّهم الرّباب بنت أُنَيف بن عُبيد، كلبيّة. وقال ابن سعد: وحمزة أخو مصعب بن الزبير لأبيه وأمه، فولد حمزةُ عمارة، مات ولم يُعقِب، فورثه عروة وجعفر ابنا الزبير. وعُبيدة وجعفر، وأمُّهما زينب، وتُكنى أم جعفر بنت مَرْثد بن عمرو، من بني ثعلبة، وزينب وأمُّها أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيط، وخديجة الصُّغرى وأمُّها الحلال (¬1) بنت قيس بن نَوفل، من بني أسد. قال ابن سعد: وأُخبرت عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قال الزبير بن العوّام: إن طلحة بن عُبيد الله يُسمّي بَنيه بأسماء الأنبياء، وقد علم أنه لا نبيَّ بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإني أُسمّي بَنيَّ بأسماء الشُّهداء لعلهم أن يُستشهدوا، فسمّى عبد الله بعبد الله بن جَحش، والمنذر بالمنذر بن عَمرو، وعروة بعروة بن مسعود، وحمزة بحمزة بن عبد المطلب، وجعفر بجعفر بن أبي طالب، ومصعب بمُصعب بن عُمير، وعُبيدة بعبيدة بن الحارث، وخالد بخالد بن سعيد، وعَمرًا بعمرو بن سعيد بن العاص قتل يوم اليرموك. هذا كلامُ ابن سعد (¬2). قلت: فأما عبد الله بن الزبير فسنذكره في سنة ثلاث وسبعين. وأما عروة ففي سنة ثلاث أو أربع وتسعين. وأما المنذر فقُتل مع أخيه عبد الله. وأما عاصم فمات وهو غلام، ولا عقب له. وأما المهاجر فلا ذكر له. وأما مُصعب فقتله عبد الملك بن مروان لما نذكر. ¬

_ (¬1) في (خ): أم كلثوم الحلال، ولم أجد من ذكر لها هذه الكنية. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 93 - 94 و 7/ 183.

وأما عمرو بن الزبير فقتله أخوه عبد الله، وسنذكره في سنة ستين. وأما جعفر بن الزبير فمات في خلافة سليمان بن عبد الملك. وأما خديجة الكبرى، فقال الزبير بن بكار: تزوجها عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة، ثم خلَف عليها جُبير بن مُطعم بن عَدي بن نوفل بن عبد مناف، ثم خلف عليها [عبد الله بن] السائب بن أبي حُبَيش بن المطلب الأسدي. وأما أم حسن فتزوّجها [عبد الرحمن بن] الحارث بن هشام بن المغيرة، فوَلدت له: عبد الله وأبا سلمة والحارث وعيّاشًا، وعائشة وأم الزبير وأم سعيد وعاتكة وأم كلثوم وأسماء، وكلهم بنو عبد الرحمن من أم حسن. قال: وعائشة بنت الزبير تزوّجها الوليد بن عثمان بن عفان، فولدت له عبد الله بن الوليد، وأم عائشة بنت الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق. وأما رَمْلة بنت الزبير فأخت مصعب لأبيه وأمه، خطبها عبد الملك بعد قتل أخيها مصعب، فقالت: أنا أتزوّج أبا الذبّان بعد قتله مصعبًا؟ ! وقيل: إن عبد الملك شاور أخاها عروة بن الزبير فقال: بالأمس قتلت أخاها واليوم تتزوجها لا آمنها عليك، فامتنع من تزويجها، فتزوجها خالد بن يزيد بن معاوية. وأما حَبيبة بنت الزبير فتزوجها يعلى بن أمية التميمي، ثم خلف عليها عبد الله بن عباس بن علقمة العامري، فولدت له عباس بن عبد الله. وأما سَوْدة بنت الزبير فتزوجها عمرو بن سعيد بن العاص. وأما هند بنت الزبير فتزوجها عبد الملك بن عبد الله بن عامر بن كُريز، وأمها أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس. ذكر هذا الزبير بن بكار وأهل النسب (¬1). ذكر إخوة الزبير: قال علماء السير: وهم خمسة: السائب وعبد الرحمن وأسود وأَصْرم وَيعْلى بنو العوام، ولم يعقب منهم أحد سوى الزبير، ولم يشتهر منهم سوى السائب بن العوام ¬

_ (¬1) انظر نسب قريش 306 - 307، والمحبر 67، وطبقات ابن سعد 7/ 6 - 7، وأنساب الأشراف 8/ 63، والرياض النضرة 2/ 298 - 299 (الكتب العلمية).

شهد أحدًا والخندق وما بعدها، وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقُتل يوم اليمامة شهيدًا، وقد ذكرناه (¬1). وقد قال الموفق رحمه الله: وعبد الرحمن بن العوام أخو الزبير، أسلم وحَسُنَ إسلامه، وقُتل يوم اليرموك شهيدًا، وابنُه عبد الله بن عبد الرحمن قُتل يوم الدار مع عثمان، وابنه الآخر عبيد الله قتل بصفّين. قال الموفق: وكان للزبير أختٌ يقال لها زينب بنت العوام، تزوجها حكيم بن حزام فولدت له، ولها شعر ترثي فيه عثمان بن عفان وأخاها الزبير. قال: وكان للزبير أخت أخرى يقال لها أم حبيب بنت العوام ولدت لخالد بن حزام (¬2). وقال هشام: وكان للزبير أختُ يُقال لها: أم السائب بنت العَوّام (¬3). ذكر موالي الزبير: قد حكينا أنه كان له ألفُ مملوك، ومن أعيانهم: البَهيّ، واسمه عبد الله بن يَسار، وكُنيتُه أبو محمد، روى الحديث عن عائشة، ونزل الكوفة فروى عنه أهلها. ومنهم حُميد القارئ، ويعرف بالأعرج، قارئ أهل مكة، وكان مُحدّثًا حاسبًا فارضًا، قرأ القرآن على مجاهد (¬4). ذكر وصايا الزبير وتركته وقضاء ديونه: قال البخاري بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: دعاني أبي يوم الجمل وهو واقف في الصف، فقال لي: يا بُني، إنه لا يُقتل اليوم إلا ظالم أو مَظلوم، ولا أُراني إلا سأُقتل اليوم مَظلومًا، وإن من أكبر همِّي لَدَيني، أفترى دَيني يُبقي من مالي شيئًا، وأوصى بالثلّث، وثُلُثه لبنيه، يعني لبني عبد الله، قال: فإن عَجزت عن شيءٍ منه فاستعن عليه بمولاي. قال عبد الله: فوالله ما دَريتُ ما أراد حتى قلتُ له: يا أبتِ، مَن مَولاك؟ قال: الله ¬

_ (¬1) لم يجر ذكره قبلًا، ولعل المختصر أسقطه. (¬2) التبيين 270. (¬3) المعارف 220، وانظر نسب قريش 235 - 236، وأنساب الأشراف 8/ 57. (¬4) المعارف 226 - 227.

تعالى، قال: فوالله ما وَقعتُ في كُربَةٍ من دَينه إلا قلت: يا مَولى الزبير اقضِ عنه دَينه فيَقضيه. قال: فقُتل يوم الجمل ولم يَدَعْ دينارًا ولا دِرهمًا إلا أرَضِين؛ منها: الغابة، وأحد عشر دارًا بالمدينة، ودارَين بالبصرة، ودارًا بمصر، ودارًا بالكوفة. قال: وإنما كان دَينه الذي عليه؛ كان الرجل يَأتيه بمالٍ فيَستودِعُه إياه، فيقول الزبير: لا ولكن هو سَلَف، إني أخشى عليه الضَّيعَة، وما وَلي إمارةً قط، ولا جبايةً ولا خراجًا ولا شيئًا؛ إلا أن يكون في غَزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مع أبي بكر وعمر وعثمان. قال عبد الله: فحسبت ما عليه من الدَّين فوجدتُه ألفي ألف درهم ومئتي ألف درهم، فلَقيني حكيم بن حزام فقال: يا ابنَ أخي، كم على أخي من الدَّين؟ فكتمتُه وقلت: مئة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تَتّسع لهذه، فقال له عبد الله: أرأيتَ إن كانت ألفي ألف ومئتي ألف؟ فقال: ما أُراكم تُطيقون هذا، فإن عَجزتُم عن شيءٍ فاستعينوا بي. قال: وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومئة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وست مئة ألف، ثم قام فقال: مَن كان له على الزبير شيءٌ فلْيُوافِنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له على الزبير أربع مئة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتُها لكم، وإن شئتم جعلتُها فيما تُؤخرون إن أخّرتُم، فقال عبد الله: لا، قال: فاقطعوا لي قِطعةً، [فقال عبد الله: لك] من ها هنا إلى ها هنا، فباع عبد الله فقضى دَينه منها وأوفاه، وبقي منها أربعةُ أسهم ونصف. فقدم عبد الله على معاوية وعنده عمرو بن عثمان، والمنذر بن الزبير، وابن زَمعة، فقال له معاوية: بكم قُوِّمت الغابة؟ فقال: كلُّ سهمٍ بمئة ألف، قال: فكم بقي منها؟ قال: أربعة أسهم ونصف (¬1)، فقال المنذر: قد أخذتُ منها سهمًا بمئة ألف، وقال عمرو بن عثمان: وأنا كذلك، وقال ابن زَمْعة: وأنا كذلك، وقال معاوية: وأنا قد أخذتُ سهمًا ونصفًا بمئة ألف وخمسين ألفًا. ¬

_ (¬1) في (خ): وربع، في الموضعين، والمثبت من البخاري (3129).

وباع عبد الله بن جعفر نَصيبه من معاوية بست مئة ألف، فلما فرغ ابنُ الزبير من قضاء ديونه قال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثَنا، فقال: لا والله، لا أقسِمُه بينكم حتى أُنادي بالموسم أربعَ سنين: ألا مَن كان له على الزبير دَينٌ فلْيأتِنا فلنقضِه، فجعل كلّ سنة ينادي بالموسم، فلما مضت أربع سنين قسم بينهم ورفع الثّلث. وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كلّ امرأةٍ ألفَ ألف ومئتي ألف، فجميع مال الزبير خمسون ألف ألف ومئتا ألف. انفرد بإخراجه البخاري. وكذا ذكر ابن سعد في "الطبقات" (¬1). قال الزهري: وهذا مال عظيم، والغابة أرضٌ بالمدينة، فيها رياض وشجرات. وقال هشام: لما قتل الزبير أرسل ابنُه عبد الله إلى عاتكة بنت زيد: إنك امرأة من بني عَديّ، ونحن من بني أسد، فإن دخلتِ علينا أفسدتِ أموالنا وأضررتِ بنا، فصالحها على ثمانين ألفًا. وقال ابن سعد بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن الزبير بن العوّام جعل دارًا له حَبيسًا على كلِّ مَردودةٍ من بناته. وفي رواية ابن سعد عن عروة بن الزبير قال: كان قيمةُ ما ترك الزبير أحدًا وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف. وفي رواية ابن سعد عن عروة قال: كان للزبير بمصر خطط، وبالإسكندرية خطط، وبالكوفة خطط، وبالبصرة دور، وكانت له غَلاتٌ تَقدم عليه من أعراض المدينة (¬2). وروى هشام بن محمد، عن أبيه قال: ترك الزبير من العين خمسين ألف ألف درهم، ومن العروض مثلها، قال: وقيل لعبد الله بن الزبير: قد كان أبوك على ما كان عليه من الفضل، ويُخلّف دينًا عليه ألفي ألف؟ فقال: لم يكن دَينًا عليه، ولكنها مَواعيد كان يكتب بها للناس (¬3). ¬

_ (¬1) 3/ 101 - 102. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 100، 102. (¬3) تاريخ دمشق 6/ 393 (مخطوط).

ذكر مسانيد الزبير: ليس في الصحابة مَن اسمه الزبير بن العوام غيره، فأما غير ابنِ العوَّام فاثنان؛ أحدهما: الزبير بن أبي هالة, وله صحبة ورواية، والثاني: الزبير بن عبيدة، ليس له رواية (¬1). واختلفوا في مَسانيد الزبير بن العوام؛ فقال أبو نعيم الأصبهاني: أسند نيّفًا وثلاثين حديثًا بمراسيلها، وقال ابن البرقي: الذي حُفظ لنا عنه نحوٌ من عشرين بمراسيلها. وأخرج له أحمد عشرين حديثًا، منها في "الصحيحين" تسعة أحاديث، المتَّفق عليه منها اثنان، وباقيها للبخاري (¬2). وروى عن الزبير أبناؤه: عبد الله وعُروة وجعفر، ومالك بن أوس بن الحَدَثان، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن عامر بن كُريز، ومسلم بن جُندب الهُذَلي في آخرين، وكان الزبير قليلَ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يُحدّث إلا في الأحيان. قال أحمد بن حنبل بإسناده عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبد الله قال: قلتُ لأبي: مالك لا تُحدّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يُحدّث ابن مسعود وفلان؟ فقال: أما إني لم أُفارقه منذ أسلمتُ، ولكنني سمعتُه يقول: "من كذب عليَّ، أو قال عليَّ ما لم أقل فليتبَوأ مقعدَه من النار" (¬3). ولم يذكر في هذا الحديث: "من كذب مُتَعمّدًا"، وكان الزبير يُنكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: متعمدًا. وقال وَهْب بن جرير في حديثه عن الزبير: والله ما قال رسول الله متعمّدًا، وأنتم تقولون متعمدًا (¬4). قلت: ولفظة: متعمدًا؛ رواها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة وعشرون من الصحابة، وقيل: نيّفٌ وستون (¬5)، منهم العشرة المبَشَّرون، وأحاديثهم في "الصحيحين"، فيحتمل أن ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر 193. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر 366، 392. (¬3) مسند أحمد (1428). (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 99. (¬5) انظر الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص 4، ولفظ اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة 261.

زيد بن صوحان

الزبير لم يَسمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخاف أن يُحدِّث ما لم يسمعه شِفاهًا، وإن كان قد سمعه من الصحابة، وهذا دليلٌ على كمال وَرَعه. وقال أبو سليمان الخطّابي: في الحديث من الفقه أنه لا يجوز للرجل أن يُحدّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشك وغالب الظن. ومن مسانيد الزبير: قال أحمد بإسناده عن غَيلان بن جَرير، عن مُطرِّف قال: قلنا للزبير: يا أبا عبد الله، ما جاء بكم، ضيَّعتُم الخليفةَ حتى قُتل، ثم جئتم تَطلبون بدمه؟ ! فقال الزبير: إنا قرأنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] لم نكن نَحسِبُ أنا أهلُها حتى وقعتْ منّا حيث وقعتْ (¬1). انتهت ترجمة الزبير بن العوام. وفيها توفي زيد بن صُوحان ابن صَبِرة بن حِدرجان العَبدي (¬2)، من عبد القيس، وكُنيته أبو سَلمان، وقيل: أبو عائشة، وقيل: أبو مسلم وقيل: أبو عبد الله. له وِفادةٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان من جُملة الذين سيَّرهم عثمان من الكوفة إلى الشام، ورَدَّه معاوية إلى الكوفة من دمشق وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، ممن روى عن عمر وعلي (¬3)، وكان من خواص علي، وهو أخو صَعصَعة بن صُوحان لأبيه وأمه. وكان زيد من الصُّوَّام القُوَّام، وقد ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن سعد بإسناده عن عُبيد بن لاحِق قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفر، فنزل رجلٌ من القوم فساق بهم ورَجَز، ثم نزل آخر، ثم بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُواسي أصحابَه، فنزل وجعل يقول: ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1414). (¬2) نسبه في مصادر ترجمته: زيد بن صوحان بن حُجر بن الحارث بن الهِجْرِس بن صبرة ... (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 243.

جُنْدَب وما جندب ... والأقطعُ الخير زيد فقيل له في ذلك فقال: "رجلان يكونان في هذه الأمة، يَضرب أحدُهما ضَربةً يُفَرّق بها بين الحق والباطل، والآخر تقطع يدُه في سبيل الله، ثم يُتْبعُ الله آخرَ جسده أوَّلَه". قال الأَجْلح: فأما جُندب فهو الذي قَتل الساحرَ عند الوليد بن عُقبة، وأما زيد فقُطعت يدُه يوم جَلولاء، وقيل: يوم نَهاوَند، وقُتِل يوم الجمل (¬1). وكان عمر بن الخطابا يُعَظِّم زيد بنَ صُوحان، فقال ابن سعد بإسناده عن حماد بن سلمة، عن أبي التَّيَّاح، [عن عبد الله بن أبي الهُذيل]: أن وَفْدَ الكوفة قدموا على عمر بن الخطاب، فأثنى عليهم، وقام فجعل يُرَحِّل لزيد بن صُوحان ويقول: يا أهلَ الكوفة، هكذا فاصنعوا بزيد وإلا عَذَّبتُكم. وفي رواية عن حماد بن سلمة قال: لما ركب زيد أخذ عمر بن الخطاب برِكابه وقال: هكذا فاصنعوا بزيد وبإخوته. وروى ابن سعد بإسناده عن سلمان الفارسي أنه كان يقول لزيد بن صُوحان يوم الجمعة: قم فذكِّر قومَك (¬2). وقال ابن عبد البر (¬3): كان زيد فاضلًا، سيّدًا في قومه، وكان مؤاخيًا لسلمان الفارسي، ومن حُبّه له كَنّى نفسه أبا سلمان. وقال الواقدي: وقد رُوي في حديث علي - عليه السلام -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن سَرَّه أن يَنظر إلى رجلٍ يَسبقه بعضُ أعضائه إلى الجنة بعشرين سنة فلينظر إلى زيد بن صُوحان" (¬4). قال: وقُطعت يدُ زيد بنهاوند في سبيل الله، وعاش بعد ذلك عشرين سنة، ثم قُتل يوم الجمل. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 243 - 244، والأجلح هو الراوي عن عبيد بن لاحق. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 244 - 245. (¬3) في الاستيعاب (817). (¬4) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 8/ 440.

قال: والأحاديث الواردة في هذا الباب من معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه أخبر بما يكون قبل وجوده. وقال ابن سعد بإسناده عن حميد بن هلال قال: قام زيد بن صُوحان إلى عثمان بن عفان وقال له: مِلتَ فمالت أُمَّتُك، فاعتدِلْ تعتدل الأمة -قالها ثلاثًا- فقال له عثمان: أسامعٌ مُطيعٌ أنت؟ قال: نعم، قال: فالحق بالشام، قال: فخرج من فَوره ذلك، فطلَّق امرأتَه، ثم لحق بحيث أمَره، وكانوا يَرون الطاعةَ عليهم حقًّا (¬1). وروى أبو بكر الخطيب بإسناده، عن حميد بن هلال قال: كان زيد يصوم النهار ويَقوم الليل، وإذا كانت ليلة الجمعة أحياها، وبلغ سلمان فأتى منزلَه، فسأل عنه، فقالت امرأتُه: ليس ها هنا، فقال لها: اصنَعي طعامًا، فصنعت وأمرها فلَبستْ أفخرَ ثيابها، وبعث إلى زيد فجاء، فقال: قَدِّمي الطعام، فقال زيد: أنا صائم، فقال: كُلْ، فقال: إن لنَفْسك عليك حقًّا ... وذكر الحديث، وقال: فإن شرَّ السَّيرِ الحَقْحَقَة، فأكل زيد، ونال من امرأته، وترك ما كان يصنع (¬2). الحقحقة: أرفع السَّير وأتعبُه، وقد ذكره الجوهري، وقيل: هو السيرُ أول الليل، وقد نُهي عنه (¬3). ذكر مقتله: قال أبو نعيم بإسناده عن يزيد بن هارون قال: قال زيد بن صُوحان لأصحابه ليلة الجمل: رأيتُ في منامي يدًا أُخرجت من السماء؛ تُشير إليّ أن تَعال، وأنا غدًا مَقتول لا مَحالة، فادفنوني في ثيابي، فقُتل صبيحة ذلك اليوم. وروى ابن سعد عن أبي معشر قال: قيل لزيد بن صُوحان يوم الجمل وهو جَريح: أبشر يا أبا عائشة، فقال: أتيناهم في ديارهم، وقتلْنا أميرَهم، وعثمان على الطريق، ثم قالوا: لا تَغسلوا عني دمًا، ولا تَنزِعوا عني ثوبًا إلا الخُفّين فإني رجلٌ مُخاصَم أُحاجُّ غدًا. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 245. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 437، والمنتظم 5/ 110 - 111. (¬3) الصحاح: (حقق).

وفي رواية ابن سعد: وادفِنوا معي مُصحفي، وابنَ أبي سَيحان بن صُوحان، يعني أخاه، وكان قُتل في ذلك اليوم، فدُفِنا في قبرٍ واحد (¬1). وقالت الواقدي: قُتل زيد يوم الجمل، قتله عمرو بنُ يَثرِبي، وقُتل معه أخوه سَيحان بن صُوحان، وبلغ عائشة فتأسّفت عليه وقالت: رحمه الله. قال: وكانوا ثلاثة إخوة: زيد وصعصعة وسَيحان بنو صُوحان. وقال ابن قتيبة: وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "زيد الخير الأجذم، وجندب ما جندب" (¬2)، وذكر بمعنى ما تقدّم. واختلفوا في مسانيد زيد، فقال ابن عبد البر: لا أعلم له رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أدركه، وكان سيدًا في قومه (¬3). وذكره جدي رحمه الله في "التلقيح" (¬4) في الصحابة وقال: زيد بن صُوحان أبو عائشة، وقيل: أبو سلمان العبدي، ولم يذكره فيمن له رواية. وقال ابن سعد: كان زيد ثقةً قليل الحديث (¬5). وقد روى زيد عن عمر وعلي وسلمان، وروى عنه أبو وائل وسالم بن أبي الجعد والعَيزار بن حُريث في آخرين، وله مع عبد الله بن عامر بن كُريز والي البصرة حكاية. قال أبو نُعيم بإسناده عن الحسن -وقد رواها ابنُ المبارك- قال: عَمد زيد بن صوحان إلى رجالٍ من أهل البصرة، قد تفرَّغوا للعبادة، وليست لهم تجارات ولا غَلّات، فبنى لهم دارًا وأسكنهم فيها، وجعل عليهم ما يَقوم بمصالحهم من مَطعَم ومَشرَب ومَلبَس وغيره، فجاء في بعض الأيام يزورُهم فلم يَجدهم، فسأل عنهم، فقيل له: دعاهم عبد الله بن عامر- عاملُ البصرة في أيام عثمان. فخرج مُسرعًا حتى دخل على ابن عامر وهم عنده، فقال: يا ابن عامر، ما تُريد من ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 245 - 246. (¬2) المعارف 402. (¬3) الاستيعاب (817). (¬4) ص 194. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 246.

شرحبيل بن السمط

هؤلاء القوم؟ فقال: أريد أن أُقرِّبَهم، فيَشفعوا فأُشَفِّعَهم، ويَسألوا فأُعطيَهم، ويُشيروا عليَّ فأقبلَ منهم، فقال: لا ولا كَرامة، تأتي إلى قومٍ قد انقطعوا إلى الله تُدَنِّسهم بدُنياك، وتُشركهم في أمرك، حتى إذا ذهبت أديانُهم أعرضتَ عنهم؛ فطاحوا لا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة، قوموا فارجعوا إلى مواضعكم، فقاموا وأُسكتَ ابنُ عامر فما نطق بلفظة. وفي رواية ابن المبارك: فلما دخل زيد على ابن عامر، وقال له ما قال؛ قال زيد: كلا والله، لا أَدعك تُهيل عليهم من دُنياك وتُشركهم في أمرك، وتُذيقُهم حلاوةَ ما أنت فيه، حتى [إذا] انقطعت شِرَّتُك منهم تركتَهم، فطاحوا بينك وبين ربهم (¬1). وفيها تُوفي شُرَحبيل بن السِّمط ابن شُرَحْبيل بن الأسود الكِندي، وكُنيته أبو السّمط، وقيل: أبو يزيد. وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة فيمن وَفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونَسبه فقال: شُرحبيل بن السِّمط بن شرحبيل بن الأسود (¬2) بن جَبَلة بن عَديّ بن ربيعة بن معاوية الأكرمين، جاهلي إسلامي، وَفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد القادسية، وافتتح حمص، وقسمها منازل في أيام عثمان بن عفان. وقال البخاري: بعثه عمر بن الخطاب على جيش، وقدم مصر لغزو المغرب، وله صُحبة (¬3). وقال هشام: قاتلَ أهلَ الرّدَّة، وكان على ميمنة سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، وقال غيره: على مَيسرته. وقال أبو القاسم بن عساكر: قال عبد الله بن المبارك: استعمل عمر بن الخطاب ¬

_ (¬1) أخرج ابن عساكر 6/ 636 (مخطوط) رواية ابن المبارك. وانظر في ترجمة زيد إضافة للمصادر السابقة: السير 3/ 525، والإصابة 1/ 582. (¬2) في طبقات ابن سعد 6/ 238: شرحبيل بن السمط بن الأسود. (¬3) التاريخ الكبير 4/ 248 - 249 دون قوله: وقدم مصر لغزو المغرب.

شُرَحبيل على المدائن، وكان أبوه السِّمط بالشام، فكتب أبوه إلى عمر: إنك تأمُرنا أن لا نُفَرِّق بين السبايا وأولادِهن، وقد فرَّقتَ بيني وبين وَلدي، فكتب عمر إلى شرحبيل أن الحق بأبيك، فألحقه به. قال: وقال خليفة: أقام شُرَحبيل واليًا على حمص عشرين سنة. قال: وقال وكيع: نزل شُرحبيل الشام، فغزا أرضَ الرّوم، فقال للجيش: قد نزلتم بأرضٍ فيها نساء وشَراب، فمَن أصاب منكم حدًّا فليأتِنا نُطَهِّرْه، فبلغ عمر، فكتب إليه: لا أُمَّ لك، تأمُرُ قومًا ستر الله عليهم أن يَهتكوا سِترَه عليهم، لا تتأمَّر بعدها على اثنين (¬1). وقال البلاذري: أكرم سعد بن أبي وقاص شُرحبيل، وفَضَّله على الأشعث بن قيس الكِندي، فغضبت لذلك كندة (¬2). وقال هشام: كان شُرَحبيل سيدًا شريفًا، استقدمه معاوية إلى دمشق ليستشيره في قتال أمير المؤمنين. ذكر وفاته: قال أبو نعيم: مات في سنة ثلاث وثلاثين. وقال البخاري: مات بسَلَمية في سنة ست وثلاثين، وصلى عليه حبيب بن مَسلَمة (¬3). وقال ابن عبد البر: مات بحمص (¬4). وقد أنكر قومٌ أن يكون له صحبة، وليس بصحيح، ذكره جدي في "التلقيح" في الصحابة وقال: قال البخاري: له صحبة (¬5). وقد ذكرنا مَن اسمُه شُرحبيل في ترجمة شُرَحبيل بن حَسَنة في سنة [ثمان عشرة] (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 25 (مخطوط). (¬2) أنساب الأشراف 8/ 109 - 110. (¬3) التاريخ الكبير 4/ 248 وفيه: مات بحمص ... (¬4) الاستيعاب (1155). (¬5) تلقيح فهوم أهل الأثر 207. (¬6) أسقط المختصر مَن اسمه شرحبيل في ترجمة شرحبيل بن حسنة سنة (18 هـ).

صعصعة بن صوحان

روى شُرحبيل عن عمر، وعلي، وسلمان، وعُبادة بن الصامت، وعمرو بن عَبَسة وغيرهم. وروى عنه خالد بن مَعدان، وجُبير بن نُفَير، وسالم بن أبي الجَعْد وغيرهم، وليس له رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفيها تُوفي صَعصَعة بن صُوحان وهو أخو زيد بن صُوحان، وكُنيتُه أبو عمرو، وقيل: أبو طلحة، وقيل: أبو عكرمة. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، وكان من أصحاب أمير المؤمنين، وكان خطيبًا، شهد الجمل وصفّين مع أمير المؤمنين، وكان أميرًا على عبد القيس، واختطَّ بالكوفة (¬2)، ونفاه عثمان من الكوفة إلى الشام مع المسيَّرِين لما أنكروا عليه. وذكره ابن عبد البر، وأثنى عليه وقال: كان مسلمًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يَره، وكان من سادات عبد القيس، فصيحًا عاقلًا لَسِنًا خطيبًا ديّنًا فاضلًا بليغًا، لم يكن في زمانه أخطبُ منه. قال له عمر بن الخطاب: أنت منّي وأنا منك، وسببه أن عمر أُتي بمال مَبلغُه ألف ألف درهم، فقسمه، فبقيت منه بقيّة، فقال عمر: ما تقولون فيها؟ فقال صعصعة: يا أمير المؤمنين إنما تُشاور فيما لم يَنزل فيه قرآن، أما إذا نزل فضعْه في مَواضعه التي وَضعه الله فيها، فأُعجب به عمر وقال: صدقتَ أنت منّي وأنا منك (¬3). وقال أبو القاسم بن عساكر: أنكر على عثمان وهو على المنبر، وذكر بمعنى ما ذكرناه عن أخيه زيد، وأنه خرج إلى الشام، فلما قدم دمشق أنزله معاوية دارًا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تهذيب الكمال (2716) والمصادر فيه، والإصابة 2/ 143. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 340 - 341. (¬3) الاستيعاب (1223). (¬4) تاريخ دمشق 8/ 306 (مخطوط).

وقال هشام: مرض فعاده عمر، وقال له: والله إنك فيما علمتُ لخفيف المؤونة، حسن المعونة. وحكى ابن عساكر عن زُرارة بن أبي أوْفى: أن معاوية خطب فقال: نحن أحقُّ بهذا الأمر، نحن شجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيضته التي انفلقت عنه، فناداه صَعصعة: وأين بنو هاشم؟ فقال: نحن أَسوَسُ للمُلْك منهم، وهم خيرٌ منا. ثم قال معاوية: أنا لكم جُنَّة، فقال صعصعة: فإن احترقت فكيف تَصنع؟ فقال معاوية: هذا ترابي، من التُّراب خُلقتُ وإلى التراب أصير. ثم قال معاوية: لو وَلد أبو سفيان الناسَ كلّهم لكانوا أكياسًا، فقال صَعصعة: فقد وَلد الناسَ كلَّهم من هو خير من أبي سفيان وهو آدم، ومنهم الكَيّس والأحمق (¬1). وحكى ابن عساكر أيضًا عَن زُرارة قال: قدم صَعصعة في وَفد العراق على معاوية، فقال لهم: قدمتُم أرضًا بها قبورُ الأنبياء، فقال صَعصعة: مَن مات بها من الفراعنة أكثر مَن مات من الأنبياء، فقال له معاوية: اسكُتْ لا أرضَ لك، فقال: ولا لك يا معاوية، إن الأرض لله يُورثها مَن يشاء من عباده، فقال معاوية: لقد كنتُ أُبغِضُ أن أراك خطيبًا، فقال صعصعة: وأنا والله لقد كنت أبغض أن أراك خليفة. وبهذه الروايات يَحتجُّ ابنُ سعد أن صعصعة مات أيام معاوية، فإنه قال: شهد صعصعة الجمل هو وأخوه زيد وسَيحان، فلما قُتل أخواه أخذ الراية بيده، قال: وتوفي بالكوفة في أيام معاوية، وروى عن علي وعبد الله بن عباس (¬2). وروى عنه أبو إسحاق السبيعي، والمِنهال بن عمرو، وعبد الله بن بُريدة وغيرهم. وقال البخاري: مات صعصعة في أيام يزيد بن معاوية (¬3). وقال الواقدي: مات سنة ست وثلاثين. ومن فَصاحته ما حكاه أبو القاسم بن عساكر، عن محمد بن سلام قال: مَرَّ صَعصعة ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 310. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 340 - 341. (¬3) التاريخ الكبير 4/ 319.

صفوان بن أمية

بقوم وهو يُريد مكة، فقالوا: من أين أقبلت؟ فقال: من الفَجِّ العَميق، قالوا: فأين تُريد؟ قال: البيتَ العَتيق، قالوا: فهل كان من مَطَر؟ قال: نعم، عَفّى الأَثَر، وأنضر الشَّجَر، ودَهْدَه الحَجَر، قالوا: فأي آية في كتاب الله أحكم؟ فقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7] (¬1). وفيها توفي صفوان بن أمية ابن خَلَف بن وَهْب بن حُذافة بن جُمَح. قال ابن منده: واسم جمح تيم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لُؤيّ بن غالب. وأُمُّه صَفيّة بنت معمر بن حَبيب بن وَهْب بن حُذافه بن جُمَح، كذا ذكر ابن سعد (¬2)، وقد اختلفوا فيها: فقال أبو اليقظان: أمُّه صَفيَّة بنت عُمير من بني جُمَح. وقال ابن البَرْقي: هي أُنيسة بنت معمر بن حَبيب، جُمحيّة. قال ابن سعد: أسلم صفوان بحُنين، وأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع المؤلَّفة قلوبُهم. وحكى ابن سعد، عن ابن المسيّب، عن صفوان قال: لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حُنين وإنه لمن أبغض الناس إليّ، فما زال يُعطيني حتى إنه لمن أحبِّ الناس إليّ (¬3). وقال هشام: قُتل أبوه أمية يوم بدر كافرًا، وقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمَّه أبيَّ بن خَلَف يوم أحد كافرًا، وقد ذكرنا أنه هرب يوم فتح مكة ولم يُسلم، وبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه مع ابن عمِّه وَهب بن عُمير، فعاد إلى مكة وقال: أجِّلني يا محمد شهرًا، فأجَّله شهرين وأكثر، وخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين وهو كافر، ثم أسلم بعد ذلك. وذكره ابن سعد فيمن نزل مكة من الصحابة (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 314 (مخطوط). (¬2) في طبقاته 6/ 109. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 112 و 8/ 11. (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 10.

وقال ابن منده: شهد صفوان حُنينًا والطائف وهو على دينه، واستعار منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دروعًا يوم الفتح عند خروجه إلى حنين، وقال: أغَصبًا يا محمد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل عاريّة مُؤدّاة". وأخرجه أحمد في "المسند" (¬1) وفيه: فضاع بعضها، فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَضمنها، فقال: يا رسول الله، أنا اليوم في الإسلام أرغب، وقد ذكرناه. وكانت امرأتُه البَغُوم بنت الوليد بن المغيرة، وقيل: بنت المعَذّل كنانية، قد أسلمت قبله يوم الفتح، ثم أسلم بعدها بشهر (¬2)، وهل ردّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنكاح جديد أم بالنكاح الأول؟ فيه قولان. وأقام بمكة، فقيل له: لا إسلامَ لمن لم يُهاجر، فقدم المدينة، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: "عَزمتُ عليك يا أبا وهب لما رجعتَ إلى أباطح مكة"، فرجع إلى مكة، فأقام بها حتى مات (¬3). وقد أخرج أحمد في "المسند" بمعناه فقال: حدثنا رَوْح بإسناده، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، عن أبيه: أن صفوان بن أُميّة قيل له: هَلك مَن لم يهاجر، فقال: لا أصِلُ إلى أهلي حتى أسألَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فركبتُ راحلتي، فأتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: يا رسول الله، زعموا أنه هَلك مَن لم يُهاجر، قال: "كلا أبا وَهْب، فارجع إلى أباطحِ مكة". قال: فبينما أنا راقدٌ إذ جاء سارق، فأخذ ثوبي من تحت رأسي، فأدركتُه، فأتيتُ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن هذا سرق ثوبي، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُقطَع، قال: فقلتُ: ما أردتُ هذا يا رسول الله، هو عليه صَدقة، فقال: "هلّا قبل أن تأتيَني به" (¬4). وفي رواية: فأُخرج ليُقطع، فتغيَّر وجهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال صفوان: كأنه قد شَقَّ عليك، قد وهَبتُه منه، فأمر بقَطعه. ¬

_ (¬1) (15302). (¬2) انظر طبقات ابن سعد 10/ 281. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 11. (¬4) مسند أحمد (15303).

وفي رواية: أنه كان نائمًا في المسجد. وبهذا الحديث يَحتجُّ زفر والشافعي وأحمد؛ بأن السارق إذا مَلك المسروق بالهِبة ونحوها بعد القضاء قبلَ الإمضاء أنه لا يَسقط الحدُّ، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد يَسقط قياسًا على ما إذا مَلكه قبل الخصومة والدعوى، فأورث ذلك شُبهةً في دَرْءِ الحدِّ (¬1). وقال هشام بن محمد، عن أبيه: لما قدم صفوان المدينة قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين نزلتَ، أو على مَن نزلت؟ " فقال: على العباس، قال: "أبَرُّ قُريش بقُريش"، قال: يا رسول الله، بلغني كذا وكذا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة، أقسمتُ عليك أبا وَهْب لما رجعتَ إلى أباطحِ مكة". وقال الواقدي: لم يَغزُ صفوان. وقال الترمذي: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفوان بن أمية، وأبا سفيان بن حَرْب، والحارث بنَ هشام، وسُهيل بنَ عمرو في القنوت، فنزل قوله تعالى: {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ} الآية (¬2) [آل عمران: 128]. وقال محمد بن إسحاق: كان [في] صفوان ثلاثٌ من السنَّة، استعار منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دُروعًا فقال: أغصبًا يا محمد؟ فقال: "لا، بل عارِيّة مَضمونة"، قال: فضُمنت العارية حتى تُؤدى إلى أهلها. وقدم المدينة بعد الفتح، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع إلى مكة"، فعرف الناس أن الهجرة قد انقطعت. قال: ولما قدم المدينة توسَّد رداءه في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء سارق فسرقه، فأمر بقطعه، فقال: يا رسول الله، هي له هِبةٌ، فقال: "هلا قبل أن تأتيني به"، قال: فعرف الناس أنه لا بأس بالعفو عن الحدّ ما لم ينته إلى الإمام (¬3). وقال الواقدي: قَنطر صفوانُ وأبوه في الجاهلية، أي: صار لكلّ واحدٍ منهما قِنطار ¬

_ (¬1) انظر الاستذكار 24/ 182 - 184، والمغني 12/ 451 - 452. (¬2) سنن الترمذي (3004) و (3005) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬3) تاريخ دمشق 8/ 323 (مخطوط).

من الذهب والفضة. وذكره الموفق رحمه الله تعالى في "الأنساب" فقال: صفوان بن أمية، قُتل أبوه أمية وأخوه ببدر كافرين، وكان صفوان أحدَ أشراف قريش، وإليه كانت الأيسار وهي الأزلام، وكان أحد المطعِمِين، وكان يُقال له: سيّد البَطحاء، وكان من أفصح قريش لسانًا، قال: وصفوان أحد العشرة من عشرة بطون؛ الذين انتهى إليهم الشَّرفُ في الجاهلية، ووَصَله لهم الإسلام (¬1). ذكر وفاته: واختلفوا فيها؛ أما ابن سعد فحكى عن الواقدي: أن صفوان لما رجع من المدينة إلى مكة وقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الهجرة، أقام بها فلم يزل بها حتى مات أيام خرج الناس إلى الجمل، وذلك في شوال سنة ستٍّ وثلاثين، وكان يُحرّض الناسَ على الخروج إلى الجمل (¬2). وقال الشيخ الموفق رحمه الله: مات في سنة اثنتين وأربعين، هو وحبيب بن مَسلمة وعثمان بن طلحة (¬3). وقال الهيثم: سنة أربعين. وقال جدي في "المنتظم" (¬4) عن الواقدي: أنه مات في أول خلافة معاوية بن أبي سفيان. والأوّل أثبت، وقد حكاه الزبير بن بكّار فقال: جاء نَعْيُ عثمان بن عفان حين سُوِّي على صفوان بن أمية، وجاء نَعي أبي بكر - رضي الله عنه - حين سُوِّي على عَتَّاب بن أسيد بمكة. وذكره ابن عساكر فقال: شهد اليرموك أميرًا على كُردوس، ووَفد على معاوية، فأقطعه الزِّقاق المعروف بزِقاق صفوان. قال: وقال خليفة: مات سنة اثنتين وأربعين (¬5). ¬

_ (¬1) التبيين 452 - 454. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 11. (¬3) التبيين 454 دون قوله: هو وحبيب ... (¬4) 5/ 189. (¬5) تاريخ دمشق 8/ 316، 327 (مخطوط).

أسند صفوان الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج له أحمد خمسة أحاديث، منها حديث أخرجه مسلم، وهو قوله: فما زال يُعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليّ (¬1). وروى عنه ابنه عبد الله بن صفوان، وابن أخيه حُميد، وابن المسيّب، وطاوس، وعطاء في آخرين (¬2). ذكر أولاد صفوان: ذكرهم الموفق رحمه الله، وذكرهم الزبير بن بكار فقال: عبد الله الأكبر، وعبد الله الأصغر، وعبد الرحمن الأكبر والأصغر، وحكيم، وخالد، وعمرو، وأبو عمرو. قال الزبير: فأما عبد الله الأكبر فإن المهَلَّب بن أبي صُفْرة وَفد على عبد الله بن الزبير، فأطال الخَلوةَ معه، فجاء عبد الله بن صفوان فقال: مَن هذا الذي شَغلَك منذ اليوم؟ فقال ابن الزبير: هذا سيّد العرب بالعراق، فقال: يَنبغي أن يكون المهلَّب، قال: نعم، وقال المهلب لابن الزبير: مَن هذا الذي يَسألُك عني؟ فقال: هذا سيد قريش بمكة، فقال: ينبغي أن يكون عبد الله بن صفوان، قال: نعم. وكان عبد الله يُقوّي أمرَ ابن الزبير بمكة، ولما تَفرَّق الناسُ عن ابن الزبير قال ابن الزبير لابن صفوان: اطلب منهم الأمان، فقد أقلتُك بَيعتي، فقال له ابن صفوان: والله ما قاتلتُ معك للدنيا، وإنما قاتلتُ عن دِيني، فقُتل ابنُ صفوان وهو مُتعلّقٌ بأستار الكعبة. وابنه عمرو بن عبد الله بن صفوان أحد المطعِمين بمكة، وكان من وُجوه قُريش، وفيه يقول الشاعر: [من البسيط] تمشي تَبختَرُ حول البيت مُنْتحيًا ... لو كنتَ عمرو بن عبد الله لم تَزِدِ قال الزبير: وسأل معاوية يومًا فقال: مَن يُطعم الناسَ بمكة من قريش؟ فقيل له: عمرو بن عبد الله بن صفوان، فقال: بَخٍ بخ، تلك نارٌ لا تَطْفَأ. قال: ومن ولد عبد الله بن صفوان: صفوان بن عبد الله، روى عنه الزهري. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2313). (¬2) انظر في ترجمة صفوان إضافة لما ذكر من المصادر: نسب قريش 388، والاستيعاب (1201)، وأنساب الأشراف 9/ 6، والسير 2/ 562، والإصابة 2/ 187.

وأما عبد الله الأصغر بن صفوان فكان من المطعِمين أيضًا، وكان سيدًا، قال الزبير: وَفد على معاوية، وكانت أمُّ حَبيب بنت أبي سفيان أختُ معاوية أمَّ عبد الرحمن بن صفوان بن أمية، وكان معاوية يُقدّم عبد الله بن صفوان على أخيه عبد الرحمن بن صفوان، فلامتْه أمُّ حبيب في تقديم عبد الله على ابنها فقال: سوف تَرَين، واستدعى ابنَها عبد الرحمن وهي حاضرة، فقال له: ما حاجتُك؟ فذكر دينًا وحوائجَ لنفسه، فقضاها، ثم أذِن لأخيه عبد الله بن صفوان فدخل، فقال: ارفع إليَّ حوائجَك، فقال: تُخرِج العطاء، وتنظُر في أحوال المنقَطِعين فتفرض لهم، وتنظر في أبناء المهاجرين والأنصار، وتفعل وتفعل، فقال: فهلُمَّ حوائجَك، فغضب وقال: وأي حاجةٍ لي إليك غير هذا وأشباهِه، وقد علمتَ أني أغنى قريش، ثم قام وخرج، فقال معاوية لأُخته: كيف رأيتِ؟ فقالت: أنت أعرف بقومك. وعبد الرحمن الأكبر هو الذي روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه استعار من أبيه أدراعًا. وأما حكيم بن صفوان بن أُمية فابنُه يحيى بن حكيم، ولي مكة ليزيد بن معاوية، وكان ابن الزبير بها، فلم يَعرض له يحيى، فعزله يزيد وولّى الحارث، فمنعه ابن الزبير الصلاة (¬1). قلت: وقد روى ابن أبي الدنيا عن صفوان بن أمية حكاية فقال حُدّثتُ عن سعيد بن محمد الجَرمي بإسناده، عن الشعبي قال: كان صفوان بن أمية ببعض المقابر، فإذا شُعَل نيرانٍ قد أقبلت ومعها جنازة، فلما دَنَوا من المقبرة قال: انظروا قبرَ كذا وكذا، قال: وسمع رجلٌ صوتًا من القبر حزينًا مُوجَعًا يقول: [من الخفيف]: أنعَمَ اللهُ بالظَّعينةِ عَينا ... وبمَسْراكِ يا أُمَينَ إلينا جَزعًا ما جَزِعْتُ من ظُلمةِ القبْـ ... ـرِ ومن مَسِّك التُّراب أمينا قال: فأخبر القومَ بما سمع، فبكوا حتى أخضَلوا لِحاهم، ثم قالوا: هل تَدري من أُمَينة؟ قلت: لا، قالوا: صاحبةُ هذا السَّرير، هذه أختها ماتت عامَ أوَّل، فقال صفوان: قد علمتُ أن الميت لا يَتكلَّم، فمن أين هذا الصَّوت (¬2). ¬

_ (¬1) نسب قريش 389 - 391، والتبيين 454 - 456. (¬2) هواتف الجنّان (58)، وتاريخ دمشق 8/ 326 (مخطوط).

طلحة بن عبيد الله

وفيها توفي طلحة بن عُبيد الله ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة بن كعب بن لؤي، ويلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النّسب عند مرة بن كعب. وأمُّه الصَّعبَةُ بنت عبد الله بن عِماد بن ربيعة الحَضرميّ، أخت العلاء [بن] الحَضْرَميّ، أسلمتْ وبايعت، والحضرميُّ جدُّ طلحة لأُمِّه، وأُمُّ الصَّعبَةِ عاتكة بنت وَهب بن [عبد] قُصيّ بن كِلاب، والعلاء بن الحَضْرمي عاملُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البحرين، وقد ذكرناه وذكرنا أخاه مَيمون بن الحَضرميّ، وهو الذي حفر بئر مَيمون بأعلا مكة، فنُسب إليه فقيل: بئر ميمون. ذكر صفته: قال علماء السِّير: كان آدمَ، كثيرَ الشَّعر، ليس بالجَعْدِ القَطَط، ولا بالسّبط، حَسَنَ الوجه، دقيق العِرنين، إذا مشى أسرع، وكان لا يُغيِّر شيبَه. وقال موسى بن طلحة: كان أبيض يضرب إلى الحمرة، مَربوعًا، عَريضَ الصَّدرِ والمنكِبَين، لا أخمصَ لقدميه، ويُسمَّى الأروَح. وقال الفضل بن دُكين: كان في يده خاتمُ ذهبٍ فيه ياقوتةٌ حمراء، وقُتل وهو في يده. وروى ابن سعد عنه أنه كان يَلبَس المعَصفَرات. قال: ورأى عليه يومًا عمر بن الخطاب ثوبَين مَصبوغَين بمِشْقٍ وهو مُحرِم، فقال: ما هذا يا طلحة؟ فقال: إنما صَبغناه بمَدَر، فقال عمر: إنكم أيها الرَّهْط أئمّة يَقتدي بكم الناس، ولو أن جاهلًا رأى عليك هذين الثوبين لقال: هذا طلحة يَلبس الثيابَ المصبَّغةَ وهو مُحرم، وإن أحسن ما يَلبس المحرِم البياض، فلا تُلبسوا على الناس. ذكر إسلامه: قال ابن سعد بإسناده عن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرتُ سوقَ بُصرى، فإذا راهبٌ في صومعته يقول: اسألوا أهلَ هذا الموسم، أفيهم من أهل الحرم أحدٌ؟ قال طلحة: فقلتُ: نعم أنا، قال: هل ظهر أحمد بعدُ؟ قلت: ومَن أحمد؟ قال: ابنُ عبد الله بن عبد المطّلب، هذا شهرُه الذي يَخرج فيه، وهو آخر

الأنبياء، ومَخرجُه من الحرم، ومُهاجَرُه إلى نَخْلٍ وحَرَّةٍ وسِباخ، فإياك أن تُسبَق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجتُ سريعًا حتى قدمتُ مكة، فقلت: هل كان من حَدَثٍ؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبَّأ، وقد تَبعه ابنُ أبي قحافة. قال: فخرجتُ حتى دخلتُ على أبي بكر، فقلت: أتبعتَ هذا الرجل؟ قال: نعم، فانطلِقْ إليه، فادخُل عليه فاتَّبِعْه، فإنه يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الرّاهب، فخرج أبو بكر وطلحة، فدخل به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم طلحةُ، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال الراهب، فسُرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فلما أسلم طلحة وأبو بكر أخذهما نَوفل بن خُوَيلد بن العَدَوية، فشَدَّهما في حَبلٍ واحدٍ، ولم يَمنعهما بنو تَيم، وكان نوفل بن خُويلد يُدْعى أسدَ قريش، فلذلك سُمّي أبو بكر وطلحة القَرينَين (¬1). قلت: [وغير] ابن سعد يقول: الذي (¬2) أوثقهما عثمان بن عُبيد الله أخو طلحة. قال: وكان لطلحة أخوان: عثمان ومالك، وكان لعثمان قَدْرٌ في الجاهلية، وأدرك الإسلام، وقد أشرنا إلى هذا فيما تقدَّم. ذكر جملة من مناقبه وأخباره: قال علماء السِّير: طلحة من الطبقة الأولى من المهاجرين، والعشرة المبشَّرين، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام من المؤمنين، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ، وأحد الذين كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تحرَّك بهم الجبل، وأحد الذين عُذِّبوا في الإسلام. وشهد أحدًا والمشاهدَ كلّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووَقاه بنفسه يوم أحد، ولم يَمنعه من شهود بدر إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه هو وسعيد بن زيد إلى بدر يَتحسّسان الخبر خبرَ العير، فمرَّت بهما، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر، فرجعا إلى المدينة، ولم يَعلما بخروجه، ثم لَقياه عند رجوعه من بدر، فضرب لهما بسهمَيهما وأجرَيهما، فكانا ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 196 - 197، 200 - 201. (¬2) في (خ): قلت وابن سعد هو الذي أوثقهما؟ ! وانظر المعارف 229، وأنساب الأشراف 8/ 214، 227، وتاريخ دمشق 8/ 544.

كمن شَهدها، وقد ذكرناه في غزاة بدر. وقال الواقدي: ولما هاجر طلحة إلى المدينة نزل على أسعد بن زُرارة. واختلفوا فيمن آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين طلحة على قولين؛ أحدهما: بينه وبين سعيد بن زيد بن عَمرو بن نُفيل، والثاني: بينه وبين أُبيّ بن كعب. حكاهما ابن سعد, عن الواقدي. قال: وشهد طلحة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا، وثَبت معه يومئذ حين ولَّى الناس، وبايعه على الموت، ورمى مالك بن زهير يوم أحدٍ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاتّقى طلحة بيده عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأصاب خِنصره فشَلَّت، فقال حين أصابته الرَّميةُ: حَسِّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قال بسم الله لدخل الجنةَ والناسُ يَنظرون". وفي رواية ابن سعد، عن الشعبي قال: أُصيب أنفُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ورَباعيتُه يوم أحد، فوقاه طلحة بيده، فشَلّت إصْبَعُه، وقيل: إصبعاه. وقال ابن سعد بإسناده عن معاوية بن إسحاق، عن عائشة وأم إسحاق ابنتَي طلحة، قالتا: جُرح أبونا يوم أحد أربعًا وعشرين جراحة، وقع منها في رأسه شَجَّةٌ مُربَّعة، وقُطع نَساه، يعني عِرق النَّسَا، وشَلَّت إصبَعُه، وغلبه الغَشيُ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَشجوج في وَجهه، قد علاه الغَشيُ، وطلحة مُحتَمِلُه يَرجع القَهقرى، كلما أدركه أحدٌ من المشركين قاتل دونه، حتى أسنده إلى الشِّعب. وقال ابن سعد بإسناده عن عيسى بن طلحة، قال: رجع طلحةُ يومئذٍ بخمسٍ وسبعين، أو سبع وثلاثين جِراحة، رُبِّع فيها جَبينُه، وقُطع فيها نَساه، وشَلَّت إصبَعُه التي تلي الإبهام (¬1). وقال أبو نعيم بإسناده، عن عيسى بن طلحة، عن عائشة أمّ المؤمنين قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أُحدٍ قال: ذلك يومٌ كلُّه لطلحة. قال أبو بكر: كنتُ أولَ من جاء يوم أحد، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي عبيدة بن الجراح: عليكما، يريد طلحة، وقد نزف، فأصلحنا من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أتَينا طلحة ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في طبقات ابن سعد 3/ 198 - 199.

في بعض تلك الحِفار، فإذا به بضعٌ وسبعون ما بين طعنةٍ بُرمح، وضربةٍ بسيف، ورميةٍ بسهم، فأصلحنا شأنَه، وقد قُطعت إصبعه. وقال أبو نعيم بإسناده، عن سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، عن أبيه، عن جده [عن موسى بن طلحة، عن أبيه] طلحة قال: لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحد، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وسَلّم، ثم قرأ هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} الآية [الأحزاب: 23]، فقام رجل فقال: يا رسول الله، مَن هؤلاء؟ قال: وأقبلتُ وعليَّ ثوبان أخضران، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّها السائل، هذا منهم" (¬1). وقال ابن سعد بإسناده عن عائشة أم المؤمنين قالت: إني لفي بيتي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه بالفِناء، وبيني وبينهم السّترُ، إذ أقبل طلحة بن عُبيد الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سَرّه أن يَنْظر إلى رجلٍ يمشي على وجه الأرض وقد قضى نَحبَه فليَنْظُر إلى طلحة" (¬2). وروى الموفق رحمه في "الأنساب" بمعناه، فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أراد أن ينظر إلى شهيدٍ يمشي على وَجه الأرض فلينظر إلى طلحة" (¬3). وروى أبو نعيم عن سُعدى بنت عَوف امرأةِ طلحة، قالت: دخل عليَّ طلحة يومًا مَغمومًا، فقلت: ما شأنُك؟ قال: المال عندي قد كَثُر، أو قد كَرَبَني، فقلتُ: وما عليك، اقسِمْه، فقسمه حتى ما بقي منه درهم. قال طلحة بن يحيى: فسألتُ خازنَ طلحة: كم كان المال؟ قال أربع مئة ألف. وروى أبو نعيم عن الحسن قال: باع طلحة أرضًا له بسبع مئة ألف، فبات أرقًا من مخافةِ ذلك المال، حتى أصبح ففرَّقه (¬4). وقال ابن سعد بإسناده عن الحسن: أن طلحة بن عبيد لله باع أرضًا من عثمان بن ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 1/ 87. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 200. (¬3) التبيين 321. (¬4) حلية الأولياء 1/ 88، 89.

عفان بسبع مئة ألف، فحملها إليه، فلما جاء بها قال: إن رجلًا تَبيتُ هذه عنده في بيته، لا يَدري ما يَطرُقه من الله لغَرير بالله، فبات ورُسُله تختلف بها في سِكَك المدينة، حتى أسحَر وما عنده منها درهم (¬1). وروى أبو نُعيم، عن سُعدى بنت عوف امرأة طلحة بن عبيد الله قالت: لقد تصدق طلحة يومًا بمئة ألف، ثم حَبسه عن الرَّواحِ إلى المسجد أن جمعتُ له بين طَرَفَي ثوبِه (¬2). وقال الموفق رحمه الله: قال أمير المؤمنين [علي في خطبته: وإني مُنيتُ بأربعة: أدهى الناس عمرو بن العاص، ] وأسخى الناس طلحة، [وأشجع الناس الزبير، وأطوع الناس في الناس عائشة] (¬3). ذكر مقتله: واختلفوا فيه على قولين؛ أحدهما: أنه جاءه سَهْمٌ غَرْبٌ، فوقع في نَحْره فقال: وكان أمرُ الله قَدَرًا مَقدورًا. والثاني: أن مروان بنَ الحكَم رماه بسهمٍ فقتله، فقال ابن سعد بإسناده عن عَوف قال: بلغني أن مروان بن الحكم رمى طلحةَ يوم الجمل؛ وهو واقف إلى جنب عائشة بسَهْم، فأصاب ساقَه، ثم قال مروان: والله لا أطلُبُ قاتلَ عثمان بعدك أبدًا، فقال طلحة لمولى له: أبغِني مكانًا أموتُ فيه، قال: لا أقدِرُ عليه، قال: هذا والله سهمٌ أرسله الله، اللهمَّ خُذْ لعثمان مني حتى تَرضى، ثم وُسِّد حجرًا فمات. وفي رواية ابن سعد أيضًا: أن طلحة قال يوم الجمل: إنّا داهَنّا في أمر عثمان، فلا نَجدُ اليوم شيئًا أمْثلَ من أن نَبذُلَ دماءنا فيه، اللهمَّ خُذ لعثمان مني اليوم حتى تَرضى. وقال ابن سعد بإسناده عن نافع قال: كان مروان مع طلحة في الخيل، فرأى فُرجةً في دِرع طلحة، فرماه بسهمٍ فقتله. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 201 - 202. (¬2) حلية الأولياء 1/ 88. (¬3) التبيين 322، وتقدم في الصفحة 140 دون ذكر عمرو بن العاص.

وفي رواية ابن سعد أيضًا: فاعتَنَق فرسَه فركض، فمات في بني تَميم، فقال: تالله ما رأيتُ مَصرَعَ شيخٍ أضيع دماءً مني. وقال ابن سعد: أخبرني مَن سمع أبا حُباب الكلبيّ يقول: حدثني شيخ من كلبٍ قال: سمعتُ عبد الملك بنَ مروان يقول: لولا أنَّ أمير المؤمنين مروان أخبرني أنه هو الذي قتل طلحة، ما تركتُ من ولد طلحة أحدًا إلا قتلتُه بعثمان. وقال ابن سعد بإسناده عن قيس بن أبي حازم قال: رمى مروان بن الحكم طلحة يوم الجمل في رُكبَته، فجعل الدم يَغْذو يَسيلُ، فإذا أمسَكُوه استمسك، وإذا تركوه سال، فقال طلحة: والله ما بلغَتْ إلينا سهامُهم بعد، ثم قال: دَعوه فإنما هو سَهمٌ أرسله الله، فمات (¬1). قلت: والأصحُّ أن مروانَ قتله، وعليه اجتماع العلماء. قال هشام: رماه مروان بسهم فشَكَّ رُكبَته مع الفَرَس. وقال الهيثم: لما أصاب السهمُ رُكبتَه خَلَّها مع السَّرج، فامتلأ مَوزَجُه دمًا، أو خُفَّه، أو جَورَبُه، فقال لمولاه: ويحك اردفني خلفي، وابغِني مكانًا لا أُعرف فيه، فلم أرَ اليوم شيخًا أضيعَ دمًا مني، فرَدَفه مولاه، وأمسكه من خلفه، حتى انتهى به إلى دارٍ خَرِبة بالبصرة، فأنزله فيها فمات. وكذا قال البلاذري: لما وجد مروان غُرَّةً منه رماه بسَهم، وكان أبان بن عثمان واقفًا معه، فقال له مروان: قد كفيتُك أحدَ قَتَلةِ أبيك (¬2). وكذا ذكر الشيخ الموفق في "الأنساب"، وجدي رحمة الله عليهما في "التلقيح" و"الصفوة": أن مروان قَتلَه (¬3). وقد رُوي أن غير مروان قتله، فقال ابن سعد بإسناده عن محمد الأنصاري، عن أبيه قال: جاء رجلٌ يوم الجمل فقال: ائذنوا لقاتل طلحة، قال: فسمعتُ عليًّا - عليه السلام - ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في طبقات ابن سعد 3/ 204. (¬2) أنساب الأشراف 2/ 176. (¬3) التبيين 322، والتلقيح 114، وصفة الصفوة 1/ 341.

يقول: بَشِّره -أو بَشِّروه- بالنار. وقال ابن سعد بإسناده عن إسماعيل بن أبي خالد قال: أخبرني قيس بن أبي حازم قال: لما مات طلحة دفنوه على شَطّ الكلأ فرآه بعضُ أهله في المنام فقال: ألا تُريحوني من هذا الماء، فإنني قد غَرِقتُ؟ ثلاث مرات، فنبشوه من قبره أخضرَ كأنه السِّلْق، فنَزَفوا عنه الماء، ثم استخرجوه، فإذا ما يَلي الأرض من لحيته ووجهِه قد أكلته الأرض، فاشترَوْا دارًا من دور آل أبي بَكرة، فدفنوه فيها (¬1). وقال هشام: دُفن في بني سعد، في مكان يُقال له قَنْطرةُ بني قُرَّة، ثم رأته ابنتُه عائشة بنت طلحة في منامها بعد ثلاثين سنة، وهو يشكو إليها كَثرة الماء، فأرسلت فأخرجتْه أخضرَ طريًّا مثلَ السِّلق، بعد أن نَزَفوا عنه الماء، ولم يَذهب منه شيءٌ سوى إصبَع واحدة، فدُفِن في دارٍ بالبصرة هي قَبرُه اليوم، وهو ظاهر يُزار، وتولّى إخراجَه عبد الرحمن بنُ سَلامة التميمي. وقال ابن سعد عن الواقدي، عن أشياخه قالوا: قُتل طلحة يوم الجمل، وكان يوم الخميس؛ لعشر خَلَون من جُمادى الآخرة، سنة ست وثلاثين (¬2). ذكر سِنِّه: واختلفوا فيه؛ حكى ابن سعد عن الواقدي قال: كان يومَ قُتل ابنَ أربع وستين سنة. وحكى أيضًا عن الواقدي: ابن اثنتين وستين سنة (¬3)، وقال هشام: ابنَ ستين سنة. ذكر أمواله: حكى ابن سعد، عن الواقدي، عن أشياخه: أن طلحة كان يُغَلُّ له كل يوم ألفَ درهم ودانِقَين. وفي رواية الواقدي أيضًا: أنه كان يُغَلُّ له بالعراق ما بين أربع مئة ألف إلى خمس مئة ألف، ويُغَلُّ بالسَّراة عشرة آلاف دينار، وكان لا يَدع أحدًا من بني تَيم عائلًا إلا كَفاه مُؤنتَه ومُؤنةَ عياله، وزوَّج أياماهم، وأخدَم عائلَهم، وقضى دَينَ غارِمِهم، وكان يُرسل ¬

_ (¬1) الخبران في طبقات ابن سعد 3/ 206، 204. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 205. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 205.

إلى عائشة - رضي الله عنها - كلَّ سنةٍ إذا جاءت غلَّتُه بعَشرة آلاف، ولقد قَضى عن صبيحة التيمي ثلاثين ألف درهم. وروى الواقدي أيضًا بإسناده، عن موسى بن طلحة وسأله معاوية: كم ترك أبو محمد من العَين؟ فقال: ألفي ألف درهم، ومئتي ألف درهم، ومئتي ألف دينار، وكان يغلُّ كلَّ سنة من العراق مئةَ ألف، سوى غَلّاته من السَّراة وغيرها، وكان يَزرع بقَناة على عشرين ناضحًا، وأوّلُ مَن زرع القمح بقناة هو، فقال معاوية: يَرحمه الله، لقد عاش حَميدًا سَخيًّا شريفًا، وقُتل فَقيدًا. وروى الواقدي، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: كان قيمة ما ترك طلحة بن عُبيد الله من العقار والأموال، وما ترك من النّاضّ: ثلاثين ألف ألف درهم، وترك من العَين ألفَيْ ألف ومئتي ألف درهم ومئتي ألف دينار، والنّاضّ: النَّقد. وروى الواقدي أيضًا، عن علي بن رَبَاح، عن عمرو بن العاص قال: حُدّثتُ أن طلحة ترك مئةَ بُهار، في كلّ بُهار ثلاثة قناطير ذهب، وسمعتُ أن البُهار جِلدُ ثَور (¬1). وفي رواية هشام، عن عمرو بن العاص أنه قال: إن ابنَ الصَّعْبةِ ترك مئةَ بُهار، ويعني بابن الصَّعْبة: طلحة. واختلفوا في البُهار، فقال الجوهري: البُهار بالضم: شيءٌ يُوزَن به، وهو ثلاث مئة رطل، قال: وقال عمرو بن العاص: إن ابن الصَّعْبة ترث مئة بُهار، وقال أبو عُبيد: البُهار في كلامهم ثلاث مئة رِطل، وأحسبها غير عربية، أُراها قِبطيّة، بالقاف (¬2). ذكر أولاده: قال ابن سعد: كان له من الولد محمد السَّجَّاد، وبه كان يُكنى، قُتل يوم الجمل في المعركة، وعِمران، وأمُّهما حَمنة بنت جَحش بن رئات بن يَعمر، وأمها أُميمة بنت عبد المطلب بن هاشم. ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في الطبقات 3/ 202 - 203. (¬2) الصحاح: (بهر). وانظر في ترجمة طلحة إضافة إلى ما ذكر: الاستيعاب (1255)، والمنتظم 5/ 111، وتاريخ دمشق 8/ 538 (مخطوط)، والسير 1/ 23، والإصابة 2/ 229.

وموسى بن طلحة، وأُمُّه خولة بنت القعقاع بن مَعبد بن زُرارة بن عُدَس، تميميّة، وكان يُقال للقعقاع بن معبد: تَيّار الفرات لسخائه. ويعقوب بن طلحة، وكان جَوادًا، قُتل يوم الحَرَّة، وإسماعيل وإسحاق، وأمهم أم أبان بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس. وزكريا ويوسف وعائشة، وأمهم أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. وعيسى ويحيى، وأمهما سُعدى بنت عوف بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المرِّي. وأم إسحاق بنت طلحة، تزوجها الحسن بن علي - عليه السلام -، فوَلدت له طلحة، ثم توفّي عنها، فخلف عليها الحسين بن علي، فوَلدت له فاطمة، وأمُّها الجَرْباء، وهي أم الحارث بنت قَسامة بن حَنظلة، من طيئ. والصَّعبة بنت طلحة لأُمّ وَلد، ومريم بنت طلحة، لأم ولد أيضًا. وصالح بن طلحة دَرَج، وأُمُّه الفَرْعَة بنت علي، تَغلبيّة (¬1). قلت: هذا صورة ما ذكر ابن سعد، وذكرهم الزبير بن بكار وهشام وغيرهما، فالحاصل أن الجملة أربعة عشر، منها عشرة ذكور وأربع بنات، فأما محمد فنذكره في حرف الميم من هذه السنة إن شاء الله تعالى. وأما عِمران بن طلحة فهو أخو محمد لأمه وأبيه، وأمهما حَمنَة بنت جَحش، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وقال: فولد عمران بن طلحة: عبدَ الله، وإسحاق، ومحمدًا، وحُميدًا، وأُمُّهم بنتُ أوفى بن الحارث، وكان لولده وَلدٌ فانقرضوا، ولم يبق لعمران أحد (¬2). هذا صورة ما ذكر ابن سعد في طبقات التابعين من أهل المدينة، وذكر أيضًا عمران بنَ طلحة في ترجمة أبيه طلحة، وأنه قَدم على أمير المؤمنين بعد الجمل، فقال ابن سعد بإسناده، عن أبي حَبيبة مَولى طلحة قال: دخل عِمران بن طلحة على علي عليه ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 196. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 165.

السلام بعدما فرغ من أصحاب الجمل، فرحَّب به وقال: إني لأرجو أن يَجعلَني الله وأباك من الذين قال الله: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]، قال: ورجلان جالسان على ناحية البساط، فقالا: الله أعدلُ من ذلك, تقتلُهم بالأمس، وتكونون إخوانًا على سُررٍ متقابِلين في الجنة؟ ! فقال علي: أبعد الله أرضَك وأسحقَها، فمَن إذا لم أكن أنا وطلحة؟ ثم قال لعمران: كيف أهلُك، مَن بقي من أمهات أولاد أبيك؟ أما إنا لم نَقبض أرضكم هذه السنين ونحن نُريد أن نأخذَها، إنما أخَذناها مخافةَ أن ينتهبها الناس، يا فلان، اذهب معه إلى ابن قَرَظة، فليَدفَعْ إليه أرضَه، وغَلَّة هذه السنين، يا ابن أخي، وأتنا في الحاجة إذا كانت لك. وفي رواية ابن سعد أيضًا، عن عمران لما دخل [على] عليٍّ قال له: تعال ها هنا يا ابن أخي، فأجلسه على طِنْفِسة، وقال: والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبو هذا ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} قال: ابن الكَوَّاء: الله أعْدلُ من ذلك، فقام إليه أمير المؤمنين بدِرَّتِه فضربه بها، وقال: أنت وأصحابُك تنكرون هذا. وفي رواية ابن سعد: إن أمير المؤمنين لما رَحّب بابن طلحة، قال له: يا أَمير المؤمنين، تُرَحِّب بي وقد قتلتَ والدي، وأخذتَ مالي؟ ! قال: أما مالُك فهو مَعزول في بيت المال، فاغْدُ إليه فخُذْه، وأما أبوك فوالله ما قتلتُه، ولا أمرتُ بقتله، وإني أرجو أن أكون أنا وإياه من الذين قال الله في حقهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} الآية، فقال رجل أعور من همدان: الله أعدل من ذلك، فصاح عليّ صيحةً تداعى لها القصر وقال: وَيلَك، فمَن ذاك إذا لم نكن نحن أولئك؟ وفي رواية ابن سعد: وكان علي بالكوفة لما قدم عليه عمران، وأن القائل: الله أعدل من ذاك، الحارت الأعور الهَمداني، وذكره (¬1). هذا آخر كلام ابن سعد. وقد ذكر الهيثم: أن عِمران لما دخل على أمير المؤمنين تَرحَّم على طلحة، وردَّ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 205 - 206.

عليهم أموالهم، وفرض لأُمَّهات أولاد طلحة، وأكرم عِمران، وأن عليًّا - عليه السلام - خذف الحارث الأعور لما قال: الله أعدل من ذاك، خَذفه بالدَّواة وقال: وَيحك يا أعور، إذا لم أكن وطلحة، فأنا وأبوك لا أُمَّ لك؟ ! وقال الواقدي: كان عِمران من رجالات ولد طلحة، سمع أباه، وعليًا، وأمَّه حَمْنَة بنت جَحش، وهي التي كانت تُستحاض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تَطْهُر، وأختُهما لأُمِّهما زينب بنت مُصعب بن عُمير (¬1). وأما موسى بن طلحة بن عُبيد الله فذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وقال: وأُمُّه خَولة بنت القعقاع [بن مَعْبد] بن زُرارة، [وكان يُقال للقعقاع: ] تيّار الفرات لسخائه (¬2). ويقال: إنه وُلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي سمّاه موسى، وقيل: كُنيته أبو محمد. وكان موسى من خيار ولد طلحة، وكُنيته أبو عيسى، وكان يَخضب بالسَّواد، ويَشُدُّ أسنانَه بالذَّهب (¬3). وذكره الشيخ الموفَّق رحمه الله، وقال: كان من وُجوه بني طلحة، وكانوا يُرونه المهدي في زمانه، سكن الكوفة ثم خرج منها فارًّا من المختار (¬4). وقد أشار ابن سعد إلى هذا فقال: حدثنا رَوْحُ بن عُبادة وسُليمان بن حرب قالا: حدثنا الأسود بن شيبان، حدثنا خالد بن سُمَير قال: قدم الكذّاب المختار بنُ أبي عُبَيد الكوفة، فهرب منه وُجوه أهل الكوفة، فقدموا علينا ها هنا البصرة، وفيهم موسى بن طلحة بن عُبيد الله، وكان الناس يُرونه في زمانه المهدي، قال: فغَشِيه الناسُ وكنتُ فيهم، فإذا شيخٌ طويلُ السُّكوتِ، قليلُ الكلام، طويل الحُزنِ والكآبة، إلى أن قال ¬

_ (¬1) في (خ): وأختها لأمها زينب ... ، وهو خطأ، فإن زينب هي أخت محمد السجاد وعمران بن طلحة، انظر نسب قريش 281، وطبقات ابن سعد 10/ 229. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 160. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 161. (¬4) التبيين 328.

يومًا: والله لأن أكون أعلمُ أنها فتنة لها انقضاء؛ أحبُّ إليَّ من أن يكونَ لي كذا وكذا، فأعظم الخَطَر. فقال رجلٌ من القوم: يا أبا محمد، ما الذي تَرهب؟ قال: أرهَبُ الهَرْجَ، قال: وما الهَرْجُ؟ قال: الذي كان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحدِّثون أنه القَتلُ بين يدي الساعة، لا يَستقرُّ الناسُ على إمام حتى تقوم الساعة عليهم وهم كذلك، وَايم الله، لئن كان هذا لوَدِدتُ أني على رأس جبلٍ؛ لا أسمعُ لكم صوتًا، ولا أرى لكم داعيًا، حتى يأتيني داعي الله تعالى. ثم قال: يَرحم الله أبا عبد الرحمن، يعني عبد الله بن عمر، والله إني لأحسبه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي عهده إليه، لم يُفتَن بعده ولم يَتغيَّر. قال: فقلت في نفسي: إن هذا ليُزري على أبيه في مقتله. قال ابن سعد: مات موسى بن طلحة بالكوفة, سنة ثلاث أو أربع ومئة، وصلّى عليه الصَّقْر بن عبد الله المزني، وكان عاملًا لعمر بن هُبيرة على الكوفة، قال: وكان ثقةً من أهل الدين، كثير الحديث (¬1). أسند موسى بن طلحة عن أبيه، وعثمان, والزبير، وأبي أيوب، وزيد بن خارجة، وأبي ذر، وحكيم بن [حِزام، وروى عنه أبو إسحاق] السَّبيعي، وسِماك بن حَرْب وغيرُهم. قال هشام: ووَفَد على الوليد بن عبد الملك بن مروان، فقال له: ما دخلتَ عليَّ إلا هَممتُ بقتلك، لولا أن أبي أخبرني أن مَروان قتل طلحة (¬2). ذكر ولده: قال ابن سعد: كان لموسى بن طلحة من الولد: عيسى، ومحمد، وإبراهيم، وعائشة، وقَريبة، وأُمُّهم أم حكيم بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وعِمران بن موسى، وأمه أم وَلد، يقال لها: جَيداء (¬3). وقال الشيخ الموفق رحمه الله: كان عبد الملك بن مروان قد وَلّى محمد بن موسى ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 161، 162 و 8/ 331. (¬2) تاريخ دمشق 17/ 273 (مخطوط). (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 160.

ابن طلحة على شيءٍ من فارس، فنَفَسه الحجاج بن يوسف، فقال له: إنك تَمرُّ وشَبيب الخارجي قريبٌ منك، فلو عدلتَ فقاتلتَه، فعسى أن يكون الفتح لك، فُزتَ بذلك. فلما سار إلى فارس عدل إلى شبيب، فدعاه إلى البِراز، فقال له شَبيب: قد كنتَ لي جارًا بالكوفة، وأنا أكره قتلَك، فلك نفسك، ولستُ في عملك, فقال: لا بدّ، فقال له شبيب: إن الحجَّاج حسدك، فخَدعك وأراد قتلَك، فامضِ إلى عَملك، فأبى ودعاه إلى المبارزة، فقال له شبيب: أما إذا أبيت، فإني سأَنظر لك، معك جمعٌ كثير، ومعي عددٌ يَسير، فألقى القليلَ بكثيرك، ولا تَلْقَ رجلًا واحدًا وحدك، فأنك لا تدري لمن الدّبَرة، فأبى إلا مُبارزةَ شَبيب، فبارزه فقتله شبيب، وغَنم عسكرَه، وهَزم جمعَه (¬1). قلت: لله درُّ شَبيب، فما كان أحزمَه وأعقلَه، وأنصفَه وأشجعَه، وما كان أسفَه رأي محمد بن موسى، وأقلَّ نظرَه لنفسه، وصح فيه المثل: أتَتْك بحائِنٍ رِجْلاه (¬2). وقال ابن سعد: كان محمد بن موسى بن طلحة على [أهل] الكوفة أيام ساروا إلى قتال أبي فُديك الخارجي. وقال ابن سعد: وأما عائشة بنت موسى بن طلحة فتزوّجها عبد الملك بن مروان، فوَلدت له بَكّارًا، ثم خلف عليها عليّ بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب (¬3). وأما عيسى بن طلحة بن عُبيد الله فكُنيتُه أبو محمد، وكان من حُلَماء قُريش، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، قال: وأمُّه سُعْدى بنت عَوف بن خارجة بن سِنان بن أبي حارثة المرِّي، قال: وتُوفّي عيسى في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة كثيرَ الحديث (¬4). وقال هشام بن محمد: كان عيسى بن طلحة من ظُرَفاء قريش، سمع جاريةَ ابنِ حُمران بالمدينة تُغَنِّي لعبد الله بن مسلم: [من الطويل] تَعالوا أعينوني على الليلِ إنه ... على كلِّ عينٍ لا تنامُ طَويلُ فطرق عيسى باب عبد الله بن مُسلم في الليل، فأشرف عليه عبد الله وقال: ما الذي ¬

_ (¬1) التبيين 328 - 329. (¬2) أمثال أبي عبيد (1082)، وجمهرة الأمثال 1/ 119، ومجمع الأمثال 1/ 21. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 160. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 162.

جاء بك في هذا الوقت؟ فقال: سمعت جاريةَ ابن حُمران تُنشدك: تعالوا أعينوني على الليل إنه ... وذكره، فجئتُ لأُعينَك على الليل، فقال له: أدَّى الله عنك الحق، أبطأتَ عليّ حتى أتى الله بالفَرَج (¬1). وقد ذكرنا أن أم عيسى سُعْدى بنت عوف، وكذا هي أم يحيى بن طلحة. وقال ابن قتيبة: وَفَد عيسى على عبد الملك بن مروان، فسأله عَزْل الحَجَّاج عن الحِجاز (¬2). قلت: وقد وَهم ابن قتيبة، الذي وَفَد على عبد الملك في القصّة إبراهيم بن محمد بن طلحة، وسنذكره. وقال الموفَّق رحمه الله: وعيسى هو الذي دخل على عروة بن الزبير لما قُطعت رِجلُه، فذكر له ما أسلاه (¬3). ذكر أولاد عيسى: قال ابن سعد: فولد عيسى بن طلحة يحيى، وأُمُّه عائشة بنت جرير بن عبد الله البَجَلي، ومحمد بن عيسى، وأمه أم حَبيب بنت أسماء بن خارجة بن حِصن بن حُذيفة بن بدر الفَزاري، قال: وعيسى بن عيسى، وأُمُّه أم عيسى بنت عِياض بن نَوفل، من بني أسد (¬4). قلت: وقد ذكر الموَفَّق رحمه الله من أولاد عيسى بن طلحة: محمد بن عيسى، وأُمُّه أم حَبيب، وقد ذكرناها، فقال: ومحمد هو القائل: [من الوافر] فلا تَعجَلْ على أحدٍ بظُلمٍ ... فإن الظُّلمَ مَرتَعُه وَخيمُ ولا تَفحَش وإن مُلّئتَ غَيظًا ... على أحدٍ فإن الفُحشَ لُومُ ولا تَقطعْ أخًا لك عند ذَنبٍ ... فإن الدَّنبَ يَغفِرُه الكريمُ ولكن دارِ عَورتَه برِفقٍ ... كما قد يُرقَعُ الخَلِقُ القديمُ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 57/ 38 - 39. (¬2) المعارف 232. (¬3) لم أقف عليه في التبيين، وذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق 57/ 37. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 162.

ولا تَجزَعْ لرَيْبِ الدَّهرِ واصبِرْ ... فإن الصَّبرَ في العُقْبى سَليمُ فما جَزَعٌ بمُغْنٍ عنك شيئًا ... ولا ما مات تُرجِعُه الهُمومُ قال: ومن شعره: [من السريع] لا تَلُمِ المرءَ على فِعلِه ... وأنت مَنْسوبٌ إلى مِثله مَن ذَمَّ شيئًا وأتى مِثلَه ... فإنما يَزْري على عَقلِه (¬1) حَدَّث عيسى عن ابن عمر، وأبيه طلحة، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، ومعاوية، وروى عنه الزهري وغيره. وأما يحيى بن طلحة فكان من رُؤساء قريش، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، قال: وأُمُّه سُعدى بنت عوف بن خارجة بن سِنان بن أبي حارثة المرِّي. قال: فولد يحيى بن طلحة: طلحة بنَ يحيى، وأُمُّه أُمُّ أبان. وأمّ أناس بنت أبي موسى الأشعري، ويُقال لها: أم إسحاق (¬2). قال: وإسحاق بن يحيى، وأُمُّه الحَسناء بنت زَبَّار بن الأبرد، كلبيّة. وقال غيرُ ابنِ سعد: إن أمَّ إسحاق أمُّ أبان بنت أبي موسى الأشعري. قال ابن سعد: وسَلَمة بن يحيى، وعيسى، وسالم، وبلال الذي مَدحه الحَزين الكِناني فقال: [من الطويل] بلالُ بنُ يحيى غُرَّةٌ لا خَفا بها ... لكلِّ أُناسٍ غُرَّةٌ وهِلالُ قال: ومِهجَع، ومسَلمة، وأمّ محمد بنو يحيى بن طلحة، وهم لأُمَّهات الأولاد. قال: وأمّ حكيم، وسُعدى، تزوَّجها سليمان بن عبد الملك بن مروان، فهلكتْ ولم تَلِد شيئًا، وفاطمة، وأُمُّهن سَوْدة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي (¬3). ¬

_ (¬1) التبيين 329. (¬2) في طبقات ابن سعد 7/ 163: وأمه أم أبان، وأم أُناس بنت أبي موسى الأشعري، وأخوه لأمه عبد الله بن إسحاق بن طلحة. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 163.

وقال غير ابن سعد: وإسحاق بن يحيى يُذكر عنه الفقه (¬1). وأما زكريا بن طلحة فذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين تابعي أهل المدينة، وأمُّه أُمُّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وأمها حَبيبة بنت خارجة بن زيد، من الخَزرج، وقد ذكرناها (¬2). وزكريا شفيقُ يوسف وعائشة ابني طلحة، وكان زكريا جوادًا مُمَدّحًا. وقال ابن سعد: فولد زكريا بن طلحة: يحيى وعبيد الله، وأمهما العَيطل بنت خالد بن مالك، أسديَّة، وأمَّ إسماعيل وأمَّ يحيى، وأمُّهما أم إسحاق بنت جَبَلة بن الحارث، كِنديَة، وأمَّ هارون لأم وَلَد (¬3). وأما إسحاق بن طلحة فذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، قال: وأُمُّه أمُّ أبان بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس (¬4). وهي خالةُ معاوية بن أبي سفيان، أختُ هند بنت عُتبة، وهي أمُّ يعقوب بن طلحة، شهدت أمُّ أبان فُتوحَ الشام مع أخيها أبي هاشم بن عُتبة، وزوجها أبان بن سعيد بن العاص، قُتلَ يومَ أجنادِين عنها شهيدًا. وهي أختُ أبي هاشم بن عُتبة لأبيه وأمِّه، فلما قَدِمت الشامَ خطبها عمر، وعلي، وطلحة، والزبير، فتزوَّجتْ طلحة، فقيل لها في ذلك، فقالت: أما عُمر فإن دخل دخل ببَأس وإن خرج خرج بيَأس، قد شغله أمرُ آخرتِه عن أمر دُنياه، كأنه يَنظر إلى ربِّه بعَينَيه، وأما علي فليس لزوجته منه إلا قضاءُ حاجته منها، ويقول: كَيتَ وكَيت، وذَيت وذيت، وكان وكان، وأما الزبير فليس فيمرأته منه إلا شارَةٌ في قَرامِلها، وأما طلحة فإنْ دخل دخل مِضحاكًا، وإن خرج خرج بَسَّامًا، إن سألتُ أعطى، وإن سكتُّ ابتدأ، وإن عَمِلتُ شكر، وإن أسأتُ غَفَر، فذلك زَوجي حقًّا (¬5). ¬

_ (¬1) انظر المعارف 232، وأنساب الأشراف 8/ 236. (¬2) عند ذكر أولاد طلحة - رضي الله عنه -. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 164. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 165. (¬5) تاريخ دمشق (تراجم النساء) 471 - 472. والشارة: العلامة والهيئة، والقرامل: ضفائر الشعر، تعني: من كثرة ما كان يضرب زوجته أسماء - رضي الله عنها -.

وقال الواقدي: استعمل معاوية إسحاق بن طلحة مع سعيد بن عثمان بن عفان على خُراسان، ومات بالريّ سنة ست وخمسين، وولدت أمُّه لطلحة بن عبيد الله: إسحاق ويعقوب وإسماعيل وعيسى بني طلحة، وأخوه لأمه وأبيه يَعقوب بن طلحة قُتل يوم الحَرَّة (¬1). ذكر أولاد إسحاق: قال ابن سعد: فولد إسحاق بن طلحة: عبد الله، وأبا بكر، دَرَج، وعبيد الله، وأُمُّهم أم أُناس بنت أبي موسى الأشعري، ومصعبًا لأُمّ وَلَد، ومعاوية، ويعقوب، وحفصة، وأمَّ إسحاق لأُمَّهات أولاد شَتّى (¬2). وأما يعقوب بن طلحة فذكره أيضًا ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وقال: كان سخيًّا جَوادًا، قُتل يوم الحَرَّة في ذي الحجة، سنة ثلاثٍ وستّين، [وجاء] بمَقْتَله ومُصابِ أهلِ الحَرَّة إلى الكوفة الكَرَوَّسُ بن زيد الطائي، فقال عبد الله بن الزَّبِير الأسَدي: [من الطويل] لَعَمرِي لقد جاء الكَرَوَّسُ كاظِمًا ... على خَبَرٍ للمسلمين وَجيعِ وسنذكر الأبيات في سنة ثلاث وستين في وقعة الحَرَّة. ذكر أولاد يعقوب بن طلحة: قال ابن سعد: فولد يعقوب بن طلحة: يوسف بنَ يعقوب، وأمه أم حُميد بنت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وأمُّها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. قال: وطلحةَ، وأمه [أم] الحُلاس بنت عبد الله بن عَيّاش بن أبي ربيعة بن المغيرة. وإسماعيل وإسحاق دَرَجا في حياة أبيهما، وأبا بكرٍ، وأمُّهم جَعدَةُ بنت الأشعث بن قيس الكندي (¬3). وأما إسماعيل بن طلحة فكان جَوادًا، وكانت عنده لُبابَة بنت عبد الله بن عبّاس، وأم إسماعيل أمُّ أبان بنت عتبة بن ربيعة. وأما صالح بن طلحة فأُمُّه الفَرْعة، تَغلبيّة، درج في حياة أبيه. ¬

_ (¬1) انظر المعارف 232، وأنساب الأشراف 8/ 236 - 237، والتبيين 330. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 165. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 163 - 164.

ذكر بنات طلحة: منهن عائشة شقيقة زكريا ويوسف، وأُمُّهم أم كلثوم بنت أبي بكر - رضي الله عنه -، تزوَّجها مُصعب بن الزبير، فأصدقها ألفَ ألفِ درهم، ثم تزوَّجها عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وسنذكرها في سنة ثلاث وعشرين ومئة. وأما أُمُّ إسحاق بنت طلحة فتزوجها الحسن بن علي - عليه السلام -، فولدت له طلحة بن الحسن، دَرَج صغيرًا، ثم تزوَّجها الحسين، فوَلدت له فاطمة بنت الحُسين، ثم تزوَّجها عبد الله بن محمد بن أبي عَتيق، فوَلدت له أُميّة (¬1). ذكر إخوة طلحة: قال علماء السِّيَر: كان له إخوة منهم: عثمان وعبد الرحمن ابنا عبيد الله. قال الموفق رحمة الله عليه: أسلما وصَحِبا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقُتل عبد الرحمن يوم الجمل مع أخيه طلحة، وهاجرا، ومات عثمان سنة أربع وسبعين، وولدُه عبد الرحمن بن عثمان بن عُبيد الله أسلم يوم الحُدَيبية، وقيل: يوم الفتح، وقُتل مع عبد الله بن الزبير، وأخرج عنه مسلم حديثًا واحدًا، وقال: عبد الرحمن بن عثمان القُرَشي (¬2). قلت: وقد أخرج له أحمد في المسند ثلاثة أحاديث، منها الحديث الذي انفرد به مسلم، فقال أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لُقَطَةِ الحاجِّ (¬3). انفرد بإخراجه مسلم، يعني لُقَطة الحرم. قلت: وقد اختلف الفُقهاء في هذا، فعند أبي حنيفة: لقطة الحِلِّ والحَرم سواء، إن كانت عَشَرة دراهم فما فوقها عرَّفها حولًا، وإن كانت أقلَّ من عَشرة دراهم عَرَّفها أيّامًا، وعند الشافعي -وهي إحدى الروايتين عن أحمد: أن لُقطة الحَرَم يجب تَعريفُها أبدًا، ولا تُملك لهذا الحديث، ولقوله - عليه السلام -: "لا تَحِلُّ لُقَطَتُها إلا لمُنْشِد" (¬4)، ولأبي حنيفة أن الأخبار المبيحة لأخذ اللُّقطة لا تَفصل بين الحرم وغيره لما عرف (¬5). ¬

_ (¬1) المعارف 233، وأنساب الأشراف 8/ 238 - 228. (¬2) التبيين 330 - 331، وحديثه عند مسلم برقم (1724)، وفيه: عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لُقطة الحاج. (¬3) مسند أحمد (16070)، وصحيح مسلم (1724). (¬4) أخرجه البخاري (2433)، ومسلم (1353) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬5) انظر الاستذكار 22/ 336، ومعرفة السنن والآثار 9/ 75 - 79، والمغني 8/ 306.

وقال الموفَّق: ومن ولده: محمد بن طلحة بن محمد بن عبد الرحمن بن عثمان، كان عالمًا بالمغازي والأنساب (¬1). وقال مصعب: هو محمد بن طلحة بن محمد بن عبد الرحمن بن عَتّاب بن عُبيد الله بن عثمان بن عبيد الله، رُوي عنه الحديث، ولم يذكر الموفَّق في أجداده مَن اسمه عَتَّاب. ذكر موالي طلحة: قال هشام: كان له عدَّة موالي، منهم: مُسلم بن يَسار، كان أوحد زمانه في العلم والزُّهد والوَرَع، وسنذكره. ومن موالي طلحة: أبو نُعيم الفَضْل بن دُكين، وسنذكره. ذكر مسانيد طلحة: واختلفوا فيها، قال أبو نعيم: أسند نيِّفًا وثلاثين سوى الطُّرُق. وقال ابن البَرْقي: تسعة عشرَ حديثًا، وقيل: ثمانيةً وثلاثين حديثًا. أخرج له في "الصحيحين" سبعةً، اتَّفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة (¬2). وأخرج أحمد لطلحة أربعةَ عشر حديثًا، بعضُها في المتَّفق عليه، وبعضها في الأفراد. وروى طلحةُ عن أبي بكر وعمر. وروى عنه بنوه: يحيى، وموسى، وعيسى، ومالك بن أبي عامر الأصبَحيّ، وقيس بن أبي حازم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والأحنف بن قيس، في آخرين. وليس في الصحابة مَن اسمُه طلحة بن عبيد الله غيره، فأما غيرُ ابنِ عُبيد الله فعشرة، وكذا في التابعين، ليس فيهم مَن اسمُه طَلحة بن عُبيد الله غير رجلٍ واحد؛ وهو: طلحة بن عبيد الله بن كَريز -بكاف مفتوحة- وكُنيته: أبو المطَرِّف الخُزاعي، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة (¬3)، وكان سيِّدًا شريفًا، واختلفوا فيه: فقال البخاري: ¬

_ (¬1) التبيين 331. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر 366 وفيها: قال البرقي: الذي حُفظ لنا عنه بضعة عشر حديثًا، وانظر 394. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 227.

فصل في تسمية الطلحات المعدودين في الجود

هو مَدني، وقال غيره: بَصري، وقيل: كوفي. وقال أحمد بن حنبل: ثِقة. وكان يُكثر غِشيان أم الدَّرداء، ويَسمع منها. وقال البخاري: كان قليلَ الحديث. وروى عن ابن عمر، وأبي الدرداء، وأمِّ الدرداء، وعائشة. وروى عنه محمد بن إسحاق وغيره. وهو وإن كان سيِّدًا فاضلًا؛ غير أنه لا يُعدُّ في الطَّلحات المعدودين في الجود، ولم يُذكَر لنا تاريخُ وفاتِه (¬1). فهذا في التابعين اسمُه طلحة بن عبيد الله ليس فيهم غيره، فأما طلحة غير ابن عبيد الله فخلقٌ كَثير. ومن مسانيد طلحة بن عبيد الله التيمي؛ قال أحمد بإسناده، عن محمد بن عبد الرحمن بن مُجَبَّر، عن أبيه، عن جَدِّه: أن عثمان أشرفَ على الذين حَصروه، فسَلّم عليهم، فلم يَردُّوا عليه، فقال عثمان: أفي القوم طلحة؟ قال طلحة: نعم، فقال عثمان: إنّا لله وإنا إليه راجعون، أُسلِّم على قوم أنت فيهم ولا يَردّون، فقال طلحة: قد ردَدْتُ، فقال عثمان: يا طلحة ما هكذا الردُّ، أُسمِعُك ولا تُسمعني، أَنشدك الله، أسمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يُحلُّ دمَ المسلم إلا واحدةٌ من ثلاث: أن يَكفُرَ بعد إيمانه، أو يَزني بعد إحصانه، أو يَقتل نَفسًا فيُقتَلَ بها؟ " قال طلحة: اللهمَّ نعم، فكبّر عثمان وقال: والله ما أنكرتُ الله منذ عَرفتُه، ولا زنيتُ في جاهلية ولا إسلام، قد تركتُه في الجاهلية تكرُّمًا، وفي الإسلام تَعفُّفًا، وما قتلتُ نَفسًا يَحلُّ بها قَتلي (¬2). فصل في تسمية الطَّلْحات المعدودين في الجود: وهم سبعة؛ أحدُهم صاحب هذه الترجمة، وسمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد طلحةَ الخير، ويوم ذات العُشَيرة طلحة الفيّاض، ويوم حُنين طلحةَ الجُود، وقد ذكرناه. والثاني: طلحة بن عُمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، ويُسمّى طلحةَ الجُود. والثالث: طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدِّيق، ويُسمَّى طلحةَ الدَّراهِم. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 577 - 580 (مخطوط)، وتهذيب الكمال (2963). (¬2) مسند أحمد (1402).

والرابع: طلحة بن الحسن بن علي - عليه السلام -، ويسمى طلحة الخير. والخامس: طلحة بن عبد الله بن عَوف الزُّهري، ابن أخي عبد الرحمن بن عَوف، ويُسمَّى طلحةَ النَّدى. والسادس: طلحة بن عبد الله بن خَلَف، ويُقال له: طلحةَ النَّدى أيضًا. والسابع: طلحة بن عبد الله الخُزاعي، ويقال له: طلحةَ الطَّلحات (¬1). قال الأصمعي: وكان أجودَ القوم، ولذلك سُمّي طلحةَ الطَّلحات. فنذكر طَرَفًا من أخباره. قال الأصمعي: كُنيته أبو المطَرِّف، وفيه يقول القائل: [من الخفيف] رحم الله أعظُمًا دَفنوها ... بسِجِسْتانَ طلحةَ الطَّلْحاتِ (¬2) وقد ذكره العلماء في تواريخهم، وأثنوا عليه، فقال يحيى بن مَعين: أبوه عبد الله بن خَلَف بن أسعد، كُنيتُه أبو المطَرِّف، وكُنيةُ ابنه طلحة: أبو محمد، وقُتل أبوه عبد الله يومَ الجمل مع عائشة، وأمّ طلحة الطلحات: صَفيّة بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة العَبْدَريّ، وهي بنت أخي عثمان بن طلحة الحُجَبي. وقال ابن دريد: إنما سُمّي طَلحةَ الطلحات من أجل أن أُمَّه بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة، وهي بنت أخي عُثمان بن طلحة، ولهم قصرٌ بالبصرة يُعرف بقصر خَلَف جَدِّهم، وفيه نزلت عائشة لما قدمت البصرة. قال: وكان طلحة الطلحات شريفًا، عظيمَ القدر، ولم يكن بالبصرة في زمانه مثلُه، قدم على يزيد بن معاوية شافعًا في يزيد بن ربيعة بن مُفَرِّغ. وقال خليفة بن خيّاط: وفي سنة ثلاث وستين بعث سَلْم بن زياد بن أبيه طلحةَ الطلحات واليًا على سِجِسْتان، وأمره أن يَفدي أخاه أبا عُبيدة بن زياد، ففَداه بخمس مئة ألف، فلحق بأخيه سلم، وأقام طلحةُ واليًا بها حتى مات. ¬

_ (¬1) انظر المحبر 355 - 356، وتلقيح فهوم أهل الأثر 455، وتاريخ دمشق 8/ 526 (مخطوط). (¬2) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات، وهو في ديوانه 20، والمعارف 228، وتلقيح فهوم أهل الأثر 455.

وقال هشام: قال سلمة بن إبراهيم لطلحة الطلحات (¬1): ما رأينا ألأم من قومك، يأتونك إذا أيسرتَ، ويَقطعونك إذا أملَقْتَ. فقال: هم أكرم قوم، يأتوننا وبنا قُوَّةٌ على بِرِّهم، والقيام بحقوقهم، ويتأخَّرون عنا حين نَضعُف عن ذلك. قال: وكان طلحة مُمَدَّحًا، مدحه فُحول الشُّعراء، دخل عليه كُثيّر عَزّة وهو مريض، فأنشده [من الكامل] يا ابن الذَّوائِب من خُزاعةَ والذي ... لَبِس المكارمَ وارتَدى بنِجادِ حَلَّتْ بساحتك الوفودُ من الوَرى ... فكأنما كانوا على مِيعادِ لتَعودَ سيِّدَها وسيِّدَ غيرها ... ليت التَّشكِّي كان بالعُوَّادِ فأعطاه حتى حَيَّرَه. وقال الواقدي: وَرَد عليه كتابٌ من الحجاز؛ من عَجوزٍ تَستَميحُه، وفيه: [من الرجز] يا أيها المايح دَلْوي دُونكا إني رأيتُ النّاسَ يَحْمَدونكا يُثنون خَيرًا ويُمَجِّدونكا فقال طلحة: قاتل الله العجوز، تَطلبُ جُبْنَ خُراسان وهي بالحجاز، ثم عَمَد إلى جُبْنَتَين مَملوءتين قطنًا، فأخرج القُطْنَ منها، وجعل مَوضعَه دَنانير، وكتب إليها: إنّا مَلأناها تَفيضُ فَيضا فلن تخافي ما حييتُ غَيضا ففتقت الجُبْنَة فتناثرت الدَّنانير. وقولها: يا أيها المايحُ دَلْوي دُونكا، قد فرَّقت العرب بين المايح والماتِح، فجعلت النُّقطتَين اللتين من تحت لمن هو في أسفل البئر، والنقطتين اللتين من فوق لمن هو في ¬

_ (¬1) كذا، وفي تاريخ دمشق 8/ 527 (مخطوط): سلمة بن إبراهيم بن جحش قال: قال أبي: بلغني أن امرأة طلحة الطلحات قالت ...

عبد الله بن سعد

أعلا البئر. ولم يذكر لنا تاريخ وفاته، وقال الحاكم أبو عبد الله في "تاريخ نيسابور" أن طلحة الطلحات سمع من عثمان بن عفان (¬1). وأما طلحة النَّدى؛ فهو طلحة بن عبد الله بن عَوف، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف الزهري. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وكُنيته أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، وأمه فاطمة بنت مُطيع بن الأسود، ووَلي المدينة (¬2) وسنذكره. انتهت ترجمة طلحة بن عبيد الله التَّيمي. وفيها توفي عبد الله بن سعد ابن أبي سَرْح بن الحارث بن حُبيّب -بالتصغير مع التشديد- الفِهري. قال ابن البَرْقي: واسم أبي سَرْح الحُسام، وكنيته أبو عبد الله العامري (¬3). وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة ممن أسلم يوم الفتح، قال: وأمه مهانة بنت جابر من الأشعريّين (¬4). وذكره الموفق رحمه الله في "الأنساب"، وقال كما ذكرنا في نسبه، ثم قال: وحُبَيّب بن جَذيمة بن نصر بن مالك [بن حِسْل] بن عامر بن لؤي. أسلم قبل الفتح قديمًا، وهاجر، وكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي، ثم ارتدّ عن الإسلام، وقدم مكة فقال لقريش: كنت أُصرِّف محمدًا حيث أريد؛ فكان يُملي عليّ: حكيم عليم؛ فأقول: عزيز حكيم، فيقول: نعم، فلما كان يوم الفتح أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - دمَه فيمن أباح، وكان أخا عثمان من الرضاعة؛ فأخذ له أمانًا. وقد ذكرناه يوم الفتح. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 525 - 530 (مخطوط). (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 159 - 160. (¬3) تاريخ دمشق 9/ 340 (مخطوط). (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 129، وأعاد ترجمته في 9/ 502 فيمن نزل بمصر من الصحابة.

ثم قال الموفق: وأسلم وحسُن إسلامُه، وكان أحد النُّجباء النُّبلاء العقلاء الكرماء من قريش، وكان صاحب ميمنة عمرو بن العاص في فتوح مصر وحروبه كلّها، ثم ولّاه عثمان مصر في سنة خمس وعشرين، فغزا إفريقية؛ ففتحها في سنة سبع وعشرين، ثم عاد، ثم غزا الأساود من النُّوبَة، وهادنهم الهُدنةَ الباقية إلى هلم جرّا، ثم غزا غزاة الصَّواري في سنة إحدى وثلاثين، ثم قدم على عثمان؛ فانتزى محمد بن أبي حذيفة على مصر، فرجع عبد الله فمنعه دخولها، فجاء إلى عَسقلان -وقيل: إلى الرَّمْلة- فأقام بها حتَّى مات في الصلاة سنة ست أو سبع وثلاثين. وهذا قول الموفق (¬1). وقال عبد الله بن محمد البغوي: استخلف على مصر السائب بنَ هشام بن عمرو العامري، فوثب محمد بن أبي حُذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس فخلع السائب، وتأمَّر على مصر، فرجع عبد الله فمنعه ابن أبي حذيفة من دخولها، فمضى، إلى عسقلان [فأقام بها]، ولم يبايع أمير المؤمنين ولا معاوية (¬2). واختلفوا في وفاته؛ فقال ابن سعد: بنى دارًا بمصر ونزلها، حتَّى إذا كانت الفتنة تحول إلى فلسطين فمات بها (¬3). وقال أبو سعيد بن يونس: لما منعه ابنُ أبي حذيفة من دخول مصر رجع إلى عسقلان، فمات بها في سنة ست وثلاثين. وقال ابن مَنده: توفِّي بالرَّملة. وقال أبو القاسم بن عساكر: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: توفي عبد الله سنة ست وستين (¬4)، قال: وهو وهم منه (¬5)، والصحيح أنَّه مات في سنة ست أو سبع وثلاثين عند خروج معاوية إلى صِفّين بعَسقلان، ولم يشهد صفّين. ودُفن بمكان يقال له: مقابر قريش، وهو مكان معروف. ¬

_ (¬1) في التبيين 487 وما بين حاصرتين منه. (¬2) ما بين معكوفين من تاريخ الطبري 4/ 420، والاستيعاب (1486)، وتاريخ دمشق 9/ 341 (مخطوط). (¬3) تاريخ دمشق 9/ 339، وليس في طبقات ابن سعد. (¬4) تاريخ دمشق 9/ 352. (¬5) توهيم ابن عساكر إنما هو لرواية ابن منده 9/ 341 أنَّه توفي بالرملة سنة تسع وخمسين.

وقال البخاري: مات في الصلاة بالرملة خوفًا من الفتنة (¬1). وقال يزيد بن أبي حبيب: حضرتْ صلاة الصبح وعبد الله بالرّملة فقال: اللهمَّ اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح، فقرأ في الأولى بأمّ القرآن والعاديات، وفي الأخرى بأم القرآن وسورة، ثم سلم عن يمينه، وذهب يسلّم عن يساره فقبض الله روحَه (¬2). وكذا قال البخاري والموفّق (¬3) أنَّه مات في الصلاة. وقيل: إنه مات بإفريقية، وهو وهم منه. وكان شاعرًا، ومن شعره: [من الطويل] أرى الأمرَ (¬4) لا يزداد إلا تفاقُمًا ... وأنصارُنا في البلدتين قليلُ وأسلمنا أهلُ المدينةِ والهوى ... هوى أهل مصرٍ والدليلُ دليلُ وقال الموفق رحمه الله: وابنه وَهْب بن عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، شهد أحدًا والحديبية والخندق وخيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سويد بن عمرو، فقُتلا بمؤته شهيدين. قال: وأخوه عياض بن عبد الله بن سعد تابعي، وروي عنه الحديث. قال: وعمرو بن أُويس بن سعد بن أبي سرح، ابن أخي عبد الله بن سعد؛ استشهد يوم اليمامة. قال: وأروى بنت أويس بن سعد بن أبي سرح، وهي التي خاصمت سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل في الأرض، فدعا عليها فعَميت (¬5). وليس في الصحابة مَن اسمه عبد الله بن سعد سوى ثلاثة؛ أحدهم صاحب هذه الترجمة، وله صحبة ورواية، والثاني عبد الله بن سعد الأنصاري له صحبة ورواية، والثالث عبد الله بن سعد بن خيثمة الأوسي، له صحبة وليس له رواية (¬6). ¬

_ (¬1) التاريخ الكبير 5/ 29. (¬2) تاريخ دمشق 9/ 351. (¬3) في التبيين 487. (¬4) في (خ): المرء؟ ! والبيتان في تاريخ دمشق 9/ 339 (مخطوط). (¬5) التبيين 488، وانظر نسب قريش 433، وأنساب الأشراف 9/ 271 - 272. (¬6) تلقيح فهوم أهل الأثر 218. وانظر في ترجمة عبد الله غير ما ذكر من مصادر المعارف: 300، والسير =

عبد الرحمن بن عتاب

وفيها توفي. عبد الرحمن بن عَتَّاب ابن أَسيد بن أبي العِيص بن أمية بن عبد شمس. قد ذكرنا أباه عَتَّابًا، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولّاه مكة وهو ابن عشرين سنة، وأنه مات بمكة في اليوم الَّذي مات فيه أبو بكر الصديق بالمدينة، وأن عبد الرحمن كان إمام أهل الجمل، وأنه أخذ بزمام الجمل، ولم يزل يقاتل عنده حتَّى قُتل. قال الواقدي: مرَّ به أمير المؤمنين وهو مقتول، فترحّم عليه وقال: لَهفي عليك يَعْسوب قريش، قُتلت اليوم الغَطارفة من بني عبد مناف، ثم قال: أشكو إلى الله عُجَري وبُجَري ... الأبيات (¬1)، فقال له رجل: تجزعُ عليهم وقد أرادوا بك ما أرادوا؟ فقال: إنه قامت عني وعنهم رَحِم. وقد ذكرنا أن عتَّابًا أُخذت كفُّه، وفي أصبعه خاتم عليه منقوش اسمه، فألقته بمكة يوم الوقعة، فعرفوا أنَّه قد قُتل، فصلّوا عليه. وفيها توفي عبد الرحمن بن عُدَيس البَلَوي رئيسُ المصريين الذين ساروا لقتال عثمان. قال علماء السير: وعبد الرحمن من الصحابة الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان تحت الشجرة، ولما تُوفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل مصر فأقام بها، حتَّى سار إلى عثمان، وفعل به ما فعل، فلما قُتل عثمان خرج إلى الشام، فنزل فلسطين، وعلم به والي معاوية فقبض عليه وحبسه، وأرسل إلى معاوية يُخبره، فهرب من الحبس، فبثُّوا الخيل في طلب ابن عُديس، وكان معه في الحبس كِنانة بن بِشر ومحمد بن أبي حذيفة. ولما بثّوا الخيل في طلب ابن عُديس أدركه فارس، فحمل عليه، فقال له ابن ¬

_ = 3/ 33، والإصابة 2/ 316. (¬1) كذا، وصوا به كما في الطبري 4/ 527: إليك أشكو عجري وبجري.

قدامة بن مظعون

عُديس: أَنشُدك اللهَ في دمي؛ فإني من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين بايعوه تحت الشجرة، فطعنه فقتله. وليس في الصحابة مَن اسمه عبد الرحمن بن عُدَيس غيره، وله صُحبة ورواية (¬1). وفيها توفي قُدامة بن مَظْعون ابن حبيب بن وهب الجُمحي، أخو عثمان بن مَظْعون، وكنيته أبو عمرو، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأمه غَزيَّة بنت الحُوَيرث، جمحيّة، وغزية بغين معجمة. وقال البلاذري: هاجر الهجرة الثانية إلى الحبشة بالاتفاق. وفي الثانية (¬2) خلاف، والأول أصحّ، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان لا يغيِّر شيبَه. وقال ابن سعد: توفي في سنة ستٍّ وثلاثين وهو ابن ثمان وستين، وقيل: ابن ثمانين سنة. وكان له من الولد عمر وفاطمة؛ وأمهما هند بنت الوليد بن عُتبة بن ربيعة، وعائشة وأمُّها فاطمة بنت [أبي] سفيان بن الحارث الخزاعي، ورَمْلة وأمُّها صفية بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب (¬3). وذكره الموفق رحمه الله فقال: ولّاه عمر بن الخطاب البحرين، ثم عزله بسبب شرب الخمر، وتأوَّل قولَه تعالى: {لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93]، لم يحدَّ من أهل بدر أحدًا في شرب الخمر إلا قُدامة، وغاضب قدامة عمر وهجاه (¬4)، وحجّا معًا، فلما قَفَلا من حجِّهما نزل عمر ¬

_ (¬1) انظر في ترجمته طبقات ابن سعد 9/ 514، والاستيعاب (1558)، وتاريخ دمشق 41/ 103، والإصابة 2/ 411. (¬2) كذا، وهو خطأ، صوابه: الأولى، فقد اتفق مترجموه على هجرته الثانية كما ذكر السبط، انظر طبقات ابن سعد 3/ 371، وأنساب الأشراف 9/ 25، والاستيعاب (2153)، والمنتظم 5/ 115، والتبيين 446، والسير 1/ 161، والإصابة 3/ 228. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 371 - 372 وما بين معكوفين منه. (¬4) في التبيين 446: وهجره، وهو الأشبه.

كعب بن سور

بالسقيا فنام، وانتبه فقال: عجِّلوا عليّ بقدامة؛ فوالله لقد أتاني آتٍ في منامي فقال: سالِمْ قُدامة فإنه أخوك، فأتوه به، فكلَّمه عمر واستغفر له واصطلحا. قال: وقدامة زوج صفية أخت عمر، وأخو زينب بنت مظعون زوجة عمر. قال: وكانت عائشة بنت قدامة من المبايعات. وليس في الصحابة من اسمه قدامة بن مظعون غيره، وله صحبة ورواية. وفيها توفي كعب بن سُور ابن بكر بن عبد الله الأزدي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة. ولاه عمر القضاء على البصرة، وأقرَّه عثمان، وسببه ما ذكره الزبير بن بكّار قال: حدثني إبراهيم الحِزاميّ، عن محمد بن مَعْن الغفاري قال: أتت امرأةٌ عمر بنَ الخطاب فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله، فقال لها: نعم الزوجُ زوجك، فجعلت تكرّر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب، وعنده كعْب بن سُور الأَسْدي (¬1)، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن هذه المرأة تشكو زوجَها في مباعدته إياها عن فراشه، فقال له عمر: كما فهمتَ كلامها فاقضِ بينهما. وقد ذكرنا القصة في ترجمة عمر (¬2)، وفيها شعر أوَّله أن المرأة قالت: يا أيها القاضي الحكيم رَشَدُهْ وقول زوجها: زَهَّدني في فَرْشِها وفي الحَجَل الأبيات. وحكى ابن سعد عن بعض أهل العلم أنَّه: لما قدمت عائشة البصرة دخل كعب بن سُور بيتًا، وطيَّن بابه، وجعل فيه كُوَّة يتناول منها طعامه وشرابه اعتزالًا للفتنة، فأرسلوا ¬

_ (¬1) لغة في الأزد، وهي الأفصح، انظر القاموس وشرحه 7/ 382. (¬2) سلفت في سيرته وترجمته.

محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي

إليه فلم يُجب، فقيل لعائشة: إن خرج معك كعب لم يتخلَّف عنك أحد من المسلمين الأزد، فجاءت بنفسها إلى باب بيته ونادته: يا كعب، فلم يُجبها، فألحَّت عليه وهو ساكت، فقالت: ألستُ أمّك ولي عليك حق؟ ! فبحقّي عليك إلا خرجتَ؛ فإنما جئت لأُصلح بين الناس، فخرج مُكرهًا، فقُتل بين يدي عائشة، وهو أوَّلُ قتيل قتل يوم الجمل، وقد ذكرناه. وقال الواقدي: أمرته عائشة أن يخرج إلى القوم بالمصحف، فعلّقه في عنقه وخرج، فجاءه سَهْمٌ غَرب فذبحه. وقال ابن سعد: كان كعب معروفًا بالخير والصلاح، وليس له حديث. ومر به أمير المؤمنين فتأسَّف عليه (¬1). وفيها توفي محمد بن طلحة بن عُبيد الله التَّيمي كان يُسمَّى السَّجَّاد لعبادته، كان يسجد كلَّ يوم ألفَ سَجدة، وله إدراك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة قال: وحدثنا محمد بن عمر بإسناده إلى حَمْنَة بنت جَحْش بن رِئاب: أنها لما ولدت محمدًا جاءت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله سَمّه، فقال: "قد سمَّيتُه محمدًا وكنَّيتُه أبا سليمان، لا أجمع له اسمي وكُنيتي" (¬2). وفي رواية ابن سعد أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ما سمَّيتموه؟ قلنا: محمدًا، فقال: هذا اسمي وكَنَّيتُه أبا القاسم (¬3). وفي رواية: فلما أراد عمر بن الخطاب تغيير الأسامي قال له محمد: يا أمير ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 92، وانظر ترجمته في الاستيعاب (2187)، والمنتظم 5/ 115، والإصابة 3/ 314، والسير 3/ 524 وتتمة المصادر فيه. (¬2) في (ع): وفي رواية ابن سعد: هذا اسمي وكنيته أبا القاسم، وليست هذه العبارة في (خ)، ولا طبقات ابن سعد 7/ 57، وإنما فيه الخبر التالي. (¬3) في طبقات ابن سعد: هذا سَمِيّي وكنيته أبو القاسم.

المؤمنين أنشدك (¬1) الله أن تغيِّر اسمي، فوالله ما سمّاني محمدًا إلّا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: لا سبيل إلى تغيير شيء سماه محمد - صلى الله عليه وسلم -. وليس لمحمد بن طلحة في "المسند" غير هذا الحديث. وأخرج له الموفق رحمه الله في "الأنساب" حديثًا مرسلًا في صفة السَّحاب (¬2). وذكره الموفق وأثنى عليه فقال: كان محمد السجَّاد عابدًا صالحًا بارًّا بأبيه، ولد على حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى به أبوه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحنّكه وسمّاه باسمه وكنّاه بكنيته، وحضر يوم الجمل مع أبيه وكانت معه رايته، قال: وكان فيما ذُكر مُكرهًا؛ أكرهه أبوه على الخروج معه، وكان أمير المؤمنين قد نهى عن قتله وقال: إيّاكم وصاحب البُرْنُس، فإنه خرج مُكرهًا. واختلفوا في كيفية قتله فقال الموفّق: أمره أبوه بالقتال فتقدّم، فنَثَل دِرعَه بين رجليه، وقام عليها، وجعل كلّما حمل عليه رجلٌ يقول: نشدتك بحم، فينصرف عنه، حتَّى جاء المُكَعْبِر الأسَديّ فطعنه، ولم يكن عليه درع، فقتله وقال: [من الطويل] وأشعثَ قَوَّامٍ بآيات ربِّه ... قليلِ الأذى فيما ترى العينُ مُسلمِ هتكتُ له بالرُّمح جَيبَ قميصه ... فخرَّ صريعًا لليدين وللفمِ على غير شيء أنه ليس بائعًا (¬3) ... عليًّا ومن لم يتبعِ الحقَّ يَظلمِ يُذكِّرني حَم والرُّمحُ شاجِرٌ ... فهلّا تلا حاميم قبل التَّقدُّمِ وذكر ابن سعد الأبيات لعِصام بن المُقْشَعِرّ (¬4)، وهو الَّذي قتل محمدًا، وحكاه ابن سعد. وحكى سيف عن أشياخه قالوا: أخذ محمد بن طلحة بزِمام الجمل، فقالت عائشة: ¬

_ (¬1) في (خ): نشدتك، والخبر في طبقات ابن سعد 7/ 58، ومسند أحمد (17896). (¬2) التبيين 322 - 323. (¬3) رواية الشطر في المصادر: على غير شيء غير أن ليس تابعًا، انظر طبقات ابن سعد 7/ 59، ونسب قريش 281، والمعارف 231، والطبري 4/ 526، وأنساب الأشراف 8/ 230، والاستيعاب (2262)، والتبيين 324. (¬4) ذكر ابن سعد الخلاف في قاتل محمد بن طلحة وقائل الأبيات، ولم يصرح أنَّه عصام.

مَن أنت؟ قال: محمد بن طلحة، فقالت: يا بُنيّ، كن خير بني آدم. وكان هوى محمد مع علي - عليه السلام -، واجتمع عليه جماعة فحمل عليهم وهو يقول: "حم لا ينصرون"، فقتلوه. وادَّعى قتلَه جماعة: المُكَعْبِر الأَسَديّ، والأشتر النَّخَعي، وشُريح بن أوفى، والمشهور، أن المُكَعْبِر قتله (¬1). وقد ذكره ابن سعد فقال: قاتل محمد بن طلحة يوم الجمل قتالًا شديدًا، وعُقِر الجمل، فتقدّم محمد فأخذ بخِطامه وعائشة عليه، فقال لها: ما ترين يا أُمَّه؟ قالت: أرى أن تكون خير بني آدم، فلم يزل كافًّا، فأقبل عبد الله بن مُكَعْبِر -رجلٌ من بني عبد الله بن غطفان حليف بني أسَد- فقال له محمد: أُذكرك "حَمَ"، فطعنه فقتله. قال الواقدي: مرَّ علي - عليه السلام - على القتلى، ومعه الحسن بن علي وعمار وصَعصعة بن صُوحان والأشتر ومحمد بن أبي بكر، وبأيديهم النيران يطوفون على القتلى، فمرّ عليّ بمحمد بن طلحة وهو قتيل فقال: السَجَّاد وربِّ الكعبة، فردَّ رأسه إلى جسده، وبكى واسترجع وقال: والله هذا قريعُ قريش، والله ما علمتُه إلا صالحًا عابدًا زاهدًا، والله ما صرعه هذا المصرع إلَّا برُّه بأبيه فإنه كان مطيعًا له، ثم جعل يبكي ويحزن عليه، فقال له الحسن: يا أبتِ، قد كُنْتُ أنهاك عن هذا المسير فغلبك على رأيك فلان وفلان، فقال: قد كان ذلك يا بُنيّ، ولَوَدِدتُ أنّي متُّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وقد روى ابن سعد بمعناه، فقال الحسن لعلي: ما كان أغناك عن هذا؟ فقال علي: ما لي ولك يا بني أو يا حسن، ثم قال: ودَّ أبوك أنَّه مات قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وقال ابن سعد: قال طلحة يوم الجمل: إنّا داهَنّا في أمر عثمان، فلنَبذُلَنّ دماءنا وأولادنا فيه (¬2). قال هشام: الَّذي قتل محمدًا عبد الله بن مُكَعْبِر حليف بني أسد، ولما حمل عليه قال له محمد: أنشدك الله والرَّحم، فطعنه فقتله. ¬

_ (¬1) انظر الطبري 4/ 526، وطبقات ابن سعد 7/ 58. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 204.

محمد بن أبي حذيفة

وقال ابن سعد: ويقال: إن الَّذي قتله ابن مكيس الأزدي، قال: وقال بعضهم معاوية بن شدَّاد العَبْسي. قال: وروى محمد الحديث عن عمر، وأمره عمر أن ينزل في قبر خالته زينب بنت جَحش زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ثقة (¬1). ذكر ولد محمد بن طلحة: قال علماء السير: كان له إبراهيم وسليمان وداود وأمّ القاسم. فأما إبراهيم بن محمد فكان يُسمّى أسدَ الحجاز، وله قصة مع عبد الملك بن مروان والحجاج، وسنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما سليمان بن محمد فبه كان يُكنى. وأم سليمان وداود وأم القاسم خَوْلَة بنت منظور بن زبّان، فزاريّة، وأخوهم لأمِّهم حسن بن حسن بن عليّ - عليه السلام -، وأمّه خولة هذه. وفيها توفي محمد بن أبي حُذيفة ابن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس. استشهد أبوه أبو حذيفة يوم اليمامة، قال علماء السير: ترك ابنَه محمدًا صغيرًا؛ فكفِله عثمان بن عفان، فأحسن كَفالته، وربّاه فأجمل تربيتَه، فلما ترعرع سأل عثمانَ أن يولّيه ولاية فأبى، فتنسَّك وتعبّد، ويُقال: إن عثمان حدّه في الشراب، وهو الَّذي منعه أن يولّيه شيئًا. وذكره الموفق رحمه الله فقال: وكنية محمد بن أبي حذيفة أبو القاسم، لم يزل في كفالة عثمان سنين، ثم خرج إلى مصر وبها عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح عامل لعثمان، فوفد عبد الله بن سعد على عثمان، فانتزى محمد بن أبي حذيفة على مصر وأخذها، فلما عاد ابن سعد إليها منعه من دخولها، فرجع ابن سعد إلى عَسْقلان، فأقام بها، وأقام ابن أبي حذيفة على مصر؛ حتَّى ولّى علي - عليه السلام - على مصر قيس بن سعد، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 58.

وعزل عنها ابن أبي حذيفة، فخرج إلى الشام، فقتله مولى لعثمان (¬1). وقال هشام بن الكلبي: استأذن محمد عثمانَ في غزو البحر فأذن له، فخرج إلى مصر، فلما رأى الناس عبادتَه وزهدَه أعظموه وأطاعوه، وكان محمد بن أبي حذيفة جَهوريّ الصوت، فكبّر يومًا خلف عبد الله بن سعد تكبيرةً أفزعتْه، فشتمه ابنُ سعد وقال: أنت حدث أحمق، ولولا ذلك قاربتُ بين خُطاك. وكان محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر يعيبان على عثمان توليتَه لابن سعد، ويؤلِّبان عليه، فكتب عبد الله بن سعد إلى عثمان فأخبره، فكتب إليه عثمان: أما ابنُ أبي بكر فيوهَب لأبيه ولعائشة، وأما ابنُ أبي حذيفة فابني وتربيتي، وهو فَرْخُ قريش، فكتب إليه ابن سعد: إن هذا الفَرْخَ قد نَبت ريشُه، وما بقي إلا أن يطير، فبعث عثمان إلى ابن أبي حذيفة بثلاثين ألفًا وكسوة، فجمع محمد المصريين، ووضع المال في المسجد وقال: إن عثمان يريد أن يخدَعَني ويَرشوني على ديني، وفرَّقه فيهم، فازداد في عيون القوم، وازدادوا طغيانًا على عثمان، فاجتمعوا وبايعوا محمدًا على رئاستهم، فلم يزل يؤلِّبُهم على عثمان حتَّى ساروا إليه فقتلوه (¬2). وقال أبو سعيد بن يونس ويزيد بن [أبي] حبيب: فقدم معاوية مصر في سنة ستِّ وثلاثين، فنزل عينَ شمس، وامتنع عليه دخول مصر، فكتب إلى محمد بن أبي حُذيفة يَخدعه ويقول: إنا لا نريد قتال أحدٍ من المسلمين، وإنَّا جئنا نطلب القَوَدَ بعثمان، فادفعوا إلينا قاتليه: ابنَ عُدَيس وكنانة بن بِشر فهما رأسا القوم. فكتب إليه ابنُ أبي حذيفة: إني لم أكن لأُقيد بعثمان جَدْيًا [أرطَبَ السُّرَّة]، فقال معاوية: فاجعلوا بيننا وبينكم أجلًا حتَّى يجتمع الناس على إمام، وارهنوا عندنا رَهْنًا، فأجابه محمد إلى ذلك وقال: أنا أستخلف على مصر، وأخرج مع الرُّهُن في هذا العهد، هانما قال ذلك جُبنًا وخَوَرًا منه، فاغتنم معاوية قولَه. ¬

_ (¬1) كذا وهو خطأ، صوابه: مولى لمعاوية، واسمه رشدين. انظر المعارف 272، والاستيعاب (2246)، والتبيين 217. (¬2) انظر الطبري 4/ 291، وأنساب الأشراف 5/ 167 - 169 و 7/ 699 - 700.

وخرج ابنُ أبي حذيفة مع معاوية إلى الشام، فلما نزلوا الساحل بقرية يقال لها: لُدّ، سجنهم بها، وقيل: إنه سجن ابنَ أبي حُذيفة بدمشق، وابنَ عُدَيس ببَعْلَبَكّ. قال أبو سعيد بن يونس: فبينما معاوية في مسيره ذلك جاءه بريد؛ فأخبره أن محمد ابن أبي حذيفة قد هرب من السجن، وقيس بنَ عديّ اللّخمي النائب بمصر قد أغار على الشام، وجاء بريدٌ آخر بأن ابنَ عُدَيس وكنانة قد هربا من سجن بعلبك، ثم جاءه بريد آخر بأن هِرَقْل قد نزل الدَّرْبَ، وجاءه بريد آخر أن أمير المؤمنين قد شارف الشام، فقال: خمسة (¬1) بُرُد في ليلة واحدة، فاهتمَّ معاوية، ثم قال لعموو بن العاص: ماذا ترى؟ فقال: أما قيس بن عديّ فسارق بعير ثم يعود، وأما ابنُ عُدَيس وكِنانة فخذ عليهما الرَّصَد، وكذا ابن [أبي] حذيفة، وأما هِرقل فلم يَعْدُ الدَّرْبَ، وأما علي فإن صحّ مجيئُه لم يمكنْه الإقامة على غير قاعدة، فهوّن عليك. فبعث معاوية عمرو بن عبد الله الخَثْعمي في طلب محمد بن أبي حذيفة وابن عُدَيس وكنانة، وكانوا يسيرون ليلًا وَيكمنون نهارًا، فخرج نَبَطٌ من أنباط الشام يطلبون حمارًا ضاع منهم، فدخلوا غارًا فوجدوهم، فدلُّوا عليهم، فدخل عمرو فقتلهم وأصحابهم. وقال أبو مخنف: إن كنانة بن بِشر قتله جيشُ معاوية الَّذي نَفّذه لافتتاح مصر (¬2). وقال خليفة: كنانة قتل يوم الدار، قتله عبدٌ حبشيّ لعثمان، وقد ذكرناه (¬3)، وحكاه الطبري. وأما محمد بن أبي حذيفة فقد اختلفوا في مقتله، فقال هشام بن محمد: ضبط مصر قبل قدوم قيس بن سعد، فسار إليه معاوية وعمرو بن العاص، فعالجا دخول مصر فلم يقدرا عليها، فلم يزالا يعالجان محمد بن أبي حذيفة حتَّى خرج إلى عَريش مصر في ألف رجل، فأحدقا به، فالتجأ إلى حصن العَريش، فحاصره عمرو ونصب عليه المناجيق، فأخذه وقتله. ¬

_ (¬1) في (خ): خمس؟ ! . (¬2) تاريخ دمشق 59/ 493 - 494. (¬3) سلف في ترجمة عثمان - رضي الله عنه -.

وفي رواية عن ابن الكلبي (¬1)، وقد ذكره البلاذري، قال: إنما قتل ابن أبي حذيفة بعد مقتل محمد بن أبي بكر، أخذه عمرو بن العاص فبعث به إلى معاوية بدمشق فحبسه بها، وما كان معاوية يختار قتله لأنه ابن خال معاوية، فكان معاوية يود أنَّه لو هرب من السجن، فأقام مدة ثم هرب، فأرسل خلفه عبد الله بن عمرو الخثعمي، وكان عثمانيًّا، فدخل خلفه الغار فقتله، مخافة أن يُطلقه معاوية. قال البلاذري: وكان ذلك في سنة ثمان وثلاثين (¬2). انتهت ترجمته والله سبحانه وتعالى أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) المنتظم 5/ 97، وانظر تاريخ الطبري 5/ 105 - 106 ففيهما الخبران. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 700 - 701، ولم يصرح بالسنة، وإنما ذكر أنَّه قتل بعد صفين. (¬3) انظر في ترجمته المعارف 272، والاستيعاب (2246)، وتاريخ دمشق 61/ 276، والسير 3/ 479، والإصابة 3/ 373.

السنة السابعة والثلاثون

السنة السابعة والثلاثون فيها كانت وقائع صِفِّين، وصِفّين قريةٌ من قرى الروم على شاطئ الفرات، مما يليها غياض ملتفَّه بمقدار فرسخ أو فرسخين، وليس لها طريق إلى الماء إلَّا من مكان واحد. قلت: وعَبرتُ بالمشهد الَّذي عند صِفّين، وسمعتُ أهلَه تقول: هذا مشهد الصَّفَين؛ يعنون صفّ أمير المؤمنين، وصف معاوية، وكان معاوية قد نزل عندها، وأخذ المشرعة على أصحاب أمير المؤمنين، واقتتلوا على الماء، وقد ذكرناه. قال علماء السير: ولما دخلت هذه السنة جرت بين أمير المؤمنين ومعاوية مُوادعة على ترك الحرب؛ طمعًا في الصُّلح، فلم يتمّ. ذكر هشام بن محمد، عن أبي مِخْنَف، عن أشياخه قالوا: بعث عليّ عديَّ بنَ حاتم ويزيد بن قيس الأَرْحَبي وشَبَث بن رِبْعي وزياد بن خَصَفَة (¬1) إلى معاوية، فلما دخلوا عليه قال له عدي بن حاتم: أما بعد؛ فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به الكلمة، ويحقن به الدماء وتأمن به السُّبُل، ويُصلح الله به ذاتَ البَين، إن ابنَ عمك أمير المؤمنين سيّد المسلمين، وأفضلهم سابقة في الإسلام، وأحسنه أثرًا، قد أجمع عليه الناس، ولم يبق سواك، فبايعه، لا يصيبُك وأصحابَك ما أصاب أهلَ الجمل. فقال له معاوية: يا عديّ، أمُهدِّدًا جئتَ أم مُصلحًا؟ كلا والله إني ابنُ حَرْب، ما يُقعقع لي بالشِّنان، وإنك والله لمن قَتَلة عثمان، وإني أرجو من الله أن يقتلك به. وقال له شَبَث بن رِبعي وزياد وتنازعا جوابًا واحدًا: يا معاوية، أتيناك فيما يصلح الله به بين المسلمين؛ فأخذتَ تضرب لنا الأمثال، دع ما لا يَنفعك من القول، وأجب فيما يَعُمُّ نفعُه. وقال له يزيد بن قيس: اتّقِ الله يا معاوية ولا تخالف أمير المؤمنين، فإنا والله ما رأينا رجلًا أعمل منه بتقوى الله، ولا أزهد منه في الدنيا. ¬

_ (¬1) في (خ): عدي بن أبي حاتم، ويزيد بن أبي قيس الأرحبي، وشيب بن ربعي، وزياد بن حفصة، وهو خطأ، صوابه من الطبري 5/ 5، ووقعة صفين 197.

فقال معاوية: إن صاحبكم قتل خليفتَنا وابنَ عمِّنا، وألَّب عليه، وفرَّق جماعتنا، ثم يزعم أنَّه لم يقتله؟ ! ونحن لا نردُّ ذلك، ألستم تعلمون أن قتلَةَ عثمان أصحابُه وبِطانتُه، فلْيدفعْهم إلينا حتَّى نقتلَهم به، ثم نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال له شَبَث بن رِبْعي: أيسرُّك يا معاوية أنك لو مُكِّنْتَ من عمار أتقتلُه؟ فقال له معاوية: وما يمنعُني من ذلك؛ لو مَكَنتُ من ابن سُمَيَّة ما قتلتُه بعثمان، ولكن كُنْتُ أقتلُه بناتِل مولى عثمان. فقال له شبث: وإله السماء، إنك لن تصلَ إليه حتَّى تندُرَ الهامُ عن كواهل الأقوام، ثم تفرَّقوا عن غير شيء. وقول معاوية: لا يُقعْقَع لي بالشِّنان مثلٌ للعرب (¬1)، والشِّنان جمع شَنَّة؛ وهي القِربة الصغيرة، والقَعْقَعَةُ الصَّوتُ. قال أبو مخنف: ثم أرسل معاوية إلى أمير المؤمنين حَبيبَ بن مَسلَمة الفِهريّ ومعن بن يزيد بن الأخنسَ، قال الطبري: وشُرَحْبيل بن السِّمط، وهو وهم؛ فإن شُرحبيل مات في السنة الماضية، وقد ذكرناه. قال: ولما دخلوا على أمير المؤمنين حمد الله حَبيب وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن عثمان كان خليفةً مهديًّا يعمل بكتاب الله، فاستثقلتُم حياته، واستبطأتُم وفاتَه، فعدوتُم عليه فقتلتُموه، فإن زعمت أنك لم تقتله فادفع إلينا قتلتَه، ثم اعتزل الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يُولُّون مَن أجمع عليه رأيُهم. فصاح عليه أمير المؤمنين وقال: اسكت لا أمَّ لك، ما لك ولهذا؟ فقام حبيب وهو يقول: والله لتراني بحيث تكره، فقال له علي: لا أبقى الله عليك إن أبقيت (¬2). ثم حمد أمير المؤمنين الله، وصلى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأثنى على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، ثم قال: فوَلي عثمان، فأتى بأشياء عابَها الناس عليه، فنهيتُه عنها فما انتهى، وأقام على لَجاجة، وتخلّى عنه المهاجرون والأنصار، فسار إليه الناس فقتلوه، ثم أتاني ¬

_ (¬1) جمهرة أمثال العرب 2/ 412. (¬2) في الطبري 5/ 7، ووقعة صفين 200 كلام لشرحبيل بن السمط.

ذكر بداية القتال

الناس وأنا مُعتزِلٌ أمورَهم فقالوا: إن الأمة لا ترضى إلا بك، فإن أبيت فعلنا بك كما فعلنا بعثمان، فبايعوني، فلم يَرُعْني إلا خلافُ طلحة والزبير وعائشة، فجرى ما جرى، وخالفني معاوية الَّذي لم يجعل الله له سابقةً في الإسلام، ولا سلفَ صِدْق في الدّين، طَليقُ بنُ طليق، لم يزلى هو وأبوه معاندَين لله ورسوله، دخلا في الإسلام مُكرَهَين، وخرجا منه طائعَين، وقد تركتُم أهلَ بيت نبيّكم - صلى الله عليه وسلم - وتبعتموه، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. فقال معن: اشْهَد أن عثمان قُتل مظلومًا، فقرأ أمير المؤمنين: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 80، 81]، فقام معن وخرج. وحدّثنا مشايخنا عن محمد بن ناصر بإسناده إلى عدي بن حاتم قال: قلتُ لعليّ وهو واقف في سبع مئة من ربيعة: يا أمير المؤمنين، ألا تروح إلى القوم فإما لنا وإما علينا، فقال: يا عدي، إن معاوية معه قومٌ يُطيعونه، وأنا معي قوم يعصوني، قال: فرحمتُه والله، وسنذكر هذا المعنى فيما بعد. ذكر بداية القتال وقفت على تاريخ بالشام منسوب إلى أبي جعفر الطبري، والظاهر أنَّه ليس من تصانيفه، يذكر فيه أنهم لم يزالوا يتراسلون شهرا ربيع وجمادى الأولى، وأنهم اقتتلوا في أولى جمادى الآخرة، وليس هذا بشيء، والأصح أنهم اقتتلوا أوّلى صفر. قال علماء السير: ولما انفصل حَبيب ومعن عن أمير المؤمنين أمر مَرْثَد بن الحارث الجُشَمي فنادى: يا أهلَ الشام، إنا دعوناكم إلى الحقّ وقد أبيتُم، وإني قد نَبذتُ إليكم على سواء، إن الله لا يُحبُّ الخائنين (¬1). وقال أبو مخنف: وأوصى علي - عليه السلام - أصحابه فقال: لا تبدؤوهم بقتال حتَّى يبدؤوكم، وإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مُدبِرًا، ولا تُجهِزوا على جَريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تُمثّلوا، ولا تهتكوا سترًا، ولا تأخذوا شيئًا من أموالهم إلا ما وجدتم في ¬

_ (¬1) المنتظم 5/ 117.

عسكرهم، ولا تُهيِّجوا امرأة وإن شَتَمْنَ أعراضكم؛ فإنهن ضِعاف القُوى والنُّفوس. قال أبو مخنف: وأصبح أمير المؤمنين أول يوم من صفر قد كتَّب الكتائب، فجعل الأشتر على خيل الكوفة، وسَهْلَ بن حُنَيف على خيل البصرة، وقيس بن سعد وهاشم بن عُتْبَة على الرَّجَّالة، وعلى القُرَّاء عمار بن ياسر وعبد الله بن بُدَيل بن وَرْقاء. وجعل معاوية على ميمنته [ابن] ذي كَلاع الحِميري (¬1)، وعلى ميسرته حبيب بن مَسلمة الفِهري، وعلى مقدّمته أبا الأعور السُّلَمي، وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص، وعلى الرجَّالة مُسلم بن عُقبة المُرِّيّ والضحاك بن قيس الفهري، وبايع رجال من أهل الشام على الموت فعَقلوا نفوسهم بالعمائم، وكان المعقّلون خمسة صفوف. ورتَّب أمير المؤمنين عساكره كترتيبه يومَ الجمل، وقيل: صفَّ أصحابَه أحد عشر صفًّا، وفعل معاوية كذلك. ولما كان أول يوم من صفر برز الأشتر النَّخَعي في خيل أهل الكوفة، وبرز إليه حَبيب بن مَسلمة وذلك يوم الأربعاء، فاقتتلوا قتالا شديدًا إلى آخر النهار، ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض. وخرج في اليوم الثاني هاشم بن عُتبة بن أبي وقاص في خيل أهل العراق، وبرز إليه أبو الأعور السُّلَمي، وصبر الفريقان. وخرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وأخذ عمار يقول يا أيها الناس -أو يا أهل العراق- أتريدون أن تنظروا إلى مَن عادى الله ورسوله وجاهدهما، وبغى على المسلمين وظاهر المشركين، فلما رأى اللهَ قد أعز دينه، وأظهر الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ أتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم فيما نُرى راهبًا غير راغب، ثم قبض الله رسوله، وهو والله معروف بعداوة المسلمين فقاتِلوه، وشدَّ عمار فأزال ابن العاص عن موقفه، فانصرف وعمار يصيح وراءه: من أراد أن ينظر إلى عدو الله الباغي على المسلمين، المجتهد في إطفاء نور الله؛ فهو هذا فجاهدوه. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من الطبري 5/ 11، والمنتظم 5/ 118، وما سيرد قريبًا من قوله: اليوم السادس خرج قيس بن سعد، وخرج إليه ابن ذي الكلاع الحميري.

اليوم الرابع: وخرج فيه محمد بن الحنفيّة، وخرج إليه عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جمعين كبيرين عظيمين، فاقتتلوا أشدّ قتال، فأرسل عبيد الله إلى محمد بن الحنفيّة: أن اخرُج إليّ، فقال: نعم، وخرج يمشي، فبَصُر به أمير المؤمنين فقال: من هذان المتبارزان؟ فقيل ابن الحنفية وابن عمر، فركض دابتَه وصاح: يا محمد قف، ثم حمل على عبيد الله وقال: يا فاسق، أنا لك، فولّى مُنهزمًا يقول: ليس لي حاجةٌ في مبارزتك، فقال له محمد: يا أمير المؤمنين، تبرُزُ إلى هذا الفاسق، والله لو دعاك أبوه لرغبتُ بك عنه (¬1)، فقال له: يا بنيّ، لا تقل في أبيه إلّا خيرًا. اليوم الخامس: خرج عبد الله بن عباس، وخرج إليه الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وأخذ الوليد يَسُبُّ بني هاشم ويقول: قطعتم أرحامَكم، وقتلتم إمامَكم، ولم تُعطَوا ما طَلبتُم، ولم تُدركوا ما أمَّلتُم، فحمل عليه ابن عباس فانهزم. كذا ذكر الطبري (¬2) أن الوليد بن عُقبة برز إلى ابن عباس! قالوا: لم يشهد الوليد صِفّين، والذي برز إلى ابن عباس أبو الأعور. اليوم السادس: خرج قيس بن سعد الأنصاري، وخرج إليه ابنُ ذي الكَلاع الحميريّ، فاقتتلا على السواء. اليوم السابع: خرج الأشتر، وخرج إليه حَبيب بن مَسلمة. فلما كان اليوم الثامن أرزموا (¬3) القتال إلى آخر يوم، وهو الَّذي فيه ليلة الهَرير، خطب أمير المؤمنين الناس وقال: إلى متى ما نُناهضهم بأجمعنا (¬4)؟ ! وكان وقت السَّحَر، فأصبحوا يوم الخميس وهم على مَصافّهم، وقيل: إن هذا اليوم كان أعظم الأيام، فقال كعب بن جُعَيل التَّغلِبيّ في ليلته: [من الرجز] أصبحت الأمةُ في أمرٍ عَجَبْ ¬

_ (¬1) في (خ): به عنك، والمثبت موافق لما في الطبري 5/ 13، ووقعة صفين 221. (¬2) في تاريخه 5/ 13، وكذا ذكر نصر بن مزاحم في وقعة صفين 222، والبلاذري في أنساب الأشراف 2/ 212، والمسعودي في مروج الذهب 4/ 353. (¬3) في (خ): أرموا، ومعنى أرزموا: تابعوا وأداموا. (¬4) في الطبري 5/ 13، ووقعة صفين 225: حتَّى متى لا نناهض القوم بأجمعنا؟

والملأ مَجموعٌ غدًا لمن غَلَبْ أقول قولًا صادقًا غيرَ كَذِبْ إنّ غدًا تَهلك أعلامُ العَربْ وقد جرى بينهم أراجيز ومُناشدات عَدَّينا عليها خوفًا من الإطالة، واقتتلوا قتالًا شديدًا إلى الليل. وقال هشام: وكان هذا اليوم من أعظم أيام صِفّين وأشدِّها، كان ابن عباس في الميمنة، والأشتر في الميسرة، وعلى القرّاء عمار وعبد الله بن بُدَيل، وعلى الرجّالة قيس بن سعد، وأمير المؤمنين في القلب ومعه بنوه والمهاجرون والأنصار. وأقبل معاوية في جيوشه وترتيبه المتقدّم، وقد رفع قُبَّة عظيمة قد جعل عليها الكرابيس (¬1)، فحملت مَيمنة أمير المؤمنين على ميسرة معاوية وألجأتها إلى القُبَّة، وحمل معاوية وبيده سيفان، فحمل عليه عبد الله بن بُدَيل في ثلاث مئة من القرَّاء، وقصد قتلَ معاوية، فقتل حُمران مولى عثمان عبد الله بنَ بُدَيل، واستظهر أهل الشام على ميمنه أهل العراق، فلما رأي ذلك الأشتر صاح على ميمنة أهل العراق: إليَّ، فتراجعوا وعادوا إلى ما كانوا عليه. قال أبو مخنف: وبايع أهل الشام معاوية على الموت، وداروا حول قُبَّته. وقال عبد الله بن بديل قبل أن يُقتل لأصحابه: ألا إن معاوية ادَّعى ما ليس له، ونازع الأمرَ أهلَه، وحاول الباطل ليُدْحِضَ به الحق، ومال عليكم بالأعراب والأحزاب، وقد زَيّن لهم الضَّلالة، وزرع في قلوبهم حبَّ الفتنة، ولبَّس عليهم الأمر، وزادهم رِجسًا إلى رِجسهم، وأنتم على نور من ربكم، وهُدىً وبُرهان مُبين، فقاتلوا الطُّغاة الجُفاة. وذكر كلامًا في هذا المعنى، ثم حمل على قُبَّة معاوية فقتلوه. وقال أبو مخنف: كان النَّبْلُ في ذلك اليوم يمرُّ بين عيني (¬2) أمير المؤمنين ومَنكبيه، وهو يأخذه بيده فيلقيه كذا وكذا، وربيعة تقيه بنفسها، فلا يصل إليه منه شيء، والأشتر ¬

_ (¬1) نوع من الثياب. (¬2) كذا، والذي في الطبري 5/ 19، والمنتظم 5/ 118: بين عاتقه ومنكبه، وهو الأشبه.

يحمل ويقول: [من الرجز] الغَمراتِ ثم ينجلينا وفي هذا اليوم قُتل عمار لما نذكره في موضعه. وقال هشام: قاتلت ربيعة في ذلك اليوم دون أمير المؤمنين قتالًا عظيمًا، والراية بيد حُضَين بن المنذر، ولما مَرّ أمّير المؤمنين بعمار فرًاه قتيلًا بكى بكاء عظيمًا، وبكى الناس، وقال لربيعة وهَمْدَان، أنتم دِرعي ورُمحي، وكانوا قد أبلَوا بلاء حسنًا، فانتدب له اثنا عشر ألفًا، وحمل على بغلته، وحملوا معه حملةَ رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صفٌّ إلا انتقض، وانتهَوا إلى صفِّ معاوية، وأمير المؤمنين يقول: [من الرجز] أضرِبُهمْ ولا أرى معاويه الجاحِظَ العينِ العظيمَ الحاويه ثم صاح: ويحك يا ابنَ هند، علامَ تفنى الناس، هلمَّ أحاكمك إلى السيف؛ فأيّنا قُتل استقام الناس للآخر، فخاف معاوية وانتفض، فقال له عمرو: قد أنصفك وما يَحسن بك إلا مبارزتُه، فقال له: طمعتَ فيها بعدي، أما علمتَ أنَّه ما بارزه رجلٌ إلا قتله. وقال هشام: وبيان أمير المؤمنين قد أبرز في ذلك اليوم لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الَّذي كان يقاتل تحته، ولم يكن أبرزه قبل ذلك اليوم، وأعطاه لقيس بن سعد بن عبادة، فضجّ المسلمون بالبكاء، واجتمع حوله المهاجرون والأنصار، فقال قيس بن سعد: [من البسيط] هذا اللواء الَّذي كنا تَحُفُّ به ... دون النبيِّ وجبريلٌ لنا مَدَدُ ما ضَرَّ مَن كانت الأنصار عَيبتَه ... أن لا يكون له من غيرهم مَدَدُ (¬1) وقدَّم معاوية بين يديه كبيد الله بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف ينادون: يا دم عثمان، وعبيد الله يقول: [من الرجز] ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 346 (مخطوط).

أنا عبيد الله يَنْميني عمرْ خيرُ قريشٍ من مَضى ومن غَبَر قد أبطأت في نصر عثمانَ مُضرْ فصاح به أمير المؤمنين: يا فاسق كم تتعلَّل بدم عثمان والله، وأنا أطلبكم بدم الهُرْمُزان، والله لأقطعنّك إرْبًا إربًا وقال للأشتر: احمِلْ عليه، فحمل عليه فانهزم، والأشتر يقول: [من الرجز] إني أنا الأشتر معروفُ السِّيَر إني أنا الأفعى العراقيُّ الذَّكَرْ وقال أبو مخنف: خطب أمير المؤمنين بصفِّين فقال: يا أيها الناس، {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] وقرأ آيات الجهاد {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدِّموا الدّارع، وأخِّروا الحاسر. وأوصاهم (¬1) وقال: وإن هؤلاء القوم لم يقاتلونا على إقامة دين رأونا ضيَّعناه، وإحياء حقٍّ رأونا أمتناه، وإن يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا؛ ليكونوا فيها جبابرة ملوكًا، ولو ظهروا عليكم لرموكم بمثل سعيد، والوليد، وابن عامر الضال السَّفيه، فقاتلوا عباد الله المارقين الظالمين، الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا تأخذكم في جهادهم لومةُ لائم، فمتى ظهروا عليكم أفسدوا دنياكم ودينكم. قال هشام: واتَّصل القتال من ليلة الجمعة إلى الصباح، وهي ليلة الهَرير، وكانت ليلةً عظيمة مثلَ ليلة الهَدْأة بالقادسية، تطاعنوا بالرماح حتَّى تقصَّفت، وترامَوا بالنَّبْل حتَّى نَفِد، وتضاربوا بالسيوف حتَّى كَلَّت، وخفيت الأصوات، وغابت الأخبار عن أمير المؤمنين وعن معاوية. ويقال: إن أمير المؤمنين ثلم في تلك الليلة ثمانيةَ أسياف، وجُرح خمس جراحات؛ ¬

_ (¬1) في الطبري 5/ 17، ووقعة صفين 247 أن هذه الوصية ليزيد بن قيس الأرحبي حرّض الناس فيها على القتال.

ثلاثة في رأسه واثنان في وجهه. فلما طلع الصباح نادى منادٍ: يا أمَّة محمد، البقية البقية، تركتم الإسلام بعد ما دخلتم فيه، وأضعتم الصلاة، الله الله. وأصبح القتال بحاله، وحمل الأشتر بأهل العراق وربيعة على أهل الشام، فقتل صاحب رايتهم، فانتقضت صفوف أهل الشام، وأيقن معاوية بالهلاك. وقال ابن عبد البر، نادى حَوْشب الحميريّ: يا ابن أبي طالب، انصرف عنا، نَنشُدك اللهَ في دمائنا ودمك، ونُخلّي بينك وبين عراقك، وتُخلّي بيننا وبين شامنا، فقال أمير المؤمنين: هيهات يا ابن [أم] ظُلَيم، لو علمتُ أن المداهنة تَسَعُني في دين الله لفعلت، ولكن الله لم يَرض من أهل القرآن بالمداهنة وهم يطيقون الدفاع، حتَّى يَظهر أمرُ الله تعالى (¬1). وقال ابن إسحاق: أقاموا يتراسلون شهرًا، ويَفْزَعون فيما بين ذلك [الفَزعةَ بعدَ الفَزعة]، ويحجز بينهم القراء والصالحون، فيفترقون عن غير حرب، وكانوا يكرهون اللقاء مخافةَ الاستئصال، غير أنَّه كان يخرج الجماعة من هؤلاء وهؤلاء فيقتتلون بين العسكرين. قال: ودخل أبو أُمامة الباهليّ على معاوية فقال له: علام تقاتل عليًّا وهو أحق بهذا الأمر منك؟ فقال: أقاتله على دم عثمان، قال: أهو قتله؟ قال: آوى قتلتَه، فاسأله أن يُسلمهم إلينا فأنا أول مَن بايعه. فدخل على علي ومعه جماعة من الصحابة فقال: سلم إليهم قَتلَة عثمان، فاعتزل من عسكر علي زهاء عشرين ألف رجل، فصاحوا: نحن قتلْنا عثمان، فخرج [أبو] أُمامة فلحق بالساحل، ولم يشهد شيئًا من تلك الحروب (¬2). ولما نَشِبت الحرب جعل علي - عليه السلام - عمار بن ياسر على الخيل، وعلى الرجَّالة عبد الله بن بُدَيل بن وَرْقاء الخُزاعي، ودفع الراية العظمى إلى هاشم بن عُتبة المِرقال، وجعل على الميمنة الأشعث بن قيس، وعنى الميسرة عبد الله بن عباس، وعلى رجَّالة الميمنة سُليمان بن صُرَد، وعلى رجّالة الميسرة الحارث بن مُرَّة العبدي، وفي القلب [مضر، وقي الميمنة] ربيعة، وضمَّ قريشًا وأسدًا إلى ابن عباس، وضم كِندَة ¬

_ (¬1) الاستيعاب (598) وما بين معكوفين منه. (¬2) الخبر في وقعة صفين 190 والبداية والنهاية 2/ 507 وما بين معكوفين منهما.

إلى الأشعث بن قيس، وضم بكرًا إلى الحُضَين بن المنذر، وجعل عَمرو بنَ الحَمِق على خُزاعة، وكتَّب الكتائب، وفرَّق الأُمراء على القبائل (¬1). وأما معاوية فاستعمل على الخيل عمرو بن العاص، وعلى الرجَّالة مُسلم بن عُقبة المُرِّي، وعلى الميمنة عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى الميسرة حَبيب بن مَسلمة، ودفع اللوء الأعظم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، واستعمل على أهل دمشق الضَّحَّاك بن قيس، وعلى أهل حمص ذا كَلاع، وعلى أهل قِنّسرين زُفَر بن الحارث، وعلى أهل الأردن أبا الأعور السُّلَمي، وكتّب الكتائب، وفَرّق القبائل. ولما كان في اليوم الأول تقابلت الصفوف، فكان كلّ فريق سبعةَ صفوف، فوقفوا تحت رايتهم لا يَنطق أحدٌ منهم بكلمة، فخرج رجل من أهل العراق يُسمَّى حَجْل (¬2) بن أثال، وكان من فُرسان العرب، وطلب البراز وهو مُقَنّع بالحديد، فبرز إليه أبوه أثال وكان في أهل الشام، ولم يعرف أحدهما صاحبَه، فتطاعنا وتضاربا وتطاردا، فلم يترجّح أحدهما على الآخر، فحمل الأب على الابن فاحتضنه فقلعه من سرجه، فسقط وسقط الأب عليه، فانكشفت وجوههما فتعارفا، فرجع كلُّ واحدٍ إلى عسكره، ثم فصل بينهم الليل. ثم خرج في بعض الأيام عُتبة بن أبي سفيان، فوقف بين الصفين، فبرز إليه جَعْدَةُ بن هُبَيرة بن أبي وَهْب القرشي، فتجاولا وتقاولا، فأغضب جَعدةُ عُتبة، فشتمه عتبة، فحمل عليه جَعدة فانهزم، ثم خرج كلُّ واحد من الفريقين إلى الآخر على ما ذكرنا. قال: وحمل عبد الله بن بُدَيْل بن وَرْقاء على صفوف أهل الشام في القُرَّاء فخرقها، وقتل جماعةً، حتَّى انتهى إلى الرابية التي عليها معاوية فحالوا بينهما، ولم يعمل في ابن بُدَيل حديد لما كان عليه من اللّبس، فصاح معاوية: ويحكم إن الحديد لم يُؤذن له في هذا، فعليكم بالحجارة، فضربوه بالحجارة حتَّى مات، وجاء معاوية فوقف عليه وقال: هذا كَبْش القوم، وهو واللهِ كما قال الشاعر (¬3): [من الطويل] ¬

_ (¬1) انظر الأخبار الطوال 171، ووقعة صفين 205. (¬2) في (خ): جحد، والمثبت من الأخبار الطوال 173. (¬3) البيتان لحاتم الطائي، والأول في ديوانه 256، وهما في الأخبار الطوال 176، والطبري 5/ 24، ووقعه صفين 246، ومروج الذهب 4/ 373، وأنساب الأشراف 2/ 216 دون نسبة.

أخو الحربِ إن عَضَّت به الحربُ عَضَّها ... وإن شَمَّرت عن ساقها الحربُ شَمَّرا كلَيثِ عَرِين بات يحمي عَرينَه ... رَمَتْه المنايا قَصْدَها فَتَقَطَّرا قالا: ونادى علي معاوية: ابرُز إليّ يا ابنَ هند حتَّى نُريحَ الناس، فقال معاوية لعمرو: ما ترى؟ قال: قد أنصفك الرجل، فابرز إليه، فقال معاوية: أتخدعُني عن نفسي، ثم قال: [من الكامل] ما للملوك وللبِراز وإنما ... حَظُّ المبارِزِ خَطْفَةٌ من بازِ ثم هجر معاويةُ عمرًا أيامًا. وقال أبو مَعْشَر: قال عمرو: أنا خارجٌ إلى علي غدًا، فبرز من الغد ونادى: يا أبا الحسن، اخرج إليّ فأنا عمرو بن العاص، فانتضى أمير المؤمنين سيفه، وحمل عليه، فلما أراد أن يَغشاه رمى بنفسه عن فرسه، ورفع إحدى رجلَيه فبدت عورته، فصرف أمير المؤمنين وجهه عنه وتركه، فانصرف عمرو إلى معاوية فقال له: يا عمرو، أحمد الله وسواد استِك. قال: وخرج عبيد الله بن عمر في بعض أيام صفّين فقال: أنا الطيّب بن الطيّب، فناداه عمار: يا ملعون، بل أنت الخبيث بن الطيّب. قال ابن إسحاق: وكان أهل العراق وأهل الشام أيام صفين إذا انصرفوا من الحرب يدخل كلّ فريق منهم في الفريق الآخر، فلا يتعرَّض أحد لصاحبه، يستخرجون قتلاهم فيدفنونهم ناحية عن المعركة. وروى أبو مخنف، عن الأعمش، عن أشياخه قالوا: شاع خبر أمير المؤمنين في تلك الأيام أنَّه يقصد أهل الشام فيقاتلهم حتَّى يحكم الله بينه وبينهم، ففزع أهل الشام خوفًا على الفريقين من البوار، وبلغ معاوية فصفّ الصفوف، فصفّ أهلَ الشام على ترتيبهم، وارتجز عمرو بن العاص بين يدي الصفوف فقال: يا أيها الجيشُ الصَّليبُ الإيمانْ قوموا قيامًا فاستغيثوا الرحمانْ

حديد رفع المصحف

إني أتاني خبرٌ فأبكان (¬1) أن عليًّا قتلَ ابنَ عَفَّانْ رُدُّوا علينا شيخَنا كما كانْ وصعد معاوية على رابية، ونصب سريرًا عاليًا، وقعد عليه ينظر إلى الفريقين، فحمل أمير المؤمنين، وكبَّر وكبر الناس، فانتقضت صفوف أهل الشام، وانتهت الهزيمة إلى معاوية، فتطاعنوا بالرِّماح حتَّى تقصَّفت، وتثلَّمت السُّيوف، وتكادموا بالأفواه، ثم تنادوا من كل جانب يا معشر العرب، اللهَ الله، البقيَّة البقية. وأمير المؤمنين يَنغمس في القوم، فما يَنصرف حتَّى يَنثني سيفُه، وقربوا من سُرادق معاوية، فهرب معاوية وعمرو بن العاص عن السّرادِق، فغَشَوه بأسيافهم فقطّعوه. وكان عامة المهاجرين والأنصار ومَن شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد ممن حضر الجمل وصفين لم يشهروا سيفًا، ويقولون: الأمر مُلتَبِس، إلى أن قُتل عمار، فتنادَوا: استبان الأمر بقتل العبد، وكبَّروا تكبيرةً ارتجَّ لها العسكر، وصاحوا: طاب الضِّراب اليوم، وحملوا فقتلوا في أهل الشام مَقتلةً لم يُرَ مثلُها، وجعل المهاجرون والأنصار يقولون: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقُتل المِرْقال. حديد رفع المصحف واختلفوا فيه: روى أبو مخنف عن أشياخه قالوا: لما رأى عمرو بن العاص صفوف أهلِ الشام قد انتَقضت خاف الهلاك، فقال لمعاوية: هل لك في أمر أعرِضه عليك لا يَزيدنا إلا اجتماعًا، ولا يزيدهم إلا فُرقة؟ ! قال: نعم. وفي رواية هشام أن السائل لعمرو معاوية؛ لما رأى الغَلَبة وخاف الهلاك قال لعمرو: هل من حيلة، فهذا وقت مُخَبّآتك وهناتك. رجع الحديث إلى أبي مِخنف قال: فقال له عمرو: نرفع المصاحف على رؤوس الرماح، ثم تقول: ما فيهم حَكَمٌ بيننا وبينكم، فإن أبي بعضُهم أن يقبلها وجدتَ فيهم ¬

_ (¬1) في (خ): السليب الإيمان، خبرًا فأبكاني، والمثبت من الأخبار الطوال 185، ووقعة صفين 228.

من يقول: بل ينبغي أن نَقبل، فتقع الفرقة بينهم، وإن قالوا: بلى نقبل ما فيها؛ رفعنا هذا القتال والحربَ إلى أجل. فرفعوا المصاحف على الرِّماح وقالوا: هذا كتابُ الله بيننا وبينكم، مَن لثُغور المسلمين من أهل العراق، مَن لثغور أهل الشام؟ فلما رأى الناس المصاحف قد رُفعت قالوا: نُجيب إلى كتاب الله ونُنيب إليه. وقال هشام: قال الأشعث بن قيمص لقومه: قد رأيتم ما كان في اليوم الماضي من الحرب المُبيرة (¬1)، وإنا والله لئن التقينا غدًا إنه لبَوار العرب، فانطلقت العيون بكلام الأشعث إلى معاوية فقال: صدق الأشعث، لئن التقينا غدًا لتميلَنّ الرومُ على ذَراري أهل [الشام، وليميلنّ دَهاقين فارس على دراري أهل] العراق (¬2)، وما يُبصر هذا الأمر إلا ذوو الأحلام، اربطوا المصاحف على أطراف القنا، فرُبِطت. فأولُ مُصحفٍ رُبط مصحف دمشق الأعظم، ورُفع على خمسة أرماح، يحملها خمسة رجال، ثم رفعوا جميع ما كان معهم على القنا، وأقبلوا في الغَلَس ولم يعلم أهل العراق ما معهم حتَّى أضاء الصبح، فتقدّم بين يدي المصاحف جماعة منهم: شُرَيح (¬3) الجُذاميّ، ووَرْقاء بن المُعَمّر (¬4)، فنادَوا: الله الله [في نسائكم وأولادكم]، بيننا وبينكم كتاب الله، فقد فَنينا، فقال أمير المؤمنين: والله ما الكتابَ تريدون، وإنما المكر تُحاولون. وتكلّم أصحاب عليّ - عليه السلام -؛ فقال الحُضَين بن المُنذر: أيَّها الناس، إن لنا داعيًا قد حَمِدنا ورْدَه وصَدَرَه، وهو المأمون على [ما فعل، فإن قال لا، قلنا: لا، وإن قال: نعم، قلنا نَعم. فتكلّم علي وقال: ] عباد (¬5) الله، نحن أولى مَن أجاب إلى كتاب الله، غير أن القوم قد عضَّتهم الحربُ فقصدوا المكرَ والخَديعة. ¬

_ (¬1) في (خ): هل رأيتم ... الميثرة، والمثبت من (ع) ووقعة صفين 480 - 481، والأخبار الطوال 188. (¬2) ما بين معكوفين من الأخبار الطوال 189، ووقعة صفين 481. (¬3) في وقعة صفين 478: أبو شُريح. (¬4) في (خ): المعتمر، والمثبت من الأخبار الطوال ووقعة صفين. (¬5) ما بين حاصرتين من الأخبار الطوال 189 - 190، ووقعة صفين 485 - 486.

وقال الأشعث بن قيس: يا أمير المؤمنين، نحن لك اليوم على ما نحن عليه -أو على ما كنّا عليه لك أمس- غير أن الرَّأي إن رأيتَ إجابة القوم إلى كتاب الله حكمًا. وأما عديّ بن حاتم وعمرو بن الحَمِق فلم يريا ذلك، ولم يُشيرا على عليٍّ به. رجع الحديث إلى أبي مِخْنف قال: قال عليّ لما رُفعت المصاحف وقال أصحابُه: نُجيبُ إلى كتاب الله: يا عباد الله، امضوا على حقِّكم وصدقكم وقتال عدوَّكم، فإن معاوية وعمرو بنَ العاص وابنَ أبي مُعَيط وحَبيب بنَ مَسْلَمة وابنَ أبي سَرْح والضَّحّاك بن قيس ليسوا لأصحاب دِينٍ ولا قرآن، أنا أعرفُ بهم منكم، قد صحبتُهم أطفالًا ورجالًا؛ فكانوا شرّ أطفال وشرَّ رجال، ويحكم والله ما رفعوها أنهم يعلمون ما فيها، وإنما هو مَكرٌ وخديعة، ووهن (¬1) ومَكيدة، فقالوا: ما يَسَعُنا أن نُدعى إلى كتاب الله فنتأبّى عليه، وإنما نقاتلهم ليَدينوا بحكم الكتاب (¬2). وكان أشدَّهم عليه الأشعث بن قيس لعزله إياه عن أرمينية، فنهاهم أمير المؤمنين فما انتَهوا، وناداه مِسْعَر بن فَدَكيّ التّميمي وزيد بن حُصَين الطّائي ثم السِّنْبِسيّ في عصابة من القُرَّاء الذين صاروا خوارج بعد؛ منهم ابن الكَوّاء: يا عليّ، أجب إلى كتاب الله إذْ دُعيتَ، وإلا ندفعك برُمَّتك إلى القوم، أو نفعل بك كما فعلنا بعثمان، أو بابن عفّان. قال: احفظوا مقالتكم هذه، فإن أطعتموني فقاتلوا، وإن عصيتموني فاصنَعوا ما بدا لكم، فقالوا: فابعث إلى الأشتر فليأتك. قال: فأرسل علي إلى الأشتر يزيد بن هانئ السَّبيعي: أن أئتِني، فأتاه فقال: ائت أميرَ المؤمنين، فقال: قل له: قد لاح الفتحُ فلا تعجلْني، وليست هذه الساعة التي ينبغي أن آتيك فيها، ولا تُزِلْني عن موقفي، فرجع يزيد إلى علي فأخبره، فارتفعت الأصوات من قِبل الأشتر، فقال القوم: والله ما نراك أمرتَه إلا بالقتال، فقال: رأيتموني سارَرْتُه؟ أما كلَّمتُه على رؤوس الملأ، فقالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا اعتزلناك، فعاد إليه يزيد وقال: ويحك أقبلْ فقد وقدت الفتنة، فقال: أرُفعت المصاحف؟ قال: نعم، قال: والله إنها لمَشورة ابنِ العاهرة؛ يعني عمرو بن العاص، ¬

_ (¬1) في (خ): ووهنًا، وفي الطبري 5/ 49: ما رفعوها لكم إلا خديعة ودهنًا ومكيدة. (¬2) في الطبري: فقال لهم [علي]: فإني إنما قاتلتهم ليدِينوا بحكم هذا الكتاب.

ويحك أما ترى الفتح؟ فقال: أقبل إليه فقد قالوا: إنا نفعل به كما فعلنا بابن عفّان. فأقبل الأشتر إليهم وقال: يا أهل العراق، يا أهل الشِّقاق والنَّفاق، يا أهل الذُّلِّ والوَهَن، حين عَلَوتم القوم ظَهْرًا، وظَنّوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؛ وقد تركوا والله ما أنزل الله فيها، وسنَّةَ مَن أُنزلت عليه. ويحكم، أمهلوني فُوَاقًا (¬1)؛ فإني قد أحسستُ بالفتح، قالوا: لا، قال: أَمهلوني عَدْوَ الفرس، قالوا: إذًا ندخك معك في خطيئتك، وجرت بينهم مُنازعات، قال: ويحكم، كيف بكم وقد قُتل خيارُكم وبقي أراذلُكم؟ ! فمتى كنتم مُحقّين؟ أخَير كنتم تقاتلون أم الآن خير، فما حال قتلاكم الَّذين لا تُنكرون فضلَهم؟ أفي الجنّة أم في النار؟ قالوا: قاتلناهم في الله، ونَدَعُ قتالهم في الله، فقال الأشتر: يا أصحاب الجِباه السُّود، كنا نظنُّ صلاتكم زهادةً في الدنيا، وشوقًا إلى الله، فلا أرى فِرارَكم إلا من الموت، فسَبُّوه وسَبَّهم، وضربوا وجه دابّته، وضرب وجوه دوابّهم بسَوْطه، فصاح بهم علي: كفُّوا فكفُّوا. وكان الأشتر في ناحية المَيْمنة وقد أشرف على النَّصْر والظَّفَر، فامتنع من المجيء إلى عليّ، فقال له يزيد: ويحك، أينفعُك الظَّفَرُ هاهنا وأمير المؤمنين بين أعدائه يتهدَّدونه بالقتل. وقال ابن إسحاق: رفعوا خمس مئة مصحف، فقال النجاشي بن الحارث: [من الطويل] فأصبح أهلُ الشام قد رفعوا القَنا ... عليها كتابُ الله خيرُ قُرانِ ونادَوا عليًّا يا ابنَ عمِّ محمدٍ ... أما تتَّقي أن يَهلك الثَّقَلانِ (¬2) ثم قال أمير المؤمنين: واعجبًا، يُطاع معاوية وأُعصى أنا، لله دَرُّ ابنِ عبّاس فإنه ينظر إلى الغيب من سِترٍ رقيق. قال ابن الكلبي: كان ابن عباس قد قال لأمير المؤمنين في أول الأمر: ابعثني إلى ¬

_ (¬1) الفُواق: ما بين الحَلْبَتَيْنِ من الوقت، ويعني به هنا وقتًا قصيرًا. (¬2) مروج الذهب 4/ 378، ووقعة صفين 525.

معاوية أكن بينك وبينه، فوالله لأَفتلَنّ لك حبلًا لا ينقطع وسَطُه، ولا ينتقض طرفاه، فقال علي: والله لأُعطينّه السيف حتَّى يغلبنّ الحقُّ الباطل، قال ابن عباس: أوَغير هذا؟ قال: وما هو؟ قال: تُطاع فلا تُعصى، وعن قليل تُعصى فلا تُطاع، فكان كما قال (¬1). وجاء الأشعث بن قيس إلى علي - عليه السلام -، فاستأذنه في الذّهاب إلى معاوية يسأله عن رفع المصاحف، فأذن له، فأتاه فقال: يا معاوية، لأيّ شيءٍ رفعتم هذه المصاحف؟ فقال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به من كتابه، تبعثون رجلًا منكم ممن تَرضَون به، ونبعث رجلًا منا ممن نرضى به، ثم نأخذ عليهما العهود أن يَعملا بما في كتاب الله تعالى، ثم نتَّبع ما اتفقا عليه، فقال الأشعث: هذا هو الحق، ثم عاد إلى علي فأخبره، فقال الناس: قد رَضِينا وقبلنا، وقال أمير المؤمنين: خديعة ومَكيدة. هذه رواية أبي مِخنف. وأما الواقدي وابن إسحاق وهشام بن محمد فإنهم رووا عن مشايخهم أنهم قالوا: لما أجاب أمير المؤمنين إلى حكم القرآن قام معاوية في أهل الشام فقال: أيها الناس، إن الحرب قد طالت بيننا وبين هؤلاء القوم، وإن كلَّ واحد منا يظنُّ أنَّه على الحق وصاحبه على الباطل، وإنا قد دعوناهم إلى كتاب الله والحكم به، فإن قَبلوه وإلا كنا قد أعذرْنا إليهم. ثم كتب معاوية إلى أمير المؤمنين: إن أول ما يُحاسب على هذا القتال أنا وأنت، وأنا أدعوك إلى حَقْن الدماء، واجتماع الناس والكلمة، واطِّراح الضغائن، وأن يحكم بيني وبينك القرآن. فكتب إليه أمير المؤمنين: دعوتَ إلى حكم القرآن، وإني أعلمُ أنك لا تُحاول حكمَ القرآن، وقد أجبتُ القرآن إلى حكمه لا إيّاك، ومن لم يَرْضَ بحكم القرآن فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا. قالوا: وكتب عمرو إلى أمير المؤمنين: أما بعد، فقد أنصف مَن جعل القرآن حكمًا، فصبْرًا أبا حسن؟ فإنا غيرُ مُنيليك إلا ما أنالك القرآن. ¬

_ (¬1) انظر العقد الفريد 4/ 346.

ذكر اجتماع الفريقين على التحكيم

فكتب إليه أمير المؤمنين. أما بعد فإن الدنيا زائلة، فلا تُحبط عملَك بموافقة معاوية على باطله، ولو اعتبرتَ بمَن مضى انتفعتَ بما بقي والسلام. ذكر اجتماع الفريقين على التحكيم قال علماء السير ممن سمَّينا، دخل حديث بعضهم في بعض: لما تراضى الفريقان على تحكيم الحكمين اجتمع قُرّاء العراق [وقرّاء] أهل الشام، فقعدوا بين الصفين، ومعهم المصاحف يتدارسونها، فقال أهل الشام: فإنا قد اخترْنا عمرو بن العاص، وقال الأشعث بن قيس ومن معه من قُرّاء أهل العراق: وقد رضينا نحن بأبي موسى الأشعري، فقال علي: فإنكم قد عصيتموني في أول الأمر، فلا تعصوني في آخره الآن، إني لا أثق بأبي موسى ولا بحَزْمه، وإنه غير ثقة ولا مأمون، قد خَذّل الناس عني، ثم هرب مني حتَّى آمنتُه، ولكن أجعل لذلك عبد الله بن عباس، فقالوا: والله ما نُبالي أكنت أنت أم ابن عباس، وأيّ فرقٍ بينك وبينه، فأنت منه وهو منك، وأبو موسى لم يزل مُعتزلًا ما نحن فيه، وإنما نُريد رجلًا ليس منك ولا من معاوية. قال علي - عليه السلام -: فلِمَ ترضون لأهل الشام بعمرو بن العاص؟ قالوا: أولئك أعلم، إنما علينا أنفُسَنا. قال: فإني أجعل الأشتر، فقال الأشعث بن قيس ويزيد بن خطّاب (¬1) ومسعود بن فَدَكي ورؤس الخوارج: وهل سَعَّر البلادَ والدنيا غير الأشتر، وهل نحن إلا في حكم الأشتر؟ فقال علي: فما حُكمُه؟ قالوا: أن يَضرب بعضُنا بعضًا بالسيوف حتَّى يكون ما أردتَ وما أراد، قال علي: فقد أبيتُم إلا أبا موسى؟ ! فأصنعوا ما بدا لكم. قال: فبعثوا إلى أبي موسى، وكان قد اعتزل الناس، وهو بعُرْض، مكان بالشام (¬2)، فدخل عليه مولى له، فقال له: قد اصطلح الناس، فقال: الحمد لله رب العالمين، قال: وقد جعلوك حَكمًا، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال هشام بن محمد: وكان أبو موسى يقول قبل ذلك: إن الفتن لم تزل في بني ¬

_ (¬1) كذا، وهو خطأ صوابه: زيد بن حُصين. (¬2) بين تدمر والرصافة. معجم البلدان.

إسرائيل ترفعهم وتضعهم حتَّى يبعثوا حكَمين يحكمان حُكمًا لا يرضى به أحد الفريقين، وهذه الأمة كذلك، فقال له سُويد بن غَفَلة: فإن أدركتَ ذلك الزمان فاحذرْ أن تكون أحد الحَكَمين، فقال: لا جعل الله لي في الأرض مَقعدًا إن فعلتُه، فلما حكم أبو (¬1) موسى لقيه سُويد فقال: أتذكر كذا وكذا، فقال: اسأل الله العافية. قلت: وقد أخرج هذا المعنى أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" مرفوعًا إلى سُويد بن غَفَلة قال: سمعت أبا موسى يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكون في هذه الأمة حَكَمان ضالّان؛ ضل من اتَّبعهما". قال سُويد: فقلت له: احذَرْ أن تكون أحدهما، قال: فوالله ما مات حتَّى رأيتُه أحدهما (¬2). قالوا: وهذا الحديث لا يصحُّ مرفوعًا، وإنما هو موقوف على أبي موسى. قالوا: وجاء أبو موسى، فدخل عسكر أمير المؤمنين، فولَّوه الأمر فقبله، ورضوا به، وجاء الأحنف بن قيس إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، إنك قد رُميتَ بحجَر أهل الأرض، وداهية العرب، وبمن حارب الله ورسولَه، وإني قد عَجَمْتُ هذا الرجلَ، وحلبتُ أشطُرَه -يعني أبا موسى- فوجدتُه كَليلَ الشَّفرة، قريبَ القَعْر، وإنه لا يَصلحُ لهذا الأمر إلا رجل يَدنو من صاحبه حتَّى يكون في كفّه، ويَبعد عنه حتَّى يكون بمكان النجم منه، فإن شئتَ أن تجعلني حكَمًا فافعل، وإلا فاجعلني ثانيًا أو ثالثًا؛ فإنه لن يَعقِد عُقدةً إلا حَلَلْتُها، ولن يَحلَّ عُقدةً إلا عقدتُ له أخرى، فإن قلتَ: إني لستُ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فاجعلني وزيرًا ومُشيرًا. فقال علي: إن القوم قد أبَوا إلا أبا موسى، والله بالغُ أمرِه. فقال الأحنف للناس: قد أبيتُم إلا عبدَ (¬3) الله بنَ قيس؟ ! فأدفِئوا ظهرَه بالرِّجال، فقال أيمن بن خريم الأسدي من أهل الشام وكان معتزلا للفريقين: [من البسيط] لو كان للقوم رأيٌ يهتدون به ... بعد القضاءِ رَمَوكم بابن عبَّاسِ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): أبي، والخبر في مروج الذهب 4/ 383 - 384. (¬2) تاريخ دمشق 36/ 382 وأخرجه من طريق الطبراني، ثم نقل عنه قوله: هذا عندي باطل. وانظر مجمع الزوائد 7/ 492 - 493. (¬3) في (خ) و (ع): أبا عبد الله، وهو خطأ.

لكن رَمَوكم بشيخ من ذوي يَمَنٍ ... لم يَدْرِ ما ضَرْبُ أخماسٍ وأسداسِ (¬1) وقال أمير المؤمنين: وإنهم فعلوا ذلك بغير رِضىً منّي. وقال الجاحظ: قيل لابن عباس ما منع أمير المؤمنين أن يبعثك في نوبة التحكيم؟ فقال: قد أشرتُ عليه فامتنع؛ لأن الأشعثَ بن قيس ومَن خرج عليه أبَوا ذاك، والله ما منعه إلا حائلُ القَدَر، وقِصَرُ المدّة، ومِحْنَةُ الابتلاء (¬2). رجع الحديث: ثم اجتمعوا بين يدي أمير المؤمنين، وكتبوا كتابَ الصُّلح. قال أبو مخنف وهشام وغيرهما: وصورة الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فقال عمرو بن العاص: اكتبوا اسمَه واسمَ أبيه فإنه أميركم، فأما أميرُنا فلا، فتوقّف الحال، فقال له الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، لا تَمْحُ اسم إمارة المؤمنين؛ فإني أخاف إن محوتَها ألا ترجع إليك أبدًا، لا تمحها وإن قتل بعض الناس بعضًا، والله لقد بايعناك ونحن نعلم أنك أحقُّ بهذا الأمر من جميع الناس، ولو علمنا أن غيرك أحقُّ منك لبايعناه، والله لئن استَنَّيتَ بسُنَّة الكفار لا يرجع إليك هذا الاسم أبدًا. فكان الحسن البصري يقول: لله درُّ الأحنف، قلّما وزن برأيه رأي إلا رجح. وأقام القوم مليًّا من النهار، ثم قال علي امحه، ثم قال: الله أكبر، سُنَة بسنة، ومثل بمثل، والله إني لكاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية إذ قالوا: لست برسول الله، ولا نشهد لك بذلك، اكتب اسمك واسمَ أبيك. فقال عمرو بن العاص: سبحان الله أنُشَبّه بالكفَّار ونحن مؤمنون أو مسلمون، فقال له أمير المؤمنين: يا ابن النَّابغة، ومتى لم تكن عدوًّا للمسلمين، أو ومتى لم تكن للفاسقين وليًّا، وللمسلمين عدوًّا، وهل تُشبه إلا أمّك التي دفعت بك؟ فقال الأشتر: دعني أضربْ عُنقَ عدوِّ الله، فقال علي: دَعْه، فقام عمرو قائمًا وقال: لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم، فقال أمير المؤمنين: إني لأرجو أن يُطَهِّر الله مجلسي منك ومن أشباهك، وكتبوا الكتاب. ¬

_ (¬1) الأخبار الطوال 193، ووقعة صفين 502. (¬2) ذكره السعودي في مروج الذهب 5/ 232 - 233 دون نسبة.

وذكر الطبري (¬1) عن الحسن قال: أخبرني الأحنف أن معاوية كتب إلى أمير المؤمنين أن: امْحُ هذا الاسم إن أردتَ أن يكون بيننا صُلْح، فاستشار عليّ بني هاشم، فقال له الأحنف ما قال. وفي رواية هشام: فأُخبر معاوية فقال: بئس الرجل أنا إن أقررتُ أنَّه أمير المؤمنين ثم أقاتله. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف قال: فكتبوا الكتاب وفيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل الكوفة ومَن معه من شيعته من المسلمين والمؤمنين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومَن معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين؛ أنهما نزلا على حكم الله وكتابه، يُحييا ما أحيا، ويُميتا ما أمات، فما وَجد الحكمان في كتاب الله -وهما أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري، وعمرو بن العاص القرشي- عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله ففي السنة العادلة الجامعة غير المفرِّقة (¬2)، والحكمان أمينان على أنفسهما والأمة، وقد وَضعا السلاح بينهما إلى مدة وأجل وهو رمضان، ثم يحكمان بين هذه الأمة، ولا يَرُدَّاها في حرب ولا فُرقة، وإن أحبا أن يُؤخِّرا الأجل عن تراضٍ منهما فعلا، وإن مكان قَضيّهما الَّذي يقضيان فيه مكان عدل بين الكوفة والشام، ولا يحضرهما إلا من أرادا. ثم شهد الشهود على ذلك: الأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمْداني، وجماعة من أصحاب أمير المؤمنين، ومن أصحاب معاوية: أبو الأعور السُّلَمي، وحبيب بن مَسْلَمة الفِهريّ، وعتبة بن أبي سفيان. وذكر أبو مخنف كلامًا طويلًا اختصرتُه. وقال ابن إسحاق: كان في الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علي ومعاوية وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وأن يقفا عند حكم القرآن، فإن لم ¬

_ (¬1) في تاريخه 5/ 53. (¬2) في (خ): المتفرقة، والمثبت من الطبري 5/ 53.

يجدا ففي السنة ... وذكر بمعنى ما تقدم، وقال: فإن تُوفّي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة؛ فلشيعته أن يختاروا مكانَه رجلًا ممن يَرْضَون به من أهل الصلاح والعدل ... وذكر كلامًا طويلًا. وذكر أنَّه كان من شهود الكتاب من أصحاب أمير المؤمنين: الحسن والحسين، ومحمد بن الحنفية، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وسهل بن حُنَيف، وعقبة بن عامر الجُهَنيّ، ورافع بن خَديج الأنصاري، وعمرو بن الحَمِق، وحُجْر بن عديّ الكنديّ، وذكر جماعة آخرين منهم الأشتر، وهو وَهْم لأن الأشتر ما حضره. قال: ومن أهل الشام: حَبيب بن مَسْلَمة الفِهريّ، وأبو الأعور السُّلَميّ، وبُسْر بن أرطاة القُرشيّ، ومعاوية بن خَديج الكِنديّ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعُتبة ومحمد ابنا أبي سفيان أخوا معاوية، وذكر جماعة آخرين، وكُتب يوم الأربعاء لثلاث عشرة [ليلة] بقين من صفر سنة سبع وثلاثين، وإنْ رأيا لم يجتمعا في رمضان في هذا العام أن يُؤخّرا ذلك العام القابل فعلا (¬1). قلت: وهذه الرواية أحسن من رواية أبي مخنف؛ لأن هؤلاء أعيان الفريقين. رجع الحديث إلى أبي مخنف قال: لما كتب الكتاب دعا علي الأشتر فقال: اشْهَد، فقال: لا صَحبتني يميني، ولا نفعتني بعدها شمالي إن خُطّ لي في هذه الصحيفة اسم على صُلح ولا موادَعة، أو لست على بيّنة من ربي، [ويقين] من إضلال عدوّي، أو لستم قد رأيتم الظَّفَر، أو لم تُجمعوا على الحق؟ فقال الأشعث بن قيس: والله إنك ما رأيت ظَفرًا ولا خَوَرًا، هلُمَّ إلينا فإنه لا رغبة بك عنّا، فقال الأشتر: بلى والله إن الرغبة عنك في الدنيا والآخرة، ولقد سَفَك الله بسيفي هذا دمَ رجالٍ ما أنت خير منهم عندي، ولا أحرَمُ دمًا، فسكت الأشعث. وقال أبو مِخنف: وخرج الأشعث بذلك الكتاب يقرؤه على الناس، ويعرضه عليهم، حتَّى مرَّ بطائفةٍ من بني تميم؛ فيهم عُروة بن أُدَيَّة، وهو أخو أبي بلال، فقال ¬

_ (¬1) الأخبار الطوال 194 - 196، ووقعة صفين 504 - 508، وما بين حاصرتين منهما.

عُروة: أتُحكِّمون في أمر الله الرجال؟ ؛ ! ثم شدَّ بسيفه فضرب عَجُز دابّة الأشعث ضربةً خفيفة، واندفعت الدابة، وصاح به أصحابه أن املك يدَك، ثم اعتذر أصحاب عروة وسادات بني تميم إلى الأشعث فقبل وصفح. وقال الواقدي: خرج الأشعث بالكتاب فجعل يمرُّ به على القبائل، فقال أخوان من عَنَزَة - اسم أحدهما جعدة والآخر مَعْدان: لا حُكْمَ إلا لله، ثم شَدّا على أهل الشام، فقاتلا حتَّى قُتلا، فهما أول من حكَّم. ثم مرّ على رايات مُراد، فقرأه عليهم، فقال صالح بن سفيان (¬1) وكان من أفاضلهم: لا حُكم إلا لله وإن كره المشركون، ثم مر الأشعث على رايات بني راسِب فتنادَوا: لا حكم إلا لله. وقال ابن إسحاق: قال عروة بن أدَيَّة: أتُحكِّمون في دين الله [الرجال]؟ ! فأين قتلانا يا أشعث، ثم حمل عليه بسيفه فأخطأه. وجاء مُحرِز بن حُبَيْش (¬2) إلى علي، فقال له: أما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل، أما والله إني لخائف أن يُورثَك ذُلًا، قد انتقضت القبائل عليك، فقال علي: أبعد أن كتبناه نَنقُضُه كيف يجوز ذلك؟ ! وقد ذكرنا أن تاريخ الكتاب في صفر، وأن يكون اجتماع أمير المؤمنين ومعاوية في رمضان، ومع كلّ واحد منهما نَفَرٌ يسير من أصحابه، إما بدَوْمَة الجَنْدل، أو بأَذْرُح، ومع كل واحد خمس مئة أو أقل، ورحل معاوية إلى الشام بالألفة من أهل الشام، ورحل أمير المؤمنين إلى العراق بالاختلاف والافتراق. وقد حكى ابن سعد طرفًا من هذا فقال: ثم خرج علي يريد معاوية ومن معه من أهل الشام، فالتقوا بصفّين في صفر سنة سبع وثلاثين، فلم يزالوا يقتتلون بها أيامًا. وقُتل بصفين عمار بن ياسر، وخُزَيمة بن ثابت، وأبو عَمْرة المازني، وكانوا مع علي. قال ابن سعد: ورفع أهل الشام المصاحف يدعون إلى ما فيها مكيدة من عمرو بن ¬

_ (¬1) في الأخبار الطوال 197: شقيق. (¬2) في الأخبار الطوال 197: خُنيس، وفي وقعة صفين 519: جريش.

ذكر عدد الفريقين ومن قتل منهم

العاص، أشار بذلك على معاوية وكان معه، فكره الناس الحربَ، وتداعو إلى الصُّلح، وحكَّموا الحكمين، فحكّم علي أبا موسى، وحكّم معاوية عمرًا، وكُتب بينهم كتاب على أن يوافوا رأسَ الحَوْل بأذْرُح، فينظرون في أمر هذه الأمة، فافترق الناس، فرجع معاوية بالألفة من أهل الشام، وانصرف علي إلى الكوفة بالاختلاف والدَّغَل، فخرجت عليه الخوارج من أصحابه ومَن كان معه (¬1). وسنذكر تمامه في موضعه. ذكر عدد الفريقين ومَن قُتل منهم حكى جدّي رحمه الله في "المنتظم" (¬2) عن أبي الحسن بن البراء قال: قُتل بصفّين سبعون ألفًا، خمسة وعشرون ألفًا من أهل العراق، وخمسة وأربعون ألفًا من أهل الشام، فمن أصحاب أمير المؤمنين خمسة وعشرون بدريًّا، وكان المقام بصفّين مئة يوم وعشرة أيام، وكان فيه تسعون وقعة. وحكى عن سيف أنَّه قال: أقاموا بصفين تسعة -أو سبعة- أشهر، وكان القتال بينهم سبعين زَحْفًا، وقُتل في ثلاثة أيام سبعون ألفًا من الفريقين. قال: وقال الزهري (¬3): بلغني أنَّه كان يُدفن في القبر الواحد خمسون رجلًا. قال: وقال ربيعة بن لَقيط: مطرت السماء عليهم دمًا كانوا يأخذونه بالآنية. وقال أبو اليقظان: سار أمير المؤمنين إلى صفين في تسعين ألفًا، ومعاوية في عشرين ومئة ألف. وقال هشام: قُتل عمار في صباح ليلة الهَرير ومَن معه. وقال الزبير بن بكار: شهد صفين مع علي من أهل بدر سبعة وثمانون رجلًا، منهم سبعة عشر من المهاجرين، وسبعون من الأنصار، وتسعون صحابيًّا ممن شهد بيعة الرضوان. قال: وكان بينهم سبعون وقعة، وربما اقتتلوا في اليوم مرتين، وقُتل من أصحاب ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 30. (¬2) 5/ 120. (¬3) في (خ): الجوهري، وهو خطأ، والمثبت موافق للمنتظم 5/ 123.

ذكر رجوع أمير المؤمنين إلى الكوفة

معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وذو كلاع وغيرهما. وسنذكرهم في آخر السنة. وقال أبو مخنف: حدثني فُضَيل بن خَديج قال: قيل لعلي - عليه السلام - بعدما كُتبت الصحيفة: إن الأشتر لا يُقرُّ بما فيها، ولا يرضى إلا بالقتال، ولا يرى غيره، فقال علي عليه السلام: وأنا والله ما رضيتُ، ولا أحببتُ أن ترضَوا، فأما إذا أبيتم إلا الرِّضا فقد رضيتُ، ويا ليت لي فيكم مثل الأشتر اثنين، يا ليت فيكم مثله واحدًا يرى في عدوّي ما أرى، وقد نهيتُكم عما أتيتم فعصيتموني، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن: [من الطويل] فهل أنا إلا من غَزِيَّةَ إن غَوَتْ ... غَويتُ وإن تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ ثم أمر أمير المؤمنين الحارث الأعور فنادى في الناس بالرَّحيل (¬1). ذكر رجوع أمير المؤمنين إلى الكوفة قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جُندب، عن أبيه قال: لما انصرفنا مع أمير المؤمنين من صِفّين أخذ غير الطريق الَّذي أقبل منه، فسلك على شاطئ الفرات، فانتهى إلى هِيت، ثم أخذ على صَنْدُوداء، فخرج إليه الأنصاريُّون بنو سعد بن حرام فاستقبلوه، وعرضوا عليه النُّزول، فبات بهم. ثم سار نحو النُّخَيلَة، ولاحت له بيوت الكوفة؛ وإذا بشيخ جالسٍ في ظلِّ بيت، على وجهه آثار مرض، فسلّم عليه علي فردَّ ردًّا حسنًا ظننا أنَّه قد عرفه، فقال له: أرى على وجهك آثار المرض فلعلك كرهتَه؟ قال: ما أحبُّ أنَّه بغيري، قال: فمن أنت؟ قال: صالح بن سُلَيم، والأصل من سَلامان، فقال: ما أحسن اسمَك واسم أبيك ومَن اعتزيتَ إليه، ثم قال: هل شهدتَ غَزاتنا هذه؟ قال: والله قد أردتُ ذلك، ولكن منعني المرض، فقرأ أمير المؤمنين {لِيسَ عَلَى الْضُّعَفَاءِ} إلى قوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ثم قال له علي: أخبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟ قال: فيهم المَسْرور بما كان بينك وبينهم، وأولئك أغِشاء الناس، وفيهم المكبوت الآسف بما كان من ذلك، وأولئك نُصحاء الناس، فدعا له علي وجزاه خيرًا وقال: جعل الله ما كان من مرضك حَطًّا لسيئاتك. وذكر ألفاظًا أُخَر. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 59، والبيت لدريد بن الصّمة، وهو في ديوانه 47.

قال: ثم سار غير بعيد، فلقيه عبد الله بن وَديعةَ الأنصاري، فسلّم عليه، ودنا منه وسايره، فقال له: ما تقول الناس في أمرنا؟ فقال: منهم المُعجَب به، ومنهم الكاره، كما قال الله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إلا مَنْ رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118]، قال: فما قول ذوي الرأي منهم؟ قال: يقولون: إن عليًّا كان له جمعٌ عظيم ففرَّقه، وكان له حِصنٌ حصينٌ فهَدَمه، حتَّى متى يبني ما هَدم، وحتى متى يجمع ما قد فَرّق، فلو أنَّه كان يمضي بمَن أطاعه فيقاتل مَن عصاه حتَّى يَظهر أو يَهلك لكان ذلك الحزم. فقال علي: والله لقد هممتُ بإلاقدام، ووطَّأتُ نفسي على الموت، فنظرتُ [إلى هذين] قد ابتَدراني -يعني الحسن والحسين- ونظرتُ إلى هذين قد استَقْدماني -محمد بن الحنفيّة وعبد الله بن جعفر- فعلمتُ أن هذين -يعني الحسن والحسين- إن يهلكا انقطع نَسْلُ محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمة، فكرهت ذلك، وايم الله لئن لقيتُهم بعد اليوم لا يكون معي أحدٌ منهم (¬1). وفي رواية أن عليًّا قال: والله ما هدمتُ ولا فرَّقتُ، هم هدموا وفَرّقوا، ولقد هممتُ أن أقاتل بمن أطاعني مَن عصاني، حتَّى رأيتُ هذين الغلامين يتقدَّماني -يعني: الحسن والحسين- وذكر بمعناه وقال: والله لا بكياني (¬2) في عسكر أبدًا. رجع الحديث إلى أبي مخنف، قال جندب: ثم مضى حتَّى إذا جاوزنا دورَ بني عَوْف إذا نحن عن أيماننا بقبور سبعة أو ثمانية، فقال علي: ما هذه القبور؟ فقال قدامة بن عجلان الأزدي: يا أمير المؤمنين، إن خَبَّاب بن الأرَتّ توفّي بعد مَخرجك، فأوصى أن يُدفن في الظَّهْر، ودفن الناس إلى جنبه، فقال: رحم الله خبابًا، لقد أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا، وابتُلي في جسده أحوالًا، ولن يُضيع الله أجرَ مَن أحسن عملًا، ثم جاء حتَّى وقف عليهم فقال: السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة، والمحال المُقْفِرة، أنتم لنا فَرَطٌ، ونحن لكم تبَع، ونحن عما قليل بكم لاحقون، ثم دعا لهم. قال أبو مخنف: ثم أقبل حتَّى حاذى سِكّة الثوريّين، فسمع البكاء فقال: ما هذه ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 60 - 61. (¬2) لم ينقط من الكلمة في (خ) غير النون والياء.

ذكر اعتزال الخوارج أمير المؤمنين

الأصوات؛ قيل له: البكاء على قتلى صِفّين، فقال: أما إني أشهد لمن قُتل منهم صابرًا مُحتسبًا بالشهادة. قال: وسمع رجلًا من العُثمانية يقال له عبد الرحمن بن يزيد يقول: والله ما صنع علي شيئًا، ذهب ثم عاد في غير شيء، فقال علي لأصحابه: إن قومًا فارقناهم آنفًا خيرٌ من هؤلاء، ثم أنشد علي وقال: [من الطويل] أخوك الَّذي إنْ أجْرَضَتْك مُلِمَّة ... من الدهر لم يَبرحْ لها الدهرَ واجِما وليس أخوك بالذي إن تَشَعَّبتْ ... عليك أمورٌ ظلَّ يَلْحاك لائما ثم لم يزل يذكر الله تعإلى حتَّى دخل القصر (¬1). ذكر اعتزال الخوارج أمير المؤمنين روى أبو مخنف، عن أبي جَناب الكلبي، عن عمارة بن ربيعة قال: خرجوا مع علي - عليه السلام - إلى صفين وهم مُتوادُّون أحبَّاء، فرجعوا وهم مُتباغضون أعداء، ما بَرِحوا من عسكرهم حتَّى فشا فيهم التّحكيم وهم بصفّين، ثم أقبلوا إلى الكوفة وهم يتشاتمون، ويضرب بالسِّياط بعضهم بعضًا، تقول الخوارج: يا أعداء الله، داهنتم في أمر الله، وحكّمتم الرجال في دين الله، ويقول الآخرون: خالفتم إمامَنا، وفارقتم جماعتنا. فلما دخل علي الكوفة لم يدخلوا معه حتَّى أتوا حَرُوْراء، فنزلوا بها، وهم اثنا عشر ألفًا، ونادى منافى يهم: إن أمير القتال شَبَث بن رِبعيّ التَّميميّ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكَوَّاء اليَشكُريّ، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الجوهري: وحَرُوراء: قريةٌ على النَّهْرَوان، تُمدُّ وتُقْصَر، وتُنسب إليها الخوارج، نزلوها وقالوا: لا حكم إلا لله (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 62 - 63، ووقعة صفين 530 - 532. (¬2) في الصحاح (حرر): حروراء: اسم قرية، يمُد ويُقصر، نسبت إليها الحرورية من الخوارج، لأنه كان أول مجتمعهم بها، وتحكيمهم منها. اهـ.

وبلغ أمير المؤمنين فقال: كلمةُ حقّ أُريد بها باطل. وذكر هشام أن الخوارج لما اعتزلت عليًّا - عليه السلام - وحكَّموا كلَّمهم علي، فرجعوا إلى الكوفة، وهو الأصحُّ لما نذكر. رجع الحديث إلى أبي مخنف، عن أبي جَناب، عن عُمارة قال: لما قدم أمير المؤمنين الكوفة وفارقه الخوارج؛ وثَبتْ إليه الشّيعة وقالوا: في أعناقنا لك بيعة ثانية، نحن أولياءُ من واليت، وأعداءُ من عاديت، فقالت الخوارج: استَبَقْتُم أنتم وأهل الشام كفَرَسَيْ رِهان إلى النار، بايع أهلُ الشام معاوية على ما أحبُّوا وكَرِهوا، وبايعتم أنتم عليًّا أنكم أولياءُ مَن والى، وأعداءُ من عادى، فقال لهم زياد بن النَّضْر: والله ما بسط علي يده فبايعنا قطّ إلا على كتاب الله وسنّة نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعتُه فقالوا: نحن أولياء مَن واليت، وأعداء مَن عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحقّ، ومن خالفه ضالٌّ مُضِلّ. والصّحيح من الروايات أن الخوارج لما اعتزلوا عليًّا - عليه السلام - دخلوا الكوفة، ورجعوا إليها، وبعد ذلك مَضَوا حتَّى نزلوا النَّهْرَوان، ولما بلغهم أن شيعة أمير المؤمنين قالوا: نحن أولياء مَن واليت، وأعداء مَن عاديت، راسلوهم بالكلام الَّذي ذكرناه. وقيل: إنه بقي منهم بقية معه في الكوفة؛ طائفة يسيرة، والأول أصح. واختلفت الرّواية هل أرسل إليهم علي رسولًا، أم خاطبهم بنفسه على قولين؛ أحدهما ذكره هشام بن محمد، عن أبيه قال: لما اعتزلوا عسكر علي - عليه السلام -، وهمُّوا بالرحيل؛ وقف عليهم علي فقال: لمَ خرجتم علينا؟ فقالوا: لأنك حكَّمت في دين الله بصفِّين، فقال لهم: نَشَدتكم الله، أما قلتُ لكم يومَ رفعوا المصاحف: لا تخالفوني فإنهم إنما رفعوها مَكيدةً وخَديعة، فردَدْتُم عليّ رأي، وقلتم نفعل بك كما فعلنا بعثمان؟ ! فقالوا: نحن إنما رضينا بحكم كتاب الله، لا بحكم الرجال، فقال: والله ما حَكَّمتُ مَخلوقًا، وإنما حكَّمتُ القرآن، لأن القرآن لا ينطق، وإنما هو خطٌّ مَسطور بين الدَّفَّتَين، وإنما ينطق به الرجال، وشرطت على الحكمين أن يَحكُما بحُكم

الله، فيُحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بغير ذلك فنحن من حُكمهما براء. قالوا: فلِم جعلتَ بينك وبينهم أجلًا قال: لعل الله أن يَحقِن به دماءَ هذه الأمة، فيتثبت العالم، ويتعلّم الجاهل، قالوا: فنحن قد أخطأنا، ونحن نتوب إلى الله، وكان ذلك كفرًا منا، فاعترف كما اعترفنا نبايعْك، وإلا فنحن مخالفوك. فرجع عنهم، ورحلوا إلى النهر. والقول الثاني: أنَّه بعث إليهم عبد الله بن عباس، ثم خرج إليهم بعد ذلك، وهو الأصح. وقال أبو اليقظان: لما انقضى الأجل بعث معاوية إلى أمير المؤمنين بمَعْن بن يزيد بن قيس الأسلمي (¬1)؛ يستبطئه في إرسال الحكم، فجهَّز شُريح بن هانئ، وابنَ عباس وأبا موسى على ما ذكرنا. قال: ولما فصلوا عن الكوفة دخل على علي - عليه السلام - جماعة من الخوارج؛ منهم حُرْقوص بن زهير السَّعديّ، وزُرْعَة بن بُرْج الطائي فقالوا: لا حكم إلا لله، فقال: نعم لا حكم إلا لله، قالوا: فتب إلى الله من خطيئتك، أو اخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتَّى نلقى ربَّنا، فقال لهم: قد أردْتكم على هذا فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابًا، وشرطنا شروطًا، وأعطينا عُهودًا، وقد قال الله تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، فقال حُرقوص: فذلك ذَنبٌ ينبغي أن تتوبَ منه، فقال: ليس هو بذنب، وإنما هو من عَجز الرأي، وضعفٍ في العقل، وقد نهيتُكم عنه، فقال له وْعة: أما والله لئن لم تَدع تحكيمَ الرجال لنُقاتلنَّك؛ ونطلب بذلك وجهَ الله ورضوانه، فقال له علي: بُؤسًا لك، ما أشقاك، كأني بك والله قتيلًا تَسْفي عليك الرياح، فقال له زُرعة: وَددتُ أن ذلك كان في ذات الله، فقال له علي: لو كنتَ محقًّا لكان في الموت تَعزِيةٌ عن الدنيا، وإنما الشيطان قد استهواكم. فخرجوا من عنده وهم يقولون: لا حُكم إلا لله. ¬

_ (¬1) كذا، وفي الطبري 5/ 66: معن بن يزيد بن الأخنس السلَمي. وقد ذكر في وقعة صفين 200، والأخبار الطوال 170 في أصحاب معاوية: معن بن يزيد بن الأخنس السلمي.

حديث الخوارج

حديث الخوارج واختلفوا فيه، وقد ذكرنا عن أبي مخنف أن الخوارج دخلوا على أمير المؤمنين وقالوا: لا حُكم إلا لله، وأنه قال: كلمةُ حق أُريد بها باطل، وقولهم: تُب من خطيئتك، واخرج بنا إلى القوم فقاتلْهم، وقوله: إنا عاهدْنا القوم عُهودًا، وقد قال الله {ولَا تنَقضوا الأيمن بعد توكيدها}، فقال له حرقوص بن زهير السعدي: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقال علي: ما هو ذنب، ولكنه عَجْزٌ من الرّأي، وضَعْفٌ في العقل، وقد نهيتُّكم عنه، وأنهم خرجوا من عنده وهم يقولون: والله لنُقاتلَنك نطلب بذلك وجهَ الله، وكان القائل لهذا زُرْعَة بن البُرْج الطائي، فقال علي: كأني بك والله قتيلًا تسفي عليك الرّياح (¬1). وقال أبو مخنف عن أشياخه قالوا: لما بعث علي أبا موسى لإنفاذ الحكم اجتمعت الخوارج في منزل عبد الله بن وَهب الرَّاسِبيّ، فخطبهم وقال: ما ينبغي لقومٍ يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن؛ أن يرضوا بهذه الأحكام، فاخرجوا بنا من هذه القرية الظَّالمِ أهلُها إلى جانب هذا السَّواد، أو إلى بعض كُوَر الجبال، أو إلى بعض الأماكن، منكرين لهذه البِدَع المُضِلّة، والأحكام الجائرة، ثم زهَّدهم في الدنيا، ورَغَّبهم في الآخرة، وأمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأمرهم بقول الحق. فقال حُرقوص بن زهير السَّعدي بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وَشيك، فلا تَدْعُونّكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، فإن الله مع الذين اتقَوْا والذين هم مُحسنون. فقال حمزة بن سنان: يا قوم، إن الرأيَ ما رأيتم، وإن الحقّ ما ذكرتُم، فولُّوا أمرَكم هذا رجلًا منكم، فإنه لا بُدَّ لكم من عِماد وسند، وراية تَحفّون بها وترجعون إليها، فعرضوا ذلك على رؤسائهم: زيد بن حُصَين الطائي، وحُرقوص، وحمزة بن سِنان، وشُرَيح بن أَوفى (¬2)، فأبى كلّ واحد، فقال عبد الله بن وَهب الرَّاسِبيّ: أما والله لا آخُذها ¬

_ (¬1) من قوله: تسفي عليك الرياح، في الصفحة السابقة، إلى هنا ليس في (خ). (¬2) في (خ): بن أبي أوفى، وهو خطأ.

ذكر كتابهم إلى البصرة

رَغبةً في الدنيا، ولا [أَدَعُهما]، فَرَقًا من الموت، فقبلها. وهذه رواية أبي مخنف (¬1). وأما ابن إسحاق والواقدي وأبو مَعْشر فذكروا بمعناه، وأن يَجتمعوا عند عبد الله بن وَهب الرَّاسبيّ، فاجتمع عنده عظماؤهم وعُبَّادُهم، فقال عبد الله بن وهب بمعنى ما تقدّم، وفيه: فاخرجوا بنا مُنكرين لهذه الحكومة، فإنه لا حُكمَ إلا لله. وقال حَمزة بن سِنان: لا بدَّ لكم من قائد وسائس وراية تحفُّون بها، فعرضوها على مَن سَمَّينا، فأبَوا قبولها لعبادتهم وزُهدهم، فقال عبد الله بن وهب: هاتوها لا رغبة في الدنيا، ولكن لما أرجوه من عِظم الأجر، فمدّ يده فأخذها، فقاموا إليه فبايعوه. وكان عبد الله بن السَّخبر (¬2) حاضرًا، وكان من أصحاب البَرانِس، فبكى وقال: لحا الله امرءًا لا يكون تشريحُ ما بين عظمه ولحمه وعَصَبه أيسرَ عنده من سَخَطِ الله عليه، وأنتم إنما تريدون وجه الله، فاضربوا مَن عصاه بالسيوف، حتَّى يُطاع الله تعالى. ثم ذكر كلامًا طويلًا في هذا المعنى. ذكر كتابهم إلى البصرة قال علماء السير ممّن سَمَّينا: كتبوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عبد الله بن وَهب، وزيد بن الحُصَين، وحُرْقوص بن زهير، وشُرَيح بن أوفى، إلى مَن بلغه كتابُنا من المؤمنين؛ سلامٌ عليكم، فإنه يُحمد إليكم الله الَّذي لا إله إلا هو، الَّذي [جعل] أحبَّ عباده إليه أعلمَهم بكتابه، وأقْوَمَهم بالحقّ في طاعته، وأشَدَّهم اجتهادًا في مرضاته، إن أهل دعوتنا حَكَّموا الرجال في أمر الله، ورَضوا بحكم الفاسقين على عباد الله، وكفروا بذلك وضلُّوا عن السبيل، وقد نابَذْناهم على سواء، إن الله لا يحبُّ الخائنين، وقد خرجنا إلى الجِسْر؛ نُريد بذلك الوسيلة إلى الله والقُربة ليرضى عنا، فسيروا إلينا لتأخذوا نصيبكم من الأجر والثواب، وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وقد بعثنا بكتابنا هذا إليكم مع رجل من إخوانكم، ذي دين وأمانة، فسَلوه عما ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 74 - 75، وما بين معكوفين منه. (¬2) في تاريخ الطبري 5/ 83، وأنساب الأشراف 2/ 252: عبد الله بن شجرة السلمي، والمثبت موافق لما في الأخبار الطوال 203، والنقل عنه.

أحببتم، واكتبوا إلينا بما أردتُم، وأفضى إليه رأيُكم والسلام. ثم دعَوا عبد الله بن مَعْبَد العبسي -وقيل: عبد الله بن سعد- فبعثوه با الكتاب وقالوا: سِرْ حتَّى تَقدم به على إخواننا بالبصرة، فسار إلى البصرة. قال ابن إسحاق: وخرجوا من الكوفة بعد الكتاب متفرِّقين، وخرج زيد بن الحُصَين على بَغلةٍ يقود فرسًا له بعد العتمة. وقال أبو مخنف: كان بدءُ خروجهم من منزل حُرقوص بن زهير، وهي ليلة الخميس، وقيل: ليلة السبت، لأنهم قالوا: ما تفوتُنا الجمعة، فإن قيل: فإنهم ما كانوا يرون إمامةَ أمير المؤمنين قلنا: ما قاموا الجمعة مع أمير المؤمنين؛ وإنما كانوا يرون يوم الجمعة أفضل الأيام، فيزدادون فيه عبادة وصلاة فُرادى أو في جماعتهم، قيل: وخرجوا ليلة السبت، وجاء بنو عمِّ لترَيح بن أوفى ليمنعوه، فانتَضى سيفَه وقال: والله لئن عَرض لي أحدٌ منكم لأضربنّه بسيفي، فقالوا: أبعدك الله، إنما أشفَقْنا عليك، فأما إذ أَبيتَ إلا هَلاك نفسِك فأنت أبصر، فخرج فلحق بالقوم. قال: وخرج زيد بن حُصَين الطائي راكبًا على بغلة، يقود فرسًا له بعد العَتَمة وهو يتلو: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} إلى قوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 21 - 22]، وخرج القعقاع بن نَفْر بن قيس بن جَحْدَر الطائي، فجاء أخوه تميم (¬1)، فاستغاث بقومه فحبسوه، وخرج عبد الله بن حكيم البَكَّائي فاتّبعه عبد الله بن الطُّفَيل ويزيد بن معاوية (¬2)، فهدَّداه فرجع. قال: وخرج زيد بن عديّ بن حاتم الطائي معهم، فخرج أبوه في طلبه وعاد، فقال لعلي: يا أمير المؤمنين، إن ابني خرج مع القوم، وكان الَّذي أفسده عليّ وفَرَّق بيني وبينه زيد بن حُصَين الطائي، وإني اتَّبعتُه حتَّى انتهيتُ إلى المدائن، فلم أقدر عليه فانصرفت، فلما انتهيتُ إلى ساباط لقيتُ عبد الله بن وهب في نحوٍ من عشرين، مقنّعين بالحديد، فاعتزلتُهم ووقفت جانبًا، فنزلوا على شطّ النهر، ولستُ آمَنهم أن يَدخلوا المدائن، فابعث إلى عاملك عليها سعد بن مسعود فحذِّره لا يَبغتوه. فبعث علي زيادَ بنَ ¬

_ (¬1) كذا، والذي في أنساب الأشراف 2/ 256: حكم بن نفر، وهو جد الطرماح بن حكيم. (¬2) كذا.

جواب كتاب الخوارج

لَأْم إلى سعد بن مسعود فحذره، وقيل: إنما حذر سعد بنَ مسعود عديُّ بنُ حاتم. قال هشام: ولما خرج عبد الله بن وهب من الكوفة بالليل انضاف إليه جمعٌ كبير، فأخذوا على الأنبار، وتبطَّنوا شطَّ الفرات، حتَّى عبروا من دَير العاقول، فاستقبلهم عديّ بنُ حاتم وقد عاد من المدائن، فأراد عبد الله أخذَه؛ فمنعه منه عمرو بن مالك النَّبهاني وبشير بن يزيد البَوْلاني (¬1)؛ وكانا من رؤوس الخوارج، واستخلف سعد بن مسعود على المدائن ابنَ أخيه المختار بن أبي عبيد، وخرج في طلب عبد الله بن وهب في خمس مئة فارس، والخوارج ثلاثون رجلًا، فتناوَشوا ساعة، فقال أصحاب سعد لسعد: أيها الأمير، ما تُريد من هؤلاء وقتالِهم، ولم يأتك فيهم أمر، خلِّهم واكتب إلى أمير المؤمنين، وأخبره بحالهم، فمضى وتركهم. وسار عبد الله بن وهب إلى موضع بغداد، فعبر في معبرها إلى أرض جُوخى، وذلك قبل أن تُبنى بغداد. جواب كتاب الخوارج من أهل البصرة إلى أصحابهم من أهل الكوفة، أما بعد: فقد بلغنا كتابُكم، وفهمنا ما فيه، فهنيئًا لكم الرأي الَّذي جمعكم الله عليه؛ من إنكار المنكر والجَور، ونحن سائرون إليكم والسلام. ثم خرجوا من البصرة في خمس مئة رجل، وكان على البصرة يومئذ عبد الله بن عباس، فبعث أبا الأسود الدِّيليّ في طلبهم في ألف فارس، فلحقهم بجسر تُسْتَر، وحال بينهم الليل ففاتوه، وكانوا في مسيرهم لا يَلْقَون أحدًا إلا سألوه عن الحكَمَين، قالوا: ما تقول فيهما؟ فإن تبرَّأ منهما تركوه، وإن أبي قتلوه، ثم أقبلوا إلى النهر، فنزلوا به عند إخوانهم. وقال أبو مخنف: لما خرجت الخوارج على علي أتاه أصحابه وشيعته، فبايعوه على التَّسليم، وقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، وكتب عليهم كتابًا، وشرط فيه سنة الله وسنة رسوله، وجاءه رجل من خَثْعَم، يقال له: ربيعة بن أبي شَدَّاد -وكان قد شهد الجمل وصفّين مع علي، ومعه راية خَثْعَم- فقال له علي: بايع على ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 5/ 75: بشر بن زيد البولاني، والمثبت موافق للأخبار الطوال 205.

ذكر كتاب أمير المؤمنين إلى الخوارج

كتاب الله (¬1) وسنّةِ رسوله، فقال: بل أبايعك على سنَّة أبي بكر وعمر، فقال له: وَيحْك، لو أن أبا بكر وعمر عَمِلا بغير سنُّة الله وسنة رسوله لم يكونا على شيء من الحقّ، فبايعَ بعد شدّ (¬2)، فنظر إليه علي - عليه السلام - نظرة وقال: أما والله كأني بك قد نَفَرتَ في بعض هذه الفتن نَفْرة، فقتلت فَوُطئت بحوافرها (¬3). فقُتل يوم النَّهر مع الخوارج، وكانت خوارج أهل البصرة قد أمّرت عليها مِسْعَر بن فَدَكي. ذكر كتاب أمير المؤمنين إلى الخوارج قال علماء السير ممّن سمينا كأبي مخنف وغيره: كتب إليهم علي - عليه السلام -: من عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى عبد الله بن وهب وزيد بن حُصَين ومَن قبلهما من الناس؛ سلام عليكم، أما بعد: فإن الرجلين اللذين ارتضيناهما للحكومة قد خالفا كتاب الله، واتَّبعا أهواءهما بغير هُدى من الله، فلم يَعملا بالسنّة، ولم يُنَفذا للقرآن حكمًا، فبرئ الله منهما ورسوله والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا، فإنا سائرون إلى عدونا وعدوّكم، ونحن على الأمر الأول الَّذي كنا عليه، فنحاربهم حتَّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. فكتبوا إليه: أما بعد، فإنك لم تغضب لربّك، وإنما غضبتَ لنفسك، فإن شهدتَ على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة بيننا وبينك، وإلا فقد نابَذْناك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين (¬4). وفي رواية: فإن شهدتَ على نفسك أنك كفرتَ فيما كان من تحكيمك الحكَمَين، واستأنفْتَ التوبةَ والإيمان؛ نظرْنا فيما سألتَنا من الرجوع إليك، وإن تكن الأخرى فإنا نُنابِذُك على سواء، إن الله لا يهدي كَيدَ الخائنين (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): على سنة كتاب الله، والمثبت من تاريخ الطبري 5/ 76. (¬2) في (خ): شر. (¬3) في الطبري: وكأني بك وقد وطئتك الخيل بحوافرها. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 77 - 78. (¬5) الأخبار الطوال 206.

فلما قرأ كتابهم يَئس منهم، ورأى أن يَدَعهم ويمضي بالناس إلى الشام، فيناجز معاوية وأهل الشام، فعسكر بالنُّخَيلَة، ثم خطب فقال: أما بعد، فإن مَن ترك الجهاد في الله، وداهن في أمره؛ كان على شفا هَلَكَة، إلا أن يَتداركَه الله عزَّ وجلَّ بنعمته، فقاتلوا من حادَّ اللهَ ورسولَه، وحاول أن يُطفئ نورَ الله، فقاتلوا الخاطئين الضالّين، الفاسقين الناكثين الغادرين، الذين ليسوا بقُرَّاء القرآن، ولا فقهاء في الدين، ولا علماء بالتأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة ولا إسلام، والله لو وَلُوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، فهيِّئوا للتَّشْمير (¬1) إلى عدوكم. ثم بعث إلى جميع الأمصار ليَقدموا عليه، فلما قدم كتابُه على ابن عباس قام فخطب بالبصرة، وأمرهم بالشخوص مع الأحنف بن قيس، فشَخص منهم ألف وخمس مئة، فقال ابن عباس: ويلكم يا أهل البصرة، جاءني أمرُ أمير المؤمنين بإشخاصكم، فنفر منكم ألف وخمس مئة، وأنتم ستون ألف مقاتل سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم؟ ! ألا انفروا (¬2) مع جارية بن قُدامةَ السَّعدي، ولا يَجعلنّ رجلٌ على نفسه سبيلًا، فإني مُوقِعٌ بكل مَن وجدتُه متخلِّفًا عن دعوته، عاصيًا لإمامته، ولأفعلنّ ولأصنعن. وخرج جارية فعسكر بظاهر البصرة، وحشد أبو الأسود الناس، فاجتمع إلى جارية ألف وسبع مئة، ثم صاروا ثلاثة آلاف ومئتي رجل. وقال هشام: بعث علي - عليه السلام - إلى ابن عباس بكتابه مع عُتبة بن الأَخْنَس بن قَيس، فأمره بتجهيز الجيوش ... وذكره. ثم أقبل جارية حتَّى وافى أمير المؤمنين بالنُّخَيلَة، فقام علي خطيبًا فقال: يا أهل الكوفة، أنتم أنصاري وإخواني، وأعواني على الحق، وبكم أضربُ المُدْبِر، وأرجو تمامَ طاعة المُقْبِل، وقد استنفرتُ أهلَ البصرة، فلم يأتني سوى ثلاثة آلاف رجل ومئتي رجل، فأعينوني بمُناصَحَةٍ خَلِيَّةٍ من الغشّ، إنكم عند مخرجنا إلى صفين ستجمعوا بأجمعكم (¬3)، وأن تكتبوا إلي بعشائركم وأموالكم، يفعل ذلك كلّ رئيس منكم. ¬

_ (¬1) كذا، وفي الطبري 5/ 78: تهيئوا للمسير إلى عدوكم. (¬2) في (خ): إلا تنفروا، والمثبت من الطبري 5/ 79. (¬3) كذا، وفي الطبري 5/ 79: إنكم ... مخرجنا إلى صفين، بل استجمعوا بأجمعكم. اهـ. ومكان النقاط بياض =

فقام سعيد بن قيس الهمْدَاني فقال: يا أمير المؤمنين، سمعًا وطاعة، أنا أول الناس جاءك بما طلبتَ، وقام رؤساءهم مثل: مَعْقِل بن قيس الرِّياحي، وعَدي بن حاتم الطائي، وزياد بن خَصَفة، وحُجْر بن عدي، وأشراف القوم فقالوا مثل ذلك. ثم كتبوا المقاتلة، فكانوا أربعين ألفًا، وسبعة عشر ألفًا من الأبناء، وثمانية آلاف من الموالي، فكان جمع الكوفة خمسة وستين ألفًا، غير جمع البصرة الذين سميناهم، فصاروا ثمانية وستين ألفًا ومئتين وهو بالنُّخَيلة. وقال الواقدي: اجتمع إليه رؤوس الأسباع والقبائل، وذكر مَن سَمَّينا، وتركوا الضعفاء من الموالي في أعمالهم. وقال أبو مخنف: بلغ عليًّا - عليه السلام - أن الناس يقولون: لو سار بنا إلى هذه الحروريّة فبدأ بهم، فقال: أما بعد، فقد بلغني قولكم، وإن غير هذه الخارجة أهم إلينا منهم، فدعوا ذِكرهم، وسيروا إلى عدوّكم. فتنادى (¬1) الناس من كل جانب: يا أمير المؤمنين، سِرْ بنا حيث أحببتَ. وقال له صيفي بن فَسيل الشيباني: يا أمير المؤمنين نحن حِزبُك وأنصارك، نُعادي مَن عاداك، ونُشايع مَن أطاعك، فسِرْ بنا إلى عدوِّك حيث كانوا ومَن كانوا؛ فإنك لن تُؤتى إن شاء الله من ضَعفٍ ولا قِلَّة، وقال له مُحرِز بن شهاب التميمي: إن قلبَ شيعتك كقلبِ رجلٍ واحد في الاجتماع على نُصرتك، والجدِّ في جهاد عدوّك، فأبشِرْ بالنصر، وسِرْ بنا حيث شئت ... وذكر بمعناه. وكان أمير المؤمنين يقول: لا تَتَعَرَّضوا لهم ما لم يَنالوا محرمًا، ولم يَسفكوا دمًا حرامًا. وقال ابن إسحاق: اجتمع إلى علي - عليه السلام - ثمانون ألف مقاتل، فلما تهيّأ للمسير أتاه عن الخوارج أمرٌ فَظيع من قتلهم عبد الله بن خبَّاب بن الأرتّ وامرأته، وذلك أنهم لَقَوهما فقالوا: رضيتُما بالحكمين، فقتلوهما وقتلوا أمَّ سِنان الصَّيداويّة، ¬

_ = في الأصول كما ذكر المحقق. (¬1) في (خ): فتنادوا.

حديث عبد الله بن خباب

واعترضوا الناس يقتلونهم. حديث عبد الله بن خبَّاب قد ذكر قصَّته أحمد في "المسند" وابن إسحاق والواقدي وهشام وغيرهم، قال: حدثنا أحمد بإسناده، عن حُميد بن هلال، عن رجل من عبد القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم، قال: دخلوا قريةً، فخرج عبد الله بن خَبّاب بن الأرتّ ذَعِرًا يجرُّ رِداءه، فقالوا: لا تُرَعْ، فقال: والله لقد رُعْتُموني، قالوا: إنك عبد الله بن خَبَّاب بن الأرتّ صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قالوا: فهل سمعتَ من أبيك حديثًا يُحدِّث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم سمعتُه يُحدّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، فإن أدركتَ ذلك فكن عبدَ الله المقتول". قال أيوب (¬1): ولا أعلمه إلا قال: "ولا تكن عبدَ الله القاتل"، قالوا: أنتَ سمعت هذا [من أبيك يحدّثه عن] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، فقدَّموه إلى ضفّة النهر، فضربوا عُنُقَه، فسال دمه كأنه شِراك نَعْل، وبقروا بطنَ أمِّ ولده عما في بطنها. وقتلوا ثلاث نسوة من طيئّ، وقتلوا أمَّ سِنان الصَّيداوية، واعترضوا الناس يقتلونهم. ذكر الرسول الَّذي بعثه إليهم علي - عليه السلام - قال أبو مخنف: وبلغ عليًّا - عليه السلام - ما فعلوا، فبعث إليهم الحارث بن مُرَّة النَّهْدي (¬2)، وقيل الفَقْعَسي، ليأتيهم وينظرَ فيما بلغه عنهم، ويكتبَ إليه به على وجهه، فخرج حتَّى أتى إلى النهر، فلما دنا منهم ليسألهم خرجوا إليه فقتلوه، وبلغ الخبر أمير المؤمنين والناس، فقام الناس إليه وقالوا: علام تَدع هؤلاء يَخلُفوننا في عيالنا وأموالنا، سِرْ بنا إليهم، فإذا فرغنا منهم سِرْ بنا إلى عدوِّنا من أهل الشام. قال: وقام إليه الأشعث بن قيس الكندي، فكلَّمه بمثل ذلك، وكان الناس يَرون أن ¬

_ (¬1) وهو شيخ حميد بن هلال. والخبر في المسند (21064) وما سيرد بين معكوفين منه. (¬2) كذا، والذي في المصادر: العبدي، انظر تاريخ الطبري 5/ 82، ووقعة صفين 205، وأنساب الأشراف 2/ 262، ومروج الذهب 4/ 411، والمنتظم 5/ 133.

ذكر مسير أمير المؤمنين إليهم

الأشعث يرى رأي الخوارج؛ لأنه كان يقول يوم صفين: لقد أنصفَنا قومٌ يدعون إلى كتاب الله، فلما قال ذلك عُلم أنَّه لم يكن على رأيهم. ذكر مسير أمير المؤمنين إليهم قال أبو مخنف: ونادى علي - عليه السلام - بالرَّحيل، فعَبَر الجسر، وصلى ركعتين بالقَنْطرة، ثم نزل دير أبي عبد الرحمن (¬1)، ثم دير أبي موسى، ثم أخذ على قرية شاهي، ثم على دَباها، ثم على شاطئ الفرات. قال: فلقيه في مَسيرِهِ ذلك مُنَجِّم، أشار عليه أن يسير في وقتٍ من النهار وقال: إن سرتَ في غير ذلك الوقت لقيتَ أنت وأصحابك شِدَّة، فخالفه وسار في الوقت الَّذي نهاه عن المسير فيه. فلما فرغ أمير المؤمنين من أمر الخوارج حمد الله وأثنى عليه وقال: لو سِرْنا في الساعة التي أمرَنا بها المنجِّم لقال الجُهّال الذين لا يعلمون: سار في الساعة التي أمره المنجِّم فظفر. قلت: كذا ذكر أبو مخنف، وحكاه عنه الطبري (¬2)، ولم يذكر اسم المنجِّم. ووقعتُ بقصَّة هذا المنجِّم واسمه في فضائل أمير المؤمنين، وذكرها عند خبر، قال (¬3): سرْنا مع أمير المؤمنين إلى النَّهروان، فاعترضه مُنَجِّم يقال له: مُسافر بن عوف الأحمر، فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسِرْ في هذا اليوم، وتربّصْ ليستوي الطَّالع، فقال علي: الله لا إله إلا هو، وعلى الله فليتوكّل المؤمنون، وقال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيرِ} [الأعراف: 188] وسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن صَدّق مُنَجِّمًا بما يقول فقد كَذّب بما أنزل الله على محمد"، وما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُنَجّم، ولا للخلفاء بعده، ثم قال لمسافر: هل تعلم ما في بطن فرسي هذه؟ قال: إن حَسبتُ علمتُ، قال: مَن صدَّقك بهذا القول فقد كَذَّب بالقرآن؛ قال الله تعالى {إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْسَّاعَةِ} الآية [لقمان: 34]، ما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يَدَّعي ما ادَّعيتَ علمَه، فمن صَدّقك كان كمن اتَّخذ ¬

_ (¬1) في الطبري 5/ 83: دير عبد الرحمن. (¬2) في تاريخه 5/ 83. (¬3) كذا؟ !

من دون الله أندادًا، اللهمَّ لا طائر إلّا طائرك، ولا خير إلا من عندك. ثم قال: نحن نُكذِّبك ونسير في الساعة التي نهيتَ عنها، ثم قال أيها الناس، إيّاكم وتعلُّم النُّجوم، إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، المنجم كافر، والكافر في النار، والمنجمون أعداء الله والرسل، يخالفون الله ويخالفونهم، والله يا أحمر، لئن بلغني بعد اليوم أنك تنظر في النجوم، وتعمل بها؛ لأجْلِدَنّك جَلْدَ المفتري، ولَأُخَلِّدَنَّك في الحبس ما بقيت، ولَأَحرِمَنَّك العطاء ما كان لي سلطان. ثم قال: فتحنا بلاد كسرى وقيصر وتُبَّع بغير قول منجِّم، المنجِّمون أضداد الأنبياء، لا يرجعون إلى كتاب، ولا إلى شريعة، وإنما يتستَّرون بالإسلام ظاهرًا، ويستهزؤن بالأنبياء باطنًا، فهم الذين قال الله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬1). وفي رواية أن الأحمر قال له: لا تَسِرْ في هذ! اليوم؛ فإن القمر في العقرب، فقال أمير المؤمنين: قَمرُنا أو قَمرُهم. ثم سار إلى المدائن، فخرج إليه سعد بن مسعود الثقفيّ عمّ المختار بن أبي عبيد، فسار معه إلى النهر. وقال هشام بن محمد وأبو مخنف وغيرهما: لما نزل أمير المؤمنين قريبًا من النهروان بعث إلى الخوارج: ادفعوا إلينا قَتَلَة إخواننا منكم أقتلْهم بهم، ثم إني تاركُكُم وعافٍ عنكم حتَّى ألقى العدوّ، ولعل الله أن يُقبل بقلوبكم، ويرُدّكم إلى أحسن ما كنتم عليه من أمركم. فبعثوا إليه: كلّنا قتلهم، وكلّنا مُستَحِلٌّ لدمائكم وأموالكم، أو لدمائهم. وفي رواية أبي مخنف: أن رسول علي - عليه السلام - كان قيس بن سعد بن عُبادة، فقال لهم: عباد الله، أخرِجوا طَلِبَتَنا منكم، فادخلوا في هذا الأمر الَّذي خرجتم منه، وعودوابنا إلى قتال عدوّنا وعدؤكم؛ فإنكم قد ركبتم عظيمًا من الأمر، تشقُّون عصى المسلمين، وتسفكون دماءهم، وتعدُّونهم مشركين. فقال له عبد الله بن شجرة السُّلَمي: إن الحقَّ قد أضاء لنا، فلسنا متابعيكم، أو تأتونا بمثل عمر، فقال: ما نعلمه غير صاحبنا، قالوا: لا نعرفه، قال: نَشَدْتُكم في أنفسكم أن تهلكوا، فإني لا أرى الفتنة إلا ¬

_ (¬1) أخرجه بنحو ما ذكر المصنف: الحارث بن أبي أسامة في مسنده (564) (زوائد).

ذكر الخطبة

قد غلبت عليكم. وخطبهم أبو أيوب الأنصاري بمثل ذلك، فأبوا إلا الإقامة على ما هم عليه. وقال أبو مخنف وهشام: لما ورد أمير المؤمنين النهروان نزل قريبًا منهم على فرسخ، وبعث إليهم أبا أيوب الأنصاري، وقيس بن سعد، فقا لا لهم: إنكم قد ارتكبتم أمرًا عظيمًا باستعراضكم الناس تقتلونهم، وتشهدون علينا بالشرك، وهو ظلم عظيم، فقال لهما: عبد الله بن السَّخبر: إليكما عنا، فإن الحق قد أضاء لنا كالصبح، ولسنا براجعين إليكم، أو تأتوا بمثل عمر بن الخطاب، فقال قيس بن سعد: ما نعرفه الآن إلا علي بن أبي طالب، قالوا: فنحن ما نعرفه. وتكلّم أبو أيوب الأنصاري بنحوٍ من هذا فقالوا: يا أبا أيوب، إنَّا إنْ بايعناكم اليوم حَكَّمتم غدًا آخر، فاقال: فإنا نَنْشُدكم الله أن تتعجَّلوا فتنة [العام] مخافة ما نأتي به في قابل، فقالوا: إليكما عنا، فقد نابَذْنَاكم على سواء. فانصرفا إلى أمير المؤمنين فأخبراه بذلك، فأقبل حتَّى وقف عليهم بحيث يسمعون كلامَه. ذكر الخطبة قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين، عن زيد بن وهب - وذكرها هشام - أن عليًّا - عليه السلام - أتى أهل النهر، فوقف عليهم وقال: أيّتها العِصابة التي أخرجها المِراء والفجاجة، وصدَّها الهوى عن الحق، وطمح بها تزيين الشيطان، فأصبحتا في لُبْس وخطأ، إني نذير لكم أن تتمادوا في ضالالكم، فتُلْفَوا غدًا صرعى بأفناء هذا النهر بغير بَيِّنةٍ من ربّكم ولا بُرهان، أدم تعلموا أني نَهيتُكم عن الحكومة، وأخبرْتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دِينٍ ولا قرآن، وأنكم إن خالفتموني جانبتم الحَزْمَ، فعصيتموني، ثم أخذتُ على الحكَمين أن يُحيِيا ما أحيا القرآن، ويُميتا ما أمات، فاختلفا وخالفا كتابَ الله وسنةَ وسوله، فنبَذْنا أمرَهما، ونحن على الأمر الأول، فأخبروني من أين أُتيتُم؟ ! فقالوا: إنا حكَّمنا، فلما حكَّمنا أثِمْنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تُبنا، فإن تبتَ كما تُبنا فنحن معك ومنك، وإن أبيتَ نابَذْناك على سواء، إن الله لا يهدي كيد الخائنين.

فقال علي: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم وابِر (¬1)، أبعد إيماني بالله ورسوله، وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهدُ على نفسي بالكفر؟ ! لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدين. وفي رواية هشام: ثم قال: ليَخرجْ إليَّ رجلٌ منكم تَرضَون به أُحدِّثه ويُحدِّثني، فإن وجبتْ عليَّ الحُجَّة أقررتُ لكم، وتُبتُ إلى الله، وإن وجبتْ عليكم فارجعوا. فقالوا لعبد الله بن الكَوَّاء -وكان من كُبرائهم- اخرج إليه حتَّى تُحاجّه، فخرج إليه، فقال له علي: ما الَّذي نَقمتم عليّ بعد رضاكم بولايتي، وجهادكم معي وطاعتكم؟ ! وهلّا تبرَّأتُم مني يوم الجمل؟ فقال ابن الكَوّاء: لم يكن هناك تحكيم، فقال علي: ويحك، فأنا أهدى أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: بل رسول الله. قال: فما سمعت قول الله تعالى {فَقُلْ تَعَالوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61]، أكان الله يشكُّ أنهم الكاذبون؟ فقال: إن ذلك احتجاجٌ عليهم، وأنتَ شككتَ في نفسك، حتَّى رضيت بالحكَمَين، فنحن أحْرى أن نشكَّ فيك. ولم يزل أمير المؤمنين يُحاجّ ابنَ الكواء بهذا وشبهه حتَّى قال ابن الكَوّاء: أنت الصادق في جميع ما قلت، غير أنك كفرتَ حيث حكَّمتَ الحكَمين. فقال: إنما حكَّمتُ أبا موسى وحدَه! قال: إن أبا موسى كفر، قال: فما ذنبي أنا؟ قال: رضاك. فصاح القوم: يا ابن الكَوَّاء، انصرف ودَعْ خطابَ الرجل، فلا حُكم إلا لله. وتأهّب الخوارج للقتال، فعبّأ عليّ عسكرَه، فجعل على الميمنة حُجْر بنَ عَديّ، وعلى الميسرة شَبَث بن رِبْعي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرّجَّالة أبا قتادة. وجعل الخوارج على ميمنتهم زيد بن حُصَين، وعلى ميسرتهم شُرَيح بن أوفى (¬2) العَبْسيّ - وكان من نُسَّاكهم - وعلى الرجَّالة حُرقوص بن زُهير، وعلى الخيل كلها عبد الله بن وهب. ورفع علي - عليه السلام - رايةً وقال: مَن لجأ إليها فهو آمن، فقال فَرْوَةُ بن نَوْفَل ¬

_ (¬1) أي: أحد. وفي (خ): واثر، وانظر تاريخ الطبري 5/ 84، والمنتظم 5/ 133. (¬2) في (خ): شريح بن أبي أوفى. وهو خطأ.

الأشجعي لقومه - وكان من رؤوس الخوارج: يا قوم، والله ما ندري علام نُقاتل عليًّا! وليس لنا في قتاله حُجّةٌ ولا بيان، فانصرِفوا حتَّى يتَّضح لنا بصيرةٌ في قتاله أو في اتباعه، ثم اعتزل الخوارج، ومضى في خمس مئة رجل إلى البَنْدَنِيْجين، وخرجت طائفة أخرى فلحقوا بالكوفة، واستأمن إلى الراية منهم ألفُ رجل، فلم يبق مع عبد الله بن وهب منهم إلا أقل من أربعة آلاف، وقيل بقي معه ألف وثمان مئة، وكانوا اثنَي عشر ألفًا. وقال علي لأصحابه: لا تبدؤوهم بقتال حتَّى يبدؤوكم، فتنادت الخوارج: لا حُكم إلا لله، الرَّواح إلى الجنّة، ثم شَدُّوا على أصحاب علي شدَّةً واحدة، فلم تثبت لهم خيل علي، وافترقت الخوارج فرقتين: فرقة منهم نحو الميمنة، وأخرى نحو الميسرة، وحمل قيس بن معاوية البُرْجُمي من أصحاب أمير المؤمنين على شُريح بن أَوْفى، فضربه بالسيف على ساقه فأبانها، فجعل يقاتل برِجْلٍ واحدة ويقول: [من الرجز] الفَحْلُ يَحمي شَوْلَه مَعْقُولا (¬1) فحمل عليه قيس بن سعد فقتله. وحكى أبو مِخْنَف، عن عبد الملك بن مُسلم، عن حكيم بن سعد قال: ما هو إلا أن لقِينا أهل النهر فما ألْبثناهم، كأنهم قيل لهم موتوا فماتوا. وفي رواية: فما لبثوا أن أناموهم. وقال له أبو أيوب الأنصاري (¬2): يا أمير المؤمنين، قتلتُ زيد بن حُصَين، قال فما قلت وما قال؟ قال: طعنتُه بالرُّمح في صدره فنجَم من ظهره، وقلت: أبشِر يا عدوَّ الله بالنار، فقال: ستعلم أيُّنا أولى بها صِلِيَّا، فسكت علي عليها. وفي رواية أبي مخنف أيضًا فقال علي: هو أولى بها صِلِيًّا. واختلف هانئ بن خطّاب الأرْحَبِيّ وزياد بن خَصَفَة في قتل عبد الله بن وهب الرَّاسِبيّ، فقال علي: كيف صنَعتُما؟ قالا: طعنَّاه، فقال: كلاكما قتله. وقتل أبو ¬

_ (¬1) الطبري 5/ 87، والأخبار الطوال 210، وأنساب الأشراف 2/ 266 - 267. (¬2) كذا، وفي الطبري 5/ 87: قال أبو مخنف، فحدثني أبو جناب: أن أبا أيوب أتى عليًّا فقال ...

حديث ذي الثدية

النعمان الكِنانيّ (¬1) حُرقوص بنَ زُهير. قال أبو مخنف: وكان شُريح بن أوفى الَّذي قُطعت رِجلُه يحمل ويقول: [من الرجز] أضرِبُهمْ ولو أرى أبا الحَسَنْ ... ضَربتُه بالسَّيف حتَّى يَطمَئنّ أضرِبُهمْ ولو أرى عَليَّا ... ألْبَسْتُه أبيضَ مَشْرَفِيَّا (¬2) حديث ذي الثُّدَيَّة قال مسلم (¬3): حدثنا عَبُد بن حُميد، بإسناده إلى سَلَمة بن كُهَيل قال: حدثني زيد بن وَهْب الجُهَنيّ؛ أنَّه كان في الجيش الَّذي كان مع علي - عليه السلام -، الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي: أيها الناس، إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يخرج قومٌ من أُمَّتي يقرؤون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامُكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن، يَحسبون أنّه لهم وهو عليهم، لا يُجاوز تَراقِيَهم، يَمرُقون من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهمُ من الرَّمِيَّة"، لو يَعلم الجيشُ الذين يُصيبونهم ما قُضي لهم على لسان نبيّهم لنَكَلوا (¬4) عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلًا له عَضُد، وليس له ذِراع، على رأس عَضُدِه مثلُ حَلَمَةِ الثَّدْي، عليه شَعَراتٌ بيض، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سَفَكوا الدَّمَ الحرام، وأغاروا في سَرْحِ النّاس، فسِيروا على اسم الله. قال سلمة بن كهيل: فنَزَّلَني زيدُ بن وَهْب منزِلًا حتَّى قال: مرَرْنا على قَنطرة، فالتقَينا، وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وَهْب الرَّاسِبِيّ، فقال لهم ألْقُوا الرِّماح، وسُلُّوا سُيوفكم من جُفونها، فإني أخاف أن يُناشِدوكم كما ناشَدوكم يومَ حَروراء، فرجعوا فوَحَّشوا برِما حهم، وسَلُّوا السُّيوف، وشَجَرهم الناسُ برِماحهم، وقُتِل بعضُهم على بعض (¬5)، وما أُصيب من الناس يومئذٍ إلا رجلان، فقال علي - عليه السلام -: ¬

_ (¬1) كذا، وفي الطبري: أبو المعتمر الكناني. (¬2) الطبري 5/ 88، وأنساب الأشراف 2/ 267، ومروج الذهب 4/ 414. (¬3) في (خ): قال أبو مسلم، وهو خطأ، والحديث في صحيح مسلم (1066) (156)، وأخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائده على المسند (706). (¬4) في صحيح مسلم ومسند أحمد: لا تكلوا. (¬5) في (خ): وقتل بعضهم بعضا.

التمسوا فيهم المُخْدَج، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي بنفسه فطاف في القتلى، فأخرجوه من بينهم، فكبَّر علي ثم قال: صدق الله، وبَلَّغ رسولُه، فقام إليه عَبِيدَةُ السَّلْمانيّ فقال: يا أمير المؤمنين، ألله الَّذي لا إله إلا هو لسمعتَ هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! فقال: إي، والله الذيَ لا إله إلا هو، حتَّى استَحْلَفه ثلاثًا وهو يَحلِفُ له. انفرد بإخراجه مسلم. معنى وَحَّشُوا برماحهم، أي: ألقَوْها، وشَجَرهم الناس، أي: شَبَكُوهم بالرِّماح. قال أَبو عُبيد: اسم ذي الثُّدَيَّة بلبول. وقال هشام بن محمد: وهذا ذو الثُّدَيَّة هو أبو الخوارج وأصلُهم، ويقال له: ذو الخُوَيصرة، وهو الَّذي قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم غنائم حُنين: يا محمد، اعدِلْ فما عدَلْتَ، وقد ذكرناه هناك (¬1). ويُقال له: المُخْدَج، أي: النَّاقِص. وقال أبو مِخْنَف: لما مر علي - عليه السلام - على القتلى تطوف على ذي الثدية، وكان معه سُلَيم بن ثُمامة الحنَفيّ، والرَّيَّان بن صَبرة بن هَوْذة، فوجده الرَّياّن في حُفرة على شاطئ النهر، في أربعين أو خمسين قتيلًا، فلما استُخرج نظر إلى عَضُده، فإذا لحمٌ مجتَمِعٌ على مَنكِبِه كثَدْي المرأة، [له] حَلَمة عليها شَعرات سود، فإذا مُدَّت امتدّت حتَّى تُحاذي يدَه الأخرى، فإذا تُركت عادت إلى منكبه، فكبَّر علي وقال: والله ما كَذَبتُ ولا كُذِبْتُ، وذكره ... قال: ووقف عليهم عليّ - عليه السلام - وهم صَرْعى فقال: بُؤسًا لكم، لقد ضرَّكم مَن غَرَّكم، قالوا: يا أمير المؤمنين ومَن غَرَّهم؟ قال الشيطان وأنْفُسٌ أمارةٌ بالسُّوء، غَرَّتهم بالأماني، وزينت لهم عمل السوء. قال: وطُلب مَن به رَمَق منهم فكانوا أربع مئة رجل، فقال علي لعَشائرهم: احمِلوهم معكم وداووهم، فإذا بَرِؤوا فوافوني بهم الكوفة، وما وجد من السِّلاح والدَّوابّ وآلةِ القتال قَسمه بين الناس، وأما العبيد والإماء فردَّهم على أهلهم. وطلب عَدِيّ بن حاتم (¬2) ولدَه طَرَفة بن عدي، فوجده قتيلًا، فدفنه وقال: الحمد لله ¬

_ (¬1) سلف في قسم السيرة. (¬2) في (خ) و (ع): وطلب علي بن حاتم، والمثبت من الطبري 5/ 88.

الَّذي ابتلاني بيومك عن (¬1) حاجتي إليك، ودَفَن بعض الناس قتلاهم، وبلغ عليًّا عليه السلام فقال: أتقتلونهم ثم تدفنونهم؟ ! ارتَحِلُوا فارتحلوا. قال أبو مخنف أيضًا: لم يُقتل من أصحاب عليٍّ (¬2) إلا سبعة. قال الخطيب بإسناده: أوّلهم يزيد بن نُويرة من الأنصار، قال أبو حازم المدني (¬3): شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنَّة مرَّتَين؛ يوم أحد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَن جاوز التَّلَّ فله الجنّة"، فقاتل يزيد حتَّى جاوزه، واختلف ابنُ عمٍّ ليزيد مع يزيد في قتيل قتلاه يوم أُحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلاكما (¬4) قد وَجبت له الجنّة"، ثم كان يزيد أوّلَ قتيل قُتل بالنَّهْرَوان. وقال هشام: قُتل رؤوس الخوارج: عبد الله بن وَهْب الرَّاسِبِيّ، ويزيد بن حُصَين الطائي -ويقال: زيد- وشُرَيح بن أوفى، وأبو حسَّان الزِّياديّ، وهؤلاء كانوا رؤوس القرَّاء مع علي قبل التَّحكيم. وأما عبد الله بن الكَوَّاء فإنه بأن له الحق، فرجع في خمس مئة رجل، ولم يقاتل عليًّا فسلم. وهذا عبد الله بن الكَوَّاء هو عبد الله بن أوْفَى، ويقال: عبد الله بن عمرو بن النُّعمان بن ظالم اليَشْكرِيّ، قال هشام: كنيته أبو عمرو، وقال أحمد بن حنبل. كنيته أبو الكَوَّاء. قدم دمشق مع الذين نفاهم عثمان من الكوفة: الأشتر وصَعْصَعة بن صُوحان وغيرهما، فأنزلهم معاوية دارًا وأضافَهم، فأقاموا يقرؤون، فمرَّ بهم يومًا معاوية زائرًا لهم، فسمعهم يقرؤون القرآن، فقال: هذا خير لكم من الفتنة، ثم نَشَدهم الله وقال: أيُّ رجلٍ أنا؟ فقال له ابنُ الكَوَّاء: أنت رجلٌ واسع الدنيا ضيِّق الآخرة، قريب المَرْعى ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ع)، ولعلها محرفة عن كلمة: عند، وفي الطبري 5/ 88: على. (¬2) في (خ) و (ع): أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمثبت من تاريخ الطبري. (¬3) كذا؟ ! وفي تاريخ بغداد 1/ 204، وعنه المنتظم 5/ 135: أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن حاتم بن إسماعيل المدني. (¬4) في (خ): كلاهما.

بعيد المَرْمَى (¬1)، تجعل الظّلمات نورًا والنور ظلمات، فسكت. ثم عاد ابن الكَوَّاء إلى العراق، وخرج مع الخوارج، ثم رجع عنهم، ولم أقف على تاريخ وفاته. واختلفوا في أيّ سنة كانت هذه الوَقْعة، فعامَّة المؤرِّخين على أنها في هذه السنة، وحكينا عن الواقدي أنها كانت في سنة ثمان وثلاثين، وقال أبو عبيدة: في سنة تسع وثلاثين، والأول أشهر. وقد أخرج أحمد في "المسند" في مسند علي - عليه السلام -؛ حديثًا مطولًا في قصة الخوارج - اختصرتُه - فقال: حدثنا إسحاق بن عيسى الطبَّاع بإسناده، عن عُبيد الله بن عِياض بن عَمرو القاري قال: جاء عبد الله بن شَدّاد فدخل على عائشة، ونحن عندها جلوس، مَرجِعَه من العراق ليالي قُتل علي - عليه السلام -، فقالت له عائشة: يا ابن شَدّاد، هل أنت صادِقي عما أسألُكَ عنه؟ قال: نعم، قالت: حدِّثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، فقال: لما حَكَّم علي الحكَمَين خرج عليه ثمانية آلاف من القُرَّاء، فنزلوا حَرُوْراء، وعَتِبوا عليه وقالوا: انسَلَخْتَ من قميصٍ ألبسك الله إياه، واسمٍ سَمَّاك الله به، ثم حكَّمتَ في دين الله، ولا حُكم إلا لله. وفارقوه. فأمر بإدخال القُرّاء عليه، وقال: لا يَدخُل عليَّ إلا قارئ، فاجتمع عنده أناس، فدعا بمصحف عظيم، فوضعه بين يديه، وجعل يَصُكُّه ويقول: أيُّها المصحف، حَدِّث الناس. وناداه الناس: يا أمير المؤمنين، ماذا تسأل؟ ! إنما هو مِداد في وَرَق، فماذا تريد؟ فقال: أصحابُكم هؤلاء الذين خرجوا، بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله في امرأة ورجل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَينِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] الآية [النساء: 35] فأمَّةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ دمًا وحُزمَةً من امرأة ورجل. ونقَمُوا عليّ أني مَحَوتُ اسمي، وقد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة الحُدَيبِيَة، وكتب: محمد بن عبد الله، ولي في رسول الله أُسوةٌ حَسَنة. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 390 (عبادة - عبد الله): بعيد الثرى.

ذكر رجوع أمير المؤمنين من النهروان إلى النخيلة

وبعث إليهم محبد الله بن عباس وكنتُ معه، فلما تَوَسَّط عسكرَهم قام ابنُ الكَوّاء فقال: يا حَملَة القرآن، هذا ابن عباس الَّذي نزل [فيه و] في قومه: {قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] رُدُّوه إلى صاحبه، ولا تُواضعوه كتابَ الله، فقام خطباؤهم فقالوا: والله لنُواضِعَنّه كتابَ الله، فإن جاء بحقٍّ نعرفه لنَتَّبِعَنّه، وإن جاء بباطلٍ لنُبَكِّتَنَّه بباطله، فواضعوا عبد الله الكتابَ ثلاثةَ أيّام، فرجع منهم أربعة آلافٍ كلُّهم تائب، منهم ابن الكَوَّاء، حتَّى أدخلهم علي الكوفة، وبعث إلى بقيَّتهم يقول: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، فقِفوا حيث شئتم، حتَّى تجتمع أمّةُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبيننا وبينكم أن لا تسفِكوا دمًا حرامًا، ولا تقطعوا سبيلًا، ولا تظلموا ذِمَّةً، فإن لم تفعلوا فقد نَبَذْنا إليكم الحربَ على سواء، إن الله لا يُحبُّ الخائِنين. فقالت عائشة: يا ابنَ شَدّاد، فقد قتلَهم؟ ! فقال: والله ما فعل حتَّى قَطعوا السّبيل، وسفكوا الدّمَ الحرام، واستحلُّوا أهلَ الذِّمَّة، فقالت: الله؛ قال: آلله الَّذي لا إله إلا هو لقد كان ذلك، فقالت: فما شيء بلغني عن أهل العراق؟ يقولون: ذو الثَّدي، وذو الثّدي، قال: قد رأيتُه، قمتُ مع علي - عليه السلام -[عليه] في القتلى، فدعا الناس فقال: أتعرِفون هذا؟ ما أكثر من جاء يقول: قد رأيتُه في مسجد بني فلان يصلي، قالت: فما قال علي حين وقف عليه؟ قال: سمعتُه يقول: صدق الله ورسولُه، فقالت: يرحم الله عليًّا، إنه كان إذا رأى شيئًا يُعجبه قال: صدق الله ورسوله (¬1)، فيذهبُ أهلُ العراق يكذِبون عليه، وَيزيدون في الحديث. ذكر رجوع أمير المؤمنين من النهروان إلى النُّخَيلَة قال أبو مخنف عن أشياخه: إن عليًّا - عليه السلام - لما فرغ من أهل النهر حَمِد الله وأَثنى عليه ثم قال: إن الله قد أحسن إليكم، وأعزَّ نُصرَتكم، فتوجَّهوا من فوركم هذا إلى قتال عدوِّكم، فقالوا: با أمير المؤمنين، نَفِدَت نِبالُنا، وكَلَّت سيوفُنا، ونَصَلَتْ أسِنَّة رِماحنا، فارجع بنا إلى المِصر، فلنَسْتَعِدّ بأحسن عُدَّة، فإنه أقوى لنا على عدوّنا. وكان ¬

_ (¬1) من قوله: صدق الله ورسوله، قبل سطر، إلى هنا ليس في (خ). والحديث في مسند أحمد (656)، وتاريخ دمشق 396 - 397 (عبادة - عبد الله)، وما بين حاصرتين منهما.

ذكر خطبة أمير المؤمنين حين قعدوا عنه

الذي كلَّمه بهذا الأشعث بن قيس. فأقبل حتَّى نزل النَّخَيلَة، وأمر الناس أن يَلزَموا عسكرَهُم، وأن يُقِلُّوا زيارةَ بيوتهم ونسائهم حتَّى يسيروا إلى عدوِّهم، فأقاموا أيامًا، ثم تسلَّلوا من مُعسكرهم فدخلوا الكوفة، إلا رجالًا من وجوه الناس قليلًا، وبقي العسكر خاليًا، فلما رأى علي ذلك انكسر رأيُه في المسير إلى الشام، ودخل الكوفة. وقال هشام: وكان الأشعث بن قيس مُنافقًا، وهو الَّذي ارتدّ عن الإسلام، ونافق على أمير المؤمنين لما عزله عن أرمينية، وإنما عزله عنها لأن أبا بكر وعمر ما كانا يُولِّيان من ارتَدَّ ولايةً، والأشعث هو الَّذي قال أبو بكر في حقّه عند وفاته: لو قتلتُه لأرحتُ الناس منه، وهو الَّذي أفسد الأمور على علي بصفين، وقد ذكرناه، ثم إنه كان يكاتب معاوية ويطالعه بالأخبار، وكان معاوية يبعث إليه بالأموال الكثيرة إلى أشراف الكوفة ورؤسائهم، فمال إلى معاوية بعد صفّيق، [فكان معاوية] يقول: لقد حاربتُ ابنَ أبي طالب بغير جيش ولا قتال (¬1). ذكر خطبة أمير المؤمنين حين قعدوا عنه وقد خطب خُطبًا كثيرة اخترتُ منها خُطبتين: الخطبة الأولى؛ ذكرها أبو مخنف وهشام وغيرهما، عن أشياخهم قالوا: خطب أمير المؤمنين الناسَ لما تقاعدوا عن المسير إلى قتال معاوية فقال: أيُّها الناس، استعدُّوا للمسير إلى جهاد عدوِّكم ... وذكر كلامًا، وقال: ما بالكم إذا دعوتُكم إلى قتالِ أهل الضَّلال تثاقلتُم إلى الأرض، أرضيتُم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ ! أوَكلَّما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينُكم في رؤوسِكم، كأن فيها كَمَهًا فأنتم لا تُبصرون، وقلوبكم قاسية كأنكم لا تعقلون، والله ما أنتم إلا أُسود شَرَى في الدَّعَة، وثعالبُ رَوَّاغة حين تُدعون إلى البَأس، ما أنتم لي بثِقات ... في كلام آخر. وفيها؛ إن عدوّكم لا يَنام عنكم، وأنتم في غَفْلةٍ ساهون، إن لي عليكم حقًّا، ولكم عليَّ حقًّا؛ أما حقكم فقِسمةُ الفَيءِ فيكم، وأما حقَي فالوفاء بالبيعة، والسمعُ والطَّاعة، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من أنساب الأشراف 2/ 275.

والمناصحة في المَشْهد والمَغيب، والإجابة حين أدعوكم، وامتثال الأمر حين آمُركم ... وذكر كلامًا آخر (¬1). تفسير غريبها: الكَمَه: العَمَى، وقال الجوهريّ: الأكمه الَّذي يُولَد أعمى. قال: والشَّرى: طريقٌ في سَلْمى كثيرُ الأُسْد، والرَّوَغان: المَيل، ومنه رَوَغان الثعلب (¬2). الخطبة الثانية: منها: أيُّها [الناس] المجتمعةُ أبدانُهم، المُتفَرِّقةُ قلوبُهم وأهواؤهم، ما عَزّت دعوةُ مَن دَعاكم، ولا استراح مَن اعتَضَد بكم، كلامُكم يُوْهِن الصُّمَّ [الصِّلاب]، وفِعلُكم يُطمِعُ فيكم عدوَّكم، إذا دعوتُكم إلى الجهاد قلتم: كَيتَ وكَيت، وذَيتَ وذَيت، أعاليلٌ وأباطيل، وسألتموني التَّأخير فِعلَ ذي الذَينِ المَطْول (¬3) ... مع كلام طويل، وفيه: فَرَّق الله بيني وبينكم، وأبدَلَني مَن هو خيرٌ منكم، إنكم لو نَصَرْتموني فستذكرون ما أقول لكم. وحكى البَلاذُريّ طَرفًا منه وقال: فقام أبو أيُّوب الأنصاري فقال (¬4): إن أمير المؤمنين قد أسمع مَن كانت له أُذُنان وقلبٌ حَفيظ، إن الله قد أكرَمَكم به، فاقبلوا كَرامتَه حقّ قَبولها، إنه أنزل ابنَ عمِّ نبيّكم - صلى الله عليه وسلم - بين ظَهْرانَيكم يُفَقِّهكم ويرشِدُكم، ويَدعوكم إلى ما فيه الحظُّ لكم. وقال البَلاذُريّ أيضًا، عن أبي صالح قال: شهدتُ أميرَ المؤمنين وقد حَمل المصحفَ على رأسه وقال: اللهمَّ إني سألتُهم ما فيه فمَنَعوني إيّاه، اللهمَّ إني قد مَلَلْتُهم ومَلّوني، وأبغَضْتُهم وأبغضوني، وحَملوني على أخلاق لم تكن تُعرف فيّ، اللهمَّ فأبْدِلْني خيرًا منهم، وأبْدِلْهم شرًّا منّي، ومِثْ قلوبَهم مَيثَ المِلح في الماء (¬5). وقال الأصمعي: بلغني أن أمير المؤمنين قال في خُطبة: ويحكم، ألا انفِروا إلى غَزْو عَدوِّكم، فوالله ما غُزِي قومٌ في عُقْرِ دارِهم إلا ذَلُّوا (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 90 - 91، وأنساب الأشراف 2/ 272 - 273. (¬2) الصحاح (روغ، كمه، شرى) 4/ 1320 و 6/ 2247، 2391. (¬3) المَطول: المماطل والمُسَوّف وانظر الخطبة في البيان والتبيين 2/ 56، وأنساب الأشراف 2/ 273. (¬4) في أنساب الأشراف 2/ 274 أن قوله هذا كان قبل تولية علي إياه على المدينة بيسير. (¬5) أنساب الأشراف 2/ 275. (¬6) ذكرها مطولة الدينوري في الأخبار الطوال 211 - 212 دون نسبتها إلى الأصمعي.

حابس بن سعد بن ربيعة الطائي اليماني

وقال البَلاذُريّ. كتب عُمارة بن عُقبة بن أبي مُعَيط من الكوفة إلى معاوية يُخبره: أن قد خرج على أمير المؤمنين قُرَّاءُ أصحابه ونُسَّاكُهم، وأنه سار إليهم فقتلهم، وقد فَسَد عليه جُندُه وأهلُ مِصره، ووقعت العَداوةُ بينهم، وتفرَّقوا أشدَّ فُرقة. وقال البلاذري أيضًا: ولما بلغ معاوية أن أمير المؤمنين مُجِدٌّ في غَزوه، وأنه يَدعو الناس إلى جهاده، وإعادةِ الحرب بينه وبينه؛ هاله ذلك، وخرج عن دمشق، فعسكر بظاهِرها، وبعث المُسْتَصرِخين إلى كُوَر الشّام يُنادون: ألا إن عليًّا قد أقبل إليكم، وإنا كنَّا حَكَّمنا حكَمَين؛ فخلعه حكَمُه، وأثبتني حَكَمي، وكان بيننا شُروطٌ فنكثَها، وقد أقبل إليكم بخَيله ورَجِله، ناكثًا ظالمًا باغِيًا، فاستعِدُّوا لقتاله، انفروا خِفافًا وثِقالًا، فنَفَر إليه من كلِّ أَوْبٍ، ثم أراد معاوية المسيرَ إلى صفِّين فتوقّف (¬1). وقال الشعبي: وفي هذه السنة بعث أمير المؤمنين لما عاد من صفّين جَعْدَة بن هُبَيرَة المَخْزومي -وكان ابنَ أختِ علي أمِّ هانئ بنت أبي طالب- إلى خُراسان، وكانوا قد كفروا، فحاصروا أهلَ مَرْو ونَيسابور، فصالحوه على ما أراد، وعاد. وحجّ بالناس في هذه السنة عُبيد الله بنُ العبَّاس، وكان عامل علي - عليه السلام - على اليمن ومَخاليفِها، وكان على مكة والطّائف قُثَم بنُ العبّاس، وعلى المدينة سَهْل بن حُنيف الأنصاري - وقيل: كان عليها تَمَّام بنُ العبّاس - وكان على البصرة عبد الله بن عباس، وعلى قضائها أبو الأسود الدِّيلي، وكان على الكوفة أبو مَسعود الأنْصَاريّ؛ استَخْلَفه علي لما خرج إلى صفّين، وعلى خُراسان خُلَيد بن قُرَّة اليَرْبوعيّ، وعلى مصر محمد بن أبي بكر - رضي الله عنه - (¬2). وفيها توفي حابِس بن سعد بن ربيعة الطّائي اليماني واختلفوا في صُحبته؛ فقال البخاري وأبو حاتم: أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 275 - 276. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 92 - 93. (¬3) التاريخ الكبير 3/ 108، والجرح والتعديل 3/ 292.

وذكره أبو زرعة وابن سعد ممن نزل الشام من الصحابة، وذكره جدي في "التلقيح" (¬1) فيمن له صحبة، ولم يذكره فيمن له رواية. وقال أبو زرعة: بعثه أبو بكر الصديق إلى الشام، فنزل حمص، وولّاه عمر بعد ذلك قضاء حمص. وقال ابن عبد البر: ولّاه عمر ناحية من نواحي الشام، فرأى في منامه كأن الشمس والقمر يقتتلان، ومع كلِّ واحدٍ منهما كواكب، فقصّ رؤياه على عمر - رضي الله عنه -، فقال له: مع مَن كنتَ؟ فقال: مع القمر، فقال: كنتَ مع الآية الممحوَّة، واللهِ لا تلي لي (¬2) ولايةً أبدًا، يُشير إلى قوله {فَمَحَوْنَا آيَةَ الَّلْيلِ} [الإسراء: 12] قال: فقُتل مع معاوية بصفين، وكان على الرجَّالة، وبيده راية طيّئ، وهو خَتَنُ عديّ بن حاتم، وخالُ ابنه زيد بن عديّ. وذكر أبو البَخْتَريّ قصة حابس مع عمر أتمّ مما ذكرها ابن عبد البر فقال: ولّاه عمر قضاء حمص، وقال له: كيف تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أجتهد رأي واستشير جُلسائي، فقال له عمر: أصبتَ وأحسنت. ثم لقيه عمر بعد ذلك فقال: ما منعك أن تسير إلى عملك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، رأيتُ رؤيا هالتني، قال: وما رأيت؟ قال: رأيتُ كأن الشمس والقمر يقتتلان، أقبلت الشمس من المشرق في جمع كثير من الكواكب، وأقبل القمر من المغرب في جمع كثير من الكواكب، فاقتتلا، فقال عمر له: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر، فقرأ عمر {فَمَحَوْنَا آيَةَ الَّلْيلِ} الآية، ثم قال: اردُدْ علينا عهدَنا، فرَدَّه (¬3). وقتل بصفين مع معاوية. قلت: وفي هذا الأثر فوائد منها: أن عمر كان يَعرف التأويل، فكأنه فهم أنَّه سيقتتل ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 435، وتلقيح فهوم أهل الأثر 176، وتاريخ دمشق 4/ 56 - 57 (مخطوط). (¬2) في (خ) و (ع): له، والمثبت من الاستيعاب (546). (¬3) تاريخ دمشق 19/ 298 - 299 (مخطوط).

ملكان، أحدهما يكون معه الحق، والآخر على الباطل، ودليلُه طلوع الشمس من المشرق، وإتيانها من مطلعها، وليس من عادة القمر أن يطلُع من المغرب، فكان شيعيًّا. والثاني: فِراسة عمر في حابس، وجاء كما قال وهو قتلُه بصفّين. والثالث: أنَّه لا بأس بالفأل وتكره (¬1) الطِّيَرة. والرابع: أن الإنسان إذا قُلّد عملًا ينبغي له أن يُبادر ويسيرَ إليه؛ لأنه التزم الأمانة، فيجب عليه المبادرة إلى أدائها، ولهذا أنكر عمر عليه. وقال ابن لهيعة: اجتمع بصفّين حابس بن سعد وأبو مُسلِم الخَولاني ورَبيعة الحَرَشِيّ -وكانوا مع معاوية- فقالوا: ليَدْعُ كلُّ واحد منا بدعوة، فقال أبو مسلم: اللهمَّ اكِفنا وعافنا، وقال حابس: اللهمَّ اجمع بيننا وبينهم واحكم ليننا، وقال ربيعة: اللهمَّ أبْلِنا بهم وأبْلِهم بنا، قال: فلما التقَوا قُتل حابس، وفُقئت عين ربيعة، وعُوفي أبو مسلم (¬2). وقد حكينا أن الأشتر مرَّ مع أمير المؤمنين على حابس بن سعد؛ فرآه مقتولًا فقال: هذا اليَماني عهدتُه مؤمنًا، ثم قُتل على ضلاله، فقال له علي: وهو الآن مؤمن. وذكره أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" فقال: حدّث عن أبي بكر وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه جُبير بن نُفَير وسعد بن إبراهيم. وتكلّم فيه الدارقُطني أنَّه مجهول فقال: حابس متروك، وقال مَرَّة أخرى: مجهول (¬3)، [وهذا] وَهْم منه، فإن شُهرته ظاهرة لما ذكرنا، وقوله متروك يحتمل أنَّه ضَعَّف روايتَه، حيث لم يَقبَلْه عمر وعَزَله. ولم يختلفوا أنَّه قُتل بصفّين يوم قُتل عمار. وليس في الصحابة مَن اسُمه حابس بن سعد غيرُه، فأما غير ابن سعد فآخر يُقال له: ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): وتكثرة؟ ! (¬2) تاريخ دمشق 4/ 59 (مخطوط). (¬3) تاريخ دمشق 4/ 57.

حوشب

حابس أبو حية التَّميمي، له صُحبة ورواية (¬1)، وليس لصاحب هذه الترجمة رواية. وأخرج أحمد في "المسند" (¬2) لحابس أبي حَيَّة التميمي حديثًا، كذا وقع في "المسند": أبي حيَّة، وفي رواية: أبو حبَّة، وحيَّة بنقطتين من تحت؛ قال أحمد: حدثنا عبد الصَّمد بإسناده إلى حيَّة بن حابس التميمي؛ أن أباه أخبره، أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا شيءَ في الهام، والعين حقٌّ، وأصدقُ الطير الفألُ". وفيها توفِّي حَوْشَب ويقال له: ذو ظُلَيم الألْهاني؛ رئيس بني أَلْهان في الجاهلية والإسلام، وهو من الأَذْواء ملوك اليمن، وكان بصفِّين على إحدى مُجَنِّبَتَي معاوية، وذو كَلاع على الأخرى، وقيل: كان على رَجَّالة حِمص. وقال أبو القاسم بن عساكر: وقد اختلفوا في اسم أبيه، وأدرك أبوه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يره (¬3)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كاتب حَوْشبًا وذا كلاع على يَدَي جرير بن عبد الله، ولفيروز ليقتلوا الأسود العَنْسِيّ (¬4). قال: وقُتل حَوْشَب بصفّين مع معاوية، في اليوم الَّذي قُتل فيه عمار، قتله سُلَيمان بن صُرَد. وفيها توفي خَبَّاب بن الأَرَتّ ابن جَنْدَلَة بن سعد، من بني زيد مَنَاة بن تميم، وكُنيته أبو عبد الله، مولى بني زُهْرَة. ¬

_ (¬1) انظر تلقيح فهوم أهل الأثر 176. (¬2) برقم (20680). (¬3) كذا، وهو خطأ، فإن الَّذي أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره وراسله؛ هو حوشب ذو ظليم، لا أبوه. انظر الاستيعاب (598)، وتاريخ دمشق 5/ 377 (مخطوط). (¬4) في الاستيعاب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى حوشب كتابًا، وبعث به إليه مع جرير البجلي، ليتعاون هو وذو الكلاع وفيروز الديلمي ومن أطاعهم على قتل الأسود العنسي.

وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، وشهد بدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كلّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن سعد: سُبي فبيع بمكة، فاشترتْه أمِّ أَنْمار، وهي أمُّ سِباع بن عُرْفُطَة الخُزَاعيّ (¬1)، وكانوا حُلَفاء عوف بن عَبد عوف بن زُهْرة، وكانت أمُّ أنمار خَتَّانةً بمكّة، وهي التي قال حمزة بن عبد المُطَّلب يوم أُحد لابنها سِباع: يا ابنَ مُقَطَّعَةِ البُظور، وقد ذكرناه (¬2)، فانضمَّ خباب إلى [آل] سِباع بهذا السبب. ويُقال: سِباع بن عبد العُزَّى (¬3). وقال البَلاذُريّ: كان الأَرَتّ أبو خَبّاب سَوَادِيًّا، فأغار قومٌ من ربيعة على النَّاحية التي هو فيها فسَبَوْه، وأتَوا به الحِجازَ فباعوه، فوقع إلى سِباع، فوَهَبه لأُمِّ أَنْمار فأعتَقَتْه. وزعم أبو اليَقظان البَصْري أن خَبَّابًا كان أخا سِباع لأُمّه. ويُقال: إن الأرتَّ من أهل كَسْكَر. وقال الواقدي: كان قَيْنًا، وكان يُكنى أبا عبد رَبّه (¬4). وحكى ابن سعد عن الواقدي: أن خَبَّابًا أسلم قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دارَ الأَرْقَم، فكان خامسًا أو سادسًا في الإسلام، أسلم بعد خمسةٍ أو ستَّةٍ، وكان يفتخر بذلك، وهو من المستَضْعَفين الذين كانوا يُعَذَّبون بمكة في الله، ولم يرجع عن دينه. قال الواقدي: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين خَبَّاب وبين جَبْر (¬5) بن عَتيك، وخبَّاب هو الَّذي دخل عمر على أُخته فاطمة وهو يُقرئها القرآن، وقد ذكرناه عند إسلام عمر (¬6). وقال ابن سعد بإسناده عن الشَّعبيِّ قال: دخل خَبَّاب بن الأَرَتّ على عمر بن ¬

_ (¬1) كذا، وهو خطأ، صوابه أم سباع بن عبد العزى الخزاعي، انظر طبقات ابن سعد 3/ 151 و 8/ 136، والمعارف 316، وأنساب الأشراف 1/ 199، والاستيعاب (656)، والمنتظم 5/ 138. وأما سباع بن عرفطة؛ فهو صحابي، انظر طبقات ابن سعد 5/ 108. (¬2) في قسم السيرة. (¬3) انظر التعليق ما قبل السابق. (¬4) أنساب الأشراف 1/ 198 - 199. (¬5) في (خ) و (ع): جبير، وهو خطأ. (¬6) سلف في قسم السيرة.

الخطاب، فأجلسه على مُتَّكَئه وقال: ما على وجه الأرض أحدٌ أحقّ بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد، فقال له خَبَّاب: مَن هو يا أمير المؤمنين؟ ! قال: بلال، فقال خَبَّاب: ما هو بأحقّ مني، إن بلالًا كان له من المشركين مَن يَمنعُه الله به، ولم يكن لي أحدٌ يَمنعني، ولقد أخذوني يومًا، فأوقدوا لي نارًا، ثم سَلَقوني فيها، ثم وَضَع رجلٌ رِجلَه على صدري، فما اتَّقيتُ الأرض إلا بظَهْري، ثم كشف عن ظهره فإذا هو قد بَرِص (¬1). وأخرج أبو نعيم بمعناه وفيه: أوقَدوا لي نارًا، ما أطفأها إلا وَدَك ظهري، وكشف ظهره، فقال عمر: ما رأيتُ كاليوم (¬2). وقال هشام بن محمد: كانت أمُّ أنمار مَولاة خَبَّاب تَحمي الحديدة وتَضَعُها على رأس خَبَّاب، فشكى ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا عليها فاشتكتْ رأسَها، وكانت تَعوي مع الكلاب، فقيل لها: اكتوي، وكان خَبَّاب يَحمي الحديدةَ ويكوي بها رأسَها. وقال الواقدي: الَّذي كان يُعذِّب خَبّابًا عُتبة بن أبي وَقَّاص، أخو سعد، وقيل: الأسود بن عبد يَغوث (¬3). وقال أحمد (¬4) بإسناده، عن مَسروق، عن خَبَّاب قال: كان لي على العاص بن وائل السَّهْميّ دَينٌ، وكنتُ رجلًا قَينًا، فأتيتُه أتقاضاه فقال: لا والله، لا أَقضيك حتَّى تكفر بمحمد، فقلت له: والله لا أكفر به حتَّى تموت ثم تبعث، فقال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟ قلت: نعم، قال: سوف أقضيك إذا رجعتُ إلى مالٍ وولد، فأنزل الله تعالى {أَفَرَأَيتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَال لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إلى قوله {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 - 80] الآية. أخرجاه في الصحيحين (¬5)، والعاص هو أبو عمرو بن العاص. وقال أحمد بن حنبل -كان خباب قد اكتوى لأمراض كانت به قال: حدثنا يزيد بن ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 152. (¬2) حلية الأولياء 1/ 142 - 143. (¬3) أنساب الأشراف 1/ 202، 203. (¬4) في مسنده (21075). (¬5) صحيح البخاري (2091)، وصحيح مسلم (2795).

هارون بإسناده، عن قيس بن أبي حازم قال: أتينا خَبّابًا نعودُه، وقد اكتوى في بطنه سَبع كَيّات، فقال: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندعوَ بالموت لدعوت به، فقد طال مرضي. ثم قال: إن أصحابَنا الذين مَضَوا لم تَنْقصْهم الدنيا شيئًا، وإنّا أُعطينا بعدهم من الدنيا ما لم نجد له موضعًا إلا التراب، وكان يبني حائطًا له، فقال: إن المسلم ليُؤْجَر في نفقته كلِّها إلا في شيءٍ يجعله في التُّراب. متفق عليه (¬1). وبه عن خَبَّاب قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُتوسّدٌ بردائه في ظلِّ الكعبة، فقلنا يا رسول الله، ألا تَستَنصِر لنا؟ فجلس مُحْمرًّا وجهُه وقال: "لقد كان مَن كان قبلكم يُؤخذ فيُجعل المِنشار على رأسه، فيُفْرَقُ فرقتَين، ما يَصرِفه ذلك عن دِينه، وليُتِمّنَّ الله هذا الدين -أو هذا الأمر- حتَّى يسيرَ الرَّاكب ما بين صَنْعاء وحَضْرَمَوت؛ لا يخاف إلا اللهَ والذئبَ على غنمه". انفرد بإخراجه البخاري (¬2). وروى أبو نعيم بإسناده عن شقيق بن سلمة قال: دخلْنا على خَبّاب نَعوده في مرضه فقال: إن في هذا التّابوت ثمانين ألف درهم، والله ما شَددتُ عليها خيطًا، ولا منعتُ منها سائلًا، ثم بكى، فقيل له: ما يُبكيك؛ فقال: أبكي أن أصحابي مَضَوْا ولم تَنْقُصهم الدنيا شيئًا، وإنا بقينا بعدهم حتَّى ما نجِد مَوضعًا للمال إلا التُّراب (¬3). ذكر وفاته: قال ابن سعد بإسناده عن طارق بن شهاب قال: دعا خَبّابًا نَفَرٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: أبشرْ أبا عبد الله، إخوانك تَقْدَم عليهم غدًا، فبكى وقال: أما إنه ليس بي جَزَع، ولكن ذكَّرتموني أقوامًا، وسمَّيتُم لي إخوانًا، وإن أولئك مَضَوا وأُجورُهم على الله، أو كما هي، وإني أخاف أن يكون ثوابَ ما تَذكُرون من تلك الأعمال مما أُوتينا بعدَهم (¬4). وقال الواقدي: نزل خَبّاب الكوفة حين اختطَّها المسلمون، فأقام بها إلى سنة سبع ¬

_ (¬1) مسند أحمد (21069)، وصحيح البخاري (5672)، وصحيح مسلم (2681). (¬2) مسند أحمد (21057)، وصحيح البخاري (3852). (¬3) حلية الأولياء 1/ 145. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 153.

وثلاثين، فلما احتُضر قال لولده عبد الله- وهو الَّذي ذَبحتْه الخوارج في هذه السنة: يا بُنيّ، إذا متُّ فادفِنيّ بهذا الظّهر -يعني ظهرَ الكوفة، وهو أوَّل مَن دُفِن بظَهْرها- قال: يا بُنيّ، فإنك إذا دَفَنْتَني بظَهْرها قال الناس: هذا رجلٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الناس يَدفنون في جَبابينهم بالكوفة، فدفنوه بظاهر الكوفة، ثم دفن الناس بعد ذلك مَوتاهم بالظَّهر (¬1). وقد ذكرنا أن أمير المؤمنين لما عاد من صِفين رأى على الظَّهر قُبورًا سبعة أو ثمانية، فقال: ما هذه؟ فقال له قُدامة [بن] العَجْلان (¬2): يا أمير المؤمنين، إن خَبّابًا بعد مَخرجِك توفّي، وأوصى أن يُدفَن في الظَّهر، فنزل عليّ وصلَّى عليه، وقال: رحمه الله، لقد أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا، وابتُلي في بدنه أحوالًا، فلن يُضيع الله أجرَ مَن أحسن عملًا. وقال الواقدي: عاش خَبّاب ثلاثًا وسبعين سنة، وقيل: ثلاثًا وستين سنة. أسند خباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنين وثلاثين حديثًا، أخرج له في الصحيحين ستة أحاديث، اتّفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديث (¬3). وليس في الصحابة مَن اسمُه خبّاب بن الأرتّ سواه، فأما خَبّاب غير ابن الأرتّ فثلاثة: خَبَّاب أبو (¬4) إبراهيم الخُزاعيّ، له صُحبة وليس له رواية، وقد ذكرناه. [وخَبّاب أبو يحيى، مولى عُتبة بن غَزوان، وخَبّاب والد عطاء، له إدراك]. وأخرج أحمد لخَبَّاب تسعة أحاديث، قد ذكرنا بعضها. ومن مسانيد خباب: قال أحمد (¬5) بإسناده عن عبد الله بن خباب، عن أبيه قال: إنا لَقُعودٌ على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ننتظر أن يخرج إلى الصلاة للظُّهر، إذ خرج علينا فقال: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 153، وأنساب الأشراف 1/ 202 - 203. (¬2) في (خ) و (ع): قدامة العجلاني، والمثبت من الطبري 5/ 61. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر 391، والسير 2/ 324 - 325. (¬4) في (خ): ابن، وهو خطأ، والمثبت من تلقيح فهوم أهل الأثر 185 وما سيرد بين حاصرتين منه. والإصابة 1/ 417. (¬5) في المسند (27218).

خزيمة بن ثابت

"اسمعوا"، قلنا: سمعنا، فقال: "اسمعوا"، قلنا: سمعنا، قال: "سيكون عليكم أُمراء، فلا تُعينوهم على ظُلمهم، ولا تُصدّقوهم بكذبهم؛ فإنه مَن أعانهم على ظُلمهم، وصدَّقهم بكَذِبهم، فلن يَردِ عليَّ الحوض". وفي أفراد مسلم، عن خَبّاب قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شِدَّةَ الرَّمْضَاء فلم يُشْكِنا. قال شُعبة: يعني في الظُّهر (¬1). قلت: وبهذا الحديث يحتجُّ الشافعي على أن المصلّي لو سجد على فاضل ثوبه لم يُجزه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، قال أبو حنيفة ومالك: يجوز، وعلى هذا الخلاف لو سجد على كُور عمامته أجزأه عند أبي حنيفة ومالك، وعند الشافعي لا يجوز، واحتجّ بحديث خبّاب، ولأنه سجد على حائل بينه وبين الأرض، وهو حامل له فصار كما لو سجد على يديه، ولأبي حنيفة ما رَوى البخاري عن أنس قال: كنّا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيضع أحدنا طرفَ ثوبه من شدَّةِ الحرِّ في مكان سجوده (¬2). وأما حديث خَبَّاب فقال أبو عبيد: معنى فلم يُشْكِنا، أي: لم يَدَعْنا في الشِّكاية؛ بل أزال عنا ذلك، وهذه لغة العرب (¬3)، بخلاف ما إذا سجد على يديه؛ لأن يديه ليسا بمحلّ السّجود. فصل وفيها توفّي خُزَيمة بنُ ثابت ابن الفاكِه بن ثعلبة بن خَطْمَة (¬4) عبدِ الله بن جُشَم (¬5)، وخُزيمة بن ثابت من الطبقة الثالثة من الأنصار. قال ابن سعد: كان يكسر أصنامَ بني خَطْمَة، وكنيته أبو عُمارة، شهد أُحدًا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (619)، وهو في المسند (21052). (¬2) صحيح البخاري (385)، وصحيح مسلم (620)، وانظر في هذه المسألة فتح الباري لابن رجب 3/ 32 - 40، والمغني لابن قدامة 2/ 197 - 199. (¬3) انظر النهاية في غريب الحديث (شكو) ففيه عكس هذا المعنى. ولم أقف على كلام أي عبيد. (¬4) بين ثابت وخطمة أربعة آباء. (¬5) في (خ): خيثم، وهو خطأ، انظر طبقات ابن سعد 5/ 297، وتاريخ دمشق 5/ 607، والإصابة 1/ 425.

والمشاهدَ كلّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقال له: ذو الشَّهادَتَين، وأُمُّه: كُبَيشَة بنت أوس بن عديّ [بن أميّة بن عامر بن] خَطْمَة أيضًا (¬1). قال أحمد بإسناده عن عمارة بن خُزيمة الأنصاري، أن عمَّه حدَّثه وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاع فرَسًا من أعرابيٍّ، فاستَتْبَعَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليَقْبْضِ ثَمنَه، فأسرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المَشْيَ، وأبْطأ الأعرابيّ، وطَفِق رجالٌ يَعترضون الأعرابيّ ويُساومونه الفرس، ولا يَشعرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتاعَه، حتى زاد بعضهم في الثَّمن، فنادى الأعرابيُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كُنتَ مُبْتاعًا لهذا الفَرَس وإلا بعتُه، فقال: "أليس قد ابتَعْتُه منك؟ " قال: لا والله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بلى"، فقال: هَلُمَّ شهيدًا، وطَفِق المسلمون يَلوذون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: وَيحك، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقًّا، فجاء خُزيمة بن ثابت فقال: أنا أشهد أنك بايَعْتَه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بم تَشْهد يا خُزيمة ولم تكن معنا؟ " فقال: أشهد بتصديقك، وإنَّا قد آمنَاك على أكثر من هذا، وفي رواية: أنا أُصدِّقُك في خبر السماء، ألا أُصَدِّقُك في هذا؟ فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادتَه بشهادةِ رجُلَين (¬2). الكلام على الحديث: قال الواقديّ: لم يُسمّ لنا أخو خُزَيمة راوي هذا الحديث، وكان له أخوان: عبد الله، وهو أخو خُزَيمة لأبيه وأُمّه، وأمهما كُبَيشَة، وله عَقِب، والآخر يُقال له: وَحْوَح، ولا عَقِب له (¬3). وقال ابنُ لَهِيعة: اسم الأعرابي الَّذي باع الفَرَس: سَوَّار بن قيس المُحارِبيّ. فإن قيل: فالحكم لا يَثبت إلا بشهادة شاهدَين! فالجواب من وجهين: أحدهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم على الأعرابي بعلمه، وشهادة خُزيمة أكَّدت ذلك، فصار بمنزلة شاهدَين، أو شاهد ويمين في جميع الأحكام. وهذا جواب أبي سليمان الخَطّابي (¬4)، لكن إنما يُخرَّج على قولِ مَن يَرى أن الحُكم يَثبت بشاهد وَيمين، وَيرى أن الحاكم يحكم بعلمه. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 297. (¬2) مسند أحمد (21883). (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 298. (¬4) في معالم الحديث 4/ 173.

والثاني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصًا بذلك، فحينئذٍ لا خلاف. وقال الواقدي: شهد خُزَيمة يوم مُؤْتَه فقال: بارزتُ رجلًا فأصبتُه، وكان على رأسه بَيضة فيها ياقوتةٌ حمراء، فأخذتُها وأتيتُ بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَنَفَلَنيها، فبعتُها في زمن عمر بن الخطاب بمئة دينار، فاشتريتُ بها حديقةَ نخلٍ في بني خَطْمَة (¬1). ذكر وفاته: عامة العلماء على أنَّه قُتل بصفين. قال سيف: مات في أيام عثمان، وهو وهم منه. قال أحمد بن حنبل بإسناده، عن محمد بن عُمارة بن خُزَيمة بن ثابت قال: ما زال جدّي مع علي - عليه السلام - بصفّين كافًّا سلاحَه - وكذا كان يوم الجمل - حتَّى قُتل عمار يومَ صفين -أو بصفّين - فقال خزيمة: الله أكبر، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعمار: "تقتلُك الفِئةُ الباغية"، فسَلّ سيفَه، فقاتل حتَّى قُتل (¬2). ورواه ابن عبد البر قال: فدخل فُسطاطه فاغتسل، ثم لبس سلاحَه وقال: قد بأن لي الأمر، ثم حمل فقاتل حتَّى قُتل، وهو ابن سبع وسبعين سنة (¬3). وكذا حكى جدي رحمه الله في "المنتظم" (¬4) عن الواقدي أنَّه قال: شهد خُزيمة صفّين مع علي - عليه السلام - وقُتل يومئذ، وكانت يوم الفتح رايةُ بني خَطْمَة مع خزيمة. وكان له من الولد عبد الله ومحبد الرحمن وعُمارة، وأمُّهم جَميلة بنت زيد، وقيل: أمُّ عُمارة: صَفيّة بنت عامر (¬5). أسند خُزيمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وأخرج له أحمد منها سبعة، وليس في الصحيح سِوى حديث واحد، انفرد بإخراجه مسلم، وهو في مُسند أسامة بن زيد لاشتراكهما في روايته (¬6). ¬

_ (¬1) مغازي الواقدي 2/ 769 ووقع فيه تصحيف وخطأ من المحقق. (¬2) مسند أحمد (21873). (¬3) الاستيعاب (639). (¬4) 5/ 140. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 297. (¬6) تلقيح فهوم أهل الأثر 391، والحديث في صحيح مسلم (2218) (97) في الطاعون.

ذو الكلاع

وروى خزيمة عن علي - عليه السلام - وجماعة من الصحابة، وروى عنه جابر بن عبد الله وابناه عبد الله وعُمارة في آخرين. وليس في الصحابة مَن اسمُه خُزَيمة بن ثابت غيره. وقال أحمد بإسناده عن خُزَيمة بن ثابت: أنَّه رأى في المنام أنَّه يُقَبِّل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، فناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتل وَجْهه. وفي رواية أحمد أيضًا: أن خزيمة رأى في منامه كأنه سَجد على جَبهةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبر رسول الله وفقال: "صدقتْ رُؤياك"، واضطجع، فسجد خُزَيمة على جبهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفيها توفي ذو الكَلَاع وكُنيته أبو شُرَحْبيل، وقيل: أبو شَراحيل الحِميريّ، وهو ابن عمّ كعب الأحبار، وقد ذكره الجوهريُّ فقال: ذو الكَلاع بالفتح: اسم مَلِكٍ من ملوك اليمن من الأَذْواء، قال: والكَلَع شُقاقٌ يكون في القَدَم (¬2). وقال ابن مَنْده: أدرك ذو الكَلاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان في زمانه، ولم يره، وراسله بجرير بن عبد الله البَجَلِيّ. قلت: وقد قرأتُ على شيخنا الموفق رحمه الله من كتاب "التوَّابِين" عن الأصمعيّ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كاتب ذا الكَلاع من ملوك الطّوائف على يد جرير بن عبد الله، يدعوه إلى الإسلام، وكان قد استَعْلى أمرُه حتَّى ادَّعى الرُّبوبيَّة، وأُطيع، حتَّى توفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل عَودة جرير، وأقام ذو الكَلاع على ما هو عليه إلى أيام عمر، ثم رَغِب في الإسلام، فقدم على عمر ومعه ثمانيةُ آلاف عبد، فأسلم على يده، وأعتق منهم أربعة آلاف، فقال له عمر: بِعْني ما بقي وأعطيك ثُلُثَ أثمانهم باليمن، وثُلثًا ¬

_ (¬1) مسند أحمد (21863) و (21864). وانظر في ترجمة خزيمة إضافة إلى ما ذكر من مصادر: طبقات ابن سعد 8/ 174، والاستبصار 267، والسير 2/ 485، وتهذيب الكمال وفروعه. (¬2) الصحاح (كلع) 3/ 1277.

بالشام، وثُلثًا هاهنا، فقال: أَجِّلْني يومي حتَّى أُفَكِّر، ومضى إلى منزله فأعتق الجميع، فلما غدا على عمر قال له: ما رأيك فيما ذكرته لك؟ فقال: قد اختار الله لي ولهم خيرًا مما رأيتَ. قال: وما هو؟ قال: هم أحرار لوَجْهِ الله تعالى. فقال له عمر: أصَبْتَ. ثم قال: يا أمير المؤمنين، لي ذنبٌ ما أظنّ اللهَ يَغفِرْه لي. قال: وما هو؟ قال تَواريتُ عمّن يَتعبَّدُ لي، ثم أشرفتُ عليهم من مكانٍ عالي، فسجد لي زُهاء عن مئة ألف إنسان، فقال له عمر: التوبةُ بالإخلاص، والإنابَةُ بالإقْلاع، يُرجَى بهما مع رَأفةِ الله الغُفران، قال الله تعالى {لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الْذُّنُوبَ جَمِيعًا} الآية [الزمر: 53] (¬1). وذكر أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" زيادةً على هذا، عن يزيد بن هارون قال: كان عند ذي الكلاع اثنا عشر ألف بيت من المسلمين، فبعث إليه عمر ليَشتريَهم ليَستعينَ بهم على عدوِّ المسلمين، فأعتقهم ذو الكَلاع في ساعةٍ واحدة (¬2). وقرأت أيضًا على الموفَّق من كتاب "التوابين" قال: ذكر محمد بن أحمد بإسناده عن علوان بن داود، عن رجل من قومه قال: بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكَلاع، فأقمت على بابه سَنَةً لا أصِلُ إليه، ثم اطَّلع من قصره، فلم يبق مِن حول القصر إلا مَن خَرَّ له لساجدًا، ثم أمر بهديَّتي فقُبِلَتْ. ثم رأيتُه في الإسلام قد اشترى لحمًا بدرهم، وسَمَّطه على فرسه وهو يقول: [من الرمل] أُفٍّ للدُّنيا إذا كانت كذا ... كلَّ يومٍ أنا منهما في أَذَى ولقد كنتُ إذا ما قيل مَن ... أنعمُ النَّاس معاشًا قيلَ ذا ثم بُدّلْتُ بعيشي شِقْوَةً ... حَبَّذا هذا شَقاءً حَبَّذا (¬3) ¬

_ (¬1) التوابين 158، والمنتظم 4/ 8. (¬2) تاريخ دمشق 6/ 147. (¬3) التوابين 157، والمنتظم 4/ 7 - 8، وتاريخ دمشق 6/ 142 (مخطوط).

وذكره أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" وقال: عن جرير بن عبد الله قال: بَعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذي كَلاع وذي عَمرو، فأسلما، وقال لي ذو كلاع: ادخُل على أُمّ شُرَحْبيل، ووالله ما دخل عليها أحدٌ بعد أبي شُرَحبيل قبلك. وقال أيضًا عن جرير: فلقيت ذا كَلاع وذا عمرو، فجعلتُ أُحدِّثُهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبلا معي، حتَّى إذا كنا ببعض الطريق رُفِع لنا رَكْبٌ من نحو المدينة، فسألناهم فقالوا: قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستُخلف أبو بكر، فرَجَعا إلى اليمن وقالا: أخبرْ صاحبَك أنّنا سنعود (¬1). وقال هشام بن محمد: خرج ذو كلاع إلى الشام مجاهدًا بأهله وماله في أيام عمر، واتَّفق قتلُ عثمان بن عفان، فانضاف إلى معاوية، فقدَّمه على جيوشه، وكان شُجاعًا جَوادًا. وحكى ابن عساكر قال: قال معاوية لذي الكلاع: قُمْ فاخطُب الناس، وحرِّضْهم على قتال علي وأهل العراق، فقعد على فرسه، وكان من أعظم أصحاب معاوية خَطَرًا؛ فحمد الله وأثنى عليه وذكر كلامًا طويلًا اختصرتُه، فمنه أنَّه قال: وقد كان من قضاء الله تعالى وقَدَرِه أنَّه جمع بيننا وبين أهلِ ديننا بصفّين، وإنا لنَعلم أن منهم قومًا قد كانت لهم سَوابِقُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات شأنٍ وخَطَرٍ عظيم، ولكنّا قَلَّبنا هذا الأمر ظهرًا وبَطْنًا؛ فلم يَسَعْنا أن نَهْدِرَ دمَ عثمان، فإن كان أذنَبَ ذنبًا فقد أذنبَ مَن هو خيرٌ منه؛ قال الله تعالى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، واستغفر فغُفِر له، وقتل موسى نَفْسًا، واستغفر فغُفِر له، وقال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - {لِيغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، فلم يَعْرَ أحدٌ من ذنب، وإنا لنعلم أنَّه قد كانت لابن أبي طالب [سابقة] حَسَنة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن قد مالأ على عثمان فقد خَذَلَه، وإنه لأخوه في دينه وابن عمّه وابن عَمته، وها هو قد أقبل في أهل العراق حتَّى نزل بساحتكم، ووَطِئ بيضَتَكم، وإنما عامة الذين معه بين قاتلٍ وخاذل، فاستعينوا بالله واصبروا، فقد ابتُليتُم أيتها الأمة، والله لقد رأيتُ في هذه الليلة في منامي كأنا نحن ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 139 - 140 (مخطوط).

وأهل العراق قد اعتَوَرْنا مُصحَفًا، ونحن نضربه بأسيافنا وهو يصيح: الله الله. اللهمَّ أنزِلْ علينا النصر، وأفرغ علينا الصبر (¬1). وذكر ألفاظًا أُخَر. وحكى ابن عساكر أيضًا، عن أبي نوحٍ الحِميريّ قال: إني لواقفٌ يوم صفّين في عسكر أمير المؤمنين، إذ نادى رجلٌ من أهل الشام: مَن يَدُلُّني على أبي نوحٍ الحِميريّ؟ فقلتُ: أنا أبو نوح، فمن أنت؟ فقال: ذو كَلَع، فسِرْ إليّ، فقلت: مَعاذ الله أن أَسيرَ إليك إلا في كتيبة، فقال: لا بأس عليك، أنت في ذِمَّة الله وذِمَّتي، إنما أُريد أن أسألك عن أمر، قال: فسرتُ إليه فقال: حدثني عمرو بن العاص في أيام عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يلتقي أهلُ العراق وأهلُ الشام، في إحدى الكتيبتين الحقُّ، ومعهما عمار بن ياسر"، أفيكم عمار بن ياسر؟ قال فقلت: إي والله هو معنا، قال أجادٌّ هو في قتالنا؟ قلت: إي وربّ الكعبة، وإنه يَودُّ لو أنكم حَلْقٌ واحد فذَبَحه. قال ابن عساكر: وكان ذو كَلاع قد سمع من عمرو بن العاص: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار: "تقتلك الفِئة الباغية"، فكان يوم صفين يقول لعمرو: وَيحك يا عمرو ما هذا؟ فيقول عمرو: سيرجع إلينا عمار، فقُتل ذو الكَلاع وعمار في يوم واحد، قتل ذو الكَلاع أولًا. قال: وكان معاوية خائفًا منه أن ينتقل إلى عسكر علي - عليه السلام -، فقيل لمعاوية: قُتل ذو كلاع وعمار، فقال معاوية: لا أدري بم أُسَرّ، بقتل عمار أو بذي كلاع؟ ! وإني لأشدُّ فرَحًا بقتله من فتح مصر، لأنه كان يعترض عليّ في أشياء، وكان ميلُه إلى علي. وقال ابن عساكر أيضًا: ولما قُتل ذو كلاع دخل ابنُه عسكر أمير المؤمنين، فوجده مَربوطًا برِجْله بطُنُبٍ إلى جانب فُسطاط، وكان مع ابنه عبدٌ أسود وبَغْل، فقال: يا أهل الفُسطاط، أتأذلْون لنا في حمله -وكان سمينًا قد انتَفَخ- فأَذِنوا له، ولم يساعدوهم عليه فقال ابنُه: ألا فتى مِعْوانٌ على الخير؟ فخرج إليه رجل من أصحاب أمير المؤمنين يقال له: الخندق، فقال: تَنَحّوا، فقال ابنه: ومَن يَحمله؟ فقال الخندق: الَّذي قتله، ثم احتمله حتَّى رمى به على ظهر البغل، فانطلقا به إلى عسكر الشام. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 144 - 145.

سحيم عبد بني الحسحاس

وقيل: إنما قتله هاشم المِرقال، وسنذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى. وقال ابن عساكر: أسند ذو الكلاع الحديث عن عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، وعوف بن مالك. وروى عنه: زامِل بن عَمرو الجُذَامِيّ، وأبو نوح الحِميريّ، وغيره. وسكن حمص، وكان له بدمشق حَوانيت عند باب الجابية من الجانب القِبلي، قال: وشهد وَقْعةَ اليرموك، وفَتْحَ دمشق (¬1). وفيها توفي سُحَيْم عَبدُ بني الحَسْحاس كان عَبْدًا حبشيًّا أدرك الجاهلية. قال الزبير بن بَكَّار: اشتراه عبد الله بن عامر (¬2)، وأهداه إلى عثمان بن عفان وكتب إليه: إني قد ابتعتُ لك غلامًا حبشيًّا شاعرًا، فردّه عثمان عليه وكتب إليه: لا حاجةَ لي به؛ فإنما قُصارى العبد الشاعر إنْ شَبع شَبَّب بنساء مواليه، وإن جاع هجاهم، فباعه ابن عامر، فاشتراه رجل من بني الحَسْحاس، وكان سُحَيم أعجميَّ اللسان. وقال الزبير بن بكَّار: كان سُحيم يهوى ابنةَ مولاه، واسمها عُمَيرة بنت أبي مَعْبد، وكتم حبّها، فخرج مولاه أبو مَعْبد في سفر، وخرج به معه، فقال سحيم: [من الطويل] عُميَرةَ وَدِّعُ إن تَجَهَّرتَ غازِيا ... كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهِيا وأفْحَش فيها فقال: وبِتْنا وسادانا إلى عجَانَةٍ ... وحِقْفٍ تَهاداه الرِّياح تهاديا تُوسِّدني كفًّا وتَثْني بمِعْصَمٍ ... عليَّ وتحوي رِجلَها من وَرائيا وهَبَّت شَمالٌ آخرَ الليلِ قَرَّةٌ ... ولا يُرْدَ إلا دِرْعُها وردائيا (¬3) ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 139 و 145 - 146 (مخطوط)، وانظر طبقات ابن سعد 9/ 444، والمعارف 421، والاستيعاب (715)، والإصابة 1/ 492. (¬2) في الشعر والشعراء 408، والأغاني 22/ 305، والمنتظم 5/ 141: عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. (¬3) المنتظم 5/ 141 - 142، وانظر طبقات فحول الشعراء 187 - 188.

عبد الله بن الأرقم

وقرأتُ على عبد المحسن بن عبد الله بن أحمد بن الطُّوسي كتاب "اعتِلال القلوب" لأبي بكر الخرائطي قال: حدثني أبو يوسف الرهري قال حدثنا الزبير بن بكار قال: لما ذهب أبو مَعْبَد بسُحيم إلى المدينة ليبيعه -قال: وفي رواية. كان سُحيم عبدًا فباعه مولاه- فقال: [من الطويل] وما كُنْتُ أخشى مَعْبدًا أن يَبيعَني ... ولو (¬1) أصحبتْ كفَّاه من ماله صُفْرا أخوكم ومَولاكم وكاتم سِرِّكم ... ومن [قد] ربا فيكم وعاشَركم دَهْرا أشوقَا ولما يمضِ (¬2) لي غيرُ ليلةٍ ... فكيف وقد جدَّ المَطِيُّ بنا عَشْرا وفي غير رواية الخرائطي: فرقّ له مولاه ورَدّه، ثم إنه عَشِق امرأةٌ من أهل بيت مولاه، فأخذوه وأحرقوه. وقال ابن قتيبة: سَقَوه الخمر، وعرضوا عليه نِسوة، فلما موَّتْ به التي كان يُشير إليها، ويُتَّهم بها، أهوى إليها، فقتلوه (¬3). وسُحَيْم هو الَّذي دخل على عمر بن الخطاب فأنشده: [من الطويل] عُمَيرَةَ وَدِّع إن تَجَهَّزْتَ غازيا ... كفى الشَّيبُ والإسلامُ للمرء ناهِيا فقال له عمر: لو قدَّمْت الإسلام على الشَّيب لأجَرْتُك، فقال: يا أمير المؤمنين، الرويُّ والقافية ألجاني إلى هذا، فأجازه. وفيها توفي عبد الله بن الأرْقَم ابن عَبْدِ يَغوث [بن وَهْب] بن عبد مَنَاف بن زُهْرَة، أسلم يوم الفتح، وكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوابَ كتاب فأعجبه، وكتب لأبي بكر وعمر. وقال هشام: وَرَد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابٌ فقال: "مَن يُجيب عنه؟ " فقال ابن ¬

_ (¬1) في (خ): أن يبيعني بمال ولو. (¬2) في (خ): أأشتاق ولم يمض؟ ! والأبيات في اعتلال القلوب 286، والأغاني 22/ 306، ومصارع العشاق 1/ 148. (¬3) الشعر والشعراء 409.

عبد الله بن بديل

الأرقم: أنا، فأجاب فوافق ما كان في خاطر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وبقي ذلك في قلب عمر، فلما وَلي استعمله على بيت المال، وكان عمر يقول: ما رأيتُ أخشى لله منه. وقال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن جعفر، عن أمِّ بكر بنت المِسْوَر، عن أبيها قال: وَلّى عمر عبد الله بنَ الأرقم الزُّهري بيتَ مال المسلمين، وكان عمر يَستَسلِفُ من بيت المال، فإذا خرج العَطاءُ جاءه عبد الله يتقاضاه فيقضيه، فلما ولي عثمان أقرّه على بيت المال، وكان يستسلف منه ثم يقضيه، فاجتمع عند عثمان مالٌ كثير، وحضر وقت العطاء، فقال لعثمان: أدّ المال الَّذي استسلفتَ، فقال له عثمان: وما أنت وذاك؛ إنما أنت خازني، فخرج عبد الله، فصَعِد المنبر، وصاح بالناس فاجتمعوا، فأخبرهم بما قال عثمان، ثم قال: هذه مفاتيح بيتِ مالكم، فألقاها وذهب (¬1). ولما ردَّ المفاتيح استخزن عثمانُ زيد بنَ ثابت على بيت المال. وليس في الصحابة من اسمه عبد الله بن الأرقم غيره، وله صُحبة ورواية (¬2). وفيها توفِّي عبد الله بن بُدَيْل ابن وَرْقاء الخُزاعي، وأبوه بُدَيْل هو الَّذي كان سببَ فتح مكة، وقد ذكرناه (¬3). وقال هشام بن محمد: قُتل ابنُ بُدَيْل يوم صفّين مع علي - عليه السلام -، وقُتل معه أخوه عبد الرحمن، وكانا من رؤوس القُرَّاء، ولما مرّ عليهما أمير المؤمنين بكى وتأسّف عليهما، ومرّ معاوية بعبد الله بن بُدَيل، فأراد أن يُمثِّل به، فنهاه عبد الله بن عامر، وغطَّاه بعمامته، وقال: هذا سيِّد خُزاعة غيرَ مُدَافَع. وقال هشام: قتلَه حُمران مولى عثمان بن عفان (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 73. (¬2) أنساب الأشراف 8/ 97، والاستيعاب (1300)، والمنتظم 5/ 142، والتبيين 294، والسير 2/ 482، والإصابة 2/ 273. (¬3) سلف في السيرة. (¬4) مروج الذهب 4/ 365 و 373، والاستيعاب (1316)، والإصابة 2/ 280.

عبد الله بن الحارث

وفيها توفي عبد الله بن الحارث أخو الأشتر النَّخَعي، كان شجاعًا جوادًا، أفنى خلقًا من أهل الشام حتَّى قتلوه. وفيها توفي عبد الله بن خَبّاب بن الأَرَتّ وُلد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان مَوصوفًا بالخير والصّلاح، قتلته الخوارج بالنّهروان، وقد ذكرناه. وروى أبو بكر الخطيب قصَّتَه بإسناده إلى أبي الأحوص، وفيها زيادة، قال أبو الأحوص: كنا مع علي يوم النّهر، فجاءت الحَروريّة فنزلت من وراء النهر، فقال علي: والله لا يُقتَل اليومَ رجلٌ من وراء النَّهر -قالها ثلاثًا- فقالت الحرورية: يرى عليٌّ (¬1) أنّا نخافه، فذهبوا إلى منزل عبد الله بن خَبَّاب، وكان منزله على شطِّ النهر، فأخرجوه من منزله وقالوا: حدَّثنا بحديثٍ حدَّثَك به أبوك سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحدّثهم حديثَ الفتنة الَّذي ذكرناه، فذبحوه، وبَقَروا بطنَ أمِّ ولده. فأُخبر أميرُ المؤمنين بما صنعوا فقال: الله أكبر، نادوهم: أَخْرِجوا إلينا قاتلَ عبد الله بن خَبّاب، فقالوا: كلُّنا قتلَه -قالوها ثلاثًا- فقال علي - عليه السلام - لأصحابه: دونكم القوم فقتلوهم (¬2). وفيها توفي عبد خَيْر بن يَزيد الخَيْرانيّ الهَمْداني ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، وقال: وقُتل عبد خَيْر بن محمد بن خولي من ولد كَهلان بن سَبأ، وكُنيته أبو عُمارة (¬3). ¬

_ (¬1) في (خ): ترى يرى عليًّا؟ ! (¬2) تاريخ بغداد 1/ 305 - 306، وانظر طبقات ابن سعد 7/ 242، وتاريخ الطبري 5/ 81، والاستيعاب (1362)، والمنتظم 5/ 143، والإصابة 2/ 302. (¬3) كذا؟ ! والذي في طبقات ابن سعد 8/ 341: عبد خير بن يزيد الخيواني من هَمْدان، روى عن علي بن =

عبيد الله بن عمر بن الخطاب

واختلفوا في وفاته، قال الهيثم: قُتل بصفّين، وقال أبو القاسم بن عساكر: عاش إلى سنة أربع عشرة ومئة، وأدرك زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَلْقَه (¬1)، وكان ثقةً، عاش عشرين ومئة سنة، روى أحاديث. وحكى ابن عساكر عن البخاري أنَّه قال: قيل لعَبْد خَير: كم أتى عليك؟ فقال: عشرون ومئة سنة، كُنْتُ غلامًا باليمن، فجاءنا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم أبي وأهلي وأنا (¬2). قال: وحكي أنَّه حضر مع علي - عليه السلام - النَّهرَوان. وروى عن علي أخبارًا كثيرة، وروى عنه أبو إسحاق السَّبِيعيّ، وحَبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن السائب، وإسماعيل السُدِّي في آخَرين. وفيها توفي عُبيد الله بن عمر بن الخَّطاب وكنيته أبو عيسى، أدرك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقُتل في اليوم الَّذي قُتل فيه عمار بن ياسر. وقال ابن سعد: وأمُّه أمّ كُلثوم بنت جَرْوَل بن مالك، خُزاعية (¬3). وكان الإسلام قد فَرَّق بين عمر وبين أمّ كلثوم بنت جَرْوَل. وأخوه لأمّه وأبيه زيد الأصغر، وأخوهما لأمهما عُبيد الله بن أبي جَهْم بن حُذَيفة بن غانِم. وقال أبو نُعيم: ضرب عمر ابنَه عبيد الله بالدِّرَّة، وقال: إنه كني بأبي عيسى، أوَكان لعيسى أب؟ إنما كنيةُ العرب: أبو سلمة، أبو قتادة ونحوه، وليس هذا من كُنى العرب (¬4). ¬

_ = أبي طالب، وشهد معه صفّين، وبارز وقَتل، ويكنى أبا عمارة، وقد روي عنه الحديث. اهـ أما ما نقله المصنف عن الطبقات فهو في تاريخ بغداد 1/ 124 - 125، والاستيعاب (1670)، وتهذيب الكمال 16/ 469. (¬1) وكذا ذكره ابن الجوزي في المنتظم 7/ 160 في وفيات سنة (114 هـ). (¬2) التاريخ الكبير 6/ 134. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 17. (¬4) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 44/ 347 - 348 من طريق الزبير بن بكار، بإسناده إلى أسلم، بأطول =

وحكى ابن عساكر: أن عُبيد الله سبّ المقداد بن الأسود، فأراد عمر أن يقطع لسانه، وقال: لئلّا يَجترئ أحدٌ بعده على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألوه فيه فتركه (¬1). وقد ذكرنا عبيد الله في قَتْلِ الهُرْمُزان وجُفَيْنَة وبنت أبي لُؤلؤة، وأن عثمان أراد قتلَه، ثم وَدَى عثمان الهرمزان. وأقام عبيد الله بالمدينة وعلي - عليه السلام - يَتهدَّدُه، فلما قُتل عثمان هرب عُبيد الله إلى معاوية فجعله على أَعِنَّةِ الخيل، فقُتل معه بصفِّين. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، فيمن وُلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال الواقدي: التقى عمار بعُبيد الله يوم صفّين، فقال عبيد الله: أنا الطيِّبُ بن الطيب، فقال عمار: كذَبْتَ، بل أنت الخبيث بن الطيب. قال: وبلغنا أن عبيد الله قطع أُذُن عمار يؤمئذ، قال: والثَّبْتُ عندنا أن أُذُن عمار قُطعت يوم اليمامة (¬3). قال: وأقرع معاوية بين الناس بصفين، فخرج سَمهْمُ عبيد الله بن عمر على ربيعة، فبرز إليها، وأحضر امرأتَيه للقتال لينظرا إلى قتاله، وكان عنده أسماء بنت عُطارد بن حاجب بن زُرارة التميمي، وبَحريّة بنت هانئ بن قَبِيصَةَ الشَّيباني، ودفع إليه معاوية الكَتيبة الشَّهباء، وكانت أشدَّ العَسكر، فيها اثنا عشر ألفًا، فقال له بعض مواليه: إنما يُقَدِّمُك معاوية إلى الموت، لأنك قد ثَقُلْتَ عليه، فإن قُتلتَ استراح منك، وإن ظَفِرتَ كان الصِّيتُ له. وقالت له بَحريّة: قد فشا ذِكرُك في الناس، وقد حسدك معاوية، وهذا أمر قد أبرَمَه هو وعمرو بن العاص، وهذه الكتيبة مثل التابوت، ما تَقَدَّمَها أحدٌ فرجع. فلم يلتَفِتْ إليها، وتقدَّم إلى ربيعة وعليها يومئذ زياد بن خَصَفة التَّميمي، فشَدَّت ربيعة على الكتيبة الشهباء، فأنكت فيها فانهزمت، وقتلوا عبيد الله، وضُرب فُسطاط زياد بن ¬

_ = وأوضح مما هنا. (¬1) تاريخ دمشق 44/ 348 - 349. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 17. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 23.

خَصَفة، فبقي طُنْبٌ ماله وَتد، وعبيد الله قتيلٌ هناك، فشَدُّوا الطُّنب في رِجل عبيد الله. وأقبلت امرأتان فوقفتا عليه، وصرختا وبكتا، فقال زياد: مَن هاتان؟ قالوا: أسماء وبَحرِيَّة، قال: وما يطلبان؟ قالوا: جيفَةَ عُبيد الله، فأرسل إلى أمير المؤمنين يَسألُه في ذلك، فقال: إنما هي جيفة كلب، لا يحلُّ بَيعُها، فدفعه إليهم، فحملوه على بَغْلٍ، فذكروا أن يَدَيه ورجلَيه كانتا تَخطُّان الأرض، قال: وسُرَّ معاوية بقتله، كما سُرَّ بقتل ذي كَلَع. قال الواقدي: ولما حُمل خرج معاوية ومعه سرير، فتلقّاه وحمله عليه، وجعل يبكي ويقول: قُتل ابن الفاروق في طاعة خليفتكم فترحَّموا عليه، ثم حفر له وصلّى عليه ودَفَنَه. وفي رواية ابن سعد عن الواقديّ قال: فلما سمعت بَحرِيّة كلامَ معاوية قالت: أما أنت فقد عَجَّلْتَ يُتْمَ وَلَدِه، وذهابَ نَفْسه، ثم الخوف عليه لما بعد أعظم، فقال معاوية لعمرو: ألا تسمع ما تقول هذه؟ فقال له عمرو: إن لم تُغْضِ عما ترى كنتَ من نفسك في غَمّ، لقد قال الناس فيمن هو خيرٌ منك، فقال معاوية: هذا والله رأي الَّذي ورثتُه عن أبي. وقال أبو اليقظان: قيل لأمير المؤمنين هذا عبيد الله بن عمر عليه جُبَّةُ خَزٍّ، وفي يده مِسواك، وهو يقول: سيعلم عليٌّ إذا التقينا غدًا. فقال علي: دعوه فإنما دَمُه دم عصفور. وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: مرّ الحسن بن علي في الليل على رجلٍ من هَمْدان، وعنده قتيلٌ قد شَدَّ مِقوَدَ فرسعه برجله، فقال: مَن هذا؟ قال: لا أدري، فنزل الحسن فتأمَّله، فإذا به عبيد الله بن عمر، فجاء فأخبر أميرَ المؤمنين، فنفَّله سَلَبه، وكان يساوي أربعة آلاف درهم. واختلفوا في قاتله؛ فحكى ابن سعد عن الواقدي أنَّه قال: قد اختُلف علينا في قاتل عبيد الله بن عمر، فقيل: قتله عمار، وقيل: رجل من بني حَنيفة، وقيل: رجل من هَمْدان، وقيل: الأشتر النَّخَعي، وقيل: المرقال في آخرين. وقيل: إن أمير المؤمنين قتله، فحكى المسعوديّ قال: ضربه أمير المؤمنين ضربةً بالسيف، فقطعت ما عليه من الحديد، وخالطت حُشْوَة جوفه فقتلته، وكان علي عليه السلام يقول: لئن فاتني الفاسق يومَ الهرمزان؛ فما فاتني يوم صفين.

وقال هشام: وقع عبيد الله إلى الأرض وبه رَمَق، فرآه المِرقال هاشم بن عُتبة وهو جريح، وكان قريبًا منه، شدبّ إليه، فقبض على ثُنْدُوَتِه بأسنانه حتَّى مات (¬1). وحكى أبو الفرج الأصفهاني في "مقاتل الطّالبيين" قال: خرج عُبيد الله بن عمر في كتيبة يُقال لها: الخضراء، وكان بإزائه محمد بن جعفر بن أبي طالب، وبيده راية أمير المؤمنين، ويقال لها: الجموح، وكانا في عشرة آلاف، فاقتتلوا قِتالا شديدًا، فصاح عبيد الله بن عمر: فحتى متى هذا الحَذَر؟ ابرز إلي حتَّى أُناجزك، فبرز إليه محمد، فتَطاعنا حتَّى تكَسَّرت رماحهما، ثم تضاربا حتَّى انكسر سيفُ محمد، ونشب سيف عبيد الله في الدَّرَقة، فتعانقا، وعضّ كلُّ واحد منهما [أنفَ] صاحبه، فوقعا عن فرسيهما، وحمل أصحابهما فقتل منهما خلقٌ كثير، حتَّى صار عليهما مثل التَّلِّ العظيم من القتلى. وحمل أمير المؤمنين فأزال أهلَ الشام وقال: اكشفوا لي هؤلاء القَتلى عن ابن أخي، فكشفوهم، وإذا بهما مُتعانقان ميّتان، فقال علي - عليه السلام -: والله لَعَنْ غير حُبٍّ تعانقتما. ثم قال أبو الفرج الأصفهاني: وهذه رواية الضَّحاك بن عثمان، ولم أعلم أن أحدًا من أهل السِّير ذكر أن محمد بن جعفر قَتَل عُبيد الله بن عمر، ولا سمعتُ لمحمد بن جعفر في كتاب أحدٍ منهم ذكر مَقتل. ثم قال أبو الفرج: واختلفوا في قاتله؛ فقالت هَمْدَان: قتله هانئ بن الخطَّاب، وقالت حضرموت: قتله مالك بن عمرو النَّاطِفي (¬2)، وقالت بكر بن وائل: قتله رجل من تَيْم الله بن ثَعلبة يُقال له: مالك بن الصَّحْصَح بصري، وأخذ سيفَه ذا الوِشاح، فلما بويع لمعاوية بعث إليه إلى البصرة فأُخِذ منه، وكان سيفًا لا يُوجد مثله. وقال ابن منده: لا يُعرف لعبيد الله بن عمر مسند يَصحّ. ¬

_ (¬1) انظر في مقتل عبيد الله وقاتله: طبقات ابن سعد 7/ 21 - 23، والأخبار الطوال 178، ووقعة صفين 297، 330، 355 - 356، وأنساب الأشراف 2/ 224 - 225، ومروج الذهب 4/ 366 - 368، والاستيعاب (1613)، وتاريخ دمشق 44/ 363 و 365. (¬2) في مقاتل الطالبيين 21 - 23: التُّبَّعي، وما بين معكوفين منه، وفي وقعة صفين 298: السبيعي.

عمار بن ياسر

وقال الموفّق رحمه الله: ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُحفَظُ له رواية، ولا سمع منه، وكان من أَنْجاد قريش وفُرسانهم (¬1). ذكر أولاده: قال ابن سعد: كان له من الولد: أبو بكر وعمر وعثمان ومحمد (¬2) وأمّ عثمان، وأمُّهم أسماء بنت عُطارد بن حاجب بن زرارة بن عُدُس التّميمي. والحُرّ بن عبيد الله لأمِّ وَلَد. وأمُّ عَبْس بنت عبيد الله، وأمها تَهْلُل بنت يزيد بن عَمرو بن عُدُس، من بني البَكّاء. وحَفْصة بنت عبيد الله، وأمّها أسماء بنت زيد بن الخَطّاب أخي عمر. وأم سلمة بنت عُبيد الله، وأمها تَهْلُل بنت يزيد، وقيل: أمّها أسماء بنت عُطارد. وأتم حكيم لأمّ ولد. وكان لعبيد الله ابنةٌ تزوَّجها المختار بن أبي عُبيد، فوَلَدت له رجُلين، وأمها أمّ وَلَد (¬3). انتهت ترجمة عبيد الله. وفيها توفي عمار بن ياسر ابن عامر بن مالك، ونسبه ابن سعد (¬4) إلى يَعرب بن قَحْطان. وعمّار حَليفُ بني مَخزوم، وكنيته أبو اليَقظان، وكان جَدُّه مالك من رَهْط الأسود العَنْسِيّ. وقال البَلاذُري (¬5): عَنْس بالنون، وكان عنْس يُسمَّى زيدًا، وكُنية ياسر أبو عمار. وقال ابن سعد: قدم ياسر وأخواه الحارث ومالك (¬6)؛ بنو عامر من اليمن إلى مكة، ¬

_ (¬1) التبيين 413. (¬2) في المخطوط زيادة: وعمرو، وهو خطأ. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 18. (¬4) في طبقاته 3/ 227. (¬5) في أنساب الأشراف 1/ 180. (¬6) في (خ) و (ع): الحارث بن مالك، وهو خطأ، والمثبت من طبقات ابن سعد 3/ 227.

ذكر صفة عمار

يريدون أخًا لهم، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحال أبا حُذَيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي، فزوّجه أبو حُذَيفة أَمَةً له يُقال لها: سُمَيّة بنت خُيّاط، فولَدت له عمارًا، فأعتقه أبو حُذَيفة، ولم يزل ياسر وعمار مع أبي حُذَيفة حتَّى مات، وجاء الإسلام فأسلم ياسر وعمار وسُميَّة وأخوه عبد الله بن ياسر. قال: وكان لياسر ابن آخر أكبر من عمار يُقال له: حُرَيث، قتلَتْه بنو الدِّيل في الجاهلية. قال: ومات ياسر، فخلف على سُميَّة بعده الأزْرَق، غلامٌ رومي للحارث بن كَلَدة الثّقفي، وكان قَيْنًا، وهو ممّن خرج من الطائف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بَكْرة، فأعتقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فولدت سُمَيّة للأزرق سَلَمة بن الأزرق، فهو أخو عمار لأمِّه، وكانت سمية ممن تُعَذّب في الله لتَرجعَ عن دِينها فلم ترجع، فمرّ بها أبو جَهْل، فطعنها بَحرْبَةٍ في قُبُلها فماتت، فهي أوّلُ شهيدةٍ في الإسلام، وكانت عجوزًا كبيرة، وقد ذكرناها في السيرة. قلت: وقد تشتبه أمُّ عمار بسميّة أم زياد بن أبيه من حيث جرى للحارث بن كَلَدة في تزويجها بغُلامه الرومي ذكر، والفرقُ بينهما أن سمية أم عمار كانت في الجاهلية لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، وسمية أمّ زياد كانت أمَةً للحارث بن كَلَدة المخزومي، وكانت من البغايا بالطّائف، وكان لها رايةٌ مثل رايةِ البيطار تُعرَف بها، وسنذكرها في سنة أربع وأربعين عند استلحاق معاوية زيادًا. ذكر صِفة عمار: قال علماء السير: كان شيخًا آدَمَ طُوالًا، أشْهَلَ العَينين، بعيدَ ما بين المَنْكِبَين، ولا يُغيِّر شَيبه. وروى أبو نعيم، عن خالد بن سُمَيْر قال: كان عمار طويلَ الصّمت، طويل الحُزنِ والكآبة، وكان عامّة كلامه عائذًا بالله من فتتة (¬1). قال: وعرضت بعد ذلك فتنةٌ عظيمة. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 1/ 142.

ذكر إسلامه: حكى ابن سعد عن الواقدي، عن عبد الله بن أبي عبيدة، عن أبيه قال: قال عمار بن ياسر: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فقلت له: ما تريد؟ فقال ما تريد أنت؟ قال: فقلت: أريد أن أدخل على محمد فأسمع كلامه، فقال: وأنا أريد ذلك، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم مكَثْنا يومنا على ذلك حتَّى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون، فكان إسلامُ عمار وصهيب بعد بضعة وثلاثين رجلًا. ذِكرُ نبْذَةٍ من فضائله: قال علماء السِّيَر: عمّار من الطبقة الأولى من المهاجرين، هاجر إلى الحبشة الهِجرَتَين، وقيل: الثانية، وشهد بدرًا وأُحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يشهد بدرًا مَن (¬1) أبواه مؤمنان سواه، وشهد اليَمامة، وقُطعت أذُنه فيها، وكان من المُسْتَضعَفين الذين يُعَذّبون في الله تعالى ليَرجع عن دينه. وقال ابن سعد بإسناده عن عمرو بن مَيمون قال: أحرق المشركون عمارًا بالنار، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَمرُّ به ويُمِرُّ يدَه على رأسه يقول: "يا نار كوني بَرْدًا وسلامًا على عمار، كما كنتِ بَرْدًا وسلامًا على إبراهيم، يا عمار تقتلُك الفِئةُ الباغية". وفي رواية ابن سعد أيضًا بإسناده عن عثمان قال: أقبلتُ أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البَطْحاء، وأبو عمار وأمُّه وعمار وهم يُعذَّبون، فقال يا سر: الدَّهرُ هكذا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اصبروا يا آل ياسر فإن مَوعدَكم الجنّة، اللهمَّ اغفر لآل ياسر وقد فعلتَ" (¬2). وقال أبو نُعَيم بإسناده عن عُبيد الله بن عمرو بن محمد بن عَمّار قال (¬3): أخذ المشركون عمار بنَ ياسر، فلم يَدَعوه حتّى سَبَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: ذكر آلهتَهم بخير، ونال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أتى رسول الله قال له: ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): مع، وهو خطأ، وانظر تاريخ دمشق 52/ 111. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 230. (¬3) كذا، وهو خطأ، صوابه: عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار، كما في الحلية 1/ 140، وطبقات ابن سعد 3/ 231، وتاريخ دمشق 52/ 124 و 125، والسير 1/ 411.

"ما وراءك؟ " قال: شَرٌّ، وأخبره فقال: "كيف تَجِدُك؟ " أو "كيف تجد قلبَك؟ " فقال: مُطمئنًّا بالإيمان، قال: "فإن عادوا فعُدْ". وفي رواية: ثم أنزل الله {إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيِمَانِ} [النحل: 156]. وقد أخرج ابن سعد عن الواقدي، عن أشياخه بمعناه وقال: قال المشركون لعمار: لا نَدَعُك حتَّى تقول: واللّات والعُزّى خيرٌ من دين محمد، وتهدَّدوه بالقتل، فقالها فتركوه، فلما جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "أفلح وجهك" فقال والله ما أفلح، وأخبره الخبر فنزل فيه {إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيِمَانِ} ففي عمار نزلت هذه الآية (¬1). وحكى عن ابن عباس قال: وفي عمار نزلت {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ أَانَا اللِّيلِ} الآية [الزمر: 9]. قال: وعمار أول مَن بنى مسجدًا لله تعالى يُصلّى فيه (¬2). وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن هانئ بن هانئ، عن علي - عليه السلام - قال: جاء عمار يَستأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ائذَنوا له، مرحبًا بالمُطَيَّب" (¬3). وقال الترمذي (¬4) بإسناده عن أبي ربيعةَ الإياديّ، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الجنّةَ لتَشْتاقُ إلى ثلاثة: علي وعمار وسَلْمان". وحكى البَلاذري (¬5) عن هُزَيل بن شُرَحْبيل قال: أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: وقع على عمار حائطٌ فمات، فقال: "ما مات عمار". قال الزهري: وهذه من مُعجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن عمر قال: رأيتُ عمارًا يوم اليَمامة على صحرة وقد أشرف وهو يَصيح: يا معاشر المسلمين، إليّ إليّ فأنا عمار بن ياسر، أمن الجنّة تَفِرّون؟ قال: وقد قُطعت أُذُنه، وأنا أنظرُ إليها تَذَبْذب، وهو يُقاتل أشدَّ قِتال. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 1/ 183، ولم أقف عليه في الطبقات. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 231. (¬3) مسند أحمد (779). (¬4) في سننه (3797). (¬5) في أنساب الأشراف 1/ 184.

ذكر مقتل عمار بن ياسر

وفي رواية قال: فكان أعداؤه إذا نَبَزوه قالوا: العبد المُجَدّع، فيقول: خيرَ أعضائي سبَبتُم. وقال ابن سعد بإسناده عن طارق (¬1) بن شهاب قال: غزا أهلُ البصرة وعليهم رجل من آل عُطارد التميمي، فأمدَّهم أهل الكوفة وعليهم عمار بن ياسر، فقال الَّذي من آل عطارد لعمار: يا أجْدَع، أترُيد أن تُشاركنا في غنائمنا، فكُتب إلى عمر في ذلك، فكتب عمر: إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة. وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: لما هاجر عمار إلى المدينة نزل على مُبَشِّر بن عبد المنذر. وقيل: إنه آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين حُذيفةَ بن اليَمان (¬2). ذكر مَقتل عمّار بن ياسر: قال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن سَلمة قال: رأيتُ عمار بن ياسر يومَ صِفّين شيخًا آدم في يده الحَرْبة، وإنها لتَرْعَد، فنظر إلى عمرو بن العاص ومعه الرَّاية، فقال عمار: إن هذه راية قد قاتلتُ بها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا، وهذه الرابعة، ولو ضَربونا حتَّى يُبَلّغونا سَعَفاتِ هَجَر لعَرفتُ أن مَصلَحتنا على الحق، وهم على الضَّلالة. وفي رواية ابن سعد: هذه الراية قد قاتلتُ بها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّتين، وهذه الثالثة. وفي رواية ابن سعد أيضًا، عن عمار أنَّه قال يوم صفّين: الجنّة تحت البارِقة، اليوم ألقى الأحبَّة، محمدًا وحِزْبَه (¬3). وفي رواية: إن عمارًا نادى: هل من رائحٍ إلى الجنّة، أو إلى تحت العَوالي، والذي نفسي بيده، لنُقاتلَنّهم على تاويله كما قاتلناهم على تَنزِيله، ثم قال: نحن ضَرَبناكم على تنْزِيلهِ واليوم نَضْربْكم على تأويلهِ ¬

_ (¬1) في النسخ: عطاء، وهو خطأ. والمثبت من طبقات ابن سعد 3/ 235، وأنساب الأشراف 1/ 185، وتاريخ دمشق 52/ 191، والسير 1/ 422. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 232. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 237 - 239.

ضَرْبًا يُزيلُ الهامَ عن مَقِيلهِ ويُذهِلُ الخليلَ عن خَليلهِ أو يرجعَ الحقُّ إلى سَبيلهِ ثم نادى عمار هاشمًّا المِرْقال: أقْدِم يا هالثمم، فالجنّة اليوم تحت ظِلال السُّيوف، والموتُ في أطراف الأَسَل، وقد فُتحت أبوابُ الجنّة، وتزيّنت الحورُ العِين، وحملا فقُتلا جميعًا (¬1). وقال ابن سعد بإسناده عن أبي البَخْتَرِيّ قال: قال عمار يوم صِفّين: ائتوني بشَرْبَةِ لَبَن؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لي: "إن آخر شَرْبَةٍ تَشربُها من الدنيا شَربةُ لَبَن"، فأُتي به فشَرِبه، ثم حمل فقاتل حتَّى قُتل (¬2). وقال أحمد (¬3) بإسناده عن أبي البَخْتَريّ: أن عمارًا أُتي بشَرْبَةِ لَبَن، فضحك وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن آخر شراب أشرَبُه اللّبَن حتَّى أموت". وقال أبو نُعيم (¬4) بإسناده، عن أبي سِنان الدُّؤلي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعا عمار في ذلك اليوم بشرابٍ، فأُتي بقَدَح من لَبن، فشربه وقال: الله أكبر، صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لي: "يا عمار، إن آخر زادِك من الدُّنيا ضَيحَةُ لَبَن". الضَّيح: اللَّبَنُ الرَّقيق. وفي رواية: إن عمارًا استسقى ماءً، فجاءته امرأةٌ من بني شَيبان بعُسٍّ فيه لبن، فرفعه إلى فيه وقال: الله أكبر، اليوم أَلْقى الأحبَّة محمدًا وحِزْبَه، ثم نادى عمار: أين مَن يَبتغي رضوان الله، ولا يُوَلّي إلى مالٍ ولا وَلَد؟ ! فأتَتْه عصابة من الناس، فقال: أيُّها الناس، اقصدوا هذه العصابة التي تَتَعلَّل بدم عثمان، ووالله ما قَصدُهم إلا الدنيا، وقد علموا أن الحقّ إذا لَزِمَهم حال بينهم وبين ما قصدوا إليه، والله لو ضربونا حق يُلحِقونا بسَعَفاتِ هَجَر لعَلمنا أننا على الحقِّ وهم على الباطل، والله لنَضْرِبَنّ اليوم هامَ هؤلاء ¬

_ (¬1) وقعة صفين 341، وأنساب الأشراف 2/ 217، ومروج الذهب 4/ 358 - 359، والاستيعاب (1705). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 238. (¬3) في مسنده (18880) و (18883). (¬4) في الحلية 1/ 141 - 142.

الفاسقين ضَرْبًا يرتاب منه المُبْطِلون، والله ما يطلبوا دم عثمان إلا لصيروا جَبابرةً ومُلوكًا، ولولا ذلك لما تَبعهم اثْنان. ثم دنا من عمرو بن العاص وقال: ويلك يا عمرو، بِدْتَ في ينك بمِصر، تبًّا لك، وصاح بعبيد الله بن عمر: ويحك يا فاسق، بعتَ دِينك من عدوِّ الله وابنِ عدوِّه بالدُّنيا (¬1). وحكى ابن سعد (¬2) عن الواقدي، عن أشياخه قالوا: قال عمار: اللهمَّ لو أعلم أنَّه أرضى لك عني أن أُوقدَ نارًا عظيمة فأقَعَ فيها، أو أُغرِق نَفْسي في الماء لفعلت، وإني لا أقاتل هؤلاء إلا أُريد وَجهك، وأنا أرجو أن لا تُخَيِّبَني، ويده ترتعش على الحَرْبة. واختلفوا في قاتله على أقوال: أحدها: أنَّه أبو الغادية، واسمُه يَسار بن سبع المُرِّي من بني مُرَّة. وذكره ابن سعد فيمن نزل البصرة من الصحابة، وذكره البُخاري وابن أبي حاتم فيمن نزل بواسط من الصحابة (¬3). وذكره جدّي في "التَّلقيح" (¬4) فيمن له صُحبة ورواية، وقال: يسار بن سبع -وقيل: ابن سُبيع- قاتِل عمار، وكُنيته أبو الغادِية. وذكره أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" وقال. قد اختلفوا في صحبته، وكانت له دارٌ بدمشق بسوق الطَّير، وشهد الجابية مع عمر - رضي الله عنه -. وقال: بايعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخطبنا يوم العَقَبة فقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام ... " الحديث. قال: وكنا نعدُّ عمارًا حَنانًا فينا، فوالله إني لبمسجد قُباء إذ سمعته يَقع في عثمان فقلت: لئن أمكنني الله منك لاقتُلَنّك، فلما كان يوم صفّين حملتُ عليه، فطَعَنْتُه في رُكبته فقتلتُه (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 38 - 39. (¬2) في الطبقات 3/ 238. (¬3) التاريخ الكبير 8/ 420، والجرح والتعديل 9/ 306. ولم أقف عليه في طبقات ابن سعد. (¬4) ص 369. (¬5) لم أقف عليه في تاريخ دمشق، وأخرجه ابن سعد 3/ 240 - 241، وأحمد (16698)، وابن عساكر =

وحكى ابن سعد عن الواقدي وغيره قالوا: لما استَلْحَم القتالُ يومَ صفّين وكادوا يَتفانَون قال معاوية: هذا يومٌ تَفانى فيه العرب؛ إِلا أن تُدرِكَهم فيه خِفَّةُ العبد، يعني عمارًا، وكان القتالُ الشَّديدُ ثلاثةَ أيَّام ولَياليهن، آخرهنّ ليلةُ الهَرير، فلما كان يوم الثالث قال عمار لهاشم بن عُتبة ومعه اللواء يومئذٍ: احمِلْ فداك أبي وأمي، فقال له هاشم: يا عمار إنك رجلٌ تَستخِفُّك الحربُ، وإني إنما أزحف باللّواء زَحْفًا رَجاء أن أبلغَ بذلك ما أريد. فلم يزل به حتَّى حَمل، فنهض عمار في كتيبته، فنهض إليه ذو الكَلَاع في كتيبته، فاقتتلوا فقُتلا جميعًا، وحمل على عمار حُوَيّ السَّكْسَكِيّ وأبو الغادية المُزَنيّ فقتلاه، ضربه أبو الغادية بسيفه حتَّى بَرَد، ونادى الناسُ: قتلتَ أبا اليقظان؟ ! قتلك الله، ولم يعرفه يومئذٍ. وقال عمار: ادفنوني في ثيابي فإني مُخَاصَم، ولا تغسلوا عني دمًا (¬1). والقول الثاني: عُقبة بن عامر الجُهَني، وعقبة هو الَّذي ضرب عمارًا بأمر عثمان فأصابه الفَتقُ. والثالث: عُمر بن حارث الخَوْلانيّ. والرابع: شَريك بن سَلَمة المُراديّ، حكاه ابن سعد عن الواقدي (¬2). والأول أصحّ، وعليه عامّة المؤرِّخين، ونصَّ عليه البَلاذُريّ وغيره (¬3). وحكى ابن سعد عن محمد بن عمر قال: طعنه أبو الغادِية فوقع، فاحتزَّ رأسَه حُوَيُّ ابن ماتِع بن زُرْعَة السَّكسَكيّ، ثم أقبلا به إلى معاوية، فاختصما فيه كلُّ واحدٍ يقول: أنا قتلتُه، فقال لهما عمرو بن العاص: والله إنْ تختصمان إلا في النّار، فقال له معاوية: ما صنَعتَ! قومٌ بَذلوا نفوسهم دوننا تقول لهم هذا؟ فقال عمرو: هو والله ذلك، وإنّك لتَعلَمه، وَدِدْتُ أنِّي متُّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة (¬4). ¬

_ = 52/ 219 - 222، وانظر المعارف 257، والاستيعاب (2786) و (3089)، والإصابة 4/ 150. (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 242 - 243. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 240. (¬3) أنساب الأشراف 1/ 193 و 7/ 212. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 240، وأنساب الأشراف 1/ 193 و 2/ 217، 220.

وأخرج أحمد في "المسند" (¬1) بمعناه فقال: حدثنا يزيد بن هارون بإسناده، عن حَنْظَلة بن خُوَيلد قال: بينما أنا عند معاوية؛ إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار، كلُّ واحدٍ يقول أنا قتلتُه، فقال لهما عبد الله بن عمرو بن العاص: ليَطِبْ به أحدُكما نفسًا لصاحبه، فقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: "يا عمار تقتُلك الفئةُ الباغية" فقال معاوية لعبد الله: فما بالك معنا؟ قال: طاعةُ هذا الشيخ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي: "أَطِعْ أباك ما دام حيًّا" ولعَمري ما سللتُ سيفًا، ولا رميتُ بسَهْمٍ، ولا حملتُ سلاحًا ولا أحمله، وأنا معكم ولا أقاتل. وأخرج ابن سعد بمعناه فقال: حدثنا أبو معاوية الضَّرير بإسناده، عن عبد الله بن الحارث قال: قال عبد الله بن عمرو لأبيه: يا أبَتِ قتلتُم عمارًا، وسمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: "تقتلُك الفئةُ الباغية"؟ ! ، وسمعه معاوية فقال: إنك شيخٌ خَرِف؛ لا تزال تأتينا بهَنَةٍ تَدحَضُ بها في بَولك، أنحنُ قتلْناه؟ ! قتله الَّذي أخرجه (¬2). وفي رواية: فبلغ عليًّا فقال: ونحن قتلنا حَمْزَة لأننا أخرجناه إلى أُحُد (¬3). وروى أيضًا عن عبد الله بن الحارث قال: بينما أنا أَسيرُ مع معاوية في مُنْصَرفه من صِفِّين بينه وبين عمرو بن العاص؛ إذ قال عبد الله بن عمرو: يا أبتِ، قتلتُم عمارًا وقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: "ويحك يا ابن سُمَيَّة، تقتلُك الفئةُ الباغية" فكيف قتلتموه؟ فقال معاوية: لا تزال تأتينا بهَنَةٍ، أنحن قَتَلْناه؟ ! إنما قتله الذين جاؤوا به (¬4). وأخرج أحمد في مسند عمرو بن العاص (¬5) بمعناه فقال: حدثنا عبد الرزّاق بإسناده عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، عن أبيه قال: لما قُتل عمار دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال: قُتل عمار، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تقتلُك الفِئةُ الباغية" فقام عمرو بن العاص فَزِعًا حتَّى دخل على معاوية، فقال له: ما شأنُك؟ قال: ¬

_ (¬1) برقم (6538). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 234. (¬3) انظر العقد الفريد 4/ 343. (¬4) هو الحديث السابق نفسه. (¬5) برقم (17778).

قُتل عمار، قال معاوية: قُتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعمار: "تقتلك الفئة الباغية"، فقال له معاوية: دَحَضْتَ في بولك، أوَ نحن قتلناه؟ إنما قتله عليٌّ وأصحابه، جاؤوا به فألقَوْه بين رماحنا وسُيوفنا. وقال ابن سعد بإسناده إلى جعفر بن محمد (¬1) قال: سمعتُ رجلًا من الأنصار يحدِّث أبي، عن هُنَيّ مولى عمر بن الخطاب قال: كان أصحاب معاوية يقولون: إن قتلْنا عمارًا فنحن الفئةُ الباغية، قال هُنَيّ: فذهبتُ أطوف بين القَتْلى، فإذا بعمار بينهم قتيل، فأتيتُ عمرو بنَ العاص فقلتُ له: ما سمعتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في عمار؟ فذكر الحديث، قال: فقلتُ: ها هو قتيل، قال: هذا باطل، فقلت: قم فانظرْه، فجاء، فلما رآه امتُقِع لونُه، ثم قال مثل ما قال معاوية: إنما قتله الَّذي أخرجه. وفي رواية: ولما بلغ ذا الكَلاع قتلُ عمار قال لعمرو: ويحك، أنحن الفئة الباغية؟ ! وأضمر الرجوع إلى عسكر أمير المؤمنين وكانت تحت يده ستون ألفًا، واختلط الناس فقتله المِرْقال. قلت: وقد روى حديث "تقتُلُك الفئة الباغية" جماعة؛ منهم أبو قتادة: قال أحمد بإسناده عن أبي سعيد الخُدريّ قال: أخبرني مَن هو خير منّي أبو قتادة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار بحَفْرِ الخندق، وجعل يَمسح رأسَه ويقول: "بُؤسَ ابنِ سميّة، تقتُلُك الفئةُ الباغية". انفرد بإخراجه مسلم (¬2)، البُؤْس: الفقر (¬3). وهذا خُرِّج على عادة العرب، كقوله - عليه السلام - لمعاذ: "ثكلتْكَ أُمُّك". ولهذا وقع في بعض نسخ البخاري: بُؤْسًا لعمار (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): محمد بن جعفر، وهو خطأ، والمثبت من طبقات ابن سعد 3/ 234، وتاريخ دمشق 52/ 227. (¬2) مسند أحمد (22609)، وصحيح مسلم (2915). (¬3) فسره النووي وغيره بالشدة والمكروه، انظر حواشي المسند، وشرح النووي على صحيح مسلم 18/ 40. (¬4) كذا، والذي في البخاري (447) و (2812) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: ويح عمار، وفي مسلم (2915) (71) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - ويس أو يقول: يا وَيسَ ابنِ سمية.

ورَوَينا في حديث أبي سعيد؛ أن عمارًا كان يَحمل في بناء مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَبِنَتَين لبنتين، فرآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يَمسح التُّرابَ عن وَجْهه ويقول: "وَيحَ عمّار، [تقتله الفئة الباغية]، يَدعوهم إلى النَّجاة، ويَدعونه إلى النار (¬1) ". وقال ابن عبد البر: لما احتُضر عبد الله بن عمرو قال: ما أَجِدُ في نفسي من أمر الدنيا شيئًا إلا أني لم أُقاتل الفئةَ الباغية مع علي - عليه السلام - (¬2). وقال هشام عن أبيه: ولما بلغ أميرَ المؤمنين قتلُ عمار جاء، فرآه مقتولًا وإلى جانبه هاشم المِرقال، فنزل وجلس عندهما يبكي، وترحّم عليهما وقال: رَحِمك الله أبا اليقظان، ما زلتَ آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر. ولفَّهما في ثيابِهما ولم يَغْسِلْهما، وصلّى عليهما، فجعل عمارًا مما يليه، والمِرقال مما يلي القِبلة (¬3). قال ابن سعد: وكبَّر عليهما خمسًا أو ستًّا أو سَبعًا (¬4)، فلما أدخلهما القبر جعل عمارًا أمامه. واختلفوا في سنّ عمار، فحكى ابن سعد عن الواقدي قال: والذي أُجمِع عليه في قتل عمار أنَّه قُتل بصِفّين في صفر، سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، ودُفن هناك. وذكر ابن سعد أيضًا أنَّه قُتل وهو ابنُ أربعٍ وتسعين سنة (¬5). وذكره البَلاذري وقال: وهو الثبت عندنا (¬6). وحكى جدّي في "المنتظم" أنَّه قُتل وهو ابن إحدى وتسعين سنة (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (11861)، والبخاري (447) و (2812) وما بين معكوفين منهما. (¬2) بنحوه في الاستيعاب (1440). (¬3) انظر طبقات ابن سعد 3/ 242 و 243، وأنساب الأشراف 1/ 198 و 2/ 220، وتاريخ دمشق 52/ 226. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 243. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 244 و 240 (على الترتيب)، و 8/ 136. (¬6) حكى البلاذري عن الواقدي أنَّه قتل ابن إحدى وتسعين سنة، وأن الثبت أنَّه قتل ابن ثلاث وتسعين سنة، انظر أنساب الأشراف 1/ 198، و 2/ 218. (¬7) المنتظم 5/ 148.

قيس بن المكشوح

وقال ابن سعد بإسناده عن أبي الضُّحى قال: رأى أبو ميسرة في المنام رَوضةً خضراء فيها قِبابٌ مَضروبة، فيها عمار وذو كلاع. وفي رواية حَوْشَب قال: قلتُ: كيف هذا وقد اقتتلوا؟ قال: فقيل لي: وَجدوا ربًّا واسِعَ المَغْفِرة (¬1). قلت: وكان لعمار بن ياسر ولدًا اسمُه محمد بن عمار، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، قال: وقد رُوي عنه الحديث (¬2). ذكر مسانيده: واختلفوا فيها، فقال قومٌ أسند اثنين وستين حديثًا، وقال ابن البَرْقي: بِضْعًا وعشرين حديثًا، وأكثرها لأهل الكوفة، وبعضها لأهل المدينة. أخرج له في الصحيحين خمسة أحاديث، اتفقا على حديث واحد في التيمم، وانفرد البخاري بثلاثة أحاديث (¬3)، ومسلم بحديث. وليس في الصحابة مَن اسمُه عمّار سواه. وأخرج له أحمد سبعةً وعشحرين حديثًا بعضُها في الصحيح. ومن مسانيده: قال أحمد بإسناده عن واصِل بن حَيّان قال: قال أبو وائل: خَطَبنا عمار فأبلَغَ وأوجَز، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغتَ وأوجزْتَ، فلو كنتَ تَنَفَّسْتَ، فقال: إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن طولَ صلاةِ الرَّجل وقِصَرَ خُطْبَته مَئِنَّةٌ من فِقهه، فأطيلوا الصلاةَ، وأَقْصِروا الخُطبَة، فإن من البيان سِحْرًا". انفرد بإخراجه مُسلم (¬4)، ومعنى مَئِنَّةٌ؛ أي: عَلامَة. انتهت ترجمة عمار بن ياسر وفيها توفي قيس بن المَكْشُوح واسم المكشوح: هُبَيْرة بن عبد يَغوث المُرادي، وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من مُراد. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 244. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 241. (¬3) في (خ): البخاري بحديث، وهو خطأ، والمثبت من تلقيح فهوم أهل الأثر 396 وانظر 365. (¬4) مسند أحمد (18317)، وصحيح مسلم (869).

هاشم بن عتبة

قال: وإنما سُمِّي أبوه المَكْشوح لأنَّه كُشِح بالنار، أي: كُوي على كَشْحِه (¬1). وكان قيس فارسَ مَذْحِج، وسَيِّدَ مُراد، وكنية قيس أبو حَسَّان، كان أحد فرسان العرب. وقيس ابنُ أخت عمرو بن مَعْدي كَرِب، وكان ممَّن أعان على قَتْلِ الأسْودَ العَنْسِيّ. شهد قيس اليرموك، وأُصيبت عينُه فيه، ولما جهَّز أبو بكر - رضي الله عنه - أبا عبيدة إلى الشام أوصاه أبو بكر بقَيْس وقال: قد صَحِبك رجلٌ عظيم الشَّرَف، فارس العرب، ولا غَناء للمسلمين عن رأيه ومشورتِه، وبارز يوم اليرموك بِطْرِيقَين عظيمَين من الروم فقتلهما مُبارَزَةً، فسُرَّ به أبو بكر. وكان قيس من أصحاب أمير المؤمنين، قُتل معه بصفّين في اليوم الثاني الَّذي قُتل فيه عمار. وقال أبو القاسم بن عساكر: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يَرَه (¬2). وقال جدي رحمه الله في "التَّلقيح" (¬3): قيس بن المَكشوح، واسم المكشوح هُبَيرَة بن عبد يَغوث، له صُحبة ورواية. قلت: وقد استوفى أخبارَه ابنُ سعد وقال: وقيس هو الَّذي قَتَل الأسْودَ العَنْسي الَّذي تَنبَّأ، فسَمَّتْه مُضَر: قيس غُدَر، فقال: لستُ غُدَر، ولكنّي حَتْفُ [مُضَر] (¬4). وفيها توفي هاشم بن عُتْبَة ابن أبي وَقَّاص الزُّهري، ابن أخي سعد بن أبي وَقّاص، واختلفوا فيه؛ ذكره ابن سعد فقال: هو من الطبقة الرابعة من مُسلمة الفَتح، وكذا قال الخطيب (¬5). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 263 و 8/ 85. (¬2) تاريخ دمشق 59/ 180. (¬3) 244. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 263 - 265 وما بين معكوفين منه، ومن قوله: قال أبو القاسم ... إلى هنا ليس في (خ). وانظر الاستيعاب (2132)، والسير 3/ 520. (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 74، وتاريخ بغداد 1/ 196. ومن قوله: وفيها توفي هاشم ... إلى هنا ليس في (خ).

قال أبو القاسم بن عساكر: لم تَثبت لهاشم صُحبة، ووُلد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قال المدائني: وأبوه عُتبة هو الَّذي كَسَر رَباعِيَة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد، فكان أشياخ المدينة يقولون: لم يبلغ أحدٌ من ولد عُتبةَ الحُلُمَ إلا هُتِم أو بَخِر، لما صنع عُتبة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأمُّ هاشم بنتُ خالد بن عُبَيد بن سُوَيد، ويُلَقّب هاشم بالمِرْقال. واختلفوا لم سُمِّي بذلك؛ فقال الهيثم: لأن أمير المؤمنين قال له يوم صفين: تقدم بالرَّاية فأرقِلْ بها. وقد ذكره الجوهريّ فقال: الإرْقَال: ضَرْبٌ من الخَبَب، وقد أَرْقَل البَعيرُ، وناقَةٌ مِرْقال ومُرْقِل؛ إذا كانت كثيرة الإرقال، قال: والمِرْقال: لقبُ هاشم بن عُتبة بن أبي وَقّاص الزُّهريّ، لأن أميرَ المؤمنين دفع إليه الرَّايةَ يومَ صِفين، فكان يُرْقِل بها إرقالا (¬3). قال البَلاذري (¬4): سُمِّي بذلك لأنه قال: والله لأُرْقِلَنّ إلى هذا العدوِّ إرقال الجَملِ الصَّعْب. وقال الخطيب: حضر هاشم حصار دمشق ووقعة اليرموك والقادسية وكان أميرًا على كُرْدوس، ولم يزل مع أمير المؤمنين في حروبه (¬5). وقال خليفة: وفي سنة سبع عشرة هرب يَزْدَجِرْد من المدائن، فعقد سعد لهاشم بن عُتبة، فسار خلفَه، فهزم الله الفُرس، وغَنمهم هاشم. قال: وفي سنة ثمان عشرة فُتحت حُلْوان على يدي هاشم بن عُتبة (¬6). قال البلاذري: كان هاشم قد أفطر في آخر يوم من شهر رمضان، فشهدوا عليه بذلك عند سعيد بن العاص؛ عامل عثمان على الكوفة، فاستدعاه سعيد وقال له: ما ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 67/ 290. (¬2) التبيين 289. (¬3) الصحاح 4/ 1712 (رقل). (¬4) في أنساب الأشراف 8/ 118. (¬5) لم يذكر الخطيب 1/ 196 أنَّه حضر حصار دمشق. (¬6) تاريخ خليفة 136 - 137، 140.

الذي دعاك إلى أن أفطرتَ قبل أميرك؟ ! قال: رأيتُ الهِلال، فقال سعيد: كيف رأيتَه بعين واحدة، والناس يرونه بعينين ولم يَرَوه؟ ! فقال له هاشم: سبَبْتَ (¬1) خيرَ عَينَيّ. فضربه سعيد حدًّا مئة جلدة. فلما قُتل عثمان لحق هاشم بعلي - عليه السلام - فاستعمله على الكوفة، وكان سعيد بالكوفة، فضربه هاشم الحدّ مئةَ جلدة كما فعل به سعيد، وقال هاشم بن عتبة وسعيد يُضرَبُ بين يديه: [من البسيط] صَبْرًا سعيدُ فإن الحُرَّ مُصْطَبِرٌ ... ضَربٌ بضربٍ وتَسْحابٌ بتَسْحابِ وقال الزبير بن بكار: أسلم عُتبة ومات مسلمًا، وأوصى إلى أخيه سعد، وعُتبة هو الَّذي كَسَر رَباعيَة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد. قال: وابنُه هاشم بن عُتبة كُنيته أبو عمرو، ويعرف بالمِرْقال، كان من الأبطال والفُضَلاء الأخيار، وهو الَّذي فتح جَلُولاء، وكانت تُسمَّى فتحَ الفتوح، بلغت غنائمها ثمانيةَ عشر ألف ألف، وأرسله عمر إلى عمّه سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، فأبلى بلاءً حسنًا، وقام مَقامًا لم يَقُمه أحد، وكان سبب الفتح (¬2). والأصح أن هاشمًا أدرك اليومَ الرابع، وقد ذكرناه هناك. قال: وحضر هاشم صفّين مع أمير المؤمنين، وكان على الخيل، وقيل: على الرَّجَّالة، فقاتل في اليوم الَّذي قُتل فيه عمار قِتالًا شديدًا، فقُطِعت رجلُه قبلَ أن يُقتل، فجعل يُقاتل على رجلٍ واحدةٍ ويقول: الفَحلُ يَحمي شَوْلَه مَعْقولا وقال أبو عبيد القاسم: كانت الرَّايةُ العُظمى بيده يوم صفين، فجعل عمار بن ياسر يتناوله بالرُّمْح ويقول: أقْدِم يا أعور، وكان في مقابله عمرو بن العاص، فقال عمرو: إني لأرى صاحبَ الرَّاية السَّوداء إن دام على هذا ليُفنِيَنّ العربَ اليوم. وكان مع هاشم أربعة آلاف قد بايعوه على الموت، وحمل هاشم على أهل ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 8/ 119: سمَّيت. (¬2) التبيين 289 - 290.

فلسطين، وكان فيهم محمد وعبد الله ابنا عمرو بن العاص، وثار العَجاج، فقال عمرو: ما هذه الغبرة؟ قيل: على ابنيك عبد الله ومحمد، فساق عمرو نحوهما، فقال له معاوية: لا تَنتقضُ صفوف أهل الشام، فقال عمرو: إنك لم تَلدهما، ورآه المِرقال فتركَ ابنيه وقصده، وأردفه معاوية بذي كَلاع في جيوش أهل الشام، فحمل المِرقال عليهم، فقتل هو وأصحابُه من أهل الشام أربعةَ آلاف، منهم ذو الكلاع، وعبيد الله بن عمر، وأعيان القوم، وحمل عليهم الحارث بن المنذر التَّنوخي فقطع رِجله، ثم جاءت الكتيبة الشَّهباء، فحمل عليهم وهو مَقطوع الرِّجْل، فقَتل منهم جماعة وقتلوه. وقال الموفق: ولما بلغ عائشة - رضي الله عنها - قتلُه قالت: ذلك الَّذي لم تُرَدّ له راية قط (¬1). ذكر أولاده: قال الواقدي: كان له عبد الرحمن، وعبد الله، وعبد الملك، وأمُّهم أميمة بنت عوف بن سَخبَرة من الأَزْد، وإسحاق وأمُّ الحكم، وأمُّهما أمُّ إسحاق بنت سعد بن أبي وقاص، وبَشير وأمُّه السَّيِّدة بنت قَيس بن حسان، من بني مَرْثد، وهاشم بن هاشم لأُمّ وَلَد (¬2). وقال الهيثم: لما قُتل هاشم يوم صفين أخذ الرَّاية ولَدُه عبدُ الله بن هاشم، فقاتل مليًّا، ثم أُسِر، فأُتي به معاوية، فقال له عمرو بن العاص: اقتُلْه، فأبى وحَبَسه، فقال عَمرو يُعاتِب معاوية: [من الطويل] أمَرتُكَ أمرًا حازمًا فعَصَيتَني ... وكان من التَّوفيقِ قَتلُ ابنِ هاشمِ أليس أبوه يا ابنَ هِند الَّذي به ... رَمانا عليٌّ عندَ حَزِّ الغَلاصِمِ فهذا ابنُه والفَرْعُ يُشْبِهُ أصلَه ... ويُوشِكُ أن تَقْرَع به سنَّ نادِمِ فكتب عبد الله إلى معاوية فقال: [من الطويل] مُعاويَ إن المرءَ عَمْرًا أبَتْ له ... ضَغِينةُ صَدْرٍ وُدُّها غيرُ سالمِ يَرى لك قَتلي مُسْتَحِلَّا وإنما ... يَرى ما يرى عَمرٌو ملوكُ الأعاجمِ ¬

_ (¬1) التبيين 290. وانظر في ترجمة هاشم ومقتله: نسب قريش 263، والطبري 5/ 42، والمعارف 241، والأخبار الطوال 183، وأنساب الأشراف 2/ 221، ومروج الذهب 4/ 361، والاستيعاب (2685)، والمنتظم 5/ 116، والسير 3/ 486، والإصابة 3/ 593. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 74 - 75.

على أنَّهم لا يَقتلون أسيرهم ... إذا كان فيه منعةٌ للمُسالِمِ وقد كان منا يومَ صفّين وَقْعَةٌ ... عليك جناها هاشِمٌ وابنُ هاشمِ مضى من قضاءِ الله فيها الَّذي مضى ... وما قد مَضى منها كأَضْغَاثِ حالمِ هي الوَقْعةُ العُظْمى التي سار ذِكرُها ... وكلٌّ على ما فات ليس بنادِمِ فإن تَعفُ عني تَعْفُ عن ذي قرابةٍ ... وإن تَرَ قتلي تستحلّ محارمي فأطلقه معاوية، وأحسن إليه، فحلف عبدُ الله أن لا يَخرجَ عليه (¬1). انتهت ترجمتُه والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) وقعة صفين 348 - 349، وتاريخ دمشق 39/ 295 - 297.

السنة الثامنة والثلاثون

السنة الثامنة والثلاثون فيها قُتل محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وولَّى أميرُ المؤمنين الأشتر مصر، ووفاة الأشتر، وسنذكرهما في آخر السنة. وفيها بعد مقتل محمد بعث معاوية عبد الله بنَ عمرو الحَضْرَمِيَّ إلى البصرة، يدعو أهلها إلى نفسه، وإلى الإقرار بما حَكم به عمرو بن العاص يوم التَّحكيم. فحكى الطبري عن عُمر بن شَبَّة، عن علي بن محمد، عن أبي الذَّيَّال، عن أبي نَعامة -حديثًا طويلًا اختصرتُه- قال: لما قُتل محمد بن أبي بكر بمصر؛ خرج عبد الله بن عباس إلى علي - عليه السلام - بالكوفة، واستخلف زياد بن أبيه على البصرة، وقدم ابن الحَضْرميّ من قبل معاوية، فنزل في بني تميم، فأرسل زياد إلى حُضَين بن المنذر ومالك بن مِسْمَع فقال: أنتم يا معاشر بكر بن وائل أنصارُ أمير المؤمنين وثِقاتُه، وقد نزل ابن الحضرمي حيث تَرون، وأتاه مَن أتاه، فامنعوني حتَّى يأتيَني أمرُ أمير المؤمنين -أو رأيُ أمير المؤمنين- فقال حُضَين: نعم، وقال مالك - وكان مائلًا إلى بني أمية، وهو الَّذي لجأ إليه مروان يوم الجمل: هذا أمر لي فيه شركاء، حتَّى أستشير وأنظر، فلما رأى زياد تثاقُلَ مالك خاف أن تختلف ربيعة، فأرسل إلى نافع بن خالد - وكان له صديقًا - فسأله أن يُجيرَه ويَمنعه، فأشار عليه نافع بصَبِرة بن شَيمان الحُدَّاني، فأرسل إليه زياد فقال: ألا تُجيرني وبيت مال المسلمين؟ قال بلى. فتحوّل زياد، ونقل معه المِنبر، فكان يُصلّي زياد بهم الجمعة في مسجد الحُدَّان، ويُطعم الناس. وكان ابن أبي حاضر (¬1) مع زياد وجماعة من الأشراف، فاختبرهم زياد، ودَسّ إليهم جابر (¬2) بن وهب فقال: يا معاشر الأزد، إن تميمًا تَزعُم أنهم يريدون أن يأخذوا جارَكم وبيت المال، ويخرجوكم من البصرة قهرًا، فذكر ابنُ شَيمان كلامًا يدلُّ على أنَّه يحمي زيادًا، وقال: إن جاء الأحْنَف جئتُ، وذكر أشراف بني تميم، فطاب قلب زياد. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 5/ 111: أبو أبي حاضر. (¬2) في (خ) و (ع): حاضر، وهو خطأ.

وكتب زياد إلى أمير المؤمنين: أما بعد؛ فإن ابن الحَضْرَميّ قدم من الشام، فنزل في بني تميم، ونَعى ابن عفَّان، ودعا إلى الحرب، وبايعته تميم وأهل البصرة، ولم يبق معي مَن أمتنع به، واستجرتُ بصَبِرة بن شَيمان فأجارني وبيتَ المال، فنزلت فيهم، وشيعةُ عثمان يختلفون إلى ابن الحَضْرمي، والسلام. فبعث أمير المؤمنين أعين بن ضُبَيعَة المجاشعيّ لتفريق قومه عن ابن الحَضْرمي، وقال له: إن تفرَّقوا عن ابن الحضرمي وإلا فجاهدْهم، فإن رأيتَ ممن قِبَلَك تثاقلًا فاصبر، وطاولْهم حتَّى تأتيَك جنودُ الله تعالى. فقدم أعين، فنزل عند زياد، وأتى قومَه، وجمع رجالًا، ونهض إلى ابن الحضرمي، فدعاهم فشتموه، فانصرف عنهم، فدخلوا عليه قوم فقتلوه غِيلَةً وهو على فراشه، فأراد زياد قتالهم، فكرهت الأزْد ذلك وقالوا: إن تعرَّضوا لجارِنا منعناه، وإن كَفُّوا عنا فما لنا حاجةٌ في قتالهم. فكتب زياد إلى علي - عليه السلام - يُخبِره بقتل أعين وما جرى، فبعث أمير المؤمنين جارِية بنَ قُدامة في خمسين رجلًا من بني تميم، وشريك بن الأعور في خمس مئة، وكتب إلى زياد يُصوِّب رأيَه فيما صنع، ويأمره بمعونة جارية بن قُدامة، والإشارةِ عليه، فقدم البَصرة، فنزل على زياد، فقال له زياد: احذَرْ أن يُصيبك ما أصاب صاحبَك، ولا تَثقَنّ بأحدٍ منهم. فسار جارية إلى قومه، فقرأ عليهم كتابَ أمير المؤمنين، ووعدهم فأجابه أكثرهم، فسار جارية إلى ابن الحَضْرَميّ، فحصره في دار سُنَيبْل (¬1)، وأحرق عليه الدار وعلى مَن معه؛ وكانوا سبعين رجلًا - ويقال أربعون - وتفرَّق الناس، ورجع زياد إلى دار الإمارة (¬2). وهذا قول الطبري. وقال هشام بن محمد عن أبيه: إنما بعث أمير المؤمنين جارية بن قُدامة في أربعة آلاف فارس، وكان ابن الحَضْرميّ قد استولى على البصرة، واتَّبعه أكثرُ أهلها، فحصره جارية في بعض دُور أهل البصرة، وقال له: اخرج فأبى، وتفرَّق القوم عنه، فأحرقه ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): ابن سنيبل، وسيأتي على الصواب في الصفحة 370، وانظر تاريخ الطبري 5/ 112. (¬2) في (خ) و (ع) زيادة: وقيل كانوا سبعين. وانظر المنتظم 5/ 152 - 153، وأنساب الأشراف 2/ 308 - 311.

جارية بن قدامة

ومَن معه في الدار، واستقامت البَصرة لأمير المؤمنين. وقد اقتضى ذكرُ جاريةَ بن قُدامة هاهنا ذكر ترجمته: وهو جارية بن قدامة بجيم وياء منقوطة بنقطتين من تحتا، بن زهير بن الحُصَين بن رزاح بن أسعد بن بجير بن ربيعة بن كعب أبن سعد، بن زيد مَناة بن تميم، وكنيته أبو قُدامة السَّعدي، وقيل: أبو أيوب، وقيل: أبو يزيد، وقيل: اسمُه جُوَيرية. واختلفوا في صُحبته، فذكره ابن سعد فيمن نزل البصرة من الصحابة وقال: له أخبار ومشاهد، وذكر قصته مع ابن الحضرمي فقال: بعثه علي - عليه السلام - إلى البصرة وبها عبد الله بن عامر [الحَضْرَميّ خليفة عبد الله بن عامر] بن كُرَيز، فحاصره في دار سُنيبل؛ رجلٍ من بني تميم، وكان معاوية بعثه إلى البصرة ليُبايع له. قال ابن سعد: وكان جارية بن قُدامة فيمن شهد قتلَ عمر بن الخطاب، قال: وكنّا من آخر مَن دخل عليه، فسألناه وَصيَّة، ولم يسأله أيّاها أحدٌ قبلَنا، قال: وقد روى جارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا. قال ابن سعد بإسناده عن الأحنف بن قيس، عن [ابن] عمٍّ له يُقال له: جارية بن قُدامة أنَّه سأل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، قلْ لي قولًا يَنفعني وأقْلِل، لعلّي أن أعيه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغضب"، ثم أعاد عليه فقال: "لا تغضب"، حتَّى أعاد عليه مِرارًا، كلُّ ذلك يقول: "لا تغضب" (¬1). قلت: وقد أخرج أحمد هذا الحديث في "المسند" عن عبد الله بن نُمير، عن هشام، عن أبيه، عن الأحنف بن قيس، عن عمٍّ له يُقال له: جارية بن قُدامة، وذكر بمعناه (¬2)، ولم يُخرّج أحمد في "المسند" لجارية غيره، ولا لمن اسمُه جارية سواه. وقد ذكره جدي رحمه الله في "التّلقيح" في الصحابة الذين لهم صُحبة ورواية فقال: جارية بن قُدامة التَّميمي، عمُّ الأحنف بن قيس (¬3). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 54 - 55، وما بين معكوفات منه. (¬2) مسند أحمد (20357). (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر 172.

وقال ابن عبد البرّ: عسى أن يكون عمَّه لأمِّه، وإلا فما يجتمعان إلا في [سعد بن] زيد مناة، وقيل: إنه ابنُ عمِّ الأحنف (¬1). وشهد جارية صفّين مع أمير المؤمنين. وقال خليفة بن خيّاط: كانت له دار بالبصرة في سكَّة اصطفانوس (¬2). وقال أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري: جارية بن قُدامة شريف، لحِق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه الحديث، وكان يقال له: مُحَرِّق؛ لأنه حَرق ابنَ الحَضْرميّ بالبصرة، وكان فارسًا شجاعًا شهمًا سَمْحًا، والدار التي حَرَّق فيها تُعرف بدار سنيبل، وهو الَّذي بعثه أمير المؤمنين إلى اليمن وراء بُسْر بن أرطاة، فهرب منه بُسْر (¬3). وذكره ابن عساكر فقال: قال الفضل بن سُويد: وَفَد جارية بن قُدامة على معاوية بعد وفاة أمير المؤمنين، فقال له معاوية: أنت السَّاعي مع ابن أبي طالب، والموقِدُ النّار، تَجوسُ البلاد، وتَسْفِك الذماء، فقال: دع عنك هذا يا معاوية، فو الله ما أبغَضْنا أمير المؤمنين بعد ما أحبَبْناه، ولا غَشَشْناه منذ نَصَحْناه، فقال: ما كان أهْوَنك على أهلك حيث سَمَّوك جارية، فقال جارية: أنت أهون على قومِك حيث سَمَّوك معاوية، وهل مُعاوية إلا كَلبةٌ عوت تُعاوي الكِلاب، وهل أُميَّة إلا تصغير أَمَة، والله إن قوائم السيوف التي جاهدناك بها يوم صفّين لفي أيدينا، قال: إنك لتهدِّدُني؟ قال: نعم، إنك لم تَملِكْنا قَسْرًا، ولم تفتحنا عَنْوة، ولكن أعطيتنا عهودًا ومواثيق، فإن وفيتَ لنا وَفَينا لك، وإن غدرتَ بنا فقد تركنا وراءنا رجالًا أمدادًا، وسواعد شِدادًا، وسيوفًا حِدادًا، ولئن مَدَدْت إلينا فِترًا من غَدْر بسطنا إليك باعًا من خَتْر. ثم فارق جارية بن قدامة الشام، ولم يَقبل صِلةَ معاوية (¬4). ولم يُذكر لنا تاريخُ وفاته، وليس في الصحابة مَن اسمُه جارية بن قدامة غيره، فأما غير ابن قُدامة فأربعة: جارية بن أَصْرَم الأَجْداري، في صُحبته نظر، والثاني: جارية بن ¬

_ (¬1) الاستيعاب (345) وما بين معكوفين منه. (¬2) طبقات خليفة (281). (¬3) تصحيفات المحدثين 517 - 519، وانظر تهذيب الكمال 4/ 481. (¬4) مختصر تاريخ دمشق 5/ 365 - 366، وانظر تهذيب الكمال 4/ 482.

جابر العصري، والثالث: جارية بن جميل بن نُشبة الأشجعي، والرابع: جارية بن ظفر أبو غزوان الحنفي، له رواية ولصاحب هذه الترجمة لا غير (¬1). وفيها خرج الخِرِّيت (¬2) بن راشد في ثلاث مئة من بني ناجية على علي - عليه السلام - واعتزله. وقال هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي مِخْنَف، عن أشياخه دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: قدم الخِرِّيت بن راشد على علي - عليه السلام - الكوفة من البصرة في بني ناجية، وكانوا قد شهدوا معه الجمل وصفّين، فلما حكم الحكمين قام الخِرِّيت إلى أمير المؤمنين فقال له: والله يا علي إنا لا نُطيع أمرَك، ولا نُصَلّي خلفك، لأنك حكَّمت في دين الله، فقال له علي: ثَكِلتك أمُّك! إذًا تعصي ربَّك، وتَنكُث عهدَك، ولا تَضُرّ إلا نفسَك، أخبرني لم فعلتَ ذلك؟ فقال: لأنك حكَّمت في كتاب الله، وضَعُفْتَ عن الحق، ورَكَنْتَ إلى القوم الذين ظلموا، فقال له علي: فهَلُمَّ أدارِسْك الكتاب، وأُناظِرْك في السنن التي أنا أعلم بها منك، قال: مَهْلًا عليَّ فإني سأعود إليك. ثم خرج من عنده وفارقه بأصحابه، فقيل لأمير المؤمنين: إنا نخاف أن يُفسدَ عليك الأمر، ويصير في جماعة كثيرة، فيجري ما جرى يوم النّهر، فقال علي لزياد بن خَصَفة: اخرج وراءهم وعِظْهم، وأنذرهم وخَوِّفهم، فإن رجعوا وإلا فشَأنُك بهم. ثم قال له أمير المؤمنين: اخرج فأنزل ديرَ أبي موسى حتَّى يأتيَك أمري، وكتب علي - عليه السلام - إلى عُماله بالحَذَر منهم، والمسير مع زياد بن خَصَفة إلى قتالهم، وسار زياد في مئة وعشرين رجلًا، وقطع الجِسْر، ونزل ديرَ أبي موسى، وأقام ينتظر أمرَ علي - عليه السلام -. قال أبو مخنف: فبينما أمير المؤمنين على ذلك إذ جاءه كتابٌ من قَرَظَة بن كعب الأنصاري: أن خيلًا مرَّت متوجّهةً من الكوفة إلى أسفل الفرات، فلقوا رجلًا من ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر 172. (¬2) في (خ): الحارث، حيثما ورد، والتصويب من الطبري 5/ 113، وأنساب الأشراف 2/ 296، والمنتظم 5/ 153.

دهاقين يقال له: زاذان فَرُّوخ (¬1) فقالوا: أمسلم أنت أم كافر؟ فقال: لا، بل مسلم، قالوا: فما تقول في علي؟ قال: هو أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وابن عم رسول ربِّ العالمين، فقالوا: كفرت يا عدوّ الله وقتلوه، وكان معه رجل من أهل الذِّمَّة فلم يتعرَّضوا له. قال: وكتب علي إلى زياد بن خَصَفة يُخبره الخبر، ويأمُره بالمسير إليهم، وأن يَرُدَّهم، فإن أبَوا ناجِزْهم. فسار خلفه إلى قرقيسيا ثم إلى المذار، وكان زياد بن خصفة، عبد الله بن وَال، وهو الَّذي قدم بكتاب علي على زياد بن خَصَفة. قال عبد الله: ولما نزلنا قرقيسيا سألْنا عنهم فقيل: أخذوا نحو جَرْجَرايا، فتبعناهم (¬2) حتَّى أدركناهم بالمَذَار، وقطعنا دجلة، فلما رأونا ركبوا خيولَهم، ووقفوا عليها، وتقدّم إلينا خِرّيت بن راشد وقال: يا عميان القلوب والأبصار، أمع الله أنتم ومع كتابه وسنّة رسوله أم مع الظالمين؛ فقال له زياد - وكان مُجَرّبًا رفيقًا: إن الَّذي جئنا له لا يُصلحه الكلامُ علانيةً على رؤوس أصحاب وأصحابك، ولكن أنزل [وتنزل] ثم نخلو جميعًا فنتذاكر أمرَنا وننظر، فإن رأيت ما جئنا به حقًّا فأقبله، وإلا فاردُدْه. قال: فأنزل بنا على هذا النهر، قال: فنزلنا وتفرَّق أصحابنا عشرة وتسعة وأقل وأكثر، بعضهم يصنع طعامًا، وبعضهم يسقي، وقد علّقوا مخالي الدواب على رؤوسها، فلم انظر إليهم زياد قال: ويحكم ما هذا أنتم أصحاب حرب؟ ! والله لو جاءكم القوم على هذه الحال والغِرّة لبلغوا منكم ما أرادوا، قوموا إلى خيلكم فألْجِموها، والبسوا سلاحَكم حتَّى أدنو منهم، وأدعوهم إلى الطاعة، فإن أجابوا وإلا قاتلناهم، قال: ففعلوا ذلك. ¬

_ (¬1) كذا، والذي في الطبري 5/ 117: متوجّهة نحو نفّر، وأن رجلًا من دهاقين أسفل الفرات قد صلَّى يقال له: زاذان فروخ. (¬2) كذا، وهو سياق مضطرب، والذي في الطبري 5/ 117 - 118 أن عليًّا بعث بكتابه إلى زياد عبد الله بنَ وأل، فسار غير بعيد ثم عاد إلى أمير المؤمنين فقال: ألا أمضي مع زياد إذا دفعت إليه كتابك إلى عدوّك؟ ثم مضى، قال: ثم خرجنا حتى أتينا نِفَّر، فسألنا عنهم فقيل لنا: قد ارتفعوا نحو جرجرايا فاتبعناهم.

ثم جاء زياد فوقف ناحيةً في خمسة رجال، فقال له زياد: ما الَّذي نَقمْتُم على أمير المؤمنين وعلينا حتَّى فارقتمونا؟ فقال: لم أرْضَ صاحبَكم إمامًا، ولا سيرتكم سيرة، فاعتزلناكم وصرنا مع مَن يدعو إلى الشورى من الناس، فإذا اجتمع الناس على إمام كنا مع الناس، فقال له زياد: وَيحك، وهل يجتمع الناس على رجل يُداني أمير المؤمنين، وذكر فضائلَ علي وسوابقَه في الإسلام، فقال: ألا إنه خالف كتاب الله وحكَّم الرجال، قال زياد: فلِم قتلتم الرجلَ المسلم؟ قال: ما قتلتُه، وإنما قتله أصحابي، قال: فادفعهم إلينا، قال: لا سبيل إلى ذلك. ثم تداعَوا إلى القتال، وقُتل منهم جماعة، وحال الليل بين الفريقين، فلما كان وقت السَّحَر ذهبوا تحت الليل، فنزلوا الأهواز، وكتب زياد إلى علي - عليه السلام - مع عبد الله بن وَأْلٍ يقول: أما بعد، فإنا لقينا عدو الله الناجي وأصحابَه بالمذار، فدعوناهم إلى الهدى وكلمة الحق، فأخذتهم العِزّة بالإثم، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، فاقتتلنا قتالًا شديدًا إلى الليل، فاستُشهد منا رجلان صالحان: مولى لزياد كانت معه رايته يُدعى سُويدًا، ورجل من الأبْناء يُدعى وافدَ بنَ بكر، وأصيب من الخرارج خمسة نفر، وفشت فينا وفيهم الجراحات، وساروا تحت الليل نحو الأهواز، ونحن بالبصرة نداوي جراحَنا، وننتظر أمرَك، والسلام. فجهّز علي - عليه السلام - مَعقِل بن قيس من الكوفة في ألفين وكتب إلى ابن عباس إلى البصرة بأن يُجَهّز رجلًا من أهل الصلاح في ألفين، وأمر زياد بن خصفة بأن يوجع إلى الكوفة، وكتب إلى زياد: أما بعد، فقد وصلني كتابُك، وفهمتُ لما ذكرتَه عن الناجي وأصحابه؛ الذين طبع الله على قلوبهم، وزَّين لهم الشيطان أعمالهم فهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنْعًا، وأما أنت وأصحابُك فلله سَعْيُكم، وعليه جزاؤكم، فأبشروا بثواب الله، خير من الدنيا التي يقتل الجهَّالُ أنفسَهم عليها، ما عندكم ينفد وما عند الله باق، كأنك بالقوم بعد قليل بين أسير وقتيل، فأقبل إلينا أنت وأصحابك مَأجورين مُثابين، أطعتم وسمعتم وأحسنتم البلاء، والسلام.

وقال أبو مخنف: وسار مَعقِل بن قيس من الكوفة في ألفين، وأوصاه علي عليه السلام فقال له: يا مَعْقِل، اتّق الله ما استطعتَ، ولا تَبْغِ على أهل القبلة، ولا تظلم أهلَ الذّمّة، ولا تتكَبَّر فإن الله لا يُحبُّ المتكبِّرين. وسار معقل فنزل الأهواز، وأبطأ عليه مَدَدُ أهل البصرة، فقال لأصحابه: سيروا بنا نلتقي القوم، فإني لأرجو أن ينصرنا الله، فقالوا: سر على اسم الله. فبينما هو على ذلك إذ جاءه كتاب ابن عباس يقول: قد بعثنا إليك خالد بنَ مَعْدان الطائي، فأقم حيث أنت، فأقام حتَّى وصل الطائي، وسُرَّ القوم بقدومه. ثم ساروا خلف الخوارج، فلحقوهم عند الجبل، ومعقل أمير الجيش، فصفَّ أصحابَه، فجعل على ميمنته يزيد بن المَعْقِل، وعلى ميسرته مِنجاب بن راشد الضَّبِّي من أهل البصرة، ووقف الخريت بن راشد الناجي بمن معه من العرب والأكراد والعلوج، واقتتلوا ساعة، ثم انهزموا، فقتل معقل منهم ثلاث مئة من العرب والعلوج والأكراد وبني ناجية، وانهزم الخريت بن راشد حتَّى لحق بأسياف البحر، وبها جماعة من قومه، فأقام فيهم يدعوهم إلى الخلاف على أمير المؤمنين، ويأمرهم بحربه؛ حتَّى تبعه منهم خلق كثير، وأقام معقل بأرضِ الأهواز، وكتب إلى أمير المؤمنين يخبره بالوَقْعة، وفيه: أما بعد، فإنا لقينا المارِقين وقد استظهروا بالمشركين، فقتلناهم قتلَ عادٍ وإرَم، مع أنا لم نَعْدُ فيهم سيرتَك؛ لم نقتل مُدبِرًا، وقد نصرك الله والمسلمين، فالحمد لله رب العالمين. فاستشار علي أصحابه فقالوا: نرى أن معقل بن قيس يتبع آثار الفاسق حتَّى يقتله، وإلا أفسد علينا الناس، فكتب إليه يأمره بذلك. فسار معقل خلفه وهو بالأسياف، فجمع الخرِّيت خلقًا عظيمًا من بني ناجية، والتقوا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ورأى النُّعمان بن صُهْبان الرَّاسبيّ الخريت بن راشد يجول في الناس، فحمل عليه فطعنه، فسقط عن دابّته، فنزل فقتله، وقتل معه في المعركة عامة بني ناجية، وبعث معقل بن قيس الرِّجال في آثار مَن بقي، فسَبَوا خلقًا كثيرًا، فمن كان مُسلمًا أطلقه معقل، ومَن كان مُرتَدًّا عرض عليه الإسلام، فإن أسلم خلّى سبيله، ومَن أقام على دينه وامتنع من أداء الجِزية أسره.

وكتب مَعقِل إلى أمير المؤمنين بالفتح، وكان قد سبى من النصارى من بني ناجية نحوًا من خمس مئة إنسان؛ ليرى أميرُ المؤمنين فيهم رأيَه، فرحل مَعقِل وهم معه، فمر بهم على مَصْقَلَة بن هُبَيرَة الشّيباني، وهو عامل علي [على] أردشيرخُرَّة، فبكى النساء والصبيان وصاحوا: يا أبا الفضل، امنُن علينا فأنت حامل الأثقال، وفكّاك العُناة، فقال: أقسم بالله لأتصدقنّ عليكم. وبعث مَصْقَلَة ذُهْلَ بن الحارث إلى معقل بن قيس فقال: بِعني بني ناجية، فقال: بألف ألف، فلم يزل به حتَّى باعهم بخمس مئة ألف، ودفعهم إليه وقال: عَجِّل إلى أمير المؤمنين بالمال، فقال: نعم أنا أُنفذه شيئًا بعد شيء. وقدم معقل بن قيس على أمير المؤمنين، فأخبره فقال: أحسنتَ وأصبت، ثم أبطأ مصقلة على علي بالمال، وبلغه أن مَصْقَلَة خلّى سبيل الأسارى، ولم يسألهم أن يُعينوه في فِكاك نفوسهم بشيء، فكتب إليه: يا مصقلة، اقدم بالمال؛ فإنك قد خنت المسلمين، وإلا فقد أمرتُ رسولي بإشخاصك. فلما قرأ كتابه أقبل حتَّى نزل البصرة، فقال له ابن عباس: أحضِر المال، وكان عمال البصرة يَحملون من كُوَر البصرة المال إلى ابن عباس، فقال مَصقَلَة: أنظِرْني أيامًا، ثم أقبل إلى علي فأدَّى إليه مئتي ألف وعجز عن الباقي، ولحق بمعاوية، فقال علي: ماله قبحه الله، فَعل فِعل السِّيد، وفرَّ فِرار العبد، وخان خيانةَ الفاجر، أما إنه لو أقام وهو عاجز ما أخذنا منه شيئًا، ثم هدم علي دارَ مَصقلة بن هُبَيرة. وكان أَخوهُ نعيم بن هُبيرة شيعيًّا، ولأمير المؤمنين مُحبّا ناصحًا، فكتب مصقلة من الشام إلى أخيه نعيم: إني كلَّمتُ معاوية فيك، فوعدك الإمارة والكرامة، فأقبِلْ إلينا عند وصول الرسول، وبعث بالكتاب مع رجل نصراني يُقال له: حُلْوان من بني تَغلِب، وعلم به مالك بن كعب الأرحَبيّ، فبعث بحُلْوان وبالكتاب إلى أمير المؤمنين، فقرأه، وقطع يدَ حُلْوان فمات، وبلغ التغلبيّون هلاكَ حُلْوان، فقالوا لمَصقلة: أنت أهلكتَه، فإما أن تُحييَه وإما أن تَدِيَه، فقال: أما إحياؤه فلا أقدر عليه، ولكني سَأدِيه، فوَدَاه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 5/ 120 - 131، وأنساب الأشراف 2/ 296 - 303، والمنتظم 5/ 153 - 154.

أسماء بن عميس

وفيها ولَّى أميرُ المؤمنين زياد بن أبيه فارس (¬1)، فحكى الشَّعبيُّ وقال: ولما قتل علي أهلَ النهر، وخرج عليه بنو ناجِية، وقدم ابن الحَضْرميّ البصرة، انتَقَض أهلُ الجباب، وطمع أهلُ الخراج في الخراج وكسروه، وأخرجوا سَهْلَ بنَ حُنَيف من فارس -وكان عامل علي عليها- فاستشار علي ابنَ عباس في ذلك، فقال له: وأين أنت عن زياد، فبعثه في جيش كثيف إلى فارس، فدَوَّخ البلاد ووَطِئها، فأدّوا الخراج، واستقامت الأمور. وقال أبو معشر: وحجَّ بالناس في هذه السنة قُثَم بن العبَّاس من قِبل أمير المؤمنين، وكان قُثَم عاملَه على مكة والطائف، وكان عامله على اليمن عُبيد الله بن عباس، وعلى البصرة عبد الله بن عباس، وعلى خُراسان خُلَيد بن قُرَّة اليَربوعي، وأما مصر فكانت بيد معاوية وعليها عُمَّالُه. وفيها توفّيت أسماء بن عُمَيس ابن معد بن تَيْم بن الحارث بن كعب بن مالك بن قُحافَة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن معاوية بن زيد بن مالك بن نَسْر بن وهب الله بن شهران بن عِفْرِس بن أَفْتَل، وهو جماع خَثْعَم، وأمُّها هند، وهي خَوْلة بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حَماطَة بن جُرَش. قال ابن سعد بإسناده عن يزيد بن رُومان قال: أسلمت أسماء بنت عُمَيس قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم بمكة، وبايعت وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فوَلَدت له هناك عبد الله وعَوْنًا ومحمدًا بَني جعفر، ثم قتل عنها جعفر [بمؤتة] شهيدًا في جُمادى الأولى سنة ثمانٍ من الهجرة. قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: فتزوَّجها أبو بكر الصدّيق بعد جعفر، فوَلَدت له محمد بن أبي بكر، ثم تُوفّي عنها أبو بكر. قال الواقدي: ثم تزوَّجها علي بن أبي طالب، فوَلَدت له يحيى وعَوْنًا (¬2). ¬

_ (¬1) في الطبري 5/ 137، والمنتظم 5/ 159 أن تولية زياد كانت في سنة (39). (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 266، 268، 270.

وفي رواية: ومحمدًا، فهي تُدعى أمّ المحمَّدين. وقد أشرنا إلى طَرفٍ من أخبارها في ترجمة جعفر بن أبي طالب، وكانت تخدم فاطمة عليها السلام إلى أن تُوفّيت فاطمة، وقد ذكرناها، وأسماء أخت ميمونة زوجةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمِّ الفضل لأمها، وكانت وفاة أسماء في هذه السنة، بعد مقتل ابنها محمد ابن أبي بكر، وقيل: قبله. ذكر طرف من أخبارها: قال ابن سعد بإسناده عن الشعبي، وأسنده أبو حمزة قالا: لما قدمت أسماء بنت عُمَيس من أرض الحبشة قال لها عمر: يا حَبشيّة، سبقناكم بالهجرة، فقالت: إي لعَمْري لقد صدقت، كنتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُطعم جائعَكم، ويُعَلِّم جاهلَكم، وكنا البُعداء الطُرَداء، أما والله لآتينّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأذكرنّ له ذلك، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك، فقال: "للناس هجرة، ولكم هجرتان". وفي رواية ابن سعد عنها أنها قالت: يا رسول الله، إن رجالًا يَفخرون علينا، ويَزعمون أنا لسنا من المهاجرين الأوَّلين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكم هجرتان، هاجرتم إلى أرض الحبشة ونحن مُرْهَنون بمكة، ثم هاجرتم بعد ذلك". وفي رواية ابن سعد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كذب مَن يقول ذلك، لكم الهجرة مرَّتين: مرة إلى النجاشي، ومرة إلي" (¬1). وقد ذكرنا أن أسماء أشارت بالنَّعْش لما توفيت فاطمة عليها السلام وقالت: كانوا يصنعونه بالحبشة. وقد ذكرنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استشهد جعفر أتى إلى بيت أسماء، وعزَّاها في جعفر وقال: "اصنعوا لآل جعفر طعامًا" الحديث. وروى ابن سعد، عن عبد الله بن نُمَير، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيّب أن أسماء نَفِست بمحمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بذي الحُلَيفة، وهم يريدون حجَّة الوداع، وأن أبا بكر أمرها أن تغتسل ثم تُهلّ بالحج. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 266.

وفي رواية ابن سعد: فهمَّ أبو بكر بردِّها، فسأل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مُرْها فلتغتسل، ثم تحرم". قال ابن المسيب: وكانت نُفَساء. وفي رواية ابن سعد: فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تَسْتَثْفِر بثوب، ثم تغتسل وتُهلّ. وقال ابن سعد بإسناده عن قيس بن أبي حازم قال: دخلتُ مع أبي على أبي بكر فرأيت يد أسماء مَوشومة، وهي تَذُبُّ عن أبي بكر (¬1). وقد ذكرنا أن أبا بكر أوصى أن تغسله أسماء بنت عُميس، وأنها غسلته. وقال ابن سعد: فرض لها عمر ألفَ درهم في العطاء (¬2). قلت: وقد أخرج أحمد في "المسند" عشرة أحاديث ذكرنا بعضَها، وليس لها في الصحيح شيء. وقال أحمد بإسناده عن أم جعفر ابنة محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عُميس قالت: لما أصيب جعفر وأصحابُه جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليّ وقال: "ائتيني ببني جعفر" فأتيتُه بهم، فشَمَّهم ودمعت عيناه ... وذكر الحديث، وفيه: "اصنعوا لآل جعفر طعامًا" (¬3). وأسماء هي أشارت أن يُلَدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرناه (¬4). قلت: وليس في الصحابيّات مَن اسمُها أسماء بنت عُمَيس سواها، فأما أسماء غير بنت عُميس فاثنتا عشرة امرأة: إحداهن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، والثانية: أسماء بنت يزيد بن السَّكَن، والثالثة: أسماء بنت مُخَرّبة بن جَنْدل، والرابعة: أسماء بنت سَلامة بن مُخَرِّبة، والخامسة: أسماء بنت مُرْشدة، والسادسة: أسماء بنت قُرْط بن خَنْساء، والسابعة: أسماء بنت النُّعمان الجَوْنيّة، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طلَّقها، وقد ذكرناها، والثامنة: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 268. (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 270. (¬3) مسند أحمد (27086). (¬4) انظر في ترجمتها: الاستيعاب (3204)، والمنتظم 5/ 154، وتلقيح فهوم أهل الأثر 322، والسير 2/ 282، والإصابة 4/ 231.

أسماء بنت زيد بن الخطّاب، والتاسعة: أسماء بنت سلامة، دَارِميّة زوجة عياش بن أبي ربيعة (¬1)، والعاشرة: أسماء بنت عمرو بن عديّ، سُلَميّة، ويُكنى أمّ منيع، والحادية عشرة: أسماء بنت مُحْرِز بن عامر، أنصاريّة من بني النَّجّار، والثانية عشرة: أسماء بنت عُميس بنت مرشد بن حير، أخت بني حارثة (¬2)، والثالثة عشرة: أسماء بنت يزيد، أنصاريّة وتكنى أم سلمة، وقيل: هي بنت السَّكَن. ذكر أعيانهن: أما أسماء بنت أبي بكر فسنذكرها عند مَقتل ابنها عبد الله بن الزبير. وأما أسماء بنت يزيد بن السَّكَن فهي من بني عبد الأَشْهَل، وكُنيتُها أمّ عامر، وقيل: اسمُها فُكَيْهَة، وقد أخرج لها أحمد في "المسند" نيّفًا وعشرين حديثًا، ولم يُخرّج أحمد في "المسند" عمّن اسمُها أسماء سوى ثلاثة؛ هذه، وأسماء بنت أبي بكر، وأسماء بنت عُمَيس. ومن مسانيد أسماء بنت يزيد بن السَّكَن: قال أحمد بإسناده عن شَهْرِ بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: "إنه عَمِلَ غير صالح" [هود: 46] قالت: وسمعتُه يقرأ: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3). ولها أحاديث حِسان. وأما أسماء بنت مُخَرِّبة بن جَنْدل بن أُبَيْر بن نَهْشَل بن دارِم، من بني تميم، وأمُّها العَناق بنت الجَبَّار بن عَوْف بن أبي حارثة، من تَغلبِ بن وائل، تزوَّجها هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزوم، فولدت له أبا جهل والحارث ابني هشام، ثم مات عنها هشام، فخلف عليها أخوه أبو رَبيعة بن المغيرة، فولدت له عياشًا وعبد الله وأمَّ حُجَير بني أبي رَبيعة، وأسلمت أسماء وبايعت، وقدِمت المدينة، وبقيت إلى خلافة عمر بن الخطاب أو بعدها (¬4). ¬

_ (¬1) هي أسماء بنت سلامة بن مخربة، فيما ذكر الحافظ في الإصابة 4/ 229. (¬2) كذا، وهذا خطأ، فليس في الصحابيات من اسمها أسماء بنت عميس غير التي سلفت، وقد ذكر المصنف ذلك، وتجاوز العَدّ إلى (13) امرأة. انظر تلقيح فهوم أهل الأثر 324. (¬3) مسند أحمد (27569)، وانظر تلقيح فهوم أهل الأثر 324، والاستيعاب (3207). (¬4) طبقات ابن سعد 10/ 284، وانظر الإصابة 4/ 230.

ذكر سلمى بنت عميس

وأما أسماء بنت سلامة بن مُخَرّبة بن جَندل فتميميّة، وأمُّها لسلمى بنت زهير، تميميّة أيضًا، أسلمت قديمًا وبايعت، وهاجرت إلى الحبشة الهجرة الثانية مع زوجها عَيَّاش ابن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مَخزوم، فولدت له هنالك عبد الله بن عيَّاش (¬1). وأما أسماء بنت مُرْشِدة بن جَبْر، من بني حارثة، وأمُّها سَلامة بنت مسعود بن كعب بن عامر بن عَدِيّ بن مَجدَعة بن حارثة، تزوَّجها الضحَّاك بن خليفة، من بني عبد الأشهل، فولدت له ثابتًا، وأبا جبيرة، وأبا بكر، وعمر، وثبيتة التي تزوَّجها محمد بن مسلمة، وبكرة، وحمَّادة، وصفيَّة. أسلمت أسماء وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأما أسماء بنت قُرْط بن خَنْساء بن سِمنان بن عُبيد بن عَدِيّ بن غَنْم بن كعب بن سَلَمة، وأمُّها ماويّة بنت القَيْن بن كعب بن سواد، من بني سَلِمة، تزوَّجها الطُّفَيل بن النعمان بن خَنْساء بن مَبْذول (¬3)، فولدت له الربيّع، أسلمت أسماء وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما أسماء بنت مُحْرِز بن عامر، أنصاريّة، وأمُّها أمُّ سهل، نَجَّاريّة، تزوَّجها قيس بن عُبيد، وكُنيته أبو بَشير، أنصاريّ، فولدت له بشيرًا والجعد، أسلمت وبايعت (¬4). ذكر سَلْمى بنت عُمَيْس أخت أسماء بنت عُمَيس بن مَعْد بن تَيم، وأمُّها هند، وهي خَوْلَة بنت عوف، فسَلمى أخت أسماء لأمّها وأبيها. أسلمت قديمًا مع أختها أسماء، وتزوّجها حمزة بن عبد المطَّلب بن هاشم، فوَلَدت له ابنتَه عُمارة، وهي التي كانت بمكّة، فأخرجها علي في عُمرة القضيَّة، واختصم فيها علي وزيد وجعفر، وقد ذكرناها. ولما قُتل حمزة تأيّمت سلمى، فتزوَّجها شَدّاد بن الهاد اللّيثي، فوَلَدت له عبد الله بن ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 285، وانظر الإصابة 4/ 229، والاستيعاب (3205). (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 316، وانظر الإصابة 4/ 233. (¬3) كذا: والذي في طبقات ابن سعد 10/ 375: سنان. (¬4) طبقات ابن سعد 10/ 394، انظر الإصابة 4/ 231 - 232.

شَدَّاد، فهو أخو عمارة بنت حمزة لأمّها، وهو ابن خالة وَلَد العباس بن عبد المطلب أمِّ الفضل، وهو ابن خالة خالد بن الوليد بن المغيرة، وقد ذكرناه (¬1). وليس في الصحابيّات مَن اسمُها سَلْمى بمْت عُمَيْس غير هذه، فأما سلمى غير بنت عُمَيْس فعشرة نساء: إحداهن سَلمى مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن سعد: وقد سمعتُ مَن يقول: إنها مولاة صفيّة بنت عبد المطَّلب، زوّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع مولاه، وهي أمُّ أولاده، وكانت قابلة خديجة في جميع أولادها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي التي قَبِلت مارية أمّ إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرجت إلى زوجها فأعلَمَتْه، فبَشّر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فوهب له غلامًا، وشهدت سَلمى خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). والثانية: سلمى بنت يَعار، حكى ابن سعد عن الواقدي أنها أسلمت وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي أخت ثُبَيْتَة بنت يعار، امرأة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وثُبَيتة هي التي أعتقت سالمًا، فتبنّاه أبو حذيفة، وقد ذكرناه. أسلمت ثبيتة وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). والثالثة: سلمى بنت زيد بن تَيْم بن أمية، من بني بياضة من الأوس، أمها الرَّحَّالة بنت المنذر بن الجموح بن زيد بن حرام الخزرجي، تزوجها عمرو بن عبَّاد بن عمرو، من الخزرج، أسلمت وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). والرابعة: سلمى بنت عمرو بن خُنَيْس بن لَوْذان، من بني ساعدة، وأمُّها هند بنت المنذر بن الجموح بن يزيد بن حَرام، وهي أخت المنذر بن عمرو، والمنذر شهد العقبة وبدرًا، وكان نقيبًا، وقتل يوم بئر معونة شهيدًا، وهي أخته لأبيه وأمه. تزوّجها عقبة بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، أسلمت سلمى وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 270، والاستيعاب (3343)، والإصابة 4/ 332. (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 216، والاستيعاب (3346)، وتلقيح فهوم أهل الأثر 335، والإصابة 4/ 333. (¬3) طبقات ابن سعد 10/ 330، وانظر الإصابة 4/ 333. ومن قوله: الثانية سلمى بنت يعار ... إلى هنا ليس في (خ). (¬4) طبقات ابن سعد 10/ 336، وانظر الإصابة 4/ 331. (¬5) طبقات ابن سعد 10/ 347 - 348، والإصابة 4/ 331 - 332.

سهل بن حنيف

والخامسة: سلمى بنت أسلم بن حَرِيش، وتكنى أمّ عبد الله (¬1). والسادسة: سلمى بنت زيد بن تَيْم (¬2). والسابعة: سلمى بنت صخر، أم أبي بكر، تُكنى أمّ الخَير (¬3). والثامنة: سلمى بنت قيس بن عمرو، تكنى أمّ المُنذر، أنصارية (¬4). والتاسعة: سلمى بنت نصر، مُحاربيّة. والعاشرة: سلمى أمّ رافع، لها إدراك، وقيل: سلمى أخرى غير منسوبة، وقيل: هي مولاة صَفيّة (¬5). وفيها توفي سَهْل بن حُنَيْف ابن واهب بن العُكَيم بن ثعلبة بن (¬6) الحارث بن مَجْدَعة بن عمرو بن حَنَش بن عوف بن عمرو بن عوف الأنصاريّ، من أهل مسجد قُباء، وكُنيته أبو سَهْل، واسم أمّه هند بنت رافع بن عُمَيس، وقيل: أبو عبد الله. وسهل من الطبقة الأولى من الأنصار، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين علي بن أبي طالب، وشهد سهل بدرًا وأحدًا والخَندق والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثبت معه يوم أحد حين انكشف الناس عنه، وبايعه على الموت وجعل يَنْضَح يومئذٍ بالنَّبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن سعد: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَبّلوا سَهْلًا فإنه سهل". وروى ابن سعد عن الزهري قال: لم يُعطِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أموال بني النَّضير أحدًا من الأنصار إلا سهل بن حُنَيف وأبا دُجانَة سِماك بن خَرَشَة؛ فإنهما كانا فقِيرَين. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 315، وتلقيح فهوم أهل الأثر 335، والإصابة 4/ 331. (¬2) هي نفسها السالفة قبل ترجمتين. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر 335، والإصابة 4/ 332. (¬4) الاستيعاب (3345)، والتلقيح 335، والإصابة 4/ 332. (¬5) تلقيح فهوم أهل الأثر 335، والإصابة 4/ 332 - 234. (¬6) في (خ) و (ع) زيادة بن عمرو، وهو خطأ.

وقد شهد سهل صفين مع أمير المؤمنين (¬1). واختلفوا في وفاته على قولين: أحدهما: أنَّه توفّي بالكوفة، قال ابن سعد بإسناده عن محمد بن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: مات سهل بن حُنيف بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصَلّى عليه علي - عليه السلام -. والثاني: أنَّه توفي بالرَّحْبة عند عَود علي من صفين، قال ابن سعد بإسناده عن حَنَش بن المُعْتَمِر قال: لما توفي سهل بن حُنيف أتي به إلى علي - عليه السلام - في الرحبة، فكبَّر عليه ستّ تكبيرات، فكأن بعض القوم أنكر ذلك، فقيل إنه بَدريّ. وروى ابن سعد عن عبد الله بن معقل قال: كبّر علي في سلطانه كله أربعًا أربعًا على الجنازة، إلا على سهل بن حُنيف فإنه كبَّر عليه خمسًا ثم التفت إليهم وقال: إنه بدري. وفي رواية ابن سعد: أنَّه لما كبَّر عليه خمسة قالوا: ما هذا التكبير؟ فقال علي: هذا سهل بن حُنيف من أهل بَدْر، ولأهل بدرٍ فضلٌ على غيرهم، فأردت أن أعلمكم فضلَهم (¬2). ذكر أولاده: قال ابن سعد: كان له من الولد: أبو أُمامة، واسمه أسعد باسم جدِّه أبي أُمامة، وعثمان، وأمُّهما حبيبة بنت أبي أُمامة أسعد بن زُرارة بن عُدَس، من بني النجار. وسعد وأمُّه أمّ كلثوم بنت عُتبة بن أبي وَقّاص الزهري. قال: ولسهل اليوم عَقِبٌ بالمدينة وبغداد، وأخوا سهل بن حُنَيف لأمّه عبد الله والنعمان ابنا أبي حَبيبة بن الأزْعر بن زيد بن العَطّاف بن ضُبَيعة، وسهل بن حُنَيف أخو عثمان بن حُنَيف (¬3). أسند سهل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، قال قوم: أربعين حديثًا، وأخرج له أحمد في "المسند" اثني عشر حديثًا، منها في الصحيحين ستة، اتفقا على أربعة منها، وحديثان لمسلم. قال أحمد بإسناده عن محمد بن سليمان الكرماني، سممعت أبا أُمامة بن سَهل بن ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 437. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 438. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 437.

صهيب بن سنان

حُنَيف يقول: قال أبي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن خرج حتَّى يأتيَ هذا المسجد" مسجد قُباء "فيصلّي فيه ركعتين، كان كعَدْلِ عُمْرَة". وفي رواية: ولم يذكر الركعتين (¬1). وليس في الصحابة من اسمه سهل بن حُنيف سواه، فأما غير ابن حنيف فكثير (¬2). وفيها توفي صُهيب بن سنان ابن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر بن جندلة بن خُزيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس مَناة بن النَّمِر بن قاسط بن هِنْب بن أَفْصى بن دُعْمي بن جَديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. كذا نسبه ابن سعد والبَلاذري، ومنهم مَن يجعل جَذِيمة مكان خُزَيمة (¬3). وأمُّه سلمى بنت قَعيد بن مَهِيض، من تميم. واختلفوا فيه؛ فقال ابن سعد: كان أبوه سِنان بن مالك، أو عمه، عاملًا لكسرى على الأُبُلَّة، وكانت منازلهم بأرض الموصل، وقيل: كانوا في قرية على شطِّ الفرات مما يلي الجزيرة والموصل، فأغارت الرُّوم على تلك النّاحية، فسَبَتْ صُهَيبًا وهو غلام صغير، فقال عمُّه: أنشد الله الغلامَ النَّمريّ، دجَّ وأهلي بالثني، والثني اسم القرية التي كان بها. فنشأ صُهيب بالروم، فابتاعتْه كَلْبٌ منهم، فقدِمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جُدعان، وبُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الله به من الكرامة، ومَنّ عليه من الإسلام. قال: وأما أهل صهيب ووَلَدُه فيقولون: بل هرب من الروم حين بلغ وعَقَل، فقدم مكة، فحالف عبد الله بنَ جُدعان، وأقام معه إلى أن هَلَك (¬4). وقد أخرج الحميدي [في] "الجمع بين الصحيحين" عن البخاري، عن عبد الرحمن ¬

_ (¬1) مسند أحمد (15981). (¬2) انظر في ترجمته: المعارف 291، والاستيعاب (1041)، والمنتظم 5/ 154، والتلقيح 204 و 366، والاستبصار 320، والسير 2/ 325، والإصابة 2/ 87. (¬3) كما عند ابن سعد 3/ 206، والبلاذري 1/ 203، أما النسب الَّذي أثبته المصنف فهو ما ذكره ابن عساكر 8/ 371. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 207.

ابن عوف قال: قلتُ لصهيب: اتَّق الله ولا تَدَّعِ إلى غير أبيك. فقال صُهيب: ما يَسُرُّني أن لي كذا وكذا وأني فعَلتُ ذلك، ولكن سُوقتُ وأنا صبيّ (¬1). قلت: ولم أجد هذا اللفظ في مسند عبد الرحمن بن عوف. وكنية صُهيب: أبو يحيى، كَناه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن محمد بن عَقيل، عن حمزة بن صُهَيب، عن أبيه: أنَّه كان يُكنى أبا يحيى ويقول إنه من العرب، ويُطعم الكثير، فقال له عمر بن الخطاب: يا صُهيب، ما لك تُكنى أبا يحيى وليس لك ولد؟ وتقول إنك من العرب وأنت رجل من الروم؟ وتُطعم الطعام الكثير وذلك سَرَفٌ في المال؟ فقال صهيب: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كناني أبا يحيى، وأما قولك في النسب وادّعائي إلى العرب فإني رجل من النَّمِر بن قاسط، من أهل الموصل، ولكن سُبِيت، سبَتْني الرُّوم غلامًا صغيرًا بَعد أن عَقَلْتُ أهلي وقومي، وعرفت نَسَبي، وأما قولك في الطعام وإسرافي فيه؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "إن خِيارَكم مَن أطعم الطعام، ورَدَّ السلام"، فذلك الَّذي يَحملُني على أن أُطِعم الطعام (¬2). وفي رواية: وكناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا يحيى قبل أن يُولد لي. ذكر صفته: قال ابن سعد: كان رجلًا أحمر شديد الحمرة، ليس بالطويل ولا بالقصير، وهو إلى القصر أقرب، وكان كثيرَ شَعر الرَّأس، وكان يَخضب بالحِنَّاء (¬3). وقال هشام: سُمِّي صهيبًا لأنه كان أصْهَبَ اللون، وقد ذكرنا أنَّه أسلم مع عمار بن ياسر. ذكر بعض مناقبه: قال علماء السير: صُهيب من الطبقة الأولى من المهاجرين، وكان من المُسْتَضْعَفِين الذين يُعَذَّبون بمكة في الله تعالى، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله ¬

_ (¬1) الجمع بين الصحيحين 1/ 177، والحديث في البخاري (2219). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 208. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 207.

- صلى الله عليه وسلم -، وهو من السابقين الأوَّلين، ويُسَمَّى سابقَ الرّوم. قال ابن سعد باسناده عن يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صُهيب سابِقُ الرُّوم" (¬1). ذكر هجرته إلى المدينة: قال ابن سعد بإسناده عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني أن صهيبًا حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صُعلوكًا حقيرًا فكَثُر مالُك عندنا، وبلغتَ ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ ! والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركتُ مالي، مُخَلُّون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "رَبح صُهَيب، ربح صهيب". وقال ابن سعد بإسناده عن سعيد بن المسَيّب قال: أقبل صهيب مُهاجرًا نحو المدينة، واتّبعه نفرٌ من قريش، فنزل عن راحلته، وانْتَثَل ما في كِنانته، ثم قال: يا معاشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلًا، وايمُ الله، لا تَصِلوا إليّ حتَّى أرمي بكلِّ سهمٍ معي في كنانتي، ثم أضربَكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دَلَلْتكم على مالي وخَلَّيتم سبيلي؛ قالوا: نعم، ففعل، فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ربح البيعُ أبا يحيى، ربح البيع"، قال: ونزل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]. وحكى ابن سعد عن الواقدي، عن عاصم بن سويد، عن محمد بن عمارة بن خُزيمة بن ثابت قال: قدم آخِرَ الناس في الهجرة إلى المدينة علي بن أبي طالب وصُهيب بن سنان، وذلك للنصف من ربيع الأول، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقُباء لم يَرِمْ بعد (¬2). وقال الواقدي: لما هاجر صهيب إلى المدينة نزل على سعد بن خَيثَمة، وكان منزل العُزَّاب من الصحابة، قال: وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين صُهيب والحارث بن الصِّمَّة (¬3). وقال أبو نعيم بإسناده عن علي بن عبد الحميد (¬4) بن زياد بن صَيفي بن صُهَيب، عن ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 207. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 208 - 209. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 210. (¬4) في (خ) و (ع): عبد الرحمن، وهو خطأ، انظر الحلية 1/ 151، وتهذيب الكمال (ترجمة زياد بن صيفي).

أبيه، عن جدّه، عن صهيب قال: لم يشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَشهدًا قط إلا وكنت حاضرَه، ولم يبايع بيعةً قط إلّا كنت حاضرها، ولم يَسر سَرِيّةً قط إلا كُنْتُ حاضرها، ولا غزا غزاة قط أول الزمان وآخره إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامَهم قط إلا كنت أمامهم، ولا ما وراءهم إلا كُنْتُ وراءهم، ولا جعلتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين العدوّ قط؛ حتَّى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكرنا أن عمر بن الخطاب أمرَ صهيبًا أن يصلي بالناس أيام طُعن، وأنه صلّى على عمر. ذكر وفاته: حكى ابن سعد عن الواقدي، عن أبي حذيفة رجلٍ من ولد صهيب، عن أبيه، عن جدّه قال: توفي صُهيب في شوّال بالمدينة، سنة ثمان وثلاثين، ودُفن بالبقيع وهو ابن سبعين سنة (¬1). وقال هشام: ابن أربع وثمانين سنة، وصلى عليه سعد بن أبي وقَّاص. وعامة المؤرخين أنَّه توفيّ بالمدينة، إلا أحمد بن هارون فإنه قال: توفي بالشام، والأول أشهر، ودُفن بقِبلي دمشق. عند ميدان الحصى قبر يقال: إنه قبر صهيب، بناه خلف المصري صاحب المعظَّم عيسى رحمه الله، وبنى عليه قُبة ومَنارة، وقال: رأيت في المنام قائلًا يقول: هذا قبرُ صُهَيب. ذكر أولاده: وهم عثمان وصيفي وحمزة وسعد وعبادة وحبيب وصالح ومحمد بنو صهيب، رووا عنه كلهم. كذا ذكر ابن عساكر في "تاريخه" وزاد ابن قتيبة: وعُمارة بن صهيب (¬2). وليس في أولاده من اسمه يحيى، فلعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كناه تأوّلًا بطول العمر. أسند صهيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، أخرج له أحمد في "المسند" ثمانية، منها ثلاثة تفرّد بها مسلم، ولم يخَرّج له البخاري شيئًا. وروى صُهيب عن عمر بن الخطاب وغيره، وروى عن صهيب ابن عمر وجابر بن ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 211. (¬2) تاريخ دمشق 8/ 376، والمعارف 365.

عبد الله، ومن التابعين: ابن المسيّب، وابن أبي ليلى، وعُبَيد بن عُمَير، وكعب الأحبار، في آخرين. ومن مسانيده: قال أحمد بإسناده، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، قال: إذا دخل أهلُ الجنّة الجنّة، وأهل النار النار، نادى مُنادٍ: يا أهل الجنّة، إن لكم عند الله مَوعدًا يُريد أن يُنجِزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يُثَقّل موازينَنا، ويُبيِّض وجوهنا، ويُدخلنا الجنّة، ويُزحزحنا عن النار؟ قال: فيُكشف لهم الحِجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله عزَّ وجلَّ شيئًا أحبّ إليهم من النظر إليه، ولا أَقَرَّ لعيونهم. انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وذكر ابن عساكر في "تاريخه" في ترجمة صُهيب قال: خرجت مع عمر إلى الشام، فبينما أنا عنده بالجابية إذ جاءه يهودي قد شُجَّ، فغضب عمر غضبًا [شديدًا]، وقال صهيب: انطلق فانظر مَن شَجَّه، قال صهيب: فمضيتُ وإذا به عوف بن مالك الأشجعي، قال: فقلت لعوف: إنه قد غضب غضبًا شديدًا، وأخاف أن يَبْدُرَ منه بادرة في حقّك، فاذهب إلى معاذ بن جبل فكلِّمه، قال: وأتيت عمر فأخبرتُه، وجاء معاذ ومعه عوف، فقال معاذ لعمر: لا تعجل، إن عوفًا رأى هذا اليهودي يسوق حمارًا وعليه امرأة قد اكتَرتْه منه، فرآه عوف وقد ألقاها عن الحمار وغَشِيَها، وجاءت المرأة ومعها أخوها فاعترفت، فقال عمر لليهودي: ما على هذا صالحناكم، ومن فعل مثل هذا فلا ذِمَّةَ له، وأمر عمر باليهودي فصُلب، فهو أوَّل يهودي صُلب في الإسلام (¬2). وليس في الصحابة من اسمه صهيب بن سنان غيره، فأما صُهيب غير ابن سنان صهيب بن النعمان غير منسوب، وهل له رواية؟ على قولين، ولم يذكر جدّي في "التَّلقيح" مَن اسمُه صُهيب غير هذين، صهيب بن سنان وصهيب بن النعمان، وذكر البخاري في "تاريخه" سبعة من الرواة؛ اسم كلّ واحدٍ صهيب (¬3). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (18935)، وصحيح مسلم (181). (¬2) تاريخ دمشق 8/ 272 (مخطوط). (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر 128 و 210، والتاريخ الكبير 4/ 315 - 317. وانظر في ترجمة صهيب غير ما ذكر: المنتظم 5/ 155، والسير 2/ 17، والإصابة 2/ 195.

عبد الله بن عامر الحضرمي

وفيها توفي عبد الله بن عامر الحَضْرَمي الَّذي حَرَّقه جارية بن قدامة بالبصرة، واسم الحَضْرَميّ عبد الله بن عماد، من كِندة، ومنزله بحَضْرَمَوت، حليف لبني عبد شمس بن عبد مناف، وعامر أبو صاحب هأه الترجمة قُتل يوم بدر كافرًا. وعبد الله بن عامر صاحب هذه الترجمة ابن بنت عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واسمها أرْنب، وأمُّها أمّ حكيم بنت عبد المطلب وتُسمّى أمّ طلحة، وقيل: بل هي كُنيتها. وعبد الله بن عامر وأبو كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مَناف ابنا خال طلحة بن عبيد الله. وعبد الله ابنُ أخي العلاء بن الحَضْرمي عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - على البحرين، وبئر ميمون التي بأعلا مكة ينسب إليهم، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل من المشركين بنَخْلَة في صدر الإسلام، وقد ذكرناه، والصَّعبة بنت الحَضْرميّ أم طلحة بن عُبيد الله. وكان عبد الله صاحب هذه الترجمة قد استماله معاوية بالمال فمال إليه، وبعثه معاوية إلى البصرة، فنزل في بني تميم وأسعر الفتنة، فأحرقه الله تعالى في الدنيا (¬1)، وقد ذكرناه. وفيها توفي مالك بن الحارث ابن عبد يَغوث بن مَسْلَمة بن ربيعة بن الحارث بن جَذيمة بن سعد بن مالك النَّخَعي الكوفي، والنَّخع أبو قبيلة من العرب، ويُلقَّب بالأشْتَر، والشَّتَر: انحرافُ جَفْنِ العين. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، وكان من أصحاب أمير المؤمنين؛ شهد معه الجمل وصفّين والنّهروان ومشاهدَه كلَّها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر أنساب الأشراف 1/ 13 - 14 و 448، وتاريخ دمشق 9/ 455 - 456 (مخطوط). (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 332.

وذكره أبو سعيد بن يونس فقال: كان فيمن نفاه عثمان إلى الشام، وكان من المؤلّبين على عثمان، وشهد حَصْرَه، وكان قد حضر اليرموك وأبلى فيه بلاء حسنًا، وذهبت إحدى عينيه، وانشترت الأخرى، وقد ذكرنا فعلَه يوم الجمل، وأنه هو الَّذي عقر الجمل، وصرع عبد الله بن الزُّبير حتَّى قال ابن الزبير: اقتلوني ومالكًا، ولما دخل على عائشة بعد وَقْعة الجمل قالت له: أنت الَّذي أردتَ قتلَ ابن أختي؟ فقال: [من الطويل] فوالله لولا أنني كُنْتُ طاويًا ... ثلاثًا لألفَيتِ ابنَ أُختِك هالِكا (¬1) وقد ذكرناه هناك، ووَلده إبراهيم بن الأشتر الَّذي قتل عبيد الله بن زياد على الزّاب، وسنذكره. ذكر ولاية الأشتر على مصر ووفاته: قال علماء السير كابن إسحاق وهشام والواقدي: ولما اختلّ أمرُ مصر على محمد بن أبي بكر، وبلغ أمير المؤمنين قال: ما لمصر إلا أحد الرجلين؛ صاحبنا الَّذي عزلناه عنها؛ يعني قيس بن سعد، أو مالك بن الحارث، يعني الأشتر. وكان أمير المؤمنين حين انصرف من صفين ردّ الأشتر إلى عمله على الجزيرة، وكان عاملًا عليها، فكتب إليه وهو يومئذ بنصيبين: سلام عليك يا مالك، فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدِّين، وأقمع به نَخْوة الأثيم، وكنتُ قد ولَّيتُ محمد بن أبي بكر مصر، فخرجت عليه خوارج، وهو غلام حَدَثٌ غِرّ، ليس بذي تَجربةٍ للحرب، ولا مُجَرِّبٍ للأشياء، فاقدم عليّ لننظر من ذلك فيما ينبغي، واستخلِفْ على عملك أهلَ الثقة النَّصفة (¬2) من أصحابك، والسلام. فأقبل مالك حتَّى قدم على علي - عليه السلام -، فأخبره بحديث محمد وما جرى عليه، وقال: ليس لها غيرك فاخرج رحمك الله، فإني إن لم أُوصِك اكتفيتُ برأيك، فاستعن بالله على ما أهَمّك، واخلط الشدَّة باللين، وارفق ما كان الرّفق أبلغ، واعتزم بالشدَّة حين لا يغني عنك إلا الشّدَّة. ¬

_ (¬1) انظر السير 4/ 34، وتاريخ دمشق 66/ 41. (¬2) في تاريخ الطبري 5/ 95: النصيحة، وهي الأشبه.

فخرج الأشتر من عند علي، فأتى رحلَه، وتهيّأ للخروج إلى مصر، وكتب عيون معاوية إليه بولاية الأشتر على مصر، فشقّ عليه، وعَظُم ذلك لديه، وقد كان طمع في مصر، وعلم أن الأشتر متى قَدِمها كان أشد عليه [من محمد بن أبي بكر]. فكتب معاوية إلى الخانسيار (¬1) -رجلٍ من أهل الخراج، وقيل: كان دِهقان القُلْزُم - يقول: إن الأشتر واصل إلى مصر قد وَليها، فإن أنت كفيتَني إياه لم آخذ منك خراجًا ما بَقيت، فاحتل لهلاكه بكلّ ما تقدر عليه. فخرج الخانسيار حتَّى قدم القُلْزُم فأقام به، وخرج الأشتر من العراق يُريد مصر، فلما قدم القلزم استقبله الخانسيار وقال: انزل فأنا رجل من أهل الخراج، وقد أحضرتُ ما عندي، فنزل، فأتاه بطعامٍ وعلَف، وسقاه شَربة من عَسَل جعل فيها سُمًّا، فلما شربه مات. وأقبل معاوية يقول لأهل الشام: إن عليًّا بعث الأشتر إلى مصر، فاسألوا الله أن يَكفيكموه، فكانوا كلّ يوم يدعون على الأشتر. وبعث الخانسيار إلى معاوية، فأخبره بهلاك الأشتر، فقام فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإنه قد كانت لابن أبي طالب يدان يمينان، فقُطعت إحداهما يوم صفّين -يعني عمار بن ياسر- وقُطعت الأخرى الآن، يعني الأشتر. وفي رواية: وإن معاوية قال: وإن لله جنودًا من عسل (¬2). وقال ابن سعد: ولاه علي - عليه السلام - مصر، فخرج إليها، فلما كان بالعَرِيش شرب شَربةَ عسلٍ فمات، قال: وروى عن خالد بن الوليد أنَّه كان يضرب الناس على الصلاة بعد العصر (¬3). وقال ابن الكلبي عن أبيه: لما سار الأشتر إلى مصر أخذ على طريق الحجاز، فقدم المدينة، فجاءه مولى لعثمان بن عفان يقال له: نافع، فأظهر له الوُدّ وقال: أنا مولى ¬

_ (¬1) في الطبري: الجايستار. (¬2) انظر تاريخ الطبري 5/ 95 - 96، وأنساب الأشراف 2/ 287، ومروج الذهب 4/ 422 - 423. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 332 - 333.

عمر بن الخطاب، فأدناه الأشتر وقرَّبه، ووَثِقَ به، وولّاه أمرَه، فلم يزل معه إلى عين شمس، وتلقّاه أهل مصر بالهدايا، فسقاه نافع العسل فمات. وذكر ابن سعد أنَّه سُمَّ بالعَرِيش، قال الصوري: صوابه بالقلزم (¬1). وقد ذكر أبو تمام الأشتر في شعراء "الحماسة" (¬2). وفي الشعراء مَن لقبه الأشتر ثلاثة، هذا، والثاني الأشتر بن عامر، أحد بني عَوف من تَيمْ الرَّباب (¬3)، والثالث الأشتر الحَمامي الأزْديّ، من أزْد عُمان، من بني حَمامة. وقال المدائني: ذكر الأشتر عند معاوية، فذمّه رجل، فقال له رجل من النَّخع: اسكت فإن حياتَه أذلَّتْ أهلَ الشام، وموتَه أذلَّ أهلَ العراق، فنظر إليه معاوية ولم يَقُلْ شيئًا. واختلفوا في وفاته، فقال أبو سعيد بن يونس: مات مَسمومًا سنة سبعٍ وثلاثين، وقال هشام: سنة ثمانٍ وثلاثين في رجب. وقال أبو اليَقظان: كان قد ثَقُل على أمير المؤمنين أمرَه، وكان مُتَجَرِّبًا عليه مع شدَّة محبَّته له. وحكي عن عبد الله بن جعفر أنَّه قال: كان علي قد غضب على الأشتر، وقَلاه واستَثْقَلَه، فكلّمني أن أكلِّمه فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، وَلِّه مصر، فإن ظفر وإلا استرحتَ منه، فوَلّاه، فلما بلغه موته قال: لليدين وللفم (¬4)، قال عبد الله: وكانت عائشة قد دعت عليه فقالت: اللهمَّ ارمِهِ بسَهْم من سهامك. وحكى أبو مخنف عن مولى الأشتر قال: لما مات الأشتر وجدوا في ثَقَله رسالة من أمير المؤمنين إلى أهل مصر. انتهت ترجمة الأشتر والله أعلم. وفيها توفي ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 66/ 46 و 31 (على الترتيب). (¬2) شرح ديوان الحماسة (25) للمرزوقي. (¬3) في (خ): و (ع): اللات؟ ! والمثبت من المؤتلف والمختلف للآمدي 32. (¬4) تاريخ دمشق 66/ 45، 48.

محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -

محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وكنيته أبو القاسم، وأمُّه أسماء بنت عُمَيْس الخَثْعَمِيّة، وُلد عام حجَّةِ الوداع بذي الحُلَيفَة، في عقب ذي القعدة، فأراد أبو بكر أن يَرُدَّ أسماء إلى المدينة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مُرْها أن تَغتسلَ وتُهِلّ"، وقد ذكرناه، وكان في حِجر علي - عليه السلام - لما تزوَّج بأمّه أسماء، فتولّى تربيته، وذكرنا ما جرى لمحمد مع عثمان بن عفان، ولما سار علي إلى الجمل سار معه محمد، وكان على الرَّجَّالة، وشهد معه صفّين، وولاه مصر بعد عزل قيس بن سعد بن عبادة عنها (¬1)، وقد ذكرنا سبب عزل قيس بن سعد عن مصر، وأن أمير المؤمنين اتَّهمه بمعاوية، ثم بان له أنَّه ناصحٌ له. ولما قدم قيس بن سعد مصر وأقام بها عَزله علي - عليه السلام - عنها بمحمد بن أبي بكر، فلما قدم محمد خلا به قيس وقال له: يا أبا القاسم، إنك قد جئتَ من عند أمير لا رأيَ له، وليس عَزلُه إيّاي بمانعي أن أنصح لك وله، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، وإني أدُلُّك على الَّذي كُنْتُ أكيد به معاوية وعمرًا وأهل خَرِبْتا، فكايدْهم به، فإنك إن كايَدْتَهم بغيره تهلك. ووصف له قيس بن سعد المُكايدة التي كان يكايدهم بها، فاستَغَشَّه محمد بن أبي بكر، وخالفه في كلِّ شيءٍ أمره به، فسار إليه معاوية وعمرو بأهل الشام فافتتحا مصر، وقتلا محمدًا (¬2). وقد ذكرنا أن الأشتر سار واليًا عليها، وسُقي السّم، وأن أمير المؤمنين كتب إلى محمد بن أبي بكر يُشَجّعه، ويُقوّي عَزمَه. وقال أبو مخنف عن أشياخه: إن أهل الشام لما انصرفوا من صفين كانوا ينتظرون ما يأتي به الحكمان، فلما اختلف الناس بالعراق على أمير المؤمنين طمع معاوية في مصر، وكان أهل خَرِبْتا عثمانية، ومَن كان من الشيعة كان أكثر منهم، فكان معاوية يهاب مصر لأجل شيعة أمير المؤمنين، وكان قَصْدُ معاوية أن يستعين بفتوح مصر على ¬

_ (¬1) التبيين 314 - 315. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 94، والمنتظم 5/ 149.

حَرْب أمير المؤمنين. قال: فاستشار معاوية أصحابَه: عمرو بن العاص، وحَبيب بن مَسلمة، وبُسْر بن أبي أرطاة، والضّحّاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبا الأعور عَمرو بن سفيان السُّلَمي، وغيرهم، وهؤلاء كانوا بِطانتَه، فقال: هل تَدرون لماذا أدعوكم؟ قالوا: لا يَعلم الغيب إلا الله، فقال له عمرو: نعم، أهمَّك أمر مصر وخراجها الكثير، وعَدد أهلها، فدعوتنا لنُشير عليك فيها، فاعزم وانهض، فإن في افتتاحها عِزّك وعِزّ أصحابك، وكَبْتَ عدوِّك. فقال له: يا ابن العاص إنما أهمَّك الَّذي كان بيننا، يعني أنَّه كان قد أعطاه مِصر طُعْمَةً لما صالحه على قتال أمير المؤمنين، وقال معاوية للقوم: ما ترون؟ قالوا: ما نرى إلا رأي عمرو، قال: فكيف أصنع؟ ! فقال عمرو: ابعث جيشًا كثيفًا، عليهم رجلٌ حازمٌ صارم، تثق به، فيأتي إلى مصر، فإنه سيأتيه مَن كان من أهلها على رأينا، فيظاهره على من بها من أعدائنا. فقال معاوية: أو غير هذا؟ قال: وما هو؟ قال: نُكاتب مَن بها من شيعتنا، نأمرهم [بالثبات] على أمرهم، ونُمنيهم قُدومَنا عليهم، فتقوى قلوبُهم، ونعلم صديقَنا من عدوّنا، وإنك يا ابن العاص بُورك لك في العَجَلة، ولي في التُّؤَدَة. قال عمرو: فاعمل برأيك، فو الله ما أرى أمرَكم إلا صائرًا إلى الحرب. قال: فكتب إليهم معاوية كتابًا يُثني عليهم ويقول: هنيئًا لكم بطلب دَم الخليفة المظلوم، وجهادكم أهلَ البغي، وقال في آخره: فاثبتوا فإن الجيش واصل إليكم، والسلام. وبعث بالكتاب مع مَولىً يقال له: سُبَيع، فقدم مصر ومحمد بن أبي بكر أميرها يؤمئذٍ، فدفع الكتاب إلى مَسلمة بن مخلّد الأنصاري، وإلى مُعاوية بن حدَيج، فكتبا جوابه: أما بعد: فعَجِّل علينا بخَيلك ورَجْلك، فإن عدونا قد أصبحوا لنا هائبين، فإن أتانا

المَدَد من قِبلك يَفتح الله علينا ... وذكر كلامًا طويلًا. وكان مسلمة ومعاوية بن حُدَيج مقيمان في عشرة آلاف في خَرِبْتا، قد باينوا محمد بن أبي بكر، ولم يُحسن تَدبيرَهم كما كان قيس بن سعد يفعل، فانتقضت عليه الأمور، وانخَرَمَت القواعد. ولما وقف معاوية على جوابهما -وكان يومئذ بفلسطين- جَهّز عمرو بن العاص في ستة آلاف، وخرج معه معاوية يُودّعه، وأوصاه بما يفعل، وقال له: عليك بتقوى الله، وبالرِّفق فإنه يُمْن، والعَجَلةُ من الشيطان، وأن تَقبل ممّن أقبل، وتعفو عمّن أدبرَ؛ فإن قَبل فبها ونِعمتْ، وإن أبي فإن السَّطْوَةَ بعد المَعْذِرة أقطع من الحجّة، وادعُ الناس إلى الصُّلح والجماعة، فإذا أنت ظهرتَ فليكن أنصارُك أَبَرَّ الناس عندك. فسار عمرو، فلما دانى مصر اجتمعت العثمانيّة إليه، فكتب إلى محمد بن أبي بكر: أما بعد، فتَنَحّ عني بدمك، فإني لا أحبُّ أن يُصيَبك مني قُلامَة ظُفْر، والناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك، فاخرج إني لك من الناصحين. وجاءه كتاب معاوية يقول: يا محمد، إن البغي والظُّلم عظيم الوَبال، وسَفْكَ الدم الحرام من النّقمة في الدنيا والآخرة، وإنا لا نَعلم أحدًا كان على عثمان أشدَّ منك؛ سعيتَ عليه مع السَّاعين، وسفكتَ دمَه مع السَّافكين، ثم أنت تظنُّ أني نائم عنك أو ناسٍ لك فعلَك، حتَّى تأتي فتتأمّر على بلاد أنت فيها جاري، وجلُّ أهلها أنصاري، يَرون رأي، ويَرقبون قولي، ويستصرخون عليك، وقد بعثتُ إليك قومًا حِناقًا، يستسقون بدمك، ويتقرّبون إلى الله بجهادك، وقد أعطوا الله عهدًا ليُقاتلُنَّك، وذكر فعلَه بعثمان، وضربه بالمشاقِص، ثم قال في آخر الكتاب: ولن يُسْلِمَك الله من القِصاص أينما كنت، والسلام. فطوى محمد الكتابَين، وبعث بهما إلى أمير المؤمنين، وكتب إليه: أما بعد، فإن ابن العاص قد نزل أداني مصر، واجتمع إليه مَن كان يرى رأيَه، وقد جاء بجيش جرّار، وقد رأيتُ ممَّن قِبَلي بعض الفشل، فإن كان لك في أرض مصر حاجة فأمِدَّني بالأموال والرجال، والسلام. فكتب إليه علي - عليه السلام -: أما بعد، فقد قرأتُ كتابَك، وفهمت ما قلت، وإن

نزولَ ابن العاص بأداني مصر، وخروج مَن خرج إليه، فذلك خير لك من إقامتهم عندك، وذكرتَ أنك قد رأيتَ في بعض مَن قِبَلك فَشَلًا، فلا تفشل أنت، واضمُم إليك شيعتَك، واندُب إلى القوم كِنانة بن بِشر، المعروف بالنّصيحة والنّجدة والبأس، فإني نادِبٌ إليك الناس على الصَّعبِ والذَّلول، فاصبر لعدوّك، وامض على بصيرتك، وقاتلهم على نيَّتِك، وجاهدهم محتسبًا، وإن كانت فِئتُك أقلَّ الفئتين فإن الله يُعزّ القليل، وقد يَخذل الكثير، وقد قرأت كتاب الفاجِرَين، والمتحابَّين على المعصية، والمتَّفِقَين على الضّلالة، والمتواطِئين على الفاحشة، الذين استمتعوا بخَلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، ولا يَهُلْك إبراقُهما وإرعادُهما، وأجبهما إن كنت مُجيبهما بما هما أهلُه، فإنك تجد مقالًا ما شئت، والسلام. فكتب محمد إلى عمرو: أما بعد، فإنك يا ابن العاص زعمتَ أنك تكره أن يُصيبَني منك ظُفْر، وأشهد أنك من المُبْطِلين، وزعمتَ أنك لي من الناصحين، وإنك من الغاشّين. وكتب إلى معاوية: أما بعد، فإني لا أعتذر إليك من أمر عثمان، وإنني أرجو أن تكون لي عليكم دائرة، فإن نُصرتم عليّ في الدنيا فلَعَمري كم ظالمٍ قد نَصرتُم، ومؤمنٍ قد قتلتم، والله المستعان على ما تصفون. ثم قام خطيبًا في الناس فقال: أما بعد، فإن القوم الذين ينَتهكون الحُرْمَة، ويُشبّون نارَ الفتنة، قد نَصبوا لكم العدواة، وساروا إليكم بجيوشهم، فمَن أراد الجنّة فلْيخرج إليهم، فليُجاهدهم في الله، انتدِبوا مع كنانة بن بشر. فانتدب مع كنانة نحو من ألفَي رجل، وخرج محمد بن أبي بكر في ألفين، واستقبل عمرو بن العاص كِنانة وهو على مقدّمة محمد، ومحمد يُسَرِّح إلى كنانة الكتائب، فلما رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حُدَيج السَّكوني. وفي رواية: فلما رأى عمرو كِنانة قد أقبل سَرَّح إليه الكتائب من أهل الشام كتيبة بعد كتيبة، وكنانة يهزمها، فاستنجد عمرو بمعاوية بن حُدَيج السَّكوني، فسار في أصحابه وأهل الشام، فأحاطوا بكنانة، فلما رأى كِنانة ذلك ترجَّل عن فرسه، وترجَّل أصحابه، وقرأ كنائة {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإِذْنِ اللَّهِ} إلى قوله {وَسَنَجْزِى الْشَّاكِرينَ} [آل

عمران: 145]، ثم أبلى بلاءً حسنًا، وقتل من أهل الشام مَقتلة عظيمة، وقتلوه. ولما رأى أصحاب محمد بن أبي بكر ذلك تفرَّقوا عنه، فنزل محمد عن فرسه، ومشى حتَّى انتهى إلى خَرِبة، فأوى إليها، وجاء عمرو فدخل الفُسطاط، وخرج معاوية بن حُدَيْج في طلب محمد، فسأل قومًا من العُلوج -وكانوا على الطريق- فقال: هل رأيتم رجلًا من صِفته كذا وكذا؟ فقال واحد منهم: دخلتُ تلك الخَرِبة وإذا برجل جالس، فقال ابن حديج: هو وربّ الكعبة، فدخلوا فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشًا، فأقبلوا به نحو الفُسطاط. ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص -وكان في جُنده- فقال: أتقتل أخي صَبْرًا؟ فأرسل عمرو إلى معاوية بن حُدَيْج يأمره أن يأتيَه بمحمد، فقال معاوية: أتقتل كنانة بن بِشر وأُخلّي أنا عن محمد، هيهات هيهات؟ ! فقال محمد: اسقوني ماءً، فقال معاوية: لا سقاني الله إن سقيتُك قطرةً، إنكم منعتم عثمان الماء، ثم قتلتموه صائمًا فتلَقَّاه الله بالرَّحيق المختوم، والله لأقتلنَّك يا ابن أبي بكر، فليسقِك الله من الحميم، فقال له محمد: يا ابن اليهودية النسَّاجة، ليس ذلك إليك، أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم بي هذا. فقال معاوية أتدري ما أصنع بك؟ أُدخِلك في جوف حمار، ثم أحرقه عليك بالنار. فقال محمد: إن فعلتم ذلك فطالما فعلتموه بأولياء الله، وإني لأرجو أن النار التي تُحرِقُني أن يَجعلَها الله عليّ بَرْدًا وسلامًا، كما جعلها على خليله إبراهيم، وأن يَجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نُمروذ وأوليائه، يحرقك ووليّك معاوية وعمرو بن العاص بنارٍ تَلَظَّى كلّما خَبَتْ زدناهم سَعيرًا. فقال له معاوية بن حُدَيج: إنما أقتلُك بعثمان. فقال له: وما أنت وعثمان! إن عثمان عَمل بالجَوْرِ، ونَبَذ حُكم القرآن، فنَقم المسلمون عليه فقتلوه، وأغلظ له، فغضب ابن حُدَيج وقتله، ثم ألقاه في جِيفة حمار، ثم حَرقه بالنار. وبلغ عائشة فجَزِعت عليه جَزَعًا شديدًا، وقنتت في دُبُرِ كلِّ صلاة تدعو على معاوية بن حُدَيج وعَمرو، وقبضت عيال محمد إليها وولده، فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالها.

وهذه روايات أبي مِخنف (¬1). وأما الواقدي فإنه قال: حدثني سُويد بن عبد العزيز، عن ثابت، عن القاسم بن أبي عبد الرحمن: أن عمرو بن العاص خرج في أربعة آلاف، فيهم معاوية بن حُدَيج، وأبو الأعور السُّلَمي، فالتقوا بالمُسَنَّاة، فاقتتلوا قتالا شديدًا، ثم أقبل كِنانة بن بِشر بن عتاب التُّجِيبي فقاتل، وانهزم محمد بن أبي بكر فاختبأ عند جَبَلة بن مَسْروق، فدُلَّ عليه معاوية بن حُدَيج، فأحاط به، وخرج محمد فقاتل حتَّى قُتل. قال الواقدي: وكانت وقعة المسنّاة في صفر سنة ثمان وثلاثين (¬2). قال الواقدي: وإنما وَلّى علي الأشتر بعد مقتل محمد بن أبي بكر، والأول أشهر. وذكر أبو سعيد بن يونس: أن معاوية بن حُدَيْج بعث إلى المدينة بمَولى له يُقال له: سليم؛ يُبَشّر بقَتْل محمد، ومعه قميص محمد، فدخل به دار عثمان، واجتمع إليه من آل عثمان نساء ورجال، وأظهروا السُّرور بمَقتله، وأمرت أمّ حبيبة بنت أبي سفيان بكَبْش فشُوي، ثم بعثت به إلى عائشة فقالت: هكذا شُوي أخوك، فلم تأكل عائشة شِواء حتَّى لَقيتْ الله تعالى. قلت: وقد روى لنا هذه الواقعة غيرُ واحدٍ عن أبي الفضل محمد بن ناصر، عن أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن مَنْده، عن أبيه عن أبي سعيد بن يونس الحافظ، عن أسامة بن أحمد التُّجيبي بإسناده، عن يزيد بن أبي حَبيب، وذكر القصة فقال: بعث مُعاوية بن حُدَيج إلى المدينة بمَولى يُقال له: سليم، وذكره (¬3). واختلفوا في مقتل محمد بن أبي حُذيفة، فقال الواقدي: قُتِل في سنة ست وثلاثين، وقال هشام بن محمد الكلبي: إنما قُتل بعد مقتل محمد بن أبي بكر، ودخول عمرو بن العاص إلى الفُسطاط (¬4)، وقد ذكرنا ذلك فيما تَقَدَّم. ذكر وصول الخبر إلى أمير المومنين بمقتل محمد بن أبي بكر الصديق: ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 97 - 105، والمنتظم 5/ 150 - 151. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 105. (¬3) المنتظم 5/ 151 - 152. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 105 - 106.

روى هشام بن محمد، عن أبي مخنف، عن أشياخه قالوا: خطب علي - عليه السلام - الناس قبل مقتل محمد، لما وصل إليه كتابَه يستصرخ به فقال: أما بعد، فإن هذا صَريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر، قد سار إليهم ابن النَّابغة عدوُّ الله، وعدوّ مَن والى الله، ووَليُّ مَن عاداه، فلا يكوننّ أهل الضلال والباطل أشدّ اجتماعًا منكم على ضلالهم وباطلهم، وأنتم على الحق، فاعجَلوا إليهم بالمواساة والنّصر، ألا وإن مصر أعظمُ خيرًا من الشام، وأكثر جُندًا، فلا تُغْلَبوا عليها، فإن بقاءها في أيديكم عِزٌّ لكم، وكَبْتٌ لعدوِّكم، اخرجوا إلى الجَرَعة بين الكوفة والحِيرة، وافوني غدًا هناك إن شاء الله تعالى. فلما كان من الغد خرج يمشي، فنزلها بُكرةً، فأقام بها حتَّى انتصف النهار يومه ذلك، فلم يُوافِه منهم رجل، فرجع إلى القصر حزينًا كئيبًا، وبعث بالعَشِيّ إلى أشرافهم، فدخلوا عليه فوَبَّخهم وعَنَّفهم وقال: إن الله ابتلاني بكم أيُّها القرية (¬1)، وبمَن لا يُطيع إذا أَمرتُ، ومَن لا يُجيب إذا دعوت، أوليس عَجَبًا أن معاوية يَدعو الجُفاةَ الطُّغاة فيجيبونه إلى [أي] جهةٍ شاء، على غير عَطاء ولا مؤونة، وأنتم أهل النُّهى، وبَقيَّةُ الناس؛ أدعوكم فتعصونني وتخالفونني، وتختلفون علي. فقال مالك بن كعب الهمْداني ثم الأرحبي: يا أمير المؤمنين، إنه لا عِطْرَ بعد عَروس، لمثل هذا اليوم كُنْتُ أدَّخِرُ نفسي، يا قوم، أجيبوا إمامكم، وانصروا دعوتَه، وقاتلوا عدوَّه، وأنا أسير إليها يا أمير المؤمنين. فسار إلى مصرفي ألفين، فودَّعه علي - عليه السلام - وقال: والله ما إخالك تُدركه إلا وقد فات الأمر، فسار خمسًا، فوصل الخبر بهلاك محمد وفتوح مصر، وقدم على أمير المؤمنين رجلان من عيونه؛ أحدهما الحجَّاج بن غَزِيّة الأنصاري، كان مقيمًا بمصر، وعبد الرحمن بن شَبيب الفَزاريّ، كان مقيمًا عينًا له بالشام، فأما الأنصاري فحدّثه بمقتل محمد بن أبي بكر وما عاين، وأما الفزاري فقال: لم أخرج من الشام حتَّى قَدِمت البُشرى من قبل عمرو بن العاص بفتح مصر، ومقتل محمد، قال: يا أمير ¬

_ (¬1) في الطبري 5/ 107: الفرقة.

المؤمنين، فما رأيتُ قومًا أسرّ، ولا أتمَّ سرورًا من أهل الشام بهلاك محمد، فقال أمير المؤمنين: إن حُزننا عليه بقَدْر سُرورهم به، لا بل يزيد أضعافًا، وحزن على محمد حتَّى رُئي ذلك في وجهه، وقال: ما حَزِنتُ على أحدٍ، أو ما جَزِعتُ على أحدٍ مثل جَزَعي على محمد، إنه كان لي رَبيبًا، وكنتُ أعدّه وَلَدًا، وكان بي بارًّا، فعند الله أحتسبه، فعلى مثله يُحزَن. ثم خطب الناس فقال في خطبته: ألا إن مِصر قد افتتحها الفَجَرة الظَلَمة؛ الذين صَدُّوا عن سبيل الله، وبَغَوا الإسلامَ عِوَجًا، ألا إن محمد بن أبي بكر قد استُشهد رحمة الله عليه، فعند الله نحتَسِبُه، أما والله لقد كان فيما علمتُ يَعمل للجزاء، ويحبُّ هدى المؤمنين، وقد استَصْرَخْتكم مُعلنًا، وناديتكم مُستغيثًا، فلم تسمعوا لي قولًا، ولم تُطيعوا لي أمرًا، فأنتم القوم لا يُدرَك بكم الأثْآر، ولا تُجيبون إلى غَواث. وفي رواية: ولا ترفعون العار، ولا تدفعون الشَّنار، دعوتكم إلى نصر إخوانكم منذ خمسين ليلة، فجَرْجَرْتم جَرْجَرَةَ البعير الأشدق، وتثاقلتم ثتاقُلَ مَن ليس له نيَّةٌ في الجهاد، ثم خرجتُ منكم بشِرْذِمَةٍ يسيرة، كأنما تُساقون إلى الموت، ثم قال: أفٍّ لكم، ونزل. وقال أبو مخنف وغيره: وكتب علي - عليه السلام - إلى ابن عباس إلى البصرة يُخبره بهلاك محمد، وفتوح مصر، وأنه نَدب الناس إلى نُصرته فتثاقلوا عليه، ثم قال: أسأل الله أن يَجعل لي منهم فَرَجًا، وأن يُريحَني منهم عاجلًا. فكتب إليه ابن عباس: أسأل الله أن يُعِزَّك بالملائكة المقَرَّبِين، فإن الله مُعينُك وناصرُك، ومُجيبُ دعوتك، وكابتُ عدوِّك، يا أمير المؤمنين، إن الناس ربما تثاقلوا ثم نَشَطوا، فارفِق بهم، ثم استعن بالله عليهم، والسلام (¬1). وذكر صاحب "العقد" أن معاوية بن حُدَيج ضرب عُنق محمد بن أبي بكر، وبعث برأسه إلى معاوية، فكان أول رأسٍ طِيف به في الإسلام. وذكر في "العقد" أيضًا أن محمد بن جعفر بن أبي طالب كان بمصر مع محمد بن أبي بكر، فلما قُتل ابنُ أبي بكر لجأ محمد بن جعفر إلى أخواله من خَثْعَم، لأن أمَّه أسماء بنت عُميَس كانت خَثْعَمِيّة، ¬

_ (¬1) الطبري 5/ 106 - 109، ومروج الذهب 4/ 421 - 422، وأنساب الأشراف 2/ 292.

فقال معاوية بن حُدَيْج: لَتَأتِيَنّي به، فقال: لا والله، ابنُ أختنا لجأ إلينا، لا نُسلِمه أبدًا. فقال له معاوية: إنك لأَوْرَه، أي: أحمق، فقال: أجل، إني لأوره حين أقاتل عن ابنِ عمِّك لأَحقِنَ دمَه، وآتيك بابن أختي لتَسفِكَ دمَه. وفي رواية: إني لأوره حيث أُقدِّم بني عَمّي لتسفك دماءهم دونك، فسكت ابنُ حُدَيج، ولم يعرض لابن جعفر (¬1). قلت: وقد وهم صاحب "العقد" فإن بني جعفر لم يفارقوا أمير المؤمنين، ولم يذهب أحد منهم إلى مصر. وذكر ابن سعد بمعناه فقال (¬2): كان الحسن لا يُسمّيه باسمه، إنما كان يُسمّيه الفاسق، قال: فأُخذ الفاسق ابنُ أبي بكر، فجُعِل في جوف حمار، ثم أُحرق عليه. وقال الواقدي: كان محمد بن أبي بكر يُدْعى عابدَ قريش لزُهده ونُسكه، حتَّى بدا منه في حقِّ عثمان ما بدا، وكان الحسن البصري يُسمّيه الفاسق، فيقول: قال الفاسق وفعل الفاسق. وقال جدي رحمه الله في كتاب "الصفوة" و"التَّلقيح" في أولاد أبي بكر: كان محمد من نُسَّاك قريش، إلا أنَّه كان ممَّن أعان على عثمان يومَ الدّار (¬3). قلت: ومحمد بن أبي بكر جدُّ جدي رحمه الله، وسنذكر نسبه في ترجمة جدِّي إن شاء الله تعالى. ذكر أولاد محمد بن أبي بكر: قال علماء السير: كان له من الولد: القاسم وعبد الله، فأما القاسم فسنذكره في لمشة ثمان ومئة، وأما عبد الله بن محمد فقال الموفق (¬4) رحمه الله: روى عبد الله عن عائشة. وقد ذكرنا أن محمدًا تزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفَيل، ولم تلد من محمد ¬

_ (¬1) العقد الفريد 1/ 136 - 137، وذكره ابن قدامة في التبيين 119 - 120. (¬2) كذا، وهذا من دلائل الاختصار، فلم يسبق خبر بمعنى ما نقل عن ابن سعد، والخبر التالي في الطبقات 3/ 78 - 79. (¬3) صفة الصفوة 1/ 238، وتلقيح فهوم أهل الأثر 106. (¬4) في التبيين 316.

معقل بن قيس الرياحي الكوفي

لأنها كانت قد أسنّت، وقُتل عنها جماعة آخرهم محمد فرثته وقالت: إن تَقتلوا وتُمَثّلوا بمحمّدٍ ... فما كان من أهل النساءِ ولا الخَمْرِ (¬1) وسنذكر عاتكة في سنة إحدى وأربعين. وفيها توفي مَعقِل بن قيس الرِّياحي الكوفي وكان من أصحاب أمير المؤمنين، وهو الَّذي بعثه إلى الخارجي النَّاجي (¬2) وبني ناجية، وكان صاحب شرطة أمير المؤمنين، وشهد الجمل أميرًا علي بني أسد، وبعثه عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب بفتح تُسْتَر، وبعثه أمير المؤمنين في عدة أماكن. وقال أبو عبيدة مَعْمَر: خرج المُسْتَورد بن عَلْقمة (¬3)، فلقيه مَعْقِل بن قيس، فقتل كلّ واحدٍ منهما صاحبَه مَبارزة. قال الواقدي: مات سنة ثمان وثلاثين، وقيل: سنة تسع وثلاثين، وقيل: بعد الأربعين، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر التبيين 429. (¬2) في هامش (خ) حاشية: وهو الخريت بن راشد، قتله وأسر من بني ناجية خمس مئة ... إلخ، وسلفت قصته قريبًا. (¬3) كذا هنا، وفي تاريخ دمشق 17/ 16 (مخطوط) وعنه ينقل، وصوابه: المستورد بن عُلَّفَةَ كما عند الطبري 5/ 181، وكما ضبطه الأمير في الإكمال 6/ 259، وانظر المؤتلف للدارقطني 3/ 1468 و 1638، واللباب 2/ 352، وتوضيح المشتبه 6/ 328.

السنة التاسعة والثلاثون

السنة التاسعة والثلاثون قال علماء السير ممَّن سمَّينا: وفيها فرَّق معاوية جُيوشه نحو العراق، فبعث النعمان بن بَشير في ألفَيْ رجل إلى عين التَّمر، وبها مالك بن كعب مَسْلَحةً لأمير المؤمنين في ألف رجل، [فأذن لهم علي] فأتى، منهم تسع مئة إلى الكوفة، ولم يَبق مع مالك سوى مئة رجل، فكتب مالك إلى علي يُخبره، فصَعِد المنبر، وأمرهم بالنُّهوض فتثاقلوا، فقال: يا أهل الكوفة، كلما سمعتم بمَنْسِر من مَناسِر أهل الشام قد أظَلّكم؛ انحَجَر كلُّ امرئ منكم في بيته وأغلق عليه بابَه، المغرور والله مَن غَرَرْتموه، ومَن فاز بكم فاز بالسهم الأخْيَب، لا أحرارٌ عند اللقاء، ولا إخوانُ ثِقةٍ عند النَّجاء، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا مُنيتُ به منكم، عُميٌ لا تُبصرون، وبُكْمٌ لا تنطِقون، وصُمٌّ لا تَسمعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم نزل. وأما مالك بن كعب فإنه لما دَهَمه النعمان خرج في المئة رجل الذين بقوا عنده، قد كسروا جُفون سيوفهم واستقتلوا، فلما رآهم أهل الشام قد فعلوا ذلك ظنوا أنهم مَدَد (¬1)، فولَّوا على أدبارهم، وتبعهم مالك فقتل منهم نفرًا، وكتب إلى أمير المؤمنين بالفتح. وفيها بعث معاوية سفيان بن عوف في ستة آلاف فارس، وأمره أن يأتي هِيت والأنبار والمدائن فيغير عليها، وكان بهِيت أشرس بن حسان البَلَوي، وقد تفرَّق عنه أصحابه، ولم يبق معه سوى ثلاثين رجلًا، فخرج إليهم فاقتتلوا، وثبت أشرس، وقاتلهم قتالا شديدًا، فقتلوه وأصحابه، ثم نهبوا أموال أهل هِيت والأنبار، ورجعوا إلى الشام. وبلغ الخبر أمير المؤمنين، فخرج في آثارهم، فمنعه أهل الكوفة وقالوا: نحن ¬

_ (¬1) كذا، وفي العبارة سقط، يستدرك من الطبري 5/ 133، والمنتظم 5/ 157 وهو أن مالك بن كعب كتب إلى مخنف بن سليم أن يمده، وهو قريب منه، فوجه إليه مخنف ابنَه عبد الرحمن في خمسين رجلًا، فانتهوا إلى مالك وأصحابه وقد كسروا جفون سيوفهم ...

نكفيك، فقال: ما تكفونني؛ ونزل بالنُّخَيلة، فجهَّز في آثارهم قيس بن سعد، ففاتوه (¬1). وفيها بعث معاوية عبد الله بن مَسْعَدَة الفَزاريّ في ألف وسبع مئة رجل إلى تَيماء، وأمره أن يُصدِّق مَن مَرّ به من أهل البوادي، وأن يَقتل من امتنع من أداء صَدَقَةِ ماله، ثم يأتي المدينة ومكة والحجاز. فسار الفَزاريّ في جَمعٍ كثير من قومه، وبلغ أمير المؤمنين، فبعث المسيَّب بن نَجَبَة الفَزاريّ في ألفَيْ رجل، فأدرك ابنَ مَسْعَدة بتَيْماء حين زالت الشمس، واقتتلوا قِتالًا شديدًا، وحمل المسيَّب على ابن مَسْعدة، فضربه ثلاث ضَربات على رأسه، كلّ ذلك ولا يلتمس قَتْلَه ويقول له: النَّجاء النجاء، فدخل ابن مسعدة وعامة مَن معه حِصن تَيماء، وهرب الباقون إلى معاوية، وانتهب الأعراب إبلَ الصَّدقة التي كانت مع ابن مسعدة، وحصره المسيّب ومَن معه ثلاثة أيام، ثم ألقى الحَطَب على الباب، وألهب فيه النار، فاحترق الباب، وأيقنوا بالهلاك، فأشرف ابن مسعدة ومَن معه فقالوا: يا مُسيّب، قومك. فرَقَّ لهم، وكره هلاكَهم، فأمر بالنار فأُطفِئت، وقال المسيب لأصحابه: قد أخبروني عيوني بأن جندًا قد فصل إليكم من الشام، فانضموا في مكان واحد، ففعلوا، فلما جاء الليل خرج ابن مَسعدة وأصحابُه نحو الشام، فقال عبد الرحمن بن شَبِيب للمسيب: سِرْ في طَلَبهم، فأبى عليه، فقال: غَشَشْتَ أمير المؤمنين. وفيها بعث معاوية الضَّحّاك بن قيس في ثلاثة آلاف نحو واقِصة، وأمره بالغارة على مَن هو في طاعة أمير المؤمنين من الأعراب، فسار يَقتل ويَأخذ الأموال، ومر بالثَّعْلبية، وانتهى في غارته إلى القُطْقُطانَة، وأتى الضَّحَّاك على عمرو بن عُمَيس بن مسعود وهو في خيل لأمير المؤمنين، وأمامه أهله يريدون الحج، فأغار الضحاك عليهم، ومنعهم من الحجَّ، وبلغ أمير المؤمنين، فسرَّح حُجْر بنَ عَديّ الكِنديّ في أربعة آلاف، فسار خلف الضحاك، فلحقه بتَدمُر، فقتل من أصحابه تسعة عشر رجلًا، وقتل من أصحاب حجر رجلان، وحال بينهم الليل، فهرب الضحاك وأصحابه، ورجع حُجر بمَن معه سالمًا غانمًا. وقال ابن سعد عن الواقدي، حدثني ابن جريج، عن ابن أبي مُلَكية قال: وفي سنة تسع ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 134، وأنساب الأشراف 2/ 319 - 320، والمنتظم 5/ 157 - 158.

وثلاثين سار معاوية بنفسه حتَّى شارف دجلة ثم نَكَص راجعًا، وذكره أبو معشر أيضًا (¬1). وقد ذكرنا أن أمير المؤمنين وَجّه زيادًا إلى فارس فيما تقدَّم، بعد حريق ابن الحَضَرَمي لما اختلف الناس على علي - عليه السلام -، وأخرجوا عُمَّاله. وقال عمر بن شَبَّة: إنما كان ذلك في سنة تسع وثلاثين لما امتنع أهل فارس من الخراج، فاستشار على من يوليه، فقال له جارية بن قدامة: ألا أدلك على رجلٍ صليب الرأي، عالم بالسياسة، كافٍ لما ولَي؛ قال: من هو؟ قال: زياد بن أبيه، فقال: هو لها، فسار في أربعة آلاف إلى فارس وكرمانًا؛ فدوَّخ تلك البلاد فاستقاموا. وقال الشعبي: أن الَّذي أشار بتولية زياد عبد الله بن عباس، وكأن زياد مقيمًا بالبصرة، وكان ابن عباس قد قدم على أمير المؤمنين الكوفة، فاستشاره فأشار عليه بزياد، فقال له علي: إذا وصلت البصرة فولِّه، فولّاه، وقد أشرنا إليه فيما تقدّم. قال عمر بن شَبَّه، عن أشياخه: دخل زياد بلاد فارس وهي تضطرم نارًا، فلم يزل بهم بالمُداراة حتَّى عادوا إلى ما كانوا عليه من الطاعة والاستقامة، لم يقف موقفًا واحدًا للحرب، وكان أهل فارس يقولون: ما رأينا سيرةً أشبة بسيرة كسرى أنو شِروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة، والعلم بما يأتي. قال: ولما قدم زياد فارس بعث إلى رؤسائها، فوعد من نصره ومَنَّاه، وخوّف قومًا وتوعَّدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم على عورة بعض، فدانت له البلاد، وأتى إلى اصطَخْر فنزل بها، وحصَّن بها قلعة زياد، وحمل إليها الأموال، ثم تحصّن فيها بعد ذلك منصور اليَشْكُري، وهي اليوم تُسمّى قلعةَ منصور. واختلفوا فيمن حجّ بالناس في هذه السنة، فقال قوم: عبد الله بن عباس، وبعث معاوية يزيد بن شَجَرة الرُّهاوي ليَحجّ بالناس، فتنازعا، ثم أصطلحا على شَيبة بن عُثمان الحَجَبي، فصَلّى بالناس، ووقف بهم. وقال هشام والواقدي: لم يشهد عبد الله بن عباس في أيام علي - عليه السلام - الموسم، ولا حجّ بالناس. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 135 - 136.

سعد القرظ

وقال الواقدي: بعث علي - عليه السلام - في سنة تسع وثلاثين عُبيد الله بن العباس، وبعث معاوية يزيد بن شَجَرة الرّهاويّ، فتنازعا وهمَّا أن يَقتتلا، فدخل بينهما الناس، فاصطلحا على شَيبة بن عثمان بن أبي طلحة. وقال الهيثم: بعث علي - عليه السلام - قُثَم بن العباس على الموسم في سنة تسع وثلاثين، فنازعه يزيد بن شَجَرة الرهاوي، وأبي كلّ واحدٍ منهما أن يُسِلم الأمرَ إلى الآخر، وخاف الناس الفَوات، فرضي أهل مكة بشَيبة بن عثمان، فأقام لهم الحج. وكان عمال أمير المؤمنين في هذه السنة على الأمصار بحالهم كما كانوا في السنة الماضية (¬1). وفيها توفي سعد القَرَظ مولى عمار بن ياسر، والْقَرَظُ وَرَق السَّلَام، وإنما نُسب إليه لأنه كان يَجنيه ويبيعه للدِّباغ. وكان سعد يؤذن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُباء، ثم أذَّن على عهد أبي بكر وعمر، وأنزله عمر دارًا بالمدينة، وتوارث الأذانَ بعده أولادُه، وكان يحمل العَنَزة بين يدي أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي في الأعياد، وكان أولادُه يُرجّعون في الأذان، وهو اليوم بمكة على ذلك، وهو مذهب الشافعي وأهل الحجاز، وأما أهل المدينة والشام والعراق فلا يُرَجّعون، وهو مذهب أبي حَنيفة ومالك وأحمد (¬2)، وقد بيّناه فيما تقدم. وذكره جدي في "التلقيح" فقال: سعد القرظ بن عائذ الأنصاري، مولى عمار بن ياسر، له صحبة ورواية، وليس في الصحابة من اسمه سعد بن عائذ غيرُه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الطبري 5/ 136 - 138، والمنتظم 5/ 159 - 160. (¬2) انظر المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 3/ 64، والمغني 2/ 56، ومغني المحتاج 1/ 136، وحاشية ابن عابدين 1/ 386. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر 198، وانظر طبقات ابن سعد 5/ 106، والمعارف 258، والاستيعاب (940)، والمنتظم 5/ 160 - 161.

السنة الأربعون

السنة الأربعون قال علماء السير: وفيها بعث معاوية بُسْر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز، فقَدم المدينة، وعامِلُ أمير المؤمنين عليها يومئذ أبو أيوب الأنصاري، ففرَّ منهم أبو أيوب إلى الكوفة، فلحق بأمير المؤمنين، ودخل بُسْر المدينة، فصعد مِنبرَها - ولم يقاتله أحد - فقال: يا أهل المدينة، والله لولا ما عهد إليّ أمير المؤمنين معاوية ما تركتُ بها أحدًا -أو مُحتلمًا- إلا قتلتُه، بايعوا لمعاوية. فبايعوه. وهدم دورًا كثيرة، وأخاف أهلها، وأرسل إلى بني سلمة فقال: ما لكم عندي أمان حتَّى تأتوني بجابر بن عبد الله، وبلغ جابر فجاء إلى أم سلمة فقال لها: ماذا تَرين فقد خشيتُ أن أُقتل، وهذه بيعة ضلالة؟ فقالت له: أرى أن تبايع، فإني قد أمرتُ ابني عمر بن أبي سَلَمة أن يُبايع، وأمرت خَتَني عبد الله بن زمُعة -وكانت ابنتها من أبي سلمة عند عبد الله بن زَمعة- أن يبايع، فأتاه جابر فبايعه. ثم مضى بُسْر إلى مكة، فخافه أبو موسى أن يقتله فقال بُسْر: ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فخلى سبيله. ثم مضى بُسْر إلى اليمن، وعليها عُبيد الله بن عباس عامِلٌ لعلي - عليه السلام -، فخرج عبيد الله فارًّا إلى الكوفة، واستخلف على اليمن عبد الله بن عبد المَدان الحارثي، فقتله بُسْر، ولقي في طريقه ابنَين صغيرَين لعبيد الله بن العباس، اسم أحدهما عبد الرحمن، والآخر قُثَمْ، وأمِّهما جُوَيرية بنت قارض كِنانيّة، وكان عبيد الله قد أودعهما عند رجل من بني كنانة لصغرهما، فقُتل الكناني دونهما. وفي صفة قتله قولان: أحدهما أن بسرًا أخذهما من عند الكناني، فقال له: عَلام تقتل هذين الغلامين ولا ذنب لهما؟ ! فإن كنت قاتلهما فاقتلني قبلهما، فبدأ بالكناني فقتله، ثم قتل الغلامين. والثاني أنَّه طلب من الكناني الغلامين، فخرج الرجل وبيده سيفٌ مسلول وهو يقول: [من الرجز]

ذكر ترجمة بسر

اللّيثُ [مَن] يمنع حافات الدَّارُ ولا يزال مُصلِتًّا دون الجار ألا فتًى أروع غير غَدَّارُ فقال له بُسْر: ما أردنا قتلك، فلِمَ عرَّضت نفسك للقتل؟ قال: أُقتل دون جاري، فعسى أُعذَر عند الله، ثم ضارب بسيفه حتَّى قُتل، ثم أحضر بُسْر الغلامين فذبحمها بمَحضرٍ من أمِّهما، فصِحن نساء بني كنانة، ووَلْوَلن وقُلن: لعنك الله يا بُسر ومَن بعثك، إن سُلطانًا لا يقوم إلا بذبح الغلمان لسُلطان سوء، لقد نُزعت منك الرحمة، وعَمّت المصيبة. ويقال: إن أُمَّهما عائشة بنت عبد الله بن [عبد] المَدان. ولما ذبح بُسْر ولديها في الحال خُولطت، فهامت على وجهها، وكانت تَنشُدهما في الموسم وتقول: [من البسيط] ها مَن أحسَّ با بنيَّ اللذَين هما ... كالدُّراتَين تجلّى عنهما الصَّدَفُ ها مَن أحسَّ با بنيَّ اللذَين هما ... سَمعي وقلبي فقلبي اليومَ مُخْتَلِفُ مَن ذا لوالِهَةٍ حَرّى مُفَجَّعَةٍ ... على صَبيَين ضَلَّا إذا غدا التَّلَفُ ذكر ترجمة بُسْر قال ابن عبد البر: كان من الطُّغاة (¬1). ومن قال: بُسْر بن أرطاة فقد وهم، وإنما هو بُسْر بن أبي أرطاة، واسم أبي أرطاة عمير بن [عويمر بن] عمران، أو ابن عمرو، وكذا قال الطبري (¬2): ابن أبي أرطاة، قال: وهو من بني عامر بن لؤي. واختلفوا هل له صُحبة أم لا؟ قال مسلم: له صحبة، وقال جدّي في (التلقيح) له رواية، وذكره فيمن له رواية، قال: وهو بشر بن أبي أرطاة، واسم أبيه: عُمير بن عمرو، وكنيته أبو عبد الرحمن (¬3) القرشي، قال: ذكر ابن عدي في كتاب "الكامل" عن ¬

_ (¬1) الاستيعاب (204). (¬2) في تاريخه 5/ 138. (¬3) في (خ) و (ع): عبد الله، وهو خطأ.

يحيى بن معين قال: أهل المدينة يُنكرون أن يكون بسر سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأهل الشام يروون عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وذكره الشيخ الموفق رحمه الله وقال: له رواية، ونسبه فقال: هو بُسْر بن أرطاة [بن أبي أرطاة] عويمر بن عمران بن الحُلَيْس، ونسبه إلى عامر بن لؤي، قال: وقال الواقدي: لم يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصغره، وكان من الشُّجعان، إلا أنَّه غيرُ مرضيٍّ في دينه، وابتُلي في الفتنة، فكان فيها رأسًا، ومات في أيام معاوية. هذا كلام الموفق (¬2). وأما ابن سعد فذكره فيمن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم حُدَثاء الأسنان فقال: بُسْر بن أبي أرطاة، واسم أبي أرطاة عُمير بن عُوَيمر بن عمران بن الحُلَيس بن سَيَّار بن نزار بن مَعيص بن عامر بن لُؤيّ، وأُمُّه زينب بنت الأبرص بن الحُلَيس بن سيّار، هذا المذكور. قال: وقال محمد بن عمر: قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبُسْر صغير، ولم يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، وتحوّل فنزل الشام. قال ابن سعد: وفي غير رواية محمد بن عمر أنَّه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأدركه، وروى عنه. قال ابن سعد بإسناده عن عطاء بن أبي مروان قال: بعث معاوية بُسْر بن أبي أرطاة إلى المدينة ومكة واليمن يستعرض الناس، فيقتل من كان في طاعة علي - عليه السلام -، فأقام بالمدينة شهرًا، ليس يقال له في أحد: إن هذا ممَّن أعان على عثمان إلا قتَلَه، وقتل قومًا من بني كعب على ماء لهم فيما بين مكة والمدينة، وألقاهم في البئر، ومضى إلى اليمن، وقتل ابني عُبيد الله بن العباس: عبد الرحمن وقُثَمًا، وقتل عمرو بنَ أمِّ أراكَةَ الثَّقفي، وقتل أكثر من مئتين، قال: وعاش بُسْر إلى أيام عبد الملك بن مروان، إلا أن الواقدي قال فيما حكاه عنه ابن سعد أنَّه قتل هؤلاء كلهم بعد ما قُتل علي عليه السلام (¬3). ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر 167، وانظر الكامل لابن عدي 2/ 438، وميزان الاعتدال (1110). (¬2) في التبيين 491. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 539 و 9/ 412.

وقال هشام: أغار بُسر في طريقة على الأحياء؛ فقتل النساء، وذبح الأطفال في المهود، وفتك في الإسلام. وذكره أبو القاسم بن عساكر فقال: قال يحيى بن معين: كأن رجل سوع خبيثًا، لا تصح له صحبة (¬1). وقال الواقدي: أغار في هذه الخَرْجَة على نساء من همْدان مُسلمات، فكُنّ أوَّلَ نساءٍ سُبين في الإسلام. وقال ابن عبد البر: وهو الَّذي بارز أميرَ المؤمنين يومَ صفين، وضربه أمير المؤمنين على رأسه، فسقط وبدت عورثه، كما فَعل بعمرو بن العاص، فقال الحارث بن النَّضر السّهميّ: [من الطويل] أفي كلِّ يومٍ فارسٌ ليس يَنتهي ... وعورتُه تحت العَجاجَةِ بادِيَه فكفَّ لها عنه عليٌّ سِنانَه ... ويضحك منها في الخَلاء معاويَه فقولا لعمرٍو ثم بُسْرٍ ألا انظُرا ... سبيلَكما لا تَلقيا اللَيث ثانيه وكونا بعيدًا حيث لا تَبلغ القَنا ... نُحورَكما إن التَّجارب كافيّه (¬2) وقال الهيثم: لم يكن في بني عامر بن لؤي أخبث من بُسْر، ولا أسوأ منه، وكان على رجَّالة معاوية يوم صفّين، ووُلد قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، ما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سمع منه، وولد مروان بن الحكم معه في تلك السنة، وخرف بعد قَتْل الغُلامَين، وكان كلما التقى أحدًا يقول: أين شيخى عثمان، وعملوا له سيفًا من خشب فكان يسُلُّه، وله بمصر دار وحَمّام، ومات في أيام معاوية. وقال ابن سعد: مات في خلافة عبد الملك بن مروان (¬3). وقال أبو القاسم بن عساكر: كانت داره بدمشق عند درب الشَّعَّارين، وكانت له آثار غير محمودة (¬4)، وحكى عن واهب بن عبد الله المعَافِريّ قال: قدِمتُ المدينة، فأتيتُ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 301 (مخطوط). (¬2) الاستيعاب (204). (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 540 و 9/ 412. (¬4) نقله عنه المزي في تهذيبه (654)، وسقط من مخطوط التاريخ 3/ 294.

منزلَ زينب بنت فاطمة بنت علي بن أبي طالب لأُسَلّم عليها، وإذا بها جالسة مُسْفِرة، وعندها جماعة عظيمة، فقلت: سبحان الله، قَدرُك قدرُك، وأنت تنجلين (¬1) للناس مُسْفرة؟ ! فقالت: لي قصة: لما كان أيام الحَرَّة، ودخل أهل الشام المدينة، وفعلوا ما فعلوا، وكان لي ابنٌ قد ناهز الاحتلام، فلم أشعُرْ به إلا وقد دخل عليَّ يَسعي، وبُسْر بن أرطاة خلفه يسعى، فألقى الغلام نفسَه عليَّ، وبكي بكاء شديدًا فلق كَبِده، فقال بُسْر: ادفعيه إليَّ فأنا خيرٌ ادفعيه إلي فهو خيرٌ له، فدفعتُه إليه، فخرج والسيف بين ثياب بُسر، فقال للغلام: امشِ بين يديّ، فمشي بين يديه، فشهر السَّيف وضربه حتى بَرَد، وجاء إلي الصَّريخ، فخرجتُ حاسرةً، فألقيتُ نفسي على ابني، وآليت على نفسي منذ ذلك اليوم أن لا أستتر من أحدٍ، لأن بُسرًا أول من هتك ستري، وأخرجني للناس، والله حَسِيبُه. وقال الحافظ ابن عساكر: ما زال سُدَيْف الشاعر يَتَتَبّع أولاد بُسْر بن أرطاة حتَّى ذَبح له غُلامين بالساحل، عوض ابنى عبيد الله بن عباس (¬2)، وسنذكر سُدَيفًا في سنة خمس وأربعين ومئة، قتله أبو جعفر المنصور، وقتل بُسْر في مَسيره ذلك خَلْقًا من شيعة علي - عليه السلام -. وليس في الصحابة من اسمه بُسْر بن أبي أرطاة إن صحَّ له صُحبة غيره، فأما غير ابن أبي أرطاة فأربعة نفر، وقيل: خمسًا؛ أحدهم بُسْر بن جحاش القرشي، والثاني بُسْر بن راعي العير، وقيل: بُسْر بشين معجمة، والثالث بُسْر بن سفيان الكعْبيّ، والرابع بُسْر المازني أبو عبد الله، ويقال: بسر بن أبي بُسْر، والخامس بُسْر بن البراء (¬3). والسين في جميع هذه الأسامي مُهملة، وكلُّهم له رواية إلا صاحب هذه الترجمة، ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 3/ 300، وتهذيب الكمال: تجلسين. (¬2) تاريخ دمشق 7/ 71 (مخطوط). (¬3) كذا، وقد اتفاق مترجمو بشر بن البراء بن معرور على أنه بشين معجمة، انظر طبقات ابن سعد 3/ 528، والاستيعاب (171) / والتلقيح 167، (وعنه ينقل)، والسير 1/ 269، والاستبصار 143، والإصابة 1/ 247.

وقد ذكرنا الخلاف فيه. فأما بُسْر بن سفيان، وبُسْر بن أبي بُسْر فليس لهذين رواية. قلت: وقد أخرج أحمد في "المسند" (¬1) لبُسْر بن أرطاة حديثَين، فقال أحمد بإسناده عن جُنادة بن أبي أمية: أنَّه قال على المنبر برُوْدِس حين جلد الرَّجلَين اللذين سرقا غنائم الناس: إنه لا يمنعني من قَطعهما إلا أن بُسر بن أرطاة وَجَد رجلًا قد سرق من المَغْنَم، أو في الغزو، يُقال له: مِصْدَر، فجلده ولم يقطع يدَه، وقال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القَطْعِ في الغزو. وقال جدي رحمه الله: في إسناده ابنُ لَهِيعة، وابن لهيعة ذاهبُ الحديث (¬2). رجع الحديث إلى الأول، قال علماء السير: ولما بلغ أمير المؤمنين فعل بُسْر بالغلامين بكى بكاء شديدًا، وأرسل جارية بن قُدامة في ألفَين، ووهب بن مسعود في ألفين، فسار جارية بن قدامة حتَّى أتى نَجْران، فقتل بها جماعة من العُثمانية؛ ممّن ساعد بُسْرًا على الفساد، وهرب بُسْر وأصحابه، وجاريةُ خلقه، حتَّى أتى مكة والمدينة، وأبو هريرة يُصلّي بالناس في المدينة، فطلبه جارية فهرب منه، فقال: لو أدركتُ أبا سِنَّوْر لضربتُ عُنُقه. ثم سار نحو أطراف الشام، فلقي جماعة من أصحاب بُسْر، فجمعهم وأحرقهم، ثم عاد إلى الكوفة. ويقال: إن أمير المؤمنين استُشهد في غَيبة جارية؛ لأن أبا مخنف روى: أن جارية لما عاد من اليمن إلى مكة قال لأهلها: بايعوا، قالوا: لمن تُبايع، قد هلك أمير المؤمنين؟ قال: بايعوا للحسن، فبايعوهم وأهل المدينة. وفيها جرت مُهادنة بين أمير المؤمنين ومعاوية؛ بعد مكاتبات جرت بينهما على أن يكون لأمير المؤمنين العراق، ولمعاوية الشام، ولا يدخل أحدهما في عمل الآخر بجيش ولا غارة ولا غزو. ¬

_ (¬1) برقم (17626). (¬2) في التحقيق 2/ 333: ابن لهيعة وإسماعيل بن عياش ضعيفان.

قال ابن (¬1) إسحاق: ولما لم يُعْط أحد الفريقَين لصاحبه الطاعة كتب معاوية إلى أمير المؤمنين: أما إذا أبيت فلك العراق ولي الشام، وتكُفُّ السيفَ عن دماء هذه الأمة، فأجابه أمير المؤمنين لما رأى من أهل الكوفة من النفاق، وأنهم خذلوه، وتراضيا على ذلك، وأقام أمير المؤمنين بالعراق يجبيها، ويقسم أموالها في الناس، ومعاوية يجبي الشام وما حولها. وفيها خرج عبد الله بن عباس من البصرة ولحق بمكة، وروى هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: كان أبو الأسود الدّيليّ مقيمًا بالبصرة؛ يطالع عليًّا - عليه السلام - بما يبدو فيها من العمال، وعلم به عبد الله بن عباس. قال أبو مخْنَف وغيره: فمرّ ابن عباس يومًا على أبي الأسود فقال له: لو كنت من البهائم لكنت جملًا، ولو كنت راعيًا لما بلغت به المرعى، ولا أحسنتَ مهنته. فكتب أبو الأسود إلى علي - عليه السلام -: أما بعد، فإن الله جعلك واليًا مؤتمنًا، وراعيًا مُستوليًا، وقد بلوناك فوجدْناك عظيم الأمانة، ناصحًا للرَّعية، ترفدهم وتظلف (¬2) نفسَك عن دُنياهم، وإن ابن عمِّك هذا قد أكل ما تحت يديه بغير علمك، فلم يَسَعْني كتمانُك ذلك، فانظر يرحمك الله فيما هنالك والسلام. فكتب إليه علي: أما بعد، فإن مثلك من ينصح الإمام والأمة، فلا تَدَعْ إعلامي بما يكون مما فيه صلاح الأمة، فإنه واجب عليك والسلام. وكتب علي إلى ابن عباس في ذلك، فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فإن الَّذي بلَغَك باطل، وإني لما تحت يدي ضابط، وله حافظ، فلا تصدِّق الظنين، والسلام. فكتب إليه علي: أخبرني بالذي جَبيت من الخراج والجزية، وفي أيِّ شيء وضعتَه؟ فكتب إليه ابن عباس: ابعث إلى عملك مَن أحببتَ، فإني ظاعن والسلام. ثم دعا ابن عباس أخواله من بني هلال بن عامر، فجاءه الضحاك بن عُبيد الله (¬3)، ¬

_ (¬1) في الطبري 5/ 140: قال زياد بن عبد الله، عن أبي إسحاق. (¬2) في (خ) و (ع): وتلطف، والمثبت من الطبري 5/ 141، وتظلف: تكف وتمنع. (¬3) في الطبري 5/ 142، وأنساب الأشراف 2/ 126، والعقد الفريد 4/ 356: الضحاك بن عبد الله.

وعبد الله بن رزَين، وجماعة من قيس فأخذ ما كان في بيت المال. واختلفوا في مبلغه، فقال هشام: أربع مئة ألف درهم، وقيل: سبع مئة ألف، وقال البلاذري: ألف ألف درهم. وتبعتهم بكر والبطون إلى الطّفوف، فاقتتلوا وكثُرت الجراحات في الفريقين، ثم رأوا البقيا بعضهم على بعض فكفوا عنه، وأفلت ابن عباس في عشرين رجلا بالمال إلى مكة، وبلغ عليًّا - عليه السلام - فأرسل وراءه الخيل ففاتهم. وفي رواية: فكتب أمير المؤمنين إلى ابن عباس: أما بعد، فإني أشركتُك في أمانتي، ولم يكن أحدّ من أهل بيتي أوثق في نفسي منك؛ لمؤازرتي وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان لابن عمك قد حَرب، والعدوّ عليه قد كَلِب، وأمانة الناس قد خَرِبت، والأمة قد افتُتِنَتُ، قلبت لابن عمك ظَهرَ المِجَنّ؛ بمفارقته مع المفارقين، وخذلانه مع الخاذلين، واختطفتَ ما قَدرت عليه من مال الأمة؛ اختطافَ الذِّئب الإزل (¬1) فاردَةَ المِعزى، أما تُوقن بالمعاد، وتخاف ربَّ العباد، أو ما يَكبر عليك أنك تأكل الحرام، وتَنكِح الحرام، وتشتري الإماءَ بأموال الأرامل والأيتام، اردُد إلى المسلمين أموالهم، ووالله لئن لم تفعل لأعذرنّ الله فيك، فإن الحسن والحسين لو فعلا ذلك لم يكن لهما عندي هَوادة، والسلام. فكتب إليه ابن عباس: حقي في بيت المال أكثر مما أخذتُ. فكتب إليه علي: العجب كلّ العجب من تزيين نفسك لك! إنك أخذتَ أكثر مما تستحقه، وهل أنت إلا رجل من المسلمين ليست لك سابقة، وقد علمتَ سوابقَ أهل بدر، وما كانوا يأخذون غير ما فرض لهم، ويكفي أنك اتَّخذت مكة وطنًا، وضربت بها عَطَنًا، تشتري من مُوَلَّدات الطائف ومكة ما تقع عليه عينُك، وتميل إليه نفسُك، وتبذل فيهن مال غيرك، فكأنْ قد بلغت المَدَى، وعُرض عليك عَمَلُك غدًا بالمحلِّ الأعلى الَّذي يَتَمَنَّى (¬2) المُضيع للتوبة الخلاص، ولات حين مَنَاص. ¬

_ (¬1) الشديد الداهية. (¬2) في (خ) و (ع): ينهي؟ ! والمثبت من أنساب الأشراف 2/ 129، والعقد 4/ 359.

فكتب إليه ابن عباس: لأن ألقى الله بكلِّ ما على ظهر الأرض، وبما في بطنها؛ أحبّ إلي أن ألقاه بدمِ مُسلم. فكتب إليه أمير المؤمنين: إن الدِّماء التي أشرت إليها قد خُضْتَها إلى ساقيك، وبذلت في إراقتها جُهدك، ووضعت بإباحتها حظَّك، والسلام. وقال البلاذري (¬1): ابتاع ابن عباس لما قدم مكة من جُبير مولى بني كعب الخزاعي ثلاث مُوَلِّدات: حوراء، وفُتون، وشادن بثلاث آلاف دينار. قلت: كذا ذكر أرباب السير هذه الواقعة والمكاتبات بين أمير المؤمنين وابن عباس، والظن بابن عباس خلاف ذلك، فإنه كان يُعظّم أمير المؤمنين تعظيمًا لم يُعظّمه غيره، ويري في حقّه ما لم يره سواه، وكأن أمير المؤمنين يعترف بفضل ابن عباس، ويُعدّه للمهام، ويستشيره في أموره كلها، وولّاه البصرة، وولّى إخوته أعظم الولايات، وأفخر الأماكن، ويحتمل أن ابن عباس أخذ من بيت المال ما يَستحقّه في مدة طويلة، فحرف عليه أهل الضغائن والأحقاد ما ذكروه، وشنّعوا بما أثبتوه. وقد قال قوم: إن ابن عباس ما زال بالبصرة حتَّى استشهد أمير المؤمنين، فقال أبو زيد: زعم أبو عبيدة - ولم أسمعه منه - أن ابن عباس لم يزل بالبصرة حتَّى قُتل علي عليه السلام، فشخص إلى الحسن بن علي، فشهد الصلح بينه وبين معاوية، ثم رجع إلى البصرة، فحمل ثَقَلَه ومالًا من بيت المال، وقال: هي أرزاقي. قال أبو زيد: فذكرت ذلك لأبي الحسن فأنكره، وزعم أن عليًّا - عليه السلام - قُتل وابن عباس بمكة، وأن الَّذي شَهد الصُّلح بين الحسن ومعاوية عُبيد الله بن عباس. قلت: وهذا هو الصحيح، وقد نصّ عليه المدائني وغيرُه: أن ابن عباس كان بمكة لما قتل أمير المؤمنين. وفيها استُشهد أمير المؤمنين، حدثنا عبد العزيز بن محمود البزاز بإسناده، عن زهير بن الأرقم قال: خطبنا علي - عليه السلام - يوم الجمعة فقال: نُبِّئت أن بسرًا -يعني بن أبي أرطاة- قد طلع اليمن، وإني والله لأحسب أنَّه سيظهر هؤلاء القوم عليكم، وما ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 2/ 128.

الأشعث بن قيس الكندي

يظهرون عليكم بكثرتهم، بل بعصيانكم إمامكم وطاعتهم، وخيانتكم وآمانتهم، وإفسادكم في الأرض وإصلاحهم، قد بعثتُ فلانًا فخان وغدر، وبعثت فلانًا فخان وغدر، وحمل المال إلى معاوية، حتى لو ائتمَنْتُ أحدَكم على قدح لأخذ علاقته، اللهمَّ إني قد سَئمتُهم وسئموني، وكرهتُهم وكرهوني، اللهمَّ فأرِحْني منهم وأرِحْهم مني، فما صلى الجمعة الأخرى حتى قُتل (¬1). قلت: وهذا يدل على أنه استُشهد قبل رجوع جارية بن قُدامة من اليمن، وسنذكر سيرة أمير المؤمنين في ترجمته في حرف العين. وحج بالناس في هذه السنة المغيرة بن شعبة بكتابٍ افتعله على لسان معاوية، لأنه بلغه أن معاوية بعث أخاه عُتبة بن أبي سفيان على الموسم، فعجل المغيرة فوقف بالناس، ونحر قبل وصول عُتبة، وكان عامل أمير المؤمنين في هذه السنة على مكة والطائف قُتَم بن العباس، وعلى المدينة أبو أيوب الأنصاري، حتى قدم المدينة بُسْر بن أرطاة، وكان عامله على البصرة عبد الله بن عباس إلى أن قدم مكة، وعلى فارس زياد ابن أبيه. وفيها توفي الأشعث بن قيس الكندي ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة ممن أسلم من قبائل العرب، ورجع إلى بلاد قومه، فقال: الأشعث بن قيس، وهو الأشَجُّ بن معدي كَرِب بن معاوية بن جَبَلة بن عَدِيّ بن ربيعة بن مُعاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثَوْر بن مُرْتِع ابن كندة، وهو ثور بن عُفَير بن عَديّ بن الحارث بن مُرَّة بن أُدَد بن زيد بن يَشْجُب بن عريب بن كَهْلان بن سَبَأ بن يَشْجّب بن يَعْرُب بن قحطان، قال: وإنما سُمِّي كِندة لأنه كَنَد أباه النّعمة، أي: كَفَره. وأمُّ الأشعث كَبْشَة بنت يزيد [بن شُرحبيل بن يزيد] بن امرئ القيس بن عمرو بن حُجْر آكِل المُرار، وكُنية الأشعث أبو محمد. ¬

_ (¬1) المنتظم 5/ 163.

وقال ابن سعد: كان اسم الأشعث مَعْدِي كرب، وكان أبدًا أشعثَ الرَّأس؛ فسُمّي الأشعث (¬1). وقال الجوهري: والأشعث اسمُ رجلٍ، ومنه الأَشاعِثة (¬2). وقال الهيثم: قتلت مُراد أباه قيسًا، فخرج يطلب ثأره فأُسر، ففَدى نفسَه بثلاثة آلاف بعير (¬3). وقد ذكرنا أنه وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة العاشرة من الهجرة في وَفْد كِندة، فأسلم وأسلموا، وأجازهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعَشْر أواقٍ، وأعطى الأشعث اثتني عشرة أُوقية، ورجع إلى بلاده، فلما توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتَدَّ، وقد أشرنا إلى رِدَّته في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - ونذكر هاهنا طرفًا منها: قال ابن سعد بإسناده عن زُرعة بن عبد الله بن زياد بن لَبيد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استعمل زياد بن لبيد على صدقات حضرموت - الثمار والخُفّ والماشية والكراع والعُشور - وكتب له كتابًا، فكان لا يَعدو إلى غيره، ولا يُقصّر دونه، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستُخلف أبو بكر؛ كتب إلى زياد يُقِرُّه على عمله، ويأمره أن يُبايعَ مَن قِبله، ومَن أبي وطئه بالسيف، ويستعين بمَن أَقْبَلَ على من أَدْبَر، وبعث بكتابه إليه مع أبي هِندٍ البَياضي. فنعى زياد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس، وأخذَهم بالبيعة لأبي بكر وبالصَّدقة، فامتنع قومٌ من الصَّدقة ومن إعطائها، وقال الأشعث بن قيس: [إذا اجتمع الناس] فما أنا إلا كأحدهم، ونكص عن البيعة، فقال له امرؤ القيس بن عابِس الكِنديّ: أنشدك الله يا أشعث، ووفادتَك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإسلامك أن تَنقُضَه اليوم، والله ليقومن بهذا الأمر من بعده من يقاتل مَن خالفه، فإيّاك إياك، وأَبْقِ على نفسك، فإنك إنْ تقدَّمت تقدَّم الناسُ معك، وإن تأخَّرت افترقوا واختلفوا. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 230. (¬2) الصحاح (شعث 1/ 285). (¬3) المعارف 333.

فأبى الأشعث وقال: قد رجعت العرب إلى أديانها، وما كانت تعبد [الآباء]، ونحن أقصى العرب دارًا من أبي بكر، أيَبعث أبو بكر إلينا الجيوش؟ فقال امرؤ القيس: إي والله، وأُخرى: لا يَدَعُك عاملُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترجع إلى الكفر، فقال الأشعث: مَن [قال: ] زياد بن لَبيد (¬1)، فتضاحك الأشعث وقال: أما يَرضى زياد أن أُجيرَه؟ فقال امرؤ القيس: سترى. ثم قام الأشعث فخرج من المسجد إلى منزله، وقد أظهر من الكلام القبيح ما أظهر، من غير أن يَنطق بالردّة، ووقف يَتربَّص إلى آخر الناس. قال: وبايع لأبي بكر بعد الظهر، وصلّى بالناس العصر، ثم غدا على الصدقة -وهو أقوى نَفْسًا، وأشَدّ لسانًا مما كان- فمنعه حارثة بن سُراقة الكِنديّ أن يُصدّق غلامًا منهم، وقام فحلّ عِقال البكرة التي أُخذت في الصدقة، وجعل يقول: [من الرجز] يمَنعُها شيخ بخَدَّيه الشَّيبْ مُلَمَّعٌ كما يُلَمَّعُ الثَّوبْ ماضٍ على الرَّيب [إذا كان الرَّيبْ] فنهض زياد، وصاح في أصحابه المسلمين، ودعاهم إلى النُّصرة لله وكتابه، فانحازت طائفة من المسلمين إلى زياد، وجعل من ارتدَّ يَنْحاز إلى حارثة، فاقتتلوا أيامًا كثيرة. وضوى إلى الأشعث بن قيس بَشَر كثير، فتحصَّن بمن معه في حِصن يقال له: النُّجَير، فحاصرهم زياد بن لبيد، وقذف الله في قلوبهم الرُّعب، فقال الأشعث: إلى متى نقيم في هذا الحصن؟ قد غَرِثْنا (¬2) فيه وغَرِثَ عيالُنا، وهذه البعوث تَقدم عليكم ما لا قِبَل لكم به، والله لَلموت بالسَّيف أحسنُ من الموت بالجوع، ويؤخذ برَقَبة الرجل، فما يُفعَل بالمرأة؟ ثم نزل وأخذ الأمان، وبعث به زياد إلى أبي بكر في وَثاق، وقد ذكرنا القصّة في ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): ربيعة، والمثبت من طبقات ابن سعد 6/ 232 وما بين معكوفات منه. (¬2) الغَرَثُ: الجوع.

الردّة، وأن أبا بكر زوَّجَه أختَه أمَّ فَروَة. وقال الواقدي: أقام الأشعث بالمدينة إلى أيام عمر بن الخطاب، وشهد اليرموك على كُردوس أميرًا، وأُصيبت عينه يومئذٍ، ثم عاد إلى المدينة، وخرج إلى العراق مع سعد بن أبي وقاص، فشهد القادسية والمدائن وجَلُولاء ونَهاوَند، واختطّ بالكوفة، وبنى بها دارًا في كِندة ونزلها، وولّاه عثمان أرْمِينية، وقيل: أَذَرْبيجان، وشهد صفّين مع أمير المؤمنين والحكومة، وكان أحدَ شهود الكتاب الذي كتب بين يدي أمير المؤمنين والحكومة ومعاوية. وقال ابن سعد بإسناده عن أبي الصَّلْت سُليم الحَضْرَميّ قال: شهدتُ صفين، ورأيت الأشعث بن قيس الكندي، وإذا هو رجلٌ أصلع، ليس له في رأسه إلا شُعيرات، وهو يقول: أين معاوية؟ فقيل: هو ذا، فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد، هبوا أنكم قد قَتلتُم أهل العراق، فمَن للثُّغور والذَّراري؟ فإن الله يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا} الآية [الحجرات: 9] فلم يَلبَثُوا بعد ذلك إلا قليلًا حتى كان الصُّلح بينهم، وانصرف معاوية بأهل الشام إلى الشام، وأمير المؤمنين بأهل العراق إلى العراق. وقال ابن سعد: ولما أراد علي - عليه السلام - أن يُحَكِّم عبد الله بن عباس مع عمرو بن العاص، أبي الأشعث ذلك وقال: والله لا يَحكم مُضَرِيَّين أبدًا حتى يكون فيه يماني، فحكّموا أبا موسى (¬1). وكان الأشعث يقول: كَفَّرتُ عن يميني بالله بخمسة عشر ألفًا. قال ابن سعد بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن رجاء الزُّبَيديّ قال: سمعت الشّيباني يذكر، عن قيس بن محمد بن الأشعث: أن الأشعث كان عاملًا على أذربيجان، استعمله عثمان، وأنه أتاه رجل من قومه فأعطاه ألفين، فشكاه، فلما قدم الأشعث أرسل إليه فقال: إنما استَودعتُك المال، فقال الرجل: إنما أعطيتنيه صِلةً، فحَمي الأشعث فحلف، فكفّر عن يمينه بخمسة عشر ألفًا (¬2). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 236. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 236 - 237.

وفي رواية عن الأشعث أنه قال: اشتريتُ يميني مرَّةً بسبعين ألفًا. وبسببه نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]. قال أحمد بن حنبل بإسناده عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن حَلَف على يمين هو فيها فاجِرٌ ليَقتطِع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان" فقال الأشعث: فيَّ والله [كان] ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ، فجّحدني، فقدّمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: "ألك بَيِّنة؟ " قلت: لا، فقال لليهودي: "حلف"، قال: قلت يا رسول الله، إذن يَحلف، ويذهب مالي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية. أخرجاه في الصحيحين (¬1). وليس للأشعث في الصحيحين غيره. وأخرج أحمد في "المسند" عن الأشعث، أن الخصومة كانت بين الأشعث وابن عمٍّ له في بئر كانت في يد ابن عمه، فجَحده إيّاها (¬2). وحكى ابن سعد: أن أول مَن مَشَت الرِّجال معه وهو راكب الأشعث (¬3). وقال قيس بن أبي حازم: شهدتُ جنازةً فيها الأشعث وجرير بن عبد الله، فقال له جرير: تقدّم، فقال: لا بل أنت أولى، لأني ارتددت عن الإسلام، وأنت يا جرير لم ترتد (¬4). قال هشام: وكان الأشعث داهيةً من دواهي العرب. قال الخطيب أبو بكر بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس (¬5) قال: خطب أمير المؤمنين علي - عليه السلام - أم عمران بنت سعيد بن قيس الهَمْداني على ابنه الحسن بن علي، فقال سعيد: حتى أستأذن أمَّها، فقال: قم فوامرها، فخرج من عنده، فلقيه الأشعث بن قيس بالباب، فأخبره الخبر فقال: ما تريد من الحسن؟ يفخر عليها ويقول: ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3597) و (21837)، وصحيح البخاري (2416)، وصحيح مسلم (138). (¬2) مسند أحمد (21848). (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 237. (¬4) تهذيب الكمال (524)، والسير 2/ 40، والإصابة 1/ 80. (¬5) أخرجه ابن عساكر 3/ 45 من طريق الهيثم بن عدي، عن عبد الله بن عياش، وذكره المزي في تهذيبه.

جدّي رسول الله، وأمي فاطمة، وأنا ابن أمير المؤمنين، لكن هل لك في ابن عمها؟ قال: ومن هو؟ قال: محمد بن الأشعث، قال: نعم قد زوّجتُه إياها. ثم دخل الأشعث على أمير المؤمنين فقال له: خطبت ابنة سعيد على الحسن؟ قال: نعم، وذكر أنه خرج ليَستأمرَ أمَّها، فقال: ليس إلى ذلك سبيل، قال: ولم؟ قال قد زوَّجها محمد بن الأشعث، قال: متى؟ قال: الساعة، ولكن هل لك في أشرف منها بيتًا، وأكرم حَسَبًا، وأتمّ جمالًا، وأكثر مالًا؟ قال: ومَن هي؟ قال: جَعْدَة بنت الأشعث، قال: نعم، فزوَّجها الحسن. وعلم سعيد، فلقي الأشعث فقال: خدعتَني يا أعور، فقال: يا أحمق، أتستَشيرُني في ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! . ثم جاء الأشعث إلى الحسن فقال له: يا أبا محمد، ألا تزور أهلَك؟ فقال: بلى، فقال: والله لا تمشي إلا على أردِيَةِ قومي، فقامت له كندَةُ سِمَاطين، ومشى على أرديتها من القصر إلى باب الأشعث. وهذه جَعْدة بنت الأشعث هي التي سَمَّت الحسن فقتلَتْه، لما نذكر في ترجمة الحسن. وقد حكينا عن ابن سعد أنه قال: أول مَن مشى بين يديه الناس وهو راكب الأشعث. وقال الواقدي: وهو أول من حَمل بين يديه الرجال الأعمدة، وهو أوَّل مَن دُفِن في منزله (¬1). ذكر وفاته: قال الخطيب (¬2): الأشعث يُعَدّ فيمن نزل من الصحابة الكوفة، وكان على راية كِندة يومَ صفّين مع أمير المؤمنين، وحضر قتال الخوارج بالنَّهروان، وورد المدائن، وعاد إلى الكوفة، فأقام بها حتى مات في الوقت الذي صالح فيه معاوية الحسن، في سنة أربعين، وقيل: في سنة إحدى وأربعين. وقال هشام: مات في سنة اثنتين وأربعين، وهو وهم. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر 3/ 47 (مخطوط) عن الأصمعي. (¬2) في تاريخ بغداد 1/ 196 - 197.

قال ابن سعد بإسناده عن حكيم بن جابر قال: لما مات الأشعث بن قيس - وكانت ابنتُه تحت الحسن بن علي - قال الحسن إذا غَسّلتموه فلا تَهيجوه حتى تُؤذنوني، فآذنوه، فجاء فوضَّأه بالحَنوط، وصلّى عليه (¬1). وتوفى الأشعث وهو ابن ثلاث وستين سنة (¬2). ذكر أولاده: قال ابن سعد: كأن له من الولد: النُّعمان، ومحمد، وإسحاق، وإسماعيل، وحَبَّانة، وقُرَيبة، وقيس، وجَعْدة. فأما النعمان بن الأشعث فإن الأشعث بُشِّر به وهو عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله، لَجَفْنَةٌ من ثَرِيد أُطعِمُها في قومي؛ أحبُّ إلى منه، فهلك صغيرًا. وأمُّ النعمان أُميَّة بنت جَمْد بن مَعْدِي كَرِب، من بني الحارث الأكبر، ثم خلف على أمية بعد الأشعث حُجْر بن عَدِيّ الأَدْبَر. وأما محمد بن الأشعث وإسحاق وإسماعيل وحَبَّانة وقُرَيبة؛ فأُمُّهم أمّ فَرْوَة بنت أبي قحافة، أخت أبي بكر - رضي الله عنه -. وأما قيس بن الأشعث؛ فقال ابن سعد: هو الذي أخذ قطيفة الحسين بن علي يوم قُتِل، فكان يُقال له: قيس القَطيفَة، وأمُّه مُلَيكَة بنت زُرارة بن قيس، نَخَعِيّة، تزوَّجها الأشعث على حكمها. قال: ووَلَدُ محمد بن الأشعث بالكوفة أكثر من ثلاثين وَلَدًا، والنَّسْلُ لمحمد وإسماعيل وإسحاق. ووَلَدُه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث هو الخارج على الحَجَّاج (¬3). ذكر إخوة الأشعث: قال ابن سعد: سيف بن قيس، وأمُّه الشَّحَّاء، قَينةٌ من حَضْرَمَوت، وفد مع الأشعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُؤذّن لهم، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 237. (¬2) انظر الاستيعاب (135)، والمنتظم 5/ 167. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 230 - 231.

بشير بن عبد المنذر بن رفاعة

فلم يزل يُؤذّن لهم حتى مات. وأخواهما إبراهيم بن قيس، وَفَد أيضًا مع الأشعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). أسند الأشعث الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فروى عنه تسعة أحاديث، أخرج له في الصحيحين حديثًا واحدًا، وهو مُشترَك بينه وبين ابن مسعود (¬2)، وقد ذكرناه. وأخرج له أحمد في "المسند" ثلاثة أحاديث، منها حديث اليمين، وقال أحمد بإسناده عن زياد بن كُلَيب، عن الأشعث بن قيس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَشكُرُ اللهَ مَن لا يَشْكُرُ الناس"، وفي رواية "إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس" (¬3). وروى عن الأشعث: قيس بن أبي حازم، والشّعبي، وأبو وائل شَقيق بن سَلَمة، وإبراهيم النَّخَعي، في آخرين. وليس في الصحابة من اسمه الأشعث بن قيس غيره، فأما في غير الصحابة فاثنان: أحدهما الأشعث بن قيس الجابريّ، روى عن علي بن صالح بن حَيّ، والثاني: الأشعث بن قيس الهَمْدانيَ، كوفي، روى عن مِسْعَر بن كدام (¬4). انتهت سيرة الأشعث. وفيها توفي بشير بن عبد المنذر بن رِفاعة وكنيته أبو لُبابَة، وأمُّه نَسيبة بنت زيد بن ضُبَيعة. وأبو لُبابة هو الذي ردَّه رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من بعض طريق بدر إلى المدينة، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار. قال ابن سعد: ردَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرَّوْحاء، حين خرج إلى بدر، وضرب له بسَهْمه وأجره، واستعمله على المدينة، وهو الذي ارتبط نفسه بساريةٍ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في قضيَّة بني قُرَيظة (¬5)، وقد ذكرناه فيما تقدَّم. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 237. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر 370 و 388. (¬3) مسند أحمد (21838) و (21846). (¬4) تلقيح فهوم أهل الأثر 605. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 423، وانظر الاستيعاب (188) و (3123)، والمنتظم 5/ 168، والاستبصار =

تميم بن أوس

وفيها توفي تميم بن أوس ابن خارجة بن سويد بن جَذيمة بن ذِراع بن عدي بن الدَّار بن هانئ بن حبيب بن نُمارة بن لَخْم. وقال ابن ناصر: نُمارة؛ براء مهملة، هو المعروف عند أهل النسب، وهو الصواب. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة ممن أسلم من القبائل، وقد ذكرناه في السيرة، ولم يذكر ابن سعد تاريخ وفاته، وقد ذكرها جدي رحمه الله وقال: مات في سنة أربعين، فينظر هناك (¬1). وفيها مات الحجاج بن عبد الله الصَّريمي بفتح الصاد، من الخوارج، ولَقَبه البُرَك، وهو الذي وَثب على معاوية، وهو أحد الثلاثة الذين تحالفوا على قتل أمير المؤمنين ومعاوية وابن العاص، وسنذكره في آخر ترجمة أمير المؤمنين. وفيها توفي الحارث بن خَزْمة بزاي معجمة ساكنة، ابن عديّ بن أبي غَنْم بن سالم بن عَون بن عمرو بن عوف بن الخزرج. قال ابن سعد: وهو من القَواقِلة حليف لبني عبد الأشهل، وداره فيهم، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وكنيته أبو بشير، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين إياس بن أبي البُكَير، شهد الحارث بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروي عنه ¬

_ = 276، والإصابة 4/ 168. (¬1) انظر طبقات ابن سعد 6/ 254، والاستيعاب (238)، والمنتظم 5/ 168 - 169، وتلقيح فهوم أهل الأثر 157، وتاريخ دمشق 3/ 526 (مخطوط)، والسير 2/ 442.

خارجة بن خذافة

الحديث، وتوفى بالمدينة سنة أربعين وهو ابن سبع وستين سنة، وليس في الصحابة من اسمه الحارث بن خَزمة سواه (¬1). وفيها توفي خارجة بن خُذافة ابن غانم بن عامر بن عبد الله بن عُبيد بن عَوِيج بن عديّ بن كعب العَدويّ، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من المهاجرين، وأمّه فاطمة بنت عمرو بن بُجرة، من بني عدي بن كعب. رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصَحِبه، وروى عنه، ووَلي القضاء بمصر والشّرطة لعمرو بن العاص، وهو الذي قتله الخارجيّ بمصر في هذه السنة، وقد خرج يصلّي بالناس صلاةَ الفجر نيابة عن عمرو بن العاص، وكأن الخارجي يظُنّه عمرًا، وسنذكره. وكان له من الولد: عبد الرحمن، وأبان، وأمهما امرأة من كِنْدَة، وعَوْن وعبد الله لأمّ ولد. فقيل للخارجي: ما هذا؟ فقال: أردْتُ عمرًا، وأراد الله خارجة، فذهبت مثلًا (¬2). وليس في الصحابةَ مَن اسمه خارجة بن حُذَافَة غيره (¬3). وأخرج له أحمد في "المسند" حديثًا واحدًا، وهو حديث الوتر، فقال أحمد بإسناده عن عبد الله بن أبي مُرَّة، عن خارجة بن حُذافة العَدَويّ قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداةٍ، فقال: "لقد أمَدَّكم الله بصلاةٍ هي خيرٌ لكم من حُمر النَّعَم" قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الوتر، فيما بين صلاة العشاء إلى طُلوع الفجر" (¬4). قلت: روى أحمد هذا الحديث ولم يضعِّفه، وذكره جدِّي في مَوضعين، وضعَّفه في ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 411، والاستيعاب (425)، والمنتظم 5/ 169، والتلقيح 176، والاستبصار 191، والإصابة 1/ 277. (¬2) كذا وردت هذه العبارة هنا، وموضعها قبل سطرين. (¬3) انظر طبقات ابن سعد 4/ 176، والاستيعاب (648)، والمنتظم 5/ 169، والتلقيح 185، والتببين 442، والإصابة 1/ 399. (¬4) مسند أحمد (24009/ 8).

خوات بن جبير

كتاب "التحقيق" وفي كتاب "الواهية" (¬1)، فقال في "التَّحقيق": الوتر سُنَّة، وقال أبو حنيفة: الوتر واجب، واحتجّ لمذهبه بأخبارٍ، منها: ما أخرجه أحمد بإسناده عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة، عن علي قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أهل القرآن أوتروا؛ فإن الله يُحبُّ الوتر" (¬2). واحتجّ لأبي حنيفة بأخبار، منها: حديث [خارجة بن حُذافَة، وذكره بالإسناد الذي ذكرناه، ثم قال: في إسناده ابن إسحاق، وقد كذّبه مالك، وفيه عبد الله بن راشد، وقد ضعّفه الدارقطني، وقال البخاري: لا يُعرف عبد الله بن راشد إلا بحديث الوتر، وليس له سماع من ابن أبي مُرَّة، وذكره في "الواهية" بمعناه (¬3). قلت: أما حديث علي - عليه السلام - وقوله - صلى الله عليه وسلم - "يا أهل القرآن أوتروا" فحجَّةٌ لأبي حنيفة؛ لأن الأمر للوجوب، وخصوصًا إذا كان مَحبوبَ الحقّ. وأما قوله: ابن إسحاق كذَّبه مالك، فقد وثَّقه أحمد بن حنبل وغيره، ومن أين لهم رواية المغازي والسير إلا عن ابن إسحاق، ومن شرف ابن إسحاق وفضله أن أبا بكر الخطيب بدأ في "تاريخه" باسمه، وقدّمه على مَن اسمُه أحمد (¬4). وسنذكر ما يتعلّق بهذا في ترجمة ابن إسحاق، وقد أشرنا إليه في حديث معاذ وقوله: وأجتهد رأيي. وفيها توفي خَوَّات بن جُبَير ابن مُطْعِم بن النعمان (¬5) بن أُميَّة بن البُرَك، وهو امرؤ القيس بن ثعلبة بن عمرو بن عوف. ¬

_ (¬1) التحقيق 1/ 453 (655)، والعلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1/ 449 (769). (¬2) مسند أحمد (877)، والتحقيق 1/ 451 (641). (¬3) التحقيق 1/ 454، والعلل 1/ 449. (¬4) انظر تاريخ بغداد 1/ 214، وتهذيب الكمال (5646)، وميزان الاعتدال (6802). (¬5) كذا في (خ) و (ع)، وأجمع مترجموه أنه خوات بن جبير بن النعمان، دون زيادة: ابن مطعم، انظر طبقات ابن سعد 3/ 442، والمعارف 327، والاستيعاب (682)، والمنتظم 5/ 169، والتلقيح 187، والاستبصار 323، وتهذيب الكمال (1734)، والسير 2/ 329 (وانظر حواشيهما)، والإصابة 1/ 457.

وهو من الطبقة الأولى من الأنصار بني الخَزْرَج، وأمُّه أم عبد الله من بني غَطَفان (¬1). وهو أخو عبد الله بن جُبَير أمير الرُّماة يوم أحد، وقد ذكرناه هناك. وكنية خَوَّات أبو صالح في قول الواقدي، وقيل: أبو عبد الله. وذكر ابن سعد أن خَوَّات بن جُبَير خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فلما كان بالرَّوْحاء أصابه حَجَرٌ فكُسِر، فردَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وضرب له بسَهْمِه وأجرِه، فكان كمن شهدها، وشهد خَوات أحدًا والخندق والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وكان رَبْعَةً من الرجال، يخضب بالحِنَّاء والكَتَم. قال ابن سعد: وهو صاحبُ ذاتِ النِّحْيَين في الجاهلية، ثم أسلم وحَسُنَ إسلامُه (¬2). وقد أشرنا إلى طرفٍ من حديث ذاتِ النِّخْبَين في صدر الكتاب في باب الأمثال، فنذكره هاهنا أتمّ من ذلك: حدثنا غيرُ واحد عن أبي الفضل بن ناصر بإسناده، عن عفيف بن سالم الموصليّ، عن عثمان بن واقد قال: قال خُوَّاتُ بن جُبَير: أنا كنتُ صاحبَ ذاتِ النِّحْيَين في الجاهلية - والنِّحْيُ: الزِّقُّ الصَّغير - قال: أتيتُ سوقَ عكاظ، فإذا أنا بجاريةٍ معها نِحْيان من سمن، وكأنها فَلْقَة قَمَر، فقلت لها: من أنت؟ قالت: سلمى بنت يَعار الخَثْعَمِيَّة، فقلت: لعل سمنك هذا مشوبًا؟ قالت: وهل تشوب الحُرَّة؟ فقلت لها: انزلي إلى بطن الوادي حتى أذوقَ سَمُنَك، فنزلت، فأخذتُ إحدى النِّحيَين فذُقْتُه، فقلت لها: ما هذا بمَشوب، ثم ناولتُها إياه في يدها مفتوحًا، ثم أخذتُ الآخر فذُقتُه وقلت: أمسكيه، ودفعتُه في يدها مفتوحًا، ثم شَددتُ عليها فقضيتُ منها حاجتي، وكرِهتْ أن تُرسله لأنه كان قُوتَ أهلها، فذهبت مثلًا: أشْغَلُ من ذاتِ النِّحْيَين (¬3). ثم أسلمتُ وهاجرتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينما أنا في بعض طرق المدينة؛ إذا ببَغيِّ كانت لي خِلًّا في الجاهلية، فحَجُبني عنها إسلامي، ودَعَتُني نفسي إليها، فلم أزل ¬

_ (¬1) كذا، والذي في طبقات ابن سعد: وأمّه من بني عبد الله بن غطفان. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 442 - 443. (¬3) انظر الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة (667).

ألتفتُ إليها حتى تلقاني جدارُ بني خُدْرَة، فهشم وجهي، وسال الدم، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا على تلك الحالة، فقال: "مَهُيَم؟ "، فأخبرتُه فقال: "لا تَعُدْ، فإن الله إذا أراد بعبدٍ خيرًا عَجَّلَ له عُقوبتَه في الدنيا". قال: ثم مرَّ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ليالٍ وأنا جالس مع شَوابّ من شَوابّ أهل المدينة، يُناشِدْنَني ويُضاحِكُنَني ويُمازِحْنَني، فمضى ولم يقل شيئًا، فلما أن كان من الغد غَدوتُ عليه فقال: "يا خَوَّات، أما آن لذلك البعير أن يَرجعَ عن شُروده؟ " قال: قلت: والله يا رسول الله ما شَرد منذ أسلم، قال: "صدقت، ولكن لا تَعُدْ إلى ذلك المجلس؛ فإنه مَجلسُ الشيطان". ومعنى الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لامه على مُجالسة النِّساء. وأنبأنا غير واحد عن إسماعيل بن أحمد بإسناده عن وهب بن جرير، عن أبيه قال: سمعتُ زيد بن أسلم يحدِّث: أن خَوَّات بنَ جُبَير قال: خرجتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مَرَّ الظَّهران، فخرجتُ من خِبائي، فإذا نِسوةٌ يتحدَّثْن فأعحَبْنَني، فأخرجتُ حُلَّةً لي من عَيبتي فلبستُها، ثم جلستُ إليهنّ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قُبَّته فقال: "أبا عبد الله، ما يُجِلسُك إليهن؟ " قال: فهِبتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: يا رسول الله، جَملٌ لي شَرُود أبتغي له قَيدًا. قال: فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخل الأراك فقضى حاجتَه، وخرج فتوضّأ ثم قال: "أبا عبد الله، ما فعل شِراد جَملك؟ " قال: فتعجَّلْتُ إلى المدينة، واجتنبتُ دخولَ المسجد ومُجالسةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما طال ذلك عليَّ تحيَّنْتُ ساعة خلوة المسجد، فجعلتُ أصلّي، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعض حُجَر نِسائه، فصلّى ركعتَين خفيفتين، ثم جلس، وطَوَّلْتُ رجاءَ أن يَذهبَ ويَدَعني، فقال: "طَوِّل أبا عبد الله ما شئتَ، فلستُ ببارحٍ حتى تَنصرف"، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: "أبا عبد الله ما فعل شِرادُ جَملك، أو ما فَعل شِرادُك؟ " فقلت: والذي بعثك بالحق ما شَرَد ذلك الجمل منذ أسلمتُ، فقال: "رحمك الله" مَرّتين أو ثلاثًا، ثم أمسك عنّي فلم يَعُدْ (¬1). ¬

_ (¬1) نقل المصنف القصتين عن المنتظم 5/ 170 - 172.

دحية بن خليفة

ذكر وفاته: حكى ابن سعد عن الواقدي قال: مات خَوَّات بالمدينة سنة أربعين وهو ابن أربعٍ وسبعين سنة. ذكر أولاده: كان له من الولد: صالح، وحَبيب قُتل يوم الحرَّة، وأمُّهما من بني ثعلبة بن فُقَيم. وسالم، وأمّ سالم، وأمّ القاسم، وأمهم عُميرة بنت حَنْظلة بن حبيب، قُضاعيّة، وكان [حنظلة بن] حبيب بن خَوَّات حليف بني ثعلبة بن عمرو بن عوف. وداود، وعبد الله، وبعبد الله كأن خَوّات يُكنى، وقيل: بصالح (¬1)، وقد ذكرناه. وليس في الصحابة مَن اسمه خُوّات غيره. وقد روى الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرنا مَسانيدَه. وفيها توفي دِحْيَة بن خَليفة ابن فرَوة بن فَضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخَزْرج، وهو زيد مَناة بن عامر بن بكر بن عامر الأكبر بن عوف بن عُذْرة بن زيد اللات بن رُفَيدة بن ثور بن كلب بن وَبرة بن تَغلب بن حُلوان بن عمران بن الحاف بن قُضاعة. واختلفوا فيه، فعامّة المحدِّثين وأهل اللغة على أنه دِحية بكسر الدال، قال الجوهري: دِحية بالكسر هو دِحية بن خَليفة الكلبي، الذي كان يأتي جبريل - عليه السلام - في صورته، وكان من أجمل الناس. قال: فأما دَحْيَة بالفتح، ودَحْوَة بالواو؛ فهما ابنا معاوية بن بكر بن هَوازِن (¬2). وكأن دِحية من الطبقة الأولى من الصحابة، أسلم قديمًا، ولم يشهد بدرًا، وشهد ما بعدها من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان جبريل يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورته، لأنه كان جميل الزّيّ حسنًا. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 2/ 442. (¬2) الصحاح (دحا 6/ 2334 - 2335).

قال ابن سعد بإسناده عن ابن شهاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشبَهُ من رأيتُ بجبريل دِحية الكلبي" (¬1). وقيل إنما شَبَّهه بجبريل لأنه كان يدخل على الملوك في زيٍّ حَسَن. قال ابن سعد بإسناده عن عامر الشّعبي قال: شَبَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة نَفَرٍ من أمَّته فقال: دحية الكلبي يشبه جبريل، وعُروة بن مسعود الثَّقَفي يُشبه عيسى بن مريم، وعبد العُزَّى يُشبه الدَّجَّال. وقال ابن سعد بإسناده عن القاسم بن محمد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: وَثب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَثْبةً شديدة، فنظرتُ فإذا معه رجلٌ واقف على بِرْذَون، عليه عمامةٌ بَيضاء، قد سَدَل طَرَفها بين كتفَيه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعٌ يدَه على مَعْرَفَة برذَوْنه، قالت: فقلت: يا رسول الله، لقد راعَتُني وَتُبْتُك، من هذا؟ قال: "ورأيتِه؟ ! " قلت: نعم، قال: "مَن رأيتِ؟ " قلت: دِحية بن خَليفة الكلبي، قال: "ذاك جبريل" (¬2). وقد ذكرنا هذا المعنى في عدَّة مواضع، وذكرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر يَدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه مع دِحية، وأمره أن يَدفعه إلى عظيم بُصرى، ليدفعه إلى قيصر. ذكر وفاته: ذكر ابن سعد (¬3) أنه بقي إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان، ولم يذكر تاريخ وفاته. وقال هشام: مات سنة أربعين، وقيل: سنة خمسين، والأول أشهر، وقد ذكره الواقدي. وليس في الصحابة مَن اسمُه دِحية غيره، واتّفقوا على أنه لم يُعقب، وكانت وفاتُه ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 235. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 235. (¬3) في طبقاته 4/ 236.

أبو مسعود البدري

بالشام، وببلد النَّاصرة من الساحل مقابل الطُّور على رأس جبل قبر، يقال: إنه قبرُه (¬1). وروى الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرج له أحمد في (المسند) حديثين، قال أحمد بإسناده عن الشعبي، عن دِحية الكلبيّ قال: قلتُ: يا رسول الله، ألا أحمل لك حمارًا على فَرَس، فيُنتَجَ لك بغلًا فتَركبَه؟ فقال: "إنما يفعل ذلك الذين لا يَعلمون" (¬2). قلت: ولا بأس بذلك في زماننا؛ فإن الدّلدل التي ركبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحمار، وركبت الصَّحابة البغال، وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن العرب لم تكن تعرفه في ديارها، وكانوا يستقبحونه، وكان عامَّة مراكيبهم الخيل؛ لأنها مُعَدَّة للقتال. وفيها توفي. أبو مَسعود البَدْريّ واسمُه عُقبة بن عَمرو بن ثَعلبة بن أُسَيرة بن عَسِيرة بن عَطِيّة بن جِدارة بن عوف بن الحارث بن الخرزج. وأبو مَسعود من الطبقة الأولى من الأنصار، وأُمُّه سَلَمة (¬3) بنت عازِب بن خالد بن الأَجَشّ بن عبد الله بن عَوف، من قضاعة. واتّفقوا على أنه شهد العَقَبة مع السبعين من الأنصار، وكان أصغرهم، وقد حكاه ابن سعد عن الواقدي. واختلافوا في شهوده بدرًا، فحكى ابن سعد عن الواقدي أنه قال: لم يشهد أبو مسعود بدرًا، وليس بين أصحابنا في ذلك اختلاف. قال: ويَقول الكوفيون: إنه شهدها، وليس ذلك بثبت، ولكنه قد شهد أُحدًا وما بعدها من المشاهد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر في ترجمته: المعارف 329، والاستيعاب (696)، وتاريخ دمشق 6/ 47 (مخطوط)، وتلقيح فهوم أهل الأثر 141، والسير 2/ 550، والإصابة 1/ 473. (¬2) مسند أحمد (18793). (¬3) في (خ) و (ع): أم سلمة، والمثبت من طبقات ابن سعد 4/ 359. (¬4) طبقات ابن سعد 4/ 360 - 361.

وقال ابن إسحاق: لم يشهد بدرًا، وإنما نزل مَاءً يقال له: بدر، فنُسب إليه. وقال البخاري ومسلم: شهدها، وبها سُمِّي البَدْرِيَّ. وقد أنكر عليهما ابن عبد البر ذلك وقال: ما شهدها، ولا يصحُّ ذلك، ولكنه شهد العَقَبة مع السبعين، وأُحدًا، وما بعدها من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكره خليفة فيمن نزل الكوفة من الصحابة، وقال: داره في سوق المراضع (¬1). وقال ابن سعد بإسناده عن عامر الشَّعبي قال: لما خرج علي - عليه السلام - إلى صفين استخلف أبا مسعود على الكوفة، وكان رجال من أهل الكوفة قد استَخْفَوا، فلما خرج علي ظهروا، فكان ناسٌ يأتون أبا مسعود فيقولون: قد أظهر الله أمير المؤمنين، وأهلك أعداءه، فيقول أبو مسعود: والله ما أعدّهُ ظَفَرًا ولا عافية أن تَظهر إحدى الطائفتين على الأُخرى، قالوا: فمه؟ قال: يكون بين القوم صُلح، فلما قدم عليٌّ الكوفة ذكروا له ذلك، فقال له: اعتزِلْ عملَنا، قال أبو مسعود: ولم؟ قال: إنا وَجدناك لا تَعقل عَقْلَةً. قال أبو مسعود: أما أنا فقد [بقي] من عقلي أن الأخير شرٌّ (¬2). واختلفوا في وفاته، قال المدائني وأبو سليمان بن زَبْر: مات سنة أربعين، وقال ابن عبد البر: مات سنة إحدى وأربعين بالمدينة، وقيل: سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة تسع وحمسين، وحكى ابن سعد عن الواقدي أنه قال: توفّي بالمدينة في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان، وحكى جدّي في "المنتظم" أن أبا مسعود مات سنة تسع وثلاثين (¬3). وكان له من الأولاد: بشير، وأمّه هُزَيلَة بنت ثابت، خَزرجيّة، ومسعود، وأم بشير، تزوّجها سعيد بن زيد بن عَمرو بن نُفَيل، فولدت له، ثم خَلَف عليها الحسن بن علي - عليه السلام -، فولدت له زيدًا، ثم خلف عليها عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي [ربيعة ابن] المغيرة المخزومي، فوَلَدت له عَمْرًا. وأمُّ غَزيّة بنت أبي مسعود، تزوّجها تميم بن يُعار بن قيس، خزرجيّ، وأمُّ الوليد ¬

_ (¬1) انظر التاريخ الصغير 1/ 109 و 110، والكنى لمسلم (3169)، وطبقات خليفة 136، والاستيعاب (1895)، وتاريخ دمشق 48/ 101، 106، 107. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 361 - 362. (¬3) انظر طبقات ابن سعد 4/ 362، والاستيعاب (1895)، والمنتظم 5/ 161، وتاريخ دمشق 48/ 115.

علي بن أبي طالب - عليه السلام -

بنت أبي مسعود، تزوَّجها سعد بن زيد بن وَدِيعة، من بني عوف، فولدت له عبد الواحد، وغَزيّة بنت أبي مسعود، تزوّجها عبد الرحمن بن تميم، خزرجيّ، فولدت له زكريا ويحيى، وقد انقرض نسل أبي مسعود كلهم (¬1). أسند أبو مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، أخرج له منها في الصحيحين سبعة عشر حديثًا، اتّفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بسبعة (¬2). وأخرج له أحمد في "المسند" ستّة وعشرين حديثًا، منها مُتَّفق عليه، ومنها أفراد، فمن مسانيده: قال أحمد بإسناده عن علقمة، عن أبي مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفَتاه". أخرجاه في الصحيحين (¬3)، ومعنى كفتاه: من قيام الليل. وروى عنه ابنه بشير بن أبي مسعود، وعبد الله بن يزيد الخَطْميّ -وله صحبة- وقيس بن أبي حازم، وعلقمة بن قيس، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والشعبي، ورِبْعيّ بن حِراش في آخرين (¬4). وليس في الصحابة مَن اسمه عقبة بن عمرو سوى رجلين؛ أحدهما هذا، والثاني عُقبة بن عمرو بن نابي أنصاري، له صُحبة، وليس له رواية، فأما عُقبة غير ابن عمرو فكثير (¬5). وفيها توفي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - وقد ذكرنا نسبه من الطَّرفَين، وسنذكر من فواضله وفضائله ما تَقَرُّ به العين، فنقول: هو أمير المؤمنين، وأول مَن صَلّى مع سيِّد المرسَلين، وابن عم خاتم النبيين، وأحد ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 359 - 360. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر 397. (¬3) مسند أحمد (17068). وأخرجه البخاري (5009)، ومسلم (807) من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود، به. (¬4) انظر تاريخ دمشق 48/ 99، والسير 2/ 494، وتهذيب الكمال (4573). (¬5) تلقيح فهوم أهل الأثر 231.

العشرة المبشرين، وصهره على ابنته سيدة نساء العالمين، وهو من أعيان الصحابة المنتَجَبين، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين الأولين، ولم يسجد قط لأوثان المشركين. وروى عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت فاطمة بنت أسد في الجاهلية إذا جاءت إلى هُبَل، وهي حامل بعلي - عليه السلام -، وأرادت أن تَسجد له تَقَوَّس علي - عليه السلام - في بطنها، فيمنعها من ذلك. وقال الحاكم أبو عبد الله: معنى قولهم علي كرم الله وجهه؛ لم يسجد لصَنَمٍ قطّ. وكذا حكى ابن سعد عن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي - عليه السلام -: أنه لم يعبد الأوثان (¬1). وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخى بينه وبين نفسه، وبات ليلة الهجرة على فراشه؛ يَقيه بروحه، وخلّفه بمكّة ليّردَّ الودائع التي كانت عنده، وثبت معه يوم أحد لما انهزم الناس، وبايعه على الموت، وكان يَحمل راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العُظمى في القتال، يتقدَّم بها في نَحْر العدو، إلى غير ذلك من المناقب الجميلة، والفضائل الجليلة. وقد ذكرنا أنه أول مَن صلّى معه، وذكرنا في السيرة اختلافَ الناس في أوّل الصحابة إسلامًا. وقال ابن سعد: أوّل مَن صلّى عليّ، وهو ابن عشر سنين، وقيل: ابن تسع سنين، وقيل: ابن إحدى عشرة سنة (¬2). وذكره الشيخ الموفق في "الأنساب" رحمه الله فقال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، يُكنى أبا الحسن، ذهب جماعة إلى أنه أول مَن صلّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشاهدَه كلها، وأبلى فيها بلاءً حسنًا، وقام فيها المقام الكريم، إلا تبوكًا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلّفه على المدينة وعلى عياله. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 20. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 19 - 20.

قال: ولما آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، آخى بينه وبين نفسه وقال: "أنت أخي في الدنيا والآخرة" (¬1). وحكاه ابن سعد وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع يده على مَنْكِب علي وقال: "أنت أخي تَرثني وأرِثُك"، فلما نزلت آية المواريث قطعه ذلك. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين علي وبين سهل بن حُنَيف، والأول أشهر (¬2). قال الموفَّق: وكان علي - عليه السلام - كثير المناقب. قال أحمد بن حنبل: لم يُرْوَ في فضائل الصحابة بالأسانيد الحسان مثل ما روي في فضائله. قال: وكان أمير المؤمنين من أشجع الناس، لم يُبارز قطّ قِرنًا إلا قتله؛ إلا من اعتصم منه بالفِرار، ومشاهده مشهورة. قال: وكان أقضى الناس بالحديث. وقال عمر: أقضانا علي، وقال ابن عباس: إذا ثبت لنا عن علي شيءٌ لم نَعْدُه إلى غيره. قال: وسار في الناس بسيرة أبي بكر - رضي الله عنه - في القسم والتسوية بين الناس، وإذا ورد عليه مال لم يُبق منه شيئًا إلا قسمه ويقول: يا دنيا غُرِّي غيري، ولم يكن يَخصُّ به حميمًا ولا قريبًا، ولا يَخصُّ بالولايات إلا أهل الدّيانات. وهذا قول الموفق رحمه الله (¬3)، وقد جمع له كتابًا مفردًا في فضائله. قلت: وقد جمع الإمام أحمد: ن حنبل كتابًا في فضائل أمير المؤمنين، ورواه النسائي، ووقع إلي بمصر في سنة أربعين، ونقلتُ منه. وقد ذكرنا صفة أمير المؤمنين فيما تقدّم؛ عند ولايته الخلافة، وقد جمعتُ في هذا الكتاب لُمَعًا من فضائله الزاهرة من الكتاب العزيز، والسنة الطاهرة. ¬

_ (¬1) التبيين 120 - 121. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 20 - 21. (¬3) التبيين 121، 122، 123، 125.

فأما الكتاب فآيات، منها في سورة البقرة قوله تعالى {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [43]، روى مجاهد، عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب، هو أول مَن صلّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عباس: ما أنزل الله آية إلا وأمير المؤمنين أميرُها ورأسُها، يشير إلى قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}. وقوله تعالى {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [474]، روى عكرمة، عن ابن عباس قال: كان مع أمير المؤمنين أربعة دراهم، فتصدّق بدرهمٍ ليلًا، وبدرهم نهارًا، وبدرهم سرًّا، وبدرهم علانية، فنزلت الآية (¬1). ومنها في آل عمران {فَقُلْ تَعَالوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} [61]؛ وقد ذكرنا القصة في السنة العاشرة، وفي وفد نَجْران. ومنها في المائدة قوله تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [55]، إلى قوله {وَهُمْ رَاكِعُونَ}، ذكر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره" (¬2)، عن السدي قال: مرَّ سائلٌ بعلي بن أبي طالب - عليه السلام -، فأعطاه خاتَمة وهو راكع، فنزلت الآية. وفي رواية السدِّي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه وقد أعطى السائل خاتَمه، فدعاه وقال: "من أين لك هذا؟ " فقال: أعطاني إياه ذلك المصلّي، فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل جبريل - عليه السلام - بالآية، فقال حسان بن ثابت: [من الطويل] أبا حَسَنٍ تَفديك روحي ومُهجتي ... وكلُّ بطيءٍ في الهوى ومُتسارعِ فأنت الذي أعطيت إذ كُنت راكعًا ... فدَتْك نفوس الخلْقِ يا خيرَ راكعِ بخاتمك الميمون يا خير سيّدٍ ... ويا خير شارٍ ثُمّ يا خيرَ بائعِ فأنزل فيك الله خيرَ ولايةٍ ... وبَيَّنها في مُحكمات الشَّرائعِ فإن قيل: فإلقاءُ الخاتم عَبَث، قلنا: قد كان الكلامُ والفعل مباحًا في صدر الإسلام، يتحدّثون في الصلاة، ويَسأل بعضُهم بعضًا، ففي "الصحيحين" من حديث ¬

_ (¬1) أسباب النزول للواحدي 86، وللسيوطي 50 من طريق مجاهد، عن ابن عباس. (¬2) 4/ 80. وانظر تفسير الطبري (12210 - 12214)، وأسباب النزول 192، ولباب النقول 93.

زيد بن أرقم قال: كنّا نتكلّم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبّه وهو إلى جنبه، حتى نزل {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمِرْنا بالسّكوت، ونُهينًا عن الكلام (¬1). وإذا كان الفعل قد كان مُباحًا من غير فائدة، ففي الصدقة أَوْلى. وقد روي أن أمير المؤمنين أشار إلى السائل، فأخذه من يده، فلا يكون عبثًا. ومنها في براءة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [119] قال ابن عباس: نزلت في عليّ فإنه سيّد الصادقين (¬2). ومنها في هود قوله تعالى {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [17] ذكر أبو إسحاق الثّعلبي (¬3)، عن ابن عباس: أن الشاهد هنا علي بن أبي طالب في القُرب والنَّسب. ومنها في مريم قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [96] روى الثعلبي (¬4)، عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - عليه السلام -: "يا علي، قل: اللهمَّ اجعل لي عندك عَهْدًا، وفي قلوب المؤمنين وُدًّا" فأنزل الله هذه الآية، قال ابن عباس: فالوُدّ: ما جعله الله في قلوب المؤمنين. ومنها في سورة الأحزاب {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ} [23] قال ابن عباس: نزلت في علي - عليه السلام -، وهو الذي ينتظر أشقاها. ومنها في الصافات {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [24] قال مجاهد: عن حب علي عليه السلام. ومنها في الجاثية قوله تعالى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [21] قال ابن عباس: هم عُتبة وشيبة والوليد بن المغيرة {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هم علي - عليه السلام -، وقيل: علي وحمزة وعبيدة بن الحارث. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4534)، وصحيح مسلم (539). (¬2) انظر الدر المنثور 3/ 290. (¬3) في تفسيره 5/ 162. (¬4) في تفسيره 6/ 233.

ومنها في الواقعة {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)} [الواقعة: 10] قال ابن عباس: أول السابقين إلى الإسلام علي - عليه السلام - (¬1). ومنها في المجادلة قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَينَ يَدَي نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [12] قال ابن المسيّب: تصدَّق أمير المؤمنين بدينار، ثم ناجى الرسول، فاقتدى به الناس. وحكى الثّعلبي (¬2)، عن مجاهد قال: قال علي - عليه السلام -: إن في كتاب الله آية؛ ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، وتلا هذه الآية وآية الرُّخصة. ومنها قوله تعالى {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى قوله {أُولَئِكَ هُمْ خَيرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 1 - 7] قال ابن مسعود: هم علي - عليه السلام - وأهل بيته (¬3). وقد ذكرنا قصة الوليد بن عُقبة بن أبي مُعيط، وأنه نزل فيه وفي علي - عليه السلام -: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} وهو أمير المؤمنين {كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} الوليد {لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] (¬4)، في آيات كثيرة. وأما السنة فأحاديث، منها: استخلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه في أهله في غزاه تبوك، وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال: لما خَلّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب في غزاة تبوك في أهله قال: يا رسول الله، تُخلِّفُني في النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي". أخرجاه في الصحيحين (¬5)، وهو حديث كثير الروايات وقد أخرجه مسلم وزاد فيه: أن معاوية قال لسعد بن أبي وقاص: ما منعك أن تسُبَّ أبا تراب؟ فقال سعد: أما ما ¬

_ (¬1) انظر الدر المنثور 6/ 154. (¬2) في تفسيره 9/ 261 - 262، وانظر أسباب النزول 438، والدر المنثور 6/ 185 - 186. (¬3) انظر الدر المنثور 6/ 379. (¬4) أسباب النزول 367 - 368، وانظر الدر المنثور 5/ 178. وانظر في هذا الفصل كله: ذخائر العقبى 88 - 89. (¬5) مسند أحمد (1583)، وصحيح البخاري (4416)، وصحيح مسلم (2404) (31).

ذكرت [ثلاثًا] قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالهن له؛ فلن أسُبّه أبدًا، لأن تكون لي واحدةٌ منهن أحبّ إليّ من حُمْر النَّعَم، فذكر حديث الراية يوم خيبر - وسنذكره بعد هذا - ولما نزل قوله تعالى {فَقُلْ تَعَالوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الآية [آل عمران: 61] دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا وفاطمة والحسن والحسين وقال: "اللهم هؤلاء أهلي"، وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبيَّ بعدي" (¬1). وقد أخرجه ابن سعد بإسناده عن أبي سعيد قال: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك، وخلّف عليًّا في أهله، فقال بعض الناس: ما منعه أن يخرج به إلا كره صُحبَته، فبلغ ذلك عليًّا، فذكره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "يا ابن أبي طالب، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" (¬2). وأخرجه أحمد بن حنبل في "الفضائل" عن ابن بُريدة، عن أبيه (¬3) قال: خرج علي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثَنيَّة الوداع يبكي ويقول: خلَّفتَني مع الخَوالِف؟ ما أحبُّ أن تخرج في وَجْهٍ إلا وأنا معك، فقال له: "ألا ترضى ... " وذكره. وقال الزهري: إنما خلفه في أهله كما فعل موسى بأخيه هارون لما ذهب إلى المِيقات، وكانت المدينة قد خلت من الرجال، فخاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها، فتحدَّث المنافقون وأرجفوا وقالوا: ما تركه إلا لأنه كَرهه، فقال: "أنت خليفتي في أهلي". وقوله: "لا نبيّ بعدي" إشارة إلى نَسْخ الشرائع بشرعه. وإنما قال معاوية لسعد: ما منعك أن تَسُبَّ أبا تراب؛ لأنه أراد أن يستَفْسِر منه هل يرى ذلك أم لا؟ وكان معاوية يسبُّ أمير المؤمنين، فتورّع سعد عن ذلك. وذكر المسعودي في كتاب "مروج الذهب" (¬4): أن سعدًا لما قال هذه المقالة ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2404) (32). (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 22. (¬3) كذا قال، وإنما أخرجه أحمد (1006) عن عائشة بنت سعد، عن أبيها سعد بن أبي وقاص، وأما حديث بريدة فلفظه عند أحمد (1007): من كنت مولاه فعلى مولاه. (¬4) 5/ 40 - 42.

لمعاوية قال له معاوية: ما كنت عندي أَلْوم منك الآن، هلّا نصرته، ولم قعدتَ عن بيعته، أما إني لو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له ذلك لكنتُ له خادمًا ما عشت. ولما وَلي معاوية الخلافة دخل عليه سعد بن أبي وقاص فقال: السلام عليك أيُّها الملك، فضحك معاوية وقال: يا أبا إسحاق ما ضَرَّك لو قلتَها -يعني أراد أن يُسلِّم عليه سعد بالخلافة- فقال سعد: والله لا أقولها أبدًا، أتقول هذا يا معاوية وأنت جَذْلان ضاحك، والله إني ما أحبُّ أني وُلِّيتُها بما وُلِّيتَها به (¬1). والجَذْلان بجيم: الفَرِح. ومنها حديث الراية، قال البخاري بإسناده عن سهل بن سعد؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: "لأُعطيَنَّ الراية -أو هذه الراية- غدًا رجلًا يفتح الله يديه، يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسوله"، فبات الناس يَذكرون أيُّهم يُعطاها، فلما أصبح الناس غَدَوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يرجو كلٌّ أن يُعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل: يا رسول الله، هو يشتكي عينه، فأرسلوا إليه، فجاء وهو رَمِدٌ، فبَصق في عينه، ودعا له فبرأ، حتى كأن لم يكن به وَجَعٌ، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مِثلَنا؟ فقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى فيه، فو الله لئن يَهتدي بهُداك رجلٌ واحد خير لك من أن تكون لك حُمُر النَّعَم". أخرجاه في الصحيحين (¬2)، وإنما ضرب المثل بحُمر النَّعم لأنها من أعزِّ أموال العرب. وفي "المسند" (¬3) عن علي قال: ما رَمِدت عيني منذ تَفَل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج أحمد في "المسند" بمعناه، وفيه: فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية فهزَّها، ثم قال: "من يأخُذُها بحقِّها؟ " فقال فلان: أنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمِطْ" أي: اذهب، ثم جاء آخر فقال: أنا، فقال: "أمِط" أي: اذهب، ثم قال: "والذي كَرَّم وجهَ محمد، لأُعطينّها رجلًا لا يَفِرّ، هاك يا علي" فأخذها وانطلق، ففتح الله على يديه (¬4). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 4/ 31. (¬2) صحيح البخاري (2942)، وصحيح مسلم (2406). (¬3) برقم (579). (¬4) مسند أحمد (11122).

ومنها حديث المؤاخاة، قال الترمذي بإسناده عن السدّي، عن عبد الله بن عمر قال: آخى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، فجاء علي تدمع عيناه فقال: يا رسول الله، آخيتَ بين أصحابك، ولم تؤاخ بيني وبين أحد؟ ! فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت أخي في الدنيا والآخرة". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬1). حديث ارتقائه على كتفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال أحمد في "المسند" (¬2): حدثنا أسباط بإسناده، عن علي بن أبي طالب قال: انطلقتُ أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتينا الكعبة، فقال لي نبي الله: "اجلس"، فجلستُ، فصَعِد على مَنكبيّ، فذهبتُ لأنهضَ به فلم أُطِق، ورأى مني ضَعْفًا، فنزل، وجلس لي نبيُّ الله ثم قال: "اصعد عليَّ" فصعَدتُ على مَنكبيه، فنهض بي، وإنه ليُخَيَّل إليّ أنني لو شئتُ أن أنال أُفق السماء لنِلتُه، حتى صعدت على البيت، وعليه تمثالُ صُفْرٍ أو نحاس، فجعلتُ أزاوله من عن يمينه وعن شماله، وبين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنتُ منه؛ قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقذفه"، فقذفتُه فتكسَّر كما تتكسَّر القوارير، ثم نزلتُ، فانطلقنا نَستَبِقُ حتى توارينا بالبيوت، خَشيةَ أن يلقانا أحدٌ من الناس. وروى عن ابن المسيب أنه قال: فلهذا كان علي - عليه السلام - يقول: اسألوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرضين، ولو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا. قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقول ذلك غيره. حديث الموالاة: قال أحمد في مسند زيد بن أرقام بمعناه، قال: حدثنا عفان بإسناده، عن ميمون أبي عبد الله قال: قال زيد بن أرقم وأنا أسمع: نزلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواد يقال له: وادي خُمٍّ، فأمر بالصلاة فصلّاها بهَجير، قال: فخطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وظُلِّل له بثَوبٍ على شَجرة من الشمس، فقال: "ألستم تَعلمون -أو تشهدون- أني أولى بكلِّ مؤمنٍ من ¬

_ (¬1) كذا، وقد روى الترمذي (3720) هذا الحديث من طريق جميع بن عمير التيمي، عن ابن عمر، لا من طريق السدي. وإنما روى السدي حديثًا بعده عن أنس بن مالك قال: كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - طير فقال: اللهمَّ ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير فجاء علي فأكل معه. ونقل المصنف هنا عن الترمذي قوله: حسن صحيح، والذي في الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (¬2) برقم (644).

نَفْسه؟ " قالوا: بل، قال: "فمَن كنتُ مولاه فإن عليًّا مَولاه، اللهمَّ عادِ من عاداه ووالِ مَن والاه" (¬1). وروي أنه شهد له اثنا عشر من أهل بدر بذلك. واتَّفق علماء السِّير على أنّ قصة الغَدير كانت بعد رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجّة الوَداع، في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وكان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرون ومئة ألف، ممن كان يسكن مكة والمدينة وما حولهما وما بينهما من الأعراب، وقد ذكرنا هذا. وقال أبو إسحاق الثعلبي (¬2): ولما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كنتُ مولاه فعليّ مَولاه" شاع ذلك في الأمصار، وطار في الأقطار، فبلغ الحارث بن النُّعمان الفِهريّ، فقدم المدينة، فأناخ راحلتَه عند باب المسجد، فدخل والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس وحوله أصحابُه، فجاء حتى جثا بين يديه، ثم قال: يا محمد، إنك أمرتَنا أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقبلنا ذلك منك، وإنك أمرتنا أن نُصلّي في اليوم والليلة خمس صلوات، ونصوم شهر رمضان، ونُزكي أموالنَّا، ونحجَّ البيت، فقبلنا منك، ثم لم ترض بهذا حتى رفعتَ بضَبْعَي ابنِ عمك ففضَّلتَه وقلت: "من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه" فهذا شيءٌ من الله أو منك؟ فاحمرَّت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "والله الذي لا إله إلا هو، إنه من الله وليس مني"، فقام الحارث وهو يقول: اللهمَّ إن كان هذا هو الحق من عندك، وفي رواية: اللهمَّ إن كان ما يقول محمد حقًّا فأنزل علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم. قال: فو الله ما بلغ باب المسجد حتى رماه الله بحَجَر من السماء، فوقع على هامته، فخرج من دُبُره فمات، وأنزل الله تعالى {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيسَ لَهُ دَافِعٌ} الآية [المعارج: 1]. حديث في محبَّته: قال أحمد في "المسند" (¬3) بإسناده عن علي كرم الله وجهه قال: والله؛ إنه لمما عَهَد إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يُحبّني إلا مؤمن، ولا يُبغضني إلا مُنافق. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (19325). (¬2) في تفسيره 10/ 35. (¬3) مسند أحمد (642).

انفرد بإخراجه مسلم (¬1)، وأخرج الترمذي بمعناه، فقال: حدثنا واصل بإسناده، عن المُساور الحِميريّ، عن أمِّه قالت: دخلتُ على أم سلمة، فسمعتُها تقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يُحبُّ عليًّا منافق، ولا يُبغضه مؤمن". وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: إن كنا لنَعرف المنافقين إلا ببُغْضهم عليَّ بن أبي طالب (¬2). حديث الأضحية: قال أحمد في "المسند" (¬3) بإسناده عن علي - عليه السلام - قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أُضحِّي عنه، فأنا أُضحّي عنه بكَبْشَين أملَحين. قال الزهري: وإنما خَصَّ أميرَ المؤمنين بذلك دون غيره لقربه منه، ومنزلته عنده، فصار كأنه فعل ذلك بنفسه. حديث القضيب الأحمر: قال أحمد في "الفضائل" (¬4) بإسناده عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحب أن يتمسّك بالقضيب الياقوت الأحمر؛ الذي غرسه الله بيمينه في جنة عدن؛ فليتمسك بحبّ علي بن أبي طالب" كرّم الله وَجهه. حديث ردِّ الشمس: حدثنا غير واحد عن أبي الفضل بإسناده، عن إبراهيم بن الحسن البصري، عن فاطمة بنت الحسين، عن أسماء بنت عُمَيس قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوحى إليه ورأسُه في حِجر علي بن أبي طالب، فلم يُصلِّ العصرَ حتى غربت الشمس، فقال: يا علي صلَّيتَ العصر؟ قال: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردُد عليه الشمس". قالت أسماء: فلقد رأيتُها غربت، ثم رأيتُها طَلعت بعد ما غربت. قلت: وقد طعن في صحّة هذا الحديث جدّي رحمه الله؛ فإنه ذكره في "الموضوعات" (¬5) قال جدي: فإن صلاة العصر صارت قَضاءً بغَيبوبة الشمس، فرجوع ¬

_ (¬1) في صحيحه (78). (¬2) سنن الترمذي (3717) و (3717 م). (¬3) برقم (1279). (¬4) برقم (1132). (¬5) برقم (667).

الشمس لا يَجعلُها أداءً، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تُحبس الشمس على أحدٍ إلا على يُوشَع بن نون" (¬1). هذا صورة كلام جدي. قال: وكان صالح بن أحمد أو أحمد بن صالح يقول: لا ينبغي لمن يكون سبيله العلم التخلّف عن حديث أسماء؛ لأنه من علامات نبوّة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لم تُحبس الشمس على أحدٍ إلا على يوشع بن نون" فمعناه من بني إسرائيل؛ لأن هذه الأمة أفضل من بني إسرائيل، ثم لا يخلو حبسها على يوشع إما أن يكون مُعجزةً لموسى أو ليوشع، فإن كان لموسى فنبيُّنا أفضل منه، وإن كان لأجل يوشع فلا خلاف أن عليًّا - عليه السلام - أفضل من يُوشَع، قال - صلى الله عليه وسلم -: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" (¬2). فإن قيل: فإن حبسَها ورجوعَها مُشكل؛ لأنها لو حُبِست أو رُدِّت لاختلَّت الأفلاك، ولفَسد النظام، قلنا: حبسُها ورَدُّها من باب المعجزات أو الكرامات، ولا مجال للقياس في خَرْق العادات. وفي الباب حكاية عجيبة جرت ببغداد، ينقلها من مشايخنا خلفٌ عن سلف، حكاها لي جماعة، منهم عبد الوهاب بن علي الصوفي، وعبد الرحمن بن أبي حامد بن عصية الحَربيّ، وعبد العزيز بن محمود البزاز، وجماعة آخرون قالوا: جلس أبو منصور المظفَّر بن أرْدَشِير العبَّادي الواعظ بالتَّاجية مدرسة بباب أبْرز بعد العصر، وذكر حديث: ردّ الشمس ثم شرع بعده في فضائل أهل البيت، فذكر منها بعضها ولم يتمّم، فنشأت سحابةٌ عظيمة، فعَظَّت الشمس، فظنّ الناس أنها قد غربت، فأرادوا أن يَتفرّقوا، فأشار إليهم أبو منصور من المنبر أن لا تتحرّكوا واثبُتوا، ثم أدار وجهه إلى ناحية المغرب، وارتجل في الحال وقال: [من الكامل] لا تَغربي يا شمسُ حتى ينتهي ... مَدحي لآل المصطفى ولنَجْلِهِ واثْنِي عِنانَك إن أردْتِ ثَناءهم ... أنسيتِ إذ كان الوقوفُ لأجْلِهِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (8315) من حديث أبي هريرة. وانظر الموضوعات 2/ 122 - 123. (¬2) نقل السخاوي في المقاصد الحسنة (702) عن ابن حجر والدميري والزركشي قولهم: لا أصل له، ولا يعرف في كتاب معتبر.

إن كان للمَولى وُقوفُكِ فليكن ... هذا الوقوفُ لخَيلِهِ ولرَجْلِهِ ويروى: لوُلْدِه ولنَسْلِه، قال: فطلعت الشمس، فلا يُحصى ما رُميَ عليه من الحلي والثياب (¬1). ذكر زاهده وورعه ولباسه وتواضعه: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب "الزهد" لأبيه بإسناده عن علي بن ربيعة، عن علي بن أبي طالب قال: جاءه ابن التيَّاح فقال: يا أمير المؤمنين، امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء، فقال علي: الله أكبر، وقام مُتوكِّئًا على ابن التيَّاح، حتى قام على بيت المال وقال: [من الرجز] هذا جَنايَ وخياره فيهْ وكلُّ جانٍ يَدُه إلى فيهْ يا ابن التياح، علي بأشياع أهل الكوفة، فنودي في الناس، فأعطى جميع ما كان فيه، وهو يقول: يا صفراء، يا بيضاء، غُرِّي غيري، ها وها، حتى ما بقى فيه دينارٌ ولا درهم، ثم أمر بنَضْحه، وصلّى فيه ركعتين (¬2). وقال الواقدي: إنما صلّى في بيت المال ليَشهدَ له يوم القيامة أنه لم يَحبس ما كان فيه عن المسلمين، ولقد كانت الشاة تَيْعَر في بيت المال فيفرّقه (¬3). وحدثنا جدي رحمه الله، حدثنا أبو بكر بن حبيب الصُّوفي بإسناده، عن أبي صالح قال: دخل ضرار بن ضَمْرة على معاوية، فقال له: صف لي عليًّا، قال: أوَتعفِيني؟ قال: لا أُعفيك، بل تصفه، فقال: أما إذ لا بُدّ منه؛ فإنه والله كان بعيد المدَى، شديد القُوى، يقول فصْلًا، ويحكم عَدّلًا، يَتفجَّر العلمُ من جوانبه، وتنطق الحِكمة من نواحيه، يستوحش من الدُّنيا وزَهرتها، ويَستأنس بالليل وظُلمته، كان والله غزير الدَّمعة، طويل الفِكرة، يُقلّب كَفَّه، ويخاطب نفسَه، يُعجبه من اللباس ما خَشُن، ومن ¬

_ (¬1) نقله عن المصنف: الذهبي في تاريخ الإسلام 11/ 919، والسير 20/ 232. (¬2) فضائل الصحابة لأحمد (884)، ولم أقف عليه في الزهد، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 80 - 81 من طريق أحمد، وانظر صفة الصفوة 1/ 314 - 315. (¬3) انظر فضائل الصحابة (914 - 915) و (886).

الطعام ما جَشُب، كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويَبتَدِئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دَعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا، وقُربه منا؛ لا تُكَلّمه هيبة له، ولا نبتَدِئُه لعظمه، فإن تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعظّم أهلَ الدّين، ويُحبُّ المساكين، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيفُ من عَدله، فأشهد بالله لرأيتُه في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سُجوفَه، وغارت نجومُه، وقد مَثَل قائمًا في مِحرابه، قابضًا على لحيته، يَتَملْمَلُ تَمَلْمُلَ السّليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا، أبي تعرَّضتِ؟ أم بي تَشَرَّفتِ؟ هيهات، عُزِّي غيري، قد بَتَتُّك ثلاثًا لا رجعةَ لي فيك، فعُمرك قصير، وعيشُك حقير، وخطرُك كثير، آه من قلَّةِ الزّاد، وبُعْدِ السَّفَر، ووَحْشَةِ الطَّريق. قال: فذرفت دُموع معاوية على لحيته فما يملكها، وهو ينشفها بكُمّه، وقد اختنق القوم من البكاء أو بالبكاء. ثم قال معاوية: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، ثم قال: فكيف حُزنك عليه يا ضرار؟ قال: حُزنَ مَن ذُبح وَلَدُها في حِجرها؛ فلا ترقأ عَبْرَتُها، ولا يَسكن حُزنُها (¬1). قلت: وقد أخرج أبو القاسم بن عساكر هذه الحكاية في "تاريخه" (¬2) عن المدائني، وفي آخرها بعد قول ضرار: ولا يَسكن حزنُها؛ أن معاوية قال له: لكن أصحابي لو سُئلوا عني بعد موتي ما أخبروا بشيءٍ مثل هذا. وقال أبو نعيم الحافظ بإسناده عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: دخلتُ على علي - عليه السلام - بالخَوَرْنق وهو يُرعَد تحت سَمَل قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله جعل لك ولأهلك -أو ولأهل بيتك- في هذا المال نصيبًا، وأنت تصنع بنفسك ما تَصنع، فقال: والله ما أرزؤكم من مالكم شيئًا، وإنها لقَطِيفَتي التي خرجتُ بها من المدينة (¬3). قال عبد الله بن أحمد بإسناده، عن أبي مُطَرّف (¬4) قال: رأيت عليًّا - عليه السلام - ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 84 - 85، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة 1/ 315 - 316. (¬2) 8/ 474 (مخطوط). (¬3) حلية الأولياء 1/ 82، وصفة الصفوة 1/ 316 - 317. (¬4) في (خ): معطوف، والمثبت موافق لصفة الصفوة 1/ 317، والذي في فضائل الصحابة (878)، والزهد 162: عن أبي مطر، وهو الصواب.

مؤتزرًا بإزار، مرتديًا آخر -أو برداء- ومعه الدّرة كأنه أعرابي يدور، حتى بلغ سوق الكَرابيس، فوقف على شيخ فقال: يا شيخ، أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم، فلما عرفه يَشترِ منه شيئًا، فأتى غلامًا حَدَثا، فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم، ثم جاء أبو الغلام، فأخبره ابنه، فأخذ أبوه درهمًا، ثم جاء به، فوقف على أمير المؤمنين وقال: هذا الدرهم، فقال: ما شأنُه؟ فقال: كان ثمنُ القميص درهمين، فقال: باعني رِضاي، وأخذ رضاه. وحدثنا جدي رحمه الله قال: حدثنا عبد الوهاب الأنماطي بإسناده، عن عمرو بن قيس: أن عليًّا - عليه السلام - رُئي عليه إزارٌ مَرقوع، فعُوتب في لبسه فقال: يقتدي بي المؤمن، ويخشع له القلب. وقال أبو نعيم بإسناده عن علي بن الأقمر، عن أبيه قال: رأيت عليًّا - عليه السلام - يبيع سيفًا له في السوق ويقول: مَن يشتري مني هذا السيف، فوالذي فَلَق الحبَّة؛ لطالما كشَفْتُ به الكَرب عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كأن عندي ثَمنُ إزار ما بَعتُه (¬1). وحكى ابن الكلبي، عن الأحنف بن قيس قال: دخلت على معاوية، فقدَّم إلي من الحُلو والحامض شيئًا كثيرًا، ثم قدّم إلي لونًا لم أره ولم أعرفه، فقلت: ما هذا؟ فقال: مصارين البَطّ، محَشُوَّةٌ بالمخ، ودهان الفستق، وقد ذر عليه السكر، قال الأحنف: فبكيت وقلت: لله درُّ علي بن أبي طالب، لقد جاد بما لم يَسمحوا به، لقد دخلتُ إليه ليلة عند إفطاره، فقال لي: قم فتَعَشَّ مع الحسن والحسين، ثم قام إلى الصلاة فأطال، ثم انفتل من صلاته، فدعا بجِراب مختوم، ففكَّه وأخرج منه شعيرًا مطحونًا، ثم ختمه، فقلت: يا أمير المؤمنين لم أَعهدْك بخيلًا، فما هذا الختم على الشعير؟ فقال: والله ما أختمه بخلًا، ولكني خفتُ أن يَلُتَّه الحسن والحسين بسمن أو إهالة، فقلت: أحرام هو؟ قال: لا، ولكن على أئمة الحق أن يَتأسّوا بأضعف رعيَّتهم حالًا في الأكل واللباس، ولا يتميّزون عليهم بشيء فيزدادون تواضعًا (¬2). وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن عبد الله بن هُبيرة الشيباني، عن عبد الله بن زُرَير (¬3) ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 1/ 83، وصفة الصفوة 1/ 318. (¬2) التذكرة الحمدونية (95). (¬3) في (خ) و (ع): رزين، وهو خطأ، والتصويب من مسند أحمد (578)، وفضائل الصحابة (1241).

الغافقي قال: دخلت على علي بن أبي طالب يوم أضحى، فقَرَّب إلينا خزيرة (¬1)، فقلت: رحمك الله، لو قرَّبتَ إلينا من غير هذا، فإن الله قد أكثر الخير، فقال: يا ابن زُرَير، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَحلُّ للخليفة من هذا المال إلا قَصْعتان: قَصعَةٌ يأكلها هو وأهلُه، وقَصعةٌ يَضَعُها بين يدي الناس". وفي رواية: "لا يحل للخليفة من مال الله ... " وذكره. وقال ابن أبي الدنيا بإسناده، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه قال: أُهدي إلى علي - عليه السلام - زِقاق من سَمْن وعسل، فرآها قد نَقصت، فسأل عنها فقيل: بعثت أم كلثوم فأخذَتْ منه، فبعث إلى المقَوِّمين فقوّموه خمسة دراهم، فبعث إلى أم كلثوم: ابعثي لي خمسة دراهم؛ فإنما هو من مال المسلمين (¬2). وقال ابن أبي الدنيا بروايته عن الكميل بن زياد قال: جاء إلى بيت المال زِقاق من عسل، فقال الحسن بن علي لقَنبر: قد نزل بي أضياف، فاذهب فائتِني من العسل بمقدار ما يُصيبني، وإذا قسمه أمير المؤمنين فخُذ منه بمقدار ما أخذت، ورُدَّه في بيت المال، ففعل قنبر، وجاء على إلى الزِّقاق فوجد ذلك الزقّ ناقصًا، فسأل قَنبر فخاف، فأخذ يَتعلّل عليه، فناشَده الله ليَصْدُقَنّه، فحدّثه الحديث فقال: عليَّ بالحسن، فجاء فوقع على قدميه وقال: بحقّ عمي جعفر - وكان علي إذا سُئل بحق جعفر سكن غضبه - فقال له: ما حَملك على ما صنعتَ قبل القِسمة؟ قال: أما لي فيه حق؟ قال: بلى، ولكن لم انتفعتَ به قبل المسلمين؟ ! لولا أنني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبّل ثناياك لأوجعتُك ضَرْبًا، قم فاشترِ عوضَه، فصُبَّه في الزّقّ، ففعل. وقال عبد الله بن أحمد بإسناده عن مجاهد قال: قال علي - عليه السلام - جُعتُ مرةً بالمدينة جوعًا شديدًا، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأةٍ قد جمعت مَدَرًا تُريد بَلَّه، فأتيتُها، فقاطعتُها على كل دَلْوٍ أو ذَنوب بتمرة، فمَدَدْتُ ستة عشر ذَنوبًا، حتى مَجِلت يداي، فأعطتني ست عشرة تمرة، فأتيت بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأكل منها (¬3). ¬

_ (¬1) لحم يقطع صغارًا، ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذُرَّ عليه الدقيق. (¬2) صفة الصفوة 1/ 320. (¬3) مسند أحمد (1135)، وفضائل الصحابة (1229)، وصفة الصفوة 1/ 320.

وقال ابن سعد بإسناده عن خالد بن أبي أمية (¬1) قال: رأيت عليًّا - عليه السلام - وقد لَحِق إزارُه بركبتَيه. وقال ابن سعد بإسناده عن الحُرّ بن جرموز، عن أبيه قال: رأيت عليًّا وهو يخرج من القصر، وعليه قِطريّتان: إزار إلى نصف الساق، ورِداءٌ مُشمّر قريب منه، ومعه دِرّةً له يمشي بها في الأسواق، ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع، ويقول: أَوفوا الكَيلَ والميزان، ولا تَنفُخوا اللّحم. وروى ابن سعد: أنه كان لعليّ عمامة سوداء، قد أرخاها من بين يديه ومن خلفه، وفي رواية: من خلفه، وهو الأصح. وروى أيضًا عن يزيد بن الحارث قال: رأيت على علي - عليه السلام - قَلَنْسوة بيضاء مُضَرَّبَة (¬2). وقال البخاري بإسناده عن محمد بن الحنفيّة قال: قلت لأبي: أيُّ الناس خيرُ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم مَن؟ قال: ثم عمر، قال: وخشيتُ أن أقول ثم من فيقول عثمان، فقلت: ثم أنت فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. انفرد بإخراجه البخاري (¬3). وروى أحمد بن حنبل في "الفضائل" عن أبي النوار بائع الكرابيس (¬4) قال: اشترى أمير المؤمنين تَمرًا بدرهم، فحمله في مِلحفته، فقال له رجل: ناولني إياه أحمله عنك، فقال: أبو العِيال أولى بحمل حاجته من غيره، ولم يعطه إياه. وحكى البلاذري (¬5)، عن المدائني قال: خرج أمير المؤمنين يومًا من القصر، فرأى ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 3/ 25: خالد أبي أمية. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 25 - 28. (¬3) في صحيحه (3671). (¬4) كذا، وهذا الحديث يرويه صالح بياع الأكسية، عن أمه أو جدته قالت رأيت عليًّا ... انظر فضائل الصحابة (914)، والزهد 165 - 166، وأما الذي يرويه أبو النوار بياع الكرابيس? فهو في الفضائل (911)، والزهد 165 قال: أتاني علي بن أبي طالب ومعه غلام، فاشترى مني قميص كرابيس ... والحديثان من زيادات عبد الله ابن أحمد على كتابي أبيه. (¬5) في أنساب الأشراف 2/ 108.

الناسَ مُجتمعين على بابه، فضَربهم بالدّرة حتى تفرقوا، ثم قال لعمرو بن حُرَيث: كنتُ أظن أن الأُمراء يَظلمون الناس، وإذا بالناس يظلمون الأمراء، ما في هؤلاء من خير. وقال الكُميل بن زياد: كان أمير المؤمنين يَرقع ثوبَه، ويَخصف نعلَه، ويتولّى حَوائجَه بنفسه، فعاتبته يومًا على ترك الشّهوات، والتَّقَلُّل من الدنيا، وما هو فيه من شدّة العيش، فبكى وقال: كأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخصِف نَعلَه، ويَرقع ثوبَه، ويَحمل حاجته، ويُجالس المساكين، ويَبيتُ الليالي طاويًا، ويَشُدّ الحَجَر على بطنه، وما شبع من طعام أبدًا، وكنتُ أشدُّ الحَجَر معه، فهل أكرمه الله بذلك أو أهانه؟ ! فإن قال قائل أهانه فقد فَسق ومرق، وإن قال أكرمه علمنا أن الله أهان غيره، حيث بسط له الدنيا، وزواها عن أعزّ الخلق عليه، وأقربهم إليه، حيث خرج من الدنيا خَميصًا، وورد الآخرة سَليمًا؛ لم يرفع حَجرًا على حجر، ولا لَبِنة على لَبِنة، ولقد سلكتُ سبيلَه بعده، ورَقعتُ مِدرعتي هذه حتى استحييتُ من راقعها، فقيل لي: ألا تستبدل غيرها؟ ! فقلت للقائل: اغْرُبْ، فعِند الصَّباح يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى. ذكر جملة من كلامه، ولمعة من نثره ونظامه: روى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن رجل من بني شيبان قال: خطب علي - عليه السلام - يومًا، فقال في خطبته: أيَّتها النفوس المختلفة، والقلوب المُشَتَّتة، الشاهدة أبدانُهم، الغائبة قلوبُهم، المختَلَّة عقولهم، كم أدلكم على الحق وأنتم تَنفرون نُفور المعزى من وَعْوَعة الأسد، هيهات أن أطلع بكم سَنام العدل، أو أقيم بكم اعوجاج الحق. اللهمَّ إنك تعلم أني لم تكن مني منافسةٌ في سلطان، ولا التماسُ شيءٍ من الدنيا، ولكن لأردَّ المعالم من دينك، وأُظهر الصَّلاح في بلادك، وتُقام المُعَطَّلة من حدودك. اللهمَّ إنك تعلم أنه لا ينبغي أن يكون على الدّماء والفُروج والمغانم والإمامة البخيلُ؛ لأن نَهُمَته في جمع المال، ولا الجاهل فتَخْتَلّ الأحكام، ولا الجافي فتنفر الرّعيَّة بجفائه، ولا الخائف فيتخذ قوم دون لشدته (¬1)، ولا المرتشي في الحكم فتذهب الحقوق، ولا المُعَطِّلُ السننَ، ولا الباغي فيدحض الحق ببغيه، ولا الفاسق فيستن ¬

_ (¬1) كذا (؟ ! ).

الشرع بفسقه. فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجل مات وترك ابنتين وأبوين وامرأة؟ فقال: لكل واحد من الأبوين السدس، وللابنتين الثلثان، قال: فالمرأة؟ قال أمير المؤمنين: صار ثُمنها تسعًا. قلت: وهذا الجواب في غاية الفصاحة والرشاقة، وقد وافقه فقهاء الصحابة إلا ابن عباس؛ فإنه كان لا يقول بالعَول، فيُدخل النقص على الابنتَين لا غير، فيكون لكل واحد من الأبوين السدس كاملًا، وللمرأة الثمن كاملًا، وما بقي للابنتين، وعلي - عليه السلام - ومَن يقول بالعول فإنه يدخل النَّقْضَ على الكُلّ لما ضاق عن الوفاء بالمقدرات. وأصل المسألة من أربعة وعشرين، وتعول إلى سبعة وعشرين، للزوجة الثمن وهو ثلاثة، وللبنتين الثلثان ستة عشر، وللأبوين ثمانية لكل واحد أربعة، فكان أصلها من أربعة وعشرين، إلا أنها زادت بثمنها وهو ثلاثة، فيدخل النقص على الكل نسبة واحدة لما ضاق المال عن الوفاء بالمقدار، فيكون للزوجة ثلاثة من سبعة وعشرين تسعها، فهذا معنى قوله: صار ثمنها تسعًا. وأما على قول ابن عباس ومَن نفى العول، فيُدخل النقص على الابنتين لا غير، فيكون للزوجة ثمن كامل، وهو ثلاثة من أربعة وعشرين، وللأبوين لكل واحد منهما سدس كامل ثمانية، يبقى ثلاثة عشر تكون بين الابنتين، وقد قررناها في الفرائض. ذكر جواب لمعاوية: قال هشام بن محمد: كتب إليه معاوية: أما بعد، فإن أنْصَحَ الناس لله ولرسوله خليفتُه الثالث المظلوم عثمان، وإنك لكلّهم حَسَدْتَ، وعليهم بَغيت، عرفنا ذلك في نَظَرك الشَّزْر، وتنفُّسِك الصُّعَداء، وإبطائك عن بيعتهم، ولم تكن لأحدٍ منهم أكثر حَسَدًا لابن عمك منك (¬1)، وكان أحقّ أنك لا تفعل معه ذلك؛ لقرابته وصِهره، فقطعتَ رَحِمه، وقبَّحتَ مَحاسنه، وألَّبتَ الناس عليه، وأظهرتَ له الصداقة، وأبطنتَ له ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع) زيادة: وابن عمتك. والمثبت من وقعة صفين 87، وأنساب الأشراف 2/ 194، والعقد 4/ 335.

العداوة، حتى ضُربِت له آباط الإبل من الآفاق، وقِيدت إليه الخيل العِراب، وشُهِر عليه [السلاح] في حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقُتل معك في المدينة وأنت تسمع الواعية، لم تردّ عنه ذلك بقولٍ ولا فِعل، ولعمري لو قُمتَ في أمره مُقامًا واحدًا، فنهيت الناس عنه؛ لمحا ذلك ما كان يعرفه الناس منك من المُجانَبة له، ولساعدوك على قَتَلَتِهِ (¬1)، ولكنك آويتَ قَتَلته مع خذلانهم، فهم أنصارك وأعوانك، وأعضادك (¬2) وبِطانتك ويدك، ثم تنتفي من دمه؟ ! فإن كنتَ صادقًا فمكِّنَّا من قَتَلَتِه لنقتلهم، ثم نحن أسرع الناس سراعًا إليك، وإن أبيتَ فمالك عندنا سوى السيف، والله لنَطْلُبَنَّ قَتّلّة عثمان في البرّ والبحر، والجبال والرمال، حتى نقتلَهم، أو تلحقَ أرواحُنا بعثمان قبل ذلك. فكتب إليه أمير المؤمنين: قد أطلتَ الخُطَب في أمر عثمان، والله ما قتله غيرك، وإن السيف الذي قتلتُ به أخاك وخالك وجدّك عندي، والسلام. جواب أمير المؤمنين في الرُّوح: ذكر الشعبي أن قيصر ملك الروم كتب إلى عمر - رضي الله عنه - يقول: أخبرني عن الرُّوح التي ذكرها الله في كتابكم {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85]، ما هي؟ فجمع عمر الصحابة، وأخبرهم الخبر، فلم يجد عندهم جوابًا، غير أنهم قالوا: يَسَعُنا ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم كعب الأحبار: إن الخصوم لا يَقنعون منكم بهذا، ولا بدّ من جَوابٍ يصل إلى أفهامهم، فقال: عليَّ بعليٍّ - عليه السلام -، فجاء فعرض عليه كتاب قيصر وقال: ليس لها سواك، فقال: نعم، وكتب في الجواب: أما بعد، فإن في كتاب الله مَقْنَع، فإن طَلبتَ زيادة فاعلم أن الروح نُكتة لطيفة، ولمعة شريفة، من صنعة بارئها، أخرجها من خزائن مُلكه، وأسكنها في ملكه، وهي عنده لك سبب، وهي لك عنده وَديعة، فإذا أخذتَ مالك عنده أخذ ماله عندك، والسلام. فلما قرأ قيصر كتابه قال: ما خرج هذا الكلام إلا من بيت نبوة. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): قتله. (¬2) يريد: وعضدك، فجمعها على ما ترى؟ !

ويرى أن عمر - رضي الله عنه - قال عند ذلك: أعوذ بالله من مُعضِلةٍ ليس لها أبو حسن. وروى عكرمة، عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لولا علي هلك عمر. قلت: وله سبب، أنبأنا جدي رحمه الله، حدثنا محمد بن عبد الملك بإسناده إلى حَنَش بن المُعتمر أن رجلين أتيا امرأةً، فاستودعاها مئة دينار وقالا: لا تدفعيها إلى واحد منا دون الآخر حتى نجتمع. فلبثا حولًا، فجاء أحدهما إليها فقال: إن صاحبي قد مات، فادفعي إليَّ الدنانير، فقالت: إنكما قلتما كذا وكذا، فلستُ أدفعها إلا إليكما، فثقل عليها بأهلها وجيرانها، فدفعتها إليه، فلبثتْ حولًا، وجاء الآخر فقال: ادفعي إليّ الدنانير، فقالت: إن صاحبك جاء فزعم أنك مت، وثقل علي فدفعتها إليه. فاختصما إلى عمر بن الخطاب، فأراد أن يَقضي عليها، فقالت المرأة: أنشدك الله إلا رفعتَنا إلى علي، فرفعهما إليه، فعلم أنهما قد مَكرا بها، فقال للرجل: ألستُما قلتُما لا تدفعيها إلا إلينا جميعًا؟ قال: بلى، قال: فإن مالك عندنا، فاذهب فأتِ بصاحبك حتى نَدفعها إليكما، فذهب ولم يعد (¬1). ومن كلامه في صفة الأولياء: قال ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي أراكة قال: صليتُ مع علي - عليه السلام - صلاةَ الفجر، فلما سلّم انفتل عن يمينه، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قِيدَ رُمح أو أو رُمحين، قلب يديه وقال: لقد رأيتُ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فما أرى اليوم شيئًا يُشبههم، لقد كانوا يُصبحون شُعثًا غُبْرًا صُفْرًا، بين أعينهم أمثال ركب المعْزى، قد باتوا لله سُجَّدًا وقيامًا، يتلون كتاب الله يُراوحون بين جِباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا عند ذكره كما يَميد الشجر في يوم ريح عاصف، وهملت أعينهم حتى تَبلَّ ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين. ¬

_ (¬1) ذكره المقدسي في التبيين 124 - 125.

ثم نهض فما رؤي مُفترًا حتى ضربه ابنُ مُلْجِم. ومن كلامه في الرقائق: قال أبو نعيم الأصفهاني بإسناده عن العلاء بن المسيب، عن عبد خير، عن علي - عليه السلام - قال: قال لي: ليس الخير أن يَكثُر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويَعظم حِلمك، فلا خير في الدنيا إلا لأحد الرجلين: رجل أذنب ذنوبًا فهو يتدارك ذلك بتوبة، أو رجل يسارع في الخيرات، ولا يَقِلّ عمل في تقوى، وكيف يقل ما يُتقبّل. وروى أبو نعيم أيضًا بإسناده إلى علي - عليه السلام - قال: إن أخوف ما أخاف اتّباعُ الهوى، وطول الأمل، فأما اتّباع الهوى فيَصُدّ عن الحق، وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد تَرَحَّلت مُدبِرة، ألا وإن الآخرة قد ترحّلت مُقبلة، ولكل واحد منهما بَنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حِساب ولا عمل. وروى أبو نعيم أيضًا عن علي - عليه السلام -: أنه شَيَّع جنازة، فلما وُضعت في اللّحد ضجَّ أهلها، أو عَجّ أهلُها، وبَكَوا، فقال: وممّ يَبكون؟ أما والله لو عاينوا ما عاين مَيّتهم لأذهلهم معاينتهم عنه، وإن له إليهم لعَودة ثم عودة، حتى لا يُبقي منهم أحدًا (¬1)، ثم قام وذكر موعظة بليغة طويلة. وقال علي - عليه السلام -: أقلّ ما يَلومكم الله تعالى لا تستعينوا على معاصيه بنعمه. قال: وقال: اتقوا الله في الخلوات؛ فإن الشاهد هو الحاكم. قال: وقال: الزُّهد كلّه في كلمتين من القرآن {لِكَيلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23]. قال: والعجب ممن يدعو ويستبطئ الإجابة، وقد سدّ طُرُقَها بالمعاصي. ومن كلامه في قوس قَزَح؛ حكى الحارث الأعور عنه قال -وكنية الحارث أبو ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 1/ 75 - 78، وصفة الصفوة 1/ 321 - 322، 327 - 328، 331 - 332.

زهير، وأبوه عبد الله، ويقال: عُبيد، الهَمْداني الكوفي، من أصحاب ابن مسعود، حمل عنه العلم، قال - قال علي - عليه السلام -: لا تقولوا: قوس قُزَح، وإنما قولوا: -قوس الله، وأمانٌ من الغَرَق. وأول ما رؤي في الجاهلية على قُزَح، وهو الجبل الذي يُؤخذ منه الجِمار فينسب إليه، والعامة تقول: قوس قدح بالدال، وهو غلط فاحش (¬1). ومن كلامه في القضاء والقدر؛ روى العوفي، عن ابن عباس قال: قال رجل لأمير المؤمنين: أخبرني عن القدر ما هو؟ فقال: طريق مظلم فلا تَسلُكه، قال: أخبرني عنه، قال: سرُّ الله الخفيّ في خلقه فلا تُفْشه، قال: أخبرني عنه، قال: بحرٌ عميق فلا تَلِجْه. ثم قال: أيها السائل، خلقك كما تشاء أو كما يشاء؟ قال: كما يشاء، قال: أيُميتك على ما يشاء أو على ما تشاء؟ قال: على ما يشاء، قال: ألك مشيئة فوق مشيئة الله، أو دون مَشيئة الله، أو مع مشيئة الله؟ ! فإن قلت: فوق مشيئة الله؛ فقد ادّعيت الغَلَبة لله، وإن قلت: مع مشيئة الله؛ فقد ادَّعيت الشركة، وإن قلت: دون مشيئة الله؛ فقد اكتفيتَ بمشيئتك عن مشيئة الله. قال: صدقتَ، فما تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله؟ قال: لا حول عن معصيته إلا بعصمته، ولا قُوَّة على طاعته إلا بمعونته، أعقَلتَ عن الله؟ قال: نعم، فقال لأصحابه: الآن أسلم أخوكم فصافحوه (¬2). وقال: [من الوافر] إذا عَقَد القضاءُ عليك أمرًا ... فليس يحلُّه إلا القضاءُ ¬

_ (¬1) انظر المقاصد الحسنة (1297)، وفيض القدير 2/ 182، وكشف الخفاء 2/ 481 - 482. (¬2) أخرجه الآجري في الشريعة (422) و (548) من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده. وأخرجه اللالكائي مختصرًا في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1123) من طريق عبد الله بن بكر، عن أبي عبد الرحمان رفع الحديث إلى علي. وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 42/ 512 - 513 من طريق أبي إسحاق، عن الحارث.

فما لك قد أقمتَ بدار ذُلٍّ ... وأرض الله واسعةٌ فضاءُ تَبلَّغْ باليسير فكلُّ شيءٍ ... من الدنيا يكون له انقِضاءُ (¬1) وقال: [من البسيط] لا تَخْضَعنَّ لمخلوقٍ على طَمْعٍ ... فإن ذاك مُضِرٌّ منك بالدَّينِ واسترزقِ الله مما في خزائِنه ... فإن ذلك بين الكافِ والنُّونِ (¬2) وقال: [من الهَزج] ولا تَصحبْ (¬3) أخا الجَهلِ ... وإيَّاك وإياهُ فكم من جاهلٍ أردى ... حكيمًا حين آخاهُ يُقاسُ المرءُ بالمرءِ ... إذا ما المرءُ أدناهُ وللشيءِ على الشيءِ ... علاماتٌ وأَشباهُ وذكر الغزالي (¬4) في كتاب "سر العالمين" وقال: قال أمير المؤمنين: [من البسيط] المرء في زَمنِ الإقبالِ كالشَّجَرةْ ... وحولَها الناسُ ما دامت بها الثَّمرَهْ حتى إذا ما عَرَتْ عن حَملها انصرفوا ... عنها عُقوقًا وقد كانوا بها بَرَرَهْ وحاولوا قَطعها من بعد ما شَفَقوا .. دَهرًا عليها من الأرباح والغَبرهْ قَلَّت مُروآتُ أهلِ الأرضِ كلهم ... إلّا الأقل فليس العشر من عَشَرَهْ لا تَحْمَدَنَّ امرءًا حتى تُجَرِّبَه ... فرُبَّما لم يُوافق خُبرُه خَبَرَهْ ¬

_ (¬1) ديوانه 6، ونسبها إليه ابن حمدون في تذكرته 1/ 79 وروايتها عنده: غيرُ القضاءِ، واسعةُ الفضاءِ، إلى انقضاءِ. (¬2) ديوانه 95، ونسبهما ابن حبان في روضة العقلاء 132 إلى أبي العتاهية، ونسبهما أبو الفرج في الأغاني 20/ 59 إلى أبي محمد التيمي، وبلا نسبة في آداب الدنيا والدين 298. (¬3) في (خ): لا تصحبن، والأبيات في ديوانه 100، والعزلة 67 والإبانة 2/ 465، وسر العالمين 1/ 6، وتاريخ دمشق 12/ 399 (مخطوط). وانظر المجالسة وجواهر العلم (1379/ 1)، وديوان أبي العتاهية 665 - 666. (¬4) في (خ): العراقي. والأبيات في سر العالمين وكشف ما في الدارين للغزالي 16.

ذكر مقتله: قال علماء السير: ما زال الناس خائفين على أمير المؤمنين منذ حكَّم الحَكَمين، وقتل الخوارج، وكان دائمًا يجري على لسانه أنه يُقتل، ويَستَبطيء القاتل فيقول: متى يُبعث أشقاها؟ قال عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده عن زيد بن وهَب قال: قدم على علي - عليه السلام - قومٌ من أهل البصرة من الخوارج، فيهم رجل يقال له: الجَعْد بن بَعجة، فقال له: اتق الله يا علي فإنك ميت، فقال علي: بل مَقتول ضَرْبَةٌ على هذه تخضب هذه، يعني لحيته من رأسه، عَهدٌ مَعهود، وقَضاءٌ مَقضيّ، وقد خاب من افترى، وعاتبه في لباسه فقال: ما لكم وللباسي، هو أبعدُ من الكِبر، وأجدر أن يَقتدي بي المسلمون (¬1). وقال عبد الله بن أحمد بإسناده عن الحارث بن عبد الله (¬2) قال: قال علي - عليه السلام -: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا علي أتدري مَن أشقى الأوَّلين والآخِرين؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أشقى الأولين عاقِرُ الناقة، وأشقى الآخِرين مَن يَخضِب هذه من هذه". يعني: لحيته من هامَتِه. وقال ابن سعد بإسناده عن أبي الطُّفَيل قال: دعا علي الناس إلى البيعة، فجاء عبد الرحمن بن مُلْجَم المراديّ فردّه مرتين، ثم أتاه فقال: ما يَحْبِسُ أشقاها؟ ! لتُخْضَبَنّ -أو لتُضْبَغَنّ- هذه من هذه، ثم تمثّل بهذين البيتين: اُشْدُدْ حيازيمَك للمَوتِ ... فإن الموت لاقيكَ ولا تَجزعْ من الموت ... إذا حلَّ بواديكَ وقال ابن سعد بإسناده عن أبي مِجْلَز قال: جاء رجل من مُراد إلى علي - عليه السلام - وهو يصلي في المسجد، فقال: احتَرِسْ، فإن ناسًا من مُراد يريدون قَتلَك، فقال: إن ¬

_ (¬1) فضائل الصحابة (908) و (909). (¬2) كذا، والذي في فضائل الصحابة (953): عبد الله: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثني قتيبة بن قدامة، عن أبيه، عن الضحاك بن مزاحم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا علي ...

مع كلِّ رجل مَلَكَين يَحفظانه مما لم يُقَدّر، فإن جاء القَدَر خلَّيا بينه وبينه، إن الأَجَلَ جُنَّةٌ حَصينة. قال ابن سعد بإسناده عن محمد بن عُبيدة قال: قال علي - عليه السلام -: ما يَحبِسُ أشقاكم أن يجيءَ فيَقْتُلَني؟ اللهمَّ قد سَئِمتُهم وسئموني، فأرِحْهم مني، وأرِحْني منهم. وقال ابن سعد بإسناده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - عليه السلام -: "يا عليّ، من أشقى الأوَّلين والآخِرين؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: "إن أشقى الأوَّلين عاقرُ الناقة، وأشقى الآخرين الذي يَطعَنُك يا علي" وأشار إلى حيث طُعِن. قال ابن سعد: [أخبرنا الفضل بن دكين قال] حدثنا سليمان بن القاسم الثَّقَفي قال: حدَّثَتْني أمي، عن أم جعفر سُرِّيّة علي بن أبي طالب قالت: إني لأصُبّ على يديه الماءَ إذ رفع رأسَه، فأخذ بلحيته، فرفعها إلى أنفه وقال: واهًا لك، لتُخْضَبِنّ بدم، قال: "فأُصيب يوم الجمعة (¬1). ذكر اجتماع الخوارج على قتله وقتل معاوية وعمرو بن العاص: قال علماء السِّيَر كابن إسحاق والواقدي وهشام وابن سعد وغيرهم، دخل حديث بعضهم في حديث بعض، ونبدأ برواية ابن سعد قال: انتدب ثلاثةُ نَفَرٍ من الخوارج: عبد الرحمن بن مُلْجَم المُراديّ -وهو من حِمْيَر- والبُرَك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بُكَير التميمي. وقال البلاذري: اسم البُرَك: الحجّاج بن عبد الله الصَّريمي، قال: واسم عمرو بن بُكير زاذَويه مولى بني حارثة. وقال ابن الكلبي: عبد الرحمن بن [عمرو بن] مُلْجَم بن المَكْشوح بن نَفَر بن كَلَدة الحِميريّ، وكان كَلَدة أصاب دمًا في قومه من حِمير، فأتى مُرادًا فقال: جئتكم تَجوب بي ناقتي الأرض، فسُمّي تجوب، فابن مُلْجَم تجوبي بالواو، وقاتل عثمان تُجيبي، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 31 - 33.

وقد ذكرناه في ترجمة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. قال: فاجتمعوا بمكّة، فتذاكروا قتلى النَّهْرَوان، وبكوا وترَحَّموا عليهم وقالوا: ما نَصنع بالبقاء بعدهم، فإنهم إخواننا، لم تأخذهم في الله لَومةُ لائم، ثم تذاكروا ما جرى من سَفْك الدّماء يوم الجمل وصفين، وعابوا عَملَ الولاة، وقالوا: فلو شَرَينا نُفوسَنا، فالتمسنا قتلَ أئمة الضَّلال، فأرحنا منهم العباد والبلاد، وثأرنا بهم إخواننا الشهداء بالنَّهْرَوان. فقال ابن مُلْجَم: أنا أكفيكم ابن أبي طالب، وقال البُرَك: وأنا لمعاوية، وقال عَمرو بن بكير: وأنا لعمرو بن العاص. فتعاهدوا وتعاقدوا في الكعبة؛ على ألا يَنكُص واحدٌ منهم عن صاحبه الذي وُجِّه إليه حتى يَقتله أو يُقتل دونه، وسَمّوا أسياقهم، واتَّعدوا فيما بينهم ليلة سبعَ عشرة من شهر رمضان؛ أن يثب كلّ واحد منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه. وقال هشام: كان الوَعْد بينهم أن يوقع كلُّ واحدٍ منهم بصاحبه في سابع وعشرين من رمضان. وانفصلوا عن مكة بعد انقضاء الموسم. وحكى البلاذري (¬1) عن المدائني: أن بني مُلْجَم؛ وهم: عبد الرحمن وقيس ويزيد؛ أجمعوا على قتل أمير المؤمنين ومعاوية وعمرو بن العاص، فنهاهم أبوهم عن ذلك، وأمرتهم أمهم به، فقال أبوهم: وَدَّعوا أهلَكم فإنكم غير راجعين، فخرج ابن ملجم إلى الكوفة، وقيس إلى الشام، ويزيد إلى مصر. ثم قال البلاذري: وهذا خبر شاذ لا يرويه إلا قوم من الخوارج. فأما ابن مُلْجَم فقدم الكوفة، فلقي أصحابَه الخوارج، فكاتَمهم بما يريد، وأقام بينهم يَزورهم ويَزورونه، وهو ساكت مخافةَ أن يظهر منه شيء مما قَدِم له، فاتَّفق أنه ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 2/ 362 - 363.

زار يومًا أصحابًا له من تَيم الرّباب، وكان أمير المؤمنين قد قتل منهم جماعة يوم النَّهروان، فرأى امرأةً منهم يقال لها: قَطام -وقد نسبها ابن سعد فقال: بنت شجنة بن عديّ بن عامر بن عوف بن ثَعلبة بن سعد بن ذُهل بن تيم الرّباب، وكان علي عليه السلام قتل أباها وأخاها يوم النَّهْر، وكانت فائقة الجمال. وقد نسبها البَلاذري فقال: قطام بنت علقمة (¬1) من تيم الرباب- فلما رآها ابن مُلْجَم عَشِقها، وأخذت بمجامع قلبه، ونسي الحاجة التي قدم لأجلها فخطبها. قال هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: قالت له: لا أتزوَّجك إلا على حكمي، قال: احتكمي، قالت: ثلاثة آلاف درهم، ووَصيفًا ووصيفة وقينة، وقتل علي - عليه السلام - فقال لها: لك جميع ما طلبت إلا ما كان من قتل علي، وما أراك ذكرتيه لي وأنت تريديني فكيف أصنع به؟ قالت: بلى، التمس عَثرتَه، فإن أصبتَه شفيتَ نفسي ونفسك، وأخذتَ بثأر الأحبة، ونفعك العيش معي، وإن أنت قُتلت فما عند الله خير وأبقى من الدنيا. فقال: والله ما أقدمني إلى هذا المِصر إلا قتلُ علي. وعامة المؤرخين على أنه لم يَدخل بها؛ إلا ما رواه أبو اليقظان، فإنه قال: ودخل بها، فلما فرغ منها ازداد لها عشقًا، فقالت له: والله ما أُمكّنك من نفسي بعدها حتى تقتل عليًّا، وسأطلب لك مَن يُعينك على ذلك، فأرسلت إلى رجل من تَيم الرِّباب يقال له: وَرْدان بن مُجالد، فأخبرتْه الخبر، فأجابها إلى ذلك. قال ابن سعد: ولقي ابن مُلجم رجلًا من أشجع يقال له: شَبيب بن بَجَرة، فأعلمه ما يُريد، ودعاه إلى أن يكون معه، فأجابه إلى ذلك. وفي رواية: أن ابن مُلجم أتى شبيبًا الأشجعي، فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذالك؟ قال: قتلُ علي، وكان الأشجعي يرى رأي الخوارج، فقال له: ثكلتْك أمُّك، لقد جئتَ شيئًا نُكرًا! وكيف نصل إليه؟ ¬

_ (¬1) في مطبوع أنساب الأشراف 2/ 348: قطام بنت شجنة، وفي نسخة الشاملة من الكتاب (قرص ليزري) كما هنا.

وفي رواية: لقد جئت شيئًا إذا، كيف تقدر عليه؟ قال: نكمُن له في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة شدَدُنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا نفوسَنا، وأخذنا ثأرَ إخواننا، وإن قُتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، فقال له: وَيحك، قد عرفتَ سابقةَ عليٍّ وبلاءه في الإسلام، ومن الذي يُساعدك على قتله؟ قال له: أليس قتل بالنهر عباد الله الصالحين، وإخواننا المؤمنين؟ قال: بلى. قال: فنقتله بمَن قتل منهم. فلم يزل به حتى أجابه. وكانت قطام مُعتكفةً في المسجد الأعظم، فأخبروها فقالت: إذا أردتم ذلك فأتوني. ثم جاء ابن ملجم وصاحباه في الليلة التي قُتل في صبيحتها علي - عليه السلام - إلى المسجد، وقطام معتكفه فيه، فدعت بالحرير فعصذَبتهم به في صدورهم ورؤوسهم، وكانوا قد ألقوا إلى الأشعث بن قيس الكندي [يناجونه] في مسجده حتى كاد يطلع الفجر، فقال له الأشعث: فضحك الصبح، فقام ابن مُلْجم وشَبيب بن بجرة، فأخذا أسيافهما، ثم جاءا حتى جلسا مُقابل السّدَّة التي يخرج منها أمير المؤمنين. قلت: وقد ثبت بهذه الرواية أن الأشعث بن قيس كان يرى رأي الخوارج، مضافًا إلى ارتداده. قال ابن سعد: قال الحسن بن علي: أتيت أمير المؤمنين سُحَيرًا، فجلستُ إليه فقال: يا بني، إني بِتُّ الليلة أوقظ أهلي، فملكتني عيناي وأنا جالس، فسَنَح لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، ما لقيت من أمّتك من الأَوَدِ واللّدَد، فقال لي: ادعُ الله عليهم، فقلت: اللهمَّ أبدِلْني بهم خيرًا منهم، وأبدلهم بي شرًّا مني. ودخل ابن النبَّاح المؤذن على ذلك فقال: الصلاة، فأخذت بيده، فقام يمشي وابن النبَّاح بين يديه وأنا خلفه، فلما خرج من الباب نادى: أيّها الناس الصلاةَ الصلاةَ، كذلك كان يصنع في كلّ يوم، يخرج ومعه درّتُه يوقظ الناس. قال: فاعترضه الرجلان، فقال بعضُ من حضر ذلك: فرأيتُ بريقَ السيف،

وسمعتُ قائلًا يقول: لا حُكمَ إلا لله، أو الحكمُ لله يا علي لا لك، ثم رأيتُ سيفًا ثانيًا فضربا جميعًا، فأما سيف ابن مُلجَم فأصاب جبهَته إلى قَرنه ووصل إلى دماغه، وأما سيف شَبيب فوقع في الطَّاق فسمعتُ عليًّا يقول: لا يفوتَنّكم الرجل، وشدّ الناس عليهما من كل جانب، فأما شَبيب فأفلت، وأُخِذ ابنُ مُلْجَم فأدخل على علي - عليه السلام -، فقال: أطِيبوا طعامَه وألينوا فراشَه، فإن أعِشْ فأنا وليُّ دمي، عفوًا أو قصاصًا، وإن أمُتْ فألحقوه بي أخاصمه عند ربّ العالمين. فقالت أم كلثوم بنت علي: يا عدوَّ الله، قتلتَ أمير المؤمنين؟ ! فقال ابن مُلجم: ما قتلتُ إلا أباك، قالت: فوالله إني لأرجو أن لا يكون على أبي أمير المؤمنين بأس. قال: فلم تبكين إذًا، والله لقد سَمَمَتُه شهرًا -يعني سيفه- فإن أخْلَفَني فأبعده الله وأسْحَقَه. هذا صورة كلام ابن سعد (¬1). وأما مَن سمَّينا من العلماء فإنهم قالوا: كانوا ثلاثة: ابن مُلْجَم وشبيب ووَرْدان، من تيم الرباب، لما خرج أمير المؤمنين للصلاة وهم مُقابل السّدَّة؛ وثب عليه شبيب، فضربه بالسيف فوقع في عَضادة الباب، أوفي الطَّاق، وضربه ابن ملجم فأقر السيف فيه، وهرب وَرْدان فدخل منزله، فدخل عليه رجل من بني أبيه وهو يَنزع الحرير عن رأسه وصدره، فقال: ما هذا الحرير والسيف؟ فأخبره بما كان، فخرج الرجل وجاء بسيفه، فضرب به وَرْدان حتى قتله، وخرج شبيب نحو أبواب كِندة في الغَلَس، فلحقه رجل من حضرموت يقال له: عُوَيمر، فأخذ السيف من يد شبيب، وجَثَم عليه الحضرمي، فلما رأى الناسَ قد أقبلوا في طَلَبه، وسيف شَبيب بيده، خشي على نفسه فتركه، فنجا شَبيب في غِمار الناس. وأما ابن مُلْجَم فشَدُّوا عليه فأخذوه، وضرب رجل من هَمْدان يُكنى أبا أَدْماء رِجلَ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 33 - 36.

ابنِ ملجم فصرعه، وألقوا عليه قَطيفة، وأخذوه إلى بين يدي أمير المؤمنين. قال هشام: فلعنته أم كلثوم وقالت له: قتلتَ أمير المؤمنين؟ ! فقال: إنما قتلتُ أباك، والله لقد ضربتُه بسيفٍ اشتريتُه بألف، وسمَمْتُه بألف، ولو قُسمت هذه الضَّربة على أهل الأرض لأهلكتهم. ودفع أمير المؤمنين بيده في ظهر جَعْدة بن هُبَيرة بن أبي وَهْب، فصلى بالناس الفجر، وحُمل علي - عليه السلام - إلى القصر فقال: عليَّ بعدوّ الله، فأُدخل عليه فقال: يا عدوَّ الله، ألم أُحسن إليك -وكان قد أحسن إليه في العطاء- فما حَملك على هذا؟ فقال: شَحذتُه أربعين صباحًا، وسألتُ الله أن يَقتل به شرَّ خلقه، فقال علي: لا أراك مقتولًا إلا به، لأنك من شرار خلق الله، ثم أمر به إلى الحبس، فأُخرج والناس ليأكلون لحمه بأسنانهم؛ كأنهم سباع ضَارية، فسجنوه. ثم قال علي - عليه السلام - لولده: إن متُّ فاقتلوه كما قتلني، وإن عشتُ رأيتُ فيه رأيي. وفي رواية محمد بن حنيف (¬1): أنه جيءَ بابن مُلْجم وهو مكتوف إلى بين يدي الحسن، فقالت له أم كلثوم وهي تبكي: يا عدوّ الله، لا بأس على أبي، والله مُخزيك، فقال: فعلى مَن تبكين، والله لقد اشتريتُ سيفي بألف، وسَمَمْتُه بألف، ولو كانت هذه الضَّربة بجميع أهل المصر ما بقي منهم أحد. فكانت أم كلثوم تبكي وتقول: مالي ولصلاة الفجر! قُتل فيها بَعْلي، وقُتل فيها أبي. قال الواقدي: وأقبل الناس أرسالًا فقالوا: يا أمير المؤمنين، خلِّ بيننا وبين مُراد، فلا تقوم لهم قائمة بعد اليوم، فقال: لا، إنما القاتل واحد، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن فَقدناك - ولا نفقدك - نُبايع الحسن؟ فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، افعلوا ما شئتم. ¬

_ (¬1) كذا، والذي في الطبري 5/ 146: محمد بن الحنفية.

وقال ابن سعد (¬1): بعث الأشعث بن قيس ابنَه قيس بن الأشعث صَبيحةَ ضُرب أمير المؤمنين، [فقال: ] يا بني، انظر كيف أصبح أمير المؤمنين، فذهب فنظر فرجع إليه فقال: رأيتُ عينيه داخلتين في رأسه، فقال الأشعث: عَينَي دَمِيغ وربِّ الكعبة. ذكر وصية أمير المؤمنين: قال علماء السير: دعا ولديه الحسن والحسين عليهما السلام فأوصاهما، فكان مما أوصاهما به أن قال: أوصيكما بتقوى الله وطاعته، ولا تَبغِيا الدنيا وإن بَغَتكما، ولا تبكيا على شيءٍ زوي عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وكونا للظالم خَصيمًا، وللمظلوم ناصرًا، واعمَلا بما في كتاب الله وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولا تأخُذكما في الله لومةُ لائم. ثم قال لمحمد بن الحنفية وكان حاضرًا: هل حفظتَ ما أوصيتُ به أخَويك؟ قال: نعم، قال: فإني أوصيك بمثله، وأوصيك بتَوقير أخوَيك، وتعظيم حقّهما عليك، ولا تقطع دونَهما أمرًا. ثم قال: أوصيكما به فإنه ابن أبيكما، وقد علمتما أن أباكما كان يُحبّه. فلما حضرته الوفاة أوصى، فكانت وصيّته (¬2): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب، أوصى أنه يَشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الآية [التوبة: 33] {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (162)} الآية [الأنعام: 162] إلى قوله: "وأنا من المسلمين". وأوصيك يا حسن وجميعَ ولدي وأهلي بتقوى الله {وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} الآية [آل عمران: 102] فإني سمعت أبا القاسم يقول: "إن صلاح ذات البين أفضلُ من الصلاة والصوم"، وانظروا إلى ذوي الأرحام فصلوهم؛ يُهوِّن الله عليكم الحساب. ¬

_ (¬1) في طبقاته 3/ 36. (¬2) ذكرها مع ما قبلها الطبري 5/ 147 - 148.

اللهَ اللهَ في الأيتام، لا تقربوا أموالهم فإن الله يقول {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} الآية [النساء: 10]. الله الله في جيرانكم، فإنهم وصيّةُ نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، فإني سمعته يقول: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيُوَرّثه". الله الله في صيامكم؛ فإن الصَّوم جُنَّةٌ من النار. الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم. الله الله في الزكاة فإنها تُطفئ غضب الربّ. الله الله في ذُرِّيَّة نبيكم {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرًا} الآية [الشورى: 23]. الله الله في أصحاب نبيكم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صى بهم. اللهَ اللهَ فيما ملكت أيمانكم. اللهَ اللهَ في الفقراء والمساكين؛ فإنهم إخوانكم، ولا تَدَعوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فيوُلَّى الأمرَ شرارُكم، ثم تَدعون فلا يُستجاب لكم، وعليكم بالتَّواصُلِ والتَّباذُل، وإياكم والتفرُّق والتقاطُع والتدابُر، وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعُدوان، أستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله وحده لا شريك له حتى قبض. وقال الواقدي: كان آخر كلامه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. واختلفوا في وقت وفاته؛ فقال ابن سعد (¬1): مكث علي - عليه السلام - يوم الجمعة وليلة السبت، وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين. وذكر جدي في "الصفوة" (¬2) قال: ضربه ابن ملجم يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت ¬

_ (¬1) في طبقاته 3/ 36. (¬2) صفة الصفوة 1/ 334.

من رمضان، وقيل: ليلة إحدى وعشرين من رمضان. وقال أبو اليقظان: ضربه في الليلة السابعة عشر من رمضان، ومات في الليلة التاسعة عشر. وقال الهيثم: ضربه في ليلة سبع وعشرين من رمضان، وقيل: في الليلة الخامسة والعشرين من رمضان، ومات في الليلة السابعة والعشرين، وهي ليلة القدر. قال الحسن: كانت ليلة القدر، والليلة التي عرج فيها بعيسى - عليه السلام -، ونُبِّئ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومات فيها موسى ويوشع بن نون، وأشار ابن سعد بمعناه (¬1). وقد حكى الطبري أنه قُتل في شهر ربيع الآخر، وليس هذا القول بشيء (¬2)، والمشهور عن الواقدي وأبي مَعْشر أنه ضُرب يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، كما ذكر ابن سعد. وحكى الطبري (¬3) عن علي بن محمد أنه قال: قُتل أمير المؤمنين يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان. ذكر غسله وتكفينه والصلاة عليه: قال الواقدي: غسله أولاده: الحسن والحسين ومحمد وعبد الله بن جعفر، وكان عنده من بقايا حَنُوط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحَنَّطوه به. وقال ابن سعد: وكُفِّن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص. قال ابن سعد فيما رواه عن أشياخه: أن الحسن صلّى عليه وكبّر أربعًا. وحكى الطبري: أن الحسن كبَّر عليه تسعًا (¬4)، وقال الهيثم: خمسًا، وقال أبو اليقظان: ستة. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 37. (¬2) ذكره الطبري 5/ 143 بصيغة التمريض، وقيل. (¬3) في تاريخه 5/ 143. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 36، وتاريخ الطبري 5/ 148.

ذكر المكان الذي دُفن فيه: واختلفوا فيه اختلافًا واسعًا على أقوال؛ فحكى ابن سعد (¬1) عن أشياخه: أنه دُفن عند مسجد الجماعة، في الرَّحْبة، مما يلي أبواب كندة، قبل أن ينصرف الناس من صلاة الفجر، ثم انصرف الحسن من دفنه، فدعا الناس إلى بيعته فبايعوه. والثاني: أنه في قصر الإمارة بالكوفة، قال البلاذري: عمل الحجاج عملًا في قصر الإمارة بالكوفة، فحفروا فظهر شيخ أبيض الرأس واللحية، فقال الحجّاج: أبو تراب والله. وأراد أن يشهره، فنهاه عَنْبَسَة بن سعيد فقال: ناشدتُك الله أن تفعل، فكفَّ عنه (¬2). والثالث: أنهم دفنوه وقت السَّحَر، وغيَّبوا قبرَه، وقد ذكره الخطيب في "تاريخه" عن [أبي] مُسلم صالح العِجْلي (¬3) قال: قُتل علي - عليه السلام - بالكوفة ودُفن، ولا يُعلَمُ موضع قبره. قال الهيثم: إنما غَيَّبوا موضع قبره خوفًا عليه من بني أمية. والرابع: في قِبلة مسجد الكوفة، في المكان الذي قتل فيه. ذكره ابن إسحاق. والخامس: أن الحسن حوله إلى المدينة معه، ودُفن عند أمه فاطمة عليهما السلام بالبقيع. والسادس: أنهم جعلوه في صندوق، وسيَّروه إلى المدينة، فضلَّ به البعير، فوقع إلى طيئ، فظنوه مالًا، ففتحوا الصندوق، فوجدوه فدفنوه عندهم. قاله الفضل بن دكين. والسابع: أنه دفن في كوخ زادوه، ثم حمل إلى البقيع. ¬

_ (¬1) في طبقاته 3/ 36. (¬2) أنساب الأشراف 2/ 365. (¬3) في (خ) و (ع): مسلم بن صالح العجلي، والمثبت من تاريخ بغداد 1/ 136، والمنتظم 5/ 177.

والثامن: أنه على النَّجف، في المكان المشهور اليوم، قال أبو اليقظان: كانوا قد خرجوا به في الليل من الكوفة، فأبعدوا خوفًا عليه، فدفنوه في هذا المكان، وأقام مدّة أيام بني أمية على حاله، فلما زالت أيامهم ووصل الأمر إلى بني العباس، ومضت مدة إلى زمان هارون الرشيد، فخرج يتصيَّد بنواحي الكوفة، فأرسل فهْدًا على ظبي، فطرده حتى انتهى به إلى مكان الضَّريح اليوم، فوقف الفَهد ولم يُقدم عليه، فعجب هارون، فنزل هنالك، واستدعى شيوخ الحيرة والكوفة، فسألهم عنه، فقال له شيخ كبير قد أتت عليه مئة سنة: هذا قبر ابن عمك علي بن أبي طالب، وقد أظهر الله لك هذه الآية، وهي وقوف الفهد عن الظبي، وأيضًا فقد كنت أجيء مع أبي إلى هذا المكان وأنا صغير، فيقول: يا بُنيّ هذا قبر أمير المؤمنين. قال: وكان أبي يقول عن أبيه: إنه كان يزوره مع زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام. فأمر الرشيد ببناء القبة عليه والمشهد، وهو الباقي إلى الآن. وقال أبو نعيم الأصفهاني: سمعت أبا بكر الطَّلحي، يذكر عن مطين: أنه كان ينكر أن يكون القبر الذي على النَّجفَ قبر علي - عليه السلام -، قال: ولو علم به زُوَّاره رَجُموه، وإنما هو قبر المغيرة بن شعبة. قلت: وقد وهم أبو نعيم ومُطَيّن في هذا، فإن المغيرة بن شعبة مات بالكوفة في الطاعون، ودُفن بجانبها عند خبَّاب بن الأَرَتّ لما نذكر في ترجمته. ذكر سن أمير المؤمنين: واختلفوا فيه على أقوال: أحدها ثلاث وستون، مثل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن سعد بإسناده إلى ابن إسحاق (¬1) قال: توفي علي وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقال الواقدي: وهو الثبت عندنا، قال: وقال محمد بن عمر بإسناده عن عبد الله بن ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 3/ 36: أبي إسحاق.

محمد بن عَقيل قال: سمعت محمد بن الحنفية يقول سنة الجُحاف حين دخلت سنة إحدى وثمانين: هذه السنة لي خمس وستّون سنة، وقد جاوزتُ سنّ أبي، قلت: وكم كان سنّه يوم قُتل؟ قال: ثلاث وستون سنة. ولم يذكر ابن سعد غير هذا القول. والثاني خمس وستون سنة، رواه حنبل بن إسحاق بإسناده إلى جعفر بن محمد، قال: توفي علي وله خمس وستون سنة، قال: وكذا طلحة والزبير. والثالث سبعة وخمسون سنة، قاله الهيثم. والرابع ثمان وخمسون سنة، رواه حنبل أيضًا عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: قُتل علي وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ومات لها الحسن، وقتل لها الحسين. وقال جعفر: سمعتُ أبي يقول لعمته فاطمة بنت الحسين أم عبد الله بن حسن بن حسن: هذه السنة لي ثمان وخمسون، فمات لها. والسادس: ستون قاله أبو اليقظان، والأشهر أنه كان له ثلاث وستون سنة، وقد نص عليه الواقدي كما ذكرنا، وقال الطبري: هو أصحّ ما قيل (¬1). ذكر خلافته: اختلفوا فيها، قال ابن سعد (¬2): كانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر. وكذا حكى الطبري، عن الخطيب (¬3)، عن أبي معشر قال: كانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، قال: وكذا قال الواقدي، وقال الهيثم: أربع سنين وستة أشهر، والأول أصح، لأنه بُويع في ذي الحجة لثمان عشرة خلت منه، سنة خمس وثلاثين، وقيل: في رمضان سنة أربعين. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 151. (¬2) في طبقاته 3/ 36. (¬3) كذا، وقد روى الطبري 5/ 152 هذا الخبر عن شيخه أحمد بن ثابت الرازي، فظانه المصنف أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي أبا بكر صاحب تاريخ بغداد، والطبري أصغر من الخطيب باثنين وخمسين ومئة من السنين.

ذكر من قدم الحجاز بخبر أمير المؤمنين: ذكر البلاذري (¬1): أن الذي قدم بخبره سفيان بن أمية بن أبي سفيان بن [أمية بن] عبد شمس، وكذا ذكر ابن سعد (¬2)، قال: وبلغ عائشة فقالت: [من الطويل] فألقت عصاها واستقرَّتْ بها النَّوى ... كما قَرَّ عينًا بالإيابِ المسافِرُ وذكره الطبري أيضًا، وزاد عليه وقال: وقالت عائشة بعد ما أَنشدت البيت: مَن قَتَله؟ قالوا: رجلٌ من مُراد، فأنشدت: [من الوافر] فإن يك نائيًا فلقد نعاه ... نَعِيٌّ ليس في فِيه التُّرابُ فقالت لها زينب بنت أم سلمة: ألأمير المؤمنين تقولين هذا؟ فقالت: إني أنسى فذكِّروني. قال الطبري: وكان الذي ذهب بنَعيه سفيان بن أمية (¬3). ذكر النَّوْحِ عليه: قال ابن سعد (¬4): حدثنا محمد بن ربيعة الكلابي، عن طَلْق الأعمى، عن جدته قالت: كنت أنوح أنا وأم كلثوم بنت عليّ على عليٍّ - عليه السلام -. ذكر مراثيه - عليه السلام -: قل أكثرت فيها الشعراء، فمن ذلك ما حكاه الطبري (¬5) قال: قال أبو الأسود الدِّيليّ: [من الوافر] ألا أبلغْ معاويةَ بنَ حَرْبٍ ... فلا قَرَّتْ عيونُ الشَّامِتينا أفي شهرِ الصِّيام فَجَعتمونا ... بخيرِ الناسِ طُرًّا أجمعينا ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 2/ 362. (¬2) في طبقاته 3/ 38. (¬3) في الطبري 5/ 150: سفيان بن عبد شمس بن أبي وقاص الزهري. (¬4) في الطبقات 3/ 37. (¬5) في تاريخه 5/ 150 - 151.

قتلتُم خيرَ مَن ركب المطايا ... ورَحَّلَها ومَن ركبَ السَّفينا ومن لَبس النِّعال ومَن حَذاها ... ومن قرأ المَثَانيَ والمِئينا إذا استقبلت وَجْهَ أبي حُسَينٍ ... رأيتَ البَدْرَ راعَ النَّاظِرينا لقد علمتْ قريشٌ حيث كانت ... بأنَّك خيرَها حَسَبًا ودينا وقال الهيثم: قال شاعر الخوارج عمران بنُ حِطَّان يرثي ابنَ مُلْجَم: [من البسيط] يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها ... إلا ليَبْلُغَ من ذي العَرْشِ رِضوانا إني لأذكُرُه يومًا فأحْسِبُه .. أوفى البريَّةِ عند الله مِيزانا أكرِمْ بقومٍ بُطونُ الأرضِ أَقْبُرُهُم ... لم يَخلِطوا دينَهم بغيًا وعُدوانا (¬1) ولما وقف أبو الطيّب الطَّبريّ على هذه الأبيات أجابه فقال: [من البسيط] إني لأبرأُ مما أنت قائلُه ... عن ابنِ مُلجم الملعون بُهتانا إني لأذكُره يومًا فألعَنُه ... [دِينًا] وألعنُ عِمرانًا وحِطَّانا عليك ثم عليه الدَّهرَ مُتَّصِلًا ... لعَائنُ اللهِ إشرارًا وإعْلانا فأنتم من كلاب النَّارِ جاء به ... نصُّ الشَّريعة بُرهانا وتِبيانا يريد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخوارج كلابُ أهل النار" (¬2). قلت: وهذا عمران بن حِطّان كان من شعراء الخوارج، عاش إلى أيام عبد الملك بن مروان، وبلغ قوله: يا ضربة من تقيٍّ عبد الملك، فنَذر دمَه، وأخذتْه الحميَّة، ووضع عليه العيون ليقتله، فهرب منه، وجعل يتقلَّب في الأمصار والبَراري، فلم يُجِرّه أحد، فأتى رَوْحَ بنّ زِنْباع -وكان خَصِيصًا بعبد الملك- فنزل عليه، وأقام في ضيافته أيامًا ولم يُعَرّفه نفسه، وكان عابدًا مُتَنَسِّكًا، فعارضه يومًا فرآه أديبًا، فأُعجب به رَوْح وقال: مَن أنت؟ قال: رجلٌ من الأزد، وأخبر ¬

_ (¬1) الكامل للمبرد 1085، والأغاني 18/ 111، ومروج الذهب 4/ 435، وتاريخ دمشق 12/ 671، والسير 4/ 215. (¬2) أبيات عمران وردّ الطبري والحديث في الأذكياء لابن الجوزي 246 - 247، وأخرج الحديث أحمد في مسنده (19130) عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -.

عبدَ الملك بفضله وزُهده وعبادته، ووَصفه له فقال: هو والله عِمران، فطَلَبه فهرب، وكتب إلى روح: [من البسيط] يا رَوْحُ كم من كريمٍ قد نزلتُ به ... وظنَّ ظنَّك من لَخْمٍ وغَسَّانِ حتى إذا خِفتُه زايَلْتُ مَنزِلَه ... من بعد ما قيل عِمرانُ بنُ حِطَّانِ قد كنتُ ضَيفَك حَوْلًا ما يُرَوِّعُني ... فيه طَوارِقُ من إنسٍ ولا جانِ حتى أردْتَ بي العُظمَى فأوحَشَني ... ما يُوحِشُ الناسَ من خَوفِ ابنِ مَرْوانِ لو كنتُ مُستغفِرًا يومًا لطاغِيةٍ ... كنتَ المقدَّمَ في سرٍّ وإعلانِ لكن أبَتْ ليَ آياتٌ مُفَصَّلةٌ ... عِند الولايةِ من طه وعِمرانِ ثم هرب إلى عمان، فأقام بها عند طائفةٍ من الخوارج حتى هَلَك (¬1). ولم أقف على تاريخ وفاته (¬2). وقد ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، فقال: عِمران بن حِطَّان السَّدُوسي، وكأن شاعرًا. وروى عن أبي موسى الأشعري وعائشة وغيرهما، هذا صورةُ ما ذكره ابن سعد (¬3). وقال غيره: البَصْري، وقد روى عن ابن عمر وابن عباس، وروى عنه ابن سيرين، ويحيى بن أبي كثير، ومُحارب بن دِثار، في آخرين. وقال قتادة: كان عمران لا يُتَّهم في الحديث، وهو تابعيٌّ ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: أدرك جماعةً من الصحابة، وتزوَّج امرأةً من الخوارج اسمُها خمرة، وكانت من أجمل النساء وأعقلهن، فأراد أن يَردّها عن مذهب الخوارج فردَّتُه هي إليه، وكان قبيحَ المنظر، فقالت له يومًا: أنا وأنت في الجنة، قال: ولم؟ قالت: ¬

_ (¬1) الكامل للمبرد 1083 - 1086، والأغاني 18/ 110 - 113. وتاريخ دمشق 12/ 671 (مخطوط)، والسير 4/ 214 - 215. (¬2) نقل الذهبي في السير 4/ 216 عن ابن قانع أنه توفي سنة أربع وثمانين. (¬3) في طبقاته 9/ 155.

لأنك أُعطيت مثلي فشكرتَ، وأُعطيتُ مثلَك فصَبرتُ، والصابر والشاكر في الجنة (¬1). وقال هشام: مرَّ عمران يومًا بالفرزدق وهو يُنشد، فوقف عليه ثم قال: [من الخفيف] أيُّها المادِحُ العِبادَ ليُعطى ... إنّ لله ما بأيدي العِبادِ فسَلِ الله ما طلبت إليهم ... وارْجُ فضل المهيمن العَوَّادِ لا تقل في الجَوادِ ما ليس فيه ... وتُسَمِّي البخيل باسم الجواد فقال الفرزدق: الحمد لله الذي شغل هذا عنا ببدعته، ولولا ذلك لَلقِينا منه بلاءً وعناءً (¬2). ذكر أزواج أمير المؤمنين وأولاده: قال ابن سعد: كأن له من الولد: الحسن، والحسين، وزينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى، وأمهم فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحمد الأكبر وهو ابن الحنفيّة، وأمُّه خولة بنت جعفر بن قيس بن مَسْلَمة بن ثعلبة [بن يربوع بن ثعلبة] بن الدُّول بن حَنيفة بن لُجَيم بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل. وعُبيد الله، قتله المختار بن أبي عبيد بالمَذار، وأبو بكر قُتل مع الحسين، ولا عَقِب لهما، وأمُّهما ليلى بنت مسعود بن خالد بن ثابت بن رِبْعيّ بن سَلْمى بن جَندل بن نَهْشل ابن دارِم بن مالك بن حَنْظلة بن مالك بن زَيد مَناة بن تَميم. والعباس الأكبر وعثمان وجعفر الأكبر وعبد الله، قتلوا مع الحسين بن علي، ولا بقية لهم، إلا العباس فإن له بَقيّة، وأمُّهم أمّ البَنين بنت حِزام بن خالد بن جعفر بن ربيعة بن الوحيد بن عامر بن كعب بن كلاب. ومحمد الأصغر قُتل مع الحسين، وأمُّه أم وَلَد. ويحيى وعَون، وأمهما أسماء بنت عُمَيس الخَثْعَمِيّة. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 12/ 667، 669 (مخطوط). (¬2) الأغاني 18/ 119 وتاريخ دمشق 12/ 670 - 671.

وعمر الأكبر ورُقَيّة، وأمهما الصُّهباء، وهي أمُّ حَبيب بنت ربيعة بن بُجَير بن العبد بن علقمة بن الحارث بن عُتبة بن سعد بن زهير بن جُشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غَنْم بن تَغْلب بن وائل. قال ابن سعد: وكانت سَبِيَّة، أصابها خالد بن الوليد حين أغار علي بني تَغْلِب بناحية عين التَّمْر. قال: وكان لعمر أولاد: محمد وأم موسى وأم حبيب، وأمهم أسماء بنت عقيل بن أبي طالب. وقد روى عمر الحديث وكان في ولده عدَّةً يحدّث عنهم، نذكرهم في مواضعهم. ومحمد الأوسط بن علي، وأمُّه أُمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العُزَّى بن عبد شمس بن عبد مَناف، وأمها زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأم زينب خديجة بنت خويلد. وأم الحسن ورَمْلَة الكبرى، وأمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفي. وأم هانئ، وميمونة، وزينب الصغرى، ورَمْلة الصغرى، وأم كلثوم الصغرى، وفاطمة، وأُمامة، وخديجة، وأم الكرام، وأم جعفر، وجُمانة، ونفيسة، وهن لأمهات الأولاد. قال: وابنة لعلي لم تُسمَّ لنا، توفيت وهي صغيرة لم تبرز، وأمّها مُحيّاة بنت امرئ القيس بن عديّ بن أوس بن جابر بن كعب بن عُلَيم، من كلب، كانت تخرج إلى المسجد وهي جارية، فيقال لها: مَن أخوالُك؟ فتقول: وَوْوَوْ، تعني كلبًا. قال: فجيمع أولاد علي - عليه السلام - لصُلبه أربعة عشر ذكرًا، وسبع عشرة امرأةً، وكان النَّسلُ من ولده لخمسة: الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس بن الكلابّية وعُمر بن التَّغلبيّة، هذا كلام ابن سعد (¬1). ¬

_ (¬1) طبقاته 3/ 17 - 19 و 7/ 117.

ولا بدّ من بسّط الكلام على هذه الجملة، وإيضاح ما أبْهمه ابن سعد، وما نقل عن العلماء كابن إسحاق والواقدي وهشام والبلاذري وغيرهم، فنقول: أول أزواجه فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتزوّج عليها حتى تُوفّيت عنده، وكان له منها الحسن، والحسين، وزينب الكبرى، وأم كُلثوم الكبرى، ويقال: إنه كان له منها ولدٌ آخر يقال له: مُحَسِّن، مات صغيرًا. قال الموفق رحمه الله في كتاب "الأنساب" مُحَسِّن بن علي - عليه السلام -، لا نعرفه إلا في الحديث الذي يرويه هانئ بن هانئ، عن علي قال: لما وُلد الحسن جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أروني ابني ما سمَّيتموه؟ " قال: فقلت: حربًا، قال: "بل هو حسن"، فلما ولد الحسين قال: "ما سمّيتموه؟ " قلت: حربًا، قال: "بل هو حُسَين"، فلما وُلد الثالث قال: "ما سمّيتموه؟ " قلت: حربًا، قال: "بل هو مُحَسّن" ثم قال: "إني سَمِّيُتهم بأسماء ولد هارون: شِبْر وشُبَير ومُشَبِّر". قال الموفّق: والظاهر أن المُحَسِّن مات طفلًا (¬1). وقد ذكرنا هذا الحديث في السنة الثالثة من الهجرة عند ولادة الحسن مُسندًا. وتزوَّج أمير المؤمنين بعد فاطمة أمَّ البنين بنت حِزام بن ربيعة بن الوليد بن كعب بن عامر بن كلاب، كذا نسبها الطبري (¬2)، ونَسَبُ ابن سعد أصحّ. وقال الهيثم: وحِزام بن ربيعة: أخو لبيد الشاعر. فأولدها العباس، وعثمان، وجعفر، وعبد الله، وقد ذكرنا أنهم قتلوا مع الحسين. وقال البلاذري: والعبَّاس يُلَقَّب بالسَّفَّاء، ويكنى أبا قِربة، لأنه حَمل للحسين قربةً من الماء يوم الطّفوف، ومالك بن حِزام أخو أم البَنين، قُتل مع المختار بالكوفة (¬3). ¬

_ (¬1) التبيين 133، وانظر تاريخ الطبري 5/ 153. (¬2) الذي في تاريخ الطبري 5/ 153: بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد ... (¬3) أنساب الأشراف 2/ 137.

ثم تزوج علي - عليه السلام - ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك بن رِبعيّ بن سَلْمى بن جندب (¬1) بن نَهْشَل بن دارِم بن مالك بن حَنْظلة بن زيد مناة (¬2) بن تميم، كذا نسبها هشام، وحكاه الطبري. ونسب ابن سعد أصح. فولدت له عُبيد الله وأبا بكر، واختلفوا فيهما، فحكينا عن ابن سعد أن عُبيد الله قتله المختار بالمَذار، وأبا بكر قُتل مع الحسين يوم الطّفوف. وحكى الطبري عن هشام: أنهما قتلا مع الحسين - عليه السلام -. وقال الواقدي كما ذكر ابن سعد أن عبيد الله قتله المختار. ثم تزوج أمير المؤمنين أسماء بنت عُمَيس الخَثْعَمِيّة، وقد حكينا عن ابن سعد أنها وَلدت له عونًا ويحيى. وحكى الطبري عن هشام: أنها وَلدت له محمدًا الأصغر، وقيل: إن محمدًا لأم ولد، ولا بقيَّة لهم (¬3). قلت: وهذه أسماء هي التي يقال لها: أم المحمَّدين، قال هشام: لأنها وَلدت لأبي بكر - رضي الله عنه - محمدًا، ولجعفر قبله محمدًا، ولعلي - عليه السلام - محمدًا، وقد ذكرناها. وقال الواقدي: لم تلد لعلي - عليه السلام - ولدًا اسمُه محمد، والأول أشهر. وقال الزبير بن بكار: مات يحيى بن علي صغيرًا. وقال هشام: ثم تسرَّى علي - عليه السلام - خَولة بنت جعفر من بني حنيفة، أم محمد، من سَبْي اليمامة سِندِيّة. وقال الهيثم: ويقال لأبيها جعفر جان الصفا، سُبِيَت في أيام أبي بكر، فرآها قوم فعرفوها، فأخبروا عليًّا فاشتراها وأعتقها ومهرها وتزوَّجها. ¬

_ (¬1) في الطبري 5/ 135: جندل. (¬2) في الطبري 5/ 154: بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 154.

ثم تزوج علي أُمامة بنت أبي العاص بن الرَّبيع، فولدت له محمدًا الأوسط. وقال البلاذري (¬1): لما استُشهد أمير المؤمنين، كتب معاوية إلى المدينة إلى مروان بن الحكم وهو عاملُه عليها أن يُزوّجه أُمامة، فأرسل إليها فقالت: قد ولَّيتُ أمري المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وبلغه الخبر، فقال المغيرة: اشهدوا أني قد تزوَّجتُها، وبلغ معاوية الخبر فسكت. ثم تزوج علي - عليه السلام - أم سعيد ابنة عروة بن مَسعود الثقفيّ، فوَلدت له أم الحسن، ورَمْلة الكبرى، كذا حكى ابن سعد، وقد حكاه الطبري أيضًا (¬2). وقال البلاذري: وَلدت له عمر الأصغر، قال: وقيل إنه لأمّ ولد (¬3). ثم تزوج علي - عليه السلام - الصَّهباء، وهي أم حَبيب بنت رَبيعة، وقد نسبها ابن سعد إلى بكر بن وائل (¬4)، فوَلدت له عمر الأكبر، ورقيَّة. وقال الطبري: فعُمِّر عمر بن علي حتى بلغ خمسًا وثمانين سنة، فحاز نصف ميراثِ علي - عليه السلام -، ومات بيَنْبُع، ولم يذكر الطبري تاريخ وفاته. وقال هشام: مات سنة سبع وستين، وكان أشبه الناس بأبيه. وقال البلاذري: أم حَبيب بنت جُبَير بن بُجَير، تغلبية (¬5). ثم تزوج أمير المؤمنين مُحَيَّاة ابنة امرئ القيس بن عديّ بن أوس بن جابر بن كعب بن عُلَيم، من كلب، فولدت له جاريةً هلكتْ وهي صغيرة. قلت: وهذه البنت التي ذكرها ابن سعد، وأنها كانت تخرج إلى المسجد وهي جارية فتقول: وَوْوَوْ، وقد ذكرها البلاذري (¬6) وقال: كانت تُكنى أم يَعلى، ماتت وهي ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 2/ 138. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 154. (¬3) أنساب الأشراف 2/ 138. (¬4) نسبها ابن سعد 3/ 18، والطبري 5/ 154 إلى تغلب بن وائل. (¬5) في أنساب الأشراف 2/ 138: أم حبيب بنت حبيب بن بجير التغلبي. (¬6) في أنساب الأشراف، وانظر الطبري 5/ 155.

صغيرة، قال: وقال هشام بن الكلبي، عن عبد الله بن حسن قال (¬1): قدم امرؤ القيس بن عدي بن أوس بن جابر على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو الذي أغار علي بني بكر بن وائل، وأسر الدّعّاء بن عمرو- فأسلم، وعقد عمر له لواء علي بني قُضاعة، فلم يُرَ رجلٌ لم يصلّ لله سجدةً قط عُقِدَ له لواءٌ على المسلمين إلا هو. فخرج ولواؤه يهتزُّ بين يديه، فأدركه علي - عليه السلام -، فأخذ بمنكبه وقال: يا عمّ، أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذان ابناي الحسن والحسين، أمهما فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أحببتُ مُصاهرتَك لي ولهما فزوِّجنا، فقال: كرامةً ونُعْمَ عين، قد زوَّجتُك يا أبا الحسن المُحيَّاة بنت امرئ القيس، وزوجت حسنًا زينب، والحسين الرّباب ابنتي امرئ القيس، قال: فوَلدت المحيَّاة لعلي ابنة صغيرة يقال لها: أم يَعلى، فكانت تخرج إلى المسجد، فيقال لها: مَن أخوالك؟ فتقول: وَوْوَوْ .... وذكره. قال: ولم تلد زينب للحسن، وولدت الرّباب سُكَينة بنت الحسين، فتزوجها عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان أبا عُذْرِها، فمات عنها، فتزوّجها مصعب بن الزبير، فولدت له فاطمة، ومات مصعب عنها، فخطبها عبد الملك بن مروان فقالت: أبو الذباب، لاهَا الله ذا، وكانت تقول: يا أهل الكوفة، أيتَمتموني صغيرة، وأرْمَلْتموني كبيرة. وسنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. وقال البلاذري: وتزوج أمير المؤمنين أيضًا ميمونة بنت علي بن عبد الله بن عقيل بن أبي طالب (¬2)، ثم خلف عليها كَثير بن العباس. ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 2/ 139: حدثني عباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن حسن، عن عبد الجبار بن منظور بن زبان الفزاري، عن عوف بن حارثة المري قال. (¬2) كذا، وهو خطأ صرف وتخليط من مختصري الكتاب أو نساخه، فإن البلاذري 2/ 138 عدّد أزواج بنات علي - رضي الله عنه -، فقال: وميمونة تزوجها عبد الله بن عقيل. اهـ.

قال: وتزوّج كثير بن العباس أيضًا أم كلثوم الصُّغرى قبل أختها زينب، وقيل بعدها. قال: وتزوّج خديجة بنت أمير المؤمنين: عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب. قال: وتزوّج نَفيسة بنت أمير المؤمنين: تمّام بن العباس بن عبد المطلب. وقال المدائني: وفاطمة بنت علي - عليه السلام -؛ أمُّها أم وَلدَ، روت عن أسماء بنت عُمَيس، وأخيها لأبيها محمد بن الحنفية، وكانت مع الحسين لما قُتل، وقدموا بها دمشق مع السَّبْي. وقال الزُّبَير بن بَكَّار: كانت فاطمة بنت علي هذه عند محمد بن أبي سعيد بن عَقيل بن أبي طالب، فوَلدت له حُمَيدة، ثم خلف عليها سعيد بن الأسود بن أبي البَخْتَريّ بن هشام بن الحارث بن عبد العُزَّى بن قصيّ، فولدت له بَرَّة وخالدة، ثم خلف عليها المنذر بن عُبَيدة بن الزبير بن العوّام، فوَلدت له عثمان دَرَج، قال: وتُوفّيت فاطمة هذه وسُكَينة بنت الحسين في سنة تسع عشرة [ومئة] (¬1) وسنذكرهما. قال: وكان عامة بنات أمير المؤمنين عند وَلَد عَقيل والعباس، لم يَخرج عنهم منهنّ سوى أربع: أم كلثوم بنت فاطمة، تزوّجها عمر بن الخطاب. وزينب الكبرى وأمّها فاطمة أيضًا، تزوجها عبد الله بن جعفر فوَلدت له. وأم الحسن (¬2) بنت علي، كانت عند جَعْدة بن هُبَيرة المَخزومي. وفاطمة بنت علي، كانت [عند] سعيد بن الأسود، من بني الحارث بن أسَد. وقال هشام: استُشهد علي - عليه السلام - وترك أربع حرائر: أُمامة بنت أبي العاص، ولَيلى التَّميمية، وأمّ البَنين كِلابيّة، وأسماء بنت عُمَيْس، وثماني عشرة أمّ وَلَد. وقال أبو عمرو الشيباني: دخل الأشعث بن قيس على علي - عليه السلام - وبين يديه صَبّية تَدْرُج، دقال: مَن هذه؟ فقال علي: ابنتي زينب من فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) نسب قريش 46، وانظر تاريخ دمشق 299، 301 (تراجم النساء). (¬2) في أنساب الأشراف 2/ 138، ونسب قريش 45: أم الحسين، وسماها ابن سعد والطبري: أم الحسن، كما سلف قريبًا.

فقال: زوِّجنيها، فقال: اغْرُب، بفيك الكَثْكَثُ، ولك الأَثْلَب، أغرَّك ابنُ أبي قُحافة حيث زوَّجك أمَّ فَروة، وإنها لم تكن لا من العَواتِك، ولا من الفَواطم من سُليم، فقال: قد زوَّجتم مَن هو أخمل مني نَسبًا، وأوضع حَسَبًا، قال: ومَن هو؟ قال: المِقداد بن الأسود، قال: فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أعلم بما فَعَل، ولئن عُدتَ إلى مِثلها لأسُوأنّك (¬1). والكَثْكَثُ: فُتاتُ الحجارة والتراب، وفيه لغتان: كسر الكاف وفتحها، والأَثْلَبُ أيضًا فيها لغتان الكسر والفتح، وهو مثله (¬2)، وقيل: هذا دعاء عليه، مثل قولك: ثَكِلَتك أمُّك. وأما قول الأشعث عن المقداد فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد زوَّجه ضُباعة بنت الزبير، وهي ابنة عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرناه في سنة ثلاث وثلاثين في ترجمة المِقداد، وكان المقداد من المهاجرين الأوَّلين وأهل بدر، ولم يكن مثل الأشعث بن قيس؛ فإنه ارتدَّ عن الإسلام، وقد ذكرنا عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه نَدِم عند الموت على تركه حيث لم يقتله، وكان من المنافقين على أمير المؤمنين، ثم رأى رأيَ الخوارج في آخر عُمره، وجَعْدة ابنتُه هي سَمَّت الحَسَن لما نذكره. ذكر موالي أمير المؤمنين: كان له عدة موالي، والمشهور منهم قَنْبَر، ويحيى بن أبي كثير، فأما قَنبر فكان يُلازمه، وأما يحيى فروى عنه الحديث، وروى عنه الأوزاعي، وكان عالمًا فاضلًا. قال أبو إسحاق السَّخْتِياني (¬3): ما بقي على وجه الأرض أعلم من يحيى، مات سنة تسع وعشرين ومئة. وروى عنه ابنه عبد الله بن يحيى (¬4). ¬

_ (¬1) العقد الفريد 6/ 136. (¬2) انظر الصحاح 1/ 290. (¬3) كذا، وهو أيوب بن أبي تميمة، أبو بكر البصري، انظر تهذيب الكمال (597) وفروعه. (¬4) انظر المعارف 218.

ذكر عُمّاله ونَقْشِ خاتمه: كان عامله في هذه السنة على البصرة عبد الله بن عباس، ثم انتقل إلى مكة وقد ذكرناه، وكان قاضيه على البصرة أبو الأسود الدِّيلي. وكان عامله على فارس وكَرْمان زياد بن أبيه، وقد ذكرنا توليتَه له تلك الأماكن. وعلى اليمن ومَخاليفها عُبيد الله بن عباس، ولما قصده بُسْر بن أبي أَرْطاة عاد إلى الكوفة. وكان على مكة والطائف قُثَم بن العباس. وعلى المدينة أبو أيّوب (¬1) الأنصاري، وقيل: سَهل بن حُنَيف، ولما قَدِم بُسْر بن أبي أرطاة الحجاز عاد قُثَم إلى الكوفة. وأما نَقْشُ خاتمه فقال ابن سعد بإسناده عن محمد بن علي قال: كان نَقْشُ خاتم علي بن أبي طالب: اللهُ المَلِك. وروى ابن سعد أيضًا عن أبي إسحاق الشَّيباني قال: قرأتُ نقشَ خاتم علي عليه السلام في صُلْحِ أهل الشام: محمد رسول الله. وفي رواية هشام، عن أبيه: الله الملِك، عليّ عبدُه. وروى ابن سعد عن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه: أن عليًّا - عليه السلام - كان يتختَّم في اليسار (¬2). ذكر ميراثه: قال ابن سعد بإسناده عن هُبَيرة بن يَريم قال: سمعتُ الحسن بن علي قام فخطب الناسَ وقال: أيُّها الناس، لقد فارقكم أمسِ رجلٌ ما سبقه الأوَّلون، ولا يُدركه الآخرون، لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعثه البعث، فيعطيه الراية، فما تُرَدُّ حتى يَفتح الله ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): أبو تراب؟ ! وانظر الطبري 5/ 155 - 156. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 28 - 29، وأنساب الأشراف 2/ 134.

له، إن جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، ما ترك صَفراء ولا بيضاء إلا سبع مئة دِرهم فضلت من عطاياه؛ أراد أن يَشتري بها خادمًا. وفي رواية ابن سعد أيضًا: ولقد قُبض في الليلة التي عُرج فيها بروح الله عيسى بن مريم، ليلة سبعٍ وعشرين من شهر رمضان (¬1). وروى الواقدي عن الحسن بن علي - عليه السلام - أنه قال: والله ما خَلّف أبي دينارًا ولا درهمًا، ولا بيضاء ولا صفراء؛ سوى سبع مئة درهم؛ أعدّها ليشتري بها خادمًا لأهله. فإن قيل: فقد قال أحمد بن حنبل (¬2) بإسناده عن محمد بن كعب القُرَظِيّ، عن علي - عليه السلام - أنه قال: لقد رأيتُني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإني لأربط الحَجَر على بطني من الجوع، وإن صدقتي لتبلغ اليوم أربعين ألفًا أو لأربعون ألفًا، وهذا يدلُّ على أنه كان له مالٌ كثير. فالجواب من وجوه: أحدها: أن أبا الحُسين بن فارس اللّغوي قال: سألتُ أبي عن هذا الحديث فقال: معناه أن الذي تصدَّقتُ به منذ كان لي مال إلى اليوم كذا وكذا (¬3). والثاني: أن معناه: كان لي مال فتصدَّقتُ به؛ وأنه كان يبلغ أربعين ألفًا. والثالث: أنه ليس في الحديث أن ما تصدق به وما خرج عنه، فيكون معناه: وإن صَدقتي لتبلغ اليوم أربعين ألفًا؛ ثم خرجتُ عن الجميع لما وَليت الخلافة، والدليل عليه قوله عليه السلام: يا بيضاء، يا صفراء، غرِّي غيري، وما ذكرنا من خُشونة لِباسه، وخُشونة مطعمه، واقتناعه باليسير من الدنيا. * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 37. (¬2) في مسنده (1367). (¬3) نقله عن ابن فارس: المحبُّ الطبري في الرياض النضرة 1/ 284.

ذكر مقتل ابن ملجم

ذكر مقتل ابن مُلْجَم قد ذكرنا قول أمير المؤمنين لبَنيه: إذا متُّ فألْحِقوا بي ابن مُلجم أخاصمه عند الله. وقال ابن سعد: وكان ابن ملجم في السجن، فلما دُفن علي - عليه السلام - بعث الحسن بن علي فأخرجه من السجن ليقتله، واجتمع الناس، وجاؤوا بالنفط والبواري والنار، فقالوا: نحرقه، فقال عبد الله بن جعفر والحسين بن علي ومحمد بن الحنفيّة: دعونا حتى نَشفي أنفسَنا منه أولًا، فقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه، فلم يجزع ولم يتكلّم، فكحل عينيه بمسمارٍ مُحمىً فلم يجزع، وجعل يقول: إنك لتَكحل عيني عَمِّك بمُلْمُولٍ مَضٍّ، وجعل يقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} إلى آخر السورة وإن عينيه لتَسيلان، ثم أمر به فعولج عن لسانه ليَقطعه فجَزِع، فقيل له: قطعنا يديك ورجليك، وسَمَلْنا عينيك يا عدوّ الله فلم تَجزع، فلما صِرنا إلى لسانك جَزعتَ؟ ! فقال: ما ذاك مني جَزَعٌ، إلا أني أكره أن أكون في الدنيا فُواقًا لا أذكر الله، فقطعوا لسانه، وجعلوه في قَوْصَرة، وأحرقوه بالنار. قال ابن سعد: والعبّاس بن علي يومئذٍ صغير، فلم يُستَأْن به بلوغه، قال: وكان ابن مُلجم رجلًا أسمر، حسنَ الوَجْه أفلج، شعره مع شَحمة أُذنيه، في جبهته أثَرُ السُّجود. هذا قول ابن سعد (¬1). وحكى الطبري أن أمير المؤمنين قال: يا حسن، إن أنا مت من ضربته فاضربه ضربةً بضربة ولا تُمثّلن بالرجل، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إياكم والمُثْلَة ولو بالكلب العَقور". فلما قبض بعث الحسن إلى ابن ملجم، فأخرجه من الحبس، فقال للحسن: هل لك في خَصلة؟ إني والله ما أعطيتُ اللهَ عهدًا إلا وَفيتُ به، إني كنتُ أعطيتُ اللهَ عهدًا يوم التّحكيم أن أقتل عليًّا ومعاوية، أو أموتَ دونهما، إن شئتَ خلّيتَ بيني وبين معاوية، ¬

_ (¬1) في طبقاته 3/ 38.

ولله عليّ إن لم أقتله -أو قتلته وبقيت- أن آتيك، فأضع يدي في يدك، فقال له الحسن: لا والله حتى تُعاينَ النار، ففعل به ما فعل. وذكر المدائني: أن أمير المؤمنين أمرهم أن يُمَثّلوا به، وهو وَهْمٌ منه لما روينا من النّهي عن المُثْلَة، وأنها حرام، فكيف يأمر بالحرام، وما فعله به أولاد علي - عليه السلام - فكان من رأيهم لا من رأيه، لأنه قال: ضربة بضَرْبة، كما قلنا. وقيل: إن أم الهيثم بنت الأسود أخذت جُثَّته فأحرقتها، وذكر علي بن عَقيل في كتاب "الفنون" أن ابن مُلْجَم قال للحسن: إني أريد أن أُسَارَّك بشيء، فأبى الحسن وقال: إنه يريد أن يَعَضّ أُذني، فقال ابنُ مُلْجَم: والله لو أمكنني منها لأخذتُها من صِماخها. ثم قال ابن عقيل: انظرو إلى حُسنِ رأي هذا السَّيِّد؛ الذي قد نزل به من المصيبة الفادحة ما يذهل الخلق، ويقظته إلى هذا الحدّ، وانظروا إلى ذلك اللعين؛ كيف لم يَشْغَلْه حالمه عن استزادة غِشّه (¬1)! قلت: وقول ابن سعد: والعباس بن علي صغير فلم يُسْتَأْن به بلوغه؛ دليل لأبي حنيفة: أنه إذا قُتل إنسان وله وَرَثة كبار وصغار فللكبار أن يقتلوا القاتل وإن لم يَبلغ الصغار، وهو قول فقهاء الصحابة، وعند أبي يوسف ومحمد ومالك والشافعي وأحمد أنه ليس للكبار ذلك حتى يَبلغ الصغار، فإذا بلغوا اجتمعوا على الاستيفاء. وجه قولهم: أنه حقٌّ مُشتَرك، فلا يَنفرد أحدهم باستيفائه كما لو كانوا كبارًا، ولأبي حنيفة استيفاءُ القصاص من ابن مُلْجَم وفي الوَرَثة صِغار، وفَعل الحسن ذلك بمَحضرٍ من أعيان الصحابة، وقد كان فيهم جماعة من أهل بدر، فحلّ محلَّ الإجماع، ولا يقال: فعله سياسة؛ لأن القتل سياسة إنما يُفَوَّضُ إلى رأي الإمام؛ لأنه قد روي أن الحسن إنما قتله قبل أن يُبايَع بالخلافة، وقبلَ أن يَقع الإجماعُ على إمامته، وقولهم: ¬

_ (¬1) نقله عن ابن عقيل: ابنُ القيم في الطرق الحكمية ص 38.

حقٌّ مُشتَرَك، قلنا: الصغير عاجز فيقوم الكبير القادِرُ مَقامه (¬1). قلت: ونقلتُ من خطّ جدّي رحمه الله من جزء فيه فضائل عاشوراء؛ أحضره إليّ أبو سليمان خالد بن يوسف النابلسي المحدِّث الحافظ بدمشق في أواخر سنة إحدى وخمسين وست مئة، قال جدي: روى أبو بكر أحمد بن موسى بن مَرْدَويه الحافظ في كتاب "مناقب أمير المؤمنين" بإسناده عن أبي منصور بن عمار: قال بعثني هارون الرشيد إلى بلد الروم في بعض أموره، فأنزلني على بِطريق من البطارقة، فكنت عنده زمانًا أو حينًا، فأنِسَ بي، ثم قال لي يومًا: حدثني هذا الرَّاهب -وأومأ إلى راهب في صومعة، وقال: هو فيها منذ أربعين سنة، قلت له: حَدَّثني بأعجب ما رأيتَ في صومعتك هذه- فقال: بينما أنا فيبها إذ خرج من البحر طائر عظيم، أعظم من بُخْتيّ، فرفرف على صومعتي، فهالني ذلك هولًا عظيمًا، ثم سقط إلى الأرض، ورمى من منقاره رأسَ إنسانٍ ويديه ورجليه، ثم استوى ذلك رجلًا قائمًا، فعاد الطائر فابتلعه ورجع إلى البحر، ثم خرج في اليوم الثاني، والثالث ففعل كذلك. قال: فلما كان في اليوم الثالث قبل أن يَبتلعه قلت للرجل: بالذي ترجوه أن يُفرِّج عنك مما أنت فيه، مَن أنت؟ فقال: أنا عبد الرحمن بن مُلْجَم قاتل علي بن أبي طالب، وَكَّل الله بي هذا الطائر؛ يفعل بي هذا كلّ يوم إلى يوم القيامة. ثم قال جدي: ويُصدِّق هذا الحديث ما روى أبو محمد بن قتيبة في كتاب "غريب الحديث" من حديث عكرمة: أن رجلًا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني مررتُ بجَبوب بدر -والجَبوب: الأرض الغليظة- وإذا برجلٍ أبيض، ورجلٍ أسود بيده مِرْزَبة من حديد؛ يضربه بها الضَّربةَ فيغيب في الأرض، ثم يبدو فيضربه بها فيغيب، ثم يبدو فيضربه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك أبو جهل، يُفعَل به ذلك إلى يوم القيامة" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر في هذه المسألة المغني 11/ 576 - 577، وبدائع الصنائع 10/ 271 - 272، والمبسوط 26/ 174، وحاشية ابن عابدين 6/ 539. (¬2) الخبر في تصحيفات المحدثين 1/ 47، والفائق 1/ 186، ولم أقف عليه في غريب الحديث لابن قتيبة بطبعتيه.

قلت: وقد ذكر الجوهري الجَبوب وقال: هي الأرض الغليظة، ويقال: وجه الأرض، فلا يُجمع (¬1). ذكر مسانيده: واختلفوا فيها، فقال ابن مَنْده: أسند خمس مئة وسبعة وثلاثين حديثًا. وقال أبو نعيم الأصفهاني: أسند أربع مئة ونيّفًا من المتون سوى الطُّرق، وقال ابن البَرْقي: الذي حُفظ عنه نحو من مئتي حديث (¬2). وكذا أخرج له أحمد بن حنبل في "مسنده" مئتي حديث ونيِّفًا. أخرج له في الصحيحين أربعة وأربعون حديثًا. المتفق عليه منها عشرون، وانفرد البخاري بتسعة عشر، ومسلم بخمسة (¬3). وروى علي عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنه -. وروى عنه الجمُّ الغَفير فنذكر أعيانهم: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية بنوه، وطلحة، والزبير، والعبادلة: ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وابن جعفر، وأبو موسى الأشعري، وأبو سعيد الخُدري، وأبو رافع، وأبو أُمامة، وأبو هريرة، وأبو جُحَيفة، وأبو ليلى، وأبو الطُّفَيل، وأبو سَرِيحة حُذَيفة بن أسيد، وصُهَيب الرُّومي، وزيد بن أرقم، وحُذَيفة بن اليَمان، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، وخبّاب بن الأَرَتّ، وجَرير بن عبد الله البَجَلي، وسَفِينة، وأبو أيوب الأنصاري، وجابر بن سَمُرة، والمغيرة بن شُعبة، وعَمرو بن حُرَيْث، والبراء بن عازب، وعُمارة بن رُوَيبة، وطارق بن شهاب، وطارق بن أَشْيَم الأشجَعيّ، وعبد الرحمن بن أَبْزى الخُزاعي في آخرين، ومن التابعين: عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابن المسيّب، والحسن البصري، وابن سيرين، وعَبيدة بن ¬

_ (¬1) صحاح الجوهري 1/ 97 (جبب). (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر 363. (¬3) في تلقيح فهوم أهل الأثر 396 (وعنه ينقل): انفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، اهـ قلت: وهو الصواب، انظر الجمع بين الصحيحين للحميدي (136 - 159).

عمرو السَّلْماني، والأسود بن يزيد، ومَسروق بن الأجْدَع، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو عبد الرحمن السُّلَميّ، وأبو أراكة، والكُمَيل بن زياد، وعَبْد خَير، والأشعث بن قيس، وأخوه الأحنف، وأبو الأسود الدِّيليّ، وقيس بن عُباد، وأبو رَجاء العُطارِديّ، وعامر الشَّعبيّ، وأبو ساسان حُضَين بن المنذر الرَّقاشيّ، وقَنبر مولاه، ويحيى بن [أبي] كثير مولاه أيضًا، في خلق كثير (¬1). فصل وليس في الصحابة من اسمه علي بن أبي طالب سواه، فأما من غير الصحابة فجماعة؛ أحدهم: علي بن أبي طالب أبو الحسن [البصري]، روى عن حماد بن سلمة وغيره. والثاني: علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب: مُهاجر، ويعرف بالدَّهَان، روى عن الهَيْصَم -ويقال: الهيثم- بن شَدّاخ العَبْديّ أو العدوي وغيره. والثالث: علي بن أبي طالب الجُرْجانيّ، روى عنه أبو سَهْل بن زياد القَطّان. والرابع: علي بن أبي طالب أبو الحسن الأَسْتراباذي، أخرج عنه أبو بكر الإسماعيليّ. والخامس: علي بن أبي طالب، تَنوخيّ، واسم أبيه أبي طالب: [محمد بن] أحمد بن إسحاق بن البهلول، روى عن أبي بكر بن مجاهد. والسادس: علي بن أبي طالب، بَكْر اباذي، مَحلَّةٌ من بلد جُرْجان، روى عن أبي أحمد بن عَديّ الحافظ وغيره. والسابع: علي بن أبي طالب، يقال له: الرزَّاز، واسم أبيه أبي طالب: أحمد بن محمد بن بَيان، روى عن أبي علي بن شاذان، وهو آخر من روى جزء ابن عَرَفة. ¬

_ (¬1) انظر تهذيب الكمال 20/ 473 فما بعدها.

ذكر مسانيد علي بن أبي طالب

والثامن: علي بن أبي طالب، قاضي القضاة ببغداد، الزَّينَبي، روى عن أبيه، وعمه طِراد بن محمَّد، وابن البَطِر، وابن العَلَّاف وغيرهم (¬1). ذكر مسانيد علي بن أبي طالب: قال أحمد بن حنبل (¬2) بإسناده عن حَنَش، عن علي قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فانتهينا إلى قومٍ بَنَوْا زُبْيَةً للأسد، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سَقط رجل فيها، فتعلّق بآخر، ثم تعلّق رجلٌ بآخر، حتى صارو فيها أربعة، فجَرحَهم الأسد، فانتَدبَ له رجلُ بحَرْبَةٍ فقتله، وماتوا من جِراحته كلّهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر، ولَبسوا السلاح، فأتاهم علي على تَفيئةِ ذلك، فقال لهم: تريدون أن تقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيّ؟ ! إني أقضي بينكم بقضاء فإن رضيتموه، وإلا تحاجزوا تأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فتسألونه، فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمَن عدا بعد ذلك فلا حقَّ له، قالوا: نعم. قال: اجمعوا من قبائل الذين حضروا البئر رُبُعَ الدِّية، وثُلُث الدّية، ونِصف الدية، والدية كاملة، فللأول الربع لأنه أهلك مَن فوقه، وللثاني ثُلث الدية، وللثالث نصف الدية، وللرابع الدية كاملة. فلم يَرضَوْا، وأتَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عند مقام إبرهيم، فقَصُّوا عليه القصة، فقال: "أنا أقضي بينكم" واحتبى، فقال رجل من القوم: إن عليًّا قضى فينا بكذا وكذا، وقَصُّوا عليه القصة، فأجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وفي هذا الحديث كلام طويل؛ فإن محمد رحمه الله قال في "الجامع الصغير" وغيره: إن الإنسان إذا حفر بئرًا في مِلكه فتَلِف بذلك إنسان أو بَهيمة؛ فلا ديةَ عليه، ولا ضَمانَ في البهيمة، وإن كان في غير مِلكه ضَمِن؛ لأنه في الأوَّل غيرُ مُتَعَدٍّ بخلاف الثاني، وينبغي أن يكون حافرُ الزُّبْيَةِ على هذا، وكذا جِراحةُ الأسَد تكون هَدَرًا. قال محمد رحمه الله: رجلٌ شَجَّ نفسَه، وشَجَّه غيرُه، وعقره أسد، ونهشته حية، ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر 619، وتحرف في مطبوعه الزيني إلى الدنقشي؟ ! وما بين معكوفين منه. (¬2) في مسنده (573).

ذكر ما جرى للبرك مع معاوية

فمات من ذلك، فالحيَّةُ والأسَد شيءٌ واحد، وعلى الأجنبي ثلث الدِّية (¬1)؛ لأن جِراحة الأسَدِ والحيَّةِ بمَنْزِلَةِ جراحةٍ واحدة؛ لأن كليهما يَرجعان إلى حُكم الإهدار، فقد تَلِفَتْ نفسُه بثلاث جِراحات: جِراحة نفسه، وجِراحة الأسد، وجِراحة الحيَّة، وقد ذكرنا أنهما هدر، بقي فعل الأجنبي فيجب فيه ثُلثُ الدِّيَة، وما يتعلّق بهذا وبالديات ذكرناه في "شرح الجامع الصغير". ذكر ما جرى للبُرَك مع معاوية قال علماء السير: قعد في تلك الليلة التي ضُرب فيها أمير المؤمنين لمعاوية، فلما خرج ليُصَلّي بالناس الفجر وَثب عليه بالسيف، فضربه فوقع في أَلْيته وفاته، فأُخِذ، فجيء به إلى معاوية فقال: وَيحك، ما الذي حَمَلك على هذا؟ فقال: إن لك عندي خبرًا أَسُرُّك به، فإن أخبرتُك فنافعي هو عندك؟ قال: وما هو؟ قال: إن أخًا لي قتل عليًّا في هذه الليلة، قال: فلعلّه لم يَقدِرْ عليه؟ قال: بلى، إن عليًّا ليس معه مَن يَحرُسُه، فأمر به فقُطعت يداه ورجلاه، ثم ضرب عُنُقَه، واتَّخذ معاوية المقصورة في جامع دمشق، وهو أوّل مَن اتَّخذها، وأقام الحرس. ثم أحضر معاوية الساعدي وكان طبيبًا حاذِقًا فقال: داوني، فقال: اختر إحدى خَصلتين: إما أن أحمِيَ حديدةً فأضعها موضعَ اليسف، وإما أن أسقيَك شَربةً تقطع عنك الولد وتبرأ منها؛ فإن ضَرْبتَك مَسمومة؟ فقال معاوية: أما النار فلا صبرَ لي عليها، وأما انقطاعُ الولد ففي يزيد وعبد الله ما تَقَرُّ به عيني، فسقاه تلك الشربة فبَرِئ، وانقطع نَسْلُه، وكان إذا سجد أقام الحرس على رأسه. وقال البلاذري (¬2): لم يقتل معاوية البُرَك، وإنما قطع يديه ورجليه -أو يده ورجله- ثم أطلقه، فصار إلى البَصرة ووُلِدَ له في زمان زياد بن أبيه، فأخذه زياد وقال له ¬

_ (¬1) الجامع الصغير 404. (¬2) في أنساب الأشراف 2/ 351.

ذكر ما جرى لعمرو بن بكر مع عمرو بن العاص

وَيلك، تركتَ أمير المؤمنين لا نَسْلَ له، فقتله وصَلَبه. والأول أصح، ذكره الطبريّ (¬1) وغيره. ذكر ما جرى لعمرو بن بكر مع عمرو بن العاص قال هشام: جلس في تلك الليلة عند السُّدّةِ بمصر ينتظر عمرو بن العاص، فاتّفق أن عَمْرًا اشتكى بطنَه في تلك الليلة، فأمر خارجة بن أبي حَبيبة (¬2) أن يُصلّي بالناس، وكان صاحب شُرطته، فشَدَّ عليه عمرو وهو يظنّ أنه عَمْرًا، فقَتَله. وقد ذكرنا ترجمةَ خارجة في هذه السنة، وأخذ عَمرًا الناسُ، فأتَوا به إلى عمرو بن العاص، وسلّموا عليه بالإمرة فقال عمرو: مَن هذا؟ قالوا: عَمرو بنُ العاص، فقال: يا فاسق، والله ما ظننتُه غيرك، فقال عمرو: أردتَ عَمرًا، وأراد الله خارجة، فذهبت مَثَلًا، وقد ذكرنا ذلك. وأمر بقطع يديه ورجليه وقَتْله، فلما أراد قَتْلَه بكى، فقال له: أجَزِعتَ؟ قال: لا والله، وإنما أبكي كيف قتلَ صاحباى عليًّا ومعاوية ولم أقتل أنا عَمْرًا، وكتب معاوية إلى عمرو: [من الطويل] وَقَتْكَ وأسبابُ المَنُون كثيرةٌ ... مَنِيَّةُ شيخٍ من لؤيِّ بن غالبِ فيا عَمرو مَهْلًا إنما أنت عَمُّه ... وصاحِبُه دون الرِّجالِ الأقارِبِ نَجوتَ وقد بَلَّ المُرادِيُّ سيفَه ... منْ ابنِ أبي شيخِ الأباطحِ طالبِ ويَضربني بالسيفِ آخرُ مثلُه ... فكانت عليه تلك ضَربَةَ لازب وأنت تُناغي كلَّ يومٍ وليلةٍ ... بمِصْرِك بِيضًا كالظِّباء السَّواربِ (¬3) ¬

_ (¬1) في تاريخه 5/ 149، وانظر المنتظم 5/ 178. (¬2) كذا، وفي أنساب الأشراف 2/ 350: خارجة بن أبي خارجة، وسلف عند المصنف في وفيات هذه السنة أنه: خارجة بن حُذافة بن غانم بن عامر العدوي، وأمه فاطمة بنت عمرو. فقوله هنا: خارجة بن أبي حبيبة خطأ وتحريف. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 149 - 150، وأنساب الأشراف 2/ 351، ومروج الذهب 4/ 436 - 438، والمنتظم 5/ 178 - 179.

فصل في ذكر بيعته وما يتعلق بها

وفي هذه السنة -وهي سنة أربعين- بُويع الحسن بن علي - عليه السلام - بالخلافة. فصل في ذكر بيعته وما يتعلّق بها اتفقوا على أنه بويع بالخلافة في شهر رمضان هذه السنة، وإنما اختلفوا في الوقت الذي بويع فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: في اليوم الذي استُشهد فيه أمير المؤمنين، قاله الواقدي. والثاني: في الليلة التي دُفن فيها أمير المؤمنين. والثالث: بعد وفاته بيومين، قاله ابنُ الكلبي. وأول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة قال: امدد يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله، فكان ذلك يأتي على كل شرط، وبايعه الناس. وفي رواية: أن قيس بن سعد قال له: وعلى قتال المخالفين، فقال له الحسن: كتاب الله وسنة رسوله يأتي على ذلك كله، فبايعه. قلت: وولي الحسن الخلافة وسِنُّه ما بين الثلاثين إلى الأربعين، ولم يبلغ الأربعين؛ لأنه ولد في السنة الثالثة من الهجرة على ما ذكرنا، وقد اتفق لجماعة من الخلفاء مثل هذا؛ منهم: عبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن الوليد، وأخوه إبراهيم بن الوليد، وهشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، ومن بني العباس: السفّاح، والمهدي (¬1)، والهادي، والواثق، والمهتدي، والمعتضد، والقاهر، والمتقي، والمطيع، والطائع، كلُّ هؤلاء وَلوا الخلافة ولم يبلغوا الأربعين. وقال الزهري: كان تحت يد قيس بن سعد سبعون ألفًا، وقيل: أربعون ألفًا، وهو الأصح لما نذكر. وقال الواقدي: لما بويع الحسن خطب فقال: ¬

_ (¬1) كان في المخطوطتين: ويزيد بن الوليد وأخوه إبراهيم ومن بني السفاح العباس وهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد والمهدي، فأصلحته كما ترى، وانظر تلقيح فهوم أهل الأثر 86 - 87.

يا أهل العراق، لقد قتلتُم رجلًا ما سبقه مَن كان قبلَه، ولا يُدركه مَن يأتي بعده، قبضه الله في الليلة التي رفع فيها إليه عيسى بن مريم، وقُبض فيها يُوشَع بن نون، وأنزل الله فيها القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأقام الحسن أيامًا يُفكّر في أمره. وحكى ابن يونس (¬2) عن الزهري، وذكر هشام: أن عليًّا - عليه السلام - جعل قيس بن سعد على مُقَدّمة أهل العراق في أربعين ألفًا، وولّاه أذربيجان، فبينما قيس على ذلك استُشهد علي - عليه السلام -، واستخلف الحسن، وكان الحسن لا يُريد القتال، ولكن يريد أن يأخُذَ لنفسه ما استطاع من معاوية، ثم يدخل في الجماعة، وعرف الحسن أن قيس بن سعد لا يُوافقه على رأيه، فنزعه عن أَذْرَبيجان، وأمَّر عليها عُبيد الله بن عباس، ولما علم عُبيد الله بما في نفس الحسن كتب إلى معاوية يَطلب الأمان لنفسه، ولما أصاب من الأموال، فأجابه معاوية إلى ذلك. وكتب ابن عباس إلى الحسن كتابًا يُعزّيه فيه بأمير المؤمنين، ويقول له: شَمِّر للحرب، وجاهد عدوَّك، واشتر مِن الظَّنين دينه بما لا يَثْلُم دينك، وولّ أهل البيوتات لتَستَصلِحَ به عشائرهم (¬3). وقال هشام: ولما بلغ معاوية وفاة أمير المؤمنين خطب فقال: إن الله أباح ابنَ أبي طالب مَن قتله؛ ببغيه وظُلمه وقطيعته لرَحمه، وقد وَلي مكانه ابنُه، وهو غِرّ حَدَث لا خِبرة له بالسياسة والحرب. وقد كتب إلي مَن قِبَلُه يلتمسون الأمان، وكان ذلك مَكيدة من معاوية (¬4). وبلغ الحسن فكتب إلى معاوية: من الحسن بن علي أمير المؤمنين وابن أمير ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 37 وسلف قريبًا. (¬2) في الطبري 5/ 158: حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، حدثنا أبي، حدثنا سليمان، حدثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري. (¬3) العقد الفريد 4/ 361. (¬4) أنساب الأشراف 2/ 379.

المؤمنين، إلى معاوية بن صخر، أما بعد، فإنك نَزَوتَ على هذا الأمر من غير سابقةٍ لك في الإسلام، ولا أثرٍ محمود في الدّين، فسفكتَ الدمَ الحرام، بقتل عثمان وأنت قتلته، وإني لأرجو أن أُلحِقَك به، وبلغني تَشفّيك بأمير المؤمنين، فإن الله اختار له دارَ أنبيائه، ومقرَّ أوليائه، وقد بايعني المهاجرون والأنصار وأشراف القبائل، وأنا سائر اليك بمئة ألف، قد بايعني منهم سبعون ألفًا -أو أربعون ألفًا- على الموت، حتى يَحكم الله بيني وبينك وهو خير الحاكمين. وقال الواقدي: وأقام الحسن بالكوفة شهر شوال وذي القعدة، واجتمع إليه الرؤساء والأشراف وقالوا: سِر بنا إلى الشام. وقيل: إنما أقام بالكوفة ستة أشهر، وقال له [قيس بن] سعد بن عُبادة: سِرْ بنا إلى قتال عدوِّنا، فنزل المدائن (¬1) بجيوشه، وبعث قيس بن سعد في مُقدّمته في اثني عشر ألفًا، وأقبل معاوية من الشام فنزل مَنْبج، وكتب إلى أشراف الكوفة، وبعث إليهم بالأموال، فخذلوا الحسن كما فعلوا بأبيه. وسار قيس بن سعد حتى نزل بمَسْكِن على دُجَيل، والحسن نازل على المدائن في العسكر، فبينما الناس على هذا إذ نادى منادٍ: ألا إن قيس بن سعد قد قُتل، فانفروا فنَفروا، وكانت مَكيدة من معاوية، وهَجم جماعة على الحسن إلى سُرادِقه فنهبوا متاعَه، حتى نازعوه بِساطًا كان تحته، وطعنه رجل بمِشْقَص فأدماه، فذُعر منهم، ودخل المقصورة البيضاء التي بالمدائن. والمِشْقَص -بالكسر- من النِّصال: ما طال وعرض. قال هشام: وكان على المدائن من قِبل أمير المؤمنين سعدُ بنُ مسعود عمّ المختار بن أبي عُبيد، فقال له المختار وهو يومئذٍ غلام حدث: هل لك في أمرٍ تَسود به العرب، ¬

_ (¬1) في (خ) و (ع): المدينة، وهو خطأ، والمثبت من طبقات ابن سعد 6/ 381، والطبري 5/ 159، وأنساب الأشراف 2/ 381، والمنتظم 5/ 166.

ويَحصل لك به الغنى والشَّرف؟ قال: وما هو؟ قال: تستوثق من الحسن (¬1)، وتُسلّمه إلى معاوية، فقال له سعد: لعنك الله، أَثِبُ على ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأُوثِقُه وأُسْلِمُه إلى ابن هند، بئس الرَّجل أنا إن فعلتُ ذلك. وفي رواية: فقال له سعد: يا مَلعون، ما هذا بلاؤهم عندنا أهل البيت. وقد أخرج القصةَ ابنُ سعد، عن موسى بن إسماعيل بإسناده، عن ثابت بن زهير (¬2) قال: لما أتى الحسن بن علي قصرَ المدائن قال المختار لعمّه: هل لك في أمرٍ تَسود به العرب؟ قال: وما هو؟ قال: تَدَعني أضربْ عُنُق هذا، وأذهب برأسه إلى معاوية، فقال: ما ذاك بلاؤهم عندنا أهل البيت. وقال البلاذري: وبلغ الشيعة: ظبيان بن عُمارة التميمي، والحارث الأعور، وغيرهما، قول المختار، فقصدوه ليقتلوه، فنهاهم الحسن عن قتله. وقال البلاذري: كان المختار عثمانيًّا؛ إلى أن بعث الحسين مسلمَ بنَ عَقيل إلى الكوفة، فجاء المختار فبايعه سرًّا (¬3). وقال البلاذري أيضًا: إن الحسن قبل وصوله المدائن نزل بساباط دون الجسر، وكان قد علم بواطنَ القوم، فقام فخطب وقال: إني لأرجو أن أكونَ أنصحَ خلقِ الله لهذه الأمة، وما أنا بمُحتمِلٍ على أحدٍ ضَغينة ولا حِقْدًا، ألا وإن الجماعة خيرٌ من الفرقة. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: خار والله وضَعُف، وقد عزم على الصُّلح، وشدُّوا على فُسطاطه فنهبوه، وشدَّ عليه عبد الرحمن بن أبي جِعال الأزدي، فنزع مِطرَفَه عن عاتقه. ¬

_ (¬1) كذا، والذي في الطبري 5/ 159، وأنساب الأشراف 2/ 382، والمنتظم 5/ 166: توثق الحسن، وهو الصواب. (¬2) في (خ): هرير، دون نقط، ولم أقف على الخبر في طبقات ابن سعد، ولا مَن نقله عنه. (¬3) أنساب الأشرف 6/ 38 - 39.

وانطلق الجَرَّاح بن سِنان -وكان يرى رأيَ الخوارج- فقعد له في مُظْلِمٍ ساباط، فلما جاء الحسن وثب إليه، فأخذ بلجام فرسه، وقال: أشركتَ يا حسن كما أشرك أبوك، ثم طعنه في فَخِذه بمِعْوَل، فشقَّ فخذه، وكاد أن يصل إلى العظم، فضربه الحسن في وجهه، واعتنقا وسقط الحسن إلى الأرض، ووَثب عبدل بن الحصل فنزع المعول من يد الجراح، ووثب ظبيان بن عُمارة التميمي على الجرّاح فقتله، وحمل سعد بن مسعود الحسنَ إلى أبيض المدائن، وجاء بطبيب فعالجه فبرئ (¬1). وقال الواقدي: وكان معاوية قد كتب إلى الحسن سرًّا يسأله الصلح ويقول: لو لم أعلم أنك ما تقوم بهذا الأمر قيامي لسَلَّمتُه إليك، ولكني أشدُّ سياسةً منك، وأقدم تَجربة، وأكبر سنًّا، وأجمع للمال، وأرهب للعدو، وأرفق بالمسلمين منك، فإن سلَّمتَ إليَّ الأمر فلله علي أن لا تُنازَعه بعدي، وأنني لا أستبدُّ بأمرٍ يُراد به وَجه الله دونك، ولك جميع ما في بيت مال العراق بالغًا ما بلغ، ولك خراج أيّ الكُوَر شئت بسبب نَفقتك، والسلام. فلم يجبه الحسن ظنًّا منه أن أهل العراق ينصرونه، فبعث الحسن بكتاب معاوية إلى ابن عباس، فكتب إليه ابن عباس: أَنشدُك الله في دماء هذه الأمة؛ أن تسفكها لتُصيبَ سلطانًا من الدنيا، عسى أن لا تُمتَّع به إلا قليلًا، وحرّضه على صُلْحِ معاوية. فإن قيل: هذا يُخالف كتابه الأول، قلنا: لما بلغ ابن عباس أن معاوية قد كاتب أهل العراق، ووَعدهم بالولايات، وبعث إليهم بالأموال واستمالهم، وليس مع الحسن إلا قيس بن سعد، وأنه لا يقوم مقام أمير المؤمنين، فخاف أن يُسلموه إلى معاوية، وجرت هذه الكائنة على الحسن في ساباط المدائن، فتحقق الحال، وبعث إلى معاوية يسأله الصُّلْح، فقال له أخوه الحسين: يا أخي، أَنشدك الله أن تُصدِّق أُحدوثةَ معاوية، وتُكذّبَ أُحدوثةَ أبيك، فقال له: يا أخي ما ترى ما نحن فيه؟ ! والله ما ننتظر إلا أن ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 381 - 382، ومظلم ساباط موضع مُضاف إلى ساباط التي قرب المدائن. معجم البلدان.

يُسلمونا إلى معاوية برقابنا، فقال له الحسين وعبد الله بن جعفر وابن الحنفيّة: لا تكذّب أبانا في قبره، ققال: أنا أكبر منكم وأعرف بالأمر، قالوا: فافعل ما بدا لك. وقال الهيثم: استدعى الحسنُ عبد الله بنَ جعفر وقال له: يا ابن العم، قد شاهدت ما جرى عليّ، وقد طالت الغَيبة فسُفِكَت الدّماء، وقُطّعت الأرحام، وأُخِيفَت السُّبُل، وتَعَطَّلَت الثُّغور، وقد عزمت على نزول المدينة، وأُخلّي بين معاوية وبين هذا الأمر، فقال: جزاك الله عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خيرًا، وأنا معك على هذا الحديث (¬1). وقد أخرج ابن سعد بمعناه عن عمرو بن سلمة بن عَمِيرة الهَمْدَاني -ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، ممن روى عن علي - عليه السلام -، وكان شريفًا- قال ابن سعد: بعثه الحسن بن علي إلى معاوية مع محمد بن الأشعث بن قيس في الصُّلح بينه وبين معاوية، فلما رآه معاوية أعجبه ما رأى من جَهْره وفَصاحته وجِسمه، فقال له: أمُضَريٌّ أنت؟ قال: لا، ثم قال: [من الطويل] إنّي لَمن قومٍ بنى الله مَجْدَهم ... على كلِّ بادٍ في الأنامِ وحاضِرِ من أبيات، ثم قال: أنا من هَمْدَان. قال ابن سعد: وكان عمرو ثِقةً قليلَ الحديث (¬2). وبعث معاوية إلى الحسن عبد الله بنَ عامر وعبد الرحمن بنَ سَمُرة وقال: مَنِّياه وأعطِياه ما أراد، فقَدِما عليه المدائن، فأعطياه ما أراد، وكان في كتاب الصُّلْح: هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان، أنني صالحتُه على أن الأمرَ له بعدي، وله علي عَهدُ الله ومِيثاقُه، وذِمَّةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ أنني لا أَبغيه ولا أهل بيته مَكروهًا ولا غائلةً، وأن له ما في بيت المال بالكوفة؛ وهو خمسة آلاف ألفِ درهم، وأن لا أذكرَ عليًّا بسوء، وأن لا أعرض لأحدٍ من شيعته بسوء .... وذكر شروطًا كثيرة شرطها عليه الحسن، وأشهد عليه أعيانَ الناس: عبد الله بن عامر، وعبد الرحمن بن سَمُرة بن ¬

_ (¬1) انظر طبقات ابن سعد 6/ 384 - 385. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 291.

كعب بن مالك

حبيب بن عبد شمس، وغيرهما (¬1). واختلفوا؛ هل كان الصُّلح في هذه السنة، أم في سنة إحدى وأربعين؟ والأصح أنه في سنة إحدى وأربعين. فنذكر من توفي في هذه السنة، وقد ذكرنا تراجمَ مَن توفّي فيها إلى حرف العين ترجمة علي - عليه السلام -، وقد بقيت ترجمتان: ترجمة كعب بن مالك، وترجمة لَبيد الشّاعر، فنذكرهما. وفيها توفي كعب بن مالك ابن أبي كعب بن القَين بن كعب بن سَواد بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة، شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من الأنصار من الخزرج، قال: وأُمُّه ليلى بنت زيد بن ثعلبة بن عُبيد، من بني سَلِمة (¬2). وكعب أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك، وتاب الله عليهم، وكُنيته أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو بَشير. وقال الواقدي: وكانت كُنيته في الجاهلية: أبو بشير، فكَناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عبد الله، ولم يكن لأبيه مالك ولدٌ سواه (¬3). قال ابن سعد: شهد أُحدًا، والخندق، والمشاهدَ كلّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خلا بدرًا وتبوك. ¬

_ (¬1) انظر أنساب الأشراف 2/ 385 - 386، وتاريخ الطبري 5/ 159 - 160. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 393. (¬3) أخرجه ابن عساكر 59/ 400 - 401 من طريق البغوي، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن هارون بن إسماعيل.

واختلفوا في شهوده بدرًا، فقال ابن سعد بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: آخى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين الزبير بن العَوّام وبين كعب بن مالك، قال الزبير: فلقد رأيتُ كعبًا أصابته الجِراحة بأُحُد، فقلت: لو مات لَورِثْتُه، حتى نزلت هذه الآية {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، فصارت المواريث بَعْدُ إلى الأرحام والقرابات، وانقطعت تلك المواريث في المُؤاخاة. ثم قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: وهذا عندنا ليس بثَبْتٍ، ولم يكن بعد بدر مُوارثة، وإنما جُرح كعب بن مالك بأُحُد بِضعةَ عشر جِراحة، وارتُثَّ، ولم يَشهد بدرًا (¬1). وهو وَهْمٌ منه، ولا خِلاف أنه شهد العَقَبة مع السبعين من الأنصار. وقال ابن أبي حاتم: كان من أهل الصُّفَّة (¬2). وهو الذي أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوس بنَ الحَدَثان فناديا في أيام التَّشْريق: إنها أيامُ أَكْل وشُرْب. قلت: وقد أخرج حديثهما مُسلم، وفيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهما أن يُناديا أن: "لا يدخل الجنةَ إلا مؤمن" (¬3). وقال سفيان بن عُيينة: هو عَقَبي، وليس ببدريّ. وقال ابن إسحاق: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الزبير، ويقال: بينه وبين طلحة بن عبيد الله. قال: وكعب أوَّل مَن بَشَّر المسلمين بحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد، وأعطى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَأمَته يوم أُحد -وكانت صفراء- فلَبِسها وقاتلَ فيها. قال كعب: عرفتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينيه وهما يَزْهَران من تحت المِغْفَر، ولم يعرفه ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 394. (¬2) الجرح والتعديل 7/ 160، ونقله المصنف عن ابن عساكر 59/ 403. (¬3) صحيح مسلم (1142).

غيري، فناديت: يا معاشر المسلمين، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأومأ إليَّ: أن اسكُت، وقد ذكرناه في غَزاة أُحد. وكان كعب شاعرًا مُفْلِقًا، قال ابن سعد بإسناده عن محمد بن سيرين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى كعبَ بن مالك على جَمل قد شنق له حتى بلغ رأس المَوْرِك، فقال: أين هو؟ فجاء من خلفه فقال: "هِيه"، فأنشده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَهو أشَدُّ عليهم من وَقْعِ النَّبْلِ" (¬1). وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه: أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، قد أنزل الله في الشعر ما أنزل، فكيف أصنع؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن يُجاهد بنَفْسه وبسيفه وبلسانه، والذي نفسي بيده، لكأنَّ ما تَرمونهم به نَضْحُ النَّبْل" (¬2). وقال ابن سعد بإسناده عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: لما حَضرتْ كعب بنَ مالك الوفاةُ أتَتْه أمُّ بِشر بن البَراء بن مَعْرور، فقالت: يا أبا عبد الرحمن، إن لَقيتَ ابني فلانًا فأقرئه مني السلام، فقال: يغفر الله لك يا أمَّ بِشر، لنحن أشغلُ من ذلك، فقالت: أما سمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أرواحَ المؤمنين طيرٌ خُضرٌ تَعْلُق من شجر الجنة"؟ قال: بلى، قالت: فهو ذاك (¬3). قلت: الحديث المشهور: "إن أرواح الشهداء" (¬4)، وإنما وقع هذا الحديث كذا. وقال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه كعب بن مالك: أنه كان له على عبد الله بن أبي حَدْرَد الأَسلميّ مالٌ، فلَقيه فلَزِمه، فتكلّما حتى ارتفعتْ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 395، وقوله: حتى بلغ رأس المورك؛ معناه: بالغ في جذب رأس الجمل إليه ليكفه عن السير. (¬2) مسند أحمد (27174). (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 393 - 394. (¬4) أخرجه أحمد (27166)، والترمذي (1641).

الأصواتُ، فمرّ بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا كعب" وأشار بيده كأنه يقول النِّصف، فأخَذ نِصْفًا مما عليه، وترك نِصفًا (¬1). قلت: وقد أخرجاه في الصحيحين (¬2) بمعناه، وأن رسول الله ف - صلى الله عليه وسلم - كان في بيته، وكانا في المسجد، فارتفعت أصواتُهما، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهما فقال: "يا كعب، ضَعْ من دَينك الشطر"، قال: قد فعلتُ، فقال: "قم فاقْضِه". وقال الواقدي: وَفَد كعب وحسان بن ثابت -وكانا عُثمانيَّيَن- على معاوية بعد قتل عثمان، فأعطى كلَّ واحدٍ منهما ألفَ دينار. وحكى ابن سعد عن الواقدي: أن كعبًا ذهب بَصَرُه في آخر عمره (¬3). واختلفوا في وفاته، فقال عامّة المؤرّخين: إنه توفي في سنة أربعين، وحكى ابن سعد عن الواقدي: أنه تُوفّي في سنة خمسين في خلافة معاوية وهو ابن [سبعٍ و] سبعين سنة (¬4). ذكر أولاده: قال ابن سعد: فوَلَد كعب بن مالك: عبد الله، وعُبيد الله، وفَضالة، ووَهبًا، ومَعْبَدًا، وخَوْلة، وسُعاد، وأمُّهم عميرة بنت جُبَير بن صَخْر بن أميَّة، من بني سَلِمة. وأم عُمر، تزوَّجها زياد بن عبد الله بن أنيس، حَليف بني سَواد. وعبد الرحمن، وأم قيس، تزوّجها عطية بن عبد الله بن أنيس، حَليف بني سواد، وأُمّهم أم وَلَد. ورَمْلَة، وأمُّها تُماضِر بنت مَعْقِل بن جُنْدب بن النَّضْر، من بني ثَعلبة بن سعد بن قيس. وسُمَيكَة، وكَبْشَة، وأمُّهما صَفِيّة من أهل اليمن. وصَفِيَّة لأُمّ وَلَد. وليلى وأمُّها أمُّ بِشر من جُهَينَة (¬5). أسند كعب الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخرج له أحمد في "المسند" أربعة عشر ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 395. (¬2) صحيح البخاري (457)، وصحيح مسلم (1558). (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 396. (¬4) طبقات ابن سعد 4/ 396. (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 393.

لبيد بن ربيعة

حديثًا، منها حديث غزاة تبوك لما تخلّفوا عنها، وحديث ليلة العَقَبة، وقد ذكرناه، أخرج له منها في الصحيحين ستة أحاديث، المُتَّفق عليه منها ثلاثة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين (¬1). وروى عنه بنوه: محبد الله، وعُبيد الله، وعبد الرحمن بنو كعب، وابن عبّاس، وجابر بن عبد الله، وأبو أُمامة الباهليّ، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين - عليه السلام -، وقيل: روى عنه ابنٌ له اسمُه محمد بن كعب (¬2)، ولم يَذكره ابنُ سعد. وليس في الصحابة مَن اسمُه كعب بن مالك سوى رجلين؛ أحدهما هذا، والثاني كعب بن مالك بن مَبْذُول، أبو هُبَيرَة (¬3)، له صحبة وليس له رواية. وفيها توفي لَبيد بن ربيعة ابن كِلاب بن مالك بن جعفر بن كِلاب (¬4)، الشاعر العامري، وكُنيته أبو عَقيل، وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من القبائل الذين أسلموا بعد الفتح (¬5)، وقد ذكرنا أنه وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة تسعٍ من الهجرة، فأسلم هو وقومه، ورجعوا إلى بلادهم، ولما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل الكوفة. قال ابن سعد بإسناده عن الشعبي قال: كتب عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر 399. (¬2) انظر تاريخ دمشق 59/ 398، وتهذيب الكمال (5570)، والسير 2/ 523. وانظر في ترجمته غير ما ذكر من مصادر: الاستيعاب (2170)، والأغاني 16/ 226، والاستبصار 160، والإصابة 3/ 302. (¬3) كذا، وهو خطأ، فإن أبا هبيرة هو: ابن الحارث بن علقمة بن عمرو بن كعب بن مالك، بن مبذول، وكنيته هي اسمه، استشهد يوم أحد، انظر طبقات ابن سعد 4/ 319، والاستيعاب (3182)، والإصابة 4/ 201. (¬4) كذا، وأجمعوا على أن نسبه: لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر، فزيادة كلاب الأولى في نسبه خطأ، انظر طبقات ابن سعد 6/ 192 و 8/ 155، وطبقات فحول الشعراء 125، والمعارف 332، والشعر والشعراء 274، والأغاني 15/ 361، والاستيعاب (2233)، والمنتظم 5/ 179، والإصابة 3/ 326. (¬5) وذكره أيضًا فيمن نزل الكوفة من الصحابة.

وهو عاملُه على الكوفة: أن ادعُ مَن قِبَلِك من الشعراء، فاستنشدهم ما قالوا من الشعر في الجاهلية والإسلام، ثمّ اكتُب إليّ بذلك. فدعاهم المغيرة، فقال للييد بن ربيعة: انشِدْني ما قلتَ من الشعر في الجاهلية والإسلام، فقال: قد أبدلني الله سورةَ البقرة، وسورة آل عمران، وقال للأَغْلَب العِجْلِيّ: أنشِدْني فقال: [من الرجز] أَرَجَزًا تُريد أم قَصِيدا ... لقد سألتَ هَيِّنًا مَوجودا فكتب المغيرة إلى عمر بذلك، فكتب إليه: أن انقص الأغلب خمس مئة من عطائه، وزِدْها في عطاء لبيد، فرحل إليه الأغْلب فقال: يا أمير المؤمنين، أتَنقُصني وقد أطعتك؟ ! فكتب عمر إلى المغيرة: أن رُدَّ على الأغلب الخمس مئة، وأقْرِرها في عطاء لبيد (¬1). وقال أبو عبيدة مَعْمَر: لم يقل لَبيد في الإسلام بعد ما أسلم إلا بيتًا واحدًا، وهو هذا: [من البسيط] الحمدُ لله إذْ (¬2) لم يَأتِني أَجَلي ... حتى لَبِسْتُ من الإسلامِ سِرْبالا وقال عمر بن شَبَّة: كان لبيد من أجواد العرب، وكان قد آلى أن [لا] تَهُبَّ الصَّبا إلا أطعم، وكان له جَفْنتان يُغْدا بهما ويُراح في كلِّ يومٍ على مسجد قومه، فهَبَّت الصَّبا يومًا -والوليد بن عُقْبَة بن أبي مُعَيط عامل عثمان على الكوفة، فصَعد الوليد المنبر وقال: إن أخاكم لَبيد بنَ ربيعة نَذر في الجاهلية أن لا تَهُبَّ الصَّبا إلا أطعم، وهذا يومٌ قد هَبَّت فيه الصَّبا، فأعينوه، وأنا أوّل مَن فعل ذلك، ثم نزل عن المنبر، وأرسل إلى لبيد بمئة ناقة، وكتب إليه الوليد هذه الأبيات: [من الوافر] أرى الجَزَّارَ يَشْحَذُ شَفْرَتَيهِ ... إذا هَبَّتْ رِياحُ أبي عَقيلِ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 192 - 193، وطبقات فحول الشعراء 135 - 136، والأغاني 15/ 369 - 370. (¬2) في (خ) و (ع): الذي، والمثبت من الأغاني 15/ 369، والمنتظم 5/ 179، وانظر الاستيعاب (2233)، والشعراء 275.

أَشَمُّ الأَنْفِ أَصْيَدُ عامِريٌّ ... طَويلُ الباعِ كالسَّيفِ الصَّقيلِ فقال لبيد لابنته: أجيبيه، وكان لبيد قاصرًا في الجواب (¬1)، فقالت: [من الوافر] إذا هَبَّتْ رِياحُ أبي عَقيلٍ ... دَعونا عند هَبَّتِها الوَليدا أَشَمَّ الأَنْفِ أرْوَعَ عَبْشَمِيًّا ... أعانَ على مُروءتِهِ لَبيدا بأمثالِ الهِضابِ كأنَّ رَكْبًا ... عليهما من بني حامٍ قُعودا أبا وَهْبٍ جَزاكَ اللهُ خَيرًا ... نَحَرْناها وأَطَعْمنا الثَّرِيدا فعُدْ إنّ الكَريمَ له مَعادٌ ... وظَنِّي يا ابنَ أَرْوى أن تَعودا قال لها لَبيد: أحسنتِ؛ لولا أنّك استَطعَمتيه بقولك: أن تَعودا، فقالت: إن الملوك لا يُستحيا من مَسْألَتهم، فقال: يا بُنيّة، وأنت في هذا أشعر (¬2). قلت: وهذا الوليد هو الذي أنزل الله فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ} الآية (¬3) [الحجرات: 6]، وجَلده علي - عليه السلام - في الخمر. واختلفوا في وفاته، فقال ابن سعد بإسناده عن عبد الملك بن عُمير (¬4) قال: مات لَبيد بن رَبيعة ليلةَ نزل معاوية النُّخَيلَة لمُصالحة الحسن بن علي. وفي رواية ابن سعد: ودُفن في صحراء بني [جعفر بن] كِلاب، وكان قد هاجر إلى الكوفة، ودُفن في هذا المكان. وقيل: مات سنة إحدى وأربعين، والأوّل أصحّ. واختلفوا في سِنِّه على أقوال؛ أحدها: أنه عاش عشرين ومئة سنة، والثاني: مئة وسبعًا وخمسين سنة، والثالث: ثلاثين ومئة سنة (¬5). وحكى ابن سعد عن هشام، عن جعفر بن كِلاب، عن أشياخه قالوا: لما حُضِرَ لَبيد ¬

_ (¬1) في المصادر الآتية أنه قال لها: لقد عشتُ برهة وما أعيا بجواب شاعر. (¬2) الشعر والشعراء 276 - 277، والأغاني 16/ 370 - 371، والاستيعاب (2233)، والمنتظم 5/ 179 - 180. (¬3) انظر أسباب النزول للواحدي 412. (¬4) في (خ): عبيد بن عمير، وفي (ع): عبد الله بن عمر، والمثبت من طبقات ابن سعد 6/ 193. (¬5) انظر الاستيعاب (2233).

دخل عليه أشياخُ بني جعفر وشُبَّانهم، فقال: ابْكُوا عليَّ حتى أسمع، فقال شابٌّ منهم: [من الطويل] لِتَبْكِ لَبِيدًا كلُّ قِدْرٍ وجَفْنَةٍ ... وتبكي الصَّبا مَن بادَ وهو فَقِيدُ (¬1) فقال: أحسنتَ يا ابن أخي، زِدْني، فقال: ما عندي غَيرُ هذا البيت. فقال لَبيد: ما أسرع ما أكْدَيتَ. قال ابن سعد: وقال هشام: كان للَبيد بالكوفة بَنون، فرجعوا كلّهم إلى البادية أعرابًا (¬2). وليس في الصحابة مَن اسمُه لَبيد بن ربيعة غيره، فأما لَبيد غيرُ ابنِ ربيعة فاثنان: لَبيد بن سَهْل الأنصاري، وهو الذي نُسبت إليه السَّرِقة في قصة بني أُبَيرِق، وقد ذكرناه في السيرة. والثاني: لَبيد بن عُقبة بن نافع، أبو محمود (¬3). وهؤلاء الثلاثة لهم صُحبة، وليست لهم رواية. * * * ¬

_ (¬1) في طبقات ابن سعد 6/ 193: وهو حَميد. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 193 و 8/ 155. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر 247. قال محقق هذين الجزءين عمار عدنان ريحاوي غفر الله له: تمت الخلافة الراشدة، ويتلوها: السنة الحادية والأربعين، فيها سلَّم الحسن الأمر إلى معاوية، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين. دمشق 8/ 4 / 2008.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [7]

النسخ الخطية المعتمدة في الأجزاء الخمسة الآتية ذات السنوات (41 - 132 هـ): 1 - نسخة الخزائنية، ورمزها (خ)، وتتألف من أربعة أجزاء: أ- من سنة (30) إلى سنة (50 هـ). ب- من سنة (50) إلى سنة (73 هـ). جـ - من سنة (74) إلى سنة (111 هـ). د - من سنة (111) إلى سنة (179 هـ). 2 - نسخة باريس، مصورة من مجمع اللغة العربية بدمشق، ورمزُها (ب)، وفيها سنة (50) إلى سنة (89 هـ)، ومن سنة (96) إلى سنة (149 هـ). 3 - نسخة أحمد الثالث، ورمزها (أ)، وفيها من سنة (65) إلى سنة (92 هـ). 4 - نسخة أحمد الثالث (نسخة أخرى)، ورمزها (د)، وفيها من سنة (69) إلى سنة (101 هـ). 5 - نسخة أياصوفيا، ورمزها (ص)، من سنة (66) إلى سنة (131 هـ). 6 - نسخة مجهولة المصدر، ورمزها (م)، من سنة (41) إلى سنة (80 هـ). وينظر الوصف المفصَّل لهذه النسخ في مقدمة الكتاب. - والأجزاء (7 - 8 - 9 - 10 - 11) حققها محمد رضوان عرقسوسي ما عدا السنوات (76 - 100 هـ) فقد قام بتحقيقها عمار ريحاوي.

السنة الحادية والأربعون

السنة الحادية والأَربعون فيها سلَّم الحسنُ الأمرَ إلى معاوية، ووَقَع الصُّلْحُ، وتسلَّم معاوية الكوفة والدنيا. قلتُ: ومن العجائب أن كلَّ سادسٍ قامَ بأَمرِ المسلمين من الخُلفاءِ لا بُدَّ أن يُخْلَع أو يَهْلِك بسببٍ، فأَوَّلُ من قام بالأَمرِ محمدٌ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ، ثم الحسنُ بن علي وهو السادس، فخُلع من الخلافة. ثم ولي معاويةُ، ثم يزيد، ثم معاويةُ بنُ يزيد، ثم مروان بن الحَكَم، ثم عبد الملك بن مروان، ثم عبد الله بن الزبير، فخُلع وقُتِل. ثم وليَ الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم كان الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو السادسُ، فخُلع وقُتِل، ولم ينتظم لبني أُميَّة بعدُ أَمرٌ. ثم قام بنو العباس: فأوَّلُهم السفَّاح، ثم المنصور، ثم المهدي، ثم الهادي، ثم الرشيد، ثم الأَمين، فخُلع وقُتِل، وهو السادس. ثم وَلِيَ المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق، ثم المتوكِّلُ، ثم المُنتصر، ثم المُستعين، وهو السادسُ فخُلع وقُتِل. ولا يلزم أن يتخلَّلَ بين السادسِ والسادسِ مخلوعٌ أو مقتولٌ، فإن المتوكل قُتِل. ثم قام بعد المستعينِ المعتزُّ (¬1)، ثم المهتدي، ثم المعتمد، ثم المعتضد، ثم المكتفي، ثم المقتدر، وهو السادسُ، فخُلع مرَّتَين، ثم قُتل. ثم وَليَ القاهرُ، ثم الراضي، ثم المُتَّقي، ثم المستكفي، ثم المُطيع، ثم الطائع، وهو السادس، فخَلَعَ نَفْسَه. ثم وليَ القادر، ثم القائم، ثم المقتدي، ثم المستظهر، ثم المسترشد، ثم الراشد، وهو السادس، فخُلع وقُتِل. ¬

_ (¬1) في (م): ثم قام بعده المستعين، ثم المعتز. وتحرفت كلمة "المستعين" في (خ) إلى: السبعين، وضبِّب فوقها.

ثم وَليَ المُقتفي، ثم المستنجد (¬1)، ثم المُستضيء، ثم الناصر، ثم الظاهر، ثم المستنصر، وهو السادسُ، ولم يُخلع ولم يُقْتَلْ، وقيل: إنه سُمَّ، فهلك بسبب [ذلك] (¬2). وحكى الزُّهريُّ عن أشياخه قال (¬3): ولَمَّا بايع أَهلُ العراق الحسنَ؛ طَفِق يقول: أَشترطُ عليكم أنكم سامعون مطيعون؛ تُسالمون مَنْ سالمتُ، وتُحاربون من حارَبْتُ. فارتابَ الناسُ لَمَّا سمعوا منه هذا، وقالوا: ليس هذا من رجالِ الحَرْب. ثم لم يلبث الحسنُ إلا قليلًا حتى طعنوه، فنفر منهم، وبعث إلى معاوية واتفقا على يد ابنِ عامر وسَمُرةَ على ما بيَّنَّا. ثم خرج الحسنُ من المدائن، وسار معاوية من الشام، فالتقيا بمَسْكِن -بكسر الكاف من أَرضِ العراقِ على نهر دُجَيل قريبًا من أَوانا عند دَير الجاثَلِيق (¬4)، وفي هذا المكان قُتل مصعب بن الزبير، فاجتمعا به- وسلَّم الحسنُ إليه الأَمرَ، وذلك لخمسٍ بقين من ربيعِ الأَوَّلِ سنةَ إِحدى وأَربعين، ويُسمَّى عامَ الجماعة، فكانت خلافتُه ستَّة أَشهرٍ إلا أَيَّامًا. وقال الموفَّقُ رحمه الله (¬5) في ترجمةِ الحسنِ بعد أَن أَثنى عليه ثناءً كثيرًا، ثم قال: لَمَّا توفي عليٌّ - رضي الله عنه -، بايع الحسنَ أَكثرُ من أَربعين أَلفًا، وكانوا أَطوعَ له وأحبَّ له منهم ¬

_ (¬1) من قوله: ثم الراشد ... إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة لضرورة السياق. ووقع في (م) بعد قوله: بسبب، ما صورتُه: صح. نقلوه في الأصل. ومن قوله: قلتُ: ومن العجائب ... إلى كلامه عن الراشد، هو من كلام ابن الجوزي في "المنتظم" 17/ 332 وقد نقل بعضه عن الصُّولي، ونقله أيضًا ابن الأثير في "الكامل" 11/ 64، والذهبي في "تاريخ الإسلام" 11/ 584، وابن كثير في "البداية والنهاية" 12/ 213 (طبعة مكتبة المعارف) والقلقشندي في "صبح الأعشى" 1/ 443. وقد تعقَّبه الذهبي بأن هذا الكلام منخرم بأشياء، وذكرها، وقال: فلا يستقيم ما ادَّعاه، وليس الخَلْع مقتصرًا على كل سادس. (وقد أشار المصنف أثناء كلامه إلى نحو هذا). وتعقَّبه أيضًا ابن الأثير ثم قال: والصُّولي إنما ذكر إلى أيام المقتدر بالله، ومن بعده ذكره غيره. وينظر" تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 84 - 99، و "تاريخ الخلفاء" ص 20 - 21. (¬3) الخبر في "تاريخ" الطبري 5/ 162 من كلام الزُّهري. (¬4) دَير الجاثَلِيق: دير قديم البناء قرب بغداد، غربي دجلة، وأوانا بُليدة من نواحي دُجيل، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ، من جهة تكريت، ينظر "معجم البلدان" 1/ 274، 2/ 503. (¬5) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 127.

لأَبيه، فبقي نحوًا من سبعة أشهر خليفةً بالعراق وما وراءَها من خُراسان، ثم سار إليه معاويةُ، وسار هو للقائه. فلما تراءى الجمعانِ بمَسْكِن من أرض السَّواد؛ علمَ أَنَّه لن تَغْلِبَ إِحدى الفئتين حتى تهلك أكثر الأخرى، فكتب إلى معاويةَ يُخبره بأن يصير الأمرُ إليه على أن يشترطَ عليه أَن لا يطلبَ أحدًا من أهلِ العراق والحجاز والمدينة بشيء كان في زمان أبيه، وأَن يكون الأَمرُ له بعده، فأجابه معاويةُ إلى ذلك، وكاد أن يطير فَرَحًا، وبعث إليه معاويةُ بِرَقٍّ أبيضَ وقال: اكتب فيه ما شِئْتَ وأنا ألتَزمُه. فاصطلحا في النصفِ الأول من جُمادى الأول. هذا قول الموفَّق. وأَما يونس بنُ عبد الله؛ فحكى عن الزُّهريّ -وقد حكى الطبريُّ طرفًا منه (¬1) - قال: بعث معاويةُ إلى الحسن بصحيفةٍ بيضاءَ، مختومٍ على أَسفلها، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي بها أَسفلَها ما شئتَ فهو لك، فاشترَطَ الحسنُ أَضعافَ الشروطِ التي سأَل معاويةَ قبل ذلك وأمسكها عنده، وأمسك معاويةُ صحيفةَ الحسن عنده التي كتب إليه يسأله بما (¬2) فيها، فلما التقى الحسنُ ومعاويةُ سأله الحسنُ أنْ يعطيَه [الشروط] (¬3) التي في السجلّ الذي ختم معاويةُ في أسفله، فأبى معاويةُ أن يُعطيَه ذلك (¬4) وقال: إنَما أُعطيك ما كنتَ (¬5) تسألُني، وقد أعطيتُك حين جاءني كتابُك. فقال الحسن: وأنا قد اشترطتُ حين جاءني سِجِلُّك، وقد أَعطيتَني الوفاءَ بما فيه. فاختلفا في ذلك، فلم يُنْفِذْ معاويةُ للحسن من الشروط شيئًا. قال الزُّهري: ولا معنى لختم معاوية على أسفل الصحيفة البيضاء إلا مكايدةَ الحسن ومخادعتَه ومغالطتَه. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 162. (¬2) في (م): ما. (¬3) كلمة: الشروط، من (م). (¬4) بعدها في (م): وامتنع من الشروط. (¬5) بعدها في (م): كتبت.

وقيل: معناه اشترط في البياض ولا تتعَدَّ الخَتْمَ. وكتب الحسنُ إلى قيس بن سعد -وكان في مقدّمته في اثني عشر ألفًا- بأَن يدخلَ في الصلح مع معاوية، فأبَى، وانصرفَ قيس ولم يبايعْ، واعتزلَ الفريقين. وحكى البلاذري (¬1) أن سليمان بنَ صُرَد الخُزاعي قال للحسن: ما ينقضي تَعجُّبُنا منك وبيعتك لمعاويةَ (¬2) ومعك أَربعون أَلف مُقاتل من أهل الكوفة؟ وكلُّهم على أَبوابِ منازلهم، ومعهم مثلُهم من أبنائهم ومواليهم وأَهاليهم سوى شيعتك من أهلِ البصرة والحجاز، فلو كنتَ أَخَذْتَ لنفسك بالوثيقة وأَشهدتَ على معاويةَ وُجوه الناسِ من أَهلِ المشرقِ والمغرب، وكتبتَ عليه كتابًا أَنَّ الأمر لكَ بعده؛ لهان الأَمرُ علينا، ولكنك صالحتَه فيما بينكما، فأَعطاك شيئًا طفيفًا، ثم لا يفي لك به، فإن أمرتَ أخْرَجْنا عامِلَه من الكوفة، وأَعَدْنا الحَرْبَ جَذَعةً (¬3). فقال له الحسنُ: أَما رأَيتَ ما جَرى عليَّ؟ ! واعتذر بذلك. وقال أَبو اليقظان: قامَ الحسنُ خطيبًا بالنُّخَيلة (¬4) فقال: أَيُّها الناسُ، إِنَّ هذا الأَمرَ الذي اختلفتُ فيه أَنا ومعاويةُ إِنَما هو حقٌّ لي تركتُه إرادةً لإصلاحِ هذه الأُمةِ وحَقْنًا لدمائِها، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111]. فكانوا يُرَوْنَ أنَّه تأَوَّل الحديث. قلت: والحديثُ الذي تأَوَّله أخرجه البخاريُّ (¬5)؛ قال البخاري بإِسناده إلى الحسن البصري قال: استقبلَ واللهِ الحسنُ بنُ علي معاويةَ بكتائب أَمثالِ الجبالِ، فقال عمرو بنُ العاص: إني واللهِ لأَرى كتائبَ لا تُولِّي حتى تَقتُلَ أقرانَها، فقال له معاوية -وكان خيرَ الرجلين-: أي عَمرو، أَرأَيتَ إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاءِ هؤلاء، فمَنْ لي ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 2/ 390. ووقع في (خ): الطبري، بدل: البلاذري. (¬2) في المصدر السابق: تَعَجَّبْنا من بيعتك معاوية. (¬3) أي: أعَدْناها جديدةً أوَّلَ ما يُبتدأ فيها. ينظر "اللسان" (جذع). (¬4) هو موضع قرب الكوفة. ينظر "معجم البلدان" 5/ 278. (¬5) في "صحيحه" (2704).

بأُمورِ المسلمين؟ مَنْ لي بنسائهم؟ مَنْ لي بضَعيفهم (¬1)؛ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس: سَمُرةَ وعبد الله بن عامر، وقال: اذهبا إِلى هذا الرجل فاعرِضا عليه، وقولا له، واطلبا إِليه. فأَتَياه وكلَّماه، فقال الحسنُ: إنَّا بنو عبد المطلب قد أصَبْنا من هذا المال، وإنَّ هذه الأُمَّةَ قد عاثت في دمائها. قالا: فإِنه يعرِضُ عليكَ كذا وكذا، ويطلب منك -أو: إليك- ويسألك، قال: فمَنْ لي بهذا الأمر؟ فقالا: نحنُ لك به، فما سألهما شيئًا إلا قالا: نحن لك به. فصالحه (¬2). قال الحسن البصريّ: ولقد سمعتُ أَبا بكرةَ يقول: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه على المنبر والحسنُ بن علي إِلى جانبه وهو يُقبِلُ على الناسِ بوَجْههِ مرَّةً وعلى الحسنِ أُخرى ويقول: "إنَّ ابني هذا سيِّد وسيُصلح الله به -أَو: لعلَّ الله أن يُصلح به- بين فئتين عظيمتين من المسلمين". انفرد بإخراجه البخاري. قلتُ: وقد أَخرج أحمدُ في "المسندِ" معناه (¬3)؛ قال: حدثنا هاشم بإِسناده إِلى أبي بَكْرة (¬4) قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه يُصلّي [بالناس]، وكان الحسنُ بن عليّ يثبُ على ظهرهِ إذا سجد، ففعل ذلك غير مرَّة، فقالوا: واللهِ إنك تفعلُ (¬5) بهذا أَشياءَ ما رأَيناكَ تفعلها بأحد! فقال: "إن ابني هذا سيِّدٌ، وسيُصلحُ اللهُ به بين فئتينِ عظيمتينِ من المسلمين". قال الحسنُ البصريّ: فواللهِ بعد أَن وَلِيَ لم يُهْرَقْ في خلافته مِلْءُ مِحْجَمةِ دم (¬6). وقال أحمد بإِسناده عن سفينة -وأَخرجه في "الفضائل" أيضًا عن سفينة (¬7) - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخلافة بعدي ثلاثون (¬8)، ثم تصير مُلْكًا بعد ذلك". ¬

_ (¬1) في "صحيح" البخاري (2754): بضيعتهم. (¬2) من قوله: بإسناده إلى الحسن البصري. إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬3) مسند أحمد (20448)، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬4) من قوله: انفرد بإخراجه البخاري. إلى هذا الموضع؛ وقع بدله في (م): وروي عن أبي بكرة. (¬5) في (م): لتفعل. (¬6) المِحْجَمة: القارورة التي يُجمع فيها دم الحجامة. ولم ترد كلمة "ملء" في (م). (¬7) مسند أحمد (21919)، وفضائل الصحابة (789) و (1027). (¬8) في "المسند": ثلاثون عامًا.

وفي رواية "الفضائل": قال لي سفينةُ: فنظرنا فإذا خلافة أَبي بكر سنتان وأَشهر، وعمر عشر سنين وأشهر، وعثمان اثنتا عشرة سنة، وخلافةُ علي والحسن ستُّ سنين (¬1). قال الحسنُ البصريّ: وقيل: إنه قولُ أَبي بكرةَ. فكان فِعْلُ الحسنِ نَظَرًا لهذه الأُمَّةِ. قال الحسن: وهذا الحديث من مُعجزاتِ رسولِ الله صلى الله عليه لأنه جاء كما قال (¬2). وقال الواقدي: قيل للحسن: لِمَ تركْتَ خلافتَك وشَرَفَك [وحقَّك] (¬3)، وسلَّمتَه إلى طليق بن طليق؟ ! فقال: اخترتُ العارَ على النارِ. وقال الهيثم: خطب الحسنُ بالنُّخَيلة وقال: ما بَينَ جابَرْسا وجابَلْقا [أحدٌ] جَدُّهُ نبيٌّ غيري وغير أخي الحسين، وقد رأيتُ حَقْنَ دماءِ أُمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. جابَرْسا: مدينةٌ بالمَشْرق. وجابَلْقا (¬4) بالمغرب (¬5). واختلفوا في دخول معاوية الكوفةَ على قولَين: أحدهما: في غُرَّة جُمادى الأُولى سنة إِحدى وأَربعين. والثاني: لخمس بقين من ربيع الأوَّل، وسلَّمها الحسنُ إِليه (¬6). قال علماء السِّيَر: وأَقامَ الحسنُ بظاهر الكوفة يتجهَّزُ، ويُداوي جراحتَه التي جُرِحَها بساباط المدائن، وخرج إِليه أَهلُ الكوفة، فقال لهم الحسن: اتقوا الله في جيرانكم وأَهل بيتِ نبيِّكم. فبكى القومُ (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بحروفه في "الفضائل". وهو فيه وفي "المسند" بالرقمين المتقدمين بنحوه. (¬2) من قوله: وقال أحمد بإسناده عن سفينة، إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬3) لفظة: "وحقَّك" من (م). (¬4) في (خ): وجابرقا. (¬5) ينظر "مصنف" عبد الرزاق (20980)، و"المعجم الكبير" للطبراني (2748)، و "السنن الكبرى" للبيهقي 8/ 173. ومن قوله: وقال الهيثم .. إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬6) تاريخ الطبري 5/ 163. (¬7) المصدر السابق 5/ 165.

ثم رحل الحسنُ عن الكوفةِ في عاشر جُمادى الأُولى في هذه السنةِ بإخوتهِ وبني عمِّه وحَشمِه وخَدَمِه وأَثقالِه، وخرج أَهلُ الكوفة يبكون ويتألَّمون لفراقه، وكان يومًا مشهودًا. وقال البلاذريُّ (¬1): وشيَّعه معاويةُ إلى قنطرة الحيرة. وقال الطبري (¬2): تلقّاه ناسٌ بالقادسية فقالوا: يا مُذِلَّ العرب. وقال الخطيبُ في "تاريخه" بإِسناده إِلى أَبِي الغريف قال (¬3): كُنَّا على مقدِّمة الحسن بن علي في اثني عشر أَلفًا بمَسْكِن مستميتين من الجدِّ على قتالِ أَهلِ الشام، وعلينا أَبو العَمرَّطة (¬4)، فلما جاءَنا صلحُ الحسن؛ كأَنَّما كُسِرت ظهورُنا من الغيظ، فلما قَدِمَ الحسنُ الكوفةَ؛ قال له رجلٌ منَّا يقال له: أبو عامر بن الليل (¬5): السلام عليك يا مُذِلَّ العربِ -أو: المؤمنين (¬6) - فقال له: لا تَقُل ذلك يا أبا عامر، لستُ بِمُذِلِّ المؤمنين، ولكني كرِهتُ أن أقتلهم على المُلك. وقال أبو اليقظان: لَمَّا نزلَ الثعلبية؛ جاءه قومٌ فقالوا: يا مُذِلَّ بني هاشم، يا مُسَوِّدَ وجوه المؤمنين (¬7) وهو يبكي، وإخوته وأَهلُه يبكون. وقال شام بن محمد عن أبيه: ولَمَّا رجع معاويةُ من وداعِ الحسن، أَمَرَ معاويةَ بن حُدَيج (¬8) أَن يجمع أَشرافَ أهل الكوفة، فجمعهم، فقال لهم معاوية: بايعوني على ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 2/ 389. (¬2) في "تاريخه" 5/ 165. (¬3) تاريخ بغداد 12/ 6. وأخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 5/ 184 من طريق الخطيب وينظر المستدرك" 3/ 175. (¬4) هو عمير بن يزيد الكندي. ينظر "جمهرة أنساب العرب" ص 427. (¬5) هو سفيان بن الليل. وتحرفت لفظة "الليل" في (خ) و (م) إلى البلبل. (¬6) في (م): يا مذلّ المؤمنين. (¬7) في (م): المؤمنات. (¬8) في حاشية (خ) ما نصُّه: وهذا معاوية بن حُديج المذكور هو الذي قتل محمد بن أبي بكر الصديق بمصر، وفعل به ما فعل كما تقدم في ترجمته رحمه الله. قاله كاتبه. وبنحوه جاء في حاشية (م) بعد بضعة أسطر.

البراءة (¬1) من أبي تُراب. فقال له رجل: لا سمعَ لك ولا طاعة، وهل نَشَفَ الكتابُ بينك وبين أبي محمد (¬2) بَعْدُ؟ ! . وفي رواية: فقال له الرجل: لا، بل نُطيع أَحياءَكم، ولا نتبرَّأُ من موتاكم. فأُعجِبَ معاويةُ بكلامه وسكت. ولَمَّا قَدِمَ معاويةُ إِلى العراق أَقْدَمَ معه معاويةَ بنَ حُدَيج (¬3)، وجرت للحسنِ معه واقعة؛ حكاها أبو الحسن المدائني؛ قال: لَمَّا قَدِمَ معاويةُ الكوفةَ كان معه ابنُ حُدَيج، فرآه الحسن فقال: وَيحَكَ يا ابن حُدَيج! أنت قاتلُ الرجل الصالح محمد بن أبي بكر، وشاتمُ أَميرِ المؤمنين عندَ (¬4) ابنِ آكلةِ الأَكباد! أَمَا واللهِ لئن وَرَدْتَ الحوضَ -ولن تَرِدَه- لتجدَنَّ أَميرَ المؤمنين مُشَمِّرًا عن ساعِدَيه، يذودُ عنه المنافقين مثلك -أو أَمثالك- فسكت ابنُ حُدَيج. ¬

_ (¬1) في (م): البراء. (¬2) هي كنية الحسن بن علي - رضي الله عنه -. (¬3) في (م): أقدمه معه، بدل: أقدم معه معاوية بن حُديج. (¬4) في (خ) و (م): عبد، وهو خطأ، وجاء قبلها في (م): هل أنت إلا! وينظر "المعجم الكبير" للطبراني (2727)، و"أنساب الأشراف" 2/ 368، وتاريخ دمشق 16/ 658 - 659 (مصورة دار البشير- ترجمة معاوية بن حُديج).

فصل في ذكر بني أمية

فصل في ذِكْرِ بني أُمية الباب الأول: في ذكر معاوية بن أبي سفيان صخر (¬1) بن حَرْب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصَيّ. وكنيتُه أبو عبد الله (¬2). وهو من مُسْلِمةِ الفتح، وأُمُّه هِنْد بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكانت عند الفاكهِ بن المغيرة المخزويِّ، فاتَّهمها، وخرجا إلى الكاهنِ، فبرَّأَها، وقد ذكرنا القصَّة في سنة أربعَ عشرةَ. ذِكْرُ إسلامِه: حكى ابنُ سعد عن الواقديِّ، عن أشياخه عن معاويةَ قال: لَمَّا كان يومُ الحديبية، وصدَّت قريشٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيت، ودافعوه بالرَّاح، وكتبوا بينهم وبينه القَضِيَّةَ، وقع الإِسلامُ في قلبي، فذكرتُ ذلك لأُمِّي، فقالت: إياك أن تُخالِفَ أَباكَ، وأَن تقطعَ أمرًا دونَه، فيقطع عنك القوتَ. قال: وكان يومئذٍ [غائبًا] في سوق عُكاظ، أَو سوق حُباشة. قال: فأسلمتُ وأخفيتُ إسلامي، فواللهِ لقد رحلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من الحُديبية، وإني لَمُصَدِّقٌ به، وإني على ذلك أَكتُمُه من أبي. ودخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عام القضيَّةِ مكَّةَ وأنا مسلم، وعلم أَبِي بإِسلامي، فقال لي يومًا: لكنْ أخوك خيرٌ منك، هو على ديني. فلما كان يومُ الفتح ودخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ؛ لقيتُه، فأَظهرتُ إسلامي، فرحَّبَ بي وكتبتُ له (¬3). قال الواقدي: وكان له يومَ أسلمَ عشرون سنة. وقيل: ثماني عشرة. ¬

_ (¬1) في النسختين (خ) و (م): بن صخر، وهو خطأ. (¬2) كذا في النسختين، ولم أقف له على هذه الكنية، وكنيتُه أبو عبد الرحمن، كما في كتب الرجال. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 16، وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 68/ 169 (طبعة مجمع دمشق). وما سلف بين حاصرتين منهما.

ركانة بن عبد يزيد

ذكرُ صفته: قال علماء السِّيَر: كان أبيضَ طُوالًا، إذا ضَحِك انقلبت شَفتُه العليا، وكان يُغيِّرُ شَيبَه بالحِنَّاءِ والكَتَم (¬1). ذكر ولايته: قد ذكرنا فيما تقدَّم أن أمير المؤمنين كان يُدعى بالعراق بأميرِ المؤمنين، وأن معاويةَ كان يُدعى بالشام بالأمير، إلى أن عاد عمرو بنُ العاصِ من التحكيم، فخاطبه بإمرة المؤمنين، ولم يوافِقْه إلَّا القليل من الناس، وكانوا يقولون: الأمير. إلى أن بايعه الحسنُ في هذه السنة، فخوطب بأمير المؤمنين. وفيها وُلد علي بن عبد الله بن العباس. وقال الواقدي: إنما وُلد في سنة أربعين في الليلة التي استشهد فيها أمير المؤمنين. واختلفوا فيمن حجَّ بالناس في هذه السنة، فحكى الخطيب (¬2) أنه حجَّ بالناس عتبة ابن أبي سفيان. وقال الواقدي: عنبسة بن أبي سفيان (¬3). وفيها توفي رُكانةُ بن عبد يزيد ابن هاشم بن المُطَّلب، وأُمُّه العجلة بنت العجلان. قال الزُّبير بن بكَّار: كان رُكانةُ من أشدِّ الناس، فقال لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد، إذا صرعتَني آمنتُ بك. فصرعه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أَشهدُ أَنك ساحر (¬4). وهل صارعه في الجاهليةِ أَو في الإسلام؟ فيه قولان. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 68/ 167 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) كذا وقع. لكن القول الآتي هو قول أبي معشر؛ أخرجه عنه الطبري في "تاريخه" 5/ 171؛ قال: حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. ولعله اشتبه على المصنف (أو المختصر) اسم أحمد بن ثابت (شيخ الطبري) بالخطيب البغدادي، فنسبه إليه. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 171. (¬4) نسب قريش ص 96. وينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 44، و "سنن" الترمذي (1784).

السنة الثانية والأربعون

ثم أسلم، ونزل المدينة، فمات بها في هذه السنة. وليس في الصحابة من اسمهُ رُكانة بن عبد يزيد غيره. وقيل: فيهم آخر يقال له: أَبو محمد، وقيل: هو الأول. ولرُكانة صحبة ورواية. انتهت ترجمته، والله أعلم. السنة الثانية والأربعون فيها ولَّى معاويةُ بنُ أبي سفيان مروانَ بنَ الحكم المدينةَ، فاستقضى مروانُ عبدَ الله بن الحارث بن نوفل. وفيها وُلد الحجَّاجُ بنُ يوسف الثقفي. وفيها تحرَّكت الخوارجُ الذين بقُوا من يوم النهر، وكان عليهم حيَّان (¬1) بن ظَبْيان السُّلَمي، فالتجؤوا إلى الرّيِّ في خمس مئة، وقيل: في أربع مئة، وكان فيهم جماعةٌ من أعيانهم؛ منهم: سالم بن ربيعة العبسيّ. قال أبو مِخْنَف عن أشياخه (¬2): فلما بلغهم قَتْلُ عليّ - عليه السلام -؛ قام سالم بن ربيعة فيهم خَطيبًا فقال: أَيها الإخوان، إنَّه قد بلغني أنَّ أخاكم ابنَ مُلْجم جلس عند أغباشِ (¬3) الصُّبح عند السُّدَّةَ (¬4)، فلما خرج ابن أَبِي طالب لصلاة الصبح؛ شدَّ عليه، فعلاه بالسيف، فلم يَبْقَ غير ليلتين حتى مات، فأخذوا يحمدون الله على قَتْلهِ، فقال لهم حيَّان بن ظَبْيان: انصرفوابنا إلى مِصْرِنا، فلنأتِ إخوانَنا، ونجاهد الأَحزاب، فإنَّه لا عُذْرَ لنا في القُعودِ وولاتُنا ظَلَمة وسنَّةُ الله ورسولِه متروكةٌ. فأَجابوه، وخرجوا معه قاصدين إِلى الكوفة، وقال حيَّان: خليليَّ مالي من عزاءٍ ولا صَبْرِ ... ولا إِرْبَةٍ بعد المُصابين بالنَّهْرِ سوى نَهَضاتٍ في كتائبَ جَمَّةٍ ... إِلى الله ما تدعو وفي اللهِ ما تَفْري من أبيات. ¬

_ (¬1) من قوله هنا: وكان عليهم حيان .... إلى قوله: وفيها توفي حَبِيب بن مسلمة (ص 19) ليس في (م). (¬2) تاريخ الطبري 5/ 173. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 189. (¬3) جمع غَبَش، وهو بقية الليل، أو ظلمةُ آخرِه. القاموس (غبش). ووقع في (خ): غباش. وهو خطأ. (¬4) يعني السُّدَة التي في المسجد مسجد الجماعة. ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 173.

وأقبلوا حتى نزلوا الكوفة. وقيل: كانوا تسعةَ عشرَ رجلًا، وخَلَّفوا إِخوانَهم بالرَّيِّ وخُراسان، وكان على الكوفة المغيرةُ بن شعبة، وكان يحبُّ العافية، ويُحسنُ السيرةَ، فإذا قيل له: إِن فلانًا من الشيعة، وفُلانًا من الخوارج؛ يقول: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، وسيحكم الله بينهم يوم القيامة، فأمنَه أَهلُ الأهواء. وكان الخوارجُ يجتمعون ويتذاكرون ما جرى على إخوانهم بالنهر، ويقولون: انهضوا بنا إلى جهادِ المُحلِّين. ثم إنَّهم قدَّموا عليهم ثلاثة: المُستَوْرِد بنَ عُلَّفة (¬1) التيمي من تَيم الرَّباب، وحيّان بنَ ظَبْيان السُّلَمي، ومعاذ بنَ حصن بن جُوَين (¬2) الطائي ابن عم زيد بن حصن (¬3)، وكان زيد بن حصن مِمَّن قتله أميرُ المؤمنين بالنهر. ثم اجتمعوا في منزل حيَّان بن ظَبْيان، وتشاوروا فيمن يُقَدِّمون عليهم، فقال المُسْتَورِد: أيُّها المؤمنون، أراكم اللهُ ما تُحبُّون، وعزلَ عنكم ما تكرهون، وَلُّوا عليكم مَنْ أحببتُم، فوالذي يعلم خائنةَ الأَعينِ وما تُخفي الصدور ما أُبالي مَن كان الوالي منكم، وما أُريدُ شرفَ الدنيا، وليس إلى البقاءِ سبيل، وما أُريدُ إلا الخلودَ في دارِ الخلود. فقال حيَّان بنُ ظَبْيان: أَمَّا أَنا فلا حاجةَ لي فيها، فولُّوا مَنْ شِئتُم؛ فأنا أُبايعُه. فقال معاذ بن حصن بن جُوَين: إذا قُلتُما هذا -وأنتما سيِّدا المؤمنين في سنِّكما وصلاحِكما ودينِكما- فمن يرأسُ على المسلمين؟ وإنَّما ينبغي أن يرأس عليهم أَسَنُّهم وأَبصرُهم بالفِقْهِ والفضل، والحربِ والدين، فقالا: أنت ذاك الكاملُ في دينك وفضلِك ورَأُيِك، ثم تنازعوا الأمر بينهم، واتفقوا على المستَوْرِدِ بن عُلَّفَةَ، فبايعوه، واتَّعدوا أن يخرجوا غُرَّةَ شعبان سنة ثلاث وأربعين، وأخذوا في جهادهم وما يحتاجون إليه. ¬

_ (¬1) قيّده ابنُ الأثير في "الكامل" 3/ 421 بضم العين المهملة، وتشديد اللام المكسورة، وفتح الفاء. وقيده الفيروزآبادي في "القاموس" (علف) بفتح اللام المشددة. ووقع في (خ): علقمة؛ بدل: علفة (وكذا في الموضع الآتي)، وهو خطأ. (¬2) في "تاريخ" الطبري 5/ 175 (والكلام فيه): معاذ بن جُوين بن حُصين (وكذا في الموضع الآتي)، وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 189 - 901. (¬3) في "تاريخ" الطبري: حصين.

وقيل: كان اجتماعُهم في شعبان سنة اثنتين وأربعين، والميعادُ في مثلِه من قابل. وفيها بعث معاويةُ المغيرةَ بنَ شعبة إلى زيادِ بنِ أبيه، فخدعه وأَنزله من قلعتِه، وجاء به إلى معاوية. وقد ذكر القصة عمر بن شَبَّةَ وهشام وغيرُهما؛ قال عمر (¬1): كان لزياد بالبصرةِ أَموالٌ كثيرةٌ عند عبد الرحمن (¬2)، فبعث [معاويةُ] المغيرةَ بنَ شعبة إلى البصرة لينظر في أَموالِ زيادٍ، فلما قَدِمَ المغيرة بنُ شعبة البصرة؛ خلا بعبد الرحمن بن أبي بَكْرة وقال له: لئن كان أَبوك أَساءَ إِليَّ؛ فلقد أحسن عمُّك، أي: زياد (¬3)، وإني مُجازيه، فلا تَجْزَعْ. ثم أظهر أَنه عَذَّبَه، وكان يجعلُ على وجههِ شيئًا، فيُغْشَى عليه ليُعْذِرَه معاويةُ، وكتب إلى معاويةَ: إني عذَّبْتُه، فلم أُصِبْ عنده شيئًا يَحِلُّ لي أَخْذُهُ. وحفظ المغيرةُ لزياد يدَه التي كانت عنده. ومعناه أَنَّ زيادًا لم يشهد على المغيرةِ بالزنى عند عمر، وشهد أبو بكرة، وقد ذكرناه. فكتب معاويةُ إلى المغيرة أَن يَقْدَمَ عليه (¬4)، فسار إِلى الشام، فلما دخل إلى معاوية؛ أخلاه، ثم أنشده فقال: إِنما موضعُ سِرِّ المرءِ إنْ ... باحَ [بالسِّرِّ] أخوه المُنتَصِحْ فإذا بُحْتَ بِسِرٍّ فإِلى ... ناصحٍ يستُرُه، أو لا تَبُحْ فقال له المغيرة: إنْ تَسْتَوْدِعْني تستودعْ ناصحًا شفيقًا وَرِعًا وثيقًا، فما ذاك؟ قال: لم أَنَمْ في ليلتي هذه: قال: ولم؟ قال: ذكرتُ قلادًا واعتصامَه بأرض فارس وامتناعَه ¬

_ (¬1) يعني عُمر بن شَبَّة، شيخ الطبري، والكلام في "تاريخ" الطبري 5/ 176 - 177، وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 215 - 216. (¬2) يعني عبد الرحمن بن أبي بكرة. قال ابن الأثير في "الكامل" 3/ 422. كان زياد قد استودع ماله عبدَ الرحمن بنَ أبي بكرة، وكان عبد الرحمن يلي ماله بالبصرة. (¬3) زياد بن أبيه أخو أبي بَكْرة لأمِّه. وقد تحرفت لفظة "أي" في (خ) إلى لفظة: "إلى". ولم يرد هذا الكلام في (م). (¬4) هذه رواية أخرى للخبر، وصلها المختصر بما قبلها. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 215، و"تاريخ" الطبري 5/ 177.

بمعاقِلها، وما معه من الأموالِ والرجالِ، وما الذي يُؤْمِنُني أَن يُبايعَ لرجلٍ من أهل هذا البيت؟ فإِذا هو أَعاد الحرب جَذَعةً (¬1). فقال المغيرة: أتأذنُ لي في إتيانهِ؟ قال: نعم، والطُفْ. فسار المغيرةُ إلى فارس، وبلغ زيادًا فقال: ما قَدِمَ الداهيةُ إلا لأمرٍ عظيم. فلما اجتمع به. قال له: يا أبا المغيرة (¬2)، إنَّ الحسنَ قد بايع معاويةَ، وقد استقام له الأمر، فخُذْ لنفسِك قبل أَن يستغنيَ عنك معاويةُ. قال: فما ترى؟ قال: أَن تَصِلَ حبلَك بِحَبْلِهِ. فأنزله من القلعة. وذكر عمرُ بن شَبَّة وجهًا آخر (¬3)؛ قال: كتب معاويةُ إلى زياد بعد أَن أَقامَ في قلعته سنةً: علامَ تُهْلِكُ نَفْسَك؟ اِقْدَمْ علينا ولك الأَمانُ، وعَرِّفْني في أيِّ شيءٍ صَرَفْتَ المال، وإِنْ شئتَ أَقَمْتَ عندنا، وإن شئتَ رَجَعْتَ إِلى مَأْمنِك. فركب زيادٌ من القلعة، وسار إِلى الشام، وبلغ المغيرةَ بنَ شعبة أَن زيادًا قد عزم على النزولِ إلى معاوية، فتجهَّز للمسير إلى معاوية، وسلك طريقًا غير طريقِ زياد، وقَدِم زيادٌ على معاوية قبل المغيرة، فسأله عن الأموال، فأخبره بما أَخرج منها، فصَدَّقه. وقَدِمَ المغيرةُ بعده بشهر، فقال له معاويةُ: ما الذي أَخَّرك، وطريقُ زياد أَبعدُ من طريقك؟ ! فقال له المغيرةُ: إِن زيادًا قَدِمَ يرجو الزيادةَ، وأنا قدِمتُ أَتخوَّفُ النقصان. يعني العَزْل. وقيل: إنَّ زيادًا صالح معاوية على مال، ومنعه من فارسَ أن يذهبَ إليها، فسأله زيادٌ أَن ينزلَ الكوفةَ، فأَذِنَ له، فنزلها، فكان المغيرةُ يُكرمُه ويُعَظِّمُه. وفي روايةِ عمر بن شَبَّة أَنَّ زيادًا لما قَدِمَ الكوفةَ حضر وَقْتُ الصلاة، فقال له المغيرةُ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ، فقال زياد: أَنْتَ أَحقُّ بالصلاة في سلطانِك. قال: ودخل عليه زيادٌ يومًا وعنده خديجةُ -وتُكنى أُمَّ أَيوب- ابنةُ عُمارة بن عقبة بن أَبِي مُعَيط، فلم تَسْتَتِر من زياد، فلما مات المغيرةُ تزوَّجها زياد. وكان قد قَدِمَ الكوفةَ بفيل، فكان زيادٌ يأْمرُ بالفيلِ أَن يقفَ عند بابٍ من أبوابِ القَصْرِ، فتنظر إِليه أُمُّ أَيوب، فسُمِّي بابَ الفيل (¬4). ¬

_ (¬1) أعاد الحرب جَذَعةً، أي: جديدة كما بدأت ينظر "اللسان" (جذع). (¬2) هي كنية زياد بن أبيه. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 177 - 178. (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 179 - 180.

حبيب بن مسلمة

واختلفوا فيمن حجَّ بالناس في هذه السنةِ على قولَّين: أَحدهما: عَنْبَسَة بن أَبِي سفيان. قاله أبو جعفر (¬1). والثاني: عُتبة بن أبي سفيان. وفيها توفي حبيب بن مَسْلَمةَ ابن مالك الأكبر بن وَهْب بن ثعلبة بن وايلة (¬2) بن عمرو بن شيبان بن مُحارب بن فِهْر، وكنيتُه أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو سَلَمة. وذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة فيمَنْ مات رسولُ اللهِ صلى الله عليه وهم حُدَثاء الأَسنان. قال (¬3): وأُمُّه زينب بنت ناقش بن وَهْب، من بني محارب بن فهر. وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: قُبِض رسولُ الله صلى الله عليه وحبيبُ بن مسلمة ابن اثنتي عشرة سنة، وإنَّه لم يَغْزُ مع رسول الله شيئًا. قال: وفي رواية غيرنا أنَّه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحفظ عنه أحاديث (¬4). وكذا حكى ابنُ عساكر عن المفضَّل بن غَسَّان أَنه قال: قد أَنكر العلماءُ (¬5) أَن يكونَ حبيبٌ غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ثم تحوَّل حبيبٌ إِلى الشام، فلم يزل معاوية يُغْزِيه الرومَ، فيكون له فيهم نكاية. ¬

_ (¬1) هو الطبري، والكلام في "تاريخه" 5/ 180. (¬2) بالياء، ينظر "توضيح المشتبه" 9/ 161 - 162. (¬3) في "الطبقات" 6/ 540، ومن قوله هنا: وأمه زينب. . إلى قوله: قال الوليد بن مسلم: غزا حبيب بن مسلمة الروم (في الصفحة التالية). ليس في (م). (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 540 - 541. (¬5) الكلام في "تاريخ دمشق" 4/ 182 (مصورة دار البشير) للمفضَّل عن أبيه، ولفظه فيه: وقد أنكر بعض العلماء. (¬6) بعدها في (خ) والكلام منها (وليس في (م) كما سلف قبل تعليقتين): "وحفظ عنه أحاديث. وكذا حكى ابن عساكر" وهي مكررة.

وقال ابن سعد (¬1): حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني سعيد بن عبد العزيز قال: استبان فَضْلُ حبيب بن مسلمة بالشام، ولم يكن عمر بن الخطاب يُثبتُه حتى قَدِم عليه حاجًّا، فسلَّم على عمر، فقال له عمر: إِنك لفي قناةِ رجل، فقال حبيب: إي واللهِ، وفي سِنانهِ، فقال عمر: افتحوا له الخزائنَ، فليأخذ ما شاء. قال: فأعرض عن الأموال، وأخذ السلاح. قال: ولم يزلْ حبيبٌ مع معاوية في حروبِه كلِّها؛ صفِّين وغيرِها، وكان شُجاعًا، أَغزاه معاويةُ الرومَ مرارًا. قال الوليد بن مسلم: غزا حبيب بن مسلمة الروم في ستَّةِ آلافٍ من المسلمين، فاهتمَّ بِهم عمرُ بنُ الخطاب، فلما خرجوا سالمين سجد عمر شكرًا لله تعالى. وذكره أَبو القاسم ابن عساكر فقال: خرج حبيبٌ إلى الشام مُجاهِدًا، فكان أميرًا على كُردُوْسٍ في يومِ اليرموكِ، ثم حضر صفّين مع معاوية، وكان صاحبَ ميسرتِه في تلك الحروبِ، ونزل دمشقَ فسكنها، ودارُهُ عند طاحونةِ الثقفيين مُشْرفة على بردى (¬2). وحبيبٌ هو الذي بعث معه معاويةُ الجيشَ لنصرةِ عثمان، فلما بلغ وادي القُرى بلغه قَتْلُ عثمان، فرجع. وقال المدائني: لقي الحسنُ بنُ عليّ حبيبَ بنَ مسلمة، فقال له: يا حبيبُ، رُبَّ مسيرٍ لك في غيرِ طاعةِ الله، فقال: أَمَّا مسيري إِلى أَبيك فليس من ذلك، فقال: بلى، ولكنك أَطَعْتَ معاويةَ لأَجلِ دُنْيا فانيةٍ زائلةٍ، ولئن قام بك في دنياك، لقد قعد بك في دينك، ولو أَنَّك إِذ فَعَلْتَ شرّا قلت خيرًا كنتَ كما قال الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] ولكنك كما قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] (¬3). ¬

_ (¬1) في "طبقاته" 6/ 541. وأخرجه من طريقه ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" 4/ 185 (مصورة دار البشير). (¬2) الخبر في "تاريخ دمشق" 4/ 179 (مصورة دار البشير)، وما قبله منه 4/ 186. والكُرْدُوس: القطعة من الخيل العظيمة. (¬3) الخبر في "تاريخ دمشق" 4/ 189. ولم يرد في النسخة (م).

واختلفوا في وفاته، فحكى ابن سعد قال (¬1): وجَّهه معاويةُ واليًا على أَرمينية، فمات بها في سنة اثنتين وأَربعين، ولم يبلغ خمسين سنةً. وقال الواقدي في كتاب "الصوائف": مات حبيبٌ بدمشق في سنة اثنتين وأَربعين. وقال الهيثم: مات بأرمينية في سنة إحدى وأربعين. والأوَّلُ أصحُّ. قال هشام: مات هو وعمرو بن العاص في سنة واحدة. وقال ابن سعد بإسناده عن ثابت بن عجلان قال (¬2): لَمَّا أتى معاويةَ موتُ حبيب بن مَسْلمة سجد، قال: ولَمَّا أتاه موتُ عمرو بن العاص سجد، فقيل له. سَجَدْتَ لهذين، وهما مختلفان! فقال: أَما حبيبٌ فكان يأخذُ (¬3) بسنَّةِ أَبِي بكر الصديق وعمر -رضي الله عنهما-، فيقول: السُّنَّةَ السُّنَّةَ، وأَمَّا عمرو فكان يقول: الإمرةَ الإمرةَ، فلا أَدري ما أَصنع! واختلفوا في صحبته، فقال البخاريُّ: له صحبة (¬4). وذكره في أصحاب الأعداد فقال: روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة أحاديث (¬5). وقال قوم: ليس له صحبة، والأول أصحُّ. وقد أخرج له أحمد في "المسند" حديثًا واحدًا، وابنُ سعد في "الطبقات" حديثين. فأما الحديثُ الذي أَخرجه أَحمد بن حنبل فقال: حدَّثنا حمَّاد بن خالد الخياط، عن معاوية بن صالح؛ بإِسناده عن حبيب بن مسلمة، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَفَّلَ الرُّبُعَ بعد الخُمُس أن بَدْأَتِه؛ ونَفَّلَ الثُّلُثَ بعد الخُمُس] في رَجْعَتِه (¬6). ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 6/ 541، و 9/ 413، وهو في "تاريخ" ابن عساكر 4/ 182. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 541 - 542، وتاريخ دمشق 4/ 190 - 191. (¬3) في (م) و "الطبقات": يأخذني. (¬4) التاريخ الكبير 2/ 310، ومن قوله: واختلفوا في صحبته ... إلى قوله: ثم حرقه بالنار (ص 30، أثناء ترجمة عمرو بن العاص) ليس في (م). (¬5) كذا في (خ) (والكلام منها) ولعل صواب العبارة: وذكره جدِّي في ... الخ. فقد ذكره ابن الجوزي في "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 371 فيمن روى سبعة أحاديث، ونقل عن ابن البرقي قوله: له ثلاثة أحاديث. (¬6) مسند أحمد (17465) وما بين حاصرتين منه.

عثمان بن طلحة

وهذا الحديث أخرجه أيضًا ابن سعد، فقال: حدَّثنا زكريا بن عديّ بإسناده عن زيد بن جاريةَ، عن حبيب بن مَسْلَمة أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَّلَ في البَدْأَةِ الرُّبُعَ، وفي القَفْلَةِ الثُّلُث. ففي رواية ابن سعد: زيد بن جارية (¬1). الحديث الثاني: قال ابن سعد بإسناده عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن حبيب بن مَسْلَمة، أَنَّه أَتى النبيَّ صلى الله عليه وهو بالمدينة، فأَدركه أَبوه فقال: يا نبيَّ الله، ابني (¬2) يدي ورِجْلي، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع معه، فإنه يُوشكُ أن يهلك". فهلك في تلك السنة (¬3). وقال الواقديُّ: وقد روى عن حبيب من الصحابة عوفُ بنُ مالك الأشجعي، والضحَّاك بن قيس الفِهريُّ، وغيرهما. وقال ابن سعد: فولدَ حبيبُ بنُ مسلمة حبيبَ بنَ حبيبٍ، وأُمُّه مارية بنت يزيد بن جبلة بن لَأْم بن حصن من كلب. وعبدَ الرحمن بن حبيب، وأُمُّه أُمامة بنت يزيد بن جبلة أَيضًا. وليس في الصحابة من اسمه حبيب بن مسلمة غيره. وقال الواقدي: وله عَقِبٌ بحوران. وفيها توفي عثمان بن طلحة ابن أبي طلحة بن عبد الدار بن قُصي الحَجَبي، كذا نسبه ابن الكلبي. وقال ابن سعد: عثمان بنُ طلحة بنِ أبي طلحة بن عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصيّ (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 541. (¬2) لفظة "ابني" ليست عند ابن سعد وابن عساكر. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 540، و 9/ 413. وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 4/ 181 (مصورة دار البشير). (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 15، و 8/ 9.

وكذا قال الزُّبير بن بكَّار، وهو الأصحُّ؛ قال الزُّبير: واسم أَبِي طلحة عبد الله بن عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار. وأُمُّ عثمان بن طلحة السُّلافة الصغرى. وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من المهاجرين مِمَّن أَسلم في هدنةِ الحديبية (¬1). وهاجر مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص في سنة ثمان، فقال رسولُ الله صلى الله عليه حين رآهم: "لقد رَمَتْكُم مكَّةُ بأَفلاذِ كبدِها" يعني أنهم وجوهُ أهلِ مكة (¬2). وقد ذكرناه هناك. وقد ذكره الشيخ الموفَّقُ رحمه الله فقال (¬3): وكان بنو طلحة من أَشرافِ أَهل مكة، وإِليهم كانت الحجابة واللواء. وقُتل طلحة أبو عثمان، وأَخوه عثمانُ بن أَبِي طلحة، وبنوه: مُسافع والجُلاس وكلاب والحارث بنو طلحة يومَ أُحدٍ كُفَّارًا، وهم أهلُ اللواء؛ كان كلَّما حمله منهم إِنسانٌ قُتِل، وفيهم يقول كعبُ بن مالك يخاطبُ أهلَ مكة: أَبْلِغْ قريشًا، وخيرُ القولِ أَصدقُه ... والصدقُ عند ذوي الأَلبابِ مقبولُ أَنْ قَدْ قَتَلْنا بقتلانا سَراتَكمُ ... أَهلَ اللواءِ، ففيما يكثرُ القيلُ وقال ابن سعد (¬4): حدثنا محمد بن عمر، حدَّثنا إبراهيم بن محمد العَبْدَريّ، عن أَبيه قال: قال عثمان بن طلحة: لَقِيَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل الهجرةِ، فدعاني إلى الإسلام، فقلتُ: يا محمد، العجبُ [لك]! كيف تطمعُ أني أتَّبعُك وقد خالفْتَ دينَ قومِك، وجئتَ بدينٍ مُحْدَثٍ، ففرَّقْتَ جماعتَهم، وشَتَّتَّ أُلفَتَهم، وأَذهبتَ بهاءَهم؟ ! فانصرف. قال: وكُنَّا نفتحُ الكعبةَ في الجاهليةِ يومَ الاثنين ويوم الخميسِ، فأَقبلَ يومًا يريدُ الدخول مع الناس، فَنِلْتُ منه، وأَغلظتُ له، فحَلُم عني، ثم قال: "يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاحَ بيدي يومًا أَضعُه حيثُ شئتُ". فقلتُ: لقد هلكَتْ قريشٌ يومئذٍ وذلَّت! فقال: "بل عَزَّت وعمرت". ودخل الكعبةَ. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 15. (¬2) تاريخ دمشق 45/ 239 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 250. (¬4) في "الطبقات" 5/ 16، وما سيرد بين حاصرتين منه.

قال: فوقعَتْ كلمتُه منّي موقعًا ظَنَنْتُ أَنَّ الأَمرَ سيصير إلى ما قال، وأَرَدْتُ الإسلامَ، فزَبَرَني قومي زَبْرًا شديدًا. فلما هاجر؛ خافَتْ قريشٌ منه أن يرجع عليهم، وجاء النفيرُ إلى بَدْرٍ، فخرجتُ مع قومي، وشهدتُ المشاهدَ كلَّها معهم. فلما كان عامُ القضيَّةِ ودخل مكَّةَ؛ غَيَّر الله قلبي عمَّا كان عليه، ودخلَني الإسلام، وجعلتُ أُفكِّرُ فيما نعبدُ من حجرٍ لا يضرُّ ولا ينفع، ولا يسمع ولا يُبصر، وأَنظرُ إلى ظَلَفِ (¬1) رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه عن الدنيا، فيقعُ ذلك مني، فأقولُ: ما عَمِل القومُ إلا على الثوابِ لِما يكون بعدَ الموت، وجعلتُ أُحبُّ النظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن رأَيتُه خارجًا من باب بني شيبة يُريد منزله بالأبطح، فأردتُ أن آتيَه، وأُسلِّمَ عليه، وآخُذَ بيده، فلم يُعْزَم لي على ذلك. وانصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى المدينة، ثم عُزم [لي] على الخروج إليه، فأدلجتُ إِلى بطن يَأْجَج (¬2)، فألقى خالدَ بنَ الوليد، فاصطحبنا حتى نزلنا الهَدَّة (¬3)، فما شَعَرْنا إلا بعمرو بن العاص، فانقمعنا منه، وانقمعَ منَّا (¬4)، ثم قال: أَين يُريد الرجلان؟ فأخبرناه، فقال: وأنا أُريد الذي تريدان، فاصطحبنا حتى قَدِمنا المدينةَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعتُه على الإسلام، وأقمتُ عنده حتى خرجتُ معه في غزاةِ الفتح ودخل مكة، فقال: "يا عثمان، ائتني بالمفتاح". فأَتيتُه به، فأَخذه مني، ثم دفعه إليَّ وقال: "خُذْها تالدةً خالدةً، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إنَّ الله استأمنكم على بيتِه، فكُلوا مِمَّا يصلُ إليكم من هذا البيت بالمعروفِ". ¬

_ (¬1) الظَّلَف: شدة المعيشة. (¬2) في (خ): ناجح (والكلام فيها وحدها) وهو خطأ، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 5/ 17، و"تاريخ دمشق" 45/ 245 (طبعة مجمع دمشق، وما سلف بين حاصرتين منهما). قال ياقوت في "معجم البلدان": يأجج، بالهمزة وجيمين: علم مرتجل لاسم مكان من مكة على ثمانية أميال. وذكر قولين آخرين. (¬3) بتشديد الدال: هو موضع بين مكة والطائف، وبتخفيفها: موضع بأعلى مرّ الظهران. ينظر "معجم البلدان". (¬4) انقمع: تغيَّب ودخل وراء ستر.

قال عثمان: فلما ولَّيتُ ناداني، فرجعتُ إليه فقال: "أَلم يكن الذي قُلْتُ لك؟ " قال: فذكرتُ قوله لي بمكة قبل الهجرة: "لعلك سترى هذا المفتاحَ بيدي أَضعه حيث شئتُ" فقلتُ: بلى، أَشهدُ أنك رسول الله (¬1). قلتُ: وقد ذكرنا ما يتعلَّق بهذا في غزاة الفَتْح، وامتناع أُمِّ عثمان من دفع المفتاح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك. ومعنى قوله صلى الله عليه: "لا ينزعها منكم إلَّا ظالم"، يعني حجابة الكعبة. واختلفوا في وفاة عثمان بن طلحة على أقوال: حكى ابن سعد عن الواقديّ قال: لم يزل عثمانُ مقيمًا بالمدينة حتى قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه، فرجع إلى مكة، فنزلها حتى مات بها في أول خلافة معاوية ابن أبي سفيان (¬2). وكذا قال خليفة: مات بها في سنة اثنتين وأربعين (¬3). وقال المدائني: في سنة إحدى وأربعين. وقيل: إنه استُشهد بأجنادين. وقيل: إنه عاش إلى أيام يزيد بن معاوية، وهو وَهْم، وقولُ الواقديِّ أَصحُّ. وقد قال الواقدي: وعثمان هذا هو الذي هاجر بأُمّ سَلَمة إلى المدينةِ وهو كافر، فكان يُرَحِّلُ جَمَلَها وينتحي عنها ناحيةً، ثم يقودُ جَمَلَها ولا يُكَلِّمُها حتى أوصلها المدينةَ، وعاد إلى مكة، وقد ذكرناه. وكان لعثمان بن طلحة من الولد: عبدُ الله -وهو أَبو شيبة-[وأُمامة، وجميلة. وأمُّهم أمُّ شيبة] بنت سماك بن سعد بن شهيد من بني عمرو بن عوف من الأنصار (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 16 - 17. وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 45/ 244 - 245. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 19، وتاريخ دمشق 45/ 245 - 246. (¬3) طبقات خليفة ص 14، وتاريخ دمشق 45/ 254 (طبعة مجمع دمشق) وما بعده منه 45/ 238 و 253 و 244 على الترتيب. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 16، وما سلف بين حاصرتين منه.

عمرو بن العاص

أسند عثمان الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرج له أحمد في "المسند" حديثًا واحدًا؛ قال أحمد بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عثمان بن طلحة: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في البيت ركعتين وُجاهَك حين تدخلُ بين الساريتين (¬1). وليس في الصحابة منِ اسمُه عثمان بنُ أبي طلحة غيرُه. وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة ابن عمِّ صاحب هذه الترجمة نذكره في سنة سبع وخمسين، وأبوه [عثمان] (¬2) يُعرف بالأوقص، أحدُ حملة اللواء، قُتل يومَ أُحد (¬3). وفيها توفي عمرو بنُ العاص ابن وائل بن هاشم -بتقديم الألف على الشين- بن سُعَيد بن سَهْم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر بن كنانة. وهُصَيص بهاء مضمومة، وصادين مهملتين. وكان أبوه العاص من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عباس: وفي العاص نزل قولُه تعالى: {إِنَّا كَفَينَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]. وكنيةُ عمرو بنِ العاص أبو عبد الله. وأُمُّ عمرو النابغةُ بنت خُزَيمة؛ قال ابن سعد: كانت سَبِيَّةً من عَنَزَةَ (¬4). وذكرها هشام ابنُ الكلبيّ عن أبيه في كتاب "المثالب" وقال: كانت من البغايا أصحاب الرايات بمكة في الجاهلية، وقع عليها أَربعةٌ في طُهْرٍ واحدٍ: العاص بن وائل، وأبو لهب، وأُمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، وادَّعى كلُّهم عمرًا، فغلبَهم العاص بتصديقها إيّاه، فقيل لها: لم اخترتِ العاصَ على غيرهِ؟ فقالت: لأنه كان يُنفق على بناتي. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (15387). (¬2) يعني عثمانَ بنَ أبي طلحة عمَّ عثمان بنِ طلحة الصحابيِّ صاحبِ الترجمة. (¬3) يعني كافرًا. قال ابن قدامة في "التبيين" ص 251: قتله علي ... وأسلم شيبة يوم الفتح، وقيل: يوم حنين. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 47.

قال هشام: وكان عمرو يُعَيَّرُ بها، فيقال له: يا ابنَ النَّابغة، وقد عيَّره عثمان وعليّ عليهما السلام، والحسنُ وعمَّار، وغيرهم. وقال الأصمعي: خطب عمرو يومًا بمصر، فتخاطر رجلانِ على أَن يقومَ أَحدُهما إليه فيُبكِّتَهُ، فقام أحدُهما فقال له: أَيُّها الأَميرُ، مَنْ أُمُّك؟ فقال عمرو: النابغة بنت عبد الله، أصابَتْها رِماحُ العرب، فبيعت بسوق عكاظ، فاشتراها عبد الله بن جُدْعان (¬1) للعاص بن وائل (¬2)، فولدت فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئًا فخُذْه. فأُعجبَ الناسُ بجوابه. ثم قال الأصمعي: أَلا تعجبون من هذا الذي يفتخر بأُمِّه، ويعلم ما كانت عليه! وقال ابن سعد (¬3): وأخواه لأُمِّه: عَمرو بن أُثاثة بن عبَّاد بن المُطَّلب بن عبد مناف بن قُصيّ، وأَرنبُ بنتُ عفيف بن أَبِي العاص بن أُمية بن عبد شمس. وذكر ابن سعد عمرًا في الطبقة الثالثة من المهاجرين مِمَّن أسلم في سنة ثمانٍ من الهجرة، وقَدِمَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعثَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزاةِ السلاسل، وعَقَدَ له على جماعة. قال ابن سعد: ثلاث مئة؛ فيهم أبو بكر وعمر (¬4)، ثم ولّاه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمان، ثم قَدِمَ بعد وفاه رسولِ الله صلى الله عليه، فولَّاه أبو بكر أَحدَ أجنادِ الشام، فهو أحد أمرائها الأربعة، وهم: أبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وشُرَحْبيل بن حَسَنَة، والرابع عمرو، وقد ذكرناه. وعمرو بن العاص هو الذي صلَّى بأَصحابِه وهو جُنُب (¬5). ذكر طرفٍ من أخبارِه: قال الواقدي: أرسله عمر بن الخطاب ففتح مصر والإسكندريةَ، وهو أَحدُ الدُّهاة المُقدَّمين في الرأي والدهاء. ¬

_ (¬1) في (خ): جداعة، وهو خطأ، والتصويب من "الاستيعاب" ص 496، و"العقد الثمين" 6/ 404، و"تهذيب الكمال" 22/ 82. (¬2) في المصادر: ثم صارت إلى العاص بن وائل. (¬3) في "طبقاته" 5/ 47. (¬4) المصدر السابق 5/ 54 و 55. وأخرج البخاري (3662) أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث عمرًا على جيش ذات السلاسل. (¬5) سنن أبي داود (334) باب إذا خاف البرد تيمَّم.

قال: وكان عمر بن الخطاب إذا استضعفَ رجلًا في رأيه قال: أَشهدُ أَنَّ خالقَك وخالقَ عمرو بنِ العاص واحدٌ. يريدُ أنَّه خالقُ الأضداد (¬1). وقال أبو اليقظان: كان عمرو يومَ بدر وأُحد والخندق والحديبية مع الكفار على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وحضرَ اليرموكَ وأجنادين وفِحْلَ (¬2)، وحصار دمشق، وفَتحَ بَرْقَةَ (¬3)، وطرابلس المغرب. وولَّاه عمر بعضَ الشام ومصر، وأَقرَّه عثمان أَوَّلَ خلافته، ثم عزله عن مصر، وولَّى عبدَ الله بنَ سعد بن أبي سَرْح على مصر وإفريقية، فقَدِم عمرو المدينةَ، فكان يُؤلِّبُ على عثمان حتى الرُّعاة في رؤوس الجبال إلى أَن قُتل عثمان، فأَظهر التَّشفِّي به، ثم وافق معاويةَ. وقد ذكرنا جميع ذلك. وقال ابن سعد (¬4) بإسناده عن موسى بن عُلَيِّ بن رَباح اللخمي عن أبيه قال: سمعتُ عمرًا يقول: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمرو، اشْدُدْ عليك ثيابك وسلاحك وائتني". قال: ففعلتُ وجئتُه، فقال: "إني أُريدُ أن أبعثَكَ وَجْهًا يسلِّمُك الله ويُغنِّمك، وأَزْعَبُ لك من المالِ زَعْبَةً صالحةً". [قال: قلت: ] إنَّما أسلمتُ رغبةً في الجهاد والكينونة معك، فقال: "يا عَمرو نِعِمَّا بالمالِ الصالح للمرءِ الصالح". وأخرجه أحمد في "المسند" بمعناه (¬5). والزَّعبَةُ من المال؛ بزاي معجمة: الدُّفْعَة. وكذا الزُّعْبَة بالضَّم. ¬

_ (¬1) التبيين في أنساب القرشيين ص 462 - 463، والعقد الثمين 6/ 403. (¬2) أجنادين (بلفظ التثنية أو الجمع): موضع بالشام من نواحي فلسطين. وفِحْل: اسم موضع بالشام؛ قال ياقوت: يوم فِحْل مذكور في الفتوح، وأظنه أعجميًّا لم أره في كلام العرب، قُتل فيه ثمانون ألفًا من الروم، وكان بعد فتح دمشق في عام واحد. معجم البلدان 1/ 103، و 4/ 237. (¬3) بَرْقَة: اسم صقع كبير يشتمل على مدن وقرى بين الإسكندرية وإفريقيا، واسم مدينتها انطابلس، وتفسيره: الخمس مدن. معجم البلدان 1/ 388. (¬4) في "طبقاته" 5/ 53 - 54. (¬5) برقم (17802).

وقال ابن سعد بإسناده عن موسى بن عمران بن متَّاح، وغيرهما (¬1) أَنَّ عمرو بنَ العاص كان عاملًا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على عُمان، فجاء يهوديٌّ من يهود عُمان، فقال لعمرو: أَرأَيتَ إِن سألتُك عن شيءٍ، أيُخشَى عليَّ منك؟ قال: لا، قال اليهودي: أَنشدُك بالله، مَنْ أَرسلك إِلينا؟ قال: اللهمَّ رسولُ الله. قال اليهوديُّ: آللهِ لَتعلمُ أَنَّه رسولُ الله؟ فقال له عمرو: اللهم نعم، فقال له اليهوديُّ: لئن كان ما تقوله حقًّا لقد مات اليومَ. فلما سمع ذلك عَمرو جمع عليه أَصحابه وفَواشِيَه، وكتب ذلك اليومَ الذي قال فيه اليهوديُّ ما قال، ثم خرج عمرو ومعه خُفَراءُ من الأَزْدِ وعبدِ القيس يأمنُ بهم (¬2) حتى قَدِم أَرضَ بني حنيفة، فأَخذ منهم خُفَراء إِلى أَرضِ بني تميم، ثم إلى أرضِ بني عامر، فنزل على قُرَّةَ بن هُبَيرة القُشَيريِّ، فأحسن ضيافتَه، ثم قال له: لك عندي نصيحةٌ، إنَّ صاحبكم قد تُوفِّي. فقال له عمرو: وصاحبُنا هو دونَك! لا أُمَّ لك، وأَغلظ له، فنَدِمَ قُرَّةُ على مقالتِه. فإِن قيل: فمن أين علمَ اليهوديُّ بوفاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: قد كانت صفته على الحقيقةِ عندهم في التوراة، ومقدار عمره، فلما انقضت أيَّامُه عرفوا ذلك. وقُرَّة كان قريبًا من المدينة. وقال الجوهوي: والفَواشي كل شيءٍ ميسّر من المال، مثل الغنمِ السائمة والإِبل وغيرِها. وفي الحديث: "ضُمُّوا فَواشِيَكم حيق تذهبُ فحمةُ العِشاء" (¬3). وحكى ابن سعد (¬4) عن محمد بن عمر، عن الضحاك بن عثمان قال: سمعتُ الزُّهريَّ يقول: جاءت وفاةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عمرَو بنَ العاص وهو بعُمان، فحرج بخُفَراء ¬

_ (¬1) كذا نقل المختصر، ولا معنى لقوله: "وغيرهما"، لتعلقها بإسناد ابن سعد في "طبقاته" 5/ 58، ولم ينقله بتمامه هنا. (¬2) في (خ): بإمرتهم، بدل: يأمن بهم، والمثبت من "الطبقات" 5/ 59. (¬3) الصحاح 6/ 2455 (فشا). والحديث أخرجه أحمد (14342) بنحوه أطول منه كان حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬4) في الطبقات 5/ 59.

من الأَزْد حتى قَدِمَ هَجَر، ثم خرج بخُفراء من عبد القيس، فلما جاء أَرضَ بني حنيفة سمع به مُسَيْلِمة، فخرج في أَصحابهِ يعرضُ له، وعلم عمرو، فهرب عمرو منه ومعه ثُمامة بن أُثال في قومِه من بني حنيفة، واقتطع مسيلمة رجلين من أَصحابِ عمرو: حبيب بن زيد بن عاصم -وهو ابنُ أُمِّ عُمارة- وعبد الله بن وَهْب الأَسلمي، فأَخذهما وقال: أَتشهدانِ أَني رسولُ الله؟ فأقرَّ الأسلميُّ بما قال، فأَمَرَ به، فحُبس في الحديد، ثم أفلت بعد ذلك إلى خالد بن الوليد. وأَما حبيب فلم يوافِقْه وقال: أَشهد أَن محمدًا رسولُ الله، فأَمر به، فقُطِعت يداه من المنكبين، ورجلاه من الوركين (¬1)، ثم حرقه بالنار (¬2). وحكى ابن سعد عن الواقدي، عن أشياخِه قالوا: كان عمرو بنُ العاص واليًا لعمر بن الخطاب على فلسطين، فخرج في ثلاثة آلاف (¬3) وخمس مئة إلى مصر، وخَلَّف ابنَه عبد الله على عملِه، ولم يستأذن عمر بن الخطاب في ذلك، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى عمر يخبره، فشَقَّ عليه، ودعا عقبةَ بنَ عامر الجُهَنيَّ، وكتب معه كتابًا إِلى عمرو وقال: انطلق في طلبه، وادفع إليه كتابي، فلحقه عقبةُ وهو قريبٌ من مصر، فسأله عن عُمر وعن حالهِ. ولم يأخذ منه الكتاب، حتى حصل في أرضِ مصر، فقال له: هاتِ الكتابَ، فدفعه إِليه، فكان فيه: أَما بعد، فإِنَه لم يحضرك رُشْدُك ولا ما كان يُنْسَبُ إِليك من العقلِ والتجرِبةِ بإِقدامِك على ما أَقدَمْتَ عليه من الأُمور دوني، وتغريرك بمن معك من المسلمين؛ تسوقُهم حيث تُريدُ، واللهِ لولا أَني أَظنُّ أن ذلك على النظرِ [منك] للمسلمين؛ لبعثتُ إِليك مَنْ يُقْدِمُك عليَّ ماشيًا من حيثُ أَدركك، أو يحملُك على أَوعَرِ المراكبِ، فيكون أَشدَّ عليك من المشي، فإذا جاءَك كتابي هذا ولم تكن دَخَلْتَ أرضَ مصر؛ فارجع بمن معك إِلى عملك، حتى يأتيَك أَمري، والسلام. ¬

_ (¬1) في "الطبقات": من الركبتين. (¬2) من قوله: واختلفوا في صحبته (ص 21) إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬3) بعدها في (خ): فارس. وليست في (م)، ولا في "طبقات" ابن سعد 5/ 65.

فتغيَّر وجهُ عَمرو وقال: قد دخلنا أرضَ مصر، ثم انتهى إلى الفَرَما، فقاتل أَهلَها، فانهزموا، فسار إلى الفُسطاط، فقاتلهم (¬1). وبعث إِليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الزبيرَ في عشرة آلاف من المسلمين، فقَدِم وهو يُحاصرهم، فاقتتلوا أَيامًا، ثم لجأ العدوُّ إلى الحِصن، وأَغلقوه عليهم، فدعا الزبير بسُلَّمٍ، فنصبه على الحصن، ثم صعد عليه، وكبَّرَ وكبَّر المسلمون، ثم تسوَّروا عليهم الحصن، ففتحوه عَنْوَةً، ثم صالحهم عمرو بعد ذلك على الجزيةِ، وخراج الأَرض. ثم كتب إلى عمر بالفتح، وبعث بالغنائم، فكتب إِليه عمر: إياكَ إياك أَن تفتاتَ عليَّ بمثلِ هذا، إلا أن يكونَ أَمرٌ يحضُرُك (¬2) يُخاف على المسلمين منه، فتَناهَضْه بمن معك. ثُم فتح عمرو الإسكندرية بعد ذلك، وقد ذكرناه. قلت: وهذه رواياتُ ابن سعدٍ عن الواقديِّ (¬3). والأَصحُّ أَن عمرَ بن الخطابِ لَمَّا قَدِم الشام وفتح البيتَ المُقَدَّسَ جَهَّز عمرًا إلى مصر، وأتْبَعَهُ بالزبير بن العوَّام، وقد ذكرناه. وقال الواقدي (¬4): لما فتح عمرو بن العاص مصر؛ أرسل عقبةَ بن نافع بن عبد قيس -وكان أخا العاص بن وائلٍ لأُمِّه- فدخلت خيولُهم أَرضَ النُّوبةِ كصوائفِ الروم، فرشق النُّوبة المسلمين بالنبل، فلم يُفْلِتْ من المسلمين إلَّا القليل، وجُرحوا جراحات كثيرةً، وفُقِئت عيونٌ كثيرةٌ، فسمَّوهم رُماة الحَدَقِ، ولم يزالوا على ذلك حتى ولَّى عثمانُ عبدَ الله بنَ سعد بن أبي سَرْحٍ مصر، فسأله النُّوبةُ الصلحَ والمُوادعةَ، فأَجابهم إلى ذلك، فاصطلحوا على غير جزية؛ على هَدِيَّةٍ ثلاث مئة رأسٍ في كلِّ سنةٍ، ويُهدي إليهم المسلمون طعامًا مثل ذلك. ¬

_ (¬1) جاء في "الطبقات" 5/ 66 بدل قوله: فقاتلهم، ما لفظُه: فوجد قومًا قد أعدُّوا للقتال وخندقوا حول حصنهم، فنزل من وراء خندقهم. (¬2) في (خ): بحضرتك، والمثبت من "الطبقات". (¬3) من قوله: فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى عمر يخبره (الصفحة السابقة). إلى هذا الموضع ليس في (م). (¬4) من قوله هنا: قال الواقدي، حتى أوائل فقرة: ذكر ما نُقل عن عَمرو من الكلام (ص 34)، ليس في (م).

وحكى ابن سعد عن الواقدي عن أشياخه أن عَمرًا لما فتح الإسكندرية؛ سار في جُنْده يريد المغربَ حتى قَدِم بَرْقَةَ، فصالح أَهلها على الجزية، وهي ثلاثةَ عشرَ أَلف دينار، وأن يبيعوا مِن أَبنائهم ما أَحبُّوا في جزيتهم. وبعث عقبةَ بنَ نافعٍ الفِهْريَّ حتى بلغ زَويلَةَ، وكتب إلى عمر بن الخطاب يُخبره أَنَّ ما بين بَرْقَة وزَوِيْلةَ سِلْمٌ، وأَنَّه وضع عليهم ما يُطيقونه، فصوَّب عُمرُ رَأْيَه. قال الواقديُّ: وكان عمرو يحمل الطعامَ من مصر إلى المدينة في المراكبِ، فيخرج عمر ومعه الأكابرُ من الصحابةِ، فيقبضونه ويفرحون، ويقسمه عمرُ في الناس، ويكتب للذين حملوه بالصكاكِ، وكانوا يَرْسُون إِلى الجار، وهو المَرْفأ. وبعث إليه مرَّةً عشرين مركبًا؛ في كلِّ مركبٍ ثلاثة آلاف إرْدَبّ. وحكى ابن سعد عن الواقدي عن أشياخه قالوا (¬1): قَدِم عبد الله وعبد الرحمن ابنا عُمر بن الخطاب مِصْرَ غازِيينِ، وكان عُمر يكتبُ إلى عَمْرو: إِيّاك أَن يَقْدَمَ عليك أحدٌ من أهلِ بيتي فتَحْبُوه بأمرٍ لا تصنعه بغيره، فأفعلُ بك ما أَنْتَ أَهلُه. فما جَسَرَ عَمْرو يمضي إِليهما ولا يبعث إِليهما، قال عَمْرو: فواللهِ إِني لفي منزلي إذ أقبلَ عبد الرحمن بن عُمر وأبو سَرْوَعَة (¬2) على البابِ يستأذنان! فأَذِنْتُ لهما، فدخلا وهما منكسران، فقالا: أَقِمْ علينا الحدَّ فإِنا قد أَصبنا البارحةَ شرابًا فسَكِرنا، قال: فطردتُهما، فقالا: لئن لم تفعل لنُخْبرنَّ عُمَرَ، وإذا بعبدِ الله بن عمر قد جاءَ، فقُمتُ إِليه ورحَّبْت به، فقال: ما أَتيتُك إلا عن أَمر، فإن أبي نهاني عن الإتيانِ إِليك، ولكن أَتيتُك لأَجلِ أخي، إنَّه لا يُحْلَقُ على رؤوسِ الناس، أَما الضرب فنعم، وكانوا يحلقون مع الحَدِّ. قال: فضربتُهما الحدَّ، ودخل ابنُ عمر ناحيةً إلى بيت في الدارِ، فحلق رأْسَه ورأسَ أبي سَرْوَعة. وإذا بكتابِ عمر يقول: من عبد الله أَميرِ المؤمنين إِلى العاصي بن العاصي، لقد عجبتُ من جرأتك عليَّ، ولقد خالفتُ فيك من أَهل بدر مَن هو خيرٌ منك، وما أُراني ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه في "الطبقات" 5/ 71 - 73. والكلام الذي قبله فيه ص 70 - 71 بنحوه. (¬2) هو عقبة بن الحارث، أو أخوه. ينظر "أسد الغابة" 4/ 50، و"الإصابة" 11/ 160.

إلا عازلَك، تَضْرِبُ عبد الرحمن بنَ عمر في بيتك، وتَحْلِقُهُ في بيتك! وقد عَرَفْتَ أَن هذا يسوءُني؛ إِنَّما هو رجل من رعيتِك تفعل به ما تفعل برجل من رعيتك، ولكنك قُلْتَ: هو ولدُ أَميرِ المؤمنين. وقد عَرَفْتَ أَنه لا هَوادةَ لأَحدٍ من الناسِ عندي في حقٍّ يجبُ لله عليه، فإِذا جاءَك كتابي فابعثْ به في عباءةٍ على قَتَبٍ. قال: فبعثتُ به كما قال أبوه، فدخل على عمرَ وهو لا يقدرُ على المشي من مَرْكبِه، فقال: عليَّ بالسِّياط، يا عبدَ الرحمن، فَعَلْتَ وفَعَلْتَ! فقال له عبد الرحمن بن عوف: قد أَقمتم عليه الحدَّ مرَّةً، فليس عليه ثانيةً! فلم يلتفت، وضربه الحدَّ وهو يصيحُ: أنا مريض وأَنْتَ قاتلي، فضربه الحدَّ ثانيًا وحبسه، فمرض فمات (¬1). وقد ذكرنا طرفًا من هذا في أَولادِ عمر بن الخطاب، فكان عمرو بن العاص يقول: ما رأَيتُ أَخوفَ للهِ من عمر؛ لا يُبالي على مَنْ وقع الحقُّ، على والدٍ أَو ولد. وحكى ابن سعد (¬2) عن الواقديّ ما حكينا عن عمرو عند مقتل عثمان، وأَنَّ عثمان لَمَّا عزله عن مصر قَدِم المدينةَ، وجعل يَعيبُ على عثمانَ ويطعن عليه، وأن عثمانَ قال له: يا ابنَ النابغةِ، ما أسرعَ ما قَمِل فَرْوُكَ! أو: قَمِلَ جُرُبَّانُ جُبَّتِك (¬3)! وإِنَّما عهدُك بالعملِ عن قريب، أَوَتَطْعَنُ عليَّ وتأتيني بوَجْهٍ، ثم تذهبُ عني بآخر؟ ! وأنَّه خرج إلى الشام، فنزل فلسطين بأرضٍ له يقال لها: السَّبْع، وأقام في قَصْر يقال له: العجلان، ولَمَّا أَتاه قتلُ عثمان قال: أَنا أَبو عبد الله، إذا حَكَكْتُ قَرْحةً نكَأْتُها. ومعناه أني قتلتُه بتحريضي عليه، ثم قال: أتربَّصُ أيامًا، وأنظر ما يصنع الناسُ، فأتاه الخبرُ بقتل طلحة والزبير، فأُرْتجَ عليه أَمرُهُ، وأَنه استشار ابنَيه: عبد الله ومحمدًا، ومولاه وَرْدان، وأَنه رجَّح المُضِيَّ إلى معاوية، وبايعه على قتال أَميرِ المؤمنين، وأَعطاه مصر طُعْمَةً، وحضر معه صِفِّين، وقاتل فيها وجُرِح فيها عِدَّة جراحات، وأَمرَ معاويةَ برفع المصاحف، ¬

_ (¬1) لا يخفى ما في هذه القصة من نكارة ومبالغة، وهي من رواية الواقدي، وهو متروك، عن شيخه أسامة بن زيد بن أسلم العدوي، وهو ضعيف. (¬2) في "الطبقات" 5/ 73 - 75. (¬3) جُرُبَّان القميص، بالكسر والضم: جيبه. القاموس (جرب).

وحضر تحكيمَ الحكَمَين وخَدَعَ أبا موسى، وقد ذكرنا جميع ذلك، واستوفاه محمد بن سعد في كتابِ "الطبقات" عن الواقديِّ وغيره (¬1). وحكى الواقديُّ وغيرُه أَن عمرًا لَمَّا خَدَع أَبا موسى قال ابن عمر: انظروا إِلى ماذا صار أَمرُ هذه الأُمة؛ إلى رجلِ لا يُبالي ما صنع -يعني عَمْرًا- وآخر ضعيف. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: لو مات أبو موسى الأشعري من قَبْل هذا لكان خيرًا له. وقال ابن سعد عن الواقديِّ (¬2): ولَمَّا خرجت الخوارجُ على أمير المؤمنين قال عَمْرو لمعاوية: كيف رأيتَ تدبيري لك حيث ضاقت عليك الدنيا، وكنتَ منهزمًا على فرسِك الوَرْدِ، تَسْتبطئُه، وعرفت أنَّ أهلَ العراق أهلُ شُبَهٍ، وأنَّهم يختلفون عليك، فقد اشتغل بهم عليٌّ عنك، وهم في آخرِ الأَمرِ قاتِلُوه، وليس جندٌ أَوهنَ كيدًا منهم. وقال الواقدي أيضًا: لَمَّا صار الأمرُ إلى معاوية استكثر طعمة مصر لعمرو، ورأى عمرٌو أنَّه دبَّر الأمور، وكان يظنُّ أن معاويةَ يزيدُه الشام، وتنكَّر كلُّ واحدِ منهما لصاحبه، ودخل معاويةُ بن حُدَيج بينهما، فأَصلح الحال (¬3). ذِكْرُ ما نُقِل عن عمرو من الكلامِ: قال ابن سعد بإسناده عن حِبَّان بن أبي جَبَلة قال: قيل لعمرو: ما المروءةُ؟ فقال: أن يُصلحَ الرجلُ ماله ويحسنَ إلى إخوانه (¬4). وذكر الهيثم وهشام وأبو اليقظان عنه ألفاظًا منها أنَّه قال (¬5): لا سلطانَ إلَّا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارةَ إلَّا بعَدْل. وقال: السلطان بأصحابه كالبحر بأمواجه، وما أحوجَه إلى ناصح، وليس عليه أضرَّ من صاحبٍ يُحسِنُ القولَ ولا يُحْسن الفِعْلَ، ولا خَيرَ في القول إلا مع الفعل، ولا في ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 75 - 78. وفي كثير من أمثال هذا الكلام نظر. (¬2) المصدر السابق 5/ 78 - 79، وما قبله منه. (¬3) المصدر السابق، وتاريخ ابن عساكر 55/ 241. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 82، ومن قوله (ص 31): وقال الواقدي لما فتحَ عمرو بن العاص مصر. إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬5) في (م): ومن كلام عمرو بن العاص أنه كان يقول، بدل قوله: وذكر الهيثم ... إلخ.

المال إلا معِ الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في العفَّة إلا مع الورع، ولا في الحياة إلا مع الصحة. وقال: السلطان إذا كان صالحًا (¬1) وجلساؤه جُلساءَ سوء، امتنع خيرُه عن الرعيّة، فإن التِّمساح إذا كان في الماءِ الصافي لم يقدر أحدٌ من الدنوِّ منه مع الحاجة إليه (¬2). قلتُ: وقد جاء عن بعض الحكماء مثل هذا، ولعلَّ عَمرًا أخذه منه (¬3). وقال: ما استودعتُ أَحدًا سِرًّا فأَفشاه فلُمْتُه؛ لأنّي كُنْتُ أَضيقَ صدرًا منه حين استودعتُه إياه فأفشاه؛ أخذه شاعر فقال: إذا ضاقَ صَدْرُ المرءِ عن سِرِّ نَفْسِه ... فصدرُ الذي يُسْتودعُ السِّرَّ أضيقُ (¬4) وذكره الموفق رحمه الله في "الأنساب" (¬5) فقال: وكان حَسَنَ الشِّعْر، ومِمَّا حُفِظ من شعره يخاطبُ عمارةَ بنَ الوليدِ لَمَّا خَرَجا إلى النجاشي: تَعَلَّمْ عُمارَ أَنَّ مِنْ شَرِّ شِيمةٍ ... لِمثلِكَ أن يُدعى ابنُ عمٍّ له ابنَما أَأَن كُنْتَ ذا بُرْدَينِ أحوى مُرَجَّلًا ... فلستَ براءٍ لابنِ عمِّك مَحْرَما إذا المرءُ لم يترك طعامًا يحبُّه ... ولم يَنْهَ قلبًا غاويًا حيث يمَّما قضى وَطَرًا منه وغادر سُبَّةً ... إذا ذُكرتْ أَمثالُها تملأُ الفَما وقد ذكر الأبيات. وأن عُمارة تعرَّض (¬6) لامرأة عمرو، ووَشَى بعُمارةَ إلى النجاشيّ، فأمرَ السواحرَ فنفَثْنَ في إحليل عُمارة حتى هامَ مع الوحش في البرِّيَّة (¬7). ¬

_ (¬1) في (م): ناصحًا. (¬2) ينظر "العقد الفريد"1/ 33 - 34. (¬3) ذكر الثعالبي في "ثمار القلوب" ص 178 أن لأزدشير كتابًا في حسن السيرة يُضرب المثل به، وتَقتبس الملوك من أنواره. وذكر له قوله: لا سلطان إلا برجال. . إلخ الذي سلف من قول عمرو. (¬4) أورده المبرِّد في "الكامل" 2/ 881 ضمن أبيات للعتبي. (¬5) ص 462، واسمه: "التبيين في أنساب القرشيين". وينظر أيضًا "عيون الأخبار" 1/ 37. (¬6) في (م): وقيل: إن عمارة بن الوليد لما خرجا إلى النجاشي تعرض .... (¬7) ينظر "الأغاني" 9/ 55 - 59، و "أخبار النساء" ص 103 - 104.

وقال هشام: لَمَّا استُشهد أمير المؤمنين واستقام الأمرُ لمعاوية، قَدِمَ ابنُ عباس الشامَ، فاجتمع به عمرو، فقال: إن هذا الأمرَ الذي نحنُ فيه ليس بأوَّل أَمر قاد البلاء، وقد بلغ بنا وبكم إلى ما ترى، وما أبقت الحربُ لنا ولكم جَلَدًا ولا صَبْرًا، ولسنا نقول: ليت الحربَ عادت لنا، بل نقول: يا ليتها لم تكن، وإنَّما هو أَميرٌ مطاع، ومأمورٌ مطيعٌ، ومأمون مستشار، وأنت هو، والسلام. فأَعجبَ ابنَ عباس قولُه (¬1). ذكر وفاته: ذكر ابنُ سعدٍ (¬2) عن الواقديّ عن أشياخه قال: لَمّا أَصلح معاوية بن حُدَيج بين عمرو بن العاص ومعاويةَ بنِ أبي سفيان، وكتب بينهما كتابًا وشرطَ فيه شروطًا، منها أن لعمرو ولايةَ مصر سبعَ سنين، وعلى عَمْرو السمع والطاعة لمعاوية، وتواثقا، وأشهدا عليهما شُهودًا، ومضى عَمْرو إلى مصر في آخر سنة تسع وثلاثين، قال: فواللهِ ما مكثَ بها إلا سنتين أو ثلاث سنين حتى مات. وقال ابن سعد (¬3): حدثنا الضحاك بن مَخْلَد أبو عاصم الشيبانيّ النبيل بإسناده عن ابن شُماسة المَهْريِّ قال: حَضَرْنا عَمْرَو بنَ العاص وهو في سِياقَةِ الموت، فحوَّل وجهه إلى الحائط، فبكى طويلًا، وابنُه يقول: ما يبكيك؟ أما بشَّرك رسولُ الله صلى الله عليه بكذا وكذا؟ وهو في ذلك يبكي ووجهُه إلى الحائط، قال: ثم أقبل بوجهه إلينا فقال: إن أفضلَ مِمّا تَعُدُّ عليَّ شهادةُ (¬4) أَن لا إله إلَّا الله، وأَن محمدًا رسول الله، ولكني قد كُنْتُ على أَطباقٍ ثلاث: قد رأيتُني ما من الناسِ من أَحد أَبغضَ إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أَحبَّ إليَّ من أن أَستمكنَ منه فأَقتلَه، فلو مِتُّ على تلك الطبقةِ لكنتُ من أهلِ النار، ثم جعل اللهُ الإسلامَ في قلبي، فأَتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبايعه، فقلتُ: اُبْسُطْ يمينك أُبايِعْكَ يا رسولَ الله. قال: فبسط يده، ثم إني قبضتُ يدي، فقال: "ما لك يا ¬

_ (¬1) ينظر "البيان والتبيين" 2/ 298. ومن قوله: وقال هشام .... إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬2) في "الطبقات الكبرى" 5/ 79. (¬3) المصدر السابق 5/ 79 - 80. (¬4) في "صحيح مسلم" (121): إن أفضل ما نُعِدُّ شهادة ....

عمرو؟ " فقلتُ: أَردتُ أن أشترطَ، قال: فقال: "تشترط ماذا؟ " فقلتُ: أَن يُغْفَرَ لي، فقال: "أَما علمتَ يا عمرو أَنَّ" الإسلام يهدمُ ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تهدِمُ ما كان قبلها، وأَنَّ الحجَّ يهدمُ ما كان قبلَه؟ " فقد رأيتُني ما من إحدٍ من الناسِ أحبَّ إليَّ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أَجلَّ في عيني منه، ولو سُئِلْتُ أن أنعتَه ما أطَقْتُ، لأني لم أكن أُطيقُ أن أَملأ عيني منه إجلالًا له، فلو مِتُّ على تلك الطبقةِ رجوتُ أن أكونَ من أهل الجنة، ثم وَلِينا أشياءَ بعد، فلستُ أدري ما أنا فيها وما حالي فيها. فإذا أنا مِتُّ فلا تصحبني نائحةٌ ولا نار، وإذا دفنتموني فَسُنُّوا الترابَ عليَّ سَنًّا، فإذا فرغتُم من قبري فامكثوا عندي قَدْرَ ما تُنْحَرُ جَزورٌ ويُقسَّم لَحمُها، فإني أستأنسُ بكم حتى أعلم ماذا أُراجع به رُسُلَ ربّي. قلت: وقد أخرج مسلم بمعناه وأحمد في "المسند" طريقًا لبعضه. فأما مسلمٌ فقال: حدثنا محمد بن المثنى بإسناده عن ابن شُماسة المَهْريّ، وذكره بعينه ولم يَقُل فيه: قد كُنْتُ على أَطباق ثلاث، ولم ينقص منه سوى هذه اللفظة (¬1). انفرد بإخراجه مسلم. وأما الطريقُ الذي أخرجه أحمد في "المسند" لبعضِه فقال: حدثنا عفَّان، عن الأسود بن شيبان قال: حدثنا أبو نوفل بن أبي عقرب قال: جَزِع عمرو بن العاص عند الموت جَزَعًا شديدًا، فلما رأى ذلك ابنُه عبد الله قال له: يا أَبَة، ما هذا الجَزَعُ وقد كان رسول الله صلى الله عليه يُدْنِيك ويستعملك؟ قال: يا بنيّ، قد كان ذلك، وإني واللهِ ما أَدري، أَحُبًّا كان ذلك أم تألُّفًا كان يتألّفني، ولكني أشهدُ على رَجُلين أنَّه فارق الدنيا وهو يُحبُّهما: ابن سُميَّةَ، وابن أُمِّ عبد. فلما جَدَّ بِهِ (¬2)، وضع يده موضع الغُلِّ من ذقنه وقال: اللهمَّ إنك أَمَرْتَنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا. ولا يسعنا إلا مغفرتُك. فكانت تلك هِجِّيراه حتى مات. ¬

_ (¬1) بل هي فيه (121) بلفظ: إني قد كنتُ على أطباق ثلاث. (¬2) تحرَّف قوله: "جدَّ به" في "المسند" (17781) إلى: لفظة: حدَّثه. والخبر في "تاريخ دمشق" 55/ 265 من طريق أحمد.

وقال ابن سعد بإسناده عن الحسن (¬1) قال: قال عمرو عند الموت: اللهم لا بريءٌ فأعتذر، ولا عزيزٌ فأَنتصر، وإن لم تُدرِكْني منك برحمة أكُنْ من الهالكين (¬2). وفي رواية: ولكن لا إله إلا أنت. فما زال يقولُها حتى مات. وقال ابن سعد (¬3): حدَّثنا عُبيد الله بن موسى بإسناده عن أَبِي حرب بن أبي الأسود، عن عبد الله بن عمرو أن أباه أوصاه أن يغسله بالماء ثلاثًا، ويجعل في الآخِرةِ كافورًا. وذكر قوله: اللهم إنك أَمرتنا فتركنا، ونهيتَنا فأضعنا. وروى ابن سعد (¬4) عن هشام بن محمد الكلبيّ، عن عَوانة بن الحَكَم قال: كان عَمْرو بن العاص يقول: عجبًا لمن نزل به الموتُ وعَقْلُه معه كيف لا يَصِفُه؟ [فلما نزل به قال له ابنه عبد الله بن عمرو: يا أَبتِ، إِنَّك كنتَ تقول: عجبًا لمن نزل به الموتُ وعقلُه معه كيف لا يَصِفُه]، فصِفْ لنا الموتَ وعقلُك معك. فقال: يا بُنيّ، الموتُ أَجلُّ من أَن يُوصَفَ، ولكني سأَصفُ لك منه شيئًا، أَجدُني كأنَّ على عُنُقي جبال رَضْوَى، وأَجِدُني كأَنَ في جوفِي شوك السَّعْدان (¬5)، وأجدني كأَنَّ نَفَسي يخرج من ثقب إبرة. وفي روايةٍ: يا أَبَة، إنك كُنْتَ تقول: ليتني أَلقى رجلًا عاقلًا عند الموتِ يُخبرني عنه، وأنت ذاك، فأَخْبِرْنا، فقال: كأنَّ في جوفي حَسَكَ السَّعْدان، وكأني أتنفَّسُ من سَمِّ إبْرَة، وكأنَّ غُصْنَ شوكٍ يُجَزُ به من هامتي إلى قَدمي (¬6). وقال هشام: قال عبد الرحمن بن شِماسة المصري: دخلتُ عليه أعوده في مرض موته فقلتُ: كيف تجدُك أَبا عبد الله؟ فقال: أجدني أفسدتُ ديني بدنياي، ثم بكى ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى 5/ 80. (¬2) من قوله: قلت: وقد أخرج مسلم بمعناه .... إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬3) الطبقات 5/ 81. (¬4) المصدر السابق، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬5) في "الطبقات": شوك السُّلاء، وهما هنا بمعنى، ويعني شوك النخل، وينظر "تاريخ دمشق" 55/ 259. (¬6) تاريخ دمشق 55/ 260.

وقال: أُنسيتُ لَمّا أسلمتُ أن أقولَ: يا رسولَ الله، اغفر لي ما تأخَّر من ذنبي، ثم أنشد [وجعل يقول]: كم عائدٍ رجلًا وليس يعوده (¬1) ... إلا لينظر هل يَراه يُفِيقُ (¬2) وقال الموفَّق رحمه الله: جعل يقول: اللهم أمرتَنا فترَكْنا. وذكره (¬3). واختلفوا في وفاته: فحكى ابن سعد عن الواقدي قال: حدثنا عبد الله بن أبي يحيى عن عمرو بن شعيب قال: توفي عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر سنة اثنتين وأربعين، وهو والٍ عليها. قال: وقال محمد بن عمر، يعني الواقدي: وسمعتُ من يذكر أنه توفي سنة ثلاث وأربعين. وقال محمد بن عمر: وسمعتُ بعضَ أَهلِ العلم يقول: مات سنة إحدى وخمسين. ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن سعد عن الواقديِّ (¬4). وقال أبو سعيد بن يونس: مات بمصر ليلة الفطر سنة ثلاث وأربعين. وحكى جَدِّي في "التلقيح" (¬5) القولين، أعني سنة اثنتين وأربعين، أو سنة ثلاثٍ وأربعين. وقيل: توفي بعد الستِّين، وهو وهم، والأوَّل أصحُّ. واختلفوا في سنِّه: فذكر جَدِّي في "التلقيح" أنه عاش نحوًا من مئة سنة. وقال ابن البَرْقي: عاش تسعين سنة؛ قال: وكان يقول: أَذكُرُ الليلةَ التي وُلد فيها عمر بن الخطاب. وصلى على عمرو ابنُه عبد الله، ودفَنَه، ثم صلى بالناس صلاة العيد. وكان عبد الله مقارِبًا لأبيه في السنِّ، بينهما سنُ البلوغ، ودُفن عمرو بمصر. ¬

_ (¬1) في (خ) ولست أعوده، والمثبت من (م) وما سلف بين حاصرتين منها. (¬2) وتمثل بالبيت عبد الملك بن مروان عند احتضاره فيما ذكر الذهبي في "تاريخ الإسلام" 2/ 975، وفيه: يموت، بدل: يفيق، وتحرفت في "المنتظم" 5/ 199 إلى كلمة: يفرق. (¬3) التبيين في أنساب القرشيين ص 463، بنحوه. وقوله: وقال: الموفق ... إلخ، ليس في (م). (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 82. (¬5) ص 150.

السنة الثالثة والأربعون

ذِكْرُ أولاده (¬1): قال ابن سعد: كان له من الولد عبدُ الله، وأُمُّه رَيطَةُ بنت مُنَبِّه بن الحجاج من بني سَهْم، ومحمد، وأُمُّه من بَليّ. وكان لعمرو أَخٌ اسمُه هشام بن العاص، أَسلمَ قديمًا، وكان صالحًا فاضلًا، قُتِل يومَ اليرموك، وقيل: يومَ أجنادين، وأَمرهم عمرو أن يطؤوا جُثَّتَه ويعبروا إلى العدوّ، وقد ذكرناه. أسند عمرو بن العاص عن رسولِ الله صلى الله عليه أحاديث، واختلفوا فيها، قال ابنُ البَرْقيِّ: تسعة وثلاثين حديثًا (¬2). وأَخرج له أحمد في "المسند" ثلاثةً وعشرين، منها مُتَّفَقٌ عليه، ومنها أفراد. وأُخرج له في الصحيحين [ستة] أحاديث، المتَّفق عليها منها ثلاثةٌ، وانفرد البخاريُّ بطرفٍ من حديثٍ رواه ابنه عبد الله، وانفرد مسلم بحديثين (¬3). وقد ذكرنا طرفًا من مسانيده في ترجمته. وليس في الصحابة من اسمه عمرو بن العاص غيره، و [أما] غير ابن العاص فكثير. السنة الثالثة والأربعون قال الواقدي: ولما مات عَمرو بن العاص أقرَّ معاويةُ ولدَه عبد الله على مصر سنة ثلاثٍ وأربعين، ثم عزله، فكانت ولايته على مصر سنتين وشهرَين. وفيها اجتمع المُسْتَوْرِد بنُ عُلَّفَة بالخوارج في غُرَّة شعبان للموعد الذي اتَّعدوا عليه في منزل حيَّان بن ظَبْيان، ونزل المستورد بساباط في ثلاث مئة رجل. ذكر القصة: ذكر هشام بن محمد عن أبي مِخْنَف عن أشياخه قالوا: بلغ المُغيرةَ بن شعبة أَنَّ قومًا من الخوارج بالكوفةِ يريدون الخروج عليه، فقام خطيبًا وقال: يا أيها الناسُ، قد ¬

_ (¬1) لم ترد هذه الفقرة في (م). (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 366. (¬3) المصدر السابق ص 397.

علمتم أني لم أَزلْ أُحبُّ لكم العافية، وأكفُّ عنكم الأذى، وقد خَشيتُ أن لا يجدَ الحليمُ من الغضب بُدًّا، فكُفُّوا سفهاءَكم قبل أَن يشمل البلاءُ خواصَّكم (¬1)، فقالوا: إن كان قد سُمِّيَ لك أَحدٌ فأَخبرنا لنكفيَك أمرَه. وخرج الرؤساءُ إلى عشائرهم، فناشدوهم اللهَ والإسلامَ، وكان المغيرةُ بن شعبة قد حَبَسَ منهم جماعة. فقال معاذ بن جُوَين بن حصن من الخوارج يُحرّضُهم على الخروج: أَلا أَيُّها الشارون قد حان لامرئٍ ... شرى نفسَه للهِ أَن يترحَّلا أقمتُم بدارِ الخاطئين جَهالةً ... وكلُّ امرئٍ منكم يُصاد ليُقْتَلا فشُدُّوا على القومِ العُداةِ فإِنَّما ... إقامتُكم للذبح رَأْيًا مُضَلَّلا من أبيات (¬2). وبعث المُستورِدُ إلى أصحابه: اخرجوا من بين هذه الأُمَّة الخاطئة. فخرجوا في ليلة، فنزلوا في الصَّراة في ثلاثِ مئة رجل. فجمع المغيرةُ الرؤساءَ وقال: إنَّ هؤلاء الأشقياءَ قد أَخرجهم الحَيْنُ وسوء الرأي، فمن تَرَوْن أن أبعثَ إليهم؟ فاتفقوا على معقل بن قيس، فسار إليهم في ثلاثة آلافٍ؛ معظمُهم من شيعة أمير المؤمنين، وكان ذلك من رأي المغيرة؛ قال: لأنهم أَجرأُ عليهم من غيرهم، ويدينون اللهَ بقتالِهم حيث فعلوا بأمير المؤمنين ما فعلوا. وأَوصى المغيرةُ معقلَ بنَ قيس فقال له: اِعلم أني قد بعثتُ معك فرسانَ هذا المصر، فَسِرْ إلى هذه العصابةِ المارقة الذين فارقوا جَماعتنا وشهدوا علينا بالكفر، فادْعُهُم إلى الطاعة والدخول مع الجماعة، فإنْ تابوا ورجعوا فكُفَّ عنهم، وإن أَبَوْا فناجِزْهُم، واستعِنْ بالله عليهم. وخرج مَعقِل بن قيس، فبات بِسُورا، ثم سار حتى وصل إلى بَهُرَسير (¬3) المدينة الغربية، وكان على المدينة الشرقية التي فيها أبيضُ كِسْرى سِماكُ بنُ عُبيد العَبْسيّ، ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 184، والخبر فيه: عوامَّكم. (¬2) المصدر السابق 5/ 187، وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 193. (¬3) بالفتح، ثم الضم، وفتح الراء، وكسر السين: من نواحي سواد بغداد قرب المدائن، وسُورا: موضع بالعراق من أرض بابل. ينظر "معجم البلدان" 1/ 515 و 3/ 278.

عبد الله بن سلام

فقطع الجِسْرَ، ولم يمكّن معقل بن قيس من العبور، ثم مكَّنهم بعد ذلك (¬1)، والتقَوْا على المذار (¬2)، فقال المُسْتَوْرِد: شُدُّوا عليهم ولا تمكّنوهم من تعبئة الخيل، فشَدُّوا عليهم، فانهزم بعضُ أصحاب معقل، فترجَّلَ مَعْقِلٌ وترجَّل مَن كان معه، وقاتل قتالًا شديدًا وحجز بينهم الليلُ، وأبسلوا أيَّامًا، وأخَّر أمرَهم أنَّ معقل بن قيس والمستورد بن عُلَّفَة مشى كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، وبيد المستورد رمحٌ، وبيد معقل بن قيس سيف، فطعن المستوردُ مَعْقِلًا في صدره، فخرج السِّنانُ من ظهره، وضربه معقل بالسيف على رأسه، فخالط أُمَّ دِماغه، فخرَّا مَيِّتَين، وقُتِل باقي الخوارج. وفي رواية أن الواقعة كانت بجُرْجان، وأَنَ الخوارج مَضَوْا إلى ساباط، ولحقهم مَعْقِلٌ وفي مقدّمته أبو الروَّاغ، ولحقه معقل في سبع مئة من الأبطال، فنادى المستورد: يا معقل، ابرز إِليَّ. فبرز إِليه، فحمل عليه، فطعنَه بالرُّمح، وضربه مَعْقِل بالسيفِ، فَخَرَّا مَيِّتَين. فهذا ما انتهى إلينا. والله أعلم (¬3). وحجَّ بالناس في هذه السنة -على ما قيل- مروانُ بنُ الحَكَم. وكان واليًا على المدينة، وعلى مكةَ خالد بنُ العاص بن هشام، وعلى الكوفة المغيرة بنُ شعبة، وعلى قضائها شُرَيْح بن الحارث، وعلى البصرة وفارس وخُراسان وسجستان عبدُ الله بنُ عامر، وعلى قضائها عمرو بن يثربي (¬4). وفيها توفي عبد الله بن سلام الإسرائيليّ، ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من الأنصار، وقال (¬5): كنيته أبو يوسف، وكان اسمه الحُصين، فلما أَسلم سمَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله. قال: وهو ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا المعنى، والذي في "تاريخ" الطبري 5/ 194 أن معقل بن قيس نزل باب مدينة بَهُرَسير ولم يدخلها، فخرج إليه سماك بن عُبيد، فسلّم عليه، وأمر غلمانه ومواليه، فأتوه بالجزر والشعير والقتّ، فجاؤوه من ذلك بكل ما كفاه وكفى الجند الذين كانوا معه. (¬2) بين واسط والبصرة، بينها وبين البصرة أربعة أيام، وفيها قبر عبد الله بن علي بن أبي طالب. معجم البلدان 5/ 88. (¬3) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 181 - 209، والخبر فيه مطوّل جدًّا، والمنتظم 5/ 201 - 206. ومن قوله: وفيها اجتمع المستورد بن عُلَّفَة بالخوارج ص 42 ... إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬4) تاريخ الطبري 5/ 211. (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 377.

رجلٌ من بني إسرائيل من ولدِ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وهو حليفٌ للقواقلةِ من بني عَوْف بن الخزرج. وقد ذكرنا إسلامه في السنة الأُولى من الهجرة، وما جرى له مع اليهود بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عباس: نزل فيه آياتٌ من القرآن. وقال أحمد بن حنبل: حدثنا إسحاق بن عيسى بإسناده عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقَّاص قال: ما سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه يقول لحيٍّ يمشي على وجه الأرض: "إنه من أهل الجنَّة"، إلا لعبد الله بن سلام. أخرجاه في الصحيحين (¬1). فإِن قيل: فقد شهد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للعشرةِ المبشَّرين بالجنَة، فكيف تقولُ هذا؟ فالجواب من وجهين: أَحدهما: أنَّ النبي صلى الله عليه قال هذا القولَ لَمَّا قَدِم المدينةَ وآمن به ابنُ سَلام، وكذَّبَ اليهودَ، ثم شهد بعد ذلك للعشرة. والثاني: أن سعدًا أَراد ما سوى العشرة. وقد أخرج ابن سعد بمعناه فقال: حدَّثنا عفَّان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن جابر بن عبد الله، عن معاذ بن جبل قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عبد الله بن سلام عاشرُ عشرة في الجنَّةِ" (¬2). وقال أحمد بإِسناده عن مصعب بن سعد عن أبيه، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بقَصْعَةٍ، فأَكل منها، ففَضَلَت فَضْلَةٌ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجيءُ رجلٌ من هذا الفَجِّ من أَهلِ الجنةِ يأكلُ من هذه الفضلة". قال سعد: وكنتُ تركتُ أخي عُميرًا يتوضَأُ، فقلتُ: هو عُمَير، قال: فجاء عبد الله بن سلام [فأكلها] (¬3). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1453)، وصحيح البخاري (3812)، وصحيح مسلم (2483). (¬2) لم أقف على الحديث من الطريق المذكورة عند ابن سعد ولا عند غيره، إنما أخرجه ابنُ سعد في "الطبقات" 5/ 383 عن حماد بن عمرو النصيبي، عن زَيد بن رُفيع، عن مَعْبد الجهني، عن يزيد بن عميرة السكسكي، عن معاذ بن جبل، وفيه قصة. وأخرج ابن سعد قبله الحديثَ الذي سيذكره المصنف بعده عن عفَّان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن مصعب بن سعد، به. فلعل ثمة وهمًا، والله أعلم. (¬3) مسند أحمد (1458) وما بين حاصرتين منه.

وقول ابن سلام (¬1): يا رسول الله، أَحضِر اليهودَ، فإنَّهم قَوْمٌ بُهْتٌ، فلما حضروا تركه في مَخْدَعٍ وقال لهم: "ما تقولون في ابنِ سلام؟ " فقالوا: سيِّدُنا وابنُ سيِّدِنا، وعالمُنا وابنُ عالِمِنا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرأيتُم إِن أسْلَم، أَتُسْلمون؟ " قالوا: نُعيذُه بالله من ذلك، فخرج ابنُ سلام وهو يقول: أَشهدُ أنك رسولُ الله، وأنَّهم يعلمون منك ما أَعلمُ، فخرجوا، وأنزل الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] (¬2). وقال مجاهد: الشاهدُ عبد الله بن سلام، والهاء في قوله: على مثله، ترجعُ إلى القُرآن (¬3). وقال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حَزْم قال: لَمَّا سمع عبد الله بنُ سلام ما نَزَلَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، وعرف صفةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عنده، وعرف ما نزل عليه من القرآن بما عنده من التوراةِ، وكان أعلَم بني إسرائيل بالتوراة، وأَصدَقَه عندهم، فأسلم وثبت على إسلامه حتى مات (¬4). وحكى ابن سعد أيضًا عن جابر بن زيد عن مجاهد وعطاء وعكرمةَ في قوله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: قالوا: عبد الله بن سلام. قال: قال الحسنُ بن مسلم: نزلت هذه بمكَّة وعبد الله بن سلام بالمدينة مُسْلِم. وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] قال: هو عبد الله بن سلام. وروى ابن سعد بإسناده إلى عطية العَوْفيِّ قال في قوله تعالى: {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197]: كانوا خمسة: عبد الله بن سلام، وابن يامين (¬5)، وثعلبة، وأسد، وأسيد. ¬

_ (¬1) قبلها في (م): وذكر ابن سعد قصة إسلام عبد الله بن سلام وقول ابن سلام ... ولم يرد في هذه النسخة (م) من قوله: وما جرى له مع اليهود (في الصفحة السابقة) ... إلى نهاية حديث أحمد قبله. (¬2) أخرجه مطولًا أحمد (23984) من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - وأخرجه أيضًا ابن سعد 5/ 378 - 379 وأحمد (12057) والبخاري (3329) من حديث أنس - رضي الله عنه - مطولًا، دون ذكر نزول الآية. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 382، بنحوه. (¬4) المصدر السابق وما بعده منه. ولفظ العبارة الأخيرة فيه: وكان صحيح الإسلام حتى مات. (¬5) في "الطبقات" 5/ 382 بنيامين.

وقال ابن سعد بإسناده إلى معاذ بن عبد الله التيمي (¬1)، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه عبد الله قال: أمرني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ القُرآن ليلةً، والتوراةَ ليلةً. فإن قيل: فقد كان رسولُ الله صلى الله عليه ينهى عن قراءة التوراة، وقال لعمر: "أَمِطْها أَمِطْها عنك" الحديث. فالجواب: إنما نَهَى عن قراءة التوراة التي بدَّلَها اليهودُ وغيَّروها، أما التوراةُ الصحيحة التي فيها أَوصافُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا، ولهذا أَمره بقراءتها لئلا ينساها، فيُحاجَّ اليهودَ بها، ألا ترى أنَّ الحالفَ لو حلفَ بالتوراةِ التي أُنزلت على موسى عليه السلام فحنث، فإنَّه يلزمُه الكَفَّارةُ؟ ! حديث رؤيا ابن سَلام: قال أحمد (¬2): حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن قيس بن عُباد قال: كُنت جالسًا في مسجدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل في وجهه أَثرٌ من خُشوع، فقال القوم: هذا رجلٌ من أَهلِ الجنَّة. قال: فصلَّى ركعتين تجوَّز فيهما -أو: فأوجز فيهما- ثم خرج، فاتَّبعته، فدخل منزله ودخلتُ معه، فتحدَّثْنا، فلما استأنس قلتُ: إنك لَمّا دخلْتَ قبلُ المسجدَ قال القومُ: إِنك من أهلِ الجنة. فقال: سبحان الله! ما ينبغي لأَحدٍ أن يقولَ ما لا يعلم. وسأُحدِّثُكم لِمَ ذاك. إني رأيتُ رؤيا على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصتُها عليه؛ رأيتُ كأني في روضةٍ خضراءَ -قال ابن عون: فذكر من خُضْرَتها وسَعَتها وعُشْبِها (¬3) - ووسطَ الروضة عمودٌ من حديد، أسفله في الأرض، وأعلاه في السماءِ، في أعلاه عروةٌ، فقيل لي: اصعد عليه وارْقَه، فقلتُ: لا أستطيع. قال: فجاءني مِنْصَفٌ - قال ابن عون: والمِنْصَفُ: الخادم- فرفع ثيابي -أو قال: بثيابي من خلفي؛ وصف أنه رفعه بيده من خلفه- وقال: ¬

_ (¬1) كذا في "الطبقات" 5/ 383. وأخرجه ابن عساكر 9/ 398 (مصورة دار البشير) من طريقه: وفيه: معاذ بن عبد الرحمن التيمي. (¬2) في "المسند" (23787). (¬3) قوله: وعشبها، ليس في "المسند".

اصعد. قال: فَرَقِيتُ حتى كنتُ في أعلى العمود، فأخذتُ بالعروة الوُثقى (¬1)، فقيل لي -أو قال لي-: استمسك بها. فلقد استيقظتُ وإِنَّها لفي يدي. فلما أصبحتُ أَتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصتُها عليه، فقال: "أَما الروضةُ؟ فروضةُ الإسلام، وأَما العمود؛ فعمودُ الإسلام، وأَما العروةُ؛ فالعروة الوثقى، وأنت على الإسلام حتى تموت". قال: والرجل عبد الله بن سلام. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وهو حديثٌ طويلٌ بروايات مختلفة. وأخرجه أحمد في في المسند" (¬3) بمعناه من طريقٍ آخر فقال: حدَّثنا حسن بن موسى وعفَّان بن مسلم قالا: حدَّثنا حمّاد بن سلمة، عن عاصم بن بَهْدَلةَ، عن المسيَّب بن رافع، عن خَرَشة بن الحُرِّ قال: قَدِمْتُ المدينةَ فجلستُ إلى مَشْيَخَةٍ -أو أَشْيِخَةٍ- في مسجد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء شيخ يتوكأ على عصا، فقال القومُ: من سرَّه أَن ينظر إلى رجلٍ من أهلِ الجنَّةِ فلينظر إلى هذا. فقام خلف ساريةٍ، فصلّى ركعتين، فلما قضى صلاته قام فخرج، فاتَّبعْتُه وقلت: لأَعلمَنَّ مكانَ بيتِه، فدخل منزله فاستأذنتُ عليه، فأذِنَ لي، فلما دخلتُ قال: ما حاجتُك يا ابنَ أخي؟ قلتُ: قد سمعتُ القومَ يقولون كذا وكذا، فأعجبني أن أكونَ معك، فقال: اللهُ أَعلمُ بأهلِ الجنةِ، يُدخلُها مَنْ يشاء، وسأُحدِّثُك لِمَ قالوا ذلك: بينما أنا نائمٌ إذ أتاني آت -أو رجلٌ- فقال لي: قُم، فأخذ بيدي، فانطلقت معه، إذا بجَوادَّ عن شمالي، فأخذتُ في ناحيةِ الشمال، فقال: لا تأخذْ فيها، فإنها طرقُ أصحاب الشِّمال، ولستَ من أهلها، وإذا جَوادُّ مَنْهَجٌ عظيمٌ عن يميني، فقال: خُذْ هاهُنا، فسلكتُها حتى انتهينا إلى جبلٍ زَلَقٍ، فقال: اصْعَدْ، فجعلتُ إِذا أَرَدْتُ أصعدُ خَرَرْتُ حتى فعلتُ ذلك مِرارًا. وفي رواية: فَزَجَل بي (¬4)، فإذا أنا على ذِرْوَته، فلم ¬

_ (¬1) لعل إيراد لفظة "الوثقى" في هذا الموضع وهم، فسيرد تفسيرها آخر الحديث بأنها الوثقى، وكذلك فإنها لم ترد في "المسند" في هذا الموضع. (¬2) صحيح البخاري (3813)، ومسلم (2484). (¬3) برقم (23790) بالاسناد الآتي، لكن لفظُه فيه بنحوه. (¬4) بالزاي والجيم، أي رمى بي. قاله النووي في "شرح صحيح مسلم" 16/ 44.

أتقارَّ، ولم أتماسك، فإذا عمودٌ من حديد، رأسُه في السماء، وأسفلُه في الأرض، وفي أعلاه عروة من ذهب، فقال: اصْعَدْ فوقَ هذا، فقلتُ: كيف أصعدُ ورأسُه في السماءِ؟ ! فأخذ بيدي فَزَجَل بي: فإذا أنا مُعَلَّقٌ -أو متعلِّقٌ- بالحلقة، أو بالعروة. ثم ضَربَ العمود، فَخرَّ، وبقيتُ متعلّقًا بالحلقة حتى أَصبحتُ. فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصتُها عليه، فقال: "رأيتَ خيرًا، أما الطرقُ التي عن يسارك؛ فطرقُ أصحابِ الشِّمال -أو طرق أهلِ النارِ- ولستَ من أَهلِها، وأما الطرقُ التي عن يمينك؛ فطرقُ أهل اليمين والجنة، وأنت من أهلها، وأما المنهج العظيم فالمحشر. وقيل: طريق الإسلام، وأما الجبلُ فجبلُ الشهداء، ولن تناله، والعمود عمودُ الإسلام، والعروةُ عروةُ الإسلام، فاسْتَمْسِكْ بها حتى تموت". وأنا أرجو أن أكون من أهلها. قال: والرجل عبد الله بن سلام. وقد أخرج البخاري عن أبي بُردة بن أبي موسى قال: قدمتُ المدينةَ فلقيتُ ابنَ سَلَام، فقال: ألا تجيءُ فأُطعمَك سَويقًا وتمرًا، وتدخل فتصلي في مسجدٍ صلى فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وأسقيَك في قَدَح شربَ فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فانطلقتُ معه، فَسقاني سَويقًا وأَطعمني تمرًا، وصلَّيتُ في مسجدهِ، وقال لي: إنك بأرضٍ الرِّبا فيها فاشٍ، فإذا كان لك على رجلٍ حقٌّ فأهدَى إليك حِمْلَ تِبْنٍ، أو حِمْلَ شعيرٍ، أَو حِمْلَ قَتٍّ، فلا تأخذه، فإنه رِبًا (¬1). ذِكْرُ وفاته: اتفقوا على أنه توفي في سنة ثلاث وأربعين [بالمدينة]، ودُفِنَ بالبقيع من غير خلاف. وحكى ابن سعد أنه شهد فَتْحَ نهاوند (¬2). وقال أبو القاسم بن عساكر: شهد مع عمرَ الجابية وفتح بيت المقدِس (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر "صحيح البخاري" (3814)، و (7342). (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 385. (¬3) تاريخ دمشق 9/ 379 (مصورة دار البشير).

محمد بن مسلمة

أسند عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه أحاديث؛ قال ابن البَرْقي: خمسة وعشرين حديثًا (¬1). وأخرج له أَحمد سبعةَ أحاديث منها مُتَّفقٌ عليه، ومنها أفراد. وقد ذكرنا طرفًا مَن أحاديثِه. وروى عن ابنِ سلام أنسُ بنُ مالك، وأبو هريرة، وعبد الله بنُ مُغَفَّل المُزَنيُّ، وابناه يوسف ومحمد، وعبد الله بن حنظلة بن الراهب، وعطاء بن يَسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وزُرارة بن أوفى في آخرين (¬2). وليس في الصحابة من اسمه عبد الله بن سلام غيره. وفيها توفي محمد بن مَسْلَمة ابن سَلَمة بن خالد بن عديّ بن مَجْدَعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو -وهو النَّبيتُ- بن مالك بن الأوس. ومحمد حليفٌ لبني عبد الأشهل، وهو من الطبقةِ الأُولى من الأنصارِ، وأُمُّه أُمُّ سهم، واسمُها خُلَيدَةُ بنت أبي عبيد، من الخزرج. قال ابن سعد (¬3): أسلم محمد بن مَسْلَمة بالمدينة على يدي مصعب بن عُمَير، وذلك قبل إسلام أُسيد بن الحُضَير، وسعد بن معاذ. وآخى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بين محمد وبين أبي عُبَيدَة بن الجرَّاح، وشهد بَدْرًا، وأُحُدًا، والخندقَ، والمشاهدَ كلَّها مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ما خلا تبوك، فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استخلفه على المدينةِ حين خرج إلى تبوك، وثبت مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد لَمّا انهزم الناس. وقيل: إنه [قتل] مَرْحَبًا يومَ خيبر، وقد ذكرناه، وكان محمد فيمن قَتَلَ كعب بن الأشرف (¬4). ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 367. (¬2) تاريخ دمشق 9/ 379. (¬3) في "الطبقات" 3/ 409. (¬4) أخرجه البخاري (4037)، ومسلم (1801) من حديث جابر - رضي الله عنه -.

قال ابن سعد (¬1): وبعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القُرَطاء -وهم من بني كلاب (¬2) - سَرِيَّةً في ثلاثين فارسًا من الصحابةِ، فسَلِمَ وغَنِمَ. قال: وبعثه إلى ذي القَصَّةِ [سريةً] في عشرة نفرٍ، واستعمله في عمرة القَضِيَّةِ على الخيل، وكانت مئة فَرَس. وقال ابن سعد (¬3) بإسناده عن إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: كان محمد بن مَسْلَمة يقول: يا بَنِيَّ، سَلُوني عن مشاهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ومواطنِه، فإني لم أتخلَّفْ عنه في غزوةٍ قطُّ إِلا واحدةً في تبوك، خلَّفني على المدينةِ، وسلوني عن سراياه، فإنه ليس منها سَرِيَّةٌ تخفى عليَّ؛ إمَّا أَن أكونَ فيها، أو أن أعلمها حين خَرَجَتْ. وحكى ابن سعد (¬4) أنَّ محمدًا كان رجلًا أسودَ طُوالًا عظيمًا أصلع. قال: وكان يُسَمَّى فارسَ [نبيِّ] الله (¬5). وذكره ابن عبد البَرِّ فقال: كُنيتُه أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو سعيد (¬6). وقال ابن يونس: شهد فتح مصر، وكان فيمن طلع الحصنَ مع الزبير بن العوَّام، واختطَّ بمصر، ثم رجع إلى المدينة، وقَدِم مرَّةً أُخرى مصر في مُقاسمةِ عمرو بن العاص، فلم يقبل رِشوَةً، وقد ذكرناه. وروى الحسنُ في مراسيله أنَّ محمدًا مرَّ بين الصفا والمروةِ، ورسولُ الله صلى الله عليه واضعٌ خدَّه على خدِّ رجلٍ، لم يُسَلِّم، فدعاه وقال: "يا محمَّدُ، ما لك لم تُسَلِّمْ"؟ فقلتُ له: رأيتُكَ فعلتَ بهذا الرجلِ شيئًا لم تفعله بغيرِه، فكرهتُ أن أَقطع عليكَ ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 3/ 409، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬2) القُرَطاء بطن من بني بكر بن كلاب، وكانوا ينزلون البكرات، بناحية ضريَّة، وبين ضريَّة والمدينة سبع ليال. ينظر "الطبقات" 2/ 74 وتاريخ دمشق 64/ 333، وفيهما خبر السريَّة. وينظر "الإكمال" 7/ 111. (¬3) الطبقات 3/ 409. (¬4) في "الطبقات" 3/ 409 - 410، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬5) في "تاريخ دمشق" 14/ 358: حارس نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) الاستيعاب 10/ 44 - 45، وليس فيه أنه يكنى بأبي سعيد. وهو في "تاريخ دمشق" 64/ 322 (طبعة المجمع).

حديثَك، مَنْ كان الرجلُ يا رسولَ الله؟ قال: "ذاك جبريلُ، ولو سلَّمتَ لردَّ عليك السلامَ" (¬1). وحكى أبو القاسم بن عساكر عن خليفة (¬2) عن سفيان بن عُيَينة قال (¬3): قال عمر بن الخطاب لمحمد بن مسلمة: كيف تراني يا محمد؟ فقال: قويًّا على جمعِ المالِ، عفيفًا عنه، عادلًا في القسمة، ولو مِلْتَ عدَّلناك كما يُعَدَّل السهمُ في الثِّقاف (¬4). فقال عمر: الحمد للهِ الذي جعلني في قومٍ إذا مِلْتُ عدَّلوني. وحكى عن الواقديِّ قال (¬5): حكى محمدُ بنُ مسلمة أنه كان يومًا جالسًا عند مروان بالمدينةِ وعنده ابنُ يامين [فقال مروان: كيف كان قَتْلُ ابنِ الأشرف؟ قال ابنُ يامين]: كان غَدرًا. فغضب محمد وقال: يا مروان، تسمعُ هذا وأَنْتَ ساكتْ؟ ! أَيُغَدَّرُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عندَك؟ واللهِ ما قتلناه إلّا بأمره، واللهِ لا يجمعني وإياك سقفٌ أبدًا إلا سقفُ المسجد، وأما أنت يا ابنَ يامين، فللَّهِ عليَّ إن قَدَرْتُ عليك وفي يدي سيفٌ لأضربنَّ به رَأسَكَ. فكان ابنُ يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث رسولًا ينظر إن كان محمدٌ في بعضِ ضِياعه نزل، وإلا فلا. فبينا محمد في جِنازة بالبقيع إذ رأى ابنَ يامين، وكان هناك عُلِّيَّةٌ من جريد، فأخذ منها سَعَفًا (¬6)، وجعل يضرب به رأْسَ ابن يامين ويقول: واللهِ واللهِ لو أَنَّ معي سيفي لضربتُك به. وقد ذكرنا هذا فيما تقدَّم. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" 19/ 234 (522)، وابن عساكر 64/ 330، وإسناده منقطع لأن الحسن لم يسمع من محمد بن مسلمة، وفيه أيضًا عبَّاد بن موسى السعدي، قال فيه ابن حجر في "التقريب" مقبول. يعني حيث يُتابَع، لكنه لم يُتابَع عليه، فهو ليّن الحديث. (¬2) كذا في (خ)، وليس في إسناده خليفة. (¬3) أخرج الخبر ابن عساكر في "تاريخه" 64/ 352 من طريق ابن المبارك، عن ابن عُيينة، عن موسى بن أبي عيسى قولَه، وليس هو من قول ابن عيينة. (¬4) هي أداة من خشب أو حديد، تُسَوَّى بها الرماح. ينظر "القاموس" و "المعجم الوسيط". (¬5) أخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخه" 64/ 350 - 351، وما سيرد بين حاصرتين مستفاد منه. (¬6) في "تاريخ دمشق" أنه أخذ السَّعَف من نَعْشٍ لامرأة كان في البقيع.

وقال الواقديُّ (¬1): بلغ عمرَ بنَ الخطاب أَن سعد بن أبي وقاص بنى قَصْرًا بالكوفة، فأرسل محمد بن مَسْلَمة، فحرق بابَ القصر بالنار. وكان عمر إذا أراد شيئًا من هذه الأشياء بعث محمد بنَ مَسْلَمة فيه. وذكره خليفةُ في عمال رسولِ الله صلى الله عليه وقال: استخلفه في غزاة قَرْقَرَة الكُدر (¬2). وقال هشام: كان محمد من فضلاء الصحابة، واعتزل الفِتن فلم يشهد صِفِّين ولا الجمل، وأقامَ بالرَّبَذَة، واتخذ سيفًا من خشب. قال ابن سعد (¬3): حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسنِ، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى محمد بنَ مسلمة سيفًا وقال: "قاتِلْ به المشركين ما قاتلوا، فإذا رأَيتَ المسلمين قد أقبلَ بعضُهم على بعض فَائْتِ به أُحُدًا، فاضربْه حتى تقطَعه، ثم اجلِسْ في بيتك حتى تأتيَك يدٌ خاطئةٌ، أو مَنِيَّة قاضية". وقال ابن سعد (¬4): حدَّثنا عفَّان بن مُسْلم بإسناده إلى ضُبيعة بن حصن الثعلبي قال: كنَّا جلوسًا مع حذيفة، فقال: إني لأَعلمُ رجلًا لا تَنْقُصُه الفتنةُ شيئًا، فقلنا: من هو؟ قال: محمد بن مَسْلَمة الأنصاري. فلما مات حُذيفةُ وكانت الفتنةُ، خرجتُ فيمن خرج من الناس، فأتيتُ أهلَ ماءٍ، فإذا بفُسطاطٍ مضروب مُتَنَحًّى به تضربُه الرياح، فقلتُ: لمن هذا الفُسطاط؟ فقالوا: لمحمد بن مَسْلَمة. فأتيتُه فإذا هو شيخٌ، فقلتُ له: يرحمك الله، أَراك رجلًا من خِيارِ المسلمين، تركتَ بلدَك ودارَك وأهلَك وجِيرتَك! قال: تركتُه كراهيةَ الشرِّ، ما في نفسي أن تشتمل على مصرٍ من أمصارهم حتى تنجليَ عَمَّا انجلت. وقال ابن سعد (¬5) بإسناده عن زيد بن أسلم، عن محمد بن مسلمة قال: أعطاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سيفًا وقال: "جاهِدْ بِهذا السيفِ في سبيلِ الله، حتى إذا رأَيتَ من ¬

_ (¬1) هو في "تاريخ دمشق" 64/ 354 - 355 من غير طريق الواقدي. (¬2) طبقات خليفة ص 96، ونقله ص 58 عن محمد بن إسحاق. (¬3) في "الطبقات" 3/ 409 - 410. (¬4) المصدر السابق 3/ 410. (¬5) المصدر السابق.

المسلمين فئتينِ تقتتلان؛ فاضربْ به الحجرَ حتى تكسرَه، ثم كُفَّ لسانَك ويدَكَ حتى تأتيَك مَنِيَّةٌ قاضية، أو يدٌ خاطئة". فلما قُتِل عثمان وكان من أمرِ الناس ما كان، خرج إلى صخرة في فِنائه، فضرب بها السيفَ حتى كسره. قال ابن سعد: واتخذ محمد سيفًا من خَشَب، وعلَّقه في الجَفْنِ في بيته وقال: أُهيِّبُ به ذاعِرًا. وقد أخرج أحمد في "المسند" بمعناه فقال: حدَّثنا يزيد بن هارون بإسناده عن أبي بُردة قال: مَرَرْتُ بالرَّبَذة، فإذا بفُسطاط، فقلتُ: لمن هذا؟ قيل: لمحمد بن مَسْلَمة، فاستَأْذَنْتُ عليه فأَذِنَ، فدخَلْتُ فسلَّمْتُ وقلتُ: يرحمك الله، إنك من هذا الأمرِ بمكان، فلو خرجت إلى الناسِ فأَمَرْتَ ونَهَيتَ؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي: "إنه ستكون [فتنة و] فُرْقَةٌ واختلاف، فإذا كان ذلك فائْتِ بسيفك أُحُدًا، فاضربْ به عُرْضَهُ، واكْسِرْ نَبْلَك، واقطعْ وَتَرَكَ، واجْلِسْ في بيتك". فقد كان ذلك، وفعلتُ ما أمرني به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم استنزل سيفًا كان مُعلَّقًا بعمود الفسطاط، فاخترطه، وإذا سيفٌ من خشب وقال: هذا أُرهبُ به الناس (¬1). ذِكرُ وفاته: حكى ابن سعد عن الواقديِّ أَنَّه مات بالمدينة في صفر سنة ستٍّ وأَربعين وهو يومئذٍ ابن سبع [وسبعين] سنةً، وصلَّى عليه مروان بن الحكم (¬2). وقال جدِّي في "التلقيح" (¬3): إنه مات في صفر سنة ثلاثٍ [وأربعين] وقيل: سنة اثنتين وأربعين بالمدينة. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (16029) وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 410. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬3) ص 131.

السنة الرابعة والأربعون

قلتُ: وقد قال هشام: مات في سنة ثلاثٍ وأربعين بالرَّبذَة، ودُفِق إلى جانب أبي ذَرّ. ذِكْرُ أولاده: قال ابن سعد: كان له من الولد عَشَرة نَفَر، وستُّ نسوة: عبد الرحمن، وبه كان يُكنى، وأُمُّ عيسى، وأُمُّ الحارث، وأُمُّهم أُمُّ عمرو بنت سلامة بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل، وهي أُختُ سَلَمة بن سلامة. وعبدُ الله، وأُمُّ أَحمد، وأُمُّهما عَمْرَةُ بنت مسعود بن أوس من الخزرج. وسَعْد، وجعفر، وأُمُّ زيد، وأُمُّهم قُتَيلة بنت الحُصَين بن ضمضم من قيس عَيلان. وعمرُ، وأُمُّه زهراء بنت عمّار بن مَعْمر من قيس عَيلان أيضًا. وأَنسٌ، وعُمَيرَةُ (¬1)، وأُمهما من الأَطْباء؛ بطنٍ من كلب. وقيسٌ، وزيدٌ، ومحمد، لأُمِّ ولد. ومحمودٌ، لا عقب له، وحفصةُ؛ لأُمِّ ولد (¬2). أَسند محمد عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الحديثَ، وقد ذكرنا بعض مسانيده. وقال الحُمَيديُّ: أَخرج له البخاريُّ حديثًا واحدًا مشتركًا. وقال ابنُ أبي الفوارس: اتفقا على حديث محمد بن مَسْلَمة (¬3). وليس في الصحابة من اسمُه محمد بن مَسْلَمة غيره. السنة الرابعة والأربعون وفيها زاد معاويةُ في مقصورةِ جامع دمشق، وكان قد أحدثَها لَمّا وثب عليه البُرَك (¬4)، ثم أَحدثَ مروانُ بالمدينة مقصورة أُخرى. ¬

_ (¬1) في "الطبقات": 5/ 408: وعمرة. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 408 - 409. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 401. (¬4) بضم الباء الموحدة، وفتح الراء، وآخره كاف، وهو ابنُ عبدِ الله التميميّ الصريميّ. ينظر "الكامل" 3/ 389 و 393.

وفيها أوغلَ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في بلادِ الروم، وشتَّى بها، وغزا بُسْرُ بن أبي أَرْطاةَ في البحر. وفيها عزلَ معاويةُ عبدَ الله بنَ عامر عن البصرة. ذكر القصة: سبب ذلك؛ قال علماء السِّيَر: كان عبد الله بنُ عامر كريمًا ليِّنًا، سهلَ الأخلاق، لا يأخذُ على أيدي السفهاء، فطمعوا فيه، وفسدت البصرةُ. قال عمر بن شَبَّةَ: فشكا عبد الله بنُ عامر إلى زياد بن أبيه ظهورَ الفسادِ، وطَمَعَ الزُّغَارِ، فقال له زياد: جَرِّد السيف، فقال: إني أكره أن أُصلحهم بفسادِ نفسي. وكان ابنُ عامر لا يُعاقِبُ أحدًا ولا يقطعُ لِصًّا، فقيل له في ذلك، فقال: كيف أنظر إلى رجل قطعتُ أباه وأخاه (¬1)؟ . قال عمر بن شَبَّة: فوفدَ عبدُ الله بن الكَوَّاءِ على معاوية، فسأَله عن البصرةِ، فقال: قد غلبَ عليها سفهاؤها، وضَعُفَ سلطانُها. فعزلَ ابنَ عامرٍ عنها. وفي رواية عمر بن شَبَّة أيضًا قال (¬2): لما ضَعُفَ ابنُ عامرٍ في عملِه، وانتشر الأَمرُ عليه بالبصرةِ، وبلغ معاويةَ، كتب إِليه يستزيرُه في هذه السنة، فاستخلف ابنُ عامرٍ على البصرة قيسَ بنَ الهيثم، وقَدِمَ على معاوية، فأقام عنده، ثم ردَّه إلى عمله، فلما ودَّعه قال له معاويةُ: إِني سائلُك ثلاثًا، فقُلْ: هي لك، فقال ابن عامر: هي لك وأنا ابنُ أُمِّ حكيم. قال: تردُّ عليَّ عملي ولا تغضب، قال: فعلتُ، قال: وتهبُ لي دُورَك [بمكة]. قال: قد فعلتُ، قال: وتهبُ لي مالك بعَرَفة، قال: قد فعلتُ، فقال معاويةُ: وَصَلَتْك رَحِم. قال ابنُ عامر: وأنا أسألك ثلاثًا، فقُل: هي لك، فقال معاوية: هي لك وأنا ابنُ هند، فقال ابن عامر: تردُّ علي مالي بعَرَفةَ، قال: قد فعلتُ، قال: ولا تُحاسب لي عاملًا، ولا تتبع لي أَثرًا، قال: قد فعلتُ، قال: وتُنكحُني ابنتَك هندًا، قال: قد فعلتُ. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 212. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 213، وما سيرد بين حاصرتين منه.

ولم يذكر الطبريّ في "تاريخه" من ولَّى معاويةُ البصرةَ بعد ابن عامر في هذه السنة، وإنَّما ذكر في أوَّلِ سنة خمس وأربعين وقال: استعمل معاويةُ على البصرة الحارثَ بن عبد الله الأزديّ، فأقام أَربعةَ أشهرٍ، ثم عزله. قال: وقد قيل: هو الحارث بن عمرو، وكان من أهل الشام. هذا صورةُ ما ذكره الطبري في أول سنة خمس وأربعين (¬1). قال: وولى الحارثُ شُرطته عبد الله بنَ عَمْرو بن غيلان الثقفيَّ. قلت: والأصحُّ أنه ولَّى الحارث، وقد اختلفوا فيه، فقيل: الحارث بن عبد الله الأزديّ، وقيل: الحارث بن وَهْب، وقيل: الحارث بن خالد الأزديّ الدَّوْسيّ، له صحبةٌ ورواية، شهد اليرموك، ونزل فلسطين، وقدم الحارث مع أبيه على رسول الله صلى الله عليه في وفد دَوْس، وذكره البخاريُّ في الصحابة، وذكره خليفة وابنُ سعد في الطبقةِ الأُولى من أهلِ الشام (¬2). وذكره ابن عساكر (¬3) وقال: روى عن خالد بن الوليد، وشهد مع معاوية صِفّين على رَجَّالة فلسطين، ولما ولَّاه معاويةُ البصرةَ أَقامَ أربعةَ أَشهر، فشكاه أَهلُها إلى معاوية، فكتب إليه يستعفي، فأعفاه وولَّى زيادًا. وفي هذه السنة استلحقَ معاوية نسب زيادٍ بأبيه أبي سفيان، واختلفوا فيه: فحكى الطبريُّ (¬4) عن عُمر بن شَبَّة أنه حدَّثه قال: زعموا أنَّ رجلًا من عبد القيس كان مع زيادٍ لَمَّا وفد على معاوية، فقال الرجل لزياد، إنَّ لابنِ عامر عندي يدًا، فإِنْ أَذِنْتَ لي أَتيتُه. فقال زياد: على أن تُحَدِّثَني بما يجري بينك وبينه. قال: نعم. فأتَى ابنَ عامرٍ فقال له: هيه هيه! وابن سميَّة يقبِّح آثاري وَيعرِضُ لعُمَّالي، لقد هممتُ أن آتيَ بقَسامةٍ من قريشٍ يحلفون أن أبا سفيان لم يَرَ سُمَيَّةَ. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 5/ 216. (¬2) تاريخ خليفة ص 207 وفيه: الحارث بن عمرو الأزدي، وطبقات خليفة ص 307، وفيه: الحارث بن عُبيد الزبيدي، وطبقات ابن سعد 9/ 449 وفيه: الحارث بن عَبْد الأزدي، ولم يذكر في ترجمته سوى قوله: "صاحب معاذ، له أحاديث". والله أعلم. (¬3) في "تاريخ دمشق " 4/ 114 (مصورة دار البشير). (¬4) في "تاريخه" 5/ 214.

فلما عاد الرجلُ سأله زيادٌ، فامتنع أن يُخبره، فلم يَدَعْهُ حتى أَخبره، فأَخبر بذلك زيادٌ معاويةَ، فقال معاويةُ لحاجبه: إذا جاء ابن عامرٍ فاضرب وجه دابتِه عن أقصى الأبواب. ففعل الحاجبُ ذلك، فأتى عامر يزيد بنَ معاوية، فشكا ذلك إليه، فقال: هل ذكرتَ زيادًا؟ قال: نعم. فجاء يزيدُ معه حتى أدخلَه على معاويةَ، فلما نظر إليه معاويةُ قام فدخل، فقال له يزيد: اجلسْ، فكم عسى أن يجلس في البيتِ مَجْلِسَه (¬1)، فلما أَطالا خرج معاويةُ وفي يده قضيبٌ يضربُ به الأبوابَ ويتمثَّلُ: لنا سياقٌ ولكم سِياقُ ... قد عَلمَت ذلكم (¬2) الرِّفاقُ فقعد وقال لابن عامر: أَنْتَ القائلُ في زيادٍ ما قُلْتَ؟ ! أَما والله إني لم أتكثَّرْ بزيادٍ من قِلَّةٍ، ولم أتعزَّزْ به من ذِلَّة، ولكني عرفتُ حقًّا لله، فوضعتُه موضعَه، فقال ابن عامر: فحينئذٍ نرجعُ إلى ما يحبُّ زياد. قال معاويةُ: فإِذَنْ نرجعُ إلى ما تُحِبُّ. فخرج ابن عامر إلى زياد فترضَّاه. وروى الطبريُّ أيضًا عن أبي إسحاق قال (¬3): لَمَّا قَدمَ زياد الكوفةَ قال: قد جئتُكم في أمر ما طلبتُه إلا لكم. قالوا: ادعُنا إلى ما شِئْتَ، قال: تُلحقون نسبي بمعاوية، قالوا: أَمَّا شهادة الزُّورِ فلا، فأَتى البصرةَ، فشهد له رَجُلٌ. قلتُ: هذا صورةُ ما ذكر الطبريُّ، وما قام فيه. وقد أتيتُ على أَقوالِ أرباب السِّيَر؛ فذكر البلاذريُّ (¬4) أن معاويةَ لَمَّا بعثَ المغيرةَ بنَ شعبة إلى زياد وهو بقلعته وخدعه حتى قَدِمَ على معاوية وأصلح بينهما، وحمل إلى معاويةَ مالًا مبلغه ألفا ألف درهم، ولما فصل زيادٌ عن معاويةَ قاصدًا إلى الكوفة؛ لقيَ في طريقه مَصْقَلةَ بنَ هُبيرة الشيبانيّ، فقال له زياد: إلى أين يا أبا الفَضْل؟ قال: إلى معاوية، قال: هل لك في عشرة آلاف درهم مُعَجَّلة، ومثلِها مؤجَّلة، وتُلقي في سَمْعِ ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري: فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه! . (¬2) في (خ): ذلك، والمثبت من "تاريخ" الصبري 5/ 215. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 215. (¬4) في "أنساب الأشراف" 4/ 216.

معاويةَ ما أَقولُ لك؟ قال: نعم. قال: تقول له: كان عندك زيادٌ وقد أَكل العِراقَ بَرَّهُ وبَحْرَه، فخدعك حتى رضيتَ منه بألفي ألف درهم، ما أرى ما تقولُ الناسُ من أن زيادًا ابنُ أبي سفيان إلَّا حقًّا. فجاء مصقلةُ إلى معاوية، فقال له: أكان عندك زيادٌ؟ قال: نعم، فذكر له قولَ زياد، فلما سمع ذلك قال: أَوَ قَدْ قالوها؟ قال: نعم، فأرسل إلى زياد، فاستدعاه وادَّعاه. وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبيّ عن أبيه قال: كانت سُمَيَّةُ جاريةَ الحارث بن كَلَدةَ طبيب العرب من البغايا بالطائف، وكانت لها رايةٌ تُعرفُ بها، وكانت تؤدِّي الضريبةَ إلى مولاها كلَّ يومٍ في الجاهليةِ، وأن أبا سفيان فَجَرَ بها في الجاهلية، فلما أرادَ معاويةُ أن يَدَّعيَ زيادًا قام على منبر دمشق، وأخذَ بيد زياد وقال: أيُّها الناسُ، إني قد عرفتُ في زيادٍ شَبَهًا بأبي، فمن كانت عنده شهادةٌ فليُقِمْها، فقام ابنُ مريم السلولي -وكان خمَّارًا في الجاهليةِ- فقال: أشهدُ أنَّ أبا سفيان قَدِم علينا الطائفَ فقال: ابغني بَغِيًّا، فقلت: ما هنا إلا سُميَّة جارية الحارث بن كَلَدة، فقال: ائتني بها، فأَتيتُها وقلتُ: قد عرفتِ شرفَ أبي سفيان، وإنَّه يطلبكِ، فقالت: اصبرْ حتى يأتيَ زوجي عبيد (¬1) من غَنمه، فإذا نام أَتيتُه، وجاء زوجُها فنام، وجاءت، فاحتبستُها مع أبي سفيان إلى الصباح، فخرج وهو يمسح جبينَه من العرق، فقلتُ له: كيف رأَيتَها؟ فقال: ما رأيتُ مثلها، لولا ذَفَرٌ بين إبْطَيها ورُفْغَيها، وذكر مكانًا آخَرَ. فصاح زيادٌ: يا أبا مريم، مهلًا! أشامتًا جئتَ أَم شاهدًا؟ فقال: إِنَّما أشهدُ بما رأَيتُ، ولو أَعفيتموني لكان خيرًا لكم وأحبَّ إليَّ. فقال معاوية لمالك بن ربيعة: ما عندكَ؟ قال: أَشهدُ أَنَّ أبا سفيان واقع سميَّةَ في الجاهلية، ثم خرج وهو يقول: لعنها اللهُ ما أَنتَنَها! فقال زيادٌ: أَدِّ شهادتَك ولا تُفْحِشْ. وقام آخرُ فقال: أشهدُ أنَّ عمر بنَ الخطاب أخذ بيد زياد وقال: للهِ دَرُّهُ لو كان له عُنْصُرٌ! قال: وكان أبو سفيان إلى جانبي فقال: والله أنا قذفتُه في رَحِمِ سُميَّةَ، وما له أَبٌ غيري، قال: فقلتُ: ما لك ما تَدَّعيه؟ فقال: خوفًا من دِرَّةِ هذا. يعني عمر. ¬

_ (¬1) في (خ): أبو عبيدة، والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 217.

وشهد جماعةٌ بذلك. فقام زياد على المنبر وقال: أيها الناس، إنَّ معاويةَ قد قال ما سمعتُم، وقد شَهِد الشهودُ بما علموا، ولستُ أدري ما حقُّ هذا من باطله؟ وهو وَهُم أعلمُ، وإنما عُبَيدٌ أبٌ مبرورٌ مشكورٌ، ومعاويةُ والٍ. فقال يونس بن عُبَيْد الثقفي: يا معاويةُ، قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ: "الولدَ للفراش وللعاهر الحَجَرُ" وقد قَضَيتَ أَنْتَ أَنَّ الولد للعاهرِ، وأَن الحَجَر للفراش، وإِن كان زيادٌ بنَ أبي سفيان؛ فإنه والله لَعبدي أعتقَتْه عمَّتي صفيَّة، فقال له معاويةُ: أتركْتَ شرْبَ ما في الدِّنان؟ قال: نعم، وتركَ أبي الزِّنى في الجاهلية. يُعرِّضُ بأبي سفيان، يا معاويةُ، رُدَّ عليَّ ولاءَ عمتي من زياد. فتوعَّده معاويةُ وقال: كُفَّ وإلَّا فعلتُ وصَنَعْتُ، فقال: أو ليس المرجعُ بي وبك إلى الله تعالى؟ ! وقال البلاذريُّ (¬1): أَرسل معاويةُ إلى سعيد بن عُبَيد أخي يونس بن عُبَيد فأَرضاه، فأقرَّ بما صنع معاويةُ، وأَبى يونسُ أن يرضى. وذكر أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" (¬2) عن ابن سيرين، عن أبي بَكْرةَ قال: قال لي زياد: ألم تَرَ أن معاويةَ أرادني على كذا وكذا وقد وُلِدت على فراشِ عُبيد، وأَشْبَهْتُه، وقد علمتَ أن رسولَ الله صلى الله عليه قال: "منِ ادَّعى إلى غيرِ أبيه فهو ملعون، أو: فليتبوّأ مقعده من النار". ثم جاء العام القابلُ فادَّعاه. وقد أخرج أَحمد في "المسند" (¬3) بمعناه، فقال: حدَّثنا هُشيم، حدثنا خالد، عن أبي عثمان قال: لَمّا ادَّعى معاويةُ زيادًا لقيتُ أبا بَكْرة، فقلتُ: ما هذا الذي صنعتُم؟ ! إني سمعتُ سعد بن أبي وفاص يقول: سَمِعَتْ أُذُنايَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "من ادَّعى في الإسلام إلى غير أبيه فالجنَّةُ عليه حرامٌ". فقال أبو بَكْرة: وأنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 4/ 218. وما قبله فيه بنحوه 217 - 218. (¬2) 6/ 488 (ترجمة زياد بن أبي سفيان، ونسبه ابن عساكر زياد بنَ عبيد). (¬3) برقم (20466)، وهو في "صحيح مسلم" (63). وأخرج البخاري (6766) المرفوع منه.

وقال الهيثم: ولَمّا فعل معاويةُ ذلك ذمَّه الناسُ، وعابوا عليه، وسقط من أعينهم، وزالت حُرمته وهيبتُه. وقال جدِّي في "التلقيح" (¬1): كان الحسنُ البصريُّ يذمُّ معاوية ويقول: استلحق زيادًا؛ وقد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش" الحديث. وقال أبو اليقظان عن الحسن البصريّ أنَّه كان يقولُ: أَوَّلُ ذُلِّ دخل على الإسلام ادّعاءُ معاويةَ زيادًا، وقد كانت في معاويةَ هَناتٌ أَوَّلها هذه، وما جرَّأ ابنَ زياد على قتل (¬2) الحسين إلا ذلك (¬3). قلت: وقد أَكثر الشعراءُ في هذا المعنى، فذكر الأصمعيُّ أنَّ عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص أخا مروان بن الحكم قال: أَلا أَبْلِغْ معاويةَ بنَ حربٍ ... مُغَلْغَلَةً من القومِ الهجانِ أَتغضبُ أن يُقال أبوك عَفٌّ ... وترضى أن يُقال أبوك زانِ وأشهدُ أن رِحْمَكَ من زيادٍ ... كَرِحْمِ الفيلِ من ولدِ الأتانِ وأشهدُ أنها ولَدَتْ زيادًا ... وصخرٌ من سُمَيَّة غيرُ دانِ وبلغ معاويةَ فغضب، وحلف أن لا يرضى عن عبد الرحمن حتى يرضى عنه زياد، فخرج عبد الرحمن إلى زياد، فقال له: أنت القائل، الأبيات، فقال: [لا]، ولكني قلتُ: حلفتُ بربِّ مكَّةَ والمُصلَّى ... وبالتوراةِ أحلفُ والقُرانِ لأَنتَ زيادٌ في آل حربٍ ... أَحبُّ إليَّ من وُسْطَى بَناني سُرِرْتُ بقُرْبِه وفرحتُ لَمَّا ... أتاني الله منه بالبيانِ وقلتُ أتى أَخو ثقةٍ وعمٌّ ... بعونِ الله في هذا الزمانِ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في "التلقيح". وقاله في "المنتظم" 5/ 210، وينظر كلام الحسن البصري بتمامه في "تاريخ" الطبري 5/ 279. (¬2) في (خ): وما جرى لابن زياد في قتل، والمثبت من (م). (¬3) ينظر "الكامل" 3/ 487.

فرضي زياد وكتب كتابًا إلى معاوية بالرضى عنه، فلما دخل على معاوية قال له: أنشدني ما قُلْتَ في زياد، فأنشده الأبياتَ، فتبسَّم وقال: قبَّحَ اللهُ زيادًا ما أجهلَه! والله إن [قولك]: لأنت زيادةٌ في آل حربٍ، شرٌّ عليه من الأول، ولكنك خدعتَه فانخدعَ (¬1). وقد اختلفوا في قائل الأبيات الأُوَلِ وهي: ألا أبلغ معاوية بن حربٍ فقال الأصمعي: هي لعبد الرحمن بن الحكم. وذكر صاحبُ "العِقْدِ" أَنها لعبد الرحمن بن حسَّان بن ثابت (¬2). وقيل: ليزيد بن مُفَرِّغ، وسنذكرها في سنة تسعٍ وخمسين في هجاء ابن مُفَرِّغ لبني زياد. وقال ابن عبد البَرِّ (¬3): إنَّ معاويةَ لَمَّا ادَّعى زيادًا كان عبد الرحمن بن الحكم هذا حاضرًا، فقال لمعاويةَ: واللهِ لو لم تجد إلا الزِّنْج لاستكثَرْتَ بهم علينا، قلَّةً وذِلَّةً. فغضبَ معاوية وقال لمروان: أَخْرِجْ عنَّا هذا الخليعَ، فقال: والله إنَّه لَخليعٌ ما يُطاقُ، فقال معاوية: واللهِ لولا حلمي وتجاوزي لَعلمتُ أنه يُطاق أم لا (¬4). أَليس هو القائل: أَلا أَبْلِغْ معاويةَ بنَ حَرْبٍ الأبيات وحجَّ بالناس في هذه السنة معاوية. وقال هشام بن محمد عن أبيه: لَمَّا حجَّ معاويةُ دخلَ المدينةَ، فصعد المنبر وقال: يا معاشِرَ بني قَيْلَةَ، أتطلبونَ ما عندي وقد فَلَلْتُم حَدِّي بصِفِّين حتى رأيتُ المنايا تتلظَّى من أسِنَّتِكم؟ ولقد هجوتموني بأشدَّ من وَخْز الأشافي (¬5)، حتى إذا قام منّا ما حاولتُم مَيلَه قلتُم: اِرْعَ فينا وصيَّةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هيهات هيهات! فناداه قيس بن سعد بن عُبادة، ¬

_ (¬1) الأغاني 13/ 265 - 266، وما سلف بين حاصرتين مستفاد منه. (¬2) العقد الفريد 6/ 132 - 133. ونسبه أيضًا في 4/ 337 لعبد الرحمن بن الحكم. (¬3) في "الاستيعاب " ص 256 (ترجمة زياد بن أبي سفيان). (¬4) قوله: أم لا، ليس في "الاستيعاب". (¬5) جمع الإشْفَى، وهو مِخْرَزُ الإسكاف.

الحارث بن خزمة

وكان مقيمًا بالمدينة، يا معاويةُ، أمَّا قولُك: إنَّا نطلبُ ما عندك، فوالله مالكَ فيما في يَدَيك إلا مثل ما لرجل من المسلمين، وأما عداوتُنا لك؛ فإن شئتَ رَدَدْناها، وأمَّا هجاؤنا إياكَ فقولٌ ثَبَتَ حقُّه، وزال باطلُه، وأما وصيَّةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بنا؛ فَمَنْ آمَنَ به يحفظُها من بعده، فدوند ما أنْتَ فيه، فإنما مثلك كقول القائل: يا لكِ من قُبَّرَةً بِمَعْمَرِ ... خلا لكِ الجوُّ فبِيضي واصْفِرِي ونَقِّري ما شئتِ أَنْ تُنَقِّرِي (¬1) فلم يردَّ عليه معاويةُ جوابًا (¬2). واختلفوا لِمَ ادَّعى معاويةُ نَسَبَ زيادٍ وأَلحقه لأبيه؟ على قولين: أحدهما: لمَّا كان زياد قد جمع من الأموال، فأرادَ استخلاصَها منه. والثاني: لأنَّه خافَ منه أن يُوَلّيَ بعضَ أهل البيتِ؛ لأنه كان واليًا على المشرق، وبيده نصف الدنيا، فخاف منه، فاستماله. ذكر القولين أبو اليقظان. وفيها توفي الحارث بن خَزْمَة ابن عديّ بن أُبيّ بن غَنْم بن سالم بن عون بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وهو من القَواقِلة؛ حليفٌ لبني عبد الأشهل. وكُنيةُ الحارث أبو بشير، وهو من الطبقةِ الأُولى من الأنصار، وآخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين إياس بن [أبي] البُكَير. وشهد الحارثُ بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن سعد (¬3): ومات بالمدينةِ سنة أربعين وهو ابن سبعٍ وستين سنةً، ولا عَقِبَ له. ¬

_ (¬1) الرجز لطَرَفَة بن العبد؛ وهو في ديوانه ص 46. وقوله: خلا لك الجوُّ فبيضي واصفري، مَثَل، ورد في كتب الأمثال. (¬2) الخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 66 - 67، و"تاريخ دمشق" 59/ 131 (ترجمة قيس بن سعد)، وليس قيه ذكر الرِّجز". (¬3) في "الطبقات " 3/ 412. وما قبله وما سلف بين حاصرتين منه.

أم حبيبة بنت أبي سفيان

وقال هشام: مات في هذه السنة. وليس في الصحابة من اسمه الحارث بن خَزْمَة غيره. واختلفوا في الزّاي في خَزْمة؛ قال أبو الحسن الدارقطني: بسكون الزاي. وذكر بحضهم تحريكها، وله صحبةٌ وروايةٌ (¬1). فصل: وفيها توفيت أُمُّ حَبيبة بنتُ أبي سفيان واسمُها رَمْلَةُ، وهي أُختُ معاوية بن أبي سفيان لأبيه، وأُمُّها صفيَّة بنت أبي العاص بن أمية بن عَبْد شمس. وهي ابنةُ عقَة عثمان بن عفَّان، وعثمان أيضًا ابنُ عمِّ أبيها، وكذا خالد بن سعيد بن العاص بن أميَّة، ولهذا تولَّى خالدٌ وعثمانُ تزويجها بالحبشة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابنُ سعد (¬2): تزوّجَها عُبيد الله بن جحش بن رياب بن يعمر بن صَبْرة بن مُرَّة بن كبير بن غَنْم بن دُودان بن أسد بن خُزيمة حليف حرب بن أمية، فولدت له حبيبة، فكنيت بها، وتزوَّج حبيبةَ داود بنُ عروة بن مسعود الثقفي. وكان عُبيد الله بن جحش قد هاجر بأُمّ حبيبة معه إلى الحبشةِ في الهجرة الثانية، فتنصَّر هناك، وثبتت أُمُّ حبيبة على إسلامها وهجرتِها، وكانت معها ابنتُها حبيبة لَمّا خرجت من مكة إلى الحبشة، ورجعت بها إلى مكة، كذا ذكر ابن سعد. وحكى ابن سعدٍ عن الواقدي (¬3) أنَّ أُمَّ حبيبة ولدت حبيبةَ بمكة قبل أن تُهاجرَ إلى الحبشة. وحكى ابن سعد عن الواقدي أيضًا أنها خرجت من مكة وهي حاملٌ بها، فولدتها بالحبشة. ¬

_ (¬1) ينظر "المؤتلف والمختلف" للدارقطني 2/ 802، و"توضيح المشتبه" 3/ 216 - 217. (¬2) في "الطبقات" 10/ 94، وما قبله منه. (¬3) المصدر السابق.

وقد ذكرنا أنَّ النجاشيَّ زوَّجَ أُمَّ حبيبة من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سنة سِتّ أو سبع من الهجرة، وأنه أصدقَها أربع مئة دينار، وأعطاها طِيبًا وحُلِيًّا كثيرًا. وحنظلةُ الذي قُتِل يومَ بدرٍ كافرًا أخو أُمَّ حبيبة لأبيها وأُمِّها، ولا عَقِبَ له. وكذا أُمَيمة بنت أبي سفيان - وهي أُمُّ حبيب - أُختُها لأبيها وأمِّها (¬1). وهذا الذي ذكرنا أنَّ [أُمَّ] أُمِّ حبيبة صفيةُ بنتُ أبي العاص إنَّما هو قولُ ابنِ سعد. وقال ابن مَنْدَه: أُمُّ رَمْلَةَ آمنةُ بنت عبد العُزَّى من بني عديّ بن كعب. وقال الزبير بن بكَّار: آمنة هذه هي جَدَّةُ أُمِّ حبيبة، أُمُّ صفية بنت أبي العاص، ويقال لها: صفيا. وقال الكَلَاباذيّ: تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه أُمَّ حبيبة بالمدينةِ لَمَّا قَدِمت من الحبشة؛ خطبها فزوَّجَها عثمانُ منه (¬2). وهو وَهْمٌ من الكَلَاباذيّ؛ ما تزوَّجَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهي بالحبشة. ذكره ابن سعد، والواقديُّ، وابن إسحاق، وغيرُهم (¬3). وقال ابن سعد (¬4): حدثنا محمد بن عمر بإسناده عن عبد الله بن أبي بكر بن حَزْم قال: كان الذي زوَّجها وخطب إليه النجاشيُّ خالدُ بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وكان لها يومَ قُدِم بها المدينةَ بِضْعٌ وثلاثون سنةً. وكذا قال المدائنيُّ قال: وكانت قد أَسلمتْ قديمًا، وبعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شُرَحبيل بنَ حسنة، فأحضرها إليه إلى المدينة. وكذا ذكر [ابن] سعد عن الواقديّ، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزُّهري، وأخرج أحمد في "المسند" بمعناه (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "نسب قريش " ص 123 - 124. (¬2) تاريخ دمشق ص 75 (تراجم النساء - طبعة مجمع دمشق). (¬3) السير لابن إسحاق ص 259، والمغازي للواقدي 2/ 742، وطبقات ابن سعد 10/ 95. (¬4) في "الطبقات " 10/ 96 - 97. (¬5) طبقات ابن سعد 10/ 97، ومسند أحمد (27408).

وحكى ابن سعد عن الواقديّ، عن أبي سهيل، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَينَكُمْ وَبَينَ الَّذِينَ عَادَيتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7] قال: حين تزوَّج النبيُّ صلى الله عليه أُمَّ حبيبة بنتَ أبي سفيان. وروى ابنُ سعد (¬1) عن محمد بن عُمر، بإسناده عن الزُّهريّ، أن أبا سفيان لَمّا قَدِمَ المدينةَ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُريدُ غَزْوَ مكَّة، فكلَّمه أَن يزيدَ في الهُدْنة، فلم يُكلِّمه، ودخل على ابنته أُمّ حبيبة، وذهب ليجلس على فراشِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فطَوَتْهُ وقالت: أَنْتَ مُشْرِكٌ. وقد ذكرناه هناك. وحكى ابن سعد عن الواقديّ قال (¬2): أَطعم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُمَّ حبيبة بنت أبي سفيان بخيبر ثمانين وَسْقًا تمرًا، وعشرين وَسْقًا شعيرًا. ذكْرُ وفاتها: واختلفوا فيها، فقال ابن سعد بإسناده عن عوفِ بن الحارث قال (¬3): سمعتُ عائشة - رضي الله عنه - تقول: دعَتْني أُمُّ حبيبة زوجةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم عند موتِها وقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفرَ الله لي ولكِ ما كان من ذلك. فقلتُ: غفر الله لكِ ذلكَ كلَّه، وتجاوزَ عنك، وحلَّلَكِ من ذلك، فقالت: سَرَرْتِني سَرَّكِ اللهُ. وأرسلت إلى أُمِّ سلمة فقالت لها مثلَ ذلك. قال: وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان. وقال هشام: توفيت في هذه السنة التي حجَّ فيها معاويةُ، وصلَّى عليها مروان، ودُفنت بالبقيع. وقيل: ماتت في سنة اثنتين وأربعين بدمشق، وهو وَهْم، وإنَّما زارت أخاها بدمشق، ثم عادت إلى المدينة، فتوفيت بها في هذه السنة. وقيل: إنَّها ماتت في سنة تسع وخمسين قبل موت أَخيها بسنة، وهو وَهْم أيضًا. ¬

_ (¬1) في "الطبقات " 10/ 97. (¬2) المصدر السابق 10/ 98. (¬3) المصدر السابق.

وقال الموفَّقُ رحمه الله (¬1) عن علي بن الحسين - عليه السلام - قال: هَدَمْتُ منزلي في دارِ أميرِ المؤمنين عليّ بالمدينة، فحفرنا في ناحيةٍ منها حُفَيرَةً، فإذا حَجَرٌ عليه مكتوبٌ: هذا قبرُ رملةَ بنتِ صخر بن حرب. فأعدناه مكانه. وكذا حكى الزُّبير بن بكَّار أنهم حفروا حُفَيرةً في المدينة، فوجدوا حجرًا مكتوبًا عليه: هذا قبرُ رملةَ بنتِ أبي سفيان. أَسندت أُمُّ حبيبة الحديث عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخرج لها أحمدُ سِتَّةَ عشرَ حديثًا؛ قالوا: ولها في الصحيحين منها أربعة أحاديث، اتفقا على حديثين، ولمسلم حديثان (¬2). قال أحمد (¬3) بإسناده عن حُميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، أن أُمَّ حبيبة مات نَسِيبٌ لها، فدعَتْ بصُفْرَة، فمسحت بها ذِراعَيها وقالت: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمنُ بالله واليومِ الآخِرِ أن تَحُدَّ على مَيّتٍ فوق ثلاثٍ إلا على زَوْج، فإنَّها تَحُدُّ عليه أربعةَ أشهرٍ وعشرًا". أخرجاه في الصحيحين (¬4). وفي لفظ: جاء نَعيُ أَبيها، وأخرجه ابن سعد كذلك (¬5)، فقال فيه: لَمّا مات أبوها دعَتْ بطيب، فطَلَتْ به ذِراعَيها وقالت: إنْ كُنْتُ عن هذا لَغَنِيَّةً؛ لولا أني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول. وذكَرَتْه. وأخرج لها ابنُ سعد حديثًا آخر، قال: حدثنا الضحَّاك بن مَخْلد الشيباني أبو عاصم النبيل، عن ابن جُرَيج، عن عطاء قال: أَخبرني ابنُ شَوَّال أنَّ أُمَّ حبيبة أَخبرته أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمرها أن تَنْفِرَ من جَمْعٍ بليل (¬6). ¬

_ (¬1) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 82. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 403. (¬3) في "المسند" (27398). (¬4) صحيح البخاري (1281)، وصحيح مسلم (1486). (¬5) في "الطبقات " 10/ 97 - 98. (¬6) طبقات ابن سعد 10/ 98، وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" (26776)، ومسلم (1292) من طرق، عن ابن جُريج، بهذا الإسناد.

روى عن أُمِّ حبيبة: أنسُ بنُ مالك، ومعاويةُ بن حُديج، وأخواها: معاوية وعَنْبَسَة ابنا أبي سفيان، وابنُ أخيها عبد الله بنُ عُتبة بن أبي سفيان، وعروة بنُ الزبير، وصفية بنت شيبة، وزينب بنت أبي سلمة. وذكرها أبو زرعة الدمشقي فيمن حدَّث بالشام (¬1). وذكر أبو القاسم بن عساكر فيمن روى عن أُمِّ حبيبة اسمًا عجيبًا، فقال: روى عنها شُتَير بن شَكَل (¬2). وليس في الصحابيَّات من اسمُها رَمْلَةُ بنت أبي سفيان أغيرها، فأما رَمْلَة غير بنت أبي سفيان] (¬3) فأربع نسوة: إحداهن: رَمْلَة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وأُمُّها أُمُّ شِراك بنت وَقْدان بن عبد شمس بن عَبْد وُدّ من بني عامر بن لؤي. أسلَمَتْ رملةُ وبايعَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. تزوَّج رملةَ عثمانُ، فولدت له عائشة وأُمَّ أبان وأُمَّ عمرو؛ بناتِ عثمان. وكان أبو الزِّناد - واسمُه عبد الله بن ذكوان - مولى رملة بنت شيبة (¬4). والثانية: رَمْلَةُ بنت أبي عَوْف بن صُبَيرةَ بن سعيد [بن سعد] بن سَهْم، وأُمُّها أُمُّ عبد الله، وهي صَرْماءُ بنت الحارث بن عَوْف بن عمرو بن يربوع بن ناضرة بن غاضرة بن حُطَيط، وهو راعي الشمس. أسلمت رَمْلَةُ بمكة قديمًا قبل أن يدخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دارَ الأَرقم، وبايعت وهاجرت إلى الحبشة الهجرة الثانية مع زوجها المُطَّلب بن أَزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة، فولدت له هناك عبد الله بن المُطَّلب (¬5). والثالثة: رَمْلَةُ بنتُ عبد الله بن أُبَيّ المنافقِ، وأُمُّها لُبْنى بنت عُبادة بن نَضْلة بن مالك بن العجلان من بني سالم بن عوف أيضًا. ¬

_ (¬1) تاريخ أبي زرعة 1/ 388 و 396 و 456 و 490 و 492. (¬2) قال المزي في "تهذيب الكمال " 35/ 175: والمحفوظ حديث شُتير عن حفصة. (¬3) ما بين حاصرتين من هامش (خ) وقال كاتبه: لعله سقط. (¬4) طبقات ابن سعد 10/ 227. (¬5) المصدر السابق 10/ 255 وما سلف بين حاصرتين منه.

عتبة بن أبي سفيان

أسلمت رملة وبايعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). والرابعة: رَمْلَة بنت الحارث بن [ثعلبة بن الحارث بن] زيد من بني غَنْم بن النجار، وتكنى أُمَّ ثابت، وأُمُّها كبشة بنت ئابت بن المنذر (¬2) من بني النجَّار، تزوَّجها معاذ بن الحارث بن رِفاعة من بني النجار، وبايعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي عتبةُ بن أبي سفيان ابن حرب، أَخو معاوية بن أبي سفيان لأبيه وأُمِّه هند، شهد يومَ الدارِ مع عثمان. وقال الحافظ ابن عساكر (¬3): قَدِمَ على أخيه معاوية دمشق، وكانت له بها دارٌ في درب الحبَّالين، ووَليَ المدينةَ والطائفَ والموسمَ لأخيه معاوية غير مرَّة. وشهد الجمل مع عائشة، ثم انهزم، فعيَّره عبد الرحمن بنُ الحكم فقال: لَعمري والأُمورُ لها دواعٍ ... لقد أَبعدتَ يا عُتْبَ الفِرارا وقد ذكرناه. وقال ابن عساكر (¬4): وولاه معاويةُ الطائفَ، وعزل عنه أخاه عنبسة بن أبي سفيان، وعاتبه عنبسةُ على عزلهِ، فقال له [معاوية: يا عَنْبَسَة، إن عُتبةَ ابنُ هند، فقال] عَنْبَسَة: كُنَّا لصخرٍ صالحًا ذاتُ بيننا ... جميعًا فأَمسَتْ فرَّقت بيننا هندُ فإن تك هندٌ لم تَلِدْني فإِنني ... لبيضاء تَنْميها غطارِفةٌ مُجْدُ أبوها أبو الأضيافِ في كلّ شَتْوةٍ ... ومأوى ضعافٍ قد أَضرَّ بها الجَهْدُ له جَفَنات لا تزال مُقيمة ... لمن ساقه غَوْرا تِهامةَ أَو نَجْدُ فقال له معاويةُ: لا تسمعُها مني بعد اليوم. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 10/ 358. (¬2) كذا في (خ). وليس في "طبقات" ابن سعد 10/ 415 اسم المنذر في نسبها. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬3) في "تاريخ دمشق " 45/ 113 و 114 (طبعة مجمع دمشق). وينظر "نسب قريش" ص 125. (¬4) تاريخ دمشق 45/ 114، وما سيرد بين حاصرتين منه.

وأُمُّ عَنبَسة عاتكةُ بنتُ أبي الأزهرِ أَزْديَّة، وأما عتبةُ؛ فأمُّه وأُمُّ معاوية وجُوَيريةَ وأُمِّ الحكم هندُ بنتُ عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. وقال ابن عساكر (¬1) عن الهيثم بن عَديّ قال: ذكر ابنُ عيَّاش عُتبةَ بن أبي سفيان في العُورِ؛ ذهبت عينُه يومَ الجملِ مع عائشة. وروى ابن عساكر عن السُّدِّيّ قال (¬2): قال عتبةُ بنُ أبي سفيان: أتعجَّبُ من علي بن أبي طالب وطلبه الخلافةَ، وما هو وهي؟ ! فقال له معاويةُ: اسكُت يا وَرِه (¬3)، فواللهِ إنه فيها كخاطب الحُرَّة إذ يقول: لئن كان أولى خاطبٍ فتعذَّرت ... عليه وكانت رائدًا فتخطَّتِ لما تركَتْه رغبةً عن حِبالهِ ... ولكنها كانت لآخرَ حَطَّتِ وقال الخطيب (¬4): حجَّ عتبةُ بن أبي سفيان بالناسِ سنة إحدى وأربعين، واثنتين وأربعين. وقال الأصمعي: الخطباءُ من بني أمية: عتبةُ بنُ أبي سفيان، وعبدُ الملكِ بنُ مروان. وقد ذكرنا أنه توفي بالإسكندرية سنة ثلاث -أو أربع- وأربعين في ذي القَعْدة. وحكى ابن عساكر (¬5) عن عتبة بن أبي سفيان أنَّه مرَّ برجلٍ عند بعضِ ولدهِ يشتم رجلًا، فقال له: يا بُنيّ، نَزِّهْ سَمْعَك عن استماع الخَنا؛ كما تُنَزِّهُ لسانَك عن الكلامِ به، فإنَّ المستمعَ شريكُ القائل، ولو رُدَّتْ كلمة جاهل في فيه؛ لَسَعِدَ بها مَنْ رَدَّها؛ كما شَقِيَ بها قائلُها. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 45/ 116. (¬2) المصدر السابق 45/ 117. (¬3) في (خ): وبرة، والمثبت من "تاريخ دمشق"، وهي بمعنى الأحمق. قال في "القاموس": وَرِهَ، كفَرِحَ: حَمُق، والنعت أوره وورهاء. (¬4) أخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخه " 45/ 118، وما بعده منه أيضًا ص 120. (¬5) في "تاريخ دمشق" 45/ 122 (طبعة مجمع دمشق).

قلت: وقد ذكرنا مثلَ هذا في ترجمة عمرو بن عبيد، ولعلَّه حكاه عنه. وعُتْبَة أبو الوليدِ بنِ عُتبة؛ حكى ابن أبي الدنيا عن الوليد بن عتبة قال (¬1): أَسرَّ معاويةُ إليَّ حديثًا، فقلتُ لأبي: يا أَبَة، قد أسرَّ إليَّ أميرُ المؤمنين حديثًا، وما أظنُّه ينطوي عنك، فقال: اكتُمه عني، فإنَّ مَنْ كتم سِرَّه كان الخيارُ له، ومن أفشاه كان الخيارُ عليه. فأتيتُ معاوية فحدَّثتُه فقال: أعتقَك أخي من رِقِّ الخطأ. وقال ابن قُتيبة (¬2): كان عُتبةُ يَعِظُ بنيه دائمًا فيقول: تلقَّوا النِّعَم بحُسْنِ مجاورتها، والتمسوا المزيدَ منها بالشكرِ عليها، واعلموا أنَّ النفوسَ أقبلُ شيءٍ لِما أُعطيت، فاحملوها على مطاياها إذا ركبتم لا تُسبق. فقيل له: وما هذه المطايا؟ قال: التوبةُ. وقال أبو حاتم: أَوصى عتبةُ بنُ أبي سفيان مؤدِّبَ ولده فقال: ليكن أَوَّلَ إصلاحك بَنيَّ إصلاحُك لنفسك، فإِن عيوبَهم معقود بعَيبك، فالحَسَن عندهم ما فَعَلْتَ، والقبيحُ ما تركْتَ، وعلِّمهم كتابَ الله، ولا تُمِلَّهم فيتركوا (¬3)، ولا تدعهم منه فيهجروا. ورَوِّهِمْ من الحديثِ أشرفَه، ومن الشِّعْرِ أَعَفَّه، ولا تُخْرِجْهم من بابٍ من العلم إلى غيره حتى يُحكموه، فإن ازدحامَ الكلامِ في السمعِ مَضَلَّة للفهم، وهَدِّدْهم بي وأَدِّبْهم [دوني] وكُنْ لهم كالطبيبِ الرفيقِ الذي لا يَعْجَلُ بالدواء حتى يعرفَ الداء، وامْنَعْهم من محادثةِ النساء، واشْغَلْهُم بِسِيَرِ الحكماء، واستزدْني بآدابهم أَزِدْكَ، ولا تَتَّكِلَنَّ على عُذْرٍ مني، فقد اتَّكَلْتُ على كفايةٍ منك. وقال أبو عبيد القاسم: مات عتبة بنُ أبي سفيان سنة أربع وأربعين. وفيها توفيت أُختُه أُمُّ حَبِيبة بنت أبي سفيان (¬4). ¬

_ (¬1) الصمت لابن أبي الدنيا ص 47 - 48، وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخه" 45/ 123. (¬2) أخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 45/ 123. (¬3) في "تاريخ دمشق" 45/ 124: فيكرهوا. وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬4) كذا وقعت العبارة، وقد سلفت ترجمتها قبل ترجمة أخيها عُتبة.

أبو بردة بن نيار

وفيها توفي أبو بُردةَ بن نِيار ابن عمرو بن عُبَيد بن عمرو بن كلاب بن دُهمان من قُضاعة. واسمُ أبي بُردة هانئ بن نيار، وهو من الطبقةِ الأولى من الأَنصار (¬1). وهو خالُ البراءِ بن عازِب، شهد العقبةَ مع السبعين، وبَدْرًا وأُحدًا والمشاهِدَ كلَّها مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت معه رايةُ بني حارثة يومَ الفتح. وقال البلاذري (¬2): هو بَلَويٌّ حليف لبني حارثة من الأوس. قلتُ: ومعنى قوله: بَلَوي؛ أنَّ دُهمان الذي ذكرناه في آخرِ نسبه هو دُهمان بن غَنْم بن ذُهْل بن هُميم (¬3) بن ذُهْل بن هَنيّ (¬4) بن بَلِيّ بن عمرو بن الحارث بن قُضاعة. ولأبي بُردة عَقِبٌ. وقال هشام: مات أبو بُردة في سنة أربع وأربعين. وحكى ابن سعد عن الواقديّ أنه مات في خلافة معاوية من غير تاريخ (¬5). وليس في الصحابة من اسمُه هانئ بنُ نيار غيره. فأمَّا هانئ غيرُ ابن نيار مِمَّن له روايةٌ فاثنان: أحدهما: هانئ بن يزيد .... (¬6) وكُنْيتُه أبو بُرْدة فاثنان: هذا، وأبو بُردةَ ابنُ أخي أبو (¬7) موسى الأشعري، ولهما روايةٌ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم (¬8) وكذا لمن ذكرنا مِمَّن اسمُه هانئ - وهما اثنان - روايةٌ. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 417. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 1/ 373. (¬3) في (خ): تميم، بدل: هميم، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 3/ 417. (¬4) قوله: بن هني، ليس في "الطبقات". (¬5) المصدر السابق. (¬6) كذا وقع، وفي الكلام سقط، فلم يرد اسم الثاني ممّن له رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمه هانئ، وهو هانئ بن أبي مالك الكندي، أبو مالك. ينظر " الاستيعاب " 10/ 387 و"التلقيح" ص 311. (¬7) كذا بالأصل، وانظر التعليق التالي. (¬8) كذا وقع، وفي الكلام سقط وخطأ. وفي المصادر أن مَن كنيتُه أبو بُرْدَة ويروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو بُرْدة بن نِيار، وهو هانئ السالف ذكره، وأبو بُردة الظَّفَري، وحديثه في "مسند" أحمد (23880)، وأبو بُردة بن =

السنة الخامسة والأربعون

فأما من اسمُه هانئ من الصحابة وليس له رواية فكثير (¬1). قلت: وذكر جَدّي رحمه الله أبا بُردة بن نيار صاحبَ هذه الترجمة في موضعين: في بابِ مَنْ روى عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكره في باب من لم يَرْو عن رسولِ الله صلى الله عليه، ولعلَّه سهوٌ من الكاتب (¬2)، فإن أبا بُرْدَةَ بنَ نيار أَخرج له أحمدُ في "المسند" ستَّة أحاديث، منها حديثٌ متَّفق على صحَّتِه. قال أحمد: حدثنا هاشم وحجَّاج قالا: حدثنا ليث بن سعد بإسناده عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبي بُرْدَة، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُجْلَدُ فوق عَشْرِ جَلدَات إلا في حدٍّ من حدودِ الله تعالى" أخرجاه في الصحيحين (¬3). وأخرج له أحمد أيضًا عن [البراءِ بن عازب] قال (¬4): لقيتُ خالي أبا بُردةَ ومعه الرايةُ، فقلتُ: أين تُريدُ؟ فقال: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجلٍ تزوَّجَ بامرأة أَبيه من بعده أن أضربَ عُنُقَه، وآخُذَ ماله. وأخرج أحمد أيضًا (¬5) أنَّه ذبح قَبْلَ الصلاة، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تلك شاةُ لحم". فقال: يا رسولَ الله، إنَّ عندنا عَناقًا جَذَعةً هي [أَحبُّ] إلينا من مُسِنةٍ، فقال: "تُجزئُ عنك، ولا تُجزئ عن أحدٍ بعدك". السنة الخامسة والأربعون فيها ولَّى معاويةُ زيادَ ابن أبيه البصرةَ، وعزل عنها الحارث بن عبد الله الأزدي. ¬

_ = قيس الأشعري أخو أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، واسمه عامر، وحديثه عند أحمد (15608). وينظر " الاستيعاب " 11/ 143 - 147، و"التلقيح" ص 313. (¬1) ينظر "التلقيح" ص 265. (¬2) ذكر ابن الجوزي أبا بُرْدَة بن نِيار في "التلقيح " ص 265 في باب تسمية أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن رآه، وذكره أيضًا ص 313 فيمن روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعُرف بكنيته، ولم يرد في باب من لم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم. (¬3) هو في "مسند" أحمد (15832)، و"صحيح" البخاري (6848). وأخرجه أيضًا أحمد (16487) و (16488)، والبخاري (6850)، ومسلم (1708) بزيادة جابر بين ابنه عبد الرحمن، وأبي بُرْدة. (¬4) مسند أحمد (18557) وما بين حاصرتين منه، ووقع في (خ) بدله لفظ: أبي بردة، وهو خطأ من الناسخ. (¬5) في "المسند" (16485) وما سيرد بين حاصرتين منه.

روىَ عمر بن شَبَّة عن أشياخهِ قالوا: لَمَّا عزل معاويةُ عبدَ الله بنَ عامر عن البصرة؛ أراد أن يولِّيَها زيادًا، فولَّى الحارث بن عبد الله، وجعله كالفَرَسِ المحلِّل بين عامر وبين زياد (¬1)، فأقام الحارثُ أربعة أشهر ثم عزله، وولَّى زِيادًا وقد ذكرناه (¬2). ذِكْرُ السبب عن ولاية زيادٍ البصرة وما يتعلَّق بذلك: قد اختلفت الرواياتُ فيه؛ فروى عمر بن شَبَّةَ عن بعضِ العلماءِ أنه قال: لما قَدِم زياد الكوفةَ نزلَ بدارِ سلمان بن ربيعة الباهليّ، فظنَّ المُغيرةُ بنُ شعبة أنَّه قَدِم واليًا على الكوفةِ، فأرسل إليه المغيرةُ وائلَ بنَ حُجْر الحَضرميَّ ليعلمَ عِلْمَهُ، فأتاه، فلم يَقْدِرْ من زيادٍ على شيءٍ، فخرج من عنده، وكان زاجرًا، فإذا غُراب يَنْعَقُ، فرجع إلى زياد فقال له: يا أبا المغيرةِ، هذا غرابٌ يَنْعَقُ يُرحِّلُكَ عن الكوفةِ، ثم عاد إلى المُغيرة وقد قَدِم رسولُ معاويةَ على زيادٍ يأمره أن يسيرَ إلى البصرة. وهذه رواية عمر بن شَبَّةَ (¬3). وقال مَعْبَد بن خالد الجَدَلي (¬4): قَدِمَ علينا زيادٌ الكوفةَ، فأقامَ ينتظرُ إِذْنَ معاويةَ، فظنَّ المغيرةُ بن شعبة أن زيادًا ينتظر أن تجيئه إمارتُه على الكوفةِ، فأرسل إلى قَطَن بن عبد الله الحارثيِّ فقال: هل فيك من خيبر؟ قال: وما هو؟ قال: تكفيني أمرَ الكوفةِ حتى أخرجَ إلى الشام إلى معاوية. فامتنع، فاستخلف عُتَيبة بن نَهَّاس العِجْليِّ، وسار إلى معاوية، فلما دخل عليه سأله أن يعزله، وأن يقطعَ له منازل بقرقيسيا، فخاف معاويةُ بائقتَه وقال: واللهِ لترجعنَ إلى عملك يا أبا عبد الله، فأبى عليه، فلم يَزِدْه على ذلك إلا تُهمةً، فقال معاويةُ: واللهِ لترجعنَّ إلى عملك. فرجع، فطرق الكوفةَ ليلًا، وقرعَ باب القصر وهو يتمثَّلُ: بمِثْلي فافزعي يا أُمَّ عمرٍو ... إذا ما هاجني السَّفرُ البعيدُ (¬5) ¬

_ (¬1) الفرس المُحَلِّل: هو الفرس الثالث من فرس الرِّهَان، وذلك أن يضع الرجلان رَهْنَين بينَهما، ثم يأتي رجل سواهما، فيرسلُ معهما فرسَه ولا يضع رَهْنًا، فإن سبق أحدُ الأوَّلَين أخَذَ رَهْنَه ورَهْنَ صاحبه، وإن سَبَقَ المحلل ولم يسبق واحدٌ منهما أخذ الرَّهْنَين جميعًا. ينظر "لسان العرب" (سبق - حلل). (¬2) في أول سنة (44). (¬3) تاريخ الطبري 5/ 216. (¬4) في (خ): الجلدكي، وهو خطأ، والمثبت من " تاريخ" الطبري. (¬5) في "تاريخ" الطبري 5/ 217: النَّعُور، بدل: البعيد.

ثم قال: اذهبوا إلى ابن سُميَّة فرحِّلوه حتى يُصبح من وراءِ الجِسْرِ. ففعلوا. وقال عمر بن شَبَّة عن أشياخه: استعمل معاويةُ زيادًا على البصرة وخُراسان وسِجِسْتان، ثم جمع له الهند والبحرين وعُمان، فقَدِم البصرةَ في آخرِ شهر ربيع الآخِر - أو غُرَّة جُمادى الأُولى - في سنةِ خمس وأربعين، والفِسْقُ بالبصرةِ ظاهرٌ فاشٍ، فخطبهم. ذكر خُطبته البتراء (¬1): وهي خُطبةٌ طويلةٌ اختصرتُها. وإنما سُمِّيت البتراء لأنَّه لم يحمد الله فيها، وإنما قال: أما بعد؛ فإن الجهالةَ الجهلاء، والضلالةَ العمياء، والفجر المُوقِدَ لأهلهِ النارَ، الملهبَ عليهم سعيرَها هو ما يأتي سفهاؤكم، ويشتملُ عليه حكماؤكم، من الأمورِ العِظام التي يشبُّ (¬2) فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير، كأن لم تقرؤوا كتابَ الله، ولم تسمعوا نبيَّ الله، ولم تعلموا ما أَعدَّ اللهُ من الثوابِ العظيم لأهل طاعته، والعذابِ الأليمِ لأهلِ معصيته، في الزمن السرمديّ الذي لا يزول. أتكونون كمن طرقَتْ عينَه الدنيا، وسَدَّت مسامعَه الشهواتُ، واختار الفانيةَ على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتُم في الإسلام الحَدَث الذي لم تُسْبَقوا إليه أمِن تَرْكِكُم، هذه المواخِيرَ المنصوبةَ .... وذكر كلامًا طويلًا ثم قال: وإن هذا الأمرَ لا يصلح إلا بما صَلَح به أَوَّلُه؛ ليِنٌ في غيرِ ضعف، وشِدَّةٌ في غيرِ جَبْرِيَّةٍ وعُنْفٍ، وإني أُقسم باللهِ لآخُذَنَّ المُقيمَ بالظاعن، والمُقْبِل بالمُدْبِر، والصحيحَ بالسقيم، حتى يَلْقَى الرجلُ منكم أخاه فيقول: انْجُ سَعْد فقد هلك سُعيد، أو تستقيمَ لي قَناتكم. لا أُوتَى بفاعلٍ إلا سَفَكْتُ دَمَه، وإيّاكم ودعوى الجاهلية؛ فإني لا أجدُ أحدًا دعا بها إلا قطعتُ لِسانَه. وقد أحدثتُم أحداثًا لم تكن، وقد أحدَثْنا لكلِّ ذَنْبٍ عُقوبة؛ فمن سرق قتلناه (¬3)، ومن غرَّقَ غَرَّقْناه، ومن حرَّق ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 218، والبيان والتبيين 2/ 62، و"الكامل " 3/ 447 وما سيرد بين حاصرتين منها. (¬2) في "تاريخ" الطبري 5/ 218: ينبت. (¬3) قوله: فمن سرق قتلناه، لم أقف عليه في المصادر.

حرَّقناه، ومن نَقَبَ بيتًا نَقَبْنا عن كَبدهِ وقَلْبه، ومَنْ نَبَشَ قبرًا دَفَنَّاه حيًّا فيه، فكُفُّوا ألسنتكم وأيديَكم أكفَّ لساني ويدي، وإياكم أن يظهر (¬1) من أحدٍ منكم خلافُ ما عليه عامَّتكم إلا ضربْتُ عُنقَه، ألا وإنَّه قد كانت بيني وبين أقوامٍ إِحَنٌ فجعلتُها دَبْرَ أُذني وتحت قَدمي، فمن كان مُحسنًا فليزدد إحسانًا، ومن كان مُسيئًا فلينزع عن إساءتِه، وإني لو علمتُ أنَّ أحدَكم قتله السُّلُّ من بُغْضي لم أَكشِف له قِناعًا، ولم أَهتِكْ سِتْرَه حتى يُبْدِيَ لي صَفْحتَه، فإذا فعل ذلك لم أُناظِرْهُ، فاستأنفوا أُمورَكم، وأعينوا على أنفسِكم، فرُبَّ بئيسٍ بقُدومِنا سَيُسَرُّ، ومسرورٍ بقُدومنا سيَبْتَئس. أيها الناسُ، إنَّا أصبحنا لكم ساسةً، وعنكم ذادَةً، نَسُوسُكم بسلطانِ الله الذي أعطانا، ونذودُ عنكم بفَيءِ الله الذي خَوَّلنا، فلنا عليكم السمعُ والطاعة فيما أَحبَبْنا، ولكم علينا العدلُ فيما وُلِّينا. واستَوْجِبُوا عَدْلَنا بمُناصحتكم، واعلموا أني مهما قَصَّرتُ عنه؛ فإني لا أُقَصِّرُ عن ثلاث: لستُ مُحْتَجِبًا عن طالبِ حاجةٍ منكم ولو أتاني طارقًا بليل، ولا حابسًا رِزْقًا ولا عطاءً عن أربابه، ولا مُجَمِّرًا لكم بَعْثًا، فادْعُوا الله بالصلاحِ لأئمّتكم، فإنهم ساستُكم المؤدِّبون لكم، وكهفُكم الذي إليه تأوون. وقيل: بل حَمِد الله في أوَّلها. قال: فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: أشهدُ أيُّها الأميرُ أنك أوتيتَ الحكمةَ وفَصْلَ الخطاب. فقال: كَذَبْتَ، ذاك نبيُّ الله داود - عليه السلام -. فقال له الأحنفُ بن قيس: أَيُّها الأميرُ، قد قُلْتَ فأَحسَنْتَ، والثناءُ بعد البلاء، والحمدُ بعد العطاء، وإنَّا لن نُثْنيَ حتى نَبْتلي، فقال له زياد: صَدَقْتَ. فقام أبو بلال مرداسُ بن [أُدَيَّة] (¬2) يَهْمِسُ وهو يقول: أنبأنا اللهُ بغير ما قُلْتَ، قال الله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى (39)} [النجم: 38، 39]، فأوعدَنا الله خيرًا مِمَّا أَوْعَدْتَنا، فقال زياد: إِنَّا لا نَجِدُ إلى ما تُريدُ أَنْتَ وأصحابُك سبيلًا حتى نخوضَ إليه الدِّماء. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 220: لا يظهر، بدل: وإياكم أن يظهر، وهو المناسب لسياق الكلام بعده. (¬2) هو من رؤوس الخوارج. ولفظة "أُدَيَّة" من المصادر.

وقال عمر بن شَبَّة عن أشياخِه، عن الشعبيِّ قال: ما سمعتُ متكلِّمًا تكلَّم فأحسنَ إلا أَحببتُ أن يسكتَ خوفًا من أن يسيءَ إلا زيادًا، فإنَّه كلَّما تكلَّم كان أَجْوَدَ كلامًا. وقال عمر بن شبَّة (¬1): استعمل زيادٌ على شرطتِه عبد الله بنَ حِصْن، وأمره متى وَجَد إِنسانًا بعد ثلث الليلِ الأَوَّلِ في الشارعِ إلا قتلَه. قال: وأُخذ ليلةً أعرابيٌّ، فقال له زيادٌ: أما سَمِعْتَ النداءَ؟ فقال: لا والله، قَدِمتُ بحَلوبتي، وغشيني الليلُ، فاضطررتُها إلى موضع، وأقمتُ لأُصبحَ، ولا عِلْمَ لي بما كان من الأمير، فقال زياد: أظنُّك صادقًا، ولكنْ في قتلك صلاحُ الأُمَّةِ، فضربَ عُنُقَه. قال عمر: فكان زيادٌ أَوَّلَ من شدَّ أمرَ السلطانِ [وأكّد] المُلْكَ لمعاوية (¬2)، وألزم الناس الطاعة، وتقدَّم في العقوبة، وأخذَ بالظِّنَّة، وعاقبَ على الشُّبْهَةِ والتُّهمة، فخافه الناسُ في سلطانِه خوفًا شديدًا، حتى كان الشيءُ يسقطُ من الرجلِ أو المرأة؛ فلا يَعْرِضُ له أحدٌ حتى يأتيَه صاحبُه فيأخذَه، وتبيتُ المرأةُ لا تُغْلِقُ عليها بابَها، وهابه الناسُ هيبةً لم يهابوها أحدًا قَبْلَه، وساس الناسَ بسياسةٍ لم يَسُسْها سواه، وأدَرَّ العطاءَ، وأحسن إلى الناس. وأقامَ الشرطةَ أربعة آلافٍ، عليهم عبد الله بن حِصْن، والجَعْدُ بن قيس التميمي، فبينما هما يسيران بين يديه بِحَرْبَتَينِ؛ تنازعا، فقال زيادٌ: يا جَعْدُ، أَلْقِ الحَرْبةَ. فعزَلَه، وأقامَ ابن حِصْنٍ على شرطته حتى مات زياد. وكان يتتبَّع الفُسَّاقَ فيُبيدهم، وكان زيادٌ يقول: لو ضاعَ حَبْلٌ بيني وبين خُراسان لعلمتُ مَنْ أخذَه. وكتب خَمْسَ مئة شيخٍ من أهلِ البصرة في صحابتِه، فكان يرزقهم ما بين الثلاث مئة إلى الخمس مئة درهم. وقال عمر بن شبَّة (¬3): ومدحه حارثة بن بَدْرٍ الغُداني فقال: ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 221 - 222 ... وما بعدها، والكلام قبله منه. (¬2) في (خ): أول من سدَّد أمر السلطان لملك معاوية، والمثبت من الطبري وما بين حاصرتين منه. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 223 وما سيرد بين حاصرتين منه.

أَلا مَنْ مُبْلِغ [عني] زيادًا ... فنِعْمَ أَخو الخليفةِ والأَميرُ فأَنْتَ أَميرُ مَعْدَلةٍ وصِدقٍ ... وحَزْمٍ حين تحضرك الأُمورُ أَخوك خليفةُ الله ابنُ حربٍ ... وأَنْتَ وزير، نعم الوزيرُ بأمرِ اللهِ منصورٌ مُعانٌ ... إذا جارَ الرعيَّةُ لا تجورُ يَدرُّ على يديكَ لِما أرادوا ... من الدنيا لهم حَلَبٌ غزيرُ وتَقْسِمُ بالسواءِ فلا غَنيٌّ ... لضَيمٍ يشتكيك ولا فَقيرُ وكُنْتَ حَيًّا وجئتَ على زمانٍ ... خبيثٍ ظاهرٌ فيه شُرورُ تَقاسمتِ الرجالُ به هَواها ... فما تُخفي ضغائنَها الصُّدورُ فخاف الحاضرون وكلُّ بادٍ ... يُقيم على المخافةِ أو يَسيرُ فلمَّا قامَ سيفُ اللهِ فيهم ... زيادٌ، قامَ أبلجُ مُسْتنيرُ قويٌّ لا مِنَ الحَدَثانِ غِرٌّ ... ولا جَرحٌ (¬1) ولا فانٍ كبيرُ وقال عمر بن شَبَّة (¬2): واستعانَ زياد بعدَّةٍ من الصحابةِ على أُموره، منهم عمران بنُ الحُصَين، فولَّاه قضاءَ البصرة، والحَكَمُ بنُ عَمرو الغِفاريّ؛ ولاه خُراسان، وسَمُرة بنُ جُنْدُب، وأَنس بنُ مالكٍ، وعبد الرحمن بن سَمُرة. واستعفاه عمران بن الحُصَين عن القضاء، فأَعفاه، واستقضى عبد الله بنَ فَضالة الليثي، ثم أخاه عاصم بن فَضالة، ثم زُرارة بن أَوفى الحَرَشيّ، وكانت أُختُه لبابةُ تحت زياد. وزيادٌ أَوَّلُ من مَشَى الناسُ بين يديه بالبصرة بالحِرابِ والعُمُد، وكان حرسُه لا يُفارِقون المسجدَ. وقال زيادٌ يومًا لحاجبه: ادعُ لي الحَكَم -وهو يريد الحكمَ بنَ أبي العاص الثقفي- فرأى الحاجبُ الحكمَ بنَ عمرو الغِفاريَّ على الباب، فأَدخلَه، فقال زياد: هذا رجلٌ له شرف وصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعقد له على خُراسان، ثم قال له: ما أردتُكَ ولكنَّ الله تعالى أرادَكَ. ¬

_ (¬1) في (خ): ضَرِع، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 224. (¬2) المصدر السابق 5/ 224.

حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -

[فصل]: وحجَّ بالناسِ في هذه السنةِ على ما قيل مروانُ بنُ الحكم، وهو والي المدينة، وعلى الكوفة المغيرةُ بن شعبة، وشُريح على قضائها، وعلى البصرة والمشرقِ زياد. وفيها تُوفّيت حفصةُ بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - زوجةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأُمّها زينبُ بنت مظعون بن حبيب أُختُ عثمان بنِ مظعون. وقال ابنُ سعد (¬1) بإسناده عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جَدِّه، عن عمر قال: وُلدتْ حفصةُ وقريشٌ تبني البيتَ قبلَ مبعث رسمول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسِ سنين. قال الواقديُّ: تزوَّج خُنَيْس بن حذافة بن قيس بن عديّ بن سعد بن سَهْم حفصةَ، فكانت عنده، وهاجرت معه إلى المدينة، فمات عنها بعد الهجرة، مَقْدَم رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من بَدْرٍ. فتزوَّجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة من الهجرة. وقد ذكرنا صفةَ تزويجها برسول الله صلى الله عليه وسلم هناك. وروى ابن سعد عن الواقديِّ عن أشياخهِ قال: تزوَّج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حفصةَ في شعبان على رَأسِ ثلاثين شهرًا من الهجرةِ قبل أُحُد (¬2). وقال ابن سعد (¬3): حدَّثنا يزيد بن هارون، وعفَّان بن مسلم، وعبد الصمد بنُ عبد الوارث، وسليمان بن حرب، عن حمَّاد بن سلمة قال: حدَّثنا أبو عمران الجَوْني، عن قيس بن زيد، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - طلَّق حفصةَ بنت عمر، فأتاها خالاها عثمان وقدامةُ ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 10/ 80. (¬2) لكن ذكر ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" 3/ 204، وابنُ حجر في "الإصابة" 3/ 157 وغيرهما أن خُنيس بن حذافة (زوج حفصة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -) شهد أُحُدًا، ونالَتْه ثمة جراحةٌ مات منها بالمدينة، فيكون زواجُها منه - صلى الله عليه وسلم - بعد أُحد. وينظر أيضًا "المنتظم" 5/ 213. (¬3) في "الطبقات" 10/ 82.

ابنا مظعون، فبكت وقالت: ما طلَّقني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من شِبَعٍ. فجاء رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عليها، فتَجَلْبَبَتْ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل أتاني فقال لي: راجع حفصةَ، فإنَّها صوَّامة قوَّامة، وهي زوجتك في الجنَّة" (¬1). قلت: وهذا حديث قد رُويَ من طرقٍ ذكرها ابن سعد وأبو نُعيم، وفي بعضِها أنه صلى الله عليه وسلم همَّ بطلاقِها، فأمره اللهُ بإمساكها (¬2). وقيل: إنَّما طلَّقها لَمّا أفشت سِرَّه إلى عائشة في حديثِ العسل الذي جَرَسَتْ نحلُهُ العُرْفُطَ، وقد ذكرنا ذلك، وكانت تصوم الدهر. قال الواقديُّ (¬3): وأَقطعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثمانين وَسْقًا تمرًا، وعشرين وَسْقًا شعيرًا، ويقال: قَمْحًا. وحفصة شقيقةُ عبد الله بن عُمَر، وأَوصى إليها أبوها عمر، وأوصت هي إلى أخيها عبد الله بن عمر. ذِكْرُ وفاتِها: واختلفوا فيها، فحكى ابن سعد (¬4) عن الواقديِّ قال: توفيت حفصةُ في شعبان سنةَ خمسٍ وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وهي يومئذ بنت سِتين سنةً، وصلَّى عليها مروان بن الحكم وهو يومئذٍ عامل المدينة. قال الواقدي: وحدثنا علي بن مسلم عن المَقْبُريِّ، عن أبيه قال: رأيتُ مروانَ بين أبي هريرة وبين أبي سعيد أمام جنازة حفصة، ورأيتُ مروانَ حملَ بين عمودي سريرِها ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف لإرساله، فإن قيس بن زيد تابعي. وفي قوله: فأتاها خالاها عثمان وقدامة ابنا مظعون، نظر، فإن عثمان بن مظعون توفي بعدما رجع من بدر، وينظر الكلام قبل تعليق. (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 82 - 83، وحلية الأولياء 2/ 50. والصحيح في هذا الباب ما رواه أبو داود (2283)، والنسائي 6/ 213، وابن ماجه (2016) من حديث عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة ثم ارتجعها. (¬3) طبقات ابن سعد 10/ 84. (¬4) المصدر السابق 10/ 85.

من عند دار آل حَزْمٍ إلى دار المغيرة بن شعبة، وحمله أبو هريرة من دارِ المُغيرة إلى قبرِها. وجلس مروانُ حتى فُرغ من دَفْنِها. قال الواقدي: ونزل في قبرها عبد الله وعاصم ابنا عمرَ، وسالمٌ وعبدُ الله وحمزةُ بنو عبد الله بن عمر، وكانت على سريرٍ في نَعْشٍ. وهذا قولُ ابن سعدٍ عن الواقدي (¬1). وقال محمد بن سلام: ماتت حفصةُ في أيام عثمان سنة ثمانٍ وعشرين، وقيل: في سنة إحدى وأربعين، والكُلُّ وَهم لِما رَوينا عن عمر أنَّها وُلدت في سنة خمسٍ (¬2). فإجماعُ المؤرِّخين أنَّها ماتت في هذه السنةِ عن ستين سنةً. أَسْنَدَتْ حفصةُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحاديث. قال ابن البَرْقي: روت نحوًا من ستين حديثًا، وأخرج لها أحمد خمسةَ عشر حديثًا، منها مُتَّفَقٌ عليه، ومنها أفراد (¬3). قالوا: أُخرج لها في الصحيحين عشرةُ [أحاديث] اتفقا على أربعة، وانفرد مسلم بسِتَّة (¬4). قال أحمد: حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أُمُّ مُبَشِّر، عن حفصة قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن لا يدخلَ النارَ - إن شاءَ اللهُ - أحدٌ شهد بدرًا والحديبيةَ". قالت: فقلتُ: أَليس الله عزَّ وجل يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا}. قالت: فسمعته يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 72] (¬5). وليس في الصحابياتِ من اسمها حفصة سوى اثنتين، صاحبة هذه الترجمة، وحفصة بنت حاطب بن عمرو، وتكنى أُمَّ زُرارة (¬6). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 10/ 84. (¬2) يعني قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين، كما سلف أول ترجمتها. ووقع في (خ) و (م): سنة خمس وثلاثين (! ). (¬3) ينظر "مسند" أحمد 44/ 22 - 70، و"التلقيح " ص 365. (¬4) التلقيح ص 403. (¬5) مسند أحمد (26440). (¬6) التلقيح ص 329.

زيد بن ثابت

وفيها توفي زيد بن ثابت ابن الضحَّاك بن زيد بن لَوْذان بن عَمْرو بن عبد عوف بن غَنْم بن مالك بن النجار، وأُمُّه النَّوَار بنتُ مالك بن صِرْمة بن عديّ من بني النجار أيضًا. وأخوه يزيد بن ثابت ابنُها أيضًا من ثابت. وقُتِل أبو زيدٍ يومَ بُعاث. وزيد من الطبقةِ الثالثة من الأنصار، وكُنيتُه أبو سعيد، وقيل: أبو خارجة (¬1). وحكى ابن سعد عن الواقديِّ قال: حدَّثني إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة (¬2) قال: قال زيد بن ثابت: كانت وقعةُ بُعاث وأنا ابنُ ستِّ سنين، وكانت قبل هجرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم [إلى] المدينةِ بخمسِ سنين، فقَدِم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأنا ابن إحدى عشرة سنةً، وأُتيَ بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: غلامٌ من الخزرج وقد قرأ ستَّ عشرة سورةً، فلم أُجَز في بَدْر، ولا أُحد، وأُجِزْتُ في الخندق (¬3). وفي رواية ابن سعد أيضًا؛ قال زيد: لَمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتيَ بي إليه، فقيل: يا رسول الله، غلامٌ من بني النجار -أو: هذا غلامٌ من بني النجَّار- قد قرأَ ستَّ عشرةَ سورةً، فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يتعلَّم كتابَ يهود، وقال: "إني لا آمَنُهم أن يُبدِّلوا كتابي" فتَعَلَّمْتُه في بضع عشرة ليلةً. وفي رواية: في خمس عشرة ليلةً، حتى كان يعلمُ ما حرَّفوا وما بَدَّلوا. وروى ابن سعدٍ عن يحيى بن عيسى الرَّملي بإسناده عن زيد بن ثابت قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "إنَّه تأتيني كُتبٌ من الناسِ لا أُحبُّ أن يقرأَها كلُّ أحدٍ، فهل تستطيعُ أن تتعلَّم السريانية"؟ قلتُ: نعم، فتعلَّمتُها في سبعَ عشرةَ ليلةً. وفي رواية: فهل تستطيعُ أن تتعلَّم العبرانيَّةَ؟ وذكره. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 306. (¬2) بعدها في "الطبقات" 5/ 307: عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 307، والكلام الآتي منه أيضًا 5/ 308.

وحكى ابن سعد عن الواقديِّ (¬1) قال: كان زيدٌ يكتب الكتابَين: العربية والعبرانية جميعًا، وأول مشهدٍ شهده زيدٌ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الخندقُ، وهو ابن خمس عشرة سنةً، وكان مِمَّن ينقلُ التراب يومئذٍ مع المسلمين، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إنَّه نِعمَ الغُلامُ". وغلبته عيناهُ يومئذٍ، فرقَدَ، فجاء عُمارةُ بن حَزْم، فأخذ سلاحَه وهو لا يشعر، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا رُقاد، نِمْتَ حتى ذهبَ سلاحُك! ". وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ له علمٌ بسلاحِ هذا الغُلامِ؟ " فقال عُمارةُ بن حَزم: أنا. فردَّه، فنهى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يُروَّعَ المؤمنُ، أو أن يؤخذَ متاعُه لاعبًا جدًّا (¬2). قال: وكانت رايةُ بني مالك بن النجَّار يومَ تبوك مع عُمارة بن حَزْم، فأدركَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأخذَها منه، فدفعَها إلى زيد بن ثابت، فقال عُمارةُ: يا رسولَ الله، بلغَك عني شيء؟ فقال: لا، ولكنَّ القُرآنَ يُقَدَّمُ. وكان زيدٌ أَكثر أَخْذًا منك للقرآن (¬3). وقال هشام: قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا زيدُ، إنه يأتيني كُتُبٌ بالعبرانية والفارسية والرومية والقِبطية، ولا أُحبُّ أن يقرأَها كلُّ أحد، فتعلَّمْ هذه اللغات". قال: فأتقنها في ثمان عشرة ليلةً. فعجبتِ الصحابةُ منه. وقد أخرج أحمد في "المسند" بمعناه، ولم يذكر غيرَ السريانية، وأنَّه حفظها في سبعَ عشرةَ ليلة (¬4). وقد ذكرنا في السنة الثانيةَ عشرةَ أن أبا بكر - رضي الله عنه - أمره أن يجمعَ القُرآنَ، فجمعه. وحكى ابن سعدٍ عن نافع أنَّ عمر بنَ الخطاب - رضي الله عنه - استعمل زيدًا على القضاء، وفرضَ له رِزْقًا (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 5/ 309. (¬2) كذا في "طبقات" ابن سعد 5/ 309، و"تاريخ دمشق" 6/ 564 - 565 (مصورة دار البشير) والخبر فيه من طريق ابن سعد وفي "المستدرك" 3/ 421: لاعبًا وجدًّا، وفي "الإصابة" 4/ 42: جادًّا ولا لاعبًا. (¬3) قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 246: هذا عندي خبر لا يصحّ. (¬4) مسند أحمد (21587). (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 309.

وروى ابن سعد أيضًا عن مسروق قال: قدِمتُ المدينةَ، فسألتُ عن أصحابِ محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. وكان مِمَّن جمع القُرآنَ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن سعد عن ابنِ عبّاس أَنَّه أخذ لزيد بن ثابت بالرِّكاب، فقال له زيدٌ: تَنَحَّ يا ابنَ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ابن عباس: هكذا أُمِرنا أن نفعلَ بعلمائنا وكُبرائنا (¬1). وفي رواية: فقال لي زيدٌ: أرني يدَك، فأخرجَها، فقبَّلها وقال: هكذا أُمِرْنا أن نفعلَ بأهلِ بيتِ نَبِيِّنا. وقال أحمد بن حنبل: حدَّثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذَّاءِ، عن أبي قِلابة، عن أنس قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْحَمُ أُمَّتي أبو بكر، وأشدُّها في دين الله عمرُ، وأصدقُها حياءً عثمانُ، وأعلمُها بالفرائض زيدُ بنُ ثابت" (¬2). وروى ابن سعد (¬3) عن الفضل بن دُكَين قال: حدَّثنا موسى بن عُلَيّ، عن أبيه قال: إن كانَ الرجلُ لَيأتي زيدَ بن ثابت فيسأله عن الشيء، فيقول: اللهِ، أَنَزَلَ هذا؟ فإن قال: اللهِ، نزل هذا، أَفتاه، وإن لم يحلِف؛ تركه. وقال هشام: آخِرُ عَرْضٍ عرضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ على مُصحَفِ زَيدٍ. قال: وكان ابن عباسٍ يقول: لقد علمَ المحفوظون من أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أن زيدَ بنَ ثابت من الراسخين في العلم (¬4). قال: وسأله رجلٌ عن مسألة، فقال: أحَدَثَ هذا؟ قال: لا. قال: فَدَعْهُ حتى يكون. قال: وكان زيدٌ مع عمرَ لَمَّا قَدِمَ إلى الشام، وأنَّه كتب له كتابَ الصُّلحِ مع الروم على بيتِ المقدس. وكان يكتبُ لأبي بكرٍ قبل عمر، وكان على بيتِ المال في أيام عثمان، وكان مع عثمان وهو محصورٌ وذَبَّ عنه، وقسم الغنائمَ بتبوك. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 5/ 310. (¬2) مسند أحمد (12904)، وتتمته فيه: "ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرَّاح". (¬3) في "الطبقات" 5/ 310 - 311. (¬4) تاريخ دمشق 6/ 570 (مخطوط دار البشير).

وقال ابن سعد (¬1): وكان عمرُ يستخلفه على المدينة، وما رجع من مغيبٍ قطُّ إلا وأَقطعَه حديقةَ نَخل، واستخلفه عثمان على المدينةِ لَمَّا حجَّ. ذِكْرُ وفاته: واختلفوا فيها على أقوال: حكى ابنُ سعد عن الواقديِّ قال: مات زيدُ بن ثابت بالمدينة سنة خمس وأربعين وهو ابن ستٍّ وخمسين، وصلَّى عليه مروان بن الحكم. قال ابن سعد: وقال غير الواقديِّ: إنَّه مات سنة إحدى -أو اثنتين- وخمسين. وقال آخر: مات سنة خمس وخمسين. قال ابن سعدٍ: فاختلفوا علينا في موته، فالله أَعلمُ (¬2). وقال الهيثم: سنة تسعٍ وأربعين وهو ابن تسع وخمسين. وقال ابن سعد (¬3) عن الواقديّ: ونحر مروان عنده جَزورًا، وأطعم الناس. وقال ابن سعد بإسناده عن عمَّار بن أبي عمَّار قال: لَمَّا مات زيدٌ جلسنا عند ابن عباس في ظلّ قصر، فقال: هكذا ذهابُ العِلْم، لقد مات اليومَ علمٌ كثيرٌ (¬4)! وقال ابن سعد بإسناده إلى يحيى بن سعيد قال: قال أبو هريرة: مات حَبْرُ هذه الأُمَّة! ولعلَّ اللهَ أن يجعلَ في ابنِ عباسٍ خَلَفًا منه. ذِكرُ أَولاده: قال ابن سعد (¬5): فولدَ زيدٌ سعيدًا، وبه كان يُكنى، وأُمّه أُمُّ جميل بنت المخول بن بُجَيْد من بني عامر بن لؤي. وسعدًا، وخارجة، وسليمان، ويحيى، وعُمارةَ دَرَج، وإسماعيلَ، وأسعدَ دَرَج، وعُبادةَ، وإسحاقَ، وأُمَّ إسحاق، وحسنة، وعَمْرة، وأُمَّ ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 312 و 313. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 315. (¬3) المصدر السابق 5/ 314. (¬4) المصدر السابق 5/ 315، والكلام بعده فيه. (¬5) في "الطبقات" 5/ 307.

كلثوم، وأُمُّهم جميلةُ، وهي أُمُّ أسعد (¬1) بنت سعد بن الربيع بن عمرو الخزرجي. وإبراهيمَ، ومحمدًا، وعبدَ الرحمن، وأُمَّ حسن، وأُمُّهم عميرة بنت معاذ بن أنس من بني النجار. وعبدَ الرحمن، وزيدًا، وعُبيدَ الله، وأُمَّ كلثوم لأُمِّ ولدٍ. وسَلِيطًا، وعمرانَ، والحارثَ، وقريبةَ، وأُمَّ محمد لأُمَّ ولد. وقيل: وثابت. فالحاصل أنه كان له ستَّة وعشرون ولدًا، منهم تسعةَ عشرَ ذكرًا، والباقي إناث. وقال هشام: قُتل من أولاد زيد يومَ الحَرَّة سبعةٌ؛ نذكرهم هناك. وكان لزيدٍ أخٌ اسمُه يزيد بن ثابت (¬2)، شَهِد أُحُدًا، وقُتِل يوم اليمامة شهيدًا. وكان له ولدٌ اسمُه عُمارة [بن يزيد] (¬3)، وأمُّه دُبْيَةُ بنتُ ثابت من بني النجار. وخارجة بن يزيد (¬4)، وكُنيتُه أبو زيد، وهو القائل: كأني رأَيتُ في منامي بنيتُ سبعين درجةً، فلما فرغتُ منها تهوَّرْتُ؛ وهذه السنة لي سبعون سنة. فمات فيها، وذلك في سنة مئةٍ بالمدينةِ. أسندَ زيد بنُ ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديثَ. قال ابن البَرقي: أسند اثنين وتسعين حديثًا (¬5)، أُخرج له منها في الصحيحين عشرة أحاديث، اتفقا على خمسة، وانفرد البخاري بأربعةٍ، ومسلمٌ بحديث (¬6). والذي أخرج له أحمد أربعةٌ وثلاثون حديثًا، منها مُتَّفَق عليه، ومنها أفراد. وروى زيدٌ عن أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان. وروى عنه ابن عمر، وأبو هريرة، وأنسٌ وأبو سعيد، وسهل بن سعد، وسهل بن حُنَيف، ومروان بن الحكم، وابن المسيِّب، ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 5/ 307 (ونقله عنه المزِّي في "تهذيبه" 10/ 27): سعد. (¬2) هو أكبر من زيد كما في "الاستبصار" لابن قدامة ص 73. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة من عندي للإيضاح، وقد وقع الوهم في الذي بعده. (¬4) كذا وقع، وإنما هو خارجة بن زيد بن ثابت، أحد الفقهاء السبعة، ينظر "طبقات " ابن سعد 7/ 258، والسير 4/ 439. (¬5) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 365. (¬6) المصدر السابق ص 393.

سلمة بن سلامة

والقاسم بن محمد، وأبان بن عثمان، وخارجة وسليمان ابنا زيد بن ثابت في آخرين (¬1). ومن مسانيدِه حديث في الشام؛ قال أحمد (¬2): حدَّثنا ابنُ لَهِيعة بإِسناده عن زيد بن ثابت قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "طوبى للشام، طوبى للشام". قال: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما بالُ الشام؛ فقال: "إنَّ الملائكةَ باسِطو أجنحتها على الشام". وليس في الصحابة من اسمه زيد بنُ ثابت سواه، فأمَّا غيرُ ابنِ ثابت؛ فكثير (¬3). وفيها توفي سَلَمة بنُ سلامة ابن وَقْش بن زُغبة بن زَعُوراء بن عبد الأشهل، ويُكنى أبا عوف، وقيل: أبو ثابت. وأُمُّه سلمى بنت [سَلَمة بن] سلامة بن خالد، أوْسِيَّة، وهي عمَّةُ محمد بن مَسْلَمَة. وهو من الطبقة الأُولى من الأنصار (¬4)، شهد العقَبتَين، وبدرًا، والمشاهِدَ كلَّها مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا في إخائه، فحكى ابن سعد عن الواقديِّ أنه قال: آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي سَبْرة بن أبي رُهْم بن عبد العُزَّى، من بني عامر بن لؤيّ. وحكى ابن سعد أيضًا عن ابن إسحاق قال: آخى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينه وبين الزبير بن العوَّام. قال: ومات سَلَمةُ بالمدينة في سنة خمسٍ وأربعين، وقد انقرض عَقِبُه، فلم يَبْقَ له عَقِب. قال: وكان له من الولدِ عوف؛ وأُمُّه أُمُّ ولد، وميمونةُ؛ وأُمُّها أُمُّ عليّ بنت خالد؛ أَوْسيّة. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 554 - 555 (مخطوط دار البشير). (¬2) في "المسند" (21606). (¬3) ينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 193 - 194. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 405. وما سلف بين حاصرتين منه.

سهل بن عمرو

وليس في الصحابة من اسمه سلمة بن سلامة غيره، وله صحبةٌ ورِوايةٌ. وأخرج له أحمد في "المسند" حديثًا (¬1) فقال: حدَّثنا يعقوب بإسناده عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل، عن سَلَمة بن سلامة بن وَقْش -وكان من أصحابِ بَدر- قال: كان لنا جارٌ من يهود في بني عبد الأشهل [قال: فخرجَ علينا يومًا من بيتهِ قبل مبعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بيسير، فوقف على مجلس بني عبد الأشهل]، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدثُ مَنْ فيه سِنًّا، عليَّ بُرْدَد مضطجعًا فيها بِفِناءِ أهلي، فذكر البعثَ والقيامةَ، والحسابَ والميزان، والجنَّةَ والنارَ، فقال: ذلك لقومٍ أهلِ شركٍ أصحابِ أوثان، لا يَرَوْنَ أنَّ بَعْثًا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى أنَّ هذا كائن أنَّ الناسَ يُبعثونَ بعد مَوْتِهم إلى دارٍ فيها جَنَّةٌ ونار يُجْزَوْن فيها بأعمالِهم؟ ! قال: نعم، والذي يُحْلَفُ به (¬2). قالوا: فما آيةُ ذلك؟ قال: نبيٌّ يُبعثُ من نَحو هذه الدارِ (¬3). وأشار بيده إلى مكة، قالوا: ومتى تُراه؟ فنظر إليَّ وأنا من أحدَثِهم سِنًّا، فقال: إِنْ يَسْتَنْفِد هذا الغلامُ عُمُرَه يُدْرِكْهُ. قال سلمةُ: فواللهِ ما ذهب الليلُ والنهارُ حتى بعث الله رسولَه وهو حيٌّ بين أظْهُرِنا، فآمنَّا به وكفر به؛ بَغْيًا وحَسَدًا، فقلنا له: ويلك يا فلان! الستَ بالذي قُلْتَ لنا فيه ما قلتَ؟ ! قال: بلى، وليس به. وفيها توفي سَهْلُ بنُ عَمرو ابن زيد بن جُشَم الأنصاريُّ. ¬

_ (¬1) برقم (15841)، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬2) بعدها في "المسند": لَوَدَّ أنَّ له بحظّه من تلك النار أعظمَ تنُّور في الدنيا يحمُّونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا. (¬3) في "المسند": البلاد.

واختلفوا فيه؛ فقال ابن سعد: سهل بن عقيب (¬1)، وقيل: سهل بن عُبيد، ويُعرف بابنِ الحنظلية. واختلفوا فيها، فقال ابن سعد: [هي أمُّ جدّه، وقيل: أمُّه، وقيل: أمُّ أبيه (¬2). وذكره ابن سعد] في الطبقة الثالثة فيمن شَهِدَ أُحُدًا والخندقَ وما بعدها مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وأخوه سعد بن عمرو، ردَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم [يوم أحد] لَمّا استصغره (¬4). وذكره أبو القاسم بن عساكر فقال: صحبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وبايعه تحت الشجرة، وروى عنه أحاديثَ، وسكن دمشق، وروى عنه أبو عبد الرحمن القاسم، وبشر التّغلبيّ، وأبو كبشة السَّلُوليّ. وكان معتزلًا للناس، كثيرَ العبادة، وتوفي في سنة خمس وأَربعين، ودُفن في البابِ الصغيرِ في الحظيرة التي فيها قَبْرُ معاوية، وهناك حَجَرٌ عتيقٌ منقورٌ، وفيه: في هذا المكان قُبورُ أربعةٍ من الصحابة: معاوية، وسهل بن الحنظلية، وواثلة، وفَضالةُ بن عبيد (¬5). ولا عَقِبَ لسَهْل. وفي الصحابةِ من اسمُه سهل بن الحنظلية رجلان: أحدُهما صاحبُ هذه الترجمة. والثاني: سهل بن الحنظلية، عبشميّ، له صحبة أيضًا ورواية (¬6). ¬

_ (¬1) كذا سمَّاه ابنُ حِبَّان في "مشاهير علماء الأمصار" ص 52. وفي "طبقات " ابن سعد 4/ 276: سهل بن عمرو بن عدي بن زيد بن جشم. (¬2) ينظر "طبقات" ابن سعد 4/ 276 - 277. وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (م). وينظر "معجم الصحابة" 1/ 267، و"الاستبصار" ص 238، و"الإصابة" 4/ 272. (¬3) كذا في (خ) و (م)، وإنما ذكره ابن سعد في "الطبقات" 4/ 276 في الطبقة الثانية من الأنصار ممَّن شهد أُحُدًا وما بعدها، وذكره أيضًا 9/ 404 فيمن نزلَ بالشام من الصحابة. (¬4) الاستيعاب ص 287، والإصابة 4/ 138 و 145. وفيهما: سعد بن الربيع بن عمرو. وذكر ابن قدامة في "الاستبصار" ص 239 أن الذي استصغره رسول الله يوم أحد فردَّه هو سعد بن عُقيب بن عمرو ابنُ أخي سهل. (¬5) بعدها في (خ) ما نصه: وأخوه سعد بن عمرو ردَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استصغره". وقد سلف هذا الكلام. (¬6) ينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 204 و 294.

عاصم بن عدي

قلت: وقد أخرج أحمد في "المسند" عن صاحب هذه الترجمة ثلاثة أحاديث، قال (¬1): وهو سهل بن الحنظلية، وهي اسم أُمِّه، واسمُ أَبيه عُبَيد، أنصاري. قال أحمد: حدثنا وكيعٌ بإسناده عن قيس بن بشر التغلبي، عن أبيه قال: قال ابن الحنظلية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم قادمون على إخوانكم فأصْلِحُوا رِحالكم ولِباسكم، فإن الله لا يُحبُّ الفُحشَ ولا التفحُّشَ". وهو حديثٌ طويلٌ هذا طرفٌ منه (¬2). وليس لسهل في الصحيح شيء. وفيها توفّي عاصم بن عديّ ابن الجدِّ بن العَجْلان من الطبقة الأُولى من الأَنصار، وكُنيته أبو عمرو (¬3) وقيل: أبو عبد الله. وهو الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا خرج إلى بَدْر إلى قُباء والعاليةِ لشيءٍ بلغه عنهم، وضرب له بأَجرِه وسَهْمه، فكان كمن شَهِدَها. شهد عاصمٌ أُحُدًا والخندقَ والمشاهِدَ كلَّها مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه من تبوك ومعه مالك بن الدّخْشُم، فأحرقا مسجدَ الضِّرارِ، وقد ذكرناه. وقال ابن سعد عن الواقدي (¬4): توفي عاصم في سنة خمسٍ وأربعين بالمدينة، وهو ابن خمس عشرة سنة ومئة سنة، وكان يخضبُ بالحِنَّاءِ. وهو أَخو معن بن عديّ بن العَجْلان الذي قُتِلَ باليمامةِ شهيدًا، وقد ذكرناه (¬5). وليس في الصحابة من اسمُه عاصم بن عديّ غيره، وله صحبةٌ ورواية. ¬

_ (¬1) القائل هو ابن الجوزي، وكلامه في "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 204. (¬2) مسند أحمد (17624). (¬3) في "طبقات" ابن سعد 3/ 432: أبو بكر. (¬4) المصدر السابق. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 431.

عثمان بن حنيف

وأخرج له أحمد في "المسند" حديثًا واحدًا، فقال: حدَّثنا عبد الرحمن بإسناده عن أبي البَدَّاح بن عاصم بن عديّ، عن أبيه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رخَّص لرِعاء الإبلِ في البيتوتة عن منًى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغَدَ، أو من بعد ليومين (¬1)، ثم يرمون يومَ النَّفْر. وفيها توفي عثمانُ بنُ حُنَيف ابن واهب بن عُكَيم بن ثعلبة بن الحارث بن مَجْدَعة بن عمرو بن حنش، من الطبقة الثانية من الأنصار، وهو أخو سهل بن حُنَيف، وأُمُّهما هند بنتُ رافع بن عُمَيس، من الأوس. قال ابن سعد (¬2): وجَّه عمر بنُ الخطاب عثمان بن حُنَيف على خَراجِ السَّوادِ ومساحة الأرض، ورزقَه كلَّ يوم رُبْعَ شاةٍ وخمسةَ دراهم. وقد ذكرناه. وقال: أمره عمر أن يمسح السَّوادَ عامِرَهُ وغامِرَهُ، ولا يمسحَ تلًّا ولا سَبْخة، ولا مُسْتَنْقَع ماء، ولا ما لا يبلغُه الماء. فمسح عثمانُ كلَّ شيء دون الجبل، يعني دون حُلْوان إلى أرض العرب، وهو أسفل الفُرات، وكتب إلى عمر يُخبرُه، وقد تقدَّم هذا. وقال ابن سعد (¬3): ولَمَّا خرج عبد الله بن عامر من البصرةِ، وقُتِل عثمان، بعث عليُّ ابنُ أبي طالب عثمان بن حُنيف إلى البصرة واليًا عليها، وقَدِم طلحة والزبير وعائشةُ، فقاتلَهم، وقد ذكرناه أيضًا. قال: وكُنيةُ عثمان: أبو عبد الله. قال: وتوفي في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وله عَقِبٌ (¬4)، ولم يذكر ابن سعد [تاريخ] وفاته. ¬

_ (¬1) في "مسند" أحمد (23775): أو من بعد الغد ليومين. (¬2) في "الطبقات" 4/ 305. (¬3) المصدر السابق 4/ 306. (¬4) في (خ) و (م): وليس له عقب. وهو خطأ. والكلام في "طبقات" ابن سعد 4/ 306. وسيأتي المصنف على ذكر أولاده.

السنة السادسة والأربعون

وقال هشام: مات في هذه السنة. قال ابن سعد: وكان له من الولد عثمان، وأُمُّه أُمُّ سعد بنت سعد بن أبي وقَّاص، وعبد الله لأُمِّ ولد، والبراءُ لأُمِّ ولد أيضًا، وحارثةُ وأُمُّه من كِنْدَة، ومحمد وعبد الله وأُمُّ سَهْل لأُمّ ولد (¬1). وليس في الصحابة من اسمُه عثمان بنُ حُنَيف سواه، وله رواية. وأخرج له أحمد في "المسند" حديثَين. قال أحمد: حدَّثنا رَوْحٌ، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر المديني قال: سمعتُ عُمارةَ بن خُزَيمة بن ثابت يُحَدِّثُ عن عثمان بن حُنيف أنَّ رجلًا ضريرًا أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبيَّ الله، ادعُ الله أن يُعافِيَني، فقال: "إن شئتَ أَخَّرْتَ ذلك فهو أفضلُ لآخرتك، وإن شئتَ دعَوْتُ لك". فقال: لا بل ادعُ الله لي، فأمره أن يتوضَّأ، وأن يُصلّيَ ركعتين، وأن يدعوَ بهذا الدعاء، وهو: "اللهم إني أسألك، وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة، يا محمد، إنِّي أتوجَّه بك إلى ربِّي في حاجتي هذه فتُقْضَى لي، وتُشفِّعه فيَّ". قال: ففعل الرجلُ، فبرأ بإذن الله تعالى (¬2). انتهت ترجمته. السنة السادسة والأربعون فيها رجع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من بلاد الروم إلى حمص، وقد كان شَتَا بها، وفتح حُصونًا كثيرةً، فسقاه ابنُ أُثال النصراني شربةً مسمومةً، فمات. وفيها خرج الخَطِيم -واسمُه يزيد (¬3) بن مالك الباهليُّ- وسهم بن غالب الهُجَيميُّ وتبعهما خَلْقٌ كثيرٌ من الخوارج، وحكَّما؛ قالا: لا حُكْمَ إلَّا لله. وكان خروج سهم ¬

_ (¬1) المصدر السابق 4/ 305. (¬2) مسند أحمد (17241). (¬3) في (خ): زيد، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 228، و"الكامل" 3/ 454.

سالم بن عمير

بأطرافِ الأهوازِ، وتفرَّق عنه أصحابُه خوفًا من زياد، فرجع إلى البصرة واختفى، فلم يزل زيادٌ [يطلبه] حتى وقع عليه، فقتله. وأما الخَطيمُ؛ فكان زيادٌ قد ولَّاه البحرين (¬1)، فحكَّم، ثم خاف فرجع إلى البصرة، وأمَّنَه زياد على أن لا يبيتَ في غير منزله، وضَمِنَه مسلم بن عَمرو، فغاب ليلة فأخبر مسلم زيادًا. وقيل: لم يضمنه مسلم وإنَّما قال لزياد: إن بات في غير منزله أخبرتُكَ، فلما غاب تلك الليلةَ أخبر زيادًا، فأخذه وضرب عُنُقَه. وحجَّ بالناسِ [في هذه السنة] عتبةُ بن أبي سفيان (¬2). وفيها توفّي سالم بن عُمَير ابن ثابت بن كُلْفة بن ثعلبة بن عمرو بن عوف، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار. قال ابن سعد (¬3): شهد بدرًا (¬4)، وأُحدًا، والخندقَ، وما بعدها من المشاهد مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أَحدُ البكّائين الذين جاؤوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُريدُ الخروجَ إلى تبوك، فقال: {لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيهِ} [التوبة: 92]. وقد ذكرناه هناك. وهو الذي قتل أبا عَفَك اليهوديَّ لَمّا قَدِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان يُحرِّضُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرناه في السيرة. وقال ابن سعد: مات سالم في خلافة معاوية، وله عَقِب. وكان له ابن يقال له: سلمة بن سالم. وليس في الصحابة من اسمه سالم بن عُمَير غيره، وله صحبة، وليس له رواية. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 228: سَيَّرَه إلى البحرين. (¬2) ينظر ما سبق في "تاريخ" الطبري 5/ 227 - 282. (¬3) في "الطبقات" 3/ 445. (¬4) وهذا على بعض الروايات؛ ذكرها ابن سعد.

عبد الرحمن بن خالد بن الوليد

وفيها توفي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد (¬1) ذكره العلماءُ فيمن له إدراكٌ ورؤيةٌ (¬2) وكان يومَ اليرموك على كردوسٍ وهو ابن ثمان عشرة سنة. واختلفوا في أُمِّه، فقال خليفة (¬3): هو دمشقي، وفي رواية: حمصي، وأُمُّه ابنةُ أنس بن مُدْرِك الخثعمي، وأخوه لأبيه وأُمِّه المُهاجرُ بن خالد، وهذه أُمُّه. وقال أبو أحمد الحاكم: وأُمّ عبد الرحمن أُمُّ تميم بنت الحارث بن جُنْدب ثقفية. قال: ويقال: إِنَّها بنت أنس بن مُدْرك الخثعمي. وذكره أبو القاسم بن عساكر فقال: كُنيتُه أبو محمد، أدرك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان مع أبيه يومَ اليرموك، وسكن حمص (¬4)، وشهد صفِّين مع معاوية وكان بيده اللواءُ، واستعمله معاويةُ على غزو الروم، وله معهم وقائع. وكان شريفًا مُمَدَّحًا من فرسان قريش وفضلائهم، وكانت له دارٌ بدمشق. وروى عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وروى عنه خالد بن سَلَمة، والزُّهري (¬5) وعمرو بن قيس الشامي، ويحيى بن أبي عمرو السَّيباني، وأبو هِزّان. وقال أبو عبد الله بن مَنْدَه: استعمله معاويةُ على الصوائف سنة اثنتين [وأربعين]، فشتَّى بهم سنة ثلاثٍ وأربعٍ وخمسٍ وستٍّ. وذكره أبو زُرعة الدمشقي وقال: كان في جيشه أبو أيوب الأنصاريُّ، فجيءَ بأربعةٍ من الروم، فأمر بهم فجُعلوا غَرَضًا للنبل حتى ماتوا، فجاء أبو أيوب فَزِعًا وقال له: أصبرتَهم بعد نَهْيِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ ! فأعتق أربعة أَعْبُد (¬6). ¬

_ (¬1) سلف أول هذه السنة أن ابن أثال سقاه شربة مسمومة فمات وسيعاد هذا الكلام في ترجمته. (¬2) بعدها في (م): لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس له رواية، وقال ابن منده: له رؤية. (¬3) ينظر كتابه "الطبقات" ص 245. (¬4) في "تاريخ دمشق" 9/ 926 (مصورة دار البشير): وسكن دمشق. (¬5) في النسختين: خالد بن مسلمة الزهري، والمثبت من "تاريخ دمشق" 9/ 926 (مصورة دار البشير). (¬6) لم أقف عليه في "تاريخ" أبي زرعة. وذكر ابن حجر الخبر في "الإصابة" 7/ 214 ونسبه لابن المقري.

وذكره ابن عبد البَرِّ وقال: كان من فرسانِ قريش، إلَّا أَنَّه كان منحرفًا عن عليّ بن أبي طالب وبني هاشم، فخالفه أخوه المُهاجرُ بن خالد، فكان يُحِبُّ عليًّا وبني هاشم. قال ابن عبد البَرِّ (¬1): ولَمَّا أراد معاويةُ البيعةَ لابنه يزيد خطب الناسَ فقال: يا أهل الشام قد كَبِرَتْ سِنِّي، وقَرُبَ أجلي، وقد أرَدْتُ أن أعقدَ لرجلٍ يكون نِظامًا لكم، فاختاروا لأنفُسِكم، فإِنَّما أنا رجلٌ منكم. فاختاروا عبد الرحمن، فَشقَّ ذلك على معاوية، وأسمرَّها في نَفْسِه، فدَسَّ إليه طبيبًا، فسقاه السُّمَّ، فمات. ذكر وفاته: اتفقوا على أن معاويةَ دسَّ إليه من سقاه سُمًّا فهلك، كابن عبد البَرِّ وأبي أحمد الحاكم، وهشام، والواقدي، والطبري، وحكاه جَدِّي في "المنتظم"، وحكاه ابن عبد البَرّ عن أشياخه، دخل حديثُ بعضهم في حديث بعض؛ قالوا (¬2): كان عبد الرحمن بن خالد قد عَظُمَ شأنُه بالشام ومال إليه الناسُ، لِما كان عندهم من آثار أبيه ولغَنائه عن المسلمين في الجهاد، ورياسته وفَضلِه وكرمِه، وشجاعتِه وهَدْيِه وسَمْتِه ودينِه، فخافَه معاويةُ، فأمر ابنَ أُثال أن يحتال في قَتْله، وضَمِنَ له إنْ هو فَعَلَ ذلك أن يضع عنه خَراجَه ما عاش، وأن يولِّيَه جِبايةَ خراج حمص. فلما قَدِم عبد الرحمن من الروم ونزل حِمْص؛ دسَّ إليه ابنُ أُثال شَربَةً مسمومةً مع بَعْضِ مماليكه، فشربها، فمات بحمص. قال الطبري (¬3): فوفَّى معاويةُ لابن أُثال بما ضَمِنَ له، وولَّاه خَراج حمص، ووضع عنه خَراجَه. ¬

_ (¬1) في "الاستيعاب" ص 450، وما قبله فيه أيضًا. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 8/ 322، و"تاريخ" الطبري 5/ 227، و"الاستيعاب" ص 450. و"المنتظم" 5/ 217. (¬3) في "تاريخه" 5/ 227.

وقال ابن عبد البَرِّ (¬1): لَمّا شاورَ معاويةُ أهلَ الشامِ فيمن يولِّيه الخلافة، وأشاروا بعبد الرحمن؛ أَسَرَّها معاويةُ في نَفْسِه، ثم إن عبد الرحمن مرضَ، فأمر معاويةُ طبيبًا يهوديًّا كان مكينًا عنده، واسمُه ابن أُثال، وضَمِنَ له معاويةُ مالًا مع إسقاط خَراجِه وتَوْليته حمص، فسقاه شَرْبَة، فمات. وقيل: كان الطبيبُ نصرانيًّا. قال مَنْ سمَّينا من العلماء (¬2): ولما شاع ذلك قَدِمَ [خالد بن] عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المدينةَ، فجلس إلى عروة بن الزبير، فسلَّم عليه، فقال: من أَنْتَ؟ [فعرّفه نفسه]، فقال له عروة: ما فعل ابنُ أُثال؟ كأنَّه عَيَّره. ففهم خالد ولم يتكلَّم، وقام من ساعتِه، فسار إلى دمشق -وقيل: إلى حمص- ومعه نافع مولاه، وكان ابنُ أُثال يَسْمُرُ عند معاويةَ، فرصداه ليلةً، فخرج، فضرباه بالسيف حتى قتلاه (¬3). وأرسل معاويةُ فحبس خالدًا وغرَّمه دِيَةَ ابنِ أُثال، ولم يُقِدْه منه. ولَمّا ضربَ خالدٌ ابنَ أُثال قال: أنا ابنُ سيفِ الله فاعرفوني ... لم يَبْقَ إلا حَسَبي وديني وصارمٌ صلَّ به يميني ثم رجع خالدٌ إلى المدينة، فأتى عروةَ، فسلَّم عليه، فقال له عروةُ [ما فعل ابنُ أُثال؟ قال: قد كفيناك إياه، ولكن] ما فعل ابنُ جرموز (¬4)؟ فسكت عروةُ. وذكره الشيخ الموفَّق رحمه الله فقال (¬5): لما انصرف خالد بن عبد الرحمن إلى المدينة بعد قتل ابنِ أثال قال: ¬

_ (¬1) في "الاستيعاب" ص 450 وسلف كلامه قريبًا. (¬2) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 227 - 228 وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬3) ذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 450 أن المهاجر أخا عبد الرحمن هو الذي قتل ابنَ أُثال، وذكر البلاذُري في "أنساب الأشراف" 8/ 322 أن الذي قتلَه هو خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد، قال: ويقال: خالد بن عبد الرحمن. (¬4) ابن جُرموز هو الذي قتل الزبير بن العوام - رضي الله عنه - يوم الجمل. يعرّض خالد بن عبد الرحمن بعروة أنهم لم يقتلوا ابنَ جرموز بأبيهم، كما سيرد. (¬5) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 348.

قضى لابنِ سيفِ الله بالحقِّ سيفُهُ ... وعُرِّيَ من حَمْلِ الذُّحول رواحِلُهْ فإِنْ كان حقًّا فهو حقٌّ أصابَهُ ... وإن كان ظَنًّا فهو بالظنِّ فاعِلُهْ سَلِ ابنَ أثالٍ هل ثأَرْتُ ابن خالد ... وهذا ابنُ جُوْموزٍ فهل أَنت قاتِلُهْ أراد أنَّ بني الزبير كان ابن جرموز بينهم، ولم يقتلوه بأبيهم. وقال الموفق رحمه الله (¬1): قال معاويةُ لكعب بن جُعَيْل الشاعر: ليس للشاعر عَهْدٌ، قد كان عبد الرحمن صديقَكَ، فلما ماتَ نَسِيتَه، فقال: واللهِ ما نسيتُه، ولقد قُلتُ بعد موته: ألا تبكي وما ظَلَمَتْ قريشٌ ... بإِعوالِ البكاءِ على فتاها ولو سُئِلَتْ دمشقُ وبَعْلَبَكُّ ... وحِمْصٌ من أباحَ لكم حِماها فسيفُ اللهِ أدخلها المنايا ... وهَدَّمَ حِصْنَها وحوى قراها وأنزلَها معاويةَ بنَ صخرٍ ... وكانت أرضُه أرضًا سِواها ومن شعر كعب بن جُعَيْل فيه: أبوك الذي قادَ الجيوشَ مُغرِّبًا ... إلى الرومِ لَمَّا أَعطتِ الخَرْجَ فارسُ وكم من فتًى نَبَّهْتَه بعد هَجْعَةٍ ... بقَرْعِ اللجامِ وهو [أكتعُ] ناعسُ وما يستوي الصفَّانِ؛ صفٌّ لخالدٍ ... وصفٌّ عليه من دمشقَ البرانسُ (¬2) وقد ذكرنا أن عبد الرحمن ماتَ بحمص في هذه السنة، وعليه عامَّة العلماء. وقد وَهِمَ الواقديُّ فقال في كتاب "الصوائف": إن عبد الرحمن بن خالد مات بأرضِ الروم في سنة تِسْعٍ وأربعين (¬3). وكذا ذكر الوليد بن مسلم. قال ابن عساكر: وهو وَهْمٌ منهما (¬4)، مات بحمص في هذه السنة، وذكر القصَّة. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) نسب قريش ص 326. (¬3) في "تاريخ دمشق" 9/ 931 (مخطوط): سنة سبع وأربعين. (¬4) لم أقف على هذا القول.

هرم بن حيان

وكان لعبد الرحمن بن خالد إخوة: المُهاجر، وعبد الله الأكبر، وعبد الله الأصغر، وسليمان، وقد ذكرناهم في ترجمة خالد. وفيها توفي هَرِمُ بنُ حَيَّان العَبْديُّ الأزْديُّ البصريُّ. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من الفقهاء والمحدِّثين والزُّهَّاد من أهل البصرة (¬1). وقال هشام: إنما سُمِّيَ هَرِمًا لأن أُمَّه حملت به ثلاثَ سنين، وولدته وقد بَدَت ثناياه. واستعمله عمر بن الخطاب (¬2)، وهو يُعَدُّ في عُمَّاله، وهو أَحدُ الزهَّاد الثمانية (¬3). وقال أبو نُعيم بإسناده عن أبي نضرة (¬4): إن عمرَ بعث هَرِمَ بنَ حيَّان على الخيلِ، فغضب على رجل، فأمر به فوجِئت عُنُقُه، ثم انتبه، فأقبل على أصحابه فقال: لا جزاكم الله خيرًا، ما نصحتُموني ولا كفَفْتُموني عن غضبي، والله لا أَلِي لكم عملًا. ثم كتب إلى عمر يقول: لا طاقة لي بالرعيَّة، فابعثْ إلى عملك مَن شئتَ. وقد ذكرنا اجتماعه بأُويس القَرني في ترجمة أُويس. وقال ابن سعد بإسناده عن حُميد بن هلال عن هَرِم بن حيان قال (¬5): ما رأيتُ مثل النار؛ نام هاربُها، ولا مثل الجنَّة؛ نام طالبُها. وقال ابن سعد بإسناده عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار قال (¬6): استُعمل هَرِم بنُ حيَّان، فظنَّ أن قومَه سيأتونه، فأمر بنارٍ فأُوقِدت بينه وبين مَنْ يأتيه من القوم، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 131. (¬2) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 27/ 75 - 76. (¬3) ذكر أبو نُعيم الزهَّاد الثمانية، وهم: هرم بن حيَّان، وعامر بن عبد الله بن عبد قيس، وأويس القرني، والربيع بن خُثيم، ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وأبو مسلم الخولاني، والحسن بن أبي الحسن. ينظر "حلية الأولياء" 2/ 87. (¬4) الحلية 2/ 120. (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 132. (¬6) المصدر السابق 9/ 133.

فجاء قومُه فسلَّموا عليه من بعيد، فقال: مرحبًا بقومي، ادنوا، فقالوا: ما نستطيع أن ندنوَ منك لأجلِ النار، قال: فأنتم تُريدون أن تُلقوني في نارٍ أعظمَ منها، نار جهنَّم، فرجعوا. وقال عبد الله بن أحمد بإسناده عن الزُّهريِّ قال (¬1): بات هَرِم بنُ حَيَّان عند حُمَمَةَ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبات حُمَمَةُ يبكي إلى الصباحِ، فقال له هَرِمٌ: ما أبكاك؟ فقال: ذكرتُ ليلةً صبيحتُها تبعثرُ القبور، فيخرجُ من فيها. قال: وبات حُمَمةُ عند هَرِم، فبات هَرِم يبكي ليلتَه حتى أصبح، فسأله حُمَمَةُ عن بكائِه، فقال: ذكرتُ ليلةً صبيحتُها تتناثر النجوم. وكانا يأتيان بالنهارِ سوقَ الحدَّادين، فيسألان الله أن يُعيذَهما من النارِ، ثم يفترقان. ولم يذكر ابن سعد تاريخ وفاة هَرِم، وقال الهيثم: مات في سنة ستٍّ وأربعين. وقال ابن سعدٍ بإسناده عن مَخْلَد بن الحُسين قال: سمعت هشامًا يذكر عن الحسن قال (¬2): مات هَرِم بن حيَّان في غَزاة له في يوم صائف، فلما فُرغَ من دفنه جاءت سحابةٌ، فرشَّت القَبْرَ حتى تَرَوَّى، ولا يُجاوزُ القبرَ منها قطرةٌ واحدةٌ، ثم عادت عَوْدَها على بَدْئِها. وروى ابن سعد أيضًا عن قتادة قال: أُمطر قبرُ هَرِم بن حيَّان من يومِه، ونبت العشبُ من يومِه. وذكره جَدّي في "الصفوة" وقال: لا يُعرفُ لهرمٍ مسندٌ أصلًا (¬3). قلت: وقال ابن سعد في "الطبقات": كان لهرمٍ فَضلٌ وعبادةٌ. روى عنه الحسنُ البصريُّ، وكان ثقةً (¬4). وقال هشام: روى عنه الحسنُ البصري وابنُ سيرين وغيرُهما (¬5). ¬

_ (¬1) الخبر في "الزهد" لأحمد ص 282، و"صفة الصفوة" 3/ 214 عن مطر الوراق. (¬2) "طبقات ابن سعد" 9/ 133. ووقعت العبارة في (م) بلفظ: وقال ابن سعد بإسناده عن الحسن قال ... (¬3) صفة الصفوة 3/ 215. ووقع في (م): لا نعرف لهرم ... (¬4) الطبقات 9/ 131. (¬5) لم ترد هذه الفقرة في (م).

السنة السابعة والأربعون

السنة السابعة والأربعون قال الواقدي: وفيها عَزلَ معاويةُ عبدَ الله بنَ عَمرو بن العاص عن مصر، وولَّاها معاويةَ بنَ حُدَيْج، فمرَّ به عبدُ الرحمن بنُ أبي بكر الصديق وقد قَفَل من الإسكندرية، فقال له: يا ابن حُدَيْج، لقد أَخَذْتَ من معاوية جَزاءَك حين قتلتَ محمدَ بنَ أبي بكر، إِنَّما فعَلْتَ ذاك لهذا، فقال: ما قتلتُه إلا لِما صنع بعثمان، فقال عبد الرحمن: لو كان كما قُلْتَ لَما كُنتَ أوَّلَ مبايعٍ معاويةَ بعد التحكيم، لأنك لو طلبتَ دمَ عثمان لم تَشْرَكْهُ فيما صنع (¬1). وفيها بعثَ زيادٌ الحَكَمَ بنَ عمرو الغِفاريَّ إلى خُراسان، فغزا جبال الغَوْر، فأَصابَ غنائمَ كثيرةً، فلما قَفَلَ الحَكَمُ من غَزاتِه مات بمرو. كذا قال الطبري (¬2). وذكر ابنُ سعد أته مات سنة خمسين (¬3)، وسنذكره هناك. وفيها سار عبد الله بن سَوَّار العبدي إلى قِيقان في بلاد التّرك، فأَوغل فيها من غير دليل، ففتح حصونًا كثيرة، وغنم أموالًا عظيمة، ثم رجع وقد كمن له التركُ في المضايق، فقتلوه، وأخذوا ما كان معه (¬4). واختلفوا فيمن حجَّ بالناس، فقال الواقديُّ: عتبة بن أبي سفيان، وقال هشام: عنبسة بن أبي سفيان (¬5). وفيها توفي قيس بنُ عاصم ابنِ سِنان بن خالد بن مِنْقَر بن عُبيد بن مُقاعِس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ذكره ابنُ سعد (¬6) في الطبقة الرابعة مِمَّن أسلم من العرب، ورجع إلى بلاد قومِه، وكُنيتُه أبو علي، وقيل: أبو قَبِيصة. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 229. ومن قوله: فمرَّ به عبد الرحمن بن أبي بكر ... إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬2) المصدر السابق 5/ 229 - 230. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 370. (¬4) ينظر "تاريخ دمشق" 9/ 378 (مخطوط دار البشير). (¬5) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 230. (¬6) في "الطبقات" 6/ 161، وذكره أيضًا 9/ 35 فيمن نزل البصرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم ترد هذه الترجمة في (م).

وقد ذكرنا أنه وفد عدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأكرمه وأجازه وقال: "هذا سيِّدُ أهلِ الوَبَر". وقال هشام: كان جَوادًا حليمًا، وإليه انتهى الحِلْمُ في زمانه. حدَّثنا عبد الوهَّاب بنُ علي الصوفيّ بإسناده عن أبي عثمان المازني قال: سمعتُ الأصمعيَّ يقول: سمعتُ أبا عمرو بنَ العلاء يقول: قيل للأحنف بنِ قيس: مِمَّن تعلَّمْتَ الحِلْمَ؟ قال: من قيس بن عاصم، بينا نحن جلوسٌ عنده إذ جاءت خادمٌ بسَفُّودٍ (¬1) فيه شِواء، وبين يديه ولدٌ صغيرٌ له، فوقع السَّفُّود من يَدها على الولدِ، فَنَشَّ (¬2) ومات، فبُهتت الجاريةُ، فقال لها قيس: لا بَأْسَ عليكِ، أَنْتِ حرَّةٌ لوجه الله تعالى (¬3). وبالإسناد عن أبي عمرو بن العلاء قال: قيل للأَحنفِ بن قيس: مِمَّن تعلَّمْتَ الحِلْمَ؟ قال: من قَيس بن عاصم: بَينا نحن جلوس عنده وهو قاعد مُحْتبٍ بفِناءِ بيتِه بكِسائِه، إذ جاء جماعةٌ قد أقبلوا وفيهم مقتول وآخَرُ مكتوف، فقالوا: هذا ابنُك مقتول، قتله ابنُ أَخيك، وهو المكتوف، قال: فوالله ما حلَّ حَبْوَتَه، ولا قطعَ كلامه حتى فرغ منه، ثم التفت إلى ابنٍ له فقال: وارِ أخاكَ، واحمل إلى أُمِّه مئةً من الإبل، فإنَّها غريبة، وأطلق ابنَ عمِّك، ثم قال لابنِ أخيه: قَطَعْتَ رَحِمَك، وقَلَّلْتَ عددَكَ، فلا أَبعد الله غيرك. ثم قال: إني امرؤٌ لا شائنٌ حَسَبي ... دَنَسٌ يُغَيِّرُه ولا أَفْنُ من مِنْقَرٍ في بيتِ مَكْرُمَةٍ ... والغُصْنُ يَنْبتُ حوله الغُصْنُ خُطباءُ حين يقولُ قائلهم ... بيضُ الوجوه أَعِزَّةٌ لُسْنُ لا يَفْطَنُون لِعيبِ جارهمُ ... وهُمُ لِحُسْنِ جوارِه فُطْقُ وقد ذكرنا أنه مِمَّن أَسلمَ من العرب، ورجع إلى بلاد قومه (¬4). ¬

_ (¬1) السَّفُّود، بوزن التَّنُّور: الحديدة التي يُشوى بها اللحم. (مختار الصحاح). (¬2) أي: جفَّ وذهب ماؤه. (¬3) ينظر "المستطرَف من كل فنّ مستظرف" 1/ 261. (¬4) ينظر "عيون الأخبار" 1/ 286 - 287، و"العقد الفريد" 2/ 277، والشعر بنحوه في الحماسة 4/ 1584. بشرح المرزوقي. وقال في شرحه: الأفْنُ: أصله في استخراج اللبن من الضَّرْع حتى يخلو منه، ثم قيل: أَفِنَ الرجل، فهو مأفون: إذا زال عقله. وقوله: مِن مِنْقَر، أي: من بني مِنْقَر، واللُّسْن: جمع لَسِن، وهو الذي تناهى في البلاغة والفصاحة، والفُطْن: جمع فَطِن.

وقال ابن سعد بإسناده عن خليفة بن الحُصين، عن (¬1) قيس بن عاصم، أنه أسلم، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماءٍ وسِدْر. قلت: وبهذا الحديث يحتجُّ أحمد بن حنبل على وجوب الغُسل على الكافر. وعندنا في الفقهاء لا يجب، والأمرُ للاستحباب. وعامَّة الصحابة أسلموا ولم يغتسلوا. وقال الشعبيُّ وابنُ سعد (¬2): كان قيسٌ قد حرَّم على نَفْسِه الخَمْرَ في الجاهلية، وسببُه أنَّه سَكِر ليلةً، فعبث بذي مَحْرَم له، فهربَتْ منه، فلما أفاق أخبره أهلُه بما صنع، وحرَّم الخمرَ على نَفْسِه وقال: رأَيتُ الخمرَ مُصلحةً وفيها ... مقابحُ تفضحُ الرجلَ الكريما فلا واللهِ أَشربُها حياتي ... ولا أَشفي بها أبدًا سقيما وقال الواقدي: نزل قيس البصرة ومات بها سنة سبع وأربعين. وقال ابنُ سعد (¬3): وهو الذي قيل فيه: فما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ ... ولكنَّهُ بُنيانُ قومٍ تَهَدَّما ذكر ابن سعد هذا البيتَ لا غير، وهو بعضُ أبياتٍ أوَّلُها: عليك سلامُ الله قيسَ بنَ عاصمٍ ... ورحمتُه ما شاءَ أن يترحَّما تحيَّةَ من أولَيتَه منك نعمةً ... إذا ذُكِرتْ أَمثالُها تملأُ الفَما وما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ ... ولكنَّه بنيانُ قومٍ تهدَّما تحيَّةَ من أَلبَسْتَه منك نعمةً ... إذا زارَ عن شَحْطٍ بلادَك سلَّما قلت: والأبياتُ في الحماسة، وهي لعَبْد بنِ الطبيب (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): بن. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 9/ 35 - 36. وهو في "المسند" (20611). (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 161. (¬3) المصدر السابق. (¬4) الأبيات الثلاثة الأولى في "المنتظم" 5/ 222، وجاء في "الحماسة" شرح المرزوقي 2/ 790 - 791، ثلاثة أبيات، جاء الأول والثالث منهما باللفظ الذي ذكره المصنف، وأما صدر الثاني فهو: تحيةَ من غادرتَه غرض الردى. وجاء أيضًا في "عيون الأخبار" 1/ 287 ثلاثة أبيات، وقد ورد الشطر الثاني للبيت الثاني في شعر عمرو بن العاص في مخاطبته لعمارة بن الوليد لما خرجا إلى النجاشي، وسلف ص 35 في السنة الثانية والأربعين في ترجمة عمرو. وينظر أيضًا "الوافي بالوفيات" 24/ 286 - 287.

وقال ابنُ سعد: حدثنا خلَّاد بن يحيى، عن سفيان الثوريّ قال: حدَّثني أسلم، عن رجل، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لقيس بن عاصم: "هذا سَيِّدُ أَهلِ الوبَر". وقال ابن سعد بإسناده عن مطرِّف، عن حكيم بن قيس بن عاصم قال: أوصى [قيس بن عاصم] بنيه عند موته فقال: يا بَنِيَّ، سوِّدُوا عليكم أكْبَرَكُم، فإن القومَ إذا سوَّدوا أكبرهم خَلَفُوا آباءهم، وإذا سوَّدوا أصغرَهم أَزْرى بهم عند أكفائهم، وعليكم بالمالِ واصطناعِه، فإنه مَأْبَهَةٌ للكريم، ويُسْتَغْنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألةَ الناس، فإنَّها من أَخِرِ مكسبة الرجل (¬1)، ولا تنوحوا عليَّ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُنَحْ عليه، ولا تدفنوني حيثُ تشعر بي بكر بن وائل، فإني كُنْتُ أُغاولُهم في الجاهلية. قلت: أما قولُه: سوِّدوا أكبركم، فهذا على شرطِ أن يكونَ أهلًا للسؤدد، سالكًا مسلَكَ أبيه في الحلم والجودِ ومكارمِ الأخلاق، وكم من صغيرٍ أمثلُ من كبير؛ قال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيمَانَ} [الأنبياء: 79]. وقوله: قد كُنتُ أُغاولهم في الجاهلية، قد ذكرنا بعضَ واقعاته في صدر الكتاب في أيام العرب. وقال هشام: لما احتُضِر قيس؛ بكى، فقيل له: ما يُبكيك؟ فقال: أَخافُ أن يموتَ الحِلْمُ بعدي. وقيس بن عاصم من شعراء الحماسة (¬2). أَسند قيسٌ الحديثَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وليس في الصحابة من اسمُه قيس بن عاصم سوى رجلين؛ أحدهما هذا، والثاني أسدي، وله رؤية، وليس له رواية (¬3). ¬

_ (¬1) أَخِر، أي: أدنى وأرذل، ونقل محقق "الكامل" للمبرد 1/ 273 زيادة عن إحدى نسخ الكتاب أن لفظة "أَخِر" بقصر الهمزة لا غير، وأن من رواه بالمدّ فقد أخطأ. (¬2) ينظر "الحماسة" 4/ 1584 (بشرح المرزوقي). (¬3) ينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 243 و 306.

السنة الثامنة والأربعون

وقد أخرج أحمد في "المسند" لقيس بن عاصم صاحب هذه الترجمة حديثَين: أحدهما الذي رويناه عن ابن سعد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمره لَمّا أسلم أن يغتَسِل بماءٍ وسِدْر. أخرجه أحمد عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن الأَغرِّ، عن خليفة؛ وذكره (¬1). والثاني: قال أحمد بإسناده عن شعبة بن التَّوْأَم، عن قيس بن عاصم، أنه سأَل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحِلْف، فقال: "ما كان في الجاهلية فتمسَّكوا به، ولا حِلْفَ في الإسلام" (¬2). السنةَ الثامنة والأربعون فيها غزا عقبةُ بن عامرٍ الجُهَنيّ في البحرِ بأهلِ مصر، فأوغل في الجزائرِ، فغَنِم وسَلِم، وشَتَا أبو عبد الرحمن القَيْنيُّ (¬3) بأنطاكية. وقال الطبريّ (¬4): وفيها بعثَ زيادُ بنُ أبيه غالبَ بنَ فَضَالة الليثيَّ على خُراسان، وكانت لغالب صحبةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وقلَّد جَدِّي رحمه الله الطبريَّ في هذا، وهو وَهْم (¬5)؛ فإنه ليس في الصحابةِ من اسمه غالب بن فَضالة. وجُملةُ من اسمه غالبٌ من الصحابة اثنان: غالب بن أَبجر المُزَنيُّ، ويقال: غالب بن دِيخ (¬6). والثاني: غالب بن عبد الله بن مسعر بن جعفر الليثي، وكلاهما له صحبة ورواية، ذكرهما جَدِّي في "التلقيح" ولم يذكر من اسمُه غالب بن فَضالة (¬7). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (20611)، وخليفة: هو ابنُ حُصين بن قيس بن عاصم، وروى الحديث عن جدّه. (¬2) مسند أحمد (20613). ولم ترد ترجمة قيس بن عاصم في (م). (¬3) في (خ) و (م)، و "المنتظم" 5/ 223: القيسيّ، وهو خطأ، وهو من بني القَيْن، ويقال: عبد الرحمن، له ترجمة في "تاريخ دمشق" في الأسماء وفي الكنى، وينظر "تاريخ خليفة" ص 208 - 209 و "الإصابة" 11/ 245 - 246. (¬4) في "تاريخه" 5/ 231. والكلام السالف فيه. (¬5) المنتظم 5/ 223. (¬6) بعده في "التلقيح" ص 240. ويقال: ابن دريح. (¬7) التلقيح ص 240. وذكر الذهبي غالب بن فضالة في "التجريد" 2/ 1 وقال: لعله غالب بن عبد الله بن مسعر لأن شأنه شبيه بشأنه. وينظر "الإصابة" 8/ 51 - 52. ومن قوله: وقال الطبري: وفيها بعث زياد ... إلى هذا الموضع ليس في (م).

السنة التاسعة والأربعون

وحجَّ بالناس في هذه السنة مروان بنُ الحَكَم بالاتفاق وهو خائف أن يعزلَه معاويةُ؛ لأنه كان قد تغيَّر عليه. وقال جَدِّي رحمه الله في "المنتظم": ولا نعلمُ أحدًا ماتَ من الأكابر في هذه السنة (¬1). قلتُ: وقد قال الهيثم: إن الحسن بن علي - عليه السلام - مات في هذه السنةِ لِما نذكر في ترجمته. وكذا المغيرةُ بن شعبة؛ فإن الطبريَّ قال: قد قيل إن هلاكه كان في سنة تسع وأربعين، وسنذكره، كذا قيل عن جماعة، والله أعلم. السنة التاسعة والأربعون فيها غزا يزيد بن معاوية الرومَ، ووصل إلى القسطنطينية، ومعه ابنُ عباس، وابنُ عمر، وابنُ الزبير، وأبو أيوب الأنصاريُّ. وفيها غزا يزيدُ بن شجرة الرُّهاويُّ في البحرِ بأهل الشام، وشَتا هناك. وغزا عقبةُ بنُ نافع البحر من مصر، وأقام أيامًا، وقيل: شَتا بالبحر. وفيها عزل معاوية مروانَ بنَ الحكم عن المدينة في ربيع الأوَّل، وولَّى عليها سعيدَ بنَ العاصِ، فاستقضى سعيدُ بنُ العاص أبا سلمةَ بنَ عبد الرحمن، وكان مروان قد استقضى على المدينةِ عبدَ الله بنَ الحارث بن نوفل، فعزله سعيد (¬2). وحجَّ بالناس سعيدُ بنُ العاص بالاتفاق، وهو أمير على المدينة. وفيها توفي أُهْبان بنُ الأكوع وكنيتُه أبو عقبة، ذكره ابنُ سعد في الطبقة الثالثة من المهاجرين؛ قال (¬3): وهو مُكَلِّمُ الذئب في رواية هشام بن محمد بن السائب. ¬

_ (¬1) المنتظم 5/ 223. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 232. (¬3) في "الطبقات": 5/ 214.

قلت: وقد اختلفوا في اسم مكلِّم الذئب، فقال هشام: اسمه أُهبان بن الأكوع. وحكى ابن سعد عن الواقديّ (¬1) قال: مكلِّمُ الذئب اسمُه اهْبان بن أَوس الأسلميّ، وكان يسكنُ يَيْنَ (¬2)، وهي بلادُ أسلم، فبينما هو يرعى غنمًا، بحَرَّة الوَبَرَة (¬3)؛ فعدا الذئبُ على شاةٍ منها، فأخذَها منه، فَتَنَحَّى الذئب، وأقعى على ذَنَبِه وقال: ويحك، لِمَ تمنعُ مني رزقًا رزقَنيه الله؟ ! فجعل أُهْبانُ يُصَفِّقُ بيديه ويقول: تاللهِ ما رأَيتُ أَعجبَ من هذا، فقال الذئبُ: إنَّ أعجبَ من هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات، وأَومأَ إلى المدينة، فحدر أُهبانُ غنمه إلى المدينة، وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فحدَّثَه الحديث، فعجب لذلك، وأمره إذا صلَّى العصرَ أن يُحدِّثَ به أصحابَه، ففعل، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ في آيات تكون قبل الساعة" (¬4). قال: وأسلم أُهْبان، وصحبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان يُكنى أبا عُقبة، ثم نزل الكوفةَ، وابتنى بها دارًا في أسلمَ، وتوفي بها في خلافة معاوية بن أبي سفيان وولاية المغيرة بن شعبة. هذا صورة ما حكى ابن سعد عن الواقديّ. وحكى ابنُ سعد أيضًا عن عبد الله بن محمد بن الأشعث أنَّه قال: أنا أعلمُ بهذا من غيري، مُكَلّمُ الذئب اهبان بن عِياذ (¬5) بن ربيعة بن كعب بن أمية بن يقظة بن خُزَيمة بن سَلامان بن أسلم بن أفصى. ¬

_ (¬1) الطبقات 5/ 214. (¬2) يَيْن: ناحية من أعراض المدينة، على بريد منها، وهي منازل أسلم بن خزاعة. وقيل: "يَيْن" موضع على ثلاث ليال من الحيرة، وقيل: "يَيْن" في بلاد خزاعة. معجم البلدان 5/ 454. (¬3) بثلاث فتحات، وقد تسكّن الباء؛ على ثلاثة أميال من المدينة. معجم البلدان 2/ 250. (¬4) الخبر في "طبقات" ابن سعد 5/ 214، من قول الواقدي، وهو متروك، لكن في الباب في هذا المعنى عن أبي هريرة عند أحمد (8963)، والبخاري (2324)، ومسلم (2388). (¬5) في (خ) (والكلام منها) و"الطبقات" 5/ 214: عبَّاد، والمثبت من "أسد الغابة" 1/ 163. وينظر "توضيح المشتبه" 6/ 73 - 74.

وذكر جدّي رحمه الله في "التلقيح" من اسمه أُهْبان أربعة (¬1)، فقال: أُهْبان بن الأكوع أبو عقبة، والثاني: أُهْبان بن أَوس الأسلمي، والثالث: أُهْبان بن صَيفي الغِفاريُّ أبو مسلم، والرابع: أُهْبان بن عِياذ الخُزاعي مُكلّمُ الذئب. قال: وقيل: إن مكلِّم الذئب أُهْبان بن أوس. هذا صورةُ ما حكى جدّي، ولم يذكر في الرواة من اسمُه أُهبان بن صيفي (¬2). فالحاصلُ أن مُكلِّمَ الذئب على رواية هشام بن محمد أُهبان بن الأكوع صاحبُ هذه الترجمة، وعلى قول الواقديّ هو أُهبان بن أَوس الأسلميّ، وقد حكاه جَدِّي في "التلقيح" في أحد القولين. على قول عبد الله بن محمد بن الأشعث هو أُهْبان بن صيفيّ الغِفاريّ (¬3)، فإنه أَخرج له حديثًا واحدًا، فقال أحمد: حدثنا رَوْح، عن عبد الله بن عُبيد الدِّيلي، عن عُدَيْسَة (¬4) بنت أُهبان بن صيفي، أن عليًّا - عليه السلام - أتاه في منزله بالبصرة حتى قام على باب حُجْرتِه وكان مريضًا أفاق من مرضِه، فقال له عليٌّ: السلام عليك أبا مسلم، كيف أنَتَ؟ فردَّ السلامَ وقال: بخير، فقال عليّ: ألا تخرجُ معي [إلى] هؤلاءِ فتُعينَني عليهم؟ فقال: بلى، إدْ رَضِيتَ [بما أُعطيك]، قال: وما هو؟ فقال الشيخُ: يا جارية، [هاتِ سيفي، فأخرجت إليه غِمدًا، فوضعته في حِجْرهِ، فاستلَّ منه طائفةً] ثم رفع رَأْسَه إلى عليّ فقال: إنَّ خليلي وابنَ عمِّك عَهِدَ إِفيَ عهدًا: إذا كانت فتنةٌ بين المسلمين أَتَّخذُ سيفًا من خشب، فهذا سيفي، فإن شئتَ خرجتُ به معك، فقال علي: لا حاجةَ لنا فيك ولا في سيفِك. ثم رجع عليٌّ - عليه السلام - من باب الحجرة ولم يدخل (¬5). وقد ذكرنا هذا الحديثَ فيما تقدَّم (¬6). ¬

_ (¬1) يعني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رآه، والكلام فيه ص 164. (¬2) كذا في (خ)، ولم يذكر ابن الجوزي في "التلقيح" ص 285 في الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّن اسمه أهبان إلا أُهبان بن صيفي. (¬3) كذا في (خ). (والكلام منها) وقد سلف من قول ابن الأشعث أنه أُهبان بن عياذ. ولعل في الكلام سقطًا. (¬4) في (خ): حدثنا رَوْح بن عبيد الله ... عن عائشة، والتصويب من "مسند" أحمد (20670). (¬5) مسند أحمد (20670)، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬6) من قوله: وحكى ابن سعد أيضًا عن عبد الله بن محمد بن الأشعث ... إلى هذا الموضع، ليس في (م).

الحسن بن علي بن أبي طالب

وفيها توفي الحسن بن علي بن أبي طالب ذكره ابنُ سعد في الطبقة الخامسة مِمَّن قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهم أَحداثُ الأسنان، ولم يَغْزُ واحدٌ منهم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد حَفِظَ عامَّتُهم ما حدَّثوا [به] عنه، ومنهم من أدركه ورآه ولم يُحَدِّثْ عنه شيئًا (¬1). وكنيتُه أبو محمد، وأُمُّه فاطمةُ بنت رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا مولده في السنة الثالثة وما يتعلَّقُ به من تسميته، وحَلْقِ رأسِه، والذَّبْح عنه، ونحو ذلك. ذِكْرُ بَعْضِ مناقبه: قال أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن جعفر بإسناده عن البراء بن عازب قال: رأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم واضعًا الحسنَ بنَ عليّ على عاتقِه وهو يقول: "اللهمَّ إني أُحبّه فأَحِبَّه، وأَحِبَّ من يُحِبُّه". متَّفق عليه (¬2). وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة قال: خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق بني قينقاع، فجلس بِفِناء بيت فاطمة، ثم قال لي: "أَي لُكَع (¬3)، ادعُ لي الحسنَ" فجاء الحسنُ وفي عُنُقِه السِّخابُ، فالتزمه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده وقال: "اللهم إني أُحبُّه فأَحبَّه". وذكر الحديث. قال أبو هريرة: فما كان عندي أَحبَّ إليَّ من الحسنِ بعد ما قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما قال. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 320 و 352. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) هو في "مسند" أحمد (18577)، و"صحيح البخاري" (3749)، و"صحيح" مسلم (2422) دون قوله: "وأحبَّ من يحبُّه" فهو في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة الذي سيذكره المصنف بعده. (¬3) كذا في (خ) (والكلام منها)، وفي "صحيح البخاري" (5884): أين لكع؟ وفيه أيضًا (2122) وفي "صحيح مسلم" (2421): (57): أثمَّ لكع؟ وسيذكرها المصنف.

وفي رواية في هذا الحديث: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جلسَ بفِناء بيتِ فاطمة قال: "أَثَمَّ لُكَع؟ " فحبسته فاطمةُ شيئًا، فظننتُ أَنها تُلبسُه سِخابًا، أوتُعسِّلُه، فجاء الحسنُ يشتَدُّ. وذكره. السِّخَاب: القِلادةُ .. ولفظة "لُكَع" على وجهين: أحدُهما أنه يُقال للصبيِّ الصغير، وقد ذكرها الجوهريّ فقال: وفي حديث أبي هريرة: "أَثَمَّ لُكَع" يعني الحسنَ أو الحُسين. والثاني يقال لقليل العلم؛ قاله أبو عُبَيد. فإِن كان الخطاب للحسنِ فقد عُلِمَ ذلك، وإن كان بمعنى قلَّةِ العلم؛ فيكون قولُه صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة على وجه المُداعبة. وأخرج ابن سعد بمعناه عن أبي هريرة (¬1)، وفيه أن أبا هريرة قال: ما رأيتُ الحسنَ إلا فاضت عيناي، وذكره فقال: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من سوق بني قينقاع إلى المسجد وقال: "أَي لُكاع، اُدْعُ لي لُكَعًا" فجاء الحسنُ يشتدُّ، فوقع في حِجْرِه، ثم أدخل يدَه في لحيتِه، وجعل يُدخِلُ فاه في فيه. الحديث (¬2). وللبخاريّ عن أُسامة بن زيد قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقْعِدُ الحسنَ على فَخِذِه اليُمنى، والحسين على فَخِذِه اليُسرى ويقول: "اللهم إني أُحبُّهما فأَحِبَّهما، اللهم إني أَرْحَمُهُما فارْحَمْهما " وقد ذكرناه (¬3). وللبخاري عن عقبة بن الحارث قال: خرجتُ مع أبي بكر - رضي الله عنه - من صلاة العصر بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بليال وعليٌّ - عليه السلام - يمشي إلى جنبهِ، فَمَرَّ بالحسنِ وهو يلعبُ مع الصبيان -أَو الغِلْمان- فاحتمله أبو بكر على رقبته وجعل يقول: وا بأَبي شِبْهُ النبي (¬4) ... ليس شبيهًا بعلي ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 360، وينظر "تاريخ دمشق" 4/ 499. (¬2) من قوله: وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة ... إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬3) في الرواية التي نسبها المصنف للبخاري نظر، فالذي في "صحيح البخاري" (3747) عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأخذه والحسن ويقول: "اللهم إني أُحِبُّهما فأَحِبَّهما". وفيه أيضًا (6003) عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذني فيقعدُني على فخذه، ويُقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمُّهما، ثم يقول: "اللهم ارْحَمْهما فإني أَرْحَمُهُما"، ولم أقف في "صحيح البخاري" على الرواية التي ذكرها المصنف. (¬4) في (خ): بأبي شبه بالنبي. والمثبت من (م).

وعليٌّ يضحكُ (¬1). وقال البلاذري: كانت فاطمةُ تُرقِّص الحسنَ والحسين (¬2) حتى أدخلتهم حُجْرتَه، هذا بين يَدَيه، وهذا خَلْفَه. وللبخاري عن ابن عباس قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ الحسنَ والحسينَ؛ يقول: "أُعيذُكما بكلماتِ الله التامَّة، من كلّ شيطانٍ وهامَّة، ومن كلِّ عينٍ لامَّة". ويقول: "إنَّ أَباكما إبراهيم كان يُعوِّذُ بهما إسماعيلَ وإسحاق" (¬3). التامَّة: التي لا نَقْصَ فيها؛ لأن كلامَ المخلوقين فيه نَقْصٌ، والتامَّات أبلغُ؛ لأنَّها جَمْع. وقد جاء الحديث بها. واللامَّةُ من: أَلْمَمْتُ. والهامَّة: كلُّ نَسَمَةٍ تَهُمُّ بسوء، وأَصلُ لامَّة: مُلِمَّة، وإنَّما قصد اتفاق الألفاظ. ولمُسلم عن عائشة قالت: خرج رسولُ الله صلى الله عليه ذات غداة وعليه مِرْط مُرَحَّلٌ من شعرٍ أسود، فجاء الحسنُ بنُ علي فأَدخله معه، وجاء الحسينُ فأَدخله معه، وجاءت فاطمةُ فأدخلَها، وجاء عليٌّ فأدخله، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)}. [الأحزاب: 33]. انفرد بإخراجه مسلم، ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده عن صفيَّة، عن عائشة - رضي الله عنهما - (¬4). المِرْط: الكِساءُ، المُرَحَّلُ: المُوَشَّى وعليه تصاويرُ الرِّحال، بالحاء المهملة، وروي: الرجس، والرجز (¬5). ¬

_ (¬1) بنحوه في "صحيح البخاري" (3750)، وهذا اللفظ في "مسند" أحمد (40)، و"تاريخ دمشق " 4/ 492 (ترجمة الحسن - رضي الله عنه -). (¬2) بعدها في (م): وتقول ذلك، ولم يرد في هذه النسخة قوله بعده، حتى أدخلتهم ... وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 366. (¬3) صحيح البخاري (3371). (¬4) صحيح مسلم (2424)، وصفيَّةُ الروايةُ عن عائشة: هي بنتُ شيبة. (¬5) لكن قراءة العشرة بالسين لا غير.

وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن عبد الله بن بُرَيدَة عن أبيه ابن الحُصَيب: قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسنُ والحسينُ؛ عليهما قميصان أحمران يمشيان وَيعْثُران، فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: "صدق الله ورسولُه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]؛ نظرتُ إلى هذَين الصَّبِيَّينِ يمشيان وَيعْثُران، فلم أصبر حتى قطعتُ حديثي ورفعتُهما" (¬1). وقال أحمد بإسناده عن عبد الله بن شدَّاد بن الهاد، عن أبيه قال: خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العَشِيّ: الظهر أو العصر، وهو حاملٌ الحَسنَ أو الحُسين، فتقدَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم [فوضعه] ثم كبَّر للصلاة، فصلَّى، فسجد بين ظَهْراني صلاتِه سجدةَ فأطالها، فقال: إني رفعتُ رأسي، فإذا الصبيُّ على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعتُ في سُجودي. فلما قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال الناس: يا رسول الله، إنك سَجَدْتَ بين ظَهْرانَي صلاتِك سَجْدَةً أَطَلْتَها، فظننَّا أنه قد حدَثَ أمر، أو أنَّه يُوحى إليك، فقال: "كلُّ ذلك لم يكن، ولكنَّ ابني ارتحلني، فكَرِهْتُ أن أُعْجِلَه حتى يَقْضِيَ حاجته". أخرجه أحمد في "المسند" (¬2) ولم يخرج لعبد الله بن شدَّاد بن الهاد في "المسندِ" غيرَه (¬3). واسم الهادِ: عمرو بن عبد الله الليثي. ذِكْرُ شَبَهِ الحسنِ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: قد ذكرنا حديث البخاريِّ عن عقبة بنِ الحارث كما روى البخاري. وقال ابن سعد: حدثنا عبد الله بن نُمير، ويزيد بن هارون، ومحمد بن كُناسة الأَسديّ؛ قالوا: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: قلتُ لأبي جُحيفة: رأيتَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، كان أَشْبَهَ الناسِ به الحسنُ بنُ عليّ. متفق عليه (¬4). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (22995). (¬2) برقم (16033)، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬3) كذا قال، وإنما لم يخرّج أحمد في "المسند" لشدَّاد بن الهاد غيره. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 357 - 358، وهو بنحوه عند البخاري (3543) و (3544)، ومسلم (2343).

وللبخاري عن أنس قال: لم يكن أحدٌ أَشبهَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم من الحسنِ بن عليّ (¬1). وقال ابن سعد: حدَّثنا عُبيد الله بن موسى، ومحمد بن عبد الله الأسديّ، ومالك بن إسماعيل أبو غسان النَّهديُّ؛ قالوا: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ، عن عليّ قال: الحسنُ أَشْبَهَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدرِ إلى الرأس، والحسين أَشْبَهَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما كان أسفلَ من ذلك (¬2). وفي رواية: الحسن شَبَهُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من رَأسِه إلى سُرَّتِه، والحسين من سُرَّتِه إلى قَدَمَيه (¬3). ذِكر ما كان يصنعُ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحوه: قال ابن سعد (¬4): حدَّثنا يزيد بن هارون، ومحمد بن بشر العَبْديُّ؛ قالا: حدَّثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدْلَعُ لسانَه للحسنِ بن عليّ، فإذا رأى الصبيُّ حُمرةَ اللسان يَهَشُّ إليه. فقال عُيَينة بن حِصْن: إلا أراك تصنعُ هذا؟ ! إنه ليكون الرجلُ من ولدي قد خرج وجهه وأخذ بلحيته ما أُقَبِّلُه. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَملِكُ إن ينزع الله منك الرحمة". وفي رواية (¬5): "من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ". وفي رواية (¬6): قال عُيَيْنةُ: أَتُقَبِّلُه، ولي عشرةٌ من الولدِ ما قَبَّلْتُ منهم أحدًا! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصنعُ بك إن كان اللهُ نزع منك الرحمةَ؟ ! ". ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3752). (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 358. (¬3) تاريخ دمشق 5/ 19 (ترجمة الحسين - رضي الله عنه -). (¬4) في "الطبقات" 6/ 359. (¬5) هي رواية محمد بن بشر (المذكور في الإسناد قبله) كما في "الطبقات". (¬6) ينظر حديث أبي هريرة وعائشة - رضي الله عنه - في "مسند" أحمد (7121) و (24291) على الترتيب.

وروى ابن سعد عن أبي هريرة أنه لَقِيَ الحسنَ بنَ عليّ، فقال له: اكشف لي عن بطنك حتى أُقَبِّلَ حيث رأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ منك، قال: فكشف له عن بطنه، فقبَّله (¬1). وقال ابن سعد (¬2) بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان حاملَ الحسن بن عليّ على عاتقِه، فقال رجلٌ: نِعْمَ المركبُ ركبتَ يا غُلامُ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ونعم الراكب هو". وقال ابن سعد (¬3) بإسناده عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أَحبَّ الحسنَ والحُسين فقد أَحبَّني، ومن أَبْغَضَهما فقد أبغضني". وقال ابن سعد (¬4) بإسناده عن أبي سعيد الخُدري قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "حسن وحُسَين سيِّدا شبابِ أَهلِ الجنَّةِ". وروى ابن سعد عن جابر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سَرَّه أن ينظرَ إلى سيِّدِ شبابِ أهلِ الجنة؛ فلينظر إلى الحسن". وقد أخرج ابن سعد هذا الحديث من طرق عن أبي سعيد رفعه، وفيه: "الحسنُ والحسينُ سيِّدا أهلِ الجنَّة إلا ابني الخالة: عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا" (¬5). وأخرج عن الفَضْلِ بن دُكَيْن بإِسناده عن مسلم بن يسار قال: أقبل الحسنُ والحسين فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هذان سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّة، وأبوهُما خيرٌ منهما" (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ): فكشف لي عن بطنه فقبَّلته، والمثبت من (م)، وهو الموافق لـ "طبقات" ابن سعد 6/ 359. وذكره البلاذري في "أنساب الأشراف" 2/ 371 بنحوه. (¬2) في "الطبقات" 6/ 359 - 360، وأخرجه أيضًا ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 4/ 512. (¬3) المصدر السابق 6/ 362. (¬4) المصدر السابق، وينظر "مسند" أحمد (10999). (¬5) الطبقات 6/ 363، وما قبله فيه 6/ 362. وهو في "السنن الكبرى" للنسائي (8113) و (8475)، وصحَّحه ابن حبان (6959). (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 363، وأخرجه ابن ماجه (118) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

وقد أخرجه الترمذيّ فقال: حدثنا محمد بن إسماعيل بإسناده عن أبي سعيد الخُدريّ (¬1). وذكره في رواية أبي داود عن عليّ - عليه السلام - قال: أخذ رسولُ الله صلى الله عليه بيدِ حسنٍ وحُسَيْن وقال: "مَنْ أحبَّني وأَحبَّ هذَين وأُمَّهما وأباهما كان معي في الجنَّة" (¬2). اللهم إني أُحبُّهم فأشهد عليّ أني أُحبُّهم. وقال المدائني: كان الحسنُ يجيءُ ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - راكعٌ، فيُفْرِج له بين رِجْلَيه حتى يخرجَ من الجانبِ الآخَر (¬3). وحكى البلاذري عن أبي هريرة قال (¬4): خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى العيدِ والحسنُ معه، فلما كبَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كبَّر الحسنُ، فتبيَّنا السرورَ في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كبَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سبع تكبيرات والحسنُ يُكَبِّرُ، فوقف عند السابعة، وقرأَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، [وركع، ثم قام في الركعة الثانية، فكبَّر النبي - صلى الله عليه وسلم -] وكبَّر الحسنُ معه حتى انتهى إلى خمس تكبيرات، فوقف الحسنُ عندها. فتلك سُنةُ العيد. وأخرج ابن سعدٍ عن الزبير قال: رأَيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فيجيءُ الحسنُ فيركبُ ظَهْرَه، فما يُنْزِلُه حتى يكون هو الذي يَنْزِلُ (¬5). وفي حديث أبي هريرة قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يداعبُ الحسنَ ويقول: "حُزُقَّة حُزُقَّة". وقد رواه أبو نُعيم وقال: الحُزُقَّة: تَقارُبُ الخُطَى، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينامُ على ظهرهِ ويستدعي الحسنَ إليه (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في "سنن" الترمذي بهذا الإسناد، إنما أخرجه (3768) من طرق أخرى عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي أنعُم، عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا بلفظ: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة". (¬2) الحديث في "سنن" الترمذي (3733)، وينظر "مسند" أحمد (576). (¬3) هو في "أنساب الأشراف" 2/ 371 وغيره عن البهيّ مولى الزبير، عن عبد الله بن الزبير. (¬4) الخبر في "أنساب الأشراف" 2/ 376 - 377 عن جابر، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬5) الخبر في "طبقات" ابن سعد 6/ 359 عن البهيّ، عن عبد الله بن الزبير، وليس عن الزبير وهو مطوّل الخبر الذي نسبه المصنّف قريبًا للمدائني. (¬6) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 6/ 500 (ترجمة الحسن - رضي الله عنه -) من طريق أبي نُعيم. ولفظ الخبر: "حُزُقَّة حُزُقَّة، تَرَقَّ عَينَ بقَّة" قال ابن الأثير في "النهاية": الحُزُقَّة: الضعيف الخطو من ضعفه ... وتَرَقَّ، بمعنى: اصعد، وعين بقَّة: كناية عن صغر العين.

وقال أحمد بن حنبل: حدثنا هاشم بن القاسم بإسناده عن معاوية بن أبي سفيان قال: رأَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمَصُّ لِسانَ الحسنِ بنِ عليّ وشَفَتَيه (¬1). وقال ابن سعد بإسناده عن أبي موسى قال: سمعتُ الحسنَ قال: حدَّثنا أبو بَكْرَة قال: لقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على المِنْبر وهو يُقْبِلُ على الناس مرَّةً وعلى الحسن أُخرى ويقول: "إن ابني هذا سيّدٌ، وعسى الله أن يُصْلِحَ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (¬2). وقد ذكرنا هذا الحديثَ في صُلح الحسن لمعاوية. وروى ابنُ سعد عن زيد بن أرقم، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخطبُ، فخرج الحسنُ وعليه بُرْدَةٌ، فعثر فسقط، فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحمله، ووضعه في حِجْرِهِ وقال: "إنَّ الولدَ لفِتْنَةٌ" (¬3). ذِكْرُ بعضِ سيرته: ذكره الموفق رحمه الله في "الأنساب" (¬4) وقال: كان الحسنُ سيِّدًا حليمًا، وَرِعًا عاقلًا، فاضلًا عفيفًا، دعاه وَرَعُه إلى أن تركَ المُلْك في الدنيا رغبةً فيما عند الله وقال: واللهِ ما أحببتُ منذ علمتُ ما يضرُّني وينفعني أن ألِيَ أَمرَ أُمةِ محمد صلى الله عليه وسلم على أن يُهراقَ في ذلك مِحْجَمةُ دم. قال: وكان من أجودِ الناسِ كفًّا، وأسخاهم نَفْسًا، وأحسنِهم كلامًا، وأكثرِهم صوابًا. قال: وقال عمير بن إسحاق: ما سمعتُ من الحسنِ كلمةَ فُحْشٍ سوى مرَّةٍ واحدة؛ قال لرجلٍ كانت بينه وبين الحسين خُصومةٌ: ليس لك عندنا إلَّا ما أَرغمَ أَنفك. فهذه أَشدُّ كلمة سمعتُها منه. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (16848) - وأخرجه من طريقه ابن عساكر 6/ 513 - وفيه: يَمَصُّ لسانه، أو قال: شفته ... وإنه لن يعذَّب لسان، أو شفتان، مصَّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 361، وهو في "صحيح" البخاري (3629). أبو موسى: هو إسرائيل بن موسى، والحسن الراوي عن أبي بكرة: هو البصري. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 373 ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 4/ 511. (¬4) ص 126، واسم الكتاب بتمامه: التبيين في أنساب القرشيين.

ذكر حج الحسن، ومقاسمة ماله لله تعالى، وجوده، وحلمه، وأخبار متفرقة

قال عمير: ما تكلَّم أَحدٌ كان أَحبَّ إِليَّ إذا تكلَّم إلَّا يسكتَ من الحسنِ بن عليّ. قلتُ: وقد ذكره ابن سعد في "الطبقات" (¬1) بإسناده إلى عمير بن إسحاق قال: ما سمعتُ من الحسن كلمةَ فُحشٍ قَطُّ إلا مرَّةَ؛ كان بين حُسين بن علي وعمرو بن عثمان خُصومةٌ في أرض، فعرضَ حسينٌ أَمرًا لم يَرْضَه عمرو، فقال الحسن: ليس له عندنا إلَّا ما أَرغم أَنْفَهُ. قال الموفق (¬2): وكان من المبادرين إلى نُصرَةِ عثمان بنِ عفان والذَّبّ عنه. ثم ذكر صُلْحَه مع معاوية، وجَعَلَهُ من فضائله. وقال المدائني -ورواه ابن سعد عن علي بن محمد- عن إبراهيم بن محمد، عن زيد بن أسلم قال: دخل رجل على الحسن وفي يده صحيفةٌ من معاويةَ يتهدَّدني فيها ويتوعَّدني (¬3)، فقال: لقد كُنْتَ على النَّصَفِ منه، قال: أجَل، ولكني خِفْتُ أن يأتيَ يومَ القيامةِ ثمانون أَلفًا، أو أكثر، كلُّهم تَنْضَح أوداجُهم دمًا، يقول كلُّ واحدٍ منهم: يا ربِّ، فيم أُهريقَ دمي؟ وذكر أبو القاسم بن عساكر (¬4) عن ابن عمر قال: كان للحسنِ والحسين تَعْويذانِ؛ فيهما من زُغْبِ جَناحِ جبريل. ذِكرُ حَجِّ الحسن، ومُقاسمةِ ماله لله تعالى، وجُودِه، وحِلْمه، وأخبارٍ متفرِّقة روى ابن سعد عن الحسن أنه حجَّ خَمْسَ عشرة حَجَّة ماشيًا، وقاسَمَ اللهَ ماله مرَّتين أو ثلاثًا [حتى إنه كان يعطي نعلًا، ويمسك نعلًا، وخرج من ماله لله مرتين] (¬5). ¬

_ (¬1) 6/ 368. (¬2) في "التبيين" ص 127. (¬3) كذا في (خ). وفي "أنساب الأشراف" 2/ 367 - 368، و"طبقات" ابن سعد 6/ 385: يَعِدُ فيها ويتوعَّد. ولم يرد هذا الخبر في (م). (¬4) في "تاريخه" 4/ 515. وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (1746). (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 374؛ وتاريخ دمشق 4/ 525. والكلام بين حاصرتين من (م).

حتى إنه (¬1) حجَّ عشرين حجَّة على قدميه من المدينةِ إلى مكة، والنجائبُ تُقادُ معه ويقول: إني لأستحي من اللهِ أن ألقاه ولم أَمْشِ إلى بَيته. وذكر جَدِّي في كتاب: "التبصرة في الوعظ" (¬2) أن الحسنَ حجَّ خمسًا وعشرين حجَّة ماشيًا. وقال ابن سعيد بن عبد العزيز: سمع الحسنُ رجلًا يقول: اللهم ارزُقْني عشرة آلاف درهم، فبعث بها إليه. وقال ابن سِيرين: كان الحسنُ يُجيزُ بمئة ألف درهم (¬3). وقال ابن سعد عن الواقديّ (¬4): فرضَ عمرُ للحسنِ والحُسينِ لكلِّ واحدٍ منهما خمسةَ آلاف [درهم] بفريضةِ أبيهما مع أهل بدر لقُرْبِهما من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقال مُدْرِكٌ أبو زياد: رأيتُ ابنَ عباس يُمسِكُ بركابِ الحسنِ والحسينِ حتى يركبا، فقيل له: أَنْتَ أكبر منهما! فقال للقائلِ: يا لُكَعُ، أما تدري مَنْ هذان؟ هذان ابنا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّ هذا مِمّا أَنعمَ الله به عليَّ حيث أُمسِكُ لهما رِكابَيهما وأُسوّي عليهما ثيابَهما (¬5). وحكى ابن سعدٍ (¬6) أن عليًّا - عليه السلام - قال لابنه الحسنِ: قُم فاخطُب، فقال: إني أَهابُكَ. فتغيَّب عنه حيث يسمع كلامَه ولا يراه، فخطب الحسنُ خُطبةً بليغة، فقال علي: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)} [آل عمران: 34]. وقال أبو هشام القنَّاد: كنتُ أجلبُ المتاعَ من البصرةِ إلى المدينةِ، فأُبايعُ الحسنَ فيُما كسني، ولعلّي لا أقومُ حتى يَهَبَ عِمامتَه، فأقولُ له في ذلك، فيقول: حدَّثني أبي عن جَدِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المغبون لا محمودٌ ولا مأجور" (¬7). ¬

_ (¬1) في (م): وروى أبو نُعيم الحافظ أنه، بدل قوله: حتى إنه. والكلام في "حلية الأولياء" 2/ 37. (¬2) 1/ 147. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 526 (مصورة دار البشير). (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 407 (في ترجمة الحسين - رضي الله عنه -). وما سيرد فيه بين حاصرتين من (م). (¬5) تاريخ دمشق 4/ 523 (مصورة دار البشير). (¬6) في "الطبقات" 6/ 367، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 4/ 525 - 526. (¬7) تاريخ دمشق 4/ 526.

وروى ابن أبي الدنيا (¬1) قال: قال رجل من أهل الشام: قَدِمْتُ المدينةَ فرأَيتُ رجلًا بهرَني جَمالُه، فقُلْتُ: من هذا؟ قالوا: الحسنُ، فحَسَدْتُ - واللهِ - أباه أن يكونَ له ابنٌ مِثْلُه، قال: فأتيتُه فقلتُ: أنتَ ابنُ أبي طالب؟ فقال: نعم، فنِلتُ منه ومن أبيه، فلم يردَّ عليَّ شيئًا، وقال: أراك غريبًا، فلو استحملتَنا لحملناك، ولو استرفدتَنا لرفدناكَ، ولو استعَنْتَ بنا لأَعنَّاكَ. قال: فانصرفتُ وما في الأرض أحدٌ أَحبَّ إليَّ منه. وقال المبرِّد (¬2): قيل للحسنِ: إنَّ أبا ذَرٍّ كان يقول: الفَقْرُ أحبُّ إليَّ من الغِنَى، والسُّقْم أحبُّ إليَّ من الصحةِ، فقال: يرحم الله أبا ذَرّ، أمَّا أنا فإني أقولُ: من اتَّكَل على حُسْنِ اختيارِ الله لم يتمَنَّ أنه في غيرِ الحالةِ التي اختار الله له. وقال ابن سعد: كان الحسنُ والحسينُ يتختَّمانِ في اليسارِ ويخضبان بالسَّوادِ. وقد روى ابنُ سعدٍ عِدَّة رواياتٍ أنَّهما كانا يخضبان بالسَّواد (¬3). ذِكْرُ بعضِ واقعاته مع معاوية بن أبي سفيان: حكى الهيثم عن الأصمعيِّ قال: قال معاويةُ يومًا في مَجْلسِه: إذا لم يكن [الهاشمي سخيًّا لم يُشْبِهْ حَسَبَه، وإذا لم يكن] الزُّبيريّ شُجاعًا لم يُشْبِهْ حَسَبَهُ، وإذا لم يكن المخزومي تائهًا لم يُشْبِهْ حَسَبَه، وإذا لم يكن الأمويُّ حليمًا لم يُشْبِهْ حَسَبَه. وبلغ الحسنَ فقال: واللهِ ما قصدَ إلا أن يُغْرِيَ بني هاشم بالسخاء، فيحتاجون (¬4) إليه، ويُغريَ بني الزبير بالشجاعة، فيَفْنَوْن (¬5) بالقَتْل، ويُغري بني مخزوم بالتِّيه، فيمقتهم الناس، ويُغريَ بني أُمية بالحِلْمِ، فيُحبّهم الناس. وقال ابن سعد: كان الحسنُ والحسينُ يَقْدمان على معاويةَ ويأخذان جوائزَهُ. ¬

_ (¬1) أخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخه" 4/ 527. (مصورة دار البشير). (¬2) أخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخه" 4/ 530. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 378 - 793. (¬4) كذا في (خ) (والكلام منها) والجادة: فيحتاجوا. وفي "تاريخ دمشق" 4/ 233 (والخبر فيه): فيُفْنُوا أموالهم ويحتاجون إليه. وما سلف بين حاصرتين منه، ولم يرد الخبر في (م). (¬5) كذا في (خ). والجادة: فيَفْنَوا.

وقال أبو اليقظان: اجتمع الحسنُ وابن الزُّبير وأبو معبد (¬1) بنُ عقيل بن أبي طالب عند معاوية، فقال معاويةُ: يا أبا محمد، أبوك أسنُّ أَم الزبيرُ؟ فقال الحسنُ: أبي، ويا قُرْبَ ما بَيْنَهما! فقال عبد الله بنُ الزُّبير: يرحم الله الزُّبير، فقال أبو معبد: يرحمُ الله أميرَ المؤمنين، فإِنه دعا إلى أَمرٍ كان فيه رَأسًا والزُّبير ذَنَبًا وتبَعًا للمرأة، فلما تراءى الفريقان نكص الزبير على عَقِبيه وولَّى مُدْبِرًا، فأَدركه مَنْ ضَرَبَ عُنُقَه، وأخذ سَلَبَهُ، وجاء برأْسِه، وقد استبان الحقُّ. فقال ابن الزُّبير. لو غيرك يا أبا معبد يقول هذا لَعَلِم، فقال له أبو معبد: أَعْرِبْ، فإنَّ الذي تُعَرِّضُ به ليَرْغَبُ عنك. يعني معاويةَ، لأنه كان يُبْغضُ ابنَ الزبير (¬2). وقال أبو اليقظان: اجتمع جماعة عند معاوية من أصحابه: الوليد بن عقبة، وعتبة بن أبي سفيان. وفي روايةٍ: وعمرو بن العاص، والمغيرةُ بن شعبة، وقالوا له: ابعث إلى الحسنِ لنوبِّخَه ونُبكِّتَه، فقال معاويةُ: إنَّها السنةُ بني هاشم، ولا طاقةَ لكم بهم، فألحُّوا عليه، فقال: لا تفعلوا، فإنه لا يقولُ شيئًا إلا صدَّقه الناس، ولا تقولون شيئًا إلَّا كذَّبكم الناس. فقالوا: لا بُدَّ. فأرسلَ إليه، فجاء فجلس، فقال معاويةُ: إنَّ هؤلاء طلبوا أن تحضرَ، فقال الحسنُ: هلّا آذنتموني حتى آتيَ بأعدادهم من بني هاشم؟ ولكني ما أستوحش، إنَّ الله يتولَّى الصالحين. فقال عمرو بن العاص: إنَّ أباك أوَّلُ مَنْ أثار الفِتْنَةَ، وطلب المُلْكَ، فكيف رأيتَ اللهَ صنع به؟ وقال الوليد: يا بني هاشم، كُنتم أَصهارَ عثمان، فبغيتم عليه فقتلتموه، ولقد أردنا أن نقتلَ أباك به، فأقادَنا اللهُ منه، ولو قتلناكَ به لم يكن علينا لومٌ ولا تَبِعَة. وقال عتبة بن أبي سفيان: إنَّ أباك بغى على عثمان، وألَّب عليه حسدًا منه له، وطلبًا للإِمارةِ، فسلبه الله إيَّاها. وقال المغيرةُ كلامًا من هذا الجنسِ، ونال من أميرِ المؤمنين. فنَشَزَ الحسنُ والتفت إلى معاوية وقال: يا معاويةُ: أنتَ سلَّطْتَ هؤلاءِ الفَجَرةَ حتى أسمعوني هذا؟ ! إن [أبي] أميرُ المؤمنين، وابنُ عمِّ سيِّد الموسلين، وأوَّلُ من صلَّى إلى القِبلتين، وبايع ¬

_ (¬1) في "العقد الفريد": 4/ 14 (والخبر فيه بنحوه): سعيد. (¬2) المصدر السابق، ومن قوله: حكى الهيثم عن الأصمعي ... إلى هذا الموضع، ليس في (م).

البيعتين، وأنت وهؤلاء مشركون بمكة -أو بعُرُشِ مكة- وإِنَّه حزَّم على نَفْسِه الشهوات حتى أنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] وأنت يا معاوية ممَّن قال فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لا تُشْبِعه"، وإنه لَقِيَكم يومَ بدرٍ وبيده لواءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بيدك لواءُ الكُفَّارِ، وكُنتَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مع أبيك يومَ أُحدٍ، ويومَ الأحزابِ، والمشاهد كلّها، ولعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أباك في سبعة مواطن، وكُنْتَ معه فيها، وولّاكَ عمرُ الشامَ فخُنْتَه، وولَّاك عثمان فتربَّصْتَ عليه، وكنت تنهى أباك عن الإسلام حتى قُلْتَ: يا صخرُ لا تُسْلِمَنْ طوعًا فتفضحَنا ... بعد الذين ببَدْرٍ أصبحوا مِزَقا لا تركَنَنَّ إلى أمرٍ تُقَلِّدُنا ... والراقصاتِ بنَعْمانٍ به الخَرَقَا (¬1) ثم إنك وَثَبْتَ على هذا الأمر من غير مشورة من المهاجرين والأنصار، وأنت طليق ابن طليق. وأما أنت يا عدوَّ الله يا ابنَ العاص، فكنتَ تهجو رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وتُبالغُ في عداوته، وكُنْتَ عليه في مشاهدهِ كلِّها، وفيك وفي أبيك نزل قولُه تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} (¬2) [الكوثر: 3]، ووُلدْتَ على فراشِ مشركٍ وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر"، وأنت القائل: ولا أنثني عن بني هاشمٍ ... بما السْطَعْتُ في الغيب والمَحْضَرِ وعن عائب اللاتِ لا أنتهي ... ولولا رضي اللاتِ لم نُمْطَرِ وادَّعاكَ خمسةٌ، وغلب عليك أَلْأَمُهم وهو العاص، ثم ألَّبْتَ على عمِّي جعفر عند النجاشي بَغْيًّا على عَمِّي والمسلمين وبني هاشم، فهشم النجاشيُّ أَنْفَكَ، وأَسال دَمَكَ، وردَّك خائبًا خاسرًا، وما زِلْتَ عدوًّا لله ولرسولهِ ولبني هاشم، وأسلمتَ تستُّرًا بالإسلام، وقد بدا منك في نوبةِ صِفِّين وموافقتك لمعاوية وجَعْله لك مِصْرَ طُعمةً ما يدلُّ على نفاقِك وسوءِ باطنك. ¬

_ (¬1) نَعْمَان: وادٍ وراء عَرَفة، والخَرَق: الحَمَاقة. (¬2) ذكر المفسرون أن الآية نزلت في العاص بن وائل، وقيل: في أبي جهل، وحاشا عَمرًا أن يكون قد نزل فيه ذلك. وهذا الكلام وما سبق قبله وما يأتي بعده من المبالغات دليل على وضع القصة على الحسن - رضي الله عنه -.

وأما أنتَ يا فاسق يا ابنَ اليهودي -يعني الوليدَ بنَ عقبة- فلا ألومُك في بُغْضِ أميرِ المؤمنين، فإنه قتلَ أباكَ صَبْرًا، وضربَ قَذالكَ، وأوجعَ ظَهْرَكَ؛ لَمَّا حدَّك في الخمر وصلَّيتَ بالناسِ صلاةَ الفجرِ أربعًا وقلتَ: أزيدُكُم؛ وسمَّاك الله فاسقًا، وسمَّى أميرَ المؤمنين مُؤْمنًا. وأما أنتَ يا عُتْبَةُ، تتهدَّدُني بالقتلِ! هلّا قَتلْتَ الذي وجَدْتَه على فراشِك مُضاجعًا لعِرْسِكَ، ثم أمسكْتَها بعد ذلك حتى قال فيك نَصرُ بن حجَّاج: نبئت عتبة ختانة (¬1) عرسه ... لصداقة الهُذَليِّ من لحيانِ ألفاه معْها في الفراشِ ولم يكن ... فحلَّا فأمسك سرَّةَ النسوانِ لا تعتبر يا عُتبَ نفسك حبّها ... إنَّ النساءَ حبائلُ الشيطانِ وأما أنت يا أعورُ -يعني المغيرة بن شعبة- فعليك بأُمّ جميل التي شاهدك معها أبو بكرة وزياد على الفاحشة، ولولا عنايةُ ابنِ الخطَّابِ بك؛ وإلا رُجِمْتَ كما رُجِمَ قبرُ أبي رِغال (¬2). وأما أنت يا معاويةُ، فواللهِ لا جمعني وإياك مجلسٌ بعد اليوم. ثم قامَ ونفض ثيابه وخرج، فقال معاويةُ: أَلم أنهكم عنه؟ فواللهِ لقد أظلمَتْ عليَّ الدنيا، وليس فيكم خيرٌ بعد اليوم. وقد ذكر طرفًا من هذه الحكايةِ صاحبُ "بيت العلوم" وقال: فلما قام الحسنُ قال معاويةُ: أَمرتكم أمرًا فلم تسمعوا له، وقلت لكم: لا تَبْعَثُنَّ إلى الحسن، أخاف عليكم طولَ لِسانهِ وبُعْدَ مَداه عند إِجْراره الرَّسَنَ: ¬

_ (¬1) كذا في (م). وفي (خ): هباته، ولم يتبين لي. وجاء هذا الشطر في "جمهرة خطب العرب" 2/ 30: نبَّئت عتبة خانه في عِرْسهِ. (¬2) أبو رِغال: هو أبو ثَقِيف، وهو امرؤٌ من ثمود، وكان بالحرم حين أصاب قومه الصيحة، فلما خرج أصابَتْه النقمة التي أصابت قومه. قال الفيروز آبادي في "القاموس": وقول الجوهري: كان دليلًا للحبشة حين توجَّهوا إلى مكة، فمات في الطريق، غير جيّد. وكذا قول ابن سيده: كان عبدًا لشعيب وكان عشَارًا جائرًا ينظر "سنن" أبي داود (3088)، و"صحيح ابن حبان" (6198).

فلما أبيتُم كنتُ فيه كبعضِكم ... وكان خطاني (¬1) فيه غبن (¬2) من الغبنْ فحسبكمُ ما قال مِمَّا علمتمُ ... وحسبي بما أَلقاه في القَبْرِ والكَفَنْ وقال هشام بن محمد: لَمّا ولَّى معاويةُ عتبةَ بنَ أبي سفيان المدينةَ كتب إليه أن امنَع الناسَ من الاختلاف إلى الحسنِ وابن عبَّاسٍ، ففعل، فقال له الحسنُ: علامَ تحولُ بيننا وبين قومٍ عرفوا من حقِّنا ما جَهِلَه ابنُ آكلةِ الأكبادِ وابن رئيسِ الأحزاب؟ وقال هشام بن محمد: قال مروان بن الحكم للحسن: يا أبا محمد، ما أعجل ما أسرعَ الشَّيبُ إلى شارِبِك! وكان معاويةُ حاضرًا، فقال الحسنُ: نعم؛ نحن معاشر بني هاشم طيِّبةٌ أفواهُنا عذبةٌ شفاهُنا، تترشَّفنا النساءُ رَشْفًا فنشيبُ، وأنتم يا بني أُمية أفواهكم مراض فَيَضْمُمْنَ من أنفاسِهِنَّ وأفواهِهن عنكم، ويَمِلْنَ إلى أصداغِكم، ولهذا يُسرعُ إليها الشيبُ دونَ شوارِبِكم. فغضب معاويةُ وقال لمروان: ما أَرَدْتَ إلا هذا (¬3). وقال ابن سعد بإسناده عن أبي رَزِين قال (¬4): خطبنا الحسنُ بنُ علي يومَ جمعة، فقرأ "إبراهيم" على المنبر حتى خَتَمَها. وقال ابن سعد (¬5): جلس إليه رجلٌ والحسنُ يُريدُ أن يقومَ، فقال له: إنك جَلَسْتَ إلينا على حينِ قيام، أفتَأذَنُ لنا؟ وروى ابن سعد أيضًا أنَّ الحسنَ والحسين كانا يقبلان جوائزَ معاوية. وقال ابن سعد بإسناده عن شدَّاب الجُعفيِّ عن جَدَّتِه أُرجوانة قالت (¬6): أقبلَ الحسنُ بنُ عليّ وبنو هاشم خَلْفَه، فقال رجلٌ من أهل الشام من بني أمية: هؤلاء المُقبلون ما أحسنَ هيئتَهم! ثم قامَ فاستقبل الحسنَ وقال له: أنْتَ الحسنُ بنُ عليّ؟ قال: نعم، ¬

_ (¬1) المثبت من (م). وفي (خ): خطا (؟ ). (¬2) في (م): غبنًا. ولم يتبين لي. (¬3) بنحوه في "العقد الفريد": 4/ 20، وفي صحته نظر. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 368. (¬5) المصدر السابق. (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 369، وما قبله منه.

قال: أتحبُّ (¬1) أن يُدْخِلَك اللهُ مدخل أبيك؟ فقال له: ويحك! ومن أين وقد كان له من السوابقِ ما قد سَبَقَ؟ ! فقال الرجلُ: أَدخَلَكَ اللهُ مَدْخَلَه فإنه كافِر وأنت. فتناولَه محمد بن عليّ من خلفِه، فلطمَه لَطْمَةً لَزِمَ الأَرْض، فنشر الحسنُ عليه رِداءً وقال: عَزْمةً مني عليكم يا بني هاشم لتَدْخُلنَّ المسجدَ فَلَتُصَلّنَّ. ثم أخذ بيد الرجل، فانطلق به إلى منزله، فكساه حُلَّةً، ثم خلَّى عنه. وقال ابن سعد (¬2): كان بين الحسن ومروان كلامٌ، فأغلظَ له مروان والحسنُ ساكت، فامتخط مروان بيمينه، فقال له الحسنُ: ويحك، أما عَلِمْتَ أن اليمينَ للوجهِ، واليسارَ للمقعدِ -أو للفَرْجِ- أفّ لك. فسكت مروان. قلتُ: كذا وقعت هذه الروايةُ، وهي وَهْمٌ، لأنَّ اليمينَ إذا كانت للوَجْه فقد أتى مروانُ بالسّنَّة، وكان ينبغي أن تكون الروايةُ أن مروانَ امتخط بيساره. وحكى ابن سعد (¬3) أنَّ الحسنَ والحسين كانا يُصلِّيان المكتوبةَ خَلْفَ مروان. وقال ابن سعد (¬4) بإسناده أن معاوية قال لرجلٍ من أهل المدينة: أَخبِرْني عن الحسن. قال: إذا صلَّى الغداةَ جلس في مُصَلَّاهُ حتى تطلعَ الشمس، ثم يُسانِدُ ظَهْرَهُ، فلا يبقى في مسجدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم [رجل] له شَرَفٌ إلا أتاه، فيُسلّمون عليه، ويجلسون حوله يتحدَّثون، فإذا ارتفع النهار صلَّى ركعتين، ثم نهض، فيأتي أُمهاتِ المؤمنين، فيُسَلِّمُ عليهنّ، فربّما أَتْحَفْنَه، ثم يأتي مَنْزِلَه، ثم يروح، فيصنع مثلَ ذلك، فقال معاويةُ: ما نحنُ معه في شيء. وقال ابن سعد بإسناده عن هشام بن عروة، عن عروة أن أبا بكر - رضي الله عنه - خطب يومًا، فجاء الحسنُ، فصعد إليه المنبر وقال: انزل عن منبر أبي، فقال عليّ كرَّم اللهُ وجهَه: إنَّ هذا لشيءٌ من غير ملأ منّا (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): أحبُّ. والمثبت من "الطبقات". (¬2) المصدر السابق. (¬3) في "الطبقات" 6/ 372. (¬4) المصدر السابق 6/ 373. (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 374. وذكره أيضًا البلاذري في "أنساب الأشراف" 2/ 377.

وقد رواه غير ابن سعد وقال: فبكى أبو بكر وقال: هل أنبتَ الشعرَ على رؤوسنا إلا أبوك. وقال ابن سعد بإسناده عن عمرو الأصمِّ قال (¬1): قلتُ للحسن بن علي: إنَّ هذه الشيعةَ تزعمُ أنَّ عليًّا مبعوثٌ قبلَ يوم القيامة، فقال: كذبوا، واللهِ ما هؤلاءِ بالشيعة، لو علمنا أنه مبعوثٌ ما زَوَّجْنا نِساءَه ولا اقتسمْنا ماله. قلتُ: وهذا يدلُّ على أنَّه خَلَّف مالًا وقد ذكرنا هذا المعنى في ترجمته - عليه السلام -. ذِكرُ وفاته: قال ابن سعد بإسناده عن عمران بن عبد الله بن طلحة قال (¬2): رأى الحسنُ بن علي في منامِه كأنَّه بين عينيه مكتوب: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فاستبشر هو وأهلُ بيته، فقصُّوها على سعيد بن المسيّب فقال: إن صَدَقَتْ رؤياه، فقلَّما بقيَ من أجله. فما بقيَ إلا أيامًا حتى مات. واتفقوا على أنه مات مسمومًا، واختلفوا فيمن سمَّه، فقال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن حسن قال: كان الحسنُ بن علي رجلًا كثير النكاحِ للنساءِ، وكُنَّ قلَّما يَحْظَينَ عنده، وكان قلَّ امرأة تزوَّجها إلا أحبَّتْهُ وضَنَّت به (¬3)، فيقال: إنه سُقِيَ السُّمّ، ثم أفلت، ثم سُقي فأَفلت، ثم كانت الآخِرة، فتوفي فيها، فلما حضرته الوفاةُ قال الطبيب وهو يختلف إليه: هذا رجلٌ قد قَطَّع السُّمُّ أمعاءَه، فقال أخوه الحسينُ: يا أبا محمد، أَخبِرني من سقاك؟ قال: ولمَ يا أخي؟ قال: أقتُله -واللهِ- قبل أن أدفنك، فقال: يا أخي، إنما هذه الدنيا ليالٍ فانية، دَعْهُ حتى ألتقيَ أنا وهو عند الله. فأبى أن يُسَمِّيَه. قال ابن سعد: وقد سمعتُ بعضَ مَنْ يقول: كان معاويةُ قد تلطَّفَ لبعضِ خدمه أن يسقيه سُمًّا. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 379. (¬2) المصدر السابق 6/ 386، وأنساب الأشراف 2/ 396. (¬3) في "الطبقات": وصبت به.

وروى ابن سعد (¬1) أن رجلًا دخل على الحسنِ وهو مريضٌ، فقال له: سَلْني فقال: ما أنا بسائلك شيئًا. ثم قام فدخل كنيفًا له وخرج وقال: أي فلان، سَلْني قَبْلَ أن لا تسألني؛ فواللهِ لقد لفظتُ طائفةً من كَبِدي قلبتُها بعود، وإني قد سُقيتُ السُّمَّ مِرارًا، فلم أُسْقَ مثل هذا قَطُّ. وجاء الحسينُ أخوه فقال: يا أخي، من سقاك؟ وذكر بمعنى ما تقدَّم وقال: إن يكن صاحبي الذي أظنُّ فالله أشدُّ نِقْمَةً، وإلا فوالله لا يُقتل بي بريءٌ. وروى ابن سعد (¬2) أن جَعْدةَ بنت الأشعث بن قيس سَقَتْهُ السُّمَّ؛ فقال: حدَّثنا يحيى بن حمَّادٍ بإِسناده عن أُمِّ موسى أن جَعْدةَ بنت الأشعث بن قيس سقته السُّمَّ، فاشتكى منه شَكاةً، فكان يُوضع تحته طَسْتٌ وتُرفَع أُخرى نحوًا من أربعين يومًا. وقال أبو اليقظان والهيثم بن عديّ: بعث معاوية بن أبي سفيان إلى جَعْدَة بنت الأشعث بن قيس: سُمِّي الحسنَ، ولكِ مئةُ ألف درهم وأُزوّجُك يزيد، فسَمَّتْهُ (¬3)، فلما مات الحسنُ بعثت إليه تستنجز وَعْدَه، فبعث إليها بالمالِ وقال: أما يزيدُ فإني أُحبُّ حياتَه. وقال الهيثم: ولَمّا أَحسَّ الحسنُ بالسُّمِّ قال: لقد عَمِلَتْ شَرْبَتُه وتمَّت أُمنيتُه، واللهِ لا يفي بما وعد، ولا يصدقُ فيما يقول. وقال يعقوب بن سفيان: دسَّ يزيد بن معاوية إلى جَعْدَة بنت الأشعث مالًا وقال لها: سُمِّي الحسنَ وأَتزوّجُك. وقد ذكره جدي رحمه الله في "المنتظم" فقال: حدَّثنا محمد بن عبد الملك بن خيرون بإسناده عن محمد بن سلّام الجُمَحي عن ابن جَعْدة قال: كانت جعدةُ بنت الأشعث بن قيس عند الحسنِ بن علي، فدسَّ إليها يزيدُ بن معاوية: أن سُمِّي الحسنَ وأتزوّجُك، فلما فعلت أرسلت إلى يزيد تطلبُ منه الوفاءَ بعهده، فقال: واللهِ ما كُنَّا نرضاك للحسن، فكيف نرضاكِ لأَنفسِنا (¬4)! ¬

_ (¬1) المصدر السابق 6/ 386 - 387. (¬2) الطبقات 6/ 387. (¬3) بنحوه في "أَنساب الأشراف" 2/ 395. (¬4) المنتظم 5/ 226. وردّ ابن كثير في "البداية والنهاية" 11/ 209 الخبر عن يزيد، وقال: وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى.

وقال أبو اليقظان: لما بلغ معاويةَ موتُ الحسنِ -وكان بالخضراء- كبَّر تكبيرةً سمعها أهلُ المسجد وقال: يا عجبًا للحسن، شَرِبَ شربةً من عسلٍ بماءِ رُومة -بئر بالمدينةِ- فكان فيها حَتْفُه! وقال الهيثم: جزع الحسنُ عند الموتِ جَزَعًا شديدًا، وبكى بكاءً عظيمًا، فقال له أخوه الحسين وكان عند رأسه، يا أخي، ما هذا الجزعُ، وما هذا البكاءُ؟ وإنَّما تَقْدَمُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى عليّ وجعفرٍ وخديجة وفاطمة، وقد قال لك جدُّكَ: "إنك سيِّدُ شبابِ أهلِ الجنة" وقد قاسَمْتَ الله مالك مرَّتين أو ثلاثًا، وحَجَجْتَ خَمْسَ عشرةَ حَجَّةً ماشِيًا، وفعلتَ وفعلتَ. فعدَّد سوابقَه ومكارمَه، وإنَّما أراد تطييبَ قلبه بذلك، فما زاده إلا بكاءً ونحيبًا. ثم قال: يا أخي، ألَسْتُ أقْدَمُ على هَوْل عظيم أو خَطْبٍ جسيمٍ لم أقدم على مثله قَطُّ، ولستُ أدري ما يُفْعل بي. وذكر كلامًا هذا معناه، ثم قال: اخرجوا عني، فالآن تأتيني رُسُلُ ربي (¬1). وذكر الشيخ الموفق رحمه الله قال (¬2): لما احتُضِر الحسنُ بنُ عليّ أوصى الحسينَ أخاه فقال له: يا أخي، اسمع ما أقولُ لكَ واحفظ وَصِيَّتي: إنَّ أباك لَمّا قُبِض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تشوَّف لهذا الأمرِ رجاءَ أن يكونَ صاحبَه، فصُرِفَ عنه إلى غيره، فلما احتُضِر ابنُ أبي قُحافة تشوَّف أن يكون صاحبَه، فصُرِف عنه إلى ابنِ الخطّاب، فلما قُتِل عمر تشوَّفَ أن يكون صاحبَه، فصُرِف إلى ابنِ عفَّان، فلما قُتِل تجرّد أبوك للطلبِ بالسيفِ فلم يُدْرِكْهُ، وأبي الله أن يجعل فينا أهلَ البيتِ النبوَّة أو الخلافةَ والدنيا (¬3)، وإيّاكَ وسفهاءَ أهلِ الكوفةِ أن يستخفُّوكَ، فيُخرجوكَ فيُسْلِموكَ، فتندم ولاتَ حين مناص. وسنذكره عند مقتل الحسين - عليه السلام -. وأنبأنا جَدِّي رحمه الله سماعًا عليه ببغداد في سنة ستّ وتسعين وخمسِ مئة من كتابه المسمّى بـ "الثبات عند الممات " قال: حدَّثنا إسماعيل بن أحمد بإسناده عن ¬

_ (¬1) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 41. (¬2) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 130 بنحوه، وينظر "الاستيعاب" (ترجمة الحسن - رضي الله عنه -). (¬3) في "التبيين": النبوة والخلافة، بدل: النبوة أو الخلافة والدنيا.

سفيان بن عُيَيْنَةَ عن رَقَبة بن مِصْقَلة قال: [لما احتُضر الحسن بن علي قال: ] أخرِجوا فراشي إلى صحنِ الدارِ، قال: [فأخرجوه] فرفع رأسَه إلى السماءِ ثم قال: اللهم إني احتسبتُ نفسي عندك، فإنَّها أَعزُّ الأَنْفُسِ عليَّ (¬1). وفي روايةِ الواقديِّ أنَّه قال: اللهم إنَّها نفسي أَعزُّ النفوسِ عليَّ، وإني لم أُصَبْ بمِثْلها، اللهم فارحم صَرْعَتي، وآنِس في القبرِ وَحْدَتي، وارحم غُربتي. وقال الواقديّ: أوصى أن يُدفَنَ عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمُنِع من ذلك. ذِكْرُ ما جرَى من مَنْعِهِ: قال ابن سعدٍ بإسناده عن أبي حازم قال (¬2): لَمّا احتُضِر الحسنُ قال للحُسين: ادفنوني عند أبي -يعني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم- إلّا أن تخافوا الدماء فلا تُهريقوا فيّ دمًا، ادفنوني في مقابرِ المسلمين. فلما قُبِض تسلَّح الحسين وجمع مواليَه، فقال [أبو هريرة]: أنشُدُك اللهَ ووصيَّةَ أخيك، فإن القومَ لن يَدَعوك حتى تكون بينكم دِماء. قال: فلم يزل به حتى رجع، ثم دفنوه في بقيع الغَرْقَد، فقال أبو هريرة: أَرأَيتُم لو جيء بابنِ موسى ليُدفَنَ مع أبيه فمُنِع، أكانوا قد ظلموه؟ فقالوا: نعم، قال: فهذا ابنُ نبِيِّ الله قد جيء به ليُدفَنَ مع أبيه. وقال ابن سعد بإسناده عن الحسن بن محمد بن الحنفية قال (¬3): لَمّا مَرِضَ الحسنُ بنُ عليّ مرض أربعين ليلةً، فلما استُعِزَّ به (¬4) وقد حضر بنو هاشم وكانوا لا يُفارقونه؛ يبيتون عنده بالليل، وعلى المدينةِ سعيد بنُ العاص، فكان سعيد يعودُه، فمرَّةً يؤذنُ له، ومرَّةً يُحجَبُ عنه، وبعث مروان إلى معاوية يُخبره بثقل الحسن، وكان قد سُقي، فأوصى أن يدفنَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإن حِيلَ بينه وبين ذلك يُدفن عند أُمِّه. ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 7/ 40. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬2) الطبقات 6/ 387 - 388. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 388. (¬4) أي: اشتدَّ عليه مرضُه.

فلما مات ارتجَّت المدينةُ صياحًا، فلا يُلْفى أَحدٌ إِلّا باكيًا، وأبرد مروان بريدًا إلى معاوية يخبره بوفاتِه، وأنهم يريدون دفنه عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يَصِلون إلى ذلك وأنا حي. فانتهى حسينُ بنُ علي إلى قبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقال: احفروا هاهنا. فنكبَ عنه سعيد بن العاص -وهو الأميرُ على المدينة- ولم يَحُلْ بينه وبين ذلك، وصاح مروان في بني أُمية، فلبسوا السلاح، وقال مروان: لا يكون هذا أبدًا، فقال له الحسين: يا ابنَ الزرقاء، ما لك ولهذا؟ أَوالٍ أنتَ؟ ! قال: لا كان هذا أبدًا، ولا خُلِصَ إليه وأنا حيٌّ، فصاح حسين بحلف الفُضول، فاجتمعت هاشم وتَيْمٌ وزُهْرَةُ وأسد وبنو جَعْوَنةَ، ولبسوا السلاح، وعقد الحسينُ لواءً، ومروان لواءً، واجتمع إليه بنو أُمية حتى كان بينهم مُراماةٌ بالنَّبْل، فقام رجالٌ من قريش؛ منهم عبد الله بن جعفر، والمِسْوَرُ بن مَخْرمة بن نوفل، وجعل ابنُ جعفر يقول للحسين: يا ابن عمِّ، أَلم تسمع إلى عهدِ أخيك؟ أُذَكِّرُكَ [الله] وسفكَ الدماء. وقال له المِسْوَرُ كذلك. وذكروا كلامًا طويلًا حاصلُه أنهم حملوه إلى البقيع، فدفنوه فيه، وجاء سعيد بن العاص ليُصلّيَ عليه، فمنعته بنو هاشم وقالوا: أَخوه حُسَينٌ أولى، فما نازعهم سعيد وقال: أنتم أَحقُّ بميِّتكم، فإن قدَّمتموني تقدَّمْتُ، وإلّا فلا، فقال له الحسين: تقدَّمْ، فلولا أنَّ الأَئمَّةَ تُقَدَّمُ ما قدَّمناك. وفي روايةٍ (¬1): لولا أنها سُنَّةٌ ما قدَّمْتُك. وجعل الحسين يطعنُ في منكبِ سعيد بأصبعه، وكان عبد الله بن الزبير في ذلك في حلف الفضولِ مع الحسين. وروى ابنُ سعد عن الواقدي عن أشياخه قالوا: كان مروان معزولًا يومئذ، وإنَّما فعل ما فعل ليُرضيَ معاويةَ، ولم يزلْ مروانُ عدوًّا لبني هاشم حتى مات. وروى ابن سعد أيضًا (¬2) أن عبد الله بنَ عمر قال للحسين: اتَّقِ الله ولا تُثِرْ فِتْنَةً، وادفِنْ أخاك إلى جانبِ أُمِّه، فإنَّ أخاك قد عَهِدَ إليك ذلك. ففعل الحسين. ¬

_ (¬1) الطبقات 6/ 391 - 392. (¬2) في "الطبقات" 6/ 391، وما قبله منه.

وقال ابن سعد: حدثنا محمد بن عمر بإسناده عن راشد، عن حسين بن علي أنه قال -يعني حين قدَّم سعيدَ بنَ العاص للصلاة على الحسن - قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام أولى (¬1) بالصلاة". وقال الموفق رحمه الله (¬2): سأل الحسن عائشةَ أن تأذنَ له أَن يُدفنَ في بيتِها مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأَذِنَتْ له، فمنعه مروان وبنو أُمية، فحُمل إلى البقيع، فدُفِنَ إلى جَنْبِ أُمِّه فاطمة. وكذا قال الزُّبير بن بكَّار؛ قال: استأذن الحسنُ عائشةَ فقالت: قد بقي موضعُ قبرٍ واحدٍ، وأنا أوثرك به. قال: فثار بنو أُمية بالسلاح، فقال الحسنُ: لا حاجةَ لي به، ادفنوني إلى جنب أُمي. فدفنوه إلى جانبِها. قال: وبلغ معاويةَ، فأعجبه، وشكر بني أُمية ومروان على ذلك. وروى ابن سعد عن عائشة خلاف هذا، وسنذكره. وقال ابنُ سعد بإسناده عن جُويرية بن أَسماء قال (¬3): لَما مات الحسنُ بنُ علي أخرجوا جنازتَه، فحمل مروان سريره، فقال له الحسين: تَحمِلُ سريره وقد كُنتَ تُجَرِّعُه الغَيظَ؟ ! فقال مروان: كُنْتُ أفعلُ ذلك بِمَنْ يُوازي (¬4) حِلمُه الجبال. وروى ابن سعد (¬5) عن أبان بن عثمان بن عفَّان أنَّه قال: إنَّ هذا لَهُوَ العجبُ! يُدفَنُ ابنُ قاتلِ عثمان مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، ويدفنُ أَميرُ المؤمنين المظلوم الشهيد ببقيع الغَرْقَدِ! . وروى ابن سعد عن الواقديّ بإسناده عن عبَّاد بن عبد الله بن الزّبير قال: سمعتُ عائشةَ تقولُ يومئذ: هذا الأَمْرُ لا يكون أبدًا، يُدفنُ بالبقيع ولا يكون لهم رابعًا، والله ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 6/ 392: أحقّ. (¬2) في "التبيين" ص 128. ووقع في (م): وقد رواه الموفق رحمه الله، بدل: وقال الموفق رحمه الله. (¬3) الطبقات 6/ 393. (¬4) في "الطبقات" 6/ 393: يوازن. ومن قوله: فقال له الحسين: تحمل سريره ... إلى آخر الخبر، ليس في (م). (¬5) المصدر السابق.

إنَّه لَبَيْتِي، أعطانيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حياتِه، وما دُفِنَ فيه عُمَرُ وهو خليفة إلا بأمري، وما أثرُ علي بن أبي طالب عندنا بحَسَن (¬1). وقال ابن سعد بإسناده عن محرر بن جعفر، عن أبيه قال (¬2): سمعتُ أبا هريرة يقولُ يومَ دُفِنَ الحسنُ بن علي: قاتلَ الله مروانَ؛ قال: واللهِ ما كنتُ لِأَدعَ ابنَ أبي تراب يُدفنُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دُفِنَ عثمان بالبقيع. فقلتُ: يا مروان: اتَّق الله ولا تَقُل لعليٍّ إلا خيرًا، فأشهدُ لقد سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم خيبر: "لَأُعطينَّ الرايةَ رجلًا يُحبُّه الله ورسولُه" الحديث، وأشهدُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حقّ الحسن: "اللهمَّ إني أُحبُّه فأَحِبَّه، وأَحبَّ من يُحِبُّه". فقال مروان: واللهِ إنك قد أكثرتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نسمع منك ما تقولُ، فهلمَّ غيرك يوافِقُك على ما تقول: فقلتُ: هذا أبو سعيد الخُدريُّ، فقال مروان: لقد ضاع حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حيث لا يرويه إلا أَنْتَ وأبو سعيد! أما أبو سعيد فقد كان غُلامًا يومَ مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأما أنْتَ فإنَّما جئتَ من جبالِ دَوْس قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير. وفي رواية ابن سعد أيضًا عن الواقديِّ: فقال أبو هريرة لمروان يومئذ: ما أَنْتَ والٍ، وإنَّ الوالي (¬3) لَغَيرُك، فَدَعْهُ، ولكنك تدخلُ فيما لا يعنيك، وإِنَّما تريدُ بهذا رضا مَنْ هو غائبٌ عنك. فأقبل عليه مروان مُغْضَبًا وقال: قد أكثَرْتَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديثَ الكَذِبَ (¬4)، وإنما قَدِمْتَ قبل وفاتِه بيسير. فقال: يا مروان، قَدِمْتُ سنة سبع بخيبر وأنا يومئذٍ قد زِدْتُ على ثلاثين سنةً، فأَقمتُ معه حتى توفيَ، أَدورُ معه في بيوتِ أزواجِه وأخدمُه، وأُصلّي خلفه، وأغزو معه، وأحجُّ معه، وسمعتُه يلعنُك ويلعن أباك، وأنت طليقٌ بن طليق (¬5). وذكر كلامًا آخرَ، فسكت عنه وصار يتّقيه. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. وسيرد الخبر عن البلاذري بمعنى آخر. (¬2) الطبقات 6/ 394. (¬3) في (خ): وإنما الوالي، وفي (م): وإن الولاية، والمثبت من "الطبقات" 6/ 394. (والخبر منه) وهو المناسب لقوله بعده: لَغَيرُك. (¬4) كلمة: الكذب، ليست في (م). (¬5) قوله: وسمعته يلعنك ... إلى هذا الموضع، ليس في (م) ولا في "الطبقات" 6/ 394، ولا في "أنساب الأشراف" 2/ 397.

وقال هشام: قال أبو هريرة: أتُنافسون ابنَ بنتِ نبيّكم في تربةٍ تدفنوه (¬1) بها، وقد سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أَحبَّه فقد أحبَّني، ومن أبغضه فقد أبغضني". وقال البلاذري: قالت عائشةُ: البيتُ بيتي، ولا آذنُ لأَحدٍ أن يُدفَنَ فيه (¬2). وقال ابن عساكر: كتب مروان إلى معاويةَ يخبرهُ بما فعل ويقول: مال سعيدُ بن العاص مع بني هاشم. فكتب إليه يشكره، وعزل سعيدًا عن المدينة بعد ذلك بثلاث سنين، وولّاها مروانَ بنَ الحكم. وقال أبو اليقظان: وقف محمد بن الحنفية على قبرِ الحسنِ بعد ما دُفِنَ وقال: يا أبا محمد، لئن عزَّت حياتُك لقد هدَّت وفاتُك، ولنِعمَ الروحُ روحٌ عُمِر به بَدَنُك، ولنعمَ البدنُ بَدَنٌ تضمَّنه كَفَنُك، وكيف لا؟ وأنت سليلُ الهدى، وحليفُ أهلِ التُّقى، وخامسُ أصحابِ الكِسا، رُبِّيتَ في حِجْرِ الإسلام، ورضعتَ ثَدْيَ الإيمان، ولك السوابقُ العظمى والغاياتُ القُصوى، بك أصلح الله بين فئتين عظيمتين من المسلمين، ولم تك شَعْثَ الدين، فعليك السلام حيًّا وميتًا [ثم خنقته العبرة] (¬3) ثم قال: أأَدهَنُ رأسي أَم تطيبُ مجالسي ... وخدُّكَ معفورٌ وأنت سليبُ سأبكيك ما ناحت حمامةُ أيكةٍ ... وما اخْضَرَّ في دَوْحِ الرياضِ قضيبُ غريبٌ وأَكنافُ الحجازِ تحوطُهُ ... أَلا كلُّ مَنْ تحت الترابِ غريبُ وقال بعضُ شعراءِ أهل المدينة: تعزَّ، فكم لكَ من سَلْوةٍ ... تُفَرِّجُ عنك غليلَ الحَزَنْ بموت النبيِّ وقَتْلِ الوصيِّ ... وَلِيِّ النبيِّ وسَمِّ الحَسَنْ ولَمّا قُتِل الحسين قال بعضُهم: بموتِ النبيِّ وقَتْلِ الوصيّ ... وقَتْلِ الحسينِ وسَمِّ الحَسَنْ ¬

_ (¬1) كذا في (خ) (والخبر فيها وليس في م)، والجادة: تدفنونه. ولم أقف عليه. (¬2) أنساب الأشراف 2/ 397 وفيه أن عائشة - رضي الله عنه - قالت ذلك لما خافت أن يعظم الشرّ بينهم وتسفك الدماء. وسلف الخبر قريبًا عن ابن سعد بمعنى آخر. (¬3) ما بين حاصرتين من (م).

وقال محمد بن إسحاق: حدَّثني مُساور مولى بني سعد بن بكر قال: رأَيتُ أبا هريرة قائمًا على باب مسجد المدينة يُنادي: أَيُّها الناسُ، مات حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والناسُ يضجُّون. وقال ابنُ سعد عن ثعلبة بن أبي مالك قال (¬1): شهدتُ الحسنَ يومَ مات، فلو طُرِحت إِبرةٌ ما وقعت إلا على إِنسان. ورَوَى أَيضًا عن ابن أبي نَجيح قال: بكى على الحسنِ الرجالُ والنساءُ والصبيان بالمدينةِ سبعًا. وقال ابن سعد: أقام نساءُ بني هاشم عليه النَّوح شهرًا، وحَدَدْنَ عليه سنة (¬2). واختلفوا في سِنِّه على ثلاثةِ أقوال: أَحدُها: ستٌّ وخمسون سنةً، قاله الواقدي. والثاني: ثمانٍ وخمسون. قاله الهيثم. والثالث: خمسٌ وخمسون وأَشهر، ذكره خليفةُ بن خياط، واحتجَّ بقول الحسنِ بن علي فقال: ومارستُ هذا الأمرَ خمسين حجَّةً ... وخمسًا أُزجّي قابلًا بعد قابلِ فلا أنا في الدنيا بلغتُ جسيمَها ... ولا في الذي أَهوى ظَفِرتُ (¬3) بطائلِ وقد أَشرعَتْ فيَّ المنايا سِهامَها ... وأَيقنتُ أني رَهْنُ موتٍ مُعاجلِ (¬4) والقولُ الأوَّلُ أَشهرُ؛ لأَنه موافق لمولده؛ لأنه وُلد في السنةِ الثالثةِ من الهجرة في رمضان، وإنما يظهر هذا في أيِّ سنةٍ مات. واختلفوا في ذلك على أقوال: ¬

_ (¬1) الطبقات 6/ 392. (¬2) المصدر السابق 6/ 392 و 393. (¬3) في (م): علقت. (¬4) الشعر بنحوه في "العقد الفريد" 4/ 20، و "وفيات الأعيان" 2/ 68. ولم أقف عليه عند خليفة.

أحدها: أنه مات في هذه السنةِ، وهي سنةُ تسعٍ وأربعين. قاله الواقديّ، وأبو معشر، وهشام، وعامة المؤرّخين (¬1). والثاني: في سنة ثمانٍ وأربعين؛ قاله الهيثم. والثالث: في سنة خمسين؛ حكاه ابنُ سعد عن حرب بن خالد؛ قال: مات الحسنُ بن علي لخمس ليالٍ خَلَوْنَ من شهر ربيعٍ الأول (¬2) سنة خمسين. وحكى الموفق رحمه الله هذه الأقوال وقال: وقيل في سنة إحدى وخمسين، وثمانٍ وخمسين (¬3)، والله أعلم. ذِكْرُ تعزية معاوية لابن عباس في الحسن: ذكرها ابن سعد، واختلفت رواياتُه فيها: ففي رواية قال: حدَّثنا محمد بن عمر بإسناده عن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: لَمّا جاء نعيُ الحسنِ إلى الشام استأذن ابنُ عباس على معاوية، وكان ابن عباس قد ذهب بصرُهُ، وكان يقول لقائده: إذا دَخَلْتَ بي على معاوية فلا تَقُدْني، فإن معاوية يشمتُ بي. فلما جلس ابنُ عباس قال معاوية: لأُخبرنَّه بما هو أَشدُّ عليه من أن أشمتَ به، فقال: يا أبا العباس، هلك الحسنُ بنُ عليّ. فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون. وعرف ابن عباس أنه شامتٌ به، فقال ابن عباس: أَما واللهِ يا معاوية إنك لا تسدّ حُفْرَتَه (¬4)، ولا يزيد موتُه في عمرك [فتخلدَ بعده] ولقد أُصِبْنا بأَعظمَ فَقْدًا منه، فجبرَ اللهُ مصيبتَنا، فقال معاوية: ما كلَّمْتُ أَحدًا أَعقلَ من ابن عباس ولا أَعدَّ (¬5) جوابًا منه. ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 399. (¬2) في (خ): الآخر، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "الطبقات" 6/ 393. (¬3) لفظه في "التبيين" ص 128: مات الحسن - رضي الله عنه - سنة خمسين، أو تسع وأربعين، أو إحدى وخمسين. (¬4) كذا في النسختين (خ) و (م). وفي "الطبقات" 6/ 395: يا معاوية، لا يسدُّ حفرتك، وهو الصواب. وما سيرد بين حاصرتين من (م). (¬5) في (م): أحدٌ.

وفي رواية ابن سعد (¬1): أن معاوية قال لابن عباس: يا عَجَبًا من وفاةِ الحسنِ! شَرِبَ عسلًا بماءِ رُومة، فقضى نَحْبَه، لا يُحزنك الله ولا يَسوؤك فيه. فقال ابن عباس: لا يسوؤني ما أَبقاكَ الله لي. فأمر له بمئة ألف وكسوة. قال: ويقال: إنَّ معاويةَ قال له: أصبَحْتَ سيِّدَ قومِك، فقال: ما بقي أبو عبد الله، فلا. يعني الحسين. وفي رواية ابن سعد (¬2) أن ابن عباس قال لمعاوية: لا يسوؤني الله ولا يُحزنني ما أبقى لي أميرَ المؤمنين، فأعطاه معاوية ألف ألف (¬3) من بين عَرَضٍ وعَين وقال: اقْسِمْه في أهلك. ذكر أولادِه: قال ابن سعد (¬4): فولدَ الحسنُ بن علي محمَّدًا الأصغر، وجعفرًا، وحمزةَ، وفاطمةَ؛ دَرَجوا، وأُمُّهم أُمُّ كلثوم بنت الفضل بن عباس بن عبد المطلب. ومحمّدًا الأكبر، وبه كان يُكنّى، والحسنَ، وامرأتين هلكتا ولم تبرزا، وأُمُّهم خولةُ بنتُ منظور بن زَبَّان؛ فَزارية. وزيدًا، وأُمَّ الحسن (¬5)، وأُمَّ الخير، وأُمُّهم أُمُّ بشير بنت أبي مسعود عقبة بن عمرو (¬6) الأنصاري. وإسماعيلَ، ويعقوبَ، وجاريتين هلكتا، وأُمُّهم جَعْدة بنت الأَشعث بن قيس الكِنْدي. والقاسمَ، وأبا بكر، وعبدَ الله؛ قُتِلوا مع الحسين، وأُمُّهم أُمُّ ولد تُدعى بُقيلة، ولا بقيَّة لهم. ¬

_ (¬1) الطبقات 6/ 396. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في (خ): مئة ألف ألف! (¬4) الطبقات 6/ 352. (¬5) في (خ): الحسين، والمثبت من (م)، وهو موافق لما في "الطبقات". (¬6) في (م): عمر.

الحسن بن الحسن بن علي - عليه السلام -

وحُسَيْنًا الأَثرمَ، وعبدَ الرحمن، وأُمَّ سلمة، وأُمُّهم أُمّ ولد تُدعى ظَمْياء. وعَمْرًا لأُمِّ ولد، ولا بقيَّة له. وأُمَّ عبد الله، وهي أمُّ أَبي جعفر محمد بن علي بن حسين، وأُمُّها أمُّ ولد، تُدعى صافية. وطلحة، لا بقيَّةَ له، وأُمُّه أُمُّ إِسحاق بنت طلحة بن عُبيد الله بن عثمان التيمي. وعبدَ الله الأَصغرَ، وأُمُّه زينب بنت سُبيع بن عبد الله أَخي جرير بنِ عبد الله البجلي. هذا صورةُ كلام ابن سعد، فعلى قوله كانوا واحدًا وعشرين ولدًا، خمسةَ عَشَرَ ذكرًا، وستَّ بنات (¬1). وقال هشام: كان له خمسةَ عشَرَ ذكرًا، وثلاث بنات، والأوَّلُ [أشهر] (¬2). قلث: فنذكر أعيانَهم: الحسن بن الحسن بن علي - عليه السلام - قال علماء السِّيَر: والحسنُ هذا هو الذي زوَّجه الحسينُ بن علي ابنتَه فاطمة بنت الحسين، ثم تزوَّجها بعد الحسنِ عبدُ الله بن عمرو بن عثمان بن عفَّان، وسنذكرها. وقد ذكره المدائني فقال: كان الحسنُ بن الحسنِ بن علي على صَدَقاتِ جَدِّه عليّ بن أبي طالب بالمدينة، فسأَله الحجَّاج بن يوسف أن يُدخِلَ عُمر بنَ عليّ بن أبي طالب معه في الوصية، فأَبى، وكان الحجَّاج يومئذ على المدينة، فأَغلظَ له، فَقدِمَ الحسنُ على عبد الملك بن مروان، فرحَّبَ به وقال: لقد أَسرع إليك الشيبُ! فقال يحيى بن الحكم بن أبي العاص، وكان حاضرًا: شَيَّبه أمانيُّ أَهلِ العراقِ القادمين عليه في كلِّ موسمٍ يُمَنُّونه بالخلافةِ. فقال الحسنُ: ليس كما قُلْتَ، ولكنَّا أهلُ بيتٍ يُسْرعُ إِلينا الشيبُ. ثم قال له عبد الملك: ما الذي أَقْدَمَك؟ فشكا إليه الحجَّاج، وعرَّفه بما جَرَى بسبب عُمر بن عليّ، فكتب إلى الحجَّاج ينهاه عنه، ويأمره باحترامِه. وقضى حوائجَه ووصلَه. ¬

_ (¬1) كذا قال، لكن عدد المذكورين: ستة عشر ذكرًا وخمس بنات. (¬2) كلمة: أشهر، من (م).

وخرج من عنده، فلقيَ يحيى بنَ الحَكَم، فقال له: ما حملك على ما قُلْتَ؟ فقال: النظرُ لك، واللهِ لولا خَوْفُه منك ما قضى لك حاجَة (¬1). ذِكرُ أولاده: الحسنُ بن الحسن بن الحسن - ثلاث مرات - وعبدُ الله، وإبراهيمُ، وأُمُّهم فاطمة بنت الحُسين بن عليّ - عليه السلام -. وإبراهيمُ (¬2)، ومحمدٌ، وجعفرٌ، وداود، وأُمُّ الحسن (¬3) بنو الحسن بن الحسنِ بن عليّ. وعبد الله بن الحسن [بن الحسن] هو المُشارُ إليه من أولاده، وسنذكره في سيرة أبي جعفر وأيامه، وهو والد إبراهيم ومحمد الخارِجَين على أبي جعفر لِما نذكر. وأما عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب فكان مع عمِّه الحسين بن عليّ يومَ الطُّفوفَ (¬4)، وسَلم من القَتْلِ، وحُمِل إلى دمشق مع السبايا، وكان عابدًا ناسِكًا. وقال البلاذري (¬5): كانت أُمُّ الحسن بنت الحسنِ بن علي عند عبد الله بن الزبير، وأُمها أمُّ بشير بنت أَبي مسعود البَدْريِّ، وأُمُّ عبد الله بنت الحسن بن علي تزوَّجها علي بن الحسين - عليه السلام -. قلت: وقد ذكر ابنُ سعد من أولاد الحسن بن علي في الطبقة الأُولى (¬6) من التابعين من أهل المدينة اثنتين: ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 403، وينظر "نسب قريش" 46 - 47. (¬2) سلف ذكر إبراهيم، ولا معنى لتكراره. (¬3) لم أقف على من ذكر أمَّ الحسن، وذكر مصعب الزبيري في "نسب قريش" 51 - 52 أيضًا من أولاد الحَسَن بن الحَسَن: زينب، وأمّ كلثوم، وفاطمة، ومُليكة، وأمّ القاسم. وسيذكرهم المصنف عن ابن سعد. (¬4) الطُّفوف، أو الطَّف: أرض من ضاحية الكوفة، قُتل فيها الحُسين - رضي الله عنه -. ينظر "معجم البلدان" 4/ 35 - 36. (¬5) في "أنساب الأشراف" 2/ 403. (¬6) بل في الطبقة الثالثة، لا في الأولى. ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 313.

أحدُهما: صاحبُ هذه الترجمة، فقال: حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وأُمُّه خولةُ بنت منظور بن زبَّان بن سيَّار بن عمرو بن جابر بن عقيل بن هلال بن سُمَيّ بن مازن مِن فَزارة. قال: فولدَ حسنُ بنُ حسنٍ محمَّدًا، وأُمُّه رملةُ بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل. وعبدَ الله بنَ حسن؛ مات في سجن أبي جعفر بالكوفة. وحسنَ بنَ حسن؛ مات أيضًا في سجن أبي جعفر. وإبراهيمَ بن حسن؛ مات في السجنِ أيضًا. وزينبَ بنتَ الحسن، تزوَّجَها الوليد بن عبد الملك بن مروان، ثم فارقَها. وأُمَّ كلثوم بنت حسن. وأُمُّهم فاطمةُ بنتُ الحُسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمُّها أُمُّ إسحاق بنت طلحة بن عُبيد الله، من العشرة. وجَعْفَرَ بنَ حسنٍ، وداودَ، وفاطمةَ، وأُمَّ القاسم -وهي قُسَيمةُ- ومُليكةَ، وأُمّهم أمُّ ولد تُدعى حبيبة، فارسية كانت لآل أبي أنس من جديلة. وأُمَّ كلثوم بنت حسن لأُمّ ولد. وقال ابن سعد (¬1) بإسناده عن الفُضيل بن مرزوق قال: سمعتُ الحسنَ بن الحسن يقولُ لرجل مِمَّن يغلو فيهم: ويحكم! أحِبُّونا لله، فإن أطعنا الله فأَحِبُّونا، وإن عصيناه فأَبْغِضونا، فقال له الرجلُ: إنكم قرابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَهلُ بيته. فقال: لو كان اللهُ نافعًا بقرابةِ رسوله أحدًا بغير طاعة الله لنفع بذلك من هو أَقربُ إليه مِنَّا: أباه وأُمَّه، واللهِ إني لأَخافُ أن يُضاعَفَ العذابُ للعاصي مِنّا ضِعْفين، وإني لأرجو أَنْ يُؤتَى المحسنُ منّا أجرَه مرَّتين. اتقوا الله، وقولوا فينا الحقَّ، فإنه أبلغ فيما تريدون، ونرضى نحن به منكم. وذكر كلامًا آخر. والثاني: زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وأُمُّه بنتُ أبي مَسْعُود، وهي أُمُّ بشير. ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 7/ 314.

قال: فولدَ زيدٌ محمدًا، هلك، وأُمُّه أُمُّ ولد، ولا بقيَّة له. وحسنَ بنَ زيد؛ وَلِيَ المدينةَ لأَبي جعفر، وأُمُّه أُمُّ ولد. ونفيسةَ بنتَ زيد؛ تزوَّجها الوليد بن عبد الملك، فتوفيت عنده، وأُمُّها لُبابةُ بنت عبيد الله (¬1) بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم. وكان زيدٌ جسيمًا جميلًا، روى عن جابر بن عبد الله. وذكر ابنُ سعد زيدَ بن الحسنِ بن علي بن أبي طالب في الطبقةِ الثالثةِ من التابعين من أهلِ المدينة (¬2)، وأُمُّه أُمُّ بشير بنت أبي مسعود البدري. وقال: كان عالمًا جوادًا، وذكر قصته مع أبي هاشم بن محمد بن الحنفية ومنازعته صدقةَ عليّ بنِ أبي طالب، وسنذكرها في ترجمة أبي هاشم في أيام سليمان بن عبد الملك (¬3). قال: وقال أبو معشر نَجيح السِّندي: رأيتُ زيدَ بنَ الحسن بن عليّ يأتي الجمعةَ من ثمانية أميال -أو ستة أميال- إلى المدينة. واختلفوا في وفاته؛ فقال قوم: مات في خلافة الوليد بن عبد الملك. وابنُ سعد لم يذكر تاريخَ وفاته، وإنما قال عن الواقدي (¬4): مات زيد ببطحاء ابن أزهر على ثمانية أميال -أو ستة أميال- من المدينة، فحُمِل إلى البقيع في قُبَّة على سرير، فكان حسن بن حسن، وإبراهيم بن حسن، ومحمد الديباج، وذكر جماعة من بني هاشم أنهم كانوا يتعاقبون بين عمودي سريرِه. أسند زيد عن أبيه الحسن بن علي، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وروى عنه ابنُه الحسنُ بنُ زيد وغيره (¬5). ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 7/ 313: بنت عبد الله. ووقع في (خ): لبانة. (¬2) المصدر السابق. (¬3) ويقال: إن المنازعة كانت في زمن الوليد بن عبد الملك، وينظر "تاريخ دمشق" 6/ 600 - 601 (مصورة دار البشير). (¬4) بنحوه في "الطبقات" 7/ 313. (¬5) تاريخ دمشق 6/ 599 (مصورة دار البشير).

قلت: والأصحُّ أنه عاش إلى خلافة عمر بن عبد العزيز، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر أزواج الحسن بن علي: قال ابن سعد بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي الموالي قال (¬1): سمعتُ عبد الله بنَ حسن يقول: كان حسن بن عليّ قلَّما يُفارِقُه أربع من الحرائر، فكان صاحبَ ضرائر، فكانت عنده ابنةُ منظور بن سيَّار الفَزاريّ، وعنده امرأةٌ من بني أَسد من آل خُرَيم، فطلَّقَهما، وبعث إلى كلِّ واحدةٍ منهما بعشرة آلاف درهم وزِقاق من عَسَلٍ مُتْعَةً، وقال لرسولهِ يسار وهو مولاه: احفظ ما تقولالن، فقالت الفَزاريةُ: بارك الله فيه وجزاه خيرًا، وقالت الأسدية: متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارقِ (¬2) فرجع فأخبره، فراجعَ الأسديَّةَ، وترك الفَزارَيَّةَ. وقال سويد بن غَفْلة: كانت عند الحسن امرأةٌ من خثعم، فلما قُتِلَ أمير المؤمنين، وبويعَ الحسنُ، دخل عليها فقالت له: لِيَهْنِكَ الخلافةُ، فقال: أشامتةٌ بأَميرِ المؤمنين! أَنْتِ طالق ثلاثًا، فقالت: واللهِ ما أرَدْتُ هذا. وبعث إليها بعشرين ألفًا، فأنشدت تقول: متاعٌ قليل من حبيبٍ مفارقِ فأخبره الرسولُ، فبكى وقال: لو راجَعْتُ امرأةً لراجَعْتُها (¬3). وقال ابن سعد بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال (¬4): قال عليّ - عليه السلام -: يا أهلَ الكوفة، لا تُزوّجوا الحسنَ، فإنه رجلٌ مِطْلاقٌ. فقال رجل من هَمْدان: واللهِ لَنُزَوِّجَنَّه، فما رَضِيَ أمسك، وما كَرِهَ طلَّق. ¬

_ (¬1) الطبقات 6/ 374 - 375. (¬2) عجز بيت، وصدرُه: وقفت على قبرٍ مقيم بقفرةٍ. قاله سليمان بن عبد الملك عند قبر ابنه أيوب بعد دفنه. ينظر "الكامل" للمبرد 3/ 1418، و"التذكرة الحمدونية" 4/ 243. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 528 - 529. (¬4) الطبقات 6/ 375.

وحكى أيضًا عن محمد بن عمر، عن علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين قال: كان الحسنُ مِطلاقًا للنساءِ، وكان لا يُفارِقُ امرأةً إلّا وهي تُحبُّه. وقال ابن سعد (¬1): حدثنا عليّ بن محمد، عن الهُذلي، عن ابن سيرين قال: كانت هند بنت سهيل بن عمرو عند عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، وكان أبا عُذْرِها (¬2)، فطلَّقها، فتزوَّجها عبد الله بن عامر بن كُريز، فطلَّقها، فكتب معاويةُ إلى أبي هريرة أن اخْطُبْها على يزيد بن معاويةَ، فلقيه الحسنُ بن علي فقال: إلى أَينَ؟ قال: أَخطبُ هِنْدًا على يزيد، فقال: اذكرني لها، فذكره لها، فقالت: خِرْ لي، فقال: أَختارُ لكِ الحسنَ، فتزوَّجها، فقَدِم عبد الله بنُ عامر المدينةَ، فقال للحسن: لي عندها وديعةٌ، فدخل إليها والحسنُ معه، وجلَسَتْ بين يَدَيه، فَرَقَّ ابن عامرٍ، فقال الحسنُ: ألا أَنْزِلُ لكَ عنها، فلا أراك تجدُ محلِّلًا خيرًا لكما مني؟ فقال: وديعتي. فأخرجت سَفَطَين فيهما جوهر، ففتحهما، وأخذ من واحدٍ قبضةً، وترك الباقي، فكانت تقول: سيِّدُهم جميعًا الحسنُ، وأَسخاهم ابنُ عامر، وأحبُّهم إليَّ عبد الرحمن بن عتَّاب. قلت: وقد ذكر أبو [بكر] محمد بن جعفر الخرائطيُّ بمعنى هذه الحكاية، فقال (¬3): حدثنا أبو زيد عمر بن شبَّة بإسناده عن (¬4) [محمد بن عمارة بن نعيم الغفاري قال: ] طلَّق عبد الله بن عامر امرأته بنتَ سهيل بن عمرو، فقَدِمتِ المدينةَ ومعها ابنة لها من ابن عامر، ووديعةُ جوهرٍ استودَعَها إياه، فتزوَّجها الحسنُ بن علي، ثم أراد ابن عامرٍ الحجَّ، فأتى المدينةَ، فلقيَ الحسنَ، فقال: يا أبا محمد، إنَّ لي إلى ابنةِ سهيلٍ حاجةً، فأُحبُّ أن تأذَن لي عليها، فاستأذنَها، ودخل ابن عامر، فسألها وديعتَه، فجاءته بها وعليها خاتَمُهُ، فقال: خُذي ثُلُثَها، فقالت: ما كُنْتُ لآخذَ على أمانةٍ ائتُمنتُ عليها شيئًا أبدًا. ثم أقبل عليها ابن عامرٍ فقال: إنَّ ابنتي قد بلغت، فأُحبُّ أن تُخَلِّيَ بيني وبينها. فبكت وبكت ابنتُها، فرقَّ ابن عامر، فقال الحسن: فهل لكما، فواللهِ ما من مُحَلِّلٍ خيرٌ مني؟ فقال ابنُ عامر: أجل، واللهِ لا أُخرجُها من عندك أبدًا. قال: فكفلها الحسنُ حتى مات. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 6/ 375 - 376. (¬2) يعني أوَّل من تزوَّجها. (¬3) في "اعتلال القلوب" ص 239، وما وقع فيه بين حاصرتين منه. (¬4) فوقها في (خ): كذا (بسبب السقط).

وقال ابن سعد عن علي بن محمد، عن ابن جُعْدُبة، عن ابن أبي مُليكة قال (¬1): تزوَّجَ الحسن خولةَ بنت منظور، فباتَ لَيلَهُ على سطح أَجْم (¬2)، فشَدَّت خِمارَها بوجله والطرفَ الآخرَ بخَلْخَالها، فقام من الليلِ، فقال: ما هذا؟ قالت: خِفْتُ أن تقومَ من الليلِ بِوَسَنِكَ، فتَسقطَ، فأكون أَشْأَمَ سَخلةٍ على العرب. فأحبَّها وأقام عندها سبعًا. وقال ابن سعد: ويقال إن التي شدَّت خمارَها بوجله هند بنت سهيل بن عمرو. قال ابن سعد (¬3): وكان الحسنُ أَحصنَ تسعين امرأَةً. وحكى جدّي في "المنتظم" (¬4) عن أبي الحسن بن البراء قال: أرخى سِتْرَه على مئتي حُرَّة. وما حكاه ابن سعدٍ أَثبتُ. وذكر أبو القاسم بن عساكر (¬5) أنَّ الحسن بن علي تزوَّج امرأةً، فبعث إليها بمئة جارية مع كلّ جارية ألفُ درهم. ذكر مسانيدِ الحسن: واختلفوا فيها، فقال أبو نُعيم: أسند ثلاثةَ عشرَ حديثًا، وقال ابن البَرْقيّ: عشرة أحاديث (¬6). وأخرج له أحمد في "المسند" ثلاثة أحاديث (¬7). وقال ابن مَنْده: وروى عن الحسن أبو هريرة، وعائشةُ، وابنه الحسنُ بنُ الحسن، والمسيّب بنُ نَجَبَة، وسُويد بن غَفَلة، والعلاء بن عبد الرحمن، والشعبيّ، وهُبيرةُ بن يَرِيم، وإسحاق بن يسار والد محمد بن إسحاق صاحب "المغازي". ولم يُخَرَّج له في "الصحيح" شيء. وأخرج له ابن سعد أحاديث (¬8). ¬

_ (¬1) الطبقات 6/ 377. (¬2) في القاموس: الأَجْم: كل بيت مربّع مسطّح، وبضمتين: الحصن. (¬3) الطبقات 6/ 377، وما قبله منه. (¬4) لم أقف عليه فيه. (¬5) في "تاريخ دمشق" 4/ 528 (مصورة دار البشير). وأخرجه أيضًا أبو نُعيم في "الحلية" 2/ 38. (¬6) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 369. (¬7) مسند أحمد (1718) - (1729). (¬8) طبقات ابن سعد 6/ 364 - 365.

ومن مسانيده: قال أحمد بإسناده عن أبي الحوراء السَّعْدي قال (¬1): قلتُ للحسن بن عليّ: ما تذكرُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أذكر أني أخذتُ تمرةً من تمرِ الصدقة، فجعلتُها في فيَّ، فانتزعَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنّا - آلَ محمد - لا تحلُّ لنا الصدقةُ". وقال: سمعتُه يقول: "دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَريبُك، فإن الصّدْقَ طُمَأنينة، وإن الكَذِبَ رِيبة". قال: وكان يُعلِّمُنا هذا الدعاء: "اللهم اهدنا فيمن هَدَيتَ" إلى آخره. وهذا الراوي عن الحسن كنيتُه أبو الحوراء، بحاء مهملة، ذكره مسلم قال: واسمه ربيعةُ بن شيبان السَّعديّ (¬2). قلت: وقال جدِّي رحمه الله في "التلقيح" (¬3): وفي الرواةِ من اسمُه الحسنُ بن عليّ بن أبي طالب اثنان: أحدهما: ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: حسن بن عليّ بن أبي طالب، كوفي، حدَّث عنه عمر بن حفص الكوفي. قلت: ولم يذكر في "التلقيح" من الرواة من اسمه الحسن بن عليّ غير هذين، وهم نَيِّفٌ وأربعونَ رجلًا، فنذكر أعيانهم (¬4): الحسن بن عليّ بن خَلَف، أبو محمد الصَّيدلانيّ، روى عن هشام بن خالد، وروى عنه أبو الميمون بن راشد، وكانت وفاتُه في تسع وثمانين ومئتين (¬5). الحسن بن عليّ بن شبيب، أبو علي المَعْمَري -بفتح الميم وسكون العين- الحافظ البغدادي، وإنما قيل له: المَعْمري؛ لأنه نُسِب إلى أُمِّه أُمّ الحسن بنت سفيان صاحب ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1727). (¬2) الكنى والأسماء 1/ 273. (¬3) ص 607. (¬4) لم يذكرهم بتمامهم صاحب (م) إنما ذكر بعضهم، فقد قال بعد هذا الكلام: واختصرت من الأعيان جماعة، فنقول .... (¬5) تاريخ دمشق 4/ 479 - 480 (مصورة دار البشير).

مَعْمَر بن راشد. وكان الحسنُ -صاحبُ هذه الترجمة- إمامًا في كل فنّ، وله التصانيف؛ منها كتاب "يوم وليلة". وسمع أعيان المشايخ بالشام وغيره، كهشام بن عمَّار، وأحمد بن أبي الحواري، والمسيّب بن واضح، وغيرهم. وروى عنه يحيى بن محمد بن صاعد، وأبو حامد بن الشرقي، وابنُ أبي الدنيا والأئمة. وقال أحمد بن كامل: كان إمامًا ربَّانيًّا في جمعه وتصانيفِه. وذكره الخطيبُ في "تاريخه" (¬1) وقال: رَحَلَ في طلب العلم إلى الكوفة والبصرة، والشام ومصر، وسمع من عليّ بن المدينيّ، ويحيى بن معين، وشيبان بن فَرّوخ، وخَلْقٍ يطول ذِكْرُهم. قال الخطيب: وقد تكلَّموا فيه من قبيل الحَسَدِ، لا من قبيلٍ آخر. قال عبد الله بن أحمد: صَحِبَهُ قوم مُخَلِّطون، وما كان هو مُخَلِّطًا ولا كذَّابًا (¬2)، وكان يشدُّ أسنانه بالذهب ولا يُغَيِّرُ شيبه. وكانت وفاته ببغداد في المحرَّم سنة خمسٍ وتسعين ومئتين، ودُفِنَ على قارعةِ الطريقِ عند قبورِ البرامكةِ بباب البردان (¬3). الحسن بن عليّ بن موسى بن هارون الأصفهاني، أبو علي النحاس، بحاء مهملة (¬4). وقيل: هو نيسابوري. سمع هشام بن عمار، وروى عنه أبو أحمد بنُ عدي، ومات بمصر سنة اثنتين وثلاث مئة، وكان صدوقًا صالحًا، رحمه الله. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 369. (¬2) الكلام بنحوه في "تاريخ بغداد" 7/ 371. (¬3) ينظر أيضًا "تاريخ دمشق" 4/ 481 - 485. (¬4) كذا قال. وقد قيّده الذهبي في "المشتبه" بالخاء المعجمة. ينظر "توضيح المشتبه " 9/ 41 والترجمة في "تاريخ دمشق" 4/ 564 (مصورة دار البشير).

الحسن بن عليّ، أبو محمد التميمي النحوي، دمشقي، ويُعرف بابن المُصحِّح. سمع أبا بكر الحِنَّائي (¬1)، وأبا بكر بن أبي الحديد، وروى عنه عبد العزيز الكتاني، ونجا بن أحمد. ومات سنة أربعٍ وأربعين وأربع مئة (¬2). الحسن بن عليّ بن عليّ، أبو القاسم البَجَلي، ويعرفُ بابن أبي السلاسل، دمشقي. روى عن القاضي أحمد بن سعيد، وروى عنه تمَّام بن محمد. ومات سنة أربع وستين وثلاث مئة (¬3). الحسن بن عليّ، أبو علي الصَّقَلي النحوي، دمشقي. روى عن أبي القاسم عبد الرحمن الزجَّاجي النحوي. روى عنه أبو نصر بن الحنان، وتوفي حاجًّا بمكة سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة، وصُلِّي عليه بعرفة، ودخلوا به مكة، فطافوا به حول البيت ودفنوه (¬4). الحسن بن عليّ بن الحسن بن شواش، أبو علي الكناني المقرئ. أصلُه من أرتاح؛ مدينة من أعمال حَلَب. حدَّث عن [أبي] سليمان بن زَير (¬5) وأقرانه، وروى عنه أبو علي الأهوازي، وكان من أقرانه، ومات سنة تسع وثلاثين وأربع مئة. الحسن بن عليّ بن عبد الصمد، أبو محمد الكَلاعي المُقرئ. سمع تمَّام بن محمد، وروى عنه الخطيب، وتوفّي في سنة اثنتين وستين وأربع مئة (¬6). ¬

_ (¬1) نسبة إلى بيع الحِنَّاء، ينظر "توضيح المشتبه" 2/ 153. (¬2) في (خ) (والكلام منها): وثلاث مئة، والتصويب من "تاريخ دمشق" 4/ 559، و"الوافي بالوفيات" 12/ 143. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 558 (مصورة دار البشير). (¬4) تاريخ دمشق 4/ 570. والصَّقَلي (بفتح الصاد والقاف) نسبة إلى صَقَلية. ينظر "الأنساب" 8/ 80. (¬5) في (خ) (والكلام منها): زيد، والتصويب واستدراك ما بين حاصرتين من "تاريخ دمشق" 4/ 478. (¬6) تاريخ دمشق 4/ 557 (مصورة دار البشير).

الحسن بن عليّ بن محمد الوَخْشي البلخي الحافظ، روى عنه الخطيب وقال (¬1): هو من أهل وَخْش؛ بخاء وشين معجمتين؛ ناحية ببَلْخ. سافر الكثير في طلب الحديث إلى العراق، والشام، ومصر، وسمع ببغداد أبا عمر بن مهدي، وبدمشق تمَّام بن محمد، وبمصر أبا محمد بن النحاس، وغيرَهم، وعاد إلى بلده فتوفي به في سنة ست وخمسين وأربع مئة (¬2). الحسن بن عليّ بن وَهْب، أبو علي الصُّوفي، ويعرفُ بالسُّبْعيّ؛ لأنه كان على سُج دمشق (¬3). روى عنه أبو محمد بن الأكفاني، ومات سنة تسع وخمسين وأربع مئة. الحسن بن علي بن عبد الواحد بن الموحّد، أبو محمد، دمشقيّ. سمع أبا محمد بنَ أبي نصر، وروى عنه الخطيب، ويقال: إنه مات سنة اثنتين أو ثلاث أو ثمانين، وأربع مئة (¬4). الحسن بن عليّ بن أحمد، أبو محمد (¬5) الحلبي. سكن دمشق، وسمع منه أبو محمد بن الأكفاني وغيره. الحسن بن عليّ، أبو الفرج التميمي الواعظ. حدَّث بجُرْجان عن عبد الوهَّاب بن الحسن الكلابي (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره ابن عساكر في "تاريخه" 4/ 563 بإثر حديث له أخرجه من طريق الخطيب، وليس هو في "تاريخ" الخطيب. (¬2) ذكر ابن عساكر 4/ 563 تاريخ الوفاة هذا ثم قال: هذا وهم، ولم يذكر غيره. ونقل الذهبي في "السير" 18/ 366 - 367 عن السمعاني أنه توفي سنة إحدى وسبعين وأربع مئة ببلخ، وله ستّ وثمانون سنة. (¬3) يعني أنه كان قيِّمًا بأمر السُّبْع بجامع دمشق، ولن يقرأ القرآن فيه وقفٌ يستحقُّه. ينظر "تاريخ دمشق "4/ 566، و"توضيح المشتبه" 5/ 45. غير أن السمعاني ذكره في "الأنساب " 7/ 32 - 33 وقال: لا أدري هذا السُّبعيّ إلى أيّ شيء يُنسب. (¬4) تاريخ دمشق 4/ 557 - 558، وسير أعلام النبلاء 18/ 568، وما بين حاصرتين منهما. قال الذهبي: عُرف بابن البُرّيّ. (¬5) في "تاريخ دمشق" 4/ 474: أبو أحمد. (¬6) تاريخ دمشق 4/ 474.

الحسن بن عليّ بن إبراهيم، أبو محمد الأصفهاني. حدَّث بدمشق عن أبي العباس الفضل بن الخَصِيب الأصفهاني (¬1). الحسن بن عليّ بن الحسن الأطرابلسي. حكى عن أبيه، وحكى عنه أبو بكر بن المُعلَّى (¬2). الحسن بن عليّ بن الحسن (¬3)، أبو عليّ، يُعرف بابن الشُّحيمة، دمشقي. حدَّث عن جماهر الزَّمَلْكاني. الحسن بن عليّ بن الحسن، أبو القاسم الطِّيرِي. [ينسب إلى] قرية من قُرى دمشق يقال لها: الطِّيرة. روى عن أبي الجهم بن طلّاب، وروى عنه محمد بن حمزة الدمشقي (¬4). الحسن بن عليّ بن الحسن، أبو علي الكفرطابي. سمع أبا بكر الميَّانجي، وروى عنه أبو محمد بن الأكفاني (¬5). الحسن بن عليّ بن أبي حماد المُقرئُ، نزيلُ دمشق. روى عن هشام بن عمَّار قراءة ابن عامر (¬6). الحسن بن عليّ بن رَوْح، أبو علي، دمشقي، من كفر بطنا؛ قرية بغوطة دمشق. روى عن قاسم بن عثمان الجُوعيِّ، وروى عنه أبو سليمان بن زَبْر (¬7). الحسن بن عليّ بن سعيد، أبو (¬8) علي الكرخي القاضي الشافعي. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) المصدر السابق 4/ 477. (¬3) في (خ): الحسين، والمثبت من "تاريخ دمشق" 4/ 477، وكذلك ذكره ياقوت في "معجم البلدان" 2/ 150 (زملكا). (¬4) تاريخ دمشق 4/ 478 وما بين حاصرتين منه، والطَّبري، بكسر الطاء، ينظر "الأنساب" 8/ 291. (¬5) لم يُذكر في "تاريخ دمشق" 4/ 479 ابن الأكفاني من الرواة عنه، إنما ذُكر عبد العزيز الكتاني شيخ ابن الأكفاني. والله أعلم. (¬6) تاريخ دمشق 4/ 479 (مصورة دار البشير). (¬7) المصدر السابق 4/ 480. (¬8) في (خ): بن، والمثبت من "تاريخ دمشق" 4/ 481.

حدَّث بدمشق عن عبد الله بن علي (¬1) التستري، وروى عنه أبو الحسن الرَّبَعيُّ. الحسن بن علي بن عبد الله، أبو (¬2) سعيد البردعي. حدَّث بدمشق عن أحمد بن علي بن قمير، وروى عنه أبو أحمد بن عديّ. الحسن بن عليّ بن عبد الله الخُراساني. حدَّث بدمشق عن عبد الله بن داود، وروى عنه علي بن الخضر السّلميّ (¬3). الحسن بن علي بن عمر، أبو محمد الحلبي الأديب، ويعرف بابن كوجك. [روى عن علي بن عبد الحميد الغضائري]، وروى عنه تمّام بن محمد (¬4). الحسن بن علي بن عيّاش. حدَّث عن مُنَبِّه بن عثمان الدمشقي، عن الأَوزاعي (¬5). الحسن بن علي بن عيسى، أبو محمد (¬6) الأزدي المعاني، من أهلِ معان من أرضِ البلقاء. روى عن عبد الرزاق بن همّام، وروى عنه سعيد بن عبد العزيز الحلبي. وقد تكلَّموا فيه: فقال أبو أحمد بن عدي: حدَّث عن عبد الرزاق بأحاديث في فضائل علي بن أبي طالب موضوعة (¬7) لا يُتابعه عليها أحد. وقال أبو نُعيم: حدَّث عن مالك بأحاديث موضوعة. الحسن بن علي بن محمد، أبو علي اليماني الدمشقي، ويعرف بابن زِرٍّ. حدَّث عن عليّ بن عتاب البغدادي، وروى [عنه] أبو سعد السمان (¬8). ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق": علي بن عبيد الله، وهو الأشبه. (¬2) في (خ): بن، والمثبت من "تاريخ دمشق" 4/ 556. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 557. (¬4) تاريخ دمشق 4/ 558، وما وقع بين حاصرتين منه. (¬5) المصدر السابق 4/ 559. (¬6) في "الكامل" لابن عدي 2/ 748، و"تاريخ دمشق" 4/ 560: أبو عبد الغني. (¬7) كلمة "موضوعة" ليست في "تاريخ دمشق" 4/ 560، وكلام ابن عدي بنحوه في "الكامل" 2/ 748، ونقله المصنف بواسطة ابن عساكر في "تاريخه" 4/ 560. (¬8) المصدر السابق 4/ 562.

الحسن بن علي بن محمد، أبو علي القَطَني، من قطنا؛ قرية غربيّ دمشق. روى عنه عبد العزيز الكَتّانيّ (¬1). الحسن بن علي بن محمد السِّنْجاريّ. حدَّث بدمشق مع أخيه محمد بن علي عن (¬2) الحسين بن أحمد المالكي، وسمع منه أبو العباس بن قُبيس. الحسن بن علي بن القاسم، أبو علي القَيرواني. سكن دمشق، وحدَّث بها عن عبد الوهَّاب الكلابي، وروى عنه نجا بن أحمد (¬3). الحسن بن علي بن أحمد (¬4) بن مصعب، أبو بكر اللخمي، سمع بدمشق هشام بنَ عمار، وروى عنه أبو علي بن سليمان الأصفهانيّ. الحسن بن علي بن موسى بن الخليل البرقعيدي. سمع ببيروت أحمد بن محمد بن مكحول البيروتي، وبأطرابلس خيثمة بن سليمان، وبالرملة زيد بن الهيثم الرملي. وروى عنه أبو الحسين عبد الواحد الخطيب (¬5). الحسن بن علي بن الوثاق بن الصلت، أبو القاسم النَّصِيبي الحافظ. حدَّث بدمشق سنة أربع وأربعين وثلاث مئة عن عبد الواحد (¬6) بن محمد بن ناجية البغدادي وغيره، وروى عنه تَمَّام بن محمد، وأبو عبد الله بنُ مَنْده. الحسن بن علي بن يحيى، أبو علي الطبراني من أهل طبريَّة. حدَّث بدمشق عن أبي جعفر القراطيسي، وروى عنه [أبو] سليمان بن زَبْر (¬7). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) في (خ): بن، بدل: عن. والمثبت من "تاريخ دمشق" 4/ 562. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 563. (¬4) لم يرد في نسبه اسم "أحمد" في "تاريخ بغداد" 7/ 377، و"تاريخ دمشق" 4/ 563. (¬5) تاريخ دمشق 4/ 565. (¬6) في "تاريخ دمشق" 4/ 566: عبد الله، بدل: عبد الواحد. (¬7) تاريخ دمشق 4/ 567، وما بين حاصرتين منه.

الحسن بن علي بن يحيى بن علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -، وكُنيتُه أبو محمد الزيدي، ويعرف بابن سناء الملك (¬1). سكن مصر، وحدَّث بها عن أبي الحسن نصر بن أحمد الفارسي، وكتب عنه الأمير أبو تراب علي بن الحسن الرَّبَعي. الحسن بن علي، أبو محمد الخلّال، المعروف بالحلواني. سمع بدمشق وغيرِها هشام بنَ عمّار، ويزيد بن هارون، وعفَّان بنَ مسلم، وغيرهم. وروى عنه البخاريُّ، ومسلم، وأبو داود، وإبراهيم الحربي، وغيرهم. وقال ابن يونس: قَدِم مصرَ، وحدَّث بها نحو سنة ثلاثين ومئتين. واختلفوا فيه فقال عبد الله بن أحمد: سألتُ أبي عنه، فكرهه. ووثَّقه البخاريّ والنسائيّ وغيرُهما. وقيل: إِنما كرهه أحمد لأنه كان من الواقفية؛ يقول: لا أُكفِّر من وَقَف [في] القُرآن (¬2). الحسن بن علي، أبو علي الشّيزَرِيّ (¬3). حدَّث بدمشق عن أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن خالوَيه، وروى عنه عليّ بن الخضر السُّلَميُّ. الحسن بن علي، أبو محمد الورَّاق. سمع منه رشا بن نظيف، في آخرين. وقال علماءُ السِّيَر (¬4): لما توفّي الحسنُ بن علي، ووصل نعيُه إلى الكوفة، اجتمعت الشيعة في دار سليمان بن صُرَد، وفيهم بنو جَعْدة بن هبيرة بن أبي وَهْب المخزومي - ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 4/ 567: المعروف بسناء اللك. (¬2) تاريخ دمشق 4/ 567 - 569، وتهذيب الكمال 6/ 259 - 263. وما بين حاصرتين منهما. (¬3) في (خ): الشيرازي، والتصويب من "تاريخ دمشق" 4/ 571. (¬4) ينظر "أنساب الأشراف" 2/ 458 - 460. ومن هذا الموضع إلى نهاية أحداث هذه السنة، ليس في (م).

ناجية بن جندب

وأُمّ جعدة أُمُّ هانئ أُختُ علي لأبيه وأُمِّه- وكتبوا كتابًا إلى الحسين يُعزُّونَه في أخيه ويقولون: قد جعل الله فيك أَعظمَ الخَلَف، ونحن شيعتُك المصابةُ بمصيبتِك، المحزونون لحزنِك، المسرورون لسرورِك، المنتظرون لأمرِك، والمتطلِّعون إلى قُدومِك. وأخبروه بما هم عليه من بُغْضِ معاوية وأهلِه والبراءةِ منهم، ونحو ذلك. فكتب إليهم يشكرهم ويقول: اكتُموا هذا الأمرَ ما دام ابنُ هندٍ حيًّا، فإن حدث به حدثٌ وأنا حيّ، فسوف يأتيكم أمري، والسلام. وقال هشام عن أبيه: لما توفّي الحسنُ اختلف أهل المدينة إلى الحسين، ومن غيرها، فقال عمرو بن عثمان لمروان، وكان قد وليَ المدينة: قد أكثر الناسُ الاختلافَ إلى الحسين، وإني لأرى لكم منه يومًا عصيبًا. فكتب إلى معاوية فأَخبره، فكتب إلى الحسين كتابًا يُذكّره فيه العهودَ والمواثيق، ويُخوّفُه الخلاف. فكتب إلى معاويةَ يعتذرُ إليه، ويتنَصَّلُ مما قيل عنه، فكتب إليه فصدَّقه، وبعث إليه بألفِ درهم وكسوةٍ وعروض، وهدايا من كل نوع، وكان يبعث إليه بمثلها في كلِّ سنة. انتهت سيرة الحسن بن علي - عليه السلام - وفيها توفّي ناجية بن جُندب ابن عُمير (¬1) الأسلمي الخُزاعي، ثم من بني سهم، بطن من أَسلم، من الطبقة الثالثة من المهاجرين. قال ابن سعد: شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، واستعمله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على هَدْيِه حين توجَّه إلى الحديبية، وأمره أن يقدّمه (¬2) إلى ذي الحُلَيفة. وحكى ابن سعد عن الواقديّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جعل ناجيةَ على هَدْيِه حين توجَّه إلى عمرة القَضِيَّة، فجعل يسير بالهَدْي أمامَه يطلبُ الرعيَ في الشجر، معه أربعة فتيان من أسلم. ¬

_ (¬1) قال الذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" 2/ 100: ناجية بن جندب بن كعب، وقيل: ابن جندب بن عمير. (¬2) في "طبقات" ابن سعد 5/ 219: يقدمها.

قال: وقال الواقدي: وشهد ناجيةُ بنُ جندب فتح مكة، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على هديه في حَجَّة الوَداع. وكان ناجيةُ نازلًا في بني سَلَمة. قال: ومات بالمدينة في خلافة معاوية بن أبي سفيان (¬1). قلتُ: وليس في الصحابة من اسمه ناجية سوى ثلاثة: أحدهم هذا، وهو سائقُ بُدْن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: ناجية بن عمرو، ولهما صحبة ورواية. والثالث: ناجية بن الأعجم (¬2)، [ذكره ابن سعد] في الطبقة الثالثة من المهاجرين أيضًا (¬3) عقيب ناجية بن جندب الأسلمي وقال: شهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكى عن الواقديّ أنه قال: ناجيةُ بن الأَعجم هو الذي نزل بالسَّهْم في بئر الحديبية، فجاشَتْ بالرِّواء حتى صدروا بعَطَن. وحكى ابن سعد أيضًا أنَّه قال (¬4): ويقال: إن الذي نزل بالسَّهْم ناجيةُ بنُ جُندب سائقُ البُدْن. قال: ويقال: البراء بن عازب، ويقال: عبَّاد بن خالد الغِفاري. قال الواقديُّ: والأول أثبت أنه ناجية بن الأعجم. وقد ذكرناه في الحديبية. قال: وعقد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ فتح مكة لواءين، فحملَ أحدَهما ناجيةُ بن الأعجم، والآخَر بُريد بن الحُصَيب. قال: ومات ناجيةُ بن الأعجم في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان بالمدينة، وليس له عَقِب. قلت: وقد أخرج أحمد في "المسند" لناجية سائقِ بُدْنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حديثًا، فقال: حدَّثنا وكيع وأبو معاوية قالا: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن ناجية الخُزاعي - وكان صاحبَ بُدْنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: قلتُ: يا رسول الله، كيف أَصنَعُ ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) ينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 259 و 310. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 219، وما سلف بين حاصرتين زيادة لضرورة السياق. (¬4) المصدر السابق.

السنة الخمسون

بما عَطِبَ من البُدْن؟ قال: "انْحَرْهُ، واغْمِسْ نَعْلَه في دَمِه، واضْرِبْ به صَفْحتَه، وخَلِّ بين الناس وبينه فليأكلوه". قال الترمذي: هذا حديث صحيح (¬1). [السنة الخمسون وفيها] غزا بُسْرُ بنُ أبي أرطاة أرضَ الروم، وغزا فَضالةُ بنُ عُبيد الأنصاريُّ البحرَ (¬2). وقال الواقدي والمدائني: وفيها وقعَ طاعون بالكوفة، فهرب المغيرة بن شعبة إلى البادية، فلما ارتفع الطاعون عاد إلى الكوفة، فمات بها، فجمع معاويةُ لزياد بين الكوفة والبصرة (¬3). وقال هشام: أوَّل مَنْ جمع الكوفةَ والبصرة معاويةُ لزياد، فسار زياد إلى الكوفة، واستخلف على البصرة سَمُرةَ بنَ جندب، فكان يُقيمُ زياد ستَةَ أشهر بالبصرة، وستَّة أشهر بالكوفة. وقال عمر بن شَبَّة (¬4): لَمّا قَدِم زيادٌ الكوفةَ صعدَ المنبر، فحَمِد الله وأثنى عليه، فقال: إنَّ هذا الأمرَ أتاني وأنا بالبصرة، فأَردتُ أن آتِيَكم في ألفَين من شرطة البصرة، ثم ذكرتُ أنكم أهلُ حقّ، وأنَّ حقَّكم طالما دفع الباطلَ؛ فأَتيتكم في أهلِ بيتي وخاصّتي، فالحمد لله الذي رفع مني ما وضعه الناسُ، وحفظ مني ما ضَيَّعوا .. حتى فرغ من الخطبة، فَحُصِبَ على المنبر، فصبر حتى أمسكوا، ثم دعا قومًا من خاصّتِه، فأمرهم، فأخذوا الأبوابَ التي للمسجد، ثم قال: ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيدِ جليسِه. ثم نزل فجلس على كُرسيّ، وجعل يدعو بواحدٍ واحدٍ، فيحلّفه بالله تعالى، فإِن حلف (¬5) أنَّه ما حصبه أطلقه، ومن لم يحلف حبسه، حتى أمسك ثلاثين، وقيل: ثمانين. فقطع أيديهم مكانَه. وقال المدائني: فقطع مئتي يَدٍ، وقيل: ثمانين. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (18943) (18944)، وسنن الترمذي (910). (¬2) تاريخ الطبري 5/ 234. (¬3) المصدر السابق 5/ 232 (سنة 49) و 5/ 234 (سنة 50). (¬4) المصدر السابق 5/ 234 - 235. (¬5) في "تاريخ" الطبري 5/ 235: فدعاهم أربعة أربعة، يحلفون بالله ما منّا من حصبك، فمن حلف.

قال الشعبي: فواللهِ ما تعلَّقنا عليه بكذبة، وما وعدنا خيرًا ولا أَوعَدَنا شرًّا إلّا أنفذَهما. وقال عمر بن شَبَّةَ عن الشعبي (¬1): أولُ رجلٍ قتلَه زيادٌ بالكوفةِ أوفى بن حصن؟ بلغه عنه شيءٌ، فطلبه، فهرب، ثم عرض الناسَ، فمرَّ به فقال: من هذا؟ قالوا: أوفى، فقال زياد: أَتَتْكَ بحائنٍ رجلاه (¬2). ثم قال له: ما رأيُك في عثمان؟ فأثنى عليه وقال: صِهْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه. قال: فمعاوية؟ قال: جَواد حليم، قال: فأنا؟ قال: بلغني أنك قُلْتَ مقالة بالبصرة: واللهِ لآخُذَنَّ البريءَ بالسقيم، والمُقْبِلَ بالمُدْبِر، قال زياد: قد قلتُ ذلك، فقال: خبطتَها عشواء (¬3). فأمر بقَتْله. فقال عبد الله بن همام السَّلُولي هذه الأبيات: خَيَّب الله سَعْيَ أوفى بن حِصْنٍ ... حين ألقى بروحه الهمَّاءَ (¬4) قادَه الحَيْنُ والشقاءُ إلى لَيْـ ... ـثِ عرينٍ وحبَّةٍ صمَّاءِ وقال علماء السير: قيل لزيادٍ حين قَدِمَ الكوفةَ: إنَّ شيعةَ أميرِ المؤمنين يجتمعون إلى عمرو بن الحَمِق. وقيل: إنَّ الذي قال له ذلك عُمارةُ بن عقبةَ بن أبي مُعَيط؛ قال له: إنَّ شيعةَ أبي تُراب يجتمعون إلى ابنِ الحَمِق، فقال عمرو بن حُريث لعُمارة: ما الذي دعاك إلى أمرٍ ما تدري ما عاقبتُه؟ فقال زياد: كلاكما لم يُصِبْ، أما أنتَ يا عُمارةُ فحيثُ خاطبتني بهذا [علانية]. وأما أنت يا عمرو فكيف رَدَدْتَ عليه كلامه؟ قوما إلى عمرو بن الحَمِق فقولا له: ما هذه الزُّرافات التي تجتمعُ عندك؟ مَنْ أرادكَ ففي المسجد (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 235 - 236. (¬2) مَثَلٌ يُضرب للساعي على نفسه بالهلاك. ينظر "جمهرة الأمثال" 1/ 119، و"المستقصى" 1/ 37. (¬3) في (خ) و (م): خبطها في عشواء أو عسواء، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 236. (¬4) كذا في (خ). وفي "تاريخ" الطبري 5/ 236: حين أضحى فرُّوجة الرّقاء. ومن قوله: فقال عبد الله بن همَّام السَّلُولي ... إلى قوله: ولما حصبه أهل الكوفة اتخذ المقصورة بالجامع (في الصفحة التالية)، ليس في (م). (¬5) المصدر السابق وما سلف بين حاصرتين من (م).

ويقال: إنَّ الذي رفع على ابن الحَمِقَ يزيد بن رُوَيم، فقال عَمرو بن حُريث: ما كان قَطُّ على ما ينفعه (¬1) أَقْبَلَ منه اليومَ، فقال زياد: أما أنت يا يزيد بن رُوَيْم فقد أَشَطْتَ دَمَه، وأما ابن حُريث فقد حقن دَمَه، ولو علمتُ أن مخَّ ساقِه قد سال من بُغْضي ما هِجْتُه حتى يخرجَ عليَّ. ولَمّا حصبه أهلُ الكوفة اتَّخذ المقصورة بالجامع. وقال البلاذري عن سلمة بن كُهَيْل: أوَّل مَنْ وطئ صِماخَ الإسلام زياد (¬2). وقال الواقدي (¬3): وفي هذه السنة أراد معاويةُ أن يقلعَ منبرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، وينقلَه إلى الشام، فلما حرَّك المنبر رجفت الأرضُ، وكَسَفَت الشمس، وأظلمت الدنيا، وظهرتِ النجومُ، فأعظم الناسُ ذلك، فقال معاوية: لم أُرِدْ نَقْلَه، وإنَّما خِفْتُ أن يكون قد أَرِمَ (¬4)، فأَرَدْتُ أن أُصلحه، ثم كساه القَباطيّ. وفي روايةِ الواقديّ قال: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبيه قال: قال معاوية: إني قد رأَيتُ أنَّ منبرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وعصاه لا يُتركان بالمدينة، وأَهلُها قَتَلَةُ أميرِ المؤمنين عثمان وأعداؤه. فلما قَدِم المدينةَ طلب العصا، وهي عند سعد القَرَظ، فجاءه أبو هريرة وجابر بنُ عبد الله، فقالا: يا أمير المؤمنين، نُذكِّركَ اللهَ أن تَفْعَلَ هذا، فإنه لا يصلح أن يخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضعه الذي وضعه فيه ولا عصاه، فانقل المسجدَ أيضًا. فاعتذر إلى الناس مِمّا صنع، وزاد فيه ستَّ دَرَجات، فصار ثمانيًا. قال الواقدي (¬5): فحدَّثني جماعةٌ من أهل المدينةِ بإسنادهم إلى قَبِيصة بن ذُؤيب قال: كان عبد الملك بن مروان قد همَّ بنَقْلِه، فقُلْتُ له: أُذكِّرك اللهَ أن تفعلَ هذا، فإِن معاويةَ أراد ذلك، فكَسَفَتٍ الشمسُ، وأظلمت الدنيا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من حَلَفَ عند مِنْبري آثِمًا فليتبوَّأ مقعده من النار" فتُخرجه من المدينة وهو مُقَطّع الحقوقِ بينهم! فأَقْصَرَ عبد الملك عن ذلك. ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): شفعه، والمثبت من "تاريخ" الطبري. (¬2) أنساب الأشراف 4/ 268 و 311، ولم يرد هذا القول في (م). (¬3) تاريخ الطبري 5/ 238. (¬4) في "تاريخ" الطبري: أرِضَ. (¬5) تاريخ الطبري 5/ 239، وما قبله منه.

فلما كان زمانُ الوليد بن عبد الملك، وحجَّ؛ همَّ بذلك، فأرسل سعيد بن المسيّب إلى عمر بن عبد العزيز، فقال له: كلِّم صاحبَك فليتَّقِ اللهَ ولا يتعرَّض لسخطِه. فكلَّمه عمرُ فأَقْصَرَ. فلما حجَّ سليمان بن عبد الملك أَخبره عمرُ بنُ عبد العزيز بما كان همَّ به الوليد وقولِ ابن المسيِّب، فقال سليمان: ما كنتُ أُحبُّ أن يُذكر هذا عن عبد الملك، ولا عَنِ الوليد، ما لَنا ولهذا؟ قد أخذنا الدنيا فهي في أيدينا؟ نَعْمَدُ إلى عَلَمٍ من أعلامِ الإسلام؛ فنحمله إلينا! هذا ممّا لا يليقُ ولا يصلح. وقال الهيثم: وبقي المنبر على حاله حتى وصل الأمرُ إلى بني العباس، فردُّوه إلى ما كان عليه أولًا، فهو اليوم على ذلك. وفيها عزل معاويةُ معاويةَ بنَ حُدَيج عن مصر، وولَّاها مَسْلَمةَ بنَ مُخَلَّد (¬1) مع إفريقية. قال الواقدي: وكان معاويةُ بن أبي سفيان قد بعثَ قبل أن يولِّيَ مَسْلَمة بنَ مُخَلَّد مصرَ عقبةَ بن نافع الفِهْريَّ إلى إفريقية، فافتتحها، واختطَّ قَيروانَها، وكان موضعُه غَيضَةً لا تُرامُ من السِّباع والهوامّ والحيَّاتِ، فدعا عقبة بنُ نافع عليها، فلم يبق فيها شيءٌ إلّا وخرج منها هارِبًا حتى [إنّ] السِّباع كانت تحملُ أولادَها. قال الواقدي: فحدَّثني موسى بن عُليّ، عن أبيه قال: نادى عقبة بنُ نافع: إنَّا نازلون فاظْعَنُوا. قال: فلقد رأيتُ الهوامَّ يخرجن من أجْحرتهنَّ هواربَ، أو هرابًا (¬2). قال الواقديّ: وحدثني المفضَّل بن فَضالة، عن زيد بن أبي حبيب، عن رجلٍ من جند مصر قال: قدمنا مع عقبة بن نافع، وهو أوَّل الناسِ اختطّ إفريقية (¬3)، وأقطعَها مساكن، وبنى مسجدَها ودُورَها، وأقمنا معه حتى عُزِل، وكان خَيرَ والٍ، وخيرَ أمير (¬4). ¬

_ (¬1) وزن محمَّد، ينظر "توضيح المشتبه" 8/ 91. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 240 باختلاف يسير، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬3) في (م): اختطاطًا بإفريقية. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 240.

جبير بن مطعم

[وفيها أغزى معاويةُ ابنَه يزيد القسطنطينية. قال البلاذري (¬1): وذلك في سنة خمسين، فتغافل عن الغزو، فبعث سفيانَ بنَ عوف، فأصاب الناسَ جوعٌ شديد، وبلغ يزيدَ وهو بدَير مُرَّان، وبلغ معاوية فقال: والله لنُلْحِقَنَّ يزيد بسفيان بن عوف بأرض الروم ليصيبَه ما أصاب الناس؛ ولو مات. فخرج يزيد في جند بعلبكّ حتى بلغ القسطنطينية. واختلفوا فيمن حجَّ بالناس؛ فقال الواقدي: معاوية. وقيل: ابنه يزيد (¬2)، والأول أصحّ، لأن يزيد كان غازيًا في الروم، ومعاوية عزم في هذه السنة على نقل المنبر، وقد ذكرناه] (¬3). ولما ولَّى معاوية مَسْلَمَةَ بن مُخَلَّد مصر وإفريقية، ولَّى مسلمةُ على إفريقية مولًى له يقال له: أبو المهاجر، وعزلَ عقبةَ بنَ نافع عنها، ولم يزل مَسْلَمة بنُ مُخَلَّد على ولايته وأبو المهاجر واليًا على إفريقية إلى أن مات معاويةُ بنُ أبي سفيان رحمه الله (¬4). وفيها توفّي جُبَير بن مُطْعِم ابن عديّ بن نوفل بن عبد مناف بن قُصَيّ بن كلاب، أبو محمد، وقيل: أبو عديّ، القُرشيُّ النَّوفليُّ. من الطبقة الثالثة من المهاجرين (¬5)، أسلم قبل الفتح. وقيل: يوم (¬6) الفتح. ¬

_ (¬1) بنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 98 - 99. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 240 - 241. (¬3) من قوله: وفيها أغزى معاوية ابنه يزيد ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (م). (¬4) تاريخ الطبري 5/ 240. وجاء بعده في (خ) ما صورتُه: آخر الجزء الرابع والحمد لله وحده. يتلوه في الجزء الخامس: وفيها توفي جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. وجاء فيها أيضًا: كتبه علي بن عيسى الخيري، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 13. (¬6) في (م): بعد، وهو خطأ.

وأُمُّه أُمُّ جميل بنتُ شعبة، من بني عامر بن لؤي، وأُمُّها أُمُّ حبيب بنت العاص بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف. وكان أبوه المُطْعِمُ بنُ عديّ من أشراف قريش، وكان كافًّا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهو الذي سعى في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش بينها وبين بني هاشم، وهو الذي دخلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة لما عاد من الطائف في [جوارِه] (¬1). وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بَدْرٍ: "لو كان المُطْعِمُ حيًّا لوهبتُ له هؤلاء النَّتْنَى" يعني أهل القَلِيب (¬2). وكانت وفاة المطعم بمكَّة بعد الهجرة بسَنَةٍ قبل بَدْرٍ بأشهر، ودُفِنَ بالحَجُون وهو ابن بِضْعٍ وتسعين سنةً. وكُنْيَتُهُ أبو وَهب. وقد أشرنا إلى جميع ذلك. قال ابنُ عبد البرّ: وفيه يقول حسان بن ثابت لَمّا مات يرثيه، فقال: فلو كان مجدٌ يُخْلِدُ اليومَ واحدًا ... من الناس أنجى مجدُه اليومَ مُطْعِما [أجَرْتَ] رسولَ الله منهم فأَصبحوا ... عبيدَك ما لبَّى مُلَبٍّ وأَحْرَما (¬3) وحكى أبو القاسم بن عساكر عن جُبير بن مُطْعِم قال (¬4): لَمّا بُعِثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وظهر أمرُه بمكة؛ خرجتُ إلى الشام، فلما كنتُ ببُصْرى جاءني جماعةٌ من النصارى فقالوا: أَمِن أَهلِ الحرم أنتَ؟ قلتُ: نعم. فأدخلوني دَيرًا لهم؛ فيه صُوَر، فقالوا: انظر إلى هذه الصُّوَر، هل تعرف فيها صورةَ هذا الذي قد ظهر فيكم؟ قال: فنظرتُ، فإذا بصورة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصورة أبي بكر الصديق وهو آخِذ بعَقِبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: نعم هذه صورتُه وصورةُ صاحبِه. فقالوا: نشهد أنَّه صاحبكم، وهذا الخليفةُ من بَعْدِه. وذكره ابنُ عبد البَرِّ فقال: ذُكِرَ أن جُبير بن مطعم أسلم يوم حُنَين (¬5)، وهو أوَّل من لبس الطيلسان في المدينة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة ضرورية ووقع مكانها بياض في (خ)، ولم يرد هذا الكلام في (م). (¬2) كذا وقع. وإنما المراد بالنَّتْنَى أُسارى بدر من المشركين. وسيرد الكلام على الصواب قريبًا. (¬3) ديوان حسان ص 239، وذكرهما ابن سعد 5/ 14، وما سلف بين حاصرتين منهما، ولم يرد في (م) قوله: قال ابن عبد البر وفيه يقول حسان ... إلى هذا الموضع ولم أقف عليهما عند ابن عبد البر. (¬4) مختصر تاريخ دمشق 6/ 5 - 6. (¬5) كذا في النسختين (خ) و (م). وفي "الاستيعاب" ص 119 عام خيبر.

وذكر الشيخ الموفَّقُ رحمه الله في "الأنساب" (¬1) بني نوفل [فقال]: كان نوفل أخا هاشم لأبيه، وكان له من الولد عديٌّ، وعامر، وعمرو، وأبو عمرو، وأَمَة، وضعيفة. وكان عديٌّ أكبرَ ولده، وبه كان يُكَنَّى، وكان لعديّ من الولدِ المُطْعِم، وطُعيمة، والخِيارُ، والبذَّالُ، والصالح واسمه عُبَيد الله (¬2)، والمبارك واسمه عبد الله. قال الموفق رحمه الله: وروى ابنه محمد بن جُبَير، عنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُكَلِّمَه في أُسارى بدرٍ، فوافَيتُه وهو يُصَلِّي بأصحابه العشاء، وصوتُه يخرج من المسجد وهو يقرأُ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} [الطور: 7، 8]، فكأنَّما صُدع بها قلبي، فلما كلَّمته في أُسارى بدر قال: "لو كان الشيخُ أبوك حيًّا فأتانا شفَّعناه فيهم" (¬3). وذكر .... (¬4) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر الواقدي القصة عن جُبَيْر بن مُطْعم قال (¬5): قَدِمْتُ المدينةَ في فِداء أُسارى بدر، فدخلتُ المسجدَ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغرب: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)} السورة، فانصدعَ قلبي، وكان ذلك أوَّل ما دخل الإسلامُ قلبي. وفي رواية: فقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35]. فكاد يطيرُ قلبي (¬6). قلتُ: وقد أخرجاه في "الصحيحين" بمعناه فقال أحمد بإسناده عن سعد بن إبراهيم قال: سمعتُ بعض إخواني (¬7) عن جبير بن مطعم أنَّه أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في فداء المشركين، وما أسلم يومئذٍ، قال: فدخلتُ المسجدَ ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي المغرب، فقرأَ بالطور، فكأَنَّما صُدِعَ قلبي حين سمعتُ القُرآنَ. متفق عليه (¬8). ¬

_ (¬1) التبيين في أنساب القرشيين ص 239. وينظر "نسب قريش" ص 197 - وما بعدها. (¬2) تحرفت في (خ) إلى: عبد الله. وينظر المصدران السالفان. (¬3) بنحوه في "صحيح" البخاري (4023 - 4024). (¬4) بياض في (خ). (والكلام منها). ولعله يريد أن يقول: وذكر له يدٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال ابن قدامة في "التبيين" ص 240 بعد إيراده الحديث المذكور: وكانت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد. (¬5) بنحوه في مغازي الواقدي 1/ 128، وطبقات ابن سعد 5/ 14. (¬6) صحيح البخاري (4854). (¬7) في "المسند" (16762): بعض إخوتي. (¬8) أخرجه البخاري (765)، ومسلم (463) مختصرًا، وأخرجه أيضًا البخاري (4023) وفيه: وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي.

وقال عكرمة عن ابن عباس قال: لما قَرُبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من مكَّة عامَ الفتح قال: "إنَّ بمكَّةَ لَأربعةَ نَفَرٍ منْ قريشٍ أربأ بهم عن الشركِ، وأَرغبُ لهم في الإسلام: عتَّاب بن أُسَيد، وجُبَير بن مُطْعِم، وحكيم بن حِزام، وسُهيل بن عمرو" (¬1). وهذه الرواية تدل على أَنهم أَسلموا بعدَ الفتح. قال الواقدي: والكلُّ أسلموا وصحبوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. وقال الزُّبير بن بكَار: جُبير بن مُطْعِم من حكماء قريش وساداتهم، ويؤخذ عنه النسبُ، وهو إنَّما أخذه عن أبي بكرٍ الصدّيق، وكان أنسبَ العرب. قال: وكان عمر بن الخطاب يُعَظِّمُه، وولَّاه الكوفة، ثم عزله قبل أن يُقْتَلَ بيسير، وولاها المُغيرةَ بن شعبة، وبقي بها حتى قُتل عمر. وجُبير بن مُطْعم أحد الذين دفنُوا عثمان بن عفّان، وقد ذكرناه. وقال ابن إسحاق: كان جُبير من المؤلَّفة قلوبُهم؛ أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ حنين مئةً من الإبل. وقال الشعبي: وَفَد جبير بن مُطْعِم على معاوية في وَفْدِ أهلِ الكوفة، فشكَوْا إليه أحوالهم وقال له جُبَيرٌ: يا مُعاويةُ، لا تُلْهينَّك أرياف الشام عن جبال تِهامة، ولا يُنْسينَّكَ من استبدلت من أهل الشام عن شيُوخ مكَّةَ والمدينة، فإنَّ فيهم أترابَكَ وأسنانَ أَبيكَ. فرقَّ مُعاويةُ وقال: سَلوني لأنفسكم؟ مَنْ خلَّفْتُم؟ وسَمُّوا لي مَنْ خَلَّفْتم من العُجَّزِ صواحباتِ هند، وشيوخ مكّة أخلّاءِ أبي سفيان، فواللهِ إنَّ قلبي بفرقد الحجازِ وأباطح مكَّة لمتعلِّق. فلم يسألوه شيئًا إلّا أعطاهم. فلما قَدِموا مكَّةَ سألهم سعيد بن العاص عن حالهم، فأخبروه فقال: واللهِ ما رقَّ لشيخٍ منهم، ولا رَحِمَ يتيمًا، ولا نظر لفقراءِ قريش، ولقد قَصَّر فيما فعل. وبلغ معاويةَ فعاتبه. ¬

_ (¬1) جمهرة نسب قريش 1/ 362 - 363، ومختصر تاريخ دمشق 6/ 7.

وحكى ابن سعد عن جُبير بن مطعم أنَّه مرَّ بماءٍ، فسألوه عن فريضة فقال: لا علمَ لي بها، ولكن أَرسِلوا معي حتى أسألَ لكم عنها، فأرسلوا معه، فأتى عمرَ بنَ الخطاب، فسأله، فقال عمر: من سرَّه أن يكون فقيهًا عالمًا فليفعل كما فعل جُبَير بن مُطْعِم؛ سُئل عما لا يعلم، فقال: الله أعلم (¬1). ذكر وفاته: قال الواقدي: مات في سنة خمسين (¬2). وفي رواية عن الواقدي: سنة ثمان وخمسين. وذكر الموفَّق: في سنة سبع أو تسع وخمسين. والأصحّ سنة ثمان وخمسين (¬3). ذكر أولاده: كان له محمد الأكبر، وأُمُّ حبيب، وأُمّ سعيد، وأمُّهم قُتيلة بنتُ عمر من بني تغلب. ونافع، وأبو سليمان، وسعيد الأصغر، وعبد الرحمن الأكبر، وأُمُّهم أُمُّ قتال بنتُ نافع؛ نوفلية. وسعيد الأكبر، وأُمُّه قَوالة بنتُ الحَكَم؛ سُلَميَّة. وعبد الرحمن الأصغر لأُمِّ وَلد. وأُمُّ جُبير وأُمُّها من ربيعة. ومحمد الأصغر (¬4) وأُمُّه حُجير بنت الحكم أو حكيم. ورملة لأُمِّ ولد. وقال الموفق (¬5): وكان محمد ونافع ابنا جُبَير ممن رُويَ عنهما الحديث، وكان أبو سليمان بن محمد بن جبير فقيهًا. وكذا ابنُه عثمان بن أبي سليمان. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 15. ومن قوله: وذكر الشيخ الموفق رحمه الله في الأنساب بني نوفل ... إلى هذا الموضع، ليس في (م). (¬2) لم أقف عليه، وأورده ابن الجوزي في "المنتظم" 5/ 230 - 231 فيمن توفي في هذه السنة (50)، ونقل عن الواقدي قوله: مات في وسط خلافة معاوية. وهو في "الطبقات" 5/ 15. (¬3) التبيين ص 240، وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 9. (¬4) في "طبقات" ابن سعد 5/ 13: ومحمد الأكبر. (¬5) التبيين ص 240.

ذكر إخوة جُبَيْر: وهم سعيد الأكبر، وسعيد الأصغر، والوليد، بنو المُطْعِم بن عديّ، وأُمُّهم من بني عامر بن لؤي. وأما عمُّ جُبَير طعيمة بن عديّ؛ فإنَّ حمزةَ قتله يومَ بدر كافرًا. وقتل وحشيٌّ حمزة بطُعيمة وقد ذكرناه. أسند جُبير بن مطعم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. فحكى جَدِّي في "التلقيح" أنه روى ستين حديثًا، وحَكَى عن ابن البَرْقيّ أنه قال: جاء عنه نحٌو من عشرين حديثًا (¬1). قلتُ: وهذا أقرب إلى الصواب؛ لأن أحمد أخرج له في "المسند" ثلاثةً وعشرين حديثًا (¬2)، منها في "الصحيحين" عشرة؛ اتفقا على ستَّة، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث. وقد ذكرنا بعض مسانيده. وليس في الصحابة من اسمه جُبير بن مُطعم غيره، فأما جُبير غير ابنِ مطعم فأربعة: أحدهم: جُبير بن الحُباب بن المنذر. والثاني: جُبير بن مالك بن القِشْب الأزدي، واسم أُمِّه بُحَينَة، فربَّما نُسِبَ إليها، فقيل: ابن بُحَينَة، وأخوه لأبيه وأمّه عبدُ الله بن بُحَينَة. والثالث: مختلف في اسمه، وعامَّتُهم على أنَّه جُبير بن إياس بن خالد الأنصاري. وقال ابن عمارة: إنَّما هو جُبير بن إلياس. وقال أبو نُعيم عن الحضرمي: إنَّما هو جُبير بن أَنس. والرابع: جُبير بن نوفل غير منسوبٍ (¬3). وليس فيهم مَنْ له رِواية غير صاحب هذه الترجمة، وجبير بن نوفل الذي هو غير منسوب (¬4). ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 365. (¬2) ينظر "مسند" أحمد (16731) - (16785). (¬3) التلقيح ص 173، وذكر ابن حجر في "الإصابة" ممَن اسمُه جُبير أكثر من أربعة. (¬4) التلقيح ص 287.

جعفر بن أبي سفيان

وفيها توفي جعفر بن أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطَّلب ابن عَمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قد ذكرنا أنه قَدِم على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه عند غَزاة الفتح، فأسلما، وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وحُنَينًا، وثبت مع أبيه يومئذ. وأُمُ جعفر جُمانةُ بنت أبي طالب، أخت علي بن أبي طالب. وفيها توفّيت جُويرية بنت الحارث ابن أبي ضِرار، أُمّ المؤمنين، وأبو ضرار هو ابنُ حبيب بن عائذ بن مالك بن جَذِيمة، وجَذِيمة هو المُصطلق. وقيل: ابن المصطلق، من خُزاعة، تزوَّجها مُسافع بنُ صفوان الخُزاعي. وقيل: كانت عند صفوان بن مالك، فقُتل عنها يومَ المُرَيسِيع كافرًا، وعمرُها يومئذ عشرون سنةً. وقد ذكرناها في غزاةِ المُرَيسيع في سنة خمسٍ من الهجرة، وأنها وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شمَّاس. وحكى ابن سعد عن الواقدي (¬1) أنَّها كانت تحت ابن عمّ لها يقال له: صفوان بن مالك بن جَذِيمة، ويُقال له: ذو الشُّفْر، فقُتِلَ عنها، فكاتبها ثابت بن قيس بن شمَّاس على تسع أواق، وأنَّها دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: أنا بنت سيِّد قومه، وقد وقعتُ فيما علمت، فأَعِنِّي على كتابتي. وأنَّه أدى عنها كِتابَتَها وتزوَّجها، وذلك في سنة ستّ أو خمس، عند مُنْصَرَفِه من المُرَيسيع، وقد ذكرناه هناك. وقال ابنُ سعد (¬2): حدَّثنا محمد بن عمر بإسناده عن مجاهد قال: قالت جُويرية: يا رسولَ الله، إنَّ نساءكَ يَفْخَرْنَ عليَّ؛ يَقُلْنَ لي: لم يتزوَّجْكِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلم أُعْظِمْ صَداقَك؟ أَلم أُعتِقْ أربعين من قومك؟ ". ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 113، وهو قطعة من خبر مطوَّل عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) في "الطبقات" 10/ 114. وذكره البلاذري أيضًا في "أنساب الأشراف" 1/ 531.

وروى ابن سعد عن محمد بن عمر، عن عبد الله بن أبي الأبيض مولى جُويرية، عن أبيه قال: سَبَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق، فوقعت جُويريةُ في السَّبْي، فجاء أَبوها فافتداها، ثم أنكحها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعْدُ. وقال ابن سعد بإسناده عن أبيَ قِلابة أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سَبَى جُويريةَ بنت الحارث، فجاء أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن ابنتي لا يُسْبَى مِثْلُها، فإنها (¬1) أكرمُ من ذلك، فخلِّ سبيلَها. فقال: "أرأيتَ إن خَيَّرناها، أليس قد أحسنَّا؟ " قال: بلى، وأدَّيتَ ما عليكَ. قال: فأتاها أبوها وقال: إنَّ هذا الرجلَ قد خيركِ فلا تفضحينا، فقالت: إني اخترتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: قد واللهِ فَضَحْتينا. وروى ابن سعد عن الواقديّ عن الزّهريّ (¬2) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعتق جُويريةَ ونكحها وجَعل صَداقَها عِتْقَ كلِّ مملوك من بني المصطلق، فكانت من مِلْكِ يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن سعد عن الواقديّ عن الزُّهري قال: كانت جُويريةُ من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد ضرَبَ عليها الحِجابَ، وكان يَقْسِمُ لها كما يَقْسِمُ لنسائه. وحكى ابن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطعم جويرية بخيبر (¬3) ثمانين وَسْقًا تمراً، وعشرين وَسْقًا شعيرًا. ويقال: قمح. واختلفوا فيما فَرَضَ لها عمرُ على قولين: أحدهما: ستَّةُ آَلاف درهم في كلِّ سنة، وقال: لا أجعلُ سبيَّةً كابنةِ الصدّيق (¬4). والثاني: أنَّه ألحقَها بنساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عشرة آَلاف (¬5) درهم وقال: قد ضربَ عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحجاب. ¬

_ (¬1) في (م) و"الطبقات": فأنا. (¬2) الخبر في "الطبقات" 10/ 114 عن وكيع وغيره، عن زكريا، عن عامر، وليس عن الواقدي عن الزهري. (¬3) في (خ) و (م): بحنين، وهو خطأ، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 10/ 116. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي كُلَّ أزواجه مثل ذلك. ينظر "تاريخ المدينة" 1/ 181. (¬4) أنساب الأشراف 1/ 531. (¬5) في "أنساب الأشراف": اثني عشر ألفًا.

واختلفوا في وفاتها، فحكى ابن سعد (¬1) عن الواقدي، عن محمد بن يزيد، عن جدَّته وكانت مولاةَ جُويريةَ [عن جُويرية]، قالت: تزوَّجني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنتُ عشرين سنة. قال: وتُوفّيت سنةَ خمسين وهي يومئذٍ بنت خمس وستين سنة، وصلى عليها مروانُ بن الحكم، ودُفنت بالبقيع. وقال البلاذري: ماتت سنةَ ستّ وخمسين (¬2). وحكى جدّي في "التلقيح"، والموفَّق في "الأنساب" القولين (¬3). وأسندت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث؛ أخرج لها أحمد (¬4) في "المسند" أربعة أحاديث منها ثلاثة أحاديث في الصحيح؛ للبخاري حديث، ولمسلم حديثان. قال أحمد بإسناده عن الزهري أن عُبيد بنَ السباق يزعمُ أن جويرية أخبرته أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هل من طعام؟ " فقالت: لا والله [ما عندنا] طعام إلا عظم من شاة أعْطِيَتْهُ مولاتي من الصدقة. فقال: "قَرِّبِيه، فقد بلغت محلَّها". انفرد بإخراجه مسلم (¬5). وليس في الصحابيات من اسمها جُوَيرية بنت الحارث سواها. فأمَّا جُويرية غير بنت الحارث؛ فاثنتان: إحداهما: جُويرية بنت أبي سفيان صخر بن حرب، وأمُّها هند بنت عتبة، وقد ذكرناها في بنات أبي سفيان. والثانية: جُويرية بنت أبي جهل بن هشام بن المغيرة المخزومي (¬6)، وأُمُّها أروى بنت أبي العِيص بن أُمية بن عبد شمس. أسلمت وبايعت، وتزوَّجها عتّاب بن أسيد بن أبي العِيص بن أُمية، ثم تزوَّجها أبان بن سعيد بن العاص بن أُمية، فلم تلِد له شيئًا. ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 10/ 116. وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬2) أنساب الأشراف 1/ 351. (¬3) التلقيح ص 22. وذكر الموفق في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 80 أنها توفيت سنة (56) ولم يذكر القول الآخر. (¬4) من هذا الموضع، إلى ترجمة حسان بن ثابت، ليس في (م). (¬5) مسند أحمد (27424)، وصحيح مسلم (1573). وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬6) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 328.

حسان بن ثابت

قال ابن سعد (¬1): وجُويريةُ هي التي خطبها علي بنُ أبي طالب، فجاء بنو المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمرونه في ذلك، فلم يَأذن لهم وقال: "إنَّما فاطمةُ بَضْعَةٌ مني يسوءني ما ساءها". قلت: وهذه جويرية هي التي قالت لَمّا أَذَّن بلالٌ يومَ الفتح على ظهر الكعبة وقال: أشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله؛ قالت: قد لعمري رفع لك ذكرك، وواللهِ ما نُحِبُّ من قتلَ الأحبَّة (¬2). ويقال: إن اسمها جميلة. وفيها توفي حسان بن ثابت ابن المنذر بن حَرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، شاعرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيتُه أبو الوليد، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو الحسام. وهو من الطبقة الثانية من الأنصار؛ قال ابن سعد: أحد بني حُدَيلة (¬3)، وأُمُّه الفُريعةُ بنت خالد بن حُبَيش بن لوذان من الخزرج من بني ساعدة. قال: ويقال: بل أُمُّ حسّان الفُريعةُ بنت حُبيش بن لوذان، أُختُ خالد بن حُبيش، وعمرو بن حُبيش. قال: أسلم حسان قديمًا، ولم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدًا، وكان يُجَبَّن، وكانت له سنٌّ عالية. وقال هشام: وكان يَضرِبُ بلسانِه رَوْثةَ أَنْفِه من طوله، وكان قَدِم على عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغَسَّاني، وعلى جبلةَ بن الأيهم ومَدَحَهما. وقد ذكرنا في صدر الكتاب قُدومَه على ملوك الحِيرة. ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 10/ 249، وما قبله منه. (¬2) أنساب الأشراف 1/ 426. (¬3) قوله: أحد بني حديلة، من (خ)، ولم أقف عليه في ترجمته في "طبقات" ابن سعد 4/ 322، وما بعده فيه. وهو في "تاريخ دمشق" 4/ 355 (مصورة دار البشير). عن طريق ابن سعد. وقال المِزِّي في "تهذيب الكمال" 6/ 17: وبنو عمرو بن مالك بن النجار يقال لهم: بنو مغالة، ويقال: بنو حُدَيْلة، وهي أمهم.

وقال أبو عمرو الشيباني: قَدِم حسَّان على عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغسّاني، فوجد النابغةَ عنده جالسًا عن يمينه، وعلقَمةَ عن يساره. قال: فوقفتُ، فقال لي عمرو: يا ابنَ الفُريعة، قد عرفتُ نسبك (¬1) [في] غسَّان، يعني أنهم يرجعون إلى اليمن، فارجع فإني باعثٌ إليك بصِلةٍ سَنيَّة، ولا تُنْشِدني شِعرًا؛ فإني أَخافُ عليك هذين السَّبعَينِ الضارِيينِ أن يفضحك، وفَضيحتُك فَضيحتي، وأنْتَ لا تُحسِنُ أن تقول: رِقاقُ النِّعالِ طَيِّبٌ حُجُزاتُهم ... يُحَيَّوْنَ بالرَّيحانِ يومَ السَّباسبِ (¬2) قال: فقلتُ: لا بُدَّ. فقال: ذاك إلى عَمَّيْكَ. قال: فقلتُ: أَسألكما بحقِّ المَلِكِ إلا قدَّمْتُماني عليكما. فقالا: قُلْ. فقلتُ وأنا وَجِل: أسألتَ رسمَ الدارِ أَمْ لم تَسْأَلِ ... بين الجَوابي فالبُضَيعِ فَحَوْمَلِ إلى قولي: لله دَرُّ عصابةٍ نادَمْتُها (¬3) ... يومًا بجِلِّقَ في الزمانِ الأَوَّلِ الخالطين غنيّهم بفقيرهم ... والمُنْعِمين على الفقيرِ (¬4) المُرْمِلِ وبعض الأبيات في قصة جَبَلَة بن الأيهَم. قال: فما زال عمرو يَزْحَلُ من مَجْلِسِهِ سرورًا حتى شاطرَ البَيتَ وهو يقول لهم: هذه واللهِ البتَّارة التي بترت المدائح، هذا وأبيكَ الشعرُ، لا ما تُعَلِّلاني به منذ اليوم. وقال الأصمعيّ: ولما أنشد حسان: يَسْقُون من يَرِدُ (¬5) البَرِيصَ عليهمُ ... صهباءَ تُخْفَقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ يُغْشَوْنَ حتى ما تَهِرُّ كلابُهم ... لا يسألون عن السوادِ المُقْبِلِ بِيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابُهم ... شُمُّ الأُنوفِ من الطِّرازِ الأَوَّلِ (¬6) ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) كلمة غير واضحة رسمُها: رسا، وينظر "الأغاني" 15/ 158، و"مختصر تاريخ دمشق" 6/ 298. (¬2) البيت من قصيدة للنابغة الذبياني يمدح بها عمرو بن الحارث، وهي في "ديوانه" ص 9 - 13. (¬3) في "ديوان" حسان ص 179: نادمتهم. (¬4) في "ديوان" حسان: والخالطون فقيرهم بغنيهم والمنعمون على الضعيف. (¬5) كذا في (خ) (والكلام منها). وفي المصادر: وَرَدَ. (¬6) وقع الشطر الثاني في (خ) في كل من البيتين الثاني والثالث موقع الآخر. والمثبت من المصادر. والكلام ليس في (م).

قام عمرو قائمًا وقال: يا غُلامُ ما أَلفَ دينار موجّهة (¬1). يعني في كل دينارٍ عشرةُ دنانير. فدفعها إليه وقال: لك عليَّ مثلُها في كل سنة. وذكر أبو الفرج الأصبهاني (¬2) أن هذه الوقعةَ جرت لحسان مع جَبَلَةَ بن الأيهَم، وهو كان ملكَ غسّان في ذلك الوقت. والأوّل أصحُّ لما نذكر بعد هذا. ذِكْرُ غريبِها: قال الجوهري: البُضَيْع، بالضمّ مصغَّر: اسمُ موضع. قال: وهو في شِعر حسان بن ثابت. وأنشد بيت حسان: فالبُضَيع فَحَوْمَلِ (¬3). وقوله: يَسْقُون مَنْ يَرِدُ (¬4) البريصَ. والبَرِيص؛ بالصاد المهملة: اسمُ مكان بظاهر دمشق، ذكره ابن دريد في "الجمهرة" وقال: وليس بعربيّ صحيح، ولم تتكلَّم به العرب (¬5). وقال ابن الجواليقي في "المعرَّب": قد تكلَّمت به العرب؛ قال: وأَحسِبُه رُوميَّ الأَصْلِ، وأنشد بيت حسَّان هذا، إلّا أنّه قال: يَسْقُون من ورد البَرِيص عليهمُ ... بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ فجعله من الورْدِ (¬6). قلت: وقد رُويَ: يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عليهمُ ... صَهْباءَ تُخفَقُ كالرَّحيقِ السَّلْسَلِ وبَرَدَى: اسم نهر دمشق. ولم يذكر البَرِيص في "الصحاح"، ولعله ذهب إلى أن العربَ لم تتكلَّم به. ¬

_ (¬1) كذا في (خ). وفي "الأغاني" 15/ 159: مرجوحة، وفي "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 299: مرموجة. (¬2) في "الأغاني" 15/ 157. (¬3) الصحاح (بضع) ولم يذكر البيت. (¬4) في المصادر: وَرَدَ، كما سلف. والكلام ليس في (م). (¬5) جمهرة اللغة 1/ 258 - 259، وفيه قول ابن دريد: وقد تكلمت به العرب، وأحسبه روميّ الأصل. اهـ. ونقله عنه ابنُ الجواليقي، وسيذكره المصنف بعده. (¬6) لم يتبيَّن لي مرادُه. وينظر "المعرَّب" ص 106 - 107.

وحكى أبو حاتم الرازي عن الحُطيئة الشاعر أنَّه قال: أَبْلِغُوا بني قَيلَةَ أن شاعِرَهم أشْعَرُ العربِ حيث يقول: يُغْشَوْن حتى ما تَهِرُّ كلابُهم وحكى العُتْبِيُّ عن عبد الملك بن مروان أنه قال: أشعرُ بيتٍ قالت العربُ: يُغْشَوْنَ حتى ما تَهِرُّ كلابُهم قال: صار لها أَنَسَةٌ بالضُّيوف. قلتُ: وهذه رواية أبي عمرو الشيباني أنَّ حسَّان قصد المنذر بن عمرو (¬1). وكذا ذكر أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" القصَّةَ وذكر فيها العجائب، وأسنَدَها إلى هشام بن الكلبي عن حسان قال (¬2): خرجتُ أريد عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغَسَّاني، فلما كُنْتُ في بعض الطريق، وقفتُ على السِّعْلاةِ في الليلِ فقالت: أَينَ تُريدُ يا ابنَ الفُرَيعة؟ قلتُ: الملكَ عَمْرًا. فقالت: أتَعْرِفُني؟ قلتُ: لا. قالت: أنا السِّعلاةُ صاحبةُ النابغة، وأُختي المعلاة صاحبةُ عَلْقَمة بن عَبْدَة. وإني مُقْترحةٌ عليك بيتًا، فإنْ أَنْتَ أَجَزْتَه، شفعتُ لك عند أُختي، وإن لم تُجِزْهُ، قتلتُك. قلتُ: هاتِ، فقالت: إذا ما تَرَعْرَعَ فينا الغُلام ... فما إِنْ يُقالُ له مَنْ هُوَهْ [قال: فتتبعتها من ساعتي فقلت]: ولي صاحبٌ من بني الشَّيْصَبان ... فحينًا أقولُ وحينًا هُوَهْ فقالت: أَولى لك! نجوتَ، فاسمع مقالتي واحْفَظْها: عليكَ بمدارسةِ الشِّعر، فإنَّه أَشرفُ الآداب وأكرمُها، وبه يُتوصَّلُ إلى مجالسِ الملوك وتُخدم، وبتركه تتَّضع. ثم قالت: إنَّك إذا وَرَدْتَ على الملكِ وَجَدْتَ عنده النَّابغةَ، وسأصرفُ عنكَ مَعَرَّتَه، وعلقمةَ بن عَبْدَة، وسأُكلِّمُ المعلاة (¬3) أُختي تردّ عَنْكَ سَوْرَتَهُ. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) والكلام منها) وسلف أنه قصد عمرو بن الحارث بن أبي شمر. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 6/ 297 - وما بعدها. (¬3) وقع في (خ): السعلاة، وهو خطأ.

قال حسان: فقدمتُ على عمرو بن الحارث، فاعتاص عليّ الوصولُ إليه، فقلتُ للحاجبِ بعد مُدَّة: إن أَنْتَ أَذِنْت لي عليه، وإلّا هجوتُ اليمنَ كلَّها، ثم انتقلتُ عنها. فاستَأْذَنَ لي عليه، فأَذِنَ، فدخلتُ، فإذا النابغةُ جالسٌ عن يمينه، وعلقمةُ جالسٌ عن يسارِه، فقال لي: يا ابنَ الفُرَيعة، قد عرفتُ مَوْضِعَك (¬1) ونَسبَكَ من غَسَّان، فارجع، فإني باعث إليك بِصِلَةٍ سَنِيَّة، وإني أخافُ عليك هذينِ السَّبُعَينِ الضارِيَينِ. وذكر بمعنى ما تقدَّم، فقالا: قل: فأَنشدتُ: أَسَأَلْتَ رسمَ الدارِ أم لم تَسْأَلِ القصيدة كلّها. وبعد: أسألتَ رسمَ الدار: فالمَرْجِ مَرْجِ الصُّفَّرَينِ فجاسمٍ ... فديارِ بُثْنى (¬2) دُرَّسًا (¬3) لم تُحْلَلِ الأبيات ومنها بعد: يُصفَّقُ بالرحيقِ السَّلْسَل: يَسْقُونَ دِرْياقَ المُدامِ ولم تكُنْ ... تَغْدُو ولائدُهم لِنَقْفِ الحَنْظَلِ يقول: شرابُهم في الأشربة بمنزلة الدِّرْياقِ في الدواء، وفيه ثلاث لغات: دِرْياق، وتِرْياق، وطرياق. ومعنى نَقْفِ الحَنْظلِ أَنَّهم ملوكٌ لا يحتاجون إلى ما يحتاج إليه غيرُهم من العرب. بيضُ الوجوه كريمةٌ أحسابُهم ... شُمُّ الأُنوفِ من الطِّرازِ الأَوَّلِ الشَّمَمُ: الارتفاعُ، ] يقول: ] هم أصحابُ كِبْرٍ وتيه وحَميَّةٍ، ولم يُرِدْ به طول الأَنْف، وإنما هو مَثَلٌ، ومنه قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} [القلم: 16]. ¬

_ (¬1) في "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 298: عيصك. (¬2) في "الديوان" ص 179: سلمى. (¬3) لم تجوّد الكلمة في (خ)، والمثبت من "مختصر تاريخ دمشق".

ومعنى "من الطِّراز الأوَّل": أي: مثل آبائهم الأشراف المتقدِّمين الذين لا تُشْبِهُ خلائقُهم وأفعالهم هذه الأفعال المُحْدَثة. ومنها: أَوَما تَرَي (¬1) رأسي تغيَّرَ لونُهُ ... شَمَطًا وأصبح كالثَّغامِ المُمْحَلِ (¬2) بزُجاجةٍ رَقَصَت بما في جوفها ... رَقْصَ القَلوصِ براكبٍ مستعجِلِ وتَزورُ أبوابَ الملوكِ رِكابُنا ... ومتى نُحَكَّمْ في العشيرةِ نَعْدِلِ الأبيات. ذكر هجائه المشركين: قال ابنُ سعد بإسناده عن الشعبي قال (¬3): سمعتُ جابر بن عبد الله يقول: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: "اُهْجُ المشركين، فإنَّ رُوحَ القُدُسِ سيُعينُك". وقال ابن سعد بإسناده عن البراء بن عازب قال (¬4): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: "اُهْجُ المشركين وجبريلُ معك". وفي رواية ابن سعد: "وإنَّ شِعْرَكَ أشدُّ عليهم من النَّبْل" (¬5). وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن عروةَ، عن عائشة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان مِنْبرًا في المسجدِ يُنافح عنه بالشِّعر، ثم يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لَيُؤيِّدُ حسَّانًا بروح القُدُسِ يُنافح عن رسول الله". أخرجه البخاري تعليقًا (¬6)، وأخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة. بمعناه (¬7). ¬

_ (¬1) في "الديوان"، و "مختصر تاريخ دمشق": إمَّا تري. (¬2) في "الديوان": المُحْوِلِ. والثَّغام جمع ثغَامة، وهي نبتة بيضاء الزهر، إذا يبست اشتدّ بياضه. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 323. (¬4) المصدر السابق 4/ 325. وهو عند مسلم (2486). (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 326 عن محمد بن سيرين. وأخرجه مسلم (2490) مطولًا من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬6) مسند أحمد (24437)، ولم يعلّقه البخاري في "صحيحه" من حديث عائشة كما ذكر المصنف. وانظر التعليق التالي. (¬7) صحيح البخاري (3212)، صحيح مسلم (2485) وهو من حديث أبي هريرة وحسان، وأخرجه أيضًا البخاري (3213)، ومسلم (2486) من حديث البراء - رضي الله عنه -.

وحكى ابن سعد (¬1) وقال: كان ثلاثةٌ من الأنصار يُهاجون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسَّان بن ثابت، وعبد الله بن رَواحة، وكعبُ بن مالك. فأما حسَّان فكان يذكُرُ عيوبَهم وأَيَّامَهم، وأمَّا ابنُ رَواحة فكان يُعيِّرُهُم بالكُفْرِ وتردُّدِهم فيه، وأمَّا كعبُ فكان يذكر الحربَ فيقول: قتلنا، ويتهدَّدُهُم. وحكى ابن سعد أيضًا بإسناده عن عوف، عن محمد قال (¬2): هجا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه ثلاثةٌ من كفَّار قريش: أبو سفيان بن الحارث، وعمرو بن العاص، وابن الزِّبَعْرى. فقال قائل لعليّ بن أبي طالب: اهجُ عنَّا القَوْمَ الذين هجونا، فقال علي: إن أَذِنَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَلْتُ. فقال الرجل: يا رسول الله، ائذن لعليّ في هَجْوهم. فقال: "ليس عنده ذلك"، وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عليٌّ هناك". ثم قال للأنصار: "ما يمنع القَوْمَ الذين نصروا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بسلاحِهم وأنفسِهم أن ينصروه بألسنتِهم"؟ فقال حسان بن ثابت: أنا لها يا رسول الله، وأخذ بطرف لسانِه وقال: واللهِ ما يَسُرُّني به مِقْوَلٌ (¬3) بين بُصْرى وصنعاء، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تهجوهم وأنا منهم؟ ". قال: أَسُلُّكَ كما تُسَلُّ الشعرةُ من العجين. قال: فكان يهجوهم ثلاثةٌ من الأنصار: حسَّان، وكعبٌ، وابنُ رَواحة. وروى هشام عن أبيه: فأخرج حسان لِسانَه، فضرب به رَوْثَةَ أَنْفِهِ، كأنه لسانُ شجاعٍ (¬4)، في طرفهِ شامة سوداءُ، ثم ضرب به ذَقْنَه فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب إلى أبي بكر (¬5)، فإنَّه أعلمُ قُريش بأنسابِها، فيُخَلِّص لك نَسبي" (¬6). ثم قال حسان يُعرِّضُ بأبي سفيان بن الحارث فقال: ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 4/ 324. (¬2) المصدر السابق. عوف: هو الأعرابي، ومحمد: هو ابن سيرين. وينظر حديث عائشة عند مسلم (2490). (¬3) أي: لسان، ووقع في (خ): مقولًا، والمثبت من "الطبقات" 4/ 16. (¬4) في "القاموس": الشُّجاع: الحيَّة، أو الذكر منها. (¬5) بعدها في (خ) (والكلام منها): الصّدّيق - رضي الله عنه -. وهو سهو من الناسخ. (¬6) الحديث بنحوه في "الأنساب" 1/ 22، و"تاريخ دمشق " وأخرجه مسلم بنحوه (2490) من حديث عائشة مطولًا.

وإنَّ سنامَ المجدِ من آلِ هاشمٍ ... بنو بنتِ مخزومٍ ووالدُكَ العَبْدُ ومن وَلَدَتْ أبناءُ زُهرةَ منهمُ ... كرامٌ (¬1) ولم يقربْ عجائزَكَ المَجْدُ ولستَ كعبَّاسٍ ولا كابنِ أُمِّهِ ... ولكن لئيم (¬2) لا يقومُ له زَنْدُ وأَنتَ هجينٌ نِيطَ في آلِ هاشمٍ ... كما نِيطَ خَلْفَ الراكبِ القَدَحُ الفَرْدُ وإن امرءًا كانت سُميَّةُ أُمَّه ... وسمراءُ مغموز (¬3) إذا بَلَغ الجَهْدُ من أبيات. وبلغَتْ أبا سفيان بن الحارث فقال: هذا كلامٌ لم يَغِبْ عنه ابنُ أبي قُحافة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شفيتَ واشتفيتَ". وقد ذكرناه. تفسير غريبها: قوله: وإنَّ سنامَ المجدِ من آل هاشمٍ .... بنو بنت مخزومٍ ..... أشار إلى عبد الله والدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأبي طالبٍ، وجميعِ عمَّاتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أُمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ ابن مخزوم، إلا صفيَّة. وقولُه: ووالدُك العَبْدُ، يُخاطبُ أبا سفيان بن الحارث. وقوله: ومن ولَدَتْ أبناءُ زُهْرة منهم كرامٌ ... يعني حمزة وصفيَّة، وأُمُّهما هالةُ بنت وُهَيب بن عبد مناف بن زُهرة. وقوله: ولست كعبَّاسٍ ولا كابنِ أُمّه ... يعني بابن أُمّه شَقيقَه ضِرار بن عبد المطلب. ثم ذكر أُمَّ أبي سفيان وأُمَّ أبيه، ثم قال: وإنَّ امرءًا كانت سُميَّةُ أُمَّه .... ثم قال: وأنْتَ هجينٌ نِيطَ في آل هاشمٍ ... فقال الجوهري (¬4): رجل هَجِينٌ بَيّنُ الهُجْنَة. [والهُجْنَةُ] في الناسِ والخيل، وإنَّما تكون من قِبَلِ الأُمِّ. فإذا كان الأب عتيقًا والأمُّ ليست كذلك؛ كان الولدُ هجينًا. ¬

_ (¬1) في "الديوان" ص 89: وما وَلَدَتْ أفناء زُهرة منكم كريمًا ..... (¬2) لعلها كذلك، فقد رسمت في (خ): ليتم، وبدلها في "الديوان" ص 89، و"الأغاني" 4/ 142: هجين. (¬3) في "الديوان" ص 89، و "الأغاني" 4/ 142: مغلوب. وتنظر الأبيات في "الاستيعاب" (ترجمة حسان). (¬4) الصحاح (هجن) وما سيرد بين حاصرتين منه.

قال: والإقْرافُ من قِبَلِ الأبِ. ثم ذكر وقال: العَبْدُ والهَجِينُ والفَلَنْقَسُ قال أبو عُبيد: والفَلَنْقَسُ: الذي أبوه مولًى وأُمُّه عربية (¬1)، والهَجين: الذي أبوه عتيقٌ وأُمُّه مولاة، والمُقْرِف: الذي أبوه مولًى وأُمُّه ليست كذلك. وناطه ينوطه نَوْطًا، أي: علَّقَهُ. وقال ابن سعد (¬2): حدَّثنا عبد الله بن مَسْلَمةَ بن قعنب الحارثي، عن إياس السُّلَمي، عن ابن بُريدة، أن جبريل أعانَ حسَّان بنَ ثابت على مِدْحتِه رسول الله صلى الله عليه بسبعين بيتًا. وروى ابن سعد أنَّ حسانَ بنَ ثابت قال لأبي هُريرة: أَنشدُكَ الله، هل سَمِعْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أيِّد حسَّانًا بروحِ القُدُسِ؟ ". قال: نعم. وقد ذكرنا أنَّه في الصحيح، وذكرنا أنَّ عمر بن الخطاب مرَّ بالمسجد وحسان يُنْشِدُ، فلحظه بعينه، فقال له حسان: قد كنتُ أُنشِدُ فيه، وفيه مَنْ هو خَيرٌ منك. فسكت عمر، والتفتَ حسَّانُ إلى أبي هريرة فقال له، وذكر الحديث. وسنذكره (¬3). وقال أبو عُبيدة: فضَلَ حسَّانُ بثلاث: كان شاعرَ الأنصار في الجاهلية، وشاعرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلامِ، وشاعِرَ اليمن كلِّها [في الإسلام] (¬4). قال: وقيل له: كان شِعْرُك في الجاهلية أقوى من الإسلام فقد هَرِم شِعْرُكَ. فقال: ما هَرِمَ، وإنَّما الإسلامُ يمنعُ من الكذب، والشعر لا يُزَيِّنُهُ إلا الكذب. وقال أبو عبيدة: كان حسان جبانًا، وقيل: إنَّما حدثَ له الجُبْنُ لَمَّا ضَرَبه صفوان بنُ المعطِّلِ بالسيف، ولو كان جبانًا لَهُجيَ بالجُبْن. ¬

_ (¬1) في (خ): مولاة، وهو خطأ، والتصويب من "الصحاح" (فلقس). (¬2) في "الطبقات" 4/ 326. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 326، والحديث في "صحيح" البخاري (3212)، و"صحيح" مسلم (2485)، وسلفت الإشارة إليه أول هذه الفقرة. (¬4) الاستيعاب، وما بين حاصرتين منه.

قلتُ: وليس كذلك؛ فإنَّ صفوانَ إنَّما ضَربه بالسيف في غزاة المُرَيسِيع، وذلك عند حديث الإفك، وحديثُ الإفك كان في سنة ... (¬1) وقد فات حسانًا غَزاةُ بدرٍ وأُحدٍ والسرايا التي قبلَ الإفْك، فدلَّ على أنَّ الجُبْنَ كان فيه خِلْقَة. وكذا في غَزاة الخندق، فإنه كان مع النساء في بعض الآطام، وقد ذكرنا قصته مع صفية عمَّة النبي صلى الله عليه وسلم وقتلها اليهوديّ. ذِكْرُ بعضِ ما مَدَحَ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: قال ابن سعد (¬2): حدَّثنا مالك بن إسماعيل النَّهْديّ بإسناده عن عبد الملك بن عُمَير قال: جاء حسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أُسْمِعُكَ؟ فقال: "قُل حقًّا". وفي رواية: "ولا تَقُلْ إلا حقًّا"، فقال: شَهِدْتُ بإِذْنِ اللهِ أَنَّ محمدًا ... رسولُ الذي فوق السماواتِ من عَلُ (¬3) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أَشهدُ". فقال حسان: وأنَّ الذي عادى اليهودُ ابنَ مريم ... نبيٌّ أتى من عندِ ذي العَرْشِ مُرْسَلُ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد". فقال حسان: وأنَّ أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عملٌ في دينِه مُتَقَبَّلُ فقال: "وأنا [أشهد] ". فقال حسان: وأن أخا الأحقافِ (¬4) إذْ يَعْذُلُونه ... يُجاهدُ في ذاتِ الإله ويَعْدِلُ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد" فقال: وأنَّ التي بالجِزْعِ من بطن نَخْلَةٍ ... ومن دانَها فِلٌّ عن الخيرِ مَعْزِلُ (¬5) ¬

_ (¬1) بياض في الأصل، وغزوة المريسيع (وهي غزوة بني المصطلق) وقعت في السنة الخامسة للهجرة. (¬2) في "الطبقات" 4/ 323. (¬3) عَلُ: ظرف مكان بمعنى فوق. (¬4) هو النبي هود - عليه السلام -. (¬5) الجزع: قرية عن يمين الطائف (ينظر القاموس)، ونخلة؛ قال البكري في "معجمه" 4/ 1304: "موضع على ليلة من مكة، وهي التي ينسب إليها بطن نخلة". وقوله: دانها، أي: عبدها، وفِلٌّ، أي: خالٍ ... أراد حسان - رضي الله عنه - بكلامه العُزَّى، وقد بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدًا لهدمها بعد فتح مكة. ينظر "سيرة" ابن هشام 2/ 436.

فقال: "وأنا أشهدُ". قلت: كذا وقعت هذه الرواية في هذه الأبيات بالخفض، وينمغي أن تكون مرفوعةً إلا البيت الأوَّل. ولعلَّه من الكاتب (¬1). وقد ذكرنا في حديث أن عائشةَ أَثنت على حسَّان، فقيل لها: اليس هو القائلَ كذا وكذا؟ فقالت: أليس هو القائلَ في مدحِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: هجوتَ محمدًا فأَجبتُ عنه ... وعند اللهِ في ذاك الجزاءُ فإنَّ أبي ووالدَهُ وعِرْضي ... لعِرْضِ محمدٍ منكم وقاءُ (¬2) وأوَّلُ هذه الأبيات: عفت ذاتُ الأصابع فالجِواءُ ... إلى عَذْراءَ منزلُها خَلاءُ وهي في "ديوان" حسان (¬3)، وذكر فيها فتح مكة والحديبية، ومنها: فإمّا تُعْرِضوا عنَّا اعْتَمَرْنا ... وكان الفتحُ وانكشف الغطاءُ ومنها: وإلَّا فاصبروا لجِلادِ يومٍ ... يُعِزُّ اللهُ فيه مَنْ يشاءُ لساني صارِمٌ لا عَيبَ فيه ... وبَحْري ما تُكَدِّرُه الدِّلاءُ ولما قال: هجوتَ محمدًا فأَجَبْتُ عنه ... وعند الله في ذاك الجزاءُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حسَّانُ، جزاؤكَ عند الله الجنَّةُ". وقال مصعبٌ الزبيري: قال حسان أوَّلى هذه القصيدةِ في الجاهلية، وآخِرها في الإسلام. قلتُ: وحسَّان من شُعراء الحماسة، وهو القائل: ¬

_ (¬1) كذا قال المصنف (أو المختصر) وهو وهم منه، فلا يجوز في رويّ هذه القصيدة إلا الرفع، إلا البيت الأول، فإنه يجوز فيه الرفع والجر، وينظر "طبقات" ابن سعد 4/ 323، و"الأغاني" 4/ 152، "تهذيب الكمال" 6/ 21. (¬2) ينظر الخبر في "الطبقات" 4/ 326، و"الأغاني" 4/ 163. (¬3) ص 7 - 9.

أصُونُ عِرْضي بمالي لا أُدَنِّسُهُ ... لا باركَ اللهُ بعد العِرْضِ في المالِ أحتالُ للمالِ إن أَوْدَي فأَجْمعه ... ولستُ للعِرْضِ إن أوْدَى بمحتالِ (¬1) ذِكْرُ وفاتِه: واختلفوا فيها؛ فحكى ابنُ سعد عن الواقديِّ قال (¬2): مات حسَّان بن ثابت في خلافةِ معاوية بن أبي سفيان، وهو ابن عشرين ومئة سنة. ولم يذكر السنة التي مات فيها. وقال ابن عبد البرِّ: مات حسان بن ثابت في سنة خمسين، وأدرك النابغة الذُّبيانيّ، وأعشى بني قيس، وحكاه ابن عساكر في "تاريخه" (¬3). وقال خليفة بن خياط: مات سنة أربعين. وهو روايةٌ عن الواقدي. قال خليفة: وفيها مات معاذ بن عفراء، وكعب بن مالك، وأبو رافع، والأشعث بن قيس، وأبو مسعود الأنصاري (¬4). قال ابن عبد البرّ (¬5): مات حسان وحكيم بن حِزام في سنة أربع وخمسين، وكذا حُوَيطب بن عبد العُزّى، وعاش كلّ واحدٍ منهم عشرين ومئة سنة (¬6). وقال أبو اليقظان: عاش حسان بن ثابت ستين سنةً في الجاهلية، وستينَ سنةً في الإسلام؛ قال: وهو مِمَّن وُلد وحكيم بن حِزام وحُوَيطب بن عبد العُزّى، وُلدَ عند ولادتهما، ومات عند موتِهما. واختلفوا في سنِّ حسان، والمشهور عشرون ومئة سنة. ¬

_ (¬1) ديوان حسان ص 190. وينظر "ديوان الحماسة" 4/ 1689 (بشرح المرزوقي). (¬2) الطبقات 4/ 327. (¬3) الاستيعاب ص 167. ولم أقف في "تاريخ دمشق" أنه مات سنة خمسين. (¬4) الذي في "طبقات" خليفة ص 88 قوله: مات قبل الأربعين، ويقال: في خلافة معاوية. والذي في "تاريخ" خليفة ص 202: مات معاذ بن عفراء وأبو مسعود وكعب بن مالك وأبو رافع وحسان بن ثابت ومعيقيب أيام علي بن أبي طالب. وينظر "تاريخ دمشق" 4/ 354 (مصورة دار البشير). (¬5) لم أقف على قوله، ووقع في (م): ابن البرقي. (¬6) ينظر "أعمار الأعيان" ص 95.

وقد مات لهذا السِّنِّ جماعة: موسى - عليه السلام -، وهارون، ويوسف الصِّدِّيق، وعديّ بن حاتم، والنابغة الجعدي، والحطيئة الشاعر، وأبو عمرو الشيباني واسمُه سعد (¬1) بن إياس، والمعرور بن سُويد، وعَبْدُ خير، في آخرين مثل أبي عبد الله المغربي، وأُستاذه علي بن رزين (¬2). وقال المدائني: عاش حسان مئة وأربع لمشين، وعاش أبوه ثابت مئة وأربع سنين، وعاش المنذرُ جَدُّه كذلك، وعاش حَرامٌ جَدُّ أبيه مئةً وأربعَ سنين، ولا يُعرف أربعةٌ من صُلْبٍ واحد تساوَت أعمارُهم سواهم. وحكى جدِّي في كتاب "أعمار الأعيان" (¬3) نحوًا من هذا وقال: وقد قيل إن حسانًا عاش مئةً وعشرين سنةً. أسند حسان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج له أحمد حديثين، أحدهما حديث إنشاد الشعر في المسجد، فقال أحمد: حدثنا سفيان بن عُيَينة، عن الزُّهري، عن سعيد بن المسيّب قال: مرَّ عمر بحسَّان وهو ينشد في المسجد، وذكره (¬4). والحديث الآخر: "لعن الله زوَّاراتِ القبور" (¬5). وقال ابن منده: روى عن عُمر، وأبي هريرة، وعائشة، وروى عنه ابنه عبد الرحمن بن حسان، والبراء بن عازب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وابنُ المسيّب في آخرين. وليس في الصحابة من اسمه حسان بن ثابت غيره. فأما غير ابن ثابت فاثنان: حسان بن شداد بن زُهير الطَهَويُّ، وحسان بن أبي جابر السُّلَمي. والجميع لهم صحبة ورواية (¬6). ¬

_ (¬1) في (م): سعيد، وهو خطأ. (¬2) ينظر "أعمار الأعيان" ص 95 - 97. (¬3) ص 92. (¬4) مسند أحمد (21936). وأخرجه أيضًا من طرق أخرى (21937) (21938) (21939). وهو في الصحيحين وسلف ذكره. (¬5) مسند أحمد (15657). (¬6) ينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 181، وص 288 - 289. وينظر "الإصابة" فقد أورد فيه ابن حجر ممن اسمه حسان من الصحابة أكثر من ثلاثة.

الحكم بن عمرو الغفاري

ولم يخرّج أحمد في "المسند" عمن اسمه حسان إلا عن حسان بن ثابت الأنصاري صاحب هذه الترجمة. ذِكرُ أولاده: قال ابن سعد (¬1): فَولَدَ حسانُ عبدَ الرحمن، وأمُّه سِيرين القِبْطية أُختُ ماريةَ أُمّ إبراهيم ابنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شاعرًا أيضًا، وابنُه سعيد بن عبد الرحمن كان شاعرًا أيضًا. وذكر ابنُ سعد عبد الرحمن بن حسان في الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة وقال (¬2): كُنيتُهُ أبو سعيد. وهو ابنُ خالة إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلميم لأن أمَّه سِيرِين أُختُ مارية. قال: وقد روى عبد الرحمن بن حسان عن أبيه وغيرِه. قال: فولدَ عبدُ الرحمن بنُ حسان الوليدَ، وإسماعيلَ، وأُمَّ فِراس، وأُمّهم أمُّ شيبة بنت السائب بن يزيد بن عبد الله من كنْدَة، وسعيدَ بن عبد الرحمن، وكان شاعِرًا، وقد روى عنه، وأُمُّه أُمُّ ولد، وحسَّانَ بنَ عبد الرحمن، والفُرَيعَةَ. قال: وكان عبد الرحمن بن حسان قليلَ الحديث. وأُمَّ فِراس بنتَ حسان، وأُمُّها شعثاءُ بنت هلال بن عويمر بن حارثة من خُزاعة. وكان لحسان أخوان: أوس بنُ ثابت، أبو شدَّاد بن أوس، يُروى عنه الحديث (¬3)، وأُبيُّ بنُ ثابت، ويُعرف بأبي شيخ، قُتِل ببئر مَعُونة (¬4). وفيها تُوفي الحَكَم بن عَمرو الغِفاري ابن مُجَدَّع بن حِذْيَم بن الحارث بن نُعَيلَة بن مُلَيل بن ضَمْرة بن بكر. ونُعَيلَة أخو غِفار بن مُلَيْل. ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 4/ 322. (¬2) المصدر السابق 7/ 261 - 262. (¬3) وشدَّاد بن أوس بن ثابت من رجال "تهذيب الكمال" وروى له الجماعة. (¬4) نقل ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 821 عن ابن هشام قوله: أبو شيخ، اسمه أُبيّ بن ثابت، ونقل أيضًا عن ابن إسحاق قوله: أبو شيخ بن أُبيّ بن ثابت، ثم قال: فعلى قول ابن إسحاق هو ابن أخي حسان بن ثابت، وعلى قول ابن هشام هو أخو حسان بن ثابت.

والحَكَمُ من الطبقة الثالثة من المهاجرين، قال ابن سعد (¬1): صحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى قُبِضَ، ثم تحوَّل إلى البصرة، فنزلَها، فولَّاه زيادُ ابنُ أبيه خُراسان، فتوجَّه إليها. وقال ابن سعد بإسناده عن الحسن: إنّ زيادًا بعث الحَكَم بنَ عَمرو على خُراسان، ففتح الله عليهم، وأصابوا أموالًا عظيمةً، فكتب إليه زياد: إن أمير المؤمنين كتب إليَّ أن أصطفيَ الصفراءَ والبيضاء، فلا تَقْسِم بين الناس ذهبًا ولا فِضَّةً. فكتب إليه: إني وَجَدْتُ كتابَ اللهِ قد سَبَقَ كتابَ أمير المؤمنين (¬2). ثم قال للناس: اُغْدُوا على فَيئكم فاقتسِموه. وحكى هشام عن أبيه أن زيادًا كتب إليه يتهدَّده وقال: والله لأقطعنَّ منك طرفًا، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير، فاقْبِضْني، فمات عقيب ذلك. وقال ابن سعد فيما حكاه: فلم يَزَلْ الحكم بن عمرو على خُراسان حتى مات بها في سنة خمسين. قال ابن سعد عن هشام بن محمد الكلبي (¬3): فلما وليَ أسلم بن زُرعة الكلابي خُراسان؛ ذُكر له أن قومًا كانت تُدفَنُ أموالهم معهم، فبعث إلى تلك القبور فنبشها، فقال بَيهَسُ بن صُهَيب الجَرْمي: تَجنَّبْ لنا قَبْرَ الغِفاريِّ والْتَمِسْ ... سوى قبره لا يَعْلُ مَفرَقَكَ الدَّمُ هو النابش القَبْرَ المحيلَ عظامُه ... لينظر هل تحتَ السقائفِ دِرْهَمُ وحكى الطبريّ عن بعضِ أهل السِّيَر أن زيادَ ابنَ أبيه وجَّه الحكَمَ في سنة سبع وأربعين إلى خراسان، فغزا جبال الغَوْرِ وفراوندة (¬4)، ففتحها عَنْوَةً، وأصابَ مغانمَ كثيرةً وسبايا. ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 5/ 116. (¬2) لم ترد هذه العبارة في "الطبقات" وورد فيه بدلَها قولُه: "وإنه واللهِ لو كانت السماواتُ والأرضُ رَتْقًا على عبد فاتقى الله؛ لجعل اللهُ له منهما مخرجًا" ووردت العبارتان في "الاستيعاب" ص 154. (¬3) الطبقات 5/ 117، وما قبله منه. (¬4) في (خ): فرايدة، وفي (م): فراندة، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 229. وجاء اسم "فراوندة" في "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" ص 308 في إقليم الجبال - جانب خراسان ..

قال: وذكر من قال هذا القولَ أنْ الحكمَ قفل من غَزوتهِ هذه، فمات بمَرْو. قلتُ: والأصحُّ أنه مات في سنة خمسين؛ لأنه أقامَ بخُراسان سنتين وبعضَ الثالثة، فغزا غزواتٍ كثيرة. وقد نَصَّ ابن سعد على أنه مات سنة خمسين. وذكر المدائنيّ أن أوّل مَنْ شَرِبَ من جَيحون مولى للحَكَم بن عمرو، فاغترف بتُرْسِه، وشربَ منه، ثم ناوله الحكم، فشرب منه، ثم نزل، فصلّى ركعتين وراءَ النهر. أسند الحَكَمُ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرج له أحمد في "المسند" أربعة أحاديث (¬1). قال أحمد بإسناده عن عبد الله بن الصامت قال (¬2): أراد زياد أن يبعثَ على خُراسان عمرانَ بن الحُصَين، فأبى عليه، فقال له أصحابُه: أتَرَكْتَ خُراسان أن تكونَ عليها؟ فقال: إني -واللهِ- ما يسرُّني أن أُصلَى بحرِّها، ويُصْلَوْن ببَرْدِها، إني أخافُ إذا كُنْتُ في نَحْرِ العدوِّ أن يأتيَني كتابٌ من زياد، فإن أنا مَضَيتُ؛ هلكتُ، وإن رجعتُ، ضُرِبَتْ عُنُقي. قال: فأراد الحكمَ بنَ عمرو الغِفاريَّ عليها، فانقاد لأمرِه. فقال عمران: ألا أحدٌ يدعو إليَّ الحكَمَ؟ فانطلق الرسولُ، فأقبلَ الحَكَمُ عليه، فدخل عليه، فقال عِمران للحَكَم: أسمعتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طاعة لأَحدٍ في معصيةِ الله تعالى؟ ". قال: نعم. قال عمران: لله الحمدُ، اللهُ أكبر (¬3). وفي هذا حديثٌ مشترك بين الحكم وبين عمران بن الحُصَين. وفي الصحابة من اسمه الحكمُ رجُلان (¬4): أحدُهما هذا، والثاني: الحكم بن عمرو بن الشريد، وكلاهما له صحبةٌ ورواية. ¬

_ (¬1) ينظر "المسند" (17860) - (17865)، و (20653) - (20661). (¬2) المسند (20654). (¬3) في "المسند": "لله الحمد. أو: الله أكبر". يعني على الشك من الراوي. (¬4) كذا وقع، والأغلب أنه يريد مِمَّن اسمه الحكم بن عمرو، كما يدل عليه السياق، وهو في "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 182 و 289، لكن ذكرَ ابنُ حجر في "الإصابة" 2/ 274 أربعة مِمَّن يُسمَّون الحَكَم بن عمرو، فزاد: الحكمَ بنَ عمرو بن معتب الثقفي -وهو في "الاستيعاب"- والحكمَ بنَ عمرو الثعلبي، وقال: له ذكر في الفتوح. وأما من اسمه الحكم غير ابن عمرو من الصحابة، فأكثر من عشرة.

صفية بند حيي بن أخطب

وفيها تُوفّيت صفية بند حُيَيّ بن أَخْطَب ابن سَعْية (¬1) بن عامر بن عُبيد (¬2) بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النَّضِير بن النحام بن يَنْحُوم، من بني إسرائيل، من سبط هارون بن عمران - عليه السلام -، إحدى أُمَّهات المؤمنين، وأُمُّها بَرَّةُ بنتُ سَمَوْأل أُخت رِفاعة بن سَمَوْأل. وكانت صفيةُ عند سلَّام بن مِشْكَم القُرَظيّ، وكان شاعرًا، ثم فارقها، فتزوَّجها كنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيق النَّضري، فقُتِل عنها يوم خيبر، وسباها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فطلبَها دِحيةُ منه، فأعطاه إياها، فقيل [له]: إنَّها سيِّدةُ بني النَّضِير، ولا تصلُحُ إلا لك، فأعطَى دِحْيَةَ جاريةً من السَّبْيِ غيرَها، واصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، فأسلمت، فأعتَقَها، وجعلَ عِتْقَها صَداقَها، وحَجَبَها، وقَسَمَ لها، وصارت إحدى أُمهات المؤمنين (¬3). وقد ذكرنا جميع ذلك في سنة سبع من الهجرة. وذكرها الموفَّق رحمه الله فقال (¬4): دخلَ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وهي تبكي، فقال: ما يُبْكيكِ؟ فقالت: إن عائشةَ وحفصةَ ونِساءَك يُعَيِّرْنَني ويَقُلْنَ: هي يهودية، فقال لها: "ألا قُلْتِ لهنَّ: أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد" (¬5). وقد ذكرنا هذا. قال الموفَّق: وكانت عاقلةً حليمةً فاضلةً، ورُويَ أن جاريةً لها قالت لعمر بن الخطاب: إنَّ صفية تحبُّ السبتَ وتَصِلُ اليهودَ. فأرسل إليها عمرُ، فسألها عن ذلك فقالت: أما السبتُ؛ فإني ما أحببتُه منذ أَبْدَلَني الله به الجمعة، وأما اليهودُ فإنَّ لي فيهم أرحامًا. ثم قالت للجارية: ما حملكِ على ما صنعتِ؟ قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حُرَّةٌ لوجه الله تعالى. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الإسلام" 2/ 414: سعنة. (¬2) في (خ): عمير، وهو خطأ. (¬3) ينظر "طبقات" ابن سعد 10/ 116 - 124. (¬4) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 83. (¬5) أخرجه الترمذي (3892) من حديثها وقال: هذا حديث غريب ... وليس إسناده بذلك القوي.

وقال الواقدي: أطعمَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر ثمانين وَسْقًا تمرًا وعشرين شعيرًا. ويقال: قمحًا. وقال ابن سعد (¬1) بإسناده عن زيد بن أسلم، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في الوجع الذي تُوفي فيه اجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية بنت حُييّ: أما واللهِ يا نبيَّ الله، لوَدِدْتُ أنَّ الذي بكَ بي. فغَمَزْنَها أزواجُه، وأبصرهُنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مَضمِضْنَ" (¬2). فقُلْنَ: من أيّ شيءٍ؟ قال: "من تغامزكُنَّ بصاحبتكُنَّ، واللهِ إنَّها لصادقة". وروى ابن سعد أنه لما حُصِرَ عثمان كانت تردُّ عنه، فمنعَها الأشْتَرُ، فوضعت خَشَبًا من منزلها إلى منزلِ عثمان، فكانت تنقلُ عليه الماءَ والطعام. واختلفوا في وفاتها. فذكر ابن سعد قولين: أحدهما: عن الواقدي أنَّها ماتت في خلافة معاوية بن أبي سفيان، من غير تاريخ. والثاني: حكاه الواقدي أيضًا بإسناده عن آمنة بنت أبي قيس الغِفاريَّة قالت: أنا أحدُ النساء اللاتي زَفَفْنَ صفيَّةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تبلغ سبعَ عشرةَ سنةً يوم دخلَتْ عليه. قال: وتوفيت سنة اثنتين وخمسين، ودُفنت بالبقيع. وقال هشام: في سنة خمسين في رمضان. أسندت صفيةُ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخرج لها أحمد في "المسند" أربعةَ أحاديث، منها حديثٌ متَّفَق على صحَّته (¬3). قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق وعبد الأعلى، كلاهما عن مَعْمَر، عن الزهْريّ، عن علي بن الحُسَينِ، عن صفيَّة بنت حُيَيّ قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيتُه أزورُه ليلًا، فحدَّثْتُه، ثم قُمْتُ، فانقلبتُ، فقام معي يَقْلِبُني، وكان مسكنُها في دار أُسامة بن زيد، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَسْرَعا، فقال لهما: "على رِسْلِكما، إنَّها ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 10/ 124، وما قبله منه ص 123. (¬2) في (م): تمضمضن. (¬3) ينظر "المسند" (26858) - (26867). والحديث المتفق عليه هو الذي سيذكره المصنف.

عبد الرحمن بن سمرة

صفيةُ بنت حُيَيّ". فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: "إن الشيطانَ يجري من الإنسانِ مجرى الدَّم، وإني خَشِيتُ أن يقذفَ في قلوبكما شرًّا" (¬1). أخرجاه في الصحيحين. وقد ذكرنا من اسمُها صفية في ترجمة صفية بنت عبد المطلب في سنة ثلاث وعشرين. وفيها توفي عبد الرحمن بن سَمُرَة ابن حبيب بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. كذا نسبه الزبير بن بكَّار، وذكر في أجدادِه ربيعةَ (¬2). وأسقط عامةُ أربابِ السِّيَر من نسبِه ربيعةَ، كابن معين، وابن سعد، والبخاريّ، وابن أبي حاتم، والحاكم أبي عبد الله، وابن مَنْدَه، وغيرهم، وقالوا: حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف (¬3). وكنيته أبو سعيد القُرشيّ، وهو من الطبقة الرابعة ممَّن أسلم يوم الفتح، وهو الذي حضر صُلحَ الحسن مع معاوية. وذكره العلماءُ في تواريخهم. فقال ابن سعد (¬4): كان اسمه عبد الكعبة، فسمَّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمن، وتحوَّل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البصرة، فنزلَها. وقال ابن منده: كان اسمُه عبد كُلال، فسمَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن. واختلفوا في اسم أمّه؛ فقال ابن البَرْقيّ: اسمُها أرْوَى بنت أبي الفَرْعةِ بن كعب بن عمرو الكناني. قال الزبير بن بكَّار: واسمُ أبي الفَرْعة حارثة بن قيس، من بني فراس بن غنم. ¬

_ (¬1) بعدها في (م): "أو شيئًا". يعني أو قال: شيئًا، بدل: "شرًّا". والحديث في "المسند" (26863)، وهو في "صحيح" البخاري (2035)، و"صحيح" مسلم (2175). (¬2) وكذا نسبه ابن قانع في "معجم الصحابة" 2/ 167. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 40 و 9/ 15 و 370، والتاريخ الكبير 5/ 242 - 243، والجرح والتعديل 5/ 238، والمستدرك 3/ 444. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 683. ولم ترد هذه الترجمة في (م). (¬4) في "الطبقات" 9/ 370. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 683.

قال الخطيبُ: ويُقال: ابن أبي الفارِعة (¬1). وقيل: اسم أُمُّه زينبُ، والأوَّلُ أشهر. وقال الهيثم: شهدَ غَزاةَ مؤتة، وبعثه (¬2) خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرِ مُوْتة (¬3). وذكره خليفةُ فقال (¬4): وفي سنة ست وثلاثين (¬5) وجَّه عبدُ الله بنُ عامر عبدَ الرحمن بن سَمُرة إلى سجستان، فصالحه صاحبُ الرُّخَّج (¬6)، فأقام بها حتى اضطرب أمرُ عثمان بن عفّان. قال (¬7): وفي سنة اثنتين وأربعين وجَّه ابنُ عامر عبدَ الرحمن إلى سجستان ومعه في تلك الغزاة الحسنُ البصري، والمهلَّبُ بن أبي صُفْرَةَ، وقَطَريُّ بن الفُجاءة، فافتتح زَرَنْجَ وكورًا من سجستان. قال (¬8): وفي سنة ثلاثٍ وأربعين فتح الرُّخَّج وزابلستان من بلاد سجستان. قال: وفي سنة ستّ وأربعين عزلَه مُعاوية عن خُراسان، وولاها الربيع بنَ زياد. وقال هشام: افتتح فتوحات كثيرة من خراسان، منها زالِق وغيره، وبعثه معاويةُ مع عبد الله بن عامر في صُلْحِ الحسن، فأعطياه ما أراد. وقال ابن سعد (¬9): وجَّه ابنُ عامر عبدَ الرحمن إلى سِجِسْتان، فافتتحها صُلْحًا على أن لا يُقْتَلَ بها ابنُ عِرْسٍ ولا قنفذٌ، وذلك لمكانِ الأفاعي بها لأنها تأكُلُها (¬10). ثم مضى إلى أرضِ الداوَر، فافتتحها. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 533. (¬2) في (خ) (والكلام منها): وبعث، وأثبتُّ اللقطة على الجادَّة. (¬3) تاريخ دمشق 9/ 968 (مصورة دار البشير) وفيه قول عبد الرحمن بن حمرة: وجَّهني خالد بن الوليد يوم مؤتة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أتيتُه قال: اسكت يا عبد الرحمن، أخذ اللواء زيد ... وذكره. (¬4) تاريخ خليفة ص 167 و 180. (¬5) كذا في (خ). وفي "تاريخ خليفة": سنة ثلاث وثلاثين. (¬6) في "تاريخ خليفة" ص 167: صاحب زَرَنج. وزَرَنْج: قصبة سجستان؛ والرُّخَّج: مدينة من نواحي كابُل. ينظر "معجم البلدان" 3/ 38 و 138. (¬7) في تاريخ خليفة ص 205. (¬8) المصدر السابق، وما بعده منه أيضًا. (¬9) في "الطبقات" 7/ 48 (في ترجمة عبد الله بن عامر). (¬10) في "الطبقات": إنهما يأكلانها.

واختلفوا في وفاته، فقال ابن سعد (¬1): مات في سنة خمسين؛ لما افتتح خُراسان رجع إلى البصرة، فمات بها. وقال خليفة: سنة إحدى وخمسين بالبصرة (¬2)، وصلى عليه زياد، ومشى في جنازته. وروى عبد الرحمن عن معاذ بن جبل، وغيره، وروى عنه ابنُ عباس، وابنُ المسيِّب، وابن سِيرين، والحسن البصري في آخرين. ذِكرُ أولاده: كان له عبيد الله - غلب على البصرة أيام [ابن] الأشعث - وعبد الله، وعثمان، ومحمد، وعبد الملك، وشُعيب، وأُمّهم هند بنت أبي العاص بن نوفل بن عبد شمس بن عبد مناف (¬3). أسند عبد الرحمن الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخرج له أحمد في "المسند" ستَّة أحاديث، منها حديث متفق عليه، وحديثان لمسلم (¬4). وليس في الصحابة من اسمه عبد الرحمن بن سمُرة غيره. وقال أحمد بإسناده عن جرير بن حازم قال: سمعتُ الحسن قال: حدثني عبد الرحمن بن سمُرة قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبدَ الرحمن، لا تسأَلِ الإمارةَ، فإنكَ إن أُعطيتَها (¬5) عن مسألة [وُكِلْتَ إليها، وإنْ أوتيتَها (¬6) عن غير مسألة] أُعِنْتَ عليها، وإذا حلفتَ على يمين، فرأيتَ غيرَها خيرًا منها، فكفّرْ عن يمينك، وائْتِ الذي هو خيرٌ". أخرجاه في الصحيحين (¬7). ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 9/ 370. (¬2) كذا في "الاستيعاب" ص 447، ولعل المصنف نقله عنه، والذي في "طبقات" خليفة ص 174 أنه توفي سنة خمسين، وكذا ذكر وفاته في "تاريخه" ص 211 في حوادث سنة خمسين. (¬3) ينظر "نسب قريش" ص 150، و"تاريخ دمشق" 9/ 980 (مصورة دار البشير) وما بين حاصرتين لا بدَّ منه. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 7/ 684. (¬4) ينظر "مسند" أحمد (20616) - (20631)، وصحيح البخاري (6622)، وصحيح مسلم (913) و (1648) و (1652). (¬5) في رواية جرير بن حازم في "المسند" (20628): أوتيتَها. (¬6) لعل رواية المصنف: أعطيتَها، كاللفظة قبلها، لكن ما بين حاصرتين مستدرك من "المسند". (¬7) صحيح البخاري (6622)، وصحيح مسلم (1652).

قلت: وقد احتجَّ مالك والشافعيّ وأحمد بهذا الحديث على جواز تقديم الكفَّارة على الحِنث، وعند أبي حنيفة لا يجوز؛ لأنَّه كفَّر قبل وجودِ سببه، فلا يجوز، كما لو كفَّر قبل الجُرح. وأما الحديث فتكلَّم عليه جدِّي في كتاب "التحقيق" (¬1) وقال: إنما يصلُح الاحتجاجُ هذا لو كانت الواو للترتيب. قال: وقد رواه جماعة، فقدَّموا الحِنْثَ على الكفَّارة؛ فأخرج أحمد في "المسند" (¬2) عن عديّ بن حاتم قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ على يمينٍ، فرأى غيرَها خيرًا منها؛ فلْيأتِ الذي هو خير، وليُكَفِّرْ عن يمينه". وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وغيرِه. وأخرج أيضًا أحمد في "المسند" عن هُشيم (¬3) بإسناده عن عبد الرحمن بن سَمُرة قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الرحمن بن سَمُرة، إذا آليتَ على يمين، فرأيتَ غيرَها خيرًا منها، فائْتِ الذي هو خيرٌ، وكَفِّرْ عن يمينك". قال جدِّي: وهذا اختياري. بمعنى مذهب أبي حنيفة. قلت: فقد كفانا جَدِّي مُؤْنةَ الجواب عن الحديث؛ الفِقْهُ مع أبي حنيفة لِما ذكرنا أنه كفَّر قبل السبب، ووجوث الكفارة إنَّما يتعلَّقُ بالحِنْث، والدليل عليه قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وفي قراءة ابن مسعود: "إذا حلفتُم وحَنِثْتُم"، ولئن لم تُثْبتوه قُرآنًا، فلا أقلَّ من أن يكونَ حديثًا مشهورًا، ومتى وقع التعارضُ بين الأخبار ترجَّح مذهبُ أبي حنيفة بما ذكرنا، وقد ذكرنا تمامه في "الخلافيات". ¬

_ (¬1) 2/ 380. (¬2) برقم (18251). (¬3) في (خ): هشام، وهو خطأ، والتصويب من "المسند" (20616).

عبد العزيز بن زرارة

وفيها توفي عبد العزيز بن زُرارة ابن جَزْء بن عمرو بن عوف الكلابي (¬1). قال الزُّبير بن بكَّار: كان له مالٌ عظيمٌ، فخرج عنه كلِّه، وجعله في سبيلِ الله. وقال العُتْبيُّ: وَفَدَ عبدُ العزيز وأبوه زُرارةُ على معاوية: فأقاما مُدَّةً لا يَصِلانِ إليه، ثمَّ أُذِنَ لعبد العزيز دون أبيه، فقال: واللهِ لا أدخلُ حتى يتقدَّمَني أبي. وبلغ مُعاويةَ فجلَّ في عَينِه، وأَذِنَ لهما، فلما دخلا عليه سلَّما، وقال له عبد العزيز: ما زِلْنا نقطع الفيافي إليك، يدلُّنا عليكَ فَضْلُك، ثم نحنُ على بابك منذ سنة، نستعينُ على الجفاء بالصبر، وقد رأينا أقوامًا أدناهم منك الحظُّ، وآخرين أَبْعَدَهم عنك الحِرْمان، فلا ينبغي للمُقرَّبِ أن يأمنَ، ولا للمُبْعَد أن يَيأَس. وإنَّ أوَّلَ المعرفةِ الاختبار، فابْل أو اخْتَبِرْ. فعجب معاويةُ من كلامه، وقال لابنه يزيد: ضع يدَكَ في يَدِهِ وآخِهِ. ففعل، ثمَّ ولَّاه مصرَ بعد ذلك. وفي ذلك يقول عبد العزيز: دخلتُ على معاويةَ بنِ حَرْبٍ ... وذلك إذ أَيِسْتُ من الدُّخولِ وما نِلْتُ الدخولَ إليه حتَّى ... حَلَلْتُ مَحَلَّةَ الرجلِ الذَّليلِ وأَغضيتُ الجفونَ على قَذاها ... وصنتُ النفسَ عن قالٍ وقيلِ وإني إن عجلتُ سَفِهْت رأيي ... ألا إن العِثارَ مع العَجُولِ وفي روايةٍ: فأدركتُ الذي أمَّلْتُ منه ... بمُكْثٍ، الخَطا زادُ العَجولِ وقال الزُّبير: خرج [عبد العزيز] غازيًا في سنة خمسين مع يزيد بن معاوية [إلى] الرومِ نحو القسطنطينية، فجعل يتعرَّضُ للشهادة، فلما التحمت الحرب؛ حمل فانغمس في القوم وهو يقول: ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 42/ 316 - 320. (طبعة مجمع دمشق).

عتبان بن مالك

قد عِشتُ في الدهرِ أطوارًا على طُرُقٍ ... شتَّى فصادفْتُ منها اللينَ والبَشِعا كُلًّا يكون (¬1) فلا النَّعْماءُ (¬2) تُبْطِرُني ... ولا تَخَشَّعْتُ من لأوائه جَزَعًا لا يملأُ الأمرُ (¬3) صدري قبل موقعِه ... ولا أَضيقُ به ذرعًا إذا وَقَعا ثم قاتل حتى قُتِلَ. وكان أبوه زرارةُ عند معاوية، وبلغ الخبرُ معاويةَ، فقال لزُرارة: ماتَ فتى العرب! فقال: ابنك أم ابني؟ فقال: ابنك. فاستَرْجَعَ. وأمر معاويةُ مناديَه فنادى: ألا إنَّ فتى العربِ قد ماتَ فعزُّوني فيه. والبَشِعُ بكسر الشين: الكريه المطعم، والجَشِع: الكثير الحِرْص (¬4). وفيها تُوفي عِتْبانُ بن مالك ابن عمرو بن العَجْلان بن زيد بن غَنْم بن عوف [من الطبقة الأولى من الأنصار من بني سالم بن عوف] من القواقلة، وهم بنو غَنْم وبنو سالم ابني عوف بن عمرو بن عوف من الخَزْرج، وأُمُّ عِتْبان بن مالك من مُزَينةَ. وحكى ابن سعد (¬5) عن الواقديّ، عن عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عَوْن قال: آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين عِتْبان بن مالك وبين عمر بن الخطاب (¬6)، وشهد عِتْبانُ بدرًا وأُحدًا والخندقَ. وذهب بصره على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعد الخندق، فسأل رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيه فيُصَلّي في مكانٍ من بيتِه ليتَّخذه مُصلَّاه، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك (¬7). ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 42/ 320: بلوت. (¬2) في (م): فليس العمر، وفي (خ): فلا النعمى، والمثبت من "تاريخ دمشق". (¬3) في (خ) و (م): الأمن، والمثبت من "تاريخ دمشق". (¬4) في (خ): والجَشَع أشدّ الحرص. (¬5) في "الطبقات" 3/ 509. (¬6) من قوله: بن عمرو بن عوف من الخزرج ... إلى هذا الموضع، ليس في (م) وما سلف بين حاصرتين منها. (¬7) المصدر السابق، وهو بنحوه عند البخاري (424)، ومسلم (33). من حديث محمود بن الربيع.

عقيل بن أبي طالب

وقال ابن سعد (¬1): حدثنا سفيان بن عُيَينة بإسناده عن محمود إن شاء الله أنَّ عِتْبانَ بن مالك الأنصاريَّ كان محجوبَ البَصَر، وأنَّه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم التخلُّف عن الصلاة، فقال له: "هل تسمعُ النداء؟ " قال: نعم. فلم يُرَخِّص له. وفي رواية ابن سعد عن الواقدي: عن مَعْمَر ومالك، عن الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عِتْبان بن مالك قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إنَّها تكونُ الليلةُ المظلمةُ، والمطرُ والريحُ، فلو أَتَيتَ منزلي فصَلَّيتَ فيه، قال: فجاءني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أين تُحِبُّ أن أُصلِّيَ؟ " فأَشرتُ إلى ناحيةٍ من البيتِ، فصلَّى وصلينا [خلفه] رَكْعَتَين. قال الواقدي: فذلك البيتُ الذي [صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم] يُصلي فيه الناسُ بالمدينة إلى اليوم. قال: ومات عتبان في وسط خلافة معاوية بن أبي سفيان. وقال ابن سعد (¬2): كان لعِتْبان من الولدِ عبدُ الرحمن، وأمُّه ليلى بنت رِئاب بن حُنيف من الخزرج، وليس له عَقِبٌ، درجوا فلم يَبْقَ منهم أحد. وليس في الصحابة من اسمه عِتْبان غيره. وله صحبة، وليس له رواية (¬3). وفيها توفي عقيل بن أبي طالب أخو عليّ - عليه السلام - لأبيه وأُمِّه. وأُمُّه فاطمة بنت أَسد، وكان أَسنَّ أولادِ أبي طالب بعد طالب. وكان طالبٌ أَسنَّ من عقيلٍ بعشرِ سنين [وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أسنَّ من عليّ بعشرِ سنين، وكان طالبٌ أكبرَهم، وعليٌّ أصغَرَهم (¬4)، وقد ذكرنا هذا فيما تقدَّم. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 510، وما سيرد بين حاصرتين من (م). (¬2) في "الطبقات" 3/ 509 و 510. وما قبله منه. (¬3) كذا قال المصنف، لعله نقله عن جدّه في "التنقيح" ص 239، غير أن حديثه في الصحيحين (كما سلف قيل تعليقين) وفي "مسند" أحمد (16479). ومن جهة أخرى، فقد ذكر ابن حجر في "الإصابة" 6/ 374 صحابيًّا آخر اسمه عتبان بن عبيد. (¬4) طبقات ابن سعد 4/ 38، وما بين حاصرتين منه، وينظر "تاريخ دمشق" 48/ 138.

وعَقيلٌ من الطبقة الثانية من المهاجرين، واختلفوا في وقت إسلامه، فقال ابن عبد البَرّ (¬1): قَدِم المدينة قبلَ الحُدَيبِيَةِ مهاجرًا. وقال هشام: أسلم في سنة ثمانٍ من الهجرة. وقال الواقدي: شهد مع أخيه جعفر غزاة مؤتة، وأصاب في ذلك اليوم خاتمًا من ذَهَب عليه تماثيل من ذهب، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفله إياه. وقد ذكره ابنُ سعد فقال (¬2): أُسِرَ يومَ بدر، ففداه العباسُ، ولم يكن له مال. وكان قد أُخرجَ من مكَّة مكرهًا (¬3)، وفدى معه نوفلًا، وقد ذكرنا ذلك. قال ابن سعد: ثم رجع عقيلٌ إلى مكَّة، فلم يزلْ بها [حتى خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] مهاجرًا أوَّل سنة ثمان وشهد غَزاة [مؤتة]، ثم رجع، فعرض له مَرَضٌ، فلم يُسْمَعْ له بذِكْرٍ في فَتْح مكة، ولا الطائف، ولا في حُنَين. وأطعمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر مئةً وأربعين وَسْقًا كلَّ سنة. وذكر حديث الخاتَمِ الذي لقيَه يومَ مؤتة، وأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَفَّله إيّاه، وهذا قولُ ابن سعد (¬4). وقال الزُّبير بن بكَّار: شهد مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ حُنَين وثبتَ معه. وكذا قال المُفَضّل بن عِتبان، وعدَّه مع العبّاس ممَّن سمَّينا في غزاةِ حُنَيْن (¬5). وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحبُّه؛ قال ابن سعد (¬6): حدثنا الفَضْلُ بنُ دُكَين بإسناده عن أبي إسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعقيل: "يا أبا يزيد، إني أُحبّكَ حُبَّين، حُبًّا لقَرابتِك، وحُبًّا لِما كُنْتُ أعلمُ من حبِّ عمِّي إيَّاك". ¬

_ (¬1) في "الاستيعاب" ص 585. (¬2) في "الطبقات" 4/ 39. (¬3) بعدها في (خ): وفدى العباس ولم يكن له مال. وهي عبارة مكررة مع تحريف فيها. (¬4) المصدر السابق 4/ 40، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 48/ 143 - 144 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) في "الطبقات" 4/ 40.

وذكر ابنُ عساكر أنَّ أُم هانئ بنت أبي طالب أجارت عَقِيلًا يوم الفتح، فأجاز رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جِوارَها. ثم قال ابن عساكر: رواه (¬1) عَبَّادُ بنُ كَثير. وهو وهمٌ منه لأنَّ عقيلًا أسلمَ قبلَ ذلك. قال (¬2): وقال الحسن البصري: قَدِمَ عَقِيلٌ البصرةَ، فتزوَّجَ امرأةً من بني جُشَم، فلما خَرَج قالوا: بالرِّفاءِ والبنين، فقال: لا تقولوا ذلك، نهانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نقولَ كذا، وأمرنا أن نقول: "باركَ اللهُ لك وعليك". ثم قَدِم الكوفةَ بعد ذلك. قلتُ: وقد أخرج أحمد هذا الحديث في "المسند" فقال: حدَّثنا الحَكَم بن نافع بإسناده عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: تزوَّج عَقِيل. ولم يذكر البصرةَ في الحديث، وقال: قولوا: "بارك اللهُ لها فيك، وباركَ لك فيها" (¬3). والرِّفاءُ: جَمْعُ الشَّمْل، وكان ذلك عادة الجاهلية. وروى أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" (¬4) أيضًا عن المسيب بن نَجَبَةَ عن عليّ - عليه السلام - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيَ كلُّ نبيٍّ سبعةَ رُفَقاء، وأُعطيتُ أنا أربعة عَشَر" قيل لعلي: من هُم؟ قال: أنا وابناي الحسنُ والحسين، وعمي حمزة، وأخواي جعفر وعَقِيل، وأبو بكر وعمر، وعثمان والمقداد، وسلمان وعمّار، وطلحة والربير. قال (¬5): وروى جابر بن عبد الله أن عَقِيلًا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "مرحبًا بَك يا أبا يزيد، كيفَ أصبحتَ؟ " قال: بخيرٍ صبَّحك الله يا أبا القاسم. وقال أيضًا (¬6): إن عقيلًا قَدِم على أخيه عليّ - عليه السلام - بالعراق، فسأله، فقال: ما أُعطيكَ شعيبًا. فقال: إني فقيرٌ ومحتاج. فقال: اصبِر حتى يخرجَ عطائي مع المسلمين وأُعطيكَ معهم. فألحَّ عليه، فقال عليّ لرجل: خُد بيده، فانطَلِقْ به إلى الحوانيت فَدُقَّ ¬

_ (¬1) في (خ): ثم رواد وهو خطأ والخبر في "تاريخ دمشق" 48/ 143 (طبعة مجمع دمشق) بنحوه. (¬2) في "تاريخ دمشق" 48/ 133. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 76. (¬3) الحديث في "المسند" (15740)، وفيه: "قولوا: بارك الله لك، وبارك عليك، وبارك له فيها". (¬4) 48/ 146. (طبعة مجمع دمشق). (¬5) تاريخ دمشق 48/ 145 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) في "تاريخ دمشق" 48/ 149 - 150. وما سيرد بين حاصرتين من (م).

أقفالها، وخُذْ ما فيها. فقال عقيل: أردتَ أن تجعلني سارِقًا! [فقال علي: أنت أردت أن تتخذني سارقًا] أرَدْتَني أن آخُذَ أموال الناس -أو المسلمين- فأُعطيَكَ إيّاها! قال: لأذهبَنَّ إلى رجُلٍ هو أوْصَلُ لي منك. يعني مُعاوية. قال: أنت وذاك. فذهب إلى مُعاوية فعرف له ذلك، فأعطاه مئة ألف درهم، وقال له: اصعدِ المنبر واذكُر ما أولاك عليٌّ من نفسه، وما أوليتُكَ. فصعد المنبر وقال: أيُّها الناس، إني أُخبركُم أني أردتُ عليًّا على دينه، فاختار دينَه، وأني أردتُ مُعاويةَ، فاختارَني على دينه. فقال معاوية: هذا الذي تزعمُ قريشٌ أنه أحمق وأنَّها أعْقَلُ منه! وذكر ابنُ عساكر أيضًا في "تاريخه" أن معاويةَ قال لعقيل: لا أرضى منكَ إلّا أن تصعدَ المنبر، فتلعنَ أخاك، فصعد المنبر وقال: أيها الناس، إن مُعاويةَ أمرني أن ألعنَ أخي، فالعنوه. ففهم معاويةُ قَصْدَه. وذكر ابنُ عساكر أيضًا عن الرِّياشي قال: لَمّا قَدِم عَقِيل على مُعاوية، قرَّبه وأدناه ووصله، وقضى عنه دَيْنَه، وقال له في بعض الأيام: إن أخاك لَغَيرُ حافظٍ لك؛ قطَعَ قرابتَك وما وَصَلَكَ. فقال له عَقِيل: واللهِ لقد أَجْزَلَ العطيّة وأَعْظَمَها، ووصَلَ القرابةَ وحَفِظَها، وأحسن ظنَّه بالله إذ ساءَ ظنُّك به، وحَفِظَ أمانَته وخُنْتَ أمانتَك، فاكفُفْ عنه، فإنَّه عما تقولُ بمعزل. ذِكرُ مخاطبة معاوية لعقيل بن أبي طالب: قال: وقال له معاوية ليلةَ الهَرِير؛ يا أبا يزيد، أنْتَ الليلةَ معنا. قال: فيوم بدرٍ -أو ليلة بَدْرٍ- كُنْتُ معكم أيضًا (¬1). وقال، وقال له رجل: تركتَ أخاكَ وأتيتَ مُعاوية؟ فقال: إنَّ أخْوَنَ (¬2) مني من سَفَك دمه بين أخي وابن عمي ليكون أحدُهما أميرًا. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 73. وليلة الهَرِير هي الليلة الثالثة من ليالي صِفِّين، وكانت ليلة الجمعة، لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة (37)، شُبّهت بليلة القادسية. ينظر "أنساب الأشراف" 2/ 220 و 223. (¬2) العقد الفريد 4/ 5. وفي "أنساب الأشراف" 2/ 73 (والخبر فيه بنحوه): أحين.

وذكر الهيثم بن عدي واقعته مع أخيه عليّ قال (¬1): قَدِمَ عقيلٌ الكوفةَ، فنزل على أخيه عليّ - عليه السلام -، فأمر الحسنَ فكساه. فلما أمسى دعا عليٌّ بعَشائه؛ فإذا هو خبزٌ وملحٌ وبَقْلٌ. فقال عقيل: ما هو إلّا ما أرى؟ ! قال: نعم. قال: أفتقضي دَيني؟ قال: كم هو؟ قال: أربعون ألفًا. قال: اصبر حتى يخرجَ عطائي، فإنَّه أربعة آلاف دِرهم فأدفَعُها إليك. فقال عقيل: بيوتُ الأموالِ بيدِكَ، وأنتَ تُسَوِّفُني بعطائك! فقال: اكسر صندوقًا من هذه الصناديق، فإنَّ فيه أموال المسلمين، فخُذْها. قال: أفتأمرُني بذلك! فقال: أفتأمرني أن أدفعَ إليك أموال الناس وقد أمَّنوني عليها؟ ! فخرج إلى معاوية، فأعطاه خمسين ألف دينار وقال له: كيف رأيتَني من أخيك؟ فقال: أخي آثر دينَه على دُنْياه، وأنْتَ آثَرْتَ دُنْياكَ على دينك، فأنْتَ خيرٌ لي من أخي، وأخي خيرٌ لنَفْسه منك. وقال الهيثم: ثم عاد إلى عليّ - عليه السلام -، فقال له: ويحكَ يا عقيل، اخترتَ الدنيا على الآخرة! فقال: الفَقْرُ والدَّينُ. وقال الهيثم: قال له يومًا معاوية: يا أبا يزيد، جَفَوْتَنا. فقال: وإني امرؤٌ مني التكرم شيمةٌ ... إذا صاحبي يومًا على الهُونِ أَضمرا ثم قال: يا معاوية، لئن كانتِ الدنيا مَهَّدَتْك مِهادَها، وأظلَّتك حذافيرُ مُلْكِها، ومدَّت عليك أطنابَ سُلْطانِها، لم يكن بالذي يزيدك مني رغبة، ولا خشوعًا لرهبة. فقال له معاوية: يا أبا يزيد، إنّي لأرجو من الله أن يكونَ إنّما رَدَّاني بردائِها، وحَباني مُلْكَها لكرامةٍ ادَّخَرها لي عنده. وقد كان داود خليفة، وسليمانُ مَلِكًا، وإنَّما هو المثال (¬2) يُحتذى عليه، والأُمورُ أشباه. وايمُ الله، لقد أصبحتَ إلينا أبا يزيد حبيبًا، وعلينا كريمًا، وما أصبحتُ أُضمرُ لك إساءة. ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 48/ 149 - 150. (¬2) في "العقد الفريد" 4/ 6: لمثال.

وقال ابنُ عساكر: دخل عقيل على معاوية بعدما ذهبَ بصرُه، فأَقْعَدَهُ معه على سريره وقال [له]: أنتُم يا بني هاشم تُصابون في أبصاركم. فقال له عقيل: وأنتم يا بني أُمية تُصابون في بصائركم (¬1). وقال أيضًا: دخل عقيل على معاوية يومًا، فأجلسه إلى جَنْبه، ودخل عتبةُ بن أبي سفيان، فوسَّع له معاوية، فجلس بينه وبين عقيل، فقال عقيل: من هذا الذي جلس بيني وبينكَ؟ فقال معاوية: أخوك وابنُ عمِّك عتبةُ. فقال: أما إنَّه أقربُ إليك مِنِّي، وأنا أقربُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ومنك. فقال له عتبة: أنت كما وَصَفْتَ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أعظم مما تَصِفُ، ولك عندنا أكثر مما لنا عندك، ونحن عارفون بحقِّك (¬2). وقال: قال له معاوية يومًا وقد دخل عليه: هذا عقيلٌ عمُّه أبو لهب. فقال عقيل: وهذا معاوية عمَّتُه حمَّالة الحطب. ثم قال: يا معاوية، إذا دَخَلْتَ النار فاعدِل ذاتَ اليسار، فانظر أيّهما خيرٌ، الفاعل أو المفعول به (¬3)؟ قال: وقال له يومًا معاوية: ما أبينَ الشَّبَقَ في رجالكم يا بني هاشم؟ فقال عقيل: يا بني أُمية، هو في نسائكم أبين. قال: وقال العُتْبي: تزوَّجَ عقيل امرأة من بني أُميَّة وهي قريبة بنت حَرْب، أُخت أبي سفيان، وكان قد خطبها أربعةَ عشرَ رجلًا من أهل بدر، فأَبَتْهُم، وتزوَّجت عقيلًا، فقيل لها في ذلك، فقالت: إنَّ هؤلاء كلَّهم كانوا يوم بدر على الأحبَّة، وكان عقيل معهم. قال: وقالت له يومًا: يا أبا يزيد، أين أخوالي وأعمامي التي كانت أعناقُهم كأنَّها أباريقُ فِضَّة؟ فقال: إذا دخلتِ النارَ فخُذي عن شمالك. قال: وكانت تحته [ابنةُ] عتبة بن ربيعة، فقالت له يومًا وهي خالةُ معاوية: واللهِ لا أُحبُّكم أبدًا يا بني هاشم، قتلتُم أبي وعمي، وأخي وابنَ أُختي، تُرى أين هُم؟ فقال لها: إذا دخلتِ النارَ فخُذي عن يسارك تَرَينَهُم هناك أجمعين. ¬

_ (¬1) العقد الفريد 4/ 5. ولم أقف عليه عند ابن عساكر. (¬2) المصدر السابق. (¬3) الخبر بنحوه في المصدر السابق "تاريخ دمشق" 48/ 151 (طبعة مجمع دمشق).

قال: وقال ابن عبد البَرِّ (¬1): كان عَقِيلٌ أنسبَ قُريشٍ وأَعلمَها بأيّامها، ولكنه كان مُبَغَّضًا إليهم لأنه كان يعدُّ مساوئهم، وكانت تُطرحُ له طِنْفِسَةٌ في مسجدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكان يجتمع إليه علماءُ النَّسَب، وكان أسرعَ الخامسِ جوابًا، فنسبوه إلى الحَماقَة، لأنه كان يَعْرِفُ مثالبهم، فاختلقوا عليه أحاديث مُزوَّرةً، وأعانهم على ذلك مغاضبتُه لأخيه عليّ، وخُروجُه إلى معاويةَ وإقامتُه معه. قال: وقال له معاوية يومًا: هذا أبو يزيد، لولا عِلْمُهُ بأنني خير له من أخيه، لما أقام عندي. فقال له عَقِيل: أخي خيرٌ لي في ديني، وأنتَ خيرٌ لي في دنياي، وقد آثَرْتُ دُنْياي، وأسأل الله خاتمة الخير. واختلفوا في وفاته. أمَّا ابن سعد فإنَّه قال (¬2): قالوا: مات عَقِيل بن أبي طالب في خلافة معاوية بن أبي سفيان بعدما عَمِيَ، وله عَقِبٌ اليوم، وله دار بالبقيع رَبَّةٌ -يعني كثيرة الأهل- واسعة. وقال هشام: توفي سنة خمسين. وكذا رُويَ عن الواقدي. وقال خليفةُ: وقد قيل: إنه عاش إلى أيام ابنِ الزبير (¬3). وهو وَهْمٌ. ذِكرُ أولاده: قال: ابن سعد (¬4): كان له من الولد يزيدُ -وبه كان يُكنى- وسعيد، وأُمُّهما أم سعيد بنت يزيد (¬5) بن مُدْلِج، من بني صعصعة (¬6). ¬

_ (¬1) في "الاستيعاب" ص 585 - 586. (¬2) في "الطبقات" 4/ 41. (¬3) لم أقف عليه، عند خليفة، وأخرج ابن عساكر عنه 48/ 136 - 137 قوله: مات في خلافة معاوية. (¬4) في "الطبقات" 4/ 38، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬5) في "الطبقات": أم سعيد بنت عمرو بن يزيد ... (¬6) في "الطبقات" من بني عامر بن صعصعة.

وجعفرُ الأكبر، وأبو سعيد الأحول، وهو اسمُه، وأمُّهما أُمُّ البنين ابنة الثَّغْر، وهو عمرو بن الهصَّار بن كعب، من بني صعصعة. وأمُّ الثَّغْر أسماءُ بنت سفيان، أختُ الضحاك بن سفيان من الصحابة. ومسلمُ بنُ عقيل، وهو الذي بعثه الحسينُ إلى الكوفة ليُبايعَ له [الناسُ]، فقُتِلَ، وسنذكره. وعبدُ الله الأصغر (¬1)، وأمُّهم حليَّة (¬2) أمُّ ولد، [وعلي] لا بقيَّة له، وأمُّه أمُّ ولد. وجعفر الأصغر، وحمزة، وعثمان، ومحمد، ورَمْلة، وأُمُّ هانئ، وأسماء، وفاطمة، وزينب، وأمّ القاسم، وأم النعمان لأمَّهاتِ أولاد شتَّى. وقال الموفَّق رحمه الله في ترجمة عقيل (¬3): كان يُطرح له طِنْفِسَةٌ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم [يصلي عليها] ويجتمع إليه الناسُ في علم النسب وأيَّام العرب، وكان أسرعَ الناس جوابًا، وأحْضَرَهم مراجعة. قال: وقال ابن عباس: كان في قريش أربعةٌ يُتحاكَمُ إليهم، ويوقف عند قولهم في النسب: عقيل بن أبي طالب، ومَخْرَمةُ بنُ نوفل، وأبو جَهْم بن حذيفة، وحُوَيطب بن عبد العُزّى. قال: وتوفي بالشام في أيام معاوية. قال: وولدُه: مسلم بن عَقِيل، قتله ابن زياد بالكوفة، وأخوه محمد بن عَقِيل [ومن ولده عبد الله بن محمد بن عقيل] روى عنه الواقديّ (¬4)، والثوريُّ، وغيره، وأخوه عبد الرحمن بن محمد بن عَقِيل، كان من الصلحاء، وكان يُشْبهُ النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وزينب الصغرى بنت عَقِيل، خرجت على الناس تبكي قتلاها [بالطَّفِّ] وتقول: ¬

_ (¬1) في "الطبقات": وعبد الله بن عقيل، وعبد الرحمن، وعبد الله الأصغر ... (¬2) في "الطبقات": خليلة، وذُكر في حواشيه أنه وقع في نسخة منه: حلية. (¬3) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 112، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬4) قوله: الواقدي، ليس في "التبيين" (والكلام منه). وما سلف وسيرد بين حاصرتين منه.

أم شريك بنت جابر

ماذا تقولون إن قال النبيُّ لكم ... ماذا فعلتُم وكنتُم آخِرَ الأُممِ وسنذكر الأبيات عند وصول رأس الحسين إلى المدينة. أسند عقيلٌ الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو نُعيم: أسند أحاديث يسيرة. وقال ابن البَرْقي: ليس له رواية. وليس كما ذكر، فإن أحمد أخرج عنه في "المسند" حديثًا واحدًا (¬1)، وقد ذكرناه في ترجمته. وأخرج له ابن سعد حديثًا آخر، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا يزيد، إني أحبُّك حُبَّيْن" وقد ذكرناه (¬2). وروى عن عَقِيل: ابنُه محمد بن عَقِيل، وابن ابنه عبدُ الله بن محمد بن عَقِيل، وموسى بن طلحة (¬3)، والحسنُ البصري، وعطاءُ بن أبي رباح، وأبو صالح ذكوان السمَّان وغيرهم. وفيها توفّيت أُمُّ شريك بنت جابر ابن حكيم، واسمُها غَزِيَّةُ، بغين معجمة وزاي معجمة أيضًا. قال ابن سعد (¬4): وكان محمد بن عمر يقول: هي من بني معيص بن عامر بن لؤيّ. قال: وكان غيرُه يقول: هي دَوْسِيَّة من الأَزْد. وقد ذكرناها في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رَوَتْ أُمُّ شريك الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج لها أحمد في "المسند" حديثين: ¬

_ (¬1) رقم (15740). (¬2) سلف في ترجمته قبل حديث أحمد المذكور. (¬3) في (خ): موسى وطلحة، وهو خطأ. (¬4) في "الطبقات" 10/ 149.

الحديث الأول: قال أحمد: حدَّثنا يحيى بن سعيد بإسناده عن ابن المسيِّب أخبره (¬1) أنَّ أُمَّ شريك أخبرته، أنَّها استأمرت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في قتل الوَزَغات (¬2)، فأمرها بِقَتْلها. أخرجاه في الصحيحين (¬3). والحديث الثاني: أخرجه أحمد ومسلم أيضًا عن أُمِّ شريك قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4): "لَيَفِرَّنَّ الناسُ من الدجَّال في الجبال " فقُلتُ: فأين العربُ يومئذ؟ قال: "هم قليل" (¬5). وأخرج ابن سعد هذين الحديثين في "الطبقات" عن أُمُّ شريك، ولفظ الأوَّل: أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه بقَتْلِ الوَزَغات (¬6). وقال ابنُ سعدٍ بإسناده عن يحيى بن سعيد قال (¬7): هاجرت أُمُّ شريك الدَّوْسِيةُ، فصحبت يهوديًّا في الطريق، فأمست صائمةً، فقال اليهوديّ لامرأتِه: لئن سَقَيتِها، لأَفْعَلَنَّ. فباتت كذلك حتى كان في آخِرِ الليل إذا على صَدْرِها دَلْوٌ موضوع، فشربت. قلت: وليس في الصحابيات من اسمُها غَزِيّةُ سوى امرأتين؛ إحداهما صاحبةُ هذه الترجمة، وفي فتح الغين وضمِّها لُغتان. وغَزِيَّةُ بنت سعد بن خليفة مُطَلَّقةُ عمرو بن حَزْم، أنصارية. وهذه بفتح الغين لا غير. ويقال لها: الغُمَيصاء. كذا ذكر جدّي في "التلقيح" (¬8). ¬

_ (¬1) قوله: أخبره، ليس لها معنى هنا، لأن المصنّف (أو المختصر) حذف الإسناد، فالضمير في الكلمة يعود على عبد الحميد بن جُبير بن شيبة الراوي عن ابن المسيب، ولم يرد ذكرُه هنا. والحديث في "المسند" (27365). (¬2) في "المسند": الوزْغان (جمع وَزَغة، وهو سامُّ أبرص، أبو بُريص). (¬3) صحيح البخاري (3307)، وصحيح مسلم (2237). (¬4) من هذا الموضع تُضاف نسخة المجمع العلمي، ورمزُها بـ (ب). (¬5) مسند أحمد (27620)، وصحيح مسلم (2945). (¬6) طبقات ابن سعد 10/ 151، وفيه: الوزغان. (¬7) المصدر السابق. (¬8) لا يقال لغزيّة بنت سعد هذه: الغُميصاء، وليست بمطلَّقة عمرو بن حزم، وقد أورد ابنُ الجوزي الاسمين في "التلقيح" ص 340 متتابعين، فوهم المصنف وجعلهما واحدًا. وانظر التعليق التالي.

كعب بن مالك

قلت: وليس في الصحابيات من اسمُها غزِيَّة سوى امرأتين، وهنَّ هؤلاء كما ذكرنا، وغَزِيةُ التي يقال الها: الغُمَيصاء، ذكرها ابن سعد فقال (¬1): غزيَّة بنت سعد بن خليفة بن الأشرف بن [أبي] خَزِيمة (¬2) بن ثعلبة بن طويف بن الخزرج بن ساعدة، وأمُّها سلمى بنت عازب بن خالد بن الأجشّ، من قُضاعة. تزوَّجها سعد بن عُبادة بن دُليم الخزرجي، فولدت له سعيد بن سعد، أسلمت غَزِيَّةُ، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي كعب بن مالك ابن أبي كعب (¬3) بن القَيْن بن كعب بن سَواد بن غَنْم بن كعب بن سَلِمةَ الأنصاريّ، شاعرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الطبقة الثانية من الأنصاري وهو أحدُ الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غَزاة تبوك، وأمُّه ليلى بنت ربيعة. وقال ابن سعد (¬4): بنت زيد بن ثعلبة، من بني سَلِمةَ، وكنيةُ كعب: أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن. شهد العقبةَ مع السبعين، وأُحدًا والخندق والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يشهد بَدْرًا، وجُرِح يوم أُحدٍ بضعَ عشرةَ جراحةً. وآخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين الزُّبير. وقيل: بينه وبين طلحة بن عبيد الله (¬5). ولكعب في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مدائحُ كثيرة. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِيه"، فأنشده، فقال: "لَهُوَ أشدُّ عليهم من وَقْعِ النَّبْل". وقد ذكرناه. وقال ابن سعد بإسناده عن الزُّهري، عن عبد الرحمن بن كعب. وذكر طرفًا من حديث تخلُّفِه عن غزاة تبوك (¬6). ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 10/ 349؛ ولم يلقِّبها بالغُمَيصاء. (¬2) لفظة "أبي" بين حاصرتين، من "الطبقات". وينظر "توضيح المشتبه" 3/ 222. (¬3) في (ب) و (خ): بن أبي بن كعب، وهو خطأ. (¬4) في "الطبقات" 4/ 393. (¬5) المصدر السابق. (¬6) طبقات ابن سعد 4/ 395، وما قبله منه أيضًا.

وقال ابن سعد عن الواقدي قال: ذهب بَصَرُ كعب، ومات في سنة خمسين، وهو يومئذ ابنُ سبع وسبعين سنة (¬1). ذِكرُ أولاده: قال ابن سعد (¬2): فولد كعبٌ عبدَ الله، وعُبيدَ الله، وفَضالة، ووَهْبًا، ومعبدًا، وخولةَ، وسعادَ، وأُمُّهم عُميرةُ بنت جبير من بني سَلِمة. وأُمَّ عمر؛ تزوَّجها زياد بنُ عبد الله بن أُنَيس حليف بني سواد. [وعبدَ الرحمن]، وأُمَّ قيسٍ؛ تزوَّجها عطية بن عبد الله بن أُنيس حليف بني سواد، وأُمُّهم أُمُّ ولد. ورملةَ، وأُمُّها تُماضر بنت معقل بن جُندب بن النَّضْر، من ولد ثعلبة بن سعد بن قيس. وسُميكةَ وكبشةَ، وأُمُّهما صفية من أهل اليمن. وليلى، وأمُّها أُمُّ بشرٍ من جُهَينَةَ. وقيل: صفيَّةُ أُخرى لأُمِّ ولد. أسند كعب بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث؛ أخرج له أحمد في "المسند" أربعة عشر حديثًا (¬3)، وأخرج له في "الصحيحين " خمسة أحاديث، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديث (¬4)، ومن المتَّفق عليه حديث الثلاثة الذين خُلِّفوا (¬5). وقد ذكرناه في غزاة تبوك. وليس في الصحابةِ من اسمه كعب بن مالك سوى رجلين: أحدهما: صاحبُ هذه الترجمة. والثاني: كعب بن مالك بن مبذول، أبو هُبيرة، وله صحبة، وليس له رواية. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 4/ 395 - 396. (¬2) المصدر السابق 4/ 393، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬3) ينظر "المسند": (15764) - (15798)، و (27166) - (27179). (¬4) ذكر ابن الجوزي في "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 399 أن له في الصحيحين ستة أحاديث ... وانفرد مسلم بحديثين. وينظر "سير أعلام النبلاء" 2/ 523. (¬5) صحيح البخاري (4677)، وصحيح مسلم (2769).

المغيرة بن شعبة

وفيها توفي المغيرة بن شعبة ابن أبي عامر بن مسعود بن مُعَتِّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف (¬1) بن ثقيف. قاله ابن سعد. وثقيف اسمُه قسيُّ بن مُنَبِّه بن بكر بن هَوازن بن عِكرمة بن خَصَفَةَ بن قيس بن عَيلان بن مُضَر. وأُمُّ المغيرة أسماءُ بنت الأفقم بن أبي عمرو بن ظُوَيلم بن جُعَيل بن عمرو بن دهمان بن نصر. والمُغيرةُ من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وكنيتُه أبو عبد الله، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو عيسى، وعمُّه عروة بن مسعود الثقفي. أسلم على يدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَتْلِهِ أهلَ الطائف (¬2)، وقد ذكرناه. وقال ابن سعد (¬3): وكان يُقال له: مغيرة الرأي، وكان داهية. ذِكْرُ صفته: قال علماءُ السِّيَر: كان طُوالًا، أَقْلَصَ الشَّفَتَيْن، أصهبَ [الشَّعْر] (¬4) يَفرُقُ رأسَه فُروقًا أربعةً، عَبْلَ الذِّراعين، بعيدَ ما بين المنكبين، ضَخْمَ الهامةِ، أهتم (¬5) أَعْوَرَ، ذهبت إحدى عينيه يوم اليرموك. قال ابن سعد: وهو أوَّل من خضب بالسوادِ في الإسلام، شهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يلزمه في أَسفارِهِ ومُقامِه، وبحمل له الإداوَةَ ويتوضأ منها. وذكر ابن سعد أيضًا أنه خضب بالصُّفرة (¬6). ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: عمرو، بدل: عوف، والتصويب من المصادر. (¬2) كذا وقعت العبارة في النسخ. وسيذكر المصنف قريبًا خبر قتله نفرًا من أهل الطائف عند عودتهم من مصر، ثم قدومه مسلمًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) في "الطبقات" 5/ 173، وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 25/ 156. (¬4) أي: أصفر، ضاربًا إلى حُمرة وبياض. (¬5) أي: مكسور الثنايا. (¬6) الطبقات 5/ 175 - 176 و 179.

ذِكْرُ إسلامه: قال ابنُ سعد (¬1): حدثنا محمد بن عمر، عن محمد بن سعيد الثقفي، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد الملك بن عيسى الثقفي وغيرهم؛ قالوا: قال المغيرة: كُنّا قومًا من العرب متمسّكين بديننا ونحن سَدَنةُ اللّات، فأُراني لو أرى قومي -أو قومنا- قد أسلموا، ما تَبِعْتُهُم، فأجمع نَفَرٌ من بني مالك على الوفودِ على المُقَوْقِس، وأهْدَوْا له هدايا، فأجمعتُ الخروجَ معهم، فاستشرتُ عمّي عروةَ بنَ مسعود، فنهاني وقال: ليس معك من بني أبيك أحد. فأَبَيتُ إلّا الخروج. فخرجتُ معهم وليس معهم أحد من الأحلاف غيري (¬2)، حتى دخلنا الإسكندرية، فإذا المقَوْقِسُ في مجلس مُطلٍّ على البحر، فركبتُ زورقًا حتى حاذيتُ مَجْلسَه، فنظر إليَّ، فأَنكرني، وأمر مَنْ يسألني: مَنْ أنا؟ وما أريدُ؟ فسألني المأمورُ، فأخبرتُه بأمرِنا، فأمر بإنزالِنا في الكنيسة، وأجرى علينا ضيافةً. ثم دعا بنا، فدخلنا عليه، فنظر إلى رَأسِ بني مالك، فأدناه إليه، وأجلسه معه، ثم سأله: أكلُّ القوم من بني مالك؟ قال: نعم، إلا رجلٌ واحد من الأحلاف. وعرَّفه إيّاي، فكنتُ أهون القوم عليه. وقدَّموا هداياهم بين يديه، فَسُرَّ بها، وأمر بقَبْضِها، وأمَرَ لهم بجوائز، وفَضَّل بَعْضَهم على بعض، وقَصَّر بي، وأعطاني شيئًا قليلًا لا ذِكْرَ له. وخرجنا، وأقبلَتْ بنو مالك يشترون هدايا لأهاليهم وهم مسرورون، ولم يَعْرِضْ عليّ رجل منهم مُواساةً، وخرجنا إلى السفر، وحملوا معهم الخمرَ، فكانوا يشربون فأشربُ معهم، وتأبى نفسي أن تَدَعَهُم ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا وما حباهم المَلِكُ، ويُخبرون قومي بتقصيره وازدرائِه إيّاي، فأجمعتُ على قتلِهم. فلما كُنّا ببُساق -اسم موضع (¬3) - تمارضتُ وعصَّبْتُ رأسي، فقالوا: ما لك؟ قلت: أُصَدَّعُ. فوضعوا شرابهم ودَعَوْني، فقلتُ: رأسي يُصَدَّعُ، ولكني أجلسُ فأسقيكم، ¬

_ (¬1) المصدر السابق 5/ 173 - 175. (¬2) المقصود بالأحلاف هنا: قوم من ثَقِيف؛ المغيرة منهم. ينظر "القاموس" (حلف). (¬3) هو عَقَبَة بين التِّيه وأيلة، كما في "معجم البلدان" 1/ 413، ووقع بدلها في "مختصر تاريخ دمشق" 25/ 157: بيسان.

فلما دبَّتِ الكأسُ فيهم جعلتُ أُصْرِفُ لهم (¬1)، وأنزعُ الكأسَ فيشربون ولا يدرون، فأَهْمَدَتْهُم الكأسُ حتى ناموا ما يَعْقِلون، فوثبتُ إليهم فقتلتُهم جميعًا، وأخذْتُ جميع ما كان معهم، وقدمتُ المدينةَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَجِدُه جالسًا في المسجد مع أصحابه، فسلَّمتُ عليه بسلام الإسلام، فنظر إليَّ أبو بكر بنُ أبي قُحافة، وكان بي عارفًا، قال: ابنُ أخي عروةَ؟ قلتُ: نعم، جئت أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسولُ الله. فقال رسول الله: "الحمدُ لله الذي هداكَ للإسلام". فقال أبو بكر: من مِصْرَ أَقبلت؟ قلتُ: نعم، قال: فما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قلتُ: كان بيني وبينهم شيءٌ، أو بعضُ ما يكون بين العرب ونحنُ على دين الشِّرْك، فقتلتُهم وأخذتُ أسلابَهم، وجئتُ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَخْمِسَها، أو يرى فيها رأيَه، فإنّما هي غَنيمةٌ من مشركين، وأنا مُسْلمٌ مُصَدِّقٌ بمحمّد - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إسلامُك فأَقْبلُهُ، ولا آخُذ من أموالِهم شيئًا ولا أَخْمِسُه؛ لأن هذا غَدْرٌ، والغَدْرُ لا خَيرَ فيه". قال: فأخذني ما قَرُبَ وما بَعُدَ وقلتُ: يا رسول الله، إنّما قتلتُهم وأنا على دينِ قومي، ثم أسلمتُ حيث دَخَلْتُ عليك الساعةَ؟ ! قال: "فإنَّ الإسلامَ يجبُّ ما قَبْلَهُ". قال: وكان قد قتلَ منهم ثلاثةَ عَشَرَ إنسانًا، فبلغ ذلك ثقيفًا بالطائف، فتداعَوْا للقتال، ثُمَّ اصطلحوا على أن يحمل عني عروة بنُ مسعود ثلاثَ عشرة دِيَةً. قال المغيرة: وأقمتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اعتمرَ عُمْرَةَ الحُدَيبِية في ذي القَعْدة سنةَ ستّ من الهجرة، فكانت أوَّلَ سَفْرَةٍ خرجتُ معه فيها. قال: وبعثَتْ إليه قُريش عمي عروةَ بنَ مسعود ليكلِّمَهُ، فأَتاه، فجعل يَمَسُّ لحيةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائمٌ على رأسه بالسيف، فقلتُ لعروة: كُفَّ يَدَكَ قبل أن لا تَصِلَ إليك. فقال عروةُ: من هذا يا محمد؟ ما أفظَّه وأغلظَه! وكُنْتُ مُقَنَّعًا في الحديد، فقال رسولُ الله صلى الله عليه: ["هذا ابنُ أخيك المغيرةُ"]. فقال عروة: يا غُدَرُ، أَلستُ الساعي (¬2) في غَدْرَتك، واللهِ ما غسلتُ عنك سَوْءَتَكَ إلا بالأمس. ¬

_ (¬1) أي: أسقيهم الخمر صِرْفًا غير ممزوجة بالماء. (¬2) في (ب): أسعى.

وقد ذكرنا طرفًا من هذا في غَزاة الحُدَيبية. قال الواقديّ: وشهد المغيرة بعد ذلك المشاهِدَ كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَدِمَ وَفْدُ ثقيف، فأنزلهم عليه، فأكرمهم، وبعثه رسولُ الله صلى الله عليه مع أبي سفيان بن حرب إلى الطائف، فهدموا الرَّبَّةَ (¬1). وشهد مع رسولِ الله صلى الله عليه حجَّةَ الوَداعِ. ولَمّا دُفِنَ رسولُ الله صلى الله عليه ألقى خاتَمه في قَبْرِهِ ثم نزل فأخذه (¬2). وقد ذكرناه. وقال الواقديّ: ولما تُوفّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه أبو بكر إلى أهل النُّجَيْر (¬3)، وشهدَ اليمامةَ، وفتوحَ الشام، واليرموك، وأُصيبت عينُه فيه، وشهد القادسية، ووَليَ لعمر بن الخطاب ولاياتٍ، منها البصرة والكوفة، وفتحَ مَيسان، ودَسْت مَيسان (¬4)، ولقي العجَمَ بالمَرْغاب (¬5)، فهزمهم، وفتحَ سوق الأهواز، وغزا نهر تيرى (¬6)، ومَناذِر الكبرى، وفتحَ هَمَذان، وكان على مَيسَرَة النعمان بن مُقَرِّن في فتح نهاوند. والمغيرةُ أوَّلُ من وَضَعَ ديوانَ البصرة، وقُتل عمر (¬7) وهو والٍ على الكوفة، ثم وَليَها بعدَ ذلك لمعاوية. وقال ابن سعد (¬8) بإسناده عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شعبة قال: كنتُ جالسًا عند أبي بكر الصدّيق؛ إذ عُرِضَ عليه فرسٌ له، فقال له رجل من الأنصار: ¬

_ (¬1) هذا الخبر تتمة الخبر قبله، وهو في "الطبقات" 5/ 175. والرَّبَّة يعني اللات. (¬2) ينظر "الطبقات" 5/ 176 - 177، و"مختصر تاريخ دمشق" 25/ 162. (¬3) النُّجَير: حصن باليمن قرب حضرموت، لجأ إليه أهل الردّة مع الأشعث بن قيس أيام أبي بكر - رضي الله عنه -. معجم البلدان 5/ 272. (¬4) ميسان: اسم كورة (بقعة) واسعة كثيرة القرى والنخل بين البصرة وواسط، ودَسْت ميسان: كورة بين واسط والبصرة والأهواز، وهي إلى الأهواز أقرب، وهي متصلة بميسان. معجم البلدان: 2/ 455 و 5/ 242. (¬5) مرغاب: قرية من قرى هَراة. معجم البلدان 5/ 107. (¬6) قال ياقوت: هو نهر من نواحي الأهواز، غير أنه قال: إن تِيرَى فُتحت في سنة ثماني عشرة على يد سلمى بن القين وحرملة بن مُريط من قبل عتبة بن غزوان. (¬7) لم تُجوَّد العبارة في النسخ، فوقع في (ب) و (خ): قبل عمر، وفي (م): وقيل عمرو. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 5/ 177. (¬8) في "الطبقات" 5/ 178.

احْمِلْني عليها. فقال أبو بكر: لَأَنْ أَحملَ عليها غلامًا قد ركب الخَيلَ على غُزلَتِه -يعني قُلْفَتَه- أَحبُّ إليَّ من أن أحملَك عليها. فقال له الأنصاري: أنا خيرٌ منك ومن أبيك. قال المغيرةُ. فغَضبتُ لما قال لأبي بكر، فقمتُ إليه فأخذتُ برأسهِ فَرَكَبْتُه على أَنْفِه (¬1)، فكأنَّما كان عَزْلاءَ مَزَادة (¬2)، فتواعدني الأنصارُ أنْ يستقيدوا منّي، فبلغ ذلك أبا بكر، فقام فقال: إنَّه بلغني عن رجال زعموا أني أُقيدهم من المغيرة، وواللهِ لَأَنْ أُخْرِجَهم من دارِهم أقربُ إليهم من أن أُقيدَهم من وَزَعَةِ اللهِ الذين يَزَعُون عنه. وقد تقدَّم الكلامُ على الوَزَعَة، وهم الذين يدفعون. وذكره الزمخشري في كتاب "الفائق في اللغة" (¬3) فقال: ركب يومًا أبو بكر فرسًا يشورُه. وذكره. ثم فَسَّرَه الزمخشري فقال: يشورُهُ: يَعْرِضُه. والغُرْلةُ: القُلْفَة، وأراد: مَنْ له عادةٌ بركوب الخيل من الصِّغَر. ورَكَبَ أَنْفَهُ -بفتح الكاف- أي: ضَرَبَه. ويجوز كسر الكاف (¬4). والعَزْلاءُ: فَمُ المَزادة، والجمع العَزَالي. والوازعُ: الذي يُدَبِّرُ أمرَ الجيش، ولا يُقْتَصُّ منه إذا أدَّبَ. وقد ذكره الجوهريّ فقال: وَزَعْتُه وَزْعًا: كَفَفْته. وسُمِّيَ الكلبُ وَازِعًا لأنَّه يكُفُّ الذئبَ عن الغنم (¬5). وقال عُبيد بن عُمير (¬6): رأيتُ المغيرةَ يخطبُ يومَ العيد على بعير. وقد ذكرنا أن أبا بَكْرَة، وشِبْل بنَ معبد، ونافعَ بن الحارث، وزيادًا، شهدوا على المغيرة بالزِّنا، ثم توقَّف زباد، فضربهم عمرُ الحدَّ، وأبْطَلَ الرَّجْمَ عن المغيرة، وذلك في سنة سبعَ عشرة. ¬

_ (¬1) أي: ضربه بركبته على أنفه، وسيرد شرحه. (¬2) وقع في النسخ: عزا لا (بزيادة ألف قبل لا) بدل: عزلاء، والمثبت من "الطبقات" 5/ 178. والعزلاء: مصبّ الماء من الراوية (المَزَادة) وسيرد. (¬3) الكتاب مطبوع باسم: الفائق في الحديث، والكلام فيه 2/ 268 في مادة (شور). (¬4) العبارة في "الفائق": ولو رُوي بكسرها لكان أوجه لذكره الركبة، كما تقول: علوتُه بركبتي. (¬5) الصحاح (وزع). (¬6) في "الطبقات" 5/ 179 و 8/ 143: عبد الملك بن عمير.

ذِكْرُ طرفٍ من ذكائِهِ: روى الخطيب بإسناده إلى زيد بن أسلم قال (¬1): استعمل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المغيرةَ بن شعبةَ على البَحْرين، فكرهوه وأبغضوه، فعزله عمر، فخافوا أن يردَّه إليهم، فجمع دِهْقانُهم مئة ألف دِرْهم وقدم بها على عمر، فقال له عمر: ما هذا؟ فقال: دفعه إليَّ المُغيرةُ وديعة، وقد ظهرت خِيانتُه. فأحضر عمر المغيرةَ وقال له: يا غُدَرُ، ما هذه الخيانة؟ فقال: كذبَ عدوُّ الله، إنَّما كانت مئتي ألف درهم. فقال: ما حملك على هذا؟ قال: الفَقْرُ والحاجَةُ. فقال الدهقان: واللهِ ما دفع إليّ قليلًا ولا كثيرًا؛ ولكن خِفْنا أن تردَّه إلينا، ونحن نكرهُه. فقال عمر للمغيرةِ: ما حملك على هذا؟ قال: كذبَ عليَّ الخَبيثُ، فأردتُ أن أُخْزِيَه -أو أن أُكْذِبَه. وحدَّثنا غير واحد عن محمد بن أبي منصور بإسناده عن مسلم بن صُبَيح الكوفيِّ، عن أبيه قال (¬2): خطب المغيرة بن شعبةَ امرأةً، وخطبها فتًى من العرب أيضًا، فقالت المرأة: لا بُدَّ من أن يحضُرا عندي وأسمعَ كلامَهما. وكان المغيرةُ أعورَ، والفتى جميلًا، فحضرا، فلما شاهد المغيرةُ جمال الفتى يَئِسَ من المرأة، فأقبل على الفتى وقال: لقد أُوتيتَ جمالًا، فهل عندك شيءٌ غير ذلك؟ قال: نعم. وعدَّد محاسِنَه. فقال المغيرة: كيف حسابُك؟ فقال: ما يسقُطُ مني شيءٌ ولا أدقُّ من الخَرْدَلة. فقال المغيرة: لكني واللهِ أضع البَدْرَةَ (¬3) في جانبِ البيت فيُنْفِقُها أهلي ولا أعلمُ بنفادِها حتى يسألوني غيرَها. فقالت المرأة: هذا الشيخُ الذي لا يُحاسبُني، عندي واللهِ خيرٌ من هذا الذي يُحْصي عليَّ مثلَ الخَرْدَل. فتزوَّجت المغيرةَ. وقد ذكرنا أخبار المغيرة متفرِّقةً وما جرى له مع عليّ - عليه السلام - لَمّا وَليَ الخلافة، وقولَ ابن عباس: رأيتُ عندك هذا الداهية. وذكرنا أخباره مع معاوية بن أبي سفيان وغيرِه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 17/ 74 (مصورة دار البشير) من طريق الخطيب، وليس هو في "تاريخ بغداد". (¬2) تاريخ دمشق 17/ 85 (مصورة دار البشير). (¬3) البَدْرَة: كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار. ينظر في "القاموس" (بدر).

وقال ابن سعد: قُتِل عمرُ وهو على الكوفة، فعزله عثمان عنها، وولاها سعدَ بنَ أبي وقّاص، فلما وَليَ معاويةُ الخلافةَ، ولَّاه الكوفة، فمات بها (¬1). وحكى ابن سعد عن سماك بن سَعلَمة قال: أوَّل من سُلِّم عليه بالإمرة المغيرةُ بن شعبة (¬2). ذِكْرُ وفاتِه: واختلفوا فيها، فقال ابن سعد بإسناده عن محمد بن أبي موسى الثقفي، عن أبيه. قال (¬3): مات المغيرةُ بن شعبة [بالكوفة] في شعبان سنة خمسين وهو ابنُ سبعين سنة. وروى ابن سعد بإسناده عن زياد بن عِلاقة قال (¬4): لَمّا مات المغيرةُ خطب جريرُ بن عبد الله وقال: استغفروا لأميركم، فإنَّه كان يُحِبُّ العافية. وكذا قال خليفة: مات المُغيرةُ بالكوفة في سنة خمسين، واستخلف ابنه عروة بن المغيرة. وقيل: إنه استخلف جرير بن عبد الله البجلي، فعزله معاوية، وجمع لزياد بين البصرةِ والكوفة (¬5). وكذا حكى الخطيب عن إبراهيم الحربيِّ أنه قال: مات المغيرةُ في سنة خمسين إلا أنه قال: كان له من العمر ستُّون سنة (¬6). وكذا قال أبو حسان الزّيادي. وقال هشام بن محمد، عن أبيه: وقع بالكوفة طاعونٌ في سنة تسع وأربعين، وهرب المغيرةُ إلى البادية، فأقام بها فارتفع الطاعون، فقيل له: لو رَجَعْتَ إلى الكوفة، فرجع إليها، فمات بالثَّوِيَّة -ماء بظاهر الكوفة- ودُفن هناك. ¬

_ (¬1) الطبقات 8/ 143 وينظر 5/ 177. (¬2) الطبقات 8/ 143. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 179، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬4) المصدر السابق 5/ 180. (¬5) تاريخ خليفة ص 210، وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 47/ 314 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة عروة بن المغيرة). (¬6) كذا في النسخ الخطية، وهو خطأ، والذي في "تاريخ الخطيب" 1/ 552 - ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ " 17/ 91 (مخطوط)، وابن الجوزي في "المنتظم" 5/ 240 - أنه مات وهو ابن سبعين سنة. وكذلك ذكره المصنف قبله عن ابن سعد.

وقد حكى هشام القَوْلَين. أعني سنة تسع وأربعين، وسنة خمسين. ذِكْرُ أزواجِه وأولاده: أما أزواجُه؛ فروى ابنُ سعد عن قَتادة قال: أحصنَ المغيرة مئةَ امرأة ما بين قُرشية وثقفية (¬1). وأما أولادُه فقال هشام: كان له من الولدِ عروةُ، وحمزةُ، وعَفَّار، بفاء مشدَّدة وراء مهملة. ولم يكن فيهم أنْجَبَ من عروة. قال خليفة: لَمّا أراد معاوية أن يُولِّيَ ابنَه يزيدَ الخلافة؛ كتب إلى المغيرة يستدعي أعيانَ أهل الكوفة، فجهَّز معهم جماعة مع عروة بن المغيرة، فلما دخلوا على معاوية قالوا: قد كبر سنُّك، فانظر لأمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أشيروا عليَّ، فقالوا: عليك بيزيد. قال: وقد رضيتُم به؟ قالوا: نعم. وكان عروةُ قريبًا من معاوية، فمال إليه معاوية، فأصغى إليه عروةُ، فقال معاوية: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ فقال عروة: بأربع مئة أربع مئة. فقال معاوية: لقد باعوا دينهم رخيصًا (¬2). وعروةُ بن المغيرة ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة وقال: كان ثقةً، خَيرَ أهلِ بيته، وكذا قال الشعبي (¬3). وقال الزُّهري: كان عروةُ سيِّدَ أهل الكوفة لا يُنازَعُ في ذلك (¬4). وكنيتُه أبو يعفور. وذكره ابن عيَّاش في الحُول، وولَّاه الحجَّاجُ الكوفة سنة خمس وسبعين (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 5/ 240 من طريق ابن سعد، وليس هو في "طبقاته". ومن هذا الموضع إلى آخر ترجمة المغيرة، لم يرد في (م) سوى قوله: وأسند الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) هو بنحوه في "تاريخ دمشق" 47/ 312 (ترجمة عروة بن المغيرة) ولم أقف عليه عند خليفة. (¬3) الكلام في "الطبقات" 8/ 387 عن الشعبي، وهو أيضًا في "تاريخ دمشق" 47/ 313 - 315) ترجمة عروة بن المغيرة). (¬4) الكلام بنحوه في "تاريخ دمشق" 47/ 315 للهيثم بن الأسود النخعي. (¬5) تاريخ دمشق 47/ 314.

وقال خليفة: ولاه الوليد بن عبد الملك الكوفة سنة خمس وتسعين (¬1). فقد وَلِيَها ثلاث مرّات؛ الأُولى ولَّاه أبوه. وحدَّث عروة عن أبيه. وحدَّث عنه: نافع بن جبير بن مطعم، والشعبي، وعبَّاد بن زياد، وإسماعيل بن محمد بن [سعد] بن أبي وقاص (¬2) في آخرين. أسند المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة وستة وثلاثين حديثًا؛ أُخْرِجَ له في "الصحيحين" اثنا عشر حديثًا، اتفقا على تسعة، وللبخاري حديث، ولمسلم حديثان (¬3). وأخرج له أحمد واحدًا وثلاثين حديثًا (¬4)، منها متَّفقٌ عليه، ومنها أفراد. وروى عنه بنوه الثلاثة (¬5)، وأبو أُمامة الباهليُّ، والمِسْوَر بن مَخْرَمَة، ومسروق، وقيس بن أبي حازم، وأبو إدريس الخَولاني، وعروةُ بن الزّبير، وأبو وائل، وغيرهم. وليس في الصحابة من اسمُه المغيرةُ بن شعبة أغيره". فأما المغيرةُ غير ابن شعبة؛ فثلاثة: أحدهم: المغيرةُ بن الحارث بن عبد المطّلب، أبو سفيان، وقد ذكرناه. والثاني: المغيرة بن الأخنس بن شَرِيق. والثالث: المغيرةُ بن الحارث بن هشام، مختلف في صحبته. كذا ذكره جدّي في "التلقيح" في موضعين، قال: هو مختلف في صحبته. وفي موضع آخر فيمن روى عن ¬

_ (¬1) تاريخ خليفة ص 310 (تسمية عمال الوليد). (¬2) في (ب) و (خ): بن أبي ناصر، وهو خطأ، والتصويب من "تاريخ دمشق" 47/ 310، و"تهذيب الكمال" 20/ 37، وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر 365، وقال ابن الجوزي ص 400: المتفق عليه منها تسعة، أحدها يجمع أحاديث، وللبخاري حديث واحد يجمع حديثين ... (¬4) ينظر "المسند" (18134) - (18243). (¬5) وهم: حمزة، وعروة، وعفّار، وسلف ذكرهم.

السنة الحادية والخمسون

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وإذا كان مُخْتَلَفًا في صحبته فقد كان ذِكْرُه فيمن رأى رسول الله صلى الله عليه أولى. ومن مسانيد المغيرةِ بن شعبة: قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق بإسناده عن بكر بن عبد الله المُزَنيِّ، عن المغيرة بن شعبة قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ له امرأةً أخْطبُها، فقال: "فاذهبْ فانظرْ إليها، فإنه أَجْدَرُ أنْ يُؤْدَمَ بينكما". قال: فأتيتُ امرأة من الأنصار، فخطبتُها إلى أَبَوَيها، وأخبرتُهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهما (¬2) كَرِها ذلك. وسمعتِ المرأةُ في خِدْرِها، فقالت: إن كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَكَ أن تَنْظُر، فانْظُرْ، وإلّا فإني أَنشُدُك. كأنَّها عظَّمت ذلك. قال: فنظرتُ إليها فتزوَّجْتُ بها. قال: فذكر من موافقتِها. والمغيرة هو الذي روى حديثَ المسحِ على الخُفَّين (¬3)، وهو في الصحيحين (¬4)، وهو الذي روى أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [صلَّى] خَلْفَ عبد الرحمن بن عوف، وقد ذكرنا ذلك (¬5). السنة الحادية والخمسون وفيها قَتلَ معاويةُ حُجْرَ بنَ عَديّ الكِنْديّ (¬6)، وغزا بُسْرُ بن أبي أَرطاة الرومَ أعْني الصائفةَ، وكان فَضالةُ بنُ عُبَيد قد شَتا بأرض الروم غازيًا. وفيها بعث زيادُ بنُ أبيه الربيعَ بنَ زياد الحارثيَّ أميرًا على خُراسان بعد موتِ الحَكَم بن عمرو الغِفاري. ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 257 وص 309. (¬2) في (خ): فكأنما، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في "المسند" (18137). (¬3) روى المسح على الخفين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو أربعين صحابيًّا، وليس المغيرة وحده. ينظر "التمهيد" 11/ 137. (¬4) صحيح البخاري (388)، وصحيح مسلم (274). (¬5) مسند أحمد (18134) و (18193). (¬6) سيذكر المصنف الخبر مفصلًا في ترجمة حُجر في وفيات هذه السنة.

وكان الحكمُ بنُ عمرو قد استخلفَ بعد موتِه على خُراسان أنس بن أبي أُناس (¬1)، ولَمّا احتُضِر الحكمُ أوصى أن يُصَلّيَ عليه (¬2) خليفتُه، فصلَّى عليه، ودفنه في دار خالد بن عبد الله الحنفي، وبلغ زيادًا موتُ الحَكَم، فعزل أنسًا (¬3)، وولَّى خُليدَ بنَ عبد الله الحَنَفيّ قبلَ الربيعِ بن زياد، فقام شهورًا (¬4) فقال أنس (¬5): أَلا مَنْ مُبْلغٌ عَنِّي زِيادًا ... مغَلْغَلَةً يَخُبُّ بها البريدُ أَيعزِلُني ويُطْعمُها خُليدًا ... لقد لاقت حنيفةُ (¬6) ما تُريدُ عليكم باليمامةِ فاحرثوها (¬7) ... فأوَّلكم وآخِرُكم عَبيد ثم عزل زيادٌ خُليدًا، وولَّى الربيع بنَ زياد في أوَّل هذه السنة. ولما قَدِم الربيع خُراسانَ، فتحَ بَلْخَ صلْحًا، وقُهِسْتان عَنْوَةً، وقطع النهر ومعه غلامُه فَرُّوخ وجاريتُه شريفة، فأعتقَ فَرُّوخًا وفتح الفُتوحَ وراء النَّهْر، وكان قد قطع النهر قبلَه الحكمُ بن عمرو الغِفاري، وصلَّى ركعتين وهو أوَّلُ من فعل ذلك (¬8)، وقد ذكرناه. واختلفوا فيمن حجَّ بالناس في هذه السنة، فقال الواقدي وأبو معشر: معاوية بن أبي سفيان (¬9). وقال المسعودي: يزيد بن معاوية. والأوَّل أشهر. وكان العاملَ على المدينةِ سعيدُ بن العاص، وعلى الكوفة والمشرق كلِّه زياد، وعلى قضاء الكوفة شُرَيْح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة عَميرة بن يثربيّ (¬10). ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: أنيس بن أبي إياس، والمثبت من المصادر. وينظر "تاريخ" الطبري 5/ 285 - 286. (¬2) بعدها في (ب): أنيس. (¬3) في النسخ الخطية: أنيسًا، والمثبت من الصادر. (¬4) في (ب): فأقام، وفي "تاريخ" الطبري 5/ 281: شهرًا. (¬5) في النسخ: أنيس، والمثبت من المصادر. (¬6) وقع في (ب) و (خ): لاقيت حنفة. (¬7) في (ب) و (خ): فاخربوها. (¬8) تاريخ الطبري 5/ 286. وسلف ص 178 (ترجمة الحكَم). (¬9) الذي في "تاريخ الطبري" 5/ 286 عن الواقدي وأبي معشر أن الذي حجّ بالناس في هذه السنة يزيد بن معاوية. (¬10) المصدر السابق، والمنتظم 5/ 244.

جرير بن عبد الله

وفيها توفي جرير بن عبد الله ابن جابر، وجابر هو الشَّليلُ بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن جُشَم بن عُويف بن خُزيمة بن حَرْب بن عليّ بن مالك بن سعد بن نَذير بن قَسْر بن عَبْقَر بن أنمار البَجَليُّ. قال ابن سعد: [بجيلة] (¬1) هي بنت صعب بن سعد العَشِيرة، وهي أمّ بني أنمار بن إراش بن عمرو بن الغَوْث بن مالك (¬2) بن زيد بن كَهْلان بن سبأ. قال: وبِبَجيلة يُعرَفُون. وقال ابن سعد في مكان آخر (¬3): سعد العشيرة بن مالك بن أُدَد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبأ. قال: وإنَّما سُمِّي سعدَ العشيرة لأنَّه طال عُمره وكَثُر ولدُه، فكان ولدُه وولدُ ولدِه ثلاثَ مئة رجل، فكان يركبُ فيهم فيُقال: من هؤلاء معك يا سعد؟ فيقول: عشيرتي. مخافةَ العين عليهم. قال: وأُمُّ سعد العشيرة: سلمى بنت منصور بن عكرمة بن خَصَفَة بن قيس عيلان. وجريرُ بن عبد الله من الطبقة الرابعة من الصحابة مِمَّن تأخَّر إسلامُه، وكُنيتُه أبو عبد الله، وقيل: أبو عمرو. وقال ابن سعد: وكان يخضب لحيته بالصُّفرة (¬4). ذِكْرُ إسلامه: وقد ذكرنا طرفًا منه في سنة عشر. قال ابن سعد بإسناده عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال (¬5): قَدِمَ جرير بن عبد الله المدينةَ في شهر رمضان سنةَ عشر، فنزل على فروة بن عمرو البياضيّ، ثم جاء ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "طبقات" ابن سعد 6/ 288. (¬2) في "طبقات" ابن سعد 6/ 288: بن الغوث بن ليث بن مالك. (¬3) لم أقف عليه عند ابن سعد، وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 56/ 12 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عمرو بن معدي كرب). (¬4) أخرج ابن سعد في "طبقاته" 6/ 395 عن عبد الملك بن عمير أنه رأى جريرًا يخضب لحيته بالصفرة. (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 288 - 289.

رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعه قومه، فسأله عمَّا وراءه، فقال: يا رسولَ الله، قد أظهر اللهُ الإسلام، وهدَمتِ القبائلُ أصنامَها التي كانت تعبد، وأظهروا (¬1) الأذان في مساجدِهم وساحاتهم. وقد ذكرنا أنه قَدِم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان على المنبر، وقال: "يَقْدُمُ عليكم من هذا الفجِّ من خَيرِ يَمَنٍ، عليه مَسْحَةُ مَلَك" الحديث (¬2). فطلع جرير، وذلك في السنة العاشرة. قال الواقدي: أسلم جوير قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه بخمسة أشهر (¬3). وروى ابن سعدٍ عنه أنه قال: بايعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النُّضحِ لكلّ مسلم، فواللهِ إني لَناصحٌ لكم أجمعين (¬4). وبعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فهدَمَ ذا الخَلَصَة، وأحرقه بالنار (¬5)، وقد ذكرناه. ووافاه في حجَّةِ الوداع، ودعا له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اللهم اجْعَلْهُ هاديًا مهديًّا" (¬6). وذو الخَلَصة يُسمى الكعبة اليمانية. وروينا عن الأشعث بن قيس أنّه حضر جنازةً وفيها جَرير، فقدمه الأشعث وقال: إني ارتَدَدتُ عن الإسلام، وهذا لم يَرتَدَّ (¬7). وقال ابن البرقي: لَمّا قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه بسط له رسولُ الله صلى الله عليه رداءه. قال ابنُ سعد: وكان عمر بن الخطاب يُسمِّيه يوسف هذه الأُمَّة؛ لِحُسْنِه (¬8). وقيل: إنه أسلم قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يومًا (¬9). والأوَّل أصحُّ؛ لأنَّه شهد معه حجَّة الوداع. ¬

_ (¬1) في (خ): وأظهر، وفي "الطبقات": وأظهرت، والمثبت من (ب). (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 289؛ وهو في "مسند" أحمد (19180). (¬3) الطبقات 6/ 296. ونقل ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" ص 120 عن جرير قوله: أسلمت قبل موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يومًا، وسيرد. (¬4) الطبقات 6/ 290 و 291، والحديث بنحوه في "صحيح" البخاري (57)، و"صحيح" مسلم (56). (¬5) الطبقات 6/ 291 - 293، وهو عند البخاري (3020)، ومسلم (2476). (¬6) الطبقات 6/ 292. وقوله: اللهم اجعله هاديًا مهديًا: قطعة من حديثه المذكور في هدم ذي الخَلَصة. (¬7) طبقات ابن سعد 6/ 294. (¬8) المصدر السابق 6/ 295. (¬9) الاستيعاب ص 120.

قال أحمد بإسناده عن علي بن مُدرِك قال: سمعتُ أبا زرعة يُحدِّثُ عن جرير -وهو جَدُّه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال له: "يا جرير، استَنْصِتْ لي الناسَ". يعني في حجَّة الوداع. قال: فخطب وقال: "لا تَرجِعُوا بعدي كُفَّارا يَضْرِبُ بعضُكم رِقابَ بعض" أخرجاه في الصحيحين (¬1). وقال أبو القاسم بن عساكر: وله يقول القائل: لولا جَريرٌ هلكت بَجِيلَهْ ... نعمَ الفَتى وبئستِ القَبيلهْ فقال عمر بن الخطاب: [ما] مُدِحَ من هُجِيَ قَوْمُه (¬2). وقال هشام: شهد جريرٌ جَلُولاءَ والمدائنَ وفارسَ في أيام عمر، وأرسله عمر مددًا، وولّاه عثمان همَذان، فذهبت إحدى عينيه في قتالها. وقال ابن سعد بإسناده عن إسماعيل قال (¬3): سمعتُ قيسًا يقول: سمعتُ جريرَ بنَ عبدِ الله يقول يومَ القادسية: أي قوم، إليَ إليَ، أنا جَرِير. قال قيس: وكُنَّا يومَ القادسية رُبعَ الناس، وساق المشركون ثمانية عشر فيلًا، فوجَّهوا إلينا منها ستَّةَ عشرَ، وإلى الناسِ فِيلَين. وقال ابن سعد بإسناده عن الشعبي (¬4): إنَّ عمرَ - رضي الله عنه - كان في بيت ومعه جَرِير، فوجد [عمر] ريحًا، فقال: عزمتُ على صاحبِ هذه الريحِ لَما قام فتوضّأ. فقال جرير: يا أميرَ المؤمنين، أَوَيتوضّأُ القومُ جميعًا؟ فقال عمر: رحمكَ الله، نِغمَ السَّيِّدُ كُنْتَ في الجاهلية، ونعمَ السيّدُ أنتَ في الإسلام. وفي غير رواية ابن سعد أنَّ هذه الواقِعةَ كانت في المسجد، وأنَّ عُمرَ صلَّى بالناس صلاة الصبح، فسمع صوتَ ريح، فلما سلَّم قال ذلك، وقالماله جرير: أَوَنتوضّأُ كلُّنا؟ وذكره. وقال هشام: لَمّا وقعتِ الفتنةُ اعتزلَها جرير، فأقام بقَرقِسِياء (¬5). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (19167)، وصحيح البخاري (121)، وصحيح مسلم (65). (¬2) الخبر في "الاستيعاب" ص 120 وما وقع بين حاصرتين منه، وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 30. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 294. (¬4) المصدر السابق. (¬5) بلد عند مصبّ نهر الخابور بالفرات.

وقال ابنُ سعد: حدَّثنا الفضل بن دُكَيْن بإسناده عن إبراهيم بن جرير، عن أبيه قال (¬1): بعث إليَّ عليٌّ ابنَ عباس والأشعث بنَ قيس؛ قال: فأَتَياتي وأنا بقَرقِيسياء، فقالا: إنَّ أميرَ المؤمنين يُقْرِئُك السلامَ، ويُخبرك أنَّه نِعمَ ما أراكَ اللهُ من مُفارقتِك مُعاويةَ، وإنَّني أُنزلك منزلةَ نبيّ اللهِ التي أنزلكَها. فقال لهما جرير: إنَّ نبيَّ الله بعثني إلى اليمن أُقاتلُهم وأدعوهم [إلى الإسلام]، فإذا قالوا: لا إله إلّا الله؛ حَرُمَتْ أموالُهم ودِماؤهم، ولا أُقاتِلُ رجلًا يقول: لا إله إلّا الله أبدًا. فرجعا على ذلك. قلت: وقد ذكرنا أن عليًّا - عليه السلام - بعثه رسولًا إلى مُعاوية عند عَوْدِه من وَقْعةِ الجمل، وأنَّ الأشتر اتَّهمه بالميل إلى معاوية (¬2). وانقطاعُه بقَرقِيسِياء يدلُّ على براءة ساحته، وأنَّه لم يكن له مَيلٌ إلى معاوية. وذكر ابنُ عساكر أن جريرًا هرب إلى معاوية، فجاء أمير المؤمنين، فوقف على داره بالكوفة، وأمر بهدمها، فناشده أولادُه الله فتركها. وقد ذكرنا طرفًا من هذا في سنة ستّ وثلاثين عند بَعْثِ عليّ - عليه السلام - جريرًا إلى معاوية. وقال ابنُ سعد: شهد جريرٌ جِسْرَ أبي عُبَيد، فلما قُتِلَ أبو عُبَيد جاء المثنى بن حارثة وجرير بنُ عبد الله بمن بقي من الناس. وقد ذكرنا أن عمرَ - رضي الله عنه - أمدَّ سعد بن أبي وقاص بجرير بن عبد الله في وقعة القادسية (¬3). ذِكْرُ وفاته: حكى ابن سعد عن الواقديِّ قال: لم يَزَلْ جرير معتَزِلًا لعليّ ومعاويةَ بالجزيرة ونواحيها حتى تُوفي بالسراة (¬4) في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة، وكانت ولايته سنتين ونصف بعد زياد بن أبي سفيان. ولم يذكر ابن سعد تاريخ وفاته. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 294، وما سيرد بيّن حاصرتين منه. (¬2) ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 300 - 301. (¬3) ينظر "الطبقات" 6/ 296 - 299. (¬4) في "طبقات" ابن سعد 6/ 301، و"المعارف" ص 292: بالشراة. وذكر ابن قتيبة فيه أن وفاته سنة أربع وخمسين.

وقال المدائني: تُوفي جرير في سنة إحدى وخمسين. قال الهيثم: وفيها مات سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، وعمرو بن حزم. وكذا قال الخطيب: إنه مات في سنة إحدى وخمسين (¬1). وقال جدِّي رحمه الله في "المنتظم" (¬2): لَمّا مُصِّرَت الكوفةُ؛ نزلها جرير، فأقام بها إلى خلافة عثمان، ثم بدت الفتنة، فانتقل إلى قَرْقِيسِياء، فسكنَها إلى أنْ مات بها. وقال هشام بن محمد الكلبي: إنَّه مات سنة أربع وخمسين (¬3)، وكذا قال الواقدي: مات بالسراة سنة أربع وخمسين. وقال أبو نُعيم الأصفهاني: مات جَرير في سنة خمس أو ست وخمسين (¬4). قلتُ: وقولُ أبي نُعيم أظهر، والتاريخُ يدلُّ عليه، وهو موافقٌ لقول ابن سعد فيما حكاه عن الواقدي أنَّه مات في ولاية الضحاك بن قيس (¬5)؛ لأنَّ زيادًا مات في سنة ثلاث وخمسين، والضحاكُ وَليَ سنتين ونِصْفًا، فقد مات جَرير من سنة أربع وخمسين إلى خمسٍ أو ستّ (¬6). وقال خليفة: مات بقرقيسِياء، ولم يذكر تاريخ وفاته (¬7). ذِكرُ أولاده: كان له أولاد، منهم إبراهيم وأبان؛ رَوَيا الحديث (¬8)، وأُمامةُ تزوَّجها عمرو بن حُريث المخزومي، وكان عمرو عظيمًا بالكوفة، وهو نائبُ زياد، وفيه يقول بشَّار: إذا قَدَحَتْكَ (¬9) جِسامُ الأمور ... فَنَبِّهْ لها عُمَرًا [ثُمَّ نمْ] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 545. (¬2) 5/ 245. (¬3) تاريخ بغداد 1/ 546، والمنتظم 5/ 245. (¬4) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 37. (¬5) الطبقات 6/ 301. (¬6) وقال ابن قتيبة في "المعارف" ص 292: توفي سنة أربع وخمسين في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة. (¬7) بل ذكر تاريخ وفاته في "طبقاته" ص 117 فقال: مات سنة إحدى وخمسين. وذكره أيضًا في "تاريخه" ص 218 في وفيات سنة إحدى وخمسين. (¬8) قال ابن قتيبة في "المعارف" ص 393: وله ابن يقال له: عمرو، ولا يُروى عنه. (¬9) في "المعارف" ص 293: أرَّقتك.

وإنَّما قال: عُمَرًا، لضرورة الشعر. وقيل: إن البيت في عَمرو بن عبيد الله التميمي. أسند جرير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث. أُخرج له منها في "الصحيحين" خمسةَ عشرَ حديثًا؛ اتَّفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بحديث، ومسلمٌ بستَّة (¬1). وأخرج له [أحمد] إحدى (¬2) وعشرين حديثًا، منها متفقٌ عليه، ومنها أفراد (¬3). وقد ذكرنا حديث المسح على الخُفَّين -وهو في الصحيحين (¬4) - في السنة العاشرة عند إسلام جرير. وليس في الصحابة من اسمه جرير بن عبد الله سوى رجلَيْن: أحدُهما: صاحبُ هذه الترجمة. والثاني: ذكره ابنُ عساكر، فقال (¬5): جرير بن عبد الله بن عَنْبَسة. قال: وقيل: إنه ابن سعيد بن العاص، وفد على هشام بن عبد الملك، فبعث إليه بقوارير فيها شراب، فكسرها ولم يشربه. ولم يذكُره جدِّي في "التلقيح"، وإنَّما ذكر رجلين؛ أحدُهما صاحبُ هذه الترجمة، والآخر جَريرُ بن الأَرقَط، له صحبةٌ ورِوايةٌ (¬6). قلتُ: وقد تكلَّموا في إسلام جرير، فقال قوم: أسلم في السنة التاسعة. وقيل: قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يومًا. ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 365 وص 390. (¬2) كذا في (ب) و (خ). والجادة: واحدًا. (¬3) هي في جمع الحافظ ابن حجر في "أطراف المسند" 2/ 194 - 256 ثلاثة وعشرون، وينظر "مسند" أحمد (19152) - (19262). (¬4) صحيح البخاري (387)، وصحيح مسلم (272). ولم ترد ترجمة جرير بن عبد الله، (ولا الكلام بعدها) في (م). (¬5) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 37. (¬6) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 173 و 287.

حارثة بن النعمان

وحكى ابن سعد عن محمد بن عمر، عن طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيِّب، عن أبيه قال (¬1): كان سعيد بن المسيِّب لا يوى الصحابةَ إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنةً أو سنتين، أو غزا معه غزوةً أو غزوتين. قال ابن سعد: وقال محمد بن عمر: ورأيتُ أهلَ العلم يقولون غير ذلك، ويذكرون جرير بنَ عبد الله وإسلامه قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسة أشهر، أو نحوها، وبعثَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذي الخَلَصة، فهدمَها، ووافاه في حَجَّة الوداع، وروى عنه أحاديث، وصَحِبَهُ إلى أن قُبض. وقالوا: كلُّ من رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أدرك الحُلُمَ، فأسلم وعَقَلَ أمرَ الدين ورَضِيَه، فهو عندنا من الصحابة، ولو ساعة من نهار، ولكن أصحابه على منازلهم وطبقاتهم وتقدُّمِهم في الإسلام. وقد أشرنا إلى هذا في آخر السيرة في مراتب الصحابة. وفيها توفي حارثةُ بن النعمان ابن رافع (¬2) الأنصاري، من الطبقة الأولى من الأنصار، وكُنيتُه أبو عبد الله، وأُمُّه جَعدَةُ بنت عُبَيد بن ثعلبة، من بني غَنْم. شهد حارثةُ بدرًا، وأُحدًا، والخندقَ، والمشاهِدَ كُلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحكى عنه ابن سعد قال (¬3): رأيتُ جبريل مرَّتين: المرَّة الأولى حين خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قُريظة؛ في صورة دِحْيةَ الكلبي. والثانية حين رجَعوا من حُنَين، قال: مررتُ به وهو يكلِّم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم أُسلِّمْ، فقال جبريل: مَنْ هذا؟ فقال رسولُ الله ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 6/ 295 - 296. (¬2) في "الطبقات" 3/ 452: نفع، بدل: رافع، وفي "الإصابة" 2/ 190 نفيع، ونقل فيه ابن حجر عن ابن إسحاق أنه سمى جدَّه رافعًا. وقال الذهبي في "السير" 2/ 378. ويقال: ابن رافع، بدل: ابن نفع. غير أن ابن الجوزي فرَّق بينهما في "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 178 كما سيرد. وكذلك فإن المصنف لم يجزم بأنهما واحد، بل اضطرب فيه كما يتبين من سياق كلامه آخر الترجمة، وعند إيراد حديثه عند أحمد. (¬3) في "الطبقات" 3/ 452. ولم ترد هذه الترجمة ولا غيرها (في حوادث هذه السنة) في (م).

- صلى الله عليه وسلم -: هذا حارثةُ بن النعمان، فقال جبريل: أما إنَّه من المئة الصابرة يومَ حُنَين الذين تكفَّلَ اللهُ تعالى بأرزاقهم في الجنَّة، ولو سلم لَرَدَدنا عليه. وحكى ابنُ سعد عن الواقدي قال (¬1): وحارثةُ هو الذي كانت له منازلُ بقُربِ منازلِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان كلَّما أَحدث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلًا؛ تحوَّل له حارثةُ إلى منزلٍ آخَر، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد استَحيَيتُ من حارثةَ مِمّا يتحوَّلُ لنا عن منازِلِه". قال: وكان قد ذهب بصرُه؛ قال ابن سعد بإسناده عن محمد بن عثمان، عن أبيه، أنَّ حارثةَ كان قَدْ كُفَّ بَصَرُه، فجعل خيطًا من مُصَلّاه إلى بابِ حُجْرته، ووضع عنده مِكْتَلًا فيه تَمْرٌ وغيره، فكان إذا سلَّم [المسكين] أخذَ على الخيط حتى يأتيَ بابَ الحُجْرة، ثم يأخُذُ من المِكتَل، فيُناول المسكينَ، فيقولُ له أَهلُه: نحن نكفيكَ، فيقول: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -[يقول]: "مناولةُ المسكين تَقِي مِيتةَ السُّوء" (¬2). ذِكْرُ وفاته: قال ابنُ سعد (¬3): بقيَ حارثةُ حتى تُوفي في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وله عَقِبٌ، ومن وَلَدِه أبو الرِّجَال، واسمه محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة. ولم يذكر ابنُ سعد الوقتَ الذي تُوفِّيَ فيه، بل أطلق. وقال هشام: مات في سنة إحدى وخمسين. وقال الواقدي (¬4): وكان له من الولد: عبدُ الله، وعبدُ الرحمن، وسَوْدَةُ، وعَمْرةُ، وأُمُّ هِشام، وكُنَّ من المُبايعات، وأمُّهم أُمُّ خالد بنت خالد، أنصارية، وكان له أُمُّ كُلثوم بنت حارثة؛ وأُمُّها غَطَفانية، وأُمُّ عبد الله (¬5)، وهي جُنْدُعيَّةٌ. أسند حارثةُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث؛ قال ابن البرقي: له حديثان، وليس له في الصحيح شيءٌ. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 3/ 453. (¬2) ذكر الذهبي في "السير" 2/ 379 أن إسناده منقطع، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 112 وقال: وفيه من لم أعرفه. (¬3) في "الطبقات" 3/ 453. (¬4) الكلام في "طبقات" ابن سعد 3/ 452 له، ولم ينسبه للواقدي. (¬5) في "الطبقات" 3/ 452: أمة الله، بدل: أم عبد الله. قال ابن سعد: وأمةُ الله وأمُّها من بني جندع.

قلت: وذكر جدِّي في "التلقيح" (¬1) من اسمه حارثة بن النعمان [وهما رجلان؛ قال: حارثة بن النعمان، بن رافع الأنصاري، قال: وقيل: الحارث بن النعمان، وهو الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: "رأيتُ كأَنّي دخلْتُ الجنَّة، فسمعتُ صوتًا، فقلتُ: مَنْ هذا؟ فقالوا: حارثة بن النعمان" فقال: "كذلك البِرُّ" (¬2). والثاني: حارثة بن النعمان بن نَفْع أبو عبد الله الأنصاري. قلت: ولم يذكر ابن سعد حارثةَ بنَ النعمان (¬3)، بل قال: الحارث بن النعمان بن أُمية بن البُرَك، وهو امرؤ القيس بن ثعلبة، عمُّ خَوّات وعبدِ الله ابنَيْ جُبَير، شهد بدرًا وأُحدًا. ثم ذكر (¬4) حارثة بن النعمان صاحب هذه الترجمة، فقال: حارثة بن النعمان بن نَفْع بن زيد بن عُبَيد بن ثعلبة بن غَنْم. وأما الحديثُ الذي أشار إليه جدّي؛ فقال أحمد بن حنبل (¬5): حدثنا عبد الرزاق بإسناده عن عمرةَ، عن عائشة قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نمت، فرأيتُ كأني في الجنَّة، فسمعتُ صوتَ قارِئ، فقلتُ: مَنْ هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان" فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذلك البِرُّ". وكان حارثة من أبَرّ الناسِ بأُمّه. فالله أعلم أيُّهم كان. قلتُ: ولم يخرّج أحمد في "المسند" عن حارثة بن النعمان بن رافع شيئًا، وإنَما أخرج عن حارثة بن النعمان بن نفع حديثين (¬6): أحدهما: قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن مَعمَر، عن الزّهري قال: أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن حارثة بن النعمان قال: مررتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه جبريل - عليه السلام - جالسٌ في المقاعد، فسلَّمتُ عليه، ثم جُزْتُ، فلمَّا رجعتُ ¬

_ (¬1) ص 178، وكلام البرقي السالف قبله فيه ص 376، وما سيرد بين حاصرتين من النسخة (ب). (¬2) وكان أبرَّ الناس بأمه، كما سيرد. (¬3) يعني ابنَ رافع. والكلام بعده في "الطبقات" 3/ 443. (¬4) في "طبقاته" 4/ 452، وسلف ذلك أول الترجمة. (¬5) مسند أحمد (25182). (¬6) كذا قال المصنف، مع أنه لم يُنسب إلى جدّه في "مسند" أحمد في الحديثين اللذين أخرجهما له (23677) و (23678).

حجر بن عدي

وانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هل رأيتَ الذي كان معي؟ " قلت: نعم. قال: "فإنَّه جبريل، وقد ردَّ عليك السلامَ" (¬1). قُلْتُ: واختلفوا في القائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عزفت نفسي عن الدنيا (¬2). فقيل: هو حارثة بن النعمان بن رافع، وقيل: حارثة بن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ (¬3)، وهي أُمّه، وأبوه سُراقة بن الحارثِ، من بني النجار، وهو الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُمِّه: "الحارث في الفِردَوْس الأعلى" (¬4). وفيها توفي حُجر بن عدي ابن جَبَلَةَ بن عديّ بن ربيعة بن معاوية الأَكرمين بن الحارث بن معاوية بن الحارث بن معاوية (¬5) بن ثور الكِنْدي، وكنيتُه أبو عبد الرحمن. ذكره ابن سعد في "الطبقات" في موضعَينِ: ¬

_ (¬1) مسند أحمد (23677)، وإسناده صحيح، وهو أولى من الحديث الذي ذكره المصنف أول الترجمة، وفيه أنه مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتكلم مع جبريل - عليه السلام -، فلم يسلّم عليهما، حيث أورده ابن سعد في "طبقاته" 3/ 452، وأورد ابن حجر الحديثين في ترجمته في "الإصابة" 2/ 190. ومن جهة أخرى فإن الحديث الثاني الذي أخرجه له أحمد؛ هو في "المسند" (23678) وهو في التحذير من ترك الجمعة والجماعة. (¬2) هو قطعة من حديث؛ وقد ذكره ابن حجر في "الإصابة" 2/ 174 في ترجمة الحارث بن مالك الأنصاري ولم يذكره في ترجمة حارثة بن النعمان، وطرقه ضعيفة، ذكرها ابن حجر وعلّلها. وقال العقيلي في "الضعفاء" 4/ 455: ليس لهذا الحديث إسناد يثبت. (¬3) كذا قال المصنف رحمه الله، وهو خطأ، وإنما هي الربيع بنت النضر، أخت أنس بن النضر، وعمة أنس بن مالك - رضي الله عنه -. ينظر "الإصابة" 11/ 252، وينظر (للفائدة) التعليق التالي. (¬4) أخرج البخاري (2809) من حديث أنس - رضي الله عنه - أن أم الربيع بنت البراء، وهي أم حارثة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثُني عن حارثة ... الحديث. قال ابن حجر في "فتح الباري" 6/ 26: قوله: أم الربيع بنت البراء وهمٌ .... نبّه عليه غير واحد؛ من آخرهم الدمياطي، فقال ... إنما هي الربيع بنت النضر، عمة أنس بن مالك .. ... (¬5) فوقها في (ح): كذا، أي إن تكرار الاسم هكذا وقع، وهو كذلك في "طبقات" ابن سعد 8/ 337.

ذكره في الطبقة الرابعة فيمن أسلم من القبائل فقال (¬1): حُجْرُ الخير بن عَديّ الأَدبَر، قال: وإنما سُمّيَ أبوه الأَدبَرَ لأنَّه طُعِنَ موليًا، فسُمّيَ الأدبرَ، وهو عديُّ بن جَبَلَةَ. قال: وحُجْرٌ جاهليٌّ إسلامي، وَفَدَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد القادسيَّة. وهو الذكره افتتح مَرجَ عَذْراء (¬2)، وشهد الجَمَلَ وصِفِّين مع عليّ بن أبي طالب، وكان في ألفَيْن وخمس مئة من العطاء. وقَتَلَه معاويةُ بنُ أبي سفيان وأصحابَه بمَرج عَذْراء. وابناه عُبيد الله وعبد الرحمن ابنا حُجْر بن عديّ؛ قتلهما مصعب بن الزُّبير صبرًا، وكانا يتشيَّعان. هذا صورةُ ما ذكر ابنُ سَعد في الطبقة الرابعة من الصحابة. وذكره في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، ونسبَه كما نسبَه في الطبقة الرابعة؛ قال (¬3): وذكر بعضُ رواة العلم أنه وَفَدَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أخيه هانئ بن عديّ (¬4). وقال ابن عبد البَرِّ (¬5): كان حُجْرٌ من فضلاء الصحابة، وكان على ميمنة عليّ يوم صفّين على كِنْدَة، وعلى ميسرته يوم النَّهْروان. وقال أبو أحمد الحاكم: وقد اختلفوا فيه، فقال بعضُهم: وَفَدَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبعضُهم يقول: لم تكن له وفادةٌ. وقال جَدِّي في "التلقيح" (¬6): ولا تثبتُ له صحبة. وقال الواقدي: له صحبة، وكان زاهدًا، لم يُحْدِثْ قَطُّ إلّا توضأ وصلَّى، وكان يَقْلِبُ فِراشَ أُمِّه بيده، فإن كان عليه شيءٌ، أزالهُ ثم أَضْجَعَها عليه (¬7). ¬

_ (¬1) الطبقات 6/ 239. ولم ترد هذه الترجمة ولا غيرها (في حوادث هذه السنة) في (م). (¬2) هي بلدة على بريد من دمشق (حوالي 12 ميل) من جهة الشمال. (¬3) الطبقات 8/ 337. (¬4) في (ب) و (خ): هانيء بن عبد الله، والمثبت من "الطبقات". (¬5) في "الاستيعاب" ص 174. (¬6) ص 180 (واسمه تلقيح فهوم أهل الأثر). (¬7) ينظر "تاريخ دمشق" 4/ 264 (مصورة دار البشير)، ومختصره 6/ 236.

ذِكْرُ مقتله: واختلفوا فيه، فقال هشام بن محمد فيما رواه عن أبي مِخْنَف (¬1)، عن مجالدِ بن سعيد وغيره؛ دخل حديث بعضِهم في حديث بعض، قالوا: لَمّا وَلَّى معاوية المغيرةَ بنَ شعبةَ الكوفةَ قال له: إن المتلمِّسَ الشاعرَ يقول: لذي الحِلْمِ قبل اليومِ ما تُقْرَعُ العصا ... وما عُلِّم الإنسانُ إلا لِيَعلَما (¬2) وقد أردتُ أن أُوصيَك بأشياءَ كثيرة، وتركتُها اعتمادًا على بِصارَتِكَ بما يُرضيني ويُشدِّدُ سلْطاني، وتَصلُحُ به رَعيَّتي، ولستُ تاركًا إيصاءكَ بخَصلَة، وهي شَتمُ أبي تُراب، والترحُّم على عثمان، وَذَمُّ أصحابِ عليّ وعَيبُهم، وتَرك الاستماع منهم. فقال المغيرة: سوف تُحمِد أو تُذِمّ (¬3). فقال معاوية: بل أُحمِدُ إن شاء الله. فكان المغيرة يذمُّ عليًّا - عليه السلام - وينال منه، ويستغفر لعثمان، فكان إذا قال ذنك على المنبر قال له حُجْر: بل إيّاكم يذمُّ اللهُ ويلْعَنُ. ثم قام حُجر يومًا فقال: إن الله تعالى يقول: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]، وأنا أشهدُ أنَّ مَنْ تذمُّون لَأَحقُّ بالتَّفْضيلِ مِمَّن تزكُّون. فقال له المغيرة: ويحك يا حُجْر، اتَّقِ غَضبَ السلطان وسَطْوَتَه، فإنَّه مما يُهْلِكُ أمثالكَ. وكان حُجر يفعلُ ذلك كثيرًا والمغيرة يَصفَحُ عنه، فأقام المغيرة على ذلك مُدَّةَ إمارته، وحجر لا ينتهي عن مثل هذا الكلام، حتى إذا كان في آخر إمارة المغيرة قام على المنبر، وشتمَ أمير المؤمنين، واستغفرَ لعثمان كما كان يفعل، فصاح به حُجْر: يا أَعوَرُ، انْزِلْ لعنك الله، تذمُّ أميرَ المؤمنين، وتُقَرِّظُ المجرمين. وقامت معه الشيعةُ، فنزل المغيرة، ودخل القصر، واجتمع إليه قومُه ولاموه وقالوا: جَرَأْتَ على سلطانِك حُجْرًا وأصحابَه، فما عذرُكَ عند الله وعند معاوية؟ فقال لهم المغيرة: لا تَعجَلوا، فإني قد قَتلْتُه (¬4) وسيأتي بعدي أمير فيقوم إليه كما قامَ إليَّ فيقتُلُه شرَ قِتلَة. قالوا: فقد ¬

_ (¬1) هو لوط بن يحيى، وهو تالف، والخبر في "تاريخ الطبري" 3/ 253، وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 269. (¬2) لم يجوَّد البيت في النسختين (ب) و (خ)، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 253. (¬3) في "تاريخ" الطبري: فستبلو، فتُحْمِدُ أو تُذِمّ، ونحوها في "أنساب الأشراف" 4/ 269. (¬4) بعدها في "أنساب الأشراف" 4/ 270: بحلمي عنه.

جرَّاتَهُ على غيرك، فقال: إني امرؤ قد اقتربَ أجلي، ولم يَبْقَ منه إلا اليسير، وما أُوثرُ أن أَقْتُلَ خيارَ أهل هذا البلد، وأسفكَ دماءهم، فيَعِزَّ معاويةُ في الدنيا، وأَذِلَّ أنا يومَ القيامة، ولكني أَقْبَلُ من مُحْسِنِهم وأتجاوزُ عن مُسيئهم حتى يُفَرِّقَ بيننا الموت. ثم مات المغيرةُ، ووَليَ زياد الكوفةَ، فأقام بها ستَّة أشْهُر، ثم عاد إلى البصرة، وولَّى الكوفةَ عمرَو بنَ حُرَيث، فبلغ عَمرًا أن جماعةَ يتردَّدُون إلى حُجْر بن عَدِيّ من شيعة عليّ، ويلعنون معاويةَ ويتبرَّؤون منه، وصعد يومًا عمرو بن حُريث إلى المنبر، فشتم عليًّا، فحصبوه فنزل. وروى هشام بن محمد، عن محمد بن سيرين قال (¬1): خطب زيادٌ يومًا للجمعة، فأطال الخُطبةَ، وأخَّر الصلاةَ، فناداه حُجْر: الصلاةَ. فمضى في خطبته، فقال حُجْر: الصلاة. فمضى في خُطْبتِه، فلما خَشِيَ حُجْر فَوْتَ الصلاة؛ ضَرَبَ بيده، فأَخَذَ كفًّا من الحصى، وثار الناسُ معه، فحصبوا زيادًا، فنزل وصلَّى بالناس، فلما فرغَ من صلاته كتب إلى معاوية وكثَّر على حُجْر، فكتب إلى زياد: احملْهُ إليَّ مُوثقًا. فحمله إليه. وقال ابن سعد (¬2): لما قَدِم زياد الكوفةَ واليًا عليها من قِبَلِ معاوية؛ دعا بحُجْرِ بن عديّ، فقال له: قد كنتُ أنا وإيَّاك على ما قَدْ عَلمتَ، -يعني من حب عليّ عليه السلام، - وإنَّه قد جاءَ غيرُ ذلك، وإنّي أَنْشُدُكَ الله أن تَقْطُرَ في من دمِكَ قَطْرة، فأستفرغه كلَّه. أَمسِكْ عليك لسانَكَ، ولْيسَعَكَ بَيتُكَ -أو منزلك- وهذا سريري فهو مجلسُكَ، وحوائجُك مَقْضِيَّةٌ لديَّ، فاكْفِني نَفْسَكَ، فإني أعرِفُ عَجَلَتكَ. فأَنشُدُكَ الله يا أبا عبد الرحمن في نفسك، وإياك وهذه السَّفِلةَ -أو السُّفهاءَ- أن يستزلوك عن رأيك. فإنَّك لو هُنْتَ عليَّ واسْتَخْفَفْتُ بحقِّك؛ لم أَخُصَّك بهذا من نفسي. وقال الهيثم: قال له زياد: وقد كنتُ أنا وأنتَ مُتَّفِقَينِ على محبَّة عليّ بن أبي طالب، فلما رأيتُ الأمرَ قد صُرِفَ عنه إلى معاوية؛ لم أتَّهمِ الله في قَضائِه، ورضيتُ به. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 256. (¬2) في "الطبقات" 8/ 337، وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 273.

فقال له حُجر: كلَّا واللهِ، بل استمالتْكَ الدنيا فأفسَدَتْكَ. فقال له: أَمسِكْ عليك لسانَك، فواللهِ لئن قَطَرتْ من دمِكَ قطرةٌ لأَستَفْرِغَنَّكَ. فقال حُجْر: لستَ من هذا في شيء (¬1). قال هشام: لله دَرُّ زياد، ما كان أَعقَلَه وأَحلَمَه وأَقْرَبَه إلى التحقيق! وللهِ دَرُّ المغيرةِ بن شعبة، ما كان أَبْصَرَه بعواقب الأُمور! كأَنَّه كان ينظر من سِتْرٍ رَقيق. رجع الحديث إلى ابن سعد: ولما قال زياد لحُجْر ما قال، قال له: قد فَهِمتُ. ثم انصرف إلى منزله، فأتاه إخوانُه من الشيعة، فقالوا: ما قال لك الأميرُ؟ قال: قال لي كذا وكذا. فقالوا: ما نصح لك. فأقام وفيه بعضُ الاعتراض. وكانت الشيعةُ يختلفون إليه ويقولون: إنَّك شيخُنا وأحقُّ الناس بإنكار هذا الأمر. وكان إذا جاء إلى المسجد مَشَوْا معه، فأرسل إليه عمرو بن حُرَيث -وهو يومئذٍ خليفةُ زياد على الكوفة وزياد بالبصرة- يقول: يا أبا عبد الرحمن، ما هذه الجماعة، وقد أعطيتَ الأمير من نفسك ما قد علمتَ؟ فقال للرسول: يُنكرون ما أنتم فيه، إليك وراءَك أَوْسَعُ لك. فكتب عمرو بن حُريث إلى زياد يقول: إن كانت لك حاجةٌ في الكوفة فالعَجَلَ العَجَلَ. فأَغَدَّ زياد السيرَ حتى قَدِم الكوفة، فأرسل إلى عديّ بن حاتم، وجرير بن عبد الله البَجَليِّ، وخالد بن عُرفُطة العُذْريِّ حليف بني زُهْرَة، وإلى عدَّةٍ من أشرافِ أهلِ الكوفة، فأرسلهم إلى حُجْرِ بن عَديّ ليعذِرَ إليه وَينْهاه عن هذه الجماعة، وأن يكفَّ لسانَه عما يتكلَّمُ به. فأتَوْه، فلم يُجِبْهُم إلى شيء، ولم يكلِّم أحدًا منهم، وجعل يقول: يا غلامُ، اعلِفِ البَكْرَ؛ لِبَكْرٍ في ناحيةِ الدار، فقال عديّ بنُ حاتم: أمجنون أنت؟ ! أُكلِّمُكَ بما أُكلِّمُكَ به وأنت تقول: يا غلام اعلِف البَكْر! فقال حُجْر لأصحابه: ما كنتُ أظنُّ (¬2) أنَّ هذا البائسَ بلغ به الضَّعفُ إلى ما أرى! ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 273، و"بغية الطلب في تاريخ حلب" 5/ 2119. (¬2) في "طبقات" ابن سعد 8/ 338 (والكلام منه): فقال عديّ لأصحابه ... إلخ، وهو الصواب، ففي "أنساب الأشراف" 4/ 275: فقال حُجر: لك أوَّلُ ما سمعت، فقال عديٌّ: ما ظننتُ أن الضعف بلغ بحُجر ما أرى.

ونهض القومُ، فأتَوْا زيادًا، فأخبروه ببعضٍ وحرَّفوا بعضًا، وحسَّنوا أمره، وسألوه الرِّفْقَ به، فقال: لستُ إذًا لأبي سفيان. وأرسل إليه الشُّرَطَ والأعوان، فقاتَلَهم بمن معه، ثم انْفَضُّوا عنه، وأُتيَ به زيادٌ وبأصحابه، فقال له: ويلك، ما لَك؟ قال: إنِّي على بيعتي لمعاوية لا أُقيلها ولا أَستقيلُها. فجمع زيادٌ سبعين من وجوه أهل الكوفة وقال: اكتبوا شهادتكم على حُجْر وأصحابه. ففعلوا، ثم أَوْفَدَهم على معاوية، وبعث بحُجْرٍ وأصحابه إليه (¬1). وقال هشام، عن أبي مِخْنَف، عن أشياخه (¬2): إن زيادًا قال لشُرطته: انطلقوا إلى حُجْر، فَأتوني به. فقال أمير الشرطة -وهو شدَّاد بن الهيثم الهلالي، وقيل: الهيثم بن شدَّاد- لحسين بن عبد الله الهمداني: اِذْهب إليه فادعُهُ. فقال حسين: فأتيتُه فقلتُ: أجِبِ الأمير. فقال أصحابُه: لا يأتيه ولا كرامة. قال: فرجعتُ فأخبرتُه، فبعث معي رِجالًا، فسبُّونا وشتمونا، فرجعنا إليه، فأخبرناه الخَبَر قال: فوثب زيادٌ بأشراف أهلِ الكوفة وقال: أتشجُّون بيدٍ وتَأسَوْنَ بأُخرى! أبدانكم معي وأبناؤكم وعشائركم مع حُجْر؛ هذا الهجْهاجة المذْبوب. (الهجْهاجة: الأحمق، والمذبوب: المُنْفَرِدُ العَجِلُ) [هذا واللهِ من] دَحْسِكم (¬3) ودَسِّكم. واللهِ لَتُظْهِرُنَّ في براءتكم، أو لآتينَّكم بقوم [أُقيمُ] بهم أَوَدَكم وصَعَرَكُم (¬4). فقالوا: معاذَ اللهِ أن يكون لنا فيما ههُنا رأيٌ إلا طاعتك وطاعة أمير المؤمنين. فقال: فَلْيَقُم كلُّ واحدٍ منكم إلى هذه الجماعة التي حَوْلَ حُجْر، فليدعُ كلُّ واحدٍ منكم أخاه وابنه، وذا قَرابتهِ، ومَنْ يُطيعُه من عشيرته. ففعلوا ذلك، وبقيَ مع حُجْر نَفَرٌ يسير. فقال زياد لصاحب شرطته: اذهب إلى حُجْر، فأتني به، فإن أتى؛ وإلّا قاتلوا مَنْ معه ومَنْ حال دُونَه. فجاء إليه فقال: أَجِبِ الأمير، فقال أصحابُه: لا، ولا كرامة، فقال لأصحابه: دونكم وإياهم. فضربوهم بالعُمدِ والسيوف، وكان عَمرُو بن الحَمِق مع حُجْر، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 337 - 338. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 257 - 258. (¬3) أي: إفسادكم. (¬4) أي: مَيْلَكم.

فانهزموا، واختبأ عمرو بن الحَمِق في دار بعضِ الأَزْد، واسمُ صاحبها عُبيد الله بن مالك. قال أبو مِخْنَف: وانحاز أصحابُ حُجْر إلى أبواب كِنْدَة، وكانت بغلةُ حُجْر عند باب المسجد، فقدَّمها إليه عُمير بن يزيد الكِنْدي -ويقال له: أبو (¬1) العَمَرَّطَة- وقال له: اركبْ، فما أراكَ إلا قد قَتَلْتَ نَفْسَكَ، وقتلتنا معك. ومضى حُجْر هذا، وزيادٌ على المنبر يُحَرِّضُ الناسَ ويُجهِّزُ القبائلَ إلى حُجْر: همدان، وتميم، وهوزن، وغَطَفان، ومَذْحِج، واليمن، وغيرهم، فتوقَّف بعضُهم من همدَان، وآخرون من كِنْدَةَ مراعاةً لحُجْر. قال: وكان أبو العَمَرَّطَة لَمّا أَركبَ حُجْرَ بنَ عَديّ بَغْلَتَهُ ضَرَبه يزيدُ بنُ طريف السُّلَميُّ على فَخِذِه، وضَربَ أبو العَمَرَّطَة رأسَ يزيد، فجرحه فوقع، ثم إنَّه بَرَأَ بعد ذلك. وكان ذلك السيفُ أوَّلَ سيف ضُرِبَ في الكوفة في أيام الفتنة. ومضى أبو العَمَرَّطَة مع حُجْر إلى داره، ولما انتهى حُجْر إلى داره؛ نظر، فرأى قِلَّةَ مَنْ معه من قَوْمه، وبَلَغَهُ أن زيادًا قد جَهَّزَ القبائل إليه، قال لأصحابه: انصرفوا، فواللهِ ما لكم بالقوم طاقَة. قال أبو مِخْنَف: وأَخَذَ حُجْر في بعضِ السِّكَكِ، فانتهى إلى دارِ رجُل يقال له: سليمان بن يزيد (¬2)، وجاء الطلبُ خَلْفَه حتى انتَهوْا إلى تلك الدار، فأخذ سليمان بن يزيد سَيفَه، ثم ذهبَ ليخرجَ إليهم، فبكت (¬3) بناتُه، فقال له حُجْر: ما تُريدُ أن تَصنَع؟ فقال: أُقاتِلُهم حتى أُقْتَلَ، ولا تُؤْخَذَ أسيرًا من داري أبدًا وأنا حيٌّ أَملِكُ قائمَ سَيفي، إني أخاف العار. فقال حُجْر: أما في دارِكَ خَوْخَةٌ أَخرجُ منها، عسى يسلِّمني الله ويسلِّمُك؟ قال: بلى. فأخرجه من خَوْخَةٍ تأخُذُ إلى النَّخَع، فجاء إلى دار عبد الله بن الحارث أخي الأَشتر، فَدَخَلَها، فلما استَتَرَ قيل له: قد وَصَلَ الشُّرَطُ في طَلبِكَ؛ وكانت قد رأتْهُ أَمَةٌ سوداءُ، فغمزت عليه، فخرج إلى دارِ ربيعة بن ناجد الأزديِّ. ¬

_ (¬1) في النسختين (ب) و (خ): ابن، بدل: أبو، وهو خطأ. (¬2) في "تاريخ" الطبري 5/ 262: سليم بن يزيد (في الموضعين). (¬3) في النسختين (ب) و (خ): فبكى، والمثبت من "تاريخ" الطبري.

فلما عَجَزَ زيادٌ عنه قال لمحمد بن الأشعث: لَتَأتينِّي به، وإلا قتلتكَ. وكان محمدُ بن الأشعث صديقًا لِحُجْر، فبعث حُجْر إلى محمد وهو في دار ربيعة: قد بلغني ما قال لك الجبَّار، فَسَلْهُ أن يُؤَمِّنَني حتى أخرجَ إلى معاوية، فيرى فيَّ رَأيَه. فقال ابنُ الأَشعث لجماعة من أشراف الكوفة: كلِّموا زيادًا في أَمانِه. فدخلَ عليه جَرير بن عبد الله، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر، وحُجْر بن يزيد، فطلبوا له الأمانَ، فأَمَّنَه. وخرج حُجْرٌ، فأتى زيادًا، فقال زياد: مرحبًا أبا عبد الرحمن، أحربًا في أيام الحرب؟ وسلمًا في أيام السلْم (¬1)؟ على نَفْسِها جنت رَقاش (¬2). وأمرَ بحبسه. وقد ذكرنا رَقاش في صَدرِ الكتاب، وهي امرأةٌ كانت تُغيرُ على العرب، فأسَرَتْ (¬3) غلامًا حسنًا، فرأت عَوْرَتَه، فأَعجبَتْها فأَمكنته من نفسها، فحبلت ووضَعَتْ غلامًا. فجاؤوا يطلبونها للغارة، فقالت: على نفسها جَنَتْ رَقاش. فصارت مثلًا (¬4). وقال أبو مِخْنَف، عن مُجالد، عن الشعبي قال (¬5): لَمَّا حَبَسَ [زياد] حُجْرَ بنَ عديّ أقام يَتَتَبَّع رُؤساءَ أصحابه، فخرجَ عمرو بنُ الحَمِق، ورِفاعةُ بنُ شدَّاد إلى أرض المَوْصِل، فكَمَنا في جبل هناك، وأخِذَ عَمرو، ونَجا رِفاعة؛ لما نذكر في ترجمة عمرو. وكان في جُملةِ مَنْ ظَفِرَ زياد رِبْعِيّ بن حِراش بن جَحْش العَبْسِيّ، وكان قد قاتَلَ، فأُخِذَ بالأمانِ فحُبسَ. وأُخِذَ صيفيُّ بنُ فسيل، فقال له زياد: ما تقولُ في أبي تُراب؟ قال: ما أَعرِفُه، قال: ما أعرفَكَ به! قال: ما أَعرفُه، قال: أما تَعْرِفُ عليَّ بنَ أبي طالب؟ قال: بلى. قال: فَذَاكَ أبو تُراب. فقال: كلّا، ذاك أبو الحسن والحُسين. قال زياد: ما تقولُ فيه؟ قال: أَحسن قولٍ أنا قائِلُه في عبدٍ من عبادِ الله المؤمنين. فضربه ضربًا مبرّحًا، وعذّبه عذابًا شديدًا وهو يقول: واللهِ لو شَرَّحتَ لحمي بالمواسي ما قلتُ فيه إلّا ما سمعتَه. فأمر به إلى الحَبْس بعد أن هدَّده بضربِ الرقبة، ولم يَرجع (¬6). ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 264: حربٌ في أيام الحرب، وحربٌ وقد سالم الناس؟ (¬2) في "تاريخ" الطبري 5/ 264، و"أنساب الأشراف" 4/ 279: براقش. وهو الصواب. (¬3) في (خ): فاشترت. (¬4) ذُكر في هذا الخبر مَثَلٌ آخر. ولعل المصنف وهم فيه. ينظر "جمهرة الأمثال" للعسكري 1/ 483 و 2/ 52. (¬5) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 265. (¬6) تاريخ الطبري 5/ 266 - 267.

قال أبو مِخْنَف (¬1): وبعثَ إلى عبد الله بن خاجفة الطائيّ، فَحَمَتْهُ طَيِّئٌ، فأخذ زيادٌ عديَّ بن حاتم، فحبسه في المسجد وقال: أُريدُ عبدَ الله منك. فقال: ما أدري أين هو. وأتى اليمانيون وربيعةُ ومضَر وأَهلُ الكوفة إلى زياد فكلَّموه في عديّ، فبعثَ إليه: أَخْرِجْ عبدَ الله من الكوفة وقد أَطْلَقْتُكَ. وبعث إليه عبد الله: أتريدُ أن أخرجَ حتى أَضَعَ يدي في يدك؟ فأرسل إليه عديّ: واللهِ لو كُنتَ تحت قدمي ما رفعتُها عنك، ولكن اخْرُجْ عن الكوفة، وإذا سكن غَضَبُهُ كلَّمتُه فيك. فخرج. وقال أبو مخنف (¬2): وجمع زياد من أصحاب حُجْر اثني عشر رجُلًا في السجْن، ثم دعا رؤوس الأرباع يومئذ: عمرو بن حُريث على رُبع المدينة، وخالد بن عُرفُطَةَ على رُبع تميم وهمدَان، وقيس بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة على ربيعة وكِنْدَة، وأبو بُردَة بن أبي موسى على مَذْحِج وأسد، فشهدوا جميعًا أن حُجْرًا جمع إليه الجُموع، وأظهرَ شَتْمَ الخليفة، ودعا إلى حَربِه، وزعم أنَّ هذا الأمر لا يصلحُ إلا في آل أبي طالب، ووثبَ في المِصْر، وأخرج عامِلَه، وأَظهر عُذْرَ أبي تُراب والترحُّمَ عليه، والبَراءَةَ من عَدوِّه، وأنَّ هؤلاء النَّفَرَ الذين معه على مثلِ رَأيه، وأنَّهم قد كفروا. ونظر زياد في المكتوب فقال: ما أظنُّ هذه الشهادةَ قاطعة. قال أبو مِخْنَف عن أشياخه (¬3): فأخذ زياد شهادةَ جماعة، منهم إسحاقُ بن طلحة بن عُبيد الله، وإسماعيل بن طلحة بن عُبيد الله، والمنذرُ بن الزبير، وعمارةُ بن عقبة بن أبي مُعَيط، وعمرو (¬4) بن سعد بن أبي وَقَّاص، وشَبَث بن ربعيّ، ومصقَلَة بن هُبَيرة الشيباني، وحجَّار بن أبْجَر العِجْليّ، وزَحْر بن قَيس الجُعفيّ، وشُرَيح بن الحارث القاضي (¬5)، وشَمِر بن ذي الجَوْشن. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 268. وفي آخر هذه الفقرة اختلاف عنه. (¬3) المصدر السابق 5/ 269. (¬4) في "تاريخ" الطبري: عمر. (¬5) جاء في هذا الخبر في "تاريخ" الطبري 5/ 270 أنه كُتب في الشهود شُريح بن الحارث القاضي؛ قال شُريح: سألني عنه فأخبرتُه أنه كان صوَّامًا قوَّامًا.

قال أبو مِخْنَف: وشهدَ بهذه الشهادة سبعون رجلًا من الأعيان، ودفع الكتابَ إلى وائل بن حُجْر، وكثير بن شهاب، وأمرهما بحملهم على إبل صِعابٍ بغير وطاءٍ ولا دِثار، مُكَبَّلين في الحديد، وسار معهم صاحبُ الشرطة عَشِيَّةً حتى أَخْرَجَهم عن الكوفة. ذِكْرُ أساميهم: حُجْرُ بن عديّ بن جَبَلَةَ الكِنْديّ، والأرقم بن عبد الله الكِنْديّ، وشريك بن شدَّاد الحَضْرميّ، وصيفيّ بن فسيل، وقَبِيصة بن ضُبَيعة بن حَرمَلَة العَبْسيُّ، وكريم بن عفيف الخَثْعمي، وعاصم بن عوف البَجَليّ، وكِدام بن حَيان، وعبد الرحمن بن حسان العَنَزي (¬1) من بني هُميم، ومُحرِزُ بن شهاب التميمي من بني مِنْقَر، وعبد الله بن حويَّة السّعديّ (¬2). وكتب زياد كتابًا إلى معاوية فيه: قد أحسنَ اللهُ عند أميرِ المؤمنين بلاءه، وكادَ له عدوَّه، وكفاه مُؤْنَةَ من بغى عليه. إنَّ طواغيتَ من هذه الطائفة التُّرابية (¬3) -ورأسُهم حُجْرُ بن عديّ- فارقوا الجماعةَ، ونصبوا لنا الحَرْبَ، فأظهرَنا اللهُ عليهم، وأَمكَنَنا منهم، وقد شهد عليهم أشراف أهلِ العصر وذوو السِّنِّ منهم، بما شاهدوه وعلموه، وقد بعثتُ بهم إلى أمير المؤمنين ليرى فيهم رَأيَه. فقرأ الكتابَ معاويةُ على الناس، وكان قد كُتِبَ في الشهود اسمُ شُرَيح بن هانئ، ولم يشهد. ولما قفل وائلُ بن حُجْر من الكوفة دفع إليه شُريحُ بن هانئ كتابًا مختومًا إلى معاوية، فلما قرأ معاويةُ كتابَ زياد على أهل الشام قال: ما تَرَوْنَ في هؤلاءِ النَّفَر الذين شهِدَ ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 271: العَنَزِيَّان (يعني عبد الرحمن بن حسان، وكدام بن حيان). (¬2) هم اثنا عشر رجلًا (كما سلف) فلم يذكر المصنف ورقاء بن سمي. ثم إن زيادًا أتبعهم بعتبة بن الأخنس، وسعيد بن نمران، فتمُّوا أربعة عشر رجلًا. ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 271 - 272. وفي رواية ابن سيرين: خمسة عشر، ينظر "تاريخ دمشق" 4/ 265 (مصورة دار البشير)، ومختصره 6/ 238. (¬3) نسبهم إلى أبي تراب ويقصد سيِّدنا عليّ - رضي الله عنه -.

عليهم قومهم بما تسمعون؟ فقال له يزيد بن أسد البجلي: أرى أن تُفَرِّقَهم في قُرى الشام فيكفيكم (¬1) طواغيتُها. ودفع وائل بن حُجر كتابَ شُريح بن هانئ إلى معاوية، فقرأه، فإذا فيه: لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من شُريح بن هانئ، أما بعد، فإنَّه بلغني أنَّ زيادًا كتبَ إليك شهادتي على حُجْر بن عديّ، وإنَّ شهادتي على حُجْر أنَّه مِمَّن يُقيمُ الصلاةَ ويؤتي الزكاة، ويحجُّ البيتَ وَيعتمرِ، ويأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكر، حرامُ الدمِ والمال. فإن شِئْتَ أنْ تقتلَه، كان شئت أنْ تَدَعَه. فقال معاوية لوائل: ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسَه من شهادتكم (¬2). وحَبَسَ القومَ بمرج عَذْراء، وكتب معاوية إلى زياد: أما بعد، فقد علمتُ ما اقتصصتَ من أمر حُجر وأصحابه، وشهادة مَنْ قِبَلك، فنظرتُ في ذلك. فأحيانًا أرى قَتْلَهم أفضلَ من تَزكهم، وأحيانًا أرى العَفْوَ عَنهم أفْضلَ. فكتب إليه زياد مع يزيد بن حُجَيَّة بن ربيعة التَّيمي: أما بعد، فقد عجبتُ من اشتباهِ أمرِ حُجْر وأصحابِه عليك بعد أن قد سمعتَ شهادةَ من هو أعلم منهم، فإن كانت لك في هذا المِصرِ حاجَة، فلا تَرُدَّنَّ حُجْرًا وأصحابَه إليه. وسار يزيد حتى قَدِمَ الشامَ، فمرَّ بهم بِعَذْراء، فقال لهم: واللهِ لقد جئتُ بكتابٍ فيه الذَّبْح، فمُروني بما أحبَبْتُم أعمل به، فقال له حُجْر: تُبْلغُ معاويةَ أنَّا على بَيعتِنا لا نُقيلُها، وإنَّما شهد علينا أعداؤنا، وكثَّر علينا زياد. فلما قَدِم يزيدُ على معاوية ودفع إليه كتابَ زياد، أَبْلَغَه قولَ حُجْر، فقال معاوية: زياد عندنا أصدقُ. وقال ابن سعد: لَمّا أُتي بحجر وأصحابِه إلى الشام، وبلغَ عائشةَ الخَبَرُ؛ بعثَتْ بعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المَخْزومي إلى مُعاوية تسألُه أن يُخلِّيَ سبيلهم (¬3). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): فيكفيهم، والتصويب من "تاريخ" الطبري 5/ 272. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 272، وما بعده منه. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 338.

ولَمّا ورد القومُ ومعهم كتابُ زياد (¬1) قرأه على الناس، فقال عبد الرحمن بنُ عثمان الثقفي (¬2): يا أميرَ المؤمنين جِذاذَها جِذاذَها، لا تَعَنَّ بعد العامِ مُؤَبِّرًا (¬3). ويعني بجذاذها: قطعها. والمؤبر: الذي يُؤبِّرُ النَّخْل. قال أبو مِخْنَف: ولَمّا تيقَّنَ الناسُ أن معاويةَ قاتل حُجْرًا وأصحابَهُ قام يزيد بن أسد البَجَليُّ فقال: يا أمير المؤمنين، هبْ في ابْنَي (¬4) عمي. يعني عاصمًا وورقاءَ، وكان جريرُ بن عبد الله قد كتب فيهما إلى معاوية يقول: إنهما من أهل الجماعة والرأي الحَسَن، سعى بهما ساعٍ إلى زياد، فبعثَ بهما إلى أمير المؤمنين، وهُما ممَّن لم يُحدِثْ في الإسلام حَدَثًا، ولا خَرَجا على الخليفة. فلما شَفَعَ فيهما يزيدُ بن أسد قال معاوية: قد أتاني كتابُ جرير فيهما، وهو أهلٌ أن يُصَدَّقَ، وهما لك. فأطلقَهما. وشَفَعَ وائلُ بنُ حُجْر في الأرقم بنِ عبد الله، فأطلقَه معاوية، وطلب أبو الأعور السُّلَميُّ عتبةَ بنَ الأَخْنَس، فوهبه له، وطلب حمزةُ بنُ مالك الهمداني سعيد بن نمران، فوهبه له (¬5)، وكلَّمه حبيبُ بنُ مسلمة في ابنِ حَويَّة (¬6)، فأطلقَه. وقام مالكُ بنُ هُبَيرة السكوني، فقال لمعاوية: دَع لي ابنَ عمي حُجْرًا. فقال: ابنُ عمِّك رَأسُ القوم، فأخافُ إن خَلَّيتُ سبيله، أن يُفْسِدَ عليَّ مِصري. فقال: يا معاوية، واللهِ ما أنصفتني، قاتلتُ معك ابنَ عمِّكَ أيَّامَ صِفِّين حتى ظَفِرَتْ كفُّكَ، وعلا كَعْبُكَ، وسألتُكَ في ابنِ عمِّي فأجبتَني بما لا ينفعني. وقام فخرج مُغْضَبًا. ¬

_ (¬1) يعني الكتاب الذي بعثه زياد مع يزيد بن حُجَيَّة، والخبر أيضًا في "تاريخ دمشق"، ينظر "مختصره" 6/ 239. (¬2) ويعرف بابن أمّ الحكم، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان ابنُ أخت معاوية، له ترجمة في "تاريخ دمشق" 10/ 21 (مصورة دار البشير). وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 287، و"تاريخ" الطبري 5/ 273. (¬3) في "تاريخ" الطبري: لا تَعَنَّ أَبْرًا، بدل: لا تَعَنَّ بعد العام مؤبِّرًا، وهو فيه من قول معاوية. (¬4) النسختين (ب) و (ح): بن، والتصويب من "تاريخ" الطبري 5/ 274. (¬5) عتبة بن الأخنس وسعيد بن نمران؛ أرسلهما زياد إلى معاوية بعد إرساله الاثني عشر من أصحاب حُجْر، وسلف التعليق على ذلك. (¬6) هو عبد الله بن حَوِيَّه السعديّ، وسلف ذكره، ولم ترد هذه الفقرة في (ب)، ووقع في (خ): أخوه، بدل: حويَّه، والتصويب من "تاريخ" الطبري 5/ 274.

قال هشام: لَمّا نزل القومُ مرجَ عَذْراءَ -ويقال له: مَزج العَذْرا، وبينه وبين دمشق اثنا عشر ميلًا، وقد ذكره ابن سعد قال: فحملوهم إلى عذراء ليقتلوهم- فقال حُجْر: الحمد لله، أما واللهِ إِني لأَوَّلُ مُسْلمٍ نَبَحَتْه كلابُها (¬1) في سبيل الله، ثم يُؤتى بي اليومَ إليها مصفودًا! ودفع معاويةُ كُلَّ رجلٍ إلى رجلٍ من أهلِ الشامِ ليقتلَه، ودفع حُجْرًا إلى رجلٍ من حِمْيَر، فقدَّمه ليقتلَه، فقال: دعوني أُصلِّي ركعتين. فتركوه، فتوضَّا وصلّى، فأطال، فقيل له: أَجَزِعت؟ فقال: واللهِ ما توضَّأتُ قَطُّ إلَّا صليتُ ركعتين، وما صلَّيتُ صلاةً قطُّ أخفَّ منها، ولئن جَزَعتُ؛ لقد رأَيتُ سيفًا مشهورًا، وكفنًا منشورًا، وقَبْرًا محفورًا. وكانت عشائرُهم قد جاؤوهم بالأكْفان، وحفَروا لهم القبور -ويقال: إن معاوية بعثَ إليهم بالأكفان، وحفر لهم القُبور- فقال حُجْر: اللهم إنَّا نستعديك (¬2) على أُمَّتِنا، فإنَّ أهلَ العراق شهدوا علينا، وأهل الشام قتلُونا. وقيل لحُجْر: مُدَّ عُنُقَك. فقال: إنَّ ذلك لَدَمٌ ما كُنْتُ لِأُعينَ عليه. فضُربت عُنُقُه. وكان معاويةُ قد بعثَ رجلًا أعور من بني سلامان بن سعد يُقال له: هُدْبة بن فيّاض، فنظر إليه رجلٌ [منهم] من خثعم (¬3)، فتطيَّرَ من عَوْرَتِه وقال: إن صَدَقَتِ الطير، قُتِلَ نِصْفُنا، ونجا نِصْفُنا، فكان كما قال: قُتِلَ سبعة، ونجا ستة [أو قُتل ستة، ونجا سبعة] (¬4) وكانوا ثلاثةَ عَشَر رَجُلًا (¬5). ولَمّا قُتِلَ سبعة أَردفَ معاويةُ برسولٍ بعافيتهم جميعًا، فوجدهم قد قتلوا مَنْ ذكرنا (¬6). وقال حُجْر: ادفنوني في ثيابي، فإني أُبعثُ مخاصمًا. ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 8/ 339: نبَّحَ كلابَها. (¬2) في (ب) و (خ): تستعيذ بك، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 8/ 339. (¬3) هو كريم بن عفيف الخثعمي، وسلف ذكره في أصحاب حُجر الاثني عشر. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو كذلك في "طبقات" ابن سعد 8/ 339. (¬5) كذا في "الطبقات" وفي "تاريخ" الطبري 5/ 271 - 272 أنهم أربعة عشر، وسلف التعليق على هذا. (¬6) سلف الكلام قريبًا في رواية أبي مِخْنَف أن ستةً من أصحاب حُجْر قد شفع فيهم أصحابُهم، وأن معاوية قبل شفاعتهم فيهم، ووهبهم لهم.

وهذا الذي ذكرنا من قولِ حُجْر لَمّا نزل مرجَ عَذْراء؛ قال: الحمد لله، إلى ها هنا من كلام ابن سعد. وقد ذكر أبو مِخْنَف القِصَّة عن أشياخه أتمَّ من هذا، فقال (¬1): بعث معاويةُ هدبَةَ بنَ فياض من بني سَلامان، والحسينَ (¬2) بن عبد الله الكلابي، وأبا شريفٍ البَدِّيَّ إلى حُجْر وأَصحابِه، فأتَوْهُم عند المساءِ، فلما رأى كريمُ بنُ عَفيف الخثعميُّ الأَعوَرَ مُقْبلًا قال: يُقْتَلُ نصفُنا، وينجو نِصْفُنا. فقالمالهم رسولُ معاوية: قد أُمِرنا بقتلِ ثمانية (¬3) وتَخْلية سِتَّة، وقد أُمِرنا أن نَعْرِضَ عليكم البراءةَ من أبي تُراب واللَّعنَ له، فإن فعلتُم تركناكم، وإن أبيتُم قتلناكم، وإنَّ معاويةَ يزعمُ أنَّ دماءَكم قد حلَّت له بشهادةِ أهلِ مصرِكم عليكم، غير أنَّه قد عفا عن ذلك، فتبرَّؤوا من هذا الرجلِ نُخلِّ سبيلَكم. فقالوا: لسنا بفاعلين، فاصنعُوا ما بَدَا لكم. فأَمَرُوا بحفرِ قُبورِهم، وأُدنِيَتْ إليهم أكفانُهم، وقاموا الليل كلَّه يُصلُّون ويدعُون. فلما أصبحوا قال لهم أصحابُ معاوية: قد رأيناكم البارحة أطلتُم الصلاةَ وأحسنتُم الدعاء، فأخبِرونا ما رأيكُم في عثمان؟ فقالوا: هو أوَّلُ مَنْ جارَ في الحكم، وبدَّل معالم الدِّين، وعَمِلَ بغير الحقِّ. فقال أصحاب معاوية: أمير المؤمنين كان أعلمَ بكم. فقالوا: تبرَّؤوا من أبي تُراب. فقالوا: بل نتوَلّاه ونتبرّأُ مِمَن يتبرَّأُ منه. قال أبو مِخْنَف (¬4): إن رجلين من أصحاب حُجْر قال لهم: أَرسِلُوا بنا إلى معاوية لنقولَ مثلَ قولِه، وهما عبد الرحمن بن حسَّان العَنَزيُّ وكريم بن عفيف الخَثْعميُّ، فأرسلوهما إليه، فلما دخلا عليه؛ قالماله الخَثْعمي: الله الله يا معاويةُ في دمائِنا، فإنَّك منقولٌ عن هذه الدارِ الفانيةِ إلى الدارِ الباقية، مسؤول عنا وعن دمائِنا. فقال له معاويةُ: ما تقول في أبي تُراب؟ قال: أَقولُ ما تقولُ. فقال: تبرَّأ منه. قال: أتبرَّأُ من الدينِ الذي كان يَدِينُ به؟ فكره معاويةُ أن يُجيبه بشيء. فسكت. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 274 - 275. (¬2) في "تاريخ" الطبري 5/ 274، و"الكامل" 3/ 485: الحصين. (¬3) في النسختين (ب) و (خ): ستة، بدل: ثمانية، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 275، والخبر فيه، فقد ذكر في موضع قبله أنهم أربعةَ عشرَ، وسلفت الإشارة إلى هذا. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 276.

فقام شَمِر بن عبد الله من بني قُحافة فقال: هبْ في ابنَ عمي، فقال: على أنَّه لا يدخلُ الكوفةَ. قال: نعم، فوهبه له. ثم قال معاويةُ للعَنَزيّ: يا أخا ربيعة، ما تقولُ في أبي تُراب؟ فقال: لا تسألني، فإنَّه خيرٌ لكَ، فقال: لا بُدَّ. فقال: أشهدُ أنه كان من الذاكرين الله كثيرًا، الآمرين بالمعروف، القائلين بالحقِّ، القائمين بالقِسْط، العافين عن الناس. قال: فما تقولُ في عثمان؟ فقال: هو أوَّلُ من فتح بابَ الفتنة، وأَرْتَجَ بابَ الحَقِّ. فقال معاوية: قَتَلْتَ نَفْسَكَ، فقال: لا، بل إِيّاكَ قَتَلْتُ. فبعث به إلى زياد وقال: اقتُلْهُ شَرَّ قِتْلَة. فدفنَه زياد في قُسِّ الناطفِ حيًّا (¬1). وذكر الطبري (¬2) عن أبي مِخْنَف أن هذين الرجلين لَمّا قُتِلَ ستَّةٌ من القَوْم قال: ابعثوا بنا إلى معاوية .. وذكر بمعنى ما ذكرنا، وذكر أن العَنَزيَّ قال: ولا ربيعة بالوادي. يعني أنه لم يكن عند معاوية من يُكلِّمُه فيه من قومه. ذِكْرُ تسمية من قُتِلَ من أصحابِ حُجْر، ومَنْ نجا منهم: أما من قُتِلَ منهم: فشريك بن شدَّاد الحَضْرميُّ، وصيفيُّ بن فسيل الشيباني، وقبِيصةُ بن ضُبيعة العَبْسي، ومُحْرِز بن شهاب المنقري (¬3)، وكِدام بن حيَّان العَنَزي، وحُجْر. قُتِلوا وصُلِّيَ عليهم. وأما من نجا منهم: فكريم بن عفيف، وعبد الله بن حَويَّة، وعاصم بن عوف، وقيل: ابن عمرو، وورقاء بن سُميّ، والأرقم بن عبد الله، وعتبة بن الأخْنس، وسعيد بن نمران، وهم سبعة. وقال أبو مِخْنَف: قال مالك بن هُبيرة السَّكوني حين أبي معاويةُ أن يُشفِّعَه في حُجْر بن عديّ وقد اجتمع إليه قومُه من كِنْدَةَ والسَّكونِ واليَمَن: سِيروا بنا إلى حُجْر لنُخلِّصَهُ من ¬

_ (¬1) موضع قرب الكوفة، وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 4/ 290. (¬2) في "تاريخه" 5/ 276 - 277. (¬3) في النسختين (ب) و (خ): العبسي، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 277، و"أنساب الأشراف" 4/ 293، وقد سلف ذكر محرز بن شهاب في أصحاب حُجر.

القَتْل. فجاؤوا وقد قُتِلوا، فعادوا إلى منازلهم، ولم يأتِ مالكٌ معاويةَ فأرسل إليه فلم يأتِه، فقال معاويةُ: دعوه، فإنَّها حرارةٌ يِجِدُها في صَدرِه. وبعث إليه معاويةُ في الليل بمئةِ ألف درهم وقال له: لم يَمْنَغني أن أُشَفِّعَك في ابن عمِّك إلا شفقةٌ عليك وعلى أصحابك؛ فإنَّ حُجْرًا لو بقيَ لكلَّفك الشُّخوصَ إليه، فيكون على الإسلام مُصيبةٌ أَعظمُ من قَتْلِه. فأَخَذَ مالِكٌ المال، ورضيَ عن معاوية، وجاء في قومهِ إليه، فدخل وسلَّم عليه (¬1). واختلفوا في المكان الذي قُتِلوا فيه، والمشهور أنَّه مَزج عَذْراء، فإنهم لما وصلوا إلى هناك قال معاوية: اقتلوهم ولا أراهم. وذكر الهيثم بنُ عديّ أنَّ حُجْرَ بنَ عديّ لَضا حُمِلَ إلى الشام ودخلوا به إلى معاوية فقال: السلامُ عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: أوَ أميرُ المؤمنين أنا؟ قال: نعم. قال: أَخْرِجوه فاضربوا عُنُقَه. فقال: لا تفكُّوا عنّي حديدًا، ولا تغسلوا عني دمًا، فإني أخاصمُ غدًا معاوية، أو أُلاقيه على الجادَّة. فأخرجوه فقتلوه. والأصحُّ أنَّه قُتِلَ بمرج عذراء لما ذكرنا (¬2). وحكى أبو القاسم بن عساكر عن عبدِ الله بن لهيعة قال: قال علي بن أبي طالب: يا أهل العراق، سيُقْتَلُ سبعةُ نَفَر بمرج عذراء، مَثَلُهم كمثل أَصحاب الأُخْدود (¬3). ذِكْرُ معاتبةِ عائشةَ معاوية، وإنفاذِها إليه، وما ذكر العلماء في مَقْتَلِ حُجْر: ذكر العلماءُ وابن سعد أن عائشةَ لَما بلغها حديثُ حُجْر وأصحابِه كتبَتْ إلى معاوية مع عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أو أرسلت إليه، فقَدِمَ وقد قُتِلوا، فقال له: يا أمير المؤمنين، أين عنك حِلْمُ أبي سفيان؟ فقال: غَيبَةُ مثلك (¬4) عني من قومي -أَو من حُلَماء قومي- وحمَّلَني ابنُ سميَّةَ فاحتمَلْتُ. وقد حكاه الطبري، أعني الأصل والزيادة. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 278. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 291 - 292. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 272. (¬4) في (خ): مثل ذلك، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 8/ 339، و"تاريخ" الطبري 5/ 279.

وحكى الطبري أيضًا (¬1) عن أبي مِخْنَف، عن عبد الرحمن بن نوفل (¬2) قال: قالت عائشة: لولا أنا لم نُغَيِّرْ شيئًا إلا آلت بنا الأُمورُ إلى ما كُنا فيه (¬3)، لغَيَّرْنا قَتْلَ حُجْر، أَما واللهِ لقد كان -ما علمتُ- مسلمًا حاجًّا معتمرًا. وكان حُجْرٌ كثيرَ الحجِّ. وقال الطبري عن أبي مِخْنَف عن أبي سعيد المَقْبُريّ قال: حجَّ معاويةُ، فاستأذنَ على عائشة، فأذِنَت له، فقالت: يا معاويةُ، أَأَمِنْتَ أن أَخْبَأَ لك من يَقتُلكَ؟ فقال: بيت الأمنِ دخلتُ. فقالت: أما خَشِيتَ الله في حُجْر وأصحابه؟ ! فقال: لستُ أنا قَتَلْتُهم، إنَّما قتلهم من شَهِدَ عليهم. وحكى ابن عساكر عن ابن لهيعة قال: لَمَّا حجَّ معاويةُ دخلَ على عائشة فقالت له: يا معاوية قَتَلْتَ حُجْرًا وأصحابَه؟ واللهِ لقد قَتَلْتَ بمرج عَذْراء سبعةَ نَفَرٍ يَغْضَبُ الله لهم وأَهلُ السماء. فقال: يا أُمَّ المؤمنين، لم يحضُرني رجلٌ رشيد (¬4). وفي روايةِ الهيثم. فقال معاويةُ: دعيني وحُجْرًا نلتقي غدًا. فَحَجَّتْهُ عائشة. وقال ابن عساكر أيضًا (¬5): إن معاوية لما قتل حُجرًا نَدِمَ، فكتب إلى مروان يُخبره بما دخله من النَّدامة؛ فكتب إليه مروان: فأينَ كان عقلُك وحِلْمُك [فكتب إليه: إنك غِبْتَ عني وأصحابُك في جفاء قيس] وطعام اليمن. وحكى الطبري عن أبي مِخْنَف قال (¬6): حدثني زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق قال: أدركْتُ الناسَ وهم يقولون: إن أوَّل ذل دَخَلَ الكوفةَ موتُ الحسنِ بن عليّ، وقَتْلُ حُجْرٍ وأصحابه، ودعوةُ زياد. وقال أبو مِخْنَف: وزعموا أن معاويةَ قال عند موته: يومٌ في من ابنِ الأدبرِ طويلٌ. قالها ثلاثًا، يعني حُجْرًا. ¬

_ (¬1) في "تاريخه" 5/ 279، وما قبله فيه 5/ 278 - 279. (¬2) في "تاريخ" الطبري: عبد الملك بن نوفل، وهو الأشبه. (¬3) في تاريخ الطبري 5/ 279: إلى أشدَّ مما كنَّا فيه. (¬4) لم أقف عليه في "تاريخ دمشق". وهو بنحوه في "تاريخ" الطبري 5/ 257. وينظر "تاريخ دمشق" 4/ 272 (مخطوط)، ومختصره 6/ 241. (¬5) تاريخ دمشق 4/ 274 (مصورة دار البشير) وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬6) تاريخ الطبري 5/ 279.

وحكى الطبريُّ أيضًا عن أبي مِخْنَف عن الصَّقْعبِ (¬1) بن زُهير، عن الحسن البصري أنَّه قال (¬2): أَربَعُ خِصال كُنَّ في معاويةَ لو لم يكُن له منهنَّ إلّا واحدة لكانَتْ له مُوْبِقَة: انتزاؤه على هذه الأُمَّة بالسفهاء حتى ابتزَّها أمَّرَها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا من الصحابة وذوي الفَضيلة، واستخلافُه ابنه يزيدَ سِكِّيرًا خِمِّيرًا، يلبس الحريرَ ويلعبُ بالطنابير، وادِّعاؤه زيادًا وقد قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الولدُ للفِراش وللعاهرِ الحَجَر"، وقَتْلُهُ حُجْرًا وأصحابَهُ، فيا وَيله منهم. وحكى الطبري عن الحسن أنَّه قال (¬3): صَلَّوا على حُجْرٍ وأصحابه وكَفَّنُوهم ودَفَنوهم؟ قالوا: نعم. قال: حَجُّوهم وربِّ الكعبة. وقال ابنُ سعد (¬4): رَثَتْهم هند ابنةُ زيد بن مَخْرَمة الأنْصارية، وكانت شيعيَّة، فقالت حين سُيِّر حُجْر إلى معاوية: تَرَفَّعْ أَيُّها القَمرُ المُنيرُ ... تبصَّر (¬5) هل ترى حُجْرًا يَسيرُ يسيرُ إلى معاوية بن حربٍ ... ليقتلَه كما زعم الخبيرُ تجبَّرَتِ الجبابرُ بعد حُجْرٍ ... فطابَ لها الخَوَرْنَقُ والسَّدِيرُ وأَصبحتِ البلادُ له مُحُولًا ... كأَن لم يُحيِها زمن (¬6) مَطيرُ ألا يا حُجْرُ [حُجْرَ] بني عديٍّ ... تَلَقَّتْك السلامةُ والسُّرورُ أخافُ عليك ما أَردى عليًّا (¬7) ... وشَيخًا في دِمَشْقَ له زَئيرُ فإن تَهْلِكْ فكلُّ عميدِ قَوْمٍ ... إلى هُلْكٍ من الدنيا يَصيرُ وذكرها الطبري أيضًا، ولم يذكر: يسير إلى معاوية بن حرب (¬8). ¬

_ (¬1) تحرفت في (خ) إلى: الصعب. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 279. (¬3) المصدر السابق 5/ 277. (¬4) في "الطبقات" 8/ 339 - 340. (¬5) في "الطبقات": ترفَّع. (¬6) في "الطبقات": يومًا، بدل: زمن. (¬7) في "الطبقات": عديًا. وكذا في "تاريخ" الطبري 5/ 280. (¬8) بل ذكره، والأبيات في "تاريخه" 5/ 280 وزاد عليها بيتين، وهي بنحوها في "الأغاني" 17/ 155.

وقال أبو اليقظان: لَمَّا أمر زيادٌ بإخْراجِ حُجْر وأصحابه من الكوفة؛ مرُّوا على الجَبَّانة (¬1) ومنازلهم فقالت هند هذه الأبيات. ورأيتُ في بعضِ النُّسَخِ أَنَّ ابنةَ حُجْر قالت الأبيات. وقال عبد الله بن خليفة الطائي الذي خرج مع حُجْر، وحَبَسَ زيادٌ عديَّ بن حاتم لأجْلهِ، وأنه شَفَعَ فيه إلى زياد فقال: يَخرجُ من المِصْر (¬2). وقال عديّ: يا ابنَ أخي، إنَّه قد لجَّ في أمرِكَ، وأبى إلا إخراجَك عن مِصْرِكَ، فاخْرُجْ فالحقْ بالجَبَلَين، وإذا سكن غَضَبُهُ كلَّمتُه فيك. فخرج فأقامَ بالجبلَينِ، وجعل يكتبُ إلى عديّ، وهو يُمنِّيه، فكتب إليه عبد الله: تذكَّرتُ ليلى والشبيبةَ أَعصُرا ... وذِكْرُ الصِّبا بَرحٌ على مَنْ تَذَكَّرا وولَّى شبابي فافْتَقَدْتُ غُضونَهُ ... فيا لكَ من وَجْدٍ به حين أَدبَرا فَدَع عنك تَذْكارَ الشبابِ وفَقْدَهُ ... وآثارَه إذْ بانَ عَنْكَ فأَقْصَرا وبَكِّ على الخُلَّانِ لَمّا تُخُرِّمُوا ... ولم يَجِدوا عن مَنْهلِ الموتِ مَصدرَا دَعَتْهُم مناياهم ومن حانَ يومُه ... من الناسِ فاعلم أنَّه لن يُؤَخَّرا وما كُنْتُ أَهوى بَعدَهم مُتَعَلَّلًا ... بشيءٍ من الدنيا ولا أن أُعمَّرا على أهلِ عَذْراءَ السلامُ مُضاعَفًا ... من اللهِ تستسقي الغَمامَ الكَنَهْوَرا قال الجوهري: الكَنَهْور: العظيم من السحاب. ولاقَى بها حُجْرٌ (¬3) من الله رحمةً ... فقد كان أرضى الله [حُجْرٌ] وأَعذَرا ولا زال مِهْطالٌ مُلِثٌّ ودِيمةٌ ... على قَبْرِ حُجْرٍ أو يُنادَى فيُحشَرا ويا إخْوَتي من حَضرمَوْتَ وغالبٍ ... وشيبانَ لُقِّيتُم حسابًا مُيَسَّرَا سأبكيكُمُ ما لاح نجمٌ وغرَّد الـ ... حَمَامُ ببَطْنِ الوادِيَينِ وقرقَرَا من أبيات طويلة، يُعاتبُ فيها عديَّ بن حاتم. ¬

_ (¬1) هي محالُّ بالكوفة تسمّى بهذا الاسم وتضاف إلى القبائل منها جبَّانة كندة مشهورة، و .... وقال ياقوت: أهل الكوفة يسمُّون المقابر جبَّانة. معجم البلدان 2/ 99. (¬2) في الكلام اختصار كبير، ينظر تفصيله في "تاريخ الطبري" 5/ 281 - 282. (¬3) في (خ): ولاقى بها حجرًا. والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 282.

ومات عبد الله قبل موتِ زياد بالجَبَلَين. قلت: وذكر ابن سعد حُجْرًا في الطبقة الأولى من التابعين فيمن روى عن عليّ عليه السلام. وقال في آخر ترجمته: وكان ثِقَةً ولم يَرو عن عليّ شيئًا. ثم روى ابن سعدٍ عنه أنه قال: سمعتُ عليًّا - عليه السلام - يقول -أو يذكر- أن الطهورَ شَطْرُ الإيمان. وكل هذا مُتناقض (¬1). وقال هشام: روى حُجْرٌ عن عليّ وغيرِه من الصحابة (¬2). وكان عابدًا مجتهدًا كثير الصوم والصلاة والصدقة، بارا بوالديه. قلت: وذكر ابن سعد بعد ترجمة حُجْر في الطبقة الرابعة من الصحابة، وقال (¬3): حُجْرُ الشَّرِّ بن يزيد بن سلمة بن مُرَّة بن حُجر بن عديّ بن ربيعة بن معاوية الأكرمين. كان شريفًا، وَفَدَ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأَسلم. قال: وإنّما سُمِّي حُجْرَ الشَّرّ لأن حُجْرَ بنَ الأَدْبَر -يعني الذي قتله معاوية- كان يُسَمَّى حُجْرَ الخير، فأرادوا أن يَفْصِلُوا بينهما، وكان أيضًا شِرّيرًا، وكان أحدَ الشُّهود يوم الحكَمَين بصِفّين. وولَّاه معاويةُ بعد ذلك أَرمينية. وليس في الصحابة من اسمُه حُجْر بن عديّ -إن ثبتت له صحبة- غيرُه، فأما حُجْر غير ابن عديّ فأربعة: حُجْرُ بن عَنْبَس -وقيل: ابن قيس (¬4) - الكِنْديّ. والثاني: حُجْر بن النُّعمان بن عَمرو. والثالث: حُجْرُ بن يزيد بن معدي كَرِب. ¬

_ (¬1) وهم المصنف (أو المختصر) في نقله من ابن سعد، ثم بنى عليه، فعبارة ابن سعد في "الطبقات" 8/ 340: لم يرو عن غير عليّ شيئًا. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 4/ 261. (¬3) 6/ 239 (حُجر الخير، وهو حُجر بن عدي)، و 6/ 240 (حُجر الشرّ، وهو الآتي ذكره). (¬4) في (خ): أبو قيس، وهو خطأ. وينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 180.

سعيد بن زيد

والرابع: حُجْر بن يزيد بن سلمة، وهو حُجْرُ الشرِّ، وله صحبةٌ. وليس فيهم من له رواية. وفيها توفي سعيدُ بنُ زيد ابنِ عمرو بنِ نُفَيْل بنِ عبد العُزَّى بنِ رِياح بنِ عبد الله بن قُرْط بنِ رَزاح بن عديّ بن كعب بن لؤي، وكُنيتُه أبو الأعور. وأُمُّه فاطمةُ بنت أُمية بن بَعجَة (¬1) بن أُميَّة، خُزاعية. وقد ذكرنا أباه زيد بن عمرو، وأنَّه كان يطلبُ دينَ إبراهيم، واجتمع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببَلْدَحَ (¬2)، وقَدّم له سُفْرَةً، فما أكل زيد منها وقال: لا آكلُ ما تذبحونَ لأصنامكم (¬3). وأنه مات على الدين الحنيفيّ. وقد ذكرناه في سيرة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وسعيدُ بنُ زيد هو ابنُ عمّ عمر بنِ الخطَّاب، وخَتَنُهُ على أُخْتِه فاطمة بنتِ الخطَّاب. وتزوَّج عمر أُخته عاتكةَ بنت زيد، وقد ذكرناها. وكان سعيد آدمَ طُوالًا أَشْعَرَ. ذِكْرُ جُمَلٍ من مناقبه: سعيد من الطبقة الأُولى من المهاجرين الأوَّلين، وأَحدُ العشرةِ المبشَّرين. أَسلم قديمًا هو وزوجتُه فاطمةُ بنتُ الخطَّاب، وكان خَبَّابُ بن الأرَتّ يُقْرِئهما القرآن، وقد ذكرناه في ترجمة عمر عند إسلامه. ¬

_ (¬1) في المصادر: فاطمة بنت بعجة. (¬2) واد قبل مكة من جهة المغرب. معجم البلدان 1/ 480. (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5499) من حديث ابن عُمر - رضي الله عنه -. وأخرج أيضًا (3826) أنه - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ زيدَ بنَ عَمرو بن نُفيل أسفل بَلْدَح قبل أن ينزل عليه الوحي، فقُدِّمَتْ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سُفرة، فأبى أن يأكل منها. ثم قال زيد: إني لستُ آكلُ مما تذبحون على أصنامكم. قال ابن حجر في "فتح الباري" 9/ 630: جمعَ ابنُ المنير بين هذا الاختلاف بأن القوم الذين كانوا هناك قدَّموا السُّفرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقدَّمها لزيد، فقال زيد مخاطبًا لأولئك القوم ما قال. وينظر تفصيل الكلام فيه في "فتح الباري" 7/ 143 - 144، وينظر "مسند" أحمد (1648)، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 133 - 135 و 221 - 222.

وأخرج البخاري عن سعيد أنَّه قال: واللهِ لقد رأيتُني وإنَّ عمرَ بن الخطابِ لَمُوثِقي على الإسلام أنا وأُختَه، وما أسلمَ بَعدُ (¬1). وشهد سعيد أُحدًا والمشاهِدَ كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه ولم يشهد بَدرًا؛ لأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَه وطلحةَ يتحسَّسانِ عِيرَ قُريش، ففاتهما شُهودُ بَدر، فَضربَ لهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسَهْمَيهِما وأجْرِهما، وقد ذكرناه. وقال البخاريّ: إنه شَهِدَها (¬2)؛ فأخرج في "صحيحه" (¬3) وقال: ذُكِرَ لعبد الله بن عُمر أن سعيدَ بنَ زيد مريضٌ (¬4) -وكان بَدريًّا- في يوم جمعة. فركب إليه بعدما تعالى النهارُ، وتركَ الجمعة. قالوا: وقَد وَهِمَ البخاريُّ في قوله: كان بدريًّا، فإنَّهم اتفقوا على أنَّه لم يَشهدها. قلت: ويحتمل أن البخاريَّ أراد بَدريًّا حُكْمًا، لا حقيقةً (¬5). وكان سعيدٌ مجابَ الدعوة؛ دعا على أروى بنت أُويس، فهلكت؛ قال البخاري: حدثني عُبيد بن إسماعيل بإسناده عن هشام، عن أبيه، عن سعيد بن زيد بن عَمرو بن نُفيل؛ أنَّه خاصمَتْهُ أروَى إلى مروان في حقٍّ زعَمَتْ أنَّه انتقَصَه لها، فقال سعيد: أنا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3862) و (3867). قوله: مُوثقي على الإسلام؛ قال ابن حجر في "فتح الباري" 7/ 176: أي: رَبَطَهُ بسبب إسلامه إهانةً له، وإلزامًا بالرجوع عن الإسلام. (¬2) لم يقل البخاري رحمه الله: إنه شهدها، بل قال: كان بدريًّا، (كما سيرد). وفرقٌ بين اللفظين، بل صرّح البخاري في "التاريخ الكبير" 3/ 425 بأنه لم يشهد بدرًا، فنقل عن أبي نُعيم قوله: قدم من الشام بعدما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدر، فضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه. (¬3) برقم (3990) في كتاب المغازي. (¬4) في "صحيح" البخاري: مَرِضَ. (¬5) لعلَّ الواهم مَنْ وهَّم البخاريَّ في قوله: كان بدريًّا، فقد أورده في "صحيحه" في باب تسمية من سمي من أهل بدر (الفتح 7/ 326)، ولم يقل: من شهد بدرًا، بل صرَّح في "تاريخه" أنه لم يشهدها (كما سلف قبل تعليقين)، وقد ذكره ابن سعد في "طبقاته" 3/ 352 في الطبقة الأولى من البدريين من الهاجرين، وقال: لم يشهد طلحة وسعيد الوقعة، وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسُهمانهما وأجورهما في بدر، فكانا كمن شهدها، وكذلك قال ابن الجوزي في "المنتظم" 5/ 247، وذكر ابن حجر في "فتح الباري" 7/ 311 أن الغرض من حديث البخاري هو قولُه: وكان بدريًّا، قال: وإنما نُسب إلى بدر -وإن كان لم يحضر القتال- لأنه كان مِمَن ضَرَبَ له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهم.

أنتَقِصُ من حقِّها شيئًا! أشهدُ لسمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا من الأرض ظُلْمًا؛ فإنَّه يُطَوَّقُه يومَ القيامة من سبع أَرَضين". أخرجاه في الصحيحين (¬1). وفي لفظ: فقال: اللهمَّ إن كانت كاذبةً فَأَعمِ بَصَرَها، واقتُلْها في أَرضِها. فوقعت في حُفْرَة، فماتت. وقد أخرج هذا اللفظَ بعينِه أبو نُعَيم الأصفهاني، وذكر فيه أروى بنت أُويس (¬2). ورواه أحمد في "المسند" (¬3) وفيه أن سعيدًا قال: أتروني آخُذُ من حقّها شيئًا بعدما سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أخَذَ من الأرضِ شِبْرًا بغيرِ حقِّه طُوِّقَهُ من سَبْع أَرَضين". الحديث. واختلفوا في معنى التطويق، فقال قومٌ: يصير كالطَّوْقِ في عُنُقِه. وقال آخرون: المرادُ به تطويقُ الإثم. وقال أبو القاسم بن عساكر عن ابن وَهْب (¬4) قال: أخبرني عمر بن محمد، عن أبيه، أنَّه قال: فأنا رأيتُها عمياء تَلْتَمِسُ الجُدُرَ، ثم خَرَّت في بئر فكانَتْ قَبْرَها (¬5). وفي روايةٍ أنها لما عَمِيَتْ كانت تقول: أَصابتني دعوةُ سعيدٍ. وأنها سألت سعيدًا أن يدعُوَ لها فقال: لا أردُّ على الله شيئًا أعطانيه. فكان أهلُ المدينة إذا دعا بعضُهم على بعض يقول: أعماك الله كما أعمى أروى (¬6). وقال الواقدي: أَمر [معاويةُ] مروانَ بن الحكم وهو أميرٌ على المدينة أن يُبايعَ لابنه يزيد، فأرسلوا إلى سعيد بن زيد، فقال: لا أُبايعُ أَقوامًا أنا ضَرَبتُهم بسيفي حتى أسلموا (¬7). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3198)، وصحيح مسلم (1610). (¬2) حلية الأولياء 1/ 96، وهو عند مسلم (1610): (139)، فكان العزو إليه أولى. (¬3) رقم (1640). (¬4) في (خ): ابن وُهيب، وهو خطأ، وهو عبد الله بن وَهْب. (¬5) تاريخ دمشق 7/ 242 (مصورة دار البشير) وهو في "صحيح" مسلم (1610): (138)، فكان العزو إليه أولى. (¬6) تاريخ دمشق 7/ 243 (مصورة دار البشير). (¬7) تاريخ دمشق 7/ 244 و 245. وينظر "المستدرك" 3/ 439، و"المعجم الكبير" للطبراني (345).

وقال ابن عساكر (¬1): شهد سعيد فتوحَ دمشق والشام، وولّاه أبو عُبيدة دمشق. وخرج مع عمر إلى الشام خَرْجَتَه التي رجع فيها من سَرْغ (¬2)، وكان أميرًا على رُبع المهاجرين. وقال ابن سعد (¬3): ولما هاجر إلى المدينة نزل على رِفاعة بن المنذر (¬4) أخي أبي لبابة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين رافع بن مالك الزُّرَقي. ذِكرُ وفاته: واختلفوا فيها، فقال ابن سعد (¬5): حدثنا محمد بن عمر قال: حدَّثني عبد الملك بن زيد من ولد سعيد بن زيد، عن أبيه قال: توفّي سعيد بن زيد بالعقيق، فحُمِلَ على رقاب الرجال، فدُفِنَ بالمدينة، ونزل في حُفْرته سعد بن أبي وقَّاص، وابنُ عمر، وذلك في سنة خمسين، أو إحدى وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة. وذكر ابنُ سعد (¬6) عن أهل الكوفة أنَّه مات عندهم في أيام معاوية، وصلَّى عليه المغيرةُ بنُ شعبة وهو يومئذ والي الكوفة لمعاوية. وقال ابن سعد (¬7): قال محمد بن عمر: الثبْتُ عندنا ولا اختلافَ فيه بين أهل المدينة وأهل العِلْم أن سعيدًا مات بالعقيق، وحُمِلَ فدُفِنَ بالبقيع، وشهده سعدٌ وابنُ عمر، وأصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقَوْمُه، وأهلُ بَيتِه، وولدُه يعرفون ذلك ويروُونه (¬8). قلت: والذي ذكره الواقديُّ صحيح من كونه مات بالمدينة. ¬

_ (¬1) في (خ): ابن عدي، وهو خطأ، والكلام في "تاريخ دمشق" 7/ 230 (مصورة). (¬2) بالغَيْن المعجمة، والعين لغة فيه. وهو أوّل الحجاز وآخر الشام بين المُغيثة وتبوك من منازل حاج الشام، وهناك لقي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمراء الأجناد. معجم البلدان 3/ 211 - 212. (¬3) في "الطبقات" 3/ 355. (¬4) في "الطبقات": بن عبد المنذر. (¬5) في "الطبقات" 3/ 358 و 8/ 135. (¬6) المصدر السابق 8/ 135. (¬7) المصدر السابق 3/ 358. (¬8) في النسختين (ب) و (خ): ويزورونه، والمثبت من "الطبقات".

وقال ابن سعد (¬1): حدثنا يزيد بن هارون بإسناده عن ابن عمر، أنَّه استُصرِخَ على سعيد بن زيد يومَ الجمعة بعدما ارتفع الضحى، فأتاه ابنُ عمر بالعقيق وترك الجمعة. وروى ابن سعد أيضًا عن ابن عمر أنَّه حنَّط سعيد بنَ ريد وحملَه، ثم دخل المسجد [فصلَّى] ولم يتوضأ. وهذا قول الواقديّ، وهشام بن محمد، وابن إسحاق، وجدِّي في "التلقيح"، والموفَّق في "الأنساب" أن سعيدًا مات بالعقيق، وحُمِلَ إلى المدينة في سنة إحدى وخمسين، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة (¬2). وروى ابن عبد البَرِّ أن عثمانَ أقْطَعَ سعيدًا أرضًا بالكوفة، فسكنها إلى أن مات بها. وهو وهمٌ من ابن عبد البَرِّ؛ قال الموفَّق رحمه الله: الأرضُ التي أقطعها عثمانُ لسعيد هي بالمدينة، سكَنَها وسكَنَها ولده من بعده (¬3). ذِكرُ أولاده: قال ابن سعد (¬4): كان لسعيد من الولد عبدُ الرحمن الأكبر؛ لا بقيَّةَ له، وأُمُّه رَملَةُ، وهي أُمُّ جميل بنتُ الخطاب بن نُفَيْل. وقال ابن سعد أيضًا في موضع آخر (¬5): اسم أُمّه أُمامةُ بنتُ الدُّجَيج من غسَّان. وزيدٌ؛ لا بقيَّةَ له، [وعبد الله الأكبر؛ لا بقية له]، وعاتكةُ، وأُمُّهم جُلَيسَةُ بنت سويد بن الصامت. وعبدُ الرحمن الأصغر؛ لا بقيَّةَ له، [وعُمر الأصغر لا بقية له]، وأمُّ موسى، وأُمُّ الحسَن، وأُمُّهم أُمامةُ بنت الدُّجَيج من غسان. ومحمدٌ، وإبراهيمُ الأصغر، وعبدُ الله [الأصغر]، وأُمُّ حبيب الكبرى، وأُمُّ الحَسَن الصُّغرى، وأُمُّ زيد الكبرى، وأُمُّ سَلَمَة، وأُمُّ حبيب الصُّغرى، وأُمُّ سعيد الكبرى؛ تُوفّيت قبل أبيها، وأُمُّ زيد، وأُمُّهم حَزْمَةُ بنت قيس بن خالد من بني فِهْر. ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 3/ 357، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 120، و"التبيين في أنساب القرشيين" ص 42، وينظر "تاريخ دمشق" 7/ 246 - 247. (¬3) الاستيعاب ص 270، والتبيين في أنساب القرشيين ص 426. (¬4) في "الطبقات" 3/ 354، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬5) الطبقات 7/ 55. (ترجمة عبد الرحمن بن سعيد بن زيد).

وعَمرو الأصغر، والأسودُ، وأُمُّهما [أُمّ الأسود]، امرأةٌ من بني تغلب. وعمرو الأكبر، وطلحةُ؛ هلك قبل أبيه لا بقيَّة له، وزُحلَة امرأةٌ، وأُمُّهم ضُمخ (¬1) بنت الأَصبَغ بن شعيب الكلبي. وإبراهيم الأكبر، وحفصة، وأُمُّهما ابنةُ قربة من بني تغلب. وخالد، وأُمُّ خالد؛ دَرَجَتْ قبل أبيها، وأُمُّ النعمان، وأُمُّهم أُمُّ خالد أُمُّ ولد. وأُمُّ زيد الصُّغرى، وأُمُّها أُمُّ بشير بنت أبي مسعود الأنصاري، وأُمُّ زيد الصُغرى كانت (¬2) تحت المختار بن أبي عُبيد، وأُمُّها من طيّئ. وعائشة، وزينب، وأُمُّ عبد، ويُقال لها: الحَوْلاء، وأمُّ صالح، وأُمُّهم أُمُّ ولد. فالحاصل أنَّهم أحدٌ وثلاثون ولدًا، اثنا عشر ذكرًا، وتِسْعَ عشرةَ أُنثى (¬3). فنذكر أعيانَهم. فأما عبد الرحمن فكان اسمُه موسى، فسمَّاه عمرُ بن الخطَّاب -لما أراد تغييرَ الأسامي- عبدَ الرحمن (¬4). وذكره الموفَّقُ رحمه الله فقال: كان شاعرًا، وهو القائل (¬5): إن تقتلونا يومَ حَرَّةِ واقِمٍ ... فنحنُ على الإسلامِ أَوَّلُ مَنْ قَتَلْ ونحنُ قتلناكم ببَدْرٍ أَذلَّةً .. وأُبْنا بأسلابٍ [لنا] منكُمُ نَفَلْ فإن يَنْجُ منها عائذُ البيتِ سالمًا ... فما نالنا منكم وإنْ شفَّنا جَلَلْ ولا بقيَّةَ لعبد الرحمن. ¬

_ (¬1) في "الطبقات": ضبخ. (¬2) في النسختين (ب) و (خ): وكانت، وهو خطأ. (¬3) إنما هم ثلاثة وثلاثون، منهم أربعة عشر ذكرًا، سقط منه اثنان: عبد الله الأكبر، وعُمر الأصغر، كما سلف واستُدرك من "الطبقات". (¬4) يعني حين أراد عمر أن يغيّر اسم من تسمَّى بأسماء الأنبياء، كما في "الطبقات" 7/ 56. (¬5) التبيين في أنساب القرشيين ص 426. وما سيرد بين حاصرتين منه، ونسب الصفدي الأبيات في "الوافي بالوفيات" 2/ 204 لمحمد بن أسلم الأنصاري.

وذكر ابنُ سعد عبدَ الرحمن بن سعيد في الطبقةِ الأولى من التابعين من أهل المدينة وقال (¬1): وكان ثِقةً قليلَ الحديث. ولم يذكر تاريخ وفاته، بل قال: تولَّى غَسْلَه عبدُ الله بنُ عمر بنِ الخطاب. وقال الهيثم: وكان لعبد الله الأكبر بن سعيد ولدٌ اسمُه محمد بن عبد الله بن سعيد وكان شاعرًا، وهو القائلُ ليزيد بن معاوية يوم الحرَّة: لستَ مِنَّا وليس خالُكَ مِنَّا ... يا مُضِيعَ الصلاةِ للشَّهواتِ (¬2) وأمَّا عاتكةُ فهي التي كانت مباركةً على الأزواج، وقد ذكرناها. وقال الزبير: وكانتْ لسعيد بنتٌ عند الحسين بن حسن بن عليٍّ - عليه السلام -، وأُخرى عند المُنْذِر بن الزُّبير بن العوَّام. أسند سعيد بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه أحاديث. واختلفوا فيها، فقال قوف روى ثمانية وأربعين حديثًا. وقال ابنُ البر في: بضعةَ عشرَ حديثًا. وقال أبو نُعيم: سبعةَ عشر (¬3). وأخرج له أحمد أحد عشرَ، أُخرجَ له في الصحيحين ثلاثةُ أحاديث، اتَّفقا على حديثين، والثالث للبخاري (¬4). ومن مسانيده حديث العشرة المبشَّرين، وله طُرق: الطريق الأوَّل: قال أحمد (¬5): حدثنا يحيى بن سعيد، عن صَدَقة بن المُثنّى، عن رِياح بن الحارث أنَّ المغيرة بنَ شعبة كان في المسجد الأكبر، وعنده أهلُ الكوفة عن يمينه وعن يساره، فجاء رجلٌ يُدعى [سعيد بن] زيد فحيَّاه المغيرة، وأجلسه عند رجليه على السرير، فجاء رجلٌ من أهلِ الكوفة، فاستقبل المغيرةَ، فسبَّ وسبَّ. قال: مَنْ يسبُّ هذا يا مُغيرةُ؟ ¬

_ (¬1) الطبقات 7/ 55. (¬2) نسب ابن كثير البيت في "البداية والنهاية" 11/ 647 لعبد الرحمن بن سعيد بن زيد. وذكره البلاذري في "أنساب الأشراف" 4/ 361 ضمن مجموعة أبيات ونسبها لموسى شهوات. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 365 - 366. (¬4) ينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 392. (¬5) مسند أحمد (1629) وما سيرد بين حاصرتين منه.

قال: يسبُّ عليَّ بن أبي طالب، فقال: يا مغيرَ بنَ شُعْب، يا مُغيرَ بن شُعب، ثلاثًا، ألا أَسْمَعُ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسَبُّون عِنْدك ولا تُنكِرُ ولا تُغَيِّر؟ ! فأنا أشْهدُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما سَمِعَتْ أُذُنايَ ووعاه قلبي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فإنّي لم أَكُن أروي عنه كَذِبًا يسأَلُني عنه إذا لقيتُه- أنَّه قال: "أبو بكر في الجنَّة، وعُمر في الجنَّة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنَّة (¬1)، وطلحةُ في الجنَّة، والزُّبير في الجنَّة، وعبدُ الرحمن في الجنَّة، وسعد بن مالك في الجنَّة" وتاسِعُ المؤمنين في الجنة، لو شئتُ أنْ أُسَمِّيَهُ لَسَمَّيتُه. قال: فضجَّ أهلُ المسجدِ يُناشدونه: يا صاحبَ رسول الله، مَنِ التاسع؟ فقال: ناشدتموني بالله العظيم، واللهِ أنا تاسعُ المؤمنين، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - العاشر. ثم أَتْبَعَ ذلك يمينًا. قال: فواللهِ لَمَشْهدٌ شَهِدَهُ رجلٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَغْبَرُّ فيه وَجْهُه معه أَفْضَلُ من عملِ أَحَدِكم ولو عُمِّرَ عُمرَ نُوح. الطريق الثاني: قال أحمد (¬2): حدَّثنا علي بن عاصم بإسناده عن عبد الله بن ظالم المازني قال: لما خرج معاويةُ من الكوفة استعملَ المغيرةَ بنَ شعبة، فأقام خطباءَ يقعون في عليّ. قال: وأنا إلى جانب سعيد بن زيد، قال: فغَضِبَ وقام، فأخذ بيدي فتَبِعتُه، فقال: ألا ترى إلى هذا الرجل الظالم لنفسه الذي يأمرُ بلعنِ رجلٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أو: من أهلِ الجنَّةِ-. فأشهدُ على التسعة أنَّهم في الجنَّة، ولو شهدتُ على العاشر لم آثَم. قال: قلتُ: وما ذاك؟ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اُثْبُتْ حِراءُ، فما عليك -أو: فإنَّه ليس عليك- إلا نبي أو صِدِّيقٌ أو شهيد" قال: قلت: مَنْ هُم؟ فقال: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. وعدَّهُم كما تقدَّم. ثم سكت، فقلتُ: ومن العاشر؟ قال: أنا. ورواه من طريقين آخرين بمعناه، وفيهما ذكر رسول الله صلى الله عليه أنَّه معهم، وسعيد هو العاشر (¬3). قلت: كذا وقعت هذه الروايات، ولم يُذكر فيها أبو عبيدة بن الجراح -واسمُه عامر- وكان من فضلاء الصحابة، وقد ذكرناه في طاعون عمواس. وقد كان الأَوْلى أن يكون في ¬

_ (¬1) جاء ذكر عليّ في "المسند" قبل عثمان - رضي الله عنهما -. (¬2) المسند (1644). (¬3) رواه أحمد من أكثر من طريقين (يعني حديث سعيد - رضي الله عنه - في قصة حراء) ينظر أيضًا: (1630) و (1638) و (1645).

عمرو بن الحمق

الجملة؛ فإنَّا نعلمُ قَطْعًا أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنَّة، إلَّا أنَّ في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمَّى نفسه فيهم، وقد أخرجه أحمد في "المسند"، فاتّباعُ الرواية أَوْلى. قال أحمد: حدَّثنا وكيع بإسناده عن عبد الرحمن بن الأخنس قال: خطبنا المغيرةُ بن شعبة، فنال من عليّ - عليه السلام -، فقام سعيد بن زيد فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "النبيّ في الجنَّة ... " وذكر الحديث، وأنَّ سعيدَ بنَ زيد هو العاشر، ولم يذكر أبا عبيدة بن الجرَّاح. قلت: وقد أخرج الحُميديُّ في "الجمع بين الصحيحين" عن مسلم من حديث أبي هريرة حديث جبل حِراء، وفيه كذلك ذِكْرُ أبي عبيدة (¬1). وليس في الصحابة من اسمُه سعيد بن زيد غيرُه. وروى عن سعيد جماعة من الصحابة والتابعين: ابن عمر، وعمرو بن حُريث، وأبو الطُّفيل عامرُ بن واثلة الليثي، وقيس بن أبي حازِم، وزِرُّ بن حُبَيش، وأبو عثمان النَّهْدي، وعروةُ بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن في آخرين. وفيها تُوفي عمرو بن الحَمِق ابن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القَيْن الخُزاعيُّ، ذكره في الطبقة الرابعة من الصحابة الذين أسلموا من القبائل (¬2). والحَمِق بفتح الحاء وكسر الميم. قال ابن سعد (¬3): بايع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في حجَّة الوَداع، وصَحِبَه بعد ذلك، ثم كان أحدَ الرؤوس الذين ساروا إلى عثمان بن عفان، وشهد المشاهِدَ بعد ذلك مع عليّ بن أبي طالب. قال: ثم قُتِل بالجزيرةِ؛ قتله ابنُ أُمِّ الحكم (¬4). ¬

_ (¬1) بل لم يذكره. ينظر كتابه 3/ 284 - 285. وجاء ذكره عند أحمد (1675) من حديث عبد الرحمن بن عوف. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 283. (¬3) الطبقات 6/ 283 و 8/ 147. (¬4) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أم الحكم، ابنُ أخت معاوية الطبقات 8/ 79.

وقال ابن عساكر (¬1): سكن الكوفةَ، ثم انتقل إلى مصر، وروى عنه جُبير بن نُفير، وكان قد سيَّره عثمان إلى دمشق. ذِكرُ مقتله: واختلفوا فيه. روى هشام، عن أبي مِخْنَف، عن مُجالد بن سعيد، عن الشعبي قال (¬2): لما حُبِسَ حُجْر بن عديّ وتَتَبَّعَ زيادٌ أصحابَهُ، خرج عَمرو بن الحَمِق ورِفاعةُ بن شدَّاد البَجَلي إلى أرض الموصل، فصَعِدا جَبَلًا فكَمَنا فيه، وبلغ عاملَ ذلك الرُّسْداق خبرُهما، واسمُ العامل عبد الله من هَمْدان (¬3)، فاستنكرهما، فسار إليهما ومعه أهلُ البلد. فأمَّا عمرو بن الحَمِق فكان مريضًا قد سُقِيَ بَطْنُه، فلم يَقْدِر على الامتناع. وأمَّا رِفاعةُ فكان شابًّا قَويًّا، فركب جَوادَه وقال لعمرو: أُقاتِلُ عنك؟ قال: وما يُغْني عني قتالُكَ؟ اُنْجُ بنفسك إن استطعت، فحمل عليهم. فأفرجوا له، فَنَجا، وكان راميًا، وتَبعوه، فما تَبِعَه فارسٌ إلّا جَرَحَه، فرجعوا عنه. وقال العاملُ لعمرو: من أنت؟ فأبَى أَن يُخْبِرَه، فبعث به إلى عامل الموصل، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي، فلما رأى عَمْرًا عرفه، فكتب إلى مُعاوية، فأخبره، فكتب إليه: إنَّه زعمَ أنَّه طَعَنَ عثمانَ بنَ عفَّان تسع طَعَنات، فَطَعَنه تسع طَعَنات، فمات في الأُولى، أو في الثانية. وهذه روايةُ هشام، وذكره الطبري ولم يَزِد عليه. وقال الهيثم: فقطع عبد الرحمن رأسَه، وبعث به إلى معاوية (¬4). وقال ابنُ سعد: قتله ابنُ أُمِّ الحكم. قال (¬5): وأخبرني محمد بن عمر، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن الشَّعبي قال: أوَّلُ رأس حُمِلَ في الإسلام رَأسُ عمرو بن الحَمِق. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 55/ 50. (طبعة مجمع دمشق). (¬2) تاريخ الطبري 5/ 364 - 365، وتاريخ دمشق 55/ 58. (¬3) هو عبد الله بن أبي بلتعة، كما في "تاريخ" الطبري 5/ 265، و"تاريخ دمشق" 55/ 58. (¬4) أنساب الأشراف 4/ 303 - 304، وينظر "تاريخ دمشق" 55/ 63 - 64. (¬5) الطبقات 6/ 283 و 8/ 147.

وقال أبو اليقظان: هربَ عمرو إلى أذربيجان، فنزل على رجل من بَجِيلةَ، وكان مريضًا، فماتَ عنده، فقطعَ رَأْسَه، وبعثَ به إلى الموصل إلى عبد الرحمن (¬1)، فبعث به إلى معاوية (¬2). وقال الحسنُ بنُ سفيان: بعث معاويةُ الطلبَ خَلْفَه، فدخل غارًا وفيه حَيَّةٌ، فلسعَتْه، فمات، فقطعوا رَأْسَه وحملوه إلى معاوية. وقال أبو القاسم بن عساكر (¬3): لما وضعوا رَأسَه بين يَدَي معاوية قال: اذهبوا فضَعوه في حِجْرِ بنتِ الشَّريدِ (¬4)، يعني زوجةَ عمرو، واسمُها آمنة، وكانت محبوسةً بدمشق، فلمّا أَلْقَوْه في حِجْرِها ارتاعت، ثم لَثَمَتْ فاه، وبكت طويلًا وقالت: غَيَّبْتُموه عني زمانًا طويلًا، ثم أهديتُموه إليَّ قتيلًا، فأهلًا به من هديَّةٍ غير قاليةٍ ولا مَقْلِيَّةٍ. واضَيعتاه بدار هوان. ثم قالت: اللهم العن ابنَ هِنْد. وسبَّته سبًّا قَبيحًا. وبلغه، فأحضَرَها وقال: أنْتِ صاحبةُ الكلام؟ فقالت وهي غير فَزِعةٍ ولا مُرتاعة: نعم. وكان عنده إياس بن شُرَحْبيل -وكان في شِدْقِهِ نُتوءٌ كأنَّه عَظْمٌ لعِظَمِ لسانِه- فقال له: اقتُلْها، فما زَوْجُها بأحق للقَتْلِ منها، فقالت له: وَيحَكَ! بين شِدقَيك مثل جُثمان (¬5) الضفدع وأَنْتَ تَأمر بقتلي {إِنْ تُرِيدُ إلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 19] فضحك [معاوية] والجماعةُ، وخَجِل إياس. ثم قال لها معاويةُ: اخرجي عني، فلا أسمَعُ لك في الشامِ بذِكْرٍ. فقالت: واللهِ ما الشامُ لي بوطن، ولا يُعَرجُ عليَّ فيه (¬6) حميم ولا سَكَن، ولقد عَظُمَتْ فيه مُصيبتي، ولا قَرَّت به عَيني، وما أنا إليكَ بعائدة، ولا حيثُ كنتُ بحامدة. فقال معاوية: ابعثُوا إليها بما تقطعون به لسانَها عنّا، وتَتَوصَّلُ به إلى أهلها. فخرجت تقصد الكوفة، فلما بلغت إلى حمصَ ماتت. ¬

_ (¬1) يعني عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي ابن أمّ الحكم، وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 304. (¬2) ينظر المصدر السابق 4/ 303 - 304. (¬3) تاريخ دمشق ص 43 (تراجم النساء، طبعة مجمع دمشق). وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 304، و"البداية والنهاية" 11/ 218. (¬4) في "أنساب الأشراف": بنت سويد، وهو خطأ. (¬5) رسمها في النسختين (ب) و (خ): حتان، والمثبت من "تاريخ دمشق" ص 44 (تراجم النساء، طبعة مجمع دمشق). (¬6) في "تاريخ دمشق": ولا أُعرِّجُ فيه على ....

مدلاج بن عمرو

وأسند عمرو بن الحَمِق الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [وليس له في "الصحيح" شيء] (¬1). وليس في الصحابة من اسمه عمرو بن الحَمِق غيره. وأخرج له أحمد في "المسند" حديثين: الأول: قال أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن عمرو بن الحَمِق، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استَعمَلهُ"، قيل: وما استعمله؟ قال: "يَفْتَحُ له عملًا صالحًا بين يَدَي موته حتى يُرضيَ من حوله" (¬2). قلت: كذا وقعت هذه الرواية. والروايةُ المشهورة: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عَسَلَه" وفيها لغتان: تخفيف السين وتشديدُها (¬3). الحديث الثاني: قال أحمد (¬4): حدثنا ابن نُمير بإسناده عن رِفاعة الفِتْياني قال: دخلتُ على المختار بن أبي عُبيد، فألقى إليَّ وسادةً وقال: لولا أنَّ أخي جبريل قام عن هذه لأَلقَيتُها لك. قال: فأردتُ أن أضْرِبَ عُنُقَه، فذكرتُ حديثًا حدَثنيه عمرو بنُ الحَمِق قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما مؤمنٍ أَمِنَ مُؤْمِنًا على دَمِه فقتله، فأنا من القاتل بريءٌ". فصل: وفيها توفي مِدْلاج بن عمرو السُّلَميُّ، من الطبقة الأُولى من المهاجرين (¬5). شهد بَدرًا في قول ابن إسحاق والواقدي وأبي معشر، ولم يذكره موسى بن عُقبة فيمن شَهِدَها. وشَهِدَ أُحدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من النسخة (ب). (¬2) مسند أحمد (21949) وفيه: يُفتح له عملٌ صالحٌ ... حتى يَرضَى عنه من حوله. (¬3) شرح مشكل الآثار (2641)، ومسند الشاميين (2026)؛ قال ابن الأثير في "النهاية" 3/ 237: العَسْل: طِيب الثناء، مأخوذ من العَسَل، يقال: عَسَلَ الطعامَ يَعسِلُه: إذا جعل فيه العَسَل، شبه ما رزقه الله تعالى من العمل الصالح الذي طاب به ذِكْرُه بين قومه بالعسل الّذي يُجعل في الطعام فيحلولي به ويطيب. (¬4) في "المسند" (21947). (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 91 وفيه أنه مات سنة خمسين.

أبو بكرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وأخوه مالك بن عمرو، استُشهد يوم اليمامة (¬1). وأسند مدلاجٌ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس له في الصحيح شيء. وليس في الصحابة من اسمه مِدلاج غيرُه، ويقال: مدلِج. وفيها تُوفي أبو بَكْرةَ مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلفوا في اسمه، فذكره ابن سعد في "الطبقات" فيمن نزلَ البصرة من الصحابة، وقال: اسمُه نُفَيع بن مسروح. قال: وفي بعض الحديث اسمُه مسروح بن مسروح (¬2). وقيل: نُفَيع بن الحارث، وأُمُّه سُمَيَّة، وهو أخو زياد بن أبيه لأُمِّه، وكان عبدًا من عبيد الطائف، فلما حاصر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الطائفَ قال: "أَيُّما عبدٍ نزل إلينا فهو حُرٌّ". فنزل إليه عِدَةٌ من عبيدِ الطائف، فيهم أبو بَكْرة، فأَعتقهم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبو بَكْرةَ تدلَّى في بَكْرة، فكنَّوه بها أبا بَكْرَة، فكان يقول: أنا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمّا ادَّعته ثقيف: "هو طليقُ اللهِ وطليقُ رسولهِ" وقد ذكرناه في غزاة الطائف. وقال ابن سعد (¬3): كان أَبو بَكْرةَ رجلًا صالحًا وَرِعًا، وكان فيمن شَهِدَ على المغيرة بن شعبة بتلك الشهادة، فضُربَ الحدَّ، وحَمَلَ على أخيه زياد في نفسه حيث لم يُقم الشهادة، فلما ادَّعى معاويةُ زيادًا نهاه أبو بَكْرةَ عن ذلك، فأبَى زياد، فحلف أبو بَكْرةَ لا يُكلِّمُه أبدًا، فمات قَبْلَ أن يُكَلِّمَهُ. وكان زيادٌ قد قَرَّب وَلَدَ أبي بَكْرَةَ، وشَرَّفهم، وأَقْطَعَهُم، وولاهم الولاياتِ، فصاروا إلى دُنيا عظيمة وادَّعَوْا أنَّهم من العرب، وأنَّهم من ولدِ نُفَيع بن الحارث الثقفي. هذا قولُ ابن سعد. وقيل: إنَّما كُنِّي بأبي بَكْرَة، لأنَّه كان له بَكرَة يَعلِفُها ويركبُ عليها، فنُسب إليها. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. وذكر له ابنَ سعد أخًا آخر اسمه ثَقْف؛ وقال: شهد بدرًا وأُحدًا والخندق والحديبية وخيبر، وقتل بخيبر شهيدًا سنة سبع من الهجرة. (¬2) العبارة في "طبقات" ابن سعد 9/ 15: اسمه نفيع بن مسروق، وفي بعض الحديث اسمه مسروح. (¬3) في "الطبقات" 9/ 16. وما قبله منه.

قال الجوهري: بَكْرَةُ البئر، بإسكان الكاف: ما يُسْتَقى عليها، وجَمعُها بَكَرٌ، بفتح الكاف. قال: والبَكْرةُ أيضًا -بإسكان الكاف- من النُّوق بمنزلة الجارية من النّساء. والأصحُّ أنَّه تدلَّى من حصن الطائف في بَكْرة، فنُسبَ إليها. وقال خليفة بن خياط: نافع ونُفَيع وزياد بنو سُمَيَّة، كلُّهم إخوة (¬1). وقال ابن قُتيبة (¬2): أبو بَكْرة هو نُفَيْع بن الحارث بن كَلَدَة، يُنْسَبُ إليه. وكان الحارث طبيبَ العرب، وكان لا يُولدُ له. قال: وأُمُّ نُفَيع: سُمَيَّةُ من أهل زَنْدَوَرْد، من كَسْكَر (¬3)، وهبَها كسْرى لأبي الخير، ملكٍ من ملوك اليمن؛ كان قد وردَ العراقَ، فمرضَ أبو الخير، وعاد من العراق إلى اليمن، فنزل إلى الطائف، فداواه الحارثُ بن كَلَدَةَ، فبَرِئ، فوهبَ له سُمَيَّة. فلما نزل أبو بَكْرَة من حصن الطائف أراد أخوه نافغ النزولَ أيضًا، فقال له الحارث: أنت ابني فأقم، فأقام، فنُسبا جميعًا إليه، فانتسبت أَزْدَةُ بنت الحارث إلى الحارث، وكانت تحت عُتبة بن غَزْوان، فلما وَلِيَ عتبةُ البصرةَ حملها معه، فخرج معها إخوتُها نُفَيْع ونافع وزياد. فلما حَسُنَ إسلامُ أبي بَكْرة ترك الانتساب إلى الحارث. وكان يقول: أنا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهلك الحارثُ فلم يقبض أبو بَكْرة ميراثَه. وكان زَوْجُ سميَّةَ يُسَمَّى مسروحًا. قلت: وقد أشار ابن سعد إلى هذا فقال (¬4): حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي في حديث له رواه عن أبي بكرة أنَّه قال لابنتِه حين حَضَرَتْهُ الوفاة: اندبيني ابنَ مسروح الحبشي. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه من قول خليفة، وذكره يعقوب في "المعرفة والتاريخ" 2/ 151 عن علي ابن المديني. (¬2) في "المعارف" ص 288. (¬3) زَنْدَوَرْد: مدينة كانت قرب واسط مما يلي البصرة، خربت بعمارة واسط، وكذلك كسكر (وزن جعفر) مدينة من واسط بين الكوفة والبصرة. ينظر "معجم البلدان" 3/ 154 و 4/ 461. (¬4) في "الطبقات" 9/ 16.

وذكر البلاذري (¬1) عن ابن الكلبي أنَّه قال: كانت سمَيَّةُ من أَهلِ زَنْدَورد من كَسْكَر، وكانت تُسَمَّى في أهلها مياميج (¬2)، بجيم، فسَرَقها الكوَّاء أبو عبد الله بن الكوَّاء اليشكُري، وسمَّاها سُمَيَّةَ، فبقيت عنده ما شاء الله، ثم سُقيَ بطنه، فخرج إلى الطائف، فأقام عند الحارث بن كَلَدَة طبيب العرب، فداواه فبَرِئ، فوهب له سُميَّة. ويقال: إنَّها كانت أَمَةً لدُهقان الأُبُلَّة، فقَدِم الحارث الأُبُلَّةَ والدهقان مريض، فعالجه، فصحَّ، فوهبَها له، فقَدِمَ بها الطائفَ، ووقع الحارثُ عليها، فولدت غُلامًا، فسمَّاه نافِعًا، ثم وقع عليها ثانيًا فولدت له نُفَيْع بن الحارث وهو أَبو بَكْرَةَ، وكان أَسْوَدَ، فأنكره الحارث وقال: واللهِ ما هذا ابني، ولا كان في آبائي أَسْوَد. فقيل له: إنَّ جاريتك ذاتُ رِيبة لا تَمْنَعُ يَدَ لامِس. فنُسب أبو بكرة إلى مسروح غلامِ الحارث، وكان أسود. ثم تزوَّج الحارثُ صفيةَ بنت عُبَيد بن أُسَيد بن علاج الثقفي، ومَهرَها سُمَيَّة، فزوَّجَتْها عبدًا لها روميًّا يقال له: عُبَيد، فولدت من عبيد زِيادَ بنَ أبيه، فأعتقته صفيَّةُ، وولدت صفيَّةُ من الحارثِ ابنتين: أَزْدَة وصَفِيَّة، سمَّتها أمُّها باسمِها، ويقال: بل سمَّتْها صُفَيَّة، بضمِّ الصاد. فلما نزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الطائفَ ونزل إليه أبو بكرة وأسلم، أَعْتَقَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الحارث لنافع: أَنْتَ ولدي لا تَفْعل كما فعل العبدُ الخَبيث. فأثبت نَسَبَ نافع يومئذ (¬3). وقد ذكرنا طرفًا من حديث سميَّة عند دعاءِ معاوية زيادًا. وقال أبو نُعيم: آخى وسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبي بكرة وأبي بَرزَة الأسلمي. وقال الهيثم: كان أبو بكرة لَمّا امتنع زياد من إقامة الشهادةِ على المغيرة قد هجوه، فلما ادَّعى معاويةُ زيادًا أكَّد هجوتَه بالأَيمان. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 1/ 580. (¬2) في "الإصابة" 8/ 341 (ترجمة الكوَّاء): يا فيح، ووقع في "أنساب الأشراف" 1/ 580: امنح. (¬3) أنساب الأشراف 1/ 580.

وقال هشام بن محمد عن أبيه: أراد زياد الحجَّ وأراد أبو بكرةَ أَنْ يَنْهاه، فلم يَقْدِر لأَجْلِ اليمينِ التي حلف بها أنَّه لا يُكلِّمُه، فأخذ أبو بكرةَ ولدًا صغيرًا لزياد، فجعله في حِجْرِه، وجعل يُخاطبه وأبوه زياد يسمع، فقال: يا بُنيّ، أبوك أحمقُ، قد فَجَرَ في الإسلام ثلاث فجرات؛ أما أوَّلُهُنَّ فكتمانُه الشهادةَ على المغيرة، وقد علمَ أنه رأى ما رأَينا. والثانية انتفاؤه من عُبَيد وادّعاؤه إلى أبي سفيان، وواللهِ ما رأَى أبو سفيان سميَّةَ في ليل ولا نهار. وأما الثالثة فإنَّه يريدُ الحجَّ، وأُمُّ حَبِيبة زوجةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هُناكَ، وقد ادَّعَى أنَّها أُخْتُهُ، فإن أذِنَتْ له كما تَأذَنُ الأُختُ لأخيها، فأعظِم بها مصيبةً على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإن حَجَبَتْهُ وتَستَّرَت عنه، فأَعظِم بها حُجَّة عليه. ثم قام فخرج، فقال زياد: رحمك اللهُ يا أبا بَكْرة، ما تَدَعُ النصيحةَ لأخيك على كلِّ حال. ولم يحجَّ زياد في تلك السنة (¬1). وقد ذكرنا أن أبا بكرة خَلَّصَ أولادَ زياد من بُسْر بن أبي أرْطاة، وكان قد عزم على قَتْلهم، وهم: عُبيد الله، ومسلم (¬2)، وحرب، وعبد الرحمن، والمغيرة. ذِكرُ وفاته: روى الخطيبُ عن عُيينة (¬3) بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: لما اشتكى أبو بَكْرَة عرض عليه بنوه أن يأتوه بطبيب، فأبى، فلما نزل به الموتُ قال: أين طبيبكُمُ ليردَّها إن كان صادقًا؟ ! يعني نَفْسَه. فقالوا: وما يُغْني الآن؟ وبكت ابنتُه، فقال: لا تبكي، فقالت: إذا لم أَبْكِ عليك، فعلى مَنْ أبكي؟ ! فقال: واللهِ ما على وجهِ الأرضِ نَفْسٌ أَحبُّ إليَّ من أن تكون خرجَتْ من نفْسي هذه، ولا نَفْسَ هذا الذبابِ الطائر. فقال له حُمران بن أبان: ممَّ ذاك؟ قال: أخشَى أن يجيء أَمرٌ يحولُ بيني وبين الإسلام. ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 1/ 585 و 4/ 226. (¬2) في النسختين (ب) و (خ): سلم، وكذا في "أنساب الأشراف" 1/ 584. والمثبت من فقرة: ذكر أولاده، الآتية قريبًا، وكذلك هو في "طبقات" ابن سعد 9/ 190، و"المعارف" ص 288. (¬3) في النسختين (ب) و (خ): عنبسة، وهو خطأ، وهو عُيينة بن عبد الرحمن بن جوشن الغطفاني، من رجال "التهذيب". والخبر في "تاريخ بغداد" 8/ 581 (ترجمة الحسين بن سعيد المخرَّمي). وذكره ابن الجوزي في "المنتظم" 5/ 248.

قال: وجاءه أنسُ بن مالك، فقعد بين يَدَيهِ، وأخذ بيده وقال: إنَّ ابنَ أُمِّك زيادًا أرسَلَني إليك، وهو يُقرئك السلامَ، وقد بلغَه الذي [نزل] بك من قضاء الله تعالى، وقد أَحبَّ أن يُجَدِّدَ (¬1) بك عَهْدًا، ويسلِّمَ عليك، ويُفارِقَكَ عن رِضىً. قال: أَفَمُبلِّغُه أَنْتَ عني؟ قال: نعم. قال: فإني أُحَرِّجُ عليه أن يَدخُلَ لي بيتًا أو يحضرَ لي جنازةً. فقال: رَحِمَكَ اللهُ، قد كان لك مُعَظِّمًا، ولبَنيكَ واصلًا. قال: ففي ذلك غَضبْتُ عليه. قال: فما علمتُه إلا مجتهدًا في حاجةِ نفسك، فقال: أَجْلِسوني. فأَجلسوه، فقال له: نَشَدتُكَ الله لَما صَدَقْتَني؟ قال: نعم. قال: أَهلُ النهر؛ كانوا مجتهدين؟ قال: نعم. قال: أصابوا أم أخطؤوا؟ قال: هو ذاك. قال: أَصجِعوني. فرجع إلى زياد، فأخبره، فركب مُتَوجِّهًا إلى الكوفة، فتُوفِّيَ، فقدَّم بنوه أبا بَرْزةَ، فصلَّى عليه. وقد رواه الحسن البصري فقال: مرَّ بي أَنَس، فانطلقتُ معه إلى أبي بكرة. وذكر بمعناه. وفيه: فقال أنس: يا أبا بَكْرة. ألم يستعمل زيادٌ ابنك عُبَيدَ الله على فارس، وروَّادًا على دار الرِّزْق، وعبدَ الرحمن على الديوانِ وبيتِ المال؟ يعني أولادَ أبي بكرة. فقال أبو بكرة: وهل زادَهم على أن أدخَلَهم النارَ؟ فقال أنس: ما أعلمه إلا مجتهدًا، فقال له أبو بَكْرة: وأهلُ حروراءَ قد اجتهدوا، فأصابوا أم أَخطؤوا؟ ! قال الحسنُ: فرجعنا مَخْصومين (¬2). وعاد أنسٌ فأخبر زيادًا، فخرج من يومهِ إلى الكوفة. فما بلغ الجَلْحاءَ حتى مات أبو بكرة. واختلفوا في وفاته: فقال ابنُ سعد (¬3): مات أبو بكرة في خلافة معاوية بالبصرة في ولاية زياد. ولم يُعَيِّن السنة التي مات فيها. وقال هشام: في سنة إحدى وخمسين. وقيل: سنة اثنتين وخمسين، أو تسع وأربعين. والأوَّلُ أَشْهرُ. ¬

_ (¬1) في "تاريخ بغداد" 8/ 581، و"المنتظم" 5/ 248: يحدث. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 1/ 586. (¬3) الطبقات 9/ 16.

ذِكرُ أولاده: حكى الواقدي عن أشياخِه قالوا: تُوفي أبو بكرةَ عن أربعين ولدًا ما بين ذكرٍ وأُنثى، فأَعْقَبَ منهم سبعةٌ: [عبد الله، و] عُبَيد الله، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، ومسلم، وروَّاد، وعُتْبَة (¬1). وقال الهيثم: المشهور من ولده: عبد الرحمن، وعبد الله، وعُبَيد الله. فأما عبد الرحمن فأُمُّهُ هوْلةُ بنت غليظ، وهو أوَّل مولودٍ وُلدَ بالبصرةِ، وكُنْيَتُه أبو بَحر (¬2). وقال المدائني (¬3): خرج يومًا إلى المِرْبد بعدما أَسنَّ، فرأى فتًى على فَرَسٍ يَمرَحُ، فقال لعبد الرحمن: يا شيخ، إنَّك لطويل العمر -يهْزأُ به- أفلا تُعْقِبُ؟ فقال له: رُبَّ شابٍّ كان أَشَدَّ مَرَحًا منكَ قد طُبِّقَ عليه باللَّبِن. قال: فما مضى الفتى غير بعيد حتى نَفَرَ به الفَرَسُ، فوقع فاندَقَّت عُنُقُهُ. فما بَرِحَ عبد الرحمن حتى صلَّى عليه. وقال أبو اليقظان: كان لعبد الرحمن بن أبي بَكْرة قَدرٌ وشَرَفٌ، ولاه عليٌّ - عليه السلام - بيت المال وولَّاه إياه زيادٌ أيضًا، وله الكلام المليح، فمنه أنَّه قال: من أحبَّ البقاءَ في الدنيا، فليوطِّن نَفْسَهُ على المصائبِ، وموتُ الولد يَصدَعُ القلب، وموتُ الأخ يقصم الظَّهْرَ. وفيه يقول أبو الأسود الدِّيلي: أبو بَحرٍ أَعمُّ الناسِ فَضْلًا ... علينا بعد حَيِّ أبي المُغيره لعمركَ ما نَهضْتَ بنَفْسِ سوءٍ .. بها وهنٌ ولا هِمَمٌ قَصيره (¬4) وأما عبدُ الله (¬5) بنُ أبي بَكْرة؛ فكان أسنَّ ولدِ أبي بَكْرَة، ولم يَلِ من أُمورِ الدنيا شيئًا. ¬

_ (¬1) ذكر ابن سعد في "طبقاته" 9/ 189 - 190 ثمانية، فذكر أيضًا: يزيد. وينظر "المعارف" ص 288، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 189. (¬3) أنساب الأشراف 1/ 586 - 587. (¬4) أنساب الأشراف 1/ 586 و 587. وأبو المغيرة المذكور في الشعر هو زياد بن أبيه. (¬5) في (خ): عبد الرحمن، وهو خطأ.

وأمَّا عُبيد الله بن أبي بكْرَةَ؛ فكان من كبارِ الأجواد، وسنذكرُه في سنة ثمانين. أسند أبو بَكْرة الحديث عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، واختلفوا في مسانيدِه، فقال قوم: أسندَ مئة (¬1) واثنين وثلاثين حديثًا. وأخرج له أحمد في "المسند" سبعةً وأربعين حديثًا (¬2). وأُخْرِجَ له في "الصحيحين" أربعةَ عشرَ حديثًا، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث (¬3). وروى عنه بنوه: عبد العزيز، وعبد الرحمن، وعُبيد الله، ومسلم؛ بنو أبي بَكْرَة، والحسنُ البصري، والأحنف بن قيس، وابنُ سِيرِين، وأبو عثمان النَّهْدِيّ، وسعيدُ بنُ أبي الحسن أخو الحسن البصري (¬4). وكان الحسنُ يقول: ما نزل البصرةَ من الصحابة مثل أبي بَكْرَةَ، وعمران بن حُصَين. وليس في الصحابة من لقبُه أبو بَكْرَة غيرُه. ومن مسانيدِه: قال أحمد: حدَّثنا عفَّان بإسناده عن الحسن، عن أبي بَكْرَة، أنَّه جاء ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - راكعٌ، فركع دون الصَّفِّ، ثم مشى إلى الصَّفِّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من هذا الذي ركع دون الصفِّ؟ " فقال أبو بكرة: أنا، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "زادَكَ الله حِرصًا، ولا تَعُدْ". انفرد بإخراجه البخاري (¬5). وقال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم بإسناده عن سعيد بن جُمهان، عن عبد الله بن أبي بَكْرَة قال: حدَّثني أبي في هذا المسجد، يعني مسجدَ البصرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه: "لَتنزلَنَّ طائفةٌ من أُمَّتي أَرْضًا يُقال لها: البصرة (¬6)، يكثُر بها عددُهم ونَخْلُهُم، ثم يجيء بنو قنطوراء، عِراضُ الوجوه، صغارُ العيون، حتى ينزلون (¬7) على ¬

_ (¬1) في (خ): مئتين، وهو خطأ، وينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 365. (¬2) ينظر "مسند" أحمد (20373) - (20534). (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 401. (¬4) ينظر "تهذيب الكمال" 30/ 5. (¬5) مسند أحمد (20457)، وصحيح البخاري (783). (¬6) في "مسند" أحمد (20451): البُصيرة. (¬7) كذا في النسختين و"مسند" أحمد، برفع الفعل على أنه ليس للاستقبال.

السنة الثانية والخمسون

جِسْر لهم يُقال له: دِجْلَة، ويفترقُ المسلمون ثلاثَ فِرَق؛ فأما فِرقَةٌ فيأخذونَ بأذناب الإبل ويلحقون بالبادية، فيهلكون، وأمَّا فِرقَةٌ فتأخذُ على أنفُسِها، فَكفرت، فهذه وتلك سواءٌ، وأما فِرقةٌ فيجعلون عِيالهم خَلْفَ ظهورهم يُقاتلون، فقَتْلاهم شهداء، ويفتح اللهُ على بقِيَّتِهم". قلت: أخرج جدي هذا الحديثَ في "جامع المسانيد" ثم قال: حَشْرَج بن نُباتة وسعيد بن جُمْهان ضعيفان (¬1). وقَنْطوراء جارية كانت للخليل - عليه السلام - ولدت له أولادًا؛ منهم التُّركُ والصين. وقال أحمد: حدَّثنا محمد بن بكر بإسناده عن زياد بن كُسَيْب العَدَويّ، عن أبي بَكْرة قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أكرمَ سلطانَ اللهِ في الدنيا [أكرمه اللهُ يومَ القيامة، ومَنْ أهانَ سلطانَ اللهِ في الدنيا] (¬2) أهانه اللهُ تعالى يوم القيامة". السنةُ الثانيةُ والخمسون وفيها كتب معاويةُ إلى زياد: أمَّا بعد، فإنَّ حولك جُمهورَ ربيعةَ ومُضَرَ واليمن، فأما مُضَر فأوْلهِم الأعمال، واحْمِلْ بَعْضَهم على رِقاب بعض، وأما ربيعةُ؛ فأَكرِم أَشْرافَهم، فإن أتباعهم لهم منقادون (¬3) وأما اليمنُ فأكْرِمهم في العلانية، وتجافَ عنهم في السِّرِّ. وفيها غزا سفيان بنُ عوف الروم، وشَتا بها، ومات هناك. ولما احتُضِرَ استخلف عبدَ الله بنَ مسعدة الفَزاري. ويُقال: إن الذي شتا بأرض الروم بُسْر بن أبي أرطاة. قال المصنّفُ رحمه الله: والأصحُّ أن يزيدَ بنَ معاوية غزا القُسْطَنْطِينيَّة في هذه السنة، وكان في جيشه أبو أيوب الأنصاري ومات في هذه الغَزَاة لما نَذْكُرُ في ترجمة الأبواب. ¬

_ (¬1) الكلام في ضعفهما ليس على إطلاقه، فقد وثقهما أئمة، لكن نقل ابن أبي حاتم عن أبيه قوله في هذا الحديث: حديث منكر. علل الحديث 4/ 103 (2764). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) وسقط من (خ)، والحديث في "مسند" أحمد (20495). (¬3) في النسختين (ب) و (خ): معادن، والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 22.

أبو أيوب الأنصاري

وحجَّ بالناس في هذه السنة سعيدُ بن العاص (¬1)، وكان واليًا على المدينة، وكان العمالُ في هذه السنة العُمَّال الذين كانوا في السنة الماضية (¬2). وفيها توفي أبو أيوب الأنصاري خالدُ بنُ زيد بن كُلَيْب بن ثعلبة بن عبد [بن] عوف بن غَنْم. وأُمُّه زهراء بنت سَعد بن قيس بن عمرو [بن امرئ القيس من الخزرج، وأبو أيوب من الطبقة الأولى] من الأنصار. شهد العقبةَ مع السبعين، وبَدرًا وأُحُدًا والمشاهِدَ كُلَّها مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ولما قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ نزل عليه، وآخَى بينه وبين مصعب بن عُمَير (¬3)، ودعا له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بَنَى بِصَفِيَّة، فقال: "يغفرُ الله لك يا أبا أيوب" (¬4). وشهد أبو أيوب مع عليٍّ - عليه السلام - الجملَ وصِفّين (¬5) والنهرَوان، وكان على مُقَدّمته، ولَمّا خرج عليٌّ رضوان الله عليه إلى الجمل، استخلف أبو أيوب رجلًا من الأَنْصارِ عليها (¬6)، ولَحِقَ بعليّ - صلى الله عليه وسلم - فشهد الجملَ. وقال إبراهيم بن الحسن: قال أبو أيوب: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَهِدَ إلينا أن نُقاتل مع عليّ بن أبي طالب الناكثين، فقد قاتلناهم، وعَهِدَ إلينا أن نُقاتلَ القاسطين، وهذا وَجْهُنا إليهم. يعني معاوية وأصحابه (¬7). ¬

_ (¬1) بعدها في (ب): من غير خلاف. (¬2) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 287، و"المنتظم" 5/ 249. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 449. وما سلف بين حاصرتين من (م) ووقعت العبارة الأخيرة فيها بلفظ: وقد ذكرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة ورحل من قباء نزل عليه. (¬4) المصدر السابق 2/ 110، ولفظه فيه: "رحمك الله يا أبا أيوب". وينظر "تاريخ دمشق" 5/ 435 - 436 (مخطوط دار البشير). (¬5) أخرج الخطيب في "تاريخه" 1/ 494 (ترجمة أبي أيوب) -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخه" 5/ 439 (مخطوط) - عن شعبة قال: قلت للحكم بن عُتَيْبَة: شهد أبو أيوب مع عليّ صفين؟ قال: لا، ولكن شهد معه قتال أهل النهروان. وينظر "تاريخ بغداد" 15/ 244 - 245 (ترجمة معلى بن عبد الرحمن الواسطي). و"الاستيعاب" ص 773. (¬6) أي: على المدينة. وكان عليها من قِبَل علي - رضي الله عنه - ينظر "تاريخ" خليفة ص 201. (¬7) تاريخ دمشق 5/ 440 (مصورة دار البشير).

وقَدِم أبو أيوب (¬1) على ابن عباس البصرةَ، ففرَّغ له بيتَه وتحوَّل عَنْهُ وقال: والله لأَصنَعَنَّ بكَ كما صنعتَ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال له: كم عليكَ دَينٌ؟ قال: عشرون ألفًا، فأعطاه أربعين ألفًا، وعشرين مملوكًا وجميعَ ما في البيت. وقَدِمَ أبو أيوب على معاوية مرتين، فجفاه في الأُولى ولم يُعطِهِ شيئًا، وفي الثالثة أجلسه معه على سريرِه (¬2)، ومَرِضَ فزارَهُ يزيد بن معاوية. ذِكرُ وفاته: قال الواقدي (¬3): تُوفي أبو أيوب عامَ غَزَا يزيدُ بنُ معاوية القسطنطينيةَ في خلافة أبيه معاويةَ بنِ أبي سفيان، سَنَةَ (¬4) اثنتين وخمسين، وصلَّى عليه يزيد بنُ معاوية، وقبرُه بأصل حصن القُسطنطينية (¬5)، فلقد بلغني أنَّ الرومَ يتعاهدون قَبْرَه ويزورونه (¬6)، ويستسقون به إذا قَحِطوا. وقال ابن سعد (¬7): إنَّه لما مَرِضَ؛ جاءه يزيدُ بنُ معاوية يعودُهُ، فقال: ما حاجتُك؟ قال: إذا أنا مِتُّ، فاركَبْ أنْتَ والجيش، ثم سُغْ بي في أرضِ العدوّ ما وَجَدْتَ مَساغًا، فإذا لم تَجِدْ مَساغًا فادفِني ثم ارجِعْ. ففعل به يزيدُ كذلك. ¬

_ (¬1) في (م): وحكى ابن عساكر أيضًا أن أيوب قدم ... والخبر في "تاريخ دمشق" 5/ 440. وأخرجه الطبراني بنحوه في "المعجم الكبير" (3876). (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 5/ 441. (¬3) في (م): حكى ابن سعد عن الواقدي ... وهو في "طبقات" ابن سعد 3/ 450، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 5/ 444. (¬4) لم تجوَّد العبارة في النسختين (ب) و (خ)، فوقع في (ب): وسنُّه اثنتين وخمسون، وفي (ب): وسنُّه اثنتين وخمسين. (¬5) بعده في النسختين (ب) و (خ) زيادة: في خلافة معاوية من أي سفيان. وهو سهو من الناسخ. (¬6) في (م): ويردمونه. وفي "طبقات" ابن سعد 3/ 450، و"تاريخ دمشق" 5/ 444، و"المنتظم" 5/ 250: يرمونه. (¬7) في "الطبقات" 3/ 449 - 450. وبنحوه أخرجه الطبراني في "الكبير" (4042). وينظر "تاريخ دمشق" 5/ 443 (مخطوط دار البشير).

وقال أبو اليقظان: لَمّا ركب يزيدُ الجيش وجاؤوا به إلى سورِ القسطنطينية، قالت الروم: لقد مات فيهم عظيم. فلمَّا دفنَّه في سورها ناداهم يزيد: يا أهلَ القُسطنطينية، هذا رجلٌ من أكابرِ أصحابِ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، وقد دَفَنَّاه حيث تَرَوْنَ، واللهِ لئن تعرَّضتُم له، لأَهْدِمَنَّ كلَّ كنيسةٍ في أرض الإسلام، ولا يُضْرَبُ ناقوس بأَرضِ العرب [أبدًا]. فلما ارتحل المسلمون بنى عليه الروم بنْيانًا عظيمًا، وعلَّقوا عليه القناديل، وهم إلى هلُمَّ جَرًّا يعظّمونه ويتبرَّكون به ويستسقون (¬1) بقبره (¬2). [وقيل: إن يزيد أوطأ الخيل قبره لئلا يؤذونه، والأول أصحّ. وحكى الخطيب عن شيخ من أهل فلسطين أنه رأى بَنِيَّةً دون القسطنطينية، فسأل عنها، فقيل له: هذا قبر أبي أيوب الأنصاري، قال: فأتيتُها؛ وإذا فيها قبر، وعليه قنديل معلّق بسلسلة] (¬3). وقال أبو ظبيان (¬4) عن أشياخه: إنَّ أبا أيوب الأنصاريّ خَرَج غازيًا في أيام معاوية، فمرض، فلمّا ثَقُلَ قال لأصحابه: إذا أنا مِتُّ فاحملوني، فإذا صافَفتُم العدوَّ؛ فادفِنُوني تحت أقدامكم، وسأُحدِّثُكم بحديث سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لولا ما حضرني أجلي لم أُحدِّثكم به: سمعتُه يقول: "مَنْ ماتَ لا يُشْرِكُ باللهِ شيئًا دخل الجنَّةَ". [واختلفوا في أيّ سنة مات؛ فحكينا عن ابن سعد أنه مات في هذه السنة. وقال ابن عبد البَرّ: مات في سنة إحدى وخمسين (¬5). وقال سليمان بن رَزِين: سنة ثلاث وخمسين. ¬

_ (¬1) في (ب): ويستشفون. (¬2) تاريخ دمشق 5/ 444 - 445 (مصورة دار البشير). (¬3) تاريخ بغداد 1/ 495، وتاريخ دمشق 5/ 445. وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (م). (¬4) في (م): وقال ابن سعد بإسناده عن أبي ظبيان ... والكلام في "طبقاته" 3/ 449، و"تاريخ دمشق" 5/ 442، وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" (23560). (¬5) الذي في "الاستيعاب" ص 197: "سنة خمسين، أو إحدى وخمسين، وقيل: بل كانت سنة اثنتين وخمسين، وهو الأكثر في غزوة يزيد القسطنطينية".

سفيان بن عوف بن المغفل الأزدي الغامدي

وحكى جدِّي في "المنتظم" عن أبي زُرعة الدمشقي أنه مات سنة خمس وخمسين. قال جدّي: والأول أثبت (¬1)] (¬2). وكان له من الولد عبد الرحمن، وأُمُّه أُمُّ حسن بنت زيد بن ثابت بن الضَّحاك من بني مالك بن النجار، وقد انقرضَ ولدُه (¬3). أسند [أبو أيوب] الحديثَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال قومٌ: روى مئةً وخمسةً وخمسين حديثًا (¬4). قال أبو سعيد بن يونس: قَدِم أبو أيوب مِصْرَ في سنة ستّ وأربعين (¬5). وحدَّث عنه جابر بن سَمُرَة، والمقدامُ بن مَعدي كَرِب، وعبد الله بن يزيد الخطمي، والبراء بن عازب، وغيرهم (¬6). سفيان بن عوف بن المُغَفَّل الأزْديّ الغامدي من التابعين، بعثه أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستمدُّه لوقعة اليرموك، ثم عاد إلى الشام، وشهد الفُتوحَ، وكان معاويةُ يستعمله على الصوائف. قال العُتْبيُّ: ولَّى معاويةُ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي غَزْوَ الروم، فلما كتب عهده قال: ما أَنْتَ صانعٌ بعَهْدي؟ قال: أتَّخِذُه إمامًا لا أَعصِيه، فقال له: رُدَّ ¬

_ (¬1) المنتظم 5/ 251. وقوله: الأول أثبت، يعني سنة اثنتين وخمسين. (¬2) ما بين حاصرتين من (م)، ولم يرد في (خ) من ذكر تاريخ وفاته إلا قوله: ومات سنة إحدى وخمسين. وجاء في (م) بعده أيضًا ما نصُّه: "وحكى ابن عساكر عن البخاري أنه مات في زمان يزيد بن معاوية. قال ابن عساكر: وهو وهم من البخاري، وإنما مات معه في هذه الغَزاة. يعني سنة اثنتين وخمسين. والله أعلم". قلت (القائل رضوان): لم أُثْبت هذه الفقرة ضمن ما استدركتُه أعلاه من (م)؛ لأن الكلام فيها غير صحيح، فالكلام الذي في "تاريخ دمشق" 5/ 446 (مصورة دار البشير) عن الكلاباذي، وليس عن البخاري، وليس فيه أيضًا توهيم ابن عساكر له. وكلام الكلاباذي في كتابه "رجال صحيح البخاري" ص 222 (ترجمة أبي أيوب -رضي الله عنه-) ". (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 449. (¬4) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 364، وبعده قول ابن البرقي: حُفظ عنه نحو من خمسين حديثًا. (¬5) تاريخ دمشق 5/ 432 (مصورة دار البشير). (¬6) المصدر السابق 5/ 427.

أبو موسى الأشعري

عليَّ عَهْدي. فقال: أَتَعزِلُني وما اختبرتني؟ أما واللهِ لو كُنَّا ببطحاء مكة على السَّواء لما فعلتَ بي هذا! فقال معاويةُ: لو كُنَّا ببطحاء مكة لكان منزلي بالأبطح حيث يَنْشَقُّ عنه الوادي، وكان منزلُكَ بأَجياد؛ أسفلُه عَذِرة، وأعلاه مَذِرَة. ثم استدعى سفيانَ بنَ عوف الغامديَّ، فكتبَ عهدَه وقال: ما أنْتَ صانعٌ بعهدي؟ قال: أتَّخِذُهُ إمامًا [ما] أمَّ الحُرَم (¬1)، فإذا خالفَهُ خالفتُه، فقال مُعاويةُ: هذا واللهِ الذي لا يُكَفْكِفُ [من عَجَلَة، ولا يُدفع في ظهره من بطء، ولا يُضرب على الأمر ضرب الجمل] الثَّفَال (¬2). ومات سفيان بأرض الرومِ غازيًا سنة اثنتين وخمسين. وقال الواقدي: سنة أربع وخمسين. قال الوليد بن مسلم: كتب معاوية إلى الأمصار بنعي سفيان بن عوف، فبكى الناسُ عليه في المساجد. وكان معاويةُ إذا وقع في أمر قال: واسُفْياناه! أبو موسى الأشعري واسمه عبدُ الله بنُ قَيْس بنِ سُليم بن حَضار (¬3) بن حَرب بن عامر بن عَتَر بن وائل بن ناجية بن الجُماهر بن الأشعر، وهو نَبْت بنُ أُدَد بن زيد بن يَشْجُب بن عَرِيب بن زيد بن كَهْلان بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعرُب بن قَحطان، من أهل اليمن. وكان خفيفَ الجسم قصيرًا أَثَطَّ (¬4)، وهو من الطبقة الثانية من المهاجرين. وأمه ظَبْية بنتُ وَهْب، من عَكّ. وقد كانت أسلمت وماتت بالمدينة (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "تاريخ دمشق" 7/ 377 (والخبر فيه). ووقع في "أنساب الأشراف" 8/ 322 - 323: ما أمَّ الحزم، وفي "العقد الفريد" 1/ 132: أتخذه إمامًا أمام الحزم. (¬2) الثَّفال من الدوابّ وغيرها: البطيء الثقيل الذي لا ينبعث إلا كرها. وتحرفت في (خ) إلى: النِّعال. والكلام السالف بين حاصرتين من "تاريخ دمشق". (¬3) في جمهرة أنساب العرب ص 397: هصَّار. (¬4) يعني قليل شعر اللحية. ينظر "القاموس" ولم ترد اللفظة في (م)، وتحرَّفت في (ب) إلى: أمشط. وفي بعض عبارات (م) تقديم وتأخير عن (ب) و (خ). (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 98 و 108.

قال أبو موسى: قدمتُ من اليمن مهاجرًا إلى الله ورسوله ومعي بضعة وخمسون رجلًا من قومي ونحن ثلاثةُ إخوة: أبو موسى، وأبو رُهْم، وأبو بُردَة، فوافيناه بخيبر وقد قدم عليه جعفرٌ من الحبشة، فسألناه أن يقسمَ لنا، فقسمَ. يعني من غنائم خيبر. ووُلد في غلام، فأتيتُ به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فسمَّاه إبراهيم، وحنَّكه بتمرة (¬1). وكان أبو موسى حَسَنَ الصوت؛ قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو رأيتَني وأنا أستمعُ قراءتَك البارحةَ! لقد أُوتيتَ مِزْمارًا من مزاميرِ آلِ داود". فقلت: لو علمتُ يا رسولَ الله أنك تستمع قراءتي لَحَبَّرْتُه لك تَحبِيرًا (¬2). وقال الإمام أحمد - رضي الله عنه - (¬3): بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى ومعاذًا إلى اليمن، وأَمَرَهما أنْ يُعلِّما الناسَ القرآنَ. وقال عِياض الأشعريّ في قوله تعالى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "هم قوم هذا". يعني أبا موسى (¬4). وكان عمرُ بنُ الخطَّاب إذا رأى أبا موسى قال: ذَكِّرْنا. فيقرأُ القرآنَ عندَه (¬5). وأوصى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنْ يُتْرَكَ أبو موسى بعدَه سنةً على عمله. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 4/ 99 و 100. (¬2) الحديث عند مسلم (793): (236)، دون قوله: لو علمت يا رسول الله أنك تستمع ... وأخرج البخاري (5038) منه قوله: "لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود". وأخرجه بتمامه ابنُ حبان (7197). وجاء الحديث في (م) مختصرًا من حديث بُريدة، وجاء بعده قوله: وأخرج أحمد في "المسند" بمعناه. قلت: وحديث بُريدة في "المسند" (23033). وأخرجه ابن سعد مختصرًا أيضًا في "الطبقات" 4/ 100. (¬3) في الكلام تجوُّز، إنما أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (19544) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن سعد 4/ 101 مختصرًا. (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 4/ 100، والحاكم في "المستدرك"2/ 313. وعياض الأشعري مختلف في صحبته، كما ذكر المزي في "تهذيب الكمال"22/ 571، وقال أبو حاتم -كما في "المراسيل" ص 125 - : هو تابعي. (¬5) أخرجه ابن سعد 4/ 102، والدارمي (3493) من طريق أبي سلمة، عن عمر - رضي الله عنه -.

وقال قَسامة بن زهير (¬1): إنَّ أبا موسى خَطَبَ الناسَ بالبصرة، فقال: أيها الناس، اِبكُوا، فَإِنْ لم تَبْكُوا فَتَباكَوْا، فإنَّ أهلَ النار يبكُون بالدُّموع (¬2)؛ حتى تنقطع، ثم يبكُون الدِّماءَ حتى لو أُطلقَتْ فيها السُّفُنُ لسارَتْ. وحكى ابن سعد (¬3) أنَّ أبا موسى الأشعريَّ لما نُزعَ عن البصرة؛ خرجَ منها وما معه إلا ستُّ مئة درهم عَطاء عياله. ووقعَ بالبصرة طاعون، فقيل له: اُخْرُجْ إلى وابِق، فقال: إلى الله وابِق (¬4). ووابق اسم موضع خارج البصرة. وقال أبو موسى: كتبَ إليَّ معاوية: إنَّ عمرَو بنَ العاص قد بايَعَني على ما بايَعَني عليه، وإني أُقسمُ بالله، لئن بايَعتَني على ما بايَعَني عليه لأَبْعَثنَّ ابْنَيك؛ أحدهما على البصرة، والآخر على الكوفة، ولا يُغلق دونَك باب، ولا تُقْضَى دونَك حاجة، وقد كتبتُ إليك بخطِّ يدي، فاكْتُبْ إليَّ بخطِّ يدِك. فكتبتُ إليه: أمَّا بعد، فإنَّك كتبتَ إليَّ في جسيمِ أمرِ أمَّةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا حاجةَ لي فيما عَرَضْتَ عليّ. فلما وليَ؛ أتيتُه، فلم يُغْلَقْ دوني باب، ولم تكن في حاجة إلا قُضِيَتْ (¬5). وقال أبو بُردَة: دخلتُ على معاويةَ حين أصابَتْه القَرحة، فقال: هلمَّ يا ابنَ أخي تَحوَّلْ فانظر. فنظرتُ؛ وإذا هي قد سُبِرَتْ (¬6). فدخلَ يزيدُ ابنُه، فقال له: إن وليتَ من أمر الناسِ شيئًا؛ فاستوصِ بهذا خيرًا، فإنَّ أباه كان أخًا لي، أو خليلًا (¬7). ¬

_ (¬1) تحرف في النسختين (ب) و (خ) إلى: فايد بن زهر. (¬2) في "طبقات" ابن سعد 4/ 103، و"صفة الصفوة" 1/ 559: الدموع. (¬3) في "الطبقات" 4/ 104. (¬4) في "طبقات" ابن سعد، 4/ 104: آبق. (¬5) المصدر السابق 4/ 105. (¬6) أي: خُبِرَت، وبانَ غورُها. (¬7) بعدها في "الطبقات" 4/ 105: غير أني قد رأيت في القتال ما لم يرَ.

[وقال هشام بن محمد: ] وكان أبو موسى عاملَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على زَبِيد، وعَدَن، وساحلِ اليمن، وأقرَّه أبو بكر [عليها، وولَّاه عمر] البصرة، واستعملَه عثمانُ - رضي الله عنه - على الكوفة، وقُتل عثمانُ وهو عاملُه عليها (¬1). وقال الهيثم: لا نعرفُ أحدًا وليَ لخمسة أئمة إلا هو ورَوْحُ بنُ حاتم، فأمَّا أبو موسى الأشعري؛ فوَلِيَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليّ رضوان الله عليهم، ورَوْحٌ وَليَ للسَّفَّاح، وللمنصور، وللمهديّ، وللهادي، وللرشيد. قال أبو موسى: خَرَجْنا غُزاةً في البحر؛ فبينا نحن نسير والربح طيِّبةٌ، والشراعُ مرفوعٌ؛ إذ سمعنا مُناديًا يُنادي: يا أهل السفينة، قِفُوا حتى أخبركم. حتى والى بين سبعة أصوات، فقُمت على صدر السفينة، فقلت: ما تَرَى ما نحن فيه؟ ! وهل نستطيعُ وقوفا؟ فقال الصوت: ألا أُخبرُكم بقضاء قضاه الله على نفسه؟ إنه مَنْ عَطَّشَ [نفسَه] للهِ في يوم حار؛ كان حقًّا على الله أن يُرويَه يومَ القيامة. قال أبو بُردَة: وكان أبو موسى يَتَوَخَّى ذلك اليومَ الحارَّ الشديد الحرّ الذي يكادُ ينسلخُ فيه الإنسان، فيصومُه (¬2). وقال ابن عساكر: إنّ أبا موسى هربَ إلى مكةَ بعد التحكيم، والتجأَ عائذًا بالبيت من عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، فكتب إليه معاويةُ أنْ أَقْبِلْ إلى الشام؛ فهو أوْسعُ لك، وإنما أراد - رضي الله عنه - أن يستميله. وكتبَ في آخر الكتاب: وفي الشامِ أمرٌ واسع ومعوَّلُ ... وعُذْرُكَ مبسوطٌ وقولُك جائزُ وإنْ كُنتَ قد أُعطيتَ عقلًا فَشُبْتَهُ (¬3) ... بتركك وَجْه الحقِّ فالحقُّ بارِزُ وإن كنت أضمرتَ (¬4) الهدى فاتْبَعِ الهُدى ... وإن كنتَ لم تُبْصر فإنَّك عاجزُ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 37/ 307 و 309 (طبعة مجمع دمشق) والكلام بين حاصرتين من (م). (¬2) المصدر السابق 37/ 375. (¬3) في (ب): فشُنْتَه. (¬4) في "تاريخ دمشق" 37/ 385 (والخبر فيه): أبصرتَ.

جمعتَ بخُرقٍ منك خلعي وخَلْعَهُ ... كما جمعَ السَّيرَينِ (¬1) في الخَرْز خارزُ فأصبحتَ فيما بينَنا مُتَذَبذِبًا ... تَهادَى بما قد كان منك العجائزُ وقدمَ أبو موسى على معاوية، فبايعَه، فأمَرَ له بخمسين ألفًا. وقال أبو عمرو الشيباني: طلَّق أبو موسى امرأته وقال: تَجَهَّزِي للطَّلاقِ وارْتَحِلِي ... فذا دواءُ المجانبِ (¬2) الشَّرِسِ ما أنتِ بالحَنَّةِ الوَلُودِ ولا ... عندكِ نفعٌ يُرْجى (¬3) لملتمسِ لَلَيْلَتي حين بِتِّ (¬4) طالقةً ... ألَذُّ عنديَ من ليلةِ العرسِ بتُّ لديها بِشَرِّ مَنْزِلةٍ ... لا أنا في لذَّةٍ ولا أُنسِ ذِكْرُ وفاتِه - رضي الله عنه -: [واختلفوا فيها، فقال ابن سعد بإسناده عن] سَيَّار بن سلامة (¬5): لما حضر أبا موسى الموتُ؛ دعا بنيه فقال: إذا أنا متُّ فلا تُؤذِنُوا بموتي أحدًا، ولا يَتْبَعني صوتٌ ولا نار، وليكن ممشَى أحدِكم بحذاء رُكبتيَّ [من السرير]. ولَما أُغْمِيَ عليه بَكَتْ ابنة الدُّوميّ (¬6) أمُّ أبي بردَة، فقال: أنا أَبْرَأُ إليكم مِمَّن حَلَقَ وسَلَق وخَرَق (¬7). [وفي رواية: أَما علمتُم ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وذكره. قال الجوهريّ: وسلق: لغة في: صلق، أي: صاح، وسَلَقَه بالكلام: آذاه، ومنه قوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] أي: بالغوا فيكم بالكلام] (¬8). ¬

_ (¬1) مثنى السَّير، الذي يُقَدُّ من الجلد، وجمعه سُيُور. (¬2) في النسختين (ب) و (خ): احجاب (؟ )، والمثبت من "العقد الفريد" 6/ 121. (¬3) في (خ): مرْجى، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في "العقد الفريد". (¬4) في "العقد الفريد": بِنْتِ. (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 108. (¬6) في (م): الدويمي. (¬7) تحرفت في (خ) إلى: وسرق. (¬8) الحديث في "مسند" أحمد (19535)، وهو حديث صحيح. وكل ما سلف بين حاصرتين فمن النسخة (م).

وقال: عَمِّقُوا لي قبري، ومات سنة ثنتين وخمسين، وقيل: سنة ثنتين وأربعين، وقيل: سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة ثلاث وأربعين، وسنة خمسين، وهو ابن ستّ وستين سنة. ومات بمكة، وقيل: بالكوفة، ودُفن بالثَّويَّة؛ على ميلين منها (¬1). وكان قد أَوْصَى بوصايا لأمهات أولاده وقال: أيُّما امرأةٍ صرخت عليَّ؛ فلا وصية لها. ذكر الأولاد الذي له - رضي الله عنه -: كان له أبو بكر، وكان أسنَّ ولده، وموسى؛ أمُّه أمُّ كلثوم بنت الفضل بن العبَّاس، وأبو بردة، والذِّكْرُ له، واسمه عامر، وكان قاضيًا- وابنُه بلالُ بنُ أبي بردة وكان قاضيًا (¬2) - وإبراهيم (¬3). ذكر إخوته رضوان الله عليهم: [أبو] عامر بن قيس؛ قُتل يوم أَوْطاس شهيدًا، وأبو رُهْم بنُ قَيس، وأبو بُردَة بنُ قَيس، قُتلَ يوم أَوْطاس شهيدًا (¬4). أسند أبو موسى الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال ابن البرقيّ: أسند ستين وثلاثَ مئة حديث (¬5). ¬

_ (¬1) جاء ذكر الأقوال في وفاة أبي موسى - رضي الله عنه - في (م) بلفظ: "وقال ابن سعد بإسناده عن أبي جَهْم قال: مات أبو موسى سنة اثنتين وخمسين. قال ابن سعد: وسمعتُ بعضَ أهل العلم يقول: مات قبل هذا الوقت بعشر سنين؛ سنة اثنتين وأربعين. وكذا قال أبو نُعيم الأصفهاني أنه مات بهذه السنة في مكة، ودفن بها وهو ابن ستّ وستين سنة. قلت: وقول ابن سعد: وقد سمعتُ من يقول: إنه: مات في سنة اثنتين وأربعين؛ فقد حكاه جماعة؛ منهم البلاذري، وابن منده، ودُفن بالثوية على ميلين من الكوفة. وقال ابن البرقي: مات سنة أربعة وأربعين، وقيل: سنة ثلاث وأربعين، وسنة خمسين. والله أعلم". وينظر "طبقات" ابن سعد 4/ 109، و"تاريخ دمشق" 37/ 388 - 391 - (طبعة مجمع دمشق)، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 397 - 398. (¬2) المعارف ص 266. (¬3) ترجم ابن سعد في "طبقاته" 8/ 386 - 387 لأبي بردة، وموسى، وأبي بكر، أبناء أبي موسى، وذكرهم ابن حزم في "جمهرة أنساب العرب" ص 397 - 398، وذكر إبراهيمَ، وذكر أيضًا من أبنائه محمدًا وعبد الله. (¬4) المعارف ص 266، وما بين حاصرتين منه، وليس فيه أن أبا بُردة قُتل يوم أوطاس شهيدًا، ولا ذكرت مصادر ترجمته ذلك، وقال ابن حزم في "جمهرة أنساب العرب" ص 397: إخوته: أبو رُهم، وإبراهيم، وعامر أبو بردة، ومجريّ. (¬5) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 364.

عبد الله بن المغفل

وروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وغيره من الصحابة. وروى عنه أنس، وأبو سعيد الخُدري، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، وبُريدة بن الحُصَيب، وأبو أمامة الباهلي، وأسامة بن شريك، في آخرين. ومن التابعين: ابنُ المسيِّب، والحَسَن، وطاوس، وأبو وائل، والأسود بن يزيد، وأبو [عثمان] عبد الرحمن النَّهْديّ، وأبو الأسود الدُّؤلي، وابناه: أبو بردَة وأبو بكر في آخرين (¬1). عبد الله بنُ المُغَفَّل (¬2) ابن عَبْد نُهْم المُزَنيّ، كنيتُه أبو زياد. وقيل: أبو سعيد، له صحبة ورواية، وكان من البكَّائين، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين. بعثه عمر بن الخطاب رضوان الله عليه إلى البصرة يفقِّه الناسَ. وقال خزاعي بن زياد: أُرِيَ (¬3) عبدُ الله بنُ المغفَّل كأنَّ الساعةَ قد قامت، والناس يُعرضون على مكان. قال: وقد علمتُ أنه من جاوزَ ذلك المكان؛ نجا. قال: فذهبتُ لأدنوَ منه، فقيل في: وراءَك، أَتُرِيدُ أنْ تنجوَ وعندك ما عندَك؛ قال: فانْتَبَهْتُ فَزِعًا، وأيقظتُ أهلي، وكان عندي عَيبَةٌ (¬4) مملوءةٌ دنانيرَ، فَفَرَّقْتُ ما فيها، فلم أَدَع دينارًا. فلما كان المرضُ الذي مات فيه؛ أوصى أهلَه أنْ لا يليَه إلا [أصحابه، يعني] الصحابة، ولا يصلي عليه عُبيد الله بنُ زياد. فلما ماتَ أرسلوا إلى أبي بَرزَة، وعائذ بن عمرو، ونفبر من الصحابة، فَوَلُوا غَسْلَه وتكفينه، فلمَّا أخرجوه إذا بابن زياد في موكبه بالباب، فقيل له: قد أَوْصَى أنْ لا تُصلّيَ عليه. فسار معه إلى البيضاء، ثم تركه ومضى. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 37/ 306 - 307 (طبعة مجمع دمشق)، و"تهذيب الكمال" 15/ 448 - 449، وما بين حاصرتين منهما. (¬2) تحرفت لفظة المغفل في (خ) في هذا الموضع، والمواضع التالية، إلى لفظة: المغفر. (¬3) في (خ): رأى، والمثبت من (ب) و (م)، وهو الموافق لما في "طبقات" ابن سعد 5/ 144. (¬4) هي وعاء من أَدَم ونحوه يكون فيه المتاع.

عمران بن الحصين

وقال الحسن: دخلَ عليه عُبيد الله بنُ زياد يعودُه، فقال: اعهد إلينا أبا زياد، فإن الله كان ينفعنا بك. قال: وهل أنتَ فاعلٌ ما آمُرُك به؟ قال: نعم. قال: فإني أطلبُ منك إذا متُّ أن لا تُصلِّيَ عليَّ، وأنْ تُخَلِّيَ بيني وبين بقيَّةِ أصحابي، فيكونون هم الذين يَلُونَني ويُصلُّون عليَّ. قال: فركبَ عُبيد الله في اليوم الذي مات فيه؛ فإذا كلُّ طريقٍ قد ضاقَ بأهله، فقال: ما بال الناس؟ فقالوا: توفّي عبدُ الله بنُ المغفَّل صاحبُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فوقفَ على دابَّته حتى أُخرج به، ثم قال: لولا أنه طلب إلينا فأطْلَبْناه إيَّاه؛ لَسِرنا معه وصلَّينا عليه. قال الحسن: لا أبا لك، أتُراهُ وفاءً من الخبيث؟ ! (¬1). عمران بن الحُصين ابن عُبيد بن خلف بن عَبْد نُهْم، أبو نُجيد الخُزاعي، من الطبقة الثالثة من المهاجرين. أسلم قديمًا هو وأبوه، وأُختُه، وغزَوا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - غزواتٍ، ولم يزل في بلاد قومِه، ثم تَحوَّلَ إلى البصرة، فنزلَها إلى أن مات بها. وعن عمران بن الحُصين، عن أبيه، أنَّه أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد، عبدُ المطَّلب خيرٌ لقومه منك، كان يُطعمهم الكَبِدَ والسَّنَام، وأنت تَنْحَرُهُم. فقال له ما شاءَ الله، فلما أراد أن ينصرفَ قالماله: ما أقول؟ قال: "قل: اللهمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسي، واعزم لي على رُشْدِ أمري". فانطلقَ ولم يكن أسلمَ. فجاء فقال: يا رسول الله، إني أتيتُك فقلتُ: عَلِّمني، فقلتَ: "قُلْ: اللهَم قِنِي شَرَّ نفسي، واعزِم لي على رُشْدي". فما أقولُ الآنَ حين أسلمتُ؟ قال: "قُلْ: اللهمَّ قِنِي شَرّ نفسي، واعزم لي على رُشْدِ أمري، وقُلْ: اللهمَّ اغْفر لي ما أسرَرتُ وما أعلنْتُ، وما أخطأتُ، وما عَمَدْتُ، وما علمتُ، وما جهلتُ". ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف في ترجمة عبد الله بن المغفل - رضي الله عنه - في "طبقات" ابن سعد 5/ 144 - 145.

وقال عِمران: ما مَسِسْتُ ذَكَرِي بيميني منذُ بايعتُ بها رسولَ الله - رضي الله عنه -، وكان يقول: وَدِدْتُ أنِّي رمادٌ تَذْرُوني الرِّياح. وقال ابنُ سيرِين: سَقَى بطنُ عِفرانَ ثلاثين سنةً، كل ذلك يُعرضُ عليه الكَي، فيَأباهُ، حتى كان قبلَ وفاتِه بسنتين، فاكْتَوَى. قال قتادة: إن الملائكة كانت تُصافحُ عِمران حتى اكْتَوى، فتنحَت. وقال عمران: قد اكْتَوَينا فما أفْلَحنَ وما أنْجَحنَ. يعني المكاوي. وقال مُطَرِّف: قال لي عِمران: أشَعَرتَ أنه كان يُسَلَّمُ عليَّ، فلما اكْتَوَيتُ انقطع التسليم؟ فقلت: أَمِنْ قِبَلِ رأسِك كان يأتيك التسليمُ، أوْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيك؟ قال: لا، بل مِنْ قِبَلِ رأسي. فقلتُ: لا أُرى أن تموتَ حتى يعود ذلك. فلما كان بعدُ قال لي: أشَعرتَ أنَّ التسليمَ عادَ لي؟ ثم لم يلبث يسيرًا حتى مات. وقال مطرِّف: قلتُ لعمران: ما يمنعني من عِيادتِك إلَّا ما أرى من حالك. قال: لا تفعل، فإنَّ أحبَّه إليَّ أحبُّه إليه. وقال عمران: إذا أنا متُّ، فشُدُّوني على سريري بعِمامة، وإذا رجعتُم فَانْحَرُوا وأطْعِمُوا. وتوفِّي رضوان الله عليه بالبصرة قبل وفاة زياد بسنة، وزياد مات سنة ثلاث وخمسين (¬1). أسند عِمران عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئةً وثمانين حديثًا (¬2). وروى عِمران عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنه -، وروى عنه خلق من التابعين. ومن ولده خالد بن طَلِيق بن محمد بن عمران، وَليَ قضاءَ البصرة. ومن مسانيده: قال عِمران: كان بي النَّاصور، فسألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة، فقال: "صلِّ قائمًا، فإن لم تَسْتَطِع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب". انفرد بإخراجه البخاريّ (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف في ترجمة عمران بن حُصين - رضي الله عنه - في "طبقات" ابن سعد 5/ 190 - 196. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 364. (¬3) يعني انفرد به عن مسلم، والحديث في "صحيح" البخاري (1117) وفيه: بواسير، بدل: الناصور، وهما بمعنى. واللفظ أعلاه لأحمد في "مسنده" (19819). والبواسير: جمع باسور (ويقال بالنون بدل الباء) وهو قرحة تحدث في أنسجة الجسم، وكثيرًا ما تكون حول المقعدة.

عمرو بن حزم

وعامَّةُ مسائلِ بابِ المريضِ تنبني على هذا الحديث. عَمْرُو بنُ حَزم ابن زيد بن لُوذان بن عَمرو بن عَبْد عَوْف بن غَنْم بن مالك بن النَجَّار، وكُنيتُه أبو محمد، وهو من الطبقة الثالثة من الأنصار، وأُمُّه خالدة بنتُ أبي أنس من بني ساعدة. قال أبو بكر بنُ محمد بن عمرو بن حَزْم: استعملَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرَو بنَ حَزْم على نَجْران وبني الحارث وهو يومئذٍ ابنُ سبعَ عَشْرَةَ سنة، فخرجَ مع وَفْدِهم يُفَقِّهُهُم ويُعلِّمُهم السنَّةَ ومعالمَ الإسلام، ويأخذ منهم صَدَقاتِهم، وكتب له كتابًا مشهورًا عند أهل العلم (¬1). شهد عمرو الخندق، وتوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عاملُه على نَجْران، وبَقِيَ حتى أدرك بيعةَ معاويةَ لابنه يزيد، ومات بعد ذلك بالمدينة (¬2). وقال خليفة: مات سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثلاث وخمسين (¬3). ذكر أولاده: فولدَ عَمرُو بنُ حَزْم محمدًا؛ قُتِلَ يومَ الحَرَّة، وأمَّ كلثوم؛ أُمُّهُما عَمرَة بنتُ عبد الله بن الحارث. وعُمارة، وخالدًا، وخالدة، وعبد الله، ومعاوية، وسليمان، وحارثة، وحَبِيبة، وميمونة، وحفصة، وعامرًا، ومعمر، وحضرميّ، ونائلة، وجَمِيلة؛ لأُمَّهاتٍ شتَّى (¬4). أَسْنَدَ عَمرو الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن مسانيدِه: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 318، وتاريخ دمشق 13/ 424 (مصورة دار البشير) وينظر "السنن الكبرى" للنسائي (7029) - (7033). (¬2) ينظر ما سلف من ترجمة عمرو بن حزم في "طبقات" ابن سعد 5/ 317 - 318. (¬3) الذي في "طبقات" خليفة ص 89 أنه مات سنة اثنتين وخمسين؛ قال: ويقال إحدى وخمسين، وذكره في "تاريخه" ص 218 في وفيات سنة (51). (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 317.

كعب بن عجرة

قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - (¬1): حدثنا عبد الرزاق، حدَّثنا معمر، عن ابنِ طاوس، عن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حزم، عن أبيه قال: لما قُتل عمارُ بنُ ياسر؛ دخل عَمرُو بنُ حَزْم على عمرو بن العاص، فقال: قُتل عمَّار، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَقْتُلُه الفئةُ الباغية". كعب بن عُجْرة من الطبقة الثالثة من الأنصار، وقيل: هو حليفٌ لبني قَوْقَل (¬2)، وكنيتُه أبو محمد، وهو من أهل بيعة الرِّضوان، وفيه نزلَتْ فدية الأَذَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى} الآية (¬3). وشَهِدَ كعبٌ دَوْمَةَ الجندل (¬4). وقال الحسن البصريُّ: رَحَلْتُ إلى كَعبٍ من البصرة إلى الكوفة، فقلت: ما كان فداؤك (¬5)؟ فقال: شاة. وماتَ كعبٌ بالمدينة سنة اثنتين وخمسين وهو ابنُ خمسٍ وسبعين سنة، وقيل: إحدى وخمسين وهو ابنُ سبعٍ وسبعين سنة، وقد انقرضَ عَقِبُه (¬6). أسندَ كعبٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن بلال، وروى عنه ابن عمر، وعبد الله بن عَمرو، وجابر بن عبد الله، وطارق بن شهاب، وأبو وائل، والشعبي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن البصري، وعامة التابعين، وبنوه: إسحاق، وعبد الملك، ومحمد، والربيع، بنو كعب. ¬

_ (¬1) مسند أحمد، الحديث (24009/ 42)، الجزء 39 ص 479. (¬2) في (ب): نوفل، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 5/ 386، و"تاريخ دمشق" 59/ 358 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) صحيح البخاري (4191)، وصحيح مسلم (1201). (¬4) تاريخ دمشق 59/ 358 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) يعني حين أصابه الأذى، ينظر "تاريخ دمشق" 59/ 367. (¬6) طبقات ابن سعد 5/ 388، وتاريخ دمشق 59/ 367 - 368.

معاوية بن حديج

ومن مسانيده - رضي الله عنه -؛ قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - (¬1): حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثنا أبو حُصين، عن الشعبيّ، عن عاصم العَدَويّ، عن كعبِ بنِ عُجْرَة قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علينا -أو دخل- ونحن تسعة، وبينَنَا وسادةٌ من أَدَمٍ، فقال: "إنَّها ستكونُ بَعدي أمراءُ يَكْذِبُون ويَظْلِمون، فمَنْ دَخَلَ عليهم فصدَّقَهم بكذبهم، وأعانَهم على ظلمهم، فليس منّي ولستُ منه، وليس بوارد عليَّ الحوضَ، ومَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُم بكذبهم، ولم يُعِنْهم على ظُلمهم، فهو منِّي وأنا منه، وهو وارد عليَّ الحوضَ". معاوية بن حُدَيج ابن جَفْنَة الكِنْديّ السَّكُونيّ، صَحِبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه، ولَقِيَ عُمرَ بنَ الخطَّاب رضوان الله عليه، ورَوَى عنه (¬2). وكان عُثمانيًّا، وهو الذي قتلَ محمدَ بنَ أبي بكر - رضي الله عنه -، وولَّاه معاويةُ مصر (¬3)، وغزا الغَربَ، وشَهِدَ اليرموك أميرًا على كردُوس (¬4). وكان سيِّد السَّكُون (¬5)، وكان إذا قدمَ على معاويةَ بنِ أبي سفيان؛ ضُربت له قِباب الرَّيحان، وكُنِسَتْ له الطُّرُق (¬6)، فقدم يومًا على معاويةَ وعندَه أختُه أمُّ الحَكَم بنتُ أبي سفيان، فقالت: مَنْ هذا؟ فقال معاوية: بخٍ بخٍ، هذا معاوية بن حُدَيج، فقالت: لا مرحبًا به ولا أهلًا "تَسْمَعُ بالمُعَيدِيِّ خيرٌ من أن تراه". فقال لها ابنُ حُدَيج: يا أمَّ الحَكَم، مَهْلًا، فواللهِ لقد تَزَوَّجْتِ، فما أَكْرَمتِ، وَوَلَدتِ فما أنْجَبْتِ، أردتِ أن يَليَ ¬

_ (¬1) مسند أحمد (18126). (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 508. وقد أورده المصنف في وفيات هذه السنة تبعًا لجدّه في "المنتظم" 5/ 254. لكن سيرد ذكره أول سنة (58). (¬3) في (ب): وولاه معاوية مصر بعد ابن أمّ الحكم، وولي لمعاوية إمارة مصر. (¬4) تاريخ دمشق 68/ 117 و 119، والكُردُوس؛ الخيل العظيمة، وقيل: القطعة من الخيل العظيمة. ينظر "لسان العرب". (¬5) السَّكُون من كِنْدة. وينظر "تاريخ دمشق" 68/ 120 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) كذا في (خ)، ولم تتوضح في (ب). وفي "تاريخ" الطبري 5/ 312، و"تاريخ دمشق" 41/ 50 (ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن أم الحكم): وكان إذا جاء قُلِّسَتْ له الطريق، يعني ضُربت له قباب الريحان.

ابنُكِ الفاسقُ علينا، فيسيرَ فينا كما سعارَ في إخواننا من أهل الكوفة، ما كان الله لِيُريَ (¬1) ذلك، ولو فعل ذلك لضَرَبْناه ضَربًا تُضامِينَ منه (¬2) وإن كان (¬3) هذا الجالس. فقال لها أخوها: كُفِّي عنه. وابنُ حُديج هو كان الوافدَ على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بفتح الإسكندرية، وذهبَتْ إحدى عَينيه يومَ دُمْقُلَة (¬4)، كان في النُّوْبَة مع عبدِ الله بنِ أبي سَرح سنة إحدى وثلاثين. وولِيَ غَزْوَ المَغْرب سنةَ أربع وثلاثين [وسنة أربعين]، وسنة خمسين (¬5). وكان عثمان رضوان الله عليه أعطاه خُمس إفريقية (¬6)، فلذلك قام في أمره. حجَّ معاويةُ بن حُدَيج، فمرَّ بالمدينة، فقال الحسنُ بنُ عليّ - عليه السلام -: عليَّ بِه. فلمَّا دخلَ عليه قال: أنتَ السابُّ لأمير المؤمنين عند ابن آكِلَةِ الأكباد؟ فقال: ما فعلت. فقال: واللهِ لئن لقِيتَه -وما إخالُك تَلْقَاه- لَتَجِدَنَّه قائمًا على حوض محمد - صلى الله عليه وسلم - يَذُودُ عنه المنافقين بيده، حدَّثني به الصادق [المصدوق]، وقد خابَ من افْتَرَى (¬7). وكانت عائشة - رضي الله عنهما - تقنُت في الصلاة وتدعو على ابن حُدَيج وتقول: اللَّهم الْعَنْه، فإنَّه قتلَ أخي محمدًا. أسندَ معاويةُ بن حدَيْج عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه، وعن أبي بكر، وعمر، رضوان الله عليهما، وأبنِ عَمرو (¬8)، وأبي ذَرّ. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 312: ليُرِيَهُ. (¬2) أي: تذلِّين، ووقع في "تاريخ" الطبري: يطأطئ منه، وفي "تاريخ" دمشق 41/ 51 (ترجمة عبد الرحمن ابن أمّ الحكم، طبعة المجمع): نضامي (كما في حواشيها)، وأثبتتها محققة الجزء: يصامي منيَّته. أي: يذوقها. (¬3) في "تاريخ" الطبري 5/ 312: وإن كره. (¬4) في النسختين (ب) و (خ) وأصول "تاريخ دمشق" 68/ 122 (طبعة مجمع دمشق): دهقلة. والمثبت من "تهذيب الكمال" 28/ 165. ودُمقُلة مدينة كبيرة من بلاد النُّوْبَة ويقال لها أيضًا: دُنْقُلة. ينظر "معجم البلدان" 2/ 475 و 478. (¬5) تاريخ مدينة دمشق 68/ 122 (طبعة مجمع دمشق) وما سلف بين حاصرتين منه. (¬6) يعني خُمس الغنائم من الغزوة الأولى إلى إفريقية، سنة أربع وثلاثين. ينظر "تاريخ دمشق" 68/ 125. (¬7) تاريخ دمشق 68/ 130. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬8) في النسختين (ب) و (خ): ابن عمر، والمثبت من "تاريخ دمشق" 17/ 168، و"تهذيب الكمال" 28/ 164.

ميمونة بنت الحارث

وروى عنه عُلَيُّ بنُ رَباح، وعبدُ الرحمن بن شِماسة (¬1)، وسُويد بن قيس في آخرين. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - (¬2): حدثنا يحيى بنُ إسحاق، حدَّثنا ابنُ لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أو عن سُويد بن قيس (¬3)، عن معاوية بن حُدَيج قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "غَدوَة في سبيل الله أو رَوْحَة خَيرٌ من الدُّنيا وما فيها". وقال ابن عساكر: قال ابنُ حُدَيْج: سمعتُ أبا بكر - رضي الله عنه - على المنبر يقول: إنه قُدِمَ علينا برأس يَناق (¬4) البطريق، ولم يكن لنا به حاجة، وإنَّما هذه سُنَّة الأعاجم. ميمونة بنت الحارث ابن حَزْن بن بُجَير بن الهُزَم (¬5) بن رُوَيبَة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صَعصَعة، أمُّ المؤمنين - رضي الله عنها -. وأمُّها هند [بنت عوف] بن زهير بن الحارث بن حَماطة بن جُرش. وكان مسعودُ بنُ عَمرو بنِ عُمير الثقفيُّ قد تزوَّج ميمونةَ في الجاهلية، ثم فارقَها، فخلَفَ عليها أبو رُهْم بنُ عبد العُزَّى، من بني عامر بن لُؤيّ، فتوفِّيَ عنها، فتزوَّجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ زوَّجه إياها العبَّاس بنُ عبد المطلب، وكان يلي أمرَها، وهي أختُ [أمِّ ولده] أمِّ الفضل بنت الحارث [الهلالية] لأبيها وأمِّها (¬6)، وتزوَّجها بِسَرَف؛ على عَشَرة أميال من مكة، وكانت آخِرَ امرأة تَزَوَّجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في سنة سبع في عُمْرة القضيَّة في شوال. ¬

_ (¬1) تحرفت اللفظة في النسختين إلى: سماعة. (¬2) مسند أحمد (27255). (¬3) كذا في النسختين وأصول "المسند". واعتمد محققوه ما وقع في "أطراف المسند" و"إتحاف المهرة": عن يزيد .. أن سويد .. وقالوا: هو الصواب والموافق لما في مصادر الحديث. (¬4) تحرفت في (ب) إلى: نباق، وفي (خ) إلى: ساق، والمثبت من "تاريخ دمشق" 68/ 124 (طبعة مجمع دمشق). قال الفيروزآبادي في، "القاموس": يَناق، كَسَحاب: بِطْرِيق قُتِلَ، وأتيَ برأسه إلى الصّدّيق - رضي الله عنه -. (¬5) تحرف في (ب) و (خ) إلى: حرب بن يحيى بن القرم. (¬6) أم الفضل بنت الحارث هي لُبابة الكبرى الآتي ذكرها.

[وقال محمد بن عمر: تزوَّجها في شوَّال سنة سبع من الهجرة، وجعلَتْ ميمونةُ أمرَها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءَ رسول الله إلى منزل العبَّاس، فخطَبَها، فزوجَه إياها، وبعثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع مولاه، ورجلًا من الأنصار، فحملاها إليه - وقد ذكرناه في عمرة القضيَّة- وأعرَسَ بها بسَرَف. قال: وماتت بسَرَف، فقبرُها تحت السَّقِيفة. وقال الواقدي: وهبَتْ نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي وواية عنه أنه أصدَقَها خمس مئة درهم. وروى ابن سعد عن مجاهد أنه قال: كان اسمُها بَرَّة، فسمَّاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة. واختلفوا في وفاتها، فقال ابن سعد بإسناده عن ميمون بن مهران قال: سألتُ صفية بنت شيبة، فقالت: تزوَّج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة بسَرَف، وبنى بها، ثم بنى لها قبة] وماتت بسَرَف، ثم دُفِنَتْ في موضع قُبَّتِها التي بنى بها فيها (¬1). وأخواتُها لأبويها: لُبابَةُ (¬2) الكبرى زوجُ العبَّاس، ولُبابَةُ الصغرى زوجُ الوليد بنِ المغيرة (¬3)، أمُّ خالدِ بنِ الوليد، وعصماء بنتُ الحارث زوجُ أُبَيِّ بن خَلَف (¬4)، وهُزَيلَةُ بنتُ الحارث، وهي أمُّ حُفَيد التي أهْدَتْ سَمنًا وأقِطًا، وعَزَّةُ بنتُ الحارث (¬5)؛ كانت عند زيادَ بنِ عبد الله بن مالك الهلالي (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 128 - 130 و 132 و 135، وكل ما سلف بين حاصرتين كان (م)، واكتمل بهذا الاستدراك الخبرُ الأخيرُ، فقد وقع منه في (م) ما لم يقع في (ب) و (خ)، ووقع عكس ذلك أيضًا. (¬2) تحرفت في الأصل (خ) (في الموضعين) إلى لبانة (بالنون). (¬3) كذا قال ابن قدامة في "التبيين في أسماء القرشيين" ص 84 - 85، بينما ذكر ابن سعد في "الطبقات" 10/ 263 و 265 أن لُبابة الصغرى أختُها لأبيها، وأمُّها فاختة بنت عامر. وينظر أيضًا "تهذيب الكمال" 35/ 298. (¬4) كذا في "التبيين" لابن قدامة ص 85، بينما ذكرت أكثر المصادر أن لُبابة الصغرى هي نفسها عصماء، وذكر القولين البلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 536 - 537، والمزي في "تهذيب الكمال" 35/ 297 - 298. وينظر "طبقات" ابن سعد 10/ 265، و"تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 343، و"الإصابة" 13/ 111 - 112. (¬5) التبيين في أنساب القرشيين ص 85، لكن ابن سعد ذكر في "الطبقات" 10/ 263 أن هُزيلة بنت الحارث، وعَزّة بنت الحارث هما أختا ميمونة لأبيها فحسب. (¬6) أنساب الأشراف 1/ 537، والتبيين في أنساب القرشيين ص 85، لكن ذكر ابن سعد في "الطبقات" 10/ 265 أن عَزَّة كانت عند عبد الله بن مالك، وولدت له زيادًا.

وأما أخواتُها لأُمِّها: فأسماءُ بنتُ عُميس زوجُ جعفر بن أبي طالب، وسُلمى بنتُ عُميس زوجُ حمزةَ بن عبد المطلب، وسلامة بنتُ عميس (¬1) [وأمُّهنَّ] (¬2) هند بنت عوف بن زهير الليثي؛ كانت أكرمَ النساء أصهارًا، وبناتها تسع لأبوين؛ ستّ للحارث، وثلاث لعميس. قال الشيخ موفَّقُ الدين رحمه الله (¬3): وقد قيل: إن زينبَ بنتَ خُزيمة زوجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أختُ ميمونة لأمّها. وفي الحديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الأخواتُ المؤمنات ميمونةُ، وأمُّ الفضل، وأسماءُ، وسُلمى" (¬4). وقال [ابن جُريج عن] (¬5) عطاء: توفِّيت ميمونةُ بسَرَف، فخرجنا مع ابن عباس إليها، فقال: إذا رفعتُم نعشَها؛ فلا تُزَعْزِعُوها، ولا تُزَلزلوها، فإنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - تسعُ نسوة؛ كان يَقْسِمُ لثمانٍ، ولا يَقْسِمُ لواحدة. [وقال غيرُ ابنِ جُريج في هذا الحديث: إنها توفيت بمكة، فحملها عبد الله بنُ عبَّاس، وجعلَ يقول للذين يحملونها: اُرفُقُوا بها، فإنها أمُّكم. حتى دفنَها بسَرَف]. وقال يزيد بن الأصمّ: حَضَرْتُ قبرَ ميمونةَ، فنزلَ فيه ابنُ عباس، وعبدُ الرحمن بن خالد بن الوليد، وأنا، وعُبيد الله الخولانيّ، وصلَّى عليها ابنُ عباس. وقال الواقدي: توفّيت ميمونةُ سنةَ إحدى وستين في أيام يزيد بن معاوية (¬6)، وهي آخِرُ من ماتَ من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان لها يوم توفّيت ثمانون، أو إحدى ¬

_ (¬1) ذكرها البلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 537. (¬2) استدركتُ هذه اللفظة لضرورة السياق. (¬3) التبيين في أنساب القرشيين ص 85. (¬4) المصدر السابق. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" 10/ 263 من حديث كُريب بن أبي مسلم بنحوه مرسلًا، وذكر معهن أيضًا لبابة الصغرى وهزيلة وعزة. (¬5) ما بين حاصرتين استدركتُه من "طبقاته" ابن سعد 10/ 135 من أجل الخبر الآتي بعده بين حاصرتين والذي هو من (م)، وهو تتمة كلام ابن سعد في "طبقاته"، بإثر الخبر السالف قبله. وينظر "أنساب الأشراف"1/ 535. (¬6) قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 2/ 245: لم تبق إلى هذا الوقت، فقد ماتت قبل عائشة.

نعيمان بن عمرو

وثمانون سنة، وكانت جَلْدَة. أطعمَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر ثمانين وَسْقًا تمرًا، وعشرين وَسْقًا شعيرًا. وقيل: قمحًا (¬1). وقال هشام: ماتت سنة اثنتين وخمسين، ونزل ابنُ عباس ويزيدُ بنُ الأصمّ وعبدُ الله بن شدَّاد بن الهاد في قبرها -وهم بنو أخواتها- وعُبيد الله الخَوْلاني، وكان يتيمًا في حِجْرها. وقيل: إنها توفيت سنة ثمان وثلاثين (¬2). وقيل: سنة ست وستين، [وهذه السنة أشهر] (¬3). أسندت ميمونة - رضي الله عنهما - الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قيل: ستة وسبعين حديثًا (¬4). نُعَيْمان بن عَمرو ابن رِفاعة بن الحارث بن سَواد، من بني غَنْم -وهو تصغير نُعمَان (¬5) - من الطبقة الأولى من الأنصار، وأُمُّه فاطمةُ بنتُ عمرو، من بني النجار. شهد العقبة الآخِرة [مع السبعين]-في قول ابن إسحاق [وحدَه]- وبدرًا، وأُحدًا، والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلِدُه في الخمر؛ أُتِيَ به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجلده مرارًا؛ أربعًا أو خمسًا (¬6)؛ يعني في شرب النبيذ، فقال رجل: اللهمَّ الْعَنْه، فما أكثرَ ما يشربُ وأكثرَ ما يُجلد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلعنه، فإنه يُحبُّ الله ورسولَه". ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 135. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 24. (¬3) يعني سنة (52) وما بين حاصرتين من (م). وقد استبعد الذهبي وفاتها سنة إحدى وستين (فضلًا عن ستّ وستين، وانظر الكلام قبل تعليقين). وذكر خليفة ميمونةَ في "تاريخه" ص 218 فيمن توفي في سنة إحدى وخمسين. (¬4) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 365. وذكر فيه ابن الجوزي أيضًا ص 403 أن لها في "الصحيحين" ثلاثة عشر حديثًا، اتفقا على سبعة منها، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بخمسة. (¬5) يقال له: نُعمان ونُعيمان (مصغرًا) كما في "طبقات" ابن سعد 10/ 458. وكذا قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 720، وفرَّق بينه وبين نُعيمان بن عمرو صاحب المُزاح، وترجم له ص 733. وجزم ابن حجر في "الإصابة" أنهما اثنان، وترجم لهما فيه 10/ 166 و 179. وينظر التعليق التالي. (¬6) الخبر في "طبقات" ابن سعد 3/ 458 عن زيد بن أسلم قال: أُتيَ بالنُّعيمان، أو ابن النُعيمان. اهـ. وعند ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 734 أن الذي جُلد في الخمر هو ابنُ النُّعيمان، وقال: كان نُعيمان رجلًا =

أبو بردة بن نيار

وبقي نُعيمان حتى توفي في خلافة معاوية. [وليس في الصحابة من اسمه النعيمان سواه، ولا من يُقال له: نعيمان سواه]، وليس له رواية. وكان له من الولد: محمد، وعامر، وسَبْرَة، ولُبابة، وكَبْشة، وأمُّ حبيب (¬1)، وأَمَةُ الله؛ لأمَّهات أولادٍ شتَّى، وحكيمة؛ وأمُّها من بني سهم (¬2). أبو بُرْدَة بن نِيار (¬3) ابن عَمرو بن عُبيد البَلَويّ، من قُضاعة، [واسم أبي بُردة هانئ]، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وهو خالُ البراءِ بنِ عازب الصحابيّ. شهدَ أبو بُرْدَة العقبةَ مع السبعين، وأُحُدًا، والخندق، والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت معه رايةُ بني حارثة يومَ الفتح، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وليس له عقب (¬4)، ومات في خلافة معاوية. [أسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث؛ أخرج له أحمد ستة أحاديث، منها حديث واحد متفق عليه، ومنها حديث الراية]. قال الإمام أحمد رحمه الله (¬5): حدثنا وكيع، حدثنا حسنُ بنُ صالح، عن السُّدِّي، عن عَدِيّ بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: لَقِيتُ خالي أبا بُردَةَ بنَ نيار ومعه الراية، ¬

_ = صالحًا على ما كان فيه من الدُّعابة. وتعقَّبه ابن حجر في "الإصابة" 10/ 179 وقال: وفيه نظر ... ثم ذكر أن ذلك وقع للنعيمان وابنه. (¬1) في "طبقات" ابن سعد 3/ 458: وكبشة ومريم وأم حبيب ... (¬2) في النسختين (ب) و (خ): رسم، والمثبت من "الطبقات" 3/ 458. وقوله: وكان له من الولد ... إلخ من كلام ابن سعد، لكنه نقل آخر ترجمته عن الواقدي قوله: ليس له عقب، وكذا نقل ابنُ عساكر عنه وعن مولى بن عقبة في "تاريخه" 17/ 601 و 605 (مخطوط دار البشير). والله أعلم. (¬3) في النسختين (ب) و (خ): أبو بُردة بن هانئ بن نيار، وهو خطأ، واسم أبي بردة هانئ كما سيرد بين حاصرتين من النسخة (م). (¬4) في النسختين (ب) و (خ): وله عقب، وكذا هي العبارة في أصول "طبقات" ابن سعد 3/ 417 كما ذكر محقِّقُه، والمثبت من النسخة (م). وكذا ذكر ابن الأثير في "أسد الغابة" 6/ 30 - 31، ولم أقف على من ذكر أولاده. (¬5) مسند أحمد (18557)، وأورده في مسند البراء بن عازب. ولم يورده في مسند أبي بُرْدَة.

السنة الثالثة والخمسون

فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجلٍ تزوَّجَ امرأةَ أبيه من بعده أنْ أضرِبَ عُنقه -أو أقتله- وآخُذَ ماله. [وليس في الصحابة من اسمُه هانئ بن نِيار غيره. وأما أبو بُردة؛ فثلاثة: أحدهم: صاحب هذه الترجمة. والثاني: أبو بردَة أخو أبي موسى الأشعري، واسمه عامر. والثالث: أبو بُردَة الظَّفَري، من بني كعب بن مالك. والله أعلم] (¬1). السنة الثالثة والخمسون فيها فتحَ جُنادة بن [أبي] أمية الأزدي جزيرة رُودِس في البحر، فنزلَها المسلمون، وغرسوا بها الأشجار، وزرعوا، وبَنَوْا المساكن، واقتَنَوْا المواشي، وبنَوْا حصنًا حصينًا يأوون إليه عند الفزع، واتخذوا بها المسالح (¬2) يحذّرُونَهم غارات الروم، وعمِلُوا السفن، فكانوا يجاهدون الروم ويأخذون مراكبَهم. وكان معاوية يُدِرُّ لهم الأرزاق، ويكثر لهم العطاءَ، فأقاموا إلى سنة ستين، فلما مات معاوية غفلَ عنهم يزيد، فاستولى عليها الروم، وضعُف أهلُها، ويقال: إن يزيد أمرَهم بالانتقال عنها. [وقيل: يقال للجزيرة: أرواد (¬3)، وقيل: رُودِس، وأن ذلك كان في سنة أربع وخمسين] وأقام المسلمون بها سبع سنين. وفيها شتا عبد الرحمن بنُ أمِّ الحكم ببلاد الروم. ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 272. وذكر ابن حجر في "الإصابة" 11/ 33 - 35 أكثر من ذلك. وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من النسخة (م). (¬2) في "اللسان": المسالح جمع مَسْلَحة؛ كالثَّغْر والمَرقَب. والمَسْلَحَةُ أيضًا: قوم في عُدَّة بموضع رَصْد قد وكِّلُوا به بإزاء ثَغْر. (¬3) في (م): أزوا، والصواب ما أثبتُّه، والكلام بين حاصرتين من (م) وحدها. وينظر "تاريخ" الطبري 5/ 293، و"معجم البلدان" 1/ 162.

جبلة بن الأيهم

[وقال الأصمعي: ] وفيها وقع طاعون بالكوفة، فمات فيه زياد. وحجَّ بالناس سعيد بنُ العاص [بالاتفاق]، وكان هو العاملَ على المدينة، وعلى الكوفة بعد زياد عبدُ الله بنُ خالد بن أسيد، وعلى البصرة بعد موت زياد سَمُرةُ بنُ جُنْدُب، وعلى خُراسان خُليد بنُ عبد الله الحنفيّ (¬1). وفيها توفي جَبَلَة بن الأيهم الغسَّاني [ملك غسَّان بالشام]، واختلفت الروايات فيه: فقيل (¬2): إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إليه يَدعُوه إلى الإسلام. [وقيل: إنما كتب إلى الحارث بن أبي شمر على يد شجاع بن وهب، وقد ذكرناه في السيرة]. [وقال هشام: أسلَمَ جَبَلة] (¬3) وأَهْدَى إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - هديَّة. [وكذا قال ابن سعد]. وقيل: أقام على دينه إلى أيام عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، ثم أوقعَ الله الإسلامَ في قلبه، فأسلمَ، وقدِمَ على عمر رضوان الله عليه، ثم ارتدَّ. روى هشام (¬4) بن محمد الكلبيّ عن أبيه قال: ذُكر لنا أنه لَمَّا أسلَمَ جَبَلَةُ بنُ الأَيهم الغسَّاني في خلافة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه؛ كتب [إلى] عمر يخبره بإسلامه ويستأذنُه في القدوم عليه، فسُرَّ عمرُ بذلك، وأَذِنَ له، فخرج [في خمسين ومئتين من أهل بيته، وفي رواية: ] في خمس مئة من أهل بيته، حتى إذا قاربَ المدينةَ؛ عَمَدَ إلى ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 292. (¬2) في (م): فذكر الواقدي، بدل: فقيل. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) ووقع بدله في النسختين (ب) و (ج) عبارة: وإنه أسلم، وينظر "طبقات" ابن سعد 1/ 228. وتجدر الإشارة إلى أن كل ما يرد بين حاصرتين دون إحالة، هو من النسخة (م). (¬4) في (م): "حكى جدّي رحمه الله من كتاب "تبصرة المقتدي" في الوعظ، وذكر الحكاية في تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَينَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} فقال: حدثنا أبو الفضل باسناده عن هشام .. ". هذا الكلام من (م) بدل قوله: روى هشام. ولم أقف على الخبر في الكتاب المذكور لابن الجوزي رحمه الله، وهو في كتابه "المنتظم" 5/ 257 - 260.

أصحابه، فحملَهم على الخيل العِتاق، وقلَّدَها أواقَ الذهب والفضة، وألبسَهم الدِّيباجَ وسَرَقَ الحريرِ (¬1)، ووضعَ على رأسه تاجَه، وكان فيه قُرْطا مارية، وهي جدَّتُه، فلم تبق بِكْرٌ ولا عانِسٌ إلا وخرجت تنظُرُ إليه وإلى زِيِّه. فلما دخلَ على عمر رحَّب به، وأدنى مجلسَه، وأقامَ بالمدينة مكرَّمًا. فجاء أوانُ الحجّ، فخرج عمرُ حاجًّا وخرج معه، فبينا هو يطوفُ بالبيت، إذْ وَطِئَ رجلٌ من فَزَارة إزارَه من خلفه فانحل، فعرفعَ جَبَلَةُ يدَه فلطمَ الفَزَاريَّ، فهشَمَ أنفَه، فاستعدَى الفَزاريُّ عليه عمرَ، فقال عمر لجَبَلَة: لِمَ هشمتَ أنفَه؟ قال: اعتمدَ حَلَّ إزاري، ولولا حُرْمةُ البيت (¬2) لضربتُ وجهه بالسيف. فقال له: أمَّا أنتَ فقد أقررتَ، فإما أن تُرضيَه؛ وإلا أقدتُه منك، فقال: أوَخُطْرٌ هو لي (¬3)؟ قال: نعم. قال: وكيف، وأنا ملكٌ وهو سُوقَة (¬4)؟ ! فقال عمر: الإسلام قد جمعكما. قال جَبَلَة: واللهِ لقد ظننت أن أكونَ في الإسلام أعزَّ منِّي في الجاهلية! فقال [عمر: ] هو ما ترى. فقال جَبَلَة: فإذًا أتنصَّر. فقال عمر: أقتُلُكَ لأنك قد أسلمتَ. فقال: أمهِلْني الليلة حتى أنظر. فأمهله. فلمَّا كان في الليل تحمَّلَ هو وأصحابُه إلى الشام على طريق الساحل، حتى دخل القسطنطينية، فتنصَّر هو وقومُه، فسُرَّ به هِرَقْل، وأقطعَه ما شاء، وزوَّجَه ابنتَه، وقاسمه مُلكَه، وجعلَه من سمَّاره، وأقام مدَّة. ثم إن عمر كتب كتابًا إلى هِرَقْل في أمر يَخصُّ (¬5) المسلمين، وبعث به إلى جَثَّامَةَ بن مُساحِق الكِنانيّ إليه (¬6). فلما قَدِمَ الرسولُ على هِرَقْل؛ أجابَ بما أَرادَ عمر، فلما عزمَ الرسولُ على الرجوع قال له هرقل: لقيتَ جَبَلَةَ ابنَ عمِّك؟ قال: لا. قال: فالْقَهْ. ¬

_ (¬1) في (خ): "والسَّرَق الحرير". والسَّرَق: شُقَق الحرير الأبيض. (¬2) في (ب) و (م): الكعبة. (¬3) أي: أهو مثلي في القَدْرِ والعُلُوّ. ينظر "القاموس". ووقع في (م): أهو خطر مثلي. (¬4) السُّوقة -بضم السين-: الرعية، للواحد والجمع، والمذكر والمؤنث. ينظر في "القاموس". (¬5) في (ب) و (خ): يختصُّ. والمثبت من (م). (¬6) كذا في النسختين (ت) و (خ) وتحرف فيهما جثامة إلى حبابة. ولفظ العبارة وفي (م): وبعث به مع رسول إليه، وفي من رواية: واسم الرسول جثامة بن مساحق الكناني.

قال: فأتيتُ بابَ جَبَلَة، فرأيتُ عليه من البهجة والخَدَم ما لم أره على باب الملك، فاستأذنتُ عليه، فأذِنَ لي، فلما دخلتُ عليه؛ قامَ فاعتَنَقَني، وعاتبَني في ترك النزول عليه، وإذا به في بَهْوٍ عظيم على سريرِ من ذهب، وحولَه من التماثيل ما لا أُحسنُ أن أصفَه، وإذا هو أصهبُ ذو سِبال (¬1) وقد ذَرَّ الذهبَ في لحيته، ثم أمرَني أن أجلس على كرسي من ذهب، فأبَيتُ وقلت: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نجلس على مثل هذا. ثمَّ سألني عن عُمر وعن المسلمين، وألطفَ في المسألة وألْحَفَ في السؤال، وأظهرَ على وجهه أثر الحزن. قلت: فما يمنعُك من الرجوع إلى الإسلام؟ فقال: هيهات هيهات بعد الذي كان. قلت: نعم، قد ارتدَّ الأشعثُ بنُ قيس وجالدَهم بالسيوف، ومنعَ الزكاة، ثم عاد إلى الإسلام، وزوَّجَه أبو بكر أختَه. فقال: دَعْ عنك هذا، وأومأ إلى وصيف كان على رأسه، فولَّى وحضر (¬2)، فما شعرنا [إلا] بالصناديق تُحمل على أعناق الرِّجال، ووُضعَتْ أمامَنا مائدةٌ من ذهب، فقلت: لا آكل عليها، فوُضعَتْ أمامي مائدة من خَلَنْج (¬3)، ومالُوا علينا بالحارّ والبارد؛ في صحاف الذهب والفضة، ودارت الخمرُ، فاستعفَيتُ منها، وغسلَ يدَه في طَسْت من ذهب، وأشارَ إلى وصيف آخر، فولَّى، فما كان بأسرعَ من أن أقْبَلَت عَشْرُ جَوَارٍ، فقعدَ خمسٌ عن يمينه وخمس على يساره [على كراسي الذهب]، وأقبلَتْ جارية؛ في يدها اليمنى جامٌ من ذهب فيه طائر أبيض، وفي الجام مسكٌ وعنبر سحيقان، وفي يدها اليسرى جامٌ آخر (¬4) لم أرَ مثلَه، [فنقرتِ الطائر] فتقلَّبَ في الجام، ثم انتقل إلى الجام الآخر، ثم طار فسقط على صليب في تاج جَبَلَة، ثم حرَّك جناحيه، فنثر المسكَ على رأس جَبَلَة ولحيتِه، ثم شرب ¬

_ (¬1) الأصهب: ذو اللون الأصفر الضارب إلى شيء من الحُمرة والبياض. والسبال: جمع سبَلَة، وهي طرف الشارب من الشعر ومقدَّم اللحية. (¬2) في (ب) و (خ): يحضر، والمثبت من (م). (¬3) في "اللسان": الخَلَنْج شجر -فارسي معرّب- تتخذ من خشبه الأواني. وقيل: هو كل جفنة وصحفة وآنية صُنعت من خشب ذي طرائق موشاة. (¬4) في "الأغاني" 15/ 165: جام فيه ماء ورد.

أقداحًا، واستهلَّ واستَبْشَر. ثم قال للجواري: أطرِبْنَني. فخفقنَ بعيدانهنَّ وانْدَفَعنَ يُغنِّين [هذه الأبيات، وهي لحسان بن ثابت]: للهِ دَرُّ عصابةٍ نادمتُها ... يومًا بجِلِّقَ (¬1) في الزَّمانِ الأوَّلِ الأبيات [وقد ذكرناها في ترجمة حسان]. فطربَ جَبَلَةُ وقال: هذا الشعر لحسان؛ قاله فينا. فقلتُ: أَمَا إنه لشيخٌ كبيرٌ ضرير. ثم قال: أَطْرِبْنني، فقلن: لِمَنِ الدارُ أقْفَرَتْ بمَعانِ ... بين أعلى اليرموكِ والصَّمَّانِ (¬2) ذاك مغنًى لآل جَفْنَةَ في الدَّهْـ ... ــر محاة (¬3) تعاقبُ الأزْمانِ فقال: وهذا أيضًا لحسان. ثم قال للجواري: أبْكِينَني. فوضعن عِيدانَهنَ، ونكَسْنَ رؤوسهن، وقُلنَ: تَنَصَّرتِ الأشراف عارِ لَطْمَةٍ ... ولو صَبَرَتْ ما كان يومًا لها ضَرر (¬4) تكنَّفني فيها لَجاجٌ ونخوةٌ ... وسمعتُ بها العينَ الصحيحة بالعَوَر فيا ليتَ أمِّي لم تَلِدني وليتَني ... رجَعتُ إلى القولِ الذي قاله عُمر ويا ليتني أرعى المخاضَ بقفْرةٍ ... وكنت أسيرًا في ربيعةَ أو مضَرْ ويا ليتَ لي بالشام أدنى معيشةٍ ... أُجالسُ قومي ذاهبَ السمعِ والبَصرْ أَدِينُ بما دانوا به من شريعةٍ ... وقد يصبرُ العُودُ الكبير على الضَرَر وانصرف الجواري، ووضع كُمَّه على وجهه وبكى حتى نظرتُ إلى دموعه تجولُ على خدَّيه كأنها اللؤلؤ الرطب، وبكيتُ معه حتى رحمتُه. ثم قال: يا جارية، هاتي خمس مئة دينار هِرَقْلية. فجاءت بها، فقال: ادفَعها إلى حسان، وأَقْرِئْه مني السلامَ. ثم ¬

_ (¬1) جِلْق؛ كحِمِّص وقِنَّب: دمشقُ، أو غوطتُها. ينظر "القاموس". (¬2) الصَّمَّان موضع من نواحي الشام بظاهر البلقاء. ينظر "معجم البلدان" 3/ 423. وفي "ديوان" حسان ص 253: فالخمّان. (¬3) في (خ): مخافة. والمثبت من (ب) و (م). وفي "الأغاني" 15/ 166: وحق. (¬4) في "الأغاني" 15/ 167: وما كان فيها لو صبرت لها ضرر. ومثله في "المنتظم" 5/ 259 إلا آخره، ففيه: على ضرر.

قال: هاتي مثلَها. فجاءته بها، فقال: خُذْها لك صِلةً. فقلتُ: لا واللهِ لا أقبل صِلَةَ رجلٍ ارتدَّ عن الإسلام. فقال: اقرأ على عمر مني السلام. قال: فلما قفلتُ دخلتُ على عمر، وذكرتُ له ذلك، فقال: قاتلَه الله، باع باقيًا بفانٍ. وقال ابن سعد: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند رجوعه (¬1) من الحديبية كاتبَ الملوكَ، وكتبَ إلى جَبَلَة بنِ الأَيْهم ملكِ غسان يدعُوه إلى الإسلام، فأسلمَ، وكتبَ بإسلامه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأهدى له هدية. ثم لم يزل [مسلمًا] إلى أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فبينما هو يسيرُ في سوق دمشق؛ إذْ وَطِئَ رجلًا من مُزَينة، فوثَبَ المُزَنيُّ فلطمه، فأخذَه وانطلقَ به إلى أبي عبيدةَ بنِ الجرَّاح، فقالوا: هذا لطمَ جَبَلَةَ. قال: فلْيَلْطمه. قالوا: وما يُقتل؟ قال: لا. قالوا: فما تُقطع يدُه؟ قال: لا، إنَّما أَمرَ الله بالقَوَد. قال جبلة: أتُرَوْن أني جاعلٌ وجهي نِدًّا لوجهِ جَدْيٍ جاء من عَمْق (¬2)! بئس الدينُ هذا. ثم ارتدَّ نصرانيًّا، ورحَلَ بقومه حتى دخلَ أرضَ الروم. وبلغ عمرَ، فشقَّ عليه، وقال لحسان بن ثابت: يا أبا الوليد، أما علمتَ أنَّ صديقكَ جَبَلَةَ بنَ الأيهم ارتدَّ نصرانيا؟ فاسترجع حسان وقال: ولِمَ؟ قال: لطَمَه رجلٌ من مُزَينَة. قال: حُق له. فقام إليه عمر، فلطَمَه بالدَّرَّة. وقال عبد الله بن مَسْعَدَة: بعثني معاوية إلى ملك الروم، فدخلتُ عليه، وإذا عندَه رجلٌ على سريرٍ من ذهب، فكلَّمني، فقلت: مَنْ أنتَ؟ فقال: رجل غلبَ عليه الشقاء، أنا جَبَلَةُ بن الأَيهم الغسَّانئ، إذا صِرتَ إلى منزلي فَالْقَنِي. قال: فأتيتُه، فقال: أتُرَى ¬

_ (¬1) جاء في (م) بعد قوله آخر الفقرة السابقة: باع باقيًا بفان: قلت: وهذه رواية ابن الكلبي، أما ابن سعد فإنه ذكر في "الطبقات" أن الواقعة كانت بدمشق، فذكر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند رجوعه ... إلخ. والخبر في "طبقات" ابن سعد 1/ 228. (¬2) في "القاموس": العَمْق: ما بَعُد من أطراف المفازة. ويُضمّ.

صاحبَك يفي لي إنْ أتيتُه -أو خرجتُ إليه-؟ قلت: اشتَرِطْ ما شئت. قال: يُقْطِعُني الثَّنيَّة (¬1)، فإنها كانت منازلَنا، وعشرين قرية من قرى الغوطة، ويُحسنُ جوارنا (¬2)، ويفرض لجماعتنا. قال: فلما قدمتُ على معاوية؛ أخبرته، فكتبَ إليه يجيبه إلى ما سأل، فأدركَه الرسولُ قد مات. قال ابن عساكر: الذي لطمَ جَبَلَةَ رجلٌ من جُهينة، فلطمه الجُهني (¬3)، فجاء إلى عمر فقال: اقتُلْه. فقال: ليس هذا في ديننا. فخرجَ جَبَلَة إلى الشام، وخرج معه أربعون ألفًا من غسان إلى الروم، وكان عمر إذا رأى الجُهنيّ قال: هذا أشأمُ العرب على العرب. وقال الشعبيّ (¬4): إن معاوية بعث [ابن] بشر بن البراء بن معرور إلى ملك الروم، فقال له ملك الروم: هل لك في رجلٍ يُحبُّ أن يراك؟ قال: مَنْ هُو؟ قال: جَبَلَة بن الأيهم. [قال: ] فأتيتُه، فإذا هو في قصر من رُخام .. وذكر بمعنى ما تقدم، ثم قال: إنْ زوَّجَني معاويةُ ابنتَه، وجعل الأمر إليَّ بعدَه، رجعتُ إلى الإسلام. فلما قدمتُ على معاوية أخبرته، فقال: ارجع إليه وقل له: نعم. قال: [فرجعتُ] فإذا بجنازته يتبعها القِسِّيسون والرّهبان، فقلت: مَنْ هذا؟ فقالوا: جَبَلَة. فرجعتُ إلى معاويةَ، فأخبرتُه وقلتُ: أكنتَ تُجيبُه إلى ما سأل؟ فقال: لا ولا كرامة، وما عليَّ أنْ أستَنْقِذَه من الشِّرْك. [قلتُ: ثم ذكر ابنُ عساكر في "تاريخه" وقال: الرسول الذي بعثه معاوية إلى ملك الروم ابنُ بشر بن البراء بن معرور الأنصاري الذي أكلَ أبوه بِشْرٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشاة المسمومة بخيبر ومات. ¬

_ (¬1) في (م): البثنية، وفي (ب) و (خ): البئينة، والمثبت من "الأغاني" 15/ 169. قال في "معجم البلدان" 2/ 85: ثنيّة العُقاب، بالضم، ثنية مشرفة على غوطة دمشق يطؤها القاصد من دمشق إلى حمص. (¬2) في (ب) و (م): ويحسن جوارنا وجوائزنا، وفي "الأغاني" 15/ 169: ويحسن جوائزنا. (¬3) في "تاريخ دمشق" 19/ 262 (مصورة دار البشير، ترجمة ابن بشر بن البراء بن معرور): وقع بينه (أي جَبَلَة) وبيت رجل من جُهينة كلام، فلطم الجُهنيَّ، فلطمه الجُهنيُّ ... (¬4) هو تتمة الخبر السابق في "تاريخ دمشق" 19/ 262.

الربيع بن زياد

قال ابنُ عساكر: ولم يُعرف لابن بشر اسمٌ. ولهذا ذكره في المنسوبين [إلى] آبائهم دون أسمائهم. ثم ذكر ابن عساكر في باب التاء، وقال: اسمُ ابن بشر بن البراء تميمُ بنُ بشر. وساق الحديث بمعناه]. وقال الكلبيّ: حاصر المسلمون مدينة من مدائن الروم وكان جبلةُ فيها، فاطَّلَعَ عليهم وقال: أفيكُم أحدٌ من أهل المدينة من الأنصار؟ قال رجل: نعم، أنا. قال: فما فعل حسان بن ثابت؟ قال: تركتُه وقد كُفَّ بصرُه. فرمى بصُرَّةٍ فيها ألفُ دينار وقال: احمِلْها إليه، فإنْ وجدتَه حيًّا فأَقْرِئْه مني السلام، وادفعها إليه، وإنْ كان مات، فانْثرها على قبره. [قال: ] فقدمَ الرجلُ المدينة، فأتى حسَّانًا فقال له: إني لأَجدُ منك رِيحَ آلِ جَفْنَة. فأخبرَه الخبرَ، فقال حسان: وَددتُ أنك وجدتَني ميِّتًا فكنتَ تنثُرها على قبري. وأعطاه نصفها. [وذكر الواقدي في كتاب "الصوائف" أن جَبَلَة بن الأيهم لم يُسلم قطّ، وإنما سأل عمرَ أن لا يأخذ منه الجزية، ويقبلَ الصدقة، فلم يُجِبْه عمر، فلحق بالروم. وهو وهمٌ من الواقدي لما ذكرنا من قصته عن أرباب السِّيَر واشتهارها]. الربيع بن زياد الحارثي، عامل زياد على خُراسان، وأقام واليًا سنتين وأشهرًا، ففتحَ فتوحاتٍ كثيرةٍ، وكان صالحًا مُجابَ الدعوة. ذكرَ الربيعُ مقتلَ حُجْر بن عديّ، فقال: لا تزال العربُ تَقتُلُ صبرًا بعدَه، ولو نَفَرَتْ عند قتلِه ما قُتِل بعدَه أحد، ولكنَّها ذَلَّتْ فقتلت (¬1). ثم صَعِدَ المنبر، فقال: أيها الناس (¬2)، إنِّي قد مَلِلْتُ (¬3) الحياةَ، وإني داعٍ بدعوةٍ فأمِّنوا. ثمَّ رفعَ يديه وقال: اللهمَّ إن كان في عندَك خير؛ فاقْبِضْني إليك عاجلًا. وأمَّنَ ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 291: ولو نَفَرَتْ عند قتله لم يُقتل رجلٌ منهم صبرًا، ولكنها أقرتْ فذلَّتْ. (¬2) في الكلام اختصار مخلّ. وسياقه في "تاريخ الطبري": فمكث بعد هذا الكلام (يعني السالف قبله) جمعة، ثم خرج في ثياب بياض في يوم جمعة، فقال: أيها الناس ... (¬3) تحرفت في (ب) و (خ) إلى: ملكت.

رويفع بن ثابت

الناسُ، ثم نزل، فدخلَ بيتَه فسقطَ فماتَ من يومه، فاستُخلف ابنُه عبد الله بن الربيع، فأقام شهرين، وماتَ عبدُ الله، فقُدم بعهده وهو يُدفن، فاستُخلفَ على خُراسان خُليد بن عبد الله الحنفي، فأقرَّه زياد حتى مات زياد. رُويفع بن ثابت ابن السَّكَن الأنصاري، له صحبة، وشهد فتح مصر واختطَّ بها، وكان فارسًا جَوادًا، وله في المغرب فتوحٌ كثيرة. وكان قد ولَّاه مَسْلَمة بن مُخَلَّد (¬1) الأنصاري أميرُ مصر بَرْقَةَ وتلك النواحي، فماتَ ببَرقَةَ وهو والٍ عليها (¬2). أسند الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [وليس في الصحابة من اسمُه رُويفع غيره. وأخرج له أحمد في "المسند" ستة أحاديث، وليس له في "الصحيح" شيء. ومن مسانيده حديث حُنين (¬3)؛ قال أحمد بإسناده عن رُويفع بن ثابت الأنصاري قال: كنتُ مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح حُنينًا، فقام فينا خطيبًا فقال: "لا يحلُّ لامرئ يؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يَسقيَ ماءَهْ زَرعَ غيره". أشار إلى الحَبالى من السَّبايا. وأخرجه عنه أحمد في "المسند" أيضًا (¬4): نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُوطأَ الأمةُ حتى تحيضَ، وعن الحَبالى حتى يَضَعنَ]. زياد بن أبيه كنيتُه أبو المغيرة. ¬

_ (¬1) وزن محمد، وتحرف في (ب) و (خ) و (م) إلى: خالد. (¬2) نقل المِزِّي في "تهذيب الكمال" 9/ 255، والذهي في "سير أعلام النبلاء" 2/ 36 عن ابن يونس أنه توفّي سنة ستٍّ وخمسين. (¬3) في (م): خيبر (وكذا في الموضع الآتي في الحديث) والمثبت من "المسند" (16990). مع الإشارة إلى أن هذا الكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) برقم (16993).

[قال البلاذُري: ] وُلد على فراش عُبيد بن أسيد بن علاج الثقفي (¬1)، وكان عبدًا روميًّا للحارث بن كَلَدة، زَوَّجَه سميةَ جاريتَه. وذكره ابنُ سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة، [قال: ] ولم يكن من القراء، ولا من الفقهاء، ولكنه معروف، وكان كاتبًا لأبي موسى الأشعري (¬2). وكان يقال له: زياد بن أبيه، وبعضهم يقول: زياد بن أبي سفيان، وبعضهم يقول: زياد الأمير. وكان أحمر اللون، في عينه اليمنى انكسار. [وحكى عبد الله بن أحمد بإسناده عن جرير بن يزيد قال: ] (¬3) رأيتُ زيادًا أبيض الرأس واللحية، عليه قميص مرقوع، وهو على بغلة عليها لجامُها قد أرسَنَها، أي: ألْقَى رَسَنَها على عنقها، ومعه رجلان. [ذكر مولده قال ابن عبد البَرّ: قد اختلف في مولده، فقيل: ] (¬4) وُلد عامَ الفتح بالطائف، وقيل: عام الهجرة، وقيل: قبل الهجرة، وقيل: يوم بدر. وليست له صحبة ولا رواية. ولم يرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، بل أسلم في زمن أبي بكر رضوان الله عليه. وقال الطبري: إن زيادًا والمختار بن [أبي] عُبيد وُلدا سنةَ إحدى من الهجرة (¬5). ¬

_ (¬1) كذا وقع في النسخ (ب) و (ح) و (م). وهو خطأ. فإن عُبيد بن أسيد بن علاج هو أبو صفية امرأةِ الحارث بن كَلَدة. وأما عُبيد الذي وُلد زياد على فراشه، فهو عبدٌ لصفية روميّ. ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 212، وينظر فيه أيضًا 1/ 580. والكلام السالف بين حاصرتين من (م). (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 98 - 99. (¬3) ما بين حاصرتين من (م)، ووقع بدلها في (ب): وقال جرير بن يزيد، بينما وقع في الأصل (خ): قال يزيد، وهو خطأ. والخبر في "تاريخ"، الطبري 5/ 290، و "تاريخ دمشق" 6/ 482 (مصورة دار البشير) ترجمة زياد. (¬4) الاستيعاب ص 254، وما بين حاصرتين من (م). (¬5) تاريخ الطبري 2/ 402.

ذِكرُ طرف من أخبارِه: قال الواقديّ: كان وَلَدُ سُمَيَّةَ ثلاثة: زياد، ونُفَيْع (¬1)، ونافع، فكان نسبُ زيادٍ في قريش، ونسبُ أبي بَكْرَةَ في العرب، ونافع في الموالي، فقال فيهم يزيد بنُ مُفَرِّغ: إن زيادًا ونافعًا وأبا ... بَكرَةَ عندي مِنْ أعجَبِ العَجَبِ إنَّ رجالًا ثلاثةً خُلِقُوا ... في رَحِمِ أُنثى مُخالفي النَّسَبِ (¬2) ذا قُرَشيٌّ فيما يقولُ وذا ... مولًى وهذا ابنُ عَمِّه (¬3) عربي وقال بعض العراقيين في أبي شهر (¬4) الكاتب: حمارٌ في الكتابةِ يَدَّعِيها ... كدَعوَى آلِ حربٍ في زيادَ فَدَع عنك الكتابةَ لَسْتَ منها ... ولو سَوَّدتَ (¬5) وَجْهكَ بالمِدادِ [وقد غلط أبو اليقظان فقال: أمُّ زياد أسماء بنت الأعور، من بني عبد شمس، وهو غلط فاحش؛ لإجماع الرواة على أنها سُميَّة، ولم يوافقه على هذا القول أحد] (¬6). وقال البَلاذُرِيّ: لَمَّا خرجَ زياد مع إخوته نُفَيْعٍ ونافعٍ وأزْدَةَ زوجةِ عتبةَ بنِ غَزْوان؛ لم يكن مع عُتبة كاتب (¬7)، فَوَلَّى زيادا كتابةَ الغنائم وقَسْمَها، وأمرَه أنْ يكتبَ إلى عُمَر بنِ الخطاب - صلى الله عليه وسلم - كتابًا بالفتح، وكان لزيادٍ عبارة وفَهْمٌ وذكاء، فكتبَ إليه كتابًا، فأعجَبَه. ثم وَلَّى عمرُ البصرةَ المغيرةَ بنَ شعبة بعد عُتبةَ بنِ غَزوان، فكان زياد يكتُبُ له. ¬

_ (¬1) هو أبو بكرة - رضي الله عنه -، الآتي ذكره. (¬2) في "الاستيعاب" ص 257: وكلهم لأب، بدل: مخالفي النسب. (¬3) في "الاستيعاب": بزعمه، بدل: ابن عمه. (¬4) كذا في (م)، ولم تجود اللفظة في (ب) و (خ)، وفي "العقد الفريد" 6/ 133: أبي مسهر، وفيه أيضًا 4/ 171: صالح بن شيرزاد. (¬5) المثبت من (م)، وهو المشهور في اليبت. ووقع في (خ): صخّمتَ (ولعلها بمعنى سخّمتَ، يعني سوّدتَ) ووقع في (ب): صحمتَ (بالحاء)، وفي "العقد الثمين" في الموضعين المذكورين في التعليق قبله: غرَّقت وجهك. (¬6) أنساب الأشراف 4/ 219. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬7) كان عتبةُ بن غزوان واليًا لعمر - رضي الله عنه -. على البصرة. والكلام بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 212.

ثم كتبَ لأبي موسى لَمَّا ولَّاه عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - على البصرة، وخرج أبو موسى غازيًا، فاستخلفَ زيادًا على البصرة، وبلغَ عمرَ رضوان الله عليه، فكتبَ إلى أبي موسى: استخلفْتَ على البصرة مَنْ لا صحبةَ له ولا هجرة ولا تجربة، أشْخِصه إليّ. فأشخصَه إليه، فلما دخلَ على عمر -رضوان الله عليه- تكلَّم، فأعجبَه كلامُه وعقلُه، فأمرَ له بألف درهم، وردَّه إلى البصرة، اشترى بالألف أباه عُبيدًا فأعتقَه (¬1). وبلغ عمر - رضي الله عنه - فقال: نِعمَ الألفُ ألْفُه. قال أبو عثمان النَّهْديّ: وكنَّا نغبطه بذلك (¬2). وقال ابن عساكر (¬3): فُتق فَتْقٌ في زمن عُمر - رضي الله عنه -، فبعثَ زيادًا فرتَقَه، وانصرفَ محمودًا مشكورًا، فدخل على عُمر وعنده المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يُسمع بمثلها حُسنًا، فقال عمرو بن العاص: هذا الغلام لو كان أبوه قُرشيًّا لساقَ العرب بعصاه. وكان أبو سفيان حاضرًا في المجلس، فقال: والله إني لأعرفُ أباه ومن وضعَه في رَحِمِ أمِّه، فقال له عليّ: يا أبا سفيان اسكُتْ، فواللهِ لو سمعَك عُمر لأسرعَ إليك بالشّرّ. فقال له أبو سفيان: أما واللهِ لولا خَوْفُ شخصٍ ... يرانا يا عليُّ من الأعادي لأظهرَ أمرَه صَخْرُ بنُ حَربٍ ... ولم تكنِ المقالةُ عن زيادِ فقد طالتْ مجانبتي ثَقِيفًا ... وتركي عندهم عرضًا فؤادي (¬4) قولُ أبي سفيانَ هذا حملَ معاويةَ على أنَّه ادَّعى زيادًا (¬5). [وقال هشام: إنما بعثه أبو موسى بكتاب فتحٍ، فقال له عمر: قم فاقرأه على المنبر، فقرأه، فأعجبَ الناس، وكان أبو سفيان جالسًا إلى جنب علي بن أبي طالب، فقال له: ¬

_ (¬1) يعني أنه أعتقه بشرائه إياه، لا أنه صار مِلْكًا له ثم أعتقه، لأن مِلْك الابن لا يقع على الأب. (¬2) الاستيعاب ص 255. (¬3) تاريخ دمشق 6/ 489 (مصورة دار البشير، ترجمة زياد) وهو بنحوه في "الاستيعاب" ص 255. (¬4) الاستيعاب ص 255، وتاريخ دمشق 6/ 489. وعجز البيت الأخير في "الاستيعاب": وتَركي فيهمُ ثمرَ الفؤادِ. (¬5) بنحوه في "الاستيعاب" ص 255.

يا أبا الحسن، أنا -واللهِ- قذفتُه في رَجِم سميَّة بالطائف. قال: فما بالك لا تعترف به؟ فقال: أخشى دِرَّة هذا القاعد أن يفسد عليّ إهابي. يعني عمر] (¬1). واشترى زياد (¬2) أُمَّه سُميَّة بألف درهم فأَعتقَها كما فعل بأبيه. [قال البلاذري: ] ولما استولى عليٌّ - رضي الله عنه - على البصرة واستعمل عليها ابنَ عباس، استكتَبَ [ابنُ عباس] زيادًا، وأقام حتى توجَّه ابنُ عباس إلى مكة مُراغِمًا لعليّ، فولَّاه عليّ على فارس، وكان من أخصِّ أصحابه (¬3). [فلما قُتل أميرُ المؤمنين بعث معاويةُ المغيرةَ بن شعبة إلى زياد، فخدعه حتى صالح معاوية. وقد ذكرناه]. وقال الواقدي: كتبَ زياد لعتبة بن غَزْوان، ثم للمغيرة، ثم لأبي موسى، ثم لابن عامر. وهو أوَّلُ من ضربَ الدنانير والدراهم (¬4)، ونقشَ عليها اسم الله تعالى، ومَحَا عنها اسمَ الروم ونقوشَهم. وهو أوَّلُ من ابتدعَ تركَ السلام على القادم بحضرة السلطان؛ قَدِمَ ابنُ عباس على معاوية وهو بدمشق وعنده زياد، فلم يسلِّم عليه ولا كلَّمه، فقال له: يا زياد، ما منعكَ من السلام عليَّ؟ قال: لا نُسلِّمُ على قادم بين يدي أمير المؤمنين. قال ابن عباس: ومن سنَّ ترك التحية عند أمرائهم؟ لقد ابتدَعتَ وخالفْتَ السنَّةَ، قد كان بعضُنا يسلِّم على بعض بحضرة أبي بكر وعثمان وعمر، وإنما هذه بدعة ابتدعتُموها أنتم. فقال معاوية لزياد: دَع عنك ابنَ عباس، فإنه لا يُجارَى ولا يمارَى (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) في النسخ الثلاث: زيادًا (؟ ) وأثبتُّ اللفظة على الجادّة. ولم أقف على هذا القول. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 214 بتحوه. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "المنتظم" 5/ 361 عن سفيان بن عُيينة. وذكر ابن سعد في "الطبقات" 7/ 226 عن أبي الزناد أن أول من ضرب الدنانير والدراهم عبد الملك بن مروان. وسيذكره المصنف في سنة (75). (¬5) الخبر بنحوه في "العقد الفريد" 1/ 16 - 17. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 227 - 228.

وزياد أوَّل من جُمع له العِراقان (¬1)، وخُراسان، وسِجِسْتان، والبحرين، وعُمان، وإنما كانت البحرين وعُمان إلى ولاة الحجاز. وهو أوَّلُ مَنْ عرَّف العُرفاء، ورتَّبَ النُّقباء (¬2)، ومشى الأعوان بين يديه (¬3)، ووضعَ الكراسي (¬4)، وربَّع الأرباع بالكوفة والبصرة، وخمَّس الأخماس (¬5)، وبلغ المُقاتِلة بالبصرة ثمانين ألفًا، وبالكوفة ستين ألفًا، وبالذِّرِّيَّةِ في العطاء مئة وعشرين ألفًا. وكان في مجلسه مكتوب: الشدَّةُ من غير عُنْف (¬6)، واللِّينُ من غيرِ ضعف، والمحسنُ يُجازَى بإحسانه، والمسيءُ يُعاقَب على إساءته. [وقال الشعبيّ: ] وهو أول من قرأ [بالكوفة] بالمُعَوِّذَتَين (¬7). [وقال العُتبيّ: ] وقال زياد لحاجبه (¬8): إنما يكون إذْنُك للناس عليَّ على قَدرِ البيوتات، ثم على قَدر الأسنان، ثم على قَدر الآداب. قال: فمن أجعلُ أخيرًا؟ قال: هؤلاء الذين لا يعبأُ الله بهم. قال: ومَنْ هُم؟ قال: الذين يلبسون كسوةَ الشتاء في الصيف، وكسوةَ الصيفِ في الشتاء (¬9). وقال لحاجبه: قد ولَّيتُك حِجابتي وعزلتُك عن أربع؛ هذا المنادي [إلى الله] للصلاح (¬10) والفلاح؛ لا سلطان لكَ عليه، وطارقُ الليل لا تَحجُبْهُ، فَشَرٌّ (¬11) ما جاء ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): العراقين، والمثبت من (م). ويعني بالعراقين: البصرة والكوفة. وفي "العقد الفريد" 1/ 8: أول من جمع له العراق. (¬2) في "العقد الفريد" 5/ 8: "ودعا النقباء". وبعدها: ونكب المناكب. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 228. (¬3) في "العقد القريد": ومُشيَ بين يديه بالعَمَد. (¬4) بعدها في "العقد الفريد": وعمل المقصورة، ولبس الزيادي. (¬5) في "العقد الفريد": وربَّع الأرباع بالكوفة، وخمَّس الأخماس بالبصرة، وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 244 - 245. (¬6) في (ب) و (خ): الشدة من اللين عنف. والمثبت من (م). والكلام في "العقد الفريد" 5/ 7 عن العيني. (¬7) أنساب الأشراف 4/ 262. والخبر فيه عن أبي بكر بن عياش عمن صلَّى مع زياد. (¬8) واسمه عَجْلان، كما في المصدرين الآتيين. (¬9) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 244 - 245، والعقد الفريد 1/ 67. (¬10) في (م): للصلاة. والروايتان في "العقد الفريد" 1/ 71، و 5/ 12، وما سلف بين حاصرتين فمن (م)، وهي في "العقد" أيضًا. (¬11) في (ب) و (خ) و (م): فشرًّا، والمثبت من "العقد الفريد" 1/ 71.

به، ولو كان خيرًا ما طرق في تلك الساعة، ورسول الثُّغور؛ فإنه إنْ أبطأَ ساعةً فسدَ عملُ (¬1) سنة، وصاحب الطعام؛ فإنه متى أُعيد تسخينُه فَسَدَ. وقال زياد: كفى بالبخل عارًا أنَّ اسمَه لم يقع في مَنح قطّ، وكفى بالجُود مَجْدًا أنَّ اسمه لم يقع في ذمٍّ قطّ (¬2). [وقال الأصمعيّ: ] ونظر [زياد] إلى رجلٍ من ضَبَّةَ يأكلُ أكلًا شنيعًا، وكان قبيحَ المنظر، فقال له: يا أخا (¬3) ضئة، كم عيالُك؟ قال: سبع بنات؛ أنا أجملُهنَّ، وهنَّ آكلُ منِّي. فضحك زياد وقال: لله دَرُّه، ما ألطفَ سؤاله! افرِضُوا لكلِّ واحدةٍ من بناته مئة وخادمًا، وعجِّلُوا له ولهنَّ أرزاقهنَّ. فخرجَ الصبيُّ وهو يقول: إذا كنتَ مرتاد (¬4) السماحة والنَّدَى ... فبادِر زيادًا أو أخًا لزيادَ ترى امرَأ (¬5) يعطي على الحمدِ ماله ... إذا ضَنَّ بالمعروفِ كل جَوادِ وما ليَ لا أُثْنِي عليه وإنَّما ... طَرِيفيَ من معروفه وتِلادي [وقال الأصمعي: ] وكان زياد يُقعدُ شُرَيح القاضي إلى جانبه ويقول له: إن حكمتُ بغير الحقّ فلا تُمكِّنِّي، وإنْ حكمتُ بشيء وغيرُه أقربُ إلى الحقّ منه فأعلمني (¬6). فكان زياد يحكمُ ولا يردّ عليه شُريح شيئًا (¬7). وسأل عبدُ الملك بنُ مروان عبَّادَ بنَ زياد، فقال: أين سِيرةُ الحجَّاج من سِيرةِ زياد؟ فقال له عبَّاد: زياد قَدِمَ العراقَ [وهي جمرة تشتعل، فسلَّ أحقادَهم، وداوى أدواءَهم، ¬

_ (¬1) في "العقد الفريد": أفسدَ عملَ. (¬2) العقد الفريد 1/ 231. (¬3) في (ب) و (خ): يا أبا، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "العقد الفريد" 1/ 271. (¬4) تحرفت في (خ) إلى: منادي، وفي (ب) إلى: من ناد. والمثبت من (م). والخبر مع الشعر في "العقد الفريد" 1/ 271، و"تاريخ دمشق" 6/ 497. (¬5) كذا في (ب) و (خ) ولا يتَّزن به البيت. وفي "أنساب الأشراف" 4/ 243، و"العقد الفريد" 1/ 271، و"تاريخ دمشق" 6/ 497: يُجِبْك امرؤ. (¬6) في (ب) و (م): فأعلمنيه. (¬7) الخبر في "أنساب الأشراف" 1/ 260 - 261 عن محمد بن سيرين، وهو في "العقد الفريد" 5/ 15 دون نسبة. وليس فيهما قوله: إن حكمت بغير الحق فلا تمكنّي.

وضبط أهلَ العراق] بأهلِ العراق، والحجاجُ قَدِمَها فكسرَ خَراجَها، وأفسدَ قلوبَ أهلِها، وأباد فُضلاءها، وإنَّما ضبط العراقَ بأهل الشام، ولو رامَ الحجَّاجُ منهم ما رام زياد؛ لم يَفْجأكَ إلا وهو على قَعُودٍ يرجف به (¬1). وعرض زيادٌ لرجل من الشيعة، فكتبَ إليه الحسنُ بنُ علي عليهما السلام: من الحَسَنِ بنِ علي إلى زياد، أمَّا بعد؛ فارفَع يدَك عن فلان. فغضب زياد حيث لم ينسبه إلى أبي سفيان، وكونِه قَدَّمَ اسمَه على اسم زياد، فكتب إليه: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن، أمَّا بعد، فإنك كتبتَ إليَّ في فاسق (¬2)، وايمُ الله، لأطلُبَنَّه [ولو] بين جلدك ولحمك، وإنَّ أحبَّ لحمٍ إليَّ آكُلُهُ لحمٌ أنتَ منه. فقال الحسن - عليه السلام -: لعن الله ابنَ سُمَيَّة. وبعث بكتابه إلى معاوية وقال له: أنت جرّأتَ ابنَ سُمَيَّة الدّعيّ على الناس. فكتب معاوية إلى زياد: أما بعد، فإنَّ لك رأيين: أحدُهما من أبي سفيان، والثاني من سُمَيَّة، فالذي من أبي سفيان حَزْمٌ وحِلْم وعزم، والذي من سُميَّة فكما (¬3) يكون رأي مثلها، تكتبُ إلى الحسن مثلَ هذا الكتاب ولا تَنْسِبُه لا إلى أبيه ولا إلى أمِّه! لا أمَّ لك، أمَّا هو ابنُ فاطمةَ بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! قد حَجَزْناك عن أشياعه، لا سبيل لك عليهم بعد اليوم، والسلام (¬4). وسأل مُرَّةُ (¬5) -صاحبُ نهر مُرَّة- عبدَ الرحمن بنَ أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنهما - أن يكتبَ له كتابًا إلى زياد، فكتبَ له: من عبد الرحمن بن أبي بكر إلى زياد. ولم يَنْسُبْه إلى أبي سفيان، فقال له مُرَّةُ: إنْ ذهبتُ إليه [بهذا الكتاب] ضربَ عنقي. ¬

_ (¬1) في (ب): يزحف به. وفي "العقد الفريد" 5/ 8: يوجف به، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) بعدها في (ب): ولا توبة لفاسق، وفي "العقد الفريد" 5/ 11: لا يأويه إلا الفساق. (¬3) كذا في "العقد الفريد" 5/ 11. وفي "تاريخ دمشق" 6/ 503: فما. (¬4) الخبر بنحوه في "أنساب الأشراف"2/ 394 - 395، و"العقد الفريد" 5/ 11، و"تاريخ دمشق" 6/ 502 - 503 (ترجمة زياد). (¬5) هو مرَّة بن أبي عثمان مولى عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه -. ذكره ياقوت في "معجم البلدان" 5/ 323 وذكر الخبر، وهو في "طبقات" ابن سعد 9/ 99، و"تاريخ دمشق" 6/ 490، (مصورة دار البشير، ترجمة زياد).

فأتَى عائشةَ - رضي الله عنه -، فكتَبَتْ له: من عائشةَ أمِّ المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان، فقال: اِقْرَاهُ على الناس. فقرأه، وقَضَى حوائجَه ووصلَه (¬1). وقال [العتبي عن] عجلان حاجبِ (¬2) زياد: حصلَ لي في يوم واحد من زياد عشرون ألف دينار (¬3) وألف سيف. [قيل: كيف ذلك؟ ]، قال: أعطى زيادٌ ألفَ رجل؛ كلَّ واحد مئتي دينار وسيفًا، فأعطاني كلُّ واحد منهم عشرةَ دنانير، وسيفَه. وقال زياد: ما هُجِيتُ (¬4) بشعر أشدَّ عليَّ من قول القائل: فكِّرْ ففي ناك إنْ فكَّرتَ مُعتَبرٌ ... هلْ نِلْتَ مَكْرُمةً إلا بتأمِيرِ عاشَتْ سُمَيَّةُ ما عاشَتْ وما عَلِمَتْ ... أنَّ ابنَها من قريش في الجماهير (¬5) أضْحَى زيادٌ مَلِيكًا بعد مهنتِهِ ... لا يدفعُ الخلقُ محتومَ المقاديرِ (¬6) وكتب زيادٌ إلى معاوية: إنَّ عبد الله بن عباس (¬7) يُفسدُ عليَّ الناسَ، فإنْ أَذِنْتَ في تَوَعَّدتُه. فكتبَ إليه معاوية: إنَّ أبا الفضل وأبا سفيان كانا في الجاهلية في مِسْلاخ (¬8) واحد، وذلك حِلْف لا يُفسدُه سوءُ رأيك. وكان زياد لا يُداعب أحدًا في مجلسه ولا يضحك، فاختصم إليه بنو راسب وبنو الطّفاوة في غلام، وأقام كلُّ واحد بيِّنة، فتوقَّف زياد في الحكم بينهم، فقال له حارثة بن بدر الغُدَاني: أَلْقِهِ في دِجْلة، فإنْ رسبَ، فهو لبني راسب، وإنْ طَفا فهو لبني ¬

_ (¬1) من قوله: وسأل عبد الملك بن مروان ص 295 إلى هذا الوضع، لم يرد في (م). (¬2) تحرفت في الأصل (خ) إلى: صاحب. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬3) في (خ): ألف دينار. دون لفظة "عشرون". والمثبت من (ب) و (م). ويلاحظ أن الأرقام في هذه النسخ غير متوافقة. والخبر في "العقد الفريد" 5/ 13 بأرقام أخرى لكنها متوافقة، وفيه: صار في في يوم واحد مئة ألف دينار ... وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 243 وما سيرد بين حاصرتين من (م). (¬4) في (خ): ما عجبت، والمثبت من (ب). وهذا الخبر ليس في (م). (¬5) في النسختين (ب) و (ح) (والكلام ليس في م): في قريش من الجماهير، والمثبت من "العقد الفريد" 5/ 5. (¬6) رواية البيت في "العقد الفريد" 5/ 6: سبحان مَنْ مُلْكُ عبّاد بقدرته ... لا يدفع الناسُ أسبابَ المقادير (¬7) في النسختين (ب) و (خ): سفيان، وهو خطأ، وجاء فوقها في (ب): كذا. (¬8) في النسختين (ب) و (خ): سلاح، وهو تحريف، والمثبت من "العقد الفريد" 5/ 11. والمِسْلاخ: الإهاب.

طُفاوة. فغضب زياد (¬1) وقال: ما الذي جرَّأك على الدُّعابة في مجلسي، فقال: نادرة حضرَتْ، فخفتُ أن تَفُوتَني، فقال: لا تَعُد لمثلها. وكان زياد يعظِّم قَدرَ حارثة الغُدَاني. [وقال الأصمعي: ] وكان [حارثة] مُولعًا بشرب الخمر؛ دخلَ يومًا على زياد وفي وجهه أثر، فقال: ما هذا؟ فقال: ركبتُ الأشقر، فَجَمَحَ بي. فقال: أما إنك لو ركبتَ الأشْهبَ ما عرضَ لك. فحارثةُ كنى عن النبيذ، وزياد كنى عن اللبن (¬2). [وقال العُتبيّ: وكان حارثة شريفًا شاعرًا، فقيل لزياد: ليس هذا من شاكلتك، إنه مسور يشرب الخمر (¬3)، ولا يَحْسُن بك أن تصحبه. فقال: كيف لا أصحبُ رجلًا ما سألتُه قطّ عن شيء إلا وجدتُ عنده علمًا منه، ولا مضى أمامي فاضطرني أن أُنادِيَه، ولا مشى (¬4) خلفي فاضطرني أن ألتفت إليه، ولا ركب معي فمسَّتْ ركبتُه ركبتي. فلما وليَ عُبيد الله بن زياد البصرة بعد أبيه؛ اطَّرحَ حارثةَ وجفاه، فقال له حارثة: يا عُبيد الله، ما لك لا تُنزلُني المنزلة التي كان أبوك يُنزلُني إياها؟ ! فقال: إن أبي كان قد برع في الفضل بحيث أن لا يضرّه صحبة مثلك، وأنا حَدَث أخافُ أن تحرقني بنارك، فدع الشراب وكن أوَّلَ داخل عليّ وآخرَ خارج، فقال: أنا ما تركتُه لله، أتركُه لأجلك! قال: فاختر بلَدًا أو سُقْعًا أُولّيك إياه. فاختار سُقعًا من العراق يقال له: سُرَّق، فولّاه إيّاه، وسنذكره في سنة ست وتسعين. وقد رثى حارثة زيادًا] (¬5). وكان زياد قد ضبطَ الأمور، فكان يقول: لو ضاعَ حَبْلٌ بيني وبين خُراسان لعرفتُ من أخَذَه (¬6). ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 230، وفيه: فضحك زياد، وبنحوه أيضًا في "العقد الفريد" 3/ 60، وفيه: فتبسم زياد. وهو الأشبه بسياق الكلام. (¬2) العقد الفريد 2/ 462. (¬3) كذا في (م) والكلام منها (وهو الواقع بين حاصرتين). وفي "العقد الفريد" 3/ 59: إنه يُعاقر الشراب. (¬4) في (م): يمشي. والمثبت من "العقد الفريد" 3/ 59. (¬5) ما بين حاصرتين من (م). وهو في "العقد الفريد" 3/ 59 - 60. (¬6) العقد الفريد 5/ 7، وفيه: عرفتُ من آخذُ به، وورد معنى هذا الكلام في "أنساب الأشراف" 4/ 223 في خطبة زياد في مسجد الكوفة في مستهلّ ولايته عليها.

و [قال العتبي] ملك العراقيين خمس سنين؛ لم يُغلَق لأحد من رعيَّته باب، وكان يقول: من أغلق بابَه ليلًا أو نهارًا قتلتُه (¬1). ونبش أقوامٌ قبرًا فدفَنَهم وهم بالحياة (¬2). و[قال البلاذُري: ] قدم [زياد] البصرة وبها سبع مئة ماخور، فهدمها (¬3). وكانت بينه وبين أقوام أضغان، فاستوحشوا منه، فصَعِدَ المنبر وقال: قد كان بيني وبين أقوام منكم هَنات، وقد جعلتُها تحت قدمي، ألا وإنَّ القُدرة تُذهب الحفيظة، واللهِ لا هتَكْتُ سترًا، ولا كَشَفْتُ قِناعًا حتى يُبديَ في أحدٌ صفحتَه (¬4). وكان بينه وبين الحسن شنآن (¬5)، فولَّاه سِجِسْتان. و[قال المدائني: ] أسلم زياد في كُتَّاب بالطائف وهو ابن خمس سنين عند جُبير بن حيَّة الثقفي [وكنيته أبو فرتنا] فحفظ له ذلك، فقدمَ عليه، فولَّاه أصبهان (¬6). و[قال العتبي: ] كان [زياد] يقول: لا يستكملُ المروءةَ مَنْ يُحْوِجُ (¬7) أهلَه إلى غيره. وقدم زياد على معاوية، فقال له: ما بلغَ من سياستك لرعيتك؟ فقال: أقمتُهم بعد جَنَف، وكففتُهم عما يُعرف (¬8)، فأذْعَنَ المعانِدُ رغبةً، وخضعَ الأَصْيَدُ (¬9) الغَشوم رَهْبةً. قال: فبأيّ شيءٍ صيَّرتَهم إلى ذلك؟ قال: بالمُرهفات القَواضب (¬10)، يُمضِيها العزم ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 221، وفيه: نادى مناديه: برئت الذمة من رجل أغلق بابه، ومن ذهب له شيء فأنا له ضامن. ففتح الناس أبوابهم لا يخافون سَرَقًا. (¬2) بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 222. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 227. والماخور: بيت الريبة، ومجمع أهل الفسق والفساد. والكلام السالف بين حاصرتين من (م). (¬4) بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 220. (¬5) المثبت من (م)، ولم تجوَّد الكلمتان في (ب) و (خ). (¬6) أنساب الأشراف 4/ 219. (¬7) في (خ) و (م): يخرج، والمثبت من (ب)، ففي "أنساب الأشراف" 4/ 229: من احتاجَ. (¬8) في "أنساب الأشراف" 4/ 229: عما لا يعرف. (¬9) الأصيد: هو الرافع رأسَه تكبُّرًا. ينظر "القاموس". (¬10) المُرهفات، يعني السيوف المرقَّقَة؛ رهفَ السيفَ: رقَّقَه. والقواضب، أي: القواطع. ينظر "القاموس".

يتبعُه الحزم (¬1). فقال معاوية: لكني ضبطتُ رعيَّتي بالحِلْم، وتَودّدتُ إلى ذوي الضّغَن بالبَذْل، وأسلمتُ (¬2) العامَّة بأداء الحقوق، فسَلِمَتْ في الصدور، وانْقادَتْ صِعاب الأمور خاضعة. وقال زياد: اثنان يتعجَّلان النَّصَب، ولعلهما لا يظفران بِبُغْية: الحريصُ بحرصه، ومعلّم البليد ما لا يبلغُه فهمُه (¬3). وقال زياد: ما كذبتُ إلا مرَّة واحدة؛ لقيتُ رجلًا فقلت له: إلى أين؟ فقال: إلى عبد الرحمن بن زياد (¬4). فقلت له: ارجع وإلا قطعتُ منك عضوًا. فقال: أرجع. ثم لقيتُه بعد ذلك [فقلت: إلى أين؟ ]، فقال: إلى عبد الرحمن بن زياد. فقلت له: أما قلت لك كذا وكذا؟ فقال: لا صَبْرَ لي عنه، فافعل ما تشاء. فقلت: إن رجلًا طابَتْ نفسُه بقطع عضوٍ منه محبةً لعبد الرحمن؛ لأهل أن لا يُؤْذَى. ثم قلت له: امضِ إليه (¬5). وكتبَ زياد إلى عمَّاله: أمِيطُوا الحدودَ عن ذَوي المروءات. وكتبَ إلى عاملِ له: اشترِ بعضَ دِينكَ ببعض، وإلا ذهبَ كلُّه. وكتبَ على قصة قوم شَكَوْا عاملَهم: مَنْ أَمالهُ الباطلُ قَوَّمَهُ الحقُّ. وكتبَ في قومٍ نَقَبُوا بيتًا: تُنْقَبُ ظُهورُهم. وكتبَ في قصَّة مُتَظَلِّم: الحقُّ يَسَعُك. وفي قصة جارح: الجُروح قِصاص. وكتبَ في قصَّة مُتَظَلِّم: كُفِيتَ. وكتبَ إليه رجل يشكو ولدَه، فكتب [إليه]: ربَّما كان عقوقُ الولدِ من سوء تأديب (¬6) الوالد. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 4/ 229: يُمضيها الحزم يتبعه العزم، ووقع في (خ): يتبعها. (¬2) "أنساب الأشراف": واستملتُ. وهو الأشبه. (¬3) المصدر السابق. (¬4) بعدها في "أنساب الأشراف" 4/ 230: وكان الرجل يشاربُ عبد الرحمن النبيذ. (¬5) أنساب الأشراف 4/ 229 - 230. ولم يرد هذا الخبر في (م). (¬6) في (ب) و (خ): تدبير. والمثبت من (م)، وهو موافق لما في "العقد الفريد" 4/ 217 وتنظر الأقوال السابقة وأقوال أخرى لزياد فيه.

و [قال أبو اليقظان: ] كان معاوية قد جمع لزياد العراقيين سنة خمسين، وكان يَشْتُو بالبصرة، ويَصِيفُ بالكوفة، فيُقيم في كل مصرٍ ستةَ أشهر، فإذا خرج عن الكوفة (¬1) استنابَ عَمرو بنَ حُريث، وإذا خرجَ عن البصرة (¬2) استخلفَ سَمُرَةَ بنَ جُنْدُب، فيسفك الدماء (¬3). وسنذكره إن شاء الله تعالى (¬4). ولقي رجلٌ زيادًا فقال: أيُّها الأمير، إن أبينا (¬5) مات، وإنَّ أخونا (¬6) تعدَّى على ميراثنا فأخذَه، فقال زياد: لا رَحِمَ اللهُ أباك، ولا حَفِظَ أخاك، ولا أَحسَنَ الخلافةَ عليك، ولقد ضَيَّعتَ من نفسك أكثرَ مما ضاع من مالِك. ومرَّ زياد في موكبه برجل أعمى من بني مخزوم، فقال: مَنْ هذا؟ فقالوا: يا أبا العُريان -وكان يتكنَّى به- هذا زياد بنُ أبي سفيان. فقال: ما ولدُ أبي سفيان غيرُ فلان وفلان، ولرُبَّ بيت هدَمَه الله (¬7)، وعبدٍ رُدَّ إلى مواليه. وبلغ معاويةَ، فكتبَ إلى زياد: اقْطع لسان أبا العُريان (¬8). فبعث إليه زياد بألف دينار، وقال للرسول: قُلْ له: ابنُ أخيك يُسلَّمُ عليك ويقول لك: استنفق من هذه حتى يأتيَكَ مثلُها. فأخذها، ثم مرَّ عليه زياد، فوقف، فسلَّم فقال: مَنْ هذا؟ فقالوا: زياد. فبكى وقال: واللهِ واللهِ إني لأعرِفُ حَزْمَ أبي سفيان في منطقه ونُبْلِه. ¬

_ (¬1) في (م): البصرة، وهو خطأ. (¬2) في (م): الكوفة، وهو خطأ. (¬3) "طبقات" ابن سعد 9/ 98 - 99، و"أنساب الأشراف" 4/ 235، و 271. (¬4) في (م): وسنذكر سمرة بن جندب في سنة ثمان وخمسين. (¬5) كذا في النسختين (ب) و (خ)، و"أنساب الأشراف" 4/ 243، وتاريخ دمشق 6/ 500 (مصورة دار البشير، ترجمة زياد) وهو من لفظ الرجل اللاحن. ولم يرد الخبر في (م). (¬6) كذا في (ب) و (خ)، وفي "أنساب الأشراف" و"تاريخ دمشق": أخينا، وكلاهما لحن. من أصل الخبر. (¬7) في "أنساب الأشراف" 4/ 245: لربَّ أمر قد نقضه الله، وبيت قد هدمه الله. (¬8) كذا في (ب) و (خ) والجادة: أبي العريان. ولم يرد الخبر في (م). وفي "أنساب الأشراف": اقطع لسان أعمى بني مخزوم.

وقال [البلاذُري عن] عجلان حاجب (¬1) زياد: دخل زياد يومًا من صلاة الظهر، وفي المجلس هرَّة تُراصِدُ شيئًا، فأردتُ طَرْدَها، فنهاني. ثم خرج، فصلَّى العصر وعاد وهي على حالها، فجعلَ يُلاحظها، فلما كادت الشمسُ أن تغربَ؛ خرج جُرَذٌ، فوثبت عليه، فأخَذَتْه، فقال زياد: مَنْ طلبَ حاجة فلْيصبر صبرَ هذه الهِرَّة، فإنه يظفر بحاجته (¬2). وكان الجَمُوح بنُ عمرو الفَهْميّ قد شهد صِفين مع أمير المؤمنين رضوان الله عليه، وكان حليفًا لأبي سفيان، فلما انقضت صِفِّين أمَّنَه معاوية، وكتب إلى زياد ينهاه عنه، فقال له زياد: تولَّ بيتَ المال. فامتنَعَ، فقال له: أَتَابَى عَلَيَّ وقد سفكتَ الدَّماء مع عليّ بن أبي طالب؟ فقال له: [يا] زياد، إليَّ تقولُ هذا؟ فواللهِ لقد كنتَ منتفيًا من الأبِ الذي انتسبتَ إليه، و [منسوبًا إلى الأب الذي] انتفيتَ منه، وأنت تسفكُ الدِّماء معه، تَجْبي الخَراج [إليه]، وأنت يومئذ خيرٌ منك اليوم. فضربه زياد مئة سَوْط، وحَلَقَ رأسَه ولحيتَه. وبلغ معاويةَ، فكتبَ إليه: واللهِ يا ابْنَ سُميَّة، لقد هممتُ أن أبعثَ إليك مَنْ يفعلُ بك مثلَ ما فعلتَ به. فأطلقَه، ثم قدمَ على معاوية، فاعتذرَ إليه، ووصله وأعطاه مِخْصَرَة (¬3). وكتب [زياد] إلى معاوية: أشكو إلى الله ما ألقاه من سفهاء قريش. فكتبَ إليه معاوية: أصبر، فإنَّ حُلَماءها صبروا عليك حتى وضعوك بالموضع الذي أنتَ به اليوم (¬4). وكان زياد يقول: ليس العاقل الذي يحتال للأمر إذا وقع فيه، وإنما العاقل من يحتالُ للأمر قبل أن يقع فيه (¬5). ¬

_ (¬1) تحرفت في (خ) إلى: صاحب. (¬2) أنساب الأشراف 4/ 265. (¬3) الخبر بنحوه أطول منه في "أنساب الأشراف" 4/ 304 - 305. وما سلف بين حاصرتين منه. ولم يرد هذا الخبر في (م). (¬4) "أنساب الأشراف" 4/ 305. وما بين حاصرتين منه. (¬5) "العقد الفريد" 2/ 242، وتاريخ دمشق 6/ 498 (مصورة دار البشير، ترجمة زياد).

ذكر وفاته: [حكى الواقدي عن أشياخه قالوا: ] كتب زياد إلى معاوية: إني قد ضبطتُ العراق بشمالي، ويميني فارغة. يعني فولِّني الحجاز أشغل يميني به، فكتبَ بعهده على الحجاز، وبعثَ به مع الهيثم بن الأسود النَّخَعي رسولِ زياد، وبلغ أهلَ الحجاز، فاجتمعَ منهم نفرٌ إلى عبد الله بن عُمر رضوان الله عليهما، وأخبروه، فقال: ارفعوا أيديَكم. فرفعوها، فقال: اللهم اكْفِنَا يمين زياد. فطُعن بها في الحال. وقال البَلاذُري: أرسل زياد إلى بني عَبس أن يسبُّوا عليًّا، وأن يتبرؤوا منه، فحكى النضر العبسي عن أبيه (¬1)، عن عمه [قال]: فأغفيتُ إغفاءةً؛ فإذا برجل أسود، فراعني، فقلت: مَنْ أنتَ؟ فقال: أنا النقَّاد ذو الرقَبَة، أُرسلت إلى هذا الشاتم صاحب الرَّحَبَة. فاستيقظتُ، وإذا برسول زياد يقول: انصرفوا اليوم، فإنَّ الأمير عليل. فعرضَتْ له الأكَلَة، فمات بعد ثلاثة أيام، فقلتُ: ما كان مُنْتَهِيًا عمَّا أرادَ بنا ... حتى أُتيحَ له النَّقَّادُ ذُو الرَّقَبَهْ فجلَّلَ الرأسَ منه ضربةً عَجِلًا ... لَمَّا تناولَ بغيًا صاحبَ الرَّحَبَهْ وقال عبد الرحمن بن السائب الأنصاري (¬2): جمعَ زياد أهل الكوفة، فملأ بهم المسجد والرَّحَبَة والقصر ليعرضَهم على البراءة من أمير المؤمنين. [قال عبد الرحمن: ] فإني لمع نفر من أصحابي (¬3) من الأنصار والناس في أمرٍ عظيمٍ؛ إذ هَوَّمْتُ تهويمةً، فرأيت شيئًا طويل العُنُق؛ مثل عُنُق البعير؛ أهْدَبَ أهْدَلَ (¬4)، فقلت: ما أنتَ (¬5)؟ فقال: أنا النَّقَّاد ذو الرقبة، بُعثتُ إلى صاحب هذا القصر. قال: ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 4/ 306: القاسم بن النفر العبسي عن أبيه. (¬2) في (م): "وقد ذكر ابن أبي الدنيا بمعناه عن أبيه، عن هشام بن محمد بإسناده عن عبد الرحمن بن السائب الأنصاري قال ... " والخبر عند ابن عساكر في "تاريخه" 6/ 505 (مصورة دار البشير) من طريق ابن أبي الدنيا بالإسناد الذكور. (¬3) في (خ): بقية من أصحابه. (¬4) الأهدب: كثير شعر أشفار العينين، والأهدل: مسترخي المِشْفر (أي: الشفة) ينظر "القاموس". (¬5) في الأصل (خ): من أنت، والمثبت من (ب)، وهو كذلك في "تاريخ دمشق" 6/ 505. (مصورة دار البشير)، و"المنتظم" 5/ 263.

فاستيقظتُ فَزِعًا، فقلت لأصحابي: هل رأيتُم ما رأيت؟ قالوا: لا، فأخبرتُهم، فبينما نحن كذلك؛ إذْ خَرجَ خارجٌ من القصر، فقال: إنَّ الأمير يقول لكم: انصرفوا عنّي، فإنِّي اليوم عنكم لَمشغول. وأصابه الطاعون، فمات. وقال القاسم بن سليمان (¬1): وقع طاعون بالكوفة، فبدَا زياد، فخرج من الكوفة، فلما ارتفعَ الطاعون؛ رجعَ، فطُعن في أصبعه. قال القاسم: فأرسلَ إليَّ فأتيتُه، فقال: أتجدُ ما أجدُ من الحرّ؟ قلت: لا. قال: فإني أجدُ في قلبي مثل جمر النار. واجتمع إليه مئة وخمسون طبيبًا، منهم ثلاثةٌ من أطباء كسرى، فسُئلوا عنه، فقالوا: مُروه بالوصيَّة. [وقال عمر بن شَبَّة: ] وأشاروا عليه بقطع أصبعه، فاستشارَ شُرَيحًا القاضيَ في ذلك، فقال له: أخشى أن يكون الألَمُ في قلبك، والوَجَعُ في يدك، وأن يكون الأجل قد دنا، فتَلْقَى الله أجْذَمَ وقد قطعتَ يدَك كراهيةَ لقائه، أو أن يكونَ في الأجل تأخير، فتعيشَ أجْذَمَ، فتُعَيَّرَ به أنتَ وولدُك من بعدك. فتَرَكَها. وخرج شُريح من عنده، فسألوه، فأخبرهم بما، أشار به، فلاموه وقالوا: هلا أشرتَ عليه بقطعها؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المستشار مؤتمن" (¬2). [وفي رواية: أن زيادًا أرسل إلى شُريح يستشيرُه في قطع يده، فقال له: لا تفعل، إنك إن عشتَ؛ عشتَ أجذم، كان هلكت؛ كنتَ جانيًا على نفسك] فقال زياد: أنامُ أنا والطاعون في لحاف واحد! وعزمَ على أن يقطعَ أصبعه، فلما نظرَ إلى النار والمكاوي جزع، فترك ذلك (¬3). و[قال المدائني: ] ما كان زياد يقطعُ أمرًا دون شُريح، فقال له: ما تقول في قطع أصبعي؟ فقال له: سَلِ الأطباء. فسأل دينار مولى بكر بن وائل (¬4)، فقال له: أينَ تجدُ الألم؟ قال: في قلبي. قال: عِشْ سَويًّا، ومُتْ سَويًّا، ولا تُمَثِّلْ بنفسك. ¬

_ (¬1) في (م): وقال ابن أبي الدنيا بإسناده عن القاسم بن سليمان ... (¬2) تاريخ الطبري 5/ 289، والمنتظم 5/ 261 - 262. (¬3) المصدر السابق، وما بين حاصرتين من (م). (¬4) بعدها في (م): وكان طبيب حاذق. (كذا).

[وقال أبو بكر بن عيَّاش: الذي أشار عليه أن لا يقطعها أبو جُهيم (¬1) بن مالك الأسدي. وقال المدائني: ] وخرجَ شُريح من عند زياد، فسأله مسروق بن الأجدع، والمسيَّب بن نَجَبة، وسُليمان بن صُرَد، وعُروة بن المغيرة، وخالد بن عُرفُطة، وأبو بُردَة بن أبي موسى، فقالوا: كيف تركتَ الأمير؟ قال: يأمرُ وينهى. ومعناه: يأمر بالوصية والكَفَن، وينهى عن النَّوْح والبكاء (¬2). وقال الشعبي لما احتُضر زياد؛ جعلوا يُمَنُّونه الأمانيّ، فقال: وكيف وأبو المغيرة على الطريق؟ ! قال الشعبي: كان بالكوفة رجلٌ زاهد عابد، وَرعٌ مشغولٌ بنفسه؛ يقال له: أبو المغيرة الحميري؛ استدعاه زياد، فإذا سَمتٌ وهيبَة، فقال في نفسه، لو مال هذا لَمال معه أهلُ العصر، فقال له: الزَم بيتَك، لا تخرجْ منه. فقال: واللهِ لَصلاةٌ واحدةٌ في جماعة أَحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، ولزيارةُ أخٍ في الله [وعيادة مريض] أَحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها. قال: فاخْرُجْ فصَلِّ، وعُدِ المريض، وزُرْ إخوتك، والزم شأْنَك. قال: وإذا رأيتُ منكرًا؛ لا أُغيِّرُه؟ ! قال: لا. قال: واللهِ لَمقامٌ واحدٌ في ذلك أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها. قال: فإنه السيف. قال: فالسيف. فقدَّمَه، فضربَ عُنُقَه. فكان يقال لزياد: أَبْشر، فيقول: كيف أُبْشِرُ وأبو المغيرة على الطريق (¬3)؟ ! قال الواقدي: مات زياد في شهر رمضان بقصر الإمارة بالكوفة، ولم يَمُت فيه من الأمراء غيرُه وغيرُ المغيرة بن شعبة، وذلك في سنة ثلاث وخمسين [من غير خلاف، يعني في هذه السنة]. وأوصى أن يُدفن بالثَّوِيَّة إلى جانب أبي موسى (¬4). فدُفن إلى جانبه، وقبرُه عند دكَّان عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عند منقطع البيوت بالكوفة. ¬

_ (¬1) في (م): أبو جهين، والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 307. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬2) أنساب الأشراف 4/ 307 - 308. (¬3) بنحوه في "تاريخ دمشق" 6/ 507 (مصورة دار البشير)، والمنتظم 5/ 263، وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬4) في (ب) و (خ): أبي سفيان، وهو خطأ، والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 311.

وقال ابن أبي الزناد (¬1): لما حضرت زياد الوفاة قال له ابنه: يا أَبَه، قد هيأتُ لك ستين ثوبًا [أُكفِّنُك فيها]. فقال: يا بنيّ، قد دنا من أبيك لباسٌ خيرٌ من لباسه هذا، أو أُسلبُ سريعًا (¬2). فماتَ بالثَّويَّة إلى جانب الكوفة وقد توجَّه يريدُ الحجاز واليًا عليها (¬3). ولما وُضع زياد لِيُصَلَّى عليه؛ تقدَّمَ ابنُه عُبيد الله، فأخذَ مِهْران بمنكبه وقال: وراءَك. وقال له شُريح: الأمير غيرُك. وقذَما عبدَ الله بنَ خالد بن أَسِيد، فصلَّى عليه. وحقدها عُبيد الله على مِهْران، فلما تولَّى ضربَه (¬4). [ولما بلغ ابنَ عمرَ موتُه قال: ذهبَ ابنُ سُمية (¬5)، فلا الدنيا بقيت له، ولا الآخرةَ أدرك]. ذكر ميراثه، وسنِّهِ، ومدَّةِ ولايته، وقول العلماء فيه، وغير ذلك: [قال الهيثم: ] لم يترك سوى ألفِ دينار، وقميصين، وإزارين، ولم يخفف عقارًا، ولا دارًا، وكان يقول: ما دامَ مُلْكُنا قائمًا فالدُّنيا لنا، وإنْ زال عنَّا فالذي يَجْزِينا من الدنيا أقلُّها (¬6). ¬

_ (¬1) في (م): "وحكى الطبري عن عمر بن شبة، عن الأصمعي، عن ابن أبي الزناد قال". والخبر في "تاريخ" الطبري 5/ 289 - 290. وفيه: عن ابن أبي زياد. وهو في "تاريخ دمشق" 6/ 506. من طريق آخر عن الأصمعي، عن ابن أبي الزناد. (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 290: أو سلب سريع، وفي "المنتظم" 5/ 262: وسلب سريع، وينظر أيضًا "تاريخ دمشق" 6/ 506 (مخطوط دار البشير). (¬3) بنحوه في "تاريخ دمشق" 6/ 506 (مصورة دار البشير) و"المنتظم" 5/ 262. وفي "تاريخ" الطبري 5/ 290: وقد توجّه يزيد إلى الحجاز، وهو خطأ. (¬4) في "أنساب الأشراف" 4/ 309: ووجد عُبيد الله على مهران، فأضرّ به حين ولي. (¬5) في "تاريخ الطبري" 5/ 289، و"المنتظم" 5/ 262: اذْهب إليك ابنَ سمية. وفي "أنساب الأشراف" 4/ 233: يا ابن سمية ... مع الإشارة إلى أن هذا الكلام الذي بين حاصرتين من (م). (¬6) أنساب الأشراف 4/ 313.

وأمَّا سنُّه؛ فقد قال ابن سعد وغيره: إنه وُلدَ عامَ الفتح. فإنْ كان كذلك؛ فقد كان له خمس وخمسون سنة، وقيل: ستّ وخمسون سنة. وإن كان قد وُلد سنة إحدى من الهجرة كما حكى الطبري؛ فله ثلاث وستون سنة، وقيل: خمس وستون (¬1). وكان على خاتمه صورةُ طاووس. وأما مدَّة ولايته؛ فقال أبو عبد الله الحاكم: وليَ زياد العراق سنة ثمان وأربعين، ومات سنة ثلاث وخمسين، فكانت ولايته خمس سنين، وكذا حكى الطبري: خمس سنين (¬2). وقال أبو القاسم ابن عساكر عن الأصمعي قال (¬3): أقام زياد على العراق تسع سنين؛ ما بنى دارًا، ولا وضعَ لَبِنَة على لَبِنَة، وما غرسَ شجرة، وما كَذَبَ قطّ. وسُرَّ (¬4) أهلُ العراق والعلماءُ والزُّهَّادُ بموته، وقالوا: مات طاغيةُ العراق، وأعظمُ إنكارهم عليه كونُه ينال من أمير المؤمنين؛ مع زُهْده، وعفافه، وقناعته، وشهامته، وحُسنِ سياستِه. ولما بلغَ معاويةَ موتُه قال (¬5): وأَفْرَدْتُ سهمًا في الكِنانةِ واحدًا ... سَيرمَى [به] أَوْ يَكْسِرُ السهمَ كاسِرُهْ وذُكر زيادٌ عند عمرَ بنِ عبدِ العزيز: فقال: سَعَى لأهل العراق سعيَ الأم البَرَّة، وجمعَ لهم جَمعَ الذَّرَّة (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 99، وتاريخ الطبري 2/ 402 و 5/ 288، وتاريخ دمشق 6/ 507 - 508 (مصورة دار البشير). (¬2) من قوله: وأما سنُّه ... إلى هذا الموضع، أثبتُّه من (م)، فقد وقع في النسختين (ب) و (خ) مختصرًا. (¬3) تاريخ دمشق 6/ 494 (مصورة دار البشير). (¬4) في (م): وبُشّر. (¬5) في (م): وقال ابن عساكر: ولما بلغ معاوية موته ... ولم أقف عليه في "تاريخ دمشق" وهو في "أنساب الأشراف" 4/ 311. (¬6) العقد الفريد 5/ 7.

وقال الشعبيّ: تشبَّه زياد بعمرَ بنِ الخطَّاب، فأفرط (¬1)، وتشئه الحجَّاج بزياد، فأهلكَ الناسَ. وقال الأصمعي: يقال: إن الدُّهاةَ أربعة: معاوية للرَّويّة، وعَمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بنُ شعبة للمُعضِلَة (¬2)، وزياد لكلّ كبيرة وصغيرة. [وقال ابن سعد: ] روى زياد عن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، ورُويت عنه أحاديث (¬3). وقال ابنُ عساكر: روى عنه ابنُ سيرين (¬4)، وقَبِيصَة بن جابر، وعبد الملك بن عُمير، والشَّعبيّ، وأبو عثمان (¬5) النَّهدي، وغيرهم. ذكر أولاده [وما رُثِيَ به]: [قال علماء السِّيَر: ] كان له أربعون ولدًا ذكورًا وإناثًا: فالذُّكور: عبد الرحمن، والمغيرة، ومحمد، وأبو سفيان؛ أُمُّهم مُعاذة من بني عقيل. وعبد الله، وعُبيد الله، وأمُّ عبد الله؛ أُمُّهم مَرْجانة. وسَلْم، وعثمان، وقتادة، والربيع، وأبو عُبيدة، ويزيد، وعَنْبَسة، وعمرو، والغُصن، وعُتْبة، وأبان، وجعفر، وإبراهيم، وعبَّاد، وسعيد (¬6). وكان زياد قد بعثَ إلى سعيد بن العاص بمال كثير وطِيب، وخطبَ ابنتَه، ففرَّقَه سعيد على جلسائه، ولم يُبق منه شيئًا، ثم كتبَ في أسفل كتاب زياد: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} فقال له الرسول لما فرَّق المال والهدايا: إنها كثيرة! فقال سعيد: أنا أكثرُ منها (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): فأفرطه، والمثبت من (م)، وهو كذلك في "العقد الفريد" 5/ 7. (¬2) في (ب) و (خ): الرويَّة ... البديهة ... المعضلة، والمثبت من "العقد الفريد" 5/ 7 ولم يرد الخبر في (م). (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 99. وما بين حاصرتين من (م). (¬4) في النسخ (ب) و (خ) و (م): روى عن ابن عمر وابنِ سيرين ... وهو خطأ، والمثبت من ابن عساكر 6/ 482 (مصورة دار البشير). وينظر "السير" 3/ 494. (¬5) في النسخ: وأبي عثمان (تبعًا للسياق المذكور آنفًا) والمثبت من "تاريخ دمشق". (¬6) المعارف ص 346 - 347، وأنساب الأشراف 4/ 410 - 411، وليس فيهما ذكر قتادة من أولاد زياد. (¬7) تاريخ دمشق 7/ 266 - 267 (ترجمة سعيد بن العاص)، وفيه: الله أكبر منهم.

فأما عبد الرحمن بن زياد؛ فكُنيتُه أبو خالد؛ ولَّاه معاويةُ خُراسان، وله عَقِب بالبصرة. وأما المغيرة ومحمد، فلا عَقِبَ لهما. وأما أبو سفيان، لما وقع الطاعون الجارف بالبصرة هرب منه إلى البادية، فمات بها، وله عقب بالبصرة (¬1). وأما عُبيد الله، فكنيتُه أبو حفص، وكان أبوه قلاد قد زوَّج أمَّه مَرجانةَ من شيرويه الأَساوري، ودفعَ إليه عُبيدَ الله، فنشأ بالأَساورة (¬2)، وكانت فيه لُكْنَةٌ، ولَّاه معاويةُ خُراسان، ثم وليَ بعد أبيه العراق [ثماني سنين] خمسٌ منها على البصرة، وثلاثٌ على الكوفة (¬3)، وهو قاتلُ الحسين - عليه السلام -، وكان أبغضَ الناسِ إلى يزيدَ بنِ معاوية، فلما قَتَلَ الحسينَ؛ أحبَّه وقرَّبَه. ولما مات يزيد، هربَ من البصرة إلى الشام، فأقامَ مع مروان، ثم جاء إلى الشام الجزيرة لقتال إبراهيم بن الأَشتر، فقتله إبراهيم بالزَّاب في يوم عاشوراء؛ اليومِ الذي قَتلَ فيه الحسينَ - عليه السلام - سنة سبع وستين، وسنذكره هناك، ولم يعقِب (¬4). وأما سَلْم بنُ زياد، فكنيتُه أبو حرب، وكان أجودَ بني زياد. ولَّاه يزيدُ بنُ معاوية خُراسان، وقال له: إنَّ أباك كفى أخاه عظيمًا، وقد استكفيتُك، فاكفِنِي صغيرًا، ولا تَتَّكِلَنَّ على عُذرٍ مني، فقد اتَّكلتُ على كفاية منك. وإياك منِّي أن أقول لك: إياك مني (¬5)، فإنَّ الظنَّ إذا أخلفَ مني فيك؛ أخلف منك فيَّ، وأنت في أدنى حظك، فاطْلُبْ أقصاه، وقد أتعبَك أبوك، فلا تُرِيحَنَّ نفسك. ¬

_ (¬1) المعارف ص 347، وأنساب الأشراف ص 411 - 412. (¬2) في (ب) و (خ): فنشأت الأساورة. والمثبت من "المعارف" ص 347. والأساورة: قوم من المعجم نزلوا البصرة، كالأحامرة بالكوفة. ينظر "الصحاح" (حمر- سور). (¬3) في "المعارف" ص 347: ولي العراقيين بعد أبيه ثماني سنين؛ خمسًا منها على البصرة وحدها، وثلاثًا على العراقيين. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) المعارف ص 347، وأنساب الأشراف 4/ 414. (¬5) في "تاريخ دمشق" 7/ 521 (مصورة دار البشير، ترجمة سلم): وإياك مني قبل أن أقول: إياي منك.

فلم يزل سَلْم على خُراسان حتى مات يزيدُ بنُ معاوية، فقَدِمَ البصرة، ثم قَدِمَ مكة وبها عبدُ الله بنُ الزبير، فحبَسه، وأغرمَه أربعةَ آلافِ ألفِ درهم، ثم لحق بعبد الملك بنِ مروان، فولاه خُراسان، فقدم البصرة، فمات بها (¬1)، وله عَقِب. وفيه يقول ابنُ عَرَادة: عَتِبْتُ على سَلْمٍ فلما هجرتُهُ ... وصاحَبْتُ أقوامًا بَكَيتُ على سَلْمِ (¬2) وأمَّا عبَّاد بن زياد؛ فكنيتُه أبو حَرْب أيضًا، وولاه معاويةُ سِجِسْتان تسع سنين، وله عَقِب بالشام والبصرة، وكان يُسابق بالخيل، وفيه يقول ابنُ مُفَرِّغ (¬3): سبقَ عبَّادٌ وصَلَّتْ لحيتُهْ (¬4) ومات بِجَرُود من أرض الشام سنة مئة (¬5). وأما الرَّبيع بنُ زياد؛ فكان أعرج، وله عقب بالبصرة. وأما أبو عُبيدة بن زباد؛ فولاه أخوه سَلْم كابُل، فأسَرَتْه التُّرك، ففداه سَلْم بسبع مئة ألف درهم [وله عقب]. وأما يزيد بنُ زياد؛ فولَّاه أخوه سَلْم سِجِسْتان، فقتلَتْه الترك، ولا عَقِبَ له. وأما عَنْبَسَة بن زياد؛ فمات في الطاعون الجارف بطريق مكة، ولا عقب له. وأمَّا عُتْبَة؛ فله عقب بالبصرة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وسياق الكلام في "أنساب الأشراف" 4/ 412. فلحق بعبد الملك بن مروان، فكتب إليه عهده على خراسان، فقدم البصرة، فمات بها. (¬2) تاريخ دمشق 7/ 522 (مخطوط دار البشير). (¬3) في النسختين (ب) و (م): أبو مفرغ، وهو خطأ. (¬4) وبعده: وكان خرَّازًا تَجُورُ فَرْيَتُهْ، كما في "الشعر والشعراء" 1/ 360، وتمثل بالرَّجَز عبدُ الملك بنُ مروان حين أجرى الخيلَ وسبق عبَّادٌ، كما في "تاريخ دمشق" ص 60 (طبعة مجمع دمشق ترجمة عباد- جزء بدون رقم) وفيه: تجودُ قِرْبَتُهْ. وقوله: صَلَّتْ أي: تَلَتْ، من قولهم: صلَّى الفرس، أي: كان الثاني في السباق. وينظر "المعارف" ص 348. (¬5) جَرُود من إقليم معلُولا من أعمال غوطة دمشق. معجم البلدان 2/ 130.

وأمَّا محمد بن زياد؛ فزوَّجه معاويةُ ابنتَه (¬1). وأمَّا بناتُ زياد؛ فالمشهوراتُ منهن: أمّ عبد الله، وأمُّ معا وية، وأمُّ حَبِيب، ورَمْلَة، ورَيْطة، وصخرة، وأُمُّ أبان، وجُوَيرية؛ لأمَّهات شَتَّى (¬2). واستخلفَ زياد على الكوفة عبدَ الله بنَ خالد بن أَسِيد، فأقرَّه معاوية، وأقرَّ سَمُرَةَ بنَ جُنْدُب على البصرة ستةَ أشهر، وقيل: أربعة (¬3)، ثم عزله. وكان فاتكًا سفَّاكًا؛ قال: لعنَ اللهُ معاويةَ؛ لو أطعتُ الله كما أطعتُه؛ ما عذَّبَني أبدًا (¬4). وقال حارثة بنُ بدر الغُدَاني يرثي زيادَ بنَ أبيه: أبا المغيرةِ والدُّنيا مُغَيَّرةٌ ... وإنَّ مَنْ غَرَّتِ (¬5) الدُّنيا لَمغرورُ قد كان عندَك للمعروف معرفةٌ ... وكان عندَك للتنكير تنكيرُ لو خَلَّدَ الخيرُ والإسلامُ ذا قَدَم ... إذًا لخلَّدكَ الإسلامُ والخيرُ وقال مسكين الدارمي: رأيتُ زيادةَ الإسلام وَلَّتْ ... جِهارًا حين وَدَّعَنا زيادُ فقال الفرزدق لمسكين: أَمِسْكينُ أبكى اللهُ عينَك إنَّما ... جرى في ضلالٍ (¬6) دَفعُها فَتَحدَّرا بَكَيتَ امرَأً من أهلِ مَيْسانَ فاجرًا ... ككسرى على عِدَّانِه (¬7) أو كقَيصَرا ¬

_ (¬1) واسمها صفية، ولا عقب لمحمد بن زياد، وينظر ما سلف في "المعارف" ص 347 - 348، و"أنساب الأشراف" 4/ 411 - 412. (¬2) أنساب الأشراف 4/ 411 - 412، وليس فيه ذكر أم عبد الله. (¬3) في "أنساب الأشراف" 2/ 266: ثمانية عشر سْهرًا. (¬4) المصدر السابق. (¬5) في (ب): وإنما ... (كلمة غير مقروءة)، والأبيات في "أنساب الأشراف" 4/ 312 - 313، و"العقد الفريد" 3/ 241، و 3/ 297، و"تاريخ دمشق" 6/ 508 (مخطوط دار البشير). (¬6) في (خ): ظلال، وهو خطأ، والشعر في "أنساب الأشراف" 4/ 313، وهو في "ديوان" الفرزدق ص 201. (¬7) عِدَّانُ الشيء: زمانه وعهده، أو أوله وأفضله. ينظر "القاموس" (عدّ).

فضالة بن عبيد

فَضَالة بن عُبيد ابن نافذ (¬1) بن قيس، أبو محمد الأنصاري، من الطبقة الثانية [من الأنصار] من الأوس، وأمُّه عَفْرة بنتُ محمد بن عُقبة. وهو الذي بشَّر الأنصار بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[إلى المدينة] وهو ابن ستّ سنين. وكان شاعرًا (¬2)، وهو أحدُ الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحتَ الشجرة، وشهدَ أُحُدًا، والخندقَ، والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم نزل الشام (¬3). وكان له شرفٌ، وولَّاه عمر بن الخطاب رضوان الله عليه (¬4). قال الوليد بنُ مسلم: لما احتُضر أبو الدرداء؛ قال له معاوية: مَنْ تَرَى لهذا الأمر؟ قال: فَضالة. فلما مات أبو الدرداء قال له معاوية: قد ولَّيتُك القضاء. قال: اعفِنِي. فقال معاوية: والله ما حابَيتُك، ولكن استَتَرتُ بك من النار، فاسْتَتر منها ما استطعتَ (¬5). وكان معاويةُ إذا غاب عن دمشق استخلفَ فَضالة عليها في صِفِّين وغيرها. واستعملَه على الصوائف غير مرة. وقال الليث بن سعد: وفي سنة إحدى وخمسين شَتا فَضالة بأرض الروم. وقال ابن سعد عن الواقدي: كان فضالة قاضيًا بالشام، ونزل دمشق، وبنى بها دارًا. ذكر وفاته: حكى ابن عساكر عن ابن معين قال: مات فَضَالة في دمشق سنة ثلاث وخمسين. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): ناقد، والمثبت من (م)، وهو كذلك في "طبقات" ابن سعد 4/ 307. (¬2) لم تذكر كتب التراجم أن فضالة كان شاعرًا، وقد وهم المصنف (أو المختصر)، وإنما الشاعر أبوه عُبيد بن نافذ. وينظر "طبقات" ابن سعد 4/ 307. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 308، و 9/ 405. (¬4) تاريخ دمشق 17/ 49 (مخطوط دار البشير، ترجمة معن بن حميد بن فضالة) وفيه بعدها: وولاه عثمان القضاء بالشام. (¬5) تاريخ دمشق 58/ 52 (طبعة مجمع دمشق، ترجمة فضالة).

فيروز الديلمي

قال: وقال سعيد بن عبد العزيز (¬1): فحمل معاوية بن أبي سفيان سريرَه، وقال لابنه عبد الله: اعقُبْنِي، فلن تحملَ مثلَه بعدَه. ودُفن بالباب الصغير، وله عقب بدمشق. [ويقال: إنه مات بعد معاوية، وهو وهم (¬2). وقال ابن يونس: ] وشهد فَضالة فَتْح مصر، ووَليَ البحرَ بها. وكان له من الولد حُميد، ومحمد، وعبد الله، وعُبيد الله، وعَمرو (¬3)، وأمُّ جميل، وعائشة. أسند فَضالة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديثَ (¬4). فَيرُوز الدَّيلَمِيّ كنيتُه أبو عبد الله (¬5)، وفَدَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو الذي قتلَ الأسودَ العَنْسيّ. وفيروز من أبناء اليمن (¬6)، ووفد على معاوية، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من الطبقة الرابعة من أبناء فارس الذين سكنوا اليمن (¬7). وقيل: هو ابن أخت النجاشي، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاح لما قتل الأسودَ، فقال: "قتلَه الرجل الصالح فيروز" (¬8). ¬

_ (¬1) من قوله: وقال الليث بن سعد إلى هذا الموضع، أثبتُّه من النسخة (م)، وهو في النسختين (ب) و (خ) مختصر جدًّا، ولم يرد فيهما قول ابن سعد. وينظر "طبقات" ابن سعد 4/ 308، و"تاريخ دمشق" 58/ 55 (طبعة مجمع دمشق، ترجمة فضالة). (¬2) تاريخ دمشق 58/ 47، والمنتظم 6/ 99 وذكره خليفة في "تاريخه" ص 226 في وفيات سنة (59)، وذكر ابن عبد البر الأقوال في "الاستيعاب" ص 599 وصحح أنه مات سنة (53). (¬3) في النسختين (ب) و (خ): عمر، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 4/ 307، و"تاريخ دمشق" 58/ 44. والكلام ليس في (م). (¬4) أخرج له مسلم حديثين (968) و (1591). وينظر "مسند" أحمد (23934) إلى (23969). (¬5) ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو الضحّاك. ينظر "تاريخ دمشق" 58/ 128 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) يعني من أبناء فارس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن مع سيف بن ذي يزن، فنفَوْا الحبشة عن اليمن وغلبوا عليها. ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 317 و 8/ 93. (¬7) المصدر السابق. (¬8) تاريخ دمشق 58/ 201 و 211 (طبعة مجمع دمشق، ترجمة فيروز).

وردان مولى عمرو بن العاص

وكان معاوية قد ولَّى اليمنَ أخاه عُتبةَ بن أبي سفيان، وأقام بها ثلاث سنين [ثم ارتفع إلى معاوية، واستخلف فيروز الدَّيلَمي، فمكث فيروز على صنعاء ومَخالِيفها ثمان سنين] ثم مات في سنة ثلاث وخمسين (¬1). ولما وفد على معاوية بالمدينة لم يدخل على عائشة رضوان الله عليها، فلما عاد من الشام استأذنَ عليها، فقالتْ له: يا ابنَ الدَّيلميّ، ما منعكَ أنْ تمرَّ بي؟ أَرَهْبَةً من معاوية؟ ! لولا أني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يدخلُ الكذَّابُ وقاتلُه مَدخلًا واحدا" ما أَذِنتُ لك (¬2). وَرْدَان مولى عمرو بن العاص كنيته أبو عبد الله (¬3)، وقيل: أبو عثمان، من سَبْيِ أصبهان. شهد فتح مصر (¬4)، وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل مصر (¬5)، وبه سمِّيَ سوقُ وَردَان بالفُسطاط. وقيل: إنه من روم أَرْمينيا، وقيل: من روم طرابلس الغرب (¬6). وقال أبو سعيد بن يونس: نزلت الروم البُرُلُّس، وكان وَرْدَان مرابطًا بها، فخرج إليهم ومعه عائذ بن ثعلبة البَلَويّ، فالتَقَوْا على البُرُلُّس، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقُتل وَرْدان وعائذ شهيدين؛ وذلك في سنة ثلاث وخمسين (¬7). روى وَرْدَان عن مولاه [عمرو بن العاص]، وكان صاحبَ رأي، وكان عمرو لا يصنعُ شيئًا إلا برأيه ومشورته، فلما ماتَ عمرو - رضي الله عنه - ولَّاه معاويه خَراجَ مصر. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 58/ 218 (وما سلف بين حاصرتين منه). قوله: مخاليفها، هو جمع مِخْلاف، وهو الكُورة (المدينة والصِّقع). ينظر "القاموس". (¬2) تاريخ دمشق 58/ 200 (طبعة مجمع دمشق). ولم ترد هذه الترجمة في (م). (¬3) كذا في (ب) و (خ): أبو عبد الله، وفي "تاريخ دمشق" 17/ 749 (مصورة دار البشير، ترجمة وردان): أبو عبيد، وفي "طبقات" ابن سعد 9/ 517: أبو عُبيد الله. (¬4) بعدها في "تاريخ دمشق" 17/ 749 (مصورة دار البشير): وقدم دمشق أيام معاوية، وكانت له بها دار. (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 517. (¬6) ويقال أيضًا: من روم دمشق. تاريخ دمشق 17/ 750 (مصورة دار البشير). (¬7) المصدر السابق 17/ 752 وبُرُلُّس: قرية بسواحل مصر. وتحرفت لفظتا: يونس، والبُرلُّس في (ب) و (خ) إلى: برنس، ولم يرد الخبر في (م).

السنة الرابعة والخمسون

السنة الرابعة والخمسون فيها عَزَلَ معاويةُ سعيدَ بنَ العاص عن المدينة، واستعملَ عليها مروانَ بنَ الحَكَم، ولم يزل معاوية يَهُمُّ بعزل سعيد لَمَّا كتب به إليه مووان بنُ الحَكَم على شأن دَفْنِ الحسنِ بن عليّ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعاوية يَعِدُ مروانَ بعزله وتوليته على المدينة، وأقام سعيد واليًا ومعاويةُ يستحي منه أن يعزلَه، وسعيد يعلمُ بذلك، ومروان يكتبُ إلى معاوية (¬1)، فكان سعيد يلقَى مروانَ ممازحًا له، فيقول له: ما جاءك بعدُ فيما قِبَلنا شيء؟ فيقول مروان: أتظن أني أطلبُ عملَك؟ فلما كان في سنة أربع وخمسين جاءت ولايةُ مروان وعزلُ (¬2) سعيد [فلقي سعيدٌ] مروانَ وقال له: قد كان وعدَك حين (¬3) توفّي الحسنُ بنُ علي أن يُولِّيَك ويعزلَني، فأقمتُ كما ترى هذه المدة، فقال له مروان: اقْصُر، فقد رأينا منك يوم مات الحسن أمورًا، فَظَننَّا أنَّ صَفْوَك مع القوم. فقال سعيد: لَلْقَومُ أشدُّ لي [تهمةً] وأسوأُ فيَّ رأيًا منهم فيك (¬4). وكان معاوية يُغْرِي بين سعيد بن العاص ومروان، ولا يحبُّ أن يكون ما بينهما صالحًا، فكتب إلى سعيد وهو عاملُه على المدينة أنِ اهْدِم دارَ مروان. فلم يهدمها، وكتبَ إليه ثانيًا وثالثًا، وكتب إليه يأمُره بقبض أموالِ مروان كلِّها، ويجعلها صافيةً، ويقبض فَدَك منه، وكان وهبَها له، فكتب سعيد إلى معاوية: يا أمير المؤمنين، له قرابة قريبة. واستعطفَه لمروان، فجاء جواب معاوية بمثل الكتاب الأول، وأغلظَ لسعيد، فأخذَ الكتابين، فوضعهما عند جارية له. فكتب معاوية إلى مروان بولاية المدينة، وهدمِ دار سعيد، وقبضِ أمواله. فركبَ مروان ومعه الفَعَلَةُ والمَساحي لهدمِ دار سعيد فقال: تهدم داري؟ ! فقال: هذا كتابُ ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 7/ 266 (مصورة دار البشير، ترجمة سعيد بن العاص): وسعيد يعلم بكتب مروان إلى معاوية. (¬2) في (خ): بعزل: والمثبت من (ب)، والكلام ليس في (م). (¬3) في (ب) و"تاريخ دمشق": حيث. (¬4) الخبر في "تاريخ دمشق" 7/ 265 - 266 مطوَّل، وما سلف بين حاصرتين منه.

أميرِ المؤمنين. فدعا سعيدٌ بالكتابين اللذين كتبهما إليه معاوية، فوقف عليهما مروان، فخجل وقال: أنتَ خيرٌ مني. فقال له سعيد: إنَّما أرادَ أن يُوقعَ بينَنا (¬1). فقال مروان: أنت -واللهِ يا أبا عثمان، فِداك أبي وأمّي- خَيرُنا وأكْرَمُنا وأَبَرُّنا وأَوْصَلُنا. ثم كفَّ عن هدمِ دارِه وقبضِ أموالِه. وكتب مروان إلى معاوية: كتبتَ إليَّ تأمرُني بعَقٍّ ... كما قبلي كتبتَ إلى سعيدِ فلمَّا أنْ عصاكَ أرَدْتَ حَمْلي ... على ملساءَ تزلقُ بالصعيدِ لأَقطع واصلًا وأخا حِفاظٍ ... فرأيُك ليس بالرأي السديدِ فخجلَ معاوية (¬2). وكتبَ سعيد إلى معاوية: العجبُ لِما صنعَ أميرُ المؤمنين بنا في قرابتنا أن يُضْغِنَ (¬3) بعضنا على بعض، وإيراثِ العداوة الأولادَ (¬4)، فَارْعَ لنا حَقَّ القَرابة، وقيامَنا بنصرة الإمام المظلوم. فكتب إليه معاوية يعتذر، وأنه قد رجَعَ عن ذلك. ثم قدم سعيد على معاوية، فأكرمه ووصَلَه وقال: كيف تركتَ مروان أبا عبد الملك، فقال: ضابطًا لعمله (¬5)، منفِّذًا لأمرك. فقال: إنه كصاحبِ الخُبْزَة؛ كُفِي نُضْجَها [فأكلها]. فقال سعيد: كلا، إنه لَمعَ قومٍ لا يُحمل بهم السَّوْط، ولا يَحِلُّ لهم السيف، يتهادَوْنَ كوَقْع النَّبْل (¬6)؛ سهمٌ لك وسهمٌ عليك. قال: فما الذي باعدَ بينك ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): يوقع مني بيننا (؟ ) والخبر ليس في (م). (¬2) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 293 - 295، و"تاريخ دمشق" 7/ 264 - 265 (مصورة دار البشير، ترجمة سعيد بن العاص). و"المنتظم" 5/ 266 - 267. (¬3) تحرفت في النسختين (ب) و (خ) إلى: يغضن. والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 294، ولم يرد الكلام في (م). (¬4) في "تاريخ الطبري": أن يضغن بعضنا على بعض ... وإدخاله القطيعة بيننا والشحناء وتوارث الأولاد ذلك. (¬5) تحرفت في النسختين (ب) و (خ) إلى: لعلمه. ووقع في "تاريخ" الطبري 5/ 295: لعملك. وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬6) في "البيان والتبيين" 2/ 84: يتهادَوْن فيما بينَهم كلامًا كوَقْع النَّبْل.

وبينه (¬1)؟ قال: خافَني على شرفه، وخفتُه على شرفي. قال: فماذا عندك فيه؟ فقال: أسُرُّه غائبًا، وأسوءه (¬2) شاهدًا. وفيها عزل معاويةُ سمرة (¬3) بنَ جُنْدُب عن البصرة، واستعملَ عليها عبدَ الله بنَ عَمرو بن غَيلان -ثَقَفيٌّ من جلال" (¬4) التابعين- فأقام ستة أشهر، ثم عزله، وولَّى عُبيدَ الله بنَ زياد، فكان عبدُ الله بنُ عمرو ظَبْيًا بين حَيّتَين؛ سمُرة، وابنِ زياد. وكان لما ماتَ زياد؛ وَفَدَ ابنُه عُبيد الله على معاوية، فقال له: مَنِ استخلَفَ على البصرة؟ قال: سمُرة بن جُندب. فقال له معاوية: لو استعملكَ أبوك لاستعملتُك. فقال: أنشدُك الله أن يقولَها لي أحدٌ بعدَك (¬5). وكان معاوية إذا أراد أن يولِّي رجلًا من بني حرب ولَّاه الطائف، فإذا رأى منه ما يُعجبُه ولَّاه مكَّة (¬6)، فإذا أحسن الولاية ولَّاه المدينة (¬7). فكان إذا ولَّى الطائفَ رجلًا قيل: هو في أبي جاد (¬8)، فإذا ولَّاه مكة قيل: هو في هوَّاز، فإذا لَّاه المدينة قيل: قد حَذَق. ولما قال له عُبيد الله بنُ زياد ما قال، قال: قد ولَّيتُك خُراسان. وأوصاه، فكان فيما أوصاه: لا تبيعنَّ كثيرًا بقليل (¬9)، وعليك بالوفاء ولو لعدوِّك، وافْتح بابك، وسهّل ¬

_ (¬1) في النسختين (ب) و (خ): وبينهم. والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 295. (¬2) في (ب) و (خ): وأسرُوه، وفي "تاريخ" الطبري 5/ 295: وأسرُّهُ. والمثبت من "البيان والتبيين" 2/ 84، و"العقد الفريد" 1/ 299، و"التذكرة الحمدونية" 2/ 44. (¬3) في النسختين (ب) و (خ): سهل، وهو خطأ. (¬4) لم أقف على هذا الجمع، إنما ذُكر في المعاجم: أجلَّة، وأجلَّاء وجلَّة. (¬5) في "تاريخ" الطبري 5/ 296: يقولها إليَّ أحد بعدك: لو ولَّاك أبوك وعمُّك لولَّيتُك. (¬6) في "تاريخ" الطبري: ولَّاه مكة معها. (¬7) في المصدر السابق: جمع له معهما المدينة. (¬8) كناية عن أول أمره في الإمارة، كما هو الحال في ابتداء التعلم بحروف الهجاء: أبجد هوَّز ... وأصل أبجد: أبو جاد، وأصل هوَّز: هوَّاز. (¬9) في النسختين (ب) و (خ): لا تتبعنّ كثيرًا بقلبك. والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 296، ولم يرد الخبر في (م).

حُجّابك، وعليك بمواساة أصحابك، واتَّقِ الله ولا تُؤْثِرَنَّ على تقواه شيئًا، ولا تُخرجنَّ أمرًا حتى تُبرِمَه، ولا تُطْمِعنَ أحدًا في غير حقَّه، ولا تُؤْيِسَنَّ أحدًا من حقّه. فسار عُبيد الله إلى خُراسان في آخر سنة ثلاث وخمسين وأولِ سنة أربعٍ وخمسين وهو ابنُ خمس وعشرين سنة، وقدَّم بين يديه إلى خُراسان أسلم بن زُرْعة الكلابي، وسار بين يديه من دمشق الجَعْدُ بنُ قيس (¬1) يذكر أراجيز يرثي بها زيادًا، منها: أَبْقِ عليَّ عاذلي من اللوْم ... فيما أُزِيلت نعمتي قَبل اليَوْم قد ذهبَ الكريمُ والظل الدَّوْمْ وأنشد أيضًا: يومُ الثلاثاء الذي كان مضى ... يومٌ قَضَى فيه المليكُ ما قَضَى كان زيادٌ جَبَلًا صَعْبَ الذُّرَى ... لا يُبْعِدُ (¬2) اللهُ زيادًا إذْ ثَوَى فبكى عُبيد الله حتى بَلَّ عِمامَتَه (¬3). ولما ورد عُبيدُ الله إلى خُراسان قطع النهر إلى جبال بُخارى، وفتحَ رامِين وبِيكَنْد (¬4). ولقيَ التُركَ بأرض بُخارى، ومع ملكهم امرأتُه فتح (¬5) خاتون، فالتَقَوْا، فهزمهم الله، فأعجلَ المسلمون امرأته عن لُبس خفَيها، فلبستْ إحداهما وبقيَ الآخر، فأصابه المسلمون، فقَوَّموا الجَوْرَب بمئتي ألف درهم. وأصابَ عُبيدُ الله من البُخاريَّة ألفَين، فقدم بهم البصرة، وكانوا رماةً بالنُّشَّاب حُذَّاقًا. وأقام ابنُ زياد بخُراسان سنتين. ¬

_ (¬1) في النسختين (ب) و (خ): الجدّ بن قيس، وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 297. (¬2) في الأصل (خ): لا أبعدَ. والمثبت من (ب)، وهو كذلك في "تاريخ" الطبري 5/ 297. (¬3) في "تاريخ" الطبري: حتى سقطت عمامته عن رأسه. (¬4) بعدها في "تاريخ الطبري": وهما من بُخَارى. (¬5) كذا في (ب)، وهي مهملة من النقط في (خ)، وفي "تاريخ" الطبري 5/ 298: قبج.

ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وحجَّ في هذه السنة بالناس مروان، [وكان] أميرًا على المدينة، وعلى الكوفة عبدُ الله بنُ خالد بن أَسِيد، وقيل: الضَّحَّاك بن قيس، وعلى البصرة عبدُ الله بنُ عَمرو بن غَيْلان، وعلى المشرق عبيد الله بن زياد [وكان معاوية قد ولَّاه ذلك] (¬1). وفيها توفي ثَوْبان مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكنيته أبو عبد الله، من أهل السَّرَاة، ويقال: إنه من حِمْيَر؛ أصابه سِباء، فاشتراه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتقه، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين، ولم يزل مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حتى قُبض - صلى الله عليه وسلم -، فتحوَّل إلى الشام، فنزل حمص، وله بها دار صدقة (¬2)، ومات بها سنة أربع وخمسين. وقيل: إنه سكنَ الرَّمْلة، ولم يُعْقب (¬3). أسند الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال قوم: روى مئة وعشرين حديثًا (¬4). روى عنه شدَّاد بنُ أوس الأنصاري من الصحابة، ومَعدان بن طلحة، وجُبَير بنُ نُفَير، وخالد بن مَعْدان، وغيرهم (¬5). أبو قتادة الأنصاري من الصحابة، واسمُه رِبعيّ (¬6) بن بلدمَة (¬7) بن خُناس بن سنان بن عُبيد بن عديّ بن غَنْم بن كعب بن سَلَمة، وأمُّه كَبْشة بنتُ عبَّاد (¬8) من بني سلمة. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 297 - 298. (¬2) في (ب) و (خ): وصدقة، والمثبت من (م) وهو كذلك في "طبقات" ابن سعد 5/ 98، و 9/ 404. (¬3) تاريخ دمشق 3/ 594 (مخطوط دار البشير، ترجمة ثوبان). (¬4) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 365، ونقل ابن الجوزي فيه أيضًا عن ابن البرقي قوله: روي عنه نحو من خمسين حديثًا. (¬5) تاريخ دمشق 3/ 593. (¬6) كذا وقع في النسختين (ب) و (خ)، وهو وهم، وإنما رِبْعي اسم أبيه كما سيرد. (¬7) في النسختين (ب) و (خ): بلدقة، والمثبت من المصادر. وينظر "طبقات" ابن سعد 4/ 378. (¬8) في "تهذيب الكمال" 34/ 194: كبشة بنت مطهَّر ... وقيل: كبشة بنت عبَّاد بن مطهَّر.

وقيل: اسمه النُّعمان بن رِبْعيّ، وقيل: الحارث بن رِبْعيّ، وقيل: عمرو بن رِبْعيّ (¬1). وهو من الطبقة الثانية من الأنصار، شهدَ أُحُدًا، والخندق، والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وكان يُصَفِّرُ لحيتَه، ويسمَّى فارسَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، كان يبعثُه في السَّرايا، وقَتَلَ مَسْعَدةَ الغِفاريَّ لما أغارَ على سَرْح المدينة (¬4). وأبو قتادة الذي قتل القتيل يوم حُنين، وقضى له أبو بكر - رضي الله عنه - بسَلَبِه، وقال: لا ها الله، لا يَعْمِدُ إلى أسَدٍ من أُسْدِ الله فيعطيك سَلَبَه (¬5). وبعثه عمر بنُ الخطاب، فقتلَ بعضَ ملوك فارس بيده وعليه مِنْطَقةٌ قيمتُها خمسةَ عشَر ألفَ درهم، فنفَّلَه عمرُ إيَّاها (¬6). وولَّى عليُّ بنُ أبي طالب كرم الله وجهه أبا قتادة مكةَ بعد عَزْلِ خالدِ بنِ العاص بن هشام عنها، ثم عزَلَه عنها وولَّاها قُثم بن العباس (¬7). ولما قدم معاوية المدينة لم يلقه أحد من الأنصار سوى أبو قتادة (¬8)، فقال له معاوية: لقيَني الناس كلُّهم إلا أنتم. فقال: لم يبق لنا معاشرَ الأنصار دوابّ. فقال معاوية: وأين نواضحُكم؟ فقال أبو قتادة: أَنْضَيْناها بها يوم بدر في طلب أبيك. فخجل معاوية (¬9). ¬

_ (¬1) قال المزي في "تهذيبه": المشهور: الحارث. وقال الذهبي في "السير"2/ 449: اسمه الحارث بن ربعي على الصحيح. ونقل ابن الجوزي في "التلقيح" ص 176 عن عبد الله بن أبي داود قوله: لا اختلاف بين المحدثين أن اسمه الحارث بن ربعي، وليس كذلك، إنما هو عمرو بن ربعي، هؤلاء ولده يقولون ذلك، وكذلك اسمه في الدواوين. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 378. (¬3) جاء هذا اللفظ في حديث سلمة بن الأكوع المطوَّل عند مسلم (1807)، وفيه أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة ... " (¬4) طبقات ابن سعد 4/ 379. (¬5) أخرجه البخاري (3142) و (4321)، ومسلم (1751). وفي لفظه أعلاه اختصار كبير. (¬6) طبقات ابن سعد 4/ 381. (¬7) تاريخ خليفة ص 201. (¬8) كذا في (ب) و (خ). والجادَّة: أي قتادة. والخبر ليس في (م). (¬9) ينظر "تاريخ" اليعقوبي 2/ 223.

حكيم بن حزام

وقد جاء مثلُ هذا عن قيس بن سعد. وتوفي أبو قتادة سنة أربع وخمسين وهو ابن سبعين سنةً -وقيل: اثنتين وسبعين سنة- بالمدينة، وقيل: بالكوفة، في خلافة عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، والأولُ أصحّ. فولدَ أبو قتادة عبدَ الله، وعبدَ الرحمن؛ أُمُّهما سُلافة بنت البراء بن معرور. وثابتًا، وعبدَ الله (¬1) وأمَّ البنين؛ أمُّهم أمُّ ولد. وأمَّ أَبان؛ أمُّها من الأَزْد. أسندَ أبو قتادة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال قوم: روى مئة وسبعين حديثًا (¬2)، وروى عن معاذ بن جبل وغيره، وروى عنه: جابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وأنس، وابنُه عبدُ الله بنُ أبي قتادة، وابنُ المسيِّب، وأبو سَلَمة بنُ عبد الرحمن، وعطاءُ بنُ يسار، في آخرين. ومن مسانيده - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صومُ يومِ عرَفةَ يكفِّر سنتَين؛ ماضية ومستقبلة، ويومُ عاشوراء يكفِّرُ سنةً ماضية" انفرد بإخراجه مسلم (¬3). حكيم بن حزام ابنِ خُوَيْلِد بن أَسَد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ، وكنيتُه أبو خالد الأَسَديّ، قرشيّ، وهو ابنُ أخي خديجةَ بنتِ خُويلد زوجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابنُ عمِّ الزُّبير بنِ العَوَّام. وهو من الطبقة الرابعة مِمَّن أسلمَ يومَ الفتح، وأمُّه أمُّ حكيم بنت زهير [بن الحارث بن أسد] بن عبد العزّى، واسمُها زينب، وقيل: فاختة، وأمُّها سلمى بنت عبد مناف بن عبد الدار بن قُصي (¬4). ¬

_ (¬1) في "طبقات" ابن سعد 4/ 378: وعُبيدًا. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 364. (¬3) صحيح مسلم (1162) بنحوه أطول منه. (¬4) ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 50، و"تاريخ دمشق" 5/ 246 و 248 (مصورة دار البشير) وما سلف بين حاصرتين منهما.

قال حكيم: وُلدتُ قبل عام الفيل بخمس عشرةَ -وقيل: بثلاث عشرة، وقيل: باثنتي عشرة- قال: وأنا أعقلُ حين أراد عبدُ المطَّلب أن يذبحَ ولدَه عبد الله، وذلك قبل مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين (¬1). ووُلد حكيم في الكعبة؛ كانت أمُّه تطوف بالبيت، فضربها المخاض، ففُتح لها بابُ الكعبة، وأُتِيَتْ بنِطْع، فولدَتْه عليه. وشهد حكيم مع أبيه الفِجار الأخير، وفي ذلك اليوم قُتل أبوه حِزام (¬2). قال جعفر بن محمود (¬3): بكى حكيم يومًا فقال له ابنُه: ما يُبكيك يا آية؟ قال: خِصال كلُّها أبكاني، أمَّا أوَّلُها فبُطءُ إسلامي حتى سُبقتُ في أماكنَ كلُّها صالحة، ونجوتُ يومَ بدرٍ ويومَ أُحُد، فقلتُ: لا أخرجُ من مكة أبدًا، ولا أُوضِعُ مع قريش ما بقيتُ. فأقمتُ بمكة، ويأبى اللهُ أن يشرحَ صدري للإسلام، وذلك لأني أنظرُ إلى بقايا من قريش لهم أسنانٌ متمسّكين بما هم عليه من أمر الجاهلية، فأقتدي بهم، ويا ليت أنِّي لم أقتدِ بهم، فما أهْلَكَنا إلا اقتداؤنا بآبائنا وكبرائنا. فلما غزا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكة جعلتُ أُفكِّر، وأتاني أبو سفيان بنُ حرب فقال: يا أبا خالد، إني لأخشى أنْ يأتيَنا محمد في جموع يثرب، فهل أنت تابعي على سَرِف (¬4) نستعلِمُ الخبر؟ قلت: نعم. فخرجنا نتحدَّث ونحن مشاة، حتى إذا كنَّا بمرّ الظَّهْران (¬5) [إذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدَّهْم من الناس، فـ] لقيَ العباسُ أبا سفيان، فذهب به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجعتُ أنا إلى مكَّة، فأغلقتُ بابي وقلت: لا أُخبرُ قريشًا بشيء من ذلك. فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمَّنَ (¬6) الناسَ؛ جئتُه فأسلمتُ. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 50، وتاريخ دمشق 5/ 250 (مصورة دار البشير). (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 50، وتاريخ دمشق 5/ 247 - 248 (مصورة دار البشير). (¬3) بعدها في "طبقات" ابن سعد 6/ 51، و"تاريخ دمشق" 5/ 453: عن أبيه وغيره قالوا. (¬4) سَرِف، موضع على ستة أميال من مكة. معجم البلدان 3/ 212. (¬5) مرّ الظهران: موضع على مرحلة من مكة. معجم البلدان 5/ 104. (¬6) في النسختين (ب) و (خ): أمن، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 51. وما سلف بين حاصرتين منه.

وخرجتُ معه إلى حُنين، فاعطى رجالًا من المغنم أموالًا، وسألتُه يومئذ فألْحَفْتُ في المسألة؛ سألتُه مئةً من الإبل، فأعطاني إياها، ثم سألتُه مئة فأعطاني إيَّاها، ثم قال: "يا حكيم، [إن] هذا المال خضرةٌ حُلوة، فمن أخذَه بسخاوة نفسٍ بُورك له فيه، ومن أخذَه بإشراف نفس لم يبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكلُ ولا يشبع، واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول". فقال حكيم: والذي بعثكَ بالحقّ، لا أرْزَأُ أحدًا بعدَك شيئًا حتى أفارقَ الدنيا. فكان أبو بكر - رضي الله عنه - يدعو حكيمًا إلى عطائه، فيأبى أن يأخذَه، وكذا عمر، فيقول عمر رضوان الله عليه: أيُّها الناس، أُشهدُكم على حكيم أنِّي أدعُوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذَه، فلم يَرْزَأ حكيم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[من] أحدٍ شيئًا حتى توفّي (¬1). وحكى الواقديُّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الفتح: "مَنْ دخَلَ دارَ أبي سفيان فهو آَمِنٌ، ومَنْ دَخَلَ دار بُديل بن ورقاء فهو آمِنٌ، ومَنْ دخلَ دار حكيم فهو آِمن" (¬2). قال الزُّبير: شهد حكيم يومَ حُنين مسلمًا، وكان إذا حلفَ يقول: لا والذي نجَّاني يومَ بدر، وكان قد هرب في يوم بدر، وكان حكيم في جملة النفر الذين حملوا عثمان - رضي الله عنه - وصلَّوْا عليه (¬3). وحجَّ حكيم ومعه مئة بَدَنَة قد جلَّلها الخزّ (¬4)، ووقفَ بعرفة ومعه مئة وصيف في أعناقهم الذهبُ والفضة، قد نقش عليها: عُتقاء الله (¬5) عن حكيم بن حزام. فأعتقَ الجميع، ونَحرَ البُدْن، وأهدى ألفَ شاة. وأعتقَ مئة رقبة في الجاهلية، وحملَ على مئة بعير. ¬

_ (¬1) الخبر بتمامه في "طبقات" ابن سعد 6/ 51 - 52، وما سلف بين حاصرتين منه، وهو بنحوه في "تاريخ دمشق" 5/ 254 - 255 والحديث السالف بنحوه عند أحمد (15574). (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 5/ 254 (مصورة دار البشير) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، مرسلًا. والذي في "صحيح مسلم" (1780) من حديث أبي هريرة مطولًا: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن". (¬3) تاريخ دمشق 5/ 259 (مصورة دار البشير). (¬4) في "تاريخ دمشق" 5/ 260 - 261: الحِبَرَة، وهي ثوب من قطن أو كتان، والخزّ بنحوها. (¬5) في "تاريخ دمشق": عتقاء لله.

قال حكيم: قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ أمورًا كنتُ أَتحنَّثُ بها في الجاهلية من عِتاقة وصِلَةِ رَحِم، هل في فيها من أجر؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسلمتَ على ما سلفَ لك من خير". فقلتُ: واللهِ لا أَدَعُ شيئًا صنعتُه في الجاهلية إلا فعلتُ مثلَه في الإسلام (¬1). كان حكيم سيِّدًا في الجاهلية والإسلام، جاء الإسلامُ وبيده دار النَّدوة، فباعها حكيم من معاوية بمئة ألف درهم، وقيل: بستين ألف دينار، فقال له عبد الله بن الزبير: بعتَ شرفَ قومِك ومَكْرُمَةَ قُريش. فقال: ذهبت المكارم إلا التقوى، وقد اشتريتُ بها دارًا في الجنَّة، اشهدوا أَنِّي جعلتُها في سبيل الله تعالى (¬2). وكان حكيم يقول: ما أصبحتُ يومًا وببابي طالب حاجة إلا علمتُ أنها من منن الله عليَّ. وما أصبحتُ يومًا وليس ببابي طالبُ حاجة إلا علمتُ أنها من المصائب التي أسألُ الله الأجرَ عليها (¬3). وتوفي بالمدينة، قيل: سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة ستين، وعاش مئة وعشرين سنة؛ ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، وكان لا يشربُ من الماء كلَّ يوم إلا شَربَة. ذكر أولاده - رضي الله عنه -: كان له من الولد خالدُ بنُ حكيم، وبه كان يُكنى، وعبدُ الله، ويحيى، وهشام، وأم شيبة؛ أمُّهم زينبُ بنتُ العوَّام بن خُويلد بن أَسَد (¬4). وخالدٌ أكبرُ ولد حكيم؛ رُويَ عنه الحديث، وكان من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وله صحبة ورواية. وكان لخالد من الولد عبدُ الله، وجُويرية (¬5). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 53، وتاريخ دمشق 5/ 258 (مصورة دار البشير). والحديث عند أحمد (15318)، والبخاري (1436)، ومسلم (123). (¬2) المعجم الكبير للطبراني (3072) و (3073)، وتاريخ دمشق 5/ 261 - 262. (¬3) تاريخ دمشق 5/ 264. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 50. (¬5) المصدر السابق 6/ 56 - 57. وله حديث في "مسند" أحمد (16819).

ذكر خالد بن حزام

وأما عبدُ الله بن حكيم فقُتل يومَ الجمل، وكان حاملَ اللواء (¬1)، وله عقب؛ عثمان، وأمُّ شيبة؛ أمُّهما سارة بنت الضحَّاك بن سفيان (¬2). أدرك ولدُ حكيم كلُّهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلموا يومَ الفتح. وهشام بن حكيم كان من فُضلاء الصحابة وخيارهم، ومِمَّن يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان عمر بنُ الخطاب إذا بلغه شيء يكرهُه يقول: أمَّا ما بقيتُ أنا وهشامُ بنُ حكيم؛ فلا يكونُ ذلك (¬3). وكان هشام في نفرٍ من أهل الشام يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ليس لأحدٍ عليهم إمارة، وكانوا يمشون في الأرض بالنصيحة والإصلاح، يحتسبون، وكان هشام كالسائح لم يتَّخذ أهلًا ولا ولدًا (¬4). قال عروة بن الزبير: إن هشام بن حكيم رأى ناسًا من أهل الذِّمَّة قيامًا في الشمس يُعَذَّبون، فقال: ما بالُ هؤلاء؟ قالوا: من أجل الجِزْية. فدخل على عُمير بن سعد وكان على طائفة من الشام، فقال هشام: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ عذَّبَ الناسَ في الدنيا عذَّبَه الله تعالى". فقال عُمير: خَلُّوا عنهم. انفرد بإخراجه مسلم (¬5). أسند حكيم [بن حزام] عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه ابنُ المسيِّب، وعُروة بن الزبير، وموسى بن طلحة، وصفوان بن مُحْرِز، ويوسف بن ماهك، وعِراك (¬6) بن مالك، والمطَّلب بن حنطب، ومحمد بن سِيرِين، وعطاء بن أبي رباح، في آخرين (¬7). ذكر خالد بن حِزام: وأمُّه أمُّ حكيم، وهو من الطبقة الثانية من المهاجرين. ¬

_ (¬1) كان صاحب لواء طلحة والزبير يوم الجمل. ينظر "الاستيعاب" ص 393. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 57 - 58. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 57. (¬4) مختصر تاريخ دمشق 27/ 84 - 85. (¬5) صحيح مسلم (2613): (118). (¬6) تحرف في النسختين (ب) و (خ) إلى: غزال. (¬7) تاريخ دمشق 5/ 246 (مصورة دار البشير).

أسلم قديمًا بمكة، وهاجر إلى الحبشة المرة الثانية، فنهشته حيَّة في طريقه، فمات قبل أن يدخل إليها، وفيه نزل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية. ومن ولده الضَّحَّاك بن عثمان، والمغيرة بن عبد الرحمن الحِزاميَّان، وكلاهما قد حمل العلم (¬1). والمغيرة بن عبد الله بن خالد بن حِزام، كان شريفًا، استعملَه ابنُ الزُّبير على اليمن (¬2). ومن ولده المنذر بن عبد الله بن المنذر بن المغيرة، من سَرَوات قريش، وأهل النَّدى والفضل، عَرَضَ عليه المَهْديّ القضاءَ ويعطيه مئة ألف درهم، فأبى واستعفى، فأعفاه. وأراد الحجَّ في تلك الأيام، فلم يجد ما يكتري به لنفسه، فحجَّ ماشيًا، وله أشعارٌ حِسان (¬3). وابنُه إبراهيم بن المنذر الحِزامي من أئمة الحديث، وكان له مروءة وقدر (¬4). ومن ولدِ خالد بن حِزام عثمانُ بنُ عبد الله بن خالد، كان من طلبة العلم والحديث (¬5). والضَّحَّاكُ بنُ عثمان بن الضَّحَّاك بن عثمان، علَّامة قريش بالمدينة وأخبارها وأيامها وأشعارها، وهو وأبوه من أكبر أصحاب مالك (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 112. (¬2) جمهرة أنساب العرب ص 121، وتاريخ دمشق 17/ 942 (مصورة دار البشير، ترجمة وهب بن زمعة)، ومختصره أيضًا 26/ 383 (ترجمة وهب). (¬3) جمهرة أنساب العرب ص 121، وتاريخ بغداد 15/ 326. (¬4) المصدر السابق، وإبراهيم هذا من شيوخ البخاري. ينظر "تهذيب الكمال" 2/ 207. (¬5) لعله عثمان بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام، فنسبه إلى جدّه الأعلى خالد، ذكره ابن حزم في "جمهرة نسب قريش" ص 121 وقال: خمسة في نسق، كلهم من أهل الحديث والرواية. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 600، ونسب قريش ص 234، وذكره المزيّ الضحاكَ بنَ عثمان بن الضحاك في "تهذيبه" 13/ 275 لتمييزه عن جدِّه الضحاك بن عثمان بن عبد الله الذي روى له مسلم والأربعة.

حويطب بن عبد العزى

وابنُه محمد بن الضَّحَّاك جالسَ الواقديَّ، وأخذَ عنه؛ قال الواقديّ: هذا الفتى خامسُ خمسة جالستُهم على طلب العلم، هو وأبوه الضحاك [وجدُّه عثمان، وجدُّ أبيه الضحاك] وجدُّ جدِّه عثمان بن عبد الله (¬1). ومات محمد بن الضَّحَّاك شابًّا، وقد كان خلفَ أباه في العلم، وظهرت مروءتُه (¬2). وذكروا خالد بنَ حِزام له صحبة، وليس له رواية. حُوَيْطب بن عبد العُزَّى ابن أبي قيس بن عَبْد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤيّ العامريّ. ذكره ابن سعد فيمن نزل مكة من الصحابة (¬3). ويكنى أبا محمد، وأمُّه زينب بنت علقمة من بني منقذ (¬4). أسلم حُوَيْطب يومَ فتح مكة، وشهد مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُنينًا والطائف، وأعطاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مئةَ بعير من غنائم حُنين مع المؤلَّفة قلوبُهم، واستقرض منه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين ألفًا (¬5). وهو أحدُ شهود الكتاب الذي كتبَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أهل مكة عامَ الحُديبية، وهو الذي بعثَتْه قريش مع سُهيل بن عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عُمرة القضاء وقد أقامَ ثلاثًا، فقالا: قد انقضى الأجلُ وما شرطتَ فاخْرُجْ عنَّا (¬6). ¬

_ (¬1) الكلام السالف بين حاصرتين من (ب)، وجاء كلام الواقدي في "تهذيب الكمال" 13/ 275 (ترجمة الضحاك بن عثمان)، و "التحفة اللطيفة" 1/ 236 و 2/ 251 في أحمد بن محمد بن الضحاك بن عثمان بن الضحاك بن عثمان بن عبد الله. فالخمسة عندهما هم: أحمد، وأبوه محمد، وجدُّه الضحاك بن عثمان (الأصغر)، وجدُّ أبيه عثمانُ بنُ الضحاك، وجدُّ جده الضحاكُ بن عثمان (الأكبر). وهو الأشبه، لأن الضحاك بن عثمان (الأكبر) شيخ الواقدي، وأحمدُ بنُ محمد بن الضحاك جالس الواقديَّ. (¬2) ترتيب المدارك 1/ 263 و 379. وينظر "التحفة اللطيفة" 3/ 587 - 588. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 126 ذكره في الطبقة الرابعة ممن أسلم عند فتح مكة وما بعد ذلك، و 8/ 15 في تسمية من نزل مكة من الصحابة. (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 15. (¬5) المصدر السابق 6/ 129، وينظر "المستدرك" 3/ 493. (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 127 - 128.

ثم سكنَ حُوَيْطب المدينةَ، وله بها دار عند البلاط، وخرج غازيًا إلى الشام مع الحارث بن هشام وسُهيل بن عمرو (¬1). وهو أحدُ النفر الذين أمرهم عمر رضوان الله عليه بتجديد أنصاب الحَرَم، وكان فيمن دفنَ عثمان رضوان الله عليه (¬2). وباع بالمدينة دارًا من معاوية بأربعين ألف دينار، فاستشرف لها الناس، فقال معاوية: وما أربعون ألف دينار لرجل خلفه خمسةٌ من العيال (¬3)؟ ! . وجاء به يومَ الفتح أبو ذرّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمَ، ثم حَسُن إسلامُه (¬4). دخل حُوَيْطِب على مروان، فقال له مروان: يا شيخ، تأخَّر إسلامُك حتى سبقك الأحداث! فقال له حُوَيْطِب: واللهِ لقد هممتُ بالإسلام غيرَ مرَّة؛ ما يمنعُني منه إلا أبوك؛ يقول: أتُضَيِّعُ شرفَك، وتدعُ دينَ آبائك لدينٍ مُحدَث؟ فخجل مروان وندم على قوله. فقال له حُويطب: فإنْ شككت في قولي فسَلْ عثمان بنَ عفان بما لَقِيَ من أبيكَ. فازداد مروان غمًّا (¬5). وعاش حُوَيْطب مئةً وعشرين سنة؛ ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، وتوفّي بالمدينة سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية، [وقيل: مات في آخر خلافة معاوية] وقيل: مات سنة اثنتين وخمسين، وقيل: استُشهد غازيًا بالشام (¬6). وكان له أربعة أولاد: أبو سفيان، وسفيان، وأبو الحكم، وعبد الرحمن، أسلموا مع أبيهم (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 129، وتاريخ دمشق 5/ 380 و 384 (مصورة دار البشير). (¬2) تاريخ دمشق 5/ 384 (مصورة). (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 129، وجمهرة نسب العرب ص 168، والمستدرك 3/ 493، وتاريخ دمشق 5/ 389. ووقع في "نسب قريش" ص 426: لرجل له أربعة عيال، وفي "أنساب الأشراف" 4/ 70: سبعة عيال. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 128، وتاريخ دمشق 5/ 386. (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 127، وتاريخ دمشق 5/ 387 - 388. وفيهما: "أما كان أخبرك عثمان رحمه الله ما لقيَ من أبيك حين أسلم". بدل قوله: فإن شككتَ ... (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 129، وتاريخ دمشق 5/ 388 - 389 وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬7) وقع بعد هذا الكلام في النسخة (ب) ما نصُّه: سحبان بن وائل بن إلياس (كذا) بن عبد شمس.

سعيد بن يربوع

سعيد بن يَرْبُوع ابن عنكثة (¬1) بن عامر بن مخزوم، كنيتُه أبو يربوع، وقيل: أبو مُرَّة، وقيل: أبو هود (¬2). وكان اسمه أصْرَم، فسمَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سعيدًا وقال له: أيُّما أكبرُ، أنا أم أنت؟ فقال: يا رسول الله، أنتَ أكبرُ وأنا أَسَنّ (¬3). أسلم يوم الفتح، وشهد حُنينًا، وأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين بعيرًا من غنائم حنين، وهو أحد الذين جدَّدُوا أنصابَ الحرم (¬4). وخرج مع عمر رضوان الله عليه إلى الشام في خَرْجَته الذي رجع فيها من سَرغ (¬5)، ولما جمع مشيخة قريش واستشارَهم في رجوعه بسبب الطاعون؛ كان سعيد فيهم (¬6). وذهب بصره فجاءه عمرُ رضوان الله عليه إلى منزله، فعزَّاه، فقال: لا أدعُ الصلاةَ في جماعة في المسجد، فأرسل إليه قائدًا من السَّبْي (¬7). وكان من المعمَّرين؛ مات بالمدينة في هذه السنة وله مئة وعشرون سنة. وكان له من الولد: هُود، والحَكَم، وعُبيد الله (¬8)، وعبد الرحمن، وعبد الله، وعياض، وعون (¬9)، ونبطة (¬10)، وأمُّ حبيب، وآمنة (¬11). ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل (خ) إلى: عنيثة. (¬2) ذكر ابن عساكر في "تاريخه" 7/ 364 (مصورة دار البشير) أنه يُكنى أبا الحكم، ثم ذكر له الكنى الأخرى. (¬3) المصدر السابق. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 98 وفيه: "كان سعيد بن يَربُوع ممَّن يُجَدِّدُ أنصاب الحَرَم في كل سنة". وأنصابُ الحَرَم: حدودُه. ينظر "القاموس". (¬5) هو أول الحجاز وآخِر الشام، بين المغيثة وتبوك من منازل حاجّ الشام. ينظر "معجم البلدان" 3/ 212. (¬6) تاريخ دمشق 7/ 364 - 365. (¬7) المصدر السابق 7/ 366 - 367. (¬8) في "طبقات" ابن سعد 6/ 98، و"تاريخ دمشق" 7/ 365: عُبيد. (¬9) وذكر له ابن سعد وابن عساكر أيضًا من أولاده: عطاء. (¬10) كذا في النسختين (ب) و (خ). وفي "تاريخ دمشق" 7/ 365: بيطة، وفي "طبقات" ابن سعد 6/ 98: ريطة. (¬11) وذكر ابن سعد وابن عساكر أيضًا من بناته هندًا.

سودة بنت زمعة

وله صحبة ورؤية، وليس له رواية. سَوْدَة بنت زمعة ابن قيس بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نَصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، أمّ المؤمنين - رضي الله عنهما-، وأمها الشَّمُوس بنتُ قيس بن عَمرو، من بني النجار (¬1). وكانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند السكران بن عَمرو بن عَبْد شمس بن عَبْد وُدّ، وكان أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ومعه سودة، وكانت قد أسلمت قديمًا، وأولدَها عبدَ الله (¬2). ومات السكران بالحبشة -وقيل: بمكة- قبل الهجرة (¬3)، وتزوَّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة العاشرة من النبوَّة (¬4)، وبسببها نزلَ الحجاب (¬5). وسَوْدَةُ التي وهبَتْ يومَها لعائشة؛ قالت عائشة - رضي الله عنهما -: كانت سَوْدَةُ بنتُ زَمعة قد أَسَنَّتْ، فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستكثرُ منها، وقد علمتْ مكاني من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يستكثرُ مني، فخافت أن يُفارقها، وضنَّت بمكانها [عنده]، فقالت: يا رسول الله، إنَّ يومي الذي يُصيبني لعائشة، وأنتَ منه في حِل. فقبلَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ورويَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "اعتَدِّي". فقعدَتْ له على طريقه وقالت: أسألك بالذي اصطفاك على خلقه، أَطَلَّقْتَنِي لِمَوْجِدَةٍ وجدتَها عليَّ؟ قال: "لا" قالت: يا رسول الله، ما بي حُبُّ الرجال، ولكني أُحب أن أبْعَثَ في أزواجك، فراجِعني. فراجعَها (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 52 - 53. (¬2) المصدر السابق 4/ 190 (ترجمة السكران بن عمرو). (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 190. (¬4) المصدر السابق 10/ 53. (¬5) ينظر حديث البخاري في "صحيحه" (4795)، و"فتح الباري" 8/ 531. (¬6) طبقات ابن سعد 10/ 53. (¬7) المصدر السابق 10/ 53 - 54.

وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقول: ما من الناس امرأةٌ أحب إليّ أن أكون في مِسْلاخها من سَوْدَة بنتِ زمعة، إلا أنها امرأةٌ فيها حسد (¬1). قال أبو هريرة: حجَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأزواجه عام حجة الوَداع، ثم قال: "هذه [الحجة]، ثم ظهورَ الحُصُر". فكان كل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يحجُّ إلا سَوْدة بنت زَمعة، وزينب بنت جحش؛ قالتا: لا تُحرِّكُنا دابة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأطعمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَوْدَة بخيبر ثمانين وَسْقًا تمرًا، وعشرين وَسْقًا شعيرًا. ويقال: قمح (¬3). وقالت عائشة - رضي الله عنها -: اختصمَ عَبْد بنُ زَمعة، وسعدُ بنُ أبي وقاص عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابنِ أَمَةِ زمعة، فقال عَبْد: يا رسول الله، أخي ابنُ أَمَةِ أبي، فقال سعد: أوصاني أخي: إذا قدمتَ مكَّة فانظر ابنَ أَمَةِ زَمعة فاقْبِضه، فإنه ابْني. فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى شَبَهًا بيِّنًا بِعُتْبة، فقال: "هو لك يا عَبْد، الوَلَدُ للفراش، واحتَجِبي منه يا سَوْدَة". فما رآها حتى لَقِيَ الله (¬4). وبعثَ عمر بنُ الخطَّاب رضوان الله عليه إلى سَوْدَة غرائر دراهم (¬5)، فأمرَتْ جاريتَها ففرَّقَتْها. وتوفّيت سَوْدَةُ - رضي الله عنها - بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة ثلاث. وقيل: ثلاث وعشرين وصلَّى عليها عمر رضوان الله عليه (¬6). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 55. وأخرجه أحمد (26751). قوله: ثم ظهور الحُصُر. قال السندي (كما في حاشية المسند): أي: ثم الأَولى لكُن لزوم البيت. والحُصُر -بضمتين، وتسكّن الصاد تخفيفًا- جمع حصير يبسط في البيوت. ولعل المراد به تطييب أنفسهن بترك الحج بعد أن لم يتيسر، أو جواز الترك لهن على المعنى الذي ذكرنا، لا النهي عن الحج. والله أعلم. (¬3) طبقات ابن سعد 10/ 56. (¬4) مسند أحمد (24081)، وصحيح البخاري (2053)، وصحيح مسلم (1457). وعتبة المذكور هو ابن أبي وقاص، أخو سعد. (¬5) غرائر جمع غِرارة، وهي وعاء يوضَع فيه القمح ونحوه. ووقع في "طبقات" ابن سعد 10/ 56: بغرارة من دراهم. (¬6) ينظر "طبقات" ابن سعد 10/ 57، و"الاستيعاب" ص 910، و"السير" 2/ 267.

مالك بن زمعة

وأخوها: مالك بن زَمعَة كنيتُه أبو محمد، هاجر إلى الحبشة المرة الثانية، ثم قدم مع جعفر بن أبي طالب، وكان معه امرأتُه عُميرة بنت السعديّ، من بني عامر بن لؤي (¬1). ولما لك صحبةٌ ورؤية، وليس له رواية. أسندَتْ سَوْدَةُ رضوان الله عليها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث؛ قالت: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ أبي شيخ كبير، لا يستطيعُ أن يحجَّ. قال: "أَرأيتَكَ لو كان على أبيكَ دينٌ فقضَيتَ عنه دينَه، قُبل منك؟ " [قال: نعم] قال: "فاللهُ أرحَمُ، حُجَّ عن أبيكَ" (¬2). عمرو بن أمية ابن خُويلد بن عبد الله بن إياس بن عَبْد بن ناشرة بن كعب بن جُدَيّ بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كِنانة الضمريّ، من الطبقة الثانية من المهاجرين. شهد بدرًا وأُحُدًا مع الكفار، ثم أسلم حين انصرف المشركون عن أُحُد. وكان شجاعًا فاتكًا، له إقدام، ويكنى أبا أمية؛ كنَّاه به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. وأول مشاهده مسلمًا بئرُ مَعُونة في صفر على رأس ستةٍ وثلاثين شهرًا من الهجرة، فأسَرَتْه بنو عامر يومئذ، فقال له عامر بن الطُّفيل: قد كان على أمي نَسَمة، فأنتَ حرٌّ عنها. وجزَّ ناصيته. وقدم المدينة، ولقيَ قبل دخولها رجلين من بني كلاب، فقتلَهما، وأخبرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بخبر بئر مَعُونة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتَ من بينهم" يعني أفلتَّ ولم تُقتل كما قُتلوا. وودَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرجلين اللذين قتلَهما عمرو (¬3). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 190 - 191. (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (27417). (¬3) قال ابن سعد في "الطبقات" 4/ 234: وقد كان لهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمان، فوداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

مخرمة بن نوفل

وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بنَ أمية ومعه سَلَمة بنُ أسلم بن جريش الأنصاري سريةً إلى مكة لقتل أبي سفيان بن حرب، فعُلِمَ بمكانهما، فهربا. وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشيّ، فزوَّجه أُمَّ حَبِيبة بنتَ أبي سفيان، وحملَ جعفر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكانت لعمرو بن أمية دار بالمدينة عند الخرَّاطين، ومات بالمدينة في سنة أربع وخمسين. وكانت عنده سُخيلة بنتُ عُبيدة بن الحارث بن المطَّلب بن عبد مناف، فولدَتْ له نفرًا. أسند عمرو الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). مَخْرَمَة بنُ نَوفَل ابن أُهيب بن عبد مَناف بن زُهرة بن كلاب القُرشيّ، الزُّهْريّ، كُنيتُه أبو المِسْوَر، وقيل: أبو صفوان، وقيل: أبو الأسود، وقيل: أبو مسعود. وهو من الطبقة الرابعة من مُسلِمة يومِ الفتح (¬3). وكان عالمًا بأنساب قريش، وبأنصاب الحرم (¬4). وأمُّه رُقَيقَة بنت أبي صيفيّ بن هاشم بن عبد مناف، لِدَةُ عبدِ المطَّلب (¬5) صاحبة المنام (¬6). ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 4/ 234: وحمل إليه أصحابه في سفينتين. (¬2) ينظر ما سلف في ترجمته في "طبقات" ابن سعد 4/ 233 - 234، وينظر حديثه في "مسند" أحمد (17244) إلى (17252) و (17613) إلى (17619) و (22477) إلى (22486). (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 69، وتاريخ دمشق 66/ 326 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 69، وتاريخ دمشق 66/ 336. (¬5) اللِّدَة: التِّرْب. أي: إن رُقَيقَة وعبدَ المطَّلب وُلدا في وقت واحد. ووقع في النسختين (ب) و (خ): امرأة، بدل لِدَة. والتصويب من "تاريخ دمشق" 66/ 326 (طبعة المجمع). (¬6) ذكر ابن عساكر 66/ 326 الخبر، وفيه أنه تتابعت على قريش سنون جَدب ... فبينما هي راقدة إذ سمعت صوتًا ينادي أن هذا وقت ظهور النبي المبعوث منكم ... فانظروا رجلًا طويلًا أبيض ... فليستسقي ...

مرة بن شراحيل الهمداني

وكان مَخْرمة من المؤلَّفة قلوبُهم، ثم أسلم وحَسُنَ إسلامُه، وشهدَ حُنينًا والطائفَ، وأعطاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين بعيرًا، وكان شَهْمًا لبيبًا، وأطعَمَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر (¬1) أربعين وَسْقًا. قال مخرمة لابنه: قد جاءت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أقبية (¬2)، فخُذْني إليه لعلَّه أنْ يُعطِيَنا منها شيئًا. فجاء به إلى باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمع صوتَه، فخرج وفي يده قَباء، فجعل يقول: "يا أبا المِسْور، خبأتُ هذا لك". وكانت فيه فَظاظة، وهو الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بئس أخو العشيرة" (¬3). وذهب بصرُه في خلافة عثمان رضوان الله عليه (¬4). ومات في سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة خمس وخمسين وهو ابن مئة وخمس عشرة سنة. [وقيل: ابن تسعين سنة، ووُلِدَ له وهو ابنُ خمس عشرةَ سنة] (¬5). وكان له من الولد: المسور، وصفوان، والصَّلْت، وأمُّ صفوان؛ أُمُّهم عاتكةُ بنتُ عوف، أختُ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -. أسند مَخْرَمة الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. مُرَّة بن شَراحِيل الهمداني من أكابر التابعين، يقال له: مُرَّةُ الخير، ومُرَّة الطَّيِّب؛ لعبادته؛ كان يصلِّي كلَّ يوم وليلة ألفَ ركعة، فلما ثَقُل وبَدَّنَ (¬6)؛ صار يُصلِّي أربع مئة ركعة، وكانت مَبارِكُهُ مثلَ مبارك الإبل. ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ). ولعلها محرَّفة عن: حُنين، فقد سلف أنه أسلم يوم الفتح. (¬2) جمع قَباء، وهو الثوب يُلبَس فوق الثياب. والخبر في "صحيح" البخاري (2599)، و"صحيح" مسلم (1058)، و"تاريخ دمشق" 66/ 339 - 340. (¬3) تاريخ دمشق 66/ 341 (طبعة مجمع دمشق). وهو في "صحيح" البخاري (6131) و"صحيح" مسلم (2591) وليس فيهما التصريح بمخرمة، لكن البخاري أورده والحديثَ المذكورَ قبله (بنحوه) في باب واحد؛ يشير بذلك إلى أنه هو، وقيل: هو عُيينة بن حصن. وينظر "فتح الباري"10/ 454 و 529. (¬4) تاريخ دمشق 66/ 337 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) المصدر السابق 66/ 335 و 343 - 344. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) أي: أسنَّ وضعُف.

السنة الخامسة والخمسون

وسجد حتى أكلَ الترابُ جبهتَه، فلما مات رأى رجلٌ في منامه وكأن موضعَ سجوده كهيئة الكوكب الدُّرِّيّ، فقال: ما هذا؟ قال: بُدِّلْتُ به ما ترى. قال: فكيف منزلك؟ قال: خير منزلة، أنا في دار لا يظعنُ عنها أهلُها ولا يموتون. وكان أثرُ العبادة بيِّن في وجهه وبين عينيه. أسند عن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، رضوان الله عليهم، وغيرِهم (¬1). السنة الخامسة والخمسون وفيها: عزلَ [معاويةُ] عبدَ الله (¬2) بن عَمرو بن غَيلان عن البصرة، وولَّاها عُبيدَ الله بنَ زياد. وسببُه أن عبدَ الله بن عَمرو خطبَ على منبر البصرة، فحصبَه رجلٌ من بني ضَبَّة يقال له: جُبير بن الضَّحَّاك، فأمرَ بقطع يدِه. فقُطعتْ يدُه، فقال بنو ضَبَّة: إنَّ صاحبَنا جنى على نفسه وقد عُوقب على جنايته، ولا نأمنُ أن يبلغَ خبرُه إلى معاوية، فيأتيَ منه أمرٌ يتضمَّن العقوبة العامَّة والخاصَّة، فاكْتُبْ لنا إليه كتابًا بأنه قُطع في شُبهة، ولو لم يثبت عليه. فكتبَ لهم، وأخطأ في كتابته (¬3). فساروا إلى معاوية، ودفعوا إليه الكتاب وقالوا: قَطَعَه ظُلمًا، ونُريد القَوَدَ منه. فقال معاوية: أمَّا القَوَدُ من عمَالي فلا سبيل لكم عليه، وإنْ أحببتُم، فالدِّيَة في بيت المال. فوداه، ثم قال: قد عزلتُه عنكم، فمن تختارون؟ قالوا: مَنْ تَخْتار. وكان يعلم ميلَهم إلى عبد الله بن عامر، فقال: ما تقولون فيه، فقد علمتُم شرفَه وعفافَه وطهارتَه؟ فقالوا: أنتَ أعلم. فولَّى عليهم عُبيدَ الله بنَ زياد، واستخلفَ ابنُ زياد على خُراسان أسلمَ بنَ زُرْعة (¬4)، واستقضى ابنُ زياد على البصرة زُرارةَ بنَ أَوْفى، ثم عزلَه وولَّى ابنَ أُذَيْنَة. ¬

_ (¬1) في (ب): أجمعين، بدل: غيرهم. وتنظر ترجمة مرَّة بن شَرا حيل في "طبقات" ابن سعد 8/ 236، و"المنتظم" 5/ 276. (¬2) في (ب) و (خ): عبد الرحمن، وهو خطأ، والمثبت من (م)، وما بين حاصرتين منها. (¬3) في (خ): كتابه، والمثبت من (ب). (¬4) في النسختين (ب) و (خ): عُبيد الله بن أسلم بن زُرعة، وهو خطأ. والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 300، و"المنتظم" 5/ 278.

الأرقم بن أبي الأرقم

وفيها عزل معاويةُ عبدَ الله بن خالد بن أَسِيد عن الكوفة، وولَّاها الضَّحَّاك بن قَيس الفِهْريّ. وحجَّ بالناس في هذه السنة مروان بنُ الحكم، وكان على المدينة (¬1) وفيها توفِّي الأَرقَمُ (¬2) بنُ أبي الأَرقَم ابن أَسَد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، واسم أبي الأرقم عبد مناف، والأرقم من الطبقة الأولى من المهاجرين الأوَّلين. وكان من كبار الصحابة، قديمَ الإسلام، أسلمَ بعد سبعة، فكان سُبْع الإسلام، وقيل: بعد عشرة. واستخفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في داره من قريش، ودارُه بمكة على الصَّفا، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله فيها، وأسلم فيها جماعة كثيرة (¬3). والأرقم صاحبُ حلف الفُضول (¬4)، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وأُحُدًا، والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلم في دار [هـ] حمزةُ وعمرُ - رضي الله عنهما-، وأعيانُ الصحابة (¬5). وتصدَّق الأرقم بهذه الدار على ولده، وكان في نسخة كتاب الوَقْف: هذا ما قَضَى الأرقم في رَبْعِهِ، وهو ما حاذَى الصفا، أنها محرَّمةٌ، لا تُباع ولا تُورث، شهد هشامُ بنُ العاص [وفلان مولى هشام بن العاص] (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 300، والمنتظم 5/ 279. (¬2) في النسختين (ب) و (خ): بن الأرقم، وهو خطأ. والكلام ليس في (م). (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 223 - 224، والمنتظم 5/ 279. (¬4) الاستيعاب ص 71. (¬5) ينظر "طبقات" ابن سعد 3/ 224 و"المنتظم" 5/ 279 - 280. والهاء بين حاصرتين من عندي لضرورة السياق. (¬6) المصدران السابقان، والكلام بين حاصرتين من النسخة (ب). والرَّبْع: الدار.

ولم تزل هذه الدار صدقةً قائمةً في أيدي ولدِه إلى زمن أبي جعفر (¬1)، فكان إذا حجَّ ينظُرُ إليها في طوافه وسعيِه، فلما خرج محمد بن عبد الله بن حسن [بن حسن] بالمدينة؛ كان عبد الله بن عثمان بن الأرقم (¬2) فيمن بايعَه ولم يخرج معه، فتعلَّق عليه أبو جعفر بذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة، فكبَّله بالحديد، وحبسه حتى باعه نصيبه منها بمئة ألف درهم (¬3)، ثم تتبَّع إخوتَه حتى اشترى الجميع، ثم وهبها أبو جعفر لابنه محمد المهدي، ووهبها المهدي للخَيزُران أمِّ هارون وموسمى، فعُرفَتْ بها، فقيل: دار الخَيْزُران، فبنت بها مسجدًا [ثم] انتقلت إلى جعفر بن موسى الهادي، ثم بعدُ اشتراها غسان بن عبَّاد من ولد جعفر بن موسى. ذكر وفاته رضوان الله عليه: مرضَ الأرقمُ بالمدينة، فأوصى أن يُصليَ عليه سعدُ بنُ أبي وقَّاص - رضي الله عنهما-، وكان سعد بالعقيق ومروان والي (¬4) على المدينة، فاحتبس عليهم (¬5) سعد لبعد المسافة، فقال مروان: أيُحبسُ رجلٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل غائب؟ وأراد الصلاةَ عليه، فلم يُمكِّنْه عُبيد الله (¬6) بنُ الأرقم، وقامَتْ معه بنو مخزوم، ومنعوه، حتى جاء سعد، فصَلَّى عليه. ودُفن بالبقيع، وهو ابنُ بضع وثمانين سنة، وذلك في سنة خمس وخمسين، وقيل: في سنة ثلاث وخمسين. وكان له من الولد عُبيدُ الله (¬7) لأمِّ ولد، وعثمان لأمِّ ولد، وكنيتُه أبو عمرو، وقيل: أمُّهما حُميدة بنت عبد الرحمن بن عوف. ¬

_ (¬1) يعني أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي. (¬2) في النسختين (ب) و (خ): عمار بن عبيد الله بن الأرقم، وهو خطأ، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 3/ 224، و"المستدرك" 3/ 503، و"المنتظم" 5/ 280. وما سلف بين حاصرتين من (ب)، والكلام ليس في (م). (¬3) في المصدرين السابقين: سبعة عشر ألف دينار. (¬4) كذا في (ب) و (خ). والجادة: والٍ، أو: واليًا. (¬5) في (ب) و (خ): غريم (؟ ) والمثبت من "طبقات" ابن سعد 3/ 225. (¬6) في (ب) و (خ): عبد الله، وهو خطأ. والخبر في "طبقات" ابن سعد 3/ 125 و "تاريخ دمشق" 44/ 177 (طبعة مجمع دمشق، ترجمة عبيد الله بن الأرقم). (¬7) في (ب) و (خ): عبد الله، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 3/ 223. وسيرد في آخر الكلام على الصواب.

سعد بن أبي وقاص

أدرك عُبيد الله (¬1) أيامَ عمر بنِ عبد العزيز رضوان الله عليه، واستُشهد غازيًا بالشام ولا عقب له. وكان له (¬2) أمية ومريم، أمُّهما هند بنتُ عبد الله بن الحارث بن أسد بن خُزيمة. وصفيَّة لأمِّ ولد، ويتعادُّ ولدُ الأرقمِ إلى بضعة وعشرين إنسانًا؛ كلُّهم من ولد عثمان بن الأرقم، وبعضهم بالشام. وأما ولد عُبيد الله بن الأرقم، فانقرضوا، فلم يبقَ منهم أحد (¬3). أسند الأرقم الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال الإمام أحمد رحمه الله: حدَّثَنا عبَّاد بن عبَّاد المهلَّبي عن هشام بن زياد، عن عثمان بن أرقم بن أبي الأرقم المخزومي عن أبيه -وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -[أن النبي - صلى الله عليه وسلم -]، قال: "إن الذي يتخطَّى رِقابَ الناسِ يومَ الجمعة، ويُفَرِّقُ بين الاثنين (¬4)؛ كالجارِّ قُصبَهُ في النار". سعد بن أبي وقاص [واسم أبي وقَّاص] مالك (¬5) بن أُهيب (¬6) بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب بن مُرَّة، وكنيتُه أبو إسحاق، وأمُّه حَمنَة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، وقيل: بنت أبي سفيان، وقيل: بنت أبي أسد. يلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّسَب عند مُرَّة. ذكر إسلامه رضوان الله عليه: [قال ابن سعد بإسناده عن عامر بن سعد عن أبيه: ] قال سعد - رضي الله عنه -: ما أسلمَ رجل قبلي إلا رجلٌ في اليوم الذي أسلمتُ فيه. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): عبد الله، والتصويب من "تاريخ دمشق" 44/ 178 (طبعة مجمع دمشق، ترجمة عبيد الله بن الأرقم) والكلام منه. (¬2) يعني للأرقم، وينظر "طبقات" ابن سعد 3/ 224. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 224، وتاريخ دمشق 44/ 178 (ترجمة عبيد الله بن الأرقم). (¬4) في (ب) و (خ): الآدميين، بدل: الاثنين. والمثبت من "مسند" أحمد (15447) والحديث منه. (¬5) في (ب) و (خ): بن مالك، وهو خطأ، وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬6) في "طبقات" ابن سعد 3/ 127: وُهيب.

[وفي رواية: ] ولقد أسلمتُ [يوم أسلمتُ] وما فرض الله الصلوات الخمس. [وفي رواية: ] وأنا ابنُ سبعَ عشرةَ سنة (¬1)، ولقد مكثْتُ سبعة أيام وإني لثلُثُ الإسلام (¬2). ذكر صفته - رضي الله عنه -: [وحكى ابن سعد أنه] كان دَحداحًا، قصيرًا، غليظًا، ذا هامة، شَثْنَ الأصابع، آدمَ، أَفْطَسَ، أشعر (¬3). وقيل: كان طُوالًا، وكان يخضب بالسَّوَاد، يلبسُ خاتمًا من ذهب (¬4)، ويسبحُ بالحصى في يده (¬5). [ذكر جملة من مناقبه وسيرته]: هو من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأَحَدُ العشرة المبشَّرين، وأحدُ أصحاب الشُّورى، وشهد بَدرًا وأُحُدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين مصعب بن عمير، وقيل: بينه وبين سعد بن معاذ، وهو أوَّلُ مَنْ رَمَى بسهم في سبيل الله، وفَدَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأبيه وأمه؛ جمع له بينهما (¬6). وفي "الصحيحين" عن علي كرَّم الله وجهه أنه قال: ما سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُفَدِّي أحدًا بأبويه إلا سعدَ بنَ مالك (¬7). ¬

_ (¬1) الكلام الذي بعده لم يرد في (م)، وجاء فيها بدله: "وفي رواية: وأنا ابن تسعَ عشرةَ سنة. وقال الموفّق رحمه الله: أسلم بعد ستة. وكلل هذه الروايات ذكرها ابن سعد، وأخرج البخاري بعضها". قلت الروايات المذكورة في "طبقات" ابن سعد 3/ 129، إلا رواية: تسع عشرة، فهي عند الطبراني في "المعجم الكبير" (300). وروى البخاري في "صحيحه" (3727) بعض كلام سعد المذكور، وينظر "التبيين في أنساب القرشيين" ص 287. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬2) صحيح البخاري (3727). (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 133 دون قوله: آدم أفطس، فهو في "المعجم الكبير" للطبراني (293). (¬4) يُحمل الخبر -إنْ صحّ- على أنه لم يبلغه التحريم. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 133، و"المعجم الكبير" (293). قوله: شثن الأصابع، أي: غليظها، وقوله: آدم، أي: أسمر، وقوله: أفطس، أي: منخفض قصبة الأنف. (¬6) طبقات ابن سعد 3/ 130 - 132، والتبيين في أنساب القرشيين ص 287. (¬7) صحيح البخاري (6184)، وصحيح مسلم (2411). وتتمَّتُه: سمعتُه يقول: "ارْمِ، فداكَ أبي وأمي".

وقالت عائشة (¬1) - رضي الله عنهما -: سهرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فقلت له: ما شأنُك؟ فقال: "ليتَ رجلًا صالحًا من أصحابي يَحْرُسُني الليلةَ". [قالت: ] فبينا نحن على ذلك إذْ سمعتُ خَشْخَشَةَ سلاح، فقال: "مَنْ هذا؟ " فقال: أنا سَعدُ بنُ مالك. فقال: "ما جاء بك (¬2)؟ " قال: وقعَ في نفسي خوفٌ عليك، فجئتُ أَحرُسُك. فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نامَ حتى سمعت غَطِيطَه. متفق عليه (¬3). وعن عامر بن سعد أن أخاه عمر بن سعد انطلق إلى سعد وهو في إبلِهِ خارج المدينة، فلما راه سعد قال: أَعوذُ بالله من شرّ هذا الراكب. فنزل وجاء إليه وقال: يا أبه، نَزَلْتَ في إبلك وغنمك، وتركْتَ الناسَ يتنازعونَ المُلك بينهم؟ ! فضربَ سعدٌ في صدره وقال: اسكُتْ، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يُحبُّ العَبْدَ التَّقيَّ الغنيّ الخَفِيّ" انفرد بإخراجه مسلم (¬4). وقد ظهرَتْ كراماتُ سعد - رضي الله عنه - في ابنه عمر بقوله: أعوذُ بالله من شرِّ هذا الراكب، فإنه هو الذي كان مقدَّم العسكر الذي قاتلَ الحُسين - رضي الله عنه - وقتلَه (¬5). قال جابر بنُ عبد الله: أقبلَ سعدٌ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا خالي، فلْيُرِني امرؤٌ خاله" (¬6). يعني من جانب أمِّه، فإنَّها من بني زُهْرَة. وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن سعد - رضي الله عنه - أنه قال: اللهم إنَّ لي بنين صغار (¬7)، فأَخِّرْ عني الموت حتى يبلُغوا. فأخَّرَ الله عنه الموتَ عشرين سنة (¬8). و[قال أبو نُعَيم: ] كان سعد مُجابَ الدعوة؛ دعا له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اللهمَّ سَدِّدْ رَمْيَتَه، وأجِبْ دعوتَه". فاستجابَ الله فيه (¬9). ¬

_ (¬1) في (م): وقال أحمد بإسناده عن عائشة قالت ... والحديث في "مسند" أحمد (25093). (¬2) في (خ): ما حاجتك. (¬3) صحيح البخاري (2885)، وصحيح مسلم (2410). (¬4) صحيح مسلم (2665). (¬5) سيرد الكلام على ذلك في أحداث السنة الحادية والستين. (¬6) طبقات ابن سعد 3/ 128، وستن الترمذي (3752). (¬7) كذا في (ب) و (خ) و"تاريخ دمشق" 7/ 168 (ترجمة سعد) والجادة: صغارًا. (¬8) دلائل النبوة للبيهقي 6/ 191، وتاريخ دمشق 7/ 168 (مصورة دار البشير)، والمنتظم 5/ 281. (¬9) المستدرك 3/ 500، وتاريخ دمشق 7/ 161 (مصورة دار البشير).

وقال قيس بن أبي حازم: نبِّئْتُ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ اسْتَجِبْ لسعدٍ إذا دعاك" (¬1). و[دعا] على أبي سعدة (¬2)، وقال: اللهمَّ عَرِّضْه للفتن (¬3). ودعا على الذي قال: وسعدٌ ببابِ القادسيّةِ مُعصَمُ (¬4). فقتله الله. وكانت الصحابة تتَّقي دعوته. [وذكر أبو القاسم ابن عساكر قال: ] خرجت جارية لسعد - رضي الله عنه - يقال لها: زبرا، عليها قميص جديد، فكشفَتْها الرِّيح، فشدَّ عليها عُمر - رضي الله عنه - بالدِّرَّة، وجاء سعدٌ ليمنعَها منه، فضربَه عُمرُ بالدِّرَّة، وفذهبَ سعدٌ ليدعوَ على عمر، فناولَه عمرُ رضوان الله عليه الدِّرَّة وقال: اقتصَّ. فعفا عنه سعد (¬5). [قال ابن عساكر: ] وسمع سعدٌ - رضي الله عنه - رجلًا يتناولُ عليًّا وطلحةَ والزُّبَير - رضي الله عنهم -، فقال: لَتَكُفَّنَّ عن سَبِّهم وإلا دعوتُ عليك. فقال: أَتُخَوِّفُني بدعائك؟ فقال سعد - رضي الله عنه -: اللهمَّ أَرِنا فيه آيةً اليومَ تكونُ عِبْرةً للعالمين. فجاءَتْ بُخْتٌ (¬6) نادَّة لا يردّها أحدٌ، فخبَطَته بقوائمها حتى مات. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 132، وتاريخ دمشق 7/ 162 (مصورة دار البشير). (¬2) في (خ): أبي سعد، وهو خطأ، وما بين حاصرتين زدتُه من عندي لضرورة السياق. والخبر ليس في (م). (¬3) هو قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري (755) عن جابر بن سمرة، والطبراني في "الكبير" (308)، وابنُ عساكر في "تاريخه" 7/ 163 (مصورة) حول شكوى أهل الكوفة سعدًا إلى عمر - رضي الله عنه -. (¬4) في النسختين (ب) و (خ): معتصم، والمثبت من "تاريخ دمشق" 7/ 165، وفيه أن سعدًا - رضي الله عنه - لم يشهد يومَ فتح القادسية بسبب جراحةٍ أصابَتْه، فقال رجل من بَجِيلَة: ألم تَرَ أن الله أنزل نصرهُ ... وسعدٌ بباب القادسية مُعصَمُ فأُبْنا وقد آمت نساءٌ كثيرةٌ ... ونسوةُ سعدٍ ليس فيهنَّ أيمُ (¬5) المعجم الكبير للطبراني (309)، وتاريخ دمشق 7/ 164. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬6) هي الإبل الخُراسانية، كما في "القاموس". ووقع في "تاريخ دمشق" 7/ 166 و 167: بُخْتيَّة. والخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 130.

[قال: ] وكانت له ابنةٌ طولُها نحو الذراع (¬1)، فقيل: ما بالُها؟ قالوا: جاءَتْه يومًا بطَهور، وغمست يدها فيه، فلطمها وقال: لا شبَّ اللهُ قَرْنَكِ (¬2). فبَقِيَتْ على حالها (¬3). [قال: ] واطَّلَعَتْ عليه يومًا امرأةٌ في بيته وهو يتوضأ، فقال: شاهَ وجهُك. فعاد وجهُها في قفاها. [ومن هذا شيءٌ كثير]. و[قال ابن سعد: ] ثبتَ سعد - رضي الله عنه - يوم أُحُد حين وَلَى الناس (¬4)، وكان في جيش أسامة إلى مُؤْتة (¬5). [قال: ] وهو الذي فتحَ القادسيَّة ومدائنَ كسرى، واختطَّ الكوفة (¬6)، وبنى فيها قصرًا، ووَلِيَها لعمر وعثمان رضوان الله عليهما، وشهد الجابية (¬7)، وكان بيده إحدى رايات المهاجرين الثلاث يوم الفتح (¬8). [وقال هشام: ] وكان قد شرعَ سعدٌ في بناء دارٍ بالمدينة، فقال عمر - رضي الله عنه -: اذْهبْ إلى العراق. فقال: تشغلُني عن بناء داري. فقال عمر: اذْهبْ وأنا أبنيها لك. فكان عمر يحضُرُ عمارتَها. فيقال: إن ذلك البناءَ قائم إلى اليوم بحاله، وهي بالبَلاط (¬9). و[قال الهيثم: ] لما قُتل عثمان بن عفَّان رضوان الله عليه قال له ابنُ أخيه هاشم بنُ عُتبة: ها هنا مئة ألف سيف يرونك أحقَّ بهذا الأمر من جميع الناس. فقال: أُرِيدُ من ¬

_ (¬1) في (م) و "تاريخ دمشق" 7/ 167: شبر. (¬2) في (م): فورك، وفي "تاريخ دمشق": قربك. (¬3) تاريخ دمشق 7/ 167 (مصورة دار البشير، ترجمة سعد). (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 132. (¬5) تاريخ دمشق 7/ 132 (مصورة دار البشير). (¬6) المصدر السابق 7/ 135. (¬7) قال ابن عساكر في "تاريخه" 7/ 132: "روى خطبة عمر بالجابية" ثم قال: "وأظنه لم يشهدها". ثم أخرج الخبر 7/ 133. ملاحظة: وقع في (ب) و (خ): اجابته، بدل الجابية، والكلام ليس في (م). (¬8) تاريخ دمشق 7/ 137 (مصورة دار البشير). (¬9) المصدر السابق 7/ 135.

المئة ألفِ سيف سيفًا يُعرفُ [به] المؤمنُ من الكافر، فإذا ضربتُ به الكافرَ قطع، وإذا ضربتُ به المؤمنَ لم يقطع. فانصرفَ هاشم إلى عليِّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، فشهدَ معه صفِّين (¬1). واعتزلَ سعدٌ الناسَ بعد قتل عثمان - رضي الله عنه -، فنزل بالعقيق [بمكان يقال له: قَلَهيَّا] (¬2) واحتفرَ بئرًا فأعذب ماؤها (¬3)، وقال لأهله: لا تخبروني بشيء حتى يجتمع الناس على إمام. [وهل شهد التحكيم؟ فيه قولان، وقد ذكرناه هناك] (¬4). ذكر وفاته رضوان الله عليه: [حكى ابن إسحاق عن أشياخه قالوا: ] كان له جُبَّةٌ قد لَقِيَ المشركين فيها يوم بدر وأُحُد (¬5)، فأَوْصى أنْ يُكَفَّنَ فيها وقال: إنَّما كنتُ أدَّخِرُها لمثل هذا اليوم (¬6). وقالت عائشة بنت سعد (¬7): مات أبي بالعقيق في قصره على عَشَرَة أميال من المدينة، فحُمل على أعناق الرجال إلى البقيع، وصلَّى عليه مروان، وهو والي المدينة يومئذٍ، وذلك في سنة خمس وخمسين، وكان يومَ مات [ابن] بضع وسبعين سنة. قال الواقدي: وهذا أثبتُ ما روينا في وفاته. ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ دمشق" 7/ 136 (مصورة دار البشير). (¬2) ويقال أيضًا: قَلَهِّي، بتشديد الهاء المكسورة كما في "معجم البلدان"، ويقال أيضًا: قِلِّهى؛ بكسر القاف واللام المشدَّدة وفتح الهاء كما في "القاموس". والخبر في "تاريخ دمشق" 7/ 135 - 136 (مصورة دار البشير). وتحرَّف لفظ "قَلهيَّا" في (م) -والكلام ما بين حاصرتين منها- إلى: قلهقا. (¬3) كذا في النسخ الثلاث، ولم ترد كلمة "ماؤها" في "تاريخ دمشق". ولعل صواب العبارة: فأعذبَ ماءَها، أي: جعلَه عذبا، وذلك بنزع ما فيه من قَذًى. (¬4) ما بين حاصرتين من (م). (¬5) في المصادر المذكورة (في التعليق بعده): "يوم بدر". ليس فيها ذكر أحد. (¬6) المعجم الكبير للطبراني (316)، والمستدرك 3/ 496، وتاريخ دمشق 7/ 175 - 176. والخبر فيها عن ابن شهاب الزهريّ، وفيها: لهذا اليوم. (¬7) في (م): واختلفوا في وفاته، فحكى ابن سعد عن الواقدي بإسناده عن عائشة بنت سعد قالت ... والكلام في "طبقات" ابن سعد 3/ 137.

وقال ابن سعد: وقد سمعتُ عن بعض أهل العلم أنه مات سنة خمسين، أو إحدى وخمسين، وقيل: وسبع وخمسين، وثمان وخمسين، والأوَّلُ أصحّ (¬1). قال: وصلَّى عليه أزواج رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في حُجَرِهِنَّ، ودُفن بالبقيع. وأخرج مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: أدخِلُوا جِنازة سعد إلى المسجد لأُصلِّيَ عليها. فأنكر الناسُ عليها، فقالت: ما أسرعَ ما نَسِيَ الناسُ، واللهِ ما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على سُهيل بن بيضاء وأخيه إلا في جوف المسجد (¬2). [وقال ابن سعد: سُئل الزّهري: أَيجوزُ حملُ الميّت من أرض إلى أرض؟ فقال: قد حُمل سعدٌ وغيرُه من العقيق وغيره إلى المدينة، ولم ينكر أحدٌ عليهم] (¬3). ذِكرُ ميراثه وما خلَّف: [قال هشام وابن سعد: ] خلَّف سعد - رضي الله عنه - مئتي ألف درهم، وخمسين ألفًا. وحكى ابن سعد عن الواقدي بإسناده إلى عائشة بنت سعد قالت (¬4): أرسل أبي سعدٌ إلى مروان بن الحكم بزكاة عين مالِه خمسةَ آلافِ درهم. وقاسمه عمر بنُ الخطاب ماله لَمَّا عَزَلَه عن الكوفة (¬5). وفي سنَّه قولان: أحدهما: بضع وسبعون سنة. والثاني: اثنان وثمانون سنة. وهو آخر العشرة موتًا - رضي الله عنه - (¬6). ¬

_ (¬1) من قوله: قال الواقدي ... إلى هذا الموضع من (م) وجاء في (ب) و (خ) مختصرًا، ولم يرد فيهما قول الواقدي. وينظر "طبقات" ابن سعد 3/ 137 - 138. (¬2) صحيح مسلم (973)، وينظر "طبقات" ابن سعد 3/ 137. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 138. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) من قوله: وحكى ابن سعد ... إلى هذا الموضع من (م)، وقع بدله في (ب) و (خ): قالت عائشة بنت سعد. وهذا الكلام (والذي قبله) في "طبقات" ابن سعد 3/ 138. (¬5) المصدر السابق. (¬6) وثمة أقوال أخر، ينظر "تاريخ دمشق" 7/ 177 - 178 (مصورة دار البشير)، وينظر أيضًا "التلقيح" ص 119، وذكر فيه ابن الجوزي ص 445 أنه آخر من مات من المهاجرين.

ذِكرُ أولادِه - رضي الله عنه -: كان له أربعون ولدًا ما بين ذكرٍ وأنثى، وقيل: أربعٌ وخمسون، منهم: إسحاقُ الأكبر، وبه كان يُكنى، دَرَجَ، وأمُّ الحكم (¬1) الكبرى؛ أمّهما ابنةُ شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهْرة. وعُمر، ومحمد، وحفصة، وأُمّ القاسم، وأمُّ كلثوم؛ أمُّهم مارية (¬2) بنتُ قيس بن معدي كرب؛ كِنْديَّة. وعامر، وإسحاق الأصغر، وإسماعيل، وأمُّ عِمران؛ أمُّهم أمُّ عامر بنت عَمرو، من بَهْراء. وإبراهيمُ، وموسى، وأمُّ الحَكَم الصُّغرى، وأمُّ عَمرو، وهند، وأمُّ الزُّبير، وأمُّ موسى؛ أمُّهم زَبَد، يزعم (¬3) بنوها أنها بنت الحارث بن يَعْمَر (¬4)، من بني بكر بن وائل؛ أُصِيبَتْ سِباءً. وعَبدُ الله؛ أمُّه سلمى بنت الحارث، من بني تَغْلب بن وائل. [ومصعب، وأمُّه خولة بنت عمرو .... ] (¬5). وعبدُ الله الأصغر، و [بُجَير، واسمُه] عبد الرحمن، وحَمِيدة؛ أُمُّهم أمُّ هلال بنتُ ربيع، من مَذْحِج. وعُمير الأكبر، دَرَجَ قبل أبيه، وحَمْنَة؛ أمُّهُما أمُّ حكيم بنت قارظ (¬6)، من بني زُهْرة (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): أم حكيم، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 3/ 128. (¬2) كذا في "نسب قريش" ص 264. وفي "طبقات" ابن سعد 3/ 128: ماوية. ولم يرد ذكر أولاد سعد - رضي الله عنه - في (م) بالتفصيل. (¬3) تحرفت لفظة "يزعم" في (ب) و (خ) إلى لفظة: بن عم. والمثبت من "الطبقات" 3/ 128. (¬4) في (ب) و (خ): نعم، والمثبت من "الطبقات" 3/ 128. (¬5) ما بين حاصرتين من "الطبقات" وهو ضروري؛ لقوله آخر الكلام: ثمانية عشر ذكرًا. (¬6) في (ب) و (خ): قانط، والمثبت من "الطبقات" 3/ 129. (¬7) في "الطبقات": من بني كنانة حلفاء بني زهرة.

محمد بن سعد

وعُمير الأصغر، وعَمرو، وعِمران، وأمُّ عمرو، وأمُّ أيوب، وأمُّ إسحاق؛ أمهم سلمى بنت خَصَفَة بن ثَقْف (¬1) بن ربيعة، من بني عُكابة. وصالح؛ نزلَ الحِيرة لشرٍّ وقعَ بينه وبين أخيه عُمر بن سعد، ونزلَها ولدُه، ثم نزلُوا رأس العين، وأمُّه طيبة (¬2) بنت عامر بن عُتبة، من النمر بن قاسط (¬3). وعثمان، ورَملة؛ أمُّهما أمُّ حُجَيْر. وعَمْرة، وهي العمياء، تزوَّجَها سهيل (¬4) بن عبد الرحمن بن عوف؛ أمُّها سَبيَّة. وعائشة؛ أمُّها زين بنت الحارث، من بكر بن وائل (¬5). فهؤلاء ستة وثلاثون ولدًا، منهم ثمانية عشر ذكرًا، وثمانية عشر أنثى. فأعيانُهم: محمد بنُ سَعد من الطبقة الأُولى من التابعين من أهل المدينة، كنيتُه أبو القاسم، وكان قد خرجَ مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وشهدَ دَيرَ الجماجم، ثم أُتيَ به إلى الحجّاج، فقتلَه (¬6). وقد سمعَ من عثمان رضوان الله عليه، وكان ثقةً، له أحاديثُ ليست بالكثيرة. وكان له من الولد إسماعيل، وكان من فقهاء قريش، وإبراهيم، دَرَجَ (¬7)، وأمُّ عبد الله، وعائشة، وهم لأمَّهات أولادٍ شتَّى. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): حفصة بن ثقيف، والمثبت من "الطبقات". (¬2) في (ب) و (خ): وأمهم ظبية، والمثبت من "الطبقات". وينظر بعض ما سلف في "توضيح المشتبه" 4/ 334 - 335. (¬3) في (ب) و (خ): من اليمن من قاسط، والمثبت من "الطبقات". (¬4) في (خ): سهل. (¬5) طبقات ابن سعد 10/ 433، وفيه: زَبْن، بدل: زَيْن. (¬6) وقع خرم في (ب) بدءًا من هذا الموضع إلى قول ابن الزبير ص 357: اختر منا خصلة من ثلاث، ويشار أيضًا إلى أن هذا الكلام ليس في (م) أيضًا، وحتى نهاية السنة الخامسة والخمسين. (¬7) بعدها في "طبقات" ابن سعد 7/ 166: وعبدُ الله؛ درج. وينظر الكلام السالف فيه.

عامر بن سعد

عامر بنُ سَعد من الطبقة الأولى أيضًا، توفي سنة أربعٍ ومئة. وقيل: توفِّي بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك. وكان ثقة كثير الحديث. وكان له من الولد داود، ويعقوب؛ لا عقب له (¬1)، وأمّ إسحاق، وحفصة، وحميدة، وأمُّ هشام، وأمّ عليّ؛ أمُّهم [أمُّ] عُبيد الله، من الأشعريّين. عمرُ بنُ سَعد من الطبقة الأولى أيضًا، وكان بالكوفة قد استعمله عُبيد الله بنُ زياد على الرَّيِّ وهمذان، وقطع معه بعثًا. فلمَّا قدمَ الحسينُ - عليه السلام - العراقَ أمره عُبيد الله أنْ يسيرَ إليه، وبعثَ معه أربعةَ آلافٍ من جُنده، وقال له: إنْ وضَعَ يدَه في يدي؛ وإلَّا فقاتِلْه. فأبَى عُمر، فقال: إنْ لم تفعلْ هدمتُ دارَك، وعزلتُك عن عملك. فسار إلى الحسين، فقاتَلَه حتى قُتِلَ الحسين - عليه السلام -. فلما غلبَ المختارُ على الكوفة قَتَلَ عُمرَ وابنَه حَفْصًا. وكان لعمر بن سعد من الولد: حفص، وحفصة، وأمُّهما مريم بنتُ عامر بن أبي وقاص. وعبدُ الله الأكبر لأمِّ ولد؛ تُدعى سلمى. وعبدُ الرحمن الأصغر، وأمُّ عَمرو، وأُمُّهما أمُّ يحيى بنتُ عبد الله بن معدي كرب، من كِنْدَة. وحمزةُ، وعبدُ الرحمن، ومحمد، ومغيرةُ لا عقب له، وحمزةُ الأصغر؛ أُمُّهم أُمُّ ولد. ومحمدُ الأصغر، والمغيرة، وعبد الله؛ لأُمَّهاتِ أولاد (¬2). ¬

_ (¬1) بعدها في "طبقات" ابن سعد 7/ 166: "وعبدُ الله لا عقبَ له". ولفظة "أمّ" الآتية بين حاصرتين منه. (¬2) بعدها في "طبقات" ابن سعد 7/ 166: وعبد الله الأصغر، وأمه من كندة.

عمرو بن سعد

وأمُّ يحيى، وأمُّ سَلَمة، وأمُّ كلثوم، وحميدة، وحفصة الصغرى (¬1)، وأمّ (¬2) عبد الله، لأمهات أولاد. عَمرو بن سَعد من الطبقة الأولى أيضًا، قُتلَ يومَ الحرَّة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين (¬3). عُمير بن سعد من الطبقة الأولى أيضًا، قُتل يومَ الحَرَّة (¬4). مصعب بن سَعد من الطبقة الأولى أيضًا، توفِّي سنةَ ثلاثٍ ومئة، وكان له من الولد زُرَارة، ويعقوب [وعقبة] (¬5) وأمُّهم أمُّ حسن بنتُ فَرقَد، من ضَبَّة. وسَلامَة وأمُّ حسن؛ أمُّهما سُكَينة بنتُ الجليس، من بني زُهرة. وكان مصعب ثقةً كثيرَ الحديث، نزلَ الكوفة، ورَوَى عن علي - عليه السلام - (¬6)، وروى عنه إسماعيلُ بنُ أبي خالد (¬7). إبراهيم بن سَعد من الطبقة الأولى أيضًا، روى عن عليّ - عليه السلام -، وكان ثقة كثيرَ الحديث (¬8) يحيى بن سَعد من الطبقة الأولى أيضًا. ¬

_ (¬1) بعدها في "طبقات" ابن سعد 7/ 167: وأم عَمرو الصغرى. (¬2) في (خ) (والكلام منها وحدها): وأمهات، بدل: وأم، وهو سهو من الناسخ. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 167. (¬4) المصدر السابق. (¬5) ما بين حاصرتين من "طبقات" ابن سعد 7/ 138، واستدركتُه لقوله بعده: وأمُّهم ... (¬6) روى عنه لكن لم يسمع منه كما في "جامع التحصيل" ص 345. (¬7) روى الجماعة لمصعب بن سعد، ينظر "تهذيب الكمال" 28/ 24. (¬8) طبقات ابن سعد 7/ 138، وروى له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، ينظر "تهذيب الكمال" 2/ 94.

إسماعيل بن سعد

[إسماعيل بن سعد من الطبقة الأولى أيضًا] (¬1) كان له من الولد يحيى؛ أمُّهُ بنتُ سُليمان (¬2)، من بني زُهْرة. وإبراهيم، وأبو بكر، ومحمد، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وعمران، وأمُّ يحيى، وأمُّ أيوب؛ لأمَّهاتِ أولادٍ شتَّى. عبد الرحمن بنْ سعد أمُّه أمُّ هلال، من طيِّئ (¬3). عائشة بنت سعد روت عن أبيها، وعن عدَّةٍ من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت: كنتُ أدخلُ على أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليَّ الحُلِيّ والذهب، لا يُنكرون عليَّ، وما رأيتُ على واحدةٍ منهنَّ ثوبًا أبيض. وفي رواية: رأيت عليهن مُعَصْفَرات (¬4). ذكر إخوة سعد - رضي الله عنه -: كان له عُتْبة، وهو الذي شَجَّ جبينَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ أُحُد، وكَسَرَ رَباعِيَتَه، ثم أسلمَ وماتَ مسلمًا، وأوصى إلى أخيه سعد (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين استدراك ضروري. وإسماعيل بن سعد من الطبقة الأولى من التابعين. ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 168، مع الإشارة إلى أن هذا الكلام من (خ) وحدها. (¬2) في (خ): سلمان. والمثبت من "الطبقات". (¬3) أورده ابن سعد في "الطبقات" 7/ 169 مع إخوته في الطبقة الأولى من التابعين أيضًا. (¬4) أي: ثياب مُعَصْفَرَة. وينظر الكلام في هذه الترجمة في "الطبقات" 10/ 433 - 434. (¬5) ذكر ابن حجر في "الإصابة" 8/ 4 (في القسم الرابع من حرف العين) أنه لم يذكر عُتبة في الصحابة إلا ابنُ منده اعتمادًا على حديث عائشة في اختلاف سعد وعبد بن زَمعة في ابن أَمَةِ زَمعة؛ قال فيه سعد: أوصاني أخي (يعني عُتبة) إذا قدمت مكة فانظر ابنَ أمة زمعة، فاقْبضه، فإنّه منّي. وسلف قريبًا في ترجمة سَوْدة - رضي الله عنهما -. قال ابن حجر: ليس في الحديث ما يدل على إسلامه، وقد اشتد إنكار أبي نُعيم على ابن منده في ذلك ... ثم قال ابن حجر: ليس في شيء من الآثار ما يدلّ على إسلامه، بل فيها ما يُصرِّح بموته على الكفر.

أبو اليسر كعب بن عمرو

وولدُه هاشمُ بنُ عُتْبة يُسمَّى المِرْقال، قُتل يومَ صِفِّين مع عليّ - عليه السلام - (¬1). أسندَ سعدٌ - رضي الله عنه - الحديث؛ قال قوم: مئتي حديث وأحدًا وسبعين حديثًا، وقيل دون ذلك (¬2). وروى عن أبي بكر، وعمر رضوان الله عليهما (¬3). وروى عنه: ابنُ عمر، وابنُ عبَّاس، وجابر بنُ سَمُرة، وعائشة، وبنو سعد: عامرٌ، ومصعبٌ، ومحمدٌ، وإبراهيمُ، وعمرُ، وعائشةُ. وابنُ المسيِّب، وإبراهيمُ بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو عثمان النَّهْدِيّ، وقيس بنُ أبي حازم، وعَمرو بنُ ميمون الأَوْدي، وشُريح بن هانئ بن يزيد النَّخَعي، والأحنف بن قَيس، وأبو عبد الرحمن عبدُ الله (¬4) بنُ حبيب السُّلَمي، وعروة بنُ الزبير في آخرين (¬5). أبو اليَسَر كعب بن عمرو ابن عبَّاد بن عمرو بن سَواد (¬6) الخزرجي، من الطبقة الأولى من الأنصار، من بني سَلَمة. وأمّه نُسَيبَة بنت قيس، من بني سَلَمة. شهد العقبةَ، وبدرًا وهو ابنُ عشرين سنة، وأُحُدًا، والخندقَ، والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رجلًا دحداحًا قصيرًا ذا بطن. وتوفّي بالمدينة سنة خمس وخمسين، وله عقب بالمدينة. وهو الذي أسَرَ العباسَ - رضي الله عنه - يومَ بدر، وشهدَ مع على مشاهدَه كلَّها، وهو آخِرُ أهلِ بدرٍ موتًا (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 74 - 75. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 364. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 138. وقال ابن عساكر في "تاريخه" 7/ 132: روى خطبة عمر بالجابية، وأظنه لم يشهدها. (¬4) في (خ) (والكلام منها فقط): بن عبد الله، وهو خطأ. (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 7/ 132، و"تهذيب الكمال" 10/ 310 - 311. (¬6) تحرفت لفظة: اليَسَر، في (خ) إلى لفظة: البشر، وتحرفت فيها أيضًا لفظة: سواد، إلى سداد. (¬7) طبقات ابن سعد 3/ 537.

السنة السادسة والخمسون

أسندَ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - (¬1): حدَّثَنا معاوية بنُ عَمرو، حدَّثنا زائدة، عن عبد الملك بن عُمير، عن رِبْعيّ قال: حدَّثني أبو اليَسَر أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَع عنه؛ أظلَّه اللهُ يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه". وكان له من الولد عُمير، ويزيد، وعائشة، - رضي الله عنهم - (¬2). السنة السادسة والخمسون وفيها دعا معاويةُ الناسَ إلى بيعةِ يزيدَ ابنِه، وجعلِه وليَّ عهدِه من بعده. وله أسباب: أحدها أن معاوية كان جعلَ الأمر من بعده للحسن بن علي عليهما السلام، فلما ماتَ الحسن رحمة الله عليه، عهد معاويةُ إلى عبد الله بن أبي هاشم بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، فماتَ، وتركَ مئتي ألف دينار. ولما احتُضر قال: يا ليتني كنت غلامًا لغلمان المهاجرين، ويا ليت هذه الدنانير كانت بعرًا. قال أبو ريحانة: الله أكبر! يفرُّون إلينا، ولا نفرُّ إليهم. فلما مات بايع معاوية لابنه يزيد، وقد كان معاوية كتب إلى زياد بن أبيه يستشيرُه في البيعة ليزيد، فمنعَه من ذلك، وبعثَ إليه عبيدَ الله بنَ كعب الأسديّ (¬3)، وأوصاه زياد، فقال: يا عُبيد الله، لكل مستشير ثقة، ولكلِّ [سرٍّ] مستودع، وقد أبدَع بالناس خصلتان: إذاعةُ السِّرِّ، وإخراجُ النصيحة [إلى غير أهلها]. وليس موضع السِّرِّ إلا أحدُ رجلين: رجلِ آخرةٍ يرجو ثوابًا، ورجلِ دنيا له شرف وعقلٌ يصون بهما نفسه، وقد ظننتُهما بك، وإني دعوتُك لأمر اتّهمتُ عليه بطون الصحف، إن معاوية كتب إليَّ يزعمُ أنه قد أجمع رأيه على توليته يزيدَ ابنَه أمرَ هذه الأُمَّة، وهو يتخوَّف نُفْرةَ الناسِ عليه لِما عليه يزيد من الهَنات القبيحة. فاذهَبْ إليه فقل له: رويدك لا تعجل، فإنَّ العَجَلَةَ من الشيطان. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (15521)، وهو عند مسلم (3006) وفيه قصة. (¬2) ذكر له أيضًا ابن سعد في "الطبقات" 3/ 537 حبيبًا. (¬3) في "تاريخ" الطبري 5/ 302، و"الكامل" 3/ 505، و"المنتظم" 5/ 285: عُبيد بن كعب النميري.

فقال عُبيد الله: فعندي رأيٌ أعرضُه عليك. قال: وما هو؟ قال: لا تُهجِّنْ على معاوية بوأيه في ابنه وتبغّضه إليه، فإن رأيتَ أَلْقَى يزيدَ سرًّا من معاوية أُخبرُه برأي أبيه فيه، فعساه أنْ يَنْزعَ عمَّا هو عليه، فلا يبقي لأحد على معاوية حجّة. فقال: افعل. فقدم عُبيدُ الله دمشقَ، فلقيَ يزيدَ، فأخبره، فأَقْطَعَه ووصلَه، واجتمع عُبيد الله بمعاوية، وقال له: يقول لك أخوك: التأنِّيَ والتُّؤدَة. فكَفَّ معاويةُ عن ذلك (¬1). وقال ابنُ عبد ربّه: إنَّ معاوية إنَّما دعا الناسَ إلى بيعة يزيدَ برأي المغيرة بن شعبة حين كَبِر، وخافَ أن يعزلَه معاوية، فكتب المغيرةُ إلى معاوية يستقيلُه، فأمره بالقدوم عليه، فلما قدم عليه استقاله وقال له: لو نَضَبْتَ للناس عَلَمًا من بعدك يصيرون إليه. قال: مَنْ تَرَى؟ قال: يزيد. قال: فارجع إلى عملك. ولقي المغيرةُ يزيدَ، فأَخْبَرَهُ، فقال يزيد لأبيه: رُدَّ المغيرة إلى عمله. وكان معاويةُ قد عَمَدَ على أن يُوَلِّيَ الكوفةَ سعيدَ بنَ العاص، وقال معاوية للمغيرة: أرسل إليَّ جماعةً من أهل العراق يسألوني. فخرج من عنده وهو يقول: واللهِ لقد (¬2) وَضَعتُ رِجْلَه في رِكابٍ طويلٍ على (¬3) أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬4). قال المصنف رحمه الله: والأصحُّ أن معاويةَ لم يعهد إلى يزيد إلا في هذه السنة، وكان يستشير زياد فيثبِّطُه، ويستشير المغيرة؛ فإذا ثبَّطَه هدَّدَهُ بالعَزْل، وإذا أجابَه أبقاه. ومات زياد ومات المغيرة والأمرُ بحاله إلى هذه السنة. وكان معاوية يتخوَّف الناسَ أن لا يُجيبونه (¬5)، فما زال يتوصَّل إلى الأشراف من أهل الشام، ويُطلقُ لهم الأموال، فلما استمالهم دعاهم إلى البيعة. ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ" الطبري 5/ 302 - 303 (وما بين حاصرتين منه)، و "المنتظم" 5/ 285 - 286. (¬2) في (خ): لو، بدل: لقد. والمثبت من "العقد الفريد" 1/ 83 - 84 والخبر فيه بنحوه. (¬3) في "العقد الفريد": ألقى عليه، بدل: على. (¬4) بعدها في (خ) (والكلام منها): "وبعث إليه رجل من أهل الكوفة مع أبيه (كذا) عروة بن المغيرة". وجاء عليها في آخرها لفظة: كذا. ولعل المراد ذكرُ خبر إرسال المغيرةِ ابنَه عروةَ إلى معاوية مع أربعين من وجوه أهل الكوفة من أجل البيعة ليزيد. فكتب الناسخ بعض الخبر على تحريف فيه. والله أعلم. وينظر الخبر في "مختصر تاريخ دمشق" 17/ 29. (¬5) كذا في (خ) (والكلام منها)، والجادة: أن لا يجيبوه.

وقال المدائني (¬1): جمع معاويةُ الناسَ للبيعة لابنه يزيد، فلم يدرِ ما يقول، فقام رجل من عُذْرَة، يقال له: يزيد بن الفُجيع (¬2) وفي عنقه سيف، فاخترطَ منه شبرًا، وقال: أميرُ المؤمنين هذا. وأشار إلى معاوية. فإن فُقد فهذا. [وأشار إلى يزيد -وكان إلى جانب أبيه- فمن أبي فهذا]. وأشار إلى سيفه. فقال له معاوية: أنت أخطبُ العرب، وأمر له بمال. قال الهيثم [بن عدي]: ولما بلغ الخبرُ إلى المدينة بذلك اجتمعتِ الشيعة إلى الحسين بن علي عليهما السلام، وعظَّموا ما فعل معاوية وقالوا: وَلَّى على الناس من يشربُ الخمر، ويلعب بالقرود والمعازف وغيرها! فقال الحسين - عليه السلام -: الصبرَ الصبر. وكتب مروان إلى معاوية بما جَرَى، فكتب إلى الحسين - رضي الله عنه -: أمَّا بعد، فقد انتهت إليَّ أمور أرغبُ بك عنها (¬3)، فإنْ كانت حقًّا لم أُقارِّك عليها، ولَعَمري إنَّ من أعطَى صَفقَة يمينه وعَهْدَ اللهِ وميثاقَه لَحَرِيٌّ (¬4) بالوفاء، وإنْ كانت باطلًا فأنتَ أسعدُ الناس بمجانبتها، إنك متى تُنْكِرْني أُنْكرك، ومتى تَكِدْني أَكِدْك، وأخوك كان أشرفَ منك، فاتَّقِ الله، "ولا يستَخِفَّنَّك الذين لا يوقنون" لا تحمِلْني يا حسين على القَطِيعة، ولا تردَّ الأمةَ في الفتنة. والسلام (¬5). قال أبو اليقظان: فكتَبَ إليه الحسين - رضي الله عنه -: أمَّا بعد، فقد وصلَني كتابُك تذكرُ فيه كيتَ وكيت. فأمَّا ما نُمِيَ إليك؛ فإثما أنماه المَلَّاقون المشَّاؤون بالنمائم، المفرِّقون بين الجمع، وإني لا أُريد خلافًا عليك. وايمُ الله، إني لقد تركتُ ذلك، وإني أخافُ الله في تركه، وما أظنُّ الله راضيًا عني بترك محاكمتي إياك إليه، ولا عاذري فيك وفي أوليائِك الجائرين القاسطين أولياءِ الشياطين، أَلَسْتَ قاتلَ حُجْر بنِ عَدِيّ وأصحابِه ¬

_ (¬1) في (م): الواقدي. (¬2) في "العقد الفريد" 4/ 370: يزيد بن المقفَّع، وفي "عيون الأخبار" 2/ 210: يزيد بن المقنَّع. (¬3) في (خ) (والكلام منها وحدها): أُنهيت إليَّ ... بها عنك، والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 137. (¬4) تحرفت في (خ) إلى: يجري. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 137. (¬5) بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 137. وقوله: ولا يَسْتَخِفَّنَّك ... من الآية (60) من سورة الروم.

المصلِّين القائمين الصائمين، المنكرين الظلم والبِدَع، لا يخافون في الله لَوْمةَ لائم؟ ألستَ الذي أعطيتَهم العهودَ والمواثيق والأَيمان المغلَّظة أنك لا تقتلُهم وأمرتَهم بالتَّبرِّي من أمير المؤمنين، ثم غَدَرْتَ عليهم فقتلتَهم؟ ألستَ المدَّعيَ لزياد بن سُميَّة المولودِ على فراش عُبيد عبدِ ثقيف، وزعمتَ أنه ابنُ أبيك، وقد سمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الولدُ للفراش، وللعاهِرِ الحَجَر" فخالفتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتَّبعتَ هواك، ثم سلَّطْتَه على أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ يقطعُ أيديَهم، ويَسْمُلُ أعينَهم، ويصلُبُهم في جذوع النخل، ويدفِنُهم أحياءً؟ ألستَ الذي اخترتَ لأُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ابنَكَ يزيدَ الفاسقَ الذي يدعُ الصلوات، ويظلُّ سكرانًا من الخمر، ويلعب بالطنابير والمعازف والقرود والصيود، ويُجاهرُ الله بما يعلمُه، ولا يخفَى عليك منه خافية؟ وأما قولُك: اتَّقِ الله، ولا تَرُدَّ الأمَّةَ في الفتنة؛ فما أَعلمُ فتنةً أعظمَ من نفور المسلمين إيَّاك على ما أنتَ عليه (¬1)، ولا أعلم نظرًا لديني ولنفسي أفضلَ من جهادك، لكن لك عندنا عهودٌ ومواثيقُ، فاتَّقِ الله يا ابْنَ صَخْر، وأيقِنْ بالحساب، وتأهَّبْ للقصاص، فإنَّ للهِ كتابًا لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها. والسلام (¬2). فلما قرأ معاويةُ كتابَه استشاطَ غيظًا، وكتبَ إلى مروان أَنْ يأخذَ البيعةَ ليزيد على أهل الحجاز. فلما ورد كتابه على مروان، صَعِدَ المنبر وقال: سنَّةُ أبي بكر الراشدة الهادية المهديَّة أنَّ أمير المؤمنين قد كَبِرَ سِنُّه، ورَقَّ عَظْمُه، وخافَ أن يأتيَه أجَلُه فيدعَ الناسَ كالغنم بغير راعٍ، وقد أَبها أن يُقيم للناس إمامًا، وقد أقام ابنَه يزيدَ. فصاح به عبد الرحمن بنُ أبي بكر الصّدِّيق - رضي الله عنهما -: كذبتَ وكذبَ معاوية، لا يكون ذلك أبدًا، ولا تُحْدِثُوا علينا سُنَّةَ الروم، كلَّما ماتَ هِرَقْلٌ؛ قام هِرَقْلٌ مكانَه. يا مروان، ما منعَ أبا بكر وعمر أن يستخلفا أحدًا من أولادهما؟ إنَّ (¬3) أبا بكر ترك الأهل ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 4/ 139: فلا أعلم فتنة على الأمة أعظم من ولايتك عليها. (¬2) بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 138 - 139. (¬3) في (خ) (والكلام منها وحدها): أليس إن، وهو سهو من الناسخ.

ذكر قدوم معاوية المدينة

والعشيرة، وعدلَ إلى رجل من بني عَدِيّ بن كدب لَمَّا رآه أهلًا، وأنتُم تتَّخِذُونها هِرَقْلِيَّة! لاها اللهِ ذا. فغضب مروان وقال: هذا الذي أنزلَ اللهُ فيه: {وَالَّذِي قَال لِوَالِدَيهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} الآية (¬1). قال ابنُ عساكر. وكانت عائشةُ رضوان الله عليها في الحُجرة تسمع، فقالت: كذبتَ يا مروان، إنما أنزل الله ذلك في فلان، ولو شئتُ لسمَّيتُه، ولكن أشهدُ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنَ أباك وأنتَ في صُلْبِه يومئذ (¬2). يا ابنَ الزرقاء، أعلينا تتأوَّلُ القرآن؟ ! لو شئتُ لقلتُ قولًا يَخرج من أقطارها. فقال مروان: ما هذا بأوَّل يومِنا. ونزل من المنبر، وخاضَ الناس، وكادت أن تكون فتنة، فكتبَ مروان إلى معاوية، فأخبره الخبر (¬3). وقال ابنُ عَوْن: بايعَ الناسُ ليزيد إلا خمسةَ نَفَر: الحُسَين بن عليّ، وابن عمر، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عباس، - رضي الله عنه -، فإنهم امتنعوا من البيعة رضي الله عنهم أجمعين (¬4). ذكر قدوم معاوية المدينة: لما كتبَ إليه مروانُ يخبرُه بما جرى، قدمَ المدينةَ معتمرًا، وذلك في رجب، فدخلَ على عائشةَ - رضي الله عنها -، فحمدت الله، وصلَّت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكَرَتْ سيرةَ أبي بكر وعُمر - رضي الله عنهما -، وحضَّتْه على الاقتداء بهما، وذكرت يزيدَ، فنالتْ منه، فقال لها معاوية: يا ¬

_ (¬1) ينظر "مجالس ثعلب" ص 451، و"العقد الفريد" 4/ 370 - 371، و"الأوائل" للعسكري 1/ 342 - 343. (¬2) الخبر بنحوه في "السنن الكبرى" للنسائي (11427) (تفسير)، و"المستدرك" 4/ 481، وصححه الحاكم، فتعقّبه الذهبي بأن إسناده منقطع. وهو بنحوه في "صحيح" البخاري (4827) دون ذكر اللعن، وذكره الزركشي في "الإجابة لإيراد ما استدركته السيدة عائشة على الصحابة" ص 233. وينظر "تاريخ دمشق" 4/ 331 - 34 (طبعة مجمع دمشق، ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر). (¬3) ينظر "تاريخ دمشق" (المذكور قبله). ووقع في "العقد الفريد" 4/ 371 قوله: يا ابن الزرقاء ... من قول عبد الرحمن. (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 303.

أمَّ المؤمنين، أنتِ العالِمةُ بالله، دَلَلْتِنَا (¬1) على الحق، وحَضَضْتِنا على حَضِّ أنفسنا (¬2)، وأَنتِ أَهل أنْ يُطاعَ (¬3) قولُك، ويُمتثلَ أمرُك، وقد كان أمرُ يزيد قضاءً من القضاء، وليس للعباد الخِيرَة في أمرهم، وقد وكَّد الناسُ ببيعته في أعناقهم، وأعطَوْه العُهود والمواثيق، أَفَتَرَيْنَ أنْ يَنْقُضُوا عهودَهم؟ ثم قام وهو يقول: تاللهِ ما رأيتُ خطيبًا أبلغَ من أمّ المؤمنين اليوم (¬4). قال الشعبي: ثم صَعِدَ معاويةُ المنبر وقال: إنَّا قد بايعنا يزيدَ، فبايِعُوا، فصاحَ به الحُسين - عليه السلام -: لا ولا كَرامَة، أنا - واللهِ- أَحقُّ بها من يزيد، أبي خيرٌ من أبيه، وأمِّي خير من أمِّه، وجدِّي خيرٌ من جدِّه، وأنا خير منه. يا معاوية، أنتَ أعلمُ الناسِ بيزيد في ليله ونهاره، وسرّه وعلانيته، وأنتَ ذاهب إلى الله، فاخْتَر لنفسك والأمةِ. وقال ابن عَوْن: لَمَّا قدم معاويةُ المدينةَ؛ أرسلَ إلى الحسين - رضي الله عنه -، فقال: يا ابنَ أخي، قد اسْتَوْسَقَ (¬5) الناسُ لهذا الأمر غيرَ خمسةِ نفرٍ؛ أنتَ رأسُهم وقائدُهم. فقال الحسين: ابْعَثْ إليهم، فإنْ بايَعُوا؛ كنتُ رجلًا منهم، فأخذَ عليه معاويةُ العهودَ أنْ يكتُم ذلك. فخرج من عنده وقد أقعدَ له ابنُ الزُّبير رجلًا، فسألَه عن الحال، فأخبرَه ببعض الأمر. ثم أرسلَ معاويةُ إلى ابن الزبير، فقال له مثلَ ما قال للحسين، وردَّ عليه ابنُ الزُّبير مثلَ ما ردَّ الحُسينُ، وخرج من عنده. ثم أرسلَ إلى ابن عمر، فكلَّمه بكلام ألينَ من كلامه للحسين وابنِ الزبير وقال: قد اسْتَوْسَقَ الناسُ لهذا غيرَ خمسة من قريش، أنتَ تقودُهم، فقال: أنا أبايعُك على أن أَدخُل بعدَك فيما تُجمع عليه الأمة. قال: وتفعل؟ قال: نعم. ثم خرجَ إلى بيته. ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها وحدها): دليلنا، والمثبت من "الإمامة والسياسة" 1/ 158. (¬2) في (خ): وحظظتنا على حظ أنفسنا. (¬3) في (خ): وأنت لأهل أمر يطاع. والصواب ما أثبتُّه إن شاء الله. وفي "تاريخ دمشق" 68/ 256 (طبعة مجمع دمشق): وأنت أهل أن تُطاعي. (¬4) ينظر "الإمامة والسياسة" 1/ 158، و"تاريخ دمشق" 68/ 256 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة معاوية). (¬5) أي: اجتمع.

ثم أرسل إلى ععد الرحمن في أبي بكر وقال: لقد هممتَ أنْ أقتلَكَ. فقال: إذًا يُدخِلَك الله النار (¬1). قال الواقدي: ثم جمعَهم معاويةُ عند المنبر وقال: إني متكلِّم بكلام، فمن ردَّه قتلتُه. وكان خطابُه للخمسةِ نَفر، ثم سعد المنبو وقال: إن هؤلاء الخمسةَ قد بايَعوا. فسكتوا خوفًا من سيفه (¬2). وقال أبو اليقظان: كانت البيعة بمكة؛ لأنَّ معاوية لما تجهَّز من دمشق؛ خرج هؤلاء الخمسة معتمرين إلى مكَّة، فلما قدم معاوية المدينة في رجب؛ سألَ عنهم، فأخبره مروان أنهم خرجوا خوفًا من البيعة، فقدم معاويةُ مكةَ، فاعتمرَ، فلمَا قضى عموته جمعَهم وقال لهم: بايِعُوا. فقال عبد الله بن الزُّبير (¬3): اخْتَر منَا خَصلَةً من ثلاث: إما أنْ تفعلَ كما فعلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه لم يستخلفْ أحدًا، وإما أنْ تفعلَ كما فعلَ أبو بكر؛ نظرَ إلى رجل من عُرض (¬4) قريش، فولَّاه، وإما أن تفعلَ كما فعل عمر، فإنه جعلَها شورَى في ستة نَفر من قريش. ووافقَه الباقون وقالوا: قَدْ أَنْصَفَك. فقال معاوية: إنِّي كنتُ عوَّدتكم عادةً، وأكرهُ أن أمنعَكموها حتى أُبيِّن لكم، إني كنتُ أتكلَّمُ بالكلام فتعترضون عليه وتردُّون عليّ، فإياكم أن تعودوا لمثلها، وإني قائمٌ فقائلٌ مقالةً، فإنْ صدقتُ فيها فلي صِدْقي، وإنْ كذبتُ فعَلَيَّ كذبي، واللهِ لا ينطقُ واحدٌ منكم في مقالتي إلَّا ضربتُ عنقَه. ثم وكَّلَ بكلِّ رجلٍ رجلين، وقال: من ردَّ على فاقتلوه. ثم قام وقال: هؤلاء النَّفَر -وسمَّى كلَّ واحد باسمه- قد بايعوا ابني يزيد، فبايِعُوا. فانجفل الناسُ، فبايَعُوا. ثم ركب رواحلَه، فطلب المثعام، وأمرَ أخاه عُتْبَةَ بن أبي سفيان أنْ يحجَّ بالناس في هذه السنة، فحجَّ بهم. ¬

_ (¬1) ينظر "الإمامة والسياسة" 1/ 158 - 159، و"تاريخ" الطبري 5/ 303 - 304، و"المنتظم" 5/ 286 - 287. (¬2) المنتظم 5/ 287. (¬3) في هذا الوضع نهاية الخرم في (ب) الذي بدأ قبل ترجمة عامر بن سعد ص 346. (¬4) أي: عامَّة.

إسحاق بن طلحة

واجتمع الناسُ إلى الخمسة نفر ولاموهم وَلَحَوْهُم (¬1)، فقالوا: يا قوم، واللهِ ما بايَعنا، وإنما فعلَ بنا معاويةُ كذا وكذا (¬2). قال الشعبي: ولما قفلَ معاويةُ إلى الشام قال له بعض أصحابه: ما الذي دعاك إلى هذا؟ قال: لولا هوايَ في يزيد لأبْصَرتُ رُشْدِي. وفيها ولَّى معاويةُ سعيدَ (¬3) بنَ عثمان بن عفَان خُراسان، فاستفحل أمره، فعزلَه معاوية خوفًا منه. ولما قدم سعيد خُراسان كان بها أسلمُ بنُ زُرْعَة الكلابي من قِبَل عُبيد الله بن زياد، فكتبَ إلى أسلم بعهده على خُراسان (¬4)، فلما ورد كتاب عُبيد الله على أسلمَ؛ طرقَ على سعيد بن عثمان منزلَه ليلًا، فأسقطَتْ جاريةً لسعيد غلامًا، فكان سعيد يقول: لأقتلَنَّ رجلًا من بني حرب. وقدم سعيد على معاوية، فشكا إليه أسلمَ، وأقام أسلم واليًا على خُراسان سنتين لم يفتح في معاملته شيئًا. وكان العامل في هذه السنة مروان على المدينة، وعلى الكوفة الضَّحَّاك، وعلى البصرة عبيدُ الله بنُ زياد (¬5). وفيها توفي إسحاق بن طلحة (¬6) ابن عُبيد الله التَّيمي القُرشيّ، أمُّه أمُّ أبان بنتُ عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وهي خالةُ معاوية. ¬

_ (¬1) أي: لاموهم. وتحرّفت في (ب) و (خ) إلى لفظة: ونحوهم، وفوقها: كذا. (¬2) ينظر "مجالس ثعلب" ص 451 - 453، و"العقد الفريد" 4/ 371 - 372، و "الأوائل" للعسكري 1/ 342 - 343. (¬3) في (خ): بن سعيد، وهو خطأ. وجاء فوق لفظة "بن": كذا. وفي السياق اختصار كبير، ينظر تفصيلُه في المصدر التالي. (¬4) في الكلام اختصار مخلّ، وعبارة "تاريخ" الطبري 5/ 306: قدم سعيد بن عثمان خراسان، وأسلمُ بن زُرعة الكلابي بها من قِبل عُبيد الله بن زياد، فلم يزل أسلم بن زرعة بها مقيمًا حتى كتب إليه عُبيد الله بن زياد بعهده على خراسان الثانية. (¬5) تاريخ الطبري 5/ 304، والمنتظم 5/ 287 - 288. (¬6) في (ب) و (خ): طليحة، وهو خطأ.

عبد الله بن قرط

وإسحاق من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة (¬1). عبد الله بن قُرْط الأزدي الثُّمالي، كان اسمُه في الجاهلية شيطانًا، فسمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله (¬2)، وهو أخو عبد الرحمن (¬3) بن قرط (¬4)، وكلاهما له صحبة. شهد عبدُ الله فتحَ دمشق، وبعثَه أبو عبيدة - رضي الله عنه -[إلى أبي بكر] رسولًا، وشهدَ اليرموك، وهو من الطبقة الأولى ممن نَزَلَ الشام من الصحابة (¬5). وولَّاه أبو عبيدة - رضي الله عنه - حمص مرَّتين، ومنزلُه بها معروف، ولم يزل واليًا عليها حتى مات أبو عبيدة (¬6). وكان قد بنى بحمص عِلِّيَّة، فأرسل إليها عمرُ بنُ الخطاب رضوان الله عليه، فحرَّقها وقال: ارتفعتَ على المسلمين، ثم أمرَه أن يلبَس نَمِرةً من أوبار الإبل، وأمرَه أن يَرعَى الإبل والغنم، وقال: ارتفعت على الأرْمَلَة واليتيم والمسكين، ثم قال [له]: ارجع إلى عملك، ولا تَعُدْ. خرجَ عبدُ الله بنُ قُرْط في بلاد الروم يحرسُ ليلةً على شاطئ البحر، فقتلَه الروم، وذلك في سنة خمس -أو ستّ- وخمسين (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 165. (¬2) مسند أحمد (19076). (¬3) في (ب) و (خ): عبد الله، وهو خطأ. (¬4) لم يجزم ابن عبد البر في "الاستيعاب" أنه أخوه، فقال في ترجمة عبد الرحمن بن قُرط (ص 455): أظنه أخا عبد الله بن قرط. (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 418، ومختصر تاريخ دمشق 13/ 230. وما سلف بين حاصرتين من (ب)، ووقع فيها: إلى أبو بكر. (¬6) الاستيعاب ص 433. (¬7) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 13/ 231 - 232.

السنة السابعة والخمسون

السنة السابعة والخمسون وفيها عزل معاوية مروان عن المدينة [في قول الواقدي]. وقيل (¬1): إنَّما عزلَه في السنة الآتية. وولَّى الوليدَ بنَ عُتبة بن أبي سفيان. وحجَّ بالناس الوليدُ بنُ عتبة. وكان العاملَ على الكوفة الضحَّاكُ بنُ قيس، وعلى البصرة عُبيد الله بنُ زياد، وعلى خُراسان أسلمُ بنُ زُرْعة خليفةُ ابن زياد، وقيل: بل كان العاملَ على خُراسان سعيدُ بنُ عثمان بن عفان، وعُزل في آخر السنة (¬2). وفيها توفي شدَّاد بن أوس ابن المنذر بن حَرَام بن عَمرو بن زيد (¬3) مناة بن عامر بن عمرو بن مالك بن النجار. [كذا نسبه ابن سعد (¬4). وقال جدّي في "التلقيح": شدّاد بن أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام (¬5)، و] كنيتُه أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو يعلى [قال ابن سعد: ولم تسمَّ لنا أمُّه] (¬6). وهو من الطبقة الثالثة من الأنصار، وأُمُّه صُرَيمة، من بني عديّ ابن النجَّار. وهو ابن أخي حسان بن ثابت الشاعر. قيل: إنَّه شهدَ بدرًا. ولا يصحّ، وشهد اليرموك والجابية (¬7)، ونزل البيت المقدَّس وسكنه، وكان إمامَه. ¬

_ (¬1) في (م): وقال أبو معشر، بدل: وقيل: وما سلف بين حاصرتين منها. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 308، والمنتظم 5/ 289. (¬3) في (م): يزيد. (¬4) الذي في "الطبقات" 5/ 322: شداد بن أوس بن ثابت بن المنذر. . . إلخ. وما بين حاصرتين من (م). (¬5) الذي في "التلقيح" ص 207: شداد بن أوس بن ثابت أبو يعلى. وقال في "صفة الصفوة" 1/ 708: شداد بن أوس بن ثابت بن المنذر، يكنى أبا يعلى، وكانت له عبادة واجتهاد. (¬6) طبقات ابن سعد 5/ 322. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬7) لم أقف على من ذكر ذلك، وينظر ما سبق في "تاريخ دمشق" 8/ 1 - 2 (مصورة دار البشير).

[وقال ابن عساكر: ] (¬1) وروى عنه محمد بن واره (¬2) حديثًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ستُفتح الشام، وتكون أنت وولدُك ببيت المقدس". [وقال ابن أبي الدنيا: ] ورُؤيَ على سور البيت المقدَّس الشرقي وهو ينظر إلى وادي جهنم ويبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: من هاهنا أخبرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى جهنم (¬3). وسكن حمص أولًا، ثم نزل البيت المقدَّس وتوفِّي به. و[قال ابن سعد: ] (¬4) كانت له عبادة واجتهاد في العمل، وكان إذا أَوَى إلى فراشه كأنَّه حَبَّةٌ على مَقْلًى، فيقول: [اللهم] إن النار أسهَرَتْني. ثم يقومُ إلى الصلاة. [وفي رواية: إن جهنم لا تدعُ أحدًا ينام. قال: ] وخرج في سفر، فقال لغلامه: هاتِ السُّفْرَةَ نَعْبَثْ بها. ثم قال: واللهِ ما تكلَّمتُ بكلمة منذُ أسلمتُ إلا وأنا أزُمُّها غيرَ هذه، فلا تحفظوها عليّ (¬5). و[قال ابن سعد بإسناده عن قتادة (¬6): إن شداد بن أوس، خطبَ الناسَ، فحَمِدَ اللهَ، وأثْنَى عليه، وقال: أيُّها الناس، أَلَا إنَّ الدُّنيا أَجَلٌ حاضر، يأكلُ منها البَرُّ والفاجر، أَلَا وإنَّ الآخرةَ أَجَلٌ مُستأْخِرٌ، يقضي فيها مَلِكٌ قادر، أَلَا وإنَّ الخيرَ كلَّه بحذافيره (¬7) في الجنَّة، أَلَا وإنَّ الشَّرَّ بحذافيره في النار، أَلَا واعلموا أنَّه مَنْ يعملْ مثقال ذرَّة خيرًا يَرَهُ، ومَنْ يَعملْ مثقال ذرَّةٍ شرًّا يَرَهُ. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 8/ 2 - 3 (مصورة). وما بين حاصرتين من (م). (¬2) في (خ): زرارة، وهو خطأ. (¬3) لم أقف عليه عند ابن أبي الدنيا، والحديث مشهور عن عُبادة بن الصامت، أخرجه عنه ابن حِبَّان (7464)، والحاكم في "المستدرك" 4/ 603 - 604، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ترجمة سعيد بن عبد العزيز التنوخي)، وغيرهم، وفي إسناده انقطاع، ولم أقف عليه من حديث شداد بن أوس. (¬4) في "الطبقات" 5/ 322. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬5) هو صدر حديث له، أخرجه عنه ابن سعد 5/ 322، وأحمد (17114)، وتنظر تتمة تخريجه فيه. (¬6) طبقات ابن سعد 5/ 323 - 324. (¬7) في (م): بحذاريفه. وكذا في الموضع التالي.

و [قال ابن سعد بإسناده عن محمد بن مسلم قال (¬1): قال شدَّاد بن أوس، وكانت له صحبة] قال: زوِّجُوني، فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أنْ لا أَلْقَى اللهَ عَزَبًا. وقال ابن سعد (¬2): تحوَّلَ إلى فلسطين ومات بها في سنة ثمان وخمسين، وهو ابنُ خمس وسبعين سنة (¬3). وقال هشام: توفي بالقدس في سنة سبع وخمسين. [وقيل: سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة أربع وستين. وقال ابن عبد البر (¬4): مات سنة إحدى -أو أربع- وأربعين، وهو وهم]. وقال المصنف رحمه الله: رأيتُ بالحائط الشرقيّ من بيت المقدس قبرًا في حائط السور، وعليه مكتوبٌ اسمُه. وكان له أولاد: يعلى، ومحمد، وعبد الوهَّاب، والمنذر، وأختُهم الخزرج، وأعقب بعضهم (¬5). ولما كانت الرَّجْفة بالشام سنة ثلاثين ومئة وزال ملكُ بني أمية؛ وقعت الدُّور والمنزل الذي كان فيه أولادُ شَدَّاد. . . (¬6)، فلم يبق إلا محمد؛ ذهبَتْ رِجْلُه تحت الهدم، وعُمِّر بعد ذلك حتى قدم على محمد المهدي. وكانت نعلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند شدَّاد، وهما زوج [فصارت إلى محمد] فقالت له أختُه خَزْرَج؛ وكانت قد تزوَّجت في الأَزْد ولها نَسْل: يا أخي [ليس] لك نَسْل، ولي عقب، فأَعْطِني أَحَدَ النَّعلين يكونُ عند وَلَدي، فهي مَكْرُمَة. فدفعَ لها أحدَ النَّعلين، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 324. (¬2) في (م): واختلفوا في وفاته، فحكى ابن سعد. . . (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 322. (¬4) الاستيعاب ص 329، وأورده بصيغة التضعيف. (¬5) تاريخ دمشق 8/ 2 و 3 (مصورة دار البشير). (¬6) مكان النقاط في (ب) و (خ) لفظة: ومسلمة. وهي محرفة عن كلمة لم تتبيَّن لي، أو أَنَّها زائدة سهوًا من الناسخ، فبدونها لا ينخرم سياق الكلام. والعبارة في "تاريخ دمشق" 8/ 3 (مصورة دار البشير): ووقع المنزل الذي كان فيه محمد بن شداد على كل من كان فيه من أهله وولده، فَفَنُوْا جميعًا، وسَلِمَ محمد. . .

شيبة بن عثمان بن أبي طلحة

وعاشت إلى زمن المهديّ، فلما قدمَ المهديُّ إلى بيت المقدس؛ جاءته خَزْرَج، وانتسبتْ إلى شدَّاد بن أوس، وأعطَتْه النَّعل، فقَبِلَها منها، وأعطاها ألفَ دينار، وكتبَ لها قرية. وكان محمد باقيًا، فأمر بحمله إليه على أيدي الرِّجال، فحُمل إليه، وطلب منه النعل الآخر، فبكى، وناشَدَه بقَرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يفرِّقَ بينه وبينه، وقال: إنَّ الأمر قد قَرُب، فلا تفجعني فيها. فَرَقَّ له المهدي، ولم يأخذها منه، ووصلَه (¬1). ومن مسانيد شدَّاد - رضي الله عنه -: قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (¬2): حدثنا عليُّ بنُ إسحاق، حدَّثنا ابنُ المبارك [أخبرنا] أبو بكر بن أبي مريم، عن ضَمْرَة بن حبيب، عن شدَّاد بن أَوْس قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بَعْدَ الموت، والعاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هواها، وتمنَّى على الله عزَّ وجلَّ". روى شدَّاد عن كعب الأحبار، وروى عن شدَّاد: ابنُه يعلى، وأبو إدريس الخَوْلاني، وأبو الأشعث الصنعاني، وأبو أسماء الرَّحَبي، وجُبير بن نُفير، ومحمود بن لَبِيد في آخرين. شيبة بن عثمان بن أبي طلحة عبدِ الله بن عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصَيّ العَبْدَرِيّ الحَجَبيّ. وأبو [هـ] عثمانُ الأَوْقَصُ أحدُ حَمَلَةِ اللواء يومَ أُحُد قتلَه عليٌّ - عليه السلام - (¬3). وشيبةُ بن عثمان حاجبُ الكعبة الذي آلَ (¬4) ولدُه سِدانَةَ البيت. وهو من الطبقة الرابعة (¬5) مِمَّن أسلمَ بعد حُنين، وكان قد خرجَ بعد الفتح مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأَطْلَعَ اللهُ رسولَه على ما في قلبه، فأسلم. وكنيتُه أبو عثمان، وأمّه أمُّ جميل بنتُ عُمير بن هاشم. ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ دمشق" 8/ 3. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) في "المسند" (17123)، وما سيرد بين حاصرتين منه، ولا بدَّ منه. (¬3) ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 63، و"الاستيعاب" ص 336، والهاء بين حاصرتين من عندي لضرورة السياق. (¬4) أي: وَلِيَ. ووقع في (م) ت إلى. (¬5) في (م): وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة. . . إلخ. وهو في "الطبقات" 6/ 63.

عبد الله بن عمرو بن وقدان

وتوفِّي سنةَ سبع وخمسين، وقيل: ثمان (¬1) -أو تسع- وخمسين وهو ابنُ ثمان وخمسين سنة، وهو وهم؛ لأنه شهدَ حُنينًا وهو رجل. ويقال (¬2): إنه عاشَ بعد الستين، ووفدَ على معاوية وابنِه يزيد. وكان له من الولد عبدُ الله الأكبر، وجُبير، وعبدُ الرحمن الأكبر، وأمُّ حُجير (¬3)؛ أُمُّهم بَرَّة بنتُ سفيان (¬4)، من بني سُليم. وعبد الله الأصغر، وهو الأعجم، وعبدُ الملك؛ أمُّهما لُبْنَى بنت شدَّاد، من بني كعب (¬5). وعثمانُ، وعبدُ الله، وهو العنقزيّ (¬6)؛ أمُّهما بنت السائب، مخزومية. وعبد الكريم، والوليد؛ لأمِّ ولد. وعبدُ ربّه، وعبدُ الرحمن الأصغر؛ أمُّهما بَرَّة (¬7) بنت أبي فروة. ومصعب، وقيل: ومسافع. ومن بنات شيبة: صفيَّة بنتُ شيبة، روى عنها عُبيد الله (¬8) بن أبي ثَوْر، ومَيمون بن مِهْران. وأختُها تَمْلِكُ بنتُ شيبة. [وسَدَنةُ الكعبة إلى شيبة هذا ينتسبون]. عبد الله بن عمرو بن وَقْدان (¬9) ابن عَبْد شمس بن عَبْد وُدّ العامريّ. ¬

_ (¬1) في (م): واختلفوا في وفاته، فقال الواقدي: في سنة سبع وخمسين، وقال ابن منده: في سنة ثمان. . . (¬2) في (م): قال: ويقال. وقوله قبله: وهو وهم. . . إلخ لم يرد في (م). وانظر التعليق السابق. (¬3) هي صفية بنت شيبة الآتي ذكرها، ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 63 و 10/ 435 - 436. (¬4) في (ب) و (خ): بنت أبي سفيان، وهو خطأ. وينظر "طبقات" ابن سعد بالموضعين المذكورين. (¬5) في "طبقات" ابن سعد 6/ 63: من بني الحارث بن كعب. (¬6) في (ب) و (خ) (وليس الكلام في م): العبقري، والمثبت من "الطبقات". (¬7) لم تُسَمَّ في "الطبقات". (¬8) في (ب) و (خ): عبد الله، وهو خطأ (والكلام ليس في م)، وهو عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، وتنظر ترجمته وترجمة صفية في "تهذيب الكمال" 19/ 68 و 35/ 211. وما سيرد بين حاصرتين من (م). (¬9) في (ب) و (خ): بن ميمون بن واقد، بدل، بن وقدان، وهو خطأ، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 133 و 8/ 15 و 9/ 411. وقال ابن حجر في "الإصابة" 6/ 104: اسم السعدي وقدان، وقيل: قدامة، وقيل: عمرو. وينظر "تهذيب الكمال" 15/ 25، والكلام بعد تعليق.

وقيل: عبد الله بن عَبْد بن وَقْدان (¬1)، كنيتُه أبو محمد، ويعرف بالسَّعْدي؛ لأنه كان مُسترضَعًا (¬2) في بني سعد بن بكر بن وائل، من الطبقة الرابعة من مُسْلِمة الفتح. صحبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه، وتحوَّل إلى الشام، فنزل دمشق، وتوفي بها، وقيل: نزل حمص (¬3). وكان مَرْضيًّا في أهل الشام، قال له عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: علامَ يحبُّك أهل الشام؟ قال: أُغازيهم فأُواسيهم. فعرض عليه أعمر، عَشَرَةَ آلاف درهم وقال: خُذْها فاستَعِنْ بها على غزواتك. فقال: إنّي عنها لَفي غِنًى. فقال عمر رضوان الله عليه: لقد عَرَضَ عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مالًا دون الذي عَرَضْتُ عليك، فقلتُ له مثلَ الذي قلتَ لي، فقال: "يا عمرُ، إذا آتاك اللهُ مالًا لم تَسَلْهُ، ولم تَشْرَهْ إليه نَفْسُك، فَاقْبَلْه، فإنما هو رِزْقُ الله ساقَهُ إليك" (¬4). أسند الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وروى عنه (¬5) حُوَيطب بن عبد العُزَّى، وبُسْرُ (¬6) بنُ أبي أَرْطاة (¬7)، وعبد الله بن مُحَيرِيز، ومالك بن يَخامِر (¬8) السَّكْسَكِيّ، وغيرهم. وهو الذي سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَنْقَطَعَتِ الهجرة؟ قال: "لا تنقطعُ ما قُوتِلَ الكفارُ" (¬9). ¬

_ (¬1) لم تجوّد الكلمة في النسختين، فوقع في (ب): مردن، ووقع في (خ): مرذان. والمثبت من "تاريخ دمشق". (¬2) بل السعدي هو عَمرو والد عبد الله. قال ابن عساكر في عبد الله صاحب الترجمة: يُعرف بابن السعدي" لأن أباه عَمرًا كان مسترضعًا. . . إلخ. ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 13/ 209. (¬3) ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 133. (¬4) الخبر في "تاريخ دمشق" كما في "مختصره" 13/ 210، وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" 6/ 184، ولم يسمِّ عبد الله بن السَّعدي. وهو بنحوه في "صحيح" البخاري (7163)، و"صحيح" مسلم (1045): (111) وسمَّياه عبد الله بن السعدي، وسماه مسلم في الرواية (112): ابن الساعدي. (¬5) في (ب) و (خ): عن، بدل: عنه، وهو خطأ. (¬6) في (ب) و (خ): بشر، وهو خطأ. (¬7) وكذا في "تاريخ دمشق". وفي "تهذيب الكمال" 15/ 25: بسر بن سعيد، وهو الأشبه، لأنه لم يُذكر لابن أبي أرطاة رواية عن ابن السعدي. (¬8) تحرفت لفظتا: محيريز ويخامر في (ب) و (خ) إلى: محرز، ويحام. (¬9) أخرجه أحمد (22324)، والنسائي 7/ 146 و 147، وصحَّحه ابن حِبَّان (4866).

عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه

عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه كنيتُه أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو عثمان (¬1)، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وأمُّه أُمُّ رُومان بنت عامر بن عُوَيمر بن عَبْد شمس، من بني دُهْمان، فهو أخو عائشة رضوان الله عليها لأُمِّها وأبيها (¬2). وكان اسمه عبد العُزَّى، وقيل: عبد الكعبة، فسمَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الرحمن (¬3). [وقال ابن سعد: ] ولم يزل على دين قومه، وشهد بدرًا مع المشركين، ودعا إلى المبارزة، فقام أبوه رضوان الله عليه ليبارزَه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكر، مَتِّعْنا بحياتك" (¬4). ثم أسلم عبد الرحمن في هُدْنَة الحُدَيبية، وهاجر إلى المدينة، وأطعمه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر أربعين وَسْقًا. [قال: ] وكان يخضب بالحِنَّاء والكَتَم (¬5). [وعبد الرحمن هو الذي أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُعمر عائشة من التنعيم، فأردفها وأعمرها (¬6). وذكره أبو القاسم ابن عساكر فقال: ] وقدم إلى الشام قبل أن تفتح -خرج في تجارة- فرأى ابنة الجُودِيّ فأَحبَّها (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 41/ 126 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) ينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 21. (¬3) في (م): "وقال الزُّبير بن بكَّار: كان اسم عبد الرحمن عبد العزى، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن". وهو في "تاريخ دمشق" 41/ 25 (طبعة مجمع دمشق)، وقوله: عبد الكعبة فيه 41/ 30. وينظر "الاستيعاب" ص 446. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 21، و"الاستيعاب" ص 446، وفيهما: متعنا بنفسك. وكذلك هي في (م). (¬5) المصدر السابق الأول. (¬6) ينظر "صحيح" البخاري (1560)، و"صحيح" مسلم (1211)، و"تاريخ دمشق" 41/ 45 (طبعة مجمع دمشق). والكلام الواقع بين حاصرتين من (م) (¬7) وكان ذلك في الجاهلية، قاله السندي كما في حواشي "مسند أحمد" 3/ 229.

[وقال الزُّبير: خرج في تجارة، فرآها، فوقعت بقلبه. فلما رجع قال: تَذَكَّرْتُ ليلى والسماوةُ دونَها ... فما لابنةِ الجُودِيِّ ليلى وما لِيا فبعث عمر - رضي الله عنه - جيشًا وقال: إنْ أصبتُم ابنةَ الجُودِيّ فادْفَعُوها إلى عبد الرحمن. فأصابُوها فدفعوها إليه، وكان المسلمون قد وهبوا له سهامَهم، فحَظِيَتْ عنده، وآثَرَها على نسائه حتى شكونه إلى عائشة رضوان الله عليها، فعاتبَتْه على ذلك، فقال: واللهِ كأنِّي أَرْشُف بأنيابها حَبّ الرُّمَّان. فأصابها وجعٌ في فيها حتى سقط، فجفاها (¬1)، فشكَتْه إلى عائشة - رضي الله عنها-، فقالت له: قد أفْرَطْتَ في حُبِّ ليلى، وأفْرَطْتَ في بُغْضها، فإمَّا أن تُنْصِفَها، أو تُجهِّزَها إلى أهلها، فجهَّزَها إلى أهلها إلى الشام. ويقال: إنَّها ماتت عنده (¬2). [وقال الزبير: ] وشهد عبدُ الرحمن مع أخته عائشة - رضي الله عنهما - يوم الجمل، وشهده أخوه محمد مع علي - عليه السلام -، وامتنع عبد الرحمن من البيعة ليزيد، فبعث إليه معاويةُ بمئة ألف درهم، فَرَدَّها وقال: واللهِ لا بعتُ ديني بدنياي. وخرج إلى مكة، ثم نزل ظاهرَها حتى مات. ولم يبايع يزيدَ (¬3). وقدم مصر في سنة ثمان وثلاثين؛ أرسلته عائشة رضوان الله عليها إلى عمرو بن العاص ليشفع في أخيها محمد، فقال عمرو: لا أُغني عنكَ شيئًا، إن معاوية قد جعلَ الأمر لهذا الكنديِّ -يعني معاويةَ بنَ حُدَيج- ولم يجعله إليّ (¬4). وحضر عبدُ الرحمن مع خالد بن الوليد يومَ اليمامة، ورمى مُحَكَّمَ اليمامة بسهم، فذَبَحَه، وكان مُحَكَّم [اليمامة] قد سَدَّ ثُلْمةً من الحصن، فلما قُتل دخلَ المسلمون، وقَتَلَ ذلك اليوم سبعةً من كبارهم (¬5). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): فجاها. والمثبت من (م) ولفظ العبارة في "تاريخ دمشق" 41/ 32 (طبعة مجمع دمشق): فأصابها وجع سقط له فُوها، فجفاها. . (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 41/ 31 - 32 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) بنحوه في المصدر السابق 41/ 34، وينظر أيضًا "التبيين في أنساب القرشيين" ص 312. (¬4) ينظر "تاريخ دمشق" 41/ 28 - 29. (¬5) الاستيعاب ص 446، وتاريخ دمشق 41/ 31، والتبيين في أنساب القرشيين ص 311، وما سلف في الخبر بين حاصرتين منه.

وكان عبدُ الرحمن أَسَنَّ أولادِ أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنهما-، وكان من أشجع رجالِ قريش، وأرماهُم بسهم (¬1). وكان رجلًا صالحًا فيه دُعابة، وكان جَوادًا؛ أتَتْهُ امرأةٌ من الأعراب، فقالت له: أتيتُك من شُقَّةٍ بعيدة، مُؤمِّلةً لمعروفك، تخفضُني خافضة، وترفعُني رافعة، في مُلِمَّاتٍ من البلاء، رَهَصْنَ (¬2) عظمي، وبَرَيْنَ لحمي، بَعُدَ المالُ والولدُ وكثرةُ العَدد والعُدد، فسألْتُ (¬3) أحياءَ العرب: مَنِ المأمولُ سَيْبُه، المأمونُ عَيْبُه؟ فدَلُّوني عليك، فإمَّا أَنْ تُحسِنَ صَفَدي، أو تُقِيمَ أَوَدِي (¬4)، أو تَرُدَّني إلى بلدي. فقال: لا، بل أجمعُهُنَّ لكِ. ففعل بها ذلك (¬5). ذكر وفاته - رضي الله عنه -: ومات بالحُبْشي (¬6)، فحُمل حتى دُفِنَ بمكَّة، وقَدِمَتْ عائشة - رضي الله عنها -[من المدينة] فأَتَتْ قبرَه، فوقَفَتْ عليه، وصَلَّتْ عليه، وتَمثَّلَتْ بهذين البيتين: وكنَّا كَنَدْمانَي جَذِيمة. . . [وقد ذكرتُهما] (¬7). ثم قالت: أما والله لو شهدتُك ما زُرْتُ قَبرَك، ولو شهدتُك ما حُمِلْتَ من حُبْشِي ميّتًا، ولَدُفِنْتَ مكانَك. ¬

_ (¬1) حقُّ هذه العبارة أن تتقدّم على خبر قتله محكم اليمامة المذكور قبلها كما في المصادر المذكورة. (¬2) أي: أضْعَفْنَ. ووقع في (ب) و (خ): هضنَ، والمثبت من "التبيين في أنساب القرشيين" ص 311. (¬3) في (ب) و (خ): فسلكت، والمثبت من "التبيين". (¬4) السَّيبُ، والصَّفَد: العطاء، والأَوَد: الاعوجاج. (¬5) رُويت هذه القصة أيضًا في عُبيد الله بن أبي بكرة، ورُوي نحوها أيضًا في عبيد الله بن العباس، ذكرهما ابنُ عساكر في "تاريخه" في ترجمتهما. (¬6) في (م): قال ابن سعد بإسناده عن ابن أبي مليكة قال: مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحُبْشي. . . والكلام في "طبقات" ابن سعد 5/ 22. (¬7) البيتان لمتمّم بن نُويرة من مرثيَة لأخيه مالك، وهما: وكُنَّا كنَدْمانَي جَذِيمةَ حِقْبةً ... من الدهر حتى قيل لن يَتَصَدَّعا فلمَّا تَفرَّقنا كأني ومالكًا ... لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا ينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 22، و"المفضليات" ص 267، و"تاريخ دمشق" 41/ 38 - 39.

وحُبْشيّ جَبَل بأسفل مكَّة، على ستَّة أميال منها (¬1). [وروى ابن سعد عن ابن أبي مُليكة أيضًا قال: حملنا عبد الرحمن على رقابنا ستة أميال إلى مكة، وعائشة غائبة، فقَدِمَتْ بعد ذلك فقالت: أروني قبر أخي، فأرَوْها، فصلَّتْ عليه]. وروى ابن سعد قال: قدمَتْ أمُّ المؤمنين ذا طُوَى حين رفعُوا أيديَهم عن قبر عبد الرحمن، ففعلَتْ يومئذٍ وتركَتْ، فقالتْ لها امرأةٌ: وإنَّكِ لتفعلين مثلَ هذا؟ ! قالت: وما رأيتِني فعلت؟ إنه ليست لنا أكبادٌ كأكباد الإبل. ثم أمرَتْ بفسطاط، فضُرب على قبره، ووكَّلُوا به إنسانًا. فقدم ابنُ عمر رضوان الله عليهما، فرأى الفُسطاط مضروبًا، فسألَ عنه، فحدَّثوه، فقال للرجل: انْزَعْهُ. فقال: إنهم وكَّلُوني به. فقال: انْزَعْهُ، وأخْبِرْهم أنَّ عبدَ الرحمن إنَّما يُظلُّه عملُه (¬2). ورَوى (¬3) أنَّ عائشة رضوان الله عليها قالت: ما آسى من أمره إلا على خَصْلَتَين: أنه لم يُعالج، ولم يُدفن حيث مات. وكان مات فجأةً. ودخلت امرأةٌ بيتَ عائشة رضوان الله عليها وهي صحيحة، فسجدَتْ، فماتَتْ، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: إن في ذلك لَعبرةً لي في عبد الرحمن، [رَقَدَ] في مَرْقدٍ له. قال: فذهبوا يُوقظونه (¬4)، فوجدوه ميِّتًا. وكان قد دخلَ في نَفْس عائشةَ - رضي الله عنها - من موته تهمةُ أن (¬5) يكون صُنع به شَرٌّ، أو عُجِل عليه (¬6) فدُفن وهو حيّ، فذهبَ ما كان في نفسها من ذلك [ورأت موتَ المرأة عبرة. ¬

_ (¬1) قوله: على ستة أميال، ليس في (م) لأن صاحبها أورد الخبر الآتي والمستدرك بين حاصرتين منها، ويتضمن هذه العبارة، والخبر في "طبقات" ابن سعد 5/ 22، وأخرجه أيضًا الترمذي في "السنن" (1055). وبنحوه في "تاريخ دمشق" 41/ 37. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 22، وتاريخ دمشق 41/ 39 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) يعني ابن سعد، وهو في "الطبقات" 5/ 23، و"تاريخ دمشق" 41/ 36. (¬4) في "الطبقات" 5/ 23: رقد في مقيلٍ له قالهُ، فذهبوا يوقظونه. . . (¬5) في (ب) و (خ): أنه، والمثبت من (م) وهو الموافق لما في "الطبقات" 5/ 23. (¬6) في (ب): شرًّا وعُجل عليه. . . وفي (م): شرًّا أو عُجل عليه.

قال: ] وأعتَقَتْ [عنه عائشة] تِلادًا من تِلادِهِ (¬1) ورِقابًا، ترجو أن ينفعَه ذلك بعد موته. [وكانت تزوره بعد موته، وتصلي، وتستغفر له] (¬2). وكان عبدُ الرحمن حَلَفَ لا يكلِّم إنسانًا، فلما ماتَ قالت: يميني في يمين ابن أمِّ رُومان (¬3). [وقال الواقدي: نام عبد الرحمن نومة في مرقد له، فمات فجأة]، وهو أوَّلُ من مات في الإسلام فجأة من غير وصيّة، فقالت عائشة رضوان الله عليها: أما واللهِ لو أُصيب في بعض جسده لكان أحبَّ إليّ. ثم قالت: إنَّها أخْذَةُ أسف، وتخفيفٌ عن المؤمن (¬4). وكانت تزورُه في هَوْدَج، وعلى حمار (¬5). [وقيل: إنه مات بالصِّفاح] (¬6). وقيل: إنّه مات في سنة ثلاث وخمسين، والأول أشهر (¬7). أولاده - رضي الله عنه -: كان له من الولد محمد، وهو أبو عَتِيق، وأمُّه أُميمة (¬8) بنتُ عديّ بن قيس، من سهم. ¬

_ (¬1) التِّلاد: المال القديم. ووقع في (ب): بلادًا من بلاده، وهو تحريف. والخبر بنحوه في "الطبقات" 5/ 23. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 24. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬3) المصدر السابق. (¬4) ينظر "تاريخ دمشق" 41/ 37 (طبعة مجمع دمشق)، وما سلف بين حاصرتين من (م). وينظر حديث عُبيد بن خالد عند. أحمد (15496). (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 23 و 24 - 25. (¬6) تاريخ دمشق 41/ 37 (طبعة مجمع دمشق) وما بين حاصرتين من (ب). والصِّفاح: موضع بين حُنين وأنصاب الحرم (حُدُودِه). ينظر "معجم البلدان" 3/ 412. (¬7) كذا وقع في النسخ، ولم يرد قبله ذكر لقول آخر في وفاته، غير إيراد المصنف له في هذه السنة يعني ترجيحه أنه توفي سنة (57). وأورده ابن الجوزي في "المنتظم" 5/ 298 في وفيات سنة (58). وقال الذهبي في "السير" 2/ 473: "صحّ في مسلم في الوضوء أن عبد الرحمن خرج في جنازة سعد بن أبي وقاص، فهذا يدلُّ على أنه عاش بعد سعد". وسلفت ترجمة سعد في السنة الخامسة والخمسين. (¬8) في "طبقات" ابن سعد 5/ 21: أمية.

وعبدُ الله، وأمُّ حكيم، وحفصة الكبرى، وهي التي زوَّجَتْها عائشةُ للمنذر بن الزُّبير وعبدُ الرحمن غائب، فلما قدم أراد فسخ النكاح وقال: يُفْتاتُ عليَّ في بناتي؟ فقالت عائشة رضوان الله عليها: أوَ ترغبُ عن المنذر؟ فرضيَ وأجازَ ما صنعَتْ عائشة - رضي الله عنها - (¬1). وأسماء؛ وأمُّ كلثوم، وحفصة الصغرى؛ لأمَّهات أولاد شتَّى. قال ابن سعد (¬2): فأما عبد الله بن عبد الرحمن، فأمُّه قُريبة الصغرى بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وخالتُه أمُّ سَلَمة زوجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وكان لعبد الله بن عبد الرحمن من الولد: أبو بكر، وطلحة، وعمران، وعبد الرحمن، ونفيسة -تزوَّجَها الوليدُ بنُ عبد الملك- وأمُّ فَرْوَة، وأمُّهم عائشةُ بنتُ طلحة بن عُبيد الله التَّيمي، وأمُّها أُمُّ كلثوم بنتُ أبي بكر الصِّدِّيق رضوان الله عليه. وأمُّ أبيها، وأمُّها مريمُ بنت عبد الله بن عِقال العُقيلي (¬4). وأمَّا محمد أبو عَتِيق؛ فإنه وُلد في حياة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأدركَه هو وأبوه، وجدُّه وجدُّ أبيه أبو قحافة، فهؤلاء أربعة أدركوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتفق ذلك لغيرهم. وولدَ أبو عتيق عبدَ الله، وهو صاحبُ المُزاح. وولدَ عبدُ الله (¬5) طلحةَ بنَ عبد الله (¬6)، وأمُّه عائشة بنت طلحة بن عُبيد الله، وكان طلحةُ جَوادًا سَرِيًّا مُمَدَّحًا، وفيه يقول الشاعر: قَرَعْنا دارَهم (¬7) دارًا فدارًا (¬8) ... فخيرُ الدُّورِ دارُ أبي يَسارِ (¬9) ¬

_ (¬1) ينظر "موطأ" مالك 2/ 555. (¬2) في "الطبقات" 7/ 193، وما قبله فيه 5/ 21. (¬3) ينظر "طبقات" ابن سعد 10/ 249. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 193. (¬5) يعني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وليس عبد الله بن محمد (أبي عتيق) بن عبد الرحمن المذكور قبله، والأول عمُّ الثاني. (¬6) ذكره قريبًا عندما أورد أولاد عبد الله بن عبد الرحمن. (¬7) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 313 (والكلام منه): دورهم. (¬8) في "جمهرة نسب قريش" 1/ 159: قرعنا دورهم بابًا فبابًا. (¬9) قال ابن قدامة في "التبيين" ص 313: دار أبي يسار هي دار طلحة تعرف بدار أبي يسار.

عبيد الله بن العباس

بها من سِرِّ تَيمٍ مَضْرَحِيٌّ ... يُهين كرائمَ الكُومِ العِشارِ (¬1) لِصِدِّيقِ النبيِّ أبوه بَخْ بَخْ ... وأُمُّكَ بنتُ تيَّارِ البحارِ (¬2) هما اجتمعا عليك فجئْتَ خِرْقًا ... تُبارِي الرِّيحَ من كَرَمِ النِّجارِ (¬3) وولدُ طلحةَ هذا يسكنون البَدْوَ، ومنازلُهم بين مكةَ والمدينة. أسندَ عبدُ الرحمن - رضي الله عنه - الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). عُبيد الله (¬5) بنُ العبَّاس ابن عبد المطَّلب، كنيتُه أبو محمد، وهو أحدُ الأجواد المعدودين في قريش، وكان أصغرَ من أخيه عبدِ الله بسنة (¬6). وهو من الطبقة الخامسة، ممن ماتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهم حُدَثاءُ الأسنان. وأمُّه أمُّ الفضل لُبابة (¬7) الكبرى بنت الحارث الهلاليَّة، وهي أمُّ عبدِ الله، وعُبيدِ الله، والفَضْل، ومَعْبَد، وقُثَم، وعبدِ الرحمن، وأمِّ حبيب، بني العباس - رضي الله عنه - (¬8). وأمُّ الفضل أختُ ميمونةَ بنتِ الحارث زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان لعُبيد الله حين قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتا عشرة سنة، ورأى رسولَ الله، وسمعَ منه، وكان سَخِيًّا جوادًا، فكان عبد الله وعُبيد الله ابنا العباس إذا قدما مكَّةَ أوسعَ عبدُ الله الناسَ علمًا، وأوسعَهم عُبيدُ الله طعامًا، وكان عُبيد الله رجلًا تاجرًا (¬9). ¬

_ (¬1) المَضْرَحيّ: الرجل السيّد السّريّ الكريم، والكُوم: جمع كَوْماء، وهي الناقة، والعِشار جمع عُشَراء، وهي من النوق ما مضى على حملِها عَشَرَةُ أشهر. (¬2) قال ابن قُدامة في "التبيين" ص 313: سمَّاه تيَّار البحار لجوده. (¬3) الخِرْق: السَّخِيّ، والنِّجار: الأصل والحَسَب، وينظر "جمهرة نسب قريش" 1/ 158 - 160، و"التبيين في أنساب القرشيين" ص 313. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "التلقيح" ص 370 في أصحاب الثمانية أحاديث، وقال ص 396: أُخرج له في الصحيحين ثلاثة أحاديث. وينظر "مسند" أحمد (1702) إلى (1713). (¬5) في (خ): عبد الله، وهو خطأ. (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 348، وتاريخ دمشق 44/ 258 - 261 (طبعة مجمع دمشق). (¬7) في (ب): لبانة، وهو خطأ. (¬8) التبيين في أنساب القرشيين ص 155 (ترجمة العباس - رضي الله عنه -). (¬9) طبقات ابن سعد 6/ 348، وتاريخ دمشق 44/ 259 (طبعة مجمع دمشق).

واستعملَه عليٌّ - رضي الله عنه - على اليمن، وأمرَه فحجَّ بالناس سنةَ ستٍّ وثلاثين (¬1)، وسبعٍ وثلاثين. وفي سنة تسع وثلاثين بعثَ معاويةُ [يزيد] بنَ شجوة الرَّهاوي ليحجَّ بالناس فاختلفا، فأقامَ شيبةُ (¬2) الحجَّ للناس. وقيل: إن الذي اختلفَ مع يزيدَ بنِ شجرة قُثَمُ بنُ العبَّاس. وعُبيد الله (¬3) أحدُ من نزلَ في قبر عليّ - عليه السلام - بالكوفة، ولم يزل مع الحسن بن عليّ - عليه السلام - حتى عرفَ زَهادَتَه في الأمر، فصار إلى معاوية (¬4). ذكر طرف من أخباره: جاءه رجل فقال: يا ابنَ عبَّاس، لي عندك يدٌ، وقد احتجتُ إليها. قال: وما هي؟ قال: رأيتُك يومًا واقفًا عند زمزم، وغُلامُك يَمْتَحُ لك منها (¬5)، وحرُّ الشمس قد آذاك، فظَلَلْتُ عليك بردائي حتى شربتَ، وانصرفتُ. فقال: أجَلْ، إنَّ ذلك لَيتردَّدُ في فكري وخاطري، وإني ما نسيتُه لك. ثم قال لغلامه: ما عندَك؟ قال: عَشَرَةُ آلافِ درهم. قال: ادْفَعْها إليه، وما أُراها تَفِي بحقِّه عندنا. فقال له الرجل: واللهِ لو لم يكن لإسماعيلَ - عليه السلام - ولدٌ غيرُك لكان فيه كفاية، فكيف وقد وَلَدَ سيِّدَ الأوَّلين والآخِرِين، ثم شَفَعَه بأبيك وبك؟ ! فقال عُبيد الله لغلامه: ادْفَعْ إليه عشرة آلاف أخرى لأجل كلامه هذا (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): فحجَّ بالناس في هذه السنة وستٍّ وثلاثين. . . وهو خطأ. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 349، و"تاريخ دمشق" 44/ 260. (¬2) هو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري. ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 349، و"تاريخ" الطبري 5/ 136، و"المنتظم" 5/ 160. وسلفت ترجمته قريبًا. (¬3) في (ب) و (خ): عبد الله. (¬4) أنساب الأشراف 3/ 66. (¬5) أي: يستخرج منها الماء. (¬6) الخبر في "العقد الفريد" 1/ 294 - 295، وليس فيه قوله في آخره: فقال عبيد الله لغلامه: أعطه عشرة آلاف أخرى لأجل كلامه.

ومنع معاويةُ الحُسينَ - عليه السلام - عطاءَه وما كان يُجريه عليه، فقدم عُبيد الله من الشام بمالٍ عظيم؛ يقال: إنَّه ألفُ ألفِ درهم، فقيل للحسين - عليه السلام -: إنك محتاجٌ وقد قَدِمَ ابنُ عمِّك بهذا المال، فلو بعثتَ إليه فاقترَضْتَ منه. فقال الحسين: وما يُغني هذا المال عُبيد الله وهو أجودُ من الرِّيح إذا عَصَفَتْ، وأسْخَى من البحر إذا زَخَر (¬1)؟ ! وبلغَ عُبيدَ الله ضائقةُ الحسين، فقال: ويحكَ يا معاوية، بئس ما اجْتَرَحْتَ من الإثم حين أصبحتَ ليِّنَ المِهاد، رفيعَ العِماد، وابنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في ضِيقٍ من الحال وكثرةٍ من العِيال. ثم قال [لقهرمانه: احمل إلى] الحسين (¬2) نِصْفَ ما أملكُه من ذهبٍ وفضة وثياب ومتاع وأثاث ودوابَّ وعَبيدٍ وجواريَ وصامتٍ وناطق، وأخبره أنَّني قد شاطرتُه مالي، فإن أقنعه؛ وإلا فادْفَعْ إليه الشطر الآخر. وعبيدُ الله أوَّلُ من فعلَ هذا في الإسلام (¬3). وقدمَ عُبيد الله على معاوية، فأهدى له حُلَلًا كثيرة، ومِسْكًا وآنيةَ ذهبِ وفضة، فجاء بها الحاجب، فوضعَها بين يديه، وجعلَ الحاجبُ ينظرُ إليها، فقال له عُبيد الله: في نفسك منها شيء؟ قال: نَعَمْ، مثلُ ما كان في نفس يعقوب من يوسُف. فقال: خُذْها فهي لك. فقال: أخافُ من معاوية أن ينقِم عليَّ. فقال عُبيد الله: فاخْتِمْها بخاتمك، وادْفَعْها إلى الخازن، فإذا حان خروجُنا حَمَلَها إليك. فقال الحاجب: واللهِ لَهذه الحيلةُ في الكرم أحسنُ من الكَرَم، ولَودِدْتُ أنِّي لا أموتُ حتى أراك مكانه. يعني معاوية (¬4). فقال: دَعْ هذا، فإنَّا قومٌ نَفِي بما عقدنا، ولا ننقض ما أكَّدْنا. وجاءه رجل من الأنصار، فقال: يا ابْنَ عَمِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وُلد لي الليلةَ مولودٌ، فسمَّيتُه باسمك تبرُّكًا، وماتَتْ أمُّه الليلةَ، فقال له: باركَ الله لك في الهدية، وأجَرَك على المصيبة. ثم دعا بوكيله وقال: اذهبْ الساعةَ فاشْتَرِ له جاريةً تحضُن المولود، ¬

_ (¬1) في (ب): أزحر، وفي (خ): أزجر، والمثبت من "العقد الفريد" 1/ 295. (¬2) ما بين حاصرتين من "العقد الفريد" 1/ 295، ووقع في (ب) و (خ): ثم قال للحسين. (¬3) العقد الفريد 1/ 295. (¬4) بعدها في "العقد الفريد" 1/ 296: فظنّ عبيد الله أنها مكيدة منه.

وادفَعْ إليه مئتي دينار نفقةً لتربيته. ثم قال للرجل: عُدْ إلينا بعد أيام، فإنك جئتَنا وفي العيش يُبسٌ، وفي المال قُلٌّ (¬1). فقال له الرجل: جُعِلتُ فِداك، لو سبقتَ حاتِمًا بيومٍ واحد ما ذكَرَتْه العربُ أبدًا، ولكنَّه سبقك، فجئتَ تاليًا، وأنا أشهدُ أن عَفْوَ جودِك أكثرُ من مجهوده، وطَلَّ كرمِك أكثرُ من وابِلِه (¬2). ونزل عُبيدُ الله على أعرابيٍّ في بعض أسفاره، ولم يكن عنده سوى شاةٍ، فذبَحَها له، فقال لمولاه: كم معك؟ فقال: خمسُ مئة دينار. فقال: ادْفَعْها إليه، فقال: إنما ذبحَ لك شاةً قيمتُها خمسةُ دراهم، وأنتَ لا تعرفُه! فقال: قد بَذَلَ لي مجهودَه، فلو أعطيتُه الدُّنيا كلَّها ما كافأْتُه، وهَبْ أنَّني لا أعرفُه، أما أعرفُ نفسي؟ ! فدفَعَها إليه وارتحلَ. ثم إنه اجتازَ به بعد مدَّة وقد صارَ له نَعَمٌ وشاءٌ، فقال له: انزلْ عندي. فامتنع، فقال: هذه نعمتُك عليَّ وعندي. فقال: إني مجتازٌ في أمر. فلما سارَ قليلًا؛ قال في نفسه: لا يظنُّ الرجلُ أنِّي تَعَلَّلْتُ عليه لئلا أَرْفِدَه. فأرسلَ إليه بخمس مئةِ دينار، فتَبِعَه الرجلُ وقال: إنَّ المَدْحَ فيك أقلُّ من قليل، ولكن قد قلتُ أبياتًا أُحبُّ أن تَسمعها. قال: قل. فقال: تَوَسَّمْتُهُ (¬3) لَمَّا رأيتُ مَهابةً ... عليه فقلتُ المرءُ من آلِ هاشمِ أو المرءُ من آلِ المُرارِ فإنَّهم (¬4) ... ملوكٌ وأبناءُ الملوكِ الأكارمِ (¬5) فقمتُ إلى عَنْزٍ بقيِّةِ أعْنُزٍ ... فَجَدَلْتُها (¬6) فِعْلَ امْرِئٍ غيرِ نادم فعوَّضَني منها غِنايَ وجادَ لي ... بما لم تَجُدْ به عفْوًا كَفُّ آدمي (¬7) ¬

_ (¬1) في "العقد الفريد" 1/ 296: قلّة، وهما بمعنى. (¬2) الطَّلُ، أضعفُ المطر، والوابل: المطر الشديد. (¬3) قال البغدادي في "الخزانة" 8/ 284: توسَّمتُه، بمعنى: تفرَّستُه، من التوسّم، يقال: توسَّمتُ فيه الخير، أي: طلبتُ سمتَه. (¬4) قال البغدادي في "الخزانة": من آل المرار، على حذف مضاف، أي: آل آكل المُرار، وهم ملوك اليمن. (¬5) أنساب الأشراف 3/ 65، وتاريخ دمشق 44/ 274. وروايته في "الخزانة" 8/ 282: ملوك عظام من كرام أعاظم. (¬6) في "تاريخ دمشق": فأذبحها، وفي "الخزانة": لأذبحها. (¬7) أنساب الأشراف 3/ 65، وفي "تاريخ دمشق": فعَوَّضَني منها غِنايَ وإنما يساوي لُحَيمُ العنز خمس الدراهم. =

وكان عُبيد الله يقول: ثوبُك على غيرك أحسنُ منه عليك (¬1). وقال: الجوادُ من آسى بالكثير (¬2) وآثرَ بالقليل. وقدم على معاويةَ، فأعطاه ستةَ آلاف درهم (¬3)، فما رامَ عن دمشق حتى فرَّق الجميع، فقيل له: أسرفْتَ! فقال: لولا لذَّةُ العطاء واكتسابُ المحامد، ما باليتُ بالمال، ولا رأيتُ معاوية ولا رآني. وكان عُبيد الله جالسًا في الحرم، فسقطَتْ دارٌ عند الصفا، فارتاعَ لها الناس وقاموا، وبقيَ فتًى قد أنْصتَ لحديث عُبيد الله، ولم يشتغل عنه، فقال لوكيله: كم عندك؟ فقال: ألفُ دينار. قال: أعطِ للفتىْ ثُلُثَيها، واحبِسْ لنا ثُلثَها (¬4). وكان بصرُ عُبيد الله قد ضَعُفَ قبلَ موته، وقيل: كُفَّ، فمرَّ به مَعْنُ بنُ أوس المُزني، فسأله عُبيد الله عن حاله، فقال مَعْن: أخذتُ فنونَ (¬5) المالِ حتى نَهَكْتُهُ (¬6) ... وبالدَّيْنِ حتى ما أكادُ أُدانُ وحتى سَألْتُ القَرْضَ عند ذوي الغِنَى ... وردَّ فلانٌ حاجتي وفلانُ فقال له عُبيد الله: كم دَينُك؟ قال: عَشَرَةُ آلاف. فأعطاه إيّاها (¬7). وكان عُبيد الله يُسمَّى تيارَ الفُرات، وكان ينحرُ كلَّ يومٍ بمكَّةَ جَزُورًا يُطعمُه للناس، وما كان أحدٌ بالمدينة يتغدَّى ويتعشَّى إلا في داره (¬8). ¬

_ = وفي "الخزانة": . . . ولم تكن تساوي عنزي غير خمس الدراهم. (¬1) أنساب الأشراف 3/ 65. (¬2) في "أنساب الأشراف" 3/ 65: آسى من الكثير. (¬3) في "أنساب الأشراف" 3/ 66: ألف ألف درهم، وقيل: ألفي ألف درهم. (¬4) المصدر السابق. (¬5) في "أنساب الأشراف" 3/ 66، و"الأغاني" 12/ 56: بعينِ. (¬6) أي أنفقتُه كلَّه. وتحرفت اللفظة في (ب) و (خ) إلى: فهكته. (¬7) أنساب الأشراف 3/ 66، وبنحوه أطول منه في "الأغاني" 12/ 55 - 56. (¬8) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 44/ 269 (طبعة مجمع دمشق).

وهو أوَّلُ من فَطَّر جارَه في رمضان، وأوَّلُ من وضعَ الموائدَ على الطُّرُق (¬1)، وفيه يقول ابنُ مُفَرِّغ: وفي السنة الشهباءِ (¬2) أطعمَ حامِضًا ... وحُلْوًا وَلحمًا تامكًا (¬3) ومُمزَّعا وأنْتَ ربيعٌ لليتامَى وعِصْمَةٌ ... إذا المَحْلُ من جَوِّ السماءِ تَطَلَّعا أبوك أبو الفَضْلِ الذي كان رحمةً ... وَغَيثًا (¬4) ونُورًا للخلائق أَجمَعا وعُبيد الله هو الذي قَتَلَ بُسْرُ بنُ أبي أَرْطاة وَلَدَيه باليمن. ولَمَّا فارقَ عُبيدُ الله الحسنَ - رضي الله عنه - وصارَ إلى معاوية؛ رأى بُسْرًا عند معاوية، فقال لمعاوية: أنتَ الذي أمرتَ هذا بذبحِ وَلَدَيّ؟ فقال معاوية: لا، ولقد كرهتُ ذلك. فقال ابنٌ لعُبيد الله من أَمَة يقال لها جُمانة: يا معاوية، واللهِ لا نرضَى عِوَض أَخَوَيَّ إلا بعبد الله ويزيد. فقال معاوية: لولا كرامةُ أبيك لَأَطَلْتُ حَبْسَك. ذكر وفاته: ومات بالمدينة سنة ثمان وخمسين. وقيل: سبع وخمسين. وقيل: مات باليمن. وقيل: عاش إلى زمن يزيد بن معاوية. وقيل: مات سنة سبع وثمانين، وله بضعٌ وثمانون سنة، في أيام عبد الملك بن مروان. وقيل: مات بالشام في أيام معاوية (¬5). ذكر أولاده: فولَدَ عُبيدُ الله بنُ العبَّاس محمدًا، وبه كان يُكنَّى، وأمُّه الفَرْعَة بنت قَطَن بن الحارث، عامريَّة. والعبَّاسَ. والعاليةَ (¬6)؛ تزوَّجَها عليُّ بنُ عبد الله بن العبَّاس، ¬

_ (¬1) العقد الفريد 1/ 294. (¬2) أي: ذات قحط وجَدْب. (¬3) أي: ممتلئًا. (¬4) في "العقد الفريد" 1/ 294: وغوثًا. (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 44/ 282 - 283. (¬6) تحرفت في (ب) و (خ) إلى: العالة. وينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 348، و"أنساب الأشراف" 3/ 67.

فولَدَتْ له محمَّدَ بنَ عليّ، وفي ولدِه الخلافةُ من بني العبَّاس. وميمونةَ؛ أمُّهم عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان بن الدَّيَّان بن قَطَن بن زياد بن الحارث بن مَذْحِج (¬1). ولُبابةَ (¬2) وأمَّ محمد؛ أُمُّهما عَمْرة بنت عَويب بن عبد كُلال؛ حِمْيَرِيَّة. وعبدَ الرحمن، وقُثَمَ؛ أُمُّهما أمُّ حكيم بنت قارظ بن خالد (¬3)، من بني زُهْرة بن كلاب، وهما اللَّذان ذَبَحَهما بُسْرُ بنُ أبي أَرْطاة العامريّ باليمن. وعبدَ الله، وجعفرًا، وكلثوم (¬4)، وعَمْرَةَ، وأُمَّ العباس؛ أُمُّهم أُمُّ ولد. قال ابنُ سعد (¬5): عبدُ الله بن عُبيد الله [ابن عباس] من الطبقة الثالثة من التابعين، وأمُّه أمُّ ولد. فولدَ عبدُ الله بنُ عُبيد الله الحُسَينَ، والحَسَنَ؛ أُمُّهما أسماءُ بنتُ عبدِ الله بن عباس. [روى عَبدُ الله بن عُبيد الله عن عبد الله بن عباس، و] روى عنه ابنُه حسين وغيرُه. وكان ثقةً، وله أحاديث. وقد انقرضَ عَقِبُه. والعباسُ بن عُبيد الله؛ فإنه لأمِّ ولد، روى الحديث عن أبيه (¬6). فولدَ العباسُ بن عُبيد الله العباسَ بنَ العبَّاس، لا بقيَّةَ له، وسليمانَ، وداودَ، وقُثَم الأكبر، درج، وقُثَمَ الأصغرَ عاملَ اليمامة لأبي جعفر، وأمَّ جعفر، وميمونةَ، وهي أُمُّ محمد، وعَبْدَةَ، والعاليةَ، وأمَّ جعفر، وهم لأُمَّهات أولادٍ شتَّى. وللعبَّاس بن عُبيد الله بقيَّة (¬7) وعَقِبٌ ببغداد. وقُثَم بنُ العبَّاس بن عُبيد الله بن العبَّاس كان مُمَدَّحًا، وفيه يقول داود بن سليمان (¬8): ¬

_ (¬1) في "طبقات" ابن سعد 6/ 348: بن الحارث بن مالك بن ربيعة. . . من مذحج. (¬2) في (خ): لبانة. (¬3) في (خ): مخلد. (¬4) في "طبقات" ابن سعد 6/ 348: وأم كلثوم، وذكر محقَّقه أنه وقع في حاشية أحد الأصول بخط ابن حيويه: كلثم. (¬5) في "الطبقات" 7/ 310 وما سيردُ بين حاصرتين من (ب). (¬6) الطبقات 7/ 310، ولم أقف على من ذكر أنه روى عن أبيه. ثم إنه سلف أن أمُّه عائشة بنتُ عبد الله. فليحرَّر. (¬7) تحرفت العبارة في (ب) و (خ) إلى: والعباس بن عبيد الله ثقة. والكلام في "طبقات" ابن سعد 7/ 310. (¬8) كذا في "أنساب الأشراف" 3/ 67، و"التبيين في أنساب القرشيين" ص 162. وأورد الصفدي الأبيات في "الوافي بالوفيات" 44/ 200 - 201 في ترجمة قُثم بن العباس بن عبد المطلب، والأبيات أيضًا بنحوها في =

نَجَوْتِ مِنْ حَلٍّ ومِنْ رِحْلةٍ ... يا ناقُ إنْ أدْنَيتِني مِنْ قُثَمْ إنَّكِ إنَّ ابْلَغْتِنِيهِ غدًا ... عاشَ لنا اليُسْر (¬1) وماتَ العَدَمْ في باعِهِ طُولٌ وفي وجهِهِ ... نورٌ (¬2) وفي العِرْنِينِ (¬3) منه شَمَمْ لم يَدْرِ ما "لا" وبلى قد دَرَى ... فعافَها واعْتاضَ عنها نَعَمْ (¬4) أَصَمُّ عن قِيلِ الخَنا سمعُهُ ... وما عنِ الخيرِ به مِنْ صَمَمْ وكان لقُثَم هذا ابنٌ اسمُه محمد، وَليَ اليمامةَ ومكَّةَ لأبي جعفر. وجاء أعرابيٌّ إلى قُثَم بن العباس بن عُبيد الله بن عباس فقال: يا قُثَمَ الخيرِ جُزِيتَ الجَنَّهْ ... اُكْسُ بُنَيَّاتي وأُمَّهُنَّهْ فقال له: ما أفعل. فقال: واللهِ واللهِ لتَفْعَلَنَّهْ فقال: واللهِ لأَبَرَّنَّ قَسَمَكَ. فأعطاه عَشَرَةَ آلاف درهم (¬5). وكان لعُبيد الله بن العبَّاس ولد اسمه حسين (¬6)؛ أُمّه أسماء (¬7)، وكان جَوادًا فقيهًا، حُمِلَ عنه الحديث، ومات في سنة إحدى وأربعين ومئة، وكان يقولُ الشعر، وقيل: كان يُضَعَّفُ في الحديث (¬8). ¬

_ = "الأغاني" 9/ 169، و"الحماسة البصرية" 1/ 123 - 124، وجاء اسم الشاعر في المصادر الثلاثة الأخيرة: داود بن سَلْم، وهو المحواب. (¬1) في (ب) و (خ): البرُّ. والمثبت من "أنساب الأشراف" 3/ 67 - 68، والحماسة البصرية 1/ 124، ورواية الأبيات أقرب إليهما. (¬2) في (ب) و (خ): تم. والمثبت من المصدرين السابقين (¬3) هو عِرْنِين الأنف تحت مجتمع الحاجبين. (¬4) وقع في (ب) و (خ): بنعم. وإجمالًا فإن الأبيات لم تجوَّد فيهما، ولم أذكر كل التحريفات فيها لئلا تطول الحواشي بلا فائدة. (¬5) ينظر "نسب قريش" ص 33، و"أنساب الأشراف" 3/ 68. والخبر بنحوه في "تاريخ بغداد" 15/ 320 (في ترجمة معن بن زائدة). (¬6) كذا قال المؤلف (أو المختصر) وإنما حُسين من ولده، وهو حسين بن عَبد الله بن عُبيد الله بن العباس. ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 472، و"أنساب الأشراف" 3/ 69. وسلف ذكره قريبًا. (¬7) في (ب) و (خ): أبو أسماء، والتصويب من المصدرين السالفين، وهي أسماء بنتُ عَبد الله بن العباس. (¬8) قال ابن سعد 7/ 472: كان كثير الحديث، ولم أرهم يحتجون بحديثه.

وأخوه حَسَن بن عَبْد الله (¬1) لأبيه وأمِّه. وكانت تحت حَسَن (¬2) هذا لُبابة (¬3) بنت الفضل بن العباس بن عُتْبة بن أبي لهب الشاعر، فولَدَتْ له أسماءَ بنتَ حَسَن بنِ عبد الله (¬4)، وكانت تسكنُ المدينة، وهي التي رَفَعَتْ علمَ أبي جعفر المنصور يومَ دخلَ عيسى بن موسى لقتال محمد بن عبد الله بن حسن؛ على منارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أسودَ، فكان سببًا لوَهَن المُبَيِّضَة (¬5) من أصحاب محمد بن عبد الله. ويقال لهذه المرأة: الحسناء (¬6). ذكر بنات عُبيد الله بن العباس: العاليةُ؛ تزوَّجها عليُّ بن عبد الله بن العبَّاس، فولَدَتْ له محمدَ بنَ عليّ، والدَ الخلفاء (¬7). وميمونةُ بنتُ عُبيد الله؛ تزوَّجَها عُبيد الله (¬8) بنُ عليّ بن أبي طالب، وهو الذي قُتل مع مصعب بن الزُّبير (¬9) في حرب المُختار، فخَلَفَ عليها أبو سعيد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميَ، ثم نافع بن (¬10) جُبير بن مُطْعِم. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): عُبيد الله، وهو خطأ، وهو حسن بن عَبد الله بن عُبيد الله، وينظر الكلام قبل تعليقين. (¬2) في (ب) و (خ): حسين، والتصويب من "أنساب الأشراف" 3/ 70. (¬3) في (ب) و (خ): لبانة، والمثبت من المصدر السالف. (¬4) في (ب) و (خ): أسماء بنت حسين بن عُبيد الله. والتصويب من "نسب قريش" ص 33، و"أنساب الأشراف" 3/ 70، و"جمهرة أنساب العرب" ص 19. ويُلاحظ من اجتماع التحريفات السالفة معًا، ومما سيرد من الكلام، أن هذا وهم من المصنف (أو المختصر) في تعيين حسن أو حسين ابني عَبد الله بن عُبيد الله بن العباس، وليس سهوًا من النُّسَّاخ. (¬5) سُمُّوا بذلك لاتخاذهم الرايات البيض. (¬6) كذا قال، وإنما الحسناء عابدةُ بنتُ شعيب بن محمد، وهي زوجة حُسين بن عَبد الله بن عُبيد الله، وقال فيها شعرًا، ينظر "نسب قريش" ص 32 - 33، و"أنساب الأشراف" 3/ 70. (¬7) طبقات ابن سعد 6/ 348، وسلف هذا الكلام أول الفقرة السابقة. (¬8) في "أنساب الأشراف" 3/ 67: عبد الله، وهو خطأ. (¬9) في (ب) و (خ): بن عُمير، وهو خطأ. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 67، و"طبقات" ابن سعد 7/ 118 - 119. (¬10) في (خ): ثم، وهو خطأ. وينظر "نسب قريش" ص 32، و"أنساب الأشراف" 3/ 67.

السنة الثامنة والخمسون

أسندَ عُبيدُ الله بنُ العبَّاس - رضي الله عنهما - الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى عنه: سليمان بنُ يسار، وابنُ سِيرِين، وعطاءُ بنُ أبي رباح، وابنُه عَبدُ الله بن عُبيد الله (¬2). السنة الثامنة والخمسون فيها عزلَ معاويةُ مروانَ [بنَ الحكم] عن المدينة بالاتفاق، وأمَّرَ عليها الوليدَ بنَ عُتْبةَ بنِ أبي سفيان (¬3). وفيها ولَّى معاويةُ ابنَ أختِه عبدَ الرحمن بنَ أمِّ الحَكَم بنتِ (¬4) أبي سفيان الكوفةَ -وأبوه عبدُ الله بن عثمانَ بنِ ربيعة الثقفيُّ- وعزلَ عنها الضَّحَّاكَ بنَ قيس. وخرج طائفة من الخوارج، وهم الذين حبسهم المغيرة بن شعبة، فقُتِلُوا جميعًا (¬5). وأساء عبدُ الرحمن ابنُ أمِّ الحَكَم السيرةَ في أهل الكوفة، فطردوه، فلحقَ بمعاوية، فشكاهم إليه، فقال: لا طاقةَ لي بأهل العراق، [فقال له: ] سأُوَلِّيك (¬6) خيرًا منها. فولَّاه مصر. فتوجَّه إليها، وكان بها معاوية بن حُدَيج، فالتقاه ببعض الطريق وقال: ارْجِعْ إلى خالك، فإنَّا لا ندعُك أنْ تسيرَ فينا كما سِرْتَ في أهل الكوفة. وفيها ثارتِ الخوارجُ على عُبيد الله بن زياد، فقتلَ منهم خلقًا كثيرًا؛ منهم عُروة بن أُدَيَّة؛ أغلظ ابن زياد (¬7) وقال [له]: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)} [الشعراء: 128]. فقطح يدَيه ورجلَيه. وكان أخُوه مِرْداسُ بنُ أُدَيَّة رأسَ الخوارج، فحبَسه ابنُ زياد، فلمَّا رأى السَّجَّان عبادتَه واجتهادَه؛ أَذِنَ له أن ينصرفَ إلى بيته ليلًا، ويعودَ إلى السجن نهارًا. ¬

_ (¬1) روى له أحمد (1837)، والنسائي في "السنن الكبرى" (5576) حديث الغُمَيصاء التي جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تشكو زوجها أنه لا يصل إليها. (¬2) تاريخ دمشق 44/ 256 (طبعة مجمع دمشق)، وتهذيب الكمال 19/ 60. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 309. (¬4) في (ب) و (خ): بن، وهو خطأ. (¬5) الكلام اختصار شديد، ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 309 - 311، و"المنتظم" 5/ 290 - 292. (¬6) في (ب) و (خ): وسأُوليك. فحذفتُ الواو واستدركتُ ما بين حاصرتين للضرورة. ينظر: تاريخ الطبري 5/ 312، والمنتظم 5/ 292. (¬7) كذا في النسختين (ب) و (خ) (والكلام ليس في م). ولعل صواب العبارة: أغاظ ابن زياد، أو أغلط لابن زياد، وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 429 - 430، و"تاريخ" الطبري 5/ 312 - 313.

فذَكَر ابنُ زياد في بعض الليالي أنه يُريد قتلَ الخوارج غدًا، وبلَغَ السَّجَّانَ، فخافَ أن يَسمع مِرْداس بذلك فلا يحضر، فلمَّا كان آخِرُ الليل عاد مِرْداس إلى السجن، فقال له السَّجَّان: بلغكَ ما عَزَمَ عليه الأمير؟ قال: نعم. قال: فكيف عدت؟ ! قال: قد أحسنْتَ إليَّ، فما جزاؤك أن يُساءَ إليك بسببي (¬1)؟ وجلس زياد يقتل الخوارج، ثم دعا (¬2) بمرداس ليقتلَه، فوثبَ السَّجَّانُ -وكان ظِئْرًا لعُبيد الله (¬3) - فأخبرَه خبرَه، وقصَّ عليه القصَّة وقال: هَبْهُ لي. فوهَبَه إيَّاه. وفي سنة ثمان وخمسين ولَّى معاويةُ مالكَ بنَ عبد الله بن سِنان الخَثْعَمِيّ من أهل فلسطين قتال الروم وكنيته أبو حَكِيم على الصوائف (¬4)، فسمَّاه المسلمون ملك الصوائف، وله صحبة (¬5)، يُعرف بمالك السرايا؛ لكثرة غزْوهِ (¬6). وهو من الطبقة الثالثة من أهل الشام. ولَمَّا أمَّره معاويةُ على الصوائف سمَّاه المسلمون ملك الصوائف، وشَتا بأرض الروم سنة ستّ وأربعين، [وقادَ الصوائف أربعين] سنة؛ في أيام معاوية، ويزيد، وعبد الملك بن مروان (¬7). وقال أبو المُصَبِّح الحمصي (¬8): كنَّا نسيرُ بأرض الرُّوم، فنظر مالكٌ إلى جابر بن عبد الله يمشي ويقود بغلًا له، فقال له مالك: أَلَا تَرْكبُ يا أبا عبد الله؟ فقال جابر: ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): بشيء. والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 313. (¬2) في (خ): عاد. (¬3) أي: أباه من الرَّضاعة (زوج مُرضعتِه). (¬4) كذا السياقة في كل من (ب) و (خ) (والكلام ليس في م). وينظر "تاريخ دمشق" 66/ 125 - 127 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 659: منهم من يجعل حديثه مرسلًا، ويجعله من التابعين. (¬6) تاريخ دمشق 66/ 121. (¬7) المصدر السابق 66/ 127 و 130 و 132. وما بين حاصرتين زدتُه من عندي لضرورة السياق استفدتُه من المصدر المذكور، ينظر منه أيضًا ص 121. (¬8) من رجال "تهذيب الكمال" 34/ 294 - 295، روى له أبو داود، وهو ثقة. وتصحفت لفظة "المصبِّح" في كل من (ب) و (خ) إلى: الصبح.

سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَماه في سبيل الله، حرَّمَهما اللهُ على النار". فنزل مالك، ونزلنا معه، فما رأيتُ ماشيًا أكثرَ من ذلك اليوم (¬1). وكان مالك رجلًا صالحًا، له فصْائلُ جمَّةٌ يطولُ ذكرها، وكان يقسم الغنائمَ على كتاب الله وسنَّةِ رسوله، ولا يُحابى أحدًا، كتبَ إليه معاويةُ وإلى عبد الله بن قيس الفَزَاريّ أن يصطفيا له من الخُمْس، فأمَّا عبدُ الله فأنفذَ كتابَه، وأمَّا مالكٌ فلم يُنفِذْه، فلما قدما على معاوية أَذِنَ لمالك قبلَ عبد الله وفضَّلَه عليه في الجائزة، فعاتَبه عبدُ الله، فقال معاوية: إنَّ مالكًا عصاني وأطاعَ الله، وأنْتَ أطعتَني وعصيتَ الله. وقال معاوية لمالك: ما منَعك أن تُنْفِذَ كتابي؟ فقال له مالك: ما أقبحَ أنْ أكونَ أنا وأنتَ في زاويةٍ من زوايا النار، تلومُني وألومُك (¬2)! . وكان مالكٌ يقول لأصحابه والجيش: خُذُوا الفاكهةَ من الشجرة، ولا تقطعوا الشجرة، فإنها تنفعُكُم في غَزْوكم مِنْ قابِل (¬3). وكان يصوم الدهر، وأحصَوْا صيامَه فوجدُوه قد صام ستِّين سنة (¬4). وقال حسان مولاه: كان في فخذه كتابة بين الجلد واللحم: الله (¬5)، ما كتبَها كاتب. وكُسِرَ على قبره أربعون لِواءً (¬6). وروى الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7)، وصَحِبَهُ (¬8). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 66/ 122 - 123. وأخرجه أحمد في "المسند" (21962) بنحوه. (¬2) تاريخ دمشق 66/ 128 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) المصدر السابق 66/ 129. (¬4) المصدر السابق 66/ 131. (¬5) في "تاريخ دمشق" 66/ 131: عدة الله، وفي رواية أخرى فيه: لله. وفي هذا الخبر نظر. (¬6) أورد ابن الأثير الخبر في "أُسْد الغابة" 5/ 32 وقال بإثره: لكل سنة غزاها لواء. والخبر أيضًا في "تاريخ دمشق" 66/ 130 و 132. وسلف في ترجمته أنه قاد الصوائف أربعين سنة. (ملاحظة: وقع في كل من (ب) و (خ): أربعين، وأثبتُّ اللفظة على الجادّة). (¬7) ينظر "مسند" أحمد (21961) إلى (21964). (¬8) سلف التعليق في أوائل ترجمته أن ابن عبد البر قال: منهم من يجعل حديثه مرسلًا ويجعله من التابعين.

سعيد بن العاص

وفيها قُتل يزيدُ بنُ شجرة الرَّهاويّ في البحر في السُّفن. ويقال: إن الذي غزا في البحر في هذه السنة جُنادة بن [أبي] أمية. ويقال: إن عَمرو بن يزيد الجُهني شتا في هذه السنة بأرض الروم (¬1). وحجَّ بالنَّاس في هذه السنة الوليدُ بنُ عتبة ابن أبي سفيان بالاتفاق] وكان على المدينة، وكان على الكوفة الضَّحَّاكُ بنُ قيس -وقيل: ابنُ أمِّ الحَكَم- وعلى البصرة عُبيدُ الله بنُ زياد، وعلى قضاء الكوفة [شُرَيح] (¬2). وفيها مات عُميرة بن يثربيّ (¬3) قاضي البصرة، فاستقْضَى [ابنُ] زياد هشامَ بنَ هُبيرة (¬4). وفيها توفي سعيدُ بن العاص ابن سعيد أبي أُحَيْحَة، وكنية سعيد أبو أُحَيْحَة (¬5). وقيل: أبو عثمان، وقيل: أبو عبد الرحمن. وأُمُّ سعيدٍ: أمُّ كُلثوم بنتُ عَمرو بنِ عبد الله، من بني عامر بنِ لُؤي، وأمُّها أُمُّ حبيب بنت العاص بن أُميَّة بن عبد شمس. وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وقُبض رسولُ الله وسعيدٌ ابنُ سبع سنين، أو نحوها، وقيل: ابن تسع سنين (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 309، والمنتظم 5/ 290. (¬2) المصدران السالفان، والكلام بين حاصرتين من (م). (¬3) تحرفت في النسختين (ب) و (خ) إلى: نميري، وليس الكلام في (م). (¬4) وقع في النسختين (ب) و (خ): بن زهرة، وهو خطأ. وينظر "تاريخ" الطبري 5/ 314، و"المنتظم" 5/ 296، وما بين حاصرتين زيادة من عندي للضرورة. (¬5) كذا وقع ذكر هذه الكنية له، وهو وهم، وإنما أبو أحيحة جدُّه سعيد بن العاص بن أمية، وهو ظاهر من سياق الكلام. ينظر "نسب قريش" ص 173 - 176، و"جمهرة أنساب العرب" ص 80 - 81، و"تاريخ دمشق" 7/ 253 - 273 (مصورة دار البشير)، و"تهذيب الكمال" 10/ 502. (¬6) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 33 - 34، وقد ذكره ابن حجر في "الإصابة" 4/ 192 في القسم الأول من حرف السين. (يعني أنه ممن ثبتت صحبتُه).

أدركَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وله عنه رواية، وكان أحدَ أجواد قريش. وقال الشيخ موفَّق الدين رحمه الله (¬1): وُلد عام الهجرة. وقيل: سنة إحدى. وقُتل أبوه العاص يومَ بدرٍ كافرًا، وكالت سعيد يظنُّ أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل أباه، فقال له عمر: ما لي أراك مُعرضًا كأنَّك ترى أني قتلتُ أباك؟ ! ما أنا قتلتُه، وإنما قتله عليُّ بنُ أبي طالب، ولو قتلتُه ما اعتذَرْتُ من قتل مشرك، ولكنّي قتلتُ خالي بيدي العاصَ بنَ هشام بن المغيرة المخزومي. فقال سعيد: يا أمير المؤمنين، ولو قتلتَه كنتَ على حقّ، وكان على باطل. فسَرَّ عُمرَ - رضي الله عنه - ذلك منه (¬2). ولم يزل سعيد بن العاص في ناحية عثمان رضوان الله عليه للقرابة التي بينهما، فلما عَزلَ عثمانُ - رضي الله عنه - الوليدَ بنَ عقبة عن الكوفة؛ استعملَ سعيدًا عليها، فعمل عليها خمس سنين إلا شهرًا (¬3). ولم يزل سعيد مع عثمان - رضي الله عنه - وقاتل معه يومَ الدار، وضربَه [يومئذٍ] رجل في رأسه [ضربة] مأمومة (¬4). ولَمَّا قُتل عثمان وخرج طلحة والزُّبير وعائشة من مكة يريدون البصرة؛ كان سعيد قد هربَ إلى مكة وخرجَ معهم إلى ذات عِرْق، فقام خطيبًا فقال: إنَّ عثمانَ عاشَ في الدنيا حميدًا، وخرج منها فقيدًا، وتوفِّي سعيدًا شهيدًا، فضاعف الله حسناتِه، وحطَّ سيِّئاتِه، ورفع درجاتِه {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الآية. وقد زعمتُم أيُّها الناس أنكم إنما خرجتُم تطلبُون بدم عثمان، فإن كنتُم تريدون ذلك، فإنَّ قَتَلَةَ عثمان على صدور هذه المَطِيِّ وأعجازها، فمِيلُوا عليها بأسيافكم، وإلَّا ¬

_ (¬1) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 194. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 35، وتاريخ دمشق 7/ 257 (مصورة دار البشير). (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 35. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 38، وتاريخ دمشق 7/ 261 (مصورة)، وما بين حاصرتين منهما. وقال راوي الخبر بإثره: فلقد رأيتُه وإنه ليسمع الرعد فيُغْشى عليه.

فانصرفوا إلى منازلكم، ولا تقتُلوا في رضي المخلوقين أنفسَكم، ولا يُغني الناسُ عنكم يومَ القيامة شيئًا. فقال مروان: لا، بل نضربُ بعضَهم ببعض، فمن قُتل كان الظَّفَر فيه، ويبقَى الباقي فنطلُبُه وهو واهنٌ ضعيف. وقام المغيرة فقال: الرأي ما رآه سعيد، من كان من هوازن فأحبَّ أن يتبعني [فليفعل]. فاتَّبعه ناسٌ منهم، وخرج حتى نزل الطائف، فلم يزل بها حتى مضى الجمل وصفِّين (¬1). [ورجع سعيد بن العاص بمن اتَّبعه حتى نزل مكة، فلم يزل بها حتى مضى الجمل وصفِّين]. فلما ولِيَ معاويةُ الخلافةَ سنة إحدى وأربعين وكان سعيد بنُ العاص مقيمًا بمكة لم يشهد شيئًا من الحروب؛ قدم على معاوية، فسلَّم عليه، فقال له معاوية: حيَّاك اللهُ بالسلام، وأسعدَك بسلامة المَقْدَم، نِعْمَ الزائرُ أنتَ، فهلَّا قبلَ ذلك وقد شَفَى (¬2) بنا الأمر على التَّلَف، ونحن كأفراخ الحَجَل يأوي من هضبة إلى شاهق، ولكنك كما قال الفَقْعسي في سليمان بن محيف (¬3): وأسلَمني لَمَّا رأى الخيلَ أقْبَلَتْ (¬4) ... عشيةَ يهدي القومَ نصرُ بن مالكِ وقام بنعيي نادبًا ثم عابني ... بنهبيَ جازاني ببيض السنابكِ فأَعْرضتُ عما كان من قُبح فعلِهِ ... وقاسمتُه نهبي كفعل المشاركِ فقال له سعيد: بئس التحيةُ من ابنِ العمّ على بُعد اللقاء، وإنما أبعدني عنك غِناك عني، ولو دعوتَني لأجبتُ، وعلى كلِّ حال فبُعدي عمَّا كنتُم فيه أحبُّ إليَّ من قربي منه. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 38 - 39. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) في (ب) و (خ): اسقى. والمثبت من "تاريخ دمشق" 7/ 254 (مصورة دار البشير). (¬3) كذا في (ب) و (خ)، وفي "تاريخ دمشق" 7/ 254 (مصورة): سليم بن قحف، ولم أعرفه. (¬4) "تاريخ دمشق": أقفلَتْ.

وكان عمرُو بنُ العاص حاضرًا، فقال له: يا سعيد، أتفخرُ على ابنِ حَرْب وتُراشِقه الكلام، وبهم عززتَ في الجاهلية والإسلام؟ ! . فقال له سعيد: يا ابن العاص، إذا شحمَ العِيرُ نهقَ، ما لبني سهم ولبني عبد شمس؟ ! ولكنَّك كالذُّباب تقع على كل شيء. أنا واللهِ إلى ابنِ حرب أقربُ وأعزُّ عليه منك، وواللهِ إنه بك لَعالم. فقال معاوية: صدق سعيد، سعيدٌ يميني، ومروانُ شمالي. فقال عمرو: واللهِ لقد شَهِدْناك وغابَ عنك، ونصرناك وخذلَك، وكان عليك وكنَّا معك، حتى إذا دَسَعَ الوطابُ (¬1) بزُبْدَتِه؛ وقُدْناها إليك مزمومة الخَيشوم؛ أقبلَ سعيد يتشدَّق! فصاحَ به سعيد: أَلِي تقولُ هذا يا ابنَ النابغة؟ ! ثم قام مُغْضبًا، فقام معاوية فأصلحَ بينهما. وكان سعيد: محبًّا لبني هاشم، محسنًا إليهم حليمًا وقورًا جوادًا مُمَدَّحًا، يحبُّ مكارم الأخلاق، وكان أحدَ أشراف قريش وفصائحها وأسدَها. ولم يدخل مع معاوية في شيء من حروبه، وقدم عليه بعدَها، وكانت له دارٌ بدمشق تُعرف [بعده] بدار نعيم، وحمام يعرف بحمام نعيم بنواحي الدِّيماس، ثم رجع إلى المدينة (¬2). وأمره عثمانُ - رضي الله عنه - بإملاء المصحف على زيد بن ثابت، ويقال: إنه كان يكتب وزيد يُملي عليه، فإنَّ عثمان قال: يكون الكاتبُ من قريش، والمُمْلي من الأنصار. وضرب رجلًا على عاتقه بالسيف، فأخرج السيف من مِرْفَقِه (¬3). وغزا بالناس طبرستان، وكان معاويةُ يُعاقب بينه وبين مروان في عمل المدينة، وله يقول الفرزدق: ¬

_ (¬1) دَسَعَ، أي: دفعَ، والوِطاب: زِقاق اللبن. ووقع في (ب) و (خ): للوطاب، والمثبت من "تاريخ دمشق" 7/ 255 - 256 (مصورة دار البشير). (¬2) تاريخ دمشق 7/ 254، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬3) في (ب) و (خ): رفقه، والمثبت من "تاريخ دمشق" 7/ 263.

ترى الغُرَّ الجَحاجحَ (¬1) من قُريشٍ ... إذا ما الأمرُ في الحَدَثان عالا قيامًا ينظُرون إلى سعيدٍ ... كأنهمُ يَرَوْنَ به هِلالا (¬2) وقال معاوية: لكل قوم كريمٌ، وكريمُنا سعيدُ بنُ العاص (¬3). واستسقى سعيد يومًا من دارِ بالمدينة ماءً وكان عطشانًا، فَسَقَوْه شربةً، ثم بلَغَه أنَّ صاحبَ الدار قد عرضَها للبيع، قال: ولمَ؟ قال: عليه أربعةُ آلاف دينار دَين. فقال: إن له علينا لَحُرْمَةً؛ سقانا يومًا شربة. ثم بعثَ إليه بأربعة آلاف دينار وقال: اقْضِ بها دينَك، ولا تَبعْ دارَك (¬4). وقدم الزُّبيرُ بنُ العوَّام - رضي الله عنه - الكوفةَ في خلافة عثمان رضوان الله عليه وعليها سعيد بنُ العاص، فقال: انظروا كم في بيت المال؟ فقالوا: تسع مئة ألف درهم. فقال: احملوها إليه، وقال: لو كان فيه أكثر لحملتُه إليك. فقبلها الزبير - رضي الله عنه - (¬5). قال خليفة: وفي سنة تسع وعشرين عزل عثمان الوليدَ بنَ عُقبة عن الكوفة وولَّاها سعيدَ بنَ العاص، فغزا منها أرمينية، وأَذَرْبِيجان، وجُرْجان، فافتتَحها في سنة ثلاثين (¬6). [وافتتح طبرستان في سنة ثلاثين] فسأله أهلُها الأمان على أن لا يقتل منهم رجلًا واحدًا، فأَمَّنَهم وقتلَهم كلَّهم إلا رجلا واحدًا (¬7). وأقام سعيدٌ الحجَّ للناس سنة ثمانٍ وخمسين (¬8). ¬

_ (¬1) جمع جَحْجَاح، وهو السيد السمح الكريم. (¬2) نسب قريش ص 176، والاستيعاب ص 155، وتاريخ دمشق 7/ 256. (¬3) تاريخ دمشق 7/ 260 (مصورة دار البشير). (¬4) المصدر السابق 7/ 268. (¬5) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 7/ 262 - 263، وفيه: فبعث إليه بسبع مئة ألف. (¬6) تاريخ خليفة ص 163، وتاريخ دمشق 7/ 263، وفيهما أن البلاد المذكورة فتحت سنة تسع وعشرين. وذكر في جرجان أنه قيل فيها أيضًا: فتحت سنة ثلاثين. (¬7) تاريخ خليفة ص 165، وتاريخ دمشق 7/ 263، وما بين حاصرتين من (ب). (¬8) كذا في النسختين، وهو خطأ. والصواب سنة ثلاث وخمسين: ينظر "تاريخ خليفة" ص 222، وتاريخ دمشق 7/ 264 (مصورة دار البشير).

وجمع له [معاوية] ولايةَ مكَّة والمدينة، فولَّاها سعيدٌ عَمرًا ابنَه (¬1). وكان بين سعيد وقوم من أهل المدينة منازعة، فلما وليَها ترك ذلك وقال: لا أنتصر وأنا والٍ (¬2). وخطب سعيدٌ أمَّ كلثوم بنتَ عليّ - عليه السلام - بعد وفاة عمر رضوان الله عليه، وكان واليًا على المدينة، وبعثَ إليها (¬3) بمئة ألف درهم، فشاورتْ أخاها الحسين - رضي الله عنه -[فقال: لا تتزوَّجيه. فدخل عليها الحسن - رضي الله عنه -، فأخبرته فقال: بل نُزوِّجُه. وأرسل إلى سعيد، فجاء، فقال: أين أبو عبد الله؟ يعني الحسين، فقال الحسن - رضي الله عنه -: أنا كفيل دونَه. فقال سعيد: فلعلَّه كرِهَ ذلك؟ فقال: قد كان ما ذكرتَ. فقال سعيد: واللهِ لا أدخلُ في شيء يكرهُه أبو عبد الله. ثم قام، ولم يأخذ من المال درهمًا (¬4). وقد ذكر القصة المدائني فقال: كره إخوتُها تزويجَها منه، فبسطت أمُّ كلثوم رداءها وجلست على سرير، وقالت لابنها زيد بن عمر بن الخطاب: إذا جاء سعيد فزوِّجني منه. وأرسلَتْ إلى سعيد، فجاء، فقال: أين أبو محمد؟ يعني الحَسَن، أين أبو عبد الله؟ يعني الحُسين - رضي الله عنه -. فقالت: كرها ذلك، وابني يزوِّجُني. فقال: لا والله، ما كنتُ لأُدخِل على ابنَي فاطمة بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرًا يكرهانِه. ثم قام وخرج، وقال لغلامه: احمل إليها مئة ألف أخرى وقُلْ لها: إن ابن عمك كان هَيَّأ لكِ هذه صلةً، فاقْبِضِيها مع تلك. فقَبِلَتْها مع الأولى. وكان سعيد إذا أتاه سائل ولم يكن عنده شيء كتبَ له خُطَّة (¬5) إلى زمان ميسور فيقبضُه. وجاءه رجل فقال: لي عندَك يدٌ. قال: وما هي؟ قال: رأيتُك جالسًا وحدَك، فجلستُ إليك. فقال: يدٌ واللهِ. فأعطاه عَشَرَةَ آلاف (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 7/ 264، وما بين حاصرتين للإيضاح. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في (خ): بها إليهما. (¬4) تاريخ دمشق 7/ 267، وما بعده فيه أيضًا بنحوه. (¬5) في "تاريخ دمشق" 7/ 267: سجلًا. (¬6) الخبر في المصدر السابق، بنحوه أطول منه وأوضح.

وكان سعيد يقول: قَبَّحَ اللهُ المعروف إذا لم يكن ابتداءً من غير مسألة، أمَّا إذا أتاك وقد تركَ ماءَ وجهه (¬1)، وقلبُه خائفٌ، وفرائصُه تُرْعَد، وجبينُه يَرْشَح، لا يدري؛ أيرجعُ بنُجْح الطلب، أو بسوء المنقلب، فواللهِ لو خرجتَ له من جميع مالك ما كافيتَه. وكان يقول: اللهمَّ إن كنتَ تعلم [أنَّ] للدنيا [عندي] (¬2) حظًّا، فلا تجعلْ لي حظًّا في الآخرة. ولما وَليَ سعيد الكوفةَ جاءَتْه هند بنت النعمان بن المنذر مترهِّبة ومعها جوارٍ لها قد لَبِسْنَ المُسُوح، فأكرمَها وأجلسها على فراشه إلى جانبه، وقضى حوائجها، فقالت له: أيُّها الأمير، لا أزال اللهُ عن كريم نعمةً إلا وجعلَكَ السببَ في عَوْدها إليه، ولا جعلَ لك إلى لئيم حاجة (¬3). وأوصى سعيد ابنَه عمرًا أن يبيعَ قصرَه ويقضيَ دينَه، وقال: إن سألك معاويةُ أن يقضيَ ديني؛ فلا تفعل، فلما مات سعيد باع عمرو قصرَه، وجعلَ يقضي دَينَه. فأتاه رجل بقطعة من أديم فيها مكتوب بخطّ سعيد أنَّ له عليه مالًا كثيرًا؛ إمَّا عشرين ألفًا، أو نحوها، فقال عمرُو: هذا خطُّ أبي أعرفُه، ولكنّي أُنكِرُ أن يكون لمثلِك على أبي هذا الدَّين، فمن أين صار لك عليه هذا؟ قال: رأيتُه يومًا، فوقف وقال: هل لك من حاجة؟ فقلت: لا إنَّما رأيتُك تمشي وحدَك، فأحببتُ أن أصلَ جناحَك. فقال: التمس لي شيئًا أكتبُ فيه. فلم أجدْ إلا هذه الرُّقْعة الأديم، فكتب لي فيها. فقال عمرو: إذن واللهِ لا تأخذُها إلا وافيةً. فأعطاه إيَّاها (¬4). وقال الواقديّ: لما احتُضر قال لابنه عمرو: كم عليَّ دَين؟ قال: ثلاثة آلاف ألف درهم. فقال: بِعْ قصري ومزارعي، واقْضِ دَيني. فلمَّا وفدَ ابنُه على معاوية؛ ترحَّم عليه وبكى، وقال: كم دَينُه؟ فأخبره عَمرو، فقال: عليَّ قضاؤه. فقال: قد أوصاني ببيع ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ). وفي "تاريخ دمشق" 7/ 269 (والخبر فيه بنحوه): نزل دمُه في وجهه. وفي "العقد الفريد" 1/ 238: بذلَ وجهه. (¬2) ما بين حاصرتين مستفاد من "العقد الفريد" 1/ 238. ووقع في (ب): عندك، بدل: عندي! . (¬3) تاريخ دمشق 7/ 272 (مصورة دار البشير). (¬4) الخبر بنحوه أطول منه في "تاريخ دمشق" 7/ 272 - 273.

قصره ومزارعه. فاشترى معاويةُ القصر بألف ألف (¬1)، وكان قصرُه من أحسن القصور، وقد تنوَّقَ في بنائه، وغرم عليه أموالًا كثيرة، وكان بمكان يقال له: العَرْصَة، على ثلاثة أميالٍ من المدينة، وفيه يقول أبو قَطِيفة عمرُو بن الوليد بن عقبة: القصرُ فالنخل فالجمَّاءُ بينَهما ... أَشْهَى إلى النفس من أبوابِ جَيرُونِ (¬2) وكان يقال لسعيد: عُكَّة العَسَل (¬3)، وهو أحد الأجواد المعدودين. وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: جاءت امرأةٌ بِبُرْدٍ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني نَذَرْتُ أنْ أُعطِيَ هذا البُرْدَ أكرمَ العرب. فقال: "أعْطِيهِ هذا الغلامَ". يعني سعيدَ بنَ العاص، وكان واقفًا. فبذلك سمِّيَت: الثياب السَّعْديّة (¬4). وقال الزُّبير بن بكَّار: حضر رجلٌ طعامَ سعيد ليلًا، فلمَّا أكلَ الناس وانصرفوا؛ مكثَ الرجل موضعَه، فقال له سعيد: ما حاجتُك؟ فاستحى الرجل ولم ينطق، فأطفأ سعيد السِّرَاج وقال: قُل ولا تستحي. فذكرَ له إضاقةً شديدة، وخرج إلى بيته، فأرسلَ إليه سعيد: ابْعَثْ إلينا وعاءً نعطيك فيه حاجَتك. فقال الرجل لامرأته: هذا ما صنعتِ بي، كلَّفتيني أن أبذلَ ماءَ وَجْهي إلى سعيد، وقد أمرني أن أبعثَ إليه وعاءً، ولعله يُعطيني فيه تمرًا أو طعامًا ما يُساوي بَذْلَ ماءِ وجهي. وبعثَ إليه سعيد بِبَدْرَتَينِ (¬5) مع عَبْدَين، فلما وضعاها بين يدي الرجل؛ وقَفَا، فقال لهما: انصرفا، فقالا: نحن لك. فقال: وكيف؟ قالا: ما بَعَثَ الأمير إلى أحد بِصِلةٍ مع غلام إلا كان له. ¬

_ (¬1) بعدها في "تاريخ دمشق" 7/ 272: والمزارع بألف ألف، والنخل بألف ألف. والخبر بسياق آخر فيه أيضًا، وفي "نسب قريش" ص 177. (¬2) نسب قريش ص 177، وتاريخ دمشق 7/ 272. وجَيرُون؛ بالفتح: دمشق، أو بابها الذي بقرب الجامع، أو منسوب إلى الملك جَيرُون؛ لأنه كان حصنًا له. قاله الفيروز آبادي في "القاموس" وينظر "معجم البلدان" 2/ 199. (¬3) المصدر السابق. وقال صاحب "القاموس": العُكَّة؛ بالضمّ: آنية السمن؛ أصغر من القِرْبة. (¬4) الخبر في "تاريخ دمشق" 7/ 254، وفيه: الثياب السعيدية. (¬5) في "المعجم الوسيط": البَدْرَة كيس فيه مقدار من المال يُتعامل به، ويقدَّم في العطايا، ويختلف باختلاف العهود.

ومات -رحمه الله- سنة سبع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين، وقيل: تسع وخمسين. وحُمل من قصره بالعَرْصَة على أعناق الرجال، فدُفِنَ بالبقيع (¬1). ذكرُ أولاده رحمة الله عليه: فولدَ سعيدٌ عثمانَ الأكبر؛ دَرَجَ، ومحمدًا، وعَمْرًا، وعبدَ الله الأكبر؛ دَرَجَ، والحَكَمَ؛ دَرَجَ، وأمُّهُم أُمُّ البنين بنتُ الحَكَم بن أبي العاص بن أُميَّة. وعبدَ الله؛ أُمُّه أُمُّ حَبِيب بنتُ جُبير بنِ مطعم. ويحيى، وأيوب؛ دَرَجَ؛ أمُّهما العاليةُ بنتُ سَلَمَة، من سَعْد العشيرة. وأبان، وخالدًا والزبير درجا؛ أمُّهم جُويرية بنتُ سيف (¬2)، من بني كنانة. وعثمانَ الأصغر، وداود، وسليمان، ومعا وية، وآمنة؛ أمُّهم أُمُّ عمرو بنت عثمان بن عفَّان، وأمُّ عَمرٍو هذه [أمُّها] رَمْلَةُ بنتُ شيبة بن ربيعة. وسُليمانَ الأصغر؛ أمُّه أمُّ سَلَمة بنتُ حبيب، من بني كلاب. وسعيدًا؛ وأُمُّه مريمُ بنتُ عثمان بن عفَّان رضوان الله عليه، وأُمُّها نائلة بنتُ الفُرَافِصَة. وعنبسة؛ لأمِّ ولد، وعُتبة ومريم لأمِّ ولد. وإبراهيم؛ أمُّه بنتُ سَلَمة بن قيس، من بني كلاب. وجَريرًا وأمَّ سعيد، أمُّهما عائشةُ بنت جرير بن عبد الله البَجَليّ. ورملةَ، وأمَّ عثمان، وأُميمة؛ [وأُمُّهُنَّ أُميمةُ] بنت عامر بن مالك. وحفصةَ، وعائشةَ الكبرى، وأمَّ عمرو، وأُمَّ يحيى، وفاخته، وأمَّ حَبِيب الكبرى، وأمَّ حَبِيب الصغرى، وأُمَّ كلثوم، وسارة، وأُمَّ داود، وأُمَّ سليمان، وأُمَّ إبراهيم، وحُميدة، وهُنَّ لأمَّهات أولاد شتَّى. وعائشةَ الصغرى؛ أُمُّها أُمُّ حبيب بنتُ بُجير، كلابية (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 7/ 273 - 274، وذكره خليفة في "تاريخه" ص 226 في وفيات سنة تسع وخمسين. (¬2) في "طبقات" ابن سعد 7/ 34: سفيان. (¬3) ينظر ما سلف في هذه الفقرة "طبقات" ابن سعد 7/ 34. وما وقع بين حاصرتين استُدرك منه.

سمرة بن جندب

وأشهر أولاده: عَمرو، وعبدُ الله، ومحمدٌ، ويحيى، وعَنْبَسة، وأبان. فأما عمرو فهو الأشدق، كان وصيَّ أبيه؛ قتلَه عبدُ الملك غدرًا (¬1). وابنُه إسماعيل بن عمرو، كان يسكن الأَعْوص (¬2)، وكان فاضلًا زاهدًا لم يلتبس (¬3) من سلطان بني أمية بشيء، وكان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يراه أهلًا للخلافة. وكان أخوه سعيد بن عمرو يسكن أيلة (¬4). وهو القائل في مروان يعني سعيدًا: لَجَّ الفِرارُ بمروانٍ فقلتُ لهُ ... عاد الظَّلومُ ظَلِيمًا همُّهُ الهَرَبُ أين الفرارُ وتركُ الملك إذ كشفَتْ ... عنك الهُوَينا فلا دين ولا حَسَبُ فَراشة الحِلْم فرعونُ العقابِ وإنْ ... تطلبْ نداه فكلبٌ دونه كَلِبُ (¬5) قال ابن عساكر (¬6): أسندَ سعيدُ بن العاص الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله عنه رواية. وقد روى عن عُمر، وعثمان، وعائشة، رضوان الله عليهم، وروى عنه ابناه يحيى، وعَمْرو، وسالمُ بنُ عبد الله بن عمر، وعروةُ بن الزُّبير في آخرين. سَمُرَةُ بنُ جُنْدُب ابن هلال بن جُرَيْج بن مُرَّة، من بني مازن (¬7) بن فَزَارة، حليف الخزرج، وهو من الطبقة الثانية من المهاجرين، كنيتُه أبو سليمان، وقيل: أبو سعيد، وأبو عبد الرحمن، وأبو عبد الله. وكانت أُمُّهُ تحت مُرَيّ بنِ سِنان (¬8) بن ثعلبة، عمِّ أبي سعيد الخُدْري، فكان رَبِيبَه. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 234، وسيرد خبر ذلك في حوادث سنة (69). (¬2) في شرقي المدينة على أحد عشر ميلًا منها. ينظر "نسب قريش" ص 182، و"طبقات" ابن سعد 7/ 453. (¬3) في "نسب قريش" ص 182: لم يتلبَّس. (¬4) في "تاريخ دمشق" 7/ 330: الكوفة. (¬5) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 434. و"ديوان المعاني" ص 196. ونُسب الشعر في "الحيوان" 1/ 256 للضحاك بن سعد. (¬6) تاريخ دمشق 7/ 253 (مصورة دار البشير). (¬7) في "طبقات" ابن سعد 4/ 364: مالك. (¬8) تحرفت في (ب) و (خ) إلى: شيبان، والترجمة ليست في (م).

فلمَّا خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أُحد، وعرضَ أصحابَه ورَدَّ من استصغرَه؛ كان فيمن ردَّ سَمُرة، وأجاز (¬1) رافعَ بنَ خَدِيج، فقال سَمُرَةُ لِمُرَيّ بنِ سِنان: يا أبه، يردُّني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويُجيز رافع، وأنا أصرعُه. فأخبرَ مُرَيٌّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "تصارعا" (¬2). فصرعَ سَمُرَةُ رافعًا، فأجازَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. فشهد سَمُرَةُ أُحُدًا، وكان سَمُرَة إذا ظفر بواحدٍ منهم قَتَلَه شَرَّ قِتْلَة. وكان الحسن وابنُ سِيرين وفضلاء الصحابة يُثنون عليه، وكان صدوقًا ثقة. وقال ابن سِيرين: كان سَمُرة صدوق الحديث، عظيمَ الأمانة، يحبُّ الإسلام وأهله حتى أحدَثَ ما أحدثَ (¬3). واستَخلفَ زيادٌ على البصرة سمرةَ حين خرج إلى الكوفة، فلما عاد زياد من الكوفة وَجَدَ سَمُرةَ قد قتلَ ثمانية آلاف رجل، فقال له زياد: هل تخاف أن تكون قتلتَ بريئًا؟ فقال: لو قتلتُ أمثالهم لما خفت (¬4). وقال أبو السوَّار العدَويّ: قتلَ سَمُرَة من قومي في غداة (¬5) واحدة سبعةً وأربعين رجلًا، كلُّهم قد قرأ القرآن. وقال البلاذُري (¬6): كان زياد بن أبيه قد تجمَّع له العراقان في سنة خمسين، فكان يشتو بالبصرة، ويَصِيفُ بالكوفة، فيقيم في كل مصر ستة أشهر، فإذا خرج عن الكوفة استعملَ عَمْرَو بنَ حُريث، وإذا خرجَ عن البصرة استعملَ عليها سَمُرَةَ بنَ جُنْدُب، فسفك سمُرةُ الدِّماء، وظلمَ الناسَ. ¬

_ (¬1) وقع في (خ): أخا، بدل: وأجاز، وفوقها: كذا. ووقع في (ب): أجاز (بدون واو)، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 4/ 364. (¬2) في (ب) و (خ): أتصارعا. والمثبت من "الطبقات" 4/ 365. (¬3) المصدر السابق. (¬4) أنساب الأشراف 4/ 236، وتاريخ الطبري 5/ 236 - 237. (¬5) في (ب) و (خ): غزاة، والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 237، و"تاريخ" الطبري 5/ 237. (¬6) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 235 - 236، وسلف نحوه في ترجمة زياد بن أبيه في السنة الثالثة والخمسين.

وقدمَ على سَمُرة بضعةَ عشرَ رجلًا، فجعلَ يسألُ الرجلَ منهم فيقول. ما دينك؟ ومَنْ نبيُّك؟ فيقول: الإسلام ديني، ومحمد نبيِّي. فقتل الجميع (¬1). وكان زياد سيئة من سيِّئات معاوية، وكان سمُرة سيِّئةً من سيِّئات زياد. قال الطبري: وهل يُحصى من قتلَ سمرة (¬2)؟ ! ذكر وفاته: قال ابن عساكر: مات بالبصرة سنة ثمان وخمسين، ووقع في قِدْرَةٍ (¬3) مملوءةٍ ماءً حارًّا، كان يتعالج بالقعود عليها من بردٍ أصابَه، فسقطَ فيها فمات، وكان ذلك تصديقًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة، ولثالث معهما: "آخر [كم] موتًا بالنار" (¬4). قال أوس بن خالد: كنتُ إذا قدمتُ على أبي محذورة [مكة] سألني عن سَمُرة بن جُندب، وإذا قدمتُ البصرة على سَمُرة، سألني عن أبي محذورة، فقلتُ لأبي محذورة: إذا قدمتُ عليك تسألُني عن سَمُرة. وإذا قدمتُ على سَمُرة سألني عن أبي محذورة؟ فقال: كنتُ أنا وسَمُرة وأبو هريرة في بيتٍ واحد، فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذَ بعضادَتَي الباب، ثم قال ولثالث معهما: "آخرهم موتًا في النار". فمات أبو هريرة، ثم مات أبو محذورة، ثم مات سَمُرة. وقال ابن سعد (¬5): لما مرض سَمُرَةُ؛ أصابه برد كُزاز شديد، فكان لا يكاد يدفأ، فأمرَ بقِدْرٍ عظيمة، فَمُلئت ماءً، ثم أُوقِدَ تحتَها، واتَّخذَ عليها مجلسًا، فكان يصلُ إليه بخارُها فيُدفئه، فبينا هو كذلك إذْ خُسف تحته، فوقع فيها فنشَّ. وكان عن يمينه كانون، وعن شماله مثلُه، ومن بين يديه ومن خلفه، وكان لا يزدادُ إلا بردًا؛ حتى وقع في القِدْر، فاحترق. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 237. (¬3) كذا في (ب) و (خ). والجادة: قِدْر، ويذكّر ويؤنّث. وينظر "سير أعلام النبلاء" 3/ 185. (¬4) لم أقف عليه عند ابن عساكر، وينظر "الاستيعاب" ص 352، وما بين حاصرتين مستفاد منه. (¬5) بنحوه في "الطبقات" 4/ 265.

أبو محذورة المؤذن

أسند سمرة الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجَ له الإمام أحمد رحمه الله ثلاثة وخمسين حديثًا (¬1). وقال ابن عبد البَرّ: كان سَمُرَةُ من الحفَّاظ المكثرين (¬2). أبو مَحْذُورَة المؤذِّن واسمه سَمُرة بن مِعْير (¬3) -أو: عُمير (¬4) - بن لَوْذان الجُمحي، وقيل: أوس. وهو من الطبقة الرابعة مِمَّن أسلم بعد الفتح. وأمُّه من خُزاعة، وكان له أخٌ من أبيه؛ اسمه أُنيس؛ قُتل يوم بدر كافرًا. قال أبو محذورة: خرجتُ في نفر، فكنتُ في بعض طريق حُنين مَقْفَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسَمِعْنا مؤذِّنَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فصرَخْنا نحكيه ونستهزئُ به، فسمعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصوتَ، فأرسلَ إلينا، فوقفنا بين يديه، فقال: "أيُّكم الذي سمعتُ صوتَه؟ " فأشاروا إليَّ، فأطلقهم وحبسني، ثم قال: "قُمْ فأَذِّنْ بالصلاة". فقمتُ ولا شيء أكره إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا مِمَّا يأمرني به، فقمتُ بين يديه، فألقَى عليَّ التَّأذين، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قضيتُ التَّأذين، فأعطاني صُرَّةً فيها شيء من فضة، ثم وضعَ يدَه على ناصيةِ أبي محذورة، ثم أَمَرَّها على وجهه، ثم بين ثدييه، ثم على كبده، وقال: "بارك الله فيك وعليك". فقلت: يا رسول الله، مُرْني بالتَّأذين بمكَّة. فقال: "قد أمرتُك". وذهب كل شيء كان عندي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كراهيته، وعاد ذلك محبَّةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فكان أبو محذورة لا يجُزُّ ناصيتَه ولا يفرِّقُها؛ لأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مسحَ عليها (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "مسند" أحمد (20078) إلى (20267). وذكر ابن الجوزي في "التلقيح" ص 393 أنه أُخرج له في الصحيحين سبعة أحاديث، المتفق عليه منها حديثان، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة. (¬2) الاستيعاب ص 300. (¬3) تحرف في (ب) و (خ) إلى: سبرة بن نعير. (¬4) في النسختين: بن عمير. والتصويب من المصادر. ينظر: "طبقات" ابن سعد 6/ 113 و 8/ 11، و"الاستيعاب" ص 853. و"تهذيب الكمال" 34/ 256، و"الإصابة" 12/ 12. (¬5) ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 114 - 115 و 116.

أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها

أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، أمُّها أمُّ رُومان. [وقد ذكرنا تزويج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها بمكة، ودخوله بها في المدينة. وقال ابن سعد: ] وُلدَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - في السنة الرابعة من النبوَّة، وتزوَّجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعد سَوْدَةَ رضوان الله عليها بشهر (¬1)، على بيت قيمتُه خمسون درهمًا [أو نحوٌ من خمسين] (¬2). وكنَّاها [رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -] أمَّ عبد الله، يعني ابنَ الزُّبير (¬3). [وقد ذكرنا أخبارها مفرَّقة في الكتاب، ونحن ذاكرون هاهنا طرفًا من فضلها وأحوالها. قال البخاري بإسناده عن أبي موسى قال: ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَمُل من الرجال كثير، ولم يَكْمُلْ من النساء إلا مريمُ بنتُ عمران، وآسِيَةُ بنتُ مُزاحم امرأةُ فرعون. وفضلُ عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام". متفق عليه (¬4). [وإنما ضَرَبَ المثل بالثَّريد لوجوه: أحدها: لأنه أفخر طعام العرب. والثاني: لأنه يأخذ جوهر الطعام كله بالمَرَق. والثالث: لأنه أسهلُ تناولًا من غيره. وقال البخاري بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ لو نزلتَ واديًا فيه شجر قد أُكل منها، ووجدت شجرًا لم يُؤكل منها، في أيِّها كنتَ تُرْتِعُ بعيرَك؟ قال: "في التي لم يُؤكل منها". تعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوَّج بكرًا غيرها. انفرد بإخراجه البخاري (¬5)]. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 77. (¬2) المصدر السابق 10/ 60، وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬3) المصدر السابق 10/ 63 و 64. (¬4) صحيح البخاري (3769)، وصحيح مسلم (2431)، وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬5) صحيح البخاري (5077). والكلام بين حاصرتين من (م).

ورَوَى عروةُ عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيتُكِ في المنام مرَّتين، فإذا برجلٍ يحملُكِ في سَرَقةٍ من حرير، فيقول: هذه امرأتُكَ، فأكشفُ عنها، فإذا هي أنتِ، فأقول: إنْ يكُ هذا من عند الله يُمْضِهِ". متفق عليه (¬1). قالت عائشة رضوان الله عليها: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعًا يده على معرفة [فرس] دِحْيَة الكلبي، فلما انصرف؛ أتيتُه، فقلت: يا رسول الله، رأيتُك واضعًا يَدَكَ على معرفة [فرس] دِحْيَة الكلبي وأنتَ تُكَلِّمُه. قال: "رأيتِ ذلك؟ " قلت: نعم. قال: "ذلك جبريل، وهو يقرأ عليكِ السلامَ". قالت: و - عليه السلام -، ورحمةُ الله وبركاتُه، جزاه الله خيرًا من صاحبٍ ودَخِيلٍ، نِعْمَ الصاحبُ، ونِعْمَ الدَّخِيلُ. متفق عليه (¬2). [قال أحمد بإسناده عن هشام، عن أبيه، عن عائشة] قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لَأَعْلَمُ إذا كنتِ عليَّ راضيةً، وإذا كنتِ عليَّ غَضْبَى". فقلت: ومن أين تعرفُ ذلك؟ قال: "إذا كنتِ عنّي راضيةً تقولين: لا وَرَبِّ محمد، وإذا كنتِ عليَّ غَضْبَى قلتِ: لا وَرَبِّ إبراهيم". فقلت: أجل، والله ما أهجرُ إلا اسمَك (¬3). [وفي رواية: "إني لأعرف غضبكِ من رضاكِ" (¬4). متفق عليه. وقال ابن سعد بإسناده عن القاسم بن محمد، عن عائشة - رضي الله عنها -] قالت (¬5): فُضِّلتُ على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشر. قيل: وما هنَّ يا أمَّ المؤمنين؟ قالت: لم ينكح بِكْرًا قطُّ غيري، ولم ينكح امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزلَ اللهُ براءتي من السماء، وجاءه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5078)، وصحيح مسلم (2438)، وفيهما: أُرِيتُكِ، بدل: رأيتُك. والحديث ليس في (م) (¬2) الحديث بهذه السياقة ليس في "الصحيحين"، وهو في "مسند" أحمد (24462). وقد أخرجه البخاري (6253)، ومسلم (2447) مختصرًا عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "إن جبريل يقرأ عليكِ السلام". قالت: و - عليه السلام - ورحمة الله. ووقع في النسخة (م) بدلَه ما لفظُه: "وروى ابن سعد عن مسروق، عن عائشة قالت: لقد رأيت جبريل واقفًا في حُجرتي هذه على فرس، ورسول الله يُناجيه، فلما دخل قلت: من هذا الذي رأيتُك تُناجيه؟ قال: "وهل رأيتِه؟ " قلت: نعم. قال: "فبمن شبَّهتِه؟ " قلت: بِدِحْية. قال: "ذاك جبريل". وذكره. وهو في "طبقات" ابن سعد 10/ 67. (¬3) مسند أحمد (24318)، وصحيح البخاري (5228)، وصحيح مسلم (2439). (¬4) هي عند البخاري (6078). وينظر التعليق السابق. (¬5) طبقات ابن سعد 10/ 63 - 64.

جبريل بصورتي من السماء في حَرِيرَة وقال: تَزَوَّجْها، فإنَّها امرأتُك، وكنتُ أغتسلُ أنا وهو من إناءٍ واحد، ولم يكنْ يصنعُ ذلك بأحدٍ من نسائه غيري، وكان يصلي وأنا معترضةٌ بين يديه كالجنازة، ولم يكن يفعل [ذلك] بأحد من نسائه غيري، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي في فراشي، ولم [يكن] ينزلُ عليه وهو مع أحد من نسائه غيري، وقَبَضَ اللهُ نفسَه وهو بين سَحْري ونَحْري، ومات في الليلة التي كان يدور عليَّ فيها، ودُفن في بيتي. [وفي رواية ابن سعد (¬1): وبَنَى بي لتسع سنين، ورأيتُ جبريل، ولم تره امرأة غيري، وكنت أحبَّ نسائه إليه، وكان أبي أحبَّ أصحابه إليه]. وفي "الصحيحين" عن عَمرو بن العاص قال: قلتُ: يا رسول - صلى الله عليه وسلم - الله، أيُّ الناسِ أحبُّ إليك؟ قال: "عائشة". قلت: فمن الرجال؟ قال: "أبوها" (¬2). [وحكى ابن سعد عن مسروق أنه كان إذا حدَّث عن عائشة يقول: حدثتني الصادقة بنت الصِّدِّيق المبرَّأة من كذا وكذا. وفي رواية: حبيبةُ حبيبِ الله (¬3)]. وقال مسروق: إن امرأة قالت لعائشة رضوان الله عليها: يا أمَّاه. فقالت: لستُ بأُمِّكِ، أنا أمُّ رجالكم (¬4). ووقع رجل في عائشة - رضي الله عنها - يومَ الجمل، فاجتمعَ عليه الناس، فقال عمَّار: ما هذا؟ قالوا: رجل يقعُ في عائشة. فقال له عمَّار: اسْكُتْ مَقْبُوحًا منبوحًا، أتقعُ في حبيبةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ إنها لَزَوجتُه في الجنة (¬5). [وقد ذكرنا أن عمارًا قال على منبر الكوفة: إنَّا لنَعْلَمُ أنها زوجةُ رسول الله في الدنيا والآخرة] (¬6). ¬

_ (¬1) الطبقات 10/ 65. (¬2) صحيح البخاري (3662)، وصحيح مسلم (2384). (¬3) طبقات ابن سعد 10/ 64. (¬4) المصدر السابق. (¬5) المصدر السابق 10/ 65، وهو في "سنن" الترمذي (3888) و (3889). (¬6) هو قطعة من حديثه في "صحيح" البخاري (3772).

[ذِكرُ بعض جودها]: روى ابن سعد عن عروة قال (¬1): رأيت عائشة تصدَّقَتْ بسبعين ألفًا، وإنَّها لترفع جانب دِرْعِها (¬2). وذكر جدّي في "الصفوة" عن عطاء قال (¬3): بعث معاوية إلى عائشة بطوق من ذهب فيه جوهر، قُوِّم بمئة ألف، فقَسَمَتْهُ بين أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن سعد عن أمّ ذرَّة قالت (¬4): بعث ابن الزبير [إلى عائشة] بمال في غِرارتين يكون مئةَ ألف، فدعت بطبق وهي يومئذٍ صائمة، فجعلت تقسمُه في الناس [فلما أمْسَتْ قالت: يا جارية: هاتي فِطْري، فجاءت بخبز وزيت]، فقالت أمُّ ذرَّة: يا أُمَّ المؤمنين، أمَّا استطعتِ فيما أنفقتِ أن تشتري (¬5) بدرهم لحمًا تُفطرين عليه؟ فقالت: لا تُعَنِّفِيني، لو كنتِ أذْكَرْتِني لفعلتُ. [ذكر صفة لباسها - رضي الله عنه -]: روى ابن سعد عن القاسم بن محمد قال: كانت عائشة تَلْبَسُ (¬6) المُعَصْفَرَ وخواتيمَ الذهب وهي مُحرمة (¬7). وكانت تَلْبَسُ ثوبًا مضرَّجًا، ودِرْعًا أحمر، وخمارًا أسود، وكانت تلبَسُ الخَزّ والقَزّ (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): قال عروة، بدل قوله: روى ابن سعد. . . إلخ. وهذه العبارة من (م)، وكل ما سلف وسيرد بين حاصرتين منها. (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 66. (¬3) في (ب) و (خ): قال عطاء، بدل قوله: وذكر جدّي. . . إلخ، والمثبت من (م)، والكلام في "صفة الصفوة" 2/ 29. (¬4) العبارة من (م)، ووقع بدلها في (ب) و (خ): وقالت أم ذرّ (كذا) وهو خطأ. والكلام في "طبقات" ابن سعد 10/ 66، و"صفة الصفوة" 2/ 29. (¬5) في (ب) و (خ) و (م): تشترين، والجادة ما أُثبت. (¬6) في (ب) و (خ): وكانت تلبس، بدل قوله: روى ابن سعد. . . إلخ. (¬7) ينظر "طبقات" ابن سعد 10/ 69. (¬8) وقع الكلام في (م) بالسياقة التالية: "وقال ابن أبي مليكة: رأيت على عائشة ثوبًا مضرجًا، أي: مورَّدًا، وفي رواية عن عائشة أنها كانت تلبس درعًا أحمر، وخمارًا أسود، وكانت تلبس الخزّ". وينظر "طبقات" ابن سعد 10/ 69 و 70 و 71.

[وحكى ابن سعد عن الواقدي عن أشياخه أن عائشة كانت تُحرِمُ في الدِّرْع المُعَصْفَر] (¬1). وقال أيمن المكّيّ: دخلتُ على عائشة وعليها دِرْع قِطْريّ، ثمنُه خمسةُ دراهم (¬2). [القِطْري، بكسر القاف: ضرب من البُرود]. ذكر قصتها مع ابن الزُّبير في اليمين التي حلفت: قال البخاريّ: حدَّثنا أبو اليَمان، حدَّثنا شعيب، عن الزُّهْريّ، حدَّثني عَوْفُ بن مالك بن الطُّفيل -وهو ابنُ أخي عائشة لأمِّها- أنَّ عائشةَ حدَّثت أنَّ عبدَ الله بنَ الزُّبير قال في بيعٍ -أو عطاءٍ أعطته عائشة-: واللهِ لَتنتهِيَنَّ عائشةُ، أو لَأَحْجُرَنَّ عليها. قالت: أهو قال هذا؟ ! قالوا: نعم. قالت: فللَّهِ عليَّ نَذْرٌ أن لا أُكَلِّمَهُ أبدًا. فاسْتَشْفَعَ إليها حين طالتِ الهجرة، فقالت: واللهِ لا أُشَفِّعُ فيه أبدًا، ولا أتحنَّثُ (¬3) في نذري. فلمَّا طال ذلك عليه! كَلَّمَ المِسْوَرَ بنَ مَخْرَمةَ، وعبدَ الرحمن بنَ الأسود بن عَبْد يغوث -وهما من بني زُهْرة- وقال: نَشَدْتُكما (¬4) اللهَ لَما أَدْخَلْتُماني عليها، فإنه لا يحلُّ لها قَطِيعتي (¬5). فأقبلا مُشْتَملَين عليه بأرديتهما حتى استأْذَنا عليها، وقالا: ندخُلُ كلُّنا؟ قالت: نعم. ولم تعلم أنَّ ابنَ الزُّبير معهما، فلما دخلوا دخلَ ابنُ الزُّبَير معهما الحجاب، وطَفِقَ يعتنقُها ويبكي، ويناشدُها اللهَ، وطَفِقا يناشدانِها اللهَ إلا ما كلَّمتِه (¬6)، ويقولان: قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الهجرة، ولا يحلُّ لمسلمٍ أنْ يهجر أخاه فوق ثلاث. وعائشةُ تبكي وتقولُ: إنِّي قد نَذَرْتُ، والنَّذْرُ شديد. فلم يزالا بها حتى كَلَّمَتْه، وأعتَقَتْ في نذرها ذلك أربعين رقبةً. ¬

_ (¬1) ذكره ابن سعد في "طبقاته" 10/ 69 عن عارم (واسمه محمد) بن الفضل عن أشياخه. والكلام السالف والآتي بين حاصرتين من (م). (¬2) هو في "صحيح" البخاري (2628)، وفيه: دِرْعُ قطرٍ ثمنه خمسة دراهم. (¬3) في (ب) و (خ): ولا الحنث، والمثبت من (م). (¬4) في (ب) و (خ): أنشدتكما. (¬5) في "صحيح" البخاري (6073): لا يحل لها أن تنذر قطيعتي. (¬6) في (ب) و (خ): كلَّمتيه، والمثبت من (م).

وكانت تذكُرُ نَذْرَها بعد ذلك. فتبكي حتى تَبُلَّ خِمارَها دموعُها (¬1). انفرد بإخراجه البخاري (¬2). [وأخرجه الحميدي عن عروة قال: كان عبدُ الله بن الزُّبير أَحَبَّ الناس إلى عائشة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وكان أَبَرَّ الناس بها، وكانت لا تُمسك شيئًا، فما جاءها من رزق تصدَّقت به، فقال ابن الزُّبير: ينبغي أن يُؤخذ عليها؛ أو: على يديها. فقالت: أيُؤخَذُ على يديّ! للهِ عليَّ نذرٌ إنْ كلَّمتُه. فاستشفعَ إليها برجال من قُريش، وبأخوال رسول الله خاصَّة. فقال له عبد الرحمن بن الأسود والمِسْور: إذا استأْذَنَّا عليها فاقتحمِ الحجاب. وذكره. وأرسل إليها عبد الله بن الزبير بعشر رقاب، فأعتقتهم، ثم لم تزل تُعتق حتى أعتقت أربعين رقبة، وكانت أرقَّ شيء علي بني زُهرة لقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3). قال البَلاذُريّ (¬4): اعتقَتْ مئة رقبة. [قال: ] وكانت عائشة رضوان الله عليها لا نردُّ عبدَ الرحمن بنَ الأسود في شيء، وكان له عندها مكانة. [قلت: ] وهذا عبد الرحمن ابن الأسود بن عبد يغوث بن وَهْب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزُّهري]. وُلدَ على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأدركه ولم يره (¬5)، وليس له صحبة. وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة. [وأمُّه آمنة (¬6) بنت نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب]. ¬

_ (¬1) في (م): بدموعها. (¬2) صحيح البخاري (6073). (¬3) من قوله: وأخرجه الحميدي. . . إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (م). (¬4) في (م): وذكر القصة البلاذري وقال. . . إلخ. وهو في "أنساب الأشراف" 1/ 504. (¬5) في (م): ولم يرو عنه. وكل ما سلف بين حاصرتين منها. (¬6) في "طبقات" ابن سعد 7/ 7: أمية، وفي "طبقات" خليفة ص 233: أمة الله.

وروى عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما-، وله دارٌ بالمدينة عند أصحاب الغرابيل والقِباب. [هذا صورة ما ذكره ابن سعد (¬1)]. [وقال هشام: ، ولما حُصِرَ عثمان رضوان الله عليه في داره أشرف عليهم وقال: قد وَلَّيتُ عبدَ الرحمن بنَ الأسود العراق. وبلغَ عبدَ الرحمن فقاك: واللهِ لَرَكعَتَينِ (¬2) أَرْكَعُهُما أَحبُّ إليَّ من إمرة العراق. وكان صالحًا، وشهدَ فتح دمشق. [وأبوه الأسود؛ كان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعذَّبه جبريل حتى حنى ظهرُه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خالي يا جبريل". فقال: دعه. فمات، وقد ذكرناه في السيرة. وكان عبد الرحمن أبيض الرأس واللحية، فأمرتْه عائشة أن يغلفهما (¬3) بالحِنَّاء والكَتَم، وقالت: كان أبي يفعل بهما ذلك]. ذكر عبادتها وصومها: وكانت عائشة - رضي الله عنها - تصومُ الدَّهرَ، ولا تُفْطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر (¬4). وقال ابنُ جريج: قال عطاء: كنتُ أنا وعُبيد بن عُمير نأتي عائشة وهي مجاورةٌ في جوف ثَبِير. قلت: وما حجابُها يومئذ؟ قال: هي في قُبَّةٍ لها تركية، عليها غشاءً بينَنا وبينَها (¬5). وذكر في "الصفوة" عن شيبة بن نِصاح، عن القاسم قال (¬6): كنتُ إذا غدوتُ أبدأ ببيت عائشة أُسَلِّمُ عليها، فغدوتُ يومًا؛ فإذا هي قائمةٌ تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَينَا وَوَقَانَا ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 7/ 7. (¬2) كذا في (ب) و (خ) و (م)، والجادة: لركعتان. (¬3) كذا في (م) والكلام منها (وهو ما بين حاصرتين). والخبر بنحوه في "طبقات" ابن سعد 3/ 173، وفيه أنه حمَّرها. (¬4) بنحوه في "الطبقات" 10/ 67 و 73، ونسب القول في (م) إلى ابن سعد. وقوله: لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر في "صفة الصفوة" 2/ 31. (¬5) طبقات ابن سعد 10/ 68. ونُسب القول في (م) إليه. (¬6) قوله: وذكر في "الصفوة". . . إلخ، من (م)، ووقع بدله في (ب) و (خ): قال القاسم. والكلام في "صفة الصفوة" 2/ 31.

عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]. وتدعو وتبكي وتردِّدُها، فقمتُ حتى مللتُ القيام، فذهبتُ إلى السوق [لحاجتي] ثم رجعت، وإذا هي قائمة [كما هي] تصلي وتبكى. و[قال ابن سعد بإسناده أن عائشة] قالت: واللهِ لوَدِدْتُ أني شجرة، واللهِ لَوَدِدْتُ أني كنتُ مَدَرَة، واللهِ لَوَدِدْتُ أني لم يكن خلقني شيئًا قطّ (¬1). [وفي رواية ابن سعد بإسناده عن عيسى بن دينار قال: سألت أبا جعفر عن عائشة، فقال: استغفر لها! أما علمتَ ما كانت تقول؟ يا ليتني كنتُ شجرة. وذكره. قلت: وما ذاك منها؟ قال: توبة (¬2)]. وقال البلاذُري: إن رجلًا كان في دار عائشة، وكان يلعبُ بالنَّرْد، فأرسلَتْ إليه: إنْ أخرجتَ النَّرْدَ من داري (¬3)، وإلا أخرجتُك. وقال إسحاق الأعمى: دخلتُ على عائشة، فاحتجبَتْ منِّي، فقلت: تحتجبين منّي ولستُ أراكِ! قالت: إن لم تكن تراني، فإنِّي أراك. وكانت إذا قرأَتْ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} الآية [الأحزاب: 33]، تبكي حتى تَبُلَّ خمارها (¬4). ذكر طرف من مواعظها: كتَبَتْ إلى معاوية (¬5): أما بعد، فإنَّ العبد إذا عَمِلَ بمعصية الله، عادَ حامدُه من الناس ذامًّا. وقالت: إنكم لَنْ تلْقَوُا اللهَ بشيءٍ خيرٍ لكم من قلَّةِ الذُّنوب، فمن سرَّه أن يسبق الدائب المجتهد؛ فليكفَّ نفسَه عن الذنوب (¬6). [وقال هشام بن عروة، عن أبيه قال: ] وكانت تقول: إياكم أنْ تعصُوا اللهَ بنعمه. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 73، ووقع في (م) الفقرة الأخيرة. (¬2) المصدر السابق. وما بين حاصرتين من (م). (¬3) في "أنساب الأشراف" 1/ 503 - 504: من منزلك. (¬4) الخبران الأخيران في "طبقات" ابن سعد 10/ 68 - 69 و 79. (¬5) في (م): قال عبد الله بإسناده عن عامر قال: كتبت عائشة إلى معاوية. . . والخبر في "صفة الصفوة" 2/ 32. (¬6) المصدر السابق، ونُسب الكلام في (م) إليه.

ذكر غزارة علمها [وفصاحتها]: قال أبو موسى: ما أشكَلَ علينا أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ قطُّ فسألْنَا عائشةَ إلا وَجَدْنا عندها منه علمًا (¬1). وقال مسروق: لقد رأينا الأكابر من الصحابة يسألونها عن الفرائض (¬2). وقال عروة: ما رأيت أحدًا من الناس أعلمَ بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحلال ولا بحرام، ولا بِشِعْرٍ، ولا بحديث العرب، ولا بنسب، من عائشة (¬3). [وقال عبد الله بن أحمد بإسناده عن هشام بن عروة (عن عروة) أنه كان يقول لعائشة: يا أُمَّاه، لا أعجبُ من فِقْهك؛ أقولُ: زوجةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابنةُ أبي بكر، ولا أعجبُ من علمك بالشِّعْر وأيام الناس؛ أقول: ابنةُ أبي بكر. وكان من أعلم الناس. ولكن من علمك بالطِّبِّ! قال: فضربت على منكبه وقالت: أي عُرَيَّة، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَسْقَمُ في آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كلِّ وجه، فتنعت له الأنعات، فكنت أعالجها، فمن ثمَّ] (¬4). وقال الزُّهري: لو جُمع علمُ عائشةَ إلى علم جميع أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وجميع النساء (¬5)؛ كان علمُ عائشةَ أكثر (¬6). قال عروة: ربَّما روت عائشة القصيدة ستين بيتًا ومئة بيت (¬7). وقال الأحنف بنُ قيس: سمعتُ خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ [وغيرهم]، فما سمعتُ الكلام من مخلوق أحسنَ منه من في عائشة - رضي الله عنها - (¬8). ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (3883) (ونُسب الخبر في م إليه) وصفة الصفوة 2/ 32. وأبو موسى: هو الأشعري - رضي الله عنه -. (¬2) صفة الصفوة 2/ 32. (¬3) الحلية 2/ 49 (وقد نُسب الخبر في م لأبي نُعيم)، وصفة الصفوة 2/ 32. (¬4) مسند أحمد (24380) وهذا الخبر (وهو بين حاصرتين) من (م). ولفظ (عن عروة) بين قوسين منه. (¬5) كذا في (ب) و (خ) و (م)، و"صفة الصفوة" 2/ 33، ولعلها محرَّفة عن "الناس". وانظر التعليق التالي. (¬6) هو في "المستدرك" 4/ 11 بلفظ: لو جُمع علمُ الناس كلِّهم، ثم علمُ أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لكانت عائشةُ أوسعَهم علمًا. (¬7) طبقات ابن سعد 10/ 72، وقد نُسب الخبر في (م) إليه. (¬8) صفة الصفوة 2/ 36.

وكان معاوية يقول: ما فتحَتْ عائشةُ بابًا تُريد أن تُغلقَه إلا أغلقته، ولا غلَّقت بابًا تريد فتحه إلا فتَحَتْه (¬1). وقال عروة (¬2): رأَتْ عائشةُ رضوان الله عليها قارئًا متماوتًا متخشِّعًا، فقالت: تبًّا لهذا. وبورك لكلِّ سهل طَلْق متبسِّم، يرى لك المنَّة عليه بردِّ السلام. وقاتلَ الله كلَّ عبوس متماوت يلقاك بوجهٍ مكفهرّ، يمنُّ عليك بعمله؛ فلا أكثر الله في المسلمين أمثاله (¬3). ذكر وفاتها - رضي الله عنها -: قال ذكوان (¬4) حاجب عائشة رضوان الله عليها: إنه جاء عبد الله بن عباس يستأذنُ عليها. قال: فجئتُ وعند رأسها ابنُ أخيها عبدُ الله بنُ عبد الرحمن، وهي تموت (¬5)، فقلتُ: هذا ابنُ عبَّاس يستأذن. [فأكبَّ عليها عبدُ الله ابنُ أختها، فقال: هذا ابن عباس يستأذن] فقالت: دعني من ابن عباس. فقال لها: يا أمَّتاه، إنَّ ابن عباس من صالحي بَنِيك يسلِّمُ عليك ويودِّعُك. فقالت: ائذن له إنْ شئتَ. فأدخلتُه، فلما جلس قال: أَبْشِرِي، فما بينَكِ وبين أن تَلْقَي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والأحبَّةَ إلا أن تخرجَ الروحُ من الجسد، كنتِ أحبَّ نساءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، ولم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ إلا طيِّبًا، وسَقَطَتْ قِلادتُكِ ليلةَ الأبواء، فأصبحَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى (¬6) يصبح في المنزل (¬7)، وأصبح الناسُ وليس [معهم] ماءٌ، فأنزلَ الله تعالى آيةَ التيمُّم، فكان ذلك بسببك وما أنزل الله لهذه الأمَّة من الرُّخْصَة، وأنزلَ اللهُ براءتَكِ من فوق سبع سماواتِه، جاء بها الرُّوحُ الأمين، فأصبحَ وليس مسجدٌ من مساجد الله إلا تُتلى فيه آناءَ الليل والنهار. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) في (م): وروى هشام بن الكلبي عن أبيه عن هشام بن عروة، عن أبيه قال. . . إلخ. (¬3) ذكر المبرد في "الكامل" 2/ 694 نحوه مختصرًا جدًّا، وذكر المزي في "تهذيب الكمال" 10/ 533 في ترجمة سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي نحوه من قوله. (¬4) في (م): قال أحمد بن حنبل بإسناده عن عبد الله بن أبي مليكة أنه حدَّثه ذكوان. . . إلخ والخبر في "مسند" أحمد (2496). (¬5) في (م): وهو يتموت. (¬6) في (خ): حين. (¬7) في (م): في المسجد أو المنزل.

فقالت: دَعْني منك يا ابنَ عبَّاس، فوالذي نفسي بيده، لَوَدِدْتُ أنِّي كنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. [وقد أخرج البخاري بمعناه (¬1)، وفيه: فقال لها ابنُ عبَّاس: يا أُمَّ المؤمنين، تَقْدَمِينَ على فَرَطِ صِدْقٍ؛ رسولِ الله وأبي بكر. وفي رواية (¬2): استأذنَ ابن عبَّاس على عائشة وهي مغلُوبة، فقالتْ: أخشى أنْ يُثْنِيَ عليَّ. فلما دخل قال: أبشري، فإن رسول الله لم ينكح بِكْرًا غيرك، ونَزَلَ عُذْرُكِ من السماء. وذكره. وللبخاري عن ابن الزبير أن عائشة قالت له (¬3): ادْفِنِّي مع صواحبي، ولا تدفنّي مع رسول الله، فإني أخشى أن أزكى به. ومعناه: أن أُمدح به. وهذا من تواضعها]. و[قال ابن سعد بإسناده عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها] قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة، إنْ أَردتِ اللحوق بي؛ فليكفك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسةَ الأغنياء، ولا تستخلقي ثوبًا حتى تُرقِّعيه" (¬4). [وقال ابن سعد: أوصت عائشة أن لا يُتبعوا سريرها بنار، ولا يجعلوا قطيفة حمراء (¬5). قال: ] وقالت: إذا كُفِّنتُ وحُنِّطتُ، ثم دلَّاني ذكوان في قبري وسوَّى عليَّ، فهو حُرّ (¬6). [قال: ] وكانت إذا سُئلت: كيف أصبحتِ؟ تقول: صالحة والحمد لله (¬7). وتوفيت - رضي الله عنها - في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وصلَّى عليها أبو هريرة، ودفنت بعد الإيتار، ليلة سبعَ عشرةَ مضت من شهر رمضان ليلة الثلاثاء (¬8). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3771). والكلام بين حاصرتين من (م). (¬2) صحيح البخاري (4753). (¬3) صحيح البخاري (7327). وهذا الكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) طبقات ابن سعد 10/ 75. (¬5) المصدر السابق 10/ 73 و 74 و 75. (¬6) المصدر السابق 10/ 75. (¬7) المصدر السابق 10/ 73. (¬8) جاء الكلام في النسخة (م) بسياقة أخرى أكثر تفصيلًا ولفظه: واتفقوا على أنها توفيت في شهر رمضان، وإنما اختلفوا في السنة التي ماتت فيها، فقال ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حزم =

وأَمرت أن تُدفن من ليلتها، فاجتمع الناس وحضروا، فلم تُر ليلةٌ أكثرُ ناسًا منها، نزلَ لها أهلُ العوالي، ودُفنت باالبقيع (¬1). [وفي رواية ابن سعد عن الواقدي، عن ابن أبي عتيق قال: حُمل معها جَريد في الخِرَق فيه النار ليلًا، ورأيتُ النساء بالبقيع، كأنه عيد. قال: وصلى عليها أبو هريرة بالبقيع، وابنُ عمر في الناس لا ينكره، وكان مروان قد اعتمر في تلك السنة، فاستخلف أبا هريرة (¬2)]. ونزل في قبرها عبدُ الله بنُ الزُّبير، والقاسمُ بنُ محمد، وعبدُ الله بنُ محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر. [وفي رواية: ] وذكوان [مولاها] (¬3). وقال ابن أبي عتيق: رأيتُ ليلةَ ماتت عائشة حُمل معها جرائد، لَفُّوا عليها الخِرَق، وغمسوها في زيت، وأشعلوا فيها النار. ودفنوها ليلًا (¬4). قال الواقدي: هي يومئذٍ بنتُ ستٍّ وستين سنة، وتزوَّجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشرٍ من النبوة، قبلَ الهجرة بثلاث سنين، وهي بنت ستِّ سنين، ودخلَ بها وهي بنتُ تسعِ سنين، وتوفِّي عنها وهي بنتُ ثمان عشرة سنة - رضي الله عنها - (¬5). [وقال الهيثم: كان العامل على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان؛ لأن معاوية كان قد عزل مروان بن الحَكَم عنها. وقال الواقدي: ماتت عائشة في رمضان في إمرة مروان، والوليدُ بن عتبة إنما وليَ المدينة في ذي القَعْدة (¬6). ¬

_ = قال: صلى أبو هريرة على عائشة في رمضان سنة ثمان وخمسين، ودُفنت بعد الإفطار. وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: ماتت عائشة ليلة سبع عشرة مضت من شهر رمضان ليلة الثلاثاء (ودُفنت) بعد الوتر". وينظر "طبقات" ابن سعد 10/ 76 ولفظة: "دُفنت" بين قوسين منه. (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 75. (¬2) المصدر السابق، وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (م). (¬3) طبقات ابن سعد 10/ 76. (¬4) طبقات ابن سعد 10/ 76، وما سلف قريبًا بين حاصرتين من (م). (¬5) ينظر "طبقات" ابن سعد 10/ 59 - 62، و"أنساب الأشراف" 1/ 497. (¬6) أنساب الأشراف 1/ 506.

وقال أبو نُعيم: ماتت في سنة سبع وخمسين. وقيل: كان لها يوم ماتت تسع وستون سنة. وقال البخاري: ماتت سنة ثمان -أو تسع- وخمسين. والله أعلم (¬1)]. ذكر مسانيدها - رضي الله عنها -: لم ترو امرأةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثرَ مما روت عائشة، فإنها رَوَتْ عنه ألفي حديث، ومئتي حديث، وعَشَرَةَ أحاديث (¬2)؛ أُخرجَ لها في "الصحيحين" مئتا حديث، وسبعةٌ وتسعون حديثًا؛ المتفق عليها مئة وأربعة وسبعون حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بتسعة وستين (¬3). وأخرج لها الإمام أحمد رحمه الله نيِّفًا وأربع مئة، منها متفق عليه، ومنها أفراد (¬4). وروى عنها من الصحابة والتابعين خلق كثير يطول ذكرهم. واتفقوا على أنها لم تلد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: أسقطت سقطًا، ولا يثبت. [وليس في الصحابيات من اسمُها عائشة بنت أبي بكر سواها]. ذكر مواليها رضوان الله عليها: ذكوان [وقد ذكرناه] كان يصلي بها في رمضان، ويقرأ من المصحف. [وقيل: كان ينظر بين كل شفعين، فيحفظ مقدار ما يصلي به، فظنَّ الراوي أنه كان يقرأ من المصحف]. مات في سنة ثلاث وستين (¬5). ¬

_ (¬1) في "التاريخ الصغير" للبخاري 1/ 99 عن هشام بن عروة قوله: مات أبو هريرة وعائشة سنة سبع وخمسين، وفيه عن أبي نعيم. قوله: مات سعد والحسن وعائشة سنة ثمان وخمسين. (ملاحظة: الكلام الواقع بين حاصرتين من م). (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 363. (¬3) المصدر السابق ص 403. (¬4) ينظر "مسند" أحمد (24010) إلى (26412). وما سيرد بين حاصرتين من (م). (¬5) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 291. وما سلف بين حاصرتين من (م).

بَرِيرَة قال أيمن: دخلتُ على عائشة فقلتُ لها: يا أمِّ المؤمنين، إني كنتُ لِعتبة بن أبي لهب، وإن بنيه وامرأتَه باعوني واشترطوا هم وأمُّهم الولاء، فَمَوْلَى مَنْ أنا؟ فقالت: يا بنيّ، دخلَتْ عليَّ بَرِيرَة وهي مُكاتبَةٌ، فقالت: اشتريني. فقلت: نعم. فقالت: إن أهلي لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي (¬1). فقلتُ: لا حاجة لي فيك. فسمع ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -أو بلغه- فقال: "ما بالُ بَرِيرة؟ " فأخبرته، فقال: "اشتريها فأعتقيها، وَدَعِيهِم يشترطون ما شاؤوا". فاشتريتُها فأعتقتُها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوَلاء لمن أعتق، ولو اشترطوا مئة مرة" (¬2). وبَرِيرة هي التي تُصُدِّقَ عليها بلحم، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة، فأخبرته، فقال: "هو عليها صدقة، ولنا هديَّة". فأكلَ منه (¬3)، [وقد ذكرناه في السيرة]. [وبَرِيرة هي التي طلَّقها زوجها، واختلَفت الفقهاء بسببها. وكان لعائشة أخ من أمِّها، يقال له: الطُّفيل بن سخبرة، له صحبة، وروى عن عائشة - رضي الله عنها - الحديث]. قال هشام بن عروة: بلغ عائشةَ - رضي الله عنها - أن أقوامًا يتناولون من أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما، فأرسلت إلى أزْفِلَةٍ منهم (¬4)، فلما حضروا سَدَلَتْ أستارها، ثم دَنَتْ، فحمدت الله، وصَلَّتْ على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قالت: أبي وما أَبِيَهْ؟ [أبي] واللهِ لا تَعْطُوهُ الأَيدي (¬5)، ذاك طَوْدٌ مُنِيف (¬6) وفَرْعٌ مَدِيد، هيهات! كذبتِ الظُّنون، أَنْجَحَ إذْ أكْدَيتُم (¬7)، وسَبَقَ إذْ وَنَيتُم (¬8) "سَبْقَ الجوادِ إذا اسْتَوْلَى على الأَمَدِ" (¬9). فتى قريشٍ ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): لمولاي. والمثبت من المصادر. (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 244، وهو بنحوه في "صحيح" البخاري (2565)، و"صحيح" مسلم (1504). (¬3) أخرجه البخاري (1493) و (1495)، ومسلم (1075) و (1074) من حديث عائشة وأنس على الترتيب. (¬4) أي: جماعة منهم. (¬5) تعطوه: تتناولُه. (¬6) الطَّوْد: الجبل، والمُنيف: المشرف. (¬7) أنجح: صار ذا نُجْح، وأكْدَيتُم: خِبْتُم ويُئسَ من خيركم. (¬8) ونَيْتُم، أي: فَتَرْتمُ. (¬9) الأَمَد: الغاية. وهذا القولُ عَجُزُ بيت للنابغة الذبياني في قصيدة يعتذر فيها إلى النعمان، وقال فيها: =

ناشئًا، وكَهْفُها كَهْلًا، يَفُكُّ عانِيَها (¬1)، ويَرِيشُ مُمْلِقَها (¬2)، ويَرْأَبُ شَعْبَها (¬3) حتى حَلِيَتْهُ قلوبُها، ثم اسْتَشْرى (¬4) في الله، فما بَرِحَتْ شَكِيمَتُه (¬5) في ذات الله حتى اتَّخَذَ بِفِنائِه مسجدًا يُحيي فيه ما أماتَ المُبْطِلُون. وكان -واللهِ- غَزِيرَ الدَّمْعَة، وَقِيذَ الجواوح (¬6)، شَجِيَّ النشيج (¬7)، فانقصفت (¬8) إليه نِسوان مكَّة وولْدَانها يسخرون منه، [ويستهزئون به] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] فأَكْبَرَت ذلك رجالاتُ قُريش، فحَنَتْ له قِسِيَّها، وفَوَّقَتْ له سهامَها (¬9)، وانتثلوا (¬10) غَرَضًا، فما فلُّوا (¬11) له صَفاةً (¬12)، ولا قَصَفُوا له قناةً، ومرَّ ¬

_ = ومَنْ عصاكَ فعاقِبْهُ مُعاقبةً ... تَنهى الظَّلومَ ولا تقعد على ضَمَدِ إلا لمثلكَ أو مَنْ أنت سابقُهُ ... سَبْقَ الجوادِ إذا استولى على الأمدِ (¬1) العاني: الأسير. (¬2) أي: يُعينُ فقيرَها، ويُعطيه المال، ويُصلح حاله. (¬3) أي: يجمعُ مُتَفَرِّقَها. (¬4) أي: احتدَّ. (¬5) الشكيمة: الأَنَفَة والحميَّة، ووقع في (ب) و (خ): شيمته، والمثبت من "غريب الحديث" لابن قتيبة 2/ 274، و"العقد الفريد" 4/ 262، و"الفائق" 2/ 113. ولم يرد الخبر في (م). (¬6) قال ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 2/ 35: الوَقِيذ: العليل، والجوارح معروفة، وفي رواية: الجوانح، وهي الضلوع القصار التي تقرب من الفؤاد. قلت: وهي عند ابن قتيبة في "غريب الحديث" 2/ 174، والزمخشري في "الفائق" 2/ 113. (¬7) قال ابن الجوزي: الشجيُّ: الحزين، والنشيج: صوت البكاء. (¬8) أي: اجتمعت وازدحمت. ووقع في (ب) و (خ): فانقضت، والمثبت من "صفة الصفوة" 2/ 34 (ورواية المصنف أقرب إليه). وفي "غريب الحديث" لابن قتية 2/ 174، و"الفائق" 2/ 113: فانصفقت. قال ابن قتيبة والزمخشري: وفي رواية: فأصفقت. وهي في "العقد الفريد" 4/ 262، والمعنى متقارب. (¬9) فوَّق السهمَ: عمل له فُوقًا. والفُوق السهم: حيت ثبت الوتر منه، وهما فُوقان، وتحرفت اللفظة في (ب) و (خ) إلى: فرقت. (¬10) قال ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 2/ 35: مأخوذ من النَّثْلة، وهي الجُعبة، ولم تجوّد الكلمة في النسختين (ب) و (خ)، والكلام ليس في (م). (¬11) أي: كسروا، وتحرفت الكلمة في (ب) و (خ) إلى: فكوا. (¬12) الصَّفاة: الصخرة الملساء.

على سِيسائه (¬1)، حتى إذا ضربَ الدينُ بِجِرانِه، وألقى بَرْكَهُ (¬2)، ورَسَتْ أوْتادُه، ودخلَ الناسُ فيه أفواجًا، ومن كلِّ فِرْقةٍ أرْسالًا وأشتاتًا، اختارَ الله لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ما عنده، فقبضَه إليه، فلما [قُبِضَ - صلى الله عليه وسلم -]، نَصبَ الشيطانُ رُواقَه، ومَدَّ طُنُبَهُ (¬3)، ونَصَبَ حَبائلَه، فظنَّ رجالٌ أنْ قد تَحقَّقَتْ أطماعُهم، ولاتَ (¬4) حين الذي يرجون، وأَنَّى والصِّدِّيقُ بين أظهرهم! فقامَ حاسرًا مُشَمِّرًا، فجمعَ حاشيتَه، ورفعَ قُطْرَيه (¬5)، فرَدَّ نَشْرَ الإسلام على غَرْبِه (¬6)، ولَمَّ شَعْثَهُ بِطَيِّهِ، وأقامَ أوَدَهُ بثِقافِهِ (¬7)، فانْدَفَن (¬8) النِّفاقُ بوطأته، وانتاشَ الدينَ بنَعْشِه (¬9)، فلمَّا أراحَ الحقَّ إلى أهله، وقرَّر الرؤوسَ على كواهلها، وحَقَنَ الدِّماءَ في أُهُبِها؛ أَتَتْه مَنِيَّتُه، فَسَدَّ ثُلْمتَه بنظيره في المَرْحَمة (¬10)، وشَقِيقِه في السِّيرة والمَعْدَلَة، ذلك عمر بن الخطاب، فللَّهِ دَرُّ أُمٍّ حَمَلَتْ به (¬11)، ودَرَّتْ عليه، لقد أوْحَدَتْ به (¬12)، ¬

_ (¬1) أي: على شدِّه. قاله ابن الجوزي في "صفة الصفوة". 2/ 35. وقال الفيروزآبادي: حمله على سيساء الحق، أي: على حدّه. (¬2) قال ابن الجوزي: الجِران: الصدر، وهو البَرْك. (¬3) الطُّنُبُ: حبل الخِباء، ووقع في (ب) و (خ): طرفيه، والمثبت من المصادر. (¬4) رسمت الكلمة في (ب) و (خ): الان؛ والمثبت من المصادر. (¬5) القُطر والحاشية: الجانب، وضمُّ القطرين عبارة عن التحزّم والتشمّر للأمر. (¬6) في (ب) و (خ): غرب. والمثبت من "صفة الصفوة" 2/ 34. قال ابن الجوزي: الصواب: على غرِّه، أي: على طيِّه. (¬7) الأوَد: العِوَج، والثِّقاف: تقويم الرماح وغيرها. قا له ابن الجوزي. (¬8) كذا في (ب) و (خ)، وفي "صفة الصفوة": اندفر، ولعلهما محرَّفتان عن لفظة: ابْذَقَرَّ، أي: تفرَّق وتبدَّد، وبهذا المعنى شرحها ابن الجوزي في "صفة الصفوة". ووقع في "غريب الحديث" 2/ 174، و"العقد الفريد" 4/ 263، و"الفائق" 2/ 113: ابْذَعَرَّ. وهما بمعنى. (¬9) قال ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 2/ 36: انتاشَ الدينَ، أي: أزال عنه ما يُخاف عليه، ونعَشَه: رفَعَه. (¬10) في (خ): الوجه، والمثبت من المصادر، وهذه العبارة ليست في (ب)، والخبر ليس في (م). (¬11) كذا في (ب) و (خ)، و"صفة الصفوة" 2/ 34. وفي "غريب الحديث" 2/ 175، و"العقد الفريد" 4/ 263، و"الفائق" 2/ 113: حفلت له. قال الزمخشري: أي: جمعت اللبن في ثديها. (¬12) قال الزمخشري في "الفائق" 2/ 116: أي: جاءت به واحدًا بلا نظير. . . يقال: أوحده الله، أي: جعله منقطع المثل.

عبد الله بن حوالة

فَفَنَّخَ الكَفَرَةَ ودَيَّخَها (¬1)، وشَرَّدَ الكفرَ شَذَرَ مَذَرَ، وبَعَجَ الأرضَ وبَخَعَها (¬2)، فقاءَتْ أُكُلَها، ولَفَظَتْ خَبِيئَها، تَرْأَمُهُ وَيصْدِفُ عنها (¬3)، وتَصَدَّى له ويأباها، ثم وَرعَ فيها، وَوَدَعَها كما صحِبَها (¬4)، فأرُوني ما ترون، وأيَّ يوم تنقمون (¬5)، أيومَ إقامتِه إذْ عَدَلَ فيكم؟ أم يومَ ظَعْنِه، فقد نظر لكم؟ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم. عبد الله بن حَوَالة ذكره ابن سعد (¬6) فيمن نزل الشام من الصحابة، ويكنى أبا حوالة. قال الهيثم: وهو من الأَزْد. وقال محمد بن عمر: هو من بني مَعِيص بن عامر بن لؤي، يكنى أبا محمد، وكان سكن الأردنّ، ومات سنة ثمان وخمسين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقال ابنُ البَرْقي: جاءت عنه أربعة أحاديث. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (¬7): حدثنا إسماعيل بنُ إبراهيم، حدثنا الجُرَيري، عن عَبْد الله (¬8) بن شقيق، عن ابنِ حَوالة قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في ظلِّ دَوْحَة -أو دَوْمَة (¬9) - وعنده كاتبٌ يُملي عليه، فقال: "أَلَا أَكْتُبُكَ يا ابنَ حَوالة؟ ". ¬

_ (¬1) قال ابن الجوزي: فَنَّخَ الكفرة، أي: أذلَّها. ودَيَّخها، أي: دوَّخها، وفي رواية: دَنَّخَها، بالنون، أي: صغَّرها. (¬2) قال ابن الجوزي: بَعَجَ الأرض، أي: شقَّها، وكذلك بَخَعَها. ووقع في (ب) و (خ): واعج، بدل: بعج، والمثبت من المصادر. (¬3) تَرْأَمُهُ، أي: تعطف عليه، ويصدف عنها، أي: يُعرض عنها. (¬4) في "غريب الحديث" لابن قتيبة 2/ 175، و"الفائق" 2/ 113: ثم وزَّع فيها فيئها، ثم تركها كما صحبها. (¬5) في المصدرين السابقين، و"العقد الفريد" 4/ 263: وأيَّ يَوْمَيْ أبي تنقمون. (¬6) في "الطبقات" 9/ 417. (¬7) في "المسند" (17004). (¬8) في (خ): عبيد الله، وهو خطأ. (¬9) في ظل دَوْمة، بفتح الدال، واحدة الدَّوْم، وهي ضخام الشجر، أو شجر المُقْل. قاله السِّندي كما في حاشية "المسند".

فقلت: فيمَ يا رسول الله؟ فأعرض عني، وأكَبَّ على كاتبه يُملي عليه، ثم قال: "أَنَكْتُبُكَ يا ابنَ حَوالة؟ ". فقلتُ: ما أدري، ما خارَ الله لي ورسولُه: فأعرض، فنظرتُ، فإذا في الكتاب عُمر، فعلمتُ أنَّ عُمر ما يُكتب إلا في خير، فقال: "أَنَكْتُبُكَ يا ابنَ حَوالة؟ " فقلت: نعم. قال: "فكيف تصنعُ في فتنة تخرجُ من أطراف الأرض، كأنها صَياصِي البقر (¬1)؟ " قلت: لا أدري كيف أصنع. [قال: "وكيف تصنعُ] في أخرى بعدها كأنَّ الأُولى فيها انتفاجة أرنب؟ " (¬2). فقلت: لا أدري. فقال: "اتَّبِعُوا هذا". ورجلٌ مُقَفِّي (¬3) حينئذٍ، قال: فأخذتُ بمَنْكِبِه وأقبلْتُ بوجهه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: هذا؟ قال: "نعم". فإذا هو عثمان بنُ عفَّان (¬4). وقال الإمام أحمد رحمه الله (¬5): حدثنا يزيد بن عبد ربِّه، حدثنا بقيَّة، حدثني بَحِير (¬6) بن سَعْد، عن خالد بن مَعْدان، عن أبي قُتَيلة، عن ابن حَوالة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيصيرُ الأمرُ إلى أن يصيرَ جنودٌ (¬7) مُجَنَّدة، جندٌ بالشام، وجندٌ باليمن، وجندٌ بالعراق". فقال ابنُ حَوَالة: خِرْ لي يا رسول الله إنْ أدركتُ ذلك. فقال: "عليكَ بالشام، فإنَّه خِيرَةُ اللهِ من أرضه، يجتبي إليه خِيرَتَه من عباده، وإن اللهَ تَكَفَّلَ (¬8) لي بالشامِ وأهلِه". ¬

_ (¬1) قال السندي (كما في حواشي "المسند"): أي: قرونها، جمع صِيصِية، بالتخفيف، شبَّه الفتنة بها لشدّتها وصعوبة الأمر فيها، وكل شيء امتُنع به وتُحُصِّن به، فهو صِيصِية، ومنه قيل للحصون: صياصي. (¬2) انتفاجة أرنب، بالجيم، أي: كوثبته من موضعه، يريد تقليل مدة الأولى بالنظر إلى الثانية أو تحقيرها. قاله السِّندي. (¬3) اسم فاعل من "قفَّى"، بالتشديد، أي: مُدْبِر. (¬4) الحديث في "مسند" أحمد (17004)، وفي سياقته بعض الاختلاف عن سياقة المؤلف. وما بين حاصرتين زيادة ضرورية مستفادة منه. (¬5) مسند أحمد (17005). (¬6) تحرَّف في (ب) و (خ) إلى: يحيى. والخبر ليس في (م). (¬7) في "المسند" (17005): تكونوا جنودًا. (¬8) في "المسند": تَوَكَّلَ.

أبو هريرة الدوسي - رضي الله عنه -

أبو هريرة الدَّوْسِيّ - رضي الله عنه - [واختلفوا في اسمه واسم أبيه على أقوال: أحدها: حكاه ابن سعد عن الواقدي قال: كان اسمه عبد شمس، فسمِّيَ في الإسلام عبدَ الله. والقول الثاني: عبد شمس (¬1). والثالث: عبد الرحمن بن صخر، وقيل. ابن غَنْم. والرابع: عامر بن عبد شمس. والخامس: عبد غَنْم. والسادس: عبد الله بن عمرو. والسابع: عبد الله بن عامر. والثامن: عبد الله بن عائذ. والتاسع: عَبْد بن غَنْم. والعاشر: عمرو بن عبد غَنْم. والحادي عشر: عبد نُهم بن عتبة. والثاني عشر: عبد تيم. والثالث عشر: عبد نُعم بن عامر. والرابع عشر: عبد يا ليل. والخامس عشر: عبد العُزَّى. والسادس عشر: عامر بن عميرة. والسابع عشر: عمير بن عامر. والثامن عشر: سعد بن الحارث. ¬

_ (¬1) كذا وقع في (م) (والكلام منها ما بين حاصرتين)، وسلف في القول الأول.

والتاسع عشر: سكين بن وذمة. والعشرون: سكين بن مَلّ. وقيل: سكين بن هانئ. والحادي والعشرون: سكن بن صخر. والثاني والعشرون: جرثوم. والثالث والعشرون: عبد شمس بن عامر (¬1). قال جدّي في "الصفوة": قد] اختلفوا في اسمه على أقوال؛ أشهرها عبد شمس بن عامر. [وقول الواقدي: إنه كان اسمه: عبد شمس، فسمِّي في الإسلام عبد الله أثبت. وحكى ابن سعد عن الكلبي عن أبيه أنه قال: إن أبا هريرة اسمه عمير بن عامر بن عبد ذي الشَّرَى بن طريف بن غياث بن أبي صعب بن هُنيَّة بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غَنْم بن دَوْس. قال ابن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا عن أبي هريرة قال: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فسُمِّيتُ في الإسلام عبد الرحمن، وإنما كنَّاني أبا هريرة لأني كنتُ أرعى غنمًا، فوجدتُ هِرَّةً، فحملتُها في كُمّي، فقال لي: أنت أبو هريرة]. وكان حليفًا لأبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه -. وأمُّ أبي هريرة ابنةُ صُفَيح بن الحارث بن شابي، وكان سَعْدُ بن صُفَيح خالُ أبي هريرة من أشدِّ أهلِ زمانه، فكان لا يأخذُ أحدًا من قريش إلا قَتَلَهُ بأبي أُزَيهِر (¬2) الدَّوْسيّ (¬3). ¬

_ (¬1) وثمة أقوال أخر. ينظر "الاستيعاب" ص 862، و"تاريخ دمشق" 19 / ص 208 وما بعدها. وقال ابن عبد البر: ومثل هذا الاختلاف والاضطراب لا يصحُّ معه شيء يعتمد عليه، إلا أن عبد الله أو عبد الرحمن هو الذي يسكن إليه القلب في اسمه في الإسلام. (¬2) تحرف في (ب) و (خ): إلى: أبهر (والكلام ليس في م)، لكن ما سلف بين حاصرتين منها. (¬3) وكان هشام بن الوليد بن المغيرة قتلَ أبا أُزَيْهِر لوصية أبيه إياه، ينظر خبره في "سيرة" ابن هشام 1/ 411 - 415.

[ذكر صفته]: [قال الواقدي: وكان أبو هريرة آدَمَ بعيدَ ما بين المنكبين ذا ضفيرتين، برَّاق الثَّنايا [أو أفرق الثنايا] يخضِبُ بالحِنَّاء والكَتَم [-وقيل: كان يصفرها-] ويُحْفِي شارِبَه. ذكر طرف من أخباره: [قال ابن سعد: حدثنا يزيد بن هارون وعفَّان بن مسلم؛ قالا: حدثنا سَلِيم بن حيَّان قال: سمعتُ أبي يقول: ] قال أبو هريرة: نشأتُ يتيمًا، وهاجرتُ مسكينًا، وكنتُ أجيرًا لبُسْرةَ بنتِ غَزْوَان بطعام بطني، وعُقْبَةِ رِجْلِي (¬1)، فكنتُ أخدُمُ إذا نَزَلُوا، وأَحْدُو إذا ركبوا، فَزَوَّجَنِيها اللهُ، فالحمدُ للهِ الذي جَعَلَ الدِّينَ قِوامًا وأبا هريرةَ إمامًا (¬2). [وفي رواية ابن سعد أيضًا: فكانت تكلِّفُني أن أركب قائمًا، وأن أورد حافيًا، فلما زوَّجنيها الله تبارك وتعالى كلفتُها أن تفعل مثل ذلك (¬3)]. وقال: ما شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَشْهدًا قطّ إلا قَسَمَ لي منه، إلا ما كان من خيبر، فإنها كانت لأهل الحُدَيبِيَة خاصَّة (¬4). وقال: واللهِ لا يسمعُ بي مؤمنٌ ولا مؤمنة إلا أَحبَّني. قيل له: وما يُعْلِمُك ذاك؟ فقال: إني كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام، فتَأْبَى عَلَيَّ. فدَعَوْتُها ذاتَ يوم إلى الإسلام، فأسمعَتْني في رسول الله ما أكره، فجئتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقلتُ: يا رسول الله، إني كنتُ أدعو أمَّ أبي هريرة إلى الإسلام قديمًا (¬5). فدعوتُها، فأسمَعَتْني فيك ما أكره. فقال: "ارجع إليها، فادْعُها إلى الإسلام". ¬

_ (¬1) العُقبة، بالضم: النَّوبة. أي: كان ركوبه البعير بالنوبة. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 231. ووقع تحريفات في (ب) و (خ) في هذا الخبر، وجاء في (م) على الصواب. (¬3) المصدر السابق. وهذا الخبر (وهو بين حاصرتين) من (م). (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 232. والخبر ليس في (م). (¬5) كذا في (ب) و (خ). وفي (م) و"طبقات" ابن سعد 5/ 233: فتأبى علي.

قال: فجئتُ (¬1)، فإذا البابُ مُجافٌ (¬2)، وسمعت خَضْخَضَةَ الماء، فلَبِسَتْ دِرْعَها، وعَجِلَت [عن] خمارها ثم قالت: ادخُلْ يا أبا هريرة. فدخلتُ، فقالت: أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله. فجئتُ أسعى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أبكي من الفرح كما بَكَيْتُ من الحُزن، فقلت: أبْشِرْ يا رسول الله، قد أجابَ الله دعوتَك، قد هدى أمَّ أبي هريرةَ إلى الإسلام. ثم قلت: يا رسول الله، ادْعُ اللهَ أنْ يُحبِّبَني وأمي إلى المؤمنين والمؤمنات. فقال: "اللهمَّ حَبِّبْ عُبَيدَك هذا وأمَّه إلى كلِّ مؤمن ومؤمنة". [قال: ] فليس يسمعُ بي مؤمنٌ ولا مؤمنةٌ إلا أَحبَّني (¬3). [وفي رواية: فما خلقَ الله من مؤمن ولا مؤمنة يسمع بي ولا يراني، أو يرى أمي، إلا وهو يُحبُّني]. وقال: إنكم تقولون: ما بالُ المهاجرين لا يُحَدِّثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأحاديث؟ وما بال الأنصار لا يُحَدِّثُون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وإن أصحابي من المهاجرين كانت تشغلُهم صَفَقاتهم (¬4) في الأسواق، وإن أصحابي من الأنصار كانت تشغلُهم أَرَضُوهم والقيامُ عليها، وإني كنتُ امرأً مسكينًا (¬5)، وكنتُ أُكْثِرُ مجالسةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أحْضُر إذا غابوا، وأحفظُ إذا نَسُوا، وإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثَنا يومًا فقال: "مَنْ يَبْسُطُ ثوبَه حتى أفرغَ من حديثي، ثم يقبضه إليه، فليس ينسى شيئًا سمعه منّي قطّ" (¬6). وايمُ الله، لولا آيةٌ في كتاب الله عزَّ وجلَّ ما حدَّثْتُكم بشيء أبدًا: {إِنَّ ¬

_ (¬1) في (م): فادع اللهَ أن يهديَ أمّ أبي هريرة إلى الإسلام. قال: فدعا لها. قال: فجئت. . . إلح. وبنحوه في "طبقات" ابن سعد 5/ 233. (¬2) أي: مردود، يقال: أجاف الباب، أي: ردَّه. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 233. ونُسب الخبر في (م) إليه. وأخرجه مسلم (2491). وينظر "تاريخ دمشق" 19/ 221 (مصورة دار البشير). (¬4) تحرفت اللفظة في (ب) و (خ) إلى: صدقاتهم. والخبر في "طبقات" ابن سعد 5/ 235، ولم يرد في النسخة (م). (¬5) تحرفت اللفظة في (ب) و (خ) إلى: معتكفًا. (¬6) في "طبقات" ابن سعد 5/ 235 و"مسند" أحمد (7705): "من يبسط ثوبه حتى أُفرغ فيه من حديثي ثم يقبضه إليه فلا ينسي شيئًا سمعه مني أبدًا". فبسطت ثوبي -أو قال: نَمِرتي- فحدثني، ثم قبضتُه إليّ، فوالله ما كنتُ نسيتُ شيئًا سمعته منه. اهـ وبنحوه في "الصحيحين".

الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ} الآية كلُّها [البقرة: 159]. أخرجاه في الصحيحين (¬1). وقال: واللهِ إنْ كنتُ لَأعْتَمِدُ بكبدي على الأرض من الجوع، [وإن كنتُ لَأشُدُّ الحجر على بطني من الجوع] (¬2) ولقد قعدتُ يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر، فسألتُه عن آية من كتاب الله، ما سألتُه إلا ليُشبِعَني (¬3)، فلم يفعل، فمرَّ عمر، فسألْتُه وما سألتُه إلا ليُشْبِعَني، فلم يفعل، فمرَّ أبو القاسم محمدٌ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرفَ ما في وجهي وما في نفسي، فقال: "أبا هِرّ". قلتُ: لبَّيك يا رسول الله، فقال: "اِلْحَقْ بي". فتبعتُه، فدخلَ، واستأذنْتُ، فأذِنَ لي، فوجدَ لَبَنًا في قَدَح، فقال: "مِنْ أينَ لكم هذا اللَّبَن؟ ". فقالوا: أهداه إلينا فلان. أو آل فلان. قال: "أبا هرّ". قلت: لبيك يا رسول الله. قال: "انطلق إلى أهل [الصُّفَّة، فادْعُهُمْ لي] ". قال: وأهلُ الصُّفَّة أضيافُ الإسلام، لم يَأْوُوا إلى أهلٍ ولا مالٍ، إذا جاءَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - هديَّةٌ أصابَ منها شيئًا، وبعثَ بها إليهم (¬4)، وإذا جاءَتْه الصدقةُ أرسلَ بها إليهم، ولم يُصِبْ منها. قال أبو هريرة (¬5): فأَحْزَنَني ذلك. قال: وكنتُ أرجو أن أُصِيبَ من اللَّبن شَرْبَةً أَتَقَوَّى بها بقيَّة يومي وليلتي، فقلت: أنا الرسولُ، فإذا جاء القومُ كنتُ أنا أُعْطِيهم، فما يبقى لي من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعةِ رسوله بُدٌّ. فانطلقتُ، فدعوتُهم، فأَقْبَلُوا، فاسْتَأذَنُوا، فأَذِنَ لهم، فأخذُوا مجالِسَهم من البيت. [ثم] قال: "أبا هِرّ، خُذْ فأَعْطِهِم". فأخذتُ القَدَح، فجعلتُ أُعْطِيهم، فيأخذُ الرجلُ القَدَحَ، فيشربُ حتى يَرْوَى، ثم يردُّ القَدَح، حتى أتيتُ على آخِرِهم، ودفعتُه إلى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2047) و (2350)، وصحيح مسلم (2492). (¬2) ما بين حاصرتين من المصادر. ينظر "مسند" أحمد (10679) (ورواية المصنف أقرب إليه)، و"صحيح البخاري" (6452)، و"صفة الصفوة" 1/ 689 (وهو من مصادر المصنف). (¬3) في "مسند" أحمد، و"صفة الصفوة": ليستتبعني. وكذا في الموضع الآتي. ورويت اللفظتان في "صحيح" البخاري، كما ذكر ابن حجر في "فتح الباري" 11/ 285. (¬4) في "المسند" و"صفة الصفوة": وبعث إليهم منها، وفي "صحيح" البخاري: أصاب منها، وأشركهم فيها. (¬5) تحرَّف لفظ "أبو هريرة" في (ب) و (خ) إلى: الجوهري! والخبر ليس في (م).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد بَقِيَتْ فيه فَضْلَة، فرفَع رأسَه إليّ وتبسَّمَ وقال: "بَقِيتُ أنا وأنتَ، فاقْعُدْ واشْرَبْ". فقعدتُ وشربتُ، وهو يقول: "اشْرَبْ" وأنا أشرب. قالها ثلاثًا. فقلت: والذي بعثَك بالحقّ، ما أَجِدُ له مَسْلَكًا. فقال: "ناولْنِي القَدَح" فرَدَدْتُه إليه، فشَرِبَ من الفَضْلة. انفردَ بإخراجه البخاريّ (¬1). وقال [ابن سعد: حدثنا رَوْح (حدثنا) ابنُ عَوْن، عن عبد الرحمن بن عُبيد، عن أبي هريرة قال] (¬2) إنْ كنتُ لأتبعُ الرجلَ أسألُه عن الآية من كتاب الله لَأَنا أعلمُ بها منه ومن عشيرته (¬3)، وما أتبعُه إلا ليطعمَني القبضةَ من التمر، أو السَّفَّةَ (¬4) من السَّويق أو الدقيق، أسُدُّ بها جُوعي. [فأقبلتُ أمشي مع عمر بن الخطاب ليلةً أُحدِّثُه حتى بلغ بابه، فأسندَ ظهره إلى الباب واستقبلني بوجهه، وكلّما فرغتُ من حديث؛ تأخّر، حتى إذا لم أر شيئًا؛ انطلقت، فلما كان بعدُ؛ لَقِيَنِي، فقال: أبا هريرة، أما إنه لو كان في البيت شيءٌ أطعمناك (¬5)]. وقال: ما أحدٌ من الناس يُهْدِي إليَّ هدية إلا قبلتُها، فأمَّا أنْ أسألَ؛ فلم أكنْ لأسأل. وكان يُسَبِّحُ في كل يوم اثنيَ عَشَرَ ألفَ تسبيحة، ويقول: أُسَبِّحُ بقدر ذنبي (¬6)! [وروى أبو نُعيم عنه (¬7) أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة، فلا ينام حتى يُسَبِّحَ به]. وقال: لقد كنتُ أُصرَعُ -أو: لقد رأيتُني أُصرَعُ- بين منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحجرة عائشة (¬8)، فيقول الناس: إنه لَمجنون. وما بي إلا الجوع. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6452). (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 244، والكلام بين حاصرتين من (م)، وسقط منها ما بين القوسين العاديين. (¬3) بعدها في (م): وإمامه. ولم ترد هذه اللفظة في "الطبقات" 5/ 244. (¬4) في (ب) و (خ): السبقة، وهو تحريف. (¬5) ما بين حاصرتين من (م)، وهو تتمة الخبر المذكور قبله، وهو في "الطبقات" 5/ 244. (¬6) طبقات ابن سعد 5/ 247، وتاريخ دمشق 19/ 241 (مخطوط)، وفيهما: دِيَتي، بدل: ذنبي، ووقع في (ب) و (خ): ديني (؟ )، والمثبت من (م). (¬7) حلية الأولياء 1/ 383. وهذا الخبر بين حاصرتين من (م). (¬8) جاء لفظ العبارة في (ب) و (خ): لقد كنتُ أُصرع بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحجرة عائشة. . . وهو خطأ، والمثبت من (م)، ونسب الكلام فيها لأبي نُعيم، وهو في "الحلية" 1/ 378، وذكره أيضًا ابن سعد في "الطبقات" 5/ 243، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" 1/ 69.

[وحكى عنه ابن سعد قال (¬1): قال أبو هريرة: ما وجعٌ أحبُّ إليَّ من الحمَّى، لأنها تعطي كلَّ مَفْصِل قسطه من الوجع، وإن الله يعطي كل مَفْصِل قسطه من الأجر]. وكانت له زنجيَّة، فرفعَ عليها السَّوْطَ يومًا وقال: لولا القِصاصُ لأغشيتُك به، ولكنّي سأبيعُك مِمَّن يوفِّيني عنكِ، اذْهَبِي فأنتِ حرَّةٌ لوجهِ الله تعالى (¬2). وقال أبو عثمان النَّهْدِي! تضيَّفْتُ أبا هريرة سبعًا، فكان هو وامرأتُه وخادمُه يَعْتَقِبون الليلَ أثلاثًا؛ يُصلِّي هذا ثم يوقظ هذا، [ويصلي هذا] ثم يوقظ هذا (¬3). [وقال أبو نُعيم (¬4): ] أقبل أبو هريرة يومًا وهو يحملُ حُزْمة حطب في السوق، وهو [يومئذٍ] خليفةُ مروان على المدينة، فقال: أوْسِعُوا الطريق للأمير. والحُزْمةُ على ظهره. [وحكى ابنُ سعد عن الزُّهْري قال (¬5): لم يكن أبو هريرة يحجُّ حتى ماتت أمه؛ لصحبتها. وقال ابن سعد: حدَّثنا عفَّان بن مسلم ويحيى بن عبَّاد قالا: حدثنا حمَّاد بنُ سَلَمة، حدثنا يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة حدَّث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صلَّى على جنازة فله قيراط، ومن صلَّى عليها وتبعها فله قيراطان". فقال له عبد الله بنُ عمر: انظر ما تحدِّثُ، فإنَّك تُكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بيده وذهب به إلى عائشة، فسألها، فقالت: صدق أبو هريرة، فقال: ما كان يشغلني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصَّفْقُ في الأسواق. وذكر بمعنى ما تقدم. فقال ابن عمر: أنت أعلمُنا وأحفظنا لحديثه] (¬6). وقال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين، فأمَّا أحدُهما فبيَّنتُه، وأمَّا الآخرُ فلو بيَّنْته لقُطع هذا البلعوم (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 253. (¬2) حلية الأولياء 1/ 384، وصفة الصفوة 1/ 692. (¬3) حلية الأولياء 1/ 383، وصفة الصفوة 1/ 692، وما بين حاصرتين منه. وينظر "تاريخ دمشق" 19/ 241 (مصورة دار البشير). (¬4) حلية الأولياء 1/ 385. (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 234. (¬6) المصدر السابق 5/ 237 - 238. (والكلام بين حاصرتين من م). (¬7) المصدر السابق 5/ 236. ولم يرد الخبر في (م).

وقال: لو أنبأتُكم بكلِّ ما أعلمُ لَرَماني الناس بالخَزَق، وقالوا: أبو هريرة مجنون (¬1). وقال لبُنَيَّةٍ له تركبُ على ظهره: لا أُحلِّيك بالذهب، إني أخافُ عليكِ من اللهب (¬2). [وفي رواية: أنه رأى على ابنته الذهب، فقال ذلك. وقال ابن سعد: كان مروان يستخلف أبا هريرة على المدينة إذا حجَّ أو غاب. وقال الهيثم: أطال مروان القيلولة (¬3) في يوم جمعة، فلما صعد المنبر ناداه أبو هريرة: يا مروان، تظل عند ابنة فلان، تُرَوِّحُك بالمراوح، وتسقيك الماء البارد، والحرُّ يصهر أبناء المهاجرين والأنصار! لقد هممتُ أن أفعل بك وأفعل]. وكان يركبُ الحمار بإكاف، ورَسَنُه من ليف، ويحتطب عليه، ويعبُرُ في السوق وهو أمير المدينة - رضي الله عنه -. [وأخرج البخاري عنه قال (¬4): قسمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا بين أصحابه تمرًا، فأعطى كلَّ إنسان سَبْعَ تمرات، وأعطاني كذلك؛ إحداهنَّ حَشَفَة، فلم يكن تمرةٌ أعجبَ إليَّ منها شدَّت في مَضاغي به. أي: ملأَتْ شِدْقي وما أتمضَّغ به]. ذكر وفاته: حكى أبو نُعيم أنه بكى في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أما إني واللهِ ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بعد سفري وقلَّة زادي، وإني قد أصبحتُ في صعود يهبط إما على جنة أو نار، ولا أدري أيُّهما يؤخذ بي (¬5). [في رواية: بعد المسافة، وقلَّة الزاد]. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 236، وتاريخ دمشق 19/ 228 (مصورة دار البشير) ولم يرد الخبر في (م). (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 245، ونُسب الخبر في (م) إليه. (¬3) في (م) (والكلام منها): القيلولية (؟ ). (¬4) صحيح البخاري (5411). والكلام بين حاصرتين من (م). (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 256، وحلية الأولياء 1/ 383 وتاريخ دمشق 19/ 251.

قال أبو هريرة: لا تضربُوا على قبري فسطاطًا، ولا تتبعوني بنار، وأسرعوا بي، فإنْ أكنْ صالحًا تأتون بي إلى ربي، وإن أكنْ غيرَ صالح؛ فإنما هو شرٌّ تطرحونه عن رقابكم (¬1). [وفي رواية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وُضع المؤمن على سريره -أو الرجل الصالح- قال: قدِّموني قدِّموني. وإذا وُضع الفاجر قال: يا ويلتاه، أين تذهبون بي] (¬2). ومات في ذي الحجة في سنة سبع -أو ثمان- وخمسين. وقيل: سنة تسع وخمسين، في آخر خلافة معاوية، وله ثمان وسبعون سنة (¬3). قال الواقدي: كان الوليد بنُ عتبة أمير المدينة، فأرسل إليهم فقال: لا تدفنوه حتى تُؤْذِنُوني. ونام بعد الظهر، فقال ابن عُمر وأبو سعيد الخدري -وقد حضرا-: اخرجوا به. [فخرجوا به] فانْتهَوْا به [إلى] موضع الجنائز وقد دنا العصر، فخرج الوليدُ، فصلَّى العصر بالناس، ثم صلَّى عليه، وصلى مروان عليه مع الناس وهو معزول عن المدينة، ومشى بين يديه (¬4). [قال الواقدي: ] وحملَ أولادُ عثمان - رضي الله عنه - سريرَه لِما كان في رأيه في عثمان حتى بلغوا البقيع (¬5). [قال: ] وكتبَ الوليدُ إلى معاوية يُخبرُه بموته، فكتب إليه: احْمِلْ إلى ورثته عشرة آلاف درهم، وأَحْسِنْ جوارهم، فإنه كان مِمَّن نصر عثمان، وكان معه في الدار، فرحمه الله. [وقيل: إنه مات بالعقيق، ونُقل إلى البقيع]. وكان له ولد اسمه بلال، روى عن أبيه، وشهد صفِّين مع معاوية على بعض الرَّجَّالة، وعاش إلى زمن سليمان بن عبد الملك (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 255، ونُسب الكلام في (م) إليه. (¬2) الخبر بين حاصرتين من (م)، وهو بنحوه في "مسند أحمد" (10493). (¬3) ينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 257، و"تاريخ دمشق" 19/ 253 - 255. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 256 - 257، وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬5) المصدر السابق 5/ 257. (¬6) تاريخ دمشق 3/ 496 (مصورة دار البشير).

عبد الله بن عامر

ذكر مسانيده: لم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ من الرجال أكثرَ ممَّا روى عنه أبو هريرة، فإنه رَوَى خمسة آلاف حديث وثلاثَ مئة وأربعة وسبعين حديثًا، وإنما صَحِبَهُ أربعَ سنين [أُخرج له في "الصحيحين" ستُّ مئة حديث وتسعة أحاديث] (¬1). وروى عن أبي بكر، وعمر، [وعبد الله] (¬2) بن سلام، وعائشة -رضي الله عنها-، وغيرِهم. وروى عنه: ابنُ عباس، وأنس، وجابر، وعبد الله بنُ ثعلبة بن صُعَير، وأبو أُمامة بنُ سهل بن حُنَيف، وعليُّ بن الحسين، وفقهاء المدينة السبعة (¬3)، وأعيان التابعين. وقال أبو أحمد الحاكم: روى عن أبي هريرة ثمان مئة رجل من الصحابة والتابعين. وكان من أحفظ الناس لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشام والعراق والبحرين (¬4). عبد الله بنُ عامر ابن كُرَيز بن رَبيعة بن حَبِيب (¬5) بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصيّ، أبو عبد الرحمن. وهو [ابنُ] خالِ عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -. وأمُّه دَجاجة بنتُ أسماء بن الصَّلْت من بني سُليم، وأخوه لأمِّه عبدُ ربِّه بن قيس بن السائب المخزوميّ (¬6). ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 363، وص 396، وذكر ابن الجوزي أن الأحاديث التي اتفق عليها الشيخان له (326) حديثًا، انفرد البخاري بثلاثة وتسعين، ومسلم بمئة وتسعين. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬2) ما بين حاصرتين من "تاريخ دمشق" 19/ 206 (مصورة دار البشير) فقد وقع في (ب) و (خ): عمر بن سلام (! ) ولم يرد الكلام في (م). (¬3) فقهاء المدينة السبعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن الحارث، وسليمان بن يسار. ينظر "سير أعلام النبلاء" 4/ 417 و 438 و 445. (¬4) كذا وقع الكلام في (ب) و (خ)، وليس في (م). ولعل في الكلام سقطًا. وأبو هريرة - رضي الله عنه - من أحفظ الناس لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق، وسلف قول ابن عمر له: أنت أعلمُنا وأحفظنا لحديثه. (¬5) في (ب) و (خ): جندب، بدل: حبيب، وهو خطأ، والكلام ليس في (م). (¬6) مختصر تاريخ دمشق 12/ 284 - 285.

وعبدُ الله بنُ عامر من الطبقة الأُولى من التابعين من أهل المدينة (¬1)، وأمُّ عامر البيضاءُ، وهي أمُّ حكيم بنتُ عبد المطلب، عمَّةُ (¬2) رسولِ الله. وعاش عامر بن كُريز إلى أيام عثمان رضوان الله عليه، وقدم عمى ابنِه عبد الله البصرة وهو واليها لعثمان رضوان الله عليه (¬3). وقال ابن سعد: وُلد عبدُ الله بنُ عامر بمكة بعد الهجرة بأربع سنين، فلما قدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عام القضية سنة سبع معتمرًا؛ حُمل إليه عبدُ الله، فَحنَّكَه وعوَّذه، وتفلَ في فيه وقال: "هذا ابنُ السَّلَميَّة؟ " قالوا: نعم. فقال لبني عبد شمس: "هذا ابنُنا، وهو أشْبَهُكم بنا، وهو مُسْقًى" (¬4). وكان له ثلاث سنين، ودعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكثرة المال والولد، فوُلدَ له عبدُ الرحمن بن عبد الله وله ثلاثَ عَشرَةَ سنة، وولَّاه عثمانُ رضوان الله عليه البصرةَ وله خمسٌ وعشرون سنة، وعَزَلَ عنها أبا موسى، وكتب إليه: إني لم أَعْزِلْكَ لعجز ولا خِيانة، وإني لَأحْفَظُ فيك استعمال رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر إياك، وإني لَأعرفُ فضلك، وإنك من المهاجرين [الأولين]، ولكني أردتُ أن أَصِلَ قَرابةَ عبدِ الله بنِ عامر، وقد أمرتُه أن يحمل إليك ثلاثين ألف درهم. فلما قدمَ ابن عامر البصرة بعث إلى أبي موسى بالمال، فلم يقبله، وقال: واللهِ لقد عزلَني عثمان وما عندي درهم ولا دينار، فعاوده ابنُ عامر، فقال: واللهِ لا أقبضُه، في عطائي كفاية. فقال: يا أبا موسى ما أحدٌ أعرفَ من بني أخيك بفضلك منّي، أنت أميرُ البلد إن أقمتَ، والموصولُ إدْ رَحَلْتَ (¬5) فقال: جزاك الله يا ابنَ أخي خيرًا. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 47. (¬2) في (ب) و (خ): عم. وهو خطأ. وينظر "سير أعلام النبلاء" 3/ 18، و"مختصر تاريخ دمشق" 12/ 285. (¬3) مختصر تاريخ دمشق 12/ 284. (¬4) في (ب) و (خ): مسقا، وفي "مختصر تاريخ دمشق" 12/ 285: مسقاء. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 7/ 48. وقال البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 686: كان ابن عامر مسقيًّا لو مسَّ صخرة لأماهها، أي: خرج منها الماء. (¬5) في (ب) و (خ): دخلت. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 7/ 49. وما سلف بين حاصرتين منه، والكلام ليس في (م).

وقال أبو موسى لما ارتحل إلى الكوفة: يا أهل البصرة، قد أتاكم كريمُ الأمَّهات والعمَّات والخالات، فتى قريش، يقولُ فيكم بالمالِ هكذا وهكذا. يعني ابنَ عامر (¬1). وكان ابنُ عامر جوادًا شجاعًا، وَصولًا حليمًا، متواضعًا عادلًا، بعث عبدَ الرحمن بنَ سَمُرَةَ بن حبيب (¬2)، فافتتحَ خُراسان (¬3) صُلحًا على أن لا يَقتلَ بها ابنَ عِرْس ولا قنفذًا؛ لمكان الأفعى بها، فإنها تأكلها (¬4). ثم غزا ابنُ عامر قِلاعَ فارس، وإصطخر؛ والكاريان، ففتَحها. وفي أيامه هلك يزدجُرد، وفتحَ إقليم طُوس، ونَيسابُور، وبُوشَنْج والطَّالقَان، وبَلْخ، وعدَّةَ أقاليم. وأحرمَ من خُراسان، وقدمَ على عثمان رضوان الله عليه بالمدينة، ووصلَ الصحابةَ من المهاجرين والأنصار، وحملَ إلى عليٍّ رضوان الله عليه عشرين ألفًا، وأغرق الناس بالعطاء، ثم أعاده عثمانُ - رضي الله عنه - إلى عمله (¬5). ولما قفل من مَرْو إلى الحجّ استخلف على الناس الأحنف بن قيس. وابنُ عامر أوَّلُ مَنْ لبس الخَزَّ بالبصرة؛ لبس جُبَّة دَكْناء، فقال الناس: لبسَ الأمير جلد دُبّ. وهو أوَّلُ من اتَّخذَ الحِياض بعَرَفة، وأجرى إليها الماء، واتَّخَذَ النِّباج (¬6)، وأغرسَ فيها النخل، وأَنْبَطَ عيونًا تُدعى بعيون ابن عامر، وحفرَ الحفير (¬7)، وبنَى قصرًا قريبًا من قُباء، وحفر السُّمَينة (¬8)، واحتفر بالبصرة نهرين، وحفر نهرَ الأُبُلَّة (¬9). ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 12/ 284. (¬2) تحرفت في (خ) و (ب) إلى: جندب، وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 49، و"أنساب الأشراف" 7/ 686. (¬3) في "طبقات" ابن سعد 7/ 49: سجستان -وهو الصواب. (¬4) في "طبقات" ابن سعد: إنهما يأكلانها، وهو الصواب. (¬5) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 50 - 51، و"مختصر تاريخ دمشق" 12/ 286. (¬6) النِّباج على عشر مراحل من البصرة، وقد استنبط ماءه ابنُ عامر. ينظر "معجم البلدان" 5/ 255 - 256. (¬7) يطلق اسم الحفير على عدة مواضع، ولعل المراد به هنا أول منزل من البصرة لمن يريد مكة. ينظر "معجم البلدان" 2/ 277. (¬8) في (ب) و (خ): وحضر السمية، وهو تحريف. والسُّمينة (بلفظ تصغير سَمْنَة) أول منزل من النِّباج للقاصد من البصرة. معجم البلدان 3/ 258 - 259. (¬9) المعارف ص 321. وقال البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 686: أمر ابنُ عامر زيادًا وقد استخلفه على البصرة أن يحفر نهر الأُبُلَّة، فحفره. اهـ. وقال خليفة في "تاريخه" ص 165: احتفر زياد نهر الأُبُلَّة حتى انتهى =

وفي أيامه كان حفر الوَقَبَى التي ذكرها أبو الغُول الطُّهَويّ في الحماسة [في] قوله: هُمُ مَنَعُوا حِمَى الوَقَبَى بضَرْبٍ ... يُؤَلِّفُ بين أشتاتِ المَنُونِ (¬1) وكان عبدُ الله بن عامر استعمل بِشْر بن حَزْن بن كهف المازنيَّ على الأحماء التي منها الوَقَبَى، فحفر هو وأخوه خُفاف (¬2) بن حَزْن رَكِيَّتَين: ذات القصر، والجَوْفاء، فظهر منهما ماءٌ عَذْب، فخافا أن يغلبَهما عليهما ابنُ عامر، فَدَفَنَاهما وهربا منه، وجرت خطوبٌ وحروبٌ، ونزلها بنو تميم، ثم أزاحوهم عنها، فصارت لبني مازن (¬3). وفتح ابن عامر فتوحًا كثيرة. وقال علي - رضي الله عنه - وقد انتهى إلى حَلْقةٍ بالمسجد وهم يتذاكرون صِلاتِ (¬4) ابن عامر، فقال علي - رضي الله عنه -. هو سيِّد فتيان قريش غيرَ مُدافَع، [وتكلمت الأنصار] فقالت (¬5): أَبت الطُّلقاءُ إلا عداوةً. فبلغ ذلك عثمانَ رضوان الله عليه، فقال له: قِ عرضَك ودارِ الأنصار (¬6)، فألسنتُهم ما قد علمتَ. فبعثَ إليهم بالصِّلات والكِساء، فأَثْنَوْا عليه. ولما استُعتِبَ عثمانُ رضوان الله عليه من عُمَّالِه كان فيما شرطوا عليه أن يُقِرَّ ابنَ عامر على البصرة لتحبُّبِه إليهم، وصِلَتِه هذا الحيَّ من قريش. فلما نَشِبَ (¬7) الناسُ في أمر عثمان - رضي الله عنه - دعا ابنُ عامرٍ مجاشِعَ بنَ مسعود، فعقد له على جيش إلى (¬8) عثمان رضوان الله عليه، فساروا حتى إذا كانوا بأداني بلادِ الحجاز؛ ¬

_ = به إلى موضع الجبل، والذي وليَ حفره لزياد عبدُ الرحمن بن أبي بكرة، وهو يومئذ ابن ست عشرة سنة. اهـ. والأُبلة: بلدة على شاطئ دجلة، وهي أقدم من البصرة، لأن البصرة مصِّرت في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ينظر "معجم البلدان" 1/ 77. (¬1) ينظر "شرح ديوان الحماسة" للتبريزي 1/ 16. قال: الحِمَى: المكان الممنوع، وهو موضع الماء والكلأ. اهـ والوَقَبَى: موضع بقرب البصرة. (¬2) في (ب): حناد، وفي (خ): حفاد، والمثبت من "شرح ديوان الحماسة" 1/ 18. (¬3) ينظر "شرح ديوان الحماسة" 1/ 18. والكلام ليس في (م). (¬4) تحرفت في (ب) و (خ) إلى: خلاف. (¬5) في (ب) و (خ): فقال، وهو خطأ. وما سلف بين حاصرتين من (ب)، والخبر في "طبقات" ابن سعد 7/ 51، و"مختصر تاريخ دمشق" 12/ 286. (¬6) في (ب) و (خ). في عرضك وداري الأنصار، والمثبت من المصدرين السابقين، وهو الجادة. (¬7) كذا في (خ) و"طبقات" ابن سعد 7/ 52. وفي (ب): تشعّب. وفي "مختصر تاريخ دمشق" 12/ 287: شتت. (¬8) في (ب) و (خ): آل، بدل: إلى. والمثبت من المصدرين السابقين. والخبر ليس في (م).

خرجت خارجةٌ من أصحابه، فلقُوا رجلًا، فقالوا: ما الخبر؟ فقال: قُتل نَعْثَل (¬1) عدوُّ الله، وهذه خَصْلةٌ من شعره. فحمل عليه زُفر بن الحارث الكلابي -وهو يومئذٍ غلام [مع] مجاشع بنِ مسعود- فقتله، فكان أوَّلَ قتيلٍ قتل في دم عثمان - رضي الله عنه -، فرجع مجاشع إلى البصرة. فلما رأى ذلك ابنُ عامر حَمَلَ ما في بيت المال، واستخلفَ على البصرة عبدَ الله بنَ الحضرميّ، ثم شَخَصَ إلى مكة، فَوافَى بها طلحةَ والزُّبير وعائشة - رضي الله عنها-، وهم يُريدون الشام، فأشارَ عليهم بالبصرة، وقال: إن لي بها صنائعَ وأموالًا، فساروا إليها. فلما كان من أمر الجمل ما كان، وهُزم الناس؛ قال عبد الله بن عامر للزُّبير رضي الله عنه: أَنْشُدُكَ اللهَ في أمَّةِ محمد، فلا أُمَّةَ (¬2) محمد بعد اليوم. وقُتل الزُّبير - رضي الله عنه -، وقُتل عبدُ الرحمن بنُ عبد الله بن عامر، وسار ابنُ عامر، فنزلَ دمشقَ، ولم يزل مع معاوية بالشام، ولم يُسمع له بذكر في صفِّين. ولما بايعَ معاويةَ الحسنُ بن عليّ عليهما السلام؛ ولَّى بُسْرَ بنَ أبي أَرْطاة البصرة، ثم عزلَه، فقال له ابنُ عامر: إنَّ لي بها ودائعَ عند قوم، فإنْ لم تُولِّني إيَّاها ذهَبَتْ. فولَّاه البصرةَ، فأقامَ بها ثلاث سنين، وكان ممدوحًا (¬3). وفيه يقول زياد بن الأعجم: أخٌ لك لا تَراهُ الدهرَ إلا ... على العَلَّات بَسَّامًا جَوادا أخٌ لك ما مَودَّتُهُ بِمَذْقٍ ... إذا ما عادَ فَقْرُ أخيهِ عادا سألناهُ الجزيلَ فما تلَكَّا ... وأَعْطَى فوقَ مُنْيَتِنا وزادا وأَحْسنَ ثمَّ أَحْسنَ ثمَّ عُدْنا ... فأَحْسَنَ ثمَّ عُدْتُ له فعادا مِرارًا ما رجعتُ إليه إلا ... تَبَسَّمَ ضاحكًا وثَنَى الوسادا (¬4) ¬

_ (¬1) أي: عثمان - رضي الله عنه -، ونَعْثَل اسم لرجل لِحياني كان يُشبَّهُ به عثمان - رضي الله عنه - إذا نِيل منه. قاله الفيروزآبادي في "القاموس". (¬2) في (ب) و (خ): فلأمة. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 7/ 53، و"مختصر تاريخ دمشق" 12/ 288. ولم يرد الخبر في (م). (¬3) في (ب): ممدَّحًا. (¬4) الأبيات في "تاريخ دمشق" 6/ 474 (مصورة دار البشير، ترجمة زياد الأعجم) وفيه في البيت الأخير: السوادا، بدل: الوسادا.

وأرادَ معاويةُ أن يُصْفِيَ أموال عبد الله [بن عامر] (¬1) فقال له ابنُ عامر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قُتِلَ دونَ مالِه فهو شهيد". واللهِ لَأُقاتِلَنَّ حتى أُقتل. فأعرضَ عنه معاوية (¬2). [قال ابن قتيبة: لم يرو ابن عامر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث. وقال ابن عساكر (¬3)، وزوَّجَه معاويةُ ابنتَه هندًا، وأسكنه إلى جانبه بالخضراء، وكانت دارُه بدمشق في الموضع الذي يُعرف بالجويرة (¬4)؛ غربيَّ سوق القمح. قال الزُّبير بن بكَّار: [حدَّثني عمي مصعب بن عبد الله، عن بعض القرشيين قال: ] كانت هندُ بنتُ معاوية أبرَّ شيء بعبد الله بنِ عامر، وإنها جاءَتْه يومًا بالمرآة والمشط، وكانت تتولَّى خدمتَه بنفسها، فنظر في المرآة، فرأى وجهَه ووجهَها، وكانت شابَّة جميلة، ورأى الشيبَ في لحيته قد ألحقه بالشيوخ، فرفع رأسَه إليها وقال [لها]: الْحَقِي بأهلك (¬5). فانطلقت، فدخلت على أبيها، فأخبرَتْه، فقال معاوية: وهل تطلَّقُ الحُرَّة؟ فقالت: ما أُتِيَ (¬6) من قِبَلي. وأخبَرَتْه الخبر. فأرسلَ إليه، فقال: أكرمتُك بابنتي، ثم تردُّها عليَّ من غير جناية! فقال له عبد الله: إن الله منَّ عليَّ بفضله، وجعلني كريمًا لا أُحبُّ أن يتفضَّل عليَّ أحد، وإنَّ ابنتك أعْجَزَتْني مكافأتُها لِحُسن صُحبتها، فنظرتُ في المرآة، فإذا أنا شيخٌ، وهي شابَّة، لا أَزيدُها مالًا إلى مالها، ولا شَرَفًا إلى شرفها، فرأيت أنْ أردَّها إليك فتُزَوَّجَها فتًى من فتيانك، كأنَّ وجهَه ورقةُ مصحف (¬7). ¬

_ (¬1) أي: يأخذ ماله كلَّه. (¬2) نسب قريش ص 148 - 149. ونُسب الخبر في (م) للزبير بن بكار، وذكره أيضًا البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 688. (¬3) في "تاريخ دمشق" 9/ 457 (مصورة دار البشير، ترجمة عبد الله بن عامر) والكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) في "تاريخ دمشق" 9/ 457: بالجزيرة. (¬5) في "نسب قريش" ص 149: بأبيك. (¬6) في النسخ الثلاث: ما أوتي. والمثبت من "نسب قريش" ص 149. (¬7) نسب قريش ص 149، والمستدرك 3/ 639 - 640، والمنتظم 5/ 311 - 312، وذكره بنحوه البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 688 - 689.

[قلت: وقد عدَّ الزُّبير بن بكَّار هذه الحكاية من مكارم الأخلاق، وإنما هي من مساوئ الأخلاق لوجوه: أحدُها: أنه جعل في مقابلة إحسانها إليه إساءتَه إليها. والثاني: كونُه طلَّقها بغتة من غير جُرم بدا منها، ولا نفير عليه، وربّما تظنُّ بها شرًّا. والثالث: أرى أن النساء تختلف، منهنَّ من تقدِّم الكهول على الشباب، وقد كان قادرًا على إرضائها بالمال وغيره، فلا يُعذر في ذلك]. [قال هشام: ] وكان ابنُ عامر صديقًا لأبي ذرّ، فلما وليَ البصرةَ؛ هجرَهُ أبو ذرّ؛ قال نافع الطاحي: مررتُ بأبي ذرّ، فقال لي: مِمَّن أنت؟ فقلتُ: من أهل العراق. فقال: أتعرفُ عبدَ الله بنَ عامر؟ قلت: نعم. قال: فإنه كان يتقرَّأ (¬1) معي ويلزمُني، ثم طلب الإمارة، فإذا قدمتَ البصرة؛ فَتَراءَ له (¬2)، فإنه سيقول (¬3): ألك حاجة؟ فقل له: [أنْزِلْني و] أَخْلِنِي. فإذا أَخْلاكَ فقل له: أبو ذرّ يُقرئك السلام، ويقول لك: إنَّا نأكلُ من التمر، ونشربُ من الماء، ونعيشُ كما تعيش. قال: فلما قدمتُ البصرةَ؛ أبلغتُه الرسالة، فحلَّ إزاره، ثم أدخلَ رأسَه في جَيبِه (¬4)، وبكى حتى ملأ جَيبَه. قيل لمعاوية: مَنْ ترى للخلافة؟ فقال: فتى قريش علمًا وحلمًا وشجاعة وسخاءً؛ عبدُ الله بنُ عامر (¬5). وقال خليفة: اشترى عبدُ الله بنُ عامر دار خالد بن عُقبة بن أبي مُعَيط التي بالسوق بتسعين ألفًا، فلما كان في الليل؛ سمع بكاء آل خالد، فقال: ما لهم؟ قالوا: يبكون على فراق دارهم. فقال: يا غلام، اذْهَبْ إليهم، فعرِّفْهم أن المال والدار لهم جميعًا (¬6). ¬

_ (¬1) أي: يتفقَّه ويتنسَّك، ووقع في (م): يقرأ، وتحرفت في (ب) و (خ) إلى: يتقوى. (¬2) في النسخ: فترايا، وأثبتُّ اللفظة على الجادة. (¬3) في (ب) و (خ): يقول، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "المنتظم" 5/ 313، و"صفة الصفوة" 1/ 594. (¬4) في (ب) و (خ): جبته (في الموضعين). والمثبت من (م)، وكل ما سلف بين حاصرتين منها. (¬5) تاريخ دمشق 9/ 466 (مصورة دار البشير) والكلام ليس في (م). (¬6) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (351)، وتاريخ دمشق 9/ 466 - 467.

قال ابن أبي الدنيا: كان لابن عامر رجلٌ يقيم بالمدينة يكتب إليه بأسماء من يريد أن يَقْدَمَ عليه، ولا يَقْدَمُ الرجل إلا على جائزة مُعَدَّة، وأمرٍ قد أُحْكِمَ له (¬1)، فقدمَ البصرةَ رجلان، أحدهما ابنُ جابر بنِ عبد الله الأنصاري، والآخر من ثَقيف، فلما قربا من البصرة؛ نزلا، فصلَّى ابنُ جابر بنِ عبد الله ركعتين، وقال للثقفي (¬2): ما رأيُك في الرجوع؟ فقال: أتعبتُ بَدَني (¬3)، وأَكْلَلْتُ مطيَّتي، وأرْجِعُ بغير شيء! فقال ابن جابر: إني قد ندمتُ على قصده، واستحييتُ من ربي أن يراني طالبًا رزقًا من غيره، اللهمَّ رازقَ ابنِ عامر، ارْزُقْني من فضلك. ثم قفلَ راجعًا إلى المدينة. ودخل الثقفيُّ على ابن عامر، فقال له: وأين صاحبك؟ فأخبره بحاله، فبكى ابنُ عامر وقال: أما واللهِ ما قالها أَشَرًا ولا بَطَرًا، ولكن قال حقًّا، فلا جرمَ لَأُضْعِفَنَّ جائزتَه. فأمر للثقفيِّ بأربعة آلاف درهم وكسوة، وأضعفَها لابن جابر، وبعث بها إليه، فخرج الثقفيُّ وهو يقول: أمامةُ ما حِرْصُ الحريصِ يَزِيدُ [هـ] (¬4) ... فَتِيلًا ولا زُهْدُ المقيمِ بضائرِ خَرَجْنا جميعًا من مساقطِ رُوسِنا ... على ثقةٍ منَّا بجودِ ابنِ عامرِ فلمَّا أنَخْنا النَّاعجاتِ ببابهِ ... تخلَّفَ عني الخَزْرَجيُّ ابنُ جابرِ وقال ستكفيني عطيَّةُ قادرٍ ... على ما أرادَ اليومَ للناسِ قاهرِ وإنَّ الذي أعطى العراقَ ابنَ عامرٍ ... لَرَبِّي الذي أرجو لِسَدِّ مفاقري (¬5) فقلتُ خَلَا لي وجهُه ولعلَّه ... سيجعلُ لي حظَّ الفتى المتأخِّرِ فلما رآني سال عنه صبابةً ... وحنَّ كما حنَّتْ طِرابُ الأباعرِ (¬6) ¬

_ (¬1) قوله: "من يريد أن يقدم عليه، ولا يقدم الرجل إلا على جائزة" تكرر في النسختين (ب) و (خ). وهذا أحد الأمثلة على أن النسختين مأخوذتان عن نسخة واحدة. ولم يرد الخبر في (م). (¬2) في (ب) و (خ): وقال الثقفي. وهو خطأ. (¬3) في (ب) و (خ): يدي، وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ دمشق" 9/ 467 والخبر فيه بنحوه. (¬4) الهاء بين حاصرتين من عندي للوزن والسياق، وفي "تاريخ دمشق" 9/ 467 و 468: بنافع، بدل: يزيده. (¬5) في (ب): مفاقر. والمثبت من "تاريخ دمشق" 9/ 468. والمفاقر: وجوه الفَقْر. (¬6) الأباعر جمع بعير، والطِّراب منها هي التي تَنْزعُ إلى أوطانها. ينظر "اللسان" (طرب). ووقع في "نشوار المحاضرة" 5/ 266؛ عِراب الأباعرِ.

فأضعفَ عبدُ الله -إذ غاب- حظَّهُ ... على حظِّ لهفانٍ من الحرصِ فاغرِ فأُبْتُ وقد أَيقَنْتُ أَنْ ليس نافعي ... ولا ضائري شيءٌ خلافَ المقادرِ (¬1) وقال مَغْراءُ (¬2) الضَّبِّي: لما قدم ابنُ عامر الشامَ؛ جاءه مَنْ فيه من الصحابة إلا أبا الدَّرْداء، فإنه لم يأتِه، فجاءه ابنُ عامر، فعاتبَه على تأخُّره عنه، فقال له أبوالدرداء: ما كنتَ أصغرَ في عيني منك اليومَ! قال: ولِمَ؟ قال: لأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَرَنا أن نتغيَّر عليكم إذا تغيَّرْتُم. ذكر وفاته: توفي بالمدينة، وقيل: بالشام، وقيل: بمكة. وتوفي سنة سبع -وقيل: ثمان، وقيل: تسع- وخمسين قبل معاوية بسنة (¬3). فقال معاوية: يرحم الله أبا عبد الرحمن، بمن نفاخرُ، وبمن نباهي (¬4)؟ قال ميمون بن مهران: بعثَ عبدُ الله بنُ عامر حين حضرَتْه الوفاة إلى مشيخة أهل المدينة، فحضروا وفيهم عبدُ الله بنُ عمر - رضي الله عنه -، فقال لهم: أخْبِرُوني: كيف كانت سيرتي، وما حالي؟ فقالوا: ما نشكُّ لك في النجاة، قد كنتَ تَقْرِي الضيفَ، وتفكُّ العاني، وتتصدَّق، وتصلُ رحمك، وتُعتق. فنظر إليه ابنُ عمر وقال (¬5): إذا طابت المَكْسَبَة (¬6) زَكَت النفقة، وستردُ فتعلم. وقد أخرج مسلم بمعناه (¬7)، فقال عن ابن عمر: إنه دخلَ على ابن عامر يعودُه في مرضه، فقال له: ألا تَدْعُو لي؟ فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقبلُ اللهُ صلاةً بغير طُهُور، ولا صَدَقَةً من غُلُول". ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه في "نشوار المحاضرة" 5/ 265 - 266، و"تاريخ دمشق" 9/ 467 - 468، ولم أقف عليه عند ابن أبي الدنيا. (¬2) في النسخ (ب) و (خ) و (م): معن. والمثبت من "تاريخ دمشق" 9/ 468، والخبر فيه، وقد نُسب في (م) إليه. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 53، وتاريخ دمشق 9/ 469. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 53. (¬5) في "تاريخ دمشق" 9/ 469: وابن عمر ساكت، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما يمنعك أن تتكلم؟ قال: قد تكلّم القوم. قال: عزمتُ عليك لَتكَلَّمنَّ. فقال ابن عمر. . . . ولم يرد الخبر في (م). (¬6) تحرفت في (خ) إلى: المسكنة. (¬7) صحيح مسلم (224). وقد ورد هذا الخبر في (م) ولم يرد الخبر الذي قبله فيها، وهذا إخلال من المختصِر، فالخبران متعلقان ببعضهما، حيث قال: وقد أخرج مسلم بمعناه. . . . ولم يذكر الذي قبله.

وقال ابن قُتيبة: مات ابنُ عامر بمكَّة، ودُفن بعرفات (¬1). والأكثرُ على أنه مات بالمدينة، سنةَ ثمان وخمسين. [وقد نصَّ عليه البخاري، فقال: ماتت عائشة، وأبو هريرة، وعبد الله بن عامر، في سنة ثمان وخمسين] (¬2). ذكر أولاده: فولدَ عبدُ الله بنُ عامر أحدَ عشرَ رجلًا، وأربعَ نسوة (¬3): عبدَ الرحمن لأمِّ ولد؛ قُتلَ يوم الجمل، وهو أولُ أولاده. وعبدَ الله؛ ماتَ قبل أبيه، وعبدَ الملك، وزينبَ؛ أمُّهم كَيِّسَة (¬4) بنت الحارث بن كُريز، وأُمُّها بنتُ أَرْطاة بن عَبْد شُرَحْبِيل بن هاشم بن عبد مناف، [وأمُّها أروى بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف]. وعبدَ الحليم (¬5)، وعبد الحميد؛ أمُّهُما أمُّ حَبِيب بنتُ سفيان بن عوف (¬6) من بني كنانة. وعبدَ العزيز (¬7)، وعبدَ المجيد لأمِّ ولد. وعبدَ الرحمن الأصغر، وهو أبو السنابل، وعبدَ السلام؛ دَرَجَ؛ أمُّهما أمُّ ولد. وعبدَ الرحمن، وهو أبو النضر؛ لأمِّ ولد. ¬

_ (¬1) المعارف ص 321. (¬2) ينظر "التاريخ الصغير" للبخاري ص 99 - 100 وذكر فيه أكثر من قول. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬3) كذا وقع في (ب) و (خ)، وهو وهم، فالذين سيذكرهم ثلاثة عشر رجلًا وستُّ نسوة، منهم اثنا عشر رجلًا ذكرهم ابن سعد في "الطبقات" 7/ 48. وزاد المصنف عليه: عبدَ العزيز، كما سيرد وهذه الفقرة ليست في (م). (¬4) هي ابنة عم عبد الله بن عامر، وكانت قبلَه تحتَ مسيلمة الكذاب، وسيذكرها المصنف قريبًا، وتحَرّف اسمها في (ب) و (خ) إلى: كبشة، وتحرف في "أنساب الأشراف" 7/ 690 إلى كُبيشة. وينظر "توضيح المشتبه" 7/ 273. (¬5) كذا في "أنساب الأشراف" 7/ 690. وفي "طبقات" ابن سعد 7/ 48، و"نسب قريش" ص 149: عبد الحكيم، وما سلف بين حاصرتين من (ب)، وهو أيضًا في "الطبقات". (¬6) كذا في (ب) و (خ) (والكلام ليس في م). وفي "طبقات" ابن سعد 7/ 48: عويف. (¬7) ذكره أيضًا البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 690، ومصعب الزبيري في "نسب قريش" ص 149 وقال: وليَ سجستان، ولم يُذكر في "الطبقات".

وعبدَ الدائم (¬1)، وعبدَ الجبَّار، وأَمَةَ الحميد؛ أمُّهم هند بنت سُهيل بن عَمرو العامريّ، وأمُّها الحَنْفاء بنتُ أبي جهل، وأمُّها أروى بنت أسيد بن أبي العيص بن أميَّة. وأمَّ كُلثوم؛ أمُّها أَمَةُ الله بنتُ الوارث بن الحارث بن ربيعة الكلابي. وأَمَةَ الغفَّار؛ أمُّها أمُّ أبان بنت كلبة (¬2)، من ربيعة. وأَمَةَ الواحد، وعبدَ الأعلى لأمِّ ولد. وأمَّ عبد الملك، وأمُّها من بني عَقِيل (¬3). قال الشيخ موفَّق الدين - رضي الله عنه - (¬4): وعبدُ الأعلى [كان] جوادًا مِطْعامًا (¬5)، وأخبارُه في الجُود مشهورة، وكان أشرف من أبيه عبد الله ومن سعيد (¬6) بن العاص؛ لأنهما كانا يعتمدانِ على بيت المال، وهو كان يعتمد على صُلْب ماله (¬7). وكان لعبد الله عمٌّ يقال له: عُبَيْس (¬8) بن كُريز، وأُمُّه مولاةٌ لبني تميم، كانت تُعذَّبُ في الله تعالى، فاشتراها أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه -، فأعتَقَها. ومسلم بن عُبَيس؛ كان أميرَ الناس في حرب الأزارقةِ (¬9) يومَ دُولاب (¬10)، فقُتل شهيدًا يومئذ، وكان من أهل القَدْرِ والدِّين والفضل، وهو أولُ من تولَّى (¬11) قتال الأزارقة، وكان قد خرجَ إليهم في اثني عشرَ ألفًا. ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) (والكلام ليس في م)، وفي "الطبقات" 7/ 48، و"نسب قريش" ص 149: عبد الكريم. (¬2) في "طبقات" ابن سعد 7/ 48: مكلبة. (¬3) وقع في النسخة (خ) أخطاء في هذه الفقرة، لم أذكرها لئلا أُثقل الحواشي بما لا فائدة فيه، وهي في (ب) على الصواب، ولم ترد فقرة "ذكر أولاده" في (م). (¬4) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 228. وما بين حاصرتين منه. (¬5) تحرفت في (ب) إلى: مطاعًا. (¬6) في (ب) و (خ): سعد، وهو خطأ. (¬7) هو في "التبيين" ص 229 من كلام الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة. (¬8) تحرف في (ب) و (خ) إلى: عيسى. والكلام في "التبيين" ص 229. وينظر "نسب قريش" ص 147. (¬9) نسبة إلى نافع بن الأزرق، وهم من الخوارج. (¬10) قرية بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ. ينظر "معجم البلدان" 2/ 485. (الفرسخ حوالي خمسة كيلو متر). (¬11) وقع في (ب) و (خ): ترك، بدل: تولَّى! والكلام في "التبيين" ص 229.

وعبد الله بن عامر الهمداني

وكانت لعبد الله بن عامر بنتُ عمّ يقال لها: كَيِّسَة (¬1)، وكانت قبلَه عند مُسَيلِمَةَ الكذَّاب (¬2). وعبدُ الله بنُ عامر الهَمَّداني من أهل الأردنّ، كنيتُه أبو عبد الرحمن، كان على شرطة يزيد بن معاوية بعد حُميد بن حُريث الكلبي. وشَتَا عبدُ الله بالروم سنة خمسين، وحدَّث عن معاويةَ بنِ أبي سفيان، وروى عنه سليمانُ بنُ موسى الدمشقيّ. وقال ابن عساكر (¬3): دخلَ عبدُ الله بنُ عامر على عبد الملك بنِ مروان، فكلَّمه في رجل من قومه، وقال: يا أمير المؤمنين، نحن نضمنُه لك، وإن كان هذا الرجل ينعزل (¬4)؛ فعفوُك يسعُه. فقال: لا، ولكن وجدتُكم يا معاشر اليمن أقلَّ شيءٍ شُكرًا. فقال ابن عامر: كلا، ما أَتَينا أمرًا ساءك، ولو كنَّا فعلنا وكان هذا الكلامُ منك؛ لكان قبيحًا. وايمُ اللهِ، لولا حقُّ الطاعة لعلمتَ أن هذا الكلام يُرَدُّ عليك، وإنما استُعديتَ لِتَعَدَّى، وشُفِّعْتَ لِتَشْفَعَ، وإنَّا انْقَدْنا لأبيك ولك انْقِياد الجَمَل الإلْف، ورَفْرَفْنا حواليك رَفْرَفَةَ الطائر، وأمرتَ فسارَعْنا، ونهيتَ فارْتَدَعْنا، ودعوتَ فسمعنا وأطعنا، كأنَّك لم تسمع بيومِ راهِط (¬5) وقد أحرضَ الموتُ بمروان (¬6) حتى استجار بقحطان. ¬

_ (¬1) وهي زوجتُه، وولدَتْ له عبدَ الله، وعبدَ الملك، وزينب، كما سلف أوَّل فقرة "ذكر أولاده"، وتحرَّف اسمها في (ب) و (خ) إلى: كبشة. وينظر "توضيح المشتبه" 7/ 273. (¬2) التبيين في أنساب القرشيين ص 229، وينظر "نسب قريش" ص 229. (¬3) تاريخ دمشق 9/ 474 (مصورة دار البشير) وما قبله منه. (¬4) رسمُها في (ب) و (خ): ببعدك (؟ ) والمثبت من "تاريخ دمشق". (¬5) راهط، موضع في الغوطة من دمشق في شرقيّه بعد مرج عذراء من جهة حمص، وكانت به وقعة مشهورة سنة (64) بين الضحاك بن قيس الذي دعا لمبايعة عبد الله بن الزبير، وبين مروان بن الحكم، وكانت الغلبة لمروان بعد مكيدة كادها، وقُتل الضحاك. ينظر تفصيل الخبر في "تاريخ الطبري" 5/ 535 - 544، و"العقد الفريد" 4/ 394 - 398، و"معجم البلدان" 3/ 21. وسيرد في السنة المذكورة. (¬6) يعني مروان بن الحكم أبا عبد الملك. ووقع في "تاريخ دمشق" 9/ 475 (مصورة دار البشير): الحوب، بدل: الموت.

عقبة بن عامر

فقال عبد الملك: يغفرُ الله لك أبا عبد الرحمن. ثم خرج وهو يقول: بني أُميَّةَ إنَّ الدهرَ مُنقلِبٌ ... ما إِنْ يدومُ له نُعْمَى ولا بُوسُ لا تَكْفُروا نِعَمًا نالتْ أوائلَكمْ ... مِنْ أوَّلينا وثَوْبُ العجزِ ملبوسُ أيامَ قيسٌ مع الضحَّاك مُجْلِبَةٌ ... كما تَلَاطَمُ في البحر القواميسُ وما لمروانَ إلا نحن مُعْتَصَمٌ (¬1) ... ومُنْقِذٌ وعيون نحوه شُوسُ (¬2) لم تُغْنِ عنهم مَعَدٌّ غيرَ قولِهمُ ... غالتْ أميةَ بالشام الدَّهارِيسُ (¬3) فدافَعَتْ عنه منَّا أُسْدُ مَلْحَمةٍ ... كأنَّهمْ في الوَغَى البُزْلُ القناعيسُ (¬4) حتى أبادوا الذي مالتْ دعائمُهُ ... واستوسَقَتْ لكمُ الشُّمُّ القَدامِيسُ (¬5) عقبة بن عامر ابن عَبْس الجُهَنِيّ، من قُضاعة، وهو كان البريدَ إلى عُمر - رضي الله عنه - بفتح دمشق، خرجَ منها يومَ الجمعة وفي رِجْله خُفَّانِ، فقدمَ على عمر رضوان الله عليه يومَ الجمعة وهو على المنبر، فأخبره بفتوح دمشق (¬6)، فقال له عمر - رضي الله عنه -: كم عهدُك بالمسح؟ فقال: من الجمعة إلى الجمعة. فقال: هُدِيتَ لسنَّةِ نبيِّك محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولما قُبِضَ [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] ونَدَبَ أبو بكر - رضي الله عنه - الناسَ إلى الشام؛ خرجَ عُقبةُ، فشهدَ فُتوحَ الشام ومصرَ، واختطَّ بها دارًا (¬7). ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 9/ 475: معتصر. (¬2) أي الذين ينظرون بمؤخر أعينهم، جمع أشوس، وشوساء. (¬3) أي: الدواهي. (¬4) البُزْل: جمع بازل، وهو البعير الذي دخل في السنة التاسعة، والقناعيس: جمع قِنعاس، وهو الجمل العظيم الشديد القوة. (¬5) جمع قُدْموس، وهو الملك الضخم. (¬6) كذا وقع في (ب) و (خ)، وليس في الخبر في كل رواياته أنه دخل عليه وتكلم معه وهو على المنبر! (ولم يرد هذا الخبر في م). وينظر "تاريخ دمشق" 48/ 77 - 79 (طبعة مجمع دمشق). (¬7) تاريخ دمشق 48/ 80 (طبعة مجمع دمشق) وما بين حاصرتين منه.

ووَليَ الجُنْدَ [بمصر] لمعاوية بعد عُتبةَ بنِ أبي سفيان سنة أربع وأربعين، ثم أغزاه معاويةُ البحرَ سنة سبع وأربعين، وكان عاملًا على مصر، فعزلَه عنها، وولَّى مَسْلَمةَ بنَ مُخَلَّد، فلم يُظْهِر ذلك مسلمةُ حتى دفعَ عقبةُ غازيًا في البحر، وبلَّغه الخبر، فقال: ما أنْصَفَنا معاويةُ؛ عزلَنا وغرَّبنا (¬1). وشهد عقبة صفِّين، ثم تحول إلى مصر (¬2). وكان له دار بدمشق نحو قنطرة بني سِنان، من نواحي باب تُوما (¬3). وكان يخضبُ بالسَّوَاد ويقول: نُسَوِّدُ أعلاها وتَأْبَى أصولُها (¬4) ذكر وفاته: [قال الواقدي وابن البرقي وابنُ عبد البَرّ: ] مات عقبة بمصر سنة ثمان وخمسين، ودفن بالفسطاط (¬5). [وقد وهم خليفة فقال: قُتل بالنهروان سنة ثمان وثلاثين شهيدًا] (¬6). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 48/ 82، وما بين حاصرتين منه. (¬2) نُسب هذا الكلام في (م) لخليفة، ولم أقف عليه في "طبقاته" و "تاريخه". وهو في "طبقات" ابن سعد 5/ 261 و 9/ 503، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 48/ 79، وقد أخرج ابن عساكر قبله قول خليفة: عقبة بن عامر من ساكني مصر، مات سنة ثمان وخمسين. وهو في "طبقاته" ص 121. (¬3) تاريخ دمشق 48/ 77، ونُسب الكلام في (م) إليه. (¬4) المصدر السابق 48/ 82. وقوله: "نسوِّد أعلاها وتأبى أصولها" صدر بيت عجزه: فيا ليت ما يسود منها هو الأصلُ. ذكره ابن عبد البر في "بهجة المجالس" 3/ 217 ونسبه لعقبة أيضًا، وهو في "الطبقات" 5/ 261، و 9/ 503، و"تاريخ دمشق" 48/ 93 أيضًا برواية: نغيّر أعلاها. وأورده ابن قتيبة في "عيون الأخبار" 4/ 51 برواية: أُسَوِّدُ أعلاها. . . ونسبه لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 261 و 9/ 503، والاستيعاب ص 561. وما سلف وسيرد بين حاصرتين من (م). (¬6) تاريخ خليفة ص 197، ونقله عنه ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" ص 561، وغلَّطه. لكن هذا سبق قلم من خليفة، فقد ذكره أيضًا في "تاريخه" ص 225 في سنة ثمان وخمسين وقال: وفيها مات عُبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وعقبة بن عامر الجهني. وذكره أيضًا في "طبقاته" ص 121 وقال: عقبة بن عامر الجهني من ساكني مصر، مات سنة ثمان وخمسين.

يزيد بن شجرة الرهاوي

أسند [عقبة] الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[أُخرج له في "الصحيحين" سبعة عشر حديثًا (¬1). وليس في الصحابة من اسمه عقبة بن عامر سواه]. روى عن عمر - رضي الله عنه -، وروى عنه ابنُ عباس، وأبو أُمامة، وأبو أيوب، وأبو إدريس الخَوْلاني، وابنُ المسيِّب، وجُبير بن نُفير في آخرين (¬2). يزيد بن شجرة الرَّهاويّ من الطبقة الأولى من التابعين، من أهل الشام (¬3). وذُكر فيمن له صحبة ورواية، وغزا مع يزيد بن معاوية القسطنطينية في سنة خمسين (¬4). وكنيتُه أبو شجرة، وروى عن أبي عُبيدة بن الجرَّاح - رضي الله عنه -. وكان عابدًا مُتَأَلِّهًا غازيًا، قتله الروم في البحر شهيدًا في سنة ثمان وخمسين. وروى عنه مجاهد، والزُّهري، وأبو الزَّاهريَّة (¬5). السنة التاسعة والخمسون فيها عزلَ معاويةُ عبدَ الرحمن بنَ أُمِّ الحَكَم عن الكوفة، وولَّاها النعمانَ بنَ بشير الأنصاري (¬6). وقيل: إنَّ عَزْلَه كان في السنة الماضية. ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 397، وفيه أيضًا: المتفق عليه منها سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بتسعة. (¬2) تاريخ دمشق 48/ 77 (طبعة مجمع دمشق)، وتهذيب الكمال 20/ 203. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 449، والرَّهاوي -بفتح الراء- نسبة إلى قبيلة رَهاء، بطن من اليمن. وقيل: بضم الراء. ينظر "الأنساب" 6/ 163، و"توضيح المشتبه" 4/ 232. (¬4) لم أقف عليه. وقال الطبري في "تاريخه" في سنة (49): وفيها كانت غزوة يزيد بن شجرة في البحر وشتا بأرض الشام، وفيها كانت غزوة يزيد بن معاوية الروم حتى بلغ القسطنطينية. ومعه ابن عباس وابن عُمر وابن الزبير وأبو أيوب. وأخرج الدولابي في "الكنى والأسماء" (210) عن أبي فراس الشعباني قال: إنهم كانوا غزاة القسطنطينية زمن معاوية وعلينا يزيد بن شجرة. (¬5) تاريخ دمشق 18/ 296 (مصورة دار البشير)، ولم ترد هذه الترجمة في (م)، ولا الكلام بعدها حتى ترجمة أسامة بن زيد. (¬6) تاريخ الطبري 5/ 315.

وفيها ولَّى معاويةُ عبد الرحمن بنَ زياد [خُراسان. قال علماء السير (¬1): قدم عبد الرحمن بن زياد، على معاوية وافدًا، فقال له: يا أمير المؤمنين، أَما لنا حقٌّ؟ قال: بلى، فماذا تريد؟ قال: الولاية. قال: ما الذي أصنعُ بك؟ أخوك عُبيد الله (¬2) على البصرة وسجستان، والنُّعمانُ بنُ بشير على الكوفة، وله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحبة، فإنْ شئتَ أشركتُك مع أخيك عُبيد الله، فإنَّ عملَه يَسَعُك؟ قال: ذاك إليك. فولَّاه خُراسان. فأقامَ عليها حتى مات معاوية ووَليَ يزيد، فقدمَ عليه عبدُ الرحمن بمال عظيم، وذلك بعد قتل الحسين - عليه السلام -. ولما ولَّاه معاويةُ خُراسان؛ بعثَ قيس بنَ الهيثم السُّلميَّ، فأخذ أسلم بن زوعة [فحبسه، ثم قدم عبد الرحمن، فأغرم أسلم بن زُرْعة] ثلاث مئة ألف درهم. وكان عبد الرحمن حريصًا ضعيفًا، فأقامَ بِخُراسان سنتين لم يغزُ غزوةً واحدة (¬3). وفيها قدم عُبيد الله بنُ زياد على معاوية ومعه أعيانُ أهل البصرة والعراق، فدخل عليه عُبيدُ الله فقال له [معاوية (¬4): ] ائذنْ لوفدك على قدر منازلهم وشرفهم. فأذن لهم، فدخل الأَحْنَف بنُ قيس في آخرهم، وكان سيِّئَ المنزلةِ عند عُبيد الله بن زياد، فلما رآه معاويةُ رحَّبَ به، وأدناه حتى أجلسه معه على سريره. ثم قال معاوية للقوم: تكلَّموا. فتكلَّموا، وأَثْنَوْا على ابن زياد والأحنفُ ساكتٌ، فقال له معاوية: ما لَكَ يا أبا بحر لا تتكلَّم؟ فقال: إن تكلَّمتُ خالفتُ القوم. فقال: قوموا، فقد عزلتُه عنكم، واطلبوا واليًا ترضَوْنَه. فلم يبق أحدٌ من القوم إلا أتى رجلًا من بني أمية وأشراف (¬5) الشام يطلبون الولايةَ، وقعدَ الأحنفُ في بيته لم يأت أحدًا، فأقاموا أيامًا، ثم أحضرهم معاوية، فقال لهم: ¬

_ (¬1) المصدر السابق، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب) و (خ): عبد الله (وكذا في كل المواضع الآتية) وهو خطأ. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 315 - 316 وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬4) لفظة "معاوية" بين حاصرتين من عندي للإيضاح. (¬5) في "تاريخ الطبري" 5/ 317: أو من أشراف.

من اخترتُم؟ فاختلفت كلمتُهم، وسمَّى كلُّ فريقٍ منهم رجلًا والأحنفُ ساكت، فقال له معاوية: يا أبا بحر، ما لَكَ لا تتكلَّم؟ فقال: إن ولَّيتَ علينا من أهل بيتك لم نعدلْ بعبيد الله أحدًا، وإن ولَّيتَ علينا من غيرهم، فانظر في ذلك. فقال معاوية: فإني قد أعدتُه. ثم إن معاويةَ قبَّحَ رأيَ ابنِ زياد في مباعدته الأحنف، وأوصاه به، فلمَّا هاجت الفتنة عند موت يزيد بن معاوية لم يَفِ لعُبيد الله سوى الأحنفِ بنِ قيس (¬1). ذكر ما جرى فيها ليزيد بن زياد بن ربيعة بن مُفرِّغ الحِمْيَريّ مع بني زياد: كان ابنُ مُفَرِّغ صديقًا لسعد بنِ عثمان بن عفَّان، فسأله الخروج معه إلى خُراسان، فلم يفعل، وخرج مع عبَّاد بن زياد، وقد ليَ سجستان، فجفاه عبَّاد، ولم ير منه ما يحبّ، فهجاه، وكان أصابَ الجندَ الذين كانوا مع عبَّاد ضيقٌ في عَلَفِ دوابِّهم، وكان عبَّاد عظيمَ اللحية، فقال ابن مُفَرِّغ: ألا ليتَ اللِّحى كانَتْ حَشِيشًا ... فنَعْلِفَها خيولَ المُسلمينا (¬2) وقال أيضًا: إذا أوْدَى معاويةُ بنُ حَرْبٍ ... فبَشِّرْ شعبَ قَعْبِك بانصدعِ فأَشْهَدُ أنَّ أمَّكَ لم تُباشِرْ ... أبا سفيانَ واضعةَ القِناعِ ولكن كان أمرًا فيه لَبْسٌ ... على وَجَلٍ شديدٍ وارْتِياعِ (¬3) وكان قد ركبَه دينٌ، فأمرَ عبَّاد غرماءَه أن يَسْتَعْدُوا عليه، ففعلوا، فباع غلامًا له يقال له: بُرْد؛ كان قد ربَّاه، وجاريةً يقال لها: أراكة. فقال أبنُ مُفرِّغ: أُبْقِي (¬4) على الأمرِ الذي ... كانَتْ عَواقبُه نَدامَهْ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 316 - 317. (¬2) ينطر "أنساب الأشراف" 4/ 414 - 415، و"تاريخ الطبري" 5/ 317. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 417، وتاريخ الطبري 5/ 318. (¬4) كذا في (ب) و (خ)، وفي "المصادر": لهفي. ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 415، و"الأغاني" 18/ 260، و"وفيات الأعيان" 6/ 346.

تركي سعيدًا ذا النَّدَى ... والبيتُ يُعملُ (¬1) بالدِّعامَهْ وصحبتُ عَبْدَ بني عِلا ... جٍ (¬2) تلك أشراطُ القِيامَهْ وشَرَيتُ بُرْدًا ليتَني ... من بعدِ بُرْدٍ كنتُ هَامَهْ [أو بُومةً] تدعُو الصَّدَى ... بين المُشَقَّرِ (¬3) واليَمامَهْ ومعنى شَرَيتُ: أي: بِعْتُ (¬4). ولَمَّا هجا ابنُ مُفَرِّغ عبَّادًا بسجستان؛ هربَ منه إلى البصرة وعُبيدُ الله يومئذٍ عند معاوية؛ لَمَّا قدمَ معه أشرافُ أهل البصرة. فكتب عبَّاد بنُ زياد إلى أخيه عُبيد الله بشعرِ ابنِ مُفرِّغ، فلما وقفَ عليه، دخل إلى معاوية، وأنشده إيَّاه وقال: لا بدَّ من قتله، فقال له معاوية: أدِّبْه ولا تقتُلْه. ولَمَّا قدم ابنُ مُفَرِّغ البصرة من سجستان؛ استجار بالأحنف، فقال: لا أُجِيرُ على ابنِ سُمَيَّة. فدار على جماعة، منهم خالد بنُ عبد الله، وعمر بن عُبيد الله بن معمر (¬5)، والمنذر بن الجارود، فكلُّهم وعدَه أن يُجِيرَه إلا المنذر فأجارَه وأدخلَه دارَه، وكانت بَحْرِيَّة بنتُ المنذر عند عُبَيد الله بن زياد. فلما قدم عُبيد الله البصرة؛ سألَ عن ابنِ مُفَرِّغ، فقيل له: هو في دار المنذر. وجاء المنذر مسلِّمًا، فأرسل ابنُ (¬6) زياد الشُّرَط، فدخلوا دار المنذر، وأخذوا ابنَ مُفَرِّغ، فلم يشعر المنذر وهو عند ابن زياد [إلا] وابنُ مُفَرِّغ قائمٌ على رأسه، فقام المنذر فقال: أيُّها الأمير، إني قد أجرتُه. فقال: يا منذر، يمدحك وأباك، ويهجوني وأبي، ثم تُجيرُه علي! . ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف": يعمد، وفي "الأغاني" و"وفيات الأعيان": ترفعه. (¬2) بنو عِلاج: بطن من ثَقِيف. "وفيات الأعيان" 6/ 347. (¬3) هو حصن بالبحرين قديم، وما سلف بين حاصرتين من "الأغاني" 18/ 261. (¬4) هو من الأضداد، يقع على البيع والشراء. وينظر الخبر مفصلًا في المصادر المذكورة سابقًا. (¬5) في (خ): يعمر، وهو خطأ. (¬6) في (ب) و (خ): إلى ابن. وهو خطأ.

ثم قيَّده وأسقاهُ دواءً مُسَهِّلًا وأركبَه على جمل (¬1)، وأوثقَ معه خنزيرةً، فجعلَ ابنُ مُفَرِّغ يسلحُ (¬2)، والخنزيرة تصيح من شدَّة وَثاقها، وابنُ مُفَرِّغ يقول: ضَجَّتْ أميةُ لَمَّا مَسَّها القَرَنُ (¬3) وقيل لابن زياد: لِمَ اخْتَرتَ له هذا التأديب؟ فقال: لأنه سَلَحَ علينا، فقابلناه بمثل ما فعل بنا. ثم بعث به عُبيد الله إلى أخيه عبَّاد بسجستان، فكلَّمت اليمانيةُ معاويةَ فيه بالشام (¬4)، فبعث رسولًا إلى عبَّاد يأمرُه بحمله إليه، فأرسلَ به إليه. فلما دخلَ على معاوية؛ بكى وقال: ارتكبَ [ابنُ] (¬5) زياد منّي ما لم يركب من مسلم. فقال له معاوية: ألستَ القائلَ كذا وكذا؟ ثم قال له معاوية: اذهب، فقد عفَوْنا عنك، فانظر أيَّ أرضٍ شئتَ. فنزل الموصل، فأقام بها، ثم عاد إلى البصرة، ودخل على عُبيد الله فأمَّنَه (¬6). وفيها غزا الصائفةَ عَمرو بنُ مُرَّة بن عَبْس الجُهَنيُّ. وكنيتُه أبو طلحة، وقيل: أبو مريم الأسديّ. ذكره ابنُ سعد فيمن نزلَ الشامَ من الصحابة من قُضاعة؛ قال: وكان شيخًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7). ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 4/ 418، و"تاريخ الطبري" 5/ 318: على حمار. (¬2) أي: يُخرج ما في بطنه. (¬3) في "الأغاني" 18/ 264: ضجَّتْ سمية لما لَزَّها قَرَني. وعجز البيت فيه: لا تجزعي إن شرَّ الشيمةِ الجَزَعُ. والقَرَن: الحبل الذي يُقرن به البعيران. (¬4) في الخبر تفصيل، فذكر أبو الفَرَج في "الأغاني" 18/ 270 أنه طال حبسُ ابنِ مُفرِّغ، فاستأجر رسولًا إلى دمشق ليقرأ على الناس بيتين من الشعر على درج الجامع يوم الجمعة يستثير بهما اليمانية، ففعل الرسول ما أمره به، فحميت اليمانبة، ودخلوا على معاوية غضابًا، وسألوه فيه. . . (¬5) لفظة "ابن" بين حاصرتين من عندي، لصحة السياق. (¬6) ينظر الخبر مطولًا في "أنساب الأشراف" 4/ 414 - 419، و"تاريخ الطبري" 5/ 317 - 321، و"الأغاني" 18/ 262 - 272. (¬7) طبقات ابن سعد 9/ 416، وتاريخ دمشق" 55/ 419 (طبعة مجمع دمشق).

أسلم قديمًا، وشهدَ المشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكان معاوية يُسمِّيه أَسَدَ جُهَينة، وكان سادنَ صنم جُهَينَة، فكسرَه، وقدمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم (¬2). قال ابن عساكر (¬3): كانت له دار بدمشق بناحية باب توما يُنسب إلى ابنه طلحة بن عَمرو، ويعرف اليوم بدرب طلحة، وكان قوَّالًا بالحقّ. وقال ابن منده: سكن فلسطين ومصر (¬4). وقال ابن سُمَيْع: مات بالشام في أيام عبد الملك بن مروان (¬5). وأسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث؛ قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا إسماعيل بنُ إبراهيم، عن علي بن الحَكَم، حدثني أبو الحسن، أنَّ عَمرو بنَ مرَّة قال لمعاوية: يا معاوية، إني قد سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من إمام -أو والٍ- يُغلقُ بابَه دون ذوي الحاجة والخَلَّة والمَسْكَنَة إلا أغلَقَ اللهُ أبوابَ السماء دون حاجته وخَلَّتِه ومسكنته"، قال: فجعل معاوية رجلًا على حوائج الناس (¬6). وحجَّ بالناس في هذه السنة عثمانُ بنُ محمد بن أبي سفيان. وكان الواليَ على المدينة الوليدُ بنُ عُتبة بنِ أبي سفيان، وعلى الكوفة النعمانُ بن بشير، وعلى قضائها [شُريح، وعلى البصرة عُبيد الله بنُ زياد، وعلى قضائها، هشام بن هُبيرة، وعلى خُراسان عبد الرحمن بن زياد، وعلى سِجِسْتان عبَّاد بن زياد، وعلى كَرْمان شريكُ بن الأعور الحارثي نائب عُبيد الله بنِ زياد (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 264، وتاريخ دمشق 55/ 425. (¬2) تاريخ دمشق 55/ 423. (¬3) المصدر السابق 55/ 417. (¬4) أخرج ابن عساكر 55/ 422 بإسناده إلى ابن منده أنه سكن فلسطين، وأخرجه أيضًا بإسناده إلى أبي نُعيم. وأخرج بإسناده إلى أبي نصر أنه قدم مصر. (¬5) أخرجه ابن عساكر 55/ 421 بإسناده إلى ابن سُميع. (¬6) مسند أحمد (18033). وهو في "سنن" الترمذي (1332). (¬7) تاريخ الطبري 5/ 321، وما بين حاصرتين منه، وينظر "المنتظم" 5/ 305.

أسامة بن زيد - رضي الله عنه -

وفيها توفي أسامةُ بنُ زيد - رضي الله عنه - ابن حارثة بن شَراحِيل بن عبد العُزَّى بن امرئ القيس، الكلبيُّ، مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وحِبُّه وابنُ حِبِّه. وكنيتُه أبو محمد، وقيل: أبو زيد، وقيل: أبو حارثة. وأمُّه أمّ أيمن -واسمُها بَرَكَة- حاضنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومولاتُه. وأسامةُ من الطبقة الثانية (¬1) من المهاجرين، وُلد بمكَّة، ونشأ بها حتى أدرك، لم يعرف إلا الإسلام، ولم يَدِنْ بغيره، وهاجر مع أبيه إلى المدينة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّه حبًّا شديدًا، فكان عنده كبعض أهله (¬2). وقيل: هاجر إلى المدينة وهو ابنُ ثمانِ سنين. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة في جيش فيهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فطعن الناسُ فيه لأنه كان مولًى، ولم يبلغ عشرين سنة. وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مرضه، فصعد المنبر (¬3). . . وقد ذُكر الحديث في مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقالت عائشة - رضي الله عنها -: عَثَرَ أسامةُ على عتبة الباب -أو على أُسْكُفَّة الباب- فشُجَّ وجهُه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة، أمِيطِي عنه الدَّم". قالت: فتَقَذَّرْتُه. فجعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمَصُّ شجَّتَه ويَمَجُّه ويقول: "لو كان أسامةُ جاريةً لَكَسَوْتُهُ وحَلَّيْتُه حتى أُنْفِقَه" (¬5). ¬

_ (¬1) في (م): الأولى، وهو خطأ. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 57. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 61، وفيه: فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: إن الناس قد طعنوا في إمارة أسامة بن زيد، وقد كانوا طعنوا في إمارة أبيه من قبله. . . . وأخرجه بنحوه البخاري (3730)، ومسلم (2426). وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 4/ 250. (¬4) وأخرج البخاري الحديث في المغازي (4469) وترجم له بقوله: باب بعث - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد - رضي الله عنه - في مرضه الذي توفي فيه. (¬5) أخرجه أحمد في "المسند" (25861). أُسْكُفَّةُ الباب؛ بهمزة قطع وكاف مضمومتين وتشديد فاء: عَتَبة الباب.

[قال شريك: الدم حرام، وقد مصَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لفظه ومَجَّهُ، والطعام حرامٌ على الصائم، ولا بأس بأن يذوق منه بطرف لسانه ما لم يدخل حلقَه] (¬1). قالت [عائشة]: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يمسحُ الرَّمَصَ (¬2) من عينيه. وقالت: لا ينبغي لأحد أن ينتقص أسامة بعد ما سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كان يحبُّ اللهَ ورسولَه؛ فليُحِبَّ أسامة" (¬3). وقال أسامة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقعدني على فخذه، ويُقعد الحسنَ على فخذه الأخرى ويقول: "اللهمَّ إني أُحبُّهما، فأحبَّهما، اللهمَّ إني أَرحَمُهُما، فارْحَمْهُما" (¬4). وللبخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه نظرَ إلى رجل يسحبُ ثيابَه في المسجد، فقال: مَنْ هذا؟ قالوا: محمد بن أسامة. فطأطأ ابنُ عمر رأسه وقال: لو رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبَّه (¬5). قالت عائشة: دخلَ مُجَزِّزٌ المُدْلِجيّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى أسامةَ بنَ زيد، وزيدًا قد غطَّيا رؤوسهما وعليهما قَطِيفة، وقد بَدَتْ أقدامُهما، فقال: "إنَّ هذه الأقدام بعضُها من بعض". قالت: فَسُرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بَرَقَتْ أَسارِيرُ وَجْهِه (¬6). [وقال الدارقطني: كان أسامةُ مثلَ الليل، وكان أبوه زيد أبيضَ أحمرَ أشقرَ] (¬7). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 1/ 265، والكلام بين حاصرتين من (م). (¬2) في (ب) و (خ): الومص: وهو تحريف، والخبر في "تاريخ دمشق" 2/ 690 (مصورة دار البشير). (¬3) أخرجه أحمد (25234)، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 2/ 684. ونُسب الحديث في (م) لأحمد. (¬4) أخرجه البخاري (3735) و (6003) بنحوه، ونُسب الكلام في (م) إليه. (¬5) صحيح البخاري (3734). (¬6) صحيح البخاري (6770) (6771)، وصحيح مسلم (1459). ولم يرد هذا الخبر في (م). (¬7) القول لإبراهيم بن سعد أورده الدارقطني بإثر الحديث (4587) وهو حديث عائشة المذكور قبله. والكلام بين حاصرتين من (م). وجاء بعده فيها أيضًا ما نصُّه: (وقد أخرجاه في "الصحيحين". وأمُّه أم أيمن -واسمها بركة- حاضنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاته). ولم أُثبت هذا الكلام أعلاه؛ لأن قوله: وأمّه أم أيمن. . . إلخ سلف، وقوله: كان أسامة مثل الليل. . . ليس في "الصحيحين"، ونسبته لهما وهم من المُختصِر صاحب (م)، والله أعلم، فالذي في "الصحيحين" خبرُ عائشة المذكور عن مُجزِّز المُدْلِجي، ولم يذكره صاحب (م).

وروى ابن سعد (¬1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخَّر الإفاضة من عرفة من أجل أسامة بن زيد ينتظره، فجاء غلام أسود أفطس، فقال أهل اليمن: إنما حُبسنا من أجل هذا! قال يزيد بن هارون: فلذلك ارْتَدُّوا في زمن أبي بكر - رضي الله عنه -؛ لاستخفافهم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [وقد ذكرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حجَّ أردفَ أسامةَ خلفَه، ولما دخل يوم الفتح مكةَ كان رَدِيفَه] (¬2). وبلغت النخلةُ على عهد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه (¬3) ألفَ درهم، فاشتهَتْ عليه أُمُّهُ جُمَّارًا (¬4)، فاشترى نخلةً بألف درهم، فنقَرَها، وأخرجَ ما فيها من الجُمَّار، فأطعمَه أُمَّه، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّ أمِّي سألَتْني إيَّاها، ولا تسألُني شيئًا أقدرُ عليه إلا أعطيتُها إيَّاه. وقالت عائشة رضوان الله عليها: إن قُريشًا أهمَّهم أمرُ المخزومية التي سرقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: من يُكلِّمُ فيها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: ومَنْ يجترئُ عليه إلا أسامةُ بنُ زيد حِبُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلَّمه أسامة، فقال: "أتَشْفَعُ في حدٍّ من حدود الله؟ ! ". ثم قام فخطب وقال: "إنَّما هَلَكَ مَنْ هَلَكَ قبلَكم؛ كانوا إذا سرقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرقَ فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وايمُ الله، لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمد سَرَقَتْ لقَطَعْتُ يدَها". متفق عليه (¬5). [وإنما كان من أمرها أنها تستعيرُ المتاع وتجحدُه، وكانت كذلك في غَزاة الفتح. وروى جابر أنها استعاذت بأمّ سلمة. قالت عائشة: ثم تابت وحسُنَتْ توبتُها، وتزوَّجت، فكنت أرفعُ حاجتَها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد (¬6). ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 4/ 59. (¬2) ينظر "الطبقات" 4/ 59. وما بين حاصرتين من (م). (¬3) في (ب) و (خ): على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو خطأ. والخبر في "طبقات" ابن سعد 4/ 65، و"المعجم الكبير" للطبراني (370). ولم يرد في (م). (¬4) واحدتُه جُمَّارَة، وهي شحمة النخل التي في قمة رأسه. ينظر "لسان العرب" (جمر). (¬5) صحيح البخاري (3475) (6788)، وصحيح مسلم (1688). وينظر "طبقات" ابن سعد 4/ 64. (¬6) ينظر "صحيح" مسلم (1688) (1689). وهذا الكلام بين حاصرتين من (م).

فإن قيل: فلِمَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو سرقت فاطمة؟ ولمَ خصَّ بذلك ابنتَه؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن اسم المخزومية فاطمة بنت الأسود، فاتفق الاسمان. والثاني: أنه ضربَ المثل بأعز الخلق عليه زجرًا للغير، وحفظًا لأموال الناس]. و[ذكر ابنُ عساكر عن عبد الله بن دينار قال (¬1): ] كان عمر بن الخطاب إذا لقيَ أسامةَ قال له: السلام عليك أيها الأمير. فيقول أسامة: وعليك السلام يا أمير المؤمنين، إليَّ تقول هذا؟ ! فيقول عمر رضوان الله عليه: لا أزالُ أدعوك الأمير ما عشتُ؛ لأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماتَ وأنتَ أميرٌ عليّ. وقال ابنُ عساكر: قدم أسامة الشام، فنزل المِزَّةَ، واختار المُقام بها، فأقطعَه معاوية إيَّاها (¬2). وقال: إن أسامة وفدَ على معاوية، فأقعدَه معه على سريره، ولاطَفَه. فمدَّ أسامةُ رِجْلَه، فقال معاوية: يرحمُ اللهُ أمَّ أيمن، كأنِّي أنظرُ إلى ظُنْبُوبِ ساقِها بمكّة؛ كأنه ظُنْبُوبُ نَعامة خرجاء. فقال أسامة: فعل الله بك وصنع يا معاوية، هي واللهِ خيرٌ منك ومن أبيك ومن أمِّك، وأكرمُ على الله. فقال معاوية: وأكرمُ أيضًا؟ ! فقال أسامة: نعم، إن أكرمكم عند الله أتقاكم (¬3). [والظُّنبوب: العظم اليابس من قُدُم الساق. وقال البلاذري: لما نهض علي - عليه السلام - لقتال أهل الجمل؛ دعا أُسامةَ بن زيد إلى الخروج معه، فاعتذر بقتل الرجل الذي قتله في بعض سراياه، وعاتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أقتَلتَه بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ ! ". وقد ذكرناه (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 692 (مصورة دار البشير). (¬2) تاريخ دمشق 2/ 680. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 42، وتاريخ دمشق 2/ 699. (¬4) ينظر "أنساب الأشراف" 1/ 564 و 2/ 149.

قال البلاذري: واسم الرجل المقتول كُهيل بن قيس، أو نُهيك بن مرداس السلمي (¬1). والله أعلم]. ذكر وفاته: قال الواقدي: قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولأسامة عشرون سنة، وكان قد سكن وادي القُرى بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نزلَ المدينة، فمات بالجُرْف في آخر خلافةِ معاوية، فحُمل إلى المدينة [ولم يذكر السنة التي مات فيها (¬2). وحكى ابن سعد أن مولًى له قال: كان أسامة يركب إلى وادي القُرى، وكان له به مال، وكان يصوم الاثنين والخميس (¬3). قال: فقلت له: قد كَبِرْتَ ورققت (¬4)! فقال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم الاثنين والخميس وقال: "إن الأعمال تُعرض فيهما". وقال أبو معشر: مات أسامة بالجُرْف في سنة تسع وخمسين، فحُمل، على أعناق الرجال فدفن بالبقيع. وقيل: في سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة أربع وخمسين (¬5)، وقيل: سنة ستين، أو سنة أربع وستين. وحكى ابن عساكر أنه مات بالمِزَّة (¬6) [قرية من قرى دمشق] والأول أصح. [وقد نصَّ عليه ابنُ إسحاق وغيره، رواه عنه ابن عبد البَرّ فقال (¬7): سكن أسامة وادي القُرى، ثم رجع إلى المدينة، فأقام بالجُرْف، فتوفي به، فحمل إلى المدينة]. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 1/ 564 وفيه: الجُهني. ولم أقف فيه على قوله: كهيل بن قيس. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 66 - 67، والجُرْف: موضع على بعد ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. ينظر "معجم البلدان". (¬3) أي: يصوم وهو مسافر إلى وادي القُرى. ويقع وادي القرى بين المدينة والشام، وهو من أعمال المدينة، كثير القرى. ينظر "معجم البلدان". (¬4) في "طبقات" ابن سعد 4/ 65: أتصوم في السفر وقد كبرت ورققت؟ ! (¬5) وهو الأصح عند ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 47. والكلام السالف والآتي بين حاصرتين من (م). (¬6) لم أقف في "تاريخ دمشق" على أنه توفي بالمزة. (¬7) في "الاستيعاب" ص 46 بنحوه.

ذكر أولاده: تزوَّج أسامة هند بنت الفاكه (¬1) بن المغيرة المخزومي، ودُرَّة بنت عديّ بن قيس السهمي (¬2)، فولدت له محمدًا وهندًا، وتزوَّج فاطمة بنت قيس أخت الضحاك، فولدت له جُبيرَّا، وزيدًا، وعائشة، وتزوَّج أمَّ الحكم بنتَ عُتْبة (¬3) بن أبي وقَّاص، وابنة أبي حمدان (¬4) السهمي، وتزوَّج برزة بنت ربعي من بني عُذْرَة (¬5)، فولدت له حَسَنًا وحُسَينًا. قال أبو بكر بن عبد الله بن أبي جَهْم (¬6): كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ أسامة بن زيد، فلمَّا بلغ وهو ابنُ أربع عشرة سنةَ؛ تزوَّج امرأةً يقال لها: زينب بنت حنظلة بن قَسامة، ثم طلَّقها أسامة، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أدُلُّه على الوضيئة وأنا صهره؟ ". وجعلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظرُ إلى نُعيم بن عبد الله النحَّام، فقال: يا رسول الله، كأنك تُريدني؟ قال: "أجل". فتزوَّجها، فولدت له إبراهيم بن نُعيم؛ قُتل يومَ الحرَّة (¬7). قال الواقدي: لم يبلغ أولادُ أسامة من الرجال والنساء دهرَه أكثر من عشرين إنسانًا (¬8). وذكر ابن سعد محمد بن أسامة في الطبقة الثانية من التابعين؛ قال (¬9): وتوفي بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان ثقةً قليل الحديث. وأخوه الحسن بن أسامة بن زيد، روى عنه ابنه محمد بن الحسن وغيره، وكان قليل الحديث (¬10). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): الهاد. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 4/ 66. والكلام ليس في (م). (¬2) تحرفت في (خ) إلى: التميمي، وسقطت العبارة من (ب)، وهذه الفقرة: "ذكر أولاده" لم ترد في (م). (¬3) تحرفت في (ب) و (خ) إلى: عيينة. (¬4) في (ب) و (خ): عمران، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 4/ 66. (¬5) في (ب) عرزة، وفي (خ): عروة، وكلاهما خطأ، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 4/ 66 وينظر "تهذيب الكمال" 6/ 52 ترجمة الحسن بن أسامة بن زيد. (¬6) في (ب) و (خ): فهم، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 4/ 66. (¬7) طبقات ابن سعد 4/ 66. (¬8) المصدر السابق. (¬9) الطبقات 7/ 242 - 243. (¬10) المصدر السابق 7/ 243 وفيه: كان ثقة قليل الحديث.

قال ابن عساكر: فاطمة بنتُ أسامة بن زيد، سكنت المِزَّة، وانتقلت إلى المدينة. ودخلت على عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ومعها مولاةٌ لها تُمسكها بيدها، فقام لها عمر، وأجلَسها في مجلسه، وجلس بين يديها، وصافحها ويدُه في ثيابه، وما ترك لها حاجةً إلا قضاها، وقال لها: هل من حاجة؟ فقالت: تحملُني إلى قبر أبي (¬1). فجهَّزها وحملَها. [قال (¬2): وكان أبوها خرج إلى وادي القُرى؛ إلى ضيعة له، فمات بها، وترك ابنته بالمِزَّة]. أسند أسامة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة [حديث] وثمانيةً وعشرين حديثًا (¬3). وروى عن أسامة ابنُ عبَّاس، وأبو هريرة، في آخرين (¬4). [وقد فرَّقنا بعض أحاديثه في الكتاب؛ قال (أحمد) (¬5): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النَّهْدي، عن أسامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قمتُ على باب الجنة، فإذا عامَّةُ مَنْ دخلَها المساكينُ، وإذا أصحاب (الجَدِّ) محبوسون (¬6)، إلا أصحابَ النار؛ فقد أُمِرَ بهم إلى النار". قال: "وقمتُ على باب النار؛ فإذا عامَّةُ من يدخلُها النساء". متفق عليه (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): قبر أمي، والمثبت من (م). ووقع في "تاريخ دمشق" ص 270 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق): تحملني إلى أخي. (¬2) يعني ابن عساكر، وقوله في المصدر السابق. والكلام المذكور بين حاصرتين من (م). (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 365، ولفظ: "حديث و" بين حاصرتين منه. وقال ابن الجوزي فيه ص 388: أُخرج له في "الصحيحين" تسعة عشر حديثًا، المتفق عليه منها خمسة عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديثين. (¬4) تاريخ دمشق 2/ 680 (مصورة دار البشير)، وتهذيب الكمال 2/ 339 - 340. (¬5) زدتُ كلمة "أحمد" بين قوسين للضرورة، فهو القائل: حدثنا إسماعيل. . . إلخ، والحديث في "المسند" (21782). (¬6) في (م) (والكلام منها وحدها): محبوسين، والتصويب من مصادر الحديث، واستدركتُ كلمة "الجَدّ" منها أيضًا، وأصحاب الجَدّ، يعني أصحاب الغنى. (¬7) صحيح البخاري (5196) (6547)، وصحيح مسلم (2736)، وساقه المصنف بإسناد أحمد (21782) كما سلف.

أوس بن عوف الثقفي

وليس في الصحابة من اسمه أسامة بن زيد غيره. وأما حديث أسامة بن شَرِيك قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه عنده؛ كأنما الطيرُ على رؤوسهم، فسألوه، فقالوا: يا رسول الله، أنتداوَى؟ قال: "نعم، تَدَاوَوْا، فإن الله لم يضع داءً إلا وَضَعَ له دواء، غير داءٍ واحد، وهو الهَرَم" (¬1). فأمَّا من غير الصحابة؛ فستة، كلُّ واحد اسمه أسامة بن زيد: أحدهم: أسامة بن زيد، تنوخي (¬2)، وكنيتُه أبو عيسى الكاتب الكلبي مولاهم، وَليَ كتابة عبد الملك بن مروان، ووليَ الخَراج لهشام بن عبد الملك، وللوليد بن عبد الملك، وهو الذي كسر الصنم بالإسكندرية. روى عنه زيد بن أسلم وغيره. والثاني: أسامة بن زيد، أبو زيد الليثي. روى عن نافع والزُّهري. والثالث: أسامة بن زيد، مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. والرابع: أسامة بن زيد؛ كلبي. روى عن زهير بن معاوية وغيره. والخامس: أسامة بن زيد، شيرازي، روى عن أبي خليفة الفضل بن الحُباب الجُمحي. والسادس: أسامة بن زيد بن أسلم (¬3)، روى عن أبيه] (¬4). أوس بن عوف الثقفي أحدُ بني مالك، ذكره ابنُ سعد فيمن نزل الطائف من الصحابة (¬5)، وهو الذي رمى عروةَ (¬6) بنَ مسعود الثقفي بسهم فقتلَه. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (18454). (¬2) تحرفت الكلمة في (م) (والكلام منها وحدها) إلى: موحي، وينظر "تاريخ دمشق" 2/ 699 (مصورة دار البشير). (¬3) كذا وقع في (م) (والكلام منها)، وإنما أسامة بن زيد بن أسلم هو مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وسلف ذكره قبل. وينظر "تهذيب الكمال" 2/ 334. (¬4) الكلام السالف بين حاصرتين من (م)، وبدأ بقوله: وقد فرَّقْنا بعض أحاديثه في الكتاب. . . . (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 70. ولم ترد هذه الترجمة في (م). (¬6) في (ب) و (خ): عوف، وهو خطأ.

الحطيئة [الشاعر]

ثم قدمَ بعد قَتْلِه إلى المدينة في وَفْدِ ثَقِيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخاف من أبي المُلَيح بن عروة، وقاربِ (¬1) بن الأسود بن مسعود، وقبلَ أنْ يُقاضيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَقِيفًا، فتعرّضا له، فشكا إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، فنهاهما عنه وقال: ألستُما (¬2) مسلمَين؟ ! قالا: بلى. قال: فتأخذانِ بذَحْلِ (¬3) الشِّرْك؟ وهذا رجل قد قدم يريدُ الإسلام وله ذِمَّةٌ وأمان، ولو قد أسلم صار دمُه عليكم حرامًا. ثم قاربَ بينهم حتى تصافحوا (¬4)، وكفُّوا عنه. فأسلمَ، وصحبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. ومات في سنة تسع وخمسين، وله صحبة ورؤية، وليس له رواية. الحُطيئة [الشاعر] واسمُه جَرْوَل بن مالك (¬5) بن جُؤَيَّة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قُطَيعة بن عَبْس العَبْسيّ، الشاعر. وكنيتُه أبو مُلَيكة، وقيل: أبو أمية. ذُكر في طبقات الشعراء مع بِشْر (¬6) بن أبي خازم، وكعب بن زهير. [وقال الجاحظ: كان الحُطَيئة من المخضرمين؛ أدرك الجاهلية والإسلام]. أسلم بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمدَّة. ولا ذكرَ له في الصحابة، ولا في الوفود. و[قال الأصمعي: ] كان أسودَ الوجه، قبيحَ المنظر، وكان لسانُه وباطنُ شفتيه وفمُه أسود. [قال: والذي يكون لونُه أسود، يكون أحمر اللسان وداخل الفم، والحُطَيئة كان أسودَ الظاهر والباطن. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) قارم، وهو خطأ. (¬2) في (ب) و (خ): ألسنا، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 8/ 70. (¬3) الذَّحْل: الحقد والعداوة، يقال: طلبَ بِذَحْلِه، أي: بثأره. ينظر "الصحاح". (¬4) في (ب) و (خ): تصالحوا، والمثبت من "الطبقات" 8/ 70 وهو الأشبه بسياق الكلام. (¬5) كذا في "المنتظم" 5/ 307. وفي غالب المصادر: جَرْول بن أوس بن مالك. . . . (¬6) في (ب) و (خ): أنس، وهو خطأ. وهذه العبارة ليست في (م).

قال: وكان أربعةٌ على هذا الوصف: الحُطَيئة، وأبو الأسود الدِّيلي، وحُميد الأرْقَط، وخالد بن صفوان (¬1)]. وكان جَشِعًا سَؤُولًا جوَّالًا في الآفاق هجَّاءً، خبيثَ اللسان، هجا نفسه، وأباه، وأمَّه، وعمَّه، وخاله. فقال يهجو نفسَه: أَبَتْ شفتايَ اليومَ إلا تكلُّمًا ... بِشَرٍّ فما أدري لمن أنا قائلُهْ أَرَى ليَ وجهًا شَوَّهَ اللهُ خلقَهُ ... فقُبِّحَ من وَجْهٍ وقُبِّحَ حامِلُهْ (¬2) وقال في هجو أمِّه: تَنَحَّي واقْعُدي عنِّي بعيدًا ... أراحَ اللهُ منكِ العالمينا جزاكِ اللهُ شرًّا من عجوزٍ ... ولقَّاكِ العُقوقَ من البنينا (¬3) وقال لأبيه وعمِّه وخالِه: لحاكَ اللهُ ثم لحاكَ حقًّا ... أبًا ولحاكَ مِنْ عمٍّ وخالِ فنِعْمَ الشيخُ أنت لِذِي المخازي ... وبئسَ الشيخُ أنتَ لِذِي المعالي (¬4) وقال أبو عُبيدة مَعْمَر: قَدِمَ الزِّبْرِقان بن بَدْر على أبي بكر رضوان الله عليه في الرِّدَّة، فساقَ صدقاتِ بني عوف، فلما كان ببعض الطريق رأى الحُطَيئة، وكان بين الزِّبْرِقان وبين بني قُرَيع معارضة (¬5) ومهاجاة، فأراد أن يستظهر بالحُطَيئة عليهم، فقال له: هل لك إلى خير مواساة؟ فقال: ومَنْ لي بذلك؟ فقال: اِلْحَقْ ببني سَعْد حتى آتيَك، فإنما أُؤدِّي هذه الصدقةَ إلى أبي بكر، ثم أَلْحَقُ بك. فقال: عَمَّنْ أسأل؟ قال: أُمَّ مَطْلعَ الشَّمسِ، وسَلْ عن الزّبْرقان [بن بدر، ثم ائْتِ أمَّ شذرة، فقل لها، يقول لك بَعْلُكِ الزِّبْرقان بن بدر: أحسني إلى قومك. فإنها ستفعل. ¬

_ (¬1) الكلام في "الأغاني" 2/ 163 عن أبي عبيدة قال: بخلاء العرب أربعة. . . وذكرهم. وكلُّ ما سلف بين حاصرتين (من أول الترجمة) من (م). (¬2) الأغاني 2/ 163 - 164، وديوان الحطيئة ص 282. (¬3) الأغاني 2/ 163، وديوان الحطيئة ص 277. (¬4) الديوان ص 276. (¬5) في "المنتظم" 5/ 308: مقارضة.

ففعل الحُطَيئة ذلك، فلما رأته بنو قُريع قالوا: ] (¬1) الداهية! يريد الزِّبْرِقانُ أن يستظهر [به] علينا. فأتاه بَغِيض بن شمَّاس، فقال: يا أبا مُلَيكة، هل لك [إلى خَصْلَةٍ هي] خيرٌ مِمَّا قصدتَ؟ قال: وما هي؟ قال: مئةٌ من الإبل تتعجَّلُها وتنزُل عندنا. قال: نعم. فنزل عليهم، وعدلَ عن الزِّبْرِقان. وجاء الزِّبرقان إلى امرأتِه، فقال: أين جاري؟ فقالت: خَبُث عليك. وأقام في بني قُريع يهجو الزِّبْرِقان، فقال من أبيات: دعِ المكارمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها ... واقْعُدْ فإنك أنتَ الطاعِمُ الكاسي (¬2) ومات أبو بكر رضي الله عنه، وقام عمر رضي الله عنه، فاستعدى عليه الزِّبْرِقانُ [عمرَ] (¬3) وقال: هجاني وأنشد البيت عمر - رضي الله عنه -، فقال [له]: ليس هذا بهجوٍ، أما ترضى أن تكون طاعمًا كاسيًا؟ ! فقال الزِّبْرقان: فسَلْ حسانَ بنَ ثابت. فأرسلَ إليه عمر رضوان الله عليه، فسأله (¬4)، فقال حسان: ما هجاه، ولكن سَلَحَ عليه! فحبسَ عمر - رضي الله عنه - الحُطَيئةَ، فأطال حَبْسَه، فكتبَ إليه من الحَبْس يقول: ماذا تقولُ لأفراخٍ بِذي مَرَخٍ (¬5) ... زُغْبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ غادَرْتَ كاسِبَهُم في قَعْرِ مُظْلِمةٍ ... فَارْحَمْ عليك سلامُ اللهِ يا عُمَرُ أنتَ الإمامُ الذي من بعدِ صاحبِهِ ... أَلْقَتْ إليك مقاليدَ النُّهَى البَشَرُ فامْنُنْ على صِبْيَةٍ بالرَّمْلِ مسكنُهمْ ... بين الأباطح تغشاهم بها القِرَرُ (¬6) نفسي فداؤك كم بيني وبينهمُ ... من عَرْضِ داوِّيَةٍ (¬7) تَعْمَى بها الخُبُرُ (¬8) ¬

_ (¬1) الكلام بين حاصرتين من المصدر السابق. (¬2) البيت في "ديوان الحطيئة" ص 284 ضمن قصيدة. (¬3) ما بين حاصرتين ضروري لسياق الكلام، وينظر "الأغاني" 2/ 186، و"المنتظم" 5/ 308، و"ديوان الحطيئة" ص 283 - 284. (¬4) في "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 24: قال عمر لحسان: ما تقول؟ أهجاه؟ وعمر يعلم من ذلك ما يعلم حسان، ولكنه أراد الحجَّة على الحطيئة. (¬5) ذو مَرَخ: وادٍ قُرب فَدَك (وفَدَك قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان). ينظر "معجم البلدان" 4/ 238 و 5/ 103. (¬6) لم تجوَّد الكلمة في (ب) و (خ) فوقع فيهما: القور. والمثبت من "ديوان الحطيئة" ص 208. قال شارحه: القِرَر: جمع قِرَّة، بالكسر، وهي البرد. وينظر "الأغاني" 2/ 188. (¬7) أي: فلاة. (¬8) ينظر "ديوان الحطيئة" ص 208 - 210.

فلما وقف عمر على الأبيات بكى، فقال عَمرو بنُ العاص: ما أظَلَّت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء أعدلَ من رجل [يبكي على شعر الحُطيئة، أو: ] يَرِقُّ للحُطيئة. فجمع عمر رضوان الله عليه الصحابة [في المسجد] واستشارهم فيه، فقال: ما تُشيرون (¬1) فيمن يُشَبِّبُ بالحُرَم، ويهجو المسلمين، ويمدحُ بعض الناس بما ليس فيه؟ فاتفقوا على قطع لسانه. فأحضر الحجَّام والموسى، ولم يبقَ إلا أن يقطع لسانه، فسأله فيه عبدُ الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وأكابرُ الصحابة، فاستتابَه، وأطلقَه. وقيل: إنه اشترى منه أعراضَ المسلمين بثلاثة آلاف درهم. وقال ابن عساكر (¬2): إن الحُطَيئة لَمَّا أطلقَه عمر رضوان الله عليه؛ سأله كتابًا إلى علقمة بن عُلاثة، فسار نحوه إلى الشام، فوجد الناسَ منصرفين من جِنازة علقمة، فقال وهو على قبره: لَعَمْرِي لَنِعْمَ المرءُ من آلِ جعفرٍ ... بِحَوْرانَ أمْسَى علَّقَتْه (¬3) الحبائلُ فإنْ تَحْيَ لا أَمْلَلْ حياتي وإنْ تَمُتْ ... فما في حياةٍ بعد موتِك طائلُ وما كان بيني لو لقيتُك سالمَّا ... وبين الغِنَى إلا ليالٍ قلائلُ فقال له ابنٌ لعلقمة: كم كان في ظنِّك أنه يعطيك؟ فقال: مئة ناقة، يتبعها أولادها. فقال: هي لك. وقال ابنُ الكلبي: إنَّ علقمةَ بن عُلاثة بلغَه قصدُ الحطيئة له، وأنَّه في الطريق، فمرضَ، فأَوصى له بمثل سهم من سهام ولده (¬4). وعلقمة بنُ عُلائة بنِ عَوْف بن الأحوص، من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري، وفدَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمَ، وسُرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه، وكتبَ إلى خُزاعة يبشِّرُهم بإسلامه. ¬

_ (¬1) في (م): ما ترون. وما سلف بين حاصرتين منها. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 6/ 21. (¬3) في "ديوان الحطيئة" ص 24 و"مختصر تاريخ دمشق": أعلقته. (¬4) مختصر تاريخ دمشق 6/ 21.

وعلقمة هو الذي نافَرَ عامر بنَ الطُّفيل في الجاهلية. وذكره ابن سعد في قبائل العرب الذين أسلموا ورجعوا إلى بلاد قومهم في الطبقة الرابعة من الصحابة (¬1). واستعمل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - علقمة على بلاد حوران، فماتَ بها. وأمُّ علقمة ليلى بنت أبي سفيان بن هلال بن النَّخَع. ولعلقمة صحبة ورؤية، وليس له رواية. [وكان للحطيئة بنت يقال لها: مُليكة، وكانت جميلة]. وقال الشعبي (¬2): اجتمع الحُطيئةُ وكعب الأحبار عند عمر - رضي الله عنه -، فأنشد الحُطيئة: مَنْ يفعلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جَوازِيَهُ (¬3) ... لا يذهبُ العُرْفُ بين اللهِ والناسِ (¬4) فقال كعب: هي واللهِ في التوراة كذلك: لا يذهبُ العُرْفُ بين الله وخلقه. قال ابنُ الكلبي: أراد الحُطَيئةُ أن يمضيَ إلى اليمن ليمدح بعض ملوكها، فلما ركبَ راحلتَه قال يخاطب ابنتَه: عُدِّي السنينَ إذا خرجتُ لرجعتي (¬5) ... ودعي الشهورَ فإنهنَّ قصارُ فأجابته ابنته من الخِدْر: أُذْكُرْ تشوُّقَنا (¬6) إليك وضعفَنا ... وارْحَمْ بناتِك إنَّهنَّ صغارُ فنزل عن راحلته، وحطَّ رَحْلَه، وأمسك عن [ذكر] السفر. نزل الحُطَيئة على رجل من العرب ومعه ابنتُه مُلَيكة، فسمع غناءً، فقال لصاحب البيت: ارْفَعْ غِناءك [عنَّا] فإنه رائد الفجور، وإلا رحلتُ من عندك، فما أُحبُّ أنْ تسمعَه ابنتي. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 190. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 6/ 22. ووقع في (ب): السلمي. (¬3) في (خ): جوائزه. (¬4) ديوان الحطيئة ص 284. وانظر فيه ص 290. (¬5) في (م) ومختصر تاريخ دمشق: لغُنيةٍ. (¬6) في (م) و"مختصر تاريخ دمشق" 6/ 22: تَحَنُّننا.

[قال: ] ومَرَّ الحطيئة بحسان وهو يُنشد، فوقف عليه يسمع، فقال له حسان: مَنْ أنت؟ فقال له: أبو مُلَيكَة. فقال: ما كنتَ أهْوَنَ عليَّ منك حيث اكتنَيتَ بامرأة. فقال: أنا الحُطَيئة. فقال: اذْهَبْ بسلام (¬1). وقالت مُليكة بنتُ الحطيئة: يا أبَهْ، ما بالُك صِرْتَ إلى القصائد القصار بعد الطِّوال؟ فقال: لأنها في الآذان أَوْلَجُ، وفي المحافل أجْوَلُ (¬2)، وعلى القلوب أسهل، وبأفواه الرجال أعْلَق. وقال أبو عمرو بن العلاء: أصدقُ بيت قالت العرب: يقولون يستغني وواللهِ ما الغِنَى ... من المالِ إلا ما يكفُّ (¬3) وما يكفي ومن أحسن ما قال الحطيئة في آل منظور بن زبَّان من أبيات: أَقِلُّوا عليهم لا أَبا لأبيكُمُ ... من اللوم أو سُدُّوا المكانَ الذي سَدُّوا أولئك قومٌ إنْ بَنَوْا أحْسَنُوا البِنا ... وإنْ عاهدوا أوْفَوْا وإنْ عَقَدُوا شَدُّوا وإنْ كانتِ النَّعماءُ فيهم جَزَوْا بها ... وإنْ أَنْعَمُوا لا كدَّرُوها ولا كَدُّوا هُمُ آلِ سَيَّارِ بنِ عمرو بن جابرٍ ... رجالٌ وَفَتْ أحلامُهم ولهم جَدُّ (¬4) ولما نزلَ الموتُ بعبد الله بن شدَّاد (¬5) قال لابنه: يا بُنَيَّ، كُنْ كما قال الحُطيئة: ولستُ أرى السعادةَ جَمْعَ مالٍ ... ولكنَّ التَّقِيَّ هو السعيدُ وتقوى اللهِ خيرُ الزادِ ذُخْرًا ... وعند اللهِ للأَتْقَى مَزِيدُ وما لا بُدَّ أن يأتي قريبٌ ... ولكنَّ الذي يمضي بعيدُ (¬6) ¬

_ (¬1) الأغاني 2/ 170. (¬2) في (ب) و (خ): أجزل، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "مختصر تاريخ دمشق" 2/ 22. (¬3) في "ديوان الحطيئة" ص 320 والمصادر: ما يُعِفُّ، وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 22، و"بهجة المجالس" 1/ 207. (¬4) في (ب) و (خ): جدُّوا. والمثبت من "جمهرة نسب قريش" 1/ 16 والأبيات (ما عدا الأخير) في "ديوان الحطيئة" ص 140، وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 23. ولم ترد الأبيات في (م). (¬5) في (ب) و (خ): سلام، وهو خطأ، والمثبت من (م). وينظر "الأغاني" 2/ 175، و"مختصر تاريخ دمشق" 6/ 23. (¬6) ديوان الحطيئة ص 393، ومختصر تاريخ دمشق 6/ 23.

عبد الرحمن [بن الحارث] بن هشام

ولما احْتُضِرَ الحُطَيئة قيل له: أوْصِ. فقال: الشِّعْرُ صَعْبٌ وطويلٌ سُلَّمُهْ ... إذا ارْتَقَى فيه الذي لا يَعْلَمُهْ زلَّتْ به إلى الحضيضِ قَدَمُهْ ... يريدُ أنْ يُعربَهُ فيُعْجِمُهْ (¬1) ثم قال: احملُوني على حمار، فما ماتَ عليه كريمٌ قطّ، فلعلّي أبقى. وكان مريضًا، فحملوه عليه، فمات (¬2). عبد الرحمن [بن الحارث] بن هشام ابن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم بن يَقَظَة بن مُرَّة المخزومي. ذكره ابنُ سعد في أول الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة (¬3). وكنيتُه أبو محمد، وكان ابنَ عشر سنين لما قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. ومات [أبوه] في طاعون عَمَوَاس بالشام سنة ثمان عشرة (¬4). وقيل: استُشهد باليرموك، فخلفَ عمرُ بنُ الخطاب رضوان الله عليه على امرأته فاطمة بنت الوليد أمِّ عبد الرحمن، وكان عبدُ الرحمن في حِجْر عمر - رضي الله عنه - وكان يقول: ما رأيتُ رَبِيبًا خيرًا من عمر بن الخطاب. روى عنه، وله دار بالمدينة كبيرة. وكان رجلًا شريفًا سخيًّا سيِّدًا فاضلًا، لم يكن في شباب قريش مثلُه. وشهدَ الجملَ مع عائشة رضوان الله عليها، وكانت تقول: لأَنْ [أكونَ] قعدتُ في منزلي عن مسيري إلى البصرة أحبُّ إليَّ من أن يكونَ لي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةٌ من الولد، كلُّهم مثلُ عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. ¬

_ (¬1) الأغاني 2/ 196، وجاء في حاشيته: المعنى: فإذا هو يُعجمُه، فالفاء للاستئناف، ولا يصحُّ نصبُه عطفًا. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 6/ 26، وينظر "الأغاني" 2/ 197. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 6. (¬4) المصدر السابق، وما بين حاصرتين منه، والترجمة ليست في (م). وعَمَوَاس: كُورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس. معجم البلدان 4/ 157.

وكان اسمُ عبد الرحمن إبراهيم، فغيَّره عمر - رضي الله عنه - لمَّا غيَّر أسامي الأنبياء (¬1)، فسمَّاه عبدَ الرحمن. وتوفي في خلافة معاوية بالمدينة في سنة تسع وخمسين. قال عبد الله بن عكرمة (¬2): دخلتُ على عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أعودُه، فقلت: كيف تجدُك؟ قال: أجدُني واللهِ في الموت، وما موتي بأشدَّ عليَّ من أمِّ هشام، أخافُ أن تتزوَّج بعدي. فحلَفَتْ [له] إنها لا تتزوَّجُ بعدَه، فغَشِيَ وجهَه نورٌ، ثم قال: الآن فلينزلِ الموتُ متى شاء. ومات. فلما انقضَتْ عِدَّتُها تزوَّجَتْ عمرَ بنَ عبد العزيز. قال ابن عكرمة: فقلت: فإنْ لَقِيَتْ خيرًا فلا يَهْنِئَنَّها ... وإنْ تَعِسَتْ فلليدينِ وللفمِ وبلَغَها ذلك، فكتبَتْ إليَّ تقول: قد بلغني ما تمثَّلتَ به، وما مَثَلي ومَثَلُ أخيك إلا كما قال الشاعر: وهل كنتُ إلا والهًا ذاتَ تَرْحَةٍ ... قَضَتْ نَحْبَها بعد الحنينِ الموجّع (¬3) فَدَعْ ذِكْرَ مَنْ قد وارَتِ الأرضُ شخصَهُ ... وفي غير مَنْ قد وارتِ الأرضُ فاطمعِ قال: فبلغَ ذلك منِّي كلَّ مَبْلَغ من الغيظ، فحسَبْتُ حِسابها، وإذا هي قد بقيَ عليها من عِدَّتها أربعةُ أيام، فدخلتُ على عُمر، فأخبرتُه، فانتقَضَ النكاح، وعُزل عن المدينة. ذكر أولاده (¬4): فولَدَ عبدُ الرحمن محمدًا الأكبر؛ لا بقيَّة له، وأبا بكر، وعُمر، وعثمان، وعكرمة، وخالدًا، ومحمدًا الأصغر، وحَنْتَمة (¬5)، وأمَّ حُجَيْن، وأمَّ حكيم، وسَوْدَة، ورَمْلَة؛ أمُّهم فاختة بنتُ عِنَبة (¬6) بن سُهيل بن عَمرو. ¬

_ (¬1) يعني تغيير أسماء من تسمَّى بأسماء الأنبياء. والكلام في "طبقات" ابن سعد 7/ 6، و"تاريخ دمشق" 9/ 901 (مصورة دار البشير). (¬2) عيون الأخبار 4/ 117 - 118، وتاريخ دمشق 9/ 952. (¬3) في "عيون الأخبار" 4/ 118: المرجَّع. (¬4) لم ترد هذه الفقرة في (م). (¬5) تحرفت اللفظة في (ب) و (خ) إلى: خيثمة. والكلام في "طبقات" ابن سعد 7/ 6. وينظر "توضيح المشتبه" 3/ 476. (¬6) في (ب) و (خ): عتبة، وهو تحريف، وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 6، و"توضيح المشتبه" 6/ 158.

وعيَّاشًا، وعبدَ الله؛ لا بقيَّة له، وأبا سلمة؛ هلك صغيرًا، والحارثَ؛ هلك ولا بقية له، وعائشةَ؛ تزوَّجَها معاويةُ بنُ أبي سفيان، وأمَّ سعيد، وأمَّ كلثوم، وأمَّ الزُّبير؛ أمُّهم أمُّ الحسن بنت الزُّبير بنُ العوَّام - رضي الله عنه -، وأمُّها أسماءُ بنتُ أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -. والمغيرةَ، وعَوْفًا، وزبنبَ، ورَيطَةَ، وفاطمةَ، وحفصةَ؛ أُمُّهم سُعْدَى بنتُ عَوْف بن خارجة، من بني مُرَّة. والوليدَ، وأبا سعيد، وأمَّ سَلَمة؛ تزوَّجها سعيدُ بنُ العاص بن سعيد بن العاص، وقُريبةَ؛ أُمُّهم أمُّ رَسَن بنت الحارث بن عبد الله بن الحُصَين، من بني كعب. وسَلَمةَ، وعُبيدَ الله، وهشامًا؛ لأمَّهات أولاد. وزينب و [يقال: بل] (¬1) اسمها مريم؛ أمُّها مريم بنتُ عثمان بن عفَّان رضوان الله عليه. وهم ثلاثة وثلاثون ولدًا، منهم سبعةَ عشرَ ذكرًا، وستَّ عَشْرَةَ أنثى. وفي فاختة بنت عِنَبة (¬2) وعبد الرحمن بن الحارث قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: زَوِّجُوا الشريدَ الشريدة -وكان (¬3) الحارث بن هشام وسُهيل بن عَمرو خرجا إلى الشام غازيَينِ بأهلهم، فماتوا كلُّهم، ولم يبقَ منهم سوى عبدِ الرحمن وفاختة- وقال: عسى اللهُ أن يَنْشُرَ منهما ولدًا كثيرًا رجالًا ونساءً. فكان كما قال (¬4). وكانت بناتُ عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرغوبًا فيهنَّ؛ قال ابنُ هَرْمَة: فمَنْ لم يُرِدْ مَدْحي فإنَّ قصائدي ... نَوافِقُ عند الأكرمين سوامي نَوافِقُ عند المشتري الحمدِ بالنَّدَى ... نَفَاقَ بناتِ الحارثِ بنِ هشامِ ورويَ أنَّ زينبَ بنتَ عبد الرحمن كانت جميلة، وكان يقال لها: الموصولة؛ لحُسْنِها؛ كأنَّ كل عُضْوٍ منها خُلِقَ على حِدَتِهِ، ثم وُصِلَتْ بعدُ. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "طبقات" ابن سعد 7/ 6، والكلام منه. (¬2) يعني فاختة بنت عِنبَة بن سُهيل بن عمرو، سلف ذكرها أول الفقرة. (¬3) لفظة: "وكان" من عندي؛ ووقع بدلها في (ب) و (خ): لابن. ولا يستقيم الكلام بها. (¬4) ينظر "تاريخ دمشق" 56/ 188، وقسم تراجم النساء منه ص 266 (طبعة مجمع دمشق).

بعثَ عبدُ الملك بنُ مروان إلى أخيها المغيرة ليُزوِّجَها منه، فلما قدم؛ نزلَ على يحيى بن الحَكَم عمِّ عبدِ الملك، فقال له: هل لك أن تُزوِّجَني زينبَ، وأُعطيَك أربعين ألفَ دينارٍ لنفسك، وعليَّ رضاها؟ قال: نعم. فزوَّجَه إياها، وأعطاه المال. وبلغ عبدَ الملك، فاستَقْضَى أموال عمِّه، فقال عمُّه: كعكتانِ وزينبُ (¬1). وكان سيِّدَ وَلَدِ عبد الرحمن أبو بكر، وأمُّه فاختة، وهو أحدُ الفقهاء السبعة الذين يُؤخذ عنهم العلم، من أهل المدينة، وكان يسمَّى الراهبَ؛ لعبادته واجتهاده وفضله. وكان أخوه المغيرة قد زَوَّجَ الحجَّاجَ بنَ يوسف، فهجره أبو بكر، فهجره بنو عبد الرحمن كلُّهم حيثُ هجَره أبو بكر. فأمَّا عكرمة بن عبد الرحمن؛ فوَلِيَ صدقاتِ سعد والرَّباب، وكان جَوادًا (¬2). ومن ولده هشامُ بنُ عبد الله بن عكرمة من وجوه قريش، وليَ قضاء المدينة لهارون الرشيد (¬3). فأما المغيرةُ بن عبد الرحمن؛ فكان جوادًا مِطْعامًا؛ كان ينحر في كل يوم جَزُورًا، وفي كل يوم جمعة جزورين؛ يُطعمُ الناس. وكان له مالٌ بالمدينة، فكان ابن هشام بن عبد الملك يُساومُه فيه بأُلوف، وهو يأبى بيعَه، فاتَّفق أنَّ المغيرةَ خرج مع ابن هشام إلى أرض الروم في غَزاة، فأصابت الناسَ مجاعةٌ شديدة، فقال له المغيرة: المالُ الذي كنتَ تطلبُ بيعه مني قد سمحتُ لك به. فباعَه منه بعشرين ألف درهم (¬4)، فأطعمَ بها الناسَ. فلما رجع ابنُ هشام من غَزاته وقد بلغ أباه الخبرُ؛ قال لابنه: قَبَّحَ اللهُ رأيَك. أما تستحي وأنت أميرُ الجيش وابنُ أمير المؤمنين تُصيبُ الناس معك مجاعةٌ؛ فلا ¬

_ (¬1) نسب قريش ص 307، والأغاني 16/ 275، وتاريخ دمشق ص 118 - 119 (تراجم النساء، طبعة مجمع دمشق). وذكر صاحب "الأغاني" أيضًا ليحيى بن الحكم قوله: ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهرُ ... إذا بقيتْ لي كعكتان وزينبُ (¬2) ذكره ابن سعد في "الطبقات" 7/ 207. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 600. (¬4) في "مختصر تاريخ دمشق" 25/ 189: اشترى نصفه بعشرين ألف دينار.

قيس بن سعد

تُطعمهم، ومعك رجل من عُرض الناس يبيع عقاره وما كان يعزُّ عليه ويطعم الناس ولا يهون عليك؟ ! وأصيبت عينُ المغيرة في سبيل الله. أسندَ عبدُ الرحمن بن الحارث عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، وروى عن أبيه الحارث أنَّه قال: قلتُ: يا رسول الله، مُرْني بأمرٍ أعتصمُ به. فقال: "امْلِكْ عليك لِسانَك". قال: فرأيتُ أنَّ ذلك يسيرًا، ولم أَفْطَنْ له، فلمَّا رُمْتُه إذا لا شيءَ أشدُّ منه (¬1). وقيل: إنه لم يبقَ من ولد الحارث إلا عبد الرحمن، وأمُّ حكيم زوجةُ عكرمة بن أبي جهل. قيس بنُ سَعْد ابنِ عُبادة بن دُلَيْم (¬2) بن حارثة الأنصاري، من الطبقة الثالثة من الأنصار من بني ساعدة (¬3). وكنيتُه أبو عبد الملك، وقيل: أبو عبد الله، وأمُّه فُكيهة بنت عُبيد بن دُلَيم بن حارثة. قال قيس: إنَّ أباه دَفَعَه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[يخدمُه]. قال: فخرج عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد صلَّيتُ ركعتين، واضطجعتُ، فضربَني برجله وقال: "ألا أدلُّك على بابٍ من أبواب الجنة؟ ". قلت: بلى. قال: "لا حول ولا قوَّة إلا بالله" (¬4). قال الواقدي: كان قيس بنُ سعد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الشُّرَط من الأمير (¬5). ¬

_ (¬1) المعجم الكبير للطبراني (3348) (3349)، والمحدِّث الفاصل (616)، والاستيعاب ص 152 (ترجمة الحارث بن هشام). (¬2) في النسختين (ب) و (خ): دلهم (وكذا في الموضع الآتي)، وهو خطأ. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 369. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 369 (وما بين حاصرتين منه). وأخرجه أيضًا أحمد (15480)، والترمذي (3581)، والنسائي في "الكبرى" (10115). (¬5) تاريخ دمشق 59/ 108 و 109 (طبعة مجمع دمشق). وأخرجه البخاري في "صحيحه" (7155) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

وكان شجاعًا جوادًا؛ بعثَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عِدَّةٍ من السَّرايا، وكان يُثني عليه ويقول: "هو من بيت الجود" (¬1). وكان قيس من أمراء عليٍّ - عليه السلام -؛ لم يزل محافظًا على مودَّته مجاهدًا بين يديه إلى أن صالحَ الحسنُ - رضي الله عنه - معاوية. قال عروة: كان قيس بنُ سعد مع عليٍّ - عليه السلام - في مقدمته، ومعه خمسةُ آلاف قد حلقُوا رؤوسَهم بعد ما ماتَ عليّ، فلما دخلَ الحسنُ - رضي الله عنه - في بيعة معاوية، أَبَى قيس أن يدخلَ معه، وقال لأصحابه: إنْ شئتُم (¬2) جالدْتُ بكم أبدًا حتى يموت الأعجل، وإن شئتُم أخذتُ لكم أمانًا. فقالوا: خُذْ لنا أمانًا. فأخَذَ لهم أمانًا أنَّ لهم كذا وكذا، ولا يُعاقَبُون بشيء، وأنا رجل منهم. وأبي أنْ يأخذَ لنفسه خاصةً شيئًا. فلما ارْتَحلُوا نحو المدينة ومعه أصحابه؛ جعل ينحرُ لهم كلَّ يوم جَزُورًا حتى بلغوا صِرَار (¬3). وقال أبو نُعيم: قيس بن سعد خادمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصاحبُه، وصاحبُ لوائه. وقال أنس بن مالك: خدمَ قيسٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجود لَمَّا نحرَ الجزائر في السَّريَّة التي كان فيها. وقال موسى بن عقبة: كان قيس ينحرُ في اليوم أربعين جَزُورًا. وجاءَتْه عجوزٌ، فقال لها: كيف حالُكِ؟ فقالت: ما في بيتي فأرة! فقال لها: لقد ألطفتِ في المسألة، لأَملأنَّ بيتكِ فأرًا. فملأ بيتَها من التمر والدقيق والدراهم. وقال هشام بن عروة (¬4): باع قيس مالًا له بالمدينة من معاوية بسبعين ألفًا (¬5)، فأمر مناديًا، فنادى في المدينة: مَنْ أرادَ القرضَ فليأتِ منزلَ سعد بن عبادة، فأقرض خمسين ألفًا، وأجاز بالباقي، فمرض، فقلَّ عُوَّادُه، فقال لزوجته قُرَيبة بنت أبي قحافة ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 371، و"تاريخ دمشق" 59/ 112 - 114. (¬2) في (ب) و (خ): شئت (وكذا في الوضع الآتي). والمثبت من "طبقات" ابن سعد 5/ 371. (والترجمة ليست في م). (¬3) هو موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق. ينظر "معجم البلدان" 3/ 398. والخبر في "طبقات" ابن سعد 5/ 371 - 372، وأخرجه ابن عساكر من طريقه 59/ 130 - 131 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) في "تاريخ دمشق" 9/ 119: هشام بن عروة عن عروة. (¬5) في "تاريخ دمشق": بتسعين ألفًا.

مصقلة بن هبيرة

أختِ أبي بكر رضوان الله عليه: يا قُريبة، ما تَرَينَ قِلَّة عُوَّادي؟ فقالت: للذي لك عليهم من الدَّين. وكان قد كتب له صِكاكًا. فقال: أخزى الله مالًا يمنعُ الإخوان من الزيارة. فأرسل إلى كلِّ رجلٍ بصَكِّه الذي له عليه، ثم أمرَ مناديًا ينادي: من كَان لقيس عليه دين فهو حِلّ. قال: فكُسِرتْ عتبةُ بابِه من العشيّ من عِيادتِه! . قال الواقدي: رجع قيس إلى المدينة، فلم يزل بها حتى توفي في آخر خلافة معاوية. ولم يذكر له ولدًا. أسند قيس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. مَصْقَلَة بن هُبيرة (¬1) الشيبانيّ، كان مع أمير المؤمنين - عليه السلام -، فنافق ومضى إلى معاوية، وكان أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه - محسنًا إليه، ولما خرجَ إلى الشام قال: قضى وطَرًا منها عليٌّ فأصبحَتْ ... إمارتُه فينا أحاديثَ راكبِ وكانت له بالكوفة دار، فهدمَها عليٌّ رضوان الله عليه. ولَمَّا صار مَصْقَلَة إلى معاوية أرسل رجلًا نصرانيًّا ليأخذ عياله من الكوفة إلى الشام، فعلم به عليٌّ رضي الله عنه، فقطع يدَه. ولما استُشهد علي رضي الله عنه ولَّاه معاوية طبرستان، فمات بها، فضُرب به المَثَل، فقيل: حتى يرجع مَصْقَلَة من طبرستان. وله عقب بالكوفة (¬2). مَعْقِل بنُ يسار (¬3) ابن عبد الله بن مُعَبِّر (¬4) بن حَرَاق، أبو عبد الله المُزني، من الطبقة الثالثة من المهاجرين الذين نزلوا البصرة، وبنى بها دارًا. ¬

_ (¬1) هذه الترجمة من (خ) فقط، فقد وقع خرم في (ب) يبدأ عند قوله في ترجمة قيس بن سعد؛ ولا يعاقبون بشيء وأنا رجل منهم (الصفحة السابقة). . . وينتهي قبل ترجمة بلال بن الحارث (في أحداث السنة الستين). (¬2) ترجمته في "تاريخ دمشق" 67/ 400 - 408 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) هذه الترجمة من (خ) فقط. (¬4) ويقال فيه: مِعْبر، بالكسر والسكون. ينظر "توضيح المشتبه" 8/ 193.

وهو صاحب نهر معقل؛ أمره بحفره عمرُ بن الخطاب رضوان الله عليه، فحفره، ومات بالبصرة في آخر [خلافة] معاوية بن أبي سفيان، وإليه يُنسب الرُّطَب المَعْقِليّ (¬1). أسندَ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال الإمام أحمد رحمه الله (¬2): حدثنا إسماعيل، عن يونس، عن الحسن، أن مَعْقِلَ بنَ يسار اشتكى، فدخل عليه عُبيد الله بنُ زياد يعوده، فقال له: أما إني سأُحدِّثُك حديثًا لم أكن حدَّثْتُك به، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يسترعي اللهُ عبدًا رعيَّة؛ فيموت يوم [يموت] وهو لها غاشٌّ؛ إلا حرَّمَ اللهُ عليه الجنة". أخرجاه في الصحيحين (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 149، و"المنتظم" 5/ 318 - 319. (¬2) مسند أحمد (20291) وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬3) صحيح البخاري (7150) (7151)، وصحيح مسلم (142).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [8]

السنة الستون

السنة الستُّون فيها أخذَ معاويةُ بنُ أبي سفيان البيعةَ لابنه يزيد على الوفد الذين وفدوا من البصرة مع عُبيد الله بن زياد حين مرض معاوية. قال أبو مخنف: لما مرض معاويةُ مرضَه الذي مات فيه؛ دعا ابنَه يزيد، فقال له: يا بنيّ، إني قد كفيتُك الرجال (¬1)، ووطَّأتُ لك الأشياء، وذلَّلتُ لك الأعداء، وأخضعتُ لك أعناقَ العرب، وإني لا أتخوَّفُ عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي استتبَّ إلا أربعةَ نفر من قريش: الحُسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزُّبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر (¬2). فأمَّا الحُسين؛ فإنَّ أهل العراق لن يَدَعُوه حتى يُخرجوه، فإنْ خرجَ عليك فظَفِرتَ به؛ فاصْفَحْ عنه، فإنَّ له رَحِمًا ماسَّة، وحقًّا عظيمًا. وأمَّا ابنُ عمر؛ فإنه رجلٌ قد وقَذَتْه العبادة، وإذا لم يبق أحدٌ غيرُه؛ بايَعك. وأمَّا الذي يجثُم لك جُثُومَ الأسد، ويراوغُك رَوَغان الثعلب، فإذا أمكَنَتْهُ فُرصةٌ وثبَ، فابنُ الزُّبير، فإن هو فعلَها بك، وأمكنَتْك منه فُرصة وَقَدَرْتَ عليه؛ فقَطِّعْه إرْبًا إرْبًا. وأما عبد الرحمن بنُ أبي بكر؛ فليست له هِمَّة إلا في اللهو؛ إذا رأى أصحابَه صنعوا شيئًا صنعَ مثلَه (¬3). ثم مات في رجب، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 322، "المنتظم" 5/ 320: كفيتك الرحلة والترحال. (¬2) أورد ابن كثير في "البداية والنهاية" 11/ 391 الخبر وقال: الصحيح أن عبد الرحمن كان قد توفي قبل موت معاوية بسنتين. (¬3) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 322 - 323، و"المنتظم" 5/ 320 - 321.

الباب الثاني في ذكر يزيد بن معاوية

الباب الثاني في ذكر يزيد بن معاوية وكنيتُه أبو خالد: ومات معاوية ويزيدُ غائبٌ عن دمشق، فلما قدم لم يكن له همٌّ إلا بيعةُ النَّفَر الذين سمَّاهم له أبوه، فأقرَّ عُبيدَ الله بنَ زياد على البصرة، والنعمان بنَ بشير على الكوفة، وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكة عَمرو بن سعيد بن العاص. فكتب إلى الوليد بن عُتبة كتابًا يعرِّفه فيه بمعاوية؛ يقول: أمَّا بعد، فإن معاويةَ كان عبدًا من عباد الله، استخلفَه مدَّةً، فعاشَ بقَدَر، ومات بأَجَل، فرحمه الله، فقد عاش حميدًا، ومات فقيدًا (¬1). والسلام. وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن فأرة: أمَّا بعد، فخذ حُسَينًا، وابنَ عُمر، وابنَ الزُّبير بالبيعة أخذًا شديدًا ليست فيه رُخْصة. والسلام (¬2). وبعث بالكتاب مع عبد الله بن عمرو بن أويس أحد بني عامر بن لؤي، فقرأ الوليد كتاب يزيد بن معاوية وبكى، وترحَّم عليه، ثم استدعى مروانَ بنَ الحَكَم من بيته، وكان منقطعًا عنه؛ لأن الوليدَ لما ولَّاه معاويةُ المدينةَ عزَّ على مروانَ عزلُه عنها، فكان يتردَّد إلى الوليد متكارهًا، وعرفَ الوليدُ ذلك، فنال من مروان عند جلسائه، وبلغ مروانَ، فصارمَه، وأقامَ في بيته. فلما جاء كتاب يزيد بنعي معاوية والبيعةِ له؛ فَزعَ الوليدُ، وخافَ من موت معاوية وأخذِ البيعة على من سمَّاهم يزيد، فعند ذلك احتاج إلى رأي مروان، فأحضرَه وقال له: ما الرأي؟ قال: أن تبعثَ الساعةَ إلى هؤلاء النَّفَر فتدعوَهم إلى البيعة، فإنْ بايعوا، وإلَّا فاضربْ أعناقَهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فيصير كلُّ واحد منهم إلى قُطْر، فيغلب عليه، ويدعو إلى نفسه، إلَّا ابنَ عمر، فإنَّه لا يرى القتال، ولا الولاية على الناس، إلا أن يُدفعَ إليه هذا الأمر عفوًا، أو يدفع عن نفسه (¬3). ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 4/ 332، و"تاريخ" الطبري 5/ 338: ومات برًّا تقيًّا. (¬2) المصدران السابقان. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 333، وتاريخ الطبري 5/ 338 - 339.

فأرسل الوليدُ عبدَ الله بنَ عمرو بن عثمان، فقال: اذهب فائتني بالحسين وابنِ الزُّبير. وعبدُ الله يومئذ غلامٌ حَدَث، فجاء إلى المسجد، فوجدَهما فيه، فقال: إن الأمير يدعوكما. فقالا: انصرف، فنحن نأتيه. ثم قال ابنُ الزُّبير للحسين: وما يُريدُ منَّا في هذه الساعة التي لم يكن له عادةٌ بالجلوس فيها؟ ! فقال الحسين: أظنُّ أنَّ طاغيتَهم قد مات، فبعثَ إلينا ليأخذ البيعةَ علينا قبل أن يفشوَ الخبر في الناس. فقال ابن الزُّبير: هو ذلك، فما تريد أن تصنع؟ قال: أجمعُ مواليَّ وخاصَّتي، وأمضي إليه فأُجلِسُهم على الباب وأدخلُ عليه. فقال: أخافُ عليك. قال: لا تخف. ثم جمع فتيانه ومواليَه وقال: اقعُدوا على الباب، فإن دعوتُكم، أو سمعتُم صوتي قد علا فادخلُوا (¬1). ثم جاء فدخل على الوليد ومروانُ عندَه، وسلَّم وكأنَّه لا يظنُّ أن معاويةَ قد مات، وقال: الصلةُ خيرٌ من القطيعة، والصلحُ خيرٌ من الفساد، وقد آنَ لكما أن تجتمعا، أصلحَ اللهُ ذاتَ بينِكما. فلم يجيباه في هذا بشيء، وألقى الوليدُ إليه كتابَ يزيد وقال: بايع. فقال: مِثْلي لا يبايعُ سرًّا؛ إذا أظهرتَ [موتَ] معاوية (¬2)، ودعوتَنا علانيةً مع الناس؛ بايَعْنا، وكان الأمر واحدًا. فقال له الوليد، وكان يحبُّ العافية: انصرفْ على خِيرة الله تعالى حتى تأتيَنا مع جماعةِ الناس. فقال له مروان: واللهِ لئن فارقَك الساعةَ ولم يبايعْ لا قَدَرْتَ منه على مثلِها حتى تكثرَ القتلى بينكما، مُرْهُ بالبيعة، فإن أبي فاضربْ عنقَه. فوثبَ عند ذلك الحُسين - رضي الله عنه - وقال: يا ابن الزَّرْقاء، أنتَ تقتلني أو هو؟ ! كذبتَ واللهِ وأثمتَ. ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها فقط): (فإن دعوتكم فادخلوا وسمعتم صوتي فدعا. . .) كذا وقع الكلام فيها غير مجوَّد، ووقع فيها أيضًا أخطاء أخرى لم أثبتها لئلا تطول الحواشي بما لا فائدة فيه. وينظر "تاريخ" الطبري 5/ 339، و"المنتظم" 5/ 323، والمثبت مستفاد منه. (¬2) ما بين حاصرتين من عندي لصحة السياق. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 336، و"تاريخ" الطبري 5/ 339 - 340، و"المنتظم" 5/ 323.

ثم خرج الحسين - رضي الله عنه - إلى بيته، فقال مروان للوليد: واللهِ لا يمكِّنك من مثلها من نفسه أبدًا. فقال له الوليد: ويحك يا مروان، اخترتَ التي فيها هلاكُ ديني، واللهِ ما أُحبُّ أنَّ لي ما طَلَعَتْ عليه الشمس وغربَتْ وأني قتلتُ حُسينًا، سبحان الله! أَقتلُ حُسينًا أنْ قال: لا أُبايع! واللهِ إني لا أحسبُ أنَّ امرأ يُحاسَبُ يوم القيامة بدم الحسين إلا خفيفَ الميزان عند الله. وجعل يردّد الكلام. فقال له مروان: أصَبْتَ. وفي قلبه ما فيه (¬1). وأمَّا ابنُ الزُّبير؛ فأتى دارَه، فأقامَ بها، فأرسلَ إليه الوليد، وألحَّ عليه، وهو يقول: أَمْهِلُوني. فألحُّوا عليه، وشتمه موالي العبيد وقالوا: يا ابنَ الكاهلية، واللهِ لئن لم تأتِ الأمير، لَيقْتُلَنَّك. فبعثَ ابنُ الزبير أخاه جعفرًا إلى الوليد، فقال: كُفَّ عن أخي، فقد أفْزَعْتَه، وغدًا يأتيك. فكَفَّ عنه، وكان الوليد كافًّا عن الحسين - رضي الله عنه -. وخرج ابنُ الزُّبير من ليلته، فأخذ على طريق الفُرْع ومعه أخوه جعفر؛ ليس معهما ثالث، وتجنَّبُوا الطريقَ الأعظم خوفًا من الطلب، وقصدا مكة، فبينا (¬2) ابنُ الزبير يُساير أخاه جعفرًا تمثَّل جعفر بقول [ابن] نُوَيرة (¬3) الحنظلي: وكلُّ بني حَوَّا (¬4) سَيُمْسُونَ ليلةً ... ولم يَبْقَ من أعقابِهم غيرُ واحدِ فقال عبد الله: يا أخي (¬5)، ما أردتَ بهذا؟ كأنَّه تطيَّر منه. فقال: واللهِ ما أردتُ إلا الخير، وإنما هو شيءٌ جرى على لساني من غير تعمُّد. ¬

_ (¬1) ينظر الخبر في المصادر الثلاثة المذكورة. (¬2) في (خ) (والكلام منها): فبدأ، بدل: فبينا، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 341. (¬3) في (خ) (والكلام منها): نميرة، والتصويب من "أنساب الأشراف" 4/ 334، ولفظة "ابن" منه، وهو مُتَمِّم بن نُوَيْرة، ووقع في "تاريخ" الطبري 5/ 341: تمثل جعفر بقول صبرة. . .، وبنحوه في "البداية والنهاية" 11/ 468. (¬4) في المصادر المذكورة، وفي "الأغاني" 15/ 312: وكلُّ بني أمٍّ. والبيت قاله متمّم في رثاء أخيه مالك بن نُويرة. (¬5) اضطربت العبارة في (خ) (والكلام منها فقط)، فجاء فيها لفظ: فرحم الله عبد الله وقال يا ابن أخي. . . (؟ ) وأثبتُّ ما لا بدّ منه للسياق. وتنظر مصادر الخبر المذكورة قبل تعليق.

وكان مخرجُ ابن الزُّبير ليلة السبت لثلاث بقين من رجب، سنة ستين قبل مخرج الحسين - رضي الله عنه - بليلة، وبعثَ الوليدُ في أثرِه الرجال، فلم يقدروا عليه، واشتغلوا به عن الحسين، فخرَج الحسين - رضي الله عنه - ليلةَ الأحد بأهله ومواليه وإخوتِه وبني أخيه، وجميعِ أهل بيته إلا محمد بن الحنفية، فإنه لم يخرج معه وقال له: يا أخي، أنتَ أحبُّ الناسِ كلِّهم إليَّ، وأعزُّهم عليَّ، وأنت أحقّ بالنصيحة من سائر الناس، تنحَّ ببيعتك (¬1) عن يزيد بن معاوية عن (¬2) الأمصار ما استطعت، ثم ابعَثْ رُسُلك إلى الناس، فادْعُهم إلى نفسك، فإنْ بايعوك؛ حَمِدْتَ الله، وإن أجمعوا على غيرك لم يَنْقُصْ ذلك دينَك ولا عقلَك، ولا تذهبُ مروءتُك ولا فضلُك، وإني أخافُ أن تدخل مصرًا من الأمصار، أو تأتيَ جماعة من الناس، فيختلفون، فطائفةٌ معك، وأخرى عليك، فيقتتلون، فتكون لأوَّل الأَسِنَّة، فإذا خيرُ هذه الأمة نَفْسًا وأبًا وأُمًّا أضْيَعُها دمًا، وأذلُّها أهلًا! فقال له الحسين - رضي الله عنه -: يا أخي فإني نازلٌ مكةَ. فقال: نعم، فإن اطمأنَتْ بك الدار فنَعَمْ، وإنْ نَبَتْ بك؛ لَحِقْتَ بالرِّمال، وشَعَفِ (¬3) الجبال، وخرجتَ من مكان إلى مكان، حتى تنظر إلى ما يصيرُ أمرُ الناس. فقال: جزاك اللهُ يا أخي خيرًا، فلقد نَصَحْتَ وأشْفقْتَ، وأرجو أن يكون رأيُك موفَّقًا إن شاء الله تعالى. وقال أبو سعيد المَقْبُرِيّ: رأيتُ الحُسين داخلًا مسجد المدينة معتمدًا على رجلين، وهو يتمثَّل بقول ابنِ مُفَرِّغ: لا ذَعَرْتُ السَّوامَ (¬4) في فَلَق الصُّبْـ ... ـحِ مُغِيرًا ولا دُعيتُ يَزِيدا يومَ أُعْطِي من المَهابَةِ ضَيمًا (¬5) ... والمنايا يَرْصُدْنَني أن أَحِيدا ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 341: بتبعتك. (¬2) في "تاريخ" الطبري: وعن. (¬3) في (خ) (والكلام منها): وشققت الجبال. والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 337، و"تاريخ" الطبري 5/ 341. وشَعَفُ الجبال: أعلاها، جمع شَعَفَة. (¬4) في (خ): لا دعوت السَّوَام، والمثبت من "أنساب الأشراف" 2/ 461، و 4/ 337، و"تاريخ" الطبري 5/ 342، وينظر "الأغاني" 18/ 253 و 287. والسَّوام: الإبل الراعية. (¬5) في "أنساب الأشراف"، و"الأغاني": يوم أعطي مخافة الموت ضيمًا.

فقلت في نفسي: والله ما تمثَّل بهذين البيتين إلا لأمرٍ يُريده، فما مكثَ إلا يومين حتى خرجَ إلى مكة. قال أبو مخنف (¬1): ولَمَّا خرج إلى مكة قرأ قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَال رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21]. ولما دخل مكة قرأ قوله تعالى: {قَال عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]. ولما خرج الحسين رضوان الله عليه من المدينة لقيه عبدُ الله بنُ مطيع، فقال له: إلى أين يا أبا عبد الله؟ جُعلتُ فداك، فقال: إلى مكة. فقال له: إياك وأهلَ الكوفة، فإنها مَدَرَة مشؤومة (¬2)، قتلَ أهلُها أباك، وخَذَلُوا أخاك، فالحزمَ الحزمَ، فإنك سيِّدُ العرب، ولن يعدلَ بك أهلُ الحجاز أحدًا. وسيتداعى الناس إليك من كل جانب، فلا تفارقْ حرمَ الله تعالى، فواللهِ لئن هلكتَ لَنُسْتَرَقَنَّ بعدَك كلُّنا. وأما ابنُ الزبير فإنه سبق الحسين إلى [مكة]، وبها عَمرو بنُ سعيد الأشدق، فبعث إليه عَمرو فقال: ما الذي أقدمك؟ فقال: جئتُ عائذًا بالبيت. فكان ناحية عن الناس لا يصلِّي بصلاتهم، ولا يقفُ معهم (¬3). وأقبل الحسين - رضي الله عنه - بعدَه بيومين، فنزل مكة، وأقبلَ الناس يُهرعون إليه من كلّ مكان، وابنُ الزُّبير قُدَّامَ البيت يصلّي عندَه عامَّةَ النهار، ويطوفُ بالبيت، ويأتي الحسينَ - رضي الله عنه - كلَّ يوم يُسَلِّمُ عليه، وعَمرو بن سعيد كافٌّ عنهما. وبعث الوليد إلى ابن عمر، فقال له: بايع ليزيد، فقال: إذا بايع الناسُ بايعتُ. فتركوه لأنهم كانوا يأمنونه (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 343. (¬2) جاء في (خ): سوية (؟ ) بدل: مشؤومة. (والكلام من ح فقط). والمثبت من (3) أنساب الأشراف 2/ 461، و"تاريخ الطبري" 5/ 351، و"المنتظم" 5/ 327. والمَدَرَة: القرية المبنيّة بالطَّين واللبِن، وهي هنا بمعنى مدينة. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 335، وتاريخ الطبري 5/ 343. (¬4) المصدران السابقان.

ولما خرجَ ابنُ الزُّبير من المدينة عَمَدَ الوليد بنُ عتبة إلى كلِّ مَنْ كان هواهُ مع ابن الزبير فحبسه، كعبد الله بن مطيع العَدَويّ، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهما، فكلَّمه فيهم ابنُ عمر -رضي الله عنهما-، فأَبى أن يطلقهم (¬1)، فمضى شيبان العدويّ، فأطلقهم من الحبس، فلحقُوا بابن الزبير (¬2). وفيها عَزَلَ يزيدُ الوليدَ بنَ عُتبة عن المدينة في شهر رمضان، وأمَّر عليها عَمْرَو بنَ سعيد الأشدق (¬3). وسببُ عزله أن مروان كتب إليه يُخبره بما جرى بينَه وبينَ الوليد في أمر الحسين وابن الزُّبير، وكثَّر عليه مروانُ رجاء أن يولِّيَه يزيد المدينة، وكان يزيدُ يكرهُ مروانَ وأولادَه، فولَّى عمرَو بن سعيد، فقَدِمَها في رمضان، وكتب يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يدعُوه إلى البيعة، ويقول: أُذكِّرُكَ اللهَ في نفسك، فإنَّك ذو سِن في قريش، وقد مضى لك سَلَفٌ صالح، وقَدَمُ صدقٍ من عبادةٍ واجتهاد، فادْخُلْ فيما دخل فيه الناس، ولا تُرْدِهِم في فتنة، فتُحلَّ ما حرَّم الله تعالى. وكتب في أسفل الكتاب: لو بغيرِ الماءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كنتُ كالغَصَّانِ بالماء اعتصاري (¬4) فلما وقفَ ابنُ الزُّبير على كتابه، كتب إليه: أمَّا بعد، فاجْعَلْها شُورى بين المسلمين. وأغلظَ له في العبارة، وقال: كيف أُبايعُ من يشربُ الخمرَ، ويلعبُ بالقرود، ويأتي أمهات أولاد أبيه؟ ! ونحو ذلك. فغضبَ يزيد، وحلف لا يقبلُ له بيعةً حتى يُؤتى به في جامعةٍ (¬5). فقال ابن الزبير: لا أَبَرَّ الله قَسَمَه. ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 335 - 336. (¬2) لم أقف على هذا الكلام في المصادر، ولم أعرف شيبان العدويّ، وتتمة الخبر في "أنساب الأشراف" 4/ 336 أن ابن عمر انصرف، واجتمع فتية من بني عدي، فانطلقوا حتى اقتحموا على ابن مطيع وهو في السجن، فأخرجوه، فلحق بابن الزبير، ثم رجع بعد فأقام بالمدينة. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 341، وتاريخ الطبري 5/ 343، والمنتظم 5/ 324. (¬4) أنساب الأشراف 4/ 337 - 338، والبيت لعدي بن زيد، تمثل به يزيد. وهو في "الأغاني" 2/ 114. (¬5) أي: غُلّ، يَجمع اليدين إلى العنق.

ولا أَلِينُ لِغيرِ الحقِّ أَسْأَلُهُ (¬1) ... حتى يلينَ لِضِرْسِ الماضِغِ الحَجَرُ وكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد: جَهِّزْ جيشًا لغزو ابنِ الزُّبير. وكان الحارثُ بنُ خالد المخزومي على الصلاة بمكة من قِبَلِ عمرو بن سعيد، فمنَعَه ابنُ الزُّبير، فكتبَ الحارثُ إلى عمرو: ابعث لي جيشًا أقاتل ابنَ الزبير. وكان عمرو بن سعيد لما قَدِمَ المدينةَ ولَّى شُرَطَتَه عمرَو بنَ الزُّبير، لِما كان يعلمُ ما بينه وبين أخيه عبدِ الله من البغضاء، فضربَ عَمرُو بنُ الزُّبير كل من كان يَهْوَى هوى ابنِ الزبير، وكان مِمَّن ضربَ المنذرُ بنُ الزبير، وابنُه محمد بنُ المنذر، وعبدُ الرحمن بن الأسود بن عَبْد يغوث، وعُثمان بنُ عبد الله (¬2) بن حكيم بن حِزام، وخُبيبُ بنُ عبد الله بن الزبير، ومحمدُ بنُ عمَّار بن ياسر، فضربَهم من أربعين إلى خمسين، وهربَ منه عبد الرحمن بن عثمان التميمي، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل في أناس إلى مكة. فاستشار عَمرو بن سعيد [عمرَو] بنَ الزُّبير وقال: مَنْ نُوَجِّهُ إلى أخيك؟ فقال: ما توجِّهُ إليه رجلًا أَنْكَى له مني. فجهَّزه إليه في جمع كثير، وقدَّمَ في مقدِّمته أُنيس بن عَمرو الأسلمي في سبع مئة، فعسكر بالجُرْف. فجاء مروانُ إلى عَمرو بن سعيد، فقال له: اتَّقِ اللهِ، ولا تَغْزُ مكَّة وتُحلَّ حُرْمَةَ البيت، ودَعُوا ابنَ الزُّبير، فقد أَسَنَّ، وله بضعٌ وستون سنةً، وهو رجلٌ لَجُوجٌ، واللهِ لئن لم تقتلوه لَيموتَنَّ. فقال عَمرو بنُ الزُّبير: واللهِ لنُقاتِلَنَّه ولنَغْزُوَنَه في جوف الكعبة على رغم أنف مَنْ زعم. فقال مروان: واللهِ إني لَيَسُوؤني ذلك. وسار أُنيس بن عَمرو الأسلمي حتى نزل بذي طُوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأَبْطَح، وأرسلَ عَمرو إلى أخيه عبدِ الله: بُرَّ يمين الخليفة، وتعال أَجْعلْ في عنقك جامعةً من فضة، واتَّقِ اللهَ، ولا تَرْمِ بعض الناس ببعض، فأنتَ في بلدٍ حرام. وقال عبد الله بن الزُّبير: موعدك المسجد. وأرسلَ عبدُ الله بنُ الزُّبير عبدَ الله بنَ ¬

_ (¬1) وقع بدلَ الشطر الأول من البيت في (خ) (والكلام منها وحدها) لفظ: واللهِ لا أَلينُ لغير الحق. والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 344، وهو في "الأخبار الطوال" للدينوري ص 262 بلفظ: ما إن ألينُ. . . وسيُعيده المصنف قريبًا مع بيت آخر، وينظر "تاريخ" الطبري 5/ 476. (¬2) في (خ): عبد الرحمن، والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 347، و"تاريخ" الطبري 5/ 344.

صفوان الجُمحي إلى أُنيس من قِبَل ذي طُوى -وكان قد اجتمع إلى [ابن] صفوان قومٌ ممن نزلَ حول مكة- فقاتَلُوا أُنيس بنَ عمرو فانهزمَ، وأقبلَ عَمرو بنُ الزُّبير، فقاتله جماعةٌ من أصحاب عبدِ الله، فهزمُوه، وتفرَّق عنه أصحابُه، فدخل دارَ علقمةَ، فأتاه عُبيدة بن الزُّبير، فأجارَه، وجاء إلى أخيه عبدِ الله فقال: قد أجَرْتُ عَمرًا. فقال له ابنُ الزُّبير: أتُجِيرُ من حقوق الله؟ هذا ما لا يصلح (¬1). وروى الواقدي هذه القصة من طريق آخر عن أبي الجَهْم قال: بعثَ يزيد بن معاوية جامعةً من فضَّة، فيها سلسلة من فضَّة، وقال لعمرو بن سعيد: قد حلفتُ لا أقبلُ بيعةَ ابنِ الزبير حتى تجعلَ هذه في عنقه ويُؤتى به إليّ. فلما مرُّوا بهما في المدينة قال مروان متمثّلًا ببيت من شعر العبَّاس بن مِرْداس السّلمي: فخُذْها فليسَتْ للعزيزِ بخُطَّةٍ ... وفيها مقالٌ لامْرِئٍ مُتَذَلِّلِ (¬2) وقبله بيتٌ آخر، وهو: أعامرُ إنَّ القومَ ساموكَ خُطَّةً ... ومالكَ في الجيران عنها بمعدلِ (¬3) ووصل البريد إلى ابن الزُّبير (¬4)، فقال: قبَّح اللهُ يزيد الصُّيود، يزيد القُرود والخمور. وبلَغَه شعرُ مروان، فقال: واللهِ لا كنتُ أنا ذلك المُتَذَلِّل، ارْجعْ إلى من بَعَثَك خاسرًا، لا وَفَى اللهُ بنذره. فقال أبو دَهْبَل الجُمَحِيّ (¬5): ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 5/ 344 - 345 (والكلام فيه): من حقوق الناس. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 348 - 350. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 346، 476، و"شرح ديوان الحماسة"، للمرزوقي 1/ 227. وفي "أنساب الأشراف" 4/ 339: فليست للعزيز مذلّة. وفيه في 4/ 347: فليست للعزيز بسنَّة. وزاد فيه في الموضع الأول رواية: لامرئ متضعِّفِ. (¬3) في "تاريخ" الطبري 5/ 346: ومالك في الجيران عَذْلُ معذّلِ. (¬4) وقع في (خ) (والكلام منها): ووصل الزبير إلى ابن الزبير بها (؟ ) وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 339. (¬5) هو وَهْب بن زَمْعَة، من بني جُمح، قال الشعر في آخر خلافة علي - رضي الله عنه -، ومدح معاوية وعبد الله بن الزبير، ووليَ لابن الزبير بعض أعمال اليمن. مات سنة (63). ينظر "الشعر والشعراء" 2/ 614، و"الأغاني" 7/ 114.

لا يَجْعَلَنَكَ في غُلٍّ وسِلْسِلَةٍ ... كيما يقالُ (¬1) أتانا وهو مَغْلُولُ بين الحواريِّ والصِّدِّيقِ ذو نَسَبٍ ... ضافٍ وسيفٍ على الأعداء مسلولُ فأنشد عبد الله بن الزُّبير: إنِّي لَمِنْ نَبْعَةٍ صُمٌّ مَكاسِرُها ... إذا تناوحتِ القَصْباءُ والعُشَرُ (¬2) فلا أَلِينُ لغيرِ الحقِّ أسألُهُ ... حتى يلينَ لِضِرْسِ الماضغِ الحَجَرُ (¬3) وذكر بمعنى ما تقدَّم، وأن عبيدة بن الزبير دخل بعمرو على عبد الله بن الزبير وقد قاتلَ قتالًا شديدًا وعلى وجهه الدم، فقال له عبد الله: ما هذا الدم في وجهك؟ فقال عَمرو: ولسنا على الأعقاب تَدْمَى كُلُومُنا ... ولكنْ على أقدامنا تَقْطُرُ الدِّما (¬4) فقال عبد الله لعبيدة: أمرتُ أن يجهَّز (¬5) هذا الفاسقُ المستحلُّ لِحُرُمات الله. ثم أقاد عَمْرًا من كلِّ من ضربَه إلا المنذر وابنَه، فإنهما أَبَيا أن يستقيدا، ومات عَمرو تحت السِّياط (¬6). ذكر مقام الحسين - عليه السلام - بمكة ومكاتبات أهل الكوفة إليه: لما بايع معاويةَ الناسُ ليزيد؛ كان الحسين - عليه السلام - ممن لم يُبابع له، فكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، وهو يأبى عليهم، فقدم منهم قومٌ إلى محمد ابن الحنفيَّة، فسألوه أن يخرج معهم، فأبى، وجاء إلى الحسين - رضي الله عنه -، فأخبره بما عَرَضُوا (¬7) عليه وقال: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا الدنيا، ويُشِيطُوا دماءنا. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 4/ 339: لا يجعلنَّك في قَيْدٍ وسلسلةٍ كيما يقول. . . (¬2) النَّبْع: شجر ينبت في قمة الجبل، تُتَّخذ منه القِسيّ والسهام، يقال: فلان صليب النبع، أي: شديد المراس، وهو من نبعة كريمة، أي: ماجد الأصل. وتناوح الشيئان، أي: تقابلا، والقصباء: القصب الكثير، والعُشَر: شجر له صمغ وفيه حُرَّاق يُقتدح به. ينظر "اللسان" و"المعجم الوسيط". (¬3) ينظر "أخبار مكة" 2/ 352 - 353. (¬4) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 350، و"تاريخ" الطبري 5/ 346. (¬5) في "تاريخ" الطبري 5/ 346: أمرتُك أن تجير. . . . (¬6) تاريخ الطبري 5/ 346. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 348 - 351. (¬7) في (خ) (والكلام منها): عزموا. وهو تحريف.

فأقام الحسين - رضي الله عنه - على ما هو عليه من الهموم، مرَّة يُريد أن يسيرَ إليهم، ومرةً يُجمع الإقامة، فجاء إليه أبو سعيد الخُدْري، فقال: يا أبا عبد الله، إني لكم ناصح، وعليكم مشفق، وقد بلغني أنه كاتبك (¬1) قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج، فلا تخرج، فإني سمعتُ أباك رحمه الله يقول بالكوفة: واللهِ لقد مَلِلْتُهم وأبغضتُهم، وملُّوني وأبغضوني، وما بلوتُ لهم وفاءً، مَنْ فازَ بهم فاز بالسهم الأخيب (¬2)، واللهِ ما لهم ثباتٌ ولا عزمُ أمر، ولا صبرٌ على السيف. وقدِمَ المسيَّب بن نَجَبَة الفَزاريّ وعدَّةٌ معه إلى الحسين - عليه السلام - بعد وفاة الحسن - رضي الله عنه -، فدَعَوْه (¬3) إلى خلع معاوية، وقالوا: لقد علمنا رأيك ورأيَ أخيك (¬4)، فقال: إني لأرجو أن يُعطيَ اللهُ أخي على نيَّتِه في حُبِّه الكفَّ، وأن يُعطيَني [على نيَّتي] في حبِّي جهادَ الظالمين. وكتب مروان إلى معاوية: إنِّي لستُ آمنُ أن يكون الحسين مَرْصَدًا للفتنة، وأظنُّ يومَكم من حسين طويلًا. فكتب معاوية إلى الحسين: إنَّ مَنْ أعطى اللهَ صَفْقَةَ يمينِه لجديرٌ بالوفاء، وقد أُنبئْتُ أن قومًا من أهل الكوفة قد دَعَوْك إلى الشِّقاق، وأهلُ العراق مَنْ قد جَرَّبْتَ؛ قد أفسدوا على أبيك وأخيك، فاتَّقِ الله، واذكرِ الميثاق، فإنك متى تَكِدْني أكِدْك. والسلام. فكتب إليه الحُسين - عليه السلام -: أتاني كتابُك، وأنا بغير الذي بلَغَكَ [عني] جدير، والحسناتُ لا يهدي لها إلا اللهُ، وما أردتُ لك محاربةً، ولا عليك خِلافًا، وما أظنُّ لي عذرًا عند الله في تركِ جهادِك، وما أعلمُ فتنةً أعظمَ من ولايتك أمرَ الأمة، والسلام. فلما قرأ كتابه معاويةُ قال: إنْ أَثَرْنا بأبي عبد الله إلا أسدًا. ¬

_ (¬1) في (خ): كاتبكم، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 422، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 136. (¬2) تحرفت في (خ) إلى: الأخبث. (¬3) في (خ): فدفعوه، وهو خطأ. (¬4) في (خ): ورأي أخيك فيك. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 422، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 137.

وكتب إليه معاوية: إني لأظنُّ أنَّ في رأسك نزوة، فوددتُ أني أدركتُها فأغفرَها لك. قال مسافع بن شيبة: لقيَ الحسينُ - رضي الله عنه - معاويةَ بمكة عند الرَّدْم (¬1)، فأخذَ بِخِطامِ راحلته، فأناخ به، ثم سارَّه حسين طويلًا وانصرفَ، فزجر معاويةُ راحلتَه، فقال له يزيد: لا يزالُ رجلٌ قد عرضَ لك، فأناخَ بك! فقال: دعه، لعلَّه يطلبها من غيري فلا يسوغُها فيقتله. ولما احتُضر معاوية، دعا يزيدَ، فأوصاه بما أوصاه به، وقال: انظُرْ حُسينَ بنَ علي ابنَ فاطمة بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أحبُّ الناسِ إلى الناس، فصِلْ رَحِمَه، وارْفُقْ به، يَصْلُحْ لك أمرُه، فإن يكنْ منه شيءٌ؛ فأرجو أن يكفيَك اللهُ بمن قتل أباه، وخذل أخاه (¬2). ولما خرج الحسينُ رضي الله عنه قال له ابن عمر - رضي الله عنهما -: لا تَخْرُجْ، فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيَّرَه اللهُ بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنك بَضْعَةٌ منه، ولا تنالُها. يعني الدنيا. فاعتَنَقَه وبكى. وودَّعه. فكان ابنُ عمر يقول: غَلَبَنا حُسين على الخروج، ولَعَمْري لقد رأى في أبيه وأخيه عِبْرةً، ورأى من الفتنة وخِذْلانِ الناسِ لهم ما كان ينبغي له أن لا يتحرَّك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخلَ فيه الناس، فإن الجماعةَ خير. وقال أبو واقد الليثي: لقيتُ حسينًا بمَلَل (¬3)، فناشدتُه اللهَ أن يرجعَ، فقال: لا أرجعُ. وقال جابر بن عبد الله: كلَّمْتُ حُسينًا، فقلت: اتَّقِ الله، ولا تضربِ الناسَ بعضَهم ببعض، فواللهِ ما حُمدتُم ما صنعتم. فعصاني. وكتب إليه المِسْورُ بنُ مَخْرَمَة ينهاه عن الخروج. ¬

_ (¬1) في "القاموس": الرَّدْم: موضع بمكة يُضاف إلى بني جُمَح، وهو لبني قُراد. (¬2) ينظر ما سبق من أول الفقرة في "طبقات" ابن سعد 6/ 422 - 423، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 126 - 128، وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬3) مَلَل، بالتحريك: اسم موضع في طريق مكة بين الحرمين. ينظر "معجم البلدان" 5/ 194.

وكتبت إليه (¬1) عَمْرَةُ بنتُ عبد الرحمن تُعَظِّمُ [عليه] ما يريد أن يصنع وتقول: أشهدُ بالله لقد حَدَّثَتْني عائشةُ أنها سمعَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُقتلُ الحسينُ بأرض بابل". ولَمَّا قرأَ كتابَها قال: فلا بدَّ لي إذًا من مصرعي. ومضى. وأتاه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال له: يا ابن العمِّ، إنَّ الرَّحِمَ تَظْأَرُني عليك (¬2)، وما أدري كيف أنا في النصيحة لك عندك؟ فقال: ما أنت بمن يُسْتَغَشّ. فقال: قد رأيتَ ما صنع أهلُ العراق بأبيك وأخيك. ونهاه، فجزاه خيرًا. فقال أبو بكر: عند الله نحتسبُ أبا عبد الله (¬3). وأشار عليه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بمثل هذا، وقال: إنك تسير إلى بلد فيه عمالُ يزيدَ وأمراؤُه، و [معهم] بيوتُ الأموال، وإنما الناس عبيدُ الدرهم والدينار، ولا آمنُ عليك أن يقاتلك مَنْ وعدَك نَصْرَه. فجزاه خيرًا (¬4). وكتب إليه عمرُو بنُ سعيد بن العاص: أسألُ اللهَ أن يُلهِمَكَ رُشْدَك، وأن يصرفك عما يُرْدِيك، وقد بلغني أنك قد عزمتَ على الشُّخُوص إلى العراق، وإني أُعِيذُك بالله من الشِّقاق، فإن كنتَ خائفًا، فأَقْبِلْ إليَّ (¬5)، فلكَ عندي الأمان والبِرُّ والصِّلة. فكتب إليه الحسينُ - رضي الله عنه -: إنْ كنتَ أردتَ بكتابك إليَّ بِرِّي وصِلَتِي (¬6)، فَجُزِيتَ خيرًا في الدنيا والآخرة، وإنه لم يُشاقِقْ مَنْ دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين، وخَيْرُ الأمانِ أمانُ الله، ولم يؤمن بالله مَنْ لم يَخَفْه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا تُوجِبُ لنا أمانَ الآخرة عنده. ¬

_ (¬1) تحرف قوله: "وكتبت إليه" في (خ) إلى: وكتب لابنته. (¬2) أي: تعطفني عليك، ولم تجوَّد الكلمات في (خ) (والكلام منها)، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 426، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 140. وينظر "البداية والنهاية" 11/ 504. (¬3) تنظر المصادر المذكورة في التعليق السابق. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 382، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬5) في (خ): عليّ، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 421، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 141. (¬6) في (خ): أن ترى من وصلني، بدل: إليَّ بِرِّي وصلتي، والمثبت من المصدرين المذكورين في التعليق السالف.

وكتب يزيد إلى ابن عباس: أمَّا بعد، فإنَّ ابنَ عمِّك حُسينًا وعبدَ الله بن الزبير [ما] اكترثا ببيعتي (¬1)، ولحقا بمكة مرصدين للفتنة، متعرِّضين للهلكة، فامَّا ابن الزبير (¬2) فهو صريع القَنا، وقتيل السيف غدًا، وأمَّا الحُسين فقد أحببتُ الإعذارَ إليكم أهلَ البيت ممَّا كان منه، وقد علمتُم ما بيني وبينكم من الوُصْلَة وعظيم الحُرْمَة، ووشائج (¬3) الأرحام. وقد قطع ذلك حسين وبَتَّهُ، وأنت زعيمُ أهلِ بيتك، وسيِّدُ أهلِ بلادِك، فالقَه، فارْدُدْه عن السعيِ في الفُرْقة ورَدّ هذه الأمة في الفتنة، فإن قَبِلَ منك وأنابَ إلى قولك؛ فله عندي الأمانُ والكرامةُ الواسعة، وأجري عليه ما كان يُجريه أبي على أخيه، وإنْ طلبَ زيادة فاضْمَنْ له ما أراك اللهُ؛ أُنفِذْ ضمانَك، وأقومُ لك بذلك، وله عليَّ الأَيمان المغلَّظة، والمواثيقُ المؤكدة ما تطمئنُّ به نفسُه وتُعيد عليه. عجِّل جوابي وبكل حاجة لك فلي (¬4). وكتب في أسفل الكتاب: يا أيها الرَّاكبُ الغادي لِطَيَّتِهِ ... على عُذافِرةٍ في سَيرها قُحَمُ (¬5) أَبْلِغْ قُرَيشًا على نَأيِ الزمان (¬6) بها ... بني وبين حسينِ اللهُ والرَّحِمُ ومَوْقفٌ بِفِناء البيتِ أَنْشُدُهُ ... عَهْدُ الإلهِ وما تُوفَى به الذِّمَمُ غَنَّيتُمُ قومَكُمْ فخرًا بأُمِّكُمُ (¬7) ... أُمِّ لَعَمْري حَصانٌ عَفَّةٌ (¬8) كَرَمُ هي التي لا يُداني فَضْلَها أحدٌ ... بنتُ الرسولِ وخيرِ الناسِ قد عَلِمُوا وفَضْلُها لكُمُ فضلٌ وغيرُكُمُ ... من قومِكُمْ لهمُ في فضلها قِسَمُ ¬

_ (¬1) لفظة "ما" بين حاصرتين من عندي، والكلام من (خ) وحدها. ولم أقف على مصدر للخبر. (¬2) في (خ): فابن الزبير، وأثبتُّ العبارة على الجادة. (¬3) جمع وشيجة، يعني القرابة المشتبكة المتصلة. ووقع بدلها في (خ): وساهج. ولعل ما أثبتُّه أقرب إلى الصواب، فقد جاء الخبر مختصرًا في "طبقات" ابن سعد 6/ 427، وفيه: فقد قطع واشج القرابة. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) الطَّيَّة: الحاجة والنيَّة، والعُذافرة: الناقة العظيمة الشديدة، والقُحَم: جمع قُحْمَة، وهو الأمر العظيم الشاقّ. (¬6) في "طبقات" ابن سعد 6/ 427، و"البداية والنهاية" 11/ 505، و "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 141: المزار. (¬7) في (خ): فخر أيامكم. وهو خطأ. (¬8) في "البداية والنهاية" 11/ 505، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 141: بَرَّةٌ.

إنِّي لَأَعْلَمُ أوْ ظَنًّا كعالِمِهِ ... والظَّنُّ يَصْدُقُ أحيانًا فينتظِمُ أَنْ سوف يَتْرُكُكُم ما تَدَّعُونَ به (¬1) ... قتلى تَهادَاكُمُ الغِرْبان (¬2) والرَّخَمُ (¬3) يا قومَنا لا تَشُبُّوا الحَرْبَ إذْ سَكَنَتْ ... ومَسِّكُوا بحبالِ السِّلْم واعْتَصِمُوا قد غَرَّتِ الحَرْبُ مَنْ قَدْ كان قبلكمُ ... من القرون وقد بادَتْ بها الأُممُ فأنْصِفُوا قومَكمْ لا يَهْلِكُوا بَذَخًا (¬4) ... فرُبَّ ذي بَذَخٍ (¬5) زَلَّتْ به القَدَمُ لا تركبوا البغيَ إنَّ البغيَ مَصْرعَةٌ ... وإن شاربَ كأسِ البغيِ ينحسِمُ فكتب إليه ابن عباس: أمَّا ابنُ الزُّبير فرجلٌ ينقطع عنا برأيه يُكاتِمنا أضغانًا يُسِرُّها في صدره، يَرِي علينا وَرْيَ الزِّناد (¬6)، لا فَكَّ الله أسيرَها، فطِع (¬7) في أمره ما أنت راءٍ. وأما الحسين فإنه لما قدم مكة سألتُه ما الذي أقدمَهُ؟ وقلتُ: لِمَ تركتَ حَرَمَ جدِّك ومنازلَ آبائك؟ فأخبرني أن عامِلَك وابنَ الحَكَم أساءَا إليه، فأقبلَ مستجيرًا بحرم الله، عائذًا ببيته. ولن أدعَ النصيحةَ فيما يجمعُ اللهُ به الكلمةَ ويُطفئُ به النائرة، ويُخمِد الفتنة، ويحقنُ دماء الأمة، فاتَّقِ اللهَ في السِّرِّ والعلانية، ولا تَبِيتَنَّ ليلةً وأنتَ تُريد لمسلمٍ غائلةً، ولا ترصُدْه بمظلمة، ولا تحفر له مهواةً، فكم من حافر جُرْفًا (¬8) لغيره أوقعَه اللهُ فيه، وكم من مُؤَمِّلٍ أملًا لم يُؤْتَ ما أَمَّلَه، ولا تشغلنَّك عن الأخرى ملاهي الدنيا وأباطيلُها، فإنَّ كلَّ ما اشتغلتَ به عن الله يضُرُّ ويفنى، وما اشتغلتَ [به] من الأخرى ينفع ويبقى. ¬

_ (¬1) في المصادر المذكورة آنفًا: بها. (¬2) جمع غراب، وفي المصادر: العِقبان، وهو جمع عُقاب. (¬3) جمع رَخَمة، وهو طائر أبقع يشبه النَّسر في الخِلقة. (¬4) في (خ): الفرحا (؟ ) والمثبت من المصادر المذكورة قبل. (¬5) في (خ): فرح. والمثبت من المصادر. (¬6) تحرّفت في (خ) (والكلام منها) إلى: الزياد. (¬7) كذا في (خ). (¬8) كذا في (خ)، والجُرْف ما يأكله السيل من الأرض. ولعله استعمل هنا (إن صحت اللفظة) على التوسع، بمعنى الحفرة. أو أَنها محرَّفة عن لفظة: جَفْر، وهي البئر التي لم تُطْوَ. وهي بمعنى الحفرة أيضًا.

ودخل عبد الله بنُ عباس على الحسين - رضي الله عنه -، فكلَّمَهُ ليلًا طويلًا وقال له: أنشدك الله أن تهلك غدًا بحالِ مَضْيَعَة (¬1)، لا تأتِ العراق، وإنْ كنتَ ولا بدَّ فاعلًا؛ فأقِمْ حتى ينقضيَ الموسم، وتلقى الناس، وتعلمَ على ما يَصْدُرون، ثم ترى رأَيك. وكان ذلك في عشر ذي الحجة سنة ستين. فأبى الحسين، فقال له ابن عباس: واللهِ إني لَأَظنُّك ستُقتلُ غدًا بين (¬2) بناتك ونسائك؛ كما قُتل عثمانُ بين نسائه وبناته. واللهِ إني لَأخافُ أن تكونَ الذي يُقادُ به عثمانُ، فإنَّا لله، وإنَّا إليه راجعون. فقال: يا أبا العباس، إنَّك شيخٌ قد كَبِرْتَ، فقال له ابن عباس: لولا أن يُزْرِيَ بي [أو بك] ذلك؛ لنَشَّبْتُ (¬3) يدي في رأسك، ولو أعلمُ أنَّنا إذا تَناصَينا (¬4) أقمتَ؛ لفعلتُ، ولكن لا إخالُ ذلك نافعي (¬5). أَتَسِيرُ إلى قوم قد نَافَوا أميرَهم، وضبطوا بلادهم لأجلك؟ ! قال: لا. قال: فإنْ فعلوا ذلك فسِرْ إليهم على بصيرة، وإن كانوا إنما دَعَوْك وأميرُهم قائمٌ، وعمَّالُه تَجْبِي البلاد، وهولُهم قاهر، فهم إنما دَعَوْك للقتال، ولا آمنُ أن يخذُلوك. فقال الحسين: فسر (¬6)، وأستخيرُ الله وأنظرُ (¬7)، ولَأَنْ (¬8) أُقتلَ بمكان كذا وكذا أحبُّ إليَّ أَنْ تُسْتَحَلَّ بي. يعني مكة. فبكى ابنُ عباس وقال: أقررتَ عينَ ابنِ الزُّبير. ثم خرج من عنده وهو مُغْضَب، وابنُ الزُّبير على الباب، فقال له: يا ابنَ الزُّبير: قد أتى ما أحببتَ قرَّتْ عينُك. هذا أبو عبد الله يخرج إلى العراق ويتركُك والحجازَ. ثم قال: يا لكِ من قُبَّرةٍ بمَعْمَرِ ... خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصْفِري ¬

_ (¬1) المَضْيَعَةُ والمَضِيعةَ: الإهمال، والمفازة المنقطعة يضيع فيها الإنسان وغيره. (المعجم الوسيط). (¬2) تحرف في (خ) إلى لفظ: سبقك غيرًا من. (¬3) نشَّب الشيء في غيره: أعلقه به. (¬4) أي أخذ كلٌّ منا بناصية الآخر. (¬5) من قوله: ودخل عبد الله بن عباس على الحسين، فكلمه طويلًا. . . إلى هذا الموضع، ينظر في "طبقات" ابن سعد 6/ 427 - 428، و"البداية والنهاية" 11/ 506، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 142. (¬6) كذا في (خ) (والكلام منها). (¬7) من قوله: أتسير إلى قوم. . . إلى هذا الموضع، بنحوه في "تاريخ" الطبري 5/ 383. (¬8) في (خ): ولئن، والصواب ما أثبتُّه.

ونَقِّرِي ما شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِى (¬1) ... قد ذهبَ الصيادُ عمْكِ فابْشِرِي لا بدَّ من أخذِكِ يومًا فاصْبِرِي (¬2) ودخل ابنُ الزُّبير، فقال له: علامَ عزمتَ؟ فقال: نفسي تحدِّثُني بإتيان الكوفة. فقال له ابن الزُّبير: لو كان لي بها مثلُ ضيعتك (¬3) لَمَا عَدَلْتَ عنها. ثم خافَ ابنُ الزُّبير أن يتَّهمه فقال: لو أقمتَ بالحجاز وأردتَ هذا الأمر ها هنا، ما خُولفَ عليك (¬4)، أقِمْ في هذا المسجد أجمعْ الناس عليك. فقال الحسين: واللهِ لأَنْ أُقْتَلَ خارجًا منها بِشِبْرٍ أحبُّ إليَّ من أَنْ أُقتلَ بها، ولَأَن أُقتلَ خارجًا عنها بشبرين أحبُّ إلي من أن أقتل خارجًا عنها بشبر. ولو كنتُ في جُحْرِ هامَّة، لاستخرجوني حتى يقتلوني، وواللهِ لَيَعْتَدُنَّ عليَّ كما اعتدتِ اليهود في السبت (¬5). ودخلَ عليه ابنُ عباس من الغد (¬6)، فقال له: إنِّي لأتخوَّفُ عليك في هذا الوجه البوارَ والاستئصال، إن أهل العراق قومٌ غُدْر، فأقِمْ بهذا البلد، فإنك سيِّد أهل الحجاز، فإنْ كان القوم يريدونك؛ فاكتُبْ إليهم فليَنْفُوا عدوَّهم، ثم اقْدَمْ عليهم، فإن أبيتَ؛ فاخْرجْ إلى اليمن، فإنَّ بها حصونًا وشِعابًا، وهي أرضٌ عريضة، ولأبيك بها شيعة، وأنتَ عن الناس بمعزل، فكاتبِ الناس، وثَبِّتْ دُعاتَك في البلاد، فإني أرجو أن يأتيَكَ الذي تحبُّ. فقال له الحسين - رضي الله عنه -: يا ابن عمّ، واللهِ إني لَأَعلَمُ نُصحك وشفقتك، ولكن قد أزمعت المسير إلى العراق. فقال له: فإنْ كنتَ سائرًا؛ فلا تَسِرْ بنسائك وبناتك وصبيانك، فإني أحْافُ أن تُقتلَ كما قُتل عثمان ونساؤه وولدُه ينظرون ¬

_ (¬1) من قوله: ولأَنْ أُقتل بمكان كذا وكذا. . . إلى هذا الوضع، في "طبقات" ابن سعد 6/ 428، و"البداية والنهاية" 11/ 507، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 142 - 143. (¬2) الرَّجَز لطَرَفَة بن العبد، وهو في "ديوانه" ص 46، وفيه: لا بدَّ أن تُصادي يومًا فاصبري. (¬3) الكلام بنحوه في "تاريخ" الطبري 5/ 383، وفيه: شيعتك. (¬4) من قوله: ودخل ابن الزبير. . . إلى هذا الوضع، بنحوه في "تاريخ" الطبري 5/ 383. (¬5) من قوله: أقم في هذا المسجد. . . إلى هذا الوضع، بنحوه في "تاريخ" الطبري 5/ 385. (¬6) هذا هو الدخول الثاني لابن عباس على الحسين - رضي الله عنه -، كما في "تاريخ" الطبري 5/ 383. وأمَّا في رواية ابن سعد 6/ 427 - 428 فإنه دخل عليه مرة واحدة. وسلفت الإحالة عليه قريبًا.

إليه (¬1). فلما رآه لا يُصغي إلى نصحه ولا يلتفتُ إلى قوله؛ خرج من عنده وهو يقول: واحسيناه. وكتب إليه عبد الله بن جعفر يقول: أَنْشُدُكَ اللهَ أن لا تُفارق مكة حتى أصل إليك، فإن هلكتَ طَفِئَ نورُ الإسلام، واستُؤْصل أهلُ بيتك، وأنتَ عَلَمُ الهدى، ورجاء المؤمنين، لا تعجل فأنا قادم (¬2). وبعث بالكتاب مع ابنيه عون ومحمد. فوقف على الكتاب ولم يُجب عنه. وبعثَ الحسين - رضي الله عنه - إلى المدينة، فقدم عليه من خفَّ معه من بني عبد المطلب، وهم تسعة عشر رجلًا، ونساءٌ وصبيانٌ من بناته وأخواته، وتبعهم محمد بن الحنفية، فادرك حسينًا بمكة، ونهاه فلم يقبل، فحبس محمدٌ ولدَه عنه، ولم يبعَثْ معه أحدًا منهم، فغضب الحسين وقال: ترغبُ بولدك عن موضع أُصابُ فيه؟ فقال محمد: وما حاجتي تصابُ ويصابون معك؟ وإن كانت مصيبتُك أعظمَ عندنا منهم، واللهِ إني لَأُحبُّ لك ولهم العافية (¬3). وبعث أهل العراق إلى الحسين - رضي الله عنه - الكُتب والرسل يستحثُّونه، فخرج مسرعًا إلى العراق في أهل بيته وستين شيخًا من أهل الكوفة، وذلك يوم الاثنين في عشر ذي الحجة [سنة ستين]. وكتب مروان إلى عُبيد الله بن زياد: أمَّا بعد، فإن الحسين قد توجَّه إليك، وهو ابنُ فاطمة بنتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وواللهِ ما أحدٌ يسلِّمُه اللهُ أحبَّ إلينا من الحسين، فإيَّاك أن تُهيِّج على نفسك ما لا يسدُّه شيءٌ ولا تنساه العامَّة ولا تدع ذكره، والسلام. ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ" الطبري 5/ 383 - 384. وسلف نحوُه قريبًا من "طبقات" ابن سعد. وقد جمع المصنف هنا الروايات من المصادر. وينظر أيضًا "مروج الذهب" 5/ 129 - 131. (¬2) الخبر بنحوه في "تاريخ" الطبري 5/ 387 - 388. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 428 - 429، والبداية والنهاية 11/ 507، ومختصر تاريخ دمشق 7/ 143 دون قوله: والله إني لأحبُّ لك ولهم العافية.

وكتب إليه عمرو بن سعيد: أمَّا بعد، فإنَّ الحُسين قد توجَّه إليك، وفي مثلها تُعتَق أو تُسْتَرَقّ (¬1). ولما خرج الحسين - رضي الله عنه - لقي عِيرًا من التنعيم قد أقبلوا بها من اليمن إلى يزيد بن معاوية من بَحير بن ريسان الحِمْيري عاملِه على اليمن، وعليها وَرْسٌ وطِيب، فأخذه، عليها الحسين - رضي الله عنه -، وأوفاهم كِراءها، وأخذ بعضَهم معه إلى العراق، فأحسن إليهم (¬2). وقال الفرزدق: خرجْنا حُجَّاجًا؛ فلما كنَّا بالصِّفَاح (¬3)؛ إذ بركبٍ عليهم اليلامق (¬4)، ومعهم الدَّرَق، فلما دنوتُ منهم، إذا أنا بالحسين بن علي، فقلت: أبو عبد الله! فقال: يا فرزدق، ما وراءَك؟ قلت: أنتَ أحبُّ الناس إلى الناس، والقضاء في السماء (¬5)، والسيوفُ مع بني أميَّة (¬6). قال يزيد الرِّشْك: حدَّثني من شافَهَ الحسين (¬7) قال: رأيتُ أبنيةً بفلاةٍ من الأرض مضروبةً، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: للحسين. فأتيتُه، فإذا شيخ يقرأ القرآن ويبكي، ودموعُه تسيل على خَدَّيه، فقلت: بأبي أنتَ وأمِّي! ما أنزلك هذه البلاد؟ فقال: هذه كُتبُ أهلِ الكوفة إليّ، ولا أُراهم إلا قاتلي، فإنْ فعلوا ذلك؛ لم يَدَعُوا للهِ حُرْمَةً إلا انتهكوها، فيسلِّطُ الله عليهم من يُذِلُّهم حتى يكونوا أَذَل من فَرَمِ الأَمَة (¬8). وقد كان الحسين - رضي الله عنه - قَدَّمَ مسلم بنَ عَقِيل ابن أبي طالب، إلى الكوفة، وأمره أن ينزل على هانئ بن عروة المُرادي، وينظرَ إلى اجتماع الناس إليه، ويكتب إليه بخبرِهم. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 429، والبداية والنهاية 11/ 507، ومختصر تاريخ دمشق 7/ 143، وما سلف بين حاصرتين منها. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 2/ 467 و"تاريخ الطبري" 5/ 385 - 386. (¬3) موضع بين حُنين وأنصاب الحرم (حُدودِه). معجم البلدان 3/ 412. (¬4) جمع يلمق، وهو القباء (ثوب يُلبس فوق الثياب). معرَّب. (¬5) في (خ): والقضاء في القضاء. والمثبت من المصادر الآتية. (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 429، ومختصر تاريخ دمشق 7/ 144. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 468. (¬7) في (خ): الخبر، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 431. (¬8) بعدها في "طبقات" ابن سعد: يعني مِقْنَعتَها. اهـ وهي ما تغطي به رأسها.

فقدم (¬1) مسلم الكوفةَ مستخفيًا، وأتَتْه الشيعةُ، فأخذ بيعتهم، وكتب إلى الحسين بن عليّ: قد بايَعَني منهم ثمانيةَ عشرَ ألفًا، فَعَجِّلِ القُدوم، فليس دونها مانع. فلما جاءه كتابُ مسلم أَغَذَّ (¬2) السير حتى انتهى إلى زُبالة (¬3)، فجاءت رُسُل أهل الكوفة إليه بديوانٍ فيه أسماء مئة ألف. وكان النُّعمان بنُ بشير على الكوفة، ومات معاوية وهو عليها، فخاف يزيد أن لا يُقْدِمَ النُّعمان على الحُسين - رضي الله عنه -، فكتب إلى ابنِ زياد، فضمَّ إليه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه بإقبال الحسين - رضي الله عنه - إليها. فإن كان لك جناحان فَطِرْ حتى تسبقَه إليها. فأقبل عُبيد الله مسرعًا، فدخلَ الكوفة، فلما رأَتْه السَّفِلَةُ وأهلُ السوق، خرجوا يشتدُّون بين يديه وهم يظنون أنه الحسين - رضي الله عنه -، لأنهم كانوا يتوقَّعُونه، وكان عُبيد الله بنُ زياد متلثِّمًا، فجعلوا يقولون: أهلًا بك يا ابن رسول الله، الحمدُ لله الذي أرانا إياك، ويُقَبِّلُون يده ورجله. فقال عُبيد الله بن زياد: لشدَّ ما فَسَدَ هؤلاء. ثم دخل ابنُ زياد المسجد، فصلَّى ركعتين، وصَعِدَ المنبر، وكشف عن وجهه، فلما رآه الناسُ؛ مال بعضُهم على بعض وأَقْشَعُوا عنه (¬4). وبنى عُبيد الله في تلك الليلة بأمِّ نافع بنت عُمارة بن عقبة بن أبي مُعَيط، وأُتيَ في تلك الليلة برسولٍ قد كان أرسله الحسين إلى مسلم بن عَقِيل يقال له: عبدُ الله بنُ بُقْطُر (¬5)، فقتلَه. وكان قدم مع عُبيد الله بن زياد من البصرة شريك بن الأعور الحارثي، وكان شيعةً لعليّ - عليه السلام -، فنزل على هانئ بن عروة، فاشتكى شريك، فأتاه عُبيد الله يعودُه في منزل هانئ، وكان يترَدَّدُ إليه، ومسلم بنُ عَقِيل هناك لا يعلم به. فهيَّؤوا لعبيد الله ثلاثين رجلًا يقتلونه، فدخل عُبيد الله، فَجَبُن القومُ عنه، فجعل شريك يقول: ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): بقدوم. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 431. (¬2) في (خ): أعدل، والمثبت من "الطبقات". (¬3) بضم الزاي: منزل بطريق مكة من الكوفة. سُميت بذلك بزَبْلِها الماء، أي: بضبطها له، وأخذها منه. معجم البلدان 3/ 129. (¬4) أي: تفرَّقوا عنه. (¬5) وزن عُصْفُر. (القاموس)

ما تنظرون بسلمى أن تُحيُّوها اسْقُوني شربة ماء ولو كانت فيها نفسي. فقال عُبيد الله: ما يقول؟ قالوا: يَهْجُر (¬1). وتَحَشْحَشَ (¬2) القوم في البيت، وأنكر عُبيد الله ما رأى منهم، [فوثب] (¬3) فخرج، ودعا مولًى لهانئ بن عُروة -وكان في الشرطة- فسأله، فأخبره الخبر، فمضى حتى دخلَ القصر، وأرسل إلى هانئ بن عروة وهو يومئذٍ ابنُ بضعٍ وتسعين سنة، فقال: ما حملك على أن تُجير عدوِّي؟ قال: يا ابن أخي، إنه جاء حقٌّ هو أحقُّ منك ومن أهل بيتك. فوثب ابنُ زياد وفي يده عَنَزَة (¬4)، فضربَ بها رأس هانئ حتى نثرَ دماغه، وقتله. وبلغ الخبرُ مسلمَ بنَ عَقِيل، فخرج في نحو أربع مئة من الشيعة، فما بلغ القصر إلا وهو في نحوٍ من ستين رجلًا (¬5)، وجاء الليل فهرب مسلمٌ، فدخل على امرأة من كِنْدة، يقال لها: طَوْعَة، فاستجار بها. وعلم به محمد بنُ الأشعث بن قيس، فأخبرَ به ابنَ زياد، فبعث إليه، فأتِيَ به، فأنّبه وبكَّتَه، وأمرَ بقتله. فقال: دعني حتى أوصي. قال: نعم. فنظر إلى عُمر بن سعد بن أبي وقَّاص، فقال له، إن لي إليك حاجةً، وبيني وبينك رَحِمٌ. فقال له عُبيد الله: انظر في حاجة ابنِ عمِّك. فقام إليه فقال: يا هذا، إنه ليس ها هنا رجلٌ من قريش غيرُك، وهذا الحُسين بن علي قد أظلَّك، فأرْسِلْ إليه رسولًا، فلينصرف، فإن القوم قد غرُّوه وخَدَعُوه وكذَّبوه، وإنه إن قُتل لم يكن لبني هاشم بعده نظام، وعليَّ دَينٌ أخذتُه منذ دخلتُ الكوفة، فاقْضِه عني، واظلُب جُثَّتي من ابنِ زِياد، فوارِها. فسأله ابنُ زياد: ما قال لك؟ فأخبره عمر، فقال: أما مالُك فهو لك لا نمنعُك منه، وأمَّا حسين؛ فإنْ تَرَكَنا لم نُرِدْه، وأمَّا جُثَّتُه، فإذا قتلناه لم نبالِ ما صُنع به. ثم أمر به فقتل. ¬

_ (¬1) أي: يهذي. (¬2) أي: تحركوا للنهوض. (¬3) ما بين حاصرتين من "طبقات" ابن سعد 6/ 432، والكلام منه. (¬4) العَنَزَة: أطول من العصا، وأقصر من الرُّمح، في أسفلها زُجٌّ (أي حديدة) كزُجّ الرمح. (¬5) بعدها في "طبقات" ابن سعد 6/ 433 (والكلام منه): فغربت الشمس، واقتتلوا قريبًا من الرحبة، ثم دخلوا المسجد، وكثرهم أصحاب عُبيد الله بن زياد. . .

فقال عبد الله بن الزَّبِير الأسدي، وقيل: ابن همَّام السَّلُولي (¬1): فتًى هو أَحْيَا من فتاةٍ حَيِيَّةٍ ... وأقْطَعُ من [ذي] شفرتين صَقِيلِ فإنْ كنتِ لا تدرينَ ما الموتُ فانظُري ... إلى هانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ تَرَيْ جسدًا قد غَيَّرَ الموتُ لونَهُ ... ونَضْحَ دمٍ قد سال كلَّ مَسِيلِ أصابَهما أمرُ الأميرِ (¬2) فأصْبَحا ... أحاديثَ مَنْ يَهْوي (¬3) بكلّ سبيلِ تَرَي بطلًا قد هَشَّمَ السيفُ رأسَهُ ... وآخرَ يهوي من طَمارِ قتيلِ أيركبُ أسماءُ الهمالِيجَ (¬4) آمنًا ... وقد طلبَتْهُ مَذْحِجٌ بقتيلِ (¬5) فإن أنتمُ لم تثأروا بأخيكمُ ... فكونوا بغايا أُرْضِيَتْ بقليلِ طَمار: هو المكان المرتفع، وأسماء: هو ابنُ خارجة الفَزَاري؛ كان ابنُ زياد بعثه وعَمرو بن الحجاج الزّبيدي إلى هانئ، فأعطياه العهودَ والمواثيق، فأقبلَ معهما، فغَدَرَ به ابنُ زياد، فقتلَه. وقضى عُمر بنُ سعد دَينَ مُسلم بن عَقِيل وكفَّنَه ودفنَه، وبعث رجلًا إلى الحسين - رضي الله عنه -، فحمله على ناقة، وأعطاه نفقةً، وأمرَه أن يبلِّغه ما قال مسلم، فلحقَه على أربع مراحل، فأخبره. وبعث عُبيد الله بنُ زياد رأس مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة إلى يزيد بن معاوية. وبلغ الحسينَ - رضي الله عنه - قتلُ مسلم وهانئ، فقال له ابنه علي الأكبر: يا أبه، ارْجِعْ، فإنهم أهلُ العراق وغَدْرُهُمْ، فلا يَفُون لك بشيء. فقال بنو عقيل: ليس هذا بحين رجوع. وحرَّضُوه على المُضِيّ. فقال حسين لأصحابه: قد تَرَوْن ما يأتينا، وما أرى القومَ إلا سيخذُلُوننا، فمن أحبَّ منكم الرجوع فليرجع. فرجع عنه قوم صاروا إليه في طريقه، وبقي معه أصحابُه الذين خرجوا معه من مكة؛ فكانت خيلُهم اثنتين وثلاثين فرسًا. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 2/ 82، و"تاريخ" الطبري 5/ 379: ويقال للفرزدق. وابن همَّام السَّلُولي اسمُه عبد الله- ينظر "الشعر والشعراء" 2/ 651. (¬2) في "أنساب الأشراف" 2/ 82: أمر الإله. (¬3) في "تاريخ" الطبري 5/ 385: يسري. (¬4) جمع هَمْلَج، وهو من البراذين. (¬5) في "تاريخ" الطبري 5/ 380: بذُحول.

وكان حسين بنُ علي - رضي الله عنه - قد وجَّه قيسَ بن مسهر (¬1) الأسديَّ إلى مسلم قبل أن يبلغَه قتلُه، وكان [ابنُ] زيادٌ قد وجَّه حُصين بنَ تميم الطُّهويّ إلى القادسية في جيش وقال: مَنْ أنكرتَه فَخُذْه، فأخذ قيسَ بنَ مُسْهِر، وبعثَ به إلى ابن زياد، فقال له ابنُ زياد: قد قتل الله مسلمًا، فقُمْ في الناس، فاشتم الكذَّاب ابن الكذَّاب. يعني حسينًا - رضي الله عنه -. [فصعد قيس المنبر] وقال: أيُّها الناس، إني تركتُ الحسينَ بنَ علي بالحاجر (¬2)، وأنا رسولُه إليكم، وهو يستنصرُكم. فأمرَ به ابنُ زياد، فطُرح من فوق القصر فمات (¬3). وقال البلاذُري (¬4): إن هذا الرسول عبدُ الله بنُ بُقْطُر، وكان أخًا لحسين - رضي الله عنه - من الرَّضاعة، ولما قال له ابن زياد: اصعد فالعَنْ الكذَّاب، فصعد على أعلى القصر وقال: قد أقبلَ إليكم ابنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لتنصروه على الدِّعيّ ابنِ الدَّعيّ [ابن] مَرْجانَة (¬5) لعنه الله ولعنَ أباه ومَنْ ولَّاه. ثم ألقى نفسه من القصر (¬6)، فتكسَّرت عظامُه وبه رَمَق، فجاء رجلٌ فذبَحَه، فقيل له: عَجِلْتَ عليه! فقال: أردتُ أَنْ أُرِيحَه. ووجَّه الحُصَينُ بنُ تميم الحرَّ بنَ يزيد اليربوعي (¬7) إلى الحسين - رضي الله عنه - في ألفين (¬8) وقال: سايِرْهُ ولا تَدَعْهُ يرجع حتى يدخل الكوفة، وجَعْجِعْ به (¬9). ¬

_ (¬1) في (خ): مسلم، والتصويب من "طبقات" ابن سعد 6/ 435. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 470. (¬2) بالجيم والراء: موضع قبل معدن النَّقرة (من منازل حاجّ الكوفة). والحاجر في لغة العرب: ما يمسك الماء من شفة الوادي. ينظر "معجم البلدان" 2/ 204 و 5/ 298. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 432 - 435. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 2/ 469 - 471، و"تاريخ" الطبري 5/ 394 - 395. (¬4) في "أنساب الأشراف" 2/ 471. (¬5) تحرَّف لفظ: مَرْجانة في (خ) (والكلام منها) إلى: من خانه. ومَرْجانة هي أمُّ عُبيد الله بن زياد، وزدتُ لفظة "ابن" بين حاصرتين لضرورة السياق، والكلام بنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 471. (¬6) كذا وقع في (خ) والكلام منها وحدها. والذي في "أنساب الأشراف" 2/ 471: فأمر به، فأُلقي من فوق القصر. . . (¬7) في (خ): ووجَّه ابنُ زياد الحصين بن الحسر اليربوعي (؟ ) والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 435 والكلام منه. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 476 - 477. (¬8) في "الطبقات" و"أنساب الأشراف": في ألف. (¬9) أي: أَزْعِجْه.

وجاء الحسين - رضي الله عنه -، فأخذ بطريق العُذَيْب (¬1). حتى نزلَ الجَوْف مسقط النَّجف، ثم نزل قصر أبي مقاتل، فخفقَ خَفْقَةً، ثم انتبه يسترجع وقال: إني رأيتُ في المنام آنفًا فارسًا يُسايِرُنا ويقول: القوم يسيرون والمنايا تسري (¬2) إليهم، فعلمتُ أنه نَعَى إلينا أنفسنا. ثم سار حتى نزل كَرْبَلاء، فقال: أيُّ منزلٍ هذا؟ فقالوا: كَرْبَلاء، فقال: كَرْبٌ وبلاء. وقال أبو مخنف: لما خرج الحسين - رضي الله عنه - اجتمع (¬3) أشرافُ الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صُرَد، فقال لهم سليمان: إن معاوية قد هلك وأقام ابنَه، وقد امتنعَ الحسين من بيعته، فإنْ كنتم تنصرونه فاكتبوا إليه، وإن خفتُم الفشل فلا تغرُّوه. فقالوا: لا، بل نقاتلُ عدوَّه ونَقْتُلُ أنفسَنا دونَه. فقال: اكتبوا إليه. فكتبوا: بسم الله الرّحمن الرحيم، إلى الحسين بن علي من سليمان بن صُرَد، والمسيّب بن نَجَبَة، ورِفاعة بن شدَّاد، وحبيب بن مُظاهر، وشِيعتِه من المؤمنين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك، أمَّا بعد، فإنَّا نحمدُ إليك اللهَ الذي لا إله إلا هو، والحمدُ لله الذي قَصَمَ عدوَّك الجبَّار الذي انْتَزَى (¬4) على هذه الأمة، وابتزَّها أمرَها وغَصَبَها فَيئَها، وتأمَّرَ عليها بغير رضًى منها، ثم قتل خيارَها، واستبقى شرارها، وجعلَ مال الله دُولًا بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعدًا له كما بَعِدَتْ ثمود، هانه ليس علينا إمام، فأقْبِلْ إلينا، لعلَّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، وإن النعمان بن بشير في القصر، لسنا نُصلِّي معه، ولا نخرج معه في عيد، لو بَلَغَنا أنك قد أقبلتَ إلينا؛ أخرجناه حتى ألحقناه بالشام، والسلام. وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهلالي، وعبد الله [بن وال] (¬5). قال: فخَرَجَا مسرعَيْن حتى قدما (¬6) مكة لعشرٍ مَضَين من شهر رمضان، فلما كان بعد أيام بعثوا إلى الحسين - رضي الله عنه - قيس بن مسهر الصيداوي، وعبد الرحمن بن عبد الله ¬

_ (¬1) هو ماء بين القادسية والمغيثة، بينه وبين القادسية أربعة أميال. معجم البلدان 4/ 92. (¬2) في "طبقات" ابن سعد 6/ 435: يشرون. . . تشري. . . (¬3) في (خ): اجتمع إليه، وهو خطأ. ويورد المصنف هنا خبر مسلم بن عقيل برواية أُخرى أطول من سابقتها. (¬4) في (خ): انتزل، والمثبت من "أنساب الأشراف" 2/ 462، و"تاريخ الطبري" 5/ 352. (¬5) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 5/ 352، ووقع بياض مكانه في (خ). وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 426. (¬6) في (خ): خرجنا. . . قدمنا. . . وهو خطأ، وينظر المصدران السالفان.

الأَرْحَبي (¬1)، وعُمارة بن عَبْد (¬2) السَّلُولي، ومعهم نحوٌ من مئة وخمسين صحيفة (¬3)، ثم لَبِثُوا أيامًا، وبعثُوا إليه هانئ بن هانئ السَّبِيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبوا معهما كتابًا مضمونه: أما بعد، فحيَّهَلَا، والعجلَ العجلَ، والوَحا الوَحا (¬4)، فإنَّ الناس ينتظرونك، لا رَأْيَ لهم في غيرك، والسلام. وكتب إليه شبَثُ بنُ رِبْعيّ، وحجَّار بنُ أَبْجَر، ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رُويم (¬5)، وعَزْرَةُ بنُ قيس، وعَمرو بن حجَّاج الزبيدي، ومحمد بن عُمير التميمي: أمَّا بعد، فقد اخْضرَّ الجَناب، وأينعت الثمار (¬6)، فإن شئتَ فاقْدَمْ على جندٍ لك مجنَّد، والسلام. واجتمع الرسل كلُّهم عنده بمكة، فكتب الحسين - رضي الله عنه - إليهم مع ابن هانئ السَّبِيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكانا آخِرَ الرسل إليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أمَّا بعد، فإن هانئًا وسعيدًا قدما على بكتبكم، وكانا آخِرَ من قدمَ عليَّ من رسلكم، وقد فهمتُ ما قد ذكرتُم من أقوالكم، وقد بعثتُ إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي، وأمرتُه أن يكتب إليَّ بما أجمعَ عليه ملأكم، وذَوُو الحِجا منكم، وأهلُ الفضل، فإنْ كتبَ إليَّ أنه قد اجتمع رأيُ ملئكم على ما قَدِمَت به رسلُكم ونطَقَتْ به كتبُكم؛ قدمتُ عليكم وشيكًا إنْ شاء الله، ولَعَمْرِي ما الإمام إلا القائل بالكتاب (¬7)، القائم بالقسط (¬8)، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام. ¬

_ (¬1) في (خ): الرحبي، والمثبت من "أنساب الأشراف" 2/ 462، و"تاريخ" الطبري 5/ 352، وسيرد على الصواب. (¬2) في "تاريخ" الطبري: عبيد. (¬3) في "تاريخ" الطبري: ثلاثة وخمسين صحيفة. (¬4) أي: السرعةَ السرعةَ، يمدُّ ويُقصر. ينظر "النهاية". (¬5) في (خ): آدم، والمثبت من "أنساب الأشراف" 2/ 463، و"تاريخ" الطبري 5/ 353، وكذلك تحرَّف في (خ) شبث، إلى: شبيب، وأبجر، إلى: الحبر، وتحرف أيضًا عزرة (الآتي) إلى: عروة. (¬6) بعدها في المصدرين السابقين: وطمَّت الجِمام. (¬7) في "تاريخ" الطبري 5/ 352: العامل بالكتاب. (¬8) في "تاريخ" الطبري: الآخذ بالقسط.

وبعث إليهم بمسلم بن عقيل، فسرَّحَه مع قيس بن مسهر الصَّيداوي، وعُمارة بن عَبْد (¬1) السَّلُولي، وعبد الرحمن بن عبد الله الأَرْحَبي، وقال: اكتُمْ أمرَك، فإن رأيتَهم مجتمعين إلى ما كُتبَ إليّ، فعرِّفني. فسار مسلم حتى قدم الكوفة (¬2)، فنزل في دار المختار بن أبي عُبيد، وهي تُعرف اليوم بدار مسلم بن المسيّب، وأقبلت إليه الشيعة، فقرأ عليهم كتاب الحسين رضي الله عنه، فبَكَوْا، وأجابوا بالسمع والطاعة. وشاع خبرُه، فقام النعمان بن بشير على المنبر، وقال: اتقوا الله عبادَ الله، ولا تُسارعوا إلى الفتنِ وسَفْكِ الدماء. وكان النعمان حليمًا يحبُّ العافية. ثم قال: إني لا أُقاتلُ من لا يُقاتلُني، ولا أَثِبُ على من لا يثبُ عليّ، ولا أُنبِّه نائمَكم، ولا أَتحرَّشُ بكم، ولا آخُذُ على الظِّنَّة والتُّهمة، إلا إنْ أبديتُم صفحتَكم ونكثتُم بيعتَكم، وخالفتُم إمامَكم، فواللهِ لأَضْرِبَنَّكم بسيفي ما ثبتَتْ قائمتُه في يدي. فقام إليه عبد الله بن [مسلم بن سعيد] (¬3) الحضرمي، فقال: إنه لا يصلحُ ما ترى إلا القصمُ (¬4)، والذي أنت عليه مما بينك وبين عدوِّك رأيُ المستضعفين. فقال النعمان: لأَنْ أكونَ من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليَّ من أن أكونَ قويًّا في معصية الله، واللهِ لا هتكتُ سترًا ستره الله. ثم نزل. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 354: عُبيد. (¬2) في الكلام اختصار، وقبله في "تاريخ" الطبري 5/ 354 أن مسلم بن عقيل أتى المدينة، فصلى في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وودَّع من أحبَّ من أهله، ثم استأجر دليلين من قيس، فأقبلا به، فضلّا الطريقَ، وأصابهم عطش شديد، فماتا، فكتب مسلم إلى الحسين - رضي الله عنه - يستعفيه من ذلك، ويرسل غيره، فلم يقبل الحسين منه ذلك، وأمره أن يمضي لما وجّهه إليه، فسار مسلم حتى قدم الكوفة. . . وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 2/ 463. (¬3) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 5/ 356، ووقع في (خ) بدلًا منه كلمة رسمها: ممل. (¬4) في "تاريخ" الطبري: الغشم.

فكتب عبدُ الله بنُ مسلم هذا إلى يزيد -وكان حليفًا لبني أمية- يقول: قد قدم مسلمُ بنُ عَقِيل الكوفةَ وقد بايعه شيعةُ الحسين، فإنْ كان لك في المصر حاجة فابعَثْ إليه رجلًا قويًّا، فإن النعمانَ ضعيف. وكتب إليه جماعة، منهم عُمر بن سعد بن أبي وقَّاص، وعُمارة بن عقبة بن أبي مُعَيط، فاستشار يزيدُ سَرْجُون مولى معاوية، وأخبرَه الخبر فقال له: أرأيتَ معاوية لو نُشِرَ، أَكُنتَ آخذًا برأيه؟ قال: نعم. فأخرج عهدَ عُبيد الله بن زياد على الكوفة، وكان معاوية قد كتبَه، وأخفاه يزيد (¬1)؛ لأنه كان متخوِّفًا من عُبيد الله. فدعا يزيدُ مسلمَ بنَ عمرو الباهلي، وبعثَ بعهده معه. وكان الحسين - رضي الله عنه - قد كتبَ إلى أشرافِ أهلِ الكوفة والبصرة كتابًا نسخته واحدة، إلى الأحنف بن قيس، ومالك بن مِسْمَع البكري، والمنذر بن الجارود، وقيس بن الهيثم، وعمرو بن عُبيد الله بن معمر، وهؤلاء أشراف البصرة، كما كتب إلى أشراف الكوفة، وبعثَ بالكتاب مع مولًى لهم يقال له: سليمان، وفيه: إن الله بعث محمدًا بالحقّ، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثم قبضَه إليه، وكنَّا أهلَه وعشيوتَه وورثتَه وأحقَّ الناس به، فاستأثرَ قومُنا علينا ميراثَ جدِّنا، فكرهنا الفُرْقَة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنَّنا أحق بذلك الحق منهم وممَّن تولَّاه، وأنا أدعُوكم إلى كتاب الله وسنَّةِ رسوله، فإن السنَّة قد أُميتَت، والبِدَعَ قد أُحْيِيَت، وبعثتُ بكتابي مع رسول، فاسمعوا وأطيعوا أهدِكُمْ سبيلَ الرشاد. والسلام. فكتم القومُ أمر الكتاب إلا المنذر بن الجارود (¬2)، فجاء بالكتاب والرسولِ إلى ابن زياد في الليلة اتي يريد أن يسير في صبْحها إلى الكوفة. فضربَ عنقَ الرسول، وصَعِدَ المنبر فخطب، وقال: يا أهل البصرة، ما أنا مِمَّن يُقَعْقَعُ لي بالشِّنان (¬3)، وإني لمنكل ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، والذي أخفى الكتاب سرجون مولى معاوية، وبه يستقيم السياق، ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 420، و"تاريخ" الطبري 5/ 356. (¬2) في (خ): زياد، بدل الجارود. وهو خطأ. (¬3) القعقعة: صوت الشيء الصُّلب على مثله، والشِّنان جمع شَنّ، وهي القِرْبَة اليابسة، معناه: ليس هو مما تفزعه القعقعة. ينظر "جمهرة الأمثال" 2/ 237 و 412.

ممن عاداني (¬1)، وقد أنصفَ القارَةَ من راماها (¬2)، وإنَّ أمير المؤمنين قد ولَّاني الكوفة، وإنّي سائرٌ إليها، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بنَ زياد بن أبي سفيان، فإيَّاكم والخلافَ والإرجاف، فوالذي لا إله إلا هو، لئن بلغني عن رجل منكم خلافٌ لأقتلنَّه، ولآخذنَّ الأدنى بالأقصى حتى تستقيموا. ونزل. وسار من البصرة ومعه مسلم بنُ عمرو الباهليّ، وشريك بن الأعور الحارثي وأهلُ بيته، فدخلَ الكوفة وعليه عِمامة سوداء، وهو متلثّم، فظنَّه الناس الحسين - رضي الله عنه -، فقال مسلم بن عمرو الباهليّ: تأخَّروا، فهذا الأمير عُبيدُ الله بن زياد. فأخذَتْهم كآبةٌ وحُزن (¬3). وكان تأخّر عنه في الطريق جماعةٌ ممن سار معه، فسار عُبيد الله لا يلوي على أحد خوفًا أن يسبقه الحسين - رضي الله عنه - إلى الكوفة، فلما مرَّ بالناس ظنُّوا أنه الحسين - رضي الله عنه - وهو معتجرٌ على بغلة وحدَه، فيقولون: مرحبًا بك يا ابنَ رسولِ الله، وهو لا يتكلَّم، وخرجَ إليه الناس من بيوتهم وهو قاصدٌ للقصر. وسع النعمانُ بنُ بشير قولَ الناس: مرحبًا بك يا ابنَ رسول الله، فأغلقَ باب القصر، وجاء ابنُ زياد، فوقفَ على باب القصر وقال: افتح. والخلق معه يصيحون ظنًّا منهم أنه الحسين - رضي الله عنه -، فكلَّمه النعمان وقال له: أنشدك الله، إلَّا تنحَّيتَ، فواللهِ ما أنا بمسلّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من أَرَب. وكان ليلًا وابنُ زياد ساكت، فقال له: افتَحْ لا فتحتَ، فقد طال ليلُك. وسمعه رجلٌ من أهل الكوفة فعرف صوتَه، فنكص إلى القوم وقال: ويحكم، واللهِ إنه ابنُ مَرْجانة! وسمع النعمانُ، ففتح الباب، فدخل، ورجع القومُ ناكصين على أعناقهم. وأصبح، واجتمعوا إليه، فخطبهم (¬4). ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 358: لنكل لمن عاداني. (¬2) يضرب مثلًا لمساواة الرجل صاحبه فيما يدعوه إليه. والقارَة: قبيلة من الهُون بن خريمة. ينظر "جمهرة الأمثال" 1/ 55. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 358. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 78. (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 359 - 360.

وقال في خطبته: أمَّا بعد، فإنَّ أمير المؤمنين ولَّاني مِصْرَكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسانِ إلى سامعكم ومطيعكم، والشدَّةِ على مُرِيبِكم، وأنا متَّبعٌ فيكم أمرَه، ومُنْفِذٌ عهدَه، وأنا لمحسنِكم ومطيعِكم كالوالد، وسَوْطي وسيفي على من خالفَ أمري. والسلام. ثم أخذ العرفاءَ بالشدَّة، والبحثِ عن أهل الرِّيَب ومن تطلَّبَه (¬1). ثم دعا مولًى لبني تميم -وقيل: مولًى له- يقال له: مَعْقِل (¬2)، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم وقال له: اطلُبْ مسلم بنَ عَقِيل، فإذا اجتمعتَ به، فادفعْ إليه المال، وأخبره أنك منهم، ثم تردَّد إليهم، وطالِعْنِي بأخبارهم. فما زال يبحث حتى اجتمع بمسلم، وأعطاه المال، وصار خِصِّيصًا به، وأظهرَ أنه من أهل حمص أو اليمن. وكان مسلم في بيت هانئ بن عروة، والرجلُ الدسيسُ يطالعُ ابنَ زياد بأخبار هانئ ومسلم بكرةً وعشيًّا. وقدم شريك [بن] الأعور مريضًا، وقال لهانئ: مُرْ مسلمًا يكون عندي، فإنَّ ابنَ زياد يعودُني. فانتقل مسلم إليه، فقال شريك لمسلم: إذا جاء أبنُ زياد يعودُني وقلت: اسقوني ماءً؛ فاخْرجْ عليه، فاقتُلْه. وجاء ابنُ زياد، فجلس على فراش شريك، فقال شريك: اسقُوني ماءً. ثلاث مرات. ومهرانُ (¬3) قائمٌ على رأسه، ففطن، فغمزَ عُبيد الله، فقام، فقال: واللهِ لقد أرادوا قتلَكَ. فقال: وكيف مع التزامي (¬4) شريكًا، وفي بيت هانئ ويدي عنده (¬5)؟ ! ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 358 - 359. (¬2) في (خ): معقل بن يسار، وهو خطأ. والمثبت من المصادر: ينظر "أنساب الأشراف" 2/ 78، و"تاريخ" الطبري 5/ 362، و"البداية والنهاية" 11/ 482. ومعقل بن يسار صحابي، توفي آخر خلافة معاوية. (¬3) هو مولى لابن زياد. (¬4) في "تاريخ" الطبري 5/ 360: إكرامي. (¬5) في "تاريخ" الطبري: ويد أبي عنده يد.

ودخل عُبيد الله القصر وقال لأسماء بن خارجة ومحمد بن الأشعث: عليَّ بهانئ. قالا: إنه لا يأتي إلا بأمان. قال: وهل أحْدَثَ حَدَثًا فيحتاجَ إلى الأمان؟ ! فإنْ لم يأتِ [إلا] بالأمان فآمِناه. فلما دخلَ على ابن زياد قال له: يا هانئ، أما تعلمُ أن أبي دخل هذا القصر (¬1) فلم يترك فيه أحدًا من الشيعة إلا قتله إلا أباك، ثم أحسنَ إليك؟ قال: بلى. قال: فكان جزائي منك أن خَبَأْتَ في بيتك رجلًا ليقتلني؟ ! فقال: معاذ الله، ما فعلت. فأخرج الرجلَ الذي كان دسيسًا، فأُسْقِظَ في يد هانئ، وقال: أيها الأمير قد كان الذي بلغَك، ولن أضَيِّعَ يدَك (¬2) عندي، وأنتَ آمنٌ وأهلُك، فسِرْ حيثُ شئتَ. ومِهْرانُ قائمٌ على رأس عُبيد الله وبيده العَنَزَة، وقد كَبا عُبيدُ الله، فقال مهران: واذُلَّاه! هذا العبدُ الحائكُ يؤمِّنُك في سلطانك! فقال: خُذْهُ. فأخذَ مِهْرانُ بضفيرتَيْ هانئ، وحلَّهما، وأخذ عُبيد الله العَنَزَة، فضربَ بها وَجْهَ هانئ، فكسرَ أنفَه وجبينَه وحبسَه (¬3). وسمعَ الناسُ الهَيعَةَ، فقام أسماء بن خارجة فقال لابنِ زِياد (¬4): أَرُسُلُ غَدْر؟ ! أمرتَنا أن نأتيَك به، حتى إذا أتيناك به هشمتَ وَجْهَ الرجل، وأسلتَ دماءه على لحيته، وزعمتَ أنك تقتله! فقال ابنُ زياد: وإنَّك هاهنا! فأمر به، فلُهِزَ وتُعْتِع [به] (¬5). وخافَ ابنُ الأشعث فقال: رضينا ما يفعلُ الأمير، فإنما هو مؤدِّب. وبلغ عَمرَو بن الحجَّاج أنَّ هانئًا قد قُتل، فأقبلَ في مَذْحِج حتى أحاط بالقصر وقال: أنا عَمرُو بنُ الحجَّاج، فقال ابنُ زياد لشُرَيح: اخْرُجْ إليهم، فخرج فسكَّنهم (¬6). ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 361: هذا البلد. (¬2) في (خ): برّك. والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 361. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 360 - 361. (¬4) في (خ): فقام ابن زياد، بدل: فقال لابن زياد، والصواب ما أثبتُه، وينظر "تاريخ" الطبري 5/ 367. (¬5) اللَّهْزُ: الضَّربُ بجُمْع الكفِّ في اللهازم والرَّقَبة، والتَّعْتَعَة. التحريك بعنف. (¬6) تاريخ الطبري 5/ 367 - 368، وما سلف بين حاصرتين منه.

وخرج مسلم بن عَقِيل من دار هانئ في ثمانية عشر ألفًا (¬1)، وشِعارُهم: يا منصور أَمِتْ أَمِتْ. فما بلغ القصرَ إلا في ثلاث مئة، وليس مع [ابن] زياد في القصر إلا ثلاثون رجلًا وأهلُه، فأمرَ محمد بنَ الأشعث أن يخرج في كِنْدة، فيرفع راية أمان، وأمرَ شَبَث بن رِبْعيّ التميميّ، وحجَّار بن أَبْجَر العجليّ وشمر بن أبي الجوشن العامريّ، فخذَّلُوا الناسَ عن مسلم بن عقيل، واطَّلع الباقون من القصر، فخذَّلُوا عنه عشائرهم، فتفرَّقوا (¬2). وبقي وحدَهُ، وجاء إلى طَوْعة، فأجارَتْه، وكتَمَتْ حاله عن ابنها، وكان مولًى لمحمد بن الأشعث. وعلم به محمد بن الأشعث، فأخبرَ ابنَ زياد، فبعث إلى عَمرو بن حريث صاحب شُرَطَتِه: ابْعَثْ مع ابن الأشعث سبعين رجلًا من قيس. وإنما خصَّ قيسًا؛ لعلمه أنَّ كلَّ قبيلةٍ يكرهون أن يصاب فيهم مسلم بن عقيل (¬3). فبعثَ معه عَمرو بنَ عُبيد الله بن عباس السُّلمي، فأتوا الدار التي فيها مسلم، فلما سَمِعَ [وقع] حوافِرَ الخيل وأصوات الرجال، عرف أنه قد أُتي، فخرج إليهم بسيفه، وكانوا قد اقتحموا عليه الدار، فضربَهم حتى أخرجهم منها، وضربه بُكير بن حُمْران (¬4) الأحمري، فقطع شَفَةَ مسلم العليا، وأشْرَعَ في السفلى، وضربه مسلم في رأسه ضربة منكرة، وثنَّى بأُخرى على حبل العاتق كادت تطلُع على جوفه، فلما رأوا ذلك، أشرفوا عليه من ظهر البيت يرمونه بالحجارة، ويُلْقُون عليه القصب وفيه النار، فخرج من البيت والسيف في يده يقاتلُهم، فصاح به محمد بنُ الأشعث: لك الأمان. وهو يحملُ ويقول: ¬

_ (¬1) في الكلام تجوُّز، فعدد الذين بايعوا مسلمًا ثمانية عشر ألفًا، أما عدد الذين خرج بهم فأربعة آلاف. وينظر "تاريخ" الطبري 5/ 368 - 369. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 368 - 369. (¬3) في "تاريخ" الطبري 5/ 373: يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل. (¬4) في (خ): بن حفص، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 373، وفي "أنساب الأشراف" 2/ 88: بن حمدان.

أقسمتُ لا أُقتلُ إلَّا حُرًّا ... وإن رأيتُ الموتَ شيئًا نُكْرا كلُّ امرئ يومًا مُلاقٍ شرًّا ... أخاف أنْ أُكْذَبَ أو أُغرَّا (¬1) فقال له محمد بن الأشعث: إنك لا تُكذبُ ولا تُغَرُّ، إنَّ القوم بنو عمِّك، ليسوا بقاتليك. ثم حملوه على بغلة، وانتزعُوا سيفه من عُنقه، فقال: هذا -واللهِ- أوّلُ الغدر. ثم بكى، فقيل له: من يطلبُ مثلَ الذي تطلبُ إذا نزل به مثلُ هذا لا يبكي (¬2)! فقال: واللهِ ما أبكي لنفسي، وإنما أبكي للحسين وأهلي حيث يُصيبُهم ما أصابني. ثم قال مسلم لمحمد بن الأشعث: هل لكَ أنْ تبعثَ إلى حُسين، فتخبرَه أنَّ أهلَ الكوفة قد كذَّبوه وكذَّبوني، وأنه ليس لمكذوبٍ رأي. فقال: إني واللهِ أَبعثُ إليه، وأُخبِرُ ابنَ زياد أنَّني أمَّنتُك. وبعثَ إلى الحسين إياسَ الطائيَّ بكتابٍ فيه ما قال مسلم، وأعطاه نفقةً وراحلةً، فلقيَه بِزُبالة (¬3)، وأخبرَه وبلَّغه الرسالة، فقال حسين: كل ما حُمَّ (¬4) نازلٌ، وعند الله نحتسبُ أنفسَنا وفسادَ أُمَّتِنا. وأقبل محمد بن الأشعث بمسلم إلى باب القصر، وأخبر ابنَ زياد بأمان محمد، فقال: إنما أرسلناك لتأتيَنَا به، لا لتؤَمِّنَه. وكان مسلم قد عطش، وإذا بِقُلَّةٍ على باب القصر فيها ماء، فقال: اسقوني. فقال له مسلم بن عَمرو: ما أبردها! واللهِ لا تذوقُ منها قطرة حتى تذوقَ الحميم في نار جهنّم. فقال له مسلم: ويحك، مَنْ أنت؟ فقال: أنا مَنْ عرفَ الحقَّ إذْ أنكرتَه، ونصح إمامه إذْ ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 5/ 374: كلُّ امرئٍ يومًا ملاقٍ شرَّا ... ويُخلط الباردَ سُخنًا مرَّا رُدّ شعاع الشمس فاستقرًا ... أخاف أن أُكذبَ أو أُغرَّا (¬2) القائل هو عمرو بنُ عبيد الله بن عباس السُّلمي، كما في "تاريخ" الطبري 5/ 374. وسلف ذكره في الخبر. (¬3) زُبالة، بضم الزاي: قرية عامرة معروفة بطريق مكة من الكوفة. ووقع في (خ): فلقيه علي بن زبالة، وهو خطأ. وينظر الكلام في "تاريخ" الطبري 5/ 375. (¬4) أي: قُضِيَ.

غَشَشْتَه، وسمع وأطاعَ إذْ عَصَيتَه، أنا مسلم بن عَمْرو الباهليّ. فقال له ابنُ عَقِيل: لأمِّك الثُّكْلُ! ما أجفاكَ وأفظَّكَ وأقسى قلبَك! أنتَ يا ابنَ باهلةَ أولى بالحميم، والخلودِ في نار الجحيم. وكان عُمارة بنُ عقبة بن أبي مُعَيْط حاضرًا، فأرسلَ غلامَه، فجاء بقُلَّةٍ فيها ماءٌ وقَدَح، فصبَّ في القَدَح وسقاه، فلم يقدر أن يشربَ من كثرة الدَّمِ، وسقَطَتْ ثنيَّتاه في القَدَح، فقال: الحمدُ لله، لو كان هذا الماءُ من الرزق المقسوم لشربتُه. وأُدخل على ابنِ زياد، فلم يسلِّم عليه بالإمرة، فقال له الحَرَسيّ: ألا تسلِّمُ على الأمير؟ ! فقال: إنْ كان يُريدُ قتلي فما سلامي عليه؟ ! وإنْ كان لا يريدُه، فليَكْثُرَنَّ سلامي عليه. فقال ابن زياد: لَعَمْري لَتُقْتَلَنَّ. فقال: دَعْني أوصِ إلى بعض قومي. قال: افعل. فقال لعُمر بن سعد بن أبي وقاص: بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر. فقال له ابنُ زياد: لا تمتنع من حاجة ابنِ عمك. فقال له: عليَّ بالكوفة سبعُ مئة درهم دَينٌ، فاقْضِها عني، واستَوْهِبْ جُثَّتي من ابن زياد، فوارِها، وابعثْ إلى حسين من يردُّه، فإني كتبتُ إليه أخبرُه أنَّ الناس معه. ثم قال ابن زياد لمسلم: إيهِ يا ابنَ عَقِيل! أتيتَ الناسَ وكلمتُهم واحدةٌ، وأمرُهم جميع، لتفرِّقَ كلمتَهم؟ فقال: ما أتيتُ لهذا، وإنما أهلُ المصر كتبوا إلينا أن أباك قتلَ خيارهم، وسفكَ دماءَهم، وعملَ فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمرَ بالعدل، وندعوَ إلى كتاب الله، فقال ابن زياد: وما أنت وذلك يا فاسق؟ أولستَ بالمدينة تشرب الخمرَ؟ قال مسلم: كذبتَ، واللهِ ما شربتُه قطّ، وأنتَ وأمثالُك يَلَغُون في دماء المسلمين. قال له ابنُ زياد: تمنَّيتَ أمرًا حال اللهُ دونَه، ولم يَرَكُم أهلَه. قال: فَمَنْ أهلُه يا ابنَ زياد؟ قال: أميرُ المؤمنين يزيد. ثم شتم ابنُ زياد عليًّا وعَقِيلًا والحسنَ والحُسين -رضي الله عنهم-، ثم قال: أين الذي ضربَ رأسَه مسلمُ بنُ عَقيل بالسيف؟ فقال: خُذْه، واصْعَدْ به إلى أعلى القصر فاضْرِبْ عُنُقَه،

وأَتْبعْ جسدَه رأسَه فأخذه وصعد به وهو يقول: اللهمَّ احْكُمْ بيننا وبين قوم كذَّبُونا وغرُّونا وخَذَلُونا وقتلُونا. فقتلَه (¬1). وقدم محمد بنُ الأشعث إلى ابنِ زياد فكلَّمه في هانئ بن عُروة، وقال: قد عرفتَ مكانَه في المِصْر وعشيرتَه، وقد علم قومُه أنِّي أنا (¬2) وصاحبي سُقناه إليك، أَنْشُدُكَ اللهَ لَمَا وَهَبْتَه لي، فإنَّني لا طاقةَ لي بعداوة قومِه، وهم أعزُّ أهلِ المصر. فوعده أن يُطلقه، ثم بدا له، فأمرَ بإخراجه إلى السوق مكتوفًا، فانتَهَوْا به إلى موضع تُباع فيه الغنمُ وهو يصيح: واذُلَّ مَذْحِجاه! ولا مَذْحِجَ اليوم. ثمْ ضرب عنقَه رشيد مولًى لعبيد الله بن زياد، تركيّ (¬3). وبعث برأس مسلم وهانئ مع هانئ بن أبي حيَّة الوَادعي والزُّبيرِ بن الأَرْوح التميمي، وأمر كاتبَه عمرَو بنَ هانئ أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من أمر مسلم وهانئ، فكتب كتابًا أطال فيه، وكان أوَّلَ مَنْ أطال في الكتب، فلما نظرَ فيه عُبيدُ الله كرهه، وقال: ما هذا التطويل؟ اكتب إليه: أمَّا بعد، فالحمدُ لله الذي أخذَ لأميرِ المؤمنين بحقِّه، وكفاه مُؤْنةَ عدوِّه، أُخبرُ أميرَ المؤمنين أنَّ مسلم بن عَقِيل لجأَ إلى دار هانئ بن عُروة المرادي، وأنِّي جعلتُ عليهما العيون، ودسستُ إليهما الرِّجال، وكِدْتُهما حتى استخرجتُهما، وأمكن اللهُ منهما، فضربتُ أعناقَهما، وبعثتُ إليك برؤوسهما. والسلام. فكتب إليه يزيد بنُ معاوية: أما بعد، فإنَّك لم تَعْدُ أن كنتَ كما أُحِبُّ، عملتَ عملَ الحازم، وصُلْتَ صَوْلَةَ الشجاع الرابط الجأش، فقد أَغْنَيتَ وكفَيتَ، وصدَّقْتَ ظنِّي بك ورأيي فيك، وقد بلغني أن الحسين قد توجَّهَ نحو العراق، فضَعِ المناظرَ والمسالح، واحتَرِسْ واحبِسْ على الظِّنَّة، وخُذْ على التُّهَمَة؛ غير أنك لا تقتلُ إلا من قاتَلَك، ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف في "تاريخ" الطبري 5/ 374 - 378. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 2/ 78 - 81. (¬2) في (خ) (والكلام منها فقط): أما أنا، بدل: أني أنا. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 378 - 379، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 81 - 82.

واكتبْ إليَّ بكلِّ ما يحدُثُ من خبر إن شاء الله (¬1). فقد ابتُلِيَ بالحسين زمانُك من بين الأزمان، وبلدُك من بين البلدان، وابتُلتَ به بين العمال، وإنما أنتَ أَحَدُ أعضاءِ ابنِ عمك، فاحْرِصْ أن تكون كلَّها (¬2)، وعندها تُعتقُ أو تعودُ عبدًا. والسلام (¬3). وكان مخرجُ مسلم بن عَقِيل يوم الثلاثاء (¬4) لثمانِ ليالٍ مضَينَ من ذي الحجَّة سنة ستين، ويقال: يوم الأربعاء يوم عرفة بعد (¬5) مخرجِ الحسين من مكة إلى العراق بيوم. ولما خرج مسلم بن عَقِيل؛ خرج معه المختارُ بن أبي عُبيد، وعبدُ الله بن الحارث بن نوفل، ومع المختار رايةٌ خضراء، ومع عبد الله رايةٌ حمراء، وجاء المختارُ برايته فركزها عند باب عَمرو بن حُريث، وقال: إنما جئتُ لأمنع (¬6) عَمرًا. فلما قُتل مسلم أمرَ ابنُ زياد بحبس المختار وعبدِ الله بن الحارث. وحجَّ بالناس عَمرو بن سعيد بن العاص. قال معمر: لما كان يومُ التروية قدم عمرو بن سعيد مكة في جند كثيف، وكان يزيد قد كتبَ إليه أنْ يُناجزَ الحسين إد هو ناجزَه، أو يغتاله إن عجزَ عنه، وعلم الحُسين - رضي الله عنه -، فخرج يومَ التروية، وقبل خروجه طاف بالبيت ومعه عبد الله بن الزبير، فقال له عبد الله: أقِمْ ها هنا ونُقاتل أبناءَ المنافقين، فقال: لا أُريد القتال في الحرم. قال: فلعلَّنا لا نلتقي بعد هذا اليوم، فأخبرني متى يرثُ المولودُ، ويُورَث، ويتمُّ عقلُه؟ وعن جوائز السلطان؛ هل تحلُّ أم لا؟ فقال الحسين - رضي الله عنه -: أمَّا المولود؛ فإذا استهلَّ صارخًا، وأمَّا جوائز السلطان؛ فحلال ما لَم يَغصِبِ الناسَ أموالهم. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 380 - 381. والكلام بعده في "تاريخ دمشق"، ينظر "مختصره" 7/ 145. قوله: المناظر، هو جمع المنظر، أي: المَرْقَبة (موضع الراقبة). والمسالح: جمع المَسْلَحَة، وهو الموضع الذي يقف فيه الجند بالسلاح للمراقبة وغيرها. (¬2) ينظر "العقد الفريد" 4/ 207. (¬3) البداية والنهاية 11/ 508، ومختصر تاريخ دمشق 7/ 145. وسلف نحوه من قول عمرو بن سعيد. (¬4) في "تاريخ" الطبري 5/ 381: بالكوفة يوم الثلاثاء. (¬5) ينتهي في هذا الموضع الخرم الذي وقع في (ب) في أواخر ترجمة قيس بن سعد بن عبادة في السنة (59) عند قوله فيها: "ولا يعاقبون بشيء وأنا رجل منهم" فكان الكلام بين هذين الموضعين من (خ) وحدها. (¬6) في (ب) و (خ): لأتبع. والتصويب من "تاريخ" الطبري 5/ 381.

بلال بن الحارث المزني

وقيل: أقامَ الحجَّ يحيى بن سعيد نيابةً عن أخيه، وكان على مكة والمدينة عمرو بن سعيد، وعلى الكوفة والبصرة عُبيد الله بنُ زياد، وعلى خُراسان عبدُ الرحمن بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شُريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هُبيرة (¬1). وفيها توفي بلال بن الحارث المُزَنيُّ من الطبقة الثالثة من المهاجرين، كنيتُه أبو عبد الرحمن. قال ابن عبَّاس: أعطى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلال بنَ الحارث المُزَنيَّ معادنَ القَبَليَّة؛ جَلْسِيَّها وغَوْرِيَّها، وحيثُ يصلح الزرعُ من قُدْس (¬2). فلما كان عمرُ بنُ الخطاب رضوان الله عليه قال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُقْطِعْ (¬3) لتحتجزه (¬4)، فخُذْ منه ما قَدَرْتَ عليه وعلى عمله، وأَطْلِقْ الباقي للمسلمين. ففعل. وقال أبو بشير المازنيُّ: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "من وجدتُموه يقطع من الحِمَى شيئًا فلكم سَلَبُه". وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - استعملَ عليه بلال بنَ الحارث المزنيّ، وعلى عهدِ أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، فمات بلال في خلافة معاوية، فاستعمل على الحمى بعذ ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 399، والمنتظم 5/ 329. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 148. وأخرجه أيضًا- أبو داود (3062). قوله: معادن القَبَلِيَّة، منسوبة إلى قَبَل، بفتح القاف والياء، وهي ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل: هي من ناحية الفُرْع، وهو موضع بين نخلة والمدينة. وقوله: جَلْسِيَّها؛ الجَلْس: كلُّ ما ارتفعَ من الأرض، وقوله: غَوْريَّها؛ الغَوْر: كل ما انخفضَ من الأرض. وقولُه: قُدْس: هو جبل، وقيل: هو الموضع المرتفع الذي يصلح للزراعة. "النهاية": (جلس- غور- قبل- قدس). (¬3) المثبت من (ب). وفي (خ): يعطه، ولعلها: يُقْطِعْكَهُ، ففي "طبقات" ابن سعد 5/ 149: ما أقطعَكَهُ. (¬4) كذا في (ب) و (خ). وفي "طبقات" ابن سعد 5/ 149: لتحتجنه، وشرح عليها ابن الأثير في "النهاية" فقال: أي: تتملَّكه دون الناس، والاحتجان: جمع الشيء وضمُّه إليك. اهـ. والحديث في "السنن الكبرى" للبيهقي 6/ 149، وفيه: لتحجره، وجاء في هامشه لفظة: لتحرزه. (¬5) كذا في "طبقات" ابن سعد 5/ 149، وعنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 3/ 442 (مصورة دار البشير). وبنحوه في "مغازي" الواقدي 2/ 425 - 426.

خراش بن أمية

وتوفِّي في سنة ستين، وهو ابنُ ثمانين سنة (¬1). وحضر غَزاةَ دَوْمَةِ الجَنْدل مع خالد بنِ الوليد (¬2)، وهو أوَّلُ من قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وفد مُزَينة سنة خمس من الهجرة (¬3). وقدم مصر لغزو إفريقية ومعه أربع مئة من قومه، وكان يحمل لواءهم (¬4). وابنُه حسان بن بلال أوَّلُ من أظهرَ الإرجاء بالمدينة (¬5). أسند بلال الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6). خِراشُ بن أُميَّة ابن ربيعة الكعبيّ، كنيتُه أبو نَضْلة، من الطبقة الثالثة من المهاجرين. شهد مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المُرَيسِيع، والحُدَيبية، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ إلى قريش، وهو الذي حلق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحُدَيبِية [وحَلَقَهُ أيضًا في عُمرة] الجِعِرَّانة (¬7)، وأقام بالمدينة حتى توفي بها في هذه السنة. زيد بن خالد الجُهَني أبو عبد الرحمن، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، توفي بالكوفة سنة ستين آخِرَ خلافة معاوية، وقيل: مات بالمدينة سنة ثمان وسبعين، وهو ابنُ خمس وثمانين سنة، وله صحبة ورواية (¬8). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 149، والمعارف ص 298، وتاريخ دمشق 3/ 440، و 444. (¬2) تاريخ دمشق 3/ 435. (¬3) المصدر السابق. (¬4) تاريخ دمشق 3/ 441. (¬5) المعارف ص 298، والثقات 3/ 29. (¬6) روى له أصحاب السنن؛ ينظر "تهذيب الكمال" 4/ 283. (¬7) ما بين حاصرتين من "طبقات" ابن سعد 5/ 189. والكلام منه، ووقع بدله في (ب) و (خ): في. (¬8) طبقات ابن سعد 5/ 262. وروى له الجماعة، ينظر "تهذيب الكمال" 10/ 63.

شريك بن الأعور الحارثي

شريك بن الأعور الحارثي شاعر، وفد على عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وكان من أصحاب عليّ عليه السلام، شهدَ معه الجمل وصفِّين، ووفدَ على معاويةَ، وأشخَصَه ابنُ زياد من البصرة إلى الكوفة، فمات بعد خروج مسلم بن عَقِيل بثلاثة أيام. أبو مسلم الخَوْلاني واسمُه عبد الله بن ثُوَب، على خلاف في ذلك، من الطبقة الثانية من التابعين (¬1)، وقيل: من الأولى (¬2). كان من الأفاضل الأخيار، صاحب كرامات، مُجابَ الدعوة (¬3). نزل داريا [قرية من قرى الشام]. وأدرك جماعة من الصحابة، منهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما، وهو الذي أُلقيَ في النار فلم تضرَّه. قال شُرَحْبِيل بنُ مسلم: إنَّ الأسود العنسيَّ تنبَّأَ باليمن، فأرسل إلى أبي مسلم، فقال: تشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله؟ قال: نعم. قال: تشهدُ أني رسولُ الله؟ قال: لا (¬4). فأمرَ بنارٍ عظيمة فأُضْرِمَتْ، وطَرَح أبا مسلم فيها، حخرجَ منها سالمًا لم تضرَّه، فقال له أصحابه: أخْرِجْه؛ وإلَّا أفسدَ عليك البلاد. فأخرجَه من اليمن. فقدم المدينة وقد قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، واستُخلِفَ أبو بكر رضوان الله عليه، فأناخَ راحلتَه على باب المسجد، ودخلَ فقام فصلَّى إلى سارية، فبَصُرَ به عمر بنُ الخطاب ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): الثالثة، وهو خطأ، ولفظ العبارة في (م): (ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من التابعين وقال: أدرك الجاهلية وأسلم قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عهده، ولم يره). ولم يرد هذا الكلام في ترجمته في "الطبقات" 9/ 451، وهو بنحوه في "تاريخ دمشق" ص 489 عن ابن منده. (¬2) في (ب) و (خ): الأول. وذكر ابن عساكر عن خليفة قوله: في الطبقة الأولى من أهل الشام أبو مسلم الخولاني. تاريخ دمشق ص 485 (ترجمة أبي مسلم الخولاني- طبعة مجمع دمشق). (¬3) نُسب القول في (م) لعبد الجبار بن محمد، وما سيرد بين حاصرتين منها. وينظر "تاريخ دمشق" ص 489. (¬4) في "تاريخ دمشق" ص 493 و 494: ما أسمع.

رضوان الله عليه، فجاء فجلس إليه وقال: من أين الرجل؟ قال: من اليمن. قال: ما فعل صاحبُنا الذي حرقَه الأسود بالنار فلم تضرَّه؟ قال: ذلك عبد الله بن ثُوب. فقال: ناشدُتك الله، أنتَ هو؟ قال: نعم. فقام عمر رضوان الله عليه، فقبَّل ما بين عينيه، ثم جاء به، فأجلسه بينه وبين أبي بكر رضوان الله عليه وقال: الحمدُ لله الذي لم يُمتني حتى أراني رجلًا من أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - فُعِلَ به كما فُعل بإبراهيم الخليل - عليه السلام - (¬1). وقال علقمة بن مَرْثد: انتهى الزُّهد إلى ثمانية من التابعين، منهم أبو مسلم الخَوْلَاني، ما كان يُجالس أحدًا يتكلَّم في أمور الدنيا إلا تحوَّل عنه (¬2). وكان يصوم الدهر، ويقوم الليل، ويصلِّي كلَّ يوم وليلة أربع مئة ركعة ويقول: إنَّ الخيل لا تجري إلى الغابات وهي بُدْنٌ، إنما تجري وهي ضُمْر، وإنَّ بين أيدينا أيامًا لها نعمل (¬3). وقال الحافظ أبو نُعيم: كان أبو مسلم كثيرَ الغزو لبلاد الروم، فإذا مرُّوا بنهر يقول: اُعْبُروا بسم الله. ويمرُّ بين أيديهم. فيمرُّون بالنهر الغَمْر، فربَّما لا يبلغ من الدوابّ إلا إلى الرُّكَب، أو قريبًا من ذلك، فإذا جاوز النهر قال: من ذهبَ له شيء فأنا ضامنٌ له. فألقى بعضُهم مِخْلاةً عَمْدًا، فلما جاوز قال الرجل: مِخْلاتي وقعت في النهر. قال: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عبد البَرّ في "الاستيعاب" ص 860، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" ص 493، و 494، من طريق إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم، به. قال ابن عبد البر: صدر الخبر معروف مثله لحبيب بن زيد بن عاصم مع مسيلمة، فقتله مسيلمة. . . وإسماعيل بن عياش ليس بحجة في غير الشاميين. وقال الذهبي في "السير" 4/ 9: شرحبيل أرسل الحكاية. وجاء آخر الخبر في (م) ما نصُّه: (وهذه رواية أبي نعيم، وقد ذكر القصة ابن عساكر وقال: لم يحترق منه إلا أمكنة لم يصبها الوضوء). اهـ. قلت: وقد أخرج ابن عساكر الخبر من رواية شرحبيل، وذكره أيضًا من رواية أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، وفيه نحو الكلام الذي وقع في (م). (¬2) حلية الأولياء 2/ 123، وصفة الصفوة 4/ 209. وذكر أبو نعيم الزهَّاد الثمانية في "الحلية" 2/ 87 في ترجمة عامر بن عبد الله بن قيس، (وهو أحدهم)، والستَّة الآخرون هم: أُوَيس القَرْني، وهَرِم بنُ حيَّان، والرَّبيع بن خُثيم، ومسروق بنُ الأَجْدَع، والأسود بن يزيد، والحسن البصري رضي الله - رضي الله عنهم -. (¬3) حلية الأولياء 2/ 127 وتاريخ دمشق ص 500 (ترجمة أبي مسلم- طبعة مجمع دمشق)، وصفة الصفوة 4/ 210.

اتبعني. فإذا هي قد تعلَّقت ببعض أشجار النهر (¬1). وروى ابنُ عساكر قال: كان أبو مسلم يخوضُ دجلة وهي ترمي بالخشب من مدِّها، ولا يضرُّه ذلك (¬2). [قلت: هذا واحدٌ من الأمة شارك الخليل - عليه السلام - في خوض النار، وشارك موسى - عليه السلام - في خوض البحر] (¬3). قال عطاء: قالت امرأة أبي مسلم الخَوْلاني: ليس لنا دقيق. فقال: هل عندكِ شيء؟ فقالت: درهمٌ بِعْنا بِهِ غَزْلًا. فقال: اِبْغِينيه، وهاتي الجِراب. وأخذَه ومضى إلى السوق، ووقفَ على بائع الطعام، فجاء سائل، فقال له: تَصَدَّقْ عليَّ للهِ تعالى. فأعطاه الدرهم، وعَمَدَ إلى الجِراب، فملأه من نُحاتةِ النَّجَّارِين، ثم أقبل إلى [باب] بيته، فرماه في الدِّهْليز، ومضى إلى المسجد. فأخذتِ المرأةُ الجِراب، فإذا فيه دقيق حُوَّارَى (¬4)، فعجَنَتْ (¬5) منه وخَبَزَتْ. وجاء أبو مسلم بعد هَدِيءٍ (¬6) من الليل، فدخل فقدَّمَتْ إليه أرغفةً، فقال: من أين لكم هذا؟ ! قالت: من الدقيق الذي جئتَنا به في الجِراب، ولا تشتري إلا منه. فجعل يأكل ويبكي. ويقول: نعم (¬7). وكانت لأبي مسلم منزلة من معاوية، كان إذا دخل عليه قام وقعد بين يديه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" ص 503 (ترجمة أبي مسلم) من طريق أبي نعيم، ولم أقف عليه في "الحلية". وذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 4/ 210. (¬2) تاريخ دمشق ص 503 و 505. (¬3) ما بين حاصرتين من (م). (¬4) أي: دقيق أبيض، وهو لُباب الدقيق. (¬5) في (ب) و (خ): فعجبت. والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في المصادر. (¬6) أي: حينَ هَدَأ الليل. ووقع في (م): هَوِيّ، أي: ساعة. ينظر "القاموس": (هدأ -هوى). (¬7) تاريخ دمشق 508 - 509، وصفة الصفوة 4/ 211، وسير أعلام النبلاء 4/ 12. وليس فيها آخر الخبر قوله: "ويقول نعم" ونُسب الخبر في (م) للخطيب البغدادي، وقد أخرجه ابن عساكر من طريقه، ولم أقف عليه في "تاريخ بغداد".

وكان أبو مسلم إذا انصرفَ من المسجد إلى منزله كبَّر على باب منزله، فتجيبُه زوجتُه بالتكبير، فإذا كان في صحن الدار كبَّر فتُجيبُه امرأتُه، فإذا بلغ إلى باب البيت كبَّر، فتُجيبه. فانصرفَ ذاتَ ليلةِ إلى باب منزلِه، فكبَّر، فلم يُجبه أحد، فدخل فكبَّر في صحن الدار، فلم يُجبه أحد، فكبَّر على باب البيت، فلم يُجبه أحد. وكان من عادة زوجته إذا دخلَ بيتَه قامت إليه، فنَزَعَتْ رداءه، وأخَذَتْ نعليه، وجاءَتْه بطعام يُفطر عليه، فلم تقُم إليه. فدخل البيت، وإذا ليس فيه سراج، وإذا بامرأته جالسةٌ منكِّسةَ الرأس، فقال لها: ما لكِ؟ فقالت: أنتَ لك من معاوية منزلةٌ، وليس لنا خادم، فلو سألتَه فأخْدَمَنا خادمًا. وقد كانت جاءَتْها امرأةٌ قبل ذلك، فقالت: إنَّ زوجَكِ له منزلةٌ من معاوية، فلو أخبرَه بحالكم، فأَخْدَمَكُم خادمًا نَعَشْتُم. فلما قالت له امرأته ذلك فهم، فرفعَ يديه وقال: اللَّهم من أفسدَ عليَّ امرأتي أفْسِدْ عليه بصرَه. فبينا تلك المرأة جالسةٌ في بيتها إذْ أنكَرَتْ بصرَها، فقالت لأهلها: ما لِسراجِكم قد طَفِئ؟ فقالوا: ما طَفِئَ. فعلمَتْ من أين أُتِيَتْ، فقالت: قودوني إلى دار أبي مسلم، فقادوها (¬1) إليه وهي تبكي وتسألُه أن يدعوَ لها. فرقَّ لها ورحمها، وسألَ اللهَ، فردَّ عليها بصرَها، ورجعت المرأة إلى الحال التي كانت عليها (¬2). وقال أبو مسلم: ما طلبتُ من الدنيا شيئًا فوفي (¬3) لي، حتى لقد ركبتُ حمارًا مرَّة، فلم يمش، فنزلتُ عنه، فركبَه غيري، فمشى، ونمتُ ورأيتُ قائلًا يقول لي: لا تحزنْ على ما زُويَ عنك من الدنيا، وإنما يُفعل هذا بأوليائه وأحبابه وأهل طاعته. فسُرِّيَ عني. وقال: تركُ الذنب خيرٌ من التوبة. وكان يقول: لأَن يولدَ لي مولودٌ يُحسِنُ اللهُ نباتَه؛ حتى إذا استوى على شبابه وكان أعجبَ ما يكون إليّ؛ قبضه اللهٌ مني؛ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها (¬4). ¬

_ (¬1) في (م): ودُّوني ..... فودُّوها. (¬2) تاريخ دمشق ص 507، وصفة الصفوة 4/ 212. (¬3) كذا في (ب) و (خ). وفي (م): شيء فوتي. وفي "صفة الصفوة" 2/ 212: فوُلّي. (¬4) حلية الأولياء 2/ 127، وصفة الصفوة 4/ 213.

[وقال أبو نُعيم: كان قد علَّق سَوْطًا في مسجده ويقول: أنا أولى بالسَّوْط من الدوابّ. فإذا دخل ضرب روحه سَوْطًا أو سَوْطين] (¬1). كان يقول: لو رأيتُ النارَ عِيانًا ما كان عندي مستزادٌ (¬2). وكان الصبيان يقولون له: يا أبا مسلم، احبسْ علينا هذا الطائر، فيدعو، فيحبسُه الله حتى يأخذوه بأيديهم (¬3). ورآه كعب الأحبار فقال: هذا حكيم هذه الأمة (¬4). وكان يمشي في داريا إلى مسجد دمشق [-وبين داريا ومسجد دمشق أربعة أميال-] يلتمس الفضيلة (¬5). وكان إذا استسقى سُقي (¬6). وكانت له سُبْحَة يُسَبِّح بها، فنام ليلة وهي في يده، فاستدارت تسبِّح، فالتَفَّتْ على ذراعه، فانتبه، فقال لامرأته: يا أمَّ مسلم، هلمّي فانظري العجب. فجاءت؛ وإذا السُّبْحَة تسبِّح وتلتفُّ على ذراعه وتقول: سبحانك يا منبت النبات، ويا دائم الثبات. فلما جلست المرأة سكنت السُّبْحة (¬7). وقالت له جاريته [يومًا]: لقد جعلتُ لك السُّمَّ في طعامك غير مرة، ولا يضرُّك. فقال: "ولمَ فعلت؟ قالت: أنا جارية شابَّة، ولا تُدنيني من فراشك. قال: فإنّي أقول إذا ¬

_ (¬1) كذا في (م) والكلام منها (وهو ما بين حاصرتين) والخبر في "حلية الأولياء" 2/ 127، و"تاريخ دمشق" ص 498، و "صفة الصفوة" 4/ 213، وفيها: فإذا دخلته فترة مَشَقَ ساقَه سوطًا أو سوطين. (¬2) المصادر السابقة، وفيها أيضًا قوله: لو رأيت الجنةً عيانًا ما كان عندي مستزاد. (¬3) تاريخ دمشق ص 507، وصفة الصفوة 4/ 213. قال ابن عساكر: كذا قال: الطير، والمحفوظ: الظبي. ثم أخرج الرواية التي فيها لفظة: الظبي، وأخرجها أيضًا أبو نُعيم في "حلية الأولياء" 2/ 129، ونُسب الخبر في (م) إليه. (¬4) حلية الأولياء 2/ 124، وتاريخ دمشق ص 496. (¬5) تاريخ داريا ص 60، وتاريخ دمشق ص 499. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬6) تاريخ دمشق ص 505. (¬7) تاريخ دمشق ص 510.

قرَّبتِ إليَّ طعامًا: بسم الله خيرِ الأسماء الذي لا يضرُّ مع اسمه داء، ربِّ الأرض والسماء. وأعتقها (¬1). وقد ذكره القاضي أبو بكر محمد بنُ الطَّيِّب في كتاب "الإمامة"، وأثنى عليه؛ قال (¬2): دخل أبو مسلم على معاوية في جماعة من أماثل أهل الشام، فقال له أبو مسلم: يا معاوية، نراك قد استَعْدَدْتَ لمحاربة عليِّ بنِ أبي طالب، وألزَمْتَه دمَ عثمان، وقد بلَغَنا أنه بريءٌ من دمه، وله من السابقة والقِدم والقَرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يُنكره أحد. فقال [له] معاوية: ألستُم تعلمون أنَّ عثمان قُتل مظلومًا؟ قالوا: بلى. قال: فليدفَعْ إلينا قَتَلَةَ عثمان نقتُلْهم به، وهو الإمام، ولا محاربة بيننا وبينه (¬3). فقال له أبو مسلم: أنصفت، ائذن لنا أن نأتيَه. فقال: قد أذنتُ. فخرج أبو مسلم في جماعة فيهم أبو هريرة، فأَتَوْا عليًّا رضوان الله عليه، فأدركوه بالرَّحْبة، فذكروا له ما قال معاوية، فأذن للناس فدخلوا عليه، فقال: من قتلَ منكم عثمان؟ فقالوا كلُّهم: نحن قتلناه، أو فقالوا: كلُّنا قتلناه. فرجع أبو مسلم، فدخل على معاوية، فأخبره بما قالوا، ثم التفتَ أبو مسلم إلى أهل الشام، فقال: انصروا خليفتَكم المظلوم، وأنا أوَّلُكم في سرَعان الناس (¬4). وقال هشام بن الغاز (¬5): قام أبو مسلم إلى معاوية وهو على المنبر، فناداه: يا معاوية، إنما أنت قبرٌ من القبور، أتحسبُ أن الخلافة جمعُ المال وتفريقُه؟ ! كلا، إنما هي قول بالحقّ وعمل بالعدل، يا معاوية، إنَّا لا نُبالي إذا تكدَّرت الأنهار وصفا لنا رأسُ العين. فقال معاوية: صدقتَ يا أبا مسلم، يرحمُك الله. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) في (ب) و (خ): وقال أبو بكر بن محمد (كذا، وهو خطأ) الطَّيِّب، بدل قوله أعلاه: وقد ذكره القاضي ... إلخ وهو من (م). والقاضي ابنُ الطيِّب هو ابنُ الباقِلَّاني، ذكر له القاضي عياض كتاب "الإمامة" في "ترتيب المدارك" 4/ 601. (¬3) في (م): ولا بيننا وبينه معاداة. (¬4) سَرَعان الناس أي: أوائلهم المستَبِقون إلى الأمر. (¬5) الخبر في "حلية الأولياء" 2/ 126، و"تاريخ دمشق" ص 515 من طريق هشام بن الغاز، عن يونس الهرم، أن أبا مسلم ... ونُسب الخبر في (م) لابن عساكر.

ودخل عليه يومًا فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقال الناس: الأمير يا أبا مسلم (¬1)! فقال معاوية: دَعُوا أبا مسلم، فإنّه أعلم بما يقول. فقال أبو مسلم: إنما مَثَلُك مَثَلُ رجلٍ استأجر أجيرًا، فولَّاه ماشيته، وجعلَ له الأجر على أن يُحْسِنَ الرِّعْيَة (¬2). فإنْ هوَ أحسن إليها (¬3) حتى تلحقَ الصغيرة، وتسمنَ العجفاء؛ أعطاه أجرَه وزاده، وإنْ هو أضاعَها غضبَ عليه وعاقَبَه، ولم يُعْطه أجرَه. فقال معاوية: ما شاء الله! وحبس معاوية العطاء عن الناس شهرين، فقام إليه أبو مسلم وهو على المنبر، فقال: يا معاوية، إن هذا المال ليس من كَدِّك ولا كَدِّ أبيك، وإنما هو مالُ الله. فقال معاوية: صدقت. اغدوا على عطائكم (¬4). ذكر وفاته: مات في سنة ستين في أيام يزيد بن معاوية (¬5). وقيل: في أيام معاوية (¬6). وقيل: سنة اثنتين وستين (¬7). [والأول أصح]. وقيل: سنة أربع وأربعين. وهو وهم. ومات بدمشق بداريا، ودُفنَ بها، وقبرُه يزار. وقيل: مات بأرض الروم في غَزاة مع بُسْر بنِ أبي أَرْطاة، وأوصى أن يُدفن في قبور الشهداء. ¬

_ (¬1) جاءت العبارة في (ب) و (خ) بلفظ: السلام عليك أيها الأمير فقال أبو مسلم: أيها الأمير. والتصويب من "تاريخ دمشق" ص 516. ولم يرد هذا الخبر في (م). (¬2) في (ب) س (خ): إلى الرعية، والمثبت من "حلية الأولياء" 2/ 125. و"تاريخ دمشق" ص 516. (¬3) في المصدرين السابقين: أحسن رِعْيَتَها. (¬4) في (خ): أعطياتكم، وفي (م): غدًا أزيد على عطائكم. والخبر في "حلية الأولياء" 2/ 130 بأطول منه، وفيه عطاياكم. وقد نُسب في (م) لأبي نُعيم. (¬5) نسب هذا القول في (م) لابن سعد، وهو في "طبقاته" 9/ 451 دون ذكر سنة وفاته. (¬6) التاريخ الصغير ص 129، (وينظر فيه ص 136). ونسب هذا القول في (م) للبخاري. (¬7) تاريخ دمشق ص 525. قال ابن عساكر: هذا وهم، بل مات قبل ذلك.

أبو حميد الساعدي

قال محمد بن شعيب (¬1) عن بعض مشيخة دمشق قال: أقبلنا من أرض الروم إلى دمشق، فمررْنا بالعمير الذي يلي حمص على أربعة أميال منها، فاطَّلع راهبٌ من صومعته فقال: من أين أنتم؟ قلنا: من أهل دمشق، كنَّا بأرض الروم. قال: هل تعرفون أبا مسلم الخَوْلانيّ؟ قلنا: نعم. قال: أقرئوه عني السلام، وأخبروه أنَّا نجد في الكتب أنه رفيق عيسى بن مريم، أَمَا إنكم لا تجدونه حيًّا. فلما أشرفنا على الغوطة بَلَغَنا خبرُ موتِه. [وهذه الرواية تدلُّ على أنه مات بدمشق]. قال ابن عساكر: والذي دوَّنه العلماء أنه مات بأرض الروم (¬2). ولم يذكر أحدٌ أنه نُقل إلى داريا، وأظنُّ المكان الذي نُسب إليه بداريا قبر عمرو بن عُبيد (¬3) الخولاني، فإنه خلف على أمِّ مسلم؛ امرأةِ أبي مسلم، وكان عَمرو من أفضل زمانه. أسند أبو مسلم عن أبي بكر، وعمر، ومعاذ بنِ جبل، وعُبادة بنِ الصَّامت، وأبي عُبيدة بن الجرَّاح، وأبي ذرّ، وعوف بنِ مالك، وغيرهم - رضي الله عنهم -. وروى عنه أبو إدريس الخَوْلاني، وعُمير بن هانئ، ومكحول، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخُراساني، وجُبير بن نُفير، وأبو العالية الرِّياحي، وأبو قِلابة الجَرْمي في آخرين. رحمة الله عليه (¬4). أبو حُميد السَّاعدي واسمُه عبد الرحمن [بن] عَمرو بن سَعْد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عَمرو بن الخزرج بن ساعدة، وهو من الطبقة الثانية، من الخزرج (¬5). ¬

_ (¬1) في (م): وقال أبو نعيم: حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد قال: وجدتُ بخط أبي نبذة عن محمد بن شعيب ... والكلام في "حلية الأولياء" 2/ 128، و "تاريخ دمشق" ص 524، وفيه: وجدتُ في كتاب أبي بخط يده: حُدِّثت عن محمد بن شعيب ... ، وفي "الحلية": يحدث، بدل: حُدِّثت. (¬2) لم أقف على قول ابن عساكر هذا. (¬3) كذا في (ب) و (خ) و (م). وفي "تاريخ داريا" ص 71، و "تاريخ دمشق" 55/ 319: عمرو بن عَبْد. وينظر ترجمة أم مسلم الخولانية في "تاريخ دمشق" ص 550 (تراجم النساء). (¬4) وروى له مسلم وأصحاب السنن. ينظر "تاريخ دمشق" ص 483، و "تهذيب الكمال" 34/ 390. (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 367.

عبد المطلب بن ربيعة

شهد أُحُدًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان له من الولد: المنذر، وسَعْد، وعَمْرة. وأمُّهم كَبْشَة بنتُ [عَبْد] عَمرو بن عُبيد (¬1)، خزرجيَّة، وانقرضَ ولده. أسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث. [وليس في الصحابة من كنيته أبو حُميد غيره]. ومن مسانيده: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدُكم المسجد فليقل: اللهمَّ افْتَحْ لي أبوابَ رحمتك. وإذا خرج يقول: اللهمَّ إني أسألك من فضلك" (¬2). عبد المطَّلب بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد مناف. نزل دمشق، وبنى بها دارًا، وكان له من الولد محمد؛ وأمُّه أُمُّ البنين بنت حُمْرَة (¬3) بن مالك؛ هاجر حُمْرَة من اليمن إلى الشام في أربع مئة عبد، فأعتقهم جميعًا، فانتسبوا إلى هَمْدان بالشام، فلذلك كره أهلُ العراق أنْ يُزَوِّجُوا أهلَ الشام لكثرة دَغَلِهم (¬4)، ومن انتمى إليهم من غيرهم. وكان لعبد المطَّلب أروى؛ أمُّها أمُّ عمير بنت مازن (¬5). ولم يزل عبد المطلب بن ربيعة بالمدينة إلى زمن عمر بن الخطاب، ثم تحوَّل إلى دمشق، وهلك بها في أيام يزيد بن معاوية، وأوصى إلى يزيد، فقبلَ وصيَّته. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): عمرو، بدل: عُبيد، والتصويب من "طبقات" ابن سعد 4/ 367. وذكرها أيضًا ابن حبان في "الثقات" 3/ 357. ولم يرد هذا الكلام (من أول الترجمة) في (م)، وما سلف بين حاصرتين من "الطبقات". (¬2) أخرجه مسلم (713) وفيه: عن أبي حُميد، أو عن أبي أُسَيْد. ونُسب الحديث في (م) إلى البخاري، وهو خطأ، فالحديث ليس في "صحيح" البخاري. (¬3) تحرف في (ب) و (خ) في الموضعين إلى: حمزة. وهذا الكلام ليس في (م). (¬4) تحرفت اللفظة في النسختين (ب) و (خ) إلى: دعائهم. وينظر "طبقات" ابن سعد 4/ 53، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 256. (¬5) كذا في (ب) و (خ). وفي "الطبقات": وأمها بنت عمير بن مازن.

عمرو بن الزبير

أسند عبد المطَّلب الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عمرو بن الزُّبير ابن العوَّام، وأمُّه أمُّ خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، من الطبقة الثانية (¬1) من التابعين، من أهل المدينة. وكان أجملَ أهلِ زمانِه، وكان شديد العارضة، منيع الحَوْزَة. وكان يقال: عمرٌو لا يُكَلَّمُ، ومن يُكَلِّمْ عمرًا يندم. وكان يجلس بالبِلاط، ويطرحُ عصاه، فلا يتخطَّاها أحدٌ إلا بإذنه. وكان قد اتَّخذ من العبيد مئتين (¬2). وكان الزبير بن العوام - رضي الله عنه - يوقف عَمرًا ومصعبًا، فينظُر أيُّهما أحسنُ، ثم يقول: ما خلقَ اللهُ شيئًا أحسنَ منكما. وكان عمرو مغاضبًا لأخيه عبد الله يروم ما يرومه (¬3). ولما قدم عمرو بنُ الزبير من المدينة إلى مكة كان يخرجُ فيصلِّي، وعبدُ الله لا يمنعه، ويجلسان فيتحدَّثان، فيقول له عمروء: يا أخي، احْقِنْ دماء المسلمين، وبِرَّ قسم يزيد، وأجعلُ في عنقك جامعةً من فضَّة، فلا يضرُّك، ولا تجعل الناس بعصيانك في بلد حرام وشهر حرام يضرب بعضهم بعضًا، فقال عبد الله: أنا سامعٌ مطيع، وأنت عامل يزيد، وأنا أصلِّي خلفك، فأمَّا أن تجعلَ في عنقي جامعةً وأُقاد إلى الشام؛ فلا ولا كرامة وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلُّ للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه" فراجِعْ يزيد. فقال عمرو: لا والله، ما أَقدِرُ على ذلك. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): الثالثة، وهو خطأ، وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 184، و"تاريخ دمشق" 55/ 67 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) في "تاريخ دمشق" 55/ 70 (والكلام فيه): مئين. (¬3) كذا في النسختين (ب) و (خ)، ولم أقف عليه، والترجمة ليست في (م). وجاء في "أنساب الأشراف" 4/ 347: وكان (يعني عمرًا) مباينًا لأخيه عبد الله بن الزبير يُظهر عيبه ويُكثر الطعن عليه.

ثم إن عبد الله حبسَ عمرًا في حبس عارم (¬1)، وحبس معه عارمًا -واسمه زيد (¬2) - وكانت دارًا، فقيل: سجن عارم، وبنى عبدُ الله بن الزبير لعارم بيتًا ذراعين في ذراعين، وأطبق عليه الجصّ والآجرّ بعد أن جعله فيه، وكان عارم مع عمرو بن الزبير. ونادى منادي ابن الزبير: ألا مَنْ كانت له على عمرو بن الزُّبير ظُلامة، أو قصاص، فلْيحضُرْ. وكان قد ضربَ جماعة بالمدينة. فأحضره عبدُ الله بنُ الزُّبير وقال له: يا عدوَّ الله، المستحلَّ لحرمةِ الله، لَأضْربنَّك بكل سَوْط ضربتَ به أحدًا من الناس. وطلبَ غرماؤه القصاص إلا المنذر [بن] الزبير (¬3)، وابنه محمد، وعثمان (¬4) بن عبد الله بن حكيم بن حزام، فإنَّهم أبَوْا أنْ يقتصُّوا منه. وكان يُقام كل يوم فيُقتصُّ منه لمن ضربَه ضربًا وثيقًا (¬5). فقام مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، فقال: جلدَني مئة سَوْط، وليس بوالٍ، ولم آتِ ذنبًا، ولم أخلع يدًا من طاعة. فقال له عبد الله: اقتصَّ منه. فضربَه مئة سَوْط. فنَغِلَ جسمُه (¬6)، فمات. فأمر به عبدُ الله، فصُلِب (¬7). وقيل: صحَّ من ذلك الضربِ، وأُخرج من السجن، فمرَّ به عبدُ الله بنُ الزبير وهو جالسٌ بفِناء داره وقال: أبا يَكْسُوم (¬8)، ألا أراك حيًّا؟ ! ثم أمر به، فسُحب إلى السجن، فما بلغه حتى مات، فأمرَ به عبدُ الله، فطُرِح في شِعْب الخَيف، وهو المكان الذي صُلِبَ فيه ابنُ الزُّبير من بعد (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): عامر، وهو خطأ. وعارم لقب لزيد غلام محمد بن عبد الرحمن بن الحارث، ويقال: غلام مصعب بن عبد الرحمن بن عوف. ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 351، و "تاريخ دمشق" 55/ 73. (¬2) في (ب) و (خ): يزيد، وهو خطأ. (¬3) في النسختين (ب) و (خ): المنذر والزبير، والصواب ما أثبتُّه إن شاء الله. والكلام ليس في (م)، وينظر ما سلف ص 171. (¬4) في (ب) و (خ): عمرو، وهو خطأ. (¬5) كذا في (ب)، وهي مهملة من النقط في (خ) والكلام ليس في (م). (¬6) أي: فسد. (¬7) ينظر "أنساب الأشراف" 8/ 303، و"طبقات" ابن سعد 7/ 185، و "تاريخ دمشق" 55/ 73. (¬8) أبو يكسوم لقب لأبرهة صاحب الفيل شبّه به أخاه. ينظر "اللسان" (بره). (¬9) طبقات ابن سعد 7/ 188، وتاريخ دمشق 55/ 73.

أبو أسيد الساعدي

ومن ولدِ عمرو بن الزُّبير: الوليدُ بنُ عمرو بن الزُّبير [بن عمرو بن عمرو بن الزُّبير] (¬1) كان سريًّا مريًّا، وكان من جلساء مالك بن أنس. ويقال: إنه هو الذي صنَّف له "موطَّأه" (¬2). وسعيدُ بنُ عمرو بن الزبير [أخوه، روى عن مالك] (¬3). أبو أُسَيد السَّاعِديّ واسمُه مالك بن ربيعة بن البَدِي (¬4) بن عامر بن عمرو بن حارثة (¬5) بن عمرو (¬6) بن الخزرج. وأمُّه عمرة بنت الحارث بن جبل (¬7). شهد أبو أُسيد بدرًا وأُحُدًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت معه رايةُ بني ساعِدة يومَ الفتح. وكان دَحْداحًا، أبيض الرأس واللحية، وكان يُحفي شاربَه، ويلبس خاتمًا من ذَهَب (¬8). وذهب بصرُه قبل موته، ومات سنة ستين وهو ابن ثمانٍ وسبعين سنة، وله عقبٌ بالمدينة وبغداد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "جمهرة نسب قريش" 1/ 344، وجاء نسبُه كذلك في ترجمة أخيه سعيد بن عمرو في "تاريخ دمشق" 7/ 329 (مخطوط) وفيه على لفظة "عمرو" الثانية علامة الصحة. وينظر "جمهرة أنساب العرب" ص 125، و "التبيين" في أنساب القرشيين" ص 269. (¬2) أي رتَّب أبوابه، كما في "جمهرة أنساب العرب". وقال القاضي عياض في "ترتيب المدارك" 1/ 375: يعني -والله أعلم- بيَّضه له. (¬3) ما بين حاصرتين من "التبيين في أنساب القرشيين" ص 269. وجاءت العبارة في (ب) و (خ) بلفظ: (وسعيد بن عمرو بن الزبير - رضي الله عنه - وأخاه عبد الله بن الزبير وغيرهما من الصحابة ووفد على معاوية وابنه يزيد) وفيه اضطراب بسبب سقط لعله في الكلام على المنذر بن الزبير. ولم يرد هذا الكلام في (م). (¬4) قال المزي في "تهذيب الكمال" 27/ 139: يقال: إن البَدِي وهم، والصواب: البَدِن. وتحرفت لفظة: البدي في (ب) و (خ) إلى: البدري، والترجمة ليست في (م). (¬5) في "طبقات" ابن سعد 3/ 516: بن عامر بن عوف بن حارثة ... وفي "تهذيب الكمال" 27/ 138: بن عمرو -ويقال: عامر- بن عرف بن حارثة .... (¬6) في "طبقات" ابن سعد: أبي عمرو، بدل: بن عمرو. (¬7) في "الطبقات": 3/ 517: حبل. (¬8) أخرج ابن سعد في "الطبقات" 3/ 518 عن حمزة بن أبي أسيد والزبير بن المنذر بن أبي أسيد أنهما نزعا من يد أبي أسيد خاتمًا من ذهب.

مسلم بن عقيل بن أبي طالب

وكان له من الولد أُسَيْد الأكبر، والمنذر، وغليظ، وأُسَيْد الأصغر، وحمزة، وميمونة، وحبابة (¬1)، وحفصة، وفاطمة. أسندَ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). مسلم بن عقيل بن أبي طالب قد ذكر مقتلُه. معاوية بن أبي سفيان ذكره ابن سعد فيمن نزل الشام من الصحابة (¬3). [وقال هشام بن الكلبي: ] وسبب موته أنه كانت به قَرْحَةٌ ينفثُ منها الدم، وكانت قد أصابته لَقْوَةٌ في آخر [عمرة أو] حجَّة حجَّها، وذلك أنه لَمَّا نزل الأبواء؛ اطَّلع في بئر، فأصابَتْه لَقْوَةٌ، فكان يبكي ويقول: لقد ابتُليت في أحسني (¬4)، فرحم الله عبدًا دعا لي بالعافية، ولئن ابتُليت فقد ابتُليَ الصالحون قبلي، ولي اليوم بضعٌ وسبعون سنة (¬5). فقال له مروان: أجزعت؟ فقال: يا مروان، أخافُ أن يكون هذا عقوبةً من ربِّي، ولولا هوايَ في يزيد لأبصَرْتُ رُشْدي. [قال المدائني: ] وأوصى بنصف ماله أن يُرَدَّ في بيت المال؛ أشار إلى عمر بن الخطاب رضوان الله عليه؛ قاسمَ عمَّاله أموالهم (¬6). ثم تمثَّل: ¬

_ (¬1) في (خ): خبابة، وفي "الطبقات": حبانة. (¬2) روى له الجماعة. ينظر "تهذيب الكمال" 27/ 140. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 410. (¬4) وفي رواية في "تاريخ دمشق" 68/ 315 (طبعة مجمع دمشق): ورميت في أحسني وما يبدو منِّي. وفي رواية عنده أيضًا 68/ 316: وابتليت في أحسن ما يبدو منّي. (¬5) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 68/ 316 وفيه: وأنا ابنُ بضع وستين. (¬6) أنساب الأشراف 4/ 35، وتاريخ الطبري 5/ 327، وينظر "تاريخ دمشق" 68/ 321. وما بين حاصرتين من (م).

إنْ تُناقِشْ يَكُنْ نقاشُك يا ربّ ... عذابًا لا طَوْقَ لي بالعذابِ أو تُجاوزْ فأنتَ ربٌّ غفورٌ ... عن مسيءٍ ذُنوبُه (¬1) كالترابِ [قال أبو اليقظان: ] ولما احتُضر أنشد: لَعَمْري لقد عُمِّرْتُ في المُلْكِ بُرْهةً ... ودانَتْ (¬2) ليَ الدنيا بوَقْعِ المآثرِ (¬3) وأُعطيتُ جَمَّ المال والعلم والنُّهَى ... ودوَّختُ أفناء الملوك الجبابرِ (¬4) فأضْحَى الذي قد كان منّي يسرُّني ... كبرقٍ مضى في الذاهبات (¬5) الغوابرِ فيا ليتني لم أُمسِ في الملك ليلةً ... ولا عشتُ في اللذَّات عيشَ النواضرِ (¬6) وكنتُ كذي طِمْرَين عاش ببُلْغةٍ ... من العيش حتى زار ضنك المقابرِ ثم قال: أسنِدُوني. فأسندوه، فكحَلَ عينَيه وأَذِنَ للناس، فدخلوا للسلام عليه قيامًا، فلما خرجوا أنشد: وتجلُّدي للشَّمامِتينَ أُرِيهمُ ... أنِّي لِرَيبِ الدَّهْرِ لا أتَضَعْصعُ وإذا المنيَّةُ أنشبَت مِخْلابَها (¬7) ... ألْفَيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ (¬8) ثم جعل يتمَلْمَلُ ويقول: ما لي ولِحُجْرٍ وأصحابِه (¬9)، يا ليتني كنتُ رجلًا من قريش بذي طُوى، ولم ألِ من هذا الأمر شيئًا (¬10). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): ذنبه، وهو خطأ. ومن قوله: أشار إلى عمر بن الخطاب ... إلى آخر هذين البيتين، ليس في (م)، والبيتان في "أنساب الأشراف" 4/ 172 و"بهجة المجالس" 3/ 369، و"تاريخ دمشق" 68/ 325. (¬2) في (ب) و (خ): وذلّت. والمثبت من (م) وهو الموافق لما في "تاريخ دمشق" 68/ 319. (¬3) في "بهجة المجالس" 3/ 370، و"تاريخ دمشق" 68/ 319: البواتر. (¬4) في "تاريخ دمشق": وسِلْم قماقيم الملوك الجبابر. (¬5) في "تاريخ دمشق": كحلم مضى في المزمنات. وفيه أيضًا: كلمحٍ مضى ... (¬6) في "بهجة المجالس" و "تاريخ دمشق": فيا ليتني لم أُغْنَ في الملك ساعة ... ولم أُغْنَ في لذات عيش نواضرِ (¬7) في "تاريخ دمشق" 68/ 323: أظفارها. (¬8) البيتان لأبي ذُؤيب الهُذلي، من قصيدته التي مطلعها: أمن النون وريبها تتوجّعُ ... وهي في "ديوان الهذليين" ص 1. (¬9) سلف خبر حُجْر بن عديّ في السنة الحادية والخمسين. (¬10) تاريخ دمشق 68/ 324 و 325.

ودخل عليه عمرو بن سعيد [بن العاص] الأشدق، ومعاويةُ ثقيل، فقال عمرو: كيف أصبحتَ؟ فقال: صالحًا. فقال: لقد أصبحت عينك غائرة، ولونُك كاسفًا وأنفك ذابلًا، فاعْهَدْ أيها الرجل [عهدك] ولا تخدعْ نفسَك، فقال: وهل من خالدٍ إنَّا (¬1) هلكنا ... وهل في الموت يا لَلنَّاسِ عارُ (¬2) [وحكى المدائني قال: ] حسر معاوية عن ذراعيه، فإذا كأنهما عَسِيبا نخل، وقال: هل الدنيا إلا ما جَرَّبْنا وذُقْنا؟ واللهِ لوَدِدْتُ أني لم أُعمَّر (¬3) فوق ثلاث حتى ألقى ربي. ثم قال لابنته رَمْلة: حوِّلي أباك. ثم قال: لا يَبْعَدَنَ رَبِيعةُ بنُ مُكَدَّمٍ ... وسَقَى الغوادي قبرَه بذَنُوبِ (¬4) فيقال: إنَّ هذا [كان] آخِرَ كلامه. [وقال الواقدي: ] وكان عنده قميصُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإزارُه، ورداؤه، وشيءٌ من شَعره، فقال: إذا أنا متُّ، فأَدْرِجوني في هذه الثياب، واحْشُوا منخري وشدقي شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلُّوا بين معاوية وبين أرحم الراحمين (¬5). وقال الطبري (¬6): قال معاوية في مرضه: كساني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصًا فرفعتُه، وقلَّم أظفارَه، فأخذتُ قُلامَتَه، فجعلتُها في قارورة، فإذا متُّ، فألْبِسُوني قميصَه، واسحقوا تلك القُلامة، وذُرُّوها في عيني وفمي، عسى أن يرحمني ربِّي. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 4/ 174: إما. (¬2) أنساب الأشراف 4/ 174. والخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 68/ 323. (¬3) في "تاريخ دمشق" 68/ 324: أُغبَر. وينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 22، و"أنساب الأشراف" 4/ 59. (¬4) رُوي البيت لحسان بن ثابت ولغيره. وربيعة بن مُكَدَّم رجل من بني كنانة؛ كان قتلَه أهبان بن غادية الخزاعي، وقيس تقول: قتله نُبَيشة بن حبيب السُّلَمي، وكان أُهبان أخا نُبَيشة لأمه. والذَّنوب: الدَّلْو المَلْأى ماءً. ينظر "الكامل" للمبرّد 3/ 1458، و"معجم الشعراء" للمرزباني ص 36. (¬5) تاريخ دمشق 68/ 330 و 331. (¬6) تاريخ الطبري 5/ 336 - 327. وينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 30، و "أنساب الأشراف" 4/ 173.

ذكر وصيته ووفاته

ذكر وصيَّته ووفاته ولما احتُضر دعا الضَّحَّاكَ بنَ قيس الفِهريّ، وكان صاحب شرطته، ومُسْرِفَ بنَ عقبة المُرِّيّ (¬1)، وكان يزيد غائبًا، فأوصى إليهما وقال: قولا ليزيد: انظر أهلَ الحجاز، فإنهم أهلُك وأصلُك، فأَكْرِمْ مَنْ قَدِمَ عليك منهم، وتعاهَدْ من غاب عنك، وانظرْ إلى أهل العراق، فإنْ سألوك أن تَعْزل عنهم كل يوم عاملًا فافعل، فإنَّ عَزْلَ عاملٍ واحدٍ أَحَبُّ إليك (¬2) من أن تُشْهِر عليك مئة ألف سيف، وأُوصيك بأهل الشام؛ فليكونوا بطانَتك وعَيبَتَك، فإنْ رابَك شيء من عدوِّك فاستنصرْ بهم، ثم ارْدُدْهم إلى بلادهم، فإنْ هم أقاموا بغيرها أَخذُوا بغير أخلاقهم (¬3). وقال معاوية: مَنْ بالباب؟ فقال مولًى له: نفر من قريش يتباشرون بموتك. قال: ولِمَ؟ فواللهِ ما لهم بعدي إلا الذي يسوءُهم (¬4). واتفقوا على أنه مات بدمشق في رجب سنة ستين؛ قيل: في نصف رجب (¬5) ليلة الخميس. وقيل: لثمان بقين منه، ودُفن بالباب الصغير. وقيل: بين الباب الصغير وباب الجابية. [قال هشام: ] ولما مات؛ قام الضَّحَّاك بن قيس الفِهْريّ خطيبًا على المنبر وعلى يديه أكفان معاوية، فقال: أيها الناس، إنَّ معاوية كان عبدًا من عبيد الله، دعاه إليه، ¬

_ (¬1) هو مسلم بن عقبة، يسميه السلف مُسرفًا؛ لإسرافه في وقعة الحَرَّة، وتحرف في (ب) و (خ) إلى: مسروق. ولم يرد الخبر في النسخة (م). (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 323: إليَّ. وفي "أنساب الأشراف" 4/ 197 أهون عليك. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 323. وبنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 197. (¬4) بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 171. (¬5) في (م): وإنما اختلفوا في اليوم الذي مات فيه، فحكينا عن ابن سعد أنه مات في نصف رجب. وينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 34.

ذكر [خلافته] وأيامه

فأجابه، ونحن مُدْرِجُوه في أكفانه، ومدخلوه في قبره، ومخلُّون (¬1) بينه وبين ربِّه، فإنْ شاءَ رحمه، وإن شاء عذَّبه، فمن أراد منكم أن يصليَ عليه فليحضر وقتَ الظهر. ثم حضروا، وتقدَّم الضحاك، فصلّى سعليه، وجدَّد البيعة ليزيد على الناس. واختلفوا في سنِّه على أقوال: أحدُها: ثمانون سنة. والثاني: اثنتان وثمانون سنة [ذكره البلاذري]. والثالث: ثمان وسبعون سنة [قاله ابن الكلبي]. والرابع: خمس وسبعون سنة [قاله عمر بن شبَّة]. والخامس: ثلاث وسبعون [قاله علي بن محمد]. والسادس: خمس وثمانون. [حكاه الطبري عن هشام بن محمد عن أبيه. قالوا: ] والأصحُّ ما بين سبع وسبعين إلى ثمان وسبعين (¬2). [وعام الفتح كان ابن عشرين سنة إن ثبت ذلك]. ذكر [خلافته] وأيامه كانت ولايتُه على الشام عشرين سنة أميرًا وعشرين سنة خليفة (¬3). وذكره الهيثم بن عدي قال: وقف عبد الملك بن مروان على قبره وعليه ثُمامة نابتة (¬4)، فقال: قاتلَ الله الدنيا ومن يغترُّ بها، هذا عاشَ عشرين سنة أميرًا، وعشرين سنةً خليفة، ثم صمار أمره إلى هذا. فللهِ درُّ [ابن] حَنْتَمَة (¬5). يعني عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (م): ومخلوا، والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 176، و"تاريخ" الطبري 5/ 328، والخبر فيهما بنحوه. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 175 و 176، و"طبقات" ابن سعد 6/ 34، و"العقد الفريد" 4/ 362، و"تاريخ" الطبري 5/ 324 - 325، و"تاريخ دمشق" 68/ 340 - 341. وما سلف وما سيرد بين حاصرتين من (م). (¬3) التبيين في أنساب القرشيين ص 206، ونسب ابن قُدامة الكلام فيه لابن إسحاق، ونُسب الكلام في (م) لابن سعد، ولفظه في "الطبقات" 6/ 34 عن عبد الملك بن مروان أنه وليَ أربعين سنة أميرًا وخليفة. (¬4) الثُّمامة واحدة الثُّمام، وهو نبت ضعيف، يصل طوله إلى (150 سم) فروعه مزدحمة متجمعة. (¬5) حَنْتَمة أمُّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وقوله: فلله در ابن حنتمة ... ليس في (م).

ذكر قدوم يزيد

[قال أبو معشر: ] وبُويع له بالخلافة سنة إحدى وأربعين في جمادى الأولى، وتوفي في رجب سنة ستين، وكانت خلافتُه تسعَ عشرةَ سنةً وثلاثةَ أشهر (¬1). وقيل: وسبعة وعشرين يومًا. وقيل: تسع عشرة سنة إلا أيامًا. ولما وقف عبد الملك على قبره أنشد: هل الدهرُ والأيامُ إلا كما ترى ... رَزِّيةُ مالٍ أو فِراقُ حبيبِ (¬2) ذكر قدوم يزيد [قال أبو اليقظان: ] لما مات معاوية كان يزيد بحُوَّارِين ونواحي ذَنَبَةَ والماطِرُونِ (¬3) مشغولًا بلهوه وصيده، فكتب إليه الضَّحَّاك بن قيس يحثُّه على القدوم، ويخبره بمرض أبيه، فلما قرأ الكتاب قال: جاء البريدُ بقِرْطاس يَخُبُّ بِهِ ... فأوْجَس القلبُ من قِرطاسه فَزَعا قلنا لك الويلُ ماذا في صحيفتكُمْ ... قال (¬4): الخليفةُ أمسى مُثْبَتًا وَجِعا فمادَتِ الأرضُ أو كادَتْ تميدُ بنا ... كأنَّ أعْيَنَ (¬5) من أركانها (¬6) انقطعا (¬7) مَنْ لا تَزَلْ نفسُه توفي على تَلَفٍ (¬8) ... تُوشِكْ مقاليدُ تلك النفسِ أنْ تقعا ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 324. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 142. قوله: رزَّية، أي: مصيبة. (¬3) حُوَّارين: من أعمال حمص، وذَنَبة والماطِرون: موضعان من أعمال دمشق. ينظر "معجم البلدان" 2/ 316 و 3/ 8 و 55/ 42. (¬4) في "العقد الفريد" 4/ 372، و"تاريخ الطبري" 5/ 328، و"تاريخ دمشق" 68/ 333: قالوا. (¬5) هو حصن باليمن، وأثبتُّ اللفظة من "طبقات" ابن سعد 6/ 33، و"تاريخ دمشق" 68/ 333، ورسمُ الكلمة في (ب) و (خ) أقرب إليها، ووقع في (م): ركن. وفي "أنساب الأشراف" 4/ 175، و"التعازي والمراثي" ص 119، و"العقد الفريد" 4/ 373، و"تاريخ" الطبري 5/ 328، و"تاريخ دمشق" 68/ 331: أغبر. (¬6) في "أنساب الأشراف": أركانه. (¬7) في "أنساب الأشراف" و"طبقات" ابن سعد و"العقد الفريد" و"تاريخ دمشق": انقلعا. وفي "التعازي والمراثي": انصدعا. (¬8) في "طبقات" ابن سعد 6/ 33، و"التعازي والمراثي"، و"تاريخ" الطبري و"تاريخ دمشق": شرف. وفي "أنساب الأشراف": تشفي بدل: توفي. ولم يرد هذا البيت، ولا الأبيات الخمسة الأخيرة في (م).

لَمَّا انتهينا وبابُ الدارِ منصفقٌ ... لصوت رَمْلَةَ رِيعَ القلبُ فانصدعا ثم انْبَعَثْنا على خُوصٍ مُزَمَّمةٍ ... نرمي العَجاجَ (¬1) بها لا نأْتَلِي سَرَعا وما نُبالي إذا بلَّغْنَ أرْحُلَنا ... ما ماتَ منهنَ بالبَيداء (¬2) أو ظَلَعا أوْدَى ابنُ هندٍ وأوْهَى المجدُ يتبعُهُ ... كيما يكونا جميعًا قاطنَينِ معا (¬3) أَغَرُّ أَبْلَجُ يُسْتَسْقَى الغمامُ به ... لو قارعَ الناسَ عن أحسابهم قَرَعا لا يرقعُ الناسُ ما أَوْهَى ولو جَهَدُوا ... أنْ يرقعوه ولا يُوهون ما رَقَعا (¬4) [وقال الطبري (¬5): مات معاوية ويزيد بحُوَّارِين، فكتبوا إليه حين مرض]. وأقبل يزيد وقد دُفن، فأتى قبرَه، فصلَّى عليه، ثم دعا له، وأتى منزلَه، وأقام ثلاثًا لا يخرج منه، ثم خرج وعليه أثر الجَزَع، فصعد المنبر [وقام الضحاك بن قيس إلى جانب المنبر] فخاف عليه من الحَصَر (¬6)، ففطنَ يزيد، فقال: يا ضحَّاك، أجئتَ تعلِّم بني عبد شمس الكلام؟ ! . ثم خطب فقال: أيها الناس، إن معاويةَ كان عبدًا لله، أنعم عليه، ثم قبضه إليه، ولا أُزكِّيه على الله، هو أعلم به، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه. ثم نزل. وقيل: إنه قال: الحمد لله الذي ما شاء صنع، ومن شاء أعطى ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن أراد رفع. إنَّ معاويةَ كان حبلًا من حبال الله، مدَّهُ ما شاء أن يَمدَّه، ثم قطعه حيث أراد قَطْعه، وكان دونَ مَنْ كان قبلَه، وخيرًا ممن يأتي بعده. وقد صار إلى الله، فإنْ شاء عفا عنه، وإن شاء [رَحِمَه، وإنْ] عاقبَه فبذنبه، وإنْ رَحِمَه فبفضله. وقد ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" و"التعازي": الفجاج. (¬2) في "العقد الفريد" 4/ 373 و "تاريخ دمشق" 68/ 331: بالمَوْماة، وهما بمعنى. يعني المفازة. (¬3) في الشطر الثاني للبيت بعض اختلاف عن المصادر. (¬4) البيتان الأخيران في "ديوان الأعشى" ص 157 و 161 بنحوهما. (¬5) ينظر "تاريخه" 5/ 328. وسلف نحوه قريبًا، وينظر أيضًا "أنساب الأشرأف" 4/ 176. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬6) أي: العِيّ. والحَصَر أيضًا ضيق الصدر. وما سلف بين حاصرتين من (م).

وَليتُ الأمرَ بعدَه ولستُ أعتذرُ من جهل، ولا آسَى (¬1) على طلب (¬2)، فإنْ أحب اللهُ شيئًا يسَّره، وإن كرهه غيَّره. ثم نزل. فلم يقدر (¬3) أحدٌ على تعزيته. فقام عبد الله بن همَّام السلولي فقال: اِصْبِرْ يزيدُ فقد فارقتَ ذا مِقَةٍ (¬4) ... واشْكُرْ حِباءَ (¬5) الذي بالملكِ حاباكا لا رُزْءَ أعظمُ في الأقوام قد علموا ... مِمَّا رُزِئتَ ولا عُقبى كعُقْباكا أصبحتَ راعيَ أهلِ الأرضِ كلِّهِمُ ... فأنتَ ترعاهُمُ واللهُ يرعاكا وفي معاويةَ الباقي لنا خَلَفٌ ... إذا بَقِيتَ ولا نَسْمَعْ بمنعاكا (¬6) فانفتح باب الكلام. ثم كتب يزيد قبل كلّ شيء كتابًا إلى الوليد بن عتبة [بن أبي سفيان] بأخذِ البيعة على الحسين، وابنِ عمر، وابن الزبير - رضي الله عنهم -[وقد ذكرناه]. ذكر جملة من أخبار معاوية: لما بُويع بالخلافة ولَّى شرطتَه قيس بن حمزة الهَمْداني، ثم عزلَه، وولَّى زُميل بن عمرو العُذْرِيّ (¬7)، وولَّى كتابته سرجون بن منصور الرومي، وولَّى حجابته سعدًا مولاه، وولَّى القضاءَ فَضالةَ بن عُبيد الأنصاريّ، فمات، فاستقضى عائذ الله أبا إدريس بن عبد الله الخَوْلانيّ. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 4/ 176، و"العقد الفريد" 4/ 375: أَنِي. (¬2) في (ب) و (خ) و (م): طلب علم! والمثبت من المصادر. ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 176، و"طبقات" ابن سعد 6/ 32، و "العقد الفريد" 4/ 375، و "تاريخ دمشق" 68/ 334. (¬3) في (م): يقدم. (¬4) في (ب) و (خ)، و"أنساب الأشراف" 4/ 177: ثقة، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "العقد الفريد" 4/ 274، والمِقَة: المحبَّة. (¬5) في "أنساب الأشراف": عطاء، وهما بمعنى. (¬6) العقد الفريد 4/ 374. وبنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 177. (¬7) هو زَمْل، أو زُميل بن عمرو، أو: بن ربيعة، له صحبة، ينظر "الإصابة" 4/ 16. ووقع في (ب) و (خ): زياد بن عمرو العدوي، وهو خطأ، والكلام ليس في (م).

ومعاويةُ أوَّلُ من اتَّخذَ الحَرسَ؛ قال معاوية: لَمَّا ولَّاني عمر بنُ الخطاب الشام قالت لي أمي هند: يا بنيّ، إن هذا الرجلَ قد استعملك على أمر خطير، فاعمَلْ فيه بما يُوافقه؛ كرهتَه أو أحبَبْتَه، وإياك ومخالفتَه، فيكونَ ذلك سببًا لنفوره عنك وإزالة النعمة. ففعلتُ ما أمَرَتْني به، فرأيتُ عليه الخير والبركة ودوامَ الولاية. وقال لي أبي: يا بني إنَّ هؤلاء الرهطَ من المهاجرين سبقونا وتأخَّرْنا، فرفَعهم سَبْقُهم، وقصَّر بنا تأخُّرُنا، حتى صِرْنا أتباعًا، وصارُوا قادةً، وقد قلَّدوك جسيمًا من الأمر، فلا تُخالفنَّ رأيَهم، فإنك تجري إلى أمدٍ لو بلغتَه لَنَفُسْتَ فيه (¬1). فعجبتُ من اختلافهما في اللفظ، واتفاقهما في المعنى (¬2). ومعاويةُ أوَّلُ من بنى الخضراء (¬3) بدمشق، وأقام بها أربعين سنة، وهو أوَّلُ من اتخذ ديوان الختم على الإطلاقات، وكان على ديوان الختم عبدُ الله بن مِحْصَن الحميري (¬4)، وهو أول من استكتب الدية، ثم ابنه يزيد (¬5). دخل عبدُ الله بنُ عباس - رضي الله عنهما - يومًا على معاوية وعنده جماعة من بني هاشم، فقال معاوية: بم تفخرون علينا يا بني هاشم؟ أليس الأبُ واحدًا، والأمُّ واحدة، والدارُ واحدة؟ فقال له ابن عباس: نفخرُ عليك وعلى سائر الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنك لا تستطيع له إنكارًا، ولا تَرِيمُ عنه نِفارًا. فقال له معاوية: لقد أُعطيتَ لسانًا ذَرِبًا؛ تكاد تغلبُ بباطلك حقَّ غيرك، على أنّي أُحِبُّك لأربع؛ مع مغفرتي لك أربعًا. أمَّا حبِّي إيَّاك فلقرابتك. وأما الثانية: فلأنَّك من أسرتي الذين أتقوَّى بهم. وأما الثالثة: فإنك لسانُ قريش. أما الرابعة: فلأن أباك كان خِلًّا لأبي. ¬

_ (¬1) في "العقد الفريد" 4/ 365: لتنفَّسْتَ فيه. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 17، و"العقد الفريد" 4/ 365. (¬3) هي دار الإمارة. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 330. (¬5) لم أقف عليه.

وأما الأربع التي غفرتُ لك: فقتالك لي يوم صفِّين، ومعاداتك لي فيمن عاداني. وأما الثانية: فخِذْلانُك لعثمان مع مَنْ خذَل. وأما الثالثة: فسَعْيُك على أمِّ المؤمنين عائشة فيمن سعى. وأما الرابعة: فنفيُك أخي زيادًا عني فيمن نَفَى. ووجدتُ اللهَ يقول: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] وقال الشاعر (¬1): ولستَ بمُسْتَبِقٍ أخًا لا تَلَمُّهُ ... على شَعَثٍ، أيُّ الرِّجالِ المهذَّبُ؟ فعفوتُ عن هذه الأربع لتلك الأربع، وكنتُ كما قيل: سأَقْبَلُ مِمَّن قد أتى بجميلةٍ ... وأصفحُ عما كان من قبل ذلكَ (¬2) فَتَشَزَّنَ (¬3) ابنُ عباس مستشرفًا على الجماعة، ثم قال: أمَّا محبَّتُك لي لقرابتي [من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فذلك الواجب عليك وعلى كل من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ] (¬4). وأمَّا قولك: إني من أسرتك، فما زلتُم أتباعًا لنا في الجاهلية والإسلام. وأما قولك: إني لسانُ قريش [فإني لم أُعط من ذلك شيئًا لم تُعْطَه، ولكنك قلت ذلك لشرفك وفضلك، كما قال الأول: ] (¬5) فكلُّ كريمٍ للكريم مُفَضِّلٌ ... يراهُ له أهلًا وإن كان فاضلا وأما قولُك: إن إبي كان خِلًّا لأبيك؛ فأقول: سأحفظ مَنْ آخي أبي في حياتِه ... وأرْمُقُهُ من بَعْدِه في الأقاربِ وإِنِّي لمن لا يحفظُ الوُدَّ قاليًا ... ولستُ له في النائباتِ بصاحبِ ¬

_ (¬1) هو النابغة الذبياني، والبيت في "ديوانه" ص 18. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) أي: تأهَّب وتهيَّأ. (¬4) استدركتُ ما بين حاصرتين ما يلزم لإتمام السياق من "التذكرة الحمدونية" 9/ 182، والخبر فيه بنحوه، ولم يرد في (م). (¬5) ما بين حاصرتين من "التذكرة الحمدونية".

وأما قولك: إني كنتُ يوم صِفِّين عليك؛ فلو لم أفعلْه لكنت شرَّ الناس. وأما قولك: إني خذلتُ عثمان؛ فقد علمتَ أنه ولَّاني الموسم في العام الذي حُصر فيه، ولم أشهد قتلَه، على أنه قد خَذَله من كان أقربَ إليه منِّي. يشير إلى معاوية. وأما قولك عن عائشة؛ فإن الله أمرَها بالقَرار في بيتها، وأن تحتجب في سِتْرها، فلما خالفَتِ الأمر وَسِعَنا ما كان منا إليها. وأما نفي زياد عنك؛ فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك بقوله: "الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر" (¬1) وأنتَ عكستَ ذلك. وقال معاوية يومًا في مجلسه: مَنْ أفصحُ الناس؟ فقامَ رجل فقال: قوم تَيامَنُوا عن طُمْطُمانِيَّةِ حِمْيَر، وتَياسَرُوا [عن] كَسْكَسَةِ بكر، وليس فيهم غَمْغَمة قُضاعة (¬2). قال: مَنْ هم؟ قال: قومُك قريش. قال: صدقت، فممَّن أنت؟ قال: من جَرْم. قال (¬3): جَرْمٌ أفصحُ الناس. ولما بلغ معاويةُ السبعين كان يقول: ما من شيءٍ كنتُ أستلذُّه مع الشباب فأجده اليوم كما أُحبُّ إلا الحديث الحسن. ثم قال: مَنْ عاش أخْلَقَتِ الأيامُ جِدَّتَهُ ... وخانَه ثقتاه المسمعُ والبصرُ (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6817)، و (6818)، ومسلم (1437)، و (1458) من حديث عائشة وأبي هريرة - رضي الله عنهما - (على الترتيب). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة ضرورية. ورواية الخبر في "الكامل" 2/ 765 بلفظ: (قوم تباعدوا عن فُراتية العراق، وتيامنوا عن كشكشة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طُمْطُمانِيَّة حِمْيَر)، اهـ. فكَشْكَشَةُ تميم: إبدالُهم من كاف المؤنّث شيئًا عند الوقف، والتي يُدْرِجُونها يَدَعُونَها كافًا، فيقولون للمرأة: جعل الله البركة في دارِش، وويحَكِ مالِش. وأما كسكسة بكر، فأكثرهم يُبَيِّنُون حركة كاف المؤنث في الوقف بالسين، فيزيدونها بعدها، فيقولون: أَعْطَيتُكِسْ، وقليل منهم يُبْدلون من الكاف سينًا كما فعل التميميُّون في الشين. وأما الغمغمة، فهو أن تسمع الصوتَ ولا يتبيَّن لك تقطيعُ الحروف، وأما الطمطمة؛ فهو أن يكون الكلام مشبهًا لكلام العجم. ينظر "الكامل" 2/ 762 - 766. (¬3) في "الكامل" 2/ 765، و"العقد الفريد" 2/ 476: قال الأصمعي ... (والأصمعي راوي الخبر). وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 30. (¬4) ينظر "العقد الفريد" 3/ 57.

وقال معاوية لعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: لقد هممتُ أن أُوَلِّيَكَ الكوفة غير مرة، وما يمنعني من ذلك إلا أني قلت: أُوَلِّيه، فيقول في نفسه: أنا ابنُ زيد الشهيدِ يومَ اليمامة، وأحدُ أبناءِ المهاجرين الأولين البدريّين، [وعمي الفاروق أميرُ المؤمنين، وأنا أحقُّ بالأمر من معاوية. قال: لو ولَّيتني لقلتُ ذلك، وأنا أقوله الآن. فضَحِكَ معاوية] (¬1). قال معاوية لعمرو: أيُّنا أدهى؟ قال عَمرو: أمَّا في البديهة فأنا، وأما في الأناة فأنت. فقال: ادْنُ مني أُسارُّك بشيء. ولم يكن ثَمَّ ثالث. فأدنى إليه عَمرو رأسَه، فقال: غلبتُك أيها الداهية، وهل عندنا أحدٌ أُسارُّك دونه (¬2)؟ ! . وركب معاويةُ يومًا ناقةً، وركب سُليم مولاه جملًا، وكان من الدُّهاة، فَعَلا جملُ سُليم ناقة معاوية، فقال له معاوية: انزل يا سُليم عن بعيرك. فنزل، فركبه معاوية، وأعطاه ناقته فركبها، وقال له: يا سُليم، أنتَ تزعم أنك أدهى العرب وقد غلبتُك. فقال سُليم: أنسيتَ تحويلَك من مركبك، وركوبي إياه؟ ! فخجل معاوية (¬3). وقال معاوية لرجل من سبأ: ما كان أجهلَ قومُك حيث ملَّكوا عليهم امرأة وقالوا: {بَاعِدْ بَينَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19] فقال له الرجل: فقومُك أجهلُ حيث قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى الله فقالوا: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَينَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] هلَّا قالوا: فاهْدِنا (¬4). ومعاوية أوّل من منع الخِصْيان الكبار من الدخول على الحُرَم؛ دخل يومًا على امرأته فاختة -وقيل: ميسون- وهي مكشوفة الرأس ومعه خَصِيّ، فغطَّتْ رأسَها، فقال: إنَّه خَصِيّ. فقالت: أَتَرى المُثْلَةَ التي حَلَّتْ به أَحَلَّتْ ما حَرَّمَ الله عليه؟ ! فاسترجع معاوية، وعلم أنه الحقّ [فمنع الخِصيان الكبار من الدخول على النساء. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 4/ 43. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) المصدر السابق 4/ 37. (¬3) بنحوه في المصدر السابق 4/ 42. (¬4) أنساب الأشراف 4/ 72. والعقد الفريد 4/ 27.

وقال ابن سعد: ] لبس معاوية يومًا حُلَّةً خضراء، فقام إليه عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، فجعلَ يضربُه بالدِّرَّة ومعاويةُ يقول: فيم؟ ! فيم؟ ! فقيل لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ما أردتَ بهذا؟ فقال: أردتُ أن أضعَ منه (¬1). دخل أبو الطُّفيل على معاوية فقال له: كيف وَجْدُك على خليلك أبي الحسن (¬2)؟ فقال: كَوَجْدِ أمِّ موسى - عليه السلام -، وإلى الله أشكو تقصيري. فقال: أكنتَ فيمن حضر قتلَ عثمان؟ قال: لا، ولكنّي ممَّن لم ينصره. قال: فما منعكَ من نُصْرتِه وقد كانت واجبةً عليك؟ قال: منعني ما منعَك إذ تربَّصتَ به ريبَ المَنُون. قال: أوَ ما ترى طلبي بثأره؟ قال: بلى، ولكنك وأنا كما قال الجعفي (¬3): لا أُلْفِيَنَّكَ بعدَ الموتِ تَنْدُبُني ... وفي حياتيَ ما زَوَّدْتَني زادي (¬4) وذكر المسعودي (¬5) أن رجلًا دخل على معاوية، وكان من أهل الكوفة قد قدم دمشق، فقال: أنا رجل من أهل العراق، دخلت مدينتك وتحتي بعير، فتعلَّق بي رجل وقال: هذه ناقتي أُخذت مني يوم صفِّين. فقال معاوية: [عليَّ بالرجل. فجاء ومعه خمسون رجلًا من أهل دمشق، فشهدوا عند معاوية] أنها ناقتُه، فقال الرجل: أما تُفرِّقون بين الذكر والأنثى؟ ! فقال معاوية: هذا حكم قد مضى. ودفع البعير إلى الشامي. ثم خلا معاوية بالرجل صاحب البعير وقال له: [كم قيمةُ بعيرك؟ فقال: كذا وكذا. فأضعفه له، وقال له: اذهب إلى ابن أبي طالب وقل له: ] يقول لك معاوية: إني أقاتلُك بمئة ألف لا يفرِّقون بين الجمل والناقة. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 18 بأطول منه، وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬2) يعني علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬3) كذا في (ب) و (خ) (والكلام ليس في م). والبيت لعَبِيد بن الأبرص، وهو في "ديوانه" ص 63، والبيت أيضًا لحارثة بن بدر الغُداني، وذكره ابن عساكر ضمن أبيات في ترجمته في "تاريخ دمشق" 4/ 85 (مصورة دار البشير). وينظر "فصل المقال في شرح كتاب الأمثال" ص 271. (¬4) مروج الذهب 5/ 44. والخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 106، و "العقد الفريد" 4/ 30، و "تاريخ دمشق" ص 460 - 461 (طبعة مجمع دمشق، ترجمة أبي الطُّفيل عامر بن واثلة). (¬5) في "مروج الذهب" 5/ 79. وما سيرد بين حاصرتين من (م).

وقال المسعودي (¬1): لقد بلغ من طاعة أهل الشام لمعاويةَ أنَّه صلَّى بهم عند مسيره إلى صفِّين الجمعةَ يومَ الأربعاء. وقيل: إنه قال لهم يوم الجمعة: اليوم لنا عذر. وصلَّى بهم يوم السبت. [وحكى الأصمعي قال: ] خاطَرَ (¬2) رجل رجلًا على أن يقوم إلى معاوية فيضع يده على كَفَلِه (¬3) إذا سجد ويقول: ما أشبهَ عجيزتَك بعجيزة [أمِّك] هند. ففعل الرجل ذلك، فقال له معاوية: يا ابن أخي، إن أبا سفيان كان يعجبُه ذلك منها، فإنْ كنتَ قد خاطرتَ؛ فخُذْ ما خاطرتَ عليه. ثم نزل ذلك الرجل ومعه الرجل الآخر إلى العراق، فتخاطَرا على أن يقومَ إلى زياد وهو في الخطبة، فيقول له: مَنْ أمُّك (¬4)؛ فقام إليه وسألَه، فقال له زياد: هذا يخبرُك. وأشارَ إلى صاحب شرطته. فأخذه وضرب عنقَه. وبلغ معاويةَ، فقال: أنا قتلتُه، لو أدَّبْتُه في الأولى ما عاد إلى الثانية. وأُتيَ معاويةُ بسارق، فأمرَ بقطع يده، فقال السارق: يَدِي يا أميرَ المؤمنين أُعِيذُها ... بعفوك أن تُلْقَى مكانا يَشِينُها ولا خيرَ في الدنيا ولا في نعيمها ... إذا ما شِمالٌ فارقَتْها يمينُها وجاءت أمُّه تبكي وتقول: واحدي وكاسبي، اعْفُ عنه [يا أمير المؤمنين] عفا الله عنك. فقال: حدٌّ من حدود الله، كيف أتركُه؟ ! فقالت: أَمَا لك ذنوبٌ تستغفرُ الله منها؟ ! قال: بلى. قالت: فاجْعَلْ هذا معها. فأطلقَه (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 5/ 80. (¬2) أي: راهن. والخبر في "العقد الفريد" 1/ 53. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬3) أي: عَجُزِه. (¬4) في "العقد الفريد" 1/ 54: مَنْ أبوك؟ (¬5) أنساب الأشراف 4/ 141 - 142. والخبر في "العقد الفريد" 2/ 167 وفيه: عبد الملك بن مروان، بدل: معاوية.

عاتبَ عمرو بنُ العاص معاوية في التأنِّي، فقال معاوية: المتثبِّتُ مُصيبٌ، والعَجِلُ مخطئٌ، ومَنْ لم ينفعه الرِّفْقُ؛ ضرَّه الخُرْق، والعاقلُ مَنْ سَلِمَ من الزَّلَل بالتثبُّتِ خوفًا من زَلَّة القَدَم، ولا يزال العَجِلُ يجني ثمرة الندم (¬1). وكان معاوية يقول: إياك وصحبةَ المُدْبِر، فإنه غيرُ موفَّق لطريق الرُّشد، فإنك إنْ صحبتَه عَلِقَ بك إدبارُه، وإنْ فارقتَه تَبِعَتْك آثارُه. [قلت: هذا من كلام أرسطا طاليس، ولعل معاوية حكاه عنه]. وكان معاوية يقول: لو كان بيني وبين العالم شعرة؛ ما انقطعت، إنْ مدُّوا أرْخَيتُ، وإنْ أَرْخَوا مددت (¬2). وكان يقول: إني لأرفعُ نفسي أن يكون ذنب أعظمَ من عفوي، وجهلٌ أكبرَ من حلمي، أو عورة لا أسترُها بستري، أو مساءة أكبر من إحساني (¬3). [قال ابن الكلبي: ] وكتب إليه ملك الصين يتهدَّدُه، فقال: من ملك الصين الذي تحتَ يده ألفُ مَلِك، وفي مَرْبطه ألف فِيل، وله ألفُ مدينة، وتحته ألفُ امرأة من بنات الملوك، كلُّ امرأة في قصر من ذهب، وفي مملكته نهران يُخرجان الجوهر والياقوت، وفي مملكته ألفُ جزيرة تُنبت العود والقرنفل، وحصباؤُها اللؤلؤ والمرجان، وفي مملكته ألفُ معدن يُنبت الذهب والفضة. فكتب إليه معاوية: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}. فقرأ كتابَه ملكُ الصين، فاقشعرَّ جلدُه، ووَجِلَ قلبُه، وسكت عنه. وكان معاوية يقول: أُعِنْتُ على عليّ بكتماني لسرِّي، ونَشْرِ أمرِه، وبطاعةِ أهل الشام، وعصيانِ أهل العراق له، وبَذْلي المال، وإمساكه إياه (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 68/ 290 - 291. ولم يرد هذا الخبر في (م). (¬2) ينظر "العقد الفريد" 4/ 364. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 32. وينظر "العقد الفريد" 2/ 278. ولم يرد هذا القول ولا الذي قبله في (م). وما سلف قبلهما بين حاصرتين منها. (¬4) أنساب الأشراف 4/ 23 - 24. وينظر "العقد الفريد" 4/ 366 - 367.

قال: ما غضبي على مَنْ أملكُ وأنا قادرٌ عليه، ولا غضبي على مَنْ لا أملكُ ولا تناله يدي (¬1). وقال عمرو بن العاص يومًا لمعاوية: قد أعياني أن أعلم أشجاعٌ أنتَ أم جبان. قال: ولم؟ قال: لأني أراك تُقْدِمُ حتى أقول: أراد القتال، ثم تتأخَّر حتى أقول: قد أراد الفرار. فقال معاوية: ما أُقدِمُ حتى أرى التقدُّم غُنمًا، ولا أتأخَّرُ حتى أرى التأخُّر حزمًا. وأنشد للطائيّ: شُجاعٌ إذا ما أمكنَتْنيَ فُرْصَةٌ ... وإلا (¬2) تكن لي فُرصةٌ فجبانُ (¬3) وقال معاوية حين مات أخوه عُتبة. لولا أنَّ الدنيا بُنيَت على نسيان الأحبَّة؛ ما نَسِيتُ عُتبةَ أبدًا (¬4). وقال عمرو بن العاص لمعاوية: رأيت في المنام كأنَّ القيامةَ قد قامت، وأنت تُحاسَبُ، وقد ألجمَكَ العرقُ. فقال معاوية: أما رأيتَ هناك دَخْلَ مصر (¬5)؟ ! . وقال معاوية لعبد الرحمن بن أمّ الحكم (¬6): قد بلغني أنك لهجت بالشعر، فإيَّاك والتشبُّبَ بالنساء، فتَغُرَّ (¬7) الشريفة، وإياك والهجاء؛ فإنك تهجو (¬8) به كريمًا، وتستثير (¬9) به لئيمًا، وإياك والمدحَ، فإنه طُعْمَةُ الدنيء الوَقِح، ولكن عليك بمفاخر قومك، وذكرِ الأمثال السائرة مما تَزِين به نفسَك، وتستدلُّ به على صحة عقلك، وتؤدِّبُ به غيرَك. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 4/ 135. وينظر "مجمع الأمثال" 2/ 267. (¬2) في (م): وإن لم. (¬3) مروج الذهب 5/ 48 وتاريخ دمشق 68/ 291، وينظر "العقد الفريد" 1/ 99. (¬4) ينظر "العقد الفريد" 3/ 244. ونُسب الكلام في (م) إلى المدائني. (¬5) ينظر "عيون الأخبار" 1/ 318، وفيه: هل رأيت شيئًا من دنانير مصر؟ وبنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 93. (¬6) في "أنساب الأشراف" 4/ 30: لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص. (¬7) في (ب) و (خ): فتغير. والمثبت من المصدر السابق. ولم يرد هذا الخبر في (م). (¬8) في "أنساب الأشراف" 4/ 30: تهجن، وفي "تاريخ الطبري" 5/ 336: تعرّ. (¬9) في (ب) و (خ): تستر، والمثبت من المصدرين السابقين.

وقال معاوية (¬1): من كَتَمَ سِرَّه كان الخِيارُ له، ومن أفشاه كان الخِيارُ عليه (¬2). وقال: أنا أعلم بأغلى شيء في السوق وأرخصِه. قالوا: ما هو؟ قال الجيِّد رخيص، والرديءُ غالٍ (¬3). [قال الواقدي: ] وكان يقول: ما من عدوّ إلا وأنا قادر على مداراته واستصلاحه، إلا عدوَّ نعمةٍ وحاسدَها، فإنه لا يُرضيه مني إلا زوال نعمتي، فلا أرضاه الله أبدًا (¬4). ذكر بعض واقعاته مع عبد الله بن الزبير (¬5): دخل الحسين - رضي الله عنه - على معاوية ومعه مولاه ذكوان، وعند معاوية جماعةٌ من قريش، منهم عبد الله بنُ الزبير، فأجلسَه معاويةُ معه على سريره، ورحَّبَ به، وقال له: يا أبا عبد الله، تَرَى هذا القاعدَ -وأشار إلى ابن الزبير- سيدركُه الحسد لبني عبد مناف. فقال ابنُ الزبير: أمَّا الحُسين؛ فقد عَرَفْنا فضلَه وقرابتَه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنْ شئتَ أَنْ أُعَرِّفَك فضلَ الزُّبير على صخر بن حرب؛ فعلتُ. فقال ذكوان مولى الحسين - رضي الله عنه -: يا ابنَ الزُّبير، إنَّ مولايَ ما منعَه من الكلام إلا أنه كُفي بغيره، وإلا فهو طَلْقُ اللسان، رابطُ الجَنان، إنْ تكلَّم؛ تكلَّمَ بعلم، وإنْ صمتَ؛ صمتَ بحِلْم، فأنا القائل فيه: إنَّ الذي يجري لِيُدركَ شأْوَهُ ... يُنْمَى لغير مُسَوَّدٍ ومُسَدَّدِ (¬6) بل كيف يُدركُ نورَ بدرٍ ساطعٍ ... خيرِ الأْنام وفَرع آلِ محمدِ جَزْل الكلامِ وسابق في علمِهِ (¬7) ... والناسُ بين مُقَصِّرٍ ومُبَلِّدِ ¬

_ (¬1) في (م): وقال المدائني: كان معاوية يقول. (¬2) أنساب الأشراف 4/ 31. وأخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" (410) من كلام عتبة بن أبي سفيان لابنه الوليد عندما أخبره أن معاوية أسَّر إليه حديثًا. وكذا أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" في ترجمة الوليد. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 32. (¬4) المصدر السابق 4/ 76. (¬5) لم ترد هذه الفقرة في (م). (¬6) في (ب) و (خ): ومسود. والمثبت من "العقد الفريد" 4/ 15. (¬7) في "العقد الفريد" 4/ 15: فيم الكلامُ لسابق في غايةٍ. وجاء هذا البيت فيه أول الأبيات الثلاثة.

فقال معاوية: صدقتَ يا ذكوان، أكثرَ اللهُ في موالي الكرام مثلك. فقال ابن الزُّبير: إنَّ أبا عبد الله سكتَ، وتكلَّم مولاه، ولو تكلَّم لأجبناه وكَلِفْناه (¬1)، فإنه لا جوابَ لهذا العبد. فقال ذكوان: هذا العبدُ خيرٌ منك، وأكرمُ وَلاءً، وأحسنُ أفعالًا. وقال معاوية: قاتلكَ الله يا ابنَ الزُّبير، ما أَعْتاكَ وأبغاك! أتريد أن تفتخر بحضرة أبي عبد الله؟ ! لأنتَ المتعدِّي لطَوْرِك، فقس شِبْرَكَ بفِتْرِكَ، وانظر أين تقعُ من بني عبد مناف، أما واللهِ لو وقعتَ في بحور بني هالثمم وبني عبد مناف لَتعْطِّينَّك (¬2) بأمواجها، ثم لَتلقينَّك في أُجاجِها (¬3)، فما بقاؤك في البحور إذا غَمَرَتْك؟ وفي الأمواج إذا قَبَرَتْك (¬4)؟ فحينئد تعرفُ نفسَك، وتندمُ على ما كان من جُرْأتك، وتتمنَّى لِما أصبحت فيه الأمانَ (¬5)، وقد حيل بين العير والنَزَوان. فالتفت ابنُ الزبير إلى الحاضرين وقال: ناشدتُكُم اللهَ، هل تعلمون أنَّ أبي حَوَاريُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وأنَّ [أباه] أبا سفيان هذا حاربَ (¬6) رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عليه في جميع المواطن كلِّها؟ وأنَّ أمي أسماءُ بنتُ أبي بكر ذاتُ النطاقين، وأن أمَّه هندٌ آكلةُ الأكباد، وجدِّي الصِّدِّيق، وجدّه المشدوخ ببدر كافرًا (¬7)، وعمتي خديجة زوجُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمَّته أمُّ جميل حمَّالةُ الحطب، وجدَّتي صفيةُ بنت عبد المطلب، وجدَّته حَمامة، وزوج عَمَّتي خيرُ ولدِ آدم، محمدٌ رسول الله، وزوج عمَّته شرُّ ولدِ آدم أبو لهب، وخالتي عائشةُ أمُّ المؤمنين، وخالتُه أشقَى الشقيات، وأنا عبد الله، وهو معاوية. ¬

_ (¬1) في "العقد الفريد": أو لكففنا عن جوابه إجلالًا له، بدل قوله: وكلفناه. (¬2) في "العقد الفريد" 4/ 16: لقطَّعتك. (¬3) في "العقد الفريد": لُججها. (¬4) في "العقد الفريد" بَهَزَتْكَ (أي: دفعتك). (¬5) في "العقد الفريد": وتمنّى ما أصبحتَ فيه من أمان. (¬6) لفظ "أباه" بين حاصرتين زيادة لضرورة السياق، وعبارة "العقد الفريد" 4/ 16: وأن أباه أبا سفيان حارب .. إلخ. (¬7) يعني عُتبةَ بنَ ربيعة جدَّ معاوية لأمه هند.

فقال له معاوية: يا ابنَ الزُّبير، إنه واللهِ ليس لك في القديم (¬1) رِياسة، ولا في الحديث سياسة، ولقد سُدْناك قديمًا وحديثًا، وإن هؤلاء الحضور ليعلمون أن قريشًا اجتمعت يومَ الفِجار على [رِياسَةِ] حربِ بنِ أمية (¬2)، وأن أباك وأسرتَه كانوا تحت رايته، راضون بإمارته، غير منكرين لفضله، ولا طامعين في عزله، وإنْ أمَرَ أطاعوا، وإنْ قال أنْصَتُوا. ولم تزل فينا الرياسة حتى بعثَ [الله] محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وانتخَبَه من خلقه من أُسرتي، لا من أُسرتك، وبني أبي، لا من بني أبيك، فجَحَدَتْه قريش أشدَّ الجُحود، وجاهدَتْه أشدَّ الجهاد، إلا من عصمه الله من قريش. ومن ساد (¬3) قريشًا وقادهم إلا أبو سفيان؟ فكانت الجيوش تلتقي، ورئيس الهدى منا، ورئيس الضلالة منكم (¬4)، ومهديُّكم تحت راية مهديِّنا، وضالُّكم تحت راية ضالِّنا، فنحن الأرباب، وأنتم الأذناب، حتى خلَّصه الله من عظيم شِرْكه، وعَصَمَه بالإسلام (¬5) من عبادة الأصنام، وكان في الجاهلية عظيمًا شأنُه، وفي الإسلام معروفًا مكانُه، ولقد أعطيَ يومَ الفتح ما لم يُعْطَه أحدٌ من آبائك؛ بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دخلَ دارَ أبي سفيان فهو آمن". فجعلَ داره حَرَمًا آمنًا، وقَرَنها بالمسجد الحرام، ولم تكن دارُ آبائك حرمًا. وأما هند فامرأةٌ من قريش، كانت عظيمة الخَطَر في الجاهلية، كثيرةَ الخير في الإسلام. وأما جدُّك الصِّدِّيق؛ فبتصديق بني عبد منافٍ صار صِدِّيقًا، لا بتصديق بني عبد العُزَّى. وأما جدِّي المشدوخ ببدر؛ فلعمري؛ فلقد دعا إلى البراز هو وأخوه وابنُه، فلو برزْتَ أنت وأبوك وبنو عبد العُزَّى؛ ما بارزوكم، ولا رأَوْكُم أهلًا ولا أكفاءً لهم كما طلب ذلك غيركم، فلم يُجيبوه، حتى برزَ إليهم أكفاؤُهم، فقضى الله مناياهم بأيديهم. وأما عمَّتك وخالتك؛ فبنا صِرْنَ أمهاتِ المؤمنين. وأما صفية فهي التي أدْنَتْك من الظِّلّ، ولولاها لكنتَ ضاحيًا. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): القدم. والمثبت من "العقد الفريد" 4/ 16. (¬2) ما بين حاصرتين من "العقد الفريد" لتوضيح الكلام. (¬3) في "العقد الفريد" 4/ 17: فما ساد. (¬4) في "العقد الفريد": منّا. (¬5) في (ب) و (خ): بإسلام، والمثبت من "العقد الفريد".

وأما قولك: أنا عبد الله، وأنت معاوية؛ فقد علمَتْ قريش أيُّنا أجودُ في الإزَم، وأجزلنا في العُدْم (¬1)، وأمنعُ للحُرَم، ولا واللهِ لا أراك (¬2) منتهيًا حتى تروم من بني عبد مناف ما رام أبوك، فقد طالبهم بالدخول، وقدَّم إليهم الخيول، وقد خدعتُم أميرَ المؤمنين، ولم تُراقبوا حُرْمةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ مددتُم على نسائكم السُّجُوف (¬3)، وأبرزتُم زوجتَه للحُتوف، ومُقارعةِ السيوف، فلما التقى الجمعان نكص أبوك هاربًا، فلم يُنْجِه ذلك أن طحنَه أبو الحسين بِكَلْكَلِهِ (¬4) طَحْنَ الحصيد بأيدي العبيد. وأمَّا أنتَ فأَفْلتَّ بعد أن خَمَشَتْك بَراثنُه، ونالتْك مخالبُه. وَايمُ الله، لَيُقَوِّمُنَّك بنو عبد مناف بِثِقَافها (¬5)، ولَتُصْبِحَنَّ منها صَباح (¬6) أبيك بوادي السِّباع، وما كان أبوك بموهن حدّه (¬7)، ولكن كما قال الشاعر: تنازلَ سِرْحانٌ فريسةَ حادرٍ (¬8) ... فَقَضْقَضَهُ (¬9) بالكَفِّ منه وَحَطَّما وقال محمد بن السائب: اعتمر (¬10) معاوية في رجب -أو في بعض حَجَّاته- ولما قفل إلى الشام [و] بينا هو يسير في بعض الليالي إذا برجل يُسايرُه ويدنو منه، فقال: مَنْ أنت؟ فقال: عبد الله بنُ الزُّبير. قال: وما الذي أدناك مني؟ فقال ابن الزبير: لو شئتُ لقتلتُك منذ الليلة. فقال له معاوية: مه، لستَ من قَتَلَة الملوك، وإنَّما يَصِيدُ كلُّ طائر قَدْرَهُ من الطير. فقال ابن الزُّبير: إليَّ تقول هذا وقد سرتُ تحت لواء أبي لنصرة عثمان في قتال ابنِ أبي طالب وهو من تعرفُه. فقال: لا جرمَ قتلَ أباك بشماله ويمينُه فارغة. فقال ابنُ الزبير: كان ذلك في نُصرة عثمان. فقال: دَعْ عنك، فوالله لولا بِغْضَتُكَ لعليّ ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ). وبدلها في "العقد الفريد" 4/ 18: وأمضى في القُدُم. وذُكر في حاشيته: أحزم. (نسخة). (¬2) في (ب): أزل، وفي (خ): أزال. والمثبت من "العقد الفريد". (¬3) في (ب) و (خ): السحوق، والمثبت من "العقد الفريد". (¬4) الكلكلل والكلكال: الصدر. (¬5) الثِّقاف: أداة من خشب أو حديد تقوَّم بها الرماح لتستوي وتعتدل. (¬6) في "العقد الفريد" 4/ 18: أو لتصيحنَّ منها صِياح ... (¬7) كذا في (خ). وفي (ب): بموهن حدك. وفي "العقد الفريد": وما كان أبوك المرهوب جانبه. (¬8) الحادر: الممتلئ البدن. ورواية البيت في "العقد الفريد" 4/ 18: أكيلة سِرْحان فريسة ضيغمٍ. والسِّرْحان: الثعلب. (¬9) أي: كسره. وتحرفت اللفظة في (ب) و (خ) إلى: فقصفه. (¬10) في (ب) و (خ): لما اعتمر ... وأثبتُّ السياق على الجادَّة. والواو الآتية بين حاصرتين زيادة من عندي للسياق.

لكنتَ جرَرْتَ (¬1) بِرِجْلِ عثمانَ فيمن جَرَّ. فقال: إنَّ لك في رقابنا بيعةً، وسيعلم مَنْ يأتي بعدَك. فقال معاوية: إني لا أتخوَّف (¬2) عليك ألا تقتل (¬3)، وكأنّي بك وقد وقعتَ في الأُنْشُوطة، فتمنَّيتَ أنَّ أبا عبد الرحمن (¬4) كان لك، ولو حضرك لأطلقَك. فقال ابنُ الزبير: إليَّ تقول هذا، وأنا ابن حواريٍّ وصِدِّيق، وأنت طليق بن طليق. فقال له معاوية: لقد هممتُ أنْ أَعِظَك بالرِّفْق، وأَعْسِفَكَ عن الطريق (¬5). ثم أعرضَ عنه (¬6). ذكر المنقول من حلمه واحتماله: كان يقول: ما شيءٌ أحبَّ إليَّ من جُرْعة غيظ أتجرَّعُها طلبًا لثواب الله تعالى (¬7). [وحكى أيضًا (¬8) عن الحسن البصري أنه قال: لو سلك معاوية بالناس غير سبيل الاحتمال والمداراة؛ لاختُطف اختطافًا (¬9). وقال الهيثم: قال معاوية ذات يوم والحسن عنده: من أكرم الناس أبًا وأمًّا، وجدًّا [وجَدَّةً]، وعمًّا وعمَّة، وخالًا وخالة؟ فقال له عبد الله بن العجلان: هذا القاعد. وأشار إلى الحسن. فقال معاوية: صدقت (¬10)]. وقال (¬11): وقال عبد الله بن همَّام السَّلُوليّ: ¬

_ (¬1) رسمت اللفظة في (ب) و (خ): جرور. والمثبت من "تاريخ دمشق" ص 442 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عبد الله بن الزبير). (¬2) في (خ): لأتخوَّف. (¬3) في "تاريخ دمشق": ما أخافك إلا على نفسك. (¬4) هي كنية معاوية. (¬5) أي: أَعْدِل وأَحِيد بك عن الطريق. (¬6) ينظر أيضًا "البداية والنهاية" 12/ 201 - 202. وصدر القصة في "أنساب الأشراف" 4/ 81. (¬7) تاريخ دمشق 68/ 281 (طبعة مجمع دمشق) ونسب الكلام في (م) للمدائني. وهذا الكلام مقتبس من حديث ابن عمر مرفوعًا: "ما تجرَّع عبدٌ جرعة أفضل عند الله عزّ وجلّ من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى". أخرجه أحمد (6114)، وأخرجه أيضًا من حديث ابن عباس (3015). (¬8) يعني المدائني، حيث نُسب الخبر في (م) إليه، وهذا الكلام بين حاصرتين منها. (¬9) أنساب الأشراف 4/ 147. (¬10) المصدر السابق 4/ 38، ولفظ "وجدَّة" بين حاصرتين منه، وسيرد ص 81. (¬11) يعني المدائني. والشعر الآتي في "أنساب الأشراف" 4/ 74. ومن هذا الموضع إلى ترجمة صحار العبدي ص 84 ليس في (م).

فإنْ تَأْتُوا بِبَرَّةَ أوْ بهندٍ ... نُبايِعْها أميرةَ مؤمنينا أيا لَهَفي لَوَ أنَّ لنا رجالًا ... يكونوا مثلَنا متناسِقِينا إذًا لضَرَبْتُكُمْ حتى تعودوا ... بمكة تلعقون بها السَّخِينا (¬1) شَرِبْنا الغَبْنَ (¬2) حتى لو سُقِينا ... دماءَ بني أميَّةَ ما رَوينا لقد ضاعَتْ رعيَّتُكُمْ (¬3) وأنتُمْ ... تصيدون الأرانبَ غافلينا وبلغ معاويةَ فقال: ما تركَ ابنُ همَّام شيئًا، ذكرَ أمهاتِنا، وشربَ دماءَنا، وتأسَّفَ على رجال يقاتلوننا، اللهم اكْفِناه (¬4). وشهد أعرابي عند معاوية بشهادة فقال: كذبتَ. فقال: كذب المتزمِّلُ في ثيابك يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: هذا جزاء مَنْ عَجِل (¬5). وضرب يزيد غلامًا له، فقال له معاوية: كيف ضربتَ من لا يستطيعُ امتناعًا منك (¬6)؟ ! واجتمع عمرو بنُ العاص وعبد الله بنُ عباس عند معاوية، فقال له عمرو: يا بني هاشم، أما واللهِ لقد تقلَّدتُم من دم [عثمان] كَفَرْمِ الإماء العوارك (¬7)، فأطعتم فُسَّاق أهلِ العراق في عَيْبه، وأجزرتموه مُرَّاق أهلِ مصر، وآويتُم قَتَلَتَه. فالتفت ابنُ عباس إلى معاوية، فقال له: واللهِ ما تكلَّم ابنُ النابغة (¬8) إلا عن رأيك، وإنَّ أحقَّ الناس مَنْ طُلب منه دمُ عثمان لَأنتما (¬9). أما (¬10) أنت يا معاوية؛ فزيَّنْتَ له ما صنع، حتى إذا حُصِرَ، طلبَ نُصرتك، فتربَّصتَ عليه وتثاقلتَ عنه حتى قُتل؛ وأحببتَ قَتْلَه لتنال ما نلتَ. ¬

_ (¬1) في (خ): السخونا. والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في المصدر السابق. (¬2) في "أنساب الأشراف" 4/ 74: حُشينا الغيظ. (¬3) في (ب): رويَّتكم، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في "أنساب الأشراف". (¬4) بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 74 - 75. (¬5) أنساب الأشراف 4/ 88. (¬6) المصدر السابق 4/ 92. (¬7) الفَرْمُ: دواء تتضيَّقُ به المرأة، وعوارك جمع عارك، أي: حائض. ينظر "القاموس". (¬8) يعني عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، أمه النابغة بنت خزيمة، وكان يعيَّر بها. (¬9) في "أنساب الأشراف" 4/ 109: وإن أحقّ الناس أن لا يتكلم في قتل عثمان لأنتما. (¬10) في (ب) و (خ): لها، بدل: أما (؟ ) والمثبت من المصدر السابق.

وأما أنت يا ابن النابغة؛ فأضرمتَ المدينة عليه نارًا، ثم هربتَ إلى الشام، ونزلتَ فلسطين تُحَرِّضُ عليه الصادر والوارد، حتى دعا. . . (¬1) في شِعاف الجبال حيث عزلك عن مصر، ولم تكن عنده [إلا] كذُبابٍ مرَّ على أنفه، فلما بلغك قَتْلُه دعَتْك عداوةُ أمير المؤمنين إلى أن لَحِقْتَ بهذا -وأشار إلى معاوية- فبِعْتَ منه دينَك وأمانتَك -إن كان لك دين- بمصر. فقال معاوية: يا ابنَ عباس، حسبُك، فقد عرَّضَني عمرو لك ونفسَه (¬2) إلى سماع هذا، فلا جزاه الله خيرًا. دخل شريك (¬3) بن الأعور الحارثي على معاوية، وكان آدمَ (¬4) دميمًا، إلا أنه كان شريفًا في قومه، وكان شيعيًّا، شهد صفِّين مع علي - عليه السلام -، فأراد معاويةُ أنْ يضعَ منه، فقال: إنك لشريك، وما لله من شريك، وإنك ابنُ الأعور، والصحيحُ خيرٌ من المعيوب، وإنك لدميمٌ حِنْزَقْرَةٌ (¬5) أسود، فكيف سوَّدَك قومك؟ فقال له شريك: إنك لمعاوية، وهل معاويةُ إلا كلبةٌ عَوَتْ فاستَعْوَت الكلاب، وإنك ابنُ صخر، والسهل خير، وإنك ابنُ حَرْب، والسِّلْمُ خير (¬6)، فكيف صِرْتَ أميرَ المؤمنين؟ ثم خرج مُغْضَبًا وهو يقول: أَيَشْتِمُني معاويةُ بنُ حربٍ ... وسيفي صارمٌ (¬7) ومعي لساني وحولي من ذوي يَمَنٍ لُيوثٌ ... ضراغمة تَهُشُّ إلى الطِّعانِ فلا تبسُطْ لسانَك يا ابنَ هندٍ ... علينا أَنْ بلغْتَ مدى الأماني فإنْ تَكُ للشقاء لنا أميرًا ... فإنَّا لا نُقيمُ على الهوانِ وإنْ تَكُ من أميَّة في ذُراها ... فإني من بني عبد المدانِ ¬

_ (¬1) مكان النقاط كلمة غير واضحة رسمها: السا. ومن هذا الموضع ... إلى قوله الآتي: مرّ على أنفه، لم يرد في "أنساب الأشراف"، ولفظة: "إلا" الآتية بين حاصرتين، زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في (ب) و (خ): لنفسه، بدل: لك ونفسَه. والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 109. (¬3) تحرف في (ب) و (خ) إلى: يزيد. والكلام ليس في (م). (¬4) أي: أسمر. (¬5) الحِنْزَقْرَة: القصير الدميم، كالحِنْزَقْر. ينظر "القاموس". (¬6) في "أنساب الأشراف" 4/ 132: والسهل خير من الصخر ... والسلم خير من الحرب. (¬7) في (ب) و (خ): صارمي. والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 132.

قدم معاوية المدينةَ، فدخلَ دارَ عثمان رضوان الله عليه، فقالت عائشة بنتُ عثمان، وا أبتاه! فقال: يا ابنةَ أخي، إن الناس أعطَوْنا طاعةً تحتَها أحقاد، وأظْهَرْنا لهم حِلْمًا تحته غضب، ومع كل إنسان سيف، فإن نَكَثْنَا بهم نكثوابنا، ولا ندري أتكون لنا أو علينا، ولأَنْ تكوني ابنة عمّ أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأة رجل من أعراض المسلمين (¬1). وقف أبو الدرداء يومًا بباب معاوية، فحجبَه، فقال: مَنْ يَغْشَ أبواب الملوك يقم ويقعد، ومن وجدَ بابًا مغلقًا وجد إلى جانبه بابًا مفتوحًا، إنْ دعا أجيب، وإنْ سألَ أُعطِي. وبلغ معاويةَ، فأَذِنَ له واعتذر إليه (¬2). قالت فاختة امرأة معاوية لمعاوية: لِمَ تُصانع الناس؟ فلو أخذتهم من عَلُ، كانوا الأذلِّين، وكنتَ قاهرًا لهم. فقال لها: إن في العرب بعدُ بقيّة، ولولا ذلك لجعلتُ عاليَها سافلَها. فقالت له: واللهِ ما بقيَ أحدٌ إلا وأنت قادرٌ عليه. فقال لها: هل لكِ أن أُريَكِ بعضَ ذلك منهم؟ قالت: نعم. فأدخلَها بيتًا، وأسبل (¬3) عليها سِتْرًا، ثم أمرَ حاجبه أنْ يُدْخِل عليه رجلًا من قيس. فأدخلَ رجلًا يقال له: الحارث، فقال له معاوية: إيهِ يا حُوَيرث، أنت الذي تطعنُ في الخلافة، وتنتقصُ أهلَها، واللهِ لقد هممتُ أنْ أجعلَك نَكالًا. فقال: يا معاوية، ألهذا دعوتَني؟ واللهِ إنَّ ساعدي لشديد، وإنَّ رُمْحي لمديد، وإنَّ سيفي لحديد، وإن جوابي لَعتِيد، وإن لم تأخذ ما أُعطِيتَ بشكر؛ لَتُنْزَعَنَّ عمَّا نكره بصُغْر. فقال: اخْرجْ. فقالت فاختة: ما أقوى قلبَ هذا وأجرأَه! [فقال معاوية: ] وما ذاك إلا بإدلاله بطاعة قومه له. ثم قال للحاجب: أدخِلْ آخر. فدخل رجلٌ يقال له: جارية. فقال له: إيه يا جُويرية (¬4)، أنت الذي بلغني عنك تخبيبُ الجند (¬5)، وقلَّةُ الشكر. فقال: يا معاوية، ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 4/ 143، وفيه: (من عُرْض المسلمين). أي: من عامتهم. (¬2) العقد الفريد 1/ 71. دون قوله: وبلغ معاوية ... إلخ. (¬3) في (خ): وأرسل. (¬4) في (خ): حارثة .... حويرثة. وغير واضحة في (ب). والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 123. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬5) في (ب) و (في): أنك تخبب الجند. والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 123 لسياق الكلام بعده. والتخبيب: الإفساد.

وعلام تُشكر؟ فواللهِ ما تُعطي إلا مداراةً، ولا تحلُمُ (¬1) إلا مصانعةً، فاجْهَدْ جَهْدَك، فإن ورائي من ربيعة ركنًا شديدًا، لم تَصْدَأ (¬2) أدرعُهم مُذْ جَلَوْها، ولا كلَّتْ سيوفُهم مُذْ شحذُوها. فقال: اخْرُجْ. فخرج. ودخل رجل آخر من اليمن يقال له: عبد الله، فقال: إيهِ يا عُبيد الله (¬3)، ألحقتُك بالأقوام، وأطلقتُ لسانَك بالكلام، ثم يبلغُني عنك ما يبلغُني من سوء الإرجاف، لقد هممتُ أن أجعلَك عبرة لأهل الشام. فقال: يا معاوية، ألهذا دعوتَني؟ ! صغَّرتَ اسمي ولم تنسبني إلى أبي، وإنَّما سُمّيتَ معاويةَ باسم كلبة عَوَتْ، فارْبَعْ على ظَلْعِك (¬4)، فذلك خيرٌ لك. فقال: أخرج. فخرج. وخرجَتْ فاختة، فقالت: أيها الرجل، صانِعِ الناس وسُسْهُم برفقك وحلمك، فأبعدَ الله مَنْ لامَك. وخطبَ معاويةُ يومًا بالمدينة، فقام إليه غلام من الأنصار، فقطعَ عليه الكلامَ، وقال: ما الذي جعلك وأهلَ بيتك أحقَّ بهذه الأموال منَّا، وإنَّما أفاءها الله على المسلمين بسيوفنا، وما لنا عندك ذنب غير أنَّا قتلنا جدَّك عُتبة، وأخاه شيبة، وخالك الوليد بنَ عتبة، وأخاك حنظلة يومَ بدر. فقال معاوية: واللهِ يا ابن أخي، ما أنتم قتلتموهم، ولكنَّ الله قَتَلَهم بملائكة على أيدي بني أبيهم، وما ذاك بعارٍ ولا مَنْقَصَة. فقال الأنصاري: فأين العار والمَنْقَصةُ إذًا؟ قال: صدقتَ (¬5). وكان بين يديه مال، فقال: احملْ منه ما شئتَ. فحملَ وقْرَه، وعاد معاوية إلى خطبته. وخطب معاوية، فنال من عليّ (¬6)، فقام أبو الدَّرداء إليه وقال: كذبتَ يا معاوية، ليس هو كما تقول. فنزل معاوية من المنبر، فقال له يزيد: أتحتملُ هذا كلَّه؟ ! فقال: مَهْ، إنَّه من عُصْبةٍ عاهدوا اللهَ لا يسمعوا كذبةً إلا ردُّوها. ¬

_ (¬1) في (خ): تحكم. (¬2) في (ب) و (خ): لم تصل. والمثبت من "أنساب الأشراف". (¬3) في "أنساب الأشراف" 4/ 124: عُبيد السوء. (¬4) أي: لا تُجاوز حدَّك في وعيدك. ينظر "مجمع الأمثال" 1/ 293. (¬5) بعدها في "أنساب الأشراف" 4/ 133: أفلك حاجة؟ قال: نعم، لي عجوز كبيرة، وأخوات عواتق، وقد عضَّنا الدهر، وحلّ بنا الحَدَثان .... (¬6) في (ب) و (خ): فقال من علي علم (؟ ) والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 133.

وقال معاوية لأبي الجَهْم بن حُذيفة: أيُّنا أسنُّ؟ أنا أم أنتَ؟ فقال أبو الجَهْم: واللهِ لقد أكلتُ في عُرْس أمِّك، وأذكرُ دخولَها على زوجها. فقال معاوية: على أيِّ أزواجها؟ قال: على حفص (¬1) بن المغيرة. فقال معاوية: واللهِ لقد كانت كريمةَ المناكح، وإيَّاك يا أبا الجَهْم والقُدومَ (¬2) بعدها على السلطان بمثل هذا، فأمْرُ السلطان كاللعب، وصَوْلَتُه كالأسد. وفي رواية: فإنَّه يغضب غضب الصِّبيان، ويصولُ صَوْلَةَ الأسد (¬3). فقال أبو الجَهْم: نميلُ على جوانبِه كأنَّا ... إذا مِلْنا نميلُ (¬4) على أبينا نُقَلّبُهُ (¬5) لِنَخْبُرَ حالتَيهِ ... فنَلْقَى (¬6) منهما كَرَمًا ولِينا وهجا عُقبة (¬7) الأسديّ معاويةَ من أبيات: مُعاويَ إننا بَشَرٌ فأَسْجِحْ (¬8) ... فلسنا بالجبال ولا الحديدِ أكلْتُم أرضَنا فَجَرَدْتُموها ... فهل من قائمٍ أو من حَصِيدٍ فهَبْنا أمةً هَلَكَتْ ضَياعًا ... يزيدُ أميرُها وأبو يزيدِ أتطمع في الخلود إذا هَلَكْنا ... فليس لنا ولا لك من خلودِ فلما وقف معاوية على الأبيات، استشار أصحابَه فيه، فقال قوم: اقتُلْه. وقال آخرون: مَثِّلْ به. وقال قوم: افعل به كذا وكذا. فقال معاوية: ألا نفعلُ ما هو خير لك فقال: وما هو؟ قال: ارفعوا أيديَكم لندعوَ عليه (¬9). ¬

_ (¬1) تحرف في (ب) و (خ) إلى: حصين. والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 65 و"العقد الفريد" 1/ 52. (¬2) في "أنساب الأشراف" 4/ 65: والإقدام. (¬3) المصدر السابق، والعقد الفريد 1/ 52. (¬4) في "العقد الفريد" 1/ 52 و"تاريخ دمشق" 68/ 284: نميل إذا نميل. (¬5) في "العقد": ونغضبُه. (¬6) في "العقد" و"تاريخ دمشق": فنَخْبُرَ. (¬7) كذا في (ب) و (خ): عقبة (في الموضعين). وفي "العقد الفريد" 1/ 52: عُقيبة. وبهذا الاسم ترجم له ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 48/ 25. فقال: عقيبة بن هبيرة بن فروة الأسدي. (¬8) أي: سَهِّلْ وارْفُقْ، يقال: ملكتَ فأَسْجِحْ. (¬9) كذا وقع سياق الكلام في (ب) و (خ) بصيغة الجمع ثم بالفرد. وقول معاوية: ألا نفعل ما هو خير لك ... وقع في رواية للخبر في "العقد الفريد" 5/ 319 - 320 يخاطب به أبا بردة بن أبي موسى الأشعري، وهي الرواية التي ستأتي بعد هذه الرواية مختصرة.

ثم دعاه معاوية فقال: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: نصحتُك إذْ غَشُّوك، وصَدَقتُك إذْ كَذَبُوك. فقال: ما أظنُّك إلا صادقًا. وقضى حوائجَه (¬1). دخل أبو بُردة بن أبي موسى حمَّامًا، فزحَمَ رجلًا، فرفع الرجل يَدَه، فلطَم أبا بُرْدَة في وجهه، فقال عقبة الأسدي: لا يَصْرِمُ اللهُ اليمينَ التي لها ... بوجهك يا ابنَ الأشعريّ نُدوبُ فاستعدى عليه معاوية، فقال: إنه هجاني. قال: وما قال: قال: فأنشده البيت. فقال: هذا رجل دعا ولم يقل إلا خيرًا. فقال أبو بُردة: فقد قال: وأنت امرؤٌ في الأشعرين مقابَلٌ (¬2) ... لديهم وفي البطحاء (¬3) أنت غريبُ فقال معاوية: وإذا كنتَ في الأشعريين مقبلًا؛ فما ذاك؟ فقال: فقد قال: ولا أنا من حُدَّاثِ أمِّك بالضُّحى ... ولا مَنْ يزكِّيها بظهر مَغِيبِ (¬4) فقال معاوية: وماذا عليه إذا لم يزكِّها؟ ولو كان قال: أنا من حُدَّاثها؛ لكان لك أن تغضب. ثم قال معاوية: والذي قال لي أشدُّ. يعني قوله: معاويَ إننا بشرٌ فأَسْجِحْ ... فلسنا بالجبال ولا الحديدِ (¬5) الأبيات المتقدَّمة. ¬

_ (¬1) الخبر في "العقد الفريد" 1/ 52 دون قوله: (فلما وقف معاوية على الأبيات ... لندعو عليه). وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 67، والتعليق السابق. فلعل ثمة وهمًا وقع. (¬2) في (ب) و (خ): في الأشعريين مقبلًا. والمثبت من "العقد الفريد" 5/ 319. والمقابَل من الرجال: الكريم النسب من قبل أبويه. (¬3) في "العقد الفريد": وفي البيت والبطحاء، وبدل: لديهم وفي البطحاء. (¬4) في (خ) (والكلام منها): فقال عجيب بدل: بظهر مغيب (؟ ). وسقط البيت من (ب)، والكلام ليس في (م). والمثبت من "العقد الفريد". والحُدَّاث: أي الجماعة يتحدَّثون؛ قال ابن الأثير في "النهاية": هو جمع على غير قياس، حملًا على نظيره، نحو سامر وسُمَّار. (¬5) ينظر ردّ ابن عبد ربّه رواية سيبويه: ولا الحديدا (بالنصب) في "العقد الفريد" 5/ 390 - 391.

الحسن بن علي - عليه السلام -

افتخر يومًا معاوية فقال: إن الله فضَّل قريشًا بثلاث، فقال لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، ونحن عشيرتُه، وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، ونحن قومُه، وقال: {لإِيلَافِ قُرَيشٍ} ونحن قريش. فقام فتى من الأنصار، دقال: على رِسْلك يا معاوية، فإنَّ الله يقول: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]، وأنتم قومُه. وقال: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]، وأنتم قومُه، {وَقَال الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] وأنتم قومُه. فهذه ثلاث بثلاث. فأفحمه (¬1). ذكر بعض الوافدين عليه: وَفَدَ عليه الأحنف بن قيس، ومحمد بنُ الأشعث الكِنْدي، فأذِنَ للأحنف أولًا، ثم أذن لمحمد، فهرولَ محمد فدخل أولًا، فشقَّ ذلك على معاوية وغضب وقال: يا ابنَ الأشعث، كيف (¬2) تقدَّمتَ أبا بَحْر (¬3) ولم آذَنْ لك قبلَه؟ وإنَّا كما نلي أمورَكم؛ فكذا نلي أدبكم. وواللهِ ما يزيدُ متزيِّد في حظِّه (¬4) إلا لنقصٍ يجدُه في نفسه، فإيَّاك إياك. ووصلَ الأحنفَ، وحرمَ ابنَ الأشعث (¬5). الحسن بن علي - عليه السلام - وفد عليه مرارًا. قال معاوية يومًا والحسن - رضي الله عنه -[عنده]: مَنْ أكرمُ الناسِ أبًا وأمَّا، وجَدًّا وجدَّةً، وعمًّا وعمَّة، وخالًا وخالةً؟ فقال له عبد الله بن العجلاني (¬6): هذا القاعد. وأشار إلى الحسن. فقال معاوية: صدقتَ. ¬

_ (¬1) العقد الفريد 4/ 27. (¬2) في (ب) و (خ): فقال كيف (؟ ). (¬3) هي كنية الأحنف بن قيس. (¬4) في (ب): خطه. وفي "العقد الفريد" 1/ 68: خطوه. (¬5) الخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 57 من رواية المدائني، وفيه بدل قوله: ووصل الأحنفَ ... : فقال محمد: إنَّا لم نأتك لتقضيَ مكاننا منك، وإن نعدم الأدب فنحتاج إلى تأديبك، فخُذْ منّا عفوَنا تستوجب مودّتنا، وإنّا عنك لفي غنًى وسَعَة. ثم خرج. والخبر بنحوه أيضًا في "تاريخ الطبري" 5/ 332 - 333. (¬6) في "أنساب الأشراف" 4/ 38: عجلان، وسلف الخبر ص 74 (أول هذه الفقرة).

حضين

حُضَيْن (¬1) وفي حُضَين يقول علي - عليه السلام - يوم صِفِّين: لِمن رايةٌ سوداءُ يخفقُ ظلُّها ... إذا قيل قَدِّمْها حُضَينُ تَقَدَّما فيوردُها في الصفِّ حتى يُقيلَها (¬2) ... حِياضَ المنايا تقطرُ الموتَ والدِّما قال ابن ماكولا: كان الحُضين أثيرًا (¬3) عند بني أمية، فقتله أبو مسلم الخُراساني (¬4). وقال العسكري: كان من سادات ربيعة، ولَّاه علي - رضي الله عنه - إصْطَخْر، وحملَ راية ربيعة يومَ صفِّين، وكان يُبَخَّل. وفيه قال زياد الأعجم: يَسُدُّ حُضَيْنٌ بابه خشية القِرى ... بإصْطَخْرَ والكبشُ السمينُ بدرهمِ أسند حُضَيْن عن عثمان، وعليّ، والمهاجر، والمجاشع بن مسعود. وكان إذا دخل على حُضَين خَتَنُهُ على أخته، أو صهرُه على ابنتِه، تنحَّى له عن مجلسه. وقال: مرحبًا بمن ستر العورة، وكَفَى المُؤْنة. كان الحُضَيْن بخراسان مع قتيبة بن مسلم. حُضَيْن بن المنذر (¬5)، وفدَ على معاوية، وكنيتُه أبو ساسان (¬6)، فكان يقف ببابه ولا يؤذن له إلا في آخر الناس، ما كان يُعطي الحاجب والبوَّاب شيئًا. فقال له معاوية يومًا: يا أبا ساسان، ما لك لا تدخلُ إلا في آخر الناس؟ فقال: وكلُّ خفيفِ الشأنِ يسعى مشمِّرًا ... إذا فتحَ البوَّابُ بابَك إصبعا ونحن الجلوسُ الماكثون رزانةً ... حياءً إلى أن يُفتحَ البابُ أجمعا ¬

_ (¬1) هو حُضين بن المنذر، أبو ساسان البصري، كنيتُه أبو محمد، وأبو ساسان لقب. (¬2) في (ب) و (خ): ينيلها، والمثبت من "تاريخ دمشق" 5/ 163 (مصورة دار البشير). (¬3) أي: مفضَّلًا على غيره. وتحرفت اللفظة في (ب) و (خ) إلى: أميرًا. (¬4) الإكمال 2/ 482، وتاريخ دمشق 5/ 165 (مصورة دار البشير). (¬5) كذا وقع سياق الكلام في (ب) و (خ). والكلام تتمة لترجمة حُضَين. (¬6) إنما أبو ساسان لقبه، وكنيتُه أبو محمد. ينظر "تاريخ دمشق" 5/ 161.

ثوب بن تلدة الوالبي الأسدي

فأشار إليه معاوية: أنْ أَعْطِهِم شيئًا (¬1) ومن الوافدين على معاوية: ثَوْبُ (¬2) بن تُلْدَة الوالبي الأسدي أحد المُعمَّرين المخضرمين، عاشَ مئتين وأربعين سنة، وفدَ على معاوية. وقال في سنِّه وعُمرهِ: وإنَّ امرءًا قَدْ عاشَ عشرين حَجَّةً ... إلى مئتين كلُّها هو دائبُ لَرَهْنٌ لأحداثِ المنايا وإنَّما ... يُلَهِّيهِ في الدنيا مُناهُ الكواذبُ دخل على معاوية فقال له: كيف بصرُك؟ قال: أحدُّ ما كان. قال: فكيف مشيُك؟ قال: كنتُ أمشي، فأنا اليومَ أُهَرْول. قال: أدركتَ أميةَ بنَ عبد شمس؟ قال: نعم، رأيتُه وهو أعمى وله عبدٌ يقودُه، ولقد رأيتُه يطوف بالبيت، فلا أدري أنِّي (¬3) أكبر أم هو. قال: فكيف أكلُك؟ قال: كنتُ آكلُ مرَّةً، فأنا آكلُ اليوم مرتين، وكنتُ أرى هلالًا واحدًا، وأنا اليوم أراه هلالين. وهو القائل (¬4): لقد عَلِمَتْ بالقادسيَّة أنَّني ... صبورٌ على اللَّأْواء عَفُّ (¬5) المكاسب أخوضُ بسيفي غمرةَ الموت مُعْلِمًا ... وأقدمُ إقدامَ امرئٍ غيرِ هائبِ (¬6) ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 5/ 163، وتتمة قول معاوية فيه: فإنك لا تعطي أحدًا شيئًا. وينظر "تهذيب الكمال" 6/ 555 - 560. (¬2) بفتح الثاء وسكون الواو، أو بضم الثاء وفتح الواو. ينظر "توضيح المشتبه" 2/ 103 - 104. وذكره ابن حجر في "الإصابة" 2/ 32 في القسم الثالث من حرف الثاء فقال: ثور بن تلدة، ويقال: ثوب، بالموحَّدة ..... وقال: أنشد له المرزباني شعرًا فيما أنشده الآمدى لغيره. وانظر الكلام بعد تعليق. (¬3) في "مختصر تاريخ دمشق" 5/ 350: أنا. (¬4) نسب الآمدي الشعر في "المؤتلف والمختلف" ص 79 لنُسير بن ثور العجلي. وذكر ابن حجر نُسير هذا في القسم الثالث من حرف النون في "الإصابة" 10/ 208 وقال: (له إدراك، وشهد الفتوح في عهد عمر، منها القادسية). ثم ذكر له البيت الأول. (¬5) في (خ): كف، وفي (ب): لكف. والمثبت من "المؤتلف والمختلف" ص 79، و "الإصابة" 10/ 208. (¬6) في "المؤتلف والمختلف": هارب.

صحار بن عباس العبدي

وفَوْقي دِلاصٌ ذاتُ شَكٍّ حصينةٌ ... كأنَّ قَتِيرَيها عيونُ الجَنادبِ (¬1) وإمَّا تَرَينِي قَلَّ مالي فقُلُّهُ ... لدفع خطوب جمَّةٍ ومعائبِ (¬2) إذا قلَّ مالي لم أَلُذْ (¬3) بذوي الغنى ... ولكن أخشِّنُ الحوادثَ (¬4) جانبي وإنْ بلدةٌ نأَتْ (¬5) عليَّ طِلابُها ... صرفتُ لأخرى رحلتي وركائبي وإنْ مرَّ من دهرٍ عليَّ حوادثٌ ... تشيب النواصي بعد شيبِ الحواجِبِ فلستُ إذا ما الدَّهْرُ أحدثَ نكبةً ... بأخضعَ ولَّاجٍ بيوتَ الأقارب صُحَار بن عبَّاس (¬6) العَبْدي [ذكر المدائني أنه] وفدَ على معاوية، وكان أزرق، فقال له معاوية: يا أزرق. فقال: خير البُزَاة الزُّرْق. فقال [له]: يا أحمر. فقال: [خير] الذهب الأحمرُ (¬7). فقال له: ما هذه البلاغةُ فيكم يا عبد قيس؟ فقال: شيء يعتلجُ في صدورنا، فنَلْفِظُه كما يلفِظُ البحرُ الزَّبَد. قال: فما رأسُ البلاغة؟ قال: أن تقولَ ولا تُخطئ، وتعجلَ ولا تُبطئ. ثم وصف قبيلتَه وقال: ومنَّا عبد الله بن سوار (¬8)، خرج في أربعة آلاف إلى ثغر السِّنْد، فلم يُوقِدْ أحدٌ في عسكره نارًا بطعام، حتى أتى البلاد. ورأى يومًا في عسكره نارًا، فقال: ما هذه النار؟ فقيل له: امرأةٌ ولدَتْ؛ اتخذوا لها خبيصًا. فأمَرَ أن يُطْعَمَ العسكر كلُّهم الخَبِيص ثلاثةَ أيام. وأما صعصعة بن صُوحان فأبلغُ أهل زمانه. ¬

_ (¬1) دِلاص: صفة للدِّرْع، يقال: دِرْع دِلاص، أي: ملساء ليّنة، والقَتير: رؤوس مسامير الدروع. والجنادب جمع جُندب. وهو نوع من الجراد. ينظر "القاموس". (¬2) في "المؤتلف والمختلف" ص 79: لدفع خصوم جمَّة ونوائبِ. (¬3) في "المؤتلف والمختلف": أُلَعْ. (¬4) في المصدر السابق: أُنَحِّي للحوادث. (¬5) في المصدر السابق: أعيت. (¬6) كذا في (ب) و (خ) و (م): عباس. وقال العسكري في "تصحيفات المحدثين": صحار بن عياش. وقال خليفة في "الطبقات" ص 61: صحار بن عياش، ويقال: بن عباس. (¬7) من هذا الموضع، وحتى ترجمة يزيد بن الأسود، ليس في (م). وما سلف بين حاصرتين منها. (¬8) في (ب) و (خ): سور (والكلام ليس في م). والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 140 - 141، والخبر فيه.

ظالم بن عمرو، أبو الأسود الديلي

ظالم بن عَمْرو، أبو الأسود الدّيلي وفدَ على معاوية، فحَبِقَ (¬1)، فخجلَ، فقال: اسْتُوْها عليَّ يا أمير المؤمنين. فقال له معاوية: لا بأس عليك. إنَّ هذا الذي فعلتَه أفعلُه أنا وأبي (¬2). عبد الله بنُ جعفر وفدَ عليه، وله معه واقعاتٌ، تُذكر في ترجمته. عبد الله بن قيس، أبو موسى الأشعريّ وفد عليه بعد التحكيم وعليه برنس أسود، فلما خرج من عنده قال: وفدَ علينا الشيخ لنُولِّيَه، وواللهِ ما ولَّيناهُ أبدًا (¬3). عديّ بن حاتم الطائي دخل على معاوية وعنده عبد الله بن الزبير، فقال له (¬4): يا أبا طريف، متى ذهبَتْ عينُك؟ فقال: يومَ فرَّ أبوك، وقُتل خالُك (¬5)، وضُربتَ على قفاك، وأنا مع الحقِّ، وأنت مع الباطل. فقال معاوية: إنَّ طَيِّئًا كانوا لا يحجُّون البيت، ولا يُعظِّمون حُرْمَتَه. فقال عديّ بن حاتم: كانوا يفعلون ذلك حيث يعلمون أنَّ البيت لا ينفع قربُه، ولا يضرُّ بُعْدُه، فلما علموا ذلك؛ كانوا أغلبَ الناس عليه، كانت طَيِّئ وخَثْعَم لا يحجُّون البيت، وكانوا يُسَمَّوْن الأَفْجَران (¬6). ¬

_ (¬1) أي: خرج منه ريح الحَدَث. (¬2) الخبر في "أنساب الأشراف" 4/ 33، وفيه أن أبا الأسود الديلي (ويقال الدؤلي) قال لمعاوية: يا معاوية، إن الذي كان مني قد كان مثله منك ومن أبيك ... وانظر تتمة كلامه. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 52. (¬4) يعني عبد الله بن الزبير. (¬5) يعني طلحة بن عُبيد الله، لأنه من بني تَيْم. وقد قتل يوم الجمل. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 105. (¬6) أنساب الأشراف 4/ 105 - 106. وينظر "تاريخ دمشق" 47/ 96 - 97 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عدي بن حاتم).

عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة

ولما وفد على معاوية قال له: [ما] أنصفَك ابنُ أبي طالب، حيث قُتل أولادُك؛ طريف وطَرَفة وطراف (¬1)، وبقيَ أولادُه! فقال له عديّ: ما أنصفتُه أنا حيث استُشهد، وبقيتُ بعدَه. فقال معاوية: قد بقيَتْ من دم عثمان قطرة لا يمحوها إلا دمُ شريفٍ من أشراف اليمن. يعني عديًّا. فقال له عديّ: واللهِ إنَّ القلوبَ التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإنَّ سيوفَنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدْنَيتَ (¬2) إلينا من الغدر شبرًا لَنُدْنِيَنَّ إليك من الشَّرِّ باعًا (¬3)، وإنَّ جزَّ الحلقوم وحَشْرَجةَ الحَيزُوم (¬4) لأهونُ علينا [من] أن نسمعَ المساءةَ في أمير المؤمنين. فقال معاوية لكاتبه: اكتُبْها، فإنَّها كلمةٌ حكيمةٌ (¬5). عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة كتب معاوية إليهما، فأقدَمَهما. [فقدم] عمرٌو من مصر، والمغيرةُ من الكوفة، فاجتمعا قبل الدخول عليه، فقال عمرو للمغيرة (¬6): ما دعانا إلا ليعزلنا، فإذا دخلتَ عليه، فاشتك الضعف، واستأذِنْه في إتيان المدينة، وأَستأْذنُه أنا في إتيان مكة، فإنه سيقع (¬7) في قلبه [أنَّا] إنما نُريد الفساد عليه، وتغيير قلوب الناس، فلما دخلا عليه ذكرا له ذلك، فقال: لقد تَواطَأْتُما على أمر، وإنكما لَتريدان شرًّا، ارجعا إلى عملكما. مسكين الدارمي (¬8) الشاعر، وفدَ على معاوية، فأنشد أبياتًا، منها: ¬

_ (¬1) سمَّاهم في "مروج الذهب" 5/ 18: الطَّرَفَات. وجاء ذكرهم في "اللسان" (طرف)، وفيه: مطرّف، بدل: طراف. وما سلف بين حاصرتين من "مروج الذهب". (¬2) في (ب) و (خ): أذهب. والمثبت من "مروج الذهب" 5/ 18 والخبر فيه. وهو بنحوه في "العقد الفريد" 4/ 28، وفيه: مددتَ. (¬3) في "مروج الذهب": ولئن أدنيت إلينا من الغدر فِتْرًا لنُدنينَّ إليك من الشرّ شِبرًا. (¬4) الحَيزُوم: ما اكتنف الحلقوم من الصدر. ينظر "القاموس". (¬5) "مروج الذهب 5/ 18، وينظر "العقد الفريد" 4/ 28، و"تاريخ دمشق" 47/ 96 - 97 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) في (ب) و (خ): فقال عمرو والمغيرة. والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 53. (¬7) في (ب) و (خ): سيشفع، والمثبت من "أنساب الأشراف" وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬8) هو ربيعة بن أُنيف، ومسكين لقبه، وتحرف في (ب) و (خ) إلى: شكر، وتنظر ترجمته في "مختصر تاريخ دمشق" 8/ 272 - 276.

الوليد بن عقبة

ما ضرَّ لي جارًا أُجاورُه ... أن لا يكون لِبابِهِ سِتْرُ أعمى إذا ما جارتي خَرَجَتْ ... حتى يُوارى جارتي الخِدْرُ وتَصَمُّ عمَّا بينهم أُذُني ... حتى تكونَ كأَنْ بها وَقْرُ الوليد بن عقبة ابن أبي مُعَيْط بن أبي عَمرو بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو وَهْب، كان من رجال قريش ظَرْفًا، وحِلْمًا، وشجاعة، وأدبًا، وكان من الشعراء المطبوعين. ومن ولده عَمرو، أبو قَطِيفة، الشاعر، سيَّره عبدُ الله بن الزبير مع بني أمية إلى الشام لَمَّا نفاهم، فقال: أقطعُ الليلَ كلَّه باكتئابٍ ... وزفيرٍ فما أكادُ أنامُ وبقومي بُدِّلْتُ لَخْمًا وكَلْبًا ... وجُذامًا وأين منِّي جُذامُ أقْرِ عني السلامَ إن جئتَ قومي ... وقليلٌ لَهُمْ لَدَيّ السلامُ فبلغ ابنَ الزُّبير، فرقَّ له وقال: حَنَّ أبو قَطِيفة، من لَقِيَه فليُخبره أنه آمِنٌ. وبَلَغَه، فرجع إلى المدينة، فمات في طريقه قبل أَنْ يصلَ إليها (¬1). يزيد بن الأسود، أبو عَمرو الجُرَشي [قال الواقدي: ] قدم على معاوية -وكان صالحًا زاهدًا- وقد أجدبت الأرض، وانقطع الغيث، فخرج به إلى المُصَلَّى وقال: اللهمَّ إنَّا نتوسَّلُ إليك بخيارنا وأفضلِنا يزيدَ بنِ الأسود، ثم قال: قُمْ يا يزيد، فارْفَعْ يدَيك، فقام ورفع يَدَيه، ورفعَ الناسُ أيديَهم، فَسُقُوا حتى كادوا أن لا يبلغوا منازلَهم. [وذكر ابنُ عساكر يزيدَ بنَ الأسود وقال (¬2): ] أدرك يزيد الجاهليَّة، وأسلمَ، ولم يلقَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وسكن الشام بقرية [يقال لها: ] زِبدين، من أعمال الغوطة، ¬

_ (¬1) ينظر "الأغاني 1/ 34، و"تاريخ دمشق" 56/ 100 - 103 (طبعة مجمع دمشق)، و"معجم البلدان" 1/ 366 - 367 (بِرام). (¬2) تاريخ دمشق 18/ 239 (مصورة دار البشير)، وما قبله منه ص 242. وينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 448. وما بين حاصرتين من (م).

ربيعة بن عسل اليربوعي

وكانت له دارٌ بدمشق، وكان يخرجُ من دمشق إلى زِبْدِين، فتُضيءُ له إبهامُه اليمنى، فلا يزال يمشي في ضوئها حتى يبلغَ زِبْدِين. وكان يسكن داخل الباب الشرقي، فروي أنه كان يصلي العشاء الآخرة بدمشق، ثم يخرج (¬1) إلى زِبْدِين. وهو من الطبقة الأولى من التابعين. وذكره بعضهم في الصحابة. وكان يسير هو ورجلٌ من أهل حمص في أرض الروم، فسمعَ مناديًا ينادي: يا يزيد بن الأسود، إنَّك لمن المقرَّبين، وإنَّ صاحبك لمن العابدين. فكان الأوزاعي إذا حكى هذه الحكاية يقول: إلى ها هنا (¬2) انتهى الفضل. [قال: ] (¬3) وكان يزيد كثيرَ الغزو، وكانوا يرون أنه من الأبدال، وكان قد حلف أن لا يضحك، ولا ينام مضطجعًا، ولا يأكل سمينًا، حتى يلقى الله. فمات وهو على ذلك. [قال: ] (¬4) واستسقى به الضحَّاك بن قيس بعد موت يزيد بن معاوية، فقال له: قُمْ يا بكَّاء، فاشْفَعْ لنا إلى ربك. فعطف بُرْنُسَه على منكبه، وحسر عن ذراعيه وقال: اللهم إنَّ عبادك هؤلاء يستشفعون بي إليك. فما دعا إلا [دعاءً] قليلًا حتى مُطروا مطرًا كادوا يغرقون منه. ثم قال: اللهمَّ إنَّ هذا قد شَهَرَني -يعني الضحَّاك- فأَرِحْني منه. فما مضت جمعة حتى قُتل الضحَّاك. وكان يزيد معتزلًا للفتن. ربيعة بن عِسْل اليَرْبُوعي من أهل البصرة، وفدَ على معاوية، فقال له: أعنّي على بناء داري باثني عشر ألف جذع، فقال له: وكم سعة دارك؟ قال: فرسخان في فرسخين. فقال: دارك بالبصرة، أو البصرة في دارك؟ ! ¬

_ (¬1) في (خ): يصل. والمثبت من (ب) و (م) وهو الموافق لما في "تاريخ دمشق". (¬2) في "تاريخ دمشق": هذا. (¬3) في "تاريخ دمشق" 18/ 241 (مصورة دار البشير). (¬4) المصدر السابق.

عبيد بن سرية الجرهمي

وخطب إلى معاوية ولم يُزوِّجه (¬1). عُبَيد (¬2) بن سَرِيَّة الجُرْهُمي عاش ثلاث مئة سنة (¬3)، وأدرك الإسلام، وأسلم، وقصد معاويةَ بالشام، فقال له: كيف وجدتَ الدنيا؟ فقال: يوم كيوم، وليلة كليلة. فقال له معاوية: ما أحسنُ الأشياءِ في عينك؟ قال: عينٌ خرَّارة في أرضٍ خَوَّارة. قال: ثم ماذا؟ قال: فَرَسٌ في بطنها فَرَس. قال: أَقِمْ عندنا. قال: إن أبي وأمي هلكا في مثل هذه السنة، ونفسي تحدِّثُني أني هالك فيها، فلا حاجة لي في المُقام عندك. فقال له معاوية: سلني حاجتَك. فقال: أمَّا الآخرةُ فإنَّها بيد غيرك، وأمَّا الدُّنيا فما تقدرُ على ردِّ شبابي، فما أسألُك؟ فقال: هل رأَيتَ حَرْبًا؟ يعني جدَّه. قال: رأيتُ أميةَ أعمى (¬4) يقودُه غلامٌ له يقال له: ذكوان. فقال: لا تقل هذا، فإنَّهم سادةُ الحيّ. فقال: قد قلتُ ما رأيتُ، فقُلْ أنتَ ما شئتَ (¬5). عمرو بن عامر السلمي دخل على معاوية وهو شيخ كبير يُرْعَشُ، فقال له معاوية: كيف تجدُك يا عمرو؟ فقال: أحببتُ (¬6) النساء وكنَّ الشفاء (¬7)، وفقدتُ المَطْعَمَ وكان المَنْعَم، وثقُلْتُ على وجه الأرض، وقَرُبَ بعضي من بعض، فنومي سُبات، وفهمي هَفَوات (¬8)، وسمعي تارات. قال: فهل قلتَ في ذلك شعرًا؟ قال: نعم، فأنشده: ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 4/ 54. (¬2) تحرف "عبيد" في (ب) و (خ) إلى: "عسل"، والترجمة ليست في (م). (¬3) هذه رواية الكلبي ذكرها ابن عساكر، وذكر في رواية أخرى أنه عاش مئتين وعشرين سنة، والله أعلم بصحة ذلك. تاريخ دمشق 45/ 42 - 43 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) في (خ): عمي. وسلف مثل هذه القصة في ترجمة ثوب بن تلدة ص 83، والله أعلم. (¬5) تاريخ دمشق 45/ 42 - 43 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) في "الإصابة" 7/ 279: اجْتَنَبْتُ. وهو الأشبه (وقد ذكره ابن حجر فيه في القسم الثالث من حرف العين). (¬7) في (ب) و (خ): للسفاد. والمثبت من المصدرين السابقين. والترجمة ليست في (م). (¬8) ويمكن أن تُقرأ أيضًا في النسختين (ب) و (خ): هنوات. وفي "تاريخ دمشق" 55/ 272: هنات.

بكارة الهلالية

إذا ذهبَ القَرْنُ الذي أنتَ فيهمُ ... وخُلِّفْتَ في قَرْنٍ فأنتَ غريبُ وما للعظامِ البالياتِ من البِلَى ... شفاءٌ وما للرُّكبَتين طبيبُ وإنَّ امْرَأً قد سارَ تسعين حِجَّةً (¬1) ... إلى مَنْهلٍ من ورْدِهِ لَقريبُ فقال له معاوية: ما تُحبُّ؟ قال: عشرةَ آلاف درهم، أَقضِي بها ديني، وعشرةَ آلاف درهم أَقسِمُها في أهلي وعَشيرتي، وعشرةَ آلاف درهم أُنفقُها بقيَّةَ عُمُري. فقال له معاوية: نعم. فضرب له بكلِّ عشرةٍ مئةً، فأطلقَ له ثلاث مئة ألف درهم، فقبضَها ورحل. ذكر الوافدات على معاوية: بَكَّارَة الهلاليَّة كانت قد أسنَّتْ وعَشِيَ بصرُها. [وقيل: إنها] دخلَت عليه لَمَّا قدم المدينة، فقال لها: كيف أنتِ يا خالة؟ فقالت: بخير. قال: غَيَّركِ الدهر! فقالت: الدهرُ ذو غِيَر (¬2)، مَنْ عاشَ كَبِرَ، ومن ماتَ قُبِرَ. وكان عنده مروان، فقال: وهي القائلة: أترى ابنَ هندٍ للخلافةِ مالكًا ... هيهاتَ! ذاك -وإنْ أراد- بعيدُ مَنَّتْك (¬3) نفسُك بالخلافة ضَلَّةً (¬4) ... أغواك عمرو (¬5) والشقيُّ سعيدُ (¬6) فقال سعيد بن العاص: وهي القائلة: قد كنتُ أطمعُ أن أموتَ ولا أرى ... فوقَ المنابرِ من أميَّةَ خاطبا فاللهُ أخَّرَ مُدَّتي فتطاولَتْ ... حتى رأيتُ من الزمان عجائبا (¬7) ¬

_ (¬1) أي: سنةً. (¬2) أي: ذو أحوال وأحداث متغيّرة. (¬3) في (ب) و (خ): مسكت. والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "العقد الفريد" 2/ 105. (¬4) في (م): ظله. وفي "العقد الفريد": في الخلاء ضلالةً. (¬5) في (م): أعوان عمرو، وضبطت فيها الراء بتنوين الكسر. (¬6) في "العقد الفريد" 2/ 105: أغراك عمرو للشقا وسعيدُ. (¬7) في (ب) و (خ): عجيبا. والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "العقد الفريد".

الزرقاء بنت عدي الهمدانية

في كل يومٍ لا يزال (¬1) خطيبُهم ... بين الجميعِ لآلِ أحمدَ عائبا فقالت له: يا معاوية، أنا القائلة [جميع] ما قالوا: وما خَفِيَ عنكَ أكثرُ. فضحك معاوية وقال: ما يمنعُنا ذاك من بِرِّكِ، اذْكُري حوائجَكِ. فقالت: أمَّا الآنَ فلا. ثم خرجت. الزرقاء بنت عديّ الهَمْدانيَّة [قال علماء السير: ] وفَدَتْ عليه بدمشق، وكانت امرأةً فصيحةً، جَزْلَةَ الرأي، سريعةَ الجواب، وكانت في أيام صِفِّين تقومُ بين الصفوف، وتُحرِّضُ الناسَ على قتال معاوية، وكانت تحبُّ أميرَ المؤمنين - رضي الله عنه -. ولما صالح الحسنُ - رضي الله عنه - معاويةَ وعاد إلى الشام؛ جلس ليلةً (¬2) يَسْمُرُ وعندَه عَمْرو بن سعيد (¬3)، وعُتبة بن أبي سفيان (¬4)، والوليد بن عتبة (¬5)، ذكروها وما فعلت بصِفِّين، فكتب إلى المغيرة بن شعبة أن يُوفدَها عليه مع فرسان من قومها مكرَّمة. فأرسل إليها المغيرةُ، فأخبرها، فقالت: إنْ كان الأمرُ إليَّ؛ فلا حاجةَ لي إليه، وإن كنتُ مُكْرَهة فالمُكْره معذور. فجهَّزها إلى معاوية، فلما دخلَتْ عليه وعنده من سَمَّينا؛ قال: مَرْحَبًا وأهلًا. فقالت: عندك المَرْحَبُ والأهل. فقال: كيف كان مسيرُك؟ قالت: كريمة كَرَبِيبَةِ بيتٍ، أو كطفل مُهِّدَ له (¬6). فقال: ألستِ الراكبةَ يوم صِفَين الجملَ الأحمرَ تُوقِدين نارَ الحرب، وتُحرِّضين الناسَ على قتالي؟ قالت: بلى. قال: فإنك قد شَرَكْتِ ابنَ أبي طالب في كل دم سفَكَه. فقالت: أحسنَ اللهُ بِشارَتَك. فقال: واللهِ لَوَفاؤُكم له بعد وفاتِه أعجبُ من حُبِّكم له في حال حياته! فقالت: مات الرأسُ وبُتر الذَّنَب، ولن يعودَ ما ذهب، والدَّهرُ ذو غِيَر، ومن تفكَّر اعتبر. فقال: وهل تحفظين مِمَّا كنتِ تقولين شيئًا؟ قالت: لا والله. قال: فأنا أحفظُ منه، كأني بكِ وأنتِ تقولين: أيُّها الناسُ، إنكم قد أصبحتُم في فتنة غَشَّتْكُم جلابيبَ ¬

_ (¬1) في "العقد الفريد": للزمان. (¬2) في (ب) و (خ): إليه، وهو خطأ. (¬3) في "العقد الفريد" 2/ 106: عمرو وسعيد. (¬4) في (م): وعتبة أخوه. (¬5) في (م) و"العقد الفريد": عقبة. (¬6) في (م): كريهة، بدل قوله: كربيبة بيت أو كطفل مهّد له.

سودة بنت عمارة بن زهير الهمدانية

ظُلَمِها، وجارَتْ بكم عن قَصْدِ المَحَجَّة (¬1)، فيا لَها من فتنةٍ عمياءَ صمَّاءَ بكماء، لا تَسْمَعُ لِناعِقِها، ولا تَسْلَسُ لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، وإن الكواكب لا تُنير مع القمر، وإن الحديد بالحديد يُفْلَح، وإنَّ خضاب النساء الحِنَّاء، وإنَّ خضابَ الرجالِ الدماء (¬2). فهلمُّوا قُدُمًا غيرَ ناكصين ولا متشاكسين. وذكر كلامًا طويلًا. ثم قال لمن عنده: ما تَرَوْن فيها؟ قالوا: اقْتُلْها. قال: بئس ما أشَرْتُم! أيحسُنُ بمثلي أن يُقال عنه: إنه قتلَ امرأةً بعد ما ظَفِرَ بها (¬3)! . ثم قال لها: اذكُري حاجتَكِ. فقالت: آليتُ على نفسي أن لا أسألَ أميرًا شيئًا، ومثلُكَ مَنْ يجودُ من غير طلب، ويُعطي من غير مسألة. فأحسنَ إليها ووصلَها ومَنْ معَها بجوائزَ سَنِيَّة، وكتبَ إلى المغيرة يُوصيه بها. سَوْدَة بنت عُمارة بن زهير (¬4) الهَمْدَانيَّة وفدَتْ على معاوية، وكانت مِمَّن شَهِدْنَ صِفِّين مع أمير المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب رضوان الله عليه، فقال لها: أنت القائلة لأخيك يوم صِفِّين: شَمِّرْ كفعلِ أبيك يا ابنَ عُمارةٍ ... يومَ الظِّعان ومُلتَقَى الأقرانِ وانْصُرْ عليًّا والحسينَ ورَهْطَهُ ... واقْصِدْ لهندٍ وابنِها بهوانِ وقُدِ الجيوشَ وسِرْ أمامَ لوائِهِ ... قُدُمًا بأبيضَ صارمٍ وسِنانِ فقالت: دَعْ عنك أذكارَ (¬5) ما مضى، فإنه قد نُسيَ. فقال: وما حملَكِ على ذلك؟ فقالت: حبُّ عليٍّ واتِّباعُ الحقّ، وأَنشُدُك اللهَ اتِّباعَ ما قد مضى. فقال: ما مثلُ مقامِ ¬

_ (¬1) أي: جادَّة الطريق. ووقع في (ب) و (خ): الحجَّة. (¬2) هي (ب) و (خ): الدنيا، وهو خطأ. (¬3) قول معاوية لمن عنده: ما ترون فيها ..... إلخ، في "العقد الفريد" 2/ 106 - 108، و"تاريخ دمشق" ص 110 (تراجم النساء - طبعة مجمع دمشق)؛ جاء في صدر القصة، وقبل الكلام عن طلب معاوية من والي الكوفة إيفادها إليه، وهو الأنسب بسياق الخبر. (¬4) كذا في (ب) و (خ). ولم ترد الترجمة في (م). وفي "العقد الفريد" 2/ 102: الأشتر، وفي "تاريخ دمشق" ص 178: الأسك. (¬5) كذا في (ب) و (خ)، والخبر بنحوه في "العقد الفريد" 2/ 102، و "تاريخ دمشق" ص 179، وفيهما: تذكار.

أخيكِ يُنْسَى. فقالت: فات أمسِ، فخُذْ في اليوم. فقال: اذكري حاجَتَكِ. فقالت: قد أصبحتَ للناس سيِّدًا، ولأمورهم متقلِّدًا، واللهُ سائلُك عمَّا افترضَ عليك من حقِّنا، ولا تزال تُقْدِمُ علينا من يَنُوء بعزِّك، ويبطش بلسانك (¬1) ويحصدنا حَصْدَ السُّنْبُل، ويدوسُنا دَوْسَ البقر، ويدُقُّنا دَقَّ الحصيد، ويسومُنا الخَسِيسَة، وهذا ابنُ أرطاة (¬2) قدمَ بلادَنا، فقَتلَ رجالنا، واستصفى أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عزٌّ ومَنَعة، فإمَّا عَزَلْتَه فشكرناك، وإمَّا تركتَه فذَمَمْناك. فقال: أتُهدِّديني بقومكِ؟ ! واللهِ لقد هممتُ أن أردَّكِ إليه على قَتَب (¬3) أشْرَس، فيُنْفِذَ حكمَه. فسكتَتْ وقالت: صلَّى الإلهُ على رُوحٍ تضمَّنَها ... قبرٌ فأصبحَ فيه العَدْلُ مَدْفُونا قَدْ حالفَ الحقَّ لا يبغي به بَدَلًا ... فصار بالحقِّ والإيمانِ مَقْرُونا قال: ومَنْ ذاك؟ قالت: أميرُ المؤمنين أبو حسن. فقال: ما أرى عليكِ أثرًا منه. قالت: بلى. ولَّى صدقاتِنا رجلًا فحاف علينا. . . (¬4)، فأتيتُه وهو قائم يصلِّي، فانصرفَ من صلاته، ثم قال برحمة ورأفة وتعطُّف: ألكِ حاجة؟ فأخبرتُه، فبكى، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهمَّ إني لم آمُرْه بذلك، ولا أرْضَى بظلم الرعيَّة. ثم أخرجَ من جيبه قطعة جِراب (¬5)، فكتبَ فيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} الآية (¬6). إذا أتاك كتابي هذا فاغتَزِلْ عملَنا. فقال معاوية: يا أهل العراق لقد جرَّأكم ابنُ أبي طالب على الولاة، وغَرَّكم قولُه: ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" ص 179 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق): بسلطانك، وفي "العقد الفريد" 2/ 103: ويبسط سلطانك. (¬2) هو بُشر بن أرطاة، أو ابن أبي أرطاة. (¬3) القَتَبُ: الرَّحْل الصغير على قدر سَنام البعير. (¬4) ثمة كلمة في (ب) و (خ) لم أتبيَّنها، رسمها: يسيرًا. والترجمة ليست في (م). (¬5) الجِراب: وعاء يُحفظ فيه الزاد ونحوُه. (¬6) رقم 57، من سورة يونس. وجاء بدلَها في "العقد الفريد" 2/ 104، و"تاريخ دمشق" ص 180 قوله: "قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ". وهو من آية الأعراف (85) وآية هود (85) في قصة شعيب - عليه السلام -.

عكرشة بنت الأطرش

فلو كنتُ بوَّابًا على بابِ جنَّةٍ ... لقلتُ لهَمْدان ادخُلي بسلامِ ثم قال: اكتُبوا لها إلى العامل بالعدل والإنصاف. فقالت: ألي خاصَّة، أم لقومي عامَّة؟ فقال: وما أنتِ وقومُك؟ فقالت: إنه واللهِ لَلُؤْمٌ انفرادي عنهم، فإنْ كان عدلًا شاملًا؛ وإلَّا وَسِعَني ما وسِعَ قومي. فقال: اكتبوا لها ولقومها. عِكْرِشَة بنت الأطرش (¬1) دخلَت على معاوية مُتوكّئة على عُكَّاز، فسلَّمت عليه بإمرة المؤمنين، فقال: يا عِكْرِشة، الآن صِرتُ أميرَ المؤمنين؟ ! فقالت: نعم إذْ لا أبو حسن حيّ. فقال: ألستِ المتقلِّدةَ حمائلَ السيف في صِفِّين، وأنتِ قائمةٌ بين الصَّفَّين تقولين: أيُّها الناس، إن معاوية قد دَلَفَ (¬2) إليكم بعُجْم العَرَب، غُلْفِ القلوب، لا يفقهون الإيمان، ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبُّوه، فاللهَ اللهَ عبادَ الله في دين الله، وإياكم والتَّثبُّط (¬3)، فإنه ينقُضُ عُرى الإيمان، ويُطفئ نورَ الحقّ. هذه بدرٌ الصغرى، والعقبةُ الأُخرى، يا معاشرَ المهاجرين والأنصار، امْضُوا على بصيرتكم (¬4)، واصبرُوا على عزيمتكم، لا يضرُّكم من ضلَّ إذا اهتديتُم، ألا وإنَّ الجنة تحت ظِلال السيوف، وهذا معاويةُ قد أتاكم بأهل الشام، كالحُمُر الناهقة، وأنتم أُسُودُ الشَّرَى (¬5). قال: ما الذي حملكِ على ذلك؟ فقالت: دَعْ عنكَ هذا، فقد كانت صدقاتُنا تُؤخذ من أغنيائنا، فتردُّ في فقرائنا، وقد فقدنا ذلك، فما يُجْبَرُ لنا كَسِير، ولا يُنْعَشُ لنا فقير. فأمر بردِّ صدقاتِهم فيهم (¬6). ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" ص 254 (تراجم النساء - طبعة مجمع دمشق): عكرشة بنت الأطشّ بن رواحة. (¬2) أي: مشى. (¬3) في "العقد الفريد" 2/ 11، و"تاريخ دمشق" ص 254: والتواكل. (¬4) في (ب) و (خ): نصرتكم. والمثبت من المصدرين السابقين. ولم ترد الترجمة في (م). (¬5) قال ياقوت في "معجم البلدان" 3/ 330: يقال للشجعان: ما هم إلا أُسُود الشَّرَى. وقال بعضهم: شَرَى: مأْسَدَةٌ بعينها. وقيل: شَرَى الفرات: ناحيتُه، به غِياض وآجام تكون فيها الأسود ... وقال نصر: الشَّرَى؛ مقصور: جبلٌ بنجد في ديار طَيِّئ، وجبلٌ بتهامة موصوف بكثرة السِّباع. (¬6) ينظر "العقد الفريد" 2/ 111 - 112، و "تاريخ دمشق" ص 254 - 255 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق).

أم سنان المذحجية

أمّ سِنان المَذْحِجِيَّة وفَدَتْ عليه متظلِّمةً من مروان بن الحَكَم؛ حبس غلامًا، هي جدَّتُه، فدخلَتْ عليه فقال: مَنْ أنتِ؟ فانتسبَتْ له، فعرفَها، فقال: ما الذي أقْدَمَكِ علينا اليوم، وبالأمسِ تشتميننا، وتُحرِّضين علينا عدوَّنا؟ فقالت: إنَّ لبني عبد مناف أخلاقًا طاهرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يَسْفَهون بعد حِلْم، وإنَّ أولى [الناس] باتِّباع ما سنَّه آباؤه لأنتَ. فقال: أنسيتِ قولكِ: يا آلَ مَذْحِجَ لا مُقامَ فشَمِّرُوا ... إنَّ العدوَّ لآل أحمدَ يرصُدُ (¬1) هذا عليٌّ كالهلالِ تحفُّهُ ... وَسْطَ السماء من الكواكب أَسْعُدُ (¬2) خيرُ الخلائق وابنُ عمِّ محمدٍ ... إنْ يهدكُمْ فاليوم (¬3) منه تهتدوا فقال بعض جلسائه وهي القائلة: إمَّا هلكتَ أبا الحُسَينِ (¬4) فلم تزل ... بالحقّ (¬5) تعرف هاديًا مهديَّا قد كنتَ بعد محمد خَلَفًا كما (¬6) ... أوصى إليك بنا وكنت وَفِيَّا (¬7) فاليومَ لا خَلَفٌ يؤمَّل (¬8) بعدَهُ ... هيهات نأمل (¬9) بعدَه إنْسيَّا فقالت: يا معاوية، واللهِ ما أورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلا هذا وأمثالُه، فادْحَضْ مقامَهم، وأبْعِدْ منزلتهم عنك تزدَدْ من الله قُرْبًا ومن المسلمين حُبًّا، كان أَميرُ المؤمنين أحبَّ إلينا منكَ، وأنْتَ أحبُّ إلينا من غيرك. قال: مِمَّنْ؟ قالت: من مروان ¬

_ (¬1) في "العقد الفريد" 2/ 109، و"تاريخ دمشق" ص 520: يقصدُ. (¬2) يعني سُعود النجوم، وهي عدة كواكب يقال لكل واحد منها سَعْد، منها سَعْد الذابح، وسَعْد بَلَع، وسعد السعود، وسعد الأخبية. ينظر "القاموس". (¬3) في "العقد الفريد" 2/ 109: بالنور، بدل: فاليوم. وجاء الشطر الثاني للبيت في "تاريخ دمشق" ص 531: وكفى بذلك في العدوّ تهدُّدُ. (¬4) في (ب) و (خ): أبا تراب، ولا يتَّزن به البيت، والمثبت من المصدرين السابقين. (¬5) في (ب) و (خ): فلن يغرك ... فالحق (؟ ) والمثبت من المصدرين السابقين. (¬6) في (ب) و (خ): لنا. والمثبت من المصدرين السابقين. (¬7) في (ب) و (خ): وصيَّا. والمثبت من المصدرين السابقين. (¬8) في (ب) و (خ): ليومك. والمثبت من المصدرين السابقين. (¬9) في "تاريخ دمشق": نمدح.

وسعيد. قال: حاجتَكِ؟ فذكرتْ قصتها مع مروان وقالت: إنه لا يحكم بعدل، ولا يقضي بسنَّة، يتتبَّعُ عثراتِ المسلمين، ويكشف عوراتِ المؤمنين، وحبس ابني، فأتيتُه أُكلِّمُه، فأغلظ لي. فوصلها معاوية وأحسنَ إليها، وكتبَ إلى مروان ينهاه عنها، ويأمره بإطلاق ابنها. ذكر أخبار متفرقة من سيرة معاوية: ولَّاه عمر - رضي الله عنه - الشام عند موت أخيه يزيد بن أبي سفيان سنة تسع عشرة (¬1). وكان عمر - رضي الله عنه - كتب إلى يزيد بن أبي سفيان بغزو قَيسارَّية، فغزاها وبها بطارقةُ الروم، فخلَّف أخاه معاوية عليها. وسارَ يزيد يُريد دمشق، وأقام معاوية على قيساريَّة حتى فتحَها في شوَّال سنة تسع عشرة. وتوفّي يزيد في ذي الحجة من ذلك العام، واستخلفَ أخاه على عمله، فكتبَ إليه عمر - رضي الله عنه - بعهده على ما كان يزيدُ يليه من عمل الشام، ورزقَه ألف دينار في كل شهر (¬2)، فأقام أربع سنين. ومات عمر - رضي الله عنه -، فأقرَّه عثمان - رضي الله عنه - على ذلك اثنتي عشرة سنة (¬3). وكان عمر رضوان الله عليه إذا دخل الشام ورأى معاوية يقول: هذا كسرى العرب (¬4). وذُمَّ [معاويةُ] عند عمرَ رضوان الله عليه، فقال: دعُونا من ذمِّ مَنْ يضحكُ في الغضب، ولا يُنال ما عندَه إلا بالرِّضى، ولا يُؤخذُ ما فوق رأسه إلا كان تحت قدميه (¬5). وقال [ابن] عمر: ما رأيتُ أحدًا بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسودَ من معاوية. قيل له: فالخلفاءُ الأربعة؟ فقال: كانوا واللهِ خيرًا منه وأفضل، وكان أسودَ منهم (¬6). ¬

_ (¬1) التبيين في أنساب القرشيين ص 205. وذكر فيه ابن قدامة أيضًا قبله أن يزيد بن أبي سفيان مات في طاعون عَمَواس سنة ثماني عشرة. وهو في "طبقات" ابن سعد 6/ 15. (¬2) كذا في "التبيين". وفي "طبقات" ابن سعد 6/ 4 و "تاريخ دمشق" 68/ 19 و "سير أعلام النبلاء" 3/ 133: ثمانين دينارًا في كل شهر. (¬3) التبيين في أنساب القرشيين ص 205. (¬4) كذا وقعت العبارة في (ب) و (خ) (والكلام ليس في م)، وعبارة "التبيين" ص 206 (والكلام منه): وقال عمر - رضي الله عنه - حين دخل الشام ورأى معاوية: هذا ... وعبارة "تاريخ دمشق" 68/ 217: كان عمر إذا رأى معاوية قال .... (¬5) التبيين ص 206 وما سلف بين حاصرتين منه. (¬6) المصدر السابق، وما سلف بين حاصرتين منه، وثمة أخبار بنحوه في "تاريخ دمشق" 68/ 276.

وكان عاملُ معاويةَ على المدينة إذا أرادَ أنْ يُبْرِدَ بريدًا نادى: مَنْ له حاجةٌ إلى أمير المؤمنين فليكتبها. فكتب زرُّ بن حُبَيش -أو أيمن بن خُرَيم- كتابًا لطيفًا، ورمى به بين الكتب، وفيه: إذا الرجالُ ولَدَت أولادُها ... واضطربَتْ من كِبَرٍ أعضادُها وجعلَتْ أسقامُها تَعْتَادُها ... فهي زُروعٌ قد دَنا حصادُها فلما وردت الكتب قرأ معاوية الكتاب، فقال: نعى إليَّ نفسي (¬1). ونظر إلى رجل في عباءة فازدراه، فقال له: إنَّ العباءة لا تُكلِّمك، وإنَّما يُكلِّمك مَنْ فيها (¬2). وقال قَبِيصة بن جابر (¬3) الأسديّ: صحبتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فما رأيتُ رجلًا أفقهَ ولا أحسنَ مدارسةً منه، وصحبتُ طلحةَ بنَ عُبيد الله، فما رأيتُ رجلًا أعطى الجزيل من غير مسألة مثله (¬4)، وصحبتُ معاويةَ، فما رأيتُ رجلًا أثقل حلمًا، ولا أبعدَ أناةً منه، وصحبتُ زيادًا، فما رأيتُ رجلًا أشبه سريرةً بعلانية منه، ولو أن المغيرةَ بنَ شعبة جُعل في مدينة لا يُخرج من أبوابها كلِّها إلا بالغَدْر (¬5) لخرجَ منها. ذكر أولاده: كان له من الولد (¬6): عبدُ الرحمن، ويزيد، وعبدُ الله، وهند، وعاتكة (¬7)، ورَمْلَة، وصفيَّة، وعائشة. وأولُ مولودٍ وُلد له عبدُ الرحمن، وبه كان يكنى [ولا عقبَ له. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 335، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 45. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 336. (¬3) في (ب) و (خ): الحارث، بدل: جابر، والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 337. والخبر فيه مختصر. (¬4) في "تاريخ الطبري": للجزيل ... منه. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 117 و 136. (¬5) يعني بالمكر، كما في روايات أخرى. (¬6) في (م): قال هشام: كان لمعاوية من الولد. (¬7) لم أقف على من ذكر عاتكة من أولاد معاوية - رضي الله عنه -، وقد صرَّح البلاذُري في "أنساب الأشراف" 4/ 317 أن عاتكة هي بنت عبد الله بن معاوية. وجاء ذكرها كذلك في "المعارف" ص 350، و "العقد الفريد" 4/ 363 في الكلام على عبد الله بن معاوية.

وأما عبدُ الله، فكان ضعيفًا، ولقبُه: مُبَقَّت (¬1)] ولا عقبَ له من الذكور. [وقال ابن عساكر: ] (¬2) وكنيتُه أبو الخير، وقيل: أبو سليمان، وكان يضعَّف في عقله. وأختُه هند بنت معاوية. وأمُّ عبد الرحمن وعبد الله وهند: فاختة (¬3) بنت قَرَظَة بن عَبْد عَمرو بن نوفل بن عبد مناف. غزت فاختة مع معاوية قبرس سنة ثمان وعشرين، أو خمس وعشرين، وماتَتْ هناك (¬4). وقيل: إن التي ماتت هناك كَنُود ابنة قَرَظة أختُ فاختة (¬5). قال الطبري (¬6): مات عبد الرحمن صغيرًا. ويزيد أمُّه ميسون بنت [بَحْدَل بن أُنَيف بن] دَلْجَة بن قُنافة بن عديّ بن زهير بن حارثة بن جناب الكلبيّ، ولَدَتْ له يزيد وابنةً يقال لها: أَمَةُ رَبِّ المشارق، فماتت صغيرة. رَوَتْ ميسون عن معاوية الحديث، وروى عنها محمد بن عليّ، وكانت لبيبة، وهي التي دخل عليها خَصِيٌّ، فاستترَتْ منه (¬7). [قال البلاذُري: أم يزيد اسمها ميسون بنت بَحْدَل بن أُنَيف] (¬8) كلبيّة، حُملت إلى معاوية من البادية، فأسكنها الخضراء (¬9) بدمشق، فأقامت عنده مُدَيدَةً، فَحنَّتْ إلى وطنها، فقالت [تتذكَّر الزمنَ الماضي بهذه الأبيات]: لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني ... أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفوفِ ¬

_ (¬1) وزن، معظَّم، أي: أحمق (كما في القاموس). ووقع في هذا الموضع من النسخ الثلاث سقط واضطراب. واستدركتُ ما بين حاصرتين من "المعارف" ص 350 ليستقيم الكلام، وتحرف فيه لفظة: مبقَّت، إلى: منقب، وتحرف في "طبقات" ابن سعد 6/ 15 إلى: مبقث. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 315، و"تاريخ دمشق" 39/ 156 (ترجمة عبد الله بن معاوية) و 42/ 9 (ترجمة عبد الرحمن بن معاوية). (¬2) ما بين حاصرتين من (م)، والكلام في "تاريخ دمشق" 39/ 156 (ترجمة عبد الله بن معاوية) بنحوه. (¬3) في (ب) و (خ): وفاختة، وهو خطأ، والكلام ليس في (م). (¬4) تاريخ دمشق ص 266 (تراجم النساء - طبعة مجمع دمشق). (¬5) تاريخ الطبري 5/ 329، وتاريخ دمشق ص 318 (تراجم النساء). (¬6) في "تاريخه" 5/ 329. (¬7) تاريخ دمشق ص 397 (تراجم النساء). (¬8) ما بين حاصرتين استدركتُه من (م) (على بعض تحريف فيه) وجاء فيها في ترجمة مختصرة لها. ولم أقف عليه عند البلاذُري في "أنساب الأشراف". وهو بنحوه في "مختصر تاريخ دمشق" ص 401 (تراجم النساء). (¬9) أي: قصر الإمارة.

وبيتٌ تخفُقُ الأرواحُ (¬1) فيه ... أحبُّ إليَّ من قَصرٍ مُنيفِ وكلبٌ ينبحُ الأضيافَ منّي (¬2) ... أحبُّ إليَّ من هِزٍّ أَلوفِ وخِرْقٌ من بني عمِّي كريمٌ ... أحبُّ إليَّ من عِلْجٍ عَلِيفِ (¬3) وسمعَها معاويةُ فقال: أنا العِلْجُ العَلِيف، فطلَّقَها وردَّها إلى أهلها، وذلك بعد ما ولدت يزيد. [والخِرْق، بخاء معجمة وراء مهملة: السَّخِيُّ الكريم]. ولم يكن عند معاوية أعزَّ عليه من يزيد، واجتمع عنده الخطباء، فأكثَرُوا، فقال: لأَرْمِيَنَّكُم بالخطيب المِصْقَع، قُم يا يزيد. وكان عبدُ الله بنُ معاوية من أضعف الناس عقلًا وأحمقِهم، وشهد مَرْجَ راهِط مع الضحَّاك بن قيس، فأُخِذَ أسيرًا، فأُتيَ به عَمرَو بنَ سعيد الأشدق، فقال عمرو: يا أبا سليمان، نحن نُقاتل لنَشُدَّ مُلْكَكُم، وأنت تُقاتل لتُضعفه! فقال له: اسكُتْ يا لطيم الشيطان (¬4). مرَّ عبدُ الله بطحَّان قد علَّق في عنق بغلِ الطاحونة جُلاجِلَ (¬5)، فقال عبد الله: لِم فعلتَ هذا؟ فقال: أنا في العِلّيَّة وهو يدور، فربَّما وقف ولم أعلم به، فجعلتُ في عنقه هذه الجُلاجِل حتى إذا وقف علمتُ. فقال: أرأيتَ لو وقفَ وحرَّك رأسَه، من أينَ تعلم أنه قد وقف؟ فقال الطحَّان: ليس له عقل مثل عقل الأمير، إذْ لو كان له عقلٌ كعقل الأمير لوقف (¬6)! . ¬

_ (¬1) في (م): الأرياح، وكلاهما جمع ريح. (¬2) في (م): منه. (¬3) أي: سمين (قاله ابن عساكر). ووقع في (ب) و (خ): عنيف (وكذا في الموضع الآتي) والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "تاريخ دمشق" ص 400 و 401 (تراجم النساء). (¬4) أنساب الأشراف 5/ 308، وتاريخ دمشق 39/ 157 (طبعة مجمع دمشق). قوله: لطيم الشيطان: لقب لعمرو بن سعيد الأشدق لقب به لأنه كان أفقم مائل الذقن. قاله العسكري في "الأوائل" 1/ 361. ويقال هذا اللقب أيضًا لمن به لَقْوَة. ينظر "مجمع الأمثال" 1/ 437. (¬5) جمع جُلْجُل، وهو الجرس الصغير. (¬6) تاريخ الطبري 5/ 329، وتاريخ دمشق 39/ 157.

وبعث عبدُ الله بن معاوية إلى خالد بن عبد الله بن أسيد بقُيَّة إلى العراق، فلما وليَ الحجَّاج وجدَها، فكتب إلى عبد الملك بن مروان يقول: إن عبد الله بن معاوية بعث بها إلى مصعب بن الزبير. فغضب عبد الملك وقال لعبد الله: ألستَ صاحبَ المَرْج، وتُهدي إلى عدوِّي قُبَّة؟ ! فقال: كذب الحجَّاج، إنما بعثتُ بها إلى خالد بن عبد الله. فصدَّقه عبد الملك (¬1). وأما هند [بنت معاوية] فتزوَّجها عبدُ الله بنُ عامر بن كُريز. [قال ابن عساكر (¬2): كان دارُها بدمشق في دَرْب القلي] ولما كانت الليلة التي بنى بها ابنُ عامر امتنعت منه، فضربَها، فبكت وبَكَينَ جواريها (¬3) وصِحْنَ، فسمع [ذلك] معاوية، فأُخبر الخبر، فجاء فدخل وقال لابن عامر: قَبَّحَكَ الله، مثلُ هذه تُضرب! وكانت بنتَ تسع سنين، وكان معاوية قد بنى لها دارًا إلى جانبه، وفتح لها بابًا إليه. ثم قال لابن عامر: اخرُجْ. فخرج، فقال لها معاوية: يا بُنيَّة، إنما هو بَعْلُكِ الذي أحلَّه اللهُ لكِ، وأحلَّكِ له. وأوجب الله عليك طاعته. ألم تسمعي إلى قول القائل: مِن الخَفِراتِ (¬4) البِيض، أمَّا حَرامُها ... فصعبٌ وأَمَّا حِلُّها فذَلُولُ ثم خرج، ودخل ابنُ عامر، فنال منها حاجته. [وقد ذكرنا أنَّ ابنَ عامر طلَّقها لَمَّا رأى الشيب في وجهه] (¬5). وأمَّا عاتكة بنت معاوية (¬6) فتزوَّجها يزيدُ بن عبد الملك، وفيها قيل: يا بيتَ عاتكةَ التي أَتَعَزَّلُ ... حَذَرَ العِدَا وبهِ الفؤادُ مُوَكَّلُ (¬7) ¬

_ (¬1) بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 316. ولم يرد هذا الخبر ولا اللذان قبله في (م). (¬2) تاريخ دمشق ص 459 - 460 (تراجم النساء). وما بين حاصرتين من (م). (¬3) كذا في النسخ، وهو لغة. (¬4) جمع خَفِرة، وهي شديدة الحياء. (¬5) في ترجمته في أحداث السنة الثامنة والخمسين. (¬6) كذا قال المصنف، وذكرها أيضًا أول الفقرة، والذي قاله البلاذُري في "أنساب الأشراف" 4/ 317: إنها بنت عبد الله بن معاوية. (¬7) البيت للأحوص الأنصاري، قيل: اسمه عبد الله، ولُقب بالأحوص لِحَوَصٍ في عينيه (أي: ضِيق في مُؤْخِر العين). ينظر "الأغاني" 4/ 224 و 21/ 95 و 98. قال أبو الفرج: أتعزَّل، أي: أكونُ بمَعْزلٍ عنه، والعِدا: جمع عدوّ. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 317.

وأمَّا رَمْلَة بنتُ معاوية؛ [فقال البلاذُري (¬1): ] أمُّها كَنُود بنتُ قَرَظة [أخت فاختة. قال ابن عساكر (¬2): ] وكانت لها دار بدمشق في طرف زقاق الرمان، وطاحونة معروفة إلى هلمَّ جَرًّا، وشهدَتْ وفاةَ أبيها معاوية، وتزوَّجت عمرو بن عثمان بن عفَّان، فولدَتْ له خالدًا وعثمان. واشتكى عمرو بالمدينة، فكان عُوَّاده يدخلون عليه ويخرجون، ويتخلَّف عنده مروان، فيُطيل، فأنكرَتْ رَمْلَةُ ذلك، فخرقَتْ كُوَّةً، وتسمَّعت عليه يومًا، فإذا مروان يقول لعمرو: ما أخذَ معاوية الخلافة إلا باسم أبيك، فما يمنعُكَ من النهوض إلى حقِّك؟ فلنحن أكثرُ رجالًا منهم، منّا فلان، ومنهم فلان، حتى عَدَّ رجال بني حرب، ورجال بني أبي العاص (¬3)، وعَدَّ ابْنَيها في رجال أبي العاص. ثم إنَّ عمرًا بَرِئَ وخرجَ إلى الحجّ، وخرجَتْ رَمْلَةُ إلى الشام، فدخلت على أبيها، فقال: واسَوْأتاه! أتُطَلَّقُ الحرَّة؟ ! فقالت: ما طلَّقني، وإنما كان من الأمر كذا وكذا، فما زال مروان يعدُّ رجال بني العاص حتى عدَّ ابنيَّ خالدًا وعثمان، فتمنَّيتُ موتَهما. فكتب معاويةُ إلى مروان: أواضعُ رِجْلٍ فوق أُخرى تَعُدُّنا ... عديدَ الحصى ما إنْ تزالُ تُكاثرُ وأُمُّكمُ تُزْجي تُؤَامًا (¬4) لِبَعْلِها ... وأُمُّ أخيكم نَزْرَةُ الوُلْدِ عاقرُ؟ ! ثم عدلَ مروان عن المدينة. وكتب إليه (¬5): تُفاخرني بكثرتها قُرَيطٌ (¬6) ... وقَبْلَكَ طالتِ الحَجَلَ الصُّقورُ ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 4/ 316. (¬2) في "تاريخ دمشق" ص 95 (تراجم النساء). والكلام بين حاصرتين من (م). (¬3) في (ب) و (خ) رجال إلى حرب، ورجال إلى أبي العاص، والصواب ما أثبتُّه، ولم يرد الكلام في (م). وينظر "تاريخ دمشق" ص 96 (تراجم النساء). (¬4) جمع تَوْأَم، أي: تسوق توائم .... (¬5) أي: معاويةُ. وسياق الكلام يوهم أن الكاتب مروان. (¬6) في "القاموس": القُروط، بالضم: بطون من بني كلاب، وهم إخوة: قُرط وقَرِيط وقُرَيط.

فإنْ أَكُ في عِدادكمُ قليلًا ... فإنّي في عدوّكم كثيرُ بُغاثُ الطير أكثرُها فِرَاخًا ... وأمُّ الصَّقْر مِقْلات (¬1) نَزُورُ (¬2) يا مروان، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا بلغَ ولدُ الحَكَم ثلاثين رجلًا اتَخَذُوا مال الله دُوَلًا، ودينَ الله دَخَلًا، وعبادَ الله خَوَلًا" (¬3). فكتب إليه مروان: إني أبو عَشَرة، وأخو عَشَرة، وعمُّ عَشَرة، والسلام (¬4). وهذه رَمْلةُ هي التي كان يُشَبِّبُ بها وبأُختِها هندٍ عبدُ الرحمن بنُ حسان بن ثابت، وفيها يقول (¬5): أُؤَمِّلُ هندًا أن يموتَ ابنُ عامرٍ ... ورَمْلَةَ يومًا أنْ يُطَلِّقَها عمرُو [وذكر ابن عساكر في "تاريخه" وقال (¬6): ] قدمَ عبدُ الرحمن [بن حسان بن ثابت] الشام، فأقام بباب معاوية مدة لم يؤذن له، فقال يزيد لأبيه: اقتُلْه. قال: ولِمَ؟ قال: لأنَّه قد شبَّبَ بأختي هند. قال: وما الذي قال: قال: فإنه يقول: طال ليلي وبتُّ كالمحزونِ ... ومَلِلْتُ الثَّواءَ في جَيرونِ فقال معاوية: وما علينا من طُول ليلِهِ [وحُزنه] وملله؟ قال: فإنه يقول: ولذاك اغْتَرَبْتُ بالشام حتى ... ظنَّ أهلي مُرَجَّماتِ الظنونِ فقال معاوية: وما علينا من ظنِّ أهلِه؟ قال: فإنه يقول: هيَ زَهْراءُ مثلُ لؤلؤةِ الغوَّ ... اصِ صِيغَتْ من جَوْهرٍ مَكْنُونِ ¬

_ (¬1) المِقْلاتُ: التي تضع واحدًا ثم لا تحمل. (¬2) الشعر لمعوّد الحكماء (معاوية بن مالك) كما في "معجم الشعراء" للمرزباني ص 310، وتمثَّل به معاوية - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" (11758) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وإسناده ضعيف كما ذكر محققوه، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" 9/ 268: فيه غرابة ونكارة شديدة. (¬4) الخبر في "نسب قريش" ص 109 - 110، و "تاريخ دمشق" ص 96 - 97 (تراجم النساء) دون قوله: ثم عدل مروان عن المدينة وكتب إليه ... الأبيات، وقد جاءت هذه الفقرة في "أنساب الأشراف" 4/ 54، وجاء بعدها 4/ 55 صدرُ القصة المذكورة. (¬5) نُسب البيت في "نسب قريش" ص 113 وص 128، و "تاريخ دمشق" في ترجمة كل من رملة وهند ص 97 و 459 لعبد الرحمن بن الحكم. (¬6) الخبر بهذا السياق في "الأغاني" 15/ 109 - 110، ولم أقف عليه بتمامه في "تاريخ دمشق"، وإنما فيه بعضه 9/ 913 (مصورة دار البشير - ترجمة عبد الرحمن بن حسان). والكلام بين حاصرتين من (م).

قال: صدق. قال: فإنه يقول: وإذا ما نَسَبْتَها لم تَجِدْها ... في سَناءٍ من المكارم دُونِ قال: صدق. قال: فإنه يقول: ثم خاصَرْتُها إلى القُبَّةِ الخَضْـ ... ـراءِ تمشي في مَرْمَرٍ مَسْنُونِ قال: كذبَ، ولا كلُّ هذا. ثم ضحك وقال: ما الذي قال أيضًا؟ فقال: قُبَّةٍ من مَراجلٍ (¬1) ضربوها ... عند حدِّ الشتاء (¬2) في قَيطُونِ (¬3) عن يساري إذا دخلتُ من البا ... بِ وإن كنت خارجًا عن يميني تجعلُ النَّدَّ والأُلُوَّةَ والعُو (¬4) ... دَ صِلاءً ليلًا (¬5) على الكانونِ وقِبابٌ قد أُشْرِجَت وبيوتٌ ... فَرَشُوها (¬6) بالآسِ والزَّرَجونِ (¬7) فقال معاوية: يا بنيّ إنَّ القتل لا يجبُ بهذا، والعقوبةُ تزيدُه حَنَقًا، فيزيدُ في قوله، ولكن نتجاوز عنه ونَصِلُه. فوصلَه معاوية. فكفَّ عن قوله. [وقال أبو عُبيدة: هذه الأبيات لأبي دَهْبَل الجُمحي، واسمه وَهْب بن زَمْعة الشاعر، إسلامي، وله ديوان معروف. وحكى ابنُ عساكر له قصة عجيبة (¬8)؛ قال: قدم الشام للغَرو، فنزل دمشق، فجاءته امرأة وهو بجَيرُون، فدفعت إليه كتابًا، فقرأه، فقالت: لو بلغتَ معي إلى هذا القصر، فقرأتَه على امرأة فيه؛ كان لك أجر. فبلغ معها القصر، ودخل، فأغلقت المرأة الباب، وجاءته امرأة جميلة، فدَعَتْه إلى نفسها، فأبى وقال: والله لا أفعلُه إلا حلالًا، ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): من طرائف، ووقع في (م): من طرائف من مراجل. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 25، و"الأغاني" 15/ 110. والمراجل: القدور النحاس. وسيذكره المصنف. (¬2) في (م): البناء. (¬3) القيطون: المخدع (الحجرة في البيت) وسيذكره المصنف. (¬4) النَّدُّ: ضرب من النبات يُتبخَّر به، والأُلُوَّة والعُود: طِيب يُتبخّر بهما كذلك. (¬5) في "أنساب الأشراف" 4/ 25، و "الأغاني" 15/ 110: لها. (¬6) في "أنساب الأشراف": نظفوها، وفي "الأغاني": نظفت. (¬7) أي: قضبان الكرم. (¬8) تاريخ دمشق 17/ 940 - 491 (مصورة دار البشير). وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (م).

فتزوَّجها، وأقام عندها زمانًا طويلًا، فأيس منه أهله، فاقتسموا ماله إلا امرأته، فإنها لم تأخذ من ماله شيئًا، ولم تيئس منه، وحزنت عليه، فكانت تبكي عليه ليلًا ونهارًا. فقال يومًا لامرأته الشاميَّة: إنك قد أَثِمْتِ فيَّ وفي ولدي، فإن رأيتِ أن تأذني لي حتى آتيَهم، وأُعطيكِ عَهْدَ الله أنني أرجع إليك، فأجَّلَتْه سنة، وأعطته مالًا كثيرًا. وقدم على أهله، فوجدهم قد اقتسموا ماله، ورأى حزن زوجته وما هي فيه، فدفع إليها المال، وقال لأولاده: واللهِ لا أُعطيكم منه شيئًا، أنتم ورثتُموني وأنا حيّ، فهو حظُّكم. ثم قال في زوجته الشامية هذه الأبيات: صاح حيّا الإلهُ حيًّا ودُورًا ... عند أصلِ القناةِ من جَيرُونِ فبتلك اغتربتُ بالشام حتى ... ظنَّ أهلي مُرَجَّماتِ الظُّنونِ ثم فارقتُها على خير ما كا ... نَ قرينٌ مفارقٌ لقرينِ وهي زهراءُ مثلُ لؤلؤةِ الغوَّ ... اصِ صِيغَتْ من جوهرٍ مَكنُونِ (¬1) قال: ثم خرج أبو دَهْبَل إلى الشام، فبلغه وفاةُ المرأة الشاميَّة، فرجَع. وقوله: المراجل، يعني القُدُور النُّحاس، وأما القَيطُون، فهو المُخْدَع بلغة أهل مصر، وأما المَسْنُون؛ فهو المصوَّر]. قال عُمر بن شَبَّة (¬2): شبَّبَ عبد الرحمن بنُ حسان برمْلَةَ وهندٍ ابنتي معاوية، فقال في رملة: رَمْلَ هل تذكرين يومَ غزالٍ ... إذْ قَطَعْنا مَسِيرَنا بالتَّمنِّي إذْ تقولين عَمْرَكَ اللهُ هل شي ... ءٌ وإنْ جَلَّ سوف يُسْلِيكَ عنّي أَمْ هَلُ اطْمِعْتُ منكم بابن حسا ... نَ كما قد أراكَ أُطْمِعْتَ منّي وبلغ يزيد، فقال لأبيه معاوية: ألا ترى إلى هذا العِلْج من أهل يثرب ينتهكُ أعراضَنا، ويُشَبِّبُ بأهلنا ونسائنا! فقال: ومن هو؟ قال: ابنُ حسان. وأنشد قوله. فقال معاوية: يا يزيد، ليست العقوبة من أحدٍ أقبحَ منها من ذوي القُدرة، فأمْهِلْ حتى يَقْدَمَ وفدُ الأنصار، وأَذْكِرْني به. ¬

_ (¬1) قال ابن عساكر: رُوي هذا الشعر لعبد الرحمن بن حسان، وليس بصحيح. (¬2) الأغاني 15/ 106 - 108، وتاريخ دمشق 9/ 913 - 914. (مصورة دار البشير).

فلما قدموا أخبره، فلما دخل على معاوية قال: ألم يبلغني أنك تُشَبِّبُ بِرَمْلَةَ؟ قال: بلى، ولو علمتُ أنَّ أحدًا أشرفَ منها لشعري لذكرتُه. فقال له معاوية: وأين أنتَ من أختها هند؟ قال: وإن لها أختًا اسمُها هند؟ ! قال: نعم. قال: وإنَّما قَصَدَ معاويةُ أَنْ يُشبِّبَ بهندٍ، فيُكذِبَ نفسَه. فلم يرضَ يزيد بهذا، فأرسلَ إلى كعب بن جُعَيل، فقال: اُهْجُ الأنصار. قال: فإنَّ لهم عندي يدًا في الجاهلية ولا أُجازِيهم بالهجو، ولكن عليك برجل لا يخاف الله، ولا يستحيي من الناس. قال: مَنْ هو؟ قال: الأخطل. فأرسلَ إليه، فهجاهم، فقال: وإذا نَسَبْتَ ابنَ الفُريعة (¬1) خِلْتَه ... كالجحش بين حمارة وحمارِ لعن الإلهُ من اليهودِ عصابةً ... بالجِزْعِ بين صُلَيصلٍ وصُؤارِ (¬2) قومٌ إذا هَدَرَ العصيرُ رأيتَهمْ ... حُمْرًا عيونُهمُ من المُسْطارِ (¬3) خَلُّوا المكارمَ لستُمُ من أهلها ... وخُذُوا مَساحِيَكُم (¬4) بني النَّجَّارِ ذهبت قريشٌ بالمكارم والعُلا ... واللُّؤْمُ تحت عمائمِ الأنصارِ ومدح معاوية، فقال: تَسْمُو العيونُ إلى إمامٍ عادلٍ ... مُعْطَى المهابةِ نافعٍ ضرَّارِ وتُرَى عليه إذا العيونُ لَمَحْنَهُ ... سيما الحليمِ وهيبةُ الجبَّارِ وبلغ النعمانَ بنَ بشير، فدخل على معاوية فحسَرَ عن رأسه وقال: أيزعُم الأخطل أنَّ اللؤْمَ تحت عمائمنا؟ ! قال: أوقد فعل؟ قال: نعم. قال: لك لسانُه. فالتجأ إلى يزيد، فحماه، وقال للنعمان: أقِمِ البَيِّنَة. فقال: يا يزيد، وأيُّ بيِّنة أبينُ من قوله (¬5)؟ ! ¬

_ (¬1) الفُرَيْعة: أمّ حسَّان بن ثابت - رضي الله عنه -. (¬2) كذا في (ب) و (خ) (والكلام ليس في م). وفي "معجم البلدان" 3/ 432: صؤار: موضع بالمدينة. وفي "الأغاني" 15/ 107: صِرار. بدل: صُؤار. وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة، وصُلَيصل تصغير صُلْصُل؛ موضع على سبعة أميال من المدينة. ينظر "معجم البلدان" 3/ 398 و 421. والجِزْع: منعطف الوادي. (¬3) بضم الميم: الخمر التي تصرع صاحبها، ويقال بالصاد أيضًا. ينظر "القاموس". (¬4) جمع مِسْحاة، وهي الأداة التي تُقْشر بها الأرض وتُجرف. (¬5) الخبر في "الأغاني" 15/ 106 - 108، و "تاريخ دمشق" 9/ 913 - 914 (مصورة دار البشير) ما عدا البيتين اللذين مدح الأخطل بهما معاوية. وهما في "العقد الفريد" 1/ 39. وينظر "ديوان الأخطل" ص 314. ولم يرد هذا الخبر في (م).

وأمَّا صفيَّة بنت معاوية؛ فتزوَّجها محمد بن زياد بن أبيه، وأمُّها أمُّ ولد (¬1). وعائشة بنت معاوية لأمِّ ولد؛ دخلَ عمرو بن العاص على معاوية (¬2) وبين يديه ابنتُه عائشة وهي صغيرة، فقال: مَنْ هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: ريحانةُ قلبي عائشة. فقال: انْبِذْها عنك، فوالله إنهنَّ ليُكْثِرْنَ (¬3)] لأعداء، ويُقَرِّبْنَ البُعداء، ويورِثْنَ الضَّغائن. فقال معاوية: لا تقُلْ هذا، فواللهِ ما مرَّض المرضى، ولا ندَبَ الموتى، ولا أعان على الأحزان مثلُهنَّ، ورُبَّ ابنِ أخت قد نفع خاله (¬4). وقد أشار إلى ما قال معاويةُ حِطَّان (¬5) بن المُعَلَّى -وقيل: المعلَّى بن الحمل (¬6) - العَبْدي من شعراء الحماسة حيث يقول: أنزلني الدهرُ على حُكْمِهِ ... من شامخٍ عالٍ إلى خفضِ وعالني (¬7) الدهرُ بوَفْرِ الغِنى ... فليس لي مالٌ سوى عِرْضِي أبكانيَ الدَّهْرُ ويا رُبَّما ... أضحكني الدهرُ بما يُرْضي لولا بُنَيَّاتٌ كَزُغْبِ القَطا ... جُمعن (¬8) من بعضٍ إلى بعضِ لكان لي مضطربٌ واسعٌ ... في الأرضِ ذاتِ الطولِ والعرضِ وإنَّما أولادُنا بينَنا ... أكبادُنا تمشي على الأرضِ وتزوَّج معاوية نائلة بنت عُمارة الكلبية، فقال لميسون: اذْهبي فانظري إلى ابنة عمِّك، فذهبت وعادت، فقال: كيف رأيتِها فقالت: جميلة كاملة، ولكن رأيتُ تحت سرَّتها خالًا، لَيُوضَعنَّ رأسُ زوجِها في حِجْرها. فطلَّقها معاوية، فتزوَّجت حَبِيبَ بن ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق ص 200 (تراجم النساء). (¬2) نُسب الخبر في (م) لابن عساكر، ولم أقف عليه فيه؛ وهو بنحوه في "العقد الفريد" 2/ 438. (¬3) في "العقد الفريد": ليلدن. (¬4) في (م) و "العقد": نفعه خالُه. (¬5) في "شرح الحماسة" 1/ 285: خطاب. (¬6) كذا في (ب) و (خ). وفي "العقد الفريد" 2/ 438: المعليّ الطائي. (¬7) في "شرح الحماسة": وغالني، بالغين المعجمة؛ قال الشارح: يروى: عالني، ومعناه: غلبني، ويُروى غالني، ومعناه: أهلكني بارتجاع عواريِّه من المال، واستلاب ما كنتُ وُفِرْتُ به من العتاد. (¬8) في "شرح الحماسة": رُدِدْن.

مَسْلَمَة الفِهْريّ (¬1)، ثم مات، فتزوَّجَها النُّعمان بنُ بشير الأنصاري، فقُتل، ووُضع رأسُه في حِجْرها (¬2). [وقال أبو اليقظان: لم يكن عند معاوية أحظى في نسائه من فاختة بنت قَرَظة، وجرت لها واقعة محجيبة، قال: ] كان معاوية جالسًا على سريره، فدخل بعض الأعراب عليه، فلم يعبأ به، وشُغل عنه، وكان الرجل قد أتى من شُقَّة بعيدة، فنام خلف السرير، وخرجَ معاوية إلى صلاة العصر (¬3) والرجلُ نائمٌ على حاله، فلم يزل إلى الليل، وعاد معاوية بعد العشاء الآخِرة، وأوقدوا السُّرُج، ففتح الرجلُ عينه، فرأى السُّرُج فأُسقِطَ في يده، وأيقَن بالهلاك، وقال في نفسه: جئتُ أبغي الخير، فوقعتُ في الشَّرّ، الآن أُؤخَذُ فيقال: إنما جاء ليغتال معاوية. فلَبَدَ تحت السرير. ولبس معاوية مُلاءةً حمراء، وكان شيخًا عظيم البطن، واستدعى فاختة ابنة قَرَظة [زوجته] وكانت أحظى نسائه، فجاءت، فرمى عنها ثيابَها، وبقيت في درع رقيق يبينُ منه جميع بدنها، فقال لها: عزمتُ عليك إلا نزلتِ فمشَيتِ. فنزلت ومشَتْ، وقال لها: أقبِلي. فأقبلت. ثم قال لها: أدْبِري. فأدبرت [ثم قال: أقبلي. فأقبلت، حتى فعلت ذلك مرارًا] والأعرابيّ ينظرُ إليها، فالتفتَتْ وإذا عينا الرجل تَزْهَرَانِ من تحت السرير [فصاحت وقالت: افَتَضَحْتُ. وقعدَتْ، وتقنَّعت بيديها، فقام معاوية إليها فقال: مالكِ، ويحك؟ ! قالت: رجلٌ تحت السرير] (¬4) فأدخل معاوية يده، فأخذ برأسه، فأخرجه وقال: ما قِصَّتُك؟ ! فأخبره خبرَه، فقال: لا بأس عليك وهو يضحك ويحادثُه حتى طلع الصباح، فوصلَه، وأرسلَ إلى فاختة وقال لها: [إن] الرجل الذي استخلاك البارحة لا بدَّ له من صلة. فوصَلَتْه، وانصرف [الرجل] داعيًا بعد أنْ كان [أيقن بالهلاك، و] يئس من الحياة. وبلغ الأحنفَ بنَ قيس فقال: إلى ها هنا -واللهِ- انتهى الحِلْم ومكارمُ الأخلاق. ¬

_ (¬1) مختلف في صحبته، والراجح ثبوتها لكنه كان صغيرًا، وله ذكر في الصحيحين. قاله ابن حجر في "التقريب". وتحرف حبيب في (ب) و (خ) إلى: حندب، ولم يرد الخبر في (م). (¬2) تاريخ الطبري 5/ 329، وتاريخ دمشق ص 403 (تراجم النساء). (¬3) في "تاريخ دمشق" 19/ 309 (مصورة دار البشير): المغرب. (¬4) ما بين حاصرتين في هذا الموضع من "تاريخ دمشق" 19/ 903، وفي المواضع الأخرى من (م).

ذكر قُضاته وعُمَّاله وحُجَّابه وكتَّابه: قد ذكرنا أنه استقضى أبا الدرداء، فلما ماتَ استقضى فَضالة بن عُبيد الأنصاري، فلما مات استقضى أبا إدريس الخَوْلاني، واسمه عائذ الله بن عبد الله. وأما عُمَّالُه: فمات وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وعلى البصرة عُبيد الله بن زياد، وعلى المدينة الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان، وعلى مكَّة عمرو بن سعيد، وعلى شرطته الضحَّاك بن قيس الفِهْرِي، وعلى كتابته سرجون مولاه، وعلى حجابته سعد مولاه، وقَنْبَر (¬1) مولاه. قدم على معاوية أبو مريم الأزدي، فأقام ببابه مدَّة لا يصل إليه، فلما أذِن له دخل عليه فقال: يا معاوية، ما أتيتُك لحاجة، ولكني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ وَلَّاه الله من أمر المسلمين شيئًا، فاحتجَبَ عن حاجتهم وفاقتهم؛ احتجَبَ الله عنه يومَ فَقرِه إليه وحاجته وفاقته، ومن أغْلَقَ بابَه دون ذوي الفقر والحاجة أغلق الله عن فقره وحاجته أبوابَ السماء" فبكى معاوية وقال لسعد مولاه: قد خلعتُ هذا من عنقي وجعلتُه في عنقك (¬2). وكان نقش خاتمه: لا حول ولا قوة إلا بالله، لكل عمل ثواب (¬3). ذكر مسانيده: أسندَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئةً وثلاثةً وستين حديثًا (¬4)؛ أُخرج له في الصحيحين ثلاثةَ عشرَ (¬5)، وأَخرج له الإمام أحمد بنُ حنبل - رضي الله عنه - سبعةً وثلاثين حديثًا (¬6). وروى معاوية عن أخته أمِّ حَبِيبة - رضي الله عنها - زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن جماعة من الصحابة، منهم عمر، وعثمان - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) ويقال أيضًا: قُتَيْر، وبهذا الاسم ترجم له ابن عساكر في "تاريخه" 59/ 1 (طبعة مجمع دمشق) وينظر "توضيح المشتبه" 7/ 250 - 251. (¬2) تاريخ دمشق 19/ 164 - 165 (مصورة دار البشير- ترجمة أبي مريم الأزدي). (¬3) تاريخ دمشق 68/ 249 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة معاوية). (¬4) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 364. (¬5) المتفق عليه منها أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة. التلقيح ص 400. (¬6) ينظر "مسند" أحمد (16828) إلى (16939) و (23688).

هانئ بن عروة المرادي

وروى عنه أبو ذرّ، وأبو سعيد الخُدري، وجَرير بن عبد الله، ووائل بن حُجْر، وعبد الله بن عُمر، وابنُ عباس وابن الزُّبير، والنُّعمان بن بشير، وأبو أُمامة أسعد بن سهل، والصُّنابحيّ، وأبو إدريس الخَوْلاني، وابنُ المسيّب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وابن جُبير (¬1)، في آخرين. وقال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - (¬2): حدَّثنا ابنُ هشام [حدثنا جعفر] حدثنا يزيد بن الأصم قال: سمعتُ معاويةَ بنَ أبي سفيان يقول على المنبر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّين، ولا تزال عِصابةٌ من المسلمين يُقاتلون على الحقّ، ظاهرين على مَنْ ناوأهم إلى يوم القيامة". أخرجاه في الصحيحين (¬3). وعن ابن عباس قال: كنتُ ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتواريتُ منه خلف باب. قال: فَحَطَأَني حَطْأَةً (¬4) وقال: "اذْهَبْ، فادْعُ لي معاوية". قال: فجئتُ وهو يأكل، فأخبرتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا أشبع الله بطنه". انفرد بإخراجه مسلم (¬5). هانئ بن عروة المُرادي كان عُبيد الله بنُ زياد قد سبقَ الحسين - رضي الله عنه - إلى الكوفة، وبنى تلك الليلة بأمّ نافع بنت عُمارة بن عقبة بن أبي مُعَيْط، فلما أصبح بَلَغَه خبر مسلم بن عقيل، وأنه عند هانئ، فأحضر هانئ بن عروة، فدخل عليه وبيده عصًا يتوكَّأ عليها وهو ابن تسع (¬6) ¬

_ (¬1) تحرفت في (ب) و (خ) إلى: جعفر: وهو محمد بن جُبير بن مطعم، ينظر "تاريخ دمشق" 68/ 158 (طبعة مجمع دمشق)، و"تهذيب الكمال" 28/ 178. (¬2) المسند (16849)، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬3) أخرجه مسلم من طريق ابن هشام -واسمه كثير- في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، بعد الحديث (1923). وأخرجه البخاري (71) من طريق آخر عن معاوية - رضي الله عنه - بنحوه في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. (¬4) أي: دفعني بكفّه. وذكر ابن الأثير في "النهاية" أنه يُروى أيضًا: فَحَطَاني حَطْوَة، بغير همز. وقال أيضًا: وقيل: لا يكون الحَطْءُ إلا ضربة بالكفّ بين الكتفين. (¬5) في هذه الرواية اختصار مُخلّ. والعبارة في "صحيح مسلم" (2604): قال: فجئت، فقلت: هو يأكل. قال: ثم قال لي: "اذهب فادع لي معاوية". قال: فجئت فقلت: هو يأكل. فقال: "لا أشبع الله بطنه". (¬6) في "مختصر تاريخ دمشق" 27/ 59: بضع.

أبو برزة الأسلمي

وتسعين سنة، فسلَّم على ابن زياد، وقال: أكل الأمير العيش (¬1) وحده، فقال له ابنُ زياد: تركتَني أتمتَّع بعُرْس وقد ضممتَ إليك عدوَّنا. وذكر بمعنى ما ذكرنا (¬2). وقيل له: مُدَّ عنقَك. فقال: ما كنتُ لأُعينكم على نفسي. فضربوا عنقه. وروى عن عليّ - عليه السلام -. وروى عنه ابنُه يحيى بن هانئ (¬3). أبو بَرْزَة الأسلمي واسمُه عبد الله بن نَضْلَة بن عبد الله، وقيل: نَضْلَة بن عبد [الله] (¬4)، من الطبقة الثالثة من المهاجرين. أسلم قديمًا، وشهدَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكَّة. ومن مسانيده: قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (¬5): حدثنا أبو سعيد، حدَّثنا شدَّاد أبو طلحة، حدَّثنا جابر بن عَمرو أبو الوازع، عن أبي بَرْزَة قال: قلتُ: يا رسول الله، مُرْني بعملٍ أعملُه. قال: "أمِطِ الأذى عن الطريق، فهو لك صدقة". قال: وقتلتُ عبد العُزَّى بن خَطَل وهو متعلّق بأستار الكعبة (¬6). وسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ لي حوضًا ما بين أَيْلَةَ إلى صنعاء، عرضُه كطوله، فيه مِيزَابانِ يَنْبُعانِ (¬7) من الجنَّة، أحدُهما من وَرِق، والآخرُ من ذهب، أحلى من العسل، وأبردُ من الثلج، وأبيضُ من اللَّبَن، مَنْ شَرِبَ منه لم يظمأْ حتى يدخلَ الجنة، فيه أباريقُ عددَ نجومِ السماء". ¬

_ (¬1) في المصدر السابق: العرس. (¬2) في خبر مسلم بن عقيل. (¬3) تنظر ترجمته في "مختصر تاريخ دمشق" 27/ 58 - 60، وينظر تفصيل الخبر في "تاريخ الطبري" 5/ 347 - 368 والكلام ليس في (م). (¬4) لفظة الجلالة من ترجمته من "طبقات" ابن سعد 9/ 9 و 369 - 370 وفي "التهذيب": نضلة بن عُبيد، وذكره ابن سعد أيضًا. (¬5) مسند أحمد (19802). (¬6) بعدها في "المسند": وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: "الناس آمنون غير عبد العزّى بن خَطَل". (¬7) في "المسند": يَنْثَعِبان، وهما بمعنى.

السنة الحادية والستون

السنة الحادية والستون وفيها قُتل الحسينُ بنُ عليّ - رضي الله عنهما -. وفيها ولَّى يزيدُ بنُ معاوية سَلْم بنَ زياد سِجِسْتان وخُراسان. وقال علماء السير: وفَدَ سَلْم بنُ زياد وهو ابنُ أربع وعشرين سنة، فقال له يزيد: يا أبا حرب (¬1)، أُوَلِّيك عمل أخَوَيك عبدِ الرحمن وعبَّاد. فقال: ذلك إليك. فولَّاه سِجِسْتان وخُراسان. فبعث سَلْمُ بنُ زياد الحارثَ بنَ معاوية الحارثي جدّ عيسى بن شبيب من الشام إلى خُراسان، وبعث أخاه يزيدَ بنَ زياد إلى سِجِسْتان، فكتب عُبيدُ الله [بنُ زياد إلى عبَّاد أخيه] يخبرُه (¬2) بولاية سَلْم على خُراسان وسِجِسْتان. وكان في بيت المال أموالٌ كثيرة، فقَسَمَها عَبَّاد في عَبِيدهِ ومَوَاليه، وبقيَتْ بقيَّة، فنادى مُناديه: مَنْ أحبَّ السَّلَفَ فليأخُذْ. فأسلفَ الباقي. وخرج عبَّاد من سِجِسْتان مفارقًا، فسلك غير الطريق الأعظم، ووصل أخوه سَلْم، فحال بينَهما في تلك الليلةِ جَبَل، فذهبَ لعبَّاد ألفُ مملوك، مع كل مملوك عَشَرةُ آلاف، وسلك طريقًا تُخرجه إلى الشام. وقدم عبَّاد على يزيد، فقال [يزيد]: أين المال؟ فقال: قسمتُه في أربابِه، وكنتُ مقيمًا في ثغر نقاتلُ العدوّ. ووصل سَلْم بنُ زياد إلى سِجِسْتان (¬3)، وتبعه وجوهُ الناس، منهم طلحةُ بنُ عبد الله بن خَلَف الخُزاعيّ، والمُهَلَّب بنُ أبي صُفْرة، ويحيى بنُ يعمر العَدْواني حليف ¬

_ (¬1) جاءت العبارة في كل من (ب) و (خ) بلفظ: ما أنا حزب! وتحرف فيهما أيضًا (وفي كل المواضع) اسم: سَلْم، إلى: مُسلم. وهذا من الأمثلة التي تُبيّن أن النسختين منقولتان عن أصل سييّء. (والكلام ليس في م). (¬2) لفظ العبارة في (ب) و (خ): فكتب إليه أخوه عبد الله يخبره ... وهو خطأ، مع تحريف اسم: عُبيد الله، إلى: عبد الله، فصحَّحتُ العبارة، واستدركتُ ما بين حاصرتين من "تاريخ الطبري" 5/ 472. وينظر أيضًا "الكامل في التاريخ" 4/ 96. (¬3) في "تاريخ الطبري" 5/ 472: خراسان. وما سلف بين حاصرتين منه.

هُذَيل (¬1)، وعبد الله بن خازم السّلميّ، وغيرُهم من أشراف البصرة وأعيانِها وفرسانِها، وكانوا في ألف (¬2)، وقيل: في ستة آلاف؛ أمرَ يزيد بنُ معاوية عُبيدَ الله بنَ زياد بانتخابهم، وكان سَلْم يحبُّ الفرسان وينتخبُهم لأجل الجهاد، وكان ممَّن انتخب حنظلةُ بن عَرَادة (¬3)، وكان من الوجوه، فسأل عُبيد الله بنُ زياد أخاه سَلْمًا أَن يَدَعه له، فقال سَلْم: خَيِّرْه، فإن اختارَك تركتُه. فاختارَ حنظلةُ سَلْمَ بنَ زياد، فخرج معه، وخرج معه أيضًا صِلَةُ بن أَشْيَم العدويّ، وكان قد توقَّف، فرأى في منامه قائلًا يقول له: اُخرجْ، فإنك تُفلح وتَنجح وتَربح. فخرج، فأضافه سَلْم إلى أخيه يزيد بن زياد، فسار إلى سِجِسْتان. وأخرج سَلْم معه امرأتَه أمَّ محمد بنتَ عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفيّ، وهي أوَّلُ امرأةٍ من العرب قُطع بها النهر. وكان أمراء خُراسان يغزون في الصيف، فإذا دخل الشتاء قفلوا من غزوهم إلى مَرْو الشاهجان، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك الصُّغْد في مدينة مما يلي خُوارزم يتشاورُون في أمر غزو المسلمين، وكان المسلمون يسألون ملُوكهم أن يغزوا تلك المدينة، ولا يأذنون لهم في غزوها، فلما غزا سَلْم شَتَّى في [بعض] مغازيه، فسأل المهلَّبُ بنُ أبي صُفْرة سَلْمَ بنَ زياد أن يأذنَ له في غَزْو تلك المدينة، فأَذِنَ له، فسار في أربعة آلاف (¬4)، فقاتلَهم، فسألُوه الصُّلح على عشرين ألفَ ألفِ درهم، فصالحهم، وأخذ منهم عَرُوضًا من دقيق ودوابَّ ومتاع يساوي خمسين ألف ألف، فَحَظِيَ بها عند سَلْم، وبعثَ به إلى يزيد مع مَرْزُبان مَرْو. وغزا سَلْم الصُّغْد؛ سَمَرْقَنْد ونواحيها وبُخارى، فغنم. وولدت أمُّ محمد بنتُ عبد الله من سَلْم ابنًا، فسمَّاه صُغْديّ. ¬

_ (¬1) في النسختين (ب) و (خ): ويحيى بن أبي بكر الهمداني وأبي حليف هذيل! والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 472، و"الكامل" 4/ 96. ويحيى بن يعمر العَدْواني من أئمة القراءة والنحو. ينظر "معرفة القراء الكبار" 1/ 162، و "بغية الوعاة" 2/ 345. (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 472، و"الكامل" 4/ 96: ألفين. (¬3) تحرف في (ب) و (خ) إلى: عبادة. (¬4) في المصدرين السابقين: ستة آلاف، ويقال: أربعة آلاف. وما سلف بين حاصرتين منهما.

وأرسلت أمُّ محمد إلى امرأة صاحب الصُّغْد تستعيرُ منها حُلِيًّا، فبعثت لها بتاجها (¬1)، وقفل سَلْم، ولم ترُدَّهُ إليها. وفيها قدم عبدُ الرحمن بنُ زياد على يزيد بعد قتل الحسين - رضي الله عنه - من خُراسان، فقال له يزيد: كم قدمتَ به معك من المال؟ قال: عشرين ألف ألف درهم، فقال: إن شئتَ حاسبناك، وقبضناها منك، ورَدَدْناك إلى عملك، وإن شئتَ سوَّغناك إيَّاها وعزلناك، وتُعطي عبدَ الله بنَ جعفر خمس مئة ألف درهم. فقال: بل تُسَوِّغُني إيَّاها، وتستعملُ من شئت. وأرسل عبد الرحمن بنُ زياد إلى عبد الله بن جعفر بألفِ ألفِ درهم وقال: خمسُ مئة ألف من قِبَلي، وخمسُ مئة ألف من يزيد (¬2). وفيها أظهر عبد الله بنُ الزُّبير الخلافَ على يزيد بن معاوية بعد قتل الحسين - رضي الله عنه -. لمَّا وصلَ الخبرُ إلى مكَّة بقتل الحسين - رضي الله عنه - قام (¬3) ابن الزبير خطيبًا، فعظَّم مقتلَهُ، وعابَ أهلَ الكوفة خاصَّة، وأهلَ العراق عامَّةً، وقال: إن العراق قومٌ غُدُر فُجُر إلا قليلًا، وإن أهل الكوفة شِرارُ أهلِ العراق، وإنهم دَعَوْا حُسينًا لِيُولُّوه عليهم وينصروه (¬4)، فلما قدم عليهم ثارُوا عليه، فقالوا: إمَّا أنْ تَفَحعَ يَدَك في يد ابنِ زياد (¬5) بن سُميَّة، فيُمضي فيك حُكمَه، وإمَّا أن تُحاربَ. فاختار المنيَّةَ الكريمةَ على الحياة الذميمة. فرحم الله حسينًا، وأَخْزَى قاتلَه، فبَعْدَه لا يطمئنُّ إليهم أحد، ولا يُقبل لهم عهدٌ، أَمَا واللهِ لقد قتلوه؛ طويلًا بالليل قيامُه، كثيرًا في النهار صيامُه، أَمَا واللهِ ما كان يُبَدِّلُ بالقرآن الغِناء، ولا بالبكاء من خشية الله صوتَ الحُداء، ولا بالصيام شُربَ الحرام، ولا بمجالس الذكر الركضَ في تَطْلاب الصيد -يُعَرِّض بيزيد- فسوف يَلْقَوْن غيًّا (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): وأرسلت أم محمد ... منها حُليًّا وأرسلت أم محمد فبعثت لها بتاجا (كذا). والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 474. وينظر "الكامل" 4/ 97. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 316. (¬3) في (ب) و (خ): فأمر، بدل: قام (؟ ) وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 338، و"تاريخ الطبري" 5/ 474. (¬4) في (ب) و (خ): وينصرونه. والجادة ما أُثبت. (¬5) في المصدرين السابقين: إما أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابنِ زياد ... (¬6) قوله: فسوف يَلْقَوْن غيًّا، من الآية (59) في سورة مريم.

فثارَ إليه أصحابُه وقالوا: أيها الرجلُ، أظْهِرْ بيعتَك، فلم يبق أحد -إذ هلك حسين (¬1) - يُنازعك في هذا الأمر. وقد كان بُويع سرًّا، وأَظهر أنه عائذٌ بالبيت، فقال لهم: لا تَعْجَلُوا. وعَمرو بنُ سعيد يومئذ عاملُ مكَّة. وعَلا أمرُ ابنِ الزُّبير، وكاتبَه أهلُ المدينة والحجاز واليمن وتهامة. ولما قال ابنُ الزبير هذه المقالةَ؛ قيل ليزيد: لو شاء عَمرو بنُ سعيد لأَخذَ ابنَ الزبير قهرًا، وبعث به إليك (¬2). فعزل يزيد عَمرًا لهلال ذي الحجة عن الحجاز، وولَّى الوليدَ بنَ عُتْبة بن أبي سفيان مكانَه، فأقامَ الحجَّ سنة إحدى وستين، وأعاد أبا ربيعة (¬3) العامريّ إلى قضائه. ولما رأى عَمرو بنُ سعيد بن العاص أنَّ الناس قد اشْرَأَبُّوا إلى ابن الزُّبير، ومَدُّوا إليه أعناقَهم؛ ظنَّ أن تلك الأمورَ تتمُّ، فأرسلَ إلى عبد الله بن عَمرو بن العاص -وكان عالمًا قد قرأ كتبَ دانيال وغيرها- فقال له: أخْبِرْني عن هذا الرجل، أَيتِمُّ له ما يطلب؟ وأخْبِرْني عن صاحبي -يعني يزيد- ماذا يؤول أمرُه؟ فأرسل إليه عبدُ الله: ما أرى صاحبَك إلا أحدَ الملوك الذين تتمُّ لهم أمورهم إلى أن يموت على حاله، كما مات الملوك قبلَه. فكان يرفُقُ بابنِ الزُّبير وأصحابِه؛ مع إظهار الشدةِ عليهم. وبلغَ يزيدَ رِفْقُهُ بهم، فعزَله (¬4). وقيل: إنما حجَّ بالناس في هذه السنة عَمرو بنُ سعيد؛ لأن الوليد بن عُتبة لم يُدرك الموسم. وكان العاملَ على البصرة والكوفة عُبيد الله بنُ زياد، وعلى قضاء الكوفة شُرَيح، وعلى قضاء البصرة هشام بنُ هُبَيرة، وعلى خُراسان وسِجِسْتان سَلْمُ بنُ زياد (¬5). ¬

_ (¬1) تحرَّفت لفظة "حسين" في (ب) إلى "حتى"، ووقع بدلها في (خ): إلا. والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 475. وهو بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 338. (¬2) القائلون هذا ليزيد هم: الوليد بن عُتبة، وناسٌ من بني أمية كما في "تاريخ الطبري" 5/ 477. (¬3) في "تاريخ الطبري": ابن ربيعة. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 477. (¬5) المصدر السابق. دون قوله: سجستان.

جبر بن عتيك

وفيها توفّي جَبْر (¬1) بن عَتِيك ابن قيس الأنصاري، وهو من الطبقة الأولى من بني [معاوية بن مالك بن عوف بن] عمرو بن عوف، وأمُّه جميلة بنت زيد الأنصارية، وكنيتُه أبو عبد الله. شهدَ بدرًا، وأُحُدًا، والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخَى بينَه وبين خبَّاب بن الأَرتّ، وكانت معه رايةُ بني معاوية بن مالك يوم الفتح. ومرض، فعاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي في سنة إحدى وستين وهو ابنُ أحدٍ وسبعين سنة. وكان له من الولد عَتِيك، وعبدُ الله، وأمُّ ثابت؛ أمُّهم هَضْبَة بنتُ عَمرو بن مالك، من قيس عَيلان (¬2). أسندَ جَبْر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي الصحابة آخر يقال له. جابر بن عَتِيك الأنصاري، روى عنه الإمام أحمد - رضي الله عنه - قال: [حدثنا رَوْح] حدثنا مالك، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عَتِيك بن الحارث، عن عَتِيك، وهو جدُّ عبد الله بن [عبد الله أبو أمِّه، أنّه أخبره، أن جابر بن عَتِيك أخبره، أنَّ عبد الله بن] ثابت لما مات قالت ابنتُه: واللهِ إنْ كنتُ لأرجُو أن تكون شهيدًا. أَمَا إنَّك قد كنتَ قضيتَ جِهازَكَ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ قد أَوْقَعَ أَجْرَهُ على قَدْرِ نيَّته، وما تَعُدُّونَ الشهادةَ فيكم؟ " قالوا: قَتْل في سبيل الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشهادةُ سبعٌ سوى القتلِ في سبيل الله: المقتولُ في سبيل الله شهيد (¬3)، والمَطْعُونُ شهيد، والغريقُ شهيد، وصاحبُ ذاتِ الجَنْبِ شهيد، والمَبْطُونُ شهيد، وصاحبُ الحريق شهيد، والذي يموتُ تحت الهَدْم شهيد، والمرأةُ تموتُ بِجُمْعٍ شهيدة" (¬4). ¬

_ (¬1) تحرف في (خ) إلى: حسين (وكذا في الوضع الآتي)، ونُسب فيها إلى جدّه. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 434 - 435. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬3) لم ترد هذه العبارة في حديث "المسند". ولعل إيرادها وَهْم، فالكلام قبلها يدلُّ عليها. (¬4) مسند أحمد (23753). وما سلف بين حاصرتين منه. قولها: قضيتَ جِهازَك، أي: أتممتَ ما تحتاج إليه في سفرك للغزو. والمطعون: الميت بالطاعون، وذات الجَنْب: هو التهاب في الغشاء المحيط بالرئة، والمبطون: =

الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -

الحسينُ بنُ عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنهما - قد ذكرنا خروجَه من مكة إلى أرض العراق، ونذكر مقتلَه، وما يتعلَّقُ به: بينا الحسين - رضي الله عنه - يقصد مكانًا ينزل به وقد سار عن القادسية؛ إذا سوادٌ عظيم قد أقبل، فظنُّوه النَّخْل، وإذا هو هوادي الخيل (¬1) قد أقبلَتْ كالليل المظلم، وكان ابنُ زياد قد جهَّز إليه الحرّ بن (¬2) يزيد التميمي؛ على مقدمته الحصين بن تميم الكوفي (¬3) في أربعة آلاف، وقيل: في ألف فارس، كأنَّ راياتِهم أجنحةُ الطيور، وأسنَّتَهم اليعاسيب، فأمر الحسينُ - رضي الله عنه - بأبنيته فضُربت، وجاء القوم فوقفوا بإزائه، وكان مجيئُهم من القادسية، وكان الحُصين بن تميم على شرطة ابنِ زياد، ولم يزل الحرّ بن يزيد مُواقفًا للحسين - رضي الله عنه - حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين - رضي الله عنه - الحجَّاج بن مسروق الجُعفيّ فأذَّن. فلمَّا حضرت الإقامة خرج الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - في إزار ورداء ونعلين، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أيُّها الناس، إنها معذرةٌ إلى الله تعالى وإليكم، إني لم آتكم حتى أتَتْني كُتُبكم، وقد قَدِمَتْ علي رُسُلُكم أنِ اقْدَمْ علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعلَّ الله تعالى أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ، فإن كنتُم على ذلك فقد جئتُكم، وإنْ كنتُم لقدومي كارهين رجعتُ إلى المكان الذي جئتُكم منه. فلم ينطقوا، وقالوا للمؤذِّن: أقم الصلاة. فقال الحسين - رضي الله عنه - للحُرِّ: أتريدُ أن تصليَ بأصحابك؟ قال الحرّ: لا، بل أنتَ تُصلِّي بأصحابك، ونحن نُصلِّي بصلاتك. فصلى بهم الحسينُ - رضي الله عنه -، وعاد إلى فُسطاطه، وانصرف الحُرُّ إلى خيمته (¬4). ¬

_ = هو الذي يموت بمرض بطنه، والمرأة تموت بجُمع: التي تموت من الولادة سواء ألقَتْ ولدها أم لا. (من حواشي المسند). (¬1) أي: مُتَقَدَّماتُها. (¬2) قوله: الحرّ بن، سقط من (خ)، وهو في (ب). (¬3) الذي في "تاريخ الطبري" 5/ 401 أن ابن زياد بعث الحُصين بن تميم التميمي ... وقدَّم الحرَّ بن يزيد بين يديه. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 2/ 472. وقد وقع في (ب) و (خ) (في هذا الموضع والموضع الآتي والكلام منهما): نُمير، بدل: تميم، وهو خطأ. فحُصين بن نُمير: آخر، يأتي ذكره، وقد قُتل مع ابن زياد. وأمَّا ابنُ تميم هذا؛ فهو ابنُ أسامة الجُشَيْشيّ، كان على شرطة ابن زياد بالعراق كما سيرد. ينظر "أنساب الأشراف" 11/ 172، و"الأنساب" 3/ 259. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 401 - 402. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 472.

ولما جاء وقت العصر صلَّى بهم الحسين - رضي الله عنه -، ثم أعاد عليهم كلامَه، فقال له الحرُّ: واللهِ ما ندري ما هذه الكتب والرُّسُل التي تذكر. فقال الحسين - رضي الله عنه - لعقبة بن سمعان: هاتِ الخُرْجَين (¬1) اللذين فيهما الكتب. فأخرجَهما عقبة، فنثرَهما بين أيديهم، فقال الحرُّ: فإنَّا لسنا من الذين كاتبوك، وقد أُمِرْنا إذا نحن لاقيناك أن لا نُفارقَك حتى نُقْدِمَك الكوفةَ على عُبيد الله بن زياد. فقال الحسين - رضي الله عنه -: الموتُ أدنى من ذلك. ثم أمر الحسين - رضي الله عنه - أصحابَه فركبوا، وجاء الحُرُّ، فحال بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين - رضي الله عنه -: ثَكِلَتْكَ أمّك! ما تُريد؟ فقال الحرّ: أما واللهِ لو غيرُك من العرب يقولُها ما تركتُ ذِكْر أمِّه بالثُّكل، ولكن مالي إلى ذِكْرِ أمِّك سبيل إلا بأحسنِ ما يُقْدَر عليه. فقال له الحسين - رضي الله عنه -: فما تريد؟ قال. أحملُك إلى الكوفة. قال: لا سبيل إلى ذلك. وترادَّا الكلام، فقال له الحرُّ: ما أُمِرْتُ بقتالك، وإنما أُمرت أن لا أُفارقَك حتى أُقْدِمَك الكوفة، [فإن أبيتَ، فخُذْ طريقًا لا تُدخلك الكوفة] (¬2) ولا تردَّك إلى المدينة تكون نَصَفًا بيني وبينك، وإن شئتَ كتبتَ إلى ابن زياد أو إلى يزيد، فلعلَّ الله أن يأتيَ بأمر يرزُقُني فيه العافية، ولا يبتليني الله بشيء من أمرك. ثم قال: فخُذْ هاهنا، فتَياسَر عن طريق العُذَيب (¬3) والقادسية. وسار الحرُّ معه يُسايره. ولما نزل الحسين - رضي الله عنه - البيضة (¬4) قام خطيبًا في أصحابه وأصحاب الحرّ بن يزيد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رأى (¬5) سلطانًا جائرًا مستحلًّا لمحارم الله، تاركًا لعهد الله، مخالفًا لسنَّةِ رسوله، يعمل في ¬

_ (¬1) الخُرْجُ: وعاء من جلد ذو عِدْلَين يوضع على ظهر الدابّة لوضع الأمتعة. المعجم الوسيط. (¬2) الكلام بين حاصرتين من "تاريخ الطبري" 5/ 402، و"أنساب الأشراف" 2/ 473. (¬3) تصغير العَذْب، وهو ماء بين القادسية والمُغِيثة، بينه وبين القادسية أربعة أميال. "معجم البلدان" 4/ 92. (¬4) بكسر الباء أو فتحها؛ ماء بين واقصة إلى العُذَيْب. وانظر التعليق الذي قبله، و"معجم البلدان" 1/ 532 - 531. وتحرفت اللفظة في (ب) و (خ) إلى: المبيضة. (¬5) في (ب) و (خ): أتى، والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 403، و "الكامل" 4/ 48.

عباد الله بالإثم والعدوان؛ فلم يغيّر عليه بقول أو فعل، كان حقًّا على الله أن يُدخلَه مُدْخَلَه". ألا إن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفسادَ في الأرض، وعطَّلُوا الحدود، واستأثَرُوا بالفَيء، وأحلُّوا ما حرَّم الله، وحرَّمُوا ما أحلَّه الله، وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر ذلك، وقد أَتَتْني كُتُبكم أنَّكم لا تُسْلِمُوني، ولا تخذُلُوني، فإنْ تمَّمتُم عليَّ بيعتكم أصبتُم رُشْدَكم، فأنا الحسين بنُ عليّ، وابنُ فاطمة بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكُم فيَّ أُسوة، وإنْ لم تفعلوا ونقضْتُم عهدكم وغَدَرْتُم؛ فلَعَمْرِي ما هي لكم بنُكْر، لقد فعلتُموها بأخي وأبي وابنِ عمِّي مُسلم بنِ عَقِيل، والمغرورُ من اغتَرَّ بكم، فحظَّكم أخطأتُم، ونَصِيبَكم ضَيَّعتُم (¬1) ومَنْ نكثَ فإنَّما ينكثُ على نفسه، وسيُغْني الله عنكم. والسلام. الخطبة الثانية خطبها بذي حُسَم وقال: إنه قد نزلَ بنا من الأمر ما ترَون، وإنَّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت، وأدبر معروفُها، ولم يبقَ منها إلا صُبابةٌ كصُبابة الإناء، وخسيسُ عيشٍ كالمرعى الوبيل، ألا تَروْن أنَّ الحقَّ لا يُعمَلُ به، وأنَّ الباطلَ لا يُتَناهَى عنه، وإني لا أرى الموتَ إلا سعادة (¬2)، ولا الحياة مع الظالمين إلَّا بَرَمًا (¬3). فقام زهير بن القَيْن البَجَليّ فقال لأصحابه: أتتكلَّمون أم أتكلّم؟ قالوا: بل تكلَّمْ. قال: قد سمعنا -هداك الله يا ابنَ رسولِ الله- مقالتَك. واللهِ لو كانت الدنيا لنا باقيةً، وكنَّا مخلَّدين فيها، وأن نفارقَها (¬4) في نصرك ومواساتك، لآثَرْنا الخروج معك على الإقامة فيها. فدعا له الحسين - رضي الله عنه -، وجزاه خيرًا (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): أخطأكم ... ضيّعكم. والمثبت من (ب) وهو الموافق لما في "تاريخ الطبري" 5/ 403. (¬2) في "تاريخِ الطبري" 5/ 404: شهادة. (¬3) أي: سأَمًا وضَجَرًا. (¬4) في "تاريخ الطبري" 5/ 404: إلا أنَّ فراقها. (¬5) المصدر السابق. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 473.

وقال له الحرُّ بن يزيد: يا حسين، إني أُذكِّرك (¬1) اللهَ في نفسك، فإني أشهدُ لئن قاتلتَ (¬2) لَتُقْتَلَنَّ، ولئن قُوتِلتَ لتهلكنّ. فقال له الحسين - رضي الله عنه -: فَبالموتِ تُهَدِّدُني؟ ! وهل يعدو بكم الخَطْب إلا أن تقتلوني؟ ! ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وكان قد لقيَه وهو يريد نُصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أين تذهب؟ فإنَّك مقتول، فقال: سأمضي فما في الموت عارٌ على الفتى ... إذا ما نَوَى (¬3) حقًّا وجاهدَ مُسلما وآسَى الرِّجال الصالحين بنفسه ... وحسبُك ذُلًّا أن تعيش وتُرغَما (¬4) فلما أن سمع الحرُّ ذلك منه تنحَّى عنه، وكان يسير بأصحابه ناحية، والحسين - رضي الله عنه - ناحية، حتى انتهَوْا إلى عُذَيْب الهِجانات، وإذا بأربعة نَفَر من الكوفة قد أقبلوا على رواحلهم يجنِّبون فرسًا (¬5) لنافع بن هلال يقال له: الكامل، ودليلُهم الطِّرِمَّاحُ بنُ عدي، جاؤوا ليقاتلوا مع الحسين - رضي الله عنه -، والطِّرِمَّاحُ يرتجز ويقول: يا ناقتي لا تُذعَرِي من زَجْري ... وشَمَري قبلَ طلوعِ الفجرِ بخير رُكْبانٍ وخيرِ سَفْرِ ... حتى تَحِلِّي بكريم النَّجرِ الماجدِ الجدِّ (¬6) رحيبِ الصدرِ ... أتى به اللهُ لخيرِ أمرِ ثُمَّتَ أبقاهُ بقاءَ الدهرِ فأراد الحرُّ ردَّهم إلى الكوفة، فقال له الحسين - رضي الله عنه -: لأمنعنَّهم ممَّا أمنعُ منه نفسي، إنما جاؤوا إلى نُصرتي. فسكت الحرّ. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): إذا ذكرت، وهو تحريف، والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 404. (¬2) في (خ): قاتلتك، والمثبت من (ب)، وهو الموافق في "تاريخ الطبري" 5/ 404، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 473 - 474. (¬3) في (ب) و (خ): يرى، والمثبت من "تاريخ الطبري". (¬4) في "تاريخ الطبري" 5/ 404: وفارق مثبورًا يغشُّ ويُرغما. وفي "أنساب الأشراف" 2/ 474: وآتى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورًا وخالف مجرما فإن عشتُ لم أُذمم وإن متّ لما أُلَمْ ... كفى لك ذلًّا أن تعيش وتُرغما (¬5) أي: يقودونه معهم مجانبًا لهم. (¬6) في "تاريخ الطبري" 5/ 405: الحرّ، ولم يرد هذا البيت من الرجز في "أنساب الأشراف".

ثم قال لهم الحسين - رضي الله عنه -: أخبروني خبر الناس. فقال له مُجمِّع بن عبد الله العائدي، وهو أحد النَّفَر الأربعة الذين جاؤوا: أمَّا أشرافُ الناس فهم أَلْبٌ واحد عليك (¬1)، قد أُعظمتْ رِشْوَتُهم، ومُلِئَتْ غَرائرُهم، وأما بقية الناس فإنَّ أفئدتَهم تهوي إليك، وسيوفَهم غدًا مشهورة عليك. فقال: خبِّرُوني، ما فُعلَ برسولي قيس [بن] مسهر الصيداوي؟ فقال: أخذه ابنُ زياد لمَّا بعث إليه الحُصين بن تميم، فأمره أن يلعنك ويلعن أباك، فصلَّى عليك وعلى أبيك، ولعنَه ولعن أباه، ودعاهم إلى نُصرتك، فألقي من القصر، فمات. فبكى الحسين - رضي الله عنه - وقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الآية [الأحزاب: 23] (¬2). وقال الطِّرمَّاح بنُ عديّ: إني لأنظر؛ ما أرى معك أحدًا، ولو لم يُقاتلْك إلا الذين معك وهم ملازموك لكان فيهم كفاية، كيف وقد جمع لك ابنُ زياد جمعًا لم أرَ مثلَه قطّ، فاعدِلْ بنا إلى جَبَلَي طيِّئ؛ أَجَأ وسَلْمَى، فإنَّا امتنَعْنا بهما من ملوك غسان وحِمْير، والنُّعمان وكسرى، ولا تمضي إلا عشرة أيام حتى آتيَك بعشرين ألفًا من طيِّئ يضربون بين يديك بأسيافهم، فلا يُوصَلُ إليك وفيهم عينٌ تَطْرِف. فجزاه خيرًا وقال: قد كان بيننا وبين هؤلاء كلام، ولسنا نقدر على الانصراف. ففارقه الطِّرمَّاح على أن يعودَ إليه. وسار الحسين - رضي الله عنه - حتى نزلَ قصر بني مقاتل، وإذا بفسطاط مضروب، فقال الحسين - رضي الله عنه -: لمن هذا؟ فقيل: لعُبيد الله (¬3) بن الحرّ الجُعْفي. فقال: ادْعُوه لي. فأتاه الرسول، فاستدعاه، فاسترجع (¬4) وقال: ما خرجتُ من الكوفة إلا كراهية أن يدخلها الحسين وأنا بها، واللهِ ما أُريدُ أن أراه ولا يراني. وأبلغَه الرسول ما قال، فقام الحسين - رضي الله عنه -، ومشى إليه، ودعاه إلى نُصرته، فقال مثل تلك المقالة، فقال الحسين - رضي الله عنه -: فإذا لم تنصرونا؛ فلا تُقاتلونا. فقال: أمَّا هذا فلا. ¬

_ (¬1) أي: مجتمعون على عداوتك. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 405. وينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 435، و"أنساب الأشراف" 2/ 470. (¬3) في (ب) وخ): لعبد الله، والمثبت من "أنساب الأشراف" 2/ 476، و "تاريخ الطبري" 5/ 407. (¬4) أي قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

ثم قام الحسين - رضي الله عنه - فخرج وسار من قصر بني مقاتل، فلما كان آخرُ الليل، خفقَ رأسُه خَفقَةً، ثم انتبه وهو يقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. فقال له عليّ ابنُه: مالك يا أَبَهْ؟ ! فقال: يا بُنيّ، إنِّي خفقتُ رأسي (¬1) خفقةً؛ وإذا بفارس يسايرُني على فرس ويقول: القوم يسيرون والمنايا تسيرُ إليهم. فعلمتُ أنه نعى نفوسَنا إلينا. فقال: يا أَبَهْ، أَلسنا على الحقّ؟ ! قال: بلى. قال: فإذًا لا نُبالي بالموت مُحِقِّين. فجزاه خيرًا. وسار الحسين - رضي الله عنه - حتى نزل نِينَوَى (¬2) على شطّ الفُرات، وإذا براكب على نَجِيبٍ (¬3) من ناحية الكوفة، ومعه كتابٌ من ابنِ زياد إلى الحرّ، ففتحه، وفيه: أمَّا بعد، فجَعْجِعْ بالحسين (¬4)، ولا تُنْزِلْه إلا بالعَراء في غير حصن، وعلى غير ماء. فقال الحرّ: هذا كتابُ الأمير، ورسولُه معي، فلا أُفارقُك حتى تنزلَ موضعًا امر (¬5). فقال: ننزلُ نِينَوَى، أو بالغاضريَّة. فقال الحرّ: لا والله، إلى ها هنا. فقال له (¬6) زهير بن القَين: واللهِ إني لأرى ما بعد هذا أشدَّ منه، فقتالُ هؤلاء أهونُ. فقال الحسين - رضي الله عنه -: ما أبدؤهم بقتالٍ حتى يَبْدَؤونا. فقال: سِرْ بنا إلى هذه القرية، فإن قاتلونا قاتلناهم. قال: وما يقال لها؟ قال: العَقْر. قال: أعوذ بالله من العَقْر. ثم نزل بكربلاء يوم الخميس ثاني المحرَّم. ذكر إرسال ابنِ زياد عُمَر بنَ سعد بن أبي وقَّاص إلى الحسين - عليه السلام -: وجَّه ابنُ زياد عمرَ (¬7) بن سعد إلى الحسين - رضي الله عنه - في أربعة آلاف، وكان قد استعمله قبل ذلك على الرّيّ وهَمَذان، فقطع ذلك البعث معه، فلما أمره بالمسير إلى الحسين ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 5/ 407: برأسي. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 477. (¬2) ناحية بسواد الكوفة، منها كربلاء. "معجم البلدان" 5/ 339. (¬3) أي: ناقة، يقال: ناقة نجيب ونجيبة. ينظر "القاموس". (¬4) أي: أزْعِجْه وشرِّده. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 477، و "تاريخ الطبري" 5/ 408. (¬5) كذا في (ب) و (خ) ولعلها محرَّفة عن "آخر". والمعنى: أنه لن يدعهم ينزلوا منزلًا آخر. (¬6) يعني للحسين - رضي الله عنه -. وينظر "تاريخ الطبري" 5/ 409. (¬7) في (ب) و (خ) (وفي كل المواضع التالية): عمرو. وهو خطأ.

- رضي الله عنه - امتنعَ واستعفى منه، فقال له ابنُ زياد: واللهِ لئن لم تَسِرْ إليه لأعزلنَّك، وأهدمنَّ دارَك، ولأضربنَّ عنقك. فقال: إذًا أفعل (¬1). وجاءتْه بنو زُهرة وقالوا: ننشدك ألله أن يبقي فعلك بالحسين عداوة بيننا وبين بني هاشم (¬2). وجاءه ابنُ أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة فقال له: أَنشدُك الله يا خال أن تقطع رحمك وتعصيَ ربَّك، فواللهِ لأَنْ تخرجَ من دنياك ومالِك وسلطان الأرض كلّها خير لك (¬3) من أن تلقى اللهَ بدم الحسين. فقال له عمر: فإني لا أفعلُ ذلك، ولا أُقاتلُه. وعاد إلى ابنِ زياد، فاستعفاه، فلم يُعْفِه، فسار إلى قتال الحسين - رضي الله عنه - في أربعة آلاف. وقد أخبرَ عليٌّ - عليه السلام - بهذا، فإنه لقيَ عُمرَ بنَ سعد في بعض الأيام، فقال له: ويحك يا عُمر! كيف بك وقد قمتَ مقامًا تخيَّر فيه بين الجنة والنار، فتختار النار (¬4)؟ ! ولما نزل عُمر بن سعد نِينَوَى؛ استحيى أن يجتمع بالحسين - رضي الله عنه -، فعرض على الرؤساء أن يذهبوا إليه ويسألوه: في أيّ شيء قَدِمَ؟ فكلُّهم أبي ذلك؛ لأنهم كاتبوا الحسين - رضي الله عنه -. فقال كثير بن عبد الله الشعبي -وكان فاتكًا-: أنا أذهب إليه، وإنْ شئت قتلتُه (¬5). فقال عمر: ما أُريدُ قَتْلَه، وإنما أُريدُ سؤاله. فمضى إليه، فلم يُمكِّنوه من الوصول إليه خوفًا منه. فعاد إلى عمر. فبعثَ قرَّة بن قيس (¬6) الحنظلي، فجاء وسلَّم على الحسين - رضي الله عنه -، وأبلغه الرسالة التي من عمر، فقال: إنَّما جئتُ لأنه كتب إليَّ أهلُ مِصْرِكم بكذا وكذا. فأمَّا إذْ كرهوني؛ انصرفتُ عنهم. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 435. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في (ب) و (خ): لئن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لكان خيرًا لك .. والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 409، و "الكامل" 4/ 53، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 478. (¬4) تاريخ دمشق 54/ 38 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عمر بن سعد بن أبي وقاص). (¬5) لفظ العبارة في (ب) و (خ): وكان فاتكًا إذا ذهبَ إليه بسبب قتلته (؟ ) وأثبتُّ ما يناسب السياق من "تاريخ الطبري" 5/ 410. (¬6) تحرف في (ب) و (خ) إلى: فترة بن سعد. والكلام في "تاريخ الطبري" 5/ 410 - 411، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 478.

فكتب ابنُ سعد إلى ابن زياد بذلك، فقال ابن زياد: الآن إذْ عَلِقَتْ مخالِبُنا به ... يرجو النجاة ولات حين مَناصِ وكتب إلى عمر بن سعد: أمَّا بعد، فقد بلغني كتابُك، فاعْرِضْ على حسين أن يُبايع لأمير المؤمنين يزيد هو وأصحابه، فإذا فعل ذلك رأَينا رأْيَنا. والسلام. وقال حميد بن مسلم: كتَبَ ابن زياد إلى عمر بن سعد: أما بعد، فَحُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يدنو منه، كما فُعل بأمير المؤمنين عثمان. قال: فبعثَ ابنُ سعد خمس مئة فارس، فنزلوا على الشرائع (¬1)، وحالوا بينه وبين الماء، وذلك قبل مقتله بثلاث. وناداه عبد الله بن [أبي] حصين الأزدي: يا حسين، ألا تنظرُ إلى الماء كأنَّه كبدُ السماء؟ واللهِ لا تذوقُ منه قطرة حتى تموتَ عطشًا. فقال الحسين رحمه الله: اللهمَّ اقْتُلْه عَطَشًا، ولا تَغْفِرْ له أبدًا (¬2). قال حميد بن مسلم: واللهِ لقد عُدتُه في مرضه بعد ذلك، فكان يشربُ حتى يَبْغَر (¬3)، ثم يعود فيقيء، ثم يعود فيشرب حتى يَبْغَر، فما زال كذلك حتى مات عَطَشًا. [قال الهيثم: ] (¬4) وناداه عَمرو بنُ الحجاج -وكان ممَّن كاتبه-: يا حسين، هذا الماء يلغُ فيه الكلاب، وتشربُ منه خنازير السَّواد والحُمُر والذئاب، وواللهِ لا تذوقُ منه قطرةً حتى تذوق الحميم في نار الجحيم (¬5). فكان سماع هذا الكلام عليه أشدَّ من منع الماء. ولما اشتدَّ العطش بالحسين - رضي الله عنه - وأصحابِه؛ دعا أخاه العبَّاس، وبعث معه ثلاثين فارسًا وعشرين راجلًا، وبعث معهم عشرين قِرْبة، فجاؤوا إلى الشريعة وعليها عَمرو ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 2/ 481 و "تاريخ الطبري" 5/ 412: الشريعة. (وهي مورد الماء الذي يُستقى منه بلا رِشاء). (¬2) أنساب الأشراف 2/ 481، وتاريخ الطبري 5/ 412. (¬3) يعني: يشربُ ولا يَرْوَى. والكلام في المصدرين السابقين. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) والكلام الذي سلف من أول الفقرة إلى هذا الموضع لم يرد فيها. (¬5) أنساب الأشراف 2/ 482.

ابن الحجَّاج الزّبيدي، فقال: من أنتم؟ فقال العبَّاس: جئنا لنشربَ من هذا الماء الذي حَلَأْتُمونا عنه (¬1). فقال له عمرو: اشرب هنيئًا مريئًا. فقال: لا واللهِ لا أشربُ منه قطرة وحسين عطشان. فقال: لا سبيل إلى هذا. إنما وُضِعنا ها هنا لنمنعهم من الماء. وجاء أصحابُ العباس فقال: املؤوا قِرَبَكم. فشدَّ الرَّجَّالة فملؤوها. وثار إليهم عَمرو بن الحجاج، فاقتتلوا. وخَلَصُوا بالقِرَبِ إلى الحسين - رضي الله عنه -، فشرِبَ هو وأصحابه (¬2). ويقال للعبَّاس بن علي: السَّقَّاء؛ لأنه حمل ذلك اليوم قِرْبةً على كتفه. وبعث الحسين - رضي الله عنه - عَمرو (¬3) بنَ قَرَظةَ بن كعب الأنصاريّ إلى عُمر بن سعد يقول: الْقَني الليلةَ بين العسكرين. وخرج الحسين - رضي الله عنه - في عشرين فارسًا، وعمر في مثلها، فلما التقيا؛ أمر كلُّ واحد منهما أصحابَه أن يبعدوا عنه، ففعلوا. وتحدَّثا، فقال له الحسين - رضي الله عنه -: اختاروا مني خصالًا ثلاثة: إمّا أنْ أرجعَ إلى المكان الذي أقبلتُ منه، وإمَّا أن أضعَ يدي في يد يزيد بن معاوية، فيرى فيما بيني وبينه رأيَه، وإمَّا أن تسيِّروني إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين، فأكونَ كرجلٍ من أهله (¬4). قال عُقبة بن سَمْعان: صحبتُ الحسين - رضي الله عنه - من المدينة إلى مكة، ومن مكةَ إلى العراق؛ لم أفارقْه حتى قُتل، ولم يَفُتْني منه كلمة قالها إلى يومِ قَتْلِه، لا واللهِ إنْ أعطاهم ما يذكر الناس وما يزعمون من أن يضعَ يده في يدِ يزيد بن معاوية، وإنما قال: دَعُوني أرجعْ إلى المكان الذي أقبلتُ منه، أو أن أذهبَ في هذه الأرض العريضة حتى انظر ما يصيرُ إليه أمرُ الناس (¬5). والتقى الحسين - رضي الله عنه - عُمر بنَ سعد مرارًا ثلاثًا أو أربعًا، وكتب عُمر بن سعد إلى ابن زياد: أمَّا بعد؛ فإنَّ الله قد أطفأ النائرة، وجمعَ الكلمة، وأصلَح أمرَ الأمة. ¬

_ (¬1) أي: منعتمونا منه. (¬2) أنساب الأشراف 2/ 481، وتاريخ الطبري 5/ 412. (¬3) في (ب) و (خ): عمر. والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 413، و "الكامل" 4/ 54. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 413، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 482. (¬5) تاريخ الطبري 5/ 413 - 414.

فلما قرأ ابنُ زياد كتابَه قال: هذا كتابُ رجل ناصحٍ لأميره، مشفقٍ على قومه، نَعَمْ قد قبلتُ. فقام إليه شَمِرُ بنُ ذي الجَوْشَن وقال: أتقبلُ هذا منه وهو إلى جانبك؟ ! واللهِ لئن رَحَلَ عن بلادك ولم يضع يده في يدك ليكوننَّ أولى بالقوة والعزّ، ولتكوننَّ أولى بالضعف والعجز، واللهِ لئن لم ينزل على حكمك ليكوننَّ وهنًا عليك، ولقد بلغني أنَّ الحسين وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين، فيتحدَّثان عامَّة الليل. فمال ابنُ زياد إلى قول شَمِر وقال: الرأيُ ما قلتَ (¬1). وجعل الرجل والرجلان والثلاثة من أهل الكوفة يتسلَّلُون إلى عسكر الحسين - رضي الله عنه -، وبلغ ابنَ زياد، فخرجَ، فعسكر بالنُّخَيلَة (¬2)، واستخلف على الكوفة عَمرو بن حُريث، وضبط الجسر، فلم يترك أحدًا يجوزُه (¬3). وعقد ابنُ زياد لحُصين بن تميم التميمي على ألفين (¬4)، وبعثه مددًا لعُمر بن سعد، فصاروا ثمانيةَ آلاف. ولم يبلغ الذين مع الحسين - رضي الله عنه - مئة. ودعا ابنُ زياد شَمِرًا، وناولَه كتابًا، وقال له: اذهبْ به إلى عُمر بن سعد، فليعرض على حسين وأصحابه النزولَ على حكمي، فإن فعلوا فليبعثْ بهم سِلْمًا، وإن أَبَوْا فليقاتِلْهم، فإن امتنع فاضرب عنقه، وأنت الأمير على الناس (¬5). وكان في الكتاب: إني لم أبعثْك إلى الحسين لتطاولَه وتُمَنِّيه وتكونَ له عندي شافعًا، فانظرْ فإنْ نزلَ هو وأصحابُه على حُكمي؛ فابْعَثْ بهم إليَّ سِلْمًا، وإنْ أَبَوْا فازحَفْ إليهم، واقْتُلْهم، ومَثِّلْ بهم، فإنْ قُتل الحسين؛ فأوطئ الخيلَ صدرَه وظهرَه، وإن أبيتَ فسلِّم العسكر إلى شَمِر، فقد أمرناه فيك بأمر، والسلام (¬6). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 482، وتاريخ الطبري 5/ 414. (¬2) تصغير نخلة؛ موضع قرب الكوفة. "معجم البلدان" 5/ 278. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 436. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 478 - 479. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 436. وفي "أنساب الأشراف" 2/ 479 أنه بعث حصين بن تميم في أربعة آلاف. وينظر ما سلف أول الفقرة. (¬5) ينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 436. وجاء في حاشية الأصل (خ) كلام بخط الناسخ مخير مظهّر بتمامه، أوله: لعنة الله على ابن زياد الآمر بهذا الأمر .. (¬6) تاريخ الطبري 5/ 414 - 415.

وجاءه شَمِر فوقفَ على عسكر الحسين - رضي الله عنه - ونادى: أين بنو أختنا؟ فخرج العباسُ وعثمانُ وعبدُ الله وجعفر بنو علي بن أبي طالب - عليه السلام -، فقال لهم: أنتم يا بني أختي آمنون. فقالوا له: لعنك الله، ولعنَ أمانتكَ ومَنْ أمَّنَنَا، ويحك! أَتُؤَمِّنُنا، وابنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وابنُ فاطمة لا أمانَ له؟ ! اذهَبْ مذمومًا مدحورًا. ومعناه أنَّ أمَّ البنين -هي أمُّ العباس وعثمان وعبد الله وجعفر- كِلابيَّة، وشَمِر -لعنه الله- كِلابيّ (¬1). ولما قدم شَمِر بكتاب ابن زياد على عُمر بن سعد؛ قرأه وقال له: ويلك يا أبرص، ما لَك؟ ! لا قرَّب اللهُ دارَك، ولا أدنى مَزارَك، وقبَّحَ ما أتيتَ به، واللهِ إنِّي لأظنُّك ثَنَيتَهُ أن يقبل ما كتبتُ به إليه، أفسدتَ علينا أمرَنا، قد كنَّا نرجو أن يصلح، واللهِ لا يستسلمُ حسين أبدًا، لَنَفْسُ أبيه بين جَنْبَيه. فقال له شَمِر: دَعْ هذا، وأخْبِرْني ما أنت صانع، أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدوه؟ وإلَّا فخلِّ بيني وبين ذلك. فقال: لا، ولا كرامة لك، وأنا أتولَّى ذلك. قال: فدونك. فنهض إليه عشيَّة الخميس لسبع مضين من المحرَّم بعد صلاة العصر والحسينُ جالسٌ أمامَ بيته مُحتبيًا بسيفه؛ إذْ خفقَ برأسه على ركبتيه، وسمعَتْ أختُه زينبُ بنتُ عليّ الضجَّةَ (¬2)، فدنَتْ من أخيها وقالت: يا أخي، أما تسمعُ الأصوات، وعُمر بن سعد ينادي: يا خيل الله اركبي وأبشري؟ ! فرفع الحسين رأسَه وقال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الساعةَ في النوم، فقال لي: إنك تروحُ إلينا. فلطمَتْ زينبُ وجَهها، وقالت: واويلتاه! وقال الحسين - رضي الله عنه -: ليس لكِ الويل يا أختاه، اسكُني. وقال له العبَّاس بن عليّ: أتاك القومُ. فقال: يا أخي ارْكَبْ إليهم، وسَلْهُم عمَّا بدا لهم، وما الذي جاء بهم؟ فالتقاهم العباس، فسألهم، فقالوا: ورد كتاب الأمير بكذا وكذا. ¬

_ (¬1) ذكر الطبري أن شمر لمَّا أخذ الكتاب من ابن زياد؛ كان معه عبد الله بن أبي المحل الكلبي، فقال ابن أبي المحل لابن زياد: إن بني أختنا (يعني أمّ البنين) مع الحسين، فإنْ رأيت أن نكتب لهم أمانًا؟ قال: نعم. فأمر كاتبه، فكتب لهم أمانًا. (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 416: الصيحة. وفي سياق الخبر هنا اختصار، وتقديم وتأخير. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 483 - 484.

فجاء فأخبر الحسين رضوان الله عليه، فقال: عُدْ إليهم، وقل لهم: انصرفوا هذه العشيَّة لننظر في أمرنا الليلةَ، وفي غداة غد يكون ما يريدُ الله. فجاء إليهم فأعاد عليهم ما قال الحسين - رضي الله عنه -: فقال عُمر بن سعد لأصحابه: ما تقولون؟ فقالوا: أنت الأمير، والرأيُ رأيُك، قال: وَدِدْتُ أن لا أكونَ أميرًا. فقال له عَمرو بن الحجَّاج الزبيدي: سبحان الله! لو كان من الدَّيلم ثم سألك هذا لقد كان ينبغي لك أن تُجيبَه! وقال ابن الأشعث: أجِبْهُم إلى ما سألوك، فواللهِ لَيُصَبِّحُنَّكَ بالقتال غُدْوَة. فعاد عُمر بن سعد إلى فسطاطه (¬1). وقال الحسين رضوان الله عليه: إنما دفعتُهم العشيَّة لنصلّي الليلة، ونسألَ ربَّنا، وندعوَه ونستغفرَه (¬2). ولما انصرف القوم عن الحسين - رضي الله عنه -؛ عرضَ على أصحابه أن يتفرَّقوا، فأبَوْا وقالوا: واللهِ لا نُفارقُكَ حتى يصيبَنا ما أصابك. فبات الحسين - رضي الله عنه - وأصحابه تلك الليلة، وسألوا الله تعالى وبَكَوْا وتضرَّعوا. قال عليُّ بن الحسين - رضي الله عنهما -. وكنتُ مريضًا، وعمَّتي زينب عند رأسي، فاعتزَلَ أبي ليُصلح سيفَه وقال: يا دَهْرُ أُفٍّ لك من خليلِ ... كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ من صاحبٍ أو طالبٍ قتيل ... وكلُّ حيٍّ سالكُ السبيلِ وجعل يُرَدِّدُها، ففهمتُ ما أراد، فخنقَتْني العَبْرة، فردَدْتُ دَمْعي، وعلمتُ أنَّ البلاء قد نزل. وأمَّا عمَّتي فسمعَتْ، وهي امرأة، فأدركَها الجَزَع والرِّقَّة، فلم تملك نفسها أنْ قامَتْ تجرُّ ثوبَها وهي حاسرة حتى انتهت إليه، فقالت: واثُكلاه! ليت الموتَ أعْدَمَني الحياة اليوم، ماتَتْ أمّي فاطمة، وعليٌّ أبي، وحسنٌ أخي، يا خليفة الماضين، ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 416 - 417 بأطول منه، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 484 - 485. (¬2) بنحوه في "تاريخ الطبري" 5/ 417. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 484.

ويا ثِمال الباقين (¬1). فقال لها الحسين - رضي الله عنه -: يا أُخَيَّة، لا يُذهِبْ حِلْمَك الشيطانُ. فقالت له: بأبي أنتَ وأمِّي يا أبا عبد الله، استَقْتِلْ، نفسي فداؤك (¬2). فردَّد غُصَّته، وترقرقت عيناه، ثم قال: ولو تُرك القَطا لَهَدَا وناما (¬3). فقالت: يا ويلتا! أتغتصبُ نفسك اغتصابًا، فذلك الذي أقْرَحَ قلبي. ثم لطمت وجهها، وشقَّت جيبَها، وخرَّتْ مغشيًّا عليها، فقام الحسين - رضي الله عنه -، فرشَّ قال وجهها الماء، وقال لها: يا أُخيَّة، اتقي الله، وتَعَزَّيْ بعزاء الله، وكلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَه. ثم قام، فخرج إلى أصحابه، وأمرهم أن يُدخلوا البيوتَ بعضَها في بعض، ويستقبلوا العدوَّ من وجهٍ واحد. فلما كان صباح يوم الجمعة -وقيل: يوم السبت- خرج عُمر بن سعد، وقد عَبَّأَ الحسين - رضي الله عنه - أصحابَه وقتَ صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا، وأربعون راجلًا، وجَعلَ زُهير بن القَين في الميمنة، وحبيب بن مظهر في الميسرة، وأعطى رايته العبَّاس بن عليّ، وجعلوا البيوت من وراء ظهورهم؛ وأمر الحسين - رضي الله عنه - بِحَطَبٍ وقَصَب أن يكونَ من ورائهم، ثم يُلقي فيه النار مخافةَ أن يأتوه من ورائه. وكان مع الحسين - رضي الله عنه - خمسون رجلًا (¬4)، وأتاهم من الحُرّ (¬5) عشرون، وكان معه من أهل بيته تسعة عشر رجلًا. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 2/ 485، و "تاريخ الطبري" 5/ 420: يا خليفة الماضي، وثمالة الباقي. والثِّمال: الملجأ والغِياث. (¬2) كذا في (ب) و (خ). وفي "تاريخ الطبري" 5/ 420: استقتلت نفسي فداك. وبنحوه في "الكامل" 4/ 59. (¬3) أي: لَهَدَأ ونام. وهو مَثَل، ولفظُه أعلاه موزون (من الوافر) ولم أقف على هذا اللفظ؛ إنما لفظه في "تاريخ الطبري" 5/ 420 وغيره من المصادر وكتب الأمثال: لو تُرك القطا ليلًا لنام، والقَطَا -وهو جمع قَطاة؛ من الطيور- لا يسري ليلًا، والمثَل يُضرب لمن يَهِيج إذا هُيِّج. وينظر "مجمع الأمثال" 2/ 175. (¬4) كذا في (خ)، ولم يرد في (ب) قوله: خمسون رجلًا. وقد سلف قبل أنه كان مع الحسين اثنان وثلاثون فارسًا، وأربعون راجلًا. والكلام ليس في (م). والله أعلم. (¬5) هو الحرّ بن يزيد الذي حبس الحسين عن الرجوع وجعجع به؛ تركَ عُمر بن سعد، والتحق بالحسين - رضي الله عنه -.

حديث كربلاء

حديث كَرْبَلاء: [رُوي عن شَهْر بن حَوْشب، عن أمّ سَلَمة، أنها أخبرت الحسين فقالت: كان جبريل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنت معي، فبكيتَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعي لي ابني". فتركتُك، فأخذك في حجره، فقال له جبريل: أتحبُّه؟ قال: نعم. قال: "إنَّ أمَّتك ستقتلُه، فإن شئت أُريك من تربة أرضه التي يُقتل فيها. قال: نعم. فبسط جبريل جناحه على أرض كربلاء، فأراه إياها، فَشَمَّها، ففاضَتْ عيناه (¬1) ". فلما شمَّ الحسين أرض كربلاء، قال: هذه -والله- الأرض التي أراها جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره أنني أُقتلُ فيها] (¬2). [قال الواقدي: ] ولما نزل الحسين - رضي الله عنه - أرض كَرْبَلاء قال: ما يقال لهذه الأرض؟ قالوا: كَرْبَلاء. قال: كَرْبٌ وبلاء. ثم قال: أخبرتني أمُّ سَلَمة أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخبرها أنني أُقتلُ ها هنا. [وقد أخرج حديث أمّ سَلَمة سائر العلماء] (¬3). قال أنس: استأذنَ مَلكُ القَطْرِ ربَّه أن يزورَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَذِنَ له، وكان في بيت أمِّ سلمة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أمَّ سلمة، امْلِكِي البابَ علينا، لا يدخلنَّ أحد". فجاء الحسين وهي على الباب، فاقتحم الباب ودخل، وجعلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلزمُه ويُقَبِّلُه، فقال له المَلَك: أتُحبُّه؟ قال: نعم. فقال: إن أمَّتك ستقتلُه. فإنْ شئتَ أُريك المكان الذي يُقتلُ فيه. قال: نعم. فقبض قبضةً من المكان الذي قُتل فيه، فأَشَمَّه إيَّاها، فإذا هو طينةٌ حمراء، أو: فجاء بطينة حمراء، فأخذَتْها أمُّ سلمة، فصرَّتْها في خِمارها. قال ثابت (¬4): فكان أنس يقول: هي كربلاء. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (1391) من طريق شَهْر بن حَوْشَب، بهذا الإسناد. وأخرجه أيضًا في "المسند" (26524) من طريق آخر عن عائشة أو أمّ سلمة، وحسَّن محققوه الحديث بطرقه وشواهده. وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 134. (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) الكلام بين حاصرتين من (م)، وسلف قبل تعليق أن الإمام أحمد أخرجه في "المسند" (26524) وتنظر طرقه وشواهده في التعليق عليه ثمة. (¬4) هو ثابت بن أسلم البُنَاني راوي الحديث عن أنس، وهو وفي "مسند" أحمد (13539).

وروى أبو أُمامة الباهليُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يا أمَّ سَلَمة، إذا تحوَّلَتْ هذه التربة دمًا؛ فاعلمي أنه قد قُتل ابني". قال: فأخذَتْ أمُّ سَلَمة التربة، فجعلَتْها في قارورة، فلما كان يومَ قُتل الحسين - رضي الله عنه - تحوَّل دمًا، فعلمت أنه قد قُتل (¬1). وقال ابن سعد (¬2): حدَّثنا محمد بن عُمر، حدَّثنا موسى بنُ محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سَلَمة، عن عائشة قالت: كانت لنا مَشْرَبَة (¬3)، فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد لُقِيَّ جبريل [لَقِيَه] فيها، فلقِيَه مرّةً فيها، وأمرَ عائشةَ أن لا يصعدَ إليه أحد، فدخلَ الحسين بنُ علي، ولم تعلم حتى غَشِيَهما، فقال جبريل: مَنْ هذا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ابني". فقال: إن أمَّتك ستقتلُه، وإن شئتَ أخبرتُك بالأرض التي يُقتل بها. فأشار جبريل إلى الطَّفّ (¬4)، بالعراق، وأخذ تربة حمراء، فأراه إيَّاها، وقال: هذه [من] تربةِ مصرعِهِ (¬5). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشتدَّ غضبُ الله على مَنْ يسفكُ دمَه". وقال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - (¬6): حدثنا محمد بنُ عُبيد، حدثنا شُرَحْبِيلُ بنُ مُدْرِك، عن عبد الله بن نُجَيّ، عن أبيه، وكان سار مع عليّ إلى صفِّين، وكان صاحب مَطْهَرَتِه، فلما حاذَى نِينَوَى -قرية على شطّ الفرات عند كَرْبَلاء- وقف عليّ، فنادى: اصْبِرْ أبا عبد الله، اصبِرْ أبا عبد الله، ما يقال لهذه الأرض؟ فقالوا: كَرْبَلاء (¬7). فبكى حتى بلَّ الأرض من دموعه ثم قال: دخلتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكي، فقلت: ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال: "كان عندي جبريلُ آنِفًا، وأخبرني أنَّ الحسين ولدي يُقتلُ ¬

_ (¬1) بنحوه في "المعجم الكبير" للطبراني (2817). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 189: فيه عمرو بن ثابت، وهو متروك. (¬2) في "الطبقات الكبرى" 6/ 418، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬3) المَشْرَبَة، بفتح الراء: الموضع الذي يُشرب منه، كالمَشْرَعَة. ينظر "النهاية". (¬4) بفتح الطاء، وتشديد الفاء: أرض من ضاحية الكوفة. "معجم البلدان" 4/ 36. (¬5) إلى هذا الموضع من رواية ابن سعد عن محمد بن عمر -وهو الواقدي- في "الطبقات" 6/ 418. وأما تتمته بعده، فهي فيه من رواية أخرى عن عائشة - رضي الله عنها -. وما سلف بين حاصرتين من "الطبقات". (¬6) في "المسند" (648)، وإسناده ضعيف كما ذكر محقِّقوه. (¬7) قوله: ما يقال لهذه الأرض ... ليس من حديث أحمد. وورد نحوه عن ابن سعد في "الطبقات" 6/ 419.

بطَفِّ العراق (¬1). قال: فقال لي جبريل: هل لك أن أُشِمَّك من تربته؟ قلت: نعم. فقبض جبريلُ قبضة من تراب، وأعطانيها، فلم أملك عينيَّ أنْ فاضَتا". وقال الحسن بن كثير: لما سار أمير المؤمنين إلى صفِّين مرَّ بكربلاء، فوقف يبكي ويقول: بأبي أُغَيلِمةٌ يُقتلون ها هنا. هذا مُناخ ركابهم، هذا موضع رحالهم، هذا مصرع الرجل. وجعل ينتحبُ ويبكي (¬2). ذكر القتال والقتل: كان على رُبْع أهل الكوفة (¬3) عبد الله بن زهير بن سُلَيم الأزدي، وعلى رُبْع ربيعة وكِنْدة قيس بن الأشعث الكِنْدي، وعلى رُبْع مَذْحِج وأسد عبدُ الرحمن بن أبي سَبْرة (¬4) الجعفيّ، وعلى رُبْع تميم وهَمْدان الحُرّ بن يزيد الرياحي، ثم اليربوعي، فشهد هؤلاء كلُّهم قتل الحسين - رضي الله عنه -، إلا الحُرَّ بن يزيد رحمه الله، فإنه مال إلى عسكر الحسين - رضي الله عنه -، وقاتل بين يديه حتى قُتل. وكان الأمير على الكلّ عمر بن سعد، وكانوا ثمانية آلاف. ولما خيَّرهم الحسين - رضي الله عنه - أقبلَ الحُرّ بن يزيد على عُمر بن سعد، فقال له: أمقاتلٌ أنت هذا الرجل؟ قال: نعم. قال: أما لكم في واحدة من هذه الخصال التي عرَضَ رِضىً؟ ! قال عُمر بن سعد: لو كان الأمرُ إليَّ لفعلتُ. فقال الحُرّ: سبحان الله، ما أعظم هذا! يعرضُ ابنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عليكم ما يعرض فتأبَوْنه! ثم مال إلى الحسين - رضي الله عنه -، فقاتل معه حتى قُتل. وفيه يقول الشاعر (¬5) المتوكل الليثي: لَنِعْمَ الحُرُّ حُرُّ بني رياحٍ ... وحرٌّ عند مختلف الرِّماحِ ¬

_ (¬1) في "المسند" (648): بشطّ الفرات. (¬2) لم أقف عليه. وأخرج ابن سعد 6/ 419 نحوه من طريق آخر. (¬3) في "تاريخ الطبري" 5/ 422، و"الكامل" 4/ 60: المدينة. (¬4) في (ب) و (خ): عبد الله بن سبرة، والمثبت من المصدرين السابقين، والكلام ليس في (م). (¬5) في (ب) و (خ): الساري (؟ ). والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 438. وورد البيت الأول في "أنساب الأشراف" 2/ 489 دون نسبة.

ونِعْم الحرُّ ناداه حسينٌ ... فجادَ بنفسه عند الصباحِ ولما صار الحرُّ إلى الحسين - رضي الله عنه - قال له: يا ابنَ رسولِ الله، جعلني اللهُ فِداك، أنا الذي جَعْجَعتُ بك السير، وحبستُك عن الرجوع، وسايرتُك في الطريق، واللهِ ما ظَنَنْتُ أنَّ القوم يردُّون عليك ما عرضتَ عليهم أبدًا، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، وإني قد جئتُك تائبًا مما كان منّي ومُواسيًا لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفتَرَى ذلك توبة؟ فقال له الحسين - رضي الله عنه -: نعم، يتوبُ الله عليك، ويغفرُ لك. ما اسمُك؟ قال: الحُرّ بن يزيد. قال: أنتَ الحرُّ كما سَمَّتْك به أمُّك، أنت الحُرُّ في الدنيا والآخرة. فنادَى: يا أهل الكوفة، لأمِّكم الثُّكْل (¬1)، دَعَوْتُموه، حتى إذا أتاكم أَسْلَمْتُموه، فأصبح كالأسير في أيديكم، لا يملكُ لنفسه نفعًا ولا ضَرًّا، وحَلَأْتُموه (¬2) ونساءَه وصبْيَتَه وأصحابَه عن ماء الفرات الجاري الذي تشربُه اليهود والنصارى والمجوس، وتتمرَّغُ فيه خنازيرُ السَّواد وكلابُه، بئسَ ما خلفتُم محمدًا في ذُرِّيَّته، لا سقاكم الله يومَ الظمأ إنْ لم تتوبوا وتَنْزِعُوا عمَّا أنتم عليه في ساعتكم هذه. فحملوا عليه ورمَوْه بالنَّبْل. وكان الحرُّ يرتجزُ ويقول: أضربُ في أعراضكم بالسيفِ ... عن خير مَنْ حلَّ مِنَى والخَيفِ فتكاثروا عليه، فقتلوه. وجعلَ ابنُ سعد على ميمنته عَمرو بنَ الحجَّاج الزبيدي، وعلى ميسرته شَمِرَ بن ذي الجَوْشن، وعلى الخيل عَزْرة بن قيس الأحْمَسيّ. وعلى الرجَّالة شَبَث بن رِبْعيّ اليربوعي، وأعطى الراية دريدًا (¬3) مولاه. ودخل الحسين - رضي الله عنه - الفسطاط، فاطَّلَى بالنُّورة (¬4)، وماثَ مِسْكًا (¬5) في جَفْنَة، وتطيَّبَ، ثم خرج، وركب دابته، ووقف في الصفّ. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 5/ 428: الهَبَل والعُبْر. (والهَبَل هنا، بمعنى الثُّكْل، والعُبْر: سخونةُ العين). (¬2) أي: منعتموه. (¬3) وكذا في "أنساب الأشراف" 2/ 487، ووقع في "تاريخ الطبري" 5/ 422: ذويد. (¬4) مادّة لإزالة الشعر. (¬5) أي: أذابه بالماء.

واقتتل أصحابُه مع القوم قتالًا شديدًا، فكان أولَ من أنشبَ القتال سالمٌ مولى عُبيد الله بن زياد؛ برز من الصّفّ، فخرج إليه عبد الله بنُ عُمير (¬1) الكلبي، فقتلَه. وأمرَ الحسين - رضي الله عنه -، فأضرموا النارَ في القَصَب خوفًا على الحُرَم (¬2)، فناداه شَمِر بن ذي الجَوْشَن: يا حسين، تعجَّلتَ النار في الدنيا قبل يوم القيامة. فعرفَه الحسين - رضي الله عنه - فقال: با ابنَ راعية المِعْزَى، أنتَ أولى بها صِلِيَّا (¬3)، يا ملعون، لقد أخبرني جدِّي أنَّ كلبًا يلغُ في دماء أهل البيت، وما إخالُك إلا إيَّاه (¬4). ثم ركب الحسين - رضي الله عنه - راحلته، ونادى بأعلى صوته: أيُّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعتذرَ إليكم من مَقْدَمي عليكم، فإنْ قبلتُم عذري، وصدَّقتموني، وأعطيتموني النَّصَف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن عليَّ سبيل، وإنْ لم تقبلوا عذري، ولم تعطوني النَّصَف من أنفسكم {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71] {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]. فلما سمع أخواتُه وبناتُه كلامَه هذا؛ صِحْنَ وبَكَينَ، وارتفعت أصواتُهنَّ، فأرسل إليهنَّ العباسَ أخاه، وقال: قل لهنّ: اسكتن، فلعمري فليكثرنَّ بكاؤهم. ثم قال: لا يُبعد الله ابنَ عباس. أشار إلى قوله: لا تأخُذْ معك نساءك وبناتك (¬5). فلما سكتْنَ، حمدَ الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: أيُّها الناس، اُنْسُبُوني مَنْ أنا، ثم ارجعوا إلى نفوسكم، وعاتِبوها وانظروا، هل يحلُّ لكم قتلي؟ ! ألستُ ابنَ بنت نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم -، وابنَ وَصِيِّه وابنِ عمِّه؟ ! أو ليس حمزةُ سيِّدُ الشهداء عمَّ أبي؟ ! أو ليس جعفرٌ ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): تميم. والمثبت من "أنساب الأشراف" 2/ 489، و "تاريخ الطبري" 5/ 429 - 430. والكلام فيهما بنحوه. (¬2) سلف قبل فقرة "حديث كربلاء" أن الحسين - رضي الله عنه - أمر بإضرام النار من وراء البيوت مخافة أن يأتوه من ورائه. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 423 - 424. (¬4) أنساب الأشراف 2/ 492 بنحوه. (¬5) سلف قول ابن عباس له ص 20 في فقرة "ذكر مقام الحسين بمكة ومكاتبات أهل الكوفة".

الطيارُ في الجنة عمِّي؟ ! أليست فاطمةُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمي؟ ! أليست خديجةُ جدَّتي؟ ! أليس قد استفاضَ فيكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي ولأخي: "هذانِ سيِّدا شبابِ أهل الجنة". فإن لم تُصدِّقوني فسلُوا جابر بن عبد الله، أو أبا سعيد الخُدري، أو زيد بن أرقم، أو سهل بن سعد، أو أنس بن مالك. فناداه شَمِر بن ذي الجَوْشن: هو يعبدُ الله على حرف إن كان يدري ما يقول. والباقي سكوت (¬1). فنادى الحسين - رضي الله عنه -: يا شَبَث بن رِبْعيّ، ويا حجَّار بن أَبْجَر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليَّ: قد أينعت الثمار، واخضرَّ الجَناب، وإنما تَقْدَمُ على جند مجنَّدٍ لك فأقْبِلْ. فقالوا: لم نفعل. فقال: هذه كتبُكم. فأمَّا إذْ كرهتُموني فدعوني أنصرفْ عنكم إلى مأْمني من الأرض. فقال له قيس بن الأشعث: أو تنزلُ على حكم ابن عمِّك؟ فإنَّهم لن يُرُوك إلا ما تُحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه. فقال له الحسين - رضي الله عنه -: أنت أخو أخيك، أتُريدُ أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بنِ عقيل؟ ! لا واللهِ لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرُّ إقرار العبد. ثم نزل عن راحلته، وجلس بفِناء بيته (¬2). وناداه (¬3) محمد بن الأشعث: يا حسين، أبْشِرْ، الساعةَ تَرِدُ الجحيم. فقال له الحسين - رضي الله عنه -: لعنك الله، ولعن أباك وقَوْمَك يا ابنَ المرتدّ الفاجر، عدوّ الله ورسوله والمسلمين (¬4). ولما زحفوا قِبَلَ الحسين - رضي الله عنه - ناداهم زهير بنُ القَين: ويحكم يا أهل الكوفة! تخذُلُون ابنَ بنتِ نبيّكم، وتنصرون الطاغية عُبيد الله بن زياد؟ ! وذكر مثالبَه ومثالبَ بني أميَّة، وما فعلوا بحُجْر بن عديّ وغيره، فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم، وقال: اسْكُتْ لا سكتَّ، أبْرَمْتَنا بكلامك. فقال له زهير: يا ابنَ البوَّال على عقبيه، إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة، واللهِ ما أظنُّك تُحْكِمُ من كتاب الله آيتين، فأبْشِرْ بالخِزْي ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 438. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 423 - 425. والخبر ليس في (م). (¬3) في (م): قال هشام: بلغني أن وقت وقع القتال ناداه ... (¬4) خبر ابن الأشعث مع الحسين - رضي الله عنه - بنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 492.

يومَ القيامة والعذاب الأليم. فقال له شمر: إن اللهَ قاتلُك وصاحِبَك بعد سماعة. فقال له: يا ملعون، بالموت تُخوِّفُني؟ ! فواللهِ لَلْمَوتُ أحبُّ إليَّ من الخُلْد معكم. ثم رفع صوته ونادى: عبادَ الله، لا يَغُرَّنَّكم في دينكم هذا الجِلْفُ الجافي وأشباهُه، فواللهِ لا تَنالُ شفاعةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - قومًا هوقوا دماء ذرِّيَّته وأهلِ بيته. وأرسل إليه الحسين - رضي الله عنه -: ارجعْ، فقد نصحتَهم كما نصحَ مؤمنُ آلِ فرعون قومَه، ولكن لا يفقهون (¬1). وأولُ من زحف عليهم عُمر بن سعد؛ رَمَى بسهم وقال للناس: اشهدوا [أني أولُ من رمى] ثم (¬2) قال لمولاه وبيده الراية: يا دريد تَقَدَّم (¬3). وبعثَ خمس مئة من الرُّماة، فأقبلوا إلى الحسين - رضي الله عنه -، فرشقوهم بالنَّبْل، فعقروا خيولهم، فصاروا كلُّهم رجَّالة (¬4). وقاتلوهم حتى انتصف النهار أشدَّ قتالٍ خلقه الله، ولا يقدرون على إتيانهم إلا من وجهٍ واحد لاجتماع أبنيتهم، وتقارب بعضها من بعض (¬5). فلما رأى ذلك عُمر بن سعد أرسل رجالًا وقال: قَوِّضُوا الأبنية. فلم يقدروا من النَّبْل، فقال: حرِّقُوها. فجاؤوا بالنار، فقال الحسين - رضي الله عنه -: دعوهم يحوقونها، فإن حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها ومن النار. وحمل شَمِر حتى طعن فسطاط الحسين - رضي الله عنه - برمحه وقال: عليَّ بالنار حتى أُحرق هذا البيت على أهله. قال: فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، وصاح به الحسين - رضي الله عنه -: يا ابنَ ذي الجَوْشَن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي! حرقك الله بالنار. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 426 - 427. (¬2) في (ب) و (خ): بما (؟ ) وأثبتُّ لفظة "ثم" من قِبلي. وانظر التعليق التالي. (¬3) في (ب) و (خ): "أن تقدّم". وأصلحتُ العبارة، واستدركتُ ما بين حاصرتين من "تاريخ الطبري" 5/ 429 ليستقيم السياق. ولفظه فيه: "وزحف عمر بن سعد نحوهم، ثم نادى: يا ذُويد، أَدْنِ رايتَك. قال: فأدناها، ثم وضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى فقال: اشهدوا أني أوَّلُ مَنْ رَمَى" وبنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 489. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 437. (¬5) المصدر السابق 5/ 437 - 438.

وجاءه شَبَث بن رِبْعيّ فقال له: ما شهدتُ موقفًا أقبح من موقفك! أَمِطْ عن النساء. فاستحى منه، وانحرف عنهنَّ (¬1). وقُتل من أصحاب الحسين - رضي الله عنه - غلبتهم (¬2). وجاء وقت الصلاة، فقال الحسين - رضي الله عنه -: سلُوهم أن يكفُّوا عنَّا حتى نُصلي. فقال الحُصين بن تميم: إنَّها لا تُقبل. فقال له حبيب بن مظهر -وكان من أكابر أصحاب الحسين - رضي الله عنه -: يا حمار، أتُقبلُ منك الصلاة، ولا تقبل من ابنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! فحمل عليه الحُصين بنُ تميم، فضرب حبيبٌ وجهَ فرسِه بالسيف، فشَبَّ به فرسُه، فسقط، واحتمله أصحابُه، فقال حبيب: أُقسمُ لو كنَّا لكم أعدادا ... أو شطركم ولَّيتُمُ أكتادا (¬3) يا شرَّ قومٍ حَسَبًا وآدَا ثم حمل عليهم وقاتلهم قتالًا شديدًا، وحملَ عليه رجل من تميم، فطعنه، وحمل عليه الحصين بنُ تميم، فضربه بالسيف على رأسه، فوقع، ونزل إليه التميمي، فاحتزَّ رأسه، فقال له الحصين: أنا شريكُك في قتله. فقال التميمي: لا والله ما قتله غيري. فقال الحصين: أعطني إياه أعلّقه في عنق فرسي حتى يعلم الناس أني شريكك في قتله، فدفعه إليه، وعلّقه في فرسه [فجال به في العسكر] ثم دفعه إليه، فدخل التميمي الكوفة ورأس حبيب بن مظهر في عنق فرسه يريد ابنَ زياد، فرآه القاسم بنُ حبيب، وهو يومئذٍ قد راهقَ الحلم، فخرج مع الفارس، لا يفارقُه كلما دخلَ القصر وخرج، فارتاب منه الفارس، فقال: ما لك يا بنيّ؟ ! قال: لا شيء. قال: بلى، فاخبِرْني. فقال: إنَّ هذا رأسُ أبي، فلو أعطيتنيه حتى أدفنه. فقال: إنما قصدي أن يثيبني الأميرُ عليه. فقال له الغلام: لكن الله يُثيبك عليه أسوأ الثواب. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 5/ 438. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 493. (¬2) جاء في "تاريخ الطبري" 5/ 439: أن أصحاب الحسين - رضي الله عنه - إذا قُتل منهم الرجل والرجلان تبيّن فيهم، وأولئك كثير لا يتبيّن فيهم ما يُقتل منهم. وينظر "الكامل" 4/ 70. (¬3) أي: جماعات. ينظر "القاموس". ووقع في (ب) و (خ): وليلكم عتادا (؟ ) والمثبت من "تاريخ الطبري".

ثم لم يكن لذلك الغلام همٌّ إلا اتّباع آثار التميمي ليقتلَه بأبيه، فلمَّا كان زمنُ مصعب؛ دخل الغلام عسكر مصعب (¬1)، فرأى التميميَّ قائلًا نصف النهار في فسطاطه، فدخل عليه فقتله (¬2). ولما قُتل حبيب بن مظهر، هدَّ ذلك الحسينَ - رضي الله عنه - وقال عندها: للهِ أحتسبُ نفسي (¬3). وصلَّى بهم صلاة الخوف في وقت الظهر، واشتدَّ القتال بعد الظهر، وتقدَّم زهير بنُ القَين، فقاتل قتالًا شديدًا وهو يقول: أنا زهيرٌ وأنا ابنُ القَينِ ... أَذُودُهم بالسيفِ عن حُسينِ ثم أخذَ يضرب على منكب الحسين ويقول: أَقْدِمْ هُديتَ هاديًا مَهْدِيَّا ... فاليومَ تَلْقَى جدَّك النَّبِيَّا وحسنًا والمرتضى عليَّا ... وذا الجناحين الفتى الكَمِيَّا وأسدَ اللهِ الشهيدَ الحيَّا فشدَّ عليه كثير بنُ عبد الله الشعبيّ، ومهاجر بن أوس، فقتلاه. وحمل عليهم نافع بن هلال الجَمَلي، فقتلَ اثني عشر من أصحاب ابنِ سعد، ثم تكاثروا عليه، فأخذه شَمِر أسيرًا، وجاؤوا به إلى عمر بن سعد، فقال: ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعتَ بنفسك؟ ! ثم ضربه شَمِر بالسيف، فقتله (¬4). وجاء أصحابُ الحسين - رضي الله عنه -، فوقفوا بين يديه، قالوا: ما بقيَ إلا أن نفديَك بأرواحنا. وقاتلوا دونه واحدًا بعد واحد، حتى قُتلوا عن آخِرهم، فلم يبقَ منهم إلا اليسير. وكان أوَّلَ قتيل من آل أبي طالب عليٌّ الأكبر بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم-، وأمُّه ليلى بنت أبي مُرَّة بن عروة بن مسعود الثقفي؛ لما رأى أصحابَ الحسين - رضي الله عنه - قد قُتلوا وهم حوله كربيض الغنم؛ حملَ وهو يقول: ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): ابن مصعب، وهو خطأ. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 439 - 440. وما سلف بين حاصرتين منه. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 494. (¬3) في "تاريخ الطبري": أحتسب نفسي وحُماة أصحابي. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 441 - 442.

أنا عليُّ بنُ حسينِ بنِ علي ... نحنُ وربِّ البيت أولى بالنبي من شَمِرٍ وعُمرٍ وابنِ الدَّعي (¬1) فقال مُرَّةُ بن منقذ العبدي: لَأثْكِلَنَّه أباه. فطعنه فوقع، فقطَّعوه بأسيافهم. وحملوه إلى الحسين - رضي الله عنه -، فقال: قتلوك يا بنيّ، ما أجرأهم على الله! على الدنيا بعدك العَفَاء. وخرجت زينب بنت فاطمة عليهما السلام، فأكَبَّتْ عليه، فأخذ الحسين - رضي الله عنه - بيدها، فولَّى بها إلى الفسطاط. ثم إن عَمرو بن صبيح المرِّيَّ (¬2) رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم، فخَيَّطَ يدَه مع جبهته (¬3)، ثم رماه بسهم آخر، ففلق قلبَه. وأحاطَ بهم الناس من كل جانب، فحمل عبدُ الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر، فقتلَه، وحمل عامرُ بن نَهْشَل التَّيمي (¬4) على محمد بن عبد الله بن جعفر، فقتله. وشدَّ عثمان بن خالد الجُهني على عبد الرحمن بن عقيل، ومع عثمان بشر بن سوط الهَمْداني، فقتلاه، وحمل عَمرو بنُ سعد بن نُفيل الأسدي على القاسم بن الحسن بن علي، وكان مثل القمر، فقتله. وبقي الحسين - رضي الله عنه - قائمًا وحده، فكلما انتهى إليه رجل من الناس كره أن يتولَّى قتلَه، فانصرف عنه، حتى جاءه مالك بن الكندي، فضربه بالسيف على رأسه وعليه بُرْنُس، فجرحه، وامتلأ البرنُس دمًا، فدعا عليه الحسين - رضي الله عنه - وقال له: لا أكلتَ بها ولا شربتَ. ¬

_ (¬1) شمِر: هو ابن ذي الجوشن، وعمر: هو ابن سعد، وابنُ الدَّعيّ: عُبيد الله بن زياد. ورواية الرجز في "نسب قريش" ص 57: من شَمِر وشَبَث وابن الدعي. وشَبَث: هو ابن رِبْعي. وروايته في "تاريخ الطبري" 5/ 446: تالله لا يحكم فينا ابنُ الدَّعي. وينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 439. (¬2) في "أنساب الأشراف" 2/ 497: الصيداوي، وفي "تاريخ الطبري" 5/ 447: الصدائي. (¬3) أنساب الأشراف 2/ 497 بنحوه. وفيه أيضًا: يقال: إن زياد بن ورقاء الجني كان يقول: رميتُ فتًى من آل الحسين ويده على جبينه، فأثبتُّها فيها. وينظر "تاريخ الطبري" 5/ 447. (¬4) في (ب) و (خ): التميمي. والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 447، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 498.

وأخذ الكنديُّ البُرنُس وكان من خزّ، وقَعد الحسين - رضي الله عنه - وأُتِيَ بصبيٍّ له صغير، فأجلسه في حِجره -وقيل: هو عبد الله بن الحسين - رضي الله عنه -[فرماه رجل من بني أسد بسهم، فذبحه، فتلقَّى الحسين - رضي الله عنه -] (¬1) دمَه، فملأ كفَّه، فجعل يبكي ويقول: اللهم إنك تعلم ما يصنع هؤلاء القومُ بإخوتي وولدي. فنودي من الهواء: دَعْه، فإنَّ له مرضعًا في الجنة. ورمى عبدُ الله بنُ عقبة الغَنَويُّ أبا بكر بن الحُسين (¬2) بسهم، فقتلَه، وفيه يقول ابنُ قَتَّة: وعند غنيٍّ قطرةٌ من دمائنا ... سنجزيهمُ يومًا بها حيثُ حَلَّتِ (¬3) وزعموا أن العبَّاس قال لإخوته من أمِّه؛ عبد الله، وجعفر، وعثمان: يا بني أمّي، تقدَّمُوا فقاتِلُوا حتى أرثكم، فإنه لا ولدَ لكم. فتقدَّموا، فقُتلوا (¬4)، قَتَلَ هانئُ بنُ ثُبَيت الحضرميُّ عبدَ الله، وقَتَلَ جعفرًا أيضًا، وقَتَلَ عثمانَ رجلٌ من بني أصبح (¬5)، وقتل محمدًا رجلٌ من دارم. وعطش الحسين - رضي الله عنه -، فدنا ليشربَ من الماء، فرماه حُصين بن تميم بسهم، فوقع في فمه، فجعل يتلقَّى الدمَ من فيه، ويُومئ به إلى السماء، وقال: اللهم أَقِلَّهم عددًا، واقتُلْهم بَدَدًا، ولا تُبقِ منهم على الأرض أحدًا، واجعلهم طرائق قِدَدا، ولا تُرضي عنهم الوُلاةَ أبدًا (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين مستفاد من "تاريخ الطبري" 5/ 448. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 498. (¬2) كذا في "طبقات ابن سعد" 6/ 439، و"تاريخ الطبري" 5/ 448، و "الكامل" 4/ 75، والأرجح أنه: ابن الحسن. ولم يرد ذكره في الفقرة الآتية في ذكر من استشهد من آل أبي طالب. وينظر "نسب قريش" ص 50 و 57 - 58، و "أنساب الأشراف " 2/ 498، و "تاريخ الطبري" 5/ 468، و "مروج الذهب" 5/ 145. (¬3) رواية الشطر الثاني في "طبقات ابن سعد" 6/ 439: وفي أسدٍ أخرى تُعدّ وتُذكرُ. وهو في "أنساب الأشراف" 2/ 498، و "تاريخ الطبري" 5/ 448 بمثل رواية ابن سعد، ونُسب فيهما لابن أبي عقب. وسيرد البيت (وبمثل رواية المصنف) ضمن قصيدة لابن قتَّة -واسمه سليمان- في رثاء الحسين - رضي الله عنه -. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 448 - 449. وينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 442. (¬5) في "تاريخ الطبري" 5/ 449 أن خولي بن يزيد الأصبحي رمى عثمانَ بن علي بسهم، ثم شدّ عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله. (¬6) بنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 499، و "تاريخ الطبري" 5/ 449 و 451.

وقال هشام: إن الحسين - رضي الله عنه - حين غُلب على عسكره ركبَ المُسَنَّاة (¬1) يريد الفرات، فقال رجل من بني دارم: ويلكم، حُولُوا بينه وبين الماء. ورماه بسهم، فوقع في حنك الحسين - رضي الله عنه -، فجعل يتلقَّى الدم ويبكي. فمات ذلك الرجلُ عَطَشًا، فكان يُبَرَّدُ له الماء، ولا يَرْوَى. وأقبلَ شَمِر بن ذي الجَوْشَن في عَشَرة من أهل الكوفة نحو فسطاط الحسين - رضي الله عنه - الذي فيه أهله وعياله، فجاء الحسين - رضي الله عنه -، فحالوا بينه وبين عياله، فقال الحسين - رضي الله عنه -: ويلكم! إنْ لم يكنْ لكم دينٌ، وكنتُم لا تخافون يومَ المَعاد؛ فكُونُوا في أمر دنياكم أحرارًا ذوي أحساب، امنعُوا رَحْلي وأهلي من طَغَامِكم (¬2) وجُهَّالكم. فقال شَمِر: ذلك لك يا ابنَ فاطمة. وأقْدَمَ عليه شَمِر بالرَّجَّالة، والحسينُ - رضي الله عنه - يَشُدُّ عليهم، فينكشفون عنه، ثم أحاطوا به (¬3). وأقبل عُمر بن سعد، فقالت له زينب: يا عُمر، أيُقتل الحسين وأنت تنظر إليه؟ ! فسالت دموعُه على خدَّيه، وصرف وجهه عنها (¬4). ونادى شمر في الناس: ويحكم، ما تنتظرون بالرجل؟ ! اقتلوه. فحملوا عليه من كل جانب، فضربه زُرعة بن شريك التميمي على كتفه اليسرى، ثم على عاتقه (¬5)، فجعل يكبُو وهو يقاتل، وطعنَه سِنان بن أنس بن عمرو النَّخَعي بالرمح، فوقع. ثم قال لخَوْلي بن يزيد: احتزَّ رأسه. فأراد أن يفعل، فأُرْعِد وضعُف، فقال له سنان: فَتَّ اللهُ عضدك، وأبان يدك. فنزل إليه وذبحه. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): المياه. والمثبت من "تاريخ الطبري". والمُسَنَّاة: سدٌّ يُبنى لحجز ماء النهر، به مفاتح للماء. (¬2) الطَّغَام: أوغاد الناس، الواحد والجمع فيه سواء. "مختار الصحاح". (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 440 - 441، وتاريخ الطبري 5/ 450. (¬4) أنساب الأشراف 2/ 500، وتاريخ الطبري 5/ 452. (¬5) أنساب الأشراف 2/ 500 - 501، وتاريخ الطبري 5/ 453. وفي "طبقات ابن سعد" 6/ 441 أن زُرعة انتهى إليه، فضربه على كتفه اليسرى، وضربه حسين - رضي الله عنه - على عاتقه فصرعه.

ولما وقع الحسين - رضي الله عنه - جعل لا يدنو أحد منه إلا شدَّ عليه سِنانُ بن أنس مخافةَ أن يُغلب على رأسه، حتى أخذ رأسَ الحسين - رضي الله عنه -، فدفعه إلى خَوْلي (¬1). واختلفوا في قاتل الحسين - رضي الله عنه -، فالمشهور ما ذكرنا، وقيل: الحصين بن تميم. وقيل: مهاجر بن أوس التميمي. وقيل: كثير بن عبد الله الشعبي. وقيل: شَمِر بن ذي الجوشن. والأول أصح. قال الشعبي: دخل سنان بن أنس على الحجَّاج، فقال له: أنتَ قاتلُ الحسين؟ قال: نعم. قال: فكيف صنعت به؟ قال: دعمتُه بالرمح دعمًا، وهبرتُه بالسيف هَبْرًا، وذبحتُه ذبحًا. فقال له الحجَّاج: أبْشِرْ، فإنكما لا تجتمعان في دار واحدة أبدًا. فما سُمع من الحجَّاج كلمة خير منها (¬2). وروى ابن سعد قال (¬3): قال الحجَّاج: من كان له عندنا بلاء فليقم. فقام قوم، فذكروا بلاءهم، وقام سنان بن أنس النخعي، فقال: أنا قاتل الحسين. فقال: بلاء حسن. ورجع إلى منزله، فاعتُقل لسانُه، وذهب عقلُه، فكان يأكل ويُحْدِثُ في مكانه. وسُلب الحسين - رضي الله عنه - ما كان عليه، فأخذ سراويله بحرُ بن كعب التميمي، وأخذ قيس بن الأشعث قَطِيفَتَه، وأخذ نعليه الأسود من بني أَوْد، وأخذ سيفَه القُلانس من بني نهشل بن دارم، وأخذ عِمامتَه جابرُ بن يزيد (¬4). وانتهب أهل الكوفة متاعَه، ومالوا على نسائه وبناته، فإن كانت المرأة لَتُنازَعُ ثوبَها عن ظهرها حتى تُغْلَبَ عليه، فيذهب منها (¬5). وانتهى شَمِر بن ذي الجوشن إلى عليِّ بن الحسين - رضي الله عنهما - الأصغر وهو مريض على فراش، فقال: ما لهذا ما قُتل؟ قال حميد بن مسلم: فقلت له: يا سبحان الله! ما ذنبُ هذا الصبيّ؟ ! فما زلتُ أدافع عنه حتى جاء عُمر بن سعد، فقال: لا يدخلنَّ على هؤلاء ¬

_ (¬1) المصدران السابقان الأولان. (¬2) بنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 512، و "المعجم الكبير" للطبراني (2828)، و"الكامل" 4/ 585 (أحداث سنة 95). (¬3) في "الطبقات" 6/ 454. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 444، وتاريخ الطبري 5/ 453. (¬5) تاريخ الطبري 5/ 453.

النسوة أحد، ولا يعترض لهذا الغلام أحد، ومَنْ أخذَ شيئًا من متاعهم فليردَّه. فواللهِ ما ردَّ أحدٌ شيئًا (¬1). وقالت فاطمة بنتُ الحسين: نازعني رجل حِلْيَتي فقلت: لا تفعل. فقال: يأخذُه غيري (¬2). وعروا نساءه وبناته ثيابهنّ (¬3). وقال الناس لسنان بن أنس (¬4): قتلتَ أشرفَ العرب خطرًا؛ الحسين بنَ علي وابنَ فاطمة بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ جاء ليُزيل مُلك بني أمية، فاطلبْ ثوابَك منهم، فلو أعطَوْك ما في بيوت أموالهم لكان قليلًا. فأقبلَ على فرسه، وكان شجاعًا فاتكًا شاعرًا، وكانت به لُوثَة (¬5)، فأقبلَ حتى وقفَ على باب فسطاط عُمر بن سعد، ثم نادى بأعلى صوته وقال: أوْقِرْ رِكابي فضةً وذَهَبا ... إني قتلتُ المَلِكَ المُحَجَّبَا قتلتُ خيرَ الناسِ أمًّا وأبا ... وخيرَهم إذْ يُنْسَبُونَ نَسَبا فقال عُمر بن سعد: أَدْخِلُوه عليَّ. فلما أُدخل حَذَفَه بالقضيب، وقال: إنك لمجنون، أتتكلَّم بهذا الكلام! واللهِ لو سمعك ابنُ زياد لضربَ عنقَك (¬6). ونادى ابنُ سعد في أصحابه: من ينتدب للحسين، فيوطئه فرسَه؟ فانتدب له عَشَرة، منهم إسحاق بن حَيوَة الحضرميّ -وهو الذي سلبَ قميصَ الحسين - رضي الله عنه -، فبَرِصَ (¬7) بعد ذلك- فداسُوا الحسين - رضي الله عنه - بخيولهم حتى رضُّوا صدرَه وظهرَه. ووجَدُوا في ظهره خطوطًا سودًا، فسألوا عنها، فقالوا: كان ينقل الطعام على ظهره في الليل إلى الأرامل والمساكين. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. وينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 444. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 444. (¬3) لم أقف على هذا القول. (¬4) تحرف في (ب) و (خ) إلى لفظ: وقال الناس استاذن أنس ... (¬5) أي: حُمق، ومسُّ جنون. (¬6) أنساب الأشراف 2/ 502، وتاريخ الطبري 5/ 454. (¬7) في (ب) و (خ): فوقف، بدل: فبرص. والمثبت من المصدرين السابقين.

وكان في الذين انتدبوا لذلك أحبش بن مرثد (¬1) الحضرمي، فبينا هو واقف بعد ذلك في قتال إذْ جاءه سهمٌ غَرْبٌ (¬2)، ففلقَ قلبَه (¬3). ذكر من قُتل من الفريقين: قُتل من أصحاب الحسين - رضي الله عنه - اثنان وسبعون (¬4) رجلًا، وقتل من أصحاب عُمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلًا سوى الجرحى، فصلَّى عليهم عُمر بن سعد، ودفنَهم. واختلفوا في عدد أصحاب الحسين - رضي الله عنه - على أقوال: أحدها: اثنان وثلاثون فارسًا، وأربعون راجلًا. والثاني: خمسون راجلًا، وأتاهم من أهل الكوفة عشرون، وكان معه من أهل بيته تسعة عشر رجلًا. فهؤلاء تسعة وثمانون رجلَّا. والثالث: كانوا خمسة وأربعين فارسًا ومئة راجل. وقال المسعودي: كانوا ألفًا (¬5). ذكر من استشهد من آل أبي طالب: وهم عشرون: لعليٍّ رضوان الله عليه سبعة، وللحسن - رضي الله عنه - عنه اثنان (¬6)، وللحسين ثلاثة، ولعبد الله بن جعفر اثنان، ولعَقِيل ستة غير مسلم بن عَقِيل. فأما أولاد عليٍّ رضوان الله عليه: فالحسين - عليه السلام -؛ قتلَه سِنان بن أنس، واحتزَّ رأسه خَوْلي بن يزيد، والعباسُ بن عليّ؛ قتلَه زيد بن رقاد الجَنَبي (¬7)، وحكيم السِّنْبِسيّ من طيِّئ. والمشهور حرملة بن الكاهن. وقال الشعبي: وهو أول قتيل بعد الحسين - رضي الله عنه -؛ خرج وهو يقول: يا ابن أمير المؤمنين. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): يزيد. والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 455. (¬2) في "القاموس": أصابه سهمُ غربٍ -ويحرَّك- وسهمٌ غَرْبٌ؛ نعتًا، أي: لا يُدرى راميه. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 454 - 455. دون ذكر نقل الطعام إلى الأرامل. (¬4) في (ب) و (خ): ستون، وهو خطأ. وينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 441، و "أنساب الأشراف" 2/ 503، و "تاريخ الطبري" 5/ 455، وذكر المسعودي في "مروج الذهب" 5/ 145 أنهم سبعة وثمانون. (¬5) الذي في "مروج الذهب" 5/ 143 أن الحسين كان في مقدار خمس مئة فارس من أهل بيته وأصحابه ونحو مئة راجل. (¬6) سيرد في التعليق قريبًا أنهم ثلاثة. (¬7) في (ب) و (خ): الجهني، والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 468. ووقع في "طبقات ابن سعد" 6/ 442: الجبني.

وقال القاسم بن أصبغ المجاشعي: لما أُتي بالرؤوس إلى الكوفة رأيتُ فارسًا من أحسن الناس، وقد علَّق في لَبانِ فرسه (¬1) رأسَ غلام أمرد، كأنه القمرُ ليلةَ البدر، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحقَ بالأرض، فحزن الناس عليه، فسألتُ عن الرجل، فقيل: هذا حرملة بن الكاهن الأسدي، وهذا رأس العبَّاس بن علي بن أبي طالب، فأقمتُ أيامًا، ثم لَقِيتُ حرملة هاذا وجهُه أسودُ من القار، فقلت له: رأيتُك اليوم وما في العرب أقبحَ ولا أسودَ وجهًا منك! فبكى وقال: منذ حملتُ الرأس يأتيني كلَّ ليلة اثنان، فيأخذان بضَبْعيَّ (¬2)، ثم ينتهيان بي إلى نار تأجَّج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص عنها وهي تسفعني (¬3)، فقد صار وجهي كما ترى. وقد كان العبَّاس قال لإخوته من أبيه وأمِّه: تقدَّموا، فإن قُتلتُم ورثتكم، وإن قُتلتُ بعدَكم ورثني ولدي، وإن قُتلت قبلكم ورثكم محمد بن الحنفية، لأنهم لم يكن لهم ولد (¬4). قال المصنف رحمه الله: والعجبُ من العبَّاس إن ثبتَ ذلك عنه! أما كان له شُغل بما هم فيه من تلك الأحوال عن النظر في الميراث وغيره؟ ! وقتلَ جعفرَ الأكبر بنَ علي بن أبي طالب هانئُ بنُ ثُبَيت (¬5) الحضرمي، وقتل عثمانَ بنَ علي خَوْليُّ بنُ يزيد؛ رماه بسهم فقتله، وقتلَ عبدَ الله بنَ عليٌ رجل من بني دارم (¬6)، وقُتِلَ العبَّاس بعدَهم، فهؤلاء الأربعة من أمّ البنين الكِلابية (¬7). وأما أبو بكر بن علي؛ فيقال: إنه قُتل في ساقيه. وأمُّه ليلى بنت مسعود (¬8)، ومحمد بن علي الأصغر (¬9)، قتله رجل من بني دارم. ¬

_ (¬1) أي: صدر فرسه. (¬2) مثنى ضَبْع، وهو ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاها. (¬3) أي: تلفحني. (¬4) ينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 442، و "تاريخ الطبري" 5/ 449، وسلف هذا الكلام قبل عدة صفحات. (¬5) في (ب) و (خ): قتيب. والمثبت من "طبقات ابن سعد" 6/ 442. (¬6) في "أنساب الأشراف" 2/ 498، و"طبقات ابن سعد" 6/ 442 أن الذي قتلَ عبدَ الله بنَ علي هو هانيءُ بنُ ثُبيت الحضرمي. ولم يذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" 11/ 551 عبد الله. (¬7) ينظر "تاريخ الطبري" 5/ 468. (¬8) ينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 442، و "تاريخ الطبري" 5/ 468. (¬9) وأمُّه أمُّ ولد، كما في "نسب قريش" ص 44، و "تاريخ الطبري" 5/ 468، وليس هو بمحمد بن الحنفية.

وأمَّا أولاد الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فعبد الله؛ لأمّ ولد، قتله حرملة الكاهلي من بني أسد، وقيل: حرملة بن الكاهن، والقاسم بن الحسن؛ قتله سعيد بن عمرو الأزدي (¬1). وأمَّا أولاد الحسين - رضي الله عنهم -؛ فعليّ الأكبر قتله مُزَة بن منقذ العبديّ، وأمُّه ليلى (¬2) بنت أبي مُرَّة، ثقفية، ناداه رجل من أهل الشام: يا علي، إنَّ لك بأمير المؤمنين قرابةً، فإن شئت أمَنَّاك. فقال: قرابة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى أن تُرعى من قرابة أبي سفيان. ومعنى هذا أنَّ أمَّ ليلى بنتُ أبي سفيان بن حرب. وعبد الله بن الحسين؛ أمّه الرَّباب بنت امرئ القيس، كلبيَّة، قتله هانئ بن ثُبيت الحضرمي، والطفل الذي ذكرنا أنه كان في حجر الحسين - رضي الله عنه -، فجاءه سهم، فذبحه (¬3). وأما أولاد عبد الله بن جعفر؛ فاثنان: عون، وأُمُّه جُمانة بنت المسيّب بن نجبة الفزاري؛ قتله عبد الله بن قُطبة الطائي، ومحمد بن عبد الله، وأمُّه الخوصاء (¬4) بنت خصفة؛ تيمية؛ قتله عامر بن نهشل التميمي. وذكر ابن سعد (¬5) أن ابني عبد الله بن جعفر لجأا إلى امرأة عبد الله بن قُطبة الطائي، وكانا غلامين لم يبلغا الحلم، وكان منادي عمر بن سعد قد نادى: من جاء برأس فله ألف درهم. فجاء ابنُ قُطبة إلى منزله، فقالت امرأته: إن غلامين قد لجأا إلينا، فهل لك في شرفِ الدنيا والأخرى أن تبعث [بهما] إلى أهلهما بالمدينة؟ ! فقال: أريني إياهما، فأرته إياهما، فذبَحهما، وجاء برأسيهما إلى ابن زياد، فلم يعطه شيئًا. وقال: وددتُ أن جاء بهما حَيَّينِ، فكنتُ أمنُّ بهما على عبد الله بن جعفر. ¬

_ (¬1) زاد الطبري، والمسعودي، وابن الأثير، وابن كثير عليهما أبا بكر بن الحسن، فصاروا ثلاثة. وسلف اسم أي بكر بن الحُسين ص 139، ورجّحتُ ثمة أن الصواب: بن الحَسَن. ينظر "تاريخ الطبري" 5/ 468، و"مروج الذهب" 5/ 145، و"الكامل" 4/ 92، و"البداية والنهاية" 11/ 551. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 446 و 468. وفي "طبقات ابن سعد" 6/ 439: آمنة. وكذا سيُسَمِّيها المصنف ص 182. (¬3) سلف أن قال المصنف ص 139 في هذا الطفل: قيل: هو عبد الله بن الحسين. وبنحوه في "تاريخ الطبري" 5/ 448. وينظر "الكامل" 4/ 75. (¬4) في (خ): الحوط. (وسقط بعض الكلام من ب، وليس هو في م)؛ والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 469. (¬5) في "الطبقات" 5/ 443.

وبلغ ابنَ جعفر، فقال: لو جاءني بهما أعطيته ألفي ألف. وأما أولاد عقيل؛ فقد ذكونا قتل مسلم بن عقيل بالكوفة. وجعفرُ بن عقيل أمُّه أمُّ البنين بنت الشقر (¬1)؛ قتله بشر بن حَوْط الهمداني. وعبد الله بنُ عقيل؛ أمُّه أمُّ ولد؛ قتله عَمرو بنُ صُبيح الصدائي. وعبدُ الرحمن بن عقيل؛ أمُّه أمُّ ولد؛ قتله عَمرو أيضًا (¬2). وعبدُ الله (¬3) بن مسلم بن عَقِيل؛ أمُّه رقيَّة بنت عليّ بن أبي طالب، قتله أسيد بن مالك الحضرمي (¬4). ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل؛ قتله لقيط الجُهني. قال المدائني: وعون بن عقيل قُتل مع الحسين، فصاروا ثمانية غير مسلم (¬5). قال سراقة البارقي: عينُ اِبْكِي بعَبْرةٍ وعَويلِ ... واندُبي إنْ نَدَبْتِ آلَ الرسولِ سبعةٌ منهمُ لصُلْبِ عليٍّ ... قد أُبِيدُوا وستةٌ لعقيلِ لعنَ اللهُ حيث حلَّ زيادًا ... وابنَه والعجوزَ ذات البعولِ (¬6) ولم يُفلت من أهل بيت الحسين - رضي الله عنه - إلا خمسةُ نَفَر: علي بن الحسين - رضي الله عنهما - كان مريضًا مع النساء، وحسن بن حسن بن علي، وأمُّه خولة بنت منظور فزارية، وله بقية، وعَمرو بن حسن بن عليّ؛ كان صغيرًا أمُّه أمُّ ولد، والقاسم بنُ عبد الله بن جعفر، ومحمد بنُ عقيل الأصغر، لأنهم استضعفوهم (¬7). ¬

_ (¬1) رسمُها في (ب) و (خ): العرا (؟ ) والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 469، و "الكامل" 4/ 92. (¬2) الذي في "تاريخ الطبري" 5/ 469، و"الكامل" 4/ 92 أن الذي قتل عبد الرحمن بن عقيل هو عثمان بن خالد الجهني، وفي "طبقات ابن سعد" 6/ 442 و"أنساب الأشراف" 2/ 498 أنه قتله عثمان بن خالد الجهني وبشر بن حوط. (¬3) في (ب) و (خ): محمد، بدل: عبد الله، وهو خطأ. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 497، و"تاريخ الطبري" 5/ 447 و 469، و"الكامل" 4/ 74 و 93، و"البداية والنهاية" 11/ 545 و 551 وسلف ص 138 أن عمرو بن صبيح رماه بسهم فأثبت يده في جبهته، ثم رماه بسهم آخر فقتله. وانظر التعليق التالي. (¬4) في "تاريخ الطبري" 5/ 469، و"الكامل" 4/ 93 أنه قتله عمرو بن صُبيح الصدائي، وقيل: أسيد بن مالك. (وانقلب الاسم في "الكامل"). (¬5) كذا في النسختين (ب) و (خ) وإنما صاروا (مع عون) ستة غير مسلم بن عقيل. (¬6) البيتان الأولان بنحوهما في "أنساب الأشراف" 2/ 515، و"العقد الفريد" 4/ 383، ونسبا في "العقد" لبنت عقيل بن أبي طالب، وجاءت الأبيات الثلاثة بنحوها في "مروج الذهب" 5/ 147 مع بيتين آخرين، ونُسبت فيه لمسلم بن قتيبة مولى بني هاشم. (¬7) طبقات ابن سعد 6/ 443.

وقال المسعودي: قتلوا من أصحاب الحسين - رضي الله عنه - أحدًا ومئتين نفسًا (¬1). ولم يحضر أحد من أهل الشام قتاله إلا كلُّهم من أهل الكوفة فيمن كاتبه (¬2)، وكانوا ستة آلاف مقاتل. ذكر سنّ الحسين - عليه السلام -: قال سفيان بن عيينة: قال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم -: قُتل الحُسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وتوفّي علي بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وتوفي أبي محمدٌ وهو ابنُ ثمان وخمسين سنة. قال: وأنا في هذه السنة ابنُ ثمان وخمسين (¬3). فمات فيها. وقيل: عاش الحسين خمسًا وخمسين سنة. وقيل: ستًّا وستين [سنة] (¬4) وأشهرًا. قال المصنف رحمه الله: والتاريخ يُوضح مقدار عمره على الحقيقة من غير خلاف. وقد اتفقوا على أنه ولد في شعبان لليالٍ خلونَ منه في سنة أربع من الهجرة، وقُتل يومَ عاشوراء سنة إحدى وستين، فيكون عمره على التحقيق ستًّا وخمسين سنة وخمسة أشهر (¬5). وقُتل [يوم عاشوراء] يوم الجمعة، وقيل: يوم السبت، وقيل: يوم الاثنين، وقيل: يوم الأحد. [وقيل: ] وكان قتلُه بين الظهر والعصر. ¬

_ (¬1) الذي في "مروج الذهب" 5/ 144 - 145 أنه قُتل مع الحسين بكربلاء سبعة وثمانون. (¬2) عبارة السعودي في "مروج الذهب": وكان جميع من حضر مقتل الحسين من العساكر وحاربَه وتولّى قتله من أهل الكوفة خاصة، لم يحضرهم شامي. (¬3) قوله: قال: وأنا في هذه السنة ... إلخ، هو من قول أبي جعفر محمد، ففي "طبقات ابن سعد" 7/ 318 عن جعفر بن محمد قال: "سمعت محمد بن علي يذاكر فاطمة بنت حسين شيئًا من صدقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هذه تُوفِي لي ثمانيًا وخمسين. ومات لها". وأما جعفر فقد مات وهو ابنُ إحدى وسبعين سنة، كما في "طبقات ابن سعد" 7/ 544. (¬4) كذا في (ب) و (خ) و (م). ونُسب الكلام في (م) لابن الجوزي في "صفة الصفوة". والذي فيه 1/ 763 أنه - رضي الله عنه - قُتل وهو ابنُ ستّ وخمسين سنة وخمسة أشهر. ونقل أيضًا ابن الجوزي في "المنتظم" 5/ 345 عن الفضل ابن دُكين أنه ابن خمس وستين أو ستّ وستين. ثم قال: وهذا لا وجه له. (¬5) وهو ما ذكره ابن سعد في "الطبقات" 6/ 441، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" 1/ 763.

[وقال أبو اليقظان: كان ذلك يوم الاثنين. وقال الموفَّق رحمه الله: يوم الأحد. وقول ابن سعد: إنه الجمعة والسبت، أشهر] (¬1). ووجدوا فيما أقبل من جسده ثلاثًا وثلاثين طعنة برمح، وأربعًا وثلاثين ضربة بالسيف، ومئة وعشرين رمية بسهم في جسده وثيابه (¬2)، وليس (¬3) في ظهره منها شيء. ذكر إنفاذ رأس الحسين - رضي الله عنه - إلى ابن زياد: وما هو إلا أن قُتل الحسين - رضي الله عنه -، فبعث عُمر بن سعد رأسَه من يومه ذلك إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي. فأقبلَ خَوْلي يريد القصر، فوجده مغلقًا، فأتى منزله، فوضعه تحت إجَّانة (¬4). وله امرأتان، إحداهما من بني أسد، والأخرى من الحضرميين يقال لها: النوَّار بنت [مالك بن] عقرب، وكانت ليلةَ الحضرمية. قال محمد بن السائب الكلبي: فحدثتني النوَّار قالت: أقبل خَولي برأس الحسين، فوضَعه تحت إجَّانةٍ في الدار، ثم دخل البيت، فأوى إلى فراشه، فقلت له: ما الخبر؟ قال: جئتُكِ بِغِنَى الأبد، هذا رأسُ الحسينُ بن علي في الدار معك. قالت: فقلت: ويلك! جاء الناس بالذهب والفضة، وجئتَ برأس ابنِ بنت رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لا واللهِ لا يجمع رأسي ورأسك بيتٌ أبدًا. قالت: وقمتُ من فراشي، فدخلتُ الدار. ودعا الأسديةَ، فأدخلها عليه، وجلستُ أنظر، فواللهِ مازلتُ أنظرُ إلى نورٍ يسطعُ مثلَ العمود من السماء إلى الإجَّانة. ورأيتُ طيورًا بيضًا تُرفرفُ حولَه، فلما أصبح غدا بالرأس إلى ابن زياد (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 441، و"التبيين في أنساب القرشيين" ص 130. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 2/ 501، و"تاريخ الطبري" 5/ 453، و"مروج الذهب" 5/ 146، وليس فيها قوله: مئة وعشرين رمية بسهم. (¬3) في (ب) و (خ): وكان. والمثبت من (م). (¬4) هو إناء تُغسل فيه الثياب. (¬5) تاريخ الطبري 5/ 455. وما سلف بين حاصرتين منه. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 503.

ذكر دفن أجسادهم: ودفن أهل الغاضريَّة من بني أسد أجسادهم بعدما قتلوا بيوم (¬1). وكان زهير بن القَيْن قد قُتل مع الحسين - رضي الله عنه -، فقالت امرأته لغلامه شجرة: اذهب فكفّن مولاك. وأعطَتْه كفنًا. فذهب ليكفنَه، فرأىَ الحسين - رضي الله عنه - مجرَّدًا، فقال: أُكفِّنُ مولاي، وأَدَعُ الحسين! - رضي الله عنه - لا والله. فكفَّنه، وعاد فأخذ كفنًا آخر، فكفَّن مولاه فيه (¬2). ودُفن الحسين رحمه الله في موضعه، وحُفر للباقين حفيرة كبيرة تحت قدميه، وألقَوْا أهله فيها إلا العبَّاس بن علي؛ فإنه بعيد عنهم على طريق الغاضريّة؛ دفن في المكان الذي قُتل فيه. ذكر حمل الرؤوس والسبايا إلى ابن زياد بالكوفة: وأقام عُمر بن سعد يومه ذلك والغد. ثم أمرَ حميد بن بُكير الأحمري (¬3)، فسار إلى الكوفة بالسبايا وبنات الحسين - صلى الله عليه وسلم -[وعلي بن الحسين] (¬4) وهو مريض. قال هشام: ورأس الحسين ورؤوس أصحابه. [قال أبو مِخْنَف: ] ولما مَرَزن النسوة (¬5) على الحسين - رضي الله عنه - وأهله وأولاده ورأينهم على تلك الحال؛ صِحْنَ ولطمنَ وجوههن. وقالت زينب لما رأت أخاها الحسين - رضي الله عنه - صريعًا: يا محمَّداه (¬6)! صلى عليك أهل السماء، هذا حسينٌ مَرَمَّلٌ بالدماء (¬7)، مقطَّعُ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 455. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 446. (¬3) في (ب) و (خ): بن بكر الآجري. والتصويب من "أنساب الأشراف" 2/ 503، و"تاريخ الطبري" 5/ 455. والكلام ليس في (م). (¬4) ما بين حاصرتين من المصدرين السابقين. (¬5) كذا في (ب) و (خ) و (م). وهي على لغة من قال: أكلوني البراغيث. (¬6) في (ب) و (خ): يا مجيراه. والمثبت من (م)، وهو موافق لا في "طبقات ابن سعد" 6/ 445، و"أنساب الأشراف" 2/ 503، و"تاريخ الطبري" 5/ 456. (¬7) في (ب) و (خ): مرسل. وفي (خ): مرسل بالرمال. والمثبت من (م) وهو الموافق لما في المصادر السابقة.

الأعضاء. يا محمَّداه! بناتُك سَبايا، وذُرِّيّتك قتلى، تَسْفِي عليهم الصَّبا. [قال: ] فأبكت [واللهِ] كلّ عدوّ وصديق. وكانت الرؤوس اثنين وسبعين رأسًا؛ حمل خَوْلي بن يزيد الأصبحي رأس الحسين - رضي الله عنه -، وحملت كندة ثلاثة عَشَرَ رأسًا، وهوازنُ عشرين، وبنو تميم عشرين، وبنو أسد سبعة، ومذحج أحد عشر، وقيل: تسعة (¬1). وقيل: كانت الرؤوس ستة وستين. وكان مع الرؤوس والسبايا شَمِر بن ذي الجَوْشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجَّاج، وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتى قدموا بها على عُبيد الله بن زياد (¬2)، فجلس لهم، وأذِنَ للناس، فدخلوا ورأسُ الحسين - رضي الله عنه - موضوعٌ بين يديه (¬3). وذكر البخاري في أفراده عن ابن سيرين قال: لما وُضع رأسُ الحسين بين يدي ابن زياد في طَسْت جعل يقرعُ بالقضيب في ثناياه وقال في حسنه شيئًا، وكان عنده أنس بن مالك، فقال: كان أشبَههُم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان مخضوبًا بالوَسْمَة [هذا سورة ما ذكر البخاري] (¬4). قال المصنف رحمه الله: أما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنس من الحقوق أنْ يُنكر على ابنِ زياد فِعلَه، ويقبِّحَ له ما فعل من قَرع ثنايا الحسين بالقضيب، لكنَّ الفحل زيدُ بنُ أرقم، فإنه أنكرَ عليه (¬5). ¬

_ (¬1) يقارن بـ "أنساب الأشراف" 2/ 504، و"تاريخ الطبري" 5/ 468. (¬2) في هامش (خ) حاشية بخط الناسخ في لعن ابن زياد، وحاشية أخرى بخط آخر في لعن يزيد وابن زياد، ومن تابعهما وناصرهما وخاللهما. (¬3) أنساب الأشراف 2/ 503، وتاريخ الطبري 5/ 456. (¬4) صحيح البخاري (3748). (وما بين حاصرتين من م). والوَسمة؛ قال ابن الأثير في "النهاية": هي بكسر السين (المهملة) وقد تُسكَّن: نبت -وقيل: شجر باليمين- يخضب بورقه الشعر، أسود. (¬5) بعدها في (م): "أشدَّ إنكار. وقال له: يا ابن زياد، تبوأ مقعدًا في جهنم". ولم أقف على هذا القول، إنما ذُكر لزيد - رضي الله عنه - في المصادر الكلام الآتي بعده. (ولم يرد في م). وفي قول المصنف أعلاه نظر، فإن أنسًا - رضي الله عنه - قد أنكر على ابن زياد أيضًا فيما أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 6/ 446، والطبراني في "المعجم الكبير" (2878) عنه أنه قال لابن زياد لما فعل هذا: والله لأسوءنّك، لقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبّل موضع قضيبك من فيه.

فروى الطبريّ عن أبي مِخْنَف، عن سديوإن بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: شهدتُ ابنَ زياد وهو ينكتُ بقضيب بين ثَنِيَّتَيهِ ساعةً، فلما رآه زيد بنُ أرقم لا يُنْجِمُ (¬1) عن نَكْتِه بالقضيب قال له: اعلُ بهذا القضيب عن هاتين الثَنِيَّتَين، فوالذي لا إله إلا هو، لقد رأيتُ شَفَتَي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على هاتين الشَّفَتَين يُقَبِّلُهما. تم انْفَضَخَ (¬2) الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينَك، فواللهِ لولا أنَّك شيخ قد خَرِفْتَ وذهبَ عقلك لضربتُ عنقك، فقام وخرج، فسمعت الناس يقولون: واللهِ لقد قال زيد بن أرقم قولًا لو سمعَه ابن زياد لقتلَه. فقلتُ: ما قال: قالوا: مرَّ بنا وهو يقول: أنتم يا معاشر العرب العبيدُ بعد اليوم، قتلتُم ابن فاطمة، وأمّرتُم ابنَ مَرجانة (¬3)، فهو يقتُلُ خِياركم، ويستعبد شِراركم، فبعدًا لمن رضيَ بالذّلّ والعار (¬4). وقال الواقدي: لما قال ابن زياد لزيد بن أوقم ما قال، قال له زيد: واللهِ لأحدِّثنَّك حديثًا هو أغلظُ من هذا، رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقعدَ حسنًا على فخذه اليمنى، وحسينًا على فخذه اليسرى، ثم وضع يده على نافوخهما وقال: "اللهمَّ إني أستودعُك إيَّاهما وصالحَ المؤمنين". فكيف كانت وديعتُك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يا ابنَ زياد؟ ! ثم قام فخرج، ولم يعد إليه بعد هذا. ولما فرغ ابنُ زياد من قرع الرأس بالقضيب كان له كاهن، فقال له: قم فضع قدمك على رأس عدوِّك. ففعل (¬5). ولما حضر الرأس بين يدي ابن زياد، أمر بتقويره، فلم يتجاسر أحدٌ أن يُقدم عليه، فقام طارق بن المبارك الكوفي -وكان حجَّامًا [وهو] (¬6) جدّ أبي يعلى كاتبِ عُبيد الله ¬

_ (¬1) أي: لا يُقلع، وتحرفت في (ب) و (خ) إلى: لاهجه، والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 456. والكلام ليس في (م). (¬2) أي: بكى وكثر دمعه. (¬3) مرجانة هي أمُّ عُبيد الله بن زياد. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 456. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 504 - 505. (¬5) لم أقف عليه، ولم يرد في (م). (¬6) لفظة "وهو" من عندي، من أجل السياق.

ابن خاقان وزير المتوكّل -فقوَّره، فقال له ابن زياد: أَخْرِجْ لَغَادِيدَه (¬1) - وهي اللحم الذي بين الحنك وصفحة العنق (¬2) - ففعل، فقام إليه عَمرو بن حريث المخزومي فقال: قد بلغتَ حاجتك من هذا الرأس، فهبْ في ما ألقيت [منه] قال: وما تصنع به؟ قال: أُواربه. قال: خذه. فاخذَه في طرف ردائه، كان من خَزٍّ أَدْكَنَ، وحمله إلى دار، فغسله، وطيَّبه، ولفَّه في خرقة خَزّ، ودفنَه في داره، وتُعرف اليوم بدار عَمرو بن حُريث بالكوفة. فكان ممن حضر ذلك المجلس رجلٌ من بكر بن وائل يقال له: جابر [أو جبير]، فلما رأى ما صنع ابن زياد قال في نفسه: [للهِ] عليَّ أنْ لا أُصيبَ عشَرَة من المسلمين خرجوا عليك إلا خرجتُ معهم. فيقال: إنه هو الذي باشرَ قتل ابن زياد، [وسنذكره هناك]. [قال أبو مِخْنَف: ] (¬3) ولما دخلوا برأس الحسين - رضي الله عنه - وصبيانه وأخواته على ابن زياد؛ تنكَّرت زينبُ بنتُ عليّ، ولبسَتْ أرذل ثيابها، وحفَّت بها إماؤها، فلما دخلت جلسَتْ، فقال ابن زياد: مَنْ هذه الجالسة؟ فلم تكلِّمه. قال ذلك ثلاثًا وهي ساكتة. فقال بعض إمائها: هذه ابنةُ فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال ابنُ زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلَكَم، وأكذبَ أُحدوثتكم. فقالت زينب: الحمدُ لله الذي أكرمَنا بمحمد - رضي الله عنه -، وطهَّرَنا تطهيرًا، لا كما تقول أنت، وإنَّما يَفْتَضحُ الفاسق، ويُكذَّبُ الفاجر. قال: فكيف رأيتِ صُنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كُتب عليهم القتلُ، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللهُ بينك وبينهم فتتخاصمون عنده. قال: فاستشاطَ ابنُ زياد غضبًا. فقال له عمرو بن حُريث: إنما هي امرأة، والنساءُ لا يؤاخَذْنَ بمنطقهنّ. فبكت زينب وقالت: قتلتَ كهلي، وأَثرتَ (¬4) أهلي، وقطعتَ ¬

_ (¬1) جمع لُغْدُود، ووقع في (ب) و (خ): أخاديده. (¬2) في (ب) و (خ): الحلق. والمثبت من (م) ووقع الخبر فيها بسياق مختلف عن (ب) و (خ)، ونسب فيها إلى عبد الله بن عمر الوراق في كتاب مقتل الحسين. (¬3) كلُّ ما سلف بين حاصرتين من (م). (¬4) في (م): وأبرزت، وفي "تاريخ الطبري" 5/ 457: وأبَرْتَ.

فرعي، واجتنَيتَ (¬1) أصلي. فقال لها ابنُ زياد: هذه شجاعة، ولقد كان أبوك شاعرًا شجاعًا. فقالت: ما لي وللشجاعة، إنَّ لي عنها لشُغْلًا. [قال: ] ونظر ابنُ زياد إلى عليِّ بن الحسين، فقال لشرطي: انظر، هل بلغ هذا مبلغ الرجال؟ فكشف (¬2) إزاره عنه، وقال: نعم. قال: انطلقوا به فاضربوا عنقه، فصاحت زينب بنتُ علي: يا ابنَ زياد، حسبُك من دمائنا، إن كنتَ قاتلَه فاقتُلْني معه. فقال علي: إنْ كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابْعَثْ معهنَّ رجلًا يحافظ عليهنّ. فقال له ابن زياد: تعال، أنت ذاك. فبعثه معهنّ (¬3). وحكى ابنُ سعد (¬4) أنَّ رجلًا من أهل الكوفة أخذَ عليًّا، فخبأه في داره، وأكرمه. قال: وكان كما دخل وخرج يبكي. قال: فأقول: إن كان عند أحد من أهل الكوفة خمر، فعند هذا. فبينا أنا عنده ذات يوم؛ إذ نادى منادي ابن زياد: من كان عنده عليّ بن الحسين؛ فليأتِ به، وله ثلاث مئة درهم. قال: فدخل عليَّ وهو يبكي، فجعلَ في عنقي حبلًا، وربط يديَّ إلى الحبل، وسلَّمني إليهم، وأخذَ الدراهم وأنا انظر إليها. فأُدخلت على ابن زياد، فقال: ما اسمُك؟ قلت: عليُّ بن الحسين. فقال: ألم يقتل الله عليًّا؟ ! قلت: كان في أخ أكبر مني اسمه عليّ، قتله الناس. قال: بل الله قتلَه. قلت: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ} (¬5) {وَمَا كانَ لِنَفسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِاذنِ اللهِ} (¬6). فأمر بقتلي، فصاحت زبنب بنتُ عليّ: يا ابنَ زياد، حسبُك من دمائنا. وذكر بمعناه. ولمَّا دخل عُبيد الله القصر ودخل الناس؛ نوديَ: الصلاةُ جامعة. واجتمع الناسُ في المسجد الأعظم، فصعد ابنُ زياد المنبر، وقال: الحمد لله الذي أظهر الحقَّ [وأهلَه]، ونصرَ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبَه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري": واجْتَثَثْتَ. (¬2) في (م) و"تاريخ الطبري": فكشط. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 458 - 457. وينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 445، و"أنساب الأشراف" 2/ 504 - 505. (¬4) في "الطبقات" 6/ 444 - 445. وذكره الطبري أيضًا 5/ 458، 457 بنحوه. (¬5) من الآية (42) من سورة الزمر. (¬6) من الآية (45) من سورة آل عمران.

وشيعته. فقام إليه عبد الله بنُ عفيف الأزدي الغامديّ -وكان من شيعةِ أمير المؤمنين عليّ رضوان الله عليه، وذهبت عينُه اليسرى يومَ الجمل، وضُرب يومَ صفِّين على رأسه، فذهبت عينُه الأخرى، وكان لا يفارق المسجد، يصلي فيه إلى الليل، ثم يمضي إلى بيته- فصاح: يا ابن زياد، يا ابن مرجانة، إنَّ الكذاب ابنَ الكذاب أنت وأبوك، والذي ولَّاك وأبوه، يا ابن مَرجانة، أتقتلون أولاد النبيين، وتتكلَّمون بكلام الصدِّيقين؟ ! فقال ابن زياد: عليَّ به. فوثبَتْ عليه الجلاوزة، فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: يا مبرور. فثارت الأزد، فاستنقذوه، وأتَوْا به أهلَه. فأرسل إليه من أتاه به، فقتله، وصلَبَه في المسجد (¬1). ثم إنَّ عُبيد الله نصبَ رأس الحسين - رضي الله عنه - ورؤوسَ أصحابه بالكوفة (¬2). وقالت مَرجانة لابنها عُبيد الله: يا خبيث، قتلتَ ابنَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والله لا رأيتَ الجنةَ (¬3) أبدًا. وأقبل عُمر بن سعد، فدخل الكوفةَ وهو يقول: ما رجعَ أحدٌ بمثلِ ما رجَعتُ إلى أهلي، أطعمتُ الفاسق الفاجر الدعيّ، وعصيتُ الحاكم العَدْل، وقطعتُ القرابةَ القريبة الشريفة (¬4). وهجره الناس، وكان كلَّما مرَّ على ملأ من الناس، لعنوه في وجهه، وإذا دخل المسجد؛ خرج الناسُ منه (¬5). وقال سليمان بن مسلم: أوَّلُ مَنْ طَعَنَ سُرادقَ الحسين - رضي الله عنه - عُمر بن سعد، فلقد رأيتُه هو وابنيه ضُربت أعناقُهم، ثم عُلِّقوا ضلى الخشب، وأُلهبت فيهم النيران (¬6). وقال عُبيد الله بنُ زياد لعمر بن سعد بعد قتل الحسين - رضي الله عنه -: أين الكتاب الذي كتبتُ إليك في قتل الحسين؟ قال: أمضيت أمرك فيه، وضاع الكتاب. فقال ابن زياد: واللهِ ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 5/ 459 (والكلام فيه): في السَّبْخة. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في (ب) و (خ): وجه الله، بدل: الجنة. والمثبت من "طبقات ابن سعد" 6/ 453، و"تاريخ دمشق" 44/ 232. (¬4) بنحوه في "طبقات ابن سعد" 6/ 446، و"أنساب الأشراف" 2/ 507. (¬5) بنحوه في "طبقات ابن سعد" 6/ 453. (¬6) المصدر السابق 6/ 454.

لتجيئني به. قال: تركتُه يُقرأ على عجائز قريش بالمدينة اعتذارًا إليهنَّ، واللهِ لقد نصحتُك في حسين نصيحة لو نصحتُها لأبي سعد بن أبي وقَّاص لكنتُ قد أدَّيتُ حقَّه. فقال عثمان بن زياد أخو عُبيد الله: صدق واللهِ، لوَدِدنا أنه ليس رجل من بني زياد إلا وفي أنفه خِزامة (¬1) إلى يوم القيامة وأنَّ حُسينًا لم يُقتل. فواللهِ ما أنكر ذلك عُبيد الله بن زياد (¬2). وكان في السَّبايا الرَّباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين - رضي الله عنه -، فكانت تبكي وتقول: وحسينًا (¬3) فلا نسيتُ حسينًا ... قصدته (¬4) أَسنَّةُ الأعداءِ غادروه بِكربَلاءَ صريعًا ... لا سقى الله جانبي كربَلاءِ (¬5) وقال عبد الملك بن عمير (¬6): رأيت في هذا القصر عجبًا -يعني قصر الكوفة- رأيتُ رأس الحسين بين يدي ابنِ زياد، ورأيتُ رأسَ ابنِ زياد بين يدي المختار بن أبي عبيد، ورأيتُ رأسَ المختار بن أبي عُبيد بين يدي مصعب بن الزبير، ورأيتُ رأسَ مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان (¬7). ذكره إنفاذ ابن زياد رأس الحسين - رضي الله عنه - والسبايا إلى يزيد بن معاوية بدمشق: لما قُتل الحسين - رضي الله عنه - قدم رسولٌ من يزيد إلى ابن زياد يأمره بِثَقَلِ (¬8) الحسين أن يُحمل إليه، ومن بقيَ من أهله. ¬

_ (¬1) هي الحلقة التي توضع في ثقب أنف البعير ليشدَّ بها. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 467. (¬3) في "معجم البلدان" 4/ 445: واحسينًا. (¬4) في "الأغاني" 18/ 62، و"معجم البلدان" 4/ 445: أقصدته. (¬5) في "الأغاني": جادت المزن في ذرى كربلاء، وفي "معجم البلدان": لا سقى الغيث بعده كربلاء. ونسب الشعر فيهما لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل زوجة الحسين - رضي الله عنه -. (¬6) في (ب) و (خ): عبيد الله بن عمير، والمثبت من المصادر. (¬7) أنساب الأشراف 2/ 508 و 515، ومسند أبي يعلى (2643)، والعجم الكبير للطبراني (2877)، والمنتظم 6/ 116، وذكره اليعقوبي 2/ 265، وزاد في آخره قوله: فخرج من ذلك البيت، وأمر بهدمه. (¬8) الثَقَل: متاع المسافر وحَشَمُه.

ولم يبق لهم ما يتجهَّزون به، فأسلفهم أبو خالد ذكوان عشرة آلاف، فتجهَّزوا بها (¬1). قال عليُّ بن الحسين - رضي الله عنه -: لما أُخرجنا من الكوفة لنُحمل إلى يزيد غَصَّت طريقُ الكوفة بالناس يبكون، فذهب عامَّةُ الليل وما يقدرون أن يجوزوا بنا لكثرة الناس، فقلت: هؤلاء قتلونا ويبكون علينا (¬2)! وقال أبو مِخْنَف: نصبَ ابن زياد رأسَ الحسين - رضي الله عنه - بالكوفة، ثم داروا به. ثم دعا زَخر بنَ قيس الجعفي، فسرَّح معه رأسَ الحسين - رضي الله عنه - ورؤوسَ أصحابه، وضمَّ إلى زَحْر أبا بُرْدة بن عوف الأزدي، وطارق بنَ أبي ظَبْيان (¬3). قال الغاز بن ربيعة الجَرَشي الحِميري: بينا أنا عند يزيد بن معاوية بدمشق؛ إذ قيل له: زَحْر بن قيس على الباب. فاستوى جالسًا مذعورًا وكان في بَهْوٍ له، وأذن له، فدخل في الحال، فقال له: ويلك! ما وراءك؟ فقال: أبْشِر بالفتح والنصر؛ وردَ علينا الحسين في ثمانية عشرَ من أهل بيته وستين من شيعته، فسِرنا إليهم، فسألناهم النزول على حكم الأمير عُبيد الله بن زياد، أو القتال، فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدَونا عليهم مع شروق الشمس، فأحَطْنا بهم من كلّ ناحية، حتى إذا أخذت السيوفُ مأخَذَها من هام القوم؛ جعلوا يهربون إلى غير وَزَر (¬4)، ويلوذُون منَّا بالآكام والحُفَر لِواذًا، كما لاذَ الحمائم من صقر. فواللهِ ما كان إلا جَزْرَ جَزُور، أو نَوْمة قائل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادُهم مجرَّدة، وثيابُهم مُرمَّلة، وخدودُهم مُعَفَّرة، تصهرُهم الشمس، وتسفي عليهم الرياح، وزُوَّارهم (¬5) العِقْبان والرَّخَم، وهم صَرعَى بالفلاة. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 447. (¬2) المصدر السابق 6/ 453. ومن قوله: ولا دخل عبيد الله القصر ودخل الناس ص 153 إلى هذا الموضع ليس في (م). (¬3) تاريخ الطبري 5/ 459. (¬4) أي: ملجأ. (¬5) في (ب) و (خ): زاروهم، وفي "طبقات ابن سعد" 6/ 447: زوّاهم. والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 460.

فدمعَتْ عين يزيد (¬1) وقال: لقد كنتُ أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعنَ اللهُ ابنَ سُميَّة، أما واللهِ لو أني صاحبُه لعفوتُ عنه، ورحم الله أبا عبد الله -يعني الحسين (¬2) - ولكن عاقبةُ البغي والعقوق. ثم تمثَّل: مَنْ يَذُقِ الحَربَ يَجِدْ طَعمَها ... مُرًا وتتركْه (¬3) بجَعجَاعِ (¬4) ولم يصل زَحْرًا بشيء. ورُويَ عن أبي مِخْنَف أن عُبيد الله بن زباد بعث بنساء الحسين - رضي الله عنه - وصبيانه مع مُحَفِّز بن ثعلبة العامريّ؛ من عائدة قريش، ومع شَمِر بن أبي الجَوْشن، وغلَّ يدي عليّ بن الحسين - رضي الله عنهما - إلى عنقه، فلمَّا بلغوا إلى باب يزيد؛ رفع مُحَفِّز صوتَه وقال: هذا محفّز بنُ ثعلبة، أتى أميرَ المؤمنين باللِّئام الفجرة. فأجابه يزيد بن معاوية: ما ولدت أمُّ محفِّز أفجرُ وأَلْأَمُ (¬5). [وذكر عبد الملك بن هشام في كتاب "سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬6) -وقد ذكرناه بإسنادنا إليه في صدر الكتاب- قال: لما بعث ابنُ زياد برأس الحسين إلى يزيد بن معاوية مع الأسارى مُوثَقين بالحبال، منهم نساء وصبيان وصبيات من بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أقتاب الجِمال، مكشفات الوجوه والرؤوس، فكانوا كلَّما نزلوا منزلًا أخرجوا الرأس من صندوقه، ووضعوه على رأس رُمْح، وحرسه الحرس طُول الليل إلى وقت الرحيل، ثم يُعيدُونه إلى الصندوق ويرتحلون. ¬

_ (¬1) في حاشية (خ) بخط الناسخ ما نصُّه: قوله: فدمعت معين يزيد لعنه الله، يعني فرحًا، يدل عليه: ذلك عاقبة البغي والعقوق. وثمة حاشيتان فيها في الورقة التي بعدها في لعن يزيد ومن تابعه وناصره بغير خط الناسخ. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 459 - 460. (¬3) في (ب) و (خ): وهو له. والمثبت من "طبقات ابن سعد" 6/ 447. وفي بعض المصادر: ويحبسه والبيت من قصيدة لأبي القيس بن الأسْلَت. ينظر "المفضَّليَّات" ص 284، وتخريج القصيدة في حواشيها. (¬4) الجعجاع: مناخ سوء لا يقرُّ فيه صاحبُه. (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 447 وأنساب الأشراف 2/ 508 - 509، وتاريخ الطبري 5/ 460. ووقع في (خ): وألأم منك، والمثبت من (ب) وهو الموافق لما في المصادر المذكورة. لكن الناسخ كتب فوقها: كذا. (¬6) ليس هو فيه.

فنزلوا بعض المنازل على عادتهم، ووضعوه على رأس الرُّمح، وحرَسَه الحرس، والرُّمْحُ مسنَد إلى حائطِ دَيْر، فلما كان نصف الليل؛ رأى الراهب نورًا ساطعًا من مكان الرأس إلى عَنان السماء، فأشرف على القوم، وقال: مَنْ أنتم؟ قالوا: أصحابُ ابنِ زياد. قال: وهذا رأسُ مَنْ؟ قالوا: رأسُ الحسين بن علي بن فاطمة. قال: ومَنْ فاطمة؟ قالوا: بنتُ رسول الله. قال: نبيكم؟ ! قالوا: نعم. قال: بئس القومُ أنتم! لو كان للمسيح ولدٌ لأسكنَّاه أَحداقَنا. ثم قال: هل لكم في شيء؟ قالوا: وما هو؟ قال: عندي عَشَرة آلاف دينار، خُذوها، وأعطُوني الرأس يكون عندي تمام هذه الليلة، فإذا رحلتُم خذوه. فقال بعضهم لبعض: وماذا يضرُّنا؟ فأخذوا الدنانير، وأعطَوه الرأس. فأخذه الراهب، فغسَّله وطيَّبه، وتركه على فخذه، وجعل يبكي الليلة كلَّها حتى طلع الفجر، فقال: يا رأس، لا أملك إلا نفسي، وأنا أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا رسول الله، وإنني مولاك وعبدُك. ثم خرج عن الدَّير وما فيه، وصار خادمًا. وأخذوا الرأس وساروا، فلما قربوا من دمشق؛ قال بعضهم لبعض: تعالوْا حتى نقتسم الدنانير لئلا يأخذها منّا يزيد. فأخرجوا الأكياس وفتحوها، فإذا الدنانيرُ قد تحوَّلَتْ خَزفًا، وعلى أحد جانبي كل دينار مكتوب: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}. وعلى الجانب الآخر: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. فألْقَوْها في بردى] (¬1). ذكر قدوم السَّبايا والرأس دمشق: قال القاسم بن عديّ: قيل ليزيد بن معاوية: إنَّ القوم قد أتَوْا. فصعد إلى منظرة له لينظر إليهم، فلما أقبلوا أنشد بيتين له: ¬

_ (¬1) الخبر في "ثقات ابن حيان " 2/ 312 - 313 بنحوه، وفي آخره: فمنهم من تاب من ذلك الفعل لما رأى، ومنهم من بقي على إصراره، وكان رئيس من بقي على ذلك الإصرار سنان بن أنس النخعي. وهذا الخبر -وهو ما بين حاصرتين- من (م).

لما بدَتْ تلك الحمولُ وأشرفَتْ ... تلك الشموسُ (¬1) على رُبَى جَيرونِ (¬2) نعقَ الغرابُ فقلتُ صِحْ أَوْ لا تَصح ... فلقد قضيتُ من الغريم ديوني (¬3) وقال الغاز بن ربيعة: جمع يؤيد أهل الشام، ووضع الرأس في طَسْت، وجعل ينكت عليه بالخيزرانة ويُنشد لابن الزِّبَعْرَى من أبيات: ليت أشياخي ببدر شهدوا ... وقعة (¬4) الخزرج من وَقْعِ الأَسَلْ (¬5) قد قَتَلْنا القِرنَ (¬6) من ساداتهم ... وعَدَلْنا مَيلَ بدرٍ فاعتَدَلْ ومنها -وقد قيل: إن يزيد زاد فيها- هذه الأبيات: لاستهلُّوا ثمَّ طارُوا فرَحًا ... ثمَّ قالوا يا يزيدُ لا تُسَلْ (¬7) لعنت (¬8) هاشمُ بالملك فلا ... خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزَل (¬9) لَستُ من خِنْدِفَ (¬10) إنْ لم أنتقم ... من بني هاشم ما كان فَعَلْ ¬

_ (¬1) في "منهاج السنة" 4/ 549: الرؤوس. (¬2) جَيْرون: موضع عند باب دمشق من الجهة الشرقية، كان به حصن، يقال: بناه رجل من الجبابرة اسمه جَيرون، ويقال: جَيرُون هي دمشق نفسها. ينظر "معجم البلدان" 2/ 199. وقال البلاذري في "أنساب الأشراف" 5/ 297: جيرون موضع بدمشق عند المسجد. (¬3) منهاج السنة 4/ 549. (¬4) في "طبقات فحول الشعراء" 1/ 238: ضجر، وفي "الحماسة البصرية" 1/ 101، و"منهاج السنة" 4/ 550: جزع. (¬5) أي: الرماح. ينظر "القاموس". (¬6) القِرنُ: الكُفْؤ في الشجاعة، ورواية البيت في "طبقات فحول الشعراء": فقَبِلْنا النصف. قال محققه الشيخ محمود شاكر في حاشية: النِّصف والنَّصَف: العدل والانتصاف؛ يقول: قتلنا من سادتهم في أُحد مثلَ ما قتلوا من سادتنْا في بدر. (¬7) قوله: لا تسَلْ، غير مجوَّد في (ب) و (خ)، والمثبت من "تاريخ الطبري" 10/ 60. والبيت فيه بنحوه مع الأبيات المذكورة هنا، ونُسبت لمعاوية في ذكر كتاب المعتضد قي شأن بني أمية. وجاء في "العقد الفريد" 5/ 390: لا فَشَل. (¬8) في "تاريخ الطبري" 15/ 65: وَلِعَتْ. (¬9) شكَّك ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" 11/ 631 في إنشاد يزيد لهذا البيت وقال: إن قاله يزيد بن معاوية، فلعنة الله عليه ولعنة اللاعنين، وإن لم يكن قاله، فلعنة الله على عن وضعه ليشنّع عليه به وعلى ملوك المسلمين. (¬10) وقع في (ب) و (خ): حذق (؟ ) والتصويب من "تاريخ الطبري". وخِنْدِف: أمّ قبائل من العرب.

وقال ابن أبي الدنيا: ضرب يزيد ثنايا الحسين - رضي الله عنه - بالقضيب، وأنشد للحُصين بن الحُمام المرِّي: صبرنا وكان الصبرُ منَّا سَجِيَّةً ... بأسيافنا يفرين (¬1) هامًا ومعصَما نُفَلِّقُ هامًا من رؤوس أَعِزَّةٍ ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما (¬2) فلم يبق أحدٌ إلا عابه وتركه. وكان عنده أبو بَززة الأسلميُّ، فقال له: ارفع قضيبَك، فطالما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلُ ثناياه، أما إنك ستجيءُ يوم القيامة وشفيعُك ابنُ زياد، ويجيئُ الحسين وشفيعُه محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وكان عنده عبد الرحمن بنُ الحكم، وكان شاعرًا فصيحًا فأنشده: لَهامٌ بجَنْبِ الطَّفِّ أدْنَى قَرابةً ... من ابنِ زيادِ العبدِ ذي النَّسَب الوَغْلِ سُمَيَّةُ أضحى نَسْلُها عددَ الحصى ... وبنتُ رسول الله أَمسَتْ بلا نَسْلِ (¬4) وصاحَ وبكَى، فضربَ يزيدُ صدرَه، وقال له: يا ابنَ الحمقاء، ما لك ولهذا؟ ! ثم أُتِيَ (¬5) بِثَقَل الحسين - رضي الله عنه - ومن بقي من أهله، فأُدخِلوا عليه وقد قُرنوا بالحبال، فوقفوا بين يديه، فقال له علي بن الحسين - رضي الله عنه -: أنشدك الله يا يزيد، ما ظنُّك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو رآنا مقرَّنين بالحبال، أما كان يَرِقُّ لنا؟ ! فأمر يزيد بالحبال فقطِّعت، وعُرف الانكسار فيه (¬6). وقالت سُكينة بنتُ الحسين: يا يزيدُ، أبناتُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سَبايا؟ ! فقال لها: يا بنتَ أخي: هو واللهِ أشدُّ عليَّ منه عليكِ، واللهِ لو كان بين ابنِ زياد بن سميَّة وبين ¬

_ (¬1) في "المفضّليات" ص 65، و"الأغاني" 14/ 7: يقطعن. (¬2) ورد هذا البيت في "طبقات ابن سعد" 6/ 445 و 447، و"أنساب الأشراف" 2/ 508، و"تاريخ الطبري" 5/ 463 و 465، وفيها وفي "المفضّليات" ص 65: "يُفَلقْنَ هامًا من رجالٍ أعزةٍ علينا" إلا الموضع الثاني في "الطبري ففيه: أحبة إلينا. (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 2/ 509، و"تاريخ الطبري" 5/ 465. (¬4) ينظر "أنساب الأشراف" 2/ 514 - 515، و"تاريخ الطبري" 5/ 460. (¬5) في (ب) و (خ): ولما أتي، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 6/ 448. والكلام ليس في (م). (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 448.

الحسين قَرابةٌ ما فعلَ به وبكم ما فعلَ، ولا أقدمَ على ما أقدمَ عليه، ولكن فرَّقَتْ بينهما سُمَيَّة. فرحم الله أبا عبد الله، واللهِ لو كنتُ صاحبَه ثم لم أقْدِر على دفع القتل عنه إلا بنقص بعض عُمري لدفعتُه عنه، ولوَدِدتُ أنَّني أُتيتُ به سِلْمًا. ثم قال لعليِّ بن الحسين - رضي الله عنهما -: أبوك قطعني رحمي، ونازعَني سلطاني، فجزاه الله جزاء القطيعة والإثم. فقال رجل من أهل الشام: سِباءُهُم لنا حلال. فقال له عليّ: كذبتَ (¬1). وأمر يزيد نساء آل أبي سفيان أن يُقمنَ المآتم على الحسين - رضي الله عنه - ثلاثًا. قالت سُكينة: فما تَلَقَّتْنا منهن امرأةٌ إلَّا وهي تبكي وتنتحب. وكان عند يزيد أمُّ كلثوم بنتُ عبد الله بن عامر بن كُريز، فبكت وناحَتْ، فقال يزيد: يحقّ لها أن تُعولَ (¬2) على كبير قريش وسيِّدِها. وقالت فاطمة بنتُ الحسين (¬3) - رضي الله عنه - لأمِّ كلثوم: ما تركوا لنا شيئًا. فأبلغت يزيد، فقال: ما أُتيَ إليهم أعظمُ. ثم ما ادَّعَوْا شيئًا ذهب لهم إلا وأضْعَفَه يزيدُ لهم. وقال أبو مِخْنَف: لمَّا جلس يزيد دعا أشرافَ الشام فأجلَسهم حولَه، ودعا بعليِّ بن الحسين، وصبيان الحسين، وبناتِه ونسائه، فأُدخلوا عليه والناس ينظرون إليهم، فقال يزيد لعلي: أبوك قطع رَحِمي، وجهلَ حقِّي، ونازعَني سلطاني، فصنعَ اللهُ به ما رأيتَ. فقال له علي: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23]. فقال يزيد لخالد ابنه: اردد عليه. فما دَرَى خالد ما يقول، فقال له يزيد: قل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30] ثم سكت عنه (¬4). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) أي: ترفع صوتها بالبكاء والصياح. (¬3) في "طبقات ابن سعد" 6/ 449: فاطمة بنت علي. (¬4) أنساب الأشراف 2/ 513، وتاريخ الطبري 5/ 461.

ثم دعا بالنساء والصبيان، فأجلسَهم بين يديه، فرأى هيئةً (¬1) قبيحة، فقال: قبَّح اللهُ ابنَ مرجانة، لو كان بينكم وبينه رَحِم؛ لما فعلَ بكم هذا. قالت فاطمة (¬2): لما أجلسنا بين يديه رَقَّ لنا أوَّل شيء (¬3)، ولاطفَنا، فقام إليه رجل من أهل الشام فقال: هبْ في هذه -يعنيني- وكنتُ جارية وضيئة، فأُرعِدتُ وفَرِقْتُ، وظننتُ أنَّ ذلك جائزٌ لهم، وأخذتُ بثياب عمتي زينب، وكانت أكبرَ مني وأعقلَ، فقالت للرجل: كذبتَ وأثِمتَ، ماذاك لك ولا له. يعني يزيد. قالت: فغضبَ يزيد وقال: كذبتِ، إنَّ ذلك لي، ولو شئتُ أن أفعلَه لفعلتُ. فقالت: كلَّا واللهِ ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرجَ من ملَّتنا وتدينَ بغير ديننا. قالت: فازدادَ غضبًا وقال: أتستقبليني بهذا؟ إنَّما خرج من الدِّين أبوكِ وجدُّكِ (¬4) وأخوك. فقالت زينب: بدين جدِّي وأخي وأبي اهتديتَ أنتَ وجدُّك وأبوك، فقال: كذبتِ يا عدوَّةَ الله. فقالت: أنت أميرٌ تشتمُ ظالمًا، وتقهرُ بسلطانك. قالت: فكأنَّه استحيا، فسكت. فأعاد عليه الشاميُّ القول وقال: يا أمير المؤمنين، هبْ لي هذه الجارية. فقال: اُغْرُبْ، وهبَ الله لك حَتْفًا قاضيًا. قالت: ثم قال يزيد: يا نعمان بن بشير: جَهِّزْهم بما يُصلحُهم، وابعثْ معهم رجلًا من أهل الشام أمينًا صالحًا، وخيلًا وأعوانًا. ثم أمر بالنسوة أن ينزلن في دارٍ على حِدَة؛ معهنَّ أخوهنَّ علي بن الحسين - رضي الله عنه -. [قال: ] فخرجن حتى دخلن دار يزيد، فلم تبق امرأةٌ من آل معاوية (¬5) إلا استقبلتهنَّ تبكي وتنوح على الحسين - رضي الله عنه -. فأقاموا النياحة عليه ثلاثًا. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): أهبة. والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 461. والكلام ليس في (م). (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 461: فاطمة بنت علي. لكن قولها الآتي: وأخذتُ بثياب عمَّتي زينب، يعني أنها فاطمة بنت الحسين. وجاء كلامها فيه بعده ضمن سياقه، فقالت: وأخذتُ بثياب أختي زينب. (¬3) في "تاريخ الطبري": وأمرَ لنا بشيء، بدل قوله: أول شيء. (¬4) كذا في (ب) و (خ) حيث إن رواية المصنف هنا: فاطمة بنت الحسين. ولم ترد لفظة "وجدّك" في "تاريخ الطبري" حيث إن الرواية فيه: فاطمة بنت علي. والكلام ليس في (م). (¬5) في (ب) و (خ): آل أبي سفيان. والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "تاريخ الطبري" 5/ 462.

وكان يزيد لا يتغدَّى ولا يتعشَّى إلا مع عليِّ بن الحسين، فدعاه يومًا، ودعا معه عَمرو (¬1) بن الحسن بن عليّ -وكان غلامًا صغيرًا- وخالدُ بنُ يزيد حاضر، فقال يزيد لعمرو: أتقاتلُ هذا؟ قال: لا، ولكن أعطني سكّينًا، وأعطِه سكّينًا، ثم أُقاتلُه. فضمَّه يزيد إلى صدره وقال: شنْشِنَةٌ أعرفُها من أَخْزَمِ، وهل تلدُ الحيَّةُ إلا حُوَيَّة (¬2)؟ ثم جهَّزَهم إلى المدينة، وبعثَ معهم رجلًا من أهل الشام، فكان يرفُق ويلطف، وينزلُ بهم حيث شاؤوا، وينزلُ عنهم ناحية، فقالت فاطمة لزينب: هذا الشاميُّ قد أحسن إلينا، وما مَعنا غير حُلِيِّنا نبعثُ به إليهء فبعثتُ إليه بِدُملُجي (¬3) وسِواري، وقلنا: لو أعطيناك الدنيا ما كافيناك، وما معَنا غير هذا. فقال الشاميّ: لو كان الذي فعلتُه معكم للدنيا؛ لكان في حُلِيِّكم ما يرضيني، ولكن واللهِ ما فعلتُه إلا لأجل رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ولما فعل يزيد برأس الحسين - رضي الله عنه - ما فعل، تغيَّرت وجوه أهل الشام، وأنكروا عليه ما فعل، فقال: أتدرون من أين دُهي (¬5) أبو عبد الله؟ قالوا: لا. قال: من الفقه والتأويل، كأني به قد قال: أبي خيرٌ من أبيه، وأمِّي خيرٌ من أمِّه، وجدِّي خيرٌ من جدِّه، فأنا أحقُّ بهذا الأمر منه، ولم يلحظ قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، فسُرِّيَ عن وجوه أهل الشام (¬6). وكانت سُكينة بنت الحسين - رضي الله عنه - تقول: ما رأيتُ كافرًا بالله خيرًا من يزيد بن معاوية (¬7). [وحكى الطبري أيضًا عن هشام، عن أبي مِخْنَف، عن أشياخه قالوا: لما جيء برأس الحسين، دخلوا مسجد دمشق ومروان بن الحكم جالس فيه، فقال: كيف ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري": عُمر. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 449، وتاريخ الطبري 5/ 462. (¬3) الدُّملُج: سوار يحيط بالعَضُد. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 462 - 463. (¬5) في "تاريخ الطبري": أُتي. (¬6) تاريخ الطبري 5/ 363 - 364. (¬7) المصدر السابق.

صنعتم؟ قالوا: وردُوا علينا، فأتَيْنا على آخرهم. فقام مروان فخرج، وأتاهم يحيى بن الحكم أخو مروان، فقال: ما صنعتُم؟ فأعادوا عليه الكلام، فقال: حُجبتُم عن محمد يوم القيامة. ثم قام فانصرف. وأُدخلت الرأس على يزيد، فجعل ينكُت بالقضيب في ثغره] (¬1). [وقال هشام: ] ولما أُتيَ بالرأس إلى يزيد؛ كان عنده رسول ملك الروم، فقال: رأسُ مَنْ هذا؟ قالوا: رأسُ الحسين. قال: ومَن الحُسين؟ قالوا: ابنُ فاطمة. قال: ومَنْ فاطمة؟ قالوا: بنتُ محمد. قال: نبيُكم؟ ! قالوا: نعم. قال: تبًّا لكم ولدينكم! وحقّ المسيح إنكم على باطل، إنَّ عندنا في بعض الجزائر ديرًا فيه حافر حمار ركبه المسيح، فنحن نَحجُّ إليه في كل عام مسيرة شهور وسنين، ونحمل إليه النذور والأموال، ونعظمه أكثر مما تعظمون كعبتكم، أفّ لكم. ثم خرج ولم يعد إلى يزيد. ولما (¬2) وُضع الرأسُ بين يدي يزيد كان بالخضراء (¬3)، فقهقه حتى سمعه من كان بالمسجد، ولما سمع صوت النوائح عليه أنشد: يا صيحةً تُحمد من صوائحِ ... ما أهونَ الموتَ على النوائح (¬4) ويقال: إنَّه كبَّر تكبيرةً عظيمة. وكان بدمشق خالد بن غفران (¬5) من أفاضل التابعين، ولما أُتِيَ بالرأس اختفى عن أصحابه (¬6) أيامًا، ثم ظهر، فسألوه عن سبب اختفائه، فبكى، ثم قال: جاؤوا برأسك يا ابنَ بنتِ محمدٍ ... مُتزمِّلًا بدمائه تَزْميلا ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ الطبري" 5/ 465. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬2) في (م): وحكى أبو اليقظان قال ... (¬3) أي: قصر الإمارة بدمشق. (¬4) بنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 512 - 513. (¬5) في (ب) و (خ) و (م): صفوان. والمثبت من "تاريخ دمشق" 5/ 511 (مصورة دار البشير). والخبر فيه، وذكره ابن عساكر عن أبي عبد الله الحافظ، وكذا نُسب إليه في (م). (¬6) في (ب) و (خ) و (م): اختفى هو وأصحابه. والمثبت من "تاريخ دمشق".

وكأنَّما بك يا ابنَ بنتِ محمدٍ ... قتلُوا جِهارًا عامدينَ رسولا قَتلُوك عَطْشَانًا ولم يتَرَقَّبُوا ... في قتلك التنزيلَ والتأويلا ويكُبِّرُون بأنْ قُتلتَ وإنَّما ... قتلوا بك التَّكبيرَ والتَّهْلِيلا (¬1) ذكر رجوع السَّبَايا إلى المدينة: قال يزيد لعليِّ بن الحسين: إنْ أحببتَ الإقامةَ عندنا؛ وصَلْنا رَحِمَك، وعَرَفْنا حقَّك، وإنْ أَحْبَبْتَ؛ رَدَدْناك إلى بلدك. فقال. بل تردُّني إلى بلدي. فردَّهم ووصلَهم، وبعث معهم مُحْرز (¬2) بن حُريث الكلبي. وخطب يزيد الرَّبابَ بنتَ امرئ القيس زوجةَ الحسين - رضي الله عنه -، فقالت: تقتُلُ زوجي وتنكحني! واللهِ لا كان لي حموًا آخر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وبعث ابنُ زياد عبدَ الملك بن أبي الحارث السلمي إلى المدينة يبشِّرُ بقتل الحسين - رضي الله عنه -، فلمَّا قدمَ على عَمرو بن سعيد وأخبره؛ قال: نادِ بقتله. فنادى، فلم تُسمع واعيةٌ (¬4) قطّ مثل واعية بني هاشم في دورهم. فأنشد عمرو بن سعيد: عَجَّتْ نساءُ بني تميمٍ (¬5) عجَّةً ... كعجيجِ نسوتنا غَداةَ الأرنبِ واعيةٌ بواعية عثمان. ثم صعد المنبر، فأخبر بقتله. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 5/ 511 - 512 (مصورة دار البشير)، و"البداية والنهاية" 11/ 569، و"تهذيب الكمال" 6/ 448. (¬2) في (خ): بحر، وفي (ب): بجرير، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 6/ 449 والخبر فيه بنحوه، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 510. والكلام ليس في (م). (¬3) كذا في (ب) و (خ)، والجادَّة: لا كان لي حمٌ، والخبر بنحوه في "الكامل" 4/ 88، و"البداية والنهاية" 11/ 595، و"الوافي بالوفيات" 14/ 75 دون ذكر يزيد. (¬4) الواعية: الصُّراخ على الميّت. (¬5) في "طبقات ابن سعد" 6/ 450، و"تاريخ الطبري" 5/ 446: بني زياد. وفي "أنساب الأشراف" 2/ 510 و 511: بني زبيد، ونُسب تمثّل البيت فيه لمروان. قال ابن سعد: الشعر لعمرو بن معد يكرب في وقعة كانت بين بني زبيد، وبين بني الحارث بن كعب.

وقال ابن سعد (¬1): بعث يزيد بالسبايا والرأس إلى عمرو بن سعيد، فقام خطيبًا فذكر للناس أمر الحسين - رضي الله عنه -، وقال (¬2): واللهِ لوددتُ أنَّ رأسَه على جسده، وروحه في بدنه، يَسُبُّنا ونمدحُه، ويقطعُنا ونَصِلُه، كعادتنا معه وعادته معنا. فقام إليه ابنُ أبي حُبيش أحدُ بني أسد بن عبد العُزَّى، فقال: أما واللهِ لو كانت فاطمةُ حيةً لأحْزَنَها ما ترى. فقال له عَمرو: اسكُتْ لا سكتَّ، واللهِ إنه لَابْنُنا، وأنَّ أمَّهَ لَابنتُنا، واللهِ لقد أحزَنَنا قتلُه، ثم لم نلم من قتله (¬3) يدفع عن نفسه، وقد نهيناه فما انتهى (¬4). وقال عمرو لما بعث يزيد بالرأس إليه (¬5): وددتُ واللهِ أنه لم يبعثْ به إليّ. فقال [له] مروان: اسْكُتْ. ثم تناول مروان الرأس، ووضعَه بين يديه، وأخذ بأرنبة أنفه وقال: يا حبّذا بَردك في اليدينِ ... ولونُك الأحمرُ في العينيِنِ واللهِ لكأنّي أنظر إلى أيام عثمان (¬6). ثم أمر عَمرو بالرأس فكُفِّن، ثم دُفن بالبقيع. وكان يوم وصول الرأس والسبايا إلى المدينة مثل اليوم الذي مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [قال هشام: ] وخرجت زينب بنت عقيل [بنت أبي طالب] كاشفةً رأسَها، ناشرةً شعرَها، تصيح: وامحمَّداه، واحُسيناه، واإخوتاه، واأُهيلاه، وتقول: ماذا تقولون إنْ قال النبيُّ لكم: ... ماذا فعلتُم وأنتم آخرُ الأممِ بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أُسارى وقتلى ضُرِّجُوا بدمِ فلم يبق أحدٌ إلا وبكى (¬7). ¬

_ (¬1) في (م): وقد حكى ابنُ سَعد خلاف هذا عن عمرو بن سعيد؛ قال ... (¬2) في (م): فقام خطيبًا للناس، فأمر برأس الحسين فأُحضر وقال ... (¬3) في "طبقات ابن سعد" 6/ 450: والله لو كانت حيَّةً لأحزنها قتلُه ثم لم تلم مَنْ قتلَه ... (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 450. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 511. (¬5) في (م): وفي رواية ابن سعد أن عمرًا قال لما بعث إليه يزيد بالرأس ... (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 449، قبل الرواية السابقة. (¬7) بنحوه في "تاريخ الطبري" 5/ 466 - 467. وما سلف بين حاصرتين من (م).

[قال أبو اليقظان: ] ولما سمع مروان صوت نساء بني هاشم أنشد: ضرب الدَّوْسَرُ فيهم ضربةً ... أثبتَت أوتادَ مُلكٍ فاستقرّ (¬1) ذكر ما ورد في الرأس الشريف: اختلفوا في مكان دفنه على أحوال: أحدُها: بالبقيع، وقيل: عند أمَه فاطمة عليهما السلام (¬2). والثاني: أنَّه ردَّ إلى كَربَلاء، فدُفن مع جسده (¬3). والثالث: أنه بدمشق (¬4). واختلفت الروايات في أيّ مكان هو: فقيل: وُجد في خزانة يزيد بدمشق، فكفَّنُوه، ودفنوه في باب الفراديس (¬5). وقيل: هو بدار الإمارة (¬6). وذكر ابنُ عساكر عن رَيَّا حاضنةِ يزيد بن معاوية -وكان بنو أمية يعظِّمونها، وأدركَتْ أوَّلَ خلافة بني العباس- قالت: رأيتُ رأس الحسين مكثَ مدَّةً في خزائن السلاح بدمشق إلى أيام سليمان بن عبد الملك، فأمرَ به فأُخرج، فإذا هو عظم أبيض، فطيّبَه، وجعله في سَفَط، وجعلَ عليه ثوبًا، ودفنَه في مقابر المسلمين. فلما دخلت المُسَوِّدة (¬7) دمشق؛ سألوا عن موضعه، فدُلُّوا إليه، فنبشوه وأخذوه، والله أعلم ما صنعوا به (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 2/ 511. قوله: الدَّوْسَر: هو الأسد الصُّلب، أو الجمل الضخم. ينظر "القاموس" وما بين حاصرتين من (م). (¬2) العبارة في (م): أحدها: أن يزيد بعثه إلى المدينة، وأن عَمرو بن سعيد بن العاص كفّنه ودفنه بالبقيع، حكاه ابن سعد، وقيل: دفن عند فاطمة عليها السلام. وهو في "الطبقات" 6/ 450. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 512. (¬3) نُسب هذا القول في (م) للواقدي. (¬4) نُسب هذا القول في (م) للبلاذري، وابن أبي الدنيا، وابن عساكر. (¬5) نُسب هذا القول في (م) لابن أبي الدنيا. (¬6) نُسب هذا القول في (م) للبلاذري، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 512. (¬7) أي: العبَّاسيون، سُمُّوا بذلك لأن راياتهم سوداء. (¬8) تاريخ دمشق ص 103 (تراجم النساء). وقوَّى الذهبي إسناد هذه الحكاية في "سير أعلام النبلاء" 3/ 319.

[قال ابن عساكر: ] (¬1) عاشت رَيَّا هذه مئة سنة في عزّ بني أميَّة، وكانت من أعقل النساء وأجملهنَّ، وكانت إذا دخلت على هشام بن عبد الملك تجيءُ راكبة، فكلُّ مَنْ رآها من بني أمية قام إجلالًا لها. وأمُّها أدركت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وسمعت من عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. وقال حمزة بن يزيد الحضرمي: لقد شاهدتُها في عزّها كذلك، ثم رأيتُها بعد ذلك مقتولة على درج جَيْرون مكشوفة العورة، وفي فرجها قصبة مغروزة، ويقولون: هذه حاضنة يزيد، قتلَها المسوِّدة لما هجموا دمشق. قال (¬2): وبلغَتْ من العمر مئة سنة، وحسنُها وجمالُها باقٍ على نضارته؛ قالت: لما جيء برأس الحسين - عليه السلام -؛ وُضع في طَسْت وعليه ثوب، فأحضر بين يدي يزيد بن معاوية، فأمر برفع الثوب عنه، فحين رآه خمَّر وجهَه بكمّه، كأنَّه شمَّ منه رائحة، وقال: الحمد لله الذي كفانا المُؤْنة بغير مُؤْنة {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}. قالت ريّا: فدنوت منه؛ وإذا رَدْعٌ من حِنَّاء (¬3). قال حمزة: فقلت لها: أَقَرَعَ ثناياه بالقضيب؟ قالت: إي [والذي لا إله إلا هو -وفي رواية: ] والذي ذهب بنفسه- وأنشدَ أبيات ابنِ الزِّبَعْرى (¬4). ولقد جاء رجلٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال ليزيد: قد أمكنك الله من عدوّك وابنِ عدوّ أبيك، فاقتل هذا الغلام ينقطع النسل [-يعني عليَّ بنَ الحسين- فقد رأيتَ ما لقيَ أبوك من أبيه، ، فهُم قوم أصحاب مكر، وأهلُ العراق مائلون إليهم، يقولون: ابنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [ابنُ عليّ]، ابنُ فاطمة. اقتُلْه، فليس هو بأكرمَ من صاحب هذا ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق ص 101. وما بين حاصرتين من (م). (¬2) يعني حمزة بن يزيد الحضرمي، والكلام في "تاريخ دمشق" ص 101 (تراجم النساء). (¬3) الرَّدْع: ما لُطخ به من حِنَّاء، أو زعفران، أو نحوه. ينظر "القاموس". (¬4) سلف بيتان لابن الزِّبَعْرَى أول فقرة "ذكر قدوم السبايا والرأس دمشق وقد تمثل بهما يزيد.

الرأس. فقال له يزيد: لا قمتَ ولا قعدتَ، فإنك ضعيف مهين، بل أَدَعُهم، كلَّما طلع طالع أخدتْه سيوفُ آلِ أبي سفيان. قال: سَمَّت الرجل (¬1)، ولكن لا أُسمِّيه أبدًا (¬2). [وذكَرَتْ حديثَ الرأس، وأنه كان في خزائن السلاح حتى وليَ سليمان بن عبد الملك، فبعث، فجاء به وقد قَحَلَ (¬3)، وقد بقي عظم أبيض. وذكرت القصة كما ذكرناها] (¬4). وقال أبو كريب (¬5): كنتُ في القوم الذين دخلوا يريدون قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكنتُ فيمن نهب الخزائن، فوجدتُ سَفَطًا، فقلت: في هذا غناي. فأخذتُه وخرجتُ من باب توما، وعدلتُ عن الطريق وفتحته، فإذا حريرةٌ عليها مكتوب: هذا رأس الحسين بن علي. فحفرتُ له بسيفي بباب قوما، وواريتُه. وقال أبو حاتم ابنُ حِبَّان (¬6): قد اختلف علينا في موضع رأس الحسين - رضي الله عنه -: فمنهم من زعم أنه على رأس عمود بجامع دمشق، عن يمين القبلة. [قال: وقد رأيت ذلك العمود]. ومنهم من زعم أنه في البرج الثالث من السور، على باب الفراديس. ومنهم من زعم أن يزيد دفنه في قبر أبيه معاوية (¬7). ومن الناس من قال: إنه نُقل من باب الفراديس في أيام المصريين إلى عسقلان، فأقام في المشهد مدة، فلما خيف على عسقلان من الفرنج، نقلوه إلى القاهرة، وبنَوْا عليه مشهدًا، وهو اليوم يُزار. ¬

_ (¬1) في (م): قالت: وسمعت الرجل. وفي "تاريخ دمشق" ص 102: قال: سمَّيتُ الرجل. (¬2) تاريخ دمشق ص 101 - 102 (تراجم النساء)، وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬3) أي: جفّ ويبس. (¬4) المصدر السابق ص 103، والكلام السالف والآتي يبن حاصرتين من (م). (¬5) في (م): وذكر ابن عساكر أيضًا عن أبي كريب قال ... (¬6) في (م): وحكى ابن عساكر أيضًا عن أبي حاتم بن حبان قال ... ولم أقف عليه فيما لديّ من تاريخ دمشق. (¬7) مشاهير علماء الأمصار ص 7، والثقات 3/ 69.

والرابع: أنه بالرَّقَّة في ناحية من المسجد الجامع؛ قال عبد الله بن عمرو الوراق [في كتاب "المقتل"]: لما حضر الرأس بين يدي يزيد قال: لأبعثنَّه إلى آل أبي معيط عوضًا عن رأس عثمان، وكانوا بالرّقَة. فبعث به إليهم، فدفنوه في بعض دورهم، ثم أُدخلت تلك الدار في الجامع. [قال: ] فهو إلى جانب سِدرةٍ هناك عليه قنديل، فلا يذهب شتاءً ولا صيفًا. والخامس: أنه بخراسان بمرو. [وهذا قول غريب، ذكره الحافظ السمعاني في "أماليه" وقال: رأس الحسين نُقل من دمشق إلى مَرْو، ودُفن بدار الإمارة، وهو قصر أبي مسلم. قال: و] ذكر المُعافَى أنَّ أبا مسلم لمَّا استولى على الشام حوَّلَه من خزانة الرؤوس إلى مَرْو، وحشاه بالمسك، وكفَّنَه، وصلَّى عليه مرةً بعد مرَّة. وقال كعب البرمكي: قال لي منصور بن طلحة بن طاهر بن الحسين في سنة ستٍّ وخمسين ومئتين ونحن بدار الإمارة بمَرْو: تريد أن أُرِيَك رأس الحسين؟ قلت: نعم. فأمر الغلمان، فحفروا مكانًا حتى بلغوا إلى وَهْدة، فنحَّى الغلمان وأخذ الآَلة بيده، وحفر حتى أفضى إلى طاق، وفيه سَفَط، ففتَحه، فإذا فيه رأسٌ محشوّ بالمسك؛ مكتوب على رقعة ملصقة فيه: هذا رأسُ الحسين بن عليّ بن أبي طالب [قال: ] فغلبنا البكاء، وصلَّينا عليه، ثم ردَّه إلى مكانه. قال المصنف رحمه الله: أنشدني زين الدين (¬1) النحوي المصري -ويُعرف بابن قطنة- بمصر في سنة أربعين وستِّ مئة: لا تطلبوا المولى الحسين ... بأرض شرقٍ أو بغربِ ودعُوا الجميع وعرِّجُوا ... نحوي فمشهدُه بقلبي ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): بهاء الدين، والمثبت من (م) وهو الصواب، وهو أحمد بن عبد الله بن عزَّاز أبو العباس. ينظر "الوافي بالوفيات" 7/ 123.

حكى مروان بن الوضين (¬1) قال: نُحرت الإبل التي حُمل عليها رأس الحسين - رضي الله عنه - والسبايا، فلم يستطع أحد أن يدنوَ منها من نتنها، وصار لحمها أمرَّ من الصَّبِر (¬2). [ذكر الحُمرة التي في السماء: ] وقال ابن سيرين: لم نر هذه الحُمرة [التي] في السماء قبل أن يُقتل الحسين - رضي الله عنه - عند طلوع الشمس وغروبها (¬3). [ورُوي عن هشام، عن محمد بن سيرين قال: لم تتراء هذه الحُمرة في السماء حتى قُتل الحسين - عليه السلام -] (¬4). قال الشيخ أبو الفرج [ابن] الجوزي رحمه الله (¬5): لمَّا كان الغضبان يحمرُّ وجهه، فيتبيّن بالحُمرة تأثيرُ غضبه، والحقّ سبحانه ليس بجسم، أظهر تأثير غضبه بحمرة الأفق حين قُتل الحسينُ - عليه السلام -. وقال هلال بن ذكوان: لما قُتل الحسين - رضي الله عنه -: مُطرنا مطرًا بقي أثرُه في ثيابنا مثل الدم (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) و (م)، ولم أعرفه. وفي "المنتظم" 5/ 342: عن جميل بن مرّة، عن أبي الوصي قال ... وهو في "تاريخ دمشق" 5/ 76 (مصورة دار البشير) (وكذا في مختصره 7/ 150) من قول جميل بن مرة. (¬2) ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" 11/ 576 أن هذا الخبر وأمثاله من المبالغات والأكاذيب التي لا يصحّ منها شيء. وقوله: الصَّبِر (بكسر الباء): الدواء المرّ. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 455، وقد نُسب الخبر في (م) إليه. وينظر التعليق التالي. (¬4) أنساب الأشراف 2/ 505، وطبقات ابن سعد 6/ 455، ومختصر تاريخ دمشق 7/ 149. وعدَّ ابن كثير هذا الخبر من الأكاذيب. قلت: إنّ الحُمرة عند طلوع الشمس وعند غروبها من السنن الكونية التي خلقها الله تعالى، ودعا الناس إلى التفكّر فيها، وأقسم بها بقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}. وقريبٌ من هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات ابنُه إبراهيم وخسفت الشمس؛ قال: "إن الشمس والقمر من آيات الله، وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته". ولا شكّ أن مقتل الحسين - رضي الله عنه - مصيبة كبرى أُصيب بها المسلمون، وكذا مقفل عُمر وعثمان وعلي - رضي الله عنه -. وفي هذا القول من الغرابة ما لا يخفى. (¬5) في "التبصرة" 2/ 16. ويستغرب منه مثل هذا القول! (¬6) المصدر السابق.

وقال (¬1): لما قُتل الحسين - رضي الله عنه -: مكثنا شهرين أو ثلاثة كأنما لطّخت الحيطان بالدم. وقال الشعبي: لما قُتل الحسين اسودَّت الدنيا ثلاثة أيام، ورمت السماء رملًا أحمر (¬2). وقالت نَضْرة الأزدية: لمَّا قُتل الحسين - رضي الله عنه - مطرف السماء دمًا، فأصبحت خيامُنا وكلُّ شيء منّا مملوءًا دمًا (¬3) [فلعنةُ الله على قاتله وقاتلِ أبيه] (¬4). ذكر نَوْح الجنِّ عليه: قال علي بنُ أخي شعيب بن حرب (¬5): [ناحت الجن عليه، يعني على الحسين] قالت جنية: جئن نساءُ الجنّ يبكين شجيّات، ويلطمنَ خدودًا كالدنانير نقيّات، ويلبسنَ ثياب الصوف (¬6) بعد القصبيات. و[قال جدّي: وروينا في حديث أنه] حُفظ من قول الجنّ: مسحَ النبيُّ جبينَهُ ... فله بريقٌ في الخدود أبواه من عَلْيا قريش ... جدُّه خيرُ الجدودْ (¬7) خرجوا به (¬8) وفدًا إليه ... فهم له (¬9) شرُّ الوفود قتلوا ابنَ بنتِ نبيِّهم ... سكنوا به نارَ الخلودْ ¬

_ (¬1) في (م): وفي رواية عن هلال قال ... وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 149. (¬2) نسب الخبر في (م) لابن عساكر، وينظر المصدر السابق. والتعليق الآتي. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 455، وتاريخ دمشق 5/ 76 (مصورة دار البشير). وعدَّ ابن كثير في "البداية والنهاية" 11/ 576 أن هذا الخبر وأمثاله من المبالغات والأكاذيب. (¬4) الكلام السالف بين حاصرتين؛ كلُّه من (م). (¬5) في (م): قال ابن بطة (وتحرف فيها إلى ابن بريطة) بالإسناد الماضي: حدثنا أبو ذرٍّ الباغندي، حدثنا حماد بن الحسن الورّاق قال: سمعت علي بن أخي شعيب بن حرب ... إلخ. وقوله: بالإسناد الماضي. كذا وقع في (م) مع أنه لم يرد فيها في الخبر قبله إسناده والخبر في "التبصرة" 2/ 16. (¬6) في "التبصرة": السود. (¬7) بنحوه في "المعجم الكبير" للطبراني (2866)، و"التبصرة" 2/ 16 إلى هذا الموضع. وأشار الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 199 إلى ضعف الخبر. (¬8) في (ب) و (خ): جرحونه، والمثبت من "تاريخ دمشق" 5/ 83. وهذا البيت والذي بعده لم يردا في (م)، وهما في "تاريخ دمشق" 5/ 83 مع البيتين الآخرين في رواية. (¬9) في (ب) و (خ): فهم به، والمثبت من "تاريخ دمشق".

وقالت أمّ سلمة - رضي الله عنهما -: سمعتُ نَوْح الجنّ على الحسين - عليه السلام - (¬1). وقال [هشام، عن] عمرو بن عكرمة: أصبحنا صبيحة قتلِ الحسين - رضي الله عنه - بالمدينة، فإذا مولاة لنا تُحدِّثنا، فقالت: سمعتُ البارحة مناديًا ينادي من السماء: أيها القاتلون جهلًا حُسينًا ... أبشِرُوا بالعذابِ والتنكيلِ كلُّ أهلِ السماء يدعو عليكم ... من نبي وملأكٍ وقبيلِ ولُعنتُم على لسان ابنِ داود ... وموسى وصاحبِ الإنجيل (¬2) فكانوا يُرون أن بعضَ الملائكة قال ذلك. وقالت أمُّ سلمة - رضي الله عنهما -: ما سمعتُ نَوْح الجنّ منذ قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ليلةَ قُتل الحسين؛ سمعت جنِّيَّة تقول: ألا يا عينُ فاحتفلي بجهدٍ ... ومَنْ يبكي على الشهداء بعدي على رَهْطٍ تقودُهم المنايا ... إلى متجبّر في زيِّ عبدِ (¬3) وروي عن محمد المصقلي قال: لمَّا قُتل الحسين - رضي الله عنه - سمع الناسُ مناديًا ينادي ليلًا، يُسمع صوته ولا يُرى شخصُه يقول: عقَرتْ ثمودٌ ناقةً فاستُؤْصِلُوا ... وجرَتْ سوانحُهم بغير الأسعدِ فبَنُو رسولِ الله أعظمُ حُرمَةً ... وأجلُّ من أمّ الفَصِيل المُقصَدِ عجبًا لهم ولمَا (¬4) جَنَوْا لم يُمسَخُوا ... واللهُ يُملِي للطُّغاةِ الجُحَّدِ ذكر منام ابن عباس: قال ابن عبَّاس (¬5): رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرى النائم نصف النهار أشعثَ أغبرَ، بيده قارورة فيها دمٌ يلتقطُه، فقلتُ: يا رسول الله، ما هذه القارورة؟ قال: "دمُ الحسين وأصحابِه، ما زلتُ ألتقطُه". ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 454. ونُسب الخبر في (م) إليه. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 467، ونُسب سماع الشعر من الجن في "تاريخ دمشق" 5/ 82 - 83 لأم سلمة. (¬3) تاريخ دمشق 5/ 83 (مصورة دار البشير) وفيه: في ملك عبدي. (¬4) في (ب) و (خ): لما (بدون واو) والمثبت من "تاريخ دمشق" 5/ 83 - 84، و"مختصره" 7/ 154 - 155. والخبر لم يرد في (م). (¬5) في (م): قال أحمد بن حنبل: [حدثنا عفان] حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال والحديث في "مسند" أحمد (2553). قال محققوه: إسناده قوي.

قال عمَّار بن أبي عمَّار (¬1): فنظرنا فإذا قد قُتل الحسين في ذلك اليوم. ذكر أقوال العلماء لمَّا بلغَهم قتلُه: قال عبد الرحمن بن أبي أنعُم: كنتُ شاهدًا عبدَ الله بنَ عُمر وسأله رجل عن دم البعوض [فقال: ممَّن أنت؟ قال: من أهل العراق. فقال: هاه! انظروا إلى هذا يسألُني عن دم البعوض] وقد قتلُوا ابنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمعتُه يقول: "هما ريحانَتِي (¬2) ". انفرد بإخراجه البخاري. وقالت أمُّ سَلَمة - رضي الله عنهما - (¬3): لعن اللهُ أهلَ العراق، قتلُوه؛ قتلَهم الله، أذلُّوه؛ أذلَّهم الله، أو قد فعلُوها؟ ! ملأَ اللهُ بيوتَهم وقبورَهم نارًا. ثم بكت حتى غُشيَ عليها (¬4)، وماتت بعده في هذه السنة (¬5). وقال محمد بن عبد الرحمن (¬6): لقيني رأس الجالوت، فقال: إن بيني وبين داود سبعين أبًا، وإنَّ اليهود لَتُعَظِّمُني، وأنتم قتلتُم ابنَ نبيكم، وبينكم وبينه أبٌ واحد! وقال رأس الجالوت: كنَّا نسمعُ أنَّه يُقتل بكربلاء ابنُ نبيّ، فكنتُ إذا دخلتُها ركضتُ فرسي حتى أجوزَها، فلما قُتل الحسين جعلتُ أجوزُها على هِينَتي (¬7). وقال الزُّهري (¬8): لما بلغ الحسنَ البصريَّ وابنَ سِيرين وعلماء البصرة قتلُ الحسين، اجتمعوا وبكَوْا عليه أيامًا. ¬

_ (¬1) هو راوي الحديث عن ابن عباس. ينظر التعليق السابق. (¬2) في "صحيح البخاري" (5994): ريحانتاي. وذكر ابن حجر في "فتح الباري" 10/ 427 أن لفظة "ريحانتي" هي رواية أبي ذر عن الكشميهني. (¬3) في (م): وحكى ابن سعد عن أم سلمة أنها قالت ... والخبر في "الطبقات" 6/ 452 و 453. (¬4) هاتان روايتان في "طبقات ابن سعد"، من طريق شهر بن حوشب عن أمِّ سلمة؛ الأولى: من أول الخبر، حتى قولها: أذلَّهم الله، والكلام بعده هو في رواية أخرى، وجمع بينهما المصنف (أو المختصر). ينظر "الطبقات" 6/ 452 و 453. (¬5) لكن المصنف سيذكرها فيمن توفي سنة (62)، وقال الذهبي في "السير" 2/ 210: الظاهر أن وفاتها في سنة إحدى وستين. اهـ. ووهّم من أرَّخ وفاتها سنة (59)، مثل الواقدي، ذكره عنه ابن سعد 10/ 93، وابن الجوزي في "المنتظم" 5/ 319. (¬6) في (م): وذكر ابن سعد عن محمد بن عبد الرحمن قال ... والخبر في "الطبقات" 6/ 452. (¬7) تاريخ دمشق 5/ 60 (مصورة دار البشير). (¬8) في (ب): الزبيري، وفي (خ): وأما الزبيري.

وقال الحسن: واذلَّ أمةٍ قتل ابنُ دَعِيِّها ابنَ نبيِّها (¬1)، واللهِ لَيُردّنَّ رأسُ الحسين إلى جسده، ثم لينتقمنَّ له جدُّه وأبوه يومَ القيامة من ابنِ مرجانة. وقال عمر بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه -: لو كنتُ في قتلة الحسين ودُعيتُ إلى دخول الجنة؛ لما دخلتُ حياءً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تقعَ عيني في عينه (¬2). ولما بلغ قتلُ الحسين - رضي الله عنه - الربيعَ بنَ خُثيم بكى (¬3) وقال: لقد قتلوا صِبْيَةً لو رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبَّهم ولأطعمهم بيده، وأجلسهم على فخذه، ووضع فمه على أفمامهم. [وفي رواية (¬4): قال: ] {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 46] الآية. قال أبو العلاء المعري: أرى الأيامَ تفعلُ كلَّ نكرٍ ... فما أنا في العجائبِ مستزيدُ أليس قُريشُكم قتلت حُسينًا ... وكان على خلافتكم يزيدُ! ذكر مراثيه: تفقَّد عُبيد الله بنُ زياد بعد قتل الحسين - رضي الله عنه - أشراف (¬5) أهل الكوفة، فلم ير عُبيد الله بن الحرّ، ثم جاءه بعد أيَّام فقال: أين كنت؟ فقال: كنت مريضًا. قال: مريض القلب، أو الجسد؟ فقال: أمَّا قلبي فلم يمرض، وأمَّا بدني فقد مَنَّ اللهُ عليه بالعافية. فقال: كذبت، ولكنك كنتَ مع عدوِّنا. فقال: لو كنتُ مع عدوّك لرُئيَ مكاني، لأنَّ مثل مكاني لا يخفى. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 519. (¬2) وفيات الأعيان 6/ 353. (¬3) في (م): وروى ابن سعد عن الربيع بن خثيم أنه لا بلغه قتل الحسين بكى ... والخبر في "طبقات ابن سعد" 6/ 452. (¬4) المصدر السابق 8/ 310 (ترجمة الربيع). (¬5) في (م): روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن جندب الأزدي أن عبيد الله بن زياد بعد قتل الحسين تفقد أشراف ... ولم أقف على صدر هذا الخبر في "الطبقات" إنما جاء فيه 6/ 457 - 458 ذكرُ ندم عُبيد الله بن الحرّ على تركه نصرة الحسين - رضي الله عنه -، وذكرُ مرثيته الآتية، والخبر بتمامه في "تاريخ الطبري" 5/ 469 - 470، وبنحوه في "تاريخ دمشق" 44/ 195 (طبعة مجمع دمشق).

وغفل عنه ابنُ زياد، فخرج وقعد على فرسه (¬1) فقال: أين ابنُ الحرّ؟ قالوا: خرج فقال: عليَّ به. فخرج الشُّرَطُ إليه وقالوا: أجب الأمير. فدفع فرسه وقال: قولوا له: واللهِ لا آتيه طائعًا أبدًا (¬2). وسار في أصحابه، فأتى كربلاء، فوقف على مصارع القوم، واستغفر لهم، ثم سار إلى المدائن فنزلها؛ قال: يقول أميرٌ غادرٌ أيُّ غادرٍ (¬3) ... ألا كنتَ قاتلتَ الحسين بنَ فاطِمَهْ ونفسي على خِذْلانِهِ واعتزالِهِ ... وبيعةِ هذا الناكثِ العهدِ لائمَهْ فيا ندمي ألا أكون نصرتُهُ ... ألا كلُّ نفسٍ لا تُسَدِّدُ نادِمَه وإني على أن لا أكن من حُماتِهِ ... لذو حسرةٍ ما إن تفارقُ لازمَهْ سقى الله أرواح الذين تأزَّرُوا ... على نصرهِ سُقيا من الغيثِ دائمَهْ وقفتُ على أجداثهم ومجالهم ... وكاد الحشا ينقضُّ (¬4) والعينُ ساجِمَهْ لعمري لقد كانوا مصاليتَ في الوَغَى ... سِراعًا إلى الهيجا حُماةً ضَراغِمَهْ تآسَوْا على نصرِ ابنِ بنتِ نبيِّهم ... بأسيافهم آسادَ غِيلٍ خضارمَهْ (¬5) فإنْ يُقتلوا فكلُّ نفسٍ تقيَّةٍ ... على الأرض قد أضْحَتْ لذلك واجمَهْ وما إنْ رأى الراؤون أفضلَ منهمُ ... لدى الموتِ ساداتٍ وزُهْرًا قماقِمَهْ أتقتلُهم ظلمًا وترجو ودادَنًا ... فدَع خِطَّةً ليست لنا بملائمِهْ لعمري لقد راغمتُمونا بقتلهم ... فكم ناقمٍ منَّا عليكم وناقِمَهْ أهُمُّ مرارًا أنْ أسيرَ بجحفلٍ ... إلى فئة زاغت عن الحقِّ ظالِمَهْ فكُفُّوا وإلَّا زُرْتُكُم في كتائبٍ ... أشدَّ عليكم من زحُوفِ الدَّيالِمَهْ ¬

_ (¬1) في (م) بدل قوله: وغفل عنه ابن زياد ... ، جاء قول آخر، لفظه: ولعمري لو كنتُ معه لطال عليك أن تنال منه. قال: وخرج من عند عبيد الله بن زياد، وقعد على فرسه ... (¬2) في (م): فخرج الشرطي إليه وقال: أجب الأمير، فوشجه (كذا) بالمقرعة ثم قال: تبًّا لك ولأميرك، أخبره أنني لا آتيه ... (¬3) في "طبقات ابن سعد" 6/ 458، و"تاريخ الطبري" 5/ 470: حق غادر. والشعر لم يرد في (م). (¬4) في "طبقات ابن سعد": يرفضّ. (¬5) في "طبقات ابن سعد" 6/ 458، و"تاريخ الطبري" 5/ 470. ضراغمه. وجاء فيهما لفظة: خضارمه، في البيت الذي قبله.

وكان الحسين - رضي الله عنه - قد لقي عُبيد الله بن الحرّ الجُعفيَّ هذا، فدعاه إلى القتال معهم، فامتنع خوفًا من ابن زياد، وكان ابنُ زياد قد جهَّزه لقتال الحسين - رضي الله عنه -، فلم يشهد ذلك، فلما قُتل الحسين - رضي الله عنه -؛ ندم حيث لم ينصره (¬1)، فقال الأبيات، وقال أيضًا: فيا لكِ حسرةً ما دمتُ حيًّا ... تردَّد بين حلقي والتَّراقي حسينًا حين يطلبُ بذلَ نصري ... على أهل العداوة والشِّقاقِ ولو أنّي أُواسيه بنفسي ... لنلتُ كرامةً يوم التَّلاقِ مع ابنِ المصطفى نفسي فِداهُ ... فولَّى ثم ودَّعَ للفراقِ غداةَ يقول لي بالبر قولًا ... أتتركُنا وتُزمِعُ بانطلاقِ فلو فلقَ التَّلهُفُ قلبَ حيٍّ ... لهَم اليوم قلبي بانفلاقِ فقد فاز الأُلى نصروا حسينًا ... وخابَ الآخرون أولو النفاقِ (¬2) شهد عُبيد الله بنُ الحُرّ صفِّين مع معاوية، وكان شجاعًا فاتكًا عثمانيًّا، وكان قد تزوَّج امرأةً من أهل الكوفة يقال لها: الدرداء، وغاب عنها مدَّة بالشام، فزوّجها أخوها من رجل، وبلغ عُبيدَ الله، فقدم على عليّ - عليه السلام -، فقال له: أنت المُظاهر علينا عدوَّنا؟ ! قال: أَمَنَعَني ذلك عدلَك؟ ! ما كفرتُ بالله. فقال له: صدقتَ. وأخبره خبر المرأة، فدعا بها عليّ رضوان الله عليه، فإذا هي حامل من الزوج الثاني، فوضعَها على يَدَي عدل، وقضى بها لعُبيد الله. فلما ولدت دفع الولد إلى الزوج الثاني، وكان يقال له: عكرمة بن خميص (¬3)، ووهبت المرأةُ صَدَاقها من الزوج الثاني، وأخذها عُبيد الله، وخرج إلى الشام، ثم عاد (¬4). ومن شعر عُبيد الله: تبيت النَّشَاوَى (¬5) من أميَّة نُوَّمًا ... وبالطَّفِّ قتلى ما ينامُ حميمُها ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 476، وتاريخ الطبري 5/ 407. وسلف خبره ص 120. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 459. (¬3) في "تاريخ دمشق" 44/ 193: خبيص. (¬4) ينظر المصدر السابق 144/ 93 - 195 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) جمع نشوان. وفي "طبقات ابن سعد" 6/ 460: نساء. وورد البيت الأول في "أنساب الأشراف" 2/ 514، ونُسب فيه لأبي دهبل الجمحي، وفيه: تبيت السكارى.

وما ضيَّع الإسلامَ إلا قبيلُها ... تأمَّرَ نَوْكاها (¬1) ودامَ نعيمُها وأضحَتْ قناةُ الملك في كفّ ظالمٍ ... إذا اعوجَّ منها جانبٌ لا يُقيمُها فأقسمتُ لا تنفكُّ نفسي حزينةً ... وعينيَ تبكي لا يجفُّ سُجُومُها (¬2) وقال [المدائني عن] رجل من أهل المدينة: خرجتُ أريدُ اللَّحاق بالحسين - رضي الله عنه - لما توجَّه إلى العراق، فلما بلغت (¬3) [الرَّبَذة] إذا برجل جالس [هناك] فقال لي: يا عبد الله، لعلك [تريدُ] أن تُمِدَّ الحسين؟ قلت: نعم. قال: وأنا كذلك، ولكن اقعد، فقد بعثتُ صاحبًا في (¬4)، والساعةَ يقدُم بالخبر. [قال: ] فلم تمض ساعة؛ وإذا بصاحبه قد أقبل وهو يبكي، فقال له: ما الخبر؟ فقال: واللهِ ما جئتُكم حتى بَصُرتُ به ... في الأرض مُنْعَفِرَ الخدَّينِ منحورا وحولَه فتيةٌ تَدمَى نحورُهُمُ ... مثل المصابيح يغشَوْن الدُّجَى نُورا وقد حَثَثْتُ قَلُوصي كي أُصادفَهم ... من قبل ما ينكحون الخُرَّدَ الحُورَا يا لَهْفَ نفسيَ لَوْ أنِّي لحقتُهمُ ... إذًا لَحُلِّيتُ إذْ حُلُّوا أساويرا فقال الرجل المجالس: اذْهبْ فلا زال قبر أنت ساكنُهُ ... إلى القيامةِ يُسْقَى الغيثَ ممطورا في فتيةٍ بذلُوا للهِ أنفسَهم ... قد فارقوا المال والأهلينَ والدُّورا وقال عقبة بن عمرو (¬5) العبسي [ويقال: إنه أول من رثاه، فقال هذه الأبيات]: إذا العينُ قرَّت في الحياة وأنتمُ ... تخافون في الدنيا فأظلمَ نورُها مررتُ على قبر الحسين بكَربَلا ... ففاضَ عليه من دموعي غزيرُها وما زلت أبكيه وأرثي لشجوهِ ... وتسعد عيني دمعُها وزفيرُها ¬

_ (¬1) جمع أَنْوَك، أي: أحمق. (¬2) تاريخ دمشق 44/ 197 (طبعة مجمع دمشق)، وفيه بيت خامس، وورد في "طبقات ابن سعد" 6/ 460 ثلاثة أبيات. قوله: سُجُومها، أي: سَيلُها وقَطْرُها. (¬3) في (ب) و (خ): بلغ، والمثبت من (م). وما بين حاصرتين في هذا الخبر منها. (¬4) في (ب) و (خ): لقيت صاحباك والمثبت من (م). (¬5) في (م): عمر.

وناديتُ من حول الحسين عصائبًا ... أطافَتْ به من جانبيه قبورُها سلامٌ على أهل القبور بكَرْبَلا ... وقلَّ لها منِّي سلامٌ يزورُها سلامٌ بآصال العشياتِ والضُّحى ... تُؤدِّيه نَكْبَاءُ الرِّياح ومُورُها ولا برح الزُّوَارُ زوَّارُ قبرِهِ ... يفوحُ عليهم مسكُها وعَبِيرُها وقال سليمان (¬1) يرثيه: مررتُ على ألياتِ آلِ محمدٍ ... فلم أَرَها كعهدِها يومَ حَلَّتِ فلا يُبعدُ اللهُ الدِّيارَ وأهلَها ... وإنْ أصبحتْ عنهم برغمي تخلَّتِ ألا إنَّ قتلى الطَّفِّ من آلِ هاشمٍ ... أذلَّتْ رقابَ المسلمين فذلَّتِ وكانوا غياثًا ثمَّ أضْحَوْا رَزِيَّةً ... لقد عَظُمَتْ تلك الرَّزايا وجلَّتِ إذا افْتَقَرَتْ قيسٌ جَبَرْنا فقيرَها ... وتقتلُنا قيسٌ إذا النَّعلُ زَلَّتِ وعند غنيٍّ قَطْرةٌ من دمائنا ... سنجزيهمُ يومًا بها حيثُ حَلَّتِ ألم تر أنَّ الأرضَ أضْحَتْ مريضةً ... لفقد حسينٍ والبلادُ اقْشَعَرَّتِ فإنْ تُتبعوه عائذَ البيت تُصبحوا ... كعادٍ تَعَمَّتْ عن هُداها فضلَّتِ وقد أعولَتْ تبكي السماءُ (¬2) لفقدهِ ... وأنجمُهما ناحت عليه وصلَّتِ (¬3) وقال أبو الأسود الدِّيلي. أقولُ وذاك من جَزَعٍ ووَجْد ... أزال اللهُ ملك بني زيادَ وأبعدَهم كما غَدَرُوا وخانُوا ... كما بَعِدَتْ ثمودُ وقومُ عادِ هُمُ خَشَمُوا الأنوف وهنَّ شُمٌّ ... بقتلِ ابنِ القِعاسِ أخي مراد (¬4) قتيلِ السُّوق يا لك من قتيلٍ ... به نَضْحٌ مِنَ احمرَ كالجِساد وأهلُ نبيِّنا من قبلُ كانوا ... ذوي كرمٍ دعائمَ للبلادِ ¬

_ (¬1) هو سليمان بن قَتَّه. (¬2) في (ب) و (خ): النساء، والمثبت من "أسد الغابة" 2/ 22، ولم ترد هذه القصيدة في (م)، وينظر التعليق التالي. (¬3) ورد عدد من الأبيات دون بعض في "أنساب الأشراف" 2/ 513، و"طبقات ابن سعد" 6/ 457، و"أسد الغابة" 2/ 22. (¬4) هو هانئ بن عروة المرادي، أمرَ ابنُ زياد بإخراجه إلى السوق مكتوفًا، وضُربت عنقه، وسلف خبره مع خبر مسلم بن عقيل، وترجم له المصنف آخر ستة ستين مختصرًا.

حسينٌ ذو الجدود وذو المعالي ... يزين الحاضرين وكلَّ نادِ أصابَ العزَّ مهلكُه فأضحى ... عميدًا بعد مصرعه فؤادي (¬1) وقال الشيخ أبو الفرج ابنُ الجوزيّ في "التبصرة" (¬2) كلمات فيها: إنما رحلَ الحسينُ - رضي الله عنه - إلى القوم لأنه رأى الشريعةَ قد دَثَرَتْ ورُفضت، فجدَّ في رفعِ قواعدِ أصلِها الجدّ، فلما حضروه حصروه، فقال: دعُوني أرجع. فقالوا: لا، ألا انْزِلْ (¬3) على حكم ابنِ زياد. فاختارَ القتل على الذُّلّ، وهكذا النفوسُ الأبيَّة. وأنشد: ولما رأى بعضَ الحياة مَذَلَّةً ... عليهم وعِزَّ الموتِ غيرَ مجرَّمِ أَبَوْا أن يذوقوا العيشَ والذمُّ واقعٌ ... عليه وماتوا مِيتةً لم تُذَمَّمِ ولا عجبٌ للأسْدِ إنْ ظفرتْ بها ... كلابُ الأعادي من فصيحٍ وأعجمِ فحَرْبَةُ وَخشِيٍّ سَقَتْ حمزةَ الرَّدَى ... وحَتْفُ عليٍّ في حُسام ابنِ مُلْجَمِ قال (¬4): وقد روينا أنَّ صخرة وُجدت قبل مبعثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث مئة سنة، عليها مكتوب باليونانية أو العبرانية: أيرجو معشرٌ قتلُوا حسينًا ... شفاعةَ جدِّه يومَ الحساب (¬5)؟ ! [وأنشد جدِّي في "التبصرة" (¬6): ] لا بدَّ أنْ تردَ القيامة فاطمٌ ... وقميصُها بدمِ الحسين ملطَّخُ ويلٌ لمن شفعاؤه خصماؤهُ ... والصُّورُ في يوم القيامة يُنفخُ ونقلتُ من على ظهر مجلّد الخالِدِيَّين (¬7) في هذا المعنى: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 457. وينظر "المعجم الكبير" للطبراني (2853). ولم ترد القصيدة في (م). (¬2) 2/ 14. (¬3) في "التبصرة": لا، انزل. (¬4) في "التبصرة" 2/ 17. وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 155. (¬5) من قوله: وقال سليمان يرثيه (في الصفحة السابقة) إلى هذا الموضع لم يرد في (م). (¬6) 2/ 17. (¬7) هما أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم الخالديَّان، أديبا البصرة، وشاعراها في وقتهما. توفي محمد في نحو 380 هـ، وتوفي سعيد سنة 371 هـ. ينظر "الأعلام" 7/ 129.

إذا تفكَّرُ في مصابهمُ ... أتعبَ زندَ الهمومِ قادحُهُ بعضُهمُ قُرِّبتْ مصارعُهُ ... وبعضُم بَعُدَتْ مطارحُهُ أظلم في كربلاء يومُهمُ ... ثم تجلّى وهم ذبائحُه لا بَرِحَ الغيثُ كلَّ ناحيةٍ ... تهمي عواديه أو روائحُه على ثرًى حَلَّهُ ابنُ بنتِ رسو ... لِ الله مجروحةٌ جوارحهُ ذَلَّ حُماهُ وقلَّ ناصرهُ ... ونال أقصى مُناهُ كاشحُهُ عفَّرتمُ بالثرى جبين فتًى ... جبريلُ بعد النبيِّ ماسحُهُ يظلّ ما بينكم دمُ ابن رسو ... ل الله وابنُ السفَّاح سافحُهُ سِيَّانِ عند الأنام كلِّهمُ ... خاذلُه منكمُ وناصحُهُ (¬1) وقال (¬2): لقد جمعوا في ظلم الحسين ما لم يجمعه أحد، ومنعوه أن يرد الماء فيمن ورد، وأن يرحل عنهم إلى بلد، وسَبَوْا أهله وقتلوا الولد، وما هذا حدَّ دفعِ عن الولاية، هذا سوء معتقَد. نبع الماء من بين أصابع جدِّه، فما سقَوْه منه قطوة، وكم لاح لهم نور هداية، فما ولَّوا وجوههم شطرَه. [وقال: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - من محبَّته للحسين يُقَبِّلُ شفتيه، ويحملُه كثيرًا على كتفيه، ولمَّا مشى طفلًا بين يدي المنبر نزل إليه، فلو رآه ملقًى على أحد جانبيه؛ شديد العطش والماءُ حاضر لديه، وأطفاله يضجُّون بالبكاء حواليه، والسيوف تأخذه والأعداء تميل عليه، والخيلُ قد وطئت صدره ومشت على يديه، ودموعه تجري على خدّيه؛ إذًا لصاح الرسول وعزَّ عليه]. وكان الحسين - عليه السلام - شاعرًا مُفلِقًا، فمن شعره: كلَّما زِيدَ صاحبُ المال مالًا ... زِيدَ في همِّه وفي الاشتغالِ قد عرفناكِ يا منغِّصةَ العَيـ ... ـشِ ويا دارَ كلِّ فانٍ وبالِ ليس يصفو لزاهدٍ طلبُ الزُّهْـ ... ـد إذا كان مثقلًا بالعيالِ (¬3) ¬

_ (¬1) يتيمة الدهر 2/ 219 - 220. وفيه: وذابُحه، بدل: وناصحُه. (¬2) يعني ابن الجوزي في "التبصرة" 2/ 17 - 18. والكلام الآتي بين حاصرتين من (م). (¬3) تاريخ دمشق 5/ 53 (مصورة دار البشير)، والبداية والنهاية 11/ 593.

ودفع إلى سائل عشرة آلاف درهم، فقالت له فضَّة جاريتُه: أسرفتَ! فقال: إذا جمعَتْ مالًا يداي ولم أنَلْ ... فلا انبسطَتْ كفِّي ولا نَهضَتْ رِجْلي أريني بخيلًا نال خُلْدًا بِبُخْلِهِ ... وهاتي أَرِيني باذلًا ماتَ من بَذْلِ على الله إخْلَافُ الذي أَتْلَفَتْ يدي ... فلا مُهْلِكي بَذْلي ولا مُخْلدي بُخْلي (¬1) ذكر أولاد الحسين - رضي الله عنه -: [قال علماء السِّيَر: ] كان له خمس ذكور وابنتان: علي الأكبر؛ قُتل مع أبيه بكربلاء، ولا عقب له، وأمُّه آمنة بنت أبي مرَّة بن عروة بن مسعود الثقفي، وأمُّها بنتُ أبي سفيان بن حرب، وفيها يقول حسان بن ثابت: طافَتْ بنا شمسُ النهارِ، ومَنْ رأَى ... من الناس شمسًا بالعشاء تطوفُ؟ بنو أمِّها أوْفَى قريشٍ بذمَّةٍ ... وأعمامُها إمَّا سأَلْتَ ثقيفُ (¬2) وأما عليُّ الأصغر بنُ الحسين - رضي الله عنه -، فهو زين العابدين، والنسلُ له، وأمُّه أمُّ ولد، يقال لها: السُّلافة. وقيل: غزالة، سنديَّة. وأما جعفر بن الحسين؛ فمات صغيرًا، ولا بقيَّة له، وأمُّه السلافة؛ امرأة من قُضاعة. وأما عبد الله؛ فقُتل يوم الطَّفِّ مع أبيه، وأمُّه الرَّباب بنتُ امرئ القيس بن عديّ بن أوس بن جابر بن كعب بن عُليم، وهي أمُّ سُكَينة بنتِ الحسين، وفيهما يقول الحسين - رضي الله عنه -: لعمركَ إنني لَأُحِبُّ دارًا ... تَحُلُّ بها سُكينةُ والرَّبابُ أُحبِّهمُ وأبذُل فوق جهدي ... وليس لعاتبٍ عندي عتابُ ولستُ لهم وإنْ عَتِبُوا مطيعًا ... حياتي أو يغيِّبني الترابُ (¬3) ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 60/ 382 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 399. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 400، ونسب قريش ص 59.

وأما فاطمة بنتُ الحسين؛ فأمُّها أم إسحاق بنتُ طلحة بن عُبيد الله التيّمي، من العشرة (¬1). وكان الحَسَنُ بن الحَسَن قد خطب إلى عمِّه الحُسين - رضي الله عنه - إحدى ابنتيه، فأخرجَ لي فاطمةَ وسُكينةَ، وخيَّره، فاختار فاطمةَ، فزوَّجه إيَّاها، فولدت له عبدَ الله، وإبراهيمَ، وحَسَنًا، وزينب؛ بني الحَسَن بن الحَسَن، ثم ماتَ الحَسَن بن الحَسَن، فتزوَّجها عبدُ الله بنُ عَمرو بن عثمان؛ زوَّجها منه ولدُها عبدُ الله بنُ حَسَن بنِ حَسَن، فولدَتْ له محمدًا الدِّيباج [سُمّي بذلك] لحسنه (¬2). وكان عبدُ الله بن حسن يقول: لقد زوَّجتُها من عبد الله بن عَمرو، وما أحدٌ أبغضَ إليَّ منه، وما أحدٌ أحبَّ إليَّ اليوا منه ومن ولده محمدٍ الدِّيباج (¬3). وقال [أبو] القاسم (¬4): لمَّا احتُضر حَسَنُ بن حَسَن؛ قال لفاطمة بنتِ الحسين: إنكِ امرأةٌ مرغوب فيكِ، وكأنّي بعبد الله بن عَمرو بن عثمان إذا خرجَتْ جِنازتي قد جاء على فرس مُرجَّلًا لابسًا حُلَّةً (¬5)، يتعرَّضُ لك، وإنِّي لا أدعُ شيئًا من الدنيا همًّا غيرَكِ، ولا تنكحيه. فحلفَتْ له بالأيمان المغلَّظة من العِتاق والصَّدَقة، بعتق عبيدها وإمائها وصدقة مالِها أنَّها لا تتزوَّجُه. فلما خرجت الجِنازة جاء عبد الله بن عَمرو على الصِّفَة التي ذكرها الحَسَن وهي حاسرة تضربُ وجْهها، وأرسل إليها: غطِّ وجهك، فلنا فيه رأي. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 400 و 10/ 439. (¬2) ينظر "نسب قريش" ص 51 - 52. وما سلف بين حاصرتين من قبلي من أجل السياق. (¬3) في "تاريخ دمشق" ص 280 (تراجم النساء): "ثم ما في الدنيا اليوم أحدٌ أحب إليَّ من ابنه محمد أخي أبدًا". ليس فيها لفظة "منه". وهي بنحوها في "نسب قريش" ص 52. (¬4) يعني ابن عساكر. وزدتُ لفظة "أبو" بين حاصرتين من عندي. والخبر في "تاريخه" ص 279 عن الزبير بن بكَّار. (¬5) في "نسب قريش" ص 52، و"تاريخ دمشق" ص 279 (تراجم النساء): مرجِّلًا جَمَّته، لابسًا حلَّته.

فاسترخت يداها، وعُرف ذلك فيها، وغطَّت وجهها، فلما حلَّت للأزواج؛ أرسلَ إليها فخطَبها، فقالت له: قد حلفتُ الأَيمانَ التي قد علمتَ. فقال: أنا أُخْلِفُ لك عن كلِّ شيء شيئين. فتزوَّجَها، فولدَتْ له محمدًا الدِّيباج؛ قتله المنصور (¬1). وقال الزُّبير بن بكَّار: ضربت عليه (¬2) فسطاطًا، وأقامَتْ سنةً، فلما مضتْ السنة، انصرفت، فسمعوا قائلًا يقول: هل وجدوا ما طلبوا؟ فأجابه آخر وقال: بل يئسوا وانقلبوا (¬3). وأراد (¬4) عمر بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه - أن يتزوَّجها، وكتب إلى الوليد يستأذنه (¬5)، فجاء الجواب وقد تزوَّجت عبدَ الله بنَ عمرو بن عثمان. وقال الزبير أيضًا: خطبها جماعة، فقالت: على ابن عمِّي دَين، فمن قضاه تزوَّجْتُه. فقال لها عبد الله بن عَمرو بن عثمان: كم دينُه؟ قالت: ألف ألف درهم. فاستكثرها. فقال له عُمر بن عبد العزيز: ويحك! فاطمة بنتُ الحسين بنِ فاطمة؛ انتهِزْها. فأرسل إليها بالمال، فقضت دينَ ابنِ عمِّها، وتزوَّجَها. ثمّ خلف عليها بعده ابنُ أبي عتيق البكري، فولدَتْ له آمنة (¬6). أسند الحديث - عليه السلام - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج له أحمدُ بنُ حنبل رحمه الله سبعةَ أحاديث: فمنها عن ربيعة بن شيبان قال: قلت للحسين بن عليّ: ما تعقلُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: صَعِدتُ غُرفَةً، وأخذتُ تمرةً من تمر الصدقة، فلُكتُها في فيَّ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ألْقِها، فإنَّا لا تحلُّ لنا الصدقة". ¬

_ (¬1) الخبر في المصدرين السابقين، وينظر خبر محمد الديباج في "طبقات ابن سعد" 7/ 479 - 480. (¬2) يعني على الحسن بن الحسن بن علي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) تاريخ دمشق ص 282 (ترجمة فاطمة- طبعة مجمع دمشق). (¬4) جاء في (ب) و (خ) قبله عبارة: ، وكان الوليد بن عبد الملك قد خطبها، فتزوجت بعبد الله بن عمرو بن عثمان خوفًا من الوليد! ". وهي واضحة الخطأ، فلم أثبتها. والخبر التالي مع التعليق عليه يبيّن الصواب. (¬5) الخبر في "تاريخ دمشق" ص 280 (ترجمة فاطمة) وفيه: ففَرِقَ عمر من الوليد بن عبد الملك أن يخطبها بغير إذنه، فكتب إليه يستأذنُه فيها. (¬6) تاريخ دمشق ص 277 (ترجمة فاطمة).

ومنها: قال حسين بنُ علي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "للسائل حقّ ولو جاء على فرس". ومنها: عن علي بن الحسين، عن أبيه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البخيلُ مَنْ ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ" (¬1). وقال ابنُ عساكر (¬2): حدَّثَ الحسين بنُ عليّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبيه. وروى عنه ابنُه عليُّ بن الحسين، وابنتُه فاطمة، وابنُ أخيه زيد بن الحسن، وسعيد بنُ خالد، وطلحة بن عُبيد الله العُقيلي، وهمام بن غالب الفرزدق، وغيرُهم. وفد الحسين - رضي الله عنه - على معاوية، وتوجّه غازيًا إلى القسطنطينيّة في الجيش الذي كان أميرُه يزيد بن معاوية (¬3). وممَّن اسمُه الحسين بنُ علي جماعة كثيرة، منهم: الحسين بن عليّ بن محمد بن أبي المضاء، أبو علي البعلبكّي (¬4)، من بعلبكّ. كان فاضلًا عالمًا، مات في سنة سبع وأربعين وأربع مئة. الحسين بن علي بن كوجك، ويعوف بالكوجكي. حدَّث بطرابلس سنة تسع [وخمسين] وثلاث مئة (¬5) عن أبيه، وعن أبي بكر الصنوبري الشاعر، وغيره. وكان فصيحًا، ومن شعره: وما ذاتُ بعلٍ مات عنها فُجاءةً ... وقد وجدَتْ حَمْلًا دُوَيْن الترائبِ بأرضٍ نأَتْ عن والدَيها كلاهما (¬6) ... تعاورها الورَّاثُ من كلِّ جانبِ فلمَّا استبانَ الحملُ منها تنهنهوا ... قليلًا وقد دبُّوا دبيب العقاربِ فجاءتْ بمولودٍ غلامٍ فأحرزَتْ ... تراث أبيه الميتِ دون الأقاربِ ¬

_ (¬1) الأحاديث الثلاثة في "مسند أحمد" (1731) و (1730) و (1736) على الترتيب. (¬2) في "تاريخه" 5/ 12 (مصورة دار البشير). وينظر "تهذيب الكمال" 6/ 397. (¬3) تاريخ دمشق 5/ 12. (¬4) في (ب) و (خ): البعلي، والمثبت من "تاريخ دمشق" 5/ 96 (مصورة دار البشير) والكلام ليس في (م). (¬5) في (ب): تسعين وثلاث منه، وفي (خ): تسع وثلاث عن، والمثبت من "تاريخ دمشق" 5/ 93 (مصورة دار البشير)، وينظر "الوافي بالوفيات" 21/ 27. (¬6) كذا في (ب) و (خ). وفي المصدرين السابقين: كليهما. وهو الجادة.

فلما غدا للمال ربًّا ونافست ... لإعجابها فيه عيون الكواعبِ (¬1) وأصبح مأمولًا يُخاف ويُرتَجَى ... جميلَ المُحيَّا ذا عِذارٍ وشاربِ أُتيح له عَبْل الذراعين فخْدِرٌ (¬2) ... جريءٌ على أقرانه غير هائبِ فلم يبقَ منه غير عظم مجزَّرٍ ... وجُمجمةٍ ليست بنات ذوائبِ بأوجعَ منِّي يومَ ولَّتُ حُدوجُهم (¬3) ... يؤمُّ بها الحادون وادي غباغبِ ذكر استدعاء يزيد بن معاوية عُبيد الله بن زياد: بعد قتل الحسين - رضي الله عنه - كتب يزيد بنُ معاوية إلى ابن زياد: أمَّا بعد، فإنك قد ارتفعت إلى غايةٍ أنتَ فيها كما قال الأول: رُفعتَ فجاوزتَ السحابَ وفوقَهُ ... فما لكَ إلا مرقب الشمس مقعدُ فإذا وقفتَ على كتابي هذا، فاقْدَمْ عليَّ لأُجازيَك على ما فعلت. فقدم عليه ابن زياد في أرباب دولته وجميع بني أمية ... (¬4) فخرجوا إليه، ولما دخلوا على يزيد؛ قام له واعتنَقَه، وقبَّل ما بين عينيه، وقبَّل ابنُ زياد يدَه، وأجلَسه معه على سريره وقرَّبه، وأدناه، وأجلسه معه على سريره في الخضراء، وكان منادمَه (¬5). وقال يزيد ليلة للمغنِّي: غنِّ. وقال للساقي: اسقني. ثم قال: اسقني شربة تُروِّي فؤادي ... ثم عُدْ واسْقِ مثلَها ابنَ زيادِ موضع السرِّ والأمانةِ منّي ... وعلى ثغر مغنمي وجهادي وأقام عنده شهرًا (¬6)، فوصله بألف ألف درهم، ومثلها عروضًا وجواهر ودوابًّا (¬7) وعبيدًا، وأطلق له خَراج العراق سنة، وعاد إلى العراق. ¬

_ (¬1) لم يرد هذا البيت في الأصل (خ)، وورد في (ب). والكلام كله ليس في (م). (¬2) في "القاموس": أخدر العرينُ الأسدَ، فهو مُخْدِرٌ ومُخْدَر. (¬3) جمع حِدج، وهو الحِمْل والهوْدج. (¬4) مكان النقاط كلمة غير واضحة، رسمها: بتلقيه. (¬5) سلف أن يزيد لما أتاه خبر قتل الحسين لعنَ ابنَ زياد وقال: قد كنتُ أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين. وهذا يناقض الخبر أعلاه. فليحرّر. (¬6) جاء خبر المنادمة في "الأغاني" 15/ 291 - 292 بين يزيد وسَلْم بن زياد. (¬7) كذا في (ت) و (خ). والجادة: دوابَّ، والكلام ليس في (م).

حمزة بن عمرو بن عويمر الأسلمي

ذكر تعزية عبد الله بنِ الزُّبير لعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -: قال ابن أبي مُلَيكة: بينا عبد الله بنُ عبَّاس في المسجد الحرام يتوقَّع خبر الحسين - رضي الله عنه -؛ أتاه آت فسرَّه بشيءٍ، فاسترجع، فقلنا: ما حدث يا أبا العباس؟ قال: مصيبةٌ عظيمة عند الله نحتسبُها، أخبرني هذا أنه سمع عبد الله بن الزُّبير يقول: قُتل الحسين بنُ عليّ. فلم يبرح مكانَه حتى جاء عبد الله بنُ الزُّبير، فعزَّاه، ثم انصرف، فقام ابنُ عباس، فدخل منزلَه، ودخلَ عليه الناس يُعزُّونه. ولقي المسورُ بنُ مَخْرَمة ابنَ الزُّبير، فقال له: قد جاء ما تحبُّ. فقال ابنُ الزبير: إليَّ تقولُ هذا! فواللهِ لوَدِدتُ أن يبقى الحسين ما بقيَ بالحِمَى (¬1) حجر، واللهِ ما تمنَّيتُ ذلك. قال: فأنتَ أشرتَ عليه بالخروج إلى العراق. قال: نعم، ولكن ما علمتُ أنه يُقتل، ولم يكن بيدي أجلُه، ولقد جئتُ ابنَ عبَّاس فعزَّيتُه، فعرفت أنَّ ذلك يثقُل عليه مني، ولو تركتُ تعزيته [قال: ] مثلي يُترك تعزيتُه بحسين؟ ! فما أصنعُ بهم يا أبا عبد الرحمن وهم أخوالي (¬2) وأسرتي، وصدورُهم وغِرَةٌ على وما أدري على أيِّ شيء. فقال له المسور (¬3): الأمور تمضي، وبرَّ أَخوالك (¬4)، فأبوك قد كان أحمدَ لهم منك. انتهت ترجمة الحسين - عليه السلام -. حمزة بن عَمرو بن عُويمر الأسلميّ من الطبقة الثالثة من المهاجرين. قال حمزة: لما كنَّا في تبوك ونفَّر المنافقون بناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة حتى سقطَ بعضُ متاعِه؛ قال حمزة: فنُوِّرَ لي في أصابعي الخمس، فأضاءت حتى جعلتُ ألقُطُ ما شذَّ من المتاع: السَّوط، والحَبْل، وأشباه ذلك. ¬

_ (¬1) رسمت في (ب) و (خ) بالألف الممدودة، وفي "طبقات ابن سعد" (والخبر فيه) 6/ 451: بالجماء. (¬2) في (ب) و (خ): إخواني. والمثبت من "طبقات ابن سعد". (¬3) في (ب) و (خ): المستودع! والمثبت من "طبقات ابن سعد" 6/ 451. (¬4) في (ب) و (خ): إخوانك، والمثبت من "الطبقات".

الشريد بن سويد الثقفي

وحمزة هو الذي بشَّر كعب بنَ مالك بالتوبة، ونزع [كعب] ثوبيه، فكساه إيَّاهما (¬1). وقدم حمزة الشام غازيًا، وهو كان البشير إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بوقعة أجنادين (¬2). وقيل غيره. وقدم حمزة مصر لغزو إفريقية سنة سبع وعشرين (¬3). وقال: كنتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكان يعتقبني على راحلته، وسمَّاني مُتعبًا، فكان يقول: "تعال يا مُتعب فاركب". فكان أحبَّ أسمائي إليَّ (¬4). ومات سنة إحدى وستين وهو ابن إحدى وسبعين سنة. وقيل: ابن ثمانين سنة (¬5). أسند الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وروى عن أبي بكر، وعُمر - رضي الله عنهما -. و[روى عنه] ابنُه محمد بنُ حمزة، وسليمان بنُ يسار، وعروة بنُ الزبير، وأبو سلمة بنُ عبد الرحمن (¬6). الشَّريد بن سُوَيْد الثَّقفيّ كنيتُه أبو عَمرو، وهو الذي أردفَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خلفَه، وأنشدَه من شعر أميَّة بن [أبي] الصَّلْت. أسند الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7). قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا أبو أحمد، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي قال: سمعتُ عَمرو بنَ الشريد يذكر عن أبيه قال: استنشدني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من شعر أميَّة، فأنشدتُه، فكلَّما أنشدتُه بيتًا قال: "هيه". حتى أنشدتُه مئة قافية، فقال: "إنْ كادَ لَيُسْلِمُ". انفرد بإخراجه مسلم (¬8). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 220. وما بين حاصرتين منه. (¬2) تاريخ دمشق 5/ 310 (مصورة دار البشير). (¬3) المصدر السابق 5/ 316. (¬4) المصدر السابق 5/ 318. (¬5) المصدر السابق 5/ 318 و 319. (¬6) تاريخ دمشق 5/ 310، وتهذيب الكمال 7/ 334، وما بين حاصرتين من قِبلي لفرورة السياق. (¬7) ينظر "طبقات" ابن سعد 8/ 74. (¬8) مسند أحمد (19457)، وصحيح مسلم (2255).

المنذر بن الجارود العبدي

وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا هُشَيم (¬1)، عن يعلى بن عطاء، عن عَمرو بن الشريد، عن أبيه قال: كان في وفد ثَقِيف رجلٌ مجذوم، فأرسلَ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجِع، فقد بايعناك". انفرد بإخراجه مسلم (¬2). المنذر بن الجارود العبدي من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة. وُلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنيته أبو الأشعث، وقيل غير ذلك. كان المنذر جوادًا سيّدًا، ولَّاه عليٌّ - عليه السلام - إصطخر، فلم يأته أحد إلا وصله، ثم ولاه عُبيد الله بنُ زياد ثغر الهند، فتوفيَ هناك في سنة إحدى وستين -أو [أول] اثنتين وستين- وهو ابنُ ستين سنة. وكان من أمراء عليّ رضوان الله علمِه يومَ الجمل على عبد القيس، ووفدَ على معاوية. ولما ولاه عُبيد الله بنُ زياد ثغرَ الهند خرج معه يُشيِّعُه، فتعلَّق لواؤه بشيء، فاندقَّ، فاسترجع عُبيد الله وقال: لا يرجع إليكم المنذرُ أبدًا. فما رجع (¬3). نوفل بن معاوية ابن عمرو بن صخر بن يَعْمَر بن نُفاثة بن عدي بن الدِّيل. كان أبوه معاوية علي بني الدِّيل في يوم الفِجار، له يقول تأبط شرًّا: فلا وأبيها ما نزلنا بعامرٍ ... ولا عامرٍ ولا النُّفْاثيّ (¬4) نَوْفلِ ¬

_ (¬1) هو ابنُ بشير، ووقع في (خ): هشام، وهو خطأ. (¬2) مسند أحمد (19474)، وصحيح مسلم (2231). (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 122 و 9/ 85 - 86 (ترجمة أبيه الجارود)، وتاريخ دمشق 17/ 200 - 202 (مصورة دار البشير) وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬4) في (ب) و (خ): إلا المعاني! والمثبت من "الاشتقاق" ص 174، و"أسد الغابة" 5/ 371. ورواية "الاشتقاق": لعَمْر أبينا ... والرواية في "الأغاني" 21/ 139: =

السنة الثانية والستون

ونوفل من الطبقة الثالثة من المهاجرين، شهد فتحَ مكةَ وحنينًا والطائف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق مع المشركين. وكان له ذِكْر ومكانة، ثم أسلم وحسُن إسلامُه، وحجَّ مع أبي بكر - رضي الله عنه - سنة تسع، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر، وعاش مئة وعشرين، ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام. وتوفي في هذه السنة (¬1). أسند نوفل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث. وابنُه سَلْمَى بن نوفل؛ كان من أجواد العرب، وفيه يقول الشاعر: تُسَوَّدُ أقوامٌ وليسوا بسادةٍ ... بلِ السَّيِّدُ المحمودُ سَلْمَى بنُ نَوْفَلِ (¬2) السنة الثانية والستون فيها سارَ عَمرو بنُ سعيد بن العاص إلى الشام لمَّا ولَّى يزيدُ بنُ معاوية الوليدَ بن عتبة بن أبي سفيان الحجاز. [و] لمَّا قدم الوليد بنُ عُتبة المدينةَ أخذَ غلمانًا لعمرو بن سَعِيد، فحبَسَهم، وحبسَ مواليَه، فأرسلَ إليه عَمرو: أَطْلِقْ مواليَّ وغلماني، فامتنع، وقال: لا بأس عليك، فلا تجزع، فقال أخوه أبانُ بنُ سعيد: أخي عَمرو يجزع! واللهِ لو قبضتُم على الجمر، وقبضَ عليه؛ ما تركَه حتى تتركوه. فخرج عمرو من المدينة نحو الشام، فنزل على ليلتين من المدينة، وكتب إلى غلمانه ومواليه، وكانوا نحوًا من ثلاث مئة رجل: قد بعثتُ إليكم ثلاث مئة جمل، فإذا أناخت بالمدينة، فاكسِرُوا باب الحبس واخرجوا، وليركب كل واحد جملًا، والحقُوني. ¬

_ = فلا وأبيك ما نزلنا بعامرٍ ... ولا عامرٍ ولا الرئيس ابن قَوْقلِ ولا بالشليل ربِّ مروان قاعدًا ... بأحسن عيش والنُّفاثيِّ نوفلِ قال أبو الفَرَج: عامر بن مالك أبو براء، ملاعب الأسنَّةَ، وعامر بن الطُّفيل، وابن قَوْقل: مالك بن ثعلبة. (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 131 - 132. (¬2) المصدر السابق، والمنتظم 6/ 11. وبنحوه في "الكامل " للمبرد 1/ 111، و"الاشتقاق" ص 174، و"الأغاني" 13/ 276، و"العقد الفريد" 2/ 288. وفي بعضها: سَلْم بنُ نوفل.

ولما وصلت الجمال؛ كسروا باب الحبس وركبوها، وخرجوا يطلبونه، فوجدوه قد تقدَّمهم، فساروا خلفَه. وقدم على يزيدَ بن معاوية، فرحَّب به وأكرمه وأدنى مجلسه، وعاتبه على تقصيره في أشياء كان يأمرُه بها في ابن الزبير، فلا يُنفذ منها إلا ما أراد، فقال له: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإنَّ جُلَّ أهل الحجاز قد مالوا إليه وبايعوه سرًّا وعلانية، وأعطَوْه الرِّضى، ولم يكن معي من الجند ما أتقوَّى بهم عليه لو ناهصتُه، وقد كان يحذر مني، وكنت أُدارِيه وألطف به لأتمكَّن منه، أو تلوح لي فرصة فأثبَ عليه، وقد بعثتَ الوليد، وسترى من خبره ما تعرفُ به مبالغتي [في أمرك] ومناصحتي لك. فشكره يزيد وقال: أنت أصدقُ ممَّن رمى إليَّ عنك (¬1) هذه الأشياء، وحملني بها عليك، وأنت ممَّن أثقُ به وأرجو معونته، وأدَّخرُه لرأب الصَّدْع وكفاية الهمّ، وكشف النوازل العظام. فقال له عَمرو: ما أرى أحدًا أولى بالقيام في (¬2) مديد سلطانك وتوهين كيد عدوِّك مني. وأقام عمرٌو عنده. وأما الوليد بن عتبة فوام أمرَ ابنِ الزبير؛ فلم يقدر لاحترازه وشدَّة امتناعه (¬3). وفيها خرج نَجْدةُ بنُ عامر الحنفي الحروريُّ باليمامة لمَا قُتل الحسين - رضي الله عنه -، وكان على رأي الخوارج، وقام معه أهلُ اليمامة، وثار ابنُ الزبير بمكَّة. وافترقَ الناس ثلاث فِرَق في الموقف، فكان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان يُفيض من المُعَرَّف (¬4) ويفيض معه عامة الناس، وابنُ الزبير واقف في أصحابه، ونجدة واقفٌ في أصحابة، ثم يفيض ابن الزبير بعد الوليد ويفيض نجدة بعد ابن الزبير. ¬

_ (¬1) في (خ): إليك عنك، والمثبت من (ب). وفي "تاريخ الطبري" 5/ 479: ممَّن رقَّى هذه الأشياء عنك. (¬2) في (خ): من. والمثبت من (ب). (¬3) تاريخ الطبري 5/ 478 - 479. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 354. (¬4) هو موضع الوقوف بعرفة. ينظر "معجم البلدان" 5/ 154. وتحرفت اللفظة في (ب) و (خ) إلى: المغرب.

وكان نَجْدَةُ يلقَى ابنَ الزُّبير كثيرًا يتحدَّثان، حتى ظنَّ أكثرُ الناس أنه سيُبايعُه (¬1). وفيها عزل يزيد الوليدَ بنَ عتبة عن الحجاز، وسببُه أنَّ ابن الزُّبير افتعل كتابًا على لسان أهل الحجاز إلى يزيد بن معاوية: أمَّا بعد، فإنَّك بعثتَ إلينا رجلًا أخرقَ، لا يتِّجه لأمر رَشَد، ولا يرعوي لِعظةِ الحليم، فلو بعثتَ إلينا رجلًا سهلَ الأخلاق، ليِّنَ الكَنَف؛ رَجَوْنا أنْ يتسهَّل من الأمور ما توعَّر منها، وأن يجمع ما تفرَّق، فانظر في ذلك، فإنَّ فيه صلاحَ خواصِّنا وعوامِّنا إن شاء الله تعالى. فعزل الوليدَ، وولَّى عثمانَ بنَ محمد بن أبي سفيان، فقدم الحجاز حَدَثًا غِرًّا، لم يُحنّكه السّنّ، ولم تهذِّبه (¬2) التجارب، ولم تضرِّسه (¬3) الأمور، فكان لا يكاد ينظر في شيء من أمر السلطان، ولا من أمرِ العمل. فأرسل عثمانُ جماعةً من أهل المدينة وافدين على يزيد، منهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبدُ الله بنُ أبي عَمرو بن حفص بن المغيرة المخزوميّ، والمنذر بن الزبير بن العوَّام، والمِسْوَر بنُ مَخْرمة، ورجالًا من أهل الشَّرَف، فلما دخلوا على يزيد أكرمهم، وأحسنَ إليهم، وأعظمَ جوائزَهم، فا نصرفوا من عنده، وقدموا كلُّهم المدينة إلا المنذرَ بنَ الزُّبير، فإنه قدم البصرة على عُبيد الله بن زياد، وكان يزيد قد أجازه بمئة ألف درهم. فلمَّا قدم أولئك النفر المدينة؛ أظهروا شتمَ يزيد وعيبه، وقالوا: إنّا (¬4) قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشربُ الخمر، ويعزف بالطنابير، وتعزف عنده القِيان، وإنَّا نشهدكم (¬5) أننا قد خلعناه. فبايعهم (¬6) الناس. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 479. وينظر "أنساب الأشراف"4/ 354. (¬2) رسم الكلمة في النسختين (ب) و (خ): تهدم، ولعل الصواب ما أثبتُّه إن شاء الله. فهو المناسب إلى رسمها. (¬3) في (ب) و (خ): ولا تضربه. وعبارة تاريخ الطبري 5/ 479 - 480: فقدم فتى غرٌّ حَدَث غَمْر، لم يجرّب الأمور، ولم يحنكه السنّ، ولم تضرِّسه التجارب. (¬4) في (ب) و (خ): بما، بدل: إنّا، والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 480. (¬5) في (ب) و (خ): أشهدكم، والمثبت من "تاريخ الطبري". (¬6) في المصدر السابق: فتابعهم.

وكان يزيد قد أجازَ عبد الله بنَ حنظلة بمئة ألف درهم، وكان معه ثمانية، فأجاز كلَّ واحد منهم بعَشَرَة آلاف درهم سوى الكسوة. فلما قدم المدينة سأل الناسُ عنه، فقال: واللهِ لقد أتيتُكم من عند رجل لو لم أجدْ غيرَ بنيَّ هؤلاء لجاهدتُه بهم. فقالوا: قد أعطاك ووصلك! فقال: واللهِ ما قبلتُ ذلك منه إلا لأتقوَّى به عليه (¬1). ثم أظهر الباقون شتمه وعيبه، وقالوا: قدمنا من عند فاسق يشربُ الخمر، ويلعب بالطنابير والكلاب والقرود، وقد خلعناه كما خلعنا نِعالنا. فامتلأ المسجد بالنِّعال. قال إبراهيم بن عبد الرحمن بن ربيعة المخزومي: لما وثبَ أهل المدينة ليالي الحرَّة، فأخرجوا بني أمية عن المدينة وأظهروا عيب يزيد بن معاوية وخلافه، أجمعوا على عبد الله بن حنظلة، وأسندوا أمرهم إليه، فبايعهم على الموت وقال: يا قوم اتقوا الله، فواللهِ ما خرَجْنا على يزيد حتى خِفْنا أن نُرْمَى بالحجارة من السماء، إنَّ رجلًا ينكح الأمهات والبنات والأَخَوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة، لحقيقٌ بالقتال والقتل. واللهِ لو لم يكن أحدٌ من الناس لأبليتُ للهِ فيه بلاءً حسنًا. فتواثب الناسُ يومئذٍ يُبايعون من كل النواحي. وما كان لعبد الله بن حنظلة تلك الليالي مبيت إلا في المسجد، وما كان يزيدُ على شَرْبةٍ من سَوِيق (¬2)، يُفطر عليها إلى مثلها من الغد يؤتى بها في المسجد، وكان يصومُ الدهر، وما رُئيَ رافعًا رأسه إلى السماء حياءً من الله تعالى وإخْباتًا (¬3). وأما المنذر بن الزُّبير؛ فإنه أقام عند عُبيد الله بن زياد بالبصرة يُكرمه ويُحسن إليه، وكان صديقًا له. فبينا هو عنده إذ جاء كتابُ يزيد بن معاوية -حين بلغه ما فعل ابنُ حنظلة والجماعة الذين كانوا معه- إلى ابن زياد يأمره أن يُوثِق المنذر بنَ الزبير وبحبسَه عنده حتى يأمرَ فيه بما يراه، فكره ابنُ زياد ذلك وكونه ضيفه، فأقرأَه كتابَ يزيد، وأخبرَه أنه كارهٌ لذلك، وقال له: قد أصبحتَ لي ضيفًا، وكنتَ وادًّا لأبي، [و] قد أسديتُ إليك ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 9/ 152 (مصورة داو البشير- ترجمة عبد الله بن حنظلة). (¬2) السَّوِيق: طعامٌ يتخذ من مدقوق الحنطة والشعير. (¬3) المصدر السابق 9/ 153.

معروفًا، وأُحبُّ أنْ اتبعه بإحسان، فإذا اجتمع الناس عندي فسَلْني أن تلحقَ ببلادك، فإذا قلتُ: أقم عندنا فلك الكرامة، فقل: لي ضَيعة وشُغْل، ولابدَّ من انصرافي. فلما اجتمع الناس قام فقال له ذلك، وقال له ابن زياد: أقم عندنا فلك الكرامة والمواساة، فقال: لا بدَّ لي من الانصراف. فأذِنَ له. فقدم المدينة، فكان ممَّن يحرِّضُ الناسَ على يزيد ويقول: واللهِ لقد أجازني بمئة ألف درهم، وما يمنعني ما صنع أن أُخبركم بحاله، واللهِ إنه ليشربُ الخمر، ويسكر، ويدع الصلاة. وبلغ يزيدَ، فقال: اللهمَّ إني أكرمتُه وآثرتُه، ففعل وقال ما قد علمتَ، اللهمَّ فجازه على الكذب والقطيعة (¬1). ذكر قدوم النعمان بن بشير المدينة: ولما فعل أهل المدينة ما فعلوا قال يزيد للنعمان: ائتِ عِدادَ الناس ثم قومَك (¬2)، فائتهم فافْثَأْهُم (¬3) عمَّا هم فيه وما يريدون، فإنَّ قومك إنْ لم ينهضُوا في هذا الأمر لم يتجاسر أحد على خلافي، وبها من عشيرتي من لا أوثر أن ينهض في هذه الفتنة فيهلك. فادْعُهم إلى الطاعة وخوِّفهم الفتنة والفرقة وسفك الدماء. فقدم النعمان المدينة، فدعا قومه، وخوّفهم الفتتة وقال: لا طاقة لنا بأهل الشام، وإنما أنا رجلٌ منكم. فقال له عبد الله بنُ مطيع العدويُّ: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا وإفسادِ ما أصلحَ اللهُ من أمرنا؟ ! فقال له النعمان: أما واللهِ لكأني بك إذا أقبلت الرجال تضربُ مفارق القوم وجباههم بالسيوف، وقد دارَتْ رحى المنون بين الفريقين؛ قد هربتَ على بغلتك تضرب جنبيها إلى مكة، وخلَّفْتَ هؤلاء المساكين -يعني الأنصار- يُقتلون في سككها وعلى أبواب دورهم وفي مساجدهم. فكان كما قال. وانصرف النعمان إلى يزيد فأخبره الخبر (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 480 - 481. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 357. (¬2) عبارة أنساب الأشراف: إن عدد الناس في المدينة الأنصار، وهم قومك وعبارة الطبري: ائتِ الناس وقومك إلخ. (¬3) في (ب) و (خ): فالقهم. والمثبت من المصدرين السابقين. (¬4) أنساب الأشراف 4/ 357، وتاريخ الطبري 5/ 481.

ثم إنّ أهل المدينة اجتمعوا عند المنبر وخلعوا يزيد مرة ثانية، وكان يزيد لما شهد عليه الجماعة بشرب الخمر وفيهم المِسْور بن مخرمة؛ كتب إلى عامله عثمان بن محمد أن حُدَّ المِسْورَ حدَّ شاربِ الخمر. فجلده ثمانين، فقال ابن أبي عزَّة (¬1): أيشربُها صفراءَ كالمِسْكِ ريحُها ... أبو خالد ويُضربُ الحدَّ مسورُ (¬2)؟ ! ولم يوافقهم عبد الله بنُ عمر - رضي الله عنهما-، فقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا إسماعيل، حدثنا صخر بن جُويرية، عن نافع قال: لمَّا خلعَ الناسُ يزيد بنَ معاوية؛ جمعَ عبد الله بنُ عمر بنيه وأهلَه، ثم تشهَّد وقال: أمَّا بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بَيع الله ورسوله، وإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الغادرَ يُنصبُ له لواءٌ يومَ القيامة يقال: هذه غَدْرَةُ فلان". وإنَّ من أعظم الغدر أن يُبايع رجلٌ رجلًا على بَيع الله ورسوله، ثم ينكث بَيعَتَه. فلا يخلعن أحدٌ منكم يزيدَ، ولا يُشرفنَّ أحدٌ منكم في هذا الأمر، فيكون صَيْلَمٌ (¬3) بيني وبينه. أخرجاه في الصحيحين (¬4). وفيها ولد محمد بن عبد الله بن عباس (¬5) والد الخلفاء من بني العباس. وفيها وُلد عمر بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه -، وقيل في السنة الماضية. وفيها كتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد أن يغزوَ عبد الله بنَ الزبير بمكة بجند العراق، فقال ابن زياد: لا والله، لا أجمعُهما للفاسق؛ قَتْلَ ابنِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقتل ابن حواريِّه، وغزوَ بيتِ الله. وكانت أمّه مَرْجانة امرأةَ صِدْقٍ، فشاورَها، فقالت: ما كفاك ما فعلتَ بابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تفعل ذلك (¬6)؟ ! ¬

_ (¬1) في (خ): عروة، والمثبت من (ب). وفي "أنساب الأشراف" 4/ 356 - 357: أبو حرَّة. (¬2) نُسب البيت في "المعارف" 429، و"العقد الفريد" 4/ 35، و 6/ 346 للمسور، والبيت فيهما بنحوه. (¬3) في (ب): صدا، وفي (خ): هذا. والمثبت من "مسند أحمد" (5088)، وفي رواية البخاري (7111): الفيصل، وهما بمعنى. (¬4) صحيح البخاري (3188)، وصحيح مسلم (1735) دون ذكر القصة. (¬5) تاريخ الطبري 5/ 481. (¬6) ينظر "تاريخ الطبري" 5/ 483 - 484، و"المنتظم" 6/ 13.

بريدة بن الحصيب

وحجَّ بالناس عثمان بن محمد بن أبي سفيان، ولم يمكِّنه ابن الزبير من دخول مكة، فوقف ناحية. وكان عمال هذه السنة عمال السنة الماضية. وفيها توفي بُرَيدَة بنُ الحُصَيْب من الطبقة الثانية من المهاجرين. قدم المدينة بعد بدر وأُحُد، وأقامَ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغزا معه مغازيَه كلَّها بعد بدر وأُحُد. واستعمله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أسارى المُرَيسِيع، وكان معه يومَ الفتح لواءُ أسلم، ولم يزل مقيمًا معه بالمدينة حتى مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومُصِّرت البصرة، فنزلَها، واختطَّ بها، ثم خرج إلى خراسان، وعبر النهر غازيًا، ومات بمَرْو (¬1)، ودُفن في مقبرة جِصِّين (¬2). وأسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة وستةً وستين حديثًا (¬3)، منها حديث التُّرك. قال الإمام أحمد رحمه الله (¬4): حدثنا أبو نُعيم، حدثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بُريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يسوقُ أمتي قومٌ عِراضُ الوجوه، صِغارُ الأعين، كأنَّ وجوهَهم الحَجَف، ثلاث مرات، حتى يلحقوا بهم بجزيرة العرب. أما السائقة الأولى؛ فينجو من هرب منهم، وأما الثانية؛ فيهلك بعض وينجو بعض. وأما الثالثة؛ فيُصطَلَمُون (¬5) كلُّهم من بقي منهم". ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 227 - 228، و 9/ 8. (¬2) بكسر الجيم، أو فتحها. ينظر "معجم البلدان" 2/ 141. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 364، وفيه: مئة وسبعة وستون. (¬4) في "المسند" (22951). (¬5) أي: يُستأصلون.

الربيع بن خثيم

قالوا: يا نبيَّ الله، من هم؟ قال: "هم التُّرك. أَمَا والذي نفسي بيدء ليَربِطُنَّ خيولَهم إلى سواريَ مساجد المسلمين". قال: وكان بُريدةُ لا يفارقه بعيران وثلاثة (¬1)، ومتاع السفر، والأسقية، يُعدُّ ذلك لهربٍ (¬2)، مما سمع من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من البلاء من الترك. ومن مسانيده: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النفقةُ في الحجِّ كالنفقة في سبيل الله بسبع مئة ضعف" (¬3). الرَّبيع بن خُثَيم الكوفي الثوري، من الطبقة الأولى من التابعين، كنيتُه أبو يزيد، وكان عالمًا فاضلًا، زاهدًا عابدًا، ورعًا خاشعًا. وكان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول للربيع: يا أبا يزيد، لو أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآك لأحبَّك، وما رأيتُك إلا وذكرتُ المُخْبِتين. وكان إذا رآه قرأ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34] (¬4). وكان إذا جاء إلى باب ابن مسعود يقول عبد الله للجارية: مَنْ بالباب؟ فتقول: ذاك الشيخ الأعمى. من خشوعه (¬5). وقال أبو حيَّان التيمي [عن أبيه قال: ] ما سمعتُ الربيعَ يذكر شيئًا من الدنيا قطّ، إلا أنه قال يومًا: كم للتَّيْم مسجد (¬6)؟ وكان يقول: اتقوا السرائر اللاتي يَخفَين من الناس، وهنَّ للهِ بوادي. قيل له: وما دواؤهنَّ؟ قال: أن تتوبَ ثم لا تعود (¬7). ¬

_ (¬1) في "مسند" أحمد: أو ثلاثة. (¬2) في "المسند": للهرب. (¬3) مسند أحمد (23000). (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 303، وحلية الأولياء 2/ 106 و 107، وصفة الصفوة 3/ 60، المنتظم 6/ 8. (¬5) صفة الصفوة 3/ 59 - 60، المنتظم 6/ 8. (¬6) طبقات ابن سعد 8/ 303، وصفة الصفوة 3/ 60. وما بين حاصرتين منهما. (¬7) طبقات ابن سعد 8/ 305 - 306، وصفة الصفوة 3/ 61 - 62.

وقال إبراهيم التَّيمي: أخبرَني من صحبَ الرَّبيع عشرين عامًا، فما سمعَ منه كلمة تُعاب. وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحنا مذنبين، نأكلُ أرزاقَنا وننتظر آجالنا. وكان الربيع يتهجد في الليل، فمرت به هذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21]، فلم يزل يُردِّدُها حتى أصبح. وكان يُعجبه السُّكّر يأكلُه، فإذا جاءه السائلُ يناولُه منه، فقيل له: ما يصنعُ بالسكر؟ فيقول: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]. وكان يبكي حتى يبلَّ لحيته بالدموع ويقول: أدركنا قومًا نحن في جانبهم لصوص (¬1). وقال له عَزْرة (¬2): أوص لي بمصحفك. فنظر إلى ابنه وقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]. وأصابه الفالج، فقيل له: لو تداويتَ. فقال: قد مضت عادٌ وثمودُ وأصحابُ الرَّسّ وقرونٌ بين ذلك كثيرًا، كانت فيهم الأوجاع، وكان فيهم الواصف والموصوف له، فما بقي أحدٌ منهم (¬3). وقالت سُرِّيَّةُ الربيع: كان عملُه كلُّه سرًّا، إنْ كان الرجل لَيَجيءُ وقد نشر المصحف، فيغطِّيه بثوبه (¬4). وما رُئي متطوّعًا في مسجد قومه إلا مرَّة واحدة (¬5). وكان يقول: التمسوا الذنوب بالتوبة على أن لا تعودوا إلى مثلها. وكانت العصافير إذا سجد جاءت فوقعت على ظهره (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف في "الطبقات" 8/ 305 - 309، وصفة الصفوة 3/ 60 - 68. (¬2) في (ب) و (خ): عروة، والمثبت من "الطبقات". (¬3) المصدر السابق 8/ 311. (¬4) حلية الأولياء 2/ 107، وصفة الصفوة 3/ 61، والمنتظم 6/ 9. (¬5) صفة الصفوة 3/ 61. وبنحوه في "طبقات ابن سعد" 8/ 307. (¬6) صفة الصفوة 3/ 63.

وقالت له أمُّه: يا بنيّ، ألا تنام الليل؟ ! فقال: يا أمَّاه، مَنْ جَنَّ عليه الليل وهو يخاف البيات حُقَّ له أن لا ينام، فلما رأَتْ ما به من القلق والسَّهَر قالت: يا بنيّ، لعلك قتلتَ قتيلًا؟ ! فأقول: نعم. فتقول: من هو حتى يتحمَّل أهلُك عنك دِيَتَه؟ فيقول: هي نفسي (¬1). إن جهنم لا تدعني أنام (¬2). وقال أبو عبد الله السُّلَمي: ضرب الربيعَ الفالجُ، فطال وجعُه، فاشْتَهى دجاجةً، فشَوَوْها له، فلما وضعوها بين يديه جاء سائل فقال: تصدَّقوا عليَّ. فقال: ادفعوها إليه. فقالت سُرِّيَّتُه: أنا أُعطيه ثمنها وكُلْ أنتَ شهوتَك. فقال: هات الثمن. فأحضرته، فقال: ادْفعي الجميع إلى السائل (¬3). وكان قميصُه يساوي ثلاثة دراهم. وقال له أصحابه: لو جالستنا؟ فقال: لو فارق قلبي ذكر الموت ساعة لفسد. وكان يقول: أنا بعصافير المسجد آنسُ بهم من أهلي. وقال أبو وائل: خرجنا مع عبد الله بن مسعود ومعنا الربيع، فمررنا بالحدادين، فوقف الربيع ينظر إلى الحديد كيف يخرج من الكير، فمال الربيع حتى كاد يسقط. ومررنا على أتُون تلتهب نارًا، فقرأ ابن مسعود: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]، فصَعِقَ الربيع من الظهر إلى المغرب (¬4). وتوفي الربيع بالكوفة في هذه السنة، ورَوَى عن ابن مسعود وغيره، وكان مشغولًا بالعبادة عن الرواية (¬5). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 114، وصفة الصفوة 3/ 63. (¬2) هذا القول في رواية أخرى في المصدرين السابقين يخاطب به ابنته لما قالت له: أرى الناس ينامون ولا تنام؟ (¬3) بنحوه في "صفة الصفوة" 3/ 64 - 65. (¬4) ينظر ما سلف في "صفة الصفوة" 3/ 66 - 67. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 312، وصفة الصفوة 3/ 68.

عبد الله بن سخبرة الأزدي الكوفي

عبد الله بن سَخْبَرَة الأزدي الكوفي أبو مَعْمَر، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. كان ورعًا فاضلًا، وكان إذا حدَّث بالحديث وفيه لَحْن؛ حدَّث اقتداءً بما سمع (¬1). روى عن علي، وعُمر، وابنِ مسعود، وخبَّاب، وأبي مسعود، وعلقمة - رضي الله عنهم -. وقد روي أنه سمع أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول: كفرٌ بالله ادِّعاءُ نسبٍ لا يُعرف. قال ابن سعد (¬2): وليس ذلك عندي يثبت. يعني سماع ابن سَخْبَرَة من أبي بكر رضوان الله عليه. عقبة بن نافع بن عبد قيس الفِهْريُّ أسلم يوم الفتح، وهو من الطبقة الرابعة من الصحابة (¬3). وأمُّه من لَخْم، وكان أبوه نافع مع هبَّار بن الأسود لمَّا نَخَسَ بعيرَ زينب عليها السلام بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا خرجت من مكَّة مهاجرة، وكان نافع أخا العاص بن وائل السَّهْمي لأمّه. وشهد عقبة فتح مصر، وبعثه عَمرو بنُ العاص إلى أرض النُّوبة، فبلغ ما بين بَرْقة وزَويلة (¬4). ولما وليَ معاويةُ بعث عقبةَ إلى إفريقية، ففتحَها واختطَّ القيروان، وبنى بها المساكن. ثم عزلَه معاوية، وولَّى مَسْلَمةَ بنَ مُخَلَّد مصرَ وإفريقية. وكان لمسلمة مولى يقال له: دينار، ويكنى أبا المهاجر، فأساء عزلَ عقبة (¬5). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 223 - 224. (¬2) في "الطبقات" 8/ 223. وما قبله منه. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 138. غير أن ابن عبد البر قال في "الاستيعاب" ص 563: وُلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تصحُّ له صحبة. ونقل ابن حجر في "الإصابة" 7/ 230 عن ابن يونس قوله: يقال: له صحبة، ولا يصحّ. وقال ابن عساكر 48/ 116: الأظهر أنه لا صحبة له. (¬4) ينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 139، و"تاريخ دمشق" 48/ 119 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) في الكلام اختصار. وتفصيلُه أنَّ مَسْلَمَة بن مُخَلَّد (وزن محمد) وجَّه مولاه أبا المهاجر إلى إفريقية، وعزل عقبةَ بن نافع، فأساء أبو المهاجر عزلَه. ينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 141.

فرجع عقبة إلى معاوية، فقال له: إني فتحتُ البلاد وبنيتُ المساجد وفعلتُ وفعلتُ، فأساء عزلي، فاستحيى معاويةُ منه وقال: ارجع إلى عملك. فرجع. وقيل: أنه أقام حتى مات معاوية، وولَّاه يزيد إفريقية سنة اثنتين وستين، ومضى إليها، وقيَّد أبا المهاجر وأوثقَه، ثم خرج عن إفريقية، فعرض له كُسَيلَة الأودي (¬1) في جمع من البربر، والتقَوْا، فقُتل عقبة، وقتل أبوالمهاجر في قيوده. وقال الواقدي: كان عمر - رضي الله عنه - قد منع الناسَ غزوَ إفريقية شفقةً عليهم، فلما مات غزاها عثمان بعبد الله بن سعد. فلما قدم معاوية ولَّى عقبةَ بنَ نافع إفريقية، فخرج إليها في عشرة آلاف من المسلمين، فافتتحها واختطَّها، وبنى مكان قيروانها، وكان موضعُه غَيضَة عظيمة لا تُرام من السِّباع والحيَّات والحشرات، فدعا عقبةُ اللهَ تعالى، فخرج ما كان فيها بإذن الله تعالى حتى إنْ كانت السِّباع لتحمل أولادَها. وكان عقبة قد وقف على الغَيضَة وقال: مَنْ وجدناه ها هنا، من الجنّ قتلناه، فارتَحِلُوا. وكان عقبة مجاب الدعوة (¬2). وقال خليفة: لما قيَّد [أبا] المهاجر وكبَّلَه؛ غزا السُّوس الأدنى وهو معه مُوثَق بالحديد، وكان حَنِقًا عليه -والسُّوس خلف طَنْجة- فلم يعرض له أحد، فانصرف راجعًا إلى إفريقية، فلما انتهى إلى تَهُوذة -وهي على ثمانية أيام من إفريقية- أمر أصحابَه فتفرَّقوا عنه، ولم يبقَ معه إلا نفرٌ يسير، فبلغ كُسَيلَةَ، وكان نصرانيًّا، فعرض له في جمع من الروم والبربر، فاقتتلوا، وقُتل عقبة، وأبوالمهاجر في قيوده. ثم سار كُسَيلةُ إلى القيروان، فلقيَه زُهير بن قيس على بريد من القيروان، فقتلَ زهيرٌ كُسَيلةَ وأصحابَه قتلًا ذريعًا (¬3). ¬

_ (¬1) في "طبقات ابن سعد" 6/ 142: الأوربي، وفي "تاريخ دمشق" 48/ 126: الأوددي. (¬2) ينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 140، وتاريخ خليفة" ص 210، و"تاريخ دمشق" 48/ 122 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) ينظر "تاريخ خليفة" ص 251، و"تاريخ دمشق" 25/ 148 - 126.

علقمة بن قيس

وفتح عقبةُ غالبَ بلاد البربر، والقيروان اليوم هي التي اختطَّها عقبة بنُ نافع. علقمة بن قيس ابن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان النَّخَعي، أبو شِبْل، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. قال ابنُ سعد: كان عبد الله بنُ مسعود يُشْبِهُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان علقمة يُشَبَّهُ بعبد الله. يقال: إنه وُلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عمُّ عبد الرحمن والأسود ابنَي يزيد (¬2) بن قيس، وخالُ إبراهيم النَّخَعي. وكان علقمة والأسود يسافران مع ابن مسعود، وحجَّا مع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - (¬3). وحجَّ علقمة مع عمر - رضي الله عنه - ثلاث حجج، وصلى خلفه سنين، وكان من أكابر أصحاب ابن مسعود. وكان إذا قرأ عليه يقول: رتِّلْ، فداؤك أبي وأمي، فإنك زين القرَّاء (¬4). وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألون علقمة يستفتونه، وكان من الرَّبَّانيِّين (¬5). وقال منصور: قلتُ لإبراهيم: شهدَ علقمةُ صفِّين؟ قال: نعم، وقاتلَ حتى خَضَبَ سيفَه دمًا، وقُتلَ (¬6) فيها أخوه [أُبيُّ] بنُ قيس. وقيل لعلقمة: لو دخلتَ على الأمير فأمرته بخير، فقال: لن أُصيبَ من دنياهم شيئًا إلا أصابوا من ديني أفضل منه (¬7). ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 8/ 207: يُشَبَّهُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وينظر "تاريخ دمشق" 48/ 299 - 300 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) تحرف في (ب) و (خ) إلى: وأبي زيد. وينظر "تاريخ دمشق" 48/ 296. (¬3) في "تاريخ دمشق" 48/ 298 أن الأسود وعلقمة كانا يسافران مع أبي بكر وعمر. (¬4) ينظر "طبقات ابن سعد" 8/ 209 و 210، و"تاريخ دمشق" 307 - 308. (¬5) تاريخ دمشق 48/ 311 و 314. وينظر "طبقات ابن سعد" 8/ 211. (¬6) في (ب) و (خ): وقال! والمثبت من "طبقات ابن سعد" 8/ 207، و"طبقات" خليفة ص 196، وما يأتي بين حاصرتين منهما. (¬7) طبقات ابن سعد 6/ 210، وينظر "تاريخ دمشق" 48/ 317.

عمرو بن حزم

وأقام علقمة بمرو سنتين يصلي ركعتين، وقيل: بخوارزم (¬1). وكان يختم القرآن في كل ستّ -أو سبع أو خمس- ليال (¬2). وكان في بيته يعلفُ لغنمه، ويفتُّ لهنَّ (¬3). وكان بعين واحدة، ومات بالكوفة سنة اثنتين وستين. وقيل: ما بين الستين إلى السبعين (¬4). أسند علقمة الحديث عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وابن مسعود، وحُذيفة، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وخبَّاب، وسلمان الفارسيّ، وأبي مسعود، وعائشة - رضي الله عنه -، فِي آخرين. وروى عنه علماء الكوفة، والنَّخَعي، والشعبي، وغيرهما (¬5). عَمرو بن حزم ابن زيد الأنصاري، من الطبقة الثالثة من الأنصار، وكنيتُه أبو الضحَّاك، وأمُّه خالدة بنت أبي أنس، من بني ساعدة. استعملَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نجران وهو ابن سبع عشرة سنة (¬6)، وكتب له كتابًا مشهورًا عند أهل العلم في الصدقات والدِّيَات. وكان يُعلِّم أهلَ نجران السنن، ويأخذُ منهم الصدقات، وتوفّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عاملُه على نجران (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 212. (¬2) في "تاريخ دمشق" 48/ 315: كان علقمة يقرأ القرآن في خمس، والأسود في ستّ، وعبد الرحمن بن يزيد في سبع. (¬3) تاريخ دمشق 48/ 317 - 318. (¬4) جاء في "تاريخ دمشق" 48/ 325 - 327 أنه مات سنة 61 أو 62 أو 63 أو 65. وينظر "سير أعلام النبلاء" 4/ 61. (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 48/ 288، و"تهذيب الكمال" 20/ 301. (¬6) في (ب) و (خ): تسع عشرة سنة، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 5/ 318، و"تاريخ دمشق" 33/ 55 (طبعة مجمع دمشق) وهو الصواب. (¬7) ينظر "طبقات ابن سعد" 5/ 317 - 318، و"تاريخ دمشق" 55/ 31 - 43. وينظر أيضًا "السنن الكبرى" للنسائي (7029)، و"صحيح ابن حبان" (6559).

مسلمة بن مخلد

ومات عمرو بالمدينة في هذه السنة (¬1). وكان له من الولد محمد، وقُتل يوم الحَرَّة، وخالد، وعبد الله، ومعاوية، وسلمان (¬2)، ومَعْمَر، وعامر، وحضرمي، وأمّ كلثوم، وعمارة، وخالدة، وحارثة، وحبيبة، وحفصة، ونائلة، وجميلة. أسند عمرو الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. مَسْلَمة بن مُخَلَّد [ابن] الصامت الأنصاري، أبو معمر، ذكره ابنُ سعد فيمن نزل من الصحابة بمصر (¬3)، وحكى عنه أنه قال: أسلمتُ وأنا ابنُ أربع سنين، وماتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابنُ أربعَ عشرةَ سنة. وقد روى مَسْلَمةُ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتحوَّل إلى مصر، فنزلَها، وكان من أهل خربتا، ثم صار إلى المدينة، فمات بها (¬4). وشهد صفّين مع معاوية أميرًا على أهل فلسطين، وكان في الميسرة (¬5). وقد قيل: إنه لم يشهدها. ¬

_ (¬1) وذكره أيضًا فيمن توفي في هذه السنة (يعني سنة 62) ابنُ الجوزي في "المنتظم" 6/ 10، وابن كثير في "البداية والنهاية" 11/ 612. غير أنه جاء في المصادر الأخرى أنه توفي سنة (51) أو (52) أو (53) أو (54). وقال ابن الأثير في "أسد الغابة" 4/ 215: الصحيح أنه توفي بعد الخمسين لأن محمد بن سيوين روى أنه كلّم معاويةَ بكلام شديد لما أراد البيعة ليزيد. اهـ. وعبارة ابن الجوزي في "المنتظم": عاش عمرو حتى أدرك معاوية وبيعته لابنه يزيد. قلت (القائل رضوان): وإنما دعا معاوية الناس إلى بيعة يزيد سنة (56) كما سلف، فلعل ابن الجوزي وهم وأورده في "المنتظم" في وفيات هذه السنة (ونقله عنه المصنف) ولعل ابن كثير نقل كلام ابن الجوزي بالمعنى فوهم وقال: أدرك أيام يزيد بن معاوية، والله أعلم. وينظر أيضًا "تهذيب التهذيب" 3/ 264. (¬2) في "الطبقات" 5/ 318: سليمان. (¬3) في "الطبقات" 9/ 509، وذكره أيضًا 6/ 562 في الطبقة الخامسة من الصحابة، وهم الذين توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أحداث الأسنان. (¬4) كذا في "طبقات ابن سعد" 6/ 563 و 9/ 509. لكن أخرجه ابن عساكر 67/ 182 من طريقه، وفيه: ثم صار إلى المغرب، فمات بها في خلافة معاوية بن أبي سفيان. اهـ. وسيرد أيضًا أنه مات بمصر دون أن ينبه المؤلف (أو المختصر) إلى ذلك. (¬5) تاريخ دمشق 67/ 187 (طبعة مجمع دمشق).

أم سلمة رضوان الله عليها

وأقام واليًا على مصر خمس عشرة سنة، واختطَّ بها، وتوفي بها وهو أميرٌ عليها. وقيل: مات بالإسكندرية سنة اثنين وستين في ذي القَعْدة. وقال مجاهد: صليتُ خلف مسلمة بن مخلد، فقرأ سورة البقرة في الصلاة، فما ترك منها واوًا ولا ألفًا (¬1). أسند مسلمةُ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج له الإمام أحمد رحمه الله حديثًا واحدًا؛ قال (¬2): حدثني محمد بنُ بكر، أخبرنا [ابن] جُريج، عن المنكدر، عن أبي أيوب الأنصاريّ، عن مسلمة بن مخلد، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سترَ مسلمًا في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة، ومَنْ نجَّى مكروبًا فكَّ الله عنه كُرْبَةً من كُرَب يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته". أمُّ سَلَمة رضوان الله عليها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسمُها هند بنت أبي أمية. [قال ابن سعد (¬3): واسم أبي أمية] سهيل (¬4) بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر (¬5) بن مخزوم. وكان يقال لأبيها: زاد الراكب؛ لأنَّ رفيقه لا يحتاج معه في السفر إلى زاد. وأزواد الراكب من قريش ثلاثة: هذا، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، وأبو أمية أشهرهم بذلك. وقيل: اسمه حذيفة. [وذكرنا تزويج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها في سنة أربع من الهجرة]. وكانت أمُّ سلمة - رضي الله عنها - من أفاضل أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمُّها عاتكة بنت عامر بن ربيعة من بني كنانة [وقد ذكرنا طرفًا من أخبارها، وأنها أنكرت على عائشة خروجها إلى البصرة نوبة الجمل. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 67/ 187 و 188. (¬2) مسند أحمد (16959). (¬3) في "الطبقات" 10/ 85. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) في (ب) و (خ): سهل. والمثبت من "الطبقات". (¬5) في (ب) و (خ): عمرو، والمثبت من "الطبقات".

واختلفوا في وفاتها فقال الواقدي: ] توفيت في سنة اثنتين وستين في شوال، وصلَّى عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكانت أوصت أن لا يصليَ عليها، فما التفت، [وصلَّى بالناس العصر، ثم صلى عليها، وفي الناس ابنُ عمر، وأبو سعيد الخُدري. وروى ابن سعد عن الواقدي أنها توفيت في سنة تسع وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة (¬1). والأول أصح، لأنها كانت باقية لما قُتل الحسين، وقد ذكرنا هذا. وقال الموفق رحمه الله (¬2): ماتت في سنة ستين.] وكان لها يوم ماتت أربعٌ وثمانون سنة. وهي آخرُ أزواجِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - موتًا. ذكر أولادها: وكلُّهم من أبي سلمة - رضي الله عنه -، وهم [سلمة، و] عُمر، وزينب، ودُرَّة، وأمُّ كلثوم (¬3). فأما عمر؛ فكنيتُه أبو حفص؛ توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله تسع سنين، وشهد الجمل مع عليّ - عليه السلام -، بعث برايته إليه، وولَّاه عليّ رضوان الله عليه البحرين، ثم عزله، وولَّاه فارس، وقيل: حلوان، وقيل: ما سبذان. وتوفي في أيام عبد الملك بن مروان بالمدينة. وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث (¬4). وأما زينب؛ فلم يولد بالحبشة سواها، وتزوَّجَها عبد الله بن زَمْعة بن الأسود، فولدت له عبدَ الرحمن، ويزيد، ووَهْبًا، وأبا سلمة، وكبيرًا، وأبا عبيدة، وقريبة، وأمَّ كلثوم، وأمَّ سلمة. وقد كانت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - أرضعت زينب بلِبان ابنها عروة بن الزبير. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 93. (¬2) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 77، والكلام بين حاصرتين كلُّه من (م). (¬3) المصدر السابق ص 77 و 382 - 384. وما بين حاصرتين منه. (¬4) ينظر "طبقات ابن سعد" 6/ 532 - 533، و"الاستيعاب" ص 480، و"التييين في أنساب القرشيين" ص 383.

السنة الثالثة والستون

وكان اسمُها بَرَّة، فسمَّاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زينب، وقال: "لا تُزَكُّوا أنفسكم، والله أعلم بأهل البِرّ منكم". روت زينب عن أمِّها، وروى عنها عروة، وهو أخوها من الرِّضاع، وتوفّيت في أيام طارق بالمدينة (¬1). أسندت أمُّ سلمة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال ابن البرقي: أسندَتْ ثلاث مئة وثمانية وسبعين حديثًا (¬2). السنة الثالثة والستون فيها أخرجَ أهلُ المدينة عثمان بنَ محمد بن أبي سفيان عاملَ يزيد من المدينة ومن كان بها من بني أمية. قال أبو مِخْنَف: لما بايع أهلُ المدينة عبدَ الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد؛ وثبوا على عامله، وعلي بني أمية ومواليهم، ومن يرى رأيهم من قريش، وكانوا نحوًا من ألف رجل، فأخرجوهم فنزلوا دار مروان بن الحكم، وحاصروهم فيها حصارًا ضعيفًا. وكان مروان يدبّر أمرهم (¬3)، وكان عثمان بن محمد غلامًا حَدَثًا ليس له رأي، وكان عمرو بن عثمان متفقًا مع مروان على تدبير الأمور، فكتبوا إلى يزيد بن معاوية مع حبيب بن كُرَّة يخبرونه بأنَّهم قد حُصروا، وكان عبد الملك معهم، فشرطوا على حبيب أن يسير في اثنتي عشرة ليلة، ويعود في مثلها. قال حبيب: وخرج معي عبد الملك بن مروان، فقال: بعد أربع وعشرين ليلةً تجدني في هذا المكان جالسًا أنتظرُك في مثل هذا الوقت. وكان في الكتاب: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 428. وطارق: هو ابنُ عَمرو مولى عثمان بن عفَّان، وليَ المدينةَ لعبد الملك بن مروان خمسة أشهر سنة ثلاث وسبعين. ينظر "تاريخ دمشق" 8/ 488 (مصورة دار البشير). (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 364. (¬3) في (ب) و (خ): وكان مروان بن بدر أميرهم! والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 482.

أما بعد، فإنَّا محصورون في الدار، فيا غوثاه. ثلاثًا. قال حبيب: فقدمتُ دمشق، فدخلتُ على يزيد بن معاوية وهو جالس على كرسيّ واضع قدميه في طَسْت فيه ماء، وكان به وجع النّقْرِس، فقرأ الكتاب، وتمثَّل: لقد بدَّلُوا الحِلْمَ الذي من سَجِيَّتي ... فبدَّلتُ قومي غِلظةً بلَيانِ ثم قال: أما يكون بنو أمية ألف رجل مع مواليهم؟ قلتُ: بلى وأكثر. قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار؟ ! قلتُ: اجتمع الناسُ كلُّهم عليهم، فلم يكن لهم بهم طاقة. فبعث إلى عَمرو بن سعيد، فأقرأه الكتاب، وأمرَه أن يسير [إليهم] في الناس، فقال له: قد كنتُ ضبطتُ (¬1) لك البلاد، وأحكمتُ الأمور، فأمَّا الآن؛ فحيثُ صارت دماء قريش تُهراق بالصعيد، فلا أحبُّ أن أتولَّى (¬2) ذلك، يتولَّاه من هو أبعدُ مني منهم. فبعثني بالكتاب إلى مسلم بن عقبة المُرِّي -وهو شيخ كبير ضعيف مريض- فدخلتُ عليه بالكتاب، فقرأه وقال مثل ما قال يزيد، ثم قام معي فدخل على يزيد، فقال له: لا تمنعنَّ هؤلاء فإنهم أذلَّة، ما استطاعوا أن يقاتلوا ساعةً من نهار، أو يومًا واحدًا؟ ! فقال له يزيد: لا خير في العيش بعدهم. اخْرُجْ فاندُب الناس، وفرّق فيهم أعطيتهم. فقال حبيب: فأقبلتُ فأجدُ عبد الملك بن مروان جالسًا في ذلك المكان بعينه في الساعة التي عيَّنَها، فأخبرتُه الخبر فسُرَّ، ودخل على مروان وبني أمية فأخبرهم. وسار مسلم بن عقبة بذلك الجيش، وكان معاوية قد قال ليزيد: إنَّ لك من أهل المدينة يومًا عظيمًا، فارْمِهم بمسلم بن عقبة، وأوصاه بذلك (¬3). فقال له: إنْ حدثَ بك (¬4) حادث فاستخلفْ على الجيش حُصين بن نُمير السكوني، وقال له: ادْعُ القومَ ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): أضبطت. والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 483 وما بين حاصرتين منه. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 358. (¬2) في (ب) و (خ): أقول. والمثبت من "تاريخ الطبري". (¬3) تاريخ الطبري 5/ 495، وتاريخ دمشق 67/ 228 - 229 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة مسلم بن عقبة). (¬4) في (ب) و (خ): به. وهو خطأ. وهذا قول يزيد لمسلم، وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 359، و"تاريخ الطبري" 5/ 484.

ثلاثًا، فإن أجابوك، فَسِرْ إلى ابن الزُّبير، وإلَّا فقاتِلْهم، فإذا ظهرتَ عليهم فأَبِحْها ثلاثًا بما فيها من مال وسلاح وطعام للجند، فإذا مضت الثلاث؛ فاكفف عن الناس، وانظر عليَّ بنَ الحسين فاستَوْصِ به، وقرِّبْ مجلسه، فإنه لم يدخل فيما دخل فيه القوم، وقد جاءني كتابُه. وعليٌّ لم يعلم بوصية يزيد لمسلم، وقد كان عليُّ بن الحسين - رضي الله عنهما - خرج بنو أمية أوى إليه مروان وامرأتُه عائشة بنت عثمان بن عفان. قال الواقدي: لما أخرجَ أهلُ المدينة عثمان بنَ محمد كلَّم مروان عبدَ الله بنَ عمر أن يُغيِّب أهلَه عنده، فأبى ابنُ عمر أن يفعلَ ذلك، وكلَّم مروانُ عليَّ بن الحسين، فقال: يا أبا الحسن، إنَّ لي رَحِمًا، فأريدُ أن يكون حُرَمِي مع حُرَمك. فقال: ابعث بهنَّ. فبعث بحُرَمِه إلى عليّ، فخرج بحُرَمِه وحُرَمِ مروان، فأنزلَهم بينبُع، فكان مروان يرى لعليّ ذلك. ولمَّا قرُب الجيش من المدينة وثبَ أهلُها علي بني أمية، فأخرجوهم بعد أن أخذوا العهودَ عليهم والمواثيق أنهم لا يبغونهم غائلة، ولا يدلُّوا عدوَّهم على عورة [و] (¬1) كانوا عزموا على قتلهم لولا الأَيمان. ولما خرجوا؛ خرجت عائشة بنت عثمان بن عفان - رضي الله عنها - إلى الطائف، فمرَّت بعليّ بن الحسين - رضي الله عنه - وهو بمالٍ له ظاهر المدينة قد اعتزلَها كراهيةَ أن يشهد شيئًا من أمرهم، فقال لها: خذي ابني عبد الله معك، فحمَلَتْه إلى الطائف (¬2). وسار بنو أمية، فلقُوا مسلم بنَ عقبة بوادي القُرى، وتوجَّه مسلم إلى المدينة في اثني عشر ألفًا، وقيل: في سبعة وعشرين ألف فارس، وخمسة عشر ألف راجل. وبلغ يزيد أنَّ ابن الزبير خطب وقال: أيها الناس، إني قد خلعتُ يزيدَ الخمور، ويزيد الطنبور، ويزيد الفجور، ويزيد القرود والصيود، ويزيد السلوات والفَلَوات، والأمَّهات والأخوات والبنات. ثم حثَّ على جهاده، ودعا إلى نفسه، وكتب إلى ¬

_ (¬1) الواو بين حاصرتين زيادة من عندي من أجل السياق. والكلام بنحوه في "تاريخ الطبري" 5/ 485. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 485.

المدينة بإخراج عامل يزيد (¬1). ولما بلغ يزيد ذلك لبس ثيابًا معصفرة، وجلس في بيته وقال: أبْلِغْ أبا بكر إذا الليلُ سَرَى ... وهبطَ القومُ على وادي القُرَى أجَمْعَ سَكْرانَ من القوم ترى ... يا عجبًا من مُلحدٍ قد افترى فلما قدمت بنو أمية على مسلم بوادي القُرى، قال لهم: أشِيرُوا عليَّ. فسكتوا، فقال لعمرو بن عثمان: أشِرْ عليَّ فقال: لا أستطيع أن أخبرك شيئًا؛ أخذَ القومُ علينا العهود والمواثيق أن لا ندل على عورة، ولا نُظاهر عدوًّا. فانتهرَه وقال: لولا أنك ابنُ عثمان لقتلتك. فقال لعبد الملك: ماذا ترى؟ فقال له: انزل شرقيَّ المدينة، تأكل ثمارَها، وإذا قاتلوك تكون وجوهُهم في الشمس، وأنت في الظل، ثم قاتلهم، واستَعِنْ بالله عليهم، فإن الله ناصرُك عليهم؛ إذْ خلعوا طاعة الإمام، وفارقوا الجماعة. فقال له مسلم: للهِ دَرُّك (¬2). فقيل لعبد الملك: نقضتَ العهد. فقال: {إِنَّهُمْ لَا أَيمَانَ لَهُمْ}. ونزل شرقيَّ المدينة، وفعل ما قال عبد الملك، وركب مسلم فرسه، وجاء إلى المدينة، فوقف قريبًا منها، ونادى: يا أهل المدينة، إنَّ أمير المؤمنين يزيدَ يزعُم أنكم الأصل، وإنه يكره هراقة دمائكم، وإني قد أجَّلْتُكم ثلاثًا، فمن رجع إلى الحق قبلناه منه، وانصرفنا عنكم إلى هذا الملحد الذي في الحرم بمكة، وإنْ أبيتُم كنَّا قد أعذرنا إليكم. وأقام ثلاثًا، فلمَّا مضت الثلاث قال: يا أهل المدينة، ماذا تصنعون؟ أتُسالمون، أم تحاربون؟ قالوا: نُحارب. قال: لا تفعلوا، ادخلوا في الطاعة، ونجعلُ حدَّنا وشوكتنا على هذا الملحد الذي في الحرم الذي قد جمعَ أكثر المرَّاق والفسَّاق من كل أوب. فقالوا: يا عدوَّ الله، واللهِ لو أردتُم أن تجوزوا إليهم لما تركناكم ندعكم أن تأتوا بيتَ الله فتُخيفوا أهلَه، وتستحلُّوا حُرْمَتَه، لا واللهِ لا نفعل. ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 356. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 486. وينظر " (أنساب الأشراف" 4/ 359 - 360.

وكانوا قد خَنْدَقُوا عليهم، وانقسموا أربعةَ أرباع: عبد الله بنُ مطيع على رُبْع، ومعقل بنُ سنان الأشجعي على رُبْع، وعبد الرحمن بن أزهر (¬1) بن عبد عوف ابنُ عمّ عبد الرحمن الزُّهري على رُبْع، وكان عبد الله بن حنظلة أميرًا على الكلّ، وهو أكثرُهم عددًا (¬2)، وأشدُّهم نكاية، وأحنقُهم على يزيد. وأصبح مسلم بقرب من المدينة، والتَقَوا، فاقتتلوا، وضرب مسلمٌ فُسطاطه من ناحية المشرق، وبعث إليهم الخيل، فحمل ابنُ الغسيل في الرجال الذين معه، فكشفَ الخيل حتى وصلوا إلى مسلم بن عقبة، فنهض في وجوههم بالرجال، وصاح عليهم، واشتدَّ القتال، فقال الفضل بنُ العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب لعبد الله بن حنظلة: مُرْ مَنْ كان معك من الفرسان فليأتني حتى أبلغ مسلمًا، فإمَّا أن أقتله، أو أُقتل. فقال عبد الله بنُ حنظلة لعبد الله بن الضحاك من الأنصار: نادِ في الخيل فلتقف مع الفضل بن عبَّاس. فنادى فيهم، فاجتمعوا إلى الفضل، فقال لهم: احملوا. فحملوا على أهل الشام، فانكشفوا، وقصد الفضلُ رايةَ مسلم، فضرب حاملَها على رأسه وعليه المِغْفَر، فقطَعه، وفلقَ هامتَه، فقتله وهو يظنُّ أنه مسلم بنُ عقبة، فقال: خُذْها وأنا الفضل بن العبَّاس (¬3). ثم قال: قتلتُ طاغيتَهم وربِّ الكعبة. وكان مسلم ناحيةً عن الرَّاية في خمس مئة راجلٍ جُثاةً على الرّكَب، مُشْرِعي الأَسِنَّة، فناداه مسلم: أخطأَتْ اسْتُك الحُفَيرة. وإنّما كان حاملُ الراية بعض غلمانه يقال له: روميّ، وكان شجاعًا. ثم أخذ مسلم الراية، ونادى: يا أهل الشام، ما هذا القتال؟ قوم يريدون أن يدفعوا عن دينهم وينصروا إمامهم، قبَّحه الله من قتال. واللهِ ما تستحقون العطاء، شُدُّوا مع هذه الراية. ثم حمل والتقاه الفضلُ بنُ العباس وأصحابُه وقصده، وصار أهل الشام كلُّهم مع الراية، فقاتل الفضلُ حتى سقط، وما بينه وبين أطناب فسطاط مسلم إلا نحو من عشرة ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ)، والأصل الخطي لـ المنتظم 6/ 14 (كما في حواشيه). وفي "تاريخ الطبري" 5/ 487، و"الكامل" 4/ 115: زهير. (¬2) لفظ العبارة في "تاريخ الطبري" 5/ 487، والمنتظم 6/ 14: وكان أميرُ جماعتهم عبدُ الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري في أعظم تلك الأرباع وأكثرها عددًا. . . وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 361. (¬3) انقلب الاسم في (خ) و (ب)، فوقع فيهما: العباس بن الفضل. وعبارة الطبري: خُذْها مني وأنا ابنُ عبد المطَّلب.

أذرع، وقُتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف، وإبراهيم بن نُعيم العدويّ، ورجال من أهل المدينة [كثير] (¬1). وقال هشام: كان مسلم بن عقبة مريضًا يوم القتال، فأمرَ بسريره، فوُضع بين الصَّفَّين، واستلقى عليه وقال: يا أهل الشام، قاتِلُوا عن أميركم، أو دَعُوا. فحملوا على أرباع أهل المدينة، فهزموهم وعبد الله بن حنظلة واقف، فاجتمع إليه من انهزم من تلك الأرباع، وحمل الفضل بن العباس حتى وصل إلى سرير مسلم، وكان حسنَ اللون أحمر أزهر، فلما رفعَ السيف ليضرب به رأسَ مسلم؛ صاح مسلم بأصحابه: إن العبد الأحمر قاتلي، فأين أنتم يا بني الحرائر! اشتجِروه بالرماح. فطعنوه حتى صُرع (¬2). ثم إن خيل مسلم ورجالَه حملوا على عبد الله بن حنظلة، واستَدْعَى مسلم بفرسه، فركبه، وجعل يحرِّضُ أهلَ الشام، ويذكِّرُهم الأحساب والأنساب، ثم عاد إلى مكانه الذي كان فيه (¬3). ونادى ابنُ الغسيل: يا أهل دار الهجرة، ما أظنُّ أنَّ الله رَضِيَ عن أهل بلد من بلدان الإسلام بأرضى منه عنكم، ولا هو على بلد أسخطَ منه على هؤلاء، الشهادةَ، ثم الشهادة. ثم زحفَ برايته غير بعيد، ووقف، وأمر مسلم بنُ عقبة عبد الله بنَ عِضاه الأشعريّ، فزحفَ إلى ابنِ الغسيل في خمس مئة، فدنَوْا منهم، وترامَوْا بالنَّبْل، فصاح ابنُ الغَسِيل: مَنْ ارادَ أن يتعجَّل إلى الجنة فليلزمْ هذه الرَّاية. وقاتل قتالًا شديدًا لم يُرَ مثلُه، ثم جعل يُقدِّمُ بنيه بين يديه واحدًا بعد واحد، حتى قُتلوا بين يديه، فقُتل، وقُتل معه أخوه لأمه محمد بنُ ثابت بن قيس بن شمَّاس، وقتل معه محمد بنُ عمرو بن حَزْم الأنصاريّ. ومرَّ عليه مروان فقال: يرحمُك الله، فرُبَّ ساريةٍ قد رأيتُك تُطيل القيام إلى جنبها (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 488 - 489. وما بين حاصرتين منه. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 362 - 363. (¬2) أنساب الأشراف 4/ 363، وتاريخ الطبري 5/ 489. (¬3) ينظر المصدران السابقان. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 490 - 491.

وقال الهيثم: حمل عبدُ ألله بنُ حنظلة على أهل الشام حتى خرقَ الصفوف وهو في أوائل الخيل ومعه بنوه، فغشيَه النُّعاس، فمال إلى بعض بنيه، ثم انتبه، وإذا قد أنهزم أصحابُه والتكبيرُ في المدينة، فكسرَ جَفْن سيفِه، وقاتل حتى قُتل هو وأولادُه (¬1). وقيل: إنه نزلَ يصلِّي الظهر، فقتلُوه في الصلاة. وقاتل محمد بن سعد بن أبي وقاص قتالًا شديدًا، فلما انهزمَ الناس انهزم. وقُتل أعيانُ الأنصار، وهرب عبدُ الله بنُ مطيع على بغلته إلى مكة، وأباح مسلم المدينةَ ثلاثًا يقتلُون أهلَها، وينتهبون المال، ويقع أهل الشام على النساء، فأفزع ذلد من فيها من الصحابة، فخرج أبو سعيد الخدري، فدخل كهفًا في الجبل، فرآه رجل من أهل الشام، فدخك خلفَه، قال أبو سعيد: فانتضيتُ سيفي لأُرعبه لعلَّه ينصرف وهو يُقدم عليَّ، فشِمْتُ سيفي (¬2)، ثم قلت له: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} [المائدة: 28] قال: مَنْ أنتَ؟ قلت: أبو سعيد الخُدري. قال: صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: نعم. فانصرفَ عني (¬3). وحكى المدائني عن رجل من قريش قال. كنتُ أنزل بذي الحُليفة، فخرجتُ يومًا إلى المسجد، وإذا برجلٍ مريض، فقلت: مَنْ أنت؟ فقال: من خَثْعم، أقبلتُ من نجران إلى ها هنا، فمرضتُ، فانصرفَ أصحابي وتركوني. قال: فحوَّلتُه إلى منزلي، وخدمتُه، وأحسنتُ إليه، وقمتُ عليه أَحسن القيام، فصحَّ وأقامَ عندنا مدَّةً كواحدٍ منَّا. وصُغْتُ لزوجتي حُلِيًّا من مئة دينار، وهو يراه. وخرج الرجلُ إلى الشام، وتحوَّلنا إلى المدينة، فلما كان يومُ الحرَّة، خرجتُ من داري، فلمَّا انهزمَ الناس، عُدتُ إليها، وإذا بالرجل وأصحابِه ينهبون مالي، فقال: ما جئتُ إلا لأحقنَ دماءكم، أما الأموال فقد أباحها لي الأمير، وأنا أحقُّ مَنْ أخذَ مالك. فقلتُ له: اصرفْ أصحابَك وخُذه وحدَك. فصرفَهم، ثم قال: وأين الحُلِيّ؟ قلت: على ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 373، و"تاريخ الطبري" 5/ 495، و"تاريخ دمشق" 67/ 229. (¬2) أي: غمدتُه، وشامَه أيضًا: استلَّه. ضدٌّ. (معجم متن اللغة). (¬3) ينظر "تاريخ الطبري" 5/ 491.

حاله. قال: فهاتِه. قلتُ: لما خرجنا من ذي الحليفة دفنتُه عند البئر التي تعرف في الدار، فإذا جاء المساء خرجنا إليها، فدفعتُه إليك. فقال: نعم. فلما أمسينا جاء، فخرجتُ ومعي اثنان من غلماني، فانتهينا إلى البئر، وطولُها ثلاثون ذراعًا، فقلتُ له: احفر ها هنا عند رأس البئر. فأخذَ يحفر، فدفعناه، فوقع فيها، فاختنق، فلما أصبحنا جاء رجل ممَّن كان معه بالأمس، فقال: أين أبو المحرّش؟ قلنا: مضى من تحت الليل. فقال: خدَعَنا وأخذ المتاع. قلنا: ما أخذَ شيئًا، والمتاعُ عندنا، فادخلْ فخُذْهُ. فدخلَ، فأغلقنا الباب وقتلناه (¬1). قال هشام: وجيء بجماعة من أعيان أهل المدينة إلى مسلم وهو نازل بقُباء، فأُتِيَ برجلين من قريش بعد الوقعة بيوم، وهما يزيد بن عبد الله بن زَمْعة (¬2)، ومحمد بن أبي جَهْم بن حُذيفة العدويّ، فقال: بايعا (¬3). فقال القرشيَّان: نُبايع على كتاب الله وسنَةِ رسوله. فقدَّمَهما، فضربَ أعناقَهما. فقال له مروان: سبحان الله يا مسلم! أتقتُل رجلين من قريش يبايعان على كتاب الله وسنَة رسوله؟ ! فقال: لو قلتَ مثلَ قولِهما ما رأيتَ السماء إلا بَرْقَة. وجيء بمعقل بن سِنان، فقال له: مرحبًا بأبي محمد، وكان صديقًا له قبل ذلك، وكان قد عطش، فسقاه ماءً بثلج (¬4)، وقال: والله لا شربتَ بعده ماءً أبدًا إلا في نار جهنَّم. فقال: أنشدك اللهَ والرَّحِم. فقال مسلم: ألستَ ليلة خرجتَ من عند أمير المؤمنين يزيد وقد أتيتَه ببيعة أهلِ المدينة، فقلتَ لي: سِرْنا شهرًا، ورجعنا من عند يزيد صِفْرًا، وأتينا ببيعة هذا الفاسق ابن الفاسق؟ ! إني آليتُ لا أقدرُ عليك في حرب أو غيرها إلا ضربتُ عنقَك. ثم قتله (¬5). ¬

_ (¬1) المنتظم 6/ 16 - 17. (¬2) في (ب) و (خ): ربيعة، وهو خطأ. والخبر في "تاريخ الطبري " 5/ 491 - 492، وسيرد في تراجم من قتل يوم الحرة. (¬3) في (ب) و (خ): بايعوا. . . والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 492. (¬4) في "تاريخ الطبري" وغيره أنه سقاه عسلًا بثلج. (¬5) تاريخ الطبري 5/ 492. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 365 - 366، و"الكامل" 4/ 119.

ثم أُتيَ بيزيد (¬1) بن وَهْب بن زَمْعَة (¬2)، فقال له: بايع. فقال: على سنَّة عُمر. فقال: اقتُلُوه. قال: أنا أبايع. قال: لا واللهِ لا أُقيلُك عثرتك. فقال له مروان: إنّه صهري. فأمر بمروان فوُجئت عنقُه، ثم أمر به فقُتل (¬3). وقال لأهل المدينة: بايِعُوا على أنكم خَوَلٌ ليزيد بن معاوية. فبايَعوه. ثم أُتي بعليّ بن الحسين - رضي الله عنهما-، فأقبل يمشي بين مروان وعبد الملك لليد التي كانت له عند مروان، وإنما أراد عليٌّ - رضي الله عنه - أن يلتمس عنده الأمان، فجاء فجلس بينهما، فدعا مروان بشراب، وإنما أراد أنْ يتحرَّم بذلك من مسلم لعليّ، فشربَ منه مروان، ثم ناولَه عليًّا، فلما وضع (¬4) في يده؛ قال له: مسلم: لا تشربْ من شرابنا. فأُرْعِدَ كفُّه ولم يأمنه على نفسه، وبقي القَدَح في يده لا يشربه ولا يضعُه. ثم قال له مسلم: إنما جئتَ تمشي بينهما لتأمنَ عندي، واللهِ لو كان هذا الأمرُ إليهما لقتلتُك، ولكنَّ أمير المؤمنين أوصاني بك، وأخبرني أنك كاتبتَه، فذاك هو الذي نفعَك عندي. ثم قال: إلى ها هنا. فأجلسه معه (¬5). وقال عَوَانة بن الحَكَم: أُتيَ بعليّ بن الحسين إلى مسلم؛ قال: مَنْ هذا؟ قالوا: عليّ. قال: مرحبًا وأهلًا. ثم أجلسه معه على السرير والطِّنْفِسة، وقال: إن أمير المؤمنين أوصاني بك، وهؤلاء الخُبثاء شغلوني عنك وعن صِلتك. ثم قال لعلي: لعلَّ أهلَك فزعوا؟ قال: إي والله. فأمر بدابَّته أنْ يُحمل عليها إلى أهله (¬6). ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري": بزيد. (¬2) في (ب) و (خ): ربيعة، والمثبت من الطبري وغيره. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 493. (¬4) في المصدر السابق: وقع. (¬5) تاريخ الطبري 5/ 493. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 367. (¬6) تاريخ الطبري 5/ 493 - 494.

وجئ بسعيد (¬1) بن المسيِّب فقال له: بايع. فقال: على كتاب الله تعالى، وسنّة رسولِه، وسنة أبي بكر وعمر. فقال: اقتلوه. فشهدوا أنّه مجنون، فأطلقه. قال هشام: وجيء بعَمرِو بنِ عثمان بن عفَّان، وكان ممَّن لم يخرج من المدينة مع من خرج من بني أمية، فزجَره وقال: يا أهل الشام، أتعرفون هذا؟ قالوا: لا. قال: هذا الخبيث ابنُ الطيّب، هذا عَمرو بن عثمان، إذا ظهر أهلُ المدينة؛ قال: أنا رجل منكم، وإذا ظهر أهل الشام قال: أنا ابنُ أمير المؤمنين. وأمر فنُتفتْ لحيتُه، ثم قال: يا أهل الشام، إن أمَّ هذا كانت تُدخل الجُعَل في فيها، ثم تقول لأمير المؤمنين: حاجَيتُك (¬2)، [ما] في فمي؟ وفي فمها ما ساءَها وباءَها. ثم خلَّى سبيله. وكان مروان ممَّن يحرِّضُ مسلم بن عقبة على أهل المدينة، فلما قدم على يزيد أكرمه ووصله. واختلفوا في وقعة الحرَّة، والأصحّ أنها كانت يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنه ثلاث وستين (¬3). وقال الزُّهري: كان القتلى يوم الحرَّة من أهل المدينة سبع مئة من وجوه قريش وأعيان المهاجرين والأنصار والموالي، وأما من لا يُعرف من عبد وحرّ وامرأة؛ فعشرة آلاف (¬4). وقال الحسن البصري: قتلوا ابنَيْ زينب بنت أمِّ سلمة ربيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وافتضّ أهل الشام ألف عذراء (¬6)، وقال مالك بن أنس: قُتل من وجوه القرَّاء سبع مئة. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): وعن سعيد. والصواب ما أثبته. وينظر "المنتظم" 6/ 16، و"البداية والنهاية" 11/ 622. (¬2) حاجاه، أي: ألقى عليه أُحْجِية (لغز يحتاج إلى حلّ)، وتحرفت لفظة حاجيتك في (ب) و (خ) إلى: صاحبك، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 494. وما بين حاصرتين منه، والخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 366 - 367. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 494، والمنتظم 6/ 17. (¬4) المنتظم 16/ 16، والبداية والنهاية 11/ 623. (¬5) تاريخ دمشق 67/ 232 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) المصدر السابق.

وقالت أمُّ الهيثم بنت يزيد: رأيتُ امرأة من قريش تطوف بالبيت، فعرضَ لها أسود (¬1)، فعانقته وقبَّلته، فقلت لها: يا أمة الله، أتفعلين هذا بهذا الأسود؟ فقالت: هو ابني وقع عليَّ أبوه يوم الحرَّة. وقال هشام بن حسان: ولدَتْ ألفُ امرأة بعد الحَرَّة من غير زوج (¬2). وبعث مسلم بن عقبة إلى يزيد برأس عبد الله بن حنظلة، فكتب إليه يزيد: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}. ولما قُتل أهل الحَرَّة، سمعَ الناسُ هاتفًا يهتفُ على أبي قُبيس بمكة وابنُ الزبير جالس عند البيت يسمع: قُتِلَ الخِيارُ بنُو الخيارِ ... ذَوُو المهابةِ والسماحْ الصائمون القائمون ... القانتون أولو الصلاحْ المهتدون المتقون ... السابقون إلى الفلاحْ ماذا بِواقِمَ (¬3) والبقيعِ ... من الجَحاجِحةِ الصِّباحْ (¬4) وأكثرُ شعرِ الأنصار في يوم الحَرَّة، فقال محمد بن أسلم: فإن تقتلُونا يومَ حرَّةِ واقمٍ ... فنحن على الإسلام أوَّلُ مَنْ قَتَلْ ونحن تركناكم (¬5) ببدرٍ أذلَّةً ... وأُبْنا بأسيافٍ لنا فيكمُ عَمَلْ (¬6) وأقام مسلم بنُ عقبة بالمدينة أيامًا، واستخلف عليها لما توجّه إلى مكة رَوْحَ بن زِنباع الجُذامي (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): الأسود. والمثبت من "المنتظم" 6/ 15. (¬2) المنتظم 6/ 15، والبداية والنهاية 11/ 621. (¬3) واقِم: أُطُم (حصن) من آطام المدينة، كأنه سمّي بذلك لحصانته، ومعناه أنه يردُّ عن أهله. وحَرَّة واقم إلى جانبه نُسبت إليه. "معجم البلدان" 5/ 354. (¬4) الجحاجحة: جمع الجحجاح، وهو السيد الكريم، والصِّباح: جمع صَبِيح، وهو مشرق الوجه. ووقع في (ب) و (خ): الجحاجح والصياح. والمثبت من "مختصر تاريخ دمشق" 3/ 156، وفيه بيت خامس: وبقاع يثرب ويحهنّ ... من النوادب والصياح (¬5) في "أنساب الأشراف" 4/ 371: قتلناكم. (¬6) في المصدر السابق: منكم ثَفَل. (¬7) أنساب الأشراف 4/ 368، وتاريخ الطبري 5/ 496، والمنتظم 6/ 17.

وفيها ولَّى يزيد بنُ معاوية الحارثَ بنَ خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي مكَّةَ، فقدمَها، فمنعه ابنُ الزبير من الصلاة لمَّا خلع أهلُ المدينة يزيدَ، وكان يزيد قد ولَّى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب مكَّة، فلم يعرض لابن (¬1) الزُّبير، فعزلَه وولَّى الحارث (¬2). ذكر أخبار الحارث: وسبب ولاية يزيد إيّاه أنَّ يزيد كان ولَّى مكةَ والمدينةَ عثمانَ بنَ أبي سفيان (¬3)، فلم يستقم له حال، فولَّى يحيى بن الحكم بن صفوان، فاقامَ أيامًا لم يعرض لابن (¬4) الزبير، وكان الحارث مقيمًا بمكّة، فكتب إلى يزيد يخبره بمداهنة يحيى ابنَ الزبير، فعزل يحيى، وولَّى الحارث، فمنعه ابنُ الزبير من الصلاة بالناس، فكان يصلي في داره بخدمه ومواليه وأهله. والعاص بن هشام -جدُّ الحارث- قتله عليٌّ - عليه السلام - يومَ بدرٍ كافرًا، وكان أبو لهب قد قَمَرَ العاص (¬5) (¬6) واسترقَّه، وجعلَه قَينًا (¬7)، فأخرجه مكانَه يوم بدر، فقُتل (¬8). وقال البلاذري وابن عبد البَرّ: كان العاص خال عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقتله عمر - رضي الله عنه - يومَ بدر (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): بن. (¬2) في رواية ابن سعد 7/ 55، ومن طريقه ابن عساكر 9/ 949 (مصورة دار البشير). (ترجمة عبد الرحمن بن زيد): الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة. (¬3) لم أقف على من ذكر أن يزيد جمع لعثمان (وهو ابن محمد) بن أبي سفيان مكةَ والمدينة، إنما ولّاه المدينةَ بعد أن عزل الوليد بن عتبة عنها سنة (62). ينظر "تاريخ دمشق" 47/ 22 - 23 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) في (ب) و (خ): ابن. (¬5) تاريخ دمشق 4/ 94 (مصورة دار البشير- ترجمة الحارث بن خالد بن العاص). (¬6) أي: غلبه في لعب القمار، وكان قامَرَه على ماله، فقمره، ثم قامره على نفسه، فقمره أيضًا. وانظر المصادر التالية. (¬7) أي: حدَّادًا. (¬8) الأغاني 3/ 311 (أخبار الحارث بن خالد). (¬9) ينظر "أنساب الأشراف" 3/ 347 و 8/ 293.

وكنيةُ الحارث هذا أبو وابصة، وكان شاعرًا، وهو القائل: مَنْ كان يسألُ عنَا أينَ منزلُنا ... فالأُقحوانةُ منَّا منزلٌ قَمَنُ (¬1) إذْ نلبس العيشَ صَفْوًا ما يُكَدِّرهُ ... طَعْنُ الوُشاةِ ولا ينبو به (¬2) الزمنُ وساير الحارث بن خالد عليَّ بنَ عبد الله بن عباس، فأصاب رِكابُ عليّ ساقَ الحارث، فأوجعَه، فقال الحارث: سبحان الله! ما رأيتُ أحدًا يُسايرُ الناس مثل هذا الرِّكاب. فقال عليّ: إنه عملُ قَين كان له بمكة. يُعرِّضُ بالعاص جد الحارث؛ لما أسلَمه أبو لهب قينًا بمكّة (¬3). وكان الحارث أشعرَ أهلِ زمانه من قريش يحذُو حَذْوَ عمرَ بن أبي ربيعة لا يتجاوز الغزل إلى مدحٍ ولا هجاء، وهو القائل: إنِّي وما نَحَرُوا غَداةَ مِنى ... عند الجِمار تؤودُها العُقْلُ (¬4) لو بُدِّلَتْ أعلى مساكنِها ... سُفْلًا وأصبح سُفْلُها يعلُو (¬5) فيظلُّ (¬6) يعرفُها الخبيرُ بها ... فيردُّه الإقْواءُ والمَحْلُ (¬7) وقال الهيثم: أقام الحارثُ في بيته معتزلًا للناس مدة أيام ابن الزبير، فلما وليَ عبد الملك ولَّاه إيَّاها (¬8) بعد قتل ابن الزبير، فلما كان في سنة خمس وسبعين (¬9) حجَّتْ عائشةُ بنتُ طلحة بن عبيد الله، فخرجت يومًا إلى الطواف وقد أذَّنَ المؤذِّن وكان الحارثُ يصلِّي بالناس، فأرسلت إليه: قد بقي من طوافي شيء يسير لم أُتمَّه، فاصبر ¬

_ (¬1) أي: خليق وجدير. (¬2) في "الأغاني" 3/ 325، و"تاريخ دمشق" 4/ 94 (مصورة دار البشير): بنا. (¬3) أنساب الأشراف 8/ 292 - 293. والقَين: الحدَّاد. (¬4) تؤودها: تُثقلُها. والعُقْل، جمع عِقال، وهو الحَبْل الذي يُعقل به البعير. (¬5) في (ب) و (خ): وأصبح علوها سفل. والمثبت من "الأغاني" 3/ 313. (¬6) في "الأغاني": فيكاد. (¬7) الإقواء: النزول بخلاء من الأرض، لا ماء فيه ولا ناس، والمَحْل؛ يقال: أرضٌ مَحْلٌ، أي: لا مرعى بها. (¬8) يعني مكّة. ووقع في (ب) و (خ): فلما وليَ عبد الملك مكَة ولَّاه إيَّاها. والصواب ما أثبتُّه، وينظر "تاريخ دمشق" 4/ 196 (مصورة دار البشير). (¬9) في (ب) و (خ): سبع وخمسين، وهو خطأ ظاهر. وسنة (75) هي السنة التي وليَ فيها الحارث بن خالد مكة لعبد الملك ينظر "الأغاني" 3/ 327.

عليَّ قليلًا. فأمرَ المؤذِّنين فكفَّوا عن الإقامة حتى فرغت من طوافها، وجعل الناس يصيحون: الصلاة، الصلاة. وبلغ عبدَ الملك، فكتب إليه: ويحك! أتركتَ الصلاةَ لأجل بنتِ طلحة؟ ! فقال: واللهِ لو لم تقضِ طوافَها إلى طلوع الشمس لَمَا كبَّرتُ. فعزله عبدُ الملك، فقال: ما أهونَ غضبَه عليَّ وعَزْلَه إذا رضيَتْ بنتُ طلحة. فقدم على عبد الملك، فأقام ببابه شهرًا لم يصل إليه، وجفاه عبد الملك، فانصرف وقال: عطفتُ عليك النفسَ حتى كأنَّما ... بكفَّيكَ بؤْسي أو لديكَ نَعِيمُها فما بي وإن أقْصَيتَني من ضَراعةٍ ... ولا افْتَقَرَتْ نفسي إلى مَنْ يَسُومُها (¬1) ولما ماتَ عمر بن عُبيد الله (¬2) التَّيمي عن عائشة قيل للحارث: ما يمنعُك الآن من تزويجها؟ فقال: كلا، لا يتحدَّت رجالات قريش أنَّ نَسِيبي بها (¬3) كان لشيءٍ من الباطل. وكان الحارث قد خطبَها قبل أن تتزوَّج بمصعب بن الزُّبير، فامتنعت منه، وكانت تحبُّه، فقيل لها: أتُحبِّينَه وتمتنعينَ منه؟ ! فقالت: فيَّ عيبٌ ما أُحبّ أن يَطَّلعَ عليه ولي الدنيا (¬4) وما فيها. قيل: وما هو؟ قالت: سوء خُلُق. وقيل: إنما وَرَّتْ بسوء الخلق، وإنَّما كان عيبُها كِبَر أُذنَيْها وقدميها. وكان الحارث يُشَبِّبُ بليلى بنت أبي مُرَّة بن عروة بن مسعود الثقفيّ، وأمُّها ميمونة بنتُ أبي سفيان بن حرب. ومن شعر الحارث في ليلى: لقد أرسَلَتْ في السِّرِّ ليلى تلُومُني ... وتَزْعُمُني ذا مَلَّةٍ طَرِفًا (¬5) جَلْدا ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 8/ 241، و"الأغاني " 3/ 317 - 318 و 339 - 340، وسياق الخبر فيهما عكس ما أورده المصنف هنا. وينظر أيضًا تاريخ دمشق 4/ 94 - 95 (مصورة دار البشير). (¬2) في (ب) و (خ) و"الأغاني" 3/ 327: عبد الله، وهو خطأ. (¬3) النَّسِيب في الشعر: الرقيق منه، المتغزَّل به في النساء. (¬4) في (ب): في الدنيا، ولم ترد هاتان الكلمتان في (خ). والمثبت أقرب إلى الصواب، فلفظ العبارة في "أنساب الأشراف" 8/ 241 - 242: كان فيَّ عيب، ما يسرُّني أنَّ لي طِلاعَ الأرض ذهبًا وأنه اطّلع عليه. (¬5) مَلَّةٍ، أي: مَلَل. وطَرِف، أي: لا يثبت على امرأة ولا صاحب.

وقد أخْلفَتْنا كلَّ ما وعدَتْ بهِ ... وواللهِ ما أخلفتُها عامدًا وَعْدا فقلتُ مجيبًا للرسول الذي أتى ... تُراه -لكَ الويلاتُ- مِنْ قولِها جِدَّا إذا جئتَها فاقْرَ السلامَ وقُلْ لها ... دَعِي الجَوْرَ ليلى واسْلُكي مَنْهجًا قصْدا أفي مُكْثِنا عنكم ليالٍ مَرِضْتُها ... تَزِيدِينَني ليلى على مرضي جُهْدا تَعُدِّينَ ذنبًا واحدًا ما جنَيتُهُ ... عليَّ وما أُحصي ذنوبَكُمُ عَدَّا فإن شئْتِ حرَّمتُ النِّساء سواكُمُ ... وإنْ شْئْتِ لم أطعم نُقاخًا (¬1) ولا بَرْدا (¬2) وخطب الحارثُ في مَقدَمِهِ دمشق عَمْرةَ بنت النعمان بن بشير الأنصاري، فقالت: كُهولُ دمشقَ وشُبَّانها ... أحبُّ إليَّ من الجالِيَهْ (¬3) لهم ذَفَرٌ كصُنانِ التُّيُو ... سِ أَعْيَا على المِسْكِ والغَاليَهْ وبلغ الحارث فقال: ساكناتُ العقيقِ أشهى إلى النَّفـ ... ـسِ من الساكناتِ دورَ دمشقِ يتضوَّعْنَ إنْ تطيَّبْنَ بِالمِسْـ ... ـكِ صُنانًا كأنّه ويحُ مَرْقِ (¬4) وتزوَّج الحارثُ أمَّ عبد الملك بنتَ عبد الله بن خالد بن أَسِيد -وهي أمُّ عمران ومحمد ابنَي عبد الله بن مطيع- وقال فيها: يا أمَّ عمران ما زالت وما بَرحَتْ ... بنا الصَبابةُ حتى مسَّنا الشَّفَقُ القلبُ تاقَ إليكم كي يُلاقِيكُم ... كما يتُوقُ إلى مَنْجاتِهِ الغَرِقُ تُؤتيك شيئًا قليلًا وهي خائفةٌ ... كما يمسُّ الحيَّةِ الفَرِقُ وأنشد رجلٌ هذه الأبيات وعمران [بن عبد الله] بن مطيع جالس، فذكر مجلس عمران، فاستحيا، فقطع البيت الآخِر، فقال له عمران: لا بأس عليك، فإنها كانت زوجتَه (¬5). ¬

_ (¬1) النُّقاخ: الماء البارد العذب. (¬2) ينظر "الأغاني" 3/ 332 - 333. (¬3) قال عوانة بن الحكم: الجالية أهل الحجاز، كان أهل الشام يسمّونهم بذلك لأنهم كانوا يجلون عن بلادهم إلى الشام. "الأغاني" 9/ 228. (¬4) نسب قريش ص 313 - 314، وتاريخ دمشق ص 259 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق). والأبيات بنحوها في "الأغاني" 9/ 227، والأوَّلان فيه لحميدة بنت النعمان بن بشير. (¬5) الأغاني 3/ 330 (وما بين حاصرتين منه)، وتاريخ دمشق 4/ 95 (مصورة دار البشير).

فصل في شهداء الحرة وغيرهم

فصل في شهداء الحَرَّة وغيرهم: إبراهيم بن نُعيم النَّحَّام ابن عبد الله بن أَسِيد العدويّ، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة. كان أحدَ الرؤوس يوم الحرَّة، فقُتل يومئذ، فمرَّ عليه مروان ومسرف (¬1) ويدُه على فرجه، فقال مروان: واللهِ لئن حفظتَه في الممات لطالما حفظتَه في الحياة. فقال مسرف: والله ما أرى هؤلاء إلا أهل الجنّة، لا يسمعُ [هذا] منك أهل الشام، فيُكركرَهُم عن الطاعة. فقال مروان: إنهم بدَّلُوا وغيَّروا. وكان لإبراهيم من الولد: محمد، وزيد، وعبدُ الله، وأبو بكر، وابنةٌ وأمُّها رُقَيَّة بنتُ عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وأمُّها أمُّ كلثوم بنت عليّ - عليه السلام - (¬2). أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري من الطبقة الأولى من التابعين، من أهل المدينة. كنيتُه أبو كثير، وقيل: أبو عبد الرحمن، وهو من سَبْي عين التمر الذي سَبَى خالدٌ في خلافة أبي بكر رضوان الله عليه، وبعثَ بهم إلى المدينة. قال ابنُ سِيرين: كاتب أبو أيوب الأنصاري أفلح على أربعين ألفًا، فجعل الناس يهنِّئونه ويقولون: ليَهْنِكَ العتقُ أبا كثير. فلما رجع أبو أيوب إلى أهله؛ ندم على مكاتبته، فأرسل إليه: اردُدْ إليَّ الكتابة، وارجع كما كنتَ رقيقًا. فقال له ولده وأهله: أترجعُ رقيقًا وقد أعتقك الله؟ ! فقال أفلح: واللهِ لا يسألُني شيئًا إلا أعطيتُه إياه. فجاء بمكاتبته إلى أبي أيوب، فكسرها، فمكث ما شاء الله، ثم أرسل إليه أبو أيوب فقال: أنتَ حرٌّ لوجه الله، وما كان لك من مال فهو لك. ولم يأخذ منه شيئًا. قُتل أفلح يومَ الحرَّة، وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكان له دارٌ بالمدينة، وكان ثقة قليلَ الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) يعني مسلم بن عقبة، ويسمّيه السلف مسرفًا لإسرافه وفتكه. (¬2) طبقات ابن سعد 69/ 17 - 170. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 88 - 89.

ذكوان مولى عائشة رضوان الله عليها

ذكوان مولى عائشة رضوان الله عليها وكنيتُه أبو عَمرو، وكان يؤمُّ قريشًا، وصلى خلفه عبد الرحمن بنُ أبي بكر. وكانت عائشة -رضي الله عنها- تصلِّي خلفَه في بيتها في رمضان ويقرأُ من المصحف (¬1). وهو من الطبقة الأولى من التابعين من موالي أهل المدينة، وله أحاديثُ قليلة. مات ليالي الحرَّة، وقيل: قُتل يومَ الحرَّة (¬2). ربيعة بن كعب الأسلميّ وكنيتُه أبو فراس، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين من أهل الصُّفَة. كان يخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو عمران الجَوْني: أقطع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وربيعةَ أرضًا فيها نخلة مائلة، أصلُها في أرض ربيعة، وفرعُها فِي أرض أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، فتنازعا، فقال أبو بكر رضوان الله عليه: هي لي، وقال ربيعة: هي لي. فأسرع إليه أبو بكر رضوان الله عليه، وكفَّ عنه ربيعة. فأراد قوم ربيعة أن يُسرعوا إلى أبي بكر، فمنعهم ربيعة وقال: أخافُ أن يغضبَ، فيغضبَ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيغضبَ اللهُ لغضب رسوله. ثم انطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرَه ربيعة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تردَّ عليه". فحوَّل أبو بكر وجهَه إلى الحائط يبكي. قال ربيعة: فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفَرْع لمن له الأصل (¬3). زيد بن محمد بن مَسْلَمة من الطبقة الثانية من التابعين، قُتل يوم الحَرَّة. ¬

_ (¬1) علّقه البخاري بنحوه في "صحيحه" (الفتح 2/ 184). (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 291، ومشاهير علماء الأمصار ص 75، والثقات 4/ 222. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 218. وأخرج أحمد الحديث مطوَّلًا (16577) وإسناده ضعيف جدًّا.

سائب خاثر المغني

قال الحُصين بن عبد الرحمن بن عَمرو بن سعد بن معاذ: أوَّلُ دُورٍ نُهبت يوم الحَرَّة -[والحربُ] لم تنقطع بعدُ- من دور المدينة دارُ بني عبد الأشهل، فما تركوا في المنازل من حُلِيّ على امرأة، ولا أثاث ولا ثياب (¬1)، ولا فراش إلا نقضُوا صوفَه، ولا دجاجةٍ إلا ذُبحت، ولا حمام إلا ذبح، ثم يُسَمِّطون الدجاجَ والحمامَ خلفَهم (¬2)، ثم يخرجون من هذا البيت، فيدخلون هذا البيت. فلقد مكثنا على ذلك ثلاثًا، ومسلمُ بنُ عقبة نازلٌ بالعقيق والناسُ في هذا الأمر حتى رأينا هلال المحرَّم. ولقد دُخل دارُ محمد بنِ مَسْلَمة، فتصايحَ النساء، فأقبل زيد بنُ محمد ومعه نفرٌ قِبَلَ الصوت، فوجدوا عشرة (¬3) ينتهبون، فقتلوا الشاميين، وخلَّصوا ما أخذوا منهم، وأقبلَ نفر آخر من الشاميين، فاقتتلوا على الباب وفي الدار، فقُتل زيدُ بنُ محمد على بابه، وقُتل معه سَلَمة بن عبَّاد بن وَقْش، وجعفر بن يزيد بن سِلْكان، فوُجدوا صَرْعى، وفي زيد بنِ محمد أربعٌ وعشرون ضربة (¬4)، منها أربع في وجهه. سائب خاثر (¬5) المُغَنّي أبو جعفر المدني، وكان منادم يزيد، ومعاويةُ يسمع غناءه فلا ينكر عليه. ولما نزل أهلُ الشام المدينةَ وفعلوا ما فعلوا؛ جعل السائب يقول: أنا مُغَنّ، وقد خدمتُ أميرَ المؤمنين يزيد. فقال له واحد من أهل الشام: غنّ لنا. فغنَّى، فقام إليه واحد، فقتله. فلما عُرضَتْ أسامي القتلى على يزيد وبلغ اسمَه قال: إنَّا لله، وبلغ القتل إلى سائب خاثر وطبقته! ما أظنُّ بقي في المدينة أحدٌ. ثم قال: قبَّح الله أهلَ الشام، لعلَّهم صادفوه في طريق أو في حائط مستترًا، فقتلوه. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): من حليّ ولا أثاث ولا ثياب على امرأة. والمثبت من "طبقات ابن سعد" 7/ 251. (¬2) أي: يعلّقونه بالسُّمُوط، وهي السُّيُور (والسُّيُور جمع سَيْر، وهو ما يُقَدُّ من الجلد طولًا). (¬3) الكلمة غير مجوَّدة في (ب) و (خ)، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 7/ 252. (¬4) في "الطبقات": أربع عشرة. (¬5) في "الأغاني" 8/ 321: سائب خاثر مولى بني ليث، أصلُه من فَيء كسرى. . . واسم أبيه يشا. اهـ. وفي "تاريخ دمشق" 7/ 60: سائب بن يسار. وتحرّف في (ب) و (خ) (في الموضعين) إلى: سائب بن جابر.

سعد بن زيد

وقيل: إنه خرج يقاتل فقيل له: ارجع، فما أنتَ من أهل القتال. فقال: واللهِ لا أرجعُ بعد شيء سمعتُه ورأيتُه من يزيد بن معاوية (¬1). سَعْد (¬2) بن زيد ابن ثابت الأنصاري، وأمُّه أمّ سَعْد بنت [سعد بن] الربيع، من الخزرج، قُتل يوم الحَرَّة، وقُتل معه سبعة من إخوته، وهم: سعيد، وسليمان أخوه لأبيه وأمِّه، ويحيى (¬3)، وسَلِيط، وزيد بن زيد، وعبد الله، وعبد الرحمن، بنو زيد بن ثابت لأمَّهات أولاد شتَّى. وكلُّ بني زيد بن ثابت من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة (¬4). طارق بن شهاب البجلي الكوفي أبو عبد الله، رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه جماعة. قال طارق: إن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد وضع رِجْلَه في الغرز: أيُّ الجهاد أفضل؟ فقال: "كلمة حقّ عند سلطان جائر" (¬5). توفي طارق سنة ثلاث وستين، وقيل غير ذلك. عبَّاد بن أبي نائلة سِلكان بن سلامة بن وَقْش، من الطبقة الأولى من التابعين (¬6) من أهل المدينة. قُتل عبَّاد وابنُه سَلَمة بن عبَّاد يومَ الحَرَّة، وله عقب. ¬

_ (¬1) ينظر المصدران السابقان، و"أنساب الأشراف" 4/ 373، و"تاريخ" الطبري 5/ 337. (¬2) في (ب) و (خ): سعيد، والتصويب من "طبقات" ابن سعد 7/ 259، وما يأتي بين حاصرتين منه. (¬3) يحيى أيضًا أخو سعد لأبيه وأمه، كما في "الطبقات" 7/ 260. (¬4) هم في "الطبقات" 7/ 259 - 261 غير سعيد. (¬5) مسند أحمد (18830). (¬6) هو من الطبقة الثانية من التابعين كما في طبقات" ابن سعد 7/ 251.

عبد الله بن أحمد بن حفص

عبد الله بن أحمد (¬1) بن حفص ابن المغيرة المخزومي، لأبيه صحبة. وعبد الله من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة. وهو أوَّلُ من خلعَ يزيد؛ قدم عليه مع أهل المدينة قال: يا أهل الكوفة، واللهِ لقد وصلني يزيد وأعطاني، ولكنه سكرانًا يدع الصلاة (¬2). عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر الراهب، أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله رؤية ورواية. وأمُّه جميلة بنتُ عبد الله بن أُبيّ بن سَلُول، دخل بها أبوه حنظلة في الليلة التي صبيحتُها يوم أُحُد، وعَلِقَتْ به تلك الليلة، وولدَتْه بعد أُحد بتسعة أشهر. وقُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وله سبع سنين. وروى عن أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما. وفرض له عمر ألفي درهم، فأتاه طلحة التيمي - رضي الله عنه - بابن أخٍ له، ففوض له دون ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، فَضَّلتَ هذا الأنصاريَّ على ابن أخي. قال: نعم؛ لأني رأيتُ أباه يستنُّ بسيفه (¬3) يومَ أُحُد كما يستنُّ الجمل. وكان عبد الله يتوضَّأُ لكلِّ صلاة (¬4)، وكان صالحًا فاضلًا مقدَّمًا في الأنصار. وقال مولًى له: لم يكن لمولاي فراش ينام عليه، وإنَّما كان إذا أَعْيا من الصلاة؛ ألقى نفسَه وتوسَّد ذراعيه شيئًا يسيرًا (¬5). ¬

_ (¬1) وكنية أحمد أبو عَمرو، وهو مشهور بها. ينظر "تاريخ دمشق" ص 307 - 309 (طبعة مجمع دمشق- جزء فيه حرف العين بدون رقم). وهذه الترجمة من (ب) وحدها؛ لم ترد في (خ). (¬2) أخبار مكة 3/ 216، وتاريخ دمشق (الجزء المذكور سابقًا). وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 372. (¬3) أي: يمرحُ ويخطُرُ به. (النهاية- سنّ) وتحرّف قوله: يستنُّ، في "تاريخ دمشق" ص 208 (طبعة مجمع دمشق- تراجم حرف العين) إلى: يستتر. (¬4) تاريخ دمشق ص 203 (الجزء المذكور سابقًا). (¬5) المصدر السابق ص 209.

وقال صفوان بن سليمان: لقيَ الشيطانُ ابن حنظلة، فقال له: احفظ عنّي شيئًا أعلِّمُك إيَّاه، فقال: لا حاجة لي فيه. قال: فاسْمَعْ، فإن كان خيرًا قبلتَ، وإن كان شرًّا رددت. يا ابنَ حنظلة، لا تسألنَّ أحدًا غير الله، وانظر كيف تكونُ عند الغضب (¬1). وقال إبراهيم بن عبد الرحمن (¬2) بن عبد الله بن أبي ربيعة: لما نزلَ مسلم بنُ عقبة وادي القرى خطب عبد الله بنُ حنظلة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيُّها الناس، إنَّما خرجتُم غضبًا لله ولدينكم، فأَبْلُوا لله بلاءً حسنًا ليوجبَ لكم به المغفرة، ويُحِلَّكمُ به رضوانه. فقد نزل القوم وادي القرى ومعهم مروان بنُ الحكم، واللهُ -إنْ شاء- مُحِينُهُ (¬3) بنقضِه العهدَ والميثاقَ عند منبرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فتصايحَ الناس، وجعلوا ينالون من مروان ويقولون: الوَزَغُ ابنُ الوَزَغ (¬4). وعبدُ الله يُهدِّئهم ويقول: إن الشَّتْم ليس بشيء، ولكن اصدُقُوهم اللقاء، واللهِ ما صدقَ قومٌ إلا نُصروا. ثم دعا ونزل. وصبَّح القومُ المدينةَ، وقاتلوها أيامًا، ودُخلت من نواحيها، فلبس عبدُ الله درعين، وقاتل قتالًا شديدًا. وحانت صلاة الظهر فقال لغلامه: احْمِ ظهري حتى أُصلِّي. فلمَّا فرغَ من صلاته قال له غلامه: انهزمَ الناس، وقد بقيَ معنا خمسة أنفس، فقال: ويحك، إنَّما خرجْنا لنموت. فنزعَ الدِّرع، وتقلَّدَ السيف، وصاح في الناس، وأهلُ المدينة كالنَّعام الجافل، وأهلُ الشام يقتلُونهم في كل وجه. فحمل عبدُ الله عليهم وقاتل، فضربَه رجلٌ من أهل الشام بالسيف، فقطعَ منكبه ووقع ميتًا. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) في (ب) و (خ): عبد الكريم. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 7/ 69، و"تاريخ دمشق" ص 212 طبعة المجمع المذكورة. (¬3) أي: مُهْلِكُه. وتحرفت العبارة في (ب) و (خ) إلى: والله إني سامحته. (¬4) الوَزَغ: الفاسد المريض الضعيف.

عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري

وجاء رجلان برأسه إلى مُسرف، كلُّ واحد يزعُم أنه قتلَه؛ أحدهما يقال له: مالك الفَزاري، والآخر: سعد بن الجَوْن الكوفي الحمصي، فقال لهما مُسْرف: أميرُ المؤمنين يحكمُ بينكما، وبعث معهما بالرأس، فقدما على يزيد، فأجازهما بجوائز عظيمة، ثم ردَّهما إلى الحُصين بن نُمير، فقُتلا معه في حصارهم ابنَ الزبير. ومرَّ مروان على عبد الله وهو مقتول ومعه مسرف (¬1) وقد أشار عبدُ الله إلى السماء بيده فقال مروان: لئن أشرتَ بها إلى السماء ميتًا؛ فطالما دعوتَ اللهَ بها حيًّا. وقال عبد الله بن أبي سفيان عن أبيه قال: رأيتُ عبد الله بن حنظلة في النوم بعد مقتله في أحسن صورة ومعه لواؤه، فقلتُ: يا أبا عبد الرحمن، أما قُتلتَ؟ ! قال: بلى، ولقيتُ ربي فأدخلَني الجنة، فأنا أسرحُ فيها، وآكلُ من ثمارها. فقلت: فما صُنعَ بأصحابك؟ فقال: هم حولي، وهذا لوائي لم يُحَلَّ عَقْدُه حتى الساعة (¬2). ومعظم أولاده قُتلوا معه؛ قال الواقدي: أصيب معه سبعةُ بنين، منهم عبد الرحمن، والحكم، والحارث، وعاصم (¬3). وأخرج الإمام أحمد - رضي الله عنه - لعبد الله حديثين (¬4). وروى عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما-، وروى عنه من الصحابة قيس بن سعد بن عبادة. عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، قُتل يوم الحرَّة (¬5). وأبوه عبدُ الرحمن شهدَ أُحُدًا والخندقَ وما بعدها من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المنهوش في حُريرات الأفاعي، فأمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُمارة بنَ حزم، فرقاه، فشفيَ، وهي رُقْيَةُ آلِ حزم إلى اليوم. ¬

_ (¬1) من قوله: ومرّ مروان إلى هذا الوضع، سقط من (ب). وينظر "طبقات ابن سعد" 7/ 71، و"تاريخ دمشق" ص 213. (¬2) المصدران السابقان. (¬3) تاريخ خليفة ص 245، و"تاريخ دمشق" ص 214. (¬4) أخرج له أحمد في "المسند" ثلاثة أحاديث: (21957) - (21960). (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 286 (في ترجمة أبيه عبد الرحمن بن سهل)، وتاريخ خليفة ص 247.

عبد الله بن أبي نملة

وحُرَيْرات الأفاعي (¬1) بين الأبواء ومكة على ثمانية أميال من مكة، كانت منزلًا للناس، فأجْلَتْهم منه الحيَّات. قال ابن عساكر (¬2): جاءت جدَّتان إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، فأعطى السُّدُس أمَّ الأمّ، دون أمّ الأب، فقال له عبد الرحمن -أبو صاحب هذه الترجمة-: يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطيتَها التي لو ماتت لم يرثها، وتركتَ التي لو ماتت ورثَها. قال: فجعله أبو بكر رضي الله عنه بينهما. عبد الله بن أبي نملة من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، قُتل يومَ الحرَّة هو وأخوه محمد، وهما لأمّ ولد. وأبو نَمْلة شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا والخندق وما بعدها، وعاشَ إلى أيام خلافة عبد الملك بن مروان. وقد روى عنه الزُّهريّ. وإنما ولداه قُتلا يومَ الحَرَّة (¬3). عَمْرو بن ثابت بن قيس بن الخَطِيم الأنصاري (¬4) [محمد بن أُبيّ بن كعب ابن قيس] من الطبقة الأولى (¬5) من أهل المدينة، أبو معاذ. ¬

_ (¬1) وسمَّاها البكري في معجمه" 2/ 435: حَرَّة الأفاعي. (¬2) لم أقف عليه في "تاريخ دمشق"، وهو في "الاستيعاب" ص 455 - 456 لابن عبد البر. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 267 - 268. (¬4) بعده في (ب) و (خ): من الطبقة الأولى. . . إلخ، من الكلام الوارد في الترجمة التالية، وهو خطأ، فثمة سقط في النسختين، (وينظر التعليق بعد التالي). وقد أورد ابنُ سعد في "الطبقات" 7/ 255 عمرًا ومحمدًا ويزيد بني ثابت بن قيس بن الخطيم في الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة وقال: قُتلوا جميعًا يوم الحرَّة. اهـ. وذكرهم أيضًا في ترجمة أبيهم ثابت بن قيس 4/ 260. (¬5) يعني من التابعين.

محمد بن ثابت بن قيس

وُلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن أبيه، وعن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وروى عنه بُسْرُ بن سعيد، وكان ثقةً قليل الحديث، قُتل يوم الحَرَّة، رحمة الله عليه (¬1). محمد بن ثابت بن قيس ابن شمَّاس الأنصاري، من الطبقة الأولى (¬2) من أهل المدينة. وأمُّه جميلة بنتُ عبد الله بن أُبيّ بن سَلُول، وهو أخو عبد الله بنِ حَنْظَلة لأنه (¬3). وُلد محمد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحنَّكه بريقه، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا (¬4). وأمُّه جميلة هي التي اختلعت من ثابت بن قيس؛ ولدَتْه بعد فراقها إيَّاه، وحلقت أن لا تَلْبُنَه من لبنها، فجاء به [ثابت] في خِرْقة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره الخبر (¬5)، فتَفَلَ في فيه، وسمَّاه محمدًا، وحنَّكه بتمرةِ عجوة، وقال: "اذهَبْ، فإنَّ الله رازقُه". وإذا بامرأة تسألُ عن ثابت بن قيس وتقول: إني رأيتُ كأنِّي أُرضِعُ ابنًا له يقال له: محمد، وإذا بِدِرْعِها ينعصِرُ من لبنها. فأخذَتْه فأرضعَتْه (¬6). قُتل محمد يوم الحَرَّة وأخواه عبد الله ويحيى بنو ثابت (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 79. واستدركتُ ما بين حاصرتين منه لتصحيح السياق. (¬2) يعني من التابعين. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 83 - 84، وما بين حاصرتين مستفاد منه. (¬4) أخرجه أبو داود (3885)، وابن عساكر 61/ 178 و 179 من طريق يوسف بن محمد بن ثابت بن قيس بن شمَّاس، عن أبيه، عن جدّه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اكشف البأس ربَّ الناس عن ثابت بن قيس بن شمَّاس". (¬5) في (ب) و (خ): وحلفت أن لا تَلْبُنَه بلبنها، فجاءت به. . . وأخبرته الخبر. وهو خطأ. والمثبت من "تاريخ دمشق" 61/ 176 (طبعة المجمع). (¬6) ينظر "تاريخ دمشق" 61/ 176 - 178 (طبعة مجمع دمشق). (¬7) قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 1/ 313: ومن الاتفاق أن بني ثابت بن قيس بن الخطيم الأوسي في الظفري -وهم عمر- (في بعض المصادر: عَمرو) -، ومحمد، ويزيد- قُتلوا أيضًا يوم الحرَّة.

محمد بن أبي الجهم

محمد بن أبي الجَهْم ابن حُذيفة العدويّ، من الطبقة الأولى (¬1) من أهل المدينة، وكان أحدَ رؤوس، أهل الحَرَّة. قُتل محمدٌ يومَ الحَرَّة صبرًا، أُخذ أسيرًا، فأمَّنَه مسرف، فلمَّا رآه قال: بايعْ أمير المؤمنين على أنَّك عبدٌ له قِنٌّ، إن شاء أعتقكَ، وإن شاء استرقَّك. فقال: أيجوزُ استرقاقُ الحرّ؟ ! فقال: أنت الوافدُ على أميو المؤمنين، فوصلَك وأحسن جائزتك، ثم عُدتَ إلى المدينة، فشهدتَ عليه بشرب الخمر، واللهِ لا تركتُك تشهدُ بعدها أبدًا بشهادة. ثم ضرب عنقه، وبعث برأسه إلى أبيه وقال: أتعرفُ هذا؟ قال: نعم، هذا رأسُ سَيِّدِ فتيان قُريش (¬2). محمد بن عمرو بن حزم ابن مالك بن النجَّار الأنصاريّ، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة. وُلد قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنجران سنة عشرٍ من الهجرة، وكان يوم الحَرَّة تحت راية الخزرج، فأبلى بلاءً حسنًا، وأبلى في أهل الشام، فانتظموه بالرِّماح، فوقع صريعًا، وانهزم الناس. وقال ابن عساكر: إن الذين تسوَّروا على عثمان - رضي الله عنه - الدار إنَّما تسوَّروا من دار آل حزم، فأرسل إليهم عثمان: إنَّما نُرْمَى من قِبَلكم. فقال محمد. هذا ما نحن نرميه، ولكنَّ الله يرميه. فأُخبر عثمان رضوان الله عليه بقوله، فقال: كذبَ، لو رماني الله ما أخطأني. أسند محمد بن عمرو عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأبيه عَمرو بن حزم، وعمرو بن العاص (¬3). وروى عنه ابنُه أبو بكر الفقيه. وكان قليل الحديث ثقة، وله عقبٌ بالمدينة وبغداد (¬4). ¬

_ (¬1) يعني من التابعين. (¬2) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 170، و"تاريخ دمشق" 63/ 197 - 198 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) في (ب): وأبيه عمرو بن عمرو بن حزم بن العاص، ومثلها في (خ) بزيادة عمرو! والمثبت من "تاريخ دمشق" 64/ 53. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 72، وتاريخ دمشق 64/ 53 - 61.

معقل بن سنان الأشجعي

مَعْقِلُ بنُ سِنان الأشجعيّ أبو محمد، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، شهد فتح مكة مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانت معه راية أشجع يوم حنين، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستنفر له الأعراب لغزو مكة. ولما جيء به أسيرًا يوم الحَرَّة إلى مسلم -وكان بينه وبين مسلم رَحِمٌ وصداقة- فقال له معقل: نشدتُك اللهَ والرَّحِمَ وصحبةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: وما عُذري عند أمير المؤمنين إن قتلتُ بني عمِّه، وتركتُ ابنَ عمِّي؟ فضربَ عنقه. وكان مَعْقِل فاضلًا تقيًّا، وكان قد سكنَ الكوفة، ثم تحوَّل إلى المدينة (¬1). وهو الذي رُويَ عنه حديث بَرْوَع بنت واشِق: قال الإمام أحمد رحمه الله (¬2): حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: أُتِيَ ابنُ مسعود في امرأة تزوَّجها رجل، ثم مات عنها ولم يفرض لها صَداقًا، ولم يكن دخلَ بها. فاختلفوا إليه، فقال: أَرَى لها مثلَ صَداق نسائها، ولها الميراث، وعليها العِدَّة. فشهدَ معقل بنُ سِنان الأشجعيُّ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في بَرْوَع بنت واشق بمثل ما قضى. وقال الشاعر يرثي مَعْقل بنَ سنان: ألا تلكُمُ الأنصارُ تبكي سَرَاتَها ... وأشجعُ تبكي مَعْقِلَ بنَ سِنانِ وروى عن معقل مسروقٌ، وعبدُ الله بنُ عتبة بن مسعود، وعلقمة بن قيس، ونافع بن جبير بن مُطعِم في آخرين. يعقوب بن طلحة بن عُبيد الله التَّيمي من الطبقة الأولى (¬3) من أهل المدينة. وأمُّه أمُّ أبان بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس. وكان سخيًّا جوادًا، قُتل يومَ الحَرَّة، وفيه يقول عبد الله بن الزَّبِير الأسدي وقد قدمَ الكَرَوَّسُ بنُ زيد (¬4) بمصاب أهلِ الحَرَّة إلى الكوفة: ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 170، و"مختصر تاريخ دمشق " 25/ 130 - 133. (¬2) المسند (15943). (¬3) يعني من التابعين. ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 163. (¬4) في (ب) و (خ): يزيد، وهو خطأ.

وهب بن عبد الله بن زمعة

لعمري لقد جاء الكَرَوَّسُ كاظمًا ... على خبرٍ للمسلمين وجيعِ حديثٌ أتاني عن لؤيّ بنِ غالبٍ ... فما رقأَتْ ليلَ التمامِ دموعي يُخبِّر أنْ لم يبقَ إلا أراملٌ ... وإلا دمٌ قد سال كلَّ مَرِيعِ قُرُومٌ تلاقَتْ من قُريش فأنهلَتْ ... بأصهبَ من ماء السماء نقيعِ وكم حولَ سَلْعٍ (¬1) من عجوزٍ مصابةٍ ... وأبيضَ فيَّاضِ اليدينِ صريعِ طَلوعِ ثنايا المجدِ سامٍ بطَرْفِهِ ... قُبيل تلاقيهم أشمَّ منيعِ شبابٌ كيعقوبَ بنِ طلحةً أَقْفَرتْ ... منازلُه من رُومة (¬2) فبقيعِ فواللهِ ما هذا بعيشٍ فيُشْتَهى ... هنيءٍ ولا موتٍ يُريحُ سريعِ وَهْب بن عبد الله بن زَمْعة (¬3) ابن الأسود بن المطَّلب بن أسد بن عبد العُزَّى، وأمُّه زينب بنتُ أبي سَلَمة بن عبد الأسد المخزومي، وأمُّ زينب أمُّ سَلَمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. ووَهْب من الطبقة الثالثة (¬4) من أهل المدينة، قُتل يومَ الحَرَّة. وأبو عبيدة بن عبد الله بن زَمْعَة (¬5). كان له أولاد، منهم هند تزوَّجها عبدُ الله بنُ حسن بنِ حسن بنِ عليّ، فأولدَها محمدًا، وإبراهيم، وموسى بنَ عبد الله بن حسن. ويزيد بن عبد الله بن زَمْعَة لأمّ ولد (¬6)، قُتل يوم الحَرَّة. ولما دخل مسرف المدينة جمع الناس وقال لهم: بايعُوا على أنَّكم خَوَلٌ ليزيد، وأنَّكم عَبيدُ العَصَا. فقال له يزيد بنُ عبد الله بنِ زَمْعَة: أيُّها الأمير، إنما ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): شبل، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 7/ 164. (¬2) في (ب) و (خ): طيبة، والمثبت من "الطبقات" 7/ 164، ونسب قريش ص 282، و"الأغاني" 14/ 240. (¬3) في (ب) و (خ): ربيعة، وكذا في الموضعين الآتيين، وهو خطأ. (¬4) يعني من التابعين. ينظر "طبقات ابن سعد" 7/ 403. (¬5) هو أخو وهب بن عبد الله لأبيه وأمِّه، وذكره هنا استطرادًا ولم يُقتل يوم الحَرَّة. ينظر "الطبقات" 7/ 402 - 403. (¬6) كذا وقع، وهو وهم من المصنف، أو المختصِر، وإنَّما أمُّه زينبُ بنتُ أبي سلمة ربيبةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويزيد بن عبد الله بن زَمْعَة شقيق (أخ لأم وأب) لوهب وأى عبيدة المذكورَيْن. ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 518 و 7/ 402 - 403، و"التبيين في أنساب القرشيين" ص 277.

أبو سعيد بن عبد الرحمن

نُبايع على ما يبايع عليه المسلمون. فقال مسرف: الحمد لله الذي سقاني من دمك. وكان حَنِقًا عليه؛ لأنَّ بني أسد بن عبد العُزَّى بايعوا ابنَ الزُّبير، فقدَّم يزيد، فضرب عنقه. ولما خرج مسلم يريدُ مكَّة؛ تبعته أمُّ ولد يزيد بن عبد الله (¬1) ثلاثةَ أيام حتى مات مسرف، فانتهت إلى قبره، فنَبشَتْه وصلَبَتْه (¬2). أبو سعيد (¬3) بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، من الطبقة الثانية من أهل المدينة، قُتل يوم الحَرَّة، ومعه ابنُه محمد، وأمُّ محمد ميمونةُ بنت عُبيد الله بن العبَّاس بن عبد المطَّلب. فهؤلاء أعيان من قُتل يومَ الحَرَّة. وقال الواقدي: قُتل يوم الحَرَّة من أبناء المهاجرين والأنصار ثلاث مئة وأكثر. وقيل: ألف. وكان في جملة من قُتل الفَضل بن العبَّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطَّلب، وأبو بكر بن عبد الله (¬4) بن جعفر بن أبي طالب، وأبو بكر بن عبد الله (¬5) بن عمر بن الخطاب، وابنا زينب بنت أبي سلمة (¬6) ربيبةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ضرب مسلم أعناقهم. ولم ينج من الصحابة إلا أبو سعيد الخُدري، وجابرُ بن عبد الله، وسهل بن سعد. مسروق بن الأجدع ابن مالك بن أمية الهمداني الكوفي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، كنيتُه أبو عائشة. ¬

_ (¬1) هي أمُّ ابنِه يزيد بن يزيد. ينظر "نسب قريش" ص 222. (¬2) المصدر السابق، وطبقات ابن سعد 7/ 404، وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 369 - 370. (¬3) كذا في "طبقات" ابن سعد 7/ 209. وفي "تاريخ" خليفة ص 243: أبو سعد. (¬4) في "تاريخ" خليفة ص 240: أبو بكر عبد الله، وهو خطأ. (¬5) في "تاريخ" خليفة ص 243: عُبيد الله. وينظر تاريخ الإسلام" 2/ 591. (¬6) هما وَهْب ويزيد ابنا عبد الله بن زَمْعَة، وسلف ذكرهما قريبًا.

وشهد القادسية هو وثلاثة إخوة له: عبدُ الله وأبو بكر والمنتشر بنو الأجدع، فقُتلوا، وجُرح مسروق فشَلَّت يدُه، وأصابَتْه في رأسه آمَّة (¬1)، وكان يقول: ما يسرُّني أنها ليست بي. وسمِّي مسروقًا لأنه سُرق وهو صغير. وكان إذا دخل على عائشة - رضي الله عنها - تقول: خُوضُوا لابني عَسَلًا (¬2). وشفع مسروق لرجل في شفاعة، فأهدى له جارية، فغضب وقال: لو علمتُ أنَّ هذا في نفسك ما تكلَّمتُ ولا أتكلَّمُ في حاجتك أبدًا، سمعتُ عبد الله بنَ مسعود يقول: مَنْ شفع شفاعةً ليردَّ بها حقًّا، أو يدفعَ بها ظلمًا، فأُهديَ له هديةٌ، فقبلَها، فذلك سُحْتٌ، فقيل له: ما كنَّا نرى السحت إلا أخذ الرِّشْوة على الحكم. فقال: أخْذُ الرِّشْوة على الحكم كفر (¬3). وكان مسروق فاضلًا، ولا يأخذ على القضاء رزقًا، ولما وليَ القضاء قيل له: ما حملكَ على هذا؟ قال: ثلاث شياطين (¬4): إبليس وزياد وشُريح، لم يَدَعُوني حتى (¬5) أوقعوني فيه. وقال الشعبي: كان مسروق أعلمَ من شُريح بالفتوى، وكان شُريح أعلمَ منه بالقضاء، وكان شُريح يستشير مسروقًا (¬6). وكان يصلي حتى تتورَّم قدماه، فكانت امرأتُه تجلسُ خلفَه، فتبكي رحمةً له ممَّا يصنع بنفسه (¬7). وقال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله تعالى (¬8). ¬

_ (¬1) أي: ضربة في رأسه بلغت أمَّ الرأس. (¬2) بنحوه في "الطبقات" 8/ 200. (¬3) المصدر السابق 8/ 202 - 203. (¬4) كذا في (ب) و (خ): ولم أقف على هذا اللفظ في مصادر الخبر. (¬5) في (ب) و (خ): لم يدعوا لي حق حتى. . . والصواب ما أثبتُّه، ولفظه في "طبقات ابن سعد" 8/ 204، وتاريخ دمشق 67/ 105 - 106 (طبعة مجمع دمشق): لم يدعني ثلاثة: زياد وشُريح والشيطان حتى. . . (¬6) طبقات ابن سعد 8/ 204، وتاريخ دمشقق 67/ 98. (¬7) تاريخ دمشق 67/ 111، وبنحوه في "طبقات" ابن سعد 8/ 202. (¬8) أعمار الأعيان ص 28.

وقال: بحسب المرء من الجهل أن يُعجب بعمله، وبحسب المرء من العلم أن يخشى الله (¬1). وحجَّ مسروق فلم ينم إلا ساجدًا على وجهه حتى رجع (¬2). وكان يُرْخي السِّتر بينه وبين أهله، ثم يُقبل على صلاته ويخلِّيهم ودنياهم (¬3). وغُشيَ على مسروق في يوم صائف وهو صائم، فقالت له ابنتُه: ارْفُقْ بنفسك. فقال: الرفقَ أطلبُ في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ ممَّا تَعُدُّون (¬4). وقال سالم بن أبي الجَعْد (¬5): الثمانية الذين انتهى إليهم الزهد من التابعين: عامر بن عبد القيس، وهَرِم بن حيَّان، والحسن البصريّ، وأبو مسلم الخَوْلاني، وأُويس القَرْني، والرَّبيع بن خُثَيم، والأسود بن يزيد، ومسروق. وقال ابن عساكر: حضر مسروق صِفِّين مع عليّ بن أبي طالب - عليه السلام - ولم يقاتل، وشهد معه الحَكَمين والنَّهروان. وكان أبوه أفرس فارس في اليمن، وخالُ مسروق عَمْرُو بنُ معدي كرب (¬6). ذكر وفاته: لما احتُضر مسروق قال: أما إني لا أدعُ صفراءَ ولا بيضاء إلا ما في سيفي هذا، فبِيعوه وكفِّنوني به. وقال أبو سعيد (¬7): لم يكن له كفن، فقال: استَقْرِضُوا ثمن كفني، ولا تستقرضوه من زرَّاع، ولكن من صاحب ماشية. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 67/ 113 - 114. (¬2) حلية الأولياء 2/ 95، وتاريخ دمشق 67/ 110 - 111. (¬3) الحلية 2/ 96، وتاريخ دمشق 67/ 115. (¬4) تاريخ دمشق 67/ 113. وقوله: في يوم كان مقدارُه. . . من الآية (5) من سورة السجدة. (¬5) كذا وقع. والخبر في مصادره من كلام علقمة بن مرثد. ولعلَّ نظر المصنف سبق إلى الخبر الذي قبله في "تاريخ دمشق" 67/ 104 فهو مروي عن سالم بن أبي الجعد. (¬6) تاريخ دمشق 67/ 89. (¬7) لم أعرف أبا سعيد هذا. ولعله محرَّف عن لفظ ابن سعد فالخبر في "طبقاته" 8/ 204، وهو من قول عامر الشعبي، وأخرجه أيضًا ابن عساكر في "تاريخه" 67/ 120 - 121.

وقال المدائني: قال مسروق: لا تكفِّنوني من مال مُضارِب، ولا من مال يتيم، وادفنوني في النواويس. قالوا: مع الكفار! قال: نعم، يُبعثون يَدْعُون أصنامَهم، وأنا أُبعث وأنا أشهدُ أن لا إله إلا الله (¬1). مات سنة ثلاث وستين (¬2)، وهو ابن تسعين سنة (¬3)، ودُفن بالكوفة، وقيل: سنة اثنتين وستين وله ثلاث وستون سنة (¬4). وقيل: مات بعد السبعين (¬5)، ودفن بواسط في محلَّة يقال لها: السلسلة (¬6). وأسند عن الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم-، وكان أخصَّ أصحاب ابن مسعود وأعلمَهم. وروى عن ابنِ مسعود، وأُبيِّ بن كعب، وخبَّاب بن الأرتّ، ومعاذ، وابنِ عُمر، وابنِ عَمرو، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، وعائشة - رضي الله عنهم - في آخرين. وكانت عائشة رضوان الله عليها تحبُّه وتقول: إنك من ولدي ومن أحبِّهم إليَّ (¬7). وكان يُنكر عليها يومَ الجمل. وروى عنه الشعبي، وأبو الضُّحى -واسمُه مسلم بن صُبَيحِ، وسعيد بنُ جبير، وأبو وائل-وهو أكبرُ منه- والنَّخَعي، وابنُ سِيرين (¬8)، وخلقٌ كثير. واتفقوا على صدقه وزهده وورعِه وعلمه وعبادته، وأنه كان أقومَ بالفتوى من جميع أصحاب ابن مسعود - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 67/ 121. والنواويس: جمع الناووس، وهي مقبرة النصارى. (¬2) وهو قول الجمهور، كما ذكر ابن حجر في "الإصابة" 10/ 26. وينظر الكلام بعد تعليق. (¬3) كذا في النسختين (ب) و (خ)، ولم أقف على هذا القول. وينظر التعليق بعده. (¬4) في (ب) و (خ): وله ثلاثون سنة، وهو خطأ بالتأكيد، فالنسختان كثيرتا التحريف. وقد ذُكر أنه توفي سنة (63) في "تاريخ دمشق" 67/ 122، و"أعمار الأعيان" ص 41، و"المنتظم" 6/ 20، و"تهذيب الكمال" 27/ 457، و"الإصابة" 10/ 26. قال ابن حجر: ولعلها سبعين (يعني ثلاثًا وسبعين). . . لقول ابن المديني: إنه صلَّى خلف أبي بكر - رضي الله عنه -. اهـ. ونقل العلائي في "جامع التحصيل" ص 341 عن إبراهيم الحربي أنه مات وله ثمان وسبعون سنة. (¬5) في "طبقات خليفة" ص 149 أنه مات سنة ثلاث وسبعين. وينظر التعليق السابق. (¬6) تاريخ دمشق 67/ 125، ووفيات الأعيان 25/ 490. (¬7) تاريخ دمشق 67/ 93. (¬8) في "تاريخ دمشق" 67/ 82، و"تهذيب الكمال " 27/ 453: أنس بن سيرين.

السنة الرابعة والستون

السنة الرابعة والستُّون فيها توجَّه مُسرفُ بن عُقبة من المدينة إلى مكة لقتال ابنِ الزبير، ولمَّا سار عن المدينة خلَّف عليها رَوْحَ بنَ زِنْباع، وقيل: عَمرو بن مُحرز الأشجعي. فلما وصل إلى قفا المشلَّل (¬1) نزل به الموت، فدعا الحُصين بنَ نُمير السَّكوني وقال له: يا بَرْذَعة الحمار، أما واللهِ لو كان لي من الأمر شيءٌ ما ولَّيتُك من أمر هذا الجيش شيئًا، ولكنَّ أمير المؤمنين أمرني بذلك، فاحفظ عنّي أربعًا: أسرع السَّير، وعجِّل الوقاع، وعَمِّ الأخبار، ولا تُمكِّن قريشًا (¬2) من أذنك، ولا تردَّنَّ أهلَ الشام عن عدوِّهم، ولا تُقيمنَّ إلا ثلاثًا، وناجزِ ابنَ الزبير. ثم كان آخر كلامه أن قال: اللَّهمَّ إنِّي لم أعمل عملًا قطُّ بعد الإيمان (¬3) أحبَّ إليَّ في الدنيا والأخرى من قتال أهل المدينة. ومات، فدُفن بقفا المُشَلَّل. وقيل: بقُديد. وسار الحصين (¬4) بنُ نُمير إلى مكة، فقدمَها لأربع ليال بقين من المحرَّم، وقد اجتمع إلى ابن الزُّبير خلقٌ عظيم، وجاءه فَلُّ (¬5) المدينة. وجاء نجدةُ الحروريّ ومعه أهلُ اليمامة يحمون الكعبة. فلما نزلَ الحُصين بظاهر مكة قال عبد الله بن الزبير لأخيه المنذر بن الزبير: يا أخي، ما لهؤلاء إلا أنا وأنت. وكان المنذرُ ممَّن شهدَ الحرَّة، ولحق بأخيه، فقال المنذر: أنا. فخرج إليهم في جيش ومعه المِسْور بنُ مَخْرَمَة، ومصعبُ بنُ عبد الرحمن بن عوف. فدعا رجلٌ من أهل الشام إلى المبارزة، فخرج إليه المنذرُ على بغلة له، ¬

_ (¬1) المشلَّل: جبل يُهْبَط منه إلى قُدَيد (وقديد موضع قرب مكة). (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 496: قرشيًّا. (¬3) الكلمة غير مجودة في (ب) و (خ) ورسمها: الرياد. والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 376. ولفظ العبارة في "تاريخ الطبري" 5/ 497: بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. . . (¬4) في (م): السنة الثالثة والستون من الهجرة النبوية. مسير الحصين بن نمير إلى مكة. قال علماء السير: سار الحصين. . . (¬5) الفَلُّ: المنهزم، يقال للواحد والجمع. ووقع في (ب) و (خ): قلّ، وفي (م): وفد. وعبارة "أنساب الأشراف" 4/ 376: وأتاه فَلّ أهل الحرَّة.

والشاميُّ على بغلة، فاختلفا ضربتين، قَتَلَ كلُّ واحد منهما صاحبَه، وعلمَ ابنُ الزُّبير، فركب بغلةً وخرج إليهم، وصاح بالمسور وفرسانه، وقاتلوا قتالًا شديدًا إلى الليل (¬1). وكان المختار بن أبي عُبيد يومئذ في مكة عند ابن الزُّبير، فقاتل قتالًا شديدًا، ولما قُتل المنذرُ والمِسْوَر بنُ مخرمة ومصعبُ بنُ عبد الرحمن بن عوف نادى المختار (¬2): يا أهل الإسلام، إليَّ إليَّ، أنا المختار بنُ أبي عُبيد، صاحبُ الجسر، أنا ابنُ الكرَّار، لا ابنُ الفرَّار، أنا ابنُ المُقْدِمِين غيرِ المُحْجِمين، إليَّ يا أهلَ الحِفاظ وحُماةَ الأَدْبار. وردُّوا أهل الشام على أعقابهم. ثم إنَّهم (¬3) تحاجزوا. وهذا أوَّلُ يوم ناجزوه ونازلوه، ثم أقاموا يُقاتلونه بقيَّة المحرّم وصفَر كلَّه وثلاثةَ أيام من ربيع الأول، آخرها يوم السبت. فلما كان يوم السبت (¬4) رابع ربيع الأول، قذفوا البيت بالمناجيق (¬5)، وفيها قُدور النِّفْط والنار. وارتجز أهل الشام: خطَّارةٌ مثل الفَنِيقِ المُزْبِدِ (¬6) ... نرمي بها أعوادَ هذا (¬7) المسجد وجعلَ عَمرو بنُ حَوْط السَّدوسي يقول: كيف تَرَى صنيعَ أمِّ فَرْوَه ... تأخذُهُم بين الصَّفا والمَرْوَه وأمُّ فَرْوةَ والخطَّارة هي المنجنيق. واحترقت الكعبة، [واختلفوا في سبب حريقها على أقوال، ذكرها الواقدي قال: احترقت الكعبة] يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين قبل أن يأتيَ نَعْيُ يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يومًا، وجاء نعيُه لهلال ربيع الآخِر ليلةَ الثلاثاء. ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 376 - 377، و"تاريخ" الطبري 5/ 497. (¬2) لفظ العبارة في (ب) و (خ): ولما ولى المنذر والمسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف قد قتلوا نادى المختار. . . (؟ ) والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 575. (¬3) في (ب) و (خ): على أنهم. والمثبت من (م) والكلام فيها مختصر. (¬4) في (م): السنة الرابعة والستون. ذكر حريق البيت وقذفه بالمناجنيق (كذا). قالوا: فلما كان يوم السبت. . . (¬5) كذا في (ب) و (خ)، يعني جمع المنجنيق. والذي في "القاموس" أن الجمع: مجانق ومجانيق. (¬6) الفَنِيق: الصُّبح المشرق، والمزْبِد: شديد البياض، والخطَّارة المنجنيق وسيرد. (¬7) في (م): عُوَّاذ أهل.

[قال: ] رماها رجلٌ من أهل الشام بقبس من نار في رأس رمح، فطارت منه شرارة فعلقت بأستار الكعبة، فأحرقها، وتهدَّم بناؤها (¬1). وقيل: إن أصحابَ ابنِ الزبير كانوا يُوقدون حول الكعبة، فأقبلت شرارةٌ هبَّتْ بها الرِّيح، فأحرقت باب (¬2) الكعبة، ثم احترق الكلّ. وقيل: قام رجل من أصحاب ابن الزبير. يُجمِّرُ الكعبة، ويدور حولها، فلعبت النار في أستارها، فاحترقت. وقال الواقدي: إنَّ أصحاب يزيد رموها (¬3) بمنجنيق فيه نار فأحرقوها. [قال الواقدي: فحدَّثني عبد الله بن زيد قال: حدثني عروة بن أُذينة قال: قدمَتْ بي أمي مكة يوم احترقت الكعبة، فرأيتُها مجرَّدة من الحرير، ورأيت الركن قد انصدع فيه ثلاثة أمكنة، واسودّ. فقلتُ: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجل من أصحاب ابن الزبير، فقالوا: أخذ هذا قَبسًا في رأس رمح، فهبَّت به النار، فاحترقت أستارُها، ودخل النار فأحرق الخشب (¬4) والسقوف، فذلك الذي أحوجَ ابن الزبير إلى بنائها]. فبينما هم على ذلك إذ جاءهم نعي يزيد بن معاوية [لهلال ربيع الآخِر]، فكان مدة حصارهم لمكة سبعة وتسعين يومًا (¬5). [وقيل: قاتلوها ستين يومًا. وقيل: وكان بين موت يزيد ووقعة الحَرَّة ثلاثة أشهر. وظهر مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أرادَ أهلَ مدينتي بسوء أذابه الله كما يذوبُ المِلحُ في الماء". [أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وذكر أحاديث في هذا المعنى] (¬6). ¬

_ (¬1) سيرد الخبر بأطول منه بين حاصرتين من (م). وما وقع هنا بين حاصرتين منها أيضًا. (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 498: ثياب. (¬3) في (م): وفي رواية عن الواقدي أن أهل الشام رموها. . . (¬4) كذا وقع سياق الكلام في (م)، وهو ما بين حاصرتين، والخبر بنحوه في "تاريخ الطبري" 5/ 498 - 499. (¬5) كذا وقع في (ب) و (خ) و (م) وهو خطأ، وإنما مدّة الحصار أربعة وستون يومًا، وهي بين قدوم الحُصين مكة لأربع بقين من المحرم (كما سلف) وخبر نعي يزيد لهلال ربيع الآخِر، وهو ما ذكره الطبري في "تاريخه" 5/ 498. (¬6) صحيح مسلم (1386). وأخرجه أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. والكلام بين حاصرتين من (م).

ولما بلغ ابنَ الزبير هلاكُ يزيد -وأهلُ الشام لا يعلمون وقد حصروه حصارًا شديدًا وضيَّقوا عليه- نادى: يا أهل الشام، علام تقاتلونا وقد هلك طاغيتكم؟ فلم يصدِّقوه حتى قدم ثابت بن قيس بن المقفع (¬1) النَّخَعي الكوفي، فمرَّ بالحُصين، وكان بينهما صداقة وصهر، فأخبره. ولما تيقَّن الحُصين ذلك بعث لابن الزبير يقول: موعدُنا بيننا وبينك الليلة الأبطح. فالتقيا، فقال له الحُصين: إنْ يكُ هذا الرجل قد هلك؛ فأنت أحقُّ الناس بهذا الأمر من بين سائر الناس، فهلمَّ أبايعْك، واخْرُجْ معي إلى الشام، فإن هذا الجيش الذي معي هم وجوه أهل الشام وفرسانُهم، فواللهِ لا يختلفُ عليك اثنان، وتُؤمِّنُ الناسَ، وتُهدِرُ هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي بيننا وبين أهل الحرَّة. قال: أنا أُهدِرُ تلك الدماء! أما والله لا أفعلُ حتى أقتلَ بكل رجل منهم عشرة. فأخذ الحُصين يكلِّمه سرًّا وابن الزُّبير يجهر جهرًا. فقال له الحُصين: قبَّح الله من يعدُّك بعدها داهية أو أريبًا، أنا أكلِّمُك سرًّا وأنت تكلِّمُني علانية، وأدعوك إلى الخلافة وتهدِّدُني بالقتل (¬2)! ولما التقيا بالأبطح راثت فرسُ أحدِهما، فجاء حمام الحرم يلتقطُ من رَوْث الفرس، فكفَّ الحُصين فرسَه لئلا يطأ الحمام، فقال له ابن الزبير: أتتحرَّج من قتل الحمام، وتقتلُ المسلمين في الحرم، وتنتهكُ حرمةَ الكعبة؟ ! ولما لم يتفقا على أمر؛ قال له الحُصين: ائذن لي ولأصحابي أن نطوف بالبيت وننصرف. فأذنَ لهم (¬3). وقال ابن سعد (¬4): قال ابن الزبير: قد مات يزيد، وأنا أحق بهذا الأمر، لأن عثمان عهدَ إليّ في ذلك عهدًا صلَّى به خلفي طلحةُ والزُّبير، وعرفَتْه أمُّ المؤمنين عائشة، ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 5/ 501: المُنْقع، وفي "اللباب" 3/ 108: المقنع. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 502. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 386. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 501. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 390. (¬4) في "الطبقات" 6/ 487.

فبايعْني وادْخُلْ فيما دخلَ فيه المسلمون. فقال له الحُصين: يا أبا بكر، إني واللهِ لا أتقرَّب إليكم بغير ما في نفسي، أقْدَمُ الشام، فإنْ رأيتُهم مجتمعين عليك أطعتك وقاتلتُ من عصاك، وإنْ وجدتُهم مجتمعين على غيرك أطعتُه وقاتلتُك. ولكن سِرْ معي إلى الشام أُمَلّكْكَ رقابَ العرب. فقال ابن الزبير: أَوَ أبعثُ رسولًا؟ فقال له الحُصين: تَبًّا لك سائر اليوم، إنَّ رسولك لا يكونُ مثلَك. وافترقا. ثم صاح الحُصين في الناس، وسار نحو المدينة، وندم ابن الزُّبير على ما صنع، فبعث إلى الحُصين: أمَّا سَيري إلى الشام؛ فلستُ فاعلًا ذلك، أكرهُ أنْ أخرج من مكة، ولكنْ بايِعُوا لي بالشام، فإنّي مؤمِّنُك وعاذل عليك (¬1). فقال الحُصين: إن لم تخرج بنفسك، وإلا فهناك أناسٌ من هذا البيت كثير يطلبونها (¬2). وأمِنَ الناسُ، ووضعت الحرب أوزارَها، ودَعَا ابنُ الزُّبير من يومه ذلك إلى نفسه، وسُمِّي أميرَ المؤمنين، وتركَ الشِّعار الذي كان يُدعى به عائذَ البيت، ولا حُكم إلالله، وفارقَتْه الخوارج وتركوه (¬3). ولما قارب الحُصين المدينة التقاه عليُّ بنُ الحسين بن عليّ - عليه السلام - ومعه قَتٌّ وشعير، وهو على راحلة، [فسلّم على الحُصين] فلم يلتفت إليه الحُصين، ومع الحُصين فرسٌ أنثى عتيق، وقد فَنِيَ قَتُّه وشعيرُه، فجعل الحُصين يَسُبُّ غلامَه ويقول: من أين نجد ها هنا لدوابِّنا علفًا؟ ! فقال له عليُّ بن الحسين - رضي الله عنهما -: معنا قَتٌّ وشعير لدابَّتك. فأقبل حينئذ على عليٍّ - رضي الله عنه -، فبعث إليه بما كان معه من قَتٍّ وشعير. وطمع أهل الحجاز والمدينة في أهل الشام؛ بحيث إنه ما كان ينفرد أحدهم إلا وأُخِذَ بلجام فرسه ونُكِسَ عنها، فنزل أهل الشام فكانوا لا يفترقون. وقالت لهم بنو أمية: خُذُونا معكم. فخرجوا معهم. ولما قدموا دمشق وجدوا معاوية بن يزيد قد بُويع من أبيه (¬4). ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 5/ 502: مؤمّنكم وعاذل فيكم. (¬2) المصدر السابق. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 487. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 502 - 503.

الباب الثالث في بيعة معاوية بن يزيد

الباب الثالث في بيعة معاوية بن يزيد وكنيتُه أبو يزيد، وقيل: أبو عبد الرحمن، فلما وليَ الخلافة كُنّيَ أبا ليلى، على كنية المستضعفين من العرب، وفيه يقول الشاعر: إنّي أرى فتنةً تغلي مَرَاجلُها ... والمُلْكُ بعد أبي ليلى لمن غَلَبا (¬1) ولم يكن في بني أمية من يعادلُه في نُسُكه وعبادته، ووُلد بأذرعات سنة إحدى وأربعين (¬2). واختلفوا في أمِّه، فقيل: هي أمُّ هانئ بنت أبي هاشم بن عُتبة بن ربيعة، وقيل: أمّ هاشم، وقيل: فاختة، وقيل: أمُّ حبيب بنت أبي هاشم بن عتبة. والمشهور أنَّ اسمها فاختة، وكنيتها أم هاشم. ذكر بيعته: بُويع يوم الخميس منتصف ربيع الأول -وقيل: يوم الاثنين- عند وفاة أبيه سنة أربع وستين بعهد من أبيه يزيد، ورضًى من بني أمية من غير خلاف. وفي ولايته يقول عبد الله بن همَّام السَّلُولي: تلقَّاها يزيدٌ عن أبيه ... فدونَكَها معاويُ عن يؤيدا أَدِيرُوها بني حربٍ عليكمْ ... ولا تَرْمُوا بها الغَرَض البعيدا فإنْ دنياكُمُ بكُمُ اطْمأنَّتْ ... فأَوْلُوا أهلَها خَلَفًا جديدا (¬3) وكان معاوية كارهًا للأمر، غير مريد له، وكان مشغولًا بالعبادة. ولما بُويع خطبَ فقال: أيُّها الناس، إنَّا بُلينا بكم، وبُليتُم بنا، وما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا، ¬

_ (¬1) نسب قريش ص 128، وأنساب الأشراف 4/ 396، والمعارف ص 352، وتاريخ الطبري 5/ 500، وتاريخ دمشق 68/ 406 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) في "تاريخ الإسلام" 2/ 721: مولده سنة ثلاث وأربعين. (¬3) ينظر "نسب قريش" ص 129، و"تاريخ دمشق" 68/ 400 و 404.

ألا وإنَّ جدِّي معاويةَ نازعَ هذا الأمر من كان أولَى منه، فمضى لسبيله، وأقام جدِّي بعده على ما قد علمتُم، فركبَ منكم ما تعلمون، وركبتُم منه ما لا تنكرون، ثم أتَتْه منيِّتُه، فصار مرتهنًا بعمله، ثم قَلَّدَ أبي هذا الأمر، فركبه هواه، فأخلفه الأمل، وقصَّر عنه الأجل، فانقطعت مدَّتُه، وصار أسيرَ جُرْمِه، رهين (¬1) ذنبه. ثم بكى وقال: لستُ بالمختار لتقلُّد أموركم، ولا بالمتحمّل لتبعاتكم، فشأنُكم أمركم، فواللهِ لئن كانت الدنيا مغنمًا فلقد نلنا منها حظًّا، وإنْ تكن شرًّا؛ فحسبُ آل أبي سفيان ما أصابوا منه. وكان مروان حاضرًا، فقال: سنَّها واللهِ عُمَريَّة. وسمعه معاوية فقال: يا مروان، ومتى صار معاوية بنُ يزيد مثل عمر بن الخطاب؟ ! ومن أين لي برجال مثل رجال عمر؟ ! ثم نزل (¬2). وقال الهيثم: خطب وقال: أيُّها الناس، إني ضعيف، فاختارُوا لأنفسكم من ترضَوْنه. ثم نزل، فدخل داره، فقالت له أمُّه: يا ليتني كنت نَسْيًا منسيًّا ولم تضعف هذا الضعف. فقال: أنا -واللهِ- وَدِدْتُ أني كنتُ كذلك ولم أُعرِّض نفسي لجهنَّم (¬3). وقال أبو عَوانة: إن معاوية بنَ يزيد خطب وقال: أمَّا بعد، فإني نظرتُ في أمري وأمرِكم، فضعفتُ عنه، فابْتَغَيْتُ (¬4) لكم رجلًا مثل عمرَ بنِ الخطاب حين فزعَ إليه أبو بكر، فلم أجده، فابْتَغَيتُ لكم سِتَّةً في الشورى مثل سِتَّة عمر، فلم أجِدْهم، فأنتُم أولى بأمركم، فاختارُوا له من أحببتُم. ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس، وتغيَّب حتى مات. فقال بعض الناس: دُسَّ إليه من سقاه سُمًّا، وقال بعضهم: طُعن (¬5). وقرَّر عمال أبيه، ولم يولِّ أحدًا، ولم يعزل أحدًا، بل أقام مريضًا إلى أن مات، رحمه الله. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): عفير (؟ ) ولعل المثبت هو مراد المصنف، وفي "تاريخ اليعقوبي" 2/ 254: رهنًا بذنبه. (¬2) المصدر السابق. (¬3) بنحوه في "أنساب الأشراف" 4/ 398 - 399. (¬4) في (ب) و (خ): فأبغيت (في الموضعين) والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 530 - 531. (¬5) المصدر السابق.

وفيها اتَّفق أهلُ البصرة على عُبيد الله بن زياد على أن يقوم بأمرهم حتى يصطلح الناس على إمام يرضَوْنه لأنفسهم، وأرسل رسولًا إلى الكوفة يدعوهم إلى مثل ذلك، فحصبوا رسولَه، ثم نفاه أهلُ البصرة بعد ذلك (¬1). كان عُبيد الله بن زياد بالبصرة، وخليفتُه بالكوفة عَمرو بن حُريث المخزومي، فجاء نعي يزيد إلى البصرة، فقام ابنُ زياد خطيبًا فقال في خطبته: يا أهل البصرة، قد وَلِيتُكُم وفي ديوان مقاتلتكم سبعون ألفًا، وهم اليوم ثمانون ألفًا، وكان في ديوان عيالكم سبعون ألفًا، وهم اليوم مئة وعشرون ألفًا، وما تركتُ لكم ذا ظِنَّة تخافون منه إلا وهو في حبسي، وإنَّ يزيد بن معاوية قد مات، واختلفَ أهل الشام، وأنتم اليوم أكثرُ الناس عددًا وأغناهم، فاختاروا لأنفسكم رجلًا ترضَوْنه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راضٍ به وتابعٌ له. فقالوا: ما نعلمُ أحدًا أقوى عليها منك، فهلمَّ فلنبايعك. فقال: لا حاجةَ لي فيها، فاختاروا لأنفسكم رجلًا، فإن اجتمعَ أهلُ الشام على رجل ترضَوْنَه دخلتُم فيما دخل فيه الناس، وإلا أنتم على حالكم. فقالوا: ما نرى لها سواك. فبايَعوه وانصرفوا ويقولون: أيظنُّ ابنُ مَرْجانة أنْ نستقادَ له في الجماعة. كذبَ عدوُّ الله (¬2). وبعث ابنُ زياد إلى خليفته على الكوفة عَمرو بنِ حُريث مع عامر بن مسمع القيسي وسعد بن القرحاء ليُخبروا أهلَ الكوفة بما فعل أهلُ البصرة، فجمع عَمرو بنُ حُريث الناس، وأخبرَهم باتفاق أهل البصرة على إمرة عُبيد الله عليهم حتى يتفق الناس على إمام. وقال ابن حريث: إنما البصرة والكوفة شيءٌ واحد. ثم قام الرسولان وقالا: ليكن أمرُنا وأمرُكم جميعًا. فقام يزيد (¬3) بن الحارث بن رُويم الشيباني فقال: أنحن نُبايع ابنَ مَرْجانةَ الفاسقَ ابنَ الفاسق الدعيّ! لا والله، ولا كرامة. ثم حَصَبَ الرسولين (¬4) وعَمرَو بنَ حُرَيث، وحصبَهم الناس، فأخرجوهم من الكوفة، فقدموا البصرة، وأخبرُوا ابنَ زياد بما لَقُوا. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 503. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 465 - 466، و"تاريخ" الطبري 5/ 504 - 505. (¬3) في (ب) و (خ): زيد. والمثبت من "أنساب الأشراف" 4/ 440، و"تاريخ الطبري 5/ 524 و 525. (¬4) في (ب): الرسولان. وفي (خ): خطب الرسولان، وثمة أخطاء أخرى مثلها فيهما لم أشر إليها لئلا أُثقل الحواشي بما لا فائدة فيه.

وبلغَ أهلَ البصرة وقالوا: نخلعُ الفاسقَ كما خلعه أهلُ الكوفة. فوثبوا عليه (¬1). وقال يونس بن حبيب الجَرْمي: كان يزيد بنُ معاوية قد تغيَّر على ابنِ زياد، وسببُه أنَّ ابنَ زياد لما قتلَ الحسينَ وبني أبيه، وبعثَ برؤوسهم والسبايا إلى يزيد، سُرَّ بقتلهم أولًا، وحسُنتْ حالةُ ابنِ زياد عنده. ثم لم يلبث إلا يسيرًا، فندم على قتل الحسين - رضي الله عنه -، وكان يقول: وماذا عليَّ لو احتملتُ الأذى، وأنزلتُه معي في داري حفظًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورعاية لحقِّه وقرابته، وحكَّمْتُه فيما يريد. وكان يُكثر من ذلك ويقول: لعنَ الله ابنَ مَرْجانة، فإنه اضطره إلى أن قُتل، وقد كان سألَه أن يُخلّيَ سبيلَه؛ فإمَّا أن يرجع من حيث جاء، أو يأتيَني فيضعَ يده في يدي، أو يلحق بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفَّاه الله تعالى، فأبى ذلك وقتلَه، فبغَّضني إلى المسلمين، وزرعَ لي في قلوبهم العداوة، فأبغضني البَرُّ والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حُسينًا، ماي ولابنِ مَرْجانة، لعنه الله وغضب عليه. وبلغ ابنَ زياد، فأرسل مولًى له يقال له: أيوب بن حُمْران إلى الشام ليأتيه بالخبر، فعاد إليه بموت يزيد، فأمر عُبيد الله مناديًا، فنادى: الصلاة جامعة. فاجتمعَ الناس، فخطبَ، ونَعَى يزيد، وعرَّض بثَلْبه لِما بلغَه عنه. فقال له الأحنفُ بنُ قيس: إنه قد كان ليزيد في أعناقنا بيعة. فأعرضَ عنه. ثم قال عُبيد الله: إن أهل الشام قد اختلفوا .. وذكر بمعنى ما تقدَّم. فبايعوه عن رضًى منهم، فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفَّهم بباب الدار والحيطان ويقولون: أيظنُّ ابنُ مَرْجانة أنَّا نُولِّيه أمرَنا؟ ! وجعل سلطانُ ابن زياد يضعُف وأمرُه لا يُمتثل، ويأمر بحبسِ شخص فيُحالُ بين أعوانه وبينَه. ودعا سلَمةُ بنُ ذُؤيب بن عبد الله اليربوعي إلى عبد الله بنِ الزُّبير، فاجتمع إليه ناس، وبايعوه لعبد الله ابن الزبير، فجمع ابنُ زياد القبائل وقال: هذا سلَمة بن ذُؤيب يدعوكم إلى الفُرقة ليضربَ بعضَكم ببعض، وأنا فقد ضعُف سلطاني، وما بايعتموني ¬

_ (¬1) المصدران السابقان قبل تعليق.

على هذا. فقال الأحنف وأشراف الكوفة: نحن نجيئك بِسَلَمة. ومضوْا إليه، فلم يقدِروا عليه، فلم يعودوا إلى ابنِ زياد. وكان في بيت المال ثمانية آلاف ألف درهم، وقيلَ: تسعة عشر ألف ألف, فجمعَ الأشراف والعظماء وقال: هذا بيتُ مالكم وفيئكم، فخُذوا أُعطِياتِكم وأرزاقَ ذراريكم منه. وأمر الكَتَبة باستخراج أساميهم، واستعجل في ذلك؛ حتى كان الكتَّاب يكتبون أسامي الناس في الليل على الشمع. فلما (¬1) صنعوا به ما صنعوا وقعدوا عنه، ولم يحضر إليه سَلَمة بنُ ذؤيب؛ منعهم المال، وأخذَه معه لمَّا هرب، وفرَّقه في آل زياد، فذلك المال في آل زياد إلى اليوم. ثم دعا عُبيد الله البخاريَّة الذين قدم بهم معه من بُخارا وقال لهم: تُقاتلون معي. فقالوا. إنْ أمَرَنا قُوَّادنا قاتلنا. فقال له إخوتُه: عمَّن تقاتل؟ ما ثَمَّ خليفةٌ فتقاتلَ عنه، وإن هُزمتَ أمدَّك، والحربُ دُوَل، فلا ندري ما يكون، وعندنا أموال، فإن ظهروا علينا أخذُوها فهلكنا. وقال له أخوه عَبْدُ الله بنُ زياد لأبيه وأمّه: واللهِ لئن قاتلتَ القوم لأعتمدنَّ على ظُبَةِ سيفي حتى يخرج من صُلبي. فلما رأى عُبيد الله ذلك أرسل إلى الحارث بن قيس بن صُهْبان فقال له: يا حارث، إن نفسي تأبى غيرَكم، وقد احتجتُ إلى الهَرب والجِوار، وقد اخترتكم (¬2). فقال له: إنْ أخرجتُك نهارًا خفتُ أن لا أصل بك إلى قومي حتى أُقتل أو تُقتل، ولكن أُقيم معك إلى الليل، وأُردِفُك خلفي لئلا تُعرف. قال: نعم. وخرج به وبإخوته وأهله ومعهم الأموال، فجعل عُبيد الله يسألُه عن قبيلة قبيلة، فقال له: أين نحن؟ فقال: في بني سلمة (¬3). فقال: سلمنا. ثم أتى علي بني ناجية، ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): فما. والتصويب من "تاريخ" الطبري 5/ 509، (¬2) في (خ): اخترتك. والمثبت من (ب). وعبارة الطبري 5/ 509: إن أبي كان أوصاني إن احتجت إلى الهرب يومًا أن أختاركم. وينظر "أنساب الأشراف " 4/ 447. (¬3) في "تاريخ" الطبري 5/ 510: بني سُليم.

فقال: أين نحن؟ فقال: في بني ناجية. فقال: نَجَوْنا إن شاء الله تعالى. وعرفه رجلٌ منهم فرماه بسهم، فوقع في عمامةِ ابنِ زياد. ومضى به الحارث حتى أنزله دار نفسه في الجهاضم. ثم مضى الحارث إلى مسعود (¬1) بن عَمرِو بن عديّ، فلما رآه مسعود قال: يا حارِ، قد كنَّا نتعوَّذُ من شرِّ طوارق الليل (¬2)، فنعوذُ بالله من شرِّ ما أتيتَنا به. فقال الحارث: ما طَرَقْتُك إلا بخير، وقد علمتَ أنَّ قومَك أَنْجَوْا زيادًا فوَفَوْا له (¬3)، فصارت مَكْرُمةً لهم في العرب يفتخرون بها، وقد بايعتُم عُبيدَ الله على الرّضَى، وله قبلَ هذه بيعةٌ في أعناقكم. فقال مسعود: يا حارِ، أتَرَى لنا أنْ نُعادِيَ أهل مِصرِنا في عُبيد الله، وقد أَبْلَينا في أبيه ما أبلينا، ثم لم يُكافئنا, ولم يشكرنا. فقال له الحارث: إنَّه لا يُعاديك أحدٌ على الوفاء بالبيعة حتى تُبلغَه مأمنَه (¬4). وقيل: إنَّ عُبيد الله قال له في الطريق: يا حارث، إنك قد أحسنتَ وأجملت، فهل أنت صانعٌ ما أُشيرُ به عليك؟ قال: نعم. قال: قد عرفتَ منزلةَ مسعود بنِ عَمرو في قومه، وشرفَه وسنَّه وطاعةَ قومه له، فهل لك أن تذهب بي إلى داره، فأكونَ في وسط الأَزْد؟ فإنك إنْ لم تفعل صدعَ عليك أمرُ قومك. قال الحارث: قلتُ: نعم. فانطلقتُ به، فما شعرَ مسعود حتى دخلنا عليه وهو جالس وبين يديه نار تُوقد، فلما نظر في وجوهنا عرَفَنا، فقال: إنه قد كان يتعوَّذ من طوارق السوء، وإنكما من طوارق السوء. قال: فقلتُ له: أفتُخرجُه بعد ما دخل عليك؟ ! قال: فأمره، فدخل بيتَ عبد الغافر بن مسعود، ثم ركب مسعود من ليلته ومعه جماعة (¬5) من قومه، فطافوا في الأزد فقالوا: ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): ابن مسعود وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ الطبري" 5/ 510. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 468. (¬2) في (خ): الليل والنهار، والمثبت من (ب). وهو كذلك في "تاريخ الطبري" 5/ 510. (¬3) في (ب) و (خ): وقوله، بدل: فوفوا له. والمثبت من "تاريخ" الطبري. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 509 - 510. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 447 - 448. (¬5) في "أنساب الأشراف" 4/ 468؛ و "تاريخ" الطبري 5/ 511: الحارث وجماعة.

إنّ ابن زياد قد فُقد، ولا نأمنُ أن تَلَطَّخُوا به، فأصْبِحُو! في السلاح. وأصبحَ الناس فقالوا: ما ابنُ زياد إلا في الأَزْد (¬1). فأرسل شقيق بن ثور إلى مسعود بن عَمرو يقول: احذر الفتنة، وأخْرِجْ ابنَ زياد. وكان ابن زياد وأخوه عَبْدُ الله عند مسعود، وبلغَهما، فقال عبد الله: واللهِ لا نخرجُ عنكم، فقد أجرتُمونا وعقدتُم لنا عقد الذّمَّة، فلا نخرج حتى نُقتل بينكم، فيكونَ عارًا عليكم إلى يوم القيامة. وقيل: إن الحارث لم يكلِّم ابنَ عَمرو في ابنِ زياد، ولكنّه أمرَ عُبيد الله، فحملَ معه مئة ألف درهم، فأتى بها أمَّ بِسْطام امرأةَ مسعود -وهي بنت عمِّه- ومعه عُبيد الله وعَبد الله ابنا زياد، فاستأذنَ عليها، فأذنَتْ، فقال لها الحارث: قد أتيتُكِ بأمر تَسُودين به نساءك، وتبنين (¬2) به شرف قومك، وتتعجَّلين عينًا هي لك خاصة، هذه مئةُ ألف درهم، خُذِيها فهي لك، وضُمّي إليكِ عَبدَ الله وعُبيد الله. فقالت: أخافُ أن لا يقبله مسعود، فقال: اجعلي عليهما ثوبا، وأدخليهما في الفراش بينكِ وبين مسعود ففعلت (¬3). فلما رأى مسعود ابن زياد قال له: قد أجارتني بنتُ عمِّك، وهذا ثوبُك عليّ وطعامُك في بطني. فسكتَ، وأخذَت المال. فلم يزل في دار مسعود حتى قُتل مسعود (¬4). وكان مسعود جميلًا يسمى القمر لجماله، وأقام ابنُ زياد في داره أربعين يومًا، فلما قُتل مسعود هرب ابن زُياد إلى الشام. ويقال: إنَّ ابن زياد استخلفَه على البصرة لما هرب. ¬

_ (¬1) المصدران السابقان. (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 513: وتُتِمّين. (¬3) قوله: فقال اجعلي عليهما ثوبًا ... إلى هذا الموضع من (ب)، وليس في (خ). وفي "تاريخ الطبري" 5/ 513: فقال الحارث: ألبسيه ثوبًا من أثوابي، وأدخليه بيتك، وخلّي بيننا وبين مسعود. وفي "أنساب الأشراف" 4/ 448: فأدْخَلَتْه حَجَلَتَها وألبَسَتْه ثوبًا لزوجها. (¬4) ينظر "أنساب الأشْراف" 4/ 448، و"تاريخ" الطبري 5/ 513.

واختلفوا في قتل مسعود؛ قال مَعْمر: قتلَه بنو تميم في حرب وقعت بينهم في هذه الأيام سببها لطمةٌ لطمها رجلٌ من الأزد رجلًا من بني تميم، فقُتل من الفريقين ألوفٌ من القبائل، وخرج ابنُ زياد هاربًا إلى الشام، وطلبه أهل البصرة، ففاتَهم، فقدم الشام ولم يُبرموا أمرًا، فأشار على مروان بأنْ يدعوَ إلى نفسه، وأنْ يطلبَ الخلافة، فقبل من رأيه. وأمَّا أهلُ البصرة؛ فاختاروا عبدَ الله بنَ الحارث بن عبد المطلب، وأمُّه هند بنتُ أبي سفيان، ويلقَّب بَبَّهْ. ومال قومٌ إلى عبد الله بن الأسود الزُّهريّ، وكان أهلُ البصرة قد فوَّضوا أمرَهم في الاختيار إلى قيس بن الهيثم السُّلَميّ، ونُعمانَ بنِ صُهْبان الراسبيّ. فاختارَ النعمانُ بَبَّهْ، وقال: إن هذا من بني عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمه بنتُ أبي سفيان، فإنْ كان المُلك فيهم (¬1)، فهو ابنُ أُختهم (¬2). فرضوا به (¬3). وأمَّا أهلُ الكوفة؛ فطردوا عمرَو بنَ حُرَيث، وأجمعوا على عامر بن مسعود، وكانوا قد اتفقوا على عُمر (¬4) بنِ سعد بن أبي وقَّاص، فجاءت نساءُ هَمْدان ورجالُهم يبكون حسينًا - رضي الله عنه - قد تقلَّدُوا سيوفَهم وقالوا: لا واللهِ ولا كرامة. فطردوا ابن سعد ووَلَّوْا عامرَ بنَ مسعود، وكتبوا إلى ابن الزبير، فأقرَّه، وأقرَّ بَبَّهْ (¬5). وخطب عامر بن مسعود يومًا فقال: إن لكل قوم أشربةً ولذاتٍ، فاطلبوها في مظانِّها واكسروها بالماء، وتوارَوْا (¬6) عني بهذه الجدران، وإني قد تزوَّجتُ، فأعينوني بأعطياتكم شهرًا. فأخذ من الناس أرزاق شهر، فقال عبد الله بن همَّام السَّلُولي: ¬

_ (¬1) يعني في قريش. (¬2) يعني أن "ابن أخت القوم منهم" كما في الحديث، ووقع في (ب) و (خ): أخيهم، وهو خطأ. (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 449 - 450، و"تاريخ الطبري" 5/ 513 - 514. (¬4) في (ب) و (خ): عمرو، وهو خطأ. (¬5) تاريخ الطبري 5/ 524. (¬6) في (ب) و (خ): ونوروا. والمثبت من "أنساب الأشراف" 6/ 8 والخبر فيه بنحوه.

اشرَبْ شرابَك وانْعَمْ غيرَ محمودِ (¬1) ... واكسره بالماء لا تعص ابنَ مسعودِ إن الأمير له في الخمر مأربةٌ ... فاشرَبْ هنيئًا مريئًا غير تصريدِ (¬2) وبلغ ابنَ الزبير، فعزلَه بابن مُطيع. وفيها بويعَ ابنُ الزُّبير بالخلافة بمكَّة، فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله والخلفاءِ بعدَه، وأوَّلُ من بايعَه مصعبُ بنُ عبد الرحمن بن عوف. فقال الناس: هذا أمرٌ فيه صعوبة. وبايعَه عبيدُ الله بنُ علي بن أبي طالب، وعبدُ الله بنُ جعفر. وأراد ابنَ عُمر ومحمد بنَ الحنفية وابنَ عبَّاس على البيعة، فأبَوْا (¬3). وولَّى ابنُ الزبير أخاه مصعب بنَ الزبير على المدينة، فبايعوه، وبعث الحارث بن عبد الله بن ربيعة إلى البصرة فبايعوه، وبعث ابن مطيع إلى الكوفة فبايعوه، وبعث عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم إلى مصر، فبايعوه، وبعث إلى اليمن بَحِير بن رَيسَان، وكان عليها واليًا ليزيد، فجاءته بيعتُه، وبعث إلى خُراسان، فبايعوه (¬4)، وإلى الضحَّاك بن قيس الفهري، فأخذ له البيعة على أهل الشام، واستَوْسَقَت له البلاد كلُّها ما خلا طائفةً من أهل الشام كان فيها مروان وأهل بيته، وأهل الأردن وفلسطين. وبُويع لسبع ليال بقين من رجب سنة أربع وستين بعد أن أقام الناس جمادى الأول والآخِر وأيامًا من رجب بغير إمام. وكان ناتل بن قيس الجُذامي عند عبد الله بن الزُّبير، فكتب له عهده على الأردنّ وفلسطين، فخرج إليها، وكان على الأردن حسان بن مالك بن بَحْدَل الكلبي؛ ولَّاه إيَّاها معاوية بن أبي سفيان، ثم أقرَّه عليها يزيد، فأرسل إليه ناتل الجُذامي: إما أن تخرجَ من بلاد قومي -يعني جُذامًا- وإلا قاتلتك (¬5). ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف " 6/ 8، و"الكامل" 4/ 143: محسود. (¬2) التصريد في السَّقي: دون الرَّيّ. ووقع في "الكامل": مرصود. (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 391 و 6/ 5. (¬4) والذي دعا له بخراسان عبد الله بن خازم السلمي كما في المصدر السابق. (¬5) أنساب الأشراف 5/ 288.

ولم يكن لحسان به طاقة، فنزلَ حسان طبريَّة، وأظهرَ الدعاء لخالد بن يزيد بن معاوية. ثم سار حسان فنزل الجابية، وانضافَ إليه الحُصين بن نُمير السَّكوني، ومالك بن هُبيرة، ورَوْح بن زِنْباع الجُذامي، وزِمْل بن عَمرو العدويّ، وعبد الله بن مَسْعَدة الفَزَاريّ، وعبد الله بن عِضاه الأشعريّ، ومروانُ بن الحكم، ومعه ابنُه عبد الملك، وهو يومئذ ابن ثمانٍ وعشرين سنة، ومروان لا تمرُّ بباله الخلافة ولا يفكّر فيها، وكان معهم خالدُ بن يزيد [بن معاوية] وعَمْرو بن سعيد الأشدق. وأجابهم قوم من البلقاء وأذرعات (¬1). وكان الضحاك بن قيس بدمشق، والنعمان بن بشير بحمص، وزُفر بن الحارث بقِنّسرين قد ضبطوا الشام لابن الزبير، وذلك بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية ولم يبق بالشام من عَصِيَ على ابنِ الزبير إلا حسانُ بن مالك بن بَحْدَل، ومن سمينا معه، وأخذ ناتلُ الجُذامي البيعةَ لابن الزبير على أهل فلسطين. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 5/ 289.

الباب الرابع في ولاية مروان بن الحاكم

الباب الرابع في ولاية مروان بن الحاكم ولما مات معاوية بن يزيد بن معاوية اختلف الناس بالشام، فكان أوَّلَ من خالف من أمراء الأجناد النعمانُ بنُ بشير بحمص، دعا إلى ابن الزبير، ثم الضحَّاك بن قيس الفِهْري؛ دعا بدمشق سرًّا لابنِ الزبير، ولم يظهر ذلك لمكان بني أمية وكلب. وبلغ حسانَ بنَ مالك بن بَحْدَل الكلبيّ وهو بفلسطين، وكان هواه في خالد بن يزيد؛ لأن يزيد كان ابنَ أخته ميسون، فأمسك، وكتب إلى الضحَّاك بن قيس كتابًا يعظم فيه بني أمية ويذكر بلاءهم عنده، ويذمّ ابنَ الزبير، ويذكر خلافَه ومفارقتَه الجماعة، ويدعوه إلى أن يُبايع لرجلٍ (¬1) من بني حرب، وبعث بالكتاب مع ناعصة (¬2) بن كريب الطابخي، وأعطاه نسخة الكتاب، وقال له: إن قرأ الضحَّاك الكتاب على الناس؛ وإلَّا؛ فاقرأ أنت نسختَه عليهم. وكتب إلى بني أمية يُعلمهم ما كتب به إلى الضحَّاك، وما أمرَ به ناعصة، وأمرَهم أن يحضروا ذلك. فقرأ الضحَّاك كتاب حسان ولم يقرأه على الناس، فكان في ذلك اختلاف وكلام، فَسَكَّنهم خالد بن يزيد (¬3). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): الرجل، والتصويب من "طبقات" ابن سعد 6/ 544. (¬2) في (خ) (في الموضعين)، وفي "تاريخ دمشق" (مصورة دار البشير) باعضة، وفي "طبقات" ابن سعد 6/ 544، و"تاريخ" الطبري 5/ 532، و"مختصر تاريخ دمشق" 11/ 132: ناغضة، والمثبت من (ب) (في هذا الموضع) وهو كذلك في "أنساب الأشراف" 5/ 296. (¬3) قوله: "فكان في ذلك اختلاف وكلام، فسكّنهم خالد بن يزيد" سيتكرر بعده مفصَّلًا. والسبب أن مختصِر الكتاب جمع بين روايتين، فالكلام حتى هذا الموضع من ترجمة الضحاك بن قيس في "طبقات" ابن سعد 6/ 544 - 543، و"تاريخ دمشق" 8/ 416 (مصورة دار البشير). والكلام بعده من رواية أخرى، هو بنحوه في "أنساب الأشراف" 5/ 296 - 297 و"تاريخ" الطبري 5/ 532 - 533. وينظر "تاريخ دمشق" 8/ 416 (مصورة دار البشير)، أو "مختصره" 11/ 132.

فقام ناعصة، فقرأ نسخة الكتاب على الناس بمشهد من بني أمية، فقام الوليد بنُ عتبة بن أبي سفيان، وسفيان بن الأبرد، ويزيد بن أبي النّمس، وغيرهم، فكذَّبوا ابنَ الزُّبير ونالوا منه، وقالوا: خلع خليفتين. وأثْنَوْا على حسان. وقام عمرو (¬1) بن زيد الحكمي، فشتم حسانًا، وأثنى على ابنِ الزبير، وأمرَ الضحَّاك بالوليد بن عُتبة ومن شتمَ ابنَ الزُّبير، فحُبسوا. وثار جماعة إلى عمرو بن زيد الحكمي، فضربوه، فقام خالد بن يزيد، فصعد مِرْقاتَين من المنبر والضحَّاك في أعلاه، فتكلم خالد بكلام وجيز سكَّن الناس (¬2). ونزل الضحاك، فصلَّى بالناس الجمعة، وجاءت كلب فأخرجوا سفيان بن الأبرد، وجاءت غسان فأخرجوا يزيد بن أبي النمس فقال الوليد بن عتبة: لو كنتُ من كلب أو غسان لأُخرجت. فجاء خالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية فأخرجوه (¬3) من السجن، وكان معهما أخوالهما من كلب. فكان أهل الشام يسمُّون ذلك اليوم يوم جَيرُون الأول (¬4). ودخل الضحَّاك دارَه، ومكثوا أيامًا (¬5)، فخرج الضحَّاك يومًا، فصلى بالناس صلاة الصبح، وذكر يزيد بن معاوية فسبَّه، فقام إليه رجل من كلب، فضربه بِعَصًا، واقتتلَ الناس بالسيوف، ودخل الضحاك دار الإمارة. وافترق الناس ثلاث فِرَق؛ فرقة زُبيريَّة، وفِرْقة بَحْدَلية؛ هوا هم مع بني حرب، وفرقة لا يُبالون لمن كان الأمر؛ لبني أمية أو لغيرهم، وأرادوا الوليد بنَ عتبة بن أبي سفيان على البيعة، فأبى، وهلك في تلك الليالي. ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، و"تاريخ" الطبري 5/ 532. وفي (ب) و"أنساب الأشراف" 5/ 296: عمر. وكذا في الموضع الآتي. (¬2) سلف هذا المعنى، وينظر الكلام قبل تعليق. (¬3) كذا في (ب) و (خ). والجادة: فأخرجاه. (¬4) أنساب الأشراف 5/ 296 - 297، وتاريخ الطبري 5/ 532 - 533. ولم ترد كلمة: الأول، في "أنساب الأشراف". وجاء فيه بعده: وجَيْرون موضع بدمشق عند المسجد. (¬5) رجع الكلام من هذا الموضع إلى ابن سعد وابن عساكر، وهو بنحوه في المصدرين السابقين.

وأرسل الضحاك بن قيس إلى بني أمية، فأتاه مروان وعمرو بن سعيد، وخالد وعبس الله ابنا يزيد بن معاوية، فاعتذرَ إليهم، وذكرَ حُسن بلائهم عنده، وأنه لم يُرد شيئًا يكرهونه، وقال: اكتبوا إلى حسان بن مالك بن بَحْدَل حتى ينزل الجابية، ثم نسير إليه، فنستخلف رجلًا منكم. فكتبوا إلى حسان، فأقبل حتى نزل الجابية، فلما استقلَّت (¬1) الرايات متوجّهة قال معن بن ثور (¬2) السُّلمي ومن معه من قيس للضحاك: دَعَوْتَنا إلى بيعة رجل من أحزم الناس رأيًا، وأفضلهم دينًا، فلما أجبناك خرجتَ بنا إلى هذا الأعرابيّ من كلب لتُبايع ابنَ أخته. قال: فتقولون ماذا؟ قالوا: تنصرفُ، وتُظهر البيعة لابن الزبير. ففعل الضحاك، وبايعه الناس لابن الزبير. وبلغ ابنَ الزبير، فكتب للضحاك بعهده على الشام، وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد ممن دعا إلى ابن الزبير فأتوه. فلما رأى ذلك مروان خرج من الشام يريد ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه أمانًا لبني أمية، وخرج معه عَمرو بن سعيد بن العاص، فلما كانوا بأذرعات لقيهم عُبيد الله بنُ زياد من العراق، فسألهم عن حالهم، فأخبروه، فقال لمروان: سبحان الله! أرضيتَ لنفسك [بهذا] وأنت شيخ قريش وسيد بني عبد مناف أن تُبايع لأبي خبيب؟ ! واللهِ لأنت أولى بها منه. فقال له مروان: ما الرأي؟ قال: أن ترجعَ وتدعو إلى نفسك, وأنا أكفيك قريشًا. وقال عمرو بن سعيد: وأنا أكفيك بني أمية. فرجع مروان وعَمرو بنُ سعيد إلى الشام، فنزلا تدمر، ودخل عُبيد الله بن زياد دمشق، فنزل بباب الفراديس، وكان يتردَّد إلى الضحاك كلَّ يوم يسلِّم عليه، فقال له يومًا: يا أبا أُنيس، العجب منك وأنت شيخُ قريش، تدعو لابن الزبير، وتدعُ، وأنت أرضى عند ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): استقبلت. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 544، و"تاريخ دمشق" 8/ 416 (مصورة دار البشير). (¬2) في "أنساب الأشراف" 5/ 297، و"تاريخ الطبري" 5/ 533: ثور بن معن بن يزيد. قال البلاذري: ويقال: معن بن يزيد.

الناس منه! فدعا إلى نفسه، ورجع عن ابن الزبير ثلاثة أيام، فقال الناس: دَعَوْتَنا إلى بيعة رجل، وأخذتَ عهودنا، ثم دعوتَ إلى خلعه من غير حَدَث! وامتنعوا عليه (¬1). فلما رأى ذلك عاد إلى ابن الزبير، فأفسده ذلك عند الناس وغيَّرهم عليه، ثم قال له ابنُ زياد: يا أبا أُنيس، مَنْ أرادَ ما أردتَ ما ينزل المدائن والحصون، ابْرُزْ عن دمشق، واجمع الناس، وتصفَّح الخيل. وكان ذلك خديعةً من ابن زياد. فخرج الضحاك، فنزل المَرْج، وبقي عُبيد الله بدمشق، ومروان وبنو أمية بتدمر، [وخالد] وعَبدُ الله ابنا يزيد بالجابية مع حسان [بن مالك بن بَحْدَل] , فكتب عُبيد الله إلى مروان: ادْعُ إلى نفسك، ثم سِرْ إلى الضحاك فقد أَصْحَرْتُهُ لك (¬2). فدعا مروان بني أمية، فبايعوه (¬3)، وتزوج أمَّ خالد بن يزيد. [وخرج عُبيد الله] (¬4) فنزل المرج، وكتب إلى مروان أن أَقْبِل. وقيل: كان الناس بالجابية أهواؤهم مختلفة، فكان مالك بن هُبيرة السَّكوني يهوَى هوى أولاد يزيد، والحُصين بن نُمير يهوى أن تكون الخلافة لمروان. فقال [مالك] للحصين (¬5): هلمَّ فلنبايعْ هذا الغلام -يعني خالد بن يزيد- فنحن ولَدْنا أباه، وهو ابنُ أُختِنا، وقد عرفتَ أن أباه حملنا على رقاب العرب (¬6): فقال حُصين: لا لعَمرو الله، لا تأتينا العرب بشيخ، ونأتيها بصبيّ. فقال مالك: هذا ولمَّا تَرِد تِهامة (¬7)، ولا بلغَ الحِزام الطُّبْيَيْنِ (¬8)، واللهِ لئن استخلفتَ مروان وآل مروان لَيَحْسُدُنَّك على سَوْطك ¬

_ (¬1) وقع خرم في (ب) بدءًا من هذا الموضع، وحتى فقرة وقعة مرج راهط. (¬2) أي: أخرجتُه إلى الصحراء. وفي "طبقات" ابن سعد 6/ 546، و"تاريخ دمشق" 8/ 417: أصحر لك. (¬3) في (خ) (والكلام منها): فدعا مروان إلى نفسه وبايعوا بني أمية ... والمثبت من المصدرين السابقين. وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬4) ما بين حاصرتين من المصدرين السابقين. (¬5) في (خ): فقال الحصين. وهو خطأ. والكلام في "تاريخ الطبري" 5/ 535 - 536. (¬6) في "تاريخ الطبري" 5/ 536: فقد عرفتَ منزلتنا كانت من أبيه، فإنه يحملنا على رقاب العرب غدًا. (¬7) هو مَثَلٌ، ذكره السيوطي في "المُزهر" 1/ 489 بلفظ: هذا ولما تردي تِهامة. قال: يُضرب لمن يجزع قبل وقت الجَزَع. (¬8) قوله: بلغ الحزام الطُّبْيَيْنِ، مَثَل أيضًا، ويقال أيضًا بلفظ: جاوز الحزام الطُّبْيَينِ. قال الميداني في "مجمع الأمثال" 1/ 166: الطُّبْيُ للحافر والسِّباع: كالضِّرع لغيرها. يُضرب هذا عند بلوغ الشدة منتهاها. وينظر "الفائق" 2/ 103.

وشِراك نعلك وظلِّ شجرة تستظل بها. إنَّ مروان أبو عشرة وأخو عشرة وعمُّ عشرة (¬1)، فإن بايعتُموه صرتُم عبيدًا لهم، ولكن عليكم بابن أختكم خالد (¬2). وقال أهل الأردنّ وغيرهم: يا مروان، أنت شيخ كبير، وابنُ يزيد غلام، وابنُ الزّبير كهل، والحديدُ إنما يقرع بعضُه بعضًا (¬3). وقال الحُصين: إنّي رأيتُ في المنام قنديلًا معلَّقًا من السماء، وأنَّ مَنْ يمدُّ عنقه إلى الخلاقة تناوله. فلم ينله أحد، ومدَّ يده مروان فناله. واجتمع رأيُهم على مروان، فقام رَوْحُ بن زِنْباع خطيبًا، فقال: أيّها الناس، إنكم تذكرون عبد الله بنَ عمر للخلافة، وإنَّه لا تنكر صحبتُه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقَدَمُه في الإِسلام، ولكنَّه رجل ضعيف، ولا يصلح لأمر أمَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الضعيفُ. وإنكم تذكرون ابنَ الزُّبير وابنَ حواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن أسماء بنتِ أبي بكر الصدِّيق ذاتِ النطاقين، وإنه كما تذكرون في قدمه وفضله وعبادته، ولكنه ألحدَ في الحرم، وسفكَ الدماء، وخلع خليفتين؛ يزيد و [ابنَه] معاوية، وشقَّ عصا المسلمين، وليس يصلح لأمرِ أمَّةِ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - مَنْ يكون كذا. وأمَّا مروان بنُ الحَكَم فواللهِ ما كان في الإِسلام صَدْع قطّ إلا كان مروان ممَّن يَشْعَبُ ذلك الصَّدْع (¬4)، وهو الذي قاتلَ عن أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان يومَ الدَّار (¬5). وكان هَوَى حسان بن مالك بن بَحْدَل مع ابن أخته خالد بن يزيد [فقال له ابن عِضاه الأشعريّ: أراك تريد هذا الأمر لخالد بن يزيد، وهو حَدَث السّنّ. فقال له حسان: إنَّه واللهِ لمعدن المُلك والرِّياسة. فقال ابن عضاه لأصحابه: قُوموا بنا إلى خالد. فجاؤوا، ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 5/ 536: أبو عشيرة، وأخو عشيرة، وعمّ عشيرة. وينظر "أنساب الأشراف" 5/ 298. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 535 - 536. (¬3) المصدر السابق 5/ 534. (¬4) أي: يَلُمُّه ويصلحه (وهو من الأضداد؛ فمعني شَعَبَ أيضًا: تفرَّق). (¬5) تاريخ الطبري 5/ 536. وينظر "أنساب الأشراف" 5/ 299.

فرأَوْه نائمًا متصبِّحًا، فقال ابنُ عِضاه: يا قوم، أتجعلون نحورَنا للأسنَّة والسهام لهذا الغلام وهو نائم في هذه الساعة؟ ! ثم أتى مروانَ، فألفاه يقرأ القرآن والمصحف بين يديه، وفرسه مربوط إلى جانب فسطاطه، ورُمْحُه مركوز على الفسطاط، ودِرعُه وسلاحُه إلى جانبه، فقال ابن عضاه: هذا واللهِ المُجِدُّ المُشَمِّر الحازم الذي يصلحُ لهذا الأمر، وهو شيخ قريش وابنُ عمّ الخليفة المظلوم. وجاء إلى حسان، فأخبره الخبر، فقال: أنا منعتكم (¬1)؟ وإنما كرهتُ أن يخرج هذا الأمر عن بني أمية إلى ابن الزبير (¬2). وأجمعَ رأيُ القوم على بيعة مروان، وبعده لخالد، [ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد، على أنَّ إمرة دمشق لعمرو بن سعيد، وإمرة حمص لخالد بن يزيد. فدعا حسانُ خالدَ بنَ يزيد وقال له: يا ابن أخت، إن القوم قد أَبَوْك لحداثة سنِّك، وإني واللهِ لا أُريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك، وما أُبايع مروان إلا نظرًا لكم. فقال خالد بن يزيد: عَجَزْتَ عنا. فقال: لا والله، ما عجزتُ عنك، ولكن الرأيَ لك ما رأيتُ. ثم دعا مروان وقال له: يا مروان، واللهِ ما كلُّ الناس يرضى بك. فقال مروان: إنْ يُردِ [الله] أنْ يُعطِيَنيها فلا مانع له، وإن منعها عني لم يقدر أحدٌ أن يُعطيَنيها. فقال حسان: صدقتَ (¬3). واختلفوا في بيعته على أقوال: أحدُها: في المحرم سنة خمس وستين، والثالث: يوم الخميس في رجب سنة أربع وستين (¬4). وسار مروان إلى دمشق لقتال الضحَّاك، وسار حسان إلى الأردنّ. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 5/ 290: رأيي لرأيكم تبع، بدل قوله: أنا منعتكم. (¬2) ينظر المصدر السابق 5/ 289 - 290. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 537. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) كذا وقع في (خ) (والكلام منها فقط)، فلم يرد فيها إلا قولان. وفي قول أنه بُويع لمروان في ذي القعدة من سنة (65). وينظر "أنساب الأشراف" 5/ 305، و"تاريخ"الطبري 5/ 534 (مع ص 537)، و"تاريخ دمشق" 66/ 446 - 448 (طبعة مجمع دمشق).

حسان بن مالك بن بحدل الكلبي

حسان بن مالك بن بَحْدَل الكلبي هو أخو ميسون أمِّ (¬1) يزيد بن معاوية، وكنيتُه أبو سليمان، وكان زعيم بني كلب. شهد مع معاوية صفِّين، وكان يومئذٍ على كلب، وكان له قَدْرٌ وجاه عند بني أمية. وقال البلاذُري (¬2): سُلِّم عليه بالخلافة أربعين ليلة، ثم سلَّمها إلى مروان. وكانت داره بدمشق المعروف بقصر [ابن] أبي الحديد، ويقال له: قصر البحادلة، أقطعه إيَّاه معاوية بن أبي سفيان (¬3). وإليه يُنسب دير [ابن] بَحْدَل من إقليم بيت لِهْيا (¬4) من غوطة دمشق، أقطعه إياه يزيد بن معاوية، وولاه يزيد قِنّسرين والجزيرة (¬5). وهو القائل في الخلافة: فإن لم يكن منا الخليفةُ نفسه ... فما نالها إلا ونحن شهودُ ولم يذكر تاريخ وفاته. وقعة مَرْج راهط (¬6) وراهط اسم رجل كان ينزلُه في الجاهلية. ¬

_ (¬1) في (خ): بن، بدل: أمّ! وسلف في سياق الكلام (الصفحة السابقة) أن خالد بن يزيد ابنُ أخته. ونسبَ المرزوقي ميسون في "شرح الحماسة" 2/ 650 فقال: ميسون بنت مالك بن بحدل، ونُسبت في "تاريخ دمشق" ص 397 (تراجم النساء) وغيره: ميسون بنت بحدل. وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" 11/ 673: كان حسان يريد أن يبايع لابن أخته خالد بن يزيد، ويزيدُ: ابنُ ميسون، وميسون: بنت بَحْدَل. اهـ. وذكر ابن العديم في "تاريخ حلب" 5/ 2235 أيضًا أن ميسون عمة حسان. (¬2) أنساب الأشراف 5/ 300. (¬3) ينظر "تاريخ دمشق" 4/ 394 (مصورة دار البشير) أو "مختصره" 6/ 308 وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) في "تاريخ دمشق" 7/ 348 (مصورة دار البشير): بيت الآبار. وهي من غوطة دمشق، كما في "معجم البلدان" 1/ 519. (¬5) قوله: وإليه يُنسب دير ابن بحدل ... إلى هذا الموضع، يتعلق بأخيه سعيد بن مالك بن بحدل، كما في الصدر السابق. وما بين حاصرتين منه. (¬6) هو موضع شرقيّ دمشق بعد مرج عذراء.

وسار مروان ومعه خمسة آلاف، وجاءته السكاسك وكلب والموالي وغسان، فصار في أحد عشر ألفًا، وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عُبيد الله بن زياد. وجاء أمراء الأجناد إلى الضحَّاك، فصار في ثلاثين ألفًا (¬1)، وجعل على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي، وعلى ميسرته زُفر بن الحارث. وكان يزيد بن أبي النّمس الغساني مختبئًا بدمشق، فلما وصل مروان إلى المرج ثار بها، وثار معه عَبيدُ أهل دمشق، وأخرج (¬2) عاملَ الضحاك منها، وغلب على الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان، وأمدَّه بالمال والرِّجال والسلاح، فكان ذلك أوَّلَ فَتْحٍ فُتح لبني أمية. فأقاموا يقتتلون عشرين يومًا (¬3). وقيل: أقبلَ مروان من تدمر في خمسة آلاف، وأقبل عباد بن زياد من حُوَّارِين في ألفين من مواليه وغيرهم، وأمدَّ النعمانُ بنُ بشير الضَّخَاك من حمص بشُرحبيل بن ذي الكَلاع، وأقبل زُفر بن الحارث بعسكر قِنّسرين لنُصرة الضحَّاك [فكان الضحَّاك في ثلاثين ألفًا] وصار مروان في ثلاثة عشر ألفًا؛ أكثرهم رجَّالة، ولم يكن في عسكر مروان سوى ثمانين عتيقًا (¬4)؛ منها أربعون لعبَّاد بن زياد، وأربعون لسائر الناس، فأقاموا بالمرج عشرين يومًا يقتتلون، فقال ابن زياد لمروان: الحرب خُدْعة، وقد علمت شجاعةَ قيس، وإنك لا تنالُ منهم شيئًا إلا بمكيدة، فكِدْهُم. قال: وكيف أصنع؟ قال: ادعُهم إلى الموادعة، فإذا كفُّوا عن القتال فكُرَّ عليهم وهم غارُّون (¬5). فبعث إلى الضحاك فأمسك عن القتال، والقيسيةُ تطمع أن يبايع الضحاك لمروان. وأعدَّ مروان أصحابه، فلم يشعر الضحاك وأصحابُه إلا بالخيل قد شدَّتْ عليهم، ففزع الناس إلى راياتهم وقد غَشَوْهم على غير عِدَة (¬6). ¬

_ (¬1) من قوله: وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد .. إلى هذا الموضع من (ب) وسقط من (خ). (¬2) في (ب) و (خ): فلما خرج. والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 537. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 537. (¬4) أي: فرسًا. يقال: فرس عتيق، أي: جواد رائع "مختار الصحاح" (عتق) .. (¬5) جمع غارّ، أي: غافلون. (¬6) تاريخ دمشق 8/ 417 (مصورة دار البشير) أو مختصره 11/ 134، وما سلف بين حاصرتين منه.

فاقتتلوا، وترجَّل مروان ومن معه، وصاح الضحَّاك: اغد (¬1) يا ابن الزرقاء. قال مروان: نعم. وكان قد تفرَّق عن الضحاك أصحابُه، فترجل أيضًا، وترجَّلت القيسيَّة معه، وقاتلت قتالًا لم يُعهد مثله، وقُتل من القيسيَّة مقتلةٌ لم يُقتل مثلُها في موطن قط، وقُتل مع الضحَّاك يومئذٍ ثمانون رجلًا من أشراف قيس ممَّن كان يأخذ في العطاء ألفين، وقُتل من أصحاب مروان خلقٌ عظيم لم يُقتل مثلُهم من القبائل (¬2). وجُرح الضحاك، فسقط إلى الأرض، ولم تعلم به القيسيَّة، ومرَّ به رجل من كلب، فحزَّ رأسَه، واسم الرجل زُحْمَة (¬3) بن عبد الله، والذي قتله مالك بن يزيد (¬4) الكلبي من بني عُليم. وجاء زُحْمة برأسه إلى مروان، فقال له: أنتَ قتلته؟ قال: لا. فأعجبَه صدقُه، وأحسنَ إليه (¬5). ولما حضر بين يدي مروان رأسُ الضحاك أُسقِطَ في يده، وقال: الآن حين كبِرَتْ سنِّي، ورقَّ عظمي، وصِرتُ في مثل ظِمْءِ الحمار (¬6)؛ أقبلتُ بالكتائب أضربُ بعضَها ببعض (¬7)! . ولم يضحك رجالٌ من قيس بعد يوم المَرْج حتى ماتوا, ولم يحضرها عبد الملك بن مروان تورُّعًا. وكانت الوَقْعة في ذي الحجة سنة أربع وستين في منتصفه. وقيل: في تمامه. ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ). ولعلها: أغدرًا. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 300، و"تاريخ" الطبري 5/ 537. (¬3) في "أنساب الأشراف" 5/ 304، و"تاريخ" الطبري 5/ 538: زُحنة. وذكر ابن ماكولا الاسمين في "الإكمال" 3/ 316 و 4/ 36، وذكر الاسمين أيضًا صاحب "القاموس" ذكره في (زحم- زحن). وتحرف في (ب) و (خ) إلى: وحمة. (¬4) وقع خرم في (ب) بدءًا من هذا الموضع، وحتى ص 306 قبيل فقرة ذكر رواية يزيد بن معاوية للحديث. (¬5) تاريخ الطبري 5/ 538. (¬6) الظِّمْءُ، بالكسر: ما بين الشَّرْبَتين والوِرْدَين، وما بقي منه إلا ظِمْءُ الحمار، أي: يسير؛ لأنه ليس شيء أقصر ظمئًا منه. ينظر "القاموس المحيط" (ظمأ). (¬7) أنساب الأشراف 5/ 301، وتاريخ الطبري 5/ 538.

وكان بشر بن مروان يرتجز وبيده الراية ويقول: إنَّ على الرئيس حقًّا حقَّا ... أن يخضب الصَّعْدَةَ أو تندقَّا (¬1) واختلفوا هل شهد الوقعة زُفر بن الحارث الكلابي أم لا؟ ولحق زُفر بقرقيسيا [فلما انتهى إليها وعليها عِياض بن أسلم الجُرَشيّ -وكان يزيد بن معاوية ولّاه قرقيسيا- فحال عياض بين زُفر وبين دخول قرقيسيا] فقال زُفر: أحلفُ لك بالطلاق والعِتاق إذا دخلتُ حمَّامها خرجتُ منها. فأذنَ له في دخولها، فدخلَها ولم يدخل حمَّامها، وأخرجَ عِياضًا منها، وتحصَّن زُفر بها، وثابَتْ إليه قيس. وخرج ناتل الجُذامي من فلسطين هاربًا إلى ابن الزبير بمكة، وأجمع الناس على مروان، واستوسق له الشام، فولَّى عليه عمَّاله (¬2). وقال أبو مِخْنَف: شهد زُفر بن الحارث يومَ المرج، فلما انهزم الناس؛ انهزم معه شابَّان من بني سُليم، وجاءت خيلُ مروان في طلبهم، فقالا له: انجُ بنفسك، فنحن مقتولان، فهرب زُفر وتركهما، حتى أتى قرقيسيا، فاجتمعت إليه قيس فرأسوه عليهم، فقال: أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحربَ لا تزدادُ إلا تماديا أتانيَ عن مروان بالغيب أنه ... مُقِيدٌ دمي أو قاطعٌ من لسانيا ففي العِيس مَنْجَاةٌ وفي الأرض مَهْرَبٌ ... إذا نحن رفَعنا لهنَّ المثانيا فلا تحسبوا أني (¬3) تَغَيَّبْتُ غافلا ... ولا تفرحوا إنْ جئتُكم بلقائيا فقد يَنبُتُ المَرعَى على دِمَن الثرى ... وتبقى حزازاتُ النُّفوسِ كما هيا أتَذْهَبُ كلبٌ لم تَنَلْها رماحُنا ... وتُتْرك قتلى راهطٍ هي ما هيا لعمري لقد أبْقَتْ وقيعة راهطٍ ... لحسان (¬4) صَدْعًا بَيِّنًا متنائيا أَبَعْدَ ابنِ عمرٍو وابنِ مَعْنٍ تتابَعا (¬5) ... ومَقْتَلِ همَّامٍ أُمَنَّى الأمانيا ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 539، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 5/ 305. والصَّعْدَة: القناة المستوية. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 539 - 540 وما سلف بين حاصرتين منه، وينظر "أنساب الأشراف" 5/ 307. (¬3) في المصدرين السابقين: فلا تحسبوني إنْ. (¬4) في "الأغاني" 19/ 196: لمروان. (¬5) في "الأغاني": أبعد ابن صقر وابن عمرو تتابعا.

فلم تُرَ منِّى نَبْوَةٌ قبلَ هذه ... فِراري وتَركي صاحبيَّ ورائيا أَيَذْهبُ يومٌ واحدٌ إن أسأتُه ... بصالح أيامي وحُسْنِ بلائيا فلا صُلْحَ حتى تَنحِطَ الخيلُ بالقَنا (¬1) ... وتثأرَ من نسوان كلبٍ نسائيا فأحابه جوَّاس (¬2) [بن قعطل] فقال: لعمري لقد أبقَت وقيعةُ راهطٍ ... على زُفَرٍ داءً من الداء باقيا مقيمًا ثَوَى بين الضلوع محلُّهُ ... وبين الحَشَا أعيا الطبيبَ المداويا تُبَكِّي على قتلى سُليمٍ وعامرٍ ... وذُبيان معذورًا وتُبكِي البواكيا دعا بسلاحٍ ثم أحجمَ إذْ رَأَى ... سيوفَ جنابٍ والطِّوال المَذَاكيا عليها كأُسدِ الغابِ فتيانُ نَجْدَةٍ ... إذا أشرعوا نحو الطِّعان العواليا (¬3) وقال البلاذُري: لما استوسقت لابن الزبير البلاد (¬4) غير طبريَّة والأردن، قال عَمرو بنُ سعيد لمروان: ما يمنعُك من طلب الخلافة وأنت شيخُ قريش وكبيرُها وأَحق بها من غيرك؟ فقال: ليس لي بالضحَّاك طاقة. قال: فانكح أمَّ خالد بن يزيد، فيصير موالي معاوية وأتباعه معك. قال: فدونك وإياها. فأتاها عَمرو، فما زال يخدعُها حتى أجابت، فنكحَها مروان، وقويَ أمرُه. وبعث إليه الضحَّاك، فقال: بايع ابنَ الزبير. فقال: اخرج إلى المَرْج حتى أشترط عليك شروطا على رؤوس الملأ، ثم أبايعك (¬5). وكان في نفس مروان أن يُبايع لابن الزبير، وخرجوا إلى المَرْج، فقال مروان لعمرو بن سعيد: إذا سايرتُ الضحَّاك فاركب الفرس الفلاني -وكان سيِّئ الخُلُق؛ يَكْدُمُ مَنْ يقربُ مثله، ويمشي معترضًا- ثم تتبيَّن (¬6) بيني وبين الضحاك، فإني سآمرك أن ترجع ¬

_ (¬1) القَنَا: جمع قَناة، وهي الرُّمح. ونَحْطُ الخيل: صوتُها من الثِّقَل والإعياء. ينظر "القاموس". (¬2) في (خ): (والكلام منها): ابن جوّاس، والمثبت من "أنساب الأشراف" 5/ 310، و"تاريخ" الطبري 5/ 542. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 541 - 542، وينظر "أنساب الأشراف" 9 / / 309 - 310. ولم تجوَّد بعض الكلمات في (خ) (والكلام منها) فأثبتُّها من "تاريخ" الطبري. قوله: العَوالي: هو جمع العالية، وهي أعلى القَناة (الرمح). (¬4) في (خ): استقامت الأمر لابن الزبير البلاد. وهي عبارة مضطوبة، والمثبت من "أنساب الأشراف" 5/ 329. (¬5) في (خ) (والكلام منها): أو أبايعك. والمثبت من "أنساب الأشراف" 5/ 330. (¬6) اللفظة غير واضحة في (خ) (والكلام منها) والمثبت من "أنساب الأشراف". وقوله: يكدم، أي: يعضّ.

وتركب غيره، فإذا رجعتَ فسِرْ إلى دمشق، وأغلق أبوابها، وخلِّ بيني وبين العبد -يعني الضحَّاك- حتى يحكم الله بيننا. ففعل عَمرو ما أمره مروان، ودخلَ دمشق، وبلغ الضحاك، فركب في القيسيَّة، وقصد قتل مروان، والتقَوْا، فقُتل الضحَّاك. وفيها بايع أهلُ خُراسان سَلْمَ بنَ زياد بن أبيه بعد موت يزيد وابنه معاوية حتى يجتمع الناس على إمام. ولم يجتمع أهلُ خُراسان على أمير كاجتماعهم على سَلْم، ومن محبَّتهم له أنهم سَمَّوْا أولادَهم باسمه، فما وُلد منهم مولود إلا وسمَّوْه سَلْما، فأُحصيَ ذلك، فبلغَ عشرين ألف مولود مدَّةَ ولايته عليهم. وكان جاء نعي يزيد وابنه معاوية، وجاءه مقتل يزيد بن زياد من سجستان، وأَسْرُ أبي عُبيدة بن زياد، فازداد حزنًا. وكان قد بعث بالهدايا والتّحف إلى يزيد بن معاوية مع عبد الله بن خازم. ولما كتم ما بلغَه من ذلك، وعلم ابنُ عَرَادةَ الشاعرُ قال: يا أيُّها الملكُ المغلِّقُ بابَهُ ... حَدَثَتْ أمورٌ شأنُهنَّ عظيمُ قَتْلَى بجَنْزَةَ (¬1) والذين بكابُلٍ ... ويزيدُ أُعْلِنَ شأنُهُ المكتومُ أَبني أُمَيَّةَ إن آخرَ مُلْكِكُمْ ... جسدٌ بحُوَّارين ثَم مُقِيمُ طرقَتْ منيَّتُه وعند وسادِهِ ... كوبٌ وزِقٌّ راعفٌ مَرْثُومُ (¬2) ومُرِنَّةٌ تبكي على نَشْوانِهِ ... بالصَّنْج تقعدُ تارةً وتقومُ فلمَّا ظهر هذا الشعر أظهر سَلْم موتَ يزيد وموتَ معاوية ابنهِ، وبايعه الناس على الرِّضى حتى يستقيم الناس على خليفة، وأقاموا شهرين ثم نكثوا. ولما نكثوا خرج سَلْم عن خُراسان، واستخلف عليها المهلَّب بنَ أبي صُفْرة، فلما كان بِسَرَخْس؛ لقيَه سليمان بن مَرْثَد أحدُ بني قيس بن ثعلبة، فقال له: من استخلَقتَ على خراسان؟ قال: المُهَلَّب. قال: ضاقَتْ عليك نزار حتى ولَّيتَ رجلًا من اليمن! ¬

_ (¬1) جنزة: مدينة بين شروان وأذربيجان. ينظر "معجم البلدان" 2/ 171. (¬2) أي: ملطَّخ.

فلما صار بنَيسابور؛ لقيَه عبدُ الله بن حْازم، فسألَه أن يُولِّيَه خُراسان، فقال: عليها المهلَّب. فقال: لا بدَّ. فولَّاه إيَّاها، وخرج المُهَلَّب من مَرْو لما علم به (¬1). وجرت بين ابن خازم وبكر بن وائل حروبٌ عظيمة قُتل من بكر بن وائل فيها ثمانيةُ آلاف. وقال له هلال الضَّبِّي: يا ابن خازم، اتَّقِ الله، فإنَّما تقاتل إخوتَك وبني أبيك، وقد أفنيتَهم، فلو أعطيتَهم شيئًا يرضَوْن به، وأصلحتَ هذا الأمر. فقال: واللهِ لو أعطيتُهم خُراسان ما رضُوا، وأنتَ رسولي (¬2) إليهم. فخرج الرجل حتى لقيَ منهم جماعة فقالوا: لولا أنك رسول لقتلناك. قال: فما يُرضيكم؟ قالوا: إمَّا أن تخرجوا من خراسان، فلا يبقى بها من مُضَر أحد، وإمَّا أن تقيموا وتنزلوا لنا عن كل ذهبٍ وفضة وسلاح. فرجع إلى ابن خازم فأخبره. فقال: إنَّ ربيعة لم تزل ساخطةً على ربِّها منذ بعث الله رسولَه من مُضَر (¬3). ثم رجع ابنُ خازم إلى مرو. وفيها تحركت الشيعة بالكوفة، وتعاهدوا على الطلب بدم الحسين - عليه السلام - (¬4). لما قتل الحسين - رضي الله عنه -، ورجع ابنُ زياد من معسكره بالنُّخَيلة إلى الكوفة؛ ندمت الشيعة على ما فعلوا، وعزموا على الطلب بثأر الحسين - رضي الله عنه -، وقالوا: كاتبناه وأقدمناه لننصره فخذلناه. ورأوا أنه لا يغسلُ عنهم الإثم والعار إلا أن يقتُلوا قَتَلَتَهُ، أو يُقتلوا فيه. فاتفقوا على أن يردُّوا أمرَهم إلى خمسة نفر -وكانوا رؤوس الشيعة- وهم: سليمان بن صُرَد الخُزاعي، وكانت له صُحبة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمسيَّب بن نَجَبَة، وعبد الله بن سَعْد (¬5) بن نُفيل الأزدي، وعبد الله بن والي التيمي، ورِفاعة بن شدَّاد البَجَليّ. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 545 - 546. (¬2) في (خ) (والكلام منها): رسول، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 548. (¬3) المصدر السابق. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 551. (¬5) في (خ) (والكلام منها): سعيد. والمثبت من "أنساب الأشراف" 6/ 28، و"تاريخ" الطبري 5/ 552.

واجتمعوا في منزل سُليمان، وكانوا من خيار أصحاب عليّ - عليه السلام -، فبدأ المسيَّب بن نَجَبَة بالكلام، فحمد اللهَ وأثْنَى عليه، وكان من جملة كلامه أن قال: أمَّا بعد، فإنَّا قد ابتُلينا بطُول العُمر والفتن، فنرغب إلى الله تعالى أن لا يجعلنا ممَّن يقول له غدًا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] فإن أمير المؤمنين قال: العُمر الذي أعذرَ اللهُ فيه إلى ابن آدم ستون سنة. وليس فينا رجل إلا وقد بلغَها، وقد ابتلانا اللهُ، فَوجَدَنَا كاذِبِين في نُصرة ابنِ بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد راسلناه وكاتبناه، ووعدناه نصرنا، ثم تخلَّينا عنه حتى قُتل إلى جانبنا، فلا نحن نصرناه بأيدينا, ولا خَذَّلْنا عنه بألسنتنا, ولا قويناه بأموالنا, ولا طلبنا له النصر من عشائرنا، فما عُذْرُنا عند ربِّنا وعند لقاء نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وقد قُتل بينَنا ولدُه وحبيبُه وذُرِّيتُه؟ لا والله، دون أن نَقتُل قاتليه والمؤلِّبين عليه، أو نُقتَل في طلب ذلك، عسى ربُّنا أن يرضى عنا، فولُّوا عليكم أيها القوم رجلًا منكم، فلا بدَّ من أميرٍ ترجعون إليه، ورايةٍ تحفُّون بها. فقال له رِفاعة بن شدَّاد: إن الله قد هداك لأَصْوبِ القول، ودعوتَ إلى أرشد الأمور، وهو جهادُ الفاسقين، والتوبةُ من الذنب العظيم. وقلتَ: وَلُّوا أمركم رجلًا تفزعون إليه، فإنْ يكن أنتَ ذاك؛ تكن عندنا مَرْضيًّا، وإنْ رأيتَ ورأى أصحابُنا ولينا هذا الشيخَ أمرَ الشيعة، فإنه صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله السابقةُ والقِدَم -وأشار إلى سليمان بنِ صُرَد- فإنَّه المحمودُ في بأسِه ودِينه، الموثوقُ بحَزْمه. وقال عبد الله بن والي وعبدُ الله بنُ سعد بنحو ما قال رِفاعة، فقال المسيَّب بن نَجَبَة: أصبتُم ووُفِّقتُم، وأنا أرى مثلَ ما رأيتُم، فولُّوا أمرَكم سليمانَ بنَ صُرَد. فتكلَّم سليمان، وكان من جمل كلامه: إنَّا كنَّا نمدُّ أعناقَنا إلى قدوم آلِ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، ونُمنِّيهم النصر، فلما قدموا؛ وَنَيْنا عنهم، وتَرَبَّصنا عليهم، حتى قتل فينا وَلَدُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وسلالتُه وبَضعَة من لحمه ودمه، وجعل

يستصرخ فلا يُصْرَخ، ويستغيثُ فلا يُغاث، ويسأل النِّصْفَ (¬1) فلا يُعْطَى. واتخذه الفاسقون غَرَضًا للنَّبْل ودَوْم الرماح (¬2) حتى أقصدوه، وعَدَوْا عليه فسلبوه. {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]. وذكر كلامًا طويلًا في هذا المعنى، ثم قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ} [الأنفال: 60] (¬3). ثم كاتبوا إخوانَهم: سعد بنَ حذيفة بن اليمان، وكان بالمدائن، وإلى المثنى بن مُخَرِّبة العَبْدي، وإلى جميع الأمصار، وأن يكون اجتماعهم بالنُّخيلة غُرَّةَ ربيع الآخِر سنة خمس وستين (¬4). فقال أبو مِخْنَف: كان بداية أمرهم في سنة إحدى وستين بعد مقتل الحسين عليه السلام، وكانوا يستعدون للحرب، ويجمعون الأموال والسلاح حتى هلك يزيد بنُ معاوية يوم الخميس لأربع عشرة مضت من ربيع الأول سنة أربع وستين، فكان بين مقتل الحسين - رضي الله عنه - وهلاك يزيد ثلاث سنين وشهران وأربعةُ أيام. وكان عُبيد الله بن زياد بالبصرة، وعمرو بن حُريث خليفتُه بالكوفة، فاجتمعت الشيعة إلى سليمان بنِ صُرد وقالوا: قد مات هذا الطاغية والأمر الآن إلى ضعف، فإنْ شئتَ وثبنا على عمرو بنِ حُريث، فأخرجناه من القصر، وأظهرنا الطلب بدم الحسين، وقتلنا قَتَلَتَهُ. فقال سليمان: رويدًا لا تعجلوا، فإنَّ قتلةَ الحسين هم أشرافُ أهل الكوفة وفرسانُ العرب، وهم المُطالبون بدمه، ومتى علموا بما تريدون كانوا أشدَّ عليكم، فاثبتُوا حتى ننظر في هذا الأمر، ونبثَّ الدعاة، وتكثر الشيعة (¬5). وفيها ولَّى عبدُ الله بنُ الزُّبير عبد الله بنَ يزيد الخَطْمي الأنصاري الكوفة على حربها، وولَّى إبراهيم بن محمَّد بن طلحة بن عُبيد الله الأعرج على خَرَاجها، فقدماها ¬

_ (¬1) أي: الإنصاف. (¬2) في "أنساب الأشراف" 6/ 30: ودريئة، وفي "تاريح الطبري" 5/ 554: ودريَّة للرِّماح. (¬3) أنساب الأشراف 6/ 28 - 30، وتاريخ الطبري 5/ 552 - 554. (¬4) في (خ) (والكلام منها): ربيع الأول سنة سبع وستين. والتصويب من المصدرين السابقين 6/ 31 / 556. (¬5) ينظر "تاريخ الطبري" 5/ 558 - 559.

لثمان بقين من رمضان، وقدم المختار بن أبي عبيد قبلهما بثمانية أيام، وكان قدوم الجميع من مكة (¬1). ذكر قدوم المختار الكوفة: كانت الشيعة تشتمُ المختار وتلعنُه وتُبغضه لِما كان منه في أمر الحَسَنُ بن عليّ عليه السلام وقوله لعمِّه: سَلِّم الحَسَنُ إلى معاوية (¬2). فلما قدم مسلم بنُ عقيل الكوفة أنزله المختار في داره وبايَعَه، ولما خرجَ قاتلَ معه، فلما غلب مال المختار (¬3) ... وأخذه ابنُ زياد، فحبسه، وكانت صفيَّةُ أختُ المختار تحت عبد الله بنِ عُمر - رضي الله عنهما-، فدخلت عليه وبكت، وقالت: لا أرضى إلا بخلاص أخي، فإني أخافُ عليه من ابن مَرْجانة لا يقتلُه (¬4). فكتبَ ابنُ عمر - رضي الله عنهما - إلى يزيد بن معاوية بسببه، فكتب يزيدُ إلى ابن زياد أن أطلقْ المختارَ حين تنظُر في كتابي هذا، والسلام. فلما وقف ابنُ زياد على الكتاب؛ أحضرَ المختار وقال له: قد أجَّلْتُك ثلاثًا، فإن وجدتُك بعدَها؛ فأنتَ أخبر. وكان ابنُ زياد لما جيءَ به إليه ليلةَ خرجَ مسلم بنُ عَقيل؛ شَتَمَه وضربَه بقضيب فشَتَرَ عينَه (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 31 - 32، و "تاريخ" الطبري 5/ 560، و"تاريخ دمشق"44/ 242. (¬2) يعني لما طعن الجراحُ بنُ سنان الحَسَنَ بنَ عليّ أنَّه في مُظْلِم ساباط (قرب المدائن)، وحُمل الحَسَنُ إلى المدائن وعليها سعد بن مسعود (عم المختار) من قِبَل علي - رضي الله عنه -، فأشار المختار على عمّه أن يبعث بالحسن إلى معاوية، فأبى عمُّه ذلك. ينظر "أنساب الأشراف" 2/ 382. (¬3) كذا. وبعدها في (خ) (والكلام منها فقط) ما لفظه: "من داره وبايعه، ولما خرج قاتل معه". وهو كلام مكرر، وجاء في هامشها لفظة: كذا. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 39، و"تاريخ" الطبري 5/ 569. (¬4) يعني أن يقتله. (¬5) أي: قلبَ جَفْنَها.

فلما انقضت الثلاث خرج المختار من الكوفة يريد مكة، فلقيَه ابن الغرق (¬1) -مولى لثقيف- من وراء واقصة، فلما رأى شَتَرَ عينِه استرجع وتوجَّع، وقال له: ما بال عينك؟ ! فقال: خبطني ابنُ الزانية بالقضيب، قتلني اللهُ إن لم أُقطِّعه إرْبًا إربًا، فاحفَظْ عنّي ما أقول حتى تَرَى مصداقَه، إن الفتنة قد أَرْعَدَتْ وأبرقَتْ، وكانت (¬2) قد أينعت، فوطئت في خِطامها، فإذا رأيتَ ذلك وسمعتَ بمكان قد ظهرتُ به، فوالله لآخُذنَّ بدم المظلوم الشهيد بالطُّفوف، واللهِ لأقتلنَّ بقتله عِدَّة القتلى التي قُتلت على دم يحيى بن زكريا. قال ابنُ الغرق: فقلت: هذه أعجوبة أعجبُ من الأولى. فقال: هو ما أقول لك، فاحفظه عني حتى تَرَى مصداقه. ثم ساق راحلته ومضى. فقلت في نفسي: هذا الأمرُ [الذي] يذكر أنه كائن؛ شيءٌ يحدِّثُ به نفسَه، وليس كلُّ ما يتمنَّاه الإنسان يكون. قال: فواللهِ ما مِتُّ حتى رأيتُ كلَّ ما قال قد كان. قال ابن الغرق: فحدَّثتُ بذلك الحجَّاجَ بنَ يوسف، فضحك، ثم قال: فقد كان يقول أيضًا: ورافعةٍ ذَيلَها، وداعيةٍ ويلَها، بدجلةَ أو حولَها. قال: فقلتُ له: أترى هذا شيئًا يخترعُه، أو تخريصًا يخترصُه، أو هو من علم أوتيَه؟ فقال: والله ما أدري ما هذا الذي تسألُ عنه، ولكن للهِ درُّه! أيُّ رجلٍ ومِسْعَرِ حرب ومُقارعِ أعداءٍ كان (¬3)! وقال عبَّاسُ بنُ سهل بنِ سعد: قدم المختار مكة، فأتى عبدَ الله بنَ الزبير وأنا عنده، فسلَّم عليه، فرحَّب به وقال له: يا أبا إسحاق، كيف تركتَ الناسَ بالكوفة؟ قال: هم لسلطانهم في العلانية أولياء، وفي السِّرِّ أعداء. فقال ابن الزُّبير: هذه صفةُ عبيد السوء، إذا رأَوْا أربابهم أطاعوهم، فإذا غابوا عنهم شتموهم. ثم قال المختار لابن الزبير: ما تنتظرُ؟ مُدَّ يدك لنبايعَك، وأعطِنا ما يُرضينا، وثِب على الحجاز، فإنهم كلَّهم معك. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 5/ 571: ابن العرق. ولم أعرفه. (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 572: وكأنْ. (¬3) أنساب الأشراف 6/ 39 - 40، وتاريخ الطبري 5/ 569 - 573. ولفظة "الذي" بين حاصرتين منه.

ثم قام من عنده، فغاب عنه سنة، فسألني عنه فقال: هل عندك من المختار خبر؟ فقلتُ له: ما لي به عهد من يوم كان عندك، وقد قدم قوم من الطائف معتمرين، فسألتُهم عنه فقالوا: قدم علينا الطائف وهو يزعم أنه سيِّد (¬1) الجبَّارين. قال: قاتلَه الله، لقد انبعث كذَّابًا متكهنًا، إن يُهلكِ اللهُ الجبَّارين فهو أحدُهم. قال عباس: فواللهِ ما فرغنا من منطقنا حتى عَنَّ لنا المختارُ في طرف المسجد، فقال ابن الزبير: اذكُر غائبًا تره. فأتى الكعبة، فطاف بالبيت، ثم صلَّى ركعتين عند الحِجْر، وجلس، فأطافَ به رجالٌ من معارفه من أهل الطائف، واستبطأ ابنُ الزبير قيامَه [إليه] , فقال لي: ما شأنُه، أترى ما يأتينا؟ فقلت: أنا أعلمُ لك علمه. فقمتُ إليه، فسلَّمتُ عليه، وجلستُ وقلت له: أين كنتَ؟ قال: بالطائف. فقلت: مثلك [يغيبُ] عن مثل ما اجتمعَ عليه أهلُ الشَّرف من قريش والأنصار وثَقِيف وغيرهم من القبائل على بيعة هذا الرجل! فهلَّا أتيتَه فبايعتَه، وأخذتَ بحظِّك من هذا الأمر؟ فقال: أما رأيتَني أتيتُه عامَ أوَّل، فأشرتُ عليه بالرأي، فطوى أمرَه عنّي؟ فأردتُ أن أُرِيَهُ أنِّي مستغنٍ عنه، واللهِ لهو أحوجُ إليَّ منِّي إليه. قال: فأخبرتُ ابنَ الزبير، فقال: قُلْ له: ميعادُك الليلةَ عند الحِجْر. فاجتمعا، فسلَّم عليه ورحَّب به، وسكتا طويلًا، ثم قال له المختار، لا خير في الدنيا وفي الإكثار من المنطق، ولا في التقصير عن الحاجة، إني جئتُك لأبايعَك على أن لا تقضيَ الأمورَ دوني، وعلى أن أكونَ أوَّلَ من تأذن له، وإذا ظهرتَ استعنتَ [بي] على أفضلِ عملِك. فقال له ابن الزُّبير: أُبايعُك على كتاب الله وسنَّةِ نبيّه - صلى الله عليه وسلم -. فقال: ما لي في هذا من الحظّ إلا لمن هو أبعدُ الناس عنك (¬2). واللهِ لا أُبايعك على هذا أبدًا. قال عبَّاس: فالتقمتُ أُذن ابنِ الزُّبير وقلت له: اشتر منه دينَه حتى ترى رأيَك. فقال له ابن الزُّبير: فإنَّ لك ما سألتَ. فبايعَه، وأقامَ معه حتى شهدَ الحصار الأول حين قدم الحُصين بن نُمير السَّكوني، وقاتلَ فأبلَى بلاءً حسنًا، وكان في عصابة في نحو ثلاث مئة، وجعل ينادي: أنا المختار. فما كان يتوجَّه إلى طائفة من أهل الشام إلا كشَفَهم. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 6/ 40، و"تاريخ" الطبري 5/ 574: مبير، بدل: سيد. وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬2) عبارة الطبري 5/ 575: ما لي في هذا الأمر من الحظّ ما ليس لأقصى الخلق منك.

وقاتل يوم تحريق الكعبة قتالًا عظيمًا، وأقام عند ابنِ الزُّبير حتى هلك يزيد، وأقام خمسة أشهر بعد هلاك يزيد، فلما رآه لا يستعملُه، عزم على قصد الكوفة. فقدم مكةَ هانئُ بنُ أبي حيَّة الوادعي يريد العُمرة (¬1)، فلقيَه المختار، فسألَه عن الناس بالكوفة، فقال: قد اتَّسقوا على ابنِ الزبير إلا طائفةً من أهل المصر لو كان لهم رجل يجمعُهم على رأيه أكل بهم الأرض. فقال المختار: أنا أبو إسحاق، أنا واللهِ أجمعُهم على رأي الحقّ، وألقى بهم (¬2) ركبان الباطل، وأقتلُ بهم كلَّ جبَّار عنيد. فقال هانئ: ويحك يا ابنَ أبي عُبيد! لا تُوضِع في الضلال، وليكن صاحبُهم غيرك، فإنَّ صاحبَ الفتنة أقربُ شيء أجلًا، وأسوأُ الناس عملًا. فقال المختار: ما أدعو إلى الفتنة، وإنما أدعو إلى الهدى والجماعة. ثم ركب المختار رواحلَه، وسار إلى الكوفة، فلقيَه سَلَمَةُ بن مَرْثَد الهَمْداني بالقَرْعَاء (¬3) -وكان ناسكًا شجاعًا- فسأله المختار عن الناس، فقال: هم كغنم ضلَّ راعيها. فقال المختار: وأنا أُحْسِنُ رِعايتَها، وأَبلغُ نهايتَها. فوعظَه سَلَمة وقال له: اتَّق الله، فإنَّك ميت ومبعوثٌ ومُحاسَب. فسار المختار حتى قدم الكوفةَ في شهر رمضان سنة أربع وستين، فلما قدم المختار وجدَ وُجوه الشيعة وأشرافَهم قد اجتمعوا على سليمان بن صُرد، فحسده وقال لهم: إني جئتكم من عند المهدي محمَّد بن الحنفيَّة وليّ الأمر، وأنا وزيرُه، وإن سليمان بن صُرَد لا خبرة له بالحروب، وليس بذي تجربة، وإنما يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلُكم (¬4). وما زال حتى مالت إليه طائفة منهم، وأما رؤساؤهم فمع سليمان بن صُرد، لا يعدلون به أحدًا. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 5/ 577: عمرة رمضان. (¬2) في المصدر السابق 5/ 578: أجمعهم على مرّ الحق وأنفي بهم. (¬3) هو منزل في طريق مكة من الكوفة بعد المُغِيثة. وقبل واقصة إذا كان متوجهًا إلى مكة. "معجم البلدان" 4/ 325. (¬4) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 42 - 43، و"تاريخ" الطبري 5/ 560 - 561 و 580.

قال: فخرجَ سليمان نحو الجزيرة، فقال عُمر بن سعد بن أبي وقاص وشَبَث بن رِبْعيّ ويزيد بن الحارث بن رُويم لعبد الله بن يزيد الخَطْمي وإبراهيم بن محمَّد بن طلحة (¬1): إنَّ المختار أشد عليكم من سليمان بن صُرد؛ لأن سليمان إنما خرج ليقاتل عدوَّكم، والمختار يريدُ أن يثبَ عليكم في مصركم، فاسجُنوه ليستقيم لكم الأمر. فسار إليه عبد الله بنُ يزيد الخَطْمي وإبراهيم بن محمَّد بن طلحة، فأحاطوا به وأخرجوه من داره، فقال إبراهيم لعبد الله: شُدَّه كِتافًا، ومَشه حافيًا. فقال له عبد الله: هذا رجل ما ظهر لنا منه عداوةٌ ولا حرب، وإنما أخذناه على الظّن، فلا أشدُّه كِتافًا ولا أُمشِّيه حافيًا. فقال إبراهيم للمختار: يا ابنَ أبي عُبيد، ما هذا الذي يبلغُنا عنك؟ فقال المختار: أمَّا ما بلغك عني فباطل، وأعوذ بالله من غِشٍّ كغِشِّ أبيك وجدِّك. فأركبوا المختار على بغلةٍ له دهماء، فقال إبراهيم لعبد الله: ألا تقيدُه؟ فقال: كفى بالسجن قيدًا. فقال: أَمَا [ورَبِّ البحار، و] النخيل والأشجار، والمَهَامِهِ والقِفار، والملائكة الأبرار، والمصطَفَيْنَ الأخيار، لأقتلنَّ كل جبار بكلِّ لَدْنٍ خَطَّار، ومهنَّدٍ بتَّار، في جموعٍ من الأنصار، ليسوا بأغمار ولا أشرار (¬2)، حتى إذا أقمتُ عمود الدين، وشَفَيْتُ غليل صدور المسلمين والمؤمنين، وأدركتُ بثأر النبيِّين؛ لم يكبُر عليَّ زوالُ الدنيا, ولم أَحْفَل بالموت إذا أتى. فكان يَسْجَعُ لأصحابه من هذا السَّجْع وأمثالِه (¬3). وأتى يزيد بن الحارث بن رُوَيْم الشَّيباني إلى عبد الله بن يزيد الخَطْمي فقال له: إنَّ الناس يتحدَّثون أن الشيعة خارجةٌ عليك مع سليمان بن صُرد، ومنهم طائفة قليلة مع المختار، والمختار يتربَّص بخروجه ما يؤول إليه أمرُ ابنِ صُرَد، فإن رأيتَ أن تجمعَ الشُّرَط والمقاتلة، ثم تنهضَ إليهم فتقاتلَهم. فقال عبد الله: إن قاتلونا قاتلناهم، وإن ¬

_ (¬1) سلف ص 267 أن عبد الله بن يزيد الخطمي أمير الكوفة على حَرْبها من قِبَل ابن الزبير، وإبراهيم بن محمَّد بن طلحة أميرها على الخَراج. وينظر "تاريخ" الطبري 5/ 580 - 581. (¬2) في "أنساب الأشراف" 6/ 43، و"تاريخ" الطبري 5/ 581: ليسوا بميل أغمار، ولا بعُزل أشرار. (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 42 - 43، و"تاريخ" الطبري 5/ 580 - 582. وما سلف بين حاصرتين منهما.

تركونا لم نطلبهم. وقال: ما الذي يريدون؟ قال: يذكرون أنهم يطلبون بدم الحسين. فقال: فأنا قتلتُ الحسين؟ ! لعنَ الله قاتلَ الحسين. وكان سليمان بن صُرَد وأصحابُه يريدون [أن] يثبوا بالكوفة، فصَعِدَ عبدُ الله المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمَّا بعد، فقد بلَغَني أن طائفةً من أهل العصر يُريدون الخروج علينا، فسألتُ عن السبب، فذُكر لي أنهم يطلبون بدم الحسين بنِ عليّ، فرحم الله هؤلاء القوم، فقد دُلِلْتُ على أماكانهم، وقيل لي: ابدأ بهم قبل أن يبدؤوا بك. فأبيتُ ذلك وقلتُ: إنْ قاتلوني قاتلتُهم، وإن تركوني لم أطلبهم، وعلامَ يُقاتلونني؟ ! فوالله ما أنا قتلتُ حسينًا! فلعنَ اللهُ قاتلَه، وهؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا ظاهرين، ثم ليسيروا إلى قَتَلَةِ الحسين رحمه الله، وأنا لهم على قاتله ظهير ومعين. وهذا ابنُ زياد قاتلُ الحسين وقاتلُ أماثلكم وخِياركم قد توجَّه إليكم، فاسْتَعِدُّوا له (¬1)، فهو أولى من أن يقتل بعضُكم بعضًا ويسفك بعضكم دمَ بعض، فيلقاكم وقد رَقَقْتُم (¬2)، وتلك أمنيَّةُ عدوِّكم. فقام إبراهيم بنُ محمَّد بن طلحة، فقال: أيها الناس، لا يغرَّنَّكم كلامُ هذا المداهن الموادع، واللهِ لئن خرجَ علينا خارج لَنقتلنَّه (¬3)، ولئن تيقَّنَّا أنَّ أحدًا خارج علينا لنأخذنَّ الوالد بولده، والمولودَ بوالده، والحميم بحميمه، حتى تدينوا للحق وتَذَلَّلُوا للطاعة. فقام المسيَّب بنُ نَجَبة، فقطع عليه كلامَه وقال: يا ابن الناكثين، أنت تهدِّدُنا بسيفك وغَشْمك (¬4). واللهِ [إني لأرجو ألا يخرجك الله من] بين ظهراني هذا العصر حتى يُثلِّثُوا بك أباك وجدَّك. وأمَّا أنت أيُّها الأمير؛ فقد قلتَ قولًا رشيدًا، والله إني أظنُّ من (¬5) يريدُ هذا الأمر مستنصحًا لك، وقابلًا قولَك. ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): فاستعدُّوا أمثاله (؟ ). وينظر "تاريخ" الطبري 5/ 562. (¬2) في (خ): وقفتم. والمثبت من المصدر السابق. (¬3) في (خ): ليقتلنا. والمثبت من المصدر السابق. (¬4) الغَشْم: الظلم والغَصْب. ووقع في (خ): وبحسمك! والتصويب من "تاريخ" الطبري 5/ 562، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬5) في (خ): أظنُّ أنَّ من. والمثبت من المصدر السابق، من أجل قوله بعده: مستنصحًا ...

فقال إبراهيم: إي واللهِ ليُقتلَنَّ، وقد داهن (¬1) ثم أعلن. فقام عبد الله بن والي التَّيمي فقال: يا أخا بني تيم (¬2) بنِ مُرَّة، ما اعتراضك بينَنا وبين أميرنا، إنَّما أنت أميرُ جِزْيَةٍ وخَراج، ولست بأميرنا ولا سلطانَ لك علينا، فأَقْبِلْ على جِزْيتك وخَراجك، فواللهِ ما أفسدَ أمر هذه الأمةِ إلا والداك (¬3) الناكثان، فعاد عليهما شؤم ذلك، وكانت عليهما وعلى الناكثين دائرة السُّوء. فغضب جماعةٌ من أصحاب إبراهيم بن محمَّد، وغضبت الشيعة، فتخاصموا، ونزل عبدُ الله من المنبر، فقال إبراهيم: داهن الخَطْميُّ أهلَ الكوفة، واللهِ لأكتبنَّ بذلك إلى ابن الزبير. وبلغ الخَطْميَّ، فدخل عليه وقال: واللهِ ما أردتُ بما قلتُ إلا العافيةَ، وإصلاحَ ذات البَيْن، وإطفاءَ النائرة. فقبل إبراهيمُ ذلك منه. وأقبلت الشيعةُ يتجهَّزون ويشترون السلاح ظاهرين لا يخافون. وفيها فارقت الخوارجُ عبد الله بنَ الزبير، وكانوا قد اجتمعوا عنده يحمون الكعبة، ويقاتلون أهلَ الشام، وكان عُبيد الله بن زياد لما قَتلَ الخوارجَ تفرقوا في البلاد، واجتمعوا إلى نافع بن الأزرق، وقالوا له: قد هلك الطاغية يزيد، وأقام ابنُ الزُّبير عائذًا بالبيت، فماذا ترى؟ قال: سيروا بنا إليه، فإن كان على رأينا جاهدنا معه عدوَّه، وإن لم يكن على رأينا دافعنا عن البيت ما استطعنا، ونظرنا بعد ذلك في أمرنا. فقوموا على ابن الزبير فسُرَّ بهم، وسألوه، فقال: أنا على مثل رأيكم. وأعطاهم الرِّضى من غير توقيف. فقاتلوا معه حتى مات يزيد بنُ معاوية ورجع أهل الشام عن مكة، فقال بعضهم لبعض: قد زعم أنه على رأيكم، وإنما كان أمسِ يُقاتلكم هو وأبوه وينادون: يا لثارات عثمان. فاسألوه عن عثمان، فإن برئَ منه؛ فهو منكم، وإن أبي؛ فهو عدوُّكم. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 5/ 562: أدهن. (¬2) في (خ) (والكلام منها): سمرة، بدل: بني تيم! والمثبت من المصدر السابق. (¬3) في "تاريخ الطبري" 5/ 563: والدك وجدُّك.

فمشَوا إليه وقالوا: أيها الإنسان، إنَّا قاتَلْنا معك ظنًّا أنَّك على رأينا, ولم نبحث معك، فأخْبِرْنا عن رأيك في عثمان. فنظر، فإذا حولَه من أصحابه قليل، فقال لهم: موعدُكم العشيَّة لأُخبركم من ذلك بما تريدون. فانصرفوا، فأمر أصحابَه بلبس السلاح، وأن يأتوه العشيَّة، ففعلوا، وجاءت الخوارج، فرأوا أصحابه حوله سِماطَيْن (¬1)، وعليهم السلاح، وجماعة من عنده وأشراف أصحابه قيام على رأسه بالأعمدة، فلما رأَوْا ذلك قال نافع بن الأزرق لأصحابه: خشيَ واللهِ غائلتكم، وقد أزمعَ على خلافكم فاستعدَّ لكم. فدنا منه نافع وقال له: يا ابنَ الزبير، اتَّقِ ربَّك، وأبغضِ الجائر (¬2) المستأثر الذي أوَّل مَنْ سنَّ الضلالة، وأحْدَثَ الأحداث، وخالفَ حكم الكتاب، وإن خالفتَ فأنتَ من الذين استمتعوا بِخَلَاقهم. ثم قال: قُم يا عبيدة بن هلال، فَصِفْ لهذا الإنسان أمرَنا الذي نحن عليه، وندعو إليه الناس. وكان عبيدة من الفصحاء. فتقدَّم فخطبَ خطبةً بليغة، ذكرَ فيها سيرةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين بعدَه، ثم قال: فقام عثمان فحمى الأحماء، وآثر الأقرباء، واستعمل الفتيان، وآوى طريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحرقَ الكتاب، وخالف السنن, وفعل ما فعل، فسارت إليه طائفةٌ من المسلمين، أخذ الله ميثاقَهم على طاعته، لا يخافون في الله لَوْمَةَ لائم، فقتلوه، فنحن لهم أولياء، ومن ابنِ عفَّان وأوليائه بُرَآء، فما تقول أنتَ يا ابنَ الزُّبير؟ فحمد اللهَ ابنُ الزبير، وصلَّى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: قد علمتُ ما وصفتَ به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين بعدَه، فلقد وُفِّقتَ وأصبتَ. وأمَّا ابنُ عفَّان، فإني لا أعلمُ أحدًا من خلق الله أعلمَ بمكانه وأمرِه منِّي، فإني كنتُ معه حين نَقَمُوا عليه واستَعْتَبُوه، وقد أجابَ عن جميع ما نَقَمُوا به، فما سمعوه منه، وقتلوه، وإنَّني وليُّ مَنْ والاه، وعدوُّ مَنْ عاداه. ¬

_ (¬1) السِّماط: الصفّ. (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 565: الخائن.

فقالت الخوارج: فبرئ اللهُ منك يا عدوَّ الله. قال: وبرئَ اللهُ منكم يا أعداء الله. ثم تفرَّقوا في البلاد، فبعضُهم تولّى البصرة، وبعضُهم اليمامة، وبعضهم هَجَر، وكانوا زيادةً على عَشَرة آلاف، ورؤساؤهم نافع بنُ الأزرق الحنظليّ، وعبدُ الله بن صفَّار السَّعْديّ من بني صَرِيم بن مُقاعس، وعبدُ الله بن إباض، وحنظلة بن بَيْهس، وأبو طالوت من بني زِمَّان (¬1)، وغيرهم، ثم خرجوا بعد ذلك على الأمراء. وسنذكر ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى. وفيها هدم ابنُ الزُّبير الكعبة وبناها: لمّا ارتحل الحُصين بن نُمير عن مكة لخمس ليالٍ خلون من شهر ربيع الأوَّل، سنة أربع وستين أمرَ عبدُ الله بنُ الزبير بتلك الأخصاص (¬2) التي حول الكعبة فهُدمت، فبَدَتِ الكعبةُ، وكَنسَ المسجدَ، وأزال ما فيه من الحجارة والدِّماء. وقد وهت الكعبة من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق، فإذا الرُّكن قد اسودَّ واحترق من النار التي كانت حول الكعبة. فشاورَ ابنُ الزبير الناس في هدمها وإعادة البناء، فأشار عليه جابرُ بن عبد الله وعُبيد بن عُمير وغيرُهما بذلك، وأبي عليه عبد الله بنُ عباس وقال: أخشى أن يأتي بعدك من يهدمُها، فلا تزال تُهدمُ حتى يتهاونَ الناسُ بحرمتها، إنه قد فَرَقَ (¬3) لي فيها رأيٌ، أرى أن تُصلحَ ما وَهَى منها، وتدعَ بيتًا أسلمَ الناسُ عليه، وأحجارًا بُعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليها. فقال ابنُ الزُّبير: لو أنَّ أحدَكم احترقَ بيتُه، ما رضيَ حتى يجدِّدَه، فكيف ببيت ربكم؟ ! إني مستخيرٌ ربي ثلاثًا، ثم عازمٌ على أمر. ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): مازن. والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 566. (¬2) جمع الخُصّ، وهو البيت من شجر أو قصب، ويجمع أيضًا على خِصاص. وينظر "أخبار مكة" للأزرقي 1/ 216. (¬3) أي: بدا وظهر. وذكر ابن الأثير في "النهاية" 3/ 440 أنه يقال: فُرِق، على ما لم يُسمَّ فاعلُه. اهـ. وهذا الحرف في "صحيح" مسلم (1333): (402). وينظر "أخبار مكة" للأزرقي 1/ 216 - 217، و"البداية والنهاية" 11/ 691.

فما مضت الثلاث حتى اجتمع رأيُه على نقضها، فتحاماه الناس خوفًا أن ينزلَ عليهم من السماء أمر. ثم صَعِدَه رجلٌ، فألقى منه (¬1) حجرًا، فلما رأى الناس أنه لم يصبه [شيء] تتابعوا على نقضه، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. ثم حفر الأساس، فوجدوا أصلًا بالحِجْر مشبَّكًا كأصابع (¬2) اليدين، فدعا عبد الله بن الزبير خمسين رجلًا من قريش وأشْهَدَهم على ذلك، وجعل الحَجَر في تابوت في سَرَقَةٍ (¬3) من حرير، ثم بني البيت، وأدخل الحِجْرَ فيه، وجعلَ للكعبة بابين موضوعين بالأرض، بابٌ يُدخل منه، وبابٌ يُخرج منه بإزائه (¬4)، وقال: إن عائشةَ حدَّثَتْني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "إنْ أرادَ قومُك أن يَبْنُوا البيتَ على ما كان عليه على عهد إبراهيم فليفعلوا" (¬5). قال: فأرَتْني عائشةُ الذي أراها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان عندي مذروعًا حتى وليتُ هذا الأمر، فلم أعْدُ به ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فرأى الناس يومئذ أنه قد أصاب حتى بلغ موضع الركن الأسود؛ فوضعه بيده، وشدَّه بفضَّة؛ لأنه كان قد انصدع، ثم ردَّ الكعبة على بنائها، فجعلها سبعة وعشرين ذراعًا، ولطَّخَ جُدُرَها بالمسك، وسَتَرَها بالديباج. ثم اعتمر من خيمة حمامة (¬6)، وهي عند مساجد عائشة رضوان الله عليها، ثم طاف بالبيت وصلَّى وسعى. ولمَّا ألحقها بالأرض جعل أعمدةً، فستر عليها ستورًا حتى ارتفع البناء (¬7). ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): فألقى عليه منه! (¬2) الكلمة غير واضحة في (خ). والمثبت من "البداية والنهاية" 11/ 692. (¬3) السَّرَقَة: واحدة السَّرَق، وهي شُقَق الحرير الجيّد. وتحرفت اللفظة في (خ) إلى: خرقة. وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 387. (¬4) في "أخبار مكة" للأزرقي 1/ 207: وجعلَ البابَ الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله. (¬5) هو بنحوه من حديث مسلم (1333) المشار إليه قريبًا. (¬6) كذا في (خ). وفي "أخبار مكة" للأزرقي 1/ 220: جمانة. (¬7) أي: رفَعَ الأعمدةَ وجعل عليها الستور ليستقبلها المصلُّون ريثما يرتفع البناء. وكان من الأنسب أن ترد هذه الفقرة أثناء كلامه عن البناء.

قال يزيد بن رُومان: شهدتُ [ابنَ] الزُّبير حين هَدَمَ البيت وبناه، وأدخلَ فيه من الحِجْر، وقد رأيتُ أساسَ إبراهيم حجارة كأسنمة البُخْت. قال جرير بن حازم: فقلتُ ليزيد بن رُومان: أين موضعُه؟ قال: أُرِيكَهُ الآن. فدخلتُ معه الحِجْر، فأشارَ إلى مكان، وقال: ها هنا. فَحَزَرْتُ من الحِجْرِ ستَّةَ أذرع، أو نحوها (¬1). وقال عبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنهما -: قالت عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أنَّ الناسَ حديثُ عهدٍ بكفر، وليس عندي من النفقة ما أتقوَّى به علي بنيانه؛ لكنتُ أُدْخِلُ فيه من الحِجْرِ خمسة أذرع". وذكر الحديث. ثم قال ابن الزبير: فأنا اليوم أجدُ ما أُنفق، ولستُ أخاف الناس. فزاد فيه خمسةَ أذرع من الحِجْر، حتى إذا بدا الأساس (¬2) نظر الناسُ إليه، فبنى البناء. وكان طولُ الكعبة ثمانيةَ عشرَ ذراعًا (¬3). فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذْرُع، وجعل له بابين. فلمَّا قُتل ابنُ الزُّبير كتبَ الحجَّاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك، وأن ابنَ الزُّبير قد وضع البناءَ على أساسٍ نظر إليه العُدُول من أهل مكة، فكتب إليه عبدُ الملك: لسنا من تلطيخ ابنِ الزُّبير في شيء، أمَّا ما زاد في طوله، فأقرَّه، وأمَّا ما زاد من الحِجْر، فرُدَّه إلى بنائه، وسُدَّ الباب الذي فتحَه. فنقضه الحجَّاج، وأعاده إلى بنائه. [و] بينا عبدُ الملك يطوفُ بالبيت إذ قال: قاتلَ اللهُ ابنَ الزُّبير حيث يكذبُ على أمِّ المؤمنين حيث يقول: سمعتُها تقول كذا وكذا. فقال له الحارث بنُ عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي: لا تَقُلْ هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعتُها تُحدِّثُ هذا. فقال عبد الملك: لو كنتُ سمعتُه قبلَ أن أهدمه لتركتُه على ما بنى [ابنُ] الزبير (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1586). (¬2) في "صحيح" مسلم (1333): (404): حتى أبدى أُسًّا. (¬3) في "صحيح" مسلم: ثماني عشرة ذراعًا. والذراع يذكّر ويؤنّث. (¬4) صحيح مسلم (1333): (402)، والذي قبله فيه برقم (402).

ولما أراد ابنُ الزبير هَدمَ الكعبة وبناءها أرسل إلى اليمن أربعة آلاف بعير تحملُ الوَرْس ليجعله مَدَرَها، فقيل له: إن الوَرس يَرفَتُّ. فقَسمه في عجائز قريش، وبناها بالقَصَّة، [وكان في المسجد جراثيم، فقالا: أيُّها الناس، أبْطَحُوا به (¬1). ومعنى يَرْفَتُّ، أي: يتفَتَّت، والقَصَّة معناها الجَصّ. والجراثيم: تراب وطين يعلو على وجه الأرض. وابْطَحُوا, أي: سَوُّوا. وأراد ابن الزبير تعديل المسجد (¬2). وقال الجوهري: الوَرْسُ نَبْتٌ أصفر يكون باليمن، تتَّخذُ منه الغُمْرَةُ للوجه، ووَرَّسْتُ الثوبَ توريسًا: صبغتُه بالوَرس] (¬3). وحجَّ بالناس عبد الله بنُ الزبير - رضي الله عنهما-، وكان على المدينة عُبيدة بن الزّبير، وعلى الكوفة عبدُ الله بنُ يزيد الخَطميّ. وكان شُريح القاضي على الكوفة، فامتنع في هذه السنة من القضاء وقال: لا أقضي في أيام الفتنة. فوليَ قضاءها سعدُ (¬4) بنُ نِمران. وكان على ولاية البصرة عُمر بن عُبيد الله بن معمر التَّيميّ. قالوا: وفي هذه السنة وقع الطاعون الجارف بالبصرة، مات في اليوم الأول سبعون ألفًا، وفي اليوم الثاني تسعون ألفًا (¬5)، وفي اليوم الثالث ثلاثة وتسعون ألفًا (¬6)، وفي اليوم الرابع جميعُ الناس إلا القليل، وكانوا يَسُدُّون باب الدار على أهلها. وماتت أمُّ الأمير عُمر بن عُبيد الله بن معمر، فما وجدوا لها من يحملها حتى استأجروا لها أعلاجًا، فحملوها إلى قبرها. فيقال: إنهم ماتوا عند قبرها (¬7). ¬

_ (¬1) غريب الحديث لابن قتيبة 2/ 157، ونُسب الخبر في (م) إليه. والكلام بين حاصرتين منها. قوله: مَدَرَها، أي: طينها. وسيرد معنى الكلام. (¬2) قال ابن قتيبة: إنما أراد أن المسجد كان متعلّيًا غير مستوي الأرض، ففيه مواضع قد عَلَتْ، ومواضع قد تحفَّرت، فأمرهم أن يبطحُوا، أي: يُسَوُّوا الأرض بالبطحاء. (¬3) الصحاح (ورس). والكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) في "تاريخ الطبري" 5/ 582: سعيد. (¬5) في "المنتظم" 6/ 25: واحد وسبعون ألفًا. (¬6) في المصدر السابق: ثلاثة وسبعون ألفًا. (¬7) ينظر إضافة إلى المصدر السابق: أنساب الأشراف 4/ 473، وتاريخ الطبري 5/ 612 - 613.

جابر بن سمرة

وقيل: إن الطاعون الجارف كان في أيام عبد الملك بن مروان. وكان على قضاء البصرة هشام بن هُبيرة، وعلى خُراسان عبد الله بنُ خازم أميرًا، والكل من قِبَل ابن الزُّبير. وفيها توفي جابرُ بن سَمُرة ابن جُنادة السُّوائي (¬1)، وجدُّه جُنادة صحبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وروى عنه أيضًا، وكذا جابر، وكنيةُ جابر أبو عبد الله. وقيل: أبو خالد. أسند جابر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ربيعة بن عَمرو ابن الغاز الجُرَشي له صحبة، وكان قاضي معاوية على الأرباع، وكان يقصُّ على الناس، وكان فقيهًا. وقُتل مع الضحَّاك بن قيس في مَرْج راهط (¬3). زِمْل بن عَمرو ابن العِتْر بن خَشَاف العُذْري (¬4)، من الطبقة الرابعة من الصحابة. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 206 و 8/ 146. وقال: توفي بالكوفة في أول خلافة عبد الملك بن مروان في ولاية بشر بن مروان على الكوفة. اهـ. ونسبه ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 116: جابر بن سمرة بن عمرو، وقال: توفي سنة ست وستين في أيام المختار بن أبي عبيد. وعدَّه المِزي في "تهذيب الكمال" 4/ 439 - 440 وهمًا. وذكر ابن حبان في "مشاهير علماء الأمصار" ص 47، و"الثقات" 3/ 52 أنه مات سنة (74). (¬2) هذا وقع في (خ) (والكلام منها). وهو وهم غالبًا، فلم يُذكر جدُه جُنادة في الصحابة، وإنما لجابر ولأبيه سمُرة صحبة. روى الجما عة لجابر، وروى لأبيه سَمُرة: البخاريُّ ومسلم وأبو داود والترمذي. ينظر "تهذيب الكمال" 4/ 437 و 12/ 129. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 441، ومختصر تاريخ دمشق 8/ 280، ومرج راهط: موضع شرقي دمشق بعد مرج عذراء، وسلف ذكر الواقعة. (¬4) ينظر "توضيح المشتبه" 3/ 429.

الضحاك بن قيس

وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتب له كتابًا، وعقدَ له لواءً، أو، شهد [به] صفِّين مع معاوية، وشهد المَرْج (¬1) مع مروان، وقتل في ذلك اليوم. وكان [مع] مروان بالجابية، وهو أحد شهود التحكيم من جانب معاوية، وأقطعه دارًا بباب توما. ولما قدم زِمْل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنشده: إليك رسولَ الله أعملتُ نَصَّها ... أكلِّفُها حَزْنًا وقَوْزًا من الرَّملِ (¬2) لأنصرَ خيرَ الناسِ نصرًا مؤزَّرًا ... وأعقدَ حبلًا من حبالك في حَبْلي وأشهد أنَّ الله لا شيءَ غيرُه ... أدينُ بها ما أَثقلت قدمي (¬3) نعلي الضحَّاك بن قيس ابن خالد الأكبر بن وَهْب بن ثعلبة بن وائلة بن عَمرو بن شيبان بن مُحارب بن فِهْر، أبو أُنَيس، من الطبقة الخامسة، ممن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وهم أحداث الأسنان] (¬4) وسمع منه وصحبَه شيئًا يسيرًا. وكان فقيهًا، وقُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام لم يبلغ (¬5). وليَ الضحاك الكوفة لمعاوية لسنة أربع وخمسين، وعُزل عنها لسنة سبع وخمسين (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): شهد صفّين مع معاوية وشهد به المَرْج. وأثبتُ لفظ تاريخ دمشق 6/ 440 (مصورة دار البشير)، وهو بنحوه في طبقات" ابن سعد / 440. (¬2) النَّصُّ من الشيء: منتهاه، والحَزْن من الأرض: ما غلُظ، والقَوْز: العالي من الرَّمْل. (¬3) في (خ) (والكلام منها): من دمي. والمثبت من "تاريخ دمشق" 6/ 440. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 543. وما بين حاصرتين لا بدَّ منه لإتمام الكلام. (¬5) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 11/ 131. ونُسب الكلام في (م) للواقدي. وجاء الكلام السالف فيها مختصرًا، وجاء فيها في هذا الموضع: وقال ابن عساكر: صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا يسيرًا. قال: وقيل: لا صحبة له. والأصح أن له صحبة. (¬6) نُسبت هذه الفقرة في (م) للزبير بن بكّار، وجاء فيها بعد ذلك قوله: وولَّى مكانه عبد الرحمن بن أم الحكم. وينظر "تاريخ" خليفة ص 223 و 224، و"ثقات" ابن حبان 3/ 54، فقد ذكر أن مدة ولاية الضحاك سنتان ونصف.

ثم ضمَّه معاويةُ إلى الشام، فكان معه حتى مات معاوية ويزيد (¬1) ووثب مروان على الشام. شهد صفِّينَ مع معاوية، وكان على أهل دمشق وهم في القلب، وكانت له دار بدمشق في حجر الذهب ممَّا يلي حائط المدينة مشرفة على بردى. [وخرج إلى المَرْج فقُتل، والله أعلم] (¬2). وأسند الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال الإِمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا عفان بن مُسلم، حدثنا حمَّاد بنُ سَلَمة، حدثنا عليُّ بن زيد، عن الحسن قال: لمَّا مات يزيد بن معاوية كتب الضحَّاك بن قيس إلى قَيس بن الهيثم: سلامٌ عليك، أمَّا بعد، فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم (¬3)، يموت فيها قلبُ الرجل كما يموتُ بَدَنُه، يُصبحُ الرجلُ فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، يبيعُ أقوامٌ دينَهم وخَلاقَهم بِعَرَضٍ من الدنيا قليل" (¬4). وإنَّ يزيد بن معاوية قد مات، وأنتم إخوانُنا وأشقَّاؤُنا، فلا تسبقونا حتى نختار لأنفسنا (¬5). وروى عن الضحَّاك جماعة من الصحابة، منهم معاوية، وكان معاوية أكبر منه، فقال: حدَّثني الضحاك -والضحاك جالس عند المنبر- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال على الناس والٍ من قريش" (¬6). وروى عن الضحَّاك جماعةٌ من التابعين، منهم: أبو إسحاق السَّبِيعيّ، وتميم بن طَرَفة، والشَّعبي، وميمون بن مِهْران، وسِمَاك بن حَرْب، وعبد الملك بن عُمير، وغيرهم. فوَلَدَ الضحَّاك عَمْرًا، وأمُّه من بني عوف بن حرب. ومحمدًا وعبدَ الرحمن؛ أمُّهما ماويَّة بنت يزيد بن جَبَلة، كَلْبِيَّة. وحبيبًا، وأمُّه أمُّ عبد الله بنتُ عروة. ¬

_ (¬1) كذا ولعلَّ صواب العبارة: فكان فيها حتى مات معاوية بنُ يزيد ... الخ. أو أنَّ ثمة سقطًا وقع .. (¬2) ينظر المصدر السابق. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬3) بعدها في "مسند" أحمد (15753): فتنًا كقطع الدُّخان. (¬4) لفظة "قليل" ليست في "المسند". وذكره محقِّقوه أن المرفوع من الحديث صحيح لغيره. (¬5) أخرجه أيضًا ابن سعد 6/ 543 عن عفَّان بن مسلم بهذا الإسناد. (¬6) أخرجه ابن عساكر 8/ 409.

عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان

وأختُ الضحَّاك فاطمةُ بنتُ قيس روت حديث الجسَّاسة (¬1)، وزَوَّجَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أسامَةَ بنَ زيد، وحديثُها في الصحيح، وكانت من المهاجرات الأول ذات عقل وجمال، وكانت أكبرَ من الضحاك بعشر سنين. روى عنها أبو سَلَمة بنُ عبد الرحمن، والشعبيُّ، والنَّخَعيُّ (¬2)، وغيرُهم (¬3). عثمان بن عَنْبَسة بن أبي سفيان أُمُّه زينب بنت الزُّبير بن العوَّام، وأُمُّها أمُّ كلثوم بنتُ عقبة بن أبي مُعَيْط. وهو الذي تَمَّمَ صلاة الوليد بنِ عُتْبة على معاوية بن يزيد (¬4). وقالت له بنو أمية عند موت معاوية بن يزيد: هلُمَّ إلينا نُبايعْك بالخلافة. قال: على أن لا أُحاربَ أحدًا. قالوا: لا. قال: فأنا ذاهب إلى خالي عبد الله بنِ الزبير. فقال له مروان: هذه ساعةُ أعمام لا ساعةُ أخوال. ثم خرج إلى مكة إلى خاله ابنِ الزبير، فجفاه لأجل بني أمية. وأقام أيامًا، فمرض وتوفي بمكة، فحملَه ابنُه إلى الطائف، فدفنَه عند قبر أبيه عَنْبَسة بن أبي سفيان (¬5). وكان عثمان أقام عند خاله عبد الله بن الزُّبير إلى يوم المَرْج، فخرج إلى قتال مروان، وحمل على ألف دابة، فلما قُتل الضحاك انهزم عثمان إلى خاله ابن الزبير، فأرسل إليه يقول: إن بأصحابي حاجة، فبعث إليه بمئة مُدِّ برّ، ومئة مُدِّ شعير. فأرسل إليه عثمان يقول: أحملُ على ألف دابَّة في قتال قومي، وتبعثُ لي بهذا؟ ! واللهِ لا كلَّمتُك أبدًا. وقال: بأيِّ بلاءٍ أو بأيَّةِ نعمةٍ ... تبعتُ بني العوَّام دون بني حربِ أأختارُ (¬6) أذْوادًا كرامًا صحائحًا ... بعارية الأصلاب مُجْدِبةٍ (¬7) جَرْبِ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2942). (¬2) يعني الأسود بن يزيد النَّخَعي، كما في "تهذيب الكمال" 35/ 264. (¬3) ينظر المصدر السابق، و"طبقات" ابن سعد 10/ 259، و"الاستيعاب" ص 929. (¬4) سيرد هذا الخبر في ترجمة معاوية بن يزيد بعد ثلاث تراجم. (¬5) "تاريخ دمشق" 47/ 13 و 16. (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عثمان بن عنبسة). (¬6) في "تاريخ دمشق" المجلدّان 35 - 36/ 591 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عبد الله بن عثمان بن عنبسة): أَأُتبع. (¬7) اللفظتان: بعارية، مجدبة، من المصدر السابق. إذ لم تتبين لي في (خ) (والكلام منها). وينظر "معجم الشعراء" للمرزباني ص 346، ففيه رواية أخرى للشعر.

مسلم بن عقبة

واستحيى عثمان من الرجوع إلى بني أمية، فأقام بمكة، فلما احتضر قال لابنه عبد الله: يا بُنيّ، الحَقْ بقومك، فإن أباك لم يغتبط بفراقهم. وأوصى إلى خالد بن يزيد بن معاوية وهو بالشام. ولما مات عثمان خرج ولده عبد الله إلى الشام، فأدخله خالد على عبد الملك، فلمَّا رآه قال: لا رحم الله أباك، ولا جَبَر يُتْمك، واللهِ لا أدع لك بيضاءَ ولا صفراء ولا خضراء إلا قبضتُها. فجمع الغلامُ رداءه، ثم رمى به في وجه عبد الملك [ثم قال: اقبض هذا أولًا. وخرج حاسرًا، فقال عبد الملك] لابنه الوليد: يا وليد، رَجَلٌ واللهِ، فاجعله في صحابتك (¬1). مسلم بن عقبة ابن رياح المُرِّي، أبو عُقْبَة، أدركَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يره. وذكره ابن سُمَيْع في الطبقة الثانية من التابعين. ولما فعل بأهل المدينة ما فعل قال الناس: مُسْرِف بن عُقبة؛ لإسرافه وفتكه. وشهد مع معاوية صفِّين، ومات بالمُشَلَّل لسبع ليال بقين من المحرَّم سنة أربع وستين، وكان قد أصابه الفالج. ولما نَبَشَتْهُ أمُّ ولد يزيد بن عبد الله وجدت معه في القبر ثعبانًا قد التوى على عنقه يَمَصُّ أرْنَبَةَ أنفه، وكان له بضع وتسعون سنة، وكانت به النَّوْطَة، وهي ورمٌ يكون في نحو البعير وأرفاغِه (¬2). وأوصى لبني مُرَّة بزَرَّاعته (¬3) التي بحوران صدقة، وما أغلقت عليه أمُّ ولده بابَبها فهو لها (¬4). المِسْوَرُ بن مَخْرَمَة ابن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زهرة، أبو عبد الرحمن، من الطبقة الخامسة من أهل مكة، ممَّن قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهم حُدثاء الأسنان (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق (الطبعة المذكورة آنفًا) وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) جمع رَفْغ، وهو أصل الفخذ. ينظر "القاموس". (¬3) الزَّرَّاعة: الأرض التي يُزرع فيها. (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 496 - 497، و"تاريخ دمشق" 67/ 226 - 239 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 521.

وُلد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وحُفظ عنه أحاديث (1). وأمُّه عاتكة بنت عوف أخت عبد الرحمن لأبيه وأمِّه. قدم مصر سنة سبع وعشرين لغزو المغرب (¬1)، وكانت الخوارج تعظِّمه لدينه، وينتحلُون رأيه، وقد برَّأه الله منهم (¬2). [وقال البلاذري: لمَّا عاد المِسْور من عند يزيد بن معاوية سئل عنه، فقال: يشرب الخمر، وينام عن الصلاة. وبلغ يزيد، فكتب إلى عامله: اجْلِدْهُ مئة جلدة. وقد ذكرناه] (¬3). [وقال ابن سعد: ] (¬4) خرج المِسْورُ إلى سوق ذي المجاز، فرأى رجلًا ألثغ يؤمُّ الناس، فأخره، وقدَّم رجلًا آخر، فشكاه الرجل إلى عُمر رضوان الله عليه، فقال له: لِمَ فعلتَ هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هذه أسواقٌ يجتمع إليها ناسٌ كثير، وعاقَتُهم أعراب لم يسمعوا القرآن، والرجلُ ألثغ [-أو أرَتّ-] , فخشيتُ أن يتفرقوا بالقرآن على لسانه، فقدَّمتُ رجلًا عربيًّا فصيحًا. فقال له عمر رضوان الله عليه: جزاك الله خيرًا. [وقال ابن سعد (¬5): لمَّا حُوصر عثمان؛ بعثَ بالمسور إلى معاوية يأمره أن يبعثَ إليه بالجيش لينصره. فركب معاوية رواحله من دمشق، وقدم المدينة في ثلاث رواحل ومعه مسلم بن عقبة ومعاوية بن حُديج، فدخل على عثمان نصف الليل، وكان قد قطع إليه البلاد في عشر ليال فقال له عثمان: وأين الجيش؟ فقال: ما جئتُك إلا في ثلاث رواحل (¬6)، فقال له عثمان: لا وصل الله رحمك، ولا أعزَّ نصرك، ولا جزاك خيرًا. فواللهِ ما أُقتَلُ إلا فيك، ولا انْتُقِمَ عليَّ إلا من أجلك. فقال له معاوية: لو بعثتُ إليك الجيش، فبلغَهم وصوله، عاجلوك فقتلوك، ولكن اخرج معي إلى الشام على ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 67/ 287 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) المصدر السابق 67/ 285. (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 356. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) في "الطبقات" 6/ 522. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬5) في "الطبقات" 6/ 524. وهذا الخبر بين حاصرتين عن (م). (¬6) في "الطبقات": ثلاثة رهط.

النَّجائب، فواللهِ ما هي إلا ثلاث حتى ترى معالم الشام، فإنَّ الشام أكثر الإِسلام (رجالا) وأحسنُهم رأيًا فيك. فقال عثمان: بئسما قلت، وبئسما أشرت به. وقد ذكرنا في السيرة طرفًا منه. قال ابن سعد: ورجع معاوية إلى الشام، ورجع المسور إلى المدينة، وهو ذامّ لمعاوية غير عاذر له. وهذا كان في الحصار الأول. قال ابن سعد: فلما كان في الحصار الثاني بعث عثمان بالمسور أيضًا إلى معاوية، فأغذَّ السير (حتى قدم) على معاوية، فقال: أدرك عثمان. فقال معاوية: إنَّ عثمان أحسنَ فأحسنَ الله إليه، ثم غيَّر فغيّر الله به. ثم قال: يا مسور، تركتُم عثمان حتى إذا كانت نفسه في حنجرته جئتم فقلتُم: اذهبْ فادفعْ عنه الموت! ليس ذلك بيدي. قال: ثم أنزَلَني معه في مَشْرُبَة (¬1) على رأسه، فما دخل عليَّ أحد حتى قُتل عثمان. قال: ولما أنزلني معاوية في المَشْرُبَة؟ قلتُ: أُريد أن أُخبر أهلَ الشام، فقال لي: لا يا أبا عبد الرحمن. وكانت كنية المسور أبو عبد الرحمن] (¬2). [وقال ابن سعد (¬3): كان المسور لا يشرب من الماء الذي يوضع في المسجد، ويقول: هو صدقة]. وكان المسور يصوم الدهر (¬4). وكان يقول: لقد وارت الأرضُ أقوامًا لو رأوني جالسًا معكم لاستحييتُ منهم (¬5). وسمع ابنًا له يحلفُ ويقول: كفرتُ بالله. فضرب بيده في صدره وقال: قل: آمنتُ بالله. ثلاثًا (¬6). ¬

_ (¬1) المَشْرَبَة، بفتح الراء، وتضم: الغرفة أو العِلِّيَّة. ينظر "القاموس". (¬2) هذا الخبر وهو ما بين حاصرتين من (م)، والألفاظ الواقعة فيه بين أقواس عادية من "طبقات" ابن سعد 6/ 525 - 524، والخبر فيه. (¬3) في "الطبقات" 6/ 525. وذكره ابن عساكر 67/ 294، وهو من النسخة (م). (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 526، وتاريخ دمشق 67/ 294. (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 525، وتاريخ دمشق 67/ 295. (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 525.

ذكر وفاته: [واختلفوا فيها، فقال قوم: ] قتل في المعركة يوم قتل المنذر بن الزبير (¬1). وقيل: كان قائمًا عند البيت يصلِّي، فجاء حجرُ المنجنيق، فأصاب حائطَ الكعبة، فجاءت منه فلقة، فضربت وجه المسور، فمرضَ أيامًا، ثم ماتَ في اليوم الذي جاء فيه نعي يزيد (¬2). وقال الشيخ موفق الدين - رضي الله عنه - (¬3): قدم المسور المدينة في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، فسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحفظ عنه، وكان فقيهًا من أهل الفضل والدين، ولم يزل بالمدينة حتى قُتل عثمان، فانتقل إلى مكة، ولم يزل بها حتى مات معاوية، فكره بيعةَ يزيد، وصار إلى ابن الزُّبير، وقاتل معه، وأبلى بلاءً حسنًا. فبينا هو يصلي يومًا في الحِجْر جاءه حجر المنجنيق، فقتله في مستهلّ ربيع الأول سنة أربع وستين، وصلَّى عليه ابنُ الزُّبَيْر، ودفن بالحَجُون وهو ابن اثنين وستين سنة، وصلَّى عليه ابن الزبير وأهلُ الشام (¬4). وأسند الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعلي، وخالِه عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، -رضي الله عنهم-، وغيرهم. وروى عنه علي بن الحُسين، وعبدُ الله وعروة ابنا الزبير، وعبدُ الله بن أبي مُلَيكة، وابنُه عبد الرحمن بن المسور، وابنتُه أمَّ بكر بنت المسور. ذكر أولاده: كان له من الولد: عبد الرحمن، وآمنة، ورَمْلَة، وأمُّ بكر، وصفيّة (¬5)؛ أمُّهم أمَةُ الله بنتُ شرَحْبيل بن حسنة. ¬

_ (¬1) قتل المنذر بن الزبير في هذه السنة (سنة 64) في حصار مكة. وسيفرد المصنف ترجمته في قريبًا. (¬2) نسب هذا القول في (م) لابن سعد والزبير بن بكار، وهو في "طبقات" ابن سعد 6/ 529. وينظر "أَنساب الأشراف" 4/ 388. (¬3) في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 292 - 293. باختلاف يسير. (¬4) قوله آخر الفقرة: وصلَّى عليه ابنُ الزبير وأهل الشام, ليس في "التبيين". (¬5) في "طبقات" ابن سعد 6/ 521: صُفَيَّا.

مصعب بن عبد الرحمن بن عوف

وأبو بكر [بن] عبد الرحمن بن المِسْوَر كان شاعرًا، وهو القائل (¬1): بينما نحنُ بالبَلاكِثِ فالقا (¬2) ... عِ سِراعًا والعِيسُ تهوي هُوِيَّا خَطَرَتْ خَطْرَةٌ على القلبِ من ذِكـ ... ـراكِ وَهْنًا فما استطعتُ مُضِيَّا قلتُ لبَّيكِ إذ دعاني لكِ الشَّوْ ... قُ وللحادِيَينِ (¬3) كُرَّا المَطِيَّا وكان للمِسْوَر من الولد [أيضًا] (¬4): عبدُ الله، وهشام، ومحمد، والحصين (¬5)، وحفصة، أمُّهم بنتُ الزِّبرقان بن بدر، وبُرَيهْة، وأمّها بادية بنت غَيلان الثقفي، وعَمْرو، وحمزة، وجعفر، وعَوْن، لأمَّهات أولاد شتَّى. مصعب بنُ عبد الرحمن بن عوف أبو زُرارة، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وأمّه أمّ حُرَيث (¬6) من سَبْي بَهْراء، من قُضاعة. وكان شجاعًا، وكان على شرطة مروان بالمدينة، فأمره أن يهدم دور بني هاشم ومن كان في حيِّزهم (¬7)، فقال: أيها الأمير، إنه لا ذنب لهؤلاء، وما أنا بفاعل، فقال مروان: انتفَخَ سَحْرُك (¬8)، أَلْقِ سيفَنا. ¬

_ (¬1) كذا نَسبَ الأبيات ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" 2/ 562، والتبريزي في "شرح الحماسة" 3/ 124 لأبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور، وذكر ابنُ قتيبة أنها من الشعر الذي نُحِلَهُ مجنون ليلى. ونَسَبَ الزبير بن بكار الأبيات - فيما ذكر ابن عبد ربّه في "العقد" 6/ 47 - للمسور بن مخرمة، ونَسبَ ياقوت الأبيات في "معجم البلدان" 1/ 478 لكُثَيِّر، ونُسب في "الحماسة" (الشرح المذكور)، وفي "اللسان" (بلكث) 2/ 119 لبعض القرشيين. (¬2) بَلاكِثُ والقاع: موضعان بالمدينة. (¬3) في (خ) (والكلام منها): قلت للشوق إذ دعاني لبيك وللحاديَيْن ... والمثبت من المصادر المذكورة قبل. (¬4) كذا وقع سياق الكلام في (خ) (والكلام منها فقط) وزدتُ لفظة "أيضًا" بين حاصرتين من أجل السياق. فقد سلف ذكر بعض ولده. وينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 521. (¬5) بعده في (خ): وعون. وسيرد اسمه، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 52 أو الكلام منه. (¬6) في (خ): أمَّ حرب. والتصويب من "طبقات" ابن سعد 3/ 118 - 119 و 7/ 156. (¬7) كذا وقع في (خ) (والكلام منها) وهو وهم. وإنما الذي أمره بهدم دور بني هاشم (ودورِ بني أسد أيضًا) عمرُو بن سعيد الأشدق والي المدينة ليزِيد وذلك لما أبي الحسين بنُ علي وعبد الله بنُ الزبير - رضي الله عنهما - بيعةَ يزيد. وقد كان مصعب بن عبد الرحمن على شُرط عَمرو، وقبل ذلك على شُرَط مروان في زمن معاوية. ينظر "نسب قريش" ص 268، و"الأغاني" 5/ 74 - 75. (¬8) كذا وقع، وإنما القائل عمرو بن سعيد الأشدق، وينظر التعليق السالف قبله. قوله: انتفَخَ سَحْرُك، أي: رئتُك؛ أي: تجاوَزْتَ قدرك. وقال ابن الأثير في "النهاية" 2/ 346: يقال ذلك للجَبَان.

فألقاه، ثم خرج إلى عبد الله بن الزبير، فكان معه، وهو الذي قاتل عمرَو بنَ الزُّبَيْر. وخرج مصعبُ والمختار (¬1) إلى مَسْلَحةٍ للحُصين فحاربوهم، فأصبحوا وقد قَتَلُوا من أهل الشام مئة. وكان يُعرف قتلى مصعب بوَثَباتٍ يثبُهنَّ, فكان بين كل وَثْبة ووَثْبة أحد عشر (¬2) ذراعًا، وكان لا يخفى جُرحُ سيفِه. والتقى أهلُ الشام وأصحابُ ابنِ الزبير، فحمل مصعب، فقتل من أهل الشام خمسين رجلًا (¬3)، ورجع وقد انحنى سيفُه، فقال: إنَّا لَنُورِدُها بِيضًا ونُصْدِرُها ... حُمْرًا وفيها انحناءٌ بعد تقويمِ ذكر وفاته: قُتل مع ابن الزُّبَيْر، وقيل: مات بمكة سنة أربع وستين، وقد رثاه رجل من جُذام فقال: للهِ عَينا مَنْ رأى مثلَ مصعبٍ ... أعَفَّ وأقضى بالكتاب وأَفْهَما وقالوا أصابَتْ مصعبًا بعضُ نَبْلِهم ... فعز علينا من أُصيب (¬4) وعزَّ ما ذكر أولاده: زُرارة، وعبد الرحمن؛ أمُّهما ليلى بنت الأسود بن عوف، ومصعبُ بن مصعب لأمِّ ولد، وكان له بنات (¬5). ومن ولد مصعب: أبو مصعب أحمدُ بن أبي بكر (¬6) بن الحارث بن زُرارة بن مصعب بن عبد الرحمن، فقيهُ أهلَ المدينة، وهو صاحب مالك بن أنس (¬7). ¬

_ (¬1) زاد معهما في "نسب قريش" ص 269 مصعب بن الزبير. (¬2) في "نسب قريش": ثنتا عشرة. (¬3) في "طبقات" ابن سعد 7/ 158: خمسة، بدل: خمسين رجلًا. (¬4) في (خ) (والكلام منها): ما أصاب، والمثبت من "نسب قريش" ص 269. وفيه بيتان آخران. (¬5) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 156. (¬6) واسم أبي بكر: القاسم. (¬7) وله رواية للموطَّأ فيها زيادات على غيرها، وقد طُبعت. توفي سنة (242). ينظر "السِّيَر" 11/ 438.

معاوية بن يزيد بن معاوية

معاوية بن يزيد بن معاوية مات حتف أنفِه. وقيل: إن بني أمية دَسُّوا إليه سُمًّا، فأكله فمات وقيل: إنَّه فُلِجَ ومات، وكان الضحَّاك يصلِّي بالنّاس. وقيل لمعاوية: ألا تستخلف أخاك خالدًا؟ فقال: لا أتحمَّلُها حيًّا ولا ميتًا. ولما احتُضر اجتمع إليه بنو أمية وقالوا له: اعهد إلى من ترى من أهل بيتك. فقال: والله ما ذُقْتُ حلاوةَ خلافتكم، وفكيف أتقلَّد وِزْرَها؟ ! وفي رواية: كيف أتعجَّلُ مرارتها وتتعجلُون أنتم حلاوتها؟ اللهم إني بريءٌ منها متخلٍّ عنها، اللهم إنّي لا أجدُ [نفرًا] كأهلِ الشورى فاجعلها إليهم فينصبون من يرون لها أهلًا (¬1). ثم قال لحسان بن مالك خازن بيت المال: احفظ ما قِبَلك حتى يجتمع الناس على إمام يرضَوْنه (¬2). وصلَّى عليه الوليد بن عُتبة، فكبَّرَ تكبيرتين، فطُعن في الثالثة، فوقع ميتًا، فتقدَّم عثمان بن عنبسة، فصلَّى عليه، ودُفن بالباب الصغير عند قبور آبائه، وبكى الناس عليه، وحزنوا لفقده لعفَّته وزَهادته، وكان رَبْعًا نحيفًا تعتريه صُفْرة، ونقش خاتمه: الدنيا غرورة. و[كانت] (¬3) مدة ولايته أربعين يومًا، وقيل: ستين. وقيل: عشرين. وقيل: ثلاثة أشهر. وعاش ثلاثًا وعشرين سنة. وقيل: خمس عشرة سنة. وقيل: عشرين سنة. وقيل: ثلاثة عشر. والأول أصحّ (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر "مروج الذهب" 5/ 169، وفيه: ينصبون من يرون الخ (بدون فاء) وهو الأشبه. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف " 4/ 398 و 399. (¬3) ما بين حاصرتين لضرورة السياق. (¬4) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 396 - 397، و"تاريخ دمشق" 68/ 404 - 409 (طبعة مجمع دمشق).

المنذر بن الزبير بن العوام

وانقضى بموته مُلْك بني حَرْب، وزال الأمر عنهم، ولم يكن لمعاوية عقب، ووليَها مروان وبنوه. المنذر بن الزبير بن العوَّام أبو عثمان، وأمُّه أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، من الطبقة الثانية (¬1) من أهل المدينة. وكان شجاعًا سخيًّا، غزا مع يزيد بن معاوية القسطنطينية. وغاضب المنذرُ أخاه عبدَ الله، وخرج إلى معاوية، فأعطاه ألفَ [ألفِ] درهم، وأقطعه موضعَ دارِه بالبصرة (¬2)، واحتُضر معاوية في تلك الحال [قبل أن يقبض جائزته، وأوصى معاوية أن يَدخل المنذرُ في قبره] فدخل قبره، فلما قدم يزيد أمضاها له، فقيل ليزيد: [تعطي] هذا المال للمنذر وأنت تتوقَّع خلاف أخيه عبد الله عليك! فقال: أكرهُ أن أردَّ شيئًا فعلَه أبي (¬3). وكتب له إلى عُبيد الله بن زياد بإنفاذ قطائعه، وزاده عليها. وخرج من البصرة، فأتى مكة صُبْح ثامنة (¬4). فسمع أخوه عبدُ الله صوتَه، فقال: هذا أبو عثمان، جاشَتْه إليكم الحرب. فأقام عند أخيه يقاتل معه حتى قُتل. وخرج المنذر إلى أهل الشام في اليوم الذي قُتل فيه وهو يقول: لم يبقَ إلا حَسَبي وديني ... وصارمٌّ (¬5) تلتذُّه يميني ¬

_ (¬1) يعني من التابعين. ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 181، و"تاريخ دمشق" 17/ 203 (مصورة دار البشير). (¬2) بعدها في "تاريخ دمشق" 17/ 204، و"مختصره" 25/ 248: بالكَلَّاء التي تُعرف بالزُّبير، وأقطعه موضع ماله بالبصرة الذي يُعرف بمنذران. (¬3) تاريخ دمشق 17/ 204 (مصورة دار البشير) و"مختصره" 25/ 248، وما بين حاصرتين منهما. (¬4) في الكلام اختصار مخلّ، فجاء في المصدرين السابقين أنه ورد على يزيد بن معاوية خلافُ عبدِ الله بنِ الزُّبير له وإباؤه بيعتَه، فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد بذلك، وأمرَه بأن يبعث إليه المنذرَ بنَ الزبير، فأخبر ابنُ زياد المنذرَ بالكتاب، وخيَّره بين أن يبقى عنده ويشتمل عليه ابنُ زياد، أو أن يخرجَ حيث شاء، فاتفقا على كتمان الكتاب ثلاث ليال ريثما يخرج المنذر من البصرة، فخرج منها وأصبح بمكة صُبْح ثامنة ... (¬5) في "تاريخ دمشق" 17/ 206: وصارمي. وفي "مختصره" مثل ما هنا.

النعمان بن بشير

فلما قتل قال عبد الله: قُتل المنذر، وقاتلَ عن حَسَبه ودينه. وقتل وله أربعون سنة. وكان ولدُه محمدُ بنُ المنذر يُعْدَلُ بكثير من أعمامه [أعيان] بني الزبير مروءةً وشجاعةً ولسانًا وجَلَدًا، وكان من فرسان عمه عبد الله. [وقدم على عبد الملك بن مروان بعد مقتل عبد الله بن الزبير] يطلب ماله، وكان قد قُبض [مع ما قُبض من أموال ابنِ الزبير] فكان يحيى بن الحكم (¬1) عند عبد الملك فقال له يحيى: يا محمَّد، مَنْ صاحبُ يوم كذا وكذا، ويوم كذا وكذا؟ فعددَ وَقَعاتٍ ومحمد يقول: أنا. فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، هذا الذي فعل بنا الأفاعيل! فقال محمَّد: رُدُّوا عليَّ سيفي، وخُذُوا أَمانكم، فلا حاجةَ لي به. فقال عبد الملك: لا تفعل. وكان لمحمد ابن يقال له: فُليح بن محمَّد، وكان له قَدْرٌ وفضل (¬2). النعمان بن بشير ابن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك بن الأغرّ بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري، أبو محمَّد (¬3)، من الطبقة الخامسة من الخزرج، وممن توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم حُدَثاء الأسنان. وأمُّه عَمْرَةُ بنتُ رواحة (¬4)، وفيها قال الشاعر: وعَمْرَةُ من سَرَواتِ النِّسا ... ءِ تَنْفَحُ بالمِسْكِ أردانُها (¬5) ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): يحيى بن مروان، والتصويب من "تاريخ دمشق" 65/ 24 (طبعة مجمع دمشق) وما سلف بين حاصرتين منه، ولا يستقيم الكلام بدونه، وثمة أخطاء لغوية مع تحريف في (خ) لم أثبته كي لا تطول الحواشي بما لا فائدة فيه، وإنما أكتفي بما أذكره لتوضيح سوء هذه النسخة، وليس لدي في هذه الصفحات نسخة أخرى. (¬2) ذكره ابن حبّان في "الثقات" 9/ 11. وينظر "تعجيل المنفعة" ص 335. (¬3) وفي "طبقات" ابن سعد 5/ 363: أبو عبد الله، وذكر له الكنيتين ابنُ عساكر. ينظر "مختصر تاريخ دمشق 26/ 160. (¬4) هي أخت عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -. (¬5) البيت لقيس بن الخَطِيم. وينظر "المعارف" ص 294، و"الأغاني" 16/ 28، و"العقد الفريد" 6/ 209. قوله: أردانُها؛ جمع رُدْن، وهو الكُمّ.

وقال عبد الملك بن عمير: إن بشير بنَ سعد أبا النعمان لمَّا ولدَ النعمان؛ جاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحنَّكَه بيده، فقال: يا رسول الله، ادْعُ للهَ أن يُكْثِرَ ماله وولَدَه. فقال له: "أَما تَرضَى أن يعيشَ كما عاش خاله حميدًا، ويموت شهيدًا، ويقتله منافقٌ من أهل الشام" (¬1)؟ . والنعمان أوَّلُ مَن نصرَ عثمانَ رضوان الله عليه، وخرج بقميصه إلى الشام. واستعملَه معاوية على الكوفة، وأمرَه أن يزيدَ في أعطياتهم عَشَرَةَ دنانير، فكان يعطي بعضًا ويمنعُ بعضًا ويقول: أنا قُفْلٌ، ومفتاحُه بالشام. وكان يُكثر تلاوة القرآن على المنبر ويقول: إن فقدتُموني لم تجدوا أحدًا يحدثُكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدي. وشَكَوْه إلى معاوية، فكتب إليه: كَمِّلْ لهم أُعطياتِهم. فقال ابنُ همام السَّلُولي: أفاطِمُ قد طال التَّدَلُّلُ والمَطْلُ ... أجِدَّكِ (¬2) لا صَرْمٌ جَلِيٌّ ولا وَصْلُ زيادتُنا نعمانُ لا تَحْبِسَنَّها ... تقِ (¬3) اللهَ فينا والكتابَ الذي تتلُو فإنك قد حُمِّلْتَ فينا أمانةً ... وقد عجَزَتْ عنها الصلادِمَةُ (¬4) البُزْلُ (¬5) فلا يكُ بابُ الشَّرِّ تُحسِنُ فَتْحَهُ ... [علينا] وبابُ الخيرِ أنتَ له قُفْلُ وقد نِلْتَ سلطانًا عظيمًا فلا يكنْ ... لغيركَ جَمَّاتُ النَّدَى ولك البُخْلُ ¬

_ (¬1) لفظ هذه الرواية ملفَّق من روايتين، الأولى: عن عبد الملك بن عُمير أنَّ بشير بن سعد جاء بالنعمان بن بشير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، ادْعُ لابني هذا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما ترضى أنْ يبلغ ما بلغتَ، ثم يأتي الشام، فيقتله منافق من أهل الشام؟ ". والرواية الثانية: عن عاصم بن عمر بن قتادة أنَّ عَمْرَةَ بنت رواحة جاءت تحمل ابنها النعمان في ليفِهِ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بتمرة فمضغها، ثم حنّكه بها، فقالت: يا رسول الله، ادْعُ الله أن يُكثرَ ماله وولدَه. فقال: "أوَ ما تَرْضَينَ أن يعيشَ كما عاش خالُه؟ عاش حميدًا، وقُتل شهيدًا، ودخل الجنة]. أخرجهما ابن سعد في "الطبقات" 5/ 364 و 365، وأخرجهما من طريقه ابن عساكر في "تاريخه" 17/ 590 (مصورة دار البشير). وينظر "الاستيعاب" ص 922 (ترجمة عمرة بنت رواحة). (¬2) في "القاموس" و"التاج" (جدد): أَجِدَّك، بفتح الجيم وكسرها، والكسر أفصح، أي: ما لكَ؟ أجِدًّا منك؟ فهذا كسر استحلفَه بجِدّه، وإذا فتح استحلفَه ببَخْتِه. (¬3) في "الأغاني" 16/ 31: خف. (¬4) الصِّلْدام: الصُّلب الحافر. ورواية "الأغاني": الصلاخمة، والصِّلْخام من الإبل: الصُّلْب الشديد. (¬5) البُزُل: جمع بازل، وهو الجملُ في تاسع سِنيِّه. (وتسكين الزاي لضرورة الشعر).

وأنتَ امرؤٌ حُلْوُ اللسانِ بليغُهُ ... فما بالُهُ عند الزيادةِ لا يَحْلُو وقبلك ما كانَتْ علينا أئمَّةٌ ... يَهُمُّهُم تقويمُنا وهُم عَصْل (¬1) يذْمُّون دُنْيانا وهم يرضعونَها ... أفاوِيقَ حتى مالنا منهُمُ سَجْلُ (¬2) إذا نطقُوا بالقولِ قالُوا فأحسَنُوا ... ولكنَّ حُسْنَ القولِ خالفَهُ الفعلُ (¬3) ولما عزلَ معاويةُ النعمانَ عن الكوفة ولَّاه حمصَ، فوفد عليه أعشى هَمْدَان، فقال: ما أقْدَمَك أبا المُصَبِّح؟ قال: لتَصِلَني وتقضي ديني. فقال: والله ما عندنا شيء. ثم صَعِدَ المنبر وقال: يا أهل حمص، أنتُم في الديوان عشرون ألفًا، وهذا ابنُ عمٍّ لكم من أهل القرآن والشرف؛ قدم عليكم يسترفدُكم، فما ترون فيه؟ فقالوا: أيها الأمير، احكم بما تراه. فقال: بل أنتم. فقالوا: قد جعلنا له من كل عطاء رجل منَّا دينارين معجَّلة من بيت المال. فدفعَ له أربعين ألف [دينار] معجَّلة، فقال الأعشى: فلم أرَ للحاجات عند انكماشِها ... كنعمانَ نُعمانِ النَّدى ابنِ بشيرِ إذا قال أوْفى بالمقال ولم يكن ... كَمُدْلٍ إلى الأقوام حَبلَ غُرورِ (¬4) يُعرِّضُ بمروان؛ لأنه قصده، فوعَدَه ومَطَلَهُ، فلمْ يلقَ منه خيرًا. وقال الهيثم: أقام النعمان واليًا على الكوفة سبعة أشهر (¬5)، ثم عاد إلى الشام. ذكر مقتله: لما بلغَ النعمانَ وهو بحمص مقتلُ الضَّحَّاك بالمَرْج؛ خرجَ هاربًا ليلًا ومعه امرأتُه نائلة ابنت عُمارة الكلبيَّة وولدُه، وثَقَلُه، فقصدَ زُفَر بن الحارث، فضلَّ عنِ الطريق، وطلبه عَمرو (¬6) بن الخلي الكلاعي، -وكان النعمان قد حدَّه في الخمر- فقتلَه وأقبلَ ¬

_ (¬1) جمع أَعْصَل، وهو المعوجُّ في صلابة. (¬2) الأفاويق جمع الفِيقة، وهو اللبن الذي يجتمع في الضَّرع بين الحَلْبَتَيْن، والسَّجْل هنا: النَّصيب. (¬3) الأبيات في "أنساب الأشراف" 4/ 20 - 21، وما بين حاصرتين منه، وهي بنحوها في "الأغاني" 16/ 31، وفيهما أبيات أخرى. (¬4) ينظر "الأغاني" 6/ 49 - 50 و 16/ 34، و"الاستيعاب" ص 724، و"تاريخ دمشق" 17/ 591 - 592 (مصورة دار البشير) أو "مختصره" 26/ 162. (¬5) الاستيعاب ص 724. وفي "تاريخ دمشق" 17/ 586 و"الجرح والتعديل" 8/ 444: تسعة أشهر. (¬6) كذا في "أنساب الأشراف" 5/ 317. وفي غيره من المصادر: خالد.

برأسه وبنائلة امرأتِه وولدها، فألقى الرأس في حِجْر ابنتِه أمّ أبان، فقالت نائلة: ألقُوه في حِجْري، فأنا أحقُّ به منها. فأُلقي في حِجْرها. وجاءت كلب، فأخذوا نائلةَ وولدَها. وقُتل غيلة ما بين حمص وسَلَميَّة، وقيل: بقرية من قُرى حمص يقال لها: بِيرِين (¬1). ذكر أولاده فولدَ [النعمانُ]، عبدَ الله، ومحمدًا، وأمةَ الله، وحَبِيبة؛ أمُّهم أمُّ عبدِ الله بنت عمرو بن جَرْوَة (¬2)، أنصاريَّة. ويزيدَ، وأبانًا، وأمَّ أبان؛ تزوَّجَها الحجَّاجُ؛ أمُّهم نائلة الكلبيَّة. والوليدَ، ويحيى، وبشيرًا؛ أمُّهم أمُّ ولد. وأمَّ محمد، وهي حُميدة بنتُ ليلى، من كِنْدة؛ تزوَّجَها رَوْح بنُ زِنباع الجُذامي. وعمرةَ؛ تزوَّجها المختار بنُ أبي عُبيد؛ وأمُّها ليلى بنتُ هانئ؛ كندية (¬3). أسند النعمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث (¬4). وأبوه شهدَ العقَبَةَ وبدرًا وأحدًا والمشاهدَ كلَّها (¬5). ومحمد بن النعمان؛ روى عن أبيه، وروى عنه الزُّهري، وسمع منه بدمشق. وكانت له دار بدمشق (¬6). وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة (¬7)، وذكره ابن سُميع في الرابعة وقال: هو دمشقي ثقة (¬8). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 317، والاستيعاب ص 725، وتاريخ دمشق 17/ 586 - 587، وتهذيب الكمال 29/ 417. ووقع في "الاستيعاب": بيران، والصواب: بِيرِين كما هو مثبت، وذكرها ياقوت في "معجم البلدان" 1/ 526. (¬2) في (خ): أم عبد الله بن عمرو بن حزم. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 5/ 363. (¬3) المصدر السابق. (¬4) له مئة حديث وأربعة عشر حديثًا، أخرج له في الصحيحين عشرة أحاديث، المتفق عليه منها خمسة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة، ينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 365 و 401. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 492 - 493. (¬6) تاريخ دمشق 65/ 128 (طبعة مجمع دمشق). (¬7) طبقات ابن سعد 7/ 264 - 265. (¬8) وهو من رجال "تهذيب الكمال" 26/ 557، روى له الجماعة سوى أبي داود.

[روح بن زنباع]

[رَوْح بنُ زِنْباع] وكان رَوْح بنُ زِنْباع (¬1) بن سلامة الجُذامي رئيسًا في قومه جُذام سيِّدًا، وكنيتُه أبو زُرْعة، وقيل: أبو زِنْباع. وكان ممَّن ثبت مع مروان، ولم يُبايع ابنَ الزُّبير وقال: واللهِ لا نرضى أن ينتقل المُلك من الشام إلى الحجاز (¬2). وشدّ من مروان حتى ولي الخلافة. وكان أميرًا على فلسطين، فنُسب إليها، وكان خِصِّيصًا بعبد الملك، لا يقدر أن يصبر عنه (¬3). وكان لأبيه زِنْباع صحبة، واختلفوا في رَوْح، فقال مسلم: كان له صحبة ورواية (¬4). وكذا قال الشيخ جمال الدين ابن الجوزي رحمه الله. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس له صحبة. روى [رَوْح بنُ] زِنْباع عن عُبادة بن الصامت، ومعاوية، وكعب الأحبار، وغيرهم. وروى عنه ابنُه رَوْح [بنُ رَوْح] (¬5). وقال هشام: جهَّز عبد الملك بن مروان جيشًا إلى ابن الزُّبير، فمروا بانقاع (¬6) فيه راهبة، فناداها رَوْح، فأشرفت عليه بوجه كأنه فلقة قمر، فقالت: إلى أين يذهب هذا الجيش؟ فقال رَوْح: إلى ابن الزُّبير. قالت: وما تصنعون به؟ قال: نُقاتله. قالت: على ¬

_ (¬1) كذا وقع في (خ) والكلام منها فقط. وجاء فوقه لفظ: كذا وجد. والكلام يتعلق بترجمة رَوْح بن زِنْباع، لذا زدتُ ما سلف قبله بين حاصرتين للإشارة إلى ذلك، ووفاتُه سنة (84)، وليس في هذه السنة، ولعل المصنف أورده في وفيات هذه السنة لأنه لم يتبين له تاريخها كما سيرد. والله أعلم. (¬2) تاريخ دمشق 6/ 302 (مصورة دار البشير) أو "مختصره" 8/ 341. (¬3) في "تاريخ دمشق": لا يكاد يغيب عنه. (¬4) الكنى والأسماء 1/ 344، ونقله عنه ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 236، وليس فيهما قوله: ورواية. وقال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 6/ 298: أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) تاريخ دمشق 6/ 298. وما بين حاصرتين منه، والكلام من غير هذا الاستدراك يعود على زنباع، وهو خطأ. (¬6) كذا رسمُ اللفظة في (خ) ولم تتبيّن لي.

يزيد بن معاوية

أيِّ شيء؟ قال: على الدنيا. فقالت: قبَّح اللهُ هذه الوجوه، واللهِ لو كانت الدنيا كلها لرجلٍ واحد ما كان غنيًّا بها مع الموت. قال المصنف رحمه الله: لم أقف على تاريخ وفاة رَوْح بن زِنْباع (¬1). وقد قيل: إنه يُدعى لغير أبيه، وكلُّ من لا يُدعى لأبيه يُقال له: رَوْح، وهي كنية المنبوذين. قال رَوْح: رأيتُ تميمًا الداريّ وهو أمير على بيت القدس وهو ينقِّي شعيرَ فرسِه، فقلت له: أَمَا كان لك مَنْ يكفيك هذا؟ قال: بلى، ولكني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ ربطَ فرسًا في سبيل الله، ثم تولَّى حَسَّه، ومسحه بيده، وتنقية شَعيرِه؛ كان له بكلِّ شَعِيرةٍ حسنة، وتُمحى عنه سيئة" (¬2). يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان صخر بن حرب، وأمُّه ميسون بنت مالك بن بَحْدَل (¬3) بن أُنيف الكلبي. وُلد سنة خمس -أو ستّ- وعشرين بالماطرون (¬4)، وقيل: سنة سبعٍ وعشرين في بيت رأس (¬5). وهو أوَّلُ من أظهر شرب الخمر، والاستهتار بالغناء والصيد، واتخاذ الغلمان والقِيان والكلاب، وما يضحك منه المترفون، والدُّيوك والمنافرة بينهم، واللعب بالملاهي والقرود. ¬

_ (¬1) ذكر ابن عساكر في "تاريخه" 6/ 304 (مصورة دار البشير) عن ابن زَبْر أنه مات سنة أربع وثمانين بالأردنّ. (¬2) المصدر السابق 6/ 299. (¬3) في "تاريخ دمشق" ص 397 (تراجم النساء): ميسون بنت بحدل. وتنظر ترجمة حسان بن مالك بن بحدل السالفة ص 259 والتعليق عليها. (¬4) موضع قرب دمشق. ينظر "معجم البلدان" 5/ 42 - 43. (¬5) تاريخ دمشق 18/ 391 (مصورة دار البشير) أو "مختصره" 28/ 19. وبيت رأس: اسم لقريتين في كل منهما كروم كثيرة ينسب إليها الخمر، إحداهما بالبيت المقدس، وقيل: كورة (يعني بقعة كبيرة فيها قرى) بالأردن. والأخرى من نواحي حلب. ينظر "معجم البلدان" 1/ 520.

وكان له قرد يقال له: أبو قَيس، فكان اليوم الذي يصبح يزيد فيه مخمورًا يشدُّ القرد على فرسه يُسرِجُه بحبال من إبْرَيَسْم، والناس يمشون بين يديه، ومواكب الملك تُقاد بين يديه. وكان ينادم هذا القرد، وكان يسقيه الخمر، ويُلبسه الأقبية الصُّفْر والحُمْر، وقَلانِس الذهب. وكان يُسابق بين الخيل والقردُ عليها، وأركبَ القرد على أتان وحشيَّة، وأرسلَها في الحلبة، فقال يزيد: تَمَسَّكْ أبا قيسٍ إذا ما ركبتَها ... فليس عليها إنْ هلكتَ ضمانُ فقد سَبَقَتْ خيلَ الجماعةِ كلَّها ... وخيلَ أميرِ المؤمنين أتانُ (¬1) فسبقت الأتانُ الوحشية [الخيلَ] (¬2) كلَّها، وسقطت ميتة، ومات أبو قيس معها، فحزن عليه يزيد، وكفَّنَه ودفَنه، وأمر أهلَ الشام أن يُعزُّوه فيه وقال يزيد في ذلك: لم يبق قرد (¬3) كريم ذو محافظة ... إلا أتانا يعزِّي في أبي قيسِ شيخ العشيرة أمضاها وأحملها ... له المساعي مع القربوس والدِّيسِ يد الجياد على وحشية سبقت ... ثم انثنى وعمود الموت في الكيسِ لا يُبعدُ اللهُ قبرًا أنت ساكنُه ... فيه الكمال وفيه لحيةُ التَّيسِ وجاء نعي معاوية إلى يزيد وهو بحُوَّارين يتصيَّد، فلم يأتِ منزَلَه حتى أتى قبر القرد فترحَّم عليه. وكان يشربُ الخمر مع القرد، ويحمله ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصاب خطيئة فمُسخ (¬4). وكان مُغْرًى بشرب الخمر مكثرًا منه، وهو القائل: أقولُ لصحبٍ جمَّع الكأسُ شملَهمْ ... وداعي صبابات الهوى يترنَّمُ ¬

_ (¬1) الخبر والشعر بنحوه في "أنساب الأشراف"4/ 317 - 318. وينظر "مروج الذهب" 5/ 157 - 158. (¬2) زدتُ لفظة "الخيل" من قِبلي لضرورة السياق. (¬3) في "فوات الوفيات" 4/ 330: قَرْم. (¬4) ينظر "أنساب الأشراف" 4/ 318.

خُذُوا ما صفا من عيشنا قبلَ فَوْتِهِ ... فكلٌّ وإنْ طال المدى يتصرَّمُ ألا إنَّ أَهْنَا العيشِ ما سَمحَتْ به ... صروفُ الليالي والحوادثُ نُوَّمُ ولا تتركوا يومَ السرورِ إلى غدٍ ... فرُبَّ غدٍ يأتي بما ليس نعلمُ (¬1) وحكى البلاذُري (¬2) أنَّ سبب وفاة يزيد أنه حملَ قِرْدَةً على أتان وهو سكران، ثم ركض خلفها، فسقط يزيد، فاندقَّت عنقه، أو سقط من جوفه شيء فمات. وقال الهيثم: ما همَّ يزيدُ بشيء من القُبح إلا ارتكبه، ولم يحجَّ في خلافته شُغلًا بما كان فيه من اللهو. ولما جهَّز يزيد مسلم بنَ عُقبة لقتال أهل المدينة وابنِ الزبير؛ أعجبه ذلك الجيش، فكتب إلى ابن الزبير: اُدْعُو إلهك في السماء فإنَّني ... أَدْعُو إليك رجال عَكَّ وأشْعرِ كيف النجاةُ أبا خُبيبٍ منهمُ ... فاحْتَلْ لنفسك قبل مأْتَى العسكرِ (¬3) فكتب إليه ابنُ الزبير: أتستهزئُ بإلهي الذي في السماء؟ ! وأنت يزيد القرود، ويزيد الصيود، ويزيد الخمور، ويزيد الفسوق .. وعدَّد أفعاله. فكتب إليه يزيد وقال: لقد عبتَ ما لا عيبَ فيه على الفتى ... من الصيد واللذَّات والأكلِ والشُّربِ ولكنَّما العارُ الشَّنَار الذي به ... يُعيّر خلق الله في الشرق والغرب صيانة كف المرء عن بذلِ مالِهِ ... عن الطارق الملهوفِ والجارِ ذي الجَنْبِ فسار يزيد إلى نخل (¬4) ابن الزبير، ومات يزيد عقب وصول كتابه إلى ابن الزبير - رضي الله عنه -. وكان يزيد قد عزم على الحجّ ويدخل اليمن، فقال رجل من تنوخ: ¬

_ (¬1) ينظر "فوات الوفيات" 4/ 331، وفيه زيادة أبيات. وينظر أيضًا "تمام المتون في شرح ابن زيدون" ص 82. (¬2) في "أنساب الأشراف" 4/ 318. (¬3) البيتان في "أنساب الأشراف" 4/ 360 و"مروج الذهب" 5/ 162. وفي صدر البيت الأول نظر، ويُستبعد أن يقوله يزيد، وقد نُسب إليه ما لم يقله. قال البلاذُري: والشاميون يقولون: إنما قال: اجْمَعْ رجال الأَبْطَحَينِ فإنَّني أدعُو إليك الخ. (¬4) كذا في (خ)، وليس في هذا الموضع نسخة أخرى.

يزيدُ صديقُ القردِ مَلَّ جِوارَنا ... فحنَّ إلى أرض القرودِ يزيدُ فتبًّا لمن أمسى [علينا] خليفةً ... صحابتُه الأدنَوْن منه قرودُ (¬1) وجلست ميسون يومًا تُرجِّلُ ابنها يزيد وهي يومئذٍ مطلَّقة من معاوية، ومعاويةُ وامرأتُه فاختة في موضع ينظران إليهما ولم يعلما. فلما فرغت من تَرْجِيلِه قبَّلتْ ما بين عينيه. ومضى يزيد، فأتْبَعَتْه فاختةُ بصرَها وقالت: لعن الله سواد ساقَي أمِّك. فقال معاوية: أما والله لقد تفرَّجَ وركاها عن خير ما انفرجَتْ عليه وركاكِ. فقالت فاختة: لا والله، ولكنَّك تحبُّ يزيد وتؤثِرُه. فقال: سوف أُبيِّنُ لك. فدعا عبدَ الله -وهو ولد معاوية من فاختة وكان محمَّقًا، وهو أكبر من يزيد- وقال له: يا بُنيّ، سلني. فقال: تشتري لي كلبًا فارهًا وحمارًا سابقًا. فقال: أنت حمار، وأشتري لك حمارًا! قم واخرج. ثم دعا يزيد وقال: سَلْني فقال: أسألُك الخلافةَ بعدَك، وأرجو أن أموتَ قبلك وتوليني الصائفة، وتأذن لي في الحجّ، وتزيد في عطاء أهل الشام عشرةَ دنانير لكلِّ رجل، وتفرض لأيتام بني جُمح وبني سهم وعديّ. فقال: ما لكَ ولبني عديّ؟ فقال: قد حالفوني. فقبَّلَ معاوية ما بين عينيه، وقال: قد فعلت (¬2). وكان يزيد شاعرًا فصيحًا خطيبًا، غزا القسطنطينيّة في حياة أبيه على جيشٍ فيه كثير من الصحابة، وحجَّ بالناس مرارًا، ولكن ابتلاه الله في ولايته بالمفاسد؛ من قتل الحسين - عليه السلام - وأهل بيته، ووقعة الحَرَّة، والتَّتْبِير والقتل، ورميِ البيت الحرام بالمجانيق وتحريقه، ونحو ذلك. ولما توفّي الحسن بن علي رضوان الله عليه قال معاوية لابنه يزيد: اذهب إلى ابن عباس فعَزِّه. وكان ابنُ عبَّاس بالشام، فجاء يزيد، فجلس بين يدي ابن عبَّاس؛ فقال له ابن عباس: ارتفع. فقال: لا، هذا مجلس المعزِّي، لا مجلسُ المُهَنِّي (¬3). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 4/ 319. وأثبتُّ منه ألفاظًا لم تجوَّد في (خ). (¬2) الخبر في "تاريخ دمشق" 18/ 392 و 393 (مصورة دار البشير). وجمع فيه المصنف (أو المختصر) بين روايتين. (¬3) المصدر السابق 18/ 395.

وقيل: خطباء قريش خمسة: معاوية، وابنُه يزيد، وعبدُ الملك بن مروان، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن الزُّبير. ذكر وفاته: توفي يزيد لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين (¬1). وقيل: لتسع عشرة ليلة خلت من صفر (¬2). والأول أشهر. ومات بدمشق، ودُفن بمقبرة الباب الصغير عند أهله. وقيل: مات بحُوَّارِين؛ قرية من قرى حمص [كان مولعًا بتلك الأماكن قبل ولايته] وهذا أشهر (¬3). وقد ذكرَتْه الشعراء في أشعارها فقال ابنُ عرادة يشير إليه: أبني أميَّةَ إنَّ آخرَ ملككِم ... جسدٌ بحُوَّارين ثمَّ مقيمُ (¬4) وقال آخر: يا أيها القبر بحُوَّارينا ... ضَمَمْتَ شرَّ الناسِ أجمعينا (¬5) وقيل لعمرو بن عَبْد (¬6) الخولاني الذي خَلَفَ على امرأة أبي مسلم (¬7): ألا تُصلِّي على يزيد؟ فقال: تصلي عليه ظِباء حُوَّارِين. وقيل: إنه مات بحُوَّارِين، وحُمل على أيدي الرِّجال إلى دمشق، فدفن بالباب الصغير عند أبيه [معاوية] (¬8). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 4/ 393، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 29. (¬2) نسب هذا القول في (م) للكلبي. وهو في "أنساب الأشراف" 4/ 293 - 294. (¬3) ينظر المصدر السابق: والكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) البيت مع بيتين آخرين في "أنساب الأشراف" 4/ 394. (¬5) كذا في "مروج الذهب" 5/ 126، ونُسب البيت فيه لرجل من عذرة. وجاء في "أنساب الأشراف" 4/ 395 بروايتين: وفيهما: خير الناس أجمعينا، ونُسبا فيه لرجل من عَنَزَة يقال له: أبو بكر بن حنظلة. (¬6) في (خ) (والكلام منها): عبد الله. وهو خطأ. (¬7) في "أنساب الأشراف" 4/ 394: قيل لأبي مسلم ... ، بدل قوله: وقيل لعمرو بن عبد. الخ. (¬8) أنساب الأشراف 4/ 394، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 29، ونُسب الخبر في (م) لابن عساكر.

قال المصنف رحمه الله: والأشهر أنَّ قبره بحُوَّارين، وقد نبشه عبد اللهِ بن علي بن عبد الله بن العباس لما زال مُلك بني أمية من حُوَّارين، فلم يجد فيه إلا خطًّا من رماد (¬1)، [وسنذكره هناك]. وصلَّى عليه ابنُه معاوية. واختلفوا في سنّه على أقوال، أحدها: أنه مات ابنَ ثمان وثلاثين سنة (¬2) والثاني: ابن تسع وثلاثين سنة، والثالث: ابن اثنتين وثلاثين سنة [وقد حكى هذه الأقوال الطبري] (¬3). وينبغي أن نرجع في هذا إلى تحقيق مولده (¬4). واختلفوا في مدَّة ولايته، فقيل: ثلاث سنين وثمانية أشهر، وقيل: ثلاث سنين وتسعة أشهر. [قلت: ] والتاريخ يكشف ذلك، فإنه [لا خلاف أنه] وليَ عند موت أبيه في أول رجب سنة ستين، ومات في ربيع الأول سنة أربع وستين، فقد كملت له ثلاث سنين وثمانية أشهر وأيامًا (¬5). [قال ابن الكلبي: ] وكانت سني ولايته تُدعى سني الشُّؤم. ذكر أولاده وأزواجه: كان له من الأولاد: معاوية، وخالد، وعبد الله الأكبر، وأبو سفيان؛ أمُّهم فاختة بنت أبي هاشم بن عُتْبة بن ربيعة بن عبد شمس. فأما معاويةُ فقد ذكرناه، وأما خالد، فنذكُره في سنة تسعين. وكان ليزيد: عبدُ الله الأصغر، وعبدُ الرحمن، وعُتبة، ويزيد، ومحمد، وحرب، والربيع، وعبد الله ويلقب أصغر الأصاغر، وعُمر، وأبو بكر، وعثمان. ¬

_ (¬1) في (خ): يزيد، بدل: رماد. والمثبت من (م)، والكلمتان الآتيتان بين حاصرتين منها. (¬2) في (خ): ومات وله ثمان وثلاثين! (كذا) بدل: واختلفوا في سنّه ... إلخ. والمثبت من (م). (¬3) تاريخه 5/ 499. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) في (م): وينبغي أن نرجع في هذا إلى الخلاف في مولده على ما ذكرنا، فإن كان وُلد سنة خمس وعشرين، فقد كان ابن ثمان وثلاثين سنة، وعلى هذا الأسلوب. (¬5) في "تاريخ الطبري" 5/ 499: ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثمان ليال. (والكلام الواقع بين حاصرتين من م).

فهؤلاء خمسة عشر ذكرًا. وكان له من البنات: عاتكة، ورَمْلَة، وأمُّ عبد الرحمن، وأم يزيد، وأم محمد، فهؤلاء خمس (¬1). وذكر له ابنُ عساكر ولدًا آخر؛ قال: واسمُه أميَّة، من أهل عذراء، له ذكر (¬2). فنذكر أعيان أولاده، وقد انقرضوا، فلم يبق له عقب: عبد الله الأكبر، وأبو سفيان أشقاء خالد ومعاوية، وأمُّهم فاختة بنت أبي هاشم، وهي التي يقال لها: أمُّ خالد (¬3)، وهي التي أشار إليها ابنُ سيرين فقال: أشْوَقُ بيتٍ قالته العرب قول يزيد بن معاوية: إذا سرتُ مِيلًا أو تباعدتُ ساعةً ... دَعَتْني دواعي الشوق من أمِّ خالدِ وتزوَّج [يزيد] أمَّ مسكين بنت عُمر (¬4) بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم قلاها وطلَّقها، وكان يُبغض عُبيد الله بنَ زياد، فتزوَّجَتْه مغايظةً ليزيد، فقُتل عنها، فتزوَّجت محمد بنَ المنذر بن الزبير، ثم نافَرَتْه وقالت: واللهِ ما تزوَّجْتُك رغبةً فيك، ولكني أردتُ أن أغسلَ سوأةً وقعتُ فيها (¬5). وعبد الله الأصغر (¬6): يلقَّب بالأُسوار لجودة رميه، وكان فارسًا صاحب خيل، وأمُّه أمُّ كلثوم بنتُ عبد الله بن عامر بن كُريز، وفيه يقول عديّ بن الرِّقاع العاملي: علم الناسُ أنَّ خير قريشٍ ... حَسَبًا حين يُنسبُ الأُسوارُ بين حَرْب وعامر بن كُرَيزٍ ... فأُولاكَ الأكابر الأخيارُ ¬

_ (¬1) ينظر أولاد يزيد في "نسب قريش" ص 128 - 132، و"أنساب الأشراف" 4/ 395 - 396، و"تاريخ" الطبري 5/ 500. (¬2) تاريخ دمشق 3/ 139 (مصورة دار البشير) ونقله ابن عساكر فيه عن ابن أبي العجائز. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 395. وتاريخ دمشق 39/ 343 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) في (خ) (والكلام منها): أم بكر بنت عمرو وهو خطأ. وزدتُ لفظة "يزيد" بين حاصرتين للإيضاح. وينظر "نسب قريش" ص 360، و"تاريخ دمشق" ص 548 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق). ووقع في "أنساب الأشراف" 4/ 321: أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. (¬5) أنساب الأشراف 4/ 322. وينظر "نسب قريش" ص 360 - 361. (¬6) أنساب الأشراف 4/ 395 و 407. وجاء في "تاريخ دمشق" 39/ 344 - 345 (طبعة مجمع دمشق): عبد الله الأكبر، ويقال: الأوسط. وينظر "نسب قريش" ص 129.

وعبدُ الرحمن بن يزيد: أمُّه أمُّ ولد، وكان ناسكًا، ذكره ابن سُميع في الطبقة الثالثة من أهل الشام (¬1). وروى الحديث عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه محمد بن قيس قاضي عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه (¬2). وقال أبو زُرعة الدمشقي: خالد وعبد الرحمن ابنا يزيد بن معاوية، وكانا من صالحي القوم (¬3). وكان عبد الرحمن خِلّاً لعبد الملك بن مروان، وهو الذي وعظَ مَسْلَمةَ بن عبد الملك لمَّا لامَه على التَّنَسُّك والانقطاع إلى العبادة، فقال: يا مسلمة، هل أنتَ في الحال التي أنت فيها مستعدٌّ للموت؟ قال: لا. قال: فهل عزمتَ على التحوُّل عنها إلى حالة ترضى بها؟ قال: لا. قال: فهذه حال ما أقام عليها عاقل (¬4). وعُمر بن يزيد، أمُّه أمُّ كلثوم بنت عبد الله بن عامر، مات في حياة أبيه، أصابته صاعقةٌ فأحرقته. وقيل: رعدت السماء فمات، فقال عبد الله بن همَّام: عُمَرَ الخيرِ يا شَبِيهَ أبيهِ ... أنتَ لو عشتَ قد خَلَفْتَ يزيدا سُلِّطَ الحَتْفُ في الغمام عليه ... فتلقَّى الغمامُ رُوحًا سعيدا أيُّها الراكبانِ من عَبْدِ شمسٍ ... أبْلِغا الشامَ أهلَها والجُنُودا أنَّ خير الفتيانِ أصبحَ في لَحْـ ... ـــدٍ وأَمْسى بين الكرام فقيدا (¬5) وعُتبة بن يزيد الأعور، روى عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - (¬6). وأما بنات يزيد؛ فمنهن عاتكة بنت يزيد [تزوَّجَها عبد الملك بن مروان] فأولدها يزيدَ بنَ عبد الملك، وليَ الخلافة (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 42/ 115 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) المصدر السابق 42/ 112. (¬3) المصدر السابق 42/ 115. (¬4) تنظر روايات الخبر في المصدر السابق 42/ 118 - 119. (¬5) أنساب الأشراف 4/ 409، وتاريخ دمشق 54/ 317 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) تاريخ دمشق 45/ 145 (طبعة مجمع دمشق). وينظر "أنساب الأشراف" 4/ 410. (¬7) وليَ الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز. وزدتُ ما بين حاصرتين من عندي لضرورة السياق.

وإليها تُنسبُ أرض عاتكة خارج باب الجابية، وكانت بها قصور عاتكة، وتمتدُّ منها إلى جانب بَرَدَى (¬1). وكانت عاتكة من أشرف نساء قريش، جليلة نبيلة عاقلة، من الطبقة الثالثة من نساء قريش، دمشقية، [ذكرها أبو زرعة] فيمن حدَّث بالشام من النساء، روى عنها المهاجر الأنصاري (¬2). وهي التي بكت لما توجَّه عبد الملك بنُ مروان لقتال مصعب بنِ الزبير و [بكى] معها أترابُها وجواريها، فقال عبد الملك: قاتلَ اللهُ ابنَ أبي جمعة (¬3) حيث يقول: إذا ما أراد الغزوَ لم تَثْنِ هَمَّهُ ... حَصَانٌ عليها نظم دُرٍّ يَزِينُها نَهَتْهُ فلمَّا لم تَرَ النَّهيَ عاقَهُ ... بكَتْ فبكى ممَّا عراها قطينُها قال المصنف رحمه الله: وقد اتفق لابنتها فاطمة ... (¬4) وكانت [عاتكةُ] (¬5) تضع خمارها بين يدي اثني عشر خليفة، كلُّهم لها مَحْرَم: أبوها يزيد، وجدُّها معاوية، وأخوها معاوية بن يزيد، وزوجها عبدُ الملك، وزوجُ ابنتها عمر ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق ص 203 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق). (¬2) المصدر السابق ص 204، واستظهرتُ منه ما أوردتُه بين حاصرتين. (¬3) هو كُثَيِّر عَزَّة. وينظر "الأغاني، 9/ 21، و"العقد الفريد" 4/ 407، و"تاريخ دمشق" 59/ 301 (ترجمة كُثيّر - طبعة مجمع دمشق)، وتراجم النساء من تاريخ دمشق ص 204 (طبعة المجمع أيضًا)، و"ديوان كُثيّر) ص 365 - 366. (¬4) كذا في (خ) (والكلام منها) وفيه انقطاع ظاهر، ولعل سياق خبر فاطمة هذه سقط من الناسخ، إذ يعني المصنِّف بابنتها فاطمة أنها بنتُ عبد الملك زوجُ عمر بن عبد العزيز (كما سيرد)، وفي قوله: ابنتها فاطمة، وَهْم تابعَ فيه جدَّه ابنَ الجوزيِّ في "التلقيح"، فقد ذكر فيه ص 700 أنَّ لفاطمة هذه ثلاثةَ عشرَ مَحْرَمًا كلُّ واحد منهم خليفة. وأوردهم (ووقع في مطبوعه سقط). وكذا ذكر ابنُ الأثير في "الباهر" ص 94، فذكر أن معاوية جدُّ أمِّها لأبيها، ويزيد جدُّها لأمِّها، ومعاوية بن يزيد خالُها، ومروان جدُّها لأبيها، وعبد الملك أبوها، والوليد وسليمان ويزيد وهشام إخوتُها، وعمر بن عبد العزيز زوجُها، والوليد بن يزيد ابنُ أخيها، ويزيد وإبراهيم ابنا الوليد هما ابنا أخيها أيضًا. وقد تعقَّب أبو شامة هذا الكلام في "الروضتين" 1/ 232 وقال: وهذا كلُّه مبنيّ على أصل فيه خلل، وهو أنَّ فاطمة بنت عبد الملك ليست أمُّها عاتكةَ بنتَ يزيد بن معاوية، بل أمُّها مخزوميَّة [وهي أمُّ المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص]. اهـ. فذكرَ رحمه الله أنه كان لفاطمة هذه عَشَرة محارم من الخلفاء يمكن أن تضع خمارَها عندهم، وليس ثلاثة عشر. وقد أفادني بما نقلتُه عن "الروضتين" محقِّقُه الأستاذ إبراهيم الزيبق جزاه الله خيرًا. وينظر "تاريخ" دمشق ص 290 - 291 (تراجم النساء) وينظر الخبر التالي. (¬5) ما بين حاصرتين زيادة من عندي لضرورة السياق.

ابنُ عبد العزيز - رضي الله عنه - (¬1)، وابنُها يزيد بنُ عبد الملك، وابنُ ابنِها الوليد بنُ يزيد، وبنو زوجها: الوليدُ، وسليمان، وهشام، وابنا ابن زوجها يزيدُ وإبراهيم المخلوع ابنا الوليد بن عبد الملك. ويقال: إنها عاشت حتى أدركت قتل ابنِ ابنِها الوليد بن يزيد بن عبد الملك (¬2). أرسل عبد الملك بنُ مروان إلى عاتكة بنت يزيد زوجته يقول: أشهِدي بمالك لولدِك. فقالت: أرْسِلْ إليَّ شهودًا. فأرسلَ إليها جماعة؛ فيهم رَوْح بن زِنْباع، فقالت: إن أولادي في غنًى عنّي، اِشهدوا على أنني قد جعلتُ مالي وقفًا على آل أبي سفيان، فهم أحوج، لتغيّر حالهم. فخرج رَوْح إلى عبد الملك وهو ممتقع اللون، فقال: أرسلتَني إلى معاوية جالسًا في إيوانه. وأخبره الخبر (¬3). ورَمْلَة بنت يزيد؛ تزوَّجها عُتْبة بن عُتْبة بن أبي سفيان، فمات عنها، فخَلَفَ عليها عبَّاد بن زياد، فولدت له، ثم تزوَّج عبَّاد أمَّ عبد الرحمن بنت يزيد بعد رَمْلَة؛ زوَّجه إيَّاها خالد بنُ يزيد، فعيَّره عبدُ الملك بنُ مروان وقال: زوَّجْتَه وقد عرفتَ دعوتَه، فقال له خالد: أما إنه سِلْفُك (¬4)، وهو دَعِيِّي، ولو كان دَعِيَّ غيري (¬5) لما زوَّجْتُه. وأمُّ يزيد بنت يزيد، تزوَّجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان (¬6)، فولدت له دِحْية (¬7). ¬

_ (¬1) كذا قال المصنف رحمه الله، ويعني بابنتها فاطمةَ بنتَ عبد الملك، وكذا قال جدُّه في "التلقيح" ص 700، وهو وهم كما سلف الكلام قبل تعليق. وجاء الخبر في "تاريخ دمشق" ص 205 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عاتكة) على الصواب، إذ لم ترد فيه هذه العبارة، وجاء فيه بَدَلَها: وأبو زوجها مروان بن الحكم. (¬2) المصدر السابق ص 206. (¬3) المصدر السابق ص 205. (¬4) سِلْفُ الرجل: زوجُ أختِ امرأتِه. وعبدُ الملك بن مروان زوجُ عاتكة بنت يزيد أختِ رملة وأمِّ عبد الرحمن اللتين تزوَّجهما عبَّاد بن زياد واحدة بعد أخرى. ينظر "نسب قريش" ص 130، و"أنساب الأشراف" 4/ 395 - 396، و"تاريخ دمشق" ص 61 (جزء بدون رقم - ترجمة عباد بن زياد، طبعة مجمع دمشق)، و 4/ 375 - 138 (طبعة المجمع - ترجمة عتبة بن عتبة بن أبي سفيان). (¬5) في (خ) (والكلام منها): دعا غيرك. والمثبت من المصادر السابقة. (¬6) في هذا الموضع انتهى الخرم في (ب) الذي بدأ ص 261 أثناء خبر وقعة مرج راهط. (¬7) نسب قريش ص 130، وأنساب الأشراف 4/ 395.

وأم محمد بنت يزيد [تزوَّجَها عَمرو بن عُتبة بن أبي سفيان، فولَدَتْ له. وأمُّ عثمان بنت يزيد] تزوَّجَها عثمان بنُ أبي سفيان، فولدت له أمَّ الحكم (¬1). فهولاء بناتُ يزيد لأمَّهات أولاد شتَّى، غير عاتكة، فإنَّ أُمَّها أمُّ كلثوم بنتُ عبد الله بن عامر. ومن نساء يزيد أمُّ محمد بنت عبد الله بن جعفر، خطبها يزيد من أبيها عبدِ الله بن جعفر، فزوَّجه إيَّاها، فحُملت إليه من الشام، فخرج يتلقَّاها وقال: جاءت بها دُهْم البغال وشبهُها ... مُسَيَّرةً في جوف قَرٍّ مُسَتَّرِ مُقابلةٌ بين النبيِّ محمدٍ ... وبين عليٍّ والجواد ابن جعفرِ مُنافِيَّةٌ غَرَّاءُ جادَتْ بِوُدِّها ... لعبدٍ مُنافيٍّ أَغَرَّ مشهَّر وبلغ عبدَ الله بن جعفر فقال: ما أراه ينسى نفسه في كلّ حال (¬2). وهذه أمّ أبيها بنتُ عبد الله بن جعفر تزوَّجها عبدُ الملك بنُ مروان لما تولَّى الخلافة، فعضَّ يومًا على تفاحة، ورمى بها إليها، فأخذَت السكين وقَوَّرَتْ موضع عضَّته، فقال عبد الملك: ، ما هذا؟ قالت: أُمِيطُ عنها الأذى. فطلَّقها عبدُ الملك، فتزوَّجها عليُّ بن عبد الله بن عباس أبو الخلفاء، فولدَت له وماتت عنده (¬3). وقيل: إن التي قَوَّرت التفاحة عاتكة بنت يزيد. والأول أصحّ. ذكر رواية يزيد الحديث: قال ابن عساكر: روى يزيد الحديث عن أبيه معاوية، وروى عنه ابنُه خالد بنُ يزيد، وعبد الملك بنُ مروان (¬4). ¬

_ (¬1) نسب قريش ص 130، وما سلف بين حاصرتين منه. وعثمان بن أبي سفيان هو عثمان بن محمد بن أبي سفيان، كما في "تاريخ دمشق" 47/ 43 (ترجمة عثمان بن يزيد بن معاوية). (¬2) تاريخ دمشق 547 - 548 (تراجم النساء) وجاء الخبر في "أنساب الأشراف" 4/ 400 في خالد بن يزيد، بدل أبيه يزيد. (¬3) أنساب الأشراف 2/ 61. (¬4) تاريخ دمشق 18/ 389 (مصورة دار البشير).

وقال عبد الله ابنُ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: سألتُ أبي فقلتُ: أتروي الحديث عن يزيد؟ فقال: لا ولا كرامة، أنسيتَ ما فعلَ من قتلِ الحسين بن علي، وهدمِ الكعبة وحرمتها، وإباحتهِ المدينة ثلاثًا، وغير ذلك (¬1)؟ ! ذكر طرف من الأشعار المنسوبة إليه: له ديوان مشهور، وقيل: إنَّ معظم الشعر المنسوب إليه منحول (¬2)، والله أعلم. فمن شعره قال: ومُدامةٍ صفراءَ في قارورةٍ ... زرقاءَ تحملُها يَدٌ بيضاءُ فالخمرُ شمسٌ والحَبَابُ كواكبٌ ... والكَفُّ قطبٌ والزُّجاج سماءُ (¬3) وله: ومشمولةٍ صاغ المزاجُ لرأسها ... سماءَ عقيقٍ رُصِّعَتْ بالكواكبِ بنتْ كعبةَ اللَّذَّاتِ في حَرَم الصّبا ... فحجَّ إليها اللَّهوُ من كلِّ جانبِ (¬4) وله: وأنا ابنُ زمزمَ والحَطِيم (¬5) ومولدي ... بطحاءُ مكة والمحلَّةُ يثربُ وإلى أبي سفيانَ يُعْزَى مولدي ... فَمَنِ المشاكِلُ لي إذا ما أُنْسَبُ ولوَ أنَّ حيًّا لارتفاع قبيلةٍ ... وَلجَ السماءَ ولجتُها لا أُحْجَبُ وأنا المجيرُ على الزمان وصَرْفِهِ ... من جاء من حِدْثانِهِ يتعتَّبُ ومنه. أيا سَمُراتٍ بالمُحَصَّبِ من مِنًى ... تَعَرَّيتِ من أوراقِكِ الخَضِراتِ ¬

_ (¬1) هو بنحوه في "منهاج السنة" 2/ 253. (¬2) سأنسب الأشعار الآتية إلى قائليها على حسب ما يمكنني الوقوف عليه. (¬3) نُسب البيتان في "يتيمة الدهر" 2/ 228، و"معاهد التنصيص" 2/ 182 لأبي بكر الخالدي، وفيهما: والإناء سماءُ. قوله: الحَبَاب، يعني الفقاقيع على وجه الشراب. (¬4) أخذهما ابنُ بقيّ الأندلسي، وهما في ترجمته في "الخريدة" 3/ 579 (قسم شعراء المغرب)، وصدر البيت الأول فيه: ومشمولة في الكأس تحسب أنها. وينظر "وفيات الأعيان" 6/ 204 - 205. (¬5) الحَطِيم: جدار حِجْر الكعبة.

يُرادُ من الأشجارِ طِيبُ ظلالِها ... وما يُجتنَى منها من الثمراتِ إذا لم يكنْ فيكنَّ ظلٌّ ولا جَنًى ... فأبعدكنَّ اللهُ من شَجَراتِ (¬1) ومنه: وقائلةٍ لي حين شَبَّهتُ وجهَهَا ... ببدرِ الدُّجَى يومًا وقد ضاقَ منهجي تُشَبِّهُني بالبدر! هذا تناقصٌ ... بقدري ولكنْ لستُ أوَّلَ من هُجِي ألم ترَ أنَّ البدرَ عند كمالِهِ ... إذا بلغَ التشبيه عادَ كدُمْلُجِي (¬2) فلا فخرَ إنْ شبَّهتَ بالبدر مَبْسَمي ... وبالسحر أجفاني وبالليل مَدْعَجي (¬3) فقلت [لها] لا تنكري ضعفَ خاطري ... وكثرةَ إفراطي وعُظْمَ تلجلجي فلم يبق لي عقلٌ من الحبِّ ثابتٌ ... أُقايِسُ بين المستوي والمعوَّجِ ومنه: دعُوني أَدَعْها وهي بي مُستهامةٌ ... بنفس (¬4) حتى تقطِّعَ النفسُ الكبدا فتركي لها ما دام فيَّ بقيَّةٌ ... بأحسنَ لي من أنْ أكونَ لها عبدا ولما التقينا للوداع وقلبُهما ... وقلبي يَبُثَّانِ الصبابةَ والوَجْدا بكت لؤلؤًا رَطْبًا ففاضت مدامعي ... عقيقًا فصار الكلُّ في نحرها (¬5) عِقْدا [وقال: اسقني شَرْبَةً تُرَوِّي فؤادي ... ثمَّ مِلْ واسْقِ مثلَها ابنَ زيادِ موضع السِّرِّ والأمانةِ (عندي) ... وعلى ثَغْرِ مغنمي وجهادي (¬6) وقال: تمتَّعْ من الدنيا بساعتك التي ... تكونُ بها ما لم تُعِقْك العَوائقُ ¬

_ (¬1) نُسب هذا البيت في "التدوين في أخبار قزوين" 4/ 174 لعلي - رضي الله عنه -. (¬2) الدُّمْلُج: الحِلْية تحيط بالعضد. (¬3) من دَعَجِ العين، وهو شدة سوادها وبياضها واتساعها. (¬4) كذا في (خ) و (م). ولعلها: بنفسي، (وفي هذا الموضع من النسخة ب خرم). (¬5) في (م): جيدها. (¬6) سلف البيتان ص 186، وفي الخبر ثمة أن ابن زياد هو عُبيد الله، وفي "الأغاني" 15/ 291 - 292 أنه سَلْم بن زياد.

فلا يومُك الماضي عليك بعائدٍ ... ولا يومُك الآتي به أنت واثقُ وقال (¬1): أُلامُ على نَجْدٍ وأبكي صبابةً ... رُوَيدَكَ يا دمعي ويا عاذِلي رِفْقا فلي بالحِمى مَنْ لا أُطِيقُ فِراقَهُ ... به يَسْعَدُ الواشي ولكنْ به أشقى إذا لم يَدَعْ مني هواه وهجرُه (¬2) ... سوى رَمَقٍ يا أهل نَجْدٍ فكم أبقى ولولا الهوى ما رقَّ للناس جانبي ... ولا رضيَ الواشون منّي بما ألقَى (¬3) وقال: يا صَرْخَةَ البَينِ كم فَتَّتِّ من كَبِدٍ ... ويا منادي فراقٍ كم تُنادينا ويا غُرابُ بِشَتِّ الشَّمْلِ تُخبِرُنا ... فارَقْتَ إلْفَكَ كم بالبَين تَنْعِينا (¬4) أقولُ للرَّبْع إذْ طال الوقوفُ به ... ما بالُ أطلالِ ليلى لا تُحيِّينا لولا اللَّوَى ما لَوَى قلبي الغرامُ ولا ... أضحي فؤادي بوادي الحُزْن محزونا واللهِ ما طلَبَتْ أرواحُنا بَدَلًا ... عنكُمْ ولا انصرَفَتْ منّا أمانينا إنَّ الزمانَ الذي قد كان يُضْحِكُنا ... أُنْسًا بقربكُمُ قد عاد يُبْكِينا أذَاقَنا فَقْدُ مَنْ كُنَّا نُسَرُّ به ... يُميتُنا في الهوى طَوْرًا ويُحْيِينا وقال: ما حرَّم اللهُ شُرْبَ الخمرِ من عَبَثٍ ... منه ولكنْ لِسِرٍّ مُودَعٍ فيها لمَّا رأى الناسَ أمْسَوْا مُغْرَمين بها ... وكلَّ معنًى حَوَوْهُ من معانيها أوْحَى بتحريمها خَوْفًا عليه بأنْ ... يُضْحُوْا لها سُجَّدًا من دونِ باريها] (¬5) ¬

_ (¬1) نسب ياقوت الأبيات الأربعة الآتية (مع بيت خامس) في "معجم الأدباء" 17/ 261 لمحمد بن أحمد الأَبِيوَرْدِي، وهي في "ديوانه" 2/ 227. (¬2) في المصدرين السابقين: نواه وحبُّه. (¬3) في المصدرين السابقين: ولا رَضِيَتْ مني (وفي الديوان: منكم) قريش بما ألقى. (¬4) كذا لضرورة الشعر، والجادة: تنعانا. (¬5) الأبيات الواقعة بين حاصرتين (يعني من قوله: اسقني شربة ... إلى هذا الموضع) من النسخة (م). وفي نسبة هذا الشعر إلى يزيد نظر.

ومنه: أمِنْ شَرْبةٍ من ماء كرمٍ شربتُها ... غضبتَ عليَّ؟ الآن طابَ لي السُّكْرُ سأشْربُ فاغضبْ لا رضيتَ، كلاهما ... حبيبٌ إلى قلبي عقوقُك والخمرُ (¬1) ومنه: زائرٌ نَمَّ عليه حُسْنُهُ ... كيف يُخفي الليلُ بدرًا طَلَعَا رصدَ الخَلْوةَ حتى أمْكَنَتْ ... ورَعَى العاذلَ حتى هَجَعَا كابدَ الأهوال في زَوْرَتِهِ ... ثمَّ ما سلَّم حتى ودَّعا (¬2) ومنه: قد شربنا المُدامَ من كفِّ ساقٍ ... ناعسِ الطَّرْفِ ناعمِ الأطرافِ بين ليلى ذوائبٌ وظلام ... وصباحَي سوالفٍ وسُلافِ ومنه: أقولُ لعيني حين جادَتْ بدمعها (¬3) ... وإنسانُها في لُجَّةِ الدمعِ يغرقُ خُذي بنصيبٍ من محاسن وجهِها ... ذَرِي (¬4) الدمعَ لليومِ الذي نتفرَّقُ ومنه: مستوقفي بين ذلِّ الصَّدِّ والمللِ ... لم يبق لي منكَ إلا لذَّةُ الأملِ لا تَرْحَلَنَّ فما أبْقَيتَ من جَلَدِي ... ما أستطيعُ به توديعَ مُرْتَحِلِ ولا من الغَمْضِ ما أقري الخيال به ... ولا من الدمع ما أبكي على طَلَلِ (¬5) ومنه: لَيلِي ولَيلَى نَفَى نَوْمي اختلافَهما ... حتى لقد صيَّراني في الهوى مَثَلا ¬

_ (¬1) فوات الوفيات 4/ 333. ونقل ابنُ قتيبة في "عيون الأخبار" 3/ 93 عن الأصمعي أن أعرابيًّا عاتب ابنَه في شرب النبيذ، فلم يُعْتِب، وقال البيتين. (¬2) أورد ابن خَلّكان الأبيات (باختلاف يسير) مع بيت رابع في "وفيات الأعيان" 3/ 350 في ترجمة العكَوَّك أبي الحسن علي بن جبلة، وذكر أنها من مشهور شعره. ونسبها ياقوت في "معجم الأدباء" 17/ 123 لمحمد بن أحمد الهاشمي. (¬3) في "الحماسة البصرية" 2/ 145: بمائها. (¬4) في المصدر السابق: دعي. (¬5) جاءت الأبيات الثلاثة في "يتيمة الدهر" 3/ 448 ضمن قصيدة لأبي إبراهيم إسماعيل بن أحمد الشاشي.

يجودُ بالطُّولِ ليلِي كلَّما بخلَتْ ... بالطَّول لَيلَى، وإن جادَتْ به بَخِلا (¬1) ومنه: خُذُوا بدمي ذاتَ الوِشاح فإنَّني ... نظرتُ بعيني في أناملها دمي ولا تُخبروني إنْ سمعتُم بموتها ... بل خبِّروها إنْ سمعتُمُ بمأتمي وميالةِ الأعطاف مهضومةِ الحَشَا ... تبدَّت لنا بين الحَطِيمِ وزمزمِ لها حُكْمُ لقمانٍ وصورةُ يوسفٍ ... ونغمةُ داودٍ وعفَّةُ مريمِ ولي حزنُ يعقوبٍ وذلّة يونسٍ (¬2) ... وآلامُ أيوبٍ ووَحْدةُ آدمِ فلا تحسبوا أني قتيلُ صوارمٍ ... ولكن لِحاظٍ قد رمَتْني بأسهمِ ولو لم يمسَّ الأرضَ فاضلُ بُرْدِها ... لما كان عندي فُسحةٌ في التيمُّمِ ومنه: متى شافَهَتْ بي (¬3) العِيسُ سَلْمَى مُسَلِّمًا ... وأنْجَدَ بالسَّارِينَ مَنْ كان مُتْهِما تَقَلْقَلَ قلبي واقْشَعَرَّتْ جوارحي ... إذا قيل هذا رَمْلُ يَبْرِينَ والحِمَى كأنَّ حَمامَ الأيكِ بعد فراقِنا ... أقامَ لفقداني هنالك مأتما على مُقْلَةٍ تبكي العَقِيقَ بمثلِهِ ... وتفضُلُ حزنًا مالكًا ومُتَمِّما سَقَى عَلَمَيهَا مُغْدِقُ الوَبْلِ مُسْبِلٌ ... إذا ما بكى في رَبْعِ دارٍ تَبَسَّمَا يَهُلُّ بمنهلِّ العَزَالِ (¬4) بطاقةٍ ... فيُلبِسُه ثوبًا من الوَشْيِ مُعْلَمَا ومنه: ولمَّا تلاقَينا وجَدْتُ بَنَانَها ... مُخَضَّبةً تحكي عُصارةَ عَنْدَمِ فقلتُ خَضَبْتِ الكَفَّ بعدي وهكذا ... يكون جزاءُ المستهامِ المُتَيَّمِ فقالت وأذكَتْ في الحَشَا لوعةَ الجَوَى ... من النارِ لم تُخمد ولم تتضرَّمِ ¬

_ (¬1) نسبهما العبَّاسيّ في "معاهد التنصيص" 1/ 266 لبعض المتأخّرين، ولم يسمّه. (¬2) كذا في (ب) و (خ) و (م)، وليست لائقة أن تُقال لنبيّ. (¬3) في (ب): في. والأبيات ليست في (م). (¬4) كذا في (ب) و (خ). والعَزَالي جمع العَزْلاء، وهو مصبّ الماء من القِرْبة ونحوها. يقال: أرسلت السماء عَزَالِيَها، أي: انهمرت المطر.

السنة الخامسة والستون

بَكَيتُ دمًا يومَ النَّوى فمسَحْتُهُ ... بكفِّيَ فاحْمرَّتْ بنانيَ من دمِ ولو قبلَ مَبْكاها بَكَيتُ صَبَابةً ... بسُعْدَى شَفَيتُ النفسَ قبل التندُّمِ ولكنْ بَكَتْ قبلي فَهَيَّجَ لي البُكَا ... بُكاها وكان الفَضلُ للمتقدِّمِ ومنه: يا جَوارِ [ي] الحَيِّ عُدْنَنِيَهْ ... حَجَبُوا عنِّي مُعَذِّبِيَهْ رَشَأٌ (¬1) كالبَدْرِ طَلْعَتُهُ ... لو سقاني سُمَّ سَاعَتِيَهْ لم أقُلْ إني سَلَوْتُ ولا ... إنَّ مَنْ أهْوَاه مِلَّتِيَهْ فهو حَجِّي وهو معتَمَري ... وهو فَرْضي وهو سُنَّتِيَهْ وهو قصدي وهو معتمدي ... وهو جالينوسُ عِلَّتِيَهْ قَرِّبُوا عُودًا وباطِيَةً (¬2) ... فبذا أدْرَكْتُ حَاجَتِيَهْ السنة الخامسة والستون فيها خرج سليمان بنُ صُرَد إلى النُّخَيلَة (¬3) في مستهلّ ربيع الآخِر للوعد الذي كان قد واعدَ عليه أصحابَه، ويسمَّى جيش التَّوَّابين، فنزل بها، وخرج إليه الناس، فلم يعجبه قلَّتهم، فبعث إلى حكيم بنِ منقذ الكندي (¬4) والوليد بنِ غُصين، فقال: اذهبا إلى الكوفة، فناديا: يا لَثارات الحسين، فدخلا إلى الكوفة، وبلغا المسجد الأعظم، وسمع الناس، فخرجوا وقاموا من الفُرُش، منهم عبد الله بن خازم الأزدي؛ كان مع زوجته سهلة بنت سبرة، من الأزد، وكانت من أجمل الناس وأحبِّهم إليه، فلما سمع الصوت قام، فلبس درعه، وحمل سلاحه، وركب فرسه، فقالت له امرأته: أَجُنِنْتَ؟ ! إلى أين؟ قال: ويحكِ! أما تسمعين داعيَ الله؟ ! فأنا مُجيبُه، وطالبٌ بدم هذا الرجل، ¬

_ (¬1) الرَّشَأ: ولدُ الظَّبْيَة إذا قويَ وتحرَّك ومشى مع أمه. (¬2) البَاطِيَة: الخمر وإناؤها. (¬3) موضع قرب الكوفة على سمت الشام، خطب فيها علي - رضي الله عنه - خطبة مشهورة، ذمّ فيها أهل الكوفة. ينظر "معجم البلدان" 5/ 278. (¬4) في (ب) و (خ): الكناني، والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 583، و"الكامل" 4/ 175. ووقع في "أنساب الأشراف" 6/ 33: حكم بن منقذ.

أو يقضيَ الله ما أَحبَّ. فقالت: إلى من تدعُ بيتَك وولدَك؟ قال: إلى الله تعالى، ثم قال: اللهم احفظني فيهم. وخرج حتى لحق بهم. وخرج أشراف الكوفة، فأصبحوا في النُّخَيلة، فكانوا ستة عشر ألفًا، وقيل: أربعة آلاف، وكان أسماؤهم في ديوان سليمان ستة عشر ألفًا، فلم يصفَ منهم سوى أربعة آلاف، فقال حُميد بن مسلم لسليمان: إن المختار يُثبِّط الناس عنك. فقال: أما تخافون الله؟ ! أما تذكرون ما أعطَوْنا من المواثيق والعهود؟ ! ثم أقام بالنُّخيلة ثلاثًا يبعثُ أصحابَه إلى الكوفة يُذَكِّرُهم اللهَ والعهودَ التي أعطَوْه، فخرج إليه منهم [نحوٌ من ألف] رجل (¬1)، فقال المسيّب بن نَجَبَة لسليمان: إنه لا ينفعُك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النِّيَّة، فلا تنتظرنَّ أحدًا، واكْمِشْ في أمرك. فقام سليمان متوكِّئًا على قوسه فقال: أيها الناس، مَنْ كان إنما أخرجَتْه إرادةُ وجهِ الله عزَّ وجلَّ وثوابِ الآخرة، فذلك منَّا ونحن منه، ومن كان إنما يريد الدنيا؛ فواللهِ ما نُريد إلا وجهَ الله تعالى، وما معنا ذهبٌ ولا فضَّة، ولا حريرٌ ولا خَزّ، ولا عَرَضُ الدنيا، وإنما هي سيوفُنا على عواتقنا، ورماحُنا في أكفِّنا، وزادٌ قَدْرَ البُلغة إلى أنْ نُلاقيَ عدوَّنا، فمن لم يكن منَّا فلا يَصْحَبْنَا. فتنادى الناس من كلِّ جانب: لا لِدُنْيا خرجنا، ولا لها طلبنا. فقيل له: أتسير إلى قَتلَةِ الحسين بالشام، وقَتَلَتُهُ عندنا بالكوفة كلهم؟ ! [منهم] عُمر (¬2) بن سعد، ورؤوس الأرباع، وأشراف القبائل؟ ! وقال له عبد الله بن سعد: أين تذهب وتدع الأوتار وراءنا؟ فقال سليمان: إن ابن زياد هو الذي جهَّز إلى قتاله، وعبّأَ الجيوش، وفعل ما فعل، فإذا فرغنا منه عُدنا إلى أعدائه بالكوفة، ولو قاتلتُم أهلَ مصركم؛ ما عَدِمَ الرجل أن يرى رجلًا قد قتلَ أباه أو ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): فخرج إليهم منهم رجل. والمثبت من "تاريخ" الطبري 5/ 584، وما بين حاصرتين منه، وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 33. (¬2) في (ب) و (خ): عمرو. وهو خطأ. وكذا في الموضع الآتي. والكلام هنا مختصر عن رواية الطبري 5/ 585 - 586. وما بين حاصرتين منه. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 33.

أخاه أو حميمه، فيقع التخاذل، فإذا فرغتُم من الفاسق ابنِ الفاسق ابنِ مَرْجَانة؛ حصل لكم المراد. فقالوا: صدقت. وبلغ عبد الله بنَ يزيد الخَطْمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة ذلك، فخرجا إليهم في أشراف أهل الكوفة بعد أن طلبا الإذن في خروجهما إليهم، فأذنَ سليمان وأصحابُه، فقال عبدُ الله بنُ يزيد لكلِّ من هو معروف بقتل الحسين - رضي الله عنه -: لا تصحبونا إلى القوم، إنا نخافُ عليكم منهم. فتأخَّروا عنه. وكان عُمر بن سعد تلك الأيام التي عسكر فيها [سليمان] بالنُّخَيلَة لا يبيتُ في داره، بل في قصر الإمارة مع الخَطْمِيّ خوفًا لا يُبَيِّتُوه في داره. ولما دخل الخَطْميُّ وإبراهيم بنُ محمد بن طلحة على سليمان؛ حمدَ اللهَ الخطميُّ وأثنى عليه (¬1) وعلى رسوله وقال: أما بعد، فإنَّ المسلم أخو المسلم لا يخونُه ولا يغشُّه، وأنتم إخوانُنا وأهلُ بلدنا وأحبّ خلق الله إلينا، فلا تَفْجَعونا بأنفسكم، ولا تشذُّوا (¬2) علينا برأيكم، ولا تنقصوا عَدَدَنَا بخُرجوكم من جماعتنا، أقيموا معنا، فإذا تيقَّنَّا أنَّ عدوَّنا قد شارف بلادنا؛ خرجنا بجماعتنا فقاتلناه. وتكلَّم إبراهيم بمثل ذلك. فقال لهما سليمان: إني قد علمتُ أنكما قد مَحَضْتُما النصيحةَ، واجتهدتُما في المشورة، ونحن إنما خرجنا للهِ تعالى، ولا نُرانا إلا شاخصين. فقال الخَطْمي: فأقيموا حتى نجهِّز معكم جيشًا كثيفًا تلقَون عدوَّكم به، فتكونوا به ظاهرين عليه، فقال سليمان: انصرفا الآن حتى نرى رأينا. فقال لهم الخَطْمي وابنُ طلحة: أقيموا ونحن نخصُّك وأصحابَك بخراج جُوخَى دون الناس. فقال سليمان: ما خرجنا للدنيا، بل لبذل نفوسِنا لله تعالى. وإنما فعل الخَطْمي وابنُ طلحة ذلك خوفًا من ابن زياد أن يفجأهم. ¬

_ (¬1) وقع خرم في (ب) بدءًا من هذا الموضع وحتى ص 373 (أحداث سنة 66 أول ذكر مسير جيش المختار). (¬2) في "تاريخ الطبري" 5/ 587: ولا تستبدُّوا.

ثم أجمع القوم على المسير إلى قتال ابنِ زياد، وكانوا قد انتظروا إخوانهم من أهل البصرة والمدائن، وأبطؤوا عليهم، فقال سليمان: لعلَّ عوَّقهم قلةُ نفقة، أو أمر آخر، فسيروا، فهم يلحقون بنا. فساروا عشيَّة الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخِر سنة خمس وستين، فنزل سليمان دار الأعور (¬1)، وتخلَّف عنه ناسٌ كثير، ثم سار، فنزل أقساس (¬2) -بلد على شاطئ الفرات- لعرض الناس، فسقط منهم نحوٌ من ألف رجل، فقال سليمان: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلا خَبَالًا} لأنَّ الله كره انبعاثهم فثبَّطهم. ثم أدلجوا، فَصَبَّحُوا قبرَ الحسين - عليه السلام -، فلما رأَوْه صاحُوا صيحة عظيمة واحدة، وبكَوْا، فما رُئي باكيًا أكثر من ذلك اليوم (¬3). وقالوا: يا ربَّنا، إنَّا خذلنا ابنَ بنتِ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، فاغفر لنا ذنوبنا، وتُبْ علينا. وتضرَّعوا وبكَوْا. ثم ساروا [و] على الناس أربعة (¬4): سُليمان بن صُرَد، وهو أمير القوم، والمسيَّب بن نَجَبَة الفَزَاري، وعبد الله بنُ سعد الأَزْدي، وعبد الله بن وال التَّيمي، ورِفاعة بن شدَّاد البَجَلي، والأمورُ راجعةٌ إلى ابنِ صُرَد، فأخذُوا على طريق [الحَصَّاصة، ثم على] الأنبار، ثم على صَنْدُودَاء (¬5)، ثم على القَيَّارة، وجعل سليمانُ على مقدمته كُريب بن يزيد (¬6) الحميري. وتَقَدَّمهم عبد الله بنُ عوف الأحمري (¬7) يرتجز، فقال وهو على فرس كُمَيت (¬8): ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 2/ 34، و"تاريخ الطبري" 5/ 589: دير الأعور، وفي "الكامل" 4/ 177: دار الأهواز. (¬2) قرية بالكوفة يقال لها: أقساس مالك، نسبة إلى مالك بن عبد هند. ينظر "معجم البلدان" 1/ 236. (¬3) في "تاريخ الطبري" 5/ 589: فما رئي يومٌ كان أكثر باكيًا منه. وفي "الكامل" 4/ 178: فما رئي أكثر باكيًا من ذلك اليوم. (¬4) بل خمسة، وسلف ذِكرُهم ص 265 (أحداث سنة 64). وزدتُ الواو بين حاصرتين للسياق. (¬5) في (خ): صدوديا. والمثبت من "أنساب الأشراف" 6/ 34. وما بين حاصرتين منه ومن "تاريخ" الطبري 5/ 590، ووقع فيه: الصدود، بدل: صدوداء. (¬6) كذا في "تاريخ الطبري"، وفي "أنساب الأشراف": مرثد. (¬7) في (خ): الأحمشي. وهو خطأ، وهو: عبد الله بن عوف بن الأحمر. (¬8) الكُمَيْت من الخيل: ما كان لونُه بين الأسود والأحمر.

خَرَجْنَ يلمعْنَ بنا أرسالا ... عَوابسًا يَحْمِلْننا أبطالا نريدُ أن نَلْقَى بها الأقتالا (¬1) ... القاسطين الغُدُر الضُلَّالا وقد رَفَضْنا الأهل والأموالا ... والخَفِراتِ البِيضَ والحِجَالا (¬2) نُرْضِي به ذا (¬3) النِّعم المِفْضالا وكان عبد الله الخَطْمي قد كتبَ إلى سليمان والتوابين كتابًا، فلَحِقَهم بالقَيَّارة (¬4)، فقرأه سليمان عليهم، وإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عبد الله بن يزيد إلى سليمان بنِ صُرَد ومن معه من المسلمين، سلامٌ عليك، أما بعد، فإنَّ كتابي إليكم كتابُ ناصحٍ شفيق، وكم من ناصحٍ مُستغشّ، وكم من غاشٍّ ناصح، بلغني أنكم تريدون المسير بالعدد اليسير إلى الجمع الكبير، وإنَّ من أراد أن ينقلَ الجبال عن أماكنها تَكِلُّ مَعاولُه، ويفرَغُ وهو مذمومُ الفعل والعقل، يا قومنا لا تُطمِعُوا عدوَّكم في أهل بلادكم، فإنكم أخيارٌ كلُّكم، وأعلامُ أهل مصركم، ومتى ما يُصيبُكم عدوُّكم أطمعه ذلك فيمن وراءَكم، يا قومنا "إنَّهم إن يَظْهَرُوا عليكم يرجُموكم أو يُعيدوكم في ملتهم ولن تُفلحوا إذًا أبدًا" وإنَّ أيديَنا وأيديَكم واحدة، وعدوَّنا وعدوَّكم واحد، ومتى تجتمعْ كلمتُنا نظهرْ على عدوِّنا، ومتى تختلفْ تَهُنْ شوكتُنا على [مَنْ] خالفَنا، يا قومنا لا تستغشُّوا نُصحي، ولا تُخالفوا أمري، وأقْبِلُوا حين يُقرأ عليكم كتابي، أقبلَ الله بكم إلى طاعته، وأدْبَرَ بكم عن معصيته، والسلام. وقال سليمان لأصحابه: ماذا تَرَوْن؟ قالو! : قد أبَينا هذا عليهم ونحن في مصرنا بين أهلنا، فالآن حين خرجنا ووطَّنَّا أنفُسنا على الجهاد، ودنَونا من أرض عدوّنا! ما هذا برأي، فما تقول أنت؟ فقال سليمان: إنكم لم تكونوا أقربَ من إحدى الحُسْنيَينِ منكم من يومكم هذا للشهادة أو الفتح، ولا أرى أن تنصرفوا عمَّا جعلكم (¬5) الله عليه من ¬

_ (¬1) جمع قِتْل، وهو المِثْل والنظير في قتال وغيره. (¬2) الخَفِرات: جمع خَفِرة، وهي شديدة الحياء، والحِجال جمع حَجَلة، وهي ساتر كالقُبَّة يزيَّن بالثياب والستور للعروس. (¬3) في (خ) (والكلام منها): يرضَى به ذو. والتصويب من "تاريخ الطبري" 5/ 591. (¬4) الذي لحقهم بالقَيَّارة بالكتاب هو المُحِلّ بن خليفة الطائي، كما في المصدر السابق. (¬5) في "تاريخ الطبري" 5/ 592: جمعكم.

الحق، ونحن وهؤلاء مختلفون، لأنهم يدعُوننا إلى الجهاد مع ابن الزبير لو ظهروا، ونحن لا نرى ذلك إلا ضلالًا، وإن نحن ظهرنا رَدَدْنا هذا الأمر إلى أهله، فإن أُصِبْنا فعلى نيَّاتنا، تائبين من ذنوبنا، إنَّ لنا شكلًا ولابن الزبير شكلًا، ونحن وإياه كما قال القائل: أرى لكِ شَكْلًا غيرَ شكلي فأقْصِرِي ... عن اللَّوم إذْ بُدِّلْتِ واختلفَ الشَّكْلُ ثم كتبوا جواب الخَطْمي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، للأمير عبد الله بن يزيد، من سليمان بن صُرَد ومن معه من المؤمنين، سلامٌ عليك، أما بعد، فقد أتانا كتابُك، وعلمنا ما ذكرتَ، فنِعْمَ -واللهِ- الوالي، ونِعْمَ الأميرُ، ونِعْمَ أخو العشيرة، أنتَ -واللهِ- مَنْ نأمنُه بالغيب، ونستنصحه في المشورة، ونشكره على كلّ حال، وقد سمعنا الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 111 - 112}، إنَّ القوم قد استبشروا ببيعتهم التي بايعوه، وتابوا من عظيم ذنبهم، وتوجَّهوا إلى الله، وتوكلوا عليه، ورضُوا بما قضى الله لهم {رَبَّنَا عَلَيكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيكَ أَنَبْنَا وَإِلَيكَ الْمَصِيرُ} والسلام عليك. ولما قرأ الكتاب قال: استمات القوم، واللهِ ليُقتَلُنَّ كرامًا مسلمين، ولا يُقتلون حتى يكثر القتل بينهم (¬1). وساروا، فنزلوا هِيت، ثم ساروا فنزلوا قريبًا من قَرْقِيسيا، وبها زُفَرْ بن الحارث الكلابي قد تحصَّنَ بها، ولم يخرج إليهم، فبعثَ سليمان بن صُرَد المسيِّبَ بنَ نَجَبَة وقال له: ائتِ ابنَ عمِّك هذا، فقل له فليُخْرجْ لنا سُوقًا، فإنَّا لسنا إيَّاه نريد، وإنَّما قصدنا هؤلاء المُحِلِّين. فجاء المسيِّب إلى باب الحصن، فقال: افتحوا، ممَّن تتحصَّنُون؟ فقال له هُذَيل بنُ زُفَر: مَنْ أنت؟ فقال: أنا المسيِّب بن نَجَبَة. فمضَى الهُذَيل إلى أبيه، فقال له: قد جاء إلى الباب المسيِّب، فقال زُفَر: هذا فارس مُضَر الحمراء كلِّها، وهو رجل ناسك له دين. [ائذنْ له]. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ الطبري" 5/ 590 - 593. وما سيرد بين حاصرتين منه.

فأذن له، فدخل، فأجلسه زُفر إلى جانبه، وساءَلَه، فألطفَ له في المسألة، فقال له: ما إياك نُريد، وإنَّما نريد هؤلاء المُحِلِّين، فأَخْرِجْ لنا سُوقًا، فما، نُقيم بساحتك إلا يومًا. فأمر زُفر ابنَه الهُذيل أن يُخرج لهم سوقًا، وأمر للمسيِّب بألف درهم وفرس، فقبلَ الفرسَ، وردَّ الدراهم، وقال: ماخرجنا لهذا، وهذا الفرس أتَقَوَّى به على جهاد الظالمين المُحِلِّين. وبعث لسليمان والمقدَّمين جوائز وطعامًا وعَلَفًا، وشعيرًا كثيرًا، ودقيقًا، فحملوا منه ما أطاقوا. ثم أصبحوا من الغد، فارتحلوا على تعبئة، وخرج زُفَر فشيَّعهم وقال لسليمان بن صُرَد: إنَّ ابن زياد قد بعث إليكم خمسة أمراء قد فَصَلُوا عن الرقَّة، منهم الحُصين بنُ نُمير السَّكوني، وشُرَحْبيل بن ذي الكَلاع، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن مخارق الغَنَوي، وحملة (¬1) بن عبد الله الخثعمي، وقد أَتَوكم [في] مثل الشجر والشَّوْك، واللهِ لقلَّما رأيتُ (¬2) رجالًا أحسنَ هيئة وعُدَّة منهم، وإنِّي أعرضُ عليكم رأيًا لعل اللهَ أن يجعلَ لنا ولكم فيه خيرًا: إنْ شئتُم فتحنا لكم الباب (¬3)، فدخلتُموها، فكان أمرُنا واحدًا، ويدُنا واحدة، وإنْ شئتُم نزلتُم إلى جانب قرقيسيا، وخرجنا فخيَّمْنا إلى جانب خيمكم، فإذا جاءنا العدوّ قاتلناه جميعًا. فقال ابنُ صُرَد: قد أرادَنا أهلُ مِصْرنا على مثل هذا، فأبينا، ولسنا بفاعلين. فقال زفر: فاقْبَلُوا ما أُشيرُ به عليكم، فإني واللهِ للقومِ عدوّ، وأنا لكم محبٌّ، إنَّ الْقومَ لمَّا أقبلوا من الشام نزلُوا الرَّقَّة، وقد رحلوا عنها طالبين عين وَرْدَة (¬4)، فبادِرُوهم إلى عين الوردة، واجعلوا المدينةَ وراء ظهوركم والرُّسْداق والماء والمادة بين أيديكم، وأمَّا من ناحيتي فأنتم آمنون، والله ما رأيتُ جيشًا. أحسنَ منكم، فبادِرُوا واسبِقوهم، وإذا التقيتُم فلا تقفوا لهم ترامونهم وتطاعنونهم، فإنهم أكثرُ منكم، فإن استُهدفتُم لهم لم يلبثوا أن يصرعوكم، وليس معكم رجَّالة، ومعهم الرجَّالة والفُرسان، والرجَّالةُ تحمي ¬

_ (¬1) كذا في "أنساب الأشراف" 6/ 34. وفي "تاريخ الطبري" 5/ 594، و"الكامل" 4/ 180: جبلة. (¬2) في (خ) (والكلام منها): لقد قلت ما رأيت. والمثبت من "تاريخ الطبري"، ولفظة "في" بين حاصرتين منه. (¬3) في "تاريخ االطبري": مدينتنا، بدل: الباب. (¬4) هي رأس عين في الجزيرة (جزيرة الشام). ينظر "معجم البلدان" 4/ 180.

حديث الوقعة

فرسانَها، وأنتُم ليس معكم رجَّالة يحمونكم، فإذا التقيتُم فبُثُّوا المَقَانِبَ (¬1) والكَتائبَ فيما بين ميمنتهم وميسرتهم، فإنْ حمَلَتْ كتيبةٌ ترجَّلَت الكتيبةُ التي إلى جانبها وحَمَتْها، ومتى شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى شاءت شغلت (¬2)، ولا تكونوا صفًّا واحدًا، فإنَّ الرجال إذا حملوا على الصفّ انتقض، ولْتُرْدِفِ الكتائب بعضُها بعضًا. ثم وقف زُفر، فدعا لهم، وسأل اللهَ النُّصرة والمعونة، فدعا له الناس. وقال له ابن صُرَد: نِعْمَ المنزولُ به أنت، أكرمتَ النُّزُل، وأحسنتَ الضيافة، ونصحتَ في المشورة. ثم إنَّ القوم جَدُّوا في المسير، ورتّب ابنُ صُرَد الكتائب كما أمره زُفَر، وساروا على الشَّمْسانيَّة، ثم على السُّكَير (¬3)، حتى أتَوْا عين وَرْدَة، فنزلوها في غربها، وسبقوا القومَ إليها، فعسكروا، وأقاموا خمسًا، وأراحوا خيلهم واستراحوا إلى أن جاء القوم، فكانت الوقعة على عين وَرْدَة. حديث الوقعة وأقام ابنُ صُرَد لمَّا نزل على عين وردة خمسًا، وأقبلت عساكر الشام مع ابن زياد، فأقام ابنُ زياد بالرَّقَّة، وجهَّزَ إليهم الجيوش، فقصدوهم حتى بقي أهل الشام من عين وَرْدَة على يوم وليلة، وكان عُبيد الله بنُ زياد في ثلاثين ألفًا، والتوَّابون في أربعة آلاف (¬4). وعلم سليمان بنُ صُرد، فقام فخطب، وقال في خطبته: أما بعد، فإنَّ الله قد أتاكم بعدوِّكم الذي دأبتُم في السير إليه آناء الليل وأطراف النهار، فإذا لقيتُموهم فاصدُقوهم اللقاء، واصبروا، فإنَّ الله مع الصابرين، وإنكم قد أتيتُموهم في عُقر دارهم، [وما غُزِيَ قومٌ في عُقر دارهم] (¬5) إلا ذَلُّوا، لا تقتلوا مدبرًا، ولا تُجهزُوا على جريح، ولا تُوَلُّوهم الأدبار. هذه سيرةُ أمير المؤمنين علي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) المقانب: جمع مِقْنَب، وهي جماعة من الفرسان والخيل دون المئة تجتمع للغارة. المعجم الوسيط". (¬2) يقارن بما في "تاريخ الطبري" 5/ 595. (¬3) الشمسانية والسُّكَير: بُلَيدتان على الخابور. ينظر"معجم البلدان" 3/ 231 و 362. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 6/ 34. (¬4) ينظر ما سلف ص 314 عن عدد التوَّابين، وجاء بعده في (خ) (والكلام منها): وعين وردة! (¬5) ما بين حاصرتين من عندي لضرورة السياق.

ثم قال: فإنْ أنا قُتلتُ، فأميرُ الناس المسيِّب بن نَجَبَة، فإنْ أُصيب المسيِّب، فعبدُ الله بنُ سعد بنِ نُفيل، فإنْ أُصيب؛ فعبدُ الله بن وال، فإن أصيب، فرِفاعة بن شدَّاد. ثم بعث المسيّبَ بنَ نجَبة في خمس مئة (¬1) فارس، وقال: سِرْ حتى تلقى أوائلَ عسكرهم، فشُنَّ عليهم الغارة، فإنْ رأيتَ ما تُحبُّ؛ وإلَّا فعُدْ إلينا. فسار نحو القوم، فلقُوا راعيًا من الأعراب يطرُدُ أحمرةً ويقول: يا مالِ لا تَعْجَلْ إلى صحبي ... واسْرَحْ فإنك آمنُ السِّرْبِ فاستبشرَ بقوله، وساروا، فوقعوا على عسكر ذي كَلاع وهم غارُّون (¬2)، فحملوا عليهم، فانهزموا، وتركوا عسكرَهم وما فيه، فحازه المسيّب وقال: الرَّجْعة، فإنكم قد غنمتُم وسلمتُم. فعادوا إلى أصحابهم، وبلغ عُبيدَ الله بنَ زياد، فسرَّح إليهم الحُصينَ بنَ نُمير السَّكوني في اثنَيْ عشرَ ألفًا، فجاء إلى عين وَرْدَة يوم الأربعاء لثمان ليال بقين من جمادى الأولى، وجعل ابنُ صُرَد على ميمنته عبدَ الله بنَ سعد بنِ نُفيل، وعلى ميسرته المسيّب بن نَجَبَة، ووقفَ سليمان في القلب، وجعلَ الحُصين على ميمنته حملة (¬3) بن عبد الله، وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغَنَويَّ، فنادَوْا: ادْخُلوا في طاعة أمير المؤمنين، وقال التَّوابون: ادفعوا إلينا عُبيدَ الله بنَ زياد لنقتلَه ببعض قَتَلَةِ الحسين (¬4)، ثم نردَّ هذا الأمر في بيت نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -. فأبَوْا عليهم، والتقَوْا واقتتلُوا، وكان الظَّفَرُ للتوَّابين. فلما كان من الغد قدم عليهم من ذي الكَلاع ثمانيةُ الاف؛ أمدَّهم به ابنُ زياد، فاقتتلُوا اليوم الثاني إلى الليل، وكثُرت الجِراح في الفريقين. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 6/ 35، و"تاريخ الطبري" 5/ 596 و"الكامل" 4/ 181: أربع مئة. (¬2) أي: غافلون، جمع غارّ. (¬3) في "تاريخ الطبري" 5/ 598: جَبلَة، وفي "الكامل" 4/ 182: جملة. (¬4) ودعَوْهم أيضًا -كما في "تاريخ الطبري" 5/ 598 - إلى أن يخلعوا عبدَ الملك بنَ مروان، وأن يُخرَج مَنْ ببلادهم من آل ابن الزبير. وبنحوه في "أنساب الأشراف" 6/ 35، و"الكامل" 4/ 182.

فلما كان اليوم الثالث -وهو يوم الجمعة- اقتتلوا قتالًا عظيمًا، وأحاط بهم أهلُ الشام من كلِّ جانب فترجَّل سليمانُ، وكسَرَ جَفْن سيفِه ونادى: يا عبادَ الله، من أراد الرَّوَاح إلى ربِّه والتوبةَ من ذنبه والوفاءَ بعهده؛ فليأْتِ إليّ. فترجَّل معه ناس، وكسروا جُفُون سيوفهم، وحملوا حتى صاروا في وسط القوم، وقتلُوا من أهل الشام مقتلَةً عظيمة، ورأى الحُصين سليمان فعرفَه، فرماه بسهم، فوقع في نحره (¬1)، فقال: فُزْتُ وربِّ الكعبة. وأخذ الرايةَ المسيّبُ بنُ نَجَبَة، وحملَ فأبلى بلاءً حسنًا، فقُتل، فأخذها عبد الله بنُ سعد وقال: رحم الله أخويَّ {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الآية [الأحزاب: 23] ثم قُتل، فأخذَها عبدُ الله بنُ وال، فقُتل وهو يقول. {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [آل عمران: 169] (¬2). وجاء الليل، ولم يبق من الأمراء إلا رِفاعة بن شدَّاد البَجَلي، فسار بمن بقي من الناس في الليل، فقطع الخابور، ومرُّوا قريبًا من قرقيسيا، فبعث إليهم زُفَر الطعامَ والعلفَ والأطبَّاء، وقال: أقيموا عندنا ما أحببتُم، فلكم الكرامة والمواساة، فأقاموا ثلاثًا، ثم تزوَّدوا وساروا، وكان أهل البصرة وأهل المدائن قد ساروا خلفهم، فلما انتهوا إلى هِيت؛ بلغهم خبرُ الوقعة، فعادُوا. ولما وصل القوم إلى الكوفة؛ وجدوا المختار محبوسًا (¬3). وبعث ابنُ زياد برأس ابن صُرَد وابن نَجَبَة إلى مروان، فصمعد المنبر وقال: قد أهلك الله رؤوس الضلالة سليمان وأصحابه. وعدَّهم (¬4). ولما قدم التوَّابون الكوفة كتب إليهم المختار من الحبس: مرحبًا بالعَصَب الذين أعظم الله لهم الأجر، ورضيَ عنهم، أما وربِّ البَنِيَّةِ التي بنى ما خطا أحدٌ منكم ¬

_ (¬1) جاء في المصادر أن الذي رماه بسهم فقتله هو يزيد بن الحُصين. ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 35، و"تاريخ" الطبري 5/ 599، و"مروج الذهب" 5/ 216 - 217، و"الكامل" 4/ 183. (¬2) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 602. (¬3) المصدر السابق 5/ 605. (¬4) المصدر السابق.

خُطوة، ولا رتا رَتْوةً (¬1) إلا كان ثواب الله له أعظمَ من الدنيا وما فيها، إنَّ سليمان بن صُرَد قضى ما عليه، وتوفَّاه الله، فجعل رُوحه مع أرواح النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تُنصرون، وإنما أنا الأميرُ المأمون، قاتلُ الجبَّارين المُحِلِّين، والمُقِيدُ من الأوتار، فأَعِدُّوا واستعدُّوا، وأبشروا واستبشروا، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنةِ رسولِه، والطلبِ بدماء أهل البيت، والدفعِ عن المساكين، ورَدْعِ الظالمين (¬2). وفيها عقدَ مروان البيعة لابنيه عبدِ الملك وعبدِ العزيز، وكان مروان حين بُويع بالخلافة عهد إلى خالد بن يزيد بعده، ثم إلى عمرو بن سعيد بن العاص، فلما فتح مصر عهد إلى ابنه عبد العزيز، فعزَّ ذلك علي بني أمية وآل حرب وقالوا: غَدَرَ وكذَب. وعزموا على خلعه، فعهد إلى عبد الملك وولَّاه فلسطين، وعهد بعهده إلى عبد العزيز، وولَّاه مصر. وفيها سار مروان إلى مصر، فافتتحَها، وكان على مصر عبد الرحمن بن عُتبة بن أبي إياس بن جَحْدم، فخرج مروان من دمشق، واستخلف عليها ولدَه عبد الملك. ولما مرَّ مروان بفلسطين -وقيل: بِرَفَح- كان بها أهلُ السائب بن هشام العامري (¬3)، وكان السائب مقيمًا بمصر عند [ابن] جَحْدم، [وعند] وصول مروان إلى الساحل (¬4) جهَّز إليه السائبَ في ثلاثة آلاف فارس، وكان مروان لما مرَّ بأهل السائب قال له رَوْح بن زِنْباع: خذ ابنَي السائب معك رهينة. فأخذَهما، وسارَ مروان إلى مصر، فالتقَوْا دون الفسطاط، فأخرج مروان ابنَي السائب بين الصفَّين، ونادى منادي مروان: إنْ لم يرجع السائب عن قتالنا وإلا قتلناهما. فرجع السائب إلى الفسطاط، فبعث إليه ابنُ جَحْدم جيوشًا ومروان يهزمُها، فصالحه ابنُ جَحْدم على أن يخرج إلى مكة بماله وأهله، فأجابه مروان، وخرج إلى ابنِ الزبير إلى مكة (¬5). ¬

_ (¬1) بمعنى ما قبلها، أي: خطا خطوة. (¬2) ينظر "تاريخ" الطبري 5/ 606. (¬3) في (خ) (والكلام منها فقط): العدوي، وهو خطأ .. وينظر "أنساب الأشراف" 5/ 319. (¬4) كذا في (خ). وزدتُ ما بين حاصرتين لضرورة السياق. (¬5) ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 318 - 319.

وقيل: إن مروان قتلَ ابنَ جحدم في هذه السنة، واستخلفَ عبدَ العزيز على مصر (¬1). وعاد مروان إلى الشام، وقال لعبد العزيز: يا بُنيّ، أَرْسِلْ حكيمًا ولا تُوصِهِ، وإن كان عليك حقٌّ غُدوةً فلا تؤخِّرْه إلى عشيَّة، وعلى العكس، وإيَّاك أن يظهر منك كذبٌ لرعيَّتك، فإنه إن ظهر لهم منك ذلك في الباطل لم يصدِّقُوك في الحقّ، واستشر جلساءك [وأهل العلم، وقرِّب أهل الحَسَب والدين والمروءة، وليكونوا جلساءك]، ثم اعرف لهم منازلهم، وإن غضبتَ على أحد من رعيَّتك، فلا تُعاقبه حتى يسكنَ غضبُك، ولا تؤاخذه عند سَوْرَة الغضب. أقول قولي هذا وأستخلفُ اللهَ عليك (¬2). ذكر يوم الرَّبَذَة: [قال علماء السِّيَر: ] ولما عاد مروان من مصر جهَّزَ جيشًا إلى ابن الزُّبير مع حُبَيش بن دُلَجَة في ستَة آلاف وأربعِ مئة؛ فيهم يوسف بن الحَكَم الثقفي، ومعه ابنُه الحجَّاج [بن يوسف]، وكان جابر بن الأسود بن عوف عامل ابن الزبير على المدينة، فهرب إلى مكة. وجهَّز إليهم عبد الله بن الزُّبير جيشًا من الحجاز، وكتب إلى البصرة يطلب الجيوش، وكان على البصرة الحارث بن [عبد الله بن أبي ربيعة، ويقال له: القُباع، وكان ابن الزبير قد ولّى] (¬3) عبدَ الله بنَ مطيع الكوفة. فجهَّزَ الحارثُ الحَنْتَفَ (¬4) بنَ سِجْف التميميّ على جيش البصرة، واجتمعوا بجيش الكوفة، وساروا في خمسة آلاف. وكان حُبَيش بن دُلَجَة لما أتى المدينة؛ نزل عسكرُه بالجُرْف، ودخل هو المدينة، فنزل بدار مروان، وهي دار الإمارة، واستعمل على سوق المدينة رجلًا من مزينة يُدعى مالكًا. ¬

_ (¬1) من قوله: وكان على مصر عبد الرحمن بن عتبة ... إلى هذا الموضع، وقع بدلًا منه في (م) ما صورتُه: "وقال الواقدي: كان ذلك سنة أربع وستين، وقال هشام: في سنة خمس وستين، وقد ذكرنا أن عبد العزيز وليَ مصر، وجعله مروان وليَّ عهده". (¬2) العقد الفريد 1/ 42، والتذكرة الحمدونية 3/ 332 - 333. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬3) ما بين حاصرتين من (م)، ووقع فيها: بن ربيعة، وهو خطأ. (¬4) في (م): الحنيف (وكذا في المواضع الآتية). ولم تجوّد في (خ). والصواب ما أثبتُّه. وينظر "الإكمال" 2/ 560، و"توضيح المشتبه" 3/ 375.

وأخاف حُبيشٌ أهلَ المدينة، وآذاهم وقال لهم: يا أهل النِّفاق والشِّقاق. [وقال أبو اليقظان: ] وصعد منبرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلَ يأكل التمر على المنبر، ويرميهم بالنَّوَى ويقول: إن هذا ليس بموضع الأكل، ولكني أردتُ أن أعرِّفكم هوانَكم عليَّ. ألستُم خذلتُم أمير المؤمنين [عثمان] وفعلتُم وفعلتُم؟ وإنَّ لكم يومًا كيوم الحَرَّة (¬1). وأساء السيرة، وأفسد أصحابُه فيها، وأخرجوا الناس من منازلهم. [قال ابن سعد: ووصل الحَنْتَفُ في ذلك الحال ومعه جيوش العراق كما ذكرنا] (¬2). [وقال هشام: ] ولما وصل حُبيش إلى المدينة التقاه جيشُ ابنِ الزُّبير، فاقتتلوا، فكانت في أوَّل النهار على أهل الشام، ثم صارت في آخره على أهل الحجاز، فانهزموا، ودخل حُبيش المدينة، وفعل ما فعل، فبينا هو كذلك إذ أقبل الحَنْتَفُ في جيوش أهل العراق، وانضاف إليه مَنْ هربَ من جيش الحجاز، فخرج إليهم حُبَيش، وخلَّف بالمدينة بعضَ أصحابه خوفًا من مَدَد ابنِ الزبير أن يصل إليها، وكمن له الحَنْتَفُ بالرَّبَذَة. ولما وصلَ إليها لم يشعر إلا بالكمين من كل ناحية، فأخذتهم الرِّماح والسيوف، وقتلوا أهلَ الشام قتلًا ذريعًا، وقُتل حُبَيش بنُ دُلَجَة، وأُسِرَ من أهل الشام خمسُ مئة (¬3). وهرب يوسف ومعه ابنه الحجَّاج؛ أردفَه خلفَه، فكان الحجَّاج يقول: ما أقبحَ الهزيمة! لقد لقينا يوم الرَّبَذَة ما لا يُوصف. [قلت: ] وكان الحجَّاج يُعيَّر بذلك اليوم؛ ولَّى الحجاجُ خالدَ بنَ عتَّابِ بنِ ورقاء التميميّ -وكنيتُه أبو سليمان- الرَّيّ، وكانت أمُّه أمَّ ولد، وكان خالد قد حلف لا يسبُّ أمَّه أحدٌ إلا سبَّ أباه (¬4) كائنًا من كان، فكتب إليه الحجَّاجُ يَلْخَنُ أمَّه (¬5) ويقول له: أنتَ ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 322 - 324، و"تاريخ دمشق" 4/ 195 (مصورة دار البشير). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) ولم أقف عليه في طبقات" ابن سعد. (¬3) ينظر المصدران السابقان، و"تاريخ" الطبري 5/ 611 - 612. (¬4) في (خ) (والكلام منها فقط): أبيه. وأثبتُّ اللفظة على الجادة. (¬5) أي قال له: يا ابن اللَّخناء، من اللَّخَن، وهو نتن الرِّيح عامَّة، وتقال في السّبّ. يقال: لَخِنَ الرجلُ ولَخِنَت المرأة، أي: أنتنت أرفاغُهما (مواضع اجتماع الوسخ من البدن).

هربتَ عن أبيك حتى قُتل [فكتب إليه خالد: كتبتَ تَلْخَنُني، وتزعم أنني فررتُ عن أبي حتى قُتل] (¬1)، ولَعَمْرِي إنني ما ذهلتُ عنه إلا بعد ما قُتل، ولم أجد لي مساعدًا، وأمَّا أنتَ يا ابنَ اللَّخناء المستفرمة بعَجَم الزَّبِيب؛ أخبِرْني عنك حين مررتَ أنتَ وأبوك يومَ الرَّبَذَة على جمل ثَفَال (¬2)؛ أيُّكما كان أمام صاحِبه؟ ! فقرأ الحجاج كتابه وقال: صدق: أنا الذي فَرَرْتُ يومَ الحَرَّهْ ... [ثم ثَبَتُّ كَرَّةً بِفَرَّهْ] والشيخُ لا يفرُّ إلا مَرَّهْ ثم طلبه، فهربَ إلى الشام، ولم يأخذ من بيت المال درهمًا. وكتب الحجَّاج إلى عبد الملك [بما كان منه. وقدم خالد الشام، فسأل عن وزير عبد الملك]، فقيل: رَوْحُ بن زِنْباع. فأتاه حين طلعت الشمس، فقال: إني أتيتُك مستجيرًا. قال: قد أجرتُك، إلا أن تكون خالدًا. قال: فأنا خالد. فتغيَّر وجهُ رَوْح وقال: أَنْشُدك الله إلا خرجتَ عنّي، فإنّي أخافُ عبدَ الملك. فقال: أَنْظِرني حتى تغرب الشمس. فجعل رَوْح يُراعيها حتى خرج خالد، فأتى زُفَر بنَ الحارث، فاستجارَ به، فأجارَه، ودخل على عبد الملك بعد ما أَسَنَّ زُفَر، فقال: قد أجرتُ خالدًا فقال: لا ولا كرامة. فقال: يا عبد الملك لو كنتَ تعلمُ أنَّ يدي تُطيق حَمْلَ القناة، وأن تُمسك عِنانَ الجَواد؛ لأَجَرْتَ من أجرتُ. فضحك عبدُ الملك وقال: قد أجرناه. وأُتيَ عَتَّاب بن ورقاء بامرأةٍ من الخوارج، فقال لها: يا عدوَّة الله، ما الذي حَمَلَكِ على الخروج علينا؟ أما سمعتِ قول الله تعالى: كُتبَ القتلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانيات جَرُّ الذُّيُولِ فقالت: يا عدوَّ الله، جهلُكَ بكتاب الله هو الذي أخرجني عليك (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "تاريخ دمشق" 5/ 508 (مصورة دار البشير- ترجمة خالد بن عتاب). (¬2) الثَّفال من الدوابّ: البطيء الثقيل الذي لا ينبعث إلا كرهًا. (¬3) ينظر هذا الخبر والذي قبله في "تاريخ دمشق" 5/ 507 - 508 أو "مختصره" 7/ 388 - 389، والكلام المستدرك بين حاصرتين منهما.

ثم قدم الحَنْتَف المدينة، وتلقَّاه أهلُها، وفرحوا به [وقالوا: ما أنت إلا الحتف، لا الحَنْتَف] (¬1). وبعث ابنُ الزبير أخاه مصعبًا، فضرب رقابَ الأُسارى في مصارع شهداء الحَرَّة، فيُقال: أصحاب حُبَيش زادوا على قتلى الحَرَّة. وجعل الحنتفُ يضربُ أعناقهم ويقول: يا لَثَارات أهل الحَرَّة. وقال الحَنْتَف: مَنْ أتاني بيوسف الثقفيّ وابنهِ الحجَّاج، فله ما أراد. فسارت الخيلُ في آثارهما، فلم تدركهما. ودعا أهلُ المدينة؛ الرجالُ والنساءُ والصبيان للحَنْتَف وقالوا: شفيتَ الصدور. وسار الحَنْتَف إلى مكة (¬2). وقيل: إن الذي قتل حُبَيش بن دُلَجَة يزيدُ بن سِيَاه [الأسواري؛ رماه بنُشَّابة فقتله، فلما دخلوا المدينة؛ وقف يزيد بن سِياه] على بِرْذَوْن أشهب، وعليه ثياب بياض، فاسودَّ البِرْذَوْن والثياب ممَّا طرح عليه الناس من الطِّيب، ومسحُوا بأيديهم (¬3). وفيها قُتل نافع بنُ الأزرق الخارجيّ، وكانت شوكةُ الخوارج قد اشتدَّت (¬4) لأنه كان قد وقع الخلاف بين الأزد وتميم والقبائل بسبب قتل مسعود بن عمرو، فقصد نافع البصرة، فلم يظفر منها بشيء، فسار إلى الأهواز، فأرسل إليه أهل البصرة مسلمَ بنَ عبيس، فالتقوا بمكان يقال له: دَوْلَاب (¬5)، فاقتتلوا قتالًا لم يُرَ مثلُه، فقُتلَ مسلمُ بنُ عبيس [و] نافعُ بنُ الأزرق، فأمَّرت الخوارجُ عليهم عبد الله بنَ الماحوز، وأمَّر أهلُ البصرة عليهم الحجَّاج بن باب الحميري، فأقاموا أيامًا يقتتلون، وجاءت الخوارجَ نجدةٌ، فانهزمَ أهلُ البصرة بعد قتالٍ شديد، وجاء الفَلُّ (¬6) إلى البصرة، فخاف أهلُها. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 326. وما بين حاصرتين من (م). (¬2) ينظر المصدر السابق 5/ 326 - 327، و"تاريخ الطبري" 5/ 612. (¬3) تاريخ الطبري، وما بين حاصرتين منه. (¬4) اقتصر كلام هذه الفقرة في (م) على لفظ: وفيها قُتل نافع بن الأزرق الخارجي، وكان شوكةَ الخوارج، وكانوا قد اشتدُّوا بالبصرة، وكان قد قتل بمكان يقال له: دولاب. (¬5) يطلق هذا الاسم على أكثر من موضع، والمراد به هنا قرية بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ. ذكره ياقوت في "معجم البلدان" 2/ 485، وذكر أن المحدثين يقولون: دُولاب، بضم الدال، وقال: وقد رُوي بالفتح. (¬6) أي المنهزمون (وتقال هذه اللفظة للواحد والجمع). (وزدتُ الواو السالفة بين حاصرتين لضرورة السياق).

ثم قصدت الخوارجُ البصرة، فبينما هم كذلك؛ إذ قدم المهلَّب بنُ أبي صُفْرة من عند عبد الله بنِ الزُّبير بعهده على خُراسان، فقال الأحنفُ بنُ قيس للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: واللهِ ما لهم غيرُ المهلَّب. فكلَّموه في ذلك، فقال: هذا عهدُ ابنِ الزُّبير معي على خُراسان، ولم أكن لأَدعَ أمرَه. فاتَّفق الأحنفُ والحارثُ والأشرافُ على أن يفتعلوا كتابًا على لسانِ ابنِ الزُّبير يأمرُه فيه بقتال الخوارج. فكتبوه، وفيه: أمَّا بعد، فإن الحارثَ بن عبد الله كتب إليَّ يُخبرُني أنَّ الأزارقة أصابُوا جندًا من المسلمين، وأنهم قد أقبلوا نحو البصرة، وكنتُ قد وجَّهْتك إلى خُراسان وكتبتُ عهدك، وقد رأيتُ أن تتولَّى قتال الخوارج، فإنَّ الأجر فيه أعظمُ من مسيرك إلى خراسان. فلما قرأ المهلَّب الكتاب قال: واللهِ لا أسيرُ إليهم حتى تجعلُوا لي ما غلبتُ عليه، وتُقوُّوني من بيت المال، وأنتخبُ من فرسانكم ووجوهِكم مَنْ شئتُ. فأجابُوه إلا طائفة من بكر بن وائل ومالك بن مسمع، فحقَدَها عليهم المهلَّب. وسار إلى الخوارج، فخندَقَ عليه واحترزَ، فلم يظفروا منه بشيء، فكانَ أشدَّ عليهم من جميع مَنْ قاتلَهم، ولم يزل يقاتلُهم ويظهرُ عليهم حتى انهزموا مقتولين مسلوبين إلى أرض كَرْمان، ونواحي أصبهان (¬1). وأقام المهلَّب بالأهواز حتى عُزل الحارثُ بنُ عبد الله -المعروف بالقُبَاع- عن البصرة، وجاء مصعبُ بنُ الزبير عاملًا عليها، وبلغَ ابنَ الزُّبير أنَّ أهل البصرة افتعلوا ذلك الكتاب، فلم يقل شيئًا، وسُرَّ بقتل الخوارج وهزيمتهم إلى كَرْمان، وكتبَ إلى المهلَّب فشكره. ولما هزم المهلَّبُ الأزارقة كتب إلى الحارث كتابًا يخبره فيه بما جرى، وبدأ باسم الحارث، فقال: للأمير الحارث من المهلَّب. ¬

_ (¬1) ينظر الخبر مفصلًا في "أنساب الأشراف" 6/ 252 - 270، و"تاريخ" الطبري 5/ 613 - 619.

فكتب إليه القُباع: أمَّا بعد، فقد وصلَني كتابُك يا أخا الأزد تذكرُ فيه نصر الله إيَّاك وظَفَرك بالقوم، فهنيئًا لك يا أخا الأزد بشرف الدنيا وعزِّها وثواب الآخرة، والسلام عليك. فلما قرأ المهلَّب كتابَه ضحك ثم قال: أتُراه ما يعرفني إلا بأخي الأزد؟ ما أهل مكة إلا أعراب (¬1)! وكان الوقعة بينهم بمكان يقال له: سِلَّى وسِلِّبْرَى (¬2) في ثلاثين ألفًا، والخوارج في اثني عشر ألفًا، فقتل من الخوارج تسعة آلاف (¬3)، وانهزم الباقون. وفيها ولَّى مروان ابنَه محمدًا الجزيرة (¬4). وفيها عزل عبد الله بنُ الزبير عبدَ الله بن يزيد الخَطْميّ عن الكوفة، وولَّاها أخاه مصعبًا. وكان سببُ عزله أنَّه خطبَ الناس، فقال: قد رأيتُم ما صنع اللهُ بقوم ثمود في ناقة (¬5) قيمتُها خمس مئة درهم. فسمِّي مقوِّمَ الناقة. وبلغ ابنَ الزبير، فقال: إنَّ هذا لهو التكلُّف. وفيها خالفَ مَنْ كان بخُراسان من بني تميم عبدَ الله بنَ خازم. وسببُه أن بني تميم أعانوه على من كان بها من ربيعة حتى صفت له خُراسان، فجفاهم بعد ذلك، فحاربوه، وجرت بينهم حروبٌ كثيرة (¬6). وفيها مات مروان بن الحكم، وولِيَ ابنُه عبدُ الملك (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 5/ 620. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 269. (¬2) لم تجوّد اللفظتان في (خ) (والكلام منها): وهما معًا لموضع واحد من نواحي خوزستان قرب جنديسابور، وهي مَنَاذر الصغرى، ذكرها ياقوت في "معجمه" 3/ 232، وذكر فيها الوقعة بين الخوارج والمهلّب. (¬3) في "تاريخ" الطبري 5/ 622، و"معجم البلدان" 3/ 232: سبعة آلاف. (¬4) تاريخ الطبري 5/ 622. (¬5) كذا في (خ) (والكلام منها)، وثمود قوم صالح، وعبارة الطبري (والكلام فيه) 5/ 622: بقومٍ في ناقة. (¬6) تاريخ الطبري 5/ 623. (¬7) المنتظم 6/ 38. وينظر خبر تولية مروان لابنه عبد الملك في "تاريخ" الطبري 5/ 610.

الباب الخامس في ولاية عبد الملك

الباب الخامس في ولايةِ عبد الملك وكنيتُه أبو الوليد، وأبو مروان (¬1)، وكان يُلَقَّبُ بِرَشْحِ الحَجَر؛ لبُخله (¬2)، وأبا الذِّبَّان؛ لِبَخَرِه (¬3)، فإنه لم يكن أحد يستطيع أن يدنوَ منه حتى يجعلَ على فيه منديلًا. [وحكى ابنُ عساكر عن مصعب الزُّهري قال: سمَّى مروانُ ابنَه عبدَ الملك القاسمَ، وكان يُكنى به، فلما بلغه النهي؛ حوَّل اسمه، فسمَّاه عبدَ الملك، وكنَّاه أبا الوليد. قال: هو أوَّلُ من سَمَّى في الإسلام عبدَ الملك] (¬4). وأمُّه عائشة بنت معاوية بن المغيرة (¬5) بن أبي العاص بن أمية [بن عبد شمس]. ومعاوية هذا هو الذي جَدعَ أنفَ حمزة - رضي الله عنه -[يومَ أُحُد وهو قتيل] (¬6). وُلد عبد الملك سنة ثلاث وعشرين، وقيل: سنة ستّ وعشرين، ووُلدَ لستة أشهر، وقيل: لسبعة، وقيل: لأربعة. ولما وَليَ الخلافة دخل عليه عُبيد الله بن ظَبْيان، فقال له عبد الملك (¬7): ما هذا الذي يقول الناس فيك؟ قال: وما يقولون؟ [قال: يقولون: ] إنك لا تشبه أباك. فقال عُبيد الله: [واللهِ لَأَنا أشبهُ به من الماء بالماء، والغراب بالغراب، ولكنْ أَدُلُّك على مَنْ لم يُشبه أباه. قال: مَنْ هو؟ قال: ] مَنْ لم تُنْضِجْه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه ¬

_ (¬1) في (م): قال علماء السير ممن سمّينا: كان يكنى أبا الوليد وقيل: أبو مروان. (¬2) لأن الحجر لا يرشحُ الماء إلا نادرًا. (¬3) البَخَر -بالتحريك- النَّتن في الفم وغيره. (¬4) ينظر "تاريخ دمشق" 43/ 242 (طبعة مجمع دمشق) والكلام بين حاصرتين من (م). (¬5) في (م): معاوية بن حُديج بن المغيرة. وهو خطأ. وينظر: طبقات ابن سعد 7/ 221، ونسب قريش ص 160، وتاريخ دمشق 43/ 242 و 245 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) ما بين حاصرتين من "أنساب الأشراف" 1/ 401. وقوله: ومعاوية هو الذي جدع ... إلخ تحرَّف في (م) إلى قوله: وقيل: إن معاوية هو حُديج. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 6/ 300. (¬7) في (خ) (والكلام منها): دخل عليه عَبْد الله بن ظبيان، فقال له عبد الله. وهو خطأ. وعُبيد الله بن ظبيان هو عُبيد الله بن زياد بن ظبيان.

الأخوال والأعمام. وعنى به عبدَ الملك. فقال عبد الملك: ومَنْ ذاك؟ قال عُبيد الله: ابنُ عمّي سُويد بن منجوف. فسكتَ عبدُ الملك (¬1). [ذكر بيعته وما يتعلق بها قال علماء السِّير: ] وبويع أول يوم من رمضان عند وفاة أبيه بعهدٍ منه (¬2). [وقال ابن عائشة: ] ولم يكن بالمدينة شابٌّ أورعَ منه، ولا أنسك ولا أفقه ولا أكثر صلاةً وعبادة، وكان يسمَّى حمامةَ المسجد (¬3). وجاءَتْه الخلافةُ والمصحفُ في حِجْره، فأطبقه وقال: هذا فراقُ بيني وبينِك، هذا آخِرُ العهد بك (¬4). [وقال عمر بن شبَّة: ] جهَّز يزيد بن معاوية جيشًا لقتال ابن الزُّبير إلى مكة، فنفضَ عبدُ الملك ثوبَه واستعاذ بالله ثلاثًا، وقال: أتبعثُ جيشًا إلى حرم الله يُقاتلُ ابن حواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! فضرب يوسف اليهوديُّ صدرَه وقال: لِمَ نَفَضْتَ ثوبَك؟ ! الجيشُ الذي تُسيِّرُهُ أنتَ أعظم (¬5)! ووقع من عبد الملك فَلْس في بئر الحُشّ (¬6) قبل أن يليَ الخلافة، فاكترى مَنْ أخرجه بثلاثة عشر دينارًا، فقيل له في ذلك، فقال: كان عليه اسم الله تعالى. وقد كان أسرع إليه الشيب، فقيل له في ذلك، فقال: وكيف لا يُسرع [إليَّ] الشيبُ وأنا أعرضُ عقلي على الناس في كل جمعة. يعني الخطبة (¬7). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 6/ 317، والعقد الفريد 4/ 31 - 32 (وما بين حاصرتين منه). وينظر "مجمع الأمثال" 1/ 386، و"المستقصى في أمثال العرب" 1/ 188، و"تاريخ دمشق" 67/ 357 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة مصعب بن الزبير). (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 223، وأنساب الأشراف 6/ 300، ومروج الذهب 5/ 209، وتاريخ دمشق 43/ 256 و 257 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة عبد الملك). وما سلف وسيرد بين حاصرتين من (م). (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 308، و"المنتظم" 6/ 39. (¬4) ينظر "تاريخ بغداد" 12/ 127 - 129، و "تاريخ دمشق" 43/ 247، 248 و 256 (الطبعة المذكورة). (¬5) تاريخ دمشق 43/ 255. (¬6) أي: الكنيف. وفي (م): الحشى. والخبر في "تاريخ دمشق" 43/ 267 وفيه: في بئر قذرة. (¬7) المصدر السابق 43/ 266.

وكان معاوية جعله على ديوان المدينة مكان زيد بنَ ثابت وهو ابن ستَّ عشرةَ سنة (¬1). وكان له يوم حُصر عثمان - رضي الله عنه - ثلاث عشرة سنة، وقيل: عشر سنين. [وقال أبو اليقظان: ] وكان عبد الملك حازمًا فهمًا فطنًا ممارسًا للأمور، لا يكل أمره إلى غيره (¬2). قال مالك بن عُمارة بن عقيل: كنت أجالس عبدَ الملك بن مروان بفِناء الكعبة وهو صبيّ، فقال لي يومًا: يا مالك، إنْ عشت، فسترى الأعناقَ إليَّ مائلةً، والآمال نحوي سامية، فإذا كان ذلك، فما عليك أن تجعلني لرجائك بابًا، ولأمَلِك سببًا؟ فوالله لأملأنَّ يديك مني عطيَّة، ولأكسونَّك مني نعمة. ومضى على هذا دهر، فلمَّا أفضت الخلافةُ إليه؛ رجعت من مكة إلى دمشق، فأقمتُ ببابه أسبوعًا لم أصل إليه، فلما كان يومُ جمعة؛ خرج إلى المسجد، فخطبَ، فأقبلتُ عليه بوجهي، فأعرض عنّي، أفعلُ ذلك مرارًا، فعزَّ عليَّ، فلما انصرفَ من صلاته إذا برجل قد دخلَ المسجد فقال: أين مالك بنُ عُمارة؟ قلت: ها أنا ذا. فقال: أجِبْ أميرَ المؤمنين. فدخلتُ وسلَّمتُ عليه، فردَّ، وأدناني حتى أجلسني معه على سريره، ثم سألني عن أهل مكة، وعن أهلي، ثم قال: لعلك ساءك ما رأيتَ منّي؟ قلت: نعم. قال: لا يَسُوءُك، فإنَّ ذلك مقامٌ لا يُسمع فيه إلا ما رأيتَ، وههنا قضاء حقِّك. ثم أمر، فأُخْلِيَ لي منزلٌ إلى جانب قصره، وأُقيم لي فيه جميعُ ما أَحتاجُ إليه، وكنتُ أحضرُ عنده غداءه وعشاءه، فمللتُ من المقام، وتبيَّن فيَّ ذلك، فقال: لعلك اشتَقْتَ إلى أهلك؟ قلت: نعم، فقد وغرتُ (¬3) عليهم الأوبة. فقال: يا غلام، عليَّ بعشر بِدَر، ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 6/ 301، والمعارف ص 355. (¬2) ينظر "البداية والنهاية" 12/ 381 - 382. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬3) كذا في (خ) (والكلام منها): ولعلها: وعَرْتُ، أي: حبستُ. وفي أصول "تاريخ دمشق" 66/ 133 (كما في حاشيته - طبعة مجمع دمشق - ترجمة مالك بن عمارة): وعدت إليهم.

وعشرة أسفاط من دقّ مصر (¬1)، وعشرة غلمان، وعشر جَوارٍ، وعشرة أفراس، وعشرة أبغل، وعشر نُوق. فأُحْضرَ الجميع، فقال: يا مالك، أتَراني وفَّيتُ لك؟ فقال: وإنك ذاكرٌ ذلك؟ ! فقال: وما خيرٌ فيمن لا يذكرُ ما وعدَه، وينسى (¬2) ما أوعدَ به، واللهِ لم يكن ذلك لشيءٍ رويناه، ولا خَبَرٍ سمعناه (¬3)، ولكنّي تخلَّقتُ به في الصِّبا، فكنتُ لا أُسَاري ولا أُماري، ولا هتكتُ سترًا حظره الله عليّ، وكنتُ أعرِفُ للأديب حقَّه، وأُكرمُ العالِم لعلمه، فرفع اللهُ درجتي، وأرجو أن يُلحقَني بالصالحين، فإنْ أقمتَ عندنا؛ فبالرُّحْب والسَّعَة، وإنْ رحلتَ؛ ففي الحفظ والدَّعَة. [وذكره المسعودي (¬4) وقال: ] جاءه في ليلة واحدة مقتلُ عُبيد الله بن زياد ومن كان معه، ومقتلُ حُبَيش بن دُلَجة، وكان على جيش المدينة، ودخولُ ناتل بن قيس الجُذامي فلسطين من قبل ابن الزبير، وخبرُ ملك الروم لاوى أنه نزل المِصِّيصة يريد الشام، ونزول [مصعب] بن الزُّبير (¬5) فلسطين، وأن عَبِيد دمشقَ وأوباشَها نزلوا على أهلها وفتحوا السجون، وأخرجوا من كان بها، وأن العربَ أغارت على حمص وبعلبكّ والبقاع، وغير ذلك ممَّا نُمِيَ إليه من مفظّعات الأمور، فلم يُرَ عبد الملك في ليلة قبلها أشدَّ ضحكًا، ولا أحسنَ وجهًا، ولا أبسطَ لسانًا، ولا أثبت جَنانًا منه في تلك الليلة تجلُّدًا وسياسة للملك (¬6)، وتركًا لإظهار الفشل. [وسنذكر سيرته مفرّقة في الكتاب] ذكر صفته: كان أبيض أشهل، وقيل: أسمر، وكان مفتوح الفم، مُشَبَّك الأسنان بالذهب، لم يغيِّر شيبه، وقيل: إنه خضب، ثم ترك (¬7). ¬

_ (¬1) هي ثياب من الكتَّان الخالص. ينظر "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب" ص 530. (¬2) كذا في (خ) (والكلام منها) و"تاريخ دمشق" 66/ 133. والجادّة: ولا ينسى. (¬3) في "تاريخ دمشق": "لم يكن ذلك عن شيءٍ سمعناه ولا خبر رويناه". وهو أشبه. (¬4) في "مروج الذهب" 5/ 224 - 225. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬5) في (خ) (والكلام منها): ونزل ابن الزبير، وأثبتُّ من اللفظ ما يناسب الرسم، مع استدراك اسم "مصعب" للإيضاح، وعبارة المسعودي: ومسير مصعب بن الزبير من المدينة إلى فلسطين. (¬6) في "مروج الذهب": للملوك. (¬7) ينظر "تاريخ دمشق" 43/ 246 (طبعة مجمع دمشق).

جميل بن عبد الله بن معمر

وحجَّ في هذه السنة بالناس ابنُ الزبير، وكان على المدينة مصعبُ بنُ الزُّبير، وعلى الكوفة عبدُ الله بنُ مُطيع، وكان على البصرة القُبَاع (¬1)، وعلى قضائها هشام بنُ هُبيرة، وعلى خُراسان عبدُ الله بن خازم (¬2). وفيها توفي جميل بن عبد الله بن معمر (¬3) العُذْريّ، أبو عبد الله [صاحب بُثَينَة] (¬4). وبُثَينة بنتُ حُيَيّ (¬5) بن ثعلبة العُذْري، لأبيها صحبة، وكنيتُها أمّ عبد الملك، وقيل غير ذلك. وكان جميل قد هَويَها من الصغر، فلما بلغَ خَطَبها إلى أهلها، فلم يزوِّجوه، فهام بها، وقال فيها الأشعار، [وشبَّب بها. ذكر طرف من أخبارها: ذكرها ابن الكلبي وغيره وقالوا: ] كانت بُثينة تسكن بوادي القُرى، وكان جميل يزورها، ونَذِرَ به (¬6) أهلُها، وأرادوا قتله، فهَجَاهم، فاسْتَعْدَوْا عليه مروان [بن الحكم] وهو والي المدينة [لمعاوية بن أبي سفيان] فقال: واللهِ لأقطعنَّ لسانَه، فقال جميل [لما بلغه الخبر]: ¬

_ (¬1) هو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. (¬2) تاريخ الطبري 5/ 622 - 623. (¬3) وكذا أورده ابن الجوزي في "المنتظم" 6/ 42 فيمن توفي في هذه السنة (65) وأغلب المصادر ذكرت أنه مات سنة (82). ووقع في (خ): جميل بن معمر بن عبد الله، وهو خطأ، واقتصر في (م) على قوله: جميل العذري. (¬4) أضفتُ ما بين حاصرتين من عندي من أجل السياق. (¬5) كذا في (خ) و (م)، وكذا في "الإكمال" 1/ 185، و"تاريخ دمشق" ص 64 (طبعة مجمع دمشق- تراجم النساء). لكن جاء في صدر ترجمتها فيه: بُثينة بنت حبا. وفي "الإصابة" 2/ 309: حَيّ. ووقع في "الأغاني" 8/ 92: حبأ. (¬6) أي: علم به. ووقع في (م): ودرت.

أتانيَ عن مروانَ بالغيب أنه ... مُقِيدٌ دمي أو قاطعٌ من لِسانِيا ففي العِيس مَنْجاةٌ وفي الأرض مهربٌ ... إذا نحن رفَّعْنا لهنَّ المثانيا (¬1) ولحقَ بجُذام، فأقام عندهم حتى عُزل مروان. ووفدَ على عبد الملك بن مروان، وكان من فحول الشعراء، وهو معدودٌ في طبقاتهم. [وله مع سكينة بنت الحسين - عليه السلام - واقعة، وكان يَقْدَمُ عليها، ويَقْرِضُ شِعره مع جملة الشعراء، وكانت تُفضّله عليهم. وسنذكره في ترجمتهما] (¬2). ولم يزل هائمًا ببُثينة إلى أن مات في هذه السنة من حبِّها. وقيل: تأخَّرت وفاتُه عن ذلك. ولم يمدح قطّ أحدًا (¬3)؛ خرج مع الوليد بن عبد الملك في سفر، فقال له [الوليد]: انزل فارْجُزْ. ظنًّا منه أنّه يمدحُه، فنزل وقال: أنا جميلٌ في السَّنام من مَعَدّ ... في الذّروة العَلياء والرُّكنِ الأَشَدّ فقال له الوليد: اركَبْ لا ركبتَ (¬4). [قالوا: وهذا كان في حجّ الوليد بعد الثمانين، فإن صحَّت هذه الرواية، فقد عاش إلى أيام الوليد. وذكر الخرائطي في "اعتلال القلوب" (¬5) -وقد تقدم إسنادُنا إليه- قال: حدثنا الحسن بن علي، ] قال المُثَنَّى بنُ سعيد الجُعْفي: إنّ كُثيِّر عَزَّة لقيَ جميلًا، فقال: متى ¬

_ (¬1) الشعر والشعراء 1/ 435. وينظر "الأغاني" 22/ 153 (أخبار جوّاس بن قطبة). وما سلف بين حاصرتين في هذه الفقرة من (م). (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" ص 163 و 169 (طبعة مجمع دمشق - تراجم النساء - ترجمة سُكينة). والكلام بين حاصرتين من (م). (¬3) في (م): قال هشام: لم يمدح جميل أحدًا قطّ. (¬4) ينظر "الأغاني" 8/ 133، و"تاريخ دمشق" 4/ 9 (مصورة دار البشير)، أو "مختصره" 6/ 113. (¬5) ص 262. وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخه" 4/ 13 (المصورة المذكورة) وهذا الكلام بين حاصرتين من (م).

عهدُك ببُثَينَة؟ قال: منذ عام أوّل؛ لقيتُها بوادي الدَّوْم تغسل ثوبًا. فقال له كُثَيِّر: أتحبُّ أنْ تلقَاها الليلة؟ قال: نعم. وقد كان كُثيِّر عند أهلها، فرجع إليهم، فقال له أبوها: ما ردَّك؟ قال: بيتان قُلتهما في عَزَّة (¬1). [قال: وما هي؟ فقال كُثيِّر يشير إلى بُثَينَة؟ ]: فقلت لها يا عَزَّ أُرسِلُ صاحبي ... إلى باب داري والرسولُ مُوَكَّلُ أَمَا تذكرينَ العهدَ يومَ لَقِيتُكمْ ... بأسفل وادي الدَّوْمِ والثوبُ يُغسَلُ وسمعَتْه بُثَينَة، فقالت: اخْسَ اخْسَ. فقال أبوها: ما هاجكِ يا بُثَينَة؟ فقالت: كلبٌ لا يزالُ يأتينا من وراء هذا الجَبَل بالليل وأنصاف النهار [فرجع إليه كُثَيِّر وقال: قد وعَدَتْك يا ذا من وراء هذا الجبل في الليل وأنصاف النهار] فالْقَها إذا شئت (¬2). ومات بالشام، وقيل: بمصر؛ قال عبَّاس (¬3) بن سهل الساعديّ: بينا أنا بالشام إذْ لَقِيَني رجلٌ، فقال: هل لك في جميل بن معمر؟ فإنه ثقيل، لنعوده. قلت: نعم. فدخلنا عليه وهو يجودُ بنفسه، فنظر إلى عبَّاس وقال: يا ابنَ سهل، ما تقول في رجل لم يشربِ الخمر قطّ، ولم يَزْنِ، ولم يقتُل نفسًا، وهو يشهدُ أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله؟ فقال: أظنُّ أنه نجا، وأرجو له الجنة [-أو: وأدخله الله الجنة-] (¬4) مَنْ هذا الرجل؟ فقال جميل: أنا. فقال: والله ما أظنُّك سلمتَ وأنتَ منذ عشرين سنةً تُشَبِّبُ ببُثَينَة. فقال والموتُ يَكْرُبُه: لا نالتْنِي شفاعةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - يومَ القيامة إن كنتُ وضعتُ يدي عليها لريبة قطّ، [وأنا في أول يوم من أيام الآخرة. ومات. وقد ذكرها المدائني عن ابن سهل بن سعد الساعدي، وزاد في آخرها: ] وإنَّ أكثر ما نلتُ منها أني كنتُ آخذُ يدَها، فأضعُها على قلبي فأستريح. فهذا آخرُ وقتٍ من أوقات الدنيا، وأوَّلُ وقت من أوقات الآخرة. ¬

_ (¬1) بعدها كلمتان في (خ) غير واضحتين. والكلام بعده بين حاصرتين من (م). (¬2) تاريخ دمشق 4/ 13 - 14 (مصورة دار البشير) أو "مختصره" 6/ 113 - 114. وينظر منه أيضًا جزء تراجم النساء ص 67. والكلام السالف بين حاصرتين من (م). (¬3) عبارة (م): ذِكرُ وفاته: واختلفوا في أيّ مكان مات على قولين، أحدهما بالشام، والثاني: بمصر. فأما من قال بالشام؛ فيحتجّ بما روى الخرائطي أيضًا عن عباس ... والخبر في "اعتلال القلوب" ص 101. وأورده ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" 1/ 440 فقال: عن سهل بن سعد الساعدي أو ابنه عبّاس. (¬4) ما بين حاصرتين من (م).

[وفي رواية المدائني أيضًا ما يدلُّ على أنه مات بمصر؛ لأنه زاد في الحكاية]. قال المدائني: ثم أُغمي عليه وأفاق فقال: بَكَرَ النَّعِيُّ وماكَنَى بجميلِ ... وثَوَى بمصرَ ثواءَ غيرِ قُفُولِ قُومي بُثينةُ فاندُبي بعويلِ ... وابكي خليلَكِ قبل كلِّ خليلِ وأشار جدِّي في "المنتظم" إلى أنه مات بمصر، فقال: لما احتُضر جميل بمصر قال: من يُعلم بُثينة؟ فقال رجل: أنا. فلما مات؛ خرج الرجلُ بعد موت جميل، فسافر حتى قدمَ حيَّ بني عُذْرَة، وأتى ذلك الرجلُ إلى حيِّ بُثَينَة، فأنشد البيتين: بَكَرَ النعيّ ... فلما فرغ منها (¬1)؛ خرجت بُثينة مكشوفة الرأس تقول: وإنَّ سُلُوِّي (¬2) عن جميلٍ لَسَاعةٌ ... من الدهر ما حانَتْ ولا حانَ حينُها سواءٌ علينا يا جميلُ بنَ معمرٍ ... إذا مِتَّ بَأْساءُ الحياةِ ولِينُها (¬3) [وقال ابنُ قُتيبة: سافر إلى مصر، فمات بها. واختلفوا في أيّ سنة مات على قولين: أحدُهما: في سنة خمس وستين. والثاني: أنه عاش إلى سنة اثنتين وثمانين]. وقال العسكريّ: [من] الشعراء ثلاثة يُدعون جميلًا؛ أحدهم هذا، والثاني: جميل بن المعلَّى بن فَزارة، وهو القائل: وأُعرِضُ عن مَطاعِمَ قد أراها ... فأتركُها وفي قلبي انطواءُ فلا واللهِ ما في العيشِ خيرٌ ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ والثالث: جميل بن سِيدَان الأسدي، وهو القائل: أَيَا جُمْلُ هَلْ دَينٌ مُؤدًّى لِحينِهِ ... فقد حَلَّ ذاك الدَّينُ واحْتَاجَ طالِبُهْ ¬

_ (¬1) من قوله: وأشار جدّي في "المنتظم" ... إلى هذا الموضع من (م) ووقع بدله في (خ) بعد البيتين السابقين لفظ: "فلما مات جاء رجل إلى حي بُثينة وأنشد البيتين، فلما فرغ منها ... " وآثرت إثبات لفظ (م) للفائدة، وما سبق بين حاصرتين منها. والخبر في "المنتظم" 6/ 45 - 46. (¬2) في (م): سألوني، وهو تحريف. (¬3) ينظر "الشعر والشعراء" 1/ 442، و"الأغاني" 8/ 154، و"تاريخ دمشق" ص 68 - 69 (تراجم النساء - طبعة مجمع دمشق). قال ابن عساكر في بيتَي بُثينة: يقال: إنها لم تقل غيرهما.

وطالتْ به أحلامُه إنْ قَضَيتِهِ ... وظَلَّ بما مَنَّيتِ يلمعُ حاجِبُهْ أَجِدِّي وصالًا أو أَبِينِي صَرِيمةً ... فأكرمُ أن لا يَكْذِبَ المرءَ صاحِبُهْ (¬1) وقال جميل بن معمر في "الحماسة" (¬2): فليتَ رجالًا فيكِ قد نَذَرُوا دمي ... وهَمُّوا بقَتْلِي يا بُثَينُ لَقُوني إذا ما رأَوْني طالعًا من ثَنِيَّةٍ ... يقولون مَنْ هذا وقد عرفوني يقولون لي أهلًا وسهلًا ومَرْحبًا ... ولو ظفروا بي ساعةً قتلوني فكيف ولا توفي دماؤهمُ دمي ... ولا مالُهم ذو كَثْرةٍ فيَدُوني (¬3) معناه: ليس في دمائهم كلِّها وفاء بدمي؛ لأني خطير (¬4) شريف، وكان دية الشريف في الجاهلية ألفًا من الإبل؛ إلى أنْ نحرَ عبدُ المطَّلب المئة من الإبل عن ولده [عبد الله] فتقرَّر الأمر على ذلك. وفيها يقول: لَحَى اللهُ مَنْ لا ينفعُ الوُدُّ عندَه ... ومَنْ حَبْلُهُ إنْ مُدَّ غيرُ مَتِينِ ومَنْ هو إنْ تُحْدِثْ له العينُ نظرةً ... يُقَضِّبْ لها أسبابَ كلِّ قَرِينِ ومَنْ هو ذُو لونينِ ليس بدائمٍ ... على خُلُقٍ خَوَّانُ كلِّ أمينِ (¬5) [والأبيات في ديوان جميل، وديوانُه مشهور، ومن شعره: ] حَلَّتْ بُثَينَةُ من قلبي بمنزلةٍ ... بينَ الجوانحِ لم يَحْلِلْ بها أحدُ وعاذلين لَحَوْني في محبَّتِها ... يا ليتَهم وجدُوا مثلَ الذي أجدُ لما أطالوا عتابي فيكِ قلتُ لهمْ ... لا تُفْرِطُوا. بعضَ هذا اللوم، واقْتَصِدُوا قد مات قبلي أخو هند وصاحبُهُ ... مُرَقِّشٌ واشْتَفَى من عُرْوَةَ الكَمَدُ وكلُّهُمْ كان في عِشْقٍ مَنِيَّتُهُ ... وقد وَجَدْتُ بها فوق الذي وَجَدُوا ¬

_ (¬1) ينظر "المؤتلف والمختلف" للآمدي ص 97 - 98، و"شرح الحماسة" للتبريزي 1/ 170. (¬2) في (م): ومن أبيات جميل في بُثينة. (¬3) ينظر "شرح ديوان الحماسة" للمروزقي 1/ 324 - 325. (¬4) في (م): لا خطر. بدل: لأني خطير (؟ ). (¬5) ينظر "شرح ديوان الحماسة" للتبريزي 1/ 170. قوله: يُقضِّب، أي: يُقطِّع.

حبيش بن دلجة القيني

إنِّي لَأَحْسِبُني أو كِدْتُ أعلمُهُ ... أنْ سوف تُوردُني الحوضَ الذي وردوا (¬1) وقال أيضًا: فيا وَيحَ نفسي حَسْبُ نفسي الذي بها ... ويا وَيحَ أهلي ما أُصِيبُ به أهلي ولو تركتْ عقلي معي ما طَلَبْتُها ... ولكنْ طِلَابِيها لِمَا فاتَ من عقلي خليليَّ فيما عِشتُما هَلْ رَأَيتُما ... قتيلًا بكى من حُبِّ قاتلِهِ مثلي (¬2) [وقال ابن عساكر: روى جميل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإسنادُه عن أنس بن مالك. فقال محمد بن راشد: قلتُ لجميل: لو قرأتَ القرآن لكان أعْوَدَ عليك من الشعر. فقال: حدثني أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ من الشِّعر لحكمة" أو: لحكمًا] (¬3). حُبَيْش بن دُلَجَة القَيْني كان من وجوه أهل الشام، من أهل الأردنّ، شهد صِفِّين مع معاوية، وكان على قُضاعة (¬4) الأردنّ يومئذ، وولَّاه يزيد بن معاوية على أهل الأردنّ لمَّا وجَّههم إلى أهل الحَرَّة من زِيزا (¬5). وهو أوَّلُ أمير أكلَ على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتلَه حَنْتَف بن السِّجف بن سَعْد (¬6) بن عوف التميمي. وقيل: رماه يزيد بن سِياه الأسواري بِنُشَّابَة فقتله (¬7)، وذلك غرَّة رمضان سنة خمس وستين، وقُتل معه عبد الله بنُ مروان، وعُبيد الله بنُ الحَكَم، وهرب الباقون (¬8). ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ دمشق" 4/ 16 - 17، وفيه زيادة بيت، وليس فيه البيت الأول. (¬2) ينظر "الشعر والشعراء" 1/ 443 - 444، و"الأغاني" 8/ 139 - 141. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 8. ومتن الحديث صحيح من غير حديث أنس - رضي الله عنه - وهذا الكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) في (خ) (والكلام منها): قضاء. وهو خطأ. والمثبت من "تاريخ دمشق" 4/ 193 (مصورة دار البشير). (¬5) وزن ضِيزَى. وهي قرية من قُرى البلقاء من كورة دمشق. ينظر "معجم البلدان" 3/ 163 و"تاريخ دمشق" 4/ 193 (مصورة دار البشير)، و"القاموس" (زيز). (¬6) في (خ) (والكلام منها): وسعد، بدل: بن سعد، وهو خطأ وينظر "تاريخ دمشق" الوضع المذكور آنفًا. (¬7) ينظر ما سلف ص 324 - 327 (ذكر يوم الرَّبَذَة). (¬8) تاريخ دمشق 4/ 193 (مصورة دار البشير).

سليمان بن صرد

وكان حُبيش بن دُلَجَة جليلًا، وكان له قدم صدق عند مروان، وكان يُجلسه معه على سريره، فدخل يومًا، فرأى رَوْحَ بنَ زِنْباع موضعَه جالسًا على السرير -وكان محمولًا لِنَقْرِسٍ كان به، ورَوْح كذلك- فأمر حُبَيش حَمَلَتَهُ أن لا يضعوه، وقال: إنْ رَدَدْتُم علينا موضعنا؛ وإلا انصرفنا عنكم. فقال مروان: مهلًا فإنَّ لأبي زُرْعة -يعني رَوْحًا- مثلَ سِنِّك، وبه مثلُ علَّتك. يعني النَّقْرِس. فقال حُبَيش: أَوَلَهُ مثل يدي عندك؟ قال: وله مثلُ يدِك عندي؛ إلا أنَّ يده غير مكدَّرة بمَنّ. فقال حُبيش: إنّي لأظنُّك يا مروان أحمق. فقال: أظنًّا أيُّها الشيخ ظنَنْتَه، أم يقينًا تَيقَّنْتَه؟ فقال: بل ظنًّا ظننتُه. قال مروان: فإنَّ أحمقَ ما يكون الشيخُ إذا أُعجِبَ بظنِّه (¬1). سليمان بن صُرَد ابن الجَوْن بن أبي الجَوْن عبدِ العُزَّى بن منقذ الخُزاعي، أبو المطرِّف، من الطبقة الثالثة (¬2) من المهاجرين. أسلم، وصحبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان اسمُه يسار، فسمَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سليمان. وكانت له سنٌّ عالية وشَرَف في قومه، فلما قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نزلَ الكوفة لمَّا نزلها المسلمون. وشهد مع عليّ - عليه السلام - الجمل وصِفّين. وكان فيمن كتبَ إلى الحسين - رضي الله عنه - يستقدمُه إلى العراق، فلما قدمَها لم يقاتل معه خوفًا من ابن زياد، وكان كثير التَّنَسُّك (¬3) والتوقُّف، ثم ندم بعد ذلك هو والمسيِّب بن نَجَبَة بعد قتل الحسين - رضي الله عنه -. فكاتبَ أهلَ الأمصار ليقوموا معه للطلب بدم الحسين - رضي الله عنه -[على ما ذكرنا]، فقُتل بعين وَرْدَة، وحُمل رأسُه ورأسُ المسيّب إلى مروان [بن الحكم]، فعلّقهما بدمشق. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) في (م): ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة ... وهو في "طبقاته" 5/ 196. (¬3) في "طبقات" ابن سعد 5/ 196: الشكّ. وما سيرد بين حاصرتين من (م).

وأدهم بن محرز الباهلي

وكان له يوم قُتل ثلاث وتسعون سنة. والذي حملَ رأسَه ورأسَ المسيّب رجل يقال له: أدهم بن مُحْرِز الباهلي (¬1). وأدهم بن مُحْرز الباهلي أحد أمراء الجيش الذين وُجِّهُوا (¬2) مع ابن زياد لقتال التَّوابين بعين وَرْدَة، وهو أوَّلُ مولود وُلد بحمص، وفُرض له بها، وشهد صفِّين مع معاوية، وكنيتُه أبو مالك. ولمَّا قدم على عبد الملك ببِشارة الفتح بقتل سليمان بن صُرد، والمسيِّب بن نَجَبَة؛ صعد عبدُ الملك المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنَّ الله قد أهلكَ من رؤوس أهل العراق ملقح فتنة، ورأس ضلالة سليمان بن صُرَد، والمسيِّب بن نَجَبَة. ألا وإن الله قتلَ من رؤوسهم رأسين عظيمين ظالمين [عبد الله بن سعد، وعبد الله بن وال] فلم يبقَ أحدٌ منهم بعدها عنده دفاع ولا امتناع (¬3): وقال الخطيب (¬4): دخل أدهم على عبد الملك ورأسُه ولحيتُه كالثَّغام (¬5)، فقال له عبد الملك: لو غيَّرتَ هذا الشيب. فخرج من عنده، فاختضب بسواد، ثم دخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قلتُ بيتًا، ولا أقولُ بعدَه شيئًا. قال: هات. فقال: ولمَّا رأيتُ الشيبَ شَيْنًا لأهله ... تفتَّيتُ (¬6) وابْتَعْتُ الشبابَ بدرهمِ فضحك عبد الملك. أسند سليمان [بن صُرَد] الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 5/ 196 - 197. وسلف خبر سليمان بن صُرد مطوَّلًا أوائل أحداث هذه السنة (65). (¬2) في (خ) (والكلام منها): وجهوهم، والمثبت من "تاريخ دمشق" 2/ 658 (مصورة دار البشير). (¬3) المصدر السابق 2/ 659. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) أخرج ابن عساكر الخبر في "تاريخه" 2/ 658 - 659 من طريق الخطيب، وليس هو في "تاريخ بغداد". (¬5) جمع ثَغَامة، وهي شجرة بيضاء الثمر والزهر، تنبت في قمة الجبل. (¬6) تَفَتَّى، أي: صار فَتًى، واتَّخَذَ سبيل الفتوَّة.

عبد الله بن عمرو بن العاص

فمنه: [قال أحمد (¬1)، عن يونس، بإسناده إلى أبي عُكاشة (¬2) الهمداني قال: ] قال رِفاعة البَجَلي (¬3): دخلتُ على المختار بن أبي عُبيد قصرَه، فسمعتُه يقول: قام الآن من عندي جبريل. [قال: ] فهممتُ أنْ أضربَ عنقَه، فذكرتُ حديثًا حدَّثنَاه سُليمان بن صُرد عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا ائْتَمَنَكَ رجلٌ على دمه، فلا تقتله". قال: و [كان] قد ائتمنني على دمه، فكرهتُ دمَه (¬4). عبد الله بنُ عَمرو بن العاص ابن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سهم السهمي. [وكنيتُه] أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو نُصَير (¬5). كان فاضلًا عالمًا حافظًا مجتهدًا في العبادة، من الطبقة الثالثة (¬6) من المهاجرين. وكان من علماء الصحابة وعُبَّادِهم [وكان اسمُه العاص، فسمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله (¬7). قال ابن سعد: ] وأمُّه رَيطة بنت منبّه بن الحجَّاج [بن عامر]، أسلمت يومَ الفتح، وأتَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايَعَتْه (¬8). أسلم عبدُ الله قبل أبيه، وكان بينه وبين أبيه في السنّ اثنتا عشرة سنة، وقيل: أكثر، وقيل: سنّ البلوغ (¬9). ¬

_ (¬1) الكلام بين حاصرتين من (م)، وفيها: قال حدثنا أحمد، وهو خطأ. والحديث في "مسنده" (27207). (¬2) في (م) (والكلام منها): عكامس، بدل: أبي عكاشة، وهو خطأ، والتصويب من مصادر الحديث. (¬3) في (خ) و (م): الجُهَني، وهو خطأ. والتصويب من مصادر الحديث. ورفاعة الجُهَني -وهو ابنُ عَرَابة- صحابي، أما رِفاعة البَجَلي -وهو ابنُ شدّاد الفِتْياني- فتابعي. ينظر "تهذيب الكمال" 9/ 204 - 207. (¬4) ذكر المزي في "تهذيب الكمال" 9/ 206 أن هذه الرواية وهم، وذكر في 34/ 99 - 100 (ترجمة أبي عكاشة) أن المحفوظ: رِفاعة بن شداد، عن عمرو بن الحَمِق، وليس عن سليمان بن صُرَد، وهو ما أخرجه ابن ماجه (2688). (¬5) الاستيعاب ص 421، وتاريخ دمشق 37/ 146 (طبعة مجمع دمشق) واستغرب ابن عبد البر الكنية الأخيرة. (¬6) في (م): وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة ... وهو في طبقات" ابن سعد 5/ 82. (¬7) تاريخ دمشق 37/ 155 (طبعة مجمع دمشق). (¬8) طبقات ابن سعد 10/ 255، وكل ما سلف بين حاصرتين من أول الترجمة من (م). (¬9) ينظر "الاستيعاب" ص 421، و"تاريخ دمشق" 37/ 154 - 156.

[وفي "المسند" عن عبد الله بن عمرو قال: كنتُ أكتُبُ كلَّ شيء أسمعُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَشَرٌ يتكلَّمُ في الغضب (والرِّضا) فأمسكتُ عن الكتابة، وذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اكتُبْ، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حقّ] (¬1). وكان عَبدُ الله يقول: حفظتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفَ مَثَل (¬2). [وقال ابن إسحاق: ] وكان عنده صحيفة يسمِّيها الصادقة، فيها ما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول: ليس بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها أحد. [وقال الواقدي: كان عبد الله أحمرَ طُوالًا، عظيم البطن، لا يُغيِّر شَيبَه، وذهب بصرُه في آخر عُمره. وقال أبو الزاهرية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفضّلُ عبد الله بن عَمرو على أبيه. وقال أحمد: حدثنا هُشيم، عن حُصين بن (عبد الرحمن و) (¬3) المُغيرة الضَّبِّيّ، عن مجاهد، عن عبد الله بن عَمرو قال: زوَّجني أبي امرأة من قريش، فلما دخلَتْ عليَّ؛ جعلتُ لا أَنْحاشُ لها، ممَّا بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة. فجاء أبي عمرٌو إلى كَنَّتِه، فسألها: كيف وجَدْتِ بَعْلكِ؟ فقالت: خير البُعولة، إلا أنه لم يُفَتِّش لنا كَنَفًا، ولم يقرب لنا فراشًا. قال: فعَضَّني (¬4) بلسانه وقال: أَنْكَحْتُك امرأةً من قريش ذاتَ حَسَب (¬5) وجمال، فعَضَلْتَها؟ ! وشكاني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتصومُ النهار؟ " قلتُ: نعم. قال: "وتقومُ الليل؟ ". قلت: نعم. قال: "لكنِّي أَصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصلِّي وأنام، وأَمَسُّ النساء، فمن رَغِبَ عن سُنَّتي، فليس منّي". ¬

_ (¬1) الكلام بين حاصرتين من (م)، وهو في "مسند" أحمد (6510). (¬2) الاستيعاب ص 422، وتاريخ دمشق 37/ 161 - 162 (طبعة مجمع دمشق)، ورواه أحمد (17806) عن عمرو بن العاص. وضعَّف محقِّقوه إسناده. (¬3) لفظ: "عبد الرحمن و" من "المسند" (6477). (¬4) في (م) "والخبر منها": فعضهني. والتصويب من "المسند". وعضَّ فلانًا بلسانه، أي: ذكره بسوء. وينظر "النهاية في غريب الحديث" 3/ 200 (عذم). (¬5) في (م): حسن، بدل: حَسَب، والمثبت من "المسند".

وقال: "اقْرأ القرآن في كلِّ شهر". فقال: أجدني أقوى من ذلك. قال: "فاقْرَأْه في كلِّ ثلاث، ثم (قال): "صُمْ في كلِّ شهر ثلاثة أيام". قال: إنّي أقْوَى من ذلك. قال: "صُمْ يومًا وأَفْطِرْ يومًا، فإنه أفضلُ الصيام، وهو صيامُ أخي داود". قال مجاهد: فكان عبدُ الله حين ضَعُفَ وكَبِرَ يقول: يا ليتني قبلتُ رُخْصةَ رسولِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى عبد الله بنُ أحمد بإسناده عن عبد الله بن عمرو] (¬2) قال: لأَنْ أدمَع دَمْعَةً من خشية الله أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّقَ بألف دينار (¬3). وروى عبد الله بن أحمد بإسناده عن عبد الله بن عمرو أنه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيتَ فقال له: "هل تعلمُ مَنْ معنا". قال: لا. قال: "هو جبريل". قال: فقلتُ: السلام عليك يا جبريل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد ردَّ عليك". فذهب بصرُه في آخر عمره. [وقال ابنُ قُتيبة: شهد عبد الله بن عمرو مع أبيه صفّين، وكان يضرب بسيفين (¬4). قلت: وهذا من أوهام ابن قُتيبة، فإن عبد الله لم يُقاتل في صِفّين. وقد روينا أنه لما قُتل عمار قال عبد الله لأبيه: قتلتم عمارًا! وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: "تقتلك الفئة الباغية". فقال له معاوية: فما لك معنا؟ ! فقال: إن رسول الله قال لي: "أطع أباك". فأنا معكم، ولستُ أقاتل]. وحضر صِفّين مع أبيه وقال: يا ليتني مِتُّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة [-أو بعشر سنين-] وواللهِ ما رميتُ فيها بسهم، ولا طعنتُ فيها برمح، ولا ضربتُ فيها بسيف، ولوددت أنّي لم أحضُرْها، وأنا أستغفرُ الله من ذلك وأتوب إليه (¬5). ¬

_ (¬1) الحديث في "مسند" أحمد (6477)، وما وقع فيه بين أقواس عادية منه. (¬2) من قوله: وقال الواقدي ... إلى هذا الموضع (وهو الواقع بين حاصرتين) من (م). (¬3) هو في "شُعب الإيمان" (816) ولم أقف عليه من طريق عبد الله بن أحمد. (¬4) المعارف ص 286. وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (م). (¬5) التبيين في أنساب القرشيين ص 464، ونُسب الكلام في (م) إليه، وما وقع فيه بين حاصرتين منها.

[وكذا حكى عنه ابن عساكر (¬1). وقال: ] وكانت معه راية أَبيه يوم اليرموك، وكان الأمير يوم قيساريَّة (¬2). وقال له أبوه: يا بنيّ، ما الشَّرَف؟ قال: كفُّ الأذى، وبَذْلُ النَّدى. قال: فما المروءة؟ قال: عِرْفان الحقّ، وتعاهدُ الصنيعة. قال: فما المجد؟ قال: احتمالُ المغارم، واقتناء المكارم (¬3). [قال: وقال عبد الله: إذا لم تبكُوا فتَباكَوْا. وذكره الموفَّق في "الأنساب" (¬4) فقال: كان عبد الله حافظًا فاضلًا عالمًا، قرأ الكتب، ووُلد لعمرو وعَمرٌو ابنُ اثنتي عشرة سنة]. وقال أبو هريرة: ما كان أحدٌ أحفظَ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منّي إلَّا عبدَ الله بنَ عَمرو، فإنَّه كان يكتُبُ، وأنا لا أكتب، استأذنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتابة، فأذِنَ له، فقال: يَا رسول الله أكتبُ كلَّ ما أسمعُ منك في الرضا والغضب؟ قال: "نعم، فإنِّي لا أقول إلَّا حقًّا" (¬5). ذكر وفاته: واختلفوا فيها؛ ذكر ابن سعد عن الواقديّ أنَّه قال (¬6): توفِّي عبد الله بن عَمرو بالشَّام سنة خمس وستين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. قال جدِّي رحمه الله في "الصفوة": وقد زعم قومٌ أنَّه مات بمكة، ويقال: بالطائف، ويقال: بمصر. هذا صورة ما ذكره جدّي في "الصفوة" (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 37/ 181. وينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 87 - 88. (¬2) المصدر السابق 37/ 174. (¬3) المصدر السابق 37/ 172. (¬4) واسمه "التبيين في أنساب القرشيين" والكلام فيه ص 464. (¬5) ينظر"تاريخ دمشق" 162/ 37 - 165 (طبعة مجمع دمشق). وما سلف نحوه أول الترجمة. (¬6) طبقات ابن سعد 5/ 90. (¬7) صفة الصفوة 1/ 660. ومن قوله أول الفقرة: واختلفوا فيها ... إلى هذا الموضع من (م). ووقع في (خ) مختصرًا بلفظ: تُوفِّي بالشَّام سنة خمس وستين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وقيل: تُوفِّي بمكة، وقيل: بالطائف، وقيل: بمصر، وسترد أَيضًا.

وقيل: [توفي] سنة ثلاث وستين ليالي الحرَّة (¬1). وقيل: سنة تسع وستين (¬2)، وقيل: سنة ثمان وستين (¬3). قال ابنُ الكلبيّ (¬4): كان عبد الله بن عمرو معتزلًا مع أَبيه لأمر عثمان، فلما خرج أبوه إلى معاوية خرج معه، فشهد صفِّين، ثم ندم بعد ذلك، وقال: ما لي ولِصفِّين! ما لي ولقتال المسلمين! ثم خرج مع أَبيه إلى مصر، فلما حضرت عَمرًا الوفاةُ استخلفه على مصر، فأقرَّه معاوية سنةً، ثم عزلَه، وكان يحجُّ ويعتمرُ ويأتي الشَّام، ثم رجع إلى مصر (¬5)، وكان قد ابتنى بها دارًا، فلم يزل لها حتَّى مات في سنة سبع وسبعين في خلافة عبد الملك بن مروان، فدفن في داره. وقيل: مات فدفن بمكان يقال له: السَّبْع بفلسطين (¬6). وهو الذي نزله الخليل عليه السلام [وقد ذكرناه في سيرة الخليل. وقال الهيثم: مات بمكة، وقال أبو اليقظان: بالطائف] (¬7). وقيل: مات بقرية من قرى عسقلان يقال لها: أولاس (¬8) [بينها وبين عسقلان فرسخان، وأهل مصر يقولون: مات بمصر، ودفن عند قبر أَبيه عمرو، بداره الصغيرة بدار الإمارة. والله أعلم] (¬9). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 37/ 189 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) كذا في (خ) (والكلام منها). ولعلها محرفة عن: سبع وستين، وهي في "تهذيب الكمال" 15/ 362. (¬3) تاريخ دمشق 37/ 190 و 192، وتهذيب الكمال 15/ 362. وجاء بعد هذا في (خ) أَيضًا: وقيل: سنة اثنتين وسبعين، وقيل: سنة تسع وسبعين. ولم تذكر المصادر هذين القولين. (¬4) الكلام من (خ) فقط. والخبر في "طبقات" ابن سعد 9/ 501 عن عمرو بن عاصم الكلام. (¬5) في (خ) (والكلام منها): البصرة. بدل: مصر. وهو خطأ. والتصويب من "الطبقات". (¬6) الاستيعاب ص 422. وقد نُسب هذا القول في (م) لابن عبد البرّ. وينظر "معجم البلدان" 3/ 185. (¬7) الكلام بين حاصرتين من (م). وسلف أنَّه مات بمكة أو بالطائف من كلام ابن الجوزي (جدّ المصنف) أول الفقرة. (¬8) تاريخ دمشق 37/ 188. وفيه: ملامس، بدل: أولاس. ونُسب هذا القول في (م) لخليفة. ولم أقف عليه في "تاريخه" أو "طبقاته". والذي في "طبقاته" ص 299 أنَّه مات بالطائف سنة ستّ وستين. (¬9) الكلام بين حاصرتين من (م).

وقيل: بقرية غيلان من بيت جبرين (¬1). [تفسير قوله: لا أنحاشُ لها. معناه: لا أكتَرِثُ لها, ولا ألتفت إليها. والكَنَّةُ: امرأة الولد. قال: والخَتَن: كلُّ مَنْ كان من قِبَل المرأة، مثل الأب والأخ، وهم الأَخْتانُ. قال: هكذا عند العرب. وأما عند العامة، فخَتَنُ الرَّجل زوجُ ابنته. قال: وأمَّا الأصهار؛ فأهل بيت المرأة. عن الخليل، (قال: ) ومن العرب من يجعلُ الصِّهْرَ من الأَحْماء (والأَخْتان جميعًا). وأمَّا الأحماء؛ فَحَماةُ المرأة أمُّ زَوْجِها, لا لغةَ فيه (غير هذه)] (¬2). ذكر أولاده: كان له من الولد محمَّد، أمّه بنتُ مَحْمِيَةَ بنِ جَزْء الزُّبيدي -وقيل: عمرة بنت عُبيد الله بن العبَّاس (¬3) - ومحمَّد هو أبو شُعيب، وهشام، وهاشم، وعمران، وأمّ إياس، وأمّ عبد الله، وأم سعيد، أمّهم أمُّ هاشم، كِنديَّة (¬4). أسند عبد الله بنُ عمرو الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى سبع مئة حديث، وقيل: روى من المتون سوى الطرق نيِّفًا وخمس مئة (¬5). ¬

_ (¬1) هذا القول من (خ). ولم أقف عليه. ووقع في "تاريخ دمشق" 37/ 188 بعد القول الذي قبله ما صورتُه: وغيلان من عمل بيت جبريل. (¬2) من قوله: تفسير قوله: لا أنحاش ... إلى هذا الموضع (وهو الواقع بين حاصرتين) من (م). وما جاء فيه بين قوسين عاديَّين من"الصحاح". وجاء في حاشية (م) ما نصُه: (قال في "القاموس": الصِّهْر زوج بنت الرَّجل وزوج أخته، والأَخْتَان أصهارٌ أَيضًا. وقد صاهرهم، وفيهم، وأصهر بهم وإليهم: صار فيهم صِهْرًا. انتهى. وقال أَيضًا في مادة ختن: الخَتَن بالتحريك: الصِّهر، أو كلُّ من كان من قِبَل المرأة كالأب والأخ، والخُتُونة بالضم: المصاهرة، كالخُتون، وتزوّجُ الرجلِ المرأة، وخاتَنَه: تزوَّج إليه. انتهى. أقول: وإذا عرفتَ ذلك؛ علمتَ أن قوله: وأما عند العامّة ختن الرَّجل زوج ابنته مشيرًا بذلك إلى أنَّه لا أصل له عند علماء اللغة؛ ليس بصحيح؛ لثبوت أصله كما نقلتُ لك، فتأمّل ما في كلامه، والله أعلم. لكاتبه محمَّد). (¬3) لم أقف على هذا القول. وينظر التعليق التالي. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 83، وتاريخ دمشق 37/ 149. دون قوله: وقيل: عمرة بنت عُبيد الله بن العبَّاس. (¬5) ينظر "التلقيح" ص 363.

وروى عن كبار الصَّحَابَة كأبي بكر، وعُمر، وعبدِ الرَّحْمَن بنِ عوف، ومعاذِ بن جبل، وأبي الدَّرداء، وأبيه عَمرو، وغيرهم - رضي الله عنهم -. وروى عنه ابنُ المسيِّب، وعروة بن الزُّبير، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وطاوس، وابن أبي مُليكة، وأبو سلمة بن عبد الرَّحْمَن، وأخوه حُميد بن عبد الرَّحْمَن، وعطاء بن يسار، في خلق كثير من أهل الحجاز، واليمن، والعراق، وأهل الشَّام، وكان من المكثرين (¬1). [ومن مسانيده في القُسطنطينية؛ قال (أَحْمد): حَدَّثَنَا يحيى بن إسحاق بإسناده إلى أبي قَبِيل قال: كنتُ عند عبد الله بن عَمرو بن العاص، فسئل: أيُّ المدينتين تُفتحُ أوَّلًا؛ القسطنطينية، أو رُوميَّة؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئل عن ذلك فقال: "مدينة هرقل". يعني القُسطنطينية. ومن مسانيده في الكاسيات وأسنمة البُخْت، قال أَحْمد بإسناده إلى عيسى بن هلال الصَّدَفي؛ قال: سمعتُ عبدَ الله بنَ عَمرو يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون نساءٌ في أمتي يركَبْنَ على السُّرُوج كأشباه الرِّجال، كاسياتٍ عاريات، على رؤوسهنَ كأسْنمةِ البُخْتِ العِجاف، مائلاتٍ مُميلات، فالعنُوهنَ، فإنَّهن ملعونات". ومن مسانيده في المرضى؛ قال أَحْمد بإسناده عن عبد الله بن عَمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحدٌ من النَّاس يُصابُ ببلاءٍ في جسده إلَّا أمرَ اللهُ الملائكةَ الذين يحفظونه، فقال: اكتُبوا لعبدي في كلّ يوم وليلة ما كان يعملُ من خير ما دام في وَثاقي". ومن مسانيده في خراب الكعبة؛ قال أَحْمد بإسناده عن مجاهد، عن عبد الله بن عَمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُخَرِّبُ الكعبةَ ذو السُّوَيقَتَين من الحبشة، ويَسْلُبُها حُلِيَّها, ولكأني أنظرُ إليه أُصَيْلِعَ أُفَيْدِعَ، يَضربُ عليها بمِسْحَاتِهِ ومِعْوَلِه". الفَدَع: زيغٌ بين القَدَم وعَظْم السَّاق. وأيضًا: ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 37/ 146 - 147 (طبعة مجمع دمشق) و"تهذيب الكمال" 15/ 358 - 362.

عبد الله بن عمرو بن قيس

عبد الله بن عَمرو بن قيس أبو أُبَيّ الأَنْصَارِيّ، له صحبة ورواية. قلت: وأخرج له أَحْمد في "المسند" حديثين؛ قال أحمد بإسناده عن أبي أُبَيّ (¬1) ابنِ امرأةِ عُبادة بنِ الصامت، عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيكون أمراء لتشغلنَّهم أشياءُ، يؤخّرون الصلاة عن وقتها، فصلُّوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم تطوّعًا". انتهى حديثه] (¬2). عبد الله بن عبد الرَّحْمَن (¬3) ابن عتبة، ويعرف بابن جَحْدَم، الفِهْري، أمير مصر لما حصرها مروان [بن الحَكَم] (¬4)، وكان أبوه عبد الرَّحْمَن على مصر من قِبَل ابنِ الزُّبير (¬5)، فأقام عليها تسعة أشهر، فقيل: قتله مروان بمصر، وقيل: عاش إلى بعد زمن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، ووليَ دمشقَ (¬6) ليزيد بن عبد الملك. قال هشام بنُ عمار: أجدبت دمشق، فخرج بالنَّاس يستسقي، فصعد المنبر دون المجلس وقال: اللهمَّ إنَّا لم نكن بأجمعنا نجيء إلى غيرك (¬7)، وقد جئناك لأمر لا ينقصك شيئًا، وهو بنا أرفق (¬8)، فاسْقِنا. قال: فسُقُوا من وقتهم. ¬

_ (¬1) في (م) (والكلام منها): ابن أُبي، والتصويب من "المسند" (23852). (¬2) من قوله: ومن مسانيده في القسطنطينية ... إلى هذا الوضع (وهو ما بين حاصرتين) من (م). وورد في (خ) من هذا الكلام كله حديث ذي السويقتين فقط. وتنظر الأحاديث المذكورة في "مسند" أَحْمد على الترتيب: (6645) و (7083) و (6482) و (7053) و (23852). (¬3) بدءًا من هذه الترجمة أُضيفت نسخة أَحْمد الثالث، ورمزها (أ). (¬4) إنما أمير مصر أبوه عبد الرَّحْمَن كما سيأتي في الكلَام بعده. وسلف خبرُه ص 323 - 324. (¬5) ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 289 و 318 - 319. (¬6) يعني عبد الله بن عبد الرَّحْمَن. وقد تداخل الكلام هنا بين عبد الرَّحْمَن وابنه. ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 12/ 337. (¬7) في (م): أحد غيرك. وفي "مختصر تاريخ دمشق" 12/ 337: أحد دونك. (¬8) في "مختصر تاريخ دمشق": رافق، وفي (م): أن نسق. وعبارة "المختمر": إنَّا لم نكن لنجيء بأجمعنا إلى أحد دونك -وكلُّ شيء هو دونك- في أمر لا ينقصه شيئًا وهو بنا رافق إلَّا أعطاناه، اللهمَّ ولك المثَل الأعلى، جئناك الغداة نطلب في أمر لا ينقصك وهو بنا رافق ...

مالك بن هبيرة

مالك بن هُبيرة ابن خالد بن مسلم السَّكوني (¬1). [قال ابن عبد البَرّ: كنيتُه] أبو سعيد. وقيل: أبو سليمان. له حديث واحد [في الصفّ على الجنازة]؛ قال الإِمام أَحْمد بنُ حنبل - رضي الله عنه -: حَدَّثَنَا يزيد بنُ هارون، حَدَّثَنَا حماد بنُ زيد، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مَرْثد (¬2) بن عبد الله اليَزَني، عن مالك بن هُبيرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مؤمن يموت، فيصلِّي عليه أُمَّةٌ من المسلمين يبلغوا (¬3) أن يكونوا ثلاث صفوف (¬4)؛ إلَّا غُفر له". قال: وكان مالك بن هُبيرة يتحرَّى إذا قلَّ أهل الجِنازة أن يجعلهم ثلاث صفوف. [وفي رواية: "ما صلَّى على ميّت ثلاث صفوف؛ إلَّا وجبت له الجنة". وليس في الصَّحَابَة مَن اسمُه مالك بن هُبيرة سواه] (¬5). قال ابن عساكر (¬6): كانت دار مالك بالباب الشرقيّ بدمشق، ولما قَتَلَ معاويةُ حُجْرَ بنَ عديّ الكندي وأصحابَه كان بدمشق، وولَّاه معاويةُ الصائفة وحمص. وحضر مع مروان الجابية لما بُويع، وشهد معه وقعة المَرْج، وكان على الرَّجَّالة. وسكن حمص، ولم يُعْقِب، وكان معاوية يثني عليه ويقول: ما أصبح عندي من العرب أوثقَ في نفسي نصحًا للمسلمين مثل مالك [بن هُبيرة]. وكانت وفاته ببيت رأس (¬7). ¬

_ (¬1) في (م): اليزني، وقيل: السكوني. وما سيرد بين حاصرتين منها. (¬2) في (أ) و (خ): زيد، وهو تحريف. (¬3) في (أ) و (خ): لم يبلغوا. والمثبت من "مسند" أَحْمد (16724)، وهو بنحوه في (م) كما في التعليق التالي. (¬4) في (م): يبلغوا ثلاث صفوف. (¬5) ما بين حاصرتين من (م)، وينظر "تاريخ دمشق" 66/ 166 - 167 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) في "تاريخ دمشق" 66/ 163 - 164. (¬7) المصدر السابق 66/ 172. وبيت رأس -كما في "معجم البلدان" 1/ 520 - اسم لقريتين، في كل واحدة منهما كروم كثيرة يُنسب إليها الخمر، إحداهما بالبيت المقدّس -وقيل: بالأردن- والأخرى من نواحي حلب.

مروان بن الحكم

مروان بن الحَكَم ابن [أبي] العاص بن أمية بن عَبْد شمس، أبو عبد الملك، من الطَّبقة الأولى من التابعين، من أهل المدينة (¬1). أدرك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحفظ عنه شيئًا، وقُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمانِ سنين. [قال هشام: ] ومولدُه بالأبواء سنة اثنتين من الهجرة، وأمُّه آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أميَّة بن مُحَرِّثْ من بني كنانة، كنيتها أمُّ عثمان. وأمُّها الصَّعبة بنتُ أبي طلحة بن مُحَمَّد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار [بن قصي]. قال الواقدي: وتُلقَّبُ بالزرقاء، وكانوا يُعَيَّرون بها. قال ابن الكلبي: وكان لها راية في الجاهلية تُعرف بها. وقال البَلاذُري: الزَّرقاء أمُّ جدَّة مروان, لأن أمَّه آمنة بنت صفية، وصفية تلقَّب بالصعبة بنت أبي طلحة العَبْدري، وأمُّ مارية بنت موهوب و [مارية] هي الزرقاء (¬2) [وكان موهوب -ويقال: - قَينًا بمكة]. وقيل: اسم الزَّرقاء أرنب بنت موهب (¬3). ذكر صفته: [قال الواقدي: ] كان مروان طُوالًا دقيقًا، يلقب بخيط باطل، وهو الذي يُرى في الشمس من لُعابها (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 39. ونسب الكلام في (م) إليه. (¬2) الكلام بنحوه في "أنساب الأشراف" 5/ 281, وفيه: موهب، بدل: موهوب. (¬3) ينظر "تاريخ دمشق" 66/ 423. وما سلف وسيرد بين حاصرتين من (م). والقَيْن: الحدَّاد. (¬4) في "أنساب الأشراف" 5/ 285 - 286: كان مروان يلقَّب بخيط باطل لقدّته وطوله؛ شُبه بالخيط الأبيض الذي يُرى في الشمس. وجاء في "تاريخ دمشق" 66/ 473: كان قصيرًا أَحْمر الوجه، أوقصَ، دقيق العنق, كبير الرأس واللحية. وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" 2/ 707: كان يلقَّب خيط باطل لدقَّة عنقه. وذكر الثعالبي في "ثمار القلوب" ص 76 أن مروان لقِّب بذلك لأنه كان طويلًا، مضطربًا، وقال: الخيوط التي تتراءى في الهواء عند شدّة الحرّ يقال لها: مُخاط الشيطان، ولُعاب الشَّمس، وخيط باطل.

وفيه يقول أخوه عبد الرَّحْمَن بن الحكم: لعمري وما أدري وإني لسائلٌ ... حَلِيلةَ مضروبِ القَفَا كيف يصنعُ لَحَى اللهُ قومًا أمَّرُوا خَيطَ باطلٍ ... على الناسِ يُعطي من يشاء ويمنعُ (¬1) [وكان قد ضُرب مروانُ على قَفَاه يوم الدَّار، فكان يلقَّب بمضروب القَفَا. وقد ذكرناه هناك. ذكر طرف من أخباره وسيرته: رُوي أنَّه قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ ثمان سنين؛ قال: ] (¬2) ولم يزل مروان مع أَبيه الحكم حتَّى مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، فضمَّه عثمان رضوان الله عليه إليه، وجعله كاتبه، وأعطاه أموالًا عظيمة، وكان يتأوَّل في ذلك صلة الرَّحم، فنقم النَّاسُ على عثمان رضوان الله عليه بسبب تقريبه إليه، فكان يرتكب أمورًا لا يعلم بها عثمان رضوان الله عليه، ويرون أن كثيرًا ممَّا نسب إلى عثمان رضوان الله عليه لم يأمر به، وإنما هو عن رأي مروان. وكان النَّاس قد شَنَفُوا لعثمان - رضي الله عنه - (¬3) لما كان يصنع مروان، وكان عثمان رضوان الله عليه رجلًا حَيِيًّا كريمًا، فكان يصدِّقُ مروان في بعض ذلك، ويردُّ عليه بعضًا. فلما حُصر [عثمان] قاتل مروانُ دونَه أشدَّ القتال. [قال ابن سَعْد أَيضًا (¬4): وأرادت عائشةُ الحجَّ وعثمانُ محصور، فأتاها مروان، وزيد بنُ ثابت، وعبد الرَّحْمَن بن عتَّاب بن أسيد بن أبي العيص، فقالوا: يَا أُمَّ المُؤْمنين، لو أقمتِ، فإنَّ أمير المُؤْمنين محصور، ومقامُكِ ممَّا يدفع الله به عنه. فلم تُجبهم وقالمت: قد أحضرتُ رواحلي. فقام مروان وهو يقول: حرَّقَ قيسٌ عليَّ البلاد ... حتَّى إذا استعَرَتْ أجذما ¬

_ (¬1) بنحوه في "أنساب الأشراف" 5/ 286. (¬2) الكلام بين حاصرتين من (م). (¬3) أي: اعترضوا عليه. (¬4) في "الطبقات" 7/ 40 - 41، وما قبله منه.

فقالت عائشة: أيُّها المُتَمثِّلُ عليَّ بالأشعار، وَدِدْتُ -واللهِ- أنَّك وصاحبَك هذا الذي يعنيك أمرُه؛ في رِجْل كلِّ واحد منكما رَحًى، وأنتُما في البحر. ثم خرجَتْ إلى الحجّ. وقد ذكرناه. وقال البلاذُري (¬1): ولّاه معاويةُ البحرين، ثم ولَّاه المدينة مرَّتين، وكان يولّيه مرة، وسعيد بن العاص مرَّة. وقد تقدَّم هذا. وقال المدائنيّ: ] (¬2) وكان مروان من أقرأ النَّاس للقرآن، وكان يقول: ما أتيتُ بفاحشة قطّ. وقيل لأبي البليغ: كيف رأيت مروان عند طلب الحاجة إليه؟ فقال: رأيتُ رغبته في الإنعام فوق رغبته في الشكر، وحاجتَه إلى قضاء الحاجة أشدَّ من حاجة صاحبها (¬3). وتنازعَ مروان وعَمرو بنُ العاص في شيء، فقال له عمرو يَا ابن الزرقاء. فقال مروان: إنْ كانت زرقاء، فقد أنجبَتْ وأدَّت الشَّبَه إذْ لم تؤدِّه النابغة (¬4). [وقال ابن سعد (¬5): ولَّى معاولةُ مروان المدينة لما وليَ الأمر سنة اثنتين وأربعين، ثم عزله وولَّى سعيد بن العاص، ثم عزل سعيدًا وأعاد مروان، ثم عزله وأعاد سعيدًا، ثم عزله وولَّى مروان (¬6)، ثم عزله وولَّى سعيدًا. ثم ولَّى الوليدَ بنَ عتبة بن أبي سفيان، فلم يزل على المدينة حتَّى مات معاوية، ومروان يومئذ معزول عن المدينة، ثم ولّى يزيدُ بنُ معاوية المدينة بعد الوليد بنِ عتبة عثمانَ بنَ محمَّد بن أبي سفيان، فأخرجه أهل المدينة وبني أمية، وأجْلَوْهم إلى الشَّام، وفيهم مروان، والتقاهم مُسْرف بن عقبة، فرجعوا معه إلى المدينة، وكانت نَوْبَةُ الحَرَّة، وجعل مروان يُؤَلِّبُ مسرف على أهل المدينة، ويدلُّه على عوراتهم بعد ما أخذوا عليه العهود والمواثيق. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 5/ 286. (¬2) من قوله: قال ابن سعد أَيضًا: وأرادت عائشة ... إلى هذا الموضع (وهو الواقع بين حاصرتين) من (م). (¬3) العقد الفريد 1/ 230. (¬4) أنساب الأشراف 5/ 291. والنابغة أمُّ عمرو بن العاص، من بني عَنَزَة. (¬5) في "الطبقات" 7/ 42 - 43. (¬6) كذا جاء ذكر تولية مروان للمرة الثالثة في (م) (والكلام منها) وجاء في "الطبقات" مرتين، وسلف كذلك من قول البلاذري.

وكتب مسرف إلى يزيد يشكرُ مروان، فلما قدم على يزيد أكرمه ووصله. وأقام مروان بالشَّام حتَّى مات يزيد بن معاوية، ووليَ ابنُه معاويةُ بن يزيد، ومات، ووقع الاختلاف إلى أن وَليَ مروان الخلافة. وقال الهيثم بنُ عديّ: ] (¬1) ودخل مروان ضيعة له بالغوطة أقطعه إيَّاها معاوية، فقال لوكيله: إنِّي لأظنُّك قد خُنتني. فقال: لا تظنَّ، ولكن تيقَّن، واللهِ إنِّي لأخونُك، وإنك لتخونُ معاوية، وإنَّ معاوية، ليخونُ ربه، فأبعدَ الله شرَّ الثلاثة (¬2). [قال ابن عساكر: ] وكان يهوديّ اسمُه يوسف قد أسلم وقرأ الكتب، وكان إذا مرَّ بدار مروان يقول: ويلٌ لأمَّةِ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من أهل هذه الدار حتَّى تجيء راياتٌ سودٌ من قِبَل خُراسان. وكان صديقًا لمروان، فكان يقول له: يَا مروان (¬3)، اتَّقِ اللهَ في أمَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إذا وَليَتهُمْ. [وقد ذكرنا اليهودي لما جهَّز يزيد بن معاوية الجيش إلى ابن الزُّبير، واستعظم الأمر عبدُ الملك بن مروان. وقال المدائنيّ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحكم: "كأني ببنيك يصعدون على منبري وينزلون". وقال ابن عباس في تأويل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَينَاكَ إلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني أمية يَنْزُون على منابره نَزْو القردة. فساءه ذلك] (¬4). ¬

_ (¬1) من قوله: وقال ابن سعد: ولَّى معاوية مروان ... إلى هذا الموضع (وهو الواقع بين حاصرتين) من (م). (¬2) بنحوه في "العقد الفريد" 1/ 32. (¬3) في "تاريخ دمشق" 43/ 255 (طبعة مجمع دمشق): وكان صديقًا لعبد الملك بن مروان ... يَا ابن مروان. والخبر في ترجمة عبد الملك، ولم أقف عليه في ترجمة مروان. وينظر الكلام التالي والتعليق عليه. (¬4) من قوله: وقد ذكرنا اليهودي ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (م). وقد ضعَّف هذه الأخبار ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 701 وابن كثير في "البداية والنهاية" 11/ 711. وسلف خبر اليهودي مع عبد الملك في فقرة: ولاية عبد الملك، في أحداث هذه السنة (65).

وقال عَمرو بن مُرَّة الجهني: استأذنَ الحَكَم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائذنوا له، لعنه الله، ولعنَ مَنْ يخرجُ (¬1) من صُلْبِه" (¬2). [فإن قيل: فقد قالت عائشة لمروان: أشهدُ أن رسول الله لعنَ أَبَاك وأنتَ في صُلْبِه. ومروان وُلد بعد الهجرة. قلنا: إنما لعن الحكم لما كان في مكة قبل الهجرة، فإنَّه كان يُبالغ في أذى رسول الله. وقد ذكرناه] (¬3). ذكر وفاته: واختلفوا فيها على قولين: أحدهما: أنَّه طُعن, فمات فجأة. والثاني: أن أمَّ خالد بن يزيد قتَلَتْه. وقد اختلفت الرواية فيه، فقال ابنُ سعد بإسناده عن أبي الحُويرث قال: لما بايع أهل الشَّام مروان قيل له: تزوَّج أمّ خالد حتَّى تصغّر شأن ابنها، فلا يُطلب للخلافة. فتزوَّجَها. فدخل خالد يومًا على مروان وعنده جماعة كثيرة وهو يمشي بين الصفَّين، فقال مروان: والله إنه ما علمتُ لأحمق. ثم قال: تعال يَا ابن الرَّطبة. يُقصِّر به ليسقطه في عين أهل الشَّام. فرجع إلى أمه، فأخبرها، فقالت له: لا يُعرف ذلك فيك واسكت، فأنا أكفيكه. ثم دخل عليها مروان، فقال: هل قال لكِ خالد شيئًا؟ قالت: أَنْتَ عند خالد أشدُّ إعظامًا من أن يقول فيك شيئًا. ثم مكثت أيامًا، فنام مروان عندها، فغطَّتْه بالوسادة حتَّى قتلته. هذا صورة ما حكى ابنُ سعد عن الواقديّ، وقد أشار إليه الطبري (¬4). ¬

_ (¬1) في (م): ولعن ما نسل وما يخرج ... (¬2) نُسب الخبر في (م) للبلاذُري، وهو في "أنساب الأشراف" 5/ 285، وتتمته فيه: "إلَّا المُؤْمنين، وقليلٌ ما هم، يشرُفون في الدنيا، ويتَّضعون في الآخرة". (¬3) ما بين حاصرتين من (م). (¬4) أخرجه الطبري في "تاريخه" 5/ 610 - 611 من طريق ابن سعد، عن الواقديّ، عن موسى بن يعقوب، عن أبي الحويرث. وهو ينحوه في "طبقات" ابن سعد 7/ 46 من طريق آخر.

وقال المدائنيّ: إنما تزوَّج مروان أمَّ خالد بعد عوده من مصر (¬1)؛ قال: لمَّا رَجَعَ مروان من مصر نزل الأردنّ، فخطب أمَّ خالد بن يزيد، وهي أمُّ هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة (¬2)، فأخبرَتْ ابنَها خالدًا، فقال: واللهِ ما يريد إلا أن يُسقط منزلتي وحُرمتي ويفضحني بين النَّاس. فأَبَتْ إلَّا أن تتزوَّجه، فلما دخلَ بها ليلة البناء؛ قعدت معه على فراشه، فأقبل ينظر إلى السقف ويحدِّثُ نفسه، ولم يكلّمها حتَّى أصبح، وخرجَ إلى الصلاة، فأرسلت إلى صاحب شرطته وقالت: أما ترى ما صنع بي صاحبُك من الاستخفاف؟ ! وقد عصيتُ ولدي والناسَ فيه. فأخبر مروان بما قالت، فقال: إنّي كنتُ شابًّا وأنا مقبلٌ على أمر آخرتي لا أؤثر عليها شيئًا، فلما كَبِر سنِّي واقترب أجلي آثرت دنياي على آخرتي، فأُتيتُ بها وأنا مفكِّر في ذلك، فشُغلت عنها (¬3). [وقال الهيثم: ما زال مستخفًّا بها وبابنها منذ دخل بها ليفضحَها ويفضحَ ابنَها حتَّى قَتَلَتْه] (¬4). ودخل خالد يومًا على مروان وعنده جماعة كثيرة وهو يمشي بين الصفَّين، فقال مروان: والله إنه ما علمتُ لأحمق. ثم قال: تعال يَا ابن الرطبة. فقال له خالد: يَا مروان، واللهِ ما أحسنتَ العِشْرة، ولا أدَّيتَ الأمانة، واللهِ لقد نَهَينَاها عنك فأبت، فأبعدَ اللهُ ساعتك. ثم نهض، فدخل على أمّه باكيًا، فأخبرَها، فقالت: اكُتمْ هذا، فوالله لا سمعتَ بعدها منه ما تكره. ودخل مروان عليها فقال لها: ما الذي قال لك خالد؟ قالت: وما عساه أن يقول، وأنت عنده بمنزلة الوالد. وجاء وقت القائلة، فنام عندها فاتفقت مع جواريها على خنقه، فأخذَتْ وسادةً، فجعلتها على وجهه، فخنقته، ثم رفعت الوسادة وقامت، فشقت جيبها، وفعل جواريها كذلك، ثم صِحْنَ ووَلْوَلْنَ. ¬

_ (¬1) من قوله: واختلفوا فيها على قولين ... إلى هذا الموضع أثبتُّه من (م)، وقد وقع في (أ) و (خ) مختصرًا جدًّا. ولم يرد فيهما أَيضًا خبر ابن سعد. (¬2) في (أ): زمعة. (¬3) أنساب الأشراف 5/ 313 - 314. (¬4) ما بين حاصرتين من (م).

ويقال: كان في آخر رمق، واعتُقل لسانُه (¬1)، ودخل أولادُه وأمُّ خالد عند رأسه فجعلَ يُشير إليها بيده، أي: هي التي قتلتني. فلم يفهموا، وجعلت تقول: إنه لم يشتغل عني بما هو فيه، ألا ترون كيف يُوصيكم بي؟ وعلم النَّاسُ بعد ذلك، فكان عبد الملك [بن مروان] يقول: واللهِ إنِّي لأعرفُ ثأري في هذا الدار. يعني دار أمِّ خالد. [قال الهيثم: ] فمروان يعدّ من قتلة النساء. وكانت وفاتُه بدمشق غرَّة شهر رمضان [أو لهلال شهر رمضان] هذه السنة. وصلَّى عليه عبد الملك. وقيل: عبد الرَّحْمَن بن أمِّ الحكم؛ [كان خليفتَه على دمشق] (¬2). ودُفن بين باب الجابية والباب الصغير. [وهذا قول عامة العلماء أنَّه مات بدمشق مستهلّ رمضان، وقد نصَّ عليه الطبري]. وقيل: مات بِلُدّ. وقيل: بالصِّنَّبْرة [عند انصرافه من مصر] (¬3). وكانت ولايتُه على الشَّام ومصر والجزيرة ثمانية أشهر، وقيل: تسعة أشهر وأيامًا، وقيل: عشرة أشهر إلَّا ثلاثة أيام (¬4). وقد قال له أمير المُؤْمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: يَا مروان، لتحملنَّ راية ضلالة بعد ما يشيب صِدْغاك، وإن لك إمرةً كَلَحْسَةِ الكلب أنفَهُ (¬5) [وقد ذكرناه يوم الجمل]. وعاش ثلاثًا وستين سنة، وكان نقش خاتمه: آمنتُ بالله مخلصًا (¬6). ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 5/ 334 أنَّه اعتُقل لسانُه من شربة لبن مسموم. (¬2) نُسب هذا القول في (م) للبلاذري، وهو في "أنساب الأشراف" 5/ 335. والكلام الواقع بين حاصرتين من (م). (¬3) تاريخ دمشق 66/ 473 (طبعة مجمع دمشق) ونسب هذا القول في (م) إليه، وما بين حاصرتين منها. لُدّ: القرية المعروفة قرب بيت المقدس والتي يُقتَل عندها الدَّجَّال، والصِّنَّبْرَة: موضع بالأردن بينه وبين طبريّة ثلاثةُ أميال. ينظر"معجم البلدان" 3/ 425 و 5/ 15. (¬4) ينظر "تاريخ دمشق" 66/ 470 - 473 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 46، ونسب الكلام في (م) إليه. وما بين حاصرتين بعده من (م). (¬6) نُسب الكلام في (م) لابن سعد، ولم أقف عليه عنده ولا عند غيره. وذكر ابن عساكر في "تاريخه" 43/ 285 هذا النقش لخاتم عبد الملك بن مروان، وذكر في 66/ 458 رواية أن نقش خاتم مروان: آمنت بالعزيز الرَّحِيم، وفي رواية أخرى: العزة لله.

وحجَّ بالنَّاس ستَّ حِجَج (¬1) في أيام معاوية: سنة ثلاث وأربعين، وسبع وأربعين، [وثمان وأربعين] وأربع وخمسين [وست وخمسين]. وكان كاتبه عبيدُ بنُ أوس (¬2)، وحاجبُه المنهال مولاه (¬3)، وقاضيه أبو إدريس الخَوْلانِيّ، وصاحب شرطته يحيى بن قيس الغسَّاني (¬4). وكان مروان شاعرًا، وذكر أبو العلاء [المعرّي] في خطبة "لزوم ما لا يلزم (¬5) ": وهَلْ نحنُ إلَّا مثلُ مَنْ كان قَبْلَنا ... نموتُ كما ماتُوا ونحيا كما حَيُوا وينقُص منا كلَّ يوم وليليةٍ ... ولا بد أن نلقى من الدهر ما لَقُوا نُؤمِّلُ أنْ نبقى وكيف بقاؤنا ... فهلَّا الأُلى كانوا مضَوْا قبلَنا بقُوا فَنُوا وهُمُ يرجُون مثلَ رجائِنا ... ونحن فنَفْنَى مرةً مثلَ ما فَنُوا لنا ولهم يومَ القيامة موعدٌ ... ونُدعى له يومَ الحساب إذا دُعوا ويُحبس منَّا من مضى لاجتماعنا ... بموطنِ حقٍّ ثم نُجزَى كما جُزُوا فمنهم سعيدٌ سَعْدَةً ليس بعدَها ... شقاءٌ ومنهم بالذي قدَّمُوا شَقُوا (¬6) ذكر أولاده: كان له من الولد عبدُ الملك [وبه كان يُكنى] ومعاوية، وأمّ عَمْرو (¬7)؛ أمُّهم عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية-[ومعاوية أبو عائشة هو الذي جَدَع أنف ¬

_ (¬1) كذا وقع: "ستّ حجج"، وما سيرد ذكره خمس حجج، وما بين حاصرتين من (م)، وجاء في "تاريخ دمشق" 66/ 432 - 434 أنَّه حج في السنوات: (43 - 45 - 48 - 54 - 55). (¬2) في "المحبّر" ص 377 أن عُبيد بن أوس كاتب معاوية - رضي الله عنه -. (¬3) في "المحبّر" ص 259: أبو المنهال الأسود. (¬4) المحبر ص 373. (¬5) في (م): "وذكر أبو العلاء المعرّي أبياتًا وقال: إنها تنسب إليه وهي هذه". والأبيات في "لزوم ما لا يلزم" 1/ 23. وينظر التعليق التالي. (¬6) الأبيات الأربعة الأولى في "معجم الشعراء" للمرزباني ص 317 مع بيت خامس: وننزلُ دارًا أصبحوا ينزلونها ... ونَبْلَى على رَيب الزمان كما بَلُوا ولم أقف على مصدر آخر للأبيات الثلاثة الأخيرة. (¬7) ذُكر معهم في (م) عبد العزيز وهو خطأ، لقوله بعده: أمُّهم عائشة ... فأمُّ عبد العزيز بن مروان ليلى بنت زبّان، كما سيأتي.

حمزة بن عبد المطّلب يومَ أُحد، وقد ذكرناه، وذكرنا أنَّه قُتل على أُحد بعد انصراف قريش بثلاثة أيام؛ قتله عليٌّ بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) -. وأم عائشة فاطمةُ بنتُ عامر بن جُذيم من بني جُمح، وأمُّها سُكينة بنتُ أبي مُعَيط (¬2). وعبدُ العزيز، وأمُّ عثمان؛ أمُّهما (¬3) ليلى بنت زبَّان بن الأصبغ، كلبيَّة. وبشر، وعبد الرَّحْمَن؛ درج؛ أمُّهما قُطَيَّة بنت بشر بن عامر، كلبيَّة أَيضًا. وأبان، وعبدُ الله، وعُبيدُ الله، وأيوبُ، وعثمان، وداود، ورَمْلَة، وأمّهم أمّ أَبان بنت عثمان بن عفَّان رضوان الله عليه، وأُمّ أُمّ أَبان رَمْلَةُ بنتُ شَيبة بن ربيعة بن عبد شمس. وعَمْرو، وأمُّ عَمرو (¬4)؛ وأمُّهما زبنبُ بنتُ عمرو بن أمّ سلمة (¬5) زوج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -. ومحمدُ، وعُمرُ، كل واحد منهما لأمِّ ولد (¬6). وأمَّا عبد الملك؛ فنذكره. وأما معاوية بنُ مروان [فقال البلاذُري: ] كان أحمق، ويُكنى أَبا المغيرة، طارَ له بازي، فأمرَ بغلق أبواب دمشق لئلا يخرج البازي من الباب. [قال: ] وسمع قائلًا يقول: لا أفلحَ حقلٌ لا يَرَى است صاحبِه، فنزل إلى بستان [له] وأحدثَ فيه. [قال: ومرَّ يومًا بديراني يقرأ الإنجيل ويقول: حَرْ، فقال له: يَا ديراني، ما تقرأ؟ قال: الإنجيل. قال: ففي الإنجيل حر؟ قال: لا, ولكن لي أسفل العِلّيّه حمارٌ يطحن، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 300. وسلف ذكر معاوية أبي عائشة ص 330. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في (أ) و (خ): أمها، والتصويب من"طبقات" ابن سعد 7/ 40، والكلام ليس في (م). (¬4) كذا في "طبقات" ابن سعد 7/ 40، وفي "نسب قريش" ص 161: عُمر وأمّ عُمر. وفي "تاريخ دمشق" ص 542 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق) أنَّه يقال لأمّ عُمر هذه أَيضًا: أمّ عَمرو. (¬5) في "نسب قريش" ص 161، و"تاريخ دمشق" (الطبعة المذكورة): زينب بنت عُمر بن أبي سلمة. وفي "طبقات" ابن سعد 7/ 40: زينب بن أبي سلمة. (¬6) ينظر بالإضافة إلى المصادر السابقة: أنساب الأشراف 5/ 340 - 341، وجمهرة أنساب العرب ص 87 - 88.

وفي رقبته جلجل، وربَّما غفل، فأقول: حر، فيدور. فقال: وما يُدريك لعلَّه يقفُ ويحرِّكُ رأسَه، فتظنُّ أنَّه يمشي؟ فقال الديراني: من لي بحمار يكون عقلُه مثل عقل الأمير! وقد ذكرنا أنَّه كان لمعاوية بن أبي سفيان ولد اسمه عبد الله، وكان أحمق، وجرى له مثل هذا. قال البلاذُري: ] (¬1) وقال يومًا لأخيه عبد الملك: متى يكون يوم الأضحى من شهر رمضان؟ فقال عبد الملك لأبي الزُّعَيزِعَة: أقِمْه. فأقامه (¬2). [وقال البلاذري أَيضًا: ] وتزوَّج امرأة، فلما أصبح قال لأبيها: لقد نكحتُ ابنتَك البارحةَ بقضيب ما رأَتْ مثلَه قطّ. فقال [له] أبوها: لو كنتَ خصِيًّا ما زوَّجناك. [قال: ] وتزوَّج بكرًا، فلما أصبح قال لأمِّها: ملأَتْنِي ابنتُكِ البارحةَ دمًا. فقالت: إنَّها من نسوة يختبئن ذلك الدم لأزواجهن. فقال: لو نهيتموهنّ عن هذا لكان أحسن. فقالت: لو كنتَ خَصِيًّا لاسترحتَ من هذا، وعلى مَنْ زوَّجك لعنةُ الله (¬3). وقال له خالد بنُ يزيد: ما لي أرى أخاك عبدَ الملك لا يُوَلِّيك ولاية؟ فقال: لو أردتُ لولَّاني. فقال: سَلْهُ أنْ يُوليَك بيت لِهْيَا (¬4). فغدا على عبد الملك فقال: ألستُ أخاك وشقيقَك؟ قال: بلى. قال: فولّني ولاية. قال: ما تريد؟ قال: بيتَ لِهْيَا. قال: متى لقيتَ خالدَ بنَ يزيد؟ قال: عشيَّةَ أمس. قال: لا تكلِّمه. ودخل خالد عليه فقال: كيف أصبحتَ يَا أَبا المغيرة؟ قال: قد نهاني هذا عن كلامك. وأشار إلى عبد الملك (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: قال ومرّ بديراني ... إلى هذا الموضع، وهو الواقع بين حاصرتين من (م). وينظر "أنساب الأشراف" 5/ 341 - 342. (¬2) المصدر السابق. وأبو الزُّعيزعة، مولى عبد الملك، بربريّ. ينظر المصدر نفسه 5/ 29. (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 342، و"المعارف" ص 354، و"العقد الفريد" 6/ 158. (¬4) هي قرية بغوطة دمشق. وجاء في حاشية النسخة (م) ما صورتُه: بيت لهيا بيت الأصنام. وينظر "معجم البلدان"1/ 522. (¬5) أنساب الأشراف 5/ 343، ونُسب الخبر في (م) لابن عساكر، ولم أقف عليه عنده.

[قال]: وقال له خالد يومًا: أتحبُّ أن تكونَ أميرَ المؤمنين؟ قال: نعم. قال: إذا خرج عبد الملك يوم الجمعة للصلاة والخطبة، فاسْبِقْه واصعد المنبر، وقد صرتَ أمير المُؤْمنين. قال: فسبقه إلى المنبر وصعد، فالتفت عبدُ الملك إلى خالد وقال: هذا عملُك؟ قال: نعم (¬1). [قال: ومات له جار، فجاء أهلُه يطلبون له منه كفنًا، فقال: ما عندي شيء. ولكن اصبروا يومين ثلاثة. وقال البلاذري: ] وُلد لمعاوية هذا: الوليد، وعبد الملك، وبشر، والمغيرة، فأما الوليد فقتله عبد الله بن عليّ لما فتح دمشق [وهدمَ سورَها] وهدمَ داره (¬2). وأما عبد الله (¬3) بن مروان؛ فكان أحمق أَيضًا، أهدى إلى الوليد بن عتبة قَطِيفةً حمراءَ، وكتبَ إليه: قد بعثتُ إليك قَطِيفةً حمراءَ حمراءَ. فكتبَ إليه: وصلَتْ، وأنت واللهِ يَا ابن العمّ أحمق أحمق (¬4). وأمَّا عبدُ العزيز؛ فكنيتُه أبو الأصبغ، ولّاه أبوه العهدَ بعدَ عبد الملك؛ وأعطاه مصر، وسنذكره. وأما بشر بن مروان؛ فولّاه أخوه الكوفةَ والبصرةَ، وكنيتُه أبو مروان، مات بالبصرة، وسنذكره. وأمَّا أَبان بن مروان؛ فولَّاه عبدُ الملك فلسطين، وكان الحَجَّاج بنُ يوسف على شرطته. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 343، وما سلف وسيرد بين حاصرتين من (م). (¬2) المصدر السابق 5/ 342، وليس فيه ذكر الوليد من أولاد معاوية بن مروان، وإنما نبَّه البلاذُري على أنَّه ليس لمعاوية بن مروان هذا من الولد إلا عبد الملك والمغيرة وبشر، وأن الوليد المذكور أعلاه إنما هو ابنُ معاوية بن مروان بن عبد الملك. (¬3) كذا في (أ) و (خ)، ولم يرد الكلام في (م). وينظر التعليق التالي. (¬4) الخبر في "البيان والتبيين" 2/ 232، و"العقد الفريد" 6/ 157 وفيهما أن عُبيد الله بن مروان أرسل إلى ابن أخيه الوليد بن عبد الملك بالقطيفة، وجاء قول الوليد في آخرها: وأنتَ -واللهِ- يَا عمّ أحمق أحمق. ولم يذكر ابنُ عساكر في "تاريخه" 44/ 416 في ترجمة عُبيد الله بن مروان هذا المعنى فيه، بل على العكس من ذلك؛ أورد ما يفيد أنَّ له شأنًا وذِكْرًا. والله أعلم.

وأما داود بن مروان؛ فولدَ سليمانَ وكان أعورَ، وتزوَّج (¬1) فاطمة بنت عبد الملك (¬2) بعد وفاة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. وأما محمَّد بن مروان؛ فكان أشجعَ بني مروان، وأحسنَهم خَلْقًا وخُلُقًا، وكنيتُه أبو عبد الرَّحْمَن، وكان عبد الملك يحسدُه على شجاعته، ويحبُّ أن يضع منه، وهو الذي قتل مصعبَ بن الزُّبير وإبراهيم بن الأشتر، فازداد عبد الملك له حسدًا، وفيه يقول الشَّاعر: جمعَ ابنُ مروانَ الأغرُّ محمَّدٌ ... ما بين أشْتَرِهِمْ وبين المصعبِ ولما تبيَّن لمحمد حَسَدُ عبد الملك له، عزمَ على قصد أرمينية، وكان واليًا عليها (¬3)، فدخل على أخيه عبد الملك مودّعًا له وهو يقول: فإنَّك لن تَرَى طَرْدًا لِحُرٍّ ... كإلصاقٍ به طَرَفَ الهوانِ ولو كنَّا بمنزلةٍ جميعًا ... جريتَ وأنت مضطربُ العِنانِ فرقَّ له عبدُ الملك وقال: أقسمتُ عليك بالله يَا أخي إلَّا أقمتَ، فواللهِ لا رأيتَ منِّي مكروهًا بعدَها. وولَّاه الجزيرة والموصل مضافًا إلى أرمينية (¬4). فولد محمَّد بنُ مروان يزيدَ بنَ محمَّد، وأمُّه أمُّ يزيد بنتُ عبد الله (¬5) بن شيبة بن ربيعة، وعبدَ الرَّحْمَن، وأمّه أمُّ جميل من ولد عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، ومروانَ، وأمُّه كرديَّة؛ أخذها [أبوه] محمَّد من عسكر ابن الأشتر، فيُقال: إنه لمَّا أخذها كانت حاملًا بمروان، فوُلد على فراش محمَّد، ومروان هذا هو الجعدي آخرُ خلفاء بني أمية. ¬

_ (¬1) يعني سليمان بن داود. وينظر "أنساب الأشراف" 5/ 344، و"تاريخ دمشق" 7/ 605 (مصورة دار البشير). (¬2) في "أنساب الأشراف": فاطمة بنت عبد الملك بن عبد العزيز، وهو خطأ. وينظر "جمهرة أنساب العرب" ص 88. (¬3) في "أنساب الأشراف" 5/ 370: عزم على إتيان أرمينية لغزو العدوّ بها. وجاء فيه خبر تولية أرمينية وغيرها بعد اعتذار عبد الملك إليه. (¬4) أنساب الأشراف 5/ 371. وينظر "تاريخ دمشق" 64/ 313 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) في "أنساب الأشراف": أمّ يزيد بنت يزيد بن عُبيد الله ... وسمَّاها ابن سعد في "الطبقات" 7/ 233: رملة. وينظر "نسب قريش" ص 169.

وأمُّ عَمرو بنتُ مروان تزوَّجها الوليد بن عثمان بن عفَّان (¬1). وعمرو بن مروان نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. أسند مروان الحديث عن عُمر، وعثمان، وعليّ، وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - (¬2). وروى حديث مسّ الذَّكَر عن بُسْرة بنت صفوان؛ قال الإِمام أَحْمد بن حنبل رحمه الله (¬3): حدَّثَنا إسماعيلُ بنُ عُلَيَّة، حدَّثنا عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: سمعتُ عروة بن الزُّبير يحدِّث أبي (¬4) قال: ذاكرتُ مروانَ بنَ الحَكَم مَسَّ الذَّكَر وقلت: ليس فيه وضوء. قال: فإنَّ بُسْرَةَ بنت صفوان تحدِّثُ فيه للوضوء (¬5). فأرسل إليها رسولًا، فذكر الرسولُ أنَّها تحدِّثُ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مَسَّ ذَكَرَهُ فليَتَوَضَّأ". وهذه بُسْرة بنتُ صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيّ، وأمُّها سالمة بنت أمية، وأخوها لأمِّها عُقْبة بن أبي مُعَيط، وكانت بُسْرة عند المغيرة بن أبي العاص، فولَدَتْ له معاوية بن المغيرة، وهو جدُّ عبد الملك بن مروان لأمّه، وأمُّ عبد الملك عائشةُ بنتُ معاوية بن المغيرة (¬6). [الكلام على الحديث. اختلف الفقهاء في مَسّ الذَّكَر؛ هل ينقض الوضوء أم لا؟ قال أبو حنيفة وأصحابُه: لا ينقض، وهو قولُ عُمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحُصين، وأبي الدَّرداء، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقّاص، وعمار بن ياسر، وفقهاء الصَّحَابَة من التابعين ومن بعدهم: الحسن، وابن المسيِّب، ¬

_ (¬1) نسب قريش ص 160. وأمُّ أمِّ عَمرو -كما سلف (أول الفقرة) وحسب هذا المصدر- هي عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاصي. وجاء في "أنساب الأشراف" 5/ 340 أن الوليد بن عثمان بن عفان (المذكور أعلاه) تزوَّج أمَّ عثمان بنت مروان، وأن سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان تزوّج أمَّ عَمرو. وذكر ابن عساكر في "تاريخه" ص 542 (تراجم النساء) أن سعيد بن خالد بن عَمرو تزوَّج أمَّ عُمر -ويقال: أمّ عَمرو- وأمُّها زينب بنت عُمر بن أبي سلمة (وسلف ذكرها). والله أعلم. (¬2) تاريخ دمشق 66/ 411 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) مسند أحمد (27293). (¬4) في (م): يحدِّث عن أبي. (¬5) لفظة للوضوء ليست وفي "المسند". وفي (م): في الوضوء. (¬6) ينظر "الاستيعاب" ص 876. وينظر أيضًا ص 330 (أول الباب الخامس).

السنة السادسة والستون

وابن جُبير، والنَّخَعي، وربيعة، والثوري، والشعبي، ومالك في رواية عنه وعن أَحْمد، وفي الرواية الأخرى عن مالك وأَحمد أنَّه ينقض، وهو قول عائشة، وابن عمر، وأبان بن عثمان، وعطاء، وأبي العالية، وعروة بن الزُّبير، والزُّهري، والشافعي. وعلى هذا الخلاف في مسّ الدّبُر، واحتجوا بحديث بُسرة بنت صفوان. وفي رواية: "وأيّما امرأة مَسَّتْ فرجَها فلتتوضأ". والله أعلم] (¬1). السنة السادسة والستون فيها أُطلق المختار من السجن، وثار لطلب الثأر من قتلة الحسين - عليه السلام -. وقد ذكرنا (¬2) أنَّ التَّوَّابين لما قدموا من عين وَرْدَة ونزلوا الكوفة؛ كتبَ إليهم المختار من السجن يُعزِّيهم في سليمان بن صُرَد ويقول: أنا صاحبُ الطلب بثأر أهل البيت. وكان عبد الله بن خَطْمي وإبراهيم بن محمَّد بن طلحة قد حبساه، وكان يكاتبُ الشيعة من الحبس ويكاتبونه، ومالوا إليه بعد سليمان بن صُرد، وبعثوا إليه، ورأسُهم (¬3) رِفاعة بن شدَّاد أحد الأمراء الذين تقدَّم ذكرهم. ورِفاعة هو الذي قدم بمن بقيَ من جيش التَّوَّابين، وكان معه رؤوس الشيعة، فأرسلوا إلى المختار: إنْ شئتَ سِرْنا إليك فأخرجناك من السجن؛ فعلنا. فأرسلَ إليهم مع رسولهم عبد الله بن كامل: ما أُريد هذا، وأنا خارجٌ في هذه الأيام. قال هشام في روايته عن أبي مِخْنَف قال: وكان المختار قد بعث غلامًا إلى مكة إلى ابن عُمر -واسم الغلام زِرْبِيّ (¬4) - وكتب معه كتابًا يقول: إنِّي حُبستُ ظلمًا. وسأله أن يكتبَ إلى عبد الله بن يزيد الخَطْمي وإلى إبراهيم يشفع إليهما في إطلاقه. ¬

_ (¬1) من قوله: الكلام على الحديث ... إلى هذا الموضع (وهو الواقع بين حاصرتين من (م). وجاء في حاشيتها ما صورتُه: (لله درُّ المصنف في نُصرته مذهب أبي حنيفة وإسناده مذهبه إلى معظم الصَّحَابَة رضوان الله عليهم وعليه. وبذلك يُعلم أنَّه حنفي المذهب، وقد ذُكر في طبقات الحنفية، وله ترجمة واسعة جميلة؛ فليراجعها من أراد الإطلاع. والله أعلم). اهـ. قلت: ورواية: "وأيما امرأة مسّت فرجها فلتتوضأ" في "مسند أَحْمد" (7076). من حديث عبد الله بن عَمرو - رضي الله عنهما -. (¬2) ص 322 - 323. وينظر "تاريخ" الطبري 5/ 606. (¬3) في (ص): ورؤساهم. وقد أضيفت هذه النسخة بدءًا من هذه السنة (66) وهي نسخة أياصوفيا. (¬4) في (أ) و (خ) و - صلى الله عليه وسلم -: رزينا. وفي "تاريخ الطبري" 6/ 8: ويُدعى الغلام زربيًّا، وأثبتُ اللفظة على الجادّة.

فكتب عبد الله بنُ عمر إليهما: قد علمتما ما بيني وبينكما من الوُدّ، وما بيني وبين المختار من الصِّهْر، وأنا أُقسمُ عليكما بحقّ ما بيني وبينكما لما خلَّيتُما سبيلَه حين تَنظران (¬1) في كتابي هذا. والسلام. فلما وقفا على الكتاب طلبا من يكفل المختار بنفسه، فكفله جماعةٌ من الأشراف، ثم دعا به عبد الله وإبراهيم، فأحلفاه أنَّه لا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان، فإنْ هو فعل؛ فعليه ألفُ بَدَنة ينحرُها عند الكعبة، ومماليكُه وجواريه أحرار. وخرجَ إلى داره، فكان يقول بعد ذلك: قاتلهما الله، أتراهما يريان أنِّي أفي لهما؟ ! أمَّا اليمين بالله فمن حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها. الحديث (¬2). وأمَّا ألفُ بَدَنة؛ فهو أهونُ عليَّ من بَصْقة. وأمَّا عتقُ عبيدي؛ فوددتُ أنّي استتبَّ أمري، ثم لم أملك مملوكًا أبدًا. واختلفت إليه الشيعة، ورضُوا به، ولم يزل أمرُه يشتدّ ويقوى حتَّى عزلَ ابنُ الزُّبير عبدَ الله بنَ يزيد وإبراهيم بن محمَّد، وولَّى على الكوفة عبدَ الله بنَ مطيع، وعلى البصرة الحارث بنَ عبد الله بن أبي ربيعة، فسار إليهما فلقيَهما بَحِير بن رشحان الحِمْيَريّ، فقال لهما (¬3): إنَّ القمر الليلة بالنَّاطح (¬4)، فلا تسيرا. فأما الحارث فأطاعه، وأقامَ يسيرًا ثم شخصَ إلى البصرة، وأمَّا ابنُ مُطيع؛ فقال: وهل نطلب إلَّا النَّطْح. قال: فلقيَ -واللهِ- نَطْحًا وبَطْحًا، والبلاءُ موكَّلٌ بالمنطق (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ) و (ص): تنظرا، وفي (خ): تنظروا. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 8. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 43 - 44. (¬2) وتتمته: فليأت الذي هو خير وليكفِّر عن يمينه. وللحديث روايات كثيرة. وينظر "مسند" أَحْمد (6907). (¬3) عبارة الطبري 6/ 9: فبلغ ذلك بَحِير بن ريسان الحميري، فلقيهما فقال لهما ... الخ. فيلاحظ أن قوله: "فسار إليهما" تكرار بالمعنى لقوله: "فلقيهما" ولا حاجة إليه. (¬4) النَّاطح -ويسمَّى الشَّرَطان (تثنية شَرَط، أي: العَلَامة) - هو الأول من منازل القمر الثمانية والعشرين، ويُتطيَّر منه. ينظر"صبح الأَعشى" 2/ 164. (¬5) قوله: والبلاء موكّل بالمنطق، هو من كلام عمر بن عبد الرَّحْمَن بن هشام راوي الخبر كما في "تاريخ الطبري" 6/ 9 - 10. وهو مَثَل؛ قال الميداني في "مجمع الأمثال" 1/ 17: يقال: أوَّلُ من قاله أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - (وذكر خبره).

وفرَّق ابنُ الزُّبير عمَّاله في البلاد، وبلغَ عبدَ الملك بنَ مروان فقال: مَن استعملَ على الكوفة؟ قيل: عبد الله بنُ مطيع. فقال: حازم وكثيرًا ما يسقط، وشجاعٌ وما يكرهُ أن يَفِرّ. قال: ومَنْ بعثَ إلى البصرة؟ قالوا: الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة. قال: لا حُرَّ بوادي عوف (¬1). قال: ومَنْ بعث على المدينة؟ قالوا: [بعثَ] أخاه مصعبًا. فقال: ذاك الليث النهْد، وهو رجل أهل بيته. قال هشام بروايته عن أبي مِخْنَف قال: قدم عبد الله بنُ مطيع الكوفة لخمس بقين من رمضان، فقال لعبد الله بن يزيد الخَطْمي: إنْ أحَبَبْتَ أن تُقيمَ معي أكرمتُ مثواك، وإنْ لحقتَ بابن الزُّبير أكرَمَك. وقال لإبراهيم بن محمَّد: الْحَقْ بابن الزُّبير. فلحق بالمدينة، وكسر الخَرَاج، فلم يُؤاخذه ابنُ الزُّبير (¬2). وأما ابنُ مطيع فولَّى شرطتَه إياس بن مُضارب العجلي. وصعد ابنُ مطيع المنبر، فخطب وقال: إن أمير المُؤْمنين عبدَ الله بنَ الزُّبير بعثني على مِصْركم، وأمرني بجباية فيئكم، وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلَّا بِرِضًا منكم، وأن أسير فيكم بسيرة عمر بن الخطاب، وأعملَ بوصيَّته فيكم، وبسيرة عثمان، فاتقوا الله، ولا تختلفُوا، وخُذُوا على أيدي سفهائكم، وإلا تفعلوا فلُومُوا أنفسكم ولا تلومُوني. وذكر كلامًا فيه تهديدٌ ووعيد. فقام إليه السائب بن مالك الأَشْعريّ فقال: أمَّا أمرُ ابنِ الزُّبير إيَّاك ألا تحمل فضل فيئنا عنّا إلَّا بِرِضًا منَّا، فنحن لا نرضى أن تُخرج فضلةً عنَّا، وأن لا تَقسم فيئنا [إلَّا فينا، وأن لا يُسَار فينا] إلَّا بسيرة أمير المُؤْمنين علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا حتَّى مضى لسبيله رحمه الله، ولا حاجةَ لنا في سيرة عثمان في فيئنا وفي أنفسنا، فإنَّها إنما كانت أثرةً [و] هوًى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا، فقد كان لا يألُو النَّاس خيرًا. فقال يزيد بن أنس: صدقَ السائب، كلُّنا على مثلِ رأيه. فقال ابنُ مطيع: نسيرُ فيكم بكلّ سيرة أحْبَبْتُموها. ثم نزل (¬3). ¬

_ (¬1) هو مَثَل؛ قال أبو عُبيد في "الأمثال" ص 94: إنْ أرادوا أنَّ من ناوَأَنا ذل عندنا قالوا: لا حُرَّ بوادي عَوْف؛ يقول: كل من صار في ناحيته خضع له وذلَّ. وعَوْف: هو ابنُ مُحلِّم الشَّيبانِيّ. وينظر أَيضًا "مجمع الأمثال" 2/ 236. وتحرَّفت كلمة "حرّ" في (أ) و (خ) و (ص) إلى: خير. (¬2) في "تاريخ الطبري" 6/ 10: كسر على ابن الزُّبير الخَرَاج وقال: إنما كانت فتنة، فكفّ عنه ابن الزُّبير. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 10 - 11. (وما سلف بين حاصرتين منه). وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 45.

وحكى أبو مِخْنَف عن عامر الشعبي قال. كنتُ أنا وأبي أوَّلَ مَنْ أجابَ المختار. قال: فلما تهيَّأ خروجُه قال له أحمر بن شُميط ويزيد بن أنس وعبد الله بن كامل وعبد الله بن شدَّاد: إنَّ أشراف أهل الكوفة مجتمعون على قتالك مع ابن مطيع، فإنْ وافَقَنَا إبراهيمُ بنُ الأشْتَر رَجَوْنا النصر عليهم، فإنَّه فتًى رئيس (¬1)، وابنُ رجل شريف، وله عشيرة. قال: فالْقَوْه فأخْبِروه ما نحنُ عليه. قال الشعبي: فخرجوا إليه وأنا وأبي معهم فقالوا له: قد أتيناك في أمرٍ، فإنْ قبلتَه كان خيرًا لك، وإن تركتَه فقد أدَّينا إليك النصيحة، ونحبّ أن يكون عندك مستورًا. وكان المخاطب له يزيد بن أنس. فقال إبراهيم: مثلي لا تُخاف غائلتُه ولا سِعايتُه، ولا التقرُّب إلى سلطانه (¬2). قالوا: إنَّا ندعوك إلى أمرٍ إن أجَبْتَنا [إليه] عادت لك منزلةُ أبيك. ودعَوْه إلى أمرِهم وما هم عليه، وقالوا: تُحيي من أبيك أمرًا قد مات. فقال لهم إبراهيم: فإنِّي أجيبُكم (¬3) إلى ما دعيتموني (¬4) إليه من الطلب بدم الحسين وأهل بيته على أن تُولُّوني الأمر. فقالوا له: أنتَ أهل لذلك، ولكن لا سبيل إلى ذلك، هذا المختار قد جاءنا من قِبَل المهديّ، وهو المأمور بالقتال، وقد أُمِرْنا بطاعته. فسكت إبراهيم. وعادوا فأخبروا المختار. قال الشعبي: فأقام المختارُ ثلاثًا، ثم دعا بضعةَ عشرَ رجلًا من وجوه أصحابه وأنا وأبي فيهم، ثم خرج يمشي أمامَنا ليلًا، ولا ندري أين يذهب بنا، حتَّى أتى بابَ إبراهيم بن الأشتر، فاستأذنَ، فأذنَ له، فدخلْنا، فأجلسه معه على فراشه، ووُضعت لنا الوسائد، فأخرج له المختار كتابًا وقال: هذا كتابُ المهديّ محمَّد بن أمير المُؤْمنين، وهو يسألُك أن تنصرَنا وتُؤازرَنا، فإنْ فعلتَ اغتبطتَ، وإنْ لم تفعل فهذا الكتاب حجَّةٌ عليك. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 15 (والرواية فيه): بئيس، وفي "أنساب الأشراف" 6/ 47: فتى ماض. (¬2) بعدها في "تاريخ الطبري" 6/ 15: باغتياب النَّاس. (¬3) في (أ) و (خ) و (ص): فإن أجبتكم. والمثبت من"تاريخ" الطبري 6/ 16. وفي "أنساب الأشراف" 6/ 47: قد أجبتكم. ولفظة "إليه" السالفة بين حاصرتين من"تاريخ" الطبري. (¬4) كذا في (أ) و (خ) و (ص). وهي لغة. وفي "تاريخ الطبري": دعوتموني.

قال الشعبي: وكان المختار قد دفع إليَّ الكتاب، فقال لي: ادْفَعْه إليه. فدفعتُه إليه، فدعا بالمصباح، وفضَّ ختمه، ثم قرأه. وفيه: من محمَّد المهديّ إلى إبراهيم الأشتر، أمَّا بعد، فقد بعثتُ إليك بوزيري، وأميني، وأمَرتُه بقتال عدوِّي والطلبِ بثأر (¬1) أهل بيتي، فانهض معه بنفسك وأهلك وعشيرتك، فإنْ ساعدتَ وزيري ونهضت معه؛ كانَتْ لك عندي بذلك الفضيلة، ولك أعنَّةُ الخيل وكلُّ مصر ظهرتَ عليه، وكلُّ ثَغْر فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشَّام، وإنْ أبيتَ هلكتَ هلاكًا لا تستقيِلُه أبدًا. والسلام. فقال إبراهيم: قد كتبَ إليَّ محمَّد وقد كتبتُ إليه قبل اليوم، فما كان يكتبُ إليَّ إلَّا باسمه واسم أَبيه! فقال المختار: ذاك زمان وهذا زمان. قال: فمَنْ يعلمُ أنَّ هذا كتابُ ابنِ الحنفية إليّ؟ قال المختار: يزيد بن أنس، وأحمر بن شُميط، وعبد الله بنُ كامل، وجماعة. قال الشعبي: فشهدُوا إلَّا أنا وأبي، فتأخَّر إبراهيم عند ذلك عن صدر الفراش، وأجلسَ عليه المختار، ثم بايعَه على النُّصرة، وقام المختار وأصحابُه فخرجوا، وخرج إبراهيم مع المختار حتَّى دخل داره ورجع. قال الشعبيّ: فأخذ إبراهيمُ بيدي وقال: انصرفْ بنا يَا شعبيّ. فانصرفتُ معه، فلما دخل رَحْلَه قال: لِمَ لَمْ تشهَدْ أَنْتَ ولا أبوك؟ أترى هؤلاء شهدوا على حقّ؟ قال: فقلتُ: قد شهدوا على ما رأيتَ، وهم سادة القرَّاء ومشيخةُ العصر وفرسانُ العرب، ولا أرى مثلَ هؤلاء يقولون إلَّا حقًّا. قال الشعبي: فقلت هذه المقالةَ وأنا -واللهِ- مُتَّهِمٌ لهم في شهادتهم، غيرَ أنِّي على رأي القوم، وأحبُّ تمام الأمر، فلم أُطلِعْه على ما في نفسي من ذلك. فقال ابنُ الأشتر: اكتبْ لي أسماءهم، فلستُ أعرفُ كلَّهم. قال: فكتبتُ له: هذا ما شهد به السائب بن مالك الأَشْعريّ، ويزيد بن أنس الأسديّ، وأحمر بن شُميط الأحمسي، ومالك بن عَمرو (¬2) النَّهدي. حتَّى أتيتُ على أسمائهم، وقال: اكتُب صورةَ الكتاب، فكتبتُه. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري"6/ 16: بدماء. وكذا في "أنساب الأشراف"6/ 47، والكلام فيه بنحوه. (¬2) في (أ) و (خ): عُمر، والمثبت من (ص) وهو الموافق لما في "تاريخ الطبري" 6/ 17.

فكان إبراهيمُ يأتي كلَّ ليلة إلى المختار إلى أن يَبْهَارَّ الليل (¬1)؛ يدبَرُون أمرَهم، واتفقوا على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة خلت من ربيع الأول سنة ستّ وستين. وأُخبِرَ إياسُ بنُ مضارب صاحبُ شرطةِ عبدِ الله بن مطيع بأنَّهم على الخروج في إحدى الليلتين، فأَخبرَ ابنَ مطيع بأنهم على الخروج (¬2)، فاستعدَّ، وفرَّق القبائل، فبعثَ عبد الرَّحْمَن بنَ سعيد بن قيس إلى جَبَّانةِ السَّبِيع، وبعثَ كعبَ بنَ أبي كعب الخثعمي إلى جَبَّانَةِ بشر، وبعثَ زَحْر بنَ قيس إلى جَبَّانة كِنْدَة، وبعث شَمِر بن ذي الجَوْشَن إلى جَبَّانةِ سالم، وبعثَ شَبَثَ بنَ رِبْعيّ إلى السَّبَخَة، وفرَّق القبائل. وكان خروجُ هؤلاء يومَ الاثنين، فنزلوا هذه الجَبَابِين، وأحاطت الشُّرَط بقصر الإمارة وفيه ابنُ مُطيع. فحكى أبو مِخْنَف عن حُميد بنِ مسلم قال: خرجتُ مع إبراهيم بن الأشتر من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء في كتيبة نحو المئة، وعلينا الدُّرُوع قد كَفَرْنَاهَا بالأقبية (¬3) ونحن متقلِّدُون السيوف، ليس معنا سلاح إلَّا السيوف، وكان إبراهيم فتًى حَدَثًا شجاعًا، فقال: واللهِ لأَمُرَّنَّ على جانب القصر، ولأُرْعِبَنَّ عدوَّنا, ولأُرِيَنَّهم هوانَهم علينا. قال: وسِرْنا، فلما جاوَزْنا دار عَمْرِو بن حُريث لقينا إياس بن مضارب (¬4) في الشُّرَط، فقال: مَنْ أنتم؟ فقال: أنا إبراهيم بن الأشتر. فقال له إياس: ما هذا الجمع معك، وقد بلغني أنك تمرّ كلَّ عشيَّة ها هنا؟ وما أنا بمفارقك حتَّى آتيَ بك الأمير. فقال له إبراهيم: خَلّ سبيلَنا. فقال: لا والله. وكان مع إياس رجل يقال له: أبو قَطَن، وبيده رمح، فدنا منه إبراهيم، وأخَذَ الرُّمح، وطعنَ إياسَ بنَ مُضارب في نحوه، فصَرَعَه، وقال لرجل من أصحابه: انزِلْ فاحتزَّ رأسَه. فنزل فاحتزَّ رأسه، وتفرَّق عنه أصحابُه. ¬

_ (¬1) أي: ينتصف. (¬2) قوله: بأنهم على الخروج، من (أ). وفي هذا الموضع من (ص) سقط. (¬3) أي: غطَّيناها بالأقبية. والأقبية جمع قَبَاء، وهو الثوب يُلبس فوق الثياب. (¬4) من قوله: وأُخبر إياس بن مضارب ... إلى هذا الموضع، سقط من (ص).

وأخبروا ابنَ مطيع، فبعثَ ابنَه راشد بنَ إياس مكان أَبيه على الشُرطة. وأقبل ابنُ الأشتر إلى المختار ليلةَ الأربعاء وقال: إنَا كنَّا قد أبعدنا الخروج من القابلة ليلة الخميس، وقد حدثَ أمر لا بدَّ من الخروج الليلة. وأخبره الخبر وقال: هذا رأسُ إياس بن مضارب، فقال له: بشَرك الله بخير. هذا أوَّلُ الفتح. ثم أمر المختار سعيد بنَ منقذ، فأوقدَ هَرَادي (¬1) النيران وقال لعبد الله بن شدَّاد: قُم فنادِ: يَا منصور أَمِتْ. وقال لسفيان بن ليل (¬2) ولقدامة بن مالك: نادِيا: يَا ثارات (¬3) الحسين. ولبس سلاحه وخرج، وتقدَّمه ابنُ الأشتر إلى القبائل الذين كانوا في الجَبَابِين، فَدار عليهم، فهزمهم. وركب ابنُ مطيع والقبائل، وقامت الحرب على ساق، ونزل المختار في أصحابه بدير هند. ونادى أبو عثمان (¬4): ألا إنَّ أمين آل محمَّد قد نزل بدير هند، فاخْرجُوا إليه رحمكم الله. قال: فخرجوا من الدُّور يتداعَوْن: يَا لَثارات الحسين، وكان قد بايعه منهم اثنا عشر ألفًا، فلحق بهم منهم ثلاثة آلاف وخمس مئة (¬5)، فاجتمعوا قبل انفجار الصبح، فأصبح المختار على تعبئة. قال أبو مِخْنَف: فحُدِّثتُ عن الوالبي (¬6) قال: خرجتُ أنا وحُميد بن مسلم والنعمان بن أبي الجعد إلى المختار في تلك الليلة، فصلى الفجر بغَلَس؛ قرأ فيها بالنازعات، وعبس وتولى، فواللهِ ما سمعْنا إمامًا أَمَّ قومًا أَفْصَحَ لهجةً منه. ¬

_ (¬1) جمع هُرْديَّة، وهي الحُرْديَّة، وهي قصبات تُضَمّ ملويَّةً بِطاقاتِ الكرم تُحمل عليها قضبانُه. ينظر "تاج العروس" (هود) وتحرفت في (أ) إلى: هواري، وفي (خ) إلى: هوادي، والكلام ليس في (ص). والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 20. (¬2) في النسخ: سفيان بن أبي ليلى، والتصويب من"تاريخ" الطبري 6/ 20. (¬3) في (أ) و (خ): فناد يَا ثارات. والمثبت من (ص). وفي "تاريخ الطبري" 6/ 20: فناد يَا لثارات. (¬4) هو النَّهدي؛ خرج فنادَى في شاكر وهم مجتمعون في دورهم يخافون أن يظهروا ... ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 22. (¬5) في "تاريخ الطبري" 6/ 23: وثمان مئة. وكذا في "أنساب الأشراف" 6/ 51 والكلام فيه بنحوه. (¬6) في "تاريخ الطبري": فحدَّثني الوالبي.

قال: ونادى ابنُ مطيع في النَّاس أن يجتمعوا إلى المسجد، فاجتمعوا، فجهَّز شَبَث ابنَ رِبْعيّ في نحو من ثلاثة آلاف إلى المختار، وبعث معه راشدَ بنَ إياس في أربعة آلاف من الشُّرَط. وأقبل شَبَثُ بن رِبْعيّ في آخر الليل نحو المختار، فسمعَ المختارُ ضجَّة عظيمة، فقال: ما هذا؟ قالوا: شَبَثَ بن رِبْعيّ قد أقبلَ إليك ومعه راشد بن إياس. فقال المختارُ لابنِ الأشتر: عليك براشْد، وأنا لِشَبَث، فالتقى ابنُ الأشتر لراشد، وأحاط شَبَثُ بنُ رِبعيّ بالمختار وإبراهيم في تسع مئة، وراشدٌ في أربعة آلاف، فحمل نصر ابن خزيمة (¬1) العبسيّ على راشد، فطعنه فقتله، ثم نادى: قتلتُ راشدًا. ونزلَ فاحتز رأسه، وحمله على رمح، فانهزم أصحابُه. وجاء ابنُ الأشتر وأصحابُه إلى المختار وقد أحاطَ به شَبَثُ بنُ رِبْعيّ، فاقتتلوا وابنُ مطيع قائمٌ بالكُناسَة يجهَزُ الجموش وقد دخل أصحابَ ابنِ مطيع الخوفُ والفشلُ. وحمل المختار في الرَّجَّالة وقد ترجَّل، وكذا ابنُ الأشتر، فانهزم شَبَث بنُ رِبْعيّ ومن معه حتَّى توارَوْا ببيوت الكوفة. واستفحل أمرُ المختار، وجاءَتْه الشيعة من كل مكان، فقال: اطلُبوا القصر. فطلبوه والقتالُ يعمل وابنُ مطيع قائمٌ على الكُناسة، فصاح ابنُ الأشتر: شُدُّوا عليهم، فشدُّوا عليهم، فانهزموا ودخل ابنُ مطيع إلى القصر ومعه وجوهُ أهل الكوفة، فحصروه في القصر ثلاثًا. فقال أصحابُه: ما ترى؟ فالقومُ في إقبال، ونحنُ في إدبار. وقال شَبَث بنُ رِبْعيّ: أيُّها الأمير، الرأيُ أن تأخذَ لنفسك ولمن معك أمانًا. فقال: أكرهُ ذلك والبلادُ كلّها والبصرةُ والعراقُ لابنِ الزُّبير. فقال: أخرج بحيث لا يشعروا بك، واذهب حيث شئتَ. فقال: حتَّى أنظرَ. فلما جاء الليل، حمدَ اللهَ ابنُ مطيع وقال: قد علمتُ أنَّما فعلَ هذا سفهاؤكم وأراذلُكم. أما أولو الفضل منكم فسامعون مطيعون، وأنا مبلّغ ذلك صاحبي ومُعْلِمُه ¬

_ (¬1) كذا في (أ) و (خ) و (ص). وفي "تاريخ الطبري" 6/ 26: خريمة بن نصر.

طاعتكم وجهادكم عدوَّه، حتَّى كان اللهُ الغالبَ على أمره، وقد أشرتُم عليَّ بالخروج، وقد رأيتُ أنْ أخرجَ في هذه الساعة. فقال له شَبَث بنُ رِبْعيّ: جزاك الله من أمير خيرًا، فقد -واللهِ- عففتَ عن أموالِنا، وأكرمتَ أشرافَنا، ونصحتَ لصاحبك، وقضيتَ الذي عليك، وما كنَّا لنفارقَك إلَّا ونحن منك في إذن. ثم خرج، وخلَّى القصر وما فيه، وقال أصحابه لابن الأشتر: نحن آمِنُون؟ قال: نعم. فخرجوا، فبايعوا المختار (¬1). وجاء المختار، فدخل القصر، وثابَ إليه النَّاس، فصعد المنبر وقال: الحمد لله الذي وعدَ وليَّه النصر، وعدوَّه الحصر (¬2) وعدًا مفعولًا، وقضاءً مقضيًّا، وقد خابَ من افترى، أيُّها النَّاس، إنَّه قد رُفعَتْ لنا راية، ومُدَّتْ لنا غاية، فقيل لنا في الراية أنِ ارْفَعُوها ولا تضعوها، وفي الغاية أنِ اجْرُوا إليها ولا تَعْدُوها. فسمعنا دعوةَ الدَّاعي، ومقالةَ الواعي. وذكر كلامًا [طويلًا] في هذا المعنى وقال: والذي جعل السماء سقفًا مكفوفًا (¬3)، والأرضَ فِجاجًا سُبُلًا، ما بايعتُم بيعة بعد بيعةِ عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وآلِه أهدى من هذه. وبايعه النَّاس على كتاب الله وسنة رسوله، والطلبِ بدماء أهلِ البيت، وجهادِ المُحِلِّين، والدَّفعِ عن الضعفاء والمظلومين. وكان ابن مطيع قد نزل دار أبي موسى، وجاء عبد الله بنُ كامل إلى المختار فقال: أعلمتَ أنَّ ابنَ مطيع في دار أبي موسى؟ فلم يجبه بشيء، وكان ابنُ مطيع صديقًا للمختار، فلما جاء المساء بعثَ المختار إلى ابنِ مطيع بمئة أَلْف درهم، وقال له: تجهَّزْ بهذه واذهب، فإنِّي قد علمتُ بمكانك، وأنه ما منعك من الخروج إلَّا ضِيقةُ ذاتِ يدك، فاخْرجْ. ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 52 - 53، و"تاريخ" الطبري 6/ 29 - 33، والكلام مختصر من روايته. (¬2) في المصدرين السابقين: الخُسر. (¬3) في (خ): سقفًا محفوظًا مكفوفًا. وفي (ص): السماء بروجًا وسقفًا مكفوفًا. والمثبت من (أ) وهو الموافق لما في المصدرين السابقين وما سلف بين حاصرتين من (ص).

وأصاب المختار في بيت المال تسعة آلاف أَلْف [درهم] ففرَّقها في أصحابه على أقدارهم، وهم ثلاثةُ آلاف وثمان مئة رجل، فأعطى كلَّ واحد منهم خمس مئة درهم، وقرَّب الأشراف، وأحسنَ إلى النَّاس، فمالوا إليه. واستعملَ على شرطته عبدَ الله بنَ كامل اليشكري (¬1)، وعلى حرسه كيسان أَبا عَمْرَة. قال أبو مِخْنَف: وأوَّلُ رايةٍ عَقَدَها المختار رايةٌ لعبدِ الله بنِ الحارث أخي إبراهيمَ بنِ الأشتر على أرمينية، وبعثَ محمدَ بنَ عُمير بن عُطارد على أذَرْبيجان، وعبدَ الرَّحْمَن بن سعيد على الموصل، وإسحاقَ بنَ مسعود على المدائن، وسَعْدَ بنَ حذيفة على حُلْوان، وفرَّق عمَّاله في البلاد. وكان عبد الله بنُ الزُّبير قد ولَّى محمَّد بنَ الأشعث بن قيس على الموصل، فلما وصل إليها عبد الرَّحْمَن بن سعيد خرج عنها محمَّد، فنزل تكريت، فأقام بها لينظر ما يؤول إليه [أمرُ] النَّاس، ثم جاء إلى الكوفة، فبايعَ المختار. وكان المختار يجلس فيقضي بين النَّاس، ثم أمر شُرَيحًا، فكان يقضي بين النَّاس، فقال النَّاس: أليس قد عزل عليُّ بنُ أبي طالب شُرَيحًا عن القضاء، وشهد شُرَيح على حُجْر [بن عديّ] وأصحابِه، وكان شُرَيح عثمانيًّا؟ وبلغه قولُ النَّاس، فخاف، فتمارضَ، فجعل المختارُ موضعَه عبدَ الله بنَ عتبة بن مسعود، ثم إن عبد الله مرض، فجعلَ المختارُ مكانَه عبدَ الله بنَ مالك قاضيًا (¬2). ذكر مسير جيش المختار إلى ابن زياد، وقيام أهل الكوفة على المختار: روى هشام بنُ محمَّد عن عَوَانة بن الحَكَم الكلبي قال: كان مروان بن الحَكَم قد جعلَ لعبيد الله بنِ زياد لمَّا بَعثه إلى العراق ما غَلَبَ عليه، وأمره بنهب الكوفة ويبيحها ثلاثًا، فمَرَّ بالجزيرة، وبها قيس عَيْلَان (¬3) على طاعة ابن الزُّبير، وكان مروان قد أصاب ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 6/ 55، و"تاريخ" الطبري 6/ 33: الشاكري. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 33 - 35. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 55. (¬3) في (أ) و (خ): قيس بن عيلان، والمثبت من (ص). وفي هذا الموضع ينتهي الخرم في (ب) الذي بدأ ص 315 أوائل السنة الخامسة والستين.

قيسًا يوم مَرْج راهط، فأقام ابنُ زياد مشتغلًا بقيس نحوًا من سنة، ثم أقبل إلى الموصل، فانحاز عبدُ الرَّحْمَن بنُ سعيد إلى تكريت، وكتب إلى المختار يعرِّفُه، فدعا المختارُ يزيد بن أنس وقال له: أَنْتَ صاحبُ الخيل التي تُوردُها منابتَ الزيتون، فاخرجْ (¬1)، فإنِّي مُمِدُّك بالرِّجال والأموال. فاختارَ من وجوه الفرسان ثلاثة آلاف، وخرج معه المختار يشيِّعُه وقال له: إذا لقيتَ عدوَّك فلا تُناظره، وإذا أمكنَتْك الفرصة فلا تُؤخِّرْها, وليكن خبرُك كلَّ يوم عندي. وسار يزيد بالجيش، فبات بسُورَا (¬2)، ثم غدا بهم، فبات بالمدائن، ثم اعترض بهم أرض جُوخَى، وخرجَ بهم على الراذان (¬3)، وقطعَ أرضَ الموصل، ونزل ببويلي (¬4). وبلغَ ابنَ زياد، فبعثَ إليهم ربيعةَ بنَ المخارق في ثلاثة آلاف، وأردفَه عبدَ الله بنَ حملة الخثعميّ في ثلاثة آلاف. ومرض يزيد بن أنس، فركب على حمار، وجعل يقف على الأرباع يوصيهم ويقول: يَا شرطةَ الله، اصبروا تُؤْجَرُوا، وقاتِلُوا عدوَّكم تظفروا، وإن هلكتُ فأميرُكم ورقاء بنُ عتَّاب (¬5) الأسديّ، فإن هلك فأميرُكم عبد الله بنُ ضمرة العُذْري، فإن هلك فأميرُكم سِعْر بن أبي سِعْر الحنفي. وهؤلاء كلُّهم كانوا رؤوس الأرباع. ثم جعل يزيدُ بنُ أنس عبدَ الله بنَ ضمرة العُذْري على ميمنته، وسِعْر بن أبي سعر على ميسرته، وورقة (¬6) بن عتَّاب -أو ابن عازب- الأسدي على الخيل، ونزلَ هو فوُضعَ بين الرجال على سرير، ثم قال: قاتِلُوا عن أميركم إن شئتُم، أو فِرُّوا عنه. ¬

_ (¬1) يعني إلى الموصل، كما في "تاريخ الطبري" 6/ 39، وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 56. (¬2) موضع بالعراق من أرض بابل، قريبة من الحِلَّة. ينظر"معجم البلدان" 3/ 278. (¬3) جُوخَى وراذان (الأسفل والأعلى) من سَواد بغداد. وينظر "معجم البلدان" 2/ 179، و 3/ 12. وفي "تاريخ الطبري" 6/ 40: الراذانات. (¬4) كذا في (أ) و (خ) و (ص). وفي "تاريخ الطبري" 6/ 40: ببنات تلي، وفي "الكامل" 4/ 230: بباتلي. ولم أقف على أيّ منها. (¬5) كذا في (أ) و (خ) و (ص). وفي "أنساب الأشراف" 6/ 56، و"تاريخ" الطبري 6/ 41، و"الكامل" 6/ 229: عازب. وسيرد في سياق الكلام: بن عتاب، أو ابن عازب. (¬6) كذا في النسخ الخطية المذكورة. وهو ورقاء المذكور قبل.

وكان ذلك في يوم عَرَفَة في ذي الحجة سنة ستٍّ وستين، واقتتلوا قبل طلوع الشمس، فلم يرتفع الضحى حتَّى هزموا (¬1) أهلَ الشام، وحمل ورقاء وعبدُ الله بنُ ضَمْرة على ابن المُخارق، فقتلاه، وحَوَوْا عسكرهم وما فيه، وفرُّوا. وكان ابنُ المخارق قد تقدَّم عبدَ الله بنَ حملة، فالتقى أهلَ الشَّام (¬2) عبد الله بنُ حملة، فردَّهم، وأقبلوا معه، فبات مقابلًا لعسكر يزيد بن أنس، ثم أصبحوا على القتال، وذلك في يوم الأضحى، فهزمهم عسكرُ المختار أقبحَ من هزيمة أمسِ، وقتلوهم قتلًا ذريعًا، وانهزمَ ابنُ حملة حتَّى انتهى إلى ابن زياد فأخبره بما لَقُوا (¬3). وفي رواية أن عسكر المختار لما هَزَمُوا أهل الشام ترجَّل عبد الله بنُ حملة ونادى: يَا أهل السمع والطاعة الكرَّةَ الكَرَّةَ (¬4). فحمل عليه عبد الله بنُ قُراد الخثعمي، فقتلَه، وحَوَى ما في عسكره، وأُتيَ يزيدُ بنُ أنس بثلاث مئة أسير، فضرب أعناقهم. ومات يزيدُ بنُ أنس في آخر النهار، فصلَّى عليه ورقاء بن عازب الأسدي، ودفنَه، فلما رأى أصحابُه ذلك سُقط في أيديهم، وكسرَ موتُه قلوبَهم، فتسلَّلُوا، فقال لهم ورقاء: ماذا ترون؟ هذا عُبيد الله بنُ زياد في ثمانين ألفًا من أهل الشام، فأشيرُوا عليَّ، فإنَّما أنا واحدٌ منكم، فقالوا: قد هلك أميرُنا، وتفرَّقت عنا طائفة تسلَّلُوا من بيننا، فلو انصرفنا من قِبَلِ أنفسِنا من قَبْل لقاء عدوّنا، فيعلمون أنَما (¬5) رَدَّنا عنهم هلاكُ صاحبنا، وقد قَتَلْنا منهم أميرين، فلا يزالون لنا هائبين، ولو لقيناهم لكنَّا مخاطرين. فقال: هذا هو الرأي. فرجعوا على حامية لم يفقدوا غير يزيد بن أنس (¬6). وبلغ أهلَ الكوفة رجوعُهم، ولم يعلموا السبب، وأُرْجِفَ أهلُ الكوفة بأنه قد هُزموا، فدعا المختارُ إبراهيمَ بنَ الأشتر، فعقدَ له على سبعة آلاف رجل، وقال له: سِرْ ¬

_ (¬1) وقع سهو لناسخ (ب) فكتب بعد هذا الموضع حوالي لوحة ونصف من موضع آخر، وهو الآتي قريبًا من قول شبث: حتَّى أخرج إلى أصحابي. ونُبّه في هامشها على أن يؤخر هذا الكلام. (¬2) يعني المنهزمين ممن كان في جيش ربيعة بن المخارق. (¬3) ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 41 - 42. (¬4) في "تاريخ الطبري" 6/ 42: الكرَّة بعد الفَرَّة. (¬5) في "تاريخ الطبري" 6/ 43: أنَّا إنّما. (¬6) المصدر السابق. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 57.

حتَّى تلقى جيش ابنِ أنس، فارْدُدْهم معك، وسِرْ حتَّى تلقى عدوَّك، فتُناجزَهم. فخرج ابنُ الأشتر، فعسكر بحمَّام أعْيَن. وهذه رواية هشام (¬1). وقال أبو مِخْنَف (¬2): لما مات يزيدُ بنُ أنس اجتمع أشرافُ أهلِ الكوفة وقالوا: قُتل ابنُ أنس، وتأمَّر هذا الرَّجل علينا بغير رضًا منَّا. يعنون المختار. ولقد أدنى عبيدَنا، فأطمعهم فينا. واتَّعدوا منزل شَبَث بن رِبْعيّ، وقالوا: نجتمع في بيت شيخنا وكبيرنا. وكان شَبَث جاهليًّا إسلاميًّا. وتحدَّثوا وقالوا: لم يكن شيء أشدَّ علينا ولا أعظم من جَعْلِ المختار للموالي والعبيد من الفَيء نصيبًا (¬3)، فقال لهم شَبَث بنُ رِبْعيّ: دعُوني ألقى المختار. فلقيَه في منزله، فذكر خصالًا نقموها على المختار، فقال: أنا أُرضيهم بكلِّ ما أحبُّوا. قال شَبَث: فتردُّ عبيدَهم إليهم، ولا تجعلُ لهم نصيبًا في الفيء. فقال: أنا أفعل ذلك؛ على أن تُقاتلوا معي بني أمية وابنَ الزُّبير. فقال شبث: ما أدري حتَّى أخرج (¬4) إلى أصحابي، وأُفاوضَهم في ذلك. وخرج فلم يعد إليه. واتفقوا على قتال المختار، وهم: شَبَث بن رِبْعيّ، وشَمِر بن ذي الجَوْشَن، ومحمَّد بن الأشعث، وعبد الرَّحْمَن بن سعيد بن قيس، وكعب بن أبي كعب الخثعمي، وأشراف أهل الكوفة، وقالوا: زَعَمَ أن محمَّد بن الحنفية ولَّاه، ولم يكن كذلك. قال: وأشار عليهم عبد الرَّحْمَن بنُ مِخْنَف أن لا تفعلوا، وقال: أخافُ أن تتفارقوا وتتخاذلوا وتختلفوا (¬5)، ومع المختار فرسانُكم وشُجعانكم، منهم فلان وفلان، ثم معه مواليكم وعبيدُكم، وكلمتُهم واحدة، وعبيدكم (¬6) أشدُّ حنقًا عليكم من عدوّكم، فهو مُقاتِلُكُم بشجاعة العرب، وعدواة العجم، وإن انتظرتموهم قليلًا كُفيتُموهم بقدوم أهل ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 42 - 43. والرواية فيه عن هشام عن أبي مخنف. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في (ص): شيئًا. (¬4) في (ب): أرجع. وفي هذا الموضع نهاية الكلام الذي سها فيه ناسخها، وأشرفُ إليه من قبل. (¬5) في (أ): يتفارقوا ويتخاذلوا ويختلفوا. (¬6) في (ص): وعبيدهم.

الشَّام وعساكر [أهل] البصرة، وتكونوا قد كُفيتُم بغيركم، ولا تجعلوا بأسَكُم بينكم. فقالوا: ننشدك اللهَ أن تُخالفَنا، وتُفسد علينا رأينا. قال: فاصبروا حتَّى يذهب عنه ابنُ الأشتر، ويصلَ ساباط (¬1). فلما سار ابنُ الأشتر إلى ساباط؛ ثارُوا بالمختار -وتسمى هذه الوقعة وقعة جبَّانة السَّبِيع- فخرج عبد الرَّحْمَن بنُ سعيد بن قيس الهَمْدانيّ في هَمْدان، فنزل جَبَّانَةَ السَّبِيع، وخرج زَحْر بنُ قيس الجُعفي وإسحاق بن محمَّد بن الأشعث إلى جَبَّانة كِنْدة (¬2)، وخرج كعب بن أبي كعب الخثعمي إلى جَبَّانة [بِشْر] وسارَ بِشْر (¬3) بن جرير في بَجِيلَة، وخرج شَمِر بن ذي الجَوْشَن في قيس، فنزل جبَّانةَ بني سَلُول، وخرج شَبَث بن رِبْعيّ، ومحمَّد بن الأشعث، وحجَّار بن أبجر، وعَمرو بن الحجَّاج الزَّبيديّ، وقتلةُ الحسين، فنزلوا جَبَّانةَ السَّبِيع، واجتمعوا في مكان واحد، فسُرَّ المختار باجتماعهم في مكان واحد. وبعثَ المختار إلى إبراهيم بن الأشتر وهو بساباط مع عَمرو بن بُويه (¬4) يقول أَلَّا تضعَ كتابي من يدك حتَّى تُقبل بجميع من معك. فركضَ عَمرو بكتابه. وأمر المختارُ أصحابَه بالكفّ عن القتال، فأرسل إليهم: ماذا تريدون؟ قالوا: زعمتَ أنَّ ابنَ الحنفية أرسلك، ولم يُرسلك. قال: فابعثوا إليه وفدًا يسألونه، وأرادَ مطاولتَهم حتَّى يصلَ ابنُ الأشتر. ووصلَ رسولُ المختار إلى ابن الأشتر عشيَّةَ ذلك [اليوم] فسارَ ليلًا بمن معه، فقدمَ الكوفة في اليوم الثالث من خروجهم على المختار، فسار ابنُ الأشتر على الكُناسة، وسار المختار إلى جَبَّانةِ السَّبِيع، واقتتلوا قتالًا شديدًا، فظهر عليهم المختار وابنُ الأشتر، وأخذوا منهم خمس مئة أسير، فكان يسألُ عن الرَّجل: هل شهدَ قتلَ ¬

_ (¬1) وكان المختار قد أرسل ابنَ الأشتر لردّ جيش يزيد بن أنس وأن يسير بهم للقاء ابن زياد كما سلف الكلام، وذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" 12/ 18. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 57. وساباط هي ساباط المدائن، في الجانب الغربي من دجلة. ينظر "معجم البلدان" 3/ 166، و"الروض المعطار" ص 296. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬2) في الخبر تفصيل، وهو من أكثر من رواية. يقارن بما في "تاريخ الطبري" 6/ 45. (¬3) في "تاريخ الطبري" 6/ 45: بشير. (¬4) كذا في (أ) و (ب) و (خ)، وعلى الباء في (ب) ضمة، وفي (ص): نوبة، وفي "تاريخ" الطبري 6/ 46، و"البداية والنهاية" 12/ 18: توبة.

الحسين؟ فإن قيل: نعم، ضرب عنقه، فقتل عامَّتَهم، ونادَى مُنادِي المختار: مَنْ أغلقَ بابَه فهو آمن، إلَّا رجلًا (¬1) شَرَكَ في دم آل محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. ذكر من قَتَلَ المختارُ من قتلَةِ الحسين ومن هربَ منهم: قال علماء السِّير: ولمَّا سمع النَّاس منادي المختار؛ خرج عَمرو بنُ الحجَّاج الزّبيدي -وكان ممَّن شهد قتل الحسين- فركبَ راحلتَه، وأخذ طريق واقصة، فلم يُر (¬2) حتَّى الساعة (¬3). وقُتل فرات بن زَحْر بن قيس، وزَحْر هو الذي بعثَه ابنُ زياد برأس الحسين إلى يزيد. وبعث المختارُ غلامًا له يقال له: زِرْبِيّ (¬4) في طلب شَمِر بن ذي الجَوْشن، فلحقه ببعض الطريق ومعه جماعة، فقَتَلَ شَمِرٌ زِرْبيًّا ونجا، وكان شَمِر قد نزل ساتِيدَما (¬5)، فقُتل هناك، وسنذكره في آخر السنة. وقال أبو مِخْنَف: ولما عاد [المختار] إلى القصر من جبَّانةِ السَّبِيع؛ ناداه سُراقة بنُ مرداس البارقي -وقد أسروه- بأعلى صوته، وكان ممَّن خرج عليه: اسْتُرْ (¬6) عليَّ اليومَ يا خَيْرَ مَعَدّ ... وخيرَ مَنْ حَنَى (¬7) ولبَّى وسَجَدْ ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (ص): رجل. وأثبتُّ اللفظة على العبادة. ووقع في (م) (والكلام فيها مختصر جدًّا): إلَّا من شرك ... وينظر الخبر مفصلًا في "تاريخ الطبري"6/ 46 - 51. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 58 - 59. (¬2) في النسخ المذكورة: يُرى، وأَثبتُ اللفظةَ على الجادَّة. (¬3) يعني ساعة رواية الخبر، وراويهِ عامر الشعبي كما في "تاريخ الطبري" 6/ 52. ووقع في النسخ الخطية لفظة: القيامة، بدل: الساعة؛ نقل مختصر الكتاب لفظة "الساعة" بالمعنى، فحرَّفه إلى: "القيامة"! وهو من طرائف التصحيف. وعبارة "الكامل" 4/ 236: فلم يُر له خبر حتَّى الساعة، وعبارة "البداية والنهاية" 12/ 19: فلا يُدرى أين ذهب من الأرض. (¬4) في (ص) و (م): زرنبا، وفي (أ): زرينا، وفي (خ): رزينا. والعبارة في "تاريخ الطبري" 6/ 52: وبعث المختار غلامًا له يُدعى زِرْبيًّا. وأثبت الاسم منه على سياق العبارة هنا. وسلف اسمه أيضًا ص 364. (¬5) هو جبل قرب الموصل والجزيرة وتلك النواحي، أو هو نهر بين آمِد وميَّا فارقين من روافد دجلة. ينظر "معجم البلدان" 3/ 168 - 169، و"الروض المعطار" ص 233. (¬6) في "تاريخ الطبري" 6/ 54: امْنُنْ. (¬7) كذا في (أ) و (ب) و (خ). وفي (ص): صلي، وفي "تاريخ الطبري" 6/ 54: حيَّا.

فأمرَ به المختارُ إلى السجن، ثم أحضره بعد ذلك، فأنشدَه: أَلا أَبْلغْ أَبا إسحاقَ أنَّا ... نَزَوْنا نَزْوةً كانَتْ عَلَينا خَرَجْنَا لا نَرى الضُّعفاء شيئًا ... وكان خُروجُنا بَطَرًا وحَينَا نَراهُم في مصافِهمُ قليلًا ... وهم مِثْلُ الدَّبَى (¬1) حين التَقَينا ومنها: نُصِرْتَ على عدوِّك كلَّ يومٍ ... بكلِّ كتيبةٍ تَنْعَى حُسَينا كنصر محمدٍ في يوم بدرٍ ... ويومَ الشِّعْبِ إذْ لاقَى حُنَينَا فأَسْجِحْ إذْ ملكتَ فلو مَلَكْنَا ... لَجُرْنا في الحكومة واعتَدَينا تَقَبَّلْ توبةً مني فإنّي ... سأشكرُ إنْ جعلتَ النَّقْدَ دَينَا فأراد قتله، فقيل: إنه يحلفُ بالله لقد رأى الملائكة تقاتل على الخيول البُلْقِ بين السماء والأرض، فقال له المختار: فاصعد المنبر فأَعْلمِ المسلمين ذلك. فصعد، فأخبرهم ثم نزل، فخلا به المختار وقال: قد علمتُ أنك لم تَرَ الملائكة، وإنما أردتَ أن لا أقتلَكَ، فاذْهَبْ حيث شئتَ، لا تُفسد عَلَيَّ أصحابي (¬2). وخرج أشرافُ الكوفة إلى البصرة وفيهم سُراقةُ بن مِرْداس وهو يقول: ألا أبْلِغْ أَبا إسحاق أنّي ... رأيتُ البُلْقَ دُهْمًا مُصْمِتاتِ كفرتُ بوَحْيكُم وجعلتُ نَذْرًا ... عليَّ قتالكم حتَّى المماتِ أُرِي عينيَّ ما لم ترأياه ... كلانا عالمٌ بالتُّرَّهاتِ إذا قالوا أقولُ لهم كَذَبْتُم ... وإنْ خرجوا لبستُ لهم لذاتي (¬3) وفي رواية: أنَّه لما أُسر قال: ما أنتم أسرتُموني، ما أسَرَني إلَّا قومٌ على دوابَّ بُلْق، عليهم ثيابٌ بيض. فقال المختار: أولئك الملائكة. فأطلقَه (¬4). ¬

_ (¬1) أي: الجراد. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 54 - 55. (¬3) كذا في (أ) و (ب) و (خ). وفي (ص): لذاتي، ولم يتبيَّن لي. وفي "تاريخ الطبري" 6/ 55، و"البداية والنهاية" 12/ 23: أداتي .. (¬4) تاريخ الطبري 6/ 55. وينظر "العقد الفريد" 2/ 170.

وسُراقةُ هذا هو الذي أغرى بين الأخطل وجرير حتَّى تهاجيا. وكانت وقعة جَبَّانة السَّبيع يوم الأربعاء لستّ ليال بقين من ذي الحجة سنة ستّ وستين، وانجلت الوقعة عن سبع مئة وثمانين قتيلًا من القبائل (¬1). وتجرَّدَ المختار لقَتَلَةِ الحسين وقال: إنْ تركتُ منهم أحدًا يمشي على وجه الأرض فأنا الكذَّاب كما سَمَّوْني. اطلُبوا لي قَتَلَةَ الحسين، فإنِّي (¬2) لا يطيبُ لي طعامٌ ولا أُسِيغُ (¬3) الشَّرابَ حتَّى أُطَهِّرَ الأرضَ منهم، ولا أُبقي في المصر أحدًا. فدُلَّ على جماعة، منهم عبد الله بنُ أسيد بن النَّزَّال الجُهنيّ، ومالك بن نُسير (¬4) البَدِّيّ، وحَمَلُ بنُ مالك المحاربيّ، وكانوا بالقادسية، فأُخذوا، فأُدْخِلُوا على المختار، فقال لهم: يَا أعداء الله وأعداءَ كتابه ورسوله وآل بيته، قتلتُم من أُمِرتُم بالصلاة عليه في الصلاة! فقالوا: بُعثنا ونحن كارهون، فامنُنْ علينا. فقال المختار للبَدِّيّ: أنتَ صاحبُ بُرْنُسِهِ؟ فقال عبد الله بن كامل: نعم، هو هو. فقال: اقطعوا يديه ورجليه. ففعلوا، فقال: دعُوه فليضطرب حتَّى يموت. فتُرك، فنزفَ الدمُ حتَّى مات، وقَتَلَ الآخَرَ [ين] , وقتلَ خلقًا كثيرًا ممَّن قاتلَ الحسين وشهدَ قتلَه (¬5). وبعثَ أَبا عَمْرَة صاحب حَرَسِه، فأحاطَ بدار خوليّ بن يزيد الأصبحي -وهو الذي حملَ رأس الحسين إلى ابن زياد- فاختبأ في مخرجه، فقال أبو عَمرة لامرأة خولي: أين زوجك؟ فقالت: لا أدري. وأشارَتْ بيدها إلى المخرج، فدخلوا عليه، وإذا به قد وضع على رأسه قَوْصَرَّة (¬6)، فأخرجوه، وأتَوْا به المختار، فقتلَه إلى جانب مَنْ قَتَلَ من أهله، وحرَّقه، وكانت امرأتُه من حضر موت يقال لها: العَيُوف بنت مالك بن نهار بن عقرب، وكانت نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 56 - 57. (¬2) في (ص): فإنه. (¬3) في (ص): ولا يشبع لي (ولعلها يسيغ). وفي "تاريخ الطبري" 6/ 57: يسوغ. (¬4) في (أ) و (ص): بشير. (¬5) تاريخ الطبري 6/ 57 - 59. وما بين حاصرتين مستفاد منه. وينظر "أنساب الأشراف"6/ 67. (¬6) هو وعاء للتمر من قصب. (¬7) تاريخ الطبري 6/ 59 - 60. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 65.

وقتل المختار عُمر بنَ سعد، وسنذكره في آخر السنة. وبعث المختار عبدَ الله بنَ كامل إلى حكيم بن طُفيل الطَّائيّ السّنْبِسيّ -وكان رمى الحسين بن عليّ بسهم، فكان يفتخر ويقول: رميتُ الحسين بسهم، فتعلَّق بسرباله، وأخذَ سَلَبَ العبَّاس بن عليّ بعد ما قُتل -فأخذه عبد الله بنُ كامل، فاستغاثَ أهلُه بعَدِيّ بنِ حاتم، فقال له ابن كامل: الأمر في هذا إلى المختار. فمضى عديّ إلى المختار، وكان قد شفَّعه في جماعة، فقالت الشيعة لابن كامل: نخاف أنَّ المختار يُشَفِّعُ عديًّا في هذا الخبيث وله من الذنب ما قد علمت، فَدَعْنا نقتُلْه. فقال: افعلوا. فنصبوه غَرَضًا، وقالوا: سلبتَ العبَّاس ثيابَه، واللهِ لَنَسْلُبَنَّكَ ثيابَك وأنت حيّ. فنزعُوها عنه. وقالوا: جعلتَ حُسينًا غَرَضًا لِنَبْلك، وايمُ اللهِ لنفعلنَّ بك كما فعلتَ به. فرَمَوْه رَشْقًا واحدًا حتَّى مات. وكان المختار قد شَّفعَ عَدِيًّا فيه، فلما قتلُوه جرى بين عديٍّ وابنِ كامل كلامٌ (¬1). وبعث المختار إلى قاتل عليّ بن الحُسين -واسمه مُرَّة بن منقذ العبديّ- فأتاه ابنُ كامل، فأحاطَ بداره، وكان شجاعًا، فخرج إليهم وهو على فرس وبيده رمح، فحملَ عليهم، فطعنَ واحدًا يقال له: عُبيد الله بن نَاجية الشمامي، فصرعه ولم يُضِرْه، وضربه ابنُ كامل بالسيف، فاتَّقاه بيده اليسرى فأسرع فيها [السيف] ثم نجا, ولحق بالبصرة، وشَلَّت يدُه (¬2). وبعث المختار عبدَ الله الشاكري إلى قاتل عبد الله بن مسلم بن عَقِيل، واسمُ الرَّجل زيد بن رُقاد، وكان يقول: لقد رميتُ فتًى منهم بسهم، فأثبتُّ كفَّه في جبهته كان يتَّقى بكفِّه النَّبْل، ثم إنني رميتُ الغلام بسهم آخر فقتلتُه، والغلام هو عبدُ الله بنُ مسلم، فلما أحاطوا بداره خرج مُصْلِتًا بسيفه، فقال ابنُ كامل: لا تضربوه بسيف إلَّا بالحجارة. فضربوه حتَّى سقط وبه رمق، فأحرقوه وفيه رُوحٌ بعد. وطلب المختار سنان بن أنس الذي ادَّعى أنَّه قتلَ الحسين، فوجده قد هرب إلى البصرة، فهدم داره (¬3). ¬

_ (¬1) تاريِخ الطبري 6/ 62 - 64. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 66. (¬2) أنساب الأشراف 6/ 68، وتاريخ الطبري 6/ 64. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 64 - 65. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 66.

وطلب المختار محمَّد بن الأشعث بن قيس، فهرب إلى البصرة (¬1). واختلفوا في شَبَث بن رِبْعيّ فقال قوم: قتله المختار، وقيل: مات على فراشه. وذكر ابنُ سعد ما يدلُّ عليه، فإنَّه ذكره في الطَّبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة وقال (¬2): شَبَث بن رِبْعيّ، ويكنى أَبا عبد القدّوس بن حُصين بن عُثيم بن ربيعة بن زيد التَّمِيمِيّ. وحكى ابن سعد (¬3) عن الأَعمش قال: شهدتُ جنازة شَبَث بن رِبْعيّ، فأقاموا العبيد على حِدَةٍ، والجواريَ على حِدَةٍ، والخيل على حِدَة، والنُّوقَ على حدةٍ، والبُخْت على حِدَة. وذكر الأصناف قال: ورأيتُهم ينوحون عليه يلتدمون. ولم يذكر تاريخ وفاته، وذكره فيمن روى عن عثمان، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وطلحة والزُّبير، وأسامة بن زيد، وأبي مسعود الأَنْصَارِيّ، وعَمرو بن العاص، وابنِه عبد الله بن عَمرو، ولم يرو عن عُمر وعليّ وابنِ مسعود شيئًا (¬4). وسنذكرُ في آخر السنة أعيان قتلة الحسين، وما يتعلق بذلك. فصل وفي هذه السنة بعثَ عبدُ الملك بنُ مروان جيشًا إلى المدينة لقتال مصعب بن الزُّبير، وبلغ المختارَ، فبعثَ جيشًا لمصعب؛ ظاهرُ الأمر نجدةٌ على عبد الملك، وباطنُ الأمر أنَّه ممكرٌ (¬5) بابن الزُّبير. قال هشام عن أبي مِخنف: كان عبد الله بن مطيع لما أُخرج (¬6) من الكوفة لم ير القُدوم على ابن الزُّبير مكةَ على ذاك الوجه (¬7)، فسار إلى البصرة، وأقام حتَّى قدم عليه ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 66. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 335. (¬3) المصدر السابق 8/ 335 - 336. (¬4) المصدر السابق 8/ 331. (¬5) كذا في النسخ. ولعله اسم فاعل من أمكر، لغة في مكر. (¬6) في (ص): خرج. (¬7) يعني مهزومًا مَفلولًا، ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 71. و"الكامل" 4/ 246.

عمر بن عبد الرَّحْمَن بن الحارث بن هشام، فأقاما جميعًا بالبصرة، وسبب قدوم عمر بن عبد الرَّحْمَن البصرة؛ أنَّ المختار كتبَ إلى ابن الزُّبير يخادعُه ويقول: قد عرفتَ مناصحتي إياك وجهادي لعدوِّك وما كنتَ أعطيتَني إذا أنا فعلتُ ذلك، فلمَّا وفَيتُ لك لم تَفِ لي بما عاهَدْتَني عليه، وقد رأيتَ منِّي ما رأيتَ، فإنْ تُرِدْ مراجعتي أراجِعْك، وإنْ تُرِدْ مناصحتي أَنْصَحْ لك. والسلام. وإنما قصد المختار أن يستجمعَ له الأمر، وهو لا يُطلع الشِّيعة على ذلك، بل يُظهر أنَّه وزيرُ ابنِ الحنفيَّة. فدعا ابنُ الزُّبير عمر بنَ عبد الرَّحْمَن بن الحارث بن هشام المخزوميَّ وقال له: اذْهبْ إلى الكوفة، فقد ولَّيتُكَها. قال: فإنَّ المختار بها؟ قال: فإنَّه سامعٌ مطيع. فجهَّزْه بأربعين ألفًا (¬1)، وعَلِمَ المختار، فبعثَ إليه من الطريق بثمانين ألفًا -وقيل: بسبعين ألفًا (¬2) - وقال: اذهبْ حيث شئتَ، ولا تقرب الكوفة، فمضى إلى البصرة. وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك بنَ الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، والمختارُ لابن الزُّبير مُكايدٌ ومخادِع، فكتب إلى ابن الزُّبير: قد بلغني أنَّ عبد الملك [بن مروان] قد جهَّزَ جيشًا إلى وادي القُرى، فإنْ أحببتَ أمْدَدْتُك. فكتب إليه ابنُ الزُّبير: إن كنتَ على طاعتي وتبايع النَّاس لي قِبَلَكَ؛ صدَّقْت مقالتَك, وكفَفْتُ جنودي عن بلادك، وعجِّلْ بتسريح الجيش ليَلْقَوْا مَنْ بوادي القُرى. فدعا المختار شُرَحْبيل بنَ وَرْس الهَمداني، فجهَّزَه في ثلاثة آلاف أكثرُهم من الموالي، وقال له: سِرْ حتَّى تأتيَ المدينةَ، فإذا دخَلْتَها فاكتُبْ إليَّ بذلك حتَّى يأتيَك أمري. وكان في عزمه إذا دخلوا المدينة أنْ يبعثَ عليها (¬3) أميرًا من قِبَله، ويأمرَ ابنَ وَرْس أن يمضيَ إلى مكَّة، فيحاصرَ ابنَ الزُّبير. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 72: فتجهَّزَ بما بين الثلاثين أَلْف درهم إلى الأربعين ألفًا .. (¬2) يعني أن المختار أرسل إليه ضعفَ ما أنفق في مسيره, كما في المصدر السابق. ووقع في (أ): بتسعين ألفًا. (¬3) في (ص): إليها.

وخافَ ابنُ الزُّبير مكيدةَ المختار، فأرسلَ من مكةَ عبَّاسَ بن سهل في ألفين، وقال له: إنْ رأيتَ القوم في طاعتي، وإلا فكايدهم حتَّى تُهلكهم. وسار عباس، فالْتَقَوْا على الرَّقَم (¬1) وشُرَحْبيل على تعبئة، وعبَّاس على غير تعبئة، فقال له عبَّاس: ألستَ في طاعة ابن الزُّبير؟ فقال له ابنُ وَرْس: بلى. قال: فسِرْ بنا إلى عدوِّنا إلى وادي القُرى. فقال ابن وَرْس: إنما أُمرتُ أن آتيَ المدينةَ، فإذا نزلتُها رأيتُ رأيي، وكتبتُ إلى صاحبي فيرى رأيه. فرَدَّدَ عليه القول وهو لا يرجعُ عن الأوَّل، فعلم خلافه، فسكتَ ولم يُظهر له شيئًا ممَّا في نفسه. ومضى فنزل على الماء، وبعثَ إلى ابن وَرْس بجزائر ودقيق وغنم، وكان ابنُ وَرْس قد جاع هو وأصحابُه، فاشتغلوا بالذبح والطبخ، فركب عبَّاس في أصحابه، وحملَ على القوم، فنادى ابنُ وَرْس أصحابَه: إليَّ يَا شُرَطَةَ الله، فإنَّ المُحِلِّين الملحدين قد فجروا وغَدَروْا (¬2). فلم يوافِ إليه من أصحابه سوى مئة رجل، فثبتَ وقاتل حتَّى قُتل في سبعين من أهل الحِفاظ، وانهزم الباقون، ومات بعضُهم بالعطش. وقيل (¬3): معظمُهم. وبلغ المختارَ، فكتبَ إلى محمَّد بن الحنفية: أما بعد، فإنِّي كنتُ بعثتُ إليك جندًا ليُذِلُّوا لك الأعداء، ويحوزوا لك البلاد، فسارُوا إليك حتَّى إذا أطلُّوا (¬4) على طيبة، لَقِيَهم جندُ الملحد، فخدعوهم وغَرُّوهم، حتَّى إذا اطمأنُّوا إليهم ووثقوا بهم؛ وثَبُوا عليهم فقتلوهم، فإنْ رأيتَ أنْ أبعثَ (¬5) إلى المدينة جندًا كثيفًا، وتبعثُ إليهم من قِبَلِكَ رُسُلًا ليعلم (¬6) أهلُ المدينة أنّي في طاعتك، فافعلْ. ¬

_ (¬1) بفتح أوله وثانيه: جبال دون مكة بديار غطفان، وماء عندها أَيضًا. ينظر "معجم البلدان" 3/ 58. ووقع في "تاريخ الطبري" 6/ 73: الرقيم. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 75. (¬2) في (أ) و (ب) و (خ): وعَدَوا، وفي (ص): بَغَوا علينا وفجرواه والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 74. (¬3) في (أ) و (ب) و (ص): وقُتل. والمثبت من (خ) وهو المناسب لما في عبارة الطبري 6/ 74: فرجعوا فمات أكثرهم في الطريق. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 76. (¬4) في (خ): اطلعوا، وفي (ص): أظلوا. وكذلك هي في "تاريخ الطبري" 6/ 75. والمثبت من (أ) و (ب). (¬5) المثبت من "أنساب الأشراف" 6/ 76، و"تاريخ" الطبري 6/ 75، ووقع في النسخ: فإنِّي رأيتُ أني أبعثُ وهو خطأ. (¬6) في (أ) و (ب): لتعلم.

فكتب إليه ابنُ الحنفية: أما بعد، فإنِّي لو أردتُ القتال لوجدتُ النَّاس سراعًا إليَّ والأعوانَ كثيرًا، ولكنّي قد اعتزلتُ النَّاس، وصبرتُ حتَّى يحكم الله، وهو خير الحاكمين. وقال لرسول المختار إليه -واسمه صالح بن مسعود- قل له: فليتَّقِ الله، وليكفَّ عن الدماء (¬1)، وعليه بطاعة الله (¬2). وفيها حبسَ عبد الله بنُ الزُّبير محمد بن الحنفيَّة ومن كان معه من أهل بيته وسبعةَ عشرَ (¬3) رجلًا من أشراف الكوفة. وسببُه ما حكاه هشام بن محمَّد عن أبي مِخْنَف أنَّ ابنَ الزُّبير أرسل إليهم: بايِعُوا. فقالوا: حتَّى يجتمع النَّاس على إمام (¬4)، فحبَسَهم، وتوعَّدهم بالقتل والحريق، وضربَ لهم أجلًا لئن لم يبايعوا فيه ليحرقنَّهم، وحبسَهم في زمزم. فأرسلوا إلى المختار، وأخبرُوه بالحال، وقالوا: قد تَواعَدَنا بالقتل والحريق، فلا تخذُلُونا كما خذلتُم الحسين وأهلَ بيته. فلما وصل كتابُه (¬5) إلى المختار؛ جمع الشيعة، وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا كتاب مهديِّكم وصريحُ أهل بيت نبيّكم - صلى الله عليه وسلم -، وقد أصبح محصورًا ينتظرُ القتل والحريق. وقال: لستُ أَبا إسحاق إن لم أنصره نصرًا مؤزَّرًا. ثم سجع فقال: وأُسَرِّبُ إليهم الخيل في إثر الخيل، كالسَّيلِ يتلُوه السَّيل، حتَّى يَحُلَّ بابنِ الكاهليَّة الوَيل. ثم جهَّز إليهم أَبا عبد الله الجَدَليّ، وظَبْيَان بن عثمان (¬6) التَّمِيمِيّ، وعُمير بن طارق، وغيرهم، في مئة وخمسين فارسًا أوَّلَا فأوَّل (¬7)، ويُسمَّوْن الخشبيَّة؛ لأنهم كانوا يقاتلون بالخشب، فقدموا مكة وهم ينادون: يَا لثَارات الحسين. فأَتَوْا زمزم وقد أعدَّ ابنُ الزُّبير ¬

_ (¬1) في (خ): الدنيا. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 75. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 76. (¬3) في (أ) و (ب) و (خ) و (ص): تسعة عشر، والمثبت من (م) وهو الموافق لما في "تاريخ الطبري" 6/ 76. (¬4) في (ب): أمر. (¬5) في (م): كتابهم. (¬6) في "تاريخ الطبري" 2/ 76: عمارة، وهو الأشبه، فلم يرد ذكر لظبيان بن عثمان في المصادر. (¬7) في الكلام تفصيل غير هذا، فظبيان بن عثمان (أو ابن عمارة كما في التعليق قبله) لم يكن مع الله والخمسين هؤلاء الذين وصلوا أولًا إلى الحرم. ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 76 - 77.

الحطب على بابها، وقد بقيَ من الأجل يومان. فكسروا بابَ زمزم، ودخلوا على ابنِ الحنفيَّة، فقالوا: خَلِّ بيننا وبين القوم. فقال: إنِّي لا أستحلُّ القتال في حَرَم الله. وخافَهم ابنُ الزُّبير (¬1)، وخَرجَ ابنُ الحنفيَّة ومن معه إلى شِعبِ عليّ، وتتابعت جيوش المختار، حتَّى صار محمَّد في أربعة آلاف، وقدموا معهم بمال من عند المختار، فقسمه محمَّد في ذلك الجيش (¬2). وقيل: إنَّ ابنَ الزُّبير امتنعَ من إخراجهم حتَّى يُبايعوا، فقال له أبو عبد الله الجَدَليّ: وربِّ الرُّكن والمقام، والحِلِّ والحرام، لتنتهينَّ أو لنُجالِدَنَّك (¬3) بأسيافنا جِلادًا يرتابُ منه المبطلون. ثم قالوا لمحمد: خلِّ بيننا وبين المُحِلّ (¬4). فنهاهم عن القتال. وقد أخرج البخاريُّ (¬5) أنَّ ابنَ الزُّبير لمَّا دعاهم إلى البيعة قال ابنُ عبَّاس: وأين بهذا الأمر عنه؟ وأبوه حواريُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسنذكرُ الحديث فيما بعده وقال الهيثم: إنَّما حبسَهم في حبس عارم (¬6). فصل وفيها جهَّز المختار إبراهيمَ بنَ الأشتر لقتال أهل الشَّام، فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ستّ وستين، وقيل: سلخ ذي الحجة، وجهَّز معه وجوه أصحابه وفرسانهم وذوي البصائر منهم ممَّن قد شهد الحروب. وخرج المختار يشيِّعُه والكرسيُّ (¬7) بين يديه، وكان سادنُه حَوْشَب البُرْسُمي (¬8)، والمختار يقول: ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 76 - 77 أنَّه قدم إليهم أبو المعتمر في مئة، وهانئ بن قيس في مئة، وظبيان بن عثمان في مئتين ... فلما رآهم ابنُ الزُّبير خافهم. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في (أ) و (ب) و (خ) و (ص): لنُجادلنَّك، وأثبتُّ اللفظة أعلاه لقوله بعده: جِلادًا في النسخ المذكورة غير (ص)، فوقع فيها جدالًا. وعبارة الطبري 6/ 77 كما هو مثبت. (¬4) في (ص): القوم. (¬5) بنحوه في "صحيحه" (4665) وهو قطعة من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬6) قال ياقوت في "معجم البلدان" 4/ 66: أظنُّه بالطائف. (¬7) في (أ) و (ب) و (خ) و (ص): بشيعة الكرسي، وفي (أ): يشيّعه الكرسي. وفي (م): بشيعته والكرسي. والمثبت مناسب لما في "أنساب الأشراف" 6/ 77، و"تاريخ" الطبري 6/ 81. (¬8) نسبة إلى بُرْسُم، بطن من حِمْير. ينظر "اللباب" 1/ 139.

أَمَا وربِّ المُرْسَلاتِ عُرْفا ... لَنَقتُلَنَّ بعدُ صفًّا (¬1) صفَّا وبعدَ أَلْفٍ قاسطين ألفا ثم أوصى ابنَ الأشتر فقال: إذا لقيتَ عدوَّك فَنَاجِزْهم ساعةَ تَلْقاهُم، وإنْ لقيتَهم ليلًا أو نهارًا؛ فناجزهم حتى يحكم الله بينك وبينهم. ثم عاد إلى الكوفة، وباتَ ابنُ الأشتر بحمَّام أعين، ومنه سار في جيشٍ كثيف (¬2). حديث الكرسي الذي كان يستنصر به المختار: واختلفوا فيه؛ فقال قوم: إن هذا الكرسيَّ كان لرجل زيَّات من أهل الكوفة، فقال الطُّفيل بن جَعْدة بن هُبيرة: احتجتُ إلى شيء من الورق [لكي أنتفع به] وكان الزيَّات جارًا لي وقد علاه الوسخ عنده، فخطر ببالي لو كان للمختار في هذا شيء. فقلتُ للزيَّات: أرْسِلْ إليَّ بالكرسي. فأرسَلَه (¬3) إليّ، فأتيتُ المختار، فقلت له: ها هنا كرسي فيه أثارَةٌ من علم؛ كان يجلسُ عليه جَعْدة بنُ هبيرة (¬4). وقال أبو اليقظان: إنَّ الطفيل قال للمختار: إنَّ هذا الكرسيّ كان لأمير المُؤْمنين عليّ. فقال: عليَّ به. فحُمل إليه، فأمر للطُّفيل باثني عشر ألفًا. ثم دخل المختارُ المسجد، وصَعِدَ المنبر واجتمع النَّاس، وقد غشَّى الكرسيَّ بالديباج، فقال: أيُّها النَّاس، إنه لم يكن في الأمم الخالية أمرٌ إلَّا وكان في هذه الأمة مثلُه، وقد كان في بني إسرائيل التابوت، فيه بقيَّةٌ مما ترك آلُ موسى وآلُ هارون، وإنَّ هذا فينا مثلُ التابوت، اكشفوا عنه، [فكشفوا عنه] أثوابَه، وقامت السَّبئيَّة، فرفعوا أيديَهم وكبَّروا ثلاثًا، وقام شَبَث بن رِبعي، فقال: يَا معشر مضر، لا تكفروا بالله العظيم. فضربوه وأخرجوه (¬5). وروى هشام عن أبي مِخْنَف أنَّ المختار قال لآل جَعْدة بن هُبيرة بن أبي وَهْب المخزومي -وكانت أمُّ جَعْدة بن (¬6) هُبيرة أمَّ هانئ بنت أبي طالب-: ائتوني بكرسيّ ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 6/ 77، و"تاريخ" الطبري 6/ 81: بعد صفّ. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 81 - 82. (¬3) في (ص): فأرسل به. (¬4) تاريخ الطبري 6/ 82 - 83. (¬5) ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 83. (¬6) في (ب) و (خ): بنت. وهو خطأ.

عليّ بن أبي طالب. فقالوا: لا والله، ما هو عندنا، وما ندري من أين نجيء به (¬1). فقال: لا بدّ. فجاؤوه بكرسيّ، فقَبِلَه منهم، وغشَّاه بالحرير والدِّيباج. وكان أول من سَدَنَهُ موسى بن أبي موسى الأَشْعريّ، وأمُّه أمُّ كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطَّلب، ثم سَدَنَه بعد ذلك حَوْشَب البُرْسُمي، إلى أن هلك المختار (¬2). وبنو جَعْدة أصهارُ عليٍّ - عليه السلام -. ثم إن المختار غشَّاه بالحرير والدِّيباج، وحلَّاه بالذَّهب والفضة، وكان المختار إذا قاتل قدَّمه بين يديه، ودعا يستنصر (¬3) به، وتؤمِّنُ السَّدَنةُ على دعائه: وكان من دعائه: اللهمَّ لا تؤاخذنا بما فعل السُّفَهاء منَّا، اللهمَّ انْصُرْنا على من ناوأنا (¬4). وكان يقدِّمُه [بين يديه مثل تابوت بني إسرائيل، وكان] بين يديه يومَ جبَّانة السَّبِيع، فنُصر على القوم، فافتُتن النَّاسُ به (¬5). فصل: وحجَّ بالنَّاس في هذه السَّنَة عبد الله بنُ الزُّبير، وكان على المدينة أخوه مصعب بنُ الزُّبير من قِبَلِ أخيه عبدِ الله، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بنُ هُبيرة، وكان على الكوفة المختار قد غلب عليها، وعلى خُراسان عبد الله بن خازم (¬6). ¬

_ (¬1) في (م): فقالت: والله ما ندري أين هو، وما هو عندنا، ومن أيّ الأماكن نجيء به؟ (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 69 - 70، و"تاريخ" الطبري 6/ 84 - 85. (¬3) في (م): حتى يستنصر. (¬4) لم أقف عليه، غير أن قوله: "اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا" هو من قول ابن الأشتر لما رأى أصحاب الكرسيّ يستنصرون ويدعون. ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 77، و"تاريخ" الطبري 6/ 82. (¬5) لم يرد في المصادر المذكورة أن الكرسيّ كان معه يومَ جَبَّانة السَّبيع، وإنما فيها أنَّه وإن معه يوم قتاله ابن زياد. ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 83، و"الكامل" 4/ 259، و"البداية والنهاية" 12/ 37. وما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬6) تاريخ الطبري 6/ 80 - 81.

أسماء بن حارثة

وعلى الشَّام عبدُ الملك بن مروان وعماله، وعلى مصر عبد العزيز بن مروان، وعلى أرمينية والجزيرة محمَّد بنُ مروان، وعُبيدُ الله بنُ زياد نازلٌ بأرض الموصل. وفيها توفيّ أسماء بنُ حارثة ابن سعيد بن عبد الله بن غياث من بني أفصى، من الطَّبقة الثالثة من المهاجرين (¬1)، وكنيتُه أبو هند (¬2). وكان هو وأخوه هند بن حارثة ملازمَين لخدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أهل الصُّفَّة؛ لأنَّهما كانا فقيرَين. وقال ابنُ سعد (¬3): وذكر بعض أهل العلم أنَّهم كانوا ثمانية إخوة، صحبوا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وشهدوا (¬4) معه بيعة الرِّضوان، وهم: أسماء، وهند، وخِداش، وذؤيب، وحُمْران، وفَضَالة، وسَلَمة، ومالك، بنو حارثة بن سعيد. واختلفوا في وفاة أسماء بن حارثة، فقال ابن سعد: مات بالمدينة سنة ستّ وستين وهو ابنُ ثمانين سنة. قال: وسمعتُ أنَّه مات بالبصرة في أيام معاوية وولاية زياد عليها, وله صحبةٌ ورواية (¬5). وأخرج له ابنُ سعد حديثًا (¬6). قال: ومن ولد أسماء بن حارثة غَيلانُ بن عبد الله بن أسماء بن حارثة، وكان من قُوَّاد أبي جعفر المنصور، وكان له ذكر في دعوة بني العبَّاس (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 226. (¬2) في "الاستيعاب" ص 65: يكنى أَبا محمَّد. (¬3) في "الطبقات" 5/ 227. (¬4) في (أ) و (ب) و (خ) و (ص): وشهد. والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "طبقات" ابن سعد 5/ 227. (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 227. (¬6) المصدر السابق. والحديث في صيام يوم عاشوراء. (¬7) طبقات ابن سعد 5/ 226.

أسماء بن خارجة

وليس في الصَّحَابَة من اسمه أسماء سوى رجلين، أحدهما هذا، والثاني: أسماء بن وثَّاب (¬1)، له رواية (¬2). قال ابنُ سعد: وأمَّا هند أخو أسماء فمات في خلافة معاوية بالمدينة (¬3). وفيها تُوفِّي. أسماء بن خارجة ابن حصن بن حذيفة بن بدر الفَزَاريّ، أحدُ الأجواد، من الطَّبقة الأولى من التابعين، من أهل الكوفة، وكنيتُه أبو حسَّان، وكان قد ساد الناس بمكارم الأخلاق. ذكر طرف من أخباره: حكى أبو القاسم ابن عساكر قال: أتى الأخطل الشَّاعر إلى عبد الملك بن مروان، فسأله في حمالاتٍ تحمَّلها عن قومه، فأبى أن يُعطيَه إيَّاها، وعرض عليه نصفها، فأبى، وقدم العراق، فسألَها بشر بن مروان أخا عبد الملك، فقال له كما قال عبد الملك، فأتى أسماء بنَ خارجة، فسألَه إيَّاها، فتحمَّل عنه الكلّ [بعد أن أكرمه، وأجازه بجوائز سنيَّة] فقال: إذا ما (¬4) ماتَ خارجةُ بن حصن ... فلا مَطَرَتْ على الأرض السماءُ ولا رجعَ البشيرُ بغُنْم جيشٍ ... ولا حَمَلَتْ على الطُّهْر النساءُ فيومٌ منك خيرٌ من رجالٍ ... كثيرٍ حولَهم نَعَمٌ وشَاءُ فبورك في بَنِيك وفي بنيهم ... وإن كثُروا ونحن لك الفِداءُ ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الخطية. وفي "طبقات" ابن سعد 6/ 321: رئاب، وفي "الإصابة"1/ 59: رياب، وفي "الاستيعاب" ص 66، و"تجريد أسماء الصَّحَابَة" ص 17: رِبَان، ولعله الصواب، وجاء في "القاموس" (ربن): وككِتاب: اسم لشخص من جَرْم، وليس في العرب رِبَان، بالراء، غيره، ومن سواه بالزاي. (¬2) المثبت من (م)، وفي غيرها: رؤية. وذكر حديثه ابنُ سعد، وهو في مخاصمته بني عقيل إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في العقيق، فقضى به لجُرم. قال ابن حجر: وهو ماء في أرض بني عامر، وليس الذي بالمدينة. وذكر الذهبي في "التجريد" أن حديثه منقطع. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 227. (¬4) لفظة "ما" من (أ) و (م).

وبلغَ عبدَ الملك فقال: عرَّضَ بنا الخبيث (¬1). وقوله: خارجة بن حصن: فإنَّما أراد أسماء بن خارجة بن حصن، فحذفَ المضاف، وأقامَ المضاف إليه مُقامه. قلت: حذفُ الاسم غيرُ مستحسن، ولو قال: ، إذا ما مات أسماءُ بنُ حصن، كان أحسن؛ لأنَّ نسبتَه إلى جدِّه أولى من حذف اسمه بمرَّة (¬2). واختلفوا في قائل الأبيات، فقيل: إنَّها للقَطامي (¬3). وذكر أبو الفرج الأَصْبهانِيّ (¬4) أنها لعبد الله بن الزَّبِير -بفتح الزاي- الأسدي. وقال عبد الله بنُ بكر السهمي: لمَّا أراد أسماءُ بن خارجة أن يُهْدِيَ ابنتَه إلى زوجها قال لها: يَا بُنيَّة، كُوني لزوجك أَمَةً يكنْ لكِ عبدًا، ولا تدني منه فَيَمَلَّكِ، ولا تَتَباعَدِي عنه فيَتَغيَّرَ عليكِ، وكُوني له كما قلتُ لأمِّك [حين صحبتُها]: خُذِي العفو مني تستديمي مودَّتي ... ولا تنطقي في سَوْرتي حين أغضبُ فإنِّي رأيتُ الحبَّ في الصدر والأَذَى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبُّ يذهبُ وقال الرِّياشي: قال أسماء بن خارجة لامرأته: اخْضِبِي لحيتي. فقالت: إلى كم نَرْقَعُ منك ما قد خَلَقَ؟ فقال: عَيَّرتِني خَلَقًا أَبْلَيْتِ (¬5) جِدَّتَهُ ... وهَلْ رَأَيتِ جديدًا لم يَعُدْ خَلَقَا كما لَبِسْتِ جديدي فالْبَسِي خَلَقي ... فلا جديدَ لمن لا (¬6) يلبَسُ الخَلَقَا وحكى أبو اليقظان قال: دخلَ أسماءُ بنُ خارجة على عبد الملك بن مروان، فقال له: بِمَ سُدْتَ النَّاس؟ فقال: هو من غيري أحسن. قال: لقد بلغني عنك خصال شريفة، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 2 - 3 (مصورة دار البشير) وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬2) قال ابن عساكر بإثر الخبر: الصواب: إذا مات ابنُ خارجة بن حصن ... قلت: وعندئذ فلا حاجة لتقدير الحذف أو نسبته إلى جدِّه. والله أعلم. (¬3) أوردها له محمَّد بن سلّام في "طبقات فحول الشعراء" 2/ 539 - 540 وفيه: إذا مات ابنُ خارجة بن حصن ... (¬4) في "الأغاني" 14/ 246. (¬5) في (ب) و (خ): أبديتِ. (¬6) في (أ): لم.

فأنا عزمتُ عليك إلَّا ذكرتَ بعضها. فقال: أمَّا إذْ عزمتَ عليَّ؛ فَنَعَمْ. فقال عبد الملك: هذه أوَّلُها. فقال أسماء: ما سألني أحدٌ حاجة إلَّا ورأيتُ الفضلَ له عليَّ، ولا دعوتُ أحدًا إلى طعام إلَّا ورأيتُ له المِنَّةَ عليَّ، ولا جلسَ إليّ رجل إلَّا ورأيتُ له الفضلَ عليَّ، ولا تقدَّمتُ جليسًا بركبةٍ قط، ولا قصدَني قاصدٌ في حاجة إلَّا وبالغتُ في قضائها, ولا شتمتُ أحدًا قطُّ؛ لأنه إنَّما يشتمُني أحدُ رجلين؛ إمَّا كريمٌ فكانت منه هفوة، فأنا أحقُّ بغفرها، وإمَّا لئيم، فأصونُ عرضي عنه، فقال له عبد الملك: حُقَّ لك أن تكون (¬1) سيِّدًا شريفًا (¬2). وقال ابن الكلبي: خرج أسماءُ بن خارجة في أيام الرَّبيع إلى ظاهر الكوفة، فنزل في رياض مُعْشِبَة، وهناك رجلٌ من بني عبس نازلٌ، فلما رأى قِبابَ أسماءَ وأبنيتَه؛ قَوَّضَ أبنيتَه ليرحل، فقال له أسماء: ما شأنُك؟ فقال: لي كلبٌ هو أحبُّ إليَّ من ولدي، وأخاف أنْ يُؤذِيَكُم فيقتلَه بعضُ غلمانكم (¬3). فقال له: أقِمْ، وأنا ضامنٌ لكلبك. ثم قال لغلمانه: إذا رأيتُم كلبَهُ قد ولَغ في قدوري وقِصاعي فلا تُهِيجُوه. وأقامَ على ذلك مدَّة، ثم ارتحل أسماء، ونزل الروضةَ رجلٌ من بني أسد، وجاء الكلب على عادته، فضربَه الأسديُّ فقتلَه، فجاء العبسي إلى أسماء، وقال له: أنتَ قتلتَ كلبي. قال: وكيف؟ ! قال: عوَّدْتَه عادةً ذهب يرومُها من غيرك فقُتل. فأمرَ له بمئة ناقة دِيَة الكلب (¬4). وكانت وفاة أسماء في هذه السنة وهو ابنُ ثمانين سنة (¬5). أسند عن عليٍّ، وابنِ مسعود، وروى عنه ابنُه مالك بن أسماء، وعليّ بنُ ربيعة الأسدي. ¬

_ (¬1) في (خ) و (م): حق له أن يكون ... (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 3/ 2 (مصورة دار البشير). (¬3) في (م): غلمانك. (¬4) تاريخ دمشق 3/ 3 - 5. (¬5) كذا في "مختصر تاريخ دمشق" 4/ 385. ولم أجد هذا في مصورة دار البشير لـ"تاريخ دمشق"، وجاء فيه عن الزيادي 3/ 7 أنَّه مات وهو ابنُ تسعين سنة.

شمر بن ذي الجوشن

وفيها هلك شَمِر بن ذي الجَوْشَن الضِّبابي، حيّ (¬1) من بني كلاب. وذكر ابنُ سعد أباه ذا الجَوْشَن، فقال: اسمه شُرحبيل بن الأعور بن عَمرو بن معاوية، وهو الضِّباب -بكسر الضاد- ابن كلاب بن ربيعة. قال ابن سعد بإسناده عن عيسى بن يونس عن أَبيه، عن جده، عن ذي الجَوْشَن الضِّبابي قال (¬2): قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما فرغ من بدر، فقلتُ: أتيتُك بابن القَرْحاء -يعني فرسه- فخُذْه، وكان يومئذٍ مشركًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا آخذُه، وإنْ شئتَ أنْ أقضيَك (¬3) به المختار من دروع بَدْر؛ فعلتُ" (¬4). فقلتُ: ما كنتُ لأقضيَك اليوم فرسًا بدرع (¬5). قال ابن سعد: قال محمَّد بن عمر: ثم أسلم بعد ذلك. وفي رواية ابن سعد أَيضًا أنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قال لذي الجَوْشَن: "هل لك أن تكون من (¬6) أوائل هذا الأمر؟ ". قال: لا. قال: "فما يمنعُك؟ " قال: رأيتُ قومك قد كذَّبوك وأخرجوك وقاتلوك، فانظرُ، فإنْ ظهرتَ عليهم آمنت بك واتَّبعتُك، وإن ظهروا عليك لم أتَبِعْك. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعلَّك إنْ بَقِيتَ قريبًا سترى ظهوري عليهم". قال ذو الجَوْشَن: فواللهِ إنِّي لَبِضَرِيَّةٍ (¬7)؛ إذا براكب قد أقبل من مكة، قلنا: ما الخبر؟ قال: ظهر مُحَمَّدٌ على أهل مكة. ¬

_ (¬1) لفظة "حي" ليست في (ص). (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 194. (¬3) في (أ): أقضيتك، وفي (ب) و (خ): أن أقضيتك. والخبر بنحوه في "مسند" أَحْمد (15965) وفيه: أن أقيضك. (¬4) لفظة "فعلت" ليست في (أ) و (ص). (¬5) في (أ) و (خ) و (ص): بدرهم. (¬6) في (خ): في. (¬7) ضَرِيَّة: موضع بأرض نجد. ينظر "النهاية" 3/ 87. وتحرف اللفظ في (أ) و (ب) و (ص) إلى: لنصرته. وفي رواية "مسند" أَحْمد (15965): إنِّي لبأهلي بالغَوْر.

قال: وكان ذو الجوشن يتوجَّع على تركه الإسلام حين دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه. وهذه رواية ابن سعد. وقال ابن البَرْقي: اسم ذي الجوشن أوس بن الأعور، والضّبابي لقب أحد أبويه (¬1) اسمه ضَبّ، فنسبوه إليه. وقال أبو إسحاق السَّبِيعي: إنما سُمِّي بذي الجَوْشن لأن صدره كان ناتئًا. وقال ابن سعد عن أبي إسحاق قال (¬2): كان شَمِر بن ذي الجوشن لا يكادُ يصلّي معنا، ويجيء بعد الصلاة، فيصلي، ثم يقول: اللهمَّ اغْفر لي فإنِّي كريم لم تلدني اللئام. قال: فقلت له: إنك لسيِّئُ الرأي يومَ تُسارع إلى قتل ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: دعنا يَا أَبا إسحاق، فلو كنَّا كما تقول أَنْتَ وأصحابُك، لكنَّا شرًّا من الحُمُر السُّقاة (¬3). ذكر مقتله: قد ذكرنا أن المختار بعث غلامَه زِرْبيًّا (¬4) في طلب شَمِر، وأنَّ شَمِر طعنَه فقتلَه، ومضى حتَّى نزل بساتيدَما (¬5). قال أبو مِخْنَف: فنزل إلى جانب قرية يقال لها: الكلتانيَّة (¬6) على شاطئ نهر إلى جانبه تلّ، فأرسل إلى تلك القرية، فأخذ منها عِلْجًا، فضربه، ثم قال: النَّجاء بكتابي هذا إلى مصعب بن الزُّبير [بالبصرة، وكتب عنوانه: للأمير المصعب بن الزُّبير] من شَمِر ابن ذي الجَوْشن. قال: فمضى العِلْجُ حتَّى دخلَ قرية، وفيها أبو عَمْرة، وقد كان المختار بعثه إلى تلك القرية ليكون مَسْلَحَةً له فيها خوفًا من البصرة، فلقيَ ذلك العِلْجُ عِلْجًا، فوقف معه ¬

_ (¬1) في (ص): آبائه. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 195. (¬3) المصدر السابق، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 8/ 123 (مصورة دار البشير). (¬4) في (أ) و (ص) و (م): زرنبًا، وفي (خ): رزينًا، وفي (ب): زرينا. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 52. (¬5) هو جبل قرب الموصل والجزيرة، أو نهر بين آمد وميَّافارقين، وسلف ذكره ص 378. (¬6) في النسخ الخطية: الكلبانية (في الموضعين) والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 52، وذكرها ياقوت في "معجم البلدان" 4/ 476.

يشكو إليه ما لقيَ من شَمِر، ومرَّ رجل من أصحاب أبي عَمْرة، فرأى الكتابَ مع العِلْج، فقرأ عنوانَه، فقال: وأين صاحبُ هذا الكتاب؟ قال: في الكلتانية، وإذا بينهم وبينها ثلاثة فراسخ، فأقبلُوا يسيرون إليه. قال مسلم بن عبد الله الضِّبابي: وكنتُ مع شَمِر في تلك الليلة، فقلت: لو ارتحلتَ بنا من هذا المكان، فإنَّا نتخوَّف. فقال: كلُّ هذا فَرَقًا مَن الكذَّاب! واللهِ لا أَتحوَّلُ منه ثلاثة أيام، ملأَ الله قلوبكم رعبًا. قال: وكان في ذلك المكان دَبَىً كثير، فبينما أنا بين النائم واليقظان؛ إذ سمعتُ وَقْعَ حوافر الخيل، فقلت: هذا صوتُ الدَّبَى، ثم إنني سمعتُه أشدَّ من ذلك، فقمتُ وإذا بهم قد أشرفوا علينا من التلّ وكبَّروا، ثم أحاطوابنا، وخرجنا نشتدّ على أرجلنا، وتركنا خيلَنا. قال: فآتي على شَمِر وإنَّه لمشتمل ببُرْد محقَّق خَلِق، وكان أبرص، وكأني أنظر إلى بياض كَشْحَيهِ من فوق البُرْد، وإنه ليُطاعنُهم بالرُّمح، قد أعجلوه أن يلبس سلاحَه وثيابه. قال: فمضينا وتركناه، فما هو إلا أن مكثتُ ساعة إذ سمعتُ: اللهُ أكبر، قُتل الخبيثَ (¬1). وقال الهيثم: ولما أحاطوا به قاتل (¬2)، فأثخنوه، وذبحوه، وأوطأ أبو عَمْرَةَ الخيل على ظهره وبطنه. وقال أبو اليقظان: خرج عليهم وبيده السيف وهو يقول: أنا قاتل الحسين بن علي، فحمل عليه عبد الرحمن بنُ عبد الله الهَمْداني، فطعنه، فأنفذه، ونزل فذبحه، وبعث برأسه إلى المختار، وألقى جُثَّته فأكلتها الكلاب (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 52 - 53، وتاريخ دمشق 8/ 124. (¬2) في (م): بقي يقاتل. (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 65 - 66.

عمر بن سعد بن أبي وقاص

وفيها توفّي عُمر (¬1) بنُ سعد بن أبي وقَّاص قد ذكرنا أن عُمر بن سعد لمَّا أقبل على أبيه وهو نازل بالعقيق ورآه من بعيد قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الراكب (¬2). وقال الهيثم: كان سعد بنُ أبي وقَّاص جالسًا يومًا، فجاءه غلامٌ له ودمُه يسيلُ على عقبيه، فقال له سعد: مَنْ فعلَ بك هذا؟ فقال: عمر. فقال سعد: اللهمَّ اقْتُلْه، وأَسِلْ دَمَه. وكان سعدٌ مستجابَ الدعوة (¬3). ففعل به المختارُ ذلك. ذكر مقتله: حكى أبو مِخْنَف قال: قال المختار يومًا لجلسائه: لأقتلنَّ [غدًا] (¬4) رجلًا عظيم القدمين، غائرَ العينين، مشرفَ الحاجبين، يسرُّ مقتلُهُ المؤمنين والملائكة المقرَّبين. قال: وكان الهيثم بن الأسود النَّخَعي عند المختار، فوقع في نفسه أنَّه يريد عُمر بن سعد، فأرسلَ إليه مع ابنه العُرْيان وقال: خُذْ حذرَك، فما يريد غيرَك. فقال: بعد أن أعطاني العهود والمواثيق! وكان المختار أوَّلَ ما ظهر؛ كلَّمه عبدُ الله بنُ جَعْدة بن هُبيرة -وكان عنده كريمًا لقرابته من عليّ - عليه السلام - فقال: أُريد أمانًا لعُمر بن سعد. فكتب إليه أمانًا، مضمونُهُ: هذا أمانٌ لعُمر بن سعد من المختار أنَّه آمنٌ على نفسه ومالِه وأهلِه وولده ما أطاعَ ولزمَ رَحْلَه ومصره ما لم يُحْدِثْ حَدَثًا. وأشهدَ فيه عبدَ الله ابنَ شدَّاد، وعبدَ الله بنَ كامل، وغيرَهما. قالوا: وأراد المختار بقوله: ما لم يُحْدِثْ حَدَثًا أي: يأتي الخلاء. ولما بعث إليه الهيثمُ مع ابنه العُريان؛ خرج ليلًا من رَحْلِه ومنزله إلى حمَّام (¬5)، فقال له بعضُ مواليه: ما تُريد؟ فأخبره، فقال: وأيُّ حَدَث أعظمُ ممَّا أتيتَ؟ خرجتَ عن رَحْلك ومنزلك، ارجع إلى رَحْلك. فرجع. ¬

_ (¬1) المثبت من (م)، وفي غيرها من النسخ الخطية: عَمرو، وهو خطأ. (¬2) صحيح مسلم (2965). (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 64. (¬4) لفظة: غدًا، من "تاريخ" الطبري 6/ 60. (¬5) في (م): حمَّامه.

وأُخبر المختار بانطلاقه، فقال: كلَّا، إنَّ في عنقه سلسلةً تردُّه أن ينطلق (¬1). وأصبح المختار، فجلس على كرسيِّه، وبعث أبا عَمْرة إلى عُمر وقال: ائتني به، فقد نكث وأرادَ الخروج عليَّ. وفي رواية: فلما أصبح عُمر بعث بابنه حفص بن عمر إلى المختار، فقال له: إن أبي يقول لك: هل أنتَ مقيم على أمَانك؟ فقال: اقعدْ. ثمَّ قال لأبي عَمْرة: اذهب فائتني برأسه. فجاء إليه وقال: أجِبْ الأمير. فقام ليلبس جُبَّتَه، فعثرَ فيها، فضربه أبو عَمْرة بسيفه، فأبانَ رأسَه، وجاء برأسه في طرف قَبائه، فوضعه بين يدي المختار، فقال لابنه حفص: أتعرفُ هذا الرأس؟ قال: نعم، ولا خير في الحياة بعده. أو: لا خير في العيش بعده. فقال له المختار: فإنَّك لا تعيش بعده. فأمر به، فقُتل، ووُضع رأسُه إلى جانب رأس أبيه، وقال المختار: عُمر بحسين، وحفص بعليّ بن الحسين، ولا سَوَاء، واللهِ لو قتلتُ به ثلاثةَ أرباع قريش ما وَفَوْا بأُنْمُلَةٍ من أنامله (¬2). وقال أبو مِخْنَف: إنما هيَّج المختار على قتل عُمر بن سعد أنَّ يزيد بن شَراحيل الأنصاريّ ذَكَرَ عند محمَّد بن الحنفيَّة خروجَ المختار وطلبَه بدماء أهل البيت، فقال محمَّد بن الحنفية: يزعم أنَّه لنا شيعةٌ، وقَتَلَةُ الحُسين جلساؤُه على الكراسي يحدِّثُونه ويُحدِّثُهم. فلما رجع يزيد إلى الكوفة قال له المختار: ما قال لك المهديّ؟ فأخبره، فما لبث المختار أن قتلَ عُمر بن سعد وابنَه، وبعث برأسَيهما إلى ابن الحنفيَّة مع مسافر بن سعيد الناعطي، وظَبْيَان بن عُمارة التميمي، وكتب معهما: إلى المهديّ محمَّد بن عليّ من المختار بن أبي عبيد، أمَّا بعد، فإنَّ الله بعثني نقمةً على أعدائكم، فهم بين قتيل وأسير، وطريدٍ وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتليكم، ونصرَ مؤازريكم، وقد قَتَلْنا كلَّ من شَرَكَ في دماء أهل البيت، ومَنْ قَدَرْنا عليه، ولن يُعجزنا مَنْ بقي حتى لا يبقى على أديم الأرض منهم أحد. والسلام (¬3). ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 61: لو جهد أن ينطلق ما استطاع. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 64 - 65، و"تاريخ" الطبري 6/ 60 - 61، و"تاريخ دمشق" 54/ 43 - 45 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) تاريخ الطبري 6/ 62، وتاريخ دمشق 54/ 45.

ذكر طرف من أخبار عُمر بن سعد: ذكره ابنُ سَعْد في الطبقة الثانية من التابعين من أهل الكوفة (¬1). وأمُّه رَمْلَة بنت أبي الأنياب (¬2)، من كِنْدة، وأصله من المدينة، وسكن الكوفة. وحدَّث عن أبيه، وروى عنه ابنُه إبراهيم بن عمر، والزُّهري، وقَتَادة. وكان مع أبيه بدُومة الجندل، وهو الذي حرَّض أباه على حضورها، ثمَّ ندم سعد، فأحرمَ بعُمرةٍ من البيت المقدَّس (¬3). وقال ابنُ عساكر: حدَّث الفَلَّاس عن يحيى بن سعيد القطَّان أنَّه روى حديثًا عن عُمر بن سعد، فقام إليه رجل، فقال: أما تخافُ الله؟ ! أتَرْوي عن قاتل الحسين؟ ! فبكى يحيى بن سعيد وقال: أخطأتُ، واللهِ لا حَدَّثْتُ عنه أبدًا (¬4). قال: وقال ابنُ أبي خيثمة: سألتُ ابنَ معين عن عُمر بن سعد: أثقة هو؟ فقال: كيف يكون مَنْ قتلَ الحسين ثقةً (¬5)؟ ! قال: وقال ابنُ وَهْب: . كان سعدٌ واجدًا على ابنه عُمر، فأتاه أناس يشفعون فيه، فتكلَّموا وبالغوا، وتكلَّم عمر، فكأنَّما لم يتكلَّم معه أحد، فقال سعد: هذا الذي يُبَغِّضُك إليَّ، سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكونُ في آخر الزمان قومٌ يأكلون بألسنتهم كما تَلحَسُ البقرُ من الأرض بألسنتها" (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في "تاريخ دمشق" 54/ 32 من طريق ابن سعد. ولم أقف عليه عنده في هذه الطبقة، وأورده في "طبقاته" 7/ 166 في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة. (¬2) كذا في رواية ابنِ البَرْقي؛ ذكرها ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 54/ 32 - 33، وأورد روايات أخرى أن أمَّه ماويّة بنت قيس، وفي "طبقات" ابن سعد 7/ 166: مارية بنت قيس. (¬3) تاريخ الطبري 5/ 66 - 67، وتاريخ دمشق 54/ 29 و 34. والقصة في أمر اجتماع الحَكَمين (أبي موسى الأشعري وعَمرو بن العاص) بدومة الجندل. وينظر "صحيح" مسلم (2965). (¬4) تاريخ دمشق 54/ 30. (¬5) المصدر السابق 54/ 43. (¬6) تاريخ دمشق 54/ 35، وهو بنحوه في "مسند" أحمد (1517).

وقال ابنُ عساكر أيضًا (¬1): روى الحُميدي عن سفيان قال: قال عُمر بن سعد للحسين: إنَّ قومًا من السفهاء يزعمون أني قاتلُك. فقال الحسين: ليسوا بسفهاء، ولكنهم حكماء. ثمَّ قال الحسين: واللهِ إنه ليقرُّ بعيني أنك لا تأكل بُرَّ العراق بعدي إلا قليلًا. قال: وكان عمر بن سعد إذا مرَّ على الناس قالوا: هذا قاتلُ الحسين بن علي - رضي الله عنه - (¬2). فصل يتعلق بعقوبة قاتليه ذكر جدِّي رحمه الله في "المنتظم" (¬3) عن ابن عباس قال: أوحى الله تعالى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - أني قتلتُ بيحيى بن زكريا سبعين ألفًا، وإني قاتلٌ بابنِ فاطمة سبعين ألفًا وسبعين ألفًا. وروى ابنُ عساكر في "تاريخه" عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "قاتل الحسين في النار". وقال الواقدي: ما بقي أحدٌ ممَّن شهد قتله، أو شارك فيه، إلا عُوقب في الدنيا بالقتل والبلاء، وفي الآخرة بالعذاب. قال: وقال ابن الرمَّاح: كان عندنا بالكوفة شيخ أعمى قد شهدَ قتل الحسين، فسألناه عن سبب ذهاب بصره، فبكى وقال: كنت عاشر عشرة، غير أني لم أضرب بسيف، ولم أرم بسهم، ولم أطعن برمح، فرجعتُ إلى منزلي وعيناي كأنهما كوكبان، فنمتُ تلك الليلة، فأتاني آتٍ في منامي، فقال: أجِبْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت: ما لي ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأخذ بتلبابي، ثمَّ جَذَبَني، وانطلق بي إلى مكان، فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وعنده جماعة، وهو حاسرٌ عن ذراعيه، وبيده سيفٌ مسلول ونطع، وإذا بأصحابي التسعة مُذَبَّحين بين يديه، فسلَّمتُ عليه، فقال: لا سلَّم الله عليك يا عدوّ الله، انتهكْتَ حُرْمَتي، وشهدتَ قتلَ ولدي وأهلِ بيتي، ولم تَرْعَ حقِّي. فقلت: يا رسول الله، ما رميتُ بسهم، ولا ضربتُ بسيف، ولا طعنتُ برمح. فقال: ولكنَّك كثَّرتَ سوادَ القوم. وإذا بين ¬

_ (¬1) المصدر السابق 54/ 38. (¬2) تاريخ دمشق 54/ 38. وفيه في آخر الخبر: وذلك قبل أن يقتلَه. (¬3) 5/ 346. وهو في "تاريخ دمشق". ينظر "مختصره " 7/ 149.

السنة السابعة والستون

يديه طست فيه دمُ الحسين وهو يغلي، فأقعدني بين يديه وكحلني منه بميل في كلِّ عين، فأصبحتُ أعمى كما تَرَوْن (¬1). وقال السُّدِّيُّ: نزلتُ بكربلاء ومعي طعام للتجارة، فنزلنا على رجل فتعشَّينا عنده، وتذاكرنا حديث قتل الحسين، وقلنا: ما شَرَكَ أحدٌ في دمه إلا ومات أقبح موتة. فقال الرجل: أنا شَرَكْتُ في دمه، وكنتُ فيمن قتلَه، وما أصابني شيء. قال: ونمنا، فلمَّا كان آخِرُ الليل؛ ارتفع الصُّراخ من جانب الدار، فقلنا: ما الخبر؟ قال: قام الرجل يُصلحُ المصباح، فاحترقت إصبعه، ثمَّ دَبَّ الحريقُ في جسده، فبقي حُمَمَةً. قال السُّدِّيّ: فأنا - واللهِ - رأيتُه كأنَّه فحمة (¬2). وقال أبو القاسم السِّمناني: ومن أعجب الأشياء ما نُشاهد في الدنيا أنَّ الحسين - عليه السلام - لم يخلِّف ولدًا سوى عليّ زين العابدين، وهو أبو الأئمة، وقد نَشَرَ اللهُ من ذُرِّيَّته بعدد الرَّمل والحَصَى ساداتٍ وأشراف (¬3)، ومات يزيد بن معاوية، وترك نحوًا من عشرين ولدًا، وليس له اليومَ على وجه الأرض نسل، والله أعلم. السنة السابعة والستون فيها قُتل عبيد الله بن زياد، والحُصين بن نُمير السَّكوني الذي رمى الكعبة بالمجانيق وحرَّقها، وأعيانُ الشام (¬4)، وسنذكره في آخر السنة. وفيها قُتل المختارُ أيضًا، ومحمد بنُ الأشعث، وعُبيد الله بنُ عليّ بن أبي طالب، وعَمرة بنتُ النعمان بن بشير زوجةُ المختار، وسنذكرهم إن شاء الله تعالى. وفيها عزلَ عبدُ الله بنُ الزُّبير القُباع عن البصرة، وولَّى أخاه مصعبَ بنَ الزُّبير عليها. قال عُمر بنُ شَبَّة: فقَدِمَ المصعبُ من مكَّة إلى البصرة، فأناخ على باب المسجد (¬5) وهو متلثّم، ثمَّ دخل، فصعد المنبر، وجاء الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة الملقب ¬

_ (¬1) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 157. (¬2) المصدر السابق 7/ 151. (¬3) كذا في النسخ الخطية، والجادة: وأشرافًا. (¬4) في (أ) و (ب): وأعيان أهل الشام. (¬5) في (أ) و (خ) و (ص) و (م): باب البصرة، وليس في (ب)، والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 93.

الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة

بالقُباع، واجتمع الناس، فَسَفَر عن وجهه، فعرفوه، وجاء الحارث، فجلس على درجة المنبر، فقام مصعب، فحمد الله وأثنى عليه، وقرأ: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} إلى قوله: {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 1 - 6] ولما قرأ: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} أشار إلى مكة بيده إلى أخيه، ولما قرأ: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} أشار بيده نحو الشام إلى عبد الملك بن مروان. ثمَّ قال: يا أهل البصرة، بلغني أنكم تُلقِّبون أمراءكم، وقد سمَّيتُ نفسي الجزَّار (¬1). قلت: ومعنى هذا أنهم لقَّبوا الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القُباعَ؛ مَرَّ بسوق البصرة، فرأى مكيالًا، فقال: إنَّ مكيالكم لَقُباع. وقد ذكره الجوهري فقال: والقُباع بضم القاف والتخفيف: مكيال ضخم، وهو لقب الحارث بن عبد الله والي البصرة. وقال الشاعر يخاطب ابنَ الزبير -وقيل: هي لأبي الأسود الدِّيلي-: أميرَ المؤمنين جُزِيتَ خيرًا ... أرِحْنا من قُبَاع ابنِ (¬2) المغيرَهْ وقال أبو عبيد: القُباع مكيال ضيّق الأعلى، واسعُ الأسفل. وهذا: الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة واسمُ أبي ربيعة عَمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو (¬3) بن مخزوم. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة؛ قال (¬4): وأمُّه أمُّ ولد. قال: واستعملَه عبدُ الله بنُ الزبير على البصرة، وكان رجلًا سهَّاكًا، فمرَّ بمكيالٍ بالبصرة، فقال: إن هذا لَقُباع صالح، فلقَّبوه القُباع. ومعنى سهَّاكًا أي: فيه خِفَّة، من قولهم: فرس سهَّاك، أي: خفيف الجري. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 93. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 115 - 116. (¬2) في (ص): بني، وكذا في "الصحاح" (قبع). والبيت مع بيتين آخرين في "الأغاني" 1/ 110. (¬3) في (أ) و (ب) و (ص): عُمر. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 32.

قال ابن سعد (¬1): وكان خطيبًا عفيفًا، وكان فيه سواد؛ لأنَّ أمَّه كانت سوداء حبشية نصرانية، فماتت فشهد القُباع جنازتها وأعيانُ أهل البصرة، فكانوا ناحية، وجاء أهل دينها فوَلُوها، وكانوا على حِدَة (¬2). وعزلَه ابنُ الزُّبير عنهم بعد أن أقام واليًا سنةً، واستعمل مكانه المصعب بنَ الزُّبير. وذكر ابنُ سعد له أولادًا، ولم يذكر تاريخ وفاته (¬3). وذكره غير ابن سعد، فقال البلاذُري (¬4): اسم أمِّ القُباع سيح؛ صادَتْ طيرًا من حمام مكة، فأكلَتْه، وسنذكره في ترجمة ابن الزبير. وقال أبو عبيدة وحكاه ابنُ عساكر: والقُباع [أخو عمر] بن أبي ربيعة الشاعر (¬5). ويقال لأبي ربيعة: ذو الرُّمحين، وأمُّ القُباع بنتُ أبرهة من الحبشة، سباها أبوه عبد الله بنُ أبي ربيعة -وكان عاملَ عثمان بن عفَّان على اليمن- وكانت نصرانية، ولم يعلم القُباع بها، فلما توفّيت جاء القُباع، فجلس على باب دارها ومعه أشرافُ أهل البصرة وهم جلوس ينتظرون جنازتها، فخرجت إليه مولاة له فقالت: قد وجدنا على رقبة أمِّك صليبًا حين جرَّدناها للغَسْل. فقام قائمًا وقال: أيها الناس، انصرفوا رحمكم الله، فإنَّ لها أهلَ مِلَّةٍ هم أولى بها منكم. فانصرف الحارث، وعظُم في عيون الناس، وكان في الجمع جماعةٌ من الصحابة، فقال بعضهم: لقد ساد هذا الفتى أهلَ زمانه (¬6). وقال خليفة (¬7): أقام المصعب بن الزبير بالكوفة نحوًا من سنتين، ثمَّ انحدر إلى البصرة، واستخلفَ القُباع، ثمَّ رجع مصعب إلى الكوفة فقتل بعد ما أقام بها (¬8). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 7/ 33، وما قبله منه. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 33، وأنساب الأشراف 8/ 297 - 298. (¬3) ذكر الصفدي في "الوافي بالوفيات" 11/ 255 أن وفاته في حدود التسعين. (¬4) أنساب الأشراف 8/ 296، وينظر أيضًا 6/ 110. (¬5) الكلام في (أ) و (ب) و (خ) و (ص)، وليس في (م). وما بين حاصرتين زيادة من عندي لصحة السياق ولم أقف عليه عند ابن عساكر. (¬6) ينظر "أنساب الأشراف" 8/ 296 - 298، و"تاريخ دمشق" 4/ 108 و 109 و 111 (مصورة دار البشير). (¬7) الخبر في "تاريخ دمشق" 4/ 110 (مصورة دار البشير) من طريق خليفة. (¬8) بعده في (خ): ثمَّ رجع مصعب إلى الكوفة! وهو سهو من الناسخ، وما أكثر ذلك فيها، ولم أكتبه كلَّه لئلا تطول الحواشي بما لا فائدة فيه.

وقال ابنُ عساكر (¬1): وحكى الحُميدي عن سفيان قال: أول من وضع الدنانير وزن سبعة الحارث. يعني العشرة من الدراهم وزن سبعة دنانير من ذهب. قال: ولما ولَّاه عبد الله بنُ الزُّبير البصرة هدم دار الفرزدق الشاعر مرتين، فقال الفرزدق: أحارثُ داري مرَّتينِ هدمتَها ... وكنتَ ابنَ أخْتٍ لا تجار (¬2) غوائلُه وأنتَ امْرُؤٌ بطحاءُ مكةَ لم يزل ... بها منكمُ معطي الجزيلِ وفاعلُه وقال البلاذُري: مات الحارث بمكَّة. ولم يذكر تاريخ وفاته أيضًا (¬3). والحارث هو الذي حدَّث عبدَ الملك بنَ مروان حديث عائشة في هدم البيت وإدخال الحِجْر فيه. وقد ذكرناه. [وروى عن عائشة وأمّ سَلَمة، ولم نقف على تاريخ وفاته]. وروى عنه الزُّهري وغيره (¬4). وفيها بعد قتلِ المختار عزلَ ابنُ الزُّبير أخاه مصعبًا عن البصرة، واستعمل عليها ابنَه حمزة بنَ عبد الله. واختلفوا في سبب عزل المصعب، فقال عُمر بن شَبَّة: لمَّا سار المصعب إلى قتال المختار؛ استخلف على البصرة عمر بن عُبيد الله بن معمر (¬5)، فلمَّا قَتَلَ المختارَ؛ وفدَ على أخيه عبد الله بن الزُّبير، فحبسه عنده، وولَّى ابنَه حمزة، واعتذرَ إلى مصعب وقال: واللهِ إنِّي لأعلمُ أنَّك أكفى من حمزة، ولكنِّي رأيتُ فيه ما رأى عثمانُ حين عزلَ أبا موسى، وولَّى عبد الله بنَ عامر. وكان حمزة بن عبد الله مُتلَوِّنًا؛ يجود حتى لا يُبقي شيئًا، ويبخل حتى لا يسمح بشيء، فظهَرتْ منه بالبصرة خِفَّةٌ وضعف؛ ركب يومًا إلى فيض البصرة فقال: إنْ رفقوا ¬

_ (¬1) المصدر السابق 4/ 112. (¬2) في (م) و"ديوان" الفرزدق 2/ 172: لا تُخاف، والخبر في "تاريخ دمشق" 4/ 111. (¬3) أنساب الأشراف 8/ 297، وقد سلف أنَّ ابن سعد لم يذكر له تاريخ وفاة. (¬4) تاريخ دمشق 4/ 106 (مصورة دار البشير) وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬5) في "تاريخ الطبري" 6/ 117: عُبيد الله بن معمر، وينظر تفصيله في "أنساب الأشراف" 6/ 85.

بهذا الغدير كفاهم مدَّة الصيف، ثمَّ ركبَ إليه يومًا فلم يرَ فيه شيئًا، فقال: لقد رأيتُه ذات يوم، فظننتُ أنَّه يكفيهم. وذكروا عنه أشياء، واستخفَّ بالأشراف، وسفك الدم، فكتب الأحنف بنُ قيس إلى عبد الله بن الزبير يخبره ويقول: أَعِدْ إلينا مصعبًا. فعزله. ولما شخص حمزة من البصرة أخذ معه بيوت الأموال، فلم يَدَع فيها شيئًا، ولما قدم الحجاز لم يذهب بالمال إلى أبيه، بل أتى المدينة، فأودَعَه رجالًا، فذهبوا به. وهذه روايات عُمر بن شَبَّة (¬1). وأمَّا هشام؛ فإنَّه روى عن أبي مِخْنَف أنَّ المصعب بنَ الزُّبير لما قتلَ المختارَ أقام بالكوفة سنةً معزولًا عن البصرة؛ عزلَه عنها أخوه عبدُ الله بابنه حمزة، ثمَّ وفد المصعب على أخيه عبد الله بمكة، فأعاده إلى البصرة. ويقال: إن المصعب لمَّا أعاده أخوه إلى البصرة استخلفَ على الكوفة الحارثَ بنَ عبد الله بن أبي ربيعة (¬2). قلت: والمشهورُ أنَّ المصعب بنَ الزُّبير بعد ما قتلَ المختارَ؛ قدمَ على أخيه عبد الله بمكة، واستخلفَ على الكوفة إبراهيم بنَ الأشتر. وكان قد استمال ابنَ الأشتر، وذلك لأنَّ المصعب لما قتلَ المختارَ كتب عبدُ الملك بنُ مروان إلى ابن الأشتر: ادْخُلْ في طاعتي ولك العراق. فقال: ذاك لو لم أقتل ابنَ زياد وأشرافَ أهل الشام. وكتب إليه مصعب: ادْخُلْ في طاعتي ولك الشام. فمال إلى مصعب، وقدم عليه، فأكرمه، ولم يزل معه حتى قُتلا. ولمَّا سارَ المصعب إلى مكة واستخلفَ ابنَ الأشتر على الكوفة، قال له أخوه عبد الله بن الزبير: من استخلفتَ على الكوفة؟ فقال: ابنَ الأشتر. فقال له عبد الله: عمدتَ إلى راية خَفَضَها الله، فرفعتَها، فقال مصعب: إبراهيم سيِّدُ (¬3) مَنْ خلفي، إن ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 117 - 118. (¬2) ينظر المصدر السابق 6/ 118. (¬3) في (م): سند.

الحصين بن نمير

رضيَ؛ رَضُوا، وإن سَخِط؛ سَخِطُوا. فكشفَ ابن الزُّبير إزارَه، وإذا على كتفه ضَرْبةٌ قد أجافَتْه، وقال: أتراني أُحِبُّ ابنَ الأشتر بعدما ضربَني أبوه يومَ الجمل هذه [الضَّرْبة]؟ فقال له المصعب: فما ذنبُه (¬1)؟ وقال الهيثم (¬2): وفد مصعب على أخيه عبد الله ثلاث مرات من العراق إلى مكة: الأُولى: لمَّا قتلَ المختارَ، والثانية: بمال البصرة، والثالثة: لمَّا بلغَه أنَّ عبد الملك بن مروان يريد أن يقصد العراق؛ قدم عليه يستشيره فيما يفعل، ولم يُقم عنده إلا ليلةً واحدة. ثمَّ ركب رواحلَه وعاد إلى البصرة، وكان معه في المرَّة الأولى إبراهيم بن الأشتر. فصل وحجَّ بالناس عبدُ الله بنُ الزبير، وكان العامل على الكوفة مصعب بن الزُّبير، وفي البصرة خلاف قد ذكرناه. وكان على قضاء الكوفة عبدُ الله بنُ عُتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هُبَيرة (¬3)، وعلى خُراسان عبدُ الله بنُ خازم السلمي، وعلى الشام ومصر عبد الملك بن مروان. فصل وفيها قتل الحُصين بنُ نُمير السَّكوني الحمصي. وذكره ابنُ عبد البَرّ (¬4)، فقال: مرَّت السَّكُون من كِنْدة مع الحُصين بن نُمير ومعاوية بن حُديج على عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - مرارًا، وعُمر يُعرِضُ عنهم، فقيل في ذلك، فقال: ما مرَّ بي قومٌ من العرب أكرهَ إليَّ منهم. فعجب الناسُ من رأي عمر فيهم، وإذا هم رؤوس الفتنة. أمَّا معاوية بن حُديج فقتل محمَّد بنَ أبي بكر ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 67/ 364 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة مصعب بن الزبير). (¬2) أنساب الأشراف 6/ 97. (¬3) في (أ) و (ب) و (خ). المغيرة. وهو خطأ. والمثبت من (ص). والكلام في "تاريخ الطبري" 6/ 118. (¬4) لم أقف على الخبر من كلام ابن عبد البر، وهو في "تاريخ دمشق" 5/ 158 (مصورة دار البشير).

عبيد الله بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -

الصديق - رضي الله عنه -، وأمَّا الحُصَين بن نُمير فكان ممَّن أعانَ على عثمان بن عفَّان وغزاه وحصره في داره حتى قُتل، وشهد صفّين مع معاوية، وكان رأسًا في الفتنة، وولَّاه يزيد بن معاوية قتال ابنِ الزبير لمَّا مات مسرف (¬1) بن عقبة، فضرب الكعبة بالمجانيق، فستروها بالخشب، فأحرق الخشب. وأشير به الحجَّاج (¬2) في ذلك لمَّا حاصر ابن الزبير. وذكره ابنُ عساكر فقال: كنيتُه أبو عبد الرحمن، وكان في جيشِ ابن زياد، وفعل بالتوَّابين ما فعل، وقَتَل من قَتَل منهم. وكان مع ابن زياد لما لقيَ إبراهيمَ بنَ الأشتر، فقُتل، وبعث إبراهيمُ برأسه ورأسِ ابنِ زياد إلى المختار مع رؤوس جماعة من الأعيان، فبعث بها المختار إلى ابن الزبير. وكان الحُصين قد نصبَ على ابن الزبير القَذَّافات، فقال: انْصِبُوا رأسَ كلِّ رجل عند قَذَّافَتِهِ التي كان يرمي بها. ففعلوا، وأحرقَ ابنُ الأشتر جُثَّة الحُصين بن نُمير [مع جُثَّة عُبيد الله بن زياد. وحكى هشام عن أبي مِخْنَف قال: حمل شريك بن جرير التغلبيّ على الحُصين بن نُمير] وهو يحسبُه ابنَ زياد، فاعتنقَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه، ونادى التغلبيّ: اقتلُوني وابنَ الزانية. فقُتل الحُصين بنُ نُمير (¬3). وفيها توفّي عُبيد الله بنُ عليّ بنِ أبي طالب - عليه السلام - وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة. قال ابنُ سعد (¬4): وأمُّه ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك التميمي. ¬

_ (¬1) في (أ): مسلم. وهو نفسه. ومسرف لقب له. (¬2) كذا. ولعله: على الحَّجاج. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 90، وتاريخ دمشق 44/ 244 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة ابن زياد) وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 79. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 118.

وذكر ابنُ سعد قصته فقال: قدم على المختار الكوفةَ من الحجاز، فسألَه أنْ يُعطيَه شيئًا، فقال: أقَدِمْتَ بكتاب من عند المهديّ؟ قال: لا. فحبَسه أيامًا، ثمَّ خلَّى عنه وقال: اخْرُجْ عنَّا. فسار إلى البصرة. وقال الزُّبير بن بكَّار (¬1): قدم على المختار الكوفة، فقال له المختار: إنَّ صاحب أمرِنا هذا لا يَحِيكُ (¬2) فيه السِّلاحُ، فإنْ كنتَ ذلك بايعناك. فخرج هاربًا إلى البصرة. رجع الحديث إلى ابن سعد قال: فخرج هاربًا إلى مصعب بن الزبير، فنزل بالبصرة على خاله نُعيم بن مسعود التميمي، وأعطاه مصعب مئة ألف درهم. ثمَّ سارَ مصعب بن الزبير من البصرة إلى الكوفة لقتال المختار، واستخلفَ على البصرة عمرَ بنَ عُبيد الله بن معمر، فلما سار مصعب تخلَّف عنده عُبيدُ الله (¬3) بنُ علي عند أخواله، وسارَ خالُه نعيم بن مسعود مع المصعب إلى العراق. فجاءت بنو سعد بن زيد مناة إلى عُبيد الله وقالوا: نحن أَخْوالُك أيضًا، ولنا فيك نصيب، فتحوَّل إلينا لنكرمَك، فحوَّلوه إليهم، وأنزلوه بينهم، وبايعوه بالخلافة، فقال: يا قوم، لا تعجلوا، لا تفعلوا، وهو كارهٌ. وبلغ المصعبَ، فكتبَ إلى ابنِ معمر خليفتِهِ على البصرة يُعَجِّزُهُ ويقول: كيف غفلتَ عن عُبيد الله وعمَّا أخذوا له من البيعة؟ ! ثمَّ دعا مصعبٌ خاله نُعيمَ بنَ مسعود فقال له: قد كنتُ لك محبًّا (¬4) ومكرمًا، فما حملك على أن تدع ابنَ أختك بالبصوة يؤلِّب الناس ويخدعُهم؟ ! فحلفَ له بالله إنَّه ما علمَ بشيء من ذلك. فصدَّقه مصعب. فقال له نُعيم: أنا أكفيك أمره، وأقدم به عليك. ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ دمشق" 61/ 132 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة محمَّد بن الأشعث) من طريق الزُّبير بن بكَّار، وهو بنحوه في "نسب قريش" ص 43 - 44. (¬2) أي: لا يؤثّر. وفي نسب قريش: لا يعمل. (¬3) في (ب) و (خ): واستخلف على البصرة ابن معمر وعُبيد الله. . . وفي (أ): واستخلف على البصرة عمر بن عبد الله بن معمر وعبيد الله. . . والمثبت من (ص) وسلف قريبًا مثلُه ص (297) (بإثر ترجمة القُباع) وجاء في "طبقات" ابن سعد 7/ 118: عُبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر. (¬4) في "طبقات" ابن سعد 7/ 118: محسنًا.

عبيد الله بن زياد

وسار نُعيم حتى أتى البصرة، فلام بني سعد، وقال: ما أردتُم إلا هلاك تميم كلها، فادْفَعُوا إليَّ ابنَ أختي. فتلاوموا ساعة، ثمَّ دفعوه إليه، فخرج فقدم به على مصعب، فقال له: يا ابنَ أخي، ما حملَك على ما صنعتَ؟ فحلف له عُبيد الله إنه ما أراد ذلك، ولا علم به حتى فعلوه، ولقد كان كارهًا له، فصدَّقه مصعب. وأمر مصعب صاحب مقدّمته عبَّادًا الحَبَطيّ أن يسير إلى جمع المختار [فسار معه عُبيد الله بنُ علي، فنزلوا المذار، ونزل جيش المختار] (¬1) بإزائهم، فقُتل أصحابُ المختار في تلك الليلة (¬2)، فلم يُفلتْ منهم إلا الشَّريد (¬3)، [وقتل عُبيد الله بن علي بن أبي طالب في تلك الليلة]. وهذا قولُ ابن سعد (¬4). وقال الهيثم: قتلَه المختار وهو لا يعرفه في المعركة، فمرَّ به المهلَّبُ بنُ أبي صُفْرة، فرآه مقتولًا، فاسترجع، وجاء إلى مصعب فأخبره، فقال: إنَّا لله، [قاتلَ اللهُ] مَنْ قَتَلَه. فقال: [ومن هو؟ قال: ] مَنْ زَعَم أنَّه شيعةٌ له. يعني المختار (¬5). فصل: وفيها قُتل عُبيد الله بنُ زياد قد ذكرنا مسير إبراهيم بن الأشتر إلى لقائه، فذكر هشام عن أبي مِخْنَف عن أشياخه قالوا: سار ابنُ الأشتر مُجِدًّا يريد ابنَ زياد قبل أن يدخلَ أرض العراق، فالتقيا على النهر الذي يقال له: الخازِر، عند قرية يقال لها: بازيتا (¬6)؛ بينها وبين مدينة الموصل خمسة فراسخ، وجعل ابنُ الأشتر على مقدمته الطُّفيلَ بنَ لَقِيط النَّخَعيّ، وكان شجاعًا، وسار على تعبئة، وضمَّ رجاله إليه، ونزلَ على القرية المسمَّاة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) بعدها في (أ) و (ب) و (خ) و (م): ذلك الجيش، والمثبت من (ص) وهو الصواب. (¬3) في (م): فلم يُفلت منهم إلا من أطال الله أجلَه، وفسح في مدَّته، وما نجا منهم أحد إلا القليل أو الشريد. (¬4) في "الطبقات" 7/ 118 - 119. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬5) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 91، و"تاريخ الطبري" 6/ 104. وما سلف بين حاصرتين من (م). وينظر "تاريخ دمشق" 61/ 132 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة محمد بن الأشعث). (¬6) كذا في (ب) و (خ) و (ص). وفي (أ): باريتا، وفي (م): بادبازيتا. وفي "تاريخ الطبري" 6/ 86: باربيثا. ولم أقف عليها.

وجاء ابنُ زياد، فنزل قريبًا منهم على جانب الخازِر، وكان عُمير بن الحُباب السُّلَمي في عسكر ابن زياد، فأرسلَ إلى ابن الأشتر أن الْقَنِي إذا شئت (¬1). وكانت قيس كلّها بالجزيرة، وهم مخالفون لمروان وآل مروان لما جرى عليهم يوم المَرْج. وكان عُمير في قيس على ميسرة ابنِ زياد، فالتقيا ليلًا، فبايعه عُمير، ووعدَه أن ينهزمَ بالناس، فقال له ابنُ الأشتر: ما رأيك أُخندِقُ علينا ونتلوَّم (¬2) يومين أو ثلاثة؟ (¬3) قال عُمير: اللهَ اللهَ أن تفعل، نَاجِزْهم، ومتى طاولتَهم جاءتهم الأمداد، فاستظهروا، ووَهَنْتَ. فقال: الآن علمتُ أنك لي ناصح، وكذا أوصاني صاحبي. فقال: صدق (¬4)، فلا تَعْدُوَنَّ رأيَه، فإنَّه قد ضَرَّسَتْه الحروب (¬5)، وهو شيخُها. فقال: نعم. وبات ابنُ الأشتر يُعَبِّئُ أصحابَه، فجعلَ في الميمنة سفيان بن يزيد الأزدي، وعلى ميسرته عليَّ بن مالك الجُشَمي، وعلى الخيل أخاه عبد الرحمن بنَ الأشتر (¬6)، وعلى الرَّجَّالة الطُّفيل بنُ لَقِيط، وكانت رايتُه مع مالك بن مُزاحم. فلما طلع الفجر صلَّى بهم إبراهيم الفجر بغَلَس (¬7)، ثمَّ سارَ رُويدًا إلى تلٍّ هناك يُشرف على القوم، فنزلَ إبراهيم يمشي، ونظر، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد، فأرسلَ عبدَ الله بنَ زهير السَّلُولي يكشفُ أخبارهم، فلقيَه رجلٌ منهم، فناداه: يا شيعة أبي تراب، يا شيعة المختار الكذَّاب، ويحكم! إلامَ تدعون؟ فقال له عبد الله: يا ثارات الحسين، ادفعوا إلينا ابنَ زياد الفاسق الدَّعيّ ابن مَرْجانة لنقتلَه ببعض موالينا، فإنَّه قتلَ ابنَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وجرى بينهما كلام، منه أنَّ عبد الله قال للشاميّ: إذا دفعتُم إلينا ابنَ زياد جعلنا بيننا وبينكم كتابَ الله حَكَمًا. فقال له الشاميّ: قد جَرَّبناكم مرةً في مثل هذا فغدرتُم -يعني ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 86: أرسل عُمير بن الحُباب إلى ابن الأشتر: إني معك، وأنا أريد الليلة لقاءك، فأرسلَ إليه ابنُ الأشتر أنِ الْقَنِي إذا شئت. (¬2) تلوَّم في الأمر: تمكَّث وانتظرَ. (¬3) قوله: أُخندِق علينا ونتلوَّم يومين أو ثلاثة، جاء بدله في (م): أترى نطاولهم يومين ثلاثة. (¬4) قوله: فقال: الآن علمت أنك. . . فقال صدق. من (أ) و (ص) و (م). (¬5) أي: جرَّبَتْهُ وأحكَمَتْهُ. (¬6) في "تاريخ" الطبري 6/ 87: وكانت خيلُه قليلة. (¬7) الغَلَس: ظلمة آخر الليل. أي: صلى بهم أولَ الوقت.

نوبة الحَكَمْين- فإنَّا جعلناهما بيننا وبينكم، فلم ترضَوْا بحكمهما. فقال له عبد الله: إنهما خالفا واتَّبعا أهواءهما، ولو اجتمعا على رجل واحد تبعنا حكمهما ورضينا به، وإنما اختلفا وتفرَّقا عن غير شيء. ومضى الشاميُّ إلى عسكره، وعاد عبدُ الله، فأخبر ابنَ الأشتر، فجاء، فوقف على الرايات، وقال: يا أنصار الدين، وشيعةَ الحقّ، وشُرطة الله، هذا ابنُ مَرْجانة قاتلُ الحسين بن عليّ ابنِ فاطمة بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حال بينَه وبين بناته ونسائه وبين ماء الفرات أن يشربوا منه، فواللهِ ما عمل فرعونُ ببني إسرائيل ما فعلَ ابنُ مَرْجانةَ بأهلِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد (¬1) جاء الله به إليكم، وأرجو من الله أن يكون سفكُ دمه على أيديكم. وجعل يسير بين الصفوف ويحرِّضُهم. وزحف القوم، وجعل ابنُ زياد على ميمنته الحُصين بن نُمير السَّكوني، وعلى ميسرته عُمير بن الحُباب السُّلَمي، وعلى الخيل شُرَحْبيل بن ذي الكَلاع (¬2)، وكان ابنُ زياد في ثمانين ألفًا وقيل: في ثلاثين ألفًا، وابنُ الأشتر في تسعة آلاف أو عشرة آلاف. والتقَوْا، فحملَ الحُصين بن نُمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة ابن الأشتر وعليها عليُّ بنُ مالك الجُشَمي، فثبتَ، فقُتل عليٌّ، وقُتل رجالٌ من أهل بيته وأهل الحِفاظ، وانهزمت الميسرةُ، فصاح بهم عبد الله بنُ ورقاء السَّلُوليّ وقد أخذَ رايةَ عليّ الجُشَمي: إلى أين يا شُرطة الله (¬3)، هذا أميرُكم يقاتلُ. فأَقْبَلُوا إلى [ابن الأشتر، وإذا به كاشفٌ عن رأسه ينادي: إليَّ إليَّ، فأنا] (¬4) ابنُ الأشتر. فثابُوا إليه، فقال لصاحب الميمنة: احْمِلْ على الميسرة. وهو يظنُّ أنَّ عُمير بنَ الحُباب ينهزم، فما انهزم، وثبتَ، وقاتلَ قتالًا شديدًا، فقال ابنُ الأشتر: غَدَرَ وربِّ الكعبة. فما بقي إلا أن يقصدَ هذا السَّواد الأعظم (¬5). فقصدوه بالسيوف والعَمَد، وابنُ ¬

_ (¬1) في (ص) و"تاريخ" الطبري 6/ 88: قد. (¬2) في (ب) و (خ): شُرحبيل بن حسنة بن ذي الكلاع، وهو خطأ. (¬3) في "تاريخ الطبري" 6/ 89: إليَّ يا شرطة الله. (¬4) ما بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬5) يعني أن إبراهيم لمَّا رأى ذلك؛ أمرَ أصحابَه أن يقصدوا السَّواد الأعظم ليفضُّوه، فلا يبقى للقوم ثباتٌ بعده. ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 89، و"أنساب الأشراف" 6/ 79.

الأشتر ينادي: يا شرطةَ الله، هؤلاء قَتَلَةُ أولادِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إليَّ إليَّ. وهم يحملون ويقولون: لبيك لبَّيك، وحملُوا على أهل الشام، فأزالوهم عن مواقعهم. وأنزلَ الله نصرَه على ابنِ الأشتر، فانهزم أهلُ الشام، وملكوا أكتافهم، وقُتل ابنُ زياد، وابنُ نُمير، وشُرحبيل بن ذي الكَلاع، وادَّعى قَتْلَه ثلاثة: سفيان بن يزيد بن المغفَّل الأزدي، وورقاء بنُ عازب الأسدي، وعبد الله (¬1) بن زهير السُّلمي. وقُتل أعيانُ أهل الشام، وانهزم عُمير بنُ الحُباب، وبعث إلى ابنِ الأشتر يقول: أجيئك؟ قال: لا، حتى تسكنَ فورة شُرطة الله، فإني أخافُ أن يقتلوك. وكان من غرق في الخازِر من أهل الشام أكثرَ ممَّن قُتل وأُسر (¬2). واختلفوا في قاتل ابنِ زياد على أقوال: أحدُها: أنَّ إبراهيم بنَ الأشتر قتلَه؛ فحكى هشام عن أبي مِخْنَف قال: قال إبراهيم بنُ الأشتر: قتلتُ رجلًا وجدتُ منه رائحة المسك، شرَّقَتْ يداه، وغرَّبَتْ رِجْلاه تحت راية منفردة على شاطئ نهر خازِر، فالتمسوه، فإذا هو عُبيد الله بنُ زياد قتيلًا؛ ضربَه إبراهيم، فقدَّه نصفين. والثاني: شريك بن جرير (¬3) التغلبيّ؛ قال الطبريّ: حدَّثني عبد الله بن أحمد بإسناده عن الحسن بن كثير قال: كان شريك بن جرير (¬4) التغلبي مع عليّ - عليه السلام - في حروبه، فأصيبت إحدى عينيه معه يوم صفِّين، فلما قُتل علي لحقَ ببيت المقدس، فأقام به، فلما قُتل الحُسين قال: أُعاهد الله تعالى لئن خرج طالبٌ (¬5) يطلب دم الحسين لأقتُلَنَّ ابنَ الزانية، أو لأموتنَّ دونَه. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 91: عُبيد الله. (¬2) ينظر ما سلف في هذا الخبر: أنساب الأشراف 6/ 77 - 79، وتاريخ الطبري 6/ 86 - 90. (¬3) في (ص): حريز، وفي "تاريخ الطبري" 6/ 90: حدير. وسلف ذكر شريك هذا ص 406 في خبر قَتْل الحُصين بن نُمير. (¬4) في "تاريخ الطبري" 6/ 90: حدير. (¬5) في (أ) و (ب) و (خ) و (ص): طالبًا. والمثبت من (م) وهو الجادَّة.

فلما خرج المختار يطلبُ بدم الحسين جاءه، فلما خرجَ ابنُ الأشتر إلى ابن زياد؛ وجَّهه معه، فجعله ابنُ الأشتر على خيل ربيعة، فقال لأصحابه: إني عاهدتُ اللهَ تعالى على كذا وكذا. فبايعه منهم ثلاث مئة على الموت، فلمَّا التَقَوْا حملَ على الكتائب، وثارَ العَجاج، فلما [انفرج الفريقان و] انفرجت عن الناس إذا به وبابن زياد قتيلان، ليس معهما (¬1) أحد. والثالث: رجل من بكر بن وائل؛ ذكره المدائني قال: لما أُتيَ برأس الحسين إلى بين يدي ابنِ زياد؛ كان رجلٌ من بني بكر بن وائل حاضرًا عنده، فقال في نفسه: للهِ عليَّ إنْ أصَبتُ عشرةً من المسلمين خرجوا عليك يا ابن زياد لأخرجنَّ معهم. فلما قام المختار للطلب بدم الحسين، وسار ابنُ الأشتر إلى ابن زياد؛ خرج هذا الرجل راكبًا على فرس وبيده رمح وهو يقول: وكلُّ عيشٍ قد أراه (¬2) فاسدا ... غيرَ مُقامِ الرُّمحِ في ظلِّ الفَرَسْ (¬3) وكان ابنُ زياد قد عبَّأَ الخيل كراديس كراديس (¬4)، فحمل الرجلُ حتى خرق الصفوف إلى ابن زياد، وناداه: يا ابن زياد (¬5)، يا ملعون، يا خليفة الملعون. ثمَّ اطَّعَنا (¬6)، فإذا هما قتيلان. وأصاب ابنُ الأشتر من عسكر أهل الشام من الغنائم ما لم يصبه سواه [لأنه رجع كاسبًا غانمًا]. ذكر طرف من أخبار ابن زياد: قال علماء السير: كان جبَّارًا دعيًّا، فاسقًا متهتّكًا، لا يُبالي بما فعل. ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (ص): بينهما. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬2) في (أ) و (ب) و (خ) و (ص): أره، والمثبت من (م) وينظر التعليق التالي. (¬3) كذا وقع لفظ البيت في النسخ من تفعيلات الرَّجَز. وجاء في "تاريخ الطبري" 6/ 91، و"تاريخ دمشق" 44/ 244 من بحر الرَّمَل، ولفظه فيهما: كلُّ عيشٍ قد أراه قذرًا ... غير رَكْزِ الرُّمح في ظلِّ الفرس وجاء فيهما ذكر البيت في خبر شريك التغلبي المذكور قبل هذا الخبر. (¬4) جمع كُردوس، وهي الكتيبة، أو القطعة العظيمة من الخيل، وهي الكُردوسة. "معجم متن اللغة". (¬5) قوله: يا ابن زياد، من (ب). (¬6) في (م): اطَّاعَنا. وما سيرد بين حاصرتين منها.

قال ابنُ عساكر: وكان يُكنى أبا حفص، وكان يواجهُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعظائم؛ قال لعائذ بن عَمرو، إنما أنت من نُخالة (¬1) أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال لزيد بن أرقم: أنت شيخ قد خرفت (¬3). قلت: وقد أخرج أحمد في "المسند" (¬4) وغيرُه طرفًا من هذا، فقال: حدَّثنا يزيد بن هارون بإسناده عن الحسن قال: دخل عائذ بن عمرو على عُبيد الله بن زياد، فقال له: إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "شَرُّ الرِّعاءِ الحُطَمة" فإيَّاك أن تكونَ منهم. فقال: اجلس، فإنَّما أنتَ من (¬5) نُخالة (¬6) أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. فقال: وهل كانت فيهم نُخَالة؟ ! إنما النُّخَالةُ بعدهم. أخرجه مسلم بمعناه (¬7). وروى ابنُ عساكر عن الحسن قال (¬8): قدم علينا ابنُ زياد أميرًا على البصرة؛ أمَّره معاوية؛ غلامًا سفيهًا يسفك الدماء سفكًا شديدًا، وفينا عبد الله بنُ المُغفَّل المزني صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عبد الله بن مُغَفّل من السبعة (¬9) الذين بعثهم عمر - رضي الله عنه - إلى أهل البصرة يفقّهونهم. فدخلَ على عُبيد الله بن زياد ذات يوم، فقال له: يا ابنَ زياد، انْتَهِ عمَّا أراك تصنع، فإنَّ شرّ الرِّعاءِ الحُطَمة. فقال له ابنُ زياد: ما أنتَ وذاك؟ ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (م): حثالة. والمثبت من (ص)، وهو الموافق لمصادر الخبر. (¬2) تاريخ دمشق 44/ 232 (طبعة مجمع دمشق). والخبر عند مسلم (1830). وسيذكره المصنف عن أحمد. (¬3) قال ابنُ زياد ذلك لزيد - رضي الله عنه - لما قال له زيد: اعْلُ بهذا القضيب عن هاتين الثَّنِيَّتَين -يعني ثَنِيَّتَي الحسين - رضي الله عنه - وقد كان ابن زياد ينكتُ بهما- فو الذي لا إله غيره لقد رأيتُ شفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هاتين الشفتين يقبِّلُهما. ينظر "أنساب الأشراف" 2/ 504 - 505، و"تاريخ" الطبري 5/ 456، وقد سلف الخبر ص 151. وأخرج أحمد (19266) أن ابنَ زياد قال لزيد بن أرقم - رضي الله عنه -: ما أحاديثُ تُحدِّثُها وترويها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نجدُها في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، تحدِّثُ أنَّ له حوضًا في الجنة؟ قال: قد حدَّثناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعَدَناه. قال: كذبت، ولكنك شيخ قد خرفت. قال: إني قد سمعَتْه أُذناي ووعاه قلبي. . . (¬4) مسند أحمد (20637)، وهو حديث عائذ بن عمرو الذي ذكره أولًا. (¬5) في (ب) و (خ) و (م): رجل من. (¬6) المثبت من (ص)، وفي غيرها: حُثالة. (¬7) صحيح مسلم (1830). (¬8) تاريخ دمشق 44/ 227 (طبعة مجمع دمشق). (¬9) في "تاريخ دمشق": التسعة.

إنما أنت من حُثالة أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فقال: أوَ كانَ فيهم حُثالة؟ ! لا أمَّ لك، بل كانوا أهل بيوتات وشرف، أشهدُ لقد سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من والٍ بات ليلةً غاشًّا لرعيَّته إلا حرَّم اللهُ عليه الجنَّة". قال: ومرض عبد الله بن مُغَفَّل، فأتاه ابنُ زياد عائدًا، فقال له: اعهد إلينا شيئًا نفعلْ فيه الذي تحبُّ. قال: أفاعلٌ أنتَ ذلك؟ قال: نعم. قال: فإنِّي أسألُك أن لا تُصلِّيَ عليَّ، ولا تَقُمْ على قبري، وأن تُخَلِّيَ بيني وبين أصحابي يتولَّوْنَ أمري. وقد ذكرناه. فما شيَّعه ولا صلَّى عليه. وقال ابنُ عساكر أيضًا: وُلد ابنُ زياد سنة تسع وثلاثين، وكان لمَّا قُتل الحسين ابنَ ثمان وعشرين سنة (¬2)، فقد كان يوم قُتل ابنَ ثلاث وثلاثين. قال: وقال البخاريّ: وأمُّه مَرْجانة (¬3)، سبيَّةٌ من أهل أصبهان. قال": وهو أوَّلُ من ضربَ الدراهم الزُّيُوف، وجهرَ بالمعوِّذَتَين (¬4). وقال المدائني: كان ابنُ زياد يقول حبَّذا الإمارة؛ لولا قعقعةُ لجام البريد والتشزُّن (¬5) للخطب (¬6). قال: وقام رجل ضرير في جامع البصرة فقال: تصدَّقوا على من لا قائد له فيُؤَدِّيه (¬7)، ولا بصرَ له فيهديه. فأشار الحسنُ إلى دار ابنِ زياد وقال: ما كان له قائدٌ يقودُه إلى خير، ولا بصر فيبصر به ما ينفعه فيؤدّيه (¬8). ¬

_ (¬1) من قوله: فقال: وهل كانت فيهم نخالة في الحديث قبله إلى هذا الموضع، ليس في (ب) و (خ). (¬2) هاتان روايتان في "تاريخ" ابن عساكر 44/ 212، جمع بينهما المختصر هنا، ولا تناسبَ بينهما، فعلى قول من قال: وُلد سنة تسع وثلاثين لا يكون له ثمان وعشرون سنة لمَّا قُتل الحسين سنة (61). وقد ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 3/ 545 ما يفيد أنَّه ولد سنة ثلاث وثلاثين. (¬3) هو في "تاريخ دمشق" 44/ 213 عن ابن معين، ولم أقف عليه عند البخاري. (¬4) المصدر السابق 44/ 225. (¬5) في (م): والتشرُّف. (¬6) أنساب الأشراف 4/ 419. (¬7) الخبر في المصدر السابق، وفيه: يقوده. (¬8) قوله: فيؤديه، ليس في (م)، وقوله: ما ينفعه فيؤديه، ليس في (ص).

وقال الترمذي بإسناده عن عُمارة بن عمير قال: لما جيء برأس ابنِ زياد إلى الكوفة مع جملة الرؤوس؛ أُلقِيَتْ بالكُناسة، فكانت حيَّةٌ تجيءُ كلَّ يوم، فتدخلُ في فيه، وتخرج من مَنْخِرَيه. فعلت ذلك ثلاثة أيام. فكانت إذا أقبلت؛ قال الناس: جاءَتْ جاءَتْ (¬1). قال هشام: فأقامت الرؤوس أيامًا بالكوفة، ثمَّ بعثَ بها المختار إلى مكة إلى محمَّد بن الحنفية، وقيل: إلى عبد الله بن الزبير، فنصبها بمكة. وأحرق ابنُ الأشتر جثَّة ابن زياد وجثث الباقين (¬2). وقال هشام: لما قُتل ابنُ زياد كانت معه امرأتُه هند بنت أسماء بن خارجة الفَزَاري، وكانت لا تُفارقُه، فلبسَتْ قَباءً وعمامةً ومِنْطَقَةً (¬3)، وحَمَلَتِ السلاح، وركبتْ فرسَ ابنِ زياد الذي يقال له: الكامل، وسارَتْ وحدَها من الزَّاب حتى دخلت الكوفة في يوم وليلة (¬4). وقال المدائني: قال إبراهيم النَّخَعي: ما رأينا رجلًا شرًّا من ابن زياد (¬5). وقال الشعبي: كان أكولًا؛ أكلَ في يومٍ خمس مرات، وأكلَ عشر بطَّات، وجَدْيًا وزِنْبيلًا من عنب، وأكلَ آخرَ النهار شيئًا آخر (¬6). ولهذا قال له عبد الله بن المغفَّل: "شرُّ الرِّعاء الحُطَمَة". وقال هشام: حلفَ ابنُ زياد ليقتلنَّ المختار، وليضعنَّ رِجْلَه على رأسه. وبلغَ المختارَ، فقال: كذاب، أنا واللهِ أقتلُه، وأضعُ قدمي على رأسه. فكان كما قال (¬7). ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه في "سنن" الترمذي (3780) ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 44/ 246. (¬2) سلف في ترجمة الحصين بن نمير السالفة ص 406. (¬3) الخبر في "تاريخ دمشق" ص 436 (تراجم النساء - طبعة مجمع دمشق) وفيه: قَباءه وعمامته ومنطقته. والقَباء ثوب يُلبس فوق الثياب، والمِنْطَقَة: ما يشدُّ به الوسط. (¬4) في "تاريخ دمشق": في بقية يومها وليلتها. وذكر الطبري في "تاريخه" 6/ 90 أن عُيينة بن أسماء أخا هند هو الذي ذهب بها. قوله: الزَّاب: هو من أرض الموصل، وعنده أيضًا: نهر الخازر، الذي كانت عنده الوقعة، وسلف ذكره أول الخبر. (¬5) أنساب الأشراف 4/ 423. (¬6) بنحوه في المصدر السابق 4/ 426. (¬7) ينظر المصدر السابق.

عمر بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -

وذكر القاضي التَّنوخي أنَّ ابنَ زياد لما قتل الحسين وعاد إلى البصرة بني داره بالبيضاء (¬1)، وصوَّر على بابها رؤوسًا مقطّعة، مثل رأس الحسين وأصحابه، وصوَّرَ في دهليزها صورة أسد وكبش وكلب، وكتبَ على كل واحد شيئًا، فكتبَ على الأسد: أسد كافح، وعلى الكبش: [كبش] ناطح، وعلى الكلب: [كلب] نابح. فَمَرَّ بالباب أعرابيٌّ، فقال: أما إنَّ صاحبَها لا يسكنُها إلا ليلة لا تتمّ. وبلغَ ابنَ زياد، فضربَه وحبَسه، فما أمسى المساء حتى قدم رسولُ ابنِ الزُّبير، فأخذَ له البيعةَ، وهرب ابنُ زياد من ليلته إلى الأزد، فأجاروه، ثمَّ أخرجوه إلى الشام، وكسرَ الأعرابيّ باب الحبس وخرج، ولم يعد ابنُ زياد بعدها إلى البصرة، وقُتل. وقال الهيثم: وكان مقتلُ ابن زياد في المحرَّم، وعلم المختار بالوقعة، فخرج من الكوفة، فنزل المدائن، وكان يقول: أبشِروا بالفتح، فإنَّه يأتيكم في هذين اليومين. وجاءت البشائر، وبعث إبراهيمُ إلى المختار بالرؤوس، ومضى هو إلى الموصل، وملك الجزيرة، وبعثَ أخاه عبدَ الرحمن على نَصِيبين وما والاها (¬2). وفيها توُفِّي عُمر بن عليّ بن أبي طالب - عليه السلام - وأمُّه الصَّهْباء بنت عبَّاد (¬3). وقيل: هي أمُّ حبيب بنت ربيعة من تغلب بن وائل، سباها خالد بنُ الوليد من عين التمر، وقيل: في أيَّام الرِّدَّة. وعُمر من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة. وهو عُمر الأكبر، وأختُه رُقَيَّة بنتُ علي لأبيه وأمّه. قال ابنُ سعد: وكان عليٌّ قد سمَّاه باسم عمر بن الخطّاب، وسمَّى ابنًا له بعثمان. ¬

_ (¬1) ينظر "معجم البلدان" 1/ 530. وما سيرد بين حاصرتين من (م). (¬2) ينظر الكلام مفصَّلًا في "تاريخ" الطبري 6/ 91 - 92 وقد ساق خبر قتله في أحداث سنة (67)، وذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 44/ 247 أنَّه قتل سنة (66). (¬3) تاريخ دمشق 54/ 247 (طبعة مجمع دمشق). وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 117.

وذكر محمَّد بن سلام (¬1) أنَّ عُمر لما وليَ الخلافة وُلد عُمر بنُ عليّ، فقال عُمر لعليّ: هَبْهُ لي. فقال: هُو لك. فقال: قد نَحَلْتُه اسمي وغلامي مورِّقًا. وقال مصعب بن عبد الله (¬2): وُلد عُمر ورُقَيَّة في بطنٍ واحد توأمين، وكان عُمر آخِرَ ولدِ عليّ. واختلفوا في وفاته، فقال خليفة: مات عُمر سنة سبع وستين (¬3). وقال مصعب بن عبد الله (¬4): عاش طويلًا، وقدم مع أبان بن عثمان بن عفان على الوليد بن عبد الملك يسألُه أنْ يولِّيَه صدقاتِ أبيه، وكان يليها يومئذ [ابنُ أخيه] الحسنُ بنُ الحسن، فعرضَ عليه الوليد الصِّلة وقضاءَ الدَّين، فقال: لا حاجةَ لي في صلتك، وإنَّما قدمتُ عليك بسبب الصدقة، وأنا أولى بها من غيري. فقال الوليد لأَبَان: أخْبِرْهُ أنَّني لا أُدخِلُ على أولاد فاطمةَ أحدًا من غيرهم، فإنها بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فانصرف عُمر غضبانًا، ولم يقبل صِلَتَه. وهذا يدلُّ على أنَّه عاشَ بعد الثمانين، فإنْ صحَّت رواية خليفة فقد كانت وفادتُه على عبد الملك بن مروان. روى عُمر الحديثَ عن أبيه عليّ، وروى عنه ابنُه محمَّد بن عمر. وكان محمَّد من العلماء؛ ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة؛ قال (¬5): وأمُّه أسماء بنت عَقِيل بن أبي طالب. قال: فولدَ محمَّد بنُ عُمر: عُمرَ، وعُبيدَ الله؛ وأمُّهما خديجة (¬6) بنت عليّ بن حُسين ابن عليّ بن أبي طالب. ¬

_ (¬1) هو في "تاريخ دمشق" 54/ 247 (طبعة مجمع دمشق) من طريق محمَّد بن سلّام. (¬2) في "نسب قريش" ص 42. ومن طريقه ابن عساكر في المصدر السابق. (¬3) طبقات خليفة ص 230، ومن طريقه ابن عساكر، وجاء عندهما بعده: قُتل مع مصعب أيام المختار. (¬4) نسب قريش ص 42، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 54/ 247 - 248. وما سيرد بين حاصرتين من (م). (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 323. (¬6) في "الطبقات": عُمر وعبد الله وعُبيد الله. . . وأمُّهم خديجة. . .

عمرة بنت النعمان

وجعفرَ بنَ محمَّد، وأمُّه أمُّ هاشم بنت جعفر بن جعدة بن هُبيرة المخزومي. وكلُّهم رَوَى الحديثَ، ولهم عَقِبٌ بيَنْبُع. وفيها توفِّيت عَمْرَة بنتُ النُّعمان ابن بشير الأنصاري امرأة المختار بن أبي عُبيد. حكى هشام بن محمَّد عن أبي مِخْنَف قال (¬1): لمَّا قُتلَ المختار؛ أحضر مصعبُ بنُ الزُّبير امرأتي المختار: عَمْرة بنتَ النعمان بن بشير، وأمَّ ثابت بنت سَمُرة بن جندب، وقال لهما: ما تقولان في المختار؟ فقالت أمُّ ثابت: أقول ما تقولون فيه. فأرسلها. وأمَّا عَمْرَة فقالت: رحم الله أبا إسحاق، لقد كان عبدًا صالحًا، فسجنها، وكتب إلى أخيه ابن الزُّبير يقول: إنَّها تزعُم أنَّه نبيّ. فكتبَ إليه: اقتُلْها. فأخرجها ليلًا بين الحيرةِ والكوفة، فقتلَها. فقَبَّحَ الناسُ على مصعب وأخيه عبدِ الله قَتْلَ امرأة. وقال عُمر بن أبي ربيعة القُرشي: إنَّ من أعجبِ العجائبِ عندي ... قَتْلَ بيضاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ قُتِلَتْ هكذا على غير جُرْمٍ ... إنَّ للهِ دَرَّها مِنْ قتيلِ كُتِبَ القَتْلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانيات جَرُّ الذُّيولِ وقال الجوهري: العُطْبُول من النساء: الحسناء التامَّة. وأنشد: [إنَّ من أعجبِ العجائبِ عندي] ... قَتْلَ بيضاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ (¬2) وقال أبو حسان الزِّيادي: إنَّ مصعبًا قتلَ عمرةَ بغير أمرِ أخيه عبدِ الله، فلمَّا علمَ كتبَ إليه يلومُه ويُعَنِّفُه (¬3). وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري: ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 112، وتاريخ دمشق ص 261 (تراجم النساء - طبعة مجمع دمشق). (¬2) الصحاح 5/ 1768 (عطبل) وما بين حاصرتين منه. (¬3) تاريخ دمشق ص 263 (الطبعة المذكورة قبل).

محمد بن الأشعث

أتى راكبٌ بالأمرِ ذي النبأ العَجَبْ ... بقتلِ ابنةِ النُّعمانِ ذي الدِّينِ والحَسَبْ بقتلِ فتاةٍ ذاتِ دَلٍّ سَتِيرةٍ ... مهذَّبةِ الأخلاقِ والخِيمِ والنَّسَبْ (¬1) أتاني بأنَّ الملحدينَ توافَقُوا ... على قَتْلِها لا جُنِّبُوا القتلَ والسَّلَبْ ولا هنأَتْ آلَ الزُّبيرِ معيشةٌ ... وذاقُوا لباسَ الذُّلِّ والخوفِ والحَرَبْ كأنَّهمُ إذْ أبرزُوها وقُطِّعَتْ ... بأسيافهم فازوا بمملكة العَرَبْ من أبيات (¬2). انتهت ترجمتها، والله أعلم. وفيها توفي محمد بن الأشعث ابن قيس الكنديّ، وكنيتُه أبو القاسم. وذكره ابنُ سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة (¬3). وقال (¬4): فولد الأشعث محمدًا، وإسحاق، وإسماعيل، وحبابة (¬5) وقُريبة (¬6)، وأمُّهم أمُّ فَرْوة بنتُ أبي قُحافة أختُ أبي بكر الصِّدِّيق. وقد ذكرنا الأشعث بنَ قيس ورِدَّتَه عن الإِسلام، وعَوْدَه إليه، وتزويجَه بأمِّ فَرْوة. وقال يحيى بنُ معين: أربعة اسْمُهُم محمَّد، وكُنيتُهم أبو القاسم: هذا، وابنُ الحنفيَّة، ومحمد بنُ طلحة، ومحمد بن حاطب (¬7). وقال هُشيم (¬8): كان محمَّد بن الأشعث يدخلُ على عائشة، فتكنِّيه بأبي القاسم. ¬

_ (¬1) قوله: سَتيرة، أي: عفيفة، والخِيم: السَّجِيَّة والطبيعة، والأصل. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 113، وتاريخ دمشق ص 262. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 68. (¬4) في "الطبقات" 6/ 230 (ترجمة أبيه الأشعث بن قيس) ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 61/ 127 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) في "الطبقات": حبانة. (¬6) قوله: وقريبة، من (ص) و (م)، وهو في المصدرين السابقين. (¬7) تاريخ دمشق 61/ 128 (طبعة مجمع دمشق). (¬8) المصدر السابق 61/ 130 - 131. وتحرف لفظ هُشيم في (أ) و (ب) إلى: هيثم، وفي (خ) إلى: الهيثم.

المختار بن أبي عبيد الثقفي

وقال أبو نُعيم الحافظ (¬1): ذُكر لنا أنَّ محمدًا وُلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس بصحيح؛ لأنَّ أبا بكر إنَّما زوَّجَه بأخته بعد الرِّدَّة، وقد ذكرناه. وقال الزُّبير بن بكَّار: هرب محمَّد بن الأشعث من المختار إلى البصرة، فهدم المختار داره بالكوفة، وبنى بلَبِنِها وآلتها دارَ حُجْرِ بنِ عديّ، وكان زيادٌ قد هَدَمَها (¬2). وأقام محمدٌ بالبصرة، وكان المختارُ حَنِقًا عليه؛ لأنه ممَّن شهد قتلَ الحُسين، ويقال: إنه أخذ قَطِيفة الحسين. وهو الذي خدع مسلم بن عقيل، وغَدرَ بِه، وسلَّمه إلى ابن زياد حتى قتله. فلما قصد مصعبٌ المختار؛ قَدَّمَ في مقدِّمته ابنَ الأشعث وعُبيد الله بنَ عليّ [بن أبي طالب] فقُتلا تحت الليل، ولم يُعرفا، وبلغ مصعبًا، فبكى وقال (¬3): لقد تنغَّصَ عليَّ هذا الفتح حيثُ لم يشهده عُبيد الله ومحمد (¬4). وقال ابنُ سعد (¬5): وَلَدَ محمدُ بنُ الأشعث أكثرَ من ثلاثين ولدًا ذكورًا. ومن أولاده عبد الرحمن بن محمَّد الخارج على الحجَّاج [وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى]. وفيها قتل المختار بن أبي عبيد الثقفيّ قد ذكرنا أنَّ أباه أبا عُبيد بن مسعود، قُتل يومَ الجسر، وجدُّه مسعود عظيمُ القريتين (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر 61/ 129 من طريق أبي نُعيم. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 61/ 134. (¬3) في "تاريخ دمشق" 61/ 133: قال المصعب للأحنف بن قيس. (¬4) المصدر السابق. وينظر ما سلف في ترجمة عُبيد الله بن علي قبل عدّة تراجم. (¬5) في "الطبقات" 6/ 231. وما سيرد بين حاصرتين من (م). (¬6) المعارف ص 400. وهذا أحد الأقوال.

ولد المختار عام الهجرة، وذكره البلاذُريّ فقال (¬1): تزوَّج أبوه دَوْمة بنت عَمرو بن وَهْب بن معتِّب، وكان قبل تزوُّجه بها يختارُ أن يتزوَّج في نساء قومه، فرأى في منامه قائلًا يقول له: تزوَّجْ دَوْمة، فإنها عظيمة الحَوْمَة (¬2)، لا تسمعُ من لائمٍ فيها لَوْمة. فتزوَّجَها، فلمَّا اشتملت على المختار؛ رأت في منامها قائلًا يقول: أبشري بولدٍ، أسدٍ من الأُسْد، إذ الرجال في كَبَد، يتغالبون على بلد وأيِّ بلد. فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ولدَتْه قيل لها (¬3): إنَّ ابنكِ قبل أن يتسعسع، وبعد أن يترعرع، كثيرُ التَّبَع، قليل الهَلَع، خَنْشَلِيل (¬4) ورع (¬5)، يُدان (¬6) بما صنع. دَوْمة: بفتح الدال، وحَوْمةُ القتال: معظمُه، والكَبَد: الشِّدَّة، وتسعسعَ: كَبِرَ وهَرِم. والخَنْشَلِيل: الماضي (¬7). والهَلَع: الخوف. ذكر طرف من أخباره: قال قوم: كان يلقَّب بكَيْسان، وإليه تنسب الكَيسانيَّة (¬8). وقال صاحب "المِلَل والنِّحَل" (¬9): كَيسان مَوْلَى عليّ - عليه السلام -، وقيل: تلميذ محمَّد بن الحنفيَّة. قال: وأمَّا المختار؛ فأصحابُه يقال لهم: المُختاريَّة. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 6/ 38. (¬2) في (ب) و (خ) و (ص): الحرمة. (¬3) كذا وقع السِّياق في النسخ وعبارة البلاذُري: وُلد المختارُ. . . في السنة التي هاجر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . ثمَّ أورد في ترجمته الخبر التالف الآتي. (¬4) في (م): خيشليل، وفي غيرها: حيشليل (في الموضعين). والمثبت من "أنساب الأشراف" 6/ 38. (¬5) في المصدر السابق: غير ورع. (¬6) في (م): بدار، وفي النسخ الأربع الأخرى: بدار بدار (؟ ) والمثبت من "أنساب الأشراف" 6/ 38. (¬7) في "القاموس": الخَنْشَلِيل: الضخم الشديد. (¬8) المعارف ص 622. (¬9) 1/ 196 (للشهرستاني، بهامش الفصل في الملل لابن حزم)

قال: وكان خارجيًّا، ثمَّ صار زُبيريًّا (¬1)، ثمَّ صار شيعيًّا وكَيسانِيًّا (¬2). وكان يدعو إلى محمَّد بن الحنفيَّة ويزعم أنَّه من أصحابه، ولمَّا علم محمَّد بذلك تبرَّأَ منه، وقال: إنَّما يموّه بنا على الناس ليتمَّ أمرُه. قال: ومن مذهب المختار أنَّه يُجوِّز البَدَاءَ على الله تعالى، وهو أنْ يأمرَ بشيء، ثمَّ يأمرَ بعده بخلافه، وإنما ذهبَ إلى هذا لأنَّه كان يدَّعي علم ما يظهر من الأحوال؛ إمَّا بِوَحْيٍ يُوحَى إليه، أو برسالةٍ من الإمام، فكان إذا وعدَ أصحابه بشيء؛ فإنْ وافق كونُه [قولَه] اعتقدوا صحة ما قال، وإن لم يوافق؛ قال: بدا لربِّكم (¬3). وكان لا يُفرِّقُ بين النَّسخ والبَدَاء، وذلك لأنَّ النسخ عبارةٌ عن الرفع أصلًا، والبَدَاء عبارةٌ عن امتداد الحكم إلى وقت معيّن، ثمَّ يرتفع. قلت: وما ذهب إليه المختار مذهبُ اليهود، فإنَّهم لا يُفرِّقون بين النسخ والبَدَاء، وقد استوفينا الكلام فيه في التفسير (¬4). قال (¬5): وكان المختار مُمَخْرِقًا؛ ابتدعَ أشياء، منها الكرسيّ، وأنَّه من ذخائر أمير المؤمنين، وجعلَه مثل التابوت لبني إسرائيل. وكان يزعُم أنَّ جبريل يأتيه بالوحي. وذكر أشياء. وقال هشام: كان مع أبيه يوم الجسر، وكان له يومئذٍ ثلاثَ عشرة سنة، وكان صاحبَ همَّة؛ كان يقول في صغره: واللهِ لأعلُوَنَّ منبرًا بعد منبر، ولأهزمنَّ عسكرًا بعد عسكر، ولأُخِيفَنَّ أهلَ الحرمين، ولأدعونَّ (¬6) أهل المشرقين والمغربين، ولأجهِّزنَّ من الجيوش مئين، وإن خبري لفي زُبُر الأوَّلِين. ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: زيديًّا، والمثبت من "الملل والنِّحل". (¬2) في النسخ الخطية: وكاسانيًا. والمثبت من المصدر السابق. (¬3) الملل والنِّحل 1/ 197 - 198، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) النسخ: نقلُ العِباد من حُكْم إلى حكم لضَرْبٍ من المصلحة، بينما البَدَاء: أن يبدوَ ويظهرَ ما لم يكن ظاهرًا، وهو مستحيل على الله عزَّ وجلَّ. ينظر "الغُنْية في أصول الدين" ص 156، و"تفسير" القرطبي 2/ 303 (الآية: 106 من البقرة) و"كشاف اصطلاحات الفنون" 1/ 313. (¬5) بنحوه في المصدر السابق. (¬6) في "أنساب الأشراف" 6/ 38: ولأُذعرنَّ. وهو الأشبه.

وقال الهيثم: لما قدم على ابن الزبير وقاتل معه ووعده أن يولِّيه الولايات؛ لم يف له بما وعد، فاجتمع بابن الحنفيَّة وقال: أنا أطلب ثأركُم وأقتلُ من قتلكم. فلم يُجبه محمد إلى شيء، فقال: سكوته إذنٌ. وقال محمَّد: كفى بالله ناصرًا. فقدَّم الكوفة، وادَّعى ما ادَّعى (¬1). وقال الهيثم: وله أسجاع معروفة، منها ما قد ذكرناه. وقال ابن عساكر عن أبي مِخْنَف - واسمُه لوط بن يحيى العامري - قال: قيل لابن الزبير: إنَّ المختار يزعم أنَّه يُوحى إليه! فقال: صدق. ثمَّ قرأ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (¬2) [الشعراء: 221 - 222]. قال: وكان ابنُ عبَّاس إذا أثنى على المختار؛ يقول له محمَّد بنُ الحنفيَّة: لا تقل فيه خيرًا، نحن أعلم به (¬3). وقال أبو اليقظان: لما جيء برأس المختار إلى ابن الزبير؛ توجَّع ابنُ عباس وقال: قتلَ قَتَلَتَنا، وطلبَ بدمائنا، وشَفَى صدورَنا. فقال عروة بن الزبير: قُتل الكذَّاب وهذا رأسُه. فقال له ابنُ عباس قد بقيَتْ لكم عَقَبةٌ كبيرة، إنْ صعدتُموها، وإلا فأنتم والمختار سواء. يعني عبد الملك بن مروان (¬4). ذكر مقتل المختار: حكى الطبريّ (¬5) عن هشام، عن أبي مِخْنَف، عن حبيب بن بديل (¬6) قال. قدم شَبَث بن رِبْعيّ على مصعب بن الزُّبير البصرة وتحتَه بغلة قد قطعَ ذنَبَها، وطرفَ أذنِها، وقد شقَّ قَباءَه وهو ينادي: واغَوْثاه. ودخل على مصعب ومعه وجوهُ أهل الكوفة؛ محمَّد بن ¬

_ (¬1) ينظر المصدر السابق 6/ 42. (¬2) لم أقف عليه عند ابن عساكر، وهو في "أنساب الأشراف" 6/ 98، و"تفسير" الطبري 17/ 671 من طريق آخر. (¬3) أنساب الأشراف 6/ 99. (¬4) في "أنساب الأشراف" 6/ 98: قد بقيت لكم عقبة إن صعدتموها فأنتم أنتم. يعني عبد الملك وأهل الشام. (¬5) في "تاريخه" 6/ 94. (¬6) في (م): يزيد. وهو خطأ.

الأشعث وغيره، فشَكَوْا إليه ما لَقُوا من المختار، وسألوه المسير إليه معهم إلى الكوفة يستنصرون به. وكان المختار قد هدم دار ابنِ الأشعث. قلت: وقولُ الطبريّ: إن شَبَث بن رِبْعيّ ومحمد بن الأشعث قدما على مصعب البصرة: وهمٌ (¬1)، فإنَّ مصعبًا إنما وليَ البصرة في هذه السنة. ولما قدموا البصرة عامَ أوَّل كان عليها القُباع (¬2)، وعزلَه ابنُ الزبير وولَّى أخاه مصعبًا، وذلك بعد قتلِ مَنْ قتلَ المختارُ مِنْ قَتَلَةِ الحسين. قال أبو مِخْنَف: ولما كثَّر أهلُ الكوفة على المصعب وحرَّضوه على قصد المختار، قال: لا أَسِيرُ إليه حتى يَقْدَمَ المهلَّبُ بنُ أبي صُفْرة. وكتب إلى المهلَّب، فأبطأ عليه، وكان المهلَّب يكره قتال المختار، فقال مصعب لابن الأشعث: سِرْ إلى المهلَّب فاسْتَحِثَّه. فسار ابنُ الأشعث بكتاب مصعب إلى المهلَّب، فقال له المهلَّب: أما وجدَ مصعبٌ بريدًا غيرك -أو مثلك- يا محمَّد تأتي بريدًا؟ " فقال محمَّد: ما أنا ببريد، غير أنَّ نساءنا وأبناءنا قد غَلَبَنا عليهم عبيدُنا وموالينا. فسار المهلَّب بجيوش عظيمة، وخرجَ مصعب من البصرة، وقدَّمَ (¬3) بين يديه عبَّاد بن الحُصين الحَبَطيّ التميمي، وبعثَ عمرَ بنَ عُبيد الله بن معمر على ميمنته، والمهلَّب على ميسرته، ورتَّب القبائل؛ في كل قبيلة أعيانهم؛ كمالك بن مِسْمَع في بكر بن وائل، والأحنف بن قيس علي بني تميم، وزياد بن عَمرو الأزدي في الأزد، وقيس بن الهيثم على أهل العالية. وبلغ المختارَ، فقام خطيبًا وقال: يا أهل الحقّ وأنصار الله، إنَّ فُرَّارَكم الذين بَغَوْا عليكم قد أَتَوْكم بأشباههم من الفاسقين، فعليكم بالصبر والثبات. وذكر كلامًا في هذا المعنى. ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ): وهو وهم. والمثبت من (ص)، وهذه الفقرة ليست في (م). (¬2) هو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة. وينظر "تاريخ" الطبري 6/ 93. (¬3) لفظ: "مصعب من البصرة وقدَّم" سقط من (خ).

ثمَّ ندب المختارُ أحمرَ بنَ شُميط، فخرج فعسكرَ بحمَّام أعين في جيش كثيف، وبعث على مقدِّمته أبا كامل (¬1) الشاكري، وسار حتى نزل المذار (¬2)، وجاء المصعب، فعسكر قريبًا منه، وجاء أحمر فنزل في عسكره، وجعل في ميمنته عبد الله بنَ كامل، وعلى ميسرته عبدَ الله بنَ وَهْب الجُشَمي، وعلى الخيل وزير بن عَبْد (¬3) السَّلُولي، وعلى الرَّجَّالة بشر (¬4) بن إسماعيل الكندي، وجعك أبا عمرة على الموالي. وتزاحفا، فقال عبَّاد بنُ الحُصين -وكان على مقدِّمة مصعب- وقد دنا من أحمر بن شُميط وأصحابه: يا قوم، إنَّا ندعوكم إلى [كتاب الله، وسنَّةِ رسولِه، وبيعةِ أمير المؤمنين عبد الله بنِ الزُّبير. وقال أحمر: ونحن ندعوكم إلى] (¬5) كتاب الله، وسنَّةِ رسوله، وبيعةِ المختار، وأن يكون هذا الأمرُ شورى في آل الرسول، فإن خالفَنَا أحدٌ جاهَدْناه. فأخبر عبَّادٌ المصعبَ، فقال: القتال. فالتقَوْا فاقتتلوا، وصبرَ أهلُ الكوفة، وقُتل ابن شُميط والأعيان، وعاد باقي الجيش إلى الكوفة مفلولين. وجاء مصعب، فقطع دجلة من تلقاء واسط القصب -ولم تك واسط هذه بُنيت بعد- ثمَّ حملَ الأثقال (¬6) والضعفاء في نهر يقال له: نهر خُرْشاذ، ثمَّ خرجوا منه إلى نهر قُوسان، ثمَّ خرجوا منه إلى الفرات. وجاء الخبر إلى المختار وعنده عبد الرحمن بن أبي عُمير الثقفي فقال له (¬7): قُتلت واللهِ العبيدُ قِتْلةً ما سُمع بمثلها قطّ، وقُتل ابنُ شميط وابنُ كامل وفلان وفلان. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الخطية و"البداية والنهاية" 12/ 60. وفي "تاريخ" الطبري 6/ 96: ابن كامل. وهو عبد الله بن كامل. (¬2) قال ياقوت: المذار في مَيسان بين واسط والبصرة، وهي قصبة مَيسان، بينها وبين البصرة مقدار أربعة أيام. "معجم البلدان" 5/ 88. (¬3) كذا في (أ) و (ب) و (خ) و (ص). وفي (م) و"البداية والنهاية" 12/ 60: بن عبد الله. وفي "أنساب الأشراف" 6/ 84 و"تاريخ" الطبري 6/ 96: رزين بن عبد. (¬4) في "أنساب الأشراف" 6/ 84، و"تاريخ" الطبري 6/ 96: كثير. (¬5) ما بين حاصرتين من (ص) و (م)، وقد سقط من النسخ الأخرى، وينظر "تاريخ" الطبري 6/ 96. (¬6) في (م): الأموال. (¬7) في (م): فقال له عبد الرحمن. وهو خطأ.

ثمَّ قال: ما من الموت بُدٌّ، وما من موتة أموتُها أحبَّ إليَّ من موتة ابن شميط، حبذا مَصارعُ الكرام! قال: فعلمتُ أنَّه إن لم يُصب حاجتَه مقتول. [ولما بلغ المختار أنهم قد أقبلوا في السفن] (¬1) والظَّهر؛ خرج، فسار إلى مجتمع الأنهار -نهر السَّيلَحين، ونهر الحِيرَة، ونهر القادسية- فسَكَرَ الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماءُ الفرات كلُّه في هذه الأنهار، وبقيت سفن القوم في الطين، فخرجوا منها يمشون، وجاء المختار فحال بينهم وبين الكوفة، وقد كان حَصَّنَ القصر. ونزل المختار بحَرُورَاء، واستعمل على الكوفة عبدَ الله بنَ شدَّاد، وجعلَ المختارُ على ميمنته سُليم بن زيد (¬2) الكندي، وعلى ميسرته سعد (¬3) بن منقذ الهَمْداني، وبعث على الخيل عُمر بن عبد الله (¬4) النَّهدي، وعلى الرَّجَّالة مالك بن عَمرو النَّهدي. وجعل مصعب على ميمنته المهلَّب، وعلى الميسرة عُمر بنَ عُبيد الله بن معمر التَّيميّ، وعلى الخيل عبَّاد بن الحُصين، وعلى الرَّجَّالة مقاتل بن مِسْمَع البكريّ، ونزل مصعب يمشي متنكِّبًا قوسًا له، وجعلَ على أهل الكوفة محمَّد بنَ الأشعث، وجاء محمَّد فنزلَ بين المختار ومصعب (¬5). وجهَّز المختار إلى كلِّ قبيلة من القوم كُرْدُوسًا (¬6)، فبعث إلى بكر بن وائل سعيدَ بنَ منقذ، وإلى عبد القيس مالك بن المنذر (¬7)، وإلى أهل العالية عبدَ الله بنَ جَعْدة، وإلى الأزد مسافرَ بنَ سعيد بن نمران الناعطي، وإلى بني تميم سُليمَ بنَ يزيدَ الكِنْديّ، وبعث إلى محمَّد بن الأشعث السائبَ بنَ مالك الأشعريَّ، ووقفَ هو في بقية أصحابه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ص) و (م). وينظر "تاريخ الطبري" 6/ 99. (¬2) في "تاريخ الطبري" 6/ 99: يزيد، وسيرد كذلك. (¬3) في المصدر السابق: سعيد. (¬4) في (ص): عبيد الله. (¬5) تاريخ الطبري 6/ 98 - 99، وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 89 - 90. (¬6) الكُردوس: الكتيبة، أو القطعة العظيمة من الخيل. "معجم متن اللغة". (¬7) كذا وقع في النسخ، وهو وهم من المختصِر غالبًا. والصواب: عبد الرحمن بن شُريح، كما في المصدرين السابقين واللفظُ فيهما: وبعثَ إلى عبد القيس -وعليهم مالك بنُ المنذر- عبدَ الرحمن بنَ شُريح. . . . .

واقتتلُوا أشدَّ قتال إلى الليل، فقُتل عامةُ أصحاب المختار، وقُتل محمَّد بن الأشعث في تلك الليلة، وتفرَّق عن المختار أصحابُه، فقيل له: أيُّها الأمير، القصرَ القصرَ، فقال: واللهِ ما خرجتُ منه وأنا أريدُ أن أعودَ إليه، ولكن هذا حكم الله. وسار إلى القصر فدخله. وجاء مصعب، ففرَّقَ القبائل في الجَبَابِين (¬1)، ومنع المختارَ المادَّةَ والماء، فكان يشربُ هو وأصحابُه الماء من البئر. ثمَّ قال مصعب: اقْرَبُوا من القصر، فقَرُبُوا واقتسموا المحالّ، وكان المختار يخرجُ فيقاتلُهم. واشتدَّ عليهم الحِصار، وانقطعت عنهم المادَّة، فقال المختار لأصحابه: إنَّ الحِصارَ لا يَزِيدُنا إلا ضعفًا، فانْزِلُوا بنا فلنقاتل حتى نُقتلَ كرامًا إنْ متنا (¬2)، وواللهِ ما أنا بآيس -إنْ أنتُم صدقتموهم- أن ينصرَكم الله. قال: فضعُفوا ووَهَنُوا، فقال [المختار]: أمَّا أنا، فواللهِ لا أُعطي بيدي. فأرسلَ إلى امرأته أمِّ ثابت بنت سَمُرة بن جندب الفزاري، فأرسلَتْ إليه بطيب كثير، فاغتسلَ وتطيَّبَ وتحنَّط، ثمَّ خرج في تسعةَ عشرَ رجلًا، فيهم السائب بن مالك الأشعري -وكان خليفتَه على الكوفة إذا خرج عنها- فقال المختار للسائب: إنما أنا رجلٌ من العرب، رأيتُ ابنَ الزبير قد انْتَزَى على الحجاز، ونجدةَ الحروريَّ على اليمامة، ومروانَ على الشام، فلم أكن دون أحد منهم، فأخذتُ هذه البلادَ، فكنتُ كأحدهم إلا أنَّني طلبتُ بثأر أهل بيتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتلتُ قَتَلَتَهم، ومن شَرَكَ في دمائهم، وبالغتُ في ذلك إلى يومي هذا. ثمَّ حملَ على القوم فضاربهم بسيفه [حتى قُتل] (¬3). ¬

_ (¬1) جمع جَبَّانة، وهي: جَبَّانة السَّبِيع، وجَبَّانة كِنْدة، وجَبَّانة مُراد. . . ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 91 - 92، و"تاريخ" الطبري 6/ 104 - 105. (¬2) في "تاريخ الطبري" 6/ 106: إنْ نحن قُتلنا. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 107 وما بين حاصرتين منه. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 92 - 93.

وكان قد قال المختار لأصحابه في القصر: إن نزلتُم على حكمهم قتلوكم بما لَهم عندكم من الثأر، فاخرجوا معي فموتوا كرامًا. فتأخَّرُوا عنه ونزلوا على الحكم، فقُتلوا وذُبحوا كالغنم (¬1). وقال الهيثم: خرج المختار فنادى: يا ابن الزُّبير، يا عدوَّ الله وعدوَّ رسولِه وأهلِ بيته، تُعِينُ قَتَلَتَهُمْ وتقتلُ مَنْ أخذَ لهم بالثأر، يا أخا المُحِلّ، واللهِ لتُقتلَنَّ شَرَّ قِتْلَة. فحملُوا عليه بأجمعهم فقتلُوه. وقال أبو مِخْنَف: قتلَه رجلان من بني حنيفة أخوان، أحدهما يُدعى طَرَفة، والآخر طرَّافًا (¬2) عند موضع الزيَّاتين اليوم. وقَتَلَ المصعبُ جميعَ من كان في القصر، ومن كان من أصحاب المختار، وجاؤوا. برأس المختار إلى مصعب وهو في القصر، فوضعوه بين يديه ورؤوسَ أصحابه، فقال بعض الحاضرين: كأني - واللهِ - برأس مصعب موضع هذا الرأس، ورؤوسِ أصحابه موضع رؤوسِ أصحابه، فكان كما قال. وقيل: قتلَ المختارَ مولّى لبني عُطارد اسمه محمَّد بن عبد الرحمن (¬3). وقال أبو مِخْنَف: ثمَّ إن المصعب أمرَ بقطع كفّ المختار، فقُطعت، ثمَّ سُمرت بمسمار في حائط المسجد، فلم يزل كذلك حتى قدم الحجاج بنُ يوسف الكوفةَ، فقال: ما هذه؟ قالوا: كفُّ المختار [فأمر بنزعها ودفنها (¬4). وقال الواقدي: قُتل المختار] وهو ابنُ تسع (¬5) وستين سنة لأربع عشرة ليلةً خلت من رمضان (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر المصدران السابقان. (¬2) في النسخ الخطية: طوافًا. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 108، وهو كذلك في "البداية والنهاية" 12/ 62، و"الكامل" 4/ 273. وجاء في "أنساب الأشراف" 6/ 93: "قتله أخوان من عَنَزَة يقال لهما: طَرَفة وطُريفة" وفيه أيضًا عن أبي اليقظان: "قتله فيما تقول ربيعة: طرَّاف بن يزيد الحنفي". (¬3) أنساب الأشراف 6/ 93. (¬4) تاريخ الطبري 6/ 110. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 96. (¬5) في "تاريخ الطبري" 6/ 116: سبع. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬6) ينظر المصدر السابق، و"أنساب الأشراف" 6/ 96.

ناتل بن قيس بن زيد الجذامي

وقال أبو مِخْنَف: قَتَلَ مصعبُ بنُ الزبير مع المختار سبعة آلاف أو ستة آلاف، فلما قدم مصعبٌ مكة التقاه عبد الله بن عمر (¬1)، فسلَّم عليه، فلم يردَّ عبدُ الله، فقال: أنا ابنُ أخيك مصعب. فقال: أنتَ الذي قتلتَ سبعة آلاف من أهل القبلة -أو ستة آلاف- يعترفون لله بالوحدانية على دمِ واحد؟ ! فقال: كانوا سَحَرةً أو كَفَرة (¬2). فقال له ابنُ عمر: واللهِ لو كانوا غَنَمًا من تراث أبيك الزُّبير لقد أتيتَ أمرًا عظيمًا، ولكان سَرَفًا. وقال أبو مِخْنَف: وبعث مصعب عماله على السَّواد والجبال، وكتب إلى ابن الأشتر وهو بالجزيرة يدعوه إلى طاعته ويقول: لك الجزيرة والشام والمغرب، وكتب إليه عبدُ الملك يقول له: لك العراق. فاختار طاعةَ المصعب، فسار إليه. وقد ذكرناه (¬3). وكان ابنُ الأشتر قد انحرفَ عن المختار، وأقام بالجزيرة حتى قُتل [المختار كما ذكرنا]. وليس للمختار رواية حديث، ولا صحبة. وفيها قُتل ناتلُ بنُ قيس بن زيد الجُذامي وناتل: بنون، وتاء منقوطة بنقطتين من فوق، ولام. وفد أبوه قيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان ناتل سيِّد جُذام، وهو من أهل فلسطين، شهد صفّين مع معاوية، وكان فيها على لَخْم وجُذام. وهو الذي وثب على فلسطين، [وأخرج منها حسان بن مالك بن بَحْدَل. وقد ذكرناه. وكان مع ابن الزُّبير. ¬

_ (¬1) المثبت من (م)، وفي النسخ الأخرى: الزبير، وهو خطأ. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 98، و"تاريخ" الطبري 6/ 113. وليس فيهما قوله (الآتي): فلم يردّ عبد الله. (¬2) في المصدرين السابقين: سحرة كفرة. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 111. وينظر ما سلف ص 404.

السنة الثامنة والستون

ثمَّ إنه وثبَ مرَّة ثانية على فلسطين] فهمَّ عبد الملك بن مروان بالخروج إليه، فمنعه أصحابُه وقالوا: أنت سائر إلى العراق لقتال مصعب. فأرسلَ إليه عَمرو بنَ سعيد الأشدق، فقتلَه عَمرو (¬1). انتهت ترجمته، والله أعلم. السنة الثامنة والستون فيها رجعت الأزارقة من فارس إلى العراق ودخلوا المدائن. وكان السبب في ذلك ما رواه أبو مِخْنَف - وقد ذكره هشام بن محمَّد - قال: بعث مصعب بن الزُّبير عُمرَ بنَ عُبيد الله بن معمر عاملًا على فارس، وكانت الأزارقة قد لحقت بكِرْمان ونواحي أصبهان وفارس بعد ما أوقع بهم المهلَّب بالأهواز، وكان رئيسُهم الزُّبير بن الماحوز، فالتَقَوْا بعُمر بن عُبيد الله بن معمر، فاقتتلوا، ولم يكن بينهم كثير قتلى، وانصرفوا على حامية. وتبعهم عُمر بن عُبيد الله، فنزلوا إصطخر، فسار إليهم، فلقيَهم على قنطرة طَمَسْتَان (¬2) [فقاتلهم قتالًا شديدًا، وقُتل ابنُه. ثمَّ إنه ظفر بهم، فقطعوا قنطرة طَمَسْتَان] وارتفعوا إلى نحو أصبهان وكِرْمان، وأقاموا [بها] حتى قَوُوا واستعدُّوا. ثمَّ ساروا على سابور، وخرجوا على أرَّجان (¬3). فخاف ابنُ معمر على البصرة منهم، فسار في آثارهم وقد توجَّهوا نحو الأهواز. وبلغ مصعبًا إقبالُهم، وكانوا قد سلكُوا أرضَ فارس من غير الطريق (¬4)، ولم يعلم بهم ابنُ معمر، ثمَّ علم، فتبعَهم. وظنَّ مصعب أنَّهم قد مرُّوا على ابن معمر، وقصَّرَ في لقائهم، فعتب عليه، وخرجَ من البصرة، فعسكر بالجسر. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 17/ 486 - 488 (مصورة دار البشير). وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬2) المثبت من (م). وهو الصواب. وفي النسخ الأخرى: طمسان. وينظر "تاريخ" الطبري 6/ 120. (¬3) ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 119 - 120. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) عبارة الطبري: فقطعوا أرض ابن معمر (وهي بفارس) من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور.

وبلغ الزبيرَ بنَ الماحوز (¬1)، فقال لأصحابه لا تقعوا بنا بين هذين الغارَيْن (¬2)، انهضوا بنا إلى مكان آخر. فساروا حتى قطعوا أرض جُوخَى، وأتَوْا المدائن وفيها كَرْدَم بن مَرْثَد الفَزَاري، فشَنُّوا الغارةَ على أهل المدائن، فقتلوا الرجال والنساء والولدان، وبقروا بطون الحُبالى، وهربَ كَرْدَم، وأقبلوا إلى ساباط، فقتلُوا الرجال والنساء والولدان، وكان هناك بنانةُ بنت أبي يزيد بن عاصم الأزدي، وكانت قد قرأت القرآن، وكانت من أجمل النساء، فلما غَشُوها بالسيوف قالت: ويحكم! هل سمعتُم بأنَّ الرجال يقتلون النساء؟ ! فقال بعضهم: لا تقتلوها. فقالوا له: كفرتَ يا عدوَّ الله، أعجبك جمالها؟ ! ثمَّ قتلوها وغيرَها، وأتَوْا الكوفة وعليها القُباع (¬3)، فلم يظفروا منها بشيء، ثمَّ عادوا إلى أرض أصبهان وكرمان (¬4). ذكر من حجَّ بالناس في هذه السنة: قال علماء السير: وقف في هذه السنة -وهي سنة ثمان وستين- بعرفة أربعة ألوية: لواء لمحمد بن الحنفية عند جبل المشاة وتحتَه محمَّد في أصحابه، ولواء لابن الزبير قائم مقام الإمام اليوم، وتقدَّم ابنُ الحنفيَّة حتى صار بإزاء ابنِ الزُّبير، ولواء لنجدة الحروري خلفَهما، ولواء لبني أميَّة عن يسارهما، فكان أوَّلَ مَنْ دفع لواءُ ابنِ الحنفيَّة، ثمَّ تبعه لواء نَجْدة، ثمَّ لواء بني أمية، ثمَّ لواء ابنِ الزبير، وتبعه الناس (¬5). وكان عبد الله بن عُمر واقفًا تلك العشيَّة ينتظر لواء ابنِ الزُّبير وقد تقدَّمت الألوية، فقال ابنُ عُمر: ما ينتظر ابنُ الزبير؟ أيعتمدُ أفعال الجاهلية؟ ! ثمَّ دفع، فدفعَ ابنُ الزُّبير بعده (¬6). قال علماء السير: وما وقفَ على قوم تحت لواءٍ إلا خوفًا من الفتنة؛ فابنُ الحنفيَّة كان يخاف ابنَ الزُّبير، وابنُ الزُّبير يخافُ شيعةَ بني أمية، ونَجْدَةُ يخاف من الجميع، ¬

_ (¬1) في (م): الماحون، وفي (أ) و (ب) و (خ): جوين، وفي (ص): حوير. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 120. (¬2) أي: الجيشَيْن. والغار: الجمع الكثير من الناس، والجيش. (¬3) هو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة. (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 120 - 122. (¬5) تاريخ الطبري 6/ 138. (¬6) المصدر السابق.

البراء بن عازب

وكان كلُّ فريق يقول: نحن ما نُقاتل أحدًا، ولا نُفسد على الناس حجَّهم، ولا نمنع أحدًا من البيت، وإنَّما ندفع عن نفوسنا. وكان ابنُ الحنفيَّة أسكن من الجميع وأثبت (¬1). وكان العاملَ في هذه السنة على المدينة جابرُ بنُ الأسود الزُّهري من قِبَل ابن الزبير، وعلى البصرة والكوفة مصعب بن الزُّبير، وعلى قضاء البصرة هشام بن هُبيرة، وعلى قضاء الكوفة عبدُ الله بن عُتْبة بن مسعود، وعلى خُراسان عبدُ الله بنُ خازم السُّلَميّ، وعلى الشام ومصر عبدُ الملك بنُ مروان (¬2). وفيها توفّي البراء بنُ عازب ابن الحارث بن عديّ بن جُشَم الأنصاريّ، أبو عُمارة، من الطبقة الثالثة، من الخزرج. [قال ابن سعد: وأمُّه حَبيبة بنت أبي حَبيبة بن الحُباب (¬3). قال: وكان عازب قد أسلم أيضًا، وأمُّه من بني سُليم بن منصور، وكان له أولاد: البراء، وعُبيد، وأمُّ عبد الله؛ بايَعَتْ، وأمُّهم جميعًا حبيبة بنت أبي حبيبة بن الحُباب (¬4). وقيل: أمُّ خالد بنت ثابت بن سنان بن خُدْرة (¬5). قال: ولم يُسمع لعازب بذكر في شيء من المغازي، وقد سمعنا بحديثه في الرَّحْل الذي اشتراه منه أبو بكر - رضي الله عنه -. وقد ذكرناه في الهجرة. قال: ] (¬6) لم يشهد [البراء] بدرًا لأنه كان صغيرًا (¬7). ¬

_ (¬1) بنحوه في المصدر السابق. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 139. (¬3) بعدها في (ص) (والكلام منها): وكنيتُه أبو عُمارة، ولم أكتبها لأنها سلفت، ولم ترد في (ص) ثمة وستتكرر الترجمة بأخصر منها في أحداث سنة (70). (¬4) في (ص) (والكلام منها): الحارث، والمثبت من "طبقات" ابن سعد 5/ 282 - 283. (¬5) في (ص): خدارة. والمثبت من "الطبقات". (¬6) المصدر السابق. وأخرج فيه ابن سعد خبر شراء الرَّحْل مطوَّلًا. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬7) طبقات ابن سعد 5/ 285، وزدتُ لفظة "البراء" بين حاصرتين من عندي للإيضاح.

قال: غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة غزوة، وأجازني في الخندق وأنا ابنُ خمسَ عشرةَ سنة. [وفي رواية: غزوت معه خمس عشرة غزوة، ولم يُجزني في غير الخندق] (¬1). ونزل الكوفةَ، وتوفي بها في هذه السنة (¬2). وأسندَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مئة حديث وخمسة أحاديث، [أُخرج له في "الصحيحين" ثلاثة وأربعون حديثًا؛ اتفقا على اثنين وعشرين حديثًا، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة (¬3). وأخرج له الإمام أحمد في "المسند" ثلاثة وستين حديثًا، منها متفق عليه، ومنها أفراد (¬4). وليس في الصحابة من اسمه البراء بن عازب غيره. وأما غير ابن عازب؛ فخمسة: البراء بن أوس بن خالد، له صحبة ورواية، والبراء بن مالك بن النَّضْر، أخو أنس بن مالك، له صحبة ورواية. والبراء بن الجعد بن عوف (¬5)، له رواية، والبراء بن عمرو بن عبيد (¬6)، له رواية] (¬7). ¬

_ (¬1) الكلام بين حاصرتين من (ص). وعلى افتراض صحة اللفظ، فالمراد أنَّه لم يُجَزْ قبل الخندق، كما في "الطبقات" 5/ 286. (¬2) وأرَّخ ابن حبَّان وفاته في "الثقات" 3/ 26 سنة اثنتين وسبعين، وفي "مشاهير علماء الأمصار" ص 272 سنة إحدى وسبعين. وستتكرر الترجمة مختصرة ثمة. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 364 و 388 - 389. (¬4) ينظر "مسند" أحمد (18468) - (18712). (¬5) في (ص) (والكلام منها): عون. والمثبت من "تلقيح فهوم الأثر" ص 166، و"الإصابة" 1/ 296 وقد أورده ابن حجر فيه في القسم الرابع من حرف الباء، وذكر أنَّه هو البراءُ بن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف المذكور قبل. قال: فكأنه نُسب إلى جدّه. (¬6) في "التلقيح" ص 167: البراء بن عُبيد بن عمرو بن عُبيد، وفي "الإصابة" 1/ 235: البراء بن عبد عمرو ابن عبد الرحمن بن عُبيد. (¬7) لم يذكر الخامس، وهو البراء بن معرور بن صخر الأنصاري، وذكره صاحب "التلقيح" ص 167. وقد زاد ابن حجر في "الإصابة" 1/ 234 - 235: البراء بن حزم، والبراء بن مالك (آخر). ومن قوله: أخرج له في "الصحيحين". . . إلى هذا الموضع (وهو الواقع بين حاصرتين) من (ص).

أبو واقد الليثي

وكان له من الولد: يزيد، وعُبيد، ويونس، وعازب، ويحيى، وأمُّ عبد الله (¬1). وأضرَّ البراء في آخر عُمُره. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - (¬2): حدَّثنا ابن نُمير، حدثنا أجلح، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن مسلمَينِ يلتقيان، فيتصافحان، إلا غُفر لهما قبل أن يتَفَرَّقا". وفيها توفي أبو واقد الليثي [واختلفوا في اسمه، فحكى ابنُ سعد عن الواقديّ: أنَّه الحارث بن مالك بن أسد، وقيل: الحارث بن عوف، ويقال: عوف بن الحارث، من بني ليث، وذكره ابن سعد] في الطبقة الثالثة من المهاجرين (¬3). أسلم قديمًا، [وكان يحملُ لواء بني ليث وضمرة وسعد بن بكر يوم الفتح]. وقال البخاري: شهد بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). [قلت: ولم يذكره فيمن شهدوا غير البخاري (¬5)، والأصحّ أنَّه ما شهدها. وذكره جدِّي في "جامع المسانيد" بقاف في واقد. وقيل: بالفاء، والأول أصحّ. قال ابن إسحاق عنه: إني لأتبع رجلًا من المشركين يوم بدر لأضربه، فوقعَ رأسُه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفتُ أنَّه قتله غيري. قال أبو القاسم بن عساكر (¬6): هذه الرواية غير محفوظة، في إسنادها مجاهيل، وإنما كان ذلك يوم اليرموك. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 282. (¬2) مسند أحمد (18547). (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 120. (¬4) التاريخ الكبير 2/ 258، ولم يذكر ذلك البخاري في "التاريخ الصغير" بل قال فيه 1/ 97: شهد صفّين مع علي - رضي الله عنه -. (¬5) وذكر ذلك أيضًا أبو أحمد الحاكم فيما قاله الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 2/ 575، وابنُ حبَّان في "مشاهير علماء الأمصار" ص 25، وذكر ذلك ابنُ عبد البر بصيغة التضعيف في "الاستيعاب" ص 865. (¬6) في "تاريخ دمشق" 19/ 197 (مصورة دار البشير).

قال ابن عساكر: وقد قال الزُّهري: إنه أسلم يوم الفتح. وقيل: إنه وُلد في العام الذي وُلد فيه ابنُ عبَّاس]. وشهد اليرموك والجابية مع عمر؛ [قال: ورأيتُ الرجلَ يومَ اليرموك يسقطُ فيموت] (¬1). وهو الذي رُوي عنه أنَّه كان مع عمر - رضي الله عنه - بالجابية، فجاء رجل فقال: إن عبدي زَنَى بامرأتي، وهي معترفة. قال: فقال لي: اذْهَبْ في نفر، فسَلْ امرأة هذا. قال: فجئتُ إلى باب خبائه، وإذا بجارية حديثة السِّنِّ، فأخبرتُها بما قال زوجُها، وقلت: إن كنتِ لم تفعلي فلا بأس عليكِ. فصمتت ساعة ثمَّ قالت: واللهِ لا أجمعُ بين الفاحشةِ والكذب. ثمَّ اعترفت، فرجمها عمر بالجابية. وقال أبو واقد: تابعنا الأعمال، فلم نجد شيئًا أبلغَ في طلب الآخرة من الزُّهد في الدنيا (¬2). [ذكر وفاته: حكى ابن سعد عن الواقدي قال: ] مات أبو واقد بفَخّ، بمكة (¬3)، سنة ثمان وستين وهو ابنُ ثمانٍ وثمانين سنة، أو خمسٍ وثمانين. وقيل: ابن سبعين (¬4). ودفن بمقبرة المهاجرين. [قال: ] وإنَّما سمِّيت مقبرةَ المهاجرين؛ لأنَّ كلَّ من هاجر إلى المدينة ثمَّ جاء حاجًّا أو معتمرًا، فمات بمكة؛ دفن بها (¬5). ¬

_ (¬1) كلُّ ما سلف بين حاصرتين من أول الترجمة، من (ص) وبعضه في (م). وينظر "تاريخ دمشق" 19/ 192 و 197 (مصورة دار البشير). (¬2) تاريخ دمشق 19/ 197. (¬3) فَخّ: وادٍ بمكة. ولم تجوَّد اللفظة في النسخ، والمثبت من "الطبقات" 5/ 121. وينظر "معجم البلدان" 4/ 237 - 238. (¬4) في (ص): تسعين. (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 121.

أبو شريح خويلد بن عمرو

[وفيها دُفن عبد الله بن عُمر، وغيره] (¬1). وأسند الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [أخرج له الإمام أحمد في "المسند" سبعة أحاديث، منها اثنان في الصحيح، أحدهما متفق عليه، والثاني لمسلم. وقال الإمام أحمد بإسناده عن عُبيد الله بن عَبْد الله] (¬2) أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبا واقد الليثيَّ: ما كان يقرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في العيد؟ فقال: بـ"ق" و"اقتربت". انفرد بإخراجه مسلم. وروى أبو واقد عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما-، وروى عنه ابنُ المسيب، وعُروة بنُ الزبير، وعطاء بنُ يسار. وقيل: إن أبا سعيد الخُدري روى عنه. وروى عنه عمر - رضي الله عنه - هذا الحديث. [وليس في الصحابة من كنيتُه أبو واقد غيره، وغير أبي واقد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3). أبو شُريح خُويلد بن عَمرو (¬4) الخُزاعي الكعبي، من الطبقة الثالثة من المهاجرين. أسلم قبل الفتح، وكان حامل لواء بني كعب بن خُزاعة يوم الفتح (¬5)، ومات بالمدينة في هذه السنة (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) مسند أحمد (21896)، ومن قوله: أخرج له أحمد. . . إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص) (م) ووقع بدله في (أ) و (ب) و (خ) قوله: ومن مسانيده. . . (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 282. وما بين حاصرتين من (ص). (¬4) في (أ) و (ب) و (خ) و (م): عُمر، وهو خطأ. (¬5) في (ص): وكان يحمل لواء خزاعة يوم الفتح، وكان لهم ثلاثة ألوية، فكان يحمل أحدها، وهو لواء بني كعب بن خزاعة. وعبارة "الطبقات" 5/ 199: وكان يحمل أحد ألوية بني كعب من خزاعة الثلاثة يوم فتح مكة. (¬6) طبقات ابن سعد 5/ 199.

زيد بن أرقم

وأسند عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[أحاديث. وأخرج له الإمام أحمد في "المسند" ستة أحاديث (¬1)، منها ثلاثة في "الصحيحين"؛ اتفقا على اثنين، وانفرد البخاري بحديث. وقال الإمام أحمد بإسناده عن سعيد المقبريّ، عن أبي شُريح الكعبيّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: "واللهِ لا يؤمن بالله" (¬2). قالها ثلاثًا. قالوا: ومَنْ ذاك يا رسول الله؟ قال: "الجارُ لا يأمنُ جارُه بوائقَه". قالوا: وما بوائقُه؟ قال: "شرُّه". انفرد بإخراجه البخاري (¬3). [وليس في الصحابة من كنيتُه أبو شُريح سوى اثنين. أحدهما هذا، والثاني: أبو شُريح الحارثي، واسمه هانئ بن يزيد بن نَهِيك، له رؤية] (¬4). زيد بن أرقم ابن زيد بن قيس بن النُّعمان الأنصاري، من الطبقة الثالثة من الخزرج (¬5). [وقال ابن سعد: ] (¬6) واستصغره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد، فردَّه [فيمن ردَّهم: زيد بن أرقم، وعبد الله بن عُمر، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن حبنة -وحبنة أمه، وهو جدّ أبي يوسف القاضي، وسنذكره- وزيد (¬7) بن جارية -بجيم- وجابر بن عبد الله، وليس بالذي يُروى عنه الحديث. ¬

_ (¬1) ينظر مسند أحمد (16370) - (16378). (¬2) في "المسند" (16372): "واللهِ لا يؤمن". دون لفظة: بالله. ولعل إيرادها سبق قلم من المختصر، فلم ترد أيضًا في لفظ البخاري كما سيرد. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص)، وبعضه في (م). (¬3) صحيح البخاري (6016). ولفظه مثلُ لفظ أحمد دون قوله آخره: قالوا: وما بوائقه؟ قال: شرّه. (¬4) ينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 276. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬5) بعدها في (ص): "قال ابن سعد: وقيل أبو أنيس (كذا) أو أنيسة، وقيل: أبو عامر، أو أبو عمرو". والكلام ليس في "طبقات" ابن سعد. وذكر ابن عساكر في "تاريخه" 6/ 534 (مصورة دار البشير) كناه، وليس فيها "أبو أنيس". (¬6) ما بين حاصرتين من (ص)، والخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 6/ 538 (مصورة دار البشير) من طريق ابن سعد، وليس في "الطبقات". (¬7) في (ص) (والكلام منها): سعد، بدل: زيد. وهو خطأ.

وقال ابن سعد: ] وغزا زيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة غزاة، أوّلها المريسيع. [وقيل: تسع عشرة] (¬1). وهو الذي سمع عبد الله بن أُبيّ المنافق يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلّ. [وقد ذكرنا القصة] في غزاة المُرَيسِيع. [وقال الواقدي: ] نزل زيد الكوفة، وبنى بها دارًا في كِنْدة، وتوفي بها في هذه السنة (¬2). وكان له من الولد: قيس، وسُويد؛ أمُّهما هند بنت يزيد من كِنْدة، وقد انقرض نسلُه. أسند زيد الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[قال ابن البرقي: أسندَ سبعين حديثًا، أُخرج له في "الصحيحين" اثنا عشر، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بستة (¬3). وأخرج له الإمام أحمد سبعة وعشرين حديثًا (¬4)، منها حديث: "من كنتُ مولاه، فعليّ مولاه" (¬5)، وحديث: "سُدُّوا الأبواب كلَّها إلا بابَ عليّ" (¬6). وقد ذكرناه، ومنها حديث العيد والجمعة] (¬7). ومن مسانيده: قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: حدَّثنا عبد الرحمن، حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن إياس بن أبي رَمْلَة الشاميّ قال: سأل معاويةُ زيدَ بنَ أرقم: هَلْ شهدتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عِيدَينِ اجتمعا في يوم واحد؟ قال: نعم، صلى العيد أوَّلَ النهار، ثمَّ رخَّصَ في الجمعة وقال: "من شاء أن يُجَمِّعَ فليُجَمِّع" (¬8). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 357. وينظر "مسند" أحمد: (19282) و (19335) و (19339). (¬2) تاريخ دمشق 6/ 536 و 537 (مصورة دار البشير). (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 365 و 392. (¬4) ينظر "مسند" أحمد (19263) - (19348). (¬5) مسند أحمد (19302) و (19325) و (19328). (¬6) مسند أحمد (19287). قال محققوه: إسناده ضعيف، ومتنه منكر، ونقلوا عن ابن الجوزي أنَّه موضوع. (¬7) الكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬8) مسند أحمد (19318). وقوله: يُجَمِّع؛ بالتشديد، من التجميع، أي: يصلي الجمعة. قاله السندي (في حواشي المسند).

عامر بن عبد الله بن عبد القيس

[قلت: وقال محمَّد رحمه الله في "الجامع الصغير" في أول باب صلاة العيدين (¬1): عيدان اجتمعا في يوم واحد؛ فالأول سُنَّة، والثاني فريضة، ولا يُترك واحدٌ منهما. وقال الإمام أحمد (¬2): إذا حضر العيد؛ سقط عنه فرض الجمعة. وحكاه عن عمر، وعثمان، وجماعة من الصحابة. واحتجَّ بحديث ابن أرقم. وقال العلماء: لا تُغني صلاة العيد عن صلاة الجمعة؛ لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ولأنَّهما صلاتان مختلفتان في وقتين مختلفين، لا يدخل أحدُهما في الآخر. وأمَّا حديث زيد فخبرُ واحدٍ وردَ على مخالفة الكتاب. ويحتمل أنَّه كان في الابتداء، ثمَّ نُسخ. وقال ابن عساكر (¬3): رَوَى عن زيد: عبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى، وأبو إسحاق السَّبِيعي، وطاوس اليماني، وأبو عَمرو الشيباني، والنَّضْر بن أنس بن مالك. وليس في الصحابة من اسمه زيد بن أرقم غيره] (¬4). عامر بن عبد الله بن عبد القيس العنبري التميمي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة، وكنيتُه أبو عبد الله، وقيل: أبو عَمرو (¬5)، وكان زاهدًا عابدًا. [وهو الذي نفاه عثمان بن عفان من البصرة إلى الشام لمَّا أنكر عليه، وإن معاوية أحسن إليه لما رأى من عبادته وورعه. وقال البلاذري: عزله عثمان بن عفان من البصرة إلى المدينة (¬6)، فأعظم الناس إزعاجه لما كان عليه من العبادة والزهد، فردَّه إلى البصرة. وقد ذكرنا القصة في سنة ثلاث وثلاثين. ¬

_ (¬1) الجامع الصغير ص 88 - 89، ومحمد: هو ابنُ الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة. (¬2) ينظر "المغني" 3/ 242. (¬3) تاريخ دمشق 6/ 534 (مصورة دار البشير). (¬4) من قوله: قلت: وقال محمَّد. . . إلى هذا الموضع (وهو الواقع بين حاصرتين) من (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 102. وينظر "أنساب الأشراف" 11/ 526. (¬6) كذا في (ص) و (م) (والكلام منهما) ولعلها: واستقدمه إلى المدينة. ينظر "أنساب الأشراف" 11/ 527.

وقال ابن سعد: ] (¬1) أدرك [عامرٌ] عمرَ بن الخطّاب. وهو من الصدر الأول، ولكنه اشتغل بالعبادة عن الرواية. وقال ابنُ سعد عن محمَّد بن واسع: كان عامرُ بنُ عبد الله يأخذ عطاءه من عمر ألفين، فلا يمرُّ به سائل إلا أعطاه، ثمَّ يأتي أهله، فيُلقيه إليهم، فيعدُّونه، فيجدونه ألفين، لم ينقص منه شيء (¬2). وكان كعب الأحبار إذا رآه يقول: هذا راهب هذه الأمة (¬3). وعامر من الثمانية الذين انتهى إليهم الزُّهد في الدنيا. قال علقمة [بن مرثد]: كان عامر يصلي، فيتمثَّل له إبليس في صورة حيَّة، فيدخل من تحت قميصه فيخرج من جيبه، فما يمسُّه. فقيل له: أما تُنَحِّي عنك هذه الحيَّة؟ فيقول: إني لأستحي من الله أن أخاف شيئًا غيرَه. قيل له: فإن الجنَّة تُدركُ بدون هذا الذي تصنع، وإنَّ النار لتندفع بدون ذلك. فقال: واللهِ لأجتهدنَّ، فإن نجوتُ فبرحمة الله، وإن دخلتُ النار فبعد جهدي (¬4). [قال: ] فلما احتُضر بكى، فقيل له: أجزعت من الموت؟ ! فقال: لا واللهِ [ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على دنياكم الفانية] ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام الليالي في الشتاء (¬5). وكان يقول: إلهي، في الدنيا الهموم والأحزان، وفي الآخرة الحساب والعذاب، فأين الرَّوْحُ والفَرَح؟ (¬6) ¬

_ (¬1) من قوله: وهو الذي نفاه عثمان. . . إلى هذا الموضع (وهو الواقع بين حاصرتين) من (ص) و (م). وينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 102. (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 102. وينظر "تاريخ دمشق" ص 356 (جزء فيه قسم من حرف العين - طبعة مجمع دمشق). (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 109، وتاريخ دمشق ص 329 و 339. وينظر "حلية الأولياء" 2/ 87. (¬4) صفة الصفوة 3/ 201 - 202. (¬5) ينظر: طبقات ابن سعد 5/ 110 - 111. وتاريخ دمشق ص 368 - 369، وصفة الصفوة 3/ 202. وما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬6) صفة الصفوة 3/ 202.

قال المعلَّى بن زياد: كان عامر بنُ عبد قيس قد فرض على نفسه في كل يوم ألف ركعة، فكان إذا صلَّى العصر؛ جلس وقد انتفخت قدماه [أو ساقاه] من طول القيام، فيقول: يا نفس، لهذا خلقتِ، وبه أُمرتِ، يوشكُ أن يذهبَ هذا العَناء (¬1). [ثم يقول لنفسه: قومي يا مأوى كلِّ سوء، فوعزَّة ربي لأزحفنَّ بك زحوف البعير، ولئن استطعت أن لا يمسَّ الأرض من زُهمك لأفعلنَّ] (¬2). وكان يتلوَّى على الفراش كما تتلوَّى الحبَّةُ على المِقْلَى (¬3) ويقولُ: اللهمَّ إنَّ النارَ قد منعتني من النوم، فاغفر لي (¬4). [وروى ابنُ أبي الدنيا أنَّه هبط واديًا يقال له: وادي السباع، وفي الوادي سباع كثيرة، وفيه عابد يقال له: حُمَمَة، حبشي. فقاما أربعين يومًا يعبدان الله، لا يكلِّمُ واحد منهما الآخر؛ إذا جاء وقت الفريضة صلَّيا، ثمَّ أقبلا يتطوَّعان. فقال عامر بن عبد الله بعد الأربعين: من أنت؟ فقال: حُمَمَة. فقال: لئن كنتَ حُممة الذي وُصف لي؛ لأنت أعبدُ أهل الأرض. فأخْبِرْني عن أفضل خصلة فيك. فقال: (إني لمقصِّر، و) لولا مواقيت الصلاة (تقطعُ عليَّ القيامَ والسجودَ) لأحببتُ أن أكون عمري ساجدًا مفترشًا وجهي لربّي حتى ألقاه، فمن أنت؟ فقال: عامر بن عبد قيس. فقال: لئن كنتَ الذي ذُكر لي، فأنت أعبدُ الناس، فأخبرني بأفضل خصلة فيك؟ قال: إني لمقصِّر، ولكن واحدة عظمت؛ هيبةُ الله في صدري، حتى ما أخاف شيئًا غيره. قال: واكتنفته السِّباع، ووثبَ سَبُع، فوضع يده على كتفه، وعامر يقرأ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103]. فلما رآه السَّبُع لا يكترث له؛ ذهب وتركه. قلت: وحُمَمَة هذا من الصحابة، من الطبقة الخامسة، وقد ذكرناه في السنة الحادية والعشرين في أيام عمر - رضي الله عنه -] (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق ص 340، وصفة الصفوة 3/ 202، وما بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬2) ما بين حاصرتين من (ص) و (م)، وهو في المصدرين السابقين. (¬3) في "تاريخ دمشق" ص 340: الحَبُّ على القلي. (¬4) تاريخ دمشق ص 340، وصفة الصفوة 3/ 202. (¬5) من قوله: وروى ابن أبي الدنيا أنَّه هبط واديًا. . . إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص) و (م)، وما جاء فيهما بين قوسين عاديين فمن "تاريخ دمشق" ص 348 (طبعة مجمع دمشق - جزء بدون رقم)، و"صفة الصفوة" 3/ 202. والخبر فيهما.

عبد الله بن العباس بن عبد المطلب

وكان عامر أولَ داخل إلى المسجد، وآخرَ خارج، وما رؤيَ متطوِّعًا فيه قطّ. و[قال ابن أبي الدنيا: ] قال له رجل: يا عامر، قفْ أُكلِّمْك. فقال: أَمْسِكِ الشمس. قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: الف فرس المجاهدة الركض فما يصلح لركوبه إلا فارس ميدان السباق لا يحتمل الحديث (¬1). قيل: إن عامر - رضي الله عنه - مات في سنة تسع وستين، وقيل قبل ذلك، وقيل بعده، والله أعلم. عبد الله بن العبَّاس بن عبد المطلب [ابن هاشم]- رضي الله عنه -، ابنُ عمِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمُّه أمُّ الفضل، وهي لُبابة الكبرى بنت الحارث بن حَزْن الهلاليَّة، وهو من الطبقة الخامسة ممَّن قُبضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أحداثُ الأسنان. [وقد ذكرنا أنَّه] وُلد في الشِّعب وبنو هاشم محصورون قبل خروجهم [منه] بيسير، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: بسنتين. و[قال مجاهد: ] حنَّكه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بريقه، ولم يحنِّك بريقه أحدًا سواه (¬2). و[قال الواقدي: ] قُبضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ ثلاثَ عشرةَ سنة (¬3). [وقال هُشيم: كان ابنَ عشر سنين. قال الواقدي: والأوَّل أصح، ألا ترى أنَّه قال: راهقتُ الاحتلام في حجَّة الوداع. فكيف يكونُ ابنَ عشر سنين؟ ! (¬4). وقرأتُ المُحْكَمَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يعني المُفَصَّل (¬5). ¬

_ (¬1) كذا وقع في النسخ، غير (م) ولم يتبيَّن لي الكلام. وجاء عليها في (خ): كذا. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 12/ 294. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 321. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 321، ومختصر تاريخ دمشق 12/ 294. (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 321. وينظر "صحيح" البخاري (5035)، وفيه قول سعيد بن جبير: إن الذي تدعونه المفصَّل هو المحكم. قال ابن حجر في "فتح الباري" 9/ 84: المراد بالمُحْكَم الذي ليس فيه منسوخ.

وأخرج البخاري عن ابن عباس؛ قال (¬1): قيل له: ابنَ كم كنتَ يومَ قُبضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: مات وأنا خَتِين. قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك. وقال الإمام أحمد بن حنبل: كان له ثلاث عشرة سنة] (¬2). وكنيتُه أبو العبَّاس، وقيل: أبو الفضل، وقيل: أبو هاشم (¬3). ذكر صفته: [قال ابن منده: ] كان أبيضَ طُوالًا مُشربًا صُفرة، جسيمًا وسيمًا، صَبِيح الوجه، له وَفْرَةٌ يخضبها بالحِنَّاء وكان يصفِّر لحيته، وقيل: كان لا يغيِّر شيبه، وكان يلبس الحِبَرَة (¬4)، ويتختَّم في يساره، وكان يلبس الخَزّ، وكان له مِرْفَقَة (¬5) من حرير، وكان يدخل الحمَّام (¬6). ذكر طرف من أخباره [ومناقبه]: [قال علماء السِّيَر: ] كان [عبد الله] يسمَّى حَبْرَ الأمَّة، والبحر؛ لغزارة علمه، وترجمان القرآن. [كذا قال ابنُ مسعود ومجاهد] (¬7). ودعا له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ [قال أحمد: حدثنا هاشم بإسناده قال: سمعتُ عُبيد الله بن أبي يزيد يقول: قال ابن عباس: أتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الخلاء، فوضعتُ له وَضوءًا، فلما ¬

_ (¬1) ينظر "صحيح" البخاري (6299) (6300). (¬2) من قوله: وقال هشيم: كان ابن عشر سنين. . .، إلى هذا الموضع، وهو ما بين حاصرتين من (ص). ووقع بدلًا منه في (أ) و (ب) و (خ) قوله: "راهقت الاحتلام في حجة الوداع، وقرأتُ المحكم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -". والكلام ليس في (م). (¬3) في (خ): الهاشم. (¬4) الحِبَرَة: بُرْد من قطن يصنع باليمن، والجمع حِبَر، مثل عِنَبَة وعِنَب. ولم أقف على من ذكر أن ابن عباس - رضي الله عنه - كان يلبس الحِبَرَة. (¬5) أي: مخدَّة. (¬6) ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 342 - 343 وفي قوله: وكان يدخل الحمَّام، اختصار مخلّ، فلفظ الخبر عند ابن سعد: إنه لم يكن يدخل الحمَّام إلا وحدَه، ولم يكن يدخل إلا وعليه ثوب صفيق (أي: كثيف النسج) ويقول: إني لأستحي من الله أن يراني متجردًا في الحمَّام. (¬7) طبقات ابن سعد 6/ 331 - 332.

خرج قال: "من وضعَ هذا؟ ". قلت: أنا. أو: فقلت: ابن عباس]، فقال: "اللهمَّ فَقِّهْهُ في الدِّين". [أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وفي رواية لأحمد: ] "وعَلِّمْهُ التأويل" (¬2). [وقال أبو مسعود الدمشقي: ما رأينا ذكر "التأويل" في الكتابين. يعني في البخاري ومسلم. وأخرجه البخاري، وفيه: قال: فضمَّني إلى صدره وقال: "اللهمَّ علِّمْهُ الحكمة - أو: الكتاب" (¬3). قال: وتوفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جمعتُ المُحْكَم. قال ابنُ المسيِّب: فقلتُ له: وما المُحْكَمُ؟ قال: المُفَضَّل. وفي "الصحيحين" عن ابن عبَّاس] قال: بتُّ عند خالتي ميمونة وعندها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام في الليل، فتوضَّأ، وصلَّى، فجئتُ من عن يساره، فأقامني عن يمينه [وهو حديث طويل] (¬4). وأردفَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفَه وقال: "يا غلام [-أو: يا غُليم-] ألا أعلِّمُك كلماتٍ ينفعك اللهُ بهنّ؟ احفظ اللهَ يحفظك (¬5)، احفظ اللهَ تَجِدْه أمامَك، تعرَّف إليه (¬6) في الرَّخاء؛ يتعرَّفْ إليك (¬7) في الشِّدَّة. الحديث (¬8). وقدَّمه ليلةَ المزدلفة مع ضَعَفَةِ أهلِه (¬9). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3022)، وصحيح البخاري (143)، وصحيح مسلم (2477). ولفظه عند أحمد ومسلم: "اللهمَّ فَقِّهْهُ". واللفظ أعلاه لفظ البخاري. (¬2) مسند أحمد (2397). (¬3) صحيح البخاري (75) و (3756). (¬4) ينظر "صحيح" البخاري (697) و (698) و (699). (¬5) في (م): تحفظ. (¬6) في (ص): إلى الله. (¬7) في (خ): يعرفك. (¬8) مسند أحمد (2803). (¬9) صحيح البخاري (1678)، وصحيح مسلم (1292): (301).

حديث نَظَرِهِ إلى جبريل - عليه السلام -: قال [أحمد بإسناده عن عمَّار بن أبي عمَّار] عن عبد الله بنِ العبَّاس - رضي الله عنهما -[قال]: كُنْتُ مع أبي العبَّاس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجل يناجيه، فكان كالمُعْرِض عن أبي. فلمَّا خرجنا قال: يا بُنيّ، الم تَرَ إلى ابن عمِّك كالمُعرض عني؟ [قال: ] فقلت: يا أبة: إنه كان عنده رجلٌ يناجيه. [قال: ] ورجعنا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبي: يا رسول الله، قلتُ لعبد الله كذا وكذا، فأخبرني أنَّه كان عندك رجل يناجيك، فهل كان عندك أحد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل رأيتَه يا عبد الله؟ " قلت: نعم. قال: "ذاك جبريل، وهو الَّذي شغلني عنك" (¬1). وقال ابن عباس (¬2): رأيتُ جبريل مرَّتين، ودعا لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة مرتين. وقال: "اللهمَّ بارِكْ فيه، وانْشُرْ منه" (¬3). قال: وقال [لي] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتَ جبريل؟ " قلتا: نعم. فقال: "أما إنك ستفقدُ بصرَك". فذهب بصرُه فِي آخر عمره - رضي الله عنه - (¬4). ذكر احترام عُمر [بن الخطاب]- رضي الله عنه -، ونحو ذلك. [قال الزبير بن بكَّار: ] كان عمر وعثمان - رضي الله عنهما - يدعوانِه فيستشيرانِه، فيُشير عليهما، ويُجلسانِه مع أهل بدر لفضله. وقال [ابن سعد بإسناده عن سعيد بن جُبير، عن] ابن عباس [قال]: كان عمر يأذنُ لأهل بدر، ويأذنُ لي معهم، فقال له: تأذنُ لهذا الفتى معنا، وفي أبنائنا مَنْ هو مثلُه! فقال عمر: إنه مَنْ قد علمتُم. [قال: ] فأَذِنَ لهم ذاتَ يوم، وأَذِنَ لي معهم، وسألهم عن معنى قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} السورة. فقالوا: أمرَ الله تعالى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر ربَّه ويتوبَ إليه إذا رأى هذه العلامة فِي أمَّته. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (2847). وكلُّ ما بين حاصرتين من (ص)، وبعضه في (م). (¬2) فِي (ص) و (م): وأخرج ابن سعد بمعناه عن ابن عباس قال ... وهو فِي "طبقاته" 6/ 325. (¬3) الاستيعاب ص 424، والتبيين فِي أنساب القرشيين ص 157، وصفة الصفوة 1/ 747. (¬4) الاستيعاب ص 426.

[قال: ] فقال لي: ما تقولُ أنتَ يا ابنَ عباس فيها؟ [قال: ] فقلت: ليس كما قالوا، ولكنَّ الله أخبر رسوله بحضور أجله. فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة {وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} فذلك علامةٌ على دُنُوّ أَجَلِك. فقال عمر: ما أعلمُ منها إلا ما قلتَ. ثم التفتَ إليهم فقال: أتلُومونني عليه بعد ما ترون؟ ! (¬1) وقال ابنُ سعد (¬2): وسألهم عن ليلة القَدْر، فقال بعضهم: هي فِي العشر الأواخر؟ فِي حادية وعشرين، وثالثة وعشرين. فقال: يا ابن عباس، ما تقول أنت؟ فقال: الله أعلم. فقال عُمر: قد علمنا أنَّ الله يعلم، وإنما نسالُك عن علمك. فقال ابن عباس: إن الله وتْرٌ يحبُّ الوتْر، خلق السموات سبعًا [والأرضين سبعًا] والأيام سبعًا، وجعلَ الطواف بالبيت سبعًا، وبين الصفا والمروة سبعًا، ورَمْيَ الجمار سبعًا، وخلق الإنسان من سبع، وجعل رزقَه فِي سبع. فقال عمر - رضي الله عنه -: وكيف؟ فقال: [لأنَّ الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالةٍ مِنْ طِينٍ} فذكر السبعة أشياء، ثم قال: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} الآية. إلى قوله: {وَفَاكِهَةً} فهذه سبعة {وَأَبًّا} وهو علف البهائم، فكذا ليلةُ القَدْر؛ فِي السابعة والعشرين من رمضان (¬3). فقال له عمر رضوان الله عليه: أحسنتَ وأصبتَ. [هذه رواية ابن سعد]. وقال ابن عباس (¬4): سورة القدر تسعة أحرف، فإذا كرّرت [ثلاثًا] كانت سبعةً وعشرين حرفًا. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 327 - 328 وما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). والحديث بنحوه فِي "صحيح" البخاري (4970). (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 328. (¬3) كذا فِي النسخ، وقد نُسب الخبر فيها إلى ابن سعد كما سلف، والذي فِي طبقات" ابن سعد 6/ 328 - 329: وأمَّا ليلةُ القدر فما نراها - إن شاء الله - إلَّا ليلة ثلاث وعشرين يمضين وسبع يبقين. وكذا هو فِي "أنساب الأشراف" 3/ 39 - 40، و"تاريخ دمشق" ينظر "مختصره" 12/ 303. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص) و (م). وينظر "مستدرك" الحاكم 3/ 539. (¬4) فِي (ص) و (م): وروى عكرمة عن ابن عباس أنَّه قال.

وفي رواية ابن جبير عنه أنَّ الكلمة السابعة والعشرين (¬1) هي قوله تعالى: {هِيَ}. [وحكى ابن سعد عن الشعبي أن العبَّاس قال لابنه عبد الله (¬2): يا بُنيّ، إني أرى هذا الرجل -يعني عمر- قد أدناك وأكرمك، والحقك بقوم لمست مثلهم، فاحفظ عني ثلاثًا: لا يُجرِّبنَّ عليك كذبًا، ولا تفشينَّ له سرًّا، ولا تغتابنَّ عنده أحدًا. قال هشام: ] (¬3) وكان عمر رضوان الله عليه يقول: ابنُ عباس فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول (¬4). وكان إذا أشكل عليه أمر يقول له: غُصْ يا غوَّاص (¬5). وقال له عمر رضموان الله عليه: واللهِ إنَّك لأَصْبحُ فتيانِنا (¬6) وجهًا، وأحسنهم عقلًا، وأفقهُهُم فِي كتاب الله تعالى. وكان يقول للصحابة: أَعَجَزْتُم أنْ تأتوا بمثل ما يأتي به هذا الغلام الَّذي لم تجتمع شؤونُ رأسه (¬7)؟ ! [وقال أبو عمرو بن العلاء: ] نظو الحطيئة الشاعر يومًا إلى ابنِ عباس فِي مجلس عمر بن الخطاب رضوان الله عليه عاليًا على الناس، فقال: مَنْ هذا الَّذي فَرَعَ (¬8) الناسَ بعلمه، ونزلَ عنهم بسِنَه؟ ! فتالوا. عبدُ الله بنُ عبَّاس (¬9) الَّذي يقول فيه حسان بن ثابت: ¬

_ (¬1) فِي (أ) و (ب): وقال: الكلمة السابعة والعشرين (كذا) ... وسقطت بعض الكلمات من (خ). والمثبت من (ص)، ونحوه فِي (م). (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 329. (¬3) من قوله: وحكى اين سعد، .. إلى هذا الموضع (وهو ما بين خاصرتين) من (ص) و (م). (¬4) نُسب الخبر فِي (ص) لابن سعد، وليس هو فِي "طبقاته". وأخرجه الحاكم بنحوه فِي "المستدرك" 3/ 539 - 540 من طريق الزهري، عن عمر. وينظر "حلية الأولياء" 1/ 318، و"مختصر تاريخ دمشق" 12/ 304، و"صفة الصفوة" 1/ 749. (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 329. (¬6) فِي (أ) و (ب) و (خ): فينا، والخبر ليس فِي (ص) و (م) والمثبت من"صفة الصفوة" 1/ 748، و"المنتظم" 6/ 73. (¬7) المستدرك 3/ 539 (والقول فيه بإثر خبر ليلة القدر السالف)، وصفة الصفوة 1/ 749. قال ابن الجوزي بإثره عن ابن إدريس: وشؤونُ رأْسه: الشيب الذي يكون فِي الرأس. (¬8) أي: علا. ووقع فِي "الاستيعاب" ص 425: بَرَعَ. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬9) بعدها فِي "الاستيعاب "ص 425: فقال فيه أبياتًا ... فذكر بعضها ثم قال: وفيه يقول حسان ...

إذا ما ابنُ عبَّاسٍ بدا لك وَجْهُهُ ... رأيتَ له فِي كلِّ أحواله فَضْلا إذا قال لم يترُكْ مقالًا لقائلٍ ... بمنتظماتٍ لا تَرَى بينها فَصْلا كَفَى وشَفَى ما فِي النفوس فلم يَدَعْ ... لِذي إرْبَةٍ فِي القول جِدًّا ولا هَزْلا سَمَوْتَ إلى العَلْيَا بغير مَشقةٍ ... فنِلْتَ عُلاها (¬1) لا دَنِيًّا ولا وَغْلا خُلقتَ حليفًا للمروءة والنَّدى ... مليحًا ولم تخلق كَهَامًا ولا خَتْلا (¬2) ومنها: ظريفُ السَّجايا حلوةٌ حركاتُهُ ... كأنَّ له فِي كلِّ جارحةٍ عقلًا وهذا البيتُ من أبدع بيتٍ قالته العرب، وقد انتحله بعضُ المتأخّرين، وليس له (¬3). قال الزُّبير بن بكَّار: رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومًا ابنَ عباس مقبلًا، فقال: "اللهمَّ إني أحبُّه فأحبَّه" (¬4). وكان يُجلسه فِي حِجْره، فيقول: "هذا شيخ قريش" (¬5). [ذكر نبذة من كلامه]: قال [أبو نُعيم بإسناده عن] عبد الله بن دينار: إنَّ رجلًا سال ابنَ عمر عن قوله تعالى: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] قال له: اذهب إلى ذلك الشيخ، فسله. يعني ابنَ عباس. ثم عُدْ وأخبرني ما قال ابنُ عباس. فذهب إلى ابن عبَّاس، فسأله، فقال: كانت السماوات رَتْقًا لا تُمطر، وكانت الأرضُ رَتْقًا لا تُنبت، ففتقَ هذه بالمطر، وفَتَقَ هذه بالنبات. فرجع الرجل، فأخبر ابنَ عمر، فقال: إنَّ ابنَ عبَّاس قد أوتيَ علمًا، صدق (¬6). ¬

_ (¬1) فِي (أ): ذراها. (¬2) فِي "الاستيعاب" ص 425: بليجًا ولم ... خبلا. (¬3) من قوله: ومنها: ظريف السجايا ... إلى هذا الموضع، من (أ). (¬4) التبيين فِي أنساب القرشيين ص 157. (¬5) نسبه الزَّرقاني فِي "شرحه على الموطأ" 1/ 249 لأبي زرعة الرازيِّ فِي "العلل". وضعَّف إسناده الذهبيُّ فِي "سير أعلام النبلاء" 3/ 341. (¬6) حلية الأولياء 1/ 320، وصفة الصفوة 1/ 752 - 753، ومختصر تاريخ دمشق 12/ 306. وما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م).

[قلت: وهذا أحدُ الأقوال.] وقال شقيق (¬1): خطب ابن عباس وهو على الموسم، فافتتح سورة البقرة، فجعل يقرأ ويُفسِّر، فجعلتُ أقول: ما رأيتُ ولا سمعتُ كلام رجلٍ مثلَه، لو سمعَتْهُ فارسٌ والروم لأسلَمَت (¬2). [قال: وكان طاوس يقول. كان ابنُ عباس قد بَسَقَ (¬3) فِي العلم كما تبسق النخلة السَّحُوق على الوديّ الصغار (¬4). وحكى الموفَّق رحمه الله (¬5) أن امرأةً ولَدَتْ لستة أشهر، فهمَّ عمر برجمها، فقال له ابنُ عبَّاس: ليس عليها ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَينِ} [لقمان: 14]، فإذا أسقطنا العامين من ثلاثين شهرًا، بقي ستة أشهر مدةُ الحمل. فصار عمر إلى قوله. قال الموفَّق: وقيل: إنَّ القائل لذلك عليُّ بن أبي طالب. قلت: وهو الأصحّ. وقد ذكرنا أنَّ عليًّا قال ذلك لعثمان] (¬6). وقال عكرمة: كان عمر - رضي الله عنه - يُعِدُّ ابنَ عبَّاس للمعضلات، مع اجتهاد عمر ونظره. وقال أبو صالح: لقد رأيتُ من ابن عبَّاسٍ مجلسًا، لو أنَّ [جميع] قريش فخرت به لكان فخرًا، رأيتُ الناسَ قد اجتمعوا إليه حتَّى ضاقَ بهم الطريق، فدخلتُ عليه، فأخبرتُه، فقال: ضَعْ لي وَضوءًا. فوضعتُ له، فتوضأ، ثم جلس وقال: اخْرُجْ فقل: ¬

_ (¬1) فِي (ص) و (م): وروى أبو نعيم أيضًا عن شقيق قال ... وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬2) حلية الأولياء 1/ 324، وصفة الصفوة 1/ 753. (¬3) فِي (ص) (والكلام منها، وهو ما بين حاصرتين): يسبق. والمثبت من "صفة الصفوة" 1/ 753، و"مختصر تاريخ دمشق 12/ 308. وبَسَقَ النخلُ: طال (¬4) النخلة السَّحُوق، أي: الطويلة، والوَدِيّ: صفار الفسيل، الواحدة: وَدِيَّة. (¬5) التبيين فِي أنساب القرشيين ص 158. (¬6) من قوله: قال: وكان طاوس ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). وقول طاوس فِي "صفة الصفوة" 1/ 753.

من كان يُريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أراد منه؛ فليَدْخُلْ. فخرجتُ، فآذَنْتُهم، فدخلُوا حتَّى ملؤوا البيت والحُجْرَة، فما سالوه عن شيء إلَّا أخبرهم به وزادَهم. ثم قال: إخوانَكم. فخرجوا، فقال: اخْرُجْ فقل: مَنْ أراد أن يسألَ عن تفسير القرآن وتأويله؛ فليدخُلْ. فدخلوا حتَّى ملؤوا البيتَ والحُجْرَة، فما سألوه عن شيء إلَّا أخبرهم به وزادهم. ثم قال: إخوانَكم. فخرجوا، فقال: اخرجْ فقل: مَنْ أرادَ أن يسألَ عن الحلال والحرام والفقه؛ فليدخُلْ. فدخلوا حتَّى ملؤوا البيت والحُجْرَة، فما سألوه عن شيء إلَّا أخبرهم به وزادهم. ثم قال: إخوانَكم. فخرجوا، فقال: اخْرُجْ، فقُل: مَنْ أرادَ أن يسألَ عن الفرائض والوصايا ونحوها؛ فليدخُلْ. فدخلوا حتَّى ملؤوا البيت والحُجْرَة، فما سألوه عن شيء إلَّا أخبرهم به وزادهم. ثم قال: إخوانكم. فخرجوا، فقال: اخْرُجْ، فقل: مَنْ أراد أن يسألَ عن العربية والشِّعر وكلامِ العرب والغريب، فليدخُلْ. فدخلوا حتَّى ملؤوا البيتَ والحُجْرَة، فما سألوه عن شيء إلَّا أخبرهم به وزادهم. قال أبو صالح: فما رأيت لأحدٍ مثلَ هذا (¬1). وقال أبو صالح: دخل عليه رجل فقال: متى يُبعثُ هذا الرجل؟ فقال: أيُّ الرجال؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قال: حتَّى يبعثَ اللهُ خلقَه. فقال: أنتَ من هؤلاء الجُهَّال الذين ينكرون هذا. فقال: أخرِجوه (¬2). وقرأ عنده قارئ: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [ال عمران: 103] وكان عنده أعرابي فقال: واللهِ ما أنقذهم منها وهو يريد أن يُعيدهم فيها. فقال ابن عبَّاس: خذُوها من غير فقيه (¬3). ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 1/ 750 - 751. وذكره ابن سعد 6/ 134 مختصرًا. (¬2) بنحوه فِي "العقد الفريد" 2/ 408. (¬3) المصدر السابق 3/ 468.

وقال ابنُ جُبير: سأله سائل، فقال: ما تقول فيمن طلَّق امرأته عدد نجوم السماء؟ قال: يكفيه من ذلك كواكب الجوزاء. يعني ثلاثة (¬1). [ذكر بعض واقعاته: قد ذكرنا طرفًا منها فيما تقدَّم. وقال المدائني: قام عَمرو بن العاص فِي موسم من مواسم العرب، فأَطْرَى معاويةَ وبني أمية، وذكر مشاهده بصفين، وكان ابنُ عبَّاس حاضرًا، فقال له: ويحك يا عَمرو! إنك بِعتَ دينك من معاوية، فأعطيتَه أكثر مما أعطاك، ولمَّا صارت مصرُ فِي يدك؛ كدَّرها عليك بالعزل، وأنا مشاهدك (¬2) فِي صفّين، فكنتَ فيها - واللهِ - طويل اللسان، قصير السِّنان، كُشفَتْ فيها عورتُك، وما ثقلت وطأتُك، وكنتَ آخر الخيل إذا أقبلَتْ، وأوَّلها إذا أدبرت، لك يدان، إحداهما لا تبسطها إلى خير، والأخرى لا تقبضها عن شرّ، وأنت ذو وجهين، وَجْهٌ مؤنس، ووجه مُوحش، ولعمري إنَّ مَنْ باع دينه بدنيا غيره لَحَرِيٌّ أن يطولَ ندمُه، ويحك يا عَمرو! ، فيك حقد، ولك رأي، وفيك مكر وحسد، فأصغر عيبٍ فيك أعظم عيب فِي غيرك. وقال ابن عساكر: ] (¬3) قدم ابنُ عبَّاس على معاوية بعد صلحه الحسن - رضي الله عنه -؛ فِي العام الَّذي استُشهد فيه عليٌّ - عليه السلام -، فقال له معاوية: أنشدك الله، هلَّا حدَّثتني عن خليل أبيك أبي سفيان. فقال: تَجَرَ فرَبح، وأسلم فأفلح، وولدَ فأنجح، وكان فِي الشرك رأسًا حتَّى انقضى. [وقال الحافظ: ] وتكلَّم ابن عباس يومًا فأتبعه معاوية بصره، فقال: إذا قال لم يترك مقالًا لقائلٍ ... مُصيبٍ ولم يَطْو اللسانَ على هَجْرِ ¬

_ (¬1) العقد الفريد 2/ 226. (¬2) كذا فِي (ص) والكلام منها. وفي المصدرين الآتِيين: وذكرتَ مشاهدك. (¬3) من قوله: ذكر بعض واقعاته ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). وخبر ابن عباس وعمرو بنحوه فِي "البيان والتبيين" 2/ 300، و"العقد الفريد" 4/ 11 - 12 (ووقعت ترجمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ضمن خرم فِي "تاريخ دمشق" (مصور دار البشير) فلم أُحِلْ عليه).

يُصرِّفُ بالقول اللسانَ إذا انتحى ... وينظر فِي أعطافه نَظَرَ الصَّقْرِ (¬1) وقال معاوية يومًا -وعنده جماعة من بني هاشم؛ فيهم ابنُ عباس-: يا بني هاشم، بابي لكم مفتوح، وخيري لكم ممنوح، فلا يقطعُ خيري عنكم علَّة، ولا يمنعُ بابي دونكم مسألة، إنكم ترون أنكم أحق بما فِي يدي منّي، فإذا أعطيتُكم عطيَّة فيها قضاءُ حقوقكم؛ قلتُم: أعطانا دون حقِّنا، وقصَّر بنا عن قَدْرِنا، فصرتُ كالمسلوب، والمسلوبُ لا حَمْدَ له. فقال له ابنُ عبَّاس: واللهِ ما منَحْتَنَا شيئًا حتَّى سألناه، ولا فتحتَ لنا بابًا حتَّى قَرَعْناه، ولئن قطعتَ عنَّا الخير؛ فاللهُ أوسعُ خيرًا منك. ولئن أغلقتَ بابك دونَنا لنكفَنَّ أنفسنا عنك، ومالك فِي هذا المال إلَّا ما لرجل من المسلمين، ولنا فِي الفيء والغنيمة حقٌّ بكتاب الله تعالى، ولولا ذلك لما أتيناك (¬2). [وقال الهيثم بن عدي: دخل ابن عبَّاس على معاوية وعنده الناس على طبقاتهم، فقال معاوية: رحم الله أبا سفيان والعبَّاس، فلقد كانا صديقين صَفِيَّينِ، فحفظتُ الميتَ فِي الحيّ، والحيَّ فِي الميّت. يا ابن عبَّاس، استعمَلَك عليٌّ على البصرة، واستعملَ أخاك عبيد الله على اليمن، وأخاك قثم على المدينة. فلما كان من الأمر ما كان هَنَأتُكم ما فِي أيديكم، ولم أكشف عمَّا وَعَتْ غرائزكم، وقلت: آخذ اليوم منهم وأعطيهم غدًا مثله، وعلمتُ أن يد اللوم تضرُّ بعاقبة الكرم، ولو شئتُ لأخذتُ بحلاقيمكم (¬3)، فقيَّأُتُكُم ما أكلتُم، ثم لا يزال يبلغُني عنكم ما لا يترك له (¬4)، وذنوبكم إلينا أعظم من ذنوبنا إليكم، خذلتم عثمان، وقتلتُم أنصاره يوم الجمل، وحاربتموني يوم صفّين، ولعمري إنَّ بني تيم وعديّ أعظم ديونًا منّا إليكم إذْ صرفوا هذا الأمر عنكم، وسنُّوا فيكم هذه السيرة، فحتى متى أُغضي الجفونَ على القَذَى، وأسحبُ الذيول على الأذى؟ ¬

_ (¬1) الاستيعاب ص 425، والتبيين فِي أنساب القرشيين ص 159. (¬2) بنحوه فِي "أنساب الأشراف" 4/ 129 - 130، و"العقد الفريد" 4/ 9 - 10. (¬3) فِي (ص) و (الكلام منها): بخلافكم، والتصويب من"العقد الفريد" 4/ 7. ويقارن الكلام الَّذي قبله به. (¬4) فِي "العقد الفريد" 4/ 7: ما تبرك به الإبل.

قال: فتشزَّن (¬1) ابن عباس، وحمد الله وأثنى عليه، وصلَّى على رسوله، ثم قال: أما بعد، يا معاوية، فقد كان أبي وأبوك متعارضين، لكن أبي نصر أباك فِي الجاهلية، وحقن دمه فِي الإسلام. وأما استعمال أمير المؤمنين إيَّانا؛ فإنه استعملنا لنفسه دون هواه، وأنت استعملتَ رجالًا لهواك دون نفسك، منهم ابنُ الحضرمي، فأُحرقَ بالبصرة، وبُسْر بن أبي أرطاة على اليمن، فسبى المسلمات، وسفكَ الدمَ الحرام وخان، وولَّيتَ ابنَ عامر البصرة، فاقتطع أموال المسلمين، والمغيرةَ الكوفة، ففعل ما فعل، والضحاك بن قيس، فخان وحُصِبَ بالكوفة. وأما قولك: تطلب الَّذي عندنا، فما أنت وذاك؟ تلك حقوق أذن لنا أمير المؤمنين فِي قبضها، وأنت عن الحق بمعزل، ولو قادك الشَّره إليها لدفعناها إليك، ووقينا بها أعراضَنا. وأما [ما] يبلغُك عنَّا؛ فليس بأعظم مما بلَغَنَا عنك، ولو وُضع أصغر ذنوبكم إلينا على ألف حسنة لمحاها، ولو وُضع أدنى عذرنا إليكم على ألف سيئة لمحاها (¬2). وأما عثمان؛ فأنت ألومُ به منّا، وقد تربَّصتَ عليه، وتأخّرتَ عن نُصرته؛ مع قدرتك وعجزنا. وأما يوم الجمل؛ فإنما قتلنا من نَصَركم عن الحقّ ليرجع إليه. وأما حربنا إيّاك فِي صفّين؛ فعلى تركك الحق، وتماديك فِي الباطل. وأما إغراؤك إيانا بِتَيْم وعديّ؛ فلو كنّا أردناها ما غلبونا عليها. ثم قام وخرج. فعجب الناس من جوابه. وقال هشام بن محمد: ] (¬3) قدم ابنُ عبَّاس على معاوية، فجاءه كتاب ملك الروم يقول له: أخبرني عمَّن لا قَبْلَ له (¬4)، وعمَّن لا عشيرةَ له، وعمَّن لا أبَ له، وعمَّن سارَ ¬

_ (¬1) أي: تهيَّأ. (¬2) فِي "العقد الفريد" 4/ 8: لحسَّنَها. (¬3) من قوله: وقال الهيثم ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص)، وينظر خبر ابن عباس ومعاوية بنحوه فِي "العقد الفريد" 4/ 7 - 8. (¬4) فِي "العقد الفريد" 2/ 251 (والخبر فيه بنحوه): عما لا قبلة له.

بِه قبرُه، وعن ثلاثة لم يُخلقوا في رَحِم، وعن شيء، ونصف شيء، ولا شيء، وابْعَثْ لي فِي هذه القارورة ببزْرِ كلِّ شيء. فدعا معاويةُ علماءَ الشام، وعرضَ عليهم الكتابَ، فلم يعرفوا ما فيه، فدعا ابنَ عباس وقال له: يا أبا العبَّاس، ما لهذا سواك. فأخذ الكتاب، فقلَبَه، وكتبَ خلفَه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أمَّا الَّذي لا قَبْلَ له فاللهُ تعالى (¬1)، وأمَّا الَّذي لا عشيرة له فآدم، وأمَّا الَّذي لا أبَ له فعيسى، وأمَّا من سارَ به قبرُه فيونُس. وأمَّا الثلاثةُ الذين لم يُخلقوا فِي رحم: فكبشُ إبراهيم، وناقةُ صالح، وحيَّةُ موسى. وأما عن شيء: فالشيء: الرجل العاقلُ يعملُ بعقله، وأمَّا نصفُ الشيء: فالذي له عقل ويعملُ برأي غيره، وأمَّا الَّذي لا شيء: فالذي لا عقلَ له ولا يعمل بعقل غيره. وملأ القارورة ماءً وبعث بها إليه وقال: هذا بِزْرُ كلِّ شيء. فلما وقف ملك الروم على كتابه قال: ما خرج هذا إلَّا من بيت النبوة (¬2). قال المصنّف رحمه الله: كان ابنُ عبَّاس يُفتي بالمتعة -ولعلَّه ما بلغه التحريم- ثم رجع عنها. وسببُه: ما رواه الزُّهريُّ عن سعيدِ بن جُبير قال: قلتُ له: يا أبا العباس، قد أكثرتَ فِي المتعة حتَّى سارت الرُّكبان بقول القائل: أقولُ وقد طال الثَّواء بنا معًا ... يا صاحِ هَلْ لك فِي فتوى ابنِ عبَّاسِ فِي بَضَّةٍ رَخْصَةِ الأطرافِ آنسةٍ ... تكونُ مثواكَ حتَّى مرجعِ (¬3) الناسِ فقال: أَوَقَدْ قالُوها؟ ! قلت: نعم. فخطب وقال: أيُّها الناس، إنَّ المتعةَ حرامٌ؛ كالميتة والدَّمِ ولحم الخنزير (¬4). ¬

_ (¬1) فِي المصدر السابق: أما الَّذي لا قبلة له فالكعبة. (¬2) الخبر بنحوه فِي "العقد الفريد" 2/ 201 - 202. (¬3) فِي (أ) و (ص): رجعة. (¬4) ينظر "أخبار مكة" للفاكهي 3/ 12، و"التمهيد" 10/ 117.

[ذكر ذهاب بصره وخوفه وعبادته] (¬1): و[حكى ابن سعد (¬2) أنَّه] لمَّا نزل الماء فِي عينيه؛ جاءه [هؤلاء] الذين يُنَقُّون الماءَ من العيون، فقالوا: أمْسِكْ عن الصلاة خمسةَ أيام ونحن نُبرئك. فقال: لا والله، ولا ركعةً واحدة، إني حُدِّثْث أنَّه من تركَ صلاةً واحدةً عامدًا؛ لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبان. و[قال ابن سعد (¬3): ] كان يؤمُّ الناسَ وهو أعمى ويقول: كيف أؤُمُّكم وأنتُم تعدلونني إلى القبلة؟ ! [وقال هشام: ] وكان يقول [في بعض أوقاته التي يمرُّ فيها إلى الصلاة شعرًا] (¬4): إنْ يأخذِ الله من عينيَّ نورَهما ... ففي لساني وقلبي منهما نُورُ قلبي ذكيٌّ وعقلي غيرُ مُدَّخَلٍ ... وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثورُ (¬5) وقال عكرمة: كان فِي وجه ابن عباس خطان أسودان من البكاء. [وفي رواية: كالشِّراكَين البالِيَين] (¬6). وكان يسرُدُ الصوم (¬7)، ويقومُ الليل [ويبكي] ويكثر التسبيح. قال أبو نُعيم بإسناده عن ابن بُريدة قال (¬8): شتمَ رجلٌ ابن عباس، فقال: إنك لَتشتمُني وفيَّ ثلاثُ خصال؛ إني لآتي على الآية من كتاب الله عزَّ وجلَّ، فَوَدِدْتُ أنَّ جميع الناس يعلمون منها ما أعلمُ، وإني لأسمعُ بالحاكم من حكَّام المسلمين يعدلُ فِي حكمه فأفرحُ، ولَعلّي لا أُقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمعُ الغيثَ قد أصابَ بلدًا من بلاد المسلمين فأفرحُ، وما لي به من سائمة. ¬

_ (¬1) هذا العنوان (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬2) فِي "الطبقات" 6/ 326. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬3) المصدر السابق 6/ 327. وما بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬4) قوله: قال هشام، من (ص) و (م). وقوله: فِي بعض أوقاته ... من (م). (¬5) مروج الذهب 5/ 232، والاستيعاب ص 426. (¬6) ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 335، و"حلية الأولياء" 1/ 329. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬7) فِي "الطبقات" 6/ 335 أنَّه كان يصوم الاثنين والخميس. (¬8) فِي (أ) و (ب) و (خ): وقال بُريدة. (بدل: قال أبو نُعيم ... إلخ) وهو خطأ. والمثبت من (ص) و (م). والخبر فِي "حلية الأولياء" 1/ 322، و"صفة الصفوة" 1/ 753 - 754، و"مختصر تاريخ دمشق" 12/ 313 - 314.

و [روى ابنُ أبي الدنيا عنه أنَّه] قال: لأَنْ أقرأَ البقرةَ فِي ليلةٍ أتفكَّرُ فيها أحبُّ إليَّ من أنْ أقرأَ القرآن هذرمةً (¬1). وحكى الضحَّاك عنه أنَّه قال: لما ضُرب الدينارُ والدرهم؛ أخذهما إبليس، فوضَعهما على عينيه وقال: أنتما قرَّة عيني، وثمرةُ فؤادي وقلبي، بكما أُطغي، وبكما أكفّر، وبكما أُدخلُ النار، رضيتُ من ابن آدم أن يعبدهما (¬2). وقال [عكرمة: قال ابن عباس: ] خذ الحكمة ممن سمعتَ، فإنَّ الرجل ليتكلَّمُ بالحكمة وليس بحكيم، فيكون كالرمية من غير رام (¬3). وقال [ابنُ سعد: كان ابنُ عباس يقول]: إنّي لأرى ردَّ جواب الكتاب عليَّ حتمًا كردّ السلام (¬4). [قال: ] وقال: مَنْ أفتى الناسَ بكلِّ ما يسألون عنه فهو مجنون (¬5). ذكر حِجحه وما جرى له منذ قتلِ عثمان - رضي الله عنه -[إلى وفاته]: [حكى ابن سعد عنه أنَّه] قال: حججتُ مع عمر - رضي الله عنه - إحدى عشرةَ حِجَّة. و[قد ذكرنا أنَّه] حجَّ بالناس وعثمان - رضي الله عنه - محصور بأمر عثمان، وعادَ من الحجّ وعثمان قد قُتل. [وقال الواقدي: ] ولم يزل مع عليٌّ - رضي الله عنه -، فشهد معه الجمل وصفِّين والنَّهروان، وولَّاه على البصرة. [وقد ذكرنا أنَّه أخذ من بيت المال ما أخذ، وذهب إلى مكة] وقتل عليٌّ وهو بمكة (¬6)، فأقام بالحجاز يتردَّد إلى الشام وافدًا على معاوية، فجاء نعي معاوية وهو بمكة، فخرج إلى الطائف، ثم عاد إلى مكة هو ومحمد بنُ الحنفية سنة أربع وستين. ¬

_ (¬1) الخبر من (أ) و (ص). وهو فِي "صفة إلى الصفوة" 1/ 754. وما بين حاصرتين من (ص). (¬2) حلية الأولياء 1/ 328، وصفة الصفوة 1/ 757. (¬3) صفة الصفوة 1/ 757. وما سلف بين حاصرتين من (ص). والخبر ليس فِي (م). (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 335، وما سلف بين حاصرتين من (ص). والخبر ليس فِي (م). (¬5) المصدر السابق 6/ 336. وما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬6) ما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). وقوله: وقتل علي وهو بمكة، ليس فِي (م). وفي "طبقات ابن سعد" 6/ 338 أن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - كان بالبصرة حين قُتل علي - رضي الله عنه -.

وجاء نعي يزيد بن معاوية، فدعاهه، ابنُ الزُّبير إلى بيعته فأبيا، فحَبَسهما فِي زمزم، فبعث المختار جيشًا، فأخرجهما [وقد ذكرناه]. وأقام ابن عباس ومحمد بن الحنفيَّة بالطائف إلى أن توفِّي ابنُ عباس - رضي الله عنهما - (¬1). ذكر وفاته: حكى ابنُ سعد عن الواقدي أن ابن عباس - رضي الله عنهما - مات بالطائف سنة ثمان وستين وهو ابنُ إحدى وسبعين سنة فِي فتنة ابن الزبير. [وكذا قال جدّي رحمه الله فِي "التلقيح" و"الصفوة"، والموفَّق رحمه الله فِي "الأنساب". وقال الهيثم: مات فِي سنة أربع وستين. وقال المدائني: سنة أربع وسبعين، وحكاه عنه الحافظ ابن عساكر] (¬2). والأول أصح [حكاه الإمام أحمد]. و[قال ابن سعد: ] صلَّى عليه محمد بن الحنفية وكبَّر أربعًا، وأدحْله قبره ممَّا يلي القبلة، وضرب عليه فسطاطًا ثلاثة أيام. وقال: اليوم مات ربَّانيُّ هذه الأمة (¬3). وقال [أبو نعيم (¬4) بإسناده إلى] ميمون بن مهران: شهدتُ جنازةَ ابنِ عباس بالطائف، فلما وُضع ليصلَّى عليه جاء طائرٌ أبيضُ حتَّى دخل فِي أكفانه، فالتُمس فلم يوجد، فلما سُوِّي عليه؛ سمعنا صوتًا يُسمع ولا يُرى الشخص: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي}. [وقد روى ابن سعد طرفًا منه بإسناده عن شعيب بن يسار قال (¬5): لما مات ابنُ عباس، وأُدرج فِي كفنه، دخلَ طائر أبيض فِي كفنه، فما رئي حتَّى الساعة. ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 340 - 341، وما سلف ص 385. (¬2) من قوله: وكذا قال جدي ... إلى هذا الموضع، من (ص) و (م). ووقع بدله فِي (أ) و (ب) و (خ) ما لفظه: وقيل: سنة أربع وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين. وينظر: أنساب الأشراف 3/ 61، وطبقات ابن سعد 6/ 345، وتلقيح فهوم أهل الأثر ص 158، وصفة الصفوة 1/ 757، والتبيين فِي أنساب القرشيين ص 165، ومختصر تاريخ دمشق 12/ 330. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 345 و 347. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬4) حلية الأولياء 1/ 329، والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 346.

وقال ابن سعد: ويقال لهذا الطائر: الغرنوق، وهو طائر عظيم.، جاء من قبل وَجّ، حتَّى خالط أكفانه، فلم يُدر أين ذهب. وفي رواية ابن سعد (¬1): فجاء فخالط أكفانَه، فدفنوه معه. وقال الزُّهري: فأوَّلوه علمه دُفن معه. قلت: ] (¬2) وقد رُويَ أنَّ هذا الطائر خرج من كفنه. [فإنْ صَحَّتْ هذه الرواية فهي أحسنُ؛ لأنَّ تأويلَها خروجُ علمِه وانتشارُه، وذلك أحسنُ من طَيِّه. وقال ابن سعد (¬3): ] وسَطَّحَ ابنُ الحنفيَّة قبرَه، ورشَّ عليه الماء. ذكر أولاده: كان له من الولد: العبَّاس [وبه كان يُكنى، وكان أكبرَ ولده، وليس له عقب] وعليّ، وهو أصغر أولاده، وكان أجملَ قرشيّ على وجه الأرض، وأكثرَ صلاة، و [كان] يُدعى السَّجَّاد، أوله عقب، وفي ولده الخلافة. والفضل؛ لا بقية له [ومحمد؛ لا بقية له، وعُبيد الله، لا بقيَّة له] ولُبابة، كانت عند عليّ بن عبد الله بن جعفر، فولَدَتْ له، ولولدها أعقاب وبقيَّة. وأمُّهم زُرْعَة بنت مِشْرَح بن معد يكرب بن وليعة بن شُرَحْبِيل بن معاوية بن حُجْر [القَرِد] (¬4) بن الحارث الولَّادة (¬5) بن عَمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مُرْتع، وهو كِنْدة. وأسماء بنتُ عبد الله، كانت عند عَبْد الله بن عُبَيد الله بن العبَّاس بن عبد المطلب بن هاشم، فولدت له حسنًا وحسينًا الفقيه، وأمُّ أسماء أم ولد. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 61 - 62. (¬2) من قوله: وقد روى ابن سعد طرفًا منه ... إلى هذا الموضع، (وهو ما بين حاصرتين) من (ص) و (م). (¬3) ينظر "طبقاته" 6/ 347. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬4) يعني الجَوَاد، كما فِي "أنساب الأشراف" 3/ 78، وكل ما سلف بين حاصرتين من (ص)، وبعضه فِي (م). (¬5) أي: كثير الولد، ولم تجوَّد اللفظة فِي النسخ الخطية، والمثبت من"أنساب الأشراف" 3/ 78 وغيره. وينظر "تاج العروس" (آخر مادة حجر).

[هذه صورة ما ذكره ابن سعد] (¬1). وكلُّ أولاد عبد الله بن عبَّاس من الطبقة الثالثة من أهل المدينة [فنذكر أعيانهم]. فأمَّا العباس (¬2)؛ فكان يقال له: الأعنق؛ لطول محنقه. [قال ابن سعد (¬3): ] فولدَ العبَّاسُ بنُ عبد الله عبدَ الله، وأمُّه مريم بنت عبَّاد بن مسعود من بني نهشل بن دارم. وعونًا، وأمُّه حبيبة بنت الزبير بن العوَّام [بن خُويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي]. ومحمدًا وقريبة، وأمُهما جَعْدَة بنتُ الأشعث بن قيس، خلف عليها العبَّاس بن عبد الله بعد الحسن بن علي - رضي الله عنهما -. وقد انقرضَ نسلُ العبَّاس بن عبد الله. وأمَّا عليّ [السجَّاد] فيذكر سنة سبع عشرة ومئة. وأمَّا الفضل فلا بقيَّة له. وأمَّا محمد بن عبد الله؛ فكان له ولد يقال له: العباس بن محمد، فيعرف بالمُذْهَب؛ لحسنه وجماله وسخائه، وفيه يقول الأخطل: لَبَّاسِ (¬4) أرْدِيَة الملوكِ يروقُهُ ... من كل مُرْتَقَبٍ عيونُ الرَّبْرَبِ (¬5) لَذٍّ (¬6) تَقَبَّلَهُ النعيمُ (¬7) كأنَّما ... مُسِحَتْ ترائبُه بماءٍ مُذْهَبِ ¬

_ (¬1) الطبقات 6/ 320 - 321، وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 78، و"نسب قريش" ص 28. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) فِي (ص): قد ذكرنا العباس، وأن أباه كان يكنى به. (¬3) الطبقات 7/ 309. (¬4) وقبله فِي "أنساب الأشراف" 3/ 79: ولقد غدوتُ على التِّجارِ بمُسْمِحٍ ... هرَّت عواذِلُه هريرَ الأكلبِ قوله: التِّجار، جمع تاجر والعربُ تسمِّي بائعَ الخمر تاجرًا. (¬5) الرَّبْرَب: جماعة النساء. وينظر "خزانة الأدب" 5/ 201. (¬6) فِي النسخ الخطية: سهم، بدل: لذّ، والمثبت من "أنساب الأشراف" 3/ 79. وهو كذلك فِي غيره من المصادر. قال البغدادي فِي "خزانة الأدب" 5/ 251: اللَّذّ، بالفتح: المتلذَّذ. وينظر "ديوان" الأخطل ص 27. (¬7) أي: بدا عليه واستبان فيه. قاله الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فِي تعليقه على "الشعر والشعراء" 1/ 283.

فأعطاه العباس ألف دينار. وأمُّ العبَّاس بن محمد أمُّ إبراهيم بنت المِسْوَر بن مَخْرمة بن نوفل الزُّهري، ولا عقب له. وأمَّا لُبابة بنت عبد الله؛ فكانت عند إسماعيل بن طلحة بن عُبيد الله، ثم خلفَ عليها عليُّ بن عبد الله (¬1) بن جعفر بن أبي طالب (¬2). وذكر ابنُ عساكر فِي أولاد عبد الله بن عباس عثمانَ بنَ عبد الله، وأمُّه أمُّ ولد، درج. ذكر مواليه - رضي الله عنه -: وهم: عكرمة [نذكره فِي سنة ستّ أو سبع ومئة]. وكُريب [نذكره فِي سنة ثمان وتسعين]. وأبو مَعْبَد [واسمُه] نافذ [نذكره فِي سنة أربع ومئة]. وشعبة [نذكره فِي خلافة هشام بن عبد الملك]. وذَفِيف؛ مات فِي سنة تسع ومئة، روى عنه الأعرج (¬3) وغيره، وكان قليلَ الحديث. وأبو عُبيد، روى عن ابن عباس (¬4). ومِقْسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، وإنما قيل له: مولى ابن عبَّاس؛ للزومه إيَّاه، وانقطاعه إليه، وروايته عنه. وكنيتُه أبو القاسم، وقد سمع من أمِّ سَلَمة - رضي الله عنها - زوج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكلُّ هؤلاء من الطبقة الثانية من أهل المدينة (¬5). ¬

_ (¬1) فِي (أ) و (ب) و (خ) و (ص): عبيد الله، والمثبت مما سلف، وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 78. (¬2) بعدها فِي (ص): وأما أسماء بنت عبد الله بن العباس فأمُّها أمُّ ولد، وقد ذكرناها. (¬3) حُميد بن قيس، روى له الجماعة. (¬4) ذكر ابن سعد 7/ 290: أبا عبيد الله مولى ابن عباس، وذكر له حديثه عن ابن عباس أنَّه نهى أن يفرقع الرجل أصابعه فِي الصلاة، ثم ذكر بعده أبا عُبيد وقال: مولى عبد الله بن عباس. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 282 - 291.

ذكر مسانيد ابن عباس - رضي الله عنه -: [واختلفوا فيها، فقال قوم: ] روى الف حديث وستّ مئة حديث وستين حديثًا [وقال ابن البرقي: الَّذي حُفظ عنه من الحديث نحو أربع مئة حديث] أُخرج له فِي الصحيحين مئتا حديث وأربعة وثلاثون حديثًا؛ اتَّفقا على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بمئة وعشرة، ومسلم بتسعة وأربعين (¬1). وأخرج له الإمام أحمد - رضي الله عنه - أربع مئة وسبعين حديثًا، منها متفق عليه، ومنها أفراد (¬2). [وقد فرَّقْنا معظم أحاديثه فِي الكتاب. وقال الإمام أحمد بإسناده عن هلال (عن عكرمة) (¬3) قال: حدثني ابن عباس قال: أُسريَ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ... وذكر حديث الإسراء ... قال: ورأى الدَّجَّال رُؤيا عَين، وليس برؤيا منام. فسُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدَّجَّال فقال: فَيلَمانيًّا أَقْمَر هِجانًا، إحدى عينَيه قائمة كأنَّها كوكبٌ دُرِّيّ، كأنَّ شعرَ رأسِه أغصانُ شجرة ... الحديث. الفَيْلمانيّ. العظيم الجُثَّة، والأَقْمر: الشديد البياض، والهِجان: الأبيض] (¬4). ورَوَى [ابن عباس] عن جماعة من الصحابة، منهم: عُمر، وعليّ - رضي الله عنهما-، ومعاذ وأبو ذرّ، وأبو طلحة، وأسامة بنُ زيد، وأبو سفيان [بن حرب]، وابنُه معاوية، وأُبيّ بن كعب، وأخوه الفضل بنُ العباس، وكثيرُ بن العبَّاس، وعائشة، وأمُّ سَلَمة، رتجين فِي آخرين. وروى عنه من الصحابة جماعة، منهم: عبد الله بنُ عمر، وأنس بن مالك، وأبو الطُّفيل (¬5)، وأبو أُمامة [بن] (¬6) سهل بن حُنَيف، وغيرهم. ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 363 و 395. (¬2) ينظر "مسند" أحمد (1838) - (3547). وفيها مكررات. (¬3) لفظ: (عن عكرمة) من "مسند" أحمد (3546). (¬4) من قوله: وقد فرَّقنا معظم أحاديثه ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬5) هو عامر بن واثلة الليثي. (¬6) لفظة "بن" بين حاصرتين إضافة من عندي، وأما ما سلف قبلها بين حاصرتين فمن (ص).

وروى عنه من التابعين: ابنُه علي بنُ عبد الله، ومواليه: عكرمة، وكُريب، ومِقْسم (¬1)، وعلماء الأمصار. [فمن أهل مكة: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وعَمرو بن دينار، وعُبيد بن عمير، وابن أبي مُليكة، وأبو الزبير محمد بن مسلم، وعكرمة بن خالد فِي آخرين. ومن أهل المدينة: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، ونافع بن جبير بن مُطْعِم، وأبو سلمة وحُميد ابنا عبد الرحمن بن عوف، وسليمان وعطاء ابنا يسار، وعروة بن الزبير، وعلي بن الحسين، وأبو صالح ذكوان، ومحمد بن كعب القَرَظي فِي آخرين. ومن أهل اليمامة: أبو زُميل، واسمه سِماك بن الوليد الحنفي. ومن أهل الطائف: عُبيد الله بن يزيد. ومن أهل اليمن: طاوس، ووَهْب، وحُجْر بن قيس، وعبد الرحمن بن البيلماني فِي آخرين. ومن أهل الكوفة: سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وعَمرو بن ميمون الأودي، وسالم بن أبي الجعد، وأبو الضحى، واسمه مسلم بن صُبيح فِي آخرين. ومن أهل البصرة: الحسن البصري، وابن سيرين، وأبو العالية، وأبو الشعثاء، وأبو نَضرة، وأبو جَمْرة -بجيم- وأبو مِجْلَز، وأبو رجاء، وبكر بن عبد الله، ويحيى بن يعمر فِي آخرين. ومن أهل خُراسان: الضحاك بن مُزاحم، وعطاء بن أبي مسلم. ومن أهل الشام: أبو إدريس الخولاني، وشَهْر بن حَوْشَب، وخالد بن اللجلاج، الدمشقيون فِي آخرين. ومن أهل الجزيرة: ميمون بن مِهْران، ويزيد بن الأصمّ. ¬

_ (¬1) فِي (أ) و (ب) و (خ): القاسم، بدل: مقسم، والمثبت من (ص) وهو الصواب.

عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة: اللخمي

وقال ابنُ البرقي: غزا عبدُ الله بن عبَّاس إفريقيَّة سنة سبع وعشرين مع عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، فروى عنه من مصر خمسة عشر رجلًا فيما علمت، لم يذكر منهم أحدًا] (¬1). وقد روى عن ابن عباس الخلق الكثير والجمّ الغفير. ومن ذرّيته: عبدُ الله بن عباس بن عبد المطَّلب (¬2) بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، أبو هاشم العباسي (¬3) كان شاعرًا فاضلًا، وله القصائد الحسنة، فمن شعره من أبيات. أواخِرُ وَجْدٍ ما تَقَضَّى أوائلُهْ ... سَلَا عن سُلُوِّ القلبِ فيه عَواذِلُهْ لشمسٍ ولكنَّ القلوبَ محلُّها ... وبدرٍ ولكنَّ الفؤادَ مَنازلُهْ تَبيَّنَ أنَّ البانَ فِي اللِّين عَطْفُهُ ... إذا ما انثنى والزانُ قُدَّ شمائلُهْ ترفَّعَ لا جيدُ الغزالة جِيدُهُ ... ولا أعينُ الغزلانِ حُسْنًا تُغازِلُهْ فَمَنْ لفؤادٍ باتَ مفتئدًا بهِ ... ويا مَنْ لقلبٍ بَلْبَلَتْهُ بَلابِلُهْ عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بَلْتَعَة: اللَّخْمي أبو يحيى، وقيل: أبو محمد، من الطبقة الأولى من أهل المدينة (¬4). وُلدَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذُكر فِي الصحابة (¬5). وقال أحمد العجلي: هو تابعي ثقة (¬6). [وأبوه حاطب من أهل بدر]. ¬

_ (¬1) من قوله: فمن أهل مكة: عطاء ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬2) كذا ... ولعل صواب الكلام: ومن ذرَّية عبد الله بن عباس عبد المطلب ... إلخ. أو أنَّ فِي الكلام سقطًا وتحريفًا. (¬3) لعله أبو هاشم عبد المطلب بن الفضل بن عبد المطلب بن الحسين بن عبد الرحمن، افتخار الدين، من أعلام الحنفية، توفي سنة (616) ينظر "سير أعلام النبلاء" 22/ 99. (¬4) يعني من التابعين. وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 8. (¬5) قولُه: وقيل رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نُسب فِي (ص) لابن منده، ونُسب فيها قولُه: وذكر فِي الصحابة، لأبي مسعود. (¬6) ثقات العجلي ص 290.

عبيد الله بن الحر

وقدم عبد الرحمن على معاوية مع النعمان بن بشير بقميص عثمان رضوان الله عليه، بعثت به نائلة بنت الفُرافصة. [وأبوه حاطب هو الَّذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتابه إلى المقوقس، وقد ذكرناه. وحاطب صاحب سارة التي بعثها بكتابه إلى أهل المدينة يُخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدَّم فِي غزاة الفتح. ومات حاطب بالمدينة سنة ثلاثين]. ومات عبد الرحمن سنة ثمان وستين. وقيل: قُتل يوم الحَرَّة. أسند عبد الرحمن عن عمر، وعلي، وعثمان، وابن عمر، وأبي عُبيدة، وصُهيب الرومي، وعن أبيه - رضي الله عنهم -. وروى عنه ابنُه يحيى بن عبد الرحمن، وعُروة بن الزبير، وغيرُهما (¬1). عُبَيد الله (¬2) بنُ الحُرّ أبوالأشرس، [قال ابن مجاهد: ] (¬3) كان رجلًا صالحًا عابدًا، فلما قُتل عثمان - رضي الله عنه - ووقعت الفتنة؛ خرج إلى الشام، فكان مع معاوية، وشهد معه صفِّين. ولمَّا استُشهد أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه -؛ قدم الكوفة، فأقام بها، وكان معه جماعة عثمانية، فلما هاجت فتنة ابن الزبير، ومات يزيد بن معاوية، وهرب عُبيد الله بن زياد؛ اجتمع إليه إخوانُه وقالوا: ما قعودنا؛ قد بانَ الصبحُ لذي عينين (¬4)، قُمْ بنا. فاجتمع إليه سبعُ مئة فارس، فخرجوا من الكوفة إلى المدائن، فكان يأخذُ الأموال التي تختصُّ بالسلطان، فيفرِّقها فِي أصحابه (¬5). وكان شاعرًا، فوضعه شعره عند الناس، واستولى على الكُوَر والسَّواد. ¬

_ (¬1) ينظر: طبقات ابن سعد 7/ 8، والمعرفة والتاريخ 3/ 329، وتاريخ دمشق 9/ 904 (مصورة دار البشير). والكلام السالف بين حاصرتين فِي الترجمة من (ص). (¬2) فِي (أ) و (ب) و (خ): عبد الله. (¬3) واسمه عليّ، وكلامه فِي "تاريخ الطبري" 6/ 128 بنحوه. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) قوله: قد بأن الصبح ... إلخ فِي "تاريخ الطبري" 6/ 128 من كلام ابن الحرّ. (¬5) فِي "تاريخ الطبري" أنَّه كان يأخذ من مال السلطان عطاءه وأعطية أصحابه.

وظهر المختارُ [بن أبي عبيد، فقال: واللهِ لأقتلنَّ امرأتَه. وهي أمُّ سَلَمة الجُعْفِيَّة، فحبسَها، وبلغَ عبيدَ الله بن الحرّ، فأقبلَ فِي فتيانه إلى الكوفة ليلًا، فكسر بابَ السجن، وأخرج امرأتَه وكلَّ من كان فيه، فبعثَ إليه المختار من يقاتلُه، فقاتلهم، وأخذَ امرأتَه، وخرج من الكوفة وهو يقول: ألم تعلمي يا أمَّ تَوْبَةَ أنَّني ... أنا الفارسُ الحامي حقائقَ مَذْحِجِ وأنِّي أتيتُ السجنَ فِي سَوْرَة الدُّجَى ... بكلِّ فتًى حامي الذِّمارِ مُدَجَّجِ من أبيات [طويلة]. وأصبح المختار، فهدمَ دارَه وأحرقَها ومعه هَفدان، وانتهبوا ضيعتَه، فأقبل [في] السواد، فلم يدع به مالًا لهَمْدَانيّ إلَّا أخذه. وقال: وما ترك الكذابُ من جُلِّ مالِنا ... ولا الزُّرْقُ من هَمْدانَ غيرَ شريدِ ومنها: وهُمْ هَدَمُوا داري وساقُوا حَلِيلَتي ... إلى سجنهم والمسلمون شُهودي وهُمْ أعجلُوها أنْ تَشُدَّ خمارها ... فيا عجبًا هل الزمانُ مُقَيِّدي فما أنا بابن الحُرِّ إن لم أُرِعْهُمُ ... بخيلِ تَعَادَى بالكُماة أسودِ وما جَبُنَتْ خيلي ولكنْ حَمَلْتُها ... على جَحْفَلٍ ذي عُدَّةٍ وعَدِيدِ من أبيات. وكان يتردَّدُ من المدائن إلى جُوخَى والجبل، فلم يزل على ذلك حتَّى قُتل المختار، فقال الناس لمصعب: [إن] ابن الحُرِّ شاقَّ ابنَ زياد والمختارَ، ولا نأمنُه. فأرسلَ إليه مصعب بأمان، فلما جاءه، حَبَسَه، فقال: مَنْ مُبْلِغُ الفتيانِ أنَّ أخاهُمُ ... أَتَى دونَه بابٌ شديدٌ وحاجبُهْ بمنزلةٍ ما كان يَرْضَى بمثلِها ... إذا قامَ عَنَّتْهُ كُبولٌ تُجاوبُهْ وما كان ذا من عُظْمِ جُرْمٍ جَنَيتُهُ ... ولكنْ سَعَى الساعي بما هو كاذبُهْ وقد كان فِي الأرضِ العريضةِ مَسْلَكٌ ... وأيُّ امرئٍ ضاقت عليه مذاهبُهْ

وفي الدهر والأيامِ للمرء عِبْرَةٌ ... وفيما مضى إنْ نابَ يومًا نوائبُهْ وبعثَ عُبيد الله إلى قوم من مَذْحِج يكلِّمون مصعبًا فيه ويقولون: ما خرج عليك، ولا فِي أيامك، بل على عدوِّك. وأرسل إلى فتيان من مَذْحِج، فأخْبرهم الخبرَ وقال: البسوا السلاح تحت ثيابكم، وقِفُوا على باب مصعب، فإنْ شَفَّعَهم فيَّ، فلا تَعْرِضُوا لأحد. فجاؤوا إلى مصعب، فكلَّموه فيه، وقالوا: حبستَه بغير جُرْم. فشفَّعهم فيه، وأمر بإطلاقه. فلمَّا خرج من السجن، رأى الفتيان الَّذي أمرهم أن يحملوا السلاح بباب الحبس قيامًا، فقال: أَشْهِرُوا السلاح. فأشهروه، ومضى بهم إلى منزله، وبلغَ المصعبَ، فندمَ على إخراجه. واجتمع إلى ابن الحُرّ أصحابُه يهنِّئونه، فأظهر الخلاف وقال: هؤلاء المُحِلُّون يقسمون فيئنا. واجتمع إليه قومه، وبعث إليه مصعب جماعة وهو يهزمُهم، وخرج عن الكوفة وهو يقول: فلا (¬1) تَحْسَبَنِّي (¬2) ابنَ الزُّبيرِ كناعسٍ ... إذا حَلَّ أغْفَى أو يُقال له ارْتَحِلْ فإنْ لم أُزِرْكَ الخيلَ تَرْدِي عوابسًا ... بفرسانها لا أُدع بالفارس البَطَلْ وإن لم تَرَ الغاراتِ من كلِّ جانبٍ ... عليك فتندمْ عاجلًا أيُّها الرجُلْ فلا وَضَعَتْ عندي حَصَانٌ قِناعَها ... ولا عِشْتُ إلَّا بالأمانيِّ والعِلَلْ فأرسلَ إليه مصعب يدعوه إلى الأمان والولاية أيَّ مصر شاء، ويصله، فأبى، ونزل السَّوَاد وعين التَّمر وتكريت، ومصعب يجهِّزُ إليه الجيوش وهو فِي ثلاث مئة وهو يهزمُهم، فجهَّز إليه مصعبٌ ألفًا وخمس مئة مع الأَبْرَد بن قُرَّة الرِّياحي والجَوْنِ بنِ كعب الهَمْدَاني، فقيل له: قد أتاك العددُ الكثير، فقال: يُخوِّفُني بالقتل قومي وإنَّما ... أموتُ إذا جاء الكتابُ المؤجَّلُ لعلَّ القَنا تُدني بأطرافها المني (¬3) ... فنحيا كرامًا أو نَكُرُّ فنُقتلُ ¬

_ (¬1) فِي (أ) و (ب) و (خ): ولا. والمثبت من (ص). (¬2) فِي النسخ الخطية: تحسبنَّ. والمثبت من"تاريخ" الطبري 6/ 132. (¬3) فِي "تاريخ الطبري" 6/ 133: الغنى.

والتَقَوْا فاقتتلُوا، فقُتل منهم جماعة، وحجز بينهم الليلُ، ثم هجم الكوفة مرَّةً ثانية، وقاتل جيوشَ المصعب، ثم خرج إلى المدائن، فبعثَ مصععب إلى ابن رُوَيم عامل المدائن يأمرُه بقتاله. فخرج إليه ابنُ رُويم، فهزمه، وقال: سَلُوا ابنَ رُوَيمٍ عن جِلادي وموقفي ... بإيوانِ كسرى لا أُوَلِّيهمُ ظهري يلُوذون منِّي رَهْبةً ومخافةً ... لِواذًا كما لاذ الحمائم من صَقْرِ من أبيات. ثم لحق بعبد الملك بن مروان، فقال له: سِرْ إلى الكوفة حتَّى تلحقك الجيوش، فلما وصل إلى الأنبار؛ أرسل إلى الكوفة (¬1) يخبرُ قومه بقدومه، وكان فِي عشرة أنفس، والمصعب بالبصرة. وبلغ القيسيَّةَ، فقالوا لعامل مصعب وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: ابعث معنا جيشًا لقتاله. فبعثَ معهم، فأتَوْا بغتةً فقاتلهم ساعةً، ثم غرقت فرسُه، فأُخِذَ وقُتل، وقُطع رأسُه، وبُعثَ به إلى الكوفة، ثم إلى البصرة. وقيل: إنه هزم لمصعب فِي عام واحد أربعين جيشًا، وكان فِي ثلاث مئة، وكان جيعش مصعب يزيدُ على ألف. ولما التقى هذا الجيش كان معه عَشَرَةُ نفر. وقيل: كان سبب قتله أنَّه هجا القبائل القيسية وغيرها، وبلغ زُفَر بن الحارث، فعتب على مصعب بسببه، فقتله رجل من القيسية يقال له: عباس (¬2). ولعُبيد الله فيهم قصائد، منها: ألم تَرَ قَيسًا قيسَ عَيلان بَرْقَعَتْ ... لِحاها وباعت نَبْلَها بالمغازلِ وما زِلْتُ أرجو الأزْدَ حتَّى رأيتُها ... تُقَصِّرُ عن بُنيانها المتطاولِ وبلغ زُفَر بنَ الحارث، فكتب إلى مصعب: أنا قد كفيتُك قتال ابنِ الزَّرْقاء، وابنُ الحُرِّ يهجو قيسًا. ¬

_ (¬1) من قوله: حتى تلحقك الجيوش ... إلى هذا الموضع، من (أ). وهذا الكلام ليس فِي (ص) ولا (م). (¬2) فِي "تاريخ الطبري" 6/ 137: عيَّاش.

عدي بن حاتم

فأجابه زُفر (¬1)، فقال: لمَّا رأيتُ النَّاس أولادَ عَلَّةٍ ... وأغرقَ فينا نزغة كلُّ نائلِ (¬2) فلو يسألُ ابنُ الحُرِّ أُخْبِرَ أنَّها ... يمانيَّةٌ لا تُشْتَرَى بالمغازلِ من أبيات. [وكانت وفاته فِي هذه السنة] (¬3). عَدِيّ بنُ حاتم الجواد (¬4) الطائيّ، أبو طريف، وأمُّه النُّوار بنت ثُرْملة بن ثُرعل من بني ثُعَل. [وكان أبوه حاتم من أجود العرب، ويكنى أبا سفَّانة بابنته]. وعديّ من الطبقة الخامسة من الصحابة، وكان له إخوة من أمِّه كلُّهم أشراف، وهم: لام، وحُلَيس، ومِلْحان، وفسقس [هلك فِي الجاهلية] وأبوهم زبان (¬5) بن غُطَيف من بني أخزم الطائي. [وقيل: أدرك زبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمع منه]. شهد مِلْحان بن زبان صفّين مع معاوية، واستخلف عليٌّ لام بن زبان على المدائن حين سار إلى صفّين (¬6). وسار عديّ مع خالد بن الوليد إلى أهل الرِّدَّة ومعه ألفٌ من قومه (¬7). ¬

_ (¬1) قبلها في "تاريخ الطبري" 6/ 137: "ثم إن نفرًا من بني سُليم أخذوا ابن الحُرّ فأسروه ... فقتله رجل منهم يقال له: عيَّاش". وسلف ذكره. قبل البيتين. وقد أخلّ المختصر بالسياق عندما فصلَ الشِّعر عن الخبر. (¬2) فِي "تاريخ الطبري" 6/ 137: قائل. (¬3) ينظر ما سلف من أخبار عُبيد الله بن الحُرّ فِي "أنساب الأشراف" 6/ 129 - 139، و"تاريخ الطبري 6/ 128 - 137. وتنظر ترجمته فِي "تاريخ دمشق" 44/ 192 - 197 (طبعة مجمع دمشق). والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) بعدها فِي (ص): ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم بن ربيعة بن جَرْوَل بن ثُعَل بن عَمرو بن الغَوْث بن طيِّئ. واسم طيِّئ جُلْهُمَة. وإنما سُمِّيَ طَيِّئًا لأنه طوى المنازل، وهو أول من طواها. وقال الجوهري: وطيِّئ أبو قبيلة من اليمن". ولم أُدخل هذا الكلام فِي المتن أعلاه لاختلاف سياق الكلام عن باقي النسخ. وينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 214، و"تاريخ دمشق" 47/ 65 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) فِي (أ) و (ب) و (خ): ريان، وفي "طبقات" ابن سعد 6/ 214: ربّار. والمثبت من (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 214. وكلّ ما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬7) تاريخ دمشق 47/ 81 (طبعة مجمع دمشق).

[وحكى ابن سعد عن محمد بن عمر، بإسناده عن الحُصين بن عبد الرحمن بن عَمرو (¬1) بن سعد بن معاذ قال: لما صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحجّ سنة عشر؛ قدم المدينة، فأقام حتَّى رأى هلال المحرَّم سنة إحدى عشرة، فبعث المصدّقين فِي العرب، وبعث على أسد وطيّء عديَّ بن حاتم. قال الواقدي بإسناده إلى الشعبيّ: فلما كانت الرّدَّة قال القوم لعديّ بن حاتم: أمسِكْ ما فِي يدك من الصدقة، فإنك إن تفعل تسود الحليفين (¬2). فقال: ما كنتُ لأفعل حتَّى أدفعَها إلى أبي بكر بن أبي قحافة. فجاء إلى أبي بكر، فدفع الصدقة إليه. وقد ذكرناه فِي الرِّدَّة. وقال الواقدي: كان عديّ بن حاتم أحزمَ رأيًا وأثبت فِي الإسلام رغبة ممَّن كان فرَّق الصدقة فِي قومه. وإن بني جَدِيلة كانوا (¬3) عصاةً على خالد، فردَّهم عديّ إلى الإسلام، وقاتلوا أهل الرِّدَّة. وروى ابن سعد عن الشعبي قال: قدم عديّ بن حاتم على عُمر - رضي الله عنه -، فرأى منه جفاءً، فقال: يا أمير المؤمنين، أما تعرفُني؛ فقال: بلى والله، أعرفك بأحسن المعرفة، أعرفُك واللهِ، أسلصتَ إذ كفروا، وعرفتَ إذ أنكروا، ووفيتَ إذ غدروا، وأقبلتَ إذْ أدبروا. فقال: حسبي يا أمير المؤمنين] (¬4). قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - (¬5): حدَّثنا بكر بنُ عيسى، حدثنا أبو عَوانة، عن المغيرة، عن الشعبيّ، عن عديّ بن حاتم قال: أتيتُ عمر بنَ الخطاب فِي أناس من قومي، فجعل يفرضُ للرجل من طيِّىَء فِي ألفين ويعرضُ عني، فاستقبلتُه، فأعرضَ عني، ثم أتيتُه من ¬

_ (¬1) فِي (ص) (والكلام منها): الحسين بن عبد الرحمن بن عُمر. وهو خطأ والمثبت من"طبقات" ابن سعد 6/ 220. وينظر "تهذيب الكمال" 6/ 517. (¬2) فِي (ص): الخليفتين. والمثبت من "طبقات" ابن سعد. (¬3) فِي (ص) (والكلام منها): وكان. وأثبتُّ اللفظة على الجادة. والخبر بنحوه فِي "طبقات" ابن سعد 6/ 222 وفيه: وكانت جَدِيلة معترضة على الإسلام. (¬4) من قوله: وحكى ابنُ سعد عن محمد بن عمر ... إلى هذا الوضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). وهو فِي "طبقات" ابن سعد 6/ 220 - 222. والكلام الآتي بعده ليس فِي (ص). (¬5) مسند أحمد (316).

حِيال وجهه، فأعرض عنّي. قال: فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أتعرفُني؟ قال: فضحك حتَّى استلقَى على قفاه، ثم قال: نعم واللهِ إنِّي لأعرفُك، آمنتَ إذ كفروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، ووفَيتَ إذْ غدروا، إنَّ أوَّلَ صَدَقةٍ بيَّضْتَ بها وجهَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوهَ أصحابِه صدقةُ طَيِّئ، جئت بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم أخذ يعتذرُ إليه. ثم قال: إنما فرضتُ لقومٍ أجحفت بهم الفاقة، وهم سادةُ عشائرهم لِما ينوبُهم من الحقوق. متفق عليه. قال الحُميدي: فقال عديّ: فإذًا لا أبالي (¬1). وجاء عديّ إلى باب عثمان رضوان الله عليه وهو خليفة، فَحجبَه [نابل] مولى عثمان - رضي الله عنه -، فلما خرج [عثمان] إلى صلاة الظهر؛ عرضَ له عديّ، فأدناه [عثمان] ورحَّبَ به وانبسط إليه، فقال: أتيتُ بابَك فحَجَبني هذا عنك. فقال له عثمان بعد أن انتهره: لا تحجبْه، واجعله أوَّلَ داخل، فلعمري إنَا لنعرفُ فضلَه وحقَّه، ورأيَ الخليفتين فيه وفي قومه، وقد جاءنا بالصدقة يسوقُها والبلادُ تضطرم كأنها شُعَل النار من أهل الرِّدَّة، فحمده المسلمون على ما رأَوْا منه (¬2). قال الواقدي: حضرَ عديُّ بن حاتم يوم الدار يوم قتل عثمان، فخرج الناس يقولون: قُتل عثمان، قُتل عثمان. فقال عديّ: لا تَحْبِقُ فِي قَتْلِهِ عَناقٌ حَوْليَّة (¬3) [وفي رواية: لا تحبق فيها عنز]. فلما كان يومُ الجمل؛ فُقئتْ عينُه، وقُتل ابنُه محمد مع أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، وقُتل ابنه الآخر طريف مع الخوارج، فقيل له: يا أبا طريف، هل حَبَقَت العنز؟ قال: نعم، والتَّيسُ الأعظم (¬4). و[حكى ابن سعد عن الواقدي وهشام بن محمد الكلبي قالا: ] شهد عديّ القادسية ويوم مِهْران وقسّ الناطف والنُّخيلة ومعه اللواء، وشهد الجمل وصفِّين والنهروان مع أمير المؤمنين عليّ رضوان الله عليه، وكان معه يوم الجمل لواء علي - عليه السلام - (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4394)، وصحيح مسلم (2523) مختصر. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 224، وتاريخ دمشق 47/ 87 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) العَناق: الأنثى من ولد المعز، وهذا مَثَل يُضرب فِي أمر لا يُعبأ به، ولا غَيرَ له، أي: لا يُدرك فيه بثأر. قاله الميداني فِي "مجمع الأمثال" 2/ 225. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 224، وتاريخ دمشق 47/ 93 (طبعة مجمع دمشق). وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 224. وما سلف بين حاصرتين من (ص).

و [قال هشام: ] كان طُوالًا حسنَ الوجه، جوادًا على منهاج أبيه. دخل ابنُ دارة الشاعر عليه فقال. جئتُك لأمْتَدحَك. فقال: أمْسِكْ حتَّى أبيِّنَ لك مالي، ثم امتدحْني على حسبه، فإني أكره أن لا أعطيك ثمن ما تقول، لي ألفُ شاة، وألفُ درهم، وثلاثةُ أعْبُد، وثلاثُ إماء، وفرسي هذا حَبِيسٌ فِي سبيل الله تعالى. فقال ابن دارة: تَحِنُّ قَلُوصي فِي مَعَدٍّ وإنَّما ... تلاقي الربيعَ فِي ديار بني ثُعَلْ أبوك جوادٌ لا يُشَقُّ غبارُه ... وأنتَ جوادٌ ليس تُعذرُ بالعِلَلْ فقال له عديّ: أمْسِكْ، فإنَّ مالي لا يبلغُ أكثرَ من هذا. فأعطاه الكلّ (¬1). وقيل لعديّ: ألا تشرب الشراب؟ فقال: معاذ الله أُصبحُ حكيمَ قومي وأمسي سفيهَهُم (¬2). [وقد ذكرنا وفادته على معاوية وما جرى له معه]. ذكر وفاته: مات فِي زمن المختار بالكوفة سنة ثمان وستين -أو تسع وستين- وهو ابنُ مئةٍ وعشرين سنة (¬3)، وقال: أشهدُ أنَّ المختار كذَّاب، ومات بعد ذلك بالكوفة بثلاثة أيام، وأوصى أن لا يُصلِّيَ عليه المختار. وقال علي بن المديني: مات عديُّ بن حاتم وجرير بن عبد الله البَجَلي وحَنْظَلة الكاتب بقرقيسيا؛ خرجوا من الكوفة أيام الفتنة. قال محمد بن [علي] الصُّوريّ: فأنا رأيتُ قبورهم الثلاثة بقرقيسيا (¬4). قال ابن قتيبة: لم يبق لعديّ عقب إلَّا من قبل ابنتيه: أَسَدَة، وعَمْرة. وإنما عقبُ حاتم من ولده عبد الله بن حاتم وهم ينزلون بكربلاء (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "العقد الفريد" 1/ 309، و 5/ 294. (¬2) المصدر السابق 6/ 338. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 224 و 8/ 144، وتاريخ دمشق 47/ 99 - 100 (طبعة مجمع دمشق)، ونسب القول فِي (ص) لابن منده. (¬4) تاريخ دمشق 47/ 98. (¬5) المعارف ص 313.

وقال ابنُ عساكر: كان عديُّ بنُ حاتم فِي جيش خالد لما قصدَ الشام من العراق، وبعثه خالد بالأخماس إلى أبي بكر، ثم سكن الكوفة (¬1). أسند عديّ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [أخرج له الإمام أحمد بن حنبل سبعة أحاديث، منها فِي "الصحيحين" خمسة أحاديث، اتفقا على ثلاثة، والحديثان الباقيان لمسلم] (¬2). وروى عنه الشعبيّ، وأبو إسحاق السَّبِيعي، ومصعب بن سَعْد بن أبي وقَّاص، وسعيد بن جبير، وقيس بن أبي حازم، وتميم بن طَرَفة فِي آخرين (¬3). [ومن مسانيده: قال البخاري بإسناده عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم قال: سألتُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصيد، فقال: "إذا أرسلتَ كلبَك المعلَّم، فقتلَ، فكُلْ، وإذا أكل؛ فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه". قال: فقلتُ: إني أُرسل كلبي، فأجد معه كلبًا آخر؟ فقال: "لا تأكل، فإنَّما سمَّيتَ على كلبك، ولم تسمِّ على كلب آخر" أخرجاه فِي "الصحيحين". وفي "الصحيحين" أيضًا: فقلت: يا رسول الله، إنَا نُرسل الكلاب المعلَّمة (¬4). وذكره. وفي "الصحيحين" (¬5) أيضًا عن عديّ قال: لما نزل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ} [البقرة: 187] عَمَدْتُ إلى عِقالين؛ أحدهما أبيض، والآخر أسود، فجعلتُهما تحت وسادتي، ثم جعلتُ أنظر إليهما، فلا يتبيَّن لي الأبيض من الأسود، فلمَّا أصبحتُ غدوتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرتُه بالذي صنعتُ، فقال: "إنْ كان وسادُك لَعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل". وفي رواية: "إنما هما خيطا الفجر". فنزل: {مِنَ الفَجْرِ}. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 47/ 65. (¬2) ينظر "مسند" أحمد (28244) إلى (28274)، و"التلقيح" ص 397. (¬3) تاريخ دمشق 47/ 65. (¬4) صحيح البخاري (173) و (5477)، وصحيح مسلم (1929): (1) و (2). (¬5) صحيح البخاري (1916)، وصحيح مسلم (1090).

قيس بن ذريح

وليس فِي الصحابة من اسمُه عديُّ بنُ حاتم غيره] (¬1). قيس بن ذَرِيح ابن الحُباب، أبو يزيد الليثي، صاحب لُبْنى بنت الحُباب الكعبية الخُزاعية. وكان قيس بن ذَرِيح رضيعَ الحسين بن علي - رضي الله عنهما - (¬2). [وكان أبو قيس ينزل بظاهر المدينة وقيس عنده، ويُعدُّ من حاضرة المدينة]. خرج [قيس] يومًا لحاجة، فمرَّ بحيِّ بني كعب، فوقف على خِباء لُبْنَى، فاستسقى ماءً، فسقته، وكانت امرأة مديدةَ القامة، شهلاء، حلوةَ المنظر والمنطق، فلما رآها وقعت فِي نفسه، فقالت: انزلْ عندنا. فنزل، وجاء أبوها فأكرمَه، ونَحَرَ له، وانصرف وفي قلبه منها مثلُ شُعَل النار. ثم عاد إليها وفي قلبها منه مثلُ ذلك، فتشاكيا. ثم انصرف إلى أبيه فسأله (¬3) أن يزوِّجَه إيَّاها، فأبى؛ لأنه كان غنيًّا، وكانت فقيرة، وقال: عليك بإحدى بنات عمِّك [وأراد أبوه إلا يخرج مالُه إلى غير بني عمِّه]. فجاء إلى أمه، فكلّمَها، فلم يجد عندها فَرَجًا، فجاء إلى رضيعهِ الحسين بن عليّ، وإلى ابن أبي عتيق، فاستعانَ بهما [على أبيه] فقاما معه إلى أبيه، فرحَّب بهما [وأعظم مَشْيَ الحسين إليه، فكلَّماه فيه، فأجابَهما، وقال: لو أرسلتُما إليَّ لمشَيتُ إليكما] وزوَّجه إيَّاها. [وهذه رواه ابن الكلبي]. وقال أبو الفرج الأصفهاني (¬4): إنما خطب الحسين - رضي الله عنه - وابنُ أبي عتيق لُبْنى [على قيس، من أبيها، فقال: ما بنا عن الفتى رغبة، وما كُنْتُ لأعصيَ لك يا ابن رسول الله ¬

_ (¬1) من قوله: ومن مسانيده ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬2) فِي (ص): ذكرَ أخبارَه هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأبو الفرج الأصبهاني، فأما هشام فروى عن أبيه أن قيسًا كان رضيع الحسين ... إلح. وما سيرد بين حاصرتين منها، وبنحوه فِي (م). وقوله: رضيع الحسين، يعني أنَّه أخوه من الرضاعة. (¬3) فِي (أ) و (ب) و (خ): يسأله. والمثبت من (ص) و (م). (¬4) ينظر "الأغاني" 9/ 182 - 183.

أمرًا، ولكن أحبُّ الأمرينِ (¬1) إلينا أن يخطبَها أبوه، ويكون ذلك عن أمره. فأتى الحسينُ - رضي الله عنه - ذَرِيحًا وقومُه مجتمعون عنده، فقاموا إليه وعظّموه، فقال: يا ذَرِيح، أقسمتُ عليك إلَّا خطبتَ لُبنى على ابنك قيس. فقال: سمعًا وطاعة يا ابنَ رسول الله. وقامَ، وقام معه أشرافُ قومه إلى الخُزاعي، فخطَبَها، فزوَّجَه إيَّاها، وأقامَتْ معه مدَّة، فشغلَتْه عن خدمة أبيه وأمِّه، وكان من أبرِّ الناس بأمِّه [وأبيه، فلها عنهما]، فوجدت [أمُّه] فِي نفسها، وعرض عليه أبوه وأمُّه أن يتزوَّج غيرَها، أو يتسرَّى، أو يطلِّقَها، فامتنع من ذلك وقال: الموتُ أهونُ من ذلك. فحلف أبوه (¬2) لا يَكُنُّه سقفُ بيت حتَّى يُطلِّقَها، فكان يلقى الحرَّ والبرد، فأقام على ذلك مدَّةً (¬3). و[كان] قيس يدخل على لُبْنى فيبكيان وتقول له: [يا قيس] لا تُطع أباك فتُهلكَ نفسَك وتهلكَني، فيقول: ما كُنْتُ لأطيع فيكِ أحدًا. وألحَّ أبوه وأمُّه وقومُه عليه وقالوا: هلك أبوك. فلم يجد بدًّا من طلاقها، فطلَّقَها، فلقيَ الحسين - رضي الله عنه - وعبدُ الله بنُ صفوان أباه، فقال له ابنُ صفوان: فرَّقتَ بينهما فرَّقَ اللهُ عظامك. وقال له الحسين - رضي الله عنه -: ويحك! أما بلغك قول عمر بن الخطاب: ما أُبالي فرَّقتُ بينهما، أو مشيتُ إليهما بالسيف. وأرسلتْ إلى أبيها تُخبرُه بطلاقها، فأرسلَ إليها هَوْدجًا هابلًا، فحملها إليه. فحينئذ اشتدَّ غرامه بها، وقال فيها الأشعار، فلما استقلَّ هودَجُها [تأسَّفَ وتنفَّس صُعَداء] وقال: وإني لَمُفْنٍ دَمْعَ عينيَ بالبُكا ... حِذارَ الذي قد كان أو هو كائنُ ¬

_ (¬1) فِي "الأغاني": أحبُّ الأمر. (¬2) فِي (ص) و (م): فوجدَتْ أمُّه فِي نفسها، ومرضَ قيسٌ مرضًا أشفى منه على التلف، فقالت أمُّه لأبيه: قد خشيتُ أن يموتَ قيس ولا يترك خَلَفًا، وقد حُرم الولدَ من هذه، وأنت ذو مال، فيصيرُ مالُك إلى الكَلَالة، فزوِّجْه غيرها لعلّ اللهَ أن يرزقَه ولدًا. فجمع أبوه قومَه، وأتى قيسًا، فذكر له ذلك، فقال: لستُ بمتزوِّج غيرها. قال: فتسرَّى. قال: ولا أتسرّي. قال: فطَلِّقْها. قال: الموتُ أهونُ من ذلك، ولكن تزوَّجْ أنتَ لعلَّ الله أن يرزقك ولدًا غيري. قال: ما فِيَّ فضل. فحلف أبوه ... (¬3) فِي (ص) و (م): ... حتى يطلقها، فكان ذَرِيح يخرجُ فيقعدُ فِي الشمس، ويأتي قيس، فيقف على رأس أبيه، ويظلّه بردائه، ويصطلي هو بحرِّ الشمس. ويخرج أبوه فِي الشتاء، فيقف فِي الريح والمطر والبرد. فأقام على ذلك سنة، وقيل: عشر سنين.

وقالوا غدًا أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراقُ حبيبٍ لم يَبِنْ وهو بائنُ وما كُنْتُ أخشى أن تكون مَنِيَّتي ... بكفَّيّ (¬1) إلَّا أنَّ ما حانَ حائنُ [ثم جعل يلثُم تراب المَطِيّ ويقول: وما أحببتُ أرضكُمُ ولكن ... أُقَبِّلُ إثْرَ مَنْ وَطِئ الترابا لقد لاقَيتُ من كَلَفي بلُبْنَى ... بلاءً ما أُسِيغُ به الشَّرابا إذا نادى المنادي باسم لُبْنى ... عَييتُ فما أُطِيقُ له جوابا] (¬2) ثم كان يخرج إلى الأحياء ويُنشد الأشعار ويبكي، فقيل له: منذ كم أنت بهذا الوَجْد؟ فقال: تَعلَّقَ روحي رُوحَها قبلَ خَلْقِنا ... ومن بعدِ ما كنَّا نِطافًا وفي المَهْدِ فزادَكما زِدْنا فأصبحَ ناميًا ... وليس وإنْ مِتْنا بمنفصمِ (¬3) العهدِ ولكنّه باقٍ على كلِّ حالةٍ (¬4) ... وزائرُنا دي ظُلْمةِ القبرِ واللَّحْدِ يكاد فَضِيضُ الماء (¬5) يَخْدِشُ جِلْدَها ... إذا اغتَسَلَتْ بالماء من رِقَّةِ الجِلْدِ قال الزُّبير بن بكَّار: أنشد أبو السائب المخزومي هذه الأبيات، فحلف لا يزالُ يقومُ ويقعدُ حتى يحفظها (¬6). [قال هشام: ومرضَ مرضًا شديدًا فجيء بطبيب، فقال له: ما الَّذي تجدُ ممَّا تشتكي؟ فتَنَهَّدَ وتأسف وأنشد: هل الحبُّ إلَّا زَفْرَةٌ بعد زَفْرَةٍ ... وحَرٌّ على الأحشاء ليس له بَرْدُ وفَيضُ دموعٍ تستهلُّ إذا بدا ... لنا عَلَمٌ من أرضكم لم يكن يَبْدُو] (¬7) ¬

_ (¬1) فِي "الأغانِي" 9/ 185: بكفَّيك. (¬2) ما بين حاصرتين من (ص) و (م). وينظر "الأغاني" 9/ 185 - 186. (¬3) فِي "الأغاني" 9/ 194: إذا متنا بمنصرم. وفي ص 196: بمنتقض. (¬4) فِي "الأغاني": حادث. (¬5) أي: ما تناثر منه. وتحرفت لفظة "فضيض" فِي (أ) و (ب) و (خ) إلى: بصيص، ولم يرد هذا البيت، ولا كلامُ الزبير بن بكار الآتي بعده فِي (ص) و (م)، وسيرد فيهما أواخر الترجمة من رواية الخرائطي، وسأذكره فِي الحاشية، كي لا يتكرر. (¬6) تاريخ دمشق 59/ 98 - 99 (طبعة مجمع دمشق). (¬7) ما بين حاصرتين من (ص) و (م). وينظر "الأغاني" 9/ 196، وفيه: هل الحبُّ إلَّا عَبْرَة بعد زفرةٍ.

ولما اشتهر حديثُه [ووَجْدُه بها] شكاه أبوها إلى معاوية، وقال: زوَّجتُه إيَّاها، فطلَّقَها وفضحني، فكتب له إلى مروان [بن الحكم]-وكان عاملَه على المدينة- بإهدار دمه، فرحلَ قيس إلى يزيد بن معاوية، فمدحه وشكا إليه حاله وما يلْقَى، فرَّق له، وأجازه، ووصلَه، وأخذ له كتاب أبيه إلى مروان بالأمان، وأن يُقيم حيث أحبُّ، فأتى محلَّةَ أهلها، فنزل عن راحلته، وتتبع مواطئ [أقدام] بعيرها، وجعل يمرِّغ خدَّيه ويبكي ويقول: إلى الله أشكو فَقْدَ (¬1) لُبْنَى كما شكا ... إلى الله فَقْدَ الوالدَينِ يتيمُ يتيمٌ جفاه الأقربون فعهدُه ... جديد وعهدٌ بالديار قديمُ (¬2) بَكَتْ دارُهُمْ من بُعْدِهمْ (¬3) فتهَلَّلَتْ ... دموعي فأيَّ الجازِعَينِ ألُومُ أفي العَدْلِ هذا أنَّ قلبكِ فارغٌ ... صحيحٌ وقلبي فِي هواكِ سقيمُ وبلغ زوجَها، فحَجَبَها عن الخروج، وكان أبوها قد زوَّجها، فقال (¬4): فإنْ يَحْجُبُوها أو يَحُلْ دون وصلِها ... مقالةُ واشٍ عند كلِّ أميرِ فلن تمنعوا عينيَّ أن تذرفَ الدِّما ... ولن يُذْهِبوا ما قد أَجَنَّ ضميري إلى الله أشكو ما أُلاقي من الهوى ... ومن حُرقٍ تعتادني بزفيري (¬5) وكُنَّا جميعًا قبل أن يظهر الهَوَى ... بأنعم حالِ غِبْطةٍ وسرورِ فما بَرحَ الواشون حتَّى بدت لنا ... بطونُ الهوى مقلوبةً لظهور (¬6) [وقال هشام: ] فرمى بنفسه على الحسين وعبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق بأن يكلِّمُوا زوجَها، فدفع عبد الله بنُ جعفر لابن أبي عتيق عشرة آلاف درهم وكسوة وقال: اخرجْ إلى زوجها فكلِّمه. فخرج إليه فما زال حتَّى فارقها وأخذ المال، فقال قيس [يمدح ابن أبي عتيق]: جزى الرحمنُ أفضلَ ما يجازي ... على الإحسانِ خيرًا من صديقِ ¬

_ (¬1) فِي (أ) و (ب) و (خ): بُعد. والمثبت من (ص) و (م) وهو الموافق لما فِي "الأغاني" 9/ 198. (¬2) فِي "الأغاني" 9/ 198: فجسمه نحيلٌ وعهد الوالدين قديم. (¬3) فِي "الأغاني": نأيهم. (¬4) فِي (م): وكان أبوها قد زوَّجها بعد فراقها من قيس، فلما حَجَبَها زوجُها قال. (¬5) فِي (م): وزفير. وكذا فِي "الأغاني" 9/ 200. (¬6) الأبيات فِي "الأغاني" 9/ 205 - 206 باختلاف يسير. وما بعده فيه 9/ 219 - 220 بنحوه.

السنة التاسعة والستون

فقد جَرَّبْتُ إخواني جميعًا ... فما لاقيت كابن أبي عتيقِ سَعَى فِي جمع شَمْلي بعد صَدْعٍ ... وأمرٍ جُرْتُ فيه عن طريقِ وأطفأَ لوعةً كانَت بقلبي ... أَغَصَّتْني حرارتُها بريقي فقال له ابنُ أبي عتيق: يا حبيبي، أمْسِكْ عن هذا الشعر، فما سمعه أحد إلَّا وظنَّني قوَّادًا. فماتت لُبنى فِي العِدَّة، ولم يجتمعا، ومات فِي هذه السنة عقيب موتها. وقيل: إنهما اجتمعا، ثم ماتا بعد ذلك (¬1). ولقيس فِي الحماسة (¬2): وكلُّ مصيباتِ الزمانِ وجَدْتُها ... سوى فُرْقةِ الأحباب هيِّنةَ الخَطْبِ (¬3) وقلتُ لقلبي حين لجَّ بيَ الهوى ... وكلَّفني ما لا أُطيقُ من الحُبِّ إلا أيُّها القلبُ الَّذي قادَه الهوى ... أفِقْ لا أقرَّ اللهُ عينَكَ من قلبِ السنة التاسعة والستون (¬4) فيها شرع عبد الملك بن مروان فِي عِمارة القبَّة على صخرة بيت المقدس، وعِمارة الجامع الأقصى (¬5)، وقيل: إنما شرع فِي ذلك سنةَ سبعين، وفرغ منها سنة اثنتين وسبعين (¬6). ¬

_ (¬1) بعدها فِي (ص) و (م): قلت: وهذا قول هشام وأبي الفَرَج. وقال الخرائطي -وقد تقدَّم إسنادنا إليه- بإسناده إلى الزبير بن بكار قال: أنشد أبو السائب المخزومي قول قيس: تعلَّق روحي روحَها، وأنشد الثلاثة أبيات وزاد بيتًا رابعًا: يكاد فضيض الماء يخدش جلدها ... إذا اغتسلت بالماء من رقَّة الجلد فحلف أبو السائب لا يزال يقوم ويقعد حتَّى يحفظ الأبيات. وقد سلف هذا الكلام قريبًا من (أ) و (ب) و (خ). (¬2) وقع بدل هذه العبارة فِي (ص) و (م) ما صورته: وقيس بن ذريح من شعراء الحماسة، وأنشد له أبو تمام ... إلخ. (¬3) لم أقف فِي "حماسة" أبي تمام إلَّا على البيت الأول 3/ 1251 (بشرح المرزوقي). والأبيات الثلاثة فِي "الحماسة البصرية" 2/ 101، ورواية البيت الأول فيه: وكل مُلمَّات الزمان ... وورد البيت الأول فِي أبيات له فِي "الأغاني" 9/ 188 - 189. (¬4) أضيفت بدءًا من هذه السنة نسخة أخرى من مكتبة أحمد الثالث، ورمزها (د). (¬5) نقله ابن كثير عن المصنف فِي "البداية والنهاية" 12/ 41 فِي أحداث سنة (66). (¬6) فِي "البداية والنهاية": سنة (73).

وفيها قَتَلَ عبدُ الملك بنُ مروان عَمرو بنَ سعيد بن العاص [وكان قد عصى (¬1) بدمشق لما نذكر]. وفيها كانت حروب كثيرة بالجزيرة، منها حرب عبد الملك لزُفَر بن الحارث الكلابي، وكنيتُه أبو الهُذَيْل. وكان مروان قد بعث (¬2) عُبيد الله بنَ زياد إلى الجزيرة والعراق فِي ستين ألفًا، فلم يبلغ الجزيرة حتَّى مات مروان، فأقرَّه عبد الملك على ما كان ولَّاه أبوه عليه. فسار إلى قرقيسيا، فحاصر زُفَرَ بنَ الحارث مدَّة، فلم يقدر منه على شيء، ووصلَ جيشُ التوَّابين مع سليمان بن صُرد [وقُتل ابن صُرد]. وجاء بعده ابنُ الأشتر، وسار إلى (¬3) ابن زياد والتقيا على الزَّاب (¬4)، فقتلَه إبراهيم [بنُ الأشتر] واشتدّت شوكة زُفر [بن الحارث] والقيسيَّة معه، فاستخلفَ عبدُ الملك [بن مروان] على دمشق عبد الله بنَ يزيد بن أسد أبا خالد بن عبد الله القَسْري (¬5). وسار عبد الملك، فلما شارف الفرات انخزلَ عمرُو بنُ سعيد عنه، وعاد إلى دمشق، فأغلقَ أبوابَها، وبايعه (¬6) عبدُ الله بنُ يزيد القَسْري وغيرُه. ثم عاد إليه عبدُ الملك، فخدعَه حتَّى فتح أبواب دمشق، وقتلَه، ثم استخلفَ على دمشق عبدَ الرحمن بن أمّ الحَكَم الثقفي (¬7). ولمَّا وصل عبد الملك إلى قرقيسيا حصر زُفَر، فصالحه بعد أن نصبَ عليه المجانيق (¬8). ¬

_ (¬1) كذا فِي (ص) و (م) (والكلام بين حاصرتين منهما) ولعلها: تحصَّن. (¬2) فِي (ص): واختلفوا فيه، فذكر هشام بن عمار الدمشقي وقال: كان مروان قد بعث ... إلخ. (¬3) فِي (ص): إليه. (¬4) فِي (أ): الفرات. (¬5) لم ترد لفظة "القسري" فِي (ص). وتحرفت فِي (أ) و (ب) و (خ) و (د) إلى المقري. وكذا فِي الموضع الآتي (والكلام ليس فِي م). (¬6) فِي (د): وتابعه. (¬7) فِي (ص): عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي، وأمه أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب أخت معاوية. (¬8) أنساب الأشراف 6/ 140 - 141.

وكان خالد بن يزيد بن معاوية مع عبد الملك يقاتل أهل قرقيسيا مع أخواله كلب، ومعه موالي معاوية، فألحَّ خالد عليهم بالقتال حتَّى كاد يظفر، فقال رجل من أهل قرقيسيا: لأُسمعنَّه كلامًا يردعُه. فلما غدا على القتال؛ ناداه: يا خالد، ما تبتغي؟ ثم أنشد: ماذا ابتغاءُ خالدٍ وهمُّهُ ... إذ سُلبَ الملكَ ونيكت أمُّهُ؟ فانكسر خالد واستحيا، ولم يعد إلى القتال حتَّى صالح زفر عبد الملك (¬1). ولما اشتدَّ الحصار بزفر؛ قال لابنه الهُذَيل: واللهِ لئن لم تشدَّ عليهم غدًا شَدّةً لا تنثني حتَّى تضربَ فسطاط عبد الملك؛ لأقتلنَّك. فلما أصبحَ خرج الهُذيل فِي القيسيَّة، وأقبلَ عبد الملك فِي جيوشه، فحمل الهُذيل، فخرق الصفوف، وضرب فسطاط عبد الملك بالسيف حتَّى قطعَ أطنابه، ثم كرَّ راجعًا إلى قرقيسيا، فقام أبوه، فقبَّلَ ما بين عينيه وقال: واللهِ يا بُنيَّ، لا يزالُ عبد الملك يحبُّك بعدها. ثم قال زُفَر: ألا لا أُبالي مَنْ أتاهُ حِمامُهُ ... إذا ما المنايا عن هُذيلٍ تخلَّتِ تراه أمامَ الخيل أوَّلَ فارسٍ ... ويضربُ فِي أعجازها إنْ تَوَلَّتِ (¬2) و[قال المدائني: ] قاتل عبدُ الملك زُفَرَ أربعين يومًا، فلما يئس منه كتب إليه مع رجاء بن حَيْوة والحجَّاج بن يوسف يدعوه إلى الصلح، فوافياه بالكتاب وقد حضرت الصلاة، فصلَّى رجاء مع زُفَر، وصلَّى الحجَّاج وحدَه وقال: لا أُصلِّي مع منافق (¬3). وبلغ عبدَ الملك، فلما رجعا قال لرجاء. هلَّا فعلتَ كما فعل الحجَّاج؟ فقال: ما كُنْتُ لأدع الصلاة فِي جماعة وأصلِّي منفردًا. ثم اصطلحا على أن لا يقاتل زُفَر مع عبد الملك حتَّى يموت ابنُ الزبير؛ لأنه كانت [له] فِي عنقه بيعة (¬4). ولما خرج زُفَر إلى عبد ¬

_ (¬1) المصدر السابق 6/ 144. (¬2) أنساب الأشراف 6/ 145. (¬3) فِي (ص): مشاقق. وفي "أنساب الأشراف" 6/ 148: مشاق منافق. (¬4) أنساب الأشراف 6/ 148. وما سلف بين حاصرتين من (ص).

الملك رأى فِي أصحاب زُفر قلَّة (¬1)، فقال: لو علمتُ أنَّ الحال كذا؛ ما صالحتُه. وبلغَ زُفَرَ، فقال: يا عبد الملك، إنْ شئتَ رَدَدْناها وعُدْنا إلى الأول؟ فقال: لا يا أبا الهُذَيل. و[قال أبو اليقظان: ] لما خرج زُفر إلى عبد الملك؛ أجلَسه معه على سريره، فقال له ابن عضاه الأشعري: أنا كُنْتُ أحقَّ منه بهذا المجلس. فقال زُفَر: كذبتَ، لستَ هناك، إني عادَيتُ فأضرَرْتُ، وواليتُ فنفعتُ. وقال الأخطل الشاعر لعبد الملك: أتُدْني هذا منك وقد حاولَ سَلْبَ نعمتِك؟ ! وهو القائل: وإنِّي زُبيريُّ الحياةِ فإنْ أمُتْ ... فإنِّي لَمُوصٍ هامتي بالتزبُّرِ فغضب عبد الملك واحمرَّتْ عيناه، فقال له زُفَر: يا عبدَ الملك، لا تسمعنَّ قول ابنِ النصرانيَّة، فإنَّما رُبِّيَ لحمُه على لحم الخنزير والخمر والكفر بالله، عدوّ الله وعدوّ رسولِه، فإنا قاتلناك بالأمس، وواليناك اليوم، فنحن اليومَ على طاعتك أشدُّ ممَّا كنَّا عليه فِي معصيتك (¬2). ولما كثَّر الناس على زُفَر عند عبد الملك؛ انقبضَ عنه، فدخل عليه يومًا، فمدَّ عبدُ الملك رِجْلَه مكانًا يقعدُ فيه زُفَر، فقال له زُفر: كُفَّ رِجْلَكَ يا عبدَ الملك عن مجلس خالِك، وفِ لي بصفقة يمينك كما وفيتُ لك بصفقة يميني. فكفَّ عبدُ الملك رِجلَه، وجلسَ زُفر (¬3). ويعني قول زُفَر: عن مجلس خالك: أنَّ أمَّ أميَّة (¬4) بنت أبان بن كُليب بن ربيعة بن عامر. وزُفَر (¬5) بن الحارث بن عَبْد عَمرو بن مُعاز [بعين مهملة وزايُ معجمة] الكلابي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الجزيرة. ¬

_ (¬1) فِي (أ) و (ب) و (خ) و (د): رأى فِي أصحابه قلَّة. والمثبت من (ص). (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 149، و"تاريخ دمشق" 6/ 421 (مصورة دار البشير). (¬3) المصدر السابق. (¬4) فِي "أنساب الأشراف" 6/ 150: يعني أن أم عبد شمس من بني سُليم، وأم أمية ... إلخ. (¬5) فِي (ص): وقد ذكره ابن عساكر فقال: زفر ... إلخ وهو فِي "تاريخ دمشق" 6/ 420 (مصورة دار البشير) وما سيرد بين حاصرتين من (ص).

وبعثَه معاوية إلى عائشة - رضي الله عنه - بوقعة صفِّين، وكان قد نزل البصرة، وتحوَّل إلى الشام بعد وقعة الجمل، وكان أميرًا مع معاوية فِي صفِّين على أهل قِنَّسْرِين. و[قال ابن ماكولا: ] (¬1) كان سيَّدَ قومِه فِي؛ مانه، وله أخبار وأشعار. وأسندَ الحديث عن عائشة - رضي الله عنها -، ومعاوية. وكان له أولاد: الهُذَيْل، وكوثر، والرَّباب، وكانت الرَّباب عند مَسْلَمة بن عبد الملك، فكان يؤذَن عليه (¬2) لأخويها الهُذَيل وكوثر أوَّلَ الناس. وقُتل له يومَ مَرْج راهط ثلاثةُ بنين. وقيل: إن أباه الحارث بن كِنْدة (¬3)، وقيل: إنه مات فِي أيام عبد الملك بن مروان. [قلت: ] وزُفر من شعراء الحماسة، فمن شعره فيها قولُه: وكُنَّا حَسِبْنا كلَّ بيضاءَ شحمةً (¬4) ... لياليَ لاقَينا (¬5) جُذامَ (¬6) وحِمْيَرَا فنلمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بعضَهُ ... ببعضٍ أبَتْ عِيدانُهُ أنْ تَكَسَّرا (¬7) ولمَّا لَقِينا عُصْبَةً تَغْلِبيَّةً ... يقودون جُرْدًا (¬8) للمنيَّةِ ضُمَّرَا سَقَيناهُمُ كأسًا سَقَوْنا بمثلها ... ولكنَّهم كانوا على الموتِ أَصْبَرَا ¬

_ (¬1) الإكمال 7/ 273، وتاريخ دمشق 6/ 421. (¬2) فِي (أ) و (د) (والكلام منهما): عليها. والمثبت من "أنساب الأشراف" 6/ 151. (¬3) فِي المصدر السابق: وكان يقال: إن زفر بن الحارث من كندة. (¬4) قال المرزوقي فِي "شرح الحماسة" 1/ 155: حكى الأصمعي فِي الأمثال: ما كلُّ بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة. والمعنى: ليس كلُّ ما أشبه شيئًا ذلك الشيء. اهـ. ونُسبت الأبيات فِي "أنساب الأشراف" 6/ 175 لعُمير بن الحُباب السُّلمي، وفيها: حَسِبنا كل سوداء تمرة. (¬5) فِي "الحماسة" 1/ 155 (شرح المرزوقي): قارعْنا. (¬6) فِي (أ): جُذامًا. (¬7) النَّبْع: خير الأشجار التي يتَّخذُ منها القِسيّ وأصلبُها كما أن الغَرَبَ شرُّها وأرخاها، فجعلت العرب تضرب المثل بها فِي الأصل الكريم واللئيم. يقول: لما قرعنا أصلهم بأصلنا أبت العيدان من التكسُّر. قاله المرزوقي فِي "شرح الحماسة" 1/ 156. (¬8) أي: خيلًا.

ومن حروب الجزيرة

ومن حروب الجزيرة يومُ الثَّرْثَار الأوّل وهو نهر (¬1) ينزع من ماء (¬2) نَصِيبِين، ويفرغ فِي دجلة بين الكُحيل ورأس الإيَّل، وهو جبل (¬3). حَشَدَتْ تغلب النَّمِر بن قاسط وبني شيبان وغيرهم، وكان عليها زياد (¬4) بن هَوْبَر التغلبي، وعلى قيس عميرُ بن مالك بن الحُباب السُّلَمي (¬5)، فالتَقَوْا بالثَّرْثَار، فاقتتلُوا، فكانت الدَّبَرَة (¬6) على قيس، فَقَتَلتْ تَغْلب منهم مقتلةً عظيمة. وفي ذلك يقول الأخطل: لَعَمْري لقد لاقَتْ سُليمٌ وعامرٌ ... إلى جانب الثَّرْثارِ راغيةَ البَكْرِ (¬7) يوم الثرثار الثاني تجمَّعت قيس وعليها عُمير بنُ مالك بن الحُباب السُّلَمي، وأتاهم زُفَر بنُ الحارث من قرقيسيا، وكان عبد الملك مشغولًا عنه بعمرو بن سعيد، وكان على تَغْلب زيادُ بنُ هَوْبَر، وكان زُفَر نجدةً لقيس، فكانت الدَّبَرة (¬8) على تَغْلب، فقُتل منهم خلقٌ عظيم، وانهزم الباقون. ¬

_ (¬1) عبارة (ص): ... يوم الثرثار. قال الجوهري: الثرثار اسم نهر. ولم يعيّنه. وعيَّنَه البلاذري فقال: هو نهر ... (¬2) فِي "أنساب الأشراف" 6/ 166: هرماس، بدل: ماء. (¬3) ينظر "معجم ما استعجم" 6/ 211 و 338. (¬4) ويقال: يزيد، كما فِي "أنساب الأشراف" 6/ 166. (¬5) كذا وقع هنا وفي الموضع التالي، وهو وهم، وإنما هو عُمير بن الحُباب. (¬6) فِي (ص): الدائرة. (¬7) ينظر "أنساب الأشراف " 6/ 166 - 168 و"ديوان" الأخطل ص 133. وقوله: راغية البَكْر؛ قال المبِّرد فِي "الكامل" 1/ 7: أراد أنَّ بَكْرَ ثمْود رغا فيهم فأُهلكوا، فضَرَبَتْه العربُ مثلًا .. (¬8) فِي (ص): الدائرة. وكذا فِي الموضع الآتي.

يوم السكير

يوم السُّكَيْر ويقال له: سُكَيْر العبَّاس، قريةٌ بين الخابور والفرات، وعلى قيس عُمير بنُ الحُباب، وعلى تغلب ابنُ هَوْبَر، فكانت الدَّبَرة على تَغْلب. يوم الحَشَّاك [بتشديد الشين المعجمة؛ قال الجوهري: هو اسم نهر. ولم يُعَيِّنْه. وقال الهيثم: ] (¬1) هو نهرٌ يأخذُ من الهِرْماس، قريب من الشرعَبيَّة، وإلى جنبه بَراق، وكان عُمير بن عبد الله بن الحباب (¬2) السُّلَمي قد ألحَّ على تَغْلب بالغارات والقتل، فاستصرخوا عليه القبائل، فاجتمعوا. وجاء زُفَر بنُ الحارث من قرقيسيا ومعه ابنُه الهُذيل، وعلى تَغْلب بنُ هَوْبَر، فاقتتلُوا ثلاثةَ أيام، وتعاقدت [تَغْلب] على أنَّها لا تفرّ، وأن تموتَ على دم واحد. فقال عُمير بن الحُباب (¬3) لقيس: هؤلاء قد استقتلُوا، والرأيُ أن ننصرفَ عنهم، فإذا اطمأنُّوا رجعنا عليهم. فقال [له] عبد العزيز بن أبي حاتم (¬4) الباهليّ: يا ابن الصَّمْعاء، قُتِلَتْ بالأمس فرسانُ قيس، ثم مُلِئ اليوم سَحْرُك فجَبُنْتَ (¬5)؟ ! فغضب عُمير وقال: كأني بك أوَّلَ دارّ. ثم ترحَّل عُمير، وقاتَل قتالًا لم يُرَ مثلُه. وجاء الخبر إلى زُفر أنَّ عبد الملك قاصدُه، فهربَ إلى قرقيسيا، وطمعت فيهم بنو تَغْلب، وقُتل ابنُ هَوْبَر، وعُمير بنُ مالك (¬6) قتلَه جميل بنُ قيس، وانهزمت قيس، وقُتلت فرسانُها حول عمير، وبعثَتْ تَغْلب برأس عُمير إلى عبد الملك وهو بغوطة دمشق، وكانت تَغلب مروانيَّة، وقيس زُبَيْريَّة. وقد ذكر الأخطل هذه الوقعة فِي شعره (¬7). ¬

_ (¬1) الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) كذا فِي النسخ، وسلف باسم: عمير بن مالك بن الحباب، وكلاهما وهم، وإنما هو عُمير بن الحُباب. (¬3) فِي (ص): عُمير بن مالك بن الحباب. وهو خطأ. (¬4) فِي "أنساب الأشراف" 6/ 173: عبد العزيز بن حاتم. (¬5) السَّحْر -ويحرَّك ويضمّ: - الرِّئة، يقال: انْتَفخَ سَحْرُهُ، أي: امتلأ خوفًا وجُبنًا. ويقال أيضًا: انتفخ سَحْرُه، أي: عدا طَوْرَه وجاوز قَدْرَه. (¬6) كذا فِي النسخ. وإنما هو عُمير بن الحُباب. وسلف قريبًا فِي موضعين: عمير بن مالك بن الحباب، وفي موضع آخر: عُمير بن عبد الله بن الحباب، وهو خطأ. (¬7) ينظر "أنساب الأشراف" 61/ 173 - 174. وسياقة الخبر فيه أحسن.

يوم الشرعبية

وعُمير بن الحُباب (¬1) فارس بني سُليم؛ [قال ابنُ عُبيد: ] وكانت الروم قد أَسَرَتْه، فسأله ملك الروم أن يتنصَّر ويزوِّجَه ابنتَه ويُقاسمَه ملكه، فأبى (¬2). وأمّه الصَّمعاء، وقيل: هي جدَّتُه. والصَّمعاء: الصغيرة الأذن: وكانت منازلُه على البَلِيخ. [وهو الَّذي قال لابنِ الأشتر يوم الخازِر: إذا التقينا؛ صِرْتُ إليكم. وغَدَرَ] (¬3)، وكان زُبيريًّا يُبغض آل مروان، وكانت بينه وبين [آل] تَغْلب حروب كثيرة يُطالبُهم بقتلى مرج راهط من القيسية. يوم الشَّرْعَبِيَّة مكانٌ بالجزيرة، وكان لتَغْلب على قيس (¬4). يوم الفُدَين قرية على شاطئ الخابور (¬5)، وكانت الدَّبَرة على تَغْلب. يوم الكُحَيل وكان يومًا عظيمًا على تَغْلب. والكُحَيل مكانٌ بأرض الموصل غربيّ دِجْلة. وسببُ هذه الوقعة أنَّه لمَّا قُتل عُمير بن الحُباب (¬6)؛ قام أخوه تميم فِي القبائل، فاجتمعوا إليه، وأتى زفرَ بنَ الحارث يستصرخُه، فامتنع من نصره، فقال له ابنُه الهُذَيل: واللهِ لئن ظُفر بهم إنَّ ذلك لعارٌ عليك، وإن ظفروا به وقد خذلْتَهم إنَّ ذلك لأشدّ. ¬

_ (¬1) فِي (ص): عمير بن عبد الله بن الحباب، وهو خطأ. وانظر الكلام قبل تعليق. (¬2) الَّذي فِي "تاريخ دمشق" 56/ 129 (طبعة مجمع دمشق) أن الَّذي عرض عليه ذلك هو أحد البطارقة، وليس ملك الروم، وهو الأشبه. (¬3) ينظر ما سلف 410 - 411 وما بعدها (خبر مقتل عُبيد الله بن زياد سنة 67). (¬4) أنساب الأشراف 6/ 172. (¬5) قال فِي "أنساب الأشراف" 6/ 170: والعامَّة تسمي هذه القرية: الصُّوَر، وهي قريبة من الفُدَين، بينهما نحو أربعة فراسخ. (¬6) فِي (ص): عمير بن مالك بن الحباب.

يوم ماكسين

فاستخلف [زُفر] على قرقيسيا أخاه أوسَ بن الحارث، وسار يُنجد قيسًا، وبنو تَغْلب نازلون بالكُحَيل، وقيل: بالعَقِيق. فلمَّا أحَسُّوا بهم ارتحلوا ليعبروا دِجْلة، فلحقَهم زُفر فِي قيس، والتَقَوْا، فترجَّلت القيسيَّة، و [بقي] زُفر على بغلة له، فقتلوهم يومًا وليلة، وبقروا بطونَ نسائهم، وغرق فِي دجلةَ أكثرُ ممَّن قُتل، وأَسَرَ زُفر من فرسانهم مئتين، فقتلَهم صبرًا بعُمير بن الحُباب السُّلَمي، وكان نسيب زُفر (¬1). يوم ماكسين التقَوْا على قنطرة ماكسين بالخابور، وكان على تَغْلب شُعيث بن مُلَيل (¬2)، فقُتل، وانهزمت تَغْلب، وقُتل مع شُعيث خمسُ مئة من فرسان تَغْلب. وقد ذكرها جرير فقال: تركوا شُعيثَ بني مُلَيلٍ مسنَدًا (¬3) يوم المعارك وهو مكان بين الحَضْر والعَقِيق بأرض الموصل، كانت الدَّبَرةُ (¬4) على تَغْلب، وفيه يقول ابن صفَّار: ولقد تركنا بالمعاركِ منكمُ ... والحَضْرِ والثَّرثارِ أجسادًا جُثَا (¬5) وحجَّ بالناس عبدُ الله بنُ الزُّبير، وكان الأمير على الكوفة والبصرة مصعب بنُ الزُّبير، وعلى قضاء الكوفة شُرَيح، وعلى قضاء البصرة هشامُ بن هُبيرة، وعلى خراسان عبد الله بنُ خازم السُّلَمي (¬6). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 6/ 178 - 179. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) المثبت من (ص)، وفي باقي النسخ: بليل (وكذا فِي الوضع الآتي). (¬3) أنساب الأشراف 6/ 164. وعجز البيت فيه: والآسِيَينِ وأقْعَصُوا شُعرُورا. وعَجُزُه فِي "ديوان" جرير 1/ 231: والشعثمين وأسلموا شُعرورا. وفي حاشيته: والأشيبين، نسخة، بدل: والشعثمين. (¬4) فِي (ص): الدائرة. (¬5) أنساب الأشراف 6/ 171. (¬6) تاريخ الطبري 6/ 149.

الأحنف بن قيس

وفيها توفّي الأحنف بن قيس التميمي البصري، أبو بحر، و [اختلف فِي اسمه، فقال ابن سعد: ] اسمُه الضَّحاك بنُ قيس بن معاوية بن حُصين بن عُبادة (¬1) بن النَّزال. [وقال أبو اليقظان؛ وتقدم الإسناد إليه: هو صخر بن قيس بن معاوية بن حُصين. وقيل: الحارث. وما ذكره ابن سعد أشهر. والأَحْنَفُ لقبٌ له، وكانت أمُّه من بني قراض من باهلة، ولدَتهُ وهو أحنفُ. والحَنَف: المَيل]. وكان أحنفَ الرجلين، فكانت أمُّه ترقِّصُه، وتقول: والله لولا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ ... ودقَّةٌ فِي ساقه من هزلِهِ ما كان فِي فتيانِكم من مِثْلِهِ [وذكره الجوهري فقال: الحَنَف: الاعوجاج فِي الرِّجْل، وهو أن تُقبل إحدى إبهامي رجليه على الأخرى، ومنه سمِّي أحنف بن قيس. قال: واسمه صخر. قال: وقال ابن الأعرابي؛ هو الَّذي يمشي على ظهر قدمه من شِقِّها الَّذي يلي خنصرها]. وهو من الطبقة الأولى (¬2) من التابعين من أهل البصرة، أدرك عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يره. وكان أبوه يُكنى أبا مالك، قتلته بنو مازن فِي الجاهلية. وأمُّ الأحنف حُبَّى بنت عمرو بن ثعلبة الباهلي (¬3). وقيل: بنت قُرط بن عمرو (¬4). [وقال هشام: حَبَّة بنت عمرو بن قُرط بن ثعلبة. ¬

_ (¬1) فِي النسخ الخطية: قتادة، والمثبت من "أنساب الأشراف" 11/ 388، و"طبقات ابن سعد" 9/ 92. ووقع فِي "المعارف" ص 423: عبَّاد. (¬2) فِي (ص) و (م): وذكره ابن سعد فِي الطبقة الأولى ... وهو فِي "طبقات ابن سعد" 9/ 92. وما سلف بين حاصرتين من (م) وبعضه فِي (ص). (¬3) نُسب هذا القول فِي (ص) و (م) لأبي اليقظان. وينظر "أنساب الأشراف" 11/ 389. (¬4) نسب هذا القول فِي (ص) و (م) للهيثم. والكلام بعده بين حاصرتين منهما.

وقد حكاه ابن عساكر قال: ] وأخوها الأخطل بن قُرط، كان من الشجعان، وكان الأحنف يفتخر به ويقول: من له خالٌ كخالي (¬1)؟ ذكر صفته: [قال ابن عساكر: ] كان أعور، قصيرًا، دميمًا، أعوجَ الساقين (¬2). [وقال هشام: ولدته أمه] ملتصق الأليتين، فشقُّوا ما بينهما (¬3)، وكانت له بيضةٌ واحدة [وهذا من العجائب]. ذكر طرف من أخباره: [قال ابن سعد بإسناده عن الحسن: ] (¬4) قال الأحنف: بينا أنا أطوف بالبيت فِي زمن عثمان بن عفَّان؛ إذْ لقيني رجل من بني ليث، فأخذ بيدي، فقال: ألا أُبشِّرك؟ قلت: بلى. قال. تذكرُ إذْ بعثَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومك بني سعد، فجعلتُ أعرضُ عليهم الإسلام، وأدعوهم إليه؟ فقلت أنتَ: إنه ليدعو إلى خير، وما أسمع إلَّا حسنًا. قال: فإنِّي ذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اللهمَّ اغفِرْ للأحنف". قال الأحنف: فما شيءٌ أَرْجَى عندي من ذلك. [وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (¬5). قال: ] وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: الأحنف سيِّد بني تميم (¬6). [وقال ابنُ سعد بإسناده عن الحسن: إنَّ الأحنف قدمَ على عمر بن الخطاب، فاحتبَسَهُ حَوْلًا. ثم قال: هل تدري لم حبستُك؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوَّفَنا (¬7) كلَّ منافقٍ عليم اللسان. ولستَ منهم إن شاء الله]. ¬

_ (¬1) ينظر "المعارف" ص 423. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 8/ 425 (مصورة دار البشير). وما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬3) ينظر "المعارف" ص 423. (¬4) ما بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 92. وهو فِي "المسند" (33161). وينظر "أنساب الأشراف" 11/ 389 و 400. والكلام بين حاصرتين فِي هذا الموضع من (ص). (¬6) ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 93. (¬7) فِي (م): قال، يدل: خوَّفنا. والمثبت من (ص)، وهو الموافق لما فِي طبقات" ابن سعد 9/ 93. وخبر ابن سعد هذا الواقع بين حاصرتين من هاتين النسختين.

وقال الأحنف (¬1): قدمتُ على عمر، فاحْتَبَسَني عنده حَوْلًا، فقال: يا أحنف، قد بَلَوْتُك وخَبَرْتُك، فلم أرَ إلَّا خيرًا، ورأيتُ علانيتَك حسنةً، وأرجو أن تكونَ سريرتُك مثلَ علانيتك، فإنَّا كنَّا نتحدَّثُ أنَّما يُهلِكُ هذه الأمةَ كلُّ منافقٍ عليمِ اللسان. [قال: ] (¬2) وكتبَ عمر - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعريّ: أمَّا بعد، فأُذَنْ للأحنف بن قيس وشاورْه، واسْمَعْ منه. [قال: ] (¬3) وقال الحَسَن: ما رأيتُ شريف قوم كان أفضل من الأحنف. [قال: ] وقال الأحنف: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافةُ الجواب. [قال: ] وتكلَّم الناسُ عند معاوية والأحنف ساكت، فقال معاوية: تكلَّم يا أبا بحر، فقال: أخافُ اللهَ إن كذبتُ، وأخافُكم إن صدقتُ (¬4). [قال هشام: ] وأغلظ رجل للأحنف، فلمَّا وصلَ إلى نادي قومه؛ وقفَ وقال: إن كان عندك شيء آخر فقل، لئلا يسمعَك قومي، فيؤذوك. [قال: وقال الأحنف: لست بحليم، ولكني أتحالم. قال: ] وكانت عامَّة صلاة الأحنف بالليل، وكان يضع المصباح قريبًا منه، ويضع أصبعه فيه، ثم يقول: حَسِّ، ثم يقول: يا أحنف، ما حملك على أن صنعتَ كذا فِي يوم كذا (¬5)؟ وقيل له: إنك شيخ كبير، وإنَّ الصيام يُضعفُك، فقال: إني أُعِدُّه لشرّ طويل. وكتب إليه عبد الملك بن مروان كتابًا يدعوه فيه إلى نفسه، فقال: يدعوني ابنُ الزرقاء إلى ولاية أهل الشام، واللهِ لوَدِدْتُ أنَّ بيني وبينهم جبلًا من نار، من أتانا منهم احترقَ فيه، ومن أتاهم منَّا احترق فيه (¬6). ¬

_ (¬1) فِي (ص) و (م): وفي رواية ابن سعد عن الأحنف قال ... وهو فِي "الطبقات" 9/ 93. (¬2) المصدر السابق. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 94. (¬4) المصدر السابق. (¬5) المصدر السابق. (¬6) أنساب الأشراف 11/ 427، وطبقات ابن سعد 9/ 95.

وقال الأحنف: قد عرفتُ من نفسي العجلة فِي ثلاث؛ صلاتي إذا حَضَرَتْ حتَّى أُصلِّيَها، وجنازتي إذا حَضَرَتْ حتَّى أُغَيِّبَها فِي حفرتها، وابنتي إذا خطبها كُفْؤها حتَّى أزوِّجَه إيَاها (¬1). وكانت فيه أناةٌ شديدة إلَّا فِي هذه الثلاث. [وقال الهيثم بن عديّ: لما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني تميم إلى الإسلام ولم يجيبوا؛ بلغ الأحنف فقال: إنه ليدعو إلى مكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها. وأسلم الأحنف ولم يلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما بلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دعا له، واستغفر له] (¬2). وبعثه عمر بن الخطاب رضوان الله عليه إلى خُراسان فِي جيش فيهم الحسن وابنُ سِيرِين، فَبَيَّتَ العدوَّ ليلًا وهو يقول: إنَّ على كلِّ رئيسٍ حقّا ... أن يَخْضِبَ الصَّعْدَةَ أو تَنْدَقَّا (¬3) ثم فتح مَرْوَرُوذ. ذكر طرف من سؤدده وكلامه: كان زياد بن أبيه يقول: قد بلغ الأحنف من الشرف والسؤدُد ما لا ينفعُه معه ولاية، ولا يضرُّه معه عزل، وإنه ليفرُّ من الشرف والشرف يتبعُه (¬4). وقيلَ للأحنف: ما السؤدُد؟ قال: أن يخرج الإنسان من بيته وحده، ويرجع ومعه جماعة. وقال الواقدي: وإلى الأحنف انتهى الحلم والسؤدُد. وقيل للأحنف: بأيّ شيء سوَّدَك قومُك؟ فقال: لو عاب الناسُ ماءً ما شربتُه (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) ما بين حاصرتين من (ص) و (م) وسلف نحوه أول الفقرة. وينظر "أنساب الأشراف" 11/ 389 و 400. (¬3) تاريخ دمشق 8/ 427 (مصورة دار البشير)، والصَّعْدة: القناة، وهو فيه بالروايتين. وينظر "المعارف" ص 425. (¬4) ينظر "التذكرة الحمدونية" 2/ 27، و"تاريخ دمشق" 8/ 429، و"المنتظم" 6/ 95. (¬5) فِي (ص) و (م): ... الماء لم أشربه، ونُسب الكلام فيهما لابن عساكر، وهو فِي "تاريخه" 8/ 428 (مصورة دار البشير).

وقال خالد بن صفوان: قال [لي] العباس بن الوليد بن عبد الملك: أخْبِرْني عن تسويدكم الأحنف، وكنتم حيًّا لم تملكوا فِي جاهليَّة قطّ؟ ! فقلت له: سادَنا فِي خِصال: ما رأينا أشدَّ سلطانًا على نفسه منه، وقد يكون الرجلُ عظيمَ السلطان على نفسه ولا يكون بصيرًا بالمحاسن والمساوئ، ولم نر أحدًا (¬1) أبصر منه بذلك، وكان لا يحسد، ولا يجهل، ولا يدفع الحقّ (¬2). [وقال الأصمعي: إنما أخذ الأحنف الحلم من قيس بن عاصم. وقد ذكرناه فِي سنة سبع وأربعين. وقال المدائني: ] وكان الأحنف يومًا عند معاوية فِي وجوه أهل الشام، فقام رجل، فسبَّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، فغضب الأحنف وقال: يا معاوية، لو علم هذا أنَّ رضاك فِي لعنِ الأنبياء لَلَعَنَهم، فاتَّقِ اللهَ، ودَعْ عنك [ذكر] أمير المؤمنين، فقد لقيَ ربَّه، وخلا بعمله، ولقد كان - واللهِ - المبرِّزَ بسَبْقِه، الطاهرَ ثوبُه، الميمونَ النقيبة، الَّذي عَمَّتْ مصيبتُه. فقال له معاوية: والله لتصعدنَّ المنبرَ، ولَتَسُبَّنَّه. فقال الأحنف: إن تُعْفِني فهو خيرٌ لك. قال: وكيف؟ قال: واللهِ لئن صعدث المنبر لأقولنَّ: إن معاوية أمرني بكذا وكذا. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمَّار: "تقتُلُك الفئةُ الباغية". فالعنوها. فقال معاوية: حسبُك (¬3). و[قال الأصمعي: ] قال معاوية [يومًا] للأحنف: أخبرني عن قول الشاعر: إذا ما مات مَيْتٌ من تميم ... فسرَّكَ أن يعيش فجِئْ بزادِ بخبزٍ أو بلحمٍ (¬4) أو بإقْطٍ (¬5) ... أو الشيءِ الملفَّف (¬6) بالبِجادِ ¬

_ (¬1) فِي (د): ولم يُر أحدٌ. (¬2) تاريخ دمشق 8/ 429، وما سلف وما يأتي بعده بين حاصرتين من (ص). (¬3) من قوله: فقال له معاوية: والله لتصعدنَّ المنبر ... إلى هذا الموضع، وقع فِي (أ) و (د) و (خ) بعد الخبر الآتي، وهو خطأ، والمثبت من (ص)، وهو الموافق لما فِي "العقد الفريد" 4/ 28 - 29. والخبر فيه بنحوه. (¬4) فِي (ص): بملح. (¬5) والأَقِط: لبن محمَّض يجفف حتَّى يستحجر، ويطبخ به. قال فِي "مختار الصحاح": ربما جاء فِي الشعر: إِقْط، وزن: سِقْط. ورواية البيت فِي "العقد الفريد"2/ 462: بخبزٍ أو بتمرٍ أو بسمنٍ. (¬6) فِي (خ): الملفلف (وكذا فِي الموضع الآتي).

ما الشيء الملفَّف [في البِجاد]؟ فقال [الأحنف]: السَّخينة. فقال معاوية: واحدةٌ بواحدة، والبادئ أظلم. [قال الأصمعي: ] أراد معاوية تبكيت الأحنف [وتعييره بالأَقِط]. والبِجاد: كساءٌ مخطَّط من أكسية الأعراب يجعلُون فيه الأَقِط. والسَّخِينةُ: دقيق كانت قريش تجعلُه فِي القِدْر، وتخلطُه بماء، وتأكلُه فِي زمان الجَهْد، فكانت تُعيَّرُ به. وفيه يقول حسان بنُ ثابت: زَعَمَتْ سَخِينَةُ أنْ تُغالِبَ رَبَّها ... ولَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلَّابِ (¬1) و[قال هشام: ] دخل الأحنف على معاوية، فقال له: يا أبا بَحْر، ما تقولُ فِي الأولاد؟ فقال: ثمار قلوبنا، وعمادُ ظهورِنا، فنحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإنْ طلبوا فأعْطِهِم، وإنْ غضبوا فأرْضِهم، ولا تكن عليهم ثقيلًا فيملُّوا حياتَك، ويتمنَّوْا وفاتَك. فقال معاوية: للهِ دَرُّك، دخلتَ عليَّ وأنا مملوءٌ غيطًا على يزيد، فسلبتَه (¬2) من قلبي. فلمَّا خرج الأحنف من عند معاوية؛ بعث إلى يزيد بمئة (¬3) ألف درهم ومئتي ثوب، فبعث يزيد بنصفها إلى الأحنف. [قال خليفة: ] وقال بعض أولاد الأحنف لجارية أبيه: يا زانية. فقالت: لو كُنْتُ زانيةً لأتيتُ بولد مثلِك. وبلغَ الأحنفَ، فقال: يا ليتَ ابني مات قبل هذا بعشرين سنة (¬4). وقال الأحنف: إنَّ من السؤدُد الصبرَ على الذُّلِّ، وكفى بالحلم ناصرًا (¬5). ¬

_ (¬1) العقد الفريد 2/ 462. والبيت منسوب أيضًا لكعب بن مالك. كما فِي "طبقات فحول الشعراء" 1/ 222، وهو فِي ديوانه" ص 153، وفيه: جاءت سَخِينة كي تُغالبَ ... ويعني هنا بسَخينة قريشًا. وينظر "سيرة" ابن هشام 2/ 261. (¬2) فِي "العقد الفريد" 2/ 437 (والخبر فيه بنحوه): فسللتَه. وينظر "أنساب الأشراف" 11/ 412. (¬3) المثبت من (ص) وهو الموافق لما فِي المصدر السابق. وفي غيرها: بمئتي. (¬4) بنحوه فِي "أنساب الأشراف" 11/ 394. (¬5) تاريخ دمشق 8/ 444 (مصورة دار البشير)، والمنتظم 6/ 94. ونُسب القول فِي (ص) و (م) لهشام.

وقال: ما نازعني أحد إلَّا وأخذتُ من أمري بإحدى ثلاث: إنْ كان فوقي عرفتُ قدره، وإن كان دوني رفعتُ نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضَّلتُ عليه (¬1). وقال: لا مروءة لكذوب، ولا راحةَ لحسود، ولا حيلةَ لبخيل، ولا سؤدُد لسيِّئ الخلق، ولا إخاء لملول (¬2). وقال: ما ذكرتُ أحدًا بسوء بعد أن يقوم من عندي، ولا سمعتُ كلمة إلَّا طأطأتُ رأسي لما هو أعظمُ منها (¬3). وقال: من فسدت بطانتُه كان كمن غَصَّ بالماء، ومن غصَّ بالماء فلا مساغَ له، ومن خانه ثقاتُه فقد أُتيَ من مأْمنِه (¬4). وقال: ما ادَّخرت الآباءُ للأبناء ولا أبقت الأموات للأحياء شيئًا أفضلَ من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب والآداب (¬5). وقال: تَرْبِيبُ المعروف (¬6) أوجبُ من اصطناعه، وله خِصال: تعجيلُه، وتسهيلُه، وتيسيرُه (¬7)، فمن أخل (¬8) بواحدةٍ منها، فقد بَخَسَ المعروف حقَّه. وقال: أَحْيِ معروفَك بإماتةِ ذِكْرِه (¬9). وشكا ابنُ أخي الأحنف إلى الأحنف ضِرْسَه، فقال الأحنف: لقد ذهبَتْ عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتُها لأحد (¬10). ¬

_ (¬1) العقد الفريد 2/ 283، وتاريخ دمشق 8/ 435، والمنتظم 6/ 95. (¬2) تاريخ دمشق 8/ 438، وصفة الصفوة 3/ 199، وبنحوه فِي "أنساب الأشراف" 11/ 406. (¬3) صفة الصفوة 3/ 199. وينظر "تاريخ دمشق" 8/ 443. (¬4) العقد الفريد 1/ 33. (¬5) المصدر السابق 1/ 233. (¬6) أي: تعهُّدُه وتنميتُه. والقول فِي المصدر السابق. وتصحفت فِي (أ) و (ب) و (خ) إلى: ترتيب المعروف. (¬7) فِي "العقد الفريد" 1/ 233: تعجيله وستره وتيسيره، وهو الأشبه؛ إذ التيسير بمعنى التسهيل. (¬8) المثبت من (ص)، وتحرفت فِي غيرها إلى: أخذ. (¬9) المصدر السابق. (¬10) صفة الصفوة 3/ 199 - 200، والمنتظم 6/ 95. وذكر البلاذري القصة فِي "أنساب الأشراف" 11/ 415 وفيها أن الأحنف هو الَّذي شكا إلى عمه المتشمّس وَجَعًا، فقال عمه: ... ذهبت عيني ...

وقيل للأحنف: إلا تأتي الأمراء؟ فأخرج جرَّةً مكسورة فيها كِسَرٌ يابسة، فقال: مَنْ كان يجزئه مثلُ هذا، ما يصنُع بإتيانهم (¬1)؟ ذكر وفائه: [قد ذكرنا أنه] لم يشهد الجمل، واعتزلَ الفريقين، وشهد صفِّين مع أمير المؤمنين عليٍّ بن أبي طالب رضوان الله عليه. [واختلفوا فِي وفاته، فذكر ابن سعد قال: ] كان الأحنف صديقًا لمصعب بن الزبير، فوفد عليه بالكوفة ومصعب يومئذ والٍ عليها، فتوفِّي الأحنف عنده بالكوفة، فرُئي مصعب فِي جنازته يمشي بغير رداء. [ولم يذكر السنة التي مات فيها.] (¬2) و[قال الواقدي: ] مات سنة تسع وستين. وقيل: بعد السبعين (¬3). و[قال ابن سعد: ] كان مأمونًا ثقةً، قليلَ الحديث، فرَوَى عن عُمر، وعلي، وأبي ذرّ. و[قال ابن عساكر: وروى أيضًا عن] عثمان، والعباس، وابن مسعود، وأبي بَكْرَة، - رضي الله عنهم -. وروى عنه الحسن البصري، وطَلْق بنُ حبيب، وعروة بنُ الزبير، وغيرُهم (¬4). [ويقال: إنه اجتمع بأبي ذرّ بجامع دمشق، وقيل: بحمص، وقيل: بالبيت المقدس]. وكان له عمَّان؛ أحدهما يقال له: المتشمِّس بن معاوية، كان يفضُل على الأحنف فِي حلمه وفضله، أسلم وحسُن إسلامُه. والآخر [يقال له: ] صعصعة بن معاوية، سيِّد بني تميم، وكان له فرس يقال له الطُّرَّة، اشتراه بتسعين ألفَ درهم (¬5). ¬

_ (¬1) المصدران السابقان. (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 69، والكلام الواقع بين حاصرتين فِي هذه الفقرة من (ص) و (م). (¬3) ذكره ابن كثير فِي "البداية والنهاية" 12/ 168 فِي وفيات سنة (72). (¬4) تاريخ دمشق 8/ 419 (مصورة دار البشير). (¬5) المعارف ص 424. وذكر البلاذري فِي "أنساب الأشراف" 11/ 436 أيضًا من أعمام الأحنف: جزء بن معاوية وقال: كان ذا قدر، وولي بعض الأهواز أيام عمر بن الخطاب.

أبو الأسود الديلي

و [قال الواقدي: كان للأحنف ولد يقال له: ] بَحْر بن الأحنف. كان يضعَّفُ فِي عقله، وهو الَّذي قال لجارية أبيه: يا زانية. ولم يُعقب الأحنف. وكان يقال: ليس لسادة بني تميم حظٌّ فِي الولد؛ كان الأحنفُ سيِّدَهم بالبصرة، ومحمد بن عُمير بن عُطارد بن حاجب بن زُرارة سيِّدَهم بالكوفة، ماتا ولم يُعْقِبا (¬1). أبو الأسود الدِّيلي البصري الكِناني [واختلفوا فِي اسمه: قال ابن سعد: ] (¬2) اسمُه ظالم بن عَمرو بن سفيان أبن عمرو بن حِلْس بن يعمر بن نُفاثة بن عدي بن الذيل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة]. وقيل: اسمُه عُويمر بن ظُويلم بن عمر (¬3). وقيل: اسمُه عبد الرحمن بن هرمز بن سفيان (¬4). [وقال أبو القاسم بن عساكر (¬5): اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلبس بن نُفاثة بن عديّ بن الدِّيل. ويقال: عثمان بن عمرو]. من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة. كان شاعرًا متشيِّعًا، وكان ثقة فِي حديثه إن شاء الله، ولمَّا خرج ابن عباس من البصرة استخلفَ أبا الأسود، فأقرَّه علي - عليه السلام - عليها (¬6). [قلت: وقد اختلف النُّسَّاب فِي الذيل، فذكر ابن سعد الدِّيل بالياء. وحكى الجوهري فِي "الصحاح" عن ابن السِّكِّيت أنَّه قال: الدُّول -بالواو- فِي (¬7) بني حنيفة يُنسب إليهم الدُّؤلي، والدِّيل -بالياء- فِي عبد القيس يُنسب إليهم الدِّيلي. قال: وهما دِيلان. ¬

_ (¬1) المعارف ص 424 - 425. (¬2) فِي "الطبقات" 9/ 98. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). والآتي بعده بين حاصرتين من (ص) وحدها. (¬3) نُسب هذا القول فِي (ص) و (م) للواقدي. (¬4) نُسب هذا القول فِي (ص) و (م) للهيثم. (¬5) تاريخ دمشق 8/ 604 (مصورة دار البشير) والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 9/ 98، ونُسب الكلام فِي (ص) إليه. (¬7) فِي (ص) (والكلام منها): وفي. وينظر "الصحاح" (دول).

وقال أبو سعيد بن يونس: الدُّول اسم امرأة من بني كنانة] (¬1). و[قال الجاحظ: ] (¬2) كان أبو الأسود معدودًا في طبقات [الناس من] التابعين والفقهاء والشعراء والفرسان والأمراء [الأشراف]، والدُّهاة والبخلاء وكبراء الشيعة، وكان يحبُّ عليًّا - عليه السلام - حبًّا شديدًا. و[قال محمد بن الأنباري: ] هو أوّلُ من وضع علم النحو، [ثم ميمون الأقرن، ثم عنبسة الفيل، ثم عبد الله بن أبي إسحاق. قال: ووضع عيسى بن عمر كتابين في النحو، أحدهما سماه "الجامع" والثاني: "المكمِّل"، فقال الخليل بن أحمد هذين البيتين يمدحُه فيهما: بطل النحو جميعًا كلُّهُ ... غيرَ ما أحدث عيسى بن عُمرْ ذاك إكمالٌ وهذا جامعٌ ... فهما للناس شمسٌ وقمرْ] (¬3) [وقال الهيثم: ] وفد أبو الأسود على معاوية، فأكرمه، وأدنى مجلسه، وأجزلَ جائزتَه، وولَّاه قضاء البصرة. ثم قال له في بعض الأيام: ألستَ القائلَ لأبي تراب: ابعثني (¬4) حكمًا. فواللهِ ما أنتَ هناك؟ لِعِيِّك، فكيف كنتَ تصنع؟ قال: كنتُ أجمعُ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقول: أَبَدْرِيٌّ أُحُدِيٌّ شَجَريٌّ مُهاجِريٌّ هاشميٌّ أفضلُ، أم طليقُ ابنُ طليق؟ ! فقال له معاوية: قاتلك الله. خلعتني خَلْعَ الوظيف، أقسمتُ عليك لا تذكرُها لأحدٍ من أهل الشام ثم وصله وسرَّحه إلى البصرة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ص). وكلام ابن السكّيت في "صحاح" الجوهري (دول) وينظر "أنساب" السمعاني 5/ 365 - 366. (¬2) ما بين حاصرتين من (ص) و (م)، وتحرَّف فيهما لفظة "الجاحظ" إلى "الحافظ". وكلامه في "الأغاني" 12/ 299 - 300. وثمة نقص في (ص) بدءًا من هذا الموضع. (¬3) ما بين حاصرتين من (م). وينظر "الأغاني" 12/ 298، و "تاريخ دمشق" 8/ 614 (مصورة دار البشير)، و "المنتظم" 6/ 97 - 98. (¬4) في (أ) و (ب) و (خ): ابغيني. والمثبت من "مختصر تاريخ دمشق" 11/ 225، وهي مهملة من النقط في "تاريخ دمشق" 8/ 607، وينظر "وفيات الأعيان" 16/ 534.

[وقال الأصمعي: كان أبو الأسود يركب في كل يوم ويُكثرُ الركوب، فقيل له: لو قعدتَ في البيت لكان أروحَ لبدنك. فقال: صدقتُم، ولكن في ركوبي فوائد رياضة وفُرجة، وسماع أخبار لا أسمعُها في بيتي، ولو قعدتُ في بيتي؛ ضجر مني أهلي وضجرتُ منهم، واجترأ عليَّ مِنْ خَدَمي مَنْ يهابُني (¬1). وكان يقول: إعادة الحديث أشدّ من نقل الصخر من الجبال على أعناق الرجال. وقال الرِّياشي: ] (¬2) اشترى أبو الأسود دارًا بألف دينار، وكان لها جارُ سوء، فباعها بألف درهم، فقيل له: بعت دارَك؟ ! فقال: لا, ولكن بعتُ جاري (¬3). [وقال الأصمعي: ] وقفت امرأة عليه وهو في فسطاط (¬4) يأكل رُطَبًا، فقالت: السلام عليك. فقال: كلمة مقولة (¬5). فقالت: أطعمني مما بين يديك. فقال: يداكِ أقصرُ من الوصول إليه. قالت: أهلكني الجوع. قال: في المقابر سَعَة. ولم يطعمها. [قال: ] ومرَّ به أعرابيّ وهو يأكلُ طعامًا في خيمة (¬6)، فقال: أتأذنُ لي في الدخول؟ قال: وراءك أوسع. قال: قد أحرقت الرمضاءُ رِجْلَيَّ. قال: بُلَّ عليهما تبردان (¬7). فقال: أطعمني ممَّا بين يديك. فقال: سيأتيك ما قُدِّر لك. قال: ما رأيتُ ألْأمَ منك! قال: قد رأيتَ، ولكنَّك نسيتَ. ومن شعره: يقول الأرذلون بنو قُشَيرٍ ... طَوال الدَّهْرِ لا تَنْسَى عَلِيّا! فقلتُ لهم وكيف تَرَوْن تركي ... من الأعمال ما يقضي عَلَيَّا أُحِبُّ محمَّدًا حُبًّا شديدًا ... وعباسًا وحمزة والوَصِيَّا ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 616، وهو بنحوه في "أنساب الأشراف" 10/ 40. وهذا الخبر من (م). (¬2) الكلام بين حاصرتين من (م). (¬3) ينظر "الأغاني" 12/ 318، و "وفيات الأعيان" 16/ 534. (¬4) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): فسطاطه. والمثبت من (م) وهو الموافق لما في "العقد الفريد" 6/ 185. (¬5) في "العقد الفريد": مقبولة. (¬6) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): جفنة. والمثبت من (م). (¬7) في النسخ الخطية: تبرد ... والمثبت من "العقد الفريد" 6/ 185.

بني عمِّ النبيّ وأقربيهِ ... أحبَّ الناسِ كلِّهمُ إلَيَّا فإن يَكُ حُبُّهُمْ رُشدًا أُصِبْهُ ... ولستُ بمخطئٍ إنْ كان غَيَّا هُمُ أهلُ النصيحة من لَدُنّي ... وأهلُ موَدَّتي ما دمتُ حيَّا هُمُ آسَوْا رسولَ اللهِ حتى ... ترفَّع أمرُه أمرًا قويَّا من أبيات (¬1). وقال: أيُّها الآملُ ما ليس لَهُ ... ربَّما غَرَّ سفيهًا أَملُهْ رُبَّ مَن باتَ يُمَنِّي نفسَهُ ... حال من دونِ مُناهُ أجلُهْ وفتًى بكَّرَ في حاجاتهِ ... عَجِلًا أعقبَ رَيثًا عَجَلُهْ والفتى المحتالُ ممَّا يأتِهِ (¬2) ... ربَّما ضاقَتْ عليهِ حِيَلُهْ قُلْ لمنْ مثَّلَ في أشْعارِهِ ... يذهبُ المرءُ ويبقى مَثَلُهْ نافِسِ المحسنَ في إحسانِهِ ... فسيكفيك سناءً عَمَلُهْ (¬3) ووعدَه معاويةُ عِدَةً، فأبطأ عليه، فكتب إليه: لا يكنْ بَرْقُكَ بَرْقًا خُلَّبًا ... إنَّ خيرَ البَرْقِ ما الغيثُ (¬4) مَعَهْ لا تُهِنِّي بعدَ إِكْرامِكَ لي ... فشديدٌ عادةٌ مُنتَزَعَهْ (¬5) وقال: إذا أنتَ لم تَعْفُ عن صاحبٍ ... أساءَ وعاقبتَهُ إنْ عَثَرْ بقيتَ بلا صاحبٍ فاحْتَمِلْ ... وكُنْ ذا قبولٍ إذا ما اعتَذَرْ (¬6) ¬

_ (¬1) ينظر "الأغاني" 12/ 321، و "تاريخ دمشق" 8/ 617 (مصورة دار البشير). (¬2) في "العقد الفريد" 3/ 191: نابَه. (¬3) ينظر "العقد الفريد" 3/ 191 - 192. ونُسبت الأبيات في "نفح الطيب" 4/ 332 لغربيب الثقفي القرطبي. (¬4) في (د): الخير. (¬5) تاريخ دمشق 8/ 620 (مصورة دار البشير) وأورد العسكري في "جمهرة الأمثال" 1/ 211 قولهم: بَرْقُ الخُلَّب، وقال: يجعلونه مثلًا لكل شيء لا حقيقة له، وهو البرقُ الذي لامطر معه. وذكر البيتين الأخيرين. وينظر "الشعر والشعراء" 2/ 729 - 730. (¬6) المصدر السابق 8/ 621.

عمرو بن سعيد بن العاص

وقال له معاوية: لو علقتَ عليك عُوذةً تدفعُ بها عنك. يمازحُهُ، وكان قبيح المنظر (¬1). فقال: أفنى الجديدَ الذي حاوَلْتُ جِدَّتَهُ (¬2) ... كرُّ الجديدين من آتٍ ومنطلقِ لم يتركا ليَ في طُول اختلافِهما ... شيئًا أخافُ عليه لَذْعَةَ الحَدَقِ ذكر وفاته: [لم يذكرها ابنُ سعد، وذكرها المدائني، فقال: ] توفي بالطاعون الجارف بالبصرة سنة تسع وستين، وهو ابنُ خمس وثمانين سنة (¬3). وروى عن عُمر، وعليّ، والزبير، وعمران بن حصين، وابن عباس، وأبي موسى، -رضي الله عنهم-. وروى عنه يحيى بن يعمر، وأعيان التابعين، وأخذوا عنه اللغة والعربية (¬4). عمرو بن سعيد بن العاص ابن سعيد أبي أُحَيْحَة بن العاص بن أمية، أبو أميَّة الأشدق؛ سُمِّيَ الأشدق لأنَّه كان خطيبًا مُفْلِقًا، وقيل: لاتساع شِدْقِه. وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، وأمُّه أمُّ البنين بنت الحَكَم [بن أبي العاص] أخت مروان لأبيه وأمّه. [وقال ابن سعد: كان عَمرو]، من رجالات قريش، فكان يزيد بن معاوية قد ولَّاه المدينة، فقُتل الحسين - عليه السلام - وهو عليها، فبعث إليه يزيد برأس الحسين - رضي الله عنه - , فكفَّنَه، ودفَنَه بالبقيع إلى جانب قبر أمِّه فاطمة عليها السلام (¬5). ¬

_ (¬1) في (م): وقال العتبي: كان أبو الأسود قبيح المنظر، فقال له معاوية: لو علّقتَ عُوذةً تدفع بها عنك! يمازحه. ولم يرد فيها البيتان الآتيان. (¬2) في "الأغاني" 12/ 322، و "تاريخ دمشق" 8/ 620: أفنى الشبابَ الذي فارقتُ ... وفي "تاريخ دمشق": بَهْجَتَهُ، بدل: جِدَّتَهُ. وفي رواية أخرى في "تاريخ دمشق": أفْنَيتُ جِدَّتَهُ. (¬3) الأغاني 12/ 334، وتاريخ دمشق 8/ 623 - 624. وفيهما أيضًا عن المدائني أنه توفي قبل ذلك. قال الأصفهاني: وهو أشبه القولين بالصواب، لأنّا لم نسمع له في فتنة مسعود وأمر المختار بذكر. (¬4) تاريخ دمشق 8/ 605، وتهذيب الكمال 33/ 37. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 234. وما وقع بين حاصرتين في هذه الفقرة من (م).

[قال: ] وحجَّ عَمرو بالناس سنة ستين (¬1). وكان أحبَّ الناس إلى أهل الشام، فكانوا يسمعون له ويُطيعون. ومات سعيد وعَمرٌو صغير، وكان وصيَّ إليه، فقال له معاوية: إلى مَنْ أوصى بك أبوك؟ فقال: أوصى إليَّ، ولم يُوصِ بي. فعجبَ معاوية (¬2). [وقال أبو بكر بن عيَّاش: كان عَمرو أفقم، وشدقه واسع، وحجَّ بالناس سنتين]. ذكر مقتله: لما سار عبد الملك إلى قَرْقِيسيا (¬3)؛ قال له عَمرو: قد علمتَ ما فعلتُ مع أبيك، وما وصلَ إليه هذا الأمر إلا بي. فقال له عبد الملك: لستَ من أهل الخلافة. فقال له عمرو: استدراجُ النِّعم [إياك] أفادكَ البغي، ورائحةُ القدرة أورثَتْك الغفلة، ولو كان ضعفُ الأسباب يُؤيسُ الطالب؛ ما انتقلَ سلطان ولا ذَلَّ عزيز (¬4). ثم تمارضَ عمرو، ورجع من بُطنان حبيب (¬5) ليلًا، ومعه حُميد بن حُريث بن بَحْدَل الكلبي، وزُهير بن الأبرد الكلبي، فأتى دمشق وعليها عبدُ الرحمن بن أمّ الحكم الثقفي خليفةُ عبد الملك، فغلب عَمرو على دمشق (¬6)، وطلبَ عبدَ الرحمن بنَ أمّ الحَكَم، فلم يصبه، فأمر بهدم داره، فهُدمت، ثم خطب الناسَ، وأمرَهم بحُسن المواساة والعطيَّة. وأصبح عبد الملك، ففقد عَمْرًا (¬7)، فسأل عنه، فأُخبر بخبره، فجمع عبدُ الملك خواصَّه وقال لهم: هذا عمرو قد فعل ما فعل، وقد كنتُ أعلمُ أنه ينطوي على غِلّ (¬8) ¬

_ (¬1) كلمة "ستين" ليست في (م)، ولا في "الطبقات". وينظر كلام أبي بكر بن عياش الآتي. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 27، و "العقد الفريد" 2/ 189 - 190. (¬3) بلد عند مصبِّ الخابور بالفرات، قيَّدها ياقوت في "معجم البلدان" 4/ 328 بفتح القاف، وقيدها الفيروز أبادي في "القاموس" بكسرها. (¬4) البيان والتبيين 4/ 87، والتذكرة الحمدونية 5/ 53، ومروج الذهب 5/ 234، وما سلف بين حاصرتين منها. (¬5) في (أ) و (ت) و (خ): جندب. والتصويب من "تاريخ الطبري" 6/ 140، والكلام فيه بنحوه. وبطنان حبيب بأرض الشام. ينظر "معجم البلدان" 1/ 447 - 448. (¬6) في (خ): الشام. (¬7) في (أ) و (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): فقعد عنه عمرو. وفي "تاريخ الطبري" 6/ 141: ففقد عمرو سعيد. والصواب ما أثبتُّه، وينظر "الكامل" 4/ 297. (¬8) في (أ): غدر.

وفساد، وقد كان يمنعُني منه الحياءُ والقرابة، وقد أجابَه أهلُ دمشق إلى خلعي. ولما علم الولاة بذلك أجابوه، كوالي حمص، وقنَّسرين، وقد احتلَّ الشام عليّ، وهذا ابنُ الزُّبير قد استولى على الحجاز واليمن والعراق وخُراسان، وهذه المُضَريَّة سيوفُها على عواتقها تُطالبُنا بقتلى المَرْج (¬1)، فماذا تقولون؟ فلم يُجِبْه أحدٌ منهم. فصرفهم. ثم ركب منفردًا في جماعة من خواصّه، وإذا برجل يجني السُّمَّاق، فأمر أصحابَه فبعدوا عنه، وجاء، فوقَفَ عليه وسلَّم، فردَّ ردَّ عاقل، فقال له عبد الملك: هل بلغَك أمر عبد الملك، وخروجُ الناس عليه؟ فقال الرجل: وما سؤالك عن ذلك؟ فقال: إني أُريد اللَّحاق به. فقال الرجل: إنَّ السلطان في مثل هذه الحالة كالبحر في حالة هَيَجانه، لا ينبغي أن يُقرب منه. فقال له عبدُ الملك: إني لأَستغني عن مشورتك بحسن هيبتك وسَمْتك. فقال الرجل: إني أُشير عليك أن تتفقَّد حال عبد الملك، فإنْ رأيتَه قصدَ غيرَه (¬2) فاعْلَمْ أنه مخذول؛ لأنه لجَّ في طلب ما ليس له، وإن رأيتَه رجعَ من حيث أتى؛ فارْجُ له السلامة؛ لأنه مستقبل (¬3). فقال عبد الملك: وهل رجوعُه إلى دمشق إلا كسيرِهِ إلى ابن الزُّبير وغيره ممَّن خلع الطاعة؟ فقال الرجل: قد خَفِيَ عليك وجهُ الصواب؛ لأنه إذا قصدَ غيرَه كان في صورة ظالم له؛ لأنَّه لم يُعطه طاعةً قطّ، ولا وثبَ على دار مملكته، ولا تَعَدَّى عليه، ولا كذلك عَمرو، فإنه غصبَه دار مملكته، وتعدَّى عليه، فرجوعُه إلى دمشق أولى بالتفويض، وأقربُ إلى الظَّفَر والنصر، وحفظُ الأصل أولى من طلب الفرع. فجزاه عبد الملك خيرًا. ثم قال للرجل: عرِّفْني من أنت؟ قال: ولم؟ قال: لأُجازِيَك فيما بعد. فقال الرجل: إني عاهدتُ اللهَ أن لا أقبلَ عطيَّةَ بخيل. فقال عبد الملك: ومن أين علمتَ أنِّي بخيل؟ ! قال: لأنَّك أجَّلْتَ مكافأتي مع القدوة على تعجيلها ببعض ما أرى عليك من ثوبك (¬4) وسلاحك. قال عبد الملك: إني ذُهِلْتُ عن ¬

_ (¬1) يعني مرج راهط. وتحرف في (أ) و (ب) و (خ) و (د): إلى قوله: بقتل الأخ. وصُوّبت في هامش (د). (¬2) يعني غير عمرو بن سعيد. ولعل في الكلام سقطًا. وينظر "ثمرات الأوراق" ص 140 والخبر فيه مطوَّل. (¬3) كذا في (ب) و (خ) و (د). وفي (أ): مستقيل. (¬4) في (ب): ما أرى من بزَّتك.

ذلك، فخُذْ هذا السيف، فإنَّ قيمتَه عشرون ألفًا. فقال: الآن حقَّقتَ عندي بخلك باستكثارك لقيمة سيفك، فحسبي عطاءُ ربي الذي لا يبخلُ ولا يذهلُ. ولم يقبله، وعلم عبدُ الملك عقلَه وزُهدَه في الدنيا وفضلَه، فقال: أنا عبد الملك، فارْفَعْ إليَّ حوائجك. فقال: وأنا أيضًا عبدُ الملك، فهلَّم فلنرفَعْ حوائجَنَا إلى مَنْ أنا وأنتَ عَبْدانِ له (¬1). فودَّعه عبد الملك، وسارَ إلى دمشق، فنزلَ المَرْج، وراسلَ عَمْرًا، ولاطفَه وقال: أُناشدُكَ اللهَ والرَّحِم أن تُفسد أمرَ بيتك، وما هم عليه من اجتماع الكلمة، وفيما صنعتَ قوةٌ لابن الزُّبير، ارجعْ إلى بيعتك، ولك عليَّ عهدُ الله وميثاقُه. وحلفَ له بأَيمانٍ مغلَّظة: إنك وليُّ عهدي بعدي. وكتبا بينَهما كتابًا، فانخدعَ له عَمرو، وفتحَ أبوابَ دمشق، واحترزَ منه عَمرو بالعبيد. وخرج عمرو إلى عبد الملك في الخيل متقلِّدًا قوسًا سوداء، فأقبلَ حتى أوطأَ فرسه أطناب سُرادق عبد الملك، فانقطعت الأطناب، وسقط السُّرادق، ونزل عَمرو، فجلس وعبدُ الملك مُغضَب، فقال له: يا أبا أمية، كأنك تشبه بتقليدك هذه القوس هذا الحيَّ من قيس. فقال عَمرو: لا, ولكني أشبه من هو خيرٌ منهم: العاص بن أمية. ثم قام عَمرو مغضَبًا والخيل معه حتى دخلَ دمشق. ودخل عبد الملك دمشق، فبعث إلى عَمرو: قد استوليتَ على الخزائن، فأعطِ الناس أرزاقَهم. فأرسل إليه عَمرو: إنَّ هذا البلدَ ليس لك ببلد، فاشْخَصْ عنه. فلما كان بعد ثلاثة أيام من دخول عبد الملك بعثَ إلى عَمرو أنِ ائتني، وهو عند امرأته الكلبيَّة، وقد كان عبدُ الملك استشارَ كُرَيب بن أبرهة (¬2) بن الصبَّاح في أمر عَمرو، فقال: لا ناقة لي في هذا ولا جَمَل. وجاء رسول عبد الملك إلى عمرو وعنده عبد الله بن يزيد بن معاوية -وكان زوجَ ابنةِ عَمرو، وهي أمُّ موسى- فقال له: لا تأته. قال: ولم؟ قال: بلغني عن تُبيع ابن امرأة ¬

_ (¬1) ينظر خبر عبد الملك والرجل مطولًا في "ثمرات الأوراق" ص 139 - 142 ولم أقف عليه في مصدر آخر. (¬2) في (أ): من ولد أبرهة.

كعب الأحبار أنه قال: يُغلِّقُ أبوابَ دمشق عظيمٌ من عظماء ولد إسماعيل، ثم لا يلبث أن يُقتل. فقال له عَمرو: واللهِ لو كنتُ نائمًا ما خفتُ أن ينبِّهَني ابنُ الزَّرقاء. مع أنني رأيتُ البارحةَ في المنام أن عثمان بن عفان أتاني، فألبسني قميصه، وقال عَمرو للرسول: قُلْ له: آتيك العَشِيَّة. فلما كانت العشيةُ لبس عَمرو درعَه بين ثيابه، وتقلَّدَ سيفه، وكان عند امرأته الكلبيَّة وعنده حُميد بن حُريث بن بَحْدَل الكلبىيّ. فلما قام عَمرو؛ عَثَرَ بالبساط فسقط، فقالت له امرأته وحُميد: لا تذهَبْ إليه، فقد رأينا أماراتِ الشَّرّ. فلم يلتفت إلى قولها، وأقبل في مئة من مواليه. وكان عبدُ الملك قد أوصى الحاجب أن يحبس عنه مواليَه، فصار كما دخل دهليزًا حبس عنه جماعة، ولم يعلم عمرو حتى صارَ في وسط الدار، ومعه وصيفٌ واحد. وكان عبد الملك قد جمع بني مروان عنده وفيهم حسان بن مالك بن بَحْدَل الكلبي وقَبِيصة بن ذُؤيب الخُزاعي، فلما رآهم عَمرو أحسَّ بالشّرّ، فقال للوصيف: اذهب إلى أخي يحيى بن سعيد، فقُل له فليأتني. فلم يفهم الوصيف قولَه، فردَّدَ مرارًا وهو لا يفهم. وقام حسان وقَبِيصة، فخرجا، وغُلِّقت الأبواب، وجاء عَمرو إلى عبد الملك، فرحَّب به، وأجلسه معه على سريره، وحادثَه طويلًا، ثم أمر بتنحية سيفه، فاسترجعَ عمرو، فقال له عبد الملك: لا بأس عليك يا أبا أمية، أتريدُ أن تجلس معي على سريري وسيفك في عنقك؟ ! ثم قال له: إنك لمَّا خلعْتَني آليتُ على نفسي أن أجعلكَ في جامعة. فقال بنو مروان: ثم تطلقُه؟ قال: نعم. واسترجعَ عَمرو، وجعلَ الجامعةَ في عنقه، ثم جَذَبَه، فأصابَ السريرُ ثنيَّةَ عَمرو، فكسرها (¬1)، فقال له عَمرو: أُذكِّرك اللهَ والرَّحِمَ، والعُهودَ والمواثيق. فقال عبد الملك: لو علمتُ أن بقاءك يفيد لكان (¬2)، ¬

_ (¬1) في هامش (أ) بخط الناسخ ما نصُّه: "وقال الطبري: إنهم سحبوه سحبًا شديدًا حتى كسرت ثناياه وغالب أسنانه" ولم أقف على هذا الكلام في "تاريخ الطبري". (¬2) في "تاريخ الطبري" 6/ 144: لو أعلم أنك تُبقي عليَّ إن أبقي عليك وتصلح لقريش لأطلقتك.

ولكن ما اجتمع اثنان في بلد على مثل ما اجتمعنا عليه إلا وأخرجَ أحدُهما صاحبَه. فقال له عمرو: أَغدرًا (¬1) يا ابنَ الزرقاء؟ ! قال: نعم (¬2). ثم أذّن المؤذّنُ للعصر، فقام عبدُ الملك، وخرج إلى الصلاة، وقال لعبد العزيز بن مروان: اقتله. فأخذَ السيفَ وقصدَه، فقال له: ناشَدْتُك اللهَ والرَّحِمَ أن تتولَّى قَتْلي، ولْيَتَوَلَّاه أبعدُ منك منّي نسبًا. فاستحى عبدُ العزيز منه، فتركه. ولما خرج عبد الملك وليس معه عمرو؛ ذهبَ الناسُ إلى يحيى بن سعيد، فأقبلَ في ألفٍ من مواليه ومعه حُميد بن حُريث وزهير بن الأبرد، فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، وجُرح الوليد بنُ عبد الملك في رأسه كادَ أن يأتيَ على نفسه، فحُمل صريعًا. وسمع عبدُ الملك الضَّجَّة، ولامَ أخاه عبدَ العزيز على ترك قتله، ثم قامَ هو بنفسه إليه وبيده الصَّمصامة (¬3)، وقال: أضْجِعُوه، فأضجَعوه، فجلسَ على صدره، وذبحَه، ثم ارتعدَ عبدُ الملك، وسقطَ عنه مغشيًّا عليه، فيُقال: ما قتلَ أحدٌ قريبَه إلا وجرى عليه مثلُ هذا. ثم أخذ عبدُ الرحمن بن أمِّ الحَكَم رأسَه، فألقاه إلى أصحابه. [ويقال في بعض الروايات: إن عبد الملك أمر غلامه أبا الزُّعيزعة بقتل عمرو، فقتله، ورمى برأسه إلى أصحابه]. وخرج عبدُ العزيز بن مروان بالبِدَر (¬4)، فألقاها إلى الناس، فأخذوها وتفرَّقوا. [وهذه روايات الواقدي وهشام] (¬5). ثمَّ إنَّ عبدَ الملك استردَّ تلك الأموال فيما بعد. ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): اغدر. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 144. (¬2) في (أ): نعم يا ابن البلقاء. (¬3) اسم للسيف الذي لا ينثني. (¬4) جمع البَدْرَة، وهو كيس فيه مال. (¬5) ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 27 - 36، و"تاريخ" الطبري 6/ 140 - 145، و "العقد الفريد" 4/ 409. وكل ما سلف بين حاصرتين من (م).

ولما قَتَلَ عبدُ الملك عَمْرًا قال: واللهِ إنَّ بني أمية عندي لأعزُّ من دم النواظر، ولكن -واللهِ- ما اجتمعَ فحلان في شَوْل (¬1) إلا وأخرجَ أحدُهما صاحبَه، وإن كان عَمرو لحمَّالًا للعظائم، نهَّاضًا بالمكارم. و[قال الواقدي: لما قتلَ عبد الملك عَمرًا]، كان قد كتبَ له كتابَ أمان، وأشهدَ شُهودًا، فبعثَ إلى امرأة عَمرو يطلبُه (¬2)، فقالت: دفنتُه معه في أكفانه لِيحاكمك غدًا بين يدي الله تعالى. وقال عبد الملك لبَشِير بن عَقْرَبَة الجُهني: ما رأيُك (¬3) في الذي كان منِّي؟ فقال: أمرٌ قد فاتَ دَرْكُه. فقال: لا بدَّ أن تقول. قال: ما فعلتَه ليس بحزم. قال: ولمَ؟ قال: لو قَتَلْتَهُ وحَيِيتَ؛ كان. قال: [أولستُ بِحَيّ؟ ! قال: لا. قال: ولم؟ ! قال: ليس بحيِّ من أوقفَ نفسه موقفًا لا يُوثَق له بعَهْد ولا] عَقْد. فقال عبد الملك: لو طرق سمعي هذا الكلام لمَا قتلتُه (¬4). قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - (¬5): حدَّثنا سعيد بن منصور، حدَّثَنا حُجْر بنُ الحارث الغسَّاني، عن عبد الله بن عوف الكِناني أنه شهد عبد الملك بن مروان قال لبَشِير بن عَقْرَبة يوم قَتَلَ عمرَو [بن سعيد]: يا أبا اليمان، إني قد احتجتُ اليوم إلى كلامك، فقم وتكلَّمْ. فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قامَ بخطبةٍ لا يَلْتَمِسُ بها إلا رِياءً وسُمْعةً؛ وقَفَهُ اللهُ تعالى يومَ القيامة موقفَ رِياءٍ وسُمْعَة". ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 5/ 34: هجمة، وفي "العقد الفريد" 4/ 409: ذَوْد، والمعنى متقارب، يعني العدد من النُّوق. (¬2) المثبت من (أ) و (م). وفي النسخ الأخرى: تطلقه. وما سلف بين حاصرتين من (م) وينظر "تاريخ الطبري" 6/ 146 - 147. (¬3) لم يصرَّح هنا في (م) باسم الرجل فجاء فيها: فقال لرجل كان يستشيره: ما رأيك ... إلخ. ثم ذُكر فيها بعد ذلك كما في التعليق التالي. وبشير بن عَقْرَبة -ويقال: بِشْر- له ولأبيه صُحبة، ومات هو بعد سنة خمس وثمانين. ينظر "الاستيعاب" ص 87. (¬4) بعدها في (م): وقيل: إن الرجل المستشار يقال له: بشير بن عقربة. (وينظر التعليق السابق). وما سلف بين حاصرتين من (م). وينظر "العقد الفريد" 1/ 79 و 4/ 409. (¬5) مسند أحمد (16073) وما سيرد في الحديث بين حاصرتين منه.

[وكانت أمُّ عَمرو عمَّةَ عبد الملك. واختلفوا في مقتل عَمرو، فعامَّة المؤرِّخين على أنَّه قُتل سنة تسعٍ وستين، وقيل: في سنة سبعين. والله أعلم] (¬1). وقد رثاه جماعةٌ، منهم يحيى بن الحكم [أخو مروان بن الحَكَم] وكان من خيار بني أميَّة حسن المحضر عند عبد الملك (¬2) فقال: أعينيَّ جُودا بالدموع على عمرٍو ... عشيَّةَ تُبْتَزُّ الخلافةُ بالغَدْرِ كأنَّ بني مروان إذْ يقتلُونهُ ... بُغاثٌ من الطير اجْتَمَعْنَ على صَقْرِ غدرتُم بِعمرٍو يا بني خَيطِ باطلٍ (¬3) ... وأنتم ذَوُو قُرْبانِهِ وذَوُو صِهْرِ لَحَا اللهُ دُنْيا تَدخلُ النارَ أهلُها ... وتَهْتِكُ ما دونَ المَحارمِ من سِتْرِ (¬4) ولما قُتل عَمرو؛ أمرَ عبدُ الملك بسريره فأُبرِزَ إلى المسجد، وخرج، فجلس عليه، وسألَ عن الوليد ابنِه وقال: لئن كانوا قتلوه؛ لقد أدركُوا ثأرَهم. فقال له إبراهيم بنُ عربي (¬5) الكِناني: هو عندي في بيت القراطيس، قد أصابَتْه جراحة، ولا بأس عليه. وأُتي بيحيى بن سعيد إلى عبد الملك، فأمر بقتله، فقام عبدُ العزيز [بن مروان] فقال: أتُراك قاتلًا بني أمية في يوم واحد؟ ! فأمر بحبس يحيى، فحُبس. وجيء بعنبسة بن سعيد، فأمر بقتله، فقام عبدُ العزيز، فقال له مثلَ ذلك، فحبسَه. وجيء بعامر بن الأسود الكلبي، فضربَه عبدُ الملك بقضيب في رأسه، وقال: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). وقد سلف أوَّلَ الترجمة أن أمَّ عمرو -وهي أمُّ البنين بنتُ الحكم- أختُ مروان لأبيه وأمِّه. (¬2) في (ب): عبد المطلب (؟ ) ولم يرد قوله: حسن المحضر عند عبد الملك ولا الأبيات في (م). (¬3) هو لقب مروان بن الحكم لأنه كان طويلًا مضطربًا، ويطلقون "خيط باطل" على الهَبَاء الذي في ضوء الشمس الداخل في كوَّة البيت، أو على الخيط الخارج من فم العنكبوت. قال الميداني: ويسمّيه الصبيان مُخاط الشيطان. مجمع الأمثال 1/ 273، وينظر "الصحاح" (خيط). (¬4) نسب قريش ص 179، وأنساب الأشراف 5/ 37، وتاريخ دمشق 13/ 457 (مصورة دار البشير). (¬5) في (أ) و (ب) و (خ) (والكلام منها): عديّ. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 146. وينظر "الكامل" 4/ 301، و"المنتظم" 6/ 92.

أتُقاتلُني مع عَمرو، وتكون معه عليَّ؟ قال: نعم؛ لأنَّ عمرًا أكرمني وأهنْتَني، وأدناني وأقصيتَني وقرَّبَني وأبعدتَني، وأحسنَ إليَّ وأسأتَ إليَّ. فأمرَ بقتله، فقام عبدُ العزيز فقال: أنْشُدكَ اللهَ في خالي. فوهبه له. ثم أمر عبد الملك ببني سعيد، فحُبسوا. وأقامَ يحيى بنُ سعيد في الحبس شهرًا، فاستشار عبد الملك الناس في قتله، فأشار أكثرُهم بقتله، وقالوا: هل تلدُ الحيَّةُ إلا حُوَيَّةً مثلَها؟ فقال عبد الله بن مسعدة الفَزاريّ: إنّ يحيى ابنُ عمِّك، وقد علمتَ ما صنعتَ بهم وما صنعوا, ولستُ أرى قتلهم، ولكن سيِّرْهم إلى [عدوِّك، فإنْ هُم قُتلوا كنتَ قد كُفيتَ أمرهم بيد غيرك، وإنْ هم سلموا ورجعوا رأيتُ فيهم رأيك. وذُكر أن عبد الله بن يزيد القَسْري أبا خالد كان] (¬1) مع يحيى بن سعيد، وكَسَرَ باب المقصورة (¬2)، فلما قُتل عَمرو؛ ركبَ عبدُ الله ولحقَ بمصعب بن الزبير، فكان معه. وقال عبد الملك يومًا ليحيى بن سعيد: ما أشبَهَكَ بإبليس! فقال يحيى: ولِمَ تُنكر أن يكون سيِّدُ الإنس يُشبّه بسيّد الجنّ (¬3)؟ . و[قال هشام: ] دخل ولدُ عَمرو بن سعيد -وهم: أميَّة، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد- على عبد الملك بعد ما قُتل ابنُ الزُّبير واتَّفق الجماعة على عبد الملك، فقال لهم: إنكم أهلُ بيتٍ لا تزالون ترون أن لكم على جميع قومكم فضلًا لم يجعله اللهُ لكم، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثًا، وإنما كان قديمًا. فقال له سعيد بن عمرو: ما ينبغي أن تؤاخذنا بأمر كان في الجاهلية, لأن الإسلام قد هدمَ ذلك. وأما الذي كان بينك وبين عمرو، فعمرو ابنُ عمك، وأنت أعلم وما (¬4) صنعتَ، وقد وصل ¬

_ (¬1) أضفتُ ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 6/ 146 - 147 ما لا بدَّ منه لاستكمال الكلام، فثمة سقط في (أ) و (ب) و (خ) (والكلام منها). (¬2) عبارة الطبري 6/ 147: كان مع يحيى بن سعيد حيث دخل المسجد، فكسر باب المقصورة، فقاتل بني مروان. (¬3) مختصر تاريخ دمشق 27/ 263 (ترجمة يحيى بن سعيد). وجاء في "أنساب الأشراف" 12/ 365 وغيره أن الحجَّاج هو الذي قال ليحى هذا الكلام وهو يمازحه. وينظر "التذكرة الحمدونية" 7/ 176. (¬4) في (أ) و (م): بما.

[عَمرو] إلى الله، وكفى بالله حسيبًا. ولعمري لئن واخَذْتَنا بما كان بينك وبين عمرو لَبَطْنُ الأرض خيرٌ لنا من ظهرها. فرقَّ لهم عبد الملك، وقال: إن أباكم خيَّرني بين أن يقتلني وبين أن أقتلَه، فاخترت قتلَه على قتلي. وأمَّا أنتُم فما أرغَبَني فيكم، وأوصَلَني لقرابتكم. وأحسنَ إليهم (¬1). ذكر أولاد عَمرو بن سعيد: فولدَ [عمرٌو] أميَّةَ، وسعيدًا، وإسماعيل، ومحمدًا، وأمَّ كلثوم؛ وأمُّهم أمُّ حبيب بنت حُريث بن سُليم من قُضاعة. وعبدَ الملك، وعبدَ العزيز، ورَمْلةَ، وأمُّهم سَوْدةُ بنْتُ الزُّبير بنِ العوَّام. وموسى، وعمران؛ وأمُّهما عائشةُ بنتُ مطيع من بني عامر. وعبدَ الله، وعبدَ الرحمن؛ لأمِّ ولد. وأمَّ موسى؛ وأمُّها نائلة بنت فريص، كلبيَّة. وأمَّ عمران لأمِّ ولد (¬2). وكان لأميَّة بن عَمرو بن سعيد ولد اسمُه إسماعيل، وكان فقيهَ أهل مكة (¬3). وسعيد بن أمية بن عَمرو، وكان يسكن أيلة، وهو القائل: لجَّ الفِرارُ بمروانٍ فقلتُ لهُ ... عادَ الظَّلومُ ظليمًا همُّهُ الهَرَبُ أين الفرارُ وتركُ الملك إذْ كشَفَتْ ... عنك الهُوينا فلا دينٌ ولا حَسَبُ فراشةُ الحِلْم فرعونُ العقاب وإنْ ... تطلبْ نَدَاهُ فكَلْبٌ دونه كَلِبُ (¬4) وسعيد بن عَمرو، كان من سادات العلماء بالكوفة، وأكابر قُريش، وولدُه بها، وكنيتُه أبو عثمان. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 147 - 148. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 234. (¬3) أنساب الأشراف 5/ 44، وطبقات ابن سعد 7/ 454، وهو من رجال "تهذيب الكمال" 3/ 45. (¬4) تاريخ دمشق 67/ 22 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة مروان بن محمد)، ونسب الجاحظ الشعر في "الحيوان" 1/ 256، والزمخشري في "المستقصى" 1/ 12 للضَّحَّاك بن سعد الهَمْدَاني. ولم يصرّح الطبري في "تاريخه" 7/ 434 (أحداث سنة 132) باسم الشاعر، فقال: وقال رجل من ولد سعيد بن العاص ... ونسبه العسكري في "ديوان المعاني" 1/ 196 لسعيد بن العاص.

حدَّث عن ابن عُمر، وأبي هريرة، وعائشة، وأبيه عَمرو بن سعيد. وروى عنه بنوه: إسحاق، وخالد، وعَمرو، وشعبة بن الحجَّاج، في آخرين. وكان لما قُتل أبوه بدمشق، فنفاه عبدُ الملك مع أهل بيته إلى العراق، فأقامَ بالكوفة، وكان ثقةً صدوقًا (¬1). وأمَّا إسماعيل بن عمرو؛ فكان يسكُنُ الأَعْوَص شرقيَّ المدينة، وكان زاهدًا، لم يلتبس من سلطان بني أمية بشيء، وهو الذي قال عنه عُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: لو كان لي أنْ أعهد؛ ما عَدَوْتُ أحدَ الرجلين: صاحب الأعوص، يعني إسماعيل، وأُعَيمِش بني تيم، يعني القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - (¬2). وأمَّا محمد بن عَمرو بن سعيد؛ فكان مع أبيه يوم قُتل، وكان قد قدم الشام غازيًا، فنزل على عمَّته ابنةِ سعيد بن العاص، وكانت زوجةَ خالد بن يزيد بن معاوية، فأقام أيامًا، فقال خالد: ما يَقْدَمُ علينا أحدٌ من أهل الحجاز إلا اختار المُقام عندنا على المدينة. يعرِّض بمحمد. فقال له محمد: وما يمنعُهم وقد قدم قومٌ منهم على النواضح، فسلبوك مُلكَك، ونكحوا أمَّك، وفرَّغوك لقراءة الكتب، وطلبتَ ما لا تقدرُ عليه. يشير إلى الكيمياء. وكان خالد مشهورًا بها (¬3). وأمَّا موسى بن عَمرو؛ فكان له ولد اسمُه أيوب، وروى عنه (¬4) العلمَ مالكُ بنُ أنس، وغيرُه. أسندَ عمرو بنُ سعيد الحديث عن عُمر، وعثمان، - رضي الله عنه -، وقيل: إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى عنه بنوه. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 7/ 329 - 330 (مصورة دار البشير). وينظر "طبقات ابن سعد" 8/ 445. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 453، وتهذيب الكمال 3/ 158. (¬3) تاريخ دمشق 64/ 74 - 75 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) يعني عن أيوب. وأيوب بن موسى من رجال "تهذيب الكمال" 3/ 494.

عمرو بن سعيد الثقفي مولاهم

عمرو بن سعيد الثقفي مولاهم من الطبقة الخامسة من التابعين أهل البصرة (¬1). حدّث عن أنس بن مالك، وكان ثقةً، وأوفدَه يوسف بن عُمر (¬2) على الوليد بن يزيد، فلما عاد من عنده قال له يوسف: كيف خلَّفْتَ الفاسق؟ ثم قال له: إيَّاك أن يَسمع منك هذا الكلام أحد. فقال عَمرو: حبيبة بنتُ عبد الرحمن بن جُبير طالق إنْ سمعَتْهُ أذناي ما دمْتُ حيًّا. فضحك يوسف بن عُمر (¬3). قوله: أوفدَه يوسف بن عُمر على الوليد بن يزيد: وهم، إذ كانت وفاته في هذه السنة، والله أعلم. قَبِيصة بن جابر ابن وَهْب بن مالك، أبو العلاء الأسدي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة (¬4). وكان رضيعَ معاوية بن أبي سفيان؛ أرضعته أمُّه هند (¬5)، وكان كاتبَ سعد بن أبي وقَّاص بالكوفة (¬6). وكان أميرًا على بني أسد يومَ الجمل مع عليِّ رضوان الله عليه، وكان يُعَدّ من الفُصحاء، وكان ثقةً له أحاديث. ¬

_ (¬1) ذكره ابن سعد في "طبقاته" 9/ 239 في الطبقة الثالثة من التابعين من أهل البصرة، وذكره خليفة في "طبقاته" ص 213 في الرابعة، لكن نقل ابن عساكر في "تاريخه" 13/ 460 (مصورة دار البشير) والمزي في "تهذيبه" 22/ 41 أن خليفة ذكره في الطبقة الخامسة. والله أعلم. (¬2) في (أ) و (ب) و (خ) (والكلام منها): عَمرو (وكذا في الموضع الآتي) وهو خطأ. وهو يوسف بن عُمر بن محمد بن الحكم. ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 28/ 85. (¬3) تاريخ دمشق 13/ 460 (مصورة دار البشير). (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 266. (¬5) وكذا ذكر صاحب "النجوم الزاهرة" 1/ 184 وهو خطأ. ولعله نقله عن المصنف. والذي في "تاريخ دمشق" 14/ 387 (مصورة دار البشير) أن أمَّ قبيصة أرضعت معاوية، وقد جاء فيه أيضًا 4/ 388: أن أمَّ قَبِيصة ظَأَرَتْ أبا سفيان وأرضعَتْ معاوية. (¬6) كذا قال. ولعله وهم، فالذي في "المحبَّر" ص 377، و"تاريخ دمشق" 14/ 387 أنه كان كاتب سعيد بن العاص.

مالك بن أحيمر

روى عن عُمر، وعليّ، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، ومعاوية، وعَمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة. وروى عنه الشعبيُّ وغيرُه، وتوفّي في سنة تسع وستين (¬1). مالك بن أُحَيمِر (¬2) السَّكْسَكي الحمصي اليمامي، من الطبقة الأولى من أهل الشام، وقيل: له صحبة ورواية. وكان صاحبَ معاذ بن جبل، روى عنه وقال: رأيتُ المهاجرات بالجابية حول حجرة معاذ يذبحن أضاحيَهنَّ بأيديهنَّ. وروى عن معاوية، وروى عنه معاوية (¬3). يزيد بن ربيعة بن مُفرِّغ أبو عثمان الحِمْيريّ البصري [صاحب الواقعة مع بني زياد. وسُمِّيَ جدُّه مُفَرِّغًا لأنه راهن أن يشربَ سِقاءً من لبن فيُفرِّغه، ففعل]. كان شاعرًا محسنًا مُجيدًا غَزِلًا (¬4). والسيِّد الحِمْيريّ من ولده (¬5). وكان يهوى أناهيد بنتَ الأعنق الأهوازية، وشبَّب بها [وله معها قصص. وقال أبو عبيدة معمر: ] وقدم الموصل، فتزوَّج امرأة عظيمة القدر، فلما كان ليلةُ زفافها؛ خرج إلى ظاهر البلد، فلقيَ رجلًا من الأهواز، فسأله عن أناهيد بنت الأعنق، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 14/ 387 وما بعدها (مصورة دار البشير). (¬2) في "طبقات" ابن سعد 9/ 444، و "تاريخ دمشق" 66/ 174 (طبعة مجمع دمشق): يخامر. قال ابن عساكر: ويقال: أخامر. قال ابن حجر في "الإصابة" 9/ 34: ويقال: أُخيمر، بالتصغير، ولم ترد هذه الترجمة في (م) (وفي هذا الموضع خرم في النسخة ص). (¬3) تاريخ دمشق 66/ 174 - 176 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) الأغاني 18/ 254. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬5) اسم السيّد الحِميري: إسماعيل بن محمد بن يزيد، والسيّد لقبٌ له. ينظر "الأغاني" 7/ 229.

فقال: إي والله، ما تجفُّ جفونُها من البكاء على ابن مفرِّغ. فحلف أنه لا يدخل الموصل حتى يأتيَها بالأهواز, فقال له صاحب معه: زوّجك القوم كريمتهم (¬1)، وأحسنوا إليك؛ تَدَعُهم وأنتَ في أمن (¬2)، وتقدم على ابن زياد وقد فعل بك ما فعل! فقال: لا بدّ. وسار من وقته إلى البصرة، فقدم على عُبيد الله بن أبي بَكْرة، فامتدحَه، فأمرَ له بمئة ألف درهم، ومئةِ ناقة، ومئةِ وصيف، ومئة وصيفة، فأخذَ الجميع، ومضى إلى الأهواز، فنزل على أناهيد، فأقام عندها حتى مات بالطاعون في هذه السنة (¬3). وهو القائل يمدحُ مروان بن الحَكَم: عَشقَ الفضائلَ فَهْوَ مُشتغلٌ بها ... والمَكْرُمَاتُ قليلةُ العُشَّاقِ وأقام سُوقًا للثَّناء ولم يكنْ ... سوقُ الثَّناءِ يُقام في الأسواقِ وكأنَّما جعلَ الإلهُ إليكمُ ... قبضَ النفوسِ وقسمةَ الأرزاقِ (¬4)! ¬

_ (¬1) تحرفت العبارة في (أ) و (ب) و (خ) و (د) إلى: ودخل القوم كريمهم. والمثبت من (م). (¬2) في (م): أمر. (¬3) ينظر "الأغاني" 18/ 290 - 296. (¬4) البيتان الثاني والثالث في "الأغاني" 18/ 289. والبيتان الأول والثالث بنحوهما في "الوافي بالوفيات" 5/ 221 ونسبا (مع بيت ثالث) لأحمد بن أبي فنن يمدح فيها محمد بن يزيد بن مزيد الشيباني.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [9]

السنة السبعون

السنة السبعون وفيها قدم مصعب بن الزبير [مكةَ] بأموالٍ عظيمة ودوابَّ وظهرٍ، ففرَّق الجميع في قومه وغيرهم، وأرسل إلى عبد الله بن صفوان وعبد الله بن مطيع وجُبير بن شيبة من ذلك شيئًا كثيرًا (¬1)، ونحرَ عند الكعبة [بُدْنًا كثيرة. وقال هشام: كانت] ألفَ بَدَنة وعشرين ألف شاة، وأغْنَى ساكني مكة، وعاد إلى الكوفة. وفيها قصد ملكُ الروم الشام بجموع عظيمة، فصالحه عبد الملك على أن يعطيَه في كل جمعة ألفَ دينار خوفًا على المسلمين (¬2)، وكان قد اتفق معه نصارى الشام أن يثوروا بالمسلمين. وفيها بعث عبد الملك بن مروان خالد بنَ عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العِيص بن أمية إلى البصرة ليأخذَها له في غَيبَة مصعب بن الزبير عنها. وكان خالد وأخوه عبد الله مع مصمعب أوَّلًا، فلما أراد مصعب المسير إلى المختار اتَّهمَهما، فسيَّرهما إلى الشام، فلحقا بعبد الملك. فلما قدم مصعب مكة في هذه السنة قال خالد لعبد الملك: جهِّزْني حتى آخذ لك البصرة. وقيل: خرج عبد الملك في سنة سبعين يريد مصعبًا ومعه خالد، فقال لعبد الملك: إن وجَّهتَني إلى البصرة وأتبعتني خيلًا يسيرة؛ أخَذْتُها لك، ورجوتُ أن أغلب لك عليها. ثم سار خالد إلى البصرة مستخفيًا في مواليه وخاصَّته، فنزل على عَمرو بن أصمع, فأجاره. ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية (عدا (م) فهي غير مجودة فيها): شيء كثير. وأثبتُّ اللفظ على الجادة. وفي "تاريخ" الطبري 6/ 150: مالًا كثيرًا ... وما سلف سيرد بين حاصرتين من (م). (¬2) المصدر السابق.

وكان عبّاد بن الحُصين على شرطة البصرة، وابنُ معمر خليفة مصعب عليها. فأرسل ابنُ أصمع إلى عبَّاد بن الحصين يخبره بنزول خالد عليه، ورجا أن يكون عبَّاد ظهيرًا له، فوافاه رسولُه وقد نزل عن فرسه، فأبلغَه الرسالة، فقال عبَّاد: قل له: واللهِ لا أضعُ لِبْدَ فرسي حتى آتيَك في الخيل. فعاد الرسولُ إليه وأبلغه ما قال عبَّاد، فقال ابنُ أصمع لخالد: واللهِ ما أغرُّك، الساعةَ يأتينا عبَّاد، ولا أقدرُ أمنعك منه، فاخْرُجْ إلى مالك بن مِسْمَع، فهو أمنع منّي. فخرج خالد من عنده، وأتى مالكًا، فاستجارَ به، فأجاره، وأرسلَ إلى الأَزْد وبكر بن وائل: البسُوا السلاح، وأقبلُوا بالرايات من بني تميم وغيرهم، وجاءه صعصعة بنُ معاوية، وعبدُ العزيز بنُ بشر، ومُرَّة بن مَحْكَان، وعُبيد الله بن أبي بَكْرة، وحُمران مولى عثمان، وغيرُهم. وأقبل ابنُ معمر وعبَّادُ بن الحُصين، وأمدَّهم مصعب بنُ الزُّبير من الكوفة بزَحْر بن قيس الجُعفي في ألف فارس، ووجَّه عبدُ الملك عُبيدَ الله بنَ زياد بنِ ظَبْيان مددًا لخالد، فتربَّص ولم يدخل البصرة. وأقاموا يقتتلون أربعة عشر يومًا (¬1)، ثم اتفقوا على أن يخرجَ خالد من البصرة، بأمان وكانت عين مالك قد أُصيبت في هذه الحرب. فخرج خالد إلى الشام بأمان، وبلغ عُبيدَ الله بنَ زياد بن ظَبْيان، ففرَّق الناسَ عن خالد، فلحق بعبد الملك. وفي ذلك يقول الفرزدق يذكر مالكًا ولحاقَ بني تميم وخالدًا وخروجَه: عجبتُ لأقوامٍ تميمٌ أبوهُمُ ... وهم في بني سعدٍ (¬2) عِظامُ المَبَارِكِ وكانوا أعزَّ الناسِ قبلَ مسيرِهم ... إلى الأزْد لمَّا أقبلوا بالسَّنابكِ (¬3) فما ظنُّكم بابنِ الحَوَاريِّ مصعبٍ ... إذا افْتَرَّ عن أنيابه غيرَ ضاحكِ ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 6/ 153، و "الكامل" 4/ 307: أربعة وعشرين يومًا. وينظر (أنساب الأشراف" 5/ 65. (¬2) في (أ) و (خ) و (د): وهم وبنو سعد، وفي (ب): وهم بنو. والمثبت من "أنساب الأشراف" 5/ 66، و "تاريخ" الطبري 6/ 153. وكذلك هي في "ديوان" الفرزدق 2/ 57. (¬3) عجز البيت في المصدرين السابقين: إلى الأزد مُصْفَرًّا لِحاها ومالكِ.

ونحن نَفَينا مالكًا عن بلادِهِ ... ونحن فَقَأْنا عينَه بالنَّيازِكِ ورجع عبدُ الملك إلى دمشق، وقدمَ مصعب البصرة، وأرسلَ فأحضرَ الذين خرجوا مع خالد، فسبَّهم ووبَّخهم، وقال لعُبيد الله بن أبي بَكْرَة: يا ابنَ مَسْرُوح (¬1)، إنَّما أنتَ ابنُ كلبةٍ تَعاوَرَتْها الكلاب، فجاءت بأحمر وأصفر وأسود، من كلِّ كلب بما يُشبهه، وإنَّما كان أبوك عبدًا نزل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصن الطائف، ثم أقمتُم البيِّنة أن أبا سفيان زنى بأمِّكم. أما واللهِ لئن بقيتُ بكم لأُلحقنَّكم بنسبكم. ثم قال لِحُمْران: يا ابنَ اليهودية، إنما أنتَ عِلْج نبطيّ سُبيتَ من عين التمر. ثم قال للحَكَم بن المنذر بن الجارود: يا ابنَ الخبيث، أتدري مَنْ أنت ومَنْ أبوك؟ إنما كان عِلْجًا بجزيرة ابنِ كاوان فارسيًّا، فقطع إلى ساحل البحر، فانتمى إلى عبد القيس، وواللهِ ما أعرفُ حيًّا أكثرَ اشتمالًا على سَوْءَةٍ منكم، ثم أنكحَ أختَه المُكَعْبرَ الفارسيَّ، فأولاده منها. ثم قال لعبد الله بن فَضَالة الزهراوي: ألستَ من هَجَر، ثم سَمَاهيج، واللهِ لأَرُدَّنَّك إلى نَسَبك. ثم قال لعبد العزيز بن بشر بن حَنَّاط: يا ابنَ المشتور، ألم يسرق عمُّك عيرًا في عهد عمر، فأمر بقطعه؟ أما واللهِ ما أعيبُ (¬2) إلا من ينكح أختَك. وكانت أختُه تحت مُقاتل ابن مسمع. ثم قال لعبد الله بن عثمان الثقفي: أَعَلَيَّ تمالئ (¬3)؟ ! إنَّما أبوك عِلْجٌ من أهل هَجَر لحق بالطائف، أما والله لأَرُدَّنَّك إلى أصلك. ثم عدَّد لكلِّ واحد ممن خرج عليه أشياءَ من هذا الجنس، ثم ضرب كلَّ واحد منهم مئة جلدة، وحلق رؤوسَهم ولِحاهم، وهدمَ دورهم، وأقامَهم في الشمس ثلاثًا، ¬

_ (¬1) اسم أبي بَكْرَة: نُفيع بن مسروح، وقيل: بن مسروق، وقيل: اسمُه مسروح. وقيل غير ذلك. ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 15، و "تهذيب الكمال" 30/ 5. (¬2) في "تاريخ" الطبري 6/ 154 - 155: أعنتَ. وينظر "أنساب الأشراف" 5/ 69. (¬3) لعلها كذلك، فقد رسمت في (ب) و (خ) و (د): سمالي، وفي (أ): شمالي. وفي المصدرين السابقين: أعليَّ تكثّر؟

الحارث بن عبد الله

وحملَهم على طلاق نسائهم، وسيَّر أولادهم (¬1) في البُعوث، وطاف بهم في أقطار البصرة، واستحلفَهم على أن لا ينكحوا الحرائر. وكان عزمَ على قتلهم، فشفَعَ فيهم أعيانُ الصحابة، فاقتصر على هذا. [وقال هشام: ] وفيها وقع الطاعون الجارف، فمات أهل الشام (¬2) إلا اليسير، ومات بنو عجل، فلم يبقَ منهم إلا جارية ماتَ أهلُها، فسمعت عُواء الذئب، فقالت: ألا أيُّها الذِّئْبُ المنادي بسُحْرَةٍ (¬3) ... هلمَّ أُنبِّئْكَ الذي قد بَدَا لِيا بدا ليَ أنِّي قد يَتِمْتُ وأنَّني ... بقيةُ قومٍ أورثُوني المَباكيا ولا ضَيرَ أنِّي سوف أتبعُ مَنْ مَضَى ... ويتبعُني مَنْ كان بعديَ تاليا (¬4) وحجَّ بالناس ابنُ الزبير [في هذه السنة] وكان الولاة والقضاة في هذه السنة هم العمال والقضاة في السنة الماضية. وفيها توفِّي الحارث بن عبد الله ابن كعب بن أسد الهَمْدَاني الكوفي الأعور، راويةُ عليّ - عليه السلام -، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. قال عامر: لقد رأيتُ الحسنَ والحسين يسألان الحارثَ الأعور عن حديث عليّ - عليه السلام - (¬5). وكانت وفاتُه بالكوفة في هذه السنة (¬6). وقيل: سنة ستّ وستين. ¬

_ (¬1) في المصدرين السابقين: وجمَّر أولادهم. أي: سيَّرهم في البعوث، وحبسهم عن العودة. (¬2) الخبر في "الاعتبار" لابن أبي الدنيا ص 58، و "أشعار النساء" للمرزباني ص 211 - 212، وفيهما أن الطاعون الجارف وقع بالبصرة. (¬3) السُّحْرَة: آخر الليل قُبيل الفجر. (¬4) في المصدرين السابقين: ويتبعني من بعدُ من كان تاليا. (¬5) تاريخ الطبري 6/ 150. (¬6) طبقات ابن سعد 8/ 288.

عاصم بن عمر بن الخطاب

أسند الحارثُ عن عليّ - عليه السلام -، وابنِ مسعود، وكان ضعيفًا في روايته، وكان له قولُ سوء. وقال الشعبي: حدثني الحارثُ الأعور وكان كذَّابًا (¬1). عاصم بن عمر بن الخطاب [وكنيتُه] أبو عُمر (¬2)، وأمُّه جميلة بنت عاصم (¬3) بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري. [قال ابن سعد: ] وكان اسمُها عاصية، فسمَّاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميلة. وكان عمر - رضي الله عنه - طلَّقَها، فخاصَمَتْه إلى أبي بكر رضوان الله عليه، فقضى بولدها عاصم (¬4). وقال: مَسُّها وريحها خيرٌ له منك (¬5). وعاصم من الطبقة الأولى من التابعين، من أهل المدينة. [وقال الموفَّق: ] وُلد قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) [ثم طلَّق عُمرُ أمَّهُ وأخذَ عاصمًا منها، فخاصَمَتْهُ إلى أبي بكر وعاصمٌ يومئذٍ ابنُ أربعِ سنين]. وكان جسيمًا [وكان ذراعه ذراعًا وشبرًا -أو نحوًا من شبر- وكان] حليمًا خيّرًا، من أحسن الناس خُلُقًا (¬7)؛ خاصمه الحُسين بنُ عليّ في أرض، فتركَها له. [وقال الواقدي: ] وكلّم رجل عاصمًا في لهو، فأنشد: قَضى ما قَضى فيما مضى ثم لا تَرَى ... له صبوةً فيما بقي آخرَ الدَّهْرِ (¬8) ¬

_ (¬1) المصدر السابق. وينظر "تهذيب الكمال" 5/ 244. (¬2) في (م): أبو عمرو. قلت: ويقال كذلك كما في "تهذيب الكمال" 13/ 520. وما بين حاصرتين في هذه الترجمة من (م). (¬3) كذا في "التبيين في أنساب القرشيين" ص 416، وفي "طبقات" ابن سعد 7/ 15 و"الاستيعاب" ص 575 وغيرهما: أخت عاصم، وقال ابنُ قُدامة: وقيل: أخت عاصم. قال ابنُ عبد البَرّ: وهو الأكثر. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 15. ونُسب الكلام في (م) إليه، والكلام فيه ابن بنحوه. (¬5) التبيين في أنساب القرشيين ص 416، وهو بنحوه في "مصنف" عبد الرزاق (12601) و "مصنف" ابن أبي شيبة 5/ 238، ولم يرد قوله: ومسُّها وريحها ... إلخ في (م). (¬6) ولد قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، كما في "الاستيعاب" و "التبيين". ووقع في (أ) و (م): بعد، وهو خطأ. (¬7) التبيين في أنساب القرشيين ص 416. وينظر "الاستيعاب" ص 575. (¬8) طبقات ابن سعد 7/ 16، وأنساب الأشراف 9/ 230، والاستيعاب ص 576.

[وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: ] توفّي عاصم بن عمر بالمدينة سنة سبعين، فقدم أخوه عبد الله بنُ عمر - رضي الله عنه - بعد وفاته بثلاثة أيام، فأتى قبره، فصلَّى عليه (¬1). وقال: فليتَ المنايا كنَّ خلَّفْنَ عاصمًا ... فَعِشْنا جميعًا أو ذَهَبْنَ بنا معا (¬2) ذكر أولاده: كان له من الولد: عُمر، وأمُّ سفيان؛ أمُّهما بنتُ سفيان بن عوف (¬3)، كنانية. وعُبيد الله، وسليمان، وأمُّ سلمة، وأمُّهم عائشة بنت مطيع بن الأسود العدويّ. وحفص، وأُمُّه سِدْرَة بنت يزيد بن قيس عيلان. وحفصة، وأمُّ عاصم -وهي أمُّ عُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وأمُّهما أمُّ عمارة (¬4) سفيان، ثقفيَّة. وكان لعاصم (¬5) ولدٌ اسمُه حفص، وأمُّه يُقال لها (¬6) ... ... أمُّ مسكين (¬7) تزوَّجَها يزيد بن معاوية، ثمَّ طلَّقَها، فتزوَّجها عُبيد الله بنُ زياد. ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 17. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬2) الاستيعاب ص 575، والتبيين في أنساب القرشيين ص 417. (¬3) في "الطبقات" 7/ 16: وأمها بنت سفيان بن عويف. (¬4) في المصدر السابق: أم عمَّار. (¬5) في النسخ الخطية: لعامر. وهو خطأ (والكلام ليس في م). (¬6) في النسخ الخطية: وأمُّه يقال لها: أمُّ مسكين تزوَّجها يزيد ... (وهو الكلام الآتي بعده). وهو خطأ، وفي الكلام سقط، فأُمُ حفص بن عاصم سِدْرَة، وسلف ذكر ذلك، فلا معنى لتكراره. وينظر "نسب قريب" ص 361، و "طبقات" ابن سعد 7/ 410. وينظر التعليق التالي. (¬7) الكلام في النسخ الخطية متصل بما قبله، وفيه سقط كما ذكرت. وأمُّ مسكين هي بنت عُمر بن عاصم بن عمر بن الخطاب، زوجة يزيد بن معاوية، كما في "نسب قريش" ص 360. و "تاريخ دمشق ص 548 (طبعة مجمع دمشق- تراجم النساء). لكن جاء في جمرة "نسب قريش" 2/ 818: و"أنساب الأشراف" 4/ 321 و 9/ 231 أنها بنت عاصم بن عمر. وكذا في "تهذيب الكمال" 35/ 385، و "ميزان الاعتدال" 5/ 326، وغيرهما، وأكّد المزي والذهبي أنها بنتُ عاصم، بقولهما: خالة عمر بن عبد العزيز. وينظر الكلام في "الجمهرة" فإن سياقَةُ يبين أنها بنتُ عمر بن عاصم، وليست بنتَ عاصم كما وقع في مطبوعه. والله أعلم.

وأمَّا حفص بن عاصم؛ فكان من رواة العلم، وابنُه عُمر (¬1) بنُ حفص، وفيه يقول المُزَنيّ (¬2): جزاكَ اللهُ يا عُمَرَ بنَ حفصٍ ... عن الإخوانِ جنَّاتِ النعيمِ وكان لعُمرِ بنِ حفص من الولد: عَبْدُ الله، وعُبيد الله، ومحمد، وزيد، وعبد الرحمن، وعاصم، وأبو بكر، بنو عُمر بن حفص، وكلُّهم كانوا أصحابَ مروءة، وفضل في الدين والعلم، والخلُق الجميل (¬3). وكانوا يجلسون إلى نافع مولى ابن عمر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرَّوْضة، وكان مالك بنُ أنس يجلس معهم عند نافع، ويجلس مالك بعد موت (¬4) نافع في مجلسهم. وكان من طولهم وعظم أجسامهم يسمَّوْن الشراجع، يُشبَّهون بالإبل العظام. ونظر إليهم رجل من آل أبي طالب ورأى الناس يُهرعون إليهم، فقال: من هؤلاء؟ فقيل له: بنو عُمر بن حفص بن عاصم بن عُمر بن الخطاب. فقال: واللهِ لا قامت للشيعة قائمةٌ ما دام هؤلاء أحياءً. وكانوا يتشدَّدُون في الذنوب حتى يُخال أنهم يرون رأي الإباضيَّة. ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: عمرو (وكذا في المواضع التالية). والمثبت من جمهرة "نسب قريش" 2/ 820، و "التبيين في أنساب القرشيين" ص 417. وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 410 - 411. (¬2) في النسخ الخطية (عدا (م) فالكلام ليس فيها) و "التبيين": المُرِّي. والمثبت من جمهرة "نسب قريش" 2/ 820، ومعجم ما استعجم" 4/ 1254. (¬3) بعده في (أ) و (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) ما صورته: "وعبد الله بن حفص هو الزاهد العمري الذي كان يعظ هارون الرشيد". وهو كلام مقحم ضمن السياق، على خطأ فيه. فإن المراد من سياق العبارة: هنا (وفي قوله الآتي قريبًا: عبد الله الزاهد) أنه عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، ومع ذلك فليس هذا بالزاهد العمري الذي كان يعظ هارون الرشيد، إنما ذاك هو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، كما في "حلية الأولياء" 8/ 283، و "صفة الصفوة" 2/ 181، وتاريخ الإسلام" 4/ 877. وغيرها. غير أن صاحب "مرآة الجنان" 1/ 381، وصاحب "شذرات الذهب" 1/ 279 ذكرا خبرا فيه وعظُ عبد الله بن عمر بن حفص لهارون الرشيد، وذكر له ابنُ قدامة وفي "التبيين" ص 418 خبرًا آخر مع الرشيد. والله أعلم. (¬4) كذا في النسخ الخطية. وعبارة "التبيين": وبعد موت ... إلخ، بدل قوله: ويجلس مالك بعد موت ... إلخ. فلو قال: وجلَسَ مالك بعد ... إلخ، لكان أنسب. وينظر "نسب قريش" ص 362.

قيس بن الملوح

وسيِّدُهم عُبيد الله بن عُمر بن حفص، كان إمامًا في العلم والحديث والدين, وكنيتُه أبو عثمان، وأخوه عَبْدُ الله الزاهد كان يُسأل عن الحديث، فيقول: أما وأبو عثمان حيٌّ فلا. يلزمُ الأدبَ مع أخيه؛ لأنه أخذَ العلم عنه. وخرجَ عَبْدُ الله من المدينة، فاعتزلَ الناس، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقدَمُ على الخلفاء. وابنُه عبد الرحمن بن عَبْد الله، وليَ قضاء المدينة لهارون الوشيد، وابنُه الآخر القاسم بن عَبْدِ الله رُويَ عنه الحديثُ (¬1). وأخوه أبو بكر بن عمر بن حفص؛ وليَ القضاء بالمدينة (¬2). أسند عاصم الحديث عن أبيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وغيره، وروى عنه ابنُ المسيِّب والزُّهْريّ، وغيرهما، وكان ثقة. قيس بن الملوَّح صاحب ليلى، وهما من بني عامر [في قول أبي عمرو الشيباني. وقال ابن الكلبي: هو قيس بن معاذ العقيلي، وصاحبتُه ليلى بنت مهدي، اشتهر بحبِّها، و] لم يزل به العشق حتى مات بين الحجارة والوحش. [وقد ذكر أخباره أبو عَمرو بن العلاء، وابنُ الكلبي، وغيرهما. وقد ذكر طرفًا من أشعاره وأخباره هشامُ ابنُ الكلبي عن أبيه. وكذا حكى أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد، الكاتب المعروف بالأصبهاني، والرِّياشي، والأصمعي، والأخفش، والمدائني؛ الصحيحَ من الروايات أنه قيس بن المُلَوَّح بن مُزاحم، والدليل على أنه قيس قول ليلى: ألا ليتَ شِعْري والخطوبُ كثيرةٌ ... متى رَحْلُ قيسٍ مستقلٌّ فراجعُ ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، وأخوه القاسم؛ قال ابن حجر في "تقريب التهذيب" في كلِّ منهما: متروك الحديث. (¬2) وَلِيَهُ لمحمد بن خالد القَسْرِيّ، وذلك في أيام المنصور، كما في "نسب قريش" ص 362، "أنساب الأشراف" 9/ 232. وجاء في "التبيين" ص 419 أنه وليَ القضاء لخالد القسري، وهو خطأ. وينظر الكلام السالف فيه ص 417 - 418.

وحكى الرِّياشي عن الأصمعي قال: ثلاثة رجال ما عُرفوا في الدنيا قطّ إلا بالاسم: مجنونُ بني عامر، وابنُ القِرِّيَّة (¬1)، وابن أبي العَقِب، صاحب قصيدة (¬2) الملاحم. وقال المدائني: المجنون المشهور بالشعر عند الناس صاحب ليلى قيس بن معاذ، من بني عامر، ثم من بني عقيل. وحكى طالوت بن عبّاد عن الأصمعي أنه سُئل عنه، فقال: لم يكن مجنونًا، وإنما كانت به لُوثة أحدثها العشق فيه، وكان يهوى امرأة من قومه يقال لها: ليلى، واسمه قيس بن معاذ. وقال أبو عبيدة: إن اسمه البُحْتريّ. وقيل: الأقرع بن معاذ، وقيس أشهر. وروي عن ابن الكلبي أنه قال: إن حديث المجنون وشعره وضعه فتىً من بني أمية كان يهوى ابنة عمّ له، وكان يكره إظهار ما بينه وبينها، فوضع حديث المجنون وأشعاره، ونسبها إليه. قلت: وقد وهم ابن الكلبي، فإن معظم حكاياته حكاها ابن الكلبي عن أبيه. قلت: وقد وضعتُ في هذا الكتاب ما اخترتُه من أشعاره على مقتضى الوقائع دون الترتيب. حكى أبو الفرج الأصبهاني عن أبي الهيثم العقيلي قال: ] (¬3) وكان خطبها المجنون ورجلٌ من بني عَقِيل يقال له: وَرْد (¬4)، فزوَّجَها أهلُها من وَرْد، فمرَّ به المجنون، فقال: ¬

_ (¬1) الكلمتان غير واضحتين في (م) بسبب رطوبة فيها (والكلام منها). والمثبت من "الأغاني" 2/ 9 (والخبر فيه بنحوه). وابنُ القِرِّيَّة: هو أيوب بن زيد بن قيس، وهو من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، والقِرِّيَّة، بكسر القاف وتشديد الراء والياء هي جدَّتُه. قتله الحجاج سنة أربع وثمانين. ينظر "وفيات الأعيان" 10/ 39، و "سير أعلام النبلاء" 4/ 197. (¬2) في (م) (والكلام منها): قصة. والمثبت من "الأغاني" 2/ 9. وابن أبي العقب: هو يحيى بن عبد الله. (¬3) من قوله: وقد ذكر أخباره أبو عمرو ... إلى هذا الموضع (وما قبله بين حاصرتين) من (م). وينظر "الأغاني" 1/ 2 - 15. (¬4) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): قرد! وجاء على الصواب في (م).

بِربِّكَ هل ضَمَمْتَ إليكَ ليلى ... قُبيلَ الصُّبحِ أو قَبَّلْتَ فاها وهل رَفَّتْ عليك قُرونُ ليلى ... رفيفَ الأُقحوانةِ في نداها فقال: اللَّهمَّ إذْ حلَّفْتَني فنعم. فقبضَ المجنونُ بكلتا يديه قبضتين من الجمر، فما فارقَه حتى وقعَ مغشيًّا عليه، وسقط لحمُ كفَّيه مع الجمر (¬1). [وقال هشام: نزلَتْ ليلى منزلًا، ثم رحلت، فجاء المجنون، فألصقَ صدره بمكانها، وجعلَ يلثُمُ التراب ويبكي ويقول: أيا حَرَجاتِ الحيِّ حيث (¬2) تحمَّلُوا ... بذي سَلَمٍ لا جادَكُنَّ ربيعُ وخيماتُكِ (¬3) اللاتي بمنعرج اللِّوى ... بَلِينَ بِلَى لم تَبْلَهُنَّ رُبُوعُ ندمتُ على ما كان منِّي ندامةً ... كما ندمَ المَغْبُونُ حين يبيعُ فقدتُكِ من قلبٍ شَعاعٍ ألم أكُنْ ... نهيتُكِ عن هذا ونحن جميعُ (¬4) وقال العُتبيُّ: مرَّ يومًا بحيِّ ليلى وهي جالسةٌ مع أترابٍ لها، فوقف عليهنَّ، وحادثَهنَّ، ونزل فعقرَ ناقتَه، فجعلنَ يشوينَ ويأكلْنَ، فأقبلَ غلامٌ حسن الوجه يقال له: مُنازل، فجلس إليهنَّ، فأعْرَضْنَ عن قيس، فقال: أَأَعقِرُ من جَرَّا كريمةَ ناقتي (¬5) ... ووَصْلِيَ مقرونٌ بوَصْلِ مُنازِلِ إذا جاء قَعْقَعْنَ الحُلِيَّ ولم أكُنْ ... إذا جئتُ أرجو صوتَ تلك الخلاخلِ وقال أبو عُبيدة مَعْمَر: ليلى بنتُ مهديّ، من ولد الحَرِيش، وكنيتُها أمُّ مالك. وقال العُتبي: إنما سُمِّيَ المجنون لقوله: يقولُ أُناسٌ عَلَّ مجنونَ عامرٍ ... يرومُ سُلُوًّا قلتُ إنِّي لِمَا بِيا ¬

_ (¬1) ينظر "الأغاني" 2/ 24 - 25، و "المنتظم" 6/ 107. (¬2) في (م) (والكلام منها): متُّ! والمثبت من "الأغاني" 2/ 27. (¬3) في (م): وجثمانك. والمثبت من "الأغاني". (¬4) الأغاني 2/ 26 - 27، و "المنتظم" 6/ 104، والديوان ص 112. قوله: شَعَاع؛ يقال: ذهبت نفسُه أو قلبُه شَعَاعًا، أي: تفرَّقت هِمَمُها وآراؤها، فلا تتَّجهُ لأمرٍ جَزْم. (¬5) من جرَّا، أي: من أجل. وكريمة: امرأة من قوم قيس، كان معها جماعة نسوة يتحدثن، ومعهن ليلى. ينظر "الأغاني" 2/ 13 و 29 - 30.

من أبيات (¬1). وقال العُتبي: استعمل مروان بنُ الحَكَم رجلًا من قريش، يقال له: عَمرو (¬2)، على صدقات بني كعب، فأتاه المجنون فقال: أُحِبُّ أن أخرج معك، وأتجمَّلَ بك عند قومي. فقال: نعم. فقيل لعَمرو: إنَّ قَصْدَه أن يخرج معك إلى حيِّ ليلى، وقد استعدى عليه أهلُها السلطانَ فأهدرَ دَمَه إنْ جاءهم، فمنعَه عَمرو الخروجَ معه، وأعطاه قلائصَ من الصدقة، فأبَى أنْ يأخذها وقال: ألا حُجِبَتْ ليلى وآلى أميرُها ... يمينًا عليه (¬3) جاهدًا لا أزُورُها وإني لمَجلُوبٌ إلى الشَّوق كلَّما ... بدا ليَ من أعلام ليلى رُسُومُها (¬4) وأوعدَني فيها رجالٌ أبوهُمُ ... أبي وأبوها خُشِّنَت لي صدورُها على غير شيءٍ غيرَ أني أُحبُّها ... وأنَّ فؤادي عند ليلى أسيرُها (¬5) بَكَيتُ فأنزفْتُ الدموعَ من البُكا ... فقد حُرِّقَتْ عيني وغُشِّي بصيرُها فما رَحِمَتْ يوم التفرُّقِ عَبْرَتي ... وقد كاد يبكي رحمةً لي بعيرُها وبعضُهم يروي في هذه الأبيات بيتًا آخر، وهو: وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تَبَرْقَعَتْ ... وقد رابني عند الغَداةِ سُفُورُها (¬6) وليس البيت للمجنون، إنما هو لتَوْبةَ بن الحُمَيِّر، وقد ذكرناه في ترجمته. وقال ابن الكلبيّ: خرج في رُفقة، فمرُّوا بمفرق طُرُق، أحدُها يأخذُ إلى ناحية ليلى، وبين الطريق وبين حيِّ ليلى ليلة، فسألهم أن يسلكوا به تلك الطريق، فأبَوْا، فقال: لو ضلَّ بعيرُ أحدِكم؛ أما كنتُم تقفون عليه حتى يَنْشُدَ ضالَّتَه؟ ! ثم قال: أَرُوحُ بِشَجْوٍ ثم أغْدُو بمثلهِ ... ويعتادُ نفسي أَنَّةٌ وزَفِيرُ ¬

_ (¬1) الأغاني 2/ 38، والديوان ص 295. (¬2) الخبر بنحوه في "الأغاني" 2/ 16. وفيه: عمر بن عبد الرحمن بن عوف. (¬3) في "الأغاني" 2/ 68: عليَّ يمينًا. (¬4) كذا أُقحمَ هذا البيت هنا، وواضح أنه من قصيدة أخرى (لاختلاف الرَّويّ) هي في "الديوان" ص 252 - 253. وهذا الشعر والكلام قبله وبعده من (م) وحدها. (¬5) هذا البيت، والأول والثالث في "الأغاني" 2/ 68 (بنحوها)، وفي "المنتظم" 6/ 106. (¬6) ينظر "الديوان" ص 146 - 148.

إذا ذكرَتْكِ النفسُ مِتُّ صَبابةً ... وكاد فؤادي عند ذاك يطيرُ أأتركُ ليلى ليس بيني وبينَها ... سوى ليلةٍ إني إذًا لَصَبُورُ هَبُوني امرءًا منكم أَضَلَّ بعيرَهُ ... له حُرْمةٌ إن الذِّمام كبيرُ (¬1) وقال الأصمعي: قال له بعضُ أهله: أَقْصِرْ، فقد شاع أمرك في الدنيا، فقال: سقى منزلًا منها بذي الرِّمْثِ قد عفا ... وبطنِ نقاها مُدْجِناتٌ بوارقُ وماذا عسى الواشون أنْ يتحدَّثوا ... سوى أنْ يقولوا إنني لكِ عاشقُ أَجَلْ صَدَقَ الواشون أنتِ حبيبةٌ ... إليَّ وإنْ لم تَصْفُ منكِ الخلائقُ (¬2) وقال الأصمعي: قيل لأبيه: لو خرجتَ به إلى الموسم، وسألتَ اللهَ فيه لعلَّه أن يُخَفِّفَ عنه. فخرج به إلى الموسم، وجاء به إلى عرفات، ووقف مع الناس، وأخذ أبوه في الدعاء له، فقال المجنون: دعا المُحْرِمُون اللهَ يستغفرونهُ ... بمكةَ يومًا أن تُمحَّى ذنوبُها وقلتُ له يا ربِّ أوَّلُ حاجةٍ ... لنفسيَ ليلى ثم أنتَ حسيبُها فلو نلتُ ليلى في حياتيَ لم يَتُبْ ... إلى الله عبدٌ توبةً لا أتوبُها يَقَرُّ بعيني قربُها ويزيدُني ... بها كَلَفًا مَنْ كان عندي يعيبُها فيا نفسُ صبرًا لستِ واللهِ فاعلمي ... بأوَّلِ نفسٍ غابَ عنها طبيبُها أراكَ إلى نجدٍ تَحِنُّ وإنَّما ... هوى كلِّ نفسٍ حيثُ حلَّ حبيبُها وما هَجَرَتْكِ النفسُ يا ليلَ أنها ... قَلَتْكِ ولكنْ قلَّ منها نصيبُها (¬3) ثم نزل أبوه إلى مني وهو معه، فصاح صائح: يا ليلى. فَخَرَّ مَغْشِيًّا عليه، ثم أفاق فقال: وداعٍ دعا إذْ نحن بالخَيفِ من مني ... فهَيَّجَ أحزانَ الفؤادِ وما يدري دعا باسم ليلى غيرَها فكأنَّما ... أطارَ بليلَى طائرًا كان في صدري ¬

_ (¬1) البيتان الثالث والرابع في "الديوان" ص 139. (¬2) البيتان الثاني والثالث في "الأغاني" 2/ 61، و"الديوان" ص 203. ولم أقف على البيت الأول (والأبيات والكلام قبلها وبعدها من (م) وحدها). قوله: مُدْجِناتٌ، أي: سُحُبٌ سُود. وتحرَّفت في (م) إلى: مذخبات. (¬3) ينظر "أمالي" القالي 2/ 127 و 262، و"المنتظم" 6/ 105، و "الديوان" ص 67 - 68، ونُسب البيتان الرابع والخامس في "الأغاني" 9/ 193 مع بيت ثالث لقيس بن ذَرِيح.

إذا ذُكِرَتْ يرتاعُ قلبي لذكرها ... كما انتفض العصفورُ من بَلَلِ القَطْرِ لقد فُضِّلَتْ ليلى على الناسِ كلِّهمْ ... كما أَلْفَ شهرٍ فُضِّلَتْ ليلةُ القَدْرِ (¬1) أُحِبُّ الحِمَى من أجل ليلى وساكنًا ... على الغَمْر إن نُبِّئْتُ ليلى على الغَمْرِ مَرَرْتُ على الرِّعْيانِ أَنْشُدُ ناقتي ... وما ليَ فيهم من قَلُوصٍ ولا بَكْرِ وما أَنْشُدُ الرِّعْيانَ إلا تَعِلَّةً ... لواضحةٍ كالبانِ طيِّبةِ النَّشْرِ (¬2) وقال الرِّياشي: مرَّ به الأحوص الشاعر، فقال له قيس: أنْشِدْني، فأنشده، فقال المجنون: عجبتُ لعروةَ العُذْريِّ أضْحَى ... أحاديثًا لقومٍ بعد قوم وعروةُ مات موتًا مستريحًا ... وها أنا ذا أُموَّتُ كلَّ يومِ (¬3) وقال: أَجِدَّكَ (¬4) لا تُنسيك ليلى مُلِمَّةٌ ... تُلِمُّ ولا يُنسيك عهدًا تَقَادُمُهْ أفِقْ قد أفاقَ العاشقون وقد أنى ... لدائك أن يلقى طبيبًا يلائمُهْ] (¬5) ومن شعره: أيا بانةَ الوادي أليس مصيبةٌ ... من الدهر أن يُحْمَى عليَّ ظِلالُكِ ألا قد أرى واللهِ حبَّكِ شاملًا ... فؤادي وإني مُحْصَرٌ لا أنَالُكِ أرى الناسَ يرجون الرييعَ وإنَّما ... ربيعي الذي أرجوه حُسْنُ نَوالِكِ فلو قلتِ طَأْ في النارِ أعلمُ أنَّه ... رِضًى لكِ أو مُدْنٍ لنا من وصالكِ لقدَّ مْتُ رِجْلي نحوَها فوَطِئْتُها ... لعلميَ أنِّي قد خطرتُ ببالكِ (¬6) ومرَّ قيس يومًا بحمامةٍ على غصن وهي تهتف، فغُشِيَ عليه، فلما أفاق قال: ¬

_ (¬1) رواية "الديوان" ص 160 والمصادر: ... على الناس مثلَ ما ... على ألفِ شهرٍ فُضِّلَتْ ليلةُ القَدْرِ. وهي أجود. (¬2) لم أقف على جميع الأبيات، وينظر "الأغاني" 2/ 21 - 22، و "المنتظم" 6/ 105. (¬3) الأغاني 2/ 84، و "المنتظم" 6/ 108 - 109 "والديوان ص 256. بنحوه. (¬4) أي: أجِدًّا منك؟ قال الفيروز آبادي في "القاموس": لا يقال إلا مضافًا، وإذا كسر (يعني الجيم): استحلفه بحقيقته، وإذا فتح استحلفه بِبَخْتِه. (¬5) الأغاني 2/ 6، والديوان ص 248 بنحوه. ومن قوله: وقال هشام: نزلت ليلى منزلًا ثم رحلت (قبل ثلاث صفحات) ... إلى هذا الموضع (وهو بين حاصرتين) من (م) وحدها. (¬6) الأبيات (عدا الثاني) ضمن قصيدة في "الحماسة البصرية" 2/ 107 ونسبت لعبد الله بن الدمينة. وهي في النسخ الخطية غير (م) فلم ترد فيها.

ألا قاتلَ اللهُ الحَمامَةَ غُدْوةً ... على الغصن ماذا هَيَّجَتْ حين غَنَّتِ تَغَنَّتْ غِناءً أعجميًّا فهيَّجَتْ ... هوايَ الذي كانت ضلوعي أَجَنَّتِ حلفتُ لها بالله ما حلَّ قبلَها ... ولا بعدَها من خُلَّةٍ حيث حلَّتِ أقامَتْ بأعلى شُعبةٍ من فؤادِهِ ... فلا القَلْبُ ينساها ولا العينُ مَلَّتِ وقد زعَمتْ أنّي سأبغي إذا نأَتْ ... بها بَدَلًا يا بئسَ ما هيَ ظَنَّتِ ألا مَنْ لِعَينٍ لا تَرى قُلَلَ الحِمْى ... ولا جَبَلَ الرَّيَّان (¬1) إلا استهلَّتِ وما وَجْدُ أعرابيَّةٍ قَذَفَتْ بها ... صروفُ النَّوى من حيثُ لم تك ظنَّتِ تمنَّتْ أحاليب الرِّعاء وخِيمةً ... بنجدٍ فلم يُقْضَى لها ما تَمَنَّتِ بأكثر مني لوعةً غير أنّني ... أُجَمْجِمُ أحشائي على ما أجنَّتِ سقى الله دارًا بالحَشَا يسكنونها ... فإنكُمُ نِعْمَ الجِوارُ لِمُهْجَتي (¬2) وله من أبيات. خليليَّ لا واللهِ ما أنا راضيًا (¬3) ... بما قضى في ليلى ولا ما قضى ليا (¬4) قضاها لغيري وابتلاني بحبِّها ... فهلَّا بشيءٍ غيرِ ليلى ابتلانيا وأشهدُ عند الله أني أُحبُّها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا وحدَّثْتُماني أنَّ تيماء منزلٌ ... لليلى إذا ما الصيفُ ألقى (¬5) المراسيا فهذي شهورُ الصيفِ عنَّا قد انقضت ... فما للنَّوى يرمي بليلى المراميا فلو كان واشٍ باليمامة دارُهُ ... وداري بأعلى حضرموتَ اهتدى ليا (¬6) ¬

_ (¬1) في (م): التَّوْباذ. وسيرد. وجبل الرَّيَّان في بلاد بني عامر. ينظر "معجم البلدان" 3/ 110. (¬2) ينظر "ديوان" المجنون ص 85 - 87. ونُسبت بعض الأبيات مع غيرها في "الأغاني" 5/ 359 و 9/ 283 لبعض الأعراب، ونُسب بعضها أيضًا مع غيرها في "الحماسة البصرية" 2/ 143 - 144 لطارق بن نابي وقال مؤلفه البصري: وفيها أبيات تروى لابن الدمينة. (¬3) لم أقف على هذا اللفظ، وفيه إشكال. وروايتُه في "الأغاني" 2/ 54، و "الديوان" ص 293 وغيرهما: خليليَّ لا واللهِ لا أملكُ الذي بما قضى ... (¬4) اضطرب الشطر الثاني في النسخ؛ ففي (أ): بما قد قضى ليلى ولا ما قضى ليا، وفي (ب) و (د): بما قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا. وفي (خ): بما قضى الله في ليلى وما قضى ليا. (¬5) في (أ): أرخى. (¬6) ينظر "الأغاني" 2/ 54 و 69، و "الديوان" ص 293 - 294.

ومنها: على مثل ليلى يقتلُ المرءُ نفسَه ... وإن بات من ليلى على الحبِّ طاويا أشوقًا ولمَّا يمضِ لي غيرُ ليلةٍ ... رُويد الهوى حتى تَغِبَّ لياليا ومنها: وتغيبُ ليلى ثم تزعم أنني ... سَلَوْتُ ولا يخفى على الناس ما بيا وقد كنت أرجو الوصل ممن أحبُّهُ ... فأصبحتُ والموتُ المريحُ مسائيا [وقال ابنَ الكلبيّ: مرَّ بجبل يقال له: التَّوْباذ (¬1)، كانت تسكنُه، فأنشأ يخاطبُه ويقول لما رآه: وأُدْهشتُ (¬2) للتَّوْباذِ حين رأيتُهُ ... وكَبَّرَ للرحمن حين رآني فقلتُ له أين الذين عَهدْتُهُمْ ... بجوِّكَ في عيشٍ وخفضِ زمانِ فقال مضَوْا واستودعونيَ ذِكْرَهُمْ ... ومن ذا الذي يبقى على الحَدَثانِ قال الراوي: وديوانه مشهور، وهو أحسنُ من المنثور. وقد طرَّز جماعة من العلماء تصانيفهم بواقعاته، وزوَّجُوا ألفاظهم بألفاظه] (¬3). ورُويَ أن ليلى كانت مع أترابٍ لها في سفح جبل على عين ماء، وإذا بقيس قد أقبل في عانةٍ من الوحش (¬4)، كأنه غولٌ يطلبُ الماء، فلما رأينَه بين الوحش أكبَرْنَه وعجبن من أُنْسِهِ بالوحش وأُنسهم به، واستيحاشه من الإنس، فقلن لها: يا ليلى، هذا قيس، وليس معنا من يَنِمُّ عليك، والمكان خالٍ، فلو سلَّمْتِ عليه. فجاءت فوقفت على طريقه وهي تبكي عليه، وتتأسَّفُ على ما هو فيه، وكونها سببَ ذلك، فلما قربَ منها تعرَّضت له، فصرخ عليها صرخة عظيمة وقال: ابعدي عنّي في هذه الخلوة، فقد أفسدتِ عليَّ دنيايَ، ونغَّصتِ عليَّ حياتي، فلا تُفسدي عليَّ آخرتي. ثم هامَ مع الوحش. ¬

_ (¬1) هو جبل بنجد والكلام من (م)، وسلفت هذه اللفظة فيها قريبًا بدل لفظة: "الريَّان" في قوله: ولا جبل الرَّيَّان إلا استهلَّتِ. وينظر "معجم البلدان" 2/ 55، وفيه الأبيات الآتية بنحوها. (¬2) في "الأغاني" 2/ 53، و "معجم البلدان" 2/ 55: وأجهشت. (¬3) الكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) أي: قطيع من الوحش.

[وذكره جدِّي رحمه الله في مواضع من مصنَّفاته، فقال في كتاب "معاني المعاني في الوعظ": يدهش الناسُ من عارفٍ قد هام على وجهه شوقًا إلى الحقّ، وينسَوْنَ أن قيسًا مات في البراري. وقال في هذا الكتاب أيضًا: كانت ليلى عند الخلق حسناء، وعند قيس الغايةَ في الحُسْن، فلهذا هام بها دون الكُلّ. وذكر جدِّي رحمه الله في موضع آخر قال: كان قيس يأنسُ بالوحش، وإذا رأى آدميًّا رماه بالحجارة خوفًا أن يرميَه بالعَذْل، فإنْ ذَكَرَ ليلى صار صديقًا له. وذكر أبو عبيدة وقال: ] وقيل لليلى: أيُّما أفضل؟ حُبُّ قيس إياكِ، أو حبُّكِ إياه؟ فقالت: بل حبِّي إيَّاه. قيل: ولِمَ؟ قالت: لأنَّ حُبِّي إيَّاه كان مستورًا، وحبُّه لي كان مشهورًا. ثم قالت: لم يكن المجنونُ في حالةٍ ... إلا وقد كنتُ كما كانا ولي عليه الفضل من أجل أَنْ ... باحَ وأني متُّ كتمانا (¬1) وماتت قبله، ولما ماتت جاء يومًا إلى غدير ماء (¬2) ليشرب منه وهو قريب من منازلها، وهناك راعٍ يرعى إبلًا، فرآه، فعرفه فقال: بَكَرَ النَّعِيُّ بموت ليلى فاتَّئدْ ... إنَّ المنايا قَصْرُ كلِّ خليلِ [ففهم] وأشار إلى الراعي وقال: أين قبرُها؟ فأشار إليه، فجاء إلى قبرها، فعانقه، ومات. وقيل: ماتت بعده لمَّا بلغَها موتُه. والأصحُّ أنه ماتَ في البَرِّيَّة بين الصخور، ولم يُعلم به إلا بعد مدَّة، والله أعلم. ورُوي عن بعض المحبِّين أنَّه رآه بعد موته في منامه، فقال له: يا قيس، ما فعل الله بك؟ فقال: غَفَر لي وجعلني حُجَّةً على المحبِّين، إذا كان يوم القيامة أحضرهم وقال: يا مدَّعين محبَّتي، هذا قيسٌ أحبَّ مخلوقًا مثلَه؛ جرى عليه ما جرى، فهل فيكم من يصبرُ ساعةً على ما صبر عليه هذا في محبَّتي؟ ! ¬

_ (¬1) ينظر "ثمار القلوب" ص 111. (¬2) عبارة (م): وقال ابن داب: قد اختلف علينا في موتها؛ هل ماتت قبله أو بعده؟ فقال قوم: ماتت بعده لما بلغها موتُه. وقال آخرون: جاء يومًا إلى غدير ماء ... إلخ.

السنة الحادية والسبعون

السنة الحادية والسبعون فيها سارَ عبد الملك بنُ مروان إلى العراق لحرب مصعب بن الزُّبير في ثلاثين ألفًا ومعه زفَر بنُ الحارث، ولم يقاتل معه حفظًا لأَيمانه لابن الزبير (¬1)، فنزل بمَسْكِن من أرض العراق على دُجَيل. وقدمَ مصعب من البصرة، فنزل الكوفة، ثم سار لحرب عبد الملك، فكتبَ عبدُ الملك إلى المروانيَّة الذين كانوا بالعراق، ووعدهم الولايات، واشترطوا عليه ولاية أصبهان ونواحيها، منهم حَجَّار بن أَبْجَر، والغَضْبان بن القَبَعْثَرَى، وعتَّاب بن وَرْقاء، وقَطَن بن عبد الله الحارثي، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وزَحْر بن قيس، ومحمد بن عُمير بن عُطارد. قال رجاء بن حَيوَة: لمَّا قَتَلَ عبد الملك عمرَو بنَ سعيد؛ صفا له الشام، وبعد أنْ قتلَ مَنْ خالفَه أمرَ الناس بالمسير إلى العراق، فأشار عليه رؤساء أهل الشام أن يقيم ويبعث الجيوش، فقال عبد الملك: إنَّه لا يقومُ بهذا الأمر إلا قرشي وله رأي، ولعلِّي أبعثُ من له شجاعة ولا رأي له، وإني أجد في نفسي أني بصيرٌ بالحرب، شجاعٌ إنْ ألجئت إلى السيف، ومصعبٌ في بيت شجاعة، أبوه كان أشجعَ قريش، وهو في نفسه شجاع، ولا علم له بالحرب، يحبُّ الحْفض والدَّعَة، ومعه من يُخالفُه، ومعي من يُطيعني وينصحُ لي. وسار عبد الملك، فنزل مَسْكِنَ، ونزل مصعب باجُمَيرا (¬2)، وكتبَ عبد الملك إلى أعيان أصحاب مصعب، فجاء إبراهيم الأشتر بكتاب عبد الملك مختومًا إلى مصعب، فقال: هذا كتاب عبد الملك قال: ما فيه؟ قال: واللهِ ما فتحتُه. فقرأه مصعب، وفيه أنّه يدعوه إلى نفسه، ويجعلُ له ولايةَ العراق. فقال إبراهيم: واللهِ إنَّه قد كتبَ إلى أصحابك كلِّهم بمثلِ ما كتبَ إليّ، فأطِعْني واضْربْ أعناقَهم. فقال مصعب: فإذًا لا تُناصحُنا عشائرُهم. قال: فأوقِرْهم حديدًا، وابْعَثْ بهم إلى أبيض كسرى، فاحْبِسْهُم ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف (أوائل أحداث سنة 69). (¬2) موضع دون تكريت. "معجم البلدان" 1/ 314.

البراء بن عازب

هناك، ووكِّلْ [بهم] مَنْ غُلِبْتَ قَتَلَهم، وإنْ غَلَبْتَ مَنَنْتَ بهم على عشائرهم. فقال: يا أبا النُعمان، إنّي لفي شُغل عن ذلك (¬1). وحجَّ بالناس [في هذه السنة] عبد الله بنُ الزُّبير (¬2). وفيها توفِّي البراءُ بنُ عازب ابن الحارث بن عديّ بن الخَزْرَج، أبو عُمارة، من الطبقة الثالثة من الأنصار (¬3). قال البراء بن عازب: غَزَوْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسَ عشرةَ غزوةً، وأنا وعبدُ الله بنُ عُمر لِدَة (¬4). وقال: صحبتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سَفَرًا، فلم أره ترك ركعتين قبل الظُّهر (¬5). نزل البراءُ الكوفة، وتوفِّي بها في أيام مصعب بن الزبير، وكان يتختَّمُ بالذهب (¬6). وكان له من الولد: يزيدُ، وعُبَيد، ويونُس، وعازب، ويحيى، وأُمُّ عبد الله (¬7). أسندَ البراء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث. عبد الله بن خازم ابن أسماء بن الصَّلْت السُّلَمي، أبو صالح، أمير خُراسان. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 156 - 157، و "تاريخ دمشق" 67/ 357 - 358 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) المصدر السابق 6/ 166. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 282 وقد سلفت الترجمة بأطول منها أوائل السنة (68). وذكرتُ ثمة أنَّ ابنَ حِبان أرَّخَ وفاته سنة (71) و (72). (¬4) أي: وُلدا في وقت واحد. ويقال: التِّرْبُ أيضًا. ووقع في النسخ الخطية (عدا (م) فالكلام ليس فيها): بن عمرو غزوةً! (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 286. (¬6) المصدر السابق. وروى أيضًا حديث تختُّم البراء بالذهب أحمد في "المسند" (18602). وينظر كلام ابن حجر العسقلاني عليه في "فتح الباري"10/ 317. (¬7) طبقات ابن سعد 5/ 282.

أدرك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه، وكان مشهورًا بالشجاعة والفضل والجهاد. وأصله من البصرة، وعلى يده فُتحت سَرَخْس. وفي سنة ثلاث وثلاثين جمعَ قارن جمعًا كبيرًا بباذَغِيش (¬1) وهَراة، [فأقبلَ في] أربعين ألفًا، فلقيَه عبدُ الله بنُ خازم في أربعة آلاف، فقتلَ قارنًا، وهزمَ أصحابَه، وأصابَ غنائمَ كثيرة، وكتبَ إلى ابن عامر بالفتح (¬2). ولما قُتل مصعب كتبَ عبدُ الملك إلى عبد الله بن خازم: إنَّ لك خراسان سبع سنين على أن تُبايع لي. فقال ابنُ خازم للرسول وهو سَوْرَة بن أَشْيَم التميمي (¬3): لولا أنْ أضربَ بين بني سُليم وبني عامر لقتلتُك، ولكنْ كُلْ هذه الصحيفة. فأكلها. وقيل: إن الرسول كان سنان الغَنَوي، فقال ابنُ خازم: إنما بعثلك أبو الذِّبَّان (¬4) لأنَّك من غَنِيّ (¬5)، وقد علمَ أنّي لا أقتلُ رجلًا من قيس، ولكنْ كُلْ كتابَه. وبلغ عبدَ الملك، فكتبَ إلى بُكير بن وشاح أحدِ بني عوف بن سعد -وكان خليفةَ ابنِ خازم على مَرْو- بعهده على خُراسان، ووعدَه ومنَّاه، فخلعَ بُكيرٌ ابنَ الزُّبير، ودعا إلى عبدِ الملك، وأجابَه أهلُ مَرْو. وبلغَ ابنَ خازم وهو يُحاصرُ أَبْرَشَهْر (¬6)، فخاف أن يجتمعَ عليه أهلُ مَرْو وأهلُ أبْرَشَهْر، وكان يُحاصرُ بها بَحِيرَ بنَ وَرْقاء (¬7) الصُّريمي، فرجع عن أبْرَشَهْر طالبًا مرو، يريد أن يأتيَ ابنَه [بالترمذ]. فخرج بَحِير خلفَه، فأدركه بقريةٍ يقال لها: شاه (¬8)، بينها ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الخطية و "تاريخ دمشق" ص 233 (طبعة مجمع دمشق-تراجم حرف العين) لكن قيَّدها ياقوت في "معجم البلدان" 1/ 318 بالسين المهملة. وقال: هي ناحية تشتمل على قرى من أعمال هَراة ومرو الرُّوذ. اهـ وهَراة: مدينة عظيمة من مدن خُراسان. (¬2) تاريخ دمشق ص 233 - 234 (الطبعة المذكورة) وما سلف بين حاصرتين منه. (¬3) في "تاريخ" الطبري 6/ 176 (والكلام منه): النُّمَيريّ، وفي "تاريخ دمشق" ص 234: سَوْرة بن أبجر الدارمي. (¬4) هو لقب عبد الملك بن مروان؛ لبَخَرٍ كان في فمه. (¬5) غَنِيّ بطن من قيس عَيلان، وهو غَنيّ بن أَعْصُر: ينظر "معجم قبائل العرب" 3/ 895. (¬6) يعني نيسابور. ينظر "معجم البلدان" 1/ 65 - 66. ولم تجوَّد اللفظة في النسخ الخطية (غير (م) فالكلام ليس فيها)، فوقع فيها: أبو بنهر (وكذا في الموضع الآتي). والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 176. (¬7) كذا في النسخ الحنطية، و "تاريخ" الطبري 6/ 176 (وفي كل المواضع). وفي "أنساب الأشراف" 12/ 285: بَحِير بن وقاء. وكذا هو في "المشتبه". ينظر "توضيحه" 9/ 192. (¬8) في "تاريخ" الطبري 6/ 176: شاهميغد.

عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي

وبين مَرْو ثمانيةُ فراسخ، فقاتلَه ابن خازم، فاجتمعَ عليه وكيع بنُ عُميرة القُرَيعي -وهو ابنُ الدَّوْرَقية- وبَحِير بنُ وَرْقاء، وعمَّارُ بنُ عبد العزيز الجُشَمي، فقتلُوه، وذَبَحَه وكيع، وجعلَ يقول قبل أن يذبحه: يا ثارات [ودُويلَة] أخ كان لوكيع من أمِّه قُتل في تلك الأيام. قال وكيع: فتنخَّمَ ابنُ خازم في وجهي وقال: لعنكَ الله، تقتلُ كبشَ مُضَر لعِلْجٍ لا يُساوي كفًّا من تراب. وبعث بُكير بن وشاح برأسه إلى عبد الملك. ولما قُطع رأسُ ابنِ خازم أخذه بَحِيرُ بنُ وَرْقاء ليتقرَّب به إلى عبد الملك، فحمل عليه بُكير بن وشاح، فضربَه وأخَذَه، وحبس بَحِير مدَّة. ولمَّا قُتل ابنُ خازم حملوه على بغل، فمال، فشدُّوا في مذاكيره حبلًا عَدَلُوه به، ودُفن جسدُه بنيسابور في رُسْدَاق جُوَين. وقُتل سنة إحدى وسبعين، وقيل: سنةَ اثنتين وسبعين (¬1). وكان ولدُه موسى شجاعًا فاتكًا؛ لمَّا قُتل أبوه؛ سار في مئة فارس إلى تِرْمذِ، فنزل ضيفًا عند ملكها، فقتله، ومَلَكَ تِرْمذ، فأقام واليًا عليها إلى سنة خمس وثمانين، وحكم على ما وراء النهر، حتى وليَ المفضَّل بن المهلَّب خُراسان، فجهَّز إليه جيشًا، فخرج إليهم، فظهر عليهم، فنزل رجل، فعرقب فرسَه، وقتلُوه في سنة خمس وثمانين (¬2). عبد الله بن أبي حَدْرَد الأسلميّ من الطبقة الثالثة من المهاجرين، فأول مشاهدِه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديبية، ثم خيبر، وما بعدها (¬3). وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مالك بن عوف (¬4). ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ" الطبري 6/ 176 - 177 وقد ذكره في أحداث سنة (72). (¬2) ينظر خبره مطولًا في "تاريخ" الطبري 6/ 398 - 411. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 215، و "تاريخ دمشق" ص 109 - 110 طبعة مجمع دمشق- تراجم حرف العين). (¬4) بعثه إلى مالك عينًا، حيث جمع مالك هوازن وثَقيف لقتاله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في حُنين. ينظر "الطبقات" 2/ 139.

واستعان ابنُ أبي حَدْرَد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مهر امرأته، فقال: "كم أصْدَقْتَها؟ " فقال: مئتي درهم. فقال: "لو كنتُم تغرفونه من بُطْحان ما زدتُم". توفّي ابنُ أبي حَدْرَد سنة إحدى وسبعين وهو يومئذ ابنُ إحدى وثمانين سنة (¬1). أسندَ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن أبي بكر وعُمر، وعثمان، وأبي هريرة, - رضي الله عنه -. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: حدثنا يعقوب، حدَّثنا أبي، عن ابن إسحاق (¬2)، حدَّثني يزيد بن عبد الله بن قُسَيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حَدْرَد، عن أبيه عبد الله بن أبي حَدْرَد قال: بعَثَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إضَم، فخرجتُ في نَفَرٍ من المسلمين؛ فيهم أبو قَتادة الحارث بنُ رِبْعيّ، ومُحَلِّم بن جَثَّامة بن قيس، حتى إذا كُنَّا ببطن إضم؛ مرَّ بنا عامر بن الأضْبط على قَعودٍ ومعه مُتَيِّعٌ وَوَطْبٌ من لَبَن (¬3)، فسلَّم علينا، فأمْسَكْنَا عنه، وحملَ عليه مَحَلِّم بنُ جَثَّامة، فقتلَه بشيءٍ كان بينه وبينه، وأخذ بعيرَه ومُتَيِّعَه. فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخبَرْناهُ الخَبَر، فنزلَ فينا قرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية [النساء: 94]. ومُحَلِّم هذا هو أخو الصَّعْب بن جَثَّامة، والصَّعْب من الطبقة الثالثة من المهاجرين، أسلم بين الخندق وفتح مكة (¬4). قال شهر بن حَوْشَب: إنَّ الصَّعْبَ بن جَثَّامة وعوفَ بن مالك كانا مُتواخِيَين؛ قال صعب لعوف: أَي أُخَيّ (¬5)، أيُّنا ماتَ قبل صاحبه فليتراءَ له. قال: أويكون ذلك؟ ! ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 215، و "تاريخ دمشق" ص 118 - 119. (¬2) في النسخ الخطية (غير م فليس فيها): أبي إسحاق. والتصويب من "مسند" أحمد (23881). (¬3) الوَطْب؛ بفتح فسكون: سقاء اللبن يُتَّخذ من جلد, و "مُتَيِّع" بتشديد الياء: تصغير متاع، والقَعود؛ بفتح القاف: ما أمكن أن يُركب عليه من البعير. قاله السندي، كما في حاشية "المسند" (23881). (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 122. (¬5) في النسخ (غير م، فالكلام ليس فيها): تعرف أي أخينا! بدل قوله: قال صعب لعوف أي أُخي. والتصويب من "المنامات" لابن أبي الدنيا ص 27 - 28، و "الروح" ص 159.

مصعب بن الزبير

قال: نعم. فمات صعب، فرآه عوف في المنام فقال: يا أخي، ما فعل الله بكم؟ قال: غفرَ لنا بعد المصائب (¬1). قال: ورأيتُ لَمْعةً سوداء في عنقه، فقلت: أي أُخَيّ، ما هذه؟ قال: عشرة دنانير استلفتُها من فلان اليهوديّ، وهي في قَرَني (¬2)، فأعطُوه إيَّاها، واعْلَمْ أي أُخَيَّ أنه لم يحدثْ في أهلي حَدَثٌ بعدي إلا لحق بي خبرُه (¬3)، حتى هرَّة لنا ماتت منذ أيام، وإنَّ ابنتي تموتُ إلى ستة أيام، فاستَوْصُوا بها معروفًا. قال عوف: فلما أصبحتُ أتيتُ أهله، فقالوا: مرحبًا، إنك لم تقرَبْنا منذ مات الصعب، أهكذا تصنعون بإخوانكم؟ ! فاعتذرتُ إليهم بما يعتذر الناس، فنظرتُ إلى القَرَن وهو معلق، فأنزلته، وقلبتُه، فبدرتُ الصُّرَّة التي فيها الدنانير، فأرسلتُ إلى اليهوديّ، فجاء، فقلت: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: رحمه الله، لقد كان من خيار أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، هي له. قلت: أخبرني. قال: استلف مني عشرة دنانير. فنبذتُها إليه، فقال: هي واللهِ بأعيانها. فقلتُ: هذه واحدة. وقلتُ: هل حدثَ فيكم حَدَثٌ بعد موته. قالوا: نعم هِرَّةٌ ماتت منذ أيام. قلتُ: هاتان اثنتان. قلت: وكيف بنتُ أخي؟ قالوا: ها هي. فجاءت، فلمستها فهذا هي محمومة. فقلت: استَوْصُوا بها خيرًا. فماتت بعد ستة أيام. [وفيها قُتل] مصعب بن الزبير ابن العوَّام، أبو عبد الله (¬4) [ولم يكن له ولد اسمه عبد الله] من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة (¬5)، وكنيتُه المشهورة أبو عيسى (¬6). ¬

_ (¬1) في النسخ: السائب. والتصويب من المصدرين السابقين. (¬2) أي: جَعْبَتي (كِنانة النبل). (¬3) في النسخ: لحقني أجره، بدل: لحق بي خبره. والتصويب من المصدرين السابقين. (¬4) في (م): وأمُّه الرباب بنت أُنيف بن عُبيد، كلبيَّة، وحكى ابن سعد أنه كان يُكنى أبا عبد الله ... إلخ. وما سيرد بين حاصرتين من (م). (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 181 - 182. (¬6) تاريخ دمشق 67/ 335 (طبعة مجمع دمشق).

[وقال الزُّبير بن بكّار: ] كان [مصعب] من أحسن الناس خَلْقًا وخُلُقًا، جوادًا سمحًا مُمدَّحًا (¬1). وكان يجالسُ أبا هريرة، ورآه جميل بثينة على عرفات، فقال: إن ها هنا لشابًّا أكره أن تراه بُثينة. يعني لجماله (¬2). وكان يسمَّى آنية النَّحْل؛ لجُوده (¬3). قيل لعبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما -: أيُّ أولادِ الزُّبير أشجع؟ فقال: ما منهم إلا من يمشي إلى الموت وهو يراه، ولا كمصعب. وقال إسماعيل بن أبي خالد: ما رأيتُ أميرًا قطُّ أجملَ من مصعب بن الزبير على المنبر (¬4). وقال الشعبي: استدعاني مصعب يومًا بالكوفة لأمر جرى بينه وبين عائشة بنت طلحة، فدخلتُ عليه وهي جالسة، فسألني عما أراد، فأجبتُه، فقال: يا شعبيّ، هل رأيتَ مثلَ هذه؟ قلت: لا. وقمتُ فخرجتُ، فقالت له عائشة: أتَجْلُوني عليه بغير نِثار (¬5)؟ فقال لها: للهِ دَرُّكِ! فبعث إليَّ بعشرة آلاف درهم. قال: وكنتُ جالسًا عنده، فأُتيَ برجل، فأمرَ بضربِ عُنقه، فقال له: أيُّها الأمير، ما أقبحَ بمثلي أن يقومَ غدًا في القيامة، فيتعلقَ بأطرافكَ الحِسان، ووجهك المليح الذي يُستضاء به، فأقول: يا ربّ، سَلْ مصعبًا بمَ قتلَني؟ فرقَّ له وقال: قد عفوتُ عنك. فقال الرجل: إنْ رأى الأميرُ أن يجعلَ ما بقيَ من حياتي في عيش رقيق الحواشي فليفعل. فأمرَ له بمئة ألف درهم، فقال: فإني أُشهدُك أنَّ لْصفَها لابن (¬6) قيس الرُّقَيَّات. قال: ولمَ؟ قال: لقوله فيك: إنَّما مصعبٌ شهابٌ من اللهِ ... تَجَلَّتْ عن وَجْهِهِ الظَّلماءُ ¬

_ (¬1) المصدر السابق 67/ 337. (¬2) المصدر السابق 67/ 341. (¬3) ثمار القلوب ص 508، و "تاريخ دمشق" 67/ 337. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 182. ونُسب الكلام في (م) إليه. (¬5) أي: عطاء. والنِّثار ما ينثر في الأعراس من مال أو حلوى. وفي "تاريخ دمشق" 67/ 350: تجلوني عليه ولا تعطيه شيئًا؟ (¬6) في النسخ (غير م، فالكلام ليس فيها): لبني. والتصويب من "تاريخ دمشق" 67/ 249، والخبر فيه بنحوه.

وكان عبدُ الله بن الزَّبِير الأَسَدي قد هجا المصعب، فنذر دمه، ثم دخل عليه، فقال له مصعب: أنت القائل: إلى رجبٍ أو غُرَّةِ الشهرِ بعدَهُ ... توافيكمُ بيِضُ المنايا وسُودُها ثمانون ألفًا دِينُ عثمانَ دِينُها ... مسوَّمةً جبريلُ فيها يقودُها (¬1) قال: نعم. ومن شعره أيضًا: رَمَى الحَدَثانُ نسوةَ آلِ حَرْبٍ ... بمقدارٍ سَمَدْنَ له سُمُودا فَرَدَّ شُعورَهنَّ السُّودَ بِيضًا ... ورَدَّ وجوهَهنَّ البيضَ سُودا فإنك لو سمعْتَ بكاءَ هندٍ ... ورملةَ إذْ تَصُكَّانِ الخُدودَا سمعتَ بكاءَ باكيةٍ وباكٍ ... أبانَ الدَّهرُ واحدَها الفقيدا (¬2) فعفا عنه، وأجزل جائزتَه، فخرج من عنده وهو يقول: جزى الله عنِّي مصعبًا إنَّ فضلَهُ ... يعيشُ به الجاني ومن ليس جانيا ويعفُو عن الذنبِ العظيم اجترامُهُ ... ويُوليكَ من إحسانٍ ما لستَ ناسيا (¬3) وهذا الشاعر من شعراء الحماسة. وذُكر بين يدي مصعب رجل بالكِبْر، فقال: العجب ممن يتكبَّر وقد جرى في مجرى البول مرتين (¬4). وقال مصعب: قلتُ لعبد الله بن عُمر (¬5): هل أدَّيتَ حقَّ الله في هذا الأمر؟ قال: نعم، كتبتُ إلى عبد الملك آمرُه [بتقوى الله,] وأن يكفَّ نفسه، فكتبَ إليّ: فمُر ابنَ ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 6/ 123، و "تاريخ دمشق" ص 511 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عبد الله بن الزَّبِير). وينظر "الأغاني" 14/ 232 - 233. (¬2) في النسخ (عدا م، فالكلام ليس فيها): الفريدا، والمثبت من "شرح الحماسة" للتبريزي 3/ 4 - 5. وينظر "شرح الحماسة" للمروزقي 3/ 941. (¬3) في النسخ: ما كنت جانيا. والمثبت من "تاريخ دمشق" ص 511 (الطبعة المذكورة آنفًا). (¬4) تاريخ دمشق 67/ 347 (طبعة مجمع دمشق). ونُسب الخبر في (م) للزُّبير بن بَّكار. (¬5) في النسخ الخطية: عَمرو. والمثبت من "أنساب الأشراف" 6/ 14. وما سيرد بين حاصرتين منه. وينظر "تاريخ دمشق" 67/ 352 (طبعة مجمع دمشق).

الزُّبير أن يُخرجَ نَفْسَه من هذا الأمر، وأُخرجُ نفسي أيضًا، ونجعلُها بين المسلمين شورى. فقلت لأخيك، فقال: لستَ من هذا الأمر في شيء. ذكر مقتله: قد ذكرنا مكاتبة عبد الملك لأصحابه وما أشار به إبراهيم بن الأشتر من قتلهم أو حبسهم، وامتناع مصعب من ذلك. والتقَوْا، فكان على مقدِّمة عبد الملك محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية، وكان على ميسرة مصعب إبراهيم بن الأشتر، وعلى ميمنته قَطَن بن عبد الله الحارثي، وعلى الخيل عتَّاب بن وَرْقاء. والتقوا عند دعي الجاثليق بمَسْكِن. قوله: عبد الله بن يزيد بن معاوية وهم، فإنَّ عبد الله بن يزيد قاتلَ يوم قُتل عَمرو بن سعيد، وهرب إلى مصعب، فقاتلَ معه هو وبنو عمرو بن سعيد حتى قُتل مصعب (¬1). وكان عروة بن المغيرة بن شعبة مع مصعب، وكان عبد الملك في خمسين ألفًا، ومصعب بن الزبير في ثلاثين ألفًا. قال عروة: نظر إليَّ مصعب وهو واقف على دابَّته يتصفَّحُ الناس يمينًا وشمالًا وقد خذله أهل الكوفة، فقال: يا عروة، أخبرني عن الحسين بن علي، كيفَ صنعَ بإبائه النزولَ على حكم ابن زياد، وعزمه على الحرب؟ ثم أنشد: وإنَّ الأُلَى بالطَّفِّ من آل هاشمٍ ... تَأَسَّوْا فَسنُّوا للكرامِ التَّأَسِّيا قال: فعلمتُ أنه لا يَرِيمُ حتى يُقتَل (¬2). ثم التَقَوْا، فحمل إبراهيمُ بنُ الأشتر على محمد بن مروان, فأزاله عن موقفه، وقُتل جماعة من أعيان أهل الشام، وهرب عتَّابُ بنُ وَرْقاء، وكان على خيل مصعب, وحملَ ابنُ الأشتر, فغاص في أهل الشام فقتلوه, فقال مصعب لقَطَن بن عبد الله ¬

_ (¬1) لم أقف على مراد المصنِّف. والذي سلف في ترجمة عَمرو بن سعيد بن العاص (أحداث سنة 69) أن عبد الله بن يزيد بن القسريّ أبا خالد كان مع يحيى أخي عمرو بن سعيد لمَّا اقتحم مقصورة عبد الملك ليستنقذ عَمْرًا، فلما قُتل عَمرو ركب عبد الله ولحق بمصعب. وينظر "تاريخ" الطبري 6/ 146 - 147. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 156.

الحارثي: قَدِّمْ خيلَك أبا عثمان. فقال: ما أرى ذلك. قال: ولم؟ قال: أكرهُ أن يقتل واحد (¬1) في غير شيء. فقال لحجَّار بن أبجر: أبا أسيد، قَدِّمْ رايتَك. فأبى. ثم قال لأصحابه: تقدَّموا. فأبَوْا. فقال مصعب: يا إبراهيم ولا إبراهيم اليوم! . ولمَّا رأى مصعب تخاذلَ القوم قال لابنه عيسى: يا بُنيّ، اركبْ إلى مكَّة أنت ومن معك إلى عمِّك، فأخْبِرْه ما صنعَ أهلُ العراق، ودعني فإني مقتول. فقال ابنُه: واللهِ لا أُخبرُ قريشًا أني فعلتُ ذلك (¬2)، ولكن الْحَقْ بالبصرة، فهُم على الجماعة. فقال مصعب: لا واللهِ ما الفرارُ لي بعادة، وما السيف بعار. فقال عيسى: واللهِ لا أُفارقك أبدًا. وانهزم مَنْ كان مع مصعب حتى بقي في سبعة من خواصِّه، ومال جميعُ من كان معه من أهل العراق إلى عسكر عبد الملك، فرقَّ له عبدُ الملك وكان يحبُّه، وكان خِلًّا له قبل الخلافة، فقال عبد الملك لأخيه محمد: اذهبْ إليه فأَمِّنْه. وكان علي بن عبد الله بن العباس حاضرًا، فقال: لا تؤمِّنْه. فصاحَ به خالدُ بن يزيد بن معاوية: مالكَ يا علي ولهذا؟ ! بل نؤمِّنُه. وسبَّ عليًّا ونال منه. فجاء محمد بن مروان، فناداه: يا مصعب، قد أمَّنَك ابنُ عمِّك على نفسك وولدِك وأهلك ومالك، فاذهب حيثُ شئتَ من البلاد، ولو أراد بك ابنُ عمك غيرَ هذا لكان. فقال مصعب: قُضيَ الأمر، إنَّ مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبًا أو مغلوبًا. ولما أبي مصعبٌ قبولَ الأمان وتقدَّم عيسى بن مصعب يقاتل؛ ناداه محمد بن مروان: يا ابن أخي، لا تقتلْ نفسَك قد أمَّنَك ابنُ عمك. قال مصعب: قد أمَّنَك عمُّك، فامضِ إليه (¬3). فقال: والله لا تتحدَّثُ قريشٌ أني أسلمتك للقتل. فقال: تقدَّمْ بين يديّ ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 6/ 158: تقتل مذحج. (¬2) عبارة النسخ الخطية (غير م، فالكلام ليس فيها): "اركب إلى مكة أنت وبنو عمك قريش أني فعلت ذلك ... "! وفيها اضطراب وسقط. وأثبتُّ لفظ "تاريخ" الطبري 6/ 158. وينظر "مروج الذهب" 5/ 247. (¬3) كذا وقعت العبارة في (خ) و (د)، وسقط من (أ) قولُه: "قد أمَّنَك ابنُ عمك قال مصعب" وسقط من (ب) قوله: "محمد بن مروان يا ابن أخي لا تقتل نفسك". وعبارة الطبري 6/ 156: "ولما أبَى مصعب قبول الأمان نادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب وقال له: يا ابن أخي لا تقتل نفسك، لك الأمان. فقال له مصعب: قد أمَّنك عمُّك فامض إليه ... إلخ" وهي أحسن.

حتى احتسبَك. فتقدَّمَ، فقاتلَ بين يديه حتى قُتل. وأُثخن مصعلى بالرَّمي، وحملَ عليه زائدة بن قُدامة وهو يقول: يا ثارات المختار، فطعنَه فصرعه. وقيل: الذي قتل مصعبًا يزيد بن هبَّار الفائشي وكان من أصحاب مصعب (¬1). ونزل إليه عُبيد الله بنُ زياد بن ظَبْيان، فحزَّ رأسَه، وأتى عبدَ الملك، فأعطاه ألفَ دينار، فلم يأخذها وقال: إني لم أقتله لأجلك، وإنما قتلته على وتْرٍ صنعه بي، ولا آخُذُ على حمل رأس مالًا (¬2). وكان النابي أخو عُبيد الله بن زياد بن ظَبْيان قد قُتل في أيَّام مصعب؛ كان يقطعُ الطريق، وطلبَ مصعبٌ عُبيدَ الله بنَ زياد بن ظَبْيان، فهربَ إلى عبد الملك (¬3). ولمَّا وُضع رأسُ مصعب بين يدي عبد الملك بكى وقال، واللهِ ما كنتُ أصبرُ عنه ساعة واحدة حتى دخلَ السيف بيننا, ولكنَّ المُلك عقيم، ومتى تغدو النساء بمثل مصعب، ولقد كانت الحُرمة بيننا وبينه قديمة (¬4). وقيل لعبد الملك: أكان مصعبٌ يشربُ الطِّلا؟ فقال: كلا والله، لو علَم مصعبٌ أنَّ الماء يُفسد مروءتَه لما شربه، رحم الله مصعبًا ورضي عنه. ثم أمر بمواراته وولده عيسى وإبراهيم بن الأشتر، فدُفنوا بمَسْكِن، وقبورهم ظاهرة تُزار (¬5). ويقال: إنَّ عبد الملك سجد (¬6)؛ قال ابن ظَبْيان: لمَّا سجدَ هَمَمْتُ أن أعلوَه بالسيف، فأكونَ قد قتلتُ مَلِكَي العرب في ساعة واحدة، وأَرَحْتُ المسلمين منهما (¬7). وقال عبد الملك لابن ظَبْيان: كيفَ رأيتَ المصعب؟ قال: رجلًا يملأُ العين شجاعةً، والقلبَ مهابةً، الرمحُ بيده، والسيف في يده الأخرى، يطعنُ بهذا، ويضرب ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 67/ 339. (¬2) ينظر: أنساب الأشراف 6/ 186 - 195، و "تاريخ" الطبري 6/ 157 - 159، ومروج الذهب 5/ 242 - 250. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 160. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 121. (¬4) تاريخ الطبري 6/ 160 - 161. (¬5) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 209. (¬6) يعني لما أُتيَ برأس مصعب. (¬7) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 187 و 195، و "مروج الذهب" 5/ 249، و "تاريخ دمشق" 67/ 356 - 357 و 369 (طبعة مجمع دمشق).

بهذا، ويفرِّقُ عنه رجاله وهو يقول: وإنِّي على المكروه عند حضورِهِ ... أُكذِّبُ نفسي والجفونُ لها تُغْضِي وما ذاك من ذُلٍّ ولكن حفيظةٌ ... أذُبُّ بها عند المكاره عن عرضي وإني لآلِ الشَّرِّ بالشَّرِّ مَرْصَدٌ ... وإني لِذي سِلْمٍ أَذَلُّ من الأرضِ فقال عبد الملك: لقد أرْدَى الفوارسُ يومَ عبسٍ ... غلامًا غير منَّاعِ المتاعِ ولا وقَّافةٍ والخيلُ تَعْدُو ... ولا خالٍ كأنبوب اليَراعِ (¬1) وقال ابنُ ظَبْيان لما قُتل مصعب: نُعاطي الملوكَ الحقَّ ما قَسَطُوا لنا ... وليس علينا قتلُهم بمحرَّمِ (¬2) وقال عبد الملك بعد قتل مصعب: مَنْ أشجعُ العرب وأكرم العرب؟ فسكتوا. فقال: إنَّ أشجع العرب وأكرم العرب من جمعَ بين سُكينةَ بنت الحسين وعائشةَ بنت طلحةِ، وأمةِ الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كَرِيز، وأمُّه رباب [بنت أُنيف الكلب] سيِّد ضاحية العرب، ووليَ العراق خمس سنين، فأصاب ألفَ ألف، وألفَ ألف، وألفَ ألف، ففرَّقَها في الناس، وأُعطِيَ الأمان على نفسه، فأبى، ومشى إلى الموت بسيفه، فقاتل حتى قُتل كريمًا، لا مَنْ يقطع الجسر مرةً ها هنا، ومرَّةً ها هنا (¬3). [وحكى ابنُ سعد عن الواقدي قال: ] وقُتل مصعب يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين. وكذا قال المدائني. وقال ابن أبي حاتم: في سنة إحدى وسبعين. وقد حكى الطبري القولين. وقيل: سِنُّهُ خمسٌ وثلاثون. وقيل: تسع وثلاثون. وقيل: أربعون. وقيل: خمس وأربعون. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 67/ 359 - 360 (طبعة مجمع دمشق)، وفي ص 370: لقد أردى الفوارسَ ... غلامٌ ... وقوله: اليَراع، أي: القصب. (¬2) أنساب الأشراف 6/ 195، و "تاريخ دمشق" 67/ 358. (¬3) تاريخ دمشق 67/ 370. (وما سلف بين حاصرتين منه)، والتبيين في أنساب القرشيين ص 268 - 269.

وقال ابنُ عساكر (¬1): حكى مصعب عن عمر بن الخطاب، وأبيه الزُّبير - رضي الله عنهما -. فعلى ذلك قد جاوزَ الخمسين؛ لأنَّ عمر بن الخطاب رضوان الله عليه قُتل في سنة ثلاث وعشرين. وقد روى عن محمد ب الحَكَمُ بنُ عُتَيبَة وغيرُه. ذكر أولاده وأزواجه: [قال ابن سعد: ] فولد مصعب عكاشةَ، وعيسى الأكبر، قُتل مع أبيه [مصعب] , وسُكينة، وأمُّهم فاطمةُ بنت عبد الله بن السائب بن أبي حُبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصيّ. وعبدَ الله ومحمدًا، وأمُّهما عائشةُ بنت طلحة بن عُبيد الله، وأمُّها أمُّ كلثوم بنتُ أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه -. [وحمزة، وعاصمًا، وعُمر لأمِّ ولد] (¬2). وجعفرًا ومصعبًا، وهو خُضير، وسَعدًا، والمنذرَ، وعيسى الأصغر، وسُكَينةَ؛ لأمَّهاتِ أولادٍ شتَّى. والرَّبابَ، وأمُّها سُكَينة بنتُ الحسين بن علي - رضي الله عنه -. [وهذا قول ابن سعد]. وقال هشام: [لم يكن له ولد اسمُه عبد الله، و] كان له حمزة وعاصم وعُمر، وقُتل حمزة وعُكاشة يوم قُدَيْد، وتزوَّج جعفر بن مصعب مُليكة بنت الحسن بن الحسن بن علي - عليه السلام - (¬3). [قال]: ولما أيقنت سُكَينةُ بأنَّ مصعب بنَ الزبير مقتولٌ، وأنَّه لا يسلِّم نفسه نادت: وامصعباه! فقال مصعب: لو سمعتُ منك هذا الكلام قبل اليوم ما قُمتُ هذا المقام. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 67/ 335 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) قوله: وحمزة وعاصمًا وعُمر لأمِّ ولد، من "طبقات " ابن سعد 7/ 182. وما وقع غيره بين حاصرتين في هذه الفقرة فمن (م). (¬3) بعده في (أ) و (د) و (ب): "وكانت عائشة بنت طلحة قبل مصعب عند الحسن بن الحسن بن علي - عليه السلام - ". وهذا خطأ، إنما كانت عند عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ثم تزوجها مصعب، ينظر "طبقات ابن سعد" 10/ 433، و "تاريخ دمشق" ص 208 - 209 (تراجم النساء).

يعني أنها ما كانت تظهر له محبَّتَها، فلما علم بحبِّها إياه ندم على إقدامه على القتل (¬1). فلما قُتل خرجت [سُكينة] تطوف عليه بين القتلى، فعرفَتْه بشامةٍ في فخذه، فأكَبَّتْ عليه تقبِّلُه وتبكي وتقول: رحمك الله، فواللهِ لقد كنتَ نِعْمَ حليلُ المرأة المسلمة، أدركَكَ ما قال عنترة. وأنشدت الأبيات: ليس الكريمُ على القَنَا بمحرَّمِ (¬2) ذكر ما رُثي به من الشعر، وما قال عبد الملك بعد قتله: وقد رثاه جماعة؛ قال ابنُ قيس الرُّقَيَّات: لقد أوْرَثَ المِصْرَينِ حُزْنًا وذِلَّةً ... قتيلٌ بدَيرِ الجاثَليقِ مقيمُ فما نَصَحَتْ للهِ بكرُ بنُ وائلٍ ... ولا صَبَرَتْ عند اللقاءِ تميمُ ولو كان بكريًّا تعطَّفَ حولَهُ ... كتائبُ تجري حولَه وتَحومُ ولكنه ضاع الذِّمامُ ولم يكن ... بها مُضَريٌّ يومَ ذاكَ كريمُ جزى الله كوفيًّا هناك مَلامةً ... وبَصْرِيَّهم (¬3) إن اللئيمَ ملومُ من أبيات. ورثاه المغيرة بن عبد الله الأسدي الكوفي، وكنيتُه أبو مُعْرِض، ويُعرف بالأُقَيشر بحمرة وجهه (¬4): فسقى السحائبُ والنجومُ بأسرها (¬5) ... جسدًا بِمَسْكِنَ عاريَ الأوصالِ ¬

_ (¬1) في هذا الكلام نظر، ففيه صرف عن حقيقة المعنى والهدف الَّذي كان عليه مصعب. وهذه رواية هشام ابن الكلي، وهو متروك. (¬2) تاريخ دمشق 67/ 368، وفيه بيتان لعنترة: وحليلِ غانيةٍ تركتُ مجدَّلًا ... بالقاع لم يعهدْ ولم يتثلَّمِ فهتكتُ بالرُّمح الطويل إهابَهُ ... ليس الكريمُ على القَنَا بمحرَّمِ (¬3) في النسخ الخطية (غير م، فليس فيها): واسريهم! والمثبت من "ديوان" ابن قيس الرقيات ص 197، والأبيات فيه ببعض الاختلاف، وكذا في "تاريخ دمشق" 67/ 377. (¬4) لم أقف على الأبيات للأقيشر، ونسب ابن كثير في "البداية والنهاية" 12/ 156 الأبيات لعُبيد الله بن قيس الرقيات، وهي في "ديوانه " ص 191. (¬5) في المصدرين السابقين: نعت السحائبُ والغمامُ بأسرها.

تُمسي عَوائذَه السِّباعُ ودارُهُ ... بمنازلٍ أطلالُهنَّ بوالي رَحَلَ الرِّفاقُ وغادرُوه ثاويًا ... للرِّيحِ بين صَبا وبين شَمالِ ورثاه عبدُ الله بن الزَّبِير الأسدي، وكان قد ذهبَ بصره، فسمع يومًا كلام ابنِ ظَبْيان فقال: من هذا؟ قالوا: قاتل مصعب، فقال: أبا مطرٍ شَلَّتْ يمينٌ تفزَعَتْ ... بسيفك رأسَ ابنِ الحَواريِّ مصعبِ ولا ظَفِرَتْ كفَّاك بالخيرِ بعدَهُ ... ولا عِشْتَ إلا في تَبارٍ مُخَيَّبِ قتلتَ فتًى كانت يداه بفضلهِ ... تَسُحَّان سَحَّ العارضِ المتصوِّب أَغَرَّ كضوء البدرِ صورةُ وجهِهِ ... إذا ما بدا في الجَحْفَلِ المُتَلَبِّبِ (¬1) فقال ابنُ ظَبْيان: صدقتَ، واللهِ ما أفلَحْنا بقتله ولا أَنجَحْنا، فهل من توبة؟ فقال: هيهات، سَبَقَ السَّيفُ العَذَل (¬2). ومعنى كلام ابنِ ظَبْيان: أنَّ عبدَ الملك لم يفِ لأحد ممَّن وعدَه الولاياتِ بشيء، وأبعدَهم عنه، ولم يَرَوْا منه خيرًا قطّ. ولما قتلَ عبدُ الملك مصعبًا، نزل النُّخَيلَة، ثم دعا الناس إلى البيعة، فجاءت قُضاعة، فرأى فيهم قلَّةً فقال: يا معشر قُضاعة، كيف سلمتُم من مُضر مع قلَّتِكم وكثرتِهم؟ فقال له عبدُ الله بن يعلى النَّهْديّ: نحن أعزُّ منهم وأمنع. فقال: بمن؟ قال: بمن معك منَّا. ثم قال لجُعفى: أشتملتُم على ابنِ أختكم وأجرتُموه؟ -يعني يحيى بنَ سعيد بن العاص- هاتوه، قالوا: وهو آمن؟ قال: وتشترطون عليَّ؟ ! قالوا: نحن نَدِلُّ عليك. فقال: هو آمن، فجاء يحيى، فقال له عبد الملك: يا قبيح الوجه، بأيِّ وجهٍ تنظرُ إلى ربك وقد خلعتني؟ ! فقال: بالوجه الَّذي خلقَه. فبايعه. وجاءت عَدْوان ورئيسُها مَعْبَد بنُ خالد الجَدَلي، وكان دميمًا، فقدَّم بين يديه رجلًا جسيمًا وسيمًا، فقال عبد الملك: من هؤلاء؟ قال الكاتب: عَدْوَان. فقال عبد الملك: ¬

_ (¬1) أي: المشمِّر ومعه السلاح. وفي "تاريخ دمشق" ص 511: المتكثِّب. (¬2) تاريخ دمشق ص 511 - 512 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عبد الله بن الزَّبِير). وينظر "الأغاني" 14/ 233 - 234.

عَذِيرَ الحيِّ من عَدْوا ... نَ كانوا حَيَّةَ الأرضِ بَغَى بعضٌ على بعضٍ ... فلم يَرْعَوا (¬1) على بعضِ ومنهم كانت السادا ... تُ والمُوفُون بالقَرْضِ ثم أقبل عبدُ الملك على الرجل الجسيم وقال: إيه. يستنطقُه. فقال. لا أدري. قال معبد: فقلت: ومنهم حَكَمٌ يقضي (¬2) ... ولا يُنقَضُ ما يقضي ومنهم مَنْ يُجيزُ الحجَّ (¬3) ... بالسُّنَّةِ والفَرْضِ وهُمْ من ولدٍ ينزع (¬4) ... بِسِرِّ النَّسَبِ المَحْضِ قال: فلم يلتفت إليَّ عبدُ الملك، وأقبلَ على الرجل الوسيم فقال: من يقول هذا؟ فقال: لا أدري. فقال معبد: فقلتُ من خلفه: ذو الإصبع العَدْواني. فلم يلتفت إليَّ وأقبل على الجميل، فقال: ولِمَ سمِّي ذو الإصبع (¬5)؟ فقال: لا أدري. فقلتُ من خلفه: [لأنَّ حيَّةً عَضَّتْ إصبعَه، فقَطَعَتْها. فأقبل على الجميل فقال: ما كان اسمُه؟ فقال: لا أدري. فقلتُ من خلفه: ] حُرْثان بن الحارث. فلم يلتفت إليَّ وقال للجميل: من أيكم كان؟ فقال: لا أدري. فقلتُ من خلفه: من بني تاج. فأقبل على الجسيم وقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعُ مئة. ثم التفتَ إليَّ وقال: كم عطاؤك؟ قلت: ثلاث مئة. فقال للكاتب: حطَّ من عطاء هذا -يعني الجميل- أربعَ مئة، وزِدْها في عطاء هذا. يعني معبدًا. فرجع معبد في سبع مئة، والرجل الجميل في ثلاث مئة (¬6). ¬

_ (¬1) في "الأغاني" 3/ 89: فلم يُبْقوا. (¬2) قال أبو الفَرَج في "الأغاني" 3/ 90: يعني عامر بن الظَّرِب العَدْواني، كان حكمًا للعرب تحتكم إليه. (¬3) في رواية "الأغاني" 3/ 92: يجيز الناس، وهما بمعنى. قال أبو الفَرَج: إن إجازة الحج كانت لخزاعة، فأخذَتْها منهم عَدْوان، فصارت إلى رجل منهم يقال له: أبو سيَّارة. (¬4) لم أقف على هذا اللفظ. ورواية الأغاني: وهم من وَلَدُوا أشْبَوا. وفي "تاريخ" الطبري 6/ 163: وهم مذ ولدوا شبُّوا. وفي "تاريخ دمشق" 68/ 413، و"تهذيب الكمال " 28/ 231 (كلاهما في ترجمة معبد بن خالد): وهم من ولدوا أسنوا. (¬5) كذا. والجادَّة: ذا الإصبع. (¬6) ينظر: أنساب الأشراف 6/ 213 - 214، و"تاريخ" الطبري 6/ 162 - 164، والأغاني 3/ 91 - 93، و"تاريخ دمشق" 68/ 413، وتهذيب الكمال 28/ 230 - 232 (ترجمة معبد بن خالد) وما سلف بين حاصرتين منها.

وإنما لم يلتفت عبدُ الملك إلى معبد؛ لأنَّه لم يسأله، ومن حُسن الأدب أن يُجيب المسؤولُ، أما إذا أجابَ غيرُه، فهو حُمق. ثم دخل عمد الملك الكوفة، فخطب وقال: إنَّ عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسَى بنفسه، ولم يغرز ذنبَه في الحرم، وقد ولَّيتُ عليكم بِشْرَ بنَ مروان، وأمرتُه بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا. واستعمل محمدَ بنَ عُمير على هَمْدان، ويزيدَ بنَ رُويم على الرَّيّ، وعلى البصرة خالدَ بنَ عبد الله بن أسيد. وفَرَّقَ العمَّال، ولم يفِ لأحدٍ شَرَطَ عليه ولايةَ أصبهان بشيء. وكان قد تنازعَ الرِّياسةَ بالبصرة عُبيدُ الله بنُ أبي بَكْرة وحُمران بن أبان بعد قتل المصعب، فغَلب حُمْران على البصرة، وكانت له منزلةٌ عند بني أمية؛ رأى شيخٌ من الأعراب حُمران، فقال: لقد رأيتُ هذا وقد مال رداؤه عن عاتقه، فابتدرَه مروان وسعيد بن العاص أيُّهما يُسَوِّيه. وقال أبو عاصم: مدَّ حُمران رِجْلَه، فابتدر معاويةُ وعبدُ الله بنُ عامر أيُّهما يغمزها (¬1). وحُمران هو الَّذي نفاه عثمان رضوان الله عليه إلى البصرة، وهو مولاه. ثم قدم خالد بن عبد الله البصرة واليًا، فأزال ولاية أبي بَكْرَة وحُمْران. و[قال الهيثم: ] دخلَ عبد الملك القصر بالكوفة، وجعل يمرُّ على الأبنية فيقول: مَنْ بَنَى هذا؟ ومن بنى هذا؟ وهم يخبرونه، دقال: وكلُّ جديدٍ يا أُمَيمَ إلى بِلًى ... وكلُّ امرئٍ يومًا يصيرُ إلى كانَ و[قال أبو القاسم السِّمناني: ] جلسَ عبدُ الملك في القصر وبين يديه رأس مصعب، فدخل الشعبي، فقال له عبد الملك: حدثني بأعجب ما رأيتَ أو سمعتَ. فقال: رأيتُ رأس الحسين بين يدي ابنِ زياد ها هنا، ورأيتُ رأس ابنِ زياد بين يدي المختار، ورأيتُ رأس المختار بين يدي مصعب، ورأيتُ رأس بين يديك. فبأيِّ شيء أحدِّثُك [بأعجبَ من هذا]؟ فَتَطيَّر عبدُ الملك من قول الشعبي، وأمرَ بنقض القصر، وبنى غيرَه. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 164 - 165.

قال المصنف رحمه الله: وهذا وهم؛ لأنَّ عبد الملك دفن رأس مصعب مع جثَّته بمَسْكِن، ولم يدخل به الكوفة. [وإنما هذا من كلام عُبيد بن عُمير] (¬1). واختلف الناسُ، هل دخل عبد الملك الكوفة أم لا؟ . قال بعضهم: دخلها، وقال بعضهم: لم يدخلها، وأقام بمَسْكِن أربعين يومًا، ثم دخل الشام. [قال الواقدي: ] ولما عاد عبد الملك في هذه السنة إلى الشام فتحَ قيساريَّة الساحل (¬2). ذكر وصول خبر مصعب إلى أخيه عبد الله (¬3): كان عبد الله بن أبي فَرْوَة عند مصعب بمنزلةٍ لم يصل إليها غيرُه، وكان ينتهي إلى رأيه، فلما قُتل مصعب هرب ابنُ أبي فَرْوة إلى مكة، فقال عبد الملك: مَنْ يَرُدُّه وله مئةُ ألف درهم. فسارَ خلفَه جماعةٌ، ففاتَهم، وقدمَ مكةَ على ابن الزُّبير، فقال: حدَّثْني كيف كان حديث (¬4) أخي مع عبد الملك؛ فقال: التقينا، فمال داودُ بن قَحْذَم براية بكر بن وائل، ومال فلان براية بني فلان .. حتَّى عدَّ الجميع. قال: فلما رأيتُه قد بقي في رِقَّةٍ من الناس؛ أتيتُه بأفراس قد ضَمَّرْتُها مثل القِداح، فقلت له: ارْكَبْ والْحَقْ بمكة. فَدَثَّ (¬5) في صدري دَثَّةً، فقال: ليس أنا بالفارّ ولا العبد، وعلى الحياة العَفَاء. فبكى ابنُ الزُّبير [عند ذلك بكاءً شديدًا واسترجع] (¬6) وقام خطيبًا فقال: الحمد لله الَّذي له الخَلْقُ والأمر، يؤتي المُلكَ مَنْ يشاء، وينزعُ الملكَ ممَّن يشاء، ويعزُّ مَنْ يشاء، ألا وإنَّه لم يُذلَّ اللهُ مَنْ كان الحقُّ معه وإن كان فردًا، ولم يُعزَّ من كان ¬

_ (¬1) كذا في (م) (والكلام ما بين حاصرتين منها). والصواب: عبد الملك بن عمير، لا عُبيد بن عُمير، وعبد لملك بن عُمير هو صاحب القصة كما في المصادر. وينظر "تاريخ دمشق" 67/ 370 و 371. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 167. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬3) جاء بدل هذا العنوان في (م) عبارة: وحكى أبو اليقظان قال. (¬4) في (م): التقاء. (¬5) أي: دَفَعَ. (¬6) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 188. والكلام بين حاصرتين من (م).

السنة الثانية والسبعون

وليَّه الشيطان وحزبُه ولو كان معه الأنام [طُرًّا] (¬1)، ألا وإنَّه قد أتانا من العراق خبرٌ أحزَننا وأفرَحَنا، أتانا قتلُ مصعب رحمه الله، فأمَّا الَّذي أفْرَحَنا؛ فعِلْمُنا أنَّ قَتْلَه له شهادة، وأمَّا الذي أحزَنَنا؛ فإنَّ لفراق الحميم لوعةً يجدُها حميمُه عند المصيبة، ثم يَرْعَوي مِن بعدِها ذو الرأي إلى الصبر الجميل وكريم العَزَاء، ولئن أُصبْت بمصعب؛ فلقد أُصبتُ بالزبير قبلَه، ألا إنَّ أهلَ العراق أهلُ الغَدْرِ والشقاق، أسلَمُوه وباعوه بأقل ثمن، فإن نُقتل فإنَّا واللهِ لا نموتُ على مضاجعنا كما يموتُ بنو أبي العاص، واللهِ ما قُتِلَ منهم رجلٌ في زحفٍ في الجاهلية ولا في الإسلام، وما نموتُ إلا قَعْصًا (¬2) بالرِّماح، وموتًا تحت ظِلال السيوف، ألا إنما الدّنيا عارّيَةٌ من المَلِكِ الأعلى الَّذي لا يزولُ سلطانُه، ولا يَبِيدُ مُلْكُه. وتمثَّلَ: وكلُّ جديدٍ يا أُمَيمَ إلى البِلَى ... وكلُّ امْرِئٍ يومًا يصيرُ إلى كانَ (¬3) السنة الثانية والسبعون وفيها كَمُلَ بناءُ قُبَّة الصَّخرة والجامع الأقصى، وكان [عبد الملك] شَرَعَ في بنائها سنة تسع وستين (¬4). والسببُ (¬5) فيه أنَّ ابن الزُّبير كان قد استولى على مكة (¬6). [وقال هشام: ] وكان يخطبُ في أيام منى وعرفة ومُقامِ الناس بمكة، وينال من عبد الملك، ويذكرُ مساوئَ بني أمية، ومثالب بني مروان، ويقول: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنَ ¬

_ (¬1) لفظة "طرًّا" بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 6/ 166. (¬2) القَعْص: الطعن بالرُّمح. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 166 - 167. وجاء بعده في (خ) ما نصُّه: آخر الجزء المنقول منه؛ والحمد لله وحده، حسبنا الله ونعم الوكيل. (¬4) سلف الكلام على ذلك أول سنة (69)، لكن نقل ابن كثير في "البداية والنهاية" 12/ 41 عن المصنِّف البدء بها في أحداث سنة (66)، وقال: كملت عمارته سنة ثلاث وسبعين. ولفظ العباره في (م): قد ذكرنا أن عبد الملك بن مروان كان شرع. . (¬5) في (م): قال الواقدي: وكان السبب ... (¬6) بعدها في (م) ما صورتُه: "فكان في المواسم يذكر مثالب بني مروان ويدعو إلى نفسه، وكان فصيحًا، فتميل الناس إليه، فمنع عبد الملك الناس من الحج". وسيرد هذا الكلام مفرَّقًا فيما يأتي. لذا لم أزده.

الحَكَم وما نَسَل، وإنَّه طريدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولَعِينُه. ويدعو إلى نفسه. وكان فَصِيحًا، فمال معظمُ أهل الشام إليه، وصاروا بِطانةً له. وبلغ عبدَ الملك، فمنعَ الناسَ من الحجِّ، فأقاموا مدَّةً، فضجُّوا، فبنى لهم القُبَّة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلَهم بذلك عن الحجِّ، فكانوا يقفون عند الصخرة، ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة، وينحرون يومَ العيد (¬1). [ذكر طرف من ذلك: ذكر هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، وذكر طرفًا منه الواقدي وغيره؛ دخل حديث بعضهم في بعض؛ قالوا: ] ولمَّا عزم عبد الملك علي بنائها؛ كتبَ إلى أهل الأمصار ممَّن هو في طاعته من أهل الشام ومصر وأرمينية والجزيرة: أمَّا بعد، فإنَّ أمير المؤمنين قد عزمَ على بناء قُبَّة على صخرة بيت المقدس، تكونُ للمسلمين ظِلًّا وكهفًا (¬2)، ولولده ولمن يأتي بعدَه عِزًا وشَرَفًا، وإنه كره أن يشرع في ذلك قبل أن يستشير أهلَ الرأي والحَزْم والشرف والفضل من رعيَّته؛ قال الله تعالى: {وَشَاورْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] فليكتبوا إليه ما عندهم فيما عزم عليه. فكتبوا إليه: ليُتَمّمْ أميرُ المؤمنين ما عزمَ عليه من بناء بيت الله المقدَّس، وتزيين المسجد الأقصى، أجرى الله الخيراتِ على يديه، وجعلَ ذلك مَكْرُمةً له، ولمن مضى مِن سَلَفِه، ولمَنْ يأتي بعدَه مِن خَلَفه موفَّقًا إن شاء الله تعالى. وإنَّما (¬3) استشارهم خوفًا من شناعة ابن الزُّبير عليه، فأرادَ حَسْمَ مادَّته، ومع هذا فما سلم منه، فإنه كان يُشَنِّعُ عليه ويقول: ضاهى بما فعلَ إيوانَ كسرى، والخضراء كما فعل معاوية، ونقلَ الطوافَ من بيت الله إلى قِبْلةِ بني إسرائيل، ونحو ذلك. فسار عبدُ الملك من دمشق ومعه الأموال والعمَّال، ووكَّل بالعمل رجاءَ بنَ حَيوة، ويزيد بن سلام مولاه (¬4)، وجمع الصُّنَّاع والمهندسين [من الآفاق]، وأمرهم أن ¬

_ (¬1) بعدها في "البداية والنهاية" 12/ 41 (عن المصنِّف): ويحلقون رؤوسهم. (¬2) في (م): وكَنَفًا. وما سلف بين حاصرتين منها. (¬3) في (م): وقيل: إنما ... (¬4) المثبت من (م)، وفي غيرها: ومولاه. وينظر "البداية والنهاية" 12/ 41.

يُصَوِّروا القُبَّةَ قبل بنائها، فصوَّرُوها له في صحن المسجد، فأعجبَه، وبنى للمال بيتًا شرقيَّ القُبَّة، وشَحنَهُ بالمال، وأمرَ رجاءَ ويزيدَ أنْ يُفْرِغا المال إفراغًا، ولا يتوَقَّفا في شيء، فتمَّ البناء على القُبَّة التي هي قائمة اليوم (¬1)، إلا أنَّه بنى من ناحية القبلة سبعة (¬2) محاريب، عليها سبع قِباب، والقبَّةُ الباقية التي هي اليوم على المحراب هي أوسطُها. ولما تمَّ بناءُ القُبَّة عملَ لها جِلالين (¬3)؛ أحدهما من اللُّبُود (¬4) الحُمْر للشتاء، والآخر من أَدَم (¬5) للصيف، وحَفُّوا الصخرةَ بدرابزين (¬6) من الساج (¬7) المطعَّم باليَشْم (¬8)، وخلف الدرابزين ستورٌ من الدِّيباج مُرْخاة بين العُمُد. وكان السَّدَنةُ كلَّ اثنين وخمسين يُذيبون (¬9) المِسْك والعنبر والماوَرْد والزَّعْفران، فيعملون منه غاليةً (¬10) بماء الورد الجُوريّ ويخَمَّر من الليل، ثم يدخلُ الخدمُ صُبْحةَ كلِّ يوم من هذين اليومين الحمَّام، فيغتسلون ويتطهَّرون، ثم يدخلون الخزانةَ التي فيها الخَلُوق، فيخلعون ثيابهم، ويلبسون ثياب الوَشْي (¬11)، ويشدُّون أوساطَهم بالمناطق المحلَّاة بالذهب، ويُخَلِّقُون الصخرة (¬12)، ثم يوضع البَخُور في مجامر الذهب والفضة، وفيها [العُود] القَمَاريُّ المَطْليُّ بالمسك (¬13): وتُرخي السَّدَنَةُ السُّتُور، ¬

_ (¬1) في (م): فتَّم البناء على هذه الهيئة التي هي عليها اليوم. (¬2) في النسخ الخطية: سبع. وأثبتُ اللفظة على الجادَّة. (¬3) أي: غِطاءَين. (¬4) جمع لِبْد، وهو ضربٌ من البُسُط. (¬5) جمع أديم، أي: جلد. (¬6) هي عبارة عن قوائم مصفوفة من الخشب أو الحديد تُحاط بها السلالم أو السطوح وغيرها. وهي معرَّبة. وتستخدم كثيرًا. ينظر "معجم الألفاظ المعربة" ص 61. (¬7) يعني خشب الساج، وهو ضرب من الشجر كبير. (¬8) نوع من الأحجار الكريمة شبيهة بالعقيق. ينظر "المعجم الذهبي " ص 621. (¬9) المثبت من (م). وفي النسخ الأخرى: يذيفون (؟ ). وفي "البداية والنهاية" 12/ 42: يُذوِّبون. (¬10) اسم للطِّيب المصنوع مما ذكر. (¬11) أي: الثياب المنقُوشة والمُنَمْنَمة. (¬12) أي: يطيِّبُونها بالخَلُوق. وهو الطِّيب. (¬13) بعدها في (م) ما صورتُه "والقَماري مكان بالهند يُجلب منه العود الخاص". اهـ. وذكر الفيروزآبادي في "القاموس" (قمر) أن قَمَار موضع منه العُود القَمَاريّ.

فيستديرُ (¬1) البَخُور على الصخرة كلِّها، فتعبَقُ الرائحة، ثم تُرفع السُّتور، فتخرج تلك الرائحةُ حتَّى تملأ المدينةَ كلَّها، ثم يُنادي منادٍ: ألا إنَّ الصخرةَ قد فُتحت، فمن أرادَ الزيارة فليأتِ. فيُقبلُ الناسُ مبادِرين إليها، فيُصلُّون ويخرجون، فمن وُجدت منه رائحةُ البَخُور؛ قيل: هذا كان اليومَ في الصخرة. وأبواب الصخرة أربعة على ما هي عليه اليوم، وعلى كلِّ باب عَشَرَةٌ من الحَجَبة، فالباب الشَّمالي سمِّي باب الجنَّة، والشرقيّ باب إسرافيل، والغربيّ باب جبريل، والقِبْليّ باب الأقصى، وكانوا يُسْرِجُونها بِدُهْنِ البَان (¬2)، ولا يدخلُها في غير أيام الزّيارة سوى الخُدَّام. وكان للحرم عشرون بابًا وكان فيه ألفُ عمود من الرُّخام، وفي السُّقُوف ستون ألف خشبةً من السَّاج المنقوش، ومن القناديل خمسةُ آلاف قنديل، ولها أربع مئة سلسلة، في كل سلسلة ألفُ رطل بالشاميِّ، وذَرْعُ السلاسل ثلاثون (¬3) ألفَ ذراع. وكان يُوقَدُ في الصخرة في كلِّ ليلة مئةُ شمعة، وكذا في الأقصى، وقيل: ألف [شمعة]، ويوقد في القناديل كل ليلة من دُهْن البَان والزَّيت المغسول قنطار. وكان في الحرم من القِباب خمسون قُبَّة، ومن ألواح الرصاص سبعون ألف شَقَّة، وكان في الحرم ثلاث مئة خادم؛ اشْتُرُوا من بيت المال من الخُمس، كلما مات منهم واحد قام ولدُه ونسلُه مقامَه؛ يجري عليهم ذلك أبدًا ما تناسلوا، ويقبضون أرزاقهم من بيت المال شهرًا بشهر. وكان فيه مئة صِهريج (¬4)، وكانت صفائح سطوح القُبَّة عوض الرصاص من الذهب، وكذا سقفُ الأقصى وعلى أبواب القُبَّة. [قال الواقدي: ] وذلك لأنه لما كَمُل البناء؛ فَضَلَ من المال ثلاث مئة ألف دينار. وقيل: ست مئة ألف. فكتب رجاء بن حَيوَة ويزيد بن سلام يُخبرانه بما فَضَلَ من المال. ¬

_ (¬1) المثبت من (م): وفي غيرها: فيستديروا. (¬2) في "القاموس": البان شجر، ولحَبِّ ثمره دهن طيِّب. (¬3) في (م): أربعون. (¬4) الصِّهْريج: حوض كبير للماء.

فكتبَ إليهما: قد جعلتُه لكما عِوَضًا عن تعبكما. فكتبا إليه: إنَّا قُمنا ببناء هذا البيت للهِ تعالى وابتغاء مرضاته، فلا نقبلُ على ذلك عِوَض (¬1) الدنيا، ولَوَدِدْنا أن نَزِيدَ فيه من حُلِيِّ نسائنا. فكتبَ إليهما: أفْرِغاه على القُبَّة والأبواب. [فأفرغَاه]. فما كان أحد يقدر أن يتأمَّلَ القُبَّةَ ممَّا عليها من الذهب. فلما كان في خلافة أبي جعفر قَدِمَ البيت المقدَّس في سنة أربعين ومئة، فوجد الزلازل قد أخربَت محاريب الأقصى وقِبابَه الستّ، ولم يبقَ إلا الأوسط الَّذي هو قائم اليوم، فشكا إليه الناس الخراب. فقال: قد علمتُم الحال، وليس في يدي ما أَعمُره اليوم، ولكن اقلعُوا هذه الصفائح التي على القُبَّة والأبواب، واعمُرُوه بها. ففعلوا. ثم جاءت زلزلةٌ أخرى في أيام أبي جعفر، فرمت البناء الَّذي بَنَوْه. فلمَّا قدم المهديّ محمد بن أبي جعفر إلى القدس بعد وفاة أبيه وجده خرابًا، فقال: دَقَّ هذا المسجد وطال، وخلا من الرِّجال، انقُصُوا من طوله، وزِيدُوا في عرضه، واقتَصِرُوا على قُبَّة الأقصى -التي هي عليه اليوم- ففعلوا. [قالوا: ] وطولُ المسجد من القبلة إلى الشَّمال سبعُ مئة وخمس وستون ذراعًا، وعرضُه أربع مئة وخمس وستون ذراعًا. ولما تم بناء القُبَّة كتبوا عليها بالقَصِّ مما يلي القُبَّة مقابل الداخل من باب الصخرة القبليّ ما صورتُه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، بنى هذه القُبَّة عبد الله عبدُ الملك أميرُ المؤمنين سنة اثنتين وسبعين. قال المصنف رحمه الله: وقد قرأتُه مرارًا وقد قشط بعضُ الجُهَّال اسم عبد الملك، وكتبَ مكانه: المأمون. وأين أيامُ عبدِ الملك من أيام المأمون؟ ! بينهما نحوٌ من خمسين ومئة سنة. وكان بين عِمارة القُبَّة ووفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتان وستون سنة، وبينها وبين فتوح عمر - رضي الله عنه - ستٌّ وخمسون سنة؛ لأن عمر - رضي الله عنه - فتحَه في سنة ستَّ عشرة (¬2). ¬

_ (¬1) في (أ): عَرَض. (¬2) نقل ابنُ كثير الخبر في "البداية والنهاية" 12/ 37 - 44 في سنة (66) عن المصنِّف. وكل ما سلف في الخبر بين حاصرتين من (م).

وقال كعب الأحبار: وجدتُ في بعض كتب الله المنزَّلة: يقول [الله تعالى]: أبشري أورى شلم، سوف أبعثُ إليك عبدي عبد الملك يبنيكِ ويزخرفُك، ولأَرُدَّنَّ إليك مُلكَك الأوَّل، ولأُكلِّلَنَّ الهيكل بالذهب والفضة واللؤلؤ والمَرْجان [يعني الصَخرة] ولأَضَعَنَّ عرشي عليك كما كان، إنني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي. وفيها ولَّى عبدُ الملك طارقَ بن عَمرو مولى عثمان - رضي الله عنه - المدينةَ، فسار إليها، فغلب عليها، وأخرج منها طلحة بن عبد الله بن عوف عاملَ ابن الزبير، وأقام طارق واليًا عليها سنة، وقيل: خمسة أشهر. ثم أمرَه عبدُ الملك أن يخرج عنها فيقيمَ بين وادي القرى وبين أَيلة مَدَدًا لما يحتاجُ إليه عونًا على ابن الزبير، وبعث إليه ستة آلاف، فأقام حيثُ أمره، وعزلَه عن المدينة (¬1). [وطارق هذا صاحب الواقعة مع سعيد بن المسيِّب]؛ قال عليّ بن الحسين - رضي الله عنه - (¬2): ولَّى علينا عبدُ الملك بن مروان طارقًا مولى عثمان بن عفان، فقلتُ لسالم بن عبد الله بن عُمر وللقاسم بن محمد بن أبي بكر [الصِّدِّيق]، ولأبي سَلَمة بن عبد الرحمن بن عوف: اذهبوا بنا إلى هذا الرجل لنسلِّم عليه ندفعْ بذلك عن أنفسنا. قال: فأتيناه، فرحَّبَ بنا، ثم قال: أيُّكم سعيدُ بنُ المسيِّب؛ فقال له القاسم بنُ محمد: إنه مشغول [بنفسه] وقد رفعت عنه الولاةُ إتيانَها، وقد ألزمَ نفسَه المسجد، فليس يخرج منه إلا لحاجته. فقال: أوَرَغب أن يأتيَني، واللهِ لأقتلنَّه. قالها ثلاثًا. قال القاسم: فضاقَ بنا المجلس، وقمنا من عنده، فأتيتُ المسجد، وإذا سعيد قاعدٌ عند أسطوانة (¬3)، فقلت له: [أرى] أن تخرج إلى مكةَ معتمرًا وتقيمَ بها. فقال: ما حضرتني نيَّةٌ في ذلك. قلت: فاخْرُجْ إلى بعض منازل إخوانك فأقمْ به. فقال: وكيف أصنعُ بهذا الداعي الَّذي يدعوني في اليوم خمس مرات؟ ! قلتُ: فأرى أن تقوم من مجلسك هذا. فقال: لا أقومُ من مكان قد وهب اللهُ لي فيه العافية منذ كذا وكذا سنةً. ¬

_ (¬1) ينظر تفصيله في "أنساب الأشراف " 6/ 218 - 219، و"تاريخ دمشق" 8/ 488 (مصورة دار البشير). (¬2) في (م): حدَّثنا غير واحد عن هبة الله بإسناده إلى علي بن الحسين - رضي الله عنه - قال ... (¬3) في (أ): أسطوانته.

فأخبرتُه بقول طارق، فقال: هوِّنْ عليك. فقلتُ: أما تخافُ؟ ! فقال: واللهِ ما خِفْتُ شيئًا سوى ربِّي. ثم قال: أسألُ اللهَ العظيمَ أن يُنْسِيَه ذِكري. قال: فانصرفتُ عنه، وجعلتُ أسألُ: هل كان في المسجد شيء؟ ولا أُخبَر إلا بالخير. قال: فأقام طارق واليًا علينا سنة لا يخطر ببالِه سعيد. ثم عُزل طارق، فخرج من المدينة قاصدًا وادي القُرى، فنزل فيه وبينَه وبين المدينة خمس مراحل، فقال طارق لغلامه: واسوأتاه من علي بن الحسين وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، حلفتُ بين أيديهم ثلاثة أيمان بالله لأقتلنَّ سعيدَ بنَ المسيِّب، والله ما ذكرتُه إلا في هذه الساعة. فقال له غلامُه: ما أراد الله لك خيرٌ مما أردتَ لنفسك إذ أنساك ذكره (¬1). فقال: صدقتَ، اذْهَبْ فأنتَ حُرٌّ لوجه الله تعالى (¬2). وفيها بلغَ الخوارجَ أنَّ مصعبَ بنَ الزُّبير قد قُتل، وكانوا نازلين بسُولاف (¬3)، وفي مقابلهم المُهَلَّب، وعبدُ العزيز بن عبد الله بن خالد بن أَسِيد، وكانوا قد اقتتلُوا ثمانية أشهر أَشَدَّ قتال، وبلغ الخوارجَ قتلُ مصعب قبل أن يبلغ المهلَّبَ وأصحابَه، فناداهم الخوارج: ما تقولون في مصعب؟ قال المُهَلَّب وأصحابُه: إمامُ هدًى، هو وليُّنا في الدنيا والآخرة. قالوا: فما تقولون في عبد الملك بن مروان؟ قالوا: ذاك ابنُ اللَّعين. قالوا: فأنتم منه بُرَآء في الدنيا والآخرة؟ قالوا: نعم، ونحن له أعداء؛ كعداوتنا لكم. قالوا: فإنَّ إمامَكم المصعب قد قتلَه عبدُ الملك بنُ مروان، وإنكم ستجعلون عبدَ الملك غدًا إمامكم، وأنتم الآن تلعنون أباه، وتتبرَّؤون منه. قالوا: كذبتُم يا أعداء الله. فلما كان من الغد تبيَّن لهم قتلُ مصعب، فبايع المُهَلَّبُ الناسَ لعبد الملك، فناداهم الأزارقة: يا أعداء الله، بالأمس تدَّعون أنَّ مصعبًا إمامُكم، وتتبرَّؤون من عبد الملك، وتلعنون أباه، واليوم تُوالونَه وتُبايعونه بالخلافة، وقد قتلَ إمامَكم الَّذي كنتُم تَتَوَلَّوْنَه في ¬

_ (¬1) المثبت من (م). وفي غيرها: لذكره. (¬2) ينظر "اعتقاد أهل السنة" 9/ 184 - 185، و"المنتظم" 6/ 120 - 121. (¬3) قرية غربيّ دُجيل من أرض خُوزستان. "معجم البلدان" 3/ 285. وتحرَّفت في النسخ (غير م فالكلام ليس فيها) إلى سولان. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 168.

الدنيا والآخرة! فأيُّهما المهتدي وأيُّهما الضالّ؟ ! فقالوا: رضينا بذلك إذ كان وَليَّنا ويلي أمورَنا، ونرضى (¬1) بهذا كما رضينا بذاك. فقالت الخوارج: لا والله، ولكنَّكم إخوانُ الشياطين، وأولياء الظالمين، وعَبيدُ الدنيا. ولمَّا قدم خالد بنُ عبد الله بن أَسِيد البصرة؛ أقرَّ المُهَلَّبَ على خَراج الأهواز، وبعثَ المغيرةَ بنْ المُهَلَّب إلى إصطخر، وبعث مقاتلَ بن مِسْمَع على جيش، وألحقَه بأخيه عبد العزيز بن عبد الله، فخرجَ يطلبُ الأزارقة، وأقبلوا من كَرْمان، فالتَقَوْا على دَرَابْجِرْد (¬2)، فاقتَتَلُوا، فقُتل مالكُ بنُ مِسْمَع، وانهزمَ عبدُ العزيز، وأُسِرَت امرأتُه بنتُ المنذر بن الجارود، فنُوديَ عليها فيمن يزيد، فبلَغَتْ مئة ألف، وكانت جميلة، فقام رجل من قومها من رؤوس الخوارج يقال له: أبو حديد، فقال: تَنَحَّوْا عن هذه المشركة، فما أراها إلا قد فتنتكم. فضربَ عنقَها، وقدم البصرة بعد ذلك، فقال له أهل المنذر: ما ندري أنحمدُك أم نَذُمُّك! فقال: واللهِ ما فعلتُه إلا غَيرَةً وحَمِيَّة. وجاء عبد العزيز أخو خالد، فنزل على رامَهُرْمُز (¬3)، وبلغ المُهَلَّبَ، فارسل شيخًا عاقلًا من فرسانه من الأَزْد إلى عبد العزيز يُشجِّعُه ويَعْذِرُه ويقول: ما زال الناسُ كذا، ويخبرُه أن الجيوش تأتيه عاجلًا. فجاء الشيخ إليه، فوجده في ثلاثين فارسًا كئيبًا حزينًا، فأدَّى رسالة (¬4) المهلَّب، وعاد إلى المُهَلَّب، فأخبرَهُ خبرَه، فقال المُهَلَّبُ للشيخ: اذهب إلى البصرة إلى أخيه خالد، فأخْبِرْه بما رأيتَ. فقال الشيح: أنا آتي خالدًا فأُخبرُه بخبر أخيه! لا والله لا [آتيه]. فقال [المُهَلَّب]: والله لا يأتيه غيرُك. فقال: واللهِ لا آتيه. فقال المُهَلَّب: أما ¬

_ (¬1) قوله: إذ كان ولينا ... إلخ من (أ). وهو في "تاريخ" الطبري 6/ 169 بلفظ: إذ كان وليَّ أمورنا ونرضى ... الخ. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 517 - 518. (¬2) كُورَة (يعني بقعة فيها قُرىً ومحالِّ) بفارس، وتعني عمل دراب، فـ "دراب" اسم الرجل الَّذي عمَّرها، و"جِرد" معناه عمل. ووقع في النسخ الخطية (غير م، فالكلام ليس فيها): داربجرد، والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 169، وينظر "معجم البلدان" 2/ 446. (¬3) في النسخ الخطية (غير م، فليس فيها الكلام): ابن أم هرمز! والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 169، وعبارته: حتى انتهى إلى رامهرمز. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 521 - 522. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): بن سالم! بدل: "رسالة". والمثبت من (أ).

واللهِ لو كنتَ مع غيري، ثم أرسلَكَ على رجليك لخرجتَ تشتدُّ. فقال الشيخ: يا مُهَلَّب، أتمنُّ علينا بحلمك، ونحنُ واللهِ نُكافئُك، بل نزيد عليك، أما تعلمُ أنَّا نُعَرِّضُ أنفسَنا للقتل دونَك، ونحميك من عدوِّك، ولو لم تحلُم عنَّا جعلناك بيننا وبين عدوِّنا، ووقَينا أنفسَنا بك، ولو كنتَ ممَّن يبعثُنا في حاجة فنمشي على أرجلنا، ثم احتاجَ إلى قتالنا؛ جعلناه بينَنا وبين عدوِّنا. فقال المهلَّب: صدقتَ. ثم بعث فتًى من الأَزْد إلى خالد بن عبد الله يخبرُه بخبر أخيه، فأقبلَ الفتى إلى البصرة، فوجدَ خالدًا جالسًا بين الناس وعليه جُبَّةُ خَزّ، ومِطْرَفُ (¬1) خَزِّ أخضر، فسلَّم عليه، فردَّ وقال: ما جاء بك؟ قال: رأيتُ أخاك عبد العزيز مهزومًا برامَهُرْمُز (¬2). فقال: كذبتَ. فقال: احْبِسْني حتَّى يتبيَّن لك، فإن كُنْتُ كاذبًا فاضْرِبْ عنقي، وإنْ كُنْتُ صادقًا فأعطني جُبّتَك ومِطْرَفَك. فقال خالد: ما أيسرَ ما سألتَ، ولقد رضيتَ مع الخطر العظيم بالحقير الصغير. وحبَسَه حتَّى تَبيَّنَ الخَبَر، وكتبَ إلى عبد الملك يقول: بعثتُ أخي عبدَ العزيز في طلب الخوارج، فالتَقَوْا بفارس، فاقتتلوا، وانهزم الناسُ عن أخي، وقُتل مالك بن مِسْمَع. فكتب إليه عبد الملك: وقفتُ على كتابك، وعرفتُ ما ذكرتَ، وسألتُ رسولَك عن مكان المهلَّب، فقال: هو عاملُ الأهواز. فقبَّح اللهُ رأيَك حيث تبعثُ أخاك أعرابيًّا من أهل مكة على القتال، وتدعُ المهلَّبَ إلى جنبك يجبي الخَرَاج، وهو الميمونُ النَّقِيبَة، الحَسَنُ السياسة، البصيرُ بالحرب، المقاسي لها، فلا تعمل بعدها برأي حتَّى يحضره المهلَّب وتستشيره فيه، وقد كتبتُ إلى أخي بِشْر أن يُمِدَّكَ من الكوفة بخمسة آلاف، والسلام. فلما قرأ خالد كتابَه شَقَّ عليه حيث قبَّح رأيَه في بعث أخيه، وفي أمره له أنْ يستشيرَ المُهَلَب. ¬

_ (¬1) المِطْرَفُ: رداء أو ثوب من خزّ مربَّع ذو أعلام. (¬2) عبارة: "رأيت أخاك عبد العزيز مهزومًا برامهرمز" استظهرتُها من معنى ما وقع في "تاريخ" الطبري 6/ 170، وبحيث يكون أقرب إلى رسم الكلام في النسخ الخطية (غير م، فليس فيها الكلام)، فجاء فيها ما صورتُه: رأيتك جاه عبد العزيز بن مهزو بابرام هرمز! وعبارة الطبري: رأيت عبد العزيز برامهرمز مهزومًا.

وكتبَ عبدُ الملك إلى أخيه بِشْر: جَهِّزْ من الكوفة خمسةَ آلاف إلى خالد، واجْعَلْ عليهم رجلًا ترضاه، فإذا فرغ من هذا الوجه؛ فابْعَثْه إلى الرَّيّ. فبعث عليهم عبدَ الرحمن بن محمد بن الأشعث، وقال بِشْر لعبد الرحمن: إذا قضيتَ غَزَاتك هذه؛ فاذهب إلى الرَّيِّ. وكتب له عَهْدَه عليها. وخرج خالد بأهل البصرة حتَّى قدم الأهواز، وجاء عبدُ الرحمن بنُ الأشعث بأهل الكوفة، فوافاه بالأهواز، وجاء المُهَلَّب بجيشه، وجاءت الأزارقة حتَّى دنَوْا من مدينة الأهواز ومعسكرِ القوم، فقال المُهَلَّب لخالد: أرى ها هنا سُفُنًا كثيرة، فضُمَّها إليك، فما أرى القوم إلا مُحرقيها. فما لبثَ إلا ساعة حتَّى بعثوا إليها خيلًا، فأحرقتها. ثم أقاموا أيَّامًا يقتتلون؛ نحوًا من عشرين يومًا، ثم إنَّ خالدًا زحفَ إليهم بالناس، فرأوا أمرًا هالهم من العَدَد والعُدَد، فانصرفوا على حامية (¬1)، وأتْبعهم خالد بن عبد الله داودَ بنَ قَحْذَم، ورجع خالد إلى البصرة، وانصرفَ عبدُ الرحمن إلى الرَّيّ، وأقام المُهَلَّبُ بالأهواز. وكتب خالد إلى عبد الملك: إنَّا لَقِينا الأزارقة على الأهواز، فاقتتلنا أشدَّ قتال، ثم أنزلَ اللهُ نصره على المسلمين، فانهزمَ القوم، وأتبعهم داودُ بنُ قَحْذَم، واللهُ مستأصلُهم، والسلام. وقال ابنُ قيس الرُّقَيَّات في هزيمة عبد العزيز، وفِرارِه عن امرأته: عبدَ العزيزِ فَضَحْتَ جيشَك كلَّهمْ ... وتركتَهم صَرْعَى بكلِّ سبيلِ من بينِ ذي عَطَشٍ يجودُ بنفسهِ ... ومُلَحَّب (¬2) بين الرِّجالِ قتيلِ هلَّا صبَرْتَ مع الشهيدِ مُقاتلًا ... إذْ رُحْتَ مُنتكِثَ (¬3) القُوى بأصيلِ وتركتَ جيشَكَ لا أميرَ عليهمُ ... فارْجِعْ بعارٍ في الحياةِ طويلِ ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 6/ 172: كأنَّهم على حامية. (¬2) يعني الَّذي أثر فيه الضربُ أو القطع. (¬3) في النسخ (غير م، فليس فيها الكلام): منتكب، والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 173 وغيره مما سيرد.

ونَسِيتَ عِرْسَكَ إذْ تُقادُ (¬1) سَبِيَّةً ... تُبكي العيونَ بِرَنَّةٍ وعَويلِ (¬2) وفيها خرج أبو فُدَيك الخارجي -وهو من بني قيس بن ثعلبة-[فغلبَ] على البحرين، وقتلَ نجدةَ بنَ عامر الحنفيّ، فبعث خالدٌ أخاه أميَّةَ بنَ عبد الله إلى أبي فُدَيك في جيش كثيف، فهزمه أبو فُدَيك، وأخذَ جاريةً كانت له، فاتَّخَذَها لنفسه، وعادَ أميَّةُ على فرسٍ مهزومًا، فدخل البصرة في ثلاثة أيام (¬3). وفيها بعثَ عبدُ الملك بنُ مروان الحجَّاجَ بنَ يوسف الثقفيَّ إلى مكة لقتال عبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنه -. قال ابنُ حَبِيب: دخلَ أعشى بني ربيعة -واسمه عبدُ الله، وقيل: صالح بن خارجة بن حَبِيب بن قيس الشَّيباني الذُّهلي- على عبد الملك وهو يُرَدِّد (¬4) في محاربةِ ابن الزُّبير ولا يجدُّ، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما لي أراك مُتَلَوِّمًا، يُنهضُك العزم، ويُقعدُك الحزم (¬5)، وتَهُمُّ بالإقدام، ثم تجنح (¬6) إلى الإحجام، امْضِ لرأيك، وتَوَجَّهْ إلى عدوِّك، فَجَدُّك مُقبل، وجَدُّه مُدبر، وأصحابُه له ماقِتُون، ونحن لك مُحِبُّون، وكلمتُهم متفرِّقة، وكلمتُنا مجتمعة، وواللهِ ما نُؤْتى من ضعف جَنَان، ولا من قلة أعوان، ولا يُثَبِّطُك عنه ناصح، ولا يُحرِّضُك عليه غاشّ، وقد قلتُ في ذلك أبياتًا. فقال: قل، فإنك تنطق بلسانٍ وَدُود، وقلبٍ ناصح، فقال: آلُ الزُّبير من الخلافةِ كالتي ... عَجِلَ النِّتاجُ بحملها فأحالها أو كالضِّعاف من الحُمولةِ حُمِّلَتْ ... ما لا تُطيقُ فضيَّعَتْ أحمالها قُوموا إليهم (¬7) لا تناموا عنهمُ ... كم للغُواة أطَلْتُمُ إمْهالها ¬

_ (¬1) في النسخ المذكورة: يقال. والمثبت من "تاريخ" الطبري وغيره. (¬2) ينظر الخبر بتمامه في "تاريخ" الطبري 6/ 168 - 173، وينظر أيضًا أنساب الأشراف 6/ 526، و"ديوان" ابن قيس الرُّقيَّات ص 190. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 174. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) أي: ينظر ويفكِّر. وفي "الأغاني" 18/ 133: يتردَّد (¬5) في "الأغاني": ينهضك الحزم ويقعدك العزم. (¬6) في النسخ (غير م): تحجم. والمثبت من "الأغاني". (¬7) في النسخ: إليها. والمثبت من "الأغاني".

إنَّ الخلافة فيكُمُ لا فيهمُ ... لا زِلْتُمُ أركانَها وثِمالها أمسَوْا على الخيرات قُفْلًا مُقْفَلًا ... فانْهَضْ بيُمْنِكَ فافتَتِحْ أقفالها فضحكَ عبد الملك وقال: صدقتَ، إنَّ أبا خُبَيب لَقُفلٌ مُوثَق على كل خير، ولن أتأخَّر عن مناجزته إن شاء الله تعالى (¬1). وكان عبدُ الملك (¬2) لما فرغ من المصعب وقفلَ إلى الشام قال: مَنْ لابن الزُّبير، وندبَ الناس إلى قتاله، فلم يُجِبْه أحد، فقام إليه الحجاج فقال: يا أمير المؤمنين، أنا له، ابْعَثْني إليه، فقد رأيتُ في منامي كأنِّي أخذتُه، فسلختُه. فبعثَه إليه (¬3)، وكتبَ معه كتابَ أمانٍ لأصحاب ابن الزُّبير. [فقال ابن سعد (¬4) بإسناده عن عبَّاد بن عبد الله بن الزُّبير قال: بعث عبد الملك الحَجَّاجَ لما قُتل مصعب إلى مكة لقتال ابن الزبير] فخرج في ألفين من أهل الشام في جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين، فلم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزلَ الطائف، وكان يبعثُ البُعوث إلى عرفةَ في الحِلّ، ويبعثُ ابنُ الزبير بعثًا فيقتتلون، وفي [كلِّ] ذلك تُهزم خيلُ ابنِ الزُّبير، وترجعُ خيلُ الحجَّاج بالظَّفَر، ثم كتبَ الحجَّاجُ إلى عبد الملك يستأذنُه في دخول الحَرَم، ويعرِّفُه أنَّ شوكةَ ابنِ الزُّبير قد ضعُفَتْ، وتفرَّقَ عنه عامَّةُ أصحابِه. فكتب عبد الملك إلى طارق بن عَمرو وهو بوادي القُرى أنْ يلحقَ بالحجَّاج. وكان قُدومُ الحَجَّاج الطائف في شعبان سنة اثنتين وسبعين، فلما دخل ذو القَعْدة؛ خرج الحَجَّاج من الطائف، فنزل بئر ميمون، وقدم عليه طارق لهلال ذي الحجَّة، فحَصَرَ ابنَ الزُّبير. ¬

_ (¬1) ينظر "الأغاني" 18/ 133 - 134. وأبو خُبيب هو عبد الله بن الزبير. وقوله: ثِمالها؛ الثِّمال: الملجأ والغِياث. قال أبو طالب يمدحُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثِمالُ اليتامى عِصْمَةٌ للأرامِل. (¬2) في (م): قال الرِّياشي: كان السبب في بعث الحجاج إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير أن عبد الملك ... (¬3) عبارة (م): "قال: مَنْ لابن الزبير؟ فقام إليه الحجاج بن يوسف فقال: يا أمير المؤمنين ابعثني إليه، فقد رأيتُ في منامي كأني أخذته فسلختهُ. فجهَّزَه إليه. وقال ابن إسحاق: ندب عبد الملك الناس إلى قتال ابن الزبير فلم يُجبه أحد، فقام الحَجَّاج فقال: أنا له. فبعثه إليه ... إلخ (¬4) هو في "تاريخ" الطبري 6/ 174 من طريق ابن سعد. وهذا الكلام بين حاصرتين من (م).

عبيدة بن قيس السلماني

وحَجَّ بالناس الحَجَّاج، وأقامَ على إحرامه، وكذا طارقٌ؛ لم يقربا النساء، ولم يصل إلى البيت منهما أحد، ولم يقربا الطِّيب، وكانا يلبسانِ السلاحَ ويقاتلان، فلم يزالا على إحرامهما حتَّى قُتل ابنُ الزبير، فحلَّا من إحرامهما، ونحرا جزائر، ولم يقف ابنُ الزُّبير بعرفة، ونَحرَ بمكةَ بُدْنًا. وأقام الحصار عليه من أوَّل شعبان، وكان الحجَّاج وطارق نازلين ببئر ميمون والحَجُون، وما بينهما (¬1). وفيها توفِّي عَبيدة بنُ قيس السَّلْماني من مُراد [وقيل: عَبِيدة بن عَمرو]، وكنيتُه أبو مسلم، [وقيل: أبو عمر]. وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. [قال ابن سعد: ] (¬2) أسلم قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين ولم يلقَه، وهاجرَ في أيام عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وكان عريفَ قومِه، وشهد مع عليٍّ - عليه السلام - النَّهْرَوان. ودعا عند موته بكتبه (¬3)، فمحاها وقال: أخشى أن يَلِيَها أحدٌ بعدي، فيضعوها في غير مواضعها. [قال الواقدي: ] ولما أفتى عليٌّ - عليه السلام - ببيع أمَّهات الأولاد؛ قام عَبِيدة، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنتَ تَرى بيعَهنَّ على عهد أبي بكر وعمر، فكيف رأيتَه بعدهما؟ ! فقال: رأيٌ رأيتُه بعدهما. فقال عبيدة: رأيُك مع الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك وحدَك (¬4). وكان عَبِيدة من أصحاب ابنِ مسعود الذين يقربون منه ويُفتون عنه. ¬

_ (¬1) في (م): وقيل: فيما بينهما. وينظر "تاريخ" الطبري 6/ 174 - 175. (¬2) في "الطبقات" 8/ 213، وينظر "المعرفة والـ "تاريخ" 1/ 228. والكلام الواقع بين حاصرتين من (م). (¬3) في (م): وروى ابن سعد أن عَبِيدة عند موته دعا بكتبه ... إلخ. وهو في "الطبقات" 8/ 214. (¬4) ينظر: المعرفة والتاريخ 1/ 442، ومعجم ابن الأعرابي 1/ 268، وسنن البيهقي 10/ 348.

السنة الثالثة والسبعون

وكان يوازي شُريحًا في علم القضاء، وكان شُريح إذا أشكلَ عليه أمرٌ سألَ عنه عَبيدةَ لعلمه وفضله. وأوصى (¬1) عَبِيدة السَّلْماني أن يُصلِّيَ عليه الأسود بن يزيد، فقال الأسود: اعْجَلُوا به قبلَ أنْ يجيءَ الكذَّاب. يعني المختار. فصلَّى عليه قبل غروب الشمس، فإنْ صحَّ ذلك فقد تقدَّم موتُه على هذه السنة (¬2). أسند عَبِيدة عن عُمر، وعليّ، وابنِ مسعود، وابن الزُّبير، وغيرِهم. وروى عنه الشَّعبيّ، والنَّخَعي، وابنُ سِيرين، وغيرُهم. السنة الثالثة والسبعون فيها استفحلَ أمر أبي فُدَيْك الخارجي بالبحرَين (¬3) حتَّى صار في عشرة آلاف، وعاث في نواحي البصرة والأهواز، فجهَّز إليه عبدُ الملك عُمرَ بن عُبيد الله بن معمر، وندبَ معه من الكوفة عشرةَ آلاف، وخرج معه من البصرة عشرة آلاف، بعد أن أعطاهم أرزاقَهم، وسار إلى البحرين، وجعل أهلَ الكوفة على الميمنة، وعليهم محمد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة، وعليهم ابنُ أخيه عُمر (¬4) بن موسى بن عُبيد الله، ووقف عمر في القلب، والرَّجَّالة بالرِّماح بين أيديهم، وحمل أبو فُدَيك في أصحابه حملةَ رجلٍ واحد، فهَزَموا أهلَ الكوفة، وثبت أهل البصرة، وجُرح عُمر بن موسى بن عُبيد الله، فلما رأى أهلُ الكوفة أهلَ البصرة لم ينهزموا؛ رجعوا (¬5)، ¬

_ (¬1) في (م): واختلفوا في وفاته، فقال ابن سعد بإسناده عن أبي حصين: أوصى ... إلخ. وهو في "طبقات" ابن سعد 8/ 215. (¬2) لفظ (م): " ... قبل غروب الشمس. قال ابن سعد: ومات عَبِيدة في سنة اثنتين وسبعين. قلت: وهذا وهم؛ لأن المختار قُتل في سنة سبع وستين، وهذه سنة اثنتين وسبعين. وقال خليفة: مات عَبِيدة في سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين". اهـ. قلتُ: وكلام ابن سعد في "طبقاته" 8/ 216. ولم أقف على قول خليفة إنه مات سنة (73)، والذي في "تاريخه" ص 268، و"طبقاته" ص 146 أنَّه مات سنة (72)؛ قال: ويقال: زمن المختار. (¬3) في النسخ (غير م، فليس فيها الكلام): بالتخمين. والصواب ما أثبتُّه إن شاء الله. (¬4) في النسخ: عمرو. والمثبت من المصادر. (¬5) الَّذي في "تاريخ" الطبري 6/ 193، و"الكامل" 4/ 362، و"المنتطم " 6/ 129 أن الميسرة هي التي انكشفت وانهزمت، والميسرة هم أهل البصرة. ولفظ العبارة الأخيرة عند الطبري: فلما رأى أهلُ البصرة أهلَ الكوفة لم ينهزموا تذمّمُوا ورجعوا ...

وحملَ الجميعُ على الخواوج، [وقتلُوا أبا فُدَيك]، وحصروهم [في المُشَقَّ] حتَّى نزلوا على الحُكم (¬1)، فيُقال: إن عمر بن عبيد الله قتل منهما ستةَ آلاف، وأَسرَ منهم ثمان مئة، وأصابوا جارية أميَّة بنت عبد الله حُبلى من أبي فُدَيك (¬2)، وغنموا ما كان في عسكر الخوارج، وعادوا إلى البصرة. وفيها عزلَ عبدُ الملك خالدَ بنَ عبد الله عن البصرة، وولَّاها أخاه بِشْرَ بنَ مروان؛ جمع له بين الكوفة والبصرة، فشخص بِشْرٌ إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عَمرَو بنَ حُرَيث (¬3). وفيها غزا محمد بن مُروان الصائفةَ في أربعة آلاف، فسار إليه الرُّوم في ستين ألفًا، فهزمهم، واستباحَ عسكرَهم. وقيل: كان هذا من ناحية أرمينية (¬4). وفيها قَتَلَ الحجَّاجُ عبدَ الله بنَ الزبير. وأقامَ الحجَّ للناس في هذه السنة [الحجَّاج] وهو على مكة واليمامة واليمن. [وقال الواقدي: ] وكان على الكوفة والبصرة بِشْر [بن مروان، ومن قول غيره: بِشْر على الكوفة. وخالد بن عبد الله على البصرة]، وعلى قضاء الكوفة شُريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هُبيرة، وعلى خُراسان بُكير بن وشاح من قبل عبد الملك (¬5). وقيل: في هذه السنة استقضى عبدُ الملك على دمشق أبا إدريس الخَوْلاني. ¬

_ (¬1) عبارة النسخ الخطية (غير م، فليس فيها الكلام): "وحمل الجميع على الخوارج في السُّفن وحصروهم حتَّى نزلوا على الحكم". وأعتقد أن لفظة "السفن" محرَّفة عن "المُشَقّر". فأثبتُّ سياق "تاريخ" الطبري 6/ 193، واستدركتُ ما بين حاصرتين منه. والمُشَقَّر حصن بالبحرين. وينظر الخبر مطولًا جدًّا في "أنساب الأشراف" 6/ 599 - 569. (¬2) ينظر ما سلف ص 49. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 194. (¬4) ينظر المصدر السابق. (¬5) تاريخ الطبري 6/ 194، وما سلف بين حاصرتين من (م).

أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -

وفيها توفّيت أسماء بنتُ أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - وأمُّها قُتَيلة بنت عبد العُزَّى بن أسعد بن جابر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤي. [وهي أختُ عبد الله بن أبي بكر لأمه وأبيه، وأخت عائشة لأبيها]. أسلمت قديمًا بمكة بعد سبعةَ عشرَ نفسًا، وبايعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وتزوَّجَها (¬1) الزُّبير - رضي الله عنه - بمكة، وهاجر بها إلى المدينة وهي حامل بعبد الله، فوضعته بقُباء [وقد ذكرناه]. وشهدت اليرموك مع الزُّبير - رضي الله عنه -، فقالت له: يا أبا عبد الله، إنْ كان الرجلُ من العدوِّ لَيَمُرُّ سريعًا، فتُصيبُ قَدَمَه عُروةُ أطنابِ خِبائي فيسقطُ على وجهه ميّتًا؛ ما أصابه سلاح (¬2). ثم طلَّقها الزُّبير - رضي الله عنه -، فاقامت مع ابنها حتَّى قُتل بمكة (¬3). [وقال أبو نُعيم (¬4): وُلدَتْ قبل المبعث بعشر سنين، وكان لأبيها أبي بكر يوم وُلدت إحدى وعشرون سنة، وكانت أكبرَ من أختها عائشة بعشر سنين (¬5)، وكان إسلامُها مع إسلام أبيها وهي صغيرة. وهي ذات النِّطاقَين، وقد ذكرناه في حديث الهجرة؛ لمَّا خرجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغار شقَّت نِطاقها نصفَيْن، فجعلت واحدًا عِصابًا لسُفْرَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والآخر لقِرْبَتِه، ولم يكن لهم ما يربطون به القِرْبة والسُّفْرة. ¬

_ (¬1) عبارة (م): قال ابن سعد: أسلمت قديمًا بمكة، وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن إسحاق: أسلمت بعد سبعة عشر نفسًا وتزوَّجها ... إلخ وكلام ابن سعد في "طبقاته" 10/ 237. وينظر "التبيين في أنساب القرشيين" ص 316. (¬2) تاريخ دمشق ص 5 (طبعة مجمع دمشق- تراجم النساء). (¬3) المصدر السابق ص 9. (¬4) هو في "تاريخ دمشق" ص 9 - 10 من طريق أبي نعيم. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬5) في تاريخ دمشق: "كانت أسنّ من عائشة" ودون ذكر عدد السنوات بينهما.

وروى ابن سعد عن عكرمة قال (¬1): ] وكان الزُّبير - رضي الله عنه - شديدًا على أسماء، فشكتْه إلى أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - فقال لها: يا بُنَيَّة، اصبِري، فإنَّ المرأةَ إذا كان لها زوج صالح، ثم ماتَ عنها فلم تتزوَّج بعده؛ جمع [اللهُ] بينهما في الجنَّة. [وقال ابن سعد: ] وكانت أسماء تُصْدَع، فتضع يدَها (¬2) على رأسها وتقول: بذنبي، وما يعفو (¬3) الله أكثر. وكانت إذا مرضت أعتقت كلَّ مملوكٍ لها (¬4). وقال عبد الله بن الزُّبير: قدمَتْ قُتَيلَةُ (¬5) بنتُ عبد العُزَّى على ابنتها أسماء -وكان أبو بكر قد طلَّق قُتَيلَة في الجاهلية- بهدايا، زبيب وسمن وأَقِط (¬6)، فأبت أسماء أن تُدخلها بيتَها أو تقبل هديَّتَها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته، فقال: "لِتُدْخِلْها بيتَها، وتَقْبَلْ هديَّتَها". وأنزل الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9]. [وقد أخرجا في "الصحيحين" بمعناه عن أسماء قالت: قَدِمَت أمّي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن أمّي قَدِمَتْ وهي راغبة، أَفَأَصِلُها؟ قال: "نعم، صِلِي أمَّك". متفق عليه. وفي قولها: راغبة قولان: أحدهما: أن معناه: راغبة عن ديني، والثاني: في صِلَتي] (¬7). ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 8/ 239. ومن قوله: وقال أبو نعيم ... إلى هذا الموضع من (م). (¬2) المثبت من (م) وفي غيرها: يديها. والخبر في "طبقات" ابن سعد 10/ 239. (¬3) في (أ): يغفره. وفي "طبقات" ابن سعد: يغفر. (¬4) المصدر السابق. (¬5) في (م): وقال ابن سعد بإسناده عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قدمت قُتيلة ... إلخ. والخبر في "الطبقات" 10/ 240. (¬6) في (م) و"الطبقات": وقرظ. (¬7) الكلام بين حاصرتين من (م)، وقد وقع فيها آخِر فقرة "ذكر وفاتها" (الآتية) بسياق منقطع عن الكلام قبله. ومكانه هنا إن شاء الله. والحديث في "صحيح" البخاري (2620)، و"صحيح" مسلم (1003).

[وحكى ابنُ سعد عن الرُّكَين بن الربيع قال: دخلتُ على أسماء وهي عجوز كبيرة عمياء، فوجدتُها تصلّي، وعندها إنسان يلقِّنُها: قومي، اقعدي، افعلي. وقال ابن سعد: سئلتَ أسماء: هل كان أحدٌ من السلف يُغشى عليه من الخوف؟ قالت: لا، ولكنهم كانوا يبكون] (¬1). ولما فرض عمر - رضي الله عنه - الأَعْطِية؛ فرض لأسماء ألف درهم (¬2). ذكر وفاتها: ماتت بعد قتل ابنِها عبدِ الله بليال، وبيانت تقول: اللَّهمَّ لا تُمِتْني حتَّى تَقَرَّ عيني بجثَّةِ عبدِ الله. فلما أنزل من خشبته غسَّلَتْه وكفنَتْه، وماتت بعده بأيَّام يسيرة (¬3). وكان لها من الولد: عبدُ الله، والمنذرُ، وعُروة، وعاصم، والمهاجر، وخديجة الكبرى، وأمُّ حسن، وعائشة بنو الزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه - (¬4). أسندت أسماء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث؛ أُخرج لها في "الصحيحين" اثنانِ وعشرون حديثًا (¬5). [منها: قال أحمد بإسناده عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن لي ابنةً عروسًا، وإنها أصابَتْها حَصْبةٌ، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م): وهو في "طبقات ابن سعد" 10/ 240 - 241. (¬2) المصدر السابق. (¬3) جاءت فقرة "ذكر وفاتها" في (م) بسياق آخر أطول منه، ولفظه: واختلفوا فيها؛ قال ابن سعد: ماتت أسماء بنت أبي بكر بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير بليال، وكان قتلُه يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وقيل: عاشت بعده شهورًا وماتت بالمدينة، وهو وهم. وقال ابن عساكر: أدركت أسماء ابنها عبد الله في أكفانه، فصلَّت عليه، في أتت عليها إلا جمعة حتى ماتت. وقال الموفق: كانت تقول اللهم لا تمتني حتى تقرَّ عيني بجثَّة عبد الله، فلما أنزل من خشبته غسَّلته وكفَّنته ودفَنتْه، وماتت بعد ذلك بأيام يسيرة اختلف في عددها. وينظر "تاريخ دمشق" ص 30 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق)، و"التبيين في أنساب القرشيين" ص 316. (¬4) طبقات ابن سعد 10/ 237. وهذه الفقرة ليست في (م). (¬5) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 404، وفيه أيضًا: المتفق عليه منها ثلاثة عشر، وللبخاري خمسة، ولمسلم أربعة.

إياس بن قتادة

فتمزَّقَ شعرها أفأصلُه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله الواصلة والمستوصلة" أخرجاه في "الصحيحين"] (¬1). وروى عنها ابناها عبدُ الله، وعُروة، وعبد الله بنُ عروة، ومحمد بنُ المنكدر، وفاطمةُ بنتُ المنذر، وصفيَّة بنت شيبة في آخرين (¬2). إياس بن قتادة ابن أوفى، من بني مناة بن تميم، من الطبقة الأولى من التابعين [من أهل البصرة]، وأُمُّه الفارعة بنت حِمْيَريّ، ولأبيه [قتادة] صحبة (¬3). وكان إياس شريفًا؛ [حكى عنه ابن سعد قال: ] (¬4) اعتمَّ [إياس] يومًا وهو يريد بِشْرَ بن مروان، فنظر في المرآة، فإذا شيبةٌ في ذَقْنِهِ، فقال: يا جارية، انظري مَنْ بالباب من قومي، فأُدخِلُوا عليه، ققال: يا قوم، إني كُنْتُ قد وهبتُ لكم شبابي، فَهَبُوا لي مَشِيبِي، ألا أُراني حُمَيِّرَ الحاجات (¬5)، وهذا الموتُ يقرُب منِّي؟ ! ثم نَقَضَ عِمامتَه، واعتزلَ الناس يعبُد ربَّه حتَّى مات. وروى ابن سعد [أيضًا] عنه أنَّه خرج ليركبَ أتانًا له، فلما وضعَ رِجْله في الرِّكاب؛ نظر إلى طاقةٍ بيضاء في لحيته، فقال: مرحبًا طالما انتظرتُك. ثم انصرف، واضطجع على شِقِّه الأيمن، فمات في خلافة عبد الملك [بن مروان] (¬6). سَلْم بن زياد ابن أبيه [الذي يقال له: ابن أبي سفيان بن حرب، من أهل البصرة]. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). والحديث في "مسند" أحمد (26918)، و"صحيح" البخاري (5941)، و"صحيح" مسلم (2122). (¬2) تاريخ دمشق ص 5 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق)، وتهذيب الكمال 35/ 123. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 127 - 128 و 141. والكلام الواقع بين حاصرتين من (م). (¬4) في "الطبقات" 9/ 141. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬5) هو مَثَل يُضربُ لمن يُستخدم في جليل الأمر ودقيقه. وحُمَيِّر تصغير حمار. ينظر "جمهرة الأمثال" 1/ 381، و"مجمع الأمثال" 2/ 404. (¬6) طبقات ابن سعد 9/ 141. وما وقع بين حاصرتين من (م).

عبد الله بن الزبير [بن العوام]- رضي الله عنه -

والي خُراسان (¬1)، كان جوادًا ممدَّحًا، يُعطي ألفَ ألفِ درهم. [وذكره أبو القاسم ابن عساكر وقال: كانت له دار بدمشق بناحية سوق اللؤلؤ وسوق الطير] (¬2). مات بالبصرة سنة ثلاث وسبعين. وقيل: سنة اثنتين وسبعين، ودُفن إلى جانب بِشْر بن مروان (¬3). ومن شعره: فإنْ تكنِ الدُّنيا تزولُ بأهلها ... فقد نلتُ من ضرَّائها ورخائها ولا جَزَعًا منِّي عليها ولا أسىً ... إذا هي يومًا آذنَتْ بفَنائها وفيه يقول (¬4): عتبتُ على سَلْمٍ فلَّما فقدتُهُ ... وصاحَبْتُ أقوامًا بَكَيتُ على سَلْم رجعتُ إليه بعد تجريب غيرِهِ ... فكان كبُرْءٍ بعدَ طُولٍ من السُّقْمِ (¬5) عبد الله بن الزُّبير [بن العوَّام]- رضي الله عنه - وأمُّه أسماءُ بنتُ أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنهما -. وكنيتُه أبو بكر، وقيل: أبو خُبَيب، من الطبقة الخامسة ممَّن ماتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهم حُدَثاءُ الأسنان (¬6). وهو أوَّلُ مولود وُلدَ من المهاجرين بالمدينة، [قال الإمام أحمد رحمه الله: حملت به أمُّه أسماء بمكة، ووضَعَتْه بقُباء بالمدينة] وأتَتْ به أمُّه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضعَه في حِجْره، ودعا بتمرة، فمَضَغَها، وتَفَلَ في فيه، فكان أوَّلَ ما دخل جوفَه ريقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7). ¬

_ (¬1) في (م): قدم على يزيد، فولَّاه خراسان، وقد ذكرناه. (¬2) تاريخ دمشق 7/ 525 (مصورة دار البشير). وما وقع من كلام بين حاصرتين في هذه الترجمة من (م). (¬3) كذا في (أ) و (ب) و (خ) و (د). وجاء في (م) و"تاريخ دمشق" أن بشر بن مروان دُفن إلى جنب قبر سَلْم بن زياد. ثم قال ابنُ عساكر: وهذا يدلّ على أن سلمًا مات قبل بشر بن مروان، وقد ذكرتُ في ترجمة بشر أنَّه مات سنة ثلاث وسبعين. (¬4) القائل ابنُ عَرَادة السَّعْدي كما في المصدر السابق. (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 8/ 521 - 522 (مصورة دار البشير) ولم ترد الأشعار في (م). (¬6) طبقات ابن سعد 6/ 473. (¬7) ينظر حديث أسماء في "المسند" (36938)، و"صحيح" البخاري (3909)، و"صحيح"مسلم (2146). وما سلف بين حاصرتين من (م).

[وأخرج البخاري ومسلم بمعناه عن عائشة قالت: ] وسمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله (¬1). وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، فتبسَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه مقبلًا، ثم بايعه (¬2). [وقد ذكرناه في الهجرة. وحكى ابنُ سعد أنَّ ابن الزُّبير وُلد بمكة، وطافوا به حول الكعبة] (¬3). وقال لعائشة: أنتِ أمُّ عبدِ الله. يَعْنِيه (¬4). وقال نوف البِكالي: إنِّي لَأَجِدُ في كتاب الله المنزَّل أنَّ عبد الله بن الزبير سادس الخلفاء (¬5). وكان أسنَّ أولاد الزبير، وتوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ ثمان سنين وأربعة أشهر. [قال الزبير بن بكَّار: ] ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أسماء وهي تُرضعه، فقال لها: "أرضعيه ولو بماء عينيك، فإنه كبشٌ بين ذئاب، ليمنعنَّ البيتَ، أو ليُقتلَنَّ دونَه" (¬6). [قال ابن عبد البَرِّ: ] وكان عبدُ الله أطلسَ لا لحيةَ له، ولا شعر في وجهه (¬7). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3910)، وصحيح مسلم (2146، و 2148). وليس عند البخاري قوله: وسماه عبد الله، والحديث في "صحيح" ابن حبان (7117) وفيه: هو عبدُ الله، وأنتِ (أي: عائشة) أمُّ عبد الله. وينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 474 - 475، و"تاريخ دمشق" 388 - 389 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عبد الله بن الزبير). والكلام الواقع بين حاصرتين من (م). (¬2) صحيح مسلم (2146). (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 474، وفيه أن أبا بكر طاف به في خرقة. ثم نقل ابن سعد عن الواقدي قوله: "هذا غلط بيِّن، عبد الله بن الزبير أول مولود ولد بالمدينة بعد الهجرة، لا اختلاف بين المسلمين في ذلك". اهـ. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) صحيح ابن حبان (7117) وسلف ذكره قبل تعليقين، ولم ترد هذه الفقرة في (م). (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 477، وتاريخ دمشق ص 404، وفيهما: فارس الخلفاء. ونُسب الكلامُ في (م) لابن سعد. (¬6) تاريخ دمشق ص 398. وما بين حاصرتين من (م). وقد روى الخبر محمد بن كعب القَرَظي مرسلًا، والمرسل من أقسام الضعيف. (¬7) الاستيعاب ص 4 ... والكلام بين حاصرتين من (م).

وقال عبد الله بن الزُّبير: احتجَم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لي: "يا عبد الله، اذْهَبْ بهذا الدم، فأرِقْه؛ بحيث لا يراك أحد". فعمدتُ إلى ذلك الدم، فشربتُه، فلما رجعتُ [إليه قال لي: "يا عبد الله، ما صنعتَ بالدم؟ " قلت: جعلتُه في أخفى مكان]. فقال: "لعلّك شربتَه! " قلت: نعم. قال: "لن تمسَّك النار إلا تحلَّة القَسَم". فكانوا يرون القوة التي كانت به من ذلك الدم (¬1). ذكر طرف من أخباره: [وقد ذكره علماء السير، فقال خليفة: ] (¬2) شهد عبد الله مع أبيه وقعة اليرموك، وخُطبة عمر - رضي الله عنه - بالجابية، وفَتْحَ إفريقيَّة في زمن عثمان رضوان الله عليه. وكان مع أبيه يوم الجمل أميرًا، وقدم دمشق لغزو القسطنطينيَّة في أيام معاوية، وبويع بالخلافة في أيام يزيد، وغلب على الحجاز واليمن والعراقين ومصر. وجدَّد بناء الكعبة، وكان عابدًا مجتهدًا [زاهدًا]، شهمًا فصيحًا، صوَّامًا قوَّامًا، شديد البأس، ذا أَنَفة، له نفسٌ شريفة، وهمَّةٌ عالية. [وقال ابن سعد: ] (¬3) وكان مع عثمان رضوان الله عليه يوم الدار، وقاتلَ عنه، وجُرح جراحاتٍ كثيرة. وحضر دفن عثمان - رضي الله عنه -. [وذكره الشيخ الموفَّق رحمه الله، فقال: كان شهمًا أَيِّدًا (¬4)، فصيحًا ذا أَنَفَة، صوَّامًا قوَّامًا، شديد البأس. قال: وذكر الزُّبير بن بكَّار أن عبد الله بن الزُّبير وقيس بن سعد وشُريح بن الحارث (كانوا) طُلْسًا ليس في وجوههم شعر]. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق ص 400 - 451، ونُسب الكلام في (م) إليه، وما وقع في الخبر بين حاصرتين منها. وينظر "حلية الأولياء" 1/ 330، و"المستدرك" 3/ 554. (¬2) ما بين حاصرتين من (م)، ولم أقف على قول خليفة، وبعضه في "تاريخ دمشق" ص 374 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة ابن الزبير). (¬3) في "الطبقات" 6/ 475. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬4) من: آدَ يَئيدُ أَيدًا، أي: قَوي واشتدَّ، فهو أَيِّدٌ.

ولم يكن الناسُ يعجزون عن عبادةٍ إلا تكلَّفها؛ جاء سيلٌ، فكثُر الماء حول البيت، فطاف سِباحةً، وكان يُواصل سبعةَ أيَّام بلياليها، ويأخذ يدَ الشابِّ يكاد يَحْطِمُها (¬1). وقال [عبد الله بن أحمد بن حنبل (عن أبيه) بإسناده عن] عَمرو بن دينار [قال: ] رأيتُ ابنَ الزُّبير يصلِّي في الحِجْر، فجاء حَجَرٌ قُدَّامَهُ، فَذَهَبَ ببعض ثوبِه، فما انفَتَلَ (¬2). وقال مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عُودٌ من الخشوع (¬3). [وفي رواية: كان يسجدُ فتقع العصافير على ظهره، لا تحسبه إلا جِذمَ حائط] (¬4). وقالت أم عمر بن قيس: دخلتُ على عبد الله بن الزُّبير وهو يصلي، فسقطت حيَّةٌ من السقف على ابنه هاشم، فتطوَّقت على بطنه وهو نائم، فصاح أهلُ البيت: الحيَّة الحيَّة. ولم يزالوا بها حتَّى قتلوها وعبدُ الله بنُ الزُّبير يصلِّي، فما التفت ولا عَجِلَ، ثم فرغ بعدما قُتلت، فقال: ما لَكم؟ فقالت أمُّ هاشم؛ يرحمك الله! أرأيتَ إنْ كنَّا هُنَّا عليك، أيهونُ عليك ابنُك (¬5)؟ ! فقال: ويحك! ما كانت التفاتةٌ لو التفتُّها مبقيةً من صلاتي (¬6)؟ . وقال محمد بن حميد: كان عبد الله بن الزبير يحيي الدهرَ أجمع ليلةً قائمًا حتَّى يصبح، [وليلة قاعدًا] وليلة يُحييها راكعًا إلى الصباح، وليلةً يُحييها ساجدًا إلى الصباح (¬7). ¬

_ (¬1) التبيين في أنساب القرشيين ص 257 - 258، وما سلف بين حاصرتين من (م). ولفظه (كانوا) بين قوسين من "التبيين". وينظر "تاريخ دمشق" ص 417. (¬2) الزهد لأحمد ص 249، وصفة الصفوة 1/ 765. وبنحوه في "تاريخ دمشق" ص 410. (¬3) حلية الأولياء 1/ 335، و"تاريخ دمشق" ص 408، وصفة الصفوة ص 765 ونسب في (م) لأحمد، ولم أقف عليه عنده. (¬4) تاريخ دمشق ص 408، وصفة الصفوة 1/ 765، والكلام بين حاصرتين من (م). (¬5) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): أرأيت أنا كنَّا عليك أيهون على ابنك. وفي (م): أرأيت لو أنَّا تركناها أيهون عليك ابنك. والمثبت من "تاريخ دمشق" ص 413، و"صفة الصفوة" 1/ 766. (¬6) المصدران السابقان. ونسب الخبر في (م) للزُّبير بن بكَّار. (¬7) صفة الصفوة 1/ 766، وبنحوه في "تاريخ دمشق" ص 409. ونسب الخبر في (م) لابن أبي الدنيا، وما بين حاصرتين منها.

وقال مسلم بن يَنَّاق المكّي: ركعَ ابنُ الزبير يومًا ركعةً، فقرأتُ البقرة وآلَ عمران والنساءَ والمائدة وما رفع رأسه (¬1). وقال الزُّبير بن بكَّار: كان عبدُ الله يواصلُ الصيام سبعًا، يصوم يوم الجمعة، فلا يفطر إلا ليلة الجمعة الأخرى، ويصومُ بالمدينة، فلا يُفطر إلا بمكة، ويصوم بمكة، فلا يُفطر إلا بالمدينة (¬2). وخطب ابنُ الزُّبير بالموسم فقال بعد حمد الله: أمَّا بعد، فإنَّكم جئتُم من آفاق شتَّى وفودًا إلى الله تعالى، وحق على الله أن يُكرم وَفْدَه، فمن جاء يطلبُ ما عند الله، فإنَّ طالبَ الله لا يخيب، فصدِّقُوا قولَكم بالفعل، فإنَّ مِلاك القول الفعل، والنيَّةُ بالقلوب، فاللهَ اللهَ في أيَّامكم، فإنَّها أيامٌ تُغفر فيها الذنوب (¬3). [وقال أبو نعيم الحافظ: كان عبد الله يسمَّى حمامةَ المسجد (¬4). وقال ابنُ سعد بإسناده عن شُرَحْبيل، عن أبي عون، عن أبيه، عن ابن الزبير أنه] قال على منبر مكة: [واللهِ] لقد استخلفني أميرُ المؤمنين عثمان على الدار، فكنتُ أصلِّي بهم، وأقاتلُ عنه، وأُباشرُ القتال بنفسي، فجُرحتُ بضعةَ عشرَ جِراحةً، هاني لأضَعُ اليوم يدي على بعض جراحاتي التي جُرحتُ مع عثمان، فأرجُو أن تكون خيرَ أعمالي (¬5). [وقال الواقدي: ] وكان أمرَه عثمان - رضي الله عنه - أن يُصَلِّيَ بهم في الدار مدَّة أيَّام حصاره. وقال الأعمش: رأيتُ على رأس ابنِ الزبير من المسك ما لو كان لي كان رأسَ مالي (¬6). ¬

_ (¬1) نُسب الخبر في (م) للزُّبير بن بكَّار، وهو في "تاريخ دمشق" ص 409 من طريقه. وفي "صفة الصفوة" 1/ 767. (¬2) تاريخ دمشق ص 414، وصفة الصفوة 1/ 767. (¬3) صفة الصفوة 1/ 768. ولم يرد هذا الخبر في (م). (¬4) حلية الأولياء 1/ 335. (¬5) طبقات ابن سعد 6/ 475، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" ص 426. (¬6) صفة الصفوة 1/ 769. ووقع هذا القول في (م) بعد قول أبي نعيم: كان حمامة المسجد.

وقال عمَّار بن أبي عمَّار: كانَ ابنُ الزبير يصومُ عَشَرَة أيَّام لا يُفطر، وإذا دخل رمضان أكل أكلةً في نصف الشهر، وكان يُؤْتَى بثَرِيدة في صَحْفَة عليها عَرْقان، ويؤتى الناسُ بالجِفان، فتُوضعُ بين أيديهم، فيقول: أيُّها الناس [هلمُّوا] ويشيرُ إلى ما بين يديه [ويقول: ] هذا من خالص مالي، وهذه الجِفانُ من بيت مالِكم (¬1). وقال ابنُ عبد البر (¬2): كان عبدُ الله بنُ الزبير كثيرَ الصلاة والصوم، شديدَ البأس، كريمَ الطَّرَفَين من الآباء والأجداد والجدَّات والأمَّهات والخالات، إلا أَنه كانت فيه خِلالٌ مباينةٌ لما حاول من الخلافة [لأنه لا يصلح لها؛ من ضيق العَطَن، والبخل، وسوء الخلق، والحسد، وكثرة الخلاف]. وكان عبدُ الملك يقول: إنَّ ابنَ الزبير كثيرُ الصلاة والصوم والعبادة، ولكنه لشحِّه لا يصلح أن يكون سائسًا. يعني يسوس الناس. [وقال الهيثم: جاءه أعرابي فقال: افرض لي. فقال: لا، حتَّى تُقاتل. فقال: لا والله، لا أجعل قتالي نقدًا ودراهمك نسيئة. قال: وقاتل بين يديه رجل قتالًا شديدًا كسر ثلاثة رماح، ثم جاءه فقال: أعطني رمحًا. فقال: ما تبقَّى بيت المال على هذا إلا قليل فمضى ولم يعطه شيئًا. وقال الشعبي: ولَّى ابنُ الزُّبير الحارث بن الحُصين الجعفي وادي القرى وقال: احتفظ بالتمر. فأكله الناس. فلما قدم عليه قال: أين التمر؟ قال: أكله المسلمون. فقام إليه، فجعل يضربه بالدِّرَّة ويقول: أكلت تمري، وعصيت أمري! ] (¬3). وقال ابنُ أبي مُلَيْكَة: كان بين ابن عبَّاس وبين ابن الزَّبير شيء، فغدوت على ابن عبَّاس فقلتُ: تريدُ أن تُقاتلَ ابنَ الزُّبير، فتُحِلَّ ما حرَّم اللهُ (¬4)؟ ! فقال: معاذَ الله، إن الله كتبَ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 485، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" ص 416، ونُسب الخبر في (م) لابن سعد. قولُه: عَرْقان، مثنّى عَرْق، وهو عظم أُخذ عنه معظم اللحم، وبقي عليه لحوم رقيقة طيِّبة. (¬2) الكلام لعلي بن زيد بن جُدعان، نقله عنه ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 405. (¬3) من قوله: وقال الهيثم ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (م) ولم يرد فيها الكلام الآتي بعده حتى فقرة: ذكر مقتله .. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 13 و 228. (¬4) في "صحيح" البخاري (4665)، و"أنساب الأشراف" 3/ 45: فتحلَّ حَرَمَ الله.

ابنَ الزُّبير وبني أمية مُحِلِّين، وإني لا أُحِلُّه أبدًا. قال الناس: بايع ابنَ الزُّبير. فقلت: وأين بهذا الأمر عنه؟ أمَّا أبوه فَحَواريُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا جَدُّه فصاحبُ الغار، وأمَّا أمُّه فذاتُ النِّطاقين، وأمَّا خالتُه فأمُّ المؤمنين، وأما جدَّتُه فعمَّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يريد صفية - رضي الله عنها -. ثم عفيفٌ في الإسلام، قارئٌ للقرآن، إنْ وَصَلُوني وَصَلُوني من قريب، وإن رَبُّوني ربَّني أكْفَاءٌ كرام، فآثرَ التُّوَيْتات والأُسَامَات والحُمَيدات (¬1). إنَّ ابنَ أبي العاص برزَ يمشي القُدَمِيَّة (¬2)، وإنَّه لَوَّى بذَنَبِه. يعني ابنَ الزُّبير (¬3). ودخل ابنُ الزُّبير على معاوية، فأجلسه معه على سريره، فنظر إليه مروان متعجِّبًا، فأنشد معاوية: نفسُ عصامٍ سوَّدَتْ عصاما (¬4) ونازعَ ابنَ الزُّبير مروانُ عند معاوية في شيء، فمال معاويةُ مع مروان، فقال له ابنُ الزُّبير: يا معاوية، إنه لا طاعةَ لك علينا ما لم تُطع الله، فاتَّقِ الله، ولا تُطْرِقْ إطراق الأُفْعُوَان في أصول السَّخْبر (¬5). وأوصى إلى عبد الله بن الزبير: أبوه الزبير - رضي الله عنه -، وحَكِيمُ بنُ حِزام، وعبدُ الله بنُ عامر بن كَرِيز، والأسودُ بنُ [أبي] البَخْتَرِيّ، وشيبة بنُ عثمان، والأسود بنُ عَوْف، وعبد الله بنُ مسعود، وعائشة - رضي الله عنها - (¬6). ¬

_ (¬1) بعدها في "صحيح" البخاري: يريد أبطنًا من بني أسد؛ بني تويت وبني أسامة وبني أسد .. اهـ. وقوله: رَبُّوني، أي: يتعهَّدُوني ويَلُوني، من: رَبَّ يَرُبُّ. (¬2) بعدها في "صحيح" البخاري: يعني عبد الملك بن مروان. والقُدَميَّة؛ بضم القاف وفتح الدال، وقد تضمّ أو تسكن، يعني التبختر. قال ابن حجر في "فتح الباري " 8/ 329: هو مَثَل، يريد أنَّه برز يطلب معالي الأمور. (¬3) أي: لم يتمَّ له ما أراد. وذكر ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 329 أن في رواية أبي مخنف: وإن ابن الزبير يمشي القهقرى. قال: وهو المناسب لقوله في عبد الملك: يمشي القُدَميَّة. (¬4) تاريخ دمشق ص 434 - 435. والرَّجَز في "ديوان" النابغة ص 118، ويُضربُ مثلًا في نباهة الرجل من غير قديم. ينظر "مجمع الأمثال" 2/ 331. (¬5) تاريخ دمشق ص 441. قوله: الأُفْعُوان، هو ذكر الأفاعي. والسَّخْبر: شجر تألفه الحيَّات فتسكن في أصوله. الواحدة سخبرة، يريد: لا تتغافل عما نحن فيه. قاله ابن الأثير في "النهاية" 2/ 349. وتحرفت لفظة "السخبر" في النسخ (غير م فليس فيها الكلام) إلى: الشجرة. (¬6) المصدر السابق ص 407.

ذكر مقتله: قال هلال بن يِسَاف: لمَّا وُضع رأس المختار بين يدي ابنِ الزُّبير بمكة قال: ما حدَّثني كعبٌ بشيء أصبتُه في سلطاني إلا قد رأيتُه غير هذا، فإنَّه قال: يقتلُك رجل من ثَقِيف، وأُراني أنا الَّذي قتلتُه (¬1). [وقال الواقدي: ] (¬2) وكان الحجَّاج يضربُ الكعبة بالمجانيق حتَّى هدم ناحية منها. قال ابن ماهَك (¬3): رأيتُ المنجنيقُ يُرمى به نحو الكعبة، فرعدت السماء وبَرَقَت، وعلا صوت الرَّعد ولمعانُ البرق على الحجارة، فاشتمل عليها، فأعظمَ ذلك أهلُ الشام، وأمسكوا بأيديهم، فرفع الحجَّاج طرف قَبائه، فغرزَه في مِنْطَقَته، ورفعَ حجر المنجنيق بيده، فوضعه فيه، ثم قال: ارْمُوا. ورمى معهم، فجاءت صاعقة وصاعقة أخرى، فقتلَتْ من أصحابه ثلاثة عشر رجلًا (¬4)، فانكسر أهلُ الشام، فقال الحجاج: [يا أهل الشام] لا تُنكروا هذا، فإني ابنُ تِهامة، وهذه صواعقُ تِهامة، وهذا الفتحُ قد حضر، فأَبْشِرُوا [وإن الفتوح من علامتها الصواعق في جبال تهامة] إنَّ القوم يُصيبُهم مثلُ ما أصابكم. فلما كان من الغد؛ جاءت صواعقُ، فقتلت من أصحاب ابن الزبير عِدَّة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وهم على الخلاف [وأنتم تُصابون] وأنتم على الطاعة (¬5)؟ ! [وقال الهيثم: كان الحجَّاج يرمي بالمنجنيق ويقول لأهل الشام: ] لا يهولنَّكم حريقُ من احترقَ منكم، فإنَّ بني إسرائيل كانوا إذا قرَّبُوا قُربانًا فنزلت النارُ فأكلَتْه؛ علموا أنَّه قد تُقُبِّلَ منهم (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 485. (¬2) قوله: قال الواقدي، من (م). وجاء قبله فيها ما صورتُه: قد ذكرنا أن الحجاج حصره لهلال ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين. ولم يرد فيها الخبر السابق. (¬3) في (م) قال ابن سعد بإسناده عن يوسف بن ماهك قال ... إلخ والخبر في "تاريخ" الطبري 6/ 187 من طريق ابن سعد، وليس هو في "طبقاته". (¬4) في "تاريخ" الطبري 6/ 960: اثني عشر رجلًا. وكذا في "أنساب الأشراف" 6/ 228. والكلام فيه بنحوه. (¬5) تاريخ الطبري 6/ 187 - 188. وما سلف بين حاصرتين من (م). وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 228. (¬6) أنساب الأشراف 6/ 227، و"تاريخ دمشق" 4/ 211 (مصورة دار البشير- ترجمة الحجَّاج)، ومختصره 6/ 202 - 203 وما سلف بين حاصرتين من (م).

[وقال عطاء بن أبي رباح: كُنْتُ مع ابن الزبير في الكعبة] وكان الحجَّاج كلَّما رمى حجرًا ووقع في البيت يئنُّ ابنُ الزُّبير ويقول: أوَّه (¬1). [قال ابنُ إسحاق: ] وكان يرمي بالمنجنيق من على أبي قُبيس وابنُ الزُّبير قائم في الحِجْر يصلِّي، فتمرُّ به الحجارة وهو كأنه شجرة [ما] تنثني، ما يُصيبُه منها شيء (¬2)، ثم يخرجُ فيقاتل [وشعاره: يا منصور أمت، وكان قبل ذلك: لا حكم إلا الله]، ثم ضايقوه حتَّى أخذوا عليه الأبواب. [فحكى ابن سعد عن الواقدي قال: حدثني مصعب بنُ ثابت، عن نافع مولى بني أسد قال: رأيت الأبواب قد شُحنت بأهل الشام] فكان لأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصَّفا، ولأهل حمص الباب الَّذي يواجه الكعبة، ولأهل فلسطين باب بني جُمح، ولأهل قِنَّسْرِين باب بني سهم، والحجَّاج وطارق في ناحية الأبطح، والجيوش مُحدقة بالمسجد، وعلى كلِّ باب قائد، ومعه أهلُ بلدِه، وابنُ الزبير يحملُ على هؤلاء مرَّةً، وعلى هؤلاء مرة [كأنه أسد] حتَّى يُخرجَهم إلى الأبطح، ثم يصيح: يا ابنَ صفوان، ويلُ أمِّهِ فتحًا (¬3) لو كان له رجال. ويقول: لو كان قِرْني واحدًا كَفَيتُهُ فيقول ابنُ صفوان: إي والله وألف رجل (¬4). [وقيل: إن أهل الشام كانوا يقولون له ذلك]. ثم تفرَّق عنه أصحابُه ومَنْ معَه [وخرجوا إلى الحجاج بالأمان؛ حتَّى ابناه خُبيب وحمزة، وأخذا من الحجاج أمانًا. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 4/ 212، ومختصره 6/ 253. (¬2) طبعات ابن سعد 6/ 500 - 501. (¬3) حُذفت همزة "أمّه" تخفيفًا، وأُلقيت حركتُها على اللام، ونُصب ما بعده على التمييز. "النهاية" 5/ 236. وابن صفوان: هو عبد الله بن صفوان بن أمية بقي مع ابن الزبير حتَّى قُتل وهو متعلِّق بأستار الكعبة. (¬4) في (أ) و (ب) و (د) و (خ): فيقول ابن صفوان وأهل الشام أيضًا: إي والله وألف رجل. والمثبت من (م) والكلام بعده بين حاصرتين منها. والخبر في "طبقات" ابن سعد 6/ 506، و"تاريخ" الطبري 6/ 190 - 191، و"تاريخ دمشق" ص 483 - 484 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة ابن الزبير).

وحكى ابنُ سعد بإسناده عن المنذر بن جَهْم الأسلمي قال: رأيتُ ابنَ الزُّبير يوم قُتل وقد خَذَلَه الناسُ ممَّن كان معه خِذْلانًا شديدًا، وجعلُوا يخرجون إلى الحجَّاج، فخرج إليه نحوٌ من عشرة آلاف؛ منهم ابناه خُبيب وحمزة] (¬1). ذكر دخوله على أسماء: ولمَّا رأى خذلانَ الناسِ إيَّاه دخلَ على أمِّه فقال: يا أمُّاه، خَذَلني الناسُ حتَّى ولدي وأهلي، ولم يبقَ معي إلا اليسير ممَّن ليس عنده من الدَّفْع أكثرُ من ساعة، والقومُ يُعطونني ما أردتُ من الدنيا، فما رأيُكِ؟ فقالت: أنت واللهِ يا بنيَّ أعلمُ بنفسك، إن كنتَ تعلمُ أنَّك على الحق وإليه تدعو، فامضِ له، فقد قُتل عليه أصحابُك، ولا تمكِّن رقبتَك يتلاعبُ بها غلمانُ بني أمية، وإن كنتَ إنما أردتَ الدنيا فبئس العبدُ أنتَ، أهلكتَ نفسك، وأهلكتَ من قُتل معك، وإنْ قلتَ: كُنْتُ على حقٍّ، فلمَّا قُتل أصحابي وَهَنْتُ حيث وَهَنُوا، فهذا ليس فعلَ الأحرار، ولا أهلَ الدين، وكم خلودُك في الدنيا؟ ! القتلُ أحسن. فدنا ابنُ الزُّبير، وقبَّل رأسَها وقال: هذا واللهِ رأيي، والذي قمتُ به داعيًا إلى يومي هذا ما رَكَنْتُ إلى الدنيا، ولا أحببتُ الحياةَ فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضبُ لله أن تُستحلَّ محارمُه، ولكنني أحببتُ أنْ أعلمَ رأْيَكِ، فزدتيني بصيرةً مع بصيرتي، فانظري يا أمَّاه، فإني مقتولٌ من يومي هذا، فلا يشتدَّ حُزْنُك، وسَلِّمِي لأمر الله، فإنَّ ابنكِ لم يتعمَّد إتيان منكر ولا فاحشة، ولم يَجُرْ في حكم، ولم يغدُرْ في أمان، ولم يتعمَّد ظُلم مسلم ولا معاهَد، وما بلغني ظلم عن عمَّالي إلا وأنكرتُه، ولم يكن عندي شيء آثرَ من رضي ربِّي، اللهمَّ إنّي لا أقولُ هذا تزكيةً لنفسي، ولكن تعزيةً لأمي لتسلُوَ عنِّي. ¬

_ (¬1) من قوله: وخرجوا إلى الحجاج بالأمان ... إلى هذا الموضع وهو ما بين حاصرتين من (م) ووقع بدلًا منه في النسخ الأخرى ما صورتُه: "وخذلوه خذلانًا شديدًا، وخرج إلى الحجاج بالأمان نحوٌ من عشرة آلاف، منهم أبناه خبيب وجعفر، وحمزة ابنه أيضًا". ولم أقف على من ذكر جعفرًا من أولاد عبد الله بن الزبير وذِكرهُ في هذه النسخ خطأ غالبًا من النُّسَّاخ. والخبر في "طبقات" ابن سعد 6/ 508، وأخرجه من طريقه الطبري 6/ 188.

فقالت أمُّه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إنْ تَقَدَّمْتَني أو تقدَّمتُك، ومن قُتل على باطل؛ فقد قُتلتَ على حقّ. ثم قالت: اللهمَّ ارْحَمْ له طُول القيام في الليالي الطِّوال، وذاك النَّحيبَ والبكاء، والظمأ في الهواجر بالمدينة ومكة، وبِرَّه بأبيه وبي، اللهمَّ إني قد أسلمتُه لأَمرك فيه، ورضيتُ بما قضَيتَ، فأَثِبْني في عبد الله ثوابَ الصابرين الشاكرين (¬1). وقال الواقدي: دخل على أمِّه وعليه الدِّرْعُ والمِغْفَر، فسلَّم ووقفَ، ثم تناولَ يديها وقبَّلَها وقال: جئتُ مودِّعًا، إني لأرى هذا آخرَ أيَّامي من الدنيا، فإنْ قُتلتُ فإنما أنا لحم لا يضرُّني ما صُنع به. فقالت: صدقتَ، أتمم على بصيرتك (¬2)، ولا تمكِّن ابنَ أبي عقيل منك (¬3)، ادْنُ منِّي أُوَدِّعْك. فدنا منها فقبَّلها وعانَقَها، فلما مسَّت الدِّرْعَ قالت: ما هذا صُنعُ مَنْ يُريد ما تُريد. قال: ما لبستُه إلا لأشُدَّ منك. قالت: فإنه لا يشُدُّ مني. فنزعها [ثم أدرجَ كُمَّه، وشَدَّ أسفلَ قميصِه وجُبَّة خَزٍّ تحت القميص، وأدخل أسفلَها في المِنْطَقَة] (¬4). وخرجَ إليهم. وقال عروة (¬5): لما كانت الغداة التي قُتل فيها؛ دخَلَ على أمِّه أسماء وهي يومئذٍ بنتُ مئةِ سنة لم يسقط لها سنٌّ، فقالت: يا عبد الله، ما فعلتَ في حربك؟ فقال: إنَّ في الموت لراحةً. فقالت: ما أشتهي أن أموتَ حتَّى آتيَ على أحد طرفيك، فإما أن تملك فتقرَّ عيني، وإمَّا أن تُقتلَ فأحتسبَك. فودَّعَها وخرج وهو يقول: ولستُ بمبتاعِ الحياةِ بِسُبَّةٍ ... ولا مُرْتَقٍ من خشيةِ الموتِ سُلَّما ¬

_ (¬1) الخبر بتمامه في "تاريخ" الطبري 6/ 188 - 189، وقد أخرجه من طريق ابن سعد، ونسب في (م) إليه، وهو في "طبقاته" 6/ 502 - 553 دون قوله منه: وإن قلتَ كُنْتُ على حق ... إلى قوله: القتل أحسن. (¬2) كذا في "تاريخ" الطبري 6/ 189. وفي "طبقات" ابن سعد 6/ 502: امض على بصيرتك. (¬3) يعني الحجَّاج بن يوسف المُبِير، قبَّحه الله. (¬4) استدركتُ ما بين حاصرتين من "طبقات" ابن سعد 6/ 552، و"تاريخ" الطبري 6/ 189؛ لأن ثمة زيادةً في (أ) عن النسخ الأخرى (غير م، فليس فيها الكلام) غير مجوَّدة وصورتها: وأدرج كمَّيه وشد أسفل قميصه وأدخل بين جبته في المنطقة. (¬5) هو عروة بن الزُّبير، والخبر في "تاريخ دمشق" ص 476 مطوّل. وينظر "مروج الذهب" 5/ 261 و"الاستيعاب" ص 401 - 402. ولم يرد هذا الخبر في (م).

قال مصعب بن ثابت: فما مكَثَتْ بعدَه إلا عشرًا [وقيل: خمسة أيام] (¬1). [قال ابن إسحاق: ] ولما تفرَّق عنه أصحابه قال الحجَّاج: يا أهل الشام قد بقيَ شيء يسير، فاحمِلُوا حملةَ رجلٍ واحد، فحملُوا عليه من جميع الأبواب، فحملَ عليهم وهو يقول: إني إذا أعرفُ يومي أَصْبِرْ ... إذْ بعضُهم يعرفُ ثم يُنكِرْ [فدفعهم دفعةً تراكموا منها] فوقعوا على وجوههم وانهزموا. [وقال الواقدي: ] وكانوا إذا حمل عليهم يقولون له: يا ابنَ ذاتِ النِّطاقين؛ يعيِّرونه بذلك، وهو يقول (¬2): وعَيَّرها الواشون أَني أُحِبُّها ... وتلك شَكَاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها فإنْ اعتذرْ منها فإنِّي مُكَذَّبٌ ... وإنْ تَعتَذِرْ يُرْدَدْ عليها اعتذارُها (¬3) أنا ابنُ ذات النِّطاقَين، هلمُّوا إليَّ. ونادى أهل الشام: يا ابنَ الزُّبير، يا ابن الحواريّ. فقال ابنُ الزبير لمولى له: أَجِبهم. فقال: تعيبُون من حواريِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قالوا: يا ابنَ ذاتِ النِّطاقَين. قال: أفتعيبونها بالنِّطاق الَّذي أولت به طعامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرابَه، أم بالنِّطاقِ الَّذي تَنْتَطِقُ به الحرَّةُ في بيتها؟ ! وقد قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكِ بهما نطاقانِ في الجنَّة". فقالوا: يا ابنَ الزبير يا مشؤوم. فسكت مولاه، فقال: أَجِبْهُم. فقال: كيف أُجيبُهم وقد صدقوا (¬4). [وأخرج البخاري عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان أهل الشام يُعَيِّرون ابنَ الزبير بذات النِّطاقين، فدخل على أسماء، فقالت: يُعَيِّرونك بالنِّطاقين، هل تدري ما النِّطاقان؟ ! وذكرت الحديث] (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 189. (¬2) في (م): وقال ابن سعد: كانوا إذا عيَّروه بذلك يحمل عليهم ثم يقول ... (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 504. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 231، و"مروج الذهب" 5/ 263. (¬4) أنساب الأشراف 6/ 14. ولم يرد هذا الخبر في (م). (¬5) ما بين حاصرتين من (م). والحديث في "صحيح" البخاري (5388).

وقال له الحارث الملقَّب بالقُباع: ألا آخُذُ لك أمانًا من الحجَّاج؟ فقال: ويحك يا ابن آكلة حمام مكة! إليَّ تقول هذا؟ ! واللهِ إنَّ موتًا في عزٍّ خيرٌ من حياة في ذُلٍّ (¬1). وجاءه عُمارة بنُ عَمرو بن حَزْم، فقال له: لو ركبتَ رَوَاحِلَك ونزلتَ برمل الجزل (¬2) فقال: ما فعلت القتلى بالحَرَم؟ والله لئن كنتُ أُوردُ بهم (¬3) ثم أصدرُ فِرارًا عنهم لبئس الشيخُ أنا في الإسلام (¬4). [قال ابن سعد: وقال المدائني: ] (¬5) وخاف الحجَّاج أن يهربَ ابنُ الزبير، فقال لأصحابه: ما عُذْرُنا عند خليفتنا إنْ هربَ الليلةَ. وبلغ ابنَ الزبير فضحك وقال: ظنَّ الملعون بي ظَنَّه بنفسه، إنه فرَّار هو وأبوه في المواطن. يشير إلى يوم الرَّبَذَة (¬6). [قال المدائني]: وقاتل مع ابن الزبير أربعون امرأة منهن مريم بنتُ طلحة [أخذَتْ سيفًا و] قاتلَتْ بين يديه (¬7). [قال ابن عساكر: ] وقالت له امرأته: ألا أخرجُ فأُقاتل معك؛ فأنشد: كُتِبَ القَتْلُ والقتالُ علينا ... [وعلى المُحْصَنات جَرُّ الذُّيولِ] (¬8) [قال هشام: ] ولما كان يومُ الثلاثاء قال لأصحابه: ما أُراني اليومَ إلا مقتولًا، رأيتُ في ليلتي هذه كأنَّ السماءَ فُرِجَتْ لي فدخلتُها، واللهِ إني قد مَلَكْتُ الحياة، ولقد جاوزتُ سِنَّ أبي، هذه اثنتانِ وسبعون سنة. اللهمَّ إنِّي أُحِبُّ لقاءك، فأَحِبَّ لقائي (¬9). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 6/ 244. (¬2) في تاريخ دمشق 482: الحرل. ولم أعرفه. (¬3) في "طبقات" ابن سعد 6/ 505، و"تاريخ دمشق": أوردتُهم. (¬4) الخبر -إضافة إلى المصدرين السابقين- مختصر في "أنساب الأشراف" 6/ 233. (¬5) ما بين حاصرتين من (م). والخبر بنحوه عند ابن سعد 6/ 505 عن نافع مولى بني أسد، وعنده البلاذُري 6/ 7 عن المدائني. (¬6) ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 325. وسلف خبر يوم الرَّبَذَة وهروب الحجَّاج مع أبيه يومَها سنة (65). (¬7) أنساب الأشراف 6/ 7. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬8) "تاريخ دمشق" ص 466. وما بين حاصرتين منه، والبيت بهذا اللفظ في "أنساب الأشراف" 6/ 96 مع بيتين آخرين، ونُسبت فيه لعبد الله بن الزبِير الأسدي (قال: ويُقال: لعمر بن أبي ربيعة) قالها عندما قَتل مصعب بنُ الزبير امرأةَ المختار. وهي في "العقد الفريد" 4/ 407، و"الأغاني" 9/ 228 من شعر عمر بن أبي ربيعة. وفيهما: وعلى الغانيات جرُّ الذُّيول. (¬9) ينظر "طبقات" ابن سعد 6/ 507.

ثم حملَ على القوم وهو يقول: فَرَّت سَلامانُ وفَرَّتِ النَّمِرْ ... وقد نُلاقَى معهُم ولا نفرّ فقال له أخوه عُروة: قد أُخِذَتْ دارُ فلان ودارُ فلان، فقال: [اصْبِرْ] عصامُ إنَّه شِرْ باقْ (¬1) ... قد سنَّ أصحابُك ضرب الأعناقْ وقامت الحربُ بنا على ساقْ (¬2) فقال عروة: فغاظني (¬3)، فقلتْ والله لئن يأخذوك ليُقطِّعُنَّك إرْبًا إرْبًا. فقال: ولست أبالي حين أُقتلُ مسلمًا (¬4) فبكى عروة (¬5). وكان يحملُ ويقول: الموتُ أكرمُ من إعطاء مَنْقَصةٍ ... من لا يَمُتْ عَبْطَةً فالغايةُ الهَرَمُ و[قال أبو اليقظان: كان] الحجاج يحرِّضُ أهلَ الشام ويقول: اللهَ اللهَ في طاعة خليفتكم. وابنُ الزبير يهزُمُهم. وقال شيخٌ من أهل حمص شهدَ وقعة ابن الزُّبير مع أهل الشام: رأيتُه يومَ الثلاثاء وقد دخلَ عليه من الباب الَّذي لأهل حمص خمسُ مئة رجل وهو يخرج في إثرنا ونحن منهزمون؛ ما أنسى منه أرجوزة: إني إذا أعرفُ يومي أَصْبِرْ ... إذْ بعضُهم يعرفُ ثم يُنكِرْ قال: وأنا أُعَوِّذُه بالله ممَّا أرى من شجاعته (¬6). ¬

_ (¬1) في "التبصرة" 2/ 15: إنه شِبراق. وهو الأشبه، ففي "القاموس": الشِّبْرَاقُ من كل شيء شِدَّتُه. ولم أقف في المعاجم على لفظة: شِرْباق، غير أنَّه أحال في "القاموس" شَرْبَقَ على شَبْرَقَ. والله أعلم. (¬2) بنحوه في "أنساب الأشراف" 6/ 229، و"تاريخ دمشق" ص 483. (¬3) في (أ): فغاضبني. (¬4) وعَجُزُه: على أيِّ جَنْب كان في الله مصرعي. (¬5) الخبر بتمامه في "صفة الصفوة" 1/ 770 - 771. وفيه قول عروة آخره: فعرفتُ أنَّه لا يمكّن من نفسه. (¬6) تاريخ الطبري 6/ 190 من طريق ابن سعد. دون قوله: وأنا أعوِّذُه .. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 7.

وقال ابن سعد: لمَّا كان يومُ الثلاثاء صبيحة سبعَ عشرة من جُمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذَ الحجَّاجُ على ابن الزبير بالأبواب، وباتَ ابنُ الزُّبير يصلِّي عامَّةَ الليل، ثم صلَّى بالناس الفجر، وسلَّم، ثم قام، فحمد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: يا آلَ الزُّبير، اكشفوا وُجوهكم -وعليها المغافر- فكشفوها، فَشجَّعَهُمْ، وقوَّى عزائمهم. وقال: ألا مَنْ كان سائلًا عني، فإنِّي في الرَّعيل الأوَّل، ثم أنشد: أَبَى لابنِ سلمى أنَّه غيرُ خالدٍ ... ملاقي المنايا أيَّ صَرْفٍ تيمَّما فلستُ بمبتاع الحياةِ بسُبَّةٍ ... ولا مُرْتقٍ من خشية الموتِ سُلَّما (¬1) [ثم قال: ] احملُوا على بركة الله تعالى. فحمل عليهم [حتى] بلغ بهم إلى الحَجُون، ورماه رجلٌ بآجُرَّة، فوقعت في رأسه ففلقَتْه، فأُرْعِشَ لها، ودُمي وجهُه، فلمَّا وجدَ سخونةَ الدم يسيلُ على وجهه ولحيته قال متمثِّلًا يشعر الخصَين بنِ الحُمام المُرِّي: ولسنا على الأعقاب تَدْمَى كُلُومُنا ... ولكن على أقدامنا تَقْطُرُ الدِّما ثم تَغَاوَوْا عليه (¬2)، فوقع، وصاحَتْ أَمَةٌ مجنونةٌ من سطح: وا أمير المؤمنيناه! ولم يعرفوه (¬3)، فتكاثَرُوا عليه فقتلوه. وقيل: جاءه سهم عائر، فوقع على ظهره، ولم يقدر على القيام، وأشارت إليه الأمة من السطح، فجاؤوا إليه، فقتلوه. [وقال الواقدي: ] وبلغ الحجَّاجَ الخبرُ، فكبَّر هو وأصحابُه، وسجدَ الحجَّاج، فقال ابنُ عُمر - رضي الله عنه -: واللهِ إنَّ قومًا كبَّرُوا عند ولادتك خيرٌ من قومٍ كبَّرُوا عند قتلك (¬4). وجاء [الحجاج] حتَّى وقف عليه ومعه طارق بن عَمرو، فقال طارق: [ما ولدت النساءُ أذكر من هذا. فقال الحجَّاج: تمدحُ مَنْ خالفَ أمير المؤمنين! فقال طارق: ] إنَّا ¬

_ (¬1) الشعر لحُصين بن الحُمام، كما ذكر ابن سعد بإثر البيتين في "الطبقات" 6/ 517. (¬2) أي: تجمَّعوا وتعاونوا عليه. ووقع في النسخ الخطية: تغادروا. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 518، و "تاريخ" الطبري 6/ 192. (¬3) قوله: ولم يعرفوه ليس في (م)، ولا في المصدرين السابقين. (¬4) طبقات ابن سعد 6/ 510، وأنساب الأشراف 6/ 235، و"تاريخ دمشق" ص 472.

محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير خندق ولا حصن [ولا مانع] وهو ينتصفُ منَّا، لا، بل يفضُلُ علينا كلَّما التقينا نحن وإيَّاه. وبلَغَ عبدَ الملك، فصوَّب كلام طارق (¬1). وبعث الحجَّاج برأس ابن الزبير ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عُمارة [بن عَمرو] ابن حزم إلى المدينة، فنُصبت بها، ثم ذُهب بها إلى عبد الملك (¬2). وحمل رأسَ ابنِ الزُّبير رجلٌ من مُراد (¬3)، أعطاه عبد الملك خمس مئة دينار. [وقال الواقدي: ] وخرجت أسماء ومعها أكفان قد أجْمَرَتْها (¬4)، فحال الحجَّاجُ بينها وبين جسده؛ لأنه كان قد صَلَبَه، فقالت: قاتلَ اللهُ عبد ثَقِيف المُبِير، يحولُ بيني وبين جسد ولدي، ويمنعُني أَنْ أُواريَه (¬5). وبلغَ الحجاجَ، فجاءَها فقال: كيف رأيتِ؟ نَصرَ اللهُ الحقَّ وأظهرَه. فقالت: ربَّما أُديلَ الباطلُ على الحقِّ، فقال: إن ابنَكِ أَلحدَ في الحرم، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] وقد أذاقه اللهُ ذلك. فقالت: كذبتَ، كان أوَّلَ مولود في الإسلام بالمدينة، وسُرَّ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وحنَّكه بيده، وكبَّر المسلمون لما وُلد حتَّى ارتجَّت المدينة فَرَحًا به، وكبَّرتَ أنتَ وأصحابُك لمَّا قُتل، فالذي فَرِحَ به يومَ وُلد خيرٌ منك ومن أصحابك. وكانَ -واللهِ- صَوَّامًا قَوَّامًا قارئًا لكتابِ الله تعالى، مُعَظِّمًا لحُرُمات الله، وأشهدُ لقد سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يخرج من ثَقِيف كذَّابان، الأخير منهما شرٌّ من الأوَّل، وهو مُبِير"، وهو أنت. فانكسرَ الحجَّاج وانصرف. وبلغ عبد الملك، فكتب إليه: ما لَكَ ولابنِة الشيخ الصالح (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 6/ 518، و"تاريخ" الطبري 6/ 192. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬2) تاريخ الطبري 6/ 192. (¬3) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): الأزد. والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "طبقات" ابن سعد 6/ 510. (¬4) أي: بَخَّرَتْها بالطِّيب. (¬5) أنساب الأشراف 6/ 234، و"تاريخ دمشق" ص 471. (¬6) تاريخ دمشق ص 472.

[وقال ابنُ سعد بإسناده عن محمد بن القاسم الثقفي: إن أسماء أتت الحجَّاج بعد ما ذهبَ بصرُها ومعها جواريها، فقالت: أين الحجَّاج؛ فقالوا: ليس هو هنا. قالت: فإذا جاء فقولوا له يأمر بهذء العظام أن تنزل، وأخبروه أني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "في ثقيف رجلان؛ كذَّاب ومُبير". وقال ابن سعد بإسناده عن أبي الصِّدِّيق النَّاجي: إن الحجَّاج دخل على أسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه -، فقال لها: إن ابنَكِ ألحدَ في الحَرَم -أو: في هذا البيت- وإن الله أذاقه من عذاب أليم. فقالت: كذبتَ، إنَّه كان بارًّا بوالديه، صوَّامًا قوَّامًا، ولكن -واللهِ- لقد أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سيخرجُ من ثَقِيف كذَّابان، الآخِرُ منهما شرٌّ من الأوَّل، وهو مُبير] (¬1). وقال أبو نَوْفَل (¬2): رأيتُ عبدَ الله بن الزبير على عَقَبَةِ المدينة (¬3)، فجعلَتْ قُريشٌ تمرُّ عليه والناسُ، حتَّى مر عليه عبدُ الله بنُ عُمر، فوقفَ عليه وقال: السلامُ عليك أبا خُبيب، أمَّا واللهِ لقد كُنْتُ أنهاك عن هذا. قالها ثلاثًا. أما واللهِ إنْ كنتَ فيما علمتُ صوَّامًا قوَّامًا، وَصُولًا للرَّحِم، أمَّا واللهِ لأمَّةٌ أنتَ شَرُّها لأُمَّةُ سُوء (¬4). ثم نَفَذَ عبدُ الله، وبلغ الحجَّاجَ موقفُ عبد الله وقولُه، فأرسلَ إليه، فأنزل عن جِذعه وأُلقيَ في قُبور اليهود. ثم أرسلَ إلى أمِّهِ أسماءَ بنتِ أبي بكر، فأبَتْ أنْ تأتيَه. فقال: لَتأييَنِّي، أو لأبْعَثَنَّ إليها من يسحبُها بقُرونها. فقالت: واللهِ لا آتيهِ حتَّى يبعثَ إليَّ مَنْ يسحبُني بقُروني. فقال: أرُوني سِبْتِيَّ (¬5). فأخذ نعليه، ثمَّ انطلق يَتَوَذَّفُ (¬6)، فدخل عليها، فقال: كيف رَأَيتني صنعتُ بعدوِّ الله؛ قالت: [رأيتُك] أفسدتَ عليه دنياه، ¬

_ (¬1) من قوله: قال ابن سعد بإسناده عن محمد بن القاسم ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (م). وهو في "طبقات" ابن سعد 10/ 241 - 242. (¬2) الخبر في "صحيح" مسلم (2545) ونُسب في (م) إليه. (¬3) هي عقبة بمكة. وسيرد ذكرها. وينظر "شرح صحيح مسلم" 16/ 98. (¬4) كذا في النسخ الخطية. وذكر النووي في "شرح صحيح مسلم" 16/ 99 أنَّه كذلك في كثير من نُسخ مسلم، ونقل عن القاضي عياض أنَّه خطأ وتصحيف، وأن الصواب: لأُمَّةُ خير. (¬5) هي النعل التي لا شعر عليها. ينظر "شرح صحيح مسلم" 16/ 99. (¬6) أي: يسرع. عن أبي عُبيد. أو: يتبختر. عن أبي عمر. ينظر "شرح صحيح مسلم" 16/ 99.

وأفسدَ عليك آخرتَك، بلغني أنك تقول له: يا ابنَ ذاتِ النِّطاقَين، أنا واللهِ ذاتُ النِّطاقَين، فأمَّا أحدُهما؛ فكنتُ أرفعُ به طعام رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وطعامَ أبي بكر من الدَّوابِّ، وأما الآخرُ؛ فنِطاقُ المرأةِ لا تستغني عنه. أَمَا إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثَنا أنَّ في ثَقِيفٍ كذَّابًا ومُبِيرًا، فأمَّا الكذَّابُ؛ فقد رأيناه، وأمَّا المُبِير فلا إخالُك إلا إيَّاه. فقام عنها ولم يُراجِعْها. انفرد بإخراجه مسلم (¬1). وقوله: عَقَبة المدينة: يريد مكة، وقُبور اليهود: ليس المراد به في الإسلام، بل في الجاهلية. [لأن اليهود كانت تسكن الحجاز قديمًا، وكان موسى - عليه السلام - قد جهَّزَ جيشًا من بني إسرائيل إلى العمالقة، فقتلوهم بمكة] (¬2). والكذَّاب الأوَّلُ: المختار، والثاني: الحجَّاج. والمُبير الفاتك. وصلبَ الحجَّاجُ ابنَ الزُّبير على ثَنِيَّة كَدَاء بالحَجُون، وربطوا إلى جانبه هرَّةً ميِّتة، فكان ريحُ المسك يغلبُ على ريحها، فأرسلَتْ إليه أسماء: قاتلكَ الله! علامَ تصلُبُه؟ ! فقال: إنّي استبَقْتُ أنا وإيَّاه إلى هذه الخشبة، فسبقَني (¬3). [وقال أبو أحمد الحاكم: ] وجمعَتْ أسماءُ أوصال عبدِ الله قطعةً قطعةً، فكانت تغسلُ كلَّ قطعة وتضعها في أكفانه، فأرسلَ إليها ابنُ عمر يصبِّرُها، فقالت: وما يمنعني من الصبر ورأسُ يحيى بن زكريا حُمل إلى بغيٍّ من البغايا في طَسْت؟ ! وحكى ابنُ عساكر أنها حملَتْه إلى المدينة، فدفنته في دار صفيَّة بنت حُيَيّ، فزِيدَتْ تلك الدار في المسجد، فابنُ الزُّبير مدفون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - (¬4). وحكى [أيضًا] أنَّ الحجَّاج حمل رأسه إلى المدينة، ثم إلى الشام، ثم إلى خُراسان، فدُفنَ بها (¬5). ولما قتلَ الحجَّاجُ ابنَ الزبير ارتجَّتْ مكَّةُ بالبكاء، فصعد الحجَّاج المنبر وقال: يا أهل مكة، بلغني إكبارُكم واستفظاعُكم قتلَ ابنِ الزُّبير، إنَّ ابنَ الزُّبير كان من خِيار هذه ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2545). (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) تاريخ دمشق ص 473. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 235، و"طبقات" ابن سعد 6/ 511. (¬4) تاريخ دمشق ص 502. (¬5) المصدر السابق ص 388.

الأمَّة حتَّى رغبَ في الدنيا، ونازعَ الخلافةَ أهلَها، فخلَعَ طاعةَ الله، واستكنَّ في حَرَم الله، ولو كان شيءٌ يمنعُ العصاةَ لمنع (¬1) آدمَ حرمةُ الجنَّة، وقد خلقَه اللهُ بيده، ونفَح فيه من روحه، وأسجَدَ له ملائكتَه، فلما عصاه أخرجَه من الجنَّة بخطيئته، وعاقبَه فيها، وآدمُ هو أكرم على الله من ابن الزبير، والجنَّةُ أعظمُ حُرمة من الحَرَم والكعبة (¬2). وقال الشافعي - رضي الله عنه -: خطبَ الحجاجُ بعد قتلِ ابنِ الزبير، فقال: إنَّ ابنَ الزُّبير غيَّر كتابَ الله، فناداه ابنُ عمر: لو شئتُ أن أقول: كذبتَ؛ لقلتُ. [قال المدائني: ] ولما بلغَ عبدَ الملك قتلُ ابنِ الزُّبير خَرَّ ساجدًا، ثم دعا بمقراض، فأخذَ من ناصيته ونواصي أولاده، وكان عندَه رَوْح بنُ زِنْباع، فأخَذَ من ناصيته وقال: أنتَ منَّا. وتحصَّنَ سَعْد مولى عُتبة بنِ أبي سفيان بالطائف في خمسين رجلًا، فأنزلهم ابنُ الزُّبير، فضربَ أعناقَهم في الحَرَم، فقال عبد الله بن عمر: ما أحمقَ هذا الرجل! أما إنه لم يَقْتُل [أحدٌ] أحدًا في الحَرَم إلا قُتِلَ به. ولو لَقِيتُ قاتلَ أبي في الحَرَم؛ لما تعرَّضْتُ له (¬3). وقال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: حدَّثَنا محمد بنُ كُناسة، حدَّثَنا إسحاق بنُ سعيد، عن أبيه قال: أتى عبدُ الله بنُ عمرَ بنِ الخطَّاب عبدَ اللهِ بنَ الزُّبير فقال: يا ابنَ الزُّبير، إيَّاك والإلحاد في الحَرَم -أو في حرم الله- فإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنه سيُلحِدُ فيه رجلٌ من قريش لو تُوزن ذنوبُه بذنوب الثَّقَلَين لَرَجَحَتْ". فانْظُرْ لا تكونُهُ (¬4). وكانت مدَّةُ حصار الحجَّاج لابن الزُّبير - رضي الله عنه - ببطن مكة ستةَ أشهر وسبعةَ عشرَ ليلةً خَلَتْ من جمادى الأولى، وكان سنُّه اثنتان وسبعون سنة (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ): لمنعت. (¬2) مختصر "تاريخ دمشق" 6/ 203. وقد نُسب الخبر في (م) لابن عساكر. (¬3) أنساب الأشراف 4/ 355، ولفظة "أحد" بين حاصرتين منه. (¬4) مسند أحمد (6200)، وروى أحمد أيضًا نحوه مختصرًا من حديث عبد الله بن عَمرو (6847). (¬5) كذا هي عبارة النسخ في (أ) و (ب) و (خ) و (د). وجاء في (م) ما صورتُه: واختلفوا في مدة حصار الحجَّاجِ ابنَ الزُّبير، فقال ابن سعد عن الواقدي: كانت الحرب بين ابن الزبير وبين الحجَّاج ببطن مكة ستة أشهر =

ذكر أولاده: فولدَ عبدُ الله خُبَيبًا؛ لا بقيَّةَ له، وحمزةَ، وعبَّادًا، وثابتًا، وأمُّهم تماضر بنت منظور بن زبَّان الفَزاري. وهاشمًا، وقيسًا، وعُروة، قُتل مع أبيه، والزبيرَ، وأمُّهم أُمُّ هاشم زُجْلَةُ بنتُ منظور بن زبَّان. وعامرًا، وموسى، وأمَّ حكيم، وفاطمةَ، وفاختة، وأمُّهم حنتمة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وأبا بكر، وأُمُّه رَيطة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وبكرًا، ورُقَيَّة، وأمُّهما عائشةُ بنتُ عثمان بن عفان. وعبدَ الله، ومصعب بن عبد الله (¬1). فنذكرُ أعيانَ أولادِه: أمَّا خُبَيب، فكان من النُّسَّاك، وكان كثيرَ الخير والعبادة، وعالمًا بأنساب قريش، وسنذكرُه (¬2). وأمَّا حمزة؛ فكان من الأجواد، وله عقب بالمدينة، منهم: عبَّاد بن حمزة؛ كان سريًّا حليمًا حسن الشباب، وإيَّاه عنى الأحوصُ بقوله في وصف امرأة: ¬

_ = وسبع عشرة ليلة، والمشهور: من هلال ذي القَعْدة إلى سبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى وسبعين، فيكون ستة أشهر وثلاثة عشر يومًا. واختلفوا في سنِّه، فحكينا عنه أنَّه قال: قد جاوز اثنتين وسبعين سنة، وحكينا أيضًا أنَّه ولد سنة اثنتين من الهجرة، وقُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين وأربعة أشهر. والأصح اثنتان وسبعون سنة. (¬1) ذكر ابن سعد 6/ 473 من أولاده أيضًا بكرًا (آخر)، قال: وأمُّه نفيسة، وهي أمُّ الحسن بنت علي، مات صغيرًا. وشيءٌ أهم من هذا أنَّه لم يذكر مصعبًا في أولاد عبد الله بن الزبير، ولا ذكره أيضًا الزُّبير بن بكار في "جمهرة نسب قريش" ولا عمُّه مصعب الزُّبيري في "نسب قريش". ولم أقف على من وغالب الظنِّ أن هذا وهم من سبط ابن الجوزي رحمه الله، وسيأتي على ذكره، وسأذكر ثمة سبب إن شاء الله. (¬2) جمهرة نسب قريش 1/ 36، والتبيين في أنساب القرشيين ص 258: وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 405، و"نسب قريش" ص 240.

لها حُسْنُ عبَّادٍ وجِسْم ابنِ واقدٍ ... وريحُ أبي حفصٍ ودينُ ابنِ نَوْفَلِ (¬1) وقيل في هذا المعنى: أُحبُّ من النسوانِ كلَّ خَرِيدةٍ ... لها حُسْنُ عبَّادٍ وجسمُ ابنِ واقدِ (¬2) فكان حمزةُ يحبُّ ولدَه عبَّادًا، فآثره ببعض مالِه على إخوتِه، فلمَّا ماتَ حمزةُ؛ ردَّه عبَّاد على إخوته، وقسمه فيهم بالسويَّة (¬3). وعُمارة بنُ حمزة درج، وهو أخو عبَّادٍ لأمِّه؛ أمُّهما هند بنتُ قُطبة بن هَرِم، فَزَارية. وأبو بكر (¬4)، ويحيى، وأمُّهما أمُّ القاسم بنتُ القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب، وأمُّها أمُّ كلثوم بنتُ عبد الله بن جعفر، وأمُّها زينبُ بنتُ عليِّ بن أبي طالب، وأمُّها فاطمةُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسليمانُ بنُ حمزة، وأمُّ سَلَمة، وأمُّهما أُمُّ الخطَّاب بنتُ شيبة بن عبد الله بن شريك الأنصاري. وعبدُ الواحد، وهاشم، وعامر (¬5)، وإبراهيم، وعبد الحميد، وأَمَةُ الجَبَّار، وأَمَةُ المَلِك، وأمُّ حَبِيب، وصالحة؛ لأمَّهاتِ أولاد شتَّى (¬6). وأما عبَّاد بنُ عبد الله بن الزُّبير؛ فولَّاه أبوه قضاءَ مكَّة، وكان الناسُ يظنُون أنَّه حَدَثَ بأبيه حَدَث وأوصى إليه (¬7). وهو من الطبقة الثالثة من أهل المدينة، وكان ثقةً كثير الحديث (¬8). وكان له من الولد: محمد، وصالح، وأمُّهما أمُّ شيبة بنتُ عبد الله بن حَكِيم بن حِزام. ¬

_ (¬1) "نسب قريش" 240 - 241، والتبيين ص 258، وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 405، أبو حفص: هو عمر بن عبد العزيز، كان عطرًا، وابنُ نَوْفَل: أبان، كان بالمدينة، كان فِتْيَانيًّا. ينظر "جمهرة نسب قريش" 151. (¬2) أورده ابن قتيبة في "المعارف" ص 187 عند ذكره ابن واقد، وهو عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. (¬3) التبيين في أنساب القرشيين ص 258. (¬4) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): وأبا بكر. وأثبتُّ اللفظة على الجادة. (والكلام ليس في م). (¬5) في النسخ (غير م): وهاشمًا وعامرًا. وأثبتُّ اللفظ على الجادَّة. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 405 - 406. وينظر "نسب قريش" ص 241 - 242. (¬7) التبيين في أنساب القرشيين ص 259: وينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 405، و"نسب قريش" ص 242. (¬8) طبقات ابن سعد 7/ 405.

ويحيى، وأمُّه عائشة بنتُ عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأمُّها أم الحسن بنت الزُّبير بن العوَّام. وأما ثابت بنُ عبد الله بن الزبير، فكان لسانَ آلِ الزُّبير فصاحةً وبيانًا؛ دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: إنَّ أباك كان يبغضك. فقال: [إنما أبغضَني] لأني نهيتُه أن يقاتل بأهلِ المدينة وأهلِ مكة؛ أمَّا أهلُ المدينة فلأنَّهم قتلوا (¬1) عثمان، وأمَّا أهلُ مكة فلأنَّهم آذَوْا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرجوه، ثم جاؤوا إليه، فنفاهم إلى الطائف. يعني الحَكَم بنَ أبي العاص (¬2). ولثابت عقب صالحون فقهاء وزهَّاد وعبَّاد، منهم: نافع، ومصعب، وخُبيب (¬3). وأما هاشم بن عبد الله؛ فكان من فرسان أبيه المعدودين (¬4). وأما عروة بن عبد الله؛ فإنَّه قُتل مع أبيه (¬5). وأما عامر بنُ عبد الله، فكان من أعبد أهل زمانه، وكان من المنقطعين، حملَ عنه الحديث مالك بنُ أنس وغيرُه. وكان في الصدقة على العباد؛ يَصُرُّ الصُّرر، وَيتَحيَّن وقتَ صلاتهم في المسجد، فإذا سجد أحدهم وضع الضُرَّة عند رأسه، ثم ينصرف ولا يُعلم به. وما كان يرى تزويج بناته، وكان كثيرَ الدعاء؛ إذا شرعَ فيه أطال حتَّى كان صبيان المدينة يتراهنون على من يرفع يديه، فلا يضعهما حتَّى يضع يديه عامر. وسُرقت نعلاه وهو في الدعاء، فما لبس نعلين حتَّى مات (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الخطية (غير م، فليس فيها) و"التبيين" ص 261. والذي في "أنساب الأشراف" 6/ 328، و"تاريخ دمشق" 3/ 572 (مصورة دار البشير): خذلوا. وهو الأشبه. (¬2) المصادر المذكورة قبل. وما سلف بين حاصرتين من "التبيين". (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 406، و"نسب قريش" ص 242، والتبيين في أنساب القرشيين ص 260. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 407، وجمهرة نسب قريش 1/ 232. (¬5) نسب قريش ص 243، وجمهوة نسب قريش 1/ 232. (¬6) التبيين في أنساب القرشيين ص 260. وينظر "جمهرة نسب قريش" 1/ 220 - 229.

وأمَّا موسى بنُ عبد الله؛ فكان من العبَّاد، وله عقب صالحون، منهم صُدَيق بن موسى، ورُويَ عنه الحديث. وولدُه موسى بن صُدَيق كان من أهل [الفضل والعَفَاف. وإبراهيمُ بن موسى بن صُدَيق بن موسى؛ كان من أهل] العلم والنُسُك والأخبار والشعر، نظر في العلوم، فلما رَأَسَ؛ اعتزل، فنزل منزلًا بطريق الحجاز مما يلي العراق يقال له: السُّوَارِقِيَّة (¬1). ومن شعره نُعَلَّلُ بالدُّنيا ونعرفُ غِبَّها ... ويمنعُنا حرصُ النفوسِ الشَّحائحِ وأحزنني أنْ لا أزال مُوَكَّلًا ... بتأميل أمرٍ لستُ فيه برابحِ فيا باكيًا شجوًا على الدِّين والتُّقى ... فَبَكِّ بمُرْفَضٍّ من الدَّمعِ سَافِحِ أصابَهُمُ رَيبُ المَنُونِ فأصبحوا ... ترابًا وهَامًا تحت صُمِّ الصفائح وعُرِّيَتِ الأحسابُ والدِّينُ بعدَهُمْ ... فصارت كمهجورٍ من الأرضِ نازحِ (¬2) وأما أبو بكر بن عبد الله؛ فإنَّه روى الحديث وحُمل عنه، وله عقب (¬3). ومصعب بن عبد الله بن الزُّبير (¬4)، كان من أَعبدِ أهلِ زمانِه، صامَ خمسين سنة، وكان يصلِّي في اليوم والليلة ألفَ ركعة، وكان من أبلغ أهل زمانِه وأجملِهم، رُويَ عنه الحديث، وكان ولده عبدُ الله بن مصعب عالمًا خطيبًا، وليَ اليمنَ، فعدلَ وأحسنَ. ¬

_ (¬1) جمهرة نسب قريش 1/ 229 - 230، والتبيين في أنساب القرشيين ص 260 وما سلف بين حاصرتين منهما. ولا بدَّ منه. وقوله: السُّوَارقيَّة -ويقال: السُّوَيرقيَّة؛ بلفظ التصغير-: قرية بين مكة والمدينة كانت لبني سُليم. ينظر "معجم البلدان" 3/ 276. (¬2) جمهرة نسب قريش 1/ 231. ونسب الأبيات لإبراهيم بن موسى بن صُدَيق أيضًا ابنُ قُدامة في "التبيين" ص 260. ووهم المرزُباني في "معجم الشعراء" ص 502، فنسب الأبيات ليوسف بن عبد العزيز الماجشون، وسبب ذلك أن الزُّبير بن بكَّار أورد في ترجمة إبراهيم بن موسى قصة، جاء في آخرها اسم يوسف بن عبد العزيز الماجشون، فنسبها إليه. وتابعه على هذا الوهم الشيخ محمود شاكر رحمه الله في تعليقه على "الجمهرة". والله أعلم. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 406 - 407. قال مصعب الزُّبيري في "نسب قريش" ص 243: وقد انقرضَ؛ كان له ابنٌ يقال له: عبد الرحمن، هلك، فورثه عامر بن عبد الله. (¬4) كذا قال المصنف رحمه الله. وهو وهم منه كما سلف التعليق على هذا في أوَّل فقرة "ذكر أولاد عبد الله بن الزبير" وسبب الوهم -والله أعلم- أن المصنف ينقل هنا عن "التبيين في أنساب القرشيين" لابن قدامة =

وكان ولده أبو بكر بن عبد الله نابَ قريش وخطيبَها، وأشرفَها قدرًا، وليَ المدينةَ اثنتَي عشرةَ سنة وثلاثةَ أشهر وأيامًا، وأخوه مصعبُ بنُ عبد الله بنِ مصعب (¬1) وجهُ قريش علمًا ومروءةً وشرفًا، وله شعرٌ حسن، فمنه: أَأَقْعُدُ بعد ما رَجَفَتْ عِظامي ... وكان الموتُ أقربَ ما يليني أُجادِلُ كلَّ مُعْترِضٍ خَصِيمٍ ... وأجعلُ دِينَه غَرَضًا لديني فأترُكُ ما علمتُ لرأيِ غيري ... وليس الرأيُ كالعلمِ اليقيني وما أنا والخصومة وهي لَبْسٌ ... تصرّف في الشَّمال وفي اليمينِ فإنَّ الحقَّ ليس به خَفاءٌ ... أَغَرُّ كغُرَّة الفَلَقِ المبينِ وما عِوَضٌ لنا منهاجُ جَهْمٍ ... بمنهاجِ ابنِ آمنةَ الأمينِ فأمَّا ما علمتُ فقد كفاني ... وأمَّا ما جَهِلْتُ فَجَنِّبُوني (¬2) ذكر موالي عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -: كان له مئة غلام، كلُّ غلام يتكلَّم بلغة، وكان ابنُ الزبير يكلِّم كلَّ واحدٍ بلغته (¬3). أسند عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - ثلاثة وثلاثين حديثًا (¬4)، وأخرج له في "الصحيحين" تسعة أحاديث (¬5) وأخرج له الإمام أحمد - رضي الله عنه - أربعة وعشرين حديثًا. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: حدَّثَنا عبدُ الرزاق، حدَّثنا ابن عُيَينَة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبيّ قال: سمعتُ عبدَ الله بن الزُّبير وهو مسندٌ ظهره إلى الكعبة وهو يقول: ورَبِّ هذه الكعبة لقد لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فلانًا وما ولدَ من صُلْبِه. ¬

_ = ص 258، وسقط من نسخة المصنف (على الغالب) اسم "ثابت" من نسب مصعب، فقد ذكر محقِّقه أن اسم "ثابت" سقط من ثلاث نسخ. والصواب فيه: مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزُّبير. والله أعلم. وتنظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 7/ 29. وينظر أيضًا "جمهرة قريش" 1/ 116 و 124 و 156 و 163. (¬1) هو صاحب كتاب "نسب قريش" الَّذي يرد ذكره في الحواشي. وتنظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 11/ 30. (¬2) التبيين في أنساب القرشيين ص 263. وجَهْم الذكور في البيت قبل الأخير: هو ابنُ صفوان، رأس الجهمية، كان يقول بخلق القرآن وينكر الصفات. (¬3) حلية الأولياء 1/ 334، و"تاريخ دمشق" 457 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عبد الله بن الزبير). (¬4) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 366. (¬5) المصدر السابق ص 395. وقال فيه ابن الجوزي: المتفق عليه واحد، وانفرد البخاري بستة، ومسلم بحديثين.

عبد الله بن أبي حدرد

قال الشعبي: وهو الحَكَم بنُ أبي العاص (¬1). وروى ابنُ الزُّبير عن عُمر، وعُثمان، وأبيه الزُّبير، وأمِّه أسماء، وخالتِه عائشة - رضي الله عنهم -. وروى عنه أخوه عُروة، وابناه عامر وعبَّاد، وابنُ أخيه محمدُ بنُ عُروة، وعَطاء، وطاوس، وعَمرو بنُ دينار، وابنُ أبي مُلَيكة، وأبو الزُّبير المكّي، والشَّعبي، وعَبِيدة السَّلْماني، وأبو إسحاق السَّبِيعي، وثابت البُناني، وسِماك بنُ حَرْب في آخرين. وأقام ابنُ الزبير بمكة تسع سنين يحجُّ بالناس، وقيل: عشر سنين. وكان يتمثلُ دائمًا بقول أبي ذُؤيب الهُذَليّ: أَمِنَ المَنُونِ ورَيبِها تَتَوجَّعُ ... والدَّهْرُ ليس بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبْتَها ... وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقنَعُ وأبو ذؤيب اسمُه خُويلد بن خالد، شاعرٌ مخضرم، أدرك الجاهلية، وقدمَ المدينة وقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [وغزا الروم] (¬2) في خلافة عمر - رضي الله عنه -، وكان أشعَرَ هُذَيل. وهذان البيتان من قصيدة رَثَى بها بَنِيه، وكان قد مات له خمسةٌ في عام واحد، وكان عبد الله بنُ الزُّبير يحبُّه. ومات بإفريقية، وتولَّى دفنه عبد الله بن الزُّبير. وقيل: مات في خلافة عثمان رضوان الله عليه بطريق مكَّة. وقيل: مات ببلاد الروم، ولا يُعلمُ وراءَ قبره قبر آخر من المسلمين غيره. والله أعلم (¬3). عبد الله بن أبي حَدْرَد سلامة، أبو محمد الأسلمي، له صحبة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواية، وكان في خيل خالد بن الوليد لمَّا أصاب بني جُذيمة. روى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وشهدَ معه الجابية. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (16128). (¬2) ما بين حاصرتين من "تاريخ دمشق" 5/ 690 (مصورة دار البشير). (¬3) ينظر المصدر السابق، و"الشعر والشعراء" 2/ 653، و"الأغاني" 6/ 264 - 279، و"ديوان الهذليين" 1 - 3.

عبد الله بن صفوان

وروى عنه أبو بكر بنُ محمد بن عَمرو بن حَزْم، وغيره. وتوفي سنة اثثتين وسبعين، وقيل: سنة إحدى وسبعين (¬1) عبد الله بن صفوان ابن أمية بن خَلَف الجُمحيّ، من الطبقة الأولى (¬2) من التابعين من أهل مكة، روى عن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. [هذه صورة ما ذكر ابن سعد. وذكره الزُّبير بن بكَّار وقال: ] وكان يسمَّى عبد الله الطويل (¬3)، وأُمُّه برزة بنت مسعود بن عمرو، ثقفية. [قال: ] وكان من أشراف قريش؛ وفد على معاوية هو وأخوه عبد الرحمن الأكبر. [ذكره ابنُ عساكر وقال: ] كانت له دارٌ بدمشق في الزُّقاق المعروف بابن صفوان (¬4). [قال: ] ووُلدَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان من أصحاب ابن الزبير ممَّن قاتلَ معه. وقال لابن الزُّبير (¬5): والله ما قاتلتُ معك، وإنَّما قاتلتُ عن ديني، فقُتلا في يوم واحد. [وقال خليفة: ] قُتل ابنُ صفوان وهو متعلِّق بأستار الكعبة (¬6). [وقال الحُميدي: حدَّثَنا سفيان، عن يحيى بن سعيد قال: رأيتُ رأسَ ابنِ الزُّبير، وابنِ صفوان، وابنِ مطيع بالمدينة والصبيانُ يلعبون برؤوسهم، وقُتل الثلاثة في يوم واحد (¬7). أسند عبد الله بن صفوان الحديث عن حفصة زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 215، وتاريخ دمشق ص 155 و 112 - 113 (طبعة مجمع دمشق-، تراجم حرف العين). وسلفت الترجمة ص 24، في أحداث سنة (71). (¬2) عبارة (م): ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى ... إلخ. وهو في "طبقاته" 8/ 26. (¬3) جمهرة نسب قريش 2/ 875، وفيه: عبد الله الأكبر. ولفظة "الطويل" جاءت في "طبقات" ابن سعد 6/ 110 (ترجمة صفوان بن أمية). قال: فولد صفوان بن أمية عَمرًا وعبد الله الأكبر، وهو الطويل. وأخرج ابن عساكر 9/ 435 و 436 (مصورة دار البشير) القولين من طريقيهما. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬4) تاريخ دمشق 9/ 434 (مصورة دار البشير) وفيه: المعروف بزُقاق صفوان. والكلام بين حاصرتين من (م). (¬5) في (م): وقال الزُّبير بن بكَّار: قال عبد الله بن صفوان لعبد الله بن الزُّبير ... إلخ. وهو في "نسب قريش" ص 389، و"جمهرة نسب قريش" 2/ 876، ومن طريقه أخرجه ابنُ عساكر 9/ 440. (¬6) طبقات خليفة ص 235، وتاريخه ص 269. وأخرجه من طريقه ابن عساكر 9/ 436. (¬7) لم أقف على قوله: والصبيان يلعبون ... ، وهذا الكلام بين حاصرتين من (م). وينظر "تاريخ دمشق" 9/ 440.

عبد الله بن مطيع

وكان لعبد الله بن صفوان من الولد: عَمرو، وصفوان، وهما من الطبقة الثانية من أهل مكة. فأمَّا عَمرو؛ فأمُّه بنتُ مطيع بن شُريح من بني كلاب (¬1). روى عنه عَمرو بن دينار، والزُّهْري، وكان قليلَ الحديث (¬2). وأمَّا صفوان؛ فأُمُّه حِقَّة بنتُ وَهْب بن أميَّة بن أبي الصَّلْت الثقفي، وروى عنه الزُّهْريّ (¬3)، وكان قليل الحديث. وكان لصفوان من الولد: عبد الله وأميَّة، وأمُّهما أمُّ الحَكَم بنتُ أميَّة بن صفوان (¬4). عبد الله بن مطيع ابن الأسود بن حارثة بن نَضْلة بن عَوْف بن عَبِيد بن عَويج بن عديّ بن كعب، وأبوه مطيع من الصحابة، وابنُ مُطِيع من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وأمُّه أمُّ هشام (¬5) آمنة (¬6) بنت أبي الخِيار من بني ليث. وُلد عبدُ الله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولما ولَّى عبدُ الله بن الزُّبير الكوفةَ ابنَ مطيع (¬7) وقَدِمَها؛ لَقِيَ عُمر بنَ سَعْد (¬8)، فقال: وَيحك! اخْتَرْتَ الرَّيَّ على قتل ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد أَعْذَرْتُ إلى الحسين، فلم يقبل، وكانت أمورٌ قد قُضيت من السماء (¬9). ¬

_ (¬1) كذا في "طبقات" ابن سعد 8/ 35. وجاء في "نسب قريش" ص 391، -ونقله عنه الزُّبير في "جمهرته" 2/ 878 - أنَّ أمَّهُ أمُّ جميل بنت خُليد الدَّوْسي. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 35 .. (¬3) جمهرة نسب قريش 2/ 878. وجاء اسم أمّه في "نسب قريش" ص 391: حيَّة. (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 35. وتنظر ترجمة صفوان وعَمر وابن ي عبد الله بن صفوان في "تهذيب الكمال" 13/ 198 و 22/ 99. (¬5) في النسخ الخطية (غير م، فالكلام ليس فيها): أمّ هاشم. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 7/ 143، و"نسب قريش" ص 384 - 385، و "جمهرة نسب قريش" 2/ 865 - 866. (¬6) كذا في "طبقات" ابن سعد. وفي المصدرين الآخرين المذكورين قبل: أميمة. وذكرها ابن حجر في "الإصابة" بالاسمين: 11/ 104، و 12/ 134. (¬7) في النسخ (غير م، فالكلام ليس فيها): لابن مطيع. وأثبتُّ اللفظ على الجادَّة. (¬8) يعني عمر بن سعد بن أبي وقاص. ووقع في النسخ: عمرو بن سعيد، وهو خطأ. (¬9) طبقات ابن سعد 7/ 147.

وكان الشعبي كاتبًا لابن مطيع (¬1). وقال مطيع (¬2): رأيتُ في المنام أنه أُهْدِيَ إليّ جِرابٌ فيه تمرٌ، فذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "تلدُ امرأتُك غلامًا". فولدَتْ عبدَ الله، فأتيتُ به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا له (¬3). وكان عبد الله من جِلَّة قريش شجاعةً وجَلَدًا، وكان أميرَ أهل المدينة يومَ الحَرَّة. [وقيل: إنما كان أميرًا] على قريش (¬4). ولمَّا هربَ يوم الحَرَّة دخل بيتَ امرأة في المدينة، فاخْتَبَأَ (¬5) في رَفٍّ، فدى خل عليها رجلٌ من أهل الشام، فراودَها عن نفسها، فاستغاثت بعبد الله، فنزل، فقتله. وذكر عبدُ الملك عبدَ الله بنَ مطيع، فقال: نجا من مسلم بن عُقبة يومَ الحَرَّة، ولحقَ بابن الزبير بمكة، فنجا, ولحقَ بابعراق، قد كثَّر علينا في كل وجه، ولكن من رأيي الصفحُ عنه وعن غيره من قومي، إنَّما أقتلُ بهم نفسي (¬6). ذكر وفاته قيل: إنه توفِّي قبلَ قَتْلِ ابن الزبير بيسير، وقيل: قُتل يومَ قُتل ابنُ الزبير، وقيل: خرج ومات من جراحة (¬7)، فصلَّى عليه الحجَّاج وقال: اللهمَّ إنَّ هذا عدوُّك، كان مُعاديًا لأوليائك، مواليًا لأعدائك، فاملأ قبرَه نارًا. ¬

_ (¬1) المحبَّر ص 379. (¬2) في النسخ: ابن مطيع، وهو خطأ. (¬3) التاريخ الصغير للبخاري 1/ 132، والاستيعاب 412. (¬4) التبيين في أنساب القرشيين ص 436 وما بين حاصرتين منه. وينظر "نسب قريش" ص 384، و "جمهرة نسب قريش" 2/ 865، و "الاستيعاب" ص 412. (¬5) الكلمة غير مجوَّدة في النسخ، والمثبت من "جمهرة نسب قريش" 2/ 865، و "التبيين" ص 436، و "تهذيب الكمال" 16/ 154. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 146. (¬7) وقع في النسخ: مات من جرل حية ... (؟ ) وأثبتُّ اللفظة من عندي وهي الأقرب إلى رسمها؛ وقد جاء في "أنساب الأشراف" 9/ 249: ثم لحق بابن الزبير فلم يزل معه؛ أصابته جراحات، فمات منها بمكة، فصلى عليه الحجاج ... إلخ. وبنحوه في 6/ 239.

مالك بن أوس

فولد عبدُ الله بنُ مطيع إسحاقَ؛ لا بقيَّةَ له، ويعقوبَ، وأمُّهما رَيطة بنتُ [عبد الله بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة. ومحمدًا، وعمران، وأمُّهما أمُّ عبد الملك بنت] عبد الله بن خالد بن أسيد. وإبراهيمَ، وبُرَيهَة، وأمُّهما أمُّ ولد. [وإسماعيلَ، وزكريا، وأمُّهما أمُّ ولد]. وفاطمةَ، وأمُّها أمُّ حكيم بنت عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب. وأمَّ سَلَمة، وأمَّ هشام، وأمُّهما ابنةُ خِراش من خُزاعة (¬1). وفي عمران بن عبد الله بن مطيع يقولُ ابن هَرْمة: وأهْدِ اليومَ منكَ محبَّراتٍ ... إلى عمرانَ واقْدَمْ بالسُّعودِ إلى متحيِّز الأعراق يحوي ... طريفَ المكرماتِ مع التَّلِيدِ (¬2) وكان لعبد الله بن مطيع إخوة: عبد الرحمن، وسليمان، ومسلم (¬3)، والزُّبير، بنو مطيع. فأمَّا عبد الرحمن؛ فأمُّه أمّ كلثوم بنتُ معاوية بن عروة، من الدِّيل بن بكر، وله عقب. وأمَّا سُليمان؛ فقُتلَ يومَ الجمل، وأمُّه أمُّ هشام آمنة بنت أبي الخِيار من بني ليث، وله عقب (¬4). مالك بن أوس ابن الحَدَثان، أحدُ بني نصر بن معاوية، من هَوازن. قيل: له صحبة. وذكره ابنُ سعد في الطبقة الأولى من التابعين (¬5). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 143 - 144. وما سلف بين حاصرتين منه. وينظر "نسب قريش" ص 385، و "جمهرة نسب قريش" 2/ 867. (¬2) التبيين في أنساب القرشيين ص 437. ولم أقف على البيتين في مصدر آخر، وينظر "تاريخ دمشق" 2/ 481 (مصورة- ترجمة ابن هَرْمة) وفيه أبيات لابن هرمة من ذات الوزن والقافية يمدح فيها عمران بن عبد الله بن مطيع. (¬3) في النسخ: مسلمة. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 6/ 101، و "جمهرة نسب قريش" 2/ 866، و "التبيين" ص 437. ووقع في "نسب قريش" ص 385: سلم. (¬4) المصادر السابقة. وفي بعضها اسم أمّه أميمة. وسلف الكلام على هذا أول الترجمة. (¬5) من أهل المدينة. ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 60.

مالك بن مسمع

ويقال: إنه ركَبَ الخيل في الجاهلية، ولكن تأخَّر إسلامُه. وروى عن عُمر، وعثمان - رضي الله عنها-، ومات بالمدينة في هذه السنة (¬1). مالك بن مِسْمَع أبو غسان الرَّبَعيّ البصريّ، من الطبقة الأولى من التابعين. وُلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان حليمًا رئيسًا، وفد على معاويةَ، فلم يأذن له؛ لأنه جرى بينه وبين زياد كلام في العطاء، ثم أَذِنَ للأحنف، والمُنذر بن الجارود، وجماعة من أعيان البصرة، ثم أَذِنَ لمالك في آخرهم، فدخلَ ومشى قليلًا قليلًا، فأخذوا أماكنَهم. وجاء مالك، فوقفَ بين يدي معاوية، فقال له معاوية: أبو غسان؟ قال: نعم. قال: إليَّ إليَّ. فأجلَسه معه على سريره، فقامَ رجل من بكر بن وائل، فقال لمعاوية: أتُجلسُ هذا معك وقد فعل بعاملك ما فعل من خروجه عليه في أمر العطاء؟ ! فقال أبو غسان للرجل: وما يمنعُه أن يُجلسَني معه على سريره وأنتَ ابن عمي؟ ! فخرج الناس ومالك بن مِسْمَع سيِّدٌ بحلمه، وإكرامِ معاويةَ إيَّاه، ومعرفتِه بفضله (¬2). وكان من أقران عبد الله بن الزُّبير. وقال عبد الملك بنُ مروان لابن مطاع (¬3): أخبِرْني عن مالك بن مِسْمَع. فقال: لو غضبَ لَغضب معه مئةُ ألفِ سيف، لا يسألونه لِمَ غضب. فقال عبد الملك: هذا -وأبيكَ- السُؤدُد. ولم يلِ مالك ولايةً لسلطان أبدًا، وقتَلتْه الخوارج لمَّا انهزم عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد كما تقدَّم (¬4). ¬

_ (¬1) يعني سنة (73) وقال ابن سعد: مات سنة اثنتين وسبعين. (¬2) تاريخ دمشق 66/ 152 (طبعة مجمع دمشق). ومالك بن مِسْمَع من بَكْر بن وائل. (¬3) في النسخ الخطية (غير م، فليس فيها الكلام): مستطاع. والمثب من "عيون الأخبار" 1/ 225، و "العقد الفريد" 1/ 135. (¬4) ينظر ما سلف ص 46 (أحداث سنة 72).

السنة الرابعة والسبعون

السنة الرابعة والسبعون فيها كتبَ عبدُ الملك إلى الحجّاج يأمرُه بنقض الكعبة وإعادتها إلى ما كانت عليه، فكتب الحجاج إليه: يا أمير المؤمنين إن البناء الذي وضعَه ابنُ الزُّبير قد وقفَ عليه العُدول من أهل مكة. فكتب إليه [عبد الملك]: لسنا من تلطيخ ابنِ الزُّبير في شيء. فنقضَ الحجاجُ الكعبة. وأعادها إلى البناء الأول [الذي] هو قائم اليوم (¬1). وفيها ولَّى عبدُ الملك الحجَّاجَ المدينةَ مضافًا إلى مكة (¬2) والطائف. وقيل: إنما ولَّاه إيَّاها بعد قتل ابن الزبير، فأقام بها شهورًا (¬3) بعد عزل طارق [بن عمرو] , ثم خرجَ إلى مكة معتمرًا، وانصرف إلى المدينة في صفر من هذه السنة، فأقام بها ثلاثة أشهر يعبثُ بأهلها، ويستخفُّ بهم وبأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حدَّثَ ابنُ أبي ذئب أنه رأى (¬4) جابرَ بن عبد الله مختومًا في يده بالرَّصاص. وقيل: في عنقه. وحدَّثَ إسحاقُ بن يزيد أنه رأى أنس بنَ مالك مختومًا في عنقه، يريد أن يُذِلَّه بذلك. ودعا سهلَ بنَ سعد، فقال: ما منعك أن تنصر أميرَ المؤمنين عثمان؟ فقال: قد فعلتُ. فقال: كذبتَ. ثم أمرَ به فخُتم في عنقه برصاص (¬5). فقال أنس بن مالك: إن أهل الذِّمَّة لا يجوزُ أن يُفعل بهم مثلُ هذا! (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر "صحيح" مسلم (1333): (402)، و "تاريخ" الطبري 6/ 195. وما سلف بين حاصرتين من (م). قال ابن كثير في "البداية والنهاية" 12/ 229: الحجّاج لم ينقض بنيان الكعبة جميعه، بل هدمّ الحائطَ الشاميَّ حتى أخرج الحِجْرَ من البيت، ثم سدَّه، وأدخل في جوف الكعبة ما فضل من الأحجار، وبقيت الحيطان الثلاثة بحالها ... وينظر تتمة كلامه. (¬2) في (م): الحجاز. (¬3) في (م): شهرًا. (¬4) في "تاريخ" الطبري 6/ 195: ذكرَ محمَّد بنُ عمران بن أبي ذئب حدَّثَه عمَّن رأى ... الخ. (¬5) تاريخ الطبري 6/ 195. (¬6) لم أقف على هذا القول.

وفيها كتب عبدُ الملك إلى أخيه بِشْر بن مروان إلى البصرة أن يولِّيَ المُهَلَّبَ بن أبي صُفْرة قتال الخوارج، ويندب معه من أعيان فرسان البصرة والكوفة. فدعا بِشْرُ المهلَّبَ، فأوقفه على الكتاب، وأمرَه أن ينتخبَ من شاء، وشَقَّ على بِشْر أنَّ إمْرَةَ المهلَّب جاءت من قِبَل عبدِ الملك، ولا يقدرُ على مخالفته، فأوغَرَتْ صدرَه على المهلَّب. ودعا بشرٌ عبدَ الرحمن بن مِخْنَف وقال: قد عرفتَ منزلَتَك عندي ومكانك، وقد ولَّيتُك على جند الكوفة [فكن] عند إحسان ظنِّي بك، وانظر إلى هذا الكذا وكذا -يقع في المهلَّب- فلا تلتَفِتَنَّ إليه، ولا تقبلنَّ له مشورة، وتَنَقَّصْه. قال عبد الرحمن: فأخذ يُغْريني بابن عمتي المهلَّب، وتركَ وصيَّتي بالجند وقتال العدوّ، والنظر للإسلام، فلم أنشط إِلى قوله، وقلت: هذا الغلام يستصبيني وأنا شيخ. فلما رآني غيرَ مقبل على كلامه قال: ما الذي بك؟ قلت: وهل يسعُني إلا إنفاذُ أمرك في كلِّ ما أحببتُ وكرهت؟ قال: امْضِ في دَعَةِ الله. فخرج المهلَّب بأهل البصرة، فنزلَ رامَهُرْمُز، وخرج عبد الرحمن بأهل الكوفة، فنزل قريبًا من المهلَّب، فأقاموا عشَرة أيام، وجاء نعي بِشْر، وكان قد استخلف بِشرٌ على البصرة خالدَ بنَ عبد الله بن أسيد. ولمَّا وصلَ الخبرُ بوفاة بِشر تسلَّل كثيرٌ من أهل البصرة والكوفة، فكان ممَّن تسلَّل من أهل الكوفة زَحْرُ بنُ قيس، وإسحاقُ بنُ محمَّد بن الأشعث، ومحمد بنُ عبد الرحمن بن سعد (¬1) بن قيس. فبعث عبدُ الرحمن بنُ مِخْنَف ابنَه جعفرًا في آثارهم، فردَّ إسحاق ومحمدًا، وفاتَه زَحْر بنْ قيس، فحبسهما أيامًا (¬2)، ثم أخذ عليهما العهد أن لا يُفارقاه، ثم أطَلَقهما، فهربا إلى الأهواز، وبها زَحْرُ بنُ قيس، واجتمع [بها] ناس كثير يريدون البصرة. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 6/ 197: سعيد. (¬2) في المصدر السابق: يومين.

وبلغ خالدَ بنَ عبد الله بن أسيد، ذهب إلى الناس كتابًا يخوِّفُهم اللهَ تعالى، وسطواتِ عبد الملك، ويحثُّهم على جهاد الخوارج، ويقول في آخره: وواللهِ لا أقعُ بعد كتابي هذا على عاصٍ إلا قتلتُه. فلم يلتفتوا إلى كتابه، وسار زَحْرُ بنُ قيس وإسحاق ومحمد إلى الكوفة، وكان عليها عَمرُو بنُ حُرَيث خليفة بِشر، فنزلوا قريبًا منها، وكتبوا إلى عَمرو بنِ حُرَيث: أما بعد، فإنَّ الناس لمَّا بلغَهم وفاةُ بِشر تفرَّقوا, ولم يبق معنا أحد، فأقبَلْنا إلى مِصْرِنا، وأحبَبْنا أن لا نَدخل إلا بإذنٍ منك. والسلام. فكتب إليهم: أما بعد، فإنَّكم تركتُم مركزكم (¬1)، وأقبلتُم عاصين مخالفين، وليس لكم عندي إذن. والسلام. فأقاموا إلى الليل، ثم دخلوا إلى بيوتهم، فلم يزالوا مقيمين حتى دخلَ الحجَّاجُ الكوفة (¬2). وفيها عزل عبدُ الملك بُكيرَ بنَ وشاح عن خُراسان، وولَّاها أميةَ بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وكان السببُ في عزل بُكير بعد أن أقام واليًا على خراسان ثلاث سنين (¬3)، وكان بُكير قد حبس (¬4) بَحِير بنَ وَرْقاء (¬5) خوفًا من الفتنة منذ قُتل عبدُ الله بنُ خازم، فلم يزل محبوسًا إلى هذه السنة، وكانت البطونُ قد اختلفت بخُراسان والقبائلُ، فصار بعضُهم مع بُكير، وبعضُهم مع بَحِير، فخاف أهلُ خُراسان من الفتنة وفساد البلاد، فكتبوا إلى عبد الملك: إن خُراسان لا تصلح إلا لرجل من قريش، لا من تميم. ¬

_ (¬1) في المصدر السابق: مكتبكم. وفي حاشيته: أمكنتكم (نسخة). (¬2) ينظر ما سلف مطولًا في "تاريخ" الطبري 6/ 196 - 198. وجاء بعده في (خ) ما صورته: آخر الجزء. يتلوه الجزء السادس: وفيها عزل عبد الملك بكير بن وشاح عن خراسان، وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان السبب ... كتبه علي بن عيسى الحبري غفر الله له ولوالديه. (¬3) في "تاريخ" الطبري 6/ 199: سنتين. (¬4) كذا وقع سياق الكلام. فقولُه: وكان بُكير قد حبس ... الخ شروعٌ في ذكر السبب وليس خبر "كان" أول الكلام. (¬5) كذا هنا وفيما سلف ص 23 (ترجمة ابن خازم- سنة 71). وهو بَحِيرُ بنُ وقاء. ينظر "توضيح المشتبه" 9/ 192.

وعلم بُكير بنُ وِشاح، فأرسلَ إلى بَحِير بن وَرْقاء يسألُه الصُّلْح، فأبى عليه، وقال: ظنَّ بُكَير أنَّ خُراسانَ تبقى له في الجماعة! . فدخل ضرار بنُ حصين على بَحِير بن وَرْقَاء وهو في السجن، فقال له: ألا أراك مائقًا (¬1)؟ ! يُرسِلُ إليك ابنُ عمِّك يعتذرُ إليك وأنتَ أسيرٌ في يديه ولا تقبلُ عذره! لو قَتَلَكَ كان ماذا؟ ! ما أنتَ بموفَّق، صالِحْهُ، واخرجْ وأنتَ على أمرك. فأجابَ، وصالحَ بُكيرًا، وأرسل [بُكير] له مالًا على أن لا يُقاتلَه، وأخذَ عليه العهد (¬2). وأمَّا عبد الملك؛ فإنه لما قرأَ كتابَ أهلِ خُراسان، استدعى أميةَ بنَ عبد الله بن خالد بن أسيد، وقال: إن خُراسان ثَغْرُ المشرق، وقد كان به من الشَّرّ ما كان، وعليه هذا التميميّ (¬3)، وقد اختلف [الناس] وأخاف أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، وقد سألوني أن أُوَلِّيَ عليهم رجلًا من قُريش يَسمعوا له ويُطيعوا، فقال له أمية: فتَدارَكْهم يا أمير المؤمنين برجل منك، فقال: لولا انحيازُك عن أبي فُدَيك الخارجيّ لكنتَ ذاك الرجل -وكان أبو فُديك قد هزمَ أمية- فقال: واللهِ ما انحزتُ حتى خذلني أصحابي وهرب الناس، فأردتُ أن أنحاز إلى فئة، وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري. فولَّاه خُراسان، فقال الناس: ما رأينا أحدًا عُوِّضَ من هزيمةٍ ما عُوِّضَ أُميَّة، فرَّ من أبيِ فُدَيك، فاستُعمل على خُراسان. ولما قَرُب أمية من خُراسان أنشدَ رجل من بكر بن وائل في مجلس (¬4) بُكير بن وشاح: أتتك العِيسُ تنفُخ في بُراها ... تَكَشَّفُ عن مناكبها القُطوعُ ¬

_ (¬1) أي: غضبانَ متغيِّظًا. (¬2) بنحوه في "تاريخ" الطبري 6/ 199 - 200. ولفظة "بكير" بين حاصرتين منه. (¬3) يعني بُكير بن وِشاح. (¬4) في "تاريخ" الطبري 6/ 200: محبس.

كأنَّ مواقعَ الأكوار منها ... حمامُ كنائسٍ بُقْعٌ رقوعُ (¬1) بأبيضَ من أميَّةَ مَضْرَحِيٍّ ... كأنَّ جبينَه سيفٌ صنيعُ (¬2) وخرج بَحِير بن ورقاء على غير الجادَّة، فالتقى أمية على أبْرَشَهْر، فأخبره عن خُراسان وما يُصلح أهلَها، ورفع على (¬3) بُكير بن وشاح أموالًا عظيمة، وحذرَه غدره. وكان أميَّةُ سيِّدًا كريمًا، فلم يعرض لبُكير ولا لعمَّاله، وعزمَ على أن يولِّيَهُ شُرطتَه، فامتنَع بُكير، فولَّاها بَحِيرَ بنَ ورقاء، فلام بُكيرًا رجالٌ (¬4) من قومه، وقالوا: ولَّاك شرطته، فلم تفعل حتى ولَّاها بَحِيرًا، وقد عرفتَ ما بينكما! فقال: كنتُ بالأمس واليَ خُراسان تُحمل الحِرابُ بين يديَّ، فأصيرُ اليومَ أَحملُ الحَرْبَة! . ثم قال أميَّة لبُكير: اختر من البلاد ما شئتَ، فقال: طخارستان. فقال: هي لك، فتجهَّزَ بُكير، وأنفق مالًا كثيرًا، فقال بَحِير لأميَّة: إنْ صار إلى طخارستان خلعَك. ولم يزل يحذِّره حتى أمرَ أميَّةُ بكيرًا أن يُقيم، فأقام (¬5). وحجَّ بالناس [في هذه السنة] (¬6) الحجّاج بنُ يوسف، وكان أميرًا على مكة والمدينة والطائف. وكان على قضاء المدينة عبدُ الله بنُ قيس بنِ مَخْرمة، وعلى الكوفة عَمرو بن حُريث، وعلى قضائها شُريح، وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن أسيد (¬7)، وعلى قضائها هشام بن هُبيرة، وعلى خُراسان أمية بن عبد الله بن خالد. ¬

_ (¬1) في المصدر السابق: وقوع. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 200. والبيت الأول والثالث في "الأغاني" 13/ 259 لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص في خبر قدومه على معاوية. (¬3) في (ب) و (خ) و (د): ريع على. والمثبت من (أ). وعبارة "تاريخ" الطبري 6/ 201: ورفع عن. (¬4) في النسخ (غير م، فالكلام ليس فيها): فلام بكيرٌ رجالًا. والتصويب من "تاريخ" الطبري 6/ 201. (¬5) ينظر ما سلف في "تاريخ" الطبري 6/ 201. (¬6) ما بين حاصرتين من عندي للإيضاح. (¬7) الذي في "تاريخ" الطبري أنه كان في هذه السنة على الكوفة والبصرة بشر بن مروان. وكان قد ذكر في سنة (73) أن عبد الملك عزل خالد بن عبد الله عن البصرة، وولّاها أخاه بشرًا ... فاستخلفا بشر على الكوفة عَمرو بنَ حُريث.

بشر بن مروان

ويقال: إنَّ عبدَ الملك اعتمرَ في هذه السنة، ولا يصحّ (¬1). وفيها توفِّي بِشْرُ بن مروانَ ابنِ الحَكَم بن أبي العاص، وأمُّه قُطَيَّة (¬2) بنتُ بِشْر بن عامر مُلاعب الأسنَّة أبي براء بن مالك بن جعفر بن كلاب. وكنيته أبو مروان، وكان منقطعًا إلى أخيه عبد العزيز، فلما وليَ عبدُ الملك الخلافةَ استجفاه [بشر] فقال: سيُغنيني الذي أغناك عنِّي ... ويُفْرِجُ كُربتي وَيرُبُّ حالي إذا بلّغتَني وحملتَ رَحْلي ... إلى عبد العزيز فما أُبالي (¬3) [وذكره أبو القاسم ابن عساكر وقال: ] (¬4) وكانت له دار بدمشق بعقبة الصُّوف، وإليه يُنسب دَير بِشْر الذي عند حَجِيرا (¬5). وقتلَ خالدَ بنَ الحُصين الكلابي يوم المَرْج (¬6). وكان عبد الملك أقام بمَسْكِن بعد ما قَتَل مصعبًا خمسين ليلة, ثم ولَّى الكوفةَ قَطَنَ ابن عبد الله (¬7) الحارثي، وخرج إلى الشام، فعزلَ قَطَنًا، وولَّى أخاه بِشْرَ بنَ مروان، ثم جمعَ له بين الكوفة والبصرة. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، وقال فيه الطبري: ولا نعلم صحة ذلك. (¬2) تحرف في النسخ (غير م، فليس فيها): قطنة. وينظر "توضيح المشتبه" 7/ 229. (¬3) أنساب الأشراف 5/ 345، وما بين حاصرتين منه. (¬4) تاريخ دمشق 5/ 345, (مصورة دار البشير) وما قبله كت أيضًا ص 354. وما بين حاصرتين من (م). (¬5) ينظر "معجم البلدان" 2/ 226 و 500. (¬6) أنساب الأشراف 5/ 344. (¬7) وقع وفي النسخ تحريفات كثيرة، أقتصرُ على ذكر بعضها كي لا أُثقل الحواشيَ بما لا فائدة فيه، فمثلًا جاء فيها هنا: أقام بمسكر بعد ما قتل مصعبًا حين أسلم، ثم ولي الكوفة قطبة بن عبد الله ... الخ. والمثبت من "تاريخ دمشق" 3/ 351 (مصورة دار البشير). وينظر "أنساب الأشراف" 5/ 63.

[قال: ] فقدمَ بِشْرٌ البصرةَ لهلال ذي الحِجَّة سنة ثلاث وسبعين (¬1). [قال: ] ولم يكن لِبابِهِ بوَّاب، وكان يقول: إنما تحتجبُ النساء (¬2). [وقال الهيثم: ] وكان طَلْقَ الوجه، جوادًا، ممدَّحًا، وكان يُجيز على الشعراء بألوف، ومدحه الفرزدق والأخطل وجرير. وفيه يقول الأخطل: حتى (¬3) استوى بشر على العراقِ ... من غير سيفٍ ودمٍ مِهْراقِ (¬4) وفيه يقول جرير: بَعِيدُ مُرادِ الطَّرْفِ لم يَثْنِ طَرْفَهُ ... حِذارَ الغَوَاشي بابُ دارٍ ولا سترُ ولو شاء بِشْرٌ حَلَّ مِنْ دونِ بابِه ... طماطمُ سودٌ أو صقالبةٌ حُمْرُ (¬5) [قال المدائني: ] وقحط الناسُ في أيام بِشْر، فاستسقى وهو معهم بالكوفة، فمُطروا، فقال سُراقة [بن مرداس] البارقي [في ذلك]: دعا الرحمنَ بِشْرٌ فاستجابا ... لدعوتِه فأسقانا السَّحَابا وكان دعاءُ بِشرٍ صَوْبَ غَيثٍ ... يُعاشُ به ويُحيي من أصابا [قال: ] ثم مرَّ بشرٌ بسُراقة بعد ما سُقوا، فرأى الماءَ يدخلُ في داره وهو يحوِّلُه بمِسْحَاة، فقال بشر: يا سُراقة، ما هذا؟ فقال: هذا ولم ترفَعْ يَديك بالدعاء، فلو رفعتَهما لجاءنا الطُّوفان! فضحك بشر (¬6). وهو أول من أحدث الأذان للعيد بالكوفة، فأنكر الناس ذلك وأعظموه (¬7). ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق: سنة أربع وسبعين. واستخلف بشر على الكوفة (لما قدم البصرة) عَمْرَو بنَ حُرَيث. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 345، و "تاريخ دمشق" 3/ 352. (¬3) في (أ): قد. (¬4) ذكره الجوهري في "الصحاح" (سَوى) دون نسبة، ونسبه للأخطل ابنُ عطية في "المحرر الوجيز" 1/ 115. (¬5) أنساب الأشراف 5/ 347. ونُسب الشعر في "تاريخ دمشق" 3/ 352 (مصورة دار البشير) لأيمن بن خريم. (¬6) أنساب الأشراف 5/ 347 - 348. وما سلف بين حاصرتين من (م). (¬7) أنساب الأشراف 5/ 349 - 350، وتاريخ دمشق 3/ 354 (مصورة دار البشير) ونُسب الخبر. في (م) لهشام. ووقع في (ب): واستعظموه، بدل: وأعظموه.

ذكر وفاته: [قال المدائني: ] كان قد شرب البناذر (¬1) بطُوس، وقدم البصرة عليلًا، فلما اشتدَّت به العلَّة استدعى بيادوق (¬2) الحكيم، وقال له: اكشف مرضي، فأخذ بيادوق يغمز أعضاءه عضوًا عضوًا، فحبسَ جميعَ بدَنهِ وهو مُلْقًى، ثم أخذَ خيطًا من إبْرَيسَم، وربط فيه قطعةً من لحم، وقال: ابْلَعْها. فبلَعَها، ثم أخذ يغمزُ أطرافَه وجسمَه ساعة، ثم غافلَه وجذَبَها، فطلَعَتْ وعليها دُود، فقال: أيُّها الأمير، اعْهَدْ عهدَك، واكتُبْ وصيَّتَك فقد وقَعَت الأَكَلَةُ في جوفك. فقال بشر: واللهِ لقد كَنَنْتُ (¬3) نفسي من الحَرِّ بالثلوج والبادهنجات (¬4) والأماكن الباردة، وكَنَنْتُها في البرد باللُّبُود والنيران والأماكن الحامية خوفًا من مثل هذا، فقال له بيادوق الحكيم: لا جرم فعلتَ بنفسك هذا، ومنه أُتِيتَ. قال: ولمَ؟ قال: لأنَّ الله أجرى العادةَ أنَّ الأبدانَ لا تقوم إلا بالحَرِّ والبرد، وهذا قانونُ الحكمة الإلهية، فعكَسْتَه أنتَ، فأصابَك هذا (¬5). [وقال هشام: ] ولما احتُضر [بِشْر] جعل يبكي ويقول: واللهِ وَدِدْتُ أني كنتُ عبدًا حبشيًّا لِأسوأ أهلِ البادية؛ أرعى غنمهم ولا أدخلُ فيما دخلتُ فيه. وبلغ الحسنَ البصريّ فقال: الحمد لله الذي جعلهم يفرُّون إلينا عند الموت، ولا نفرُّ إليهم، إنهم لَيَروْن فينا غِيَرًا, وإنَّا لَنرى فيهم عِبرًا (¬6). [وذكر ابن أبي الدنيا أن القائل لهذا الكلام سفيان الثوري] (¬7). ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 5/ 361 و 363: التياذر. وفي (م): كان قد شرب بالكوفة البياذر بطوس. وفي "النجوم الزاهرة" 1/ 192: البلاذر. (¬2) في (م): بيادوف. (¬3) انتهى خرم من (ص) عند هذا الموضع. (¬4) جمع البادهنج. قال الخفاجي في "شفاء الغليل" ص 70 - 71: هو معرّب بادخون، أو بادير، وهو المنفذ الذي يجيء منه الريح. قال: وأجاد يعضهم في تسميته: راووق النسيم. (¬5) الخبر بنحوه في "المنتظم" 6/ 131. (¬6) تاريخ دمشق 3/ 357 (مصورة دار البشير) وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬7) ما بين حاصرتين من (ص). وقد تحرَّف اسم سفيان في المصدر السابق إلى: شقيق.

[قلت: حكى أبو القاسم ابن عساكر عن أبي مُسهر، عن الحَكَم بن هشام حكايةً غريبةً في وفاة بِشْر بن مروان؛ قال الحَكَم: ولَّى عبدُ الملك بنُ مروان أخاه بِشْرَ بنَ مروان العراقَين، فلما وصلَ إلى العراق كتب إليه: يا أمير المؤمنين، قد شغلتَ إحدى يديّ -وهي اليسرى- وبقيَتْ اليمنى فارغة، لا شيءَ فيها. فكتب إليه عبد الملك: قد شغلتُ يمينك بمكةَ والمدينةِ والحجازِ واليمن. فما بلغه الكتاب حتى وقعت القَرْحةُ في يمينه، فقيل له: اقْطَعْها من مَفْصلِ الكَفّ. فجَزع، فما أمسى حتى بلغت المرفق، فأصبح وقد بلغت الكتف، وأمسى وقد خالطت الجوف]. وكتبَ بشر إلى عبد الملك: أمَّا بعد، يا أمير المؤمنين، فإني كتبتُ إليك وأنا في أوَّل يوم من أيام الآخِرة، وأخِرِ يوم من أيَّام الدنيا. وكتب في أسفله: شكوتُ إلى الله الذي قد أصابني ... من الضُّرِّ لمَّا لم أَجِدْ لي مُدَاويا فؤادٌ ضعيفٌ مستكين لِما بِهِ ... وعظمٌ بدا خِلْوًا من اللحم عاريا فإنْ مِتُّ يا خيرَ البريَّةِ فالْتَمِسْ ... أخًا لك يُغني عنك مثلَ غَنَائيا يُواسيك في السَّرَّاء والضُّرِّ جَهْدَهُ ... إذا لم تجِدْ عند البلاءِ مُواسِيا فجَزعَ (¬1) عبدُ الملك، وأمرَ الشعراءَ فرَثَوْه (¬2). [قلت: وهذه الحكاية وهم؟ لإجماع المؤرخين أن صاحب الأَكَلة في يده إنما هو زياد بنُ أبيه. أمَّا بِشْرُ بنُ مروان فمات بغير هذه العلة كما قال المدائني] (¬3). وقال الحسن البصري (¬4): قدم علينا بِشْر بن مروان البصرة -وهو أبيضُ بَضٌّ، ابنُ خليفة، وأخو خليفة- واليًا على العراق، فأتيتُ دارَه، فلما نظر إليَّ الحاجبُ قال: يا شيخ، مَنْ أنت؟ قلت: الحسن. قال: ادْخُلْ ولا تُطل الحديثَ مع الأمير، واجعل ¬

_ (¬1) المثبت من (ص). وفي غيرها: فخرج. وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 5/ 216. (¬2) تاريخ دمشق 3/ 356 - 357، وما سلف بين حاصرتين من (ص). وجاء هذا الخبر فيها بعد الخبر التالي. (¬3) ما بين حاصرتين من (ص). (¬4) نُسب الخبر في (ص) للأصمعي عن الحسن البصري.

الكلامَ يدور بينك وبينه جوابًا، لا (¬1) تُثقل عليه. قال: فدخلتُ، وإذا بِشْرٌ على سرير، عليه فَرْشٌ قد كادَ أن يغوصَ فيها، وعلى رأسه رجلٌ قائم مُتَّكئ على سيف، فسلَّمتُ عليه، فقال: مَن أنتَ يا شيخ؟ قلت: الحسن. قال: فقيهُ هذه المَدَرَة؟ قلت: نعم. قال: فاجلسْ، ثم قال: ما تقول في زكاة أموالنا؟ أندفعُها إلى السلطان، أم إلى الفقراء؟ فقلتُ: أيَّ ذلك فعلتَ أجزأَك، فتبسَّم، ثم رفعَ رأسَه إلى القائم على رأسه وقال: لأمرٍ ما يسودُ مَنْ يسود. وجعل يُديمُ النَّظَرَ إليَّ، فإذا أقبلت بطَرْفي إليه؛ شغلَ طَرْفَه عنّي، وإذا مِلْتُ عنه صوَّب فيَّ النَّظَر، ثم قمت واستأذنتُ في الانصراف، فقال لي: مُصاحَبًا محفوظًا. ثم عُدْتُ إليه آخِرَ النهار وقد انحطَّ من سريره وهو يتململ، فقلت: ما للأمير؟ قالوا: محموم. فلما كان من الغد اجتزتُ بباب القصر، وإذا النَّواعي تنعاه، وقد جُزَّتْ نواصي الخيول والمسوح على العبيد، وأخرجت جنازته، فدفن إلى جانب سالم (¬2) بن زياد. ومات في ذلك اليوم عبدٌ حبشيّ، فدفن إلى جانبه، ثم مَرَرْتُ بعد أيام فلم أُميِّز بين القبرين، فقلت: قبَّحكِ اللهُ من دنيا آخِرُها هذا. وأنشدَ الحسن: والعطياتُ عواري بينَهمْ ... وسواءٌ بين مُثْرٍ ومُقِلّ (¬3) وجاء الفرزدق وبيده فرس (¬4) يقودُه كان قد أعطاه إيَّاه بشرٌ، فلما دُفن؛ عقَرَه على قبره وقال: أعيناي إلَّا تُسعداني أَلُمْكُما ... فما بعدَ بِشْرٍ من عَزَاءٍ ولا صَبْرِ ألم ترَ أن الأرض دُكّتْ جبالُها ... وأنَّ نجومَ الليلِ بعدَك لا تسري ستأتي أميرَ المؤمنين مصيبةٌ ... وتمضي إلى عبد العزيز إلى مصرِ بأنَّ أبا مروان بشرًا أخاكما ... ثَوَى غير متبوع بمنٍّ ولا غَدْرِ ¬

_ (¬1) في (ص): لئلا. (¬2) المثبت من (ص)، وهو كذلك في "تاريخ" دمشق 3/ 355، وفي النسخ الأخرى: سلمة. وفي "أنساب الأشراف" 5/ 361: سَلْم. (¬3) تاريخ دمشق 3/ 357 (مصورة دار البشير). (¬4) في (ص): وقال الهيثم: ومشى الفرزدق في جنازته وبيده ...

ولو أن قومًا قاتَلُوا الموتَ قبلَنا ... بشيءٍ لقاتلنْا المنيَّةَ عن بِشْرِ ولكنْ فُجِعْنا والرَّزِيَّةُ مثلُه ... بأبيضَ ميمونِ النَّقِيبةِ والأمرِ فإن لا تكنْ هندٌ بكَتْه فقد بكَتْ ... عليه الثُّرَيَّا في كواكبها الزُّهْرِ ولا أحدٌ ذو فاقةٍ كان مثلَنا ... إليه ولكنْ لا بقيَّةَ للدهرِ أقول لِمَحْبوكِ السَّرَاةِ مُعاودٍ ... سِبَاقَ الجِيادِ قد أُمِرَّ على شَزْرِ ألستَ مَلُولًا إنْ ركبتُك بعدَهُ ... ليومِ رِهانٍ أو غدوتَ معي تجري حلفتُ له لا أركبُ الدهرَ بعدَه ... على فرسٍ حتى يكُوسَ على القبرِ (¬1) كاسَ الفرسُ والبعيرُ: إذا مشى على ثلاث قوائم وهو مُعَرْقَبٌ (¬2). وتوفّي بِشْر في صفر سنة أربع وسبعين بالبصرة، وكان قدومه إليها لهلالِ ذي الحِجَّة سنة ثلاث وسبعين، فكانت ولايته عليها شهرين وأيامًا، ووليَ الكوفةَ ستة أشهر. وقيل: توفّي سنة ثلاث وسبعين. وقيل: وليَ العراق سنة أربع وسبعين، ومات أول سنة خمس وسبعين. والله أعلم (¬3). ذكر أولاد بِشر: كان له من الولد: الحَكَم، وأمُّه أمُّ كلثوم بنت أبي سَلَمة بن عبد الرحمن بن عوف. وعبد الملك، وأمُّه هند بنت أسماء بن خارجة الفزاري، وكان جوادًا (¬4). وابناه الحَكَم وأَبان ابنا عبد الملك بن بشر، قُتلا مع ابنِ هُبيرة بواسط (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 361 - 362، و "تاريخ دمشق" 3/ 358، و "ديوان" الفرزدق 1/ 217 - 218. (¬2) أي: قُطع عُرْقُوبُه، وهو من الدابَّة في رِجْلها بمنزلة الرُّكبة في يدها. ولم يرد قوله: كاس الفرس ... إلخ في (ص). (¬3) جاءت هذه الفقرة في (ص) على السياق التالي: واختلفوا في وفاته، فقال خليفة: قدم البصرة لهلال ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين، وتوفّي في صفر سنة أربع وسبعبن، فكانت ولايته عليها شهرين وأيامًا، ووليَ الكوفة ستة أشهر. وقال الواقدي: توفي سنة ثلاث وسبعين. وحكى أبو القاسم الحافظ عن الوليد بن هشام، عن أبيه، عن جده قال: ولي بشر العراق [سنة] أربع وسبعين (وقع فيها: ستين، وهو خطأ) ومات في أول سنة خمس وسبعين، فكانت ولايته على الكوفة إلى أن جُمعت العراقان نحوًا من شهرين، وكانت وفاته بالبصرة. وقول الواقدي أصح. (¬4) نسب قريش ص 169، وأنساب الأشراف 5/ 363 - 364. (¬5) أنساب الأشراف 5/ 365. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 455 - 456.

جابر بن سمرة

وعبد العزيز بن بشر، وأمُّه ابنةُ خالد بن عقبة بن أبي مُعَيط (¬1)، ولَّاه مسلمةُ بن عبد الملك البصرة، ثم عزله عنها (¬2). وليس لبشر بن مروان رواية. جابر بن سَمُرَة ابن جُنادة بن جُنْدب السُّوائي. [قال ابن سعد] (¬3) صحبَ أبو سَمُرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الشمس، فقال له: "تحوَّلْ إلى الظِّلّ، فإنه مبارك". [قال: وحالفَ سَمُرةُ بنُ جُنادة بني زُهْرَة بن كلاب، ونزل الكوفةَ، وله بها عقب. قال: وابنُه جابرُ بنُ سَمُرة كنيتُه أبو عبد الله، وكان له من الولد خالد، وطليحة، وسالم (¬4). ونزل جابرٌ الكوفة أيضًا، وابتنى بها دارًا في بني سُواءة بن عامر، وتوفّي بالكوفة في خلافة عبد الملك بن مروان، وقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث] (¬5). و[ذكر ابن سعد] (¬6) جابر [بن سَمُرة] وأباه سَمُرَة من الطبقة الرابعة من الصحابة الذين أسلموا من قبائل العرب. [ورجع من رجع منهم إلى بلاد قومه. هذا صورة ما ذكر ابن سعد. وقال الواقدي: ] مات جابرٌ بالكوفة سنة أربع وسبعين [في ولاية بشر بن مروان. وقال البخاري: مات بعد المختار. ولم يعيِّن سنة. قال: وصلَّى عليه عَمرو بنُ حُريث] (¬7). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 364. وجاء في "نسب قريش" ص 169 أن أمّ عبد العزيز بن بشر هي أمّ حكيم بنت محمَّد بن عمارة بن عقبة بن أبي معيط. (¬2) هذا الكلام يعود على عبد الملك بن بشر، ولا على أخيه عبد العزيز. ينظر "أنساب الأشراف" 5/ 364 و 365. (¬3) في "الطبقات" 6/ 205. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) في "الطبقات" 6/ 206: طلحة وسَلْم. (¬5) من قوله: قال وحالف سمرة ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). وهو في المصدر السابق. (¬6) المصدر السابق. (¬7) كلُّ ما سلف بين حاصرتين من (ص). ولم أقف على قول البخاري.

وقيل: إنه مات في سنة ستّ وسبعين. أسندَ جابر بن سَمُرة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأخرج له الإِمام أحمد ثلاثة وثلاثين حديثًا، منها في "الصحيحين" خمسة وعشرون، اتَّفقا على حديثين، وباقيها لمسلم. وليس في الصحابة من اسمُه جابر بن سَمُرَة غيره] (¬1). وروى عن عُمر، وسَعْد بن أبي وقَّاص، وأبي أيُّوب الأنصاري - رضي الله عنهم-، وغيرهم. وسمع خطبةَ عمر رضوان الله عليه بالجابية، وروى عنه الشعبيُّ، وعبدُ الملك بن عُمير، وسِماك بنُ حَرْب في آخرين. [ومن مسانيد جابر: قال الإِمام أحمد بإسناده عن عُبيد الله بن القِبْطِيَّة قال: سمعتُ جابرَ بن سَمُرة يقول: كنَّا خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّمنا نقول: السلام عليكم، السلام عليكم، يُشير أحدُنا بيده عن يمينه وشماله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالُ الذين يُومِئُون بأيديهم في الصلاة كأنها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ، ألا يكفي أحدهم أن يضع يده على فخذه، ثم يُسلّم عن يمينه وشماله". انفرد بإخراجه مسلم (¬2). ولمسلم أيضًا في هذا الحديث عن جابر بن سَمُرة قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فأبصرَ قومًا قد رفعوا أيديَهم في الصلاة، فقال: "قد رفعوها كأنَّها أذنابُ الخيل الشُّمْس، اسْكُنُوا في الصلاة" (¬3). قلت: وقد اختلف العلماء في رفع اليدين بالتكبير في الصلاة، وقد قرَّرناه في "شرح البداية". وقال الجوهري: الشَّمُوس من الخيل الذي يمنع ظهرَه من الركوب عليه لصعوبته. يقال: فرسٌ شَمُوس، والعامَّة تقول: شَمُوص، بالصاد، وهو غلط. ورجلٌ شَمُوس أيضًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ص). وينظر "مسند" أحمد (18771) - (18772) و (20802) (21051)، و "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 389، وذكر ابن الجوزي فيه ص 364 أن لجابر بن سَمُرة مئة وستة وأربعين حديثًا. (¬2) مسند أحمد (20972)، وصحيح مسلم (431). وقوله: انفرد به مسلم، أي: عن البخاري. (¬3) بنحوه عند مسلم (430). ولفظه لأحمد (20785).

رافع بن خديج

وأما أبوه سَمُرة بن جُنادة؛ فله صحبة ورواية, وليس في الصحابة مَن اسمُه سَمُرة بن جُنادة غيرُه] (¬1). رافع بن خَدِيج ابن رافع بن عديّ بن تَزِيد بن جُشم بن حارثة الأنصاري، من الطبقة الثانية (¬2) من الأنصار، وكنيتُه أبو عبد الله، وأمُّه حليمة بنت عروة بن مسعود، خزرجية. شهد رافعٌ أُحُدًا وما بعدها من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [قال ابن سعد: ] ورُمِيَ يوم أحد [أو: حُنين] (¬3) بسهم، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، اِنْزَعِ السَّهْمَ. فقال: "يا رافع، إنْ شِئْتَ نَزَعتُ السهمَ والقُطْبَ جميعًا، وإنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ وتركْتُ القُطْبَ، وشهدتُ لك يومَ القيامة بأنك شهيد". فقال: لا، بل انْزَعِ السَّهْم. فنزع [رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -] السَّهْم، وترك القُطْب، وهو النَّصْل [ويقال: القُطْبة. وقال ابن سعد بإسناده عن رجاله قال: أصابَ رافعَ بنَ خَدِيج سهمٌ يومَ أُحد في تَرْقُوَتِه إلى عَلَابِيِّهِ، فتركه] لِقولِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فكان دهرًا لا يُحِسُّ منه شيئًا، فإذا ضحك فاستغربَ؛ بدا (¬4). [قال ابن سعد: ] وكان رافع يُحفي شاربَه كأخي الحَلْق (¬5). واختلفوا في وفاته، فحكى ابنُ سعد قولين: أحدهما: أنه مات في خلافة معاوية بن أبي سفيان. ¬

_ (¬1) من قوله: ومن مسانيد جابر ... إلى هذا الموضع، (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬2) المثبت من (ص)، وفي غيرها: الثالثة، وهو في "طبقات" ابن سعد 4/ 272. (¬3) ما جرت حاصرتين من (ص). والخبر في "طبقات" ابن سعد 4/ 272. وهو أيضًا في "مسند" أحمد (27128) وفيه: أو خيبر. (¬4) طبقات ابن سعد 4/ 273، وما بين حاصرتين من (ص). والعَلَابِيّ جمع العِلْباء، وهي العَصَبة الممتدَّة في العنق. (¬5) المصدر السابق 4/ 274.

والثاني: في سنة أربع وسبعين. فأما القول الأول، فقال: حدثنا حفص بن عُمر البصري (¬1) عن أشياخه، وذكر حديث السَّهم، وأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزعَ السهم وترك القُطبة؛ قال: فعاش رافعٌ حياةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، حتى إذا كان في خلافةِ معاوية؛ انتقضَ به ذلك الجُرْح، فمات منه بعد العصر، فأُتيَ ابنُ عمر، فأُخبرَ بموته، فترحَّم عليه وقال: إن مثلَ رافع لا يُخرَج حتى يُؤْذَن مَنْ حولَنا من القُرى. فلما أصبحوا خرجوا بجنازته، حتى إذا صُلِّيَ عليه؟ جاء ابنُ عمر، فقعدَ على رأس القبر، فصرخَتْ مولاةٌ لرافع، فقال ابن عمر: أما لهذه السفيهة -أو الحمقاء- أحد، ثم عادت، فقال: لا تُؤْذوا الشيخَ، فإنَّه لا طاقة له بعذاب الله (¬2). [وفي رواية: ومعه امرأةٌ تندبُه، فقال ابن عمر: لا تعذِّبيه، فإن الميِّت يُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه. فقال ابن عباس: إن الميِّتَ لا يعذَّبُ ببكاء الحيِّ عليه. وهذه الرواية ذكرها ابن سعد، فقال: حدَّثنا يزيد بن هارون بإسناده عن يوسف بن ماهَك قال: رأيتُ ابنَ عمر أخذ بعمودَي جنازة رافع، فحمله على منكبيه يمشي بين يدي السرير، حتى انتهى إلى القبر. وقال ابن عُمر: إن الميِّت يعذَّب ببكاء الحيِّ عليه. فقال ابنُ عبَّاس: إن الميِّت لا يُعذَّبُ ببكاء الحيِّ عليه (¬3). قلت: فإن صحَّت هذه الرواية؛ فقد مات رافع قبل السبعين؛ لأن ابنَ عبَّاس مات سنة ثمان وستين. ¬

_ (¬1) العبارة في (أ) و (ب) و (خ) و (د): ومات رافع سنة أربع وسبعين، وقيل: في خلافة معاوية. قال حفص بن عمر البصري ... الخ. وأثبتُ عبارة (ص) لأنها أتم ولتعلُّقها بما سأزيده بين حاصرتين منها. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 272 - 273. (¬3) المصدر السابق 4/ 275. وقد أخرج البخاري (1289) ومسلم (932): (27) عن عائشة - رضي الله عنها - وذُكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إنَّ المِّيت لَيُعَذبُ ببكاء الحيِّ. فقالت عائشة: يغفرُ اللهُ لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسيَ أو أخطأ، إنَّما مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يُبْكَى عليها، فقال: "إنهم ليبكون عليها، وإنَّها لَتُعَذَّبُ في قبرها". واللفظ لمسلم ..

وفي رواية ابن سعد عن ابن عمر أنه قال عن النساء الباكيات: مُفتِنات الأحياء، مُؤذِيات الأموات (¬1). والقول الثاني: قال ابنُ سعد بإسناده عن بشير بن يسار قال: مات رافع بن خَدِيج في أوّل سنة أربع وسبعين، وهو ابنُ ستّ وثمانين سنة، وحضر ابنُ عمر جنازته، ومات ابنُ عمر بعده في هذه السنة] (¬2). ذكر أولاده: فولدَ رافعٌ سهلًا، وعبدَ الرحمن، ورِفاعة، وعُبيد الله، وزيادًا، وعائشةَ، وأمَّ عَبدِ الله، أُمُّهم أسماءُ بنتُ زياد بن طَرَفة، من النَّمِر بن قاسط. وعبدَ الله، أُمُّه لُبْنى بنت قُوَّة، من قيس عَيلان. وأُسيدًا، وأُمامةَ؛ لأمِّ ولد. وإبراهيمَ، وأمُّه [أمُّ] ضَمْرة بنت أبي حَثْمة، من الأوس. وعبدَ الحميد؛ لأمِّ ولد. وحبابةَ، وأمُّها أمَّ محمَّد بنت محمَّد بن مسلمة، من بني حارثة. ولرافع عقب كثير بالمدينة وبغداد. وكان له أخٌ لأبيه وأمِّه اسمُه رِفاعة، صحبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وله عقب (¬3). وعمَّاه: ظُهَير ومُظْهَر ابنا رافع بن عَدِيّ، من الطبقة الثانية من الأنصار. شهد ظُهَير [بن رافع] العقبة مع السبعين [من الأنصار في رواية العلماء باتفاقهم] وأُحُدًا، والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه حديثًا. [فقال ابن سعد بإسناده عن ظُهير بن رافع الحارثي، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ صَلَّى في مسجد قُباء يوم الاثنين والخميس انقلبَ بأجر عُمرة". ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) المصدر السابق، دون قوله: ومات ابن عمر بعده في هذه السنة. ومن قوله: وفي رواية: ومعه امرأة تندبه ... إلى هذا الموضع، (وهو ما جاء بين حاصرتين) من (ص). (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 272. ولفظة "أمّ" السالفة بين حاصرتين منه.

وكان لظُهير بن رافع من الولد: أُسيد، وعُميرة (¬1)، وأمُّهما فاطمةُ بنتُ بشر بن عديّ، خزرجيَّة، وعبد الرحمن لا عقبله، ولأمّ ولد] (¬2). ومُظْهَر [بن رافع] شهدَ أُحُدًا والمشاهدَ كلَّها، وأدركَ خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وكان سببَ إجلاء اليهود من خيبر؛ قال ابن سعد: أخبرنا محمَّد بن عمر، حدثني محمَّد بن يحيى بن سهل بن أبي حَثْمَة، عن أبيه قال: أقبلَ مُظْهَر بنُ رافع الحارثي بأعلاج من الشام عشرة ليعملوا له في أرضه، فلما نزل خيبر؛ أقام بها ثلاثًا، فحرَّضت يهودُ خيبر الأعلاج على قتل مُظْهَر، فلما خرج من خيبر وصار بِثِبار (¬3)؛ وثَبُوا عليه، فقتلوه، وانصرفوا إلى خيبر، فزوَّدتهم يهود، فلحقوا (¬4) بالشام، وبلغَ عمرَ - رضي الله عنه - الخبرُ، فقال: إني خارجٌ إلى خيبر، فقاسمٌ ما كان بها من الأموال، وحادٌّ حدودَها، ومُجْلٍ يهودَ منها، فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال [لهم]: "أُقِرُّكُم ما أَقَرَّكُم الله". وقد أَذِنَ الله في جَلائهم، ففعلَ ذلك بهم (¬5). أسند رافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[أحاديث، قال قوم: ] ثمانية وسبعين حديثًا. [وأخرج له الإِمام أحمد عشرين حديثًا، منها في "الصحيحين" ثمانية، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة (¬6). وليس في الصحابة من اسمُه رافع بن خَدِيج سواه] (¬7). ¬

_ (¬1) في (ص) (والكلام منها): عُمير، وهو خطأ. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 4/ 271، ولها ترجمة فيه أيضًا 10/ 309. (¬2) المصدر السابق، والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬3) موضع على ستة أميال من خيبر. "معجم البدان" 2/ 72. (¬4) المثبت من (ص)، وفي غيرها: فألحقوا. (¬5) الكلام في "طبقات" ابن سعد 4/ 271 - 272. وعلَّق البخاري في "صحيحه" حديث عمر بصيغة الجزم قبل الحديث (3167). وأخرجه بنحوه (2730) مطوَّلًا، ومسلم (1551) مختصرًا من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬6) ينظر "مسند" أحمد (15803) ... (15829) و (17256) ... (17290). و "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 391، وذكر فيه ابن الجوزي ص 365 أن لرافع ثمانية وسبعين حديثًا. (¬7) كل ما سلف بين حاصرتين من (ص).

أبو سعيد الخدري

أبو سعيد الخُدْريّ واسمُه سَعْد بن مالك بن سِنان بن ثعلبة بن عُبيد بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج. [واختلفوا في خُدْرَة، فقال ابن سعد (¬1): هو الأبجر؛ قال: وزعم بعضهم أن خُدْرَة هي أمُّ الأبجر. وقال هشام: خُدْرَة جدٌّ من أجداده، من غير تعيين. وقيل: إن خُدْرَة قبيلة من اليمن. وأشار إليه الجوهري، فقال: خُدْرَة: حيٌّ من الأنصار، منهم أبو سعيد الخُدري. وقيل: خُدْرَة وخُدارة بطنان (¬2) من الأنصار] (¬3). واسمُ أمِّه أُنَيسة بنت أبي خارجة [وهو عَمرو بن قيس بن مالك بن عديّ بن عامر بن غنم بن عديّ بن النجَّار]. وأخو أَبي سعيد الخدري لأُمِّه قتادة بن النعمان الظَّفَري [من أهل بدر]. وأبوه مالك بن سِنان استُشهد يوم أُحد، وكان من الرماة [وقد ذكرناه]. وأبو سعيد من الطبقة الثالثة من الأنصار. [وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: ] استُصْغِرَ يومَ أُحد، فرُدَّ. قال: [وقال] أبو سعيد: فخرجنا نتلقَّى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حين أقبلَ من أُحُد ببطن قناة، فنظرَ إليَّ وقال: "سَعْدُ بنُ مالك؟ " قلت: نعم، بأبي أنتَ وأمِّي، فدنوتُ منه، فقبَّلتُ ركبتَه فقْال: "آجَرَكَ اللهُ في أبيك". وكان قُتِلَ يومئذٍ شهيدًا (¬4). ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 5/ 350 - 351. (¬2) قبلها في (ص) (والكلام منها) لفظة: وهي، والمثبت من "تاريخ دمشق" 7/ 185 (مصورة دار البشير). (¬3) من قوله: واختلفوا في خُدرة ... إلى هذا الوضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 351. وكلُّ ما وقع بين حاصرتين من أول الترجمة من (ص).

[وحكى ابن سعد عن الواقدي] قال أبو سعيد: عُرِضْتُ يومَ أُحُد على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابنُ ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً، فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسول الله، إنَّه عَبْلُ العِظام، وإن كان مُودَنًا (¬1). وجعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصعِّدُ فيَّ ويصوِّب، ثم قال: "رُدَّه". فَردَّه. [وقال الواقدي: ] وأوَّلُ مغازيه غزوةُ بني المصطلق؛ خرج فيها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشرةَ سنة. [قال: ] وشهد الخندق وما بعدها [من المشاهد] مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). [وقد ذكرنا في غزاة أُحد رَدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - له ولغيره]. وكان أبيض الرأس واللحية، ويُحفي شاربَه، ويأتزرُ إلى أنصاف ساقيه، ويلبسُ الخَزّ (¬3). [وقد حكَينا عنه أنه يوم الحَرَّة دخل غارًا، فدخل رجل من أهل الشام خلفه ليقتله، فلما قال له: أنا أبو سعيد خرج وتركه. وحكى ابن سعد عن الواقدي، عن يعقوب بن محمَّد، عن هند بنت سعيد بن أبي سعيد (عن أبيها، عن أبي سعيد) قال: لزمتُ بيتي لياليَ الحرَّة، فلم أخرج، فدخل عليَّ نفرٌ من أهل الشام، فقالوا: أيُّها الشيخ، أَخْرِجْ ما عندك. فقلتُ: واللهِ ما عندي مال. قال: فنتفُوا لحيتي وضربوني، ثم نقلوا من بيتي ما خفَّ لهم من المتاع، حتى إنهم عمدوا إلى وسادة وفراش، فنفضوا ما كان فيهما من الصوف، وأخذوها، وأخذ واحد منهم زوج حمام كان في البيت، وخرجوا (¬4). وذكره ابن عبد البر فقال: ] وكان من الحُفَّاظ المكثرين، والعلماء العقلاء الفضلاء [وأخباره تشهدُ له بتصحيح هذه الجملة، وأول مشاهده الخندق، وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة غزوة. وحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا كثيرًا، وروى عنه علمًا جمًّا (¬5). ¬

_ (¬1) العَبْلُ: الضَّخْمِ من كلّ شيء، والمُودَن: القصير العُنق والألواح واليَدَين. (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق 5/ 354. (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 354 - 355، وما سلف بين قوسين عاديين منه. (¬5) بنحوه في "الاستيعاب" ص 286. وكل ما سلف بين حاصرتين من (ص).

[وذكره ابن عساكر وقال: ] وقدم الجابية مع عمر - رضي الله عنه -، وقدم دمشقَ على معاوية، فدخل عليه وهو في مجلسه وهو غاصٌّ بأهله، فقال: يا معاوية، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يمنعنَّ أحدَكم مخافةُ الناس أن يقولَ الحقَّ -أو يتكلم بالحقّ- إذا علمه". فما بالُك يا معاوية، تأخذُ الصدقةَ من غير وجهها وتضعُها في غير أهلها؟ وما بالُك تُؤثر بعض أولادك على البعض، والله تعالى يقول: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]. ثم عدَّد أفعال معاوية، وركب من يومه إلى المدينة. فأرسلَ وراءَه بجائزة وصِلة كثيرة، فردَّها وقال لرسوله: قل له. ما أتيتُك إلا لأعظَك في الله. ولم يأخذ منه شيئًا (¬1). [وذكره الخطيب فقال: ] قدم أبو سعيد المدائن في حياة حذيفة بن اليَمان، وشهد حرب الخوارج مع علي - عليه السلام - (¬2). [ذكر وفاته - رضي الله عنه - ذكر الواقدي وهشام وغيرهما أنه] توفّي بالمدينة في سنة أربع وسبعين يومَ الجمعة في رجب، ودُفن بالبقيع، وله أربع وتسعون سنة، - رضي الله عنه - (¬3). ذكر أولاده [قال ابن سعد: ] (¬4) فولدَ عبدَ الله، وحمزةَ، وسعيدًا, وعبدَ الرحمن، وأمُّهم أمُّ عبد الله بنت عبد الله بن الحارث، من الأوس. وأمَّ عبد الرحمن؛ لأمِّ ولد. وعبدُ الرحمن بن أبي سعيد كنيتُه أبو محمَّد، مات بالمدينة سنة اثنتي عشرة ومئة. وكان لعبده الرحمن ابنان: عبد الله، ورُبَيْح، ورُبَيْح ضعيف [في الحديث، وليس بثبت] (¬5). [قلت: ورُبَيْح هو الذي روى حديث التسمية على الوضوء. والحديثُ أخرجه الإِمام أحمد والترمذي. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 7/ 180 و 182 (مصورة دار البشير) دون قوله: فأرسل وراءه بجائزة ... الخ. (¬2) تاريخ بغداد 1/ 532، و "تاريخ دمشق" 7/ 185، وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) ينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 355، و "تاريخ دمشق" 7/ 193 - 194. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) في "الطبقات" 5/ 351، والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬5) نُسب الكلام في (ص) لابن قُتيبة، وهو في "المعارف" ص 268، والكلام بين حاصرتين من (ص).

قال الإِمام أحمد بإسناده إلى رُبَيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخُدري، عن أبيه، عن جدِّه أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وضوءَ لِمَنْ لا يذكرُ اسمَ الله عليه". قال الترمذي: هذا حديث حسن (¬1). وبهذا الحديث أخذ الإِمام أحمد في وجوب التسمية على الوضوء، وعنه روايتان؛ في رواية أنها مستحبَّة يقول الجماعة، والثانية أنها واجبة. ثم ضعَّف الإِمام أحمد حديث رُبيح هذا، فقال وقد سُئل عن التسمية: أواجبةٌ هي، أم لا؟ قال: سنّة. قيل له: فحديث أبي سعيد؟ فقال: رواه كثير، عن رُبَيح، عن أبي ثِفال المُرِّي (¬2)، ومَنْ رُبَيح؟ مَنْ أبو ثِفال؟ كأنه ضعَّف روايته] (¬3). أسند أبو سعيد الخُدْريُّ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[أحاديث، واختلفوا فيها؛ قال قوم]: ألف حديث ومئة وسبعين حديثًا؛ أُخرج له في "الصحيحين" مئة واحد عشر حديثًا؛ اتَّفقا على ثلاثة وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين حديثًا (¬4). وأخرج له الإِمام أحمد من هذه الجملة مئتين وثمانية وثمانين حديثًا، منها متَّفق عليها، ومنها أفراد] (¬5). وروى [أبو سعيد] عن الخلفاء الأربعة - رضي الله عنه -، وعن زيد بن ثابت، وعبد الله بن سَلَام، وأبي قَتادة الأنصاري، و [عن أخيه لأمّه] قتادة بن النعمان، وغيرهم. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (11370)، وأخرجه الترمذي في "العلل الكبير" 1/ 112، ولم يُخرّجه في "سننه" من هذا الوجه، إنما أخرجه فيها (25) من طريق عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي ثِفال المُرِّي، عن رَباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب، عن جدَّته، عن أبيها. واسم الصحابي سعيد بن زيد كما ذكر الترمذي. ثم إن التِّرمذي لم يحسِّنْه، وإنما نقل بإثر الحديث عن البخاري قوله: أحسنُ شيء في هذا الباب حديث رباح بن عبد الرحمن. وينظر "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي 1/ 354. (¬2) كذا وقع في (ص) (والكلام منها) وهو خطأ. فرواية رُبيح، غير رواية أبي ثِفال. وقد نقل ابنُ عبد الهادي في "التنقيح" 1/ 357 عن أحمد قوله: مَنْ أبو ثِفال؟ وفي 1/ 358 عنه قوله: رُبيح ليس بمعروف، ونقل فيه أيضًا 1/ 357 عنه قوله: ليس في هذا حديث يثبت، وأحسنُها حديث كثير بن زيد. وينظر تفصيل المسألة فيه ثمة. (¬3) من قوله: قلت: ورُبيح هو الذي روى حديث التسمية ... إلى هذا الموضع (وجاء بين حاصرتين) من (ص). (¬4) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 363 و 392. (¬5) مسند أحمد (10985) ... (11940). والكلام بين حاصرتين من (ص).

سلمة بن الأكوع

وروى عنه من الصحابة: زيدُ بنُ ثابت، وابن عُمر، وابنُ عباس، وجابرُ بنُ عبد الله, وأنس بنُ مالك، وأبو أُمامة [بن] سهل بن حُنَيف، وطارق بنُ شِهاب، وغيرهم. وعمروى عنه من التابعين خلقٌ كثير، منهم سعيد بن المسيِّب، وأبو سَلَمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن أبي رباح، وعَمرو بن دينار، والحَسَن البصري، وابنُ سِيرِين، وأبو العالية، وسعيد بن جُبير، وغيرُهم (¬1). سَلَمة بن الأكوع [واسم الأكوع] سنان بن عبد الله بن قُشَير، من بني عامر ماء السماء (¬2). [وكنيتُه] أبو عامر، وقيل: أبو مسلم، وقيل: أبو إياس. [كذا نَسَبَهُ ابنُ سعد (¬3). وقال جدِّي رحمه الله في "جامع المسانيد": هو سَلَمة بن عَمرو بن سِنان (¬4). والأكوع هو سِنان، فهو جدُّ سلمة، وإليه يُنسب سلمة. وسَلَمة] من الطبقة الثالثة من المهاجرين. [وقال ابنُ سعد: ] أسلمَ الأكوع قديمًا هو وابناه عامر وسَلَمة. [وذكر الجميع في الطبقة الثالثة من المهاجرين؛ قال: ] وصَحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[جميعًا]. [فأما عامر بن الأكوع؛ فهو الذي قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسيره إلى خيبر: "انْزِلْ فأسْمِعْنا من هُنَيَّاتك". فنزل وقال: اللهم لولا أنتَ ما اهتدينا. الأبيات. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يرحمك الله". فقال عمر بن الخطاب: وجبت. وقال رجل من القوم: لولا متَّعْتَنا به يا رسول الله. (فاستُشهد عامر يوم خيبر، ذهب يضربُ رجلًا من المشركين) فرجع السيف عليه، فجرحه فمات. فحُمل إلى الرَّجيع، فقُبر مع محمود بن مَسْلَمة (في قبر) ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 7/ 180 (مصورة دار البشير)، و "تهذيب الكمال" 10/ 295 - 299. (¬2) في النسخ الخطية: عامر بن ماء السماء، وهو خطأ، فعامر هو ماء السماء. ونسبُه هكذا في "الإكمال" لابن ماكولا 4/ 445، وأخرجه عنه ابنُ عساكر 7/ 493 (مصورة دار البشير) ولعل الكلام منه، وينظر "جمهرة أنساب العرب" ص 331. (¬3) طبقات ابن سعد 5/ 208، ولم ينسبه إلى عامر ماء السماء، والذي نسبه كذلك ابن عساكر؛ أخرجه عن ابن ماكولا كما في التعليق قبله. ولعل ذلك وهم من صاحب (ص)، فالكلام منها، وهو الواقع بين حاصرتين. (¬4) وكذا نسبه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 7/ 491 (مصورة دار البشير).

في غار. فقال أُسَيد بن حُضير: حبط عمل عامر؛ قتلَ نفسَه. وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "له أجران". وقد ذكرنا القصة في غزاة خيبر. وأما سَلَمة بن الأكوع؛ فحكى ابنُ سعد: ] (¬1) قال سَلَمة: غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعَ غَزَوات، ومع زيد بن حارثة تسع غَزَوات حين أَمَّره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -[علينا]. [وقال ابن سَعْد: قال سَلَمة: غَزَوْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع (¬2) غزوات. فذكر الحُديبية، وخيبر، وحُنين، ويوم القَرَد، ولم يذكر البواقي. وقد ذكرنا غَزَاة ذات -أو: ذي- قَرَد لمَّا أغارت غَطَفان على لِقاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وتبعَهم سَلَمة بنُ الأكوع، وردَّ ما أخذُوا]. وكان سَلَمة ممَّن بايع تحت الشجرة؛ قال عبد الرحمن بن رزين (¬3) العراقي: أتَينا سَلَمة بن الأكوع -وكان بالرَّبَذَة- فأخرج إلينا يدَه ضخمةً كأنَّها خُفُّ البعير، فقال: بايعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هذه. فأخذنا يده فقبَّلْنَاها. قال ابن سعد (¬4): وفيه وفي أصحابه نزل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. قال: وكان لا يسألُه أحدٌ شيئًا لوجه الله تعالى إلا أعطاه، ويقول: من لم يُعْطِ لوجه الله فبماذا يعطي؟ ! وكان يكرهها ويقول: هي الإلحاف (¬5). [قال: ] وأجازه الحجّاج بن يوسف بجائزة، فقبلها، وكان عبدُ الملك يُجيزه فيقبل، وكان يكتب له بها إلى الكوفة (¬6). ¬

_ (¬1) من قوله: فأما عامر بن الأكوع ... إلى هذا الموضع (وهو ما وقع بين حاصرتين) من (ص). وما جاء فيه بين أقواس عادية من "طبقات" ابن سعد 5/ 209، والكلام منه. (¬2) في (ص) (والكلام منها وهو ما بين حاصرتين): تسع، وهو خطأ. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 5/ 210. وسلف نحوه. (¬3) في النسخ الخطية و "تاريخ دمشق" 7/ 500 (مصورة دار البشير): بن زبر، وفي رواية أخرى منه: بن رزيق، والمثبت من "سير أعلام النبلاء" 3/ 330، وترجمتِه في "تهذيب الكمال" 17/ 91. ولعل لفظة: "زبر" معرفة عن: يزيد، فقد ذكر المِزّي أنه يقال: ابن يزيد. (¬4) في "الطبقات" 5/ 212، وما قبله منه. (¬5) المصدر السابق. (¬6) المصدر السابق 5/ 213.

صفوان بن محرز

ومات سَلَمة - رضي الله عنه - بالمدينة سنة أربع وسبعين وهو ابنُ ثمانين سنة (¬1). وكان لما قُتل عثمان - رضي الله عنه - خرجَ سَلَمةُ إلى الرَّبَذَة، فأقام بها، وتزوَّج امرأةً، وولدت أولادًا, فلم يزل بها حتى قبلَ أنْ يموتَ بليالٍ؛ نزلَ المدينة (¬2)، وكُفَّ بصرُه في آخر عُمُره. أسند سلمة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل: تسعين حديثًا، وقيل: سبعة وسبعين [أُخرجَ له في "الصحيحين" ثلاثون حديثًا؛ اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة (¬3). وروى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، -رضي الله عنهم-، وكعبِ بن مالك - رضي الله عنه -. وروى عنه ابنُه إياس بن سلمة [وبه كان يُكنى] وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والحسن بن محمَّد بن الحنفية في آخرين. صفوان بن مُحْرِز ابن زياد المازني التميمي، من الطبقة الثانية من أهل البصرة. [قال ابن سعد: ] وكان له فضل وورع، وكان له سَرَبٌ لا يخرجُ منه إلا إلى الصلاة (¬4). وكان أصحابه يجتمعون إليه ويتحدَّثون، فلا يرون تلك الرِّقَّة، فيقولون: يا صفوان، حدِّثْنا، فيقول: الحمدُ لله، فيرقُّ القوم، وتسيلُ دموعُهم كأنها أفواهُ المَزَاد (¬5). [وروى ابنُ سعْد أيضًا عن الحسن أنه قال: قال صفوان بن مُحْرِز: إذا أكلتُ شيئًا أَشُدُّ به صُلْبي، وشربتُ كوزًا من ماء؛ فعلى الدنيا وأهلها العَفَاء. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 214، ونسب القول في (ص) إليه. (¬2) التاريخ الصغير للبخاري 1/ 184، ونُسب القول في (ص) إليه، وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 7/ 502. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 365 و 392. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 147. قوله: سَرَب، أي: بيت في الأرض. "مختار الصحاح". (¬5) المصدر السابق.

وحكى ابنُ سَعْد عن ثابت قال: ] وكان لصفوان خُصٌّ فيه جِذْع، فانكسر الجِذْع، فقيل له: ألا تُصلحُه؟ فقال: دعوه، أنا أموتُ غدًا (¬1). وقال ثابت: ذهبتُ أنا والحسنُ نُعوده، فخرجَ إلينا ابنُه، فقال: هو مبطون لا يستطيع (¬2) الدخولَ إليه، فقال الحسن: ما أخذ الله من لحم أبيك ودمِهِ يُكَفِّرُ به من خطاياه خيرٌ له من أن تأكلَه الأرض في قبره، ولا يؤجَرُ عليه. وقال الحسن البصري: لقد لقيتُ أقوامًا كانوا فيما أحلَّ اللهُ لهم أزهدَ منكم فيما حرَّم الله عليكم، كانوا من حسناتهم أشفقَ أنْ لا يُتقبَّل منهم من سيِّئاتكم، ولقد صحبتُ أقوامًا كان أحدُهم يأكلُ على الأرض، وينامُ على الأرض، منهم صفوان بن مُحْرِز المازنيّ، كان يقول: إذا أويتُ إلى أهلي فأصبت رغيفًا آكلُه، فجزى اللهُ الدنيا عن أهلها شرًّا. واللهِ ما زادَ على رغيف حتى فارقَ الدُّنيا، يظلُّ صائمًا، ويُفطر على الرغيف، ويشربُ عليه من الماء، ثم يقومُ فيصلِّي حتى يُصبح، فإذا صلَّى الفجر وضع المصحف في حِجْره يقرأ فيه حتى يترجَّل النهار (¬3)، ثم يقوم فيصلي حتى ينتصف النهار، ثم يرمي بنفسه على الأرض، ثم ينتبه، فكانت تلك نومتَه حتى فارق الدنيا، فإذا صلَّى الظهر قام فصلى [إلى العصر، فإذا صلَّى] العصر، وضعَ المصحف في حِجْره، فلا يزالُ يقرأُ إلى المغرب، ثم يقومُ إلى الصلاة (¬4). وحبس عُبيد الله بنُ زياد ابنَ أخٍ لصفوان، فتشفَّع إليه صفوان بكلِّ أحد، فلم يشفِّعه، فبات صفوانُ في مصلَّاه، فأتاه آتٍ فقال: قُمْ فاطْلُبْ حاجتَك من وجهها. فقام إلى الصلاة، ثم دعا، فأَرِقَ ابنُ زياد، وامتنعَ عليه النوم، فقال: عليَّ بابنِ أخي ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 148. وثابت: هو ابنُ أسْلَم البُنَانّي. (¬2) في (ص): لا يستطيعون، وفي "طبقات" ابن سعد 9/ 148: لا تستطيعون. (¬3) أي: يرتفع. (¬4) صفة الصفوة 3/ 227، و "المنتظم" 6/ 133، ولم يرد صدرُ الخبر في (ص) و (م)، وما وقع بين حاصرتين منهما.

أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي

صفوان، ففُتحت أبوابُ السُّجون، وجيء به إليه، فقال ابنُ زياد: ما نمتُ الليلة، اِلحَقْ بعمِّك. فذهب إليه (¬1). [قال ابن سعد: ] (¬2) وتوفي صفوان بالبصرة في ولاية بِشْر بن مروان. وروى عن ابنِ عُمر، وعِمْران بن الحُصَين، وحكيم بن حِزام، وأبي موسى الأشعريّ -وكان من أصحابه- وغيرِهم، وكان ورعًا ثقةً، - رضي الله عنه - (¬3). أبو عبد الرحمن عبدُ الله بنُ حَبِيب السُّلَميّ من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. [قال أبو نُعيم الحافظ: ] أَقْرأَ القرآنَ أربعين سنة في المسجد، وصام ثمانين رمضانًا، وعاش تسعين سنة (¬4). وكان يُقرئُ الحسن والحسين - رضي الله عنه - في مسجد الكوفة، فأقرأَهما يومًا: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم" بخفض اللام من "أرجلكم" فسمعه عليٌّ - عليه السلام - من الحُجرة، فصاح: يا أبا عبد الرحمن، الفتحةَ الفتحةَ (¬5). [قال ابن سعد: ] (¬6) وما كان يأخذ على القرآن أجرًا. وقال الأهوازي: كان أبو عبد الرحمن مقدَّمًا في القراءة، أقام يُقرئ القرآن في الكوفة في مسجدها الأعظم من أيام عثمان إلى أيام بِشْر بن مروان (¬7)، وكان يُعلِّمُ الحسنَ والحسين، وربما أمسك المصحف على أمير المؤمنين عليّ - عليه السلام -، فقرأ ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 3/ 228. ونُسب الخبر في (ص) و (م) لابن أبي الدنيا. (¬2) في "الطبقات" 9/ 148. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬3) ينظر "تهذيب الكمال" 13/ 1008. (¬4) ينظر "حلية الأولياء" 4/ 192. (¬5) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" 10/ 55. ونُسب الخبر في (ص) و (م) لأبي إسحاق الثعلبي، وهو بنحوه في "تفسيره" 2/ 416. (¬6) في "الطبقات" 8/ 292. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬7) ينظر "المعرفة والتاريخ" 2/ 590.

عبد الله بن عتبة

عليه، فسمعَ ألفاظَه، وعرفَ قراءتَه، وأخذها من فيه، وعليه قرأ عاصم بن أبي النَّجُود، وغيرُه. [ذكر وفاته قال ابنُ سعد: ] ولما احتُضر أخذَ عطاء بن يسار يُرجِّيه، فقال له: إليَّ تقول هذا، وقد صُمتُ ثمانين رمضانًا (¬1)! . وكان كثيرَ الحديث، ثقة، وقيل: مات سنة خمس ومئة، وهو وهم. أسند عن عُمر، وعثمان، وعليّ، وابنِ مسعود، وأبي الدرداء، -رضي الله عنهم-، وغيرِهم. قال ابنُ سعد: أخبرنا شَبَابة بن سوَّار، حدَّثنا شعبة، عن علقمة بن مَرْثد، عن سَعْد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي، عن عثمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُكم من تعلَّمَ القرآن وعلَّمه". قال أبو عبد الرحمن: فهذا الذي أجلسني هذا المجلس (¬2). عبدُ الله بن عُتْبة ابن مسعود بن غافل، أبو عبد الرحمن، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، تحوَّل من المدينة، فنزلَها. وكان فقيهًا مُفتيًا، كثيرَ الرواية للحديث، ويعدُّ من أهل المدينة، لكنّه أقام ومات بالكوفة قُبيل وفاة بِشْر بقليل. وروى عن عُمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وغيره من الصحابة (¬3). عبد الله بن عُمر ابن الخطَّاب، [وكنيتُه] أبو عبد الرحمن، من الطبقة الثانية من المهاجرين. ¬

_ (¬1) ما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). وينظر "طبقات" ابن سعد 8/ 294، و "حلية الأولياء" 4/ 192، و "تهذيب الكمال" 14/ 409، و "سير أعلام النبلاء" 4/ 271. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 292. والحديث أخرجه أيضًا البخاري (5027). (¬3) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 62 و 8/ 240 - 241. ولم ترد هذه الترجمة في (ص) و (م).

وأُمُّه زينبُ بنت مَظْعون بن حَبِيب بن وَهْب بن حُذافة بن جُمَح أختُ عثمان بن مَظْعُون - رضي الله عنه -، وكانت من المهاجرات، وهي أمُّ حفصةَ - رضي الله عنها - أيضًا (¬1). [ذكر صفته] (¬2): [قال أبو نُعيم: ] كان عبد الله - رضي الله عنه - آدَمَ طُوالًا، وله جَمَّة مفروقة، تضرب قريبًا من منكبيه، وكان يخضب بالصُّفرة، ويُحفي شاربَه حتى يُظنّ أنه ينتفه [ويُنظر إلى بياض الجلد]. ويُدخلُ الماء في أصول عينيه وباطنها في الوضوء، ويتوضأ لكل صلاة [ويشمِّر إزارَه، وكان نقشُ خاتمه: عبد الله. وقيل: ما تختَّم]. [ذكر طرف من أخباره]: أسلمَ عبدُ الله بنُ عمر - رضي الله عنهما - قديمًا بمكة مع أبيه ولم يكن بلغ، وهاجر إلى المدينة وهو ابنُ عَشْر سنين. وقال: عُرِضْتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر وأنا ابن ثلاثَ عشرةَ سنة فردَّني [وعُرِضْتُ عليه يوم أُحُد وأنا ابنُ أربعَ عشرةَ سنة، فردَّني] وعُرِضْتُ عليه يومَ الخندق وأنا ابنُ خمس عشرة سنة فقَبِلَني (¬3). قال نافع: فحدَّثتُ بهذا الحديث عُمر بنَ عبد العزيز فقال: إنَّ هذا الحدُّ بين الصِّغر والكِبَر. وكتب إلى عمَّاله أن يفرضوا لابن خمسَ عشرةَ سنة، ويُلحقوا ما دون ذلك في العيال. [وقال الواقدي: سأله عثمان أن يليَ القضاء، فأبى. وقال أحمد بإسناده عن يزيد بن مَوْهب] قال له عثمان - رضي الله عنه -: اقْضِ بين الناس. فقال: لا أقضي بين اثنين، ولا أَؤُمُّ رجلين، أمَّا سمعتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ عاذَ بالله؛ فقد عاذَ بمَعَاذ؟ ". قال عثمان: بلى. قال: فإنِّي أعوذُ بالله أن تستعملني. [فأعفاه وقال: لا تخبرنَّ بهذا أحدًا. وهذه رواية "المسند" (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 133، و "تاريخ دمشق" 37/ 10 - 11 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) أثبتُّ هذه الفقرة في هذا الموضع كما هو في (م)، وجاءت في النسخ الأخرى أثناء فقرة ذكر أخباره. وما وقع من كلام بين حاصرتين من (ص) و (م). وينظر "تاريخ دمشق" 17/ 37. (¬3) قال يزيد بن هارون (راوي الخبر): هو في الخندق ينبغي أن يكون ابنَ ستَّ عشرةَ سنة. ينظر "الطبقات" 4/ 133. (¬4) مسند أحمد (475).

وأما ابنُ سعد فقد ذكر فيه زيادة: وقال: ] فقال له عثمان: أَوَتعصيني؟ فقال: لا، ولكني بلَغَني أنَّ القضاة ثلاثة: رجل قضى بجهل فهو في النار، ورجلٌ حاف ومال به الهوى فهو في النَّار، ورجلٌ اجتهدَ فأصاب فهو كَفاف، لا أجرَ له، ولا وزْرَ عليه. فقال له عثمان - رضي الله عنه -: فإنَّ أباك كان يقضي؟ قال: كان يقضي، فإذا أشكلَ عليه شيءٌ سألَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا أشكلَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل، وإني لا أجد من أسألُه. فأعفاه وقال: لا تخبرنَّ بهذا أحدًا (¬1). [قال الواقدي: ] وشهد عبد الله - رضي الله عنه - الخندق وما بعدها، ومؤتة، واليرموك، واليمامة، والقادسية، وجَلُولاء وما بينهما من وقائع الفرس، وخطبةَ أبيه بالجابية، وقدم البصرة وفارس غازيًا، وشهد فتح مصر، واختطَّ بها، وكان مع عثمان - رضي الله عنه - لما قُتل يوم الدار، وأراده عثمانُ على ولاية الشام، فلم يفعل، وأراد عثمان - رضي الله عنه - أن يولِّيَه القضاء، فأبى. وكان عالمًا زاهدًا عابدًا ورعًا كثيرَ المحبَّة لاتَّباع السنن. وكان أكبرَ ولد عمر - رضي الله عنه -، ووردَ المدائن غيرَ مرَّة، وشهدَ الحُدَيبية، وكان لا يتخلَّف عن السرايا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم [كان] بعد وفاته مُولعًا بالحجّ إلى أن مات. وأفتى في الإِسلام ستِّين سنة، ونشرَ نافع عنه علمًا جمًّا، وشهدَ الفتحَ وهو ابنُ عشرين سنةً. وكان له يومَ ماتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وعشرون سنة. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[في حقِّه: ] "نِعْمَ الرجلُ عبدُ الله الرجلُ الصالح". [قال البخاري: حدَّثني محمود، عن عبد الرزاق، بإسناده عن ابن عمر قال: كان الرجلُ في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصَّها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فتمنَّيتُ أن أرى رؤيا فأقصَّها عليه، وكنتُ غلامًا عَزَبًا، وكنتُ أنامُ في المسجد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأيتُ في النوم كأنَّ ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار، وإذا هي مطويَّة ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 136 - 137. وكل ما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م).

كطيِّ البئر، وبها قَرْنان، وإذا فيها أناس قد عرفتُهم، فجعلتُ أستعيذُ بالله من النار, فلقيَهما ملك آخر، فقال لي: لن تُرَعْ. فقَصَصْتُها على حفصة، فقَصَّتْها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "نِعْمَ الرجلُ عبدُ الله لو كان يصلِّي من الليل". قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلًا. أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). وفي "الصحيحين" أيضًا عن نافع] (¬2) قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: رأيتُ في المنام كأنَّ بيدي قطعةَ إستبرق، ولا أُشير بها إلى مكان من الجنة إلا طارَتْ بي إليه، فقصَّتْها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن أخاك -أو إن عبد الله- رجل صالح". [وقال (أبو نُعيم) (¬3) بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه قال: اجتمع في الحِجْر مصعب، وعروة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عُمر، فقالوا: تَمنَّوْا. فقال عبد الله بنُ الزبير: أمَّا أنا فأتمنَّى الخلافة. وقال عروة: أمَّا أنا فأتمنّى أن يُؤخذ عني العلم. وقال مصعب: أمَّا أنا فأتمنّى إمرة العراق، والجمعَ بين عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحسين. وقال عبد الله: وأنا أتمنَّى المغفرة. قال: فنالُوا ما تَمنَّوْا, ولعلَّ ابن عمر قد غُفر له. وقال الزُّهري: وكان ابن عمر -واللهِ- أعقلَهم". وروى أبو نُعيم أيضًا عن نافع قال (¬4): دخل ابن عمر الكعبة، فسمعتُه وهو ساجد يقول: اللهمَّ إنك تعلمُ أنْ ما يمنعُني من مزاحمة قريش على هذه الدنيا إلا خوفُك. [وقال ابن سعد: سُئل ابنُ عمر عمَّا لا يعلم، فقال: لا أعلم] (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1121)، وصحيح مسلم (2479). (¬2) صحيح البخاري (1156)، وصحيح مسلم (2478). وأخرجه أيضًا ابن سعد 4/ 137. ومن قوله: قال البخاري حدثني محمود ... إلى هذا الوضع (وهو بين حاصرتين) من (ص) و (م). (¬3) لفظ: (أبو نُعيم) بين قوسين عاديَّين من عندي للإيضاح، ولأن الكلام ليس معطوفًا على ما قبله، ولقوله في الخبر بعده: وروى أبو نُعيم أيضًا ... والخبر في "حلية الأولياء" 1/ 309، وهو من (م) و (ص). (¬4) حلية الأولياء 1/ 292. (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 134، والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م).

وكانوا إذا لاموه على ترك الدنيا يقول: إني فارقتُ أصحابي على أمر، وأخافُ إنْ خالفتُهم أن لا ألحقَ بهم (¬1). وقالت عائشة - رضي الله عنها -: ما رأيتُ أحدًا أشبهَ بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين دُفنوا في الدار (¬2) من عبد الله بن عمر. [وقال أبو نُعيم: كتبَ الحجَّاج بنُ يوسف إلى ابن عمر: بلغني أنك تطلبُ الخلافة، وإنها لا تصلح لِعَيِيَّ، ولا بخيل، ولا غيور. فكتب إليه ابن عمر: أمَّا ما ذكرتَ من الخلافة؛ فإني ما طلبتُها, ولا هي من بالي، وأما ما ذكرتَ من العِيّ والبُخل (والغَيرة)، فمن جمعَ كتابَ الله؛ فليس بِعَيِيٍّ، ومَنْ أدَّى زكاةَ مالِه؛ فليس ببخيل، وأمَّا الغَيرة؛ فأَحَقُّ ما غِرْتُ فيه ولدي أن يَشْرَكَني فيه غيري] (¬3). وأعتقَ ابنُ عُمر جاريةً له يقال لها: رُميثة، وقال: سمعتُ الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وإنِّي واللهِ لأُحبُّكِ، اذهبي فأنت حُرَّةٌ لوجه الله تعالى (¬4). ولولا أني لا أعودُ في شيء جعلتُه لله؛ لنكحتُها. فأَنكَحَها نافعًا مولاه، فهي أمُّ ولدِه (¬5). وقال نافع: كان ابنُ عمر إذا أعجبَه شيءٌ من ماله تقرَّب به إلى الله تعالى، فكان رقيقُه قد عرفوا منه ذلك، فربَّما لزمَ أحدُهم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقال له: إنهم يخدعوك. فيقول: مَنْ خدعَنا في الله انخدعنا له (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 4/ 135. (¬2) كذا في (أ) و (ب) و (خ) و (د). ولم يرد الخبر في (ص) و (م) وهو في "الزهد" لأحمد ص 242, و"حلية الأولياء"1/ 301، و "صفة الصفوة" 1/ 568: وفيها: النمار، بدل: الدار. (¬3) حلية الأولياء 1/ 292. وأخرجه من طريقه ابنُ عساكر 37/ 98 (طبعة مجمع دمشق). ولفظة (المغيرة) بين قوسين عاديين منهما. وهذا الخبر (وهو بين حاصرتين) من (ص) و (م). (¬4) حلية الأولياء 1/ 295، و "تاريخ دمشق" 37/ 57. ونسب الخبر في (ص) و (م) لأبي نعيم. (¬5) المستدرك 3/ 561، و "المنتظم" 6/ 135. ولم ترد هذه القطعة من الخبر في (ص) و (م). (¬6) حلية الأولياء 1/ 294، وتاريخ دمشق 37/ 53.

قال: وكان له نَجِيبٌ قد اشتراه بمال [عظيم] فركبه، فأعجبه، فقال: يا نافع، انْزَعْ زِمامَه، وأدْخِلْهُ في إبل الصدقة (¬1). قال: وما كان يعجبُه شيءٌ من ماله إلا أخرج منه لله عَزَّ وَجَلَّ، وربَّما تصدَّقَ في المجلس الواحد بثلاثين ألفًا، ويمضي عليه الشهر لا يذوق فيه مرقة لحم (¬2). وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: وأعطاه ابنُ جعفر في نافع عَشَرةَ آلاف درهم -أو عشرة آلاف دينار- فقيل له: ما تنتظر؟ فقال: أَوَ خَيرٌ من ذلك؟ هو حُرٌّ لوجه الله تعالى (¬3). وكان - رضي الله عنه - لا يأكلُ طعامًا إلا وعلى خِوانِهِ يتيم (¬4). [وروى أبو نُعيم عن نافع قال: ] وما مات حتى أعتقَ ألفَ إنسان أو زاد (¬5). [وروى ابنُ سعد عن نافع قال: ] وكان يؤتى بالمال فيقبلُه ويقول: لا أسألُ أحدًا شيئًا، ولا أردّ ما رزقني الله، [وكان المختارُ يبعث إليه بالمال فيقبله] (¬6). وقيل: ما ردَّ هدية إلا على المختار. [وقال ابن سعد: ] وكان يقبض على لحيته، ثم يأخذُ ما جاوزَ القبضة (¬7). وقال [ابن سعد عن] نافع: بعث معاوية إلى ابن عمر بمئة ألف درهم لما أراد أن يبايع ليزيد، فقال: إن ديني عندي لرخيص (¬8). فما حال الحَوْلُ وعنده منها شيء. قال المصنف رحمه الله: والعَجَب من هذا الزُّهد والفضل والعلم ويُبايع ليزيد وعبد الملك بن مروان، ويتركُ مثلَ عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - لا يبايعُه، ويهرب إلى مكة. ¬

_ (¬1) بنحوه في المصدرين السابقين. (¬2) حلية الأولياء 1/ 295، ونُسب الكلام في (ص) و (م) إليه، وقوله: يمضي عليه الشهر ... إلخ، ليس فيهما. (¬3) الزهد لأحمد ص 242، وحلية الأولياء 1/ 296. ولم يرد هذا الخبر في (ص) و (م). (¬4) الزهد ص 237، والحلية 1/ 299. (¬5) الحلية 1/ 296. (¬6) طبقات ابن سعد 4/ 140. وكلُّ ما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬7) المصدر السابق 4/ 166. (¬8) المصدر السابق 4/ 170. ووقع في (ص) و (م): لرخيصة.

وقال نافع: اشتهى (¬1) ابنُ عُمر عِنَبًا، فاشتُرِيَ له عنقود بدرهم، فجاء مسكين يسأل، فقال: أعطُوه إيَّاه، فخالفَ إليه إنسانٌ، فاشتراه منه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر، فجاء سائلٌ آخر (¬2)، فأعطاه. فعل ذلك مرارًا والرجل يشتريه، ولو علم ابن عمر لما ذاقه. وكان يقال له: إنك تجوع! قال: ربَّما يأتي عليَّ سبعُ سنين لا أشبعُ فيها، وكيف أشبع وقد بقي من عمري ظِمْءُ حمار (¬3). [قال أبو نُعيم: ] وجاءه رجل من أهل العراق وقال: قد عملتُ لك جَوارشًا (¬4) يهضمُ الطعام، فقال: ما ملأتُ بطني من طعام منذ أربعين سنة (¬5)! وفي رواية: ما شبعت منذ أسلمت (¬6). [وروى أبو عُبيد القاسم بن سلَّام قال: ] وجاء سائل إليه فقال لابنه: أعطه دينارًا. فقال له ابنُه: تقبَّلَ اللهُ منك. فقال: لو علمت أنه يتقبَّلُ مني؛ لَطِرْتُ فرحًا {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (¬7). وقال مجاهد: صحبتُ ابنَ عمر وأنا أريد أن أخدمَه، فكان يخدمني أكثر (¬8). وقال نافع: كان ابن عمر يحيي الليل كلَّه صلاةً، ثم يقول: يا نافع، أَسْحَرْنا؟ فأقولُ: نعم، فيجلسُ ويستغفرُ ويدعو حتى يُصبح. وكان يحيي ما بين الظهر والعصر (¬9). ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): اشترى. ولا معنى لها. وصححت اللفظة من قِبلي. فقد جاء في "حلية الأولياء" 1/ 297 عن نافع أن ابن عمر اشتهى عنبًا وهو مريض، فاشتريتُ له عنقودًا بدرهم ... وفي رواية أخرى عن نافع أن ابن عمر - رضي الله عنه - اشتكى، فاشتُرِيَ له عنقودُ عنب بدرهم ... ولم يرد هذا الخبر في (ص) و (م). (¬2) في "الحلية" في الروايتين المذكورتين آنفًا أن السائل الأول هو الذي عاد وسأل. (¬3) في "القاموس": الظِّمْءُ: ما بين الشَّربتين والوِرْدَيْن ... "وما بقي منه إلا ظِمْءُ الحمار" أي: يسير؛ لأنه ليس شيءٌ أقصرَ ظِمْئًا منه. والخبر بنحوه في "الحلية" 1/ 299. (¬4) كذا في (أ) و (ب) و (خ) و (د). وفي (ص) و (م): جوارشنًا. (¬5) حلية الأولياء 1/ 300. وهو بنحوه في "طبقات" ابن سعد 4/ 140، و"تاريخ دمشق" 37/ 68 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) المصدر السابق 1/ 299، وفيه أيضًا 1/ 300، وفي "طبقات" ابن سعد 4/ 140: ما ملأتُ بطني من طعام من أربعة أشهر. (¬7) صفة الصفوة 1/ 576. (¬8) الزُّهد لأحمد ص 241، ونُسب القول في (ص) و (م) لعبد الله بن أحمد عن أبيه. (¬9) حلية الأولياء 1/ 303 - 304. ونُسب القول في (ص) و (م) إليه. وينظر "الزهد" لأحمد ص 241.

وقال ابن أبي الدنيا: شربَ ابنُ عمر يومًا ماءً باردًا، فبكى بكاءً شديدًا، فقيل له: ما يُبكيك؟ فقال: آية في كتاب الله عزَّ وجلّ أبْكَتْني: {وَحِيلَ بَينَهُمْ وَبَينَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] فعرفتُ أن أهل النار لا يشتهون شيئًا كشهوتهم الماء البارد، وقد قال الله: {أَفِيضُوا عَلَينَا مِنَ الْمَاءِ} [الأعراف: 50] الآية (¬1). وقال جابر بن عبد الله: ما أدركْنا أحدًا إلا وقد مالتْ به الدنيا إلا عبد الله بن عمر (¬2). [وروى أبو نُعيم عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]؛ بكى حتى يغلبه البكاء] (¬3). وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: لا يصيبُ عبدٌ من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند الله؛ وإن كان عليه كريمًا (¬4). وقيل له: مات فلان وترك مئة ألف، فقال: لكن هي لم تتركه (¬5). وقال له رجل: يا خيرَ الناس. قال: ما أنا بخير الناس، ولكني عبدٌ من عباد الله، أرجو اللهَ وأخافُه، واللهِ لن تزالوا بالرجل حتى تُهلكوه (¬6). ونزل على رجل، فأقام عنده ثلاثًا، ثم قال: يا نافع، أنْفِقْ علينا من مالنا (¬7). [وقال ابنُ عمر: ما بتُّ ليلة منذ سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الوصيَّة إلا ووصيَّتي عند رأسي مكتوبة. أو: وصيَّتي عندي] (¬8). وكان يأكل الدَّجاج والفراخ والخَبِيص. وكان في زمان الفتنة لا يأتي أَميرٌ إلا صلَّى خلفَه، وأدَّى إليه زكاة مالِه. ¬

_ (¬1) الزُّهد لأحمد ص 238. (¬2) حلية الأولياء 1/ 294. ونسب القول في (ص) و (م) ليعقوب بن سفيان، وينظر "المستدرك" 3/ 560. (¬3) حلية الأولياء 1/ 305. وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬4) المصدر السابق 1/ 306. ونُسب الخبر في (ص) و (م) إليه. (¬5) المصدر السابق. (¬6) حلية الأولياء 1/ 307. (¬7) المصدر السابق 1/ 311. (¬8) طبقات ابن سعد 4/ 138. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م).

وكان يقول: لا أُقاتل في الفتنة، وأُصلِّي مع من غلب (¬1). وكان يصلِّي خلف الحجاج بمكة، فلما أخَّر الحجاح الصلاة لم يشهدها معه، وخرج منها. [قال ابن سعد: ] ولمَّا قُتل عثمان رضوان الله عليه قال الناس له: إنك سيِّدُ الناس وابنُ سيِّدهم، فهلمَّ نُبايِعْك وإلا قتلناك، فقال: والله لا أُريقُ بسببي مِحْجَمَةَ دم من هذه الأمَّة (¬2). وجاءه رجل، فقال: ما أحدٌ شرًّا لأمَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - منك، فقال: ولم؟ ! فواللهِ ما سفَكْتُ دماءهم، ولا فرَّقتُ جماعتَهم، ولا شَقَقْتُ عصاهم! قال: إنك لو شئتَ ما اختلف عليك اثنان. فقال: واللهِ ما أُحبُّ أنَّها أتَتْني ورجلٌ يقول: لا، وآخرُ يقول: بلى (¬3). وكتبَ إلى أبيه: من عبد الله بن عمر إلى عمر بن الخطاب. [قال: وكان يتنوَّر، يطليه صاحب الحمَّام، فإذا بلغ العانةَ؛ وَلِيَها بيده. وفي رواية: ما تنوَّر إلا مرَّة واحدة] (¬4). وكان يدخلُ الحمَّام ويقول: بئس البيتُ نُزِعَ منه الحياء، ونِعْمَ البيتُ يتذكَّرُ فيه من أرادَ أن يتذكَّر. [قال: وخَدِرَتْ رِجْلُه يومًا، فقيل له: ادْعُ أحبَّ الناس إليك. فقال: يا محمَّد. فبسطها] (¬5). وقال: إني لأخرجُ من بيتي ما أخرجُ إلا لأُسَلِّمَ، أو يُسَلَّمَ عليّ (¬6). وحضر يومًا بمكة والحَجَّاج يخطب، فأطال، فناداه: الصلاةَ أيُّها الرجل. فلم يلتفت، فناداه ثانيًا وثالثًا ورابعًا وهو قاعد، فقال للجماعة: إنْ نهضتُ أتنهضونَ معي؟ قالوا: نعم. فنهض وقال: الصلاةَ، فإنِّي لا أرى لك فيها حاجة. فنزل الحَجَّاج فصلَّى، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 139. (¬2) المصدر السابق 4/ 141، وبنحوه في "حلية الأولياء" 1/ 293. (¬3) المصدر السابق 4/ 142. (¬4) طبقات ابن سعد 4/ 134. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 144. وما بين حاصرتين من (ص). (¬6) المصدر السابق 4/ 145.

ثم دعاه فقال: ما حملَكَ على ما صنعتَ؟ فقال: إنَّما نَجِيءُ للصلاة، فإذا صلَّينا لوقتها فبَقْبِقْ بعد ذلك ما شئْتَ من بقبقة (¬1). وخطب الحجّاج يومًا، فأخَّر الصلاةَ، فصاح به ابنُ عمر - رضي الله عنه -: يا حجَّاج، إنَّ الشمس لا تنتظرُك، فقال الحجَّاج: لقد هممتُ أن أضربَ الذي فيه عيناك، فقال: إنْ تفعلْ فإنك سفيهٌ مُسَلَّط. فقال الحجاج: إنك شيخٌ قد خَرِفتَ. وبلغَ عبدَ الملك، فأنكرَ على الحجَّاج (¬2). وقال: خذُوا بحظِّكم من العُزْلة (¬3). وكانَ يتوضَّأ لكلِّ صلاة، ثم يصلي [في بعض الأيام، الصلوات الخمس بوضوء واحد (¬4). [وقال ابنُ سعد بإسناده إلى يوسف بن ماهَك قال: انطلقتُ مع ابن عمر إلى عُبيد بن عُمير وهو يقصُّ على أصحابه، فنظرتُ إلى ابن عمر؛ فإذا عيناه تَذرِفان. وفي رواية: فأردتُ أنْ أقوم إلى عُبيد بن عمير فأقول له: أقصِرْ، فقد آذيتَ الشيخ هذا] (¬5). وأقام بأذَرْبِيجان ستةَ أشهر حبسه بها الثلج، فكان يقصر الصلاة. [قال: ومرَّ يومًا على يهود، فسلَّم عليهم ولم يعلم، فقيل له: إنهم يهود، فقال: رُدُّوا عليَّ سلامي]. وقال نافع: تصدَّق ابن عمر بداره محبوسةً لا تُباعُ ولا تُوهَبُ، ومَنْ سَكَنَها من ولده لا يُخرَجُ منها، ثم سكنها ابنُ عمر. وكان إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 149. (¬2) ينظر "الاستيعاب" ص 420، و "تاريخ دمشق" 37/ 42 - 43 ولم يرد هذا الخبر في (ص) و (م). (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 150. (¬4) المصدر السابق 4/ 149 و 150، وما بين حاصرتين من (م). (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 151. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م).

وكان يمشي كلَّ سبت إلى قُباء ونعلاه في يديه. [قال الزُّهري: كان يتَّبع السُّنَّة، كأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. قال: ] وما كان يوقظ أحدًا من مرقده (¬1). وقال إسماعيل السُّدِّيّ: أدركتُ نفرًا من الصحابة؛ منهم أبو سعيد الخُدْري، وأبو هريرة، وجابر (¬2)، وغيرهم، فكانوا يرون أن ليس فيهم أحدٌ على الحال التي فارق عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عبد الله بن عمر. وقالت عائشة - رضي الله عنها -لابن عمر - رضي الله عنهما -: ما منَعك أن تنهاني عن مسيري إلى البصرة؟ قال: رأيتُ ابنَ الزبير قد استولى عليك، فقالت: لو نهيتَني ما خرجتُ. وكانت عائشة - رضي الله عنها - تحبُّه وتعظِّمه، وإذا دخل المسجد تقول: أرُونيه. فلا تزال تنظر إليه حتى يذهب (¬3). [قال الواقدي: ] وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - قد أصابته في آخر عمره لقوة فاكتوى (¬4)، وذهب بصره ممَّا (¬5) كان يغسل باطن عينيه (¬6). [وكذا ابنُ عباس. ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف في المصدر السابق 4/ 151 - 153. وما بين حاصرتين من (ص) و (م)، ونسبت الأقوال فيهما إلى ابن سعد. (¬2) في تاريخ دمشق 37/ 34: وابن عمر، بدل: وجابر. وهو الأشبه بسياق الكلام. (¬3) تاريخ دمشق 37/ 33. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) في (ص): هما. وينظر التعليق التالي. (¬6) اختلف نقل هذه المسألة عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، فذكر الشيرازي في "المهذّب" أنه - رضي الله عنه - كان يغسلُ عينيه حتى عميَ. وذكره ابن القيِّم في "زاد المعاد" 1/ 47 بلفظ: حتى عميَ من ذلك. وشَرَحَ النووي في "المجموع" 1/ 413 قول الشيرازي فقال: قوله: "حتى عميَ، يحتمل أن يكون عماه بسبب غسل العين، كما هو السابق إلى الفهم، وكما يدلّ عليه كلام أصحابنا، ويحتملُ كونُه بسبب آخر، ويكون معناه: ما زال يغسلهما حتى حصل له سببٌ عَمِيَ به، فتركَ بعد ذلك غَسْلَهما". اهـ. وذكر النووي أيضًا أن هذا الخبر رواه مالك وغيره بلفظ: يغسلُ وجهَه، وينضحُ في عينيه. قال: وليس في رواياتهم: حتى عميَ. اهـ. غير أن ابن العربي ذكر عنه خلاف ذلك في "أحكام القرآن" 2/ 561 - ونقله عنه القرطبي في "تفسيره" 7/ 330 - فقال: "كان ابن عمر لمَّا عميَ يغسلُ عينيه؛ إذ كان لا يتأذَّى بذلك". والله أعلم.

قلتُ: وهذا مذهبُ أهل الظاهر؛ غَسْلُ باطن العينين، واحتجُّوا بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، ولا حجَّة لهم في الآية؛ لأن الوجه مشتقٌّ من المواجهة، وذلك يكون بالظاهر دون الباطن، وفعلُ ابن عمر وابن عبَّاس من أدَلّ الدليل على الكراهة لأنه ذهب ببصريهما، وفعلُ ما يُخاف منه ذهاب البصر أو بعضه حرام بإجماع الأمة. وقيل: إن العين شحم، والشحم لا يقبلُ الماء. وكان - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لا يغسلون باطن عيونهم، وكفى به قدوة] (¬1). وكان - رضي الله عنه - أعلمَ الناس بالمناسك؛ كان معاوية بن أبي سفيان بالأبطح ومعه بنتُ قَرَظة زوجتُه، وإذا هو بجماعةٍ على رِحالٍ لهم، وشابٌّ منهم قد رفع عَقِيرَتَه وهو يقول: مَنْ يُساجِلْنِي يُساجِلْ ماجدًا ... أخضرَ الجِلْدةِ من بيتِ العَرَبْ فقال: مَنْ هذا؟ فقالوا: عبد الله بنُ جعفر. فقال: خَلُّوا له الطريق فليذهب. وإذا بآخر قد قدم وهو يقول: بينما يذكُرْنَنِي أبْصَرْنَنِي ... عند قِيدِ المِيلِ يسعى بي الأغَرّ قُلْنَ تَعْرِفْنَ الفتى؟ قُلْ نعم ... قد عرَفْناه وهل يخفى القَمَرْ؟ فقال: من هذا؟ قالا: عُمر بن عبد الله بن أبي ربيعة الشاعر، فقال: خلُّوا له الطريق فليذهب. ثمَّ مرَّت جماعةٌ، وإذا رجل بينهم يُسأل، فقال له رجل: رميتُ الجمار قبل أن أحلق, وقال آخر: حلقت قبل أن أرمي؛ لأشياء أشكلَتْ عليهم من مناسك الحج، فقال معاوية: من هذا؟ قيل: عبد الله بنُ عمر. فالتفتَ معاويةُ إلى ابنة قَرَظة وقال: هذا -وأبيكِ- الشرف، هذا -واللهِ- شَرَفُ الدنيا والآخرة (¬2). ¬

_ (¬1) من قوله: وكذا ابنُ عباس ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص) و (م). (¬2) جمهرة نسب قريش 2/ 788 - 789. وأخرجه من طريقه ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" 37/ 79 (طبعة مجمع دمشق).

ذكر وفاته - رضي الله عنه -: [روى ابن سعد عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: اللهمَّ لا تَجْعَلْ منيَّتي بمكة. كأنه كره أن يموت في الأرض التي هاجر منها. وقد تقدَّم هذا في ترجمة سعد بن أبي وقَّاص وسعد بن حولة. وقال ابن سعد بإسناده إلى عطيَّة العَوْفي قال: سألتُ مولًى لعبد الله بن عمر عن موته فقال: ] كان أصابه رجل من أهل الشام بِزُجٍّ (¬1) في رِجْلهِ، فأتاه الحجَّاج يعودُه، فقال: لو أعلمُ الذي أصابَك لضربتُ عنقه. فقال عبد الله - رضي الله عنه -: أنتَ أصبتني. قال: وكيف؟ قال: يومَ أدخلتَ حَرَمَ اللهِ السلاحَ. [وفي رواية ابن سعد: ] فلما خرجَ الحجَّاج من عنده قال - رضي الله عنه -: ما آسَى من الدنيا على شيء إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وألا أكون قاتلتُ هذه الفئةَ الباغيةَ التي حلَّتْ بنا (¬2). وقال الزبير بن بكَّار: لمَّا كتب ابنُ عمر إلى عبد الملك ببيعته إيَّاه؛ كتبَ عبدُ الملك إلى الحجَّاج: لا تخالف ابنَ عمر في المناسك. وكان ابن عمر يقف في الموقف الذي شهد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّة الوَداع، فأخَّر الحجَّاجُ الوقوف، فمرَّ ابنُ عمر على سُرادق الحَجَّاج [فصاح به، فخرج في مُعَصْفَرةٍ، وقال: أمهلني حتى أصُبَّ عليَّ ماءً. فقال: عَجِّلْ. فاغتسل الحجَّاج] وجاء فوقف عند ابنِ عمر, ثم أمرَ رجلًا من أصحابه بيده حَرْبةٌ مسمومةٌ أن يَنْخَسَ ابنَ عمر، فنَخَسه، فلصقَتْ رِجْلُه بالرِّكاب، فمرضَ أيامًا ثم مات. وكان ابن عمر قد ثَقُلَ على الحجَّاج (¬3). [قال: وكان ابنُ عمر على نَجيبة، فلما أصابه الزُّجُّ سأل الدم، فقال له ابنُه سالم: ما هذا الدَّمُ الذي يسيلُ على كتف النَّجِيب؟ قال: ما شعرتُ به. ثُم نزع رجله من الغرز وقد لزقت قدمُه بالغرز، فقال: ما شعرتُ بما أصابني. ¬

_ (¬1) الزُّجُّ: الحديدة التي في أسفل الرُّمح. (¬2) الروايتان في "طبقات ابن سعد" 4/ 173. (¬3) جمهرة نسب قريش 2/ 786 - 787، وتاريخ دمشق 37/ 42 - 43. وينظر "طبقات" ابن سعد 4/ 175. وكلُّ ما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م).

وحكى ابن سعد عن أيوب، قلت لنافع: ما كان بدء موت ابن عمر؟ قال: أصابته عارضةُ مَحْمِل بين أصبعين أصابعه عند الجمرة، فمرض، وأتاه الحجَّاجُ يعودُه، فلما دخلَ عليه غَمَّضَ عبدُ الله - رضي الله عنه - عينيه، فكلَّمه الحجَّاج، فلم يكلِّمه، فخرج من عنده وهو يقول: إن هذا يقول: إني على الضرب الأول (¬1). ومات بمكة في دار خالد بن عبد الله بن أسيد بعد منصرف الناس من الحج (¬2)، ودُفن بالمحصَّب سنة أربع وسبعين في آخر ذي الحجة وهو ابن أربع وثمانين سنة. وأوصى أن يدفن خارجًا من الحرم، وقال: أكرهُ أن أُدفنَ فيه بعد ما خرجتُ منه مهاجرًا، وأن لا يُصلِّيَ عليه الحجّاج، فقال له سالم ابنه: إلا أن يغلبنا الحجَّاج فيصلي عليك. فسكت. فلما مات صلَّى عليه الحجاج (¬3). ولم يقدر (¬4) على إخراجه من الحرم، فدفنوه [في الحرم] بفخّ في مقبرة المهاجرين نحو ذي طُوى (¬5). [قال الواقدي: في سنة أربع وسبعين. وكذا ذكر جدّي في "الصفوة" و "التلقيح" (¬6). وقيل: مات في سنة ثلاث وسبعين بعد قتلِ ابنِ الزبير - رضي الله عنه - بستة أشهر (¬7)، وهو آخر من مات من الصحابة بمكة - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 174. وما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). ووقع فيهما اختلاف في ترتيب الأخبار عن النسخ الأربعة الأخرى. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 37/ 111 (طبعة مجمع دمشق). ونسب القول في (ص) و (م) إليه. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 175. وينظر "تاريخ دمشق" 37/ 108 - 109. (¬4) في (ص) و (م): يقدروا. (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 175. (¬6) صفة الصفوة 1/ 582، وتلقيح فهوم أهل الأثر ص 139. (¬7) في تاريخ دمشق 37/ 110: مات ابن عمر بعد ابن الزبير بثلاثة أشهر أو شهرين. ونُسب القولُ في (ص) و (م) لأبي نُعيم وابن عبد البر. ولم أقف عليه من قول أبي نعيم. وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب" ص 420: مات بمكة سنة ثلاث وسبعين لا يختلفون في ذلك بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر أو نحوها، وقيل: لستة أشهر.

ذكر أولاده [قال ابن سعد: ] كان له من الولد [اثنا عشر ذكرًا، وأربع بنات]: أبو بكر، وأبو عُبيدة، وواقد، وعبد الله، وعُمر، وحفصة، وسَوْدَة، وأمُّهم صفيَّة بنتُ أبي عُبيد بن مسعود الثَّقَفي، وعبد الرحمن [وبه كان يكنى] وأمُّه أمُّ علقمة بنتُ يافش (¬1) بن وَهْب، فِهريَّة. وسالم، وعُبيدُ الله، وحمزة، وأمُّهم أمُّ ولد، وزيد، وعائشة، وأمُّهما أمُّ ولد، وبلال لأمِّ ولد، وأبو سلمة وأبو قِلابة لأمّ ولد (¬2). ويقال: إن أمَّ زيد بن عبد الله سهلة بنت مالك بن الشحَّاح من بني تغلب. [وهذا قول ابن سعد، وزاد الموفَّق رحمه الله أبا عُبيد وعثمان] (¬3). وكان زيدٌ أكبرَ ولدِ عبدِ الله، فارقَ أباه في حياته، ونزلَ الكوفةَ، فمات بها, وله بها عقب وباليمن. وكان له من الولد: محمَّد، وأمُّ حُميد، وأمُّ زيد، وفاطمة، وأمُّهم أمُّ حكيم بنت عُبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعبدُ الله، وإبراهيم، وعمر، وفاطمة، وحفصة، لأمِّ ولد (¬4). وأمَّا بلالُ بن عبد الله؛ فكان له من الولد: عبدُ الرحمن (¬5). وقيل: ماتَ صغيرًا ولم يُعقب، وكان أشجّ [فكان أبوه عبد الله يقول له: يا بلال، أرجو أن تكون أشجَّ بني الخطاب] (¬6). ¬

_ (¬1) المثبت من (ص)، وفي (أ) و (ب): نافس، ولم تجوَّد اللفظة في غيرها، وفي "طبقات" ابن سعد 4/ 133: ناقش. (¬2) من قوله: وبلال لأم ولد ... إلى هذا الموضع، جاء في (أ) و (ب) و (خ) و (د) آخر الفقرة (الصفحة التالية)، وأثبتُّها هنا كما هي في (ص)، وهو الأنسب بسياق الكلام وموافق أيضًا لما في "الطبقات" 4/ 133. (¬3) طبقات ابن سعد 4/ 133، والتبيين في أنساب القرشيين ص 408. ومن قوله: وهذا قول ابن سعد ... إلى هذا الموضع، من (ص) وجاء ذكر أبي عبيد وعثمان في النسخ الأربعة آخر الفقرة مع العبارة المذكورة في التعليق السابق. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 201 - 202. وينظر "نسب قريش" ص 357. (¬5) المصدر السابق. (¬6) المعارف ص 187. وما بين حاصرتين من (ص) وحدها، ونُسب القول فيها لابن قدامة. ولم أقف عليه في "التبيين".

وأما واقد بن عبد الله؛ فكان له أولاد، منهم: عبدُ الله، وأمُّه أَمَةُ الله بنت عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، مات (¬1) بالسُّقْيا وهو مُحرم، فكفَّنَه أبوه في خمسة أثواب، وصلَّى عليه ودفَنَه. وكان عبد الله بن واقد من رجالات بني عديّ، [وفيه يقول الشاعر: أحبُّ من النسوان كل خَرِيدةٍ ... لها حُسْنُ عبَّادٍ وجسمُ ابن واقدِ وعبَّاد وابنُ حمزة بن عبد الله بن الزبير، وقد ذكرناه] (¬2). وأمَّا حمزةُ بن عبد الله، فكنيتُه أبو عُمارة، [وهو أخو سالم لأمِّه وأبيه. وذكره ابن سعد] وهو من الطبقة الثانية [من التابعين] من أهل المدينة [وأمُّه أمُّ ولد]. كان ثقة قليل الحديث، حدَّث عن عائشة - رضي الله عنها-، [وروى عنه الزُّهري. وذكره يحيى بن سعيد القطان في فقهاء المدينة الاثني عشر، فقال: حمزة، وسالم، وزيد، وبلال، وعُبيد الله؛ أولاد عبد الله بن عُمر (¬3). وأما عُبيد الله بن عبد الله بن عمر؛ فسنذكره. وقال الزُّبير بن بكَّار: ] ومن بنات عبد الله بن عمر - رضي الله عنها - ابنة كانت عند عَمرو بن عثمان بن عفَّان، وأُخرى عند عروة بن الزبير (¬4)، وما عدا هؤلاء فسيُذكرون في تراجمهم إن شاء الله تعالى (¬5). وقال ابن المسيِّب: قال لي عبد الله بنُ عمر: هل تدري لِمَ سمَّيتُ ابني سالمًا؟ قلت: لا. قال: باسم سالم مولى أبي حذيفة، وسمَّيتُ عبدَ الله بعبد الله بن رواحة، وسمَّيتُ واقدًا باسم واقد بن عبد الله اليوبوعي (¬6). ¬

_ (¬1) يعني واقدًا، وأمَّا ابنُه عبدُ الله فمات سنة (117) ينظر: "طبقات" ابن سعد 7/ 202 و 457. (¬2) المعارف ص 187. وما بين حاصرتين من (ص)، ونُسب القول فيها لابن قدامة. وهو بنحوه في "التبيين" ص 412. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 201. وينظر "تهذيب الكمال" 7/ 330 - 331. (¬4) التي كانت عند عَمرو بن عثمان: حفصة، والتي كانت عند عروة: سَوْدَة، ينظر "جمهرة نسب قريش" 2/ 799 - 800، و "نسب قريش" ص 357. (¬5) بعده في (أ) و (ب) و (خ) و (د) في هذا الوضع ما صورته: وبلال لأمّ ولد وأبو سَلَمة وأبو قلابة لأمّ ولد، وأبو عُبيد، وعثمان. وأثبتهم فيما سلف كما جاء في (ص)، وهو الأنسب، بسياق الكلام، وقد نبَّهتُ على ذلك في موضعه. (¬6) طبقات ابن سعد 4/ 148.

ذكر مسانيده قال قوم: أسند ألفي حديث وستَّ مئة وثلاثين حديثًا، [وقال ابنُ البَرْقي: الذي جاء عنه نحو من ستِّ مئة حديث] (¬1). وأخرج له الإِمام أحمد - رضي الله عنه - ثلاث مئة واحد وخمسين حديثًا (¬2). وأُخرجَ له في "الصحيحين" مئتان وثمانون حديثًا، اتفقا على مئة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين (¬3). وأخرج له في "الصحيحين" مئتان وثمانون حديثًا، اتفقا على مئة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين (¬4). وروى - رضي الله عنه - عن الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم، وسعدِ بن أبي وقَّاص، ومعاذِ بنِ جبل، وبلال، وأبي ذَرّ، ورافع بن خَدِيج، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخُدري، وزيد بن ثابت، وعائشةَ، رضي الله عنهم أجمعين. وقيل: إنه لم يرو عن عليٍّ - عليه السلام - شيئًا. وروى عن ابن عمر - رضي الله عنه - من الصحابة: ابنُ عباس، وجابرُ بنُ عبد الله، والأغرُّ المُزَنيُّ (¬5)، وغيرُهم. وأمَّا من التابعين: فسالم، وعبدُ الله، وحمزة، وبلال، وزيد، وعُبيد الله: بنوه، والقاسمُ بنُ محمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق، وابنُ المسيَّب، وعُروة بنُ الزُّبير، وأبو سَلَمة وحُميد ابنا عبد الرحمن بن عَوْف، ومصعبُ بنُ سعد بنِ أبي وقاص، وسليمانُ بنُ ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 363. والكلام بين حاصرتين من (ص) وحدها. (¬2) ينظر "مسند" أحمد (4448) ... (6476)، وفي هذه الأحاديث مكررات. (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 395. (¬4) ينظر "مسند" أحمد (4448) ... (6476)، وفي هذه نبَّهتُ على ذلك في موضعه. (¬5) وَهَّمَ المزي في "تهذيب الكمال" 15/ 334: روايتَه عن الأغرَّ. ووقع في النسخ غير (ص) و (م) (فليس فيها الكلام): السهمي، بدل: المزني. وهو خطأ.

يسار، وأسلم مولى عمر، ونافع وعبد الله بنُ دينار مولياه، وزيدُ بنُ أسلم، وخالدُ بنُ أسلم، والزُّبيري (¬1)؛ المدنيون. وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعَمرو بنُ دينار، وكُريب، وعكرمة، وصدقة بن يسار، وعبد الله بن أبي مُلَيكة، وأبو الزُّبير محمَّد بن مسلم؛ المكِّيُّون. وسعيدُ بنُ جبير، والشَّعبي، وعَوْن بن عبد الله بن عُتبة، ومحارب بن دِثار، وموسى بن طلحة بن عُبيد الله، وعبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى، وأبو البَخْتَريّ سمعيدُ بنُ فيروز الطائي، ومسروق، وجَبَلة بن سُحيم، وزاذان أبو عمر، ويزيد بن صُهيب الفقير (¬2)؛ الكوفيون. والحسنُ البصريّ، وابنُ سِيرِين، وأخوه أنس بنُ سِيرِين، وصفوان بن مُحرز المازنيّ، وعبدُ الله بن شقيق، وبكر بن عبد الله المُزَنيّ، وثابت البُناني، وأبو عثمان النَّهْديّ، وأبو مِجْلَز، وأبو غَلَّاب يونُس بن جُبير، وأبو الصِّدِّيق النَّاجيّ، وقاسم بنُ ربيعة بن جَوْشَن؛ البصريُّون. وجُبير بن نُفير الحضرمي، وعبدُ الله بن مَوْهَب، والزُّبير بن الوليد، وكثير بن مُرَّة، وعُمير بن هانئ الدَّاراني، ويحيى بن راشد؛ الشاميُّون. وميمون بنُ مِهْران الرَّقِّيُّ، في خلق كثير من أهل الأمصار. ولما نزل مصر؛ روى عنه أكثر من أربعين رجلًا، - رضي الله عنه -. ومن مسانِيده: عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: كان أبي إذا أتى الرجلَ وهو يريدُ السفرَ قال له: ادْنُ حتى أودِّعَك كما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُودِّعُنا فيقول له: "أستودعُ اللهَ دِينَكَ وأمانتَكَ وخَواتيمَ عملِك" (¬3). ¬

_ (¬1) لم أعرفه ولم يرد في "تاريخ دمشق" 37/ 7 والكلام منه. وينظر أيضًا "تهذيب الكمال" 15/ 334 - 338. (¬2) في (أ) و (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها فقط): الفقيه، وهو تحريف. وقد قيل له: الفقير؛ لأنه كان يشكو فَقار ظهره. (¬3) مسند أحمد (4524).

[قال الإِمام أحمد بإسناده عن نافع مولى ابن عمر أن ابن عمرَ سمعَ صوتَ زَمَّارةِ راعٍ، فوضع أصبعيه في أذنيه، وعَدَلَ براحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع، أتسمع؟ وأنا أقول: نعم. فمضى حتى قلت: لا. فرفع يديه عن أذنيه، ورجع إلى الطريق، ثم قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سمعَ صوتَ زَمَّارةِ راعٍ، فصنع مثلَ هذا. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" بهذا الإسناد (¬1). وقال الإِمام أحمد بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لُعِنتِ الخمرة على عشرة أوجه، لُعنت الخمرة بعينها، وشاربُها وساقيها، وبائعُها، ومبتاعُها، وعاصِرُها ومعتصِرُها، وحاملُها، والمحمولةُ إليه، وآكلُ ثمنِها" (¬2). وفي رواية: وحاضرها (¬3). وفي المتفق عليه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب"] (¬4). وعن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيكون بعدي أمراء يأمرونكم بما لا يفعلون، فمَنْ صدَّقهم بكذبهم، وأعانَهم على ظُلمهم، فليس مني، ولن يَرِدَ عَلَيَّ الحوضَ". وقال سالم بن عبد الله بن عمر: حدثني أبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستخرجُ نارٌ قَبْلَ يومِ القيامةِ من نحو حضرموت -أو من حضرموت- تحشرُ الناس". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "عليكم بالشام" (¬5). [وليس في الصحابة مَن اسمه عبد الله بن عمر سواه]. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 4/ 152، ومسند أحمد (4535). (¬2) مسند أحمد (4787). (¬3) لم أقف عليها. (¬4) صحيح البخاري (5575)، وصحيح مسلم (2003). وهو في "مسند" أحمد (4729). ومن قوله: قال الإِمام أحمد بإسناده عن نافع ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬5) مسند أحمد (5146)، والذي قبله فيه برقم (5702).

عبد الله بن عمر بن عبد الله

وممَّن اسمُه عبد الله بن عمر [من غير الصحابة] عبد الله بن عمر بن عبد الله ابن عليّ العبشمي أبو عديّ (¬1) العَبْليّ، شاعر مخضرم في الدولتين. وفدَ على هشام بن عبد الملك، فامتدحَه بقصيدة منها. عَبْدُ شمسٍ أبوك وَهْوَ أبونا ... لا نُناديك من مكانٍ بعيدِ والقَراباتُ بينَنا واشِجاتٌ ... مُحْكَماتُ القُوَى بِعَقْدٍ شديدِ (¬2) فأعطاه ابنُ عبد الملك عطيَّةً لم يَرضَها، وفَرَّقَ في بني مخزوم أخوالِه أموالًا، فقال: خَسّ (¬3) حظِّي أَنْ كنتُ من عَبْدِ شمسٍ ... ليتني كنتُ من بني مخزومِ فأفوزَ الغَداةَ فيهم بسهمٍ ... وأبيعَ الأبَ الكريمَ بِلُومِ وكان العَبْليُّ يُنكرُ على بني أمية شَتْمَ عليٍّ - عليه السلام -، فنفَوْه عن الشام، فانتقلَ إلى المدينة وقال: شرَّدُوني (¬4) عند امتداحي عليًّا ... ورأَوْا فيَّ ذاك داءً دَوِيَّا فَوَرَبِّي لا أبْرَحُ الدَّهْرَ حتّى ... تُخْتَلَى مهجتي أُحِبُّ (¬5) عليَّا وبَنِيهِ لِحُبِّ أحمدَ إنِّي ... كنتُ أحْبَبْتُهمْ بحبِّي (¬6) النبيَّا حبَّ دينٍ لا حبَّ دنيا وشرُّ ... الحُبِّ حبٌّ يكونُ دُنْياويَّا فنفَعَه ذلك لما ظهر بنو العباس فأمَّنوه. ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): أبو علي، والتصويب من "تاريخ دمشق" 37/ 117 وغيره من المصادر. (¬2) الأغاني 11/ 303، و "تاريخ دمشق" 37/ 119. وجاء البيتان في "الأغاني" أيضًا 11/ 307 ضمن قصيدة. وروايته فيه: بجبلٍ شديدِ. (¬3) في النسخ المذكورة: حظ. والمثبت من المصادر. (¬4) في "الأغاني" 11/ 303: شرَّدوا بي. (¬5) في "الأغاني": بحبِّي، بدل: أحبُّ. (¬6) في (د) و (خ): كحبِّي، وفي (ب): لحبِّي. المثبت من (أ)، وهو الوانق لما في "الأغاني" 11/ 303.

عبد الله بن عمر بن أيوب

ثم خرج بعد ذلك مع محمد بن عبد الله بن حسن على أبي جعفر، فلما قُتل طَلبه أبو جعفر، فهرب. عبد الله بن عمر بن أيوب ابن المُعَمر بن قَعْنَب. قال: نهبَ الناسُ دارَ أبي الحُسين بن مكلاح النصرانيّ الكاتب بدمشق، وقصدوا قتله في سنة اثنتي عشرة وثلاث مئة، فهربَ وكتبَ على باب داره: ونَفْسَك فُزْ بها إنْ خِفْتَ ضَيمًا ... وخَل الدارَ تبكي مَنْ بكاها فإنك واجدٌ دارًا بدار ... ولستَ بواجد نفسًا سواها (¬1) عوف بن مالك الأشجعي [وكنيتُه] أبو عَمرو، وقيل: أبو عبد الرحمن (¬2)، من الطبقة الثالثة من المهاجرين [وذكره ابن سُميع في الخامسة]. شهد فتح خيبر [مسلمًا]، وكانت بيده يوم الفتح راية أشجع، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الصَّعب بن جَثَّامة (¬3). [وقال ابن سعد: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي الدرداء] (¬4). وغزا مع يزيد بن معاوية القسطنطينيَّة. [وقال ابن منده: ] وقدم مصر. [وقال ابن سميع: ] وكانت له دار بحمص وعقب. وقال ابن عساكر: كانت له دارٌ بدمشق عند سوق الغزل (¬5). ومات بحمص في سنة ثلاث وسبعين. وقيل: في سنة أربع وسبعين. وقيل: سنة خمس وسبعين، وقيل سنة خمس وثلاثين، وهو وهم. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 37/ 5 - 6 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) ذكر ابن عساكر 56/ 194 أنه يكنى أيضًا أبا محمد. (¬3) تاريخ دمشق 56/ 206 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) طبقات ابن سعد 5/ 169. وكل ما سلف وسيرد بين حاصرتين من (ص). (¬5) تاريخ دمشق 56/ 194. وكلام ابن منده وابن حميع (السالف) فيه ص 202 و 201 على الترتيب.

أسند الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأخرج له في "الصحيحين" ستة أحاديث، منها حديث للبخاري وخمسة لمسلم (¬1). وليس في الصحابة من اسمه عوف بن مالك سواه]. وروى عنه من الصحابة: أبو أيوب الأنصاري، والمقدام بن معدي كرب (¬2)، وأبو هريرة. ومن غيرهم: جُبير بن نُفير، وأبو بُرْدَة بن أبي موسى، والشعبي (¬3)، وأبو مسلم وأبو إدريس الخَوْلانيَّان. وكان أبو مسلم إذا حدثَ عنه يقول: حدَّثني الحبيبُ الأمين -فأما هو إليَّ فحبيب، وأما هو عندي فأمين- عوفُ بنُ مالك الأشجعي. ثم روى عنه حديثًا؛ أخرجه مسلم بإسناده إلى أبي مسلم الخَوْلاني قال: حدَّثني عوفُ بنُ مالك قال: كنَا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة، أو ثمانية، أو سبعة، فقال: "ألا تُبايعون رسول الله؟ "، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، وكنَّا حديثَ عهدٍ ببيعة، فقال: "ألا تُبايعون رسول الله؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، علام نُبايعُك؟ قال: "أن تعبدوا اللهَ عزَّ وجلَّ، ولا تُشركوا به شيئًا، والصلواتِ الخمس، وتطيعوا -وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناسَ شيئًا". قال: فلقد رأيتُ بعضَ أولئك النَّفَر يسقُطُ سَوْطُ أحدِهم، فما يسألُ أحدًا أن يُناولَه إيَّاه حتى ينزل فيأخذَه (¬4). [قال ابن سعد: ] وجاء عوف يومًا إلى عمر بنِ الخطاب رضوان الله عليه وبيده خاتمٌ من ذهب، فضرب يدَه وقال: أتلبس الذهب؟ ! فرمى به، فجاء من الغد وبيده خاتم من حديد، فقال عمر رضي الله عنه: حِلْيةُ أهلِ النار. فجاءه من الغد وبيده خاتم من وَرِق، فسكت عمر - رضي الله عنه - (¬5). ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 397. (¬2) لم أقف على رواية للمقدام بن معدي كرب عن عوف بن مالك. وروى الطبراني في "المعجم الكبير" 18/ 38 له حديثًا بينهما أبو أيوب الأنصاري. (¬3) قال المِزي في "تهذيب الكمال" 22/ 444: الصحيح أن بينهما سُويد بن غَفَلة. (¬4) صحيح مسلم (1043). وفيه قوله: "ألا تبايعون رسول الله" ثلاث مرات. وأخرجه أيضًا ابن عساكر 56/ 204 - 205. (¬5) طبقات ابن سعد 5/ 169. وما بين حاصرتين من (ص).

معبد بن خالد

مَعْبَد بن خالد أبو زُرْعة الجُهَني، من الطبقة الثالثة من المهاجرين. [قال ابن سعد: ] أسلم قديمًا [وكان] مع كُرز بن جابر الفِهْري حين بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العُرَنيِّين الذين أغاروا على لِقاح النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الجَدْر (¬1)، وهو أحد الأربعة الذين حملوا ألوية جُهينة التي عَقَدَها لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح. وكان ألزمَهم للبادية. وقيل: إنه مات في سنة اثنتين وسبعين، وقيل: سنة أربع وسبعين (¬2). [وليس في الصحابة مَن اسمُه معبد بن خالد غيره. وله رؤية، وليس له رواية. وجملةُ مَن في الصحابة ممّن اسمُه معبد فثلاثة عشر: أحدهم هذا. والثاني: معبد بن مسعود السلمي. والثالث: معبد بن هُوذة الأنصاري. وهذان لهما صحبة ورواية. والرابع: معبد بن أكثم الكعبي. والخامس: معبد بن الحارث بن قيس. والسادس: معبد بن خليد بن أثبة (¬3). والسابع: معبد بن عبادة بن قشعر. واختلفوا فيه؛ قال الواقدي: كنيتُه أبو خميصة؛ بخاء معجمة، وقيل: أبو حميصة؛ بحاء مهملة. وقال أبو معشر: أبو عُميصة؛ بعين مهملة مضمومة. وقال ابن إسحاق: هو معبد بن عبَّاد بن بشير. والثامن: معبد بن عبد سعد (¬4) بن عامر. ¬

_ (¬1) هو مَشرَحٌ على ستة أميال من المدينة. ينظر "معجم البلدان" 2/ 114. والعُرَنِيون: أُناسٌ من عُرينة قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاقتص منهم وقتلهم. ينظر خبرهم في "صحيح" البخاري (233)، و"صحيح" مسلم (1671). (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 265. (¬3) لم تجوَّد اللفظة في (ص) (والكلام منها وحدها). والمثبت من "طبقات" ابن سعد 5/ 150. (¬4) في (ص) (والكلام منها): ساعد. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 4/ 284، و"تجريد أسماء الصحابة" 2/ 85، و"الإصابة" 9/ 243.

السنة الخامسة والسبعون

والتاسع: معبد بن قيس بن صيفي بن صخر الأنصاري، واختلفوا فيه؛ فنسبه الواقدي كذا وابنُ عمارة. وأما ابنُ عقبة وابنُ إسحاق وأبو معشر فلا يذكرون في نسبه صيفيًّا. والعاشر: معبد بن مخرمة بن قلع. والحادي عشر: معبد بن وهب العبدي. والثاني عشر: معبد بن أبي معبد الكعبي الخُزاعي، وأمّه أمّ معبد، ويقال: معبد بن صُبيح. والثالث عشر: معبد بن العبّاس بن عبد المطلب. وكلهم له رؤية، وليس له رواية، إلا مَنْ سمينا، وهما اثنان. والله أعلم] (¬1). السنة الخامسة والسبعون فيها خرج ملك الروم بجيوشه، فنزل مَرْعَشَ، فجهَّرْ إليه عبدُ الملك أخاه محمد بنَ مروان، فهزمَ الروم وغَنِمَهم. وفيها ولَّى عبد الملك الحجَّاج بنَ يوسف العراق دون خُراسان وسِجِسْتان، وولَّى المدينةَ يحيى بن الحكم بن [أبي] العاص؛ [عمَّ عبد الملك بن مروان]. وقدم الحجَّاجُ الكوفة في شهر رمضان. واختلفوا في سبب توليته [على] العراق على قولين: أحدهما: شَغَب أهل العراق وطمعُهم في الولاة. والثاني: إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التَّيميّ (¬2). ¬

_ (¬1) من قوله: وليس في الصحابة من اسمه معبد بن خالد غيره.، . إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). وينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 254 - 255. وجاء بعده في (ص) ما صورتُه: آخر الجزء التاسع من مرآة الزمان، ويتلوه في الذي يليه الجزء العاشر السنة الخامسة والسبعون. وفيها خرج ملك الروم بجيوشه. والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. (¬2) يعني بسبب كلام إبراهيم المذكور مع عبد الملك. وسيرد.

وهل سارَ الحجَّاج من الحجاز إلى العراق، أم وَفَدَ من الحجاز على عبد الملك، ثم سار إلى العراق؟ فيه قولان: فقال عبد الله بن [أبي] عُبيدة بن محمد بن عمَّار بن ياسر: خرج الحجاج (¬1) من المدينة حين أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بولاية العراق بعد وفاة بشر بن مروان والمهلبُ [بن أبي صُفرة] يقاتلُ الخوارج وقد تقاعد عليه أهل البصرة والكوفة، فلما ورد الحجَّاجُ القادسية سار في اثني عشر راكبًا، فوافى مسجد الكوفة وقت الأذان، فبدأ بالمسجد وهو متعمِّم بعمامة خَزٍّ حمراء، فصَعِدَ المنبر، فجلس وهو ساكت، وقال: عليَّ بالناس، فحسِبُوه خارجة (¬2)، فهمُّوا به وقالوا: لعنَ الله من بعث بهذا. وكان قبيحَ الصورة، دميمًا، وهمُّوا بِحَصْبِهِ، فقال لهم محمد بن عُمير: اصبروا حتى تسمعوا ما يقول (¬3)، فقام وكشف عن وجهه، وأنشد: أنا ابنُ جَلَا وطلَّاع الثَّنايا (¬4) ... متى أَضَعِ العِمامَةَ تعرفوني صليبُ العُودِ من سَلَفَي نزارٍ (¬5) ... كنَصْلِ السَّيفِ وَضَّاحُ الجبينِ ثم قال: يا أهل العراق، يا أهل الشِّقاق والنِّفاق، إني (¬6) أرى رؤوسا قد أينعَتْ وحانَ قِطافُها، وإنِّي -واللهِ- لَصاحبُها، أنا الحجَّاج بن يوسف الثقفي، إني (¬7) -واللهِ- لأنظرُ إلى الدِّماء بين العمائم واللِّحَى. ¬

_ (¬1) جاء في (ص) بعد قوله: فيه قولان، ما صورتُه: قال الوليد بن مسلم: سار من الحجاز إلى العراق. وقال الهيثم: بل قدم على عبد الملك، فولّاه العراق، ثم سار من الشام إلى العراق. وَجْهُ قول من قال: إنه سار من الحجاز إلى العراق ما روى الوليد بن مسلم بإسناده إلى عبد الله بن [أبي] عُبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: خرج الحجاج ... (¬2) تاريخ الطبري 6/ 202. وفي "العقد الفريد" 4/ 119: فحسبوه وأصحابه خوارج. (¬3) يقارن الخبر بما في "تاريخ" الطبري 6/ 204، و "المنتظم" 6/ 151. (¬4) ابنُ جَلَا: الصبح، لأنه يجلو الظلمة أي أنه منكشف الأمر. والثنايا: ما صغُر من الجبال ونتأ. ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 205. (¬5) المنتظم 6/ 151. وفي "العقد الفريد" 4/ 120: رباح، بدل: نزار. (¬6) المثبت من (أ) وهو الموافق للمصادر. وفي النسخ الأخرى: مالي. (¬7) في (أ): كأني. وفي "المنتظم" 6/ 152: لكأني.

قد شمَّرَتْ عن ساقها تشميرا (¬1) هذا أوانُ الشَّدِّ فاشْتَدِّي زِيَمْ ... قد لَفَّها الليلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ ليس براعي إبلٍ ولا غَنَمْ ... ولا بجزَّارٍ على ظَهْرِ وَضَمْ (¬2) باتُوا نِيامًا وابنُ هِنْدٍ لم يَنَمْ قد لَفَّها الليلُ بِعَصْلَبِيِّ ... مُهاجِرٍ ليس بأعرابي أرْوَعَ خرَّاجٍ من الدوي (¬3) يا أهل الشِّقاق ومساوئ الأخلاق، إنَّ أمير المؤمنين نثلَ (¬4) كِنانتَه بين يديه، فعَجَم عِيدانَها عُودًا عُودًا، فوجدَني أمرها، وأحدَّها نَصْلًا، وأقومَها قَدْحًا (¬5)، فبعث بي إليكم، فإنْ تستقيموا تستقم [لكم الأمور] وإن أخذتُم بثنيَّات الطريق لا أقلتُكم عَثْرَة، ولا قبلتُ منكم معذرة، ولأَعْصِبنكم عَصْبَ السَّلَم، ولأضربنَّكم ضَرْبَ غرائب الإبل، ولأَقْرَعَنَّكم قَرْعَ المَرْوَة، فطالما ارتضعتُم ثديَ الضلالة (¬6)، وسلكتم سبيل الغَواية، وتماديتُم في الجهالة، يا عَبِيد العصا، ويا أولاد الإماء، أنا الغلام الثقفيّ، لا أَعِدُ إلا وفَيت، ولا أَخْلُقُ إلا فَرَيت (¬7)، فإياكم وهذه الزَّرافات، يا بني اللَّكيعة (¬8)، ما أنتم وذاك؟ إنما مَثَلُكم كما قال الله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 203. وفي "البيان والتبيين" 2/ 308: فشمِّرا. وفي "العقد الفريد" 4/ 121: فشدوا، وفي "مروج الذهب" 5/ 294: فَجِدُّوا. (¬2) قال الطبري 6/ 205: زِيَم: اسم للحرب، والحُطَم: الذي يحطم كل شيء يمرُّ به. والوَضَم: ما وُقيَ به اللحم من الأرض. (¬3) العَصلَبي: الشديد. والدّويّة: الأرض الفضاء التي يُسمع فيها دويّ أخفاف الإبل. قاله الطبري. (¬4) كذا في (أ) و (ب) و (خ) و (د) يعني استخرج. ولم يرد الخبر في (ص) و (م). وجاء في هامش (أ): لعله: نثر. وهي كذلك في "تاريخ الطبري" 6/ 203، و"العقد الفريد" 4/ 121، و"مروج الذهب" 5/ 295. وفي "البيان والتبيين" 2/ 309: كبَّ. (¬5) في "مروج الذهب" 5/ 295: "أمرَّها طعمًا، وأحدها سنانًا، وأقواها قِداحًا". وقوله: عَجَمَ عيدانَها، أي: عضَّها. قاله الطبري. (¬6) في "مروج الذهب": أوضعتم في الضلالة. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬7) أي: ما قدَّرْتُ إلا قطعت. ينظر "اللسان" (خلق). (¬8) اللَّكيعة: الأمَّة اللئيمة. وبنو اللكيعة: قوم. ينظر "اللسان" (لكع).

رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] شاهَت الوجوه، فأنتُم أشباهُ أولئك، فاستوسقوا واستقيموا، فواللهِ لأُذِيقنَّكُمُ الهَوان حتى تَدِرُّوا، ولأعْصِبنَكُم عَصْبَ السَّلَمة حتى تنقادوا، فطالما أوْضَعْتُم في الفتن، وسننتُم سنن الغَيّ (¬1)، أُقسم بالله لَتَدَعُنَّ الإرجاف، ولَتَقْبَلُنَّ الإنصاف، ولَتَدَعُنَّ الخلاف ولتَنْزِعُنَّ عن قِيل وقال، وكان وكان، وأخبرَني فلان عن فلان، والهن وما الهن (¬2)، أو لأَهْبِرَنَّكم بالسيف هَبْرًا يدعُ النساءَ أَيَامَى، والولْدانَ يتامى، وحتى تمشوا السُّمَّهَى (¬3)، وتُقلعوا عن ها وها، لا يركبنَّ أحدٌ منكم إلا وحدَه، وإياكم وهذه الزَّرافات، فلو ساغ لأهل المعصية معصيتُهم ما جُبِيَ فَيء، ولا قُوتِلَ عدوّ، ولتعطَّلت الثُّغور، وقد بلغني رَفْضُكُم المهلَّب وإقبالُكم إلى مِصْركم عصاة مخالفين، وإني أُقسم بالله إن وجدتُ مِن بعثِ المهلَب بعد ثالثة أحدًا ضربتُ عنقَه، واللهِ لقد سألتُ اللهَ أن يبتليَكُم بي، وإنّي سريتُ البارحة، فسقطَ سوطي، وهذا سيفي عِوَضُه، وقد بان الصبح لذي عينين، وليس ممَّن يُقَعْقَعُ لي بالشِّنان (¬4)، ولا أُغمَزُ تغماز التِّين (¬5). فتساقطت الحجارة التي أرادوا أن يحصبوه بها من أيديهم، وذلُّوا، ثم قرأ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} الآيات (¬6). ثم قال: يا غلام، هاتِ كتابَ أمير المؤمنين. فأخرجَ الكتابَ ونَشَرَهُ، وقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عبد الملك أمير المؤمنين إلى [أهل] العراق، سلام عليكم. ¬

_ (¬1) في "مروج الذهب" 5/ 295: سنن السوء. وتحرفت العبارة في النسخ الخطية إلى: وسبيتم سبي الفيء. والتصحيح من "أنساب الأشراف" 6/ 391. (¬2) كذا في النسخ غير (ص) و (م)، فليس فيها الكلام. وفي "أنساب الأشراف" 6/ 394: الهبر ما الهبر. وكذا في "تاريخ" الطبري 6/ 204، لكن فيه: وما الهبر. وفي "البداية والنهاية" 12/ 247: الخبر وما الخبر. (¬3) نقل الجوهري في "الصحاح" 6/ 2235 (سمه) عن أبي عمرو: جرى فلان السُّمَّهَي: إذا جرى إلى غير أمر يعرفه. ووقع في "الكامل" 4/ 376: حتى تذرُوا السُّمَّهَي، وقال ابن الأثير: السمهَي: الباطل. (¬4) يقال في المثَل: ما يُقعْقَعُ له بالشِّنان، أي: لا يتَّضعُ لِما ينزل به من حوادث الدهر. والشنان: جمع شَنّ، وهو القِرْبةُ البالية؛ يحرّكونها إذا أرادوا حث الإبل على السير لتفزع فتسرع. ينظر "مجمع الأمثال" 2/ 261. (¬5) في (أ): ولا يُغمز جانبي تغماز التين، وهو بنحوه في "العقد الفريد" 4/ 121. (¬6) من قوله: هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

فلم يردَّ أحد السلام، فغضبَ الحجَّاج وقال: يا أهل الضلالة، ومعدن الغَي والجهَالة، أيُسَلِّم عليكم أميرُ المؤمنين ولا تردُّون سلامَه؟ ! واللهِ لأُؤَدِّبنكم غير هذا التأديب. ثمَّ أعاد قراءة الكتاب ثانيًا، فلما بلغ إلى قوله: يسلِّمُ عليكم أمير المؤمنين، قالوا بأجمعهم: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. [وفي رواية: أنه لما صعد المنبر سكت، فأطال، فتناول محمد بن عمير حصىً، وأراد أن يَحْصِبَهُ وقال: قاتله الله ما أعياه وأذمَّه! فلما تكلّم الحجاج وقع الحصى من يده] (¬1). ثم دعا العُرفاء وقال: ألْحِقُوا الناسَ بالمهلَّب، ولا تُغلِقُنَّ بابَ الجسر ليلًا ولا نهارًا حتى تنقضيَ المدَّة. ثم نزل. قال القاسم بن سلَّام لما بلغَه قولُ الحجَّاج: قاتلَ اللهُ أهلَ الكوفة، استٌ في الماء وأنفٌ في السماء (¬2)! أين قبائلُهم وعشائرُهم وأهلُ الأَنَفَة منهم؟ ! وأين تجبُّرهم وتغطرفُهم؟ ! قتلُوا عليًّا - عليه السلام -، وطعَنُوا الحسن ونهبُوه، وقتلُوا الحسين، وقاتلُوا المختار، وفعلُوا بالوُلاة ما فعلُوا، وعَجَزُوا عن قتل الملعون الأخفش، الدميم الصورة، القبيح الخِلْقة، وقد قدم عليهم في اثني عشر راكبًا وهم في سبعين ألف مقاتل؟ ! ولكن الله تعالى أذاقَهم لباسَ الجوع والخوف، وجعل الحَجَّاجَ عليهم نِقْمةً، وأظهر مصداق قول أمير المؤمنين على - عليه السلام -: اللَّهم سَلِّطْ عليهم الغلامَ الثقفي. [قلت: وفي قول عليّ - عليه السلام -: الغلام الثقفي، نظر، وإنما هو من كلام عمر بن الخطاب، ذكره ابن سعد في آخر "الطبقات" فيمن كان بالشام بعد الصحابة في ترجمة أبي عَذَبَة. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 204. والكلام بين حاصرتين من (ص)، وجاء بعده فيها ما صورتُه: "فقال في كلامه الحجاج: وقد بلغني رفضكم المهلب وإقيالكم إلى مصركم عصاة مخالفين وإني أقسم بالله إن وجدت مِن بعثِ المهلب بعدَ ثالثة أحدًا ضربتُ عنقه". وقد سلف هذا القول فيما مضى، وهو من ضمن الكلام الذي لم يرد في (ص) كما سلفت الإشارة إليه. (¬2) هو مَثَل يُضرب للمتكبّر الصغير الشأن. مجمع الأمثال 1/ 21.

فقال: قال أبو اليمان، عن حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن ميسرة] (¬1) قال أبو عَذَبَة الحضرمي: قدمتُ على عمرَ بنِ الخطَّاب رابعَ أربعةٍ من أهل الشام ونحن حُجَّاج، فبينما نحن عنده إذ أتاه خبر من أهل العراق أنهم قد حصبُوا إمامَهم، وكان قد بعث إليهم إمامًا قبلَه فحصبوه، فخرج عمر إلى الصلاة مُغْضَبًا، فَسَها في صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: مَنْ هاهنا مِنْ أهل الشام؟ [فقال أبو عَذَبة: ] فقمتُ أنا وأصحابي، فقال: يا أهل الشام، تجهَّزوا لأهل العراق، فإنَّ الشيطان قد باضَ فيهم وفرَّخ، ثم قال: اللهم إنهم قد ألبسوا عليَّ، فَأَلْبِسْ عليهم، اللهم عجِّل لهم الغلام الثقفيَّ الذي يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبلُ من محسنهم، ولا يتجاوزُ عن مسيئهم. [وأخرج ابنُ عساكر في "تاريخه" عن الحسن بن سفيان طرفًا منه]. فأما ما يُروى عن عليّ - عليه السلام - في هذا الباب، فمن رواية الحسن البصري قال: خطبَ أمير المؤمنين عليٌّ - عليه السلام - على منبر الكوفة وقال: اللهم إني ائتمنتُ أهل العراق فخانوني، ونصحتُهم فغشُّوني، اللهم فَسَلِّطْ عليهم غلامَ ثَقِيف، يحكُم في دمائهم [وأموالهم] بحكم الجاهلية؛ لَيُقال له يومَ القيامة: اكْفِنَا زاوية من زوايا جهنم، لا يدعُ معصيةً إلا ارتكبها، يقتلُ بمن أطاعه من عصاه (¬2). [وهذا قول من قال: إن الحجَّاج سار من الحجاز إلى العراق. أمَّا على قول مَنْ قال: إنه سارَ من الشام إلى العراق؛ كالهيثم بن عديّ وغيره؛ فإنهم قالوا: لما قَتَلَ الحجَّاجُ ابنَ الزُّبير؛ استدعاه عبد الملك بن مروان إلى الشام، فلما دخل عليه؛ أدناه وأكرمه، ووصلَه، وأقام عنده. فجاء كتابٌ من الكوفة من عمرو بن حُريث يُخبر عبد الملك أنهم حصبوه، وعَصَوْا على المهلَّب، وأنَّ المهلَّب في وجوه الأزارقة. فخطب عبد الملك وقال: إن العراق قد علا لهيبُها، وسطع وميضُها، فجمرُها ذَكيّ، وزِنادُها وَرِيّ، فهل من ذي قلب شديد، ¬

_ (¬1) في (ص) والكلام منها (وهو الواقع بين حاصرتين): جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن مسيرة، وهو تحريف، والتصويب من "طبقات" ابن سعد 9/ 445. (¬2) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 217 - 218.

وسلاح عتيد ينتدب لها، فيُخمِدَ نيرانَها ويُبيدَ شُبَّانها؟ فلم يُجبه أحد، فأعاد القول مرارًا، فلم يُجبه أحد، فقام الحجَّاج فقال: أنا لها. فقال وهو يعرفه: انتسبْ. وإنما أراد أن يبيّن للناس فصاحتَه. فقال: أنا الحجَّاج بن يوسف بن الحَكَم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفيّ صاحبِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعظيمِ القريتين. قال: فما أعددتَ لهم؟ قال: ألبَسُ لهم جلد النَّمِر، وأخوضُ الغَمَرات، وأقتحم المهالك، فمن خالفني طلبتُه، ومن لحقتُه قتلتُه، أسومُهم بعَجَلة وريث، وتبسُّم وازورار، وطلاقة وتجافي، وصلة وحرمان، فإن استقاموا كنتُ لهم واليًا حفيًّا، وإن لم يستقيموا لم أُبقِ منهم طُورِيًّا (¬1)، ولا عليك يا أمير المؤمنين أن تُجرِّبَني، فإن كنتُ للأموال جمَّاعًا، وللأيدي قطَّاعًا، وللأرواح نزَّاعًا، وإلا فاستبدلْ بي، فإنَّ الرجال كثير. فقال عبد الملك: أنت لها. وقال الزُّبير بن بكَّار: لما قَتَلَ الحجَّاجُ ابنَ الزبير استدعى إبراهيمَ (بنَ محمد) بن طلحة التيميّ، فقرَّبه وأدناه، ورفع منزلته، فلم يزل على حالِهِ تلك حتى خرجَ الحجَّاج إلى عبد الملك في آخر سنة أربع وسبعين (¬2)] ذكلر قصة إبراهيم بن محمد بن طلحة مع عبد الملك بن مروان: قال الزُّبير بن بكَّار: فلمَّا خرج الحجَّاج إلى الشام استصحب (¬3) معه إبراهيم بن محمد، وكان من رجالات قريش علمًا وعملًا، وزُهْدًا ووَرَعًا وعبادة، وكان الحجَّاجُ لا يتركُ من إجلاله وبِرِّه شيئًا، فلما قَدِما على عبد الملك؛ أذن للحجاج في الدخول عليه، فلما دخل سلَّم، ولم يبدأ بشيءٍ إلا أن قال: يا أمير المؤمنين، قدمتُ عليك برجلِ أهل الحجاز، لم أَدَعْ له فيه نظيرًا في كمال المروءة والأدب والذيانة والسِّتر، وحُسْنِ المذهب، والطاعةِ والنصيحة، مع القرابة ووجوبِ الحقّ. قال: ومَنْ هو؟ قال: إبراهيمُ بن محمد بن طلحة، فليفعل معه أميرُ المؤمنين ما يفعلُه بأمثاله. فقال عبدُ الملك: ذكَّرتَنا حقًّا واجبًا، ورَحِمًا قريبة. ثم أذن له [في الدخول]. ¬

_ (¬1) أي: أحدًا. ووقع في (ص) (والكلام منها): طَويا. والمثبت من "الأوائل" للعسكري 2/ 68. (¬2) من قوله: وهذا قول من قال إن الحجاج سار ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). وينظر "الأوائل" للعسكري 2/ 67 - 68 و "المنتظم" 6/ 156 - 157. (¬3) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): وفي آخر سنة أربع وسبعين استصحب ... الخ. والمثبت من (ص).

فلما دخل قرَّبَهُ وأدناه، ثم قال له: إنَّ أبا محمد ذكَّرَنا ما لم نزلْ نعرفُك به من الفضل والأدب، وحُسن المذهب، مع قرابة الرَّحم، ووجوبِ الحقّ، فلا تدعَنَّ حاجةً من خاصِّ أمرك إلا ذكرتَها، فقال إبراهيم: إن أولى الأمور أن تفتح به الحوائج، وتُرجى به الزّلَف ما كان لله فيه رِضي، ولحقِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أداء، ولجماعة المسلمين فيه نصيحة. قال: وما هو؟ قال: إن عندي نصيحة لا أجدُ مِنْ ذِكْرِها بدًّا، ولا يُمكن البَوْحُ بها إلا وأنا خالٍ، فأخْلِني. فقال: أوَ دون أبي محمد؟ قال: نعم. فأشارَ عبدُ الملك إلى الحجَّاج فخرج، فقال: قُلْ. فقال: يا أمير المؤمنين، إنك عَمَدْتَ إلى الحجَّاج مع تغطرسه وتعترسه وتعجرفه لِبعده عن الحقّ وركوبِه إلى الباطل، فولَّيتَه الحَرَمَين، وبهما من أولاد المهاجرين والأنصار والصحابة مَنْ قد علمتَ، يسومُهم الخسفَ، ويقُودُهم بالعنف، ويحكمُ فيهم بغير الحقّ، ويطؤهم بطَغَام أهلِ الشام، ورَعاع لا رَوِّيَة لهم في حقّ، ولا في إزاحة باطل، ثم تظن أن ذلك يُنجيك غدًا من عذاب الله تعالى! فكيف بك إذا جاءك (¬1) غدًا محمدٌ (¬2) - صلى الله عليه وسلم - للخصومة بين يدي الله تعالى في أمَّته (¬3)؟ أما والله إنَّك لن تنجوَ هناك إلا بحجَّةٍ تضمنُ لك النجاة، فأبق (¬4) على نفسك، أو دَعْ، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلّكم راع، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته". قال إبراهيم: وكان عبدُ الملك متَّكئًا، فاستوى جالسًا، وقال: كذبتَ ومِنْتَ (¬5) فيما جئتَ به، ولقد ظنَّ بك أبو محمد ظنًّا لم نجده فيك، وربَّما ظُنَّ الخيرُ بغيرِ أهله، قُمْ فأنتَ الكاذب المائن الحاسد. قال: فقمتُ وواللهِ ما أُبْصِرُ شيئًا، فلما جاوزتُ السِّتر لحقني لاحقٌ من ورائي، فقال للحاجب: احبس هذا، وائذنْ للحجَّاج. فدخل، فلبثتُ مَلِيّا ولا أشكّ أنهما في أمري، ثم خرج الإذْن لي فدخلتُ، فلما كشف السِّتر؛ إذا أنا بالحجَّاج وهو خارج، ¬

_ (¬1) المثبت من (ص)، وفي النسخ الأخرى (غير م): جاباك. وينظر التعليقان التاليان. (¬2) في النسخ الخطية: محمدًا. وأثبتُ اللفظة على الجادة فيما ظهر لي. (¬3) في "تاريخ دمشق" 2/ 509 (مصورة دار البشير): ثم ظننتَ أنَّ ذلك فيما بينك وبين الله ينجيك، وفيما بينك وبين رسول الله (ص) يُخلِّصُك إذا جاءتاك للخصومة في أمته. (¬4) في "تاريخ دمشق": فأفِقْ. (¬5) أي: كذبت.

فاعتَنَقَني، وقبَّل ما بين عينيّ وقال: إذا جزى الله المتآخِيَين بفضل تَواصلِهما، فجزاك الله أفضلَ الجزاء، فواللهِ لئن سلمتُ لك؟ لأرفعنَ ناظريك، ولأُعْلِيَنَّ كَعْبَك، ولأُتبِعنَّ الرجال غُبارَ قدميك. قال: فقلت في نفسي: إنه ليسخرُ بي، فلما وصلتُ إلى عبد الملك أدنى مجلسي كما فعلَ في الأوَّل، ثم قال: يا ابنَ طلحة، هل أعلمتَ الحجَّاج بما جرى، أو شاركك أحدٌ في نصيحتك؟ فقلت: لا والله، ولا أعلمُ أحدًا أظهرَ يدًا عندي من الحجَّاج، ولو كنت مُحابيًا بديني أحدًا لكان هو، ولكني آثَرْتُ اللهَ ورسولَه والمسلمين، فقال: قد علمتُ صِدْقَ مقالتِك، ولو آثرتَ الدنيا لكان لك في الحجَّاج أمل، وقد عزلتُه عن الحَرَمَين لمَّا كرهتَ ولايتَه عليهما، وأخبرتُه أنك أنتَ الذي استنزلتني [له] عنهما استصغارًا لهما، وولَّيتُه العراقَين لِما هنالك من الأمور التي لا يُرخِصُها إلا مثلُه. وإنما قلتُ له ذلك ليؤدِّيَ ما يلزمُه من ذِمامك [فيؤدّيَ به إليك عني أجرَ نَصِيحتِك] فاخْرُجْ معه، فإنك غيرُ ذام لصحبته مع يدك عنده. قال: فخرجتُ مع الحجاج، فأكرمَني أضعافَ إكرامِه وإحسانِه إليّ (¬1). وقد دَلَّت هذه الحكاية على مكارم عبد الملك، وحسنِ أخلاقه، واعترافِهِ بالحقّ، وتلطُّفه في الأمور. [وقد أساء إبراهيم حيث قابل إحسان الحجَّاج إليه وثناءه عليه عند عبد الملك بمثل هذا، وقد كان الواجب عليه أن يتلطَّف في القضيَّة، ويتوصَّل إلى عبد الملك في عزل الحجَّاج عن الحَرَمَين بالوجه الذي ذكره عبد الملك وغيره] (¬2). [قال البلاذري: ] ولما فرغ الحجاج من خطبته قال: قُوموا إلى البيعة. فقاموا قبيلةً قبيلة، فبايعوا، حتى جاءت قبيلةُ النَّخَع، فقال: أمِنكم الكُمَيل بن زياد؟ قالوا: نعم. قال: لا بيعةَ لكم عندي حتى تأتوني به، فقالوا [له]: إنه شيخ كبير، فقال: لا بدَّ منه. فجاؤوا به على نعش، فوضعوه إلى جانب المنبر، فقال الحجَّاج: لم يبق ممن دخل على عثمان غير هذا، فقدمه فضرب عنقه. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 2/ 508 - 509 (مصورة دار البشير). وما سلف في الخبر بين حاصرتين من (ص). (¬2) ما بين حاصرتين من (ص)، ولم يُصب قائله.

وقيل: إنه قتله بعد سنة ثمانين (¬1). [وحكى عمر بن شبَّة عن أشياخه قالوا: ] وأقام الحجاج بالكوفة ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الثالث سمع تكبيرًا في السوق، فصَعِدَ المنبر، فقال: قد سمعتُ تكبيرًا، وليس بالذي يُرادُ به وجهُ الله في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يُراد به الترهيب، وقد عرفتُ أنها عَجاجة تحتَها قصف، يا عَبِيد العصا، لا يتخلَّفنَّ أحذ ممَّن ضُربْ عليه البعث في التوجُّه إلى المهلَّب إلا قتلتُه. فقام إليه عُمير بن ضابئ التميمي (¬2)، فقال: أصلحَ الله الأمير، أنا في هذا البعث وأنا شيخٌ كبير عليل، وهذا ابني أشدّ (¬3) مني. قال: ومن أنت؟ قال: عُمير بن ضابئ. قال: ألستَ الذي غزا عثمان بالأمس؟ قال: بلى. قال: ما حملك على ذلك؟ قال: حبسَ أبي حتى مات وكان شيخًا كبيرًا. فقتله. [وسنذكر عُمير بن ضابئ في آخر السنة]. ولما قتل عُميرًا نادى منادي الحجَّاج: ألا إنَّ عُمير بن ضابئ أتى بعد ثالثة، وكان قد سمع النداء، فأمَرْنا بقتله، ألا فإنَّ ذِمَّة الله بريئةٌ ممَّن باتَ الليلة من جند المهلَّب في المصر. فخرج الناسُ فازدحموا على الجسر حتى وقع جماعة منهم في الماء، وعبر الجسرَ أربعةُ آلاف من مَذْحِج في تلك الليلة. وبلغَ المهلَّب وهو برامَهُرْمُز، فقال: قدم العراق رجل ذكر، اليوم قُوتل العدّو (¬4). ولقيَ إبراهيمُ بنُ عامر بن غاضرة عبدَ الله بنَ الزَّبِير الأسديّ الشاعر، فقال له إبراهيم: ما الخبر؟ فقال عبد الله: ¬

_ (¬1) جاء هذا القول مفصَّلًا في (ص)، فجاء فيها بعد قوله: فضرب عنقه ما لفظه: "قلت: كذا ذكر البلاذري، وهو وهم، والصحيح أن الحجاج قتل الكميل بن زياد بعد سنة ثمانين". اهـ. ولم أقف على هذا الخبر في "أنساب الأشراف". وهو في "تاريخ دمشق" كما في "مختصره" 6/ 206. وفي "أنساب الأشراف" 6/ 503 رواية أخرى في قتل الحجاج كميل بنَ زياد. (¬2) في (أ): البرجمي. وهو صحيح أيضًا. (¬3) في "تاريخ" الطبري 6/ 207: أشبُّ. وفي رواية أخرى فيه 6/ 208: أجلد. (¬4) تاريخ الطبري 6/ 206 - 207. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 392 - 395. وما سلف بين حاصرتين من (ص).

تَجهَّزْ وأسْرِعْ والْحَقِ الجيشَ لا أَرَى ... سوى الجيشِ إلا في المَهالكِ مَذْهَبا تَخَيَّرْ فإما أنْ تزورَ ابنَ ضابئٍ ... عُميرًا وإمَّا أن تَزُورَ المُهَلَّبا فحال ولو كانَتْ خُراسانُ دونَه ... رآها مكانَ السُّوقِ أو هيَ أقْرَبا من أبيات (¬1) [واختلفوا في قدوم الحجَّاج الكوفة، فقد ذكرنا أنه قدمها في رمضان، وقيل: في رجب]. وفيها بعد استقرار الحجاج بالكوفة بعثَ الحكمَ بنَ أيوب بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي ابنَ عمِّ الحجَّاج أميرًا على البصرة، وأمرَه أن يشتدَّ على خالد بن عبد الله بن أسيد، فخرج خالدٌ قبل وصول الحكم، فنزل الجلحاء، وخرجَ أهلُ البصرة يُودِّعونَه، فقسَمَ فيهم ألفَ ألفِ درهم، ثم انصرف (¬2). وكان الحكم بنُ أيوب هذا قد تزوَّج زينبَ أختَ الحجَّاج. [ذكر أخبار الحكم: ذكر المدائني قال: ] وقد كان الحجَّاج عرض عليها محمدَ بنَ القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل، وهو ابنُ سبعَ عشرةَ سنة، وكان محمدٌ أشرفَ أهلِ زمانه في ثَقِيف، وعرضَ عليها الحكم بن أيوب وهو شيخ كبير، فاختارت الحَكَم على محمد، فزوَّجه إيَّاها، وولَّاه البصرة سنة خمس وسبعين، فأقامَ بها إلى سنة اثنتين وثمانين حتى خلعَ ابنُ الأشعث عبدَ الملك، فلحق بالحجَّاج. وولَّاه الحجاجُ البصرة بعد ما قُتل ابنُ الأشعث مرة ثانية (¬3). ويقال: إنَّ الحكم قتلَه صالح بنُ عبد الرحمن الكاتب مع جماعة من آل الحجَّاج في العذاب على المال الذي أخذوه في أيام الحجَّاج بأمر سليمان بن عبد الملك لما ولي الخلافة (¬4). وقد روى الحكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 209. وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 393. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 209. (¬3) تاريخ خليفة ص 293 - 294، وتاريخ دمشق 5/ 195 - 196 (مصورة دار البشير). (¬4) تاريخ دمشق 5/ 198.

وفيها سار الحجَّاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلفَ على الكوفة أبا يعفور عروةَ بنَ المغيرةِ بن شعبة، فلم يزل عليها حتى رجع الحجاج إليها بعد ما أوقع بأهل البصرة (¬1). [قال هشام: ] ولما قدم الحجَّاج البصرةَ خطب بنحو ما خطبَ بالكوفة، وتوعَّد الناس، وجاءه شريك بن عمرو اليشكري وهو مريض به فتق وهو أعور، وعينُه الصحيحةُ عليها قطنة (¬2)، وكان من أشراف أهل البصرة، فقال له الحجَّاج: ألم آمُرْك بالمسير إلى المهلَّب؟ ! فقال: أيُّها الأمير، قد ترى حالي وما أنا فيه، وقد عَذَرَني بِشْرُ بنُ مروان، وهذا عطائي مردود في بيت المال. فضرب عنقه، فأفزعَ ذلك أهل البصرة. وخرج الحجَّاج فنزل رُسْتقاباذ، وبينها وبين الأهواز ثمانيةَ عشرَ فرسخًا، وإنما قصد أن يشدَّ ظهر المهلَّب، ويُضعف أمرَ الخوارج (¬3). [وقال الهيثم: ] ثم إنَّ الحجَّاج خطبَ وقال: هذا واللهِ مُقامكم جمعةً بعد جمعة، وشهرًا بعد شهر، وسنة بعد سنة، حتى يُهلك الله، الخوارج المطلِّين عليكم (¬4). وقال [هشام: قال الواقدي: قال الحجاج] في خطبته: ألا وإنَّ الزيادة التي زادكم ابنُ الزبير في العطاء زيادةُ فاسق، فلا أُجيزُها. وكانت مئة مئة، فقام إليه عبد الله بنُ الجارود العبدي، فقال: إنها ليست زيادةَ فاسق ولا منافق، وقد أمضاها أمير المؤمنين على يد أخيه بشر بن مروان، فأثبتَها لنا. فكذَّبه الحجَّاج وتَوَعَّده [فكان ذلك سببًا لخروجه عليه. وقال البلاذُري: ] وقال له: ما أنتَ والكلام؟ لتُحسنَنَّ حملَ رأسك وإلا سلبناك إيَّاه. فقال: والله إنني لك لناصح، وإنه لَقولُ مَنْ ورائي (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 210. (¬2) في "أنساب الأشراف" 6/ 395: وكان أعور يضع على عينه قطنة. (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 395 - 396، و"تاريخ" الطبري 6/ 210. (¬4) أنساب الأشراف 6/ 397. (¬5) أنساب الأشراف 6/ 298. وينظر "تاريخ" الطبري 6/ 211.

ثم أقام شهرًا لا يذكرها (¬1)، ثم ذكرها، فردَّ عليه ابنُ الجارود، فقام مصقَلَة (¬2) بن كرب بن رَقَبة العبدي -وهو أبو رَقَبة بن مَصقَلَة (¬3) المحدث- فقال: إنه ليس للرعيَّة أنْ تَرُدَّ على راعيها، وسمعًا لما قال الأمير وطاعةً. فصاح ابن الجارود: يا ابن الجرمقانيَّة، وما أنتَ وهذا؟ ! ومتى كان مثلكم يتكلَّم؟ ! ثم اتفق وجوهُ أهلِ البصرة على قتال الحجَّاج، وقدَّموا عليهم ابنَ الجارود، منهم الهُذيل بنُ عمران البُرْجُميّ، وعبدُ الله بن حكيم المجاشعيّ، وتحالفوا على إخراج الحجَّاج من البصرة والعراق، ومكاتبةِ عبد الملك أن يولِّيَ عليهم غيرَه، فإنْ أَبَى خلعوه وحاربوه. ثم اجتمعوا، ورتَّبَ ابنُ الجارود عبد القيس على راياتهم، ومال الناس إليه، وانفرد الحجَّاج في خواصِّه وأهلِ الكوفة، وقطع ابن الجارود الجسر، وكانت خزائنُ الحجَّاج وأموالُه من ورائه، فغلبوا عليها وعلى السلاح، فأرسل الحجَّاج أعين، صاحبَ حمَّام أعين -[قال ابن الكلبي: ] وهو مولى بشر بن مروان، وقيل: مولى سعد بن أبي وقاص- إلى ابنِ الجارود، فقال: أجب الأمير، فقال ابنُ الجارود: لعن الله مَنْ ذكرتَ ومن بعثَه إلينا، ليخرج ابنُ أبي رِغال عبدُ ثقيف عنَّا مذمومًا مدحورًا، وإلا قتلناه. فأغلظَ له أعين، فقال ابن الجارود: يا ابن الخبيثة، لولا أنك رسولٌ لقتلتُك، ثم أمر به فُوجئت عنقُه، وطردَه (¬4). وجاءت (¬5) قيس، فانتهبَتْ متاعَ الحجَّاج كلَّه، وسُرادقَه، ودوابَّه، وجاءت اليمانية، فاحتملوا امرأةَ الحجَّاج بنتَ النعمان بن بشير الأنصاري، وجاءت مُضَر، فاحتملوا امرأتَه الأخرى أمَّ سلمة بنتَ عبد الرحمن بن عَمرو بن سهل -ويقال: بنت عبد الرحمن بن عمرو بن سهل بن عمرو، فحصَّنوهما مخافةَ السفهاء. [وتزوَّجَ الوليد بن عبد الملك ¬

(¬1) في "أنساب الأشراف" 6/ 398: ومكث أشهرًا لا يذكر الزيادة. (¬2) في النسخ الخطية (غير م): رقبة. والمثبت من "أنساب الأشراف". (¬3) في بعض النسخ: أبو مصقلة بن رقبة، غير (ص) ففيها: أبو مصقلة. وسقط الكلام من البعض الآخر. (¬4) أنساب الأشراف 6/ 399 - 400. وينظر "تاريخ" الطبري 6/ 210 - 211. (¬5) في (أ) و (ب) و (د): وحكمت، وفي (ص): وحملت، والمثبت من (خ).

أمَّ سلمة (¬1) بنت عبد الرحمن بن عَمرو بن سهل- ويقال: من غير ذكر: عمرو وتزوَّجها أيضًا هشام بن عبد الملك بعد الوليد]. وتوقَّف ابنُ الجارود عن قتال الحجَّاج، فقال له الغضبان بن القَبَعْثَرَى الشيباني: تَعَش بالجَدْي قبل أن يتغدَّى بك، والله لئن أصبح ليكثُرَنَّ ناصرُه، ولَتَضْعُفَنَّ. واستشار الحجَّاجُ عثمانَ بنَ قَطَن الحارثي، وزياد بنَ عَمرو العتكي -وكان [زياد] على شرطته- فقال: ما تريان؟ فقال زياد: قد ترى ميلَ الناس إلى ابنِ الجارود، وقد انفضَّتْ عنك الجُموع، والرأيُ أن نأخذ لك منه أمانًا، وتنصرف إلى عبد الملك، ثم ترى رأيك بعد ذلك. فقال عثمان بن قَطَن: بئس الرأي هذا، إنك سرتَ إلى ابن الزُّبير، وكان أعظَم خطرًا من هذا، وأكثرَ عَدَدًا وأموالًا، وأعظمَ في صدور الناس، فقتَلْتَه؛ فرفعَك عبدُ الملك إلى ولاية العراقَين، فلما جريتَ إلى الأمَدِ الأقصى، وأصبْتَ الغَرَضَ الأسنى، وهابَتْك العربُ؛ تُعطي بيدك! واللهِ لئن فعلتَ هذا لا نلتَ من عبد الملك مثلَ الذي أنتَ به من السلطان أبدًا، ولتهونَنَّ عليه، ولتسقطَنَّ منزلتُك عنده وعند كل عدوّ، ولكن الرأي أن نمشيَ بسيوفنا إلى هؤلاء، فنضربَهم بها، فإمَّا أن نظفر، وإما أن نموت كرامًا. فأَعجَبَ الحجَّاجَ قولُه، وأعرض عن قول زياد، وبات الناس على تعبئة (¬2). فلما أصبح الناس مال إلى الحجاج قُتيبة بنُ مسلم، وعبَّاد بنُ الحُصين الحَبَطي، وكان قد يئس من الحياة، فاشتدَّ قلبُه، وصار في ستة آلاف. وجعل ابن الجارود على ميمنته الهُذيل بنَ عمران [وعلى ميسرته عُبيد الله بن زياد بن ظَبْيان، وعلى ميمنة الحجَّاج قتيبة بن مسلم] وعلى ميسرته سعيد بنُ أسلم الكلابي، واقتتلُوا، فظهر ابنُ الجارود على الحجَّاج، ولم يبقَ إلا أن ينهزم الحجَّاج، فجاء ما لم يكن في الحساب؛ بينما ابنُ الجارود قائمٌ في القلب، والقتالُ يعمل؛ جاءه سَهْمُ ¬

_ (¬1) يعني تزوَّجَها بعد الحجَّاج. قال البلاذري في "أنساب الأشراف" 6/ 401: كانت عند الحجاج، ثم خلف عليها الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم هشام. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) أنساب الأشراف 6/ 401 - 402.

[ذكر] قصة عبد الله بن فضالة

غَرْبٌ (¬1) [فوقع في نحوه] فذبحَه، فسقط، وقاتل أصحابُه قتالًا شديدًا، فقُتل الهذيل (¬2) وأعيانُ أصحابه، وانهزم الباقون، وبعثَ الحجاج برؤوسهم إلى المهلَّب ليقوِّيَ قلبه. وكتب الحجَّاج إلى عبد الملك: الحمدُ للهِ الذي حفظَ أمير المؤمنين في سلطانه، وجعلَ دائرةَ السَّوْء على مَنْ خالفه، أخْبِره أنَّ أهلَ العراق نهبُوا خزائني وأموالي، ودخلوا فسطاطي ومتاعي، وقالوا: اخْرُجْ من بلادنا إلى مَنْ بعثَك إلينا، ففارقَني البعيد، وأَسْلَمَني القريب، وقلاني الصديق، وغَصَصْتُ بالرِّيق، فلقيتُهم بأهلي وخاصَّتي ومن أطاعني، وقلت: الموتُ تحتَ أطراف الأَسَل (¬3) خير من الحياة في ذُلّ، وأُخْبِرُه بقتلِ ابن الجارود وأصحابه. فكتب إليه عبد الملك: أنت الأمينُ على الغيب، القليلُ العيب، فإنْ رابَك منهم شيء فاقتُلْ أدناهم يَرْعَبْ منك أقصاهم، والسلام (¬4). [وقد ذكرنا الجارود فيما تقدَّم، واسمه بشر بن عموو بن حنش بن المعلَّى، وكان نصرانيًّا، والجارود لقب له]. وقُتل مع ابن الجاوود عبدُ الله بنُ أنس بنِ مالك الأنصاري، وكان شجاعًا، فلما عاد الحجَّاج إلى البصرة استصفى أموال أنس وقال: ما أُراه إلا يعين علينا. [وسنذكر القصة فيما بعد إن شاء الله تعالى]. [ذكر] قصة عبد الله بنِ فَضَالة [ذكر هشام والهيثم وابن أبي الدنيا قالوا: ] نادى منادي الحجَّاج يوم رُسْتَقَاباذ: أمِنَ الناسُ كلّهم إلا أربعةً: عبدَ الله بنَ الجارود، وعبدَ الله بنَ فَضَالة، وعكرمة بنَ رِبْعيّ، وعُبيدَ الله بنَ زياد بن ظَبْيان. ¬

_ (¬1) سهمٌ غربٌ، وسهمُ غَرْبٍ: لا يُدرى راميه. (¬2) الذي في "أنساب الأشراف" 6/ 405 - 406 أن الهُذَيل لم يُقتل في هذه الواقعة، وإنما أتي به وبعبد الله بن حكيم بعدها إلى الحجاج فقتلهما. (¬3) يعني النَّبْل والرماح. (¬4) بنحوه في "أنساب الأشراف" 6/ 407. وما سلف وسيرد بين حاصرتين من (ص).

[قال: ] فأُتيَ برأسِ ابنِ الجارود، فلم يصدِّق فَرَحًا، فقال: عَمِّمُوه لي أعرفْه، فلم أره قطُّ إلا مُعَمَّمًا، فعمَّموه فعرفَه. وأما عُبيد الله بنُ زياد بن ظَبْيان؛ فمضى إلى عُمان، فأصابه الفالج، ومات بها. [وهو الذي قتل مصعب بن الزبير] وأمَّا عكومة بنُ رِبْعي، فلحقته خيل الحجاج فقاتل، وقَتَلَ منهم جماعة، وقُتل. وأمَّا عبدُ الله بنُ فَضَالة؛ فهربَ إلى خُراسان، فأقامَ بها حتى وليَها المهلَّب، فأمرَه الحجَّاج بأخذه أينَ أصابَه، وكان بمرو، فبعث المهلبُ إليه ابنَه حبيبًا، فأخذَه غارًّا (¬1) وهو لا يشعرُ به، وكتب المهلَّب إلى الحجَّاج يُخبره به. وعلم به المغيرة بن المهلَّب، فجاء إلى منزل حَبَّة بنت الفضل امرأةِ عبد الله بن فَضَالة -وكان عبدُ الله ابنَ عمِّها- فقال لها المغيرة: إنَّ حَبِيبًا قد أخذَ عبدَ الله، وقد كتب [أبي] إلى الحجَّاج يُعلمُه بذلك، فإن كان عندكِ خبرٌ؛ فشأنُك، وعندي من المال ما بدا لك. فقالت: لا ولا كرامة، تأخذونه أسيرًا غِيلَةً، وآخذُ منكم المال! ثم خرجَتْ مع خادم لها إلى الشام، فقَدِمَتْ دمشق، فدخلَتْ على أمِّ أيوب بنت عَمرو بن عثمان، وكانت أمُّها زينب بنت ذؤيب (¬2) الخُزاعي، فأخبرَتْها الخبر، وقالتْ: إنما قصدتُك لأمرٍ بَهَضني وغَمٍّ كَظَّنِي (¬3)، فقالتْ لها: قد كنتُ أسمعُ عبدَ الملك يتلظَّى (¬4) على صاحبك. قالتْ: فأين رحلتي إليكِ من خُراسان؟ ! فأجْلَسَتْها مكانَها [أو: مَجْلِسَها]، فلما دخل عليها عبدُ الملك؛ أخذَتْ حَبَّةُ بثوبه وقالت: هذا مَقَامُ العائذِ بك. فأنكر كلامَها وقال: لقد عُذْتِ بمَعَاذ، فمَنْ أنتِ؟ ! قالتْ: تُؤَمنُ مَنْ جئتُ لأجله كائنًا مَنْ كان؟ قال: نعم. قالتْ: عبدُ الله بنُ فَضالة. فذَعِرَ عبدُ الملك، وكان حَنِقًا عليه، فقالتْ له أمُّ أيوب: ما يُذعِركَ من كرامة ساقَها الله إليك؟ ! قال: أو لم أُولِّهِ السوس وجُنْدَيسابور، وأقطعتُه كذا وكذا؟ ! . ¬

_ (¬1) أي: غافلا. (¬2) في "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 304: زينب بنت كعب بن حلحلة. (¬3) بَهَضَني (وبالظاء أكثر): شقَّ وثَقُل عليّ. وكظَّني: جَهَدَني وكَرَبَني (وبهَظَني أيضًا). وينظر "القاموس". (¬4) أي: يتوقَّد غضبًا.

فقالت: ألم تعلم أنَّ دارَه هُدمت ثلاث مرَّات لأجلك؟ ! ألم تكتب إلى وجوه أهل البصرة، فلم يُجِبك غيرُه؟ ! ألم تعلم أنه كان سيفًا قاطعًا لأعدائك، سِلْمًا لأوليائك؟ ! أفيذهب صالحُ أيامه بطالحها؟ ! قال: هو آمن. قالت: اللهَ اللهَ في الدماء، فإنَّه الحجَّاج. فكتب لها على البريد إلى الحجَّاج بالإحسان إليه وإكرامه، ثم قال لها: ما أنتِ منه؟ قالت: ابنةُ عمِّه وزوجتُه، نشأتُ في حجر أبيه، فقال: واللهِ لأنتِ أعربُ منه وأفصحُ لسانًا، فهل معه غيركِ (¬1)؟ قالت: نعم، ابنةُ عُبيد بن كلاب النميري، وكذا وكذا جارية. قال: فأنا أُوليك طلاقَ زوجتِه وعتقَ جواريه، فقالت: بل تهنئه نساءَه كما هنأتَه دمَه. فقال عبد الملك لأمِّ أيوب: لا نساءَ إلا بناتُ العمّ. وقدم البريدُ على الحَجَّاج بالكتاب وقد أقام عبدَ الله بنَ فَضَالة في سراويل ليعذِّبه، ثم ليقتلَه، فأطلقَه وكساه وحملَه، وانصرف إلى أهله، فسأل عن حبَّة، فقالوا: لا ندري إلى أين توجَّهت. وبلغه ما صنعت، فأرسل إليها: أخبريني بقدومك حتى ألقاك، فقدمت ولم ترسل إليه. وكان قدومُها ليلًا وهو عند ضَرَّتِها، فقالت: لا تُؤذنوه، فلما أصبحَ أتاها فشكرها (¬2). وفيها كتبَ الحجَّاجُ إلى المهلَّب بمناهضة الخوارج، فسارَ إليهم ومعه عبد الرحمن بنُ مِخْنَف على جند الكوفة، فأجلَوْهم عن رامَهُرْمُز، وقُتل عبدُ الرحمن بن مِخْنَف. قال هشام بن محمد: ناهضَ المهلَّبُ الخوارجَ يوم الاثنين لعشر بقين من شعبان سنة خمس وسبعين، فأجْلَوْهُم عن رامَهُرْمُز، فخوجوا على حامية، فنزلوا أرض سابور بمكان يقال له: كازرون، وسار المهلَّب وعبدُ الرحمن خلفَهم، فنازلوهم غرَّة رمضان، فخندقَ المهلَّبُ عليه، وما كان ينزلُ بمكانٍ إلا خندقَ عليه احترازًا من البيات، وأراد ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: فهل معكِ غيرك. وهو خطأ. والتصويب من "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 306. (¬2) الخبر بتمامه في "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 303 - 306. ويقارن صدر الخبر بما في "أنساب الأشراف" 5/ 404 - 405.

عبدُ الرحمن أن يُخندق عليه، وأشارَ المهلَّبُ بذلك، فأبى أصحابُ عبد الرحمن عليه، وقالوا: إنما خندقُنا سيوفُنا (¬1). وأراد الخوارجُ تبييتَ المهلَّب، فمنعَهم الخندق، فمالُوا نحو عبد الرحمن، فوجدوه لم يُخندق، فقاتلوه فانهزمَ عنهْ أصحابُه، فقاتل في بقية أصحابه فقُتل وقُتِلُوا حولَه، فقال شاعر الخوارج: لِمَنِ العَسْكَرُ المُكلَّلُ بالصَّرْ ... عَى فهُمْ بين ميِّتٍ وقَتِيلِ فتراهُمْ تَسْفِي الرِّياحُ عليهِمْ ... حاصِبَ الرَّمْلِ بعد جَرِّ الذُّيُولِ (¬2) وقيل: جاءهما كتاب الحجَّاج يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان هذه السنة، فأوقعوا بالخوارج، واقتتلوا قتالًا شديدًا لم يقتتلوا قبلَه مثلَه، وكان بين الظهر والعصر، ومالت الخوارج بحدِّها وحديدها على عسكر المهلب، فأرسل المهلَّبُ إلى عبد الرحمن يستمدُّه، فأمدَّه بالخيل بعد الخيل، والقتالُ يعمل (¬3)، فلما كان بعد العصر؛ رحَلَ الخوارج إلى عسكر عبد الرحمن وقد خَف، فجعلوا في مقابلة المهلَّب كتائب منهم، ومالُوا بحدِّهم وحديدهم إلى عبد الرحمن، فلما نظر إليهم عبدُ الرحمن، ترجَّل، وترجَّل معه القراء، وكان عليهم أبو الأحوص صاحب عبد الله بن مسعود، وخُزيمة بن نصر العَبْسي الذي قُتل مع زيد بن علي وصُلب معه بالكوفة، ونزلَ خواص عبد الرحمن معه واقتتلوا، وقد حالت الخوارج بين العسكرين، وبعثَ عبدُ الرحمن ابنه جعفرًا إلى المهلب يخبره، فنادى المهلب في عسكر البصرة: سيروا معه إلى أبيه، فلم يسر معه إلا أُناس قليل، وجاء جعفر إلى ناحية أبيه، فحالت الخوارج بينهم، فقاتل جعفر حتى ارْتُثّ، وصعد عبد الرحمن ومن معه -وكانوا نحوًا من سبعين رجالةً- على تلّ هناك، وجاء الليل والقتال يعمل إلى الثُّلث (¬4)، وقد حال الليل بين المهلَّب وعبدِ الرحمن، فمالت الخوارج على عبد الرحمن وأصحابه، فقتلوهم. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 211. (¬2) المصدر السابق 6/ 212. (¬3) في "تاريخ" الطبري 6/ 212: فأمده بالخيل بعد الخيل، والرجال بعد الرجال. (¬4) عبارة الطبري: وقاتل عبد الرحمن بن مخنف ومن معه على تلّ مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل.

فلما طلع الصبح جاء المهلَّب يطلب عبد الرحمن، فوجَده قتيلًا بين أصحابه، فصلَّى عليه ودفنَه، وكتب إلى الحجَّاج يخبره. فبعث الحجَّاج إلى عبد الملك، فوافاه كتابُه بمنى وقد حجَّ بالناس في هذه السنة، فخطبَ، وترحَّم على عبد الرحمن، وذمَّ أهلَ الكوفة (¬1). وقال حُميد بن مسلم يرثي عبد الرحمن: إنْ يقتُلُوكَ أبا حكيمٍ غِرَّةً (¬2) ... فلقد تَشُدُّ وتقتلُ الأبطالا أو يُثْكِلُونا سَيِّدًا لِمُسَوَّدٍ ... سَمْحَ الخليقةِ ماجدًا مِفْضالا فلَمِثْلُ قَتْلِكَ هَدَّ قومَكَ كلَّهم ... مَنْ كان يحملُ عنهم الأثقالا مَنْ كان يكشفُ غَمَّهم (¬3) وقتالهم (¬4) ... يومًا إذا كانَ الضِّرابُ نِزَالا أقسمتُ ما نِيلَتْ مَقَاتِلُ نَفْسِهِ ... حتى تَدَرَّعَ من دَمٍ سِرْبَالا وتكشَّفَتْ عنه الصفوفُ وخَيلُهُ ... فهناك نالتْهُ الرِّماحُ فَمَالا من أبيات. وقال سُراقة بنُ مِرْداس البارقي: ثَوَى سَيِّدُ الأزْدَيْنِ أَزْد شَنُوءةٍ ... وأزد عُمانَ رَهْنَ رَمْسٍ بكازِرِ وضارَبَ حتى ماتَ أكْرَمَ مِيتةٍ .. بأبيضَ صافٍ كالعقيقةِ باترِ وصُرِّعَ حول التَّلّ (¬5) تحت لوائِهِ ... كِرامُ المساعي من كِرَامِ المعاشرِ قَضَى نَحْبَهُ يومَ اللقاءِ ابنُ مِخْنَفٍ ... وأدبرَ عنه كلُّ ألْوَثَ داثرِ أمدَّ ولم يُمْدَدْ فَرَاحَ مُشمِّرًا ... إلى الله لم يذهبْ بأثوابِ غادرِ وبعث الحجَّاج على عسكر الكوفة بعد عبد الرحمن عتَّاب بن وَرْقاء، فلم يَطِبْ له حُكْمُ المهلَّب عليه، وجرى بينَهما الكلام؛ نال منه المهلَّبُ فيه، وقال: يا ابنَ ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 212 - 213. (¬2) في "تاريخ" الطبري: غدوة. (¬3) في "تاريخ" الطبري 6/ 214: غُرْمَهُم. (¬4) في (خ): وقتالنا. وفي (أ) و (ب) و (د): وقتالًا. وليس في (ص) و (م). والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 214. (¬5) في النسخ (غير ص وم فليس فيها): وصرّح حول الليل. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 214.

اللَّخْنَاء (¬1). وردَّ على المهلَّب، فرفع المهلَّبُ القضيب عليه، وأراد أن يضربه، فقبضَ المغيرةُ بنُ المهلَّب على أبيه (¬2) وقال: إنه شريف من أشراف العرب، وشيخٌ من شيوخهم، تفعلُ به كذا! احْتَمِلْه، فأنتَ أهلٌ لذلك. ففعل. وبلغ الحجَّاجَ، فكتبَ إلى عتَّاب بن ورقاء يأمرُه أن يلحقَ به، ويُضيف جيش الكوفة إلى المهلَّب، ففعل (¬3). وفيها بنى الحجَّاجُ واسطًا؛ شَرعَ فيها في هذه السنة، وفرغَ منها سنة ثمان وسبعين. [وقال الطبري: إنما بناها في سنة ثلاث وثمانين. وهو وهم]. [قال الأصمعي: ] مرَّ الحجَّاج بدَيرٍ عند مكان [يقال له: ] واسط [القصب، وقيل: واسط القصب غيرها]، فنزل عند الدَّير، وإذا براهب قد أقبلَ راكبًا على حمار، فلما وصلَ إلى موضعها بال الحمار، فنزل الراهب، فجمع البول من مكانه ورمَى به في دجلة، فدعا به الحجَّاج، فسأله عمَّا فعل، فقال: إنَّا وجدنا في كتبنا أنه يُبْنَى ها هنا مسجد يُعبد اللهُ فيه ما دام في الأوض أحد. فشرعَ الحجَّاج في بنائها (¬4)! وقيل: إنما بناها لتكون بين الكوفة والبصرة، فلا تنقطعُ عنه أخبار المِصْرينِ. [وسنذكرها في سنة 77]. وفيها ضرب عبدُ الملك على الدينار والدرهم اسمَ الله تعالى. [قال الهيثم: ] وسببُه أنه وجد دراهم ودنانير تاريخُها قبل الإسلام بأربع مئة سنة مكتوب عليها: بسم الأب والابن وروح القدس، فسبَكَها، ونَقَشَ عليها اسم الله تعالى، وآياتٍ من القرآن، واسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [واختلفوا في صورة ما كتب على أقوال: ] ¬

_ (¬1) هو من شتم العرب، كَأنهم يقولون: يا دنيء الأصل، أو: يا لئيم الأمّ. (من هامش "القاموس" نقلًا عن الراغب). (¬2) في "تاريخ" الطبري 6/ 213: فقبض على القضيب. (¬3) المصدر السابق. (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 383 - 384، و"الكامل في "التاريخ" 4/ 495 - 496.

فقيل: جعل في وجهٍ: لا إله إلا الله، وفي الآخر: محمد رسول الله، وأرَّخ وقتَ ضربها. وقيل: إنه جعلَ في وجه: قل هو الله أحد، وفي الآخر: محمد رسول الله. وقيل: كتبَ على [أحد] الوجهين: الله أحد، من غير: قُلْ (¬1). وقيل: كتبَ في الوجه الآخر: محمد رسول الله (¬2)، - صلى الله عليه وسلم -. ولما وصلت إلى العراق، أمرَ الحجَّاج فزيدَ فيها -في الجانب الذي فيه: محمد رسول الله؛ في جوانب الدرهم مستديرًا: أرسلَه بالهدى ودين الحق. الآية (¬3). فقال الناس: قاتلَ اللهُ الحجاج؛ كتب القرآن على الدنانير والدراهم، ويأخذها الجنُبُ والحائض. وكان زياد قد جعل العشرة دراهم وزن ستة مثاقيل، فردَّها عبد الملك إلى وزن سبعة، كما كانت على عهد عمر - رضي الله عنه - (¬4). [وقال أبو اليقظان: ] ولما محا عبد الملك صورةَ الأب (¬5) والابن وروح القدس؛ أرسل إليه قيصر بهدايا كثيرة وأموال، وقال له: غير اسم الله تعالى، ورُدَّ الدراهم إلى ما كانت عليه. فلم يفعل. وقال الزّهري: كانت الدراهم ثلاثة أصناف. الوافية؛ وزن الدرهم مثقال، والبغليَّة (¬6)؛ وزن الدرهم نصفُ مثقال، والزياديَّة؛ وزنُ العشرة ستة مثاقيل، فجمع عبد ¬

_ (¬1) جاء بدل هذا القول في (ص) ما صورته: وقال القضاعي: كتب على إحدى (كذا) الوجهين: الله أحد، من غير: قل، وهي قراءة النبي (ص). (¬2) في (ص): "كتب في وجه: لا إله إلا الله، وفي الأض: محمد رسول الله". وينظر "النقود والمكاييل" للمناوي ص 62 - 63. (¬3) في "المنتظم" 6/ 148 أن عبد الملك هو الذي زاد هذا اللفظ من الآية. ولفظ الآية: أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، كما في التوبة (33)، والفتح (28)، والصف (9). (¬4) في "المنتظم" 6/ 148: قال إبراهيم النخعي: جعل عمر بن الخطاب وزن عشرة دراهم ستة دنانير، فلما ولي زياد جعل وزن عشرة سبعة. (¬5) في (أ) و (خ) و (د): ولما محا عبد الملك صورة الملك وصورة الأب ... (¬6) نسبة إلي ملك يدعى رأس البغل. وتحرفت في النسخ الخطية إلى: التغلبية.

الملك الأصناف الثلاثة، فأخذ [من] كل صنف ما عَدَلَ به الآخر، فجعل العشرة وزن سبعة مثاقيل، ونَقَشَها (¬1) بالعربية على ما وصفنا، واستقرَّ الأمر عليه إلى هلم جرًّا (¬2). فلما وليَ هارون الرشيد أراد تغييرها، فقيل له: هذا أمرٌ قد استقرّ، وألِفَه الناس، فأبقاها على ما هي عليه اليوم، ونقشَ عليها اسمَه. وقيل: أول من غيَّر نقشها من بني العباس أبو جعفر المنصور، وكتبَ عليها اسمه، أما الوزن فما تعرض أحد لتغييره. وحجَّ بالناس عبد الملك [بن مروان. وقال الواقدي: ] ولما وصل [إلى] المدينة نزل بدار أبيه مروان، وأحرمَ من البيداء، ودخلَ مكة محرمًا، وأقام للناس المناسك. وحجَّ في هذه السنة جماعة من رؤوس الخوارج؛ صالحُ بن مُسرِّح أحدُ بني امرئ القيس، وشبيب بن يزيد، وسُويد، والبَطين، وكان صالح يرى رأي الصُّفْريَّة، ويقال: إنه أوَّلُ من خرج منهم (¬3). [وقد ذكرهم الجوهريّ، فقال: والصُّفْريةُ؛ بالضم: صنف من الخوارج، نُسبوا إلى زياد بن الأصفر رئيسهم. قال: وزعم قوم أن الذي نُسبوا إليه هو عبد الله بن الصفّار، وأنهم الصِّفْرية (بكسر الصاد)] (¬4). وعزم شبيب (¬5) على الفتك بعبد الملك في هذه الحجة فلم يقدر، ولما انصرف من الحج؛ بلغه ذلك، فكتب إلى الحجاج يأمره بطلبهم، فخرجوا إلى الجزيرة. وكان صالح لما أتى الكوفة من مكة واعدَ جماعة من الخوارج وقتًا بعينه يخرج فيه، وكان معه شبيب بن يزيد بن نُعيم الشيباني. ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ): وثقلها. (¬2) يقارن بما في "المنتظم" 6/ 149، وينظر"النجوم الزاهرة" 1/ 193. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 215. (¬4) من قوله: وقد ذكرهم الجوهري ... إلى هذا الموضع، من (ص). وهو في "الصحاح" 2/ 715 (صفر)، وقوله: (بكسر الصاد) منه. (¬5) في (ص): قال هشام: ولما حجوا في هذه السنة عزم شبيب ... إلخ.

وقال ابن الكلبيّ: كان يزيد بن نُعيم سَبَى سبايا من الروم، وكان فيهم جارية حسناء، فوقعَ عليها، فولَدَتْ شبيبًا في سمنة خمس وعشرين في أيام عثمان بن عفَّان رضوان الله عليه في يوم النحر، فقال أبوه: إنا لله، وُلد في يومٍ تُهراقُ فيه الدماء، سيكون صاحبَ دماء. [قال البلاذري: واسم أمه جهيرة] (¬1) وأسم امرأته غزالة، وكان أبوه قد انتقل من الكوفة، فنزل الموصل. وكان شبيب صاحبَ فتك وغارات على الأكراد، فسمع يومًا قارئًا يقرأ: {وَمَاذَا عَلَيهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ} لآيات، فوقعَ في قلبه الخوف والزُّهد فتنسَّك، وتعبَّد، وأتى الكوفة، فسأل عن أعبد الناس، فدُلَّ على صالح [بن مُسرّح- كان يرى رأي الخوارجِ الصُّفْرية] فأقامَ عنده، وسمع قولَه، ووافقه على رأيه، ثم خرج صالح إلى الجزيرة، وخرجَ معه شبيب، فأقام صالح بنَصِيبِين ودَارَا (¬2). وجاء شبيب إلى عبد الملك، فطلب منه ديوانه، فتهدَّده، ولم يعطه شيئًا (¬3)، فعاد إلى صالح، فأقام معه وبايعه، وخرجوا بعد ذلك. وكان على المدينة أبان بن عثمان [وكان عبد الملك قد ولَّى يحيى بن الحكم المدينة. قال أبو معشر: فوفد يحيى على عبده الملك بغير إذن منه، فقال: من استخلفتَ على المدينة؟ قال: أبان بن عثمان. قال: لا جرم لا ترجعُ إليها. وأقرَّ أبانًا على المدينة] وعلى قضاء الكوفة شُريح، وعلى العراق الحَجَّاج، وعلى خُراسان أمية بن عبده الله، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى (¬4). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 6/ 578. وما بين حاصرتين من (ص). (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 6/ 577 - 579. (¬3) جاء في "أنساب الأشراف" 6/ 579 أن اسم شبيب سقط من الديوان لكثرة تغيّبه ... فكلّم الناسُ عبدَ اللك في الفكّ عن اسمه وإدرار أرزاقه عليه فأبى. (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 209 - 210. وما سلف بن حاصرتين من (ص).

الأسود بن يزيد

وفيها توفي الأسود بن يزيد ابن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سَلامان بن كَهْل بن بكر بن عَوْف بن النَّخَع بن مَذْحِج، أبو عَمرو، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، وهو ابنُ أخي علقمة بن قيس، وكان أكبرَ من علقمة. وكان الأسود يصومُ الدهر، وكان يصوم في الحرّ حتى يسودَّ لسانه، وكان يصومُ في السفر، فيقال له: لِمَ تُعذبُ هذا الجسد؟ ! فيقول: إنما أريدُ له الراحة. وذهبت إحدى عينيه من الصوم في الحرّ، وطافَ بالبيت ثمانين حجةً وعمرةً. وكان يُهلُّ من الكوفة، ومن باجُمَيرا. وحجَّ نيِّفًا وسبعين حجةً، وكان لا يصلِّي على من مات وهو مُوسِرٌ ولم يحجَّ. وكان يختم القرآن في شهر رمضان في كل ليلتين. وكانت عائشة رضوان الله عليها تقول: ما بالعراق رجل أكرمَ عليّ من الأسود. وكان يُصَفِّرُ رأسَه ولحيتَه، وكان يقالُ له: رأسُ مالِ أهل الكوفة. [وقال علقمة بن يزيد: ] انتهى الزُّهد إلى ثمانية من التابعين؛ الأسود منهم. [وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: ] توفي بالكوفة سنة خمس وسبعين، وكان ثقة، وله أحاديثُ صالحة (¬1). وقد سمع من معاذ باليمن لما بعثَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن أبي بكر، وعمر (¬2)، وعليّ، وابن مسعود، وأبي موسى، وسلمان، وعائشة، - رضي الله عنهم -. وولدُه عبدُ الرحمن بنُ الأسود مات في سنة ثمان وتسعين في أيام سليمان بن عبد الملك. ¬

_ (¬1) "طبقات" ابن سعد 8/ 191 - 198. ونُسب الكلام في (ص) و (م) إليه. وما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬2) شطح قلم ناسخ (أ) فزاد بعده: عثمان. وهو خطأ. قال ابن سعد 8/ 192: لم يرو عن عثمان شيئًا.

توبة بن الحمير

تَوْبَة بنُ الحُمَيِّر ابن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة الخَفاجيّ (¬1)، أحدُ عُشَّاق العرب، صاحبُ ليلى الأَخْيَلِيَّة بنتِ عبد الله بن الرحَّالة بن شدَّاد بن كعب بن معاوية، وهو الأَخْيَل بنُ عُبادة بن عُقيل، وكانت أشعرَ النساء في زمانها، لا يقدَّم عليها غير الخنساء [وقد هاجت النابغة (الجعدي). وقال أبو عبيدة معمر: ] كان توبة يشنُّ على بني الحارث بن كعب الغارات، ويفتك بهم، وكان قد رأى ليلى، فهَوِيَها، وعلم به إخوتُها، فنذروا دمَه، وارتحلوا بها، وبَعُدوا عن حيِّه، فقال: نَأَتْكَ بليلى دارُها لا تَزُورُها ... وشَطَّت نَواها واسْتَمَرَّ مَرِيرُها يقولُ رجالٌ لا يَضِيُرك حبُّها (¬2) ... بلى كلُّ ما شَفَّ (¬3) النفوسَ يَضيرُها أظنُّ بها خيرًا وأعلمُ أنها ... ستُنْعِمُ يومًا أو يُفَكُّ أسيرُها وقيل: إنَّ أولها: حمامةَ بَطْنِ الوادِيَينِ تَرَنَّمِي ... سُقِيتِ من الغُرِّ الغوادي مَطِيرُها أبِينِي لنا لا زال رِيشُكِ ناعمًا ... ولا زِلتِ في خضراءَ عالٍ بَرِيرُها وقد زَعَمَتْ ليلى بأنيَ فاجرٌ ... لنَفْسِي تُقاها أو عليها فُجورُها وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تَبَرْقَعَتْ ... وقد رابَني عندَ الغَداةِ سُفُورُها [وقال ابن الكلبي: كان يقال: ما رآها إلا مُبَرْقَعةً، فجاءها يومًا وقد سَفَرَتْ عن وجهها، فأنكر ذلك، وكان إخوتُها قد نذروا دمه، فعلم أنه قد حدث أمر. وقال: ] (¬4) ¬

_ (¬1) في "الأغاني" 11/ 204 وغيره: توبة بن الحُمَيِّر بن حزم بن كعب بن خفاجة بن عمرو بن عقيل. وفي "الشعر والشعراء" 1/ 445، و"المنتظم" 6/ 168: توبة بن الحُمَير من بني عقيل ... إلخ. (¬2) المثبت من (م)، وهو الموافق لما في "المنتظم" 6/ 168. وفي النسخ الأخرى: لا تُحبّك حبها. وفي "الشعر والشعراء" 1/ 445 وغيره: لا يَضِيرُك نَأيُها. (¬3) في النسخ الخطية: يشفي. والمثبت من المصادر. (¬4) ما بين حاصرتين من (ص) و (م). وينظر "الأغاني" 11/ 205.

أرى اليومَ يأتي دونَ ليلى كأنّما ... أتَتْ حِجَج من دويها وشهورُها عليَّ دماءُ البُدنِ إنْ كان بَعْلُها ... يرى ليَ ذنبًا غيرَ أني أزورُها وأشْرِفُ بالقَوْز اليَفَاع (¬1) لعلَّني ... أرى نارَ ليلى أو يراني بصيرُها [وقال ابن الكلبيّ: وتوبةُ هو القائل: فإنْ تمنعُوا ليلى وحُسْنَ حديثها ... فلن تمنعوا عني البكا والقوافيا فهلَّا منعتُمْ إذْ منعتُمْ حديثها (¬2) ... خيالًا يوافيني مع الليل هاديا] (¬3) وكان توبة يُغير (¬4) على الأحياء، ويحمل معه الماء في المفاوز، فخرج مرة يُغير على هَمْدان وبني عقيل ومعه أخوه عبدُ الله وابنُ عمٍّ له، ففقدوا الماء، وطلبوهم فقتلُوهم، فقالت ليلى تبكيه: فآلَيْتُ أبكي بعد توبةَ هالكًا ... وأندبُ إن دارَتْ (¬5) عليه (¬6) الدوائرُ لَعَمْرُكَ ما بالقتلِ عارٌ على الفتى ... إذا لم تُصبه في الحياة المعايرُ [وقال ابن الكلبي: أغارت بنو الحارث بن كعب على قوم توبة، فخرج يدافع عنهم، وقاتل، فقُتل، وكانت وفاته في هذه السنة] (¬7). وأما ليلى فإنها ماتت في هذه السنة (¬8). [وقال ابن الكلبي: ] وهجت النابغةَ [الجعدي] وهجاها، فقال: وكيف أُهاجي شاعرًا رُمْحُهُ أسْتُهُ ... خضيبَ بنانِ لا يزالُ مُكَحَّلا ¬

_ (¬1) القَوْز: الكثيب العالي من الرمل. واليَفَاع: المشرف من الأرض. (¬2) في "المنتظم" 6/ 169: كلامها. (¬3) ما بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬4) في النسخ الخطية: يغار (في الموضعين) (؟ ). وأثبت اللفظة على الجادة. وينظر "الأغاني"11/ 217، و "المنتظم" 6/ 169. (¬5) في "الشعر والشعراء" 1/ 450، و "الأغاني" 11/ 234: أقسمت أرثي بعد توبة هالكًا وأحفل من دارت ... في "الكامل" 3/ 1460: آليت أبكي ... (بمثل ما قبله). (¬6) في (ص): علينا. (¬7) ما بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬8) أوردها كذلك ابن الجوزي في "المنتظم" 6/ 172 في وفيات هذه السنة (75) ونُسب القول في (ص) و (م) إليه.

فأجابَتْه: وعَيَّرْتَنْي داءً بأمك مثلُهُ ... وأي حَصَانٍ لا يُقالُ لها هلا (¬1) [وكانت ليلى تفدُ على عبد الملك والحجَّاج]؛ دخلت [يومًا] على عبد الملك بعد ما أسنَّت، فقال لها: ما رأى منكِ توبةُ حتى عَشِقَكِ؟ ! فقالت: ما رأى الناس منك حيث جعلوك خليفة! والذي فرق بيننا ما كلَّمني يومًا بكلمةِ سوء قط. [وقال الخرائطي بإسناده عن عبد الله (¬2) بن أبي الليث قال: قال عبد الملك بن مروان لليلى الأخيلية: باللهِ هل كان بينَكِ وبين توبة سوء قَط؟ فقالت: والذي ذهب بنفسه وهو قادر على الذهاب بنفسي ما كان بيني وبينه سوء قطّ، إلا أنه قدم من سفر، فصافحتُه، فغمز يدي، فظننتُ أنه يخنع لبعض الأمر] قال: فما معنى قولك (¬3): وذي حاجةٍ قلنا له لا تَبُحْ بها ... فليس إليها ما حييتَ سبيلُ لنا صاحب لا ينبغي أنْ نخونَهُ ... وأنتَ لأُخرى فاعلمنَّ حليلُ فقالت: لا والله ما كان شيءٌ قطّ. وقال الشعبي (¬4): دخلَتْ ليلى الأخيليَّة على الحجَّاج وأنا حاضر، فقال: ما الذي أقدمَكِ علينا؟ فقالت: إخلافُ النجوم، وقلَّةُ الغيوم، وكَلَبُ البَرْد، وشدَّةُ الجَهْد، وأنْتَ لنا بعد الله الرِّفْد. فقال لها: صِفِي حال البلاد. فقالت: أمَّا الفِجاج فمُغْبَرَّة، وأمَّا الأرضُ فمقشعرة، وأمَّا المَبْرَكُ فمعتلّ، وأمَّا ذو العيال فمختلّ، وأمَّا الناسُ فمُسْنِتُون، ولرحمة (¬5) الله راجون، وقد أصابنا سِنونَ لم تدع لنا هُبَعًا ولا رُبَعًا، ولا عافطة ولا نافطة، أذهبت الأموال، ومزَّقت الرجال، وأهلكت العيال (¬6). وأنشدت: ¬

_ (¬1) في "الشعر والشعراء" 1/ 449: وأيّ جواد لا يقال له هلا. (¬2) في (ص): عبد الملك، وهو خطأ، والمثبت من (م) (والخبر من هاتين النسختين). وهو عند الخرائطي في "اعتلال القلوب" ص 96، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"ص 327 - 328 (تراجم النساء). (¬3) في (م): قوله. وما سلف بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬4) في (ص) و (م): وحكى المدائني عن الشعبي قال. (¬5) المثبت من (ص) و (م)، وهو الموافق لما في "تاريخ دمشق" ص 330 (تراجم النساء). وفي النسخ الأخرى: ولوجه. (¬6) شرح المفردات من "الأمالي" 1/ 89: قولها: إخلاف النجوم، تريد أخلفت النجومُ التي يكون بها المطر، فلم تأت بمطر. وكَلَب البرد: شدَّتُه. والرِّفْد: المعونة. والفِجاج جمع فَجّ، والفَجّ: كل سَعَة بين نَشازَين (أي: =

أحجَّاج لا يُفْلَلْ سلاحُك إنَّما ... المنايا بكفِّ الله حيث يَرَاها هو القَرْمُ (¬1) لا يُعطي العصاةَ مُناهُمُ ... ويعطي نفوسَ الطائعين (¬2) مُناها (¬3) إذا وردَ الحجَّاجُ أرضًا مريضة ... تَتَبَّعَ أقصى دائها فشفاها شفاها من الدَّاءِ العُضَال الذي بها ... غلامٌ إذا هزَّ القناةَ ثناها (¬4) [فقال الحجَّاج: لا تقولي: غلام، وقولي: هُمام] فما ولدَ الأبكارُ والعُونُ (¬5) مثلَه ... ببحرٍ ولا بَرٍّ تجفُّ ثراها فقال الحجاج: ما وصفَني شاعرٌ وأصابَ [مثل] صفتي غيرها [بهذا البيت]. فقال لحاجبه: اقْطَعْ لسانها. فأخَذَها وخرجَ ودعا بالحجَّام، فرجعت إلى الحجَّاج وقالت: كاد هذا الأبْلَهُ أن يقطعَ مِقْولي! فدعاه وقال له: ويحك! مثلُ هذه تَقطَعُ لسانَها [لِمَ لا عاوَدْتَني فيها؟ ! ] واللهِ لولا سابقُ خدمتِك لقطعتُ لسانَك. وأمر لها بمئة ناقة سُودِ الحَدَق. ثم قال لها: سلي حاجتك. فقالت: إن النابغة قد هجاني، فادفَعْه إلي في قَرَن (¬6). فقال: هو لك. وبلغ النابغةَ، فهربَ إلى ساوة، فمات بها سنة تسع وسبعين [وسنذكره] (¬7). ¬

_ = مرتفَعَيْن). والمَبْرَك: أرادت الإبل، فأقامت المَبْرَك مكانَها. ومختلّ، أي: محتاج، والخَلَّة: الحاجة، ومُسْنِتون، أي: مُقْحِطُون، والسنَة: القَحْط. ولم تَدَعْ لنا هُبَعًا ولا رُبَعًا، فالهُبع: ما نُتج في الصيف، والربَع: ما نُتح في الربيع. وقولها: ولا عافطة ولا نافطة؛ العافطة: الضائنة، والنافطة: الماعزة (وتحرَّفت في النسخ إلى: عاطفة وناطفة). (¬1) أي: السيد المعظَّم. (¬2) في (ص): الجائعين. (¬3) رواية البيت في المصادر: أحجاجُ لا تُعطِ العصاةَ مْناهُم ... ولا اللهُ يُعطي للعصاةِ مُناها (¬4) كذا في (أ) و (ب) و (خ) و (د). وفي (ص) و (م): بناها. وفي "المصادر": سقاها. (¬5) جمع عَوان، وهي المتوسطة في العمر. وما سلف وسيرد بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬6) هو حَبْلٌ يُقرن به البعيران. (¬7) في (ص) و (م): سامرة، بدل: ساوة. وفي "تاريخ دمشق" ص 224، و"المنتظم" 6/ 177 أنه مات بقومس. قال ابن عساكر: ويقال: بحلوان. وينظر الخبر مطولًا (إضافة إلى المصدرين السابقين) في: "الأمالي" 1/ 86 - 89. وينظر أيضًا: "الأغاني" 11/ 240 - 243.

[قال ابن الكلبي.] مر بليلى زوجُها على قبر تَوْبةَ، فقالت: أنزلني. قال: ولمَ؟ فقالت: لِأُكذِّبه، أليس هو القائل: ولَو أنَّ نيلى الأخيليَةَ سلمت ... عليَّ وفوقي جَنْدَل (¬1) وصفائحُ سلَّمْتَ تسليمَ البشاشة أو زقَا ... إليها صَدىً (¬2) من جانبِ القبرِ صائحُ وإذا قد خرج من قبره طائر! فضرب صدرها، فماتت، فدُفنت إلى جانبه. وهذان البيتان من [أربعة أبيات من] أبيات العرب، وهي: وأُغْبَطُ من ليلى بما لا أَنالُه ... ألا كلُّ ما قَرَّتْ به العينُ صالحُ (¬3) ولَوْ أنَّ ليلى في السماء لصَعَّدَتْ ... بطرفِي إلى ليلى العيونُ اللوامحُ (¬4) وله (¬5): لا تغزوَنَّ الدَّهْرَ آلَ مُطَرِّفٍ ... لا ظالمًا يومًا ولا مظلومًا قوم رِباطُ الخيلِ وَسْطَ بيوتهِم ... وأسِنَّة زُرْق يُخَلْنَ نُجوما ومُخَرَّقٌ عنه القميصُ تَخالُهُ ... وَسْطَ البيوتِ من الحياء سقيما حتى إذا رُفِعَ اللواءُ رأيتَهُ ... تحتَ اللِّواءِ على الخميسِ زعيما ولقال: إنه نَبَتَتْ على قبريهما شجرتان، وطالتا، فالتفَّتا (¬6)! ¬

_ (¬1) كذا في "تاريخ دمشق" ص 340، وفيه أيضًا رواية: وفوقي تربة. وفي "الأمالي" 1/ 87: ودوني جندل، وفي "الأغاني" 11/ 244: ودوني تُربة. (¬2) زَقَا، أي: صاح. والصَّدَى: طائر يزعم الجاهليُّون أنه يخرج من رأس القَتِيل. وهو من الحُرافات كما في هذا الخبر. (¬3) ذكر الميداني في "مجمع الأمثال" 2/ 171 من المولَّد: كلُّ ما قرَّتْ به العينُ صالحٌ. وذكر العسكري في "جمهرة الأمثال" 2/ 119 قولهم: قِلَّةُ ما قرَّت به العينُ صالح. (¬4) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): اللوافح، وفي (ص): الهواجع، وفي (م): الطوامح. والمثبت من "المحاسن والأضداد" ص 95، و"الشعر والشعراء" 1/ 446، وفيهما: لأصعدت، بدل: لصعَّدت. (¬5) كذا في (أ) و (ب) و (خ) و (د): والكلام ليس في (ص) و (م)، ولعل الصواب: ولها، فالأبيات لليلى الأخيلية، كما في "الأمالي" 1/ 248، و"شرح الحماسة" للمرزوقي 4/ 1609. (¬6) ينظر ما ذكر أبو الفرج الأصبهاني أنه الصحيح في خبر وفاتها في "الأغاني" 111/ 244.

أبو ثعلبة الخشني القضاعي

أبو ثعلبة الخُشَنيّ القُضاعي [وخُشَيْن حيٌّ من قُضاعة. واختلفوا في اسمه ونسبه، فقال ابن سعد (¬1): جُرْهُم بن ناشم. قال: وأُخبرتُ عن أبي مسهر الدمشقي أنه قال: اسمُه جُرثومة بن عبد الكريم. وقيل: جرثوم بن الأشر، وقيل: لاشر بن جرثوم، وقيل: جرثومة بن ناشج، وقيل: جرثوم بن عَمرو، وقيل: جرهم بن ناشم، أو: لاشم، وقيل: ابن ناسم، بالسين المهملة] (¬2). [وقال ابن سعد: ] قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتجهز إلى حُنَين (¬3). وقيل: إنه شهد بيعة الرضوان وحُنينًا، ونزلَ الشام، وتوفي به في سنة خمس وسبعين. وحكى ابنُ عساكر عن الوليد بن مسلم أن أبا ثعلبة كان يقول: إني لأرجو أن لا يخنقني الله كما يخنقُكم. فبينا هو يصلي بالليل؛ قُبضَ وهو ساجد في مُصَلَّاه. [قال: ] ويقال: إنه نزل داريَّا، وقيل: بالبَلاط (¬4). وقيل: بحمص. وقيل: بدمشق. وأسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، [منها في "الصحيحين" ثلاثة؛ اثنان متفق عليهما، وواحد لمسلم] (¬5). فمن مسانيده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحبكم إليَّ وأقربَكم مني في الآخرة أحسنكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني في الآخرة أسوأُكم أخلاقًا (¬6)، الثَّرْثَارُون المُتَفَيهِقُون المُتَشَدِّقُون". ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 419. (¬2) ينظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 175، و"تهذيب الكمال"33/ 169 - 173، و "توضيح المشتبه" 3/ 114. وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (ص) وحدها. (¬3) في "طبقات" ابن سعد 9/ 420: خيبر. ووقع في "تهذيب الكمال" 33/ 168: حنين. (¬4) ينظر "تاريخ داريا" ص 58. والبَلاط: قرية من قرى غوطة دمشق الشرقية، يحانب المنيحة (المليحة) كما ذكر محمد كرد علي في "غوطة دمشق" ص 164. (¬5) ما بين حاصرتين من (ص) وحدها. وجاء في "تلقيح فهوم أهل الآثر" ص 390 أن له في "الصحيحين" أربعة أحاديث، المتفق عليه منها ثلاثة، ولمسلم واحد. وذكر ابن حجر في مقدمة "فتح الباري" ص 476 أن له في "صحيح" البخاري ثلاثة أحاديث. (¬6) في "مسند" أحمد (17732): محاسنكم أخلاقًا ... مساوئكم أخلاقا. (وقد نُسب الحديث في النسخة ص إليه).

حمران بن أبان

[قوله: الثرثارون: الذين يُكثرون الكلام تكلفًا، والمُتَفَيهِقُون: الذين يتوَسَّعون في الكلام، ويفتحون أفواههم. مأخوذ من الفَهْق، وهو الامتلاء. يقال: أفْهَقْتُ الإناء: إذا ملأتَه. وفي الصحابة أربعة؛ كنيةُ كل واحد أبو ثعلبة. أحدُهم هذا، والثاني: أشجعي، والثالث: أنصاري، والرابع: ابن عم كردَم (¬1). وقال ابن عساكر: روى أبو ثعلبة عن أبي عُبيدة، ومعاذ بن جبل. وروى عنه: أبو إدريس الخولاني، وابنُ المسيب، وعُمير بن هانئ، وأبو رجاء العُطاردي في آخرين] (¬2). حُمرَان بن أبان مولى عثمان - رضي الله عنه -، وهو من سَبْي (¬3) عين التمر؛ سباه خالد بن الوليد ومعه أربعون غلامًا، وكانوا مُخْتَتَنين، ففرَّقهم في الناس، وكان فيهم سِيرِين أبو محمد [بن سِيرين]. وسَبْي حُمران أولُ سبْيٍ دخل المدينة من المشرق. وقيل: هو من ذُرية النَّمِر بن قاسط؛ اشتراه المسيب بن نَجَبة، فابتاعَه منه عثمان - رضي الله عنه -، فأعتقه، وصيره حاجبَه. وهو من الطبقة الأولى (¬4) من التابعين من أهل المدينة، وكان صاحب الإذن على عثمان رضوان الله عليه. وكان سيَّره إلى البصرة، وذلك لأن عثمان - رضي الله عنه - مرض، فأوصى، واستخلفَ عبدَ الرحمن بنَ عوف - رضي الله عنه -، وكان ابنُ عوف في الحج، وكان حُمْران هو الذي كتبَ الوصية، واستسرَّ بها حُمران، وعُوفي عثمان - رضي الله عنه -، وقدم عبد الرحمن - رضي الله عنه -، فأخبره ¬

_ (¬1) ينظر "الاستيعاب" ص 785. (¬2) من قوله: قوله: الثرثارون .. إلي هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص) وحدها. (¬3) في (ص): واختلفوا فيه، فقال مصعب الزبيري: هو من سبي ... (¬4) في (ص): وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى ... الخ. وهو في "طبقاته" 7/ 279 في الطبقة الثانية من أهل المدينة من الموالي. وذكره أيضًا 9/ 149 في الطبقة الثانية من أهل البصرة. ...

حُمران، واستسرَّه، فقال [عبد الرحمن]: لابدّ أن أُخبرَ عثمانَ لئلا يأتمنَك على سرٍّ مثلِه. فقال: لا تفعل؛ إذًا تُهلكني. فقال: أنا أسْتأمنُه لك. فاستأمنَه، فقال: إما جلد مئة، أو النَّفْي. فاختار النفي. [وذكره ابن عساكر وقال: كانت له دار بدمشق. وقال هشام]: وأغرمَه الحجاج مئة ألف درهم، لأنه وليَ سابور لخالد بن عبد الله بن أسيد، فاقتطعَ المال. وبلغ عبدَ الملك، فكتبَ إلى الحجَّاج يلومُه ويؤنِّبُه ويقول: حُمْران أخو مَنْ مضى، وعمُّ مَنْ بقي. فردَّها عليه، فتصدَّق بها. [وذكرنا أن حُمران كان عظيمًا عند بني أمية، وأنه دخل على معاوية وعنده عبد الله بن عامر، فمدَّ حُمْران رِجْلَه، فابتدره معاوية وابنُ عامر أيهما يغمزُه. وقال أبو مُسهر: ] وكان حُمْران يصلي خلف عثمان رضوان الله عليه، فإذا وقف ردَّ عليه حُمْران. [قال هشام: ] وتوفّي بالبصرة سنة خمس وسبعين. وقيل: بالمدينة. أدرك أبا بكر وعُمَر - رضي الله عنهما-، وحدَّث عن عثمان، وابنِ عمر - رضي الله عنهما -. وروى عنه عُروة بن الزُّبير، وأبو سَلَمة بن عبد الرحمن، وناقع [مولى ابن عمر] والحسنُ البصري، ومَعْبَد الجُهَنيّ، ومسلم بنُ يسار، ومحمد بن المنكدر، وزيد بنُ أسلم، وعطاء، وعبد الله بن شدَّاد، وغيرهم. وقال يعقوب بن سفيان: لم أرهم يحتجون بحديث حمران (¬1). قال ابن عساكر: وقد أخرج البخاري ومسلم حديثَه، وكانت له دار بدمشق (¬2). ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا القول ليعقوب. وقد قال فيه ذلك ابن سعد في "طبقاته" 9/ 279، وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخه"5/ 290 - 291 (مصورة دار البشير). (¬2) ينظر ما سلف في هذه الترجمة في المصدر السابق. وكل ما وقع فيها بين حاصرتين من (ص) وحدها.

سليم بن عتر

سُلَيم بن عِتْر أبو سَلَمة التُّجِيبيّ المِصْريّ، قاصُّ مصر وقاضيها، وهو من الطبقة الأولى من التابعين، وكان يسمى الناسكَ لكثرة فضله وشدة عبادتِه. [وحكى ابن عساكر بإسناده: ] كان يختِمُ القرآن في كل ثلاث (¬1). وهو أوَّلُ من قص بمصر في سنة تسع وثلاثين، وشهدَ فتح مصر، وخطبة عمر - رضي الله عنه - بالجابية، وولَّاه معاوية القضاء على مصر سنة أربعين، فأقام عليها قاضيًا إلى سنة ستين. [قال]: وهو أوَّلُ من استجدَّ (¬2) بمصر سجلًّا في مواريث، وكانت وفاتُه بدمياط سنة خمس وسبعين. روى عن عمر (¬3)، وعليّ، وأبي الدرداء، وحفصة أمِّ المؤمنين، وأمِّ الدرداء، - رضي الله عنهم -. وروى عنه عُلَيُّ بنُ رباح، وأبو قبيل، ومِسْرَحُ بنُ هاعان. ومن روايته عن حفصة أمِّ المؤمنين - رضي الله عنهما -[ما رواه ابن عساكر] قال: صَدَرْنا مع حفصة من الحجّ وعثمانُ محصور، فلما دنَونا من المدينة إذا راكبان، فسألَتْهما عن عثمان، فقالا: قُتل. فقالت حفصة: والذي نفسي بيده، إنها القرية التي قال الله فيها: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} الآية. [قال: ] وكان سُليم يستقيل معاوية من القضاء، ولا يُقيلُه. قال [ابن عساكر عن] حرملة بن عمران: كان يوسُف الثقفيُّ جالسًا في مسجد الفسطاط، ومعه ابنُه الحجَّاج بن يوسف الثقفي جالسًا، فمرَّ سُلَيم بنُ عِتْر، فقام إليه يوسف فسلّم عليه وقال: هل لك حاجة إلى معاوية، فإنّي على عزم القدوم عليه. قال: نعم، حاجتي إليه أنْ يعزلَني عن القضاء. فقال له: وَدِدْتُ -واللهِ- أنَّ قضاة المسلمين كانوا كلُّهم مثلَك، فكيف أسألُه أن يعزلك؟ ! . ¬

_ (¬1) الذي نُقل عنه أنه كان يختم في كل ليلة ثلاث ختمات! كما في "سير أعلام النبلاء" 4/ 132. وفيه من المبالغة ما لا يخفى. (ووقعت ترجمتُه ضمن خرم في "تاريخ دمشق") والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬2) أي: استحدث. وهي من (م). وفي (ص): انتحل، وفي النسخ الأخرى: استجل. (¬3) المثبت من (ص) و (م)، وفي النسخ الأخرى: عثمان. وينظر "تاريخ الإسلام" 2/ 816.

شريح [القاضي]

ثم عاد يوسف إلى مجلسه، فقال له ابنُه: الحجاج: مَنْ هذا الذي قُمْتَ إليه من مجلسك؟ قال: سُلَيم بن عِتر قاصُّ مصرَ وَقاضيها. فقال: أنتَ ابنُ أبي عقيل، تقومُ إلى رجلٍ من تُجِيب! فقال له أبوه: ويلَك! إني والله لا أرى الناس يُرحمون إلا بهذا وأمثالِه. فقال له الحجَاج: واللهِ ما يُفْسِدُ الناسَ على أمير المؤمنين إلا هذا وأشباهُه؛ يقعدُ إليهم، فيحدثُهم بسيرة أبي بكر وعمر، فيخرجون على أمير المؤمنين. واللهِ لو صفا هذا الأمرُ لسألتُ أمير المؤمنين أن يأذنَ لي في قتلِ هذا وأشباهِه. فقال له أبوه: لعنَك الله، واللهِ ما خلقَكَ اللهُ إلا شقيًّا. شرَيح [القاضي] ابن الحارث بن قيس بن الجَهْم بن معاوية بن عامر بن الرايش (¬1) بن الحارث بن معاوية بن ثَوْر بن مُرَتع (¬2)، من كندة، أبو أمية القاضي الكوفي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. [وقال ابن سعد: ] سُئل شُريح: ممن أنتَ؟ قال: من اليمن، وعِدادي في كندة (¬3). وقال ابنُ عساكر: أسلم على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إنَّ لي أهلَ بيت ذوي عددِ باليمن، فقال: "جئ بهم". فجاء بهم ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد قُبض (¬4). وقال ابنُ منده: أدركَ زمنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَلْقَه [وهو الأصح. وقال أبو القاسم ابن عساكر: ويقال: من أولاد الفُرس الذين كانوا باليمن. أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يلقه] ويقال: بل لقيه، واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة [وأقره علي] وأقام على القضاء بها ستين سنة، وقضى بالبصرة سنة (¬5). ¬

_ (¬1) بالياء. ينظر "توضيح المشتبه" 4/ 92. (¬2) كذا عند ابن الكلبي، وعند غيره: مُرتِع. ينظر "توضيح المشتبه" 8/ 118 - 119. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 253. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬4) تاريخ دمشق 8/ 36 - 37 (مصورة دار البشير). (¬5) تاريخ دمشق 8/ 36 (مصورة دار البشير).

[وقال ابن سعد: ] وكان قائفا شاعرًا كوسجًا. وقيل: لم يكن له لحية (¬1) [وقد ذكرناه. وقال ابن منده: ] ولاه عمر رضوان الله عليه القضاء وله أربعون سنة، وعاش عشرين ومئة سنة. [وقال أبو نُعيم: ] وليَ القضاء لعُمر، وعثمان، وعلي -رضي الله عنهم-، وعزلَه علي عليه السلام، ثم أعاده معاوية، ووليَ لزياد وابنِه عُبيد الله، وعبدِ الملك بنِ مروان. وكان له في كل شهر على القضاء خمس مئة درهم. قال ابنُ سعد: إن عليًّا - عليه السلام - رزقه ذلك، وأمرَه أن يصليَ بالناس في رمضان (¬2). [ذكر طرف من أخباره، وسبب ولايته القضاء قال ابن سعد بإسناده عن الشعبي قال: ساومَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بفرس، فركبه ليَشُوره (¬3)، فَعَطِبَ، فقال للرجل: خُذ فرسك. فقال الرجل: لا. قال: فاجعل بيني وبينك حكمًا. قال الرجل: شُرَيح. فتحاكما إليه، فقال: يا أمير المؤمنين، حُزْ ما ابتعتَ، أو رُد كما أخذتَ. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا. سِرْ إلى الكوفة. فبعثه قاضيًا عليها، وإنه لَأولُ يومٍ عَرَفَه فيه. وروى عنه ابنُ سعد قال: قال شُريح: ما شَدَدْتُ على لَهَوات خصم قظ كلمة. وما كان يلقِّنُ خصمًا حجةً قط] (¬4). وشُريح أولُ مَنْ سألَ في السّرّ، فقيل له: يا أبا أمية، أحدَثْتَ! فقال: أحدثَ الناسُ فأحدَثْنا (¬5). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 253. والكَوْسَجُ: الذي لا شعر على عارضَيه. (¬2) المصدر السابق 8/ 259. (¬3) أي يجرِيهِ لتظهر قوته. (¬4) من قوله: ذكر طرف من أخباره ... إلي هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص) و (م) إلا قوله: يلقن خصمًا حجة قط، فليس (ص). وينظر "طبقات" ابن سعد 8/ 253 - 254. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 254. ولم يرد هذا الخبر في (ص) و (م).

وقال له ابنُه: بيني وبين قوم خُصومة، فانظر، فإن كان الحقُّ لي خاصمتُهم، وإنْ لم يكن الحقّ لي، لم أُخاصمهم. وقصَّ قصَّتَه عليه. فقال: انطلِقْ فخاصمْهم. فتخاصموا إليه، فقضى على ابنه، فقال له: يا أبه، فضحتَني. فقال: يا بنيّ، واللهِ لأنتَ أحبّ إلي من مِلْءِ الأرض مثلهم، ولكنَّ اللهَ أعزُّ عليَّ منك، خشيتُ أن أخبرَك أنَّ القضاء عليك، فتُصالحَهم، فتذهبَ ببعض حقّهم (¬1). [قال: ] (¬2) وكان إذا خرجَ إلى القضاء قال: سيعلم الظالم حظَّ مَنْ نَقَص، إن الظالم ينتظرُ العقاب، والمظلوم ينتظر النصر. [قال]: واختصم إليه رجلان، فقضى على أحدهما، فقال: قد علمتُ من حيث أُتيت. فقال شُريح: لعن الله الراشيَ والمرتشيَ والكاذب (¬3). وأقرَّ رجل عنده بحقّ، ثم ذهب لينكر، فقال له شُريح: قد شهد عليك ابنُ أختِ خالتِك (¬4). [قال: فكان إذا غضب أو جاع قام. قال: ولبث شُريح في فتنة ابن الزبير تسع سنين لا يستخبر ولا يخبر بشيء. قال: وكان أبيض الرأس، وكان إذا ماتت له سنّور دفنها في داره. وهذه روايات ابن سعد (¬5). وقال الشعبي: جاءت امرأة إلى شُريح، فخاصَمَتْ وجعلَتْ تبكي. قال: فقلتُ: ما أظنُّها إلا مظلومة. فقال: يا شعبيّ، إخوةُ يوسفَ جاؤوا عشاءً يبكون! وحكى ابن عساكر عن الشعبيّ قال (¬6): خرج علي - عليه السلام - إلى السُّوق، فإذا بنصرانيّ يبيع دِرْعًا، فعرفَ عليّ الدِّرْع. فقال: هذه دِرْعي. فأنكر النصرانيّ وقال: بيني ¬

_ (¬1) المصدر السابق 8/ 256. ونُسب الخبر في (ص) و (م) إليه. (¬2) يعني ابن سعد، فقد نُسب الخبر الذي قبله إليه. وهو في "طبقات" ابن سعد 8/ 256. (¬3) المصدر السابق. (¬4) المصدر السابق 8/ 257. قال ابن سعد بإثره: يعني أنك قد أقررتَ على نفسك. (¬5) ينظر "طبقات" ابن سعد 8/ 262 - 264. (¬6) تاريخ دمشق 8/ 44 (مصورة دار البشير).

وبينك قاضي المسلمين. فقدَّمَه إلى شُرَيح، فلما رآه قام من مجلس القضاء، وأجلس عليًّا في مجلسه، وجلس شُرَيح قُدامه إلى جنب النصرانيّ. فقال علي: لو كان خصمي مسلمًا لقعدتُ إلى جنبه. واحتكما عنده. فقال شُريح: يا أمير المؤمنين، ألكَ بيّنة؟ فسكت عليّ. فقال النصرانيّ: أشهدُ أن هذه أحكام النبيين، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه! هي -واللهِ- دِرْعُك يا أمير المؤمنين من جملك الأورق ليلة كذا وكذا، فأخذتُها. ثم أسلم النصرانيّ، فوهبَ له علي الدِّرْع، وحملَه على فرس لإسلامه، فأُصيب معه في صفّين. وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني القصة، وقال (¬1): فشهد لأمير المؤمنين ابنهُ الحسن، وغلامه قنبر، فقال شُريح: زِدْني شاهدًا آخر. فقال له علي: أتردُّ شهادة الحسن؟ قال: لا، ولكن أنتَ حدَّثتَني أنه لا يجوز شهادة الولد لوالده. قال: أما سمعتَ ابنَ عمر (¬2) يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة" أفلا تُجيزُ شهادتهما؟ ! واللهِ لتخرجنَّ (إلى) بانِقْيا، فلتقضينَّ بين أهلها أربعين يومًا (¬3). وروى أبو القاسم ابن عساكر عن ابن قتيبة في امرأتين اختصمتا إلى شُريح في ولدِ هِرَّة، فقال: ألقوها مع هذه، فإن هي قرَّت ودرَّت واسْبَطَرَّت، فهي لها، وإن هي فرَّت وهرَّت واقشعرَّت، فليست لها. ومعنى اسْبَطَرَّت: امتدَّت للرضاع (¬4). وقال الشعبي: جاءت امرأة إلى عليّ تخاصمُ زوجها وقد طلَّقها، فادَّعت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، وكان شُريح عنده، فقال له: قُلْ فيها، فقال: أقول وأنت شاهد؟ قال: قل. قال: إن جاءت بامرأة من أهلها ممن ترضى دينها وأمانتها؛ تزعم أنها حاضت ثلاث حيض، تطهر عند كلّ قَرْء طهرًا وتصلّي؛ قبلتَ قولَها، وإلا ¬

_ (¬1) الأغاني 17/ 218 - 219. (¬2) الأغاني: عمر. (¬3) جاء بعده في (ص) (والكلام منها): قال ابن عائشة: نظر شُريح إلى رجل قائم على رأسه وهو يضحك ... وسيرد هذا الخبر (دون نسبة كما في النسخ الأخرى) بإثر هذا الكلام الذي بين حاصرتين، والذي هو في (ص) وبعضه في (م). (¬4) تاريخ دمشق 8/ 49 - 50 (مصورة دار البشير).

فلا. فقال أمير المؤمنين: قالون. وهو بلسان الروم: أحسنت، أو: أصبت، أو: جيّد. وقد ذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في الأصل وقال بمعناه. وقد ذكره ابن عساكر (¬1)، وفيه: فقال شُريح: إن جاءت بنسوة من بطانة أهلها] (¬2). ونظر إلى رجل قائم على رأسه وهو يضحك، فقال له: ما يُضحكك وأنت تراني أتقلَّبُ بين الجنة والنار (¬3)؟ ! . وكان يجعل مَيَازِيبَهُ في داره ويقول: أخافُ أن أوذِيَ جيراني (¬4). وكان يقبلُ الهديَّة ويُثيب عليها (¬5). وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: كيف يُصبح مَنْ شَطْرُ الناس عليه غِضابًا (¬6)؟ ! . وتقدّم إليه رجلٌ فقال له: أين أنتَ؟ فقال شُرَيح: بينك وبين الحائط. [قال: ] إني رجل من أهل الشام. فقال: بعيدٌ سحيق. قال: إني تزوَّجْتُ امراة. قال: بالرفاء والبنين. قال: فإني شرطْتُ لها دارًا. قال: الشرط أمْلَك. قال: اقضِ بيننا. قال: قد فعلت (¬7). وافتقد ابنًا له، فلم يجده، فجاؤوا به. فقال: أين وجدتُموه؟ قالوا: رأيناه يُهارش الكلاب. قال له: أصليتَ؟ قال: لا. فكتب له إلى المعلم صحيفة فيها: تركَ الصلاةَ لأكْلُبٍ يسعى لها ... طلبَ الهِراش مع الغُواةِ النُّجسِ فإذا أتاك فعَضَّهُ بملامةٍ ... وَعِظَتْهُ (¬8) موعظةَ الأديبِ الكيِّسِ ¬

_ (¬1) المصدر السابق 8/ 45. (¬2) من قوله: قال: فكان إذا غضب أو جاع ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص) وبعضه في (م). (¬3) تاريخ دمشق 8/ 46. ووقع هذا الخبر في (ص) وسط الكلام الذي استُدرك بين حاصرتين، كما سلف قبل ثلاث تعليقات، ولم يرد في (م). (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 264. (¬5) المصدر السابق. ووقع هذا القول في (ص) و (م) أوائل ما سلف بين حاصرتين منهما. وهو في النسخ الأخرى في هذا الموضع. (¬6) نُسب هذا القول في (ص) و (م) للهيثم، ووقع فيهما آخر ما سلف بين حاصرتين منهما، وهو في هذا الموضع من النسخ الأخرى. وينظر "أخبار القضاة" لوكيع 2/ 320. (¬7) أخبار القضاة لوكيع 2/ 304، وحلية الأولياء 4/ 134. (¬8) في النسخ الخطية (غير ص وم فليس فيها): وعظه. والمثبت من "تاريخ دمشق" 8/ 57 (مصورة دار البشير). وينظر "العقد الفريد" 4/ 436.

فإذا هَمَمْتَ بضربِهِ فَبِدِزَةٍ ... وإذا ضَرَبْتَ بها ثلاثًا فاحْبِسِ واعْلَمْ بأنَّك ما أتيتَ فنفسهُ ... مع ما يُجَرِّ عُني أعزُّ الأنفسِ فليأتينَّكَ عامدًا بصحيفةٍ ... نَكْداءَ مثلِ صحيفةِ المُتَلَمِّسِ فلما قرأ المعلم الصحيفة ضربه ستًّا، فأرسل إليه شريح: أمرتُك أن تضربَه ثلاثًا، فلِمَ ضربتَه ستًّا؟ ! فقال: ثلاثة لأمرك، وثلاثة لكونه حمل صحيفةً لا يدري ما فيها (¬1). وقيل: بعث شُريح إلى المعلم البيتَ الأول، والثاني، والخامس، فحمل الغلامُ الخوف على أنه فتحها، وزاد فيها البيت الثالث والرابع. ومرَّ شُريح على المؤدِّب، فقال: ما صنعت؟ قال: ضربتُ ثلاثًا ولم أتجاوزْ ما قلتَ. فقال: ما أمرتُ بثلاثٍ ولا بغيرها، فأخرجَ الرقعة وقال: هذه رقعتُك، فنظر إليها وقال: أمَّا الثلاث، فأنا قلتُها، وأما الثالث والرابع، فلا أعرفهما. فقال للغلام: مَنْ عملَ هذَين؟ قَررَه، فقال: أنا. فقال: أردِفْهما بشيءٍ حتى نعلمَ صدقَك. فأخذ الرقعة، وكتب على ظهرها: يا أيها القاضي الذي ما مثلُه ... ممَّن تراهُ قاضيًا في مجلس ارْفُقْ بمن أسعرتَ خوفًا قلبَهُ ... وتركتَه قلقًا بعقلِ مُوَسْوَسِ إنَّ المعلم لا يقومُ لضربهِ ... أحد ومَنْ يصبرْ عليه ينكَسِ رجلٌ إذا أخذَ العصا فمَدَارُها ... ما بين أسْوُقِنا وبين الأرْؤُسِ لا يرحمُ الطفلَ الصغيرَ لضعفِهِ ... وكذا الكبيرُ بكأس ذُل يحتسي سبحانَ مَنْ خَلَقَ المُعَلم قاسيًا ... أهونْ عليك بطَب كل منكَس فدمعت عينا شُريح. وقال للمعلم: الزَمْ بيتَك. وأحسَنَ جائزَتَه (¬2). وقع الطاعون بالكوفة، فخرجَ صديق لشُرَيح إلى النَّجَف، فكتب إليه شُرَيح: ¬

_ (¬1) أخبار القضاة لوكيع 2/ 207 - 208، و "تاريخ دمشق" 8/ 57 (مصورة دار البشير). وينظر "حلية الأولياء" 4/ 137. ولم يرد هذا الخبر في (ص) و (م). (¬2) لم أقف على هذه الرواية، ولم ترد في (ص) و (م).

أمَّا بعد، فإنَّ المكان الذي فررتَ منه لم يسق إلى غير من جاءه حِمامُه، ولم تتعدَّاه (¬1) أيامُه، وإنَّ الموضعَ الذي أنتَ فيه لَبِعَينِ مَنْ لا يُعجزُه طَلَب، ولا يفوتُه هَرَب، ونحن وإيَّاك على بساط، وإنَّ النَّجَف من ذي قدرة لَقريب. فرجع الرجل (¬2). وقيل: توفّي سنة ستٍّ وسبعين بالكوفة وله مئةٌ وثمانِ سنين (¬3). وقيل: توفي سنة ثمانين، أو تسع وسبعين (¬4). وقيل: سنة ثمان وسبعين (¬5). وقيل: سنة خمس وسبعين. وقيل: عاش مئة وسبعًا وعشرين سنة (¬6). [وقال ابنُ عبد البَرّ: ولَّاه عمر بن الخطاب القضاء، فأقام قاضيًا ستين سنة] (¬7). [وقال ابن قُتيبة: ] وأقام قاضيًا خمسًا وسبعين سنة، لم يتعطَّل سوى ثلاث سنين في فتنة ابن الزُّبير، فلمَّا وليَ الحجَّاجُ الكوفةَ سألَه أن يُعْفِيَهُ، فأعفاه (¬8). وقال الفَضْل بن دُكين: خرج شُرَيح يومًا من عند زياد وهو على الكوفة، فقال له رجل: يا شُريح، كَبِرَتْ سِنُّك، ورقَّ عظمُك، وارتشى ابنُك. فعاد إلى زياد، فأخبره، واستقاله، فقال: لا أَقيلُك حتى تَدُلَّني على رجل يصلحُ. فقال: عليك بأبي بُرْدَة بن أبي موسى. فولَّاه وعزلَ شُريحًا (¬9)، ثم عاد شُريح بعد ذلك إلى القضاء. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ غير (ص) و (م) فلم يرد فيهما الخبر. (¬2) الخبر بنحوه في "العقد الفريد" 3/ 193، و"حلية الأولياء"4/ 136، و"وفيات الأعيان" 2/ 463. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 265، وهو قول الفضل بن دُكَين. (¬4) حكاه ابن سعد عن الشعبي. (¬5) المصدر السابق عن بعض أهل العلم. ونسبت هذه الأقوال في (ص) و (م) إليه. (¬6) نُسب القول في (ص) و (م) لابن عساكر. والذي في "تاريخه"8/ 59 عن أشعث بن سوار أن شُريحًا مات وهو ابن مئة وعشرين سنة، وأن أبا رجاء العطاردي مات وهو ابن مئة وسبعة وعشرين سنة. (¬7) ما بين حاصرتين من (ص) و (م)، وفيهما بعده: مات سنة خمسين وسبعين، ومات وهو ابن مئة وعشرين سنة، في سنة ثمانين! ولعل في الكلام سقطًا أو تكرارًا. (¬8) المعارف ص 433. (¬9) تاريخ دمشق 8/ 51 (مصورة دار البشير)، وصفة الصفوة 3/ 41.

صلة بن أشيم العدوي

أسند شُريح الحديث عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ -رضي الله عنهم-، وزيدِ بن ثابت. وقيل: لم يُسند عن أبي بكر - رضي الله عنه -، وأسند عن عُروة بن أبي الجَعْد البارقيّ. وروى عنه النَّخَعي والشعبي، وكان ثقةً كثير الحديث، وروى عنه محمد بنُ سِيرِين، وقيس بن أبي حازم، وغيرهم. وقدم دمشق في أيَّام معاوية، وحاكم رجلًا عند قاضيها [وقد ذكرناه]. وكان سبب سفره عن المدينة أن أمَّه تزوجت بعد أبيه، فاستحيى من الناس، فخرج. صِلَةُ بنُ أشيم العدويّ من بني عديّ بن عبد مناة، أبو الصهباء، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة، كان له فضل وورع، وكان ثقةً. وقد ذكره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ قال ابن سعد (¬1): حدثنا عتَّاب بنُ زياد، عن عبد الله بن المبارك، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون في أمتي رجل يقال له: صِلَة، يدخل بشفاعته الجنةَ كذا وكذا". وقالت مُعاذةُ العدويَّة زوجة صِلَة: كان أبو الصَّهباء يصلِّي حتى ما يأتي فراشَه إلا زَحْفًا (¬2). وجاءه رجل وهو يَطْعَم، فأخبره بموت أخيه، فقال: تعال فكُلْ، فقد نُعيَ لنا قُدْمًا (¬3). فقال: واللهِ ما سبَقَني إليك أحد، فمن نعاه؟ قال: الذي يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] (¬4). وقال ثابت البُناني (¬5): كان صلة يخرج إلى الجبَّانة، فيتعبَّد فيها، وكان يمر على الصبيان وهم يلعبون، فيقول لهم: أخبروني عن قوم أرادوا سَفَرًا، فحادوا بالنهار عن الطريق، وناموا ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 9/ 134. ونُسب الكلام قبله في (ص) و (م) إليه. (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 136، ونُسب الخبر في (ص) و (م) إليه والخبر قبله ضعيف لإرساله. (¬3) في (ص) و (م): قبلك. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 137، وحلية الأولياء 2/ 238 - 239. (¬5) في (ص) و (م): وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن ثابت البُناني قال ...

بالليل، متى يقطعون سفرَهم؟ قال لهم ذلك مرارًا، فقال شابُّ منهم: واللهِ ما يعني بذلك غيرَنا. ثم اتبعَ ذلك الشاب صِلَةَ، قكان يتعبد معه في الجبان إلى أن مات (¬1). [قال الجوهري: والجَبان والجَبانة: الصحراء، فسُمِّيت المقابر جَبَّانة]. وقال جعفر بن زيد: خرجنا في غَزاة (¬2) إلى كابُل، وفي الجيش صِلةُ بن أشْيَم، فنزلَ الناس عند العَتَمة، فقلت: لأرْمُقَنَّ عَمَلَه، فأنظرُ ما يذكرُ الناسُ من عبادته. فصلَّى العتمةَ، ثم اضطجع، فالتمسَ غفلةَ الناس حتى إذا هدأتِ العيون، وثبَ، فدخلَ غَيضةً قريبًا منه، ودخلتُ في أثره، فتوضأ، ثم قام يصلِّي. [قال: ] وجاء أسدٌ، فدنا منه. [قال: ] فَصعِدْتُ في شجرة. قال: فتراه التفتَ، أو عنده خبر؟ ! حتى سجد! فقلت: الآنَ يفترسُه. فجلس، ثم سلم، فقال: أيها السبُع اطلب الرزق من مكان آخر. فولى، وإنَّ له زئيرًا تُصدع الجبالُ منه، وما زال يصلي حتى [أضاء] الصبح، فجلس، فحمد اللهَ بمحامدَ لم أسمع بمثلها. ثم قال: اللهم إني أسألُك أن تُجيرني من النار، فمثلي لا يسألُك الجنَّة. [ثم رجع] وأصبح كأنه باتَ على الحشايا (¬3)، وأصبحتُ وبي من الفترة ما اللهُ به عليم (¬4). ونادى الأمير: لا يشدَّنَّ أحد من العسكر، وقد دنونا من أرض العدو. فقام صِلَةُ يصلِّي، وذهبَتْ بغلتُه وعليها ثَقَلُه (¬5)، فلما فرغَ من صلاته قال: اللهم بغلتي. فجاءت حتى وقفت بين يديه، والتقينا العدوّ، فهزمناهم. وقال أبو السَّليل: إنَّ صِلَةَ بنَ أشْيَم حدَّثَه قال: كنتُ أسيرُ على دابة لي؛ إذْ جُعتُ جوعًا شديدًا، ولم أجد أحدًا يبيعُني طعامًا، وجعلتُ أتحرج أنْ أُصيبَ من أحدٍ من الطريق شيئًا، فبينا أنا أسيرُ أدعو ربي وأستطعمُه؛ إذْ سمعتُ وَجْبَةً من خلفي، فالتفتُ، ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 238، والتوابين ص 250. (¬2) في (ص) و (م): وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل بإسناده عن حماد بن جعفر بن زيد، أن أباه أخبره قال: خرجنا في غزاة ... (¬3) جمع حَشِية، أي: الفراش المحشو. (¬4) حلية الأولياء 2/ 240، وصفة الصفوة 3/ 217، و"المنتظم" 6/ 170، وقوله: "ثم رجع" الواقع بين حاصرتين منهما. (¬5) أي: متاعه.

فإذا بمنديل أبيض، فنزلتُ عن دابتي، وأخذتُ المنديل، وإذا فيه دُوْخَلَةٌ (¬1) مَلْأَى رُطَبًا، فأخذتُه وركبتُ دابتي، وأكلتُ منه حتى شبعتُ (¬2). وأدركني المساء، فنزلتُ على راهب في دَير له، فحدَّثتُه الحديث، فاستطعمني من الرُّطَب، فأطمعتُه رُطَبات. [قال: ] ثم إني مررتُ على ذلك الراهب، فإذا نخلاتٌ حِسان حمالات [-أو: نخل حمال-] فقال: إنهن لمن رُطَباتك التي أطعمتتي. وجاء بالثوب (¬3) إلى أهله، فكانت امرأتُه تُريه الناس (¬4). [وكانت معاذة العدويَّة زوجة صلة بن أشيم، فروى أبن أبي الدنيا عن رجل من بني عدي- قال: ] ولما أُدخلت (¬5) مُعاذةُ العدويَة إلى صِلَة؛ أدخلَه ابنُ أخيه الحمَّام، ثم أدخلَه بيتًا مُطَيَّبًا، فقام يصلِّي، فقامَتْ مُعاذة فصلَّتْ خلفَه، فلم يزالا كذلك حتى برقَ الفجر. قال ابنُ أخيه: فأتيتُه فقلت: أي عمّ، أُهدِيَتْ لك ابنةُ عمك الليلةَ، فقمتَ تصلي وتركتَها! فقال: إنك أدخلْتَني أَمْسِ بيتًا أذكرتَني به النار، ثم أدخلتَني بيتًا أذكَرْتَني به الجنَّة، فما زلتُ مفكِّرًا فيهما حتى أصبحتُ (¬6). وقال الحسن البصري: ماتَ أخٌ لنا، فصلينا عليه، فلمَّا وُضع في قبره ومُد عليه الثوب؛ جاء صِلَة بنُ أشيم، فأخذَ بناحية الثوب، ثم نادى: يا فلان بن فلان: فإنْ تَنْجُ منها تَنْجُ من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالُك ناجيا قال: وبكى وأبكى الناس (¬7). ¬

_ (¬1) أي: قُفَّة. (¬2) حلية الأولياء 2/ 239، وصفة الصفوة 3/ 218. قال الذهبي في "السير" 3/ 499: هذه كرامة ثابتة. (¬3) أي: المنديل السالف ذكره. (¬4) صفة الصفوة 3/ 218 - 219. (¬5) في (ص) و (م): أهديت. (¬6) صفة الصفوة 3/ 219. (¬7) حلية الأولياء 2/ 241، وصفة الصفوة 3/ 219، ونُسب الخبر في (ص) و (م) لأب نعيم.

أبو عثمان [النهدي]

وكان صلةُ في مغزًى له (¬1) ومعه ابنه، فقال له: أي بنيّ، تقدَّمْ فقاتلْ حتى أحتسبَك. فتقدَّمَ فقاتلَ حتى قُتل [ثم تقدَّم فقتل] فاجتمعَ النساءُ عند امرأته مُعاذة العدويَّة، فقالت: إنْ كنتنَّ جئتُنَّ لتُهنِّئْنني؛ فمرحبًا بكنَّ، وإنْ كنتنَّ جئتُنَّ لغير ذلك؛ فارْجِعْن (¬2)، [قال حُميد بنُ هلال: خرجَ صلةُ بنُ أشيم في جيش ومعه ابنُه وأعرابيّ من الحيّ، فقال الأعرابي: يا أبا الصَّهباء، رأيتُ كأنك أتيتَ على شجرةٍ ظليلةٍ، فأصبتَ منها ثلاث شَهَدات (¬3)، فأعَطْيتَني واحدة، وأمسكتَ اثنتين، فوجدتُ في نفسي أن لا تكون قاسَمْتَني الأخرى. فَلَقُوا العدوَّ، فقال صلةُ لابنه: تَقَدَّمْ. فتقدَّم فقُتل. [وقُتل صلة، وقُتل الأعرابي] (¬4). [وقال ابن سعد: ] وقُتل صلةُ [في بعض مغازيه شهيدًا] في أول إمرة الحجَّاج على العراق (¬5). أسندَ صِلَةُ عن ابنِ عبَّاس، وابنِ عُمر، وأنس وغيرهم (¬6). وتوفِّيت معاذةُ زوجتُه سنة ثلاث وثمانين، وسنذكرها [هناك]. أبو عثمان [النَّهْديّ واسمه] عبد الرحمن بن مَلّ بن عَمرو بن عديّ بن وَهْب بن رَبيعة النَهْديّ القُضاعي الحِمْيَريّ. كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يلقه. ¬

_ (¬1) في (ص) و (م): وقال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن ثابت البُناني أن صلة بن الأشيم كان في مغزىً له ... إلخ. وما سيرد بين حاصرتين منهما. (¬2) حلية الأولياء 2/ 239، وصفة الصفوة 3/ 219 - 220، و"المنتظم" 6/ 171 - 172. (¬3) جمع شَهْدَة، وهي القطعة من الشَّهْد (عسل النحل). (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 137، وما بين حاصرتين منه، ولم يرد الخبر في (ص) و (م). (¬5) المصدر السابق. وما سلف في هذه الفقرة بين حاصرتين من (ص) و (م). (¬6) وقال الذهبي في "السير" 3/ 497: ما علمته روى سوى حديث واحد عن ابن عباس.

وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة، صحب (¬1) سلمانَ الفارسي اثنتي عشرة سنة. قال: كنا في الجاهلية (¬2) نعبدُ حجرًا، فسمعنا مناديًا ينادي: يا أهل الرِّحال، إنَّ ربكم قد هلك، فالتمِسوه. فخرجنا على الصَّعْبِ والذَّلُول (¬3)، فبينا نحن كذلك نطلب؛ إذا منادٍ ينادي: إنَّا قد وجَدْنا ربَّكم أو شِبْهَه. [قال: ] فجئنا، فإذا حجرٌ، فنحرنا عليه الجُزُر. وقال: أتَتْ عليَّ مئة وثلاثون سنة وما منِّي شيءٌ إلا قد أنكرتُه إلا أملي، فإنّي أجدُه كما هو (¬4). وكان أبو عثمان يسكنُ الكوفة، فلما قُتل الحسين - رضي الله عنه - تحوَّل إلى البصرة، وقال: لا أسكنُ بلدًا قُتِل فيه ابن بنت رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وكان إذا دعا يقول: واللهِ لقد استجابَ اللهُ لكم؛ قال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬6). أسلم أبو عثمان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصدَّق به، وأدَّى إليه صدقات مالِه (¬7). ¬

_ (¬1) في (ص) و (م): وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة وقال: صحبَ ... الخ. وهو في "الطبقات" 9/ 97. (¬2) في (ص) و (م): وقال ابن سعد بإسناده إلى الحجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: كنا في الجاهلية ... وهو في المصدر السابق، وبنحوه في "تاريخ بغداد" 11/ 461 - 462. (¬3) الصَّعْب: العَسِر. والذَّلُول: سهل الانقياد. يعني خرجوا وركبوا من الدوابّ كل ما أمكن. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 97، وتاريخ بغداد 11/ 462. (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 98. (¬6) المصدر السابق 9/ 97. (¬7) في (ص) و (م): وذكره ابن عساكر فقال: اسمه عبد الرحمن بن مل، وروى عن عاصم الأحول قال: سألتُ أبا عثمان: أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا. قلت: فأبا بكر؟ قال: لا. قال: ولكني اتبعتُ عمر حين قام، وقد صدَّق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات. أي: أخذ الصدقة منَّا. وينظر "تاريخ دمشق" 42/ 41 (طبعة مجمع دمشق). وهو أيضًا في "طبقات" ابن سعد 9/ 97، و"تاريخ بغداد" 11/ 460 - 461.

وغزا القادسية، وجَلُولاء، وتُسْتَر، ونَهاوند، وأَذَرْبيجان، ومِهْران، وحج حَجَّتَيْن في الجاهلية قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقَدِمَ المدينة في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬1). وكان كثير العبادة، حسنَ القراءة، ثقةً ثَبْتًا، عالمًا زاهدًا، عابدًا. وروى ابن أبي الدنيا عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: إني لأحبُّ أبا عثمان، كان لا يصيب دنيا (¬2)، كان ليلُه قائمًا ونهارُه صائمًا. [وذكره الخطيب فقال: نزل الكوفة، ثم سار إلى البصرة] ووردَ المدائن غازيًا بلاد فارس (¬3). ذكر وفاته واختلفوا فيها، فقال ابن سعد: توفّي أول ولاية الحجاج بن يوسف العراق بالبصرة وهو ابنُ ثلاثين ومئة سنة. وقال الهيثم: في سنة ست وسبعين. وقال أبو نُعيم: في إحدى وثمانين. وقال خليفة وابنُ معين والمدائني: مات سنة مئة هو وشَهْر بن حَوْشَب وأبو الضُّحى واسمه مسلم بن صُبيح. وقد عاش جماعة مئةً وثلاثين سنة، منهم بيادوق (¬4) طبيب الحجَّاج؛ أدرك كسرى بن هرمز، وكذا الحارث بن كَلْدة (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ بغداد" 11/ 461، و"تاريخ دمشق" 42/ 40. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): ذنبًا. والمثبت من (أ)، وهو الموافق لما في "تاريخ دمشق" 42/ 43. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 459. (¬4) في (ص): تباذوق. (¬5) من قوله: ذكر وفاته ... إلى هذا الموضع من (ص) و (م). وقد حاء الكلام مختصرًا في النسخ الأخرى، ففيها ما صورتُه: "وتوفي سنة ست وسبعين، وقيل: سنة إحدى وثمانين، وقيل: سنة مئة وهو ابن ثلاثين ومئة سنة". وينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 98، و"تاريخ دمشق" 42/ 49 - 50. ولم يذكر المصنف أنه توفي سنة خمس وسبعين، ولا وقفت على من ذكر ذلك، مع أن المصنف أورده هنا في وفياتها، وكذا أورده ابن الجوزي في "المنتظم" 6/ 172 في وفيات (75).

العرباض بن سارية

و [أسند] أبو عثمان، عن عمر، وعليّ، وسَعْد، وسعيد، وابنِ مسعود، وابن عُمر، وأبي موسى، وأبي بن كعب، وبلال، وأسامة بن زيد، وابنِ عباس، وعمران بن حُصين، وعَمرو بن العاص، وأبي هريرة، وغيرهم. العِرباض بن سارية أبو نَجِيح السُّلَمي، من الطبقة الثالثة من الصحابة، وكان من المهاجرين (¬1)، ومن أهل الصُّفة. أسلمَ قديمًا، وكان يقوله: أنا رُبْعُ الإسلام، وهو أحد البكَّائين الذين نزل فيهم: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] (¬2). وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد غزو مكة إلى بني سُليم ومعه الحجاجُ بن عِلَاط السلمي (¬3). وسكن العِرْباضُ حمصَ بقرية خارجَها يقال لها: مَرِيمِين، وبها عَقِبُه إلى اليوم (¬4). وكان يقول: لولا أنْ يُقال: فعل أبو نَجيح؛ لألحقتُ مالي سبيلَه، ثم لحقت واديًا من أودية لبنان، فعبدتُ الله فيه حتى أموت (¬5). أسندَ العِرباضُ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن مسانيده: قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا معاوية بن صالح (¬6)، عن سعيد بن سُويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلَمي، عن العِرْباض بن سارية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 5/ 165، و"تاريخ دمشق" 47/ 182 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) تاريخ دمشق 47/ 182 و 192. (¬3) تاريخ دمشق 47/ 195. (¬4) المصدر السابق 47/ 192، و"معجم البلدان" 5/ 119 - وأخرج ابن عساكر أيضًا 191/ 47 رواية أن له منزلًا في الجُولة (من أعمال حمص). وينظر "معجم البلدان" 2/ 324 - 325. (¬5) تاريخ دمشق 47/ 198. (¬6) روى أحمد الحديث في "المسند" عن شيخين عن معاوية بن صالح (17150) و (17151).

عمرو بن ميمون الأودي

عبد اللهِ وخاتم النبيين (¬1)، وإنَّ آدمَ لَمُنْجَدِلٌ (¬2) في طِينتِه، وسأُنبئكم بأوَّلِ (¬3) ذلك: دعوة أبي إبراهيم (¬4)، وبِشارةُ عيسى، ورؤيا أمي التي رأَتْ، وكذلك أمَّهاتُ النبيين تَرَينَ". [وقد رواه ليث عن معاوية، فقال: وإنَّ أمَّه رأت حين وضَعَتْه نورًا أضاءت منه قصور الشام.] (¬5) روى عنه جُبَير بن نُفَير، وأبو رُهْم، وغيرهما. عَمرو بن ميمون الأودي أودِ بني صَعْب بن سعد العشيرة، من مَذْحِجِ، أبو عبد الله. [وهو] من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، أدركَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يلقَه، وأدرك الجاهلية والإسلام (¬6). [وحكى ابن عساكر عن عمرو بن ميمون] قال: قدم علينا معاذُ بنُ جبل إلى اليمن رسولًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفع صوته في السَّحَر بالتكبير، فما سمعتُ صوتًا أحسنَ منه، فأُلْقِيَتْ عليه محبَّةٌ منِّي، فخرجتُ معه إلى الشام، فما فارقتُه حتى حثَوْتُ عليه التراب. ثم سألتُ عن أفقه الناس بعدَه، فقيل: ابنُ مسعود، فلزمتُه (¬7). ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الخطية، وهو كذلك في بعض نسخ "المسند" كما جاء في حواشيه على الحديث (17151). والرواية المثبتة فيه بلفظ: "إني عند الله خاتم النبيين". (¬2) أي: ملقًى على الجَدَالة، وهي الأرض، أي: كان بعدُ ترابًا لم يصوَّر ولم يخلق. وقيل: أي: مطروحٌ على الأرض كائن في أثناء خلقته. قاله السندي كما في حواشي "المسند". (¬3) في (ص) و (م): تأويل. (¬4) في (م): أنا دعوة إبراهيم. (¬5) هي رواية "المسند" (17151) المشار إليها من قبل. والكلام بين حاصرتين من (ص) و (م) والكلام الآتي بعده ليس فيهما. (¬6) تاريخ ابن عساكر 56/ 57 (طبعة مجمع دمشق). وينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 238. (¬7) ينظر "تاريخ دمشق" 56/ 58 - 59.

عمير بن ضابيء

وحجَّ عمرو بنُ ميمون مئة حَجَّة وعُمرة، وقيل: ستين حَجَّة وعمرة (¬1). وكان يقول: ما يسرُّني يومَ القيامة أنَّ أمري إلى أبويّ (¬2). [وقال هشام: ] ولما كبر ربط حبلًا، فكان إذا أعيا في صلاته أمسكه. واختلفوا في وفاته، فقال ابن سعد عن الواقدي: إنه مات في سنة أربع -أو خمس- وسبعين في أول خلافة عبد الملك بن مروان، وقال خليفة: في سنة ست وسبعين بالكوفة (¬3). وأسند عن عُمر، وعثمان، وعليّ، وابن مسعود، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي مسعود الأنصاري، وابن عبَّاس، وابن عَمرو، وأبي هريرة، -رضي الله عنهم-، في آخرين. وروى عنه أبو إسحاق السَّبِيعي، وعَبْدة بن أبي لبابة، وسعيد بن جبير، والنَّخَعيّ، ومحمد بنُ سوقَة، وغيرهم (¬4). عُمير بن ضابيء (¬5) التميميّ البُرجميّ. قتلَه الحجّاج [بن يوسف. واختلفت الروايات فيه. فحكى عُمر بن شبَّة عن أشياخه قالوا: ] لما قدم [الحجاج] الكوفة [واليًا عليها في سنة خمس وسبعين] وخطب خطبته التي ذكرناها، وأمر الناس بالخروج إلى المهلّب لقتال الأزارقة [قام إليه عُمير بن ضابئ، فقال: أصلح الله الأمير، إني شيخٌ كبير، وهذا ابني هو أشدُّ منّي. قال له الحجَّاج: من أنت؟ قال: عُمير بن ضابئ التميمي. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 4/ 148. ونُسب القول في (ص) و (م) إليه. (¬2) المصدر السابق 4/ 150. (¬3) من قوله: واختلفوا في وفاته ... إلى هذا الوضع من (ص) و (م). ووقع بدله في النسخ الأخرى ما صورتُه: "ومات في سنة أربع -أو خمس- وسبعين، وقيل: في سنة ثلاث وسبعين بالكوفة". ولم أقف على من ذكر أن وفاته سنة ثلاث وسبعين. لذا أثبتُّ عبارة (ص) و (م). وتنظر الأقوال في "تاريخ دمشق" 56/ 74 - 76. (¬4) ينظر "تاريخ دمشق" 56/ 57، و"تهذيب الكمال" 22/ 262. (¬5) في (م): عمرو بن ضابئ ... ويقال: عُمير.

فقال: أنت الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ قال: بلى. قال: وما حملَك على ذلك؟ قال: حبس أبي بغير ذنب وكان شيخًا كبيرًا حتى مات. قال: ألستَ القائل: هممتُ ولم أفعل وكدتُ وليتني ... تركتُ على عثمان تبكي حلائلُهْ إني لأحسبُ في قتلك صلاحَ المِصْرَين. قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه. فقام فضرب عنقه، ونهب ماله. وفي رواية عمر بن شبَّة أن عنبسة بن سعيد كان إلى جانب الحجاج، فقال: هذا الذي دخل على عثمان قتيلًا فلطم وجهه. فأمر به الحجاج، فضُربت عنقه، فكان أوَّلَ من قتله الحجاج بالكوفة، فقال الناس: قدم الكوفة رجل من شرّ أحياء العرب من هذا الحيّ من ثمود، دقيق الساقين، ممسوح الجاعرتين، أخفش العينين، فقدَّم سيّدَ الحيّ عميرَ بن ضابئ، فقتله (¬1). وذكر أبو عبيدة معمر قصته أتمّ من هذا فقال: لما] نزل من المنبر جاءه عُمير بن ضابئ، ومعه ابنانِ له، وقد ركبَ معه من البراجمة ألفا فارس وقالوا له: إنْ رابَكَ من الحجَّاج أمرٌ فَدَمُنا دونَ دمك. وكان الحجَّاج في القصر. فدخلَ عليه فقال: إني شيخ كبير، وقد خرجَ اسمي في هذا البعث، وليس لي قوة على المسير، وهذا ابني أقوى مني، فإنْ رأيتَ أن تمنَّ عليَّ بلزومي منزلي، وتُسيِّرَ ابني عوضي. فقال له الحجَّاج: نعم، انطلق راشدًا، وابعثْ ابنك بديلًا. فلما ولَّى قال عنبسة بن سعيد: أيُّها الأمير، أتعرفُ هذا الشيخ الذي جاءك آنفًا؟ قال: لا. قال: هذا عُمير بن ضابئ البُرْجُمي الذي هجا أبوه بني قَطَن بسبب كلب لهم يقال له: قُرْحان، وكان يصيد حُمُر الوحش، فاستعارَه منهم، فطلبوه، فمنعهم منه؛ فركبوا إليه، فثاوروه، فقال: تكلَّف دوني وَفْدُ قُرْحانَ شُقَّةً ... تظلُّ لها الوجناءُ وهي حَسِيرُ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 207 - 208. وينظر "أنساب الأشراف" 11/ 302 - 304. وقوله: الجاعِرَتَين؛ الجاعِرَة: حرفُ الوَرِك المشرف على الفخذ، وهما جاعِرَتان.

فاردَفْتُهم كلبًا فراحوا كأنما ... حَباهُمْ بتاج الهُرْمُزان أميرُ فيا راكبًا إمَّا عَرَضْتَ فبلِّغَنْ ... ثُمامةَ عني والأمورُ تدورُ فأمُّكُمُ لا تتركُوها وكلبَكم ... فإنَّ عقوق الأمَّهاتِ كبيرُ إذا ما انتشى من آخرِ الليلِ نَشْوةً ... يبيتُ له (¬1) فوق الفراشِ هريرُ فاستَعْدَوْا عليه عثمان، فحبَسه، فمات في الحبس. وكان قد اتَّخَذَ مشاقص ليقتلَ بها عثمان، فلم يقدر، فقال في مرضه: وقائلةٍ لا يُبعدُ اللهُ ضابئًا ... إذا اخضرَّ من وقت الشتاء أصائلُهْ وقائلةٍ لا يبعد الله ضابئًا (¬2) ... إذا القِرْنُ لم يوجد له مَنْ ينازلُهْ هممتُ ولم أفعلْ وكِدْتُ وليتني ... تركتُ على عثمانَ تبكي حلائلُهْ ولما قُتل عثمان دخل عليه عمير هذا، فكسرَ ضِلَعًا من أضلاعه بثأر أبيه، وقال: أنتَ حبستَ ضابئًا يا نَعْثَل. فقال الحجَّاجُ: ردُّوه. فردُّوه، فقال: أتشهدُ يوم الدار بنفسك، وتبعثُ عنك في غيرها بديلا؟ ! إني لأحسب في قتلك صلاحَ المِصْرَين، قم يا حَرَسيّ فاضربْ عُنقَه. فقامَ فضرب عنقه. وسمع ضوضاء على الباب، فقال: ما هذا؟ فقالوا: البراجم ينتظرون عُميرًا. فقال: أتحفوهم (¬3) برأسه. فألَقوْه إليهم، فولَّوْا هاربين، ولحقوا بمراكزهم، فكان أوَّل من قتله الحجاجُ بالكوفة، فقال الناس: قدم الكوفة رجلٌ من شرِّ أحياء العرب من هذا الحيّ من ثمود، دقيق الساقين، ممسوح الجاعِرَتَين، أخفش العينين، فقدَّم سيِّد الحيِّ عُميرَ بنَ ضابئ، فقتله (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ): لها. والأبيات في "الشعر والشعراء" 1/ 350. (¬2) في (م): قولها. (¬3) المثبت من (م)، وهو موافق لما في "المنتظم" 6/ 163. وفي النسخ الأخرى: الحقوهم. (¬4) المنتظم 6/ 161 - 163 دون قوله: فكان أول من قتله الحجاج ... إلخ. وقد سلف في الرواية قبلها.

السنة السادسة والسبعون

السنة السادسة والسبعون (¬1) قال هشام: وفيها خرج صالح بن مُسَرِّح التميمي بالجزيرة وأرض الموصل، وكان رجلًا مُتعبّدًا مُتَزَهّدًا، يُزهّد أصحابَه في الدُّنيا، ويُرَغِّبهم في الآخرة، ويُفَقِّههم في مذهب الخوارج، ويقول: إن فراقَ الفاسقين حقٌّ على المؤمنين، ويذكر أفعالًا منسوبة إلى عثمان رضوان الله عليه، واستئثارَه بالأموال، وتقريبَ بني أمية، ورفعَهم على رؤوس الناس، وقصّة الحكَمين ونحو ذلك. ومن جملة كلامه: أوصيكم بتقوى الله، والزّهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت؛ فإن الزهد في الدنيا يُرَغّب العبد فيما عند الله، ويُفرغ بدنه لطاعته، وإن كثرة ذكر الموت تُخيف العبدَ من ربه حتى يَنقاد إليه، ويحب المؤمنين، ويبغض الفاسقين المُحِلّين، واعلموا أن الله تعالى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق، فقام يُعلّم الناس الكتاب والحكمة، وَيسُنّ لهم السنن، حتى قبضه الله إليه. ثم ولي الأمرَ بعدَه صِدِّيقُه، فاقتدى بسيرته، واهتدى بهَديه، واستنَّ بسُنته، حتى لحق بالله. ثم استَخلف عمر، فعمل بكتاب الله، وأحيا السُّنن، وأمات البِدع، ولم تأخذه في الله لومةُ لائم حتى لحق بربه. وقام عثمان فاستأثر بالفيء، وعَطّل الحدود، وجار في الأحكام، واستذَلّ المؤمنين، ولم يعاقب المجرمين, فسار المسلمون إليه فقتلوه. ثم ولي أمر الأمة علي بن أبي طالب، فلم يَنشَب أن حَكّم في أمر الله الرجال، وشكّ في [أهل] الضّلال، وداهن في دين الله، ونحن منه ومن أشياعه بُرآء، فاستعِدّوا لجهاد هذه الأحزاب المُتَحزِّبة، وأئمة الضّلال الظَّلَمة، والخروجِ من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاقِ بإخواننا المؤمنين المُوفِين بعهودهم؛ الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم ¬

_ (¬1) السنوات (76 - 100) من تحقيق عمار.

التماسَ رضوانِ الله في العاقِبة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن الموت نازلٌ بكم وإن كنتم كارهين، فبيعوا النفوس لله طائعين؛ لتدخلوا الجنة آمِنين، وتُعانقوا الحور العِين، جَعَلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، الذين يَقضون بالحق وبه يَعدِلون. وكان يَتردَّد من المَوصل إلى نَصيبين ودارا وبلاد الجزيرة، فاستجاب له خلقٌ كثير، فجمع خواصّ أصحابه وقال لهم: إلى متى نحن مُقيمون على الجَور والنّفاق لأئمّة الضلال؟ ابعثوا إلى إخواننا، وواعِدوهم يومًا ومكانًا بعينه. وجاءه كتاب شبيب بن يزيد مع المُحَلّل بن وائل اليشكُريّ يَستَحِثُّه على الخروج، فكتب إليه: اقدم علينا لنَنظر في الأمر -وكان شبيب مُقيمًا بأذربيجان- فقدم (¬1) على صالح، وقال له: إلى متى نحن هكذا؟ فوالله ما تزداد السُّنَّةُ إلا دُروسًا، والمجرمون إلا طُغيانًا. واتفق رأيُهم على الخروج لهِلال صَفَر ليلةَ الأربعاء, في سنة ست وسبعين. وسأل فَروَة بن لقيط الأزدي صالحًا فقال: يا أمير المؤمنين، ما ترى في قتال هؤلاء الظَّلَمة؟ ! أنَدعوهم قبل القتال، أو نقاتلهم من غير أن ندعوهم؟ ! فقال: لا، بل نَدعوهم، فلَعَمري لا يُجيبُنا إلا مَن يرى رأيَنا، ولا يقاتلنا إلا مَن يُزري علينا، فالدُّعاء لهم أَقطَعُ لحجتهم، قال. فقلتُ: فكيف ترى فيمَن قاتلَنا فظفرنا به؟ ماتقول في دمائهم وأموالهم؟ قال: إن قَتَلْنا وغَنِمنا فلنا، وإنْ تجاوَزْنا وعَفونا فموَسَّع علينا ولنا، قال فَروة: فلقد أصاب وأحسن في القول. وأقاموا بأرض دارا لما خرجوا ثلاثةَ عشر يومًا، وتحصَّن منهم أهلُ داوا ونَصيبين وسِنْجار، وكانوا في مئة وعشرة، وكان محمد بن مروان يومئذ أميرَ الجزيرة، فلم يحفل بأمرهم، وبعث إليهم عَديّ [بن عدي] بن عميرة الحارِثي في خمس مئة، فقال عدي لمحمد: أتبعثني إلى رأس الخوارج من عشرين سنة, ومعه من رجال ربيعة؛ الرجل منهم خير من مئة فارس؟ ! فزاد خمس مئة أخرى. فسار إليهم من حرّان في ألف, وكام محمد بن مروان في حرّان, وسار عدي وكأنما يُساق إلى الموت، وكان عَديّ رجلًا ناسكًا، فلما نزل دَوْغان بعث زياد بنَ عبد ¬

_ (¬1) في (ص): فنزل. وما سلف وسيرد بين معكوفين منها.

الله من بني خالد دَسيسًا إلى صالح يقول له: إنني للقائك كاره، فإن رأيتَ أن تخرج من هذا البلد إلى بلدٍ آخر فافعل، فقال صالح للرسول: ارجعْ إليه وقل له: إن كنتَ ترى رأيَنا فأرِنا من ذلك ما تعرف، وإن كنتَ على رأي أئمة السُّوء فإن شئنا نابَذْناك، وإن شئنا رَحَلْنا عنك إلى غيرك. فعاد الرسول فأخبر عديًا بما قال، فقال له: ارجع إليه وقل له: والله ما أنا على رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك، فقاتِلْ غيري. فحبس صالح الرسول عنده، وقال لأصحابه: اركبوا، فركبوا، وجعل شَبيبًا في الميمنة، وسُويد بن سليم النَهدي (¬1) في الميسرة، ووقف صالح في القلب، فأتوا سوق دَوْغان، فلم يَشعر بهم عَديّ وهو قائمٌ يصلي الضُّحى إلا وقد دَهموه، وطَلعت الخيل، وحملوا على القوم فانهزموا، ونجا عديّ على فرسٍ له، وجاء صالح فنزل عَسكرَهم وحوى ما فيه. وبلغ محمد بن مروان فغضب، وبعث إليهم خالد بن جَزْء السُّلَمي في ألف وخمس مئة، وأردفه بالحارث بن جَعْوَنَة العامريّ بمثلها، وقال لهما: أغِذّا السير حتى تلحقا بهذه الطّائفة الخبيثة الحقيرة الذليلة القليلة، فخرجا وأغَذّا السَّير. وأما صالح فإنه لما غَنِم ما كان في العسكر سار بأصحابه حتى نزل على آمِد، وبلغ خالدًا والحارث فسارا إليه، فقسم صالح أصحابَه قسمين؛ بعث إلى خالد شَبيبًا، وسار هو إلى الحارث، وقيل: بعث شبيبًا إلى الحارث، وسار هو إلى خالد، واقتتلوا قتالًا شديدًا لم يُسمع بمثله، وحال بينهم الليل، وقد كثرت الجِراحات في الفريقين، وخندق خالد والحارث، فقال شبيب لصالح: هؤلاء قد اعتصموا بخندقهم، ولا سبيل لنا إلى بَياتهم فارتفعوا بنا، وكان قد قُتل منهم أكثر من سبعين ووَهَنوا، فساروا تحت الليل، ولم يتبعهم أحد، فسلكوا أرض الجزيرة، وقطعوا أرضَ المَوصل، ونزلوا الدَّسْكرة فأقاموا بها، وبلغ الحجاج، فبعث إليهم الحارث بن عميرة بن ذي المشعار الهَمْداني، في ثلاثة آلاف، فساروا إلى الدَّسكرة. وخرج صالح إلى جَلولاء وخانِقين، واتّبعه الحارث إلى قريةٍ من قُرى المَوصِل يقال لها: المرج (¬2)، على تخوم أرض جُوْخى، وصالح يومئذٍ في تسعين رجلًا، فكَرْدَس ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): المهدي، والمثبت من (ص)، وفي الطبري 6/ 221: الهندي. (¬2) في الطبري 6/ 222: المدبّج.

أصحابَه ثلاثة كراديس: كردوس فيه شبيب، وكردوس فيه سُويد بن سليم، وكردوس فيه صالح، واقتتلوا والحارث في ثلاثة آلاف، وقد انْضاف إليه جماعة، وحميت الحرب، فانكشف سويد، وثبت صالح، وكشف رأسعه ونادى: أنا صالح؛ يا أعداء الله المحلِّين، يا أعداء دينِ محمد، لا حُكم إلا لله، وخَرق الصفوف، وقتل جماعة وقتلوه. وكان إلى جانبهم حصن قريب منهم، فقال شبيب: ليُسْنِد كلُّ واحدٍ منكم ظهرَه إلى ظهر صاحبه، وليُطاعِنْ عدوَّه؛ حتى ندخل هذا الحِصن، ففعلوا ودخلوا الحصن وهم سبعون رجلًا، وجاء الحارث (¬1) فأحدق بالحصن (¬2)، وأمر بحريق بابه ليبقى جَمْرًا فلا يقدرون على الخروج منه، وكان قد جَنّ الليل، فأحرق أصحابُه الباب، ثم انصرفوا إلى عسكرهم، فقال شبيب لأصحابه: والله لئن طلع الفجر لنُقْتَلَنّ كلنا، قالوا: فما الحيلة؟ قال: نبلُّ اللَّبابيد بالماء، ونلقيها على الجَمْر، ثم نحمل على القوم وهم غارُّون (¬3)، فقالوا: افعل، فبلّوا اللبابيد فرموها على الجَمْر، وخرجوا فكَبَسوا العسكر، وضربوهم بالسيوف فانهزموا، وصُرع الحارث، فاحتمله أصحابه وهربوا به إلى المدائن، وخَلّوا لهم العسكر بما فيه، وأخذ شبيب وأصحابه الجميع. وكان مقتل صالح يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقين من جُمادى الآخرة (¬4) سنة ست وسبعين. وبُويع شبيب بإمرة المؤمنين، وكان ذلك أول جيش هزمه شَبيب. وفيها دخل شبيب الكوفة ومعه امرأته غزالة: قال علماء السير كهشام وأبي مخنف والهيثم بن عديّ: وسار شَبيب في أصحابه وهم سبعون، وانضاف إليه من بني شيبان تسعون رجلًا، فصار في مئة وستين، وكان قد خفف أمَّه جَهيرة (¬5) بساتيدَما، فأسرى إليها جَريدة (¬6)، فضمّها إلى عسكره. ¬

_ (¬1) في (د) صالح، وهو خطأ. (¬2) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): فأحرق الحصن، والمثبت من (ص)، وانظر تاريخ الطبري 6/ 223. (¬3) في (أ): غافلون. وهما بمعنى. (¬4) في الطبري 6/ 223: جمادى الأولى. (¬5) في أنساب الأشراف 6/ 578 و 592 عن الهيثم بن عدي أن أمه غزالة وامرأته جهيرة بنت عمرو. (¬6) هي خيلٌ لا رجَّالة فيها.

وجَهّز الحجاج عبدَ الله بن عَلْقمة الخَثْعَميّ إلى الدَّسْكرة (¬1)، وقال: أقم بها حتى يأتيَك فَلُّ جيش الحارث بن عُميرة الهمْدَاني، وسر إلى شبيب فناجِزْه، ونادى الحجّاج: مَن بات من جيش الحارث الليلة بالكوفة فقد بَرِئت منه الذّمّة، وخرج منهم خمس مئة ولحق الباقون، والتَقَوا على خانِقين، فرتّب شبيب أخاه في الكَمين، والتقَوا فهزمهم شبيب، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وجاء شبيب إلى المدائن، فقتل وسبى، وجهّز إليه الحجاج سَوْرَة بن أَبْجَر في جند كثيف، وقيل لشبيب: جاءك سَورة بن أبجر، فخرج حتى نزل النهروان، وجاؤوا إلى مصارع إخوانهم الذين قتلهم أمير المؤمنين - رضي الله عنه -، فبكوا عليهم وأطالوا البكاء، وترحّموا عليهم، واستغفروا لهم، وتبرَّؤوا من أمير المؤمنين - رضي الله عنه - وأشياعه، ثم قطعوا جسر النَّهروان، ونزلوا من جانبه الشرقي. وجاء سورة فنزل قريبًا منهم، وقال لوجوه أصحابه: إنهم إن لَقَونا على ظهور الخيل ربما ظهروا علينا، وقد بلغني أنهم في مئة رجل يزيدون قليلًا، وقد رأيت أن أسيرَ إليهم في ثلاثة مئة رجل من أقواكم وأشجعكم فأُبَيتهم؛ فإنهم الآن آمنون أن نأتيهم، فلعل الله أن يَصرعهم في مصارع إخوانهم بالنهروان، فقالوا: افعل، فاستخلف على عسكره حازم بن قُدامة الخَثْعَميّ، وسار في ثلاث مئة رجل، وشبيب قد أذكى الحرس (¬2)، فلما وصلوا إليهم ركبوا خيولَهم والتقوا، وحمل سَورة وأصحابُه عليهم فثبتوا لهم، وحمل شبيب وهو يقول: [من الرجز] مَن يَنِكِ العَيْرَ يَنِكْ نَيَّاكا فلم يظفروا منهم بشيء، ورجع سَورة إلى عسكره وقد أُصيب فرسانه، فعاد إلى المدائن، وجاء شبيب إلى المدائن وقارب البيوت، فخرج الناس، ورَمَوه من السُّطوح بالنَّبْلِ والحجارة، فسار إلى كِلْواذى، ثم منها إلى تكريت وقد خاف الناس منه. وجاء فَلُّ جيش سَورة إلى الكوفة، فبعث الحجاج الجَزْلَ بن سعيد الكِندي -واسم الجَزْل عثمان- وقال الحجاج: قَبَّح الله سَوْرة؛ ضَيّع العسكر، وخرج يُبيّت الخوارج، ¬

_ (¬1) كذا وهو خطأ، فقد روى الطبري 6/ 226 عن هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الله بن علقمة، عن سفيان بن أبي العالية الخثعمي أن كتاب الحجاج أتاه ليسير إلى الدَّسْكَرة ... ، وانظر أنساب الأشراف 6/ 581. (¬2) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): العيون، وتحرف فيها أذكى: لـ أبكى! والمثبت من (ص)، وانظر الطبري 6/ 229.

وتوعّده، وقال للجزل: سِرْ إلى دير عبد الرحمن حتى يَلْحقك العسكر، فقال: أيها الأمير لا تبعثْ معي من الجند المَفْلول أحدًا؛ فإن الرُّعب قد دخل قلوبهم، فلا ينتفع منهم أحد، فقال الحجاج: لقد أحسنتَ الرَّأي ووُفّقت. فجهز معه أربعة آلاف ليس فيهم أحد من ذلك الفَلّ، وسار الجَزْل، وقدّم بين يديه (¬1) عياض بن أبي لينة الكِندي، فخرج حتى أتى المدائن، وسار يطلب شبيبًا في أرض جوخى، وشبيب ينتقل من رُسْداق إلى رسداق، ويماطل الجَزْل لعلَّه يُفَرّق أصحابه، ويتعجّل إليه، والجَزْل لا يَثْبت بمكان إلا وخَنْدَق عليه، ولا يسير إلا على تعبية. وكان شبيب في مئة وستين رجلًا، وجاءه الخبر أن الجَزْل قد نزل ديرَ يَزْدَجِرد قريبًا من أصحابه، وقال: أريد أبيّتهم الليلة على كلّ حال، وجعل على كل أربعين من أصحابه رجلًا، فجعل أخاه مَصادًا في أربعين، وسُويد بن سُلَيم في أربعين، والمُحَلّل ابن وائل في أربعين، وبقي هو في أربعين، وقال لأخيه مصاد: ائتِهم من قِبل حُلوان، وآتيهم أنا من قِبل الكوفة، وأنت يا سُويد من قِبل المشرق، وأنت يا مُحَلِّل من قبل المغرب. فلما هَدَأت العيون، واستوفت دوابُّهم عَليفها؛ ركبوا وساروا نحو الجَزْل، فوجدوا الجَزْلَ قد أقام عِياض بن أبي لينة (¬2) مَسْلَحةً، فقاتلوه حتى ألجؤوه إلى عسكر الجزل، وكان الجزل قد خَنْدَق عليه، فلم يظفروا منه بشيء، وعادوا إلى مواضعهم، ثم عادوا مرةً أُخرى، والجَزْل يُخَندق عليه، وكلما جاؤوا رَشَقوهم بالنَّبل، فساروا إلى جَرْجَرايا والجزل في طلبهم، فلما طال ذلك على الحجاج كتب إلى الجزل يقول: أما بعد، فإني بعثتُك إلى هذه الطّائفة المارقة الضَّالة المُضلّة، حتى تلقاها فتستأصلها، فوجدت الاحترازَ بالخنادق، والتَّعريس في القُرى أهون عليك، امضِ لما أمرتك به من مُناجزتهم والسلام. ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله بعد صفحات: وعجلته إلى عدوه، ليس في (ب). (¬2) في (ص): أمية، وهو خطأ.

فقرأ كتابَه على الناس، وشقّ على الجَزْل، وبعث الحجّاج سعيد بن المُجالد أميرًا على عَسْكر الجَزْل، وقال له: لا تُناظر المارِقة، وازحف إليهم، واطلُبْهم طَلَبَ السَّبع، وحِدْ عنهم حَيَدان الضَّبع. وجاء سعيد بن المجالد، فدخل عسكرَ أهل الكوفة، فقام خطيبًا، فوبّخ العسكر وأنَّبهم، وقال: عَجَزْتُم عن طلب هذه الأعاريب العُجْف منذ شهرين، وقد أخربوا بلادكم، وكسروا خراجَكم، وأنتم حاذرون في جوف هذه الخَنادق لا تُزايلونها، اخرجوا على اسم الله، ثم خرج وأخرج الخيل، وكان الجزل قد خَنْدق عليه بالنّهروان، وشبيب قريب منه، ولما أخرج سعيد بن المجالد الخيل والناسَ من الخنادق قال له الجَزْل: ما تريد أن تصنع؟ قال: اُقدم على شبيب في هذه الخيل، فقال له الجزل: أقِم أنت في جماعة الجمش، ولا تُفَرّق أصحابَك، وأصْحِر لهم -أي: اخرج من الخنادق إلى الصَّحراء- فوالله ليَقدُمَنّ عليك، فلا تُفَرّق أصحابَك، فقال له ابن المجالد: قِف أنت في الصف، فقال الجزل: يا سعيد، ليس [لي] فيما صنعتَ رأي، أنا برئٌ من رأيك، وسمعه الجيش ومَن حضر من المسلمين، فقال ابن المجالد: هو رأيي، فإن أصَبتُ كان من الله، وإن يكن غيرَ صواب فأنتم بُرآء. فوقف الجَزْل في صفّ أهل الكوفة وقد أخرجهم ابن المُجالد من الخنادق، وجعل ابن المجالد على ميسرته عبد الرحمن بنَ عَوف أبا حُميد الرُّواسي (¬1)، وعلى ميمنته عياض بن أبي لينة الكِندي، والجَزْل في جماعتهم. وكان شبيب قد نزل بَراز الرُّوز بمدينة يُقال لها: قَطُفْتا (¬2)، وأغلق بابها، فصعد دِهقانُها إلى السّطح، فرأى العسكر قد أقبل، وكان قد أعطى الدِّهقان ما يشتري لهم غَداءً، فنزل الدّهقان وقد امتُقِع لَونُه، قال له شبيب: مالك؟ ! [قال] قد جاءك جمع عظيم، فقال له شبيب: بلغ الشواء بعد؟ قال: لا، قال: دعه، ثم قال: أشْرِف إشرافة أخرى، فقال: قد أحاطوا بالجَوْسَق، فقال: هات شِواءك، فقرّبه فأكلوا، وجعل ¬

_ (¬1) في (ص): الرقاشي. (¬2) في (أ): قططنا، وفي (ب) و (خ) و (د): قططيا، وفي (ص): قطيطا، والمثبت من تاريخ الطبري 6/ 235.

شَبيب يأكل غير مُكْتَرث، وصلّى ركعتين (¬1)، ودعا ببَغْل له فركبه، ثم أمر بفتح الباب ففُتح، وخرج على بغله، فحمل عليهم وهو يقول: لا حُكم إلا لله، إن الحكم إلا للحكيم، أنا أبو المُدَلَّه، اثبتوا إن شئتم، وجعل ابن المجالد يجمع خيله، ثم يدلفها في أثره وهو يقول: إنما هم أَكلة رأس، فلما رآهم شبيب قد تقطّعوا وانكسروا جمع خيلَه وعارضهم، فانهزموا، وكشف ابن المجالد رأسَه وصاح: إليّ إلي، فحمل عليه شبيب، فضربه بالسيف فخالط دماغَه، فوقع ميتًا، وانهزم الجيش، وقُتلوا شرَّ قِتلة، وانتهوا إلى الجَزْل، فناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، هذا أميركم الجزل المَيمون النَّقيبة، السَّديد الرأي، فأَقبِلوا إليه، فقاتل حتى ارتُثّ، وجُرح عدَّة جراحات (¬2)، وكذا عياض بن أبي لينة، وحملا إلى المدائن، فكان قتالهم ما بين دَير أبي مريم إلى بَراز الرّوز، وغنم شبيب أموالهم ودوابهم. وسار الفَلّ إلى الكوفة، وجاء شبيب فقطع دِجلة عند الكَرْخ، وكان يومَ سوق بغداد، وكانوا يخافونه، فبعث إليهم فأمّنهم (¬3)، واشترى أصحابه منهم دوابًّا وسلاحًا وما لا بُدّ لهم منه من طعام وغيره. وسار شبيب إلى الكوفة، فلما دَنا منها وبلغ الحجّاجَ؛ بعث إليه سويد بن عبد الرحمن السعدي في ألفي فارس من فرسان بني سعد وشجعانهم، فعسكر بالسَّبْخَة، وبعث عثمان بن قَطَن (¬4) في ألفين (¬5). ¬

_ (¬1) في (ص): وقد امتقع لونه، قال: ما الذي بك؟ ! قال: الخيول قد أحدقت بنا، فقال: لا بأس، هل استوى غداءك؟ ! قال: نعم، قال: فقرِّبْه، فقربه، فأكلوا، وصلى شبيب ركعتين. (¬2) في (ص): وانتهوا إلى الجزل، فقاتل الجزل قتالًا شديدًا، وجرح عدة جراحات. (¬3) لفظ العبارة في تاريخ الطبري 6/ 236: وبعث إلى سوق بغداد فآمنهم، وذلك اليوم يوم سوقهم، وكان بلغه أنهم يخافونه. (¬4) في (ص) (والكلام منها): قيس، والتصويب من الطبري 6/ 236، وأنساب الأشراف 6/ 584. (¬5) من قوله: وسار شبيب إلى الكوفة ... إلى هنا من (ص)، وزاد بعدها فيها: وروى هشام من غير طريق أبي مخنف: أن المجالد بن سعيد لما قصد شبيبًا وهو في قطيطفا (كذا) عند الدهقان سمع الدهقان جلبة الخيل، فصعد إلى السطح، فرأى الجيش، فنرل وقد تغيّر لونه، قال له شبيب: ما لك؟ قال: جاءك جمع عظيم، فقال له شبيب: بلغ الشواء بعد؟ قال: لا، قال: دعه، ثم قال: أشرف إشرافًا أخرى (كذا)، فقال: قد أحاطوا بالجوسق، قال: هات شواءك، فجعل يأكل غير مكترث، ثم فتح الباب، =

وأقام الجزل بالمدائن يداوي نفسه، وكتب إلى الحجاج: أما بعد أيها الأمير، فإنني خرجتُ في الجُنْد الذي وَجَّهتني فيه إلى العدو، فكنت أخرج إليهم إذا وَجَدْتُ الفُرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيتُ الوَرْطة، وأرادني العدوُّ بكل كيد فلم يُصب مني غِرّة، حتى قدم علينا سعيد بن مجالد، فأمرتُه بالتُّؤدَة، ونهيتُه عن العَجَلة، وأمرتُه أن لا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامّة، فعصاني وتَعَجّل إليهم في الخيل، فأشهدتُ عليه أهل المِصرَين أني بريءٌ من رأيه فلم يلتفت، ومضى فأُصيبَ تجاوز الله عنه، ودُفع الناس إليّ (¬1)، فتَرجَّلتُ وصِحتُ: يا حُماةَ الأدبار، إليّ فأنا الجَزْل، وأخذتُ رايتي بيدي، وقاتلتُ حتى جُرِحتُ عدةَ جِراحات، وحملني أصحابي من بين القتلى إلى المدائن، وبي جراحات قد يموت الرجلُ من دُونها، ويُعافى من مثلها، فليسأل الأمير جُندَه عن نصيحتي له وللمسلمين، وعن مُكايدتي العدوّ، وعن مَوقفي يومَ البأس؛ ليَتَبيّن له أني صَدَقتُه، ونصحتُ له، والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإني قد صَدَّقتُك في جميع ما قلت ووَصفتَ به نفسك، وما ذكرتَه من أمر سعيد وعَجَلَتِه إلى عدوه، وقد حَمِدْتُ عليه عَجَلَتَه وتُؤدتك؛ أما عَجَلتُه فإنها أفضتْ به إلى الجنة إن شاء الله، وأما تؤدتك فإنها حَزم، وقد أحسنتَ (¬2) البَلاء، وأنت عندي من أهل السَّمع والطاعة والنَّصيحة. وبعث إليه حَيَّان بن أَبْجر، وكان طبيبًا فداواه، وبعث إليه بألفي درهم. قال: وأقبل شَبيب إلى المدائن، فعلم أنه لا طاقةَ له بأهلها، فسار إلى الكوفة، فاجتاز ببعض بيوتها، ومضى إلى الحيرة، ثم أتى (¬3) القادسية، فأصاب هناك أقوامًا من ¬

_ = وخرج إليهم، وحمل على ابن المجالد، فضربه بالعمود فقتله، وانهزم الناس، فانتهوا إلى الجزل، فنادى عياض ابن أبي لينة: أيها الناس، هذا أميركم الجزل الميمون النقيبة، الشديد الرأي، فأقبلوا، فقاتل حتى صرع، وحمل إلى المدائن صريعًا به جراحات كثيرة، فأقام يداوي نفسه. وقد سلفت هذه القطعة في النسخ الأخرى. (¬1) في (خ) و (ب) بعدها: مصارع إخوانهم. (¬2) في (ص): احتسبت. (¬3) في (ص): ثم مضى إلى.

الأعراب فأنكى فيهم، ثم عاد إلى طَفّ الفُرات، ووصل إلى الأنبار وقطع الفرات (¬1)، ووصل إلى دِجلة فعبرها، ومضى على دَقُوقاء إلى أذربيجان. ولما بلغ الحجاج (¬2) ارتفاعُ شبيب إلى أذربيجان سار إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فبينا هو كذلك جاءه كتاب مَهرُوذ؛ دهقان بابل، يُخبره أنه بلغه أن شبيبًا قد عاد يريد الكوفة. وجاء شبيب فنزل خانيجار، فأرسل عروة إلى الحجاج يُخبره وهو بالبَصرة، فأقبل مسرعًا حتى دخل الكوفة. وجاء شبيب إلى دجلة، إلى قرية من أعمال دُجَيل يقال لها: حَرْبَى، فقال: ما اسمُ هذه [القرية]؟ قالوا: حَرْبَى، فتطيَّر أصحابه منها، فعَبر من عندها وقال: حَرْبٌ لنا على أعدائنا، وإنما يتطيَّر مَن يَقوف وَيعيف. ثم أقبل حتى نزل العَقْر، فقال له سُويد بن سليم: لا تنزل ها هنا؛ فهذان اسمان مَشؤومان، فقال شبيب: الشُّؤم والعَقْرُ لأعدائنا لا لنا، ولم يعلم شَبيب أن الحجاج قد دخل الكوفة، فقال لأصحابه: إن الحجّاج بالبصرة، وليس دون الكوفة مانع، فسيروا بنا إليها. وكان الحجّاج قد طوى المنازل، فوصل إلى الكوفة الظهر، ونزل شبيب السَّبْخَة وقتَ المغرب، فصلى المغرب والعشاء، وركب في أصحابه، وهجم الكوفة، وجاء إلى باب القَصْر والحجاج فيه، فضربه بالعمود ضربة أثّرت فيه، ثم اقتحموا المسجد الأعظم، فقتلوا جماعة من المصلين، وعاثوا في أسواق الكوفة ليلًا، وقتلوا مَن قدروا عليه، وعادوا إلى السَّبْخة، وهذه روايات هشام. وأما أبو اليقظان فإنه قال: دخل شبيب الكوفة في مئة وخمسين رجلًا، وفي الكوفة ثلاثون ألف مقاتل، فجاء إلى باب القصر، فضربه بعموده، فكاد أن يخسفه، والحجاج فيه، ونادى (¬3) شبيب الحجَّاج: يا مَلعون، يا عبد بني ثَقيف، يا بقايا قوم ثمود، يا ابن ¬

_ (¬1) في (ص): البراري. (¬2) في (ص): وأما الحجاج فلما بلغه. (¬3) من قوله: ثم اقتحموا المسجد الأعظم ... إلى هنا من (ص).

أبي رِغال، لعنك الله، ولعن ابن مَروان الفاسق معك، وَيلك، كم أقتلُ الرجال، وأنهب الأموال، وأسبي النساء، ومعي نَفرٌ يسير، ثم أنت الحاكم على العراقَين، وجُندك مئة ألف، اخرج إلي وأرح الناس مما هم فيه، إلى كم تختفي خلفَ الجدران مثل النساء الغوازل، أبْرُز إليَّ حتى أُذيقَك كأسًا مُرَّة. وكانت امرأتُه غزالة قد نذرت أنها تُصلّي ركعتين بجامع الكوفة، فوقف شبيب على باب الجامع، ودخلت غَزالة فصَلّت ركعتين قرأت فيهما سورة البقرة وآل عمران، والحجّاج يُنادي من فوق القصر: يا خيلَ الله اركبي. وذكر جدّي في كتاب "تقويم اللسان" وقال: كان للحجاج عبد أو غلام يُشبهه، فلما اشتد عليه أمرُ شَبيب وحصره بالقصر بالكوفة، أمر ذلك الغلام -وكان شجاعًا- فلبس ثيابَ الحجاج وسلاحَه، وركب فرسَه، وصاح في الجند فجمعهم وخرج، فقال الناس: قد خرج الحجاج، فأقبل شبيب وقال: أين الحجّاج، فأومؤوا إليه، فحمل عليه حتى ضربه بالعمود على رأسه، فلما أحسَّ بوقعه قال: أخ، بالخاء المعجمة، فانصرف شبيب وقال: قَبّحك الله يا ابن أم الحجّاج، اتقى الناس بالعبيد، وفي رواية: أتَّقى الأحرارُ بالعبيد -أشار شبيب إلى أن أخ بالخاء المعجمة ليس من كلام العرب، فإن العرب تقول عند الحزم ولَذع الحرارة المُمِضّة: أح بالحاء المهملة، والعامّة تقوله بالخاء المعجمة (¬1). وأخرج له الحجاج عَبيدًا وهو يقتلهم، ثم بعث الحجاج جماعةً من فرسان الكوفة إلى شبيب، فخرج إليه زَحْر بن قيس في ثلاثة آلاف، فعطف عليهم شبيب فبدَّد جمعَهم، وجُرح زَحْر في رأسه عدَّةَ جراحات، ورجع إلى الكوفة ماشيًا مُثْخَنًا. ونزل شبيب الفرات والحجّاج يُجَهّز إليه الجيوش، وهو يهزمها وهم ألوف، وهو في أصحابه مئةً وخمسين رجلًا، وبعث إليه الحجاج محمد بن موسى بن طلحة (¬2) بن عبد الله التَّيمي فقتله، وبعث إليه زائدة بن قدامة فقتله، وعدة من الفرسان، ويقال: إن الحجاج جهز إليه في هذه السنة سبعين جيشًا وهو يهزمهم، منهم أَعْيَن صاحب حمام ¬

_ (¬1) من قوله: أشار شبيب ... إلى هنا ليس في (ص). (¬2) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): موسى بن محمد بن طلحة، والمثبت من (ص). وانظر الطبري 6/ 242.

أعين, مولى بشر بن مروان في ألف، وبُسْر بن غالب الأسدي في ألف، وسنذكر محمد بن موسى بن طلحة في آخر السنة. وبعث جماعة من أَعيان الكوفة. وأتى شبيب المَرْدَمَة (¬1)، فلقي جماعة بها فقتلهم، منهم: ناجية بن مَرْثَد الحَضرميّ وكان على العُشور، ووَجَّه الحجَّاج زَخر بن قيس وهو مجروح في ألف وثمان مئة فارس، وبلغ السَّيلحين، فعطف (¬2) عليه شبيب وقاتله, فترَجَّل زَحْر وقاتله حتى ارتُثّ، وانهزم أصحابُه، وبقي بين القتلى طَريحًا، فحُمل إلى الكوفة وهو مُثخَن. ونزل شبيب طَفَّ الفُرات، فقال له أصحابه: قد أفنيناهم وقتلنا أمراءهم ودخلنا الكوفة؛ فارجِعْ بنا، فقال: ذلك أرْعَبُ لمن بقي منهم، وقد خلت الكوفة، ولم يَبْقَ بها سوى الحجّاج، فاقصدوا إليه، وقد حكمتم على العراق. وكان جماعة من أصحاب الحجاج قد أخذوا طريقًا غير الذي قصد شبيب إليه إلى الكوفة، وبلغ الحجاج أن شبيبًا يقصده من غير ناحية الأمراء، فبعث إليهم يُخبرهم بقصده إياه -وكان عليهم زائدة بن قدامة- وعلم بهم شبيب فقصدهم؛ وقد عبّأ زائدة أصحابه، فجعل على ميمنته زياد بن عَمرو العَتَكي، وعلى ميسرته بِشر بن غالب الأسديّ. وجاء شبيب على فرس كُمَيت أغرّ، وهناك تلّ، فصعِد وحده، وأشرف على العسكر، وعاد إلى أصحابه، وأقبل وقد كتَّبهم ثلاث كتائب، فجعل سُويد [بنَ سُليم] في ميمنته، ومَصادًا أخاه في ميسرته، ووقف هو في القلب في كتيبة، وخرج زائدة بن قُدامة يسير بين الصُّفوف يُحرِّض الناس ويقول: يا عباد الله أنتم الكثيرون الطيِّبون، وقد نزل بكم القليلون الخبيثون، وإنما جاؤوكم ليُهريقوا دماءكم، ويأخذوا أموالكم، ويَسبوا ذَراريكم ونساءَكم، غُضُّوا أبصارَكم، واستقبلوهم بالأسنّة، ولا تحملوا عليهم حتى آمُركم، ثم عاد إلى موقفه. ¬

_ (¬1) في (ص): وخرج شبيب من الكوفة فأتى المردمة. (¬2) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): فقطع، والمثبت من (ص).

ثم اقتتلوا، وحمل عليهم شبيب فانضموا إلى زائدة بن قُدامَة، وقد قتل مَصَاد أخو شبيب منهم جماعة، فترجّل زائدة ونادى: يا أهل الإسلام، يا أهل الحِفاظ، إليَّ إليّ، وجاء الليل والقتال يعمل إلى السَّحَر، ثم إن شبيبًا شدَّ على زائدة بن قدامة في جماعة من أصحابه، فقُتل زائدة مقبلًا غير مُدبر وجماعة من أهل الحفاظ معه، وهناك جَوْسَق عظيم فدخله أَعْين صاحب حمام أعْين ومعه أبو الضُّرَيس وجماعة (¬1)، ونادى شبيب: ارفعوا السيفَ عنهم، فرفعوه عند الفجر، وقال: ادعوهم إلى البيعة. ووقف شبيب على فرسه وأصحابه حوله، فكلّ مَن بايعه بإمرة المؤمنين أخذ سلاحه وأطلقه، ولما طلع الفجر ومحمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله واقف في أقصى عسكر الحجَّاج، أمر محمد مؤذّنه فأذّن، فقال شبيب: ما هذا؟ قالوا: محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي في أقصى العسكر، معه عِصابةٌ من قومه قد صبروا، فقال شبيب: قد ظننتُ أن حُمقه وخُيَلاءه سيَحمله على هذا. ثم صلّى شبيب الفجر بأصحابه، وركب فعطف على محمد، وحمل عليه محمد وأصحابه -ومحمد يقرأ: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2] الآيات، فقتله شبيب كَرهًا لما نذكر. ثم هرب الذين بايعوا شبيبًا إلى الكوفة، وكان ممن بايعه تلك الليلة أبو بُردة بن أبي موسى، فلما بايعه قال له شبيب: من أنت؟ قال: أبو بردة بن أبي موسى، فقال شبيب لأصحابه: أبو هذا أحد الحَكَمين ألا أقتله؟ قالوا: لا ذنبَ له، ولا تزر وازِرَةٌ وزْرَ أخرى، فتركه. ولما ارتفع النهار أقبل شبيب على الجَوْسَق الذي فيه أعين وأبو الضُّرَيس وقد تحصّنا منه، فرَمَوه بالنَبْلِ، فأقام عليهم يومَه، فلم يقدر منهم على شيء، فرجع عنهم، فقال له أصحابه: اطلب بنا الكوفة فما دونها مانع، فقال: فيكم جِراحات، فاصبروا حتى تَبرأ. وسار نحو المدائن، فجهّز الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في ستة آلاف من فرسان الكوفة ووجوه الناس وأشرافهم، وخرج معه ست مئة من كِندة وحَضْرَمَوت، فخرج فعسكر بدَيْر عبد الرحمن، وخرج إليه الناس فكتب إليه الحجاج كتابًا، وأمره أن يقرأه على أصحابه، يقول فيه: ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 246: ولما قتل شيب زائدة دخل أبو الضريس وأعين جوسقًا عظيمًا. والجَوْسَق: القصر.

أما بعد، فقد ولَّيتم الأدبار يومَ الزَّحْف دَأب الكُفّار، مع كثرتكم وقلّة عدوّكم، وَصفَحتُ عنكم مرّة بعد مَرّة، وإني أقسم بالله يمينًا بَرَّةً؛ لئن عُدتم لمثلها لأُوقعنّ بكم إيقاعًا يكون أشدّ عليكم من هذا العدو؛ الذي تهْربون منه في بطون الأودية والشّعاب، وتَسَتّرون منه بأفناء الأنهار والخنادق، ثم كتب في آخره: [من الوافر] لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا (¬1) فسار ابن الأشعث إلى المدائن، وعاد الجَزْلُ من جراحاته، فقال له الجزل: يا ابن العمّ، إنك سائر إلى فُرسان العرب، وأبناء الحرب، وأَحْلاس الخيل، والله لكأنما خُلقوا من ضلوعها، ثم بُنوا على ظهورها، وإن الفارس منهم أشدّ من مئة، إنْ لم تَبدأ به بدأ، وإن أحْجَمتَ أَقْدم، وإني قد قاتلتُهم وبَلَوتُهم، فإذا أصْحَرتُ لهم انتصفوا مني، وكان لهم الفضلُ عليّ، وإذا قاتلتُهم في مَضيق، أو خَنْدَقْتُ عليَّ نلتُ منهم ما أُحبّ، فلا تَلْقَهم إلا على تَعْبيَة، أو في خندق، ودفع له فرسه، ويقال لها: الفُسَيفساء، وقال: خُذْها فإنها لا تُجارى، ولا يُقاومُها فرس. وسار خلفَ شَبيب، فارتفع عنه [شبيب] إلى دَقُوقاء، ثم إلى شَهْرَزُور، وعبد الرحمن خلفَه؛ لا يسير إلا على تَعبية، ولا ينزل إلا ويُخَندِق عليه، وشَبيب يُراوغه، حتى عَنّى ذلك الجيش ولقوا منه كلَّ بَليّة (¬2)، وعبد الرحمن يتبعه من مكان إلى مكان، حتى نزل شبيب على قرية يقال لها: البَتّ، من أعمال العراق على تُخوم المَوصل، وبينها وبين سَواد الكوفة نهر يقال له: حَولايا -ودجلة والبَتّ اليوم من أعمال الرّاذان وأرض جُوخى-. وجاء عبد الرحمن فنزل في عَواقيل نهر حَولايا -وهو مثل الخندق- وتحصَّن به، وأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: إن هذه الأيام أيامُ عِيدٍ لنا ولكم، فإن رأيتم أن تُوادعونا هذه الأيام فافعلوا حتى يَنقضي العيد، فأجابه عبد الرحمن، وكان يُحبّ مُطاوَلَتَه ومُوادَعَتَه. ¬

_ (¬1) تمامه: ولكن لا حياة لمن تنادي، انظر الطبري 6/ 249. وقد نُسب إلى غير ما شاعر. (¬2) في (ص): ولقوا منه مشقة. وكلمة "شبيب" السالفة بين معكوفين من الطبري للإيضاح.

وكتب عثمان بن قَطَن عامل المدائن إلى الحجاج: أما بعد، فإن عبد الرحمن قد حَفَر أرضَ جُوخى كلّها خندقًا واحدًا، وخلّى شبيب يَفعل ما يُريد، وقد كسر الخَراج، والسلام. فكتب إليه الحجاج: سِر إلى المارِقة حتى تَلقاهم؛ فأنت أميرُ الناس، والسلام. وولّى الحجاج على المدائن مُطَرِّفَ بن المغيرة بن شُعبة. وسار عثمان بن قَطَن إلى عسكر عبد الرحمن لما وَرد عليه كتابُ الحجاج، فوافى عَسْكرَ ابنِ الأشعث ليلةَ التَّروية عَشِيةَ الثُّلاثاء، فوقف على الناس وقال: اخرجوا إلى قتال عدوّكم، فناشده اللهَ الناسُ أن يَصبر عليهم إلى الغد، وهو يَأبى، فقال له عبد الرحمن: انزل، فالذي تُريده الساعةَ من مُناجزتهم أنت قادر عليه غدًا، والناس غير مُوَطّني أنفسهم على القتال (¬1)، وما زالوا به حتى نزل، وبات طول الليل يُعَبِّئ الناس، فأصبح الناس على تَعبية في يوم التَّروية، فثارت ريحٌ شديدة في وجوه الناس وغَبَرة، فصاحوا: يا عثمان، خَفِ اللهَ فينا، فعاد بهم إلى المنزل، فلما طلع الصباح يوم الخميس خرج بهم على التَّعبية التي كان يسير عليها عبد الرحمن. وجاء شبيب في مئة وثمانين (¬2) رجلًا، فصف أصحابه على العادة، ووقف هو في القلب، واقتتلوا فهزمهم شبيب، وقتل أعيانَ أهل الكوفة: عَقيل بن شَدّاد، ومالك بن عبد الله الهَمْداني عم عَيّاش بن عبد الله بن عيَّاش المَنتوف، وقتل شبيب خالد بن نَهيك الكِندي وكان على ميمنة عثمان بن قطن، وقَتل مَصَاد أخو شَبيب عثمان بنَ قَطَن الأمير، وقُتل الأَبْرَد بن رَبيعة الكندي، ووقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ فرآه ابنُ أبي سبْرَةَ الجُعْفِيّ وهو على بَغْلَةٍ فعرفه، فنزل وقال له: أنت الأمير فاركب على مُقَدَّم البغلة، وأردفه ابنُ أبي سَبْرة، وجالت الفسيفساء فرس الجَزْل الذي أعطاها لعبد الرحمن في العسكر، فأخذها رجل من أصحاب شَبيب. ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 252 أن القائل له ذلك: عقيل بن شداد السلولي. (¬2) في (خ): مئة وخمسين، وفي الطبري 6/ 253: مئة وأحد وثمانين.

زهير بن قيس البلوي

وأمر شبيب أصحابَه، فرفعوا السَّيف عن الناس، وطلب البَيعة فبايعه مَن بَقي، وسار الفَلّ إلى الكوفة، وقُتل من أهل الكوفة ألف وسبع مئة (¬1). وجاء عبد الرحمن فنزل بدير أبي مريم، واجتمع إليه النّاس، فقيل له: إنْ سَمع شَبيب بمكانك أتاك؛ فكنت له غَنيمة، وقد تفرَّق الناس، وقُتل خِيارُهم، فالحق بالكوفة، فدخلها ليلًا، واختفى من الحجاج حتى أخذوا له منه أمانًا. وفيها وُلد مروان بن محمد بن مروان بن الحكم ويقال له: الجَعدي، آخر ملوك بني أمية. قال الواقدي: وحجّ بالناس أبان بن عثمان بن عفان وهو على المدينة، وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أُميّة بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء البصرة زُرارة بن أوفى (¬2). فصل: وفيها استشهد زهير بن قيس البَلَوي المصري وكنيته أبو شدّاد. ذكره أبو سعيد بن يونس في "تاريخ مصر" وقال (¬3): جاء الصَّريخ إلى فُسطاط مصر بنزول الرُّوم على بَرْقة، فأمره عبد العزيز بن مروان بالنهوض إليهم -وكان عبد العزيز واجِدًا عليه لأنه قاتله بناحية أَيلة، لما قدم مروان لأخذ مصر- فسبق زهير الجيش على البريد في أربعين رجلًا، فلما أشرف على الروم أراد أن يتوقّف حتى يَلحقَه الجيش، فقال له فتى حَدَثٌ: أجَبُنْتَ يا أبا شَدّاد، فقال له زهير: قَتلتَنا وقتلتَ نَفْسك، ثم قرأ سورة السجدة، وسجد وسجد أصحابه فقتلوهم. قال: وكان لزهير مسجد وقصْرٌ معروف بالمَعافر. ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 255، و"أنساب الأشراف" 6/ 586: وقتل من كندة مئة وعشرون، وألف من سائر الناس أو ست مئة، وفي "المنتظم" 6/ 183: ودخل شبيب عسكرهم، وقتل نحوًا من ألفين. (¬2) من قوله: وفيها ولد مروان ... إلى هنا، جاء في (ص) عقب استشهاد زهير بن قيس البلوي، الآتي خبره. (¬3) قوله: ذكره أبو سعيد ... من (ص) و (م).

محمد بن موسى

قال الجوهري: والمعافر: حي من هَمْدان تُنسب إليهم الثياب المعافرية (¬1). وحدَّث زهير عن عَلْقمة بن رِمثَة البَلَوي، وروى عنه سُويد بن قيس التُّجِيبي (¬2). فصل: وفيها توفي محمد بن موسى ابن طلحة بن عبيد الله التَّيمي، قال هشام بن محمد: كان عبد الملك بن مروان قد ولّى محمد بن موسى على سِجستان، وكتب له عهدَه عليها، وكتب إلى الحجّاج بأن يجهّز معه ألفي رجل، وأن يعجّل سراحه، فحسده الحجاج، وقال لمحمد: جاهد هذه المارقة، واذهب إلى عملك، وأخرجه فيمن أخرج، فقتله شبيب على ما ذكرنا. وقال الهيثم: كتب عبد الملك عهدَ محمد بن موسى على سجستان، وقدم على الحجّاج، فقال له: إنك عامل على كل بلدٍ مررتَ به، وهذا شبيب في طريقك، فاعدل إليه. فلما سار من الكوفة عدل إلى شبيب، فأرسل إليه شبيب: إنك أمير مخدوع، وقد لعب بك الحجاج، وقد كنت جاري، وللجوار حقٌّ، فانطلق لما أُمرت به؛ فإني أكره قتالك، فأبى إلا البراز، فبرز إليه شبيب، فضربه بالعمود الحديد، وكان وزنه اثني عشر رطلًا، فهشم البيضة ورأسَه، ثم كفّنه ودفنه، وابتاع ما غَنِم من عسكره، وبعث به إلى أهله، واعتذر إليهم، وقال لأصحابه: إني أَهَبُ ما غنمتُ من أهل الرِّدَّة. وقال أبو عُبيدة مَعْمَر: كان محمد بن موسى مع عمر بن عبيد الله بن مَعْمر بفارس، وشهد معه قتال أبي فُدَيك، وكان على مَيمنته، وكان شجاعًا شديدَ البأس، وزوّجه عمر بن عبيد الله بن معمر ابنته أم عثمان، وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان، فولّاه سجستان، فمرّ بالحجاج، فقيل له: إن صار هذا إلى سجستان مع نَجدته وشجاعته وصهوه لعبد الملك، فلجأ إليه أحد ممن تطلبه؛ منعه منك، قال: فما الحِيلة، قيل: تأتيه فتسلّم عليه، وتذكر له نجدته وبأسَه، وأن شَبيبًا في طريقه وقد أعياك، وأنك ترجو أن يُريح الله منه على يده، ويكون له ذكر ذلك وشُهرته. ¬

_ (¬1) "صحاح الجوهري" (عفر 2/ 753). وقول الجوهري هذا من (ص) و (م). (¬2) زاد في (م) بعدها: انتهت ترجمته، والحمد لله وحده. السنة السابعة والسبعون من الهجرة. اهـ. وانظر "تاريخ دمشق" 6/ 456 - 458 (مخطوط)، و"المنتظم" 6/ 184.

السنة السابعة والسبعون من الهجرة

فأتاه الحجاج فذكر له ذلك، فقال: نعم، فلما خرج من الكوفة تعرّض لشبيب، فأرسل إليه: اذهب لشأنك؛ فإن الحجاج قد خَدَعك، ووقى بك نَفْسَه، وكأني بأصحابك لو قد التقت حَلقتا البِطان قد أسلموك، فصُرعتَ مَصرعَ أصحابِك، فأطعني وانطلق لشأنك، فأبى، فبارزه فقتله. وقيل: إن شبيبًا قال لأخيه مَصَاد: بارِزْه؛ حياءً منه، وما كان يريد قتلَه، فبارزه مصاد فأبى، وبارزه سويد فأبى، وقال: ما أريد إلا شبيبًا، [فبرز إليه شبيب وقال: أُناشدك الله في دمك؛ فإن لك جِوارًا، فأبى إلا قتاله] فبارزه شبيب فقتله. وذكر الموَفَّق رحمه الله القصة بمعنى ما ذكرنا، وقال في آخرها: فقال له شبيب: أما إذ أَبَيتَ فسأنظر لك، معك جمع كثير، وأنا ذو عَددٍ يسير، فالْقَ القليلَ بكثيرك، ولا تلْقَ رجلًا بالمبارزة، فإنك لا تدري لمن تكون الدائرة، فأبى فقتله شبيب. والله أعلم (¬1). السنة السابعة والسبعون من الهجرة وفيها قتل شبيب جماعةً من أعيان أهل الكوفة (¬2). وفيها غرق شبيب. لما هزم شَبيب الجيش الذي بعثه إليه الحجاج، وَقَتَل عثمانَ بنَ قَطَن أتى ماه بَهْزاذان -وكان الحرُّ شديدًا- فأقام مُصَيّفًا بها ثلاثة أشهر، والتجأ إليه ناسٌ كثير ممّن يطلب الدنيا، وناس كان الحجاج قد طلبهم بمال وتَبِعات، فلما انقضى زمان الحَرّ خرج شبيب في نحو ثمانِ مئةِ رجل، فأقبل نحو المدائن، وعليها مطَرّف بن المغيرة بن شعبة، وجاء شبيب حتى نزل قناطر حُذيفة بن اليَمان، ولا يعلم الناس أين يريد. ¬

_ (¬1) هذا الفصل بتمامه أثبتُّه عن نسخة (ص)، وسياقه أوضح من سياقه في النسخ (أ) (ب) (خ) (د)، وذلك أن المختصِر فيها أجمل ما فُصِّل في نسخة (ص)، وحذف وقدَّم وأخرّ، وقد ذكرتُ ما أضفته منها -يعني النسخ- بين معكوفين. وانظر "تاريخ الطبري" 6/ 247 - 248، و"أنساب الأشراف" 6/ 599، و"التبيين" 329. (¬2) بعدها في (ص) و (م): وقتل شبيب أيضًا، ذكر دخول شبيب الكوفة مرة ثانية. اهـ. والأخبار في هاتين النسختين مختصرة، وسياقها مختلف عما أثبتناه من (أ) و (ب) و (خ) و (د)، وسنثبت ما أضفناه منهما بين معكوفين.

وبلغ الحجّاجَ فخطب وقال: والله لتُقاتِلُنّ عن بلادكم وفيئكم؛ أو لأبعثنّ إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على الأذى منكم، فيقاتلون عدوَّكم، ويأكلون فَيئكم، فصاح الناس من كل جانب: ابعَثْنا إليهم فنحن نقاتلهم. فقام إليه زُهْرة بن حَويّة -وكان شيخًا كبيرًا لا يقدر على القيام حتى يُؤخذ بيده- فقال له: أيها الأمير، إنما تبعث الناس منقطعين، فاستنفر إليهم كافة الناس، وابعث عليهم رجلًا قويًّا شجاعًا مجرّبًا للحرب، ممّن يرى الفرار هَضْمًا، والصبرَ مجدًا وكَرمًا، فقال له الحجاج: فأنت ذاك، فقال: إنما يصلح ذلك لرجل يحمل الرمح، ويلبس الدّرع، ويهز السيف، ويثبت على متن الفرس، وأنا شيخ كبير ضعيف، لا أقدر على شيءٍ من ذلك، ولكن ابعث أميرًا قادرًا على ما ذكرت، وأنا أخرج بنفسي معه؛ فأشير عليه برأيي، فقال له الحجاج: جزاك الله عن الإسلام وأهله خيرًا في أول الأمر وآخره؛ فلقد نصحتَ وصدقتَ، سوف أفعل ما ذكرت. ونزل الحجاج، فكتب إلى عبد الملك: أما بعد، فإن أهل الكوفة قد عجزوا عن قتال شبيب، وقد هزمهم وقتلهم في مواطن كثيرة، وأباد أُمراءهم وفُرسانهم، وقد شارف المدائن وإنما يريد الكوفة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إليهم أهل الشام، فيقاتلون عدوَّهم، ويأكلون فَيئهم، فليَفْعل والسلام. فدعا عبد الملك سفيان بنَ الأَبْرَد، فأمره أن يسير إلى الكوفة في أربعة آلاف، وحَبيب بنَ عبد الرحمن الحَكَميّ، فسار في ألفين، وسرَّحهم حين أتاه كتاب الحجاج. وأقام أهل الكوفة يتجهَّزون ولا يَدرُون مَن أميرُهم. وكان الحجاج قد كتب إلى عتَّاب بن وَرْقاء ليأتيه، وكان على خيل الكوفة مع المُهَلَّب في قتال الأزارِقَة، وذلك الجيش هو الذي أُصيب فيه عبد الرحمن بن مِخْنَف، وقد ذكرنا ما جرى بين عتَّاب والمهلَّب، وأقام عتَّاب عند المهلّب على كُره، وكتب إلى الحجاج يَسأله أن يكون عنده، واتّفق قضية شبيب وتجهيز هذا الجيش، فكتب الحجاج إلى عَتّاب يطلبه إليه، فَسُرَّ.

[ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة فقال لهم: مَن ترون أن أبعث على هذا الجيش؟ فقالوا: رأيك] (¬1) أيها الأمير أفضل، قال: فقد كتبت إلى عَتَّاب بن وَرْقاء، وهو قادمٌ عليكم الليلة أو القابلة، فيكون أمير الناس، فقال له زُهْرة بن حَويّة: أصبتَ، والله لا يرجع إليك حتى يَظفر أو يُقتل، فقال له قَبيصة بن وَالق: إني مُشيرٌ عليك أيها الأمير برأي، فإن يك صوابًا فالله سَدَّدني له، وإن يكن خطأ فبعد اجتهادي في النّصيحة لك، ولأمير المؤمنين، و [لعامة] المسلمين، قال: قُلْ، قال: قد تحدَّث الناس أن جيشًا قد أقبل من الشام، وأن أهل الكوفة قد هُزموا غير مَرّة، وهان عليهم عارُ الفِرار، فإن رأيتَ أن تبعث إلى الجيش القادم من الشام الذي أُمدِدْتَ به، فيأخذوا حِذرَهم خوفًا من البَيات؛ فإنك إنما تحارب حُوَّلًا قُلَّبًا، ظُعّانًا رُحَّالًا، فافعل. فجزاه الحجاج خيرًا وقال: لله أنت، ما أحسنَ ما رأيت، وما أشرتَ به. فأرسل الحجاج إلى الجُنْد القادمين من الشام مع عبد الرحمن بن الغَرِق مولى بني عَقيل: إذا حاذيتم بلدَ هِيت فدعوا طريقَ الفرات، وخذوا على عين التَّمر حتى تَقدموا الكوفة، وأسرِعوا، فأسرَعوا. وقدم عتّاب الكوفة في الليلة التي أَخبر فيها الحجاج بقدومه، فأمره الحجاج، فخرج فعَسْكَر بحمّام أَعْيَن، وأقبل شبيب فنزل بَهُرَسِير من غربيّ دجلة، فقطع مُطَرّف بن المغيرة الجِسْرَ بينه وبينهم، وأَرسل إليه مُطَرّف يقول: ابعث إلي رجالًا من أصحابك أُدارِسهم القرآن، وأنظر فيما تدعو إليه، فأرسل إليه شبيب رجالًا من قومهم، فيهم قَعْنَب وسُوَيد والمُحلّل، فلما ركبوا في السفينة أرسل إليهم شَبيب: تَأنَّوا إلى حين رجوع رسولي من عند مُطَرِّف، وبعث إلى مُطَرّف: ابعث إليَّ رجالًا عِدّةَ أصحابي الذين أبعث بهم إليك ليَكونوا رُهونًا إلى أن يَرجع أصحابي، فقال مُطَرّف لرسوله: قل له: كيف آمَنُك على أصحابي إذا صاروا في يديك، وأنت لا تأمنني على أصحابك، فرجع الرسول إلى شبيب، فأخبره فقال: قل له: قد علمتم أننا ما نَستحِلُّ الغدرَ في ديننا، وأنتم تَستَحِلُّونه، فبعث إليه مُطَرِّف الرّبيع بنَ يَزيد الأزدي، وسُلَيم (¬2) بن حُذَيفَة ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من الطبري 6/ 259. (¬2) في الطبري 6/ 261: الأسدي وسليمان.

المزني، ويزيد بن أبي زياد مولاه وصاحبَ حَرَسِه، فلما صاروا في يدي شبيب سَرّح إليه أصحابه، فأقاموا يتناظرون أيامًا، والرسل تتردّد بينه وبين شبيب. وكان مُطَرِّف نازلًا بالمدينة العَتيقة التي فيها مَنزِل كسرى والقصر الأبيض، وشبيب نازلٌ بهرسير المدينة الغربيّة، فكان من جملة الرّسالة إلى مُطَرِّف أنهم لما دخلوا عليه قال سُويد: السلام على مَن خاف مقام ربّه، ونهى النَّفْس عن الهوى، وعرف الحقَّ وأهلَه، فقال مُطَرِّف: أجل، فسَقَم الله على أولئك، ثم جلسوا، فقال لهم مُطَرِّف: أخبروني إلامَ تَدعون؟ فقال سويد: إلى كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإنا نقمنا (¬1) على الظَّلَمة تَعطيل الحدود، والاستئثار بالفيء، فقال مُطَرِّف: ما دعوتُم إلا إلى الحق، وأنا مُتابعٌ لكم على ذلك، فبايعوني على ما أدعوكم إليه، فقال: قُل، قال: نقاتل هؤلاء الظَّلمة العاصين، وندعوهم إلى ما ذكرتَ، وأن نجعل هذا الأمر شورى بين المسلمين، يُولُّون مَن يختارون؟ ممن يكون على الحال التي كان عليها عمر بن الخطاب، فإذا وافقتموني على ذلك صارت كلمتنا واحدة، وأمرنا واحدًا، وتَبعتنا العرب، فكثر أتباعُنا، فقالوا: لا نرضى بهذا وقاموا، فلما صاروا في آخر الصُّفَّة التفت إليه سُويد وقال: يا ابن المغيرة، لو كنّا قومًا غُدُرًا أليس قد أمكنتَنا من نفسك، وكانوا جماعةً عليهم السلاح، ومُطَرّف عنده اثنان بغير سلاح، ففَطِن مُطَرِّف وقال: صدقتَ والله. وانصرفوا إلى شَبيب فأخبروه بما جَرى بينهم وبين مُطَرِّف، فأعاد إليه القومُ رسائلَ وشُبَه قَرَّرت في نفسِ مُطَرّف مذهبَ الخوارج؛ حتى خرج في هذه السنة فقُتل، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وبلغ شبيبًا وصولُ جُند الشام وأن عتّاب بنَ وَرْقاء بحمّام أَعْيَن، فقال لأصحابه: سيروا بنا إليهم؛ فإن هذا الثَّقَفيّ -يعني مُطَرف بن المغيرة- قد ثبَّطني عن المسير إليهم، وقد نزل جيش أهل الشام بالكوفة، وقد سار عَتّاب بن وَرْقاء فنزل الصَّراة في جُند أهل الكوفة، فاقصدوه. ¬

_ (¬1) في (أ) و (د): نقمت، وفي (خ) و (ب): نقمة، والمثبت من الطبري 6/ 287.

وخرج مطرّف من المدائن، وقصد الجال (¬1) خوفًا من الحجاج. فعقد شبيب الجسر وبعث على المدائن أخاه مَصَادًا، وكان أهل الكوفة في أربعين ألفًا من المقاتلة، وعشرة آلاف من الشام، فصاروا خمسين ألفًا، ولم يُبْقِ الحجاج بالكوفة قُرشيًّا ولا رجلًا من أهل الشَّرف إلا أخرجه. ثم إن شَبيبًا عرض أصحابَه بالمدائن فكانوا ألفَ رجل، فقام فيهم خطيبًا وقال: إن الله كان يَنصُركم عليهم وأنتم مئة وهم ألوف، فسيروا وأبشِروا بالنصر. وسار حتى نزل ساباط في ست مئة، وترك مع أخيه مصَادٍ أربع مئة بالمدائن، ووافى عَسْكرَ عَتَّاب بن وَرْقاء، فصفَ عَتَّاب عَسكره، وجعل على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وجعل عُبَيد بن الحُلَيس على مَيسرته، ووقف هو في القلب، ورتَّبهم ثلاثة صفوف: صفٌّ فيه الرجال معهم السيوف، وصف معهم الرِّماح، وصفٌّ معهم النَّبْل، ثم سار بين الصفوف يُحَرِّضهم ويُصَبِّرهم ويقول: عليكم بهؤلاء كلاب أهل النار، وشرار خلق الله، أين القُصَّاص؟ فلم يُجبه أحد، فقال: كأني والله بكم قد فَرَرْتُم عن عتَّاب بن وَرْقاء، وتركتموه تسفي في اسْتِة الرِّيح، ثم عاد إلى القلب فوقف فيه، ومعهم زُهْرَة بن حَويّة، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وأقبل شبيب في ست مئة، وتخلَّف عنه أربع مئة فقال: لقد تَخلَّف عنا من لا أُحِبُّ أن يُرى فينا؛ فإنا ما نَغلِبُ النّاسَ بكثرة، ثم بعث سُويد بن سُلَيم في مئتين إلى الميسرة، والمُحلّل بن وائل في مئتين إلى الميمنة، ووقف هو في مئتين في القلب (¬2)؛ وذلك فيما بين المغرب والعشاء حين أضاء القمر، فمشى شبيب بين الصُّفوف وصاح: أنا أبو المُدَلَّه، لا حُكمَ إلا لله، ثم حمل عليهم فانهزمت الميسرة، وقُتل شجعانها عُبَيد بن الحُلَيس وغيره، ثم حمل شبيب على الميمنة وعليها محمد بن عبد الرحمن فثبت، وهرب أبوه من القلب. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، وهي قرية كبيرة تحت الدائن كما في معجم البلدان 2/ 95. وفي الطبري 6/ 261؛ فخرج نحو الجبال. (¬2) في الطبري أنه بعث المحلِّل بن وائل في مئتين إلى القلب، ومضى هو في مئتين إلى الميمنة.

وكان عَتَاب بن وَرْقاء وزُهْرة بن حَوِيّة جالسَين في القلب على طِنْفِسَة، فغشيهم شبيب، فقال عثمان بن يزيد الكلبي (¬1) لعتَّاب: يرحمك الله، قد هرب عنك عبد الرحمن بن محمد، وهرب معه أناسٌ كثير فاذهب، فقال عَتّاب: إنه قد فرَّ قبل اليوم، وقاتل عتاب فأبلى بلاءً حسنًا، وانهزم الناس فقال عَتّاب: لم أرَ والله مثلَ اليوم؛ أقلّ مُقاتلًا، وأكثر هُرَّابًا، فسمعه رجل من بني تغلب من أصحاب شَبيب يُقال له: عامر بن عُبَيد بن عمرو (¬2)، فقال لشبيب: أظنُّ هذا المتكلّم عَتابَ بنَ وَرْقاء، فقصده شبيب، وحمل عليه، فطعنه فوقع، فكان شبيب هو الذي وَلي قتلَه. ووَطِئت الخيلُ زُهْرة بن حَوِيّة -وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يقوم- فجاءه الفضل بن عامر الشَّيباني فقتله، فجاء شبيب، فوقف عليه فعرفه، فقال: مَن قتل هذا؟ فقال الفضل: أنا فقال: هذا زُهْرة بن حَوية، أما والله لئن قُتلتَ على ضلالة فلَرُبّ يوم من أيام المسلمين قد حَسُن فيه بَلاؤك، وعَظُم فيه غناؤك، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرًا للظالمين، فقال رجل من بني بكر بن وائل: إن أمير المؤمنين لَيَتَوَجَّعُ لرجلٍ من الكافرين! فقال شبيب: إني لأعرف من قديم أمرهم ما لا تعرف، ولو ثبتوا عليه لكانوا إخوانًا. ثم أمر شبيب برَفْع السيف عن الناس، ودعاهم إلى البيعة فبايعوه، وهربوا من تحت ليلتهم، وكانوا يُبايعون شَبيبًا وشبيب يقول: إلى بعد ساعة يهربون، فكان كما قال. وحوى شبيب ما في عسكرهم، وأرسل إلى المدائن فجاءه أخوه مَصاد، فسار نحو الكوفة؛ وكان قد دخل سُفيان بنُ الأَبْرَد وعَسْكَرُ الشام الكوفة، فقوي قلب الحجّاج، واستظهر بهم، واستغنى عن أهل الكوفة، فقام خطيبًا فقال: يا أهل الكوفة، لا أعَزَّ الله مَن طلب منكم العِزّ، ولا نَصَر مَن طلب منكم النَّصر، اخرجوا عنا فلا تَشهدوا معنا قتال عدوّنا، الحقوا بالحيرة، فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا يُقاتلنّ معنا إلا مَن لم يشهد قتال عَتَّاب بن وَرْقاء. ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 265: عمار بن يزيد الكلبي. (¬2) في الطبري 6/ 265: عامر بن عمرو بن عبد عمرو، وفي "أنساب الأشراف" 6/ 587: عمرو بن عبد عمرو من بني تغلب.

وأقبل شبيب حتى نزل الصَّراة، ومضى أخوه مَصَاد وقَعْنَب إلى سُورت - وبها أموال الخراج- فقتلوا عاملها، وأخذوا الأموال، وجاؤوا بالبِدَرِ (¬1) إلى شبيب، وقالوا: هذه الأموال، فقال: أتيتمونا بفتنة الناس (¬2)، فقدف بها في الماء، وتناثر البعض على وجه الأرض. [ذكر دخول شبيب الكوفة مرّةً ثانية: قال هشام: ] وأقبل شبيب حتى نزل بحمّام أَعْيَن، فدعا الحجاج الحارثَ بنَ معاوية بن أبي زُرعة بن مسعود الثقَفي، وبعث معه ألفَ رجلٍ لم يكونوا شهدوا قتل عَتّاب، وفيهم مئتا رجلٍ من أهل الشام، وبلغ شبيبًا فالتقاه، فقتله وهزم أصحابَه، فعادوا إلى الكوفة. وجاء شبيب فنزل السَّبَخَة، وبنى مسجدًا في أقصاها، يقال: إنه قائم إلى اليوم، وخرج إليه الحجّاج في أهل الشام، فكَرْدَس شَبيبٌ أصحابَه وكانوا ست مئة، مَصَاد أخوه في مئتين (¬3)، وهو في مئتين، وسويد في مئتين، وقال لسويد: احمِل عليهم، فحمل عليهم، فالتَقَوه بأطراف الأسنة، وثبتوا، ثم طعنوهم فانصرفوا، وجاء المحلّل ففعلوا به مثل ذلك، وجاء شبيب ففعلوا به كذلك، وطاعنوه بالرّماح حتى ألحقوه بأصحابه، فنادى شبيب: يا أهل الإسلام؛ إنما شَرَينا أنفُسنا لله تعالى، ومَن شَرَى نفسَه لم يَكْثر (¬4) عليه ما أصابه من الألم في جنب الله، الصبر الصبرَ، شَدّةٌ كشَدّاتكم في مواطنكم الكريمة، وحملوا معه على أصحاب الحجاج، واقتتلوا قِتالًا لم يُرَ مِثلُه، وأهل الشام يَدفعون شبيبًا وأصحابه، فلما رأى ذلك صاح: الأرضَ الأرضَ، فترجَّلَ وتَرجَّلَ أصحابُه، وقد دفعهم أهل الشام إلى آخر السَّبَخة. ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 267: بالبدور. قلت: وكلاهما جمع بَذرَة؛ كيسٌ فيه ألف أو عشرة آلاف درهم، سُمِّيت ببَدْرَة السَّخْلة، يعني جلدها. (¬2) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): أسمونا تعبية الناس؟ ! والمثبت من الطبري 6/ 267. (¬3) بنحوه في الطبري 6/ 269 وفيه المحلل بدل مَصَاد، وما سلف بين معكوفين من (ص) و (م). (¬4) من هنا إلى قوله: ولا بلغ الحجاج كبر (بعد صفحة) وقع في (ص) و (م) في أثناء ترجمة شبيب آخر السنة، وقد زدت منها ما بين معكوفين.

وجاء الحجاج فوقف عند مسجد شبيب، ثم صاح: يا أهل الشام، يا أهل السَّمعِ والطّاعة، هذا أوّلُ الفتح، وقال خالد بن عَتَّاب بن وَرْقاء للحجاج: ائذن لي في قتالهم فأنا مَوْتُور، فأذن له، فخرج في جماعة من أهل الكوفة، حتى أتى القومَ من ورائهم وقاتل. فقُتل مَصَاد أخو شبيب، وقُتلت غزالة [امرأة شبيب، قتلها فَرْوَة بن الدّفَّان الكلبي، وحَرّق في عسكره. قال الهيثم: قَتلت غزالةُ في ذلك اليوم، من أهل الكوفة مئةَ فارس، فجاءها فَروةُ بن الدَّفّان الكلبي من خلفها، فطعنها. فوقعت، فقتلها وحَرّق في عسكره. [قال الهيثم: ] ولم يلق أحد ما لقي الحجاج منها، فرُوي أنه خرج في الليلة التي دخلت فيها [إلى] المسجد، وصلّت [ركعتين قرأت فيهما البقرة وآل عمران، وخرج الحجاج، مُستخفيًا، فلما خرجت من المسجد رأته، فقالت: الحجاج ورَبّ الكعبة، أين شَبيب؟ وكان شبيب واقفًا على رأس السكّة، فحملت على الحجاج فولّى، فدَقّته بالرُّمح بين كَتِفيه، فكان يُعيَّر بها، وفيه يقول الشاعر: [من الكامل] أَسَدٌ عليَّ وفي الحروب نَعامَةٌ ... رَبْداءُ تَجفُلُ من صَفيرِ الصَّافرِ هلّا بَرَزْتَ إلى غزالةَ في الوَعَى ... بل كان قلبُك في مَخالبِ طَائِرِ فزعَتْ غَزالةُ قلبَه بفَوارس ... تركتْ كَتائبَهُ كأمْسِ الدَّابرِ (¬1) [وقال أبو اليقظان: ] كان عبد الملك إذا غضب عليه عَيَّره بها، فيكتب إليه: هلّا برزتَ إلى غزالة في الوَغَى الأبيات، ويقول: قَبَّح الله الأُخَيفش، أيختبئ من امرأة، فلما بلغ عبدَ الملك قتلُها، وقيل له: إن الحجاج يقول: إنني قتلتُها، فقال: كذب، والله ما قتلها إلا أنا (¬2)، يعني أن جَيشَه قتلها. [وقال أبو اليقظان: ] كانت مدّةُ شبيب التي سُلِّم عليه فيها بإمرة المؤمنين ثلاثَ سنين وشهورًا. ولما بلغ الحجاج الخبرُ كبّر وكبّر أصحابُه. ¬

_ (¬1) لم ترد الأبيات في (م)، وورد منها في (ص) بيت واحد هو: هلا برزت ... ثم قال عقبه: من أبيات، ونُسبت الأبيات لعمران بن حِطَّان، وقيل لغيره. وانظر تخريجها ونسبتها في شعر الخوارج 166 - 167. (¬2) في (ص): إلا الماء.

وأما شبيب فلما رأى ذلك ركب فرسه، وأمر أصحابه بالرُّكوب، وصاح الحجّاج: شُدُّوا عليهم فشَدّوا، فانهزا أصحابه, وتخلَّف شَبيب في حاميةٍ من أصحابه، وقطع الجسر، وتبعَتْه خيل الحجاج، فجعل يَخفق برأسه، فقال له بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين، التَفتْ فانظر مَن خلفك، فالتفت غير مُكترث، ثم أكبَّ يَخفق برأسه، فدَنَوا منه، فقيل له: التفت، فلم يكترث، وبعث إليهم الحجاج: ارجعوا ودعوه في خزي الله، فرجعوا. وصعد الحجاج المنبر فقال: والله ما قوتل شبيب مثلَها، هرب وترك امرأته يُكْسَر في استها القَصَب. وبعث خلفه حَبيب بن عبد الرحمن الحَكمي في ثلاثة آلاف من أهل الشام، وقال له: احذرْ بَياتَه، وحيثما لَقيتَه فنازلْه، فسار حبيب حتى نزل الأنبار، فبيّتهم شبيب، واقتتلوا طُولَ الليل، فقُتل من أصحاب حبيب مئة، وقُتل من أصحاب شَبيب ثلاثون، وكانت ليلةً مثلَ ليلةِ الهرير (¬1)، فُقئت فيها العيون، وقُطعت فيها الأيدي، وكَثُرت القَتْلى بين الفريقين، فلما كان عند الصُّبح انصرف شَبيب عنهم، وسار إلى الأَهْواز، ثم إلى فارس، ثم إلى كِرْمان فأقام بها, وتراجع إليه بعض أصحابه، وقَويت شوكتُه. وغَرِق شبيب في هذه السنة [في قول هشام بن محمد، وفي قول غيره] سنة ثمان وسبعين. [وسنذكره في آخر هذه السنة]. وفيها خرج مُطَرّف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك، ورأى رَأْيَ الخوارج، وسنذكره في آخر هذه السنة. وفيهما وقع الاختلاف بين الأزارقة الذين كانوا يُحاربون المُهَلَّب بن أبي صُفرة (¬2). أقام المهلّب بسابور يُقاتل قَطَرِيّ بن الفُجاءة من الأزارقة -بعدما سار عتّاب بن وَرْقاء إلى الكوفة- سنةً، ثم زحف إليهم في يوم البُستان، فقاتلهم قتالًا شديدًا، وكانت كرمان في يد الأزارقة، وفارس في يد المُهَلّب، فحسَم عنهم المُهَلَّب مَوادّ فارس، فضاق بهم الأمر [في مكانهم الذي هم به، فخرجوا إلى كرمان، وتبعهم المهلّب فنزل ¬

_ (¬1) هي ثالثُ ليلة في وقعة صفّين وآخُوها، سُمّيت بذلك لتركهم الكلام، فكانوا يَهِرُّون هَرّا، وشُبّهت بليلة القادسية، والهَرِير (كما في المصباح) صوت الكلب دون النُّباح، وبه يُشَبَّهُ نظرُ الكُماة بعضِهم إلى بعض. (¬2) من هنا إلى قوله: وحج بالناس أبان بن عثمان (بعد صفحتين)، ليس في (ص) و (م).

بجِيرَفْت مدينة كرمان، وأقام يقاتلهم سنة، وحاز فارس بأسرها، وصارت في يديه، فبعث الحجاج عُمّاله عليها، وبلغ عبد الملك فأرسل إلى الحجاج يُنكر عليه ويقول: دع للمهلب خراج جبال فارس فلا بدّ للجيش من قوة، فتركها للمهلب، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قَبيصَة، وكتب إليه: أما بعد، فإنك لو شئتَ لقد اصطَلَمْتَ هذه الخارقة المارقة، ولكنّك تحب طُولَ بقائهم لتأكلَ بهم الأرض، فانهض إلى قتالهم وجهادهم، ودع عنك العلَل والأباطيل، والأمور التي ليست عندي بسائغة، وقد بعثتُ إليك البراء ليُنهِضَك إلى قتالهم، والسلام. فلما قرأ الكتاب أخرج المهلَّب الناس على راياتهم، وأخرج أولادَه، كلّ ولدٍ في كتيبة، وأوقف البراء على تلٍّ عالٍ، وقال له: انظر، والتقت الكتائب، واشتد القتال كأشدِّ ما يكون، والكتائب تتصادم من أول النهار إلى الظُّهر، وافترقوا فلما كان وقت العصر عادوا إلى القتال، فأقاموا على ذلك أيامًا، فجاء البراء إلى المهلب فقال: والله إن رأيتُ كذا قط، فإنك والله لمَعذور، فأحسن إليه المُهَلّب ووَصله، وقال: احْكِ للحجاج ما رأيت، وكتب معه كتابًا إلى الحجاج يقول فيه: أما بعد، فقد أتاني كتاب الأمير بسبب هذه المارقة ومناهضَتِهم، وقد شاهد رسولُه ما صنعتُ، فلو قدرت على استئصالهم وإزالتهم عن مكانهم ولم أفعل ذلك لقد غَشَشْتُ المسلمين، وما وَفيت للأمير، ولا لأمير المؤمنين، والسلام. وأقام المهلَّب يُقاتلهم ثمانية عشر شهرًا، ثم إن عاملًا لقَطَرِيّ على بعض نواحي كِرمان قتل رجلًا من بني ضَبَّة من الخوارج خطأ، فطلب الخوارج إلى قَطَري أن يُقِيدَه منهم، فأبى وقال: قتله بتأويل؛ لأنه التقاه في سريّة، ولم يعرفه فأخطأ، فخذوا الدِّيَة، فأبوا وقالوا: لابُدَّ من قتله، فامتنع فافترقوا عليه، وخلعه بعضهم، ولم يَخلَعْه البعض، ووَلَّوا عليهم عبد الكبير (¬1) رجلًا منهم، وصاروا فريقين يقتتلون، فأقاموا على ذلك شهرًا، وبلغ الحجاج فكتب إلى المهلّب: لستُ أرى قتالهم مع اختلافهم، فربما مالوا إلى الصُّلح عند مناهضتهم، وأما الآن فهم يقاتل بعضهم بعضًا، فإن تمّوا على ذلك، ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 303: عبد ربّه الكبير، وفي المنتظم 6/ 194: عبد ربّ الكبير. وكذا فيما يأتي.

فهو الذي نريد من هلاكهم، وإن اجتمعوا بعد ذلك اجتمعوا وقد ضعفوا ووَهنوا، فكان ذلك عونًا لنا على قتالهم واستئصالهم (¬1). ثم إنهم افترقوا، فخرج قَطَري إلى طَبَرِسْتان، وبقي عبد الكبير فنهض إليه المُهَلّب، فقاتله ققالًا شديدًا، فنصره الله عليهم، فلم يَنْجُ منهم إلا اليسير، وهلك قَطَرِيّ وعبد الكبير ومَن كان معهم من الأزارقة. وسبب هلاكهم أن الحجاج لما بلغه اختلافُهم وجَّه سفيان بن الأَبْرَد في جيشٍ عظيم في طَلب قطري، فتبعه إلى الرَّيّ، وكتب الحجاج إلى إسحاق بن محمد بن الأشعث وهو على جيش لأهل الكوفة بطَبرستان: أن يتّفق مع سفيان ولا يُخالفه، فسارا جميعًا، فلحقوا قَطَريًّا في بعض الشِّعاب، فقاتلوه، فتفرَّق عنه أصحابه، ودخل الشِّعْب، فوقع من دابته، فرآه عِلْجٌ من أهل تلك البلاد، فنذر به ولم يعرفه، وكان قد عطش، فطلب منه ماءً فلم يسقه، ودَهدَه عليه العِلْجُ حَجرًا عظيمًا، فأصابه فأثبته ولم يقدر على القيام، وجاءه جماعة من أهل الكوفة فقتلوه، وخرج برأسه إلى الحجاج أبو الجَهْم بن كِنانة الكَلْبيّ بعد أن ادّعى قتلَه جماعة، فأحسن إليه الحجاج وزاده عبد الملك في العطاء فصار في ألفين. وكان مع قَطَري عُبَيدة بن هلال الخارجيّ، فلما قُتل قطري سار عبيدة فتحصّن بقصر قُومِس، فحصره فيه سفيان بن الأبْرد، وأقاموا أيامًا، فنادى سفيان: أيما رجل قتل صاحبه ثم خرج إلينا فهو آمن، وقال عبيدة بن هلال: [من الطويل] لَعَمري لقد قام الأَصَمُّ بخُطبةٍ ... لذي الشَّكّ منها في الصُّدور غَليل لَعَمري لئن أعطيتُ سُفيانَ بَيعتي ... وفارقت دِيني إنني لَجَهولُ إلى الله أشكو ما أرى بجِيادنا ... تَسَاوَكُ (¬2) هَزْلَى مخهُنَّ قليلُ وأقام عبيدة أيامًا في الجَوْسَق، فاشتدَّ بهم الحصار، فكسروا جفون سيوفهم، وخرجوا إلى سفيان بن الأبرد، فقاتلوا حتى قُتلوا، وبعث سفيان برؤوسهم إلى الحجّاج. ¬

_ (¬1) هذا كلام المهلب لا الحجاج، ذكر ذلك الطبري 6/ 303 - 304، وابن الجوزي 6/ 194. (¬2) أي تسير سيرًا ضعيفًا، والأبيات في "تاريخ الطبري" 6/ 311، و"أنساب الأشراف" 6/ 549، و"شعر الخوارج" 100 - 101 وتخريجها ثمة.

زر بن حبيش

وفيها قَتَلَ أميةُ بنُ عبد الله بن خالد بن أسيد بُكيرَ بنَ وشاح التّميمي (¬1)، وكان أمية قد قطع النهر غازيًا، وولّاه خراسان، وجعله مع ابنه زياد بن أمية، فقبضَ (¬2) عليه، ثم عاد أمية من بُخارى وقد بلغه عصيان بُكير إلى النهر، فوجده قد أحرق السُّفُن، فجدَّدها، وجمع أمية بني تميم وقال: هذا جزاء إحساني إلى بُكير، أكل أموال خُراسان ورفع إلي منه أشياء فيما سمعت، وفي آخر الأمر وَلَّيتُه مَرْو، وجعلتُه خليفتي، ففعل بي ما تَرون. ثم سار إلى مرو، فقاتله مدّة، فطال الحِصار على بُكير فصالح أمية، فأحسن إليه، ووَصَله بأربعمئة ألف درهم، وكان أمية سَهْلًا سمْحًا كريم الأخلاق، فواطأ بكير بعد ذلك جماعة على قتل أمية، فوَشَوا به إلى أمية، فقال: ما أُصدّق فيه؛ مع إحساني إليه، فشهد جماعة كثيرة على بُكير أنه عَزم على الفتك بأمية، فأحضره، فشهدوا عليه في وجهه، فسلَّمه إلى بَحِير بن وَرْقاء (¬3) الصَّريمي، وكان عدوَّ بُكَير، فقتله. وحجَّ بالناس أبان بن عثمان، وكان على المدينة، وكان العمال في هذه السنة على ما كانوا عليه في السنة الماضية. وفيها تُوفّي زِرُّ بن حُبَيش ابن حُباشة الأسَدي، أبو مريم، وقيل: أبو المُطَرِّف، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. مرَّ عليه رجلٌ من الأنصار وهو يُؤذّن، فقال: يا أبا مريم، قد كنتُ أكرِمُك عن هذا، فقال: إذًا لا أكلّمك كلمة حتى تلحقَ بالله. وقال عاصم بن أبي النَّجود: لقد أدركتُ أقوامًا يتَّخذون هذا الليل جَملًا، منهم [زر] وأبو وائل. ¬

_ (¬1) في "جمهرة" ابن حزم 218، 219: بكير بن وَسَّاج، وانظر الطبري 6/ 311، و"أسماء المغتالين" 2/ 176 (نوادر المخطوطات). وقد ضُبط اللفظ في الطبري وعُنونَ له بعكس هذا الكلام، وهو خطأ. (¬2) تحرفت في النسخ الخطية إلى: فقضى. (¬3) كذا الطبري 6/ 311. وفي الجهرة وأسماء المغتالين: وقاء، وهو الصواب كما في توضيح المشتبه 9/ 192.

شبيب بن يزيد

وكتب زر إلى عبد الملك كتابًا يَعِظه فيه ويقول: لا يُطمِعَنّك في طول الحياة ما ترى من صحّةِ بَدَنك، فأنت أعلم بنفسك، واذكر ما قال الأوَّلُون: [من الرجز] إذا الرجالُ ولدت أولادُها ... وبَلِيت من كِبرٍ أجسادُها وجَعلت أسقامُها تَعتادُها ... تلك زُروعٌ قد دنا حصادُها فبكى عبد الملك حتى بَلّ طرفَ ثوبه، فقال: صدق زر، لو كتب إلينا بغير هذا كان أرْفَق. عاش زر مئةً واثنتين وعشرين سنة، وافتضّ جارية وهو ابن عشرين ومئة سنة، وتوفي في سنة سبع وسبعين، وقيل: سنة إحدى وثمانين، وقيل: سنة ثلاث وثمانين، وقيل: يوم الجَماجِم. وأسند عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عوف، وابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، والعبّاس، وصفوان، وحُذيفة، وعائشة -رضي الله عنهم-، وغيرهم. وروى عن أُبيّ بن كعب قال: سمعته يقول: ليلة القدر ليلة سبع وعشرين. وروى عنه النَّخَعي، وأبو بُردة بن أبي موسى، وعاصم بن أبي النَّجود، في آخرين، وكان ثقةً كثير الحديث (¬1). [وفيها توفي] شبيب بن يزيد (¬2) ابن نُعيم الشّيباني الخارجي، قد ذكرنا بداية أمره (¬3) [وما جهَّز إليه الحجّاج من الجيوش، وأنه دخل الكوفة مرتين]، وأنه مضى إلى كرمان [فأقام بها. ذكر علماء السِّير منهم هشام بن محمد، عن أشياخه قالوا: ] لما أقام [شبيب بكرمان] جَهَّز الحجّاج إليه سفيان بن الأبرد إلى الأَهْواز في أربعة آلاف، وكتب [الحجاج إلى البصرة] إلى الحكم بن أبيّوب بن أبي عَقيل [زوج أخت الحجاج و] عامله على البصرة أن ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة زر: "طبقات ابن سعد" 8/ 225، و"المعارف" 427، و"الاستيعاب" (870)، و"تاريخ دمشق" 6/ 412 (مخطوط)، و"المنتظم" 6/ 169، و"السير" 4/ 166. ولم ترد هذه الترجمة في (ص) و (م). (¬2) في (خ): شيبان بن زيد، وهو خطأ. وما بين معكوفين من (ص) و (م). (¬3) في (ص) و (م) زيادة: في سنة أربع وسبعين اهـ. وهو خطأ، فقد ورد ذكره في أول هذه السنة، وآخر التي قبلها.

يُجهِّز أربعة آلاف [أُخر] مع رجل شجاع شريف، فليلحق بسفيان بن الأبرد لقتال شبيب، فجهّز زياد بن عمرو العتَكي، فلم ينته (¬1) إلى سفيان حتى التقى سفيان وشَبيب على جسر دُجَيل الأهواز، وعبر إليه شَبيب في ثلاثة كراديس، شَبيب في كُردوس، وسويد في كردوس، وقَعْنَب في كرودس، وخَلّف المحلّل [بن وائل] في باقي عسكره. وبعث سفيان على ميمنته بشر بن حَسّان الفِهريّ، وعلى ميسرته عُمر بن هُبَيرة الفَزاري، وعلى الخيل ناصر (¬2) بن صَيفي العُذري، ووقف سفيان في القلب، ثم اقتتلوا، فقال سفيان: لا تتفَرّقوا، وازحفوا إليهم زَحْفًا، فما زالوا يقاتلونهم حتى ألجؤوهم إلى الجسر، وكان نصف النهار، فاقتتلوا إلى الليل، وترجّل شبيب في مئة من أصحابه، وقاتل قتالًا شديدًا حتى اختلط الظلام، وانصرفوا فقال سفيان لأصحابه: لا تتبعوهم, فإذا كان من الغد نازَلْناهم، وكان الجسر من السُّفن، فقال شبيب لأصحابه: اعبروا فإذا كان من الغد باكَرْناهم، ولم يقل: إن شاء الله تعالى، فعبروا وتَخَلّف هو في آخرهم وتحته حصان، وبين يديه فرسٌ أنثى ماذيانة، فنزا فرسُه عليها وهو على الجسر، فاضطربت الماذيانة، ونزل حافِرُ فرس شبيب على حرف السفينة فسقط في الماء، فقال: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42]، فغاص في الماء، ثم ارتفع وقال: ذلك تقدير العزيز العليم، ثم غاص، وهذا هو المشهور. وروى أبو مخنف عن أشياخه: أن شبيبًا كان معه قومٌ (¬3) قد وَتَرهم وهم خائفون منه، فاتفقوا في تلك الليلة عليه، فلما تخلّف في أخريات الناس قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به (¬4) الجسر فندرك ثأرنا الساعة، فقطعوا الجسر، فمالت السُّفن، ففزع فرسُه فنَفر، فوقع في الماء فغرق، ولما غرق تنادَوا فيما بينهم: غرق أمير المؤمنين، وبلغ سفيان بن الأَبْرد غرق شبيب، فأتى إلى الجسر فأقام عليه باقي الليل إلى الصباح، ثم أصبح فاستخرجه وعليه الدّرع، فشقّ بطنَه وأخرج قلبه، فكان مجتمعًا صُلبًا كأنه صَخرة، فضرب به الأرض فوثب قامةَ الإنسان، وكلما ضرب به الأرض وثَب كذلك. ¬

_ (¬1) في النسخ: ينتهي. وما بين معكوفات من (ص) و (م). (¬2) في "تاريخ الطبري" 6/ 279: مُهاصِر. (¬3) في (أ) و (خ) و (ب) و (د): وقال أبو مخنف: كان مع شبيب قوم، والمثبت من (ص) و (م). (¬4) في (ص): عليه.

عبيد بن عمير

وقيل لأمّه: مات شبيب، فقالت: ما مات، فقيل: قُتل، فقالت: ما قُتل، قيل: غَرِق، قالت: نعم، قيل لها: ومن أين لك هذا؟ قالت: لما وَلَدتُه خرج مني شهاب من نار، فعلمتُ أنه لا يُطفئه إلا الماء. [وذكر القصة هشام، عن أشياخه قالوا: ] كان يزيد بن نعيم أبو شَبيب في الجيش الذي دخل الروم مع سَلْمان بن ربيعة، [إذ بعث به الوليد] بن عقبة بأمر عثمان - رضي الله عنه -، فرأى يزيد بن نُعيم [جارية حمراء، لا شهلاء] ولا زرقاء، طويلة جميلة، فابتاعها [وذلك] في سنة خمس وعشرين، فلما حَملها إلى الكوفة قال لها: أسلمي، فأبتْ، فضربها فلم تُسلم، فوطئها فولدت شبيبًا يومَ النحر يوم السبت، في سنة خمس وعشرين، وأحبّت مولاها حبًّا شديدًا، [وأسلمت] وولدت شبيبًا وهي مُسلمة، قالت: رأيتُ فيما يرى النائم كأنه خرج من قُبلي شهابٌ، فسطع منه ضَوءٌ إلى عَنان السَّماء، وبلغ الآفاق، ثم سقط في ماء كثير جار فخبا، وقد ولدتُه في يومكم هذا الذي تُهرقون فيه الدّماء، وقد أوَّلتُ رُؤياي أنه سيُريق الدّماء، ويعلو شأنُه وأمرُه، ثم يَغرق، [وقد ذكرنا مقتل غزالة زوجته بالكوفة] (¬1). فصل: وفيها توفي] عُبيد بن عُمير ابن قتادة الليثي المكي [وكنيته] أبو عاصم، من الطبقة الأولى من أهل مكة. [وقال ابن سعد بإسناده عن ثابت قال: أول من قصَّ عُبيد بن عُمير الليثي، على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وقال ابن سعد بإسناده عن عبد الملك عن عطاء قال: ] دخلت أنا وعُبيد بن عُمير على عائشة - رضي الله عنها - فقالت: مَن هذا؟ فقال: أنا عُبيد بن عُمير، قالت: أقاصُّ أهل مكة؟ قال: نعم، قالت: خَفِّف فإن الذّكر ثَقيل (¬2). ¬

_ (¬1) بعدها في (ص) و (م) خبر مقتل غزالة، وقد سلف قريبًا. وانظر في هلاك شبيب: "تاريخ الطبري" 6/ 279، و"المنتظم" 6/ 190، و"أنساب الأشراف" 6/ 588، و"السير" 4/ 146. (¬2) "طبقات ابن سعد" 8/ 24.

[وحكى أبو نعيم، عن] مجاهد قال: كنا نفتخر بفقيهنا ابن عباس، وقاصِّنا (¬1) عُبيد بن عُمير. [وقال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده، عن مجاهد قال: ] قال عُبيد بن عمير: ما المجتهدُ فيكم إلا كاللاعب فيمن مضى. [وروى أبو نعيم عن قيس بن سعد قال: قال عبيد بن عمير: ] إن أهل القبور ليَتَلقَّون الميت كما يُتَلقَّى الراكب؛ يسألونه، فإذا سألوه ما فعل فلان؟ ممن كان قد مات، فيقول: ألم يأتكم؟ فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذُهب به إلى أُمِّه الهاوية. [وعُبيد بن عُمير صاحب المرأة، حدثنا غير واحد، عن ثابت بإسناده، عن صالح ابن] أحمد بن عبد الله العجلي، عن أبيه قال (¬2): كانت امرأة جميلة بمكة، أخذت المرآة يومًا فَنظرت فيها وقالت لزوجها: أتُرى يرى هذا الوجه أحدٌ ولا يَفتتن به؟ قال: نعم، عُبيد بن عُمير، قالت: فأذَن لي في إتيانه لأَفتنه، فأذِن لها، فجاءت إليه وهو قاعد في المسجد الحرام في صورة مُستَفْتية، فسَفرت عن وجهها وكأنه فَلْقة قمر، فقال لها: يا أمَة الله استتري، فقالت: إني قد فُتِنتُ بك فاقض حاجتي، فقال لها: فإني أسألُك عن شيء، فإن صدقتيني قضيتُ حاجتك، قالت: سَلْ، قال: أخبريني لو نزل بك المرض فغيّر ما أرى من صورتك، وشغلك عمّا أنت فيه، هل كان يَسرُّكِ أن أقضيَ حاجتَك؟ قالت: لا، قال: فلو نزل بك الموت، وجاء مَلَك الموت ليَقبض روحك، أكان يَسرُّك أن أقضي حاجتك؟ قالت: لا، قال: أرأيت لو جاءك منكر ونكير للمساءلة، أكان يسرُّكِ أن أقضيَ حاجتك؟ قالت: لا، قال: أرأيتِ لو وقفْتِ بين يدي الله تعالى للحساب، ثم عدَّد عليها أهوال [يوم] القيامة، ودخول النار، وهو يقول لها في كل فَصْلٍ أيَسرُّكِ أن أقضيَ حاجتَكِ؟ وهي تقول: لا، فقامت من عنده باكية، فدخلت على زوجها، فقال لها: ما قال لك؟ أو: ما لك؟ فقالت: نحن بَطّالون، ولَزِمت الصلاة والصوم والعبادة، فكان زوجُها يقول: ما لي ولعُبيد بن عمير؟ ! أفسد عليّ زوجتي، كانت في كل ليلة عَروسًا، فصيَّرها راهبةً. [وقال الواقدي: ] توفي عُبيد بن عُمير سنة سبع وسبعين بمكة. ¬

_ (¬1) تحرَّف في النسخ إلى: وقاضينا، وينظر "طبقات ابن سعد" 8/ 24، و"حلية الأولياء" 3/ 266 - 267، 269، 271. (¬2) في "المنتظم" 6/ 197 زيادة: قال: حدثني عبد الله قال ... وما يرد بين معكوفات من (ص) و (م).

قطري بن الفجاءة المازني

وأسند عن أُبيّ بن كعب، وأبي ذَرّ، وأبي قَتادة، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم - في آخرين. وروى عنه من كبار التّابعين: مجاهد، وعطاء، وأبو حازم. [قال ابن سعد: ] وكان ثقةً كثير الحديث (¬1)، [انتهت ترجمته والحمد لله وحده]. قَطَريّ بن الفُجاءَة المازني وقيل: التميمي، كان أحدَ رؤوس الخوارج, عليه فيها بإمرة المؤمنين. ومن شعره في "الحماسة" (¬2): [من الوافر] أقول لها وقد طارت شَعاعًا ... من الأبطال وَيحك لا تُراعي فإنكِ لو سألتِ بقاءَ يومٍ ... على الأجَلِ الذي لكِ لم تُطاعي فصَبْرًا في مجالِ الموت صَبْرًا ... فما نَيلُ الخلودِ بمُستطاعِ ولا ثوبُ البَقاءِ بثَوب عِز ... فيُطْوَى عن أخي الخَنَع اليَراعِ سَبيلُ الموتِ غايةُ كلِّ حَيٍّ ... فداعِيه لأهلِ الأرضِ دَاعي ومَن لا يغتبطْ يَهرَمْ وَيسقم ... وتُسلِمْه المنونُ إلى انقِطاعِ وما للمرء خيرٌ في حياةٍ ... إذا ما عدَّ من سَقَطِ المتاعِ وله: [من الكامل] لا يَركننْ أحدٌ إلى الإحجام ... يوم الوَغى مُتَخَوِّفًا بحِمامِ فلقد أُراني للرماح دريئةً ... من عن يميني مَرَّةً وأمامي حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أكنافَ سَرْجي أو عِنانَ لِجامي ثم انصرفت وقد أَصبت ولم أصبْ ... جذعَ البصيرةِ قارحَ الإقدامِ (¬3) وله: [من الطويل] ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 8/ 24، وما بين معكوف من (ص) و (م) وبعد هذه الترجمة في (م): السنة الثامنة والسبعون. وانظر في ترجمة عبيد بن عمير: الاستيعاب (1644)، و"السير" 4/ 156. (¬2) بشرح التبريزي 1/ 49 - 50. وانظر "السير" 4/ 151، و"شعر الخوارج" 108 - 109. (¬3) "الحماسة" بشرح المرزوقي 1/ 136، وبشرح التبريزي 1/ 68، وانظر "شعر الخوارج" 112.

مطرف بن المغيرة

فما في تَساقي الموتِ في الحرب سُبَّةٌ ... على شارِبيه فاسقني منه واشرَبا (¬1) وفيها توفي مُطَرِّف بن المغيرة ابن شعبة (¬2) الثَّقَفي. [لأبيه صحبة، وقد ذكرناه]. كان هو وأخواه عروة وحمزة نبلاء أشراف من وجود أهل الكوفة، ولما قدم الحجاج الكوفة راعى فيهم عهدَ أبيهم المغيرة، ومَيلَه إلى معاوية وبني أمية، فاستعمل عروة على الكوفة، ومُطَرِّفًا على المدائن، وحمزة على هَمَذان. وكان مطرِّف حسنَ السيرة، قامعًا للمفسدين، مُبيدًا للظالمين، ولما جرى بينه وبين رُسُلِ شَبيب ما جرى من المناظرة، وقال لسويد بن سُليم: أنا معكم على قَمْعِ الظالمين والمفسدين، وأعمل بكتاب الله وسنّة رسوله؛ طمع فيه شَبيب، وأعاد سويدًا إليه، وعند مُطَرِّف النَّضْر بن صالح، وكان عنده عزيزًا، فأراد أن يقوم، فقال له مطرف: اجلس فما دونَك ستر، وكان النَّضْر من بني جَذِيمة شريفًا جميلًا، فقال له سويد: إنا عَرَضْنا على أمير المؤمنين شَبيب ما ذكرت، فذكر لنا فصولًا منها أنه قال: قولوا له: أليس قد مَضَت السُّنَّة أن المسلمين إذا اختاروا خيرًا وأجمعوا عليه؛ وجب المصير إليه، ونحن من أهل الحق، وقد اختَرْنا مَن رأيناه أهلًا، فما لم يُغيِّر أو يُبدِّل فهو وليُّنا، وأما حديث الشُّورى؛ فنحن أهل الشُّورى، وقد اخترنا مَن رأيناه صالحًا لهذا الأمر، ولو دخلْنا في الشُّورى مع غيرنا كنا مُخطئين؛ لأن فيه عَوْنًا للظالمين، وذكر كلامًا ليس له حاصل. فقال له مُطَرِّف: ارجع إلى صاحبك لننظر في أمرنا. ودعا مُطرِّف رجالًا من ثقاته وأهل بطانته، فقال لهم: أنتم نُصحائي، وأهل مَودَّتي، ومَن أثق به، والله إنني كاره لأفعال هؤلاء الظَّلَمة المُستَحِلّين، وإنني لأرى قتالهم فرضًا عليّ وعلى المسلمين، فلما مرَّ بي هؤلاء القوم دعوتُهم إلى كتاب الله، وسنَّةِ رسوله، وجعلِ الأمر شورى بين المسلمين، ولو بايعوني على ذلك لخلعتُ الحجاج ¬

_ (¬1) "الحماسة" بشرح التبريزي 2/ 111، وبشرح المرزوقي 2/ 682، وانظر "شعر الخوارج" 113. (¬2) بعدها في (أ) و (ب) و (خ) و (د): بن المغيرة، وليست في (ص) وهو الصواب، وما سيرد بين معكوفين منها.

وعبد الملك، ولسِرتُ إليهم فجاهدتُهم، فقال له سُلَيم بن حُذَيفة المُزَنيّ: إنهم لا يبايعونك ولا تُبايعهم (¬1)؛ فأَخْفِ هذا الكلام ولا تظهره، وقال له الربيع بن يزيد الأسَدي مثل ذلك، وجثا مولاه يزيد بن أبي زياد، وكان صاحبَ شُرطته على ركبتيه، وقال له: والله إنه ما يخفى على الحجاج مما جرى بينك وبين القوم كلمة، وأهل المدائن من الجانبين قد تحدّثوا بذلك، ولو كنتَ في السحاب لطلبك الحجّاج، فاطلب النَّجاة من ساعتك هذه لنَفْسك، واتَّخذ غير المدائن دارًا، فإن في يومك هذا الحديثُ عند الحجاج، فقال للمُزَنيّ والأسدي: ما تقولان؟ قالا: هو كما قال، ولكنا معك نُواسيك بأنفسنا، ونقاتل الحجاج وغيره، وقال نَضر بن صالح كذلك. فأرسل مطرف إلى أصحابه وقال: أدلجوا بنا الليلة لأمر حَدَث، فخرجوا معه فسار بهم حتى نزل الدَّسكَرة، ولما أراد أن يَرْتحل منها خطبهم وقال: إنني قد خلعتُ الحجاج وعبدَ الملك، ودخلت في حزب أهل الحق، وجهادِ الظالمين المُحلّين، فبايعوه على ذلك ما عدا سَبْرَة بن عبد الرحمن بن مِخْنَف وعبد الله بن كَنَّاز النَّهدي؛ فإنهما أجاباه وأظهرا الرضى بذلك، ثم خرجا في الليل فسارا إلى الكوفة، فشهدا مع الحجاج وَقعةَ شبيب. وسار مُطَرّف إلى حُلْوان وعليها سُويد بن عبد الرحمن عامل الحجاج، فخاف من الحجاج, فجمع لمطرّف جَمْعًا وخرج يريده، وكان يكره قتاله. وكان الحجَّاج بن جاريَة الخثعمي حين سمع بخروج مُطَرّف لحقه في ثلاثين من قومه إلى حُلوان، فشهد معه قتال سويد، وكان قد أقعد لهم الأكراد على ثَنيَّة حُلوان فحملوا على الأكراد فقتلوهم، وانهزم الباقون، ولما بلغوا من هَمذان حادوا عنها، وكره دخولها خوفًا على أخيه حمزة من الحجاج أن يتهمه به، وكتب إليه كتابًا يشكو قلَّة النَّفَقة ويقول: أَمِدَّ أخاك بما قَدَرتَ عليه. وبعث بالكتاب مع يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة الذي شهد مراسله الخوارج, فدخل على حمزة ليلًا بكتاب مُطَرِّف، فلمارآه قال له: ويحك, ثكلتك أُمّك أنت قتلت مطرفًا، فقال يزيد: إن مطرفًا قتل نفسه وقتلني، وليته لا يقتلك, فقال: مَن سوَّل له هذا ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 288: سليمان بن حذيفة المزني: إنهم لن يُتابعوك وإنك لن تُتابعهم.

الأمر؟ قال: نفسُه، ثم دفع إليه كتابَ مُطرّف، فقرأه وقال: إن أنا بعثتُ له بمال وسلاح هل يخفى على الحجاج؟ قال: ما أظن، فقال: والله لئن خَذلتُه في أنفعِ النَّصْرَين له نصر العلانية؛ لا خذلتُه في أيسر النَّصْرين نصر السريرة، ثم بعث له مالًا وسلاحًا، فسار حتى لحقه بأرض أصبهان. وسار حتى نزل بقُم وقاشان، وأمِنَ، فكتب مع الربيع بن يزيد إلى سويد (¬1) بن سِرْحان الثَّقَفي وبُكير بن هارون البَجليّ يدعوهم إلى ما خرج لأجله، فأجابوه، وقدموا عليه في نحو من مئة رجل، وأطاعه أهل الريّ وأصبهان وتلك النّواحي. وكان البَراء بن قَبيصَة عاملَ الحجاج على أصبهان، فكتب إليه: الحق بأصبهان وغيرها، وأخبره الخبر، فكتب إليه: عَسْكِرْ بظاهر أصبهان، وبعث الحجاج الرجال مُقَطَّعين: خمسة وعشرة وعشرين، حتى صار عنده خمس مئة رجل. وبلغ الحجاج فِعل حمزة بن المغيرة، فكتب إلى قيس بن سعد العِجليّ صاحب شُرطته: أن أوثق حمزة بن المغيرة في الحديد، واحبسه حتى يأتيك أمري، وكتب له بعهده على هَمذان فأوقف العجليُّ حمزةَ على كتاب الحجاج: فقال: سَمْعًا وطاعة افعل، فأوثقه في الحديد وحبسه، وكتب إلى الحجاج يُخبره ويقول: إن رأيتَ أن تأذنَ لي في قتال المُطَرّف فافعل، فلم يجبه الحجاج، وكتب إلى عديّ بن وَتَّاد الإيادي عامل الري: سِرْ إلى قتال مُطَرِّف أنت والبراء (¬2) بن قَبِيصَة عامل أصبهان، وأنت الأمير على الناس. فسار عدي في ثلاثة آلاف من أهل الرَّيّ، وابن قَبِيصَة في ألف، والأكراد وأهل الشام، فصاروا في ستة آلاف مقاتل. وبلغ مطرّفًا فخندق عليه وعلى أصحابه حين قدموا عليه، وجعل عدي بن وَتّاد على ميمنته عبد الله بن زهير، وعلى الميسرة البراء بن قبيصة فغضب، فبعث على الميسرة عمر بن هُبَيرة، ووقف عَديّ في القلب. وبعث المطرف على ميمنته الحجاج بن جارية، وعلى ميسرته الربيع بن يزيد الأسدي، ونزل هو يمشي في الرجّالة ورايته مع يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة، ثم قال مُطَرّف لبُكير بن هارون البَجَليّ: اخرج فادْعُهم إلى كتاب الله وسنة ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): فكتب إلى الربيع بن سويد وسويد، وهو خطأ، والمثبت من الطبري 6/ 293. (¬2) في (خ): مطرف وأنت والبراء، وفي النسخ الأخرى: مطرّف والبراء، والمثبت هو الصواب، وينظر الطبري 6/ 295.

السنة الثامنة والسبعون [من الهجرة النبوية]

رسوله، فخرج إليهم، فوعظهم فلم يلتفتوا، وسَبُّوه وحملوا عليه، وقتلوا يزيد بنَ أبي زياد صاحب راية مُطرّف ومُعظمَ أصحابه، وحمل مطرف فغاص بينهم، وقاتل [قتالًا عظيمًا] حتى قتل، فنزل عمر بن هُبَيرة فاحتزَّ رأسَه، وبعثوا به إلى الحجّاج. السنة الثامنة والسبعون [من الهجرة النبوية] وفيها فرغ الحجاج من بناء واسط (¬1)، وإنما سمّاها واسطًا لأنها بين المِصرَيْن الكوفة والبصرة، منها إلى الكوفة خمسون فرسخًا، وإلى البصرة كذلك. قالوا: وأنفق على بنائها خراج العراق خمس سنين، وبنى بها قُبَّةً ضاهى بها إيوان كسرى، وقصرًا عظيمًا، فهدمها الله لظلم الحجاج، وأبقى الإيوان لعدل كسرى، ونقل إليها وجوه الناس من المِصرَين والشام والجزيرة وخراسان. وحكى العُتْبي، عن جامع المحاربي -وكان خطيبًا لبيبًا جريئًا على السلطان- أنه دخل على الحجاج فقال له (¬2): ما تقول في هذه البلدة والقصر؟ قال: بنيتهما في غير بلدك، وتُورثهما غير ولدك (¬3). وكان جامع يوم دَيْر الجَماحِم والمصاف قائم (¬4)، وهو إلى جانب الحجاج، فقال: يا جامع، أشكو إليك سُوءَ طاعةِ أهل العراق، وقبحَ مذهبهم، فقال له: لو أحبُّوك لأطاعوك، على أنهم ما شَنؤوك لنَسَبك، ولا لذات نفسك، فدع ما يُبعدهم عنك إلى ما يُقَرِّبهم إليك، والتمس العافية ممن هو دونك تُعطَها ممن هو فوقك، وليكن إيقاعُك بعد وعيدِك، ووَعيدُك بعد وَعْدِك، فقال الحجاج: ما أرى أن أردَّ بني اللَّكِيعَةِ إلى طاعتي إلا بالسيف، فقال جامع: إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخِيار، فقال: الخيار يومئذٍ لله، قال جامع: أجل، ولكنك لا تدري لمن يَجعله، فغضب الحجاج وقال: يا هَناه، إنك من مُحارب، فقال جامع: [من الطويل] ¬

_ (¬1) ذكر الطبري أن ذلك كان في سنة ثلاث وثمانين، انظر تاريخه 6/ 383. (¬2) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): وقال الحجاج لجامع المحاربي، والمثبت من (ص) و (م) و"العقد الفريد" 2/ 179. (¬3) في (ص) و (م) زيادة: وكان جامع جريئًا على الحجاج، وله معه قصة عجيبة وسنذكرها. اهـ. قلت: والقصة التالية ليست في النسختين. (¬4) كذا؟ !

وللحرب سُمِّينا وكنا مُحارِبًا ... إذا ما القَنا أمسى من الطَّعنِ أحمرا فنال منه الحجاج، فقال: إن صَدَقناك أغضبناك، وإن غَشّيناك أغضبنا الله، وغضبك علينا أهون من غضب الله، قال: أجل. وشُغل عنه الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع من وراء الصُّفوف التي لأهل الشام، حتى خالط صفوف أهل العراق، فأبصر كَبْكَبةً عظيمة من بكر وقيس وتميم والأزد، فلما رأوه انحازوا إليه، وقالوا له: ما عندك؟ فقال: دعوا التَّعادي فيما بينكم، فإذا ظفرتم تراجعتم، وهل ظَفِر الحجاج بمَن ظفر منكم إلا بمن بقي معه منكم؟ ! ثم هرب جامع إلى الشام، فاستجار بزُفَرَ بنِ الحارث، أو ببعض وَلَده، فاجاره. [وحكى الخطيب، عن الرِّياشِيّ قال: ] قال الحجاج للحسن البصري لما فرغ [من بناء واسط]: كيف ترى هذا البناء؟ فقال الحسن: إن الله أخذ العهود والمواثيق على العلماء ألا يقولوا إلا الحق، أما أهل السماء فمَقَتوك، وأما أهل الأرض فغَرُّوك، أنفقتَ مال الله في غير طاعته، وفعلت وفعلت، فنكس الحجاج رأسَه، وقام الحسن فخرج، فقال الحجاج: يا أهل الشام، يشتِمني عبدٌ من عبيد أهل البصرة في مجلس ولا يكون لذلك تغيير ولا نكير؟ ! رُدُّوه، ودعا بالنِّطع والسيف، فلما دخل الحسن عليه ورآه الحجاج؛ قام من مَجلِسه، وأجلسه معه على سريره، ودعا بغالية فغلَّف بها لحيته، وصرفه مكرمًا. فلما خرج أتبعه الحجاج حاجبَه وقال له: قل له: لما دخلت عليّ وقد عزمتُ على قتلك رأيتُك حرَّكت شفتيك، فما الذي قلت؟ فقال الحسن: وما عليه مما قلت؟ فقال الحاجب: اللهَ الله، إنه الحجاج، فقال الحسن: دعوتُ الله فقلت: يا عُدَّتي عند شِدَّتي، ويا وليَّ نعمتي، ويا صاحبي عند كُربَتي، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ويا كهيعص، بحقّ طه وياسين والقرآن العظيم؛ ارزقني معروفَ الحجاج ومودَّتَه، واصرف عني أذاه ومَعَرَّتَه، فقال الحاجب: بخٍ بخ، بهذا نجوتَ، وأعاد على الحجاج ما قال، فقال: اكتبوها. قال الريِّاشي: فوالله ما وقعتُ في شدّة فدعوت الله بها إلا فَرَّج عني (¬1). ¬

_ (¬1) "المنتظم" 6/ 250.

فصل: وفيها عزل عبد الملك أميةَ بن عبد الله عن خُراسان، وضمَّ ولايتها وولاية سجستان إلى الحجاج، فسار الحجاج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عَقيل. [قال هشام: ] قدم الحجاج البصرة وقد فرغ المهلَّب من حرب الأزارِقة، فقدم المهلَّب على الحجاج، فأجلسه معه على سريره، وأعطى أصحابه الأموال، وأحسن إليهم، وأثنى عليهم وقال: هؤلاء حماة الثُّغور، وغَيظ الأعادي، أهل الحرب والجهاد، فهم أَولى بالعطاء من غيرهم. ثم مَدح المهلَّب وأثنى عليه (¬1)، وقال: هو والله كما قال الشاعر: [من البسيط] فقَلِّدوا أمرَكُم لله دَرّكُمُ ... رَحْبَ الذِّراعِ بأمرِ الحَرْبِ مُضطَلِعا لا مُترَفًا إن رَخاءُ العيشِ ساعدَه ... ولا إذا عَضَّ مَكروهٌ به خَشَعا فقال رجل ممن كان مع المهلب: لكأني والله أسمع قَطَريَّ بنَ الفُجاءة وهو يقول: والله ما حارَبَنَا مثلُه قطّ، هو والله كما قال لَقِيط الإياديّ: [من البسيط] صُونوا جيادَكمُ واجْلُوا سلاحَكمُ ... ثم اقْنَعوا قد ينالُ الأمرَ مَن قَنَعا ما انْفَكَّ يَحلُبُ هذا الدَّهرَ أَشْطُرَهُ ... يكون مُتَّبِعًا يومًا ومُتَّبَعا حتى استمرَّتْ على شَزْرٍ مَريرتُه (¬2) ... مُسْتَحكِمَ السِّنِّ لا فَانٍ ولا ضَرَعا فأعجب الحجاج موافقةُ قطري إياه. والأبيات بأسرها للَقِيط الإيادِي من قَصِيد، ولقيط شاعر جاهلي قديم، كتب بها إلى قومه يُنذرهم جيش كسرى (¬3). ثم إن الحجاج ولّى المهلَّب خراسان وسجستان، وقيل إنه خَيَّره بين الولايتين فاختار خُراسان (¬4)، وقال المهلَّب للحجاج: ألا أدلك على رجل يصلح لسِجِسْتان؟ ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله: ثم إن الحجاج وليَّ المهلب؛ ليس في (ص)، والخبر في (م) مختصر على الأسطر الثلاثة الأولى، وما بين معكوفين منهما. (¬2) في النسخ: سرر سريرته، والمثبت من المصادر. (¬3) "الكامل" 3/ 1350، و"الأغاني" 22/ 357، و"تاريخ دمشق" 17/ 447 (مخطوط). (¬4) في النسخ خلا (ص): ثم إن الحجاج خيّر الهلب بين ولاية خراسان وسجستان فاختار خراسان، والمثبت من (ص).

جابر بن عبد الله

قال: ومَن هو؟ قال: عبيد الله بن أبي بَكرة -وَلي سجستان في سنة إحدى وخمسين، فقلَّدَهم الصَّنائع؛ فأحبوه لأياديه فيهم- فهو خيرٌ لك مني في سجستان، وأنا في خُراسان خير لك من غيري؛ لأنها ثَغْر التُّرك، وسجستان ثغر كابُل، فولَّى عبيد الله بن أبي بَكْرَة سجستان، والمهلّب خراسان، فأقام بها حتى مات. وروى المفضَّل (¬1): أن الحجاج استعمل المهلّب على سجستان، وابنَ أبي بَكرة على خُراسان، فقال المهلب لعبد الرحمن بن عبيد بن طارق صاحب شُرطة الحجاج: أنا أعرَفُ بخراسان؛ فإني كنتُ مع الحكم بن عمرو الغفاري بها قديمًا، وإن أبا بَكرة أقوى على سجستان مني، فأخبر الحجّاج فولّاه خُراسان، وولّى ابنَ أبي بَكرة سجستان. ثم إن الحجاج أَغْرم المهلب ألفَ ألفِ درهم كان أخذها من الأهواز لما ولاه إياها خالد بن عبد الله، فلم يكن عند المهلب ما يُعطيه، فساعده ابنُه المغيرة بخمس مئة ألف، وباعت زوجةُ المهلب خَيرة القُشيريّة حُليَّها بخمس مئة ألف، وقيل: استسلف المهلَّب البعض، وأكمل ألفَ ألفِ درهم، وبعث بها إلى الحجاج. وبعث المهلَّبُ ابنَه حَبيبًا في مُقدّمته إلى خراسان، فسار إليها، ولم يعرض لأُميَّة ولا لعُمّاله فأقام بها عشرة أشهر، حتى قدم عليه أبوه المهلّب في سنة تسعٍ وستين. [وقال أبو معشر: ] وحجَّ بالناس الوليد بن عبد الملك، وقال غيره: حج أبان (¬2) بن عثمان وكان على المدينة، والوليد بن عبد الملك كان ببلاد الروم غازيًا، وكان على العِراقَين الحجاج، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس على ما قيل. [قال الطبري: وكان على قضاء الكوفة شُرَيح (¬3). وهو وهم، وقد ذكرنا وفاة شريح]. فصل: وفيها توفي جابر بن عبد الله ابن عمرو الأنصاري، [وقد ذكرنا نسب أبيه في شهداء أُحُد، ] وأمُّه أنيسة بنت عَنَمة بن عدي، من بني سَلِمة، [وكنيته] أبو عبد الله. ¬

_ (¬1) هو المفضّل بن محمد، كما في الطبري 6/ 320، وتحرف في النسخ إلى الفضل، وقوله هذا ليس في (ص). (¬2) في النسخ خلا (ص): وقيل أبان، والمثبت من (ص) وما بين معكوفين منها. (¬3) "تاريخ الطبري" 6/ 321.

وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبة الثانية مع الأنصار، وكان أصغرهم سنًّا. [وقال ابن عبد البر: ] أسلم جابر قبل العقبة الأولى بعام، وأراد أن يشهد بدرًا، فخَلَّفه أبوه على أخواته -وكنّ تسعًا- وخلَّفه أيضًا لما خرج إلى أحد، وشهد ما بعد أُحد من المشاهد كلّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [وحكى البخاري عن جابر أنه قال: شهدتُ العقبة مع السبعين أنا وأبي وخالي، وكان خاله البراء بن مَعْرور (¬1). وقال قوم: إنه شهد العقبة الأولى، وهو وهم، الذي شهد العقبتَين جابر بن عبد الله بن رِئاب. وقال الواقدي: غزا جابر بن عبد الله مع رسول الله تسع عشرة غزوة، وأول غزواته معه حَمراء الأَسَد وما بعدها، ولم يشهد بدرًا في الأصحّ من الروايات. قال ابن سعد: فقلت للواقدي: فقد روي عن جابر أنه قال: كنت أمتَحُ لأصحابي الماء يوم بدر، فقال الواقدي: هذا غلط من أهل العراق في جابر وأبي مسعود البدريّ، يجعلونهما فيمن شهد بدرًا، ولم يرو ذلك موسى بن عقبة، ولا ابن إسحاق، ولا أبو معْشر، ولا أحدٌ من أرباب السِّيَر (¬2). قلت: ] وقد أخرج مسلم عن أبي الزبير، عن جابر قال: غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعَ عشرة غزوة، ولم أشهد بدرًا، ولا أُحُدًا، كنتُ مَشغولًا بأَخَواتي، فلما قُتل أبي بأُحد لم أتخلَّفْ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزاةٍ قط (¬3). وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده وهو مويض، فسأله: ما أصنع في مالي، فنزلت آية الميراث (¬4). [قال ابن سعد: ] وكان جابر - رضي الله عنه - ممن بايع تحت الشجرة على الموت، [وقد ذكرناه]. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3980 - 3891)، وانظر "فتح الباري" 7/ 222. (¬2) "طبقات ابن سعد" 4/ 383، وما بين معكوفين بطوله من (ص)، جاء بدله في النسخ خلا (م) فهي مختصرة جدًّا: غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة، أولها حمراء الأسد. قوله: أمْتَحُ الماء، أي: أستخرجُه. (¬3) صحيح مسلم (1813). (¬4) "طبقات ابن سعد" 4/ 385.

وروى ابن سعد عن جابر قال: دخلتُ على الحجّاج فما سلَّمتُ عليه، وكان لا يصلي خلفه، وكان الحجاج قد ختم في يد جابر بالمدينة، يعني بالرصاص. قال: وكان يقول (¬1): يا ليت سمعي ذهب كما ذهب بَصري حتى لا أسمع من حديثهم شيئًا، [قال: ] وكان قد ذهب بصَرُه، [قال: ] وكان أبيض الرأسِ واللّحية، وقيل (¬2): كان يُصَفِّر لحيته، وكان بين عينيه أَثَر السُّجود، وكان يَؤُمُّ الناس وهو أعمى. ذكر وفاته - رضي الله عنه -: [واختلفوا فيها؛ فروى ابن سعد، عن الواقدي أنه قال: ] مات جابر سنة ثمان وسبعين وهو ابن أربع وتسعين سنة، وصلى عليه أبان بن عثمان، [وكان واليًا على المدينة، وهو الذي] كفّنه. [وقال ابن منده: في سنة سبع وسبعين. وقال الهيثم: سنة تسع وسبعين. وحكى ابن عساكر، عن معاوية بن مَعْبد: أن الحجاج صلى عليه، ونزل في حفرته. وهو وهم؛ لأن الحجاج كان بالبصرة في هذه السنة، ولم يكن على المدينة]. وجابر آخر من مات من أهل العقبة (¬3). ذكر أولاده - رضي الله عنه -: [قال ابن سعد: ] فولد (¬4) جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: عبد الرحمن، وأم حبيب، وأمُّهما سُهيمة بنت مسعود بن أوس، أَوْسِيَّة. ومحمد وحميدة، وأمُّهما أم الحارث بنت محمد بن مَسلمة الأنصاري، وميمونة لأمّ وَلَد (¬5). ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): وكان لا يصلي خلف الحجاج وقال: دخلت على الحجاج فما سلمت عليه، وكان يقول، والمثبت من (ص) و (م) وما سيرد بين معكوفات منهما، وانظر "طبقات ابن سعد" 4/ 386، 387. (¬2) في (ص) و (م): وفي رواية. (¬3) "طبقات ابن سعد" 4/ 392، و"تاريخ دمشق" 3/ 640 - 642. (¬4) ما بين معكوفات، والعناوين من (ص) و (م). (¬5) "طبقات ابن سعد" 4/ 382.

وقال ابن قتيبة: عبد الرحمن ومحمد ابنا جابر بن عبد الله ضعيفان في الحديث (¬1). أسند جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث وخمس مئة وأربعين حديثًا. [أخرج له في "الصحيحين" منها مئتا حديث وعشرة، اتفقا على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، وأخرج مسلم مئة وستة وعشرين (¬2). وأخرج له الإمام أحمد نيِّفًا وثلاث مئة حديث]. وروى جابر عن: أبي بكر، وعمر, وأبي عُبيدة، ومعاذ بن جبل، وخالد بن الوليد، وأبي هريرة، وأم كلثوم بنت أبي بكر الصديق [وهي من التابعيات] (¬3) - رضي الله عنهم -. وروى عنه [أبو جعفر، محمد (¬4) بن علي بن الحسين [بن علي]- عليه السلام -، والحسن بن محمد بن الحنفية، ومحمد بن المُنْكَدِر, وزيد بن أسلم، وابن المسيب، وسليمان بن يَسار، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك، وأبو سلمة بن عبد الرحمن المدنيُّون. وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وأبو الزُّبير المكيُّون. وسالم بن أبي الجَعْد، والشَّعبي، ومُحارب بن دِثار الكوفيُّون. والحسن البصري، وأبو المُتَوكّل علي بن داود، وسليمان بن قيس البصريّون. وشَهْر بن حَوْشَب، وعووة بن رُوَيم الشاميّان. وأبو عيَّاش المَعافِريّ، وعمرو بن جابر الحَضْرميّ، وأبو مَعْشَر الحَضْرميّ المصريون. وقال أبو سعيد بن يونس: قدم جابر مصر في أيام مَسْلَمة بن مَخْلَد، فحدَّث عنه الناس [قال: ] وقد روى عنه خلق كثير من أهل الأمصار (¬5). ¬

_ (¬1) "المعارف" 307. (¬2) "تلقيح فهوم أهل الأثر" 363، 389. وبعد هذا الكلام في (م): انتهت ترجمته. (¬3) في (ص) وما بين معكوفين منها: المبايعات، وهو خطأ؛ فإن أم كلثوم ولدت بعد وفاة أبيها أبي بكر - رضي الله عنه -، انظر "التبيين" 317، و"تهذيب الكمال" 4/ 444، و"تاريخ دمشق" 3/ 620 (مخطوط). (¬4) في (ص): جعفر بن محمد، وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ دمشق" 3/ 620، و"تهذيب الكمال" 4/ 447. (¬5) "تاريخ دمشق" 3/ 623 (مخطوط).

وليس في الصحابة مَن اسمه جابر بن عبد الله سوى رجلين (¬1)، أحدهما هذا، والثاني: جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سِنان بن عُبيد، أنصاري أيضًا، من بني عبيد، من الطبقة الأولى. وأمه أم جابر بنت زهير، من بني سلمة. قال ابن سعد: وجابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان من الستة نفر الذين لقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر الإسلام وأسلموا. وشهد جابر هذا بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه أحاديث، ولم يُعقب (¬2). ولم يخرج له الإمام أحمد في "المسند" شيئًا، وأخرج له ابن سعد حديثين في تفسير آيتين. أما الأول فقال: حدثنا عفان بن مسلم، أخبرنا همّام بن يحيى (¬3)، عن الكلبي في قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، قلت: مَن حدّثك؟ قال: حدثني أبو صالح، عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. [وأما الثاني فقال: أخبرنا عارم بن الفضل، أخبرنا حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن ابن صالح، عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري، أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -] قال في هذه الآية {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: إنها الرؤيا الصالحة، يراها العبد، أو تُرى له (¬4). وأما مَن اسمه جابر بن عبد الله من غير الصحابة فخمسة؛ أحدهم: جابر بن [عبد الله بن] عمرو السُّلَمي، روى عن أبيه، عن كعب الأحبار. والثاني: جابر بن عبد الله بن عِصمة المحاربي، روى عنه الأوزاعي. ¬

_ (¬1) ذكر ابن الجوزي في "تلقيح فهوم أهل الأثر" 172 أربعة من الصحابة اسمهم جابر بن عبد الله. وقد أثبت فيما يلي سياق (ص) ففيها زيادات على النسخ (أ) و (ب) و (خ) و (د)، وتفصيل. (¬2) "طبقات ابن سعد" 3/ 531. (¬3) في (ص) حدثنا حماد بن مسلم بن يحيى، وهو خطأ، والمثبت من النسخ، وقد تحرف فيها همام إلى هشام. (¬4) "طبقات ابن سعد" 3/ 531، وما بين حاصرتين منه. دون لفظ "وأما الثاني فقال" فزيادة من أجل السياق.

عبد الرحمن بن غنم

والثالث: جابر بن عبد الله، روى عن الحسن البصري. والرابع: جابر بن عبد الله، أبو الخير المصري، روى عنه يونس بن عبد الأعلى. والخامس: جابر بن عبد الله [الغَطَفانيّ]، روى عن عبد الله بن الحسين العَلَويّ (¬1). وقد ذكرنا من مسانيد جابر بن عبد الله الأنصاري مفرقًا في الكتاب، ومن مسانيده: قال الإمام أحمد بإسناده، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله بن عمرو قال: استأذنتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَن ذا؟ " قلت: أنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أنا! "، قال محمد: كأنه كره قوله: أنا. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). قال المصنف رحمه الله: دقّ بعض الأشخاص على رجل الباب، فقال الرجل: مَن ذا؟ فقال: أنا، فقال صاحب المنزل: هذا دَقٌّ ثانٍ. فصل: وفيها توفي عبد الرحمن بن غَنْم ابن كُرَيب الأشعري، واختلفوا في صحبته، فقال البخاري، وابن منده، والليث بن سعد، وابن لَهيعة: له صحبة، وكذا قال أبو سعيد بن يونس، قال: هو ممن قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفينة. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الشام بعد الصحابة، وكذا قال ابن أبي حاتم، والدارقطني، وأحمد العجلي: هو تابعي ثقة. وكذا حكى ابن عساكر أنه ذكره في الطبقة التي تلي الصحابة. وقال ابن عبد البر (¬3): كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" 606، وفيه: عبد الله بن الحسن العلوي، وما بين معكوفين منه. (¬2) مسند أحمد (14185)، وصحيح البخاري (6250)، وصحيح مسلم (2155). وانظر في ترجمة جابر: الاستيعاب (296)، و"المنتظم" 6/ 202، و"التلقيح" 145، و"الاستبصار" 151، و"السير" 3/ 189. (¬3) من قوله: فصل وفيها توفي ... ، من (ص) و (م) بسياقهما، وهو في النسخ الأخرى مختصر جدًّا. وانظر التاريخ الكبير 5/ 247، و"طبقات ابن سعد" 9/ 444، و"الجرح والتعديل" 5/ 274، والاستيعاب (1600)، و"تاريخ دمشق" 41/ 299، 300 - 306.

مسلمًا، ولم يلقه، ولم يَفِد عليه، ولازم معاذ بن جبل منذ بعثَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن إلى أن مات، وسمع من عمر بن الخظاب وبعثه يُفقه أهل الشام. [وقال ابن سعد: ] قدم أبوه غَنْم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي موسى الأشعري، وصحبه، وقُتل غَنْم في بعض المغازي بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [وقال هشام: ] توفي عبد الرحمن بن غَنْم بفلسطين، وبها كان يسكن. [وقال ابن عساكر: ] أسند أعبد الرحمن بن غَنْم، (¬1) عن علي، وأبي ذَرّ، وأبي الدَّرداء، ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهم -، وغيرهم. وروى عنه: ابنُه محمد، وأبو سلام الحَبَشي، ورجاء بن حَيوة، وشهر بن حَوْشب، وصفوان بن سُلَيم (¬2)، وعُبادة بن نُسَيّ، ومكحول، في آخَرين. قال المصنف رحمه الله (¬3): وقد أخرج له الإمام أحمد - رضي الله عنه - في "المسند" سبعة أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منها: قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا رَوْح، حدثنا عبد الحميد بن بَهرَام، عن شَهْر بن حَوْشب قال: حدثني عبد الرحمن بن غَنْم (¬4): أن تميمًا الداري كان يُهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلَّ عام راويةَ خَمرٍ، فلم كان العام الذي حُرِّمت فيه جاء براوية، فلما نظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك وقال: "هل شعرتَ أنها حُرِّمت بعدك"، فقال: يا رسول الله، أفلا أبيعها وأنتفع بثمنها؟ دقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعين الله اليهود؛ حُرِّمت عليهم شحومُ البقر والغنم، فأذابوها وباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الخمر حرام، وثمنها حرام" قالها ثلاثًا. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفات من (ص) و (م). وانظر "طبقات ابن سعد" 9/ 444، و"تاريخ دمشق" 41/ 297. (¬2) في (ص): وعبادة بن سليم، وهو خطأ. (¬3) في (ص) و (م): قلت، بدل: قال المصنف رحمه الله. (¬4) في (ص): قال الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الرحمن بن غنم، وفي (م): قال أحمد بإسناده عن شهر بن حوشب ... والخبر في مسند أحمد (17995) وفيه نكارة.

كريب بن أبرهة

فصل: وفيها توفي كُريب بن أَبْرهة أبو راشد ويقال: أبو رِشدين. [ذكره أبو زرعة الدمشقي] في الطبقة الأولى، وهي العليا التي تلي الصحابة. وكان من كبار التّابعين، ثقةً فاضلًا. [وقال ابن عبد البر: ] في صحبته نظر (¬1). شهد خطبة عمر - رضي الله عنه - بالجابية، وولي لعبد العزيز بن مروان رابطة الإسكندرية. [وحكى ابن عساكر، عن] يعقوب بن عبد الله الأَشَج قال: رأيتُ كُرَيب بن أَبرهة قد خرج من قصر عبد العزيز بن مروان؛ وفي رِكابه خمس مئة يمشون. وذكره أبو سعيد بن يونس في "تاريخ مصر" قال: أدركتُ قصرَه قائمًا لجِيزة الفُسطاط (¬2)، حتى هدمه ذكاء الأعور -أمير مصر- ونقل عُمده وطُوبه، فبنى به القَيساريّة الجديدة، المعروفة بقَيسارية ذكاء بمصر، يُباع فيها البزّ. [قال ابن يونس: ] ومات كُرَيب في سنة خمس وسبعين. [وقال ابن بكير. في سنة سبع أو] (¬3) ثمان وسبعين. أسند كُرَيب عن حُذيفة بن اليمان، وأبي الدَّرداء، وكعب الأحبار. ووَفد على معاوية وعبد الملك بن مروان [، والله أعلم. انتهت ترجمته والحمد لله وحده]. السنة التاسعة والسبعون من الهجرة النبوية وفيها وقع طاعون عظيم بالشام أفنى الناس، ونزلت الروم على أنطاكية فأصابوا من أهلها. وفيها غزا عُبيد الله بن أبي بَكرة بلاد رُتْبيل، وقيل في سنة ثمانين، وسنذكره هناك. ¬

_ (¬1) "الاستيعاب" (2227). وما بين معكوفين من (ص) و (م). (¬2) في هامش (خ): الجيزة غربي مصر، وهي بالجيم والزاي، لم يكن غيرها من البلدان. (¬3) "تاريخ دمشق" 59/ 332 - 333.

أوسط بن عمرو

وفيها قَتَلَ عبد الملك بن مروان الحارثَ المتنبّي، ووصل المهلب إلى خراسان. [قال الطبري (¬1): وفيها استعفى شُريح بن الحارث من القضاء، وأشار بأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فأعفاه الحجاج، وولّى أبا بردة. وقد وهم الطبري؛ فإن شُريحًا تقدمت وفاته على هذه السنة، وقد ذكرناه. وقال أبو معشر والواقدي: ] وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان وهو أمير على المدينة، وكان على العراق الحجاج، والمهلَّب نائبه بخراسان، وعلى قضاء الكوفة أبو بُردة، وعلى البصرة موسى بن أنس [والله أعلم]. فصل: وفيها توفي أوسط بن عمرو [ويقال: ابن عامر، وكنيته: أبو عمرو] البَجَليّ. من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الشام. [قال ابن عساكر: ] كانت له دار بدمشق بالباب الشرقي، واستعمله يزيد بن معاوية على حمص. أسند أوسط عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وكبار الصحابة - رضي الله عنهم -. وروى عنه سُليم بن عامر وغيره (¬2). [فصل: وفيها توفي] الحارث بن عبد الرحمن ابن سعد الدمشقي الذي ادَّعى النبوّة [في هذه السنة]. حكى ابن عساكر [بإسناده إلى عبد الرحمن بن حسان (¬3) قال: كان] الحارث المتنبي الكذّاب من أهل دمشق، ووإن مولًى لأبي الجُلاس، وقيل: لمروان بن الحكم، وكان ¬

_ (¬1) في تاريخه 6/ 324، وما بين معكوفين من (ص) و (م). (¬2) "طبقات ابن سعد" 9/ 445، و"الاستيعاب" (157)، و"تاريخ دمشق" 3/ 183. (¬3) ما بين معكوفين من (ص) و (م)، وكان فيهما: بإسناده إلى حسان، وهو خطأ، صوابه من "تاريخ دمشق" 4/ 101، و"مختصر ابن منظور" 6/ 151، و"المنتظم" 6/ 204.

لو لَبِس جُبَّة من ذهب لرؤيت عليه زَهادة، وكان إذا أخذ في التسبيح لم يسمع الناس كلامًا أفصح منه ولا أحسن (¬1)، وكان يسكن حُولَة بانياس وأبوه بدمشق (¬2). فعرض له إبليس، فأراه أشياء، فكتب إلى أبيه إلى دمشق: يا أبتاه، عَجِّل علي واقدم، فقد رأيتُ أشياء، وأخاف أن يكون الشيطان عرض في، فزاده أبوه طغيانًا، وكتب إليه: يا بني، أَقبِل على ما أنت عليه؛ فإن الله لا يُنَزّل الشياطين إلا على كلّ أفَاك أثيم، ولستَ بأفّاك ولا أثيم. فادّعى النبوَّة، وأظهر العجائب، فكان يأخذ بيده رُخامة؛ فينقرها فتسبّح، ويطعم الناس فاكهة الشتاء في الصّيف، وفاكهة الصَّيف في الشتاء، ويريهم رجالًا على خيل بُلْق، ويقول: هذه الملائكة. فتبعه خلق كثير، وكان يأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره. وشاع خبرُه، وبلغ عبد الملك بن مووان فاتّهم عامة عسكره به وأنهم على رأيه، فدعا أبا إدريس الخَولاني، وكان على قضاء دمشق، وجمع الفقهاء فأفتَوا بقتله، فطلبه فلم يقدر عليه، فخرج عبد الملك فنزل الصِّنَّبْرَة (¬3)، وهرب الحارث من بانياس إلى البيت المقدس فاختفى فيه. وكان للحارث أصحابٌ يدخلون عليه سرًّا، وكان قد أتى رجل من أهل البصرة إلى البيت المقدس زائرًا، وبلغه خبره، فتحيّل عليه حتى اجتمع به، فقال: من أين أنت؟ قال: من البصرة، فأنِس به وباسطه، فقال له البصري: ما أنت؟ فقال: نبيٌّ مُرسَل، قال: فقد آمنتُ بك وصدَّقت؛ فلا تحجبني عنك، فأجابه إلى ذلك، فكان البصري يتردّد إليه. وكان قد حفر أسْرابًا مثل أسراب اليربوع ليهرب منها إذا اطُّلع عليه، فما زال البصري يتردّد إليه حتى عرف الأماكن التي يهرب منها، وقال له: ائذن لي في المسير إلى البصرة لأدعو الناس إليك منها، فأذن له. ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): كلامًا أحسن منه لفصاحته. (¬2) في المصادر أن أباه كان في حولة بانياس وهو بدمشق. (¬3) موضع بالأردن، بينه وبين طبرية ثلاثة أميال. كما في معجم البلدان، ووقع في (ص): "الصُّبيرة" وهو موضع بالشام، ولم تجود الكلمة في "تاريخ دمشق" 4/ 101 وانظر مختصره 6/ 151.

فخرج فأتى سُرادق عبد الملك وهو بالصِّنَّبرة، فصاح: نصيحة، فأدخل عليه، فقال له: ما نصيحتُك؟ قال: أخلِني، فأخلى المكان، فدنا منه، وكان عبد الملك على سريره، وقال: ما عندك؟ قال: الحارث، فلما ذكر الحارث رمى عبد الملك بنفسه عن السرير وقال: أين هو؟ قال: بالقُدس، وقصّ عليه قصَّتَه، فقال: أنت أمير على من هنا وعلى من بالقدس، فمرني بما شئت، قال: ابعث معي أربعين رجلًا لا يفهمون الكلام، فبعث معه أربعين من فَرْغانة، وكتب إلى والي القدس: إن فلانًا الأمير عليك حتى يخرج، فأَطِعه فيما يأمرك به. وجاء إلى القدس، فرتّب الرجال على الأماكن التي يهرب منها ليلًا، ودفع إلى كل واحد تسعة، ثم دخل عليه، فطلبه فلم يجده، فسأل عنه فقالوا: رُفِع، فدخل بعض الأسراب فرآه، فأخذه وأوثقه، ووكل به الفَرغانيين، وسار إلى عبد الملك فأخبره، فنصب له خشبة، فقال الحارث للفَرغَانيين: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28]، فقا لوا: هذا كُرآننا -بالكاف- فأين كرآنك؟ ولما وصل إلى الصِّنَّبرة أمر عبد الملك رجالًا، فدخلوا عليه فوعظوه ونهوه، وخوَّفوه الصَّلْب فلم يقبل، فأمر بصَلْبِه، وطُعن برُمح فانثنى الرُّمح ولم يعمل فيه، وكانت قد أصابت الحربة ضِلعه، فصاح الناس: الأنبياء لا يَعمل فيهم السلاح، فقال عبد الملك للذي طعنه: اذكر اسم الله وقد نفذت الحربة، فذكر وطعنه فقتله. ولم يكن خالد بن يزيد بن معاوية حاضرًا، فلما حضر قال لعبد الملك: لو كنت حاضرًا لما مكَّنتُك من قتله، قال: ولم؟ قال: كان يَعتادُه المُذهب -يعني: الشيطان- فلو جَوَّعتَه ذهب عنه. ولما قتله عبد الملك قال العلاء بن زياد: ما غَبطتُ عبد الملك بشيء من ولايته إلا بقتله الحارث؛ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالًا كذابون، كلّهم يزعم أنه نبي، فمن قتل واحدًا منهم دخل الجنة". قلت: وقد أخرج البخاري ومسلم بمعناه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالًا كذابون، كلّهم يزعم أنه رسول الله".

عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي

هذا لفظ المتفق عليه (¬1)، ولم يذكر فيه: فمن قتل واحدًا منهم دخل الجنة. عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهُذَلي من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. روى عن علي - عليه السلام - وعبد الله بن مسعود، وكان ثقة، وقد تكلَّموا في روايته عن أبيه من قِبل صِغره، فإن عبد الله - رضي الله عنه - مات وابنه عبد الرحمن بالكوفة ابنُ ست سنين أو نحوها. قال الواقدي: مات عبد الرحمن بالكوفة سنة تسع وسبعين (¬2). النابغة الجَعْدي واسمه قيس بن عبد الله بن عُدَيس (¬3)، وقيل: عبد الله بن قيس، وقيل: حَبَّان بن قيس، وكنيته أبو ليلى. وكان من شعراء الجاهلية، ولحق الأخطل ونازعه الشّعر، ووفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومدح عبد الله بن الزُّبير، وفد عليه مكة فأنشده في المسجد الحرام: [من الطويل] حَكيتَ لنا الصِّديقَ لما وَليتَنا ... وعثمانَ والفاروقَ فارتاحَ مُعدِمُ وسَوَّيتَ بين الناس في الحقِّ فاستوَوْا ... وعاد صباحًا حالِكُ الليلِ مُظلِمُ أتاك أبو ليلى يَجوبُ به الدُّجى ... دُجى الليل جَوَّابُ الفَلاةِ عَثمثَمُ ¬

_ (¬1) مسند أحمد (7228)، وصحيح البخاري (3609)، وصحيح مسلم (84) (157) كتاب الفتن 4/ 2239. وفي (أ) و (ب) و (خ) و (د): قال المصنف رحمه الله: لفظ المتفق عليه: لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالًا كلهم أنه رسول الله (كذا). وأثبت لفظ (ص) و (م) خلا الجملة الأخيرة: ولم يذكر فيه ... فإنها من النسخ، وبنهاية ترجمة الحارث المتنبي هذا تنتهي السنة في (ص) و (م) وتبدأ فيهما سنة ثمانين من الهجرة. (¬2) "طبقات ابن سعد" 8/ 300، و"تاريخ دمشق" 41/ 60. (¬3) كذا في النسخ، والذي في المصادر: عُدَس، انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 201، و"طبقات فحول الشعراء" 123، و"الأغاني" 1/ 5، و"الاستيعاب" (2646)، و"سمط اللآلي" 247، و"المنتظم" 6/ 208، و"مقدمة ديوانه" وفي حواشيها فضل تخريج.

لتَجبُرَ منه جانبًا ذَعْذَعَتْ به (¬1) ... صُروفُ الليالي والزمانُ المُصمصِمُ فقال له ابن الزبير: هوِّن عليك أبا ليلى؛ فإن الشعر أهونُ وَسائلك عندنا، أما صَفْو مالنا فلآل الزُّبير، وأمّا عَفْوُه فإن بني أسد وبني تَيم تَشْغَلُنا عنك، ولكن لك في مال الله حَقَّان: حقٌّ برؤيتك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحقٌّ بشَرِكتك أهل الإسلام في فَيئهم. ثم قام وأخذ بيده؛ فدخل به دار النَّعَم، فأعطاه قَلائص سَبْعًا، وجَملًا وخَيلًا، وأَوْقَر له الرِّكاب بُرًّا وتمرًا وثيابًا، فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحبَّ صِرفًا، فقال له ابن الزيبر: ويحَ أبي ليلى، لقد بلغ منه الجَهْدُ! . ذكر وفاته: مات بأصبهان، وقال الهيثم: لما سألتْ ليلى الأخيَلِيَّة الحجاج، أجابها (¬2) إلى ذلك، وبلغ النابغة فخرج هاربًا من الحجاج، فمات بسَاوَة. وعاش مئة وستين سنة، لم يتغيّر منه سِنّ ولا غيره بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: عاش مئتي سنة، قال النَّضْر بن شُمَيل: قال النابغة الجَعدي: عِشت دارَين، ثم أدركتُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فأسلَمتُ، الدَّاران: مئتا سنة (¬3). وقال النابغة: كنتُ أجيبُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قبضه الله. وقال يَعلي بن الأشْدَق: سمعتُ النابغة الجَعدِيّ يقول: أنشدتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [من الطويل] بلغْنَا السماءَ مجدُنا وجدودُنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مَظهرا فقال: "إلى أين يا أبا ليلى؟ " فقلت: إلى الجنّة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شاء الله"، ثم قال النابغة: ¬

_ (¬1) في النسخ: وابحر ... دعدت، والمثبت من المصادر، انظر "الأغاني" 5/ 28، و"الاستيعاب" (2646)، و"المنتظم" 6/ 209، و"ديوانه" 205، والعثمثم: الجمل الشديد الطويل، وذعذعت: فرقت ماله. (¬2) في النسخ الخطية: الحجاج بن مسلمة فرب أجابها ... والتحريف به ظاهر. وقد ذكر القالي في "أماليه" 1/ 89 أن ليلى الأخيلية وفدت على الحجاج، وطلبت إليه أن يدفع النابغة الجعدي إليها، فبلغه ذلك، فخرج هاربًا عائذًا بعبد الملك، فاتبعته إلى الشام، فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان. (¬3) "المنتظم" 6/ 210.

السنة الثمانون من الهجرة النبوية

ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم يكن له ... بَوادِرُ تحمي صَفْوَهُ أن يُكَدَّرا ولا خيرَ في جَهلٍ إذا لم يكن له ... حَلِيمٌ إذا ما أوْرَدَ الأمرَ أصدَرا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يفضض الله فاك" مرتين (¬1)؛ فعاش مئة وعشرين سنة، وكان من أحسن الناس ثَغْرًا، وللنابغة صُحبة ورواية. السنة الثمانون من الهجرة النبوية اختلفوا فيها؛ هل كانت غزاة عُبيد الله بن أبي بَكْرة بلاد التُّرك في هذه السنة، أم في سنة تسع وسبعين؟ [على قولين]. وكان الحجاج قد ولَّى عُبيد الله سِجستان، قال المدائني: لما قدم (¬2) ابن أبي بكرة سجستان لم يُؤدّ إليه رُتْبيل (¬3) ما كان يُؤدّيه إلى العمال قبلَه من الإتاوة -وهي الخراج- فكتب إلى الحجاج يُخبره، فكتب إليه: اغزُهم، وبعث إليه من أهل الكوفة (¬4) عشرين ألفًا، عليهم شُرَيْح بن هانئ، فأوغل عبيد الله في بلاد التُّرك، وغنم غنائم كثيرة، فقال له شريح: قد غنمنا وسلمنا وذلَّ عدوُّنا، فارجع بنا ونحق ظاهرون، فلم يلتفت إلى قوله. وسار حتى قَرُب من كابُل، وتفَرّق أصحابُه في شِعاب ضَيّقة، يطلبون النَّهب والعَلَف فأخذ عليهم رُتبيل الطُّرُق، وعلم عبيد الله، فأرسل إلى رُتْبيل يسأله الصُّلح، وأن يُخلّي بينه وبين الخروج، ويعطيه ابنُ أبي بَكْرة عِدَّةً من وجوه أصحابه رهائن، ومن ولده ثلاثة وهم: الحجاج ونهار وأبو بكرة بنو عبيد الله، وسبع مئة ألف درهم، وأنه لا يغزوه أبدًا، ولا يأخذ منه خراجًا. وعلم شُريح بن هانئ فقال له: يا ابن أبي بَكْرة، اتّقِ الله، ولا تشتر الكفر بالإيمان وزيادةِ سبع مئة ألف درهم، وأعيانِ ولَدك والمسلمين رهائن، ثم تشترط على نفسك ¬

_ (¬1) "الأغاني" 5/ 8، و"المنتظم" 6/ 208. (¬2) في (ص) و (م): وقد ذكر المدائني لما قدم. (¬3) هو ملك الترك. (¬4) في (ص): البصرة، وهو خطأ، انظر "تاريخ الطبري" 6/ 322، و"أنساب الأشراف" 6/ 421، و"المنتظم " 6/ 203.

ألا تأخذَ منهم خراجًا، كل هذا هربًا من الموت الذي أنت صائر إليه. وانفرد عنه شُريح بأعيان أهل الكوفة والبصرة. وبعث عبيد الله إلى رُتْبيل: إني قد صالحتُك على ما صالحتك عليه، وهذا رجل واحد من أصحابي قد عصاني -يعني شُريحًا- ولست ناصره عليك. فخذل شُريحًا. وكان شريح شجاعًا، فكتَب الكتائب؛ فجعل أهل الكوفة كتيبة، وأهل البصرة كتيبة، وأهل الشام كتيبة، وانحاز عنه عبيد الله ناحية، ثم قاتل شريح قتالًا لم يقاتله أحد، فقُتل وأعيانُ الناس معه. وأَذِن رُتبيل لابن أبي بَكْرة فخرج، فجعل أصحابه يأكلون الطعام، فإذا أكلوه ماتوا، فلم يصل [إلى بُسْت] إلا في خمسة آلاف رجل؛ بعد أن كانوا ثلاثين ألفًا، وبيع الرغيف بأربعين دِرهمًا، ولَقُوا ما لم يلقه أحد. [قال المدائني: ] ولما رأى عُبيد الله ما جُنده فيه من الجوع والجهد باعهم الطعام والتبن والعَلَف والحِصرم وغيره، فقال أعشى همدَان -واسمه عبد الرحمن بن الحارث- من قصيدة: [من الكامل] أسمعتَ بالجيشِ الذين تَمزَّقوا ... وأصابهم رَيبُ الزمانِ الأعوجِ حُبِسوا بكَابُلَ يأكلون جِيادَهم ... بأضَرِّ منزلةٍ وسُوء مُعَرّجِ لم يَلْقَ جيشٌ في البلاد كما لَقُوا ... فلمثلهم قُل للنَّوائحِ تَنْشِجِ واسأل عُبيدَ الله كيف رأيتَهم ... عشرين ألفَ مُجَفْجِفٍ ومُدَجَّجِ ما زلتَ تُوغلهم كما زَعموا لنا ... وتَرُومُهم وتَسيرُ سيرَ الأَهْوَج وتَبيعُهم أَتْبانَهم وشعيرَهم ... وتَجرتَ بالعِنَبِ الذي لم يَنْضُجِ (¬1) ومات عبيد الله في هذه السنة كَمَدًا، [وقتل شريح بن هانئ بسجستان]. قال المصنف رحمه الله: المنقول (¬2) عن عبيد الله خِلافُ هذا؛ فإنه لم يكن في زمانه أسخى منه [لما نذكر في ترجمته]. ¬

_ (¬1) الأبيات بنحوها في "أنساب الأشراف" 6/ 423 ضمن قصيدة، ومنها ثلاثة أبيات في المعارف 289. (¬2) في (ص) و (م) وما بين معكوفين منهما: قلت والمنقول ...

فصل: وفيها كان السَّيلُ الجُحاف. [حكى ابن سعد، عن الواقدي قال: ] جاء سَيْل بمكة، فذهب بالحاجّ والإبل والحَمُول والنساء، فأغرق خلقًا عظيمًا، وبلغ الماء الرُّكنَ الأسود وجاوزه، ولم يقدروا على منعه؛ فسُمِّي الجحاف [لأنه جحف كل شيء مَرّ به، فسُمّي ذلك العام: عام الجُحَاف]. وفيها جهَّز الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعَث إلى قتال التُرك (¬1)، وأمره أن يُوغل في بلاد رُتبيل. قال علماء السير: لما بلغ الحجاج ما جرى على جيش ابن أبي بَكْرة أخذه ما قَدُم وما حَدُث، ولم يَصدع قلبه شيءٌ مثل ذلك، فكتب إلى عبد الملك يُخبره بهلاك جيش ابن أبي بكرة، وأنه لم يَسْلم منهم إلا القليل، وأن العدوّ قد طمع في بلاد الإسلام، واستأذنه أن يبعث إليهم جيشًا؛ خوفًا من استيلاء العدو على البلاد، فأذن له وقال: الرأي إليك، فأَمضِ رأيَك موفَّقًا راشدًا، وأما مَن قُتل من المسلمين فأولئك قوم كُتب عليهم القتلُ فبرزوا إلى مَضاجعهم، وعلى الله ثوابُهم، والسلام. فخطر للحجاج أن يبعث عبد الرحمن -وكان أبغض خلق الله إلى الحجاج، وكان يقول: ما رأيتُه قط إلا أردتُ قتلَه. قال الشعبي: دخل عبد الرحمن يومًا على الحجاج وأنا عنده، فلما رآه قال لي: انظر إلى مِشيته، والله لقد هممتُ أن أضربَ عُنُقه، قال الشعبي: وخرجتُ من عند الحجاج، وخرج بعدي عبد الرحمن، فقلت له: في معك حديث وهو أمانة، قال: نعم فأخبرتُه بما قال الحجاج، فقال: والله وأنا كذلك، والله لأجتهدنّ في زوال سُلطانه. وجهَّز الحجاج من الكوفة عشرين ألفًا، ومن البصرة مثلها، وأعطى الناس أُعطياتهم، وخرجوا بالخيول والسلاح الكامل، فلم يُجَهَّز في الإسلام جيشٌ كان أحسنَ منه، كان يقالماله: جيش الطَّواويس، أنفق عليه الحجاج ألفي ألف درهم خارجًا عن العطاء. ¬

_ (¬1) الأخبار الآتية ليست في (ص) و (م).

وجاء إسماعيل بن الأشعث عَمُّ عبد الرحمن إلى الحجاج فقال له: لا تبعثْه فإني أخاف خِلافه، فوالله ما جاوز الفرات فرأى لوالٍ عليه ولاية، فقال الحجاج: هو أهيبُ لي من ذلك. وكان عبد الرحمن حسودًا أحمق أهوج حقودًا، وكان الزهريّ يقول: أبوه محمد سلب الحسين - رضي الله عنه - ثيابَه وقاتله، ودلَّ ابن زياد على مُسْلم بن عقيل حتى قتله، وجدُّه الأشعث ارتدَّ عن الإسلام. وقال الشعبي: كنت عند الحجاج، فدخل ابن الأشعث، فقال لي الحجاج: انظر إلى مِشْيَةِ المقيت، فلما سلَّم قال له الحجاج: إنك لمَنظرانيّ، فقال ابن الأشعث: ومَخْبَرانيّ (¬1)، فغضب الحجاج. وخرج عبد الرحمن ينزل بدير عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وخرج الحجاج يُودِّعه، وسار عبد الرحمن بالجيش حتى قَدِم سجستان، فقام خطيبًا وقال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج قد وَلّاني ثَغْرَكم، وأمرني بجهاد عدوّكم؛ الذي استباح بلادَكم، وقتل خيارَكم، فإياكم أن يتخلّف رجلٌ منكم؛ فيُحِلَّ بنفسه العقوبة. فشرع الناس في الجهاد، وبلغ رُتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه من مُصاب المسلمين، وأن ذلك لم يكن عن رأي منه، ولقد كره ذلك، وإنما هم ألجؤوه إلى قتالهم، وسأله الصّلح، وأن يُؤدّي إليه رُتبيل الخراج. فلم يُجبه عبد الرحمن، ودخل بلادَه، وداسها، وفتح حصونها، وكان كما فتح بلدًا أو حِصنًا ولّى عليه عاملًا، ووضع البُرد فيما بين كل بلدٍ وبلد، والمسالح على العِقاب والشِّعَاب، وحاز من المواشي والغنائم والسَّبي شيئًا عظيمًا، وقال لأصحابه: قد أصبنا ما أصَبْنا، ودسنا بلادَهم ودوّخناها، فارجعوابنا إلى العام المقبل، فقد حَصَّلنا على الغرض، وفي كل عام نفعل بهم كذا حتى نستأصلَهم. وعاد إلى سجستان، وكتب إلى الحجاج بما فتح الله على المسلمين، وبما راه من الرأي. ¬

_ (¬1) مَنْظَرانيّ: حَسَن المنظر، ومَخبرَانيّ: حسن المَخْبَر.

ولما عاد ابن الأشعث إلى بُسْت كتب إليه رُتْبيل: أما بعد، فقد كان من مُصاب إخوانكم ما قد علمتم، وما كان عن إرادة مني، وكان مَن يقدم منكم معنا على أمر، ونحن نطلب تلك القاعده، فهي أرفق بنا وبكم، يعني الصلح، فلم يلتفت ابن الأشعث إليه. وقدم على ابن الأشعث أخوه القاسم بأن محمد من طَبَرِستان، فأعطاه جيشًا، وأمره بالغارة على رُتبيل، فجاء إلى رتبيل رجل من العوب يقال له عُبيد بن أبي سُبيع (¬1) يرى رأي الخوارج، فقال لرُتبيل: قد جاءك أغدرُ العوب، فتحوَّلْ من مكانك قبل أن يأتيك وأنت غارٍ، فتحوّلَ رُتبيل، وجاء القاسم فلم يجد إلا شيوخًا وعجائز. وجعل رُتبيل يتأخر، ويدع البلاد وراءه طمعًا أن ينال من ابن الأشعث ما قال من ابن أبي بَكرة، وابن الأشعث لا يُوغل في بلاده، وهو مقيم ببُست، وأخوه القاسم يُغير على أطراف البلاد، لا يوغل خوفًا مما جرى على ابن أبي بكوة، وكتب إلى الحجاج يُخبره الخبر، وأنه لم يَر من المصلحة أن يوغل بالجيش في أرض رتبيل؛ لأنها كثيرة المضايق والشعاب، وأن رتبيل قد ضم جيشه إليه، وهو ينتظر الفرصة، وإنما المصلحة التأني، وفتح بلاده أولًا أولًا. فكتب إليه الحجاج: يا ابن الحائك الغادر المرتدّ، امضِ لما أمرتُك به من الإيغال في أرض العدو، والسلام. فغضب ابن الأشعث وقال: يكتب إليَّ ابنُ أبي رِغال بمثل هذا، هو والله الجبان صاحب غَزالة، وأبوه الذَّليل الفار من قتله. وأضمر في نفسه خَلْع الحجاج. وفيها وُلد أبو حنيفة النعمان بن ثابت. [واختلفوا فيمن حجّ بالناس في هذه السنة؛ فقال الهيثم: ] سليمان بن عبد الملك، [وقال الواقدي وأبو معشر: ] أبان بن عثمان بن عفّان، [وكان على المدينة]. وكان على العراق والمشرق كلّه الحجاج، وعلى خراسان المهلّب من قِبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس (¬2). ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 6/ 427: عبيد بن أبي سبع. (¬2) ما بين معكوفين من (ص) و (م)، وانظر الطبري 6/ 329 - 330.

أسلم مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -

فصل: وفيها توفي أسلم مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكنيته أبو زيد. من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وقيل: كنيته أبو خالد. وحكى ابن سعد أنه حبشي بِجاوي من بِجاية، وقال غير ابن سعد: هو من اليمن، وقيل: من سَبْي عين التَّمر، سباه خالد بن الوليد، فاشتراه عمر سنة إحدى عشرة لما بعثه أبو بكر على الحج، رآه بذي المجاز يُباع. وحكى ابن سعد، عن الواقدي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: اشتراني عمر بن الخطاب سنة اثنتي عشرة، وهي السنة التي قُدم فيها بالأشعث بن قيس أسيرًا، وأنا أنظر إليه في الحديد يكلم أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، وأبو بكر يقول له: فعلتَ وفعلتَ، حتى كان آخر ذلك أسمع الأشعث بن قيس يقول: يا خليفة رسول الله، استَبْقِني لحرب عدوّك، وزوجني أختَك، ففعل أبو بكر، ومَنَّ عليه، وزوَّجه أخته أمَّ فَروة بنتا أبي قُحافة، فوَلَدت له محمد بن الأشعث. وقال الهيثم: كان عبد الله يُعظِّمه ويَعرف حُرمته، وشهد أسلم خطبة عمر بالجابية. وقال ابن سعد: مات أسلم في خلافة عبد الملك بن مروان بالمدينة، ولم يُعيّن له وقتًا. وقال ابن عساكر، عن أبي عبيد القاسم بن سلام: مات أسلم سنة ثمانين، وله مئة وأربع عشرة سنة، ولم يتغيّر منه شيء. أسند أسلم عن الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم، وعن أبي عبيدة، ومعاذ، وابن عمر، وحفصة بنت عمر، وأبي هريرة. وأسلم هو الذي روى أنه رأى أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - آخذًا بطَرف لسانه، وهو يقول: هذا أوردني الموارد (¬1). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 11، و"تاريخ دمشق" 2/ 809 (مخطوط)، و"السير" 4/ 98. وهذا سياق (ص) و (م)، وأما سائر النسخ فمختصرة. وما بعد هذه التراجم إلى ترجمة زيد بن وهب ليس في (ص) و (م).

جبير بن نفير بن مالك

جُبَير بن نُفَير بن مالك ابن عامر (¬1) اليَحْصُبي، أبو عبد الله الحَضْرَميّ، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الشام، كان جاهليًّا، وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وكان ثقة فيما يروي من الحديث، ومات سنة ثمانين، روى عن عمر، ومعلى، وأبي الدرداء، وغيرهم. جُنادة بن أبي أميّة الأزدي من الطبقة الأولى من التابعين، من أهل الشام، لقي أبا بكر، وعمر، ومعاذًا، وحفظ عنهم، وكان ثقةً صاحب غزو، شهد فتح مصر، وكان أميرًا على الغزوات في البحر لمعاوية، ومات سنة ثمانين، وقيل: سنة سبع وسبعين، وقيل: سنة سبعين (¬2). حسان بن النعمان الغسَّاني من أولاد ملوك غسان، ويقال: إنه ابن المنذر. صاحب الفتوحات بالمغرب، بعثه معاوية بن أبي سفيان إلى إفريقية، فأقام واليًا عليها يجاهد إلى أن توفي معاوية، وأقام هناك إلى سنة ثمان وسبعين، وقفل من إفريقية إلى الشام، واستخلف سفيان بن مالك الثقفي، وقدم على عبد الملك فردّه إلى إفريقية، وزاده أَطرابُلُس، فعاد إلى مصر ليتوجّه إلى المغرب، فضبطه عبد العزيز بن مروان، وولّى على المغرب موسى بن نُصير، فعاد حسان، إلى عبد الملك فأمره بلزوم بيته. وقال خليفة: وفي سنة أربع وسبعين أغزى عبد الملك حسّان بن النعمان المغرب، فوصل إلى موضع القيروان، فخلّف بها خيلًا، فبعثت الكاهنة (¬3) ابنَها فأجلى الخيل، ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: عاصم، والتصويب من "طبقات ابن سعد" 9/ 442، و"الاستيعاب" (320)، و"تهذيب الكمال" (889) وفروعه، و"حلية الأولياء" 5/ 133، و"مختصر تاريخ دمشق" 6/ 9، و"السير" 4/ 76. (¬2) ينظر "طبقات ابن سعد" 9/ 443، و"تاريخ دمشق" 4/ 25 (مخطوط)، و"السير" 4/ 62. وثمة صحابي بهذا الاسم، ينظر تهذيب ابن حجر وتقريبُه. (¬3) هي امرأة ملكت البربر ... بجبال أوراس بالمغرب بعد مقتل كَسِيلة. انظر الكامل 4/ 371 - 372 (سنة 74).

زيد بن وهب بن خالد الجهني

وخرج في طلب حسّان، فلقيه بنهرٍ يقال له نهر البلاء (¬1)، فانهزم حسّان، وكتب إلى عبد العزيز بن مروان يَستمدّه، فأمدّه بجمع كثير، فسار إلى الكاهنة فانهزمت، فبعث عُبيد بن أبي هفان الخيبري (¬2) في طلبها، فأدركها فقتلها وقتل ابنها، وفتح حصونًا كثيرة، وصالح البربر من لدن الزّاب إلى أطرابُلُس، ثم بعث إلى فاس خيلًا فافتتحها، وبنى القيروان في رمضان سنة أربع وسبعين. وفي سنة تسع وسبعين عقد عبد العزيز لموسى بن نُصَير على المغرب، وجاء حسان إلى الشام، فخرج غازيًا إلى أرض الروم، فتوفي بها سنة ثمانين. حدّث عن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. ولما عُزل عن المغرب قال أبو عَتيك: [من الطويل] أقول لأصحابي عشيَّةَ جاءنا ... بغير الذي نَهوى البريدُ المبشّرُ فإن يكُ هذا الدهرُ جاء بدولةٍ ... عليه فإن الدَّهْر بالمرءِ يَعثُرُ من أبيات. زيد بن وَهْب بن خالد الجُهنيّ أبو سليمان، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. عن زيد بن وهب قال: غَزَوْنا أذربيجان في إمارة عمر، وفينا يومئذٍ الزبير بن العوّام، فجاءنا كتاب عمر: بلغني أنكم في أرضٍ يُخالط طعامَها الميتة، ولباسَها الميتة، فلا تأكلوا إلا ما كان ذكيًّا، ولا تلبسوا إلا ما كان ذكيًّا. [قال ابن سعد: وكان يصفّر لحيته. وقال الواقدي: ] شهد زيد مشاهدَ علي - عليه السلام - كلها، وتوفّي سنة ثمانين. وروى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة -رضي الله عنهم-، وكان ثقةً كثير الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) الظاهر أنه نهر نِيني (في بلاد البربر) سُمِّي نهرَ البلاء لكثرة ما أصاب جيشَ حسان في تلك الواقعة من البلاء. ينظر الروض المعطَار ص 65، وفتوح مصر ص 217، ومعجم البلدان. (¬2) في "تاريخ دمشق" 4/ 396 (مخطوط) وعنه ينقل: عبيد بن أبي هتان الحميري. (¬3) "طبقات ابن سعد" 8/ 223، و"الاستيعاب" (824)، و"السير" 4/ 196. وما بين معكوفين من (م).

السائب بن يزيد

[فصل: وفيها توفي] السَّائب بن يزيد ابن سعيد بن ثُمامة الكِندي، [وكنيته] أبو يزيد (¬1). [ذكره ابن سعد] في الطبقة الخامسة فيمن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم حُدَثاء الأسنان. وهو ابن أُخت النَّمِر الحضرمي، وكان جدّه سعيد حَليفَ بني عبد شمس. وقد رأى السائبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وحفظ عنه. وولد في أول السنة الثالثة من الهجرة. [قال: وقال السَّائب: ] أعقِل قدومَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تَبوك، فخرجتُ مع الغِلمان نَستقبله أَبى ثنيّة الوداع. وحدثنا عكرمة بن عمار، عن عطاء مولى السائب به. يزيد قال: كان (¬2) رأس السائب بن يزيد من هامته إلى مقدَّم رأسه أسود، وسائرُ رأسِه ولحيته وعارضه أبيض، فقلت له: يا مولاي، إن هذا لَعَجب، فقال: مرَّ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب مع الصبيان، فقال: "مَن أنت؟ " فقلت: السائب بن يزيد ابن أُخت النَّمر، فمسح يدَه على رأسي فقال: "بارك الله فيك"، فهو لا يَشيب أبدًا. وقال الخطيب: أخت نَمِر اسم جده، وهو رجل وليس بامرأة. [وحكى ابن سعد عنه أنه] قال: حَجَّت بي أمي في حجّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني حجّةَ الوَداع- وأنا ابنُ سبع سنين. [قال: ] وكنت غُلامًا مع عبد الله بن عُتبة بن مسعود على سوق المدينة في زمن عمر بن الخطاب، فكنا نأخذ من النَّبَطِ العُشْر مما يتَّجروا به من الحِنطة، وفي رواية: نصف العُشر. ¬

_ (¬1) في (ص) و (م) وما بين معكوفين منهما: أبو زيد، وهو خطأ. (¬2) في (أ) و (خ) و (ب) و (د): وقال عطاء مولى السائب كان، والمثبت من (ص) و (م)، والأخبار السالفة وهذا الخبر في "طبقات ابن سعد" 6/ 522 - 553.

شريح بن هانئ

وقال الزهريّ: ما اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضيًا، ولا أبو بكر ولا عمر، حتى قال عمر للسائب بن أخت نمر: لو رَوَّحْتَ عني بعضَ الأمر، حتى كان عثمان (¬1). واختلفوا في وفاته؛ قال الهيثم: مات في سنة ثمانين (¬2). وحكى ابن سعد عن الواقدي: أنه مات بالمدينة سنة إحدى وتسعين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، رحمه الله (¬3). وقيل: توفي قبل الحرَّة، وهو وهم، قد عاش بعد ذلك دهرًا طويلًا. أسند السائب الحديث. انتهت ترجمته، والله أعلم. شُرَيح بن هانئ ابن يزيد بن نَهيك (¬4) بن دُريد، من بني الحارث بن كعب، من الطبقة الأولى من أهل الكوفة. كان من أصحاب علي - عليه السلام -، وشهد معه مشاهدَه كلَّها، وكان ثقةً، وله أحاديث، وكان كبيرًا، قُتل بسجستان مع عُبيد الله بن أبي بَكْرة. [فصل: وفيها توفي] شقيق بن سَلَمة الأَسَدي [أحد بني مالك، من أسدِ خزيمة، وكنيته] أبو وائل، أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَرَه، [وقيل: إنه رآه، والأول أصحّ] وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. [وحكى ابن سعد عنه أنه، ] قال: بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا غلام شابٌّ أمرد، فلم يُقضَ لي أن أراه. [وفي رواية: وأنا ابن عشر سنين. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 6/ 553، 554. (¬2) عدّه الذهبي في السير 3/ 439 قولًا شاذًّا. (¬3) "طبقات ابن سعد" 6/ 555، وهذا سياق (ص) و (م). وانظر "الاستيعاب" (1074)، و"تاريخ دمشق" 6/ 552 (مخطوط). (¬4) في النسخ خلا (ص) و (م) فليس فيهما الترجمة: سهل، والمثبت من المصادر، انظر "طبقات ابن سعد" 8/ 248، و"الاستيعاب" (1169)، و"تاريخ دمشق"، 8/ 64، و"السير" 4/ 107، و"تهذيب الكمال" (2714) وفروعه.

قال: ] وجاءنا مُصدِّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعطيناه شاةً لم يكن لنا غيرها، فقال: ليس في هذه صَدقة. وقال: أعطاني عمر أربعة أعطية، وخرجتُ معه إلى الشام (¬1). وكان لشقيق خُصُّ من قَصب، يكون فيه هو وفرسُه، فإذا غزا نَقضه وتصدَّق به، وإذا رجع بنى غيره. [وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي بإسناده، عن عاصم قال: ] ما رأيت أبا وائل التفت قط في صلاة ولا في غيرها. [وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي قال: حدثنا علي بن ثابت، ثنا سعيد بن صالح قال: رأيت أبا وائل يستمع النَّوح ويبكي. وقال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده إلى] مغيرة قال: كان إبراهيم التيمي يذكر في منزل أبي وائل، وكان أبو وائل ينتفض انتفاض الطَّير. وقال عاصم: كان أبو وائل إذا خلا نَشَج، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل (¬2). [وقال ابن سعد (¬3): كان قد ذهب بصره. وحكى عنه ابن عساكر (¬4) قال: خرجتُ مع عمر إلى الشام، فنزلنا منزلًا، فجاء دِهقان فسجد لعمر، فقال له: ما هذا؟ فقال: هكذا نفعل بالملوك، فقال له: اسجد لله الذي خلقك، قال: قد صنعتُ لك طعامًا فأتني، قال: أفي بيتك تصاوير؟ قال: نعم، قال: لا حاجة لنا في تصاويرك ولا في بيتك، اذهب فأتنا بلون من طعام، ولا تزدنا عليه. وقال الخطيب: ] سكن أبو وائل الكوفة، وورد مع علي رضوان الله عليه إلى المدائن، وشهد صِفّين والخوارج معه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "طبقات ابن سعد" 8/ 216، 217، وما بين معكوفين من (ص) و (م). (¬2) "حلية الأولياء" 4/ 101 - 102، وما بين معكوفين من (ص) و (م). (¬3) في طبقاته 8/ 220. (¬4) في تاريخه 8/ 105 - 106 (مخطوط). (¬5) تاريخ بغداد 9/ 268 - 269.

أبو إدريس الخولاني

وكان من أكابر أصحاب ابن مسعود، وأقعد الناس بعده بعلمه. [واختلفوا في وفاته؛ قيل: إنه] توفي في زمن الحّجاج سنة ثمانين، [وحكاه جدي في "الصفوة"، وقال خليفة: ] في سنة اثنتين وثمانين أو ثلاث وثمانين. [وقال هشام: سنة ثمانين.] وقال سعيد بن صالح: عاش خمسين ومئة سنة، وهو وهم؛ لما حكينا عن شقيق أنه قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أمرد، فيكون قد عاش قريبًا من تسعين سنة أو نحوها، والله أعلم (¬1). أسند شقيق عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأسامة بن زيد، وحذيفة، وأبي موسى، وابن عباس، وغيرهم، وحضر بَلَنْجَر مع سلمان بن ربيعة. وروى عنه أعيان التابعين مثل: الشعبي، والحكم، والأعمش، وحمّاد بن أبي سليمان، وحبيب بن أبي ثابت، وعاصم بن أبي النّجود، والثوري، وخلق كثير، وكان ثقة كثير الحديث، ولما مات قبَّل أبو بردة بن أبي موسى جَبْهته (¬2). [فصل: وفيها توفي] أبو إدريس الخَولانيّ واسمه عائذ الله بن عبد الله، وقيل: عبد الله بن إدريس بن عائذ الله، قاضي دمشق في أيام معاوية [بن أبي سفيان]، ويزيد [بن معاوية]، ومعاوية بن يزيد، ومروان [بن الحكم]، وعبد الملك [بن مروان. وذكره ابن سعد في] الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، قال: وولد عام حُنَين، وكان ثقة (¬3)، صدوقًا، زاهدًا، عابدًا، عالم الشام بعد أبي الدرداء، وكان عظيمًا بالشام. [وذكره أبو زُرعة الدمشقي فقال: ] كان يَقصُّ على الناس، فعزله عبد الملك [بن مروان] عن القصص، وأقرّه على القضاء فقال: عَزَلَني عن رغبتي، وتركني في رهبتي، ¬

_ (¬1) "صفة الصفوة" 3/ 30، و"تاريخ دمشق" 8/ 120 - 121 (مخطوط)، وما بين معكوفين من (ص) و (م) وانتهت عندها الترجمة فيهما. (¬2) انظر "طبقات ابن سعد" 8/ 221 و 300، و"الاستيعاب" (1196)، و"السير" 4/ 161، و"تهذيب الكمال" (2753) وفروعه. (¬3) "طبقات ابن سعد" 9/ 451، وما بين معكوفين من (ص) و (م).

وكان يقول: ما تقلَّد امرؤ بقِلادة أفضل من سكينة، وما أوتي الإنسان أفضلَ من حلم إلى علم. [قال الواقدي: ] مات في سنة ثمانين بغير خلاف. أسند عن ابن مسعود، وأبي الدرداء، وأبي ذر، وأبي موسى، وحُذيفة، وأبي هريرة، وأبي أُمامَة، وعُبادة بن الصامت، وابن عباس، ومعاوية، ووَاثِلة، وعمرو بن عَبَسَة، وغيرهم. وروى عنه عطاء، وأبو حازم، وشَهْر بن حَوْشَب، وأبو قِلابة الجَرميّ، ومَكحول، وخلق كثير. وحكى ابن عساكر، عن أبي مُسْهر أنه قال: ليس (¬1) لأهل الشام أشرفُ من حديث أبي إدريس، عن أبي ذَرّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل، عن الله تعالى [أنه قال: يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا، الحديث. قلت: ] والحديث أخرجه مسلم (¬2) فقال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدّارميّ، حدثنا مروان بن محمد الدِّمَشقي، حدثنا سعيد بن جد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريسَ الخَوْلاني، عن أبي ذَرّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما روى عن الله تعالى أنه قال: يا عبادي، إني حرَّمتُ الظُّلْمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحَرَّمًا، فلا تَظالموا. يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه، فاستهدوني أهدِكُم يا عبادي، كلُّكم جائع إلا مَن أطعَمتُه، فاستطعموني أُطعمكم يا عبادي، ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): وقال أبو مسهر ليس ... والمثبت من (ص) و (م). والخبر في "تاريخ دمشق" 487 (عاصم- عائذ). (¬2) في صحيحة (2577). ووقع بعده في (ص): وهو في مسند أبي ذر، وفيها توفي عبد الله بن جعفر. ووقع في (م): وهو في مسند أبي ذر مذكور هناك والله أعلم، انتهت ترجمة أبي إدريس الخولاني، الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا" تم الجزء السادس من مرآة الزمان في تواريخ الأعيان لسبط ابن الجوزي رحمة الله عليه. يتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء السابع ترجمة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأرضاه.

كلُّكم عارٍ إلا مَن كَسوتُه، فاستكسوني أكْسُكُم. يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغْفِر لكم. يا عبادي، إنكم لن تَبلغوا ضَرِّي فتَضُرُّوني، ولن تبلغوا نَفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخِرَكم وإنْسَكم وجنَّكم؛ كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أوّلَكم وآخِرَكم وإنْسَكم وجنكَم؛ كانوا على أفْجَرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم، ما نَقَص ذلك من مُلكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أوَّلَكم وآخرَكم وإنْسَكم وجِنكَم؛ قاموا في صَعيدٍ واحدٍ وسألوني، فأعطيتُ كل إنسانٍ مسألَتَه؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنقص المِخْيَطُ إذا أُدخِل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالُكم؛ أُحصيها لكم، ثم أُوَفّيكم إيّاها، فمن وَجَد خيرًا فلْيَحمَد الله، ومَن وَجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَه. فكان أبو إدريس الخَوْلاني إذا حدَّث بهذا الحديث جثا على رُكبتَيه. انفرد بإخراجه مسلم. وأخرج الإمام أحمد رحمه الله طريقًا لبعضه: حدثنا ابن نُمير، حدثنا موسى بن المسيّب، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي ذَرّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله تعالى: يا عبادي، كلّكم مُذنب إلا مَن عافَيتُ، فاستغفروني أغفِر لكم، وكلكم فقير إلا مَن أغنيتُ، إني جَواد ماجِد واجد، أفعل ما أشاء، عَطائي كلام، وعَذابي كلام، إذا أردتُ شيئًا إنما أقول له: كن فيكون" (¬1). وقال يزيد بن عبيدة: رأيتُ أبا إدريس الخَوْلاني في زمان عبد الملك بن مروان وإن حِلَق المسجد بدمشق يقرؤون القرآن جميعًا يدرسونه، وأبو إدريس جالس إلى بعض العُمُد، فكلما مَرَّت آيةُ سجدة بحلقة بعثوا إليه، فيقرأ بها، ثم يسجد فيسجدون جميعًا بسجوده، وربما سجد بهم اثنتي عشرة سجدة. وقال يزيد بن أبي مالك: جلسنا يومًا إلى أبي إدريس، فحدَّثَنا عن بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رجل من ناحية المجلس: أحضرتَ هذه الغزاة؟ قال: لا، فقال الرجل: قد حضرتُها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأنتَ أحفظُ لها منيّ (¬2). ¬

_ (¬1) هو في مسند أحمد (21540) مطول. (¬2) أخرجهما ابن عساكر 516، 517 (عاصم- عائذ) طبع مجمع اللغة بدمشق. وانظر في ترجمة أبي إدريس: "الاستيعاب" (1999 و 2844)، و"حلية الأولياء" 5/ 122، و"السير" 4/ 272.

عبد الله بن جعفر

وفيها توفي عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مَناف، وكنيته أبو جعفر، وقيل: أبو محمد. وأمّه أسماء بنت عُمَيس، وَلَدته بالحبشة في الهجرة الثانية. وهو أول مولود ولد في الإسلام بالحبشة. وهو من الطبقة الخامسة، ممن تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم حُدَثاء الأسنان، ويقال: إنه كان له يوم توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين. وقال ابن سعد: وُلد للنّجاشي بعدما وَلدت أسماء ابنَها عبد الله بأيام ابنٌ، فأرسل إلى جعفر فقال: ما سَميتَ ابنَك؟ قال: عبد الله، فسمَّى النَّجاشي ابنَه عبد الله، وأخذت أسماء ابنَ النجاشي، فأرضعتْه حتى فَطَمَتْه بلبن عبد الله بن جعفر، وحَظِيت بذلك عندهم، [وولدت أسماء لجعفر بالحبشة عونًا أيضًا] (¬1). وقال الزبير بن بكار: وأخو عبد الله بن جعفر لأمه محمد بن أبي بكر الصديق، بن علي بن أبي طالب (¬2). وكان أبو بكر رضوان الله عليه يُسمّي عبد الله: ابني ابني. ذكر طرفٍ من أخباره: [قال الموفق رحمه الله: ] كان عبد الله جوادًا، ظريفًا، حليمًا، عفيفا، يُسمَّى بحرَ الحود، ولم يكن في الإسلام أسخى منه. [وقال ابن سعد بإسناده إلى] يحيى بن سعيد بن دينار قال: حجَّ معاوية فنزل في دار مروان بالمدينة، كما عليه النهار يومًا، [وفزع من القائلة] فقال: يا غلام انظر مَن بالباب هل ترى الحسن بن علي، أو الحسين، أو عبد الله بن، جعفر أو عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، فأدخِله عليَّ. فخرج الغلام فلم يرهم، فسأل عنهم، فقيل: ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 6/ 462، وما بين معكوفين من (ص). (¬2) "نسب قريش" 82.

هم مجتمعون عند عبد الله بن جعفر يتغدّون، فأخبره فقال: والله ما أنا إلا كأحدهم، ولقد كنتُ أُجامعهم في مثل هذا. فقام، فأخذ عصا فتَوَكَّأ عليها وقال: مُرّ يا غلام، فخرج بين يديه حتى دخل عليهم، فقال: هذا أمير المؤمنين بالباب، فدخل، فأوسع له عبد الله بن جعفر عن صدر فِراشه فجلس، فقال: غَداءَك يابن جعفر، فقال: ما تشتهي من شيء فادعُ به، فقال: أطعمنا مخًّا، فقال: يا غلام، هات مخًّا، فأتى بصَحفَةٍ فيها مُخّ، فأقبل معاوية يأكل، ثم قال عبد الله: يا غلام، زدنا مُخًّا فزاده، قالها ثلاثًا، وهو يزيد، فقال معاوية: إنما كنا نقول: زدنا سخينًا، أما زدنا مخًّا فلم أسمع به قبل اليوم، يابن جعفر ما يَسَعُك إلا الكثير، فقال عبد الله: يُعين الله، فامر له معاوية بأربعين ألف دينار [وكان قد ذبح كذا وكذا شاةً (¬1). وأيضًا حدثنا سعيد بن جبير، عن رجل من أهل المدينة (¬2) قال: ] خرج عبد الله بن جعفر حاجًّا، حتى إذا كان ببعض الطريق، وقد تقدّم ثَقَله، مَرّ بأعرابية جالسة على باب خَيمة، فنزل قريبًا منها، فقامت وقالت: إليّ إليّ، بَوَّأك الله منازل الأبرار، فأعجبه مَنطِقُها، فتحوّل إليها، فألقت له وسادة من أَدَمٍ، وقامت إلى عُنَيزة لها في كِسْر الخيمة، فما شعر حتى قدَّمت إليه عضوًا منها، فنهس منه (¬3). وأقبل أصحابه فنزلوا، وأتتهم بما بقي منها فأكلوا، وقدَّموا سُفْرَتَهُم، فقال عبد الله: ما لنا حاجة إلى طعامكم سائر اليوم، فلما ارتحلوا أمر صاحب نفقته أن يعطيها خمس مئة دينار، فأبت أن تقبلها وقالت: أخاف عَذْلَ بعلي، فما زال بها حتى قبلتها، وسار فلم يلبث إلا قليلًا وإذا بأعرابي يسوق إبلًا له، فقال عبد الله: ما أظنه إلا المحذور، وجاء إلى امرأته، فأخبرتْه الخبر، وأنشدته [قصيدة بشرح الحال]: [من الطويل] توسَّمتُه لما رأيتُ مهابةً ... عليه فقلتُ المرءُ من آل هاشمِ ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 6/ 467 - 468. وما بين معكوفين من (ص). (¬2) الخبر في "تاريخ دمشق" ص 52 (عبد الله بن جابر- عبد الله بن زيد)؛ من طريق الفياض بن محمد القرشي، عن رجل من أهل المدينة، وما بين معكوفين من (ص). (¬3) بالسين المهملة، أي: أخذه بمقدَّم أسنانه. وقوله: كِشر الخيمة أي: جانبُها.

وإلا فمِن آل المُرار فإنّهم ... ملوكٌ عظامٌ من كُماةٍ ضَراغمِ فقمتُ إلى عَنْزٍ بقيةُ أعنُزٍ ... فأذبحُها فعلَ امرئ غيرِ نادمِ فعوَّضني منها غَنائي ولم يكن ... يُساوي لُحيمُ العنزِ خمس دراهمِ بخمس مئينٍ من دنانيرَ عَوَّضَتْ ... عن العَنْزِ ما جادتْ به كفُّ آدمي ثم أرته الدنانير فقال: بئس مَعقِلُ الأضيافِ والله أنتِ، أبعتِ معروفَك بما أرى من الأحجار؟ ! فقالت: قد امتنعتُ من قَبولها مخافة العَذْل، فقال: أخِفتِ العذلَ وما خِفتِ العار؟ كيف أخذ الرَّكب؟ قالت: كذا، فركب فرسه وقال: أنا ذاهب إليهم، فإن سَلَّموا إلي معروفي وإلا حاربتُهم، فقالت: ناشدتك الله أن تَسُوْءهم. فركب وأخذ الدّنانير، فربطها في رأس رُمحه، ولحقهم فقال: خذوا أحجارَكم ورُدُّوا عليَّ معروفي، فلاطفه عبد الله وقال: كيف يرجع إلينا شيءٌ قد أمضيناه، فقال خذوها وإلا حاربتكم، وتهيّأ للقتال، فلما رأى عبد الله ذلك قال لغلمانه: خذوها، ثم قال له: هل لك أن نُزَوّدك من طعامنا؟ فقال: لا، الحيُّ قريب. ثم سار والتفت فقال لعبد الله: هل لك حاجة؟ قال عبد الله: نعم، تخبر المرأة بسوء صَنيعك معنا، فضحك الأعرابي ثم انصرف، [وفي رواية: تخبر المرأة ما لقينا منك. وحدثنا غير واحد، عن أبي الفضل محمد بن ناصر بإسناده، عن] إسحاق بن عبد الله بن جعفر قال: جاءت امرأة إلى عبد الله فقالت: يا سيدي، ، وهبتْ في بعضُ جاراتي بيضة، فحضنتُها تحت دجاجة، فخرجت فرّوجة، فغذوتها بأطيب الطعام، وذبحتُها وشويتُها، وجعلتُ لله عليَّ أن أدفِنها في أكرم بُقعة في الدنيا، ووالله ما أرى بُقعةً أكرم من بطنك، فقال: يا بُدَيح، خذها منها، وامض إلى الدار التي هي فيها، فإن كانت لها فاشتر ما حولها من الدّور، كان لم تكن لها فاشترها لها وما حولها، واحمل إليها ثلاثين بعيرًا عليها حنطةً وشعيرًا وأرزًّا وزبيبًا وثيابًا ودراهم ودنانير، فقالت العجوز: يا سيدي، لا تُسرف إن الله لا يحب المسرفين (¬1). وقال إسحاق بن عبد الله بن جعفر [وقد رواه أيضًا ابن ناصر قال: ]: خرج أبي في سفر، فمر بحديقة، فنزل إلى جانبها، وإذا بعبد أسود بين يديه رغيفان، فجاء كلب ¬

_ (¬1) "المنتظم" 6/ 214 - 215، وما بين معكوفين من (ص).

فربض بإزائه، فألقى إليه رغيفًا، وأكل العبد نصف رغيف، وجاء كلب آخر، فرمى إليه بالنصف الآخر، فقال له عبد الله: مَن أنت؟ فقال: عبد لصاحب هذه الحديقة، قال: كم قُوتُك كل يوم؟ قال: ما ترى رغيفان، قال: فما هذا الكلب؟ قال: كلب يجيء من مكان بعيد، فأستحي منه أن آكل وعيناه ترمقني، فأنا أقاسِمُه قُوتي، قال. وهذا الكلب الآخر؛ قال: غريب ما رأيتُه قبل اليوم، قال: وما تأكل بقية النهار؟ قال: ما رأيت، أشُدُّ صُلبي بنصف رغيف إلى غدٍ حتى يأتيني قُوتي، فافعل فيه ما ترى، فبكى عبد الله وقال: أُلام على السَّخاء! ؟ إن هذا العبد لأَسْخى مني، ثم اشترى الحديقة بخمس مئة دينار والعبد، ووقفها عليه (¬1). [وقال الهيثم: ] كتب إليه أقوام يُخَوفونه الفقر، فكتب على الورقة: {الشَّيطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268] إن الله قد عوَّدني أن يتَفضَّل عليَّ، وعوَّدتُه أن أتَفضَّل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فتنقطع عنّي المادَّة. وقال الزبير بن بكار: دخل أعرابيٌّ على عبد الله بن جعفر، فرآه مَحمومًا فقال: [من المنسرح] كم لوعةٍ للنَّدى وكم قَلَقٍ ... للجُودِ والمَكْرماتِ من قَلَقِكْ ألبَسَك اللهُ ثوبَ عافيةٍ ... في نَومك المُعتري وفي أَرَقِكْ أخرجَ من جسمك السَّقامَ كما ... أخرج ذمَّ الفِعال من عُنقِكْ فأمر له بثلاثين ألفًا (¬2). ودخل عليه زياد الأعجم، فسأله خمسَ ديات فأعطاه إياها، ثم سأله خمسة أخرى فأعطاه إياها، ثم مسألة عشر ديات فأعطاه إياها فقال: [من الوافر] سألْناه الجَزيل فما تَلكَّا ... وأعطى فوق مُنْيَتِنَا وزادا وأحسَنَ ثم أحسَنَ ثم عُدْنا ... فأحسَن ثم عُدتُ له فعادا مِرارًا لا أعودُ إليه إلا ... تَبسَّم ضاحكا وثَنى الوسادا (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه من طريق آخر: الدينوري في المجالسة (3229)، وابن عساكر 48 - 49، وانظر فيهما مصادر أخرى. (¬2) "تاريخ دمشق" (عبد الله بن جابر- عبد الله بن زيد) 56، و"المنتظم" 6/ 215. (¬3) "تاريخ دمشق" 6/ 474، والأبيات في ديوانه 105 - 106.

وقد مدحه جماعة من الشعراء، منهم عبيد الله بن قيس الرُّقيات، له فيه قصائد، منها: [من الطويل] تَقَدَّتْ (¬1) بيَ الشَّبهاءُ نحو ابنِ جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلُها ونهارُها تزورُ امرأً قد يعلَمُ الله أنه ... يَجودُ له كفٌّ قليلٌ غِرارُها أتيتُك أُثني بالذي أنتَ أهلُه ... عليك كما أَثنى على الرَّوضِ جارُها ذكرتُكَ إذ فاض الفُراتُ بأرضنا ... وجَلَّل أعلى الرَّقْمَتَينِ بحارُها قال عبد الملك بن مروان لعبيد الله بن قيس: ويحك، أما استحيَيتَ من الله حيث تقول: تزور امرأ قد يعلم الله أنه، ألا قلت: قد يعلم الناس، ولم تقل: يعلم الله، فقال له ابن قيس الرقيّات: والله لقد علم الله والناس وأنت (¬2). مرَّ ابنُ قيس على ابن أبي عَتيق، فسلّم عليه فقال: وعليك السلام يا فارس العَمياء، فقال له: وما هذا الاسم؟ فقال: أنت سمَّيتَ به نفسَك حيث تقول: سواء عليها ليلُها ونهارُها، وما يستوي الليل والنهار إلا على الأعمى، فقال: ما أردتُ إلا التَّعَب، قال: فهذا يحتاج إلى تَرجُمان يترجم عنه (¬3). وكان عبد الله بن جعفر صديقًا لمعاوية، وكان يَفِد عليه كلّ سنة، فيعطيه ألف ألف درهم، ويقضي له مئة حاجة ويقول: والله ما في قريش أحبّ إلي أن يكون ابن هند منك، وكان يُنزله معه في داره، ولما حضرت معاويةَ الوفاةُ قال ليزيد: يا بُنيّ، إن لي خليلًا بالمدينة، فاستوصِ به خيرًا، واعرف له مكانَه مني -يعني عبد الله بن جعفر- فلما مات معاوية رحل عبد الله إلى يزيد، فأكرمه وألطَفَه، وقال له: يا أبا جعفر، كم كان أمير المؤمنين يُجيزك كلّ سنة؟ قال: بكذا وكذا ألف دينار، قال: قد أضعَفْتُها لك، فقال له عبد الله: بأبي أنت وأمي، ما قلتُها لأحد قبلك، ولا أقولها لأحدٍ بعدك. وقال الزبير بن بكّار (¬4): اجتمع عبد الله بن جعفر بيزيد بن معاوية عند أبيه معاوية، فأخذ يزيد يَعرض لعبد الله بن جعفر وينسبه إلى الإسْراف، فقال له عبد الله: يا يزيد، ¬

_ (¬1) سارت سيرًا ليس بعجل ولا مبطئ. (¬2) "تاريخ دمشق" 42 - 43 (عبد الله بن جابر- عبد الله بن زيد)، والأبيات في ديوانه 82 - 83. (¬3) "الأغاني" 5/ 88 - 89. (¬4) الخبر في "تاريخ دمشق" 36 من طريق العباس بن بكار بإسناده إلى الشعبي.

[إني] لأرفع نفسي عن جوابك، ولو كلّمني أبوك لأجبتُه، فقال معاوية: كأنك تظن أنك أشرف منه؟ قال: إي والله، ومنك ومن أبيك وجدِّك، فقال معاوية: ما كنتُ أظنُّ أن أحدًا في عصر حَرْب بن أمية أشرف منه، قال. بلى، مَن أكفأ عليه إناءه، وأجاره بردائه، قال: صدقتَ. قال الزبير: ومعنى هذا أن حرب بن أمية كان إذا خرج في سفر فعَرَضت له ثنيّة أو عقبة تَنحنَح، فلم يتجاسر [أحد أن] يربأها حتى يجوز حرب، فعرضت له ثنيّة، فتقدَّمه غلامٌ من تميم، فتهدّده حرب، فلما قدم مكة التقاه حرب فشدّ عليه، فاستجار الغلام بالزبير بن عبد المطلب فأجاره، وأراد حرب بعد ذلك قتلَ الغلام، فلقي الزبير حربًا، فشدّ عليه ليقتله، فدخل دارَ عبد المطلب مُستجيرًا، فأكفأ عليه عبد المطلب جَفنةَ هاشم التي كان يَهشم فيها الثَّريد، وجمع الزبير إخوتَه، وجلسوا على الباب ينتظرون خروج حَرْب، فأعطاه عبد المطَّلب (¬1) رداءه وقال: البس هذا فإنهم إذا رأوه عليك لا يَهيجونك، فلبسه حرب، وخرج فنظروا إليه فلم يَهيجوه. وقال [ابن] سَلّام الجُمحي: اجتمع عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص عند معاوية، فقال عمرو لعبد الله: يابن جعفر، ليَضع منه، فقال له عبد الله: يابن النّابغة، لئن نسبتَني إلى جعفر الطيّار فلستُ بدَعي ولا أبتر، وقد ادّعاك جماعة، ووُلدتَ على فراش مشرك، وفي أبيك العاص نزل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر: 3] (¬2). [حدثنا أبو محمد عبد العزيز بن دُلَف المقرئ قال: أخبرتنا شُهدة بنت أحمد الكاتبة بإسنادها، حدثنا] أبو نضر العُقيلي، عن جماعة من مشايخ أهل المدينة قالوا: كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مغنّية؛ [يقال لها: عمارة، وكان يَجِد بها وَجْدًا شديدًا، فقدم بها الشام]، فحضر عنده يزيد، فغَنّت الجارية، فعشقها يزيد عشقًا عظيمًا، ولم يُمكنه أن يَبوحَ بما في نفسه خوفًا من أبيه، وأقام على ذلك مدَّةً، ولم يطلبها من ابن جعفر خوفًا أن يمنعه إياها، فلم تزل في نفسه حتى مات معاوية، وولي ¬

_ (¬1) في النسخ: عبد الملك، وهو خطأ. والخبر في تاريخ دمشق (الجزء المذكور قبل) ص 36 - 37 بنحوه عن الشعبي مطوَّلًا. قوله: يَرْبأها، أي: يشرف عليها. (¬2) بنحوه في تاريخ دمشق ص 39، وما سلف بين معكوفين منه.

يؤيد، فأحضر رجلًا عراقيًّا ظريفًا، وباح إليه بما في نفسه، فقال له: إن عبد الله لا يبيعها ولا يُعتقها أبدًا بملك الدينا، ولكن سأتلطَّف لك، ادفع إليّ التُّحَفَ والهدايا والمال، فدفع إليه جملةً من ذلك. فقدم المدينة، فنزل في جِوار عبد الله بن جعفر، وأهدى إليه من ذلك شيئًا كثيرًا، فأنِس به، وأحضر يومًا عمارة بحضرة العراقي، فغَنّت فعجب بها، وقال له ابن جعفر: هل رأيتَ في الدنيا مثلها؟ قال: لا والله ما تَصلُح إلا لك، قال: فكم تُساوي؟ قال الرجل: لا أجِدُ لها ثمنًا غير الخلافة، فقال له ابن جعفر: إنما قلتَ ذلك لتزداد رَغبتي فيها (¬1)؟ ! فقال: لا والله، وإنني رجل تاجر، ولو أُعطيتُها بعشرة آلاف دينار لاشتريتُها، فقال ابن جعفر: وهل تساوي في هذا الزمان جاريةٌ عشرة آلاف دينار؟ ! [قال: هذه، فقال ابن جعفر. قد بعتكها بعشرة آلاف دينار]، فقال: اشتريتُها وأوجب البيع. وقام العراقي من ساعته وبعث بالمال، فقال ابن جعفر: إنما كنتُ مازحًا، فقال العراقي: البيعُ جِدُّه وهزْلُه سواء، فقال: ما بعتك ولا أبيعُها بالدنيا وما فيها، قال الرجل: "استحلفتُك عند القبر والمنبر، ففكَّر ابن جعفر وقال: يُحَلِّفني فيقول الناس: قهر عبدُ الله ضيفَه وظَلمه حتى ألجأه إلى اليمين، ما ثَمَّ غير الصبرِ وحُسنِ العَزاء، خُذها، ودفعها إليه، فأخذها من وقته، وخرج إلى الشام، وقال لها: استتري، فوالله ما اشتريتُك لنفسي، وإنما اشتريتُك للخليفة، ولستِ من جَواريَّ، وأخاف أن تَتوقَ إليكِ نفسي، فاحتجبي. وسار إلى دمشق، فلما قَدِمها إذا بجنازة يزيد، وقد استخلف ابنَه معاوية، فأقام أَيامًا، وتلطَّف حتى دخل عليه، فقص عليه القصّة -وكان عبد الله بن جعفر قد جهَّزها بثلاثة آلاف دينار- فقال معاوية بن يزيد للعراقي: الجارية وما معها لك، وارْحَل من يومك عن الشام؛ لا أسمع لك فيه خبرًا، فرحل وقال لها: قد قلتُ لك: إنكِ ليزيد، وقد صرتِ الآن لي، وإني أشهد الله أنني قد رددتُكِ على عبد الله بن جعفر، فاستتري مني إلى المدينة. ¬

_ (¬1) في (ص): عيني منها.

فلما قدم المدينة نزل قريبًا من عبد الله بن جعفر، فدخل عليه بعضُ خدمه، فأخبره بقدومه وقال: ضَيفُك العراقي الذي صنع بك ما صنع، قد قدم ونزل بالعرصَة لا حَيَّاه الله -وكان ابن جعفر قد وَجَد لفراقها وَجْدًا عظيمًا- فقال عبد الله: أكرموه. وجاء الرجل يطلب الإذنَ على عبد الله، فأذن له، فدخل وقَبَّل يده، وقص عليه القصة، وقال: قد وَهبتُها لك، والله ما وضعتُ يدي عليها، ولا رأيتُ وَجهها إلا عندك، وأحضر الجارية وما معها من الجَهاز، فلما رأت ابن جعفر خرَّت مغشيًّا عليها، وخرج العراقي، وصاح أهل الدار: عمارة عمارة، وجعل ابن جعفر يقول: أحلم هذا؟ أحق هذا؟ أصدق هذا؟ ثم بعث إلى العراقي فأحضره، ودفع له عشرة آلاف دينار وقال: هذه ثمنُها، وهذه ثلاثة آلاف أخرى لك، ولو وصلتُكَ بالدنيا وما فيها لرأيتُك أهلًا لذلك، فقال العراقي: والله ما ردّها عليك إلا عملُك بالحقّ، وصبُرك عليه، ووفاؤك بقولك، وانقيادُك إليه، وتورُّعك عن اليمين، وانصرف العراقي شاكرًا (¬1). [واختلفوا في وفاته، فحكى ابن سعد، عن الواقدي قال: ] مات عبد الله بن جعفر سنة ثمانين، وهو عام الجُحاف [؛ سيل كان بمكة، جَحف الحاج وذهب بالإبل وعليها الحُمولة]، وكان الوالي يومئذ على المدينة أبان بن عثمان، وهو صلى عليه، [وكان يوم مات ابن تسعين سنة، قال: ] وكان أبان صديقًا له كثير الغِشْيان لداره، فحمل سريرَه بين العمودين، فما فارقه حتى وضعه بالبقيع؛ وإن دموعَه لتسيلُ على خدَّيه، وهو يقول: كنتَ والله خيرًا لا شرَّ فيك، وكنتَ والله شريفًا واصلًا برًّا، كنتَ والله وكنت، [قال: ] والوَلائدُ خلف سريره قد شَقَقْن الجُيوب، والناس يَزدحمون على سريره. [وقال الواقدي: وكان ابن جعفر] قد خَرِب فوه، وسقطت أسنانه من الكبر، فكان يُعمَل له الثَّريد والشيء الليّن فيأكله، وكان إذا قيل له: إنك ليس تأكل؛ شقَّ عليه ذلك. [هذا صورة ما حكاه ابن سعد (¬2)، عن الواقدي في وفاته، وسنه، والصلاة عليه]. ¬

_ (¬1) "المنتظم" 6/ 215 - 219، و"تاريخ دمشق" 58 - 61، وما بين معكوفين من (ص). (¬2) في طبقاته 6/ 469 - 470.

وقيل: توفي سنة اثنتين أو أربع وثمانين، وقيل: خمس وثمانين، وقيل: سنة تسعين. [قال أبو بكر محمد بن الأنباري: إن] عبد الملك بن مروان أمسك عنه عطاءه، فأضاق إضاقةً شديدة، فلقيه رجل يومًا وقد خرج من المسجد، فشكا إليه الحاجة، فقال: اصبِر حتى تأتيَ غَلَّتي وأواسيك، قال: ما لي صبر، وكان عليه بُردان، فقال له: أينفعك أحدهما؟ قال. نعم، فدفع إليه البرد، ثم استقبل ابن جعفر القبلة وقال: اللهم إن لم يكن إلا ما أرى؛ فاقبضني إليك، فحُمَّ من ساعته، ولم يخرج من منزله بعد هذا حتى أُخرجت جنازته (¬1). ذكر أولاده: فولد جعفراً الأكبر، وبه كان يُكنى، أمُّه أم عمرو بنت خِراش، واسمها الأُميَّة. وعليًّا، وعونًا الأكبر، ومحمدًا، وعباسًا، وأمَّ كلثوم، وأمهم زينب بنت علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأمها فاطمة عليها السلام بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحسينًا؛ دَرَج، وعونًا الأصغر؛ قُتل مع الحسين - رضي الله عنه - ولا بقيّةَ له، أمهما جُمانة بنت المسيب بن نَجَبة الفَزاري. وأبا بكر، وعُبيد الله، ومحمدًا، أمُّهم الخَوْصاء بنت خَصَفَة من بكر بن وائل. وصالحًا، ويحيى، وهارون، وموسى، لا بقيَّةَ لهم، وجعفرًا، وأمّ أبيها (¬2)، وأم محمد، أمهم ليلى بنت مسعود بن خالد، من بني دارِم، في رواية: خلف عليها عبد الله بعدما استشهد علي - عليه السلام - (¬3). وحميدًا، والحسن لأمّ ولد. وجعفرًا وأبا سعيد، أمهما أم الحسن بنت عمرو (¬4)، من بني عامر بن صَعصَعة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 6/ 219 - 220 من طريق أبي بكر بن الأنباري، عن محمد المقرئ، عن عبد الله بن عمر، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبيه، عن مشيخة له. (¬2) في النسخ: وجعفرًا وأمه أسماء، وهو خطأ، والمثبت من المصادر، وسيرد ذكرها في ذكر أعيان أولاده انظر "نسب قريش" 83، و"طبقات ابن سعد" 6/ 461، و"المعارف" 207، و"أنساب الأشراف" 2/ 69. (¬3) انظر أنساب الأشراف 2/ 69. (¬4) في "طبقات ابن سعد" 6/ 462: أم الحسن بنت كعب.

ومعاوية، وإسحاق، وإسماعيل وقُثَم لا بقيَّةَ له، وعباسًا، وأمَّ عَوْن لأمَّهات أولاد شَتّى. فنذكر أعيان أولاده فنقول: أما جعفر الأكبر فانقرض عَقِبه. وأما علي فكان جوادًا، وفيه يقول مُساحِق بن عبد الله بن مَخْرَمة- وقد حمل أهل أبيات من قريش في سُنَيّات خالد: [من الطويل] أبا حسَن إني رأيتُك واصِلًا ... لهلْكى قُريشٍ حين غُيِّر حالُها سعيتَ بهم سَعيَ الكريمِ ابنِ جعفرٍ ... أبيك وهل من غايةٍ لا ينالُها فما أصبحتْ في ابنَي لؤيٍّ فَقيرةٌ ... مُدَفَّعةٌ إلا وأنت ثِمالُها وكان علي هذا، وعلي بن عبد الله بن عباس، وعلي بن الحسين زين العابدين إذا قَدِموا على الوليد بن عبد الملك يقول لولده العباس بن الوليد: جالسْ عُمومتَك (¬1). وأما عون الأكبر فقتل مع الحسين - رضي الله عنه - يوم الطّفوف، وكان أبوه عبد الله يحبّه حبًّا شديدًا، فحزن عليه حُزنًا عظيمًا عُرف فيه، ولا بقيَّةَ له. وأما إسحاق فضربه عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه الحَدّ، فقال له إسحاق: يا عمر، ليس ثَمَّ قرشيّ إلا وقد حُدَّ، أشار إلى عبد العزيز بن مروان، فإنه ضُرب الحدّ. وولد إسحاق: القاسم بن إسحاق، أمّه أمّ حَكيم بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (¬2). وأما معاوية بن عبد الله بن جعفر فذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة، وأمه أم وَلَد، وكان صديقًا ليزيد بن معاوية خَصيصًا به، ولما سمّاه أبوه عبدُ الله معاويةَ؛ هجره بنو هاشم قاطبةً، فلم يُكلِّمه أحد منهم حتى مات، ولما رأى ذلك معاوية بن عبد الله وُلد له ولدٌ، فسمّاه يزيد محبةً ليزيد بن معاوية. وكان معاوية وَصيَّ أبيه، وكان بخيلًا، وكان له أولاد منهم: عبد الله الخارج بالكوفة في آخر زمان مروان بن محمد، وجعفر؛ لا بقيَّةَ له، ومحمد، وأمّهم أتم عَون ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 2/ 67 - 68، و"التبيين" 118 - 119، و"تاريخ دمشق" 51/ 11 - 12. قوله: ثِمالُها أي: ملجأها. (¬2) "المعارف" 208، و"أنساب الأشراف" 2/ 70.

بنت عَون بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وسليمان لأم ولد، والحسن، ويزيد، وصالح، وحمَّادة، وأُبَية، وأمهم فاطمة بنت حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وعلي قتله عامر بن ضُباره، لأمّ ولد (¬1). فأما عبد الله بن معاوية فإنه مضى إلى أصبهان، وطلب الخلافة، فاستولى على فارس، فقتله أبو مسلم، وله عَقِب، وعبد الله بن معاوية هو القائل: [من الطويل] رأيتُ فُضيلًا كان شيئًا مُلَفَّفًا ... وكشَّفه التمحيصُ حتى بدا ليا أأنتَ أخي ما لم تكن ليَ حاجة ... فإن عَرضَتْ أيقنتُ أن لا أخا ليا فلا زادَ ما بيني وبينك بعدما ... بدا ليَ في الحاجاتِ إلا تَماديا فلستُ بِراءٍ عيبَ ذي الوُدِّ كلَّه ... ولا بعضَ ما فيه إذا كنتُ راضيا فعينُ الرِّضى عن كلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ ... ولكنَّ عينَ السُّخطِ تُبدي المَساويا كلانا غَنيٌّ عن أخيه حياتَه ... ونحن إذا مِتْنا أشدُّ تغانيا (¬2) وهو القائل (¬3): [من الوافر] أرى نَفسي تَتوقُ إلى أُمورٍ ... يُقَصّر دون مَبْلَغِهِنَّ مالي فنَفسي لا تطاوعني لبُخْلٍ ... ومالي لا يُبَلِّغُني فَعالي (¬4) حدّث معاوية بن عبد الله عن: أبيه، والسائب بن يزيد، ورافع بن خَديج، وروى عنه الزُّهري، والحسن بن زيد بن الحسن بن علي. وأما أمُّ كُلثوم بنت عبد الله بن جعفر فأمُّها زينب بنت علي بن أبي طالب عليه السلام، وكانت عند القاسم بن محمد بن جعفر بن علي بن أبي طالب، ثم زوّجها أبوها عبد الله بن جعفر من الحجاج بن يوسف، فسقطت منزلتُه عند الناس، وجفاه الخلق، وكان إذا مَرَّ في المدينة فسلَّم لا يردُّ عليه أحد، وإذا دخل المسجد خرج منه الناس ويقولون: صاهر مَن قال: يا خبثة، ومَن فعل بالصحابة ما فعل، وسلَّطه على بنت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 323، و"المعارف" 207، و"تاريخ دمشق" 68/ 347 - 348. (¬2) "أنساب الأشراف" 2/ 63، و"تاريخ دمشق" 39/ 167، و"التبيين" 118، وديوانه 88 - 90. (¬3) في (د): وله أيضًا. (¬4) "تاريخ دمشق" 39/ 166، وديوانه 67.

[وقال الزبير بن بكار: ] فلما بلغ الوليد بن عبد الملك هذا عزَّ عليه، وكان وليَّ عهد أبيه، فوفد ابنُ جعفر على عبد الملك، فالتقاه ظاهرَ دمشق، فسلَّم عليه فقال الوليد: لا سَلَّم الله عليك، ولا قَرَّب دارَك، ولا أدنى مَزارَك، وَيْحك، عَمَدتَ إلى عَقيلة آل جعفر، وابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تدفعها إلى عبد ثقيف يَتَفَخَّذُها، والله لئن عشتُ لأُرينَّك العَجبَ، فاعتذر إليه بضيقِ ذات يده، وبجفاء عبد الملك إياه، فلم يقبل عُذْرَه، ومات ابن جعفر قبل أن يُفضي الأمر إلى الوليد. [قال الزبير بن بكار: ] وكان الحجاج يقول: إنما تزوَّجتُها لأُذِلَّ آل أبي طالب، وكان الحسن البصري يَذمُّ عبد الله بن جعفر ويقول: أما كفاه سماعُ الغناء واللهو، وشَريُ المولَّدات بالألوف؛ حتى يزوّج ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجاج (¬1). وأما أمُّ أبيها بنت عبد الله بن جعفر فتزوَّجها عبد الملك بن مروان، فكانت تُبغِضُه لبَخَره، ويقال: إنها التي عضَّ عبد الملك على تُفَّاحة، ورمى بها إليها، فقوَّرَتْها بالسِّكين، ورمت مكان العَضَّة، فقال: ما هذا؟ فقالت: أمِيطُ عنها الأذى، فطلَّقها، فتزوجها علي بن عبد الله بن العباس، فتوفِّيت عنده. وأما أم محمد بنت عبد الله بن جعفر فتزوَّجها يزيد بن معاوية (¬2)، [وقد ذكرناها في ترجمة يزيد، وهذا ما انتهى إلينا، والله أعلم]. أسند عبد الله بن جعفر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرج له الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" ثلاثة عشر حديثًا. وروى عن أمه أسماء بنت عُميس، وروى عنه بنوه: إسماعيل، وإسحاق، ومعاوية، ومحمد بن علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، والشَّعبي، وغيرهم (¬3). وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا يزيد بن زُرَيع وحُمَيد بن الأسود، عن حَبيب بن الشَّهيد، عن ابن أبي مُليكة قال: قال ابن الزبير لعبد الله ¬

_ (¬1) انظر "أنساب الأشراف" 2/ 61، 69، و"العقد" 2/ 71، وما بين حاصرتين من (ص). (¬2) انظر "نسب قريش" 82 - 83، و"المعارف"، 207، و"أنساب الأشراف" 2/ 61، 69. (¬3) "تاريخ دمشق" 17 (عبد الله بن جابر- عبد الله بن زيد، طبعة المجمع العلمي).

ابن جعفر: أتذكر إذ تلقَّيْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأنت وابن عباس؟ فقال ابن جعفر: نعم، فحمَلَنا وتركَك (¬1). وليس في الصحابة عبد الله بن جعفر غيره. وأما من غيرهم فثلاثة: عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المِسْوَر (¬2) بن مَخْرَمَة الزّهريّ، من الطبقة السادسة من أهل المدينة، وأمُّه بُرَيْهة بنت محمد، من ولد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -. وكان من رجالات قريش، من أشراف المدينة، عالمًا بالفتوى والمغازي وغيرها. وكان محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن إذا دخل المدينة مُستخفيًا نزل عليه، وكان من ثِقاته وخَواصّه، ينقل إليه الأخبار، ولما خرج محمد خرج معه، ولما قُتل محمد اختفى. وكان محمد لما خرج بالمدينة تبعه مع أخيه موسى بن عبد الله إلى الشام ليدعُوَا إليه، فرجعا من دُومَةِ الجَنْدل خوفًا على أنفسهما، ثم أقام مُستخفيًا، وقد خرج الحسين بن علي بن حسن بن حسن، فخرج معه، فقتل معه بفَخّ (¬3). وسئل الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - عن محمد الله بن جعفر هذا فقال: ثقة ثقة. وإنما كره أهل المدينة روايته لخروجه مع محمد، والحسين. قال الواقدي: كنتُ بالمدينة وجاءني نَعيُ أبي عمر، فخرجتُ إلى السّوق، فإذا أنا بالمَخْرميّ -يعني عبد الله بن جعفر هذا- راكب على بغلته واقف، فسلّم علي وقال: ما رأيتُك منذ أيام! فقلت: جاء نَعيُ أبي، فلم يكلّمني حتى رَدَّ رأسَ بَغْلته إلى داره فنزل، ثم جاءني ماشيًا إلى بيتي فعزَّاني، فشَقَّ عليَّ مَجيئُه، فقلت: ما أحبُّ أن تَتَعنَّى وتجيءَ ماشيًا، فقال: إنَّ أحبَّ إليّ ما أقضي فيه الحقّ أشقُّه علي، ألم تسمع حديث أم بكر بنت المِسْوَر؟ قلت: لا، قال: حدَّثتني أم بكر: أن المِسْوَر اعتَل، فجاءه ابنُ عباس يَعوده في وقتِ القائلة، فقال له المِسْوَر: يا أبا عباس، هلّا في ساعةٍ غير هذه، فقال ابن عباس: أَن أحبّ الساعات إليَّ أن أُؤدّي فيها الحقّ أشقّها علي. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3082)، وأخرجه أحمد (1742)، ومسلم (2427). (¬2) في النسخ: الأسود، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 7/ 580، و "تاريخ دمشق" 70 (عبد الله بن جابر- عبد الله بن زيد)، و"تهذيب الكمال" (3191)، و"السير" 7/ 328. (¬3) هو وادٍ بمكة. معجم البلدان 4/ 237.

عبيد الله بن أبي بكرة الثقفي

والثاني عبد الله بن جعفر بن محمد الطبري، سمع عبد الله بن بكر الطّبراني بجبل لبنان، والحسن بن عبد الله بن سعيد ببعلبك وغيرهما. والثالث عبد الله بن جعفر المالكي، كنيته أبو القاسم، الضّرير (¬1). [وفيها توفي] عُبيد الله بن أبي بَكرَة الثَّقَفي وكنيته أبو حاتم [ذكره ابن سعد] في الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، وأمُّه هوْلَة بنت غليظ، من بني عِجْل (¬2). وكان أحد الأجواد، [وقال ابن قتيبة: ] وهو أول من قرأ القرآن بالألحان (¬3). وولي عبيد الله القضاء على البصرة، وأوفده الحجاج على عبد الملك يسأله أن يولي الحجَّاج خُراسان وسجستان، فلما خاطب عبد الملك قال له: أتحبُّ أن أُوَلِّيَكَهُما؟ فامتنع وقال: والله لا خُنتُ رجلًا بعثني في حاجة، فعظم في عين عبد الملك. قال خليفة: وفي سنة خمسين ولَّى زياد بن أبيه عبيد الله بنَ أبي بَكْرة سجستان، وأمره أن يقتل الهرَابِذَة (¬4)، وأن يُطفئ النيران ما بينه وبين سجستان، ولما مات زياد سنة ثلاث وخمسين عزل معاوية عُبيدَ الله عن سجستان، وولاها عباد بن زياد، وفي سنة ثلاث وسبعين (¬5) ولّى الحجاجُ عبيد الله على سجستان، والمهلّب على خُراسان. [وقال المدائني: ] كتب عبد الملك إلى الحجاج: لا تُوَلِّ عبيد الله خراجًا ولا بيتَ مال، فإنه أَريَحيٌّ (¬6). ¬

_ (¬1) ترجم لهما ابن عساكر 79، 80 (عبد الله بن جابر- عبد الله بن زيد). ومن قوله: أسند عبد الله بن جعفر الحديث (قبل صفحة) إلى هنا ليس في (ص). (¬2) "طبقات ابن سعد" 9/ 189. (¬3) "المعارف" 533، وما بين معكوفين من (ص). (¬4) هم قَوَمَةُ بيت النار للهند، أو عظماءُ الهند، أو علماؤهم، أو خَدَمُ نار المجوس. انظر القاموس. (¬5) كذا، وهو خطأ، صوابه: ثمان وسبعين، انظر "تاريخ خليفة" 210 و 219 و 277، و"تاريخ دمشق" 44/ 436. (¬6) "أنساب الأشراف" 1/ 592، و"تاريخ دمشق" 44/ 438.

[وقال المدائني أيضًا عن] سُليم مولى عبيد الله: ختمتُ بخاتمي هذا على أربعين ألف ألفِ درهم، فما حال الحول وفي بيت مال عُبيد الله منها درهم (¬1). [وحكى المعافى بن زكريا بمعناه فقال: ] دخل عبيد الله على الحجاج وفي يده خاتم فقال: يا عُبيد الله، كم ختمتَ بخاتمك هذا؟ فقال: على ثلاثين ألف ألف درهم، قال: ففيم أنفقتَها؟ قال: على تزويج العقائل، والمكافأة بالصّنائع. [وحكى ابن عساكر، عن] محمد بن سلام قال (¬2): اشترى عبيد الله جارية نفيسةً بمال عظيم، فلم يجد دابّةً يحملها عليها، وإذا برجل على دابة، فنزل وقال لعبيد الله: احملها عليها، فقال له عبيد الله: احملها إلى منزلك فهي لك. [قال: ] وكان عبيد الله يُنفِق على جيرانه، أربعين دارًا عن يمينه، وأربعين عن شماله، وأربعين خلفه، وأربعين أمامه، يبعث إليهم بالطعام والكسوة والأضاحي، ويزوّج منهم مَن طلب التزويج. وكان يقول: موتُ الوالد مِلكٌ حادث، وموت الولد صَدع في الفؤاد لا يَنجبر أبدًا، وموت الأخ قَصُّ الجناح، وموت المرأة عرسٌ جديد (¬3). وحكى القاضي التنوخي في كتاب "الفرج بعد الشدة"، عن رجل من أهل الكوفة، أنه ضاق به الحال (¬4) حتى نقض منزله، وباع خَشَبه، وفقد القوت، فخرج على حمار إلى البصرة، فصادف مَوْكبًا فدخل في غمارهم، فجاء صاحب المَوْكب فنزل في داره، قال الرجل: ونزلتُ معهم، فدعا بطيب فغَلَفَهم بالغالية وغَلَفني معهم، ودعا بسَفَط ففتحه وأخرج منه أكياسًا؛ في كلّ كيسٍ ألف درهم، فبدأ بيمينه ففرَّق على الحاضرين، حتى انتهى إليّ فأعطاني كيسًا، ثم دار الدّور عليّ فأعطاني كيسًا آخر، ودار الدور ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 598. (¬2) في "تاريخ دمشق" 44/ 440: عن محمد بن سلام، عن مؤرج قال. اهـ. والخبر الذي قبله فيه 438. (¬3) الخبران في "تاريخ دمشق" 44/ 442، 438 - 439 (على الترتيب). (¬4) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): وضاق برجل من أهل الكوفة الحال، والمثبت من (ص). والخبر في "الفرج بعد الشدة" 2/ 28، ونقله عنه ابن الجوزي في "المنتظم" 6/ 221.

فأعطاني آخر، ثم صعَّد النظر فيَّ وقال: من هذا الذي لا أعرفه؛ ورمى إليّ كيسًا آخر، فأخذتُ أربعة أكياس، وخرجت فقلت لرجل: مَن هذا؟ فقال: عبيد الله بن أبي بَكْرة. [وقال المدائني: ] عطش عبيد الله يومًا، فاستسقى [ماءً]، فأخرجت له امرأة كُوزًا من ماء، فأعطاها ثلاثين ألفًا (¬1). وقال أبو اليقظان: كان عبيد الله من أشْجعِ الناس وأجوَدِهم، أقْطَع عمر بنَ عُبيد الله بن مَعمر بالبصرة سبع مئة جَريب، فحلف عمر عُمُرَه لا يرى عبيد الله إلا أخذ بركابه، ولا يزوّج ولدًا حتى يكون عبيد الله هو الذي يُزوّجه، ولا يُولد له مولود فيُسميه غير عبيد الله (¬2). ولما ولّاه الحجاج سجستان قدم عليه عمر هذا، فأقام عنده شهرًا، فلم يُعطه شيئًا، واشتغل عنه، فطلب عمر الرجوع إلى أهله، فاعتذر إليه عبيد الله وقال: انظروا في بيت المال، فنظروا فيه فإذا فيه ألف ألف وسبع مئة ألف، فدفعها إليه (¬3). قال المدائني (¬4): مرض رجل بتَشَنُّج العَصَب، فوَصَف له الأطباء لبن الجاموس والقعود فيه، فقال: ومَن لي بذلك؟ قيل: فعليك بعبيد الله فله جَواميس، فحُمِل على سرير، وألقي على باب عبيد الله، فأطلق له ثمان مئة جاموسة بأولادها. وكان عبد الملك بن مروان إذا ذكره قال: ذاك الأسود الأَدغَم، سيّد أهل المشرق، وكان عبيد الله أسمر اللون جدًّا (¬5). وقال المدائني: كان عبيد الله جالسًا في أصحابه، فأُهدي إليه وَصيف ووَصيفة، فقال لبعض جلسائه: خُذهما لك، ثم فكَّر وقال: إيثار بعض الجلساء على بعض قبيح، ثم قال: يا غلام، ادفع لكلّ واحدٍ من جُلسائي وَصيفًا ووَصيفة، قال: فأحصيَ ما دَفع إليهم فكان ثمانين وصيفًا ووصيفة. ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 1/ 591، و"تاريخ دمشق" 44/ 445 - 446. (¬2) "المعارف" 289. والجَرِيب: المزرعة. (¬3) "أنساب الأشراف" 1/ 590. (¬4) في (ص): وحكى المدائني قال ... والخبر في "أنساب الأشراف" 1/ 591، و "تاريخ دمشق" 44/ 442 - 443. (¬5) "المعارف" 289، وفسَّر الأدغم بأنه: الدابة الدّيزج. اهـ. وفي صحاح الجوهري (دغم 5/ 1920): الأدغم من الخيل: الذي لون وجهه وما يلي جحافله يضرب إلى السواد مخالفًا للون سائر جسده، وهو الذي تسميه الأعاجم: دِيْزَج. وجاء في (ص) زيادة: والأدعم بعين مهملة: السيد.

العلاء بن زياد

وقال الهيثم: انقطع رجلٌ إلى عبيد الله، فألحقه بحَشَمه وخاصّته، فبطر وكفر النعمة، وسعى به إلى زياد بن أبيه (¬1)، وبلغ عبيد الله ففكّر ساعة، فقيل له: فيم تفكّر؟ فقال: أخاف أن أكون قَصَّرتُ في حقه في الإحسان، فحمله ذلك على مَساوئ أخلاقه. ذكر وفاته: قد ذكرنا ما جرى على جيشه من الضّائقة [والجهد والقتل، فيقال: إنه] لما وصل إلى بُسْت مات كَمدًا، وقيل: [إنه] اشتكى أُذُنه فمات [في هذه السنة]. أسند الحديث عن أبيه، وعلي - عليه السلام -، وروى عنه ثابت ابنُه، وابن سيرين، وغيرهما. وقال ابن سعد: كان ثقةً قليلَ الحديث (¬2). ورثاه شعراء عصره، ويقال: مات بزَرَنْج من أعمال بُسْت. قال مجاهد المقرئ: [من الكامل] إن الجَوادَ إذا الرِّياحُ تَناوَحَتْ ... بزَرَنْجَ أصبحَ ما يُثَمِّرُ مالا لو صاحب السُّمَحاءَ كعبٌ ذو النَّدى ... أو حاتمٌ كانوا (¬3) عليه عِيالا أو طلحةُ الطَّلحاتِ في عِدَّانه ... أيامَ يُطعم ما تَهبُّ شمالا ما أكبرَ الأُمراء في سُلطانه ... وأشدّهم رأيًا خُلِقْتَ ثِمالا (¬4) قد طال ما سُسْتَ الجنودَ فلم تكن ... نَزِقًا تُسيء بهم ولا تِنْبالا قد فُقْتَ بالمِصرَيْن كلَّ سَمَيدَعٍ ... وغلَبْتَ مَن نزلَ الحجازَ فِعالا والشام لو قاسوا به سُمحاءَهم ... لسبَقْتَ حَلْبَتَهم معًا أمْيَالا [فصل: وفيها توفي] العلاء بن زياد ابن مَطَر بن شُرَيح العَدَويّ، من بني عديّ بن عبد مَناة من مضر، وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، وكان من العُبَّاد الخائفين. ¬

_ (¬1) في "المنتظم" 6/ 221، والخبر السابق فيه: فسعى به إلى عبيد الله بن زياد (¬2) انظر "طبقات ابن سعد" 9/ 189. (¬3) في "أنساب الأشراف" 1/ 596: لو صاحب السمحاء كعبًا ذا الندى أو حاتمًا كانا. (¬4) في "أنساب الأشراف": يا أكرم الأمراء في سلطانه وأقلهم كبرًا ... وهو الأشبه. وقوله: ثِمَالا، أي: ملجأً وغياثًا.

[وحكى أبو نُعيم الأصفهاني قال: تعبَّد العلاء، فكان يأكل في كل ليلة رغيفين]، وترك مجالسة الناس فلم يكن يجالس أحدًا، كان يخرج إلى المسجد فيصلّي، ويرجع إلى أهله، فاجتمع إخوانه: أنس بن مالك والحسن البصري والناس، فدخلوا عليه وقالوا: رحمك الله، أهلكتَ نفسَك، وهو ساكت، فلما فرغوا من كلامهم قال: إنما أتَذَلَّل لله تعالى لعله يَرحَمُني (¬1). [وقال ابن أبي الدنيا بإسناده عن] حُميد بن هلال (¬2) قال: دخلت مع الحسن على العلاء بن زياد نعوده وقد سَلَّه الحُزن، وكانت له أخت يُقال لها: شادة، تَندف القطن تحته غُدوةً وعشية، فقال له الحسن: كيف أنت يا علاء؟ فقال: واحُزناه على الحُزن، فقال الحسن: قوموا، فإلى هذا [والله] انتهى استقلالُ الحزن. [وقال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده، عن هشام بن زياد؛ أخي العلاء بن زياد] قال: كان أخي العلاءُ يُحيي كلَّ ليلة جمعة، فوجد فترة، فأتاه آتٍ في منامه فجذب بناصيته وقال: قم يا ابن زياد فاذكُر الله يَذكُرك [قال: ] فقام، فما زالت تلك الشّعرات التي أُخِذ بها قائمة إلى أن مات. وقال قتادة: كان زياد العدويّ قد بكى حتى عَمِي، وبكى ابنُه العلاء حتى عَشِيَ بصَرُه، وكان إذا أراد أن يتكلّم أو يقرأ أَجْهشَه البكاء (¬3). [وروى أبو نعيم الحافظ] عن هشام بن حسّان العدويّ قال: تجهز رجل من أهل الشام يريد الحج، فأتاه آتٍ في منامه فقال: ائتِ العراق، ثم ائتِ البصرة فبَشِّر العلاء بنَ زياد بالجنة. فتجهّز الرجل بعد أن رأى المنامَ ثلاثًا، فرحل إلى البصرة، فدخل على العلاء فبَشّره برؤياه، ثم خرج من وقته، وركب وسار من البصرة، فأقام العلاء سبعة أيام يبكي ليلًا ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 2/ 243، و"صفة الصفوة" 3/ 253، وما بين معكوفين من (ص). (¬2) الخبر في "حلية الأولياء" 2/ 242 عن أبي بكر القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن المبارك بن فضالة، عن حميد بن هلال، وأورده ابن الجوزي في "الصفوة" 3/ 253. وما بين معكوفين من (ص). (¬3) "الحلية" 2/ 244، و"صفة الصفوة" 3/ 254.

معاوية بن قرة

ونهارًا، ولا يذوق طعامًا، ولا يُسيغ شرابًا، ولا يفتح بابه، فأتى أهلُه إلى الحسن، وقالوا له: أدرِكْه وإلا مات، فجاء الحسن إليه ولامه، فقال: لا أجد ريح الجنة وثوابها ما دمتُ حيًّا (¬1). قال ابن سعد: توفي العلاء في ولاية الحجاج على العراق (¬2). وقال الهيثم: في سنة ثمانين، رحمه الله تعالى (¬3). وأسند عن أنس، وعمران بن الحُصَين، وأبي هريرة. وأرسل عن معاذ، وأبي ذَرّ، وعُبادة بن الصّامت وغيرهم. وروى عنه الحسن، وابن سيرين، وعلماء البصرة. وكان ثقة، وله أحاديث (¬4). [وفيها توفي] معاوية بن قُرَّة ابن إياس بن هلال المُزَنيّ [وكنيته] أبو إياس، وهو من الطبقة الثانية من أهل البصرة. وكان زاهدًا، خائفًا، وَرِعًا. [روى عنه أبو نعيم أنه] كان يقول: لقد أدركتُ سبعين رجلًا من الصحابة، لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئًا مما أنتم عليه إلا الأذان. وكان يقول: مَن يدلُّني على بكَّاءٍ بالليل، بسَّامٍ بالنهار. [وروى أبو نعيم عنه أيضًا أنه] كان يقول: إن القوم ليَحُجُّون ويَعتمرون، ويجاهدون، ويصلّون، ويصومون، وما يُعطَونَ يوم القيامة إلا على قدرِ عقولهم. ¬

_ (¬1) "الحلية" 2/ 245 - 246، و"صفة الصفوة" 3/ 255 - 256 دون اللفظة الأخيرة. (¬2) "طبقات ابن سعد" 9/ 216، وانظر "السير" 4/ 205. (¬3) من قوله: قال ابن سعد ... إلى هنا من (ص)، وجاء بدله في النسخ: توفي العلاء في سنة ثمانين. (¬4) من قوله: وأسند عن أنس ... إلى هنا ليس في (ص).

السنة الحادية والثمانون

[وحكى عنه أيضًا أنه] قال: إن الله يرزق العبدَ رزقَ شهر في يوم واحد، فإن أصلح أصلح الله على يديه، وعاش هو وعياله بقيّةَ شهرهم بخير، وإن هو أفسد أفسد الله على يديه، وعاش هو وعياله بقيّةَ شهرهم بشَرّ (¬1). [وقال ابن سعد بإسناده قال: ] سئل معاوية: كيف ابنُك لك؟ قال: نِعمَ الابن، كفاني أمر دنياي، وفرَّغني لآخرتي. ولم يذكر ابن سعد تاريخ وفاته، وقال: كان ثقة، وله أحاديث (¬2). وقال غير ابن سعد: مات سنة ثمانين (¬3). أسند عن الحسن، وابن عباس، ومعقِل بن يَسار، وخلقٍ من الصحابة. السنة الحادية والثمانون فيها أغزى عبد الملك ابنَه عُبيد الله بلادَ الرُّوم، فوصل إلى قَالِيقَلا ففتحها، ويقال: إن الفرات من عندها يجتمع. وفيها خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الحجّاج وخَلَعه، وقيل: في سنة اثنتين وثمانين. قد ذكرنا فيما تقدَّم مَقْتَ الحجاج لابن الأشعث، وتجهيزَه له إلى سجستان، وأنه رأى المصلحةَ أن يُغير على أطراف البلاد؛ إلى أن تلوح فرصة، فكتب إليه الحجاج في هذه السنة: إني لا أرى رأيك الذي رأيتَه صوابًا، وإنما حَمَلك عليه ضَعفُ عزيمتك، وخوفُك، فأوغِل في بلاد القوم، ومُرْ مَن قِبَلَك من المسلمين أن يَحرُثوا ويَزْرعوا، ويقيموا، فإنها دارُهم حتى يفتحها الله عليهم، فإن أبيتَ فأخوك إسحاق الأمير على الناس، فخَلِّه وما وُلّيتَه. ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 2/ 299، 298، 300 (على الترتيب)، و"صفة الصفوة" 3/ 257، 258، و"المنتظم" 6/ 222. (¬2) "طبقات ابن سعد" 9/ 219 - 220، وانظر "السير" 5/ 155. (¬3) من قوله: ولم يذكر ابن سعد ... إلى هنا من (ص)، وما سلف بين معكوفات منها، وجاء بدل هذا في النسخ: مات معاوية سنة ثمانين، وكان ثقة وله أحاديث.

فجمع ابن الأشعث الناس، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لكم ناصح، وعليكم مُشفق، وقد كان من رأيي ورأيكم ما اتَّفقْنا عليه من صلاح الأحوال، وقد جاءني كتابُ الحجاج يُعجِّزني ويضعفُني، ويأمرني بالوُغول في الأرض التي هلك فيها إخوانكم المسلمون بالأمس، لنَهلِك كما هلكوا، فرَوْا رأيَكم، فنادوه: لا سمعَ لعدوِّ الله ولا طاعة. وقيل: إن الحجّاج بعثَ إسحاقَ إلى عبد الرحمن في جيش، وكتب إلى عبد الرحمن أن: سر إلى بلاد التُّرك، وإلا فقد وَلَّيتُ أخاك إسحاق أميرَ الجند. فعزَّ على ابن الأشعث، وخلع الحجاج، وصعد المنبر وقال (¬1): أيها الناس، إن الحجاج لا يُبالي أن يُخاطر بكم فتَقتَحموا البلاد، فإن ظَفِرتم أكل بكم البلاد، وإن ظَفر بكم العدوّ كنتم الأعداء البُغَضاءَ. اخلعوا عدوّا الله، فنادى [الناس] من كل جانب: قد خلعناه. وقام عبد المؤمن بن شَبَث بن رِبعيّ التَّميمي -وكان على الشرطة- فقال: إنكم إن أطعتُم الحجاج جعل هذه البلاد بلادَكم ما بقيتم، ولم تُعاينوا الأحبة، أو يموتَ أكثرُكم، بايعوا أميرَكم، وانصرفوا إلى بلادكم فانْفُوا عدوَّ الله منها، فبايعوه على خَلْعِ الحجاج وجهادِه، ونفيِه من أرض العراق، ولم يذكروا عبدَ الملك حينئذ بشيء. وبعث ابنُ الأشعث إلى رُتْبيل فصالحه على أنه إنْ ظهر على الحجَّاج وضع عنه خراجَه، كان لم يَطْهر أو هُزِم والتجأ إليه حَماه من الحجاج، وتعاهدا وتعاقدا، ثم سار ابنُ الأشعث بجيوشه من بُسْت، وبين يديه الأعشى (¬2) على فرسٍ وهو يرتجز ويقول: شَطَّتْ نَوى مَن دارُه بالإيوان ... إيوانِ كِسرى ذي البُنا بالرَّيحانْ (¬3) من عاشقٍ أمسى بزابُلِسْتان ... إنّ ثَقيفًا منهم الكَذَّابانْ كَّذابُها الماضي وكذابٌ ثانْ ... أمكن ربّي من ثَقيفِ همدَان إنا صَمدنا للكَفورِ الفَتَّان ... لما طَغى في الكُفْرِ بعد الإيمان ¬

_ (¬1) في الطبريّ 6/ 335، و"أنساب الأشراف" 6/ 430، و"المنتظم" 6/ 225 أن القائل عامر بن واثلة الكناني. (¬2) هو الهمداني، والرجز في الطبري 6/ 337، و"أنساب الأشراف" 6/ 432. ببعض اختلاف. (¬3) في المصدرين: ذي القرى والريحان.

يا سيِّدَ الفِتيانِ عبدَ الرحمن ... هذي الجُموع سِر بها من قَحطان ومن مَعَدٍّ قد أتتْ وعدنان ... وقُل لحجَّاجٍ وليِّ الشَّيطان جاءت مَذْحِجٌ وهمدان (¬1) ... وإنَّهم ساقوه كأسَ الذِّيفان ويُلحِقوه بقُرى ابنِ مَرْوانْ ولما سار ابن الأشعث إلى العراق هرب منه إخوته: إسحاق، والصباح، والمنذر، والقاسم بنو محمد، فأما القاسم فعاد إلى أخيه عبد الرحمن، وأما الثلاثة الأُخَر فلَحِقوا بالحجّاج، وجعل ابنُ الأشعث على مُقدِّمته عَطيّة بن عمرو العَنْبري، وبعث الحجاج إليه الخيل، فجعل لا يلتقي له خيلًا إلا هزمها، فقال الحجاج: مَن هذا؟ قالوا: عطيّة، قال: نعم، وفيه يقول الشاعر (¬2): [من مجزوء الكامل] فإذا جعلتَ دُروبَ فا ... رسَ خلفَهم دَربًا فدَرْبا فابعَثْ عَطيَّةَ في الخيو ... لِ يَكُبُّهنّ عليه كَبَّا ولما نزل ابن الأشعث بكَرمان وَلّى عليها خَرَشَة بن عمرو التَّميمي، وكان بها أبو إسحاق السَّبيعي، وكان ابنُ الأشعث يقول له: خالي خالي، فقيل لأبي إسحاق: قد سأل عنك أفلا تأتيه؟ قال: لا، فلم يَقْرَبْه في الفتنة حتى كانت الجماجِم. ولما دخل الناس فارس اجتمعوا وقالوا: إنا إذا خلَعنا الحجاج فقد خَلَعنا عبدَ الملك، فقام يحيى بن أَبْجَر (¬3) من تَيم الله بن ثعلبة فقال: أيها الناس، إني قد خلعتُ أبا الذِّبَّان كما خلعتُ قميصي هذا، فخلعه الناس إلا قليلًا، وبايعوا ابنَ الأشعث على كتاب الله، وسنَّةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وخلعِ أئمةِ الضَّلالة، وجهادِ المُحِلِّين. ولما بلغ الحجاج ذلك كتب إلى عبد الملك يُخبره، ويسأله تعجيلَ الجنود، وسار من الكوفة حتى نزل البصرة. وبلغ المهلَّب ما فعل ابن الأشعث، فكتب إليه: الله الله في دماء المسلمين لا تَسفِكْها، وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تُفَرِّقْها، وبيعتك لا تَنْكُثْها. ¬

_ (¬1) وفيه سقط، ولفظُه في الطبري: يثبت لجمع مذحج وهمدان، وفي "أنساب الأشراف": اثبت لجمع ... (¬2) هو الأعشى الهمداني، والبيتان في الطبري 6/ 337، و"أنساب الأشراف" 6/ 425. (¬3) في الطبري 6/ 338: تيحان بن أبجر، وفي "أنساب الأشراف" 6/ 436: بيحان بن الجرّ؟ !

وقيل: إن ابن الأشعث كتب إلى المهلَّب وهو على خراسان ليُوافقه على الحجاج، فكتب إليه: يا ابنَ الأشعث، لقد وضعتَ رِجْلَك في غَززٍ طويلَ الغَيِّ على أمة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وكتب المهلَّب إلى الحجاج: إن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثلَ السَّيلِ المُنْحَدر من عَلٍ، لا يَرُدُّه شيء حتى ينتهي إلى قراره، وإن لهم شِرَّةً في أول مَخرجهم، وبهم صَبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فلا يَرُدُّهم شيء حتى يَنتهوا إليهم، فخلِّ لهم عن البصرة حتى يأتوها فيُواقِعوا نساءهم، وَيشمُّوا أولادهم، فترِقّ قلوبُهم، فيخلدوا إلى المقام في منازلهم، فيتفرَّقوا عن ابن الأشعث، ثم واقِع مَن جاءك منهم، فإن الله ناصرُك عليهم. فلما قرأ الحجاج كتابَه قال: فعلَ الله به وصنع، ما في نظر، ولكن لابن عمِّه نَصح، وبعث بكتابه إلى عبد الملك، فلما قرأه نزل عن سريره، وبعث إلى خالد بن يزيد، فأقرأه الكتاب، فلما قرأه ورأى ما به من الخوف والجزع؛ قال له: لا تخف، لو كان الفَتْقُ من خراسان كان، أما من سجستان فلا بأسَ عليك. ثم قام عبد الملك خطيبًا وقال: أما بعد، فإن أهلَ العراق طال عليهم عُمري؛ فاستعجلوا عليّ، اللهم سلِّطْ عليهم سيفَ أهل الشام حتى يَبلغوا رِضاك، فإذا بلغوا رِضاك لم يَتجاوزوا إلى سُخْطك. ثم سَرَّب عبد الملك الجيوشَ إلى الحجاج، وعزَم الحجاج على لقاء ابنِ الأشعث، فسار من البصرة، فنزل إلى تُسْتَر، وقدَّم بين يديه مظهر بن حيّ (¬1) الجُذَاميّ، وعبد الله بن رِمْث (¬2) الطّائيّ في خيل، فالتقوا على دُجَيل الأهواز بأصحاب ابن الأشعث؛ وعليهم عبد الله بن بيان (¬3) الحارثي في خيل، فهزموا أصحابَ الحجاج، وذلك في يوم الأضحى سنة إحدى وثمانين، وقتلوا منهم خلقًا عظيمًا. وجاء الحجاج الخبرُ وهو يخطب، فنزل وعاد إلى البصرة، وخيلُ ابن الأشعث في طلبه، وكان عامله على البصرة الحكم بن أيوب ابن أبي عقيل الثقفي، وجاء أهل العراق إلى البصرة، فخرج الحجاج فنزل الزّاوية، وجاء أهل البصرة فنزلوا دورهم، ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 339: مطهر بن حر، وفي "أنساب الأشراف" 6/ 439: مظهر بن حبى. (¬2) في (د): رمثة، وفي الطبري: رميثة. (¬3) في الطبري 6/ 340: عبد الله بن أبان، وفي "أنساب الأشراف" 6/ 440: محمد بن أبان بن عبد الله.

فقال الحجاج: لله درُّ المهلب، لقد أشار علينا بالرأي فلم نقبل، وكان يقول الحجاج بعد ذلك: رحم الله المهلَّب؛ لقد كان ناصحًا للإسلام. وفي رواية: أن الحجاج نزل رُسْتُقباذ، وعامله على البصرة الحكم على الصلاة، وعلى الشرطة عبد الله بن عامر بن مِسْمَع، وجاء ابن الأشعث فنزل تُسْتَر، وبينهما نهر، وذلك عشية يوم الأضحى، فواقعَهم، فقتل من أهل الشام ألفًا وخمس مئة، وانهزم الباقون، وكان مع الحجاج يومئذ خمسون ألف ألف درهم (¬1)، ففرَّق الجميعَ في قُوَّاده، وضمَّنهم إياها، وأقبل مُنهزمًا إلى البصرة، فقال ابن الأشعث: أما الحجّاج فليس بشيء، وإنما يزيد غزوَ عبد الملك. وبلغ أهلَ البصرة هزيمةُ الحجاج، وأراد عبد الله بن عامر بن مِسْمَع أن يقطع الجسرَ دونه، فرَشَاه الحكم بن أيوب مئة ألف درهم فكفَّ عنه، ودخل الحجاج البصرة، وعرفه الحكم، فأرسل إلى ابن عامر فأخذ منه المثة ألف، وجاء ابن الأشعث فدخل البصرة، وهرب الحجاج إلى ناحية العراق، وبايع أهلُ البصرة ابنَ الأشعث على قتال الحجاج وحربِ عبد الملك، من القُرَّاء وغيرِهم. ذكر أسامي أعيان مَن بايعه من أهل العراق: مسلم بن يَسار، وجابر بن زيد أبو الشَّعثاء، وأبو الجوزاء وقتل معه، وأيّوب بن القِرِّيَّة، وماهان العابد، قتلهما الحجاج، وأنس بن مالك في جملة القُرّاء. ومن أهل الكوفة: سعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعامر الشعبي، وطَلحة بن مُصَرّف، وذرّ، وعبد الله بن شدّاد، وأبو البَخْتَري الطائيّ، والحكم بن عُتبة، وعون بن عبد الله بن مَسعود الهُذَليّ، في خلقٍ عظيم. وكان ابن الأشعث في مئتي ألف فارس، وعشرين ومئة ألف راجل، وكان دخوله البصرة في آخر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين. فصل: [قال أبو معشر: ] وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الملك. ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 341: مئة وخسون ألف ألف.

بحير بن ورقاء الصريمي

وكان على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق الحجاج دون البصرة، والمهلب على خراسان، وعلى قضاء الكوفة أبو بُردَة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أُذَينة. [قال الواقدي: ] وفيها ولد ابن أبي ذئب. [فصل: ] وفيها توفي بَحِير بن وَرقاء (¬1) الصُّرَيمي وهو الذي تولَّى قتلَ بُكَيْر بن وشاح بامر أميَّة بن عبد الله لما كان بخراسان. قال علماء السير: ولما عزل أميّة عن خراسان تواعد بنو سعد بَحِيرًا بالقتل، وقال عثمان بن رجاء -من بني عوف بن سعد- يحرِّض الأبناء من آل بُكَير على قتل بَحِير، من أبيات: [من الطويل] فلو كنت من سعدِ بنِ عوفٍ ذؤابةً ... تركتَ بَحِيرًا في دمٍ مُقرقْرِقِ فقل لبَحِيرٍ نَمْ ولا تَخْشَ ثائِرًا ... بعَوفٍ فعوفٌ أهلُ شَاةٍ حَبَلَّقِ (¬2) دَع الضَّأنَ جذعًا قد سُبِقتم بوتْرِكم ... وصرتُم حديثًا بين غربٍ ومَشرِقِ وبلغ بَحيرًا فقال: [من الطويل] تواعَدَنْي الأبناءُ جهلًا كأنما ... يَرَون فنائي مُقْفِرًا من بني كَعبِ رفعتُ له كَفّي بحَدِّ مُهنَّدٍ ... حُسامٍ كلَونِ الثَّلْجِ ذي رَوْنَقٍ عَضْبِ فتعاقد سبعة عشر رجلًا من بني عوف بن كعب بن سعد على الطَلَبِ بدم بُكَير بن وشاح، واتَّخذَ رجلٌ منهم يقال له: صَعصَعة بن حرب العَوْفيّ خنجرًا وسمّه، وقيل: غَمَسه في لبن أتانٍ مرارًا، وكان بَحير في عسكر المهلَّب وقد قطع النهر، فتلطّف صعصعة حتى أخذ كتابًا من أهل بحير إلى بحير بالوصية به، فلما قدم على بَحير أقام عنده شهرًا، ثم طعنه بالخنجر فقتله، وقُتل صعصعة. ¬

_ (¬1) كذا في تاريخ الطبري 6/ 331، وسلف ص 216 أن الصواب: وقاء. (¬2) أي: صغيرة، والأبيات هذه والتي تليها في الطبري 6/ 331، 332.

سويد بن غفلة

[فصل: وفيها توفي] سُوَيد بن غَفَلَة ابن عَوْسَجَة بن عامر بن وَدَاع بن معاوية بن سعد بن المغيرة بن مَذْحِج (¬1)، وكنيته أبو أمية، كناه بها عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. [وذكره ابن سعد] في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، وقال: أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووفد عليه فوجده قد قبض، فصحب أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا رضوان الله عليهم، وشهد مع علي - عليه السلام - صفين، وسمع ابن مسعود، [ولم يسمع من عثمان شيئًا، وهذا قول ابن سعد (¬2). وقال ابن منده: أدرك دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم ينفضون أيديهم من التراب. قال ابن منده: ] وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام. وكان يقول: أنا لِدَةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه وُلد عامَ الفيل، وقيل: قبله بسنتين. قال الشعبي: قال سويد: أنا أصغر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنة. وشهد خطبة عمر رضوان الله عليه بالجابية، وقال: أتانا مُصَدِّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذتُ بيده، فقرأتُ في عهده، فإذا فيه: أن لا يُفَرَّقَ بين مجتمع، ولا يُجمَع بين مُتَفَرِّق، فأتاه رجل بناقةٍ عظيمةٍ مُلَملَمَة، فأبى أن يأخذها، ثم أتاه آخر بناقة دونَها، فأبى أن يأخذها، ثم قال: أيُّ سماءٍ تُظِلُّني، وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إذا أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أخذتُ خيارَ إبل امرئٍ مسلم. وقال ابن سعد: كان سويد متواريًا من الحجاج، فكان يُصلّي الظهر يوم الجمعة في جماعة. [وحكى ابن سعد بإسناده إلى] الحارث بن لَقِيط قال: كان سويد [بن غفلة] يمرُّ بنا في المسجد إلى امرأة له من بني أسد هاهنا، وهو ابن سبع وعشرين ومئة سنة. ¬

_ (¬1) كذا، وفي "طبقات ابن سعد" 8/ 190، و"تهذيب الكمال" وفروعه: سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر بن وداع بن معاوية بن الحارث بن مالك بن عوف بن سعد بن عوف بن حريم بن جعفي بن سعد العشيرة بن مذحج. (¬2) "طبقات ابن سعد" 8/ 190، وما بين معكوفين من (ص).

وقال ابن سعد: أذَّن يومًا بالهاجرة، فسمعه الحجاج وهو بالمَدَرَة (¬1) فدعاه وقال: ما حملك على الصلاة بالهاجرة؟ فقال: صليتُها مع أبي بكر وعمر وعثمان، فقال الحجاج: لا تُؤذّن لقومك ولا تَؤُمَّهم. وقال [ابن أبي الدنيا بإسناده إلى] عمران بن مسلم قال: كان سويد بن غَفَلة إذا قيل له: أعطِ فلانًا، ووَلِّ فلانًا، يقول: حسبي كِسرتي ومِلحي، قال: وكان سويد يقول: إذا أراد الله أن ينسى أهلَ النار؛ جعل كلَّ واحدٍ منهم في تابوت من نار على قَدره، ثم أقفل عليهم بأقفال من نار، ثم يُجعل التابوت في تابوتٍ آخر، ثم يُضرم بينهما نارًا، فلا يرى أحدٌ منهم أنه قد بقي في النار غيره. [وروى أبو نعيم قال: ] كان سويد يؤمُّ الناس في رمضان وقد أتت عليه عشرون ومئة سنة، وكان يمشي إلى الجمعة ماشيًا (¬2). وقال علي بن المديني: دخلتُ منزلَ أحمد بن حنبل، فما شتهت بيتَه إلا بما وُصِف لنا من بيت سُويد بن غَفَلة من زهده وتواضعه (¬3). وقال ابن عبد البر (¬4): شهد سويد القادسية، فصاح الناس: الأسدَ الأسدَ، فخرج إليه سويد، فضربه بالسيف على رأسه، فمر في فَقار ظهره، فخرج من ذَنَبه، وأصاب حَجرًا ففلقه. وحكى ابن عساكر عنه أنه افتض جارية بكرًا وهو ابن سبع وعشرين ومئة سنة. [ذكر وفاته: حكى ابن سعد، عن الواقدي قال: ] توفي سُويد بن غَفَلة بالكوفة، سنة إحدى -أو اثنتين- وثمانين، وهو ابن مئة وثمان وعشرين سنة (¬5)، وأوصى أن لا يُؤْذَن بموته أحد، وأن يُكَفّن في ثوبيه، ولا تتبعه امرأة. ¬

_ (¬1) هي القرية من الطين، وفي (أ) و (د): بالمدر، وفي "طبقات ابن سعد" 8/ 191، و"الحلية" 4/ 175: بالدير. (¬2) "حلية الأولياء" 4/ 176، و"المنتظم" 6/ 227 - 228، و"صفة الصفوة" 3/ 21 - 22. (¬3) "تهذيب الكمال" (ترجمة سويد). (¬4) في "الاستيعاب" (1093). (¬5) بعدها في النسخ خلا (ص): وقيل سبع وعشرين، وقيل ثلاثين ومئة، والمثبت سياق (ص)، والخبر في "طبقات ابن سعد" 8/ 191.

محمد بن الحنفية

[وذكر جدّي رحمه الله في "أعمار الأعيان" أن سُويد بن غَفَلة توفي وله سبع (¬1) وعشرون ومئة سنة، قال. وماتت سارة زوجة الخليل - عليه السلام - لهذا السنّ. وقيل: مات سويد وهو ابن ثلاثين ومئة سنة، والله أعلم.] أسند عن عمر، وعلي، وبلال، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبيّ بن كعب - رضي الله عنهم -. وصحب أبا بكر رضوان الله عليه. وروى عنه الشعبي، وعَبْدة بن أبي لُبابَة، وطلحة بن مصرف وغيرهم. وكان ثقةً، زاهدًا، كثيرَ الحديث. [فصل: وفيها توفي] محمد بن الحَنَفيَّة وهو محمد الأكبر بن علي بن أبي طالب، وأمه الحنفية خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن ثعلبة بن يَرْبوع بن ثعلبة بن الدُّول بن حَنيفة بن لُجَيْم بن صَعْب بن علي بن بكر بن وائل، ويقال: بل كانت من سَبْي اليمامة، فصارت إلى علي - عليه السلام -. ومحمد من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وكنيته أبو القاسم. [وقد ذكرنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "سيولد لك من بعدي، قد نحلته اسمي وكنيتي" (¬2). واختلفوا في مولده، فقال قوم: ] ولد في خلافة أبي بكر رضوان الله عليه. [وقال ابن أبي حاتم: ولد] لثلاث سنين، أو لسنتين بَقِين من خلافة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، في السنة التي ولد فيها سعيد بن المسيب (¬3). [ذكر طرف من أخباره: قال علماء السير، منهم الشيخ الموفق: كان محمد بن الحنفية] عاقلًا، فاضلًا، ذا دين وعلم وعبادة، وكان حامل راية أبيه يوم الجمل، وكان أيِّدًا، [أي: ] قويًّا، ذكر أن ¬

_ (¬1) في (ص): تسع، وهو تصحيف، صوابه من النسخ الأخرى، و"أعمار الأعيان" ص 98. (¬2) هو مرسل انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 94، وتاريخ دمشق" 63/ 357، والسير 4/ 115، وبنحوه أخرجه أحمد (730) بإسناد صحيح كما ذكر محقَّقوه. وما بين معكوفين من (ص). (¬3) "الجرح والتعديل" 8/ 26، ونقله ابن عساكر 63/ 353.

أباه عليًّا رضوان الله عليه كان بين يديه درع فقال: ينبغي أن يُقَصَّر هذا الدرع من هذا المكان، فأخذه محمد فشرطه بيده من ذلك الموضع (¬1). [وقال الهيثم: ] كان من عقلاء الناس [وأجوادهم]، معتزلًا للفتن وما الناس فيه من طلب الدنيا، وكانت القلوب مائلة إليه. [وقال ابن سعد: كان محمد حاملَ راية أبيه يوم صفّين] (¬2). وكان المختار يدعو إليه ويقول: إنه المهديّ، وهذا مذهب الكَيسانيّة؛ وهم طائفة من الشيعة من أصحاب المختار، وكان المختار يُلَقَّب بكَيسان، وقيل: الكيسانية أصحاب كيسان مولى علي - عليه السلام -، وقيل: كان تلميذَ محمد بن الحنفية، وأما المختارية فأصحاب المختار، وجماعة منهم يزعمون أن محمد بن الحنفية بجبل رَضْوى في شعب منه مقيم لم يمت، دخل إليه ومعه أربعون من أصحابه، فلم يُوقف لهم على خبر، وأنهم أحياء يُرزَقون، وممن كان يذهب إلى هذا المذهب كُثَيِّر عَزَّة، والسيِّد الحِميريَّ، ولهما فيه أشعار كثيرة (¬3). قال كُثَيّر (¬4): [من الوافر] ألا إن الأئمّةَ من قُريشٍ ... وُلاةُ الأمرِ أربعةٌ سَواءُ عليٌّ والثلاثةُ من بَنيهِ ... هم الأسباطُ ليس بهم خَفاءُ فسِبطٌ سِبطُ إيمان وبِرٍّ ... وسِبطٌ غيَّبَتْهُ كَربَلاءُ وسبطٌ لا يذوقُ الموتَ حتى ... يَقودَ الخيلَ يَقْدُمُها اللِّواءُ يَغيبُ فلا يُرى فيهم زمانًا ... برَضوَى عنده عَسَلٌ وماءُ ومنهم من يقول: إنه برَضْوى مقيم بين أسد ونمر، وعنده عينان نضَّاختان تجريان عسلًا وماءً، وأنه يرجع إلى الدنيا فيملؤها عدلًا كما مُلئت جَورًا، ومن أشعار السيِّد الحِميَريّ، وهو إسماعيل بن محمد: [من الوافر] ¬

_ (¬1) "التبيين" 135 - 136. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 95. (¬3) انظر "الملل والنحل" 1/ 200. (¬4) ديوانه ص 37.

ألا قلْ للإمامِ فَدَتْكَ نَفسي ... أطلْتَ بذلك الجبلِ المُقاما أضرَّ بمعشَرٍ والوْكَ منّا ... وسَمَّوك الخليفةَ والإماما وعادوا أهلَ هذي الأرضِ طُرًّا ... مُقامُك فيهمُ ستّين عاما وما ذاق ابنُ خَولَةَ طَعْمَ مَوْتٍ ... ولا وارتْ له أرضٌ عِظاما لقد أمسى بمَوْرِقِ شِعْبِ رَضْوى ... تُراجعهُ الملائكةُ الكلاما هدانا الله إذ حِرْنا لأمرٍ ... به ولدَيه نَلْتَمِسُ التّماما وقال السيّد أيضًا: [من الكامل] يا شِعْبَ رَضْوى ما لمَن بك لا يُرى ... وبنا إليه من الصَّبابةِ أوْلَقُ حتّى متى وإلى متى وكم المدى ... يا ابن الوَصِيِّ وأنت حيٌّ تُرزَقُ (¬1) قال ابن سعد: جاء رجل إلى ابن الحنفيّة، فسلم عليه وقال: كيف أنتم؟ فقال محمد: إنما مَثَلُنا في هذه الأمة مثل بني إسرائيل في آل فرعون، كان يُذَبِّح أبناءهم، ويَستحيي نساءهم، وإن هؤلاء يُذَبِّحون أبناءنا، ويَنكحون نساءنا بغير أمرنا (¬2). وكان محمد يقول: ليس بحكيم مَن لم يعاشر بالمعروف مَن لم يجد من معاشرته بُدًّا، حتى يجعل الله له فَرَجًا ومَخْرجًا. [وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه] قال: مَن كَرُمَتْ نفسُه عليه؛ لم يكن للدنيا عنده قَدْر. وقال: إن الله جعل الجنةَ ثَمنًا لأنفسكم، فلا تبيعوها بغيرها. وقال: كلُّ ما لا يُبتَغى به وَجهُ الله يَضْمَحل (¬3). [وروى أبو نعيم أيضًا بإسناده إلى] علي بن الحسين - رضي الله عنهما - قال: كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان يتهدَّدُه ويتوعَّدُه، ويحلف أنه يبعث إليه مئة ألف في البحر، ومئة ألف في البر، أو يُؤّدي إليه الجِزية، فسقط في ذَرْعه، وكتب إلى الحجاج: أن اكتُب إلى ابن الحنفيّة فتوعَّدْه وتَهَدَّدْه، ثم أخبرني بما يَرُدُّ عليك، فكتب الحجاج إليه يتوعَّده بالقتل، فكتب إليه ابن الحنفية. إن لله في كل يوم إلى خلقه ثلاث مئة وستين [لحظة، ¬

_ (¬1) الأشعار الثلاثة في "تاريخ دمشق" 63/ 351 - 352، و"السير" 4/ 122 - 113، وفي حواشيهما فضل تخريج. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 96. (¬3) "حلية الأولياء" 3/ 175 - 177، و"التبيين " 136، و"المنتظم " 6/ 229، وما بين معكوفات من (ص).

أي: ] نظرة، وأنا أرجو أن يَنظرَ الله إليّ نظرة يمنعني بها منك. فبعث الحجاج بكتابه إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك نسخته إلى ملك الروم، فقال ملك الروم: ما خرج هذا منك ولا من أهل بيتك، ما خرج إلا من بيت نُبُوّة (¬1). [ذكر ابن عساكر القصة، وقال: إن عبد الملك استقدم محمدًا إلى دمشق، وسأله عن جواب ملك الروم. وذكر القصة (¬2).] وذكر ابن عساكر أيضًا أن محمد بن الحنفية وفد على عبد الملك (¬3) بدمشق في سنة ثمان وسبعين، فأنزله قريبًا منه، وأكرمه وأحسن إليه، فأقام عنده شهرًا، فأجازه وقضى حوائجه، وقال له: أتذكر يومَ صرعتَ مروان وجلست على صدره يوم الجمل، فقال محمد: عفوًا (¬4)، فقال عبد الملك: ما ذكرت لك ذلك وأنا أريد أن أكافئك، وإنما أردتُ إعلامَك أني قد علمتُ. وذكر ابن سعد عن محمد ابن الحنفية قال: وفدتُ على عبد الملك فقضى حوائجي، وودَّعتُه، فلما كدتُ أن أتوارى عنه ناداني: يا أبا القاسم، مرتين، فكررت إليه، فقال لي: أما إن الله يعلم أنك يوم صنعت بالشيخ ما صنعت أنك كنت ظالمًا له، يعني حين أخذ ابنُ الحنفية مروانَ يوم الدار، فلَبَّبَه بردائه، قال عبد الملك: وأنا أنظر إليه ولي يومئذ ذؤابة (¬5). وقيل لمحمد: ما بالُ أبيك كان يرمي بك في أماكن لا يرمي فيها الحسن والحسين؟ ! فقال: كانا خدَّيه، وكنتُ يدَه، فكان يتَوقَّى بيده عن خدَّيه (¬6). وكان محمد بن الحنفية يخضب بالحِنّاء والكَتَم، فقيل له: أكان أبوك يَخْضِب؟ قال: لا. قيل: فما بالك؟ فقال. أتشَبَّب للنساء. ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 3/ 176، و"المنتظم " 6/ 229 - 230. (¬2) ذكر ابن عساكر القصة 63/ 362 من طريق أبي نعيم، دون ذكر استقدام عبد الملك لمحمد. (¬3) في النسخ خلا (ص): وقال ابن عساكر وفد محمد بن الحنفية على عبد الملك، والمثبت من (ص)، والخبر في "تاريخ دمشق" 63/ 348. (¬4) في (ص): غفرًا. (¬5) "طبقات ابن سعد" 7/ 113. (¬6) "تاريخ دمشق" 63/ 364.

[وقال ابن سعد: ] كان يَلبَس الخَزّ، ويتعمَّم بعمامة سوداء، ويتختَّم في يساره، وكان يَفلي رأسَ أُمِّه ويُمَشِّطها (¬1). ذكر وفاته: حكى ابن سعد عن الواقدي قال (¬2): مات محمد في سنة إحدى وثمانين وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقيل: ابن خمسر وستين سنة، وكانت وفاتُه في المحرَّم، ودُفن بالبقيع، وجاء أبان بن عثمان، وهو والي المدينة ليصلّي عليه، فقال أبو هاشم بن محمد: لا تُصَلِّ عليه حتى تطلب ذلك منا، فقال أبان: أنتم أولى بجنازتكم، فقدِّموا مَن شئتم. فقال أبو هاشم: نحن نعلم أن الإمام أولى بالصلاة ولولا ذلك لما قدَّمْناك، فقَدَّموه، فصلّى عليه (¬3). وقيل: مات سنة ثلاث وثمانين أو اثنتين وثمانين. وقيل: إنه توفي بأيلة. وقيل: بين الشام والمدينة، والأول أشهر (¬4). ذكر أولاده: فولد محمد بن الحنفية عبد الله وهو أبو هاشم، وحمزة، وعليًّا، وجعفرًا الأكبر، وأمُّهم أمُّ ولد. والحسن، وكان من ظرفاء بني هاشم، وأهل العقل منهم، وهو أول مَن تكلَّم في الإرجاء، ولا عقب له. وأمه كمال (¬5) بنت قيس بن مَخْرَمَة بن المطَّلب بن عبد مَناف. وإبراهيم، وأمُّه مُسْرِعَة بنت عبَّاد بن شيبان، من قيس عيلان. والقاسم، وعبد الرحمن، لا بقيّةَ لهما، وأمَّ أبيها، وأمهم أم عبد الرحمن، واسمها بَرَّة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 115، والخبر السابق فيه. (¬2) في النسخ خلا (ص): قال الواقدي. (¬3) بعدها في (ص): رحمه الله تعالى انتهت ترجمته والله أعلم. اهـ. وانظر "طبقات ابن سعد" 7/ 117. (¬4) انظر "المعارف " 216, و"أنساب الأشراف" 2/ 572 - 573، و"تاريخ دمشق"63/ 390 - 393، والتبيين 136، و"السير" 4/ 128 - 129. (¬5) كذا في النسخ، وفي "نسب قريش" 75، و"طبقات ابن سعد" 7/ 94، و"أنساب الأشراف" 2/ 553: جمال.

السنة الثانية والثمانون

وجعفرًا الأصغر، وعونًا، وعبدَ الله الأصغر، وأمهم أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب. وعبد الله، ورقيَّة لأمّ وَلَد (¬1). فأما أبو هاشم فأكبر ولده، وكان من العلماء الأشراف، نذكره سنة تسع وتسعين. قال الزبير بن بكار: وأمُّه أمُّ وَلَد تُدعى نائلة، وولدت لمحمد بن الحنفية جعفرًا الأكبر [وحمزة] درجا، وعليًّا بني محمد (¬2). وأما الحسن فكان يُقدَّم على أخيه عبد الله، مات وليس له عقب، وسنذكره سنة أربع وتسعين. وأما إبراهيم فكان يلقب شعيرة (¬3). وأما القاسم [فكان] مُؤَخَّذًا عن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقدر أن يدخُلَه (¬4). أسند محمد بن الحنفية - رضي الله عنه - عن أبيه علي - عليه السلام -، وجماعة من الصحابة، ومعظم رواياته عن أبيه رضوان الله عليه. السنة الثانية والثمانون فيها كان وقائع الحجاج وابن الأشعث، منها وقعة الزَّاوية، وكانت في أول المحرَّم، اقتتلوا قتالًا شديدًا، وقال الحجاج: لله درُّ مصعب بن الزبير ما كان أكرمه! فعلم أهل الكوفة أنه لا يفر حتى يُقتَل، فقاتلوا دونه هم وأهل الشام، منهم سفيان بن الأَبْرد, فحمل على ميمنة ابن الأشعث فهزمها، وقتل جماعة من القراء، وقُتِل ابن المنذر بن الجارود (¬5)، وعبد الله بن عامر بن مِسْمَع، وقُتل الطُّفَيل بن عامر بن واثِلة، وانهزم ابن الأشعث والناس معه إلى الكوفة , وبلغ أهل الكوفة فخرجوا إليه، فاستقبلوه وفرحوا به، وكان القصر قد عصى فيه مَطر بن ناجية، فأخذوه وأتوا به ابن الأشعث ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 94. (¬2) "نسب قريش" 75، وما بين معكوفين منه. (¬3) في "المعارف" يلقب بشعرة. (¬4) "المعارف" 217 وما بين معكوفين منه. (¬5) في الطبري 6/ 343: وقُتل المنذر بن الجارود.

فأراد قتلَه، فقال: استَبْقِني فإني أعظمُ فُرسانك، فاستبقاه وبايعه، ودخل وجوه أهل الكوفة فبايعوا ابن الأشعث، وأتاه العلماء والزُّهَّاد من الأمصار. وقتل الحجاج يوم الزاوية أحد عشر ألفًا، نادى مناديه بالأمان، ثم قتلهم إلا واحدًا كان ابنه معه (¬1). وأقام الحجاج بالبصرة إلى أوَّل صفر، واستخلف عليها أيّوب بن الحكم أبن أبي عقيل، وسار من البصرة في البرّ حتى مرَّ بين القادسية والعُذَيب، فبعث إليه ابن الأشعث عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب في خيل عظيمة، فمنعه من نزول القادسية، ثم سايروه إلى دَير قُرَّة، فنزل الحجاج به، وجاء ابن الأشعث فنزل دير الجَماجم، وكان نزول ابن الأشعث بدير الجماجم في شعبان. وتفاءل الحجاج بذلك، فكان يقول بعد الوقعة: قاتل الله ابن الأشعث، أما كان يَزجُر الطيرَ حتى رآني قد نزلتُ بدير قُرَّة، ونزل هو بدير الجَماجم، أي: أستقرُ بالبلاد، وتقر عيني، وتكثر جماجم أصحابه، ودير قُرَّة مما يلي الكوفة-. واجتمع أهل الكوفة والبصرة، وأهل الأمصار والثغور، والقراء من المصريين على حرب الحجاج والبغضِ له، وكانوا مئةَ ألف مقاتل ممَّن يأخذ العطاء، ومعهم مثلُهم من مواليهم, وأما المطَّوِّعة فخلقٌ لا يُحصَون, جاءت أمداد الشام إلى الحجاج، وكان في عزمه أن ينزل قريبًا من الجزيرة والشام، أو يرتفعَ إلى هِيت ليكون قريبًا من عبد الملك، فلما مر بدير قُرَّة تفاءل به وقال: عينُ التَّمْرِ قريبةٌ منا، وخندق على عسكره، وخندق ابن الأشعث أيضًا، وكانوا يخرجون من الخنادق فيقتتلون. وكان على ميمنة ابن الأشعث الحجاج بن جارية الخَثْعَميّ، وكان على ميسرته الأَبْرَد بن قُرَّة التَّميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن عباس الهاشمي، وعلى رجَّالته محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى القُرَّاء جَبَلَة بن زَحْر بن قيس الجُعْفِيّ، وكان فيهم عامر الشَّعبيّ، وسعيد بن جُبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو البَخْتَري الطائي وغيوهم. وكان على ميمنة الحجاج عبد الرحمن بن سليمان (¬2) الكنانيّ، وعلى ميسرته عُمارة بن تميم، وعلى خيله سفيان بن الأَبْرد، وعلى الرجَّالة عبد الله بن حبيب، ودام القتال ¬

_ (¬1) انظر الطبري 6/ 381. (¬2) في الطبري 6/ 349، و "المنتظم" 6/ 233: سليم.

بينهم أيامًا، فقال رؤساء قريش ووجوه أهل الشام لعبد الملك: إن كان إنما يُرضي أهلَ العراق عَزْلُ الحجاج عنهم؛ فإن نَزْعَه أيسرُ من حربهم؛ فاعزله عنهم تَخلص لك به طاعتُهم، وتحقن به دماء الفريقين. فأجابهم وبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه محمد بن مروان -وكانا بأرض الموصل- وأمرهما أن يَعرضا على أهل العراق عَزْلَ الحجاج عنهم، وأن يُجري عليهم أعطياتهم على عادتهم وزيادة، وأن يَنزل ابنُ الأشعث أيَّ بلد اختار، يكون عليه واليًا ما دام حيًّا، فإن قبلوا ذلك فانزع الحجاج عنهم، ويكون محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبَوا فالحجاج أميرٌ عليهم ووليُّ القتال، وعبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان في طاعته. فلم يأت الحجاجَ أمرٌ كان أشدّ عليه ولا أعظم؛ مخافةَ العَزْل، فكتب إلى عبد الملك: والله لئن عزلتَني عن العراق لا تزيد أهلَه إلا جَراءة عليك، وقد رأيتَ عثمان لما سألوه عَزْلَ سعيد بن العاص فعزله عنهم كيف ساروا إليه فقتلوه، إن الحديدَ بالحديدِ يُفلح، والسلام. فلم يلتفت عبد الملك إلى قوله طلبًا للعافية، وخرج عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان إلى صفوف أهل العراق، وذكرا ما قال لهما عبد الملك، فقالوا: حتى ننظر ونرى، واجتمعوا العشية عند ابن الأشعث، فقال لهم: إنكم قد أُعطيتم أمرًا انتهازُكم له فُرصة، وأنتم اليوم على النّصف، فاقبلوا ما عَرض عليكم وأنتم أعزَّاء أقوياء، ويوم تُسْتَر بيوم الزّاوية، والقوم لكم هائبون، فاقبلوا العافية، فوثب الناس من كل جانب وقالوا: إن الله قد أظهرنا عليهم، وقد ذَلُّوا واستكانوا، وأهلكهم الجوع والضِّيق، ونحن في كثرة من العَدَد والمادة. وقيل: إن ابن الأشعث قال: ألا إن بني (¬1) مروان يُنسبون إلى الزّرقاء، وهم أعلاجٌ من أهل صَفُّورِية، ونحن أصل العرب ومادَّتها. ونال من بني أبي العاص، وردُّوا عليهم، فقال عبد الله ومحمد للحجاج: دونك والجيش فأنت الأمير، ثم أخذوا ¬

_ (¬1) في النسخ: ابن، والمثبت من الطبري 6/ 349.

أسماء بن خارجة

يَقتتلون كل يوم، والمادة تأتي ابن الأشعث من البصرة والكوفة والسواد، وأهلُ الشام في قلّة من الزاد وغيره، فأقاموا على هذا مدّة هذه السنة. وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة في جمادى الآخرة, وولَّى هشامَ بنَ إسماعيل المخزومي، فكانت ولايةُ أبان سبعَ سنين وثلاثة أشهر وأيامًا، وكان قد استقضى نَوفل بن مُساحق العامري على المدينة. وقيل: إنما استقضاه يحيى بن الحكم، وأقرَّه أبان، فعزله هشام بن إسماعيل، واستقضى مكانه عمرو بن خالد الزُّرَقيّ. وحجَّ بالناس هشام بن إسماعيل، وقيل: أبان، وكان العراق فيه من الفتن ما فيه، وكان المغيرة بن المهلب قد مات في هذه السنة، وكذا المُهَلَّب، فولّى الحجاج خراسان يزيد بن المُهَلَّب. فصل: وفيها توفي أسماء بن خارجة أبو مالك (¬1) الفَزاري الكوفي، أحد الأجواد. وفد على عبد الملك بن مروان فقال له: بلغني عنك خصال شريفة، فأخبرني بها، فقال: إن استماعَهنّ من غيري أحسن من استماعهنّ مني، فقال: أقسمتُ عليك إلا أخبرتني بهنّ، فقال: يا أمير المؤمنين، ما سألني أحدٌ حاجة إلا وقضيتُها كائنة ما كانت، ولا أكل رجلٌ من طعامي إلا رأيتُ له الفضلَ علي، ولا أقبلَ عليّ رجلٌ بحديث إلا وأقبلت عليه بسمعي وبصري، حتى يكون هو المولّي عني، فقال: حقّ لك أن تشرف وتسود وهذه خصالك. وجاء أسماء يومًا فرأى على بابه شابًا فقال له: ما يُقعدك ها هنا؟ ! فقال: حاجة. فألحّ عليه، فقال: خرجت من هذه الدار جارية فاختطفت قلبي، فأدخله الدار وعرض عليه كل جارية له وهو يقول: لا، حتى مرت عليه جارية فقال: هي هذه، فقال له: ¬

_ (¬1) في النسخ: بن مالك، وهو خطأ، والمثبت من المصادر، انظر "تاريخ دمشق" 3/ 1 (مخطوط)، و"المنتظم" 6/ 235، و"السير" 3/ 535.

أبو الشعثاء

اخرج واجلس على الباب، فخرج وجلس، وخرج إليه بعد ساعة وهي معه، فقال: ما أبطأتُ عليك إلا لأنها لم تكن لي، وإنما هي لأختي ساومتني (¬1) ثمنًا كبيرًا، فاشتريتها بثلاثة آلاف درهم، فأخذها وانصرف. [وفيها توفي] أبو الشَّعْثاء [واسمه] سُلَيم بن أسود بن حَنْظلة المُحاربي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. روى عن ابن عمر، وابن مسعود، وحُذَيفة، وأبي هريرة، وغيرهم، وروى عنه ابنُه أشعث، وأبو مالك الأشْجَعيّ، والنخعي، وغيرهم. وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمة الله عليهما: سئل أبي عن أبي الشَّعْثاء: أثقة هو؟ قال: بخ بخ. توفي بالكوفة زمنَ الحجّاج (¬2). عبد الرحمن بن يزيد ابن قيس النَّخعَي، أبو بكر، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، كان يسجد على كُورِ عمامته، قد حالت بين جبهته والأرض. روى عن ابن مسعود، وتوفّي في ولاية الحجاج قبل الجماجم، وكان ثقة وله أحاديث، وكان يَلْبَس عمامة سوداء (¬3). [فصل: وفيها توفي] عمر (¬4) بن عُبيد الله ابن مَعْمر بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيمْ بن مُرَّة [وكنيته] أبو حفص [التيّمي]، أحد أجواد قريش. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): حتى ساومتني، وفي "المنتظم" 6/ 236: كانت لبعض بناتي، وقد اشتريتها ... (¬2) "طبقات ابن سعد" 8/ 314، و"تهذيب الكمال" (2468)، و"السير" 4/ 179. (¬3) "طبقات ابن سعد" 8/ 242، و"السير" 4/ 78. (¬4) في (أ) و (ص) وما بين معكوفين منها: عمرو.

ولد بعدما استشهد عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. قال محمد بن قدامة (¬1): كان يقال: ما مات رجل نَبيهٌ قطّ فسُمِّي أولُ مولود باسمه إلا نَبَه. ولما قتل عمر بن الخطاب وَلَدت زوجة عثمان بن عفان، فقال لها: سَمِّيه عمر، فقالت له: قد سبقتْك زوجةُ عُبيد الله بن مَعْمَر. [وقال المدائني: وُلد سنة ثلاث وعشرين، مَقَتلَ عمر رضي الله عنه]. وكان عمر بن عبيد الله جوادًا شجاعًا مُمَدَّحًا، ولي البصرة لابن الزبير وفارس أيضًا، وكان يُقاوم قَطَرِيَّ بن الفُجاءة، وهو الذي ضرب جَبينه ففَلَقه، فلذلك قيل لقَطَري: المُفَلَّق، قال الشاعر: [من الطويل] وشَدّوا وثاقي ثم أَلْجَوا خُصومتي ... إلى قَطَرِيِّ ذي الجَبينِ المُفَلَّقِ (¬2) وشهد عمر مع عبد الرحمن بن سمرة فتح كابل شاه، وهو كان صاحب الثُّغْرَة، قاتل إلى الصباح. ووَلّاه عبد الملك بن مروان قتال أبي فُدَيك الخارجيّ والبحرين، فامتنع، فقال له عبد الملك: أرأيتَ لو كان بين عينيَّ وَتِد أكنتَ تَنْزِعُه؟ قال: نعم، قال: فهذا أبو فُدَيك هو ذاك، فسار إليه في جماعةٍ من أهل الحِفاظ، والتقَوا بالبحرين، فانكشف أصحابُ عمر، فثبت عمر في خواصّ أصحابه، ودعا (¬3) ابنَ الحُصين، ومجاهد بن بَلْعَاء (¬4) وغيرهم، وقُتل أبو فُدَيك. ولما سار إلى أبي فُدَيك التقاه العَجَّاج في طريقه، فمدحه بأرجوزة طويلة منها: قد جَبَر الدِّين (¬5) الإلهُ فجَبَرْ ... وعَوَّرَ الرحمنُ مَن ولَّى العَوَرْ ¬

_ (¬1) في "التبيين" 333، و"تاريخ دمشق" 54/ 232: وقال محمد بن محمد بن أبي قدامة. (¬2) "التبيين" 332، ونسبه المبرد في "الكامل، 1268 إلى الفِزْر بن مُهَزِّم العَبْديّ، وما بين معكوفين من (ص). (¬3) في (أ) و (د): وعاد! (¬4) في "تاريخ دمشق" 54/ 233: وثبت عمر ومعه عباد بن الحصين الحبطي ومجاهد بن بلعاء العنبري. (¬5) في النسخ: الرب، والمثبت من "تاريخ دمشق" 54/ 236 والمصادر في حواشيه.

وحدثنا غير واحد عن شُهدة بنت أحمد، بإسنادها عن الرِّياشيّ -وذكر القاضي التنوخي الحكاية عن الرياشي- أن بعض أهل البصرة اشترى جارية (¬1)، فأحسن تأديبَها، وأحبَّها حبًّا شديدًا، وأنفق عليها ماله حتى أَمْلَق، فقالت له: قد أرى ما بك من سوء الحال، فلو بِعتَنْي فانتفعتَ بثمني، وصَلَح حالي أيضًا، فباعها من عمر بن عبيد الله بن مَعْمَر بمئة ألف درهم، وعمر أمير البصوة يومئذ، فلما قبض المال ندم وندمت الجارية، فبكت وقالت (¬2): [من الطويل] هنيئًا لك المال الذي قد أصبتَهُ ... ولم يَبقَ في كفَّيَّ إلا تَفكُّري (¬3) أقول لنَفْسي وهي في غَشْيِ كُربَةٍ ... أقلِّي فقد بان الخليطُ أوَ اكْثِري إذا لم يكن في الأمر (¬4) عندكِ حِيلةٌ ... ولم تجدي بُدًّا من الصَّبر فاصبري فأجابها مولاها وهو يبكي ولقول: [من الطويل] ولولا قُعودُ الدَّهرِ بي عنكِ لم يكن ... يُفَرِّقُنا شيءٌ سوى الموتِ فاعْذُري أروحُ بحُزنٍ من فِراقِكِ مُوجِعٍ ... أُناجي به قلبًا طويلَ التَّحَيُّرِ عليكِ سلامٌ لا زيارةَ بيننًا ... ولا وَصْلَ إلا أن يَشاءَ ابنُ مَعْمَرِ وسمعهما ابنُ مَعْمر فقال: قد شئتُ، والله لا فَرَّقْتُ [بينهما أو] بين مُحِبَّين، خُذِ الجاريةَ والمال فهما لك، فأخذهما وانصرف. [وقال الرياشي: ] لقي زياد الأعجم [عمر بن] عبيد الله قبل أن يليَ البصرة، وكان صديقًا له، فقال له عمر: يا أبا أميّة، لو وَليتُ لم أَدَعْك تحتاج إلى أحد أبدًا، فلما ولي عمر البصرة جاءه زياد فقال (¬5): [من الطويل] أبلغْ أبا حَفْصٍ رسالةَ مُحْضرٍ ... أتتْ من زيادٍ مُسْتَبينًا كَلامُها فإنكَ مثل الشمسِ لا سِترَ دونها ... وكيف أبا حَفصٍ عليَّ ظَلامُها ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): وقال الرياشي: اشترى بعض أهل البصرة جارية، والمثبت من (ص). (¬2) في (ص) زيادة: هذه الأبيات، والقصة والأبيات في "أنساب الأشراف" 8/ 249، و"تاريخ دمشق" 54/ 238 - 239، و"التبيين" 333، و"المنتظم" 6/ 241. (¬3) في (ص): تحسري. (¬4) في (خ) و (ب): المرء. (¬5) في (ص) زيادة: فقال: وعدك، وأنشده أبياتًا من الشعر، فلما تمت قال: سل حاجتك.

فقال عمر: لا يكون عليك ظَلامُها أبدًا، فقال زياد: وقد كنتُ أدعو اللهَ في السرِّ أن أرى ... أُمورَ مَعَدٍّ في يدَيك نِظامُها قال عمر: قد رأيتَ ذلك، فقال زياد: فلما أتاني ما أردتُ تباشَرَت ... بَناتي وقُلْنَ (¬1) العامَ لا شَكَّ عامُها فقال عمر: هو عامُهنَّ إن شاء الله تعالى، فقال زياد: وإني وأرض أنتَ فيها ابنَ مَعْمَرٍ ... أُقيمُ بها لا يَطْرُقَنَّي حَمامُها (¬2) فقال ابنُ مَعْمَر: إن شاء الله، فقال زياد: إذا اخترتُ أرضًا للمُقامِ رَضيتُها ... لنفسيَ لم يَثقُلْ عليَّ مُقامُها فقال عمر: وأنا كذلك، فقال زياد: وكنتُ أُمَنِّي النفسَ فيك ابنَ مَعْمَرٍ ... أمانيَّ أرجو أن يَتمَّ تَمامُها فقال له عمر: قد تمَّتْ فسَلْ حاجَتَك، فقال زياد: نَجِيبةٌ وخادمُها، وفرس وسائسُه، وخادمة ودابّتها، وبَدْرَةٌ وحاملُها، وتَخْتُ ثياب ووَصيفٌ يحمله، فقال عمر: قد أمرنا لك بجميع ذلك، وهو لك علينا في كلِّ سنة. ذكر وفاته: [اتفقوا على أنه توفي بالشام، وإنما اختلفوا في أي مكان، فذكر البلاذري أنه] قَدِم على عبد الملك، فنزل مَرْج العَذْراء في سنة اثنتين وثمانين؛ والطاعون يغلي بالشام، فمات في المَرْج، وخرج عبد الملك من دمشق فصلّى عليه، ومشى إلى قبره، وجلس عليه، فقالت امرأة: واسيِّد العرب، فقال لها رجل: أتقولين هذا وأمير المؤمنين يستمع؟ ! فقال له عبد الملك: اسكتْ، فقد صدقت والله، ولما قام من عند قبره قال: السلام عليك أبا حفص، لقد كنتَ والله لا تَحسُد غنيَّنا، ولا تَحتَقِر فقيرنا، وقال: لقد علمتْ قريش أنها فقَدَتْ اليوم نابًا من أنيابها (¬3). ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): مناي وقلت، والمثبت من المصادر، انظر "الأغاني" 15/ 386، و"المنتظم 6/ 240، وديوانه 165. (¬2) في المصادر: كمكّةَ لم يطرب لأرض حمامها. (¬3) "أنساب الأشراف" 8/ 247 - 248، وانظر "تاريخ دمشق"54/ 239، و"المنتظم"6/ 242.

وقال شيخنا موفق الدين رحمة الله عليه: مات بضُمَير على خمسة عشر ميلًا من دمشق، وهو ابن ستين سنة، وسبب موته أن ابن أخيه عمر بن موسى خرج مع ابن الأشعث، فأخذه الحجاج، فبلغ عمر وهو بالمدينة، فخرج إلى عبد الملك بسببه، فلما بلغ ضمَير (¬1) وصله خبرٌ بأن الحجّاج ضرب عُنُقَ ابن أخيه، فمات كَمدًا، ورثاه الفرزدق فقال: [من البسيط] يا أيُّها الناسُ لا تَبْكُوا على أحدٍ ... بعد الذي بضُمَيرٍ وافقَ القَدَرا كانت يداه لنا سَيفًا نَعوذُ به ... على العدوِّ وغَيثًا يُنبتُ الشَّجَرا أمَّا قريشٌ أبا حفص فقد رُزِئتْ ... بالشّامِ إذ فارقَتْك البَأْسَ والظَّفَرا (¬2) ولما مات عمر لطَمتْ عليه امرأتُه عائشة بنت طلحة قائمة، وذلك أمارة أن لا تتزوّج بعده أبدًا (¬3)، [وسنذكره في ترجمتها في سنة ثلاث وعشرين ومئة إن شاء الله]. ذكر أولاده: [ذكرهم الموفق]؛ منهم طلحة، وكان من سادات قريش، تزوج فاطمة بنت القاسم ابن محمد بن جعفر، وكانت قبله عند حمزة بن عبد الله بن الزبير، فلما احتُضر حمزة قال لفاطمة: كأني بك قد تزوجت طلحة بن عمر، فحلفت له بعَتْقِ رقيقها، وصَدقةِ ما تملك إن تزوَّجته، فلما حلَّت للأزواج خطبها فأخبوته بيمينها، فأضعف لها ذلك، فبلغ عشرين ألف دينار، وأصدقها أربعين ألف دينار، وتزوَّجها، فأولدها إبراهيم ورَمْلة، فزوَّج طلحةُ رَمْلةَ من إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس بمئة ألف دينار، فقال إسماعيل بن يسار لطلحة: أنت أتجر الناس، فقال: والله ما عايَنْتُ تجارةً قط، قال: وأيُّ تجارة أربح من كونك تزوَّجتَ فاطمة بنت القاسم على أربعين ألف [دينار، فولدت لك إبراهيم ورَمْلة، فزوَّجتَ رملة على مئة ألف] دينار، فربحت إبراهيم وستين ألفًا. وكان إبراهيم بن طلحة هذا من أشراف قريش وساداتهم، وكانت قريش كأنهم عبيد بالنسبة إليه، وكان إذا مشى في طريق أو رَكْبٍ لا يَبْتَدِره أحد من قريش إعظامًا له، ¬

_ (¬1) في (ص): فلما وصل إلى ضمير. (¬2) "التبيين " 333، وانظر "أنساب الأشراف"8/ 248، و"تاريخ دمشق"54/ 240، و"المنتظم"6/ 242، وديوانه 1/ 235. (¬3) "أنساب الأشراف"8/ 243، وما سيرد بين حاصرتين من (ص).

وسقط سوطه يومًا من يده فابتدره ثلاثون من ولد طلحة بن عمر يأخذونه. وكان لإبراهيم بن طلحة هذا ولد اسمه إسحاق بن إبراهيم، من سَرَوَات قريش، دعاه حسن بن زيد لما كان عاملًا على المدينة إلى القضاء فامتنع، فحبسه، فجاء بنو طلحة كلّهم فدخلوا معه السجن، وبلغ حسن بن زيد فأرسل إلى إسحاق وقال: إنك قد تلاجَجْتَ عليّ، وقد حلفتُ أن لا أُطلِقَك حتى تعمل، فبِرَّ يميني. وأرسل معه جُنْدًا إلى مجلس القضاء، فجلس فيه ساعة والجند على رأسه، وجاءه داود بن سَلْم فأنشده: [من الخفيف] طلبوا الفقهَ والمروءةَ والفضـ ... ـلَ وفيك اجتمعْنَ يا إسحاقُ وقام من مجلسه فأعفاه حسن بن زيد، فأرسل إلى داود بخمسين دينارًا، وقال للرسول: قل له: ما الذي حملك على أن تَمدحني بما أكره (¬1)؟ وكان لطلحة بن عمر أولاد غير إبراهيم بن طلحة وهم: محمد، وعبد الرحمن، وعثمان، وجعفر بنو طلحة، وكانوا أشرافَ قريش وساداتهم وسَراتهم. ولَّى المهديُّ قضاءَ المدينة لعثمان بن طلحة، وكان لا يأخذ على القضاء أجرًا توَرُّعًا، واستعفى فأعفاه المهدي. وأوصى جعفر بن طلحة إلى أخيه عثمان بن طلحة بابنه عبد العزيز بن جعفر، فزوّجه عثمان امرأةً من أهل المدينة، وأصدقها عمُّه عثمان صداقًا صالحًا، وماتت المرأة وتركت حُليًّا وفَرْشًا وأثاثًا له قَدْر، فجاء عبد العزيز إلى عمه عثمان بمفاتيح دارها، فقال: هذه المفاتيح، وقد أغلقتُ الباب على ما خَلَّفَتْ، فقال له عثمان: يا ابن أخي، ابعث بالمفاتيح إلى أهل المرأة، وأعرض عما تركتْ، فبعث عبد العزيز بالمفاتيح إلى أهل المرأة، ولم يأخذ من التّرِكة شيئًا. وكان جعفر بن طلحة من الأجواد، استدان أخوه عثمان دَينًا يبلغ ألفي دينار، فعزم عثمان على الخروج إلى العراق؛ يتعرَّضُ للسلطان ليَقضيها عنه، وبلغ جعفرًا فقال: لا بارك الله في مالي بعد أخي عثمان، فدخل على نسائه، فجعل يأخذ الأَسْورَةَ من أيديهن، والخَلاخِل من أرجُلهنّ، والحلق من آذانهن، وباع أثاثهن، وقضى دَينه (¬2). ¬

_ (¬1) "التبيين" 333 - 335، وينظر "أنساب الأشراف" 8/ 254 - 257، و"الأغاني" 6/ 12 - 13. وجاء بعد هذا في (ص): السنة الثالثة والثمانون. (¬2) "التبيين" 335 - 336.

ذكر إخوة عمر: كان له إخوة، منهم: عثمان، ومعاذ، وموسى بنو عبيد الله بن مَعْمَر. فأما عثمان فخرج إلى الأزارقة، فلما رآهم استقلَّهم وقال: ما هم إلا هؤلاء؟ ! فقيل له: حسبك بهؤلاء شرًّا، فقال: أبيتُم يا أهل العراق إلا جُبنًا، والله لا أصلّي الظهر حتى أَفرغ منهم، ثم حمل عليهم بعسكره فقتلوه. وأما معاذ بن عبيد الله فكان من وجوه قريش، وابنُه محمد بن معاذ هو القائل فيمن أُصيب بقُدَيد، وهم الذين قتلهم أبو حَمزة الخارجيّ: [من الخفيف] بعد رُزْءٍ أُصِبتُه بقُدَيدٍ ... هَدَّ رُكني وهاضَ منّي جَناحي لخِيار الجميعِ قومي بني عُثْـ ... ـمانَ كانوا ذَخيرتي وسِلاحي فهمُ بعد سُؤددٍ وبَيانٍ ... وفعالٍ عند النَّدى وارْتياحِ أَقْبُرٌ بالمَحلِّ تَسفي عليها ... بدُقاقِ التُّرابِ هُوجُ الرِّياحِ من أبيات (¬1). وأما موسى بن عبيد الله فكان من وجوه قريش، وذكر الطَّبريُّ أن يزيد بن المهلب لما هزم عبد الرحمن بن العباس الهاشمي؛ بعث بموسى إلى الحجاج في جُملة الأَسرى، فقتله وقتل عُمر بن موسى (¬2). وابن ابنه عثمان بن عمر بن موسى بن عبيد الله كان على قضاء المدينة زمن محمد بن مروان، ثم ولّاه إيّاه المنصور. وكان ابنه عمر بن عثمان بن عمر بن موسى بن عبيد الله من وجوه قريش، ولاه هارون الرشيد البصرةَ على القضاء، فكان يتواضع، فقيل له في ذلك، فقال: أنتم إذا وَليتم القضاء تركتموه ها هنا، وأشار إلى رأسه، ونحن إذا وَليناه تركناه هاهنا، وأشار إلى قدميه. ¬

_ (¬1) "التبيين" 337. (¬2) الذي في الطبري 6/ 373، 374، 380 أن الحجاج قتل عمر بن موسى بن عبيد الله، وكذا في أنساب الأشراق 8/ 246، وأما موسى فقد هلك بسجستان غازيًا في ولاية عبد الرحمن بن سَمُرة كما في "أنساب الأشراف" 8/ 245 - 246.

المغيرة بن المهلب

وخرج حاجًّا، ولم يرجع إلى البصرة خوفًا من القضاء، وأقام بالمدينة، فأعفاه هارون، فأقام بالمدينة حتى توفي بها. وخاصمه بعض القُرشيِّين، وتَسرَّع إليه القُرَشيّ، فقال له عمر: على رِسْلك، فإنك سريع الإنفاذ، وَشيكُ الصّرمة، وإني والله ما أنا بمُكافيك دون أن أبلُغَ غاية التِّعدّي، وأبلُغَ غاية الإعذار (¬1). المغيرة بن المُهَلَّب ابن أبي صُفْرة: ظالم بن سَرَّاق، وكنيته أبو خِداش، كان خليفةَ أبيه على مَرْو، فمات في رجب، وأبوه قد قطع النهر غازيًا، وكان المغيرة جوادًا شجاعًا سيِّدًا، ووصل الخبر إلى أبيه فاسترجع، وبكى وحزن عليه حزنًا أثَّر فيه، وبعث ابنَه يزيد بن المهلّب إلى مرو، وبلغ الحجاج فكتب إلى المهلب يُعَزّيه، وكان المهلّب على مدينة كِيش وراء النهر يحارب أهلَها. وسار يزيد إلى مرو في ستين راكبًا، فلقيهم خمس مئة من الترك في مَفازة نَسَف، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار. قالوا: فأين أمتعتُكم؟ قالوا: قدَّمْناها، فطلبوا منهم شيئًا، فأبى يزيد أن يُعطيهم، وأعطاهم مُجَّاعة بن عبد الرحمن العَتَكي ثيابَ كَرابيس وقوسًا، وقيل: أعطاهم عِمامةً صفراء وانصرفوا، ثم غدروا وعادوا إليهم، فقال يزيد: أنا كنتُ أعلمُ بهم، فقاتلوهم فهزمهم يزيد، وكان يزيد قد رُمي في ساقه، فقال له مُجَّاعة: ناشدتُك الله فقد هلك المغيرة، وقد رأيتَ ما دخل على قلب أبيك بسببه، فاللهَ اللهَ في نفسك أن تُصاب اليوم، فقال: إنما هلك المُغيرة بأجَلِه، ولن أَعْدُوَ أجَلي، فمازال مُجَّاعةُ به حتى صَرفه عن قتال التُّرك، وافترقوا، وفيه يقول الشاعر (¬2): [من البسيط] والتُّرْكُ تَعلمُ إذ لاقى جُموعَهمُ ... أَنْ قد لَقَوهُ شِهابًا يَفرِجُ الظُّلَما بفِتيةٍ كأُسودِ الغابِ لم يَجدوا ... غيرَ التَّأسِّي وغيرَ الصَّبْرِ مُعْتَصَما (¬3) ¬

_ (¬1) "التبيين" 338. (¬2) في (أ) زيادة: من أبيات. (¬3) "تاريخ الطبري" 6/ 350 - 352.

وقد رثى زياد الأَعْجم المغيرة فقال: [من الكامل] قُلْ للقَوافِلِ والغَزِيِّ إذا غَزَوْا ... والباكِرِينَ وللمُجِدِّ الرَّائحِ إن السمَّاحةَ والمروءةَ ضُمِّنا ... قَبْرًا بمَرْوَ على طريقِ الواضحِ مات المغيرةُ بعد طُولِ تَعَرُّضٍ ... للموت بين أسِنَّةٍ وصَفائحِ فإذا مَرَرْتَ بقَبره فاعقِرْ به ... كُومَ الهِجانِ وكلَّ طِرْفٍ (¬1) سابحِ وانضَحْ جوانبَ قبرِه بدمائها ... فلقد يكونُ أخا دَمٍ وذَبائحِ فقال يزيد بن المُهَلّب، وقيل: قَبيصة بن المُهَلَّب: هل عَقَرْتَ؟ قال: لا. قال: ما منعك؟ قال: كنتُ على همة (¬2) الهمارة، يريد الحمارة، وكان يَرتاد لُكْنَةً، فقال: أما والله لو عَقَرتَ، ما أصبح في آل المهلَّب صاهِلٌ إلا على مِزْوَدِك. وقال ثعلب: أُنشِدْتُ لبعض المحدثين في معنى ما قال زياد الأعجم: [من الخفيف] أيُّها النَّاعِيان مَن تَنْعَيان ... وعلى مَن أراكما تَبكيانِ اندُبا الماجدَ الكريمَ أبا إسـ ... ـحاقَ ربَّ المعروفِ والإحسانِ واذهبا بي إن لم يكن لكما عَقْـ ... ـرٌ إلى قُربِ قَبرِه فاعقِراني وانْضَحا من دَمي عليه فقد كا ... نَ دَمي من نَداه لو تَعلمانِ (¬3) وهو زياد بن سليمان، كان ينزل اِصْطَخْر، غلبت الأعجميَّةُ على لسانه فقيل: الأعجم. وقيل: مَولدُه ومَنشؤه بخُراسان، وقيل: بأصبهان، ثم انتقل إلى خُراسان ومات بها، وكان شاعرًا مُفْلِقًا، وديوانُه مشهور (¬4). وكان المهلب لما بلغه وفاةُ ابنه المغيرة بعث يزيد إلى مرو، وصالح أهلَ كِيش، وأخذ منهم رُهونًا ليُؤَدُّوا إليه الفِدْيَة، وسار عن كِيش، واستخلف مع الرُّهون حُرَيثَ بنَ قُطْبَة مولى خُزاعة، وقال: إذا استوفيتَ الفِديةَ فسَلِّم إليهم الرُّهون والحَقْني. ¬

_ (¬1) بكسر الطاء: هو الكريم من الخيل. (¬2) كذا، وفي "الأغاني" 15/ 382، و"تاريخ دمشق" 6/ 475 (مخطوط): بنت، وانظر ديوانه 84 - 87 وتتمة تخريجها فيه. (¬3) "الأغاني" 15/ 382. (¬4) انظر "الأغاني" 15/ 380، و"تاريخ دمشق" 6/ 473.

وسار فقطع النَّهر، ونزل بَلْخ فأقام بها، وكتب [إلى] حُرَيث: لستُ آمنهم عليك إن رَدَدْتُ عليهم الرُّهون من الغارة، فإذا قَبضتَ الفِديةَ فلا تُسلم إليهم الرُّهون حتى تَقدم أرض بَلْخ، فأرسل حُرَيث إلى ملك كِيش يخبره أنه سائر بالرُّهون إلى بَلْخ، فإن عجَّلتَ ما عليك دفعتُ لك الرهون. فعجَّل ما صالح عليه، وردَّ عليهم الرهون، وسار يطلب النَّهر، فعَرض له الترك وقالوا: افْدِ نفسَك ومَن معك، فقد لَقينا يزيد بنَ المهلَّب ففدى نفسَه، فقال حُرَيث: ولَدَتْني إذًا أمُّ يزيد، ثم قاتلهم فقتلهم، وأسر منهم جماعة ففَدَوْهُم، فمنَّ عليهم، وردَّ عليهم الفِداء، وبلغ المهلَّبَ قولُه: وَلَدَتْني أمُّ يزيد إذًا، فعزَّ عليه، وقال: يَأنَفُ العبدُ أن تَلِدَه رَحِمُه! وغضب. فلما قدم حُرَيْث على المهلَّب قال له: أين الرُّهُن؟ قال: قبضتُ ما عليهم وخلَّيتُهم، قال: ألم أكتب إليك لا تُخَلّيهم؟ قال: جاءني كتابُك وقد خلَّيتُهم، وكُفيتُ ما خِفتُ منهم، قال: كذبتَ، ولكنك تقرَّبتَ إلى مَلِكهم، وأطلعتَه على كتابي. ثم أمر بتَجريده فجُرِّد، وكان يَظُنُّ أن به بَرَصًا (¬1)، فضربه ثلاثين سَوطًا، فكان حُريث يقول: وَدِدتُ أنه ضَربني ثلاثَ مئةٍ سَوْطٍ ولا جَرَّدَني، واستحيى من التَّجريد، وحلف ليَقْتُلَنَّ المهلَّب، وأمر غُلامَين بقتله، وركب يومًا وراء المهلَّب، وأشار إلى الغُلامَين أن يَقتُلاه، فأبى أحدهما وتركه وانصرف، وبقي الآخر وحدَه، فلم يُقدم على المهلّب، فلما نزل حُريث قال لهما: ما منعكما من قتله؟ قالا: خفنا والله عليك لا على أنفسنا، لعلمنا أنك ستُقْتَل. وترك حُريث إتيانَ المهلَّب وتمارض، وعلم المهلَّب بما عَزم عليه من الفَتْك به، فقال لأخيه ثابت بن قُطْبَة: أحضِر أخاك، فإنما هو عندي كبعض وَلَدي حتى أُؤدِّبَه، فأتى ثابت أخاه، فناشده الله أن يَركبَ إلى المهلب، فأبى وخافه على نفسه، فقال ثابت: فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فخرجا إليه. وتوفي المهلب في سنة اثنتين -وقيل في سنة ثلاث- وثمانين، فنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 6/ 353: فجزع من التجريد حتى ظنَّ المهلَّب أن به بَرَصًا.

السنة الثالثة والثمانون

السنة الثالثة والثمانون فيها كانت وَقْعةُ دَير الجَماجم، كان جَبَلَة بن زَحْر وكُمَيل بن زياد على القُرَّاء، وكان الكُمَيْل له صَولةٌ في الحرب، وخرج ابن الأشعث وقد عَبَّى أصحابَه سبعَ صفوف بعضها في إثر بعض، وبعث الحجاج إلى كَتيبة ابنِ زَحْر ثلاث كتائب، عليها الجَرَّاح بن عبد الله الحَكَميّ. ونادى عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه: يا معاشر القُرَّاء، إن الفِرارَ ليس بأحد من الناس أقبح به منكم، قاتلوا هؤلاء المُحِلِّين الظالمين المبتَدِعين. ونادى أبو البَخْتَري: أيها الناس، قاتلوا عن دينكم ودنياكم، فوالله لئن غَلبوا عليكم ليُفْسِدُنَّ عليكم دينكم، وليَغْلِبُنَّ على دُنياكم. ونادى الشعبي: يا أهل الإسلام (¬1): قاتلوا أهلَ العُدوان، ولا تأخُذْكم فيهم لَومةُ لائم، فوالله ما أعلم على بَسيط الأرض قومًا أعمَلَ بظُلمٍ ولا جَورٍ منهم. ونادى سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثَّموا في قتالهم على جَورهم في الأحكام، وتجَبّرِهم في الدين، واستِذلالهم الضُّعفاء، وإماتتهم الصلاة، وإحيائهم البدع. واشتدّ القتال، فحمل جَبَلَةُ بن زَحْر عليهم، وغاص فيهم فقتلوه، ولما رآه الوليد بن نجيب (¬2) الكلبي -وكان رجلًا جَسيمًا، وجَبَلَةُ رَبْعة- فالتقاه، فضربه الوليد على رأسه، فوقع (¬3)، وقيل: قتله الحارث بن جَعْوَنة (¬4)، وقيل: لم يُعرف قاتُله، وحُزَّ رأسُه، وحُمل إلى الحجاج، فحمله على رمحين وقال: يا أهل الشام، أبشِروا، فهذا أوَّلُ الفتح، والله ما كانت فتنةٌ قط فخَبَتْ حتى يُقتَل فيها عظيمٌ من عُظماء أهل اليمن، وهذا من عظمائهم، فسُقط في يد أصحاب جبل, ¬

_ (¬1) في (خ): الشام؟ ! (¬2) في الطبري 6/ 360: الوليد بن نُحَيت. (¬3) في الكلام اختصار كبير، ولعل فيه سقطًا، فقولُه: ولما رآن الوليد ... هو رواية أخرى لمقتل جَبَلَة. انظر تاريخ الطبري 6/ 358 - 360. (¬4) انظر أنساب الأشراف 6/ 457.

وفشل القُرّاء، ووَهَنوا وضعفوا، فصاح بهم أبو البَخْتَريّ الطائي: ويحكم، لا يُؤثّر فيكم قتلُ جبلة، إنما هو كرجلٍ منكم، أتته مَنيَّتُه لوَقْتها. وفرح أهل الشام وقالوا: قد هلك طاغيتُهم، وقَدِم في تلك الحال بِسطام بنُ مَصْقَلَة بن هُبَيرة الشَّيباني، فشَجَّع الناسَ قدومُه وقالوا: هذا عِوَضُ جَبَلَة. وكان مَقدَمُ بِسطام من الرّيّ، والتقاه قُتَيبةُ بن مُسلم في الطريق، فدعاه إلى الحجاج، ودعاه بِسطام إلى ابن الأشعث، فلم يُجِب كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه. وجاء بِسطام إلى ابن الأشعث، فأمَّره على خيل ربيعة، ثم اقتتلوا أيامًا في هذه السنة مُبارزةً وغيرها، وربما عفا بعضُهم عمَّن يَعرفه ولم يقتُلْه. وأمر ابنُ الأشعث الكُمَيلَ بن زياد أن يَصعد المِنبر، ويحرِّضَ الناس على قتال الحجاج، ويَذكر مَساوئه، فخطب فقال: أيها الناس: إنكم قد غُلبتم على فيئكم وبلادكم، وحكم فيكم أهل الشام، وإنه والله لا يَنفي عنكم الظُّلمَ والعُدوان إلا التَّناصُحُ واجتماعُ الكلمة، والصَّبرُ على الضَّربِ بالسيف والطَّعنِ بالرُّمحْ، يا أهل العراق إنكم قد مُنيتُم (¬1) بشَرِّ أهل بيتين في العرب آل الحكم بن [أبي] العاص بن أمية، وآل أبي رِغال من ثَقيف، فتناصَحوا وتواسَوْا بالنفوس والأموال. ونادى عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬2): أيُّها الناس، إني سمعتُ أميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب -رفع الله درجتَه إلى عِلَّيين، وأثابه جَزاء الشُّهداء والصِّدِّيقين- يقول ونحن بصفِّين نُحارب أهلَ الشام: قال رسول الله (¬3): "مَن رأى مُنكرًا فأنكره بقلبه فقد سَلِم، ومَن أنكره بلسانه فقد أُجِر، وهو أفضلُ ممَّن أنكره بقلبه، ومَن أنكره بالسَّيف لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، وكلمةُ الظالمين هي السُّفلى؛ فذلك الذي نَوَّر الله قلبَه، وسلك به مَسْلَك اليقين والهُدى". ثم حرَّض الناس على القتال، وما زال القتال يَعمل بينهم [إلى] اليوم الذي انهزم فيه ابن الأشعث. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): رميتم، وفي (د): رضيتم، والمثبت من (أ)، وهو موافق لما في "أنساب الأشراف" 6/ 456 وما سيرد بين معكوفين منه. (¬2) سلف أول خطبته قريبًا. (¬3) كذا وقع، وهو وهم، فالكلام لعليِّ - رضي الله عنه - كما في تاريخ الطبري 6/ 357 وأنساب الأشراف 6/ 457.

قال هشام: نزل ابن الأشعث بدير الجَماجم يوم الثلاثاء لليلةٍ مضت من شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وثمانين، وهُزم يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة. وقال الهيثم: نزلوا بدير الجماجم في سنة اثنتين وثمانين، وافترقوا عنه في سنة ثلاث وثمانين، وهو الأصح. وقيل: أقاموا بدير الجماجم مئةَ يوم، كان بينهم فيه ثمانون وَقْعة. وقيل: أقاموا به أربعة أشهر. ولما كان في آخر الوقائع ظهر ابن الأشعث وكاد الحجاج أن ينهزم، وكان سُفيان بن الأَبْرد الكَلْبي على الخيل في ميمنة الحجاج، والأَبْرَد بن قُرَّة التميميّ على ميسرة بن الأشعث، فقاتله ساعة، فانهزم الأبرد وكان شجاعًا، وليس من عادته الهزيمة، وإنما نافق على ابن الأشعث، وأصلح حاله مع الحجاج. ولما انهزم الأبرد انتقضت صفوف ابن الأشعث، وركب الناس بعضهم بعضًا، فصعد ابن الأشعث المنبر وجعل يصيح: إليَّ إلي يا عباد الله، أنا ابن محمد، فأتاه عبد الله بن رِزام الحارثي، فوقف عند المنبر، وجاءه عبد الله بن ذُؤاب السُّلَمي في أصحابه، فوقف قريبًا منه، وجاء أهل الشام فدخلوا العسكر وكبَّروا، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغَفَّل الأزديّ -وكانت مُليكة ابنة أخيه امرأة عبد الرحمن- فقال له: انزل فإني أخاف عليك القتلَ أو الأسْرَ، فنزل وخلَّى العسكر بما فيه، وانهزم أهل العراق لا يَلْوُون على شيء. وجاء ابن الأشعث مع ابن جَعْدة بن هُبَيرة في ناس من أهله، فعبروا الفرات من عند الفَلُّوجة، وهي قرية بني جَعْدَة، وجاء بِسطام بن مَصْقَلَة فقال: هل في السفينة عبد الرحمن بن محمد؟ فلم يكلّموه، فقال: [من المتقارب] ضَرَّمَ قيس عليَّ البلا ... دَ حتى إذا اضْطَرَمَتْ أجْذَمَا وقال الحجاج: اتركوهم فليَتَبَدَّدوا ولا تتبعوهم، ونادى منادي الحجاج: مَن رجع فهو آمن.

ورجع محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام، وخلَّيا العراق للحجاج. وجاء الحجاج حتى دخل الكوفة، وجاء الناس يبايعونه، فكان يقول للذي يبايعه: اشهَدْ على نفسك بالكفر، فإن شهد وإلا قتله، فأتاه رجل من خَثْعَم كان قد اعتزل الناس من وراء الفرات، فقال: اشهد على نفسك بالكفر، فقال: ما زلتُ معتزلًا للناس من وراء هذه النُّطْفَة، منتظرًا ما يكون، حتى ظهرتَ فأتيتُك، فقال: اشهْد على نفسك بالكفر، فقال: إن كنتُ عبدتُ ربّي ثمانينَ سنة، ثم أشهد على نفسي بالكفر؛ لبئس العبدُ أنا، والله ما بقي من عُمري إلا ظِمْءُ حِمار، وإنني أنتظر الموتَ صباحًا ومساء، فأمر به فضرب عنقه (¬1). وأُتي بآخر بعده فقال الحجاج: ما أظنُّه يَشهد على نفسه بالكفر، فقال: يا حجَّاج، أخادعي أنت عن نفسي، أنا أعرف بها منك، بلى، أنا أكفَرُ من فرعون وهامان، فضحك الحجاج وخلَّى سبيله، وأقام الحجاج بالكوفة. وفيها كانت الوقعة بمَسْكِن بين الحجاج وابن الأشعث بعد الجماجم. خرج عبد الرحمن بن الأشعث حتى قدم البصرة، واجتمع إليه فَلُّ أهل الكوفة والبصرة والأمصار، وتلاوموا على الِفرار، وبايع أكثرهم على الموت، وجاء الحجاج بجيوشه، ونزل ابن الأشعث بمَسْكِن على دُجَيل الأهواز، وخَنْدَق عليه، وبَثَق الماء من جوانبه، فلم يجعل القتال إلا من مكان واحد، فاقتتلوا خمسَ عشرة ليلة من شعبان أشدَّ القتال. وكان على مَسالح الحجَّاج زياد بن غُنَيم القمي (¬2)، وكان شجاعًا، فقُتل، فهدَّ قتلَه الحجّاج، وأصبح الحجاج ذات ليلةٍ وقتَ السحر، فقاتلهم فظَهر عليهم، وقُتل أبو البَخْتَريّ الطّائي وابن أبي ليلى وقالا [قبل أن يُقتلا]: إن الفِرار (¬3) بنا كلَّ ساعةٍ لَقَبيح. وانهزم أصحابُ ابنِ الأشعث، فلما رأى ذلك بِسطام بن مَصْقَلَة الشَّيبانيّ؛ بايع على الموت أربعةَ آلاف من أهل الحِفاظ من أهل المِصْرَين، وكَسروا جُفونَ سيوفهم، وقال ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 6/ 364 - 365. وقولُه: إلا ظِمءُ حمار؛ الظِّمْءُ، ما بين الشُّرْبين، أي لم يبق إلا اليسير، لأن الحمار قليل الصبر على الظمأ. (¬2) كذا، وفي الطبري 6/ 366: القيني. (¬3) في النسخ: وقال إن الفرار، والمثبت من الطبري 6/ 367.

لهم بسطام: لو كنا إذا فَررنا بأنفُسنا من الموت نَجونا منه لفررنا، ولكنا قد علمنا أنه نازِلٌ بنا عن قليل، فأين المَحِيد عما لا بدَّ لنا منه، والله إنكم على الحق، ولو لم تكونوا عليه لكان موتٌ في عز (¬1)؛ خير من حياة في ذل، فحملوا فكشفوا أهلَ الشام مِرارًا، فقال الحجاج: عليَّ بالرُّماة، فجاؤوا فرشقوهم مِرارًا حتى قتلوا أكثرهم. وأما ابن الأشعث فإنه مضى ومَن معه إلى سجستان، فأتبعهم الحجاج عُمارةَ بنَ تميم اللَّخمي، ومعه ابنه محمد بن الحجاج، وعُمارة هو الأمير على الجيش، فأدركوا ابنَ الأشعث بالسُّوس فقاتلوه، ثم انهزم فأتى سابور، واجتمع إليه الأكراد والفُلول، وقاتلهم عُمارة قِتالًا عظيمًا وجُرح جراحات كثيرة، ثم انهزم عمارة وأصحابه، وأتى ابن الأشعث كَرْمان، وعامِلُه بها عَمرو بن لَقيط العَبْديّ، فأكرمه، وأقام له الضيافة، ثم سار في مَفازة كَرمان فإذا بقَصرٍ في المَفازة، فدخله بعضُ أصحابه، وإذا على حائطه مكتوب: [من الوافر] أيا لَهفا ويا حزنا جميعًا ... ويا حَرَّ الفؤادِ بما لَقِينا تركْنا الدّينَ والدُّنيا جميعًا ... وأسْلَمْنا الحَلائلَ والبَنِينا فما كُنَّا أُناسًا أهلَ دينٍ ... فنَصبِرَ في البلاء إذا ابتُلِينا وما كنَّا أُناسًا أهلَ دُنيا ... فتَمنَعَنَا (¬2) ولو لم نَرْجُ دِينا تَرَكْنا دُورَنا لطَغامِ عَكٍّ ... وأنباطِ القُرى والأَشْعَرِينا والشعر لأبي جِلْدَةَ (¬3) اليَشْكُريّ من أبيات كتبها بعض أهل الكوفة. ثم سار ابن الأشعث حتى أتى زَرَنْج مدينة سِجستان، وبها عاملُ ابن الأشعث عبد الله بن عامر من بني مُجاشع، فعصى عليه وأغلق الأبوابَ دونَه، فأقام أيامًا رَجاء فتحها فلم تُفتح له، فسار إلى بُسْت، وعليها عاملُه عِياض بن هبان (¬4) السَّدُوسيّ -وقيل: من بكر بن وائل- فاستقبله وأنزله، وانتظر غَفْلَةَ أصحاب ابن الأشعث عنه وتَفَرُّقَهم، ثم وَثَب عليه فأوثقه؛ ليتَّخذَ به عند الحجاج يدًا، وأغلق باب البلد. ¬

_ (¬1) في النسخ: موت في غير عز، والمثبت من الطبري 6/ 367. (¬2) في الطبري 6/ 368، و"أنساب الأشراف" 6/ 464، و"الأغاني" 11/ 313: فنمنعها. (¬3) في النسخ: لابن خلدة، والتصويب من المصادر. (¬4) كذا في النسخ، وفي الطبري 6/ 369: هميان، وفي "أنساب الأشراف" 6/ 464: عمرو.

وكان رُتبيل لما بلغه مَقدَم ابن الأشعث خرج بجنوده ليستقبله، فأُخبر بخبره، فجاء فأحاط ببُسْت، وأرسل إلى العامل: والله لئن آذيتَه بما يُقْذي عينَه؛ لا أبرحُ حتى آخُذَ البلد، وأقتُلَك وجميعَ من معك، وأَسبي ذَراريكم، وأقسم أموالكم، فأرسل إليه العامل يَطلب أمانًا على نفسه وماله وأهل البلد، فأعطاهم وأطلق ابن الأشعث، فجاء إلى رُتبيل، فخرج فالتقاه، وأكرمه، وأحسن إليه، وسار معه إلى بلاده، فأنزله وعظَّمه، ودفع إليه الأموال والخيلَ والعبيد. وأقبل فَلُّ ابنِ الأشعث وكانوا ستين ألفًا، فنزلوا على عبد الله بن عامر بزَرَنْج وحصروه، وكتبوا إلى ابن الأشعث: أقبلْ إلينا فنحن في ستين ألفًا، وفيهم وجوه الأشراف ممَّن لم يُعطهم الحجاجُ الأمان، فأَخبر رُتبيل فقال: أقم عندي، فأهلُ العراق غُدُر، وقد خانوك، فلم يلتفت، فسار إليهم، فحصَروا عبد الله بن عامر حتى أنزلوه، وضَربوه وعَذَّبوه، وأقبل نحوهم عُمارة بن تميم في جيش أهل الشام، فقالوا لابن الأشعث: اخرُجْ بنا عن سجستان فلنَدَعْها لعُمارة، ونأتي (¬1) خراسان، فقال لهم: عليها يزيد بن المُهَلَّب، وهو شابٌ شُجاع صارم، وليس بتارك لكم سُلطانَه، ولن يَدَعَ أهلُ الشام اتِّباعكم، فأكره أن يَجتمع علينا أهلُ خراسان وأهلُ الشام، فقالوا: أهلُ خراسان منا، وهي أرض عَريضة طويلة، نسير فيها حيث شئنا؛ إلى أن يُهلك الله الحجاج أو عبد الملك، فقال لهم: فسيروا على خِيرة الله. فساروا حتى بلغوا هَراة، وخرج عُبيد الله بن عبد الرحمن بن سَمُرَةَ القُرشيّ في ألفين، ففارق ابنَ الأشعث، وسلك غير [طريقهم] ليلًا، فلما أصبح ابن الأشعث قام فيهم خطيبًا فقال: أما بعد، فقد جَرَّبْتُكم في مواطنَ ليس فيها مَوطنٌ إلا وأصبِر لكم فيه حتى لا يبقى فيه منكم أحد، فلما رأيتُ أنكم لا تقاتلون ولا تصبرون؛ أتيتُ مَلْجأ ومَأمَنًا يُغني عند رُتْبيل، فكنتُ فيه، فجاءتني كُتبُكم أن أقبِل إلينا فقد اجتمعنا وأمرُنا واحد، ثم تتفرَّقون ¬

_ (¬1) في (د): ولنأتي.

عليّ! اصنعوا ما بدا لكم، فإني مُنصَرِفٌ إلى صاحبي الذي أتيتُ من عنده، فمَن أحبَّ أن يَتبعني، ومن أحبَّ فلْيَذْهب حيث شاء. وسار إلى رُتْبيل، وسارت معه طائفة، وبقي مُعظم العسكر، فبايعوا عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، ومضى ابن الأشعث إلى رُتْبيل، ومضوا هم إلى خراسان، حتى انتهوا إلى هراة وبها الرّقَّاد الأزديّ (¬1)، فقتلوه وأقاموا. وهذه رواية (¬2) الكلبي. وأما المدائني فحكى أن ابن الأشعث لما هُزم من مَسْكِن مضى إلى كابُل، وأن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سَمُرة أتى هَراة، فذمَّ ابن الأشعث، وعاب عليه فِراره، وأن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة أتى سِجستان، فانضمَّ إليه فَلُّ ابنِ الأشعث، فسار في عشرين ألفًا إلى هَراة، وبها الرّقَّاد بن عُبيد العَتَكيّ فقتلوه، وكان مع عبد الرحمن بن العباس من عبد القيس: عبد الله بن المنذر بن الجارود (¬3)، فأرسل إليه يزيدُ بن المهلَّب: قد كان لك في البلاد متَّسَعٌ، فارتحِلْ إلى مكان ليس فيه سلطان، فإني أكره قتالك، وإن أحببتَ أن أُمدَّك بمالٍ لسَفَرِك أمدَدْتُك. فأرسل إلى يزيد بن المهلب: ما نزلنا هذه البلاد لمحاربةٍ ولا لمقام، ولكنا أردنا أن نَستريح ثم نَرحل، وليس لنا إلى ما عرضتَ علينا حاجة. وانصرف رسول يزيد، وأقبل الهاشمي على جباية الخَراج، وبلغ يزيد فقال: من يريد أن يستريح ثم يرحل يجبي الخراج؟ ! فجهز المفضَّلَ أخاه في أربعة آلاف، ويقال: في ستة آلاف، وسار هو في أربعة آلاف، ووزن نفسَه وعليه سلاحُه فكان أربع مئة رطل، فقال: ما أراني إلا قد ثَقُلتُ عن الحرب، فأيُّ فرسٍ يُقِلُّني؟ ! ثم دعا بفرسه الكامل فركبه، واستخلف على مرو خاله ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 371: الرقاد الأزدي من العتيك، وسيرد بنسبة العَتَكيّ. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): روايات، وانظر الطبري 6/ 370 - 371، و"أنساب الأشراف" 6/ 465. (¬3) في النسخ: وكان مع عبد الرحمن بن العباس بن عبد القيس بن عبد الرحمن المنذري الجارود، والمثبت من الطبري 6/ 371.

جُدَيْع بن يزيد، ومرَّ على مَرْو الرُّوذ، فنزل عند قبر أبيه، فأقام ثلاثًا، ثم سار إلى هَراة، وأرسل إلى عبد الرحمن بن العباس يقول: قد جَبَيتَ وأخذتَ وأرحْتَ واسترحتَ، وإن أردتَ زيادةً زِدناك، فاخرج فوالله ما أحبّ قتالكَ. ودسَّ عبد الرحمن إلى جيش يزيد يدعوهم إلى نفسه، فأخبروه، فقال يزيد: جلّ الأمر عن العتاب (¬1)، أتغدَّى به قبل أن يتعَشَّى بي، وسار إليه، وتقاتل العسكران، ووُضع ليزيد كرسي، وتولّى الحربَ أخوه المفضَّل بن المهلَّب، واقتتلوا، وصبر عبد الرحمن ساعة ثم انكشفوا، فقال يزيد: لا تَتبعوهم، وأخذ ما كان في عسكرهم، وأَسَروا منهم أُسارى. وأمر يزيد عطاءَ بنَ أبي السَّائب بأن يتولّى أمرَ العسكر وإحصاءَ ما فيه، وكان في الأسرى: محمد بن سعد بن أبي وقاص، وموسى بن عُبيد الله بن مَعْمر التَّيمي، وعيَّاش بن الأسود بن عَوف الزُّهوي، والهِلْقام بن نُعيم، وعبد الله بن فضالة الزهراني، والقعقاع بن مَعْبَد بن زُرارة (¬2)، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خَلَف، في آخرين. فسأله محمد بن سعد وقال: يا يزيد، أسألك بدعوة أبي لأبيك، فأطلقه، والأصح أن الحجاج قتله، وأطلق عبد الرحمن بن طلحة وعبد الله بن فضالة، وبعث بالباقين مع سَمُرة بن مِخْنَف بن المهلَّب (¬3) إلى الحجاج، ثم عاد يزيد إلى مَرْو، ومضى عبد الرحمن بن العباس إلى السِّند. وقال مَعْمَر (¬4): إن يزيد لما أراد أن يَبعث الأسرى إلى الحجاج قال له أخوه حَبيب: بأيِّ وجه تَنظر إلى اليَمانية وقد بعثتَ ابنَ طلحة؟ ! فقال يزيد: هو الحجاج! فقال: وَطِّن ¬

_ (¬1) في النسخ: القتال، والتصويب من تاريخ الطبري 6/ 372. (¬2) في (د) زيادة: وعبد الرحمن بن زرارة، هذا والنص في الطبري 6/ 373، و"أنساب الأشراف" 6/ 466: وكان في الأسرى: محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعياش بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وعبد الرحمن بن طلحة، وعبد الله بن فضالة الزهراني. (¬3) في الطبري 6/ 373: سبرة بن نخف بن أبي صفرة. (¬4) هو ابن المثنى أبو عبيدة، والخبر في الطبري 6/ 379.

نفسَك على العَزْل ولا تَبعث به، فإن له عندنا يَدًا، قال: وما يَدُه؟ قال: لَزم المهلَّبَ مئتا ألفِ دينار، فأداها طلحة عنه، فأرسله يزيد. وفيه يقول الفرزدق: [من الكامل] وجدَ ابنُ طلحةَ يومَ لاقى قومَه ... قَحطانَ يوم هَراةَ نِعمَ المَعْشَر (¬1) وبلغ الحجاج ذلك، فحقد على يزيد وعزله بعد ذلك. قال هشام: ولما قُدم بالأسرى على الحجاج قال له موسى بن عبيد الله بن معمر (¬2): أصلح الله الأمير، كانت فتنةً شَمِلت البرَّ والفاجر، فدخلنا فيها، وقد أمكنك الله منا، فإن عفوتَ فبحلمِك وفَضلِك، وإن عاقبتَ عاقبتَ ظَلَمةً مُذنِبين، فقال الحجَّاج: أما قولُك: شَمِلت البرَّ والفاجر فكذبتَ، ولكنها شَمِلت الفُجَّار وعُوفي منها الأبرار، وأما اعترافُك بذَنْبِك فعسى أن يَنفعك، فرجا الناسُ له العافية. وقُدِّم إليه الهِلْقَام بن نعيم، فقال له الحجَّاج: أخبرني، ما رَجوتَ من اتِّباعك ابنَ الأشعث، أرجوتَ أن يكون خليفة؟ قال. نعم، وطمعتُ أن يُنْزِلَني منزلتَك من عبد الملك، فغضب الحجاج وقال: اضربوا عُنقه فقُتل، ونظر إلى موسى فقال: اضربوا عُنقه. فقُتل، وقَتلَ بقيَّتَهم. ذكر حضور الشَّعبي عند الحجّاج: قال المدائني: ونادى الحجَّاج بعد يوم الجَماجم: مَن لَحق بقُتيبةَ بنِ مُسلم بالرّيّ فهو آمن، فلحق به ناسٌ كثير منهم عامر الشَّعبي، فذكره الحجاج يومًا وقال: أين هو؟ قالوا: عند قُتيبة، فقال لكاتبه يزيد بن أبي مُسلم: اكتب إلى قُتيبة يُسَرِّح إلينا (¬3) عامرًا، فكتب إليه، قال الشعبي: وكنتُ صديقًا لابن أبي مسلم، فلما قدم بي على الحجاج لقيتُ ابن أبي مُسلم فقلت: أشرْ عليَّ، فقال: والله لا أدري بمَ أُشير عليك به، غير أنك اعتذِرْ ما استطعتَ، وأشار علي، أصحابي وإخواني بذلك، قال: فلما دخلتُ سلمتُ عليه وقلت: أيها الأمير، إن الناسَ أمروني أن أعتذرَ إليك بغير ما تَعلَمُ مني، وإن الله غيَّرَ ما عزمتُ ¬

_ (¬1) في الطبري: خير المعشر. (¬2) في الطبري 6/ 374، و"أنساب الأشراف" 6/ 467: عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وانظر ما سلف ص 297. (¬3) في (خ): لنا.

عليه، والله لا أقول في هذا المقام إلا حقًّا، والله لقد حرَّضنا وجَهِدنا عليك كلَّ الجهد، فما ألَوْنا، وما كنَّا بالأقوياء الفَجَرَة، ولا الأتقياء البَرَرَة، ولقد نَصرك الله علينا وظَفَّرك بنا، فإن سَطَوتَ فبذنوبنا، وما جَرَّت إليه أيدينا، وإن عَفوتَ فبحلمك، وبعد الحجَّة لك علينا، فقال له الحجاج: أنت والله أحبُّ قولًا إلينا ممَّن يَدخُلُ علينا يَقطُر سيفُه من دمائنا، ثم يقول: ما فعلتُ ولا شَهِدتُ، انصرف فقد أَمِنت. فلما مشيتُ قليلًا قال: هلمَّ يا شعبيّ، فوَجِل قلبي، ثم ذكرتُ أمانَه فاطمأنَّتْ نفسي، فقال: كيف وَجَدَت الناسَ بعدنا؟ فقلت: أصلَح الله الأمير، اكتحلتُ والله بعدك (¬1) السَّهَر، واستوعَرْتُ الجَنَاب، واستحلستُ (¬2) الخوفَ، وفقدتُ صالحَ الإخوان، ولم أجد من الأمير خَلَفًا، فقال: انصرِفْ، وكان له مُكرمًا. وقال الطبري (¬3): كان الشعبي ممَّن خرج على الحجاج مع القُرَّاء، وشهدَ ديرَ الجماجم، وكان ممَّن أفلتَ فاختفى زمانًا، وكان يكتب إلى يزيد بن أبي مُسلم أن يُكلِّم له الحجَّاج، فأرسل إليه يزيد: إني والله ما أَقدر على ذلك، ولا أجترئُ عليه، ولكن تحيَّنْ جلوسَه للعامَّة، ثم ادخُل عليه فامثُلْ بين يديه واعتَذرْ، واستشهِدْ بي على ما أحببتَ أشهدْ لك، ففعل الشعبيُّ، فلم يشعر الحجاج به إلا وهو قائمٌ بين يديه، فقال: أشعبيّ؟ قال: نعم أصلح الله الأمير، قال: ألم أقدَم البلدَ وعطاؤك كذا وكذا، فزدتُ في عطائك ولا يُزادُ مثلُك؟ قال: بلى، قال: ألم آمُر أن تَؤمَّ قومَك ولا يؤمُّ مثلُك؟ ، قال: [بلى، أصلح الله الأمير، وقال: ]، ألم أُعَرِّفْك على قومك ولا يُعَرَّف مثلُك؟ قال: بلى، قال: ألم أُوفِدْك على أمير المؤمنين ولا يُوفَدُ مثلُك؟ قال: بلى، قال: فما الذي أخرجك عليَّ؟ قال: أصلح الله الأمير، خَبَطَتْنا فِتنة، فما كنا فيها بأبرار أتقياء، ولا فُجَّارٍ أقوياء، وقد كتبتُ إلى يزيد بن أبي مسلم أعلمه ندامتي (¬4) على ما فَرط منّي، ¬

_ (¬1) في (خ): بعدكم. والخبر في الطبري 6/ 375. (¬2) أي: لزمتُ، ووقع في (ب): واستجللت، وفي النسخ الأخرى: استجلست. والمثبت من الطبري. (¬3) لم أقف عليه في تاريخه، وأخرجه ابن سعد 8/ 368، وعنه ابن عساكر 212 - 213 (عاصم- عائذ). (¬4) في النسخ: إنه بدا مني، والمثبت من المصدرين السالفين. وما سلف بين حاصرتين منهما.

ومَعرفتي بالحقّ الذي خرجتُ منه، وسألتُه أن يُخبر بذلك الأمير، ويأخُذَ لي منه أمانًا فلم يفعل، فالتفت الحجَّاج إلى يزيد فقال: أهكذا هو؟ قال: نعم، قال: فما مَنَعك أن تُخبِرَني بكتابه؟ قال: الشُّغْلُ الذي كان فيه الأمير، فقال الحجاج: انصرف آمنًا. وقال مجالد: قال الشعبي: لما قَدِم الحجَّاجُ الكوفةَ واليًا عليها عُرض عليه الناس، فكنتُ فيمن عُرض عليه، فقال: مَن أنت؟ قلتُ: عامر الشعبي، قال: اجلس، فجلستُ، فقال: أقرأتَ القرآن؟ قلت: نعم، قال: ففرضْتَ الفرائض؟ قلت: نعم، قال: أنظَرْتَ في العربية والشعر؟ قلت: نعم، قال: ففي المغازي، قلت: نعم، قال: فحدِّثْني حديثَ بَدْرٍ، فحدَّثْتُه من رُؤيا عاتكة، إلى أن أذَّن المُؤذِّنُ للظُّهر، فقام فدخل وقال: لا تبرَحْ، وخرج فصلّى الظهر وقال: تَمِّم، فأتممتُها له، فجعلني عَريفًا على الشَّعْبيين، ومَنكِبًا (¬1) على هَمْدان، وفرض لي في الشَّرف من العطاء، فلم أزل عنده على أحسن حال حتى خرج ابن الأشعث، فأتاني قُرَّاء الكوفة وقالوا: يا عامر، إنك زعيم القراء، وأنت كذا وكذا، فلم يزالوا بي حتى أخرجوني معهم، فكنتُ أقوم بين الصفَّين فأذكُر الحجاج، فأَعيبُه بأشياء كنت أعرفُها فيه، وبلغ الحجاج فقال: ألا تَعجبون من هذا الخبيث؟ ! جاءني وهو وَضيعٌ فرفعتُه، وفعلتُ معه وفعلت، ثم خرج عليَّ ويقول ما يقول، أما والله لئن مَكَّنني الله منه لأجعلَنَّ عليه الدنيا مثلَ مَسْكِ حَمَل (¬2). قال: فما لَبثنا أن هَزَمنا الله، فدخلتُ بيتي، وأغلقتُ بابي، وأقمتُ مُستخفيًا تسعةَ أشهر، فكانت الدنيا عليَّ أضيَقَ من مَسْك حَمَل، ثم هربتُ إلى خُراسان وقد نادى مناديه: مَن التجأ إلى قُتيبة بن مُسلم فهو آمِنٌ، فركبتُ حمارًا، وسرتُ إلى فَرْغَانة، فدخلتُ على قُتيبة فلم يعرفْني، وكنتُ أغشى مَجْلِسَه. ثم إنه فُتح عليه فَتْحٌ فلم يَدْرِ ما يَكتب إلى الحجاج، فكلَّمني في ذلك فقلت: عندي كلّ ما تريد، فقال: مَن أنت؟ قلت؟ لا تسأل عن ذلك، فقال: اكتُب كتابَ الفتح لأكتُبَ منه، فقلت: لا أحتاج، اكتب وأنا أُملي، فأخذ يكتب وأنا أُملي عليه، وهو ينظر إليّ، حتى فَرَغْتُ، فحَمَلَني على بَغْلة، وأعطاني بُرْنُسًا وسَرَقًا من حرير، وكنتُ عنده في أعلى منزلة. ¬

_ (¬1) أي: عريفًا، ولم تجوَّد كلمة الشعبيين في النسخ، والمثبت من "تاريخ دمشق" 208 (عاصم- عائذ). (¬2) يعني جلد حمل. وفي (أ): جمل.

فبينا أنا عنده ذات يوم إذ جاءه كتابُ الحجَّاج يقول: صاحبُ كتابك عامر الشَّعبي، فإذا نظرتَ في كتابي فابعثْ به إليَّ؛ وإلا عَزَلْتُك وفعلتُ بك وفعلتُ، فاحذر أن يَفوتَك، فالتفت إليّ وقال: ما عَرفتُك قبل هذه الساعة، وهذا كتابُه، فاذهب حيث شئتَ من الأرض، ولأحلفنَّ له بكلِّ يمينٍ أنني ما عرفتُك قبل هذه الساعة، فقلت له: مثلُ هذا لا يَخفى، فابعث بي إليه، فقال: أنت أعلم. ثم بعث معي جماعةً وأوصاهم بي، ثم قال: إذا وصلتُم به إلى الحجّاج فأدخلوه عليه مُقَيَّدًا، ثم قال: قُل ما شِئتَ واستشْهِد بي. فلما وصلتُ إلى باب الحجاج لَقِيَني يزيدُ بن أبي مُسلم، فقال لي: إنا لله لما بين دَفَّتَيكَ من العلم، قلت: فاشفع لي، قال: ليس بيوم شفاعة، قلت: فخُذْ لي أمانًا، قال: لا أقدر، ولكن إذا دخلتَ عليه فبُؤْ له (¬1) بالكُفر؛ فبالحريّ أن تَنجو، وما أُراك بنَاجٍ, ولكن استشهِدْ بي, قال: ولقيتُ محمد بن الحجَّاج فقال لي مثلَ ذلك وأُدخِلتُ علية فقال: هية يا عامر , أكرمتُك, وأحسنتُ إليك؛ وتخرج علي وتقول ما قلت؟ ! قال: فذكرتُ له بمعنى ما تقدَّم، واستشهدتُ بيزيد بن أبي مسلم، فسأل يزيدًا: أكذا؟ ! قال: نعم، فقال: انصرِفْ راشِدًا، وأمرني بلُزوم بابه. ذكر جماعة أُتي بهم إلى الحجاج: منهم: عبد الرحمن بن عائذ الحمصي، أبو عبد الله، من الطبقة الثانية من التابعين، ويقال: إنه أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه، واتّفقوا على أنه سمع من عمر، وعلي، ومعاذ، وأبي ذَرّ رضي الله عنه، وغيرهم، وحضر خطبة عمر رضوان الله عليه بالجابية. وكان قد خرج مع ابن الأشعث، فجيء به إلى الحجاج وكان يعرفه، فقال له: كيف أصبحتَ يا أبا عبد الله؟ فقال: كما لا يريد الله، ولا الشيطان، ولا أنا، قال: وكيف؟ قال: يريد الله أن أكون عابدًا زاهدًا، والله ما أنا بذاك، ويُريد الشيطان أن أكون فاسقًا وما أنا بذاك، وأُريد أن أكون آمِنًا في سِرْبي وما أنا بذاك، فقال الحجاج: مَولِدُ شاميّ، وأدبٌ عراقيّ، وجارُنا إذ كنا بالطّائف، خَلُّوا عنه (¬2). ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: فتولَّه، وكذا في "تاريخ دمشق"ص 215، والمثبت من المصادر، والكلام فيها بنحوه. ينظر أنساب الأشراف 6/ 6 / 478، والمعرفة والتاريخ 2/ 598، والعقد الفريد 5/ 32، وسير أعلام النبلاء 4/ 314. (¬2) "تاريخ دمشق" 9/ 987، 991 (مخطوط)، و"السير" 4/ 487 - 489.

قوله: كما لا يريد الله: خطأ، فإنه لا يكون إلا ما يُريد الله، وربما أنه قال: كما لا يُحبّ الله، أو كما لا يُرضي الله، فحرَّفَتِ الرُّواةُ قولَه. وجيء بجماعة من الأَسرى، فأمر الحجَّاج بقتلهم، فقال له رجلٌ منهم: أصلح الله الأمير، لي عندك حُرمة، قال: وما هي؟ قال: شُتم أبوك في عسكر ابن الأشعث فقلت: والله ما في نسبه مَطْعَن، قال: ومَن يعلم هذا؟ فالتفت إلى أقرب أسيرٍ منه فقال: هذا، فقال له الحجاج: ما تقول؟ قال: صدق، فقال: خَلُّوا عن هذا لنُصْرَتِه، وعن هذا لشهادتِه. ولما دخل الحجَّاج البصرة بعد الجَماجم دخل عليه الحسن البصري فقال: أنتَ الذي حملتَ علينا السلاح؟ فقال الحسن: لا والله، فأخرج الحجَّاج إليه كفَّه، فمسح عليها، فقيل للحسن: لا تَأُمَنْه، فتوارى عنه تسعَ سنين؛ ينتقل من منزلٍ إلى منزل، حتى هلك الحجّاج (¬1). وروى هشام: أن محمد بن سعد بن أبي وقَّاص جيء به في الأسرى، فأُوقف بين يدي الحجاج (¬2)، فقال له: يا ظلَّ الشيطان، أتأبى بيعةَ يزيد بن معاوية، وتتشبَّه بحُسين وابن عمر؟ ! يا أعظم الناس كبرًا، فقال له محمد: أيُّها الرجل، مَلكْتَ فأسْجِح، فضرب عُنُقَه. ثم دعا بموسى بن عُبيد الله بن مَعْمر، فقال: يا عبدَ المرأة، أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك، وتشرب معه الشَّراب في حمَّام فارس، وتقول المقالة التي قلتَ؟ فقال: والله لقد دَفعتُه عن عقائلِ نسائك، فضرب عُنقه (¬3)، وقيل: إن الذي قتله الحجاج: عمر بن موسى بن عُبيد الله بن مَعْمر (¬4). وقتل الحجاج في وقعة الجَماجم أربعة آلاف من أعيان الناس، منهم: عبد الله بن شدَّاد بن الهاد، وبِسْطام بن مَصْقَلَة، وبِشْر بن المُنذر بن الجارود وغيرهم. ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 6/ 494. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): بين يديه، والمثبت من (أ). (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 6/ 380، و"أنساب الأشراف" 6/ 367 وفيهما: عمر بن موسى بن عبيد الله. وابن الحائك يعني ابن الأشعث. (¬4) وإلى هذا ذهب الطبري والبلاذري كما في التعليق السالف.

أبو الجوزاء

قال الطبري: وفي هذه السنة بنى الحجاج واسِطًا، وسببُه أنه ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خُراسان، فعسكروا بحمَّام أَعْيَن (¬1). وكان فتًى من أهل الكوفة حديثَ عهدٍ بعُرسٍ، فكان يأتي ابنةَ عمِّه ثم يعود إلى العسكر، وكان رجل من أهل الشام يأتي إلى منزل الفتى، فيتعرَّض لامرأته كلَّ ليلةٍ، فشكت إلى ابنِ عمّها فقال: إذا جاء الليلة فأدخليه، ووقف له خلفَ الباب، فلما دخل قتلَه، وأخبر الحجاج فأهدَر دمَه وقال: لا يَنزلَنَّ أحدٌ على أحد. ثم أمر الرُّوَّاد فارتادوا له مكانَ واسِط. والأصح: أنه شرع فيها في سنة خمس وسبعين (¬2)، وفرغ منها في سنة ثمان وسبعين. وحجَّ بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان واليًا على المدينة. فصل: وفيها توفي أبو الجَوزاء [واسمه] أوس بن خالد الرَّبَعيّ البصري، وقيل: خالد بن سُمَير (¬3). [ذكره ابن سعد] من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، [وحكى أنه] قال: صحبتُ ابنَ عباس اثنتي عشرة سنة، فما بقي في القرآن آية إلا سألتُه عنها. [وذكر ابن سعد أن أبا الجوزاء] لم يلعن شيئًا قطُّ، ولا أكل طعامًا ملعونًا. [قال: ] وكان يقول: لأن تمتلئ داري قردةً وخنازير؛ أحبُّ إليَّ من أن أجاور رجلًا من أهل الأهواء. ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 383، و"المنتظم"6/ 249: بحمام عمر. (¬2) بعدها في (ص): وقد ذكرنا السبب هناك. (¬3) كذا في النسخ غير (ص)، فليس فيها هذه العبارة، وقد اختلفوا في اسم هذا الرجل على قولين: أوس بن خالد الربعي البصري، وأوس بن عبد الله، فقال بالأول ابن سعد 9/ 222، وابن قتيبة في "المعارف" 469، وابن الجوزي في "الصفوة" 3/ 258، وقال بالثاني خليفة في طبقاته 205، والبخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 16، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 2/ 304، وأبو نعيم في "الحلية"3/ 78، والمزي في "تهذيبه" (571)، والذهبي في "السير"4/ 371. وأما خالد بن سمير فهو رجل آخر، ذكره ابن سعد 9/ 222 قبل أبي الجوزاء، ولم يذكر له أخبارًا، فلعل هذا ما أوقع المصنف أو المختصِر في الوهم، وقد ترجم له المزي (1604).

إياس بن قتادة

وكان يقول: ما مارْيتُ أحدًا قط، ولا كذَّبتُ أحدًا قط (¬1). [وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل بإسناده إلى سليمان الرَّبَعيّ قال: كان أبو الجوزاء] يواصل في الصوم بين سبعة أيام، ثم يَقبض على ذِراع الشابّ فيكادُ يَحْطِمُها (¬2). وقال ابن سعد: خرج أبو الجَوزاء مع ابن الأشعث، فقتل أيام الجَماجم، سنة ثلاثة وثمانين (¬3). وأسند عن ابن عباس وعائشة وغيرهم. إياس بن قتادة ابن أوفى بن عَبْشَمْس (¬4) بن سعد بن زيدِ مَناة بن تميم، وأمُّه الفارِعة بنت حِمْيَريّ، من بني مُرَّة. وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة، ولأبيه قَتادة صُحبة. وكان إياس شريفًا في قومه، اعتَمَّ وهو يُريد بِشرَ بن مروان، فنظر في المرآة، فإذا بشَيبةٍ في ذَقنه، فقال: يا جارية، افليها، فإذا أخرى فقال: انظري مَن بالباب من قومي، فأُدخلوا عليه، فقال لهم: يا بني تَميم، إني كنتُ قد وهبتُ لكم شَبابي، فهبوا لي مَشيبي، ألا تراني حُمَيِّرَ الحاجات (¬5) وهذا الموت يقرب إلي، ثم نَقض عِمامته، واعتزل يُؤَذِّن لقومه، ويعبد ربه حتى مات (¬6). قال ابن سعد: سمعتُ أنه خرج من المسجد يوم الجمعة، فقرَّبوا إليه أَتانًا له ليركَبَها، فلما اغترز في الرِّكاب نظر (¬7) إلى شيبه فقال: مرحبًا بك، طالما انتظرتُك، ثم انصرف فاضطجع على شِقِّه الأيمن، فمات في خلافة عبد الملك بن مروان. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 222 - 223، وما بين معكوفين من (ص). (¬2) "الزهد" لأحمد 371، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" 3/ 79 - 80، وما بين معكوفين من (ص). (¬3) "طبقات ابن سعد" 9/ 223. (¬4) في "طبقات ابن سعد" 9/ 127، و"أنساب الأشراف" 11/ 498: بن أوفى بن موءلة بن عتبة بن ملادس بن عبشمس. (¬5) حُمَيِّر، تصغير حمار، والمعنى: امتهنوه في جليل أمرٍ ودقيقهِ، كما في جمهرة الأمثال 1/ 381. وينظر أيضًا مجمع الأمثال 2/ 404. (¬6) "طبقات ابن سعد" 9/ 141، و"المنتظم" 6/ 312 وذكره في وفيات سنة (93). (¬7) في النسخ: فنظر، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 6/ 141.

روح بن زنباع

رَوْحُ بن زِنْباع أبو زُرْعَةَ الجُذاميّ الشامي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الشام، ولم تكن له صُحبة، وكان ذا منزلة عند الناس، فخاف منه معاوية، فعزم على قتله، ففهم رَوْح فقال له: لا تَهدِم رُكنًا بنيتَه، ولا تُحزِن صاحبًا أنت سَرَرْتَه، ولا تُشْمِت عدوًا أنت كَبَتَّه، فكفَّ عنه معاوية. قال المصنف رحمه الله: وأحسنُ من هذا قولُ الشَّريف الرَّضِيّ: [من السريع] لا تُعْطِشِ الزَّرْعَ الذي نَبْتُه ... بصَوْبِ إنعامِكَ قد رَوَّضا لا تَبْرِ عُودًا أنت رَيَّشْتَهُ ... حاشا لباني المَجْدِ أن يَنْقُضا من أبيات (¬1). ولما طَلب مروان الخلافة قام رَوْح معه حتى وَليها، ثم صار خصيصًا بعبد الملك، وكان يكتب له، ويثني عليه عبد الملك ويقول: هو عراقيُّ الخَطّ، حجازيُّ الفقه، فارسيُّ الكتابة. أسند روح عن جماعة من الصحابة (¬2). زاذان الكوفي أبو عبد الله، مولى كِندة (¬3). من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. وكان بَزَّازًا يبيع الكَرابيس. [قال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده إلى سالم بن أبي حفصة، عن زاذان أنه] كان يبيع الثياب، فإذا عرض الثوب على المُشتري ناولَه شرَّ الطَّرفَين، [وفي روايه] وسامَه (¬4) مَرَّةً واحدة. وكان صالحًا مُجابَ الدَّعوة، [روى أبو نعيم عنه أنه] جاع يومًا فقال: يا ربِّ، إني جائع فأطعمني، فسقط عليه رَغيفٌ مثلُ الرَّحىَ من الرّوْزَنَة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ديوانه 1/ 575 (صادر). (¬2) "تاريخ دمشق" 6/ 297 فما بعدها، و"المنتظم" 6/ 251، والسير 4/ 251. (¬3) في (ص): ومنهم زاذان الكوفي مولى كندة، وكنيته أبو عبد الله. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): وساومه. والخبر في الحلية 4/ 199. (¬5) "حلية الأولياء" 4/ 199، والروزنة: الكُوَّة. وما سلف بين معكوفين من (ص).

سفيان بن وهب

وكان سببُ إقبالِه على الله تعالى ما قرأتُه على شيخنا الموفَّق رحمه الله في كتاب "التَّوابين" قال: مَرّ ابن مسعود بالكوفة (¬1)، وإذا بشباب مُجتمعين يشربون، ومعهم زاذان يَضرب بالعود، ويغنِّي بصوتٍ حَسَن، فسمعه ابن مسعود فقال: ما أحسن هذا الصَّوتَ لو كان بكتاب الله، وسمعه زاذان، فقام وضرب بالعود الأرض فكسوه، ثم جعل منديله في عُنقه، وأدرك ابنَ مسعود وهو يبكي، فاعتنقه ابنُ مسعود، وجعلا يبكيان، وابن مسعود يقول: كيف لا أحبُّ مَن قد أحبَّه الله تعالى، ثم تاب وحَسُنَت توبتُه، ولزم ابنَ مسعود حتى صار إمامًا في العلم (¬2). وقال أبو أحمد بن عدي: تاب زاذان على يد ابن مسعود، وسمع منه (¬3). ذكر وفاته: قال خليفة: مات زاذان وأبو وائل في سنة اثنتين وثمانين. وقال جدِّي في "الصَّفوة": تُوفّي زاذان بالكوفة أيام الحجّاج، بعد الجَماجم (¬4). أسند زاذان عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، والبراء بن عازب، وسلمان الفارسي، وجرير بن عبد الله البَجَليّ، وأبي هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم - في آخرين. وقد تكلَّم فيه أبو عبد الله الحاكم فقال: زاذان ليس بالقوي عندهم. ووثقه ابن مَعين، والنسائي، وأبو أحمد بن عدي، وابن سعد (¬5). سفيان بن وَهْب أبو أيمن الخَولانيّ، شهد حجَّةَ الوداع مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووفد عليه، وله أحايث. ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): وكان سبب إقباله على الله أن ابن مسعود - رضي الله عنه - مر بالكوفة, والمثبت من (ص)، والخبر في التوابين 214 - 215. (¬2) بعدها في (أ) و (ب) و (خ) و (د): ومات في سنة اثنتين وثمانين, والمثبت من (ص). (¬3) "الكامل" 1091. (¬4) "طبقات خليفة "158، و"صفة الصفوة" 3/ 59. وانتهت ترجمه زاذان في (ص)، وفيها بعدها ترجمة أعشى همدان. (¬5) انظر "طبقات ابن سعد" 8/ 298، و"تاريخ دمشق" 6/ 318 وما بعدها، و"المنتظم" 6/ 251 - 252، و"السير" 4/ 280.

عبد الله بن الحارث

وقال ابن سعد: هو من ثقات التابعين (¬1). وبعثه عبد العزيز بن مروان إلى إفريقية غازيًا. وقال: حضرت مع عمر بالجابية، فجاءه قوم من أهل الذِّمَّة فقالوا: يا أمير المؤمنين، قد فَرَضْتَ علينا أن نَرزُقَ المسلمين العَسَل، ولا نجده عندنا، وإن عندنا شرابًا يشبه العسل، فقال: ائتوني به، فأتوه به فجعل يرفعه على إصبعه، فيمتدّ كهيئة العسل، فقال عمر: إن هذا يشبه طِلاء الإبل، فأتوه بماءٍ، فصبّ (¬2) عليه وشرب منه، وسقى أصحابَه وقال: ما أطيب هذا، ارْزُقونا منه وارزقوا المسلمين منه. عبد الله بن الحارث ابن نَوْفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، أبو محمد الهاشمي، من الطبقة الأولى من التابعين، وأمه هند بنت أبي سفيان بن حَرْب، وهو الملقَّب: بَبَّة. وُلد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتت به أمُّه إلى أختها أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فقال: من هذا؟ فقالت: ابنُ عمّك وابن أختي، فتَفَل في فيه ودعا له. وقد ذكرنا طرفًا من أخباره، ووفاته بعُمان. وكان له من الولد: عبد الله، ومحمد، أمهما [خالدة بنت مُعَتِّب بن أبي لَهب ابن عبد المطلب، وأمُّها] عاتكة بنت أبي سفيان بن الحارث (¬3). وإسحاق، وعبيد الله وهو الأرْجُوان، والفضل، وأمّ الحَكَم ولدت لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس: يحيى ومحمدًا والعالية بني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وأمّ أبيها (¬4) بنت بَتَّة. وزينب، وأم سعيد، وأم جعفر، وأمهم أم عبد الله بنت العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد"9/ 444 وفيه: سفيان بن وهب الخولاني، لقي عمر بن الخطاب. اهـ. ونقله عنه ابن عساكر 6/ 385 (مخطوط)، ولم أقف على كلام ابن سعد الذي نقله المصنف. (¬2) في (أ): فيريقه على إصبعه ... فصبه، والخبر في "تاريخ دمشق" 6/ 384. (¬3) ما بين معكوفين من و"طبقات ابن سعد" 7/ 28، وجاء في نسب قريش ص 86 - 87 أن أمّ محمد هي هند بنت خالد بن حِزام. (¬4) في النسخ: وأم أمها، والمثبت من "طبقات ابن سعد".

عبد الله بن شداد بن الهاد

وعبد الرحمن، وأمُّه بنت محمد بن صَيفيّ المخزومي. وكان لبَبَّة ضرَيبة، وأم عَون (¬1)، وهند، وعون, لأمَّهات أولاد شتّى (¬2). أسند بَبَّة عن عمر، وعثمان، وأُبيّ بن كعب، بن زيد، والمغيرة بن شُعبة، وصفوان بن أمية، وميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعن كعب الأحبار، فأرسل الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله إدراك. وكان ثقةً قليلَ الحديث، وروى عنه ابناه إسحاق وعبد الله، وسليمان بن يسار، وعبد الحميد (¬3)، وعبد الملك بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو إسحاق السَّبيعي، وعمر بن عبد العزيز، في خلق. وكان من أفاضل المسلمين، شهد مع عمر رضوان الله عليه الجابية، وسمع خطبته قال: فقال عمر فيها: مَن يَهدِ الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وكان هناك جاثَليق النصارى، فنَفَض ثوبَه، وقام كالمُنكِر لقول عمر، فقال عمر: ما يقول عدوُّ الله؟ قالوا: إنه يقول: إن الله لا يهدي ولا يضل، فقال: كذبت يا عدو الله، بل الله خَلَقك، ثم أضلَّك، ولولا وَلْثٌ (¬4) من عَهْدٍ لضَرَبْت عُنقَك، ثم قال عمر رضوان الله عليه: إن الله لمَّا خلَق آدم بَثَّ ذُرِّيتَه في الأرض وقال: هؤلاء وما كانوا عاملين للجنة، وهؤلاء وما كانوا عاملين للنار، وأشار بالجنة لأهل اليمين، والنار لأهل الشمال، قال: فافترق الناس وما يختلف اثنان في القَدَر (¬5). عبد الله بن شداد بن الهاد واسم الهاد عَمرو اللَّيثي، وسمي الهادي لأنه كان يوقد نارَه للأضياف ليلًا، ولمن سلك الطريق. ¬

_ (¬1) في "طبقات ابن سعد" 7/ 28: وأم عمرو. (¬2) ذكر الزبيري من أولاده في نسب قريش ص 86 الصَّلْت بن عبد الله بن الحارث, وانظر ما سيرد ص 345 في ذكر أولاد عبد الله بن نوفل بن الحارث. (¬3) هو ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، انظر "تاريخ دمشق" 85 (عبد الله بن جابر- عبد الله بن زيد). (¬4) شيء قليل. (¬5) "تاريخ دمشق"86 - 88، وانظر في ترجمته: "طبقات ابن سعد" 9/ 99، و"السير" 3/ 529.

عبد الرحمن بن حجيرة

وعبد الله من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وأمُّه سَلْمى بنت عُمَيس الخَثْعَميَّة أخت أسماء. روى عبد الله عن عمر، وعلي رضي الله عنهما. وكان شيعيًّا ثقةً قليلَ الحديث، وهو أخو بنت حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه لأمها. وكان يأتي الكوفة كثيرًا فينزلها، وخرج فيمن خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث فقتل يوم دُجَيل. وقال: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصُّفوف، وهو يقرأ سورة يوسف حين بلغ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [86]. وكان عابدًا فقيهًا كثير الحديث، شهد مع علي - عليه السلام - النهروان، وخالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخت سلمى وأسماء ابنتي عُمَيس، وأمهن هند بنت عوف. وكان شريفًا مُطاعًا، ولقي معاذًا، وابنَ عباس، وابن عمر، وعائشة وأم سلمة، وميمونة رضي الله عنهما، وغير واحد من الصحابة. وكان من كبار التابعين وثِقاتهم، وروى عنه طاووس، والشّعبي، وابن عَون، وأبو إسحاق الشَّيباني وغيرهم (¬1). عبد الرحمن بن حُجَيرَة أبو عبد الله الخَوْلاني، كان يقصُّ بمصر على الناس، وهو قاضيها، وكان يلي بيت المال، وهو من الطبقة الأولى من التابعين، وكان رزقُه في كلِّ سنةٍ ألفَ دينار: مئتان عن القضاء، ومئتان عن القصص، ومئتان عن ولاية بيت المال، ومئتان عن رزقه، ومئتان جائزة، فلا يَحول الحَوْل وعنده دِرهم، ومات في المحرَّم، وروى عن ابن عمرو، وأبي هريرة وغيرهما (¬2). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 64، 8/ 246، و"تاريخ دمشق" 9/ 402، و"تهذيب الكمال" (3318)، و"السير" 3/ 488. (¬2) "أخبار القضاة" 3/ 225، و"تهذيب الكمال" 17/ 54.

أعشى همدان

[فصل: وفيها توفي] أعشى هَمْدان واسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث، [وكنيته] أبو المُصَبَّح الكوفي الهَمْداني، كانت أخت الشعبيّ تحته، وأختُه تحت الشعبي. وكان الأعشى قارئًا لكتاب الله تعالى، فقيهًا، فترك ذلك واشتغل بالشعر. [وحكى الهيثم عنه] قال: رأيت في المنام كأني دخلت بيتًا فيه حِنطة وشَعير، [فقبضتُ بيدي اليمنى على الحنطة، والأخرى على الشعير، فقصصتها على الشعبي، وفي رواية: ] فتركتُ الحِنطةَ وأخذتُ الشعير، فقال له الشعبي: لئن صدقتْ رؤياك لتَسْتَبدِلَنَّ القرآن بالشعر (¬1)، [ويقال: إنه نسي القرآن وقال الشعر. ذكر طرف من أخباره: وهو أعشى هَمْدان، قال الجوهري: والأعشى هو الذي لا يبصر بالليل، ويبصر بالنهار] (¬2). وقد ذكرنا أنه خرج مع ابن الأشعث، قال المبرّد: أُتي الحجاجُ بأعشى هَمْدان، فقال له: يا عدوَّ الله، الحمد لله الذي مَكَّنني منك، وشفى صدري، ألست القائل: [من الرجز] إن ثَقيفًا منهم الكَذّابانْ ... كذَّابُها الماضي وكَذَّابٌ ثان وذكر الأبيات، ألستَ القائل في ابن الأشعث: [مجزوء الكامل] يابن الأَشَجِّ قَريعَ كِنْـ ... ـدَةَ لا أُبالي فيك عَتْبا أنت الرئيسُ ابنُ الرئيـ ... ـس وأنت أعلى الناسِ كَعْبا نُبِّئْتُ حَجّاجَ بنَ يو ... سفَ خَرَّ من زَلَقٍ فتَبَّا فانهضْ هُديتَ لعلّه ... يَجلو بك الرحمنُ كَرْبا يا عدو الله، بل ابن الأشعث خرَّ من زَلَقٍ فتَبّ، وجار وانْكَبّ، وما لقي ما أَحَبّ، ورفع بها صوتَه، وارْبَدَّ وَجهُه، واهتزَّ مَنكِباه، فلم يَبقَ في المجلس إلا مَن أهَمَّتْه نفسُه، فقال الأعشى: بل أنا القائل: [من الطويل] ¬

_ (¬1) كذا، والجادة: لتستبدلَنَّ الشعر بالقرآن. (¬2) "الصحاح" (عشى 6/ 2427)، وما بين معكوفين من (ص).

أبي الله إلا أن يُتَمِّمَ نُورَه ... ويُطفِئَ نُورَ الفاسِقين فيَخْمُدا (¬1) وينزِلَ ذُلًا بالعراقِ وأهلِه ... كما نَقَضوا العَهْدَ الوَثيقَ المُؤكَّدا وما أحدثوا من بِدعةٍ وعَظيمةٍ ... من القَوْلِ لم تَصْعَد إلى الله مَصْعَدا وما نَكَثوا من بَيعةٍ بعد بَيعةٍ ... إذا ضَمِنوها اليوم خاسوا بها غدا فكيف رأيتَ الله فَرَّق جَمْعَهم ... ومَزَّقهم عُرْضَ البلادِ وشَرَّدا فلا صِدقَ في قولٍ ولا صَبْرَ عندهم ... ولكنَّ فَخْرًا فيهمُ وتَزَيُّدا فقَتْلاهمُ قتلى ضَلالٍ وفِتْنةٍ ... وحَيُّهمُ أمسى ذَليلًا مُطَرَّدا ولما زَحَفْنا لابنِ يُوسُفَ غُدوةً (¬2) ... وأبْرقَ منّا العارِضان وأرْعَدا قَطَعْنا إليه الخَنْدَقَين وإنما ... قَطَعْنا وأفْضَينا إلى الموتِ مُرصِدا فما لَبث الحجاجُ أن سَلَّ سيفَه ... علينا فوَلّى جَمْعُنا وتَبَدَّدا فيَهْنى أميرَ المؤمنين ظُهورُه ... على أُمَّةٍ كانوا بُغاةً وحُسَّدا وَجَدْنا بني مَروان خيرَ أئمَّةٍ ... وأفضلَ هذي الناسِ حِلْمًا وسُؤدَدا وخيرَ قُريشٍ في قريش أَرُومَةً ... وأكرمَهم إلا النبيَّ مُحَمَّدا إذا ما تَدَبَّرْنا عَواقِبَ أمرِه ... وَجَدْنا أميرَ المؤمنين مُسَدَّدا سيُغْلَب قَومٌ غالبوا الله جَهْرةً ... وإن كايَدوه كان أقوى وأَكْيَدا لقد تَركوا الأهْلِينَ والمال خَلْفَهمْ ... وبِيضًا عليهنّ الجَلابيبُ خُرَّدا (¬3) يُنادِينَهم مُسْتَعبِراتٍ إليهمُ ... ويُذْرِينَ دَمْعًا في الخُدودِ وإِثْمِدا لقد شَأمَ المِصْرَين فَرْخُ محمّدٍ ... بذُلٍّ وما لاقى من الطَّيرِ أَسْعدا كما شَأمَ الله النُجَيرَ (¬4) وأهلَه ... بجَدٍّ له قد كان أَشْقى وأَنْكَدا ¬

_ (¬1) كذا في الطبري 6/ 376، وفي الأغاني 6/ 60: نارَ الفاسقين فتخمدا. وهو الأنسب. (¬2) كذا في الطبري. وفي الاني: ضِلَّة، أي: ضلالًا. وهو الأشبه. (¬3) جمع خَرِيدة، وهي الفتاة العذراء. (¬4) هو حصن منيع باليمن قرب حضرموت، لجأ إليه أهل الرِّدَّة مع الأشعث بن قيس في أيام أبي بكر رضي الله عنه، فحاصره زياد بن لبيد البياضي حتى افتتحه عنوة وقتل من فيه وأسر الأشعث بن قيس وذلك سنة (12) للهجرة ينظر معجم البلدان 5/ 272.

من أبيات، فقال مَن حَضر من أهل الشام: أيها الأمير، إنه قد أحسن، فخلِّ سبيلَه، فقال الحجّاج: والله ما أراد بهذا المدح، وإنما قاله حَنَقًا وتَغَيُّظًا على أصحابه حيث لم يَظفَروا بكم، وظهرتُم عليهم، ثم قال له: ألست القائل: بين الأشَجِّ وبين قَيسٍ باذِخٌ؟ قال: بلى، قال: فأنشِدْها، فأنشد: [من الكامل] كم من أبٍ لك كان يَعْقِدُ تاجَه ... بجَبينِ أبْلَجَ مِقْوَلٍ صِنْديدِ وإذا سألتَ: المجدُ أين مَحَلُّه ... فالمَجْدُ بين محمدٍ وسعيدِ بين الأشَجِّ وبين قيسٍ باذِخٌ ... بَخْ بَخْ لوالدِه وللمَولودِ قال له الحجاج: وَيحك، هذا لابن الحائك، فما أبقيتَ لمَن بعده؟ والله لا تُبَخْبغُ بعدها لأحدٍ أبدًا، وضرب عُنقه. فقال الشعبي: قدمتُ البصرةَ، فجلست في حَلقةٍ فيها الأحنف بن قيس، فقال رجل من القوم: من أين أنت؟ فقلت: من الكوفة، فالتفت إلي رجل فقال: هذا مولانا، أي: عبدنا، فقلت له: هل علمتَ ما قال أعشى هَمْدان فينا وفيكم؟ قال: وما الذي قال: قلت: [من الرمل] وإذا فاخَرْتُمونا فاذكُروا ... ما فعَلْنا بكمُ يومَ الجَمَلْ إن ذاك اليوم لا مِثلَ له ... فانتَهُوا قد سَبَقَ السَّيفُ العَذَلْ بين شيخٍ خاضِبٍ عُثْنُونَه ... وفَتىً أبيضَ وَضّاحٍ رِفَلّ (¬1) جاءنا يَهْدِرُ في سابِغَةٍ ... فذَبَحْناه ضُحًى ذَبْحَ الجَمَلْ ثم ناداكُم مُنادٍ أنه ... آمِنٌ مَن رَدَّ بابًا ودَخَلْ وعَفَوْنا فنَسِيتُم عَفْوَنا ... وكفَرْتُم نِعْمَة الله الأَجَلّ أفَخَرْتُمْ أن قَتَلْتُم أعْبُدًا ... وهَزَمْتُم مُرَّةً آلَ رُغَلْ (¬2) نحن قُدناكُم صغارًا عَنْوَةً ... وجَمَعْنا أمرَكُمْ بعد الفَشَلْ قال: فغضب الأحنف بن قيس وقال: هاتوا تلك الصَّحيفة، فإذا هي من المختار إلى الأحنف بن قيس ومَن قِبَلَه من مُضَر: أما بعد، فويلٌ لمُضَر من شَرٍّ قد حَضَر، ولابد ¬

_ (¬1) العُثنون: ما نبت على الذقن وتحته سفلًا، والرِّقَلُّ: الطويل الذيل من الثياب. (¬2) في الأغاني 6/ 55: آل عَزَل. يريد بهم الخوارج.

عبد الرحمن بن أبي ليلى

أن يُورَد الأحنفُ وقومُه حرَّ سَقَرْ، لا يَقدِرُون على صَدَرْ، وقد بلغني أنكم تُكَذِّبون بي وبرُسُلي، فإن فعلتُم فقد كُذِّب الرُّسُل من قَبلي، ثم قال الأحنف: فهذا منا أو منكم؟ قال الشعبي: فلم أُحِرْ جوابًا. وقال حمّاد بن زيد: خرج الأعشى إلى بلاد الدَّيلَم فأُسِر، فأقام عند بعض الدَّيلَم مُدةً، فهَويَتْه ابنتُه، وصارت إليه ليلًا، وأمكَنَتْه من نفسها، فواقَعها في تلك الليلة ثماني مرات، فقالت: هكذا تَصنعون بنسائكم؟ قال: نعم. قالت: فبهذا تُنْصَرون. ثم قالت: فإن أنا خَلَّصْتُك تَصطَفيني لنفسك؟ قال: نعم. فلما كان الليل حَلَّتْ قُيودَه، وأخذت به طرائق تعرفُها، فخَلَصا (¬1). عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار بن بلال بن بُليل بن أُحَيحَة بن الجُلاح بن الحَريش بن جَحْجَبا بن كُلْفَة بن عوف بن عمرو بن عوف، من الأوس، أنصاري. وأبو ليلى صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد معه أُحدًا وما بعدها من المشاهد، ثم انتقل إلى الكوفة وبنى بها دارًا في جُهينة. روى عنه ابنُه عبد الرحمن، وشهد هو وابنه عبد الرحمن مع علي - عليه السلام - مشاهدَه كلَّها, ووفد على معاوية، ووُلد ابنُه عبد الرحمن لستّ سنين بقيت من خلافة، عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وقدم المدائن في حياة حُذيفة وفي أيام علي - عليه السلام -. وعبد الرحمن كُنيته أبو عيسى، وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، وكان عالمًا زاهدًا متعبدًا، كان إذا صلى الصبح نشر المصحف، وقرأ حتى تطلع الشمس. ولما قدم الحجاج الكوفة أراد أن يستعمله على القضاء، فقال له حَوْشَب: إن كنتَ تريد أن تبعثَ عليَّ بن أبي طالب على القضاء فافعل. قال الأعمش: رأيتُ عبد الرحمن وقد أوقفه الحجاج فقال: الْعَن الكذَّابين: عليًّا وعبد الله بن الزبير والمُختار بن أبي عبيد، فقال عبد الرحمن: لعن الله الكذَّابين، ثم ¬

_ (¬1) انظر في ترجمته: "تاريخ الطبري" 6/ 375، و"أنساب الأشراف"6/ 495، و"مروج الذهب" 5/ 355 - 358، و"الأغاني" 6/ 33 - 62، و"تاريخ دمشق" 9/ 1003 و 10/ 1 - 3 (مخطوط)، و"المنتظم" 6/ 253، و"السير" 4/ 185. والدَّيلَم (كما في المعجم الوسيط): جيلٌ من العجم كانوا يسكنون نواحي أذربيجان.

عقبة بن عبد الغافر

ابتدأ فقال: عليٌّ وابنُ الزبير والمختار، قال الأعمش: فعلمتُ حين ابتدأ فرفعهم أنه لم يَعْنِهم. وولاه الحجاج قضاء الكوفة فقيل: هو شيعي، فعزله، وولّى أبا بُردة بن أبي موسى، وأقعد معه سعيد بن جُبير. وكان عبد الرحمن عَلويًّا، وعبد الله بن عُكَيم عُثمانيًّا، اصطحبا عشرين سنة، وكانا في مسجد واحد، فما جرى بينهما كلمة في أمر عثمان وعلي رضوان الله عليهما. ولما ماتت أمُّ عبد الرحمن قدم ابنُ عُكَيم فصلّى عليها. وعبد الله بن عُكَيم الجُهَني من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، روى عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهما، وكان كبيرًا قد أدرك الجاهلية، وتوفّي بالكوفة في ولاية الحجاج، وقال سفيان بن عُيينة: أنا غَسّلتُه (¬1). ذكر وفاة عبد الرحمن: خرج على الحجاج فقتل بدُجَيل، وقيل: غرق بدُجَيل. أسند عبد الرحمن عن أبيه، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ، وأُبيّ بن كعب في آخرين، وقال: أدركت عشرين ومئةً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُئل أحدُهم عن المسألة أحبّ أن يكفيه غيره، وفي رواية: ما منهم أحد يسأل عن شيء إلا أحبّ أن يكفيَه صاحبُه الفُتيا، وإنهم ها هنا يَتوثَّبون على الأمور تَوثُّبًا. وروى عنه الشعبي، ومجاهد، والحسن البصري، وابن سيرين، والأعمش، وأقرانهم (¬2). وعبد الرحمن بن أبي ليلى والد محمد الفقيه قاضي الكوفة، توفي سنة ثمان وأربعين مئة. عُقبة بن عبد الغافر أبو نَهار الأزديّ، من الطبقة الثانية (¬3) من أهل البصرة, كان زاهدًا عابدًا. ¬

_ (¬1) انظر ترجمة ابن عكيم في "طبقات ابن سعد" 8/ 233. (¬2) انظر في ترجمة عبد الرحمن: "طبقات ابن سعد" 8/ 229، و"تاريخ بغداد" 10/ 199، و"المنتظم" 6/ 252، و"السير 4/ 262. (¬3) في (خ): الثالثة، وهو خطأ.

أبو البختري الطائي

قال ثابت البُناني: ما كان أحدٌ من الناس أحبّ إليَّ أن ألقى [الله في] مِسْلاخِه (¬1) إلا عُقبة بن عبد الغافر، فلما وقعت الفتنةُ أتيناه فقال: ما أعرفكم. ولما وقعت فتنةُ ابن الأشعث خرج فيها، وقاتل الحجاج مع القرَّاء، فلما وقع جَريحًا في الخندق، وانهزم الناس؛ جعل يقول: ذهبت الدنيا والآخرة، ثم قُتل. [وفيها توفي] أبو البَخْتَريّ الطائيّ [ذكره ابن سعد] في الطبقة الثانية من التابعين من أهل الكوفة، [قال: ] واسمُه [فيما ذكر] عليّ بنُ عبد الله بن جعفر: [سعيد بن أبي عمران]، وقيل: سعيد بن جُبير (¬2). وهو مولى لبني نَبْهان من طَييّء. ولما كان يوم الجَماجم أراد القُرَّاء أن يُؤمّروه عليهم فقال: لا تفعلوا فإني رجل من الموالي، فأمَّروا عليهم رجلًا من العرب. شهد مع ابن الأشعث يوم دُجَيل الأهواز سنة ثلاث وثمانين فقتل. وكان يسمع النَّوحَ ويبكي، وكان (¬3) كثيرَ الحديث، يُرسل حديثَه [ويروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]، فما كان من حديثه سماعًا فهو حسن، وما كان مرسلًا فهو ضعيف. [فصل: وفيها توفي] الكُمَيل بن زياد ابن نَهيك بن مالك (¬4) النخعي، من الطبقة الأولى من أهل الكوفة، وكان من أصحاب علي - عليه السلام -، شهد معه صفِّين والنَّهروان ومشاهدَه كلَّها. ¬

_ (¬1) في النسخ: ألقى سلاحه، والمثبت من "طبقات ابن سعد"9/ 224. والمِسْلاخ: الجِلْد. (¬2) ما بين معكوفين من (ص)، وكان فيها: واسمه فيما ذكر علي بن عبد الله بن جعفر، وقيل سعيد بن جبير، وقيل سعيد بن أبي عمران، وأصلحت سياقه من "طبقات ابن سعد" 8/ 409، وسمَّاه الذهبي في "السير" 4/ 279 سعيد بن فيروز. (¬3) في (ص): وقيل كان يسمع ... قال وكان. (¬4) بين نهيك ومالك ستة آباء في "طبقات ابن سعد" 8/ 299، و"تاريخ دمشق"59/ 480.

وكان فصيحًا شريفًا مطاعًا في قومه. [وذكره المدائني فقال: كان] من عُبّاد الكوفة ورؤساء الشيعة. [قال ابن سعد: كان] ثقةً قليلَ الحديث (¬1). سيَّره عثمان رضي الله عنه من الكوفة إلى الشام مع مَن سَيَّره، وكان عثمان رضوان الله عليه قد لَطمه، فطلب منه القِصاص، فقال: اقتصّ، فعفا عنه. واختلفوا في كيفية قتله ومتى قُتل، فذكرنا أن الحجاج لما دخل واليًا إلى الكوفة قتله؛ لأنه لما فرغ من خطبته قال للنَّخَع: أفيكم الكميل بن زياد؟ قالوا: نعم، قال: أحضروه، فامتنوا، قال: لا عطاء لكم حتى تأتوني به، فجاؤوا به على نعش، فتركوه إلى جانب المنبر فقتله (¬2). والمشهور [أنه] قتلَه بعد دير الجماجم، وكان مع القُرَّاء، فلما انهزم ابن الأشعث، وجيء بالأسرى؛ جيء بالكُميل [بن زياد] فقال له الحجاج: أنت المُقتَصُّ من أمير المؤمنين عثمان؟ قد كنتُ أحبُّ أن أجِدَ عليك سبيلًا، فقال له الكُميل: ما أدري على أيِّنا أنت أشدُّ غضبًا، عليه حين أقاد من نفسه، أو عليَّ حين عفوتُ عنه! فقال: والله لا تركتُك تقتصُّ من خليفة أبدًا، فقال: أيها الرجل، لا تَصرِف عليَّ أنيابَك، ولا تَهَدَّم عليّ تَهدُّمَ الكَثيب، ولا تكشِرْ كَشَرَان الذِّئب، والله ما بقي من عُمري إلا ظِمْءُ الحِمار (¬3)، يشرب غُدوةً ويموت عَشيَّةً، أو يشرب عَشيةً ويموت غُدوة، اقضِ ما أنت قاض [إنما تقضي هذه الحياة الدنيا]؛ فإني أنتظر الموت صباحًا ومساء، والقصاصُ أمامك، والموعد القيامة. فقال: والله لأقتلَنَّك على يدي إنسانٍ هو أشدُّ بُغضًا لابن أبي طالب من حبّك إياه، فقال: أما أمير المؤمنين فقد صار إلى جنّات النعيم، وأما أنت وبنو أمية ففي عذاب الجَحيم، والله لو علموا أكثفَ وجهًا، وأقلَّ عقلًا، وأجرأ على الله منك لما ولَّوك يا ابن أبي رِغال، يا بقية [آل] ثَمود، ولعنه لَعْنًا كثيرًا، فأمر ابنَ أدهم القيسي (¬4) الحمصي -وكان أبغض الناس لأمير المؤمنين - عليه السلام - فضرب ¬

_ (¬1) ما بين معكوفات من (ص)، وانظر "طبقات ابن سعد" 8/ 299، و"تاريخ دمشق" 59/ 482 و 484 وعنه ينقل. (¬2) من قوله واختلفوا ... إلى هنا من (ص) وفي (أ) و (ب) و (خ) و (د): فعفا عنه، وقد ذكرنا قتل الحجاج له لما دخل الكوفة. (¬3) أي: إلا اليسير. لأن الحمار قليل الصبر على الظمأ. والظِّمْءُ: لما بين الشُّرْبين. (¬4) في "تاريخ دمشق" 59/ 491: فبعث إلى أدهم القيسي، وانظر "تاريخ الطبري" 6/ 365.

محمد بن سعد بن أبي وقاص

عنقه، وقيل: إنما قتله أبو جَهْم بن كِنانة الكلبيّ [وكان] ابنَ عمِّ منصور بن جُمهور، وكان الكُميل قد جاوز التسعين. أسند عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وروى عنه الأعمش، وأبو إسحاق الهَمْداني وغيرهما. [ومن رواياته عن علي الموعظة البالغة، وقد ذكرناها في ترجمة أمير المؤمنين]. وحضر الكُميل حصار عثمان رضوان الله عليه. محمد بن سعد بن أبي وقّاص من الطبقة الأولى من التّابعين من أهل الكوفة، وكان بالمدينة، فتحوَّل إلى الكوفة، وكان ثقةً وله أحاديث، والأصحُّ أنه قتل بعد الجَماجم، أُتي به أسيرًا إلى الحجَّاج فقتله (¬1). [فصل: وفيها توفيت] معاذة بنت عبد الله [وكنيتها] أمُّ الصَّهباء العَدَويّة، زوجة صِلة بن أَشْيَم [وقد ذكرناها في سنة ست وسبعين]. كانت من عابدات البصرة. [قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن فُضيل، عن أبيه قال: ] كانت معاذة العدوية إذا جاء النهار قالت: هذا يومي الذي أموت فيه، فما تنام حتى تُمسي، وإذا جاء الليل قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها، فلا تنام حتى تُصبح، وإذا جاء البَرْدُ لبست الثيابَ الرِّقاق حتى يَمنعها البردُ من النوم (¬2). [وقال ابن أبي الدنيا بإسناده إلى حكم بن سنان الباهلي، عن امرأة كانت تخدم معاذة العدوية قالت: ] كانت تحيي الليل صلاةً، فإذا غلبها النوم قامت فجالت في الدار ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 165 - 166. (¬2) "الزهد" لأحمد 257. وما بين معكوفين من (ص).

وتقول: يا نفس، النوم أمامَك، ولو قد متِّ لطالت رَقْدَتُك في القبر على حسرةٍ أو سرور، [قالت: ] فهي كذلك حتى تُصبح. [قالت: ] وكانت تصلّي كلّ يومٍ وليلةٍ ستّ مئة ركعة، وتقرأ جُزأها من القرآن، تقوم به الليل وتقول: عَجِبتُ لعينٍ تنام وقد عرفتْ طُولَ الرُّقادِ في ظُلمة القبور. [وقال ابن أبي الدنيا بإسناده: إنها] لم ترفع رأسَها إلى السماء أربعين عامًا. [قال: وقالت معاذة لابنةٍ] أرضعتْها (¬1): يا بُنَيّة، كوني من لقاء الله على حذر ورجاء، فإني رأيت الراجي له مَحْفوفًا بحسن الزُّلفى لديه يوم القيامة، ورأيت الخائف له مؤمِّلًا للأمان يوم يقوم الناس لرب العالمين، ثم غلب عليها البكاء. [قال: ] وقالت: قد صحبتُ الدنيا سبعين عامًا، فما رأيتُ فيها قُرَّةَ عينٍ قط، وكيف أرى السرورَ فيها وقد كَدَّرَتْ على الأمم قبلَنا عيشَهم؟ ! [وروى ابن أبي الدنيا أن معاذة] لم تتوسَّد فراشًا بعد أبي الصَّهْباء حتى ماتت (¬2). [قال: ] وكانت تقول: والله ما أحبُّ البقاءَ في الدنيا إلا لأتقرَّبَ إلى الله بالوسائل، لعله أن يجمع بيني وبين أبي الصَّهباء وولده في الجنة، فلما احتُضرت بكت ثم ضحكت، فقيل لها في ذلك فقالت: أما بكائي فإني ذكرتُ مفارقةَ الصلاةِ والصيام والذّكر، وأما ضحكي فإني رأيتُ أبا الصهباء قد أقبلَ في صحن الدار، وعليه حُلَّتان خَضْروان ما رأيتُ في الدنيا أحسنَ منهما، ورأيت معه نفرًا ليس في الدنيا مَن يُشببهم (¬3) فضحكتُ فَرَحًا بهم، ثم ماتت بعد ساعة قبل دخول وقتِ الصلاة. [قال الواقدي: توفيت معاذة] في سنة ثلاث وثمانين، وروت عن عائشة رضوان الله عليها، وروى عنها الحسن البصري وغيره، والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): وقالت لامرأة أرضعتها، والمثبت من (ص) وما بين معكوفات منها. (¬2) انظر "التهجد وقيام الليل" لابن أبي الدنيا (81) (82) (145)، وما بين معكوفات من (ص)، وقوله: لم تتوسد ... جاء في (أ) و (ب) و (خ) و (د) عقب القول الذي قبله. والمثبت من (ص). (¬3) في (أ): لم أر في الدنيا من يشبههم أحسن منهم. (¬4) بعدها في (ص): السنة الرابعة والثمانون. وانظر ترجمة معاذة في "طبقات ابن سعد" 10/ 447، و"المنتظم" 6/ 254، و"صفة الصفوة" 4/ 22 - 24، و"السير" 4/ 508.

معبد الجهني

مَعْبَد الجُهَنيّ من أهل البصرة، من الفقهاء، وهو أول من تَكَلَّم في القَدَر بالبصرة، وهو من الطبقة الثانية من أهل البصرة، وحضر التَّحكيم بدُومة الجَنْدل. روى عن عِمران بن حُصَين، وعمر بن الخطاب رضوان الله عليه مرسلًا، وعثمان بن عفان، وحُمْران بن أبان، وابن عمر، وابن عباس وغيرهم، وروى عن الحسن البَصريّ، وابن سيرين (¬1)، وروى عنه قتادة، ومالك بن دينار، وعَوف الأعرابيّ، ومعاوية بن قُرَّةَ المُزَنيّ. واستقدمه عبد الملك بن مروان إلى دمشق؛ ليُنْفِذَه رسولًا إلى ملك الروم، ثم جعله مع ابنه سعيد بن عبد الملك يُؤدِّبه ويُعلّمه. وقال عبد الملك بن عمير (¬2): اجتمع القُرَّاء إلى مَعْبَد الجُهنيّ -وكان ممن شهد دُومة الجَنْدل موضع الحكَمَين- فقالوا له: قد طال أمرُ هذين الرَّجُلَين، فلو لقيتَهما فسألتَهما عن بعض أمرهما، فقال: إنكم تُعَرِّضوني لأمرٍ أنا له كاره، والله ما رأيتُ مثلَ هذا الحيّ من قريش، كأنما أُقفلت قلوبُهم بأقفالٍ من حديد، وأنا صائر إلى ما سألتم. قال مَعْبَد: فخرجتُ فلقيتُ أبا موسى، فقلت له: صحبتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وكنتَ من صالحي أصحابه، واستعملك فكُنتَ من صالحي عُمّاله، وقُبض وهو عنك راض، وقد وَليتَ هذا الأمر، فانظر ما أنت صانع، قال: فقال لي: يا مَعْبد، غدًا ندعو الناس إلى رجلٍ لا يَختلفُ عليه اثنان، فقلت: أما هذا فقد عزل صاحبَه، فطمعتُ في عمرو، فخرجتُ فلقيتُه وهو راكب على بغلة، فأخذتُ بعِنانها، وقلتُ له كما قلتُ لأبي موسى، فخلع عنانها من يدي وقال: إيه يا تيسَ جُهَينة، ما أنت وهذا؟ لستَ من أهل السرِّ ولا من أهل العلانية، والله ما يَنفعُك الحقّ، ولا يَضرُّك الباطل. ثم مضى وتركني، فقال معبد: [من البسيط] ¬

_ (¬1) كذا وقع في النسخ، وإنما روى عنه الحسن البصري كما في تهذيب الكمال 48/ 245، ولم أقف على رواية ابن سيرين عنه، وإن كان ذلك ممكنًا، فوفاة ابن سيرين سنة (110). وقد روى معبد عن الحسن بن علي بن أبي طالب كما في تهذيب الكمال وتاريخ دمشق 68/ 415. (¬2) في النسخ: عبيد بن عمير، والمثبت من" تاريخ دمشق" 68/ 419، و"السير" 4/ 186.

المهلب بن أبي صفرة

إني لقيتُ أبا موسى فأخبرني ... بما أردتُ وعَمرٌو ضَنَّ بالخَبرِ شتّانَ بين أبي موسى وصاحِبِهِ ... عمرٍو لعَمْرُك عند الفَضْلِ والخَطَرِ هذا له غَفْلةٌ أبدتْ سريرتَه ... وذاك ذو حَذَرٍ كالحيَّةِ الذَّكَرِ وقال ابن معين: كان مَعْبد ثقةً صدوقًا في الحديث، وكان رأسًا في القَدَر. وقال أبو زُرْعَة: كان مَعبد ضعيفًا، وقال يحيى بن يَعْمَر. زعم معبد أن الأمر أُنُف، مَن شاء عمل خيرًا، ومَن شاء عمل شرًّا. وقال الأوزاعي: أول من تكلَّم في القَدَر رجل من أهل العراق يقال له: سُوْسَن، كان نصرانيًّا فأسلم ثم ارتدّ، فأخذ عنه مَعْبَد الجُهنيّ، وأخذ غَيلانُ عن مَعْبَد. وروى ابن عساكر: أن مَعبد الجُهنيّ لما تكلّم في القَدَر أخذه الحجاج فقتله. وكان مَعْبد قد قاتل الحجاج في المواطن كلها، ثم ندم على قتاله، وكان الحجاج يُعذِّبُه بأنواع العذاب فلا يَصيح، فإذا جاء الذُّباب فوقع على جُرحه يَستغيث، فقيل له في ذلك فقال: عذابُ بني آدم أصبر عليه، أما الذباب فمن عذاب الله فلا صبر لي عليه. وقيل: إن عبد الملك بن مروان قتله في القَدَر في سنة ثمانين، وصَلَبه بدمشق، وكان الحسن البصري يقول: أنهاكم عن مَعْبَد؛ فإنه ضالٌّ مُضِلّ (¬1). المُهَلّب بن أبي صُفرة ظالم بن سَرَّاق بن صُبْح بن كِنديّ بن عمرو بن عَديّ بن وائل بن الحارث بن العَتيك بن الأَسْد بن عِمران بن عمرو بن مُزَيقياء بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغِطْريف بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأَزْد، الأَزْديّ، العَتَكيّ، البَصْريّ، وقيل: اسم أبي صُفْرة: سارق بن ظالم، وقيل: ظالم بن سارق، وقيل طارق بن سارق، وقيل: قاطع بن سارق. وكان له ابنة يقال لها: فاختة، فسماها صُفرة. وكان أبو صُفْرة من أَزْدِ دَبا، ما بين عُمان والبَحرين، وكانوا قد أسلموا، وقدم وَفْدُهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقرِّين بالإسلام، فبعث إليهم مُصَدِّقًا منهم يقال له: حُذيفةَ ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ دمشق" 68/ 420 - 421 - 423، 425، 428 - 429.

ابن اليَمان الأَزْدِيّ من أهل دَبَا، وكتب له فرائضَ الصدقات، فكان يأخذ صَدَقات أموالهم من أغنيائهم، ويَردُّها على فقرائهم، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدُّوا ومنعوا الصدقة، فكتب حذيفة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه بذلك، فوجه عكرمةَ بنَ أبي جَهْل إليهم، فقاتلهم فهزمهم عكرمة، وأكثر فيهم القتل، ومضى فَلُّهم إلى حِصن دَبا فتحصَّنوا فيه، وحَصرهم المسلمون في الحصن، حتى نزلوا على حكم حذيفة بن اليمان الأزديّ، فقتل مئةً من أشرافهم، وسبى ذراريهم، وبعث بهم إلى أبي بكر الصديق رضوان الله عليه إلى المدينة، وفيهم أبو صُفرة غلامٌ لم يَبلغ يومئذ، فأراد أبو بكر رضي الله عنه قتلَهم، فمنعه عمر بن الخطاب من ذلك وقال: هؤلاء قوم قد شَحُّوا على أموالهم، وأبي أبو بكر عليه، فوقَّف أمرَهم، وأنزلهم في دار رَمْلة بنت الحارث إلى أن توفي أبو بكر رضوان الله عليه، وولي عمر رضوان الله عليه، فدعاهم وقال: قد أفضى هذا الأمر إليّ، فانطلقوا إلى أيِّ البلاد شئتُم وأنتم أحرار لا فديةَ عليكم، فخرجوا حتى نزلوا البصرة، ورجع بعضهم إلى بلاده، وكان أبو صُفرة فيمن نزل البصرة، وشَرُف بها هو وأولاده (¬1). وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة. وأما المهلب فمن الطبقة الأولى أيضًا من التابعين من أهل البصرة، وكنيته أبو سعيد، أدرك عمر رضي الله عنه ولم يرو عنه شيئًا، وروى عن سَمُرة بن جُنْدب وغيره، وولي خُراسان، ومات بمَرْو الرُّوذ سنة ثلاث وثمانين، واستخلف على خراسان ابنَه يزيد فأقرَّه الحجَّاج (¬2). وكان المُهلَّب وأولاده من وجوه أهل البصرة وأشرافهم وشُجعانهم وفُرسانهم وأجوادهم. وقال ابن عساكر: وفد أبو صُفرة على عمر رضوان الله عليه ومعه عشرة من الولد؛ المُهلَّبُ أصغرهم، فجعل عمر ينظر إليهم ويتوسَّمُهم، ثم قال لأبي صُفرة: هذا سيدُ ولدِك، يعني المهلب (¬3). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 100 - 101، ومن طريقها "تاريخ دمشق" 17/ 442 - 443، و"تهذيب الكمال" (6824). (¬2) "طبقات ابن سعد" 9/ 129. (¬3) "تاريخ دمشق" 17/ 445 (مخطوط).

وفي سنة أربع وأربعين غزا المهلَّبُ أرضَ الهند، وولاه مصعب بن الزبير الجزيرة بعد قتل المختار، وغزا في خلافة عثمان رضوان الله عليه، وولي لبني أمية ولايات كثيرة، وأوفده سالم بن زياد على يزيد بن معاوية بهدايا كثيرة، فقدم على يزيد وهو بحُوَّارِين، واعتلَّ المهلَّبُ بالشام، فكان يزيد يعودُه، ويبعث إليه في كلِّ يومٍ بدواءٍ مختوم. وقال خليفة: وَلّاه مصعب البصرة نيابة عنه، وولاه الحجاج خراسان في سنة ثمان وسبعين، وولاه إياها عبد الملك في سنة تسع وسبعين (¬1). وقاتل أصحابَ أبي راشد (¬2) نافع بن الأزرق، وكانوا خرجوا من البصرة فغلبوا على الأهواز وكُوَرِها، وما وراءها من بلد فارس وكَرْمان في أيام عبد الله بن الزبير، وقتلوا عُمَّاله بتلك النواحي، وكان مع نافع من أمراء الخوارج قَطَريّ بن الفُجاءة، وعطيّة بن الأسود الحَنفيّ، وعُبيدة بن هلال اليَشْكُريّ، وكانوا زُهاء ثلاثين ألفًا ممّن يرى رأيَهم، وكان عبد الله بن الحارث بَبَّه قد ولي البصرة عَقِيب إخراج عُبيد الله بن زياد منها، وأقرَّه ابن الزُّبير، وكان الخوارج قد ثاروا في زمنه، فجهز إليهم الجيوش وهم يهزمونها، وذلك في سنة أربع وستين، فبعث إليهم المهلَّب فأقام يُحاربهم تسعَ عشرة سنة؛ إلى أن ظهر عليهم في أيام الحجاج، وقَدِم عليه البصرة، فأكرمه وأجلسه معه على سريره، ووصل أصحابَه. ومات نافع بن الأزرق وهم في حرب المهلَّب، فولَّوْا عليهم قَطَريَّ بن الفُجَاءة، وسمَّوه أميرَ المؤمنين، فخوطب بإمرة المؤمنين ثلاثَ عشرة سنة. قال المغيرة بن محمد المُهَلَّبي (¬3): لما قاتل المهلَّب الأزراقة كان يَحترز من البَيات، فكان هو وابنُه المُغيرة يَدوران في أقاصي العسكر، ويَحرُسان الناس، فبينما هما ذات ليلة يَحرسان إذ مرّ بهما فارس مُتَلَثِّم قد سَتَر وجهَه وسائرَ بدنه بالحديد، فناداهما: أيّ شعرائكم يقول: [من الكامل] ¬

_ (¬1) "تاريخ خليفة" 268، 276، 277، وانظر "تاريخ دمشق" 17/ 445 - 446. (¬2) في المخطوطات: رافع، وهو خطأ. (¬3) الخبر في "تاريخ دمشق" 17/ 447 من رواية المغيرة بن محمد عن أبيه.

وطَوى الطِّرادُ مع القِياد بطونَها ... طَيَّ التجار بحضرموتَ بُرودا (¬1) فقال المهلّب: هو جرير، فقال: هو والله أشعرُ شُعرائكم، ثم ولى، فقال المهلب: هذا والله قَطَرِيّ بن الفُجاءة. ذكر وصية المهلب لأولاده، وطرف من كلامه وأخباره: لما مرض دعا مَن عنده من بنيه وقال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرَّحم، وأنهاكم عن القطيعة، واعرفوا لمَن يغشاكم حقَّه، ويكفي غُدوَّ الرجل ورَواحَه إليكم تذكرة، وعليكم في الحرب بالأناة والمَكيدة؛ فإنها أنفع من الشجاعة، وعليكم بقراءة القرآن، وتعلُّمِ السنن وآداب الصالحين، وعليكم بالصَّمت، وإياكم كثرة الكلام، وعليكم بالاجتماع، واحذروا الفُرقة. ودعا بسهامٍ فربطها وقال: اكسروها، فلم يقدروا، ففرَّقها وقال: اكسروها، فكسروها، فقال: كذا أنتم إذا اجتمعتم وتفرَّقتُم، أخذه من قول ابن عبد الأعلى الشيباني: [من الكامل] إن القِداحَ إذا اجتمَعْنَ فرامَها ... بالكَسْرِ ذو حَنَقٍ وعِزٍّ (¬2) أَيِّدِ عَزتْ فلم تُكْسَرْ فإن هي بُدِّدَتْ ... فالكَسْرُ والتَّوهينُ للمُتَبَدِّدِ قال المهلَّب لابنه يزيد: يا بُنيّ، إياك والإسراع إلى "نَعَم" عند السؤال؛ فإن أولَها سَهْل، وآخرَها وَعْر، وإن "لا" وإن قَبُحَتْ فربما رَوَّحَتْ. وقيل للمهلب: بمَ نِلتَ ما نلت؟ فقال: بطاعة الحزم، وتجديد العزم، وعصيان الهوى. وقال: ما شيء أَبْقى للمُلك من العَفو. وقال: يُعجبني أن أرى عقلَ الكريم زائدًا على لسانه، ولا يُعجبني أن أرى لسانَه زائدًا على عقله. ¬

_ (¬1) البيت لجرير، وهو في صفة خيل، انظر ديوانه 1/ 339 (بشرح ابن حبيب). (¬2) في (أ): وبطش، وهي رواية في البيت، ونسبهما لابن عبد الأعلى: ابن الجوزي في المنتظم 6/ 275، وهما من قصيدة تمثل بها عبد الملك كما في التعازي والمراثي للمبرد 124 - 125.

ولم يُحفظ عنه من الشعر سوى هذين البيتين: [من البسيط] إنّا إذا نَشَأتْ يومًا لنا نَعَمٌ ... قالت أَكُفٌّ لنا أزدِيَّةٌ عودوا لا يوجدُ الجودُ إلا عند ذي كَرَمٍ ... والمالُ عند لِئامِ الناسِ مَوجودُ ونزل المهلَّبُ دار محمد بن مِخْنَف، فلما أراد الرحيل قال لغلمانه: لا تحملوا من مَتاعنا شيئًا، فقُوِّم المتاعُ بثلاث مئة ألف درهم. وكان المهلَّب أعورَ، سمع رجلًا يقول: هذا الأعور ساد الناس، ولو أُخرج إلى السوق لما ساوى أكثر من مئة درهم، فبعث إليه بمئة درهم وقال: لو زِدْتَنا في القيمة زِدناك في العطيَّة. وأغلظ رجل للمهلب فلم يُجبه، فقيل له: اربَأ عليك، فقال المهلب: لم أعرف مَساوئه، أفأَبْهَتُه بما ليس فيه. وقدم زياد الأعجم خُراسان على المهلَّب، فنزل على حَبيب بن المهلَّب، فجلسا يومًا على الشراب؛ وفي الدار شجرةٌ عليها حَمامة، فجعلت تدعو، فقال زياد: [من الوافر] تَغَنَّيْ أنتِ في ذِمَمي وعَهْدي ... بأن لن يَذْعَرُوكِ ولن تُطاري إذا غَنَّيتِني وطَرِبْتُ وَهْنًا ... ذَكرتُ أحبَّتي وذَكَرْتُ داري فإمَّا يَقتلوكِ طَلبتُ ثأرًا ... بقَتلِهمُ لأنك في جِواري فأخذ حبيبٌ سهمًا، فرماها به فقتلها، فقال زياد: قتلتَ جاري؟ بيني وبينك أبوك. فاحتكما إلى المهلب فقال: يا حَبيب ادفع إلى أبي أُمامة دِية جارته ألفَ دينار كاملة، فقال حبيب: إنما كنتُ ألعب! فقال: ليس مع جارةِ جاري لَعب. فأعطاه ألفَ دينار، فقال زياد يمدح المهلَّب: [من الطويل] فلله عَينا من رأى كقَضيَّةٍ ... قضى لي بها شيخُ العراقِ المُهَلَّبُ قضى ألفَ دينارٍ بجارٍ أجرتُه ... من الطير حَضّانِ على البَيضِ يَنعَبُ رماه حَبيبُ بنُ المُهَلَّب رميةً ... فأنفذه بالسَّهْمِ والشمسُ تَغرُبُ فألزمه عَقْلَ القتيلِ ابنُ حُرَّةٍ ... فقال حبيبٌ إنما كنتُ أَلعَبُ

فقال: زيادٌ لا يُرَوَّعُ جارُه ... فذلك جاري بل من الجارِ أقرَبُ وبلغ الحجاج فقال: ما أخطأتِ العربُ حيث جعلتْ المُهَلَّبَ رَجُلَها (¬1). وقال ابن قتيبة: لم يكن المُهلَّبُ يُعاب بشيء إلا بالكَذِب (¬2). ذكر وفاته: مات بخُراسان بمرْو الرُّوذ، بقرية يقال لها: زاغول، غازيًا في ذي الحجة هذه السنة، وله ست وسبعون سنة، ويقال: إن مَولده سنة فتح مكة، وقيل: مات سنة اثنتين وثمانين. وقال المفضَّل بن محمد: سار المهلب من كِيش يريد مَرْو، فلما كان بزاغول أصابته الشَّوْصَة (¬3)، وقيل: الشَّوْكَة، فدعا حَبيبًا ومَن حَضَر من وَلَده فأوصاهم، ودعا بسِهامٍ فحُزِمت، وذكر بمعنى ما تقدَّم في الوصية، وقال: وإياكم والقطيعة فإنها توجب الذِلَّة، وتُورث القِلَّة، فتحابّوا وتواصلوا، ولا تختلفوا يجتمع لكم أمْرُكم، وإن بني الأم يختلفون فكيف ببني العَلّات؟ ولتكن أفعالكم أفضلَ من أقوالكم، واتّقوا زلَّة اللسان؛ فإن الرجل تزِلُّ قدمُه فيُنْعَشُ من زَلَّته، ويزلُّ لسانه فَيَهْلك، واصطنعوا العُرفَ، وَفُوا بالمواعيد، وقد استخلفت يزيد، وجعلت حبيبًا على الجُند حتى يَقدم بهم عليه. ثم مات فصلى عليه حبيب، وكان يحبّ حَبيبًا ويقول: هو سيّد أولادي (¬4). ورثاه نَهار بن تَوْسِعة التَّميمي بقصائد منها: [من الكامل] كان المهلَّبُ للعراق سَكينة ... ووليَّ حادِثِها الذي يُستنكَرُ (¬5) إن يَدْفِنوه فإن مثلَ بَلائه ... في المسلمين وذِكْرِه لا يُقْبَرُ كان المدافِعَ دون بيضَةِ مِصْرِه ... والجابرَ العَظْمِ الذي لا يُجْبَرُ ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 17/ 449 - 450، وانظر ديوان زياد 67، 120 وتخريجها فيه. (¬2) "المعارف" 399. وقد ردّ هذه التهمة ابن عبد البر في الاستيعاب" (3024). (¬3) هي وَجَعٌ في البطن، ومن هنا وقع في (ب) سقط ينتهي في أول ترجمة قبيصة بن ذؤيب في أثناء سنة (87 هـ). (¬4) "تاريخ الطبري" 6/ 354 - 355. (¬5) في (د) و (خ): يستكثر، والمثبت موافق لتاريخ دمشق 17/ 453، و"تهذيب الكمال" (6824).

وقال أيضًا: [من الطويل] ألا ذهب الغَزْوُ المُقَرِّبُ للغِنى ... ومات النَّدى والجُودُ بعد المُهَلَّبِ أقام بمَرْو الرُّوذِ وهو (¬1) ضَريحُهُ ... وقد غُيِّبا (¬2) من كلِّ شرقٍ ومَغْرِبِ إذا قيل أيُّ الناسِ أولى بِنعمةٍ ... على الناس قلناه ولم نَتَهَيَّبِ أباح لنا سَهْلَ البلاد وحَزْنَها ... بخَيلٍ كأرْسالِ القَطا المُتَسرِّبِ يُعَرِّضُها للطَّعنِ حتى كأنّما ... يُجَلِّلُها بالأُرجُوانِ المُخَضَّبِ تُطيفُ به قَحطانُ قد غَضِبَتْ له (¬3) ... وأَخلافُها من حيِّ بكرٍ وتَغلبِ وحيّا مَعَدّ عُوَّذٌ بلوائه ... يُفَدُّونه بالنَّفسِ والأُمِّ والأبِ ذكر أولاده: وُلد للمهلب عشرة أولاد: يزيد، وزياد، ومُدرِك، وحبيب، والمغيرة، والمفضَّل، وقَبيصة، ومحمد، وهند، وفاطمة. فأما يزيد وزياد ومدرك فإنهم وُلدوا في سنة واحدة، وأعمارهم واحدة، وعاش كل واحد منهم ثمانيًا وأربعين سنة، وقتلوا في سنة اثنتين ومئة. وأما المغيرة فمات بخراسان كما ذكرنا، وابنُه بشر بن المغيرة، ومن شعره في الحماسة: [من الطويل] جَفاني الأميرُ والمغيرةُ قد جَفا ... وأمسى يزيد لي قد ازْوَرَّ جانبُهْ وكلُّهمُ قد نال شِبْعًا لبطنهِ ... وشِبْعُ الفتى لُؤمٌ إذا جاع صاحبُهْ فيا عَمُّ مَهْلًا واتَّخِذني لنَوْبَةٍ (¬4) ... تُلِمُّ فإن الدَّهرَ جَمّ نوائبُهْ أنا السيفُ إلا أن للسيف نَبْوَةً ... ومثليَ لا تَنْبو عليك مضارِبُهْ أسند المهلب عن سَمُرة بن جُندب وغيره، وروى عنه أبو إسحاق الهَمْداني، وسماك بن حرب وغيرهما. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 355: أقاما ... رَهْنَي، وفي "إمالي القالي" 2/ 199 و "العقد الفريد" 3/ 298: رهن. (¬2) في النسخ: يعدو به، والمثبت من المصادر. (¬3) في تاريخ الطبري 6/ 355: عُصِّبَتْ به، وهو الأشبه. (¬4) في النسخ: لنبوة، والمثبت من ديوان الحماسة 1/ 266 (بشرح المرزوقي).

السنة الرابعة والثمانون

السنة الرابعة والثمانون وفيها فتح يزيد بن المهلب قلعة نَيزَك بباذَغيس، [قال المفضل بن محمد: ] وهي من أعظم القِلاع، وكان صاحبها نيزك شجاعًا فاتكًا، وكان ينزل فيها في بعض الأيام للصيد، فرصده يزيد، ووضع عليه العيون وكاتب مَن فيها فأجابوه، فخرج إلى الصيد، فجاء يزيد إليها وبلغ نيزك، فصالح يزيد على أن يُعطيه عياله، وما في القلعة من الخزائن، وأن يُسلِّمها إليه، ففعل، وكتب يزيد بن المهلّب إلى الحجاج بالفتح. وكان الكتاب بخطّ يحيى بن يَعْمَر العَدْواني، وفيه: أما بعد، فإنا لقينا العدوّ، فمنحنا الله أكتافهم، فقتلنا طائفة، وأسرنا طائفة، وهربت طائفة إلى رؤوس الجبال، وعَراعِر الأودية، وأَهْضام الغِيطان، وأثناء الأنهار، فلما قرأه قال: مَن يكتب ليزيد؟ قيل: يحيى بن يَعْمَر، فكتب إلى يزيد فحمله على البريد، فقدم عليه أفصحُ الناس، فقال: أين وُلدت؟ قال: بالأهواز، قال: فهذه الفصاحة من أين؟ قال: حفظتُ كلامَ أبي وكان فصيحًا، قال: فأخبرني هل يَلْحَن عَنْيَسَةُ بنُ سعيد؟ قال: نعم كثيرًا، قال: ففلان؟ قال: نعم، فعَدَّ جماعة ثم قال: فأنا؟ قال: لا، فأقسم عليه فقال: نعم تلحن لحنًا خفيًّا؛ تزيد حرفًا وتَنقص حرفًا، وتجعل أنْ في مواضع إن، وإن في موضع أن، قال: قد أجَّلتُك ثلاثًا، فإن وُجِدتَ بعدها قتلتُك، فرجع إلى خراسان (¬1). وقال عاصم (¬2): ذكر الحجاج يومًا الحسين بن علي - عليه السلام - فقال: لم يكن من ذرّية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له يحيى بن يَعْمَر: كذبت، فقال الحجاج: لئن لم تأتني ببيِّنة من كتاب الله لأقتُلنّك، فقرأ يحيى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيمَانَ} إلى قوله: {وَعِيسَى} [الأنعام: 84 - 85]، ولم يكن له أب، فأخبر الله أنه من ذرّية آدم بأمه، فكذا الحسين بن علي ابنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنفاه إلى مرو، وفي رواية: فقال الحجاج: والله ما كأني سمعتُ بهذه الآية قطّ، ثم قال له: قد وَلَّيتُك قضاءَ مَرو فأخرج إليها، فخرج قاضيًا عليها. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 386 - 388 و "المنتظم" 6/ 256 - 257. (¬2) هو ابن بهدلة، والخبر في "تاريخ دمشق" 4/ 230 (مخطوط).

أيوب بن السائب

وفيها فتح عبد الله بن عبد الملك المَصيصة. وفيها قتل الحجاج أيوب بنَ القِرِّيَّة، وحُطَيط الزَّيّات، وماهان العابد. وحجّ بالناس هشام بنُ إسماعيل المخزومي، وكان العمال على الأمصار بحالهم. فصل: وفيها قتل الحجاج. أيوب بن السّائب من النَّمِر بن قاسِط (¬1)، والقِرِّيَّة (¬2) بكسر القاف وتشديد الراء أمُّه. وكان أحد الفُصحاء. وقال المدائني: وجَّه الحجاج أيوب بن القِرِّيّة إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عينًا له عليه بسجستان، فلم يلبث أن غُمز به، فأُدخِل على ابن الأشعث فقال (¬3): مرحبًا بالموصوف عندنا بتَزيين البلاغة، أخْبِرني عن الحجاج؛ ما أمرُه لديك، أعلى مَحجَّةِ القَصد، أم في مُجانَبةِ الرُّشد؟ فقال: الأمان قبل مخاطبة البيان، قال: نعم، قال: إن الحجاج على احتجاجٍ في قَصد المنهاج، يلمح (¬4) الظَّفر، ويَجتنب الكَدَر، لا تقطعه الأمور، وليس هو فيها بعَثور، وفي النَّعْماء شَكور، وعلى الضَّرّاء صَبور، وأنا أنهاك أن تُقاولَه، وأُعيذُك بالله أن تُطاولَه، فقال ابن الأشعث: كذبتَ يا عدوَّ الله، والله لأقتُلَنَّك، قال: فأين الأمان؟ قال: لا أمانَ لمن كذب وفجَر، وخان وغَدر، والله لأقتلنك أو لتُظاهِرَنّي على الحجاج، فلما رأى أنَّه غيرُ مُنْتَهٍ عنه ¬

_ (¬1) كذا نسبه البلاذري في "أنساب الأشراف" 6/ 496. ونُسب في المعارف ص 404، و"تحفة الأَبِيهِ فيمن نُسبَ إلى غير أبيه" للفيروزآبادي (نوادر المخطوطات 1/ 102): أيوب بن زيد بن قيس، وكذا في "الاشتقاق" ص 335 دون ذكر قيس، وفي "جمهرة أنساب العرب" ص 301 و "تاريخ دمشق" 3/ 294، و"السير" 4/ 197: أيوب بن يزيد بن قيس بن زُرارة، وزاد بعده في نسبه ابنُ حزم وابنُ عساكر والفيروزآبادي عدة آباء. (¬2) في (ص): وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية. (¬3) في (خ): وأيوب أحد الفصحاء وجهه الحجاج إلى عبد الرحمن بن الأشعث فقال، والمثبت من (أ) و (د) و (ص). (¬4) في "مختصر تاريخ دمشق" 5/ 132: يمنح.

بايعه (¬1)، وأقام مدَّةً يُصدر له الكتبَ إلى الحجاج، فقال له يومًا: قم خطيبًا فذُمَّ الحجاج، فقام فقال: أيها الناس، إن الأمر الذي يدعوكم إليه الحجاج لم يَنزل من السَّماء، ولم تَقُم به الخُطباء، ولم تَسُنَّه الأنبياء. فلم يَلبث ابن الأشعث أن انهزم، وأُخذ ابن القِرّيّة أسيرًا، فجيء به إلى الحجاج فقال له: ألم تكن في خُمول من الدَّعَة، وعُدْمٍ من المال، وكَدَرٍ من العَيش، وتَضَعْضُع من الهَيئة، ويأسٍ من بُلوغ ما بلغتَ إليه؟ ! فولَّيتُك ولاية الوالد ولم أكن والدًا، وولاية الرّاجي عندك الخير ولم أرجُه عندك أبدًا، حتى قمتَ خطيبًا وقلتَ كذا وكذا؟ ! فقال: أيها الأمير، إني أتيتُ إنسانًا في مَسْك (¬2) شيطان، يَتَهَدَّدني بتَخَوُّنِه، ويَقهرني بسُلطانه، فَنَطق اللسانُ بغير ما في القلب، والنَّصيحةُ لك ثابتة، والموَدَّة باقية، قال: كذبت يا عدوَّ الله. ثم قال له: كيف عِلْمُك بالأرض؟ قال: عِلمي ببيتي، قال: فأخبرني عن الهند، قال: تُرابها مِسْك، وحَطَبُها عُود، ووَرَقُها عِط، قال: فعُمان، قال: حَرُّها شَديد، وصَيدُها عَتيد، قال: فالبصرة، قال: ماؤها مالح، وشُربُها سانح، وهي مأوى لكلّ فاجر، ومَلجأ لكلّ غادر (¬3)، قال: فواسط، قال: جَنَةٌ بين حَماةٍ وكَنَّة، يعني بين الكوفة والبصرة، قال: فالكوفة، قال: ارتفعت عن اليَمَن (¬4)، وسَفُلَت عن الشّام؛ فطاب ليلُها، وكَثُر نَيلُها، قال: فمكَّة، قال: تَمْرُها دَقَل، ولصُّها بَطَل، إن كَثُرَ بها الجُند جاعوا، وإن قَلُّوا ضاعوا، قال: فاليَمامة، قال: أهلُ جَفاءٍ وجَلَد، وغِلْظَةٍ ونكَد، قال: فالمدينة، قال: رَسَخ العلمُ فيها ووَضَح، وكَثُر خَيرُها وطَفَح، قال: فاليمن: قال: أصلُ العرب، وأهلُ الحَسَب، قال: فالشام، قال: أهل النَّجْدَةِ والباس وخيار الناس، قال: فمصر، قال: عَروسٌ بين نِسوةٍ كلُّهنَ يَزُفُّها، قال: فكيف رأيتَ خُطبتي؟ ¬

_ (¬1) في (أ) و (د): تابعه. (¬2) أي: جِلْد، ووقع في (ص): زي. (¬3) في "مختصر تاريخ دمشق" 5/ 134: مأوى كل تاجر، وطريق كل عابر. (¬4) في "مختصر تاريخ دمشق": ارتفعت عن البحر.

فسكت، فقال: أقسمت عليك، أو عَزمت عليك أَلا صَدَقْتَني، قال: تُكَثِر الرد، وتُشير باليَد، وتقول: أما بعد، فقال له الحجاج: فأنت ما تَستعينُ بيدك في كلامك؟ قال: لا أَصِلُ كلامي بيدي حتى يَضيقَ بي لَحْدي، قال: فأخبرنن عن أشعر بيت قالته العرب، قال: قول القائل: [من الطويل] فما حَملتْ من ناقةٍ فوق رَحْلِها ... أبَرَّ وأوْفى ذِمَّة من مُحَمَّدِ (¬1) وقال المفضّل بن محمد: خرج ابن القِرِّيَّة مع ابن الأشعث، فلما كان بعد الجماجم وسار الحجاج إلى البصرة؛ استخلف على الكوفة حَوْشَب بن يزيد، فكان أيوب يَدخل على حَوْشَب فيَقفُ على رأسه، فيقول حوشب: انظروا إلى هذا الواقف، غدًا يأتي كتابُ الحجاج يَطلبه فلا أقدِر على منعه، فبينا هو واقف إذ جاء كتاب الحجاج إلى حوشب يقول: قد صِرتَ كهفًا لمنافقي أهل العراق، فابعث بابن القِوّية إليّ مَشْدودةً يده إلى عنقه، فرمى حَوْشب بالكتاب إلى أيوب فقال: سمعًا وطاعة، وحمله إليه. فلما دخل على الحجاج قال له: ما أعددْتَ لهذا الموقف؟ قال: أصلح الله الأمير، ثلاثة حروف كأنهنّ رَكْبٌ وقوف، دنيا وآخرة ومعروف، قال: أخرج مما قلت، قال: أما الدنيا فمالٌ حاضر يأكل منه البَرُّ والفاجر، وأما الآخرة فميزانٌ عادل، وشهادةٌ ليس فيها باطل، وأما المعروف فإن كان عليَّ اعترفتُ، وإن كان لي اغترفتُ، قال: الآن تعترف إذا وقع عليك السيف (¬2)، قال: فأقِلْني عَثْرتي؛ فإنه ليس جَوادٌ إلا وله كَبْوَة، ولا شُجاعٌ إلا وله هَفْوة، فقال الحجاج: لأُزِيرَنَّك جهنّم، قال: فأرِحْني فإني أجد حَرَّها، فضرب عُنقه، فلما رآه يَتَشحَّط في دمه ندم على قتله وقال: لو تركناه لسمعنا كلامه (¬3)، [وفي رواية أن أيوب قال: استَبْقِني أكن لك كما كنتُ عليك، فقال الحجاج: هيهات هيهات، ثم طعنه بالحربة فقتله. ¬

_ (¬1) البيت لأنس بن زُنَيم، انظر "سيرة ابن هشام" 2/ 424. (¬2) في (ص): وقيل بعد هذا إن الحجاج قال له اعترف، وإن لم تعترف أوقع عليك السيف. (¬3) "تاريخ الطبري" 6/ 385 - 386، و"المنتظم" 6/ 356. وما سيرد بين معكوفين من (ص).

حطيط الزيات

فصل: فيها توفي] حُطيط الزَّيات الكوفي مولى بني ضبّة، كان عابدًا زاهدًا يَصدَع بالحق، وكان متشيّعًا، قتله الحجاج في هذه السنة لتشيّعه أولًا، ولميله إلى ابن الأشعث أخيرًا بعد أن عذبه بأنواع العذاب. [وقد ذكرنا الإسناد فيما تقدم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبيه قال: ] (¬1) قال له الحجاج: اصدُقْني، قال: سَلْني؛ فقد عاهدتُ الله إن خلوتَ لي لأقتُلنَّك، وإن عذبتَني لأصبِرَنّ، وإن سألتَني لأصدُقَنّ، قال: فما قولك في عبد الملك؟ قال: ما أسْفَهك! تسألُني عن رجلٍ أنت خَطيئة من خطيئاته، وقد ملأتَ الأرضَ فسادًا، فعذّبه بأنواع العذاب وهو صابر. قال الحجاج: فهل له من حميم؟ قالوا: أمّ وأخ، فوضمع على أمَّه الدَّهَق (¬2)، فقال حُطيط: يا أَمة الله اصبري، فقتلها، ثم عذّبه ولم يَنطق، فأخرجه فألقاه على مِزبلة وبه رمق، فاجتمع عليه الناس فقالوا: يا حُطيط، قل لا إله إلا الله، فجعل يُحرِّك بها شفتيه حتى مات. وقال ابن أبي الدنيا بإسناده إلى عمرو بن قيس قال: لما أُتي (¬3) الحجاج بحُطيط -وكان شابًّا أبيض -قال للحجاج: أما تستحي تكذب وأنت أمير؟ فقال له: أحَروريّ أنت؟ قال: ما أنا بحروريّ، ولكني عاهدتُ الله أن أُجاهدك بيدي ولساني وقلبي، فأما يدي فقد فُتَّها، وأما لساني فها تسمع ما يقول، وأما قلبي فالله أعلم بما فيه، فسارّه حَوْشب بن يزيد صاحب شُرطته بشيء، فقال حطيط: لا تسمع منه فإنه غاشٌّ لك، فقال الحجاج: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: أقول فيهما خيرًا، قال: ما تقول في ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ص). وأخبار حطيط الآتية في الصبر لابن أبي الدنيا (98 - 99) و (122 - 218)، و "أنساب الأشراف" 6/ 491 - 492. (¬2) خشبتان يعصر بهما الساق في التعذيب. (¬3) في (أ) و (خ) و (د): وقال عمرو بن قيس لما أتي، والمثبت من (ص).

أبو عمرو الشيباني]

عثمان؟ قال: ما وُلدتُ إذ ذاك، فقال الحجاج: يا ابن اللَّخْناء، وُلدتَ في زمن أبي بكر وعمر، ولم تولد في زمن عثمان؟ فقال له حُطيط: يا ابن اللَّخْناء، إني وجدتُ الناس اجتمعوا على أبي بكر وعمر فقلتُ بقولهم، واختلفوا في عثمان فوَسِعني السكوت، فقال مَعَدّ صاحب عَذاب الحجاج: إن رأيتَ أن تَدفعَه إليَّ، فوالله لأُسمعنَّك صياحَه. فسلَّمه إليه، فجعل يعذِّبه ليلتَه كلَّها وهو ساكت، فلما كان عند الصبح دعا بدَهَق، واعتمد على ساقه فكسرها، فلما أصبح دخل على الحجاج، فقال له: ما فعل أسيرُك؟ فقال: إن رأى الأمير أن يأخذَه؛ فقد أفسد على أهلَ سِجني، يَستحيون ألا يَصبروا، فقال: عليّ به، فعذّبه بأنواع العذاب وهو صابر. [وفي رواية ابن أبي الدنيا: ] كان يؤتى بالمسالّ فيغرزها في جسده ولا ينطق، فلفَّه في باريَّة (¬1) وألقاه على كُناسة فمات. [فصل: وفيها توفي أبو عمرو الشَّيبانيّ] صاحب العربية (¬2)، وإمام الناس فيها. [ذكره ابن سعد في] الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة [وقال: اسمه سعد (¬3) بن إياس]. شهد القادسية، وروى عن عمر، وعلي، وابن مسعود وغيرهم، وكان كبيرًا له سن عالية، وكان ثقة وله أحاديث [منها: قال ابن سعد: وحدثنا الفضل بن دُكين، حدثنا عيسى بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا عمرو الشيباني] قال: أذكر أني سمعت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أرعى إبلًا لأهلي بكاظمة. ¬

_ (¬1) أي: الحصير المنسوج. (معرَّب) ينظر القاموس. (¬2) ما بين المعكوفين من (ص)، وكان في (أ) و (خ) و (د): أبو عمرو سعيد بن إياس الشيباني. (¬3) في النسخ: سعيد، وهو خطأ، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 8/ 224، و"المعارف" 426، و"تهذيب الكمال" (2189)، و "السير" 4/ 173.

عبد الله بن نوفل

قال إسماعيل بن أبي خالد: سمعت أبا عمرو الشَّيباني -وكان قد عاش مئةً وعشرين سنة- يقول (¬1): تكامل شبابي يوم القادسية، فكنتُ ابنَ أربعين سنة. وقال هشام: كان موجودًا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأجمعوا على فضله وصلاحه. [فصل: وفيها توفي] عبد الله بن نَوْفَل ابن الحارث بن عبد المطلب [بن هاشم]، أبو حمزة، وأمه ظُرَيبَة بنت سعيد بن القَشِب من الأزد، وأمُّها أم حكيم بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس؛ خالة سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه -، وأم سعد: حَمْنَة بنت سفيان (¬2). وعبد الله من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، قال ابن سعد: ولد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وحدثنا محمد بن عمر بإسناده إلى أبي هريرة قال: لما ولي مروان بن الحكم المدينة لمعاوية بن أبي سفيان سنة اثنتين وأربعين في الإمرة الأولى؛ استقضى عبد الله بن نَوفل على المدينة، قال أبو هريرة: فهو أول قاض رأيته في الإِسلام. قال الواقدي: فأجمع أصحابنا على أن عبد الله بن نوفل أول من قضى بالمدينة لمروان بن الحكم (¬3)، قال: وأهل بيته ينكرون أن يكون ولي القضاء بالمدينة، هو ولا أحدٌ من بني هاشم. قال: وقال أهل بيته: إن عبد الله توفي في أيام معاوية بن أبي سفيان. قال الواقدي: ونحن نقول: إنه عاش بعد معاوية دهرًا طويلًا، ومات في سنة أربع وثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان. قلت: والعجب من قول الواقدي، وأهل بيت الرجل أعرف به من غيرهم، وإن كان كما قال الواقدي فقضاء المدينة يُعَدُّ شرفًا لا نقيصة، فلو ولي القضاء لما نَكِره أهله. ¬

_ (¬1) في (ص) وما سلف بين معكوفين منها: قال ابن سعد وحدثنا الفضل بن دكين حدثنا عيسى بن عبد الرحمن قال سمعت أبا عمرو الشيباني وكان قد عاش مئة وعشرين سنة يقول. وفيه وهمٌ، دمج المختصر فيه الخبرين بإسناد واحد، وانظر "طبقات ابن سعد" 8/ 224. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 24، وما بين معكوفين من (ص). (¬3) "طبقات ابن سعد" 7/ 25 - 26. وقاله أيضًا الزبيري في نسب قريش ص 86، وابن حزم في جمهرته ص 70.

قيس بن أبي حازم

وقال الموفق رحمه الله: كان عبد الله يشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ذكر أولاده: كان له من الولد: عبد الله ومحمد، أمّهما خالدة بنت مُعَتِّب بن أبي لَهَب. وإسحاق، وعبيد الله؛ وهو الأرْجُوان. والفضل، وأمّ الحكم، وأمّ أبيها، وأمّ سعيد، وأم جعفر، أمّهم أم عبد الله بنت العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وعبد الرحمن، أمّه بنت محمد بن صَيفي بن أبي رِفاعة بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مَخزوم. وعَون، وظُرَيبة، وخالدة، وأم عَون، لأمهات أولاد شتّى (¬2). فصل: وفيها توفي قيس بن أبي حازم الأحْمسيّ البَجَليّ، واسم أبي حازم: عَوف بن عبد الحارث، وكنية قيس: أبو عبد الله (¬3). من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، أدرك سول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وشهد مع خالد بن الوليد حروب العراق، ولأبيه صحبة. وقال هشام: وهو القائل (¬4): دخلنا على معاوية في مرض موته، فأخرج إلينا ذِراعَيه كأنهما سَعْفَتان مُحترقتان، أو عَسِيبا نَخْل، فقال: ما الدنيا إلا ما ذُقْنا وجَرَّبنا، والله لَوَددْتُ أني لا أعيش فيكم إلا ثلاثًا، حتى ألحقَ بربّي، فقلنا: إلى رحمة الله، فقال: إلى ما يشاء الله. ¬

_ (¬1) "التبيين" 102. ومن قوله: وعبد الله من الطبقة الأولى ... إلى هنا من (ص) وتنتهي ترجمته فيها، وهي في النسخ الأخرى مختصرة. (¬2) وقع تشابه كبير بين هذه الفقرة (أولاد عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب) وفقرة أولاد ابن أخيه عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث السالفة ص 219. ولم ترد هذه الفقرة في النسخ الخطية الجيدة لطبقات -ابن سعد كما ذكر محققه 7/ 24. فالظاهر أن هذا الكلام وقع في نسخة المصنف للطبقات، وفيه نظر، فليحرَّر. وينظر نسب قريش ص 86 - 87، وجمهرة أنساب العرب ص 70. (¬3) في (أ) و (خ) و (د): أبو عبد الله قيس بن أبي حازم عوف بن عبد الحارث الأحمسي البجلي، والمثبت من (ص). (¬4) في (أ) و (خ) و (د): حروب العراق، وشهد حرب الخوارج مع علي رضوان الله عليه، وكان عثمانيًّا يخضب بالصفرة، وسيأتي هذا السياق مسندًا إلى قائله في (ص) قريبًا، فأثبت سياق (ص)، والقول في "تاريخ دمشق" 59/ 147 - 148 من رواية ابن أبي الدنيا بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس.

ماهان العابد الحنفي

قال ابن سعد: وكان قيس يَخضب بالصُّفْرة. وقال ابن مَنْده: شهد حرب الخوارج مع علي، وكان عثمانيًّا. واختلفوا في وفاته؛ فحكى ابن سعد عن الواقدي أنه قال: مات في آخر خلافة سليمان بن عبد الملك. وكذا قال خليفة: في سنة ثمان وتسعين. وقال الهيثم: سنة أربع وثمانين، قال: وأسند عن العشرة المبشرين بالجنة، وليس في التابعين من أسند عنهم غيره، رحمه الله تعالى (¬1). قال ابن سعد: وروى عن ابن مسعود، وخَبّاب، وخالد بن الوليد، وحُذيفة، وأبي هريرة، وعُقبة بن عامر، وجَرير بن عبد الله، وعَديّ بن عَمِيرة، وأسماء بنت أبي بكر (¬2). وقال ابن منده: وله أحاديث مناكير، منها حديث كِلاب الحَوْأب (¬3). قال ابن عساكر: وروى عنه الحسن البصري، وابن سيرين، وأبو مِجْلَز لاحِق بن حُمَيد وغيرهم (¬4). [وفيها توفي] ماهان العابد الحَنَفيّ [وكنيته: ] أبو صالح، وقيل: أبو سالم. [وقيل: ] اسمه: عبد الرحمن بن قيس (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: قال ابن سعد وكان قيس يخضب بالصفرة ... إلى هنا من (ص) وتنتهي ترجمته فيها، وقد جاء في النسخ الأخرى مختصرًا. وانظر "طبقات ابن سعد" 8/ 188 - 189، و"تاريخ دمشق" 59/ 165 - 166، و "تهذيب الكمال" (5485)، و "السير" 4/ 198. (¬2) "طبقات ابن سعد" 8/ 189. (¬3) نسب هذا القول في "تاريخ دمشق" 59/ 164 إلى يحيى بن سعيد، والحديث في مسند أحمد (24254) عن عائشة، والحديث في خروج السيدة عائشة يوم الجمل، والحَوْأَب: ماء في البصرة على طريق مكة، والمراد بالمنكر الفرد المطلق كما ذكر ابن حجر في تهذيبه 3/ 445، وصحَّح إسناده في فتح الباري 13/ 55 .. (¬4) لم يذكر ابن عساكر 59/ 145 في الرواة عنه مَن ذكرهم المصنف. وكذا لم يذكرهم المزي في "تهذيب الكمال" (5485)، والذهبي في "السير" 4/ 198. (¬5) جزم البخاري والمزي والذهبي بأن ماهان العابد الحنفي أبا سالم غير أبي صالح عبد الرحمن بن قيس، انظر "التاريخ الكبير" 8/ 67، و "الصغير" 1/ 229، و "طبقات ابن سعد" 8/ 347، و"تهذيب الكمال" 27/ 169، و "تاريخ الإِسلام" 2/ 1003. وقد تابع المصنف جده في "صفة الصفوة" 3/ 74.

[وهو] من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. وكان قد خرج مع ابن الأشعث، ثم هرب إلى مكة، وكان عابدًا صالحًا مجاب الدعوة. [قال أبو نعيم: ] سئل [ماهان: ] ما كانت أعمال القوم؟ قال: كانت أعمالهم قليلة، وقلوبهم سليمة (¬1). ذكر مقتله: [قال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده: ثنا أبي، حدثنا محمد بن فُضيل، حدثني] إبراهيم مؤذن مسجد بني حنيفة قال: أمر الحجاج بماهان أن يُصلب على بابه، فأتيتُه حين رُفع على خشبته؛ وهو يُسبّح ويُهَلّل ويُكَبّر، ويَعقد بيده حتى بلغ تسعًا وعشرين، فطعنه رجل على تلك الحال، فلقد رأيته بعد شهر مَعقودًا بيده تسعة وعشرين. [قال: ] وكنّا نرى عنده الضوء بالليل شِبهَ السِّراج (¬2). [قلت: ذكر جدي قصة ماهان، وأنه أقام شهرًا ويده معقودة بالتسبيح، وأنشد: [من البسيط] لتُحشَرَنّ عِظامي بعدما بَلِيَتْ ... يومَ الحسابِ وفيها حُبُّكم عَلِقُ] (¬3) وقال ابن الكلبي: كان ماهان مقيمًا بمكة، فأرسل إليه الحجاج، فأخذه من الطَّواف، فقال: أُخذت من حَرم الله، وأنا طائف ببيت الله، وأنا بعين الله، ونعم القادر الله (¬4). [وروى أبو نعيم الأصفهاني، ] عن أبي إسحاق الشيباني قال: دنوتُ من ماهان عند صَلبه، فقال لي: يا ابن أخي، تنحَّ لا تُسأل عن هذا المقام (¬5). أسند ماهان عن علي، وابن مسعود، وحذيفة وغيرهم، رحمه الله تعالى. ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 4/ 365. (¬2) "حلية الأولياء" 4/ 364 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) "المدهش" 277، وما بين معكوفين من (ص). (¬4) "أنساب الأشراف" 6/ 499. (¬5) "حلية الأولياء" 4/ 364.

السنة الخامسة والثمانون

السنة الخامسة والثمانون وفيها عزل الحجاج يزيد بن المهلَّب عن خراسان، وولّى عليها أخاه المفضَّل بن المهلب. قال علماء السير: كان في قلب الحجاج من يزيد، حيث أطلق بعض الأسرى من أصحاب ابن الأشعث، ثم أكّد ذلك أن الحجاج وَفد على عبد الملك، ثم عاد إلى العراق، فمرَّ في طريقه بدَيْرٍ فيه راهب؛ عالم بالكتب والعلم الأوّل، فسأله: هل تَجدون أمرَنا في كتبكم؟ ! قال: نعم وما هو كائن، قال: فما تقول في عبد الملك؟ قال: نجده في زماننا الذي نحن فيه، قال: ومَن يقوم بعده؟ قال: رجل يُسمّى بالوليد، قال: ثم مَن؟ قال: رجل يُدعى باسم نبيّ، يفتح الله به على الناس، قال له الحجاج: فتعلم ما أَلي؟ قال: نعم، قال: فمَن يليه بعدي؟ قال: رجل اسمُه يزيد، قال: في حياتي أم بعد مماتي؟ قال: لا أعلم، قال: أتعرف صِفته؟ قال: نعم، يَغْدِر غَدرة، قال: ثم ماذا؟ قال. لا أدري. فوقع في نفس الحجاج أنه يزيد بن المهلَّب، فكتب إلى عبد الملك يَستعفيه من ولاية العراق، فلم يُعفه، وجلس الحجاج بعد ذلك يفكّر، فدخل عليه عبيد بن مَوْهَب وهو يَنكُت في الأرض، فقال له: ما الذي بك؟ فقال: إن أهل الكتب يذكرون أن ما تحت يدي يَليه رجل يقال له: يزيد، وإني نظرتُ في هذا الاسم فتذكَّرتُ جماعة لا يَصلحون له: يزيد بن أبي كَبْشَة، ويزيد بن حُصَين بن نُمير، ويزيد بن دينار، وليس فيهم مَن يَصلح، وما ثَمَّ غير يزيد بن المهَلّب، فقال: فأَخْلِقْ به. فنظر فلم يَجد شيئًا يَعزِلُه به، فكتب إلى عبد الملك يذمُّ يزيد ويقول: إنه يميل إلى آل الزبير، فكتب إليه عبد الملك: إن ذلك وفاء لآل الزبير من آل المهلب، وإن وفاءهم لأولئك يَدعوهم إلى الوفاء لنا، فكتب إليه الحجاج يُخوِّفه غَدْرَ يزيد وآل المهلب، فكتب إليه عبد الملك: قد أكثرتَ في يزيد، فسَمِّ لي رجلًا يَصلح لخُراسان، فسمَّى له مُجّاعة بن سِعْر السَّعديّ، فلم يَرْضَه عبد الملك، وسَفّه رأيَ الحجاج فيه، فسمّى له قُتيبةَ بن مسلم، فقال. وَلِّه.

وبلغ يزيد فقال لأهله: مَن تَرون الحجاج يُوَلّى خراسان؟ قالوا: رجلًا من ثقيف، قال: كلا، ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعَهْده، فْإذا قدمتُ عليه وَلّى رجلًا من قيس، وأخلِق بقُتيبة. وكره الحجاج أن يُواجِه يزيد بالعَزْل، فكتب إليه أن استخلِفْ أخاك المفضَّل واقدم عليّ، فاستشار يزيد حُضَين بن المنذر فقال: أقم وتعلَّل عليه، فإن عبد الملك حسنَ الرأي فيك، وإنما أُتيت من قِبلَ الحجاج، فإن أقمتَ فربما كتب إلى الحجاج بإبقائك، قال: فإنّا أهلُ بيت بورك لنا في الطاعة، وأكره المعصية والمخالفة. وشرع في جِهازه، وأبطأ على الحجاج، فكتب إلى المفضَّل بعهده على خُراسان، فجعل المفضل يَستحثّ يزيد، ففطن فقال: يا مُفَضَّل، إن الحجاج لا يُقرُّك بعدي، وإنما وَلّاك مخافةَ أن أمتنع عليه، قال المفضَّل: بل حَسَدْتَني، فقال يزيد: يا بن بَهلة، أنا أحسدُك! ستعلم. وسار يزيد من خراسان في ربيع الأول (¬1) هذه السنة، وعزل الحجاج المفضَّل، وولَّى قتيبة، فقال بن المنذر ليزيد: [من الطويل] أمرتُك أمرًا حازمًا فعصيتني ... فأصبحتَ مَسلوبَ الإمارةِ نادِما فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لتَرجِعَ سالما فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضَين: كيف قلتَ ليزيد؟ فقال: أمرتُك أمرًا حازمًا فعصيتني ... فنَفْسَك وَلِّ اليومَ (¬2) إن كنتَ لائما فإن بلغ الحجَّاج أن قد عصيته ... فإنك تلقى أمرَه مُتفاقِما فقال: فما أمرتَه به فعصاك؟ قال: أمرتُه أن يَحمل إلى الحجاج كلَّ بيضاء وصَفْراء فخالفني. ولم يُرد هذا، وإنما مَوَّه على قُتيبة فخلَصَ منه. وكانت ولاية يزيد من سنة اثنتين وثمانين، وعُزل سنة خمس وثمانين. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 395: وخرج يزيد في ربيع الآخر. (¬2) كذا، والذي في "تاريخ الطبري" 6/ 396: فنفسك أَوْلِ اللَّوْمَ، وهو الصواب.

سفيان بن الأبرد

قال هشام بن الكلبي (¬1): كان الحجاج قد أذَلَّ أهل العراق كلهم إلا آل المهلب، فلما فرغ من ابن الأشعث شرع فيهم خوفًا منهم، وكتب إلى عبد الملك فيهم مرارًا، حتى أجابه إلى عزل يزيد. وفيها هلك ابن الأشعث. وفيها غزا المفضَّل بن المهلَّب باذَغِيس، فغنم غنائم كثيرة، وفتح المدينة، فأصاب كلُّ فارس ثمان مئة درهم، ولم يكن للمفضَّل بيت مال، كان يعطي الناس كلَّ ما عنده، وإذا غنم شيئًا قسمه، وأقام على خراسان تسعة أشهر، وجاءها قتيبة بن مسلم. وفي المفضل يقول كَعْب الأَشْقَرِيّ: [من الطويل] ترى ذا الغِنى والفقرِ من كل مَعْشَرٍ ... عَصائبَ شَتَّى يَقْصِدون المُفَضّلا فمِن زائرٍ يرجو فَواضِلَ سَيبه ... وآخرُ يَقضي حاجةً قد ترحَّلا إذا ما عَدَدْنا الأكرَمِينَ ذَوي النُّهى ... وما قَدَّموا من صالحٍ كنتَ أوَّلا صَفَتْ لك أخلاقُ المهلَّبِ كُلّها ... وسُرْبِلْتَ من مَسعاتِه ما تَسَرْبَلا (¬2) وفيها هلك موسى بن عبد الله بن خازم بالتِّرمِذ. وفيها عزم عبد الملك على خَلْع أخيه عبد العزيز بن مروان. وحج بالناس هشام بن إسماعيل المَخْزومي، وكان العامل على العراق والمشرق الحجاج. [فصل: ] وفيها توفي سفيان (¬3) بن الأَبرد ابن أبي أُمامة بن قابوس الكلبي، [وكنيته] أبو يحيى. [وقد ذكرناه في قصة الضحاك بن قيس ومروان، وكان بدمشق.] ¬

_ (¬1) في (ص): وذكر هشام بن الكلبي وجهًا آخر في عزل يزيد عن خراسان، فصل: وفيها توفي شقيق بن الأبرد. (¬2) "تاريخ الطبري" 6/ 397 - 398. (¬3) في (ص): شقيق، وهو خطأ.

عبد الله بن عامر

كان مع عبد الملك لما خرج عليه عمرو بن سعيد. وهو الذي كان على ميمنة الحجاج يوم هزم ابنَ الأشعث، وكان في حروب الحجاج حتى استقام له العراق. [وذكره ابن عساكر في "تاريخه" وقال: ] كانت له دار بجَيرون، وكان له سُوق الصَّياقل قَطيعةً (¬1). [وقال الواقدي: ] غزا مع يزيد بن معاوية القُسطنطينية في سنة خمسين، ورأى يزيد أبوابَ البلد لا تُغلق ليلًا ولا نهارًا، فقال لسُفيان وحُمَيد بن حُرَيث: ما لي أرى الأبواب لا تُغلق ليلًا ولا نهارًا؟ ! فقالوا: إنما يفعل الروم ذلك لعِزَّتهم؛ وأنهم لا يخافون أحدًا يدخل عليهم منها، فقال يزيد: لئن أصبحتُ صالحًا ليُغْلِقنَّ الباب أو لأدخُلَنَّ عليهم منه، ثم قال لسفيان وحُميد: إذا شددت غدًا فشُدَّا من ظَهري. فلما طلع الصباح حمل يزيد وحملا معه وهو بينهما، حتى وصلوا إلى الباب، وخرجت الروم، وعاد بعضهم فأغلقوا الباب، وحمل بطريق على سفيان فطعنه فصرعه، وشدَّ حُمَيد على البطريق فطعنه فوقع ميتًا، ووقف يزيد على الباب ساعة، ونظر إلى سفيان صريعًا فقال: خالي خالي، ثم نزل ووضع رأسه في حجره وقال: ابغوني شَحْمًا، فأبطؤوا عليه، فأخذ من شَحْم البطريق، فأدخله في جَوْف سفيان، وخَيَّطه مَوضعَ الطَّعنة، فبرئ سفيان ولم يُولد له بعد ذلك. [وفيها توفي] عبد الله بن عامر (¬2) ابن ربيعة بن مالك العَدَوي، من بني ربيعة بن نزار، حليف الخَطّاب بن نُفَيل، وكنية عبد الله أبو محمد. [ذكره ابن سعد في] الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة [وقال: ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، وكان ابن خمس سنين أو ست سنين يوم قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 7/ 373: له سوق: الصاقلة بدمشق قطيعة وما بين معكوفات من (ص). (¬2) في (أ) و (خ) و (د): عباس، وهو خطأ، والمثبت من (ص).

عبد الرحمن بن محمد

وقال [ابن سعد بإسناده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال]: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتنا وأنا صبيٌّ صغير، فخرجتُ ألعب، فقالت أمي: يا عبد الله، تعال أُعطيك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما أردتِ أن تُعطيه؟ " قالت: أردتُ أن أُعطيه تَمرًا، فقال: "لو لم تفعلي كُتِبت عليك كَذْبة" (¬1). وحفظ عن أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم، وروى عنهم وعن أبيه، وقال: أدركتُ أبا بكر وعمرَ ومَن بعدهم من الخلفاء يَضربون في قَذف المَمْلوك أربعين. وقال محمد بن عمر: مات عبد الله بن عامر بن ربيعة بالمدينة سنة خمسٍ وثمانين، وكان ثقةً كثيرَ الحديث [رحمه الله تعالى] (¬2). عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث بن قيس الكندي، الخارج على الحجاج. نشأ بالكوفة، وكان مُقَدَّمًا في كِندة، وكان وُلاةُ العراق يخافون شرَّه فيُجاملونه، وكان أبغضَ خلق الله إلى الحجاج، فتمكَّن واستطال، وخرج عليه، وطمع في الخلافة، وواقع الحجّاج نيفًا وثمانين وَقعة، إلى أن انهزم وحصل عند رُتبيل. ولما رجع من هَراة يريد رُتبيل قال له علقمة بن عمرو الأَوْدي: ما أحبُّ أن أدخل معك بلاد رُتبيل، قال: ولم؟ قال: كأني وألله بكتاب الحجاج قد جاء إلى رُتبيل يُرَهِّبُه ويُرَغّبه، فإذا هو قد بعث بك إليه سَلَمًا، أو قتلك وقتل كل مَن معك، ولكن ها هنا خمس مئة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصَّن فيها، ونقاتل حتى نُعطى أمانًا، أو نقتل كرامًا، فوافِقْنا، فأبى عبد الرحمن، ودخل إلى رُتبيل، وأقام هؤلاء الخمس مئة خارجًا عن بلاد رُتبيل حتى قدم عُمارة بن تميم اللخمي، فأمّنهم ووفى لهم لما خرجوا إليه. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 6/ 556 - 557 و 7/ 1009. وما بين معكوفين من (ص)، ووقع فيها بعد هذا زيادة مكررة نصها: قال ابن سعد: وقد أدرك الخليفتين يعني أبا بكر وعمر. (¬2) ما بين معكوفين من (ص)، وجاء بعدها ترجمة عبد العزيز بن مروان، وانظر "طبقات ابن سعد"، و "السير" 3/ 521.

ولما حصل ابن الأشعث عند رتبيل كتب إليه الحجاج: والله لئن لم تبعث إليَّ بابن الأشعث لأُوطِئَنَّ أرضك ألف ألف مقاتل، وإن بعثت به إليّ وضعتُ عنك خراجَك سبع سنين. فقتل رتبيل ابنَ الأشعث، وبعث برأَسه إلى الحجاج، وقيل: إنه مات بعلّة السلّ عند رُتبيل، فبعث فحزّ رأسه وبعث به إلى الحجاج، وكان قد أسر ثمانية عشر رجلًا من آل ابن الأشعث، فكتب إلى الحجاج يخبره، فخاف الحجاج أن يبعث بهم إليه أحياء؛ فيطلب منه عبد الملك تَخليتَهم، فكتب إلى رتبيل: اضرب أعناقهم، وابعث إليَّ برؤوسهم ففعل. وقال معمر: خرج عُمارة بين تميم اللخمي من كَرمان يطلب سِجستان، فأتى إليها وعلى الخمس مئة الذين ذكرناهم مَودود العَنْبريّ، فحصرهم ثم أمَّنهم، واستولى على سجستان، وبعث إلى رتبيل بكتاب الحجّاج وفيه معنى ما تقدم الترغيب والترهيب، فأبى رُتبيل أن يُسلِم ابن الأشعث. وكان مع ابن الأشعث عُبيد بن أبي سُبَيع التميميّ، وكان خَصيصًا به، وكان رسولَه إلى رُتبيل، فخف على رُتبيل (¬1) واستخصّه، فقال القاسم بن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: قد رابني أمرُ هذا التميميّ فاقتله، فهمّ به، وبلغ التميميَّ فخافه ووشى به إلى رُتبيل، وخوَّفَه الحجاجَ، وخرج سرًّا إلى عُمارة، فصالحه على مالٍ لرُتبيل ولنفسه؛ يقال: إنه ألف ألف درهم، ووضع الخراج عنه مدة عشر سنين، واتّفق عُمارة مع الحجاج على ذلك. جعل رُتبيل في عُنق عبد الرحمن وأخيه وأهله الجوامع (¬2)، وبعث بهم إلى عمارة وكان نازلًا ما بين سجستان وبلاد رُتبيل، ولما قَرُب عبد الرحمن من عُمارة مرَّ في طريقه بقصرٍ، فصعد إلى أعلاه، ثم ألقى نفسه منه فمات، فاحتزّوا رأسَه، وأتوا به وبأهله إلى عُمارة، فقتل الأسرى، وبعث بالرأس إلى الحجاج، فبعث به إلى عبد الملك، وبعث به عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز بمصر. ¬

_ (¬1) أي: أَنِسَ به. وقولُ معمر هذا (وهو ابنُ المثنَّى) في تاريخ الطبري 6/ 390. (¬2) كذا، وهذا السياق فيه انقطاع، صوابه: فأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث فأحضره وثلاثين من أهل بيته وقد أعد لهم الجوامع والقيود .... انظر الطبري 6/ 391.

قال عمر بن شبّة: لما بعث الحجاج رأس ابن الأشعث بعثه عبد الملك إلى امرأة من آل الأشعث كانت تحت رجل من قريش، فلما وضع بين يديها قالت: مرحبًا بزائرٍ لا يتكلم، ملكٍ من الملوك، طلب ما هو أهله فأبت عليه المقادير، ثم طيَّبتْه بالمسك بعد أن غسلته. ونظر ابن الأشعث إلى رجل من أصحابه وهو هارب إلى بلاد رُتبيل فتمثل: [من السريع] مُنْخَرِقُ الخُفَّينِ يشكو الوَجا ... تَنكُبُه أطرافُ مرْوٍ حِدادِ قد كان في الموت له راحةٌ ... والموتُ حَتْمٌ في رقابِ العِبادِ طَرَّده الخَوفُ وأزرى به ... كذاك مَن يَكره حَرَّ الجِلادِ وسمعه الرجل فقال: هلا ثَبَتَّ في موطن من تلك المواطن فنموت بين يديك، ثم تموت أنت، فهو خيرٌ لك مما صِرتَ إليه (¬1). والذي حمل رأس عبد الرحمن إلى عبد الملك عِرار بن عمرو بن شأسٍ الأَسديّ الكوفي، قال عرار: لما قدمتُ على عبد الملك بكتاب الحجاج جعل يقرؤه، وكلما شَكّ في شيءٍ منه سألني فأخبرتُه، فعجب عبد الملك من فصاحتي مع دَمامتي وسوادي، فضحكت وأنشدت: [من الطويل] فإن عرارًا إن يكن غيرَ واضحٍ ... فإني أحبُّ الجَوْنَ ذا المَنْكِبِ العَمَمْ فغضب عبد الملك وقال: لم ضحكتَ (¬2)، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتعرف عِرارًا؟ قال: لا، قلت: أنا عِرار؛ كان أبي قد تزوّج امرأةً وهي أم حسان (¬3)، فكانت تُؤذيني فقال: فإن كنتِ منّي أو تُريدين صُحبَتي ... فكوني له كالسَّمْن مْن رُبَّتْ به الأَدَمْ وإلا فسِيري مثلَ ما سار راكبٌ ... تيمَّم خَمسًا ليس في سَيره أَمَمْ أرادتْ عِرارًا بالهوان ومَن يُرِدْ ... عِرارًا لعَمْري بالهوان فقد ظَلَمْ فإن عرارًا إن يكُن غيرُ واضحٍ ... فإني أحب الجَوْنَ ذا المنكِبِ العَمَمْ (¬4) ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 392. وينظر الأخبار الطوال ص 319 - 320. (¬2) كذا، وسياق الخبر في "تاريخ دمشق" 47/ 170: فعجب عبد الملك من بيانه وفصاحته مع سواده فقال متمثلًا: فإن عرارًا ... فضحك عرار من قوله ضحكًا غاظ عبد الملك فقال له: مم ضحكت؟ وقولُه: الجَوْن، يعني الأسود. (¬3) بعد وفاة والدة عرار، وهو رضيع. (¬4) بدل هذا الشطر في (أ) و (د): وذكر البيت.

عبد العزيز بن مروان

فضحك عبد الملك وأحسنَ جائزتَه. وكان عرار دَميمًا قبيحًا أسود. ولأبيه عَمرو بن شَأس صُحبة ورواية، شهد الحُدَيبية وكان شاعرًا، ومن شعره: [من الطويل] إذا نحن أدلَجْنا وأنتِ أمامَنا ... كَفى لمَطايانا بوَجهك هاديا أليس تُريد العِيشُ خِفَةَ أَذرُعٍ ... وإن كنَّ حَسْرى أن تكون أمانيا (¬1) وقال عمرو بن شأس: خرجت مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فجفاني في سفري ذلك، حتى وَجدتُ في نفسي عليه، فلما قدمتُ أظهرتُ شِكايته في المسجد حتى بلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخلتُ المسجد ذاتَ غَداة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه، فلما رآني أبَدَّني عينيه، حتى إذا جلستُ قال: "يا عمرو، والله لقد آذيتَني" فقلت: أعوذ بالله أن أؤذيك يا رسول الله! فقال: "بلى من آذى عليًّا فقد آذاني" (¬2). وقال ابن عساكر (¬3): كان عبد الرحمن بن الأشعث حَسودًا حَقودًا، وكان قد توجَّه إلى خراسان مع خالٍ له بطَلبِ مِيراثٍ، فجعل يختلف إلى بغيٍّ هناك يقال لها: ماهنوس، فأُخذ معها، فشهد عليه جماعة منهم كَردَم بن مَرْثَد بن نَجَبَة الفزاري، وزُفَر بن عَمرو الفزاريّ، ومحمد بن قَرَظَة، ويزيد بن زهير، فضُرب حدًّا، ولم تذهب الأيام حتى صار هؤلاء النَّفر من جُند ابن الأشعث لما ولي سجستان، فدسَّ إليهم مَن شهد عليهم بالزنى، فحدَّهم، فقال بعضهم: [من الطويل] شَهِدْنا بحقٍّ وانتقمتَ بباطلٍ ... فأُبْنا بخَيرٍ واشتملتَ على وزْر [فصل: وفيها توفي] عبد العزيز بن مروان ابن الحكم [بن أبي العاص]. وأمُّه ليلى بنت زَبّان (¬4) بن الأَصبغ بن عمرو الكلبيّ. وكنيته أبو الأَصْبَغ. ¬

_ (¬1) "الاستيعاب" (1785)، وينظر "طبقات فحول الشعراء" 1/ 197 وتخريجها ثمة. (¬2) مسند أحمد (15960). وقوله: أبَدَّني عَيْنَيْه، أي: حَدَّدَ إليَّ النظرَ. قاله راوي الحديث. (¬3) كذا، ولم أقف عليه في تاريخه، والخبر في "أنساب الأشراف" 6/ 418. (¬4) في النسخ: زياد، والمثبت من "صبقات ابن سعد" 7/ 232. وما بين معكوفين من (ص).

من الطبقة الثانية من أهل المدينة ومُحدِّثيهم. وذكره ابن سُمَيع في الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام. وكان جوادًا ذا مُروءةٍ ظاهرة، وكان أبوه قد عَقد له بولاية العهد بعد عبد الملك، وولّاه مصر فأقره عليها عبد الملك، وثَقُل عليه مكانه، فأراد خلعَه ليُبايع لابنه الوليد وسليمان بالخلافة بعده، فمنعه قَبيصَةُ بنُ ذُؤَيب -وكان على خاتم عبد الملك- وقال له: لا تفعل؛ فإنك باعث على نفسك صَوْتًا نَعّارًا، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه، فكفَّ عن ذلك ونَفْسُه تُنازعه، فدخل عليه رَوْحُ بنُ زِنْباع الجُذاميّ -وكان أجلّ الناس عنده- فشاوره فقال: لو خلعتَه ما انتَطَح فيها عَنْزان. فبينا هما على ذلك وقد نام عبد الملك وروح في تلك الليلة، إذ دخل عليهما قَبيصة ابن ذُؤيب ليلًا، وكان لا يُحجب عن عبد الملك، وكانت الأخبار والكتب تأتيه فيقرؤها قبل عبد الملك، فقيل له: قد جاء قَبيصة، فدخل فقال: آجرك الله يا أمير المؤمنين في عبد العزيز، فاسترجع عبد الملك وقال لرَوْح: يا أبا زُرعة، كفانا الله ما أجمعنا عليه، فقال قَبيصة: إن الرأيَ كلّه في الأناة، وفي العجلة ما فيها، فقال عبد الملك: ربّما كان في العَجَلةِ خيرٌ كثير، ألم تر أمر عمرو بن سعيد؟ ! ألم تكن العَجَلة فيه خيرًا من التأنّي (¬1)؟ ثم قال له قَبيصة: قد أتاك ما أردْتَ ولم تَقطع رَحم أخيك، ولم تأت ما تُعاب به، ولم يُظهِر عليك غدرًا، ولم يَسُؤْه عنك السَّماع. وكان الحجاج قد كتب إلى عبد الملك يُزَيّن له بيعةَ الوليد وسليمان، وأوفد إليه وَفدًا في ذلك منهم، عِمران بن عِصام العَنَزيّ، فقام عِمران خطيبًا، وتكلم للوفد في ذلك، وسألوا عبد الملك، وأنشده عمران: [من الوافر] أميرَ المؤمنين إليك نُهدي ... على النَّأْيِ التحيَّةَ والسَّلاما أجِبْني في بَنيك يكن جَوابي ... لهم أُمْنِيةً ولنا قِواما فإن تُؤثِر أخاك بها فإنّا ... وجَدِّكَ لا نُطيقُ لها تماما ولكنا نحاذِرُ من بَنيه ... بني العَلّاتِ مأثَرَةً سَماما ونخشى إن جَعلتَ المُلكَ فيهم ... سَحابًا أن تَعودَ لهم جَهاما ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 43/ 19.

فقال عبد الملك: يا عمران، إنه عبد العزيز، قال: فاختَلْ له. وكتب عبد الملك إلى عبد العزيز: يا أخي، إن رأيتَ أن تُصيَر الأمْرَ لابن أخيك فافعل، فأبى، فكتب إليه، فاجعلْه له من بعدك؛ فإنه أعزُّ الخلق علي، فكتب إليه عبد العزيز: إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز ما تراه في الوليد، فكتب إليه: فاحمل خراج مصر إليّ، فكتب إليه عبد العزيز: إني وإياك قد بلغنا سنًّا لم يبلغها أحدٌ من أهل بيتنا إلا كان بقاؤه قليلًا، وإنا لا ندري أيّنا يأتيه الموت أولًا، فإن رأيت ألا تُغَثِّث (¬1) عليّ بقيةَ عُمري؛ ولا يأتيني الموت إلا وأنت واصِلٌ لي فافعل. فرقَّ له عبد الملك وقال: لا غَثَثْتُ عليه بقيَّة عُمره، وقال لابنيه الوليد وسليمان: إن يُرِد الله أن يُعطيكموها لم يَقدر أَحدٌ من الخلق على ردّها عنكما، ثم قال: هل قارفْتُما حَرامًا قطّ؟ قالا: لا والله، فقال: الله أكبر، نلتماها وربِّ الكعبة. ولما امتنع عبد العزيز من إجابة عبد الملك إلى ما التمس منه قال عبد الملك: اللهم إنه قد قَطَعني فاقطعْه، فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رَدّ على أمير المؤمنين أمرَه، فدعا عليه فاستُجيبَ له (¬2). [وقال ابن عساكر: ] شهد عبد العزيز قتلَ عمرو بن سعيد الأَشْدَق، وكانت دار عبد العزيز بدمشق مُلاصقة الجامع، وهي اليوم دار الصّوفية، وكانت بعده لابنه عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه (¬3). [أخبرنا مشايخنا، عن أبي الفضل بن ناصر بإسناده إلى محمد (¬4) بن الحارث المخزومي قال: ] دخل رجل على عبد العزيز يشكو إليه صهرًا له فقال: إن خَتَني فعل بي كذا وكذا، فقال له عبد العزيز: مَن خَتَنَك؟ قال: الخَتّان الذي يَختنُ الناس، فقال عبد العزيز لكاتبه: وَيحك ما هذا الجواب؟ فقال: أيها الأمير، إنك لَحَنْتَ، والرجل [لا] ¬

_ (¬1) لا تفسد. (¬2) "تاريخ الطبري" 6/ 412 - 414، و "أنساب الأشراف" 6/ 371 - 374، و "المنتظم" 6/ 261 - 262. (¬3) "تاريخ دمشق" 43/ 12 - 13 وما بين معكوفين من (ص). (¬4) في (ص) وما بين معكوفين منها: أبي محمد، وهو خطأ، والخبر في "تاريخ دمشق" 43/ 21، و "تهذيب الكمال" (4060)، و "المنتظم" 6/ 264.

يعرف اللَّحن، وكان ينبغي أن تقول له: مَن خَتَنُك، بالضم، فقال عبد العزيز: أُراني أتكلم بكلام لا تعرفه العرب؟ والله لا شاهدتُ الناس حتى أعرفَ اللحن، وأقام في بيته جمعة لا يظهر؛ ومعه من يعلّمه العربية، فصلّى بالناس الجُمعةَ الأخرى وهو من أفصح الناس. ثم كان بعد ذلك يُعطي على العربية، ويَحرم على اللحن، فجاءه قوم من قريش من أهل مكة والمدينة زُوّارًا، فجعل يقول للرجل منهم: من أنت؟ فيقول: من بني فلان، فيعطيه مئتي دينار، فسأل رجلًا منهم فقال: من بنو عبد الدار، فقال للكاتب: خُذها من جائزته، فأعطاه مئة دينار (¬1). وكان يقول: مَن أمكنني من وَضْع مَعروفي عنده فيَدُه عندي أعظم من يدي عنده، وكان يترنّم بأبيات عبد الله بن عباس: [من الطويل] إذا طارِقاتُ الهمِّ ضاجَعتِ الفتى ... وأعملَ فِكرَ الليل والليلُ عاكِرُ وباكَرني في حاجةٍ لم يجدْ لها ... سِوايَ ولا يُوجَدْ لها الدهرَ ناصرُ فكان له فَضْلٌ عليَّ بظَنِّه ... بيَ الخيرَ إنِّي للّذي ظنَّ شاكرُ وفي هذا المعنى يقول بشار بن برد: [من الخفيف] ليس يُعطيكَ للرَّجاء ولا الخَوْ ... فِ ولكنْ يَلَذُّ طَعْمَ العَطاءِ (¬2) ومرض عبد العزيز، فدخل عليه كُثَيِّر عَزَّة فقال: [من الكامل] ونَعودُ سيِّدَنا وسيِّدَ غيرِنا ... ليتَ التَّشَكِّي كان بالعُوَّادِ لو كان يُقْبَلُ فِدْيَةٌ لفَديتُه ... بالمصطفى من طارفي وتلادي (¬3) وحدَّ عمرو بن سعيد الأَشْدق عبدَ العزيز في شراب شربه، فوجد عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه لما ولي المدينة إسحاق بن علي بن عبد الله بن جعفر في بيت خُلَيدَة العرجاء، فحدّه حدَّ الخمر، فقال له إسحاق: يا عمر، كلُّ الناس جُلِدوا في الخمر، يعرِّض بأبيه (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 43/ 21 وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) "العقد الفريد" 1/ 230. (¬3) "تاريخ دمشق" 43/ 22. (¬4) انظر "أنساب الأشراف" 5/ 368.

ذكر وفاته: لما احتضر عبد العزيز قيل له: مالُك بمصر (¬1) يبلغ ثلاث مئة مُدْيٍ من ذهب، فقال: وَدِدْتُ أنه كان بَعرًا حائلًا بنجد. وتوفي بمصر في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين، وبلغ الخبر عبد الملك ليلًا، فلما أصبح دعا الناس إلى البيعة للوليد، ثم بعده لسليمان، وقدم كُثير عَزَّة مصر وورثة عبد العزيز يقتسمون ماله، فبكى وقال: [من البسيط] أضحى تراثُ ابنِ ليلى وهو مُقْتَسمٌ ... في أقرَبِيهِ بلا مَنٍّ ولا ثَمَنِ ورَثْتَهم فتَعَزَّوا عنك إذ وَرِثوا ... وما وَرِثْتك غيرَ الهَمِّ والحَزَنِ فقال ورثته: لا جَرَم، والله لا تنصرف إلا بمثل نصيبِ واحدٍ منا. ولكثير فيه أشعار كثيرة منها: [من الطويل] قَليلُ الأَلايا حافظٌ ليمينه ... فإن بَدَرَت منه الألِية بَرَّتِ حَليمٌ رَزينٌ ذو أناةٍ وإِربَةٍ ... بصيرٌ إذا ما كِفَّةُ الحربِ جُرَّتِ ومنها: [من الطويل] شهدتُ ابنَ ليلى في مواطنَ قد خَلَتْ ... يزيدُ بهذا الحلمِ حِلمًا حُضُورُها وإني لآتٍ قبرَه فمُسَلِّمٌ ... وإن لم يُكلّم حُفْرَة مَن يَزورُها (¬2) ذكر أولاده: كان له من الولد: عمر - رضي الله عنه -، ولي الخلافة، وعاصم، وأبو بكر، ومحمد، درج، أمُّهم أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب (¬3). والأصبَغ، وأم عثمان، وأم محمد لأم وَلَد. وسُهيل، وسَهْل، وأمُّ الحكم، أمُّهم أم عبد الله [بنت عبد الله] بن عمرو بن العاص بن وائل. ¬

_ (¬1) في (ص): حكى أبو سعيد بن يونس أن عبد العزيز لما احتضر قيل كان له ملك بمصر. والخبر في "تاريخ دمشق" 43/ 25 من طريق ابن أبي الدنيا بإسناده إلى حماد بن موسى الخشني. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 43/ 14، وديوان كُثِّير ص 378 و 85 و 161 - 162 على الترتيب. (¬3) في (خ) و (د): بن أبي طالب وهو خطأ، والمثبت من (أ).

عمران بن عصام الضبعي

وزَبّان، وجُزَيّ لأم ولد. وأم البنين، وأمُّها ليلى بنت سُهيل بن حَنْظَلة كلابّية. روى عبد العزيز عن أبي هريرة، وكان ثقةً قليلَ الحديث (¬1). عمران بن عصام (¬2) الضُّبَعيّ أبو عُمارة، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، كان قاضيًا عليها، وكان إمامَ مسجد بني ضُبَيْعة، يختم بهم في رمضان كلَّ ثلاث ليال، وكان قد خرج مع ابن الأشعث، فلما قتل جيء به إلى الحجّاج فقال له: اشهَدْ على نفسك بالكفر، فقال: ما كفرتُ بعد إيماني، ثم كشف رأسَه وإذا به مَحلوق، فقال: ومحلوق أيضًا؟ يعني أنه يرى رأيَ الخوارج، فقتله. عمرو بن حُرَيْث ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عُمر بن مَخزوم، أبو سعيد. من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة، وكان زياد يَستخلفه على الكوفة إذا خرج إلى البصرة. حمله أبوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح برأسه، ودعا له بالبركة، وخطّ له بالمدينة دارًا بقَوس (¬3)، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله اثنتا عشرة سنة. وزعموا أنه أول قُرشيٍّ اتَّخذ بالكوفة دارًا. وكان له قَدرٌ وشَرَف. ومن حديثه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نَعلَين مَخْصُوفَين (¬4). ومات بالكوفة سنة خمس وثمانين. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 232 - 233. (¬2) في النسخ: عاصم، والتصويب من تاريخ خليفة ص 282، و "أنساب الأشراف" 6/ 498 - 499، والعقد الفريد 5/ 54، و "تاريخ دمشق" 52/ 258. (¬3) طبقات ابن سعد 6/ 535، وأخرجه أبو داود (3060) بنحوه، وقوس: وادٍ. (¬4) مسند أحمد (18736).

واثلة بن الأسقع

وأبوه حُرَيث من الصحابة، روى عنه ابنُه عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الكَمْأَةُ من المَنِّ، وماؤها شِفاءٌ للعين" (¬1). [فصل: وفيها توفي] واثِلة بن الأَسْقَع ابن عبد العُزَّى بن عَبدِ ياليل بن ناشِب بن غِيَرة بن سعد بن لَيث، أبو قِرصَافَةَ اللَّيثي. من الطبقة الثالثة من المهاجرين (¬2)، كان ينزل ناحية المدينة، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى معه الصُّبح، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى وانصرف يتصفَّح وجوه أصحابه ينظر إليهم، فلما دنا منه أنكره فقال: مَن أنت؟ فأخبره، فقال: "ما جاء بك"؟ قال: جئتُ أبايع، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على ما أحبَبْتَ وكَرهتَ؟ ! " قال: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما أطَقْتَ"؟ قال: نعم، فأسلم وبايعه. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَتجهَّز يومئذ إلى تبوك. فخرج واثلة إلى أهله، فلقي أباه الأَسْقَع، فلما رأى حاله قال: قد فعلتَها، قال واثلة: نعم، فقال أبوه: والله لا كَلَّمتُك أبدًا، فأتى عمّه فكلمه فلم يكلمه وقال: قد فعلتَها، قال: نعم، فلامه لائمةً أيسرَ من لائمةِ أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تَسبقَنا بأمر. وسمعت أختُ واثلة كلامَه، فخرجت فحيَّتْه بتحيةِ الإِسلام، فقال لها واثلة: من أين لك هذا يا أُخَيَّة؟ قالت: سمعتُ كلامَك وكلامَ عمِّك، وكان واثلة ذكر الإِسلام ووصفه لعمِّه فأعجب أُختَه فأسلمت، فقال لها واثلة: لقد أراد الله بك خيرًا يا أُخَية؛ فجهّزي أخاك جهازَ غازٍ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جَناح سَفَر، فأعطته مُدًّا من دقيق وتمر. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1627) وأخرجه البخاري (4478) ومسلم (2049) من طريق عمرو بن حُريث عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - وانظر في ترجمة عمرو بن حريث: "طبقات ابن سعد" 6/ 534 و 8/ 146، و "السير" 3/ 417 وما في حواشيه من مصادر. (¬2) بعدها في (ص): ولم يشهد بدرًا ولا أحدًا وإنما أتى رسول الله (ص) فأسلم على يده وهو يتجهز إلى تبوك وجعل يقول: من يحملني عقبة وله سهمي، فحمله كعب بن عجرة فحصل له قلائص فدفعها إلى كعب فلم يأخذها وقال: إنما حملناك لله تعالى، وقد ذكر القصة ابن سعد. والمثبت من النسخ (أ) و (خ) و (د).

وأتى المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تحمَّل إلى تبوك، وبقي بقيَّةٌ من الناس، فجعل ينادي: مَن يَحملني وله سهمي؟ وسمعه كعب بن عُجْرَة فقال: أنا أحملك عُقْبَةً بالليل، وعُقْبةً بالنهار، ويدي ويدك (¬1)، وسهمُك لي، فقال واثلة: نعم، قال واثلة: فجزاه الله خيرًا. قال: وسار خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرِ دُوْمَة، وخرجتُ معه، فأصَبْنا فَيئًا كثيرًا، وأصابني ستُّ قَلائص، فجئتُ أسوقُها إلى خيمة كعب بن عُجْرة فقلت: أخرج فاقبِضْ قلائصَك، فخرج وهو يتبسَّم ويقول: بارك الله لك فيها، ما حملتُك وأريد أن آخُذَ منك شيئًا. ولما أسلم واثلةَ (¬2) قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهب فاحلق عنك شَعَر الكُفر، واغتسل بماءٍ وسِدر" ففعل. [وذكر ابن عساكر وقال: ] شهد واثلة فتح دمشق، وقتل عظيمًا من عُظماء الروم وأخذ سَلَبَه، فدُفع له في سَرجه عَشْرةُ آلاف (¬3). وقال خليفة (¬4): كانت له دار بالبصرة. وذكره ابن سعد فيمن نزل الشام من الصحابة (¬5). واختلفوا في وفاته؛ وقال ابن سعد بإسناده عن أبي الزاهرية قال: مات واثلة بن الأسقع بالشام سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة (¬6). وحكى ابن عساكر عن أبي حاتم قال: كان واثلة يشهد المغازي بدمشق (¬7). وحكى ابن سعد أيضًا أنه مات في سنة ثلاث وثمانين ببيت المقدس (¬8). وقيل: إنه سكن ¬

_ (¬1) في مغازي الواقدي 1029، و "طبقات ابن سعد" 5/ 130، و "تاريخ دمشق" 17/ 710 (مخطوط)، و "المنتظم" 6/ 265: ويدك أسوة يدي. (¬2) في (ص): وقال الواقدي ولما أسلم. أهـ ولم أقف على الخبر من رواية الواقدي، وأخرجه الطبراني في الكبير 22 / (199)، والحاكم في "المستدرك" 3/ 570، والخطيب في تاريخه 15/ 81، وأبو نعيم في "الحلية" 9/ 329، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 17/ 709 - 710 من طريق معروف الخياط، عن واثلة، به. (¬3) "تاريخ دمشق" 17/ 704، 705، وما بين معكوفين من (ص). (¬4) في طبقاته 31. (¬5) "طبقات ابن سعد" 9/ 411. (¬6) "طبقات ابن سعد" 5/ 130 و 9/ 411. (¬7) "تاريخ دمشق" 17/ 707. (¬8) "طبقات ابن سعد" 9/ 412.

موسى بن عبد الله

البَلاط (¬1)؛ قرية من قرى دمشق على ثلاثة فراسخ منها، ثم تحوَّل فسكن البيت المقدس حتى مات به. [وقال ابن عساكر أيضًا: ] سكن دمشق إلى أن توفي بها، وهو مدفون بالحضيرة التي بمقابر الباب الصغير، فيها قبر معاوية (¬2). وهو آخر من مات من الصحابة بدمشق. وقيل: مات وهو ابن مئة وخمس سنين. وكان يتغدَّى ويتعشَّى بفِناء داره، ويدعو الناس إلى طعامه. وقيل: مات بحمص (¬3)، وقيل: اغتيل بين حمص ودمشق. أسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وخمسين حديثًا. موسى بن عبد الله ابن خازم السُّلَمي، خرج من مَرو ببعض ثَقَل أبيه عبد الله أمير خراسان، وقطع النهر في عشرين ومئتي فارس، فأتى آمُل (¬4) وقد صار في أربع مئة فقاتلوه، فأتى بُخارى، فمنعه صاحبُها من دخولها وقال: لا مُقام لك عندي، ووصله بمال ودواب، وجعل يتنقّل في بلاد ما وراء النهر، واتَّفق عليه ملوك التُّرك، فأتى إلى التِّرمِذ وبها حصن حصين، فأقام بظاهرها، ولم يزل يُهادي صاحبها حتى صنع له طعامًا، ودعاه إلى البلد، فلما أكل الطعام قال له: أخرج، فقال: لا أجد مُقامًا أحصنَ من هذا، وقاتلهم فقتل منهم جماعة، وغلب على البلد، وأقام بها من سنة إحدى وسبعين يحارب الترك ¬

_ (¬1) من قوله: وقال خليفة ... إلى هنا من (ص)، وهي في (أ) و (خ) و (د) مختصرة. (¬2) ما بين معكوفين من (ص)، ولم أقف على الخبر في "تاريخ دمشق"، ولا في غيره، وقوله: الحضيرة، لعله: الحظيرة. (¬3) في (ص): قال الواقدي: وواثلة آخر من مات من الصحابة بدمشق، وقد حكاه ابن سعد أيضًا، قال: وكان يتغدى ويتعشى ... وقيل مات بحمص والله أعلم. السنة السادسة والثمانون. قلت: أخرج ابن عساكر في تاريخه 17/ 715 من طريق العباس بن الوليد، عن أبيه، عن سعيد بن بشير، عن قتادة قال: كان آخر أصحاب رسول الله (ص) موتًا بمكة عبد الله بن جابر ... وآخرهم موتًا بدمشق واثلة بن الأسقع الليثي. ولم يذكر ابن سعد هذا الخبر، ولم أقف عليه للواقدي. وأما قوله: كان يتغدى ويتعشى ... فأخرجه ابن سعد في طبقاته 9/ 412 عن الواقدي، عن الوليد بن مسلم، عن أبي المصعب مولى بني يزيد، به. (¬4) في (أ) و (خ) و (د): آمد، والمثبت من الطبري 6/ 398.

السنة السادسة والثمانون

ومُلوكَهم، وهم مجتمعون على حربه، وهو يظهر عليهم، فقصدوه مرة فخرج إليهم فبيّتهم، فقتل منهم مَقتلةً عظيمة؛ بحيث إنه بنى من رؤوسهم جَوْسَقَين، وبلغ الحجاج حديث الوقعة فقال: الحمد لله الذي نصر المنافقين على الكافرين. وكان المهلَّب مدةَ إقامته بخُراسان لا يعرض لموسى؛ لكونه في وجه بلاد الإِسلام، وكذا يزيد بعده، إلى أن ولي المُفَضَّل بن المُهَلَّب، فجهّز إليه جيشًا كثيفًا، فحصروه مدَّة، فخرج إليهم فأنكى فيهم، فعَرقَبوا فرسَه وقتلوه، وفيه يقول بعض الشعراء في رجل اسمه موسى (¬1): [من الطويل] فما أنت موسى إذ يُناجي إلهه ... ولا واهِب البَدْراتِ موسى بنُ خازمِ وكان جوادًا مُمدَّحًا شجاعًا، قال أهل خراسان: ما رأينا ولا سمعنا بمثل موسى بن خازم، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خُراسان، حتى أتى ملكًا فغلب عليه، وأخرجه من مدينته، ثم سارت إليه جنود العرب وملوك الترك، فكان يقاتل العرب أول النهار، والترك آخره، وأقام في حصنه خمسة عشر سنة وملك ما وراء النهر. ولما عَوْقَبوا فرسَ موسى أجهز عليه واصل العَنْبَرِيّ، وكان أمير جيش المفضَّل عثمان بن مسعود الثَّقفيّ، ومعه مُدرِك بن المهَلَّب. ولما قُتل موسى كتب المفضَّل إلى الحجاج بقتله متقرِّبًا إليه. ولما قُتل ضرب بعضُ الجُنْد ساقَه بسيف، فلما ولي قتيبة بن مُسلم دعا بذلك الجندي فقال له: ما حملك على ما صنعت بفتى العرب بعد موته؟ قال: قتل أخي، فأمر به قُتيبة فضربت عُنقه بين يديه. السنة السادسة والثمانون فيها غزا قُتيبة بن مسلم ما وراء النهر؛ قال علماء السير: خطب الناسَ فقال: إن الله تعالى إنما أحلّكم هذا المحل لتُعِزوا دينَه، ويَذُبَّ بكم عن الحُرُمات، ويزيد بكم للمال استفاضة، وللعدو قمعًا، ووعد نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - النَّصرَ في الكتاب الصادق فقال تعالى: {هُوَ ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 409: وكان بقومس رجل يقال له عبد الله يجتمع إليه فتيان يتنادمون فلزمه دين، فأتى موسى بن عبد الله فأعطاه أربعة آلاف، فأتى بها أصحابه، فقال الشاعر يعاتب رجلًا يقال له موسى.

الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [الصف: 9]، ووعد المجاهدين في سبيله أحسنَ الذّكر وأعظمَ الأجر فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 120]؛ ثم أخبر عمَّن قُتل في سبيله وأنه حي يرزق فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية [آل عمران: 169]، فتنجَّزوا موعدَ ربّكم، ووَطّنوا نفوسكم على أقصى الأَثَر، وأمضّ الألم، وإياكم والهُوَينى. وكان قُدومُه خراسان والمفضَّل بن المُهَلَّب يَعرض الجُند ليَقطع النهرَ غازيًا، فغزا بهم قتيبة، ولما قطع النهر بعد ما وصل إلى الطّالقان تلقَّتْه الملوك بالهدايا، منهم تيش ملك الصَّغانيان، وكان في هداياه مفتاح بلده وكان من ذَهَب، وأذعن له الملوك بالانقياد، وأهل الطُّخارستان وغيرها فصالحوه، فخلَّف أخاه صالح بن مسلم في الجيش. وعاد قتيبة إلى مرو، وفتح صالح بعد مسير أخيه إلى مرو فتوحات، وكان في جيشه نَصر بن سَيَّار، فأبلى بلاءً حسنًا، فأعطاه ضَيعة تُدعى تنجانة، ثم رجع صالح إلى مَرو فاستعمله أخوه قتيبة على التِّرمذ. وقيل: إن قتيبة أقام في هذه السنة على بَلْخ؛ لأن بعضَها كان مُنتقِضًا عَليه، وقد حارب أهلُها المسلمين، فقاتلهم وسبى منهم، وكان فيمن سبى امرأة بَرْمَك -وكان بَرمَك [على] النُّوبَهار- فصارت إلى عبد الله بن مسلم أخي قُتيبة، وكان به طَرفٌ من الجُذام، ويُدعى بالفقير، فوقع عليها، ثم إن أهل بَلْخ صالحوا غَدَ ذلك اليوم الذي حاربهم قتيبة، فأمر بردّ السَّبْي، فقالت امرأة بَرمَك لعبد الله: إني قد عَلِقْتُ منك فلا تَرُدَّني، وأقامت عنده فاحتُضر، فأوصى أخاه قُتيبة أن يُلحق ما في بطنها بنسبه، ورُدَّت إلى بَرمَك، فولدت عنده خالدًا، وكان بَرمَك يدَّعي أنَّه وَلَده، فيقال: إن ولد عبد الله بن مسلم جاؤوا في أيام محمد المهديّ حين قَدِم الريّ ومعه خالد بن بَرْمَك (¬1)؛ فادَّعَوا أن خالدًا منهم، وأرادوا أن يُلحقوه بنسبهم، فقال مُسلم بن قتيبة: إن استلحقتموه فلا بُدَّ لكم أن تُزَوِّجوه، فتركوه وأعرضوا عن دعواهم. ويقال: إن بَرْمَك كان طبيبًا فداوى مُسلم بن قُتيبة من مرضٍ كان به. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 6/ 425: حين قدم الرَّي إلى خالد بن برمك.

الباب السادس في ولاية الوليد بن عبد الملك

وقيل: إن قتيبة لما فارق الجند ركب في السفن، وانحدر على آمُل، فكتب إليه الحجّاج يُعَجِّزه حيث فارق جُنده وقال: إذا غزوتَ فكن في مُقَدَّم الناس، وإذا قَفَلتَ فكن في ساقَتِهم (¬1). وفيها توفي عبد الملك بن مروان، وولي ابنُه الوليد. الباب السادس في ولاية الوليد بن عبد الملك وكنيته أبو العبّاس، وأمه وَلّادة بنت العباس بن جَزء بن الحارث العَبْسيّ، ويقال لها: بنت السَّوداء لأن أمها كانت سوداء، وهي أم سليمان بن عبد الملك، وقيل: هي وَلادة بنت خالد بن جَزْء بن الحارث بن زهير. ولا يعرف امرأة ولدت خليفتين سوى هذه، والثانية شاه فرند بنت فيروز بن يَزدَجرد الملقّب بكسرى، ولدت يزيد وإبراهيم ابني الوليد بن عبد الملك، والثالثة الخيزران ولدت الهادي والرشيد. ذكر مولده: واختلفوا فيه على أقوال، أحدها: في سنة خمس وأربعين بالمدينة، في دار عبد الملك بن مروان؛ وتدعى دار الإمارة. والثاني: في سنة سبع وأربعين؛ ذكرهما الهيثم. والثالث: في سنة خمسين، حكاه الواقدي. والرابع: في سنة اثنتين وخمسين، ذكره ابن قتيبة (¬2). ذكر بيعته: [قال الواقدي: ] بويع بالخلافة يوم الخميس منتصف شوال، يوم مات أبوه. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 424 - 426، وساقَة الجيش: مؤخِّرُه. (¬2) من قوله: واختلفوا فيه ... إلى هنا من (ص)، وجاءت في النسخ الأخرى مختصرة.

بشير بن عقربة الجهني

[وقال أبو عبيدة: ] لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. [قال: ] وأول من بايعه عبد الله بن همّام السَّلولي (¬1). ذكر صفته: [قال الواقدي: ] كان أسمر طُوالًا جميلًا، في وجهه أثر جدري، وفي أنفه فَطَس، وفي مُقدَّم لحيته شيب يسير، وليس في رأسه منه شيء، وكان جبَّارًا ذا سطوة شديدة، لا يتوقف إذا غضب، لَجوجًا، كثير الأكل والنكاح، مِطلاقًا، فيقال: إنه تزوج ثلاثًا وستين امرأة. [وقال أبو اليقظان: ] لما وَلي فرض للناس الأُعطية، وأعطى الجُذَماء وأغناهم أن يسألوا الناس، وأعطى كلَّ مُقْعَد خادمًا يَخدمه، وكلَّ ضريرٍ قائدًا يقوده، وكان صاحبَ بناء ومصانع، وكان عند أهل الشام عظيمًا حتى سمَّوه أفضلَ الخلائف (¬2). [فصل: ] وفيها ولّى الحجاج يزيد بن المُهَلّب على شُرطته (¬3). وحجَّ بالناس هشام بنُ إسماعيل المَخْزومي، فكان الحجاج على العراقَين والمشرق كله، وباشر بالبصرة أيوب بن الحكَم بن أبي عَقيل، وبخراسان قتيبة بن مسلم. فصل: وفيها توفي بَشير بن عَقْرَبة الجُهَنيّ [وكنيته] أبو اليمان. قال الواقدي: قُتل أبوه عَقربة يوم أُحُد، قال: فلقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي فقال: يا حبيب، ما يُبكيك؟ قلت: قتل أبي، فقال: أما ترضى أن أكون أنا أبوك، وعائشة أُمُّك، ومسح على رأسي بيده، فكان أثر يده من رأسي أسود وسائره أبيض، وكانت بي رُتَّة، فتفل فيها فانحلّت، وقال لي: ما اسمك؟ قلت: بجير، قال: لا بل بشير. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ص). وانظر الطبري 6/ 423. (¬2) يعني الخلفاء، انظر "أنساب الأشراف" 7/ 13. (¬3) في الطبري 6/ 426: وفيها حبس الحجاج يزيدَ بن المهلَّب، وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان، وعبد الملك بن المهلب عن شرطته.

سعيد بن وهب

[قال الواقدي: ] سكن بشير فلسطين، ومات بها سنة ست وثمانين (¬1). سعيد بن وَهْب الهَمْداني الكوفي، من الطبقة الأولى، كان يُقال له: القُراد لملازمته لعلي - رضي الله عنه -، وروى عنه، وعن ابن مسعود، وخَبّاب، وسليمان، وابن عمر، وابن الزبير، وسمع من معاذ لما كان باليمن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان عَريفَ قومه، وكان يَخضب بالصُّفرة، ومات بالكوفة في سنة ست وثمانين (¬2). وفيها توفي أبو أُمامة الباهلي واسمه صُدَيّ بن عَجْلان، وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة من باهِلة، وهي امرأة أبوها صَعْب بن سعد العشيرة (¬3). صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمع منه، وروى عنه وتحوَّل إلى الشام فنزله، وشهد حجة الوداع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - وله ثلاثون سنة. وشهد صفين مع علي - رضي الله عنه - (¬4)، ومات بحمص بعد أن أقام بمصر ودمشق، ورجع إلى حمص فمات بقرية من قراها يقال لها: دَنْوَة، على عشرة أميال من حمص، وهو آخر من مات من الصحابة بالشام بحمص. وقال: شهدتُ صفّين، فما كانوا يُجهزون على جَريح، ولا يطلبون مُوَلّيًا، ولا يَسلبون قتيلًا. وكان يُصَفِّر لحيتَه، ويؤدّي الحديث كما سمع، ويقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بَلَّغ إلينا ما أُرسل به، فبلّغوا عنا أحسن ما تسمعون. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 432، و "تاريخ دمشق" 3/ 376 (مخطوط). (¬2) "طبقات ابن سعد" 8/ 290، و "السير" 4/ 180. (¬3) من قوله: وفيها توفي أبو أمامة ... إلى هنا من (ص)، وجاءت في النسخ الأخرى مختصرة. وانظر "طبقات ابن سعد" 6/ 211. (¬4) في (ص): ثلاثون سنة ونزل الشام بعد أن حضر صفين مع علي.

عبد الله بن أبي أوفى

وتوفي سنة ست وثمانين وهو ابن إحدى وتسعين سنة في خلافة عبد الملك بن مروان (¬1). وقال الهيثم: مات سنة إحدى وثمانين وهو ابن مئة وست سنين. وكان من سَراة بني عَجْلان، ومرَّ برجل يبكي (¬2) في المسجد وهو ساجد فقال له: ما أحسن هذا البكاء لو كان في بيتك.! [أسند أبو أُمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث]. ومن مسانيده أنه ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون في هذه الأمة في آخر الزمان رجال معهم سِياط كأنها أذبابُ البَقَر، يَغدون في سَخط الله، ويروحون في سَخَط الله" يعني الشُّرَط (¬3). [وفيها توفي] عبد الله بن أبي أَوْفى الأسلميّ الخزاعي، [واسم أبي أوفى: علقمة بن خالد بن الحارث، وكنيته أبو معاوية، وقيل: أبو إبراهيم. وهو] من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وكان ممن بايع تحت الشجرة، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النَّضِير، والخندق، وقُرَيظة. وقال: غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعَ غَزَوات نأكل فيهن الجَراد. وقيل: أول مشاهده خيبر وما بعدها. [وقال أبو نعيم: ] أصابه يوم حنين ضَربةٌ في ذِراعه (¬4). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 415. (¬2) في (ص): قال: ومرّ أبو أمامة برجل يبكي. (¬3) مسند أحمد (22150)، وانظر ترجمة أبي أمامة في: "المعارف" 309، و "تاريخ دمشق" 8/ 289 (مخطوط)، و "السير" 3/ 359. (¬4) "طبقات ابن سعد" 5/ 206، و "تاريخ دمشق" 36/ 629، وما بين معكوفين من (ص).

عبد الملك بن مروان

وكان خِضابُه أحمر، وكانت له ضَفيرتان، وهو الذي صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على آله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتي بصدقة، أو إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللهم صل عليهم"، فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللهم صلّ على آل أبي أوفى"، فما زلنا نعرف فينا خيرًا كثيرًا (¬1). وقدم عبد الله على أبي عبيدة - رضي الله عنه - وهو محاصرٌ لدمشق بكتاب عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. وقال سعيد بن جُمهان: كانا نقاتل الخوارج مع عبد الله بن أبي أوفى، فلحق غلام له بهم، فناديناه: يا فيروز، هذا مولاك عبد الله، قال: نِعم الرجلُ هو لو هاجر، فقال ابن أبي أوفى: ما يقول عدوُّ الله؟ فأخبرناه فقال: هجرة بعد هجرتي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ثلاث مِرار، ثم قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "طوبى لمَن قتلهم وقتلوه" (¬2). وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: لم يزل عبد الله بن أبي أوفى بالمدينة (¬3) حتى قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتحوّل إلى الكوفة، فنزلها حيث نزلها المسلمون، وابتنى بها دارًا في أسلم، وكان قد ذهب بصره، وتوفي بالكوفة في سنة ست وثمانين، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة. [قال: ] وأحرم بالحج من الكوفة من مسجد الرَّمادة، وجعل يُلَبِّي. أسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة وتسعين (¬4) حديثًا. [فصل: وفيها توفي] عبد الملك بن مروان ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مَناف. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (19111)، وابن سعد 5/ 206، والبخاري (1497)، ومسلم (1078). (¬2) أخرجه أحمد (19149)، وابن سعد 5/ 207، وابن عساكر 36/ 637. (¬3) في (أ) و (خ) و (د): وقال الواقدي لم يزل عبد الله بالمدينة، والمثبت من (ص)، والخبر في "طبقات ابن سعد" 8/ 144. (¬4) في (أ) و (خ) و (د): وسبعين، وفي (ص): وتسعون؟ ! والمثبت من "تلقيح فهوم أهل الأثر" 365.

وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مَناف. وكنية عبد الملك: أبو الوليد. وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة [في قول ابن سعد]. وقال ابن سُمَيع: من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام. وُلد سنة ست وعشرين في خلافة عثمان بن عفان، وقيل: في سنة خمس وعشرين هو ويزيد بن معاوية، وشهد يوم الدار مع أبيه وهو ابن عشر سنين، وشَتا المسلمون بأرض الروم سنة اثنتين وأربعين، وهو أول مَشْتًى شَتَوه بها، فاستعمل معاوية عبدَ الملك على أهل المدينة، وهو يومئذ ابنُ ست عشرة سنة، فركب البحر بالناس. [وقال أبو سعيد بن يونس: ] وبعثه معاوية في سنة خمسين لغزو البحر، فدخل إفريقية مع معاوية بن حُدَيج وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة (¬1). ذكر طرف من أخباره: [قال علماء السير: ] كان حازمًا لَبيبًا، لا يكل أمرَه إلى غيره، بل يتولى الأمور بنفسه. [وقال ابن سعد بإسناده عن شيخ من أهل المدينة قال: ] جلس معاوية يومًا وعنده عمرو بن العاص، فمرَّ بهما عبد الملك، فقال معاوية: ما آدبَ هذا الفتى وأحسنَ مروءته! فقال عمرو بن العاعن: إنه أخذ بخصال أربع، وترك خصالًا ثلاثًا، قال: وكيف؟ قال: أخذ بأحسن الحديث إذا حدَث، وحسن الاستماع إذا استمع، وحُسْنِ البشْرِ إذا لُقي، وخِفَّة المؤونة إذا خُولف، وتركَ من القول ما يُعتَذر منه، وتركَ مخالطة اللِّئام من الناس، وترك ممازحة من لا يُوثَق بعقله ولا مروءته. [وقال ابن سعد: ] كان عبد الملك قد جالس العلماء والفقهاء وحفظ عنهم، وكان قليل الحديث (¬2). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 221، و "تاريخ دمشق" 43/ 244، وما بين معكوفين من (ص). (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 222، 223، وما بين معكوفين من (ص).

وقال إسماعيل بن إبراهيم عن أبيه: تهيّأ مصعب بن الزبير للقاء عبد الملك، وسار حتى نزل باجُمَيرا -قرية على شطّ الفرات دون الأنبار بثلاثة فراسخ- وجاء عبد الملك في جيوشه يَؤمُّ العراق لقتاله، فقال لرَوْح بن زِنباع وهو يتجهّز: والله إن في أمر هذه الدنيا لَعَجبًا، لقد رأيتُني أنا ومصعب أفقده الليلة الواحدة من المكان الذي نجتمع فيه، فكأني والله والِهٌ، ويفقدني فيفعل مثل ذلك، ثم صرنا إلى السيف، ولكن هذا المُلك عَقيم، [ليس] أحد يُريده من وَلَدٍ ولا والد إلا كان السَّيف (¬1). [وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: ] أول من أحدث ضَرب الدنانير والدراهم ونقش عليها عبد الملك في سنة خمس وسبعين، وكانت مَثاقيل الجاهلية اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبَّة بالشامي، [قال: ] وأقام الحج سنة خمس وسبعين للناس، فلما مرَّ بالمدينة نزل في دار أبيه، فأقام أيامًا، ثم خرج وخرج معه الناس إلى ذي الحُلَيفة، فقال له أبان بن عثمان: أَحْرِم من البَيداء، فأَحْرَم [عبد الملك من البيداء. قال: ] وخطب في حجته في أربعة أيام: قبل التَّروية، ويوم عَرَفة، والغد من يوم النَّحْر، ويوم النفر الأول (¬2). وقال ثعلبة بن أبي مالك القُرَظيّ: رأيت عبد الملك صلى المغرب والعشاء في الشِّعْب، فأدركني دون جَمْع، فسرتُ معه فقال: صلّيتَ بعد؟ قلت: لا لَعَمري، قال: فما منعك من الصلاة؟ قلت: إني في وقت بعد، فقال: لا لعمري ما أنت في وقت، [قال: لعلك] ممن يَطعن علي أمير المؤمنين عثمان؟ فأشهد على أبي أخبرني أنه رآه صلّى المغرب والعشاء في الشِّعب، فقلت: ومثلُك يا أمير المؤمنين يتكلم بهذا وأنت الإمام! وما لي وللطَّعنِ عليه وعلى غيره؟ قد كنتُ له مُلازمًا، ولكني رأيتُ عمر رحمه الله لا يصلّي حتى يبلغ جَمْعًا، وليست سنّة أحبّ إليّ من سُنَّة عمر، قال: رحم الله عمر، فعثمان كان أعلم بعمر، ولو كان عمر فعل هذا لاتَّبعه عثمان، وما خالف عثمان عمر في شيء من سيرته إلا باللّين، فإن عثمان لان لهم حتى رُكب، ولو كان أغلظ لهم جانبه كما فعل عمر ما نالوا منه ما نالوا، وأين الناس الذين نسير فيهم بسيرة عمر بن ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 224، وما بين معكوفين منه، والخبر ليس في (ص). (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 226، 227. وما بين معكوفين من (ص).

الخطاب، والناس اليوم يا ثعلبةُ كما علمت، إني رأيتُ سيرةَ السُّلطان تدور مع الناس، إن ذهب اليوم رجل يسير بتلك السيرة أُغير على الناس في بيوتهم، وقطعت السّبُل وتظالم الناس، وكانت الفتن، فلا بدَّ للوالي أن يسير في كل زمان بما يُصلحه (¬1). قال الواقدي (¬2): قال عبد الملك: يا أهل المدينة، إن أحق الناس أن يلزم الأمرَ الأوّل لأنتم، وقد سالت علينا أحاديث من قبل المشرق، لا نعرفها ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن، فالزموا ما في مُصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم رحمه الله. وحفظ عبد الملك عن عثمان، وسمع من أبي هريرة، وأبي سعيد الخُدري، وجابر ابن عبد الله، وغيرهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان عابدًا ناسكًا قبل الخلافة، وقال نافع: لقد رأيت عبد الملك وما بالمدينة شابّ أشدَّ تشميرًا ولا أطلبَ للعلم منه. وقال ابن جُرَيج: سمعت ابنَ شِهاب يُسأل عن ربط الأسنان بالذَّهب، فقال: لا بأس به، ربط عبد الملك أسنانَه بالذهب. وقال رجل من هَمْدان: كنا مع مسلم بن عقبة لما قدم المدينة، فدخلْنا حائطًا بذي المرْوَة، فإذا بشابٍّ حسنِ الوجه والهَيئة يصلّي، فطفنا في الحائط ساعة وفرغ من صلاته، فقال لي: يا عبد الله، أمن هذا الجيش أنت؟ قلت: نعم، قال: أتؤمُّون (¬3) ابنَ الزُّبير؟ قلت: نعم، فقال: ما أحبُّ أن لي ما على وجه الأرض كلّه وأني سرتُ إليه، وما على ظهر الأرض اليوم أحدٌ خير منه، قال: فإذا هو عبد الملك بن مروان، فابتُلي به حتى قتله في المسجد الحرام. وقال عبد الملك: ما غضبي على من لا أملك ويدي لا تنالُه، وما غضبي على مَن أملك ويدي تناله (¬4). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 229، بنحوه، وما بين معكوفين منه. (¬2) بإسناده إلى ابن كعب كما في "طبقات ابن سعد" 7/ 230. (¬3) في النسخ: أتموت؟ ! والمثبت من "طبقات ابن سعد" 7/ 223. (¬4) "أنساب الأشراف" 6/ 325.

وكان إذا جهز جيشًا إلى الروم يقول للأمير عليهم: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمُضارِب الكيس؛ الذي إن وَجَد رِبحًا تجر، وإلا حفظ رأسَ المال، ولا تطلُب الغَنيمةَ حتى تحوزَ السَّلامة، وكن من احتيالك على عدوِّك أشدّ حذرًا من احتيال عدوِّك عليك (¬1). [وقال الشعبي: أول من قال على المنبر: اللهم أصلح عبدك وخليفتك]. وقال الزهري: كان عبد الملك من الدين والورع على باب واسع، فلما وَلي الخلافة تغيرت حالُه، وهو أول خليفة أمر بالمنكر ونهى عن المعروف (¬2). لما قتل ابنَ الزبير، واستقام له الأمر، وحج في سنة خمس وسبعين؛ قدم المدينة فوبَّخ أهلها وقال: أذكرُكُم بأيام الله، فناداه رجل: ننشدك الله الذي ذكَرتَنا به، فغضب وقال: لست بالخليفة المُداهِن، يعني معاوية، ولا بالخليفة المأفون، يعني يزيد، ولا بالخليفة المُسْتَضْعَف، يعني معاوية بن يزيد، ألا وإني لا أُداري هذه الأمة إلا بالسيف لتستقيم لي قَناتُهم، ألا وإنكم تكلِّفونا أعمال المهاجرين الأوَّلين، ولا تعملون منها بشيء، وتأمرونا بتقوى الله وتنسون أنفسَكم، وإنني أقسم بالله يمينًا برَّةً؛ لا يأمرني أحدٌ بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربتُ عنقه، ثم قرأ الزُّهري: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} الآية [البقرة: 206]. ولما قال هذه المقالة ناداه رجل: أما والله لولا نسبك من المُداهِن، وقُربك من المأفون، وسَبيلك (¬3) من المُسْتَضْعَف؛ لكنتَ أبعدَ منها من العَيُّوق، والله ما أخذتَها بوراثة سابقة، ولا بدعوى صادقة، ولا بوصيّةٍ نافذة، ولا باستحقاق، فأُفحم عبد الملك. [قال المدائني: ] وخطب يومًا فقام إليه رجل من أهل اليمن فقال له: إن محمد بن يوسف يسفك (¬4) الدم الحرام، ويأخذ المال الحرام، ويفعل ويفعل، فقال له: اسكت، فقد سمعتُ أنها تكون خلافةً، ثم مُلكًا، ثمَّ جَبرية، وهذه جَبريّة. ¬

_ (¬1) "العقد الفريد" 1/ 132. (¬2) "المنتظم" 6/ 39. ووقع هذا القول في (ص) بعد قوله: وكان لعبد الملك إقدام على سفك الدماء ... الآتي قريبًا. (¬3) في "العقد الفريد" 4/ 90 - 91: سببك، وينظر "أنساب الأشراف" 6/ 319. (¬4) في (أ) و (خ) و (د): من أهل اليمن يقال له محمد بن يوسف فقال تسفك، والمثبت من (ص)، والخبر في "أنساب الأشراف" 6/ 339، وفيه أن القائل: تكون خلافة ... هو الرجل اليمني.

وخطب يومًا فنهى عن المنكر وأمر بالمعروف، فناداه رجل من الصفّ لا يُعرف: يا عبد الملك، مهلًا مهلًا، إنكم تأمرون ولا تأتمِرون، وتنهون ولا تنتهون، وتَعِظون ولا تتَّعِظون، أفنقتدي بكم في سيركم في أنفسكم، أم نُطيع أمركم؟ فإن قلتم: أطيعوا أمرَنا، واقبلوا نُصحَنا؛ فكيف ينصح غيره مَن غشّ نفسه، أم كيف تجب طاعة مَن لم تثبت عدالته، ولا تجوز في الحكم شهادته؟ ! فإن قلتم: خذوا الحكمة حيث وَجدتموها، واقبلوا العِظة ممن سمعتموها؛ فعلام قَلَّدناكم أمورَنا، وحكَّمناكم في دمائنا وأموالنا؟ ! أما تعلمون أن فينا مَن هو أعرف بوجوه اللّغات، وصنوف العِظات منكم؟ ! فإن كانت الإمامةُ تُستَحقّ بذلك فتنحَّوا عنها، وأطلقوا عِقالها، وخلّوا سبيلَها؛ يبتدرْها أهلها الذين شَرَّدتموهم في البلاد، وقتلتموهم في كلّ واد، أما إنها إن بقيت في أيديكم فلاستيفاء المدَّة، وبلوغ الغاية، ووقع المحنة، وإن لكل قائم يومًا لا يَعدوه، ووقتًا لا يألوه، ثم يصير إلى يوم يندم فيه المخدوع المفتون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]، فأَبلس عبد الملك ونزل، وطُلب الرجل فلم يوجد، فكانوا يرون أنه الخضر - عليه السلام -. [وقال الشعبي: ] كان لعبد الملك إقدام على سفك الدماء، وكان عماله على مذهبه: الحجاج بالعراق، والمُهَلَّب بخراسان. [وقال الهيثم: ] كان عبد الملك يزور أم الدرداء بمسجد دمشق، فزارها يومًا فقالت: يا عبد الملك، بلغني أنك شرِبتَ الطّلاءَ بعد النُّسْك والعبادة! فقال لها: وشربتُ الدِّماء أيضًا (¬1). وقال الزهري: سَمَرتُ عنده ليلة فقال: يا بن شِهاب، أتعرف مَهبَّ الرياح؟ قلت: لا، قال: مَهَبُّ (¬2) الشَّمال من بنات نَعْشٍ إلى مطلع الشّمس، ومَهبُّ الصَّبا من مطلع الشمس إلى مطلع سُهَيل، ومَهبُّ الجَنوب من مَطلع سُهيل إلى مغرب الشمس، ومَهبُّ الدَّبور من مغرب الشمس إلى بناتِ نَعْش. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر 43/ 227 من طريق يحيى الغساني، قال: كان عبد الملك ... ، وانظر "السير" 4/ 249، وما سلف بين معكوفين من (ص). (¬2) في (ص): تهب، في المواضع كلها.

[وقال الهيثم: ] قدم بَرْمَك [أبو خالد] الشام، فدخل على عبد الملك يوم جلوسه، فلما وقعت عين عبد الملك عليه قال: إن مع هذا سَمُّ ساعة، فدعا به وقال: كيف دخلتَ مجلسي ومعك سم ساعة؟ ! قال: لأنّا ملوك ونخاف من الضَّيم، فإن أُضِمنا أكلْناه فنموت ونستريح، فأُعجب عبد الملك به، وقرَّبه واختصّ به. وإنما علم عبد الملك بذلك لأنه كان في عَضُده دُمْلُج (¬1) من فضة، في وسطه تمثال ثَورين، فإذا حضر مجلسَه السَّم انتطح الثوران فيعلم بذلك. [وقال ابن الكلبي: ] أتي عبد الملك بسكران فقال له: وَيحك ما هذا؟ أشربتَ المسكر؟ ! فقال: [من الطويل] شربتُ على الجَوزاء كأسًا رَويَّة ... وأخرى على الشِّعْرى إذا ما استَهلَّتِ مُحَرَّمةً كانت قريش تصونُها ... فلما استحلُّوا قتلَ عثمان حَلَّتِ فقال أطلقوه. وقال: أفضل الرجال مَن تواضع عن رِفعة، وزهد عن قُدرة، وأنصف عن قوة. وكتب إلى الحجاج: [من المتقارب] ولا تُفْشِ سرَّك إلا إليك ... فإن لكلِّ نصيحٍ نصيحا فإني رأيتُ غُواةَ الرِّجا ... لِ لا يتركون أَديمًا صحيحًا (¬2) [وقال الأصمعي: قال عبد الملك، يومًا لجلسائه: أي المناديل أفضل؟ فقال بعضهم: مناديل اليمن التي كأنها أزهار الربيع، وقال آخر: مناديل مصر التي تضاهي نجوم (¬3) السماء، وقال كل واحد شيئًا، فقال عبد الملك: ما أتيتم بشيء، أفضلُ المناديل مناديل عَبْدَة بن الطَّبيب حيث يقول: [من البسيط] لمّا نزلنا ضَرَبْنا ظِلَّ أَخْبِيَةٍ ... وفار بالغَلْي للقوم المَراجيلُ وَردً وأشقر لم يُنضِجْه طابخُه ... ما قارب النُّضجَ منه فهو مأكولُ ¬

_ (¬1) أي: سِوار. (¬2) "العقد الفريد" 1/ 65، و "أنساب الأشراف" 6/ 359. (¬3) في (ص): التي كأنها نجوم.

ثمَّ انثَنينا على عُوجٍ مُسَوَّمَةٍ ... أعرافُهنّ لأيدينا مناديلُ (¬1) وقال [الهيثم: قال] رجل لعبد الملك: لي إليك سرّ، فصرف جلساءه، فلما أراد الرجل أن يتكلّم قال له: لا تمدحني فإني أعلم بنفسي منك، ولا تكذبني فإني أَمقُت الكذاب، ولا تَغْتَب عندي أحدًا فإني أكره الغيبة، ولا تَسْعَ إليّ بأحد فإني لا أقبل السِّعاية، فبُهت الرجل، قال: وإن شئتَ أقلتُك، قال: أقِلني. فأقاله (¬2). وقال لجلسائه: لا تمدحوني في وجهي؛ فأنا أعلم بنفسي منكم، ولا تكذبوا فلا رأيَ لكَذوب، ولا تغتابوا عندي أحدًا فإني أكره الغيبة، وقولوا ما شئتم. واحتُضر له ولد وكان يحبّه، فجعل يقول: الحمد لله الذي يقتل أولادنا ونحن نحبه. وبلغه أن عاملًا له ارتشى، أو أُهدي إليه هدية فقبلها، فكتب إليه: إن كنت أَثَبْتَ المُهدي من بيت مال المسلمين فقد خُنت، وإن كنت أثبتَه من مالك فقد أطمعتَ أهلَ عملك فيك، ثم عزله. [وذكر ابن عساكر أن عبد الملك] استقضى على دمشق الحارث بن عمرو بن نَحّام الأشعري، فبلغه عنه شيء فكتب إليه: [من الطويل] إذا رِشوةٌ من دار قومٍ تَقَحَّمت ... على أهل بيتٍ والأمانةُ فيه سَعَتْ هربًا منه ووَلَّت كأنها ... حَليمٌ تولّى عن جِوار سَفيهِ (¬3) [قلت: ومن هذا المثل المضروب: إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الطاقة. وقال الهيثم: ] كان عبد الملك إذا جلس للحكم يقول: [من السريع] نخافُ أن تَسفَه أحلامُنا ... فنَخْمُلَ الدَّهرَ مع الخاملِ (¬4) ¬

_ (¬1) "العقد الفريد" 1/ 165، والورد: ما أخذ فيه النضج من اللحم، والأشقر: ما لم ينضج، والعُوج: خيل جياد منسوبة إلى أعوج حصان لبني هلال. (¬2) "تاريخ دمشق" 43/ 269 - 270 من غير طريق الهيثم، وما بين معكوفات من (ص). (¬3) "تاريخ دمشق" 4/ 116 - 117 (مخطوط)، وانظر "أنساب الأشراف" 6/ 371، وما بين معكوفين من (ص). (¬4) "أنساب الأشراف" 6/ 347 - 348، و "تاريخ دمشق" 43/ 267 - 268، وما بين معكوفين من (ص).

ذكر جماعة من الوافدين عليه: قال قَبيصة بن ذُؤيب: كان عبد الملك يحب الوافدين عليه من العلماء والشعراء، فيُذاكرهم ويُباسطهم ويَصِلهم، فمن الوافدين عليه: أحمر بن سالم المُرِّي، قال أبو عبيدة مَعْمَر: قدم أحمر بن سالم على عبد الملك فأنشده (¬1): [من الطويل] مُقِلٌّ رأى الإقلالَ عارًا فلم يزل ... يَجوبُ بلادَ الله حتى تَمَوَّلا فلما أفاد المُلكَ جادَ بفَضْلِه ... لمن جاءه يَرجو نَداه مُؤَمَّلا فأعطى جَزيلًا من أراد عطاءه ... وذو البُخلِ مَذمومٌ يرى البُخلَ أفضلا فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال له: إياك والإكثار؛ فإن مَن أكثر هذر، وإياك وأعراضَ الناس؛ فإن لك لسانًا لا يَدعك حتى يُلقيك تحت كَلْكَل هِزَبْرٍ يَضْغَمُك ضَغْمةً لا بقيّةَ لك بعدها، فخرج إلى العراق فهجا الحجاج بأبيات منها: [من الطويل] ثَقيفٌ بقايا من ثَمودٍ وما لَها ... أبٌ ثابتٌ في قَيس عَيلان يُنْسَبُ وأنتَ دَعيٌّ يا بنَ يوسف فيهمُ ... زَنيمٌ إذا ما حَصَّلوا يَتَذَبْذَبُ وبلغ الحجاج فطلبه فهرب، فأدركه الطَّلبُ بهِيت، فأتي به إليه فقال: ما جزاؤك عندي إلا أن أُعذّبك بما اختاره الله لأعدائه من أليم عقابه، فأمر به فأحرق، ثم ذُري في الهواء، وتمثَّل بقول هَمّام [بن قَبيصة] النُّميري في ابنِ مِخْلاة الطائيّ، وقُتل بمرج راهط: [من الطويل] بما اجْتَرَمَتْ كفَّاك لاقيتَ ما ترى ... فلا يُبعد الرحمن غيرَك هالِكا كفرتَ نعيمًا لم تكن أنت أهلُهُ ... فصادفتَ ليثًا ثابتَ الرُّكْنِ تامِكا فبُعدًا لمن يَبكيك ما هَبَّتِ الصَّبا ... وسُحقًا فقد لاقيتَ ليثًا مُعارِكا [وتفسير الكَلْكَل: الصَّدْر، وكذا الكَلْكال، والهِزَبْر: الأسد، والضَّغْمُ (¬2): العضّ، وتَمَك السَّنام يَتْمُكُ تَمْكًا: طال وارتفع.] ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ) و (د): ذكر جماعة من الوافدين عليه: أحمر بن سالم المري، وفد عليه فأنشده، والمثبت من (ص). (¬2) في (ص): والضمغ، وهو خطأ، وهذا الشرح منها. والخبر في الموفقيات 506 - 510، و "تاريخ دمشق" 2/ 603 (مخطوط)، ومختصره لابن منظور 3/ 83.

ومنهم الأخطل الشّاعر، وَفد عليه كثيرًا، وله فيه مدائح، قلت: واسم الأخطل غياث بن غَوث، ويقال: ابن غُوَيث التَّغلبيّ النَّصراني، وكنيته أبو مالك (¬1)، وقال الجاحظ: اسمُه غياث بن مُغيث (¬2)، والأوّل أصح. وكان مُقدَّمًا عند بني أمية، ومدح يزيد بن معاوية، وذَمّ الأنصار، وقد ذكرنا ذلك. وكانا يُلَقَّب بدَوْبَل، قال أبو الحسين بن فارس: الدَّوْبَل: حمارٌ صغير مُجتمع الخَلْق (¬3)، وبه لُقِّب الأخطل. وذكره محمد بن سلّام في "طبقات الشعراء" (¬4). قال (¬5): ودخل على عبد الملك فحادثه وأنشده، فأعجبه فقال له: أسلمْ تَسْلَم، فقال: إن أحلَلْتَ لي الخَمر، ولا أحجُّ البيت، ولا أصوم رمضان أسلمتُ، فقال عبد الملك: إن أسلمتَ وقصَّرتَ في شيءٍ من الشَّرائع ضربتُ الذي فيه عيناك، فقال: ضَعْ عني صومَ رمضان، فقال عبد الملك: ليس إلى ذلك سبيل، فقال الأخطل: [من الوافر] ولستُ بصائمٍ رمضانَ طَوْعًا ... ولستُ بآكلٍ لَحْمَ الأضاحي ولستُ براحلٍ عِيسًا بِكارًا ... إلى بطحاءِ مكّةَ للنَّجاحِ ولستُ بقائمٍ أبدًا أُنادي ... كمِثلِ العِيرِ حَيَّ على الفَلاحِ ولكنِّي سأشربُها شَمولًا ... وأسجُدُ عند مُبْتَلَجِ الصَّباحِ وللأخطل في عبد الملك وفي أخيه بِشر مدائح مشهورة. وكان ماجِنًا، وقد على عبد الملك، فدعاه الأعور بن بنان (¬6) التَّغلبيّ إلى منزله وقد فرشه بأنواع الفُرش والرّيحان، وكانت امرأته بَرَّة من أحسن النساء، وكان هو من أقبح ¬

_ (¬1) في (ص): أبو خالد، وهذا السياق إلى نهاية ترجمة الأخطل من (ص) خلا الشعر الآتي، فإنه من (أ) و (د) و (خ). (¬2) في "تاريخ دمشق" 14/ 145 (مخطوط): وقال الجاحظ: الأخطل اسمه غوث بن مغيث، وتفرد الجاحظ بهذا القول. (¬3) "مقاييس اللغة" 2/ 327، و "مجمل اللغة" 346. (¬4) 2/ 298 (390)، وأخباره عنده في 451 (622) وما بعده. (¬5) أخرج الخبر الآتي ابن عساكر 14/ 148 (مخطوط) من طريق ابن الأنباري، عن محمد بن المديني، عن أبي الفضل الربعي، عن أبي عثمان، عن الأصمعي. (¬6) في "الشعر والشعراء" 1/ 485: بيان، والمثبت موافق لما في "العقد الفريد" 5/ 386.

الرجال، فلما استقرَّ به المجلس قال له الأعور: يا أبا مالك (¬1)، إنك تدخل على الملوك، فهل رأيتَ في منزلي عَيبًا؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال، أنت، قال: أخرج لَعنك الله، [الذَّنْب لي حيث أدخلتُك منزلي]، وبلغ عبد الملك فضحك حتى استلقى على ظهره، فخرج الأخطل وهو يقول (¬2): [من الطويل] وكيف يُداويني الطَّبيبُ من الجَوى ... وبَرَّةُ عند الأَعْورِ بنِ بَنانِ فيُلْصِقُ بَطنًا مُنتِنَ الرِّيح أبْجرًا ... إلى بَطْنِ خَوْدٍ دائمِ الخَفَقانِ (¬3) ومنهم أيمن بن خُرَيْم بن فاتِك الأَسَديّ، وفاتك جدُّه الذي ينتهي إليه نسبه. له صُحبة، واختلفوا في سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ذكره جدّي في "التلقيح" فيمن له صحبة ورواية، وكذا قال ابن عساكر. وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين اختُلف في أحدهما. وروى عنه الشَّعبيّ وغيره. قال: وكان أيمن شاعرًا يسكن دمشق في القَصّاعين، ثم تحول إلى الكوفة. وقال الترمذي: لا نعرف لأيمن بن خريم سماعًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقال ابن عبد البَرّ: يقال: إن أيمن أسلم يوم الفتح وهو غلام (¬5). قلت: وقد أخرج عنه الإمام أحمد في "المسند" (¬6) حديثًا، حدثنا بإسناده إلى أيمن بن خُريم قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا فقال: "أيها الناس، عَدَلت شهادةُ الزُّور إشراكًا بالله" ثلاثًا، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]. ¬

_ (¬1) في (ص): يا با خالد. (¬2) في (أ) و (خ) و (د): فقال الأخطل، والمثبت من (ص). (¬3) الأَبْجَر: عظِم البطن، والخَوذ: الشابَّة الحسنة .. (¬4) سنن الترمذي (2299)، والقول السالف قبله في تلقيح فهوم أهل الأثر ص 164، وتاريخ دمشق 10/ 37. (¬5) "الاستيعاب" (78). (¬6) برقم (17603) وضعَّف محقِّقوه وإسناده، ومن بداية ترجمة أيمن إلى هنا من (ص)، وجاء في غيرها مختصرًا.

وقال الشعبي: قال مروان بن الحكم يوم المَرج لأيمن بن خُريم: ألا تخرج معنى فتقاتل؟ فقال: لا، إن أبي وعمي سبرة شهدا بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَهِدا إليَّ أني لا أُقاتل رجلًا يشهد أن لا إله إلا الله، فإن أَتيتَني ببَراءةٍ من النار خرجتُ معك، فسَبَّه مروان وقال: اذهب فلا حاجةَ لنا فيك، فقال: [من الوافر] ولستُ مُقاتلًا رجلًا يُصلّي ... على سلطانِ آخرَ من قريشِ له سلطانُه وعليّ إثمي ... مَعاذ الله من جَهلٍ وطَيشِ أأقتُل مُسلمًا في غير شيءٍ ... فلستُ بنافعي ما عشْتُ عيشي (¬1) وله مع عبد الملك قصة حكاها قَبْيصة بن ذُؤيب قال (¬2): كان عبد الملك شديدَ الشَّغَفِ بالجِماع، فلما أسنّ ضَعُفَ عنه، وازداد غَراما بالنّساء، فدخل عليه يومًا أيمن ابن خُريم فقال له: كيف قُوَّتُك يا أيمن؟ فقال: آكل الجَذَعةَ من الضَّأن بالصّاع من البُرّ، وأشربُ العُسَّ أَغُبُّه غَبًّا، وأرتَحِل البعيرَ الصَّعب فأُنضيه، وأركبُ المُهْرَ الأَرِن فأُذَلله، وأفتَضّ العّذراء لا يُقعدني عنها الكِبَر، فغاظ ذلك عبد الملك وحسده، فحرمه العطاء ومنعه إياه، فقالت له امرأته: اصدُقْني عن حالك، هل لك إليه جُرم؟ قال: لا والله، قالت: فما الذي دار بينكما آخرَ ما لَقيتَه؟ فقال: قال لي كذا وكذا، وقلت له كذا، قالت: فمن ها هنا دُهِيت (¬3)، فدخلتْ على عاتكة زوجة عبد الملك، وقالت: أسألُكِ أن تسألني أمير المؤمنين أن يُعديني على زوجي (¬4)، قالت. وما الذي به؟ فقالت: لا أدري أرجل هو أم امرأة؟ ولي مدة لا أعرف له فراشًا، فسليه أن يُفرِّق بيننا، وأخبرت أيمن. ودخل عليها عبد الملك فأخبرته، فاستدعى أيمن، وسأله عما قالت امرأتُه فاعترف، فقال: ألست القائل كذا وكذا؟ ! قالا: إن الرجل لَيَتَجَمَّل عند سُلطانه، ويتجلد على أعدائه بأكثر ما وصفت، وأنا القائل: [من المتقارب] لقيتُ من الغانياتِ العُجابا ... لو ادْرَكَ منّي النِّساءُ الشَّابا ¬

_ (¬1) الخبر ليس في (ص)، وانظره في "الشعراء والشعراء" 1/ 542، و "تاريخ دمشق" 3/ 238 فما بعدها (مخطوط)، وردَّ الواقدي شهود خُرَيم أبي أيمن وسَبْره عمِّه بدرًا، انظر طبقات ابن سعد 6/ 159 و 8/ 161. (¬2) في (أ) و (خ) و (د): وقال قبيصة بن ذؤيب، والمثبت من (ص). (¬3) في (ص) و "الأغاني" 20/ 308: أتيت. وانظر "الشعر والشعراء" 1/ 542 - 543 ففيه الشعر الآتي. (¬4) في الأغاني: أن تستعدي لي أمير المؤمنين على زوجي.

إذا لم يُخالطْنَ كلَّ الخِلا ... طِ أصبَحْنَ مُخْرَنْطِماتٍ غِضابا فضحك عبد الملك وقال: ما ترى في زوجتك؟ قال: قد أَجَّلْتُها أجَلَ العِنين، فإن استطعتُ قُربانها وإلا فارقتُها، فأمر له بما فات من عطائه وأدناه. ومن شعر أيمن في غَزالة وأهل العراق: [من المتقارب] ألا يَستحي اللهَ أهلُ العرا ... قِ إذْ قَلَّدوا الغانياتِ السُّمُوطا وجيشُ غزالة يغتالُهم ... ويقتل كَهْلَ الرجالِ الوَسِيطا (¬1) سلمة بن زيد بن نُباتةَ الفَهْميّ، وفد على عبد الملك فقال له: أيّ الزمان أدركت أفضل؟ وأي الملوك رأيتَ أفضل؟ فقال: أما الزمان فمن شأنه أن يَرفع قومًا، وَيضع آخرين، يُبلي جديدَهم، ويُهرِم صغيرَهم، وكلُّ ما فيه مُنقطع غير الأمل، وأما الملوك فهم بين مَذموم ومَمدوح، قال: ما تقول في قومك؟ فقال: [من الخفيف] دَرَجَ الليلُ والنَّهارُ على فَهْـ ... ـم بنِ عَمرو فأصبحوا كالرَّميمِ وخَلتْ دارُهم فأضحتْ يَبابًا ... بعد عِزٍّ وثَروةٍ ونَعيم وكذاك الزَّمانُ يَذهب بالنا ... سِ وتبقى ديارُهم كالرُّسومِ (¬2) أرطاة بن زُفَر بن عبد الله، من غَطَفان، وكنيته أبو الوليد، عاش ثلاثين ومئة سنة، دخل على عبد الملك فقال له: يا أرطاة، ما بقي من شعرك؟ فأنشد: [من الوافر] رأيتُ المرءَ تأكله الليالي ... كأكْلِ الأرضِ ساقِطةَ الحديدِ وما تبغي المنيَّةُ حين تأتي ... على نفس ابنِ آدمَ من مَزيدِ وأعلمُ أنها سَتَكُرُّ حتى ... تُوفِّي نَذْرَها بأبي الوليدِ فارتاع عبد الملك لأنه كان يُكنى أبا الوليد، فقال أرطاة: يا أمير المؤمنين، إنما عَنيتُ نفسي، فقال: يا أرطاة وأنا والله سيمرُّ بي الذي مرَّ بك (¬3). ومنهم عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. ¬

_ (¬1) "الأغاني" 20/ 314، و "أنساب الأشراف" 6/ 598. والسُّموط جمع سِمْط، أي: القِلادة، وغَزَالة: زوجة شبيب بن يزيد رأسَ الخوارج. والوسيط: ذو المجد الرفيع. (¬2) "تاريخ الطبري" 6/ 420، و "أنساب الأشراف" 6/ 342. وفَهْم بن عمرو: أبو حيّ من قيس بن عَيلان، والفَهْميّ نسبةٌ إليه. (¬3) "تاريخ دمشق" 2/ 660 - 661 (مخطوط).

ذكر إبراهيم بن المنذر الحِزاميّ، [عن أبيه] قال: وفد عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان (¬1)، فأقام عنده مدة، فسَمَر ذات ليلة عنده، فذكروا الغناء فذمَّه عبد الملك وقال: قبَّحه الله، ما أوضَعَه للمروءة، وأجرْحَه للعِرْض، وأهدمَه للشَّرَف، وأذهبه للبَهاء، وابن جعفر ساكت، وإنما قال ذلك يُعَرِّض به، وأعانه من حضر (¬2)، فقال عبد الملك لعبد الله: يا أبا جعفر، ما بالُك لا تتكلّم؟ فقال: ما أقول ولَحمي يَتَمزَّع، وعرضي يَتَمزَّق، وإنك لتأتي بما هو أعظمُ منه؛ يأتيك الأعرابيّ الجِلفُ الجافي؛ فيقول الزُّور، ويَقذف المُحصَنات، فتأمر له بالألوف من بيت المال، وأنا أشتري الجاريةَ الحسناء فأُؤدِّبها، وأختار لها من الشعر أجودَه، ومن الكلام أحسنَه، فتورده عليّ بصوتٍ حسن، فهل في ذلك من بأس؟ فقال عبد الملك: لا، فأخبرني بشيءٍ من ذلك، فقال: اشتريت جاريةً حسناء، فبَرَعت في الغناء، وسمع بها يزيد بن معاوية، فبَذل لي فيها أموالًا جزيلة، فلم أبِعْه إياها، فذكرتْ لي عجوز من عجائزنا أن فتى من أهلنا قد شُغِف بها، وأنه يأتي كلَّ ليلةٍ مُستترًا، فيقف تحت الدار فيسمع غناءها، فرَصَدْتُه، فجاء مُستترًا فقعد في مكان، ومَنَعْتُ الجاريةَ من الغناء في تلك الليلة، وقعد مكانه إلى السَّحَر، فغلبته عيناه فنام، فألبستُ الجاريةَ أفخرَ الثياب والحلي، وزيَّنتها، ونزلتُ بها إليه، فأيقظتُه فقام فزعًا مرعوبًا، فقلت: لا بأسَ عليك، خُذها فهي لك، فشَهق الفتى شَهقة خرَّ مَيتًا، فأُسقط في يدي. فقال له عبد الملك: فما فعلتَ بالجارية؟ قال: تركتُها عندي، وكلما ذكرت الفتى لم أجد لها مكانًا من قلبي، وكرهتُ أن أبعثَ بها إلى يزيد؛ فيعرف حالها فيحقِدَ عليّ، وما زال حالي كذلك حتى ماتت. ومنهم عبد الله (¬3) بن قيس بن شُريح بن مالك بن ربيعة، من بني عامر بن لُؤيّ، من أهل الحجاز. ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ) و (د): عبد الله وبن جعفر بن أبي طالب وفد على عبد الملك بن مروان، والمثبت من (ص)، وما بين معكوفين من العقد الفريد 6/ 55. (¬2) في (ص): تعريضًا به وإعانة من حضر. (¬3) كذا في النسخ وطبقات فحول الشعراء 647 (819)، والمشهور أنه عبيد الله وانظر تعليق الشيخ محمود شاكر على الطبقات.

شاعر معروفٌ بجَزالةِ الشَعر، يلقَّب بالرُّقَيَّات لأنه كان يُشَبّب برُقَية بنت عبد الواحد بن قيس، وابنة عم لها يقال لها رقية، وامرأة من بني أمية يقال لها رقية (¬1). وكان هواه في رُقَيّة بنت عبد الواحد، وقيل: إن أباه هو الملقَّب بالرُّقَيّات لأنَّه تزوج عدّة نِساء؟ فوافق أسماؤهن رُقَيَّة. وكان عبد الله شاعرًا مُجيدًا فصيحا، خصيصًا بمصعب بن الزبير، ومدحه بقصائد منها قوله: [من الخفيف] أقفَرَتْ بعد عَبد شَمْسٍ ... كَداءُ فكُدَي فالرُّكْنُ فالبَطْحاءُ فمِنَّى فالجِمارُ من عبد شمسٍ ... مُقْفِراتٌ فبَلْدَخٌ فحِراءُ فالخِيام التي بعُسْفانَ فالجُحـ ... فَةُ منها فالقاعُ فالأَبْواءُ (¬2) قد أراهم وفي المواكبِ إذ يَغْـ ... ــدونَ حِلْمٌ ونائلٌ وبَهاءُ كيف نَومي على الفِراشِ ولمّا ... تَشْمَلِ الشَّامَ غارةٌ شَعْواءُ تُذهِلُ الشَيخَ عن بَنيهِ وتُبدي ... عن خِدامِ العَقيلَةُ الحَمْراءُ إنّما مُصْعبٌ شِهابٌ من اللـ ... ـه تَجلَّتْ عن وَجههِ الظَلْماءُ مَلِك سَيّدٌ جَوادٌ كريمٌ ... ليس فيه عُجبٌ ولا كِبرياءُ يَتَّقي اللهَ في الأمورِ وقد أفـ ... ـلحَ مَن كان هَمُّهُ الاتّقاءُ أنا عنكُمْ بني أُميَّةَ مُزْوَرٌّ ... وأنتُم في نفسِي الأعداءُ (¬3) قال المصنّف رحمه الله ما معناه: إن هذه الأبيات مَدْحٌ لبني أمية (¬4)، ثم ناقض عبد الله أوَّلها بقوله: أنا عنكم بني أُميةَ مُزْوَرُّ ... البيت، وبلغت عبد الملك فأَهْدَرَ دَمَه. ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ) و (د): بن قيس وابن عمها يقال لها رقية، ورقية بنت الحسين، والمثبت من "الأغاني" 5/ 74 - 73، و"تاريخ دمشق" 44/ 381، وانظر "طبقات فحول الشعراء"، و"الخزانة" 7/ 280. (¬2) هذه أسماء مواضع. (¬3) ديوانه 87 - 96 بتقديم وتأخير. (¬4) هذا تصرف من المختصِر، لأنه ذكر قبل الأبيات أن ابن قيس الرقيات كان خصيصًا بمصعب ومدحه بقصائد منها هذه، وقد أهدر عبد الملك بن مروان دمه من أجل هذه القصيدة، فكيف تكون مدحًا لبني أمية؟ !

وقال الزبير بن بكار: حدثني عبد الله بن قيس الرُّقَيّات قال (¬1): خرجتُ مع مصعب إلى قتال عبد الملك، فدعا مصعب بمالٍ ومَناطق، فألبسني منها، وأقمتُ معه حتى قُتل، وهربتُ إلى الكوفة، فاختفيتُ عند امرأة في مُسْتَشْرَفٍ لها سَنة، لا تسألني عن حالي ولا أخبرها بشيء، واشتدّ الطَّلَب، وكانت تأتيني بطعامٍ وشراب، فقالت: ما أكره مُقامك عندي، ولكني أخاف عليك فاذهب، فخرجتُ وقتَ السَّحَر، وإذا براحلتين وعبد وطعام، ودفعتْ إلى العبدِ نفقةً وقالت: أنفق على مولاك، وقالت: العبد والراحلتان لك، فخرجت إلى مكة، فأتيتُ منزلي ليلًا فقالوا: ما أشدَّ طلبَ القوم لك! فخرجت إلى المدينة، فأتيت عبد الله بن جعفر وقت المساء وأنا مُتَلَثِّم، وهو على المائدة، فأكلتُ معه، فلما خرج أصحابُه كشفتُ لِثامي، فقال: ابنَ قيس؟ قلتُ: نعم، قال: ما أشدَّهم في طلبك! فقلت: جئتُك عائذًا بالله وبك، فقال: ما أحرصهم على الطفَرِ بك! وقد أجرتُك، وسأكتبُ لك إلى أمّ البَنين بنت عبد العزيز بن مروان زوجة الوليد؛ فإن لها منزلة عند عبد الملك. فكتب له، وخرج بكتابه فأوصله إليها، فلما دخل (¬2) عليها عبد الملك سألها حوائجَها وقال: قد قَضيتُ لك كلَّ حاجة إلا ابن قيس الرقيات، فقالت: ما أريد إلا هو، فإن أبي قد كتب إليّ فيه، يعني عبد الله بن جعفر، فنفض يدَه في وَجهها فأصاب حُرّ وَجهها، فوضعت يدها على عينها، فرقّ لها فقال: قد قضيتُ حاجتَك وهو امن، فمُرِيه فليحضر العَشيَّة مجلسي. فحضر الناس وحضرتُ، فلما أخذوا مجالسَهم قال عبد الملك: يا أهلَ الشام، هل تعرفون هذا؟ قالوا: لا، قال: هذا ابنُ قيس الرّقَيات الذي يقول: كيف نَومي على الفِراش ¬

_ (¬1) كذا، والخبر في "الأغاني" 5/ 76 من طريق الزبيري، عن عبد الله بن البصير البربري مولى قيس بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال. (¬2) في (أ) و (د) و (خ): فكتب إليها فلما دخل، والمثبت من (ص).

فقالوا: يا أمير المؤمنين، اسقِنا دَمَه، فقال: الآن وقد صار على بِساطي وأَمَّنْتُه، وإنما أَخَّرتُ الإذنَ له كي تقتلوه فلم تفعلوا. فاستأذنتُه في الإنشاد فأَذِن، فقلت: [من المنسرح] عادَله من كثيرةَ المطَّربُ ... فعَينُه بالدُّموعِ تَنسَكِبُ إن الأغرَّ الذي أبوه أبو الـ ... ـعاصي عليه الوَقارُ والحُجُبُ يَعتدِلُ التَّاجُ فوق مفْرِقِهِ ... على جَبينٍ كأنَّه الذهَبُ فقال: تَمدحُني بالتَّاج كأني من العَجَم، وتقول في حقِّ مُصعب: إنما مُصعب شهاب من الله؟ ! أما الأمان فقد حصل لك، ولكن لا اعطيك والله عطاءً أبدًا. وهذه رواية الزبير بن بكار. وأما الهيثم بن عدي فإنه قال (¬1): قال عبد الله: لما أهدر عبد الملك دمي نادى مناديه: مَن جاء به فله ألف دينار، فكنتُ أتَنَقَّل في البلدان، وخرجتُ إلى دمشق، فسمعتُ مُناديه ينادي بذلك، فدخلتُ دَرْبًا وإذا ببابٍ مَفتوح، فدخلتُه وصَعِدتُ الحُجرة، فنظرتْ إليّ صاحبةُ الدَّار فقالت لجاريتها: أَصْعِدي له طَهورًا -ظنًّا منها أنني أحتاج إليه- ففعلتْ، فأبطأتُ عنها، فقالت المرأة: هذا رجل خائف، قومي له بالضِّيافة، فأصعدت الجارية إليَّ بساطًا وفراشًا وطعامًا، فأقمت عندهم أربعةَ أشهر يُغدى عليَّ بما أحتاج إليه ويُراح، فأرسلتْ إليَّ بمئتي دينار وقالت: لا فائدةَ لك في المقام ها هنا، اخرج إلى عبد الله بن جعفر فإن فَرَجَك عنده. قال: فخرجتُ إلى ابن جعفر، فأخبرتُه خبري فقال: أقم عندي، فأقمتُ عنده في داره، ثم خرج عبد الله إلى عبد الملك وأخذني معه وقال: إذا أُدخِلنا عليه فكُلْ أَكْلًا شَنيعًا. قال: فلما دخلتُ عليه جعلتُ آكُل من هنا وهنا، فقال عبد الملك: مَن هذا؟ فقال ابن جعفر: هذا الذي يقول: [من المنسرح] ما نقموا من بني أميَّةَ إلا ... أنَّهم يَحلُمون إن غَضِبوا قال: هذا الخبيثُ ابن قيس؟ قال: نعم، وقد استجار بي، فإن قتلتَه كان كاذبًا فيما مدحكم به من الحلم، وإن استبقيتَه كان صادقًا، فقال: هو آمن، إلا أنني لا أُعطيه ¬

_ (¬1) من قوله: وهذه رواية الزبير ... إلى هنا من (ص).

شيئًا، فقال: قد وَهبتَه أعزَّ من المال وهو النفس، أفتبخَلُ عليه بما هو أهون منه، فقال: قد أمرتُ بعطائه. وقال الزبير: قال عبد الملك: والله لا أُعطيه شيئًا أبدًا، فلما خرجا من عنده قال ابن قيس لابن جعفر: ما نفعني أماني وقد تركني حيًّا كميت، لا آخذ مع الناس عطاءً، قال له ابن جعفر: كم بلغتَ من السنّ؟ قال: ستين سنة، قال: وكم تُؤَمِّل أن تعيش؟ قال: عشرين سنة، قال: كم عطاؤك في كل سنة؟ قال: ألفان، فأعطاه أربعين ألفًا وقال: إن عشتَ بعد الثمانين أعطيتك شيئًا آخر (¬1). ومنهم عُبَيد بن حُصَين بن جَنْدَل، أبو جندل، الرّاعي النّميري الشاعر، [من بكر بن هوازن]، ولُقِّبَ الراعي لكثرة وصفه للإبل. [وذكره ابن سلَّام] من الطبقة الأولى من الشعراء الإسلاميين (¬2)، وكان يَعتَسِفُ الفَلاةَ بغير دليل [، ومعناه: لا يحتذي شعر شاعر]. وهو القائل لعبد الملك يشكو بعض عُمَّاله: [من البسيط] أمّا الفَقيرُ الذي أَمْسَت حَلُوبَتُه ... وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ واختل ذو المالِ والمُثْرونَ قد بَقيتْ ... على التَأَثُّل من أموالهم عُقَدُ فإن رفَعْتَ بهم رأسًا نَعَشْتَهم ... وإن لَقُوا مثلَها في عامِهم فَسَدوا (¬3) وكان عبد الملك يقول: انكحوا إلى هذا الشيخ فإني أراه مُنجِبًا. وكان الراعي في عصر جرير والفرزدق، وله معهما وقائع، فكان تارةً يُفضِّل جريرًا، وتارةً الفرزدق، فالتقاه يومًا جرير فقال: لا تدحْل بيني وبين ابن عمي (¬4)، وفيه يقول جرير: [من الوافر] ¬

_ (¬1) "الأغاني" 5/ 81 - 82، و"تاريخ دمشق" 44/ 386 - 386. (¬2) ما بين معكوفين من (ص)، وقوله: من بكر بن هوازن، وقع فيها بعد هذا الوضع، فصار من كلام ابن سلَّام، وليس كذلك، فأعدته إلى حاق عوضعه. وانظر "طبقات فحول الشعراء" 2/ 502 (692). (¬3) ديوانه 64 - 65، و"طبقات فحول الشعراء" 511، و"تاريخ دمشق" 45/ 24.السبد: الوبر، يعني لم يترك له شيء، عقد: بقايا قليلة. (¬4) في (ص): فكان تارة يفضل هذا على هذا وتارة هذا على هذا ... لا يدخل بيني وبينك أحد ابن عمي؟ !

فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعبًا بَلغتَ ولا كِلابًا [وقال أبو الفرج الأصفهاني: ] وكان ابنه (¬1) جَندل شاعرًا، وهو القائل: [من الطويل] طَلَبْتُ الهوى العُذْرِيَّ حتى بلغتُه ... وسَيَّرتُ في نَجْدِيَّةٍ ما كفانيا وقلتُ لحِلمي لا تَزِعْني عن الصَّبا ... وللشَّيب لا تَذْعَر عليَّ الغَوانيا ومنهم عَزَّة بنت حُمَيد (¬2) بن وَقَّاص بن حفص بن إياس (¬3) الغِفاري، صاحبة كُثَيّر. [قال أبو بكر الخرائطي بإسناده قال: ] دخلت عَزةُ على عبد الملك وهو لا يعرفها ترفع ظُلامةً لها إليه، فلما سمع كلامَها أعجبه، فقال له بعض جُلَسائه: هذه عَزَّة، فقال لها: إن أحببْتِ (¬4) أن أَرُدَّ إليك مَظْلِمَتَك فأنشديني ما قال فيك كُثَيِّر، فاستحيت وقالت: سمعتُهم يَحكون عنه أنه قال: [من الطويل] قَضى كلُّ ذي دَينٍ فوَفَّى غَريمَه ... وعَزةُ مَمْطُولٌ مُعَنًّى غَريمُها فقال عبد الملك: ليس عن هذا سألتُك، ولكن أنشديني قوله: [من الطويل] وقد زعمتْ أنّي تَغَيَّرتُ بعدَها ... ومَن ذا الذي يا عَز لا يَتَغَيَّرُ تَغَيَّر جسمي والخَليقةُ كالتي ... عَهِدْتِ ولم يُخْبَر بسِرِّك مُخْبَرُ ما كان ذاك السرّ؟ قالت: قد سمعتُ هذا، ولكني سمعتُ الناس يحكون عنه أنه قال: [من الطويل] كأني أُنادي صَخرةً حين أَعرضَتْ ... من الصُّمِّ لو تمشي بها العُصْمُ زَلَّتِ صفوحٌ فما تلقاك إلا بَخيلَةً ... فمَن رامَ منها ذلك الوَصْلَ ملَّتِ (¬5) فقضى حاجتها، وردَّ مَظلِمَتَها، ووصلها وقال: أدخِلوها على الجواري يأخذن من أدبها. ¬

_ (¬1) في (ص) وما بين معكوفين منها: أبوه. وهو خطأ، والخبر في "الأغاني" 24/ 218. (¬2) في (ص): جميل، وانظر "تاريخ دمشق" 245 (تراجم النساء). (¬3) كذا في النسخ خلأ (ص) فليس فيها النسب، وفي "تاريخ دمشق": عزة بنت حُميل بن حفص بن وقاص بن إياس. (¬4) في (ص): أردت. (¬5) في "تاريخ دمشق" 241 - 242 (تراجم النساء): فمن ملّ منها ذلك الوصل ملَّت.

ومنهم عَمرو بن الوليد بن عُقْبَة بن أبي مُعَيط، وكنيته ألو قَفِيفَة، وكان مغنيًا، وذكره أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني"، وهو صاحب الشّعر، دخل على عبد الملك فأنشده قصيدة، منها (¬1): نُبئْتُ أن ابن القلَمَّسِ عابَني ... ومَن ذا من الناسِ الصَّحيحُ المُسَلَّمُ فأبصِرْ سبيلَ الرّشْدِ سَيِّدَ قومِه ... وقد يُبْصِرُ الرُّشْدَ الرَّئيسُ المعَمَّمُ فمن أنتمُ ها خَبِّرونا منَ انْتُمُ ... وقد جعلتْما أشياءُ تَبدو وتُكْتَمُ فقاك له عبد الملك: ما كنت أرى أن مثلنا يقال له: من أنتم؟ ! أما والله لولا ما تعلم لقلتُ قولًا ألحقكم بأصلكم الخبيث، ولضربتُك حتى تموت، ثم أمر بإخراجه (¬2). ومنهم الطِّرمَّاح (¬3) بن حَكيم بن الحَكَم بن نَفْر بن قيس، الشاعر، [قال الأصمعي: وكنيته أبو ضَبِينَة]، الطائي، شامي المولد، ونشأ بالكوفة، وكان فصيحًا. [والطِّرِمَّاح: الطويل القامة. وكان من شعراء الإسلام، وقال أبو الفرج الأصفهاني (¬4): كان من الخوارج، يرى رأيَ الأزارقة. وجدُّه قيس له صُحبة. قال الأصمعي: ] وفد على عبد الملك بن مروان وأنشده: [من الكامل] لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثلَه ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عَظيمُ (¬5) ودخل يومًا عليه وعنده الفرزدق، وهو مُقبلٌ عليه فقال: يا أمير المؤمنين، مَن هذا الذي أَلْهاك عني؟ ! فغضب الفرزدق وقال: [من الوافر] ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ) و (د): بن أبي معيط أبو قطيفة دخل على عبد الملك فأنشده، والمثبت من (ص). (¬2) "تاريخ الطبري" 6/ 421، و"أنساب الأشراف" 6/ 352، و"الأغاني" 1/ 37، وانظر "تاريخ دمشق" 56/ 100. (¬3) وقعت ترجمة الطرماح في (ص) قبل أخبار عزة، وما سيرد بين معكوفات في النص منها. (¬4) في "الأغاني" 12/ 35. (¬5) "تاريخ دمشق" 8/ 506 (مخطوط)، ونسب البيت إلى أكثر من شاعر، انظر "الخزانة" 8/ 565.

أقولُ له وأنكِرُ بعضَ حالي ... ألم تَعرفْ رِقابَ بني تَميمِ فقال الطِّرِمَّاح: [من الوافر] بلى أعرفْ رِقابَ مُخَيَّساتٍ ... رقابَ مَذَلَّةٍ ورقابَ لُوْمِ إذا ما كنتَ مُتَّخِذًا خليلًا ... فلا تجعلْ خليلَك من تميمِ بَلَوْتُ (¬1) صَميمَهم والعبدَ منهم ... فما أدري العَبيد من الصَّمِيمِ [وكان الطِّرِمَّاح يَذمُّ بني تميم]، فقال: [من الطويل] تميمٌ بطُرْقِ اللُّؤْمِ أهدى من القَطا ... ولو سَلكَتْ طُرْقَ المكارمِ ضَلَّتِ ولو أنّ بُرغوثًا على ظَهْرِ قَملَةٍ ... رأتْه تميمٌ يومَ زَحْفٍ لَوَلَّتِ ولو جَمعتْ يومًا تميمٌ جُموعَها ... على ذَرَّةٍ مَعقولَةٍ لاستَقَلّتِ (¬2) [وقال الأصمعي: عاش الطرماح إلى أيام هشام بن عبد الملك، ومدح خالد بن عبد الله القَسْرِيّ، فقال من قصيدة: [من الطويل] وإن رجال المال أضحَوْا ومالُهم (¬3) ... لهم عند أبوابِ الملوكِ شَفيعُ أمُختَرِمي رَيبُ المَنونِ ولم أَنَلْ ... من المالِ ما أَعصي به وأُطِيعُ فأعطاه خالد عشرين ألفًا وقال: اذهب فاعْصِ به وأطِع. ومنهم عمرو بن عُبيد بن وُهَيب، الحَزِين الشاعر، أبو حَكَم (¬4) الحجازيّ، قدم على عبد الملك ومدحه، ولأخيه (¬5) عبد العزيز، وسنذكره. ومنهم عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، الشاعر المَخْزومي، ويُلَقَّب ذا الرّمْحَين لأنه كان طويلًا كأنه يمشي على رُمْحَين، وقيل: إنه كان يُقاتل برُمحين. ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ) و (د) و"تاريخ دمشق" 8/ 505: يكون. والمثبت من (ص). (¬2) ديوان الطرماح 59، 63 - 64 والمصادر فيه. (¬3) في (ص): رجال المال إذ تجود بمالهم، والمثبت من ديوانه 315، و "الأغاني" 12/ 43. (¬4) في (ص): وهب ... حكيم، والمثبت من "لأغاني" 15/ 323، و"تاريخ دمشق" 13/ 572 (مخطوط)، وما بين معكوفين منهما. (¬5) كذا؟ !

ذكره ابن سلّام في الشعراء الإسلاميين وقال: شاعر مُجيد من أهل مكة، كان يَقدم علي بني أمية: عبد الملك وغيره، وأدرك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكان عمر وَلّى أباه اليمن، وسنذكره إن شاء الله.] (¬1) ومنهم محمد بن عبد الله بن نُمَير الثَّقفيّ الشّاعر [وكنيته أبو نُمير]. كان يُشَبِّب بزَينب أخت الحجّاج بن يوسف، فأراد الحجاج قتلَه، فهرب فاستجار بعبد الملك، فأجاره وقال: أنشدني ما قلتَ في زينب، فأنشده: [من الطويل] تَضَوَّعَ مِسكًا بَطنُ نَعْمان إذ مَشتْ ... به زينبٌ في نسوةٍ عَطِراتِ فكتب له كتابًا إلى الحجاج يقول: لا سبيلَ لك عليه، فلما قدم بكتابه على الحجاج لم ينظر فيه وقال: أنا بريء من بيعة أمير المؤمنين لئن لم تُنشدني ما قلتَ في زينب لأقتلنّك، فأنشده: [من الطويل] تَضوَّعَ مِسْكًا بَطنُ نَعْمان إذ مَشَتْ ... به زينبٌ في نِسوةٍ عَطِراتِ فقال له الحجاج: كذبتَ، ما كانت تتطيَّب إذا خرجت من بيتها، فقال: يُخَمِّرْنَ أطرافَ البَنانِ من التُّقى ... ويَخْرُجْنَ بالأسْحارِ مُعْتَجِراتِ فقال: هكذا تفعل الحُرَّة العفيفة (¬2)، فقال: مَرَرْنَ بفَخٍّ ثم رُحْنَ عَشِيَّةً ... يُلَبِّينَ للرَّحمن مُعْتَمِراتِ فقال الحجاج: هكذا المسلمات، فقال: تهادَيْنَ ما بين المُحَصَّب من مِنى ... فأقبَلْنَ لا شُعثًا ولا غَبِراتِ فقال الحجاج: ذاك من سَترهن، ثم قال: خَرجْن إلى البيتِ العَتيقِ لعُمْرَة ... نَواصِبُ في سُجْفٍ ومُخْتَمراتَ ¬

_ (¬1) هذه الترجمة والتي قبلها من (ص)، وفي ترجمة عمر بن أبي ربيعة أوهام ثلاثة: أولها: قوله: يلقب ذا الرمحين، فإن هذا لقب جده أبي ربيعة. وثانيها: قوله: ذكره ابن سلام، ولم يذكره ابن سلام ولا ترجم له. وثالثها: قوله: أدرك عمر بن الخطاب، وذكر مترجموه أنه ولد ليلة استشهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقد تابع المصنف في ذلك ابن عساكر، انظر "تاريخ دمشق" 54/ 68، و"الأغاني" 1/ 66، و"السير" 4/ 379 وما فيها من مصادر. (¬2) في (ص): هكذا تفعل الحرائر العفيفات.

فلما رأتْ رَكْبَ النُّمَيريّ راعَها ... وكُنَّ من اللُّقيا له حَذِراتِ فقال الحجاج: حُقَّ لها أن تَرتاع، [أي: كانت تكره لقاءه لما شاع عنه أن يُشَبّب بها، ولهذا قال له الحجاج: ، وكيف لا ترتاع وهي صَوَّامةٌ قوَّامة، وما كان ركبك؟ قال: كنت على حمارٍ هَزِيل، ومعي رفيق على حمار مثله، ومعنا حمار آخر عليه القَطِران كنا نَجلُبه فنبيعه، فقال له الحجاج: لقد عَظَّمتَ رَكبك، ثم عفا عنه (¬1). [وسنذكر أبا نمير في ترجمة الحجاج.] وقد وفد على عبد الملك خلق كثيرًا، وقد ذكرناهم في أيّامه فيما تقدّم، . ذكر وفاته: حكى ابن أبي الدنيا، عن سعيد بن المسيب وقيل له (¬2): إن عبد الملك يقول: قد صِرتُ لا أفرح بالحسنة أعملها، ولا أحزن على السيئة أرتكبها، فقال: الآن تكامل موتُ قلبه، فمات بعد أيام. [وقال أبو اليقظان: ] قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأن موسى عليه السلام قد ظهر بالشام وبيده عصا. فقال: الله أكبر، مات والله فرعونها، فجاء الخبر بعد أيام بموت عبد الملك بن مروان. [وحكى ابن عساكر عن هشام بن عمار قال: ] مرض عبد الملك بوجع الكَبِد، فكان يشرب الماء فلا يروى، [فمنعوه إياه، فاشتد عطشه. وقال المدائني: ] قال الأطباء: إن شرب الماء مات من ساعته، فازداد به العطش، فقال لابنه الوليد: اسقِني، فقال: لا أُعين عليك، فقال: يا فاطمة -لابنته- اسقيني، فمنعها الوليد، فقال: دَعْها وإلا خلعتُك، فسقته فمات. وقال أبو العباس (¬3): نقلت عن أبان بن عثمان قال: لما ثقُل عبد الملك أرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية وخالد بن عبد الله [بن خالد] بن أَسِيد، فحضرا فقال: قد كان ¬

_ (¬1) "الأغاني" 6/ 192 - 198، و"تاريخ دمشق" 63/ 52 - 56. (¬2) في (أ) و (خ) و (د): وقال سعيد بن المسيب، والمثبت من (ص). والخبر في "تاريخ دمشق" 43/ 278. (¬3) هو ثعلب، والخبر في مجالسه 443 - 445، و"تاريخ دمشق" 5/ 482 - 483، وما بين معكوفين منهما، وانظر "المنتظم" 6/ 274.

من بيعة الوليد وسليمان ما قد علمتُما، فإن شئتما أقلتُكما، قالا: فكيف تُقيلنا وقد جعلتَ لهما في أعناقنا مثل السَّواري، وفي رواية أنه قال لهما: قد حضر من الأمر ما تريان، فهل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء؟ فقالا: والله ما نرى أحدًا أحق بها منه بعدك، فقال: والله لو قلتما غير هذا لقدَّمتكما أمامي، ثم رفع فراشه فإذا سيف مَسْلُولٌ تحته. وقال الشعبي: أرسل إليَّ عبد الملك في مرض موته، فدخلتُ عليه فقلت: كيف أصبحتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال: كما قال زهير بن أبي سُلمى (¬1): [من الطويل] كأني وقد جاوزتُ سبعين حِجَّةً ... خلعتُ بها عني عِذارَ لجامي رَمَتْني بناتُ الدهر من كل جانبٍ ... فكيف بمن يُرمى وليس برام فلو أنني أُرمى بسَهمٍ رأيتُه ... ولكنني أُرمى بغيرِ سِهام إذا ما رآني الناسُ قالوا ألم يكن ... حَديدًا شَديدَ البَطشِ غيرَ كَهامِ (¬2) فأَفنى وما أُفني من الدّهر ليلةً ... ولم يُغْنِ ما أفنيتُ سِلْكَ نِظامِ على الرَّاحتَين مرةً وعلى العصا ... أنوءُ ثلاثًا بعدهُنَّ قِيامي فقلت له: لا، ولكنك كما قال لَبيد بن ربيعة أخو بني جعفر بن كلاب: "من البسيط" باتت تَشكَّى إليَّ النَّفسُ مُجْهِشَمةً ... وقد حملتُكِ سَبعًا بعد سَبعينا فإن تُزادي ثلاثًا تُحرزي أملًا ... وفي الثلاثِ تَمامٌ للثمانينا فعاش حتى بلغ التسعين فقال: [من الطويل] كأني وقد جاوزتُ تِسعين حِجَّةً ... خلعتُ بها عن مَنكِبَيَّ ردائيا فلما بلغ المئة قال: [من الطويل] أليس ورائي إنْ تراختْ مَنِيَّتي ... لُزوم العصا تُحْنَى عليها الأضالِعُ أخبِّرُ أخبارَ القرونِ التي مضتْ ... أدِبٌ كأنّي كلما قمتُ راكعُ فلما بلغ مئة وعشرًا قال: "من البسيط" وإن في مئةٍ قد عاشها رجلٌ ... وفي تكامُلِ عشْرٍ بعدها عُمُرُ ¬

_ (¬1) وكذا نسبه إلى زهير: ابن عبد ربه في العقد 2/ 77 و 3/ 55، ونُسب إلى عمرو بن قميئة في "أنساب الأشراف" 6/ 359، و"الأغاني" 18/ 142، و"تاريخ دمشق" (عاصم- عائذ) 200، و 43/ 284. (¬2) غير بطيء عن النُّصرَة.

فلما بلغ عشرين ومئة قال: [من الكامل] ولقد سَئمتُ من الحياةِ وطُولها ... وسؤالِ هذا الناس كيف لَبيدُ فلما بلغ ثلاثين ومئة قال: [من الطويل] تمنَّى ابنتايَ أن يعيشَ أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعةَ أو مُضَرْ فقوما وقولا بالذي تَعرفانِه ... ولا تَخْمِشا وَجْهًا ولا تَنتفا شَعَرْ وقولا هو المرءُ الذي تعرفانه ... وما خانَ يوما للخليل ولا غَدَرْ إلى الحولِ ثمَّ اسْمُ السَّلامِ عليكما ... ومن يَبْكِ حَوْلا كاملا فقد اعْتَذَرْ فقال: إيه حَدِّثني يا شعبي. رجاء أن يعيشها، وفارقته في تلك الليلة فمات فيها. وجمع عبد الملك بنيه وأوصاهم فقال: يا بَنيّ، عليكم بتقوى الله فإنه أزين حُلَّة، وأحصن كهف، وأن يَعطِف الكبير على الصغير، وأن يعرف الصغير حق الكبير، وإياكم والفُرقة والاختلاف؟ فإن به هلك الأولون، وذَل به ذوو العزّ، وعليكم بمَسْلَمة فاصدروا عن رأيه؟ فإنه مِجَنُّكم الذي تتّقون به، ونابُكم الذي تَفْتَرُّون عنه، وكونوا بني أم واحدة، ولا تُدنوا العقاربَ منكم، وكونوا في الحروب أحرارًا، وللمعروف منارًا، فإن الحرب لا تُدني مَنيَّةً قبل وقتها، واحلَولُوا في مرارة، ولينوا في شدّة، وضعوا الصَّنائع عند ذوي الأحساب، فإنهم أشكر لما يؤتى إليهم (¬1). ثم تمثّل بأبيات ابن عبد الأعلى الشَّيباني: [من الكامل] فانْفُوا الضَّغائنَ والتَّخاذُلَ عنكمُ ... عند المَغِيبِ وفي حُضورِ المَشْهَدِ بصَلاحِ ذات البَينِ طُولُ بَقائكم ... إن مُدَّ في عُمري وإن لم يُمْدَدِ وتكون أيديكم معًا في عَونكم ... ليس اليَدان لذي التَّعاوُنِ كاليَدِ إن القِداحَ إذا اجتمعْنَ فرامَها ... بالكسْرِ ذو حَنَقٍ وعِزّ أَيّدِ عَزَّتْ فلم تُكسَر وإن هي بُدِّدَتْ ... فالكسرُ والتَّوهينُ للمتَبَدِّدِ ثم قال: يا وليد، اتَّقِ الله فيما استخلفتُك عليه، واحفظ وصيَّتي، وانظر إلى أخي معاوية فإنه ابن أمّي، وقد أُصيبَ في عقله، ولولا ذلك لاستخلفتُه، وأخي محمد فأقِرَّه ¬

_ (¬1) "مروج الذهب" 5/ 369 - 370، و"المنتظم" 6/ 274 - 275، و"أنساب الأشراف" 6/ 387.

على الجزيرة ولا تعزِلْه، وأخوك عبد الله لا تؤاخذه، وأقِرَّه على مصر، وانظر إلى ابنِ عمِّنا علي بن عبد الله بن عباس؟ فإنه قد انقطع إلينا بمودَّته، وله نسبٌ وحق وفضل، فاعرف حقَّه وقَدْرَه، وأحسن صُحبته وجِواره، واحفظ الحجاج فإنه هو الذي وَطَّأ لنا البلاد، وذلل لنا العباد، وهو سيفُك ويدُك على مَن ناوأك، ولا تسمعنَّ فيه قول قائل، وخذ سيفي هذا، فبه قتلتُ عَمرًا، وخذ الناس بالبيعة، فمن قال برأسه كذا فقل بسيفك كذا. ثم تمثلَ بقول عَديِّ بن زيد العِباديّ: [من الوافر] فهل من خالدٍ إمّا هَلَكْنا ... وهل بالموتِ ياللناسِ عارُ يا وليد، ليس بين السلطان وبين أن يملك رعيتَه أو تملكه إلا حَزْمٌ أو تأن، يا وليد، كلّكم يترشَّح لهذا الأمر، ولا يَصلُح له إلا من كان له سيفٌ مَسْلول، ومال مَبذول، وعَدلٌ تطمئن إليه النفس، وصدقٌ تميل إليه القلوب ولما احتُضر كان في مَنْظَرَةٍ له تُشرف على بردى، فنظر إلى غَسَّالٍ يغسل الثياب فقال: يا ليتني مثلَ هذا الغسَّال، أكتسب ما أعيش به يومًا بيوم، ولم أَلِ الخلافة. ثم تمثّل بقول أمية بن أبي الصلت: [من الخفيف] كلُّ عيشٍ وإن تطاولَ يومًا ... صائرٌ أمرُه إلى أن يَزولا ليتني كنتُ قبل ما قد بدا لي ... في قِلالِ الجِبالِ أرْعى الوُعولا فبلغ قوله أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم وقتَ الموت يتمنَّون ما نحن فيه، ولم يجعلنا نتمنّى ما هم فيه. وقال الشعبي: بلغني أنه قال عند الموت (¬1): [من الطويل] لَعَمري لقد عُمِّرتُ في المُلْكِ بُرْهَةً ... ودانتْ ليَ الدُّنيا بوقْعِ البَواتِر فأضحى الذي قدكان مما يَسُرُّني ... كَلَمْح مضى في البارقات الغوابِرِ فيا ليتني لم أَغْنَ في الملك ساعةً ... ولم أَلهُ في اللذاتِ عيش النَّواضِر وكنتُ كذي طِمْرَين عاش ببُلغَةٍ ... من العيشِ حتى زار ضَنْكَ المقابِرِ ثم جعل يبكي ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29]. ¬

_ (¬1) في (أ) و (خ) و (د): وقال عبد الملك عند الموت يتمثل، والمثبت من (ص). والخبر في "تاريخ دمشق" 43/ 276 عن غير الشعبي.

[وقال الشعبي: ] دخل عليه الوليد يومًا عائدًا، وفاطمة ابنته عنده تبكي، فقال لها الوليد: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ فأنشد عبد الملك: [من الكامل] كم عائدٍ رجلًا وليس يعودُه ... إلا ليعلم أنه سَيَموتُ (¬1) ثم أنشد [من الطويل] ومُسْتَخْبِرٍ عنّا يُريد بنا الرَّدَى ... ومُسْتَعْبِراتٍ والعيونُ سَواجِمُ وأشار بالنّصف الأول إلى الوليد، وبالثاني إلى فاطمة ومَن كان معها من النساء، ثم قال: قبَّح الله الدنيا، طويلها قصير، وقصيرها أقصر من قصير، وكثيرها يسير، والوليد يبكي فقال له: يا وليد، أتحنُّ حَنين الحمامة [والأمة] إذا تأيَّمت؟ ! قم فشَمِّر، والبسْ جلدَ النَّمِر، وضع سيفك على عاتقك، ومن أبدى لك صَفحَته فاضرب عُنقه. وقال المدائني: تمثّل عند موته فقال: [من الرجز] إن بَنيَّ صِبيةٌ صَيفيُّونْ ... أفلحَ مَن كان له رِبْعيُّونْ (¬2) إن بَنيَّ صِبية صِغارُ ... أفلحَ مَن كان له كبارُ وكان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عنده، فقال عمر: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] (2). [قال الشعبي: ] ودخل عليه قَبيصَةُ بن ذُؤيب فقال: كيف تَجدُك؟ قال: كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] (¬3) ولم يسمع منه كلام بعدها، وأُغمي عليه، فصاح ولده هشام وبكى وقال: [من الطويل] فما كان قيس هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ ... ولكنه بُنيانُ قومٍ تَهدَّما فلطمه الوليد وقال: اسكت يا ابن الأَشجعيَّة؛ فإنك أحول أكشف، تنطق بلسان شيطان، وأنشد الوليد: [من الطويل] إذا مُقْرَمٌ منّا ذَرى حَدُّ نابِه ... تَخَمَّط منا نابُ آخر مُقْرَمِ (¬4) ¬

_ (¬1) في "مروج الذهب" 5/ 369، و"المنتظم" 6/ 273: إلا ليعلم هل يراه يموت. (¬2) في العقد الفريد 3/ 103: الولد الصيفي الذي يُولد للرجل وقد أسن، والرِّبْعيّ الذي يولد له في عنفوان شبابه، أُخِذ من ولد البقرة الصيفي والرِّبعي. والخبر في أنساب الأشراف 6/ 387. (¬3) "تاريخ دمشق" 43/ 281. (¬4) "أنساب الأشراف" 6/ 388، و"المنتظم" 6/ 276، و"تاريخ دمشق" 17/ 842 - 843 (مخطوط)، والقرم: الفحل، وذرى حد نابه: انكسر.

واختلفوا في المكان الذي توفي فيه؛ فحكى أبن سعد، عن الواقدي قال: حدثني أبو معشر نجيح قال (¬1): مات عبد الملك بدمشق يوم الخميس منتصف شوال سنة ست وثمانين. [وقال المدائني فيما حكاه عنه البلاذري (¬2): إنه] مات بالصِّنَّبْرَة من أعمال الغَور، كان يَصِيف ببعلبك، ويقيم أيام الربيع بدمشق، ويشتي بالصِّنَّبْرَة فمات بها، وقيل: بالجابية وحمل إلى دمشق. وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب "الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان" -وهو كتاب حسن، حدثنا بالكتاب غير واحد عن أبي الفتح محمد بن عبد الباقي- بإسناده عن ابن سابط الجُمحيّ (¬3): أنه خرج من قِنَّسْرِين وهو قافلٌ، قال: فأشار لي إنسان إلى قبر عبد الملك، فوقفتُ أنظر، فمرَّ عِباديّ (¬4) فقال: لمَ وقفتَ ها هنا؟ قلت: أَنظرُ إلى قبر هذا الرجل الذي قدم علينا مكة في سلطان وأمر عجيب، ثم عجبتُ إلى ما رُدَّ إليه، فقال: ألا أُخبرك خبرَه لعلك تَرهب؟ قلت: وما خبره؟ قال: هذا ملك الأرض، بعث إليه ملك السماء والأرض فأخذ روحه، فجاء به أهلُه فجعلوه ها هنا، حتى يأتي يوم القيامة مع مساكين أهل دمشق. وقال هشام بن عمار: مات عبد الملك بمَنْظَرَةٍ له على بردى من أرض عاتكة، ودُفن بالباب الصغير عند قبور أهله. وقال قَبيصَةُ بن ذُؤيب: ولما خرجوا بجنازته صلّى عليه ابنه الوليد، ونظر إلى سعيد بن عمرو بن سعيد الأشدق يحمل سريره، فصاح به الوليد: أشماتةً بأمير المؤمنين يا ابن اللَّخْناء؟ ثم ضربه بقَضيب كان في يده فانصرف (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: واختلفوا في المكان ... إلى هنا من (ص). (¬2) في "أنساب الأشراف" 6/ 343 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) من قوله: وذكر ابن أبي الدنيا ... إلى هنا من (ص)، جاء بدله في النسخ: وروى سعيد بن أبي حسين، عن ابن سابط الجمحي. اهـ. وفيه سقط، والصواب: عمر بن سعيد ... كما في الاعتبار (54). (¬4) نسبة إلى العِباد، قوم من قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية فأنفوا أن يتسموا بالعبيد وقالوا: نحن العباد. ينظر اللسان (عبد). (¬5) انظر "المنتظم" 6/ 276.

واختلفوا [في سنّه على] أقوال؛ أحدها ستون سنة، حكاه ابن سعد عن الواقدي، ورواه الواقدي عن أبي مَعْشَر. والثاني: أنه مات ابن ثمان وخمسين سنة، حكاه الواقدي أيضًا (¬1). والثالث: ثلاث وستون سنة، ذكره المدائني (¬2). والرابع: ثلاث وخمسون سنة، حكاه البلاذري (¬3). وقيل: ثلاث وسبعون. وقال الواقدي: والأوّل أثبت لأنه موافق لمولده، لأنه ولد سنة ست وعشرين. وأجمع الناس على خلافته في سنة ثلاث وسبعين، وكان قد بويع في سنة خمس وستين، قاتل ابن الزبير فيها تسع سنين، فكانت خلافته من يوم بويع إلى أن مات إحدى وعشرين سنة. وقال المدائني: كانت خلافته بعد ابن الزبير ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر وخمسة عشر يومًا، وقيل: ثلاث عشرة سنة وثمانية أشهر. ذكر خطبة الوليد بعد وفاة أبيه: [حكى الواقدي عن أشياخه قالوا: ] لما رجع الوليد من دَفْن أبيه [خارج باب الجابية] لم يأت منزله، بل أتى جامع دمشق، فصَعِد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه لا مُقَدِّم لما أخَّر الله، ولا مُؤخَر لما قدَّم الله، وقد كان من قضاء الله وسابقِ علمه وما كتب على أنبيائه وملائكته وحَمَلَةِ عَرْشه الموت، وقد صار أمير المؤمنين إلى منازل الأبرار، وأدّى الحق الذي عليه من إقامة منار الإسلام، وشعار الإيمان، وحج البيت، وغزو الثغور، والشّدَّة على المُرِيب، واللين لأهل الحق، ولم يكن عاجزًا ولا مُفَرِّطًا، فعليكم بالسَّمع والطاعة، ولُزوم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الفرد أو الفَذّ. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 232. (¬2) "تاريخ الطبري" 6/ 419. (¬3) الذي في "أنساب الأشراف" 6/ 387 أنه توفي ابن ثلاث وستين سنة.

أيها الناس، من أبدى لنا صَفْحَتَه ضربْنا الذي فيه عيناه، ومَن اعترف لنا بالطاعة أكرمناه، ومَن سكت عنا سكت على مَضض مات بدائه (¬1)، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وقيل: إنه لما صعد المنبر استرجع وقال: والله المستعان على مُصيبتنا بأمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة، قوموا إلى البَيعة، فكان أول من قام عبد الله بن هَمَّام السَّلوليّ الشاعر، فارتجز: الله أعطاك التي لا فَوقَها ... وقد أراد الحاسدون عَوْقَها عنك وَيأبى الله إلا سَوْقَها ... إليك حتى قَلَّدُوك طَوقَها ثم بايعه وبايعه الناس. وقال أبو مَعْشَر: قال الوليد على المنبر: أيها الناس، إنها مصيبة ما أعظَمَهما، ونعمة ما أَجَلَّها، فإنا لله وإنا إليه راجعون على الرَّزِيَّة، والحمد لله على العَطيّة، فقام رجل من ثقيف -والناس لا يدرون كيف يُعزُّونه ويُهَنِّئونه- فقال: يا أمير المؤمنين، أصبحتَ قد رُزئتَ خيرَ الآباء، وتسمَّيتَ بخير الأسماء، وأُعطيت خير الأشياء، فبوَّأَك الله الصَّبر، وأعظم لك الأجر، وأوزعك حُسنَ الثَّواب على المصاب، فأَعجب الوليد فقال: كم عطاءك؟ فقال: مئة، بالنصب، وكان الوليد لُحَنَة، فقيل للرجل: لمَ لَحَنْتَ؟ فقال: لأن الوليد لحن فوافقتُه، ثم نزل الوليد من المنبر فعزّاه الناس بأبيه، ثم هنَّؤوه بالخلافة، ووصل الرجلَ وزاد في عطائه (¬2). ذكر قصة عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: قال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن علي بن الحسين، حدثنا رستم بن أسامة، محن عبد السلام (¬3) بن حرب قال: لما تَصدَّع الناس عن قبر عبد الملك وقف عليه ¬

_ (¬1) لعلَّ قوله: سكتَ على مضض -إن صحَّ السياق- تفسير لقوله: سكتَ عنا. وعبارة المصادر: ومن سكتَ مات بدائه. ينظر تاريخ الطبري 6/ 423، واليعقوبي 283، والعقد الفريد 4/ 91. (¬2) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 14/ 158 (مخطوط)، و"المنتظم" 6/ 276 - 277. وليس فيهما ذكر اللحن، ورُوي نحوه بين الشعبي والحجاج، ينظر وفيات الأعيان 3/ 15. (¬3) من قوله: قال ابن أبي الدنيا ... إلى هنا من (ص). والخبر في "الاعتبار" (55) لابن أبي الدنيا عن الحسن بن عثمان سمعت أبا العباس الوليد يقول: عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خلًا لعبد الملك ... ولم أقف على الخبر بإسناد المصنف.

عبد الرحمن ابن يزيد -وكان خِلًّا لعبد الملك لا يروم الخلافة، وكان مشغولًا بالعبادة (¬1) - فقال: يا عبد الملك، أنت الذي كنت تعدُني فأرجوك، وتُوعدني فأخافك، أصبحتَ والله وليس معك من مُلكك سوى ثوبين وأربعة أذرُع في عرض ذراعين. ثم انكفأ إلى مسجده، وتعبَّد حتى صار كالشَّنِّ البالي، فعاتبه مَسْلَمة بن عبد الملك على انقطاعه عن الدنيا، فقال: يا مَسْلَمة، أسألك عن شيء أتصدُقني؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن حالك التي أنت عليها أترضاها للموت؟ قال: لا، قال: فهل عزمتَ على الانتقال منها إلى غيرها؟ قال: أنا في ذلك، قال: أفتأمن أن يأتيك الموت على الحال التي أنت عليها؟ ! قال: لا، قال: فبعد الدارِ التي تعمل (2) فيها دار أخرى (¬2)، قال: نعم، قال: فهذه حالة ما أقام عليها عاقل، ثم عاد إلى مُصلَّاه. ذكر أولاد عبد الملك: [قال ابن سعد: ] فولد عبد الملك: الوليد وسليمان وليا الخلافة، ومروان الأكبر، درج، وداود، درج، وعائشة، أمّهم أمّ الوليد ولَّادة بنت العباس (¬3) بن جَزْء بن الحارث بن زهير بن جَذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث، من بني بَغيض. ويزيد ولي الخلافة، ومروان، ومعاوية، درج، أمُّهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية. وهشام ولي الخلافة، وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل بن [هشام بن] الوليد بن المغيرة المخزومي. وأبا بكر، وهو بكّار، وأمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله التَّيمي. والحكم، درج، وأمُّه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفّان، وأمها أم الحكم بنت ذؤيب بن حَلْحَلَة، من بني سلول. وعبد الله، ومَسْلَمة، وعَنْبَسَة، ومحمدًا، وسعيدَ الخير، والحجّاج، لأمهات أولاد شتّى. ¬

_ (¬1) في (ص): بنفسه. (¬2) المثبت من (ص)، وفي غيرها: يكمل، وعبارة المصدر السالف: فبعد الدار التي أنت فيها معتمل ... (¬3) في النسخ: النعمان، وهو خطأ، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 7/ 221، و"تاريخ الطبري" 6/ 419، و"نسب قريش" 162، وما بين معكوفين من (ص).

وفاطمة، تزوجها عمر بن عبد العزيز، وأمها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة (¬1). وقبيصة، ومروان الأصغر، وعائشة تزوجها خالد بن يزيد بن معاوية. وأم كلثوم: قال هشام: أمها عاتكة بنت يزيد بن معاوية. وأما الوليد وسليمان ويزيد وهشام فولُوا الخلافة، وهشام آخِرُ من وليها منهم، وقال المدائني: وأم هشام: بنت هشام بن إسماعيل المخزومية، واسمها عائشة، رأى عبد الملك في منامه كأنها لَطَعَتْ من رأسه عشرين لَطْعَة، فأرسل إلى ابن المسيب فسأله فقال: تلد منه ولدًا يملك عشرين سنة، فولدت هشامًا فولي عشرين سنة (¬2). وقال هشام بن محمد: رأى عبد الملك في منامه كأنه بال في المحراب أربع مرات، فساءه ذلك، فأرسل إلى ابن المسيب أو إلى ابن سيرين مع عمر بن حبيب بن قُلَيع الجعفي المدني، فقصّه عليه فقال ابن المسيب: يخرج من صُلبه أربعة يملكون الناس (¬3). ولا يعرف أربعة أخوة ولُوا الخلافة غيرهم. وأما أبو بكر وهو بكار بن عبد الملك؛ فأمه عائشة بنت موسى بن طلحة، وهي التي قال لها عبد الملك: لولا أن أبي أخبرني أنه قتل طلحة ما تركتُ على ظهرها طلحيًّا إلا قتلتُه، وكان مروان ينسب ما جرى على عثمان - رضي الله عنه - إلى طلحة، وطلقها عبد الملك فتزوَّجها علي بن عبد الله بن عباس، وقد ذكرناها. وكان بكار أحمق؛ طار له بازيّ بدمشق فقال: أغلقوا أبواب البلد، قتله عبد الله بن علي، وله عقب، وحج ماشيًا من المدينة إلى مكة على اللَّبون. وفاطمة بنت عبد الملك؛ زوجها أبوها بعمر بن عبد العزيز، وأعطاها الدرّة اليتيمة وقرطي مارية. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 221. ويختلف سياق الكلام فيما بين النسخ، والمثبت من (ص). (¬2) "أنساب الأشراف" 6/ 308 و 7/ 318. (¬3) "أنساب الأشراف" 6/ 367، ونسب قريش 163. وتاريخ دمشق 12/ 700 (مخطوط).

وحجَّ مروان مع الوليد بن عبد الملك والوليد يومئذ خليفة، فلما كان بوادي القُرى جرى بينه وبين أخيه مروان محاورة، وأغلظ له، فقال له الوليد: يا ماصّ ... فأراد مروان أن يُمصَّه (¬1)، فأمسك عمر بن عبد العزيز على فيه، فقال مروان: قتلتَني يا عمر، ردَدْتَ غيظي في جوفي، فما برحوا من وادي القوى حتى دفنوه، فحزن عليه سليمان، وندم عمر (1). وروي أن مسلمة بن عبد الملك بعث أخاه مروان إلى يزيد بن عبد الملك يبشره بقتل يزيد بن المهلب (¬2). ومروان الذي بعثه مسلمة هو مروان الأكبر، أما الأصغر فقد مات في أيام الوليد أو سليمان كما ذكرنا. وأما الحكم بن عبد الملك فكان جوادأ وفيه يقول رؤبة بن العجَّاج: [من الرجز] يا حَكَمُ الوارثُ عن عبد الملك ... ميراثَ أحسابٍ وجُوب مُنْسَلِكْ إليك أشكو عَضَّ دَهْرٍ مُنْتَهِكْ ... بالمنكِبَينِ والجِرانِ مُبْتَرِكْ (¬3) وأما عبد الله بن عبد الملك فكان شجاعًا جَوادًا، أجملَ قُرشيٍّ في زمانه، وكان ناسكًا يختم القرآن في كلِّ جمعة. وذكره ابنُ سُمَيع في الطبقة الرابعة من تابعي أهل الشام. وقال الزبير بن بكار: وأمه أم ولد، وكان يوصف بحسن الوجه وحسن المذهب (¬4). وحجَّ فأوصاه أبوه وقال: إنه سيأتيك الحَزِين الشاعر بالمدينة، فإياك أن تمنعه، فلما قدم جاءه الحزين، فلما رأى حُسنه وجماله وبيده قضيب خَيزران بُهت إليه، فقال له: ما لك؟ فقال: أبهرني حُسنك وجمالك، وقد قلتُ ما حضرني، فقال: قل، فقال: [من البسيط] ¬

_ (¬1) أي: أراد أن يَرُدَّ عليه بمثل ما قال له. وينظر "نسب قريش" 162، وذكرها البلاذري بين سليمان ومروان، انظر "أنساب الأشراف" 7/ 56، و"تاريخ دمشق" 66/ 506. (¬2) "أنساب الأشراف" 6/ 304. (¬3) "أنساب الأشراف" 6/ 304 - 305. وفي ديوان رؤبة 117 - 118 أنه مدح بها الحكم بن عبد الملك بن بشر بن مروان، ورجح البغدادي في شرح أبيات المغني 1/ 60 - 61 ذلك. (¬4) "تاريخ دمشق" 35/ 56، و"نسب قريش" 164.

في كَفِّه خَيزرانٌ ريحُها عَبِقٌ ... من كفِّ أزهرَ في عِرنينِه شَمَمُ يُغْضي حَياءً ويُغضَى من مَهابته ... فما يُكَتَم إلا حين يَبْتَسِمُ فأجازه فقال: أخْدِمْني خادمًا -وعلى رأس عبد الله غُلامان- فقال: اختر أحدهما، فأخذ واحدًا فقال: خذ الآخر، فأخذه (¬1). وهذا البيت الأخير للفرزدق من أبيات قالها في زين العابدين، وسنذكره في ترجمته. وقيل: إن الأبيات للحَزين الشاعر في عبد العزيز بن مروان، منها هذه الأبيات (¬2): قالوا دمشقُ يُنَبِّيك الخبيرُ بها ... ثمَّ ائْتِ مصرَ فثَمَّ النائلُ العَممُ لما وقفتُ عليه في الجُموعِ ضُحًى ... وقد تعرَّضَتِ الحُجَّابُ والخَدَمُ حَيَّيتُه بسَلامٍ وهو مرتَفِقٌ ... وضَجَّةُ القومِ عند الباب تَزْدَحِمُ في كفّه خَيزرانٌ ... البيتين. [وعبد الله هذا هو الذي بعثه أبوه مع مروان بن محمد إلى العراق في نوبة الحجاج وابن الأشعث، وقد ذكرناه. وولّاه أبوه مصو في سنة خمس -أو أربع- وثمانين، وكان أبوه قد ولاه حمص، وذكره خليفة في عمال عبد الملك على حمص. وقال خليفة: وفي سنة اثنتين وثمانين فتح عبد الله حصنَ سنان بالروم من ناحية المَصِّيصَة. قال: وفي سنة ثلاث وثمانين غزا عبد الله الروم، فلقي الرّوم بسورية فهزمهم. وفي سنة أربع وثمانين غزا عبد الله الروم فبلغ طُرَنْدَة. وفيها بنى عبد الملك المَصِّيصَة.] (¬3) وقال الليث بن سعد: عبد الله هو الذي بنى المَصِّيصَة في سنة خمس وثمانين (¬4). ¬

_ (¬1) "نسب قريش" 164، و"الأغاني" 15/ 324 - 325، و"تاريخ دمشق" 35/ 58 - 59. والعِرْنين: أول الأنف تحت مجتمع الحاجبين. (¬2) من قوله: وهذا البيت الأخير ... إلى هنا من (ص)، وانظر نسبة الأبيات والاختلاف فيها في "الأغاني". (¬3) ما بين معكوفين من (ص)، وانظر "تاريخ خليفة" 298، 288، 289، 291 (على الترتيب)، و"تاريخ دمشق" 35/ 56 - 58 والذي فيهما أن عبد الله بن عبد اللك هو الذي بنى المصيصة لا أبوه. (¬4) نقل ابن عساكر 35/ 57 عن الليث: أن عبد الله بن عبد الملك غزا المصيصة في سنة خمس وثمانين، لا أنه بناها.

وقال ابن عساكر: كان له بدمشق دار عند باب الجامع بمحلَّة القباب. وكانت وفاته بمصر، [قتل في هذه السنة. وحكى ابن عساكر قال: مات عبد الله بن عبد الملك] وترك سبعين مُدْيًا من ذهب، ومات بُسر بن سعيد ولم يُخَلِّف كَفنًا، وبلغ عمر بن عبد العزيز فقال: لأن أعيش بعيش بُسر وأكون معه في درجته أحبّ إلي من أن أعيش بعيش عبد الله بن عبد الملك، فقيل لعمر: إنهم أهلك! فقال: لا يمنعني ذلك أن أذكر أهل الفضل بفضلهم (¬1). [وقال الزبير بن بكار: ] وإلى عبد الله ينسب المسجد الذي بمصر في باب المعافِر، وكان مسجدًا حسنًا، ولما دخلت المسوَّدة مصر مرَّ به صالح بن علي في موكبه، فأعجبه فقال: مَن بناه؟ قالوا: عبد الله، فقال: أوَبقيَ لهم ذكر؟ ! لا أبرح من مكاني وفيه شيء قائم، فهدموه، وبقي خرابًا إلى أيام هارون الرشيد، فولّى على قضاء مصر عبد الرحمن بن عبد الله العمري، فبناه ظنّا منه أنه مسجد عبد الله بن عمر بن الخطاب. [واختلفوا في وفاته؛ فحكى الحافظ ابن عساكر بإسناده أن عبد الله بن عبد الملك بن مروان توفي في سنة مئة. قال: وقال خليفة: قتل عبد الله في سنة اثنتين وثلاثين ومئة. وقال الحافظ: هذا وهم، والصحيح أنه مات قبل عمر بن عبد العزيز (¬2). وقال ابن عبد البر (¬3): كانت ولايته على مصر ثلاث سنين وعشرة أشهر.] وأما المنذر بن عبد الملك فسماه عبد الملك باسم رجل من أهل الشام كان ناسكًا، شهد المنذر قتال حُبَيش بن دُلْجَة. وأما عَنْبَسَة فمن ولده الفَيضُ بن عنبسة، ولا عقب له. وأما سعيد بن عبد الملك فقتله عبد الله بن علي بنهر أبي فُطْرُس مع من قتل من بني أمية. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 35/ 55، 62 - 67. (¬2) "تاريخ دمشق" 35/ 67. (¬3) في "تاريخ دمشق" 35/ 61 أن القائل أبو عمر محمد بن يوسف الكندي.

وولده عبد الله بن سعيد كنيته أبو صفوان، وأمُّه أمِّ جميل بنت عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية، ولما قُتل سعيد لحقت بمكة. وكان عبد الله هذا عالمًا زاهدًا فاضلًا، سمع أباه، وابن جُريج، ومُجالد بن لمعيد، ومالك بن أنس وغيرهم. وروى عنه الشافعي، وأحمد، وعلي بن المديني وغيرهم، وهو من رجال صحيح البخاري، وقال علي بن المديني: هو أقعَدُ قرشيٍّ رأيتُه. ووثّقه ابن معين، والدارقطني، وأبو مسلم المُسْتَمليّ وغيرهم (¬1). وأما الحجاج [فقال أبو اليقظان: ] سمّاه أبوه عبد الملك باسم الحجاج بن يوسف، وقال: [من الرجز] سَمَّيته الحجَّاجَ بالحجّاجِ ... النَّاصحِ المعاونِ الدُّمَّاجِ نُصْحًا لَعَمري غير ذي مُدَاج فوهب له الحجاج بن يوسف دارًا بدمشق [تعرف بدار الحجاج. وقال ابن عساكر: ] وبالحجاج بن عبد الملك سمي قصر حجاج ظاهر باب الجابية. وقيل: إن أم الحجاج بن عبد الملك بنتُ محمد بن يوسف أخي الحجاج (¬2). وأما قَبيصة فسماه أبوه عبد الملك باسم قَبيصة بن ذُؤيب الخُزاعي، وولد لقَبيصة بن عبد الملك الوليد بن قبيصة، ولا عقِب له (¬3). ذكر نساء عبد الملك بن مروان: قد ذكرنا المشهورات منهن، وقال المدائني: كان له سوى مَن ذكرنا: شَقراء ابنة سَلَمة بن حَلْبَس الطَّائيّ، وابنة لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر (¬4). ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 9/ 359 (مخطوط)، و"تهذيب الكمال" (3294). وهو أيضًا من رجال مسلم. (¬2) "أنساب الأشراف" 6/ 303، و"تاريخ دمشق" 4/ 200 (مخطوط). (¬3) "أنساب الأشراف" 6/ 303. (¬4) "تاريخ الطبري" 6/ 420، و"أنساب الأشراف" 6/ 305.

قال المصنف رحمه الله: ولا يصحّ أنه تزوّج ابنةً لعلي بن أبي طالب، ولا لابن جعفر. وقال الهيثم: خطب عبد الملك بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقالت: والله لا تزوَّجتُ أبا الذبَّان أبدًا، وخطبها عمه يحيى بن الحكم فتزوّجته، فغضب عبد الملك وقال: لقد تزوّجَتْك أسود أَفْوه -يعني كبير الفم- فقال له يحيى: لقد أحبَّت مني ما كرهتْه منك (¬1). وكان قَبيصة بن ذُؤيب على خاتم عبد الملك وبيت المال، وكان قاضيه أبو إدريس الخولاني إلى أن مات في سنة ثمانين، وكاتبه رَوْح بن زِنْباع حتى مات سنة ثلاث وثمانين، وحاجبه يوسف مولاه، وصاحبُ شُرطته أبو الزُّعَيزِعة. أسند عبد الملك الحديث عن عثمان، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، ومعاوية - رضي الله عنه - وغيرهم، وروى عنه عروة بن الزبير، ورجاء بن حَيوة وغيرهما. [فصل: وقال جدي في "التلقيح" (¬2): عبد الملك بن مروان ستة: أحدهم عبد الملك بن مروان صاحب هذه الترجمة. والثاني: عبد الملك بن مروان بن الحارث المديني. والثالث: عبد الملك بن مروان أبو يزيد الكوفي. والرابع: عبد الملك بن مروان بن قيراط الحذّاء. والخامس: عبد الملك بن مروان البصري مؤذن مسجد أبي عاصم. والسادس: عبد الملك بن مروان أبو بشر الرقي. هذا صورة ما ذكره جدّي. قلت (¬3): ] وفي الأعيان جماعة اسم كل واحد منهم عبد الملك بن مروان، منهم: ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 6/ 330، و"العقد الفريد" 4/ 25، وبعدها في (ص): وقد ذكرنا هذا بمعناه فيما تقدم. (¬2) "تلقيح فهوم أهل الأثر" 617. (¬3) بدلها في (أ) و (خ) و (د): قال المصنف رحمه الله. والمثبت من (ص) وما بين معكوفين منها.

المقداد بن معدي كرب

عبد الملك بن مروان بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، بن مع أبيه في الجيش الذي طلب بدم الوليد بن يزيد. ومنهم: عبد الملك بن مروان بن محمد [بن مروان] بن الحكم، كان مع أبيه مروان لما غزا الخَزَر، وكان صاحبَ ميمنته، ومات بالرقَّة في أيام أبيه مروان، وله عقب. ومنهم: عمد الملك بن مروان بن موسى بن نُصَير اللَّخْميّ مولاهم، وفد على مروان بن محمد بن مروان فولّاه مصر، وهم آخر مَن وليها لبني أمية، وكان من أعدل ولاتهم، وقد أثنى عليه الليث بن سعد بالعَدْل، وكان جوادًا، ولما دخلت المُسَوِّدة مصر -وكان واليًا عليها- أكرمه صالح بن علي لما بلغه من عدله وعفافه وحسن سيرته، ولما خرج صالح بن علي إلى العراق أخرجه معه، وأثنى عليه عند أبي جعفر، فولّاه فارس (¬1). [انتهت سيرة عبد الملك بن مروان. فصل: وفيها توفي] المِقداد بن مَعدِي كرِب ابن عمرو بن يزيد بن سيّار (¬2) بن عبد الله ابن وَهْب بن الحارث بن معاوية بن ثَور بن مُرَتع الكندي. [ذكره ابن سعد في موضعين: ] في الطبقة الرابعة من الصحابة الوافدين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيمن نزل الشام من الصحابة (¬3). وكان يسكن حمص، وكنيته أبو يحيى]. وحضر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة غزوات. واختلفوا في وفاته؛ فقال هشام: في سنة ست وثمانين، وقال ابن سعد: سنة سبع وثمانين وهو ابن إحدى وتسعين سنة (¬4). ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 43/ 291 - 293 وما سلف بين معكوفين منه. ومن قوله: منهم عبد الملك بن مروان بن عبد الله ... إلى هنا ليس في (ص). (¬2) في "طبقات ابن سعد": شيبان، والمثبت موافق، لما في "تاريخ دمشق" 17/ 153 (مخطوط). (¬3) "طبقات ابن سعد" 6/ 252 و 9/ 418. (¬4) انظر "طبقات ابن سعد" 9/ 418، و"الاستيعاب" (2502)، و"تاريخ دمشق" 17/ 159، و"السير" 3/ 427. ومن قوله: واختلفوا في وفاته ... إلى، هنا من (ص)، وجاء مختصرًا في النسخ الأخرى.

السنة السابعة والثمانون من الهجرة

أسند المقدام الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [أخرج له الإمام أحمد ستة عشر حديثًا، وأخرج له البخاري حديثين عن خالد بن مَعْدان، عن المقدام بن مَعْدِي كَرِب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.] فمن مسانيده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عَمل يده، وإن نبيَّ الله داود كان يأكل من عمل يده". انفرد بإخراجه البخاري رحمه الله (¬1). [وليس في الصحابة مَن اسمه المقدام غيره.] السنة السابعة والثمانون من الهجرة [قال الواقدي: ] وفيها عزل الوليد هشام بن إسماعيل المخزومي عن المدينة، وولّى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة، فقدمها في شهر ربيع الأول في ثلاثين راكبًا، فنزل دارَ جدَّه مروان. وكانت ولايةُ هشام عليها أربع سنين إلا أيامًا، وكان عزلُه ليلةَ الأحد لسبعِ ليالٍ خلون من ربيع الأول عند قدوم عمر المدينة. وكان الوليد سيِّئ الرأي في هشام، فكتب إلى عمر أن أَوقفْه للناس، وكان قد ضرب سعيد بن المُسيّب، وآذى عليَّ بن الحسين أذى شديدًا، فلما أمر الوليد بذلك قال هشام: ما أخاف إلا من علي بن الحسين وسعيد بن المسيب، فأما علي فتقدَّم إلى خاصته وأهله وقال: لا تتعرّضوا بكلمة، وفعل سعيد بن المسيب مثل ذلك وقال: تركتُ ما فعل بي لله وللرحم، ومرَّ علي بن الحسين على هشام وهو واقف فلم يكلِّمه، فناداه هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته. [قال الواقدي: ] وأما عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فإنه لما قدم المدينة صلى الظهر، ثم دعا عشرة من فقهاء المدينة: سالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، وعبيد الله ابن عبد الله بن عُتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وسليمان بن يَسار، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد، وأبا بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة، وعبد الله بن عبد الله بن عمرو، فلما دخلوا عليه حَمِد الله وأثنى عليه وقال: إني إنما دعوتكم لأمرٍ تُؤجرون ¬

_ (¬1) يعني: عن مسلم، وهو في صحيح البخاري (2072)، ومسند أحمد (17181).

عليه، وتكونون فيه أعوانًا للحق، ما أريد أن أقطع أمرًا دونكم، ولا أفعل شيئًا إلا برأيكم، وإن رأيتُم أحدًا يتعدَّى، أو بلغكم عن عامل ظُلامة، فأُحرِّج على مَن بلغه ذلك إلا يُبَلِّغني، فدَعَوا له وشكروه، وجَزَوْه خيرًا، وعلموا أنه قد فُتح عليهم بابُ خير. فأقام واليًا على المدينة سبع سنين وخمسة، أشهر، يُحضرهم ويستضيء برأيهم فيما يفعل. وفيها صالح قتيبة بن مسلم نَيزَك التُّركي، واستنقذ منه ألوفًا من الأسرى، وكتب إلى نيزك أن يَقدم عليه، وإنما أراد إذلاله، وتوعَّده في كتابه وتهدَّده إن لم يَقدم، فقدم عليه فأكرمه وأحسن إليه. ثم غزا قتيبة بِيكَنْد -وهي أدنى مدائن بُخارى إلى النهر، ويقال لها: مدينة التُّجَّار، وهي على رأس المفازة من بخارى- فلما نزل بِعَقْوَتِهم (¬1) استنصروا بالصُّغْد، واستنجدوا مَن حولهم، فأتوهم في جمع كبير، وأخذوا على قتيبة الطُّرُق والمضايق، فلم يصل إليه رسول، ولا قدر على إنفاذ رسول مدَّة شهرين، وأبطأ خبرُه على الحجّاج، فأشفق عليه وعلى مَن معه، فأمر الناسَ بالدعاء له، وكتب بذلك إلى الأمصار، وأقام قتيبة يقاتلهم كل يوم. وكان لقتيبة عين فيهم يقال له: تندر؛ أعجمي، فدفع إليه أهل بُخارى مالًا على أن يدفع عنهم قتيبة، فأتاه فقال: أخْلِني، فأخلى المجلس فقال: قد عزل الحجاج عن العراق، وهذا عامل جديد يقدم عليك، فارجع بالناس إلى مرو، وكان عند قُتيبة ضرار بن حُصَين الضَّبِّي، فقال قتيبة لغلامه: اقتل تندر، فضرب عنقه وقال لضرار: والله لئن علم أحدٌ بهذا الحديث قبل أن تنقضي حربُنا لألحقنَّك به؛ فإن انتشار مثل هذا الحديث يَفُتُّ في أعضاد المسلمين. ثم أصبح الناس على راياتهم، وأنكروا قتل تندر وقالوا: كان ناصحًا للمسلمين، فقال قتيبة: بل كان غاشًّا فأحانه الله بذنْبه، ثم تقدَّم فقاتل، وأنزل الله النصر على المسلمين فهزموهم، ومنح الله قتيبة أكتافهم أَسْرًا وقتلًا، ووصلوا خلفهم إلى بِيكَنْد فتحصَّنوا بها، وأمر الفَعَلَة فشرعوا في تعليقها (¬2) ليَهدمَها، فسألوه الصُّلح على مال فصالحهم، واستعمل عليهم عاملًا. ¬

_ (¬1) العَقْوَة: المحلَّة. ينظر القاموس (عقا). (¬2) في تاريخ الطبري 6/ 431: في أصلها.

فلما سار عنهم قتيبة مقدار خمسة فَراسخ قتلوا العامل ومَن معه، وبلغ قتيبة فعاد إليهم فعَلّق المدينة (¬1)، فسألوه الصلح فلم يفعل، وهدم سورها، ودخلها عَنوة فقتل مقاتليها، وكان فيها رجل أعور، وهو استَجاشَ الترك، فأخذه قتيبة فقال: أنا أفدي نفسي بخمسة آلاف حَريرة قيمتها ألف ألف درهم، فاستشار قتيبة أصحابه فيه فقالوا: نرى أن فداءه زيادةٌ في غنائم المسلمين، وما عسى أن يَبلغ من كيد هذا؟ ! فقال قتيبة: والله لا تركته يُرَوِّع مسلمةً أبدًا، ثم ضرب عنقه. وأصاب قتيبة ببِيكَنْد من الذهب والفضة والجواهر والغنائم ما لم يُصبْه في بلد آخر، وكان فيها صنم فأذابوه، فخرج فيه خمسون ومئة ألف مثقال من الذهب، ورجع قتيبة إلى مرو وقد قسم الغنائم، وأعطى المقاتلة السلاح الذي كان في المدينة، وكتب إلى الحجاج بالفتح. وفي ذلك اليوم يقول الكميت (¬2): [من البسيط] ويومَ بِيكَنْدَ لا تُحصى عجائبُه ... وما بُخاراء مما أخطأ العَددُ وأقام قتيبة بمرو إلى زمن الربيع، ثم سار في عدّة حسنة إلى بخارى، فعبر النهر من ناحية آمُل من عند زَمّ، فوصل إلى نومُشَكَث من أعمال بُخارى، فأرسلوا إليه فصالحوه على ما أراد. واختلفوا فيمَن غزا الروم في هذه السنة على قولين: أحدهما: مَسلمة بن عبد الملك، ففتح حصونًا كثيرة. والثاني: هشام (¬3) بن عبد الملك، ففتح حصن بولَق، والأَخْرَم، وبولس وغير ذلك، وكانت المستَعْرِبة في طريقه، فقتل منهم ألف مقاتل، وسبى نساءهم وذراريهم. [فصل]: وفيها شرع الوليد في عمارة جامع دمشق. ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 431: ثم وضع الفعلة في أصل المدينة فعلقوها بالخشب وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فتنهدم. (¬2) في النسخ: الحصيب، والمثبت من الطبري 6/ 432، و"تاج العروس" (كند). (¬3) من قوله: واختلفوا ... إلى هنا من (ص)، بدله في النسخ: وغزا مسلمة بن عبد الملك الروم ففتح حصونًا كثيرة، وقيل: غزا هشام.

[حكى ابن عساكر عن] خالد بن يزيد بن أبي مالك (¬1): أن معاوية أراد أن يبني جامع دمشق، فقال له كعب الأحبار: ذاك أخنس قريش وما اجتمع أبواه بعد، وكان معاوية يومئذٍ أميرًا على دمشق. وقال المغيرة مولى الوليد: دخلت عليه يومًا فرأيته مَغمومًا، فقلت: ما الذي بك يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا مغيرة، إنه قد كثر المسلمون، وضاق بهم المسجد، وقد بعثتُ إلى النصارى أصحاب هذه الكنيسة فأقطعتهم القطائع، وبذلت لهم الأموال لأُدخلها في المسجد فأبوا، فقلت له: لا تهتم، فإذا عندي ما يُزيل همَّك، قال: وما هو؟ قلت: قد دخل خالد بن الوليد من الباب الشرقي، بالسيف، ودخل أبو عبيدة من باب الجابية بالأمان، فنماسحهم إلى أي موضع بلغ السيف؟ فإن يكن لنا حقٌّ أخذناه، وإلا داريناهم حتى نأخذ باقي الكنيسة، فندخلَه في المسجد، فقال الوليد: فرَّجْتَ عني فرَّج الله عنك، فتول أنت ذلك بنفسك. فتولّاه المغيرة، ومسح من الباب الشرقي إلى نحو باب الجابية، فبلغت المساحة إلى سوق الرَّيحان حتى حاذت من القنطرة الكبيرة أربعة أذرع وكسر بالقاسميّ، فدخلت الكنيسة في المسجد، فأرسل الوليد إلى النصارى فأخبرهم وقال: هذا حق جعله الله لنا، ولم نأخذه ظلمًا، فقالوا: قد أقطعتَنا القطائع، وأعطيَتنا الأموال فأبينا، فصالحهم على كنيسة مريم، وكنيسة حُميد بن درّة، وكنيسة المصلّبة، وكنيسة أخرى عند سوق الخبن. [وفي رواية: ] ولما قام عمر بن عبد العزيز جاء النصارى إليه، وشَكَوا فعل الوليد، فقال عمر: ما كان خارجًا من دمشق فتح عنوة، فنحن نردُّ عليكم كنيستكم، ونهدم كنيسة باب توما لأنها خارج البلد، ونبنيها مسجدًا [قلما قال لهم ذلك] قالوا: بل ندع لكم ما هدمه الوليد، وتدعوا لنا كنيستنا بباب توما، فأجابهم عمر - رضي الله عنه -. [رجع الحديث إلى الأول: ] ثم أصبح الوليد غاديًا وعليه قَباءٌ من خزٍّ، وقد شدَّ وَسَطه بمِنطَقة، وبيده فأس، وكان في أعلى الكنيسة تمثال يقال له: الشّاهد، فقال له ¬

_ (¬1) في النسخ: مليكة، وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ دمشق" 1/ 305 (مخطوط)، وما بين معكوفين من (ص).

بعض الرهبان: احذر الشّاهد، فقال: أول ما أضع فأسي في رأس الشاهد، ثم كبّر الوليد، ثم ضربه فهدمه. [وفي رواية: ] ولما أراد أن يهدم الكنيسة قال له كبير النَّصارى: مَن يهدا هذه الكنيسة يُجَنّ، فقال الوليد: أنا أولى مَن جُنَّ في الله، ثم أرسل إلى اليهود فجاؤوا بتوراتهم وأحبارهم فهدموها (¬1). وحكى ابن عساكر، عن أبي الحُسين الرّازي قال (¬2): قرأت في كتاب "أخبار الأوائل" أن الدار المعروفة بالمطبق وا أورار المعروفة بدار الخيل مع موضع المسجد الجامع؛ أقاموا وقت بنائها يأخذون الطَّالع ثماني عشرة سنة، وقد حفروا أساس الحيطان، حتى وافاهم الوقت الذي طلع فيه الكوكبان اللذان أرادوا أن لا يخرب أبدًا، ولا يخلو موضع المسجد من العبادة أبدًا. قال المصنف رحمه الله (¬3): وقد ذهب المطبق ودار الخيل فلا عين ولا أَثَر، ولم ينفع الطَّالع مع جَريان القَدَر. ولما هدم (¬4) الوليد الكنيسة شقَّ ذلك على ملك الروم، وجمع القِسِّيسين والرهبان وأكابر دين النصرانية وقال لهم: ما ترون؟ فقالوا: اكتب إليه، لقد هدمتَ الكنيسة التي رأى أبوك بقاءها، ولم يجدد ما قد شرعتَ فيه، فإن كان أبوك على الحق فقد خالفتَه، وإن كان على الباطل فقد أخطأ، فجمع العلماء وقال: ما ترون في جوابه؟ فلم يحضرهم جواب، فدخل الفرزدق الشاعر فقال له: يا أمير المؤمنين، اكتب إليه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيمَانَ وَكُلًّا آتَينَا حُكْمًا وَعِلْمًا (79)} [الأنبياء: 79]، فحشا الوليد فاه بالجوهر، وكتب بها إلى ملك الروم. وسنذكر تمام عمارة جامع دمشق في سنة ست وتسعين. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 1/ 307 - 308. وما بين معكوفات من (ص). (¬2) في (أ) و (خ) و (د): وقال أبو الخير الرازي، والمثبت من (ص)، والخبر في "تاريخ دمشق" 1/ 308. (¬3) في (ص): قلت. (¬4) في (ص): وقال أبو الحسين الرازي ولما هدم. والخبر الآتي في "تاريخ دمشق" 1/ 358 - 359 من طريقن ليس فيهما ذكر الرازي.

أمية بن عبد الله

[فصل] وحج بالناس عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة، وكان على قضاء المدينة من قِبله: أبو بكر بن عَمرو بن حزم، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج، وخليفته على البصرة الجرَّاح بن عبد الله الحَكَميّ، وعلى قضائها عبد الرحمن (¬1) بن أُذينة، وخليفته على الحرب بالكوفة زياد ابن جرير بن عبد الله البَجَليّ، وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى، وعلى خراسان قُتيبة بن مُسلم. [فصل] وفيها توفي أمية بن عبد الله ابن خالد بن أَسيد بن أبي العِيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمُّه أمُّ حُجَير بنت شَيبة بن عثمان بن أبي طَلحة بن عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصَيّ. [ذكره ابن سعد] من الطبقة الثالثة من أهل مكة. [قال: ] وكان قليلَ الحديث (¬2). هذا صورة ما ذكره ابن سعد. وأمية هو الذي ولاه عبد الملك خراسان. وقال المدائي: مات أمية بن عبد الله في سنة سبع وثمانين (¬3)، وكان عظيمَ الكِبر، شديدَ التِّيه، موض صاحب له فلم يَعُدْه، وقال: لو عُدنا أحدًا لعُدناك. وقال سعيد بن عبد العزيز: دعا عبد الملك يومًا بغدائه وقال. ادع خالد بن يزيد، قالوا: مات، قال: ادع أمية بن عبد الله، قالوا: مات، قال: ادع رَوح بن زِنْباع، قالوا: مات فال: ارفع ارفع. قال المصنف رحمه الله: هذه الرواية وهم؛ لأن خالد بن يزيد مات في سنة تسعين، وأمية في سنة سبع وثمانين. كان أمية جوادًا مُمدَّحًا، مدحه نَهار بن تَوْسعَة فقال: [من الطويل] أميةُ يُعطيك اللُّها (¬4) ما سألته ... وإن أنت لم تسأل أميةَ أَضعفا ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 433، و"المنتظم" 9/ 276: عبد لله. (¬2) "طبقات ابن سعد" 8/ 39 وما بين حاصرتين من (ص). (¬3) من قوله: هذا صورة ... إلى هنا من (ص)، وانظر "تاريخ دمشق" 3/ 130 (مخطوط). (¬4) جمع لُهوة، وهي أفضل العطايا وأجزلها.

عبد الله بن بسر

ويعطيك ما أعطاك جَذلانَ ضاحكًا ... إذا عَبَس الجَزْلُ (¬1) اليدين وقَفقفا هنيئًا مريئًا جُودَ كَفِّ (¬2) ابنِ خالد ... إذا المُمْسِكُ الرِّعْدِيدُ أعطى تَكَلُّفا أسند أمية عن ابن عمر، وروى عنه عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو إسحاق السَّبيعي، والمهلَّب بن أبي صُفرة. [وقال ابن عساكر: ] وهو الذي روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح العدوَّ بصعاليك المهاجرين (¬3). [وفيها توفي] عبد الله بن بُسر ابن صفوان المازنيّ [وكنيته] أبو صفوان. [وذكره ابن سعد فيمن نزل الشام من الصحابة، قال: ] كان يصفر رأسه ولحيته، وكان إذا مرّ بحجر في الطريق نحاه، وكان في جبهته أثر السجود. قال: وقال محمد بن عمر: توفي سنة ثمان وثمانين، وهو آخر من مات بالشام من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يوم مات ابنَ أربع وتسعين سنة (¬4). [هذا صورة كلام ابن سعد. وقال ابن البَرْقيّ: كنيته أبو بُسْر (¬5)، وأسلم هو وأبوه وأمه. وقال ابن عساكر: قال أبو زُرعة الدِّمَشقيّ: نزل الشام هو وعطيّة.] وقال أبو نُعيم: أهو آخر من مات من الصحابة بالشام، ] وصلى إلى القبلتين، ووضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على رأسه، وبارك عليه، ودعا له، ومات بحمص وهو يتوضأ للصلاة (¬6). ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 3/ 129: الكز، وهو الأشبه، والكزُّ: قليل الخير. (¬2) في النسخ: كف جود، والمثبت من "تاريخ دمشق". (¬3) "تاريخ دمشق" 3/ 128 وما بين معكوفين من (ص)، وجاء بعد ذلك فيها: قال. وذكر البخاري هذا الحديث في ترجمة أمية بن عبد الله. قلت: ولم يذكر البخاري هذا الحديث في ترجمة أمية من تاريخه الكبير 2/ 7. (¬4) "طبقات ابن سعد" 9/ 416 - 417 وما بين معكوفين من (ص). (¬5) كذا قال، والذي في "تاريخ دمشق" 435 (عبادة- عبد الله) أن ابن البرقي كناه بأبي صفوان. (¬6) "تاريخ دمشق" 436، 439، وما بين معكوفين من (ص).

عمارة بن خزيمة

وقال الواقدي: سكن حمص، وغزا مع معاوية في البحر. واختلفوا في وفاته؛ فحكينا عن ابن سعد أنه قال: مات سنة سبع وثمانين، وأنه عاش أربعًا وتسعين سنة. وقيل: مات سنة تسع وثمانين، وقيل: سنة سبع وستين، وقيل: في سنة أربع وتسعين أو ست وتسعين. قال أبو نعيم: عاش مئة سنة (¬1). أسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث نحوًا من عشرين. ومن مسانيده [قال الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن بسر] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بين المَلْحَمة وفتح المدينة ست سنين، ويخرج المسيح في السابعة" (¬2). عُمارة بن خُزيمة ابن ثابت بن الفاكِه الأنصاري، أبو محمد، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وأمه الصَّعْبة بنت عامر بن زَيد الخَطْمي (¬3)، وكانت وفاته بالمدينة في هذه السنة وهو ابن خمس وسبعين سنة. سمع أباه، وعمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وعمرو بن العاص وغيرهم، وكان ثقةً قليلَ الحديث. وكان له من الولد: إسحاق، درج، وأمُّه عُبيدة بنت عبد الله بن ثابت، ومحمد وصفية، وأمهما وديعة بنت عبد الله بن مسعود بن عبد الله الخَطْمي، ومَنيعة وحَمَّادة لأم ولد. فصل: وفيها توفي قَبيصَة بن ذُؤيْب (¬4) ابن حَلْحَلَة بن عَمرو الخُزاعي. وهو من الطبقة الأولى من أهل المدينة وفي الطبقة الثانية من أهل الشام من التابعين، ويكنى أبا إسحاق. ¬

_ (¬1) من قوله: وقال الواقدي ... إلى هنا من (ص)، وجاءت في النسخ مختصرة، وانظر "تاريخ دمشق" 451 - 454، 429. (¬2) مسند أحمد (17691) وما بين معكوفين من (ص). (¬3) كذا، وفي "طبقات ابن سعد" 7/ 74: وأمه صفية بنت عامر بن طعمة بن زيد الخطمي. (¬4) هنا ينتهي السقط في (ب) الذي أشير إليه في أواخر ترجمة المهلب سنة (83).

وكان على خاتم عبد الملك بن مروان، وكان ثقة. روى عنه الزهري، وتوفي قَبيصة بالشام سنة ست أو سبع وثمانين في آخر خلافة عبد الملك بن مروان. وأما في طبقة المدينة فنسبه (¬1) إلى خزاعة. سمع من عثمان، وله دار بالمدينة في التمارين في زقاق النقَّاشِين، وتحول إلى الشام. وكان آثَر الناس عند عبد الملك بن مروان، وكان على خاتمه، وكان يقرأ الكتب إذا وردت على البريد، ثم يدخلها على عبد الملك فيخبره بما فيها. ومات قبيصة بالشام سنة ست وثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان. وكان لأبيه ذُؤيب صُحبة، وكان يسكن قُديدًا، وشهد الفتح مسلمًا، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وله صحبة ورواية (¬2). وكان قبيصة ثقة مأمونًا كثير الحديث. هذا صورة ما ذكره ابن سعد، وقال ابن عساكر: قال أبو عبد الله (¬3) الحاكم: ولد قبيصة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا له، وكان من علماء هذه الأمة. وقال ابن عساكر: كان الزهري يقول: إنه معلّم كتَّاب (¬4). قال: وذكره أبو بكر بن عياش في العُور من الأشراف وقال: ذهبت عينه يوم الحرَّة (¬5). وقال أبو الزناد: كان قبيصة من فقهاء المدينة. ¬

_ (¬1) يعني ابن سعد في طبقاته 9/ 450 و 7/ 174، وترجمة قبيصة أثبت فيها سياق (ص)، لتسلسله ووضوحه، وجاء في النسخ الأخرى دون هذا الترتيب والسياق. (¬2) "طبقات ابن سعد" 5/ 188. (¬3) في "تاريخ دمشق" 14/ 395 (مخطوط): أبو أحمد. (¬4) في "تاريخ دمشق": عن جعفر بن عون قال: كان قبيصة بن ذؤيب معلم كتاب. وعن عبد الرحمن بن يوسف قال: قبيصة بن ذؤيب كان معلمًا، والزهري كان معلمًا. (¬5) "تاريخ دمشق" 14/ 396، وانظر "البرصان" للجاحظ 607، و"المعارف" 586.

مطرف بن عبد الله

وقال ابن عساكر: كانت له دار بدمشق بباب البريد موضع دار الحكم. أسند قبيصة الحديث عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عوف، وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وابن عباس وغيرهم، وروى عنه ابنه إسحاق، ومكحول الشامي، ورجاء بن حَيوة، وأبو الشَّعثاء، وأبو قِلابة وغيرهم. وسكن دمشق، وليس له عَقِب (¬1). [فصل: وفيها توفي] مُطَرِّف بن عبد الله ابن الشِّخِّيْر بن عوف بن كعب بن وَقْدان بن الحَريش، من بني عامر بن صَعْصَعة، أبو عبد الله الحَرشيّ، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة. [وأثنى عليه العلماء؛ منهم ابن سعد فإنه قال: ] كان له فضلٌ ووَرَعٌ ورواية وعقلٌ وأدب، وكان بعيدًا من الفتن، قال: كنتُ في فتنة ابن الزبير تسعَ سنين، ما أخبرت فيها بشيء، ولا استخبرت عنها. [وروى ابن سعد عنه أنه] قال: ما أوتي أحدٌ من الناس شيئًا أفضلَ من عقل، وعقول الناس على قَدْر زمانهم. [قال: ] وكان يقول: كأن القلوب ليست معنا، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا، ولأن أُعافى فأشكر أحبُّ إليَّ من أن أُبتلى فأصبر. وكان الطاعون إذا وقع تنحَّى. وكان يخضب رأسَه ولحيته بالحِنَّاء والكَتَم، [وفي رواية: وكان يصفّر لحيته (¬2). وقال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده إلى] سليمان بن المغيرة قال: كان مطرف بن عبد الله أَذا دخل بيته سَبَّحت معه آنيةُ بيته (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم" 6/ 280، و"السير" 4/ 282، و"تاريخ دمشق" 14/ 392 (مخطوط). (¬2) "طبقات ابن سعد" 9/ 142 - 145 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) "الزهد" لأحمد 296، وعنه أبو نعيم في حليته 2/ 205، و"المنتظم" 6/ 281.

وقال ابن سعد. كان مطرف يلبس البَرانِسَ والمطارف، ويركب الخيل، ويغشى السلطان، غير أنك كنت إذا أفضيتَ إليه أفضيتَ إلى قُرَّةِ عين، وتزوَّج امرأة على عشرين ألفًا وزيادة (¬1). [وروى عنه أبو نعيم أنه] قال: ما مَدحَني أحدٌ إلا تصاغَرت نفسي إليّ (¬2). [وروى عنه ابن أبي الدنيا أنه] وقف بعرفة وقال: اللهم لا تَرُدَّ هذا الجمعَ من أجلي. ومات له ابن اسمه عبد الله، فخرج على الناس في ثيابٍ حسنة وقد ادَّهن، فغضبوا وقالوا: يموت عبد الله ويخرج في مثل هذه الثياب؟ ! فقال: أفأستكين لها وقد وعدني ربي تبارك وتعالى عليها ثلاث خصال؛ كلّ خَصلة أحب إليّ من الدنيا وما فيها، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156] (¬3). وكان يقول: حال ذِكْر النارِ بيني وبين الجنة. [وروى عنه ابن أبي الدنيا أنه كان يقول: ] لو علمتُ متى أجَلي لخشيتُ على ذهاب عقلي، ولكن الله مَنَّ على عباده بالغفلة عن الموت، ولولا الغفلة ما تهنّى أحد بعيش، ولا قامت بينهم الأسواق. وكان يقول: إذا استوت علانية العبد وسريرتُه قال الله تعالى: هذا عبدي حقًّا. [وروى عنه أبو نعيم أنه] كان يقول: اللهم ارضَ عنا، فإن لم ترضَ عنا فاعفُ عنا؛ فإن المولى قد يعفو عن عبده وهو غير راضٍ عنه (¬4). وقال: إن أقبح ما طُلبت به الدنيا عمل الآخرة. وكان مجاب الدعوة؛ [وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن الحسين بإسناده إلى] حُميد بن هلال قال: كان بين مطرِّف وبين رجل من قومه شيء، فكذب على مُطَرّف، فقال له مطرِّف: إن كنت كاذبًا فعَجَّل الله حَتْفَك. فمات الرجل مكانَه، فاستعدى أهلُه ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 145. (¬2) "حلية الأولياء" 2/ 198. (¬3) "المنتظم" 6/ 281، و"تاريخ دمشق" 67/ 449. (¬4) "حلية الأولياء" 2/ 207 وما بين معكوفين من (ص).

زيادًا على مطرف، فقال لهم زياد: هل ضربه، هل مسه بيده؟ قالوا: لا، قال: دعوة رجل صالح وافقت قَدَرًا، فلم يجعل لهم شيئًا (¬1). وقال أبو نعيم: كان مطرِّف يسير بالليل [فأضاء له سَوْطه، وفي رواية: ] فخرج النور من سَوْطِه. [وروى أبو نعيم عنه أنه] قال لبعض إخوانه: إذا كان لك حاجة فلا تخاطبني بها، ولكن اكتبها في رقعة ثم ارفعها إلي؛ فإني أكره أن أرى في وجهك ذُلَّ السّؤال، وقد قال الشاعر: [من الكامل] ما اعتاضَ باذلُ وَجْهه بسُؤاله ... عِوَضًا وإن نال الغِنى بسُؤالِ وإذا السؤالُ مع النَّوال وزنْتَه ... رجَحَ السُّؤالُ وخفَّ كلُّ نَوالِ فإذا ابتُليتَ ببَذْلِ وَجْهِك سائلًا ... فابذُلْهُ للمُتَكَرِّمِ المِفضالِ (¬2) [وحكى عنه ابن أبي الدنيا أنه] قال: إن هذا الموت قد نَغَّص على أهل النعيم نعيمَهم، فاطلبوا نعيمًا لا موتَ فيه (¬3). ذكر وفاته: واختلفوا فيها، فقال ابن سعد: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أبو المَليح، حدثني رجل من أهل البصرة، عن ثابت البناني ورجل آخر قد سماه، أنهما دخلا على مطرِّف وهو مُغمًى عليه (¬4)، فسطعت منه ثلاثة أنوار: نور من رأسه، ونور من وسطه، ونور من رجليه، فهالهم ذلك فقالوا: كيف تجدك؟ قال: صالحًا، قالوا: لقد رأينا شيئًا هَالنا، قال: وما هو؟ قالوا: أنوار سطعت منك، قال: وقد رأيتم ذلك؟ قالوا: نعم، قال: تلك {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، وهي تسع وعشرون آية، سطع أولها من رأسي، وأوسطها من وسطي، وآخرها من قدمي، وقد صَعدت لتشفع لي، وهذه تبارك تحرسني. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 67/ 454 وما بين معكوفين من (ص). (¬2) "حلية الأولياء" 2/ 205 و 210، و"تاريخ دمشق" 67/ 460 - 461. (¬3) "الزهد" لأحمد 292، و"الحلية" 2/ 204، و"تاريخ دمشق" 67/ 462، 463. (¬4) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): دخل عليه ثابت البناني ورجل آخر وهو مغمى عليه، والمثبت من (ص).

نوفل بن مساحق

[وقال ابن سعد: قالوا: ] ومات في ولاية الحجاج على العراق بعد الطاعون الجارف، وكان الطاعون في سنة سبع وثمانين في خلافة الوليد (¬1). وكان أكبر من الحسن البصري بعشرين سنة، وكان قد احتفر لنفسه قبرًا، فكان كل يوم ينزل فيصلي فيه، ويقرأ القرآن، وأوصى أن لا يُؤْذَنَ بجنازته أحد (¬2). أسند عن عثمان، وعلي، وأُبيّ بن كعب، وأبي ذرّ، وأبيه عبد الله بن الشخّير وغيرهم. وقال: أتيتُ الشام فدخلت المسجد، فإذا برجل يصلي يركع ويسجد ولا يَفْصِل، فقلت: لو قعدتُ حتى أُرشد هذا الشيخ، فلما سلَّم قلتُ له: يا عبد الله، أعلى شَفْعٍ انصرفتَ أم على وتر؟ قال: قد كُفيتَ؟ قلت: ومَن يكفيك؟ قال: الكرام الكاتبون، إني لأرجو ألا أكون ركعتُ ركعة، ولا سجدتُ سجدة؟ إلا كتب الله بها لي حسنة، وحطَّ عني سيئة أو خطيئة، فقلت: ومَن أنت؟ قال: أبو ذَرّ، فقلت: ثَكِلَتْ مُطَرِّفًا أُمُّه، يُعَلّم أبا ذر صاحبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السُّنَّة (¬3).! وكان لمطرِّف إخوة، منهم: يزيد أبو العلاء، وهانئ، وكانا صالحين تقيين. مات يزيد في سنة إحدى عشرة ومئة. [وفيها توفي] نَوْفَل بن مُساحِق ابن عبد الله بن مَخْرَمَة القُرشيّ، [من بني عامر، وكنيته أبو مُساحِق، وذكره ابن سعد] من الطبقة الثانية من أهل المدينة، وولي القضاء بالمدينة (¬4). [وقال ابن عساكر: ] كانت له دار بدمشق عند دار ابن أبي العقب [بسوق البزوريين، ] وكان فاضلًا ورعًا. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 146، وانظر "تاريخ دمشق" 67/ 465 - 467، و"المنتظم" 6/ 282، و"السير" 4/ 194. (¬2) هنا تنتهي ترجمته في (ص). (¬3) تاريخ دمشق" 67/ 422. (¬4) "طبقات ابن سعد" 7/ 238 وما بين معكوفين من (ص).

أبو الأبيض العبسي

[وحكى الزبير بن بكار قال: كانت له منزلة من الوليد بن عبد الملك بن مروان، ، وكان يلي الصّدقات فلا يدفع إلى الأمراء شيئًا، بل يصرفها إلى أربابها. [وقال الزبير بن بكار: ] كان الوليد مُغرًى بحبّ الحَمام يلعب بها، فاتفق أن نوفلًا جاء يومًا إلى الوليد في أمر، والوليد عند الحمام، فأذن له فدخل، فلما رأى الحمام وَجَم، فقال له: يا نوفل، قد خصصتُك بدخولك علي وأنا على هذه الحالة لمنزلتك عندي، فقال: والله ما خَصَصْتَني ولكن خَسَسْتَني؟ لأن هذه عورة، وليس لمثلي أن يدخل عليك في مثل هذه الحالة، فغضب الوليد وسيَّره إلى المدينة (¬1). أسند نوفل عن سعيد بن زيد [بن عمرو]- رضي الله عنه - وغيره، وكان صالحًا ثقة، وقيل: تأخر موته عن ذلك. فصل: وفيها توفي أبو الأبيض العَبسِي (¬2) وقيل: اسمه عيسى، والأصح أنه مشهور بكنيته، وهو من التابعين (¬3)، كان كثير الغَزْو. [وحكى ابن عساكر قال: ] غزا مَسْلمة والعباس بن الوليد الطُّوانة، وخرج معهما [أبو الأبيض]، فجاء رجل من الليل فقال: يا أبا الأبيض، رأيتُك في المنام وفي يدك قناة يضيء سِنانها مثل الكوكب، فقال: هي والله الشهادة، فلما أصبح لقي العدو، فانهزم المسلمون، فقاتل حتى قُتل. [قال ابن عساكر: ] حدّث عن أنس وحُذيفة واختصّ به فروى عنه الكثير، وروى عن أبي الأبيض إبراهيم بن أبي عَبْلة، وربعي بن حِراش، وكان ثقةً. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 17/ 682، و"المنتظم" 6/ 282 وما بين معكوفات من (ص). (¬2) كذا في "تاريخ دمشق" 66/ 8، ومختصره 28/ 126، وفي "تهذيب الكمال" (7787): العنسي. (¬3) من قوله: فصل وفيها توفي ... إلى هنا من (ص)، وجاء في النسخ الأخرى مختصرًا على: أبو الأبيض العبسي من التابعين.

السنة الثامنة والثمانون

السنة الثامنة والثمانون [قال الواقدي: ] وفيها ورد كتاب الوليد على عمر بن عبد العزيز في شهر ربيع الأول بهدم مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيوت أزواجه وإدخالها في المسجد. قال الواقدي: فحدثني محمد بن جعفر بن وَرْدان بما في الكتاب، وفيه (¬1): أن يشتري ما حول المسجد ونواحيه، حتى يكون مئتي ذراع في مثلها، ويأمره بتقديم القبلة، وأن يُقوّم الأماكن التي حول المسجد ويدفع الأثمان إلى أربابها؟ فقد سلف لنا في ذلك سلف صدق: عمر وعثمان. وبعث الوليد بالفَعَلة من الشام، فجمع عمر بن عبد العزيز وجوه الناس، وكان فيهم سالم، والقاسم، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجه بن زيد، وعبد الله بن عبد الله بن عمر وغيرهم، وأوقفهم على كتاب الوليد [وشرعوا في هَدْمه. وأما هشام فروى عن أبيه قال: لما قرأ عليهم عمر كتاب الوليد] شقَّ عليهم، وهمّوا بالشَّغَب، فكتب عمر إلى الوليد يخبره ويقول: قد شق ذلك على المسلمين، وهذه حُجَر قصيرة السُّقوف، وسقوفها من جَريد النَّخْل، وحيطانها من اللَّبِن، وعلى أبوابها المُسوح، وتَرْكُها على حالها أولى؛ لينظر الحجاج والزوَّار والمسافرون إلى حُجَر أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فينتفعون بذلك، فلم يُجبه الوليد. وكان الوليد قد كتب إلى ملك الروم يُخبره بذلك، فبعث إليه أربعين حِملًا من الفُسيفساء، وبمئة ألف دينار، ومئة صانع، فبعث الوليد بالجميع إلى عمر، وقال: اهدمْه، فلم يجد من هدمها بُدًّا، فلما شرعوا في الهَدْم صاح الأشراف ووجوه الناس من بني هاشم وغيرهم صيحةً واحدة، مثل يوم مات فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال حبيب بن عبد الله بن الزبير: ناشدتك الله أن تهدم آية من كتاب الله {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية [الحجرات: 4]. ¬

_ (¬1) من قوله: قال الواقدي فحدثني ... إلى هنا من (ص)، بدله في النسخ: وفي الكتاب. وانظر الطبري 6/ 435.

[وقيل: إن حبيبًا كان بدمشق، فقال للوليد: لا تهدم آيةً من كتاب الله تعالى، فضربه الوليد حتى مات. والأصح أن حبيبًا مات بالمدينة سنة ثلاث وتسعين.] ودعا عمر أصحابَ المنازل التي أدخلها في المسجد، فدفع إليهم أثمانَها، ومن امتنع منهم أودع الثَّمن في بيت المال، فأخذوه بعد ذلك. ثم جاء كتاب الوليد أن يبنيَ في المسجد بِرْكةً بفوّارة، ويساق إليها الماء من ظاهر المدينة ففعلوا. وقيل: إنما عمل عمر البِركَةَ ظاهر المسجد عند دار مروان، فلما حج الوليد رآها فأعجبته، فأقام عليها قُوَّامًا. [قال الواقدي: ] وفيها فُتح حصن الطُّوانة -وهو حصن عظيم- على يد مَسْلَمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد، وكانت الهزيمة أولًا على المسلمين، فكشف العباس رأسه وصاح: يا أهل القرآن، إليّ إليّ، فأقبلوا إليه فهزموا العدوّ، وكان الفتح. وكان فتحها في جمادى الآخرة، وشَتَوا بها. [فصل]: وفيها وُلد الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان. وفيها غزا قُتيبة ما وراء النهر، واستخلف على مَرْو بشار بن مسلم، ووصل إلى أعمال نُومُشكَث، فأرسل إليه أهلها فصالحوه، فانصرف عنهم. وكان على ساقته عبد الرحمن بن مسلم الباهلي، وجاء أهل فَرْغانة والسُّغْد فقاتلوه، فأرسل إلى قتيبة يخبره وبينهما قَدْر مِيل، فعاد قتيبة إليهم وعبد الرحمن يقاتلهم، وكان نيزك يومئذ مع قتيبة، فقاتل قتالًا شديدًا، فانهزم العدو وكانوا في مئتي ألف، عليهم ابن أخت ملك الصين، ويقال له: كوربغانون، وعاد قتيبة سالمًا غانمًا، فقطع النهر من التِّرمِذ، ثم أتى إلى مَرْو. [فصل]: وفيها كتب الوليد إلى البلدان بأن يُجرى على المُجَذَّمِين والعميان أرزاقًا، ولمن يقودهم ويقوم بحوائجهم ومصالحهم.

عبد الله بن أبي قتادة

واختلفوا فيمن حجَّ بالناس في هذه السنة على أقوال؛ أحدها: عمر بن عبد العزيز، قاله الواقدي (¬1). وأحرم من ذي الحُلَيفة، وأحرم معه وجوه الناس، وساق بُدْنًا، فلما كان بالتَّنْعيم لقيه عبد الله بن أبي مُلَيكة، فأخبره أن مكة قليلة الماء والمطر، وأنهم يخافون على الحاجّ العطش، فقال عمر - رضي الله عنه -: فالمَطْلَب ها هنا بَيِّن، فتعالوا نَدْعُ الله، فدعا وأفَنوا، فما وصلوا البيت إلا وقد جاءت سحابة، وسال الوادي سيلًا خافوا منه الغرق، ومُطِرت مِنًى وعَرفة وجميع تلك الأماكن، وأخصبت مكة. والثاني: عمر بن الوليد بن عبد الملك، قاله أبو مَعْشر (¬2). والثالث: الوليد بن عبد الملك، حكاه المسعودي، والأوَّل أصحّ. وكان العمال في هذه السنة الذين كانوا في السنة الماضية. فصل: وفيها توفي عبد الله بن أبي قتادة ابن رِبْعيّ بن بَلْدَمة الأنصاريّ الخَزْرَجيّ، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، وأمُّه سُلافَة بنت البراء بن مَعْرور [بن صَخر، من بني سَلِمة]، وكانت وفاتُه بالمدينة. أسند عن أبيه، وكان ثقةً قليلَ الحديث، وكُنيته أبو يحيى، وله عَقِب. وأخوه ثابت بن أبي قتادة، [وكنيته] أبو مصعب، من الطبقة الثانية أيضًا، وتوفي في خلافة الوليد بن عبد الملك [أيضًا]. وأخوهما: عبد الرحمن بن أبي قتادة، قُتل يوم الحَرَّة [وقد ذكرناه] (¬3). ¬

_ (¬1) في النسخ خلا (ص): وحج بالناس عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. (¬2) من قوله: والثاني ... إلى هنا من (ص)، بدله في النسخ: وقيل حج عمر بن الوليد وقيل الوليد بن عبد الملك، والأول أصح. وانظر "الطبري" 6/ 437 - 438، و "المنتظم" 6/ 288. (¬3) "طبقات ابن سعد" 7/ 269 - 270 وما بين معكوفين من (ص).

السنة التاسعة والثمانون

السنة التاسعة والثمانون [قال الواقدي": ] وفيها افتتح العباس بن الوليد و [بن عبد الملك] سورية وعَمورية وهِرَقلَة وغيرها، ووصل مسلمة إلى أَذْرَبيجان، وبلغ قلعة باب الأبواب، وفتح حصونًا كثيرة. وفيها غزا قتيبة بن مسلم بُخارى وما وراء النهر، وفتح راميثنة، والتقى بوَردان خُداه ملك بخارى، واقتتلوا على مكان يقال له: خَرْقَان، وقال نهار بن تَوْسِعة: [من الطويل] وباتت لهم (¬1) منا بخَرْقان ليلة ... وليلتُنا كانت بخَرقانَ أَطوَلا ورجع قتيبة إلى مَرو. [وقال الواقدي: ] وفيها ولّى الوليد خالد بن عبد الله القَسرِيّ مكة، فلما قدمها خطب فقال: أيها الناس، أيُّما أعظم: خليفةُ الرجل على أهله، أم رسولُه إليهم؟ وإن إبراهيم خليل الرحمن استسقى، فسقاه الله مِلْحًا أُجاجًا، واستسقى الخليفة اللهَ فسقاه عَذْبًا فُراتًا -أشار إلى بئرٍ حفرها الوليد بين ثَنتة طُوى وثَنيَّة الحَجُون، فكان يُنقل ماؤها فيوضع في حَوضٍ من أَدَم إلى جنب زَمْزم، ليُعرف فَضْلُه على زمزم، ثم غارت البئر، وذهب ماؤها فلم يوقف له على خبر. وقيل: لما قال خالد ذلك القول أصبح الناس وقد عُدمت البئر؛ فلا يُدرى أين كانت. وقيل. إنما كانت ولاية خالد مكة سنة إحدى وتسعين (¬2). وحج بالناس عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - بالاتفاق. ¬

_ (¬1) في النسخ غير (ص) فليس فيها الخبر: ينالهم، والمثبت من الطبري 6/ 439. (¬2) وإلى ذلك ذهب ابن الجوزي في "المنتظم" 6/ 299، وتابع المصنف الطبري في ذكره هنا، انظر تاريخه 6/ 440.

عبد الله بن ثعلبة

فصل: وفيها توفي عبد الله بن ثعلبة ابن صُعَير بن عمرو، أبو محمد العُذْري. [ذكره ابن سعد] في الطبقة الخامسة فيمن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أحداث (¬1) الأسنان، [ونسبه إلى قضاعة، قال: وكان أبوه ثعلبة بن صُعَير شاعرًا. قال: وقد رأى عبد الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن سعد بإسناده إلى الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير، قال: أعْقِل مسحة مسحَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي. [وقال ابن سعد بإسناده إلى الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير، قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أخرجوا زكاة الفطر صاعًا من بُر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تَمر، عن كلِّ صغير وكبير، حر أو عبد". وقد روى عبد الله بن ثعلبة عن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. ومات في سنة سبع وثمانين بالمدينة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. [هذا صورة ما قاله ابن سعد (¬2)]. وقيل: سنة تسع وثمانين وله ثلاث وتسعون سنة. [واختلفوا فيه؛ ] فقيل: ولد عام الفتح، وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين أو أربع. [وحكى ابن عساكر عن المفضّل بنَ غسّان قال: ] هو ابن أخت أبي هريرة وحليفُه، وكان حليفًا لبني زُهرة، فمن هنا قال الزهري: حدثنا ابنُ أختٍ لنا (¬3). ¬

_ (¬1) في (ص): حدثاء، وما بين معكوفين منها، وانظر "طبقات ابن سعد" 6/ 555. (¬2) في طبقاته 6/ 556. (¬3) جمع المصنف هنا في نقله عن ابن عساكر بين خبرين، أولهما من طريق الأحوص بن المفضل الغلابي، عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري حدثني عبد الله بن ثعلبة بن صعير وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح وجهه زمن الفتح، وهو ابن أخت أبي هريرة وحليفه، "تاريخ دمشق" 31/ 480 - 481. والثاني من طريق الأحوص بن المفضل، عن أبيه، عن الواقدي قال: كان عبد الله بن ثعلبة بن صعير حليفًا لبني زهرة وأمه منهم، وقد مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه قمن ها هنا قال الزهري: حدثني ابن أخت لنا. "تاريخ دمشق" 31/ 475.

عمران بن حطان

[وقال ابن أبي خيثمة (¬1): ] وسبب مجالسة الزهري لعبد الملك أنه تعلم النسب من عبد الله بن ثعلبة. قال: وقال الزهريّ: تعلَّمنا منه الأنساب وغيرها، وسألتُه عن شيء من الفقه فقال: عليك بهذا الشيخ، يعني: سعيد بن المسيّب. [فصل: وفيها توفي] عِمران بن حِطّان الدوسي الخارجي، كان شاعر الخوارج (¬2). [وقال أبو بكر الخرائطي بإسناده إلى أبي الحسن المدائني قال: ] دخل عمران يومًا على امرأته جَمْرة وقد تزيَّنت، وكانت جميلة حسناء، وكان عمران قبيحًا دميمًا قصيرًا، فلما نظر إليها ازدادت في عينه حُسنًا، فجعل يديم النَّظرَ إليها، فقالت: ما شأنُك؟ فقال: لقد أصبحتِ والله جميلة، فقالت: أبشر فإني وإياكَ في الجنة (¬3)، قال: ومن أين علمتِ؟ قالت: لأنك أُعطيت مثلي فشكرتَ، وابتُليتُ بمثلك فصبرتُ، والصابر والشاكر في الجنة، فقال لها وقد خجل: لا، بل مَثَلي ومَثَلُكِ كما قال الأحوص: [من البسيط] إن الحُسامَ وإن رَثَّتْ مَضارِبُه ... إذا ضربت به مكروهة قتلا فإياك العود إلى مثل ما قلت مرةً أُخوى. أسند عمران الحديث عن أبي موسى، وابن عمر، وعائشة، وروى عنه محمد بن سيرين (¬4). ¬

_ (¬1) عن مصعب بن عبد الله كما في "تاريخ دمشق" 31/ 481 وما بين معكوفين من (ص). (¬2) بعدها في (أ) و (خ) و (ب) و (د): روى عن أبي موسى وعائشة - رضي الله عنهما - وغيرهما. وسأثبتها آخر الترجمة نقلًا عن (ص) فسياقها أتم. (¬3) هنا ينتهي ما لدينا من نسخة (ب). (¬4) "طبقات ابن سعد" 9/ 155، و"تاريخ دمشق" 52/ 238، و"المنتظم" 6/ 291، و"السير" 4/ 214.

يحيى بن يعمر

[فصل: وفيها توفي] يحيى بن يَعمَر أبو سليمان اللّيثيّ البَصريّ، وهو أول من نقط المصاحف. وكان عالمًا بالقرآن والعربية. [وقد ذكرنا أن الحجاج أخرجه إلى خراسان، ] وولاه قضاء مرو، فأقام بها، وكان يقضي بالشاهد واليمين. وقال موسى بن يَسار: رأيتُ يحيى قاضيًا بمرو، وربما رأيتُه يقضي في السوق والطريق، وربما جاءه الخصمان وهو راكب على الحمار، فيقف فيقضي بينهما. وكانت وفاته بمرو، وقيل: بالبصرة، والأول أصح. أسند الحديث عن ابن عمر، وابن عباس، وأخذ العربية عن أبي الأسود الدُّؤلي، وروى عنه عبد الله بن بُرَيدة، وإسحاق بن سُوَيد (¬1). السنة التسعون من الهجرة وفيها عزل الوليد أخاه عبد الله عن مصر، وولّى عليها قُرَّةَ بن شَريك، فولّى قُرَّةَ أبا عبد الرحمن الخَولاني على قضاء مصر، واسم الخولاني: عبد الله بن عبد الرحمن بن حُجَيرة (¬2)، وكان أبوه قاضي مصر، وقيل: إنما ولّاه الوليد. وهو الذي قدم على سليمان وعمر بن عبد العزيز ببيعة أهل مصر، وكان زاهدًا عابدًا ورعًا. [وحكى ابن عساكر عن] إبراهيم بن نَشيط قال: دخلتُ عليه وهو على قضاء مصر، فقدّم إليّ عدسًا باردًا على طبق من خُوص، وفيه كعك يابس، فقلت: ما هذا؟ فقال: بُلَّ الكعك بالماء، وكُلْه بالعدس، فلم تتركنا إقامة الحقوق نشبع الخبز. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 372، و"المنتظم" 6/ 292، و"السير" 4/ 441 والمصادر في حواشيهما، وما بين معكوفين من (ص). (¬2) في (أ) و (خ) و (د): فولى قرة عبد الله بن عبد الرحمن بن صخرة الخولاني، والمثبت من (ص)، وانظر أخبار الخولاني في مختصر "تاريخ دمشق" 12/ 335، و"تهذيب الكمال" (3365) وفروعه.

وصُرف بالقاضي عِياض بن عبد الله الأَزدي من قبل قُرَّة في سنة ثلاث وتسعين، فكانت ولايتُه ثلاث سنين، وأقام عياض أربع سنين، ثم صُرف عنها، فوليها عبد الله بن حُجَيرة (¬1) ثانيًا في رجب سنة سبع وتسعين من قبل الأمير عبد الملك بن رِفاعة، ثم صرف عنها في سنة ثمان وتسعين. وكان ثقةً من التابعين. وفيها فتح قُتيبة بن مُسلم بُخارى، ولما قطع قتيبة النهر قاصدًا بخارى استنجد عليه وَرْدان خُداه صاحبها السُّغْدَ والتُّركَ ومَن حوله، فأتوه، فسبقهم قتيبة فحصرهم، وجاءت الأمداد، وخرج وَرْدان خُداه، وحملوا جميعأ على المسلمين فحطموهم، ودخلوا الخيام، وقاتلهم النساء، ثم عاد المسلمون عليهم فأخرجوهم وألحقوهم بمواقفهم. ورجع قتيبة إلى مرو بعد أن فض جموع أهل بخارى، وصالح ملك السُّغْد، وعاد نيزك مع قتيبة. وقيل: إنه فتح بُخارى وحصونَها في هذه السنة. ولما رأى نيزك ما فتح قتيبة خاف على بلاده، واستأذنه في العود إلى بلاده فأذن له، فلما سار متوجهًا إلى بلاده قال لأصحابه: إن العربي بمنزلة الكلب، إن ضربتَه نبح، وإن أطعَمتَه بَصْبَص، وقتيبة كذا، يقصد الملوك، فإن أعطوه شيئًا أخذه ورجع عنهم. ثم إن قتيبة ندم على ترك نيزك، فأرسل خلفه رسولًا ففاته، ولما وصل نيزك إلى مأمنه كاتب ملوك ما وراء النهر، واتفقوا على غزو قتيبة في أيام الربيع، ويقال: إن قتيبة سار إلى الطَّالقان، فقاتلهم فنصر عليهم، فنصب منهم (¬2) سِماطَين أربعة فراسخ على أسلوب واحد، وقيل: إنما كان ذلك سنة إحدى وتسعين. وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج إلى الشام، وكان قد حبسهم وضيَّق عليهم، وقيل: كان ذلك في سنة أربع وتسعين، وهو الأصح وسنذكره هناك. وحجّ بالناس عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وكان على المدينة. ¬

_ (¬1) نسبه إلى جده، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة. السالف ذكره. (¬2) في الطبري 6/ 447: فصلب منهم.

أبو ظبيان

وكان على مكة والطائف خالد بن عبد الله القَسْرِيّ (¬1)، وعلى العراق والمشرق الحجاج، وعلى مصر قُرَّة بن شَريك، وعلى الجزيرة محمد بن مروان. وكان العباس بن الوليد ومَسْلَمة بن عبد الملك قد دخلا بلاد الروم، وقيل: إن مَسلمة كان في ناحية القُسطَنطينيّة، وبلغ [العباس بن] الوليد إلى أَرْزَن الروم (¬2). [فصل] وفيها توفي. أبو ظَبْيان حُصَين بن جُنْدب الجَنْبِيّ المَذْحِجِيّ الكوفيّ. [وذكر ابن سعد أبا ظَبيان] في الطبقة الثالثة [من أهل الكوفة] من التابعين (¬3). [وقال الواقدي: ] غزا الصائفة مع يزيد بن معاوية سنة خمسين حتى بلغ القسطنطينية. [وقال ابن سعد: ] توفي سنة تسعين، وقيل: سنة خمس وتسعين. أسند عن علي، وعثمان، وسلمان، وأسامه بن زيد، وجرير، وابن عباس - رضي الله عنهم -. وروى عنه ابنه قابوس، والنَّخَعي، والشَّعبي، والأعمش. وكان ثقة. [فصل: وفيها توفي] خالد بن يزيد ابن معاوية [بن أبي سفيان، وكنيته] أبو يزيد (¬4)، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل الشام، وأمه أمُّ هاشم بنت [أبي هاشم بن] عُتبة بن ربيعة (¬5). وهي ابنة خال معاوية ابن أبي سفيان، ويقال لها: أم خالد. ¬

_ (¬1) كذا، وفي الطبري 6/ 447، و"المنتظم" 6/ 296 أن عمر بن عبد العزيز كان عامل الوليد على المدينة ومكة والطائف. (¬2) "تاريخ الطبري" 6/ 442 وما بين معكوفين منه. (¬3) كذا نقل عن ابن سعد، والذي في طبقاته 8/ 344 أنه في الطبقة الأولى من أهل الكوفة ممن روى عن علي - عليه السلام -، وفي "تاريخ دمشق" 5/ 149 (مخطوط) نقلًا عن ابن سعد أنه في الطبقة الثانية. وما بين معكوفين من (ص)، وانظر "السير" 4/ 362. (¬4) في مصادر ترجمته: أبو هاشم، انظر "المعارف" 352، و"أنساب الأشراف" 4/ 399، و"تاريخ دمشق" 5/ 579، "تهذيب الكمال" (1649)، و"السير" 4/ 382 والمصادر في حواشيه، وما بين معكوفين من (ص). (¬5) ما بين معكوفين من "نسب قريش" 128، و"أنساب الأشراف" 4/ 395.

[قد ذكرنا من أخباره عند بيعة مروان بن الحكم. ذكر طرف من أخباره: حكى أبو بكر الصولي أنه كان مولعًا بالكيمياء، وكذا قال جدّي في "المنتظم" لأنه قال: ] كان من رجالات قريش، والمعدودين من كبرائهم سماحة وفصاحة وعقلًا، وكان قد شغل نفسه بالكيمياء، فضاع زمانُه (¬1). وقيل. إن له في الكيمياء قصيدة طويلة. وقد أنكر قوم هذا؛ فقال المَرْزُباني: كان خالد أعقل من ذلك، وإنما كان له مال كثير فنسب إلى ذلك، وإلا فهو أجلُّ من أن يُضيع عمره في ما لا محصول له، ويذهب بالمال والدين والعرض، وقد قيل عنه: إنه كان يشتغل بالنجوم. وقال الشعبي: قدم الحجاج على عبد الملك، فمر بخالد وهو يتبختر في مشيته، فقال رجل لخالد: مَن هذا؟ فقال خالد كالمستهزئ به: هذا عمرو بن العاص، وسمعه الحجاج فالتفت إلى خالد وقال: ما أنا عمرو بن العاص، ولكني ابن الغَطاريف من ثَقيف، ضربتُ بسيفي مئةَ ألف؛ كلَّهم يَشهدون أن أباك وجدَّك في النار، ثم لم أجد لذلك عندك شُكرا إلا أن تستهزئ بي! فقال له خالد: أما قولك: إنك ابن الغَطاريف؛ فما أنت إلا عبد من عبيد ثقيف من بقايا ثمود، وينتهي نسبُك إلى أبي رِغال، وأما قولك: إنك ضربتَ بسيفك مئة ألف، فما كان سيفك، وإنما كان سيف عبد الملك، وإلا فاذكر طَعنات غزالة في قَفاك وهي على باب القصر في خمسين فارسًا، وأنت في خمسين ألفًا، ثم لك عندي بشارتان، قال: وما هما؟ قال: إخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنك مُبير، والثانية النار، فوَجَم الحجاج ومضى. وقال هشام (¬2): أمهر الحجاجُ ابنةَ عبد الله بن جعفر سبعين ألف دينار، فزوجه إياها، وبلغ خالدًا، فطرق باب عبد الملك ليلًا، فأذن له فقال: يا أبا يزيد، ما هذا الطُّروق؟ قال: أمر لا يُنتَظرُ له الصّباح، قال: وما هو؟ قال: هل علمتَ أن أحدًا كان ¬

_ (¬1) "المنتظم" 6/ 236 وما بين معكوفين من (ص). (¬2) الخبر في "العقد الفريد" 6/ 122 عن العتبي، عن أبيه.

بينه وبين أحد من العداوة مثل ما كان بين آل أبي سفيان وآل الزبير؟ قال: لا، قال: فقد تزوَّجتُ منهم، وما في الدنيا اليوم قبيلة أحبّ إليّ منهم، فكيف تركتَ الحجاج يتزوج إلى بني هاشم، وهو سَهْمٌ من سهامك، وقد علمتَ ما يقال لبني هاشم: إنهم يملكون الناس في آخر الزمان، وقد وليتَ الحجاج على نصف الدنيا، وبيده الأموال، وعنده الرجال؟ ! فجزاه عبد الملك خيرًا وقال: وصلتك رَحِم، وكتب إلى الحجاج يَعْزِم عليه بطلاق بنت ابن جعفر، فطلّقها. وبلغ الحجاج الخبر فأخذ يذم خالد بن يزيد ويقول: صيَّر الأمر إلى من هو أولى منه، ولم يكن لذلك أهلًا، فقال له عَمرو بن عُتبة بن أبي سفيان: ليس كما قلت، إن خالدًا أدرك مَن كان قبله، وأتعب مَن بعده، ولو رام الأمر لما فاته، ولكنه رأى أن يُسلمه إلى من سَلّمه إليه، فخجل الحجاج وقال: يا عمرو، إنا نَخْبُرُكم بأن نعتب عليكم، ونستنطقكم لننال منكم، وقد علمنا أنكم تحبون الحلم فعرضنا عليكم ما تحبون (¬1). وقال الزهري (¬2): غضب عبد الملك على خالد بن يزيد، وكان يخاف منه لميل الناس إليه، فمنعه العطاء، ومنع آل حرب أيضًا، وضيق على خالد فلم يلتفت خالد وقال: أيتَهدَّدُني عبده الملك بالحرمان ويد الله فوق يده، وعطاؤه مَبذولٌ دون عطائه، ومن سأل غيره فقد بذل نفسه أكثر مما أخَذَ لها. وقال هشام بن الكلبي: أجرى عبد الله بن يزيد بن معاوية -وهو أصغر الأصاغر، ويُلقَّب بالأسوار- خيلَه مع خيل الوليد بن عبد الملك، فسبقه عبد الله، فلقي الوليد خيلَ عبد الله فعَقَرها، فقال عبد الله لأخيه خالد: لقد هممتُ اليوم أن أقتل الوليد، فقال خالد: بئس ما هَمَمْتَ به، أتقتل ابنَ أمير المؤمنين ووليَّ عهد المسلمين؟ فقال: إن خيلي سبقت خيله فعَقَرها، فدخل خالد على عبد الملك فقال له: إن الوليد عَقَر ¬

_ (¬1) في "العقد": إنا نسترضيكم بأن نعتب عليكم، ونستعطفكم بأن ننال منكم، وعلمنا أنكم تحبون أن تحلموا فتعرضنا للذي تحبون. (¬2) هذا الخبر وتاليه في "تاريخ دمشق" 5/ 584 - 585 (مخطوط) عن المدائني، وما سيرد بين معكوفين منه.

خيلَ أخي! فقال عبد الملك: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُو} [النمل: 34]، فقال خالد: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16]، فقال له عبد الملك: أتُناظر عن أخيك وهو لُحَنَة، قد أعياكم تقويمُ لسانه؟ ! فقال خالد: أعيانا ما أعياك من الوليد -وكان لُحَنَة- فقال عبد الملك: إن يكن الوليد لَحَّانا فإن سليمانَ لفصيح، فقال خالد: إن يك عبد الله لحانًا فإن خالدًا لا يَلْحَن، فقال عبد الملك: حُقَّ لمن قتل عَمرو (¬1) أن يفخر، يريد نفسه، فقال له خالد: إن الغَدْرَ سُبَّة، ولَمَروان كان أطولَ باعًا، يعني أن أُمَّه قتلتْه (¬2)، فقال عبد الملك: إنني لأرى ثأري في مروان صباحًا ومساءً، ولو شئتُ لأزلتُه، يعني أن أم خالد قتلته، فقال له خالد: إذا شئت أن تطفئ ثُورَتك فافعل، فقال عبد الملك: يا خالد ما أجرأك علي! خلني عنك، فقال خالد: لا والله ألم تسمع قول القائل: [من الخفيف] ويجرُّ اللِّسانُ من أَسَلَاتِ الحَرْ ... بِ ما لا يَجُرُّ [منها] البَنانُ وكان الوليد بن عبد الملك حاضرًا فقال له: يا خالد، أتتكلّم ولستَ في العِير ولا في النَّفير؟ فقال خالد: يا وليد أنا والله ابنُ العِير والنَّفير، سيد العير جَدَّي أبو سفيان، وسيد النَّفير جدي عُتبة بن ربيعة، ولكن اذكروا غُنَيمات وحُبَيلات بالطائف، وترحّموا على ابن عفان -أشار إلى نَفْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم جدّ عبد الملك إلى الطائف، يرعى غُنيمات، ويأوي إلى حُبَيلات، وهي الكُرُوم، جمع حَبَلة- فقال عبد الملك: يا وليد، إياك أن تعبث بعدها بأخيك وابن عمك خالد، فإن أباه كان يُكرم أباك، وكان جده يُكرم جدَّك. وقال أبو اليقظان: كان خالد على حمص فبنى جامعَها، وكان له فيه أربع مئة عبد يعملون، فلما فرغوا من العمل وتم البناء أعتقهم. وقال الزبير بن بكار: كان خالد وأخواه عبد الله وعبد الرحمن من صالحي القوم، ¬

_ (¬1) يعني ابن سعيد الأشدق. وانظر "أنساب الأشراف" 4/ 402، و"الأغاني" 17/ 34، 347. (¬2) وكانت أمُّ خالد بن يزيد غَمَّتْ (أو سمَّمتْ) زوجَها مروان بن الحكم لما عيَّر ابنَها خالدًا بها. ينظر أنساب الأشراف 4/ 403.

وجاءه رجل فقال: قد قلتُ فيك بيتين، فقال: أنشِدْهما، فقال: على حُكمي؟ قال: نعم، فأنشده: [من الطويل] سأَلتُ النَّدى والجُودَ حُرَّانِ أنتُما ... فقالا جميعًا إننا لعَبيدُ فقلت فمَن مولاكما فتطاولا ... عليَّ وقالا خالدُ بنُ يزيد (¬1) فأعطاه مئة أَلْف. [قلت: وقد جرى مثل هذا ليحيى بن خالد بن برمك.] وقال العُتْبيّ: لزم خالد بيته، وترك مجالسة النَّاس، فقيل له في ذلك فقال: وهل بقي إلَّا حاسِدُ نعمةٍ، أو شامتٌ بنكْبَة (¬2). وكان فاضلًا شاعرًا فصيحًا، ذكر البَلاذريُّ من شعره (¬3): [من مجزوء الكامل] قَصْرُ الجديدِ بِلًى وقَصْرُ الـ ... ـعَيشِ في الدنيا انقِطاعُهْ مَن نال في الدنيا متا ... عًا ثم دامَ به انتِفاعُهْ أم أيُّ شِعْبٍ ذي التِئا ... مٍ لم يُشَتِّتْه انصِداعُهْ والأوَّلُ الماضي الذي ... حَقٌّ على الباقي اتِّباعُه قد قال في أمثالِه ... يَكفيك من شَرٍّ سَماعُه ذكر وفاته: [واختلفوا فيها؛ ذكر الواقديّ أنَّه] مات في سنة تسعين بدمشق، فمشى الوليد في جنازته، وصلى عليه وقال: لتُلْقِ بنو أمية أرديتَها على خالد، فلن يَحسروها على مثله (¬4). [وقال هشام: ] مات بالصُّبَيرة (¬5) في أيام عبد الملك سنة أربع وثمانين هو وأمية بن عبد الله بن خالد بن أَسيد، والأول أصح. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 5/ 584 (مخطط). وفي البيت الثاني إقواء. (¬2) "تاريخ دمشق" 5/ 584، 586 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) في "أنساب الأشراف"4/ 407. (¬4) "تاريخ دمشق" 5/ 587 وفيه: فلن يتحسروا على مثله. (¬5) في النسخ: بالصِّنَّبْرَة، والمثبت من (ص) وما بين معكوفين منها، والصنبرة: موضع بالأردن. والصبيرة: موضع بالشَّام. ينظر معجم البلدان 3/ 392 و 425.

ذكر أولاده وأزواجه: كان له من الولد: سعيد، وأُمُّه أَمَة (¬1) بنت سعيد بن العاص، وأمُّها أمُّ عمرو بنت عثمان بن عفان، وأمها رَمْلَة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، وقيل: أسمها آمنة بنون (¬2)، طلَّقها خالد وقال: [من الكامل] أعطيتُ آمنةَ الطَّلاقَ عَزيمةً (¬3) ... عندي ولم يَكْبُرْ عليَّ طَلاقُها ولأَضْرِبَنَّ بحَبْلِ أُخرى فوقَها ... يومًا إذا لم تَستَقِمْ أخلاقُها فتزوَّجها الوليد بن عبد الملك، وهي أخت عمرو بن سعيد الأشدق، ولما مات عبد الملك لم تَبْكِ عليه، فقال لها الوليد: أشماتةً بأمير المُؤْمنين؟ هلا بكيتِ عليه؟ فقالت: حتَّى يقتل لي أخًا آخر (¬4)، فقال الوليد: والله لقد كسرنا ثناياه، فقالت: لقد علمتَ مَن قنعت السيوفُ رأسَه، والرماحُ اسْتَه، -تعني الوليد يوم قُتل عمرو- فقال لها: الحقي بأهلك، فقالت: ألذُّ من الدنيا وأُسَرّ. وكان لخالد من الولد: يزيد بن خالد، لأمّ وَلَد، وكان جوادًا مُمَدَّحًا، أحد وجوه بني حَرْب، بايع مروان بن مُحَمَّد الجَعْديّ بالخلافة سنة سبع وعشرين ومئة. وقف موسى شَهَوات ليزيد بن خالد في الطريق، فلما مَرَّ به أخذ بعِنان دابَّته وقال: [من الخفيف] قُم فَصَوِّت (¬5) إذا أتيتَ دِمَشْقًا ... يَا يزيدَ بنَ خالدِ بن يزيدِ يَا يزيدَ بنَ خالدٍ إن تُجِبني ... يَلْقَني طائري بسَعْدِ السُّعودِ فأمر له بخمسة آلاف درهم وكسوة، وقال: كما شئتَ فنادِنا نُجِبْك، فقال موسى: ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" ص 41 (تراجم النساء)، وفي "الأغاني" 17/ 345: أمية، وهذا الفصل بتمامه ليس في (ص). (¬2) وهي كذلك في "نسب قريش" 130، و"أنساب الأشراف" 4/ 405. (¬3) كذا، وفي "أنساب الأشراف" 4/ 406، و"تاريخ دمشق" 41 (تراجم النساء): كريمة، وهو الأشبه. (¬4) في "تاريخ دمشق" 42 (تراجم النساء): وما أقول له إلَّا أن أدعو الله أن يحييه حتَّى يقتل لي أخًا آخر. (¬5) في "أنساب الأشراف" 4/ 405: ثم صوت، وفي "نسب قريش" 130، و"تاريخ دمشق" 18/ 271 (مخطوط): ثم نادي.

كنتُ أرجو نَدَاك والشامُ دوني ... كرَجاءِ الأَسيرِ فَكَّ القُيودِ ثم لم يُخلف الرّجاءَ ولكن ... زاد فوق الرَّجاءِ كلَّ مَزيدِ ومن أولاد خالد: حَرْب بن خالد لأُمِّ ولد، وكان جوادًا مُمَدَّحًا، قدم عليه داود بن سَلْم الشَّاعر، فقام غلمانه إليه، فأخذوا دوابَّه، وأنزلوه وأكرموه، فقال: [من المتقارب] ولما دفعتُ لأبوابهم ... ولاقيتُ حَرْبًا لقيتُ النَّجاحا وَجَدْناه يَحْمَدُه المُرْتَجون ... ويأبى على العُسْرِ إلَّا سَماحا فأجازه جائزةً سَنيّة، وارتحل فلم يقم إليه أحد من غِلمانه ولا عاونوه، فقال: ما بالكم؟ فقالوا: نحن نُكرم من ينزل بنا، أما إذا رحل عنا فلا. فلما قدم داود المدينة حكى للغاضِرِيّ فِعلَ غلمان حَرْب، وأنشده البيتين، فقال: والله إنَّ فِعلَ غِلمانه معك أحسن من شعرك فيه (¬1). قال ابن عساكر: وكان لخالد ولد يقال له (¬2): عبد الله لأم ولد، وكان له ولد اسمه علي بن عبد الله، يُعرف بأبي العَمَيطَر، خرج في أيام المأمون بدمشق، وسنذكره. قصة تزويج خالد بن يزيد برَمْلَة بنت الزُّبير بن العوَّام: ذكر الخرائطي -وقد تقدم إسنادنا إليه- فقال: حَدَّثَنَا محمَّد بن يزيد المبرِّد، حَدَّثَنَا هشام، عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى قال (¬3): حجّ عبد الملك بن مروان، وحج معه خالد بن يزيد -وكان من رجالات قريش المعدودين وعلمائهم، وكان عظيم القدر عند عبد الملك- فبينا هو يطوف بالبيت إذ بَصُر برَمْلَة بنت الزُّبير، فعشقها عِشقًا شديدًا، ووقعت بقلبه وقوعًا متمكّنًا. فلما أراد عبد الملك القُفول همَّ خالد بالتخلف عنه، فوقع بعبد الملك تُهمة، فبعث إليه فسأله عن أمره فقال: يَا أمير المُؤْمنين، رَمْلَة بنت الزُّبير، رأيتُها تطوف بالبيت فأذهلت عقلي، والله ما أبديت إليك ما بي حتَّى عِيل صبري، ولقد عرضت النّومَ على ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 4/ 406 - 407، و"تاريخ دمشق"4/ 317 - 318 (مخطوط). (¬2) في (أ) و (د): ولد اسمه. وانظر "تاريخ دمشق" 33/ 235. (¬3) من قوله: ذكر الخرائطي ... إلى هنا من (ص)، بدله في النسخ: قال معمر بن المثنَّى.

عيني فلم تَقبَلْه، والسُّلُوَّ على قلبي فامتنع منه، فأطال عبد الملك التعجُّبَ من ذلك وقال: ما كنت أقول إن الهوى يَستَأسِر مثلَك، فقال خالد: وإني والله لأشَدُّ تعجُّبًا من تعجُّبِك مني، ولقد كنت أقول: إن الهوى لا يتمكَّن إلَّا من صِنفين من النَّاس: الشعراء والأعراب. فأما الشعراء فإنهم قد ألزْموا قلوبَهم الفِكرَ في النساء والغَزَل، فمال طَمَعُهم إلى النساء، فضَعُفَتْ قلوبُهم عن دَفْعِ الهوى، فاستسلموا إليه مُنقادين. وأما الأعراب فإن أحدهم يخلو بامرأته، فلا يكون الغالب عليه غير حبِّه لها, ولا يشغله عنها شيء، فضَعُفوا عن دفع ذلك، فتمكَّن من قلوبهم. وجملةُ أمري أنني ما رأيتُ نَظرةً حالت بيني وبين الحَزْم، وحسَّنت عندي ركوبَ الإثم مثل نظرتي هذه، فتبسم عبد الملك وقال: أوكلّ هذا قد بلغ بك؟ ! فقال: والله ما عَرفَتْني هذه البليَّة قبلَ وقتي هذا. فوجه عبد الملك إلى آل الزُّبير يخطب رَمْلَة على خالد، فذكروا لها ذلك فقالت: لا والله أو يُطلِّقَ نساءه، فطلَّق امرأتين كانتا عنده؛ إحداهما من قريش، والأخرى من الأَزْد، وظَعَن بها إلى الشعام، وفيها يقول خالد: [من الطَّويل] أليس يزيدُ الشَّوقُ في كُلِّ ليلةٍ ... وفي كُلِّ يومٍ من حَبيبَتِنا قُرْبا خليليَّ ما من ساعةٍ تذكُرانها ... من الدَّهرِ إلَّا فَرَّجَتْ عَنِّيَ الكَرْبَا أُحبُّ بني العَوَّامِ طُرًّا لحُبِّها ... ومن أجلها أحببتُ أخْوالها كَلْبًا تَجولُ خَلا خيلُ النِّساءِ ولا أرى ... لرَمْلَةَ خَلْخَالًا يَجولُ ولا قُلْبا [هذا آخر ما ذكر الخوائطي في حديث رَمْلَة، وقال أبو عبيدة مَعْمَر: ] فيقال إن عبد الملك زاد فيها: فإنْ تُسْلِمي نُسْلِم وإن تَتَنَصَّري ... يَدُقُّ رجالٌ بين أعيُنها صُلْبا! وبلغ قوله خالدًا فقال لعبد الملك: ما هذه الشَّناعة؟ قال: وما هي؟ قال. قولك: يدقُّ رجالٌ بين أعينها صُلْبا، قال: ما قلتُه، فقال خالد: فقَبَّح الله قائلَه (¬1). ¬

_ (¬1) الخبر والأبيات في "المنتظم" 6/ 23، 236، والأبيات فقط في "الأغاني" 17/ 344، و"أنساب الأشراف" 4/ 400.

وبعث الحجاج إلى خالد لما بلغه أنَّه خطب رَمْلَة حاجبَه، فقال له: ما كنت أرى أنك تخطب إلى آل الزُّبير حتَّى تُشاورَني، وكيف خطبتَ إليهم وليسوا بأكفائك؟ وهم الذين قارعوا أَبَاك على الخلافة، ورَمَوه بكل قبيحٍ وقبيحة؟ فقال للحاجب: لولا أنك رسولٌ لضربتُ عُنقك، قل لابن أبي رِغال: ما كنتُ أظن أن الأمر بلغ بك حتَّى تؤهِّل نفسَك لأن تُشاوَر في مناكح قريش، وأما قولك: قارعوا أَبَاك ورموه بكل قبيح، فإنَّها قريش يُقارع بعضُها بعضًا، فإذا أقرَ الله الحقَّ مَقَرَّه تعاطفوا وتراحموا، وأما قولك: ليسوا بأكفائك، فقبّحك الله يَا حجّاج ما أقلَّ علمَك بأنساب قريش، أيكون العوَّام كُفؤًا لعبد المطَّلب بن هاشم حتَّى زوَّجه صفيّة، وتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة، أفلا تراهم أكفاء لآل أبي سفيان. ولما تزوَّج خالد رَمْلَة قال بعض شعراء قريش يحرِّض عبد الملك على خالد: عليكَ أميرَ المُؤْمنين بخالدٍ ... ففي خالدٍ عما تُحبُّ صُدودُ إذا ما نَظرْنا في مَناكِحِ خالدٍ ... عَرَفْنا الذي يَنوي وأين يُريدُ (¬1) وأشار إلى رَمْلَة، وأمِّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر، فإنَّه رُوي أنَّه تزوّجها، وإلى أمة بنت سعيد بن العاص. [وقال الزُّبير: كانت رَمْلَة أخت مصعب لأبيه وأمه، أمُّهما الرَّباب بنت أُنَيف، كلبيَّة، وكانت قبلَه عند عثمان بن عبد الله بن حَكيم بن حِزام، وكانت معروفةً بالعقل والفضل والجمال، ولما قَتل عبد الملك مصعبًا خطبها من أخيها عروة، فنهاه عنها وقال: بالأمس قتلتَ شقيقَها واليوم تخلو بها, آمَنُها عليك، فتركها، فلما تزوّجها خالد دخلت على عبد الملك يومًا، فقال لها: يَا رَمْلَة، لقد غرَّني منك عروة، فقالت: لم يَغُرَّك وكان نصحك (¬2). ومن شعر خالد في رَمْلَة: [من المتقارب] ألا مَن لقلبٍ مُعَنًّى غَزِلْ ... بحُبِّ المُحِلَّةِ أُختِ المُحِلّ ¬

_ (¬1) "نسب قريش" 435، و"أنساب الأشراف" 4/ 402، و"الأغاني" 17/ 347. (¬2) انظر "أنساب الأشراف" 4/ 401 - 402، و"الأغاني" 17/ 346، و"المنتظم"6/ 238.

أبو العالية الرياحي

تراءَتْ لنا بين فَرْعِ الأَراكِ ... وبين العِشاءِ وبين الأُصُلْ (¬1) أسند خالد الحديث عن دِحْيَة بن خَليفة الكَلبيّ، وأبي أُمامة البَاهِليّ، وروى عنه رجاء بن حَيوة، والزُّهري. وكان أهل الشَّام قد عزموا على بيعته بعد أخيه معاوية، فاستصغروه، فولَّوا مروان بن الحكم، وأخذوا عليه العهود، واستوثقوا منه بالأيمان على أن يجعله وليَّ عهده، فغدر به مروان، وخلعه وبايع لابنيه عبد الملك وعبد العزيز [وقد ذكرناه. فصل: وفيها تُوفِّي] أبو العالية الرِّياحيّ واسمُه رُفَيع بن مِهران، وإنما قيل له: الرِّياحي لأن امرأة من بني رِياح بن يَربوع [أعتقته. وذكر الواقديّ أن امرأة من بني رياح] اشترته، ودخلت به المسجد يوم الجمعة والإمام على المنبر، فقبضت على يده وقالت: اللهمَّ إنِّي أَذْخَرُه عندك ذَخِيرة، أَشهدوا يَا أهل المسجد أنَّه سائبةٌ لله، لا سبيلَ لأحدِ عليه، قال: فتركتْني وذهبت، فما تراءينا بعد ذلك. [وذكر ابن سعد بمعناه، وذكره في] الطَّبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة، [وحكى عنه أنَّه] قال: ما مَسِسْتُ ذكري بيميني منذ سبعين سنة. [قال: وقال أبو العالية: ] لو مَرَرْتُ بصرَّافٍ وعَشَّارٍ ما شربتُ من مائه. [قال: ] وأوصى بثلث ماله في سبيل الله، وبثلثه في أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبثلثه في فقراء المسلمين، فقيل له: فأين مواليك، فقال: أنا سائبة، والسَّائبة يضع نفسه حيث شاء. وكان إذا دخل على ابن عباس بالبصرة أجلسه معه على سريره، قال: وكان قميصه وعمامته ووداؤه بخمسة عشر درهمًا، وكان يشتري الكِرباسة (¬2) بخمسة دراهم، فيقطعها ثلاثة. ¬

_ (¬1) نسب البيتان إلى النميري وأبي شَجرة السُّلَمي وعمر بن أبي ربيعة، انظر "الأغاني" 6/ 206 - 207، و"تاريخ دمشق" 54/ 84 والمصادر فيه، والأول في "الكامل" 1193، و"العقد الفريد" 4/ 413 دون نسبة. (¬2) ثوب غليظ من القطن، ومن قوله: قال وكان قميصه ... إلى نهاية الترجمة أثبت سياق (ص) لتمامه ووضوحه.

وحكى ابن سعد أَيضًا عن أبي خَلْدَة قال: دخلتُ على أبي العالية، فقرَّب إلي طعامًا فيه بَقْل وقال: كل فإن هذا ليس من البقل الذي تخاف أن يكون فيه شيء، هذا أرسل به إليّ أخي أنس بن مالك من بستانه، قلت: وما شأن البقل؟ قال: إنه ينبت في مَنبت خَبيث تعلم ما هو، قلت: وما هو؟ قال: البول والحيض والنّجاسة. وحكى عن أبي خَلْدة أَيضًا أنَّه قال: رأيت أَبا العالية يسجد على وِسادة وهو مريض على فراشه. قال ابن عساكر: وذكره ابن مَنده في كتاب "معرفة الصَّحَابَة" فقال: أدرك أبو العالية زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلم بعد وفاته بسنتين، ودخل أَصبهان مع أبي موسى في الفتح، وهو مولى أُميَّة بنت سُمَيّة (¬1)، وقيل: إنه أسلم بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعام. وقال أبو نعيم (¬2): أدرك أبو العالية الجاهلية والإِسلام، فهو مخضرم. وكان إذا دخل على ابن عباس أخذ بيده، وأجلسه معه على سريره، وقريش تحت السرير، فيتغامزون ويقولون: هو مولى، فيقول ابن عباس: إن هذا العلم يزيد الشريف شَرفًا، ويُجلس المماليك على الأَسِرَّة. وأخرج هذا الأثر أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" عن محمَّد بن الحارث ثم أنشد: [من الطَّويل] رأيتُ رفيعَ النَّاس مَن كان عالمًا ... وإن لم يكن في قومه بحَسيبِ إذا حلَّ أرضًا عاش فيها بعلمه ... وما عالمٌ في بلدةٍ بغريب (¬3) وقال الشعبي: كان أبو العالية عالمًا فاضلًا زاهدًا، يختم القرآن في كل يومين. وقال: قرأتُ القرآن قبل أن يُقتل عثمان بن عفان بخمس عشرة سنة، وقبل أن يولد الحسن البَصْرِيّ بسنة. ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 6/ 263 (مخطوط): بنت بيضة. (¬2) في (ص): وقال ابن منده، والمثبت من "تاريخ دمشق". (¬3) "تاريخ دمشق" 6/ 269 (مخطوط).

وكان إذا جُلس (¬1) إليه أكثر من أربعة قام، يعني أنَّه كان يخاف الشهرة. [وروى أبو نعيم، عن الرَّبيع بن أنس، عن أبي العالية] قال: كنتُ أرحل إلى الرجل مسيرة أيام، فأول ما أَتَفَقَّد من أمره صلاته، فإن وجدتُه يُقيمها ويتمّها أقمتُ عنده، وسمعت منه، وإن وجدتُه يُضيّعها رجعتُ ولم أسمع منه، وقلت: هو لغير الصلاة أضيع. [وروى أبو نعيم أَيضًا، عن عثمان، عن أبي العالية] قال: لا تعمل لغير الله فيَكِلَكَ الله إلى مَن عملتَ له (¬2). وقال الزُّهْرِيّ: هو أول مَن أَذَّن وراء النهر حين دخل خُراسان (¬3). ذكر وفاته: [روى ابن أبي الدنيا (¬4)، عن العباس بن يزيد، عن يعلى بن عبد الرَّحْمَن العَنْبريّ، عن] سيّار بن سلامة قال: دخلتُ على أبي العالية في مرضه الذي مات فيه: كيف أَنْتَ؟ فقال: إنَّ أحبَّه إليّ أحبُّه إلى الله تعالى. وحكى ابن عساكر عن أبي عبد الله بن خَفيف قال: وقعت الأَكْلَةُ في رجل أبي العالية، فدبّت إلىساقه، فأشاروا عليه بقطعهما [وقالوا: نخاف أن تسري، فقال: اجمعوا حملة القرآن، فاجتمعوا وشرعوا في القراءة، وركبوا المنشار عليها] فقطعوها وهو ساكت، فقالوا له: ما وجدتَ ألمها؟ فقال: شَغَلني بَرْدُ مَحبَّة الله عن حرارة المنشار، ثم أخذ رجله بيده، ورفع رأسه إلى السماء وقال: إن تسألْني يوم القيامة: هل مشيتَ بها منذ أربعين سنة في شيء لم أرضه؟ لقلت: لا، وأنت تعلم أني لصادق (¬5). ¬

_ (¬1) في (ص): وروى عبد الله بن الإِمام أَحْمد، عن عاصم قال: كان أبو العالية إذا جلس ... والخبر في "حلية الأولياء" 2/ 218، و"تاريخ دمشق" 6/ 272 من طرق عن عاصم والليث. (¬2) "حلية الأولياء" 2/ 220 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) وقع قول الزُّهْرِيّ في (ص) بعد قول الشعبي السالف. (¬4) في (ص) وما بين معكوفين منها: ابن أبي نعيم، والمثبت من "تاريخ دمشق" 6/ 274. (¬5) "تاريخ دمشق" 6/ 271، وما بين معكوفين من (ص).

[قلت: لم يذكر ابن سعد في "الطبقات" هذه الحكاية، ولا أبو نعيم ولا ابن منده، ولا جدي في "الصفوة"، الذي ذكر ابن سعد في "الطبقات" في وفاة أبي العالية قال: ] تُوفِّي أبو العالية يوم الاثنين في شوال سنة تسعين، وأوصى إلى مُوَرِّق العِجْليّ أو إلى بُريدة الأَسلَميّ أن يُوضع في قبره جريدتان، ومات بأدنى خراسان، فلم توجدا إلَّا في جوالق حمّار، فلما وضعوه في قبره وضعوهما معه. [هذا صورة ما ذكره ابن سعد، وأشار بالسَّعَفَتَين إلى الحديث المشهور، يدفع عنه عذاب القبر (¬1). وذكر جدي في "الصفوة" أنَّه مات يوم الاثنين في شوال سنة تسعين، ولم يذكر الجريدتين. وقال الواقديّ: مات يوم الاثنين ثالث شوال. وحكى ابن عساكر عن] البُخَارِيّ أنَّه قال: مات في سنة ثلاث وتسعين. وقال المدائنيّ: في سنة ست ومئة، وقال محمَّد بن إسحاق: سنة إحدى عشرة ومئة. [والأصح أنَّه مات في سنة تسعين كما ذكر ابن سعد، وقد نصّ عليه ابن حَنْبل في رواية عنه.] (¬2) أسند أبو العالية عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي أَيُّوب، وأُبيّ بن كعب، وأبي موسى، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة وخلق كثير، وأرسل الحديث عن بعضهم. وروى عنه: قتادة، وعاصم بن سُليمان الأحول، وداود بن أبي هند، والربيع بن أنس، ومحمَّد بن واسع، وثابت البُناني، وعمرو بن [عُبيد، وخالد بن] دينار، وحَفْصة بنت سيرين في آخرين (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أَحْمد (1980)، والبخاري (218) من حديث ابن عباس، وأَحمد (9686) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنهم-، وفيه أحاديث أخرى انظرها ثمة. (¬2) ما بين معكوفين من (ص)، وانظر "طبقات ابن سعد" 9/ 111 - 116، وتاريخ البُخَارِيّ الكبير 3/ 326، و"صفة الصفوة" 3/ 212، و"تاريخ دمشق" 6/ 275 - 276 (مخطوط)، و"السير" 4/ 213، و"المنتظم" 6/ 297. (¬3) "تاريخ دمشق" 6/ 260 وما بين معكوفين منه، وانظر "تهذيب الكمال" (1907)، و"السير" 4/ 207.

عبد الرحمن بن المسور

واتّفقوا على صِدقه، وثقته، وأمانته، وزهده، ووَرَعه، قال أبو حاتم: أبو العالية مُجمعٌ على ثقته ودينه وورعه (¬1). وقال الفِرَبْرِيّ: أخرج عنه البخاري في "صحيحه". ولم يتكلّم فيه غير الشَّافعيّ رحمة الله عليه فإنَّه روي عنه أنَّه قال: حديث أبي العالية الرياحي ريح. قال البيهقي: إنما تكلم فيه لأجل حديث القهقهة في الصلاة، وكان لسلامة صدره يُرسِل الحديث (¬2). وقال ابن سعد: كان أبو العالية ثِقَة كثير الحديث (¬3). عبد الرَّحْمَن بن المِسْوَر ابن مَخْرَمَة بن نَوفل بن أُهَيب بن عبد مَناف بن زُهرة، وأمه أَمَةُ الله بنت شُرَحْبيل بن حَسَنَة، المدنِيُّ (¬4). و[عبد الرَّحْمَن بن] المِسْوَر من الطَّبقة الثالثة من التابعين من أهل المدينة، وتوفي بها سنة تسعين، وكان قليل الحديث. وكان شاعرًا، وهو القائل: [من الخفيف] بينما نحنُ من بَلاكِثَ بالقا ... عِ سِراعًا والعِيسُ تهوي هُويَّا خَطَرتْ خَطرةٌ على القلبِ من ذِكْـ ... ـراكِ وَهْنًا فما استطعتُ مُضِيَّا قلتُ للشُّوقِ إذ دعانِيَ لَبَّيـ ... ـك وللحادِيَينِ كُرَّا المَطِيَّا ¬

_ (¬1) نسب هذا الكلام المزي في "تهذيبه" (1907) إلى أبي القاسم اللالكائي, ولم أقف عليه لأبي حاتم في "الجرح والتعديل" 3/ 510. (¬2) انظر "ميزان الاعتدال" (2667)، و"تهذيب التهذيب" 1/ 611. (¬3) "طبقات ابن سعد" 9/ 116. (¬4) المدنِيُّ نسبة عبد الرَّحْمَن بن المسور، أما شرحبيل بن حسنة فهو الكندي، انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 409، و"تاريخ دمشق" 41/ 412 وما سيرد بعده بين حاصرتين استدراكٌ لصحَّة السياق.

السنة الحادية والتسعون

وقيل: إن الشعر لولده عبد الله (¬1). وقدم عبد الرَّحْمَن الشَّام مع سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: فأقمنا معه شهرين بعَمّان البَلْقاء، فكان سعد يَقصُرُ الصّلاة ونحن نُتِمّ، فسألناه عن ذلك فقال: نحن أعلم. أسند عبد الرَّحْمَن عن سعد بن أبي وقَّاص، وأبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبيه المِسْوَر. وروى عنه الزُّهري، وحَبيب بن أبي ثابت، والشَّعبي وغيرهم (¬2). السنة الحادية والتسعون وفيها غزا المسلمون جزيرة الأندلس. [واختلفوا فيمن افتتحها على قولين: أحدهما موسى بن نُصير، والثاني: طارق مولى موسى بن نُصير. وقال هشام بن محمَّد والهيثم وأبو اليقظان وغيرهم على اختلاف بعضهم بين الروايات: ] إن موسى بن نُصير سار في جيوشه في هذه السنة، فعبر إلى طُلَيطُلَة مدينة الأندلس بعد أن استولى على الجزيرة، وافتتح حصونَها، ودخل طُلَيطُلَة عَنْوَةً، فوجد في دار المملكة مائدة سليمان - عليه السلام -، وهي من خليطين ذهب وفضة، وعليها ثلاثة أطواق من لؤلؤ وجوهر (¬3). وقال الهيثم إنما فتحها طارق في سنة اثنتين وتسعين (¬4)، عبر إلى الجزيرة في اثني عشر ألفًا، فلقي أدرينوق ملك الجزيرة، فقتله في رجب، [قال: ] وادعى موسى بن نُصير بين يدي ¬

_ (¬1) نسبها ابن الجوزي في "المنتظم" 6/ 297 - 298 لعبد الرَّحْمَن، وابن قتيبة في "الشعراء"564 لأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن المسور، وابن عبد ربه في "العقد" 6/ 47 للمسور بن مخرمة، والمرزوقي في شرحه للحماسة 1245 لبعض القرشيين، وياقوت في "معجم البلدان"1/ 478 لكثير، وانظر ديوان مجنون ليلى 291. قوله: بلاكث، هي قارَة (حَرَّة) عظيمة فوق ذي المَرْوَة (قرية بوادي القرى) وهي عيون ونخل لقريش. ينظر معجم البلدان 1/ 478 و 5/ 116. (¬2) من قوله: أسند عبد الرَّحْمَن ... إلى هنا ليس في (ص). وينظر تهذيب الكمال 17/ 402. (¬3) ذكره الطبري 6/ 481 سنة (93) عن الواقديّ. (¬4) وكذا ذكر الطبري 6/ 468.

الوليد أنَّه افتتح الأندلس وطُلَيطُلَة، وقال طارق مولاه -وقيل: كان مولى للوليد-: أنا فتحتُها، فقال له ابن نُصير: كذبتَ، فقال طارق: أحضِروا المائدة، فأحضروها للوليد، فقال طارق للوليد: يَا أمير المُؤْمنين، انظر إليها. فنظر وقال: كلها متساوية إلَّا رِجْل واحدة فإنَّها لا تشبهها، فقال طارق: سَلْه عنها فإن أتاك بها فهو صادق، فسأل موسى عنها فقال: هكذا وجدتُها، فأخرج طارق الرِّجل، فحظي عند الوليد، وسقطت منزلة موسى. وقال محمَّد بن أبي نصر الحُمَيديّ: إن طارقًا فتح الأندلس، وكان أمير الجيش موسى بن نُصير، فحسده موسى على الفتح والغنائم، وكونه انفرد بتلك، فكتب إليه: أقم مكانَك ولا تتجاوزه إلى غيره، ثم ركب موسى زقاق الأندلس (¬1)، واستخلف على القيروان ولده عبد الله بن موسى، وذلك في سنة ثلاث وتسعين، وخرج معه وجوه البَربر والموالي في عسكر ضخم، وطارق بقُرطبة، فالتقى بابن نصير وقد قتل طارق لُذَرِيق ملكها، فعاتبه ابن نُصير حيث عبر الزّقاق بغير إذنه، فقال له طارق: إنما أنا مولاك ومن قِبَلك، ولاحت الفُرصة فانتهزتُها، فقبض على طارق، واستخلف على الأندلس ابنَه عبد العزيز بن موسى، ورجع موسى إلى القيروان ومعه الغنائم والأموال، وبلغ الوليد قبضه على طارق، فبعث إليه يقول: والله لئن قتلتَه لأقتلنّك، فأطلقه، وخرج معه إلى الشَّام، وجرى بينهما ما ذكرناه. ويقال: إن موسى أدرك الوليد وقد مات، فحمل ما كان معه إلى سليمان، والأول أصحّ. واختلفوا في فتوح الأندلس [في أي سنة كان، وقد بيّنّا اختلافهم] فبعضهم يقول: سنة إحدى وتسعين، وبعضهم يقول: سنة اثنتين، وبعضهم يقول: سنة ثلاث. وفيها بعث الوليد بن عبد الملك إلى خالد بن عبد الله القَسْري بثلاثين أَلْف دينار، فضربها صفائح على باب الكعبة والميزاب، وكان جماعة من الْأَنصار يَقدمون مكة، فينزلون على أهلها، ويذكرون مَثالبَ بني أمية وظلمَهم، وما هم عليه من إظهار البدع، وإماته السنن, وبلغ خالدًا القسري فخطب وقال: أيها النَّاس إن هذه بلاد الله، وفيها ¬

_ (¬1) في جذوة المقتبس 3 للحميدي، و"تاريخ دمشق" 8/ 482 (مخطوط): وأما الذي فتحها وكان أمير الجيش السابق إليها فطارق، وكان واليًا على طنجة من المدن المتصلة ببر القيروان بينها وبين الأندلس خليج من البحر يعرف بالزقاق رتّبه فيها موسى بن نصير أمير القيروان. وانظر "تاريخ الطبري" 6/ 468، 481.

حَرَمُه، وهي التي اختارها الله على جميع البلدان، ووضع فيها بيته، وكتب على عبادة زيارتَه، فعليكم بالطَّاعة ولزوم الجماعة، وإيَّاكم والخيانة، فوالله ما أوتى بأحدٍ طعن على إمامه إلَّا قتلته في الحرم، فلا تقولوا: كيت وكيت، فإن الله جعل الخلافة في الموضع الذي جعلها فيه، وقد بلغني أن قومًا من أهل الخلاف يقدمون عليكم، وينزلون في منازلكم، فإياكم وإياهم، ومتى بلغني أنكم أنزلتموهم هدمتُ منازلَكم، وإياكم والفُرقة فإنَّها بلاء عظيم، فانتهى النَّاس. وكان خالد يقول: والله لو علمت أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم لا تُقِرُّ بالطّاعة لأخرجتُها منه (¬1). وفيها قتل قتيبة بن مسلم نيزك طَرخان ملك الترك، وكان قد أَمّنه، وحلف له قتيبة، ثم اجتمعا فغدر به وقتله، وبعث برأسه إلى الحجاج على يد رجل يقال له: سليم النَاصح (¬2)، فعزَّ على الحجاج وقال: بعثتُ بقتيبة فتى غرًّا، أفنى ملوك خُراسان، ما زدتُه ذِراعًا إلَّا زادني باعًا. وتلخيص القصة: أن قتيبة سار من خراسان غازيًا إلى مَرْو الرُّوذ يريد نيزك، وكان قد خلعه وغدر به، وبلغ مَرزبان مَرو الرُّوذ إقباله، فانهزم إلى بلاد فارس، وقدم قتيية مَرو الرّوذ فقتل وَلَدي المرزبان وصلبهما، ثم قدم الطَّالقان، فلم يحاربه صاحبها، واستعمل عليها عمرو بن مسلم، ومضى إلى الفارياب، فخرج إليه ملكُها سامعًا مطيعًا، فلم يَعرِض له ولم يقتل بها أحدًا، واستعمل عليها رجلًا من باهلة، وسار إلى الجُوزجان، فتركها ملِكُها وهربا إلى الجبال، ولما قدمها قتيبة خرج إليه أهلها سامعين مطيعين، فلم يعرض لهم، وولى عليهم عامر بن مالك الحِمَّاني، ثم أتى بَلْخ فدخلها ولم يقم بها إلَّا يومًا. وقصد نيزك بِبَغْلان، وقد نزل أصحابه على فم الشِّعب -وفي الِشِّعب قلعة عظيمة، ويقال للشِّعب: شِعب خُلْم- فأقام أيامًا، فقاتلهم ولا يعرف طريقًا يمضي به إلى نيزك إلَّا الشِّعب، أو مفاوز لا تحتمل العساكر، فتحيِّر في أمره. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 464 - 465 وما بين معكوفين من (ص). (¬2) كذا، والذي في الطبري 6/ 458 أنَّه بعث برأسه مع محفن بن جزء الكلابي وسوَّار بن زهدم الجرمي، وأن سليمًا الناصح استزل نيزك واحتال عليه حتَّى أدخله على قتيبة.

فبينا هو كذلك إذ قدم عليه الرُّوب خان ملك الرُّوب وسِمِنْجان، فاستأمنه على أن يَدلّه على مدخل قلعة نيزك التي من وراء الشِّعب، فأمّنه وبعث معه رجالًا إلى القلعة في الليل، فطرقوهم فقتلوهم، وهرب الباقون. ودخل قتيبة الشِّعب، ومضى إلى سِمِنْجان، فأقام أيامًا وبينه وبين نيزك مفازة، ونيزك ببَغْلان، فقدَّم بين يديه أخاه عبد الرَّحْمَن بن مسلم، وسار خلفه، وبلغ نيزك فارتحل من بَغلان، فقطع وادي فَرْغانة، وبعث بأهله وأمواله إلى كابُل شاه، ومضى حتَّى نزل الكَرْز وعبد الرَّحْمَن يتبعه، فتحصّن بالكَرْز، وليس إليه مَسْلك إلَّا من وجه واحد ولا تطيق الدواب سَلوكَه، وجاء قتيبة إلى قريب من عبد الرَّحْمَن، وأقام يحاصر نيزك شهرين، فقلَّ ما عند نيزك من الطعام، وأصابهم الجُدَريّ، وخاف قتيبة الشتاء، فأرسل سُليمًا الناصح إلى نيزك وقال: اجتهد أن تأتيني به بغير أمان، فإن أبي فأمِّنه، ووالله لئِن لم تأتني وهو معك لأقتلنَّك (¬1)، قال: فاكتب إلى أخيك عبد الرَّحْمَن لا يُخالفني. وكان بين قتيبة وعبد الرَّحْمَن مقدارَ فَرْسَخ، وعبد الرَّحْمَن قريبًا من العدوّ، فكتب له، فلما وصل إلى عبد الرَّحْمَن قال له: ابعث رجالًا يكونوا على فم الشِّعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشِّعب، فبعث عبد الرَّحْمَن خيلًا فوقفوا في المكان المعيّن، وحمل سُليم معه فنون الأطعمة والحلاوات التي تبقى أيامًا، ووصل إلى نيزك فقال له: خذلتَني يَا سليم -وكان هو الواسطة بينه وبين قتيبة- فقال له سليم: ما خذلتُك؛ وإنما أَنْتَ غدرتَ، وخلعتَ قتيبة، وخرجتَ عليه، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تأتيه، وإلا مكانَه يشتو وتهلك أَنْتَ ومن معك (¬2)، قال: على غير أمان؟ قال: ما أظنُّه يُؤمّنك وقد ملأتَ قلبَه غيظًا، ولكن أرى أن لا يَعلم بك حتَّى تَضعَ يدَك في يده، فإنِّي أرجو إن فعلتَ ذلك أن يرضى عنك، فقال نيزك: الذي يغلب على ظني أنَّه متى رآني قتلني، قال: قد قلت لك. ¬

_ (¬1) في (أ) لئن عدت وليس هو معك لأقتلنك، والقصة بطولها ليست في (ص)، وانظر الطبري 6/ 454 - 457. (¬2) كذا، ! وفي الطبري: قد اعتزم على أن يشتو بمكانه.

ودعا بذلك الطعام، فبسطه لين يدي نيزك، فرأىَ أصحابه طعامًا لا عهد لهم بمثله، فنهبه التُّرك أصحاب نيزك، فقال له سليم: أرى أصحابك قد جهدوا، وأخاف إن طال بهم أمر أن يُسلموك، فاذهب معي إلى قتيبة، قال: لا أذهب إليه بغير أمان فأمّنِّي وأرِحْني، قال: قد أمَّنتُك، وخرج معه، فلما وصل إلى فم الشعب حالت الخيل بين نيزك والشِّعب، فقال: هذا أول الشر، وجاؤوا بنيزك إلى عسكر قتيبة، فحبسه عند ابن بسّام اللّيثي في قُبَّة، وخَندق عليه، وحبس أصحابه، وبعث إلى الكُرْز، فاستخرج ما كان لنيزك به من متاع، وهرب الباقون. وكتب قتيبة إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك، وأقام أربعين يومًا، وجاءه كتاب الحجاج بقتله، فدعا به، فقال النَّاس: ما يَحلُّ قتلُه؛ قد أعطيتَه أمانًا، وقال بعضهم: اقتله فما نأمنه على المسلمين، فقال له قتيبة: أين أمانُك؟ قال: عند سليم، قال: لا أمانَ لسُليم، قال: الغدر قبيح، فقال: اقتلوه، فقتله وقتل معه سبع مئة من أعيان أصحابه. والمشهور أن قتيبة قَتل نيزك غَدْرًا، وأن الحجاج لم يأمره بقتله، وأنه أنكر عليه كما ذكرنا في أول القصة. [وقال علماء السير: ] ولما قتل قتيبة نيزك بعث إليه ملك الجُوزجان يطلب الصلح -وكان قد هرب من الجوزجان كما ذكرنا- فأمّنه على أن يأتيه فيصالحه، فطلب ملك الجوزجان رهنًا يكون في يده، ويعطي هو أَيضًا رهائن، فبعث إليه قتيبة حبيبَ بنَ عبد الله بن عمرو بن حُصَين الباهِليّ، وبعث ملك الجوزجان إلى قتيبة رُهونًا من أهله، وجعل ملك الجوزجان حبيبًا في بعض حصونه، وقدم على قتيبة فصالحه، ورجع إلى بلاده فمات بالطَّالقان، فقال أهل الجوزجان: سَمَّه قتيبة، فقتلوا حَبيبًا، وقتل قتيبة الرُّهون الذي كانوا عنده، فقال نَهار بن تَوْسِعة لقتيبة: [من الوافر] أراك الله في الأتراك حُكمًا ... كحُكمٍ في قَرَيظَةَ والنَّضِيرِ قَضاءٌ من قُتَيبةَ غيرُ جَوْرٍ ... به يُشفَى الغَليلُ من الصُّدورِ فإن تر نيزكًا (¬1) خِزيًا وذُلًّا ... فكم في الحرب حُمِّقَ من أميرِ ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 6/ 460: فإن يَرَ نيزكٌ.

ثم فتح قتيبة نَسَف في هذه السنة، وحصونًا كثيرة من وراء النَّهر. وحج بالنَّاس في هذه السنة الوليد بن عبد الملك بن مروان. وقد ذكر حجَّتَه الواقديّ بإسناده إلى صالح بن كيسان قال (¬1): لما حضر قدوم الوليد أمر ابن عمه عمر بن عبد العزيز عشرين رجلًا من وجوه قريش يخرجون معه لتلقي الوليد، فخرجوا معه، منهم: أبو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الحارث بن هشام، وأخوه محمَّد بن عبد الرَّحْمَن، وعبد الله بن عمرو بن عثمان، فلقوا الوليد بالسُّويداء على ظَهْر، فقال لهم الحاجب: انزلوا لأمير المُؤْمنين فنزلوا، ثم أمرهم فركبوا، ودعا الوليد عمر فسايره حتَّى نزل بذي خُشُب، ودعا بالغداء، وحضروا فتغدَّوا عنده، وراح من ذي خُشُب، فلما دخل المدينة غدًا إلى المسجد لينظر إلى بنائه، فأخرج النَّاس فما ترك فيه أحدًا، وبقي سعيد بن المسيّب بها يجترئ أحد من النَّاس يخرجه، وما عليه إلَّا رَيطتان تساوي خمسة دراهم، وهو جالس عند ساويته في مُصلّاه، فقال له أصحابُه: لو قمتَ إليه وسلمتَ عليه، فقال: والله لا أقوم إليه، قال عمر بن عبد العزيز: فجعلتُ أَحيد بالوليد في ناحية المسجد وجاء ألا يرى سعيدًا حتَّى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة فقال: من ذاك الشيخ الجالس؟ أهو سعيد بن المسيّب؟ فجعل عمر يقول: نعم يَا أمير المُؤْمنين ومن حاله ومن حاله، ولو علم بمكانك لقام فسلم عليك، وهو ضعيف البصر، قال الوليد: قد علمتُ حاله , ونحن نأتيه فنسلم عليه، فدار في المسجد حتَّى انتهى إلى سعيد فوقف عليه فقال: كيف أَنْتَ أيها الشيخ! ؟ ! فوالله ما تحرّك سعيد ولا قام, فقال: بخير والحمد لله, فكيف أمير المؤمنين وحالُه؟ فقال الوليد: بخير والحمد لله. ثم انصرف الوليد وهو يقول لعمر: هذا بقيَّةُ الناس، فقال له عمر: أجل يَا أمير المُؤْمنين. قال الواقدي: وقسم الوليد بين النَّاس رَقيقًا كثيرًا، وآنية من ذهب وفضة، وأموالًا, وطيَّب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألفي مثقال من أنواع الطِّيب، وخطب يوم الجمعة وصلى بالناس. ¬

_ (¬1) من قوله: وحج بالناس ... إلى هنا من (ص)، وجاء سياقها في النسخ مختصرًا.

ولما صعد منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنفَّ جُنده صَفَّين من المنبر إلى آخر المسجد، بأيديهم العُمُد على العواتق، وخطب في دُرَّاعة وقَلَنْسُوة، ما عليه رداء، ولما صعد المنبر سكت وأذن المؤذّنون بين يديه، فلما فرغوا خطب الخطبة الأولى وهو جالس، ثم خطب الثَّانية قائمًا. قال إسحاق بن يحيى: فلقيتُ رجاء بن حَيوة وهو معه، فقلت: هكذا تصنعون! قال: نعم، وهكذا صنع معاوية إلى هَلُمَّ جَرّا، قال: فقلت: أفلا تكلّمه؟ قال: أخبرني قَبيصةُ بنُ ذُؤيب أنَّه كَلّم عبد الملك في هذا، فأبى أن يفعل وقال: هكذا خطب عثمان، قال إسحاق: فقلتُ: والله ما خطب عثمان إلَّا قائمًا، قال رجاء بن حَيوَة: قد رُوي لهم هذا فأخذوا به، قال إسحاق: لم نر منهم أحدًا أشدّ تَجبُّرًا منه، يعني الوليد. ولما رأى سعيد بن المسيّب قد خطب قاعدًا قال: والله ما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قائمًا، وكذا الخلفاء بعده (¬1). [قلت: وقد اختلف الفقهاء في الخطبة قائمًا، فقال أبو حنيفة: القيام سنة، حتَّى لو خطب قاعدًا جاز، وقال مالك والشافعي: القيام شرط، وعن أَحْمد روايتان (¬2)، واحتجوا بما روي أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بالجلوس. متفق عليه (¬3).] وقال البَلاذري: إن عمر بن عبد العزيز لما تلقّى الوليد ومعه الأشراف وضع لهم الوليد أربعة كراسي، فجلس عليها أربعة من أشراف قريش، أمّ كل واحدٍ منهم من بني عَديّ بن كعب، وهم: عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفَّان، ويُسمَّى المُطْرَف لجماله، وأمّه حفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ومحمَّد بن المنذر بن الزُّبير، وأمّه عاتكة بنت سعيد بن زيد، وطلحة بن عبد الله بن عوف الزُّهري، وأمُّه ابنة مُطيع بن الأسود العَدَويّ، ونَوفَل بن مُساحق، وأمّه مريم بنت مطيع، وهذا نوفل ذكرناه في سنة سبع وثمانين، وهذه الرواية تدلّ على تأخّرِ وفاته (¬4). ¬

_ (¬1) القصة بتمامها في تاريخ الطبري 6/ 465 - 467 دون قول ابن المسيّب الأخير. (¬2) انظر المغني لابن قدامة 3/ 171 - 172. (¬3) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، أخرجه البُخَارِيّ (920)، ومسلم (861)، وأَحمد (4919). وما بين معكوفين من (ص). (¬4) "أنساب الأشراف" 5/ 278.

سهل بن سعد

[وقال الواقديّ: ] ولما دخل: الوليد مكة، ورأى ما يصنع بنو شَيبة بالنَّاس، عزم على أخذ مفتاح البيت منهم، فقيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاهم إياه، فردَّه عليهم، ومنعهم أن يأخذوا من النَّاس شيئًا وعوَّضهم. وقيل: إن الحجاج حج في هذه السنة [مع الوليد] , جاء من العراق، فلما منعهم الوليد من البيت، وأن يأخذوا من النَّاس شيئًا، جاؤوا إلى الحجاج، وشكوا إليه، فقال للوليد: علام تدع هؤلاء وهدايا الكعبة؟ ! فقال الوليد: فامنعهم، فقال: كنت شاورتُ أمير المُؤْمنين عبد الملك في هذا فلم يفعل، فقال الوليد: فأنا بريء مما برئ منه أبي، ولم يَعرض لهم (¬1). [فصل]: وفيها قدم محمَّد بن يوسف أخو الحجاج من اليمن بهدايا [إلى الوليد، وحلف بين الركن والمقام أنها حلال، وكانت هدايا] عظيمة، وتحَفًا كثيرة، فأرسلت أم البنين بنت عبد العزيز إلى محمَّد: فقالت: أرسل إليّ بالهديَّة، فقال: لا حتَّى يراها أمير المؤمنين، فغضبت، ورآها الوليد فبعث بها إليها، ققالت: لا حاجةَ لي إليها فقد غصبها من أموال النس، وأخذها ظُلمًا, فسأله الوليد فقال: مَعاذَ الله، فأحلفه بين الركن والمقام خمسن يمينًا أنَّه ما ظلم أحدًا ولا غصبه، فأخذها الوليد وبعث بها إلى أمِّ البَنين، ورجع محمد إلى اليمن, فأصابه داء، فتقطَّعت منه أعضاؤه ومات (¬2)، وسنذكره [في هذه السنة]. وكان العمال في هذه السنة على الأمصار بحالهم في السنة الماضية. فصل: وفيها تُوفِّي سهْل بن سعد ابن مالك بن خالد بن ثَعْلَبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرَج بن ساعدة السَّاعِديّ وأمه أُبَيّة (¬3) بنت الحارث، من خَثْعم, وكنيته أبو العباس. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 14. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 20، و"المنتظم" 6/ 301. (¬3) في (أ) و (د): أمة، وفي (خ): آمنة، وهذه الترجمة ليست في (ص) , والمثبت من "طبقات ابن سعد" 5/ 375.

محمد بن يوسف

وهو من الطَّبقة الثالثة من الْأَنصار، قال: كنت أصغر أصحابي في تبوك، وكنت شَفْرَتَهم، أي: خادمهم (¬1)، وكان يُصَفِّر لحيتَه. وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ابنَ مئة سنة. وكان له من الولد: العباس، ومصعب، وعائشة، وأمهم عائشة بنت خُزَيمة، من قيس عَيلان. وعَمْرو، وأمه من كنْدَة، والأشعث، وخَديجة، وأم كُلثوم، وأمُّهم أُبَيَّة بنت محْصَن, من بني سُلَيم، وأمّ كُلثوم الصُّغرى لأم وَلَد. أسند سهل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسةً وأربعين حديثًا، وأخرج له الإِمام أَحْمد رحمة الله عليه في "المسند" سبعة وثلاثين حديثًا. ومن مسانيده: قال يحيى بن ميمون: وقف علينا سهل بن سعد فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من جلس في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة" (¬2). [فصل: وفيها تُوفِّي] مُحَمَّد بن يوسف ابن الحَكَم بن أبي عقيل الثَّقَفيّ، أخو الحجاج، قدم صنعاء سنة اثنتين وسبعين قبل مقتل ابن الزُّبير، ولّاه عبد الملك أميرًا على اليمن، ولما قُتل ابن الزُّبير بعث الحجاج بكفِّه إليه، فعلَّقها بصَنعاء. وكان طاوس ووَهْب بن مُنَبِّه يصلّيان خلفه، واستعمل طاوسَ اليماني على الصَّدقات، ثم قال له: ارفع حسابَك، فقال: وأيّ حساب لك عندي، أخذتُها من الأغنياء ودفعتها إلى الفقراء. [وقال ابن عساكر: ] كان محمَّد هذا يَسبُّ عليًّا رضوان الله عليه على المنابر، ويأمر بذلك. ¬

_ (¬1) قال صاحب اللسان: في المثَل: أصغرُ القوم شَفْرَتُهم، أي: خادمُهم، شُبِّه بالشَّفْرة لأنها تمُتَهَنُ في قَطْع اللحم وغيره. وينظر النهاية (شفر). (¬2) أخرجه أَحْمد (22812)، وانظر في ترجمة سهل: "الاستبصار" 105، و"تهذيب الكمال" (2597)، و"السير" 3/ 422.

السنة الثانية والتسعون

[وحكى عن أَحْمد العِجليّ قال: ] أخذ محمَّد حُجرًا المَدَرِيّ (¬1) -وكان رجلًا صالحًا- فأقامه عند المنبر وقال: سُبَّ أَبا تُراب، فقال: إن الأمير محمدًا أمرني أن أسُبَّ عليًّا، فالعنوه لعنه الله، فتفرَّق النَّاس على ذلك، ولم يفهمها إلَّا رجلٌ واحد. وكان علي - عليه السلام - قال (¬2) لحجر هذا: كيف بك إذا قمتَ مقامًا تُؤمر فيه بلعنتي؟ قال: أو يكون ذلك؟ قال: نعم، سُبَّني ولا تتبرَّأ مني. ومحمَّد بن يوسف هذا هو الذي أشار إليه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، فكان يقول: الحجاج بالعراق، وأخوه محمَّد باليمن، وعثمان بن حَيَّان بالحجاز، والوليد بالشام، وقُرَّة بن شَريك بمصر، امتلأت بلاد الله جَورًا (¬3). [وقد ذكرنا أن محمَّد بن يوسف لما رجع إلى اليمن أصابه داء، فتقطعت أعضاؤه ومات.] وولده يوسف بن محمَّد خال الوليد بن يزيد، ولّاه الوليد الحَرَمَين والطائف سنة خمس وعشرين ومئة، وحجّ بالنَّاس فيها، ثم عزله عنها، واستعمل عليها عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان (¬4). السنة الثَّانية والتسعون وفيها غزا قتيبة سِجستان بجيوشه، وسار من مَرْو في جيشٍ كَثيف، فأرسل إليه رُتبيلُ فصالحه على ما أراد قتيبة، ورجع إلى مرو. [فصل]: وفيها فُتحت الأندلس على قول الواقديّ، قال (¬5): وكان عليها ملك يقال له أدرينوق، فسار إليه طارق، وقطع زقاق الأندلس، والتقاه أدرينوق في جمع عظيم، ¬

_ (¬1) في النسخ: المدنِيُّ، وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ دمشق" 65/ 330، 331، ولحجر ترجمة في "طبقات ابن سعد" 8/ 95. وهو حُجْر بن قيس، من رجال تهذيب الكمال 5/ 475. (¬2) في (ص): وقال ابن عساكر عن أَحْمد العجلي أن عليًّا - عليه السلام - قال، والخبر في "تاريخ دمشق" 65/ 330 من طريق ليس فيها ذكر للعجلي، وذكر ابن حجر الخبر بنحوه في اللسان 5/ 358 من طريق آخر (ترجمة عبيد بن قنفذ) وقال: خبر باطل. (¬3) تاريخ دمشق 65/ 336. (¬4) مختصر تاريخ دمشق 28/ 93، وما بين معكوفات من (ص). (¬5) في النسخ: على بعض الأقوال، والمثبت من (ص).

إبراهيم بن يزيد

وأبرزوا سريرَه، ولبس تاجَه، واقتتلوا فصر الله طارقًا، وقُتل الأردينوق وأصله من أَصبهان، وهم ملوك عَجَم الأندلس [ودخل طارق قُرطبة، ثم سار إلى طُلَيطُلَة، وقد ذكرناه. فصل] وفيها غزا عمر بن الوليد ومَسْلَمة بن عبد الملك بلد الروم، وفتح مَسلمة حصونًا كثيرة، ويقال: إنه بلغ إلى الخليج، وفتح سُوْسَنة. وحج بالنَّاس عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وكان عمال الأمصار على حالهم. فصل: وفيها تُوفِّي إبراهيم بن يزيد ابن شريك بن تَيم الرّباب التَّيميّ، [وكنيته] أبو أسماء. [وذكره ابن سعد] في الطَّبقة الثَّانية من التابعين من أهل الكوفة، وكان يَقُصُّ على النَّاس، وإنما حمله على القصص لأنه رأى منامًا. [قال ابن سعد بإسناده إلى سفيان، عن أَبيه قال: إنما حمل إبراهيم، على القَصَص أنَّه رأى في المنام أنَّه يقسم رَيحانًا، فبلغ ذلك إبراهيم النَّخَعيّ فقال: الرَّيحان ريحُه طيّب، وطعمُه مُرّ (¬1). [وقال أبو نعيم بإسناده عن] الأَعمش قال: كان إبراهيم التَّيميّ إذا سجد تجيء العصافير فتنقر ظهره كأنه جِذْم حائط (¬2). [وروى أبو نعيم أَيضًا عن الأَعمش] قال: قلت لإبراهيم التَّيمي: بلغني أنك تمكث شهرًا لا تأكل شيئًا! قال: نعم، وشهرين، ما أكلتُ منذ أربعين ليلة إلَّا حَبَّةَ عِنَب، ناولتني أهلي فأكلتُها ثم لَفَظتُها. [وروى أبو نعيم عن] سفيان قال: قال إبراهيم التَّيميّ: كم بينكم وبين القوم! أقبلتْ عليهم الدنيا فهربوا منها، وأدبرتْ عنكم فاتبعتموها. [قال: ] وكان يقول: إن الرَّجل ليظلمني فأرحمه. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 8/ 402 - 403 وما بين معكوفين من (ص). (¬2) "حلية الأولياء"4/ 212 وفيه: فتستقر على ظهره، وهو الأشبه، وما بين معكوفين من (ص).

[قال: ] وما رفع رأسه إلى السماء ولا خاض في شيء من أمر الدنيا. [وروى أبو نعيم أيضًا أنَّه] قال: من أعظم الذنب عند الله أن يُحدِّث العبد بما ستره الله عليه (¬1). [قال ابن أبي الدنيا بإسناده إلى سفيان بن عيينة قال: قال إبراهيم التَّيميّ: ] مَثَّلْتُ نفسي في الجنة، آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأُعانق أبكارها، ومثلت نفسي في النَّار، آكل من زَقُّومها، وأشرب من صَديدها، وأُعالج سلاسلها، فقلت لنفسي: أَيْ نفس، أيش تريدين؟ فقالت: أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحًا، فقلت: أَنْتَ في الأُمنية فاعملي (¬2). [وقال ابن سعد: ] تُوفِّي إبراهيم التَّيميّ في حبس الحجاج، وسبب حبسه: أن الحجاج طلب إبراهيم النَّخَعي، فجاء الذي طلبه فقال: أريده إبراهيم، فأخذه وهو يعلم أنَّه يريد إبراهيم النَّخَعيّ، فلم يستحلّ أن يَدُلّه عليه، فأتي به الحجاج، فحبسه في الدِّيماس، ولم يكن له ظِلٌّ من الشَّمس، ولا كِنٌّ من البَرد، وكان كلّ اثنين في سلسلة، فتغيّر إبراهيم، فجاءته أُمُّه فلم تعرفه حتَّى كلّما، فمات في السجن، فرأى الحجاج قائلًا يقول في منامه: مات الليلة رجلٌ من أهل الجنة في هذه البَلدة، فلما أصبح سأل: هل مات الليلة أحد بواسط، قالوا: نعم, إبراهيم التَّيمي مات في الحبس، فقال: حُلْمٌ ونَزْغَةٌ من نزغات الشيطان، وأمر به فألقي على الكُناسة (¬3). [وقال الشعبي: أقام في السجن مدّةً، ] ولما دخل السجن نادى: يَا أهل السجن، بلاء الله في عافيته، وأهل عافيته في أهل بلائه، اصبروا، فصاحوا جميعًا وبكوا. وقيل: إنّه مات بالكوفة. أسند عن أبيه، والحارث بن سُويد وغيرهما وروى عنه سفيان الثّوري، والأعمش، والشّعبي وغيرهم. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 4/ 212 - 215. (¬2) المنتظم 6/ 305، والحلية 4/ 211، وما بين معكوفين من (ص)، وجاء الخبر فيها آخر ترجمة إبراهيم. (¬3) طبقات بن سعد 8/ 402.

أنس بن مالك

[فصل: وفيها تُوفِّي] أنس بن مالك ابن النَّضر بن ضَمْضَم بن زيد بن حَرام بن جُنْدَب ابن عامر بن غَنْم بن عَديّ بن النَّجار. من الطبقة الثالثة من الأنصار، وكناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا حَمزة، وقيل: كنيته أبو ثُمامة، وثمامة أكبر ولده، وأم أنس أمُّ سُلَيم بنت مِلْحان من بني النّجار، [واسمها مُلَيكَة] وأمُّها الرُّمَيصاء [وقد ذكرناها، وقيل: إن مُليكة جدة أنس، وقد ذكرناها في صدر الكتاب] (¬1). ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أخذت أم أنس بيده، وجاءت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: يَا رسول الله، خُوَيدِمُك أنس ادْعُ له، فقال: "اللهمَّ أكْثِرْ ماله وولَده، وأطِلْ عُمره، واغفر ذَنبه، وبارك له فيما أعطيتَه" أخرجاه في "الصحيحين" بمعناه (¬2). وقال أنس [في رواية ابن سعد عنه: ] فدفنتُ من صُلبي مئة ولد، وإن نخلي تُثمر في السنة مرتين، ولقد عشتُ حتَّى استحييتُ من أهلي [أو سئمت الحياة] , وأنا أرجو الرابعة، يعني المغفرة. [وفي رواية] قال: خدمتُه عشر سنين، فما قال لشيءٍ لم أَصْنعه: لِمَ لم تصنعه، ولا قال لشيء صنعتُه: لم صنعتَه، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة (¬3). وذكر ابن عساكر في "تاريخه" وقال: دفن أنس من صُلبه إلى مَقْدَم الحجّاج بضعًا وعشرين ومئة ولد (¬4). [وقد ذكرناه في السيرة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأنس: "يَا بُنيّ" (¬5)] ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ص)، وفي "طبقات ابن سعد" 10/ 395 أن أم سليم بنت ملحان يقال لها الرميصاء، واختلفوا في اسمها فقيل سهلة، وقيل رملة، وقيل أنيفة، وقيل رميثة، وأمها مليكة. (¬2) صحيح البُخَارِيّ (6334)، ومسلم (2480). (¬3) "طبقات ابن سعد" 5/ 325 - 326 و 9/ 19. (¬4) "تاريخ دمشق" 3/ 160 (مخطوط)، وأخرجه البُخَارِيّ (1982). (¬5) ما بين معكوفين من (ص)، وانظر "طبقات ابن سعد" 5/ 327 - 328.

شهد أنس الحُدَيبية، وخيبر، وعُمرة القضاء، والخندق، والفتح، وحُنينًا، والطائف، وما بعدها من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروي عن مولًى لأنس أنَّه قال له: شهدتَ بدرًا؟ فقال: لا أُمَّ لك، وأين غِبْتُ عن بدر؟ وقال محمَّد بن عبد الله الأَنْصَارِيّ: خرج أنس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توجّه إلى بدر, وهو غلام يخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قال المصنف رحمه الله: وعامة الرواة على أنَّه لم يشهد بدرًا ولا أحدًا (¬2). [وقال ابن سعد بإسناده إلى معتمر بن سليمان، عن أَبيه قال: سمعت أنسًا يقول: ] ما بقي أحدٌ من صلى إلى القِبلتين غيري. وقال ابن سعد: كان يصلي حتَّى تتفطَّر قدماه دَمًا. وكان مجاب الدعوة؛ يدعو فينزل الغيث. وكان إذا أراد أن يختم القرآن جمع أهله وعياله وولده فيختم بحضرتهم. وكان إذا خرج إلى قصره صلى على حماره تطوُّعًا، يُومئ إيماءً. وكان عنده قَدَحٌ من خَشب، فكان يقول: سَقَيتُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا القَدَح أكثر من مئة مرة من كل الشراب: الماء واللبن والعسل. [قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يَا أَبا عُمير ما فعل النُّغَير] قال: وكان يقول: ما من ليلة إلَّا وأرى فيها حبيبي، ثم يبكي. [قال: ] واستعمل ابن الزُّبير أنسًا على البصرة، فاستعمل أنس مولاه أنس بن سيرين على البصرة (¬3)، فقال له: أتريد أن تجعلني عَشَّارًا؟ ! فقال له أنس: أفترضى كتابَ عمر بن الخطاب؟ فأخرجه فإذا فيه: أن يأخذوا من تجار المسلمين من كل أربعين درهمًا درهمًا، ومن تجار أهل الحرب من كلّ عشرة دراهم درهمًا. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 5/ 327. (¬2) قال الذهبي في "السير" 3/ 397: لم يعدَّه أصحاب المغازي في البدريِّين لكونه حضرها صبيًّا ما قاتلَ، بل بقي في رِحال الجيش، فهذا وجه الجمع. (¬3) في "طبقات ابن سعد": على الأُبُلَّة. وما بين معكوفين من (ص).

[وروى ابن سعد عن صالح بن] إبراهيم بن عبد الرَّحْمَن بن عوف قال: دخل علينا أنس يوم جمعة ونحن نتحدّث والإمام يخطب، فقال: مَهْ، فلما أُقيمت الصلاة قال: إنِّي أخاف أن أكون قد أبطلتُ جُمعتي بقولي لكم مَهْ. [وقال ابن سعد: ] قال أنس: يقولون: لا يجتمع حبُّ عليّ وعثمان في قلب رجل مؤمن، كذبوا والله، لقد جمع الله حُبَّهما في قلوبنا [أو في قلبي]. ولما قدم الحجاج العراق أرسل إلى أنس فقال: يَا أَبا حَمْزة، إنك قد صحبتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيتَ من عمله وسيرته ومنهاجه، فهذا خاتمي فليكن في يدك فأرى برأيك، فلا أعمل شيئًا إلَّا بأمرك، فقال له أنس: أنا شيخ كبير قد ضَعُفتُ ورَقَقْتُ، وليس فيّ اليوم ذاك، فقال: قد عملتَ لفلان وفلان فما بالي أنا؟ فانظر أحد بنيك (¬1) ممن تثق بدينه وأمانته وعقله، فقال: ما في بَنيّ مَن أثق لك به، حتَّى كثر الكلام بينهما. وروى ابن سعد عن ثابت قال: (¬2) كنا مع أنس يوم جمعة، فأخّر الحجاج الصلاة، فقام أنس ليُكَلِّمه في ذلك، فنهاه إخوانه وقالوا: نخاف عليك وعلى ولدك وأهلك، فخرج وركب دابته وانطلق نحو الزاوية وهو يقول: والله ما أعرف شيئًا مما كنا فيه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا شهادة أن لا إله إلَّا الله، فقال له رجل: فالصلاة يَا أَبا حمزة؟ فقال: قد صليتُم الظهر عند المغرب، أفتلك كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)؟ ! ذكر قصة أنس بن مالك مع الحجاج (¬4): قال ابن سعد بإسناده إلى عليّ بن زيد بن جُدعان قال: كنت في دار الإمارة والحجاج يَعرض الناس أيام ابن الأشعث، فدخل أنس بن مالك، فلما دنا من الحجاج قال الحجاج: يَا خُبَثَة، جَوّال في الفِتن، مرّة مع علي بن أبي طالب، ومرة مع ابن ¬

_ (¬1) في النسخ غير (ص) فليس فيها الخبر: فانظر كان في بيتك، والمثبت من"طبقات ابن سعد" 5/ 339. (¬2) في النسخ: وقال ثابت، والمثبت من (ص). (¬3) انظر"طبقات ابن سعد" 5/ 325 - 340 و 9/ 20. ووقع بعد هذا الخبر في (أ): تم المجلد الثامن بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، ويتلوه في المجلد التاسع قصة أنس مع الحجاج. وغفر الله تعالى لمالكه وكاتبه وجميع المسلمين والحمد لله رب العالمين. (¬4) القصة التالية سياقها في النسخ (خ د) مختلف عما في (ص)، غير أنها في (ص) أتم وأوضح، فالمثبت منها.

الزُّبير، ومرة مع ابن الأشعث، والله لأَسْتَأْصِلَنَّك كما تُستأصل الصَّمغَة، ولأُجَرِّدَنَّك كما يُجَرَّد الضَّب (¬1)، فقال له أنس: مَن يعني الأمير أصلحه الله؟ فقال: إياك أعني أصمَّ الله سمعك، فاسترجع أنس، وشُغل عنه الحجاج، فخرج أنس فتبعتُه وقلت: ما منعك أن تُجيبه؟ فقال: والله لولا أني ذكرتُ كَثْرةَ وَلَدي، وخشيت عليهم؛ لأسمعتُه في مقامي هذا ما لا يُستحسن لأحد بعدي (¬2). ثم قال ابن سعد: قال محمَّد بن عمر: وقد فعل الحجاج ذلك بغير واحد من الصَّحَابَة يريد أن يُذلَّهم بذلك، وقد مضت لهم العِزَّة بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ختم الحجاج أنسًا في عُنقه. وقال ابن سعد [بإسناده] عن أَبان بن أبي عيَّاش قال: لما بنى الحجاج واسطًا، وفرغ من ابن الأشعث، دعا أنسًا وبين يديه خيلٌ تُعرض عليه فقال: أيها الشيخ، هل رأيتَ مع محمَّد مثل هذه الخيل؟ فقال: وما هذه الخيل؟ ! رأيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلًا غُدُوُّها ورَواحُها في سبيل الله، إنما الخيل ثلاثة: فما كان منها في سبيل الله ففيه من الأجر كذا وكذا، حتَّى أَرْواثُها في موازين أهلها، وما كان للفَحْلَة فهي في سبيل الله، وشَرُّها وأخبثُها ما كان للفخر والرياء (¬3)، فقال الحجاج: لقد عِبتَ فما تركْتَ شيئًا، ولولا خِدمتُك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتابُ أمير المُؤْمنين فيك؛ لكان لي ولك شأن من شأن -وقد ذكرنا حديث الخيل فيما تقدم- فقال أنس: هيهات -أو أيهات- إنِّي لما خدمتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمني كلمات لا يَضرُّني معهنَّ عُتُوُّ جَبّار-وذكر ابن سعد كلامًا آخر- فقال له الحجاج: يَا عمّاه، لو عَلَّمْتَنيهِنّ، فقال: لستَ لذلك بأهل، فدس إليه الحجاج ابنَه محمدًا ومعه مئتا أَلْف درهم، ومات الحجاج قبل أن يظفر بالكلمات. ¬

_ (¬1) في (ص): الضرب، وسيشرحها المصنف في نهاية الخبر كما وردت في (ص)، والمثبت من النسخ وهو موافق لما في "طبقات ابن سعد" والمصادر. (¬2) في "طبقات ابن سعد" 5/ 340: لكلمته بكلام في مقامي لا يستحييني بعده أبدًا، وفي نسخة منه أشار إليها محققه: ما لا يستخشن لأحد بعدي. (¬3) في (ص): والخيلاء.

قال: والكلمات هي: بسم الله على نفسي وديني، بسم الله على أهلي ومالي، بسم الله على كلّ شيءٍ أعطاني، بسم الله خير الأسماء، بسم الله رب الأرض والسماء، بسم الله الذي لا يَضُرُّ مع اسمه داء، بسم الله افتتحتُ، وعلى الله توكَّلتُ، الله ربي لا أشرك به أحدًا، اللهمَّ أَنْتَ جاري من كلّ سُوء، قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، الآية، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، ومن تحتي. هذا بمعنى ما ذكر ابن سعد (¬1) عن قصة أنس مع الحجاج. وذكر الواقديّ أن عبد الله بن أنس بن مالك خرج مع ابن الجارود على الحجاج، وقُتل معه، ولما خرج ابن الأشعث كان أنس في جُملة القُرَّاء يُحَرِّض النَّاس على قتال الحجاج، فقال الحجاج: ما أرى أنسًا إلَّا يُعين علينا، فلما انقضت أيامُ ابن الأشعث، ودخل الحجاج البصرة، استصفى أموال أنس، ووَضع منه، فدخل أنس على الحجاج فسلّم عليه، فقال: لا مرحبًا ولا أهلًا، إيه يَا شيخ خُبَثَة، تارة مع أبي تُراب، وتارة مع ابن الجارود، وتارة مع ابن الأشعث، والله لأُجَرّدَنَك جَرْدَ القَضيب، ولأَعْصِبَنّك عَصْبَ السَّلَمة، وذكر بمعنى ما تقدّم. قال: فقام أنس فخرج من عنده، وكتب إلى عبد الملك بن مروان: بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، لعبد الملك بن مروان أمير المُؤْمنين من أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبِه، أما بعد، فإن الحَجَّاج قال لي هُجْرًا من القول، وأسمعني نُكرًا، ولم أكن لما قال أهلًا، إنه قال لي كذا وكذا، وإني أَمُتُّ بخدمتي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين كوامل، ولولا صِبيةٌ صغار ما باليتُ أيَّ قِتلة قُتلت، والله لو أن اليهود والنصارى أدركوا رجلًا خدم نبيّهم لأكرموه، فخذ لي على يده، وأعنّي عليه، والسلام. فلما قرأ عبد الملك الكتاب استشاط غَضَبًا، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإنك عبدٌ من ثَقيف، طَمِحت بك الأمور، فعلوتَ فيها وبغيتَ وطغيتَ، حتَّى عَدَوْتَ قَدْرَك، وتجاوزْتَ طَورَك، يا بن المُسْتَفْرِمَةِ بعَجَم الزَّبيب، لأغْمِزَنَّك غَمْزَة اللَّيث، ولأَخْبِطَنَّك ¬

_ (¬1) في طبقاته 5/ 341 - 342.

خَبْطَةً، ولأَرْكُضَنَّك رَكْضَةً تَودُّ معها لو أنك رجعت في مَخرجك من وجار (¬1) أُمّك، أما تذكر حال آبائك ومكاسبَهم بالطائف، وحفرَهم الآبار بأيديهم، ونقلَهم الحجارة على ظهورهم, أم نسيت أجدادك في اللؤم والدَّناءة وخساسة الأصل، وقد بلغ أمير المؤمنين ما كان منك إلى أبي حَمزة أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القريب، وصاحبه في المشهد والمغيب، جُرْأَةً منك على الله ورسوله، وأميرِ المُؤْمنين والمسلمين، وإقدامًا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعليك لعنة الله من عَبدٍ أَخفَشِ العَينين، أصَكِّ الرِّجْلَين، ممسوح الجاعِرَتَين، لقد هممت أن أبعثَ إليك من يَسحبُك ظهرًا لبطن، أو بطنًا لظهر، حتَّى يأتي بك أَبا حمزة، فيكم فيك بما يراه، ولو علم أمير المُؤْمنين أنك اجتَرَمْتَ إليه جُرْمًا، أو انتهكْتَ له عِرضًا غير ما كُتب به إليك (¬2)؛ لفُعل ذلك بك، فإذا قرأتَ كتابي هذا فكُن له أَطوعَ من نَعله، واعرف حقه، وأكرمه وأهلَه، ولا تُقصِّرن في شيءٍ من حوائجه، فوالله لو أن اليهود رأت رجلًا خدم العُزَير، ولو رأت النصارى رجلًا خدم المسيح، لوَقَّروه وعظَّموه، فتبًّا لك، لقد اجترأتَ ونسيتَ العهد، وإياك أن يبلغني عنك خلافُ ذلك، فأبعث إليك مَن يضربُك بَطْنا لظهر، ويَهتكُ سِترك، ويُشْمِت بك عدوَّك، والْقَه في منزله مُتَنصِّلًا إليه، وليكتب إليَّ برضاه عنك، ولكلِّ نبأ مُستَقَرّ وسوف تعلمون. وكتب عبد الملك إلى أنس: لأبي حمزة أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عبد الملك، سلامٌ عليك، أما بعد، فإني قرأتُ كتابَك، وفهمتُ ما ذكرتَ في أمر الحجاج، وإني والله ما سَلَّطْتُه عليك، ولا على أمثالك وقد كتبتُ إليه ما يبلغك، فإن عاد لمثلها فعَرِّفني حتَّى أُحِلَّ به عُقوبتي، وأُذِلَّه بسَطوتي، والسلام عليك. ثم دعا إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر -وكان صديقًا للحجاج- قال إسماعيل: فدخلتُ عليه في ساعة لم يكن يَبعثُ إليّ فيها، وهو أشدُّ حَنَقًا وغَيظًا فقال: يَا إسماعيل، ما أشدّ علي إلَّا أن تقول الرَّعِيّة: إنِّي ضَعُفْتُ وضاق ذَرْعي عن رجل من - صلى الله عليه وسلم -، لا يَقبل له حسنة، ولا يتجاوز له عن سيئة، فقلت: وما ذاك؟ ¬

_ (¬1) أي: جُحْر. (¬2) في (ص): غير ما كنت به إليه.

فقال: أنس بن مالك؟ كتب إليّ بكذا وكذا، فاذهب بهذين الكتابين إلى أنس بن مالك والحجاج، وابدأ بأنس، وقل له: أمير المُؤْمنين يُسلّم عليك ويقول: قد كتبت إلى عبد بني ثَقيف كتابًا إذا قرأه كان أَطْوَع لك من أمتك، واستعرِضْ حوائجه. قال إسماعيل: فركبت على خيل البريد، وسِرْتُ حتَّى قَدِمتُ على الحجاج فقال: مرحبًا بمن كنتُ أحبُّ لقاءَه، فقلت له: وأنا كذلك إلَّا في هذه المرة، قال: ولم؟ قلت: تركتُ عبد الملك عليك حَنقًا، ورميتُ بالكتاب إليه، فجعل يقرؤه وَيتَمَعَّر وَجهُه، وَيرشَحُ عَرَقًا، ويقول: يغفر الله لأمير المُؤمنين، ثم قال: نمضي إلى أنس، فقلت له: على رِسلك، ثم مضيتُ إلى أنس وقلت: يَا أَبا حمزة، قد فعل أمير المُؤْمنين معك ما فعل، وهو يقرأ عليك السلام ويَستعرض حوائجَك، فبكى أنس وقال: جزاه الله خيرًا، كان أعرفَ بحقّي، وأبرَّ بي من الحجاج، قلت: وقد عزم الحجاج على المجيء إلى منزلك، فإن رأيتَ أن تتفضَّل عليه فأنت أولى بالفضل. فقام أنس ودخل على الحجاج، فقام إليه واعتنقه، وأجلسه معه على سريره، وقال: يَا أَبا حمزة عَجَّلْتَ عليّ بالملامة، وأغضبتَ أمير المُؤْمنين، وأخذ يعتذر إليه ويقول: قد علمتَ شَغَب أهل العراق، وما كان من ابنك مع ابن الجارود، ومن خروجك مع ابن الأشعث، فأردتُ أن يعلموا أني أسرع إليهم بالعقوبة إذ قلت لمثلك ما قلت، فقال أنس: ما شكوتُ حتَّى بلغ مني الجهد، زعمتَ أننا الأشرار، واللهُ سمّانا الْأَنصار، وزعمتَ أننا أهل النّفاق، ونحن الذين تبوَّأنا الدّار والإيمان, والله يحكم بيننا وبينك، وما وَكَلْتُك إلى أمير المُؤْمنين إلَّا حيث لم يكن لي بك قوة، ولا آوي إلى ركن شديد، ودعا لعبد الملك وقال: إن رأيتُ خيرًا حمدتُ، وإن رأيت شرًّا صبرتُ، وبالله استعنت. وكتب الحجاج إلى عبد الملك؟ أما بعد، فأصلح الله أمير المُؤْمنين وأبقاه ولا أعدمناه، وصَلَني الكتاب تذكر فيه شَتْمي وتعييري بما كان من قَبْل نُزول النِّعمة بي من أمير المُؤْمنين، ويذكر استطالتي على أنس جُرأةً مني على أمير المُؤْمنين، وغِرَّةً مني بمعرفة سَطَواته ونَقِماته، وأمير المُؤْمنين أعزّه الله في قرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحقّ مَن أقالني عَثرتي، وعفا عن جَريمتي، ولم يُعَجِّل عقوبتي ورأيه العالي في تفريج كُربتي،

وتسكين روعتي، أقاله الله العَثَرات، وقد رأى إسماعيل بن أبي المهاجر خضوعي لأنس، وإعظامي إياه، واعتذر اعتذارًا كثيرًا (¬1). قول الحجاج: لأَقْلَعَنَّك قَلْعَ الصَّمْغَة؛ [يريد: أستأصلُك] لأن الصَّمْغَ إذا قُلع لم يَبْقَ له أَثَر. وقوله: لأُجَرِّدَنّك جَرْدَ الضَّرَب؛ وهو العَسَل الأبيض. وأما المُسْتَفْرِمَةُ بعَجَم الزَّبيب؛ [فيريد أنها تعالج به فَرْجَها] حتَّى يضيق، كذا ذكر الجوهري، وأنشد: [من الرجز] مُسْتَفْرِمَاتٍ بالحَصى جَوافِلا وفسّره فقال: يقول: من شدّة جريها يدخل الحصى في فرجها. قال: وكتب عبد الملك إلى الحجاج: يابن المستفرمة بعجم الزبيب (¬2)، بتحريك الجيم. وقال ابن قتيبة: لست أدري من أيّ شيءٍ أُخذ هذا الحرف، إلَّا أنَّه يقال: استَفْرَمَتِ البَغِيُّ؛ إذا فعلت ذلك. وقال الفَرْويّ: الفَرْمُ أن تُضيِّق المرأةُ فرجَها بالعَفِصَة ليَستَحْصِف. وأما الجاعِرَتان فموضع الرَّقْمَتين من استِ الحمار. قال الجوهري: وهو مَضْرِبُ الفَرس بذَنَبه على فخذيه (¬3). قلت: وهذا اللفظ مستحقر من عبد الملك مع فصاحته وتحفظه في مقالته، وقد قيل: إنه ما عرف لعبد الملك كتاب أفحش من هذا. وحكى ابن عساكر (¬4)، عن أبي مُسهر قال: قدم أنس دمشق على الوليد لما استُخلف سنة ست وثمانين، وقيل: في سنة اثنتين وتسعين. وقال مكحول: رأيت أنسًا يمشي في جامع دمشق. ¬

_ (¬1) انظر "الأخبار الطوال" 323، و"أنساب الأشراف" 6/ 410، و"تاريخ دمشق" 3/ 173 (مخطوط)، و 6/ 268، و"المنتظم" 6/ 337، و"العقد" 5/ 36 - 41. (¬2) "الصحاح" (فرم) 5/ 2004. (¬3) "الصحاح" (جعر) 2/ 615، وانظر "تاريخ دمشق" 3/ 173 - 174 (مخطوط) وما بين معكوفين منه. (¬4) من قوله: قول الحجاج لأقلعنك ... إلى هنا من (ص).

وقال الزُّهْرِيّ: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: والله ما أعرف شيئًا مما كنا فيه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا الشهادة، قلت: فالصلاة؟ ! قال: قد علمتَ ما صنعوا فيها (¬1). [وحكى ابن سعد، عن] عيسى بن طَهمان قال: رأيت أنسًا دخل على الحجاج وعليه عِمامة سوداء، وقد خَضَب لحيتَه بالصُّفرة. وقال ابن سعد: ضَعُف أنس عن الصوم في رمضان، فكان يُطعم كل ليلةٍ ثلاثين مسكينًا الخبز واللحم، وقيل: ستين مسكينًا. وكان نقش خاتمه: محمَّد رسول الله، فإذا دخل الخلاء وضعه. وقيل: كان نقش خاتمه أَسَد رابِض، وقيل: ثعلب، وقيل: أرنب. وكان يلبس الخَزَّ والمُعَصْفَر. وقال سعيد بن جبير: لو رآه السَّلَف لأوجعوه (¬2). ذكر وفاته: [وقد اختلفوا فيها؛ فحكى ابن سعد، عن عفان بن مسلم بإسناده إلى] النَّضْر بن أنس بن مالك وأنس يومئذ حيّ قال: قال أنس بن مالك: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَتَمنَّيَنّ أحدكم الموت" لتمنَّيتُه. وقال ابن سعد: أوصى أن يُغَسِّلَه محمَّد بن سيرين، وكان محمَّد محبوسًا، فكلَّم عمر بن يزيد المرأةَ التي حبسته، فأخرجته من السجن، فغسله ثم عاد إلى الحبس، وكان ابن سيرين يَشكرها لآل عمر بن يزيد حتَّى مات. وجعلوا في حَنوطه مِسْكًا وشَعَرًا من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال عبد الله بن يزيد الهلالي: حضرتُ (¬3) أنسًا مات بالبصرة سنة اثنتين وتسعين، وهو ابن تسع وتسعين سنة، وهو آخر من مات من الصَّحَابَة بالبصرة. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 3/ 151 - 152 (مخطوط). (¬2) طبقات ابن سعد، 5/ 342 - 347 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) في (ص): وقال ابن سعد بإسناده قال حضرت، وما سلف بين معكوفين منها.

وقال ابن سعد: سأَلتُ القاضي محمَّد بن عبد الله الأَنْصَارِيّ: ابنُ كم كان أنس يوم مات؟ فقال: ابن مئة وسبع سنين. وقال موسى السَّبَلانيّ: قلت لأنس: أنس آخر من بقي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قد بقي قوم من الأعراب، فأما من الصحابة فأنا آخر من بقي (¬1). وقال الإِمام أحمد رحمه الله: مات أنس في سنة ثلاث وتسعين قبل موت الحجاج بسنتين. وقال الهيثم: سنة تسعين، وقال ابن عبد البر: مات أنس بقصره بالطَّفِّ على فرسخين من البصرة (¬2). وصلى عليه محمَّد بن سيرين بوصيَّة من أنس [وكان محبوسًا، فكلّم عمر بن يزيد بن عُمير -وكنيته أبو حفص- أصحابَ الدَّين فأذنوا له, فخرج فغسَّلَه وصلّى عليه ودفنه عند قَصْره. وقال ابن عساكر: وهذا عمر بن يزيد ولي شرطة البصرة للحجاج بن يوسف، ووليها خالد (¬3) بن عبد الله القَسْري. وكان فاضلًا، قتله خالد بن عبد الله القسري لشيء بلغه عنه، وإنما قتله مالك بن المنذر بن الجارود (¬4). واختلفوا في سنّ أنس؛ فحكينا عن ابن سعد قولين: أحدهما تسعًا وتسعين سعنة، والثاني: مئة وسبع سنين. وقال حُميد الطّويل: عاش مئة سنة، وقيل: مئة وعشرين، وقيل: مئة وثلاث سنين. وقد ذكرنا عنه أنَّه قال: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولي عشرون (¬5).] ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 5/ 347 - 348. (¬2) "الاستيعاب" (43). (¬3) في (ص): وهذا عمر بن يزيد وليّ شرطته البصرة الحجاج بن يوسف ووليها لخالد, وهذا نص سقيم، ذلك أن عمر بن يزيد ولي شرطة البصرة هو وأبوه للحجاج, ثم ولي البصرة خالد بن عبد الله القسري فجعل على شرطتها مالك بن المنذر، انظر "تاريخ دمشق" 54/ 312، 316. (¬4) كذا وقع السياق، وقد قتلَه مالك بن المنذر بأمر من خالد القَسْريّ، وكان على شرطته بالبصرة، ينظر تاريخ الطبري 7/ 46، وتاريخ دمشق 24/ 316. (¬5) ما بين معكوفين من (ص)، وانظر "تاريخ دمشق" 3/ 175 - 180 (مخطوط).

ذكر أولاده: قد حكينا عن ابن عساكر أنَّه قال: دفن من صُلبه إلى مَقدم الحجاج البصرة بضعًا وعشرين ومئة ولد، [والحجاج قدمها في سنة خمس أو ست وسبعين، وقد ذكرناه. وقال ابن سعد: أخبرني بعض أهل العلم أنَّه وُلد لأنس] من صُلبه ثمانون ولدًا، ويقال: مئة. قال ابن سعد: والذي أحْصَوا لنا من ولده: عبد الله وأمُه الفارغة بنت المثنَّى. وعبد الله من الطَّبقة الثَّانية من التابعين من أهل البصرة، وكان ثِقَة قليل الحديث. وزيدًا، وعُبيد الله قُتل يوم الحَرَّة، وأمُّهما كريمة بنت وَعْلة. ويحيى قُتل يوم الحَّرة، وخالدًا، وموسى، وأمهم من أهل اليمن. وموسى من الطَّبقة الثَّانية، وكان ثقةً قليلَ الحديث. والنّضْر من الطَّبقة الثَّانية وله أحاديث. وأبا بكر لأُمِّ ولد. والعلاء، وأمه رَمْلَة بنت نُعَيم بن واقد، من بني جُشَم. والبراء وأبا عُمير، وأمهما من بني يَشْكر. وعُمر (¬1)، وأمه بنت الجارود بن عبد القيس. ورَمْلَة لأم ولد، وأُميمة لأم ولد، وأم حرام لأم ولد. ومالك بن أنس بن مالك من الطَّبقة الثَّانية من أهل البصرة (¬2). والمشهور أنَّه كان لأنس - رضي الله عنه - مئة ولد، مات منهم في الطاعون الجارف ثمانون. [وقال هشام: ] وقد كان لجماعة مئة ولد؛ منهم: أبو بَكْرَة نُفَيع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخَليفة السَّعدي، وعبد الله بن عُمير اللَّيثي، وجعفر بن سُليمان الهاشمي (¬3)، ولم ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): عميرًا، والمثبت من "طبقات ابن سعد". (¬2) "طبقات ابن سعد" 5/ 325 و 9/ 190 - 191. (¬3) انظر "المنتظم" 6/ 305.

يمت (¬1) كلّ واحد منهم حتَّى رأى من صُلبه مئة ولد، ويقال: إنه لا يعرف لهم سادس. [وليس في الصَّحَابَة من اسمه أنس بن مالك سوى اثنين؛ أحدهما هذا، والثاني كنيته أبو أمية الكعبي، له صحبة ورواية (¬2).] ذكر مسانيده: أسند أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفي حديث ومئتي حديث وستة وثمانين حديثًا. أخرج له في "الصحيحين" ثلاث مئة وثمانية وثلاثون حديثًا، اتفقا على مئّة وثمانية وستين، وانفرد البُخَارِيّ بثمانين، ومسلم بتسعين (¬3). وأخرج له الإِمام أَحْمد رحمة الله عليه أربع مئة ونيفًا وثمانين، منها مُتَّفق عليه، ومنها أفراد. وروى أنس عن الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم، وابن مسعود، وحُذيفة، ومعاذ، وأبي ذرّ، وأبي الدّرداء، وعُبادة بن الصامت وغيرهم. وروى عنه أعيان التابعين؛ فمن أهل البصرة: قتادة، وثابت البُناني، وحُمَيد الطَّويل، وأبو قِلابة، والحسن، وابن سِيرين في خَلْقٍ كثير. ومن أهل الكوفة: عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيلى، والشّعبي، وأبو مالك الأَشْعريّ وأقرانهم. ومن أهل الشَّام: مَكحول وغيره. ومن أهل المدينة: الفقهاء السبعة وأقرانهم، وبنو أنس: عبد الله وموسى ويحيى. ومن مسانيد أنس قال: قيل يَا رسول الله، متى نَدَعُ الائتمارَ بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فقال: "إذا ظهر فيكم مثل ما ظهر في بني إسرائيل؛ إذا كانت الفاحشة في كباركم، والملك في صغاركم، والعلم في رُذَّالِكم". ¬

_ (¬1) في (خ) و (د) و (ص): وخليفة ابن ولم يمت؟ ! (¬2) "تلقيح فهوم أهل الأثر" 602 وما بين معكوفين من (ص) وتنتهي فيها ترجمة أنس، وتبدأ السنة الثالثة والتسعون. (¬3) "تلقيح فهوم أهل الأثر" 363 و 388 وفيه: أخرج له في "الصحيحين" ثلاث مئة حديث وثمانية عشر حديثًا ... ومسلم بسبعين، وهو خطأ.

بلال بن أبي الدرداء

وقال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن قامت القيامة وفي يد أحدكم فَسِيلة فلْيَغرِسْها" (¬1). بلال بن أبي الدّرداء أبو مُحَمَّد، الْأَنصاري، من الطَّبقة الأولى من التابعين من أهل الشَّام، وكان قاضيًا على دمشق في زمن يزيد بن معاوية وبعده، حتَّى عزله عبد الملك، وولى أَبا إدريس الخَولاني. وكان بلال أميرًا على الشَّام، ومات في سنة اثنتين -أو ثلاث- وتسعين. وأمه أم محمَّد بنت أبي حَدْرَد الأَسْلميّ. روى عن أبيه, وعن أم الدَّرداء، وروى عنه إبراهيم بن أبي عَبْلَة وغيره. وكان لا يضرب شاهد الزُّور بالسَّوط، ولكن يَقِفُه على دَرَج دمشق ويقول: هذا شاهد زور فاعرفوه (¬2). عبد الرحمن بن يزيد ابن جارية بن عامر بن مُجَمِّع، أبو مُحَمَّد الأنصاري. من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة, وأمه جَميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح وأخوه لأمه عاصم بن عمر بن الخطاب. ولد عبد الرحمن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وروى عن عثمان رضوان الله عليه، وولي القضاء على المدينة لعمر بن عبد العزيز، ومات بها سنة ثلاث وتسعين، وكان ثِقَة كثير الحديث (¬3). وكان له أولاد؛ منهم: عيسى قُتل يوم الحرَّة، وإسحاق، وجَميلة، وأمّ عبد الله، وأم أيوب، وأم عاصم، وأمهم حَسنة بنت بُكير بن جارية، وجميل لأم ولد، وعبد الكريم وعبد الرَّحْمَن، وأمهما أُمامة بنت عبد الله، مَخْزوميّة. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (12943) و (12902) على الترتيب. (¬2) "تاريخ دمشق" 3/ 497 (مخطوط). (¬3) في "طبقات ابن سعد" 7/ 86: روى عن عمر ... وكان ثِقَة قليل الحديث.

مالك بن أوس

مالك بن أوس ابن الحَدَثان، البَصريّ، أبو سعيد، أحد بني نَصْر بن معاوية. من الطَّبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وركب الخيل في الجاهلية، وكان قديمًا، ولكنه تأخّر إسلامُه، ومات سنة اثنتين وتسعين، وقيل: سنة إحدى وتسعين. وكان عريفَ قومه في زمن عمر بن الخطاب، وشهد خُطبة عمر بالجابية، وفتوح القدْس معه، قال: دخلت القدس، فجعل عمر الصَّخرةَ خلف ظهره وقال: هذه قبلة اليهود, فقال له عبد الله بن سَلَام: فخالِفْهم، فخالفَهم. وقال ابن عبد البر: روى عن العشرة المبشَّرين، والعباس بن عبد المطَّلب. وعاش أربعًا وتسعين سنة. وروى عنه عكرمة بن خالد، ومحمَّد بن جُبَير بن مُطْعِم، والزّهري، وأبو الزُّبير، ومحمَّد بن المُنْكَدِر وغيرهم (¬1). السنة الثالثة والتسعون [قال علماء السير: ] وفيها فتح قُتيبة بن مسلم خُوارزم وسَمَرْقَنْد، وسُكَّانها [يقال لهم: ] الصُّغْد، وبنى بها مسجدًا، وخطب بنفسه، وأخذ من أهلها عن رؤوسهم ستة آلاف أَلْف وثلاثين ألفًا، ووجد في سمرقند جارية من ولد يَزْدَجِرد، فبعث بها إلى الحجاج، فأرسل بها إلى الوليد بن عبد الملك، فأولدها يزيد بنَ الوليد. ذكر تلخيص القصة: كان ملك خُوارزم قد غلب عليه أخوه خُرَّزاذ، واستولى على الممالك، وكان إذا بلغه أن عند أحد من أصحاب أخيه جارية أو دابة أو متاعًا، أو كان لبعض أصحاب الملك خُوارزم شاه أخت أو ابنة جميلة أرسل خُرَّزاذ فأخذها غَصْبًا، فخاف أخوه منه، فكتب إلى قُتيبة يدعوه إلى بلاده، وشرط عليه أن يُسلم إليه أخاه خُرَّزاذ، وكُلّ عدوّ له، يرى فيه رأيَه، ولم يُطلع أحدًا على مُكاتبته قتيبة، فأجابه قتيبة إلى ما سأل، وجاء زمان ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 60، و"الاستيعاب" (2326)، و"تاريخ دمشق" 66/ 17، و"السير" 4/ 171.

الغزو، فسار قتيبة في جيوشه، وأظهر أنَّه يريد السُّغْد، ولم يتعرض لبلاد خُوارزم شاه، ثم عطف عليها، ونزل قريبًا منها، فقال خُوارزم شاه لأصحابه: ما ترون؟ فقالوا: نقاتله، فقال: لا ولكن نصالحه، قالوا: افعل، فصالحه قتيبة على عشرة آلاف رأس، ومال ومتاع وغير ذلك، ووفى له قتيبة، ورجع طالبًا السُّغْد وملكها -ويقال له: طرخون- وكان قد نقض العهد، وجَهّز أخاه عبد الرَّحْمَن بن مُسلم في عشرين ألفًا، وسار مع قتيبة عسكرُ خُوارزم شاه وبُخارى في جمع عظيم، فحصرهم شهرًا. وكتب أهل الصُّغد إلى ملوك الشّاش وفَرَغانة أن العرب قد أحاطوابنا، وإذا فرغوا منا جاؤوا إليكم، فأرسلوا إليهم: نحن واصلون فاشغلوهم في ناحيتكم حتَّى نُبَيّتهم. وانتخَبوا من أبناء الفرسان والأساورة المَرازِبة والشّجعان جيشًا (¬1)، وأمروهم أن يُبَيّتوا المسلمين. وجاءت عيون قتيبة فأخبرته، فجهّز إليهم ست مئة من أبطال المسلمين، عليهم صالح بن مسلم، وأمره أن يقف في الطريق الذي يأتون منه، فخرج صالح ففرَّق أصحابَه ثلاث فِرق؛ فرقتين كمينين في موضعين، ونزل هو على قارعة الطريق في فرقة، وطرقهم الكفار ليلًا وهم آمنون؛ لعلمهم أن ذلك الطريق الذي عليه صالح لا تُسلك. وثار صالح، وخرج الكمينان والتقوا، وقاتل الكفار قتالًا لم يقاتله غيرهم، وصبروا فنصر الله المسلمين عليهم، فقتلوهم وحزُّوا رؤوسَهم، وأسروا الباقين، وسألوا الأسارى: مَن قَتَلْنا؟ فقالوا: ما قتلتم إلَّا ابنَ ملك، أو عظيمًا أو شجاعًا، فكتبوا أسماءهم على رؤوسهم، وساروا إلى عسكر قتيبة عند الصباح، فدخلوا والرؤوس مُعلَّقة في رقاب خيولهم، وقد غنموا شيئًا كثيرًا من مناطق الذهب المجوهرة وغيرها. وبلغ السُّغد فانكسروا، ونصب عليهم المجانيق والرّمايات، وجدّ في قتالهم قتيبة بنفسه، ونصح أهلُ خوارزم وبخارى. فبعث إليه الملك يقول: أَنْتَ إنما تقاتلني بأهلي من الأْعاجم، فأخرج إليّ العرب، فغضب قتيبة، وأمر العرب أن يقاتلوهم دون العجم، وثلموا في السور ثُلمة، فسدُّوها ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 473: وانتخبوا فرسانًا من أبناء المرازبة والأساورة والأشداء الأبطال.

بغرائر الدُّخن (¬1)، وصاحوا: الصلح؛ لما رأوا الغلبة، فصالحهم قتيبة على ألفي أَلْف ومئتي أَلْف في كل عام، وعلى أن يُعطوه في تلك السنة ثلاثين أَلْف رأس؛ ليس فيهم صبي ولا شيخ، وعلى أن يُخلوا المدينة لقتيبة، ويُخرجوا منها المقاتلة، ويدخلها قتيبة فيبني بها مسجدًا ويصلّي فيه ويخطب ويتغدّى ويخرج منها، فأجابوه، فقال: ابعثوا إلينا ما صالحناكم عليه، فأرسلوا إليه بالمال والرؤوس، فقال قتيبة: الآن ذَلُّوا حين صار أولادهم وإخوانهم في أيدينا. ثم أخلَوا المدينة، وبنوا جامعًا، ونصبوا منبرًا، وانتخب قتيبة أربعة آلاف فارس ودخلها، فأتى المسجد، وصلّى وخطب ثم تغدّى، وأرسل إلى أهلها: لستُ بخارج منها فخذوا ما أعطيتمونا. وكان قتيبة يُعَيَّر بالغدر بأهل سمرقند. وفي رواية: صالحهم على مئة أَلْف رأس، وبيوت النيران، وحِلية الأصنام، فأحضرت الأصنام بين يديه -وكانت عظيمة- فأمر بإحراقها، فجاءه ملك الصُّغْد والأكابر وقالوا: إن فيها أصنامًا مَن حرقها هلك، فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، وقام وأخذ بيده شعلة نار، وكَبّر وأحرقها، فوجدوا ما كان فيها من بقايا مسامير الذهب والفضة خمسين أَلْف مِثقال، ثم وجدوا جاريةً مَن بنات يَزْدَجِرد، فقال قتيبة: أترون ابنَ هذه يكون هجينًا؟ قالوا: نعم، يكون هجينًا من قبل أَبيه، فأرسل بها إلى الحجاج، فبعث بها إلى الوليد، فولدت يزيد بن الوليد. وفي رواية: أن قتيبة لما نازل سمرقند، واشتدّ القتال، فقال قتيبة ليلة يخاطب نفسه: حتَّى متى يَا سمرقند يُعَشِّش فيك الشيطان؟ ! أما والله لئن أصبحتُ لأُحاولَنّ من أهلِك أقصى غاية، فكان كما قال؛ قاتلهم في صبيحة تلك الليلة قتالًا عظيمًا، قُتل من الفريقين خلق كثير. وكتب قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند مع رجل من أهل خراسان، فبعث برسوله إلى الشَّام يُبَشِّر الوليد، قال: فدخلتُ مسجدَ دمشق قبل طلوع الشَّمس، فجلست وإلى جنبي رجل ضرير، فسألتُه عن شيء من أمر الشام فقال: إنك لغريب؟ قلت: أَجل، قال: من أين أَنْتَ؟ قلت: من خراسان، قال: ما أقدمك؟ قلت: أُبشّر بفتح سمرقند، ¬

_ (¬1) الغرائر: جمع غِرارة، وعاء من الخيش ونحوه، يوضع فيه القمح ونحوه. والدُّخْن: حبٌّ معروف. المصباح المنير والمعجم الوسيط.

فقال: والذي بعث محمدًا بالحق ما افتتحتموها إلَّا غدرًا، وإنكم يَا أهل خراسان الذين تَسلُبون بني أمية مُلكَهم، وتنقضون دمشق حَجَرًا حجرًا. ودعا قتيبة نَهارَ بنَ تَوْسِعة فقال: يَا نهار، أين قولُك: [من الطَّويل] ألا ذهب الغَزْوُ المُقرِّبُ للغِنى ... ومات النّدى والجُودُ بعد المُهَلَّبِ أقاما بمَرْوالرُّوْذِ رَهْنَ ضَريحِه ... فقد غُيِّبا من كلِّ شَرْقٍ ومَغْرِبِ فغَزْوٌ هذا يَا نهار؟ قال: نعم، هذا أحسن، وأنا الذي أقول: [من الطَّويل] وما كان مُذْ كنا ولا كان قبلنا ... ولا هو فيما بعدنا كابن مُسْلمِ أعَمّ لأهل التُّرك قَتْلًا بسَيفه ... وأكثَرَ فينا مَقْسِمًا بعد مَقْسِمِ وارتحل قتيبة راجعًا إلى مَرْوالرُّوذ، واستخلف على سَمَرْقَند أخاه عبد الله بن مسلم في جند كَثيف، وأوصاه فقال: لا تَدَعَنّ كافرًا يدخل البلد إلا مَختومَ اليَدِ، فإن جَفَّت الطِّينةُ قبل أن يخرج فاقتله، ومن وجدتَ معه حديدةً فاقتله، ومن بات بها منهم فاقتله. وقيل: إنه فتح خُوارزم أَيضًا في هذه السنة، ثم عاد إلى مرو. [فصل]: وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك بلادَ الرُّوم، ففتح حصنَ الحَديد، وقلعة غَزالة، وغزا أيضًا العباسُ بنُ الوليد، ففتح سمسطة (¬1) وطُوس، والمرزبان، وكاشه، وغزا مروانُ بنُ الوليد فبلغ خَنْجرة. وفيها أجدبت إفريقية، فاستسقى موسى بن نصير، ودعا وسأل الله، فقيل له قبل أن ينزل من المنبر: ألا تدعو لأمير المُؤْمنين؟ فقال: ليس هذا يوم ذاك، فجاء الغيث سَحًّا، وسُقُوا سَقْيًا كفتهم زمانًا. قال الواقديّ: وفيها غضب موسى بن نُصير على طارق بن زياد، وشخص إليه في رجب ومعه حَبيب بن عقبة بن نافع الفِهْرِي، واستخلف على إفريقية ابنَه عبد الله بن موسى، وقطع موسى الزقاق في عشرة آلاف، فتلقاه طارق واعتذر إليه، فقبل عذره ورضي عنه، وبعثه من قُرطبة إلى طُلَيطُلَة -وبينها وبين قرطبة عشرون يومًا- ففتحها، واستخرج منها مائدة سليمان - عليه السلام -، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 469: سمسطية.

وفيها عَزل الوليد بنُ عبد الملك عمر بنَ عبد العزيز عن المدينة. [واختلفوا في عزله على قولين: أحدهما] أن عمر كتب (¬1) إلى الوليد يخبره بظُلم الحجّاج، وسفكه الدّماء، وما يفعل بأهل العراق، وخوَّفَه عواقبه، وبلغ الحجاج فحقدها، وكتب إلى الوليد أن مُرَّاق العراق وأهل الشقاق قد التجؤوا إلى المدينة، وذلك وهن، فكتب إليه الوليد أن أَشِرْ عليَّ برجُلَين، فكتب إليه الحجاج أن عليك بخالد بن عبد الله القَسْري، وعثمان بن حَيّان، فولّى عثمان بن حيّان المدينة، وعزل عنها عمر. [والثاني حكاه الواقديّ قال: ] كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يقول: اضرب خُبيب بن عبد الله بن الزُّبير خمس مئة سَوط (¬2)، وصُبَّ على رأسه قربةً من ماء في يوم بارد، فامتنع، وجاء كتاب الوليد ثانيًا ففعل عمر، فمات خبيب من يومه، فكتب عمر إلى الوليد يَستقيله من الولاية، ولم يزل عمر خائفًا طول عُمُره، وكان إذا مُدِح يقول: وكيف وخُبيب على الطريق ينتظرني؟ ! وودى عمر خُبيبًا، وأعتق ثلاثين رَقَبة. [وسنذكر خبيبًا. قال الواقديّ: ] وكانت ولاية عمر على المدينة سبع سنين وشهورًا. ولما كان عمر بالسُّويداء قال لمولاه مُزاحم: أخاف أن أكون ممّن نَفَتْه المدينة. وكان خروجه منها في شعبان، وقيل: عُزل في سنة أربع وتسعين، واستخلف عليها أَبا بكر بن محمَّد بن عَمرو بن حَرم الأَنْصَارِيّ، حتَّى قدمها عثمان بن حَيَّان للَيلَتين بقيتا من شوال. واختلفوا فيمن حجَّ بالنَّاس في هذه السنة على أقوال: أحدها: عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، قاله أبو مَعْشَر. والثاني: عثمان بن حيان وكان على المدينة. والثالث: محمَّد بن الوليد (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ص)، بدله في (خ) و (د): وسببه أن عمر كتب. (¬2) الذي في الطبري 6/ 482 أنها خمسين سوطًا، وفي "المنتظم" 6/ 309 خمسين أو مئة. (¬3) من قوله: واختلفوا فيمن حج ... إلى هنا من (ص)، وجاءت مختصرة في (خ) و (د). وانظر الطبري 6/ 482.

خبيب بن عبد الله بن الزبير

[فصل] وفيها تُوفِّي خُبَيب بن عبد الله بن الزُّبير وأمّه بنتُ مَنْظور بنت زَبّان بن سَيّار الفَزاري، من الطَّبقة الثالثة من أهل المدينة (¬1). قال ابن سعد: وكان عالمًا، بلغ الوليد بن عبد الملك عنه أحاديث كرهها، فكتب إلى عامله بالمدينة أن يَضربه مئة سَوْط، فضربه مئة سَوط، ثم صبَّ عليه قِربةً من ماء بارد بُيِّتَتْ من الليل، فمكث أيامًا ثم مات. هذا صورة ما ذكره ابن سعد في ترجمة خُبيب. وأما هشام فقال: كان خُبيب مُقيمًا بالمدينة، يذكر مَساوئ بني أمية وعُيوبَهم، وبلغ الوليد فكتب إلى عامله عمر بن عبد العزيز أن يَفعل به ذلك فامتنع، وجاء كتاب الوليد ثانيًا ففعل به عمر ذلك، فأقام أيامًا ومات، وندم عمر كما ذكرنا. وحكى الموفّق رحمه الله عن مصعب الزُّبيريّ قال: كان خُبيب من النُّسَّاك، وكان عالمًا بالإنساب أنساب قريش، طويلَ الصلاة، قليلَ الكلام، قال مصعب: قال أصحابنا: كان يعلم علمًا لا يعرفون وَجْهَه، ولا مَذْهَبُه يُشبه ما يدَّعيه النَّاس من علم النّجوم. قال: فروى موسى بن عُقَيبة -أو عُقْبَة (¬2) - قال: كنت أمشي مع خُبيب وهو يُحدِّث نفسَه؛ إذ وقف وقال: قُتل عَمرو بن سعيد الساعة، فكان كما قال. وليس لخُبيب عَقِب. قال البَلاذُريّ: كان عبد الله بن خازم السُّلَمي عامل عبد الله بن الزُّبير على خُراسان، فلما قُتل ابن الزُّبير خطب ابن خازم لولده خُبيب بالخلافة، وبقي ذلك في نفس عبد الملك، ولم يعرض له، فلما ولي الوليد وبلغه أن خُبيبًا يذكر مساوئ بني أمية وعيوبَهم وينال منهم حرَّك ذلك ما كان كامنًا في قلبه، فأمر به فضُرب. وقد أنكر قوم هذا وقالوا: مات عبد الله بن خازم قبل قتل عبد الله بن الزُّبير. ¬

_ (¬1) وقع بعد هذا خلاف بين النسخ في أخبار خبيب، وسنثبت ما في (ص)، ونضم إليها من (خ) و (د) ما ليس فيها. وانظر في ترجمة خبيب: "طبقات ابن سعد" 7/ 405، و"جمهرة نسب قريش" 36 - 38، و"أنساب الأشراف" 7/ 27، و"المنتظم" 6/ 310، و"التبيين" 258، و"تهذيب الكمال" (1677). (¬2) في "التبيين": موسى بن عقبة، وفي "جمهرة نسب قريش" و"تهذيب الكمال": يعلى بن عقيبة.

زرارة بن أوفى الحرشي

فصل: وفيها تُوفِّي زُرارة بن أَوفى (¬1) الحَرَشِيّ من بني الحَرِيش، أبو حاجب. ذكره ابن سعد في الطَّبقة الثَّانية من التابعين من أهل البصرة، حَدَّثَنَا عفان (¬2)، بإسناده إلى قتادة: أن زُرارة بن أوفى كان قاضيًا على البصرة. كذا وقع في نسخة ابن سعد، وفي غيرها. قال: وكان يُصلّي في منزله الظهر والعصر، ثم يأتي الحجّاج للجمعة. وقال ابن سعد: مات زُرارة بن أوفى فُجاءةً في سنة ثلاث وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان ثقةً له أحاديث. وقال ابن سعد بإسناده إلى بَهْزِ بن حَكيم: أن زرارة بن أوفى أَمَّهم في الفجر في مسجد بني قُشَير، فقرأ، حتَّى إذا بلغ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8 - 10] خرَّ ميتًا، قال بَهْز: فكنتُ فيمن حَمَلَه. قال: وكان يَقصُّ في داره، وهذه رواية أبي نُعيم (¬3)، قال: وقدم الحجَّاج البصرة وهو يَقُصُّ في داره. وقد روى جدي (¬4) أنَّه كان يَقُصُّ، وابن سعد قال: كان قاضيًا، ولعلّه تصحيف. وفي رواية أنَّه لما قرأ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} شَهق شَهقةً فمات. أسند زُرارة عن جماعة من الصَّحَابَة، منهم: أبو هريرة، وعمران بن الحُصَين، وابن عباس (¬5). ¬

_ (¬1) في النسخ: زرارة بن أبي أوفى، في كل المواضع، وهو خطأ، والمثبت من المصادر. هذا وقد جاءت ترجمة زرارة مختصرة في (خ) و (د)، والمثبت من (ص) لوضوحها وتمامها. (¬2) في (ص): عثمان، وهو خطأ، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 9/ 150. (¬3) في "الحلية" 2/ 258 - 259 من طريق بهز بن حكيم، وقول بهز: وكان يقص في داره، هو في رواية أبي نعيم كما أشار المصنف، ولم يرد في رواية ابن سعد، انظر طبقاته 9/ 150 - 151. (¬4) في "صفة الصفوة" 3/ 230. (¬5) انظر "المنتظم" 6/ 312، و"تهذيب الكمال" (1962)، و"السير" 4/ 515.

وضاح اليمن

[فصل: وفيها تُوفِّي وَضَّاح اليَمَن واختلفوا في اسمه على قولين, أحدهما: ] عبد الله (¬1) بن إسماعيل بن عبد كُلال، من أهل صنعاء من الأبناء، والثاني: عبد الرَّحْمَن بن إسماعيل، من خَوْلان. ووَضاح لقبٌ له لجماله وبياضه وحُسنه، [قال الجوهري (¬2): الوضَّاح: الرَّجل الأبيض اللون]. قصته مع أم البَنين: [واختلفوا فيها على قولين، أحدهما أن صاحبته أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان, والثاني امرأة أخرى يقال لها: أم البنين بنت المختَزِم من أهل اليمن. وجه القول الأول ما رواه الخرائطي بإسناده عن أبي مُسْهِر] قال (¬3): كان وضّاح اليمن نشأ هو وأم البنين صغيرين، فأحبّها وأحبته، وكان لا يصبر عنها، حتَّى إذا بلغت حُجبت عنه، فطال بهما النبلاء، فحجّ الوليد فبلغه جَمال أم البنين وأدبها، فتزوجها ونقلها إلى الشَّام معه، فذهب عقل وضّاح عليها، وجعل يذوب ويَنحل، فلما طال عليه البلاء خرج إلى الشَّام، فجعل يُطيف بقصر الوليد كلّ يوم ولا يجد حيلة، فرأى يومًا جارية خارجة من القصر، فلم يزل حتَّى تأنّس بها، فقال لها: أتعرفين أم البنين؟ قالت: نعم، هي مولاتي، فقال: إنها ابنة عمي، وإنها تُسَرُّ بموضعي لو أخبرتِها، فمضت الجارية فأخبرتها فقالت: أو حيٌّ هو؟ قالت: نعم، فقالت لها: قولي له: كن مكانك حتَّى يأتيك رسولي، فلن أدع الاحتيال لك، فاحتالت فأدخلته إليها في صندوق، فمكث عندها حينًا، فكانت إذا أمِنت أخرجته فقعد معها، وإذا خافت عَينَ رقيب أدخلته الصندوق. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ص)، بدله في (خ) و (د): وضاح اليمن واسمه عبد الله. (¬2) في "الصحاح" (وضح) 1/ 416. (¬3) ما بين معكوفين من (ص)، بدله في (خ) و (د): قال أبو مسهر. والخبر في "اعتلال القلوب" للخرائطي 259 - 260.

فأهدي للوليد يومًا جوهر له قيمة، فقال لبعض خَدمه: امض بهذا الجوهر إلى أم البنين، وقيل لها: هذا هدية، فدخل الخادم من غير استئذان ووضّاح معها، فلمحه ولم تشعر، فبادر إلى الصندوق فدخله، وأدّى الخادم الرسالةَ إليها وقال: هبي لي منه حَجَرًا، فقالت له: لا أمَّ لك، وما تصنع أنت بهذا؟ فخرج وهو حنِق عليها، فجاء إلى الوليد فأخبره، ووصف له الصندوق الذي فيه وضاح، فقال الوليد: كذبتَ لا أمَّ لك. ثم نهض مسرعًا فدخل إليها وهي في ذلك البيت، وفيه عدة صناديق، فجاء حتَّى جلس على الصندوق الذي وصفه الخادم, فقال لها: يَا أم البنين، هبي لي صندوقًا من صناديقك هذه، فقالت: يَا أمير المؤمنين: هي وأنا لك، فقال: ما أريد غير هذا الذي تحتي، فقالت: إن فيه شيئًا من أمور النساء، فقال: ما أريد غيره, فقالت: هو لك، فأمر به فحمل، ودعا بغلامين؛ فأمرهما بحفر بئر، فحفرا حتى بلغا الماء، فوضع فمه على الصندوق وقال: أيها الصندوق, قد بلغنا عنك شيء، فإن كان حقًّا فقد دفنَّا خَبَرَك، وَدرسْنا أثرك, وإن كان كذبًا فما علينا في دفن صندوق من خشب حرج, ثم أمر به فألقي في الحُفيرة, وأمر بالخادم فقذف به فوقه, وطمّ عليهما التراب جميعًا. قال: فكانت أم البنين توجد في ذلك المكان تبكي إلى أن وجدت يومًا مكبوبة على وجهها. وهذه رواية الخرائطي, وأخرجها أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" (¬1)، وأخرج في "تاريخه" أن القصة كانت مع يزيد بن عبد الملك بن مروان (¬2). وإن أم البنين، كانت زوجة الوليد من غير خلاف. وذكر أبو الفرج الأصفهاني (¬3) بمعناها عن هشام بن الكلبي, وقال في آخر القصّة بعد دفن الصندوق: فلم يُرَ وَضّاح بعد ذلك اليوم، ولم تَرَ أمُّ البنين في وجه الوليد أثرًا حتَّى فرَّق الموت بينهما. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 32/ 381 - 382، وأخرجها عن الخرائطي أَيضًا ابن الجوزي في "المنتظم"6/ 306 - 307. ومن قوله: وهذه رواية الخرائطي ... إلى نهاية الترجمة من (ص)، وجاءت في (خ) و (د) مختصرة وفيها تقديم وتأخير. (¬2) "تاريخ دمشق" 32/ 382 - 383 من طريق هشام بن محمَّد بن السائب الكلبي. (¬3) في "الأغاني" 6/ 226.

وذكر البَلاذُريّ القصة فقال: كانت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان عند الوليد بن عبد الملك، وكان مُعجبًا بها، وكانت امرأةً بَرْزَةً عَفيفة، تحب الشعر والأدب، حجَّت مع الوليد فسمعت إنشادَ وَضَّاح اليمن -وكان فصيحًا جميلًا من أبناء أهل اليمن- فوصَلَتْه، ثم صحبهم، وجعل يدخل عليها سرًّا، ويُنشدها من وراء السّتر، وبلغ الوليد فغمَّه ذلك، وقال لخادم: اذهب إليها، فإن وجدْتَه عندها فاقتله، فجاء الخادم فوجده عندها، فأدخلتْه في صندوق وأقفلَتْه، [فأخذ الخادم الصندوق] وحفر له حُفيرة، وألقاه فيها وطَمَّه (¬1). وقال الرّياشي: لما بلغ الوليد قصّة وَضَّاح سكت حتَّى شبَّب وَضّاح بفاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز، فأخذه فدفنه حيًّا (¬2)، فلما كان في أيام بني العباس تشاحّ رجلان أحدهما من ولد الوليد، والآخر من شيعة بني العباس، فحفر الرَّجل دارًا، فوجد فيها صندوقًا، ففتحه وإذا فيه وضّاح اليمن قد بَلي، فشَنّع على أم البنين بوَضّاح. وقيل: إن الوليد غَرَّق وضّاحًا في الماء وأمّ البنين تراه، وخرجت إلى مكة حاجّة. وجه القول الثاني: ذكره البلاذري أَيضًا وقال: إن أم البنين صاحبة وضاح اليمن ليست بأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، وإنما هي أم البنين بنت المختزم، وكانت امرأة جميلة من أهل اليمن وكانت من حِمْيَر، وكانت جميلة، عشقها وضاح وعشقته، فتزوجها وخرج بها إلى مكة فطلقها (¬3)، فحج الوليد وهي بمكة، فبلغه حسنها وجمالها، فتزوجها وخرج بها إلى الشَّام، وخرج وضاح خلفها، ففعل به الوليد ما فعل. وقال ابن الكلبي: قدم وضّاح على الوليد فأحسن إليه، وقد رُوي له خبر ظَريف في صحته نظر. ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 7/ 31. وقوله: امرأة بَرْزَة، أي: تُجالس الرجال. (¬2) انظر "الأغاني" 6/ 227، و"تاريخ دمشق" 32/ 384 - 358. (¬3) كذا في النسخ، والذي في "أنساب الأشراف" 7/ 32: وكانت أم البنين امرأة جميلة فعشقها وأحبته، وكان زوجها من حمير ... فطلقها، وهو الصواب.

قلت: وهذا هو الصحيح؛ لأن أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر بن عبد العزيز؛ كانت من العفائف العابدات، ذكرها ابن أبي الدنيا في كتاب "العوائد"، والموفَّق في "التوابين" (¬1). وقول الخرائطي: إنها وُجدت مَيتة على الحُفرة لا يصحّ؛ لأن أم البنين توفيت في سنة سبع عشرة ومئة باتفاق أهل السِّيَر، والوليد مات في سنة ست وتسعين. وكذا قول الخرائطي: إن الوليد تزوج أم البنين بنت عبد العزيز بمكة خطأ؛ لأن أباه زوَّجه بها في حال حياته، وذكرنا أن عبد الله بن جعفر كتب إليها لتَشفعَ في ابن قيس الرّقيّات عند عبد الملك بن مروان، وهذا ما انتهى إلينا، والله أعلم. ومن شعر وَضّاح قوله: [من البسيط] لا قُوَّتي قُوَّةُ الرّاعي قَلائصَهُ ... يأوي فيأوي إليه الكلبُ والرُّبَعُ ولا العَسِيفُ الذي يَشتَدُّ عُقْبَتَهُ ... حتَّى يَبيتَ وباقي نَعلِه قِطَعُ لا يَحملُ العبدُ فينا فوق طاقَتِه ... ونحن نحمِلُ ما لا تحملُ القَلَعُ منّا الأناةُ وبعضُ القومِ يَحسبُنا ... أنَّا بِطاءٌ وفي إبطائنا سَرَعُ (¬2) ¬

_ (¬1) في خبر أورده لها ص 168 مع عزة صاحبة كثير. (¬2) "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي 645 - 647. قوله: والرُّبَعُ: ما نُتج في الرَّبيع، والقلائص: النُّوق الشابّة الفتية، والعَسِيف: الأجير، والعُقْبَة: قيل: فرسخان، ويشتد: يعدو، والقَلَع: جمع قلعة، وهي الهضاب العظام.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [10]

السنة الرابعة والتسعون

السنة الرابعة والتسعون وفيها كان بالشام زلازل هائلة، ذكر محمد بن موسى الخُوارزمي أن في هذه السنة لعشرين من آذار دامت الزلازل في الدنيا أربعين يومًا، فهدمت الأبنية الشاهقة، ووقع معظم أنطاكية. وفيها غزا عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك بن مروان أرض الروم، فأوغل فيها ووصل إلى غزالة، وفتح العباس بن الوليد أنطاكية. وفيها هرب يزيد بن المهلب وإخوته من حبس الحجاج إلى الشام (¬1). وكان الحجاج قد حبس يزيد وإخوته، وعَذَّبهم وضيّق عليهم، وأخذ منهم ستة آلاف ألف درهم واستصفاهم، وكان يزيد يصبر على العذاب صبرًا جميلًا، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فأمر به يومًا أن يُجعل الدَّهَق (¬2) على ساقه، فلما وضعوه على ساقه صاح، وكانت هند بنت المُهَلَّب تحت الحجاج، فصاحت وناحت وبكت على أخيها، فطلقها الحجاج، ثم كفَّ عن عذابه. وكانت الأكراد قد غلبوا على أرض فارس وعاثوا، فخرج الحجاج فنزل رُسْتَقُباذ، وصحب معه يزيد وإخوته، واحتاط عليهم، وحفر حولهم الخنادق، وأقام الحرس، وضرب عليهم فُسطاطًا، وهم يعملون في الخلاص لنفوسهم، فبعثوا إلى مروان بن المهلّب -وكان بالبصرة - أن يهيِّئ لهم سُفنًا وخَيلًا ورجالًا ففعل، وواعدوه ليلةً بعينها، فلما كان في تلك الليلة أمر يزيد أن يصنع للحرس طعام كثير، فأكلوا وشربوا، وكان في حبس الحجاج منهم يزيد والمفضل وعبد الملك. ¬

_ (¬1) ذكر الطبري 6/ 448، وابن الجوزي في "المنتظم" 6/ 295 - 296 أن ذلك كان في سنة تسعين. والخبر بطوله ليس في (ص). (¬2) خشبتان تُشَدّان على الساق.

فلما غفل الحرس خرج يزيد وعليه ثياب طَبَّاخه، وعلى رأسه سَلَّة فيها زبادي، وقد جعل على وجهه لحية بيضاء، فرآه بعض الحرس فقال: هذه مشية يزيد، فجاء فنظر إِلَى وجهه، فرأى بياض اللحية فانصرف عنه وقال: هذا شيخ، وخرج المفضّل على أثره، وقد هُيِّئت لهم السفن فِي البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخًا، ولما وصلوا إِلى السفن أبطأ عليهم أخوهم عبد الملك، فقال يزيد للمفضل: اركب بنا فهو يلحقنا، فقال المفضل: لا والله لا أبرح حتَّى يأتي عبد الملك ولو رجعت إِلَى السجن، وكان المفضل شَقِيق عبد الملك [لأمه] وأمهما بَهْلَة؛ هندية. ولحقهما عبد الملك، وركبوا السفن وساروا ليلتهم حتَّى أصبحوا، ولم يعلم بهم الحرس حتَّى طلع النهار، فخافوا من الحجاج، وأخفوا أمرهم عامة النهار وهربوا، واتّفق أن الحجاج لم يأمر بتعذيبهم فِي ذلك النهار. ولما علم الحجاج بهم جَزع، وظنّ أنَّهم يقصدون خراسان، فكتب إِلَى قتيبة بن مسلم يأمره أن يَحترز منهم، وبعث إِلَى أمراء الثُّغور يُحذّرهم، ويأمرهم برصدهم، وقال: هذه مثل نَوبة ابنِ الأشعث، وكتب إِلَى الوليد يخبره، وقلق الحجاج لهرَبهم، وشَغله ذلك عن الأمور، وأقام أيامًا واجمًا. وأما يزيد وإخوته فاستقبلتهم الخيل من تحت البطائح، فخرجوا من السفن، وركبوا ومعهم دَليل يقال له: عبد الجبار بن يزيد بن ربيعة (¬1)، كلبي، فقصدوا أرض الحجاز، ثم تيامَنوا إِلَى السَّماوَة يريدون الشَّام، وقصدوا أرض فلسطين، فنزلوا على وُهَيب بن عبد الرحمن الأَزدِيّ -وكان كريمًا على سليمان بن عبد الملك، وكان سليمان نازلًا بفلسطين- فدخل وُهَيب على سليمان فقال: هذا يزيد بن المهلّب وإخوته فِي منزلي، وقد جاؤوك مُسَتجيرين بك من الحجاج، فقال سليمان: ائتني بهم فهم آمنون، لا يوصل إليهم وأنا حي، فجاء بهم فدخلوا على سليمان، فأكرمهم وأحسن إليهم، وأقاموا عنده فِي أمن، وقال دليلهم الكلبي فِي مسيرهم: [من الطَّويل] ألا جعل الله الأخلَّاء كلَّهم ... فِداءً على ما كان لابنِ المُهَلَّبِ ¬

_ (¬1) فِي الطبري 6/ 449: بن الربعة، وما سلف بين معكوفين منه.

لنعم الفتى يَا معشرَ الأزْدِ أسْعَفَتْ ... رِكابُكمُ بالرَّكب شَرقيَّ مَنْقَبِ عَدَلْنَ يمينًا عنهمُ رَمْلُ عالِجٍ ... وذات يمين القوم أعلامُ غُرَّبِ بقومٍ همُ كانوا الملوكَ هَدَيتُهم ... بظَلْماءَ لم يُبْصَر بها ضَوءُ كوكبِ تؤمُّ بهم من بعد عَشْرٍ ركابُنا ... سليمانَ من أهل النُّهى والمناقِبِ من أبيات. وسبب قول الكلبي هذا الشعر أنَّهم ساروا إليه، فسقطت عمامة يزيد، فقال له: ارجع فاطلبها لي، فقال: مثلي لا يؤمر بهذا، فأراد أن يُقَنِّعَه بالسوط، فانتسب له، فخجل يزيد منه وتركه. وكتب الحجاج إِلَى الوليد: إن يزيد وإخوته اختانوا مال الله، وهربوا مني ولحقوا بسليمان، وكان الوليد قد خاف أن يقصدوا خراسان، ويفعلوا مثل فعل ابن الأشعث، وقد كان لهم بخراسان صنائع معروف عظيم، والناس يختارونهم، فلما بلغه وصولهم إِلَى سليمان هان عليه الأمر، وغضب للمال الذي عندهم. وكتب سليمان إِلى الوليد: إن بني المهلب عندي، وقد أمّنتُهم، وإنما عليهم ثلاثة آلاف أَلْف درهم، وقد أغرمهم الحجاج ستة آلاف أَلْف، فإن كان قد بقي عليهم شيء فهو عندي. فكتب إليه الوليد: لا أُؤمّنهم حتَّى تبعث بهم إِلَي، فكتب إليه سليمان: لئن بعثت بهم إليك لأجيئنّ معهم، فأَنشدُك الله أن تَخْفِر ذِمامي وتفضحني، فكتب إليه الوليد: والله لئن جئتَني لا أؤمنهم، فقال يزيد لسليمان: والله ما أُحبُّ أن أوقع بينكما عداوة، ويَتشاءم النَّاس بقدومنا عليك، فأبعث بنا إليه، وأرسل معنا ولدك، ولاطفه مهما تقدر عليه. وكان الوليد قد قال: ابعث بهم إليّ فِي وَثاق، فبعث بهم سليمان مع ابنه أَيُّوب، وقال لابنه: إذا قربتم من الوليد فأدخل عليه أَنْتَ ويزيد فِي سلسلة، وكتب إليه سليمان: بسم الله الرحمن الرَّحِيم، لعبد الله الوليد أمير المؤمنين من سليمان بن عبد الملك، سلام على أمير المُؤْمنين ورحمة الله وبركاته، أما بعد يَا أمير المُؤْمنين، فوالله إنِّي لأظن أنَّه لو استجار بي عدوٌّ قد جاهدك ونابذك أنك لا تَخْفِر جِواري ولا تُذلّ جاري، وما

أجرتُ إلَّا سامعًا مطيعًا، حسنَ البلاء والأثر فِي الإِسلام هو وأبوه وأهل بيته، وقد بعثتُ به إليك، وأنا أُعيذك بالله من قطيعتي، وانتهاك حُرمتي، وتَرْك برِّي وصلتي، فوالله ما تدري كم بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق الموت بيننا، والله ما أصبحتُ لشيءٍ من أمور الدنيا بعد تقوى الله بأسرّ مني برضاك عني، وإنما ألتمس به رضي الله تعالى، فإن كنتَ تريد بِرّي وصِلتي وإكرامي فأكرم يزيد، وتجاوز عنه، وكل ما طلبتَ منه فهو عليّ والسلام. ولما قَرُب أَيُّوب من الوليد جعل نفسه مع يزيد فِي سلسلة، ودخل عليه، فلما رأى الوليد ابنَ أخيه مع يزيد فِي سلسلة قال: والله لقد بلغنا من سليمان، ثم ناوله أَيُّوب الكتاب، وقال له: يَا أمير المُؤْمنين، نفسي فداؤك لا تَخفِر ذمة أبي، ولا تقطع رجاءنا منك، ولا تُذلّ من رجا العزَّ بنا لعزِّنا بك. ولما قرأ الوليد الكتاب قال: لقد شَقَقْنا على سليمان، ثم دعا بابن أخيه فأدناه منه، وتكلّم يزيد بن المهلب فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: يَا أمير المُؤْمنين، إن بلاءكم عندنا أحسنُ النبلاء، فمن نسي ذلك فلسنا بناسيه، وقد كان من بلائنا أهلَ البيت فِي طاعتكم والطّعن فِي عين أعدائكم فِي المواطن العظام فِي المشارق والمغارب ما قد كان، وأمير المُؤْمنين أعلم بذلك، فقال له الوليد: اجلس فأنت آمن، وأعاده وإخوته إِلَى سليمان، وكتب إليه بإجابة سؤاله، والرّضى عن آل المهلب، وكتب إِلَى الحجاج: إنِّي لم أصل إِلَى يزيد، وأهلُ بيته مع سليمان، فاكفف عنهم، والْهُ عن الكتاب إليّ فيهم، فكفّ الحجاج عنهم، وأسقط عن حبيب بن المهلب وآل المهلب ما كان يطالبهم به. وأقام يزيد عند سليمان على أحسن حال، فكان يُلاطفه بالهدايا، فلا يؤتى سليمان بهدية إلَّا وبعث إِلَى يزيد بنصفها، ولا جارية تعجبه إلَّا بعث بها إِلَى يزيد، وبلغ الوليد، فبعث إِلَى سليمان الحارثَ بنَ مالك الأَشعريّ، وحمّله إليه رسالة غليظة، وقال له: قَبِّح عليه ما يفعل مع يزيد؛ حتَّى يبعث إليه بجواريه. فجاء الأَشعريّ، فدخل على سليمان وهو يقرأ فِي المصحف، فسلم عليه، فلم يرد - عليه السلام - حتَّى فرغ من القراءة، فأبلغه الرسالة فقال: والله لئن قدرت عليك يومًا من

الحسن بن محمد

الدهر لأقطعنّ منك طابقًا، فقال: إنما أنا رسول، وكان قد أهدي لسليمان هدايا فقال: ابعثوا بنصفها إِلَى يزيد، فعلموا أن سليمان لا يطيع فِي يزيد أحدًا. وأقام يزيد عند سليمان تسعة أشهر، ومات الحجاج، ولما مات الوليد كان أولَ من بايع سليمانَ يزيدُ وإخوته. وفيها غزا قتيبة ما وراء النهر، وبلغ فَرْغانة وخُجَنْدَة، ولما قطع النهر فرض على أهل بُخارى وكَش ونَسَف وخُوارِزم عشرين أَلْف مقاتل، وساروا معه إِلَى خُجَنْدة، فنازلها، فقاتلوه، وفي كل مرة يُنصَر عليهم، فقال فِي قتالهم قائل: [مجزوء الكامل] فسَلِ الفَوارسَ فِي خُجَنْـ ... ــــــدَةَ تحت مُرهَفَةِ العَوالي هل كنتُ أجمعهم إذا ... هُزِموا وأُقدِم فِي قِتالي أم كنتُ أضربُ هامةَ الـ ... ـــــعاتي وأَصبِرُ للنِّزالِ واختلفوا فيمن حجّ بالنَّاس فِي هذه السنة؛ فقال أبو مَعْشر: سليمان بن عبد الملك، وقال خليفة: مَسْلَمة بن عبد الملك، وقال الهيثم: عثمان بن حَيَّان المُرِّي وكان على المدينة، وقد نصّ المسعودي على سليمان بن عبد الملك (¬1). وكان على مكة خالد بن عبد الله القَسْري، وعلى العراق والمشرق الحجاج، وعلى خراسان قُتيبة بن مسلم، وعلى مصر قُرَّة بن شَريك. [فصل]: وفيها تُوفِّي الحسن بن محمَّد ابن الحَنَفيّة (¬2)، وأمه جَمال بنت قيس بن مَخْرَمَة بن المُطَّلب بن عبد مَناف [وكنية الحسن] أبو محمَّد. ¬

_ (¬1) من قوله: واختلفوا فيمن حج ... إِلَى هنا من (ص)، وجاءت فِي (خ) و (د) مختصرة، وقول أبي معشر، ونصُّ المسعودي على أن الذي حج فِي هذه السنة مسلمة بن عبد الملك، انظر "تاريخ الطبري" 6/ 491، و"مروج الذهب" 9/ 60، و"تاريخ خليفة" 306. (¬2) بعدها فِي (ص): ومحمَّد بن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه.

سعيد بن جبير

[ذكره ابن سعد] فِي الطَّبقة الثالثة من التابعين من أهل المدينة وقال: كان من ظُرفاء بني هاشم، وأهل العقل منهم (¬1)، وكان يُقدَّم على أخيه أبي هاشم عبد الله بن محمَّد فِي الفضل والهَيبَة، وهو أول من تكلّم فِي الإرجاء بالمدينة. تكلّم قوم فِي عثمان وعلي وطلحة والزُّبير وعائشة رضوان الله عليهم فأكثروا والحسن ساكت، فقيل له: تكلَّم، فقال: لم أر شيئًا أمثل من أن يُرْجَأ أمرُ هؤلاء، فلا تتولّونهم ولا تتبرَّؤون منهم، وبلغ أباه محمدًا فضربه فشجَّه وقال: ويلك، ألا تتولّى أَبَاك عليًّا، فوضع كتابًا فِي الإرجاء، ثم ندم على وضعه، ودخل عليه زاذان وميسرة فلاماه على وضعه، فقال: لوَدِدْتُ أني مت ولم أكتبه. وكان الحسن يَلبَس الرِّقاق من الثياب. [وحكى يعقوب بن أبي شيبة عنه أنَّه] قال: يَا أهل الكوفة، اتّقوا الله ولا تقولوا فِي أبي بكر وعمر إلَّا خيرًا، فإن أَبا بكر كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الغار، وعمر أعزّ الله به الدين. [واختلفوا فِي وفاته، فقال الواقديّ: مات سنة الفقهاء، وهي سنة أربع وتسعين، وقال ابن سعد: مات فِي خلافة عمر بن عبد العزيز، وقيل: فِي سنة إحدى ومئة، وقيل: فِي سنة الجَماجم، وليس له عقب. أسند عن أَبيه، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخُدري، وسَلَمة بن الأكوع وغيرهم، وروى عنه عمرو بن دينار، والزُّهري، والشَّعبي فِي آخرين (¬2). [فصل: وفيها تُوفِّي] سعيد بن جُبَير مولى لبني وَالِبة [بن الحارث بن أَسَد بن خُزَيمة بن أسد. ¬

_ (¬1) بعدها فِي (ص): وكان يلبس الرقاق من الثياب، هذه صورة ما حكاه ابن سعد. اهـ. وانظر "طبقات ابن سعد" 7/ 322. (¬2) انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 322، و"تاريخ دمشق" 4/ 589 (مخطوط)، و"السير" 4/ 130. وما بين معكوفات من (ص).

ذكر طرف من أخباره: وهو] من الطَّبقة الثَّانية من أهل الكوفة، وكان من كبار العلماء، والزُّهَّاد، والعُبَّاد الورعين، وكان ابن عباس يُعَظّمه (¬1)، ومعظم علم ابن عباس إنما انتشر عنه. وقال [ابن سعد: ] قال ابن عباس [لسعيد بن جُبير]: حَدِّث، فقال: أُحَدِّث وأنت ها هنا! قال: أوليس من نعم الله عليك أن تُحدِّث وأنا شاهد؟ ! فإن أصبتَ فذاك، وإن أخطأتَ عَلَّمتُك. [قال: ] ولما أضرَّ ابنُ عباس كانوا يسألونه، فقال: أتسألوني وفيكم ابن أمِّ دَهْماء، يعني سعيد بن جبير. وجاء رجل إِلَى ابن عمر يسأله عن فريضة فقال: سل سعيد بن جُبير، فإنَّه أعلم بالحساب مني. وكان سعيد كاتبًا لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم كتب لأبي بُرْدَة وهو على القضاء وبيت المال. وكان أسود اللون (¬2) أبيضَ الرأس واللحية. [وقال ابن سعد: ] قيل له: ألا تخضِب بالوَسِمة؟ فغضب وقال: يكسو الله العبدَ النُّورَ فِي وجهه فيُطفئه بالسواد! وكان يقول: لَأن أُضربَ على رأسي بالسِّياط أحبُّ إليَّ من أن أتكلَّم والإمام يخطب للجمعة. وكان يقصُّ على النَّاس كلَّ يوم مرتين: بعد صلاة الفجر، وبعد العصر. [وقال عبد الله بن الإِمام أَحْمد بن حنبل: كان سعيد] إذا قام إِلَى الصلاة كأنه وَتد، وبكى حتَّى عَشِي بصَرُه. ¬

_ (¬1) فِي (ص) تقديم وتأخير فِي أخبار سعيد، وسنثبت سياق النسختين (خ) و (د)، ونزيد من (ص) بين معكوفين ما ليس فيهما. (¬2) في (ص): وقال ابن قتيبة كان أسود اللون، ولم أقف على كلام ابن قتيبة، انظر "المعارف" 445.

[وحكى أبو نعيم (¬1)، عن] القاسم بن أبي أَيُّوب قال: سمعتُ سعيدًا يُردِّد فِي الصلاة {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] بضعًا وعشرين مرة. وكان يخرج (¬2) إِلَى مكة فِي كل سنة مرتين مرة للحج ومرة للعمرة، ويختم القرآن فِي كل ليلتين. [وذكر ابن أبي الدنيا عن أَصْبَغ بن زيد الواسطيّ قال: ] كان لسعيد ديك يقوم من الليل بصياحه، فلم يَصِح ليلة من الليالي حتَّى أصبح، فلم يُصل سعيد تلك الليلة، فشقّ عليه وقال: ما له قطع الله صوته! فما سُمع له صوت بعدها، فقالت له أُمه: يَا بُنيّ، لا تَدْعُ الله على شيء بعدها. [وروى أبو نعيم عن سعيد أنَّه] لَدَغَتْه عقرب، فقالت له أمه: يابني، أقسمتُ عليك أن تَسترقي، قال: فأعطيت الراقي يدي التي لم تُلدغ كراهية أن أُحنث أمي. [وقال أبو نعيم: ] كان يصلي الفجر، ولا يتكلم حتَّى تطلع الشَّمس، وختم القرآن فِي ليلة مرتين ونصفًا، وقرأ القرآن فِي الكعبة فِي ركعة. [وقال ابن سعد: ] أبصر سعيد دُرَّةً مُلقاةً على الأرض فلم يأخذها. وكان يقول: عليك باليأس مما فِي أيدي النَّاس فإنَّه الغناء الأكبر، وإياك وما يُعتَذر منه؛ فإنَّه لا يُعتَذَرُ من خير. وقال فِي تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] قال: إذا عُمل فيها بالمعاصي فاخرجوا منها. وقال: هلاك هذه الأمة من علمائها. ذكر مقتله: [قد ذكرنا أن سعيدًا كان من ابن الأشعث رئيسًا على القراء] وكان الحجاج قد ولّاه عطاء الجند الذين كانوا مع ابن الأشعث لما سار إِلَى سِجستان لقتال رُتبيل، فلما خلع ابن الأشعث الحجاج خلعه سعيد وقاتله، فلما انهزم ابن الأشعث هرب سعيد إِلَى أَصبهان، فأقام بها زمانًا، فكتب الحجاج إِلَى عاملها يطلبه، وكان العامل يخاف الله، ¬

_ (¬1) فِي "الحلية" 4/ 272. (¬2) فِي (ص): قال الهيثم كان يخرج. والخبر فِي "الحلية" 4/ 275 من طريق هلال بن خباب، وليس فيه ذكر للهيثم.

فأرسل إِلَى سعيد يقول له: اخرج عني لئلا ألقى الله بدمك، فخرج إِلَى أذربيجان، فأقام بها مدة، فضَجِر فخرج إِلَى مكة مستجيرًا بالله، ومستعيذًا به من الحجاج، وملتجئًا إِلَى حرم الله تعالى وبيته. [واختلفوا فِي كيفية إحضاره عند الحجاج، منها: قال هشام: ، كتب الحجاج إِلَى الوليد: إن جماعة من المنافقين قد التجؤوا إِلَى مكة، فكتب الوليد إِلَى خالد بن عبد الله القَسْري، وكان على مكة: احملهم إِلَى الحجاج، وكانوا خمسة: سعيد بن جُبير، وعطاءً، ومُجاهدًا، وعَمرو بن دينار، وطَلْقَ بنَ حبيب، فأما عمرو وعطاء فأُطلِقا، وأما طلق فمات فِي الطريق، وأما مجاهد فحُبس حتَّى مات الحجاج، وأما سعيد فقُتل. وقال أبو حَصين: أتيت سعيد بن جبير وقلت له: إن هذا الرَّجل قادم -يعني خالد القَسْري- ولا آمنه عليك، فأطعني واخرج، فقال: والله لقد فررتُ حتَّى استحييتُ من الله، فقلت: والله إنِّي لأراك كما سَمَّتك أمُّك سعيدًا. ولما أُخذ قال: ما أراني إلَّا مقتولًا وسأخبركم: إنِّي كنتُ أنا وصاحبان لي دعونا الله حين وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الله الشهادة، فكلا صاحبيَّ رُزقَها، وأنا أنتظرها، فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء. فخرج سعيد مع حَرَسِيَّين، فنزلا منزلًا، ثم نام أحدهما وانتبه فقال: يَا سعيد، رأيتُ الساعة فِي المنام قائلًا يقول: برَّأك الله من دم سعيد -وكان قد رآه يصوم النهار ويقوم الليل- فقال: اذهب حيث شئت، فوالله إنِّي ذاهب بك إِلَى مَن يقتلك، فقال له سعيد: إنه سيبلغ الحجاج فيقتلك، ولكن اذهب بي إليه. [قال هشام، وذكر طرفًا منه ابن سعد قال: ] فلما دخل على الحجاج قال له: ألم أُشْرِكْك فِي أمانتي؟ ألم أستعملك على الجُند وبيت المال؟ ألم أَقْدَم على الكوفة فولَّيتُك القضاء، فضج أهلها وقالوا: ما يصلح للقضاء لأنه مولى، ولا يصلح للقضاء إلَّا العربي، فولَّيتُ أَبا بُردة القضاء وأمرتُه أن لا يقطع أمرًا دونك؟ أما أعطيتُك كذا وكذا من المال؟ وأمرتُك أن تُفرِّقه فِي ذوي الحاجات، ثم لم أسألك عن شيء منه؟ وسعيد يقول: بلى بلى، حتَّى ظنّ مَن حضر أنَّه يُطلِقه، ثم قال: فلم خرجتَ عليّ؟

فقال: عزم عليَّ ابنُ الأشعث، وكانت له فِي عُنقي بيعة، فغضب الحجاج حتَّى وقع طرف ردائه عن مَنكِبه وقال: ألم أقدم مكة فقتلتُ ابنَ الزُّبير، وأخذتُ بيعةَ أهلها وبيعتك، وقدمت الكوفة فأخذتُ بيعةَ أهلها وبيعتك؟ قال: بلى، قال: فرأيتَ لِعَزْمةِ عدو الله ابن الأشعث حقًّا، ولم تره لله ولا لأمير المُؤْمنين ولا لي، فنكثتَ بيعتَين، ووفيتَ لابن الحائك بَيعة؟ ! وفي البيعتين يقول جرير: [من الكامل] يَا رُبَّ ناكِثِ بيعتَين تركتَه ... وخِضابُ لحيتِه دَمُ الأوداجِ وقيل: إن الحجاج كان قد وضع إحدى رجليه فِي الرِّكاب فقال: والله لا أضع الأخرى حتَّى تبَوَّأ مَقعدَك من النَّار، فقال: إن القِصاصَ أمامك فاختر لنفسك. وكان سعيد مُقيَّدًا، فأمر الحجاج بقتله، فبكى ابن لسعيد، فقال له سعيد: ما يُبكيك؟ ما بقاءُ أبيك بعد سبع وخمسين سنة! فضرب عنقه، فاختلط الحجاج من ساعته وجعل يقول: قُيودُنا قيودنا، فظنوه يقول: اقطعوا القيود، فقطعوا القَيدَين من رجلَي سعيد وأخذوا القيود. [وقال ابن سعد: ] لما قال الحجاج: يَا حَرَسِيّ اضرب عُنقه، قال له سعيد: دعني أصلّي ركعتين، فقال الحجاج: لا، إلَّا إِلَى المشرق، فقرأ سعيد: {فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ} الآية [البقرة: 115] فلما قُتل نَدَر رأسُه فهَلَّل ثلاثًا. [وقال أبو نعيم بإسناده إِلَى الحسن قال: ] لما أتي بسعيد بن جبير إِلَى الحجاج قال له: ما اسمُك؟ قال: سعيد بن جُبير، قال: بل أَنْتَ الشَّقيُّ بن كُسَير، قال: كانت أمي أعرفَ باسمي منك، قال: ما تقول فِي محمَّد؟ قال: تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قال: سيد ولد آدَمَ المصطفى، خير من بقي وخير من مضى، قال: فما تقول فِي أبي بكر؟ قال: الصدِّيق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عاش سعيدًا، ومضى حَميدًا على منهاج نبيّه، لم يُبَدِّل ولم يُغَيِّر، قال: فما تقول فِي عمر؟ قال: الفاروق، خِيرة الله وخيرةُ رسوله، مضى حميدًا على منهاج صاحبيه، قال: فعثمان؟ قال: المقتولُ ظُلمًا، المُجَهِّز جيشَ العُسْرَة، الحافرُ بئرَ رُومة، المشتري بها بيتًا فِي الجنة، صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنتيه، قال: ما تقول فِي علي؟ قال: ابن عم الرسول، وأول مَن أسلم، وزوج فاطمة، وأبو الحسن

والحسين، قال: ما تقوله فِي الخلفاء منذ كان رسول الله فِي - صلى الله عليه وسلم - وإلى اليوم؟ قال: سيُجزون بأعمالهم فمَسْرور ومَثْبور، بهال: فما تقول فِي عبد الملك بن مروان؟ قال: إن يكن مُحسنًا فعند الله ثوابُ إحسانه، وإن يكن مُسيئًا فلن يُعجزَ الله، قال: ما تقول فيّ؟ قال: أَنْتَ أعلم بنفسك، قال: بُثَّ علمَك فيَّ، قال: إذَا أَسُوءَكَ ولا أسرَّك، قال: بثّ، قال: أعفِني، قال: لا عفا الله عني إن عفوتُ عنك، قال: أَنْتَ مُخالفٌ لكتاب الله، تُرِي من نفسكّ أمورًا تريد بها الهَيبة وهي تُقحمك فِي النَّار، ظهر منك جَور وجُرأة على معاصي الله بقتلك أولياءه، وسترد فتعلم، فقال: لأقتلنَّك قتلة لم أقتلها لأحد قبلك، ولا أقتلها أحدًا بعدك، قال: إذَا تُفسدُ عليّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك، قال: والله لأُقَطِّعَنَّك إرْبًا إرْبًا، قال: القصاص أمامك، قال: الويل لك من الله، قال: الويل لمن زُحزِحَ عن الجنة وأُدخل النَّار، فقال: يَا غلام، السَّيف والنِّطع، فضحك سعيد، فقال الحجاج: بلغني أنك لم تضحك منذ سنين، فما الذي أضحكك عند القتل؟ قال: من جُرأتك على الله وحلمه عنك، فقال: يَا غلام، اقتله، فاستقبل القبلة وقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} الآية [الأنعام: 79] قال: اصرف وَجْهه عن القبلة، فصرفه فقال: {فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] قال: اضرب به الأرض، قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} الآية [طه: 55]، قال: اذبح عدوّ الله فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم (¬1)! فقال سعيد: إنِّي أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله، فقال: اذهبوا به فاضربوا عنقه، ثم ذُبح من قفاه، [قال ابن ذكوان: ] فبلغ الحسن البَصْرِيّ فقال: اللهم يَا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، فما بقي إلَّا ثلاثًا حتَّى وقع فِي جوفه الدود فمات. [وروى أبو نعيم، عن يعلى كاتب الحجاج قال: كنت أكتب له وأنا يومئذ غلام حديث السن، فدخلتُ عليه يومًا بعد ما قتل سعيد بن جبير وهو فِي قبة لها أربعة أبواب، فوقفت مما يلي ظهره، فسمعته وهو يقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ ! فلم ينشب بعدها إلَّا يسيرًا ثم مات.] ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 4/ 291 - 295، قال الذهبي فِي "السير" 4/ 332: هذه حكاية منكرة غير صحيحة.

سعيد بن المسيب

وفي رواية أنَّه عاش بعده خمسة عشر يومًا. [وقال الطبري: ] أربعين يومًا، وكان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير (¬1)، كما أردتُ أن أنام أخذ برجلي ويقول: أي عدو الله لِمَ قتلتَني؟ [وقال هشام: ] ندم الحجاج على قتله، فكان يقول: لعن الله ابن النصرانية -يعني خالدًا القسري- أتُراني ما كنتُ أعرف البيت الذي كان فيه بمكة، يعني سعيدًا. وقال الإِمام أَحْمد بن حنبل رحمة الله عليه: لقد قتل الحجاج سعيد بنَ جبير وما على وجه الأرض أحد إلَّا وهو مفتقر إِلَى علمه. واختلفوا فِي أي سنة قتل على قولين: أحدهما: فِي سنة أربع وتسعين، والثاني: سنة خمس وتسعين، وهو الأظهر لأن الحجاج مات فيها فِي شهر رمضان. واختلفوا فِي سنّ سعيد؛ فقد روينا أنَّه عاش سبعًا وخمسين سنة، وقال ابن سعد: عاش تسعًا وأربعين سنة، وقال علي بن المدينيّ: عاش اثنتين وأربعين سنة، والأول أشهر والله أعلم (¬2). أسند سعيد رحمة الله عليه عن علي، وابن عمر، وأبي موسى، وابن المُغَفَّل، وعديّ بن حاتم، وابن عباس وأكثر رواياته عنه. وروى عنه مجاهد، والزهري، والنَّخَعي، والشعبي، والحسن البَصْرِيّ، وابنُ سِيرين فِي خلق كثير، وكان ثقةً كثيرَ الحديث (¬3). سعيد بن المُسَيّب ابن حَزْن بن أبي وَهْب بن عمرو بن عائذ بن عِمران بن مَخْزوم، وأمه أم سعيد بنت عثمان بن حَكيم السُّلَمي (¬4)، وكنيته أبو محمَّد. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ص)، وانظر "الحلية" 4/ 291، و"تاريخ الطبري" 6/ 491. (¬2) من قوله: واختلفوا فِي أي سنة ... إِلَى هنا من (ص)، وجاءت مختصرة فِي (خ) و (د). (¬3) انظر فِي ترجمته ومقتله رحمه الله: "طبقات ابن سعد" 8/ 374، و"تاريخ الطبري" 6/ 487، و"أنساب الأشراف" 6/ 480، و"حلية الأولياء" 4/ 272، و"المنتظم" 6/ 318، و"السير" 4/ 321. (¬4) فِي "طبقات ابن سعد" 7/ 119: أم سعيد بنت حكيم بن أمية بن حارثة السلمي، والمثبت موافق لنسب قريش 345.

وهو من الطَّبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وكان أبوه المُسَيّب يتَّجر فِي الزّيت، ولم يزل سعيد مهاجرًا لأبيه حتَّى مات. ذكر طرف من أخبار سعيد: [قد أثنى عليه العلماء، فقال ابن سعد: ] كان جامعًا، ثِقَة، كثير الحديث، ثبتًا، فقيهًا مفتيًا، مأمونًا، ورعًا، عاليًا، رفيعًا (¬1). [وقال الموفق رحمه الله: ] كان يقال له: فقيه الفقهاء، وعالم العلماء الذين يؤخذ عنهم العلم بالمدينة، وهو سيّدهم، وهم سبعة، وفيهم يقول الشَّاعر [وقد جمعهم فِي بيت واحد: ] [من الطَّويل] ألا كلُّ مَن لا يَقتدي بأئمةٍ ... فقِسمته ضِيزَى عن الحقِّ خارِجَهْ فخُذْهم عُبيد الله عَروةُ قاسمٌ ... سعيدٌ سليمان أبو بكر خارِجَهْ (¬2) [وقال الزُّبير بن بكار: ] لما مات العبادلة: ابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو، وابن الزُّبير؛ صار الفقه فِي جميع البلدان إِلَى الموالي، فكان فقيه أهل مكة عطاء بن أبي رباح، وفقيه اليمن طاوس، وفقيه أهل خُراسان عطاء الخُرَاسَانِيّ، إلَّا المدينة فإن الله خصَّها بقُرشيّ، فكان فقيهها سعيد بن المسيّب غير مُدافَع (¬3). [واختلفوا فِي مولده؛ فروى ابن سعد، عن الواقدي، عن أشياخه قال: ] ولد سعيد بعد أن استُخلف عمر - رضي الله عنه - بأربع سنين. [وروى ابن سعد، عن الواقديّ أَيضًا أنَّه قال: حَدَّثني طلحة بن محمَّد بن سعيد بن المسيّب، عن أَبيه قال: ولد سعيد قبل موت عمر بسنتين. قال الواقديّ: والذي رأيت عليه النَّاس أنَّه ولد لسنتين خلتا من خلافة عمر، قال: ويروى أنَّه سمع من عمر، ولم أر أهل العلم يصحّحون ذلك وإن كانوا قد رووه.] (¬4) ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 143. (¬2) "التبيين" 396. (¬3) "المنتظم" 6/ 319 - 320 من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ليس فيه ذكر للزبير، وما بين معكوفات من (ص). (¬4) ما بين معكوفات من (ص)، بدله فِي (خ) و (د): وقيل لسنتين مضتا من خلافة عمر وقيل قبل موته بسنتين. وانظر "طبقات ابن سعد" 7/ 120.

وقال الشعبي: كان ابن المسيب عالم الدنيا فِي وقته، لا يُضاهيه أحد فِي العلم والزّهد والوَرَع والعبادة، وكان عبد الله بن عمر يرسل إليه فيسأله ويقول: اذهبوا إِلَى راوية عمر؛ لأنه كان يتبع آثار عمر وأقضيته فيتعلمها. [وحكى ابن سعد عن ابن المسيّب أنَّه كان يقول: ] ما بقي أحد أعلم بكلِّ قضاء قضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان مني (¬1). [وروى أبو نعيم، عن عبد الرحمن (¬2) بن حَرْملة قال: ] ما كان إنسان يجترئ عليه فيسأله عن شيءٍ حتَّى يستأذنه كما يستأذن الأمير. [وروى ابن سعد، عن معن، عن مالك قال: ] كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما كان بالمدينة عالم إلَّا يأتيني بعلمه، وأوتى بما عند سعيد بن المسيب. [وروى ابن سعد، عن مالك بن أنس قال: ] كان عمر بن عبد العزيز لا يقضي بقضاء حتَّى يسأل عنه ابنَ المسيّب، فأرسل إليه إنسانًا يسأله، فدعاه فجاءه حتَّى دخل، فقال له عمر: لقد أخطأ الرسول، إنما أرسلناه يسألك، ارجع إِلَى مجلسك (¬3). [وروى أبو نعيم، عن أبي عيسى الخراساني قال: ] قال سعيد بن المسيّب: لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظَّلَمة إلَّا بالإنكار عليهم بقلوبكم؛ لكيلا تَحْبَط أعمالُكم الصالحة. [وروى أبو نعيم عنه أنَّه] قال: من استغنى بالله افتقر إليه النَّاس. [وروى أبو نعيم، عن بُرد مولى ابن المسيّب قال: ] ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلَّا وسعيد فِي المسجد. وصلى الغَداة بوضوء العَتَمة خمسين سنة، وكان يَسْرد الصوم. [وروى أبو نعيم عن] علي بن زيد قال: قال لنا سعيد وهو ابن أربع وثمانين سنة، وقد ذهبت إحدى عينيه، وهو يعشو بالأخرى: ما من شيء عندي أخوفُ من النساء، [وفِي رواية: ] فما يئس الشيطان من شيء إلَّا وأتاه من قِبل النساء (¬4). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 121. (¬2) فِي (ص) وما بين معكوفين منها: عبد الله، والمثبت من الحلية 2/ 173. (¬3) "طبقات ابن سعد" 7/ 122 من طريق الواقديّ، عن معن عن مالك، به. (¬4) "حلية الأولياء" 2/ 170، 173، 163، 166 (على الترتيب) وما بين معكوفين من (ص).

[وروى ابن سعد] عن الزهري وسئل: عمن أخذ العلمَ ابنُ المسيّب؟ فقال: عن زيد بن ثابت، وجالس سعدَ بنَ أبي وقَّاص، وابن عباس، وابن عمر، ودخل على أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عائشة، وأم سلمة، وسمع من عثمان، وعلي، وصُهيب، ومحمَّد بن مَسْلمة، وجلُّ رواياته عن أبي هريرة المسْنَدة، وكان زوجَ ابنته. [وروى ابن سعد، عن الواقدي قال: ] كان سعيد يفتي وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحياء (¬1). ذكر طرف من تعبيره للرؤيا (¬2): قال ابن سعد بإسناده إِلَى عمر بن حَبيب بن قُلَيع قال: كنت جالسًا عند سعيد بن المسيّب يومًا، وقد ضاقت عليَّ الدنيا -أو قد ضاقت بي الأشياء- ورَهَقني دَين، فجاءه رجل فقال: با أَبا محمَّد، إنِّي رأيتُ رؤيا، قال: وما هي؟ قال: رأيتُ كأني أخذتُ عبد الملك بن مروان، فأضجعتُه إِلَى الأرض، ثم بَطَحتُه، فأوتدتُ فِي ظهره أربعة أوتاد، فقال سعيد: ما أَنْتَ رأيتَها، قال: بلى، قال: لا أخبرك أو تخبرني، قال: ابن الزُّبير رآها وهو بعثني إليك، قال: لئن صدقتْ رؤياه ليقتُلَنّه عبد الملك، ويخرج من صُلب عبد الملك أربعة يكون كلهم خليفة. قال عمر بن حبيب: فرحلتُ إِلَى عبد الملك بالشَّام وأخبرته، فسَرّه ذلك، وسألني عن سعيد وعن حاله، وأمر بقضاء دَيني، وأصبتُ منه خيرًا. قال محمَّد بن عمر: كان ابن المسيّب من أعبر النَّاس للرؤيا، وكان أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر، وأخذته أسماء عن أبيها. وقال ابن سعد: وسأله شَريك بن أبي نَمِر قال رأيتُ فِي المنام كأن أسناني سقطت فِي يدي ثم دفنتُها، فقال: إن صدقت رؤياك دفنتَ أسنانَك من أهل بيتك. [وقال ابن سعد بإسناده عن مسلم الخياط قال: ] قال له رجل: إنِّي أراني أبول فِي يدي، فقال: اتَّق الله فإن تحتك ذات محرم، فنظر فإذا هي امرأة بينه وبينها رضاع. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 121 والخبر الثاني عن الواقديّ عن قدامة بن موسى الجمحي. (¬2) وقع فِي هذا الفصل بين النسخ تقديم وتأخير، وسنثبت ما فِي (ص) لوضوحه.

وقال له آخر: رأيت كأني أبول فِي أصل زيتونة، فقال: انظر مَن تحتك، فنظر فإذا هي امرأة لا يحلّ له نكاحُها. قال: وجاءه آخر فقال: رأيت كان حمامة وقعت على منارة المسجد، فقال: يتزوج الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وجاءه آخر فقال: رأيتُ كان تيسًا أقبل يشتدُّ من الثَّنية، وقائل يقول: اذبح اذبح، قال: ذبحتُ، قال سعيد: مات ابنُ أمِّ صِلاء، فما برح حتَّى جاء الخبر بموته، قال: وابن أم صلاء من موالي المدينة يسعى بالنَّاس. قال: وجاءه رجل فقال: رأيت فِي المنام كأني أخوض النَّار، فقال: تركب البحر وتُقتل، فركب البحر، وقُتل يوم قُدَيد. قال: والكبل فِي النَّوم ثبات فِي الدين. قال: وقال له رجل: رأيتُ فِي المنام كأني جالسٌ فِي الظلِّ فقمتُ إِلَى الشَّمس، فقال: لئن صدقتْ رؤياك لتَخرجنّ من الإِسلام، قال الرَّجل: إنِّي أُراني أُخرجتُ حتَّى أُدخلتُ فِي الشَّمس، قال: تُكره على الكفر، فخرج فِي زمن عبد الملك فأسر، فأُكره على الكفر، ثم رجع إِلَى المدينة (¬1). وقال الزُّبير بن بكار، حَدَّثني مصعب الزُّبيريّ قال: كان سعيد لا يُقبل بوجهه على هشام بن إسماعيل المخزومي إذا خطب يوم الجمعة، فقال هشام لبعض أعوانه: اعطِفْ وجْهَ سعيد إليّ، فعطفه فأبى، فعطفه ثانيًا فصاح سعيد: يَا هشام، إنما هي أربع بعد أربع، فقال هشام: جُنَّ سعيد، فسئل سعيد: أي شيء أربع بعد أربع؟ فقال: رأيتُ فِي المنام فِي هذه الليلة أن موسى - عليه السلام - قد غَطّس عبد الملك فِي البحر ثلاثًا، ثم مات فِي الرابعة، فأوَّلتُه بموت عبد الملك، لأن موسى بُعث على الجبَّارين، وأما الأربع الأخرى فمسافة الشَّام إِلَى المدينة، فجاء الخبر بعد أربعة أيام بموت عبد الملك (¬2). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 123 - 126. (¬2) القصة فِي "المنتظم" 6/ 323، و"التبيين" 397 عن المصعب.

وقال: آخر الرؤيا أربعون سنة، يعني فِي تأويلها (¬1). ذكر تزويجه ابنته (¬2): [روى عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا أَحْمد بن عبد الرحمن بن وهب، حَدَّثني عمي عبد الله بن وهب، عن عطّاف بن خالد، عن ابن حرملة، عن ابن]، أبي وَداعة قال: كنتُ أجالس سعيد بن المسيّب ففقدني أيامًا، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: تُوفّيت أهلي فاشتغلتُ بها، فقال: هلّا أخبرتَنا فكنا شهدناها، ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثْتَ امرأةً؟ قلت: يرحمك الله، ومَن يزوّجني وما أملك إلَّا ثلاثة دراهم؟ فقال: أنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم زوّجني على درهمين، فقمتُ وما أدري ما أصنع من الفرح، وصرتُ إِلَى منزلي، وجعلتُ أفكر ممّن أستدين؟ فصلَّيت المغرب، وقدَّمت عَشائي وكان خُبزًا وزيتًا، وجلستُ أُفطر، وإذا ببابي يُقرَع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، فأفكرتُ فِي كلِّ إنسان اسمه سعيد إلا ابن المسيّب؛ فإنَّه لم يُرَ أربعين سنة إلا من بيته إِلَى المسجد، فقمتُ وخرجت، وإذا به سعيد بن المسيّب، فظننتُ أنَّه قد بدا له، فقلت: يَا أَبا محمَّد ألا أرسلتَ إِلَى فآتيَك؟ فأنت أحقُّ أن تُؤتى، فما الذي جاء بك؟ فقال. إنك كنتَ رجلًا عَزَبًا تزوَّجت، فكرهتُ أن أبيتك الليلة وحدك، وهذه امرأتك، وإذا هي قائمةٌ من خلفه بطوله، ثم أخذ بيدها فدفعها فِي الباب، وردَّ الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فأغلقتُ الباب، وغطَّيت القَصْعة التي فيها الخبز والزيت، وصَعدت إِلَى السّطح، وصُحت بالجيران، فجاؤوني وقالوا: ما شأنُك؟ قلت: زوَّجني سعيدٌ ابنتَه اليوم، وجاء بها الليلة على غفلة، قالوا: سعيد زوّجك؟ قلت: نعم، وها هي فِي الدار، فنزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مَسَسْتَها قبل أُصلحها إِلَى ثلاثة أيام، فأقمتُ ثلاثًا، ثم دخلتُ بها، فإذا هي من أجمل النساء، قارئة لكتاب الله، عالمة بالسنة، عارفة بحق الزوج. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 125. (¬2) لم يرد هذا الفصل فِي (ص)، ووردت القصة التالية ضمن ذكر ضربه رحمه الله، والمثبت من (خ) و (د)، وما سيرد بين معكوفين من (ص)، والقصة فِي "الحلية" 2/ 167 - 169، و"المنتظم" 6/ 324 - 325.

ثم أقمتُ شهرًا لم آت سعيدًا ولا يأتيني، ثم أتيتُه بعد ذلك وهو فِي حلقته، فسلّمت عليه فردَّ ولم يكلّمني، فلما تقوّض المجلس ولم يبق غيري قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: بخير، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفتُ إِلَى منزلي، فوجّه إليّ سعيد بعشرين أَلْف درهم. قال عبد الله بن سليمان: وكان عبد الملك بن مروان قد خطب ابنة سعيد هذه على ابنه الوليد حين ولّاه العهد، فأبى سعيد أن يزوِّجه، فلم يزل عبد الملك يحتال عليه حتَّى ضربه مئة سَوط في يوم بارد، وصبَّ عليه جَرَّةً من ماء، وألبسه جُبَّة صُوف. ذكر ضرب سعيد: [قال علماء السير: ضُرب سعيد بن المسيّب مرارًا فِي أيام ابن الزُّبير، وفي أيام عبد الملك بن مروان، فأما فِي أيام ابن الزُّبير فحكى ابن سعد، عن الواقديّ قال: حَدَّثني عبد الله بن جعفر وغيره قالوا: ] استعمل عبد الله بن الزُّبير جابر بن الأسود بن عَوف الزُّهري على المدينة، ودعا النَّاس إِلَى البيعة لابن الزُّبير، فقال سعيد: لا أبايع حتَّى يجتمع النَّاس على إمام، فضربه جابر ستين سَوطًا، وبلغ ابن الزُّبير، فكتب إِلَى جابر يلومه ويقول: ما لنا ولسعيد، دَعْه. [وحكى ابن سعد، عن الواقديّ، عن عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عَوْن قال: كان جابر بن الأسود عامل ابن الزُّبير على المدينة قد تزوج خامسة قبل أن تنقضي عدة الرابعة، فلما ضُرب سعيد بن المسيّب صاح به والسياط تأخذه: يَا جابر، والله ما ربَّعتَ على كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وأنت خالفتَ كتاب الله، وإنما هي لَيالٍ، فاصنع ما بدا لك فسوف يأتيك ما تكره، فما مكث إلَّا يسيرًا حتَّى قُتل ابن الزُّبير (¬1). قلت: وهذا الأثر يقوي مذهب أبي حنيفة أنَّه لا يجوز نكاح الأخت فِي عدة الأخت، وبه قال الإِمام أَحْمد، وقال مالك والشافعي: يجوز إذا كان فِي طلاق بائن أو ثلاث. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 123.

واتفقوا على أنَّه لو كان الطَّلاق رَجْعيًّا لا يجوز، وقد قرّرناه في "الخلافيات" (¬1). وأما ضَرْبُ سعيد فِي أيام عبد الملك بن مروان؛ فقال ابن سعد بإسناده إِلَى عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا: إن عبد العزيز بن مروان تُوفِّي بمصر فِي جمادى سنة أربع وثمانين، فعقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد، وكتب بالبيعة لهما إِلَى البلدان، وعامِلُه يومئذ على المدينة هشام بن إسماعيل المخْزوميّ، فدعا الناس إِلَى البيعة لهما، ] فبايعوه إلَّا سعيد بن المسيّب فإنَّه أبي وقال: حتَّى انظر، فضربه هشام ستين سوطًا، وطاف به فِي ثيابٍ من شْعر حتَّى بلغ به رأس الثَّنيَّة، فلما كرُّوا به قال: أين تكرُّون بي؟ قالوا: إِلَى السجن، فقال: والله لولا أنني ظننتُ أنَّه الصَّلْبُ ما لبستُ هذه الثياب أبدًا، فردوه إِلَى السجن، وكتب هشام إِلَى عبد الملك يُخبره بما كان من أمره، فكتب إليه عبد الملك يلومه ويقول: سعيد كان والله أحوج أن نصل رحمه من أن نضربه، وإنا لنعلم ما عند سعيد شقاق ولا خلاف. [قال ابن سعد عن الواقدي: حَدَّثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سَبْرة، عن المِسْوَر بن رِفاعة قال: دخل قبيصة بن ذؤيب على عبد الملك بن مروان بكتاب هشام يذكر فيه أنَّه ضرب سعيد بن المسيّب وطاف به، ] فقال قبيصة: يَا أمير المُؤْمنين، أيَفْتَاتُ عليك هشام بمثل هذا؟ يضرب ابنَ المسيّب ويطوف به، ولو لم يبايع ما كان يكون منه؟ ما سعيد ممن يُخاف غائلتُه، والله إنه لمن أهل السنة والجماعة، فقال عبد الملك لقَبيصَة: اكتب إِلَى سعيد واعتذر إليه، فكتب قبيصة إِلَى سعيد فقال: الله بيني وبين من ظلمني، وندم هشام على ضربه وخلّى سبيله (¬2). [وقال ابن سعد: قال محمَّد بن عمر: صنعت ابنة سعيد بن المسيب لأبيها طعامًا كثيرًا لما كان فِي الحبس، ] (¬3) فأرسل إليها لا تعودي لمثله، وابعثي إِلَى بالقُوت الذي ¬

_ (¬1) انظر "وسائل الأسلاف" 169. (¬2) الخبران السالفان فِي "طبقات ابن سعد" 7/ 126 - 127 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) ما بين معكوفين من (ص)، بدله فِي (خ) و (د). ولما حبس سعيد صنعت ابنته طعامًا كثيرًا. والخبر فِي "طبقات ابن سعد" 7/ 127 - 128.

كنتُ آكله فِي بيتي، ولا تُسرفي فهذا مقصود هشام: أن يذهب مالي، وأحتاج إِلَى ما فِي أيديهم، وأنا لا أدري كم أُقيم فِي الحبس. [وقال هشام: قال ابن المسيّب: لا أُبايع لأحد وعبد الملك حيّ؛ فإن له فِي عُنقي بيعة، فضربه هشام ضربًا مُبَرِّحًا، وألبسه المُسُوح، وسيَّره إِلَى ذِباب؛ ثَنيَّةٍ بالمدينة كان يصلب عندها الناس، فلما ردَّه إِلَى الحبس قال: والله ما ظننتُ إلَّا أنَّهم يَصلبونني، ولولا ذلك ما لبست التُّبَّان؛ لأنه أستر بي. قال: وبلغ عبد الملك فقال: قاتل الله هشامًا، كان الواجب أنَّه لما امتنع أن يَضرب عنقه (¬1). قلت: يرحم الله سعيد بن المسيّب، فلقد عرض نفسه على السيف والهوان فِي غير شيء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَّا يحلُّ للمؤمن أن يُذلَّ نفسَه" (¬2)، أليس قد بايع لعبد الملك فِي حياة مروان بن الحكم لما أخذ العهد لابنه عبد الملك، فأيّ فرقٍ بين مروان وعبد الملك. وقال الهيثم: قُتل ابن الزُّبير عقيب ضرب ابن المسيّب، ومات أَيضًا عبد الملك بعد ضربه بقليل، وعُزل هشام بن إسماعيل.] (¬3) وروى ابن سعد، عن علي بن زيد بن جُدعان قال: قلت لسعيد: يزعم قومُك أنَّه ما منعك من الحج إلَّا أنك جعلتَ لله عليك إذا رأيت الكعبة أن تدعوَ الله علي بني مروان، قال: ما فعلت، وما أصلي صلاةً إلَّا دعوتُ الله عليهم. وروى ابن سعد أَيضًا عن أبي يونس قال: دخلتُ مسجد المدينة فإذا ابن المسيّب جالس وحده، فقلت: ما شأنُه؟ قالوا: نُهي أن يُجالِسَه أحد. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 6/ 415 - 416، و"أنساب الأشراف" 6/ 374 - 375، وقوله: وبلغ عبد الملك ... جاء فِي (خ) و (د) قبل الخبر الذي فيه: صنعت ابنة سعيد لأبيها طعامًا، ولفظه فيهما: وقيل إن عبد الملك لما بلغه ما فعل هشام به قال. (¬2) أخرجه أَحْمد (23444) من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -. (¬3) ما بين معكوفين من (ص)، وجاء بعده قصة تزويج سعيد ابنته، وقد سلفت قريبًا.

وروى ابن سعد عن عمران قال: كان لابن المسيّب فِي بيت المال بضعة وثلاثون ألفًا عطاؤه، فكان يُدعى إليها فيأبى ويقول: لا حاجةَ لي فيها حتَّى يحكم الله بيني وبين بني مروان. وقيل له: ما بال الحجاج لا يبعث إليك ولا يؤذيك ولا يحركك؟ فقال: والله لا أدري؛ إلَّا أنَّه دخل ذات يوم مع أَبيه المسجد، فصلى صلاةً، فجعل لا يُتمُّ ركوعها ولا سجودها، فأخذتُ كفًّا من حصى فحصبتُه، فزعم الحجاج قال: ما زلتُ بعدها أُحسن الصلاة. وقال عمران بن عبد الله الخُزَاعِيّ: حج عبد الملك، فلما قدم المدينة جاء فوقف على باب المسجد، وأرسل إِلَى سعيد رجلًا يدعوه ولا يحرّكه، فأتاه الرسول فقال: أمير المُؤْمنين واقفٌ بالباب يريد أن يكلّمك، فقال: ما لي إليه حاجة، وإن حاجته إليّ غير مقضيَّة، فرجع الرسول إِلَى عبد الملك فأخبره فقال: ارجع إليه وقل له: إنما أريد أن أكلمك، ولا تحرّكه، فجاء إليه فقال: أجب أمير المُؤْمنين، فقال له مثل ما قال أولًا، فقال الرسول: لولا أنَّه تقدَّم إليّ فيك ما رجعت إليه إلَّا برأسك، يرسل إليك أمير المُؤْمنين ليكلّمك وتقول مثل هذه المقالة؟ فقال سعيد: إن كان يريد أن يصنع بي خيرًا فهو ذاك، وإن كان غير ذلك فلا أَحُلُّ حَبْوَتي حتَّى يَقضي ما هو قاض، فأتاه فأخبره فقال: يرحم الله أَبا محمَّد، أبي إلَّا صَلابةً فِي دينه. وقيل: إن [الوليد بن] عبد الملك همَّ به وفي النَّاس يومئذ بقية، فأقبل عليه أصحابه وجلساؤه -وكان فِي المسجد جالسًا وسعيد عند أسطوانته- فقالوا: فقيه أهل المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيك، ولم يطمع ملك قبلك أن يأتيه، فما زالوا به حتَّى أضرب عنه (¬1). وقال سعيد: لقد رأيتُني ليالي الحَرَّة وما فِي المسجد أحد من خلق الله غيري، وإن أهل الشَّام ليَدخلون زُمَرًا زمرًا يقولون: انظروا إِلَى هذا الشيخ المجنون، وما كان يأتي وقت صلاة إلَّا وأسمع أذانًا من قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقيم الصلاة وأصلي وحدي. وكان سعيد يقصُّ على النَّاس فيُخَوِّف ويُذَكّر. ¬

_ (¬1) فِي (خ) و (د): فاضرب عنقه، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 7/ 130، وما بين معكوفين منه.

وقال له رجل: إن رأيتُ سكرانًا يسعني أن لا أرفعه إِلَى السلطان؛ فقال له سعيد: إن قَدَرتَ أن تستره بثوبك فافعل. قال ابن سعد: وهو القائل: قلة العِيال أحد اليَسارَين. وكان بين عينيه أثر السجود، وكان أبيض الرأس واللحية (¬1). [قال هشام: ] كان الحسن البَصْرِيّ إذا أفتى بفتوى فقيل له: قد خالفك فلان وفلان لا يرجع عن فُتياه، فإذا قيل له: قد خالفك ابن المسيّب؛ رجع إِلَى قول ابن المسيّب ويَدَع قول نفسه. وقال سعيد وقد مرَّ به [ابن] مُرخِية الكِلابي وهو فِي المسجد: هذا والله أكذب العرب، قيل: وكيف يَا أَبا محمَّد؛ قال: أليس الذي يقول: [من الطَّويل] سألْتُ سعيدَ بنَ المُسيِّب مُفتيَ الـ ... ــــمدينةِ هل فِي حبِّ ظَمياءَ من وزْرِ فقال سعيد بنُ المسيّب إنما ... تُلامُ على ما تستطيعُ من الأمْرِ كَذَب، لا والله ما سألني عن هذا قطُّ ولا أفتيتُه (¬2). ذكر وفاته: [حكى ابن سعد قال: ] دخل نافع بن جُبير بن مُطعِم على سعيد بن المسيّب يعوده فِي مرض موته، فأغمي عليه، فقال نافع: وَجّهوه إِلَى القبلة، ففعلوا، فأفاق فقال: من أمركم أن تُحوِّلوا فراشي إِلَى القِبلة، أنافع أمركم؛ قال نافع: نعم، فقال سعيد: إذا لم أكن على القبلة لا ينفعني توجيهكم فراشي إليها. [وفِي رواية ابن سعد: ] قال نافع: قلت لمحمد بن سعيد: حَوِّل فراش أبيك إِلَى القبلة، فقال سعيد: لا تفعل؛ عليها وُلدت، وعليها أموت، وعليها أُبعث إن شاء الله. وقال سعيد: لا تُؤذنوا أحدًا بي، ولا تضربوا عليَّ فُسطاطًا، ولا تتبعني نائحة ولا نار. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 128 - 140. (¬2) "الأغاني" 9/ 147 وما بين معكوفين منه.

[وقال ابن سعد: لما مات سعيد] ترك دنانير ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلَّا لأصون بها حَسَبي وديني. وحكى ابن سعد، عن الواقديّ، عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة قال: مات سعيد بن المسيّب بالمدينة سنة أربع وتسعين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، قال: وكان يقال لها سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها. وقيل: مات سنة ثلاث وتسعين وهو ابن أربع وثمانين سنة على الاختلاف فِي مولده. والأصحّ أنَّه مات فِي سنة أربع وتسعين. وقيل: كان ابن اثنتين وسبعين سنة (¬1). ذكر أولاده: كان له من الولد: محمَّد، وسعيد، وإلياس، وأم عثمان، وأم عمرو، وفاخِتة، أمهم أمُّ حَبيب بنت أبي كَريم بن عامر، من دَوْس، ومريم لأم ولد. وقيل: إن أولاده من بنت أبي هريرة. وكان ولده محمَّد نَسَّابة، نفى قومًا من بني مخرْوم، فشكَوه إِلَى الوليد بن عبد الملك، فجلده الحدّ. وكان له مولى يقال له: بُرْد، فكان يقول له: يَا بُرْد، لا تكذِبْ عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. وكان يقول: لا تقبلوا روايته حتَّى يكون معه آخر. أسند سعيد عن: عثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقَّاص، وابن عمر، وابن عباس، وأُبيّ بن كعب، وصُهيب، ومحمَّد بن مَسْلمة، وأبي هريرة، وعمار بن ياسر، ومعاذ بن جبل، وأبي سعيد الخُدرِيّ، وسلمان، وأنس، وعائشة، وأم سلمة - رضي الله عنه - فِي آخرين. ¬

_ (¬1) من قوله: وحكى ابن سعد عن الواقديّ ... من (ص)، وجاءت فِي (د) و (خ) مختصرة، وانظر "طبقات ابن سعد" 7/ 141 - 143.

أبو سلمة

وكان حريصًا على طلب الحديث قال: إن كنتُ لأسير الليالي والأيام فِي طلب الحديث الواحد. وروى عنه الجَمَّ الغَفير، فقهاء المدينة، وعمر بن عبد العزيز، والزّهري، وأهل العراق والشَّام ومصر. وكان إذا قرئ عليه حديث وهو مريض مضطجع جلس وقال: لا أسمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مضطجع، رحمه الله تعالى (¬1). [فصل: وفيها تُوفِّي] أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف الزُّهري، واسمه عبد الله الأصغر، وأمه تُماضِر بنت الأَصْبغ الكَلْبيّة. وأبو سلمة من فقهاء المدينة السبعة، [ذكره ابن سعد] فِي الطَّبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، واستقضاه سعيد بن العاص عليها. [وذكر ابن سعد] عن الشعبي قال: قدم علينا أبو سلمة الكوفة، فمشى بيني وبين أبي بُردة، فقلنا له: مَن أفقه من خَلَّفتَ ببلادك؟ فقال: رجل بينكما. [قال: ] وقدم البصرة فِي زمن بشر بن مروان، وكان رجلًا صَبيحًا، كان وجهه دينارٌ هِرَقْلِيّ. [قال: وكان يخضب بالحِنّاء والكَتَم، وفي رواية ابن سعد أَيضًا: وكان يصبغ بالسواد، وفي رواية: بالوَسِمَة، وكان يلبس الخَزَّ الأصفر. قال ابن عساكر: كان يقال: إن أَبا سلمة أرضعته أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق] فكان يتولَّج (¬2) عليها وعلى عائشة بذلك الإرضاع. ¬

_ (¬1) انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 119، و"المعارف" 438، و"السير" 4/ 217. (¬2) فِي (خ) و (د): وكان يخضب ويلبس الخز الأصفر، وكانت أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق أرضعته. والمثبت من (ص) وما بين معكوفين منها، وانظر "طبقات ابن سعد" 7/ 153 - 155، ولم أقف على قول ابن عساكر فِي تاريخه، وانظر "أخبار القضاة" 1/ 117، و"السير" 4/ 288.

عبد الله بن محيريز

وقال الزهري: كان يُماري ابنَ عباس، فحُرم بذلك علمًا كثيرًا. ذكر وفاته: [قال ابن سعد: ] تُوفِّي بالمدينة سنة أربع وتسعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقيل: سنة أربع ومئة. وكان له من الولد: سَلَمة، وتُماضِر، أمُّهما أم ولد، وحسن، وحُسين، وأبو بكر، وعبد الجبار، وعبد العزيز، ونائلة، وسالمة، أمهم أم حسن بنت سعد بن الأَصْبغ، قُضاعيّة، وعبد الملك، وأم كلثوم الصغرى، لأم وَلَد، وأم كلثوم الكُبرى، أمها أم عثمان بنت عبد الله بن عوف، تزوج أم كلثوم الكبرى بشر بن مروان فولدت له. وأم عبد الله، وتُماضِر الصّغرى، وأسماء، أمهم بُرَيهة بنت عبد الرحمن بن عبد الله، من بني زُهْرَة، وعمر بن أبي سلمة. أسند أبو سلمة عن أَبيه، وزيد بن ثابت، وأبي قتادة، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن عمرو، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة. وكان ثِقَةً فقيهًا كثير الحديث. وروى عنه الزُّهري، ومحمَّد بن إبراهيم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسعيد بن أبي سعيد المَقْبُريّ، وعبد الرحمن وأبو حازم الأعرجان، وعِراك بن مالك، والشَّعبي، وعمرو بن دينار فِي آخرين. عبد الله بن مُحيريز ابن جُنادة القُرشيّ المكيّ، أبو مُحَيريز. من الطبقة الثَّانية من التابعين من أهل الشام، والأولى من أهل مصر، والثالثة من أهل فلسطين. لقي قَبيصة بن ذُؤيب فقال له: يَا أيا إسحاق، عطَّلتم الثغور، وأغزيتم الجيوشَ إِلَى حرم الله وإلى مصعب بن الزُّبَيْر! فقال له قبيصة: اخْزِن من لسانك. وبلغ عبدَ الملك

عبيد الله بن عدي

فأرسل إليه، فأتي [به] متقنّعًا، فوقف بين يديه فقال: ما كلمةٌ قلتَها نُغض لها ما بين الفُرات وعريش مصر؟ ثم لان له وقال: الزم الصَّمت، فإن من رأيي البقيَّة فِي قريش والحلمَ عنها، فكان ابن مُحَيريز يرى أنَّه قد غنم نفسه يومئذ (¬1). وكان الأَوْزَاعِيّ والأئمة يُعظّمونه، ويرفعون قَدْرَه، ونزل البيت المقدس فكان رجاء بن حيوة يقال: إن أهل المدينة ليفتخرون علينا بعبد الله بن عمر، وإنا لنفتخر عليهم بعبد الله بن محيريز؛ إمامًا صَموتًا مُعتزلًا فِي بيته. وكان لا يقبل برَّ أحد، ولا عطاءَ خليفة ولا ملك ولا غيرهما، بعث إليه عبد الملك بجارية، فلما دخلت عليه بيته قام فخرج ولم يَعُدْ إليه، وبلغ عبد الملك فأرسل فأخذها، فرجع إِلَى بيته. وكان يقول: كفى بالمرء شرًّا أن يشار إليه بالأصابع، وكان يمشي من قريته إِلَى الرَّمْلَة ليُصَلّيَ الجمعة، وبينهما أربعة أميال. ودخل يومًا إِلَى السوق اشترى ثوبًا، فعرفه رجل فقال للبائع: هذا ابن مُحَيريز فأحسِنْ بيعَه، فغضب وقال: إنما نشتري بأموالنا لا بأدياننا. وتوفي سنة أربع وتسعين، وأسند عن عُبادة بن الصّامت، وأبي سعيد الخُدْريّ، ومعاوية، وأوس بن أوس الثَّقفيّ، وأبي مَحْذُورة، وكان يتيمًا فِي حجره، وفَضالة بن عبيد، وعبد الله بن السَّعدي وغيرهم. وروى عنه الزُّهريّ، ومَكحول، وحسان بن عَطيّة، وابن أبي عَبْلَة، وأبو قِلابة الجَرْميّ، وعطاء الخُراسانيّ، وخالد بن مَعْدان فِي آخرين (¬2). عُبيد الله بن عَديّ ابن الخِيار بن عَديّ بن نوفل بن عبد مَناف بن قُصيّ، وأُمُّه أمّ قِتال بنت أسيد بن أبي العِيص بن أمية. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 450 وما بين معكوفين منه، وهذه الترجمة وتاليتها ليستا فِي (ص). (¬2) "حلية الأولياء" 5/ 138، و"صفة الصفوة" 4/ 206، و"السير" 4/ 494.

عروة بن الزبير بن العوام

مات بالمدينة فِي خلافة الوليد بن عبد الملك، وروى عن عمر وعثمان رضوان الله عليهم. وكان ثقةً قليلَ الحديث، وهو من الطَّبقة الأولى من أهل المدينة من التابعين وكان له من الولد المختار لأُمِّ وَلَد، وحميدة، وأمها ميمونة بنت سفيان، من فَهْم، وكان له ابنة أخرى أمها من بني فَهْم (¬1). [فصل: وفيها تُوفِّي] عُروة بن الزُّبير بن العَوَّام أبو عبد الله الأَسَديُّ، أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة. [ذكره ابن سعد] في الطَّبقة الثَّانية من التابعين من أهل المدينة [وقال: ] كان فقيهًا، عالمًا، ثَبْتًا، مأمونًا، ثِقَة (¬2). وأمُّه أسماء بنت أبي بكر رضوان الله عليه. ولد سنة ثلاث وعشرين، وقيل: سنة تسع وعشرين، وكان بينه وبين أخيه عبد الله عشرون سنة، قال عروة: أذكر وأنا أتعلَّق بشعر كَتِفَي أبي الزُّبير بن العوام، وكان الزُّبير يُرَقّصه ويقول: [من الرجز] أبيضُ من آل بني عَتيقِ ... مُباركٌ من وَلَدِ الصِّدِّيقِ أَلَذُّه كما أَلَذُّ رِيقي [وقال ابن عساكر: كان حين حُصر عثمان غلامًا لم يُنبت، وقال ابن عساكر: عَرضت عائشة عروةَ يوم الجمل بذات عِرْق وهي قاصدةٌ البصرة، فردّته لصغره.] (¬3) وقال عروة: رُدِدتُ أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يوم الجمل، استصغرونا. وكان عروة معتزلًا للفِتن، لم يدخل مع أخيه عبد الله فِي شيء، ولا مع غيره، وداره بالمدينة دار صفية بنت عبد المطَّلب، وهي دارٌ ربّة، أي: مرتفعة واسعة. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 53. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 178 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) انظر "تاريخ دمشق" 47/ 255 - 257.

وكان يَقدم على عبد الملك (¬1) فيُجلسه معه على سريره، فقال له الحجاج: تُجلس ابن العُمَيشاء معك على سريرك؟ فقال له عروة: أُمّي ذات النِّطاقَين من عجائز الجنة، وأمك المُتَمَنِّية، أشار إِلَى أن عمر - رضي الله عنه - سمعها ليلة وهي تقول: [من البسيط] هل منْ سبيل إِلَى خمرٍ فأشربها ... أم من سبيل إِلَى نصْرِ بن حَجّاجِ [وقد ذكرناه]. وقال الزهري: جالستُ عروة فكان بَحْرًا لا تُكَدِّره الدِّلاء. [وقال مصعب الزُّبيريّ: ] قال عروة: ربَّ كلمة ذُلٍّ احتملتُها أورثتني عزًّا طويلًا. [وقال ابن سعد: ] كان عروة يَسْرُد الصَّومَ جميع الدهر، إلَّا العيدين، ومات وهو صائم، وكان يُغيِّر شَيبه، ولا يُفطر فِي السَّفَر. وقال عبد الله بن حسن بن حسن: كان علي بن الحسين يجلس كلّ ليلة هو وعروة فِي مؤخّر مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العشاء الآخرة، فتحدَّثا ليلةً فتذاكرا جَورَ بني أمية، وأنهم لا يستطيعون تغيير ذلك، ثم ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم حيث هم معهم، فقال عروة: إن مَن اعتزل أهل الجور والله يعلم منه سخطه لأعمالهم؛ فإن كان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة من الله؛ رُجي أن يسلم منها، فخرج عروة فسكن العَقيق، وخرج علي فنزل سُوَيقة. وكان يقول لبنيه: سَلوني، فلقد تركتُ الحديث حتَّى كدتُ أنسى، وإني لأُسئل عن الحديث فينفتح لي حديث يومي (¬2). [وروى أبو نعيم، عن هشام بن عروة قال: قال أبي: ] إذا رأيتَ الرَّجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها أخوات عنده، وإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها أخوات عنده، فإن الحسنة تدلُّ على أختها. ¬

_ (¬1) بعدها فِي (ص): وابنه الوليد، ثم قول الزهري الآتي، وقول عروة، ونُسب هذا الخبر فيها إِلَى ابن قتيبة، وانظر "تاريخ دمشق" 47/ 287 - 288. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 178 - 180.

[وروى يعقوب بن شوذب قال: ] كان عروة إذا كان أيام الرُّطَب ثَلَم حائطَه فيدخل النَّاس، فيأكلون ويحملون، وكان إذا دخله رَدَّد هذه الآية فيه حتَّى يخرج منه {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. وكان يقرأ ربع القرآن كل يوم نظرًا فِي المصحف، ويقوم به الليل، فما تركه إلَّا ليلة قُطعت رجله، ثم عاود من الليلة المقبلة (¬1). ذكر ما ابتلي به عروة وصبره على البلاء: [قال ابن سعد بإسناده عن سعد بن إبراهيم قال: كان برجل عروة أَكِلَة فقطع رجله. هذا صورة ما ذكر ابن سعد (¬2). واختلفت الروايات فِي ذلك فروى أبو نعيم (¬3)] عن هشام بن عروة قال: خرج أبي إِلَى الوليد بن عبد الملك، فوقعت فِي رجله الأكِلَة، فقال له الوليد: يَا أَبا عبد الله، أرى لك قطعها وإلا سَرَتْ، فقُطعت فإنَّه لصائم، فما تضوَّر وجهه، ودخل ابنٌ له أكبر ولده إِلَى اصطبل الوليد، فرفسته دابة فقتلته، فما سُمع من أبي فِي ذلك شيء حتَّى قدم المدينة، فقال: اللهم إنه كان لي أطراف أربعة، فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ لي ثلاثة، فلك الحمد، وكان لي بنون أربعة فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ لي ثلاثة ذلك الحمد، وايم الله، لئن أخذتَ لقد أبقيتَ، ولئن ابتَليتَ فلطالما عافيت. [وقال أبو نعيم (¬4) بإسناده إِلَى مَسْلَمة بن مُحارب قال: ] وقعَتْ فِي رجل عُروة الأَكِلَة، ولم يَدَعْ فِي تلك الليلة وردَه، فقُطعت ولم يُمسكه أحد. [وحكى يعقوب بن سفيان أنَّه قال لما نُشِرت رجلُه: اللهم إنك تعلم أني ما مشيت بها إِلَى سوء قط.] ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 2/ 177 - 180 وما بين معكوفين من (ص). (¬2) فِي طبقات 7/ 180، والأَكِلَة: داء فِي العضو يأتكلُ منه. ينظر القاموس (أكل). (¬3) فِي حليته 2/ 179. وما بين معكوفين من (ص). (¬4) فِي "حلية الأولياء" 2/ 179.

وروى ابن أبي الدنيا عن أشياخه قال: لما وقعت الأَكِلَة برجل عروة بعث إليه الوليد الأطبّاء، فأجمعوا على أنَّهم إن لم يَنْشُروها قتلته، فقال: شأنُكم بها، قالوا: نسقيك شيئًا لئلا تُحسَّ بما نصنع بك، قال: لا، شأنُكم بها، فنشروها بالمنشار، فما حرَّك عضوَّا مَن عضو وصبر، فلما رأى القَدَم بأيديهم دعا بها، فقبّلها ثم قال: والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيتُ بها إِلَى مَعصية قطّ، ثم أمر بها فغُسلت وطُيِّبت، ودُفنت فِي مقابر المسلمين، وتمثل بأبيات مَعْن بن أوس بن نَصْر المازنيّ: [من الطويل] لعَمْرُكَ ما أهويتُ كَفِّي لرِيبةٍ ... ولا حَمَلَتْني نحو فاحِشْةٍ رِجلي ولا قادني سَمعي ولا بَصري لها ... ولا دَلَّني رأيي عليها ولا عقلي وأعلم أني لم تُصبني مُصيبةٌ ... من الدَّهر إلَّا قد أصابتْ فتىً قبلي (¬1) [وهذا مَعْن هو الذي دخل على معاوية بن أبي سفيان فأنشده، وكان معاوية يقول: هو أشعر النَّاس.] ومن شعر مَعْن قوله (¬2): [من الطَّويل] لعَمْرُك ما أدري وإني لأَوجَلُ ... على أيِّنا تَعدو المَنِيَّةُ أوَّلُ وإني أخوك الدَّائمُ العَهْدِ لم أَحُلْ ... إنَّ ابْزاك خَصْمٌ أو نَبا بك مَنزِلُ وإن سُؤتَني يومًا صَفَحتُ إِلَى غدٍ ... ليُعْقِبَ يومًا منك آخَرُ مُقبِلُ وإنّي على أشياءَ منك تَرِيبُني ... قديمًا لَذو صَفْحٍ على ذاك مُجْمِلُ ستَقطع فِي الدُّنيا إذا ما قَطَعْتَني ... يمينَك فانظرْ أيَّ كفٍّ تَبدَّلُ وفي النَّاس إنْ رثَّتْ حبالُك واصِلٌ ... وفِي الأرضِ عن دارِ القِلَى مُتَحَوَّلُ إذا أنتَ لم تُنْصِفْ أخاك وجدْتَه ... على طَرَفِ الهِجْرانِ إن كُنتَ تَعقِلُ ولما قال له الأطبّاء: نَسقيك دواءَّ يزول به عقلُك فلا تُحسُّ بشيء قال: إذا زال عقلي فبم أعرف ربي، ثم مدّ رجلَه فقُطعت بالمنشار وهو يسبّح لم يمسكه أحد، وقال: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] ولم يَدَعْ ورْدَه تلك الليلة. ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 2/ 178، و"تاريخ دمشق" 17/ 46 (مخطوط). (¬2) الأبيات فِي "الحماسة" 1126 (بشرح المرزوقي)، وما سلف بين معكوفين من (ص).

وقال الواقديّ: قُطعت رجل عروة والوليد حاضر، فلم يشعر (¬1) الوليد بها حتَّى كُويت، فشمّ رائحة الكيّ. [وحكى ابن هشام عن الزهري قال: وقعت الأَكِلَة برجله وهو بوادي القُرى يريد الشَّام وافدًا على الوليد، فلما قدم الشَّام وقُطعت رجله لم يَزد على قوله: حَسِّ حَسِّ (¬2). وقال أبو المُطَرِّف: البغلةُ التي قتلت محمَّد بن عروة كان الحجاج بعث بها إِلَى الوليد. قال ابن أبي الدنيا: ] وقدم على الوليد فِي ذلك اليوم قومٌ من بني عَبْس فيهم رجل ضرير، فسأله الوليد عن عينيه فقال: بتُّ ليلة فِي بطن وادٍ، ولا أعلم عَبْسِيًّا فِي الأرض يزيد ماله على مالي، فطَرَقنا سَيلٌ، فذهب ما كان لي من أهل ومال وولد؛ غير صبيٍّ مولود وبعير، وكان البعير صَعْبًا فنَدَّ، فوضعتُ الصّبيَّ واتَّبعت البعير، فلم أجاوزه حتَّى سمعتُ صَيحةَ الصّبيّ، فرجعتُ إليه ورأسُ الذئب فِي بطنه فأكله، واستدرْتُ إِلَى البعير لأحبسه، فنَفَحني برِجله، فأصاب وَجهي فحَطَمه، وذهبت عيناي، فأصبحتُ لا أهل، ولا مال، ولا وَلَد، ولا عينان، فقال الوليد: انطلقوا به إِلَى عروة فيخبره بخبره؛ ليعلَمَ أن فِي النَّاس مَن هو أشدُّ بلاءً منه وأعظم (¬3). وقال الواقديّ: قُطعت رجل عروة من نصف الساق، وعاش بعدها ثماني سنين أو أكثر. [وقال الواقديّ: ] ولما قدم المدينة تلقّاه النَّاس يَبكون وهو يَسترجِع، فقال له عطاء بن أبي ذؤيب رجل من قومه: يَا أَبا عبد الله، والله ما كنا نحتاج أن نُسابق بك ولا نُصارع، وإنما كنّا مُحتاجين إِلَى رأيك، والأُنسِ بك، والاستفادة من علمك، وقد بقي لنا ما كنا نحبُّ منك، وما أُصبت به فهو ذَخيرةٌ لك عند الله (¬4). ¬

_ (¬1) فِي (خ) و (د): وكان الوليد حاضر قطعها فلم يشعر، والمثبت من (ص). (¬2) الخبر فِي "تاريخ دمشق" 47/ 272 - 273 من طريق هشام بن عروة، عن أَبيه، وما بين معكوفين من (ص). (¬3) الاعتبار (29)، و"تاريخ دمشق" 19/ 330 (مخطوط). (¬4) "تاريخ دمشق" 47/ 273.

[قال الواقديّ: اعتزل عروة النَّاس، وقد ذكرنا أنَّه نزل العَقيق، ونزل على زين العابدين سُوَيقة. وبنى عروة بالعَقيق قَصْرًا، ونقل أهله وولده إليه، فقيل له: جَفوتَ مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس؟ ! فقال: نعم، رأيتُ مساجدَهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة فِي فجاجهم فاشية، فكان فِي البُعد منهم العافية، ولقد ذُكر لنا أن المدينة يصيبها بَلاء، فإن أصابها شيءٌ كنت متنحّيًا عنها. قال هشام: فكان يموت بعض ولده -يعني ولد عروة- بالمدينة فلا يأتيه (¬1). ذكر وفاته واختلفوا فيها؛ فحكى ابن سعد، عن الواقديّ قال: ] مات عروة فِي أمواله بالفُرْع بمكان يقال له: مَجاج، ودُفن هناك يوم الجمعة سنة أربع وتسعين قال: وهي سنة الفقهاء (¬2). [وقد روينا أنَّه مات وهو صائم. وقال هشام: وله ثمانون سنة، وعند قصره بئر يعرف به، ليس هناك أعذب من مائها. وقال أبو نعيم وأبو سعيد بن يونس: مات سنة ثلاث وتسعين.] وقيل: سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة سبع أو تسع وتسعين، وقيل: سنة إحدى ومئة. [والأول أصح. قال ابن عساكر: ] وقيل له: ألا تُحملُ إِلَى البقيع فتُدفنَ فيه؟ قال: لا، إنما هو أحد رجلين: إما ظالم فلا أحب أن أُدفن معه، وإما صالح أو مظلوم فلا أحب أن تُنبش عظامُه بسببي. قال: وكان قد ذهب بصره فِي آخر عمره فقال: [من البسيط] إن تُمْسِ عيناي فِي ضُرٍّ أصابهما ... ريبُ المنون وأمر كان قد قُدِرا فما بذلك من عارٍ على أحدٍ ... إذا اتَّقى اللهَ واستوصى بما أُمِرا (¬3) ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 2/ 180، و"تاريخ دمشق" 47/ 293، 294. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 181 أو ما بين معكوفين من (ص) وينظر تاريخ دمشق 47/ 291. (¬3) "تاريخ دمشق" 47/ 295 - 300 وما بين معكوفين من (ص)، وجاء فيها عقب الشعر: انتهت ترجمته والله أعلم.

ذكر أولاده: فولد عروة: عبد الله، وعمر، والأسود، وأم كلثوم، وعائشة، وأم عمر. وأمهم فاختة بنت الأسود بن أبي البَخْتَريّ الأَسَدي. ويحيى، ومحمدًا، وعثمان، وأبا بكر، وعائشة، وخديجة. وأمهم أم يحيى بنت الحكم بن أبي العاص بن أمية. وهشامًا، وصفية لأم ولد. وعبيد الله، وأمه أسماء بنت سَلَمة بن عمر بن أبي سَلَمة المَخزوميّ. ومصعبًا، وأم يحيى لأمّ وَلَد اسمها واصِلة. وأسماء أمها سَوْدة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأمها صفيّة بنت أبي عُبيد (¬1). ذكر أعيانهم: أما عبد الله فكان أكبر ولده، وكُنيته أبو بكر، وهو من الطَّبقة الرابعة من أهل المدينة، وكذا جميع أولاد عروة، وكان ذا عقلٍ وكَرَم وشَرَف وفَضْل. وكان يُشَبَّه بعبد الله بن الزُّبير فِي لسانه، وكان عبد الله يُحبُّه ويقول لعروة: ولدك هذا لي، وزوّجه ابنتَه أمَ حكيم. أرسل معاوية بن أبي سفيان إِلَى عبد الله بن الزُّبير رسولًا يخطب إليه ابنتَه هذه على ابنه يزيد، فدعا عبد الله بن الزُّبير ابنَ أخيه عبد الله بن عُروة فزوّجه إياها، وكان أول مَن زوَّج ابن أخيه، فقال الرسول لعبد الله بن الزُّبير: ما أقول لأمير المُؤْمنين؟ قال: ما له عندي جواب غير هذا الذي رأيتَ. وحضر عبد الله بن عمر العقد، وحمل عروة إليها عشرين ألفًا، فرَدّ عبد الله بن الزُّبير المال وقال: لو أردتُ المال لكان فِي يزيد كفاية، وكانت أم حكيم أحبّ بنات عبد الله بن الزُّبير إليه. وكان عروة يرسل ابنه عبد الله يَجُدُّ ثَمر أمواله ويبيعه فِي كل عام، فكان عبد الله يَدُقُّ الثُّلَم، ويأمر النَّاس بالدخول [والأكل] منها، ويبيع من الثمر، ويأتي أباه بالثَّمن، ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 177.

فقال يحيى بن عروة لأبيه: إن عبد الله يُبذِّر ثَمَرك، ويَتَسخّى فيه، ويُطعمه النَّاس، قال عروة: فلِهِ العام أَنْتَ، فوليه يحيى، ومنع النَّاس أن ينالوا منه شيئًا، وسدَّ الثّلمة، وباعه مثل ما باعه عبد الله فِي العام الماضي، فنقص نُقصانًا فاحشًا، فقال يحيى: والله ما رَزَأْتُ منه شيئًا، فقال عروة: قد كان عبد الله يأتينا بأرزاقنا، وكان النَّاس ينالون منه أرزاقهم، فمنعتَهم فمنَعَنا الله ذلك. وبلغ عبد الله بن عروة ستًّا وتسعين سنة، لم يكن بينه وبين أَبيه إلَّا خمس عشرة سنة. وهو كان رسول عبد الله بن الزُّبير إِلَى الحُصَين بن نُمَير حتَّى لحقه بمكة عند وفاة يزيد بن معاوية. وكان عبد الله قد اعتزل النَّاس، وخرج عن المدينة، فقيل له: تركتَ المدينة دار الهجرة والسنة، فلو رجعت إليها ولقيتَ النَّاس، فقال: وأين النَّاس؟ إنما النَّاس رجلان: شامت بنكْبة، أو حاسدٌ لنِعمة. وكان لعبد الله بن عروة من الولد: عمر، وصالح، وعائشة، أمهم أم حكيم بنت عبد الله بن الزُّبير، وسلمة، وسالم، ومسَالم، وخديجة، وصفية، وأمهم أم سَلَمة بنت حمزة بن عبد الله بن الزُّبير. وروى عن عبد الله الزُّهريُّ، وكان ثقةً قليلَ الحديث (¬1). وأما يحيى (¬2) بن عروة فروى عنه الزهري، وكان قليل الحديث. كان له من الولد: عروة، وأمه زينب بنت عُبيدة بن المنذر بن الزُّبير، ومروان الأكبر، ومحمَّد الأكبر، والزُّبير، لا بقيَّة لهم، وأم يحيى، وأسماء، وأمُّهم أم إبراهيم بنت إبراهيم بن عبد الله بن نُعيم بن النَّحَّام العَدَويّ. والحكم، وأم عبد الله، وعائشة، وأمهم أم إبراهيم هذه، وعبد الملك، ومروان الأصغر، ومحمَّد، لأم ولد. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 460، و"نسب قريش" 245 - 246، و"المعارف" 222، و"أنساب الأشراف" 8/ 6 - 69، و"تاريخ دمشق" 36/ 613، و"التبيين" 264. (¬2) فِي (خ) و (د): عمرو، وهو خطأ.

وفد يحيى بن عروة على عبد الملك -وكان من أشراف بني عروة- فجلس ببابه، فسمع الحاجب يتناول عبد الله بن الزُّبير، فضربه يحيى فشجّه فأدماه، فدخل الحاجب على عبد الملك على تلك الحال فقال: مَن فعل بك هذا؟ قال: يحيى بن عروة، فقال: عليَّ به، وكان عبد الملك متكئًا فقعد، فلما دخل عليه يحيى قال له: لم فعلتَ بحاجبي هذا؟ فقال له يحيى: عمي عبد الله بن الزُّبير كان أحسن جوارًا لعمتك منك لنا، والله لقد كان يقول لها: من سَبّ أهلك فسُبّي أهله، ولقد كان ينهى حُجَّابه وأهلَه وعشيرته أن يسمعوها فيكم، فاضطجع عبد الملك، ولم يزل مُكرمًا ليحيى بن عروة. أشار يحيى إِلَى أُمِّه بنت الحكم أخت مروان، فإنَّها كانت زوجة عروة، وكان أيام حصار ابن الزُّبير بمكة. أنكر يحيى على إبراهيم بن هشام عامل هشام بن عبد الملك على المدينة، فضربه فمات بعد الضَّرب، وله عَقِب فِي المدينة. وكان أعلم من هشام بن عروة، وكان يلي عبد الله أخاه فِي السنّ، وله أشعار منها: [من الخفيف] ابنُ عمي وقبل ذاك أبوه ... وقتيلُ العراقِ بين الجُسورِ آثَرُوا العِزّ والعَلاء فماتوا ... قبل دَهرٍ يُشابُ بالتَّكْدِيرِ (¬1) وأما محمَّد بن عروة فهُو الذي دخل دار الدَّوابِّ وقتلته البَغْلة، وقيل: إن البغلة كان الحجاج بعث بها إِلَى الوليد، فحمل عليها عروة، وكان عروة يحبّ ولده محمدًا، فما تجاسر أحد أن يخبره، وكان الماجشون قد صحبه إِلَى الشَّام فأخذ يُسلّيه ويعزِّيه، ففطن فاسترجع، ولم يتأوه، ولم يتكلّم. وأمه أم يحيى أخت مروان. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 461، و"نسب قريش" 247، و"المعارف" 223، و"أنساب الأشراف" 8/ 70، و"تاريخ دمشق" 18/ 166، 168، و"التبيين" 265.

وكان بارع الجمال، دخل يومًا على الوليد وله غَديرتان، وهو يتبختر فِي مشيته، فقال الوليد: هذا والله التَّغَطْرُف، هكذا تكون فِتيان قريش، فأصابه بالعين، فقام من نومه مَتَوَسِّنًا، فوقع فِي إصطبل الدوابّ، فلم تزل تَطَؤه حتَّى مات. وكانت له ابنة يقال لها: أم يحيى، وأمها حفصة بنت عبد الرحمن بن عمرو بن سعد ابن معاذ. أسند محمَّد عن أَبيه، وعمه عبد الله، وروى عنه الزهري، وأخوه هشام بن عروة، وليس له عقب من قبل الرجال (¬1). وأما عثمان بن عروة فتوفّي أول خلافة أبي جعفر، وكان قليل الحديث، روى عنه ابن أبي عامر (¬2). وكان له أولاد: عروة، وأبو بكر، وعبد الرحمن، ويزيد، وأم يحيى، وكلْثَم، وحفصة، وأمهم قريبة بنت عبد الرحمن بن المنذر بن الزُّبير، ويحيى، وهشام، لأم ولد، وخديجة، وأُبَيّة، وفاطمة، وأمهم أمُّ حَبيب بنت عبد الله بن عبد الله بن حَنْظَلة بن الراهب، من الأوس. وأما عُبيد الله بن عروة فكنيته أبو بكر، كان له من الولد: عروة، وعاصم، ومصعب، وحفصة، وأمهم بنت رباح بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. وكان عبيد الله أصغر ولد عروة، وبقي حتَّى أدركه الواقديّ وسمع منه، قال الزهري: قلت له: ابن كم أَنْتَ يوم مات عروة؟ قال: ابن تسع سنين. ومن شعر عبيد الله: [من الطَّويل] يحبُّ الفتى المال الكثيرَ وإنما ... لنَفسِ الفتى مما يَحُوزُ نَصيبُ ترى المرءَ يُبكيه الذي مات قبلَه ... وموتُ الذي يَبكي عليه قَريبُ (¬3) ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 461، و"نسب قريش" 247، و"المعارف" 223، و"أنساب الأشراف" 8/ 69، و"تاريخ دمشق" 63/ 229. (¬2) كذا فِي (خ) و (د)، ولم أقف عليه، فلم يذكروه فِي الرواة عنه، انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 462، و "نسب قريش" 248، و"المعارف" 223، و"أنساب الأشراف" 8/ 70، و"تاريخ دمشق" 45/ 307، و"التبيين" 266. (¬3) "طبقات ابن سعد" 7/ 462، و"نسب قريش" 248، و"أنساب الأشراف" 8/ 70، و"المعارف" 223، و"التبيين" 266.

وأما هشام بن عروة فتوفي فِي أيام أبي جعفر سنة ست وأربعين ومئة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر مسانيد عروة: أسند عن أَبيه، وعن زيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن الأرقم (¬1)، وأبي أيّوب، والنعمان بن بشير، وأبي هريرة، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس، وعبد الله بن الزُّبير، والمِسْوَر بن مَخْرَمة، وعائشة، ومروان، وزَينب بنت أبي سلمة، وعبد الرحمن بن عبد القاري، وبشير بن أبي مسعود، وزُبيد بن الصَّلْت، ويحيى بن عبد الرحمن، وغيرهم. وكان ثِقَة كثير الحديث. وقيل: أسند عن علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد - رضي الله عنه -، وروى عن أمه أسماء، والحسن والحسين - رضي الله عنه -، والمغيرة بن شُعبة، وعبد الله بن جعفر. وروى عنه خلق كثير، منهم: بنوه يحيى، وهشام، ومحمَّد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والزهري، وصفوان بن سُلَيم، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وسليمان وعطاء ابنا يسار، وعطاء بن أبي رباح، وعِراك بن مالك، وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، والشعبي، والنخعي وغيرهم. وقال الزهري: ما ماتت عائشة - رضي الله عنها - حتَّى أخذ عروة جميع ما كان عندها من العلم. وكان يتألَّف النَّاس على العلم وحديثه ويقول: سلوني؛ فإنني أتمنّى أن يُؤخذ عني العلم. ¬

_ (¬1) فِي (خ) و (د): وثمامة بن زيد وعبد الرحمن بن الأرقم، وهو خطأ صوابه من"تاريخ دمشق" 47/ 246، و"تهذيب الكمال" (4494)، و"السير" 4/ 421 - 422.

عطاء بن يسار

[فصل: وفيها تُوفِّي] عطاء بن يَسار مولى ميمونة زوج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكنيته أبو محمَّد، وقيل: أبو يسار، وهو من الطَّبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة. [وهو أخو سُليمان بن يسار، وكان عطاء بن يسار يَقصُّ فِي مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقاسم وسالم يجلسان إليه.] قال ابن بُكير: كان بالمدينة ثلاثة إخوة لا يُدرى أيّهم أفضل: عطاء وسليمان وعبد الله بنو يسار، وثلاثة إخوة: محمَّد وأبو بكر وعمر بنو المُنْكَدِر، وثلاثة إخوة: بُكَير بن عبد الله بن الأشجّ ويعقوب وعمر. وسئل الإِمام أَحْمد رحمه الله عن عطاء وإخوته فحَسَّن القول فيهم. وحج عطاء من المدينة إِلَى مكة ثلاثًا وستين حجة. وخطب رجل من العرب ابنةَ عطاء فقال له: ما نُنكر نَسبك ومَوضعك، ولكنا نُزَوّج مثلَنا، وتزوَّج أَنْتَ فِي عشيرتك، وبلغ ابنَ المسيّب فقال: أحسن عطاء ما شاء. ذكر وفاته: واختلفوا فيها؛ فقال هشام مات فِي سنة أربع وتسعين سنة الفقهاء. وحكى ابن سعد عن الواقديّ أنَّه مات فِي سنة ثلاث ومئة وهو ابن أربع وثمانين سنة. قال ابن سعد: وقال غير محمَّد بن عمر: إنه تُوفِّي سنة أربع وتسعين، وهو أشبه بالأمر. وقال أبو سعيد بن يونس (¬1): قدم عطاء مصر وحدَّث بها، وخرج إِلَى الإسكندرية، فزعم سعيد بن عُفَير أنَّه تُوفِّي بها [ولم يذكر تاريخ وفاته]. ¬

_ (¬1) من قوله: ذكر وفاته ... إِلَى هنا من (ص)، وجاءت فِي (خ) و (د) مختصرة.

علي بن الحسين

وكان عطاء بن يسار ثقةً كثير الحديث. سمع عطاء ابنَ مسعود، وأبيّ بن كعب، وخَوّات بن جُبير، وأَبا أيّوب الأَنْصاريّ، وأبا واقد اللّيثي، وأبا رافع، وعبد الله بن سَلام، وعائشة، وميمونة وغيرهم. وروى عنه زيد بن أسلم، وعبيد الله بن مِقْسَم وبُكَير بن عبد الله بن الأَشَجّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وشَريك بن عبد الله بن أبي نَمِر (¬1)، وصفوان بن سُلَيم، فِي آخرين. [فصل: وفيها توفي] عليّ بن الحُسين ابن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ويلقب بزَين العابدين. [ذكره ابن سعد في] الطَّبقة الثَّانية من التابعين من أهل المدينة. وكنيته أبو محمَّد [وقيل: أبو الحسين. واختلفوا فِي اسم أُمِّه، فقال ابن سعد: ] أمه أمُّ وَلَد يُقال لها: غَزالة (¬2). [وقال الهيثم بن عَديّ: كان اسمها: السُّلافَة، وقيل: سَلّامة، وقيل: شاه زنان. قال ابن قتيبة: كان عليّ بارًّا بها، وكانت سِنديّة، ما أكل معها فِي قَصْعَةٍ قط، فقيل له فِي ذلك فقال: أخاف أن تسبق يدي إِلَى ما وقعت عينُها عليه؛ فأكون قد عَققتُها. وزوَّجها عليّ من مولاه زُيَيد، وأعتق جاريةً له وتزوَّجها، فكتب إليه عبد الملك يُعيِّره بذلك، فكتب إليه علي رحمة الله عليه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، قد أعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَفيَّة بنت حُيَيّ وتزوَّجها، وأعتق زيدَ بنَ حارثة وزوَّجه ابنةَ عَمَّته زينب بنت جحش (¬3). ¬

_ (¬1) فِي (خ) و (د): بن نُمير، وهو خطأ. وانظر مصادر ترجمته فِي "طبقات ابن سعد" 7/ 171 - 172، و"تاريخ دمشق" 48/ 28، و"تهذيب الكمال" 12/ 475، و"السير" 4/ 448. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 209. (¬3) "المعارف" 215، وفي "طبقات ابن سعد" 7/ 212 أن عليًّا زوّج ابنة له من مولاه.

فولدت عبد الله بن زُيَيد، فهو أخو علي لأمّه، ولزُيَيد عقب بيَنْبُع. ذكر مولد علي بن الحسين: واختلفوا فيه على أقوال؛ أحدها سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة فِي خلافة عثمان؛ حكاه ابن عساكر. والثاني سنة سبع وثلاثين، ذكره أبو اليقظان. والثالث: سنة ثمان وثلاثين؛ قاله الهيثم. وقال ابن سعد: ] كان (¬1) علي بن الحسين مع أَبيه يوم الطَّفوف وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكان مريضًا على الفراش. وهذه الرواية تدل على أنَّه ولد سنة سبع وثلاثين [لأن أباه قتل فِي أول سنة إحدى وستين. قال ابن سعد: ] ولعلي بن الحسين هذا العَقِب من ولد الحسين، وهو علي الأصغر [أما علي الأكبر فقتل مع أَبيه يوم الطّفوف، وقد ذكرناه (¬2). ذكر طرف من أخباره: ذكر المدائنيّ عن جابر بن عبد الله الأَنْصَارِيّ أنَّه] أتى أَبا جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ إِلَى الكُتَّاب وهو صغير، فقال له: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عليك، فقال: يَا جابر، وكيف هذا؟ فقال: كنت جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحسين فِي حجره وهو يداعبه فقال: "يَا جابر، يولد له مولود اسمه علي، فإذا كان يوم القيامة نادى مُنادٍ: هَلُمَّ سيّد العابدين -أو زين العابدين- فيقوم ولده علي، ثم يولد لعلي مولود اسمه محمَّد، فإن أدركتَه يَا جابر فأقرئه مني السَّلام". [وقد رواه ابن عساكر في "تاريخه" (¬3) وقال: قد سمّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوجد سيّد العابدين. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ص) وجاء مختصرًا فِي (خ) و (د). وانظر "تاريخ دمشق" 48/ 88، و"طبقات ابن سعد" 7/ 210. (¬2) ما بين معكوفين من (ص) وجاء مختصرًا فِي النسختين. وانظر "طبقات ابن سعد" 7/ 209 - 210. (¬3) "تاريخ دمشق" 48/ 97، وما بين معكوفين من (ص). والحديث موضوع، ينظر الموضوعات (864).

وقد روينا عن علي - عليه السلام - أنَّه قال: املكوا عَلَيَّ هذين الغلامين -يعني الحسن والحسين، وهما يتنازعان القتال يوم صفّين- فإنِّي أخاف أن ينقطع نسلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا شَهِدا معي حَرْبًا بعد اليوم. وقال ابن سعد: ] كان علي بن الحسين ثِقَة مأمونًا كثير الحديث عاليًا رفيعًا ورعًا عفيفًا (¬1). [وقد ذكرنا ما جرى بين علي بن الحسين وبين ابن زياد لما قُتل الحسين عليه السلام، وما جرى بينه وبين يزيد بن معاوية وأنه ردّه مع السَّبايا والرأس إِلَى المدينة. وقال ابن سعد: حدثنا الفَضْل بن دُكَين، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن] العَيزار بن حُرَيث قال: كنت عند ابن عباس وأتاه علي بن الحسين فقال: مرحبًا بالحبيب بن الحبيب. وبعث إليه المختار بن أبي عُبيد بمئة أَلْف، فكره أن يقبلها، وخاف أن يردَّها عليه، فاحتبسها عنده، فلما قُتل المختار وولي عبد الملك كتب إليه يخبره وقال: كرهتُ أن آخُذها، فأبعث مَن يقبضها، فكتب إليه عبد الملك: يابن عَمّ، خذها فقد طَيَّبتُها لك، فأخذها. وكان عليّ يلعن المختار، فقيل له: تلعنه وإنما ذُبح فيكم؟ فقال: إنه كان كذّابًا يكذب على الله ورسوله، يزعم أنَّه يوحى إليه. وقال: التَّارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ لكتاب الله وراء ظهره، إلَّا أن يَتَّقي تُقاة، قيل: وما تُقاة؟ قال: يخاف جبّارًا عنيدًا، يخاف أن يَفْرُطَ عليه أو أن يطغى. وقال: يَا أيها النَّاس، أحبُّونا حُبَّ الإِسلام، فما برح بنا حبُّكم حتَّى بَغَّضتمونا إِلَى النَّاس. وأصاب الزهريُّ دمًا خطأ، فخرج وترك أهله، وضرب فُسطاطًا وقال: لا يُظِلُّني سقفُ بيت، فمر به علي بن الحسين فقال: يَا ابن شِهاب؛ قُنوطك أشدُّ من ذنبك، ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 219.

فاستغفر الله، وابعث إِلَى أهله بالدِّية، وارجع إِلَى أهلك، فكان الزهري يقول: علي بن الحسين أعظم النَّاس عليَّ مِنَّةً. وقال عبد الله بن عليّ بن الحسين: لما قُتل الحسين قال مروان لأبي: إن أَبَاك كان سألني أربعة آلاف دينار فلم تكن حاضرة عندي، وهي اليوم عندي مُتيسّرة، فإن أردتَها فخُذها، فأخذها أبي، ولم يُكلّمه أحدٌ من بني مروان؛ حتَّى قام هشام بن عبد الملك فقال لأبي: ما فعل حَقُّنا قِبَلَكم؟ قال: مُوَفَّر مَشكور، قال: هو لك. وكان علي بن الحسين أحسن أهل بيته طاعة، وأحبَّهم إِلَى مروان وابنه عبد الملك. قلت: قوله (¬1): حتَّى قام هشام بن عبد الملك فيه نظر؛ فإن علي بن الحسين - رضي الله عنه - مات فِي هذه السنة كما ذكر، وهشام إنما ولي بعد ذلك بعدة سنين. [وقال ابن سعد، عن عبد الله بن داود قال: ] كان علي إذا أتاه سائل قام بنفسه فناوله ويقول: إن الصدقة لتقع بيد الله قبل أن تقع بيد السائل. [وحكى ابن سعد عنه أنَّه] قال: والله ما قُتل عثمان على وجه الحقّ. وكان إذا قام إِلَى الصلاة أخذته رِعْدة، فيقال له: مالك؟ فيقول: ما تدرون بين يدي من أقوم ولمن أُناجي؟ ! قال: وكان يخرج على راحلته إِلَى مكة، ويرجع ولا يقرعها بسَوْط. قال: وكان يَخضِب بالحِنَّاء والكَتَم، وفي رواية بالسَّواد. قال: وكان له كِساءُ خَزٍّ يلبَسه يوم الجمعة، وكان له فَروةٌ من ثعالب، فإذا أراد الصلاة نَزعها. وكانت له جُمَّة إِلَى المَنْكِب وكان يَفرِق شَعَره. وكان يشتري كِساء الخَزِّ بخمسين دِينارًا فيشتو فيه، ثم يبيعه ويتصدّق بثمنه، وكذا كان يفعل فِي ثياب الصّيف. ¬

_ (¬1) يريد ابن سعد، فما سلف من أخبار فِي طبقاته 7/ 211 - 213.

[وقال ابن سعد أَيضًا بإسناده عن ثابت الثّماليّ قال: سمعت أَبا جعفر قال: ] دخل عليُّ بن الحسين الكَنيف ثم خرج فقال: رأيت الذُّباب يَقَعْن على العَذِرات، ثم يَطِرنَ فيقعن على الثّياب، فأردتُ أن أتّخذ ثوبًا للكنَيف، ثم قلت: لا ينبغي لي شيءٌ لا يَسَع النَّاس. وقيل إنه قال: كيف أصنع شيئًا لم يَصنعْه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء بعده؟ ! ما كان لهم إلَّا ثوبٌ واحد. وفي رواية أنَّه قال: أُحدث حَدَثًا فأنا أستغفر الله منه (¬1). [قلت: وأصل هذا أن يَسير النَّجاسات مَعْفُوٌّ عنها؛ لأن الاحتِراز عنه غير ممكن، ولهذا قال محمَّد رحمه الله: فإن انتَضح عليه البول مثل رؤوس الإبَر يجب غسلُه؛ لقوله - عليه السلام -: "استَنزهوا من البَول" من غير فَصْلٍ بين القليل والكثير.] (¬2) وكان يقول: المؤمن مُفَتَّنٌ تَوَّاب، إن الله يحبُّ المؤمن المُذْنِبَ التوَّاب. [وقال ابن أبي الدُّنيا بإسناده إِلَى عبد الرحمن بن حَفْص القُرشيّ قال: ] كان علي بن الحسين إذا توضأ اصْفَرَّ، فيقول له أهلُه: ما هذا الذي يَعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تَدرون بين يدي من أُريد أن أقوم؟ ! [وروى ابن أبي الدنيا، عن أبي نُوحٍ الأَنْصاريّ قال: ] وقع حَريقٌ فِي بيت علي بن الحسين وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يابن رسول الله النّار، يابن رسول الله النّار، فما رفع رأسه حتى أُطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ فقال: النَّار الأخرى. [وقال سفيان: ] جاء رجل إِلَى علي فقال: إن فلانًا آذاك ووقع فيك، قال: فانطلق بنا إليه، فانطلق معه وهو يرى أنَّه سيَنتصر لنفسه، فلما أتاه قال: يَا هذا، إن كان ما قلتَ فيَّ حقًّا فغفر الله لي، وإن كان ما قلتَ باطلًا فغفر الله لك. وكان بين حَسن بن حسن وبينه بعض الأمر، فجاء حسن إليه وهو مع أصحابه فِي المسجد، فما ترك شيئًا إلَّا قاله له، وعليٌّ ساكت، وانصرف حسن، فلما كان فِي الليل ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 213 - 216، وما بين معكوفين من (ص)، والخبر الأخير من (ص) فإنَّه جاء فِي النسختين (خ - د) مختصرًا. (¬2) ما بين معكوفين من (ص)، ومحمَّد هو ابن الحسن الشَّيبانِيّ. وانظر حاشية ابن عابدين 1/ 323.

أتاه عليّ فِي منزله، فقرع بابه فخرج، فقال له علي: يَا أخي، إن كنتَ صادقًا فيما قلتَ فغفر الله لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفر الله لك، والسلام عليك، وولّى، فتبعه حسن، والتزمه من خلفه وبكى حتَّى رثى له، ثم قال: لا جرم، لا عُدتُ فِي أمرٍ تكرهه، قال علي: وأنت فِي حلٍّ مما قلتَ لي (¬1). وقال (¬2): فَقْدُ الأحبَّةِ غُربة. وكان يقول: اللهم إنِّي أعوذ بك أن تَحسُنَ فِي لوامع العيون علانيتي، وتَقْبُحَ سريرتي، اللهم إنِّي أسأتُ وأحسنتَ إليّ، فإذا عُدْتُ فعُدْ عليَّ. وقال: إن أقوامًا عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة الأحرار (¬3). وقال (¬4): عجبتُ للمتكبّر الفَجور؛ الذي كان بالأمس نُطفةً ثم غدًا جِيفة، وعجبتُ لمن شكَّ فِي الله وهو يرى عجائبَ خَلْقه، وعجبتُ لمن أنكر النَّشأةَ الأُخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبتُ لمن عَمل لدار الفَناء، وترك العمل لدار البقاء. قال: وكان إذا أتاه السائل رحَّب به ويقول: مَرْحبًا بمَن يحمل. وكان يُبَخَّل، فلما مات وجدوه يَقوت مئةَ أهلِ بيتٍ بالمدينة. [وقال محمَّد بن إسحاق: ] كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا يُدرى من أين كان معاشُهم، فلما مات علي فقدوا ما كان يأتيهم بالليل [أو فقدوا ما كانوا يُؤتون به فِي الليل. وروى أبو نعيم عن أبي حَمْزة الثّمالي قال: ] كان علي بن الحسين يحمل جِراب الدَّقيق على ظهره بالليل، فيتصدق به ويقول: إن صَدَقةَ السِّرِّ تُطفئ غَضبَ الربّ عز وجل، فلما مات وغَسّلوه جعلوا ينظرون إِلَى آثارٍ سُود فِي ظهره، فقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جِراب الدّقيق ليلًا على ظهره، فيعطيها فقراءَ المدينة. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 49/ 104 - 105، 119 - 120. (¬2) فِي (ص): وروى أبو نعيم، عن جعفر بن محمَّد، عن أَبيه أنَّه قال، ولم أقف على الخبر فِي "الحلية" فِي ترجمته. (¬3) "تاريخ دمشق" 49/ 136، و"السير" 4/ 396. (¬4) فِي (ص): وروى أبو نعيم عن جعفر بن محمَّد عن أَبيه أَيضًا أنَّه قال، ولم أقف عليه فِي "الحلية" فِي ترجمته.

[قال ابن عائشة: ] فكان أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صَدقةَ السِّر حتَّى مات علي بن الحسين (¬1). [وروى ابن أبي الدّنيا عن سفيان قال: ] أراد علي بن الحسين الخروج فِي حجٍّ أو عُمرة، فاتَّخذت له سُكينة بنت الحُسين سُفرة أنفقت عليها ألفَ درهم أو نحوَها، وأرسلت بها إليه، فلما كان بظَهر الحَرَّةِ أمر بها فقُسمت على المساكين. وأتاه نَفَرٌ (¬2) من أهل العراق فقالوا: ما تقول فِي أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -؟ فقال: أخبروني، أنتم المهاجرون الأوَّلون {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إِلَى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}؟ قالوا: لا، قال: فأنتم الذين {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيهِمْ} إِلَى قوله: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}؟ قالوا: لا، قال: أمّا أنتم فقد أقررتم أنكم لستم من أحدٍ من هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين {جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الآية [الحشر: 8 - 10]، اخرجوا فعل الله بكم وصَنع. [وروى أبو نعيم، عن] نافع بن جُبَير أنَّه قال لعلي بن الحسين: أَنْتَ سيِّدُ النَّاس وأفضلُهم، تذهب إِلَى هذا العَبد فتجلسُ معه -يعني زيد بن أسلم؟ فقال: إنه ينبغي للعلم أن يُتْبَع حيث كان (¬3). وقال سعيد بن مَرْجَانة (¬4): أعتق علي بن الحسين عبدًا له قيمة، سمعني وأنا أروي حديثَ أبي هريرة فقال: هو حُرٌّ، والحديث أخرجاه فِي "الصحيحين"، ورواه الإِمام أَحْمد فِي "المسند" (¬5) فقال: حدثنا مكّي بن إبراهيم، ثنا عبد الله -يعني ابن سعيد بن أبي هِند- عن إسماعيل بن أبي حَكيم مولى آل الزُّبير، عن سعيد بن مَرْجانة أنَّه قال: سمعتُ ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 3/ 135 - 136، وما بين معكوفين من (ص). (¬2) فِي (خ) و (د): فقير، وهو تصحيف، وليس الخبر في (ص)، والمثبت من "حلية الأولياء" 3/ 137، و"تاريخ دمشق" 49/ 114، 115، و"المنتظم" 6/ 327، و"صفة الصفوة" 2/ 97 - 98. (¬3) "حلية الأولياء" 3/ 138. (¬4) هذا الخبر من (ص)، وجاء فِي (خ) و (د) مختصرًا، وهو فِي "صفة الصفوة" 2/ 97. (¬5) صحيح البخاري (6715)، وصحيح مسلم (1509)، ومسند أَحْمد (9441).

أَبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أعتق رَقَبةً مؤمنةً أعتق الله بكلِّ إرْبٍ منها إرْبًا منه من النَّار، حتَّى إنه ليُعْتِق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج". فقال علي بن الحسين لسعيد بن مَرْجانة: أَنْتَ سمعتَ هذا من أبي هريرة؟ قال: نعم، فقال لغُلامٍ له أَفْرَهِ غِلمانه: ادع لي مُطَرِّفًا -لغلامٍ لم يكن له مثلُه- فلما وقف بين يديه قال: اذهب فأنت حُرٌّ لوجه الله تعالى. متّفق عليه. قال عبد الله بن جعفر: وكان عليٌّ قد أُعطي فِي هذا الغلام أَلْف دينار، أو عشرة آلاف درهم. قلت: ولهذا الحديث استحبَّ العلماء أن يُعتق الذكرُ الذكرَ، والأنثى الأنثى. [وروى أبو نُعيم، عن صالح بن حسّان قال: ] قال رجلٌ لابن المسيّب: ما رأيتُ أحدًا أوْرَعَ من فلان، فقال ابن المسيّب: فهل رأيتَ علي بن الحسين؟ قال: لا، قال: ما رأيتُ أحدًا أوْرَعَ منه (¬1). [وروى ابن عائشة، عن أَبيه (¬2)، عن طاوس قال: ] رأيت علي بن الحسين ساجدًا فِي الحِجْر ويقول: عُبيدُك بفِنائك، مسكينُك بفِنائك، سائلُك بفِنائك، فقيرُك بفِنائك. قال طاوس: فوالله ما دعوتُ اللهَ بها فِي كَرْبٍ إلَّا وفَرَّجَ عني. وكان علي يصلي (¬3) فِي كل يوم وليلة أَلْف ركعة، ولا يُمكن أحدًا أن يستقيَ له ماءً لوضوئه، ولا يُعينَه عليه. وكانت الرّيحُ إذا هبَّت عاصفةً يسقط من الخوف مَغشيًّا عليه. [وروى ابن أبي الدُّنيا، عن عبد الغفّار بن القاسم قال: ] خرج علي من المسجد، فلقيَه رجل فسَبَّه، فثار إليه العبيد والموالي، فنهاهم علي وقال للرجل: ما ستر الله ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 3/ 141. (¬2) فِي (ص): عن عائشة، وهو خطأ، فإن ابن عائشة هو: عبيد الله بن محمَّد بن حفص بن عمر القرشي التيمي، المعروف بابن عائشة لأنه من ولد عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وهو يروي هذا الخبر عن أَبيه عن طاوس، انظر "مجالس ثعلب" 462، و"تاريخ دمشق" 49/ 107، و"المنتظم" 6/ 329. (¬3) فِي (ص): وقال أبو نعيم كان علي يصلي، ولم أقف عليه فِي "الحلية" فِي ترجمته، وهو فِي "تاريخ دمشق" 49/ 105 من طريق آخر.

عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجةٌ نُعينك عليها؟ فاستحيى الرَّجل، فألقى عليٌّ عليه خَميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرَّجل بعد ذلك إذا رآه يقول: أشهد أنك من أولاد المرسلين. [وروى ابن أبي الدنيا، عن رجل من أولاد عمار بن ياسر قال: ] كان عند علي بن الحسين قومٌ، فاستعجل خادمًا له بشِواء كان فِي التَّنُّور، فأقبل به الخادمُ مُسرعًا، فسقط السَّفُّود من يده على بُنَيٍّ صغيرٍ لعلي، فأصاب رأسه فقتله، فقال علي للغلام أو الخادم: أَنْتَ حُرٌّ؛ فإنك لم تَتَعَمَّدْه (¬1). [وروى أبو نعيم، عن عمرو بن دينار قال: ] دخل علي بن الحسين على محمَّد بن أسامة بن زيد فِي مرضه يعوده، فجعل محمَّد يبكي، فقال له علي: ما الذي يُبكيك؟ قال: عليَّ دَين، فقال علي بن الحسين: كم هو؟ قال: خمسة عشر أَلْف دينار، فقال عليٌّ: هو عليَّ (¬2). وقال أبو جعفر محمَّد بن عليّ: أوصاني أبي علي فقال: يَا بُنيّ، لا تصحَبَنَّ خمسةً ولا تُحادثهم ولا تُرافقهم فِي طريق، قلت: مَن هم؟ فقال: لا تصحبَنّ فاسقًا؛ فإنَّه يبيعُك بأَكْلَة فما دونها، ولا تصحبَنّ بَخيلًا؛ فإنَّه يقطع عنك ماله أحوجَ ما كنتَ إليه، ولا تصحبَنَّ كذّابًا؛ فإنَّه بمنْرلة السَّراب، يُبعد منك القريب، ويُقَرّب منك البعيد، ولا تصحبنَّ أحمق؛ فإنَّه يريد أن يَنفعك فيَضُرَّك، ولا تصحبَنّ قاطعَ رَحِمٍ؛ فإنِّي وجدتُه مَلعونًا فِي كتاب الله فِي ثلاثة مواضع (¬3). [وقال أبو نعيم بإسناده إِلَى ابن عائشة، عن أَبيه قال: ] حجَّ هشام بنُ عبد الملك قبل أن يَليَ الخلافة [فاجتهد أن يَستلم الحَجَر فلم يُمْكنه، وجاء علي بن الحسين فوقف له النَّاس، فتنَحَّوا حتَّى استلم (¬4). ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 49/ 119، 120، وما بين معكوفين من (ص). (¬2) "حلية الأولياء" 3/ 141 أو ما بين معكوفين من (ص). (¬3) "تاريخ دمشق" 49/ 135. (¬4) "حلية الأولياء" 3/ 136 وما بين معكوفين من (ص).

وذكر الموفق طَرفًا من ذلك فقال: حجّ هشام] فأراد أن يستلم الحَجَر فلم يقدر عليه من الزّحام، فنُصب له مِنبَرٌ فجلس عليه، وطاف به أهلُ الشَّام، فبينا هو كذلك أقبل عليُّ بن الحسين -وكان أحسنَ النَّاس وَجْهًا، وأطيبَهم ريحًا- فطاف بالبيت، فكان إذا بلغ الحَجَر تنحَّى النَّاسُ عنه حتَّى يَستَلِمَه هيبةً له وإجلالًا، فغاظ ذلك هشامًا، وقال رجل من أهل الشَّام: مَن هذا الذي قد هابه النَّاس هذه الهَيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه -مخافةَ أن يرغَبَ فيه أهلُ الشَّام- فقال الفرزدق: ولكنّي أعرفُه، فقال الشَّاميّ: من هو يَا أَبا فراس؟ فاندفع الفرزدق يقول وأنشد (¬1): [من البسيط] هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللهِ كُلّهمُ ... هذا التَّقيُّ النَّقيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ (¬2) هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وَطْأَتَهُ ... والبيتُ يَعرِفُه والحِلُّ والحَرَمُ يكاد يُمسِكُه عِرفانَ راحَتِهِ ... رُكْنُ الحَطيمِ إذا ما جاء يَستلمُ إذا رأتْه قريشٌ قال قائلُها ... إِلَى مكارمِ هذا ينتهي الكَرَمُ إن عُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمَّتَهم ... أو قيل مَن خيرُ أهلِ الأرضِ قيل همُ هذا ابنُ فاطمةٍ إن كُنتَ جاهِلَهُ ... بجدِّه أنبياءُ الله قد خُتِموا وليس قولُك مَن هذا بضائِرِه ... العُرْبُ تَعرفُ ما أنكرتَ والعَجَمُ يُغضي حَياءً ويُغْضَى من مَهابتِهِ ... فلا يُكلَّمُ إلاحين يَبْتَسِمُ يَنمي إِلَى ذِرْوَةِ العِزِّ التي قَصُرَتْ ... عن نَيلها أمَّةُ (¬3) الإِسلامِ والعَجَمُ مَن جَدُّه دانَ فَضْلُ الأنبياءِ ... له وفَضْلُ أُمَّتِه دانتْ لها الأُمَمُ يَنشَقُّ نورُ الهُدى عن صُبْحِ غُرَّتِهِ ... كالشَّمسِ تَنجابُ عن إشراقِها الظُّلَمُ ¬

_ (¬1) بعدها فِي (ص): الأبيات الثمانية وقال فيه مدح كثير (كذا)، قال هشام بن الكلبي فلما سمع هشام بن عبد الملك. والمثبت من (خ) و (د). (¬2) جاء هذا البيت فِي المصادر بعد البيت الذي يليه، والأبيات ليست فِي (ص)، وينظر "التبيين" لابن قدامة 131، وقد روى ثلاثة عشر بيتًا من القصيدة، و"تاريخ دمشق" 49/ 126 - 128 وفيه القصيدة كاملة. وفي ترتيب الأبيات هنا اختلاف عما فِي المصادر. هذا وقد ذكر هذا الخبر كل الذين ترجموا لعلي بن الحسين - رضي الله عنه - وعن آبائه، وانظر الخلاف فِي نسبة الأبيات فِي "الأغاني" 15/ 325. (¬3) فِي "تاريخ دمشق"، و"المنتظم" 6/ 331: عَرَبُ.

مُشْتَقَّةٌ من رسول الله نَبْعَتُهُ ... طابَتْ عَناصِرُه والخِيمُ والشِّيَمُ اللهُ شرَّفه قِدْمًا وفَضَّله ... جَرى بذاك له فِي لَوْحِه القَلَمُ كِلتا يدَيه غِياثٌ عَمَّ نَفْعُهُما ... يَسْتَوكِفَانِ ولا يَعْرُوهما (¬1) العَدَمُ سَهْلُ الخَليقَةِ لا تُخْشى بَوادِرُه ... يَزِينُه اثْنَتانِ الحِلْمُ والكَرَمُ (¬2) حَمَّالُ أثقالِ قَومٍ إذ هُمُ فُدِحُوا ... رَحْبُ الفِناءِ أَريبٌ حين يَعْتَزِمُ أيُّ البَرِيَّةِ ليستْ فِي رِقابهمُ ... لأوَّليَّةِ هذا أو له نِعَمُ عمَّ البَريَّةَ بالإحسانِ فانْقَشَعَتْ ... عنه الغَيايَةُ لا هِرْقٌ ولا كَهَمُ (¬3) من مَعْشَرٍ حُبُّهم دينٌ وبُغْضُهُمُ ... كُفْرٌ وقُرْبُهمُ مَنْجًى ومُعْتَصَمُ لا يَستطيعُ جَوادٌ بُعْدَ غايَتهم ... ولا يُدانِيهِمُ قَومٌ وإن كَرُموا همُ الغُيوثُ إذا ما أَزْمَةٌ أَزِمَتْ ... والأُسْدُ أُسْدُ الشَّرَى والبَأْسُ مُحْتَدِمُ لا يَنْقُصُ العُسْرُ بَسْطًا من أكُفِّهمُ ... سِيَّانَ ذلك إن أَثْرَوْا وإن عَدِموا يُستَدفَعُ السُّوءُ والبَلوى بحُبِّهمُ ... ويُسْتَرَبُّ به الإحسانُ والنِّعَمُ مُقَدَّمٌ بعد ذِكرِ اللهِ ذِكرُهُمُ ... فِي كلِّ فَصْلٍ (¬4) ومَخْتُومٌ به الكَلِمُ يأبى لهم أن يَحُلَّ الذَّمُّ ساحَتَهم ... خِيمٌ كريمٌ وأَيدٍ بالنَّدى هُضُمُ فِي كفِّه خَيزُرانٌ ريحُه عَبِقٌ ... من كفِّ أرْوَعَ فِي عِرْنينِه شَمَمُ (¬5) لا يُخلِفُ الوَعْدَ مَيمونٌ نَقِيبَتُه ... حُلْوُ الشَّمائلِ تَحْلُو عنده نَعَمُ فلما سمع ذلك هشام غضب، وانقلبَتْ حَولتُه، وأمر بحبس الفرزدق، فحُبِس بمنزلٍ يقال له: عُسْفَان بين مكة والمدينة، فهجا الفرزدقُ هشامًا فقال: [من الطَّويل] أيَحبِسُني بين المدينةِ والتي ... إليها قلوبُ الناسِ يَهوي مُنيبُها ¬

_ (¬1) فِي النسختين: عم ناملها ... لا يغروهما. والمثبت من "تاريخ دمشق" و "المنتظم". (¬2) فِي النسختين: بريبه اثنيان الخلق والكظم؟ ! (¬3) فِي المصادر: عنه (عنها) الغياية والإملاق والعدم (أو الظلم)، والغَيايةُ: كلُّ ما أظلَّك، كالسحابة، والهرق بكسر الهاء وتسكين الراء الثوب البالي الخَلَق، ورجل كهام بفتحتين: كليل بطيء مسنّ لا غناء عنده. (¬4) فِي "الأغاني" 21/ 377، و "المنتظم": فِي كل بدء. وقوله: يسترب: يستزاد. (¬5) هذا البيت فِي المصادر عقب: يغضي حياء. قوله: خيم: أصل، هضم: كثيرة الإنفاق. الأروع: الذي يروعك حسنه وشجاعته. العرنين: الأنف. الشمم: ارتفاع قصبة الأنف مع حسنها واستوائها.

يُقلِّبُ رأسًا لم يكن رأسَ سَيِّدٍ ... وعَينًا له حَولاءَ بادٍ عُيوبُها وبعث إليه زين العابدين بألف دينار وقال: اعذرني يَا أَبا فراس، فلو كان عندي أكثر منها لوصلتُك، فردّها وقال: والله ما قلتُ ما قلتُ لهذا؛ بل غضبًا لله ولرسوله، فلا آخذُ عليه أجرًا، فقال علي: نحن أهل بيت لا يعودُ إلينا ما خرج منا، فبحقِّي عليك إلَّا قبلتَها؛ فقد رأى الله مَقامَك. وعرف رسوله، فقبلها. [ويقال: إن زين العابدين شفع إِلَى هشام فأطلقه. وحكى ابن حَمدون فِي "التَّذكرة" عن] الزهري قال: حمل عبد الملك بن مروان عليّ بنَ الحسين من المدينة إِلَى الشَّام مُقَيَّدًا مُكَبَّلًا، قال الزهري: فدخلتُ عليه لأُودِّعَه والغُلُّ فِي يديه، والقُيودُ فِي رجلَيه، فبكيتُ -وكان فِي قُبَّة- وقلتُ له: وَدِدتُ والله أني مكانَك وأنت سالم، فقال: لو شئتُ لما كان هذا، ثم تحرَّك فوقع الغلُّ من يديه، والقَيد من رجليه، ثم قال: وإنه ليُذَكّرني هذا عذابَ الله، والله لا سِرتُ معهم ليلتين على هذا، فلما كان بعد أربعة أيام وإذا بالموكَّلِين قد عادوا، فسُئلوا عن عَودهم فقالوا: رَصَدْناه ليلةً إِلَى الفجر ثم فقدناه، فلا ندري ما أصابه. قال الزُّهري: فدخلتُ بعد ذلك على عبد الملك، فسألني عنه فحدَّثتُه الحديث، فقال: والله لقد جاءني يوم فَقَدَه الأعوان، فدخل عليّ فقال: ما أنا وأنت؟ ! قلت: أقِم عندي، قال: ما أُحبُّ ذلك، ثم خرج عني وقد مُلئتُ منه خِيفَةً (¬1). قال الزهريّ: دخلتُ ليلةً مسجدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتَ السَّحَر، وإذا بشخصٍ ساجدٍ فِي جانب الرَّوضة، وهو يقول فِي سجوده: إلهنا وسيّدنا ومولانا، لو بَكينا حتَّى تَسقُطَ أشفارُنا، وانتَحَبْنا حتَّى تنقطعَ أصواتُنا، وقُمنا حتَّى تَيبَسَ أقدامُنا، وركعنا حتَّى تَنخَلِعَ أوصالُنا، وسجدنا حتَّى تَتَفَقَّأ أحداقُنا، وأكلنا تُرابَ الأرض طُولَ أعمارِنا، وذكرناك حتَّى تَجِفَّ ألسنتُنا؛ ما استوجبنا بذلك مَحْوَ سيِّئةٍ من سيّئاتنا، قال: فبكيتُ لتَضَرُّعِه وحُسنِ عبارته، فلم يزل كذلك إِلَى وقت الأذان، فلما أذَّن المؤذن رفع رأسه، وإذا به زين العابدين. ¬

_ (¬1) تذكرة ابن حمدوان 1/ 109، وأخرجه أبو نعيم فِي "الحلية" 3/ 135، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 49/ 99 - 100.

ذكر وفاته واختلافهم فيها (¬1): قال ابن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فَروَة قال: مات علي بن الحسين بالمدينة، ودُفن بالبَاتيع سنةَ أربعٍ وتسعين، وكان يقال لها: سنة الفُقهاء؛ لكثرةِ من مات منهم فيها. وقيل: سنة اثنتين وتسعين. وقال ابن سعد بإسناده إلى جعفر بن محمد قال: مات علي بن الحسين وهو ابن ثمانٍ وخمسين سنة. وقيل: سبعًا وخمسين سنة. وحكى ابن سعد، عن الواقديّ، عن أبي مَعشَر، عن المَقْبُريّ: أن سعيد بن المسيّب لم يشهد جَنازة علي بن الحسين قال: لما وُضع عليّ بنُ الحسين ليُصَلّى عليه اندفع الناس إليه وأهلُ المسجد ليَشهدوه، وبقي ابن المسيب وحده، فقيل له في ذلك: يا أبا محمد، ألا تشهد جنازة هذا الرجلِ الصَّالح؟ ! فقال: أصلى ركعتين في المسجد أحبُّ إليَ من أن أشهدَه وأصلى عليه (¬2). وقال الزهريّ: وقد كان ابن المسيب يَعترف بفضْلِ علي بن الحسين ويقول: ما رأيتُ أورَعَ منه. ولعلّه إنما امتنع من الصلاة عليه لأن عُثمان بن حَيَّان المُري كان واليًا على المدينة، وكان ظالمًا مُتَعدِّيًا، فلعله امتنع من الصلاة عليه خلفه لهذا السبب، أو لعُذرٍ آخر. قال الواقدي: وعلي أولُ مَن مات من الفقهاء في هذه السنة، ثم تتابع الفقهاء بعده (¬3). ذكر أولاده: كان له من الأولاد: الحسن، درج. والحسين الأكبر، درج. ومحمد، وهو أبو جَعفر الفقيه، وعبد الله، وأمُّهم أمُّ عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب. وعُمر، وزيد ¬

_ (¬1) جاءت أخبار وفاته في (خ) و (د) مختصرة، والمثبت من (ص). (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 218 - 219. (¬3) بهذا تنتهي ترجمته في (ص)، ثم تأتي فيها ترجمة أبي بكر بن عبد الرحمن. والمثبت من (خ) و (د).

أبو بكر بن عبد الرحمن

المقتول بالكوفة في خلافة هشام، قتله يوسف بن عمر الثقفي وصَلَبه. وعلي بن علي، وأم موسى، وخديجة، وأمهم أمُّ ولد. وحُسَين الأصغر، وأم علي و [هي] عُلَية، وأمهما أم ولد. وكَلْثم، وسُلَيمان لا عقب له، ومُلَيكة، لأفَهات أولاد شتّى. والقاسم، وأم الحَسَن -وهي حَسنة- وأم الحسين، وفاطمة، لأمهات أولاد شتى (¬1). والنَّسْلُ لمحمد الباقِر، ونذكره في سنة سبع عشرة ومئة. وأما زيد فنذكره سنة عشرين ومئة. وأما علي بن علي فكان يُلقَّب بالأَفْطَس، وله عَقِب. وحسين بن علي الأصغر، وكان له أولاد: عبد الله، [وعبيد الله] الأعرج، وعلي، وهُشَيمَة، وأمهم أم خالد بنت حمزة بن مُصعب بن الزبير، ومحمد لأم ولد. وكان حسين هذا أصغر ولد أبيه زين العابدين. وأما أم موسى بنت زين العابدين فتزوّجها داود بن علي بن عبد الله بن عباس، وتزوّج بعدها أختَها أمّ الحسن. وتزوّج أختها خديجة محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (¬2). أسند زين العابدين الحديث عن أبيه، وعمِّه الحسن، وابن عباس، وجابر، وأنس، وأبي سعيد الخدري، والمِسْوَر بن مَخْرَمَة، وعائشة، وصَفيَّة، وأم سَلَمة، في آخَرين. وروى أيضًا عن سعيد بن المسيّب، وعمرو بن عثمان، وخلقٍ كثير. وروى عنه الزُّهري، وزيد بن أَسْلم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وحَكيم بن جُبَير، وعبد الله بن مُسلم بن هُزمُر، ومحمد الباقر، في آخرين. [فصل: وفيها توفي] أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مَخزوم المَخزوميّ، وأمُّه فاخِتة بنت عِنبَة بن سُهيل بن عمرو. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 209 وما بين معكوفين منه. (¬2) "المعارف" 214 - 215، و "طبقات ابن سعد" 7/ 321 وما بين معكوفين منه.

وأبو بكر من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، من الفقهاء السبعة. [قال ابن سعد: ] كان ثقةً، كثيرَ الحديث، فقيهًا، عالمًا، عاقلًا، عاليًا، رفيعًا، سخيًّا. [وحكى ابن سعد، عن الواقديّ قال: ] وُلد أبو بكر في خلافة عمر بن الخطاب، وكان يقال له: راهب قريش؛ لكثرة صلاته وفضله، وكُنيته اسمُه. [قال: واستُصغر يوم الجَمل هو وعُروة بن الزُّبير فرُدَّا (¬1). وقال هشام: وأبوه عبد الرحمن تُوفّي بطاعون عَمَواس (¬2)، ولما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لأبيه عبد الرحمن عشر سنين. وقد ذكرناه. قاله: وأبو بكر بن عبد الرحمن هو الذي كانت عائشة - رضي الله عنها - تقول: ] وَددتُ أني كان في عشرة من الولد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كلُّ واحد مثل أبي بكر بن عبد الرحمن (¬3)، كنتُ ثَكِلْتُهم ولا خرجتُ مَخرجي إلى البصرة. [قال: وأمُّ أبي بكر -وهي فاخِتَة (¬4) بنت عِنَبة- تزوّجها عبد الرحمن، وهي التي قال فيها عمر بن الخطاب: زَوِّجوا الشَّريدَ الشَّرِيدَةَ؛ وذلك لأن الحارث بن هشام وسُهيل بن عَمرو خرجا إلى الشام بأهلهما، فماتوا كلهم، ولم يرجع إلا عبد الرحمن وفاختة، فلذلك قال عمر: زَوّجوا الشَّريد الشَّريدة، فزوّجها بعبد الرحمن، وأقطعهما عمر خُطَّةً بالمدينة، وأوسع لهما، فقيل له: أكثرتَ، فقال: عسى الله أن يَنْشُرَ منهما ولدًا كثيرًا رجالًا ونساء، فوُلد لهما: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعكرمة، وخالد، ومحمد. والحارث بن هشام هو أخو أبي جَهْل بن هشام شهد بدرًا مع المشركين وانهزم.] ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 206 وما بين معكوفين من (ص). (¬2) كذا نقل المصنف عن هشام، والذي في "طبقات ابن سعد" 7/ 6، و"المعارف" 282، و"التبيين" 358 أن المتوفى بطاعون عمواس: الحارث بن هشام، أبو عبد الرحمن. (¬3) كذا وقع، والكلام في طبقات ابن سعد 7/ 6 في أبيه عبد الرحمن. وما بين معكوفين من (ص). (¬4) في (ص) والكلام منها: فاطمة، وهو خطأ. وانظر "نسب قريش" 303، و"المعارف" 282، و"التبيين" 358 - 359.

وكان لعبد الرحمن أولاد، وكان له خمسةَ عشر بنتًا نوافِق، مرغوبٌ فيهنّ، وفيهن يقول ابن هرمة: [من الطويل] فمَن لم يُرِدْ مَدحي فإن قَصائدي ... نَوافِقُ عند الأكْرَمِينَ سَوام نَوافقُ عند المُشْتَري الحمدَ بالنَّدى ... نِفاقَ بناتِ الحارثِ بنِ هِشامِ (¬1) وكان أبو بكر سَيِّدَ ولد عبد الرحمن [قال ابن سعد، عن الواقديّ قال: ] كان عبد الملك بن مروان مُكرِمًا لأبي بكر، مُجِلًّا له، وأوصى الوليدَ وسليمان بإكرامه، وكان يقول: إني لَأَهُمُّ بالشيء أفعلُه بأهل المدينة لسوء أثرِهم عندنا، فأذكر أبا بكر بن عبد الرحمن فأستحي منه، فأدَعُ ذلك الأمر. [وروى ابن سعد، عن عثمان بن محمد قال: ] استودع عُروة (¬2) أبا بكر مالًا، فأُصيب ذلك المال، فأرسل إليه عُروة بن الزبير: لا ضَمانَ عليك، إنما أنت مُؤْتَمَن، فقال: قد علمتُ ذلك، ولكن لا تتحدَّث قريش أن أمانتي خَرِبت، فباع مالًا وقضاه. [وقال الموفَّق: ] زوَّج المغيرةُ بن عبد الرحمن أخو أبي بكر بن هشام (¬3) ابنتَه الحجاج ابنَ يوسف الثقفي، وخَرَقَ له خَوْخَةً من خلْفِ داره يدخل الحجاج منها، فهجره بنو عبد الرحمن كلهم حيث هجره أبو بكر. ووفد أبو بكر على عبد الملك بن مروان (¬4)، فأجلسه معه على سريره، وأقطعه أموال [بني] طلحة بن عُبيد الله، وكان قد سخِط على بعضهم، فلما عاد أبو بكر إلى المدينة أتاه بنو طلحة مسلِّمين عليه، فقال لهم: إن الله قد ردَّ عليكم أموالكم، وما قبلتُها إلا مخافةَ أن تصيرَ إلى غيري، ابعثوا مَن يَقبِضُها، فقال له بنوه: هلا تركتَ القوم حتى يسألوك، فقال: فماذا أبقيتُ عليهم بعد بَذْلِ وجوههم. ¬

_ (¬1) "التبيين" 359 - 360. (¬2) قوله: عروة؛ من "طبقات ابن سعد" 7/ 206 والخبر السالف فيه 207، وما بين معكوفين من (ص). (¬3) يعني أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام صاحب الترجمة، وينظر "التبيين" 361. (¬4) كذا في النسخ، وفي "تاريخ دمشق" 28/ 150 - (المختصر) وما سيرد بين معكوفين منه- أنه وفد على الوليد بن عبد الملك، قال ابن عساكر: وأنا أستبعد ذلك -يعني وفادته- لأنه كان ضرير البصر، والمحفوظ أن دخوله عليه كان بالمدينة عام حج الوليد بعدما استخلف.

[وقال الزبير بن بكار: وكان يُقال له: راهب المدينة، قال: ] وذهب بَصَرُه في آخر عمره (¬1). ذكر وفاته: [حكى ابن سعد، عن الواقدي قال: حدثني عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فَروَة قال: دخل أبو بكر بن عبد الرحمن مُغْتَسَله، فمات فيه فجأة. وقال الواقدي أيضًا: حدثني عبد الله بن جعفر قال: ] صلّى أبو بكر العصر، ودخل مُغْتَسَلَه فسقط، فجعل يقول: والله ما أحدثْتُ في صدر نهاري هذا شيئًا، قال: فما علمتُ غربت الشمس حتى مات، وذلك في سنة أربع وتسعين، [وقال الواقدي: وهي سَنَة الفقهاء] (¬2). وقيل: إنه مات في سنة ثلاث وتسعين، أو خمس وتسمعين، والأول أظهر، والله أعلم (¬3). ذكر أولاده: فولد: عبدَ الرحمن لا بقيَّةَ له، وعبد الله، وعبد الملك، وهشامًا، وسهيلًا، لا بقية لهم. والحارث، ومريم، وأمهم سارة بنت هشام بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ، وأبا سلمة لا بقية له، وعمر، وأم عمرو -وهي ربيحة- وأمهم قَريبة بنت عبد الله بن زَمْعَة بن الأسود، وأمُّها زينب بنت أبي سَلَمة، وأمها أمُّ سَلَمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفاطمة، وأمُّها رُمَيثَة بنت الوليد بن طَلَبة بن قيس بن عاصم المِنْقَرِيّ (¬4). وكان لعمر بن أبي بكر ولدٌ يقال له: عيسى، كان جوادًا، وفيه يقول أبو الأبيض: [من الرمل] كان ممّا زانَني ربِّي به طَيِّبُ ... الأثوابِ عيسى بنُ عمر ¬

_ (¬1) "نسب قريش" 303 وما بين معكوفين من (ص). (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 206. (¬3) انظر "مختصر تاريخ دمشق " 28/ 155 - 156 وما بين معكوفات من (ص)، وتنتهي فيها ترجمة أبي بكر. (¬4) "طبقات ابن سعد" 7/ 205.

السنة الخامسة والتسعون

حَسَنُ الوَجْهِ كريم ماجدٌ ... سَبِطُ الكفَينِ وهابُ الغُرَر إنّ عيسى لا رَأينا فَقْدَه ... أعلمُ الناسِ بدينِ قد ظَهر (¬1) ذكر إخوة أبي بكر بن عبد الرحمن: كان له إخوة من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، منهم: عكرمة بن عبد الرحمن، وأمه فاخِتة أيضًا، وكُنيته أبو عبد الله، وكان ثقةً، قليلَ الحديث. ومنهم: محمد بن عبد الرحمن، وأمّه فاخِتة أيضًا، روى عنه الزُّهري، وكان ثقةَ، قليلَ الحديث. ومنهم: المُغيرة بن عبد الرحمن، وأمه سُعدَى بنت عَوف بن خارِجة، من بني مُرَّة، وكنيته أبو هاشم، خرج إلى الشام غازيًا غير مرة، وكان في جيش مسلمة بن عبد الملك الذين احتبسوا بارض الروم؛ حتى أقفلهم عمر بن عبد العزيز، وذهبت عينُه، ثم رجع إلى المدينة (¬2) فمات بها، وأوصى أن يُدفَن بأحُد مع الشُهداء، فلم يفعل أهلُه، ودفنوه بالبقيع، وكان ثقةً، قليلَ الحديث. أسند أبو بكر بن عبد الرحمن عن أبي مسعود الأنصاري، وأبي هريرة، وأبيه عبد الرحمن، وعائشة، وأم سلمة، وأسماء بنت عُمَيْس، وأم مَعقِل الأَسَديّة، وغيرهم. وروى عنه ابناه عبد الله وعبد الملك، والزهري، والشَّعبيّ، وعمرو بن دِينار، وعُمر بن عبد العزيز، ومُجاهد، وعِراك بن مالك، والحكم بن عُتَيبَة، في آخرين. السنة الخامسة والتسعون فيها مات الحجَّاج بن يوسف. [وقال الطّبري: ] وفيها وُلد أبو جعفر المنصور. وفيها فتح العبّاس بن الوليد طُولس، والمَرزُبانين، وهِرَقْلَة بأرض الروم. ¬

_ (¬1) "التبيين" 361. (¬2) في (خ) و (د): بالشام، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 8/ 207، وانظر "التبيين" 361 - 363.

وفيها غزا قُتيبة بن مُسْلم أرض الشَّاش، وقطع النَّهر، وبلغ الشّاش فجاءه خبر الحجاج، ونُعي إليه في شوال فحزن عليه، ورجع إلى مَرْو بعد أن فَرَّق الجيوش في بُخارى ونَسَف وغيرها، وتمثّل: [من الطويل] لعَمري لنِعْمَ المرءُ من آل جَعفرٍ ... بحَورانَ أمسى أعلَقَتْه الحَبائلُ فإن تحْيَ لا أمْلَل حياتي وإن تَمُتْ ... فما في حياةٍ بعد موتِك طائِلُ وأقام بمَروَ حزينًا، فبينما هو كذلك جاءه كتاب الوليد بن عبد الملك يقول: قد عرف أمير المؤمنين بَلاءَك وجِدّك واجتهادك وجِهادك لأعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعُك، وصانعٌ بك ما تحبّ، فالْمُمْ مغازيك، وانتظر ثوابَ ربّك، ولا تتأخّر عنه كتبُك كأنه ينظر إلى ما أنت فيه، والسلام. [فصل: ] وفيها قفل موسى بن نُصَير من الأندلس إلى إفريقية. وفيها أخرج الوليد بنُ عبد الملك علي بنَ عبد الله بن العبّاس من دمشق إلى الحمَّة، فأقام بها هو وولده، ويقال: إن أبا جعفر وُلد بالحمَّة، وقيل: بدمشق. وقال ابن قتيبة: ضربه الوليد سبعين سَوطًا، وأخرجه إلى الحَمَّة؛ لأنه اتَّهمه بأنه قتل سَليطًا المنتسب إلى أبيه عبد الله بن عباس (¬1)، وسنذكره. ووُلد لعلي بالحَمّة نيِّفٌ وعشرون ولدًا، ولم يزالوا بها حتى زال ملك بني أمية لما نذكر. وحجّ بالناس في هذه السنة بشر بن الوليد بن عبد الملك بالاتفاق. وكان على خراسان قتيبة، وعلى الكوفة والبصرة على الحرب يزيد بن أبي كَبْشة، وعلى خراجها يزيد بن أبي مُسلم، استخلفهما الحجاج لما احتُضر، فأقرّهما الوليد. وقيل: إنما ولّى الحجاج ابنه عبد الله على الصّلاة. وكان على المدينة عُثمان بن حَيَّان المري، وعلى مصر قُرَّة بن شريك (¬2). ¬

_ (¬1) "المعارف" 124. (¬2) "تاريخ الطبري" 6/ 492 - 494.

جعفر بن عمرو

وفيها توفي جَعفر بن عمرو ابن أُميَّة بن خُوَيلِد بن عبد الله الضَّمرِيّ. من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة. وكان أخا عبد الملك من الرَّضاعة، فوفد عليه في خلافته، فجلس في مسجد دمشق وأهل الشام يُعرَضون على ديوانهم، وتلك اليَمانيَةُ حوله يقولون: الطّاعة الطاعة، فقال جعفر: لا طاعةَ إلا لله، فوثبوا عليه وقالوا: تُوهِنُ طاعة أمير المؤمنين؟ حتى ركبوا الأسطوان عليه، فما أفلت إلا بعد جهد، وبلغ عبد الملك فأرسل إليه، فأُدخل عليه فقال: أرأيتَ هذا من عملك؟ أما والله لو قتلوك ما كان عندي فيك شيء، ما دخولك في أمر لا يَعنيك؟ ترى قومًا يَشُدُّون مُلكي وطاعتي فتجيءُ فتُوهِنُه، إيّاك إياك. مات جعفر بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك، وقد روى عن أبيه، وروى عنه الزُّهري، وكان ثقة وله أحاديث. وقال الإمام أحمد رحمه الله: جعفر بن عمرو بن أُمَيَّة الضّمرِي تابعي ثقة، وله أحاديث. وأخوه الزِّبرقان بن عمرو رَوَى عنه أيضًا (¬1). [وفيها مات] الحجَّاج بن يوسف ابن الحَكَم بن أبي عَقيل بن مسعود بن عامر بن مُعَتِّب -من الأَحْلاف- بن مالك بن كعب بن عمرو بن سَعد بن عَوف بن ثَقيف، واسمه قَيس بن مُنَبِّه بن بَكْر بن هوازن، أبو محمد الثَّقفيّ. وقال الشعبي: كان بينه ويبن الجُلَنْدَى الذي ذكره الله تعالى في كتابه في قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] سبعون جَدًّا. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 243 - 244، و"مختصر تاريخ دمشق" 6/ 76، و"تهذيب الكمال" 5/ 67.

وقيل: كان من ولد عبد من عبيد الطائف لبني ثقيف من ولد أبي رِغال دليلِ أبرهةَ إلى الكعبة (¬1). [وقال في "الصّحاح": ] كان الحجاج مُكْتِبًا بالطّائف، أي: مُعَلّمًا للصبيان. [وذكر المبرّد في "الكامل" ما يدلُّ على قول الجوهوي: إنه كان معلّمًا بالطائف، فقال: كان الحجات وأخوه معلِّمَين بالطائف] وفيه يقول مالك بن الرَّيبِ المازِنيّ -وقيل هي للفَرَزْدَق: [من الطويل] إن تُنصِفونا آلَ مروانَ نقتربْ ... إليكم وإلا فأذَنوا ببِعادِ فإن لنا عنكم مَزَاحًا ومَذْهبًا ... بعِيْسٍ إلى ريح الفَلاةِ صَوادي ففي الأرض عن ذيَ الجَوْرِ مَنأى ومَذْهبٌ ... وكلُّ بلادٍ أُوطِنَتْ كبلادي فماذا عسى الحجاجُ يَبْلُغ جُهدُه ... إذا نحن خلَّفنا حَفيرَ زيادِ فبِاسْتِ أبي الحجَّاج واسْتِ عجوزة ... عُتَيِّدُ بَهْمٍ ترْتَعي بوهادِ فلولا بنو مروانَ كان ابنُ يوسف ... كما كان عَبْدًا مَن عبيدِ إيادِ زمانَ هو أنْ عبدُ المُقِرُّ بذِلَّةٍ ... يُراوِحُ صِبيانَ القُرى ويغادي (¬2) وكان الحجَّاج يُلقَّبُ كُلَيبًا، وفيه يقول الشاعر: [من المتقارب] أيَنسى كُلَيبٌ زمانَ الهُزالِ ... وتَعليمه سورةَ الكَوثَرِ رَغيفٌ له فَلْكَةٌ ما تُرى ... وآخرُ كالقمر الأزْهرِ أشار إلى خُبز المعلمين؛ فإنه مختلف في الصِّغَر والكبر، والجَودة والرَّداءة، والمكسور والصّحيح؛ لأنه يجيء من بيوت الصبيان. وقال آخر: [من المتقارب] كليب تمكن من أرضنا ... وقد كان فيها صغير الخطر (¬3) ¬

_ (¬1) هذا القول وسابقه من (خ) و (د) وليسا في (ص)، وكان فيهما: كان عبيدًا من عبيد الطائف، وما أثبتناه من النجوم الزاهرة 1/ 230 فقد ذكر القولين. (¬2) قوله: مزاحًا هو من زاح يزيح إذا ذهب، والعيس: الإبل البيض ألفت المفاوز، صوادي: عطشى، عُتَيد: تصغير عتود؛ ما رعى وقوي من أولاد الغنم، والبهم: صغار أولاد الغنم. (¬3) "الصحاح" (كتب) 1/ 209، و"المعارف" 548، و"الكامل" 630 - 631، وشرح المرزوقي للحماسة 2/ 676.

[أوقال ابن قتيبة: ] لما احتُضر الحجاج قال للمُنَجِّم: هل ترى مَلِكًا يموت؟ قال: نعم ولستَ به، ذاك اسمُه كُلَيب، فقال: أنا والله إياه؛ كانت أمّي تسمّيني كُلَيبًا (¬1). وقال أبو الفرج الأصبهاني: ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على منبر الكوفة ثقيفًا وقال: لقد هممتُ أن أضعَ عليها الجِزية؛ وذلك لأن ثقيفًا كان عبدًا لصالح نبي الله، وأنه سَرَّحه إلى عاملٍ له على الصَّدقة، فأخذها وهرب إلى الطائف فاستوطنه، وإني أُشهدكم أني رَدَدتُهم في الرّقّ. وروى [عكرمة] عن ابن عباس: أن ثقيفًا كان عبدًا لامرأة صالح [واسمه قيس بن مُنَبّه] واسم مَولاته الهيجمانة بنت سعد، فوهبته لصالح، فبعثه إلى عامل له ليأتيه بصدقة، فمرَّ برجلٍ معه غَنَم، وله ابنُ صغير قد ماتت أمُّه، وهو يَرضع من شاة ليس في الغنم لَبُون غيرها، فأخذ الشاة، فناشده الله فأبى، فأعطاه عشرَ شِياه عِوضها فأبى، فأعطاه جميعَ غنمه فأبى، فرماه الرجل بسهم فقتهله، وأتى صالحًا فأخبره فقال: أبعده الله، وأمر بقَبره فرُجِم، ويقال: إنه أبو رغال من ولد ثَقيف. [وقال أبو الفرج الأصفهاني: ] خطب الحجاج بالعراق وقال: بلغني أنكم تقولون: إن ثَقيفًا بقيَّةُ ثَمود، وهل نجا من ثمود إلا خيارُهم، ومَن آمن بصالح بقي معه، أليس الله يقول: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)} [النجم: 51]؟ وبلغ الحسن البصري فتضاحك وقال: حكم اللُّكَعُ لنفسه، وليس الأمر كما قال؛ لأن معنى قوله تعالى: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} أي: أهلكهم، وبلغ الحجاج فتوارى حتى مات الحجاج. وكان يوسف أبو الحجاج رجلًا عاقلًا، وكان يَذُمُّ الحجاج، ويُقَبِّح أفعاله في صغره وقبل ولايته. ذكر مولد الحجاج [وما يتعلق به: واختلفوا فيه، فذكر أبو القاسم بن عساكر (¬2) رحمه الله أنه] وُلد في سنة تسع وثلاثين، وقيل: سنة أربعين، أو إحدى وأربعين، أو اثنتين وأربعين. ¬

_ (¬1) "المعارف" 397، وما بين معكوفين من (ص). (¬2) في تاريخه 4/ 209 (مخطوط). وما بين معكوفات من (ص).

[واتفقوا على أنه وُلد] بمصر؛ [فذكر أبو سعيد بن يونس في "تاريخ مصر" وقال: أقام يوسف أبو الحجاج بمصر، واختطَّ بها في السَّرَّاجين مع ثقيف، وكان قد قدم إليها قديمًا، ووُلد بها الحجاج] والغُرفة التي وُلد بها معروفة بدَرْب السَّرَّاجين، ثم خرج به أبوه يوسف مع مروان إلى الشام والحجاج صغير. [قال: وكان أبو الحجاج يوسف فاضلًا من خيار المسلمين (¬1).] وأمُّ الحجاج الفارعة بنت هبَّار الثقفي [كانت تحت الحارث بن كَلَدَة الطبيب طبيب العرب، دخل عليها في السَّحَر وهي تَتَخَلَّل فطلَّقها (¬2). وحكى ابن عساكر (¬3)، عن الشافعي: أن أم الحجاج] كانت تحت المغيرة بن شُعبة، [وأن الواقعة كانت مع المغيرة] دخل عليها وقتَ السَّحَر وهي تَتَخَلَّل، فقَذِرها فقال لها: كُنْتِ فبِنْتِ، فقالت: ولم؟ قال: لأنك إن كُنتِ باكَزتِ الغَداء فأنت شَرِهة، وإن كنتِ بِتِّ والطعامُ بين أسنانِك فأنت قَذِرة، فقالت: لاذا، ولاذاك؛ وإنما تخلَّلْتُ من شظايا السِّواك كما تُباكر الحُرَّةُ السِّواك، ما فَرِحنا إذ كُنّا، ولا أَسِفْنا إذ بِنّا. فندم المغيرة على طلاقها، وقال ليوسف: قد نزلتُ الساعة عن سيِّدة نساء ثقيف، فتزوَّجْها ففعل. [قال الشافعي: فأُخبرت أن يوسف] لما واقعها أُتي في منامه فقيل له: ما أسرعَ ما أَلْقَحتَ بالمُبِير. ويقال: إن عُروة بن مَسعود الثقفي كان جدّ الحجاج لأُمِّه (¬4). وكتب الشعبيّ إلى الحجاج يسأله حاجَتَه، فاعتلَّ عليه، فكتب إليه الشعبي: والله لا عَذَرتُك وأنت ابنُ عظيم القَريَتَين (¬5)، ووالي العِراقَين. ¬

_ (¬1) "مختصر تاريخ دمشق" 28/ 68، وهذا القول وقع في (خ) و (د) بعد قوله: وكان يوسف أبو الحجاج رجلًا عاقلًا. وهذا الكلام وما بعده الواقع بين معكوفين من (ص). (¬2) "مروج الذهب" 6/ 288 - 289، وقوله: تتَخلَّلُ، أي: تُخرِجُ ما بين أسنانها من بقية الطعام. (¬3) في تاريخه 4/ 209، وذكره ابن عبد ربه في "العقد" 5/ 13. (¬4) في (خ) و (د): جد أم الحجاج، والمثبت من (ص). (¬5) في (خ) و (د): ابن بنت القريتين، وليس الخبر في (ص)، والمثبت من "العقد الفريد" 1/ 254.

والأصحُّ أن أمَّ الحجاج بنتُ هبّارٍ الثقفي، وهي المُتَمَنِّيَة التي سمعها عمر بن الخطاب رضوان الله عليه وهي تقول: [من البسيط] هل من سبيلٍ إلى خَمرٍ فأشرَبها (¬1) [وقال الزهري: ] وهي القائلة: [من الطويل] تطاوَلَ هذا الليلُ وامتدّ (¬2) جانبُه ... وليسَ إلى جنبي حَبيبٌ ألاعِبُه [وقال هشام: ] وُلد الحجّاج مُشَوَّه الخَلْق، قبيحَ الضُورة، لا دُبُرَ له، فلم يَقبل ثديَ أحدٍ؛ لا ثَنيَ أُمّه ولا غيرها، فقال بعض أطبّاء العرب: اذبَحوا له جَدْيًا أسود، واذبحوا له هذه الحيَّة التي يُقال لها: أَسْوَد سالخ، فأَلْعِقوه دمَهما، ففعلوا، فكان أولَ ما دخل جَوفه الدَّمُ؛ فلهذا كان سفّاكًا للدّماء، مقدمًا على الأهوال، ثم أمرهم الطبيب فشَقُّوا دُبُرَه (¬3). [وبعض الرواة يقول: إن الذي أمرهم بذَبْح الجَدي وأَسْود سالخ الحارثُ بن كَلَدَة الطبيب طبيب العرب، وهو خطأ، الحارث مات في السنة التي مات فيها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، وقد ذكرناه.] ذكر طرف من أخبار الحجاج وسيرته: [اتّفق علماء السير على أنه] كان جبّارًا، ظالمًا، غَشومًا، عَسوفًا، حاسدًا، حقودًا، سفّاكًا للدم الحرام، متجرّئًا على الله تعالى، أباد العلماء، وقتل الأشراف، وأذلَّ الصَّحابة، وختم في أيديهم وأعناقهم بالرّصاص. [وقال الهيثم بن عَديّ: ] كان الحجاج زِنديقًا، يتستَّر بالإسلام، وبقراءة القرآن، وإطعام الطعام، وكان يتفاصَح، ويَتَفَيهق في كلامه، وكان لُحَنَة. ¬

_ (¬1) تمامه: أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج. انظر "أنساب الأشراف" 6/ 326. (¬2) في (ص): واشتد. (¬3) "مروج الذهب" 6/ 289 - 290.

ذكر طرف من أخباره وإطعامه الطعام. [ذكر أحمد بن محمد الهمداني في كتاب "البُلدان" قال: ] أول من أطعم على ألف خِوان الحجاج بن يوسف، كان يُقعد على كلِّ خِوان عشرةَ رجال، وعليه جَنْبُ شِواء، وثَرِيدة، وسَمَكة، وبَرْنيَّةٌ فيها عَسَل، وأخرى فيها لَبَن، وكان يقول لمن يَحضر غدَاءه وعَشاءه: رسولي إليكم الشَّمس، فإذا طلعت فاغدوا على غدائكم، وإذا غربت فروحوا إلى عشائكم. [وكذا ذكر ابن عساكر: أنه كان يُطعم كل يوم على ألف خِوال (¬1)، قال: وكان له دار بدمشق بقُرب قَصر ابن أبي الحديد، ويقال لها: دار الزَّاوية.] وقال الشعبي: رأيتُ موائدَ الحجاج، وكان على كلِّ خِوان عشرة ألوان، وإوزّة، وسمكة، وكان الحجاج يُحمَل في مِحَفَّة، ويُدار به على الموائد يتفقَّدها ويقول: اكسروا الأرغفة لئلا تُعاد إليكم. قال: ورأى يومَّا إوَزّة وليس عليها سُكّر، فأمر بضرب الطبَّاخ مئتَي سَوط، فكان الغِلمان لا يمشون إلا وخرائط السُّكَّر على أوساطهم. [قال الشعبي: ] وكان طعامُه لأهل الشام خاصّةً دون أهل العراق، فلما ولي يوسف بن عمر لهشام [بن عبد الملك العراق] كان طعامه للناس عامّة، كان يُطعم في كل يوم على خمسة آلاف خِوان لأهل الشام وأهل العراق، فكانوا يرون طعامَ يوسف بن عمر أحمد عند الله وعند الناس (¬2). وذكر عند أبي وائل (¬3) طعام الحجاج وإطعامه للناس فقال: اللهم أطعم الحجاج من ضَريع، لا يُسمن ولا يُغني من جُوع. وقيل للشَّعبي: من أين كان يُطعم الحجاج؟ فقال: كان بيده مَغَلُّ العِراقَين وخراسان، لا يَحمل منه إلى بني مروان شيئًا. ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا القول في "تاريخ دمشق"، وما بعده فيه 4/ 208. وما بين معكوفين من (ص). (¬2) انظر "العقد الفريد" 5/ 14 - 15، و "أنساب الأشراف" 12/ 355. (¬3) في (ص): وحكى يوسف بن سعد بن أبي وائل. ولعله تحريف صوابه: وحكى محمد بن سعد عن أبي وائل. والخبر في طبقاته 8/ 219، و"تاريخ دمشق" 4/ 251. وأبو وائل: هو شقيق بن سَلَمة.

[وذكر المعافى بن زكريا أن] الحجاج قال يومًا: ما في أرى الناس قد قَلُّوا على موائدي؟ فقال له الصلت بن قُران العَبديّ: أيها الأمير، إنك أكثرتَ خيرَ البيوت، فقلَّ غِشيان الناس لموائدك، فقال: الحمد لله، بارك الله عليك، وأحسن إليه. [وقال المعافى: ] أُتي الحجاج برجلٍ يرى رأيَ الخوارج، فقال له: أخارجيٌّ أنت؟ فقال: والذي أنت بين يديه غدًا أذلّ مني بين يديك اليوم، ما أنا بخارجيّ، فقال الحجاج: إني يومئذٍ لذَليل، وأطلقه (¬1). [وذكر القاضي التَّنوخي في كتاب "الفَرَج بعد الشدّة" عن أبي عمرو بن العلاء قال: ] (¬2) كنت أقرأ: {إلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة: 249]، بفتح الغين، وبلغ الحجاج وكان يقرأ: "غُرفة"، بالضم، فطَلبني، فهربتُ منه إلى بَراري صَنعاء، قال: فأقمتُ زمانًا، فسمعتُ أعرابيًّا ليلةً يُنشد أبياتَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت: [من الخفيف] يا قليلَ العَزاءِ في الأموالِ ... وكثيرَ الهُمومِ والأشغالِ صَبر النَّفْسَ عندكل مُلِمٍّ ... إن في الصَّبرِ حيلةَ المُحتالِ لا تَضِيقَنَّ في الأمورِ فقد تُكـ ... ـــــــــشفُ غَمَّاؤها بغيرِ احتيالِ رُبَما تَجْزَعُ النُّفوسُ من الأمـ ... ــــــــر له فرجَةٌ كَنَشْطِ العِقالِ قال: فاستَطْرَفْتُ قولَه: فَرجة بالفتح، وقلت: أَخْصِم الحجاج بها، فبينما أنا كذلك إذ سمعتُ قائلًا يقول: مات الحجاج، فلم أدرِ بأيِّ شيءٍ كنتُ أشدَّ فرحًا؛ بموت الحجاج، أم بسماع البيت! [وقد رواه الأصمعي، وذكر أن الذي أنشد البيت أخبره بموت الحجاج.] (¬3) ذكر مكاتبات عبد الملك إلى الحجاج: [ذكر هشام بن محمد، عن أبيه قال: ] كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: جنّبني دماءَ آل أبي طالب، فإني رأيتُ الملْكَ استوحش من آل حرب لمّا سفكوا دماءهم. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 4/ 225 - 226 من طريق المعافى، وما بين معكوفين من (ص). (¬2) ما بين معكوفين من (ص)، وبدله في (خ، د): وقال أبو عمرو بن العلاء. هذا والأخبار الثلاثة الأخيرة وردت في (ص) بعد قوله: ذكر مكاتبات عبد الملك إلى الحجاج بثلاثة أخبار. (¬3) "الفرج بعد الشدة" 4/ 69 - 74. وما بين معكوفيق من (ص).

قال: وكتب إليه عبد الملك يقول: اكتب لي بسيرتك، فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإني أيقْظْتُ رأيي، وأنَمتُ هواي، وأدنَيتُ السيد المُطاعَ في قومه، ووَلَّيتُ الحربَ الحازم في أمره، وقلَّدتُ الخراج الموصوفَ في أمانته، وجعلت لكل حَظًّا من عنايتي، وصَرفتُ السَّيفَ إلى المُسيء، فخاف المُريبُ صَولَة العِقاب، وتمسَّك المُحسِن بحظِّه من الثواب. [وقال أبو عبيدة: ] كتب عبد الملك إلى الحجاج: أنت عندي سالم. فجمع العلماء فلم يعرفوا معناه، فقال له قتيبة بن مُسْلم: إن أخبرتُك بمعناه تَوَلّيني خراسان؟ ! قال: نعم، قال: قد أخبرك أنك عنده في أرفع المنازل، قال. ومن أين لك هذا؟ ! قال: أراد قول عبد الله بن عمر في ابنه سالم: [من الطويل] يُديرونَني عن سالمٍ وألومُهم ... وجِلدَةُ بين العينِ والأنفِ سالمُ فولّاه خُراسان. ويقال للجلدة التي بين العين والأنف: سالم. وهذا المعنى أراد عبد الملك في جوابه عن كتاب الحجاج: أنت عندي سالم (¬1). والبيت لعبد الله بن معاوية الفَزاري في ابنه سالم، وكان يقال له: الأشيم، وابن عمر استَشهد به. قلت (¬2): وفي الباب حكاية ذُكرت في باب الظراف والمتماجنين عن الرّياشِيّ قال: نزل ضيف ببعض الناس فوجده يشرب، فجلس معه، فجعل الرجل يكثر الشراب، ويميل على الضيف وينشده. يَلومونَني في سالمٍ وألومُهم ... وجِلدةُ ما بين العينِ والألْفِ سالمُ فزاد في البيت لفظة: "ما"، وجعل يردِّدها، فقال له الضيف: يا هذا، قد أَبْرمتَ، اجعل ما التي في شعرك في قَدَحِك، وقد عَدَلْتَ شعرك وشرابَك. [وقال الأصمعي: ] كتب عبد الملك إلى الحجاج يقول له: أنت عندي، قَدَحُ ابنِ مُقْبِل. ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): عبد الملك في كتابه، والمثبت من (ص)، وانظر "صحاح الجوهري" 5/ 1952) (سلم). (¬2) في (خ) و (د): قال المصنف رحمه الله.

[واختلفوا في معناه؛ قال الأصمعي: ] عَنى به الشدَّة والصَّلابة، [وقال الرِّياشيّ: إن عبد الملك] (¬1) قصد هوانه؛ لأنه لما كتب إليه: أنت عندي سالم؛ تداخله العجب حتى ولَّى قتيبة خراسان، فأراد عبد الملك أن يُذِلّه، وكان قَدَح ابنِ مقبل يُهان ويُبْذَل، ولا يُمنع منه أحد (¬2). وكان الحجاج يتفاصح على عبد الملك فكان عبد الملك يرميه في كتبه بالقَوارع؛ كتب إليه مرة: أوصيك بما أوصى به البَكريُّ زيدًا، فلم يَدرِ ما معناه، وجمع الناس وسألهم فلم يفهموا، فدخل عليه أعرابيٌّ فقال: فيمَ أنتم؟ فأخبروه، فقال: عنْدي -والله- علمُه، قال: وما هو؟ قال: قول القائل: [من الطويل] أقولُ لزيدِ لا تُتَرْتِر فإنهم ... يَرونَ المنايا دون قتلِكَ أو قتلي فإن وَضَعوا حربًا فضعها وإن أَبَوا ... فشُبَّ وقود النَّارِ بالحطب الجَزْلِ فقال الحجاج: صدق، قد أكثرنا على أمير المؤمنين فقال: لا تترتر، ووصل الأعرابي (¬3). وقتل الحجاجُ عِمران بن عِصام العَنَزِيّ -وكان فاضلًا شجاعًا شاعرًا فصيحًا- فكتب إليه عبد الملك: ويلك يا بن أبي رِغال، يا عبدَ ثقيف، يا بقايا ثمود، قتلتَ عمران بعد قوله: [من الكامل] وبَعَثْتَ من وَلَدِ الأَغَرِّ مُعَتِّبٍ ... صَقْرًا يلوذ حَمامُه بالعَوْسَجِ فإذا طَبَخْتَ بنارِه أنضَجْتَه ... وإذا طَبَخْتَ بغيرها لم تُنْضِجِ وهو الهِزَبْرُ إذا أَرَدتَ فَريسةً ... لم يُنْجِها منه صَريخُ الهجهجِ (¬4) وبلغ عبد الملك تبَرُّمَ الناس بالحجاج، وإقدامه على سفك الدماء، فكتب إليه: ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ص) بدلهما في (خ، د): وقيل. (¬2) انظر الخبرين في "أمالي القالي" 1/ 15، وشرحه للبكري 1/ 66، و "التذكرة الحمدونية" 8/ 287 - 288، 398. (¬3) "تاريخ اليعقوبي" 2/ 266، و"مروج الذهب" 6/ 38، 387، و"الأمالي" 3/ 71. (¬4) "العقد الفريد" 5/ 54، و"أنساب الأشراف" 6/ 500.

أما بعد، يا ابن المتَمَنِّية، فإني عَلِمتُ فتعامَيتُ، وسمعتُ فتَصامَمتُ، وقد أصبحتُ بأمرك مُتَبَرِّمًا يُقعدني الإشفاق، ويُقيمني الرَّجاء، وقد أشركتك فيما طَوَّقَني الله حَملَه من أمانة الخَلْق، وظننتُ بك الحزم، والأخذ في إحياء سنة، وإماتة بِدعة، فقعدتَ عن الأولى، وقُمتَ في إحياء الثانية، حتى صِرتَ حُجَّةً للغائب، وعذرًا للّاعن، فلعن الله أبا عَقيل وما نَجَل، ولَعَمري ما ظَلَمكم الزمان، ولا قَعدت بكم الرُّتَب، وكنتم بين حافرِين وماتح قَليب، وما الطَّائفُ منكم ببعيد. ثم عوّل أميرُ المؤمنين بإخراجك من أعوان رَوْحِ بن زِنْباع وشُرطَتِه، فهفا أميرُ المؤمنين -والله يُصلحه- فكان ما كان منك من مُخالفته، والفتك في الأمة، وبَسَطْتَ يدَك تَحقِن بها من كرائم ذوي الحقوق اللازمة، والأرحام الوَاشجة، وتضعه في أوعية ثقيف، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ائتَمَن ثقيفًا على الصدقات فخانوه (¬1)، كما فعل بأمير المؤمنين فيما نَصَّبَك به ظَنُّه. فاعتزل عمَلَ أميرِ المؤمنين، واظْعَن عنه باللّعنة اللازمة، والعقوبة المُهلِكَةِ النّاهكة إن شاء الله تعالى. ثم دعا عبد الملك مولاه نُباتة فقال: خذ هذا الكتاب، وسِر إلى الحجاج فناولْه إياه، فإن غضب عند قراءته فاعزِلْه، وأحضِره إليَّ خاسئًا مَذمومًا، وإن هشَّ للجواب فأقِرَّه على عَمله. فلما قدم نُباتة على الحجاج أعظم قدومه؛ لأنه ما كان يُفارق عبد الملك، فقال له الحجاج: ما الذي أقدمك؟ فناوله الكتاب، فلما قرأه هش إليه، وكتب جوابَه، وأجاز نُباتة بجائزةٍ سَنيَّة، ورَدَّه إلى عبد الملك. فسار من يومه، فقدم على عبد الملك، فقال له: ما استَقَرَّ بك المَضْجَع؟ ! فقال له نباتة: من خاف أدلَج، وناوله الكتاب، فقرأه وابتسم، ثم رمى به إلى نُباتة، وإذا فيه: ¬

_ (¬1) كذا وقع وهو خطأ صوابُ أن النبي صالحًا بعث ثَقِيفًا على الصدقات ... وسلف ص 64، وفي "العقد الفريد" 5/ 22: فلئن استقال أمير المؤمنين فيك الرأي فلقد جالت البصيرة في ثقيف بصالح النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذا ائتمنه على الصدقات، وكان عبده فهرب بها عنه.

لعبد الملك أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، وإمام المسلمين، المعصوم من خَطَل القول، وزَلَلِ الفعل، من عبد اكتنَفَتْه الذِّلَّة (¬1)، ومَدَّ به الصَّغارُ إلى وَبيءِ المَكْرَع: السلام عليك ورحمةُ الله التي اتَّسعت فوَسِعت، فإني أحمَدُ إليك الله الذي لا إله إلا هو، راجيًا لعَطْفِك بعَطفِه، أما بعد: فكان الله لك بالدَّعَة في دار الزَّوال، والأمنِ في دار الزِّلْزال كفيلًا، فاستعِذْ بالله يا أمير المؤمنين من الشّيطان الرجيم، إنما سُلطانه على الذين يتوَلَّونه (¬2)، وأمير المؤمنين قد كفاه الله وَسْوَسَتَه. وذكر كلامًا طويلًا استعطف به عبد الملك، وقال في آخره: والأمر لأمير المؤمنين، إن شاء استبدل، وإن شاء أقرَّ، وكلاهما عَدلٌ مُتَّبَع، وصَوابٌ مُعتَدل (¬3)، والسلام. قال المصنف رحمه الله: ومعنى قول عبد الملك: وعوَّلَ أميرُ المؤمنين بإخراجك من شُرطة رَوْح بن زِنْباع؛ أن الحجاج كان في عَديد شُرطة رَوْح، وكان روح عظيمًا عند عبد الملك، وهو الذي ولّى مروان الخلافة، فشكا عبد الملك إلى رَوْح قلَّةَ مُبالاة الجُندِ به، وأنهم لا يرحلون لرحلته، ولا ينزلون لنزوله، فقال له روح: في شرطتي رجلٌ لو قلَّدتَه هذا الأمر لكفاك، فقال: ومن هو؟ قال: الحجاج بن يوسف، فقلّده عبد الملك، فاستقام أمر الجُنْد، فكان لا يتخلَّف عن الرَّحيل إلا أعوان روح. فرحل عبد الملك يومًا، وتخلّف أعوان رَوْح في فُسطاطه، فمرّ بهم الحجاج وهم يأكلون طعامًا فقال: ما منعكم أن ترحلوا لرحيل أمير المؤمنين؟ فقالوا: يابن اللخناء، انزل فكُلْ، فقال: هيهات ذهب ما هنالك، ثم أمر بهم فجُلدوا بالسِّياط، وطِيف بهم في العسكر، وأَحرق فُسطاطَ رَوْح بالنار، فقام روح فدخل على عبد الملك وهو يبكي، فقال له: ما الذي بك؟ فأخبره، فاستدعى الحجاج وقد استشاط عبد الملك غضبًا فقال: وَيلك، ما حَملك على ما صنعتَ؟ فقال: ما فعلتُ شيءٌ أنت فعلتَه، قال عبد الملك: لا والله ما فعلتُه، قال الحجاج: بلى، يدي يدُك، وسيفي سيفُك، وما عليك ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): من عبد السفيه الذلة، وليس الخبر في (ص)، والمثبت من "العقد" 5/ 25. (¬2) في "العقد" 5/ 26: فواغوثاه استعاذة بأمير المؤمين من رجيم إنما سلطانه على الذين يتولونه. (¬3) كذا في (خ) و (د)، وبعض نسخ العقد 5/ 29، وأثبتها محققوه: معتقد.

أن تُخلِف لروح فُسطاطَين، ولا تكسرني فيما قدَّمْتَني له، فأخلف له عبد الملك فسطاطين، ولم يُغيِّر على الحجاج شيئًا، وقامت الهيبة (¬1). وكتب (¬2) الحجاج إلى عبد الملك كتابًا يُعظّمه فيه ويقول: إن الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقرَّبِين، والأنبياء والمرسلين [وذلك أن آدم] خلقَه الله بيده، وأسكنه جنّته ثم أهبطه إلى الأرض، وجعل الملائكةَ رُسلًا إليه، فأعجب عبدَ الملك كتابُه، وعرضه على الحاضرين، فاستهجنوا عبد الملك حيث أعجبه كلامُ الحجاج، ثم قال عبد الملك: ليت لي رجلًا من الخوارج أخاصمه بهذا الكتاب، فقيل له: إن ها هنا خارجيًّا، فأعطاه الأمان، فلما دخل عليه أعطاه كتابَ الحجاج، فقرأه وقال: لعن الله الحجاج؛ قد جعلك خليفة، فمَن ولّاك؟ أعن مَشورةٍ من جميع المسلمين، أم وَثبتَ على الأمر بالسّيف؟ ! ثم قام فخرج. [وقال ابن عيّاش: ] كتب الحجاج إلى عبد الملك: بلغني أن أمير المؤمنين عَطس، فشَمَّتَه مَن حضر، وأنه ردَّ عليهم، يا ليتني كنتُ معهم فأفوزَ فوزًا عظيمًا. [وقال هشام: ] كتب عبد الملك إلى الحجاج: ليس أحد إلا ويعرف عَيبَ نفسه، فأخبرني ما عيبُك؟ فكتب إليه الحجاج: أنا حَسود حَقود لَجوج، فكتب إليه عبد الملك: حسْبُك، فقد وافقتَ إبليس. ولما وَلي الحجاجُ العراق بلغ عبدَ الملك إسرافُه في القتل، وأنه يُعطي أصحابه الأموال، فكتب إليه: أما بعد فقد بلغَني سَرَفُك في الدِّماء، وبَذْلُ الأموال، وهذا فلا أحتمله لأحد من الناس، وقد حكمتُ عليك في القتل العبد بالقَوَد، وفي الخطأ بالدِّيَة، وأن تَرُدَّ الأموال إلى مواضعها، فإنما المال مالُ الله، ونحن خُزَّانه، وسيَّان منع حقٍّ وإعطاء باطل، فلا يُؤمنك إلا الطاعة، ولا يُخيفنّك إلا المعصية، وكتب في أسفل كتابه: [من الطويل] ¬

_ (¬1) "العقد" 5/ 14. (¬2) في (ص) وقال أبو بكر بن عباس كتب، وفي العقد 5/ 51 الشيباني عن الهيثم عن ابن عياش قال: كنا عند عبد الملك إذ أتاه كتاب من الحجاج، وما سيرد بين معكوفين من العقد.

إذا أنتَ لم تترُك أمورًا كرهتُها ... وتطلبْ رضايَ في الذي أنا طالبُهْ وتخشى الذي يخشاه مثلُك هاربًا ... إلى الله منه ضَيّع الدّرَّ جالِبُه فإن ترَ منّي غَفلَةً قُرشيَّةً ... فيا ربَّما قد غَصَّ بالماء شارِبُه وإن ترَ مني وَثْبةً أُمويَّةً ... فهذا وهذا كلّه أنا صاحِبُهْ فلا تَعدُ ما يأتيك منّي وإن تَعُدْ ... تَقُمْ فاعلمَنْ يومًا عليك نوادِبُه فلما قرأ الحجاج كتابه كتب إليه: أما بعد، فقد جاءني كتابُ أمير المؤمنين يذكر فيه سَرَفي [في] الدّماء، وتبذيري في الأموال، والله ما بالغتُ في عقوبة أهل المعصية، ولا قضيتُ حقوقَ أهل الطّاعة، فإن يك قَتْلي العُصاةَ سَرَفًا، وإعطائي أهلَ الطاعة تبذيرًا، فليمْضِ في ما سلف، وليُحَدّد في أمير المؤمنين حدًّا فيما يحدث؛ أنتهي إليه ولا أتجاوزه، وكتب في أسفل الكتاب: [من الطويل] إذا أنا لم أطلبْ رِضاك وأتَّقي ... أذاكَ فليلي لا تَوارَتْ كَواكِبُهْ إذا قارفَ الحجاجُ فيك خطيئةً ... فقامت عليه في الصَّباح نَوادِبُهْ أُسالم مَن سالمتَ من ذي هوادَةٍ ... ومَن لم تُسالمه فإني مُحارِبُهْ إذا إنا لم أُدنِ الشَّفيقَ لنُصحِه ... وأُقْصِ الذي تَسري إليَّ عقارِبُه فمَن يتَّقي يومي وَيرجو إذًا غدي ... [على ما أرى و] الدُّهرُ جَمٌّ نَوائبُه (¬1) قصة الحجاج مع أم البَنين بنت عبد العزيز [بن مروان: ذكر علماء السِّيَر أن الحجاج] قدم على الوليد بعد وفاة أبيه عبد الملك، فدخل عليه وعلى الحجّاج دِرْعُه وسلاحُه، والوليد في غِلالة، فجعل يُحدِّثه خاليًا وأمّ البنين تراهما من وراء الستر، فأرسلت إلى الوليد خادمًا، فسارَّه وقال: تقول أم البنين: يدخك عليك الحجّاج مُسْتَلْئمًا وأنت في غِلالة، وقد قتل ما قتل من الناس؟ ! فضحك الوليد [فقال الحجاج: ما يُضحك أميرَ المؤمنين؟ فقال له وهو يُمازحُه: هذا خادم بنت عميّ يقول كذا وكذا] فقال له الحجاج: يا أمير المؤمنين، دع عنك مُفاكَهةَ النّساء بزُخْرُفِ القول، فإنما المرأةُ رَيحانة وليست بقَهرَمَانة، وإياك أن تُطلعَهنَّ على سِرَّك، ومُكايَدةِ عَدوِّك، ¬

_ (¬1) "مروج الذهب" 5/ 308 - 312، و"تاريخ دمشق" 4/ 232 - 233 (مخطوط) وما بين معكوفين منه، جاء بدله في (خ) و (د) بياض، والخبر بطوله ليس في (ص).

وإياك ومُشاورتهنّ، فإنَّ رأيَهنّ إلى أَفَن، وعَزْمَهنّ إلى وَهن، وعَرَقَهنَّ إلى عَفَن، ولا تُطمِعْهنَّ في الشفاعة عندك، ولا تُطِل الجلوسَ معهن، فإن ذلك أوفرُ لعقلك، وأغزرُ لفضلك. ثم قام الحجاج فخرج، ودخل الوليد على أم البنين فقالت: ما دار بينك وبين الحجاج، فأخبرها بمقالته، فوَجَمت ساعةً ثم قالت: أُحبّ غدًا أن تأمره بالتّسليم عليّ، فقال: نعم. فلما دخل عليه الحجاج من الغد قال له: صِر إلى أم البنين فسلِّم عليها، فقال: أوَتُعفِينِي؟ قال: لا أُعفيك، فمضى الحجاج إلى بابها، فحبستْه طويلًا، ثم أذِنتْ له، فدخل ووقف عند السّتر، وسلَّم وهو قائم، فلم تأذن له في الجلوس وقالت: لا مرحبًا بك ولا أهلًا يا أُخَيفِشَ ثَمود، وعبدَ بني ثَقيف، يا عدوَّ الله وعدوَّ رسوله، أنت المُمْتَنُّ على عبد الملك بقتل ابنِ حَواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابنِ ابنة أبي بكر الصّديق ذات النّطاقَين، أولِ مولودٍ وُلد في المدينة من المهاجرين الصوّام القوّام، وبقتل عبد الرحمن بن الأشعث سيّد كِندة وزعيمها، وقتلِ سعيد بن جُبير وكُمَيل بن زياد، وأولياءِ الله والعلماء، ورميك بيت الله والبلد الحرام -الذي مَن دخله كان آمنًا- بالمجانيق، وتحريقك الكعبة، وسفكِ الدم الحرام في مكان يأمَن فيه الطيرُ والوَحش، وقد والى عليك ابنُ الأشعث الهزائم، حتى عُذتَ بعبد الملك، فأعانك بجُندِ الشام، وأنت في أضيق من القَرَن، فأظلَّتْك رماحُهم، وأعانك كفاحُهم، ولولاهم لكنتَ كأمسِ الذّاهب، أنسيتَ رِماح غزالة في أكتافك، ودقِّها قفاك برُمحها، ولله درّ القائل: هلّا برَزْتَ إلى غزالةَ في الوَغى (¬1) وذكرت الأبيات. يابن أبي رِغال، طالما نقَض عبدُ الملك المِسْكَ من غدائرِ نسائه، والحُلي من آذانهن وأيديهن، وبِعنَه في الأسواق لأجل البعوث إليك، ولولا ذلك لكنت أذلَّ من نعل، وأهون من بَقَّة، وأقلّ من لا. ¬

_ (¬1) تمامه: بل كان قلبك في جناحي طائر، انظر "مروج الذهب" 5/ 367، و"العقد" 5/ 44.

ثم إنك أشرتَ على أمير المؤمنين بتَرك لذّاته، وبلوغ أوطاره من نسائه، فإن كنّ يُفرِجن عن مثله فإنهن ريحان، وإن كنّ يُفرجن عن مثلك فهن أقذارٌ وأنتان. ثم قالت لجواريها وخَدَمها: ادفعوا في قفاه وأخرجوه مَذمومًا مَدحورًا، ففعلوا. فدخل على الوليد وهو في أسوأ حال، فأخبره بما قالت وقال: والله ما سكتت حتى كان بطنُ الأرض أحبَّ إليَّ من ظهرها، فضحك الوليد وقال: إنها ابنةُ عبد العزيز. ذكر بعض خُطَبه: قال الشَّعبي: حدثني الربيع (¬1) بن خالد قال: سمعتُ الحجاج يقول على المنبر: أخليفةُ أحدكم في أهله أكرمُ عليه أم رسوله في حاجته؟ قال: فجعل عبد الملك أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال الربيع: لا جرم، والله لا أصلّي بعدها خلفك، ولأُجاهدنّك ما استطعتُ، قال: فلما كان يومُ الجَماجم أبلى الربيع بلاء حسنًا، وقصد قتلَ الحجاج فلم يصل إليه. وصَعد المنبر يومًا فخطب، فضرب برجله المنبر فانكسر لوحٌ منه، فسُرَّ الناس بذلك وتفاءلوا به، وفهم الحجاج فقال: شاهت الوجوه، وتبّت الأيدي، وبُؤتم بغضبٍ من الله، إنه إنما انكسر عُودٌ ضعيفٌ من خِزوَع تحت قَدم أيِّدٍ شَديد، يا أعداء الله، تفاءلتم بالشُّؤم، وإني والله عليكم أَنكَدُ من الغُراب الأبْقَع، وأشأمُ من يومِ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ، وإني لأعجب من قول لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، وأيُّ رُكْنٍ أشدّ من الله، وآوي إلى أمير المؤمنين، ثم نزل (¬2). ومرض فأُرجف عليه بالموت، ثم برئ، فصعد المنبر فقال: يا أهل العراق، يا أهل الشِّقاق والنِّفاق، مَرضتُ فقلتم مات الحجاج، أما والله إني لأُحبّ الموت، وهل أرجو الخيرَ كلَّه إلا بعد الموت، وما رأيتُ الله قضى الخلودَ في الدنيا إلا لأبغض خلقه ¬

_ (¬1) كذا في "مروج الذهب" 5/ 338 - 339، و"العقد" 5/ 52، و"التهذيب". وفي "توضيح المشتبه" 1/ 490: بزيغ. (¬2) "التذكرة الحمدونية" 8/ 28.

إليه وهو إبليس، ولقد سأل العبدُ الصَّالحُ ربَّه فقال: ربِّ هبْ لي مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدي، فوهب له، ثم اضْمَحلّ فكأنه لم يكن (¬1). وأراد سَفرًا فاستخلف على الناس ابنه محمدًا، ثم صعد المنبر فقال: قد استخلفتُ عليكم ابني محمدَّا، وأمرتُه فيكم بخلاف ما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأنصار وهو أن يقبلَ من مُحسنهم، ويتجاوز عن مُسيئهم، ألا وإنكم قائلون بعدي مَقالة لا يَمنعكم من إظهارها إلا خوفي، لا أحسن الله صحابتكم، ولا الخلافةَ عليكم (¬2). ومات محمد بن الحجاج بُكرة الجمعة، وجاءه نَعيُ أخيه محمد بن يوسف عَشيَّة، ففرح أهل العراق وقالوا: انقطع ظَهره، وقُصَّ جَناحُه، فصعد المنبر وقال: محمدان في يوم واحد؟ ! أما والله ما كنتُ أحبُّ أن يكونا معي في الدنيا لما أرجو لهما من ثواب الله في الأخرى، وايمُ الله، ليُوشكَنَّ الباقي مني ومنكم أن يَفنى، والجديد منا أن يَبلى، وتُدال الأرض منا؛ فتأكل من لُحومنا، وتشرب من دمائنا، كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من أنهارها، ثم قرأ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] ثم نزل وجلس للتَّعزِية (¬3). وخطب يومًا فقال: إن مَثَلَ عثمان عند الله كمثَل عيسى بن مريم، قالماله الله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وبلغ الحسن البصري فقال: لعن الله الفاجر فقد كذب وكفر. وقال الشعبي: سمعتُ الحجاج يتكلم بكلامٍ ما سبقه أحد إليه؛ سمعتُه يقول: أما بعد، فإن الله كتب على الدنيا الغناء، وعلى الآخوة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الغناء، فلا يَغُرَّنكم شاهدُ الدنيا على غائب الآخرة، واقهروا طولَ الأمَل بقِصَر الأجَل. ¬

_ (¬1) "العقد" 4/ 123 و 5/ 46 - 47، و"المنتظم" 6/ 342. (¬2) في "العقد" 4/ 119 و 5/ 47، و"المنتظم" 6/ 343: لا أحسن الله له الصحابة وإني أعجل لكم الجواب فلا أحسن الله عليكم الخلافة. (¬3) "العقد الفريد" 4/ 122 - 123 و 5/ 47.

وقال الحسن البَصريّ: لقد وَقَذَتْني كلمةٌ سمعتُها من الحجاج بن يوسف، فقيل له: أكلام الحجّاج يَقِذُك؟ قال: نعم، سمعتُه يقول على هذه الأعواد: إن امرأ ذهبت ساعةٌ من عُمره لغير ما خُلق له لحَرِيٌّ أن تَطول عليها حَسْرتُه إلى يوم القيامة. [قال حَفْص بن النَّضْر السُّلَمي: ] قال الحجاج يومًا في خُطبته: أيها الناس، الصَّبر عن محارم الله أيسرُ من الصّبر على عذاب الله، فقام إليه رجل فقال: يا حجاج، ما أَصفَقَ وَجْهك، وأقل حياءك! تفعل ما تفعل وتقول هذا؟ فأمر به فأُخذ، ثم نزل من المنبر ودعا به وقال: لقد اجترأتَ عليَّ، فقال له: يا حجاج، أنت تجترئ على الله فلا تُنكره على نفسك، وأجترئ أنا عليك فتُنكره عليّ! فوَجَم وقال: خَلُّوا سبيلَه (¬1). ذكر كتاب سليمان بن عبد الملك إلى الحجاج في زمن أخيه الوليد: كتب إليه في أسباب فلا يقرؤها، ولا ينظر إليها (¬2)، فلما طال ذلك على سليمان كتب إليه: من سليمان بن عبد الملك؛ سلام على أهل الطاعة من عباد الله، فإنك امرؤ مَهتوكٌ عنك حجابُ الحقّ، مُولَعٌ بما عليك لا لك، مُنصرفٌ عن مَنافعك، تاركٌ لحظّك، مُستَخفّ بحقّ ربك وحق أوليائه، مَنكوسٌ في أمرك، مَعتوهٌ في عقلك، لا تَتَلبَّث عن قبيح، ولا ترعوي عن إساءة، ولا ترجو لله وقارًا، حتى دُعيتَ فاحشًا متفحِّشًا، ولله عليّ لئن أمكنني الله منك لأَدوسَنَّك دَوسَةً تَلين منها فرائصُك، ولأجعلنَّك شَريدًا في البلاد والجبال تلوذ بأطرافها، ولأُعَلِّقَنَّ الرُّوميَّةَ الطويلة الحمراءَ بثدييها -يعني أختَه- فقِدْمًا ما غَرَّتْك العافية، وإنْ أخَّرني الزَّمان فسوف ترى، وإن تكن الأخرى فأرجو أن تؤول بك إلى مَذَلَّةٍ ذليلة، وخِزيةٍ طويلة، وأن يُجعل مصيرُك في الآخرة شرَّ مَصير. فكتب إليه الحجاج: [من الحجاج] بن يوسف إلى سليمان بن عبد الملك، سلام على من اتّبع الهُدى، أما بعد، فإنك كتبتَ إليَّ تذكر أني مَهتوكٌ عنّي حجابُ الحق، ¬

_ (¬1) الأخبار الثلاثة في "تاريخ دمشق" 4/ 224 - 225 وما بين معكوفين من (ص). (¬2) كذا في (خ) و (د)، وليس في (ص)، وفي "العقد" 5/ 41: كان سليمان يكتب إلى الحجاج في أيام أخيه الوليد كتبًا فلا ينظر له فيها. وما سيرد بين معكوفين من العقد.

ولَعَمري إنك صَبيُّ حَدَثُ السنِّ، سخيفُ العقل، وقد دلَّ كتابُك على ذلك، فهلا اقتصرتَ على قضاء الله دون قضائك، فأمرُ الله حائلٌ دونَ أمرك، ولكنك لم تستوف الأمورَ علمًا، ولم تُرزق من أمرك حَزْمَا، ولقد دلَّاك الشَّيطان بغُرور. وأما قولك: إنك تُعلِّق زينب بنت يوسف بثدييها؛ فأرجو أن لا يُوفّقك الله لذلك، ولقد كتبتَ إليّ والشيطان بين فَكَّيك يُملي عليك، فشرُّ ممْلٍ على شرِّ كاتب، ثم تُمنّي نفسَك بالخلافة ولعلَّك لا تبلغ أمرَها، ولو بلغتَه فأرجو أن تكون في كما كان أبوك وأخوك، أكن لك مثلما كنتُ لهما ... وذكر كلامًا وقال في آخره: وأنا الحجاج والسلام. حديث ابن (¬1) نُمَير الثَّقَفيّ مع الحجاج: قد ذكرناه في ترجمة عبد الملك بن مروان، وأن عبد الملك كتب له كتابًا إلى الحجاج بأمانه، وكان قد شَبَّب بأخت الحجاج [وكان اسمها] زينب. [وقال أبو الفرج الأصفهاني: كان ابن نُمير يُشَبِّب بأخت الحجاج] فأباح الحجاج دمَه، فهرب إلى اليمن وركب البحر وقال: [من الطويل] أتتني (¬2) عن الحجّاج والبحرُ بيننا ... عَقاربُ تَسري والعيونُ هواجِعُ فضُقْتُ به ذَرعًا وأوجَسْتُ خِيفةً ... ولم آمَنِ الحجاجَ والأمرُ قاطعُ وحلَّ بيَ الأمرُ الذي جاءني به ... سَميعٌ فليست تستَقِرُّ الأضالِعُ فبِتُّ أديرُ الأمرَ والرَّأيَ ليلتي ... وقد أخضلَتْ خدِّي الدُّموعُ الهوامِعُ وفي الأرضِ ذاتِ العرضِ عنك ابنَ يوسفٍ ... إذا شئتُ مَنْأى لا أبا لك واسعُ ثم طالت عليه الغُربة، واشتاق إلى وطنه، فما علم به الحجاج إلا وهو واقفٌ على رأسه، فرفع رأسه إليه وقال: أنت القائل: وفي الأرض ذات العَرض عنك ابنَ يوسفٍ ¬

_ (¬1) في النسخ: أبي، هنا وفيما سيرد، والمثبت من "الأغاني" 6/ 198، و"الفرج بعد الشدة" 4/ 49، وهو محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي، من شعراء الدولة الأموية. (¬2) في النسخ: أسير، وهو خطأ، والمثبت من المصدرين.

فقال: بل أنا القائل: [من الطويل] أخافُ من الحجاج ما لستُ خائفًا ... من الأَسَدِ العرباض لم يَنْههُ ذُعْرُ أخافُ يديه أن تنالا مَفاصِلي ... بأبيضَ عَضْبٍ ليس من دونه سِتْرُ حديث قتيبة بن مسلم مع الرجل الذي أراد الحجاج قتله: [حكاه المدائنيّ والقاضي التَّنوخي في كتاب "الفرج بعد الشدّة" كلاهما عن أبي عُبيدة مَعمر، إلا أن المدائني ذكر أن الذي كفل الرجل عَنْبَسةُ بن سعيد، والتنوخي قال: كفله قُتيبة بن مُسلم، قالوا: ] أُتي الحجاج بقومٍ كانوا ممَن خرج عليه فقتلهم، وأقيمت الصلاة، وبقي واحد منهم، فقال الحجاج لقُتيبة بن مُسلم: انصرف بهذا إلى غد، واغْدُ به عليّ. قال قتيبة: فخرجتُ به، فلما كنا ببعض الطريق قال: هل لك في خير؟ قلت: وما هو؟ قال: عندي ودائعُ للناس وأموال، ووالله ما خرجتُ على الحجاج ولا على غيره، ولا أستحلُّ دمَ مسلم ولا ماله، فإن رأيتَ أن تَمُنَ على حتى أذهبَ، وأدفعَ الودائعَ إلى أربابها، ولله عليَّ أن أرجع إليك من الغد، قال: فلم أكلّمه تعجُّبًا منه، فأعاد عليّ القول فقلت: اذهب، فلما توارى عني شَخصُه ندمتُ، وبتُّ بليلةٍ طويلة، فلما كان من الغد وإذا بالرجل قد أقبل، فقلت له: جئت؟ ! فقال: سبحان الله، جعلتُ الله بيني وبينك كفيلًا ولا أرجع؟ ! فانطلقتُ به إلى الحجاج فقال: وأين أسيرُنا؟ فأخبرتُه بالقصة فقال: أوَتحبُّ أن أَهبه لك؟ قلت: نعم، فقال: خذه، قال: فخرجتُ فأخبرتُه، فرفع طَرفَه إلى السماء وقال: الحمد لله، ومضى ولم يكلِّمني كلمة، فقلت: هذا مجنون، فلما كان من الغد أتاني وقال: والله ما جهلتُ ما صنعتَ معي، ولكني كرهتُ أن أشرك في حمد الله أحدًا، قال: فقلت له: فبذلك نَجوتَ (¬1). ¬

_ (¬1) "الفرج بعد الشدة" 4/ 121 - 123 وفيه رواية المدائني.

حديث الحجاج مع الأعرابي: [حكى المدائني قال: ] خرج الحجاج يتصيَّدُ ظاهرَ الكوفة [وقال أبو عمرو الشيباني: ظاهر المدينة] فوقف على أعرابى يرعى إبلًا، فقال له: كيف سيرةُ أميركم؟ فقال: ظَلوم غَشوم، قال: فهلا شكيتموه (¬1) إلى عبد الملك؟ فقال: هو أغشَمُ منه وأظلم، فعليهما لعنة الله. قال: وتلاحق أصحاب الحجاج، فقال: من هذا؟ قالوا: الأمير، فناداه الأعرابي: أيها الأمير، السرُّ الذي بيني وبينك ما أحبُّ أن يَطَّلع عليه أحد، فضحك الحجاج وقال: لا، ولم يَعرِض له. جلس الحجاج يومًا على المائدة يأكل ومعه محمد بن عُمير بن عُطارد بن حاجب بن زُرارة التَّميمي وحجار بن أَبْجر العجليّ، فأقبل في وسط الطعام على محمد بن عُمير وقال له: يا محمد، يدعوك قُتيبة بن مُسلم إلى نُصرتي يوم رستقباذ فتقول: لا ناقةَ لي فيها ولا جَمَل! يا حَرَسِيّ، خذ بيده فاضرب عُنقه، فجرَّد الحرسيُّ سيفَه، وجذب بيد محمد فأقامه. وحانت من الحجاج التفاتة إلى حجار بن أبجر فرآه يتبسّم، فدخلت الحجاجَ العصبيَّةُ، وكان مكان حجار من ربيعة مثل مكان محمد من مُضَر، فأمر بردّ محمد إلى المائدة، وقال للحرسي: شِمَّ سيفَك. وأتى الخبَّاز بفُرْنِيّة، فقال الحجاج للخبّاز: ضعها بين يدي محمد فإن اللبن يعجبه (¬2). أخبار متفرقة من أخبار الحجاج: [روى الشعبي أنه قال: ] أذنب رجل فطلبه الحجاج فهرب، فجاء إخوته فقالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78]، فقال الحجاج: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79]. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، وفي "العقد" 3/ 477: شكوتموه، وهو الجادة. (¬2) "الفرج بعد الشدة" 4/ 123 - 124. وقوله: شِمَّ سيفَك، أي: أغْمِدهُ.

وجيء بجماعة فقتل أكثرهم، فقال له واحد منهم: أيها الأمير، إن كنا أسأنا في الذَّنب؛ فما أحسنتَ في العفو، فعفا عن الباقين (¬1). [وقال أبو العَيناء: ] أخذ الحجاج أعرابيًّا قد جنى، فأمر بضَرْبه، فلما ضُرب السَّوط الأول قال: الشكر لله، فضربه سبع مئة سوط، فلما أطلقه لقي أعرابيًّا آخر، فحكى له ما جرى عليه فقال: تدري لمَ ضربك سبع مئة سوط؟ قال: لا، قال: لأنك شكرتَ الله في أول سوط، وقد قال الله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬2) [إبراهيم: 7]. وكتب إليه قتيبة يشكو ما حلّ بالبلاد من شدَّةِ القَحطِ والجَراد، فكتب إليه: إذا أَزِف خراجُك فانظر لرعيّتك في مصالحها، فبيتُ المال أشدُّ اضطلاعًا بذلك من الأرملة واليتيم وصاحب العيال، ولا تُخاطر بالمسلمين في عبور النهر، حتى ترى موضعَ قدمك، ومَرمى سَهْمك، ومُرْ عسكرك بتلاوة القرآن؛ فهو أمنع لحصونك (¬3). [وحكى العُتبيّ قال: كان الحجاج يقول: ] لو أدركتُ أربعة نَفَر لتقرَّبتُ إلى الله بدمائهم، قيل: ومَن هم؟ قال: مُقاتل بن مِسْمَع والي سجستان؛ أتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما قدم البصرة بسط له الناسُ أردِيَتَهم [فمشى عليها] فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون. وعُبيد الله بن ظَبيان (¬4)، قام خطيبًا فأوجز، فصاح به الناس من جوانب المسجد كثَّر الله فينا أمثالك، فقال: لقد سألتم الله شَطَطا. ومَعْبَد بن زُرارة، رأته امرأة في الطريق فقالت له: يا عبد الله، أين الطريق إلى مكان كذا؟ فغضب وقال: ألمثلي يقال: يا عبد الله؟ ! ¬

_ (¬1) الخبر في "الفرج بعد الشدة" 4/ 121. (¬2) "العقد الفريد" 3/ 479. وما بين معكوفين من (ص). (¬3) في "العقد" 4/ 218: من حصونك. (¬4) في (خ) و (د): وعبد الله بن حلتان، والمثبت من (ص) و"العقد" 2/ 353 و 5/ 52 - 53.

[وأبو سليمان الحنفي: أضلَّ ناقته فقال: لئن لم تردَّها عليّ لا صليت لك أبدًا، فلما وجدها قال: علم أن يميني كانت صِرَّى (¬1)]. قال راوي الحكاية: قبَّح الله الحجاج، لقد ارتكب ما هو أقبح من هذا. [وقال أبو اليقظان: ] كتب إليه محبوس رقْعةً يذكر فيها أنه قد تاب، فكتب عليها: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]. [وقال هشام: ] لما أُتي الحجاج بامرأة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قال لها: يا عدوّة الله، أين مال الله الذي جعلتِهِ تحت ذَيلك؟ [فبكت] فقال لها حرسي: ويلك، أخرجي مال الله الذي جعلتِهِ تحت اسْتِك، فقال له الحجاج: قاتلك الله، ما قلنا كذا، أطلقها، وخلى سبيلها (¬2). وقال الشعبي: كنت عنده فدخل الحاجب فقال: بالباب رُسُل، فأذِن لهم، فدخل قوم من بني سُلَيم، يَقدمهم شَبابة بن عاصم، فقال: من أين؟ قال: من الشام، قال: هل وراءك من غَيث؟ قال: نعم، أصابتنا دون الأمير سحائب، فقال: صِف لنا كيف كان وَقعُ المطر وتباشيره، فقال: أصابتنا سحابةٌ لبدَت الدِّماث، وأسالت العَزاز، وأدحَضَت التِّلاع (¬3)، وصَدَعت عن الكَمأة أماكنَها، وأصابتنا سحابةٌ ملأت الأخاديد، وأفعَمت الأوديةَ، وجئناك في مثل وجار الضَّبُع. ثم دخل رجل من أهل اليمامة فقال له: هل وراءك من غيث؟ قال: نعم، قال: صفه، قال: سمعتُ الرُّوَّاد يقولون: هلمّوا ظُعنَكم إلى محلَّةٍ تَطفأ فيها النّيران، وتَشَكَّى منها النساء، وتتنافس فيها المِعزى، فلم يدر الحجاج ما قال، فقال: إنك لتُحدِّث أهلَ الشام فأفهِم، قال: نعم، أخصب الناسُ فكثر الزبد والسَّمن واللّبن والتمر، فلا توقد نار يُختَبَز بها، وأما تشكِّي النساء؛ فإن المرأة تَمْخَصُ لَبَنها، فتبيتُ ولها أنينٌ من ¬

_ (¬1) في (ص) (والكلام منها): ضرارًا، وهو تصحيف، وذكره ابن الأثير في "النهاية" (صرا) 3/ 28 عن أبي سمَّال الأسديّ، وفي "العقد الفريد" 5/ 53: بَرَّة، والخبر فيه عن أبي سماك. (¬2) "العقد" 5/ 16، 31 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) في (خ) و (د): سحابة لينت الرمات وأسالت الفرات، وليس الخبر في (ص)، والمثبت من "العقد الفريد" 5/ 34. قوله الدماث: الأرض السهلة، والعزاز: الأرض الصلبة.

عَضُدَيها، وأما تنافُس المِعزى؛ فإنها ترعى من أنواع الثَّمَر ونَوْرِ النبات ما يُشبع بطونَها، ويملأ عُيونَها (¬1). وهناك رجل من الموالي فقال له: هل كان وراءك من غيث؟ قال: نعم، غير أني لا أُحسن أن أقولَ ما يقول هؤلاء، أصابتني سَحابةٌ بحُلْوان، فلم أزل أطَأُ في أَثَرها حتى دخلتُ عليك، فقال الحجاج: لئن كنتَ أقصرَهم في وصف المطر خُطبة، إنك لأطولهم بالسيف خُطوة. [وقال أبو عمرو الشَّيبانيّ: ] قرأ الحجاج سورة هود، فلما انتهى إلى قصة نوح لم يدر كيف يقرأ {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، فقال: انظروا مَن ها هنا من القُرَّاء، فقالوا: رجل بالباب، وشُغل الحجاج فحُبس، فأقام ستة أشهر لا يذكره، فعرض الحجاج السجون يومًا فرآه، فقال: فيمَ حُبست؟ فقال الرجل: في ابن نوح، فضحك الحجاج وأطلقه (¬2). وقُدِّم بين يديه يوم الجماجم أسير، فقال: على أيِّ دينٍ أنت؟ فقال: على دين إبراهيم حنيفًا مسلمًا فقتله، وقُدِّم آخر فقال: على أيَّ دينٍ أنت؟ فقال: على دين أبيك يوسف، فقال: كان والله صوَّامًا قوّامًا وأطلقه (¬3). وقال الشعبي: كان الحجاج يطوف في الليل، فإن رأى واحدًا بعد العشاء قتله، فبينا هو ليلة يمشي إذ نظر إلى غلامين يتناظران، فقال: من أنتما؟ فقالا: أخوان في الإسلام، معروفان في الأنام، كلّ واحدٍ منا ينطق بلسان صاحبه، يفرح لفرحه، ويتألّم لألمه، فقال: انْتَسِبا، فقال أحدهما: [من الطويل] أنا ابنُ الذي لا يُنزل الدهرَ قِدرَه ... وإن أُنزلتْ يومًا فسوف تعودُ ترى الناسَ أفواجًا إلى ضوء ناره (¬4) ... فمنهم قيامٌ تحتها وقُعودُ ¬

_ (¬1) في "العقد" 5/ 35: ما يشبع بطونها ولا يشبع عيونها. (¬2) "العقد" 5/ 36 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) "العقد" 5/ 53 - 54. (¬4) في (ص، د) باب داره، والمثبت من (خ).

فقال الحجاج: لله درُّ أبيك، مِطعامٌ للطعام، مُقَدَّمُ الكِوام، وقال للآخر: وأنت؟ فقال: [من الطويل] أنا ابنُ الذي يَعلو الرجالَ بسيفه ... ويضربُ أعناق الأُسودِ القَشاعِمِ ولا ذاك من ذَحْلٍ ولا هو ثائرٌ ... ولكنه حاوي الغِنى والمكارمِ فقال: لله درُّ أبيك من شُجاعٍ مِطعان، مُجَدِّلِ الأقران، ثم مضى ولم يعرض لهما. فلما كان من الغد دخل عليه أيّوب بن القِرِّيَّة، فذكر ذلك له، فضحك أيوب وقال: بلغني أنه كان لتاجرٍ على شاعر دَين فمَطَله، فتعلَّق به التاجر فقال: إما أن تدفعَ إليَّ حَقِّي، وإما أن تهجوَ نفسَك، وإما أن تمدحَني، فقال الشاعر: أما الحق فأنا عاجز عنه، وأما هجو نفسي فلا أتناول عرضي، وأما مدحُك فنعم، وكان التاجر ابنَ حجَّام فقال: [من المنسرح] أبوك أوهى النّجاد عاتقه ... كم من كَميٍّ أدْمى ومن بَطلِ يأخذُ من ماله ومن دمِه ... لم يُمس من ثائرٍ على وَجَلِ بكفِّه مُرهفٌ يقلِّبُه ... يضربُ أعناقَ سادةٍ فُضُلِ والله إن أحدهما ابنُ حجَّام، والآخر ابن باقِلاوي، فغضب الحجاج، وطلب الغلامين فجيء بهما فقال: والله لا يُنجيكما إلا الصِّدق، فاعترفا فأطلقهما. [وذكر الزمخشري في "ربيع الأبرار" قال: ] تغدَّى الحجاج عند عبد الملك، ثم دعا عبد الملك بشراب فقال الحجاج: أعفِني؛ فأنا أضرب مَن يشربه بالعراق، ووالله لئن شربتُه لا أضرب عليه أحدًا قط، فقال عبد الملك: أما إنه نَبيذ الرُّمّان، يُشهّي الطعام، ويزيد في الباه، فقال الحجاج: أما كونه يشهي الطعام؛ فوالله لوَددت أن هذه الأكلة تكفيني حتى أموت، وأما كونه يزيد في الباه؛ فحسب الرجل أن يُصرَع في الشهر مرة. وحضر عند الوليد فأُحضر النّبيذ، وأمره بشُربه فقال يا أمير المؤمنين، الحلال ما أحللتَ، ولكني أنهى عنه أهلَ عملي، وأكره أن أُخالف قول العبد الصالح: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (¬1) [هود: 88]. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 4/ 232 (مخطوط).

وولَّى الحجاج بعضَ الأعراب على أصبهان، وكان له أخٌ من أبيه، فقصده أخوه، فأقام ببابه شهرًا لا يصل إليه، وكان اسم الوالي زيدًا، فرصده أخوه يومًا، ودخل مع الناس ثم قام فقال: [من الوافر] ولستُ مسَلِّمًا ما عشتُ يومًا ... على زيدٍ كتسليم الأميرِ فقال زيد: ما أبالي، فقال: أتذكرُ إذ لِحَافُك جلدُ شاةٍ ... وإذ نَعلاك من جلدِ البعيرِ فقال زيد: نعم، فقال أخوه: فسبحان الذي أعطاك مُلكًا ... وعلَّمك الجلوسَ على السَّريرِ فقال زيد: سبحانه، ولم يعطه شيئًا. وبلغ الحجاج فقال: إلى هنا انتهى اللّؤم، فعزل زيدًا عن أصبهان وولاها أخاه (¬1). [وقال الهيثم: ] كان للحجَّاج طبيبٌ ومُنَجِّم، فالطبيب يقال له: تياذوق، وكان قد أدرك الأكاسرة، وعُمِّر طويلًا، فقال له الحجاج يومًا: صف لي صِفةً لا أَعدوها، فقال: لا تتزوَّجَنّ من النساء إلا شابّة، ولا تأكل من اللحم إلا فتيًّا، ولا تأكله حتى يَنضج، ولا تشرَبنّ دواءً إلا من علَّة، ولا تأكل من الفاكهة إلا نَضيجها، ولا تأكل طعامًا إلا وتُجيد مَضغَه، وإذا أكلتَ فلا تشرب، وإذا شربتَ فلا تأكل، ولا تحبس الغائط ولا البول، وإذا أكلت في النهار فَنَمْ، وإذا أكلتَ في الليل فامشِ قبل أن تنام ولو مئة خطوة. فكان الحجاج لا يُخلّ بهذه الوصيّة. [قال: ] وقال يومًا للمنجّم وقد أخذ في كفّه حصى: أخبرني كم في يدي حصاة، فحسب فأصاب، ثم أخذ الحجاج مرة ثانية غير ذلك الحصى وقال: كم في كفي حصاة؟ فحسب فأخطأ، فقال له: ما هذا؟ ! فقال: أيها الأمير، أقسمتُ عليك هل أحصيتَ الأول دون الثاني؟ قال: نعم، من أين علمتَ؟ قال: لأنك لما أحصيتَ الأول دخل في علمي وعلمك، ولما لم تُحصِ الثاني دخل في علم الغيب، ولا يعلم الغيبَ إلا الله. فاستحسن الحجاج منه ذلك ووصله. ¬

_ (¬1) "المنتظم" 6/ 280، وهدا الخبر وسابقه ليس في (ص).

[وقال الهيثم: ] دخل رجل على الحجاج فقال: أيها الأمير أرعِني سمعك، واغضضْ عني بَصرك، فإن سمعت خطأ فدونك والعقوبة، قال: قل، قال: عصى عاصٍ من عُرض العشيرة، فضُرب على اسمي، وهُدم منزلي، ومُنعت عطائي، فقال الحجاج: أما سمعتَ قول الشاعر: [من الكامل] جانيك مَن يجني عليك وربما (¬1) ... تُعدي الصِّحاحَ مَباركُ الجُربِ ولَرُبَّ مأخوذٍ بذنْبِ قريبه ... ونجا المُقارفُ صاحبُ الذَّنبِ فقال الرجل: إن هذا خلاف قول الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] فقال: صدقتَ، وأمر ببناء داره، وردّ عطائه، ثم أمر الحجاج مناديًا فنادى: صدق الله وكذب الشاعر. [وذكر القصة صاحب "العقد" وقال: فقال الرجل: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79]، فقال الحجاج: صدق الله وكذب الشاعر. وذكر أبو القاسم بن عساكر عن الهيثم بن عدي: أن هذه الواقعة جرت مع أبي بن الإباء، دخل على الحجاج فقال له: أيها الأمير، إني موسوم بالميل، مشهور بالطاعة، خرج أخي مع ابن الأشعث، فقدِم منزلي، ومُنِعتُ عطائي، وذكره وقال: إن الرجل لما أنشده الحجاج قال: إني سمعت الله يقول غير هذا، قال: وما قال جل شأنه؟ قال: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَال مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف: 78، 79] فقال الحجاج: يا غُلام، اردد اسمَه، وابنِ دارَه، وأعطه عطاءه، وأَمر مناديًا ينادي: صدق الله وكذب الشاعر. وحكى أبو القاسم الحافظ أيضًا عن الهيثم بن عَديّ قال: ] كتب عبد الملك إلى الحجاج: أما بعد، فإذا ورد عليك كتابيَ فابعث إليّ برأس أسْلم بن عَبد الكندي (¬2)؛ لما قد بلغني عنه. فأحضره وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين، فقال: أعزَّ الله ¬

_ (¬1) في العقد 5/ 15، و"تاريخ دمشق" 4/ 226 (مصورة دار البشير): وقد. (¬2) في "تاريخ دمشق" 4/ 226، ومختصره 6/ 210: البكري.

أمير المؤمنين الغائب وأنت الحاضر، والله تعالى يقول: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية [الحجرات: 6]، وما بلغه عني باطل، وإني أعول أربعًا وعشرين امرأةً ليس لهنّ كاسِبٌ غيري، قال: ومَن في بتصديق ذلك؟ قال: هن على الباب، فأمر بإدخالهن، فجعل يُسائلهنّ فتقول هذه: أنا عمته، وتقول هذه: أنا خالته، وتقول أخرى: أنا زوجته، إلى أن انتهى إلى جارية فوق الثمانية ودون العشارية، فقال لها: مَن أنت؟ فقالت: ابنته أصلح الله الأمير، ثم جثَتْ بين يديه وقالت: [من الطويل] أحجَّاجُ لم تَشهد مَقامَ بناتِه ... وعمَّاتِه يَندُبْنَه الليلَ أجْمَعا أحجاجُ كم تقتُل به إن قتلتَه ... ثمانًا وعشرًا واثنتين وأربعا أحجاج مَن هذا يقومُ مَقامَه ... علينا فمهلًا أن تزِننا تَضَعضُعا أحجاجُ إما أن تجودَ بنعمةٍ ... علينا وإما أن تُقَتِّلَنا معًا فبكى الحجاج وقال: لا والله لا أزيدُكُنّ تَضَعْضُعَا، وكتب إلى عبد الملك يخبره الخبر وما قالت الجارية، فكتب إليه عبد الملك بن مروان أن يُحسن صِلته ويُطلقَه. وأمر الحجاج محمد بن المُنْتَشِر ابن أخي مَسروق (¬1) بن الأَجْدع أن يُعذّب آزادمرد ابن الفرند على مال، فقال له آزادمرد: يا محمد، إن لك شَرفًا قديمًا، وإن مثلي لا يُعطي على الذلِّ شيئًا، فارفق بي واسْتأدِني، فاستأداه في جمعة ثلاث مئة ألف، فغضب الحجاج، وأمر صاحب العذاب أن يُعذِّبَه، قال محمد: فعذّبه حتى دَقَّ يديه ورجليه، فلم يعطه شيئًا. فمر بي على بَغْلٍ مُعترضًا قد دُقَّت يداه ورجلاه فقال: يا محمد، فكرهت أن آتيه فيبلغ الحجاج، وتذمَّمتُ من تركه إذ دعاني، فدنوت منه فقال: قد وَليتَ مني مثل ما ولي هذا فلم تُعذّبني، وأحسنتَ إلي، ولي عند فلان مئة ألف درهم، فاذهب فخذها لنفسك، فقلت: والله لا آخذ منها درهمًا وأنت على هذه الحال، قال: فإني أحدّثك حديثًا سمعتُه من أهل دينك يقولون: إذا أراد الله بالعبيد خيرًا أمطرهم في أوانه، ¬

_ (¬1) في النسخ: مروان، وهو خطأ، والمثبت من "الفرج بعد الشدة" 1/ 398، وترجمة محمد في "تهذيب الكمال" (6220)، والخبر في "الكامل" 395 - 397، و"العقد" 5/ 29. وليس في (ص).

واستعمل عليهم خيارَهم، وجعل المال عند سُمحائهم، وإذا أراد بهم شرًّا أمطرهم في غير أوانه، واستعمل عليهم شرارَهم، وجعل المال في أشِحَّائهم، ومضى. وأتيتُ منزلي وإذا برسول الحجاج، فأتيتُه وقد اخترط سيفه وهو في حِجْره، فقال: ادنُ، فقلت: كيف أدنو وهذا السيف مشهور في حِجْرك، لا دُنُوَّ لي إليك، فأضحكه والله، وأغمد السيف وقال: ما الذي قال لك الخبيث؟ فقلت: والله ما غششتُك منذ استنْصَحتَني، ولا كَذَبْتُك منذ صدقتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني، فأخبرته بما قال، فلما أردتُ ذكر الرجل الذي عنده المال صرف وجهه عني وقال: لا تُسمِّه، ولقد سمع عدو الله الأحاديث. [ذكر بعض وقائع الحسن البصري معه: روى الهيثم بن عدي، عن الشعبي قال: ] كان الحسن البصري يُفَسِّق الحجاج ولا يأمر بقتاله، فأرسل إليه، فجاء الحسن والسيف بين يديه والنِّطع، فلما دخل عليه قال له: أنت القائل: اتَّخَذُوا عبادَ الله خَوَلًا، ومالَ الله دُوَلًا، وكتابَهُ دَخَلًا، يأخذون من غضب الله، وينفقونه في سخط الله، والحساب غدًا عند البيدر {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]؟ قال الحسن: نعم، قال: فما حملك على ذلك؟ قال: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. فأطرق الحجاج وقال: يا جارية، هاتي الغالية، فجاءت بحُقٍّ، فغلَّفه منها بيده، وقال: اخرج فنعم المؤدِّب أنت، فلما خرج إذا بأصحابه على الباب ينتظرون ما يجري له، منهم ثابت البُناني وابن عَون وغيرهما، فسألوه عما بدا من الحجاج في حقّه فقال: دخلت على هذا العبد، فإذا هو في سَبَنِيَّةٍ رقيقةٍ فتَوشّح بها ذات عَلَم، في جُنْبُذَةٍ من خلاف، سقفُها الثَّلْج، وهو يقطر عليه، وهو حِبْلٌ، يُطَرطِبُ شُعيرات له، فأخرج إليّ ثيابًا قصيرة قلّما عَرِقت فيها الأعنّة في سبيل الله (¬1). ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 4/ 245. والخَوَل: العبيد، والدَّخَل: الفساد والريبة.

الجُنْبُذَةُ: القُبَّة، والسَّبَنِيَّة: ضربٌ من الثياب، والحِبْل بكسر الحاء المهملة والباء: الدَّاهية، والجمع الحُبول، ويُطَرطبُ؛ أي: يُدخل شفَته في شاربه غيظًا وحنقًا وتكبُّرًا. [وسنذكر وقائع الحسن معه في ترجمة الحسن إن شاء الله تعالى.] وقد ذكرنا قصته مع سعيد بن المسيب، وأنه دخل المسجد مع أبيه فأساء في صلاته، قال ابن الكلبي: ناداه سعيد: يا سارقَ صلاته، وقام فهزّه هزَّةً شديدة، ولزم بثوبه وقال: لقد هممتُ أن أضرب به وجهك، ثم خرج الحجاج إلى الشام، فأقام مدة، فلما قَتل ابنَ الزبير، ووُلّي على المدينة، ودخلها؛ بدأ بالمسجد، وجاء إلى سعيد، فقال الناس: اليوم ينتقم منه، فجلس بين يديه وقال له: أنت صاحب الكلمات؟ قال: نعم، قال: جزاك الله من معلّمٍ خيرا، ما صليتُ بعدك صلاةً إلا ذكرتُ قولك، ثم كان يُكرم سعيدًا، ويرفع منه. ذكر قصة الحجاج مع المرأتين: [حكى الأصمعي قال: ] أُتي الحجاج بامرأتين من الخوارج، فجعل يُكلِّم واحدةً وهي مُعرضة عنه، فقال لها بعضُ الشُّرَط: الأمير يكلمك وأنت تُعرضين عنه، فقالت: إني لأستحي من الله أن أنظر إلى مَن لا ينظر الله إليه، فأمر بقتلها، ثم استشار أصحابَه في قتل الأخرى فقالوا: عاجلها بالقتل، فقالت: يا حجاج، وزراءُ فرعون كانوا خيرًا من وزرائك، قال: ولمَ؟ قالت: استشارهم في قتل موسى وأخيه فقالوا: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الشعراء: 36] وهؤلاء أمروك بمعاجَلَتي، فأعجبه كلامَها، وخلَّى سبيلَها. حديث ابن أخت الحجاج [مع المرأة: حدثنا غير واحد عن شُهدة الكاتبة بنت أحمد قالت: نبأنا جعفر بن أحمد السرَّاج، نبأنا أبو طاهر أحمد بن علي السَّوَّاق، نبأنا محمد بن أحمد بن فارس، نبأنا عبد الله بن إبراهيم الزَّبيبي، نبأنا محمد بن خَلَف، حدثنا أبو بكر العامري، حدثنا عبد الله بن عمر، حدثنا] أبو عبَّاد قال: أدركتُ الخادم الذي كان يقف على رأس الحجاج فقلت: أخبرني بأعجب شيءٍ رأيتَه منه، فقال: كان قد ولى واسطًا ابنَ أخته أميرًا عنيها، وكان بواسط امرأة لم يكن بها في ذلك الوقت امرأة أجمل منها، فأرسل إليها مع خادم يريدها على نفسها، فأبت عليه وقالت: إن

أرادني حَلالًا خطبني من أهلي وإخوتي، وأما الحرام فلا أفعله، وكان لها أربعة إخوة، فأبى عليها، وراسلها مرارًا وهي تأبى عليه، فبعث إليها وقال: أنا آتيكِ الليلة، فأخبرتْ أمَّها بذلك، وأخبرت أمها إخوتها، فأنكروا ذلك أشد الإنكار، فقالت: إنه الليلة يأتي، فرصدوه، فجاء على دابَّته مُتنكِّرًا، فنزل عنها وقال للخادم: إذا كان وقتُ الغَلَس فأتني بها، ودخل وهي مستلقية على سريرها، وإخوتها في بيت بإزاء السرير، فاستلقى إلى جنبها، ووضع يده عليها وقال: إلى كم ذا المَطْل؟ فقالت له: كُفَّ يدك يا فاسق، وخرج إخوتُها فضربوه بالسيوف حتى بَرَد، ولفُّوه في نِطع، ورموه في بعض السِّكَك. وجاء الخادم بالدابة وقتَ الغَلَس، فدقَّ الباب دقًا خفيًّا فلم يكلّمه أحد، فخاف طلوعَ الفجر، فذهب بالدابة، وأصبح الناس فوجدوه مقتولًا، وأُخبر الحجاج ففَطِن وقال: عليَّ بمَن كان خصيصًا به، فجيء به، فقال له: والله لئن لم تَصدُقْني لأضربنَّ عُنقَك، فحدَّثه الحديث، فأرسل فأحضر المرأة وإخوتها، وسألهم فاعترفوا، فأمر برقيقه وماله ودوابّه فدُفع إلى المرأة وقال: خذيه، بارك الله لك فيه، وكثَّر في النساء أمثالك، ثم قال: مثل هذا لا يُدفن، فتركوه حتى أكلته الكلاب (¬1) [وهذه أكبر مناقب الحجاج]. وقال عمر بن شبَّة: مرض الوليد بن عبد الملك مرضًا أشرف على الموت، فغُشي عليه فقالوا: مات، وخرجت البُرُد إلى البلاد بموته، وقدم بريد على الحجاج بذلك، فاسترجع، ثم شدَّ نفسَه بحبلٍ إلى أسطوانة وقال: اللهم لا تسلِّط علينا مَن لا رحمةَ له، فقد طالما سألتُك أن تجعل مَنيَّتي قبل مَنيتِه، وجعل يتضرَّع ويقول ويدعو، فبينما هو على ذلك إذ قدم البريد بعلىية الوليد، قال: فأعتق كلّ عبدٍ، وكلَّ أمةٍ. ولما أفاق الوليد قال: ما أحدٌ أسرَّ بعافيتي من الحجاج، فقال له عمر بن عبد العزيز: كأني بكتاب الحجاج قد جاء يقول: إنه لما بلغه عافيتُك أعتق كل مملوك له، وأخرج من الأموال كذا وكذا، وبعث بقواريرَ من طيبِ الهند، قال: فما لبث أن وصل كتابُه بذلك. ¬

_ (¬1) "مصارع العشاق" 1/ 307.

وكان الحجاج قد ثَقُل على الوليد، حكى خادم الوليد قال: كنتُ أصبُّ الماء على الوليد ليلةً، وهو ساهٍ والماء يسيل، ولا أقدر أن أكلّمه، فرفع رأسه إليّ وقال: ويحك، تدري ما الخبر؟ قلت: لا، قال: مات الحجاج، فاسترجعتُ، فقال: اسكت ما يسرُّ مولاك أن في يده تفاحةً يَشمّها (¬1). ورُوي عن الوليد خلافُ هذا؛ فإنه لما مات الحجاج قال عمر بن عبد العزيز: الحمد لله الذي لم يقطع مدَّتي حتى أراني موت الحجاج، فقال له الوليد: يا أبا حفص، وهل كان الحجاج إلا منا أهل البيت، فقال له عمر: صدقت. وقال الهيثم: لما مات الحجاج حزن عليه الوليد بن عبد الملك حُزنًا شديدًا، وقال: كان أبي يقول: الحجاج جلدةُ ما بين عيني وأنفي، وأنا أقول: هو وجهي كلّه. فألحقه الله به عن قريب. ذكر وفاته: [حكى القاضي التَّنوخيّ عن] مُلازم بن حُرَيث (¬2) الحنفي قال: كنتُ في حبس الحجاج بسبب الحَروريّة، فحُبس معنا رجل، فأقام حينًا لا يتكلّم، حتى كان اليوم الذي مات فيه الحجاج في عشيَّته، إذ أقبل غُراب، فوقع على حائط السجن، فنَعق نَعقَةً، فتكلّم الرجل وقال: مَن يقدر على ما تقدر عليه يا غراب، ثم نعق ثانية، فقال: مثلُك مَن بشّر بخير، ثم نعق ثالثة فقال: يا غراب، من فيك إلى السماء. قال: فقلنا له: ما رأيناك تكلَّمتَ منذ حُبستَ إلى الساعة، فما هذا؟ ! فقال: إني زَجَرتُ الطَّير، أما في أول مرة فإنه نعق وقال: إني وقفتُ على سترة الحجاج، فقلت: ومَن يقدر على ما تقدر عليه يا غراب، ثم نعق الثانية فقال: إن الحجاج مريض، ثم نعق الثالثة وقال: الليلة يموت الحجاج. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 497. (¬2) كذا في النسخ، وفي "الفرج بعد الشدة" 2/ 160: ملازم بن قريب، وفي نسخة (غ) منه: حريب. وما بين معكوفين من (ص).

ثم قال الرجل: إن طلع الفجر قبل أن أخرج فليس عليَّ بأس، وإن دُعيتُ قبل الصبح فستُضرب عُنقي، ثم تلبثون ثلاثًا بعدي لا يدخل عليكم أحد، ثم يُدعى بكم في اليوم الرابع، فمن وجد له كفيلًا خُلِّي سبيلُه، ومن لم يوجد له كفيل فويله طويل، فلما كان قبل الصبح دُعي الرجل فقُتل، وسمعنا الصُّراخ على الحجاج، ومكثنا ثلاثًا لا يدخل علينا أحد، ثم دُعي بنا، فطُلب منا الكُفَلاء فأُطلقنا. [وقال الواقدي: ] مات الحجاج لخمس بقين من رمضان سنة خمس وتسعين بواسط، وكانوا يسمون ذلك اليوم: عُرْسَ أهل العراق. وقيل: مات في شوال، وروى ابن أبي الدنيا عن أشياخه قالوا: لم يُعلم بموته حتى أشرفت جارية من قصره وهي تبكي وتقول: ألا إن مُطعِمَ الطعام، ومُفَلِّق الهام، وسيّد أهل الشام قد مات، ثم قالت: [من البسيط] اليومَ يرحَمُنا مَن كان يَغبِطُنا ... واليومَ يأمنُنا مَن كان يَخشانا [وذكر الزمخشري في "ربيع الأبوار" أنه] لما احتُضر وأَيِس من نفسه تمثَّل بقول عُقبة بن زيد العَنبري: [من البسيط] يا ربِّ قد حلف الأعداءُ واجتهدوا ... أيمانهم أنني من ساكني النّارِ أيحلفون على عَمياءَ وَيحَهمُ ... ما ظَنُّهم بعظيمِ العفو غَفَّارِ [قال الزمخشري: ] فيقال إن الحسن لما بلغه ذلك قال: إن نجا فبهما. [وأما الهيثم فإنه روى] أن الحسن قال: هيهات! ذلَّ اللُّكَع، ثم قرأ {وَقَدْ عَصَيتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]. وقال ابن سيرين (¬1): لم دفنوه سمعوا جرَّ السَّلاسل في قبره، وسمعوا صُراخَه بُكرةً وعشيًّا وفي وسط الليل، فأجْرَوا على قبره الماء، وعَفَّوا آثاره، وأقاموا الحرسَ عليه خوفًا أن يُنْبَش. وقال أبو اليقظان: لما سمعوا جرّ السلاسل في قبره قال ابنه عبد الله: قاتل الله أبي، هذا بتقصيره في حقِّ الخلائق أصابه ما تسمعون. ¬

_ (¬1) في (ص): وقال الحسن.

[وقال أبو بكر بن عيّاش: ] أُخبر يزيد بن أبي مسلم بذلك، فركب في أهل الشام، فسمعوا صراخَه وجرَّ السلاسل، فقال يزيد: رحمك الله أبا محمد؛ ما تدع قراءة القرآن حيًّا ولا ميتًا، فتضاحك أهلُ الشام. وكان يزيد بن أبي مسلم كاتبَ الحجاج، وكان أظلمَ منه، وأقرَّه الوليد بعد الحجاج على ولايته، فتجاوز طغيانُه طغيانَ الحجاج، فقال الوليد: كنتُ كمن سقط منه درهم فوجد دينارًا، فقال سليمان بن عبد الملك: الحمد لله على وجدان ضالته. [واختلفوا في مدة ولاية الحجاج على العراق؛ فقال ابن المديني: ] ولي الحجاج العراق وله ثلاثون سنة، ومات وهو ابن ثلاث أو أربع وخمسين سنة، فكانت ولايته عشرين سنة، وقيل: اثنتين وعشرين سنة. والأول أصح [أنه أقام عشرين سنة؛ لأنه ولي في سنة خمس وسبعين، ومات في هذه السنة سنة خمس وتسعين]. ذكر أقوال العلماء فيه: [حكى أبو القاسم بن عساكر عن] عاصم بن أبي النَّجود أنه قال: ما أبقى الحجاج لله حُرمةً إلا انتهكها (¬1). وقال طاوس: عجبتُ لمن يُسمّي الحجاجَ مؤمنًا. وقال النَّخَعي: كفى بالمرء عَمًى أن يَعمى عن أمر الحجاج. وقال أبو رَيحانة: إني لأجد في بعض كتب الله المنزلة: الأبتر القصير، مُبدِّل السنّة بالبدعة، والملّة بغيرها، لعنه الله في سماواته، وملائكتُه، وأهلُ الأرض، فويل له، وويل لمن يحبّه. وقال الشعبي: كان الحجاج يفتخر ويقول: قتلتُ العبادلة الثلاثة، ووددتُ أني قتلتُ الرابع وإن كان ما فاتني، ثم يقول: قتلت عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن مُطيع، وعبد الله بن صفوان، والرابع عبد الله بن عمر، وودتُ أني قتلتُ ابنَ مسعود المنافق. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 4/ 251 وما بين معكوفين من (ص).

[وقال الهيثم بن عَديّ: ] قيل لطاوس اليماني: مات الحجاج، فقال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (45)} [الأنعام: 45]. ولما بلغ الحسنَ البصريَّ موتُه سجد وقال: اللهم ادْحَض سنَّته وآثارَه كما أرحتَنا منه. وقال حمّاد بن أبي سليمان: بَشَّرت إبراهيم النَّخَعي بموته فبكى وقال: ما كنتُ أرى أن أحدًا يبكي من الفرح. وقال الشعبي: ما رأينا مثل الحجاج، كان إنسانًا في زيِّ شيطان، وكلامه كلام الخوارج، وصولته صولة الجبّارين، وكان يخضب أطرافَه، ويُرَجِّل شعرَه. وقال مَيمون بن مهران: كان نصلِّي خلفه وكان من الأزارقة، قيل: وما الأزارقة؟ ! قال أصحاب نافع بن الأزرق (¬1)، وهو الذي إن خالفتَ رأيَه سمَّاك كافرًا واستحلَّ دمَك، وكان مُنافقًا يقتل من الخوارج مَن خالف الأزارقة. وروى رجاء بن حَيْوة، عن عمر بن عبد العزيز أنه قال (¬2): لو جاءت الفرس بأكاسِرتها، والروم بقياصرتها، واليمن بتبابِعتها، والعمالقة بفراعنتها، وجميع الأمم بجبابرتها وخبثائها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم. وكان عمر يسأل الله أن يُميتَه على فراشه ليكون أطولَ لعذابه. وقال ابن سيرين: كنتُ عند الحسن وجاءه رجل فقال: ما تقول فيمن حلَف بالطلاق على امرأته أن الحجاج في النار؟ فقال له الحسن: أنت الحالف؟ قال: نعم، قال: إن لم يكن الحجاج في النار فما تبالي إذا زانيت امرأتَك. ومعناه: إننا على باطل. [قال هشام: ] بلغ الحسن أن ثابتًا البناني يقول: إني لأرجو له، فقال الحسن: إني لأرجو أن يُخلف الله ظنَّه. [وحكى ابن عساكر، عن ميمون بن مِهْران قال: ] كان أنس وابن سيرين والحسن جماعة لا يبيعون ولا يشترون بالدراهم التي ضربها الحجاج. ¬

_ (¬1) هنا تعود نسخة (ب) بعد انقطاع وخرم طويل سلفت الإشارة إليه. (¬2) في (خ) و (د): وقال عمر بن عبد العزيز، والمثبت من (ص).

[وقال الشعبي: ] كان الحسن يقول: لعن الله الدَّانِق ومَن دَنَق الدانق، يعني الحجاج، وهو أول مَن فعله. وكان الحسن يُعظم أمر الحجاج ويقول: أليس هو القائل: لو أدركتُ عبدَ هُذَيل لضَربتُ عُنُقَه، وأليس هو القائل على المنبر -وذكر حديث أمِّ أيمن لما زارها أبو بكر وعمر فبكت وقالت: إنما أبكي لانقطاع الوحي من السماء، ثم قال الحجاج- كذبت أم أيمن، ما أعمل إلا بوحي، وما انقطع الوحي عن الخلائف -يعني بني أمية. وقال ابن عساكر: قد روى الحجاج عن ابن عباس، وأنس، وسَمُرة بن جُندب، وأبي بُردة بن أبي موسى، وعبد الملك بن مروان. وقد روى عنه أنس، وثابت البُناني، وحُمَيد الطَّويل، ومالك بن دينار، وقُتيبة بن مسلم، وسعيد بن أبي عروبة (¬1). قال المصنف رحمه الله: واختلفوا في روايته؛ فأجازها بعض الجُهَّال، ومنع منها عامة العلماء، فسئل الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه عنها فقال: ومَن يروي عن الحجاج؟ ! لا ولا كرامة. وقال عبد الرزاق: لا تصح روايته ولا الرواية عنه. وكذا قال علماء الأمصار. وحكى ابن عساكر (¬2)، عن ثابت قال: خطب الحجاج على المنبر وقال: تزعمون أني شديد العقوبة وقد حدثني أنس بن مالك؛ وذكر حديث العُرَنِيِّين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع أيديهم وأرجلهم، وثَمل أعينهم، فقال أنس: وددتُ أني متّ قبل أن أحدّثَه. وقال أبو عبد الرحمن: الحجاج ليس بثقة ولا مأمون. ذكر مَن قتل الحجاج ومَن مات في حبسه: [حكى الحافظ ابن عساكر بإسناده عن هشام بن حسان قال: ] أحصَوا ما قتل الحجاج صَبْرًا فكان مئةَ ألف وعشرين ألفًا، ومات في سجنه ثمانون ألفًا منهم ثلاثون ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 4/ 208 وما سلف بين معكوفين من (ص). (¬2) في تاريخه 2/ 91 (مخطوط).

ألف امرأة، وعُرضت سجونه بعد موته فوجدوا فيها ثلاثين ألفًا لم يجب على أحدٍ منهم حدٌّ، ولا جنى جِناية. وقال الشعبي: رأيت حبس الحجاج لم يكن له سَقفٌ ولا ظِلٌّ صيفًا وشتاء. وكان يحبس الرجال مع النساء، ولم يكن في الحبس مطاهر، وكان الرجل يبول إلى جانب المرأة، والمرأة تبول إلى جانب الرجل فتبدو العورات. وكان كل عشرة في سلسلة، ويطعمهم خُبزَ الدَّخَن مخلوطًا بالملح والرماد. وقال الشعبي: أُحصيت ما في سجونه فكانوا يوم مات ثلاثون ومئة ألف من أهل القبلة؛ ليس لواحد منهم ذنب يستوجب به الحبس. قال: واجتاز يومًا على الحبس فصاح من فيه وبكوا، فالتفت إليهم وقال: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، فما تكلم بعدها، ومات بعد يومين أو خمسة أيام. ذكر أولاده ونسائه: كان له من الولد: محمد، مات في حياة أبيه وقد ذكرناه. وعبد الله، أقره الوليد موضع أبيه. وعبد الملك، وأبان، والوليد، وجارية، عذَّبهم سليمان بعد موت الحجاج. ولم يبق له عَقِب إلا من قِبل عبد الملك بالبصرة. وكان له من النساء أربع: أم الجُلَاس بنت سعيد بن العاص، أمويّة. وهند بنت أسماء بن خارجة، فَزاريّة. وأم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر، وهند بنت المُهلَب بن أبي صُفْرة. ذكر ما رؤي للحجاج من المنامات: قال أبو مَعشَر: مات رجل، فلما وُضع على مُغْتَسَله استوى قاعدًا وقال: بَصُرتُ بعينيّ -وأهوى بيده إلى عينيه- الحجاجَ وعبد الملك في النار يسحبان أمعاءهما، ثم عاد ميتًا كَما كان.

[وحكى ابن عساكر عن] سِماك بن حَرْب قال: رأيت في منامي قائلًا يقول: إياك والصلاةَ خلف الحجاج، لأقصِمنّه كما يَقصم عبادي. وحكى أيضًا عن الأصمعي، عن أبيه قال: رأيت الحجاج في منامي فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني بكلِّ قَتلة قتلتُ قَتلة، ثم رأيته في رأس الحول في منامي فسألته فقال: يا ماصّ، أما أخبرتُك عام أول، وقتلني بقتلة سعيد بن جبير سبعين قتلة، وأنا أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا الله (¬1). [ورآه عمر بن عبد العزيز في منامه، وسنذكره في ترجمة عمر] (¬2). ورثاه الفرزدق فقال: [من الطويل] ليَبْكِ على الإسلام مَن كان باكيًا ... على الدِّين من مُستوحِشِ الليلِ خائفِ وأرملةٌ لما أتاها نَعِيُّهُ ... لجادَتْ له بالواكفاتِ الذَّوارِفِ وقالت لعبدَيها أنيخا فأعقِلا ... فقد مات راعي ذَوْدِنا بالتَّنائفِ فليت الأكفَّ الدافناتِ ابنَ يوسُفٍ ... يُقَطَّعن إذ يَحثين فوق السَّقائفِ قال أبو بكر بن عياش: فلقيتُ الفرزدق بالكوفة فقلت: أخبرني عن قولك: فليت الأكف الدافنات ابن يوسف ما معناه؟ فقال: وَدِدْتُ والله أن أرجُلَهم تُقطَع مع أيديهم أيضًا. فلما مات الوليد، وقام سليمان، واستعمل يزيد بن المهلَّب على العراق، وأمره بقتل بني عَقيل واستئصالهم؛ قال الفرزدق: [من الطويل] لقد أصبح الأحياءُ منهم أذِلَّة ... وموتاهمُ في النار كُلْحًا سِبالُها وكانوا يَرون الدَّائراتِ بغيرهم ... فصار عليهم بالغَداةِ انتقالُها وكنَّا إذا قُلنا اتَّقِ الله شَمَّرَتْ ... به عِزَّةٌ لا يُستطاع جِدالُها ألِكْني إلى مَن كان بالصِّين أو رَمَتْ ... به الهندَ ألواحٌ عليها جلالُها هلمَّ إلى الإسلام والعَدْلِ عندنا ... فقد مات مِن أرض العراق عُضالُها ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 4/ 258 (مخطوط) وما بين معكوفين من (ص). (¬2) ما بين معكوفين من (ص) وبعدها: انتهت سيرة الحجاج فصل، وفيها توفي عبد الرحمن بن معاوية.

قال ابن عيّاش: فلقيتُ الفرزدق، فقلت: ما ندري بأي قوليك نأخذ، بمدحك الحجاج أم بهجائه؟ ! فقال: إنما نكون مع أحدهم إذا كان الله معه، فإذا تخلّى عنه تخلينا عنه (¬1). وخطب خالد بمكة وهو عامل للوليد عليها، فأثنى على الحجاج كثيرًا، فلما نزل جاءه كتاب سليمان بن عبد الملك يأمره بلعنة الحجاج على المنبر، وسبِّه، وذكرِ مَثالبه، فصعد المنبر الجمعةَ الأخرى، فلعنه، وسبه، وعدّ قبائحه، فناداه رجل: بالأمس تمدحه واليوم تلعنه؟ ! فقال له خالد: إن إبليس كان من الملائكة، وكان يُظهر من العبادة لله ما كانت الملائكة تعترف له بالفضل عليها، وإن الحجاج كان يُظهر من الطاعة لأمير المؤمنين ما كنا نرى له الفضل علينا، وكان يُضمِر من الغِلِّ في قلبه، ومن الغشِّ في صدره؛ ما كان يَخفى علينا، فلما أراد الله تعالى أن يَفضحه فضحه على لسان أمير المؤمنين، فالعنوه لعنه الله، ثم نزل (¬2). وقد جاءت عن الحجاج آثار، منها: قول عمر بن الخطاب رضوان الله عليه لما بلغه أن أهل العراق حصبوا عامله فقال: اللهم سلِّط عليهم الغلامَ الثَّقفيّ، يحكم فيهم بحُكم الجاهلية، لا يقبل من مُحسنهم، ولا يتجاوز عن مُسيئهم. ومنها: أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال لرجل: لا مِتَّ حتى تُدرك فتى ثقيف، قيل: يا أمير المؤمنين، وما فتى ثقيف؟ ! قال: ليُقالنَّ له يوم القيامة: اكفنا زاويةً من زوايا جهنم، يملك عشرين سنة، لا يدع معصيةً لله إلا ارتكبها، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة بينها وبينه باب مُغلق إلا كسره حتى يرتكبها، يقتل بمَن أطاعه مَن عصاه، يأكل خُضرتَها، ويَلبس فَروتها، ويحكم فيها بحُكم الجاهلية. قال الحسن البصري: وما خُلق الحجاج يومئذ. وفي رواية: ولا يُبقي بيتًا من العرب إلا ألبسهم الذلّ (¬3). انتهت ترجمته. ¬

_ (¬1) "العقد الفريد" 5/ 56 - 57. (¬2) انظر "العقد" 5/ 30. (¬3) "تاريخ دمشق" 4/ 240 - 241.

حميد بن عبد الرحمن

حُمَيد بن عبد الرحمن ابن عَوف الزُّهريّ أبو عبد الرحمن. من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وأمُّه أم كُلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيط. توفّي بالمدينة سنة خمس وتسعين وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. وقيل: مات سنة خمس ومئة (¬1). وروى عن سعيد بن زيد، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي هريرة، والنعمان بن بشير، وأم كلثوم بنت عُقبة. وكان ثقةً كثير الحديث، عاليًا رفيعًا. وكان له مالٌ وجاه، وحُمل عنه الحديث، وهو شيخ الزهريّ. ومن ولده: غُرَيْر [واسمه] عبد الرحمن (¬2) بن المغيرة بن حُمَيد بن عبد الرحمن بن عَوف. كان جوادًا مُمَدَّحًا، وكان بنو غُرَير: إسحاق، ويعقوب، ومحمدًا، فيهم يقول الصُّهيبيّ: [من الطويل] نفى الجوعَ من بغدادَ إسحاقُ ذو النَّدى ... كما قد نفى جوعَ الحجازِ أخوه وما يكُ من خيرٍ أتَوه فإنما ... فِعالُ غُرَيرٍ قبلَهم ورثوه فأُقسم لو ضافَ الغُرَيرِيَّ بَغتةً ... جميعُ بني حوَّاء ما حَفَلُوه هو البحرُ [بل] لو حَلَّ في البحر رِفْدُه ... ومَن يَجتَديه ساعةً نَزَفوه (¬3) ¬

_ (¬1) رد هذا القول ابن سعد 7/ 153، ونقله عنه الذهبي في "السير" 4/ 293 دون نسبة. (¬2) في (خ) و (د) و (ب): غرير بن عبد الرحمن، وهو خطأ والمثبت من "طبقات ابن سعد" 7/ 466، و"جمهرة ابن حزم" 133، و"التبيين" 298. (¬3) "التبيين" 298، و"تاريخ بغداد" 7/ 322 وما بين معكوفين منهما.

عبد الرحمن بن معاوية

[فصل: وفيها توفي] عبد الرحمن بن مُعاوية ابن حُدَيْج الكِنديّ [وكُنيته أبو معاوية] وأبوه معاوية من الصحابة، وهو الذي قتل محمد بن أبي بكر الصديق [وحرَّقه بالنار، وقد ذكرناه]. وَلي عبد الرحمن قضاء مصر في سنة ست وثمانين، وكان على الشُّرطة أيضًا. [قال ابن لَهيعة: ] وهو أول قاضٍ نظر في أموال اليتامى بمصر، وأقام لها العُرفاء. وولّاه عبد الملك قضاء الإسكندرية بعد موت عبد العزيز بن مروان بشهرين، ووفد على الوليد ببيعة أهل مصر، ومات بمصر في هذه السنة، وكان ثقةً من التابعين. أسند عن أبيه، وعن ابن عمرو، وأبي بَصرة الغِفاريّ، وغيرهم، وروى عنه يزيد بن أبي حَبيب، وعُقبة بن مُسلم، وجماعة من أهل مصر (¬1). [فصل: وفيها توفي] قُرَّة بن شَريك العَبْسيّ [قال علماء السِّير: ] كان من أمراء بني أمية، ولّاه الوليد مصر، وكان سيِّئ السِّيرة، خبيثًا، ظالمًا، غَشومًا، عَسوفًا، فاسقًا، مُتَهتّكًا. [وذكره أبو سعيد بن يونس في "تاريخ مصر" فقال: ] هو من أهل قِنَّسْرين، قدم مصر سنة تسع وثمانين أو سنة تسعين، فأقام واليًا عليها ست سنين أو خمس سنين. وكان الوليد قد عزل عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وولَّى قُرَّة، وأمره ببناء جامع مصر والزيادة فيه سنة اثنتين وتسعين، فأقام في بنائه سنتيق، وكان الناس يصلُّون الجمعة في قَيسارية العسل حتى فرغ من بنائه. [قال ابن يونس: ] وكان الصُّنَّاع إذا انصرفوا من البناء دعا بالخمور والزُّمور والطُّبول، فيشرب الخمر في المسجد طول الليل ويقول: لنا الليل، ولهم النهار. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 42/ 5 وما بين معكوفين من (ص).

السنة السادسة والتسعون

وكان أشرَّ خلق الله، وتحالفت الأزارقة على قتله، فعلم فقتلهم. وكان عمر بن عبد العزيز يَعتب على الوليد بتولية قرة على مصر. [وقال عمر في كتابه إلى الوليد: وأظلم مني مَن ولّى قُرة مصر. وحكى ابن يونس قال: ] مات قرة في سنة خمس وتسعين بمصر. [وحكى ابن عساكر، عن صالح بن الوجيه قال: ] وَرد على الوليد البريد في يوم واحد بموت الحجاج وموت قرة بن شريك، فصعد المنبر، وهو كاسفُ البال، حاسر، مُشْعَانّ الرأس، [أي: مُنَشّر الشَّعَر] فنعاهما إلى الناس وقال: والله لأشفعنّ لهما شفاعةً تنفعُهما، فقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: انظروا إلى هذا الخبيث، لا أناله الله شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وألحقه بهما، فاستجاب الله دعاءه، وأهلك الوليد بعدهما بثمانية أشهر أو أقل (¬1). السنة السادسة والتسعون فيها شتَّى بشر بن الوليد ببلاد الروم، فقفل وقد مات الوليد. وفيها عزم الوليد على خلع أخيه سليمان، وكان قد شاور الحجاج فأشار عليه بخلعه. وكان عبد الملك قد عهد إلى سليمان بعد الوليد، فأقام على ذلك مدة إلى السنة الماضية فأراد أن يبايع لابنه عبد العزيز بن الوليد ويخلع سليمان، فامتنع سليمان وكان مقيمًا بفلسطين، فعرض عليه الوليد أموالًا كثيرة فأبى، فكتب الوليد إلى عماله أن يَخلعوا سليمان ويبايعوا لعبد العزيز، فلم يُجبْه إلى ذلك سوى الحجاج، وقُتيبة بن مُسلم، وبعض الناس، ودسّ الوليد إلى الشعراء أن يذكروه في أشعارهم، فقال جرير: [من الطويل] إذا قيل أيّ الناس خيرُ خليفةٍ ... أشارَتْ إلى عبد العزيز الأصابعُ رأَوه أحقَّ الناس كلِّهمُ بها ... وما ظلموا إذْ بايعوه وسارعوا وقال أيضًا: [من الوافر] ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 59/ 16 - 20 وما بين معكوفين من (ص).

إلى عبد العزيز سمَتْ عيون الرَّ ... عِيَّةِ إذ تحيَّرتِ الرعاءُ إليه دعَتْ دَواعيه إذا ما ... عمادُ الملك تَعْتَعَ واللِّواءُ رأَوا عبدَ العزيز وليَّ عهْدٍ ... وما ظلموا بذاك ولا أساؤوا وماذا ينظرون بها وفيكم ... جُسورٌ بالعظائم واعتِلاءُ فزَحْلِفْها بأَزْمَلِها إليه (¬1) ... أميرَ المؤمنين إذا تَشاءُ فإن الناس قد مدُّوا إليه ... أُكفَّهمُ وقد بَرِح الخَفاءُ ولو قد بايعوه وليَّ عهدٍ ... لقام الوَزْنُ واعتدل البِناءُ وقال لعمر بن عبد العزيز: بايع لعبد العزيز، فقال له عمر: إنما بايعناك وسليمان في عقد واحد، فكيف نخلعه ونتركك؟ فأخذ الوليد منديلًا، فجعله في عُنق عمر، ولواه حتى كاد أن يموت، فصاحت أختُه أمّ البَنين، فحبسه في بيت، وطين عليه الباب، فأقام ثلاثًا، فقالت له أم البنين: أطلق أخي، فأخرجه وقد كاد يموت، وعُنقه قد التوى، فلم يزل مائلًا حتى مات، وقالت أم البنين: اللهم لا تُبلّغ الوليد في ولده أملَه (¬2). وقال الوليد ليزيد بن حُصَين بن نُمَيْر السَّكوني: بايع لعبد العزيز، فقال: أما بيميني فقد بايعتُ بها لسليمان، فإن شئتَ بايعتُ لعبد العزيز بشمالي بايعت. وقال له عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدْر بابنك، فاكتب إلى أخيك سليمان فليقدم عليك، فاطلب إليه أن يُبايع لعبد العزيز من بعده، فإنه لا يقدر أن يمتنع إذا كان عندك، ولو امتنع كان الناس معك عليه، ولا يتغيّر ما قرَّره أبوك. فكتب إلى سليمان يأمره بالقدوم عليه فأبطأ، فعزم الوليد على المسير إليه، وشرع في الجهاز، وأمر الناس بذلك، فمرض ومات قبل أن يسير إلى أخيه. ¬

_ (¬1) يعني ادفعها بأجمعها إليه، وكان في النسخ (ب، خ، د): فزخلفها لان لها إليه؟ ! ، والمثبت من الطبري 6/ 507، والخبر بطوله ليس في (ص). (¬2) "تاريخ دمشق" 43/ 35.

وقال [الهلواث] الكلبي: كتب الحجاج إلينا -وكنا بالهند مع محمد بن القاسم، وقد قُتل داهر ملك الهند- يقول: اخلعوا سليمان، واخطبوا لعبد العزيز. فلما مات الوليد وولي سليمان كتب إلينا: أقيموا مكانكم، وازرعوا واحصدوا فلا شام لكم، فأقاموا بالهند مدة خلافة سليمان، حتى قام عمر بن عبد العزيز فأقْفَلَهم (¬1). وفيها توفي الوليد بن عبد الملك منتصف جمادى الآخرة يوم السبت، وولي أخوه سليمان. وفيها انتهى بناء جامع دمشق قبل وفاة الوليد بن عبد الملك بن مروان. ذكر ما يتعلق بالجامع الأموي: ذكر أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" حكايةً في الأموال التي بنى بها الوليد جامع دمشق وسببها، فحكى عن أصبغ بن محمد بن لَهيعة السَّكسكي -من أهل بيت قومًا قرية بغوطة دمشق- قال: مرَّ الوليد برجل من العمال في المسجد، فرآه يبكي فقال: ما يبكيك؟ فقال: كنت حمالًا، فلقيني رجل فقال: أتحملني إلى موضع كذا وكذا؟ فذكر مكانًا في البرية، فقلت: نعم، فحملتُه وسرنا فقال: إن بلَغْنا المكان الذي ذكرت لك أغنيتُك، وإن مت قبل البلوغ إليه فاحمل جثتي إلى المكان الذي أصف لك، فإن ثَمَّ قصرًا خرابًا، فإذا وصلت إليه فعدَّ سبع شرافات من الناحية الفلانية، واحفر تحتها قدر القامة، فإنه سيظهر لك بلاطة فاقلعها، فإنك تجد مغارة فيها سريران؛ على أحدهما رجل ميت، فاجعلني على السرير الآخر، وحمِّل جِمالك وحمارك من المغارة ما استطعت، وكان معي أربعة أجمال وحمار. قال: ومات في الطريق، فأتيت القصر، وحفرت تحت الشرافة، فظهرت المغارة، فنزلت إليها وإذا بالرجل مسجى على سرير، وإلى جانبه سرير وليس عليه أحد، فأضجعته كما قال، ووجدتُ من الأموال والجواهر ما لا يوصف، فحمَّلتُ الجمال والحمار، وكان معي مِخْلاة فنسيتُ أن أملأها، وتداخلني الشرَّه فعُدتُ إلى المكان، وتركت الجمال بحالها، فلم أجد المكان، وغُمَّ علي فلم أعرفه، وعدت إلى الجمال ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 499، وما بين معكوفين منه.

فلم أجدها، فدرت في البرية أيامًا فلم أظفر بها، فعدت إلى دمشق، وألجأني الزمان إلى أن أعمل في التراب كل يوم بدرهم، فكيف لا أبكي؟ ! فقال له الوليد: لم يكن لك رزق في تلك الأموال، وقد صارت إليّ، وأنا أبني بها هذا الجامع (¬1). وقال الوليد بن مسلم: لما حفروا الأساسات وجدوا بابًا صغيرًا وعلى أُسكُفَّته حروف بالمُسْنَد، فلم يفهموها، فبعث الوليد إلى الآفاق، فجمع العلماء فحلوها إلى العربية، فإذا هي: لما رأينا هذين النيّرين والفلك الدائر؛ أيقنَّا أن لهم صانعًا، فبنينا هذا الهيكل لنعبده فيه، وكان ذلك الباب في أعلى الهيكل، فصار تحت الأرض قامات. وقال الوليد بن مسلم: كان نقش هذا اللوح بالمسند: لما كان العالم مُحدَثًا بدليل أمارات الحَدَث عليه؛ ثبت أن له مُحدِثًا، فانتدب لبناء هذا الهيكل نجب الخير (¬2)، فإن رأى الداخل فيه ذكر بانيه عند بارئه بخير فعل أو شكر فعله، وكتب لسبعة آلاف سنة خلت من سني ملك الاسطوان. وحكى ابن عساكر عن أبي مُسهر الغَسَّاني قال: حيطان جامع دمشق من بناء هود - عليه السلام -، وما كان من الفسيفسات فمن عمل الوليد. وقال أبو مُسهر: وجدوا حجرًا في حائط جامع دمشق، عليه مكتوب بالمسند، فلم يحله سوى وهب بن منبه، وإذا فيه: يا ابن آدم، لو عايَنْتَ ما بقي من يسير أجَلك لزَهِدْتَ فيما بقي من طويل أملك، وإنما يستولي عليك ندمك إذا زَلّت بك قدمُك، وأسلمك أهلُك وحَشَمُك، وانصرف عنك الحبيب، وهجرك القريب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في عملك زائد، فاغتنم الحياة قبل الموت، والمبادرة قبل الفوت، قبل أن يُؤخذ منك بالكظم، ولا ينفعك النَّدم. وكتب في أيام سليمان بن داود نبي الله. فأمر الوليد أن يكتب هذه السطور بماء الذهب على حائط الجامع. وحكى ابن عساكر، عن أبي مروان عبد الرحيم قال (¬3): لما احتفروا أساس الجامع وجدوا مغارةً فيها تمثال إنسان من حجارة، على فرس من حجارة، وفي يده الواحدة ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 3/ 64 (مخطوط). (¬2) في مختصر تاريخ دمشق 3/ 296، والدارس 2/ 373: مُحبُّ الخير. (¬3) في النسخ: مروان بن عبد الرحيم، والتصويب من "تاريخ دمشق" 1/ 316. والخبر قبله فيه 1/ 301.

دُرَّة، والأخرى مقبوضة، فأمر بها الوليد ففُتحت، فإذا فيها حبَّةُ قمح وحبة شعير، فقال الوليد: لو تُركت على حالها لم يُسوِّس قمح ولا شعير في هذه المدينة. وقال ابن خُرداذبة في كتاب "المسالك والممالك": وبدمشق مسجد ليس في الإسلام مثله ولا أحسن منه، كان مصلّى الصَّابئة، ثم صار إلى اليونان، ثم إلى اليهود، ثم إلى عَبَدة الأوثان، فقُتل فيه يحيى بن زكريا، ثم غلبت عليهم النصارى، فصار في أيديهم كنيسةً يُعظّمونها حتى جاء الإسلام، فصار للمسلمين مسجدًا، فلما كان في أيام الوليد بن عبد الملك عمره، فجعل أرضه مَفْروشة رخامًا، وجدرانه رخامًا مُجَزّعًا، وأساطينه رخامًا مُوَشًّى، ومعاقِدَ رؤوس أساطينه ذهبًا، ومحرابه مُرَصَّعًا بالجواهر، وسطحُه معمول بالرصاص، ويقال: إنه أنفق عليه خراج الشام خمس سنين. وقال الوليد بن مسلم: وكان سليمان بن عبد الملك يتولَّى عِمارته، فكمل في تسع سنين، وغرم عليه أربع مئة صندوق، في كل صندوق أربعون ألف دينار، وقيل: في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار، وقيل: ثمانية وعشرون ألف دينار، وأكل صُنّاعُه بقلًا وخلًا بعشرة آلاف دينار. [وحكى الحافظ ابن عساكر: ] قال إبراهيم بن هشام: رخامتا المقام، يعني المحراب، من عرش بلقيس، وكان في الجامع اثنا عشر ألف مُرَخّم (¬1). وقال الوليد بن مسلم: غرم على المحراب خمسون ألف دينار، وفي رواية: سبعون ألفًا، وعلى قبة النَّسر مئتا ألف دينار. ولما سقفوه بالرصاص بقي في القُبَّة مكانُ لوح، فلم يقدروا عليه، فقيل هو عند امرأة فقيرة، فطُلب منها فقالت: ما أَبيعه إلا بوزنه ذهبًا، فقال الوليد: أعطوها، فلما قبضت المال دفعت إليهم اللوح وردَّت المال، فقيل لها في ذلك فقالت: الجواب بحضرة أمير المؤمنين، فأُخبر الوليد، فأمر بإحضارها فحضرت، فقال: لم رَدَدْتِ المال؟ فقالت: ظننت أنك تظلم الناس في عمارة المسجد، فلما رأيت إنصافَك أردتُ ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 1/ 311 وما بين معكوفين من (ص).

أن أبقي لك ذكرًا في الغابرين، فيتحدّث الركبان بأنك دفعتَ في لوحٍ من رصاص مثله ذهبًا، ويُخلَّد ذلك في السِّيَر، وقد جعلته لله تعالى، فأعجب الوليد حالها وقال: اكتبوا اسمها على لوحها فكتبوه، وفي رواية: فكتبوا على اللوح: لله، طبعوه بطابع، ولم يُدخِله الوليد في عمله، وقيل: كانت المرأة يهودية، فكتبوا عليه: هذا لوح الإسرائيلية، فكان يقرأ ما عليه إلى زمان حريق الجامع (¬1). وقال الوليد بن مسلم: لما وضعوا أساس الجامع نزلوا في الأرض قامات، فظهرت ألواح مكتوب عليها بأقلام لم يقدر أحد أن يَحلَّها. وقال إبراهيم بن هشام: لما تكامل بناءُ قبَّة الجامع وقعت، فشق على الوليد فجاءه صانع فقال: أنا أبنيها بناءً مُحكَمًا لا يتغير، فحفر موضع الأركان حتى بلغ الماء، ووضع الأساس، فلما ارتفع البناء واستقلّت القبة على وجه الأرض؛ غطاها بحُصُر وهرب، فطُلِب فلم يوجد، وغاب سنة، ثم ظهر فلم يشعر الوليد إلا وهو على بابه، فأدخل عليه فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قم معي حتى ترى العجب، فقام معه فكشف الحصر، فإذا البنيان قد صار مع وجه الأرض، فقال: من ها هنا كان يؤتى البنيان، ثم رفع البناء فتمّ على ما هو عليه اليوم لم يتغير. قال الوليد بن مسلم: وكان فيه ست مئة سلسلة من ذهب فكان لا يستطيع أحد أن يصلي فيه من شعاعها، وعلى أبوابه صفائح الذهب. [وقال أبو مُسْهِر: ] لما انتهى الجامع خطب الوليد فقال: أيها الناس، إنكم تفتخرون على البلاد بحُسن بلدكم، وكثرة خيره، وفواكهه ومياهه، فافخروا على أهل الدنيا بجامعكم. [وقال أبو مروان عبد الرحيم: ] كان على باب الساعات كهيئة البيكار، عليه عصافير من نحاس، وحية من نحاس، وغراب، فإذا انقضت ساعة خرجت الحية فصفرت، فصاحت العصافير، ونعق الغراب، وسقطت حصاة في الطست، وكان في سقوف ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 1/ 310.

الجامع طِلَّسمات لسائر الحيوانات والحشرات فيما يلي السبع، فلما احترق الجامع ليلة نصف شعبان سنة إحدى وستين وأربع مئة ذهب الكل. وفوّارة جَيرون أُحدثت سنة تسع وستين وثلاث مئة، ثم جُدِّدت مرارًا، منها سنة ست عشرة وأربع مئة، ساق إليها الشريف فخر الدولة أبو يعلى حمزة بن الحسين الحسيني (¬1) الماء من قصر الحجاج، وبنى عليها قبة، ثم وقعت في صفر سنة سبع وخمسين وأربع مئة، ثم وقعت حيطانها في حريق اللبّادين سنة اثنتين وستين وخمس مئة في شوَّال، ثم جُدِّدت. وأول مَن أحدث القراءة في جامع دمشق هشام بن إسماعيل بن هشام المخزومي. قال المصنف رحمه الله: وأخبرني الشيخ الصالح أبو عمر محمد بن أحمد المقدسي رحمه الله قال: حدثني أبو محمد بن بَرّي بإسناده إلى كعب الأحبار قال: إنا نجد في كتب الله المنزلة أن الله أوحى إلى جبل قاسيون أن هب ظلَّك وبَركتك وخيرك لجبال بيت المقدس، فقال: قد فعلتُ، فأوحى الله إليه: لن تذهب الأيام والليالي حتى أردَّ عليك ظلَّك وخيرَك وبركتَك، وسيُبنى لي في ظلِّك بيت أُعبد فيه بعد خراب الدنيا أربعين عامًا. قال: فقاسيون عند الله تعالى بمنزلة العبد الضعيف المتضرّع. قال المصنف رحمه الله (¬2): ولما حدثني الشيخ أبو عمر بهذا الحديث في سنة ست وست مئة تبسم وقال: أرجو أن يكون لجامع الجبل الذي بناه. [وقد أخرج أبو القاسم بن عساكر هذا الأثر في "تاريخه" من طريق الوليد بن مسلم، عن القاسم بن عبد الرحمن (¬3)، وفيه: وأبني لي في حصنك بيتًا، قال الوليد بن مسلم: هو مسجد دمشق، ولم يذكر في هذه الرواية كعب الأحبار. ¬

_ (¬1) كذا وهو خطأ، صوابه حمزة بن الحسن بن العباس بن الحسن، كما ذكر ابن عساكر في تاريخه 5/ 302، والخبر في 1/ 311. (¬2) في (ص): قلت. (¬3) في "تاريخ دمشق" 1/ 300: الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي عاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن.

وذكر في رواية أخرى عن كعب أنه قال: لَيُبنَينّ في دمشق مسجد يبقى بعد خراب الدنيا أربعين عامًا. وروى ابن عساكر عن جماعة من التابعين في تفسير قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيتُونِ} أن التين مسجد دمشق. قال: وقد أدركوا فيه شجرات الزيتون قبل أن يبنيه الوليد. قال: والزيتون مسجد بيت المقدس (¬1). وذكر آثارًا كثيرة فيها للمحدثين نظر، منها قول سفيان الثوري: صلاة في جامع دمشق بثلاثين ألف صلاة (¬2). وقد أخرج مسلم عن سهل بن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام".] (¬3) وحُكي أنهم لما حفروا أساس جامع دمشق وجدوا مغارة، فنزل إليها الوليد في الليل بالشمع، وإذا هي كنيسة لطيفة ثلاثة أذرع في مثلها فيها صندوق، ففتحه وإذا بسَفَط فيه رأس مكتوب عليه: هذا رأس يحيى بن زكريا، فأمر به الوليد فرُدَّ إلى المكان، وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه منفردًا عن الأعمدة، فجعلوه، وسفطوا رأس العمود. وقال زيد بن واقد: رأيتُ رأس يحيى بن زكريا قد أُخرج من تحت ركن من أركان القُبَّة، فكانت الشَّعرة والبَشَرة لم تتغيَّر (¬4). [وأكثر الشعراء في وصف جامع دمشق، فقال بعض المحدَثِين: [من المنسرح] دمشقُ قد شاع حُسنُ جامِعِها ... وما حوتْه رُبى مرابِعها بديعةُ الحسنِ والكمالِ لما ... يُدركه الطرفُ من بدائعها طيِّبةٌ أرضُها مباركةٌ ... باليُمنِ والسَّعدِ أخذُ طالِعها ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 1/ 299 - 300. (¬2) انظر "تاريخ دمشق" 1/ 302 - 303. (¬3) ليس في صحيح مسلم حديث سهل بن سعد، إنما رواه من حديث أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - (1394 - 1395). وما سلف بين معكوفين من (ص). (¬4) "تاريخ دمشق" 1/ 301.

جامعُها جامعُ المحاسنِ قد ... فاقتْ به المُدْنَ في جوامعِها بَنيَّةٌ بالإتقان قد وُضِعتْ ... لا ضيَّع الله سَعْيَ واضِعها تُذكر في فضلِه ورِفعتِهِ ... أخبارُ صِدْقٍ راقت لسامعِها إذا تفكَّرت في الفُصوصِ وما ... فيها تيقَّنتَ حِذْقَ راصِعِها أحكمَ ترخيمَها المُرَخِّمُ قد ... بأن عليها إحكامُ صانِعها وإن تحكَّمْتَ (¬1) في قناطرِهِ ... وسقفِه بان حِذقُ رافِعها وإن تبيَّنْتَ حُسْنَ قُبَّتِهِ ... تحيَّرَ اللُّبُّ في أضالِعها تخترِق الرِّيحُ في مَخارِمها ... عَصْفًا فتقوى على زَعازِعها وأرضُه بالرّخامِ قد فُرِشَتْ ... يَنفَسِحُ الطَّرفُ في مواضعها مجالسُ العلمِ فيه مُونقةٌ ... يَنشرح الصَّدرُ في مجامعِها وكلُّ باب عليه مَطهرَةٌ ... قد أمِنَ الناسُ دَفْعَ مانِعها (¬2) من أبيات.] وقال الوليد بن مسلم: ولما ولي عمر بن عبد العزيز أراد نقض الجامع، وإدخال ما فيه في بيت المال، فعزَّ على أهل دمشق والأشراف، فخرجوا إليه، فقال لهم خالد بن عبد الله القَسْرِيّ: ائذنوا لي حتى أُكلِّمه، فأذنوا، وكان عمر بدَير سَمعان، فقدموا عليه، فلما دخلوا قال له خالد: بلغنا أنك تريد أن تفعل في جامعنا كذا وكذا، قال: نعم، أموال أُنفقت في غير وجهها فأنا رادُّها في بيت المال، فقال خالد: والله ليس لك ذلك، فقال عمر - رضي الله عنه -: فهو لأمك النصرانية، فقال خالد: إن كانت نصرانية فقد ولدت مسلمًا، فاستحى عمر وقال: صدقت، وجرى بينهما كلام، ورجع عمر - رضي الله عنه - عن رأيه في خراب الجامع لمعنيين: أحدهما: أن رُسُل الروم كانوا إذا وردوا عليه سألوه أن يدخلوا الجامع، فيأذن لهم، فإذا رأوه هابوا الإسلامَ وأهلَه، وقد كان أقسَّاؤهم يقولون لهم: إن العرب لا ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 1/ 313، و"البداية والنهاية" 9/ 153: تفكرت، وهي الأشبه. (¬2) في (ص): سابعها، والمثبت من المصدرين، وما بين معكوفين من (ص).

مُقام لهم بالشام، وكأنكم بهم وقد عادوا إلى الحجاز، ولهم مدة يبلغونها، فكان الكفار يُغيظهم ما يَرون من حُسن الجامع. والثاني: أنه قيل لعمر: إنك إذا جَرَّدتَ الذهب من الحيطان لم يَحصل منه ما تنتفع به، وتَهدم ما هو أعظم شرائع الإسلام (¬1)، فإن هذا المكان والبيت المقدس يُبقي لبني مروان في العالمين ذكرًا ليس لغيرهم، فتركه. وفيها غزا قتيبة الصِّين وكاشْغَر، وكان قتيبة موافقًا للحجاج على خلع سليمان، فكان في هذه السنة قطع النهر خوفًا من سليمان، وولّى النهر رجلًا من أصحابه يقال له: الخُوارِزمي، وأمره أن لا يُمكّن أحدًا من عبور النهر إلا بجواز، ومضى إلى فَرْغانة، وأرسل إلى شِعب عصام مَن يُسهِّل له الطريق إلى كاشْغَر -وهي أدْنى مدائن الصِّين- فجاءه الخبر بموت الوليد وهو بفَرْغانة. وكان قتيبة قد أوغل في بلاد الصين، فأرسل إليه ملك الصين: ابعث إلينا رجلًا من أشراف قومك نسائله عن دينكم وما تدعون إليه، فانتدب له قتيبة عشرة من أشراف القبائل، لهم هَيبة وجَمال وحُسن، وألبسهم الثّياب الجميلة، وحملهم على الخيل العِتاق، وقدَّم عليهم هُبَيرةَ بن المُشَمرِج الكلابي، وكان فصيحًا، وأوصاه فقال: أيها الأمير، قد كُفيتَ الأدب، وقل ما شئت، فقال: تُخبره أني قد حلفتُ أن لا أنصرف حتى أطأ بلادَه، وأختم ملوكهم، وأَجبي خراجَهم. وساروا، فلما قدموا على الملك دخلوا عليه وعنده علماء أهل مملكته، وكانوا قبل دخولهم عليه قد غيَّروا ثيابَهم، واغتسلوا وتطيّبوا، فلما دخلوا على الملك لم يكلّمهم أحد، فنهضوا، فقال الملك لجلسائه: كيف رأيتم هؤلاء؟ [قالوا: ] ما بقي منا أحد حين رآهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده. فأرسل إليهم في اليوم الثاني، فجاؤوا وقد لبسوا الوَشْيَ، وعمائمَ الخزِّ والمطارف، فدخلوا فلم يكلّمهم أحد، فنهضوا، فقال الملك لأصحابه: كيف رأيتموهم؟ قالوا: هذه الهيئة أشبه (¬2) بهيئة الرجال من تلك. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 1/ 314 - 315. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): ليست، والمثبت من الطبري 6/ 502 وما بين معكوفين منه. والخبر بطوله ليس في (ص).

فلما كان اليوم الثالث دعاهم، فدخلوا وعليهم البِيض والمغافر والسلاح، وقد تقلّدوا السيوف، وتنكَّبوا القِسِيَّ، وأخذوا الرماح بأيديهم، وركبوا خيولَهم، وأقبلوا كأمثال الجبال فردُّوهم، وقال الملك لأصحابه: كيف رأيتم؟ قالوا: ما رأينا مثلَ هؤلاء قط. ثم أرسل إليهم: أن ابعثوا زعيمَكم، فبعثوا إليه هُبيرة، فلما دخل عليه قال: قد رأيتُم مُلكي وسعتَه، وإنكم في قبضتي، وإني مسائلك عن أمر، فإن صدقتَني وإلا قتلتُك ومن معك، قال: سل، قال: لم صنعتم في اليوم الأول والثاني والثالث ما صنعتم؟ فقال: أما اليوم الأول فذاك زينتُنا عند أهلنا ونسائنا، وأما اليوم الثاني فتهيأنا لأمرنا، وأما اليوم الثالث، فزِيُّنا لعدوّنا، فقال: أحسنتم فيما دبَّرتُم، فانصرفوا إلى صاحبكم وقولوا له ينصرف، فقد عرفتُ حرصَه وقلَّةَ أصحابه، وإلا بعثتُ إليه مَن يُهلكه ومَن معه، فقال له هُبيرة: كيف تقول هذا لمَن خيلُه في أول بلادك، وآخرها في منابت الزيتون، وقد غزاك في بلادك فدوَّخها، وقتل وسبى، وهو في طَلَبك لا تُرَدُّ له راية؟ قال: فما الذي يريد؟ قال: إنه قد أقسم أن لا يرجع حتى يَطأ أرضَك، ويختم أعناق الملوك، ويأخذ الجزية، قال الملك: فنحن نَبُزُّ قسَمه، ونبعث إليه من تراب أرضنا فيَطَؤه، وببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بمال. ثم دعا بصِحاف من ذَهَب، وجعل فيها من تراب أرضه، ودعا بأربعة غِلْمة من أولاد الملوك، وبعث له مالًا كثيرًا، وأحسن جائزة هُبيرة وأصحابه، ووصلهم وأحسن إليهم، وانصرفوا عنه. فأخبره هبيرة خبره وقال: الحَزْمُ في إجابته إلى ما سأل، فوطئ قتيبة التراب، وختم الغِلمة وردَّهم، وقبل الجِزية، فقال سَوادة بن عبد الله السَّلولي يُخاطب قتيبة: [من الكامل] لا عَيبَ في الوفدِ الذين بعثتَهم ... للصِّين إذ سَلَكوا سبيلَ المَنْهَجِ كسروا الجُفونَ على القَذى خَوْفَ الرَّدى ... حاشا الكريم هُبَيرةَ بنَ مُشَمْرِجِ لم يَرْضَ إلا الخَتْم (¬1) في أعناقهم ... ورهائنٍ دُفِعتْ بحَمْلِ سَمَرَّجِ ¬

_ (¬1) في (ب) و (د): بغير الختم، وفي الطبري 6/ 503: غير الختم.

الباب السابع في ولايته

أدَّى رسالتَك التي حمَّلْتَهُ ... وأتاك من حِنثِ اليمين بمَخْرَجِ فبعث قتيبة هُبيرة وافدًا على الوليد، فمات بقرية (¬1) من قُرى فارس. وفيها قُتل قتيبة بخراسان، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عثمانَ بنَ حيَّان عن المدينة لسبع بقين من رمضان، فكانت إمرتُه عليها ثلاث سنين، وقيل: سنتين وأيامًا. وكان عثمان قد عزم على أن يجلد أبا بكر بن عَمرو بن حَزْم مئةَ جَلْدة، ويحلق رأسه ولحيته؛ لأنه كان يكرهه، ثم قال: إلى غداة غد، وقدم رسول سليمان وقت السحر بتأمير أبي بكر وعزل عثمان، فجلس أبو بكر على كرسي، ودعا بعثمان بن حيّان، ودعا بحدّاد وقال: ضع الحديدَ في رجل هذا، فتمثل بعضهم، وقيل إن أبا بكر قال: [من الكامل] آبوا على أدبارهم سَفَهًا (¬2) ... والأمرُ يَحدث بعده الأمرُ وفيها ولي سليمان بن عبد الملك الخلافة. الباب السابع في ولايته وكنيته أبو أيوب، وأمه وَلَّادة بنت العباس أم الوليد. [قال علماء السير: ] لما توفي الوليد بدمشق كان سليمان بالرَّمْلَة، فكتب عمر بن عبد العزيز إليه يُخبره، فسار حتى قدم دمشق، فوجد الناس على فاقَةٍ من جَور الوليد، وكان عمر قد أخذ له البيعة يوم مات أخوه الوليد، وذلك مُنتصف جمادى الآخرة. [قال هشام: ] ولما قدم سليمان دمشق بدأ بالجامع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله وأنشد: [من الكامل] رَكْبٌ تَخُبُّ به المَطِيُّ فغافلٌ ... عن سيرِه ومُشَمِّرٌ لم يَغْفُلِ لا بدَّ أن يَرِدَ المُقَصِّرُ والذي ... رامَ النَّجاءَ مَحَلَّةً لم تُحْلَلِ ¬

_ (¬1) في الطبري أن اسمها قرية وأورد على ذلك شعرًا. (¬2) في (ص): وقيل إن أبا بكر قال نكصوا على أعقابهم ويروى أنه قال: آبوا على أدبارهم .. وفي الطبري 6/ 505: أدبارهم كشفًا.

ثم قال: أيها الناس، وخنقته العَبْرَة، رحم الله مَن ذُكِّر فاذَّكر، وزُجِر فانزجر، فإن العظة تجلو عَمى القلوب، وتغسل دَرَن الذُّنوب، ألا وإنكم قد استوطنتم دارَ الغرور، ونسيتم الرحلة إلى القبور، وغرَّتكم الأمانيّ وغرَّكم بالله الغَرور، ألا وإنكم سَفْر وإن أقمتم، ومرتحلون وإن قَطَنْتُم، لا تَتَشكَّى مطاياكم ألمَ الكَلال، ولا يُتعبها دَأَب السَّير، ليل يُدْلِجُ بكم وأنتم نائمون، ونهار يَجدُّ بكم وأنتم غافلون، لكم في كل يوم مُشَيّع لا يستقبل، ومودِّع لا يَؤوب. أما ترون رحمكم الله إلى ما أنتم فيه متنافسون وعليه متهافتون؛ من كثير يَفنى، وجديد يَبلى، كيف أخذه المخلّفون، وحوسبتم عليه دون المتنعم به (¬1)، فأصبح كل منهم رهينًا بما كسبت يداه، وما الله بظلام للعبيد. ثم نزل بعد أن بكى وأبكى الناس، وهو أول من قال في خطبته: {أَفَرَأَيتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207]، واقتدى به عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فكان يقرؤها دائمًا. ولما نزل اتّخذ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وزيرًا ومُشيرًا، ونظر في المظالم فردّها، وفك الأسرى، وأحسن إلى الناس، وهدم كل قاعدة بناها الوليد في الظلم، فأحبه الناس، وعزل الولاة الظالمين، وأقر خالدًا القَسْرِيّ على مكة. وخالد أول من أدار الصفوف حول الكعبة، ولم تكن مستديرة [بل كانت كصفوف الناس]، ومنع النساء أن يطفن مع الرجال حول الكعبة. قال الهيثم: سمع قائلًا يقول: [من السريع] وحبَّذا اللاتي يُزاحِمْنَني ... عند استلامِ الحجرِ الأسودِ فقال: والله لا زاحَمْنك بعد اليوم (¬2). ثم عزل خالدًا في آخر السنة وولاها طلحة بن داود الحَضْرَميّ. ¬

_ (¬1) في "المنتظم" 7/ 13: كيف أخذ به المخلفون له وحوسبوا عليه دون المتنعم به. (¬2) "أخبار مكة" 2/ 21، و"مروج الذهب" 5/ 399.

إبراهيم بن عبد الرحمن

[فصل: ] وفيها عزل سليمان ولاة الحجاج عن العراق، وولّى العراق يزيد بن المهلب واستعمل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره ببَسْطِ العذاب على آل أبي عَقيل وقتلِهم. ولما قدم صالح العراق أخذ آل أبي عَقيل، وولّى عذابهم عبد الملك بن المهلب، وقتل الحكم بن أيوب بالعذاب. وفيها ولّى سليمان دمشق محمد بن سويد بن كلثوم بن قيس الفهري، وهو ابن أخي الضحاك بن قيس، وكانت أمه ماتت وهو يَركُض في بطنها، فخرج حيًّا. وكان الوليد قد ولى ابنه عبد العزيز دمشق فعزله سليمان وولى محمدًا. [وقال الزبير بن بكار: ] وقال سليمان لعمر بن عبد العزيز: مهما رأيتَ من مصالح المسلمين فمُرْ به يُكتَب؛ فإنك لا تُخالف، فقال عمر: أرى عَزْلَ ولاةِ الحجاج، وإخراج من كان في حُبوسه بالعراق، وردّ الصلاة إلى أوقاتها فإن الحجاج كان قد ضيعها، فكتب بذلك. وحج بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم الأنصاري، وكان على المدينة، وعلى مكة طلحة بن داود الحضرمي، وعلى العراق يزيد بن المهلب، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أُذَينَة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى خواسان بعد قتيبة وكيع بن أبي سُود. [فصل: ] وفيها توفي إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري، أبو إسحاق. [ذكره ابن سعد] في الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة (¬1) وقيل: إنه أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [وقال ابن منده: لم يدركه]. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 59.

إبراهيم بن يزيد

وأمُّه أم كُلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيط، وأدرك عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. قال إبراهيم: إن عمر بن الخطاب حَرَّق بيت رُويشِد الثَّقفيّ، وكان حانوتًا للشراب، وكان عمر قد نهاه، قال: فلقد رأيتُه يلتهب كأنه جَمرة. قال محمد بن عمر: ولا نعلم أحدًا من ولد عبد الرحمن بن عوف روى عن عمر سماعًا ورؤية غير إبراهيم، وقد روى عن أبيه، وعن عثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وأبي بَكْرة وعمرو بن العاص، وغيرهم من الصحابة. ومات سنة ست وتسعين وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: مات سنة خمس وتسعين. وكان من رجالات قريش، وكان له ثمانية عشر ولدًا ذكورًا وإناثًا (¬1). [فصل: وفيها توفي] إبراهيم بن يزيد ابن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن سعد بن مالك بن النَّخَع، من مَذْحِج، أبو عمران النَّخعي، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل الكوفة. وقال هشام: أصله من اليمن، وهو مولى النَّخَع، غير أن العرب ولدته، حُمل عنه العلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وكان يكره الفتوى؛ فإذا جاء أحد يستفتيه يقول: أما وجَدْتَ أحدًا غيري تستفتيه؟ وكان إذا قام من مجلسه ختمه بالسلام، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويقوم الليل في حُلّة، وكان يكره الشُّهْرة، وكان يجالس الناس وكأنه ليس معهم. [وروى ابن سعد عن] سعيد بن جبير أنه كان يقول: أتستفتوني وفيكم إبراهيم بن يزيد؟ [قال ابن سعد: ] وكان يُهاب كما يُهاب الأمير. [وحكى ابن سعد عن أبي مَعْشر قال: كان يدخل إبراهيم على بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي عائشة، فيرى عليهن ثيابًا حمرًا، قيل لأبي معشر: كيف كان يدخل عليهن؟ قال: ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ دمشق" 2/ 458، و"السير" 4/ 292.

كان يحج مع عمه وخاله علقمة والأسود قبل أن يحتلم، وكان بينهم وبين عائشة إخاء ومودة. وروى ابن سعد عن عبد الحميد بإسناده إلى حماد قال: بشَّرت إبراهيم بموت الحجاج فبكى. قال: وقال حماد: ما كنتُ أرى أحدًا يبكي من الفَرح. وكان إبراهيم يسب الحجاج.] (¬1) وكان يحدّث بالمعاني، وكان لا يجلس إلى أسطوانة يتوقّى الشهرة، وكان صَيرَفيَّ الحديث، وكان إذا سئل عن مسألة ظهر عليه أثر الكراهة ويقول: إن زمانًا صرتُ فيه فقيهَ أهل الكوفة لزمان سوء. وقال: كنا إذا حضرنا جنازة، أو سمعنا بميت، عُرف ذلك فينا أيامًا، لأنا قد عرفنا أنه قد نزل به أمر صيَّره إما إلى الجنة وإما إلى النار، وإنكم في جنائزكم تتحدَّثون بحديث دنياكم. [وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن] الأعمش قال: كنت عند إبراهيم وهو يقرأ في المصحف، فدخل عليه، أو استأذن عليه رجل، فغطَّى المصحف وقال: لا يظن هذا أني أقرأ فيه كل ساعة. وقال المغيرة: كان إبراهيم يلبس الثوب المصبوغ بالزعفران أو بالعصفر، وكان من يراه لا يدري أمن القراء هو أم من الفتيان. وقال إبراهيم: كانوا يجلسون، فأطولهم سكوتًا أفضلهم في نفسه. وكان يقول: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه. وقال المغيرة: كان رجل على حالة حسنة، فأحدث حدثًا وأذنب ذنبًا، فرفضه أصحابه ونبذوه، وبلغ إبراهيم فقال: مه، تداركوه وعِظوه ولا تدعوه. وقال ابن سعد: كان النَّخَعيّ أعور (¬2). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 8/ 389 - 390، 393، 397. وما بين معكوفين من (ص). (¬2) "طبقات ابن سعد" 8/ 388.

حارثة بن بدر

ذكر وفاته: [واختلفوا فيها على قولين؛ أحدهما قبل الحجاج وكان مستخفيًا، وروى أبو نعيم عن عمران] الخياط قال: دخلنا على إبراهيم نعودُه وهو يبكي، فقلنا: ما يبكيك يا أبا عمران؟ فقال: أنتظر ملك الموت يُبشّرني بالجنة أم بالنار. [وروى أبو نعيم عن] شُعيب بن الحَبْحاب قال: كنتُ فيمن صلى على إبراهيم ليلًا، ودفن في زمان الحجاج، ثم أصبحتُ فغدوتُ على الشعبي فقال: دفنتم ذاك الرجل الليلة؟ ! قلت: نعم، قال: دفنتم أفقهَ الناس، قلت: ومن الحسن؟ قال: ومن الحسن، وأهل البصرة، وأهل الكوفة، والشام، والحجاز. [وقد روى ابن سعد بمعناه.] (¬1)، وقال ابن عون: دفناه ونحن خائفون. [والقول الثاني أنه مات بعد الحجاج، فروى أبو نعيم عن] الفَضْل بن دُكين (¬2) قال: سألت ابن بنت إبراهيم عن موته فقال: بعد الحجاج بأربعة أشهر أو خمسة. [قال أبو نعيم: كأنه مات في أول سنة ست وتسعين. وقد روينا أنه لما مات الحجاج سجد وبكى من الفرح. وقال ابن سعد: ] أجمعوا على أنه توفي بالكوفة في أيام الوليد بن عبد الملك وهو ابن تسع وأربعين سنة لم يستكمل الخمسين (¬3)، وصلى عليه عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد. وقيل: مات وهو ما بين الخمسين إلى الستين. أدرك إبراهيم جماعة من الصحابة منهم: أبو سعيد الخُدري، وأنس، وعائشة - رضي الله عنهم -، وعامة ما يرويه عن التابعين. حارثة (¬4) بن بدر التَّميمي، البصري، كُنيته أبو العَنْبَس. ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 4/ 224، 220 (على الترتيب) وما بين معكوفين من (ص)، و"طبقات ابن سعد" 8/ 401. (¬2) ما بين معكوفين من (ص)، بدله في النسخ: وقيل مات بعد الحجاج، وقال الفضل بن دكين. (¬3) "طبقات ابن سعد" 8/ 401 - 402. (¬4) من هنا إلى ترجمة الوليد بن عبد الملك ليس في (ص).

عاش حارثة إلى أيام الوليد بن عبد الملك ومدحه، وكان يوم صفّين مع معاوية، وهو القائل: [من الكامل] خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدٍ ... ومن العَناء تَفَرُّدي بالسُّودَدِ وكان رجلَ بني تميم في وقته، وكانت له منزلة عند زياد بن أبيه، وكان قد غلب عليه الشراب، فقيل لزياد: إن هذا ليس من شاكلتك، ولا يَحسُن بك أن يصحبك، فقال زياد: كيف لا أصحب رجلًا ما سألتُه عن شيءٍ إلا وجدتُ عنده علمًا منه، ولا مضى أمامي فاضطرني إلى أن أناديه، ولا مشى خلفي وأحوجني أن ألتفتَ إليه، ولا سايرني فمسّت رُكبته ركبتي، ولا أخذ عليَّ الشمسَ في شتاء قط، ولا الرَّوْحَ في صيف قط. وفي رواية: ولا تقدَّمني فنظرتُ إلى قفاه، ولا تأخَّر عني فلويتُ عُنقي إليه. فلما مات زياد جفاه عبيد الله بن زياد، فقال له حارثة: يا عُبيد الله، ما هذا الجفاء مع معرفتك بحالي عند أبي المغيرة؟ فقال له عبيد الله بن زياد: إن أبا المغيرة كان قد بَرع بُروعًا لا يلحقه معه عيب، وأنا حَدَث، وإنما أُنسب إلى من [غلب] علي، وأنت يغلب عليك الشراب، ومتى قَرَّبتُك لم آمن على نفسي أن يُظنّ بي ما يتيقن منك، فدع الشراب وكن أول داخل عليّ وآخر خارج، فقال حارثة: أنا لا أدعه لمن يَملك ضَرِّي ونفعي، أفأدعه لك؟ قال عبيد الله: فقد ولَّيتُك رَامَ هُرْمُز وسُرَّق، فإن الشراب بهما كثير، فقال أبو الأسود الدِّيلي: [من الطويل] أحارِ بنَ بدرٍ قد وَليتَ ولايةً ... فكن جُرَذًا فيها تَخونُ وتَسرِقُ وباهِ تميمًا بالغِنى إن للغِنى ... لسانًا به المرءُ الهَيوبَةُ يَنطِقُ ولا تحقِرَنْ يا صاحِ شيئًا أصبتَهُ ... فحظُّك من مُلكِ العراقَين سُرَّقُ فإني رأيتُ الناسَ إما مكذِّبٌ ... يقول بما يَهوى وإما مُصَدِّقُ يقولون أقوالًا بظَنِّ وشبْهةٍ ... فإن قلتَ هاتوا حقِّقوا لم يُحَقِّقوا ويقال: إن عبيد الله كتب إليه بهذه الأبيات. قال الهيثم: دخل حارثة يومًا على زياد، فرأى في وجهه أثرًا فقال: ما هذا؟ فقال: ركبتُ الأشقر فجَمَح بي -يعني الشراب- فقال له زياد: أما إنك لو ركبت الأَشهب لما جَمَحَ بك.

الحكم بن أيوب

وقال أبو الفرج الأصفهاني: حارثة بن بَدْر الغُداني كان من فرسان تميم وساداتها، وأحسب أنه أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال صباه، وكان من دُهاة العرب، وكان علي رضوان الله عليه قد نذر دمه لفساده في الأرض. قال العتبي: فاستجار بسعيد بن قيس الهمداني، فأخذ له أمانًا من علي رضوان الله عليه. قال الأصمعي: مات برَامَهُرْمُز، وقال الهيثم: بنيسابور؛ خرج إليها غازيًا فمرض، ومعه غلام فعصى عليه، فقال حارثة: [من البسيط] يا كعبُ ما طلعتْ شمس ولا غَربتْ ... إلا تُقَرِّب آجالًا لميعادِ لا أُلفينَّك بعد الموت تَنْدُبُني ... وفي حياتيَ ما زوَّدْتَني زادي إذا لقيتَ بوادٍ حيَّةً ذَكَرًا ... فاهدأ ودَعْني أُمارسْ حيَّةَ الوادي قد استشهد الزبير - رضي الله عنه - بالبيت الأوسط، فيحتمل أن يكون هنا تضمين، والله أعلم (¬1). الحكم بن أيوب ابن الحكم بن أبي عَقيل، ابن عم الحجاج بن يوسف. ولاه الحجاج البصرة، وزوّجه أخته زينب بنت يوسف، وكان قد عوض عليها الحجاج أن يزوجها محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل، وهو ابن سبع عشرة سنة، وهو يومئذ أشرف ثقفي في زمانه، والحكم شيخ كبير، فاختارت الحكم. ثم عزل الحجاج الحكم عن البصرة بسعد العُذْرِيّ (¬2). وكان الحكم بخيلًا، ولَّى العِرْق رجلًا من بني مازن يلقب العَطَرَّق، وخرج الحكم يومًا مُتنزّهًا، فنزل بالعِرق ودعا بغدائه، فتغدّى معه العَطَرَّق، فأخذ دُرَّاجةً، فانتزع ¬

_ (¬1) انظر "الكامل" 412 - 410، و"العقد" 6/ 341، و"الأغاني" 8/ 384، و"تاريخ دمشق" 4/ 79 (مخطوط). (¬2) كذا في النسخ، والذي في "تاريخ دمشق" 5/ 196، و"الأغاني" 6/ 200 أنه الحكم بن سعد العذري.

ربيعة بن عباد

فخذها وناولها غلامًا له فعزله الحكم، وولّى على العِرْق نُوَيرة، وكان ابنَ عم العَطَرَّق، فقال نويرة: [من البسيط] قد كان بالعِرْقِ صَيدٌ لو قَنِعتَ به ... به غِنًى لك عن دُرَّاجَةِ الحكَم وفي عَوارضَ ما تنفكُّ تأكلُها ... لو كان يَشفيك لحمُ الجُزْرِ من قَرَمِ (¬1) قتل الحكمَ صالح بنُ عبد الرحمن الكاتب، مع جماعة من موالي الحجاج، في العذاب على الأموال التي اخترموها بأمر سليمان بن عبد الملك لما ولي الخلافة. ربيعة بن عبَّاد الدِّيلي، الحجازي. رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوق ذي المجاز، وشهد اليرموك، وغزا الروم في خلافة عثمان رضوان الله عليه. قال: رأيتُ أبا لهب بعُكاظ وهو وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَلوذ منه، ويقول: إن هذا قد سَفَّه مآثِرَ آبائكم فاحذروه (¬2). العباس بن سهل ابن سعد السَّاعدي الأنصاري، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة. قُتل عثمان رضوان الله عليه والعباس ابن خمس عشرة سنة، وقد روى عنه، وكان منقطعًا بعد ذلك إلى عبد الله بن الزبير، وخرج معه، وتوفي في خلافة الوليد بن عبد الملك بالمدينة، وروى عن أبي حُمَيد السّاعدي، وكان ثقةً قليلَ الحديث (¬3). قال المدائني: لما فرغ مُسْرِف بن عُقبة المُرِّي من أهل الحَرَّة استؤمن لعباس فلم يُؤمنه، فجاء العباس ومُسرِف يأكل فقال: أيها الأمير لكأنها والله جفان أبيك؛ كان يخرج وعليه مُطْرَفٌ من خَزٍّ، فيجلس في فِنائه، فقال مُسرف: مَن أنت؟ قال: العباس، ¬

_ (¬1) تعليق من أمالي ابن دريد (116)، و"أنساب الأشراف" 12/ 376 - 377، و"تاريخ دمشق" 5/ 198، و"التذكرة الحمدونية" 321/ 2. والدُّرَّاجة: ضرب من الطير. (¬2) "طبقات ابن سعد" 5/ 133، و "مختصر تاريخ دمشق" 8/ 279. (¬3) "طبقات ابن سعد" 7/ 266 - 267.

عبد الله بن عمرو

فقال: أنت آمن، فقيل للعباس بعد ذلك: أكذا كان أبوه؟ فقال: لا والله، لقد رأيته وعليه عباءة قد خلّها، وهو يجرها على الشَّوك، ما نخاف على متاعنا يَسرقه غيره (¬1). عبد الله بن عمرو ابن عثمان بن عفان، المُطْرَف. أمه حفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأمها صَفيَّة بنت أبي عُبيد بن مسعود الثقفي، وأمها عاتكة بنت أَسِيد بن أبي العِيص، وأمها زينب بنت أبي عمرو بن أمية (¬2). وحكى ابن عساكر أن أُمَّ المِطْرَف: رَمْلة بنت معاوية بن أبي سفيان. وعبد الله من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل المدينة، ويقال له المِطرف لجماله وحُسنه، وفيه يقول موسى شَهَوات: [من الخفيف] ليس فيما بدا لنا منك عَيبٌ ... عابه الناس غيرَ أنَّك فَانِ أنت خيرُ المتاع لو كنتَ تبقى ... غير أنْ لا بقاءَ للإنسانِ وقال جميل لبُثينة: ما رأيتُ عبد الله بن عَمرو يَخطر بالبلاط إلا غرتُ عليك وأنت بالجَنَاب. قال ابن عساكر: كان ثابت بن عبد الله بن الزبير إذا وَفد على عبد الملك بن مروان نهى بني أمية عن كلامه، فخرج ثابت يومًا من عنده، فمرّ بعبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو جالس في نَفَرٍ من أهل الشام، فجعل ثابت يتصفح وجوهَهم، فقال له عبد الله: إلام تنظر؟ فهؤلاء قتلَةُ أبيك، فقال ثابت: لكن أبوك ما قتله إلا حَمَلَةُ القرآن. وكان عبد الله مُمَدَّحًا؛ مدحه الفرزدق وغيره، وتوفي بمصر سنة ست وتسعين (¬3). ذكر أولاده: فولد عبد الله: خالدًا، وعبد الله، وعائشة، تزوجها سليمان بن عبد الملك فولدت له، وأمهم أسماء بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأمها أم الحسن بنت الزبير بن العوام. وأمها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضوان الله عليهما. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 32/ 92. وقوله: خَلَّها أي: جمعَ أطرافَها بخِلالٍ؛ من عُودٍ أو حديد. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 397. (¬3) "تاريخ دمشق" 37/ 193، 195، 197، 198، وانظر "أنساب الأشراف" 5/ 260.

وعبد العزيز، وأمية، وأم عبد الله؛ تزوجها الوليد بن عبد الملك فولدت له، وأم عثمان، وأمهم أم عبد العزيز بنت عبد الله بن خالد بن أَسِيد بن أبي العِيص. وعمرو، وأم سعيد؛ تزوجها يزيد بن عبد الملك فولدت له، وأمهما أم عمرو بنت أبان بن عثمان. ومحمدًا وهو الدِّيباج، والقاسم، ورُقيَّة؛ تزوجها هشام بن عبد الملك، وأمهم فاطمة بنت الحسين بن علي، وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله. ومحمدًا الأكبر وهو الحازوق لأم ولد. وأم عبد العزيز، تزوّجها الوليد بن يزيد بن عبد الملك فولدت له، وأمها الحَلال بنت بُخَيت بن عبد الرحمن بن الأسود بن أبي البَخْتَرِيّ من بني أسد بن عبد العُزَّى (¬1). وقد اتّفق لعبد الله بن عمرو ما لم يتفق لغيره، زوّج لخمسة من الخلفاء خمسًا من بناته. ذكر أعيان أولاده: أما خالد بن عبد الله فكان من نُبلاء قريش وأشرافها، ووفد على يزيد بن عبد الملك، فخطب إليه يزيد أُختَه، فقال له: إن عبد الله بن عمرو بن عثمان أبي قد سنَّ لبناته عشرين ألف دينار، فإن أعطيتَنيها زوَّجُتك، فقال له يزيد: ما ترانا أكفاء إلا بالمال؟ قال: بلى والله إنكم لبنو عمِّنا، قال: إني لأظنك لو خطب إليك رجل من قريش لزوجتَه بأقلّ مما ذكرتَ من المال، قال: إي لَعَمري؛ لأنها تكون عنده مالكة، وهي عندكم مملوكة مقهورة، فأمر بأن يُحمل إلى المدينة على بعير [ثم] يُنْخَس به، وكتب إلى عامله عبد الرحمن بن الضَّحَّاك بن قيس الفِهري أن وَكِّلْ بخالد كلَّ يوم مَن يحمله إلى الكتَّاب، ثم إلى شَيبة القارئ يقرأ عليه القرآن، وأظهِرْ أنه سفيه يكون مع الصبيان، فلما قرأ على شَيبة قال: أجهل من هذا مَن بعثه يقرأ عليّ، والله ما قرأ عليّ أحدٌ مثله. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 397 - 398.

واختلفوا في مماته على أقوال؛ أحدها: أنه لما حُمل إلى الكتَّاب أقام أيامًا ومات كَمَدًا. والثاني: ضربه الفِهري حتى مات. والثالث: أنه عاش إلى أيام هشام بن عبد الملك، ووفد عليه مع أخيه محمد الملقَّب بالدِّيباج ومع عبد الله بن حسن بن حسن، فأمر هشام حاجبَه أن يبدأ بالإذن لمحمد قبل خالد، ودخل خالد فقال لهشام: يا أمير المؤمنين، أتأذن لأخي محمد قبلي وأنا أسنُّ منه؟ ! فقال هشام: إنما قدَّمتُه عليك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَده، فقال خالد: فهذا عبد الله بن حسن بن حسن قد وَلده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّتين ولم تأذن له؟ فقال هشام لحاجبه: ابدأ بالإذن لعبد الله بن حسن، ثم لمحمد، ثم لخالد (¬1). ومعنى ولده مرتين: أن عبد الله بن حسن بن حسن أمه فاطمة بنت الحسين، وأبوه حسن بن حسن بن علي. والديباج أمُّه فاطمة بنت الحسين. وأما القاسم بن عبد الله المُطْرَف فكان شديد النَّفْس، بعث إليه هشام بن عبد الملك وهو خليفة يخطب ابنته على ابن هشام، [فأبى أن يزوجه، ومات في خلافة هشام] فزوّج ابنَه ابنةَ القاسم (¬2). أسند عبد الله المطرف عن: [عبد الله بن] عمر وابن العباس، والحسين بن علي - رضي الله عنهم -، وأبيه عمرو بن عثمان وغيرهم. وروى عنه أبو بكر بن محمد بن عمر بن حَزْم، وهشام بن سعد، وابنه محمد الدِّيباج في آخرين (¬3). قال يزيد بن عِياض: خرج الحسن بن الحسن بن علي وعبد الله بن عمرو بن عثمان إلى الصحراء، فأخذتهما السماء، فأويا إلى سَرْحة، فكتب الحسن بن الحسن على السَّرْحة: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 5/ 262 - 263، و"تاريخ دمشق" 5/ 484 - 485 (مخطوط)، وما بين معكوفين منهما. (¬2) "أنساب الأشراف" 5/ 262، وما بين معكوفين منه. (¬3) "تهذيب الكمال" (3439)، وما بين معكوفين منه.

عبد الرحمن بن أبي بكرة

خَبِّرينا خُصصْتِ يا سَرْحُ بالغيـ ... ــثِ بصِدقٍ والصِّدقُ فيه شِفاءُ هل يموتُ المُحبُّ من لاعجِ الشَّو ... قِ ويشفي من الحبيبِ اللقاءُ وكتب عبد الله بن عمرو: [من الخفيف] إن جَهْلًا سؤالك السَّرْحَ عما ... ليس فيه على اللبيبِ خَفاءُ ليس للعاشقِ المحبِّ من الحـ ... ـــب سوى لذَةِ اللّقاءِ شِفاءُ (¬1) عبد الرحمن بن أبي بَكْرة من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، وهو أول مولود وُلد بالبصرة، فنحروا يومئذ جَزورًا، فأطعم أهل البصرة كفاهم، وكانوا قدر ثلاث مئة، وكان ثقة له أحاديث ورواية، وأمُّه هَوْلَة بنت غَليظ من بني عِجْل، وتوفي وله عقب (¬2). وكنيته أبو بَحْر، وقيل: أبو حاتم، أدرك فتح تُسْتَر، ورأى عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وكان قد خرج مع ابن الأشعث، ومات سنة ستّ وتسعين، وصلى عليه الجرَّاح بالرَّحبة وهو ابن اثنتين وثمانين سنة. أسند عن علي، وعبد الله بن عمرو، وأبيه أبي بَكرة - رضي الله عنهم -. وروى عنه ابن سيرين، وعبد الملك بن عُمَير، وخالد بن مِهران وغيرهم (¬3). قُتَيبة بن مسلم ابن عمرو بن حُصَين بن أَسيد بن زيد بن قُضاعة الباهليّ (¬4)، من التابعين، وكنيته أبو صالح (¬5). ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 37/ 198 - 199. (¬2) "طبقات ابن سعد" 9/ 189. (¬3) "تاريخ دمشق" 42/ 57، 59، 65، وانظر السير 4/ 319. (¬4) "المعارف" 406. ونسبه كاملًا في "أنساب الأشراف" 12/ 194، و"جمهرة أنساب العرب" 246، و"وفيات الأعيان" 4/ 86: قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين بن ربيعة بن خالد بن أسيد الخير بن قضاعي بن هلال. (¬5) هذه كنية أبيه مسلم بن عمرو، أما كنية قتيبة فهي أبو حفص، انظر "المعارف"، و"وفيات الأعيان"، و"المنتظم" 7/ 22، و"السير" 4/ 410.

وكان من أكابر أمراء بني أمية، ولّاه الحجاج خُراسان، وكان شديد الوطأة على الكفار، وعبر النَّهر مرارًا، وفتح الفتوحات: بُخارى، وسَمَرْقَند، وكاشْغَر، وبلاد التُّرك، والهند، والسِّند، وفَرْغانة، والشاش، ووصل إلى الصين، ولم يفتح أحد من الأمراء ما فتح، ولم يبلغ ما بلغ. وكان جوادًا، مُمَدَّحًا، شجاعًا، مِقدامًا، مُدَبِّرًا للأمور، عارفًا بالحرب والسياسة، صاحب همَّة وعَزيمة، وفيه يقول الشاعر: [من المتقارب] إذا ما قُريشٌ خلا مُلكُها ... فإن الخلافةَ في باهِلَهْ لرَبِّ الحَرونِ أبي صالحٍ ... وناهيك بالسُّنَّةِ العَادِلَهْ (¬1) وأقام واليًا على المشرق ثلاث عشرة سنة، وكان قد اتّفق هو وأصحابه والحجاج على خلع سليمان، فلما مات الحجاج سُقط في يده، فلما مات الوليد خاف أن يَعزله سليمان ويولِّي يزيد بن المهلَّب خُراسان، فألجأه ذلك إلى العِصيان، وكان قد استوحش منه. ذكر مقتله: لما أتاه الخبر بموت الوليد وقيام سليمان أشفق لما كان يسعى فيه من بيعة عبد العزيز، فكتب إلى سليمان ثلاثة كتب؛ كتابًا يهنئه فيه بالخلافة، ويُعزّيه في الوليد، ويُعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك وللوليد، وأنه له مثل ما كان لهما إن لم يَعزله عن خراسان. وفي الكتاب الثاني يُخبره فيه بفتوحه ونِكايته، وعِظَم قدره عند ملوك العجم، وهيبته في صدورهم، ويَذُمُّ فيه آل المهلَّب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليَخْلَعَنّه. وفي الكتاب الثالث خَلْعه. ¬

_ (¬1) البيتان في "نسب الخيل" لابن الكلبي 64، والمعارف 406، والصحاح (حرن) 5/ 2097، و"أنساب الأشراف" 12/ 202.

وبعث بالكتب مع رجل من باهِلة، وقال له: ادفع إليه هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المُهلَّب حاضرًا فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه الكتاب الثاني، فإن قرأه ثم ألقاه إلى يزيد فادفع إليه الثالث. وإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين الآخرين. فقدم رسول قُتيبة على سليمان وعنده يزيد بن المهلب، فدفع إليه الكتاب فقرأه، ثم ألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الثاني فقرأه، ثم ألقى به إلى يزيد، ثم أعطاه الثالث فقرأه، فتمعَّر لونُه، ثم دعا بطِين، ثم ختمه بيده، ثم أمسكه، وأمر بإنزال الباهليّ، وأحسن نُزُلَه. فلما كان في الليل دعاه سليمان، وأعطاه صُرَّة فيها دنانير وقال: هذه جائزتُك، وهذا عَهْدُ صاحبك على خُراسان، وبعث معه رجلًا من عبد القيس وقال: هذا رسولٌ معك -واسمه صَعْصَعَة، وقيل: مصعب- فلما كانا بحُلْوان تلقَّاهما الناس بخَلْعِ قتيبةَ سُليمان، فرجع العَبديّ، ودفع العهد إلى رسول قتيبة، فقدم على قتيبة بالعهد، فاستشار إخوته فقالوا: لا يَثِق بك بعدها أبدًا. وقال مقاتل: لما همَّ قُتيبة بخَلْع سليمان استشار إخوته، فقال له عبد الرحمن: اقطع بَعْثًا ووَجِّهْ فيه كلَّ مَن تخافُه، وسِرْ حتى تنزل سَمَرْقَند، ثم قل لمن معك: مَن أحبَّ المقام فله المواساة، ومَن أراد الانصراف فغير مُسْتَكره، فلا يُقيم معك إلا ناصح. وقال له عبد الله: اخلعه مكانَك، وادْعُ الناس إلى خلْعه، فليس يختلف عليك اثنان، فأخذ برأي عبد الله فخلع سليمان، وأمر الناس بخلعه، ثم خطب فقال: أيها الناس، إني قد جمعتكم من عَين التَّمْر وفَيض البحر، فضَمَمتُ الولد إلى أبيه، والأخ إلى أخيه، وقسمتُ بينكم فَيئكم، وأجريتُ عليكم أعطياتكم غير مُكَدَّرة ولا مُؤَخَّرة، وقد جَرَّبتم الولاة قبلي، وَلِيكم أمية بن عبد الله، فكتب إلى عبد الملك: إن خراج خُراسان لا يُقيم بمطابخي (¬1)، ثم جاءكم أبو سعيد، فدوَّخ بكم البلادَ ثلاث سنين، لا تدرون في طاعة أنتم أم في معصية، ولم يَجْبِ فَيئًا، ولم يَنْكَأ عدوًا، ثم جاءكم بنوه بعده: يزيد وإخوته، ففعلوا ما فعلوا، وقد رأيتُ أن أخلع خليفتكم يزيد بن ثَرْوان هَبَنَّقة القَيسيّ. فلم يُجِبْه أحد. ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 509: لا يقوم بمطبخي.

وهَبَنَّقَة لَقبُ رجل يقال له: ذو الوَدَعات، واسمه: يزيد بن ثَرْوان، أحد بني قيس بن ثَعلبة، وكان يُضرب به المثل في الحُمْق، قال الشاعر: [من الخفيف] عِشْ بجدٍّ وكن هَبَنَّقَةَ القيسيَّ ... أو مثلَ شيبةَ بنِ الوليدِ وكان هَبَنَّقَة يخصُّ سِمانَ الإبل بالمَرْعى، ويدع المهازيل تموت جوعًا، ويقول: أنا لا أُصلح ما أفسده الله، ولا أُفسد ما أصلح، فنسب إلى الحُمق (¬1)، وكان سليمان يُعطي أهلَ الشرف واليسار، ولا يصطنع خاملًا، ولا يرفع خسيسةً فنُسب إلى هَبَنَّقَةَ. ولما خلع قتيبةُ سليمان ولم يجبه أحد غضب وقال: لا أعزَّ الله مَن نصرتُم، والله لو اجتمعتم على عَنْز ما كسرتم قرنها، يا أهل السافلة، ولا أقول: يا أهل العالية، يا أوباش الصَّدقة، جمعتكم كما تُجمع إبل الصدقة من كلِّ أَوْب، يا معاشر بكر بن وائل، يا أهل النَّفْخ والكذب والبُخل، بأيّ يومَيكم تفخرون، بيوم حربكم، أم بيوم سِلمكم؟ فوالله لأنا أعز منكم يا أصحاب مُسَيْلمة، يا بني ذَميم، ولا أقول: يا بني تميم، يا أهل الخَوَر والقَصف والغَدْر، كنتم تُسمُّون الغَدْر في الجاهلية كَيسان، يا معاشر عبد القيس القُساة، تَبدَّلتُم بأَبْر النَّخل أعنَّةَ الخيل، يا معاشر الأزْد، تبدَّلتُم بقُلوس السُّفُن أعنَّةَ الخيل، يا معاشر الأعراب وما الأعراب! لعن الله الأعراب، يا كُناسةَ المِصْرَين، جمعتُكم من منابت الشِّيح والقَيصوم والقِلْقِل، تركبون البقر والحمير في جزيرة ابن كاوان، حتى إذا جمعتُكم قلتم كَيتَ وكيت، أما والله لأَعْصِبَنكَم عَصْبَ السَّلَمَة. يا أهل خراسان، هل تدرون مَن وَليُّكم؟ ! وليُّكم أبو نافع هَبَنَّقَة، وكأني به قد بعث إليكم مَن يغلبكم على فَيئكم وفتوحكم، وقد فتح الله لكم البلاد، وذَلّل لكم العباد، وآمن سُبُلَكم، فالظَّعِينة تخرج من بَلْخ إلى مَرْو بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة، وسَلوه الشُّكرَ والمزيد ... وذكر كلامًا طويلًا. ونزل وقد أَوْغَر الصُّدور، وأفسد النيّات، فاجتمع أهلُ بيته إليه وقالوا: ما رأينا كاليوم قط، ما اقتصرتَ على أهل العالية وهم شِعارك ودِثارُك، حتى تناولتَ بَكْرًا وهم ¬

_ (¬1) انظر "الدرة الفاخرة" 135، و"جمهرة الأمثال" 1/ 385، و"المستقصى" 1/ 85، و"مجمع الأمثال" 1/ 217.

أنصارك، ثم لم ترضَ حتى تناولتَ تَميمًا وهم إخوتُك، ثم لم ترض حتى تناولتَ الأَزْد وهم يدك، فقال: لما تكلمتُ ولم يُجبني أحد غضبتُ فلم أدْرِ ما أقول، إن أهل العالية كإبلِ الصَّدَقة قد جُمعت من كلّ أَوْب، وأما بَكْر فإنها لا تَمنَعُ يدَ لامِس، وأما تميم فجملٌ أجْرَب، وأما الأَزْد فأعلاج، شِرارُ خلقِ الله، لو مَلَكتُ أمرَهم لوَسَمْتُهم، وأما عبد القَيس فكما يضرب البعير بذَنَبه. فغضب الناس، وكرهوا خَلْعَ سليمان، وغضبت القبائل من شَتْمِ قتيبة لهم، فأجمعوا على خلافِه وخَلْعِه، فكان أول من سعى في ذلك الأزد، فأتوا حُضَين بن المنذر وقالوا: إن هذا قد دعا إلى ما دعا إليه من خَلْع الخليفة، وفيه من فساد الدين ما قد علمت والدنيا، ثم لم يَقْنَع بذلك حتى شَتَمنا وقال ما قال، فما ترى يا أبا حفص؟ -وقيل: يا أبا ساسان- فقال: إن جعلتم هذه الرِّياسة في بني تميم تَمَّ أمرُكم؛ فإن تميمًا فَرسان خراسان، ولا يَرضَون أن يصير الأمر في غير مُضَر، فإن أخرجتموهم من الأمر أعانوا قتيبة، قالوا: فإنه قد وَتَر بني تميم بقتله ابنَ الأَهْتَم! فقال: لا تنظروا إلى هذا فإنهم يتعصَّبون للمُضَرِيّة، قالوا: نحق نُولِّيك الأمر، قال: لا ناقةَ لي في هذا ولا جمل، قالوا: فأَشِرْ علينا، فقال: ما أرى له أحدًا غَير وكيع بن [أبي] سُوْد الحَنْظَليّ؛ فإنه مِقدام لا يُبالي بما يفعل، ولا ينظر في عاقبة، وله عشيرة، وقد وَتَره قتيبة بصَرْفِه عن رياسته التي صرفها عنه وصيَّرها في غيره (¬1). فاتفقوا مع وكيع على قتال قتيبة، وبخراسان يومئذٍ من المقاتلة من أهل البصرة ومن أهل العالية تسعة آلاف، وبكر سبعة آلاف، ورئيسهم الحُضَين بن المنذر، وتميم عشرة آلاف عليهم ضرار بن حُصَين الضَّبِّي، وعبد القيس أربعة آلاف عليهم عبد الله بن عُلْوان، والأَزْد عشرة آلاف عليهم جَهم بن زَحْر بن قيس، ومن الموالي سبعة آلاف وعليهم حيّان مولى بني شيبان، فكانوا سبعة وأربعين ألفًا. وأتى ضرار بن حُصَين مُقدَّم بني تميم إلى قتيبة فقال: إن الناس يختلفون إلى وكيع يبايعونه، وبلغ وكيعًا فقال لقتيبة: احذر ضرارًا فإني لا آمنه عليك، وتَمارض وكيع، ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 511 أن قائل ذلك حيان مولى بني شيبان.

فدسّ قتيبة ضرار بن سنان الضَّبِّي إلى وكيع فبايعه سرًّا، فحينئذٍ علم قتيبة صِدق ضِرار بن حُصَين فقال له: قد تيقَّنتُ صِدقَ مقالتك. وأرسل قتيبة إلى وكيع يستدعيه، فتعلّل عليه بمرضه، فقال قتيبة لشرَيك بن الصَّامت الباهلي صاحب شُرطته: اذهب فأتني به، فإن تعلَّل فاضرب عُنقه، وسبق الخبر إلى وكيع، فنادى في الناس، وخرج وهو يقول: [من الرجز] لَبِّث قليلًا تَلحق الكتائب واجتمع إليه الناس، وأقبلت الرّايات والكتائب، فأحدقوا بوكيع. واجتمع إلى قتيبة أهلُه وخواصّه وثقاتُه، وقال قتيبة لرجل من أصحابه: نادِ: أين بنو عامر؟ فناداه مِحْفَن بن جَزْء الكِلابيّ -وقد كان قتيبة جفاهم: حيث وضعتَهم، فقال قتيبة: نادِ: أُذكّركم اللهَ والرَّحِمَ، فقال محفن: أنت قطعتها، فقال: نادِ: لكم العُتبى، فقال محفن: لا أقالَنا الله إذًا، فقال قتيبة: يا نفسُ [صَبْرًا] على ما كان من أَلَمٍ ... إذْ لم أجِدْ لفُضول القومِ أَقْرانا ثم دعا بعمامة كان يتعمَّم بها في الحروب، وبفرس يقال له: مدرب (¬1) كان يَعدُّه للشدائد، فقدَّموه إليه، فلم يمكنه من ركوبه، وجعل يَشمس حتى أعياه، فقال: دعوه فهذا أمر يُراد، ثم عاد إلى سريره فجلس عليه. وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمن، وصالح، وعبد الله، وعبد الكريم بنو مُسلم فحملوا على الناس، وحمل عليهم الناس فقتلوهم، وقتلوا ابنَ قتيبة واسمه كثير، وعامّة أهل بيته، ووصلوا إليه وهو جالس على سريره عند فُسطاطه، فقاتل حتى أُثخن جِراحًا. ثم هجموا عليه، فنزل جَهْم بنُ زَحْر بن قيس الجُعفيّ فحزَّ رأسه وقال: [من الرجز] مَن يَنِكِ العَيرَ يَنِكْ نَيَّاكا ونجا ضرار بن مُسلم استنقذه أخواله، وأمُّه غَرَّاء بنت ضِرار بن القعقاع بن مَعْبد بن زُرارة، وفي ذلك يقول الفرزدق من أبيات: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في الطبري 6/ 515: ودعا ببرذون له مُدرَّب، وما سلف بين معكوفين في الشعر منه.

ومنَّا الذي سلَّ السيوفَ وشامَها ... عَشيَّةَ بابِ القَصْرِ من فَرَغانِ عَشيَّةَ ما وَدَّ ابنُ غَرَّاءَ أنه ... له من سِوانا إذ دعا أَبَوانِ (¬1) قال أبو عبيدة: قُتل من بني مسلم أحدَ عشر رجلًا، فصلبهم وكيع، سبعة منهم لصُلْب مسلم، وأربعة من أبنائهم: قتيبة، وعبد الرحمن، وعبد الله الفَقير، وعبيد الله، وصالح، وبشار، ومحمد بنو مسلم، وكَثير بن قتيبة، ومُغَلِّس بن عبد الرحمن، ولم ينجُ من صُلْب مسلم غير عمرو، كان عاملًا على الجُوزجان، وضرار. ولما احتزَّ جَهْم بن زَحْر رأس قتيبة قال الحُضَين بن المنذر -وكان ابن سعد قد ساعد [ابن] زَحْر: [من الطويل] وإن ابنَ سعدٍ وابنَ زَحْرٍ تعاورا ... بسيفيهما رأسَ الهُمامِ المُتَوَّجِ ولما قُتل يزيد بنُ المهَلَّب، وحُبِس عمالُه؛ كان فيهم جَهْم بن زَحْر، فولي عذابَه رجلٌ من باهِلة، فقيل له: هذا قاتلُ قتيبة، فبسط عليه العذاب حتى قتله. ووقعت على قتيبة يوم قُتل جاريةٌ خُوارزميّة، فلما قُتل أُخذت، فوصلت بعد ذلك إلى يزيد بن المهلَّب، فأولدها خُلَيْدَة. ولما قُتل قتيبة قال وكيع: مَثلي ومثل قُتيبة كما قيل: [من الرجز] مَن يَنِكِ العَيرَ يَنِكْ نَيَّاكا أراد قتيبة أن يقتلني فقتلتُه، أنا أبو المُطَرِّف، وصعد المنبر وأنشد: [من البسيط] أنا ابنُ خِنْدِفَ تَنميني قبائلُها ... للصالحاتِ وعمِّي قيسُ عَيلانا ثم قال: والله لأُقتِّلَن، ثم لأصلِّبنّ، وطلب رأسَ قتيبة وخاتمه، فقيل: هو مع الأزد، فقال: والله لا أبرح حتى أوتى بالرأس أو يذهب رأسي، فجاؤوه به، فبعث بالرأس مع سَليط بن عبد الكريم الحَنَفيّ ورؤوس أهله إلى سليمان بن عبد الملك، فلما وُضعت بين يدي سليمان قال: ما أردتُ هذا كلَّه، ثم سأله خُرَيم بن عمرو والقعقاع بن خُلَيد في مواراتهم فأذن في ذلك. ¬

_ (¬1) "ديوان الفرزدق" 2/ 331 - 332، و"تاريخ الطبري" 6/ 516، 520.

وقال رجل من العَجَم من أهل خراسان لما قُتل قتيبة: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة؟ ! والله لو كان منا فمات فينا لجعلناه في تابوت، واستفتحنا به غزونا، واستسقينا به إذا قُحِطنا. وقال الإصبهبذ لرجل: يا معاشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيّدا العرب؟ ! فقال: فأيُّهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ قال: لو كان قتيبة بأقصى جُحْرٍ بالمغرب مُكبَّلًا بالحديد، ويزيد معنا والٍ علينا؛ لكان قتيبة أعظم هيبةً في صدورنا من يزيد. وقال الفرزدق من أبيات: [من الطويل] أتاني ورَحْلي بالمدينة وَقعَةٌ ... لآل تميمٍ أقعدتْ كلَّ قائم وقال الطِّرِمَّاح في هذه الوقعة: [من الكامل] لولا فوارسُ مَذْحِجَ ابنةَ مَذْحِجٍ ... والأزْدِ زُعزعَ واستُبيحَ العَسْكَرُ وتقطَّعتْ بهم البلادُ ولم يَؤُب ... منهم إلى أهلِ العراق مُخَبِّرُ واستَطْلَقَتْ عُقَدُ الجماعةِ وازدُري ... أمرُ الخليفة واستُحِلَّ المنكَرُ قومٌ هم قتلوا قتيبةَ عَنْوةً ... والخيلُ جانحةٌ عليها العِثْيَرُ بالمَرْجِ مرجِ الصّين حيث تَبيَّنَتْ ... مُضَرُ العراق مَن الأعزُّ الأكثَرُ إذ حَالفتْ جَزَعًا ربيعةُ كلُّها ... وتفرَّقَتْ مُضَرٌ ومَن يَتَمَضَّرُ وتقدَّمتْ أزدُ العِراق ومَذْحِجٌ ... للموت يَجمعها أبوها الأكبرُ فبعِزِّنا نُصِرَ النبيُّ محمدٌ ... وبنا تَثَبَّتَ في دمشقَ المِنبرُ قحطانُ تضربُ رأسَ كلِّ غَضَنْفَرٍ ... بالسَّيف يَقدَمُهنَّ موت أحمرُ (¬1) ذكر أولاد قُتيبة: وهم سَلْم، وإبراهيم، وقَطَن، وكثير، والحجاج، وعبد الرحمن، ومسلم، ويوسف، وعمرو. فأما سَلْم فولي البصرة مرتين؛ مرةً لابن هُبَيرة، ومرةً لأبي جعفر المنصور، وكان سيّدَ قومه، ومات بالرّي، وكنيته أبو قتيبة، وكان له أولاد: سعيد، وإبراهيم، وقطن، و [عمرو] بنو سَلْم. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 519 - 521، و"ديوان الطرماح" 248 - 252.

محمود بن لبيد

فأما سعيد بن سلم فولي أرمينية، والموصل، والسّند، وطبرستان، والجزيرة، وله عَقِب كثير. وأما إبراهيم بن سَلْم فولي اليمن لموسى الهادي. وأما عمرو بن سلم فولي الرّي، وبَلْخ. وأما قطن بن سلم فولي سَمَرْقند وغيرها من كُور خُراسان، وله بها عَقِب (¬1)، وأما كثير بن قتيبة فولي سِجستان، وقُتل مع أبيه. ذكر إخوة قتيبة: وهم عبد الرحمن، وعبد الله، وصالح، وحصين، وعبد الكريم، وضِرار، وبشار، وزياد، وحمّاد، وزُرَيق، وعمرو، ومَعْبد، وكلهم أشراف سادات أجواد، وكان سيدهم بشار حتى بَسَق عليه قتيبة، وهو صاحب نهر بشار (¬2). وقال ابن عساكر: أسند قتيبة عن أبي سعيد الخدري، والشعبي. محمود بن لَبيد ابن عُقبة بن رافع بن امرئ القيس الأنصاري. من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وأمُّه أم مَنظور بنت محمود بن مَسلَمة، من الأوس. وُلد محمود بن لبيد في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبوه من الصحابة، وفي أبيه جاءت رُخصة الإطعام لمن لا يَقدر على الصيام. ¬

_ (¬1) كذا وقع هنا وفي "الوافي بالوفيات" 24/ 198 من عدّ قطن في أبناء سَلْم بن قتيبة، وهو خطأ صوابه: قطن ابن قتيبة بن مسلم كما في "المعارف" 407، وقد ذكر الطبري 7/ 81 في حوادث سنة (102) أن قطن بن قتيبة كان على بخارى لما قصده خاقان. هذا، وقد ذكر ابن عساكر في تاريخه 59/ 43 قطن بن سلم بن قتيبة، فلم يذكر له ولاية، واكتفى من ترجمته بقوله: كان مضمومًا إلى عبيد الله بن مروان بن الحكم بن أبي العاص، فلم يزل معه في العسكر حتى قتل مروان بن محمد. (¬2) "المعارف" 406.

يزيد بن مرثد الهمداني

وتوفي بالمدينة سنة ست وتسعين، وقد سمع محمود من عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وكان ثقةً قليلَ الحديث، وكان له عقب فانقرضوا (¬1). [وفيها توفي يزيد بن مَرْثَد الهَمْداني قال ابن عساكر: أراد الوليد أن يوليه القضاء، فلبس فَروة مقلوبة، وأخذ بيده رغيفًا وقطعة لحم، وخرج حافيًا وعلى رأسه قلنسوة طويلة، وجعل يمشي في الأسواق ويأكل، فبلغ الوليد، فظن أنه قد اختلط فتركه، وإنما فعل ذلك ليتخلَّص منه. ويزيد بن مرثد من صنعاء دمشق، وصنعاء الشام كانت على الشَّرف القِبلي من دمشق، ومكانها اليوم مسجد خاتون، وقد دَرَست. وقال ابن عساكر: كان يزيد بن مَرثد من الصالحين البكائين، قال له رجل: ما يُبكيك يا بن مَرثد؟ قال: ما سؤالك عن هذا؟ قال: لعل الله أن ينفعني به، فقال: والله لو تواعدني أن يحبسني في حمَّام إن أنا عصيتُه لقد كان ينبغي أن لا تجف لي دمعة، فكيف وقد تواعدني أن يحبسني في نار جهنم! قال: فأنت في خلواتك كذا؟ فقال: والله إني لأكون في خلوتي مع أهلي، فأريد أن أصيب منها، فأذكر حالي فأمتنع من ذلك، ويغلبني البكاء، وكذا عند الطعام، فتقول امرأتي: ماذا بُليت به معك من بين نساء المسلمين؟ ! وتبكي ويبكون صبياننا ولا يدرون ما بنا، رحمه الله تعالى (¬2).] الوليد بن عبد الملك ابن مروان، وكنيته أبو العباس، من الطبقة الثالثة من أهل الشام، رأى سَهْل بن سعد السَّاعِديّ، وابنَ المسيب، وابن سيرين. وكان عند أهل الشام أفضل خلفائهم، بنى المساجد والجوامع، وجامع دمشق، ومسجد المدينة، وهو أول من اتّخذ دار الضيافة للقادمين، وبنى المارستانات ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 80. (¬2) هذه الترجمة من (ص) وهنا جاء موضعها، وانظر "حلية الأولياء" 5/ 164، و"تاريخ دمشق" 18/ 379 - 381 (مخطوط)، و"المنتظم" 6/ 291 (وفيات سنة 89 هـ)، و"تهذيب الكمال" 32/ 239.

للمرضى، وساق المياه إلى مكة والمدينة، وبنى الأعلام في المفاوز، وغزا أرض الروم سنة سبع وثمانين وسبع وسبعين، ووضع المنابر في الأمصار، وفرض للجَذْمَى والأضِرَّاء، وأعطى كل ضرير قائدًا، ومنع الفقراء أن يسألوا الناس، وكانت في أيامه فتوحات عظيمة: فتح قتيبة بن مسلم من مرو إلى مَطْلع عين الشمس، ومحمد بن القاسم بلاد الهند، وجاوز طليطلة (¬1)، وإذل الكفار. والوليد أول من كتب في الطَّوامير، وعظَّم الكتب، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده يكتبون: من فلان بن فلان، إلى فلان بن فلان، سلام عليك، أما بعد، وكذا فعل بنو أمية، فلما قدم الوليد غيّر ذلك، وأمر أن يُفَخَّم ويُعظَّم في كتبه. ولما مات الوليد أقام سليمان على ذلك، فلما قام عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه غيّر ذلك، وفعل كما كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده، فلما ولي يزيد بن عبد الملك ردَّها إلى ما كانت عليه في أيام الوليد بن عبد الملك، حتى قام يزيد الناقص يغير الحال إلى ما سنّه الوليد بن عبد الملك وإلى هلم جرّا. وقال الواقدي: حج الوليد بن عبد الملك في سنة إحدى وتسعين في خلافته، ونزل بدار مروان، فأحسن إلى أهل المدينة ووصلهم، وسأل عمن بقي من الصحابة فقيل: سهل بن سعد، فأرسل إليه، فلما دخل عليه رحَّب به وأكرمه وأعطاه مئة دينار (¬2). وقال هشام بن محمد: كان الوليد صاحب بناء واتّخاذ للمصانع، وأجرى المياه، فكان الناس يلتقون في زمانه، فيقول بعضهم لبعض: ماذا بنيت؟ ماذا جدَّدت؟ فولي سليمان فكان صاحب طعام ونكاح، فكان الناس يسأل بعضهم بعضًا عن التزويج والطعام، فلما قام عمر بن عبد العزيز كان صاحب نُسُك وعبادة، فكانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة، وكم تحفظ من القرآن، ومتى ختمتَ، وما تصوم من كل شهر، ومتى تختم القرآن؟ ونحو ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) الذي فتح بلاد الأندلس وجاوز طليطلة موسى بن نصير، فلعل في النص سقطًا. انظر "تاريخ الطبري" 6/ 496، و"المنتظم" 6/ 269. (¬2) في "تاريخ دمشق" 17/ 841 أن ذلك كان سنة (78 هـ) وأن الوليد كان فيها ولي عهد. (¬3) "المنتظم" 6/ 268 - 269، و"أنساب الأشراف" 7/ 13.

وقال عمر بن شبَّة: جاءه رجل من بني مَخزوم، فسأله قضاءَ دَينه، فقال: أقرأت القرآن؟ قال: لا، فقال لرجل: علِّمه القرآن، فإذا علم قضينا دينَه (¬1). وكان يعطي على قراءة القرآن. وقال إبراهيم بن أبي عبلة: قال لي الوليد: في كم تختم القرآن؟ قلت: في كذا وكذا، فقال: لكن أمير المؤمنين على شغله يختمه في كل سبعة أيام، وفي رواية في كل ثلاثة أيام، وكان يختمه في رمضان سبع عشرة مرة، وكان عبد الملك يختمه في كل ثلاثة أيام (¬2). قال الهيثم: كان الوليد لُحَنة، وكان عبد الملك يحبه ولا يفارقه، فمنعه التأدُّب، ولم يُغربه إلى البادية، مع عادة بني أمية مع أبنائهم، فخطب يومًا وعبد الملك حاضر فلحن لحنًا فاحشًا، فقال عبد الملك: أضرَّ حُبُّنا بالوليد. قال ابن عساكر: خطب الوليد يومًا فقرأ: {يَاليتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}، فرفع التاء من ليتها وهو يومئذٍ خليفة، فقال عمر بن عبد العزيز: [يا ليتها كانت] عليك وأراحنا الله منك (¬3). وقال أبو اليقظان: خطب الوليد يومًا فقال: من أمير المؤمنين علي، وقال: أنتم تروون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حق أبي تُراب: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" وإنما الحديث: أنت مني بمنزلة قارون من موسى، فلعنه كلُّ مَن حضر (¬4). وقال هشام: كان الوليد جبارًا بطاشًا، وكانت في أيامه الزّلازل هدمت عامّة الحصون والبلاد، وكان مُغرى بالمسابقة بين الخيل، فإذا سُبق يتألَّم ويَعقِر خيلَ مَن يسبقه، فسابق يومًا بين أفراس له وبين فرس لخالد بن هشام بن عبد الملك (¬5)، فسبق فرس خالد، فقال الوليد: لمن هذا الفرس؟ فقال خالد: هذا فرس أمير المؤمنين أهديتُه له البارحة، فقال: وصَلَ رَحِمَك الله، قد قبلنا هديَّتَك، وأعطاه عوض الفرس ألف دينار. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 496، و "أنساب الأشراف" 7/ 21. (¬2) "تاريخ دمشق" 17/ 845. (¬3) "تاريخ دمشق" 17/ 846. وما بين معكوفين منه. (¬4) ذكر نحو هذه القصة المزي في "تهذيب الكمال" في ترجمة حريز بن عثمان. (¬5) في "تاريخ دمشق" 5/ 569 (مخطوط) أنه خالد بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة.

وقال المدائني: جلس الوليد يوم جمعة على المنبر حتى اصفرَّت الشمس، فقام إليه رجل فقال: إن الوقت لا يَنتظرك، وإن الربّ لا يَعذرك، فقال: صدقت، ومَن قام فقال مثل مقالتك لا ينبغي أن يقوم، مَن ها هنا من الحرس يقوم فيضرب عنقه (¬1)؟ وقيل له وقد فرَّ من الطاعون: إن الله يقول: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَو الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلًا} [الأحزاب: 16]، فقال: وذاك القليل يُطلب (¬2). ودخل بعض الخوارج على الوليد، فسبّه وسبَّ أباه وأهله، وكان عمر بن عبد العزيز عنده، فقال الوليد لعمر: ما ترى؟ فقال: أظنه مغلوبًا على عقله، والعفو أقرب للتقوى، فقال الوليد لعمر: أنت حَرُورِيّ، فقال عمر للوليد: أمجنون أنت؟ وكان خالد بن أبان (¬3) صاحب شرطة الوليد واقفًا على رأسه، فاخترط السيف ظنًّا منه أن الوليد يأمره بقتل عمر، وقام الوليد مغضبًا فدخل على أم البنين أخت عمر، فشكاه إليها وقال: إن أخاكِ لحروري أحمق، فقالت: يا وليد، أنت والله أهل لما قلت ووالله ما أسقط عمر سقطة منذ كان غلامًا، ثم قال عمر لخالد: ويلك لو أمرك بقتلي أكنت قاتلي؟ قال: إي والله، فقال عمر: أي أحمق، ما أجرأك على الله في طاعة مخلوق، ثم إن أم البَنين نفت خالدًا إلى بلد آخر. ذكر وفاة الوليد بن عبد الملك بن مروان (¬4): اتفقوا على أنه توفي يوم السبت منتصف جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، وإنما اختلفوا في مدّة ولايته؛ فقال الزهري: ولي عشر سنين إلا شهرًا، وقال أبو مَعْشر: تسع سنين وسبعة أشهر، وقال الواقدي: تسع سنين وثمانية أشهر، وقال هشام بن محمد: ثمان سنين وستة أشهر. ¬

_ (¬1) "العقد الفريد" 1/ 53. (¬2) "البيان والتبيين" 2/ 203. (¬3) كذا، وصوابه: ابن الريان، كما في "أنساب الأشراف" 7/ 28. (¬4) هذه الفقرة وردت في (خ، ب، د) مختصرة حتى شعر جرير، فأثبت نص (ص) وسياقه.

قلت: والعجب من هذا الخلاف وقد اتّفقوا على أنه ولي الخلافة يوم مات أبوه عبد الملك في شوال سنة ست وثمانين، ومات يوم السبت منتصف جمادى الآخرة، فتكون ولايته تسع سنين وثمانية أشهر وأيامًا كما قال الواقدي. واختلفوا في سنّه؛ قال الواقدي: توفي وهو ابن ستّ وأربعين سنة وأشهر، وقال هشام بن محمد: توفي وهو ابن خمس وأربعين سنة، وقيل: ابن اثنتين وأربعين سنة، وقيل: جاوز الخمسين. وكانت وفاته بدمشق بدير مُرَّان. واختلفوا فيمن صلّى عليه؛ فقال الواقدي: عمر بن عبد العزيز، وقال هشام: ابنُه عبد العزيز بن الوليد، وكان سليمان غائبًا بالرَّمْلَة، ودُفن في مقابر الباب الصغير، وقيل: بين باب الصغير وباب الجابية، وقيل: بباب الفَراديس (¬1). وقد رثاه جماعة منهم جرير فقال: [من البسيط] يا عينُ جُودي بدَمْعٍ هاجَه الذِّكَرُ ... فما لدمعِك بعد اليوم مُدَّخَرُ إن الخليفةَ قد وارتْ شمائلَه ... غَبْراءُ مُلْحَدَةٌ في جَوفِها (¬2) زَوَرُ أضحى بَنوه وقد جلَّتْ مُصيبتُهم ... مثلَ النُّجوم هوى من بينها القَمَرُ كانوا جميعًا فلم يَدفع منيَّتَه ... عبدُ العزيز ولا رَوْحٌ ولا عُمَرُ كان له من الولد: العباس، وعبد العزيز، ومروان، وعَنْبَسة، ومحمد، وعائشة، أمهم أمُّ البَنين بنت عبد العزيز بن مروان (¬3)، ويزيد وهو النّاقص، وإبراهيم، وليا الخلافة، وأمهما شاهفَرِيد بنت يَزْدَجِرد (¬4)، وعمر، وأمه بُنانة كندية (¬5) أم ولد، وأبو ¬

_ (¬1) انظر "المعارف" 359، و"تاريخ الطبري" 6/ 495، و"تاريخ دمشق" 17/ 847 - 851 (مخطوط)، و"المنتظم" 7/ 23، و"السير" 4/ 348. (¬2) في (ص): في حرفها، وفي ديوانه بشرح ابن حبيب 242، والطبري 6/ 498: جَوْلِها، وأجوال البر: نواحيها. (¬3) لم يعد أحد العباس من أولاد أم البنين، وإنما ذهبوا إلى أن أمه نصرانية، انظر "نسب قريش" 165، و"أنساب الأشراف" 7/ 6، وجمهرة أنساب العرب" 89، و"تاريخ الطبري" 6/ 496، و"العقد الفريد" 4/ 422، و "تاريخ دمشق" 32/ 268، و"المنتظم" 6/ 268، و"المعارف" 359. (¬4) في "جمهرة ابن حزم": شاهفريد بنت كسرى بن فيروز بن يزدجرد بن شهريار ملك الفرس. (¬5) انظر "تاريخ دمشق" 54/ 286، 287.

عُبيدة لأم وَلَد فَزارية، وعبد الرحمن أمه أم عبد الله بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، ويحيى وتمَّام، ومَسرور، وبِشر، ورَوْح، وجَزْء، ومنصور، ومُبَشّر، وخالد (¬1)، وصَدَقة، لأمهات أولاد شتّى. ذكر أعيانهم: فأما العباس فكنيته أبو الحارث، وكان أكبر ولده، وبه كان يُكنى، ويُسمّى فارس بني مروان، وقيل: كنيته أبو الوليد. كان جوادًا مُمَدَّحًا، وفيه يقول جرير: [من البسيط] إن النَّدى حالفَ العباس إن له ... بيتَ المكارم يَنْمي جَدُّه صُعُدا (¬2) وتزوَّج ابنةَ قَطَري بن الفُجاءة الخارجي، فأولدها المؤمّل والحارث، وقيل: إنه لم يتزوّجها، بل أولدها على وجه السَّبْي، فلما ولي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قال له: خلِّ سبيلَها وإلا رجمتك، فتركها. [وقال ابن عساكر: ] استعمله أبوه على حمص، فأقام بها حتى مات الوليد، وولّاه أبوه المغازي، فافتتح مدنًا وحصونًا كثيرة في بلاد الروم، وكانت داره بدمشق بالخضراء (¬3)، ويقال: إن أمَّه كانت نصرانية. وكان علي بن عبد الله بن العباس، وعلي بن الحسين بن علي، وعلي بن عبد الله بن جعفر؛ إذا قَدموا على الوليد يقول للعباس: جالس عمومتك، فكان يجالسهم أحسن مجالسة، فقال علي بن عبد الله بن عباس: لو قيل لي: إن هذا الأمر لا يخرج من آل مروان، ثم قيل: اختر رجلًا، لاخترتُ العباس، فإني ما سمعتُ منه كلمة خَنا عند مجالسته قط، فقال له مولى للعباس: كيف تسمعها أنت وما سُمعت منه يومًا قط؟ وكان ¬

_ (¬1) في (خ، ب، د): ومبشر وعتبة وخالد، ولم يذكر أولاده في (ص)، وذكر عتبة في أولاد الوليد خطأ، إنما هو عنبسة السالف، فلم يذكر أحد أن في أولاده عتبة، انظر المصادر قبل تعليقين. (¬2) "أنساب الأشراف" 7/ 9، ورواية الشطر الأول في شرح ديوان جرير 395: أُمّي النَّدى مِنْ جَدَا العباس إن له وهي أجود وأعلا (¬3) في "تاريخ دمشق" 32/ 268: وكانت داره بدمشق قبلة زقاق العجم مما يلي درب السلم والخضراء.

الوليد يُحبّه فأحسن تأديبَه، وكان في عزمه توليته الخلافة، وإنما مال إلى عبد العزيز لأجل أمه أُمّ البَنين. وقال هشام: وفي سنة ثمان وثمانين كانت وقعة عظيمة للعباس ولمسلمة بن عبد الملك يوم الطُّوانة، قتل العباس بضعة وثمانين ألفًا من الرّوم (¬1)، وأسر أبناء الملوك والبَطارقة، فبلغت سُهمان المسلمين: مئة دينار، مئة دينار، وفي سنة تسعين بلغ العباس أَرْزَن من بلاد الروم وفي سنة ثلاث وتسعين افتتح طُوَيس، والمرزبانين، ودَلَسَه، وكَاشْتَه، ودمنقة، ودُرْدُور، وله وقائع عظيمة. وكان شاعرًا، فلما أراد يزيد بن الوليد خلع الوليد بن يزيد لفساده (¬2) قال من أبيات: يا قومَنا لا تَمَلُّوا نِعمةً لكم ... إن الإله لكم فيما مضى صَنعُ إن الكبير عليكم في ولايتكم ... أن تُصْبِحوا وعَمودُ الذين مُنْصَدِع فانفوا عدوَّكم عن نَحْتِ أَثْلَتكم ... واستجمِعوا إن أمر الدِّين مُجتَمِعُ لا تُلْحِمُنَ ذئابَ الناسِ أنفسَكم ... إن الذئاب إذا ما أُلْحِمَتْ رَتَعوا مات العباس بحبس مروان بن محمد الجَعْدِيّ بَحرَّان، وأرسل الحديث عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، وروى عنه مَكْحُول الشاميّ. وأما عبد العزيز بن الوليد فكنيته أبو الأصبغ، وقيل: أبو مروان. [وقال المدائني: ] كان عبد العزيز سيِّد ولد الوليد، وأراد الوليد أن يُبايع له ويخلع سليمان، فمات الوليد [وقد ذكرناه]. وزوّجه الوليد أم أيوب بنت سليمان أخيه، فماتت عنده، فلما ولي سليمان تلقّاه عبد العزيز، فقال له سليمان: دفنتَ أم أيوب ثم جئتني؟ فقال عبد العزيز: مصيبتي بها أعظم. ولم يزل طامعًا في الخلافة يُحدِّث نفسه بها حتى مات سليمان، وكان بالرَّمْلة، فجمع الجيوش، وعقد الألوية، وسار إلى دمشق، فلما وصل طبرية قيل له: إن خالك ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 32/ 274: وقتل منهم بضعة وثلاثين ألفًا. (¬2) في "تاريخ دمشق" 32/ 275 أن الذي هم بخلع الوليد بن يزيد: هشام بن عبد الملك، وفي "تاريخ الطبري" 7/ 239، و "أنساب الأشراف" 7/ 521 أنه بشر بن الوليد.

عمر بن عبد العزيز قد استخلف، فحلَّ ألويتَه، وقدم دمشق فبايع، فقال له عمر - رضي الله عنه -: يا عبد العزيز، أردتَ أن تَشُق عصا المسلمين، وتضرب بعضهم ببعض، لقد كنتُ أرْبَأ بك عن هذا الرأي، فقال: يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي استنقذني بك، والله لولا مكانُك ما ملكها أحد غيري، فقال له عمر - رضي الله عنه -: يا ابن أخي، لو قصتَ بها ما نازعتُك، ولقعدت في بيتي، فقال له عبد العزيز: أنت والله أحقّ بها مني ومن غيري. وكان الوليد بن عبد الملك يقول: سيّدنا عبد العزيز، وفارسنا العباس، وفتانا بشر، وفحلُنا عمر. وقال أبو مُسْهِر: لو وُزن عبد العزيز ببني مروان لرجحهم. وكان مُمَدَّحًا، وفيه يقول الشاعر: [من الطويل] وأنت ابنُ ليلى الخيرِ خيرِ ظَعينةٍ ... وليلى عَديٍّ لم تلِدْك الزَّعانِفُ (¬1) وأم عبد العزيز: أم البنين، واسمها ليلى، وأمها ليلى من بني عَديّ، وأمها ليلى بنت سُهيل بن عامر بن كِلاب. وكان الوليد قد ضَمَّه إلى أبي عُبيدة محمد بن عمار بن ياسر (¬2)، وولَّى عبد العزيز دمشق، وكانت داره بها في موضع فندق الخشب الكبير، وله عقب [بمرج دمشق بمكان يقال له: الجامع] (¬3). وفي سنة ثلاث وتسعين غزا الروم حتى بلغ غزالة، وحجّ بالناس في هذه السنة (¬4). وكان أعقَلَ بني أمية، ولما ولي دمشق كان شابًّا قال الناس: إنه حَدَثٌ غِرٌّ لا عِلْمَ له بالأمور، فجاء إليه شخص فقال: عندي نصيحة، قال: ما هذه النصيحة من غير يَدٍ سبقت مني إليك؟ ! قال: لي جارٌ عاصٍ متخلِّفٌ عن الغزو، فقال: والله ما اتَّقيتَ ربَّك، ولا أكرمتَ أميرَك، ولا حفظتَ جِوارك، فإن شئتَ نظرنا فيما تقول، فإن كنتَ ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 7/ 10. (¬2) في (ص): وقال ابن عساكر: كان الوليد قد ضم عبد العزيز ... ، وهذا الخبر ليس في "تاريخ دمشق" في ترجمة عبد العزيز 43/ 34 - 39، وهو في "أنساب الأشراف" 7/ 11. (¬3) "تاريخ دمشق" 43/ 34، وما بين معكوفين من (ص). (¬4) في "تاريخ دمشق" 43/ 37 أنه حج في سنة ثلاث وتسعين، وغزا الروم في سنة أربع وتسعين.

صادقًا لم ينفعك ذلك عندنا، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئتَ أقلْناك، قال: أقِلْني، فقال عبد العزيز: يا أهل دمشق، ما أعظم ما جاء به هذا الفاسق، إن السِّعاية أحسبها منه سجِيَّة، ولولا أنه لا ينبغي للوالي أن يعاقب قبل أن يعاتب لكان لي في ذلك رأي، فلا يأتيني أحد منكم بسِعاية، فإن الصادق فيها فاسق، والكاذب بَهَّات. وبلغ هذا الكلام عبد الله بن داود فقال: ما أشبه هذا الكلام بكلام عمر بن عبد العزيز! فقيل له: إنه خاله. ومات عبد العزيز في خلافة هشام بن عبد الملك، خرج وهو مريض إلى ظاهر دمشق، إلى منزل كان ينزله، ومعه حجر بن عقيل الرِّياحي، فأنشد حجر: [من الطويل] وما أخرجَتْنا رغبةٌ من بلادنا ... ولكنَّ ما قد قَدَّر الله كائِنُ لحَينِ نُفوسٍ لم تجدْ مُتَأخِّرًا ... فلا تَبعدنْ تلك النفوسُ الحَوائنُ (¬1) فمات عبد العزيز في ذلك المنزل، فقال رجل من كَلْب يرثيه (¬2): [من البسيط] أقول للرَّكْبِ إذ عاجُوا مَطِيَّهُم ... هل كان من حَدَثٍ أو جاءكم خَبَرُ قالوا نعم كلُّنا نَبكي لصاحبه ... يُمسي ويُصبح ورْدًا ماله صَدَرُ ماتَ الكريمُ أبو مروانَ خيرُ فَتًى ... زَينُ العَشيرة قد حَلَّتْ به الغِيَرُ وكان لعبد العزيز من الولد: عتيق، وعبد الملك، وأمهما من ولد أبي بكر الصديق رضوان الله عليه. وأما محمد بن الوليد فأمه أم البنين أيضًا. [وقال ابن عساكر: ] وله آثار بدمشق منها المحمديات؛ فوق الأرزة ودير محمد عند المنيحة من إقليم بيت الآبار، وتزوج محمد هذا ابنة عمه يزيد بن عبد الملك (¬3). وأما يزيد الناقص وإبراهيم فسنذكرهما فيما بعد. ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 7/ 11. (¬2) الأبيات في "تاريخ دمشق" 43/ 303 في رثاء عبد الملك بن الوليد بن عبد الملك. (¬3) "تاريخ دمشق" 16/ 91 (مخطوط).

وأما عمر بن الوليد فأمه بُنانة كندية أم ولد، وهو فحل بني مروان، كان يركب في ستين ولدًا من صُلبه، وكان جوادًا مُمَدَّحًا، وفيه يقول الفرزدق: [من الطويل] إليك سَمَتْ يا ابن الوليد ركابُنَا ... ورُكبانُها كانوا أجدَّ وأجْهَدا إلى عُمرٍ أقبلْنَ معتمداته ... فنعم مناخ الرَّكبِ حين تَعَمّدا فلم تجرِ إلا كنتَ في الخير سابقًا ... ولا عُدتَ إلا كنت في العودِ أحمدا (¬1) ولّاه أبو الوليد الموسم والغزو، وكان على الأردن مدة ولاية أبيه، وحج بالناس سنة ثمان وثمانين (¬2). وأما أبو عُبيدة بن الوليد فكان ضعيفًا يقول الشعر، فقال له هشام بن عبد الملك: والله لئن قلتَ بيتًا لأحْلِقَنّ جُمَّتَك، وفيه يقول الشاعر: [من البسيط] أبو عبيدة سَرَّاقُ الفَراريجِ وكان أجملَ ولد أبيه، ولما زال مُلك بني أمية لجأ إلى أخواله من فزارة فأخذه أبو العباس فقتله (¬3). وأما يحيى بن الوليد فهو قاتل حاجب بن حُمَيضة الكلابي، وكان نديمه، جلسا يومًا يشربان، فقال له يحيى: لم جلد الوليد أباك؟ وحاجب ساكت، فردَّ عليه يحيى القول [فذكر حاجب أم يحيى بسوء، وقيل: إنه] قال: من أجل أمّك، فألقاه يحيى من السطح فمات، وكان يقال لحاجب: ملاعب الأَسِنَّة (¬4). وأما تمَّام بن الوليد فلم يُعقِب. وأما مَسرور بن الوليد فكان ناسكًا، وتزوّج ابنة الحجاج بن يوسف. وأما بشر بن الوليد فكان من فتيانهم. ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 7/ 8. (¬2) "تاريخ دمشق" 54/ 283 - 284. (¬3) "أنساب الأشراف" 7/ 6. (¬4) كذا، والذي في "أنساب الأشراف" 7/ 7 والنقل منه: حاجب بن حميضة الكلابي من ولد ملاعب الأسنة. وما بين معكوفين من (ص).

وأما رَوْح بن الوليد فكان من علمائهم. وأما عبد الرحمن بن الوليد فكان من أجوادهم. ذكر نساء الوليد: قد روينا أنه كان مِطلاقًا وأنه أحصن ستين امرأة، والمشهور من نسائه: أم البَنين بنت عبد العزيز بن مروان، ونَفِيسة بنت زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأمها لُبابة بنت عبد الله بن عباس، تُوفّيت عنده وهي حامل والولد يركض في بطنها، فهمَّ الوليد أن يبقر بطنها حرصًا على أن يكون له منها ولد يبقى بعده فنهي عن ذلك. وآمنة بنت سعيد بن العاص، ثم تزوَّجها خالد بن أسيد بن أبي العِيص (¬1)، وأم عبد الله بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وهي أم ولده عبد الرحمن، وعاتكة بنت عبد الله بن مطيع. قال المدائني: تزوج الوليد في خلافته ثلاثًا وستين امرأة، وكان يُطلِّق الواحدة والثنتين والثلاث، فلما وصلت إليه عاتكة بنت عبد الله بن مطيع هذه من المدينة ودخلت عليه قالت له: إنا قد شرطنا على الحمالين الرجعة إلى المدينة فما رأيك؟ فقال: قاتل الله ابنة المنافق فما أظرفها، وقال: أقيمي، فأقامت عنده أربعة أشهر ثم طلقها. وقيل: إن اسمها فاطمة بنت عبد الله بن مُطيع العَدَويّ، وأمها أم حكيم بنت عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، فأبوها وأمها عَدَويّان. ومعنى قول الوليد ابنة المنافق: لأن أباها عبد الله كان من رؤوس الحَرَّة (¬2)، [وقد ذكرناه. فصل: ذكر مَن] كان في أيام الوليد من الخوارج: زياد الأَعْسَم، وأبو بَيْهَس، واسمه: الهَيصَم بن جابر، هرب من العراق إلى المدينة، فأخذه عثمان بن حيّان المُرِّي فقطع يديه ورجليه، ونِبْراس بن مالك العَنَزي، ¬

_ (¬1) هو خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص، كما في "أنساب الأشراف" 7/ 5. (¬2) "أنساب الأشراف" 7/ 6، و"تاريخ دمشق" 288 - 289 (تراجم النساء).

السنة السابعة والتسعون

هرب من الحجاج ثم طلب منه الأمان فأمنه، وتاب وحسنت توبته، وصار يضرب أعناق الخوارج بين يدي الحجاج. انتهت ترجمة الوليد بن عبد الملك وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. السنة السابعة والتسعون فيها اهتم سليمان بن عبد الملك بالغزو للروم، فبعث ابنه داود، ففتح حصن المرأة، وبعث أخاه مَسلمة بن عبد الملك ففتح حصن الوضّاح، وأغزى عمر بن هبيرة البحر. وفيها ولّى سليمانُ يزيد بنَ المهلَّب خراسان، وكان قد ولاه العراق في السنة الماضية قبل أن يُقتل قتيبة بن مسلم، فقال قتيبة: رمانا بجبَّار العراق. ذكر القصة: لما ولَّى سليمان بن عبد الملك العراق ليزيد بن المهلَّب نظر يزيد في نفسه وقال: إن الحجاج قد أخرب العراق، ومتى سلكتُ طريقه ازداد خرابًا، ونَفِرت قلوب الناس مني، وهم يرجون الخير في أيامي، وإن لم أرفع الخراج إلى سليمان كما كان يرفع الحجاج لم يقبل مني، فقال يزيد لسليمان: ألا أدلُّك على رجلٍ بصيرٍ بأمر الخراج تولّيه إياه؟ قال: ومن هو؟ قال: صالح مولى بني تميم، قال: قد ولَّيناه. وقدم صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم العراق قبل قدوم يزيد فنزل واسطًا، ثم قدم بعده يزيد بن المهلب إلى واسط، وخرج الناس لتلقِّيه، وخرج صالح بعدهم لما قرب يزيد من المدينة، وبين يدي صالح أربع مئة من أهل الشام، فلمَّا دخل البلد وصالح يسايره أشار صالح إلى دار وقال: قد أخليتُ لك هذه الدار، فنزل يزيد فيها، ومضى صالح إلى منزله، وأخذ صالح يضيّق على يزيد، فكان يكتب يزيد صِكاكًا فلا ينفذها صالح، فقال يزيد: هذا ما عملتُ بنفسي، وجاء صالح إلى يزيد فقال له: ما هذه الصِّكاك التي نفَّذتَ إلي بمئة ألف درهم؟ ! هذا شيء لا يقوم به بيت المال، ولا

يرضى به أمير المؤمنين، فقال له يزيد: أمضها هذه المرَّة، فقال: لا أفعل (¬1)، فأقام يزيد بالعراق على مَضَض. وكان عبد الملك بن المهلَّب عند سليمان بالشام، فقال له سليمان: يا عبد الملك، ما رأيك في ولاية خُراسان؟ قال: يجدني أمير المؤمنين حيث أحب، ثم أعرض سليمان عن ذلك، وكتب عبد الملك إلى العراق فخَبَّر رجالًا بأن سليمان عرض عليه ولاية خراسان، وبلغ يزيد بن المهلب وقد ضَيَّق عليه صالح، فقال لعبد الله بن الأهتم: إني قد دعوتُك لأمر، وأحبُّ أن تكفينيه، فقال: مُرْني بما شئت، فقال: قد ضَجِرتُ من العراق، وقد بلغني أن سليمان يريد أن يولّي خراسان أخي وأنا أولى، فقال له: اكتم هذا (¬2). وكتب يزيد إلى سليمان كتابًا يذكر فيه أمر العراق، ويثني على ابن الأهتم ويقول: إنه عالم بأمر العراف وخراسان، ودفع إليه ثلاثين ألفًا، فسار سبعًا وقدم على سليمان، فدفع إليه كتاب يزيد، فلما قرأه قال: إن يزيد كتب إلي يذكر علمك بالعراق وخراسان، فكيف علمك بهما؟ فقال: أنا أعلم الناس بهما؛ لأني بهما ولدتُ ونشأتُ، فقال: أشر عليَّ برجل أولّيه خراسان، فقال ابن الأهتم: أمير المؤمنين أعلم بمن يولّي، فإن رأى أن يَذكر رجالًا فأخبره بمَن يصلح منهم، فسمّى رجالًا من قريش، فقال ابن الأهتم: ليس هؤلاء من رجال خراسان، قال: فعبد الملك بن المهلَّب، قال: لا، قال: فوكيع بن أبي سُود، يعني الذي قتل قتيبة بن مسلم، فقال ابن الأهتم: وكيع رجلٌ شجاع مِقدام، إلا أنه لم يَقُد ثلاث مئة رجل قط فرأى لأحد عليه طاعة، قال: صدقت، فمن ترى لها؟ قال: رجل ليس لها سواه، قال: من هو؟ قال: لا أذكره حتى يضمَن لي أمير المؤمنين ستْر ذلك، وأن يجيرني منه، فإنه إن علم قتلني، قال: أنت آمن فمن هو؟ قال: يزيد بن المهلَّب، فقال سليمان: إن المقام بالعراق أحبّ إليه من المقام بخراسان، فقال: صدق أمير المؤمنين فتكرهه على ولاية خراسان فليس لها غيره، ويستخلف على العراق رجلًا، ويَتوجه هو إلى خراسان، فقال: أصبت. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 524: قال صالح: فإني أجيزها فلا تكثرنّ علي. (¬2) في "تاريخ الطبري" 6/ 525 أن قائل ذلك يزيد بن المهلب.

وكتب سليمان جواب كتاب يزيد، وهو يثني على ابن الأهتم وعقله وفضله. فسار ابن الأهتم سبعًا حتى قدم على يزيد، فدفع إليه الكتاب، فقال: ويحك، أعندك خير؟ فدفع إليه العهد، فسار يزيد من يومه، وبعث بين يديه ابنه مَخْلَدًا، واستخلف يزيد على واسط الجرَّاح بن عبد الله الحَكَميّ، واستعمل على البصرة عبد الله بن هلال الكلابيّ، وجعل مروان بن المهلب على أمواله بالبصرة وأسبابه -وكان أوثق أخوته عنده- واستعمل على الكوفة حَرْمَلة بن عُمير اللّخمي أشهرًا، ثم عزله وولاها بشير بن حَسّان. وقال أبو عبيدة مَعْمر: لما بعث وكيع بن أبي سُود برأس قتيبة إلى سليمان وقع منه كل موقع، فجعل يزيد بن المهلَّب لعبد الله بن الأهتم مئة ألف درهم على أن يُنَفّر سليمان عن وكيع، فقال ابن الأهتم يومًا لسليمان: يا أمير المؤمنين، ليس لأحد عندي يد، ولا أوجب شكرًا مني لوكيع، قال: ولم؟ قال: لأنه أدرك ثأري، وشفى صدري من عدوي، لكن أمير المؤمنين أعظم منه عندي وأوجب حقًّا من جميع الناس، وإن النصيحة له تلزمني، قال: وما ذاك؟ قال: إن وكيعًا لم يجتمع عنده مئة عَنان قط إلا حدَّث نفسَه بغَدرة، وإنه خاملٌ في الجماعة، ظاهر في الفتنة، فقال سليمان: فليس هذا ممن يُستعان به في الأمور. وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع سليمان، فاستعمل سليمان يزيد على العراق، وأمره إن قامت البيّنة على أن قتيبة لم يخلع تبرأ من طاعة: أن يُقيد وكيعًا به، فسار يزيد إلى خراسان، ولم يعطِ ابنَ الأهتم شيئًا. وقال أبو مخنف: ولما سار مَخْلَد بن يزيد إلى خراسان بين يدي أبيه، قدَّم بين يديه عمرو بن عبد الله بن سنان العَتَكي، فلما قرب من مَرْو بعث إلى وكيع بن أبي سود أنِ الْقَني، فلم يلقه، وقدم مَخْلَد مرو، ولم يخرج إليه وكيع فقال: هذا الأعرابي الأحمق الجِلف الجافي، ثم أرسل فأخذه وأصحابه فبسط عليهم العذاب قبل وصول أبيه.

وقدم يزيد مرو بعد مقتل قتيبة بتسعة أشهر أو عشرة أشهر، ولما نزل يزيد مرو؛ أدنى أهل الشام وقومًا من أهل خراسان، فقال نَهار بنُ تَوسِعَة (¬1): [من الوافر] وما كنَّا نُؤَمِّل من أميرٍ ... كما كنا نُؤمِّل من يزيد فأخطأ ظَنُّنَا فيه وقِدْمًا ... زَهِدْنا في معاشَرة الزَّهيدِ إذا لم يُعطنا نَصَفًا أميرٌ ... مَشَينا نحوه مشْيَ الأسودِ فمهلًا يا يزيدُ أنِبْ إلينا ... ودَعْنا من مُعاشَرةِ العبيدِ نجيءُ فلا نرى إلا صُدودًا ... على أنَّا نُسَلِّمُ من بعيدِ ونرجعُ خائبينَ بلا نَوالٍ ... فما بالُ التَّجَهُّمِ والصُّدودِ ونَهار بن تَوْسِعَة من شعراء الحماسة، وهو القائل من أبيات: [من الكامل] وفَقَدتُ إخواني الذين بعَيشِهم ... قد كنتُ أُعطي مَن أشاءُ وأَمنَعُ فلمن أقول إذا تُلِمُّ مُلِمَّةٌ ... أرني برأيك أم إلى مَن أَفزعُ فليَأتينَّ عليك يوم مرةً ... يُبكى عليك مُقَنَّعًا لا تَسمعُ (¬2) ووصل يزيد عبد الله السَّلولي بمال فقال: [من الكامل] ما زال سَيبُك يا يزيد يَجُودُني ... حتى ارتَويتُ وجُودُكم لا يُنْكَرُ (¬3) أنت الربيع إذا تكون خَصاصةٌ ... عاش السَّقيمُ به وراشَ المُقْتِرُ عَمَّتْ سَحَائبُه جميعَ بلادِكم ... فَرَوَوْا وأغْدَقَهم سَحابٌ مُمْطِرُ فسَقاك ربُّك حيث كنتَ مَخِيلَةٌ ... ريًّا سَحائبُها تَروحُ وتُبْكِرُ قال الواقدي: وفيها جمع يزيد بن المهلَّب لسليمان بن عبد الملك من آل الحجاج أموالًا عظيمة، وعذَّب الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عَقيل زوج أخت الحجاج، حتى مات تحت العقوبة، وكان الحكم قد عذب آل المهلَّب واستصفى أموالهم بأمر الحجاج، فأخذ منهم ستة آلاف ألف درهم، وعذّب يزيد يوسف بن عمر، ثم هرب يوسف. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 258. (¬2) "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي 953 - 954. (¬3) في النسخ: لا يتكدر، والمثبت من الطبري 6/ 529.

وكان الحجاج قبل أن يموت قد جهَّز أمواله وأثقاله إلى الشام إلى البَلْقاء، وكان فيهم أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج، وكانت امرأة يزيد بن عبد الملك بن مروان، وهي أم الوليد بن يزيد المقتول، فأرسل يزيد بن المهلب أخاه عبد الملك، فاستولى على أموال الحجاج وأثقاله، وعَذَّب أمَّ الحجاج بأمر يزيد بن المهلَّب، وقيل: إنما عذّبها يزيد بن المهلَّب، فقال له يزيد بن عبد الملك بن مروان: أما علمتَ بأنها زوجتي وجميع ما تَطلب من المال عليّ، فلم يشفعه فيها، فقال يزيد بن عبد الملك: يا بن المهلّب، والله لئن صار إليَّ من هذا الأمر شيء لأقطعنّ منك طابقًا، فقال له ابن المهلب: لئن كان ذلك لأَرمِيَنَّك بمئة ألف عَنان. وقيل: إن يزيد بن عبد الملك حمل إلى أخيه سليمان مئة ألف دينار عنها. وقيل: إن التي عُذِّبت أخت أمّ الحجاج لا أم الحجاج (¬1). [وفيها] حجّ بالناس سليمان بن عبد الملك، ولما صَدَر من الحج عزل طلحة بن داود الحَضْرمي عن مكة -وكانت ولايته عليها ستة أشهر- وولّى عليها عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أَسيد بن أبي العِيص بن أمية. [قال الشعبي: ] ولما كان سليمان بالمَسْعى نظر إلى كثرة الخلق فعجب، فقال لعمر بن عبد العزيز: يا أبا حَفْص، ألا ترى إلى هذا الخلق الذي لا يُحصي عددَهم إلا الله، ولا يَسع رزقَهم غيره؟ فقال له عمر: هم اليوم رَعيَّتُك، وغدًا خصماؤك، فبكى سليمان وقال: استعنتُ بالله. وقال الزهري: أشرف سليمان من عقبة عُسفان، فأعجبه ما رأى من كثرة الناس وعسكره وأبنيته، فقال لعمر: كيف ترى ما ها هنا؟ فقال له عمر - رضي الله عنه -: أرى دنيا تأكل بعضها بعضًا، وأنت المسؤول عنها والمأخوذ بها، فاسترجع سليمان، وكف عما كان فيه (¬2). ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 7/ 231 - 232. (¬2) في (ص): ولهى عما كان.

ذكر اجتماع سليمان بأبي حازم الأعرج (¬1): واسمه سَلَمة بن دينار، حدثنا عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه قال: بعث سليمان بن عبد الملك إلى أبي حازم فجاءه، فقال له: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال: صدقت، فكيف القُدوم على الله؟ قال: أما المحسن فكالغائب يَقْدَم على أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شِعري، ما حالنا، أو ما لنا عند الله؟ فقال: اعرض عملك على كتاب الله فإنك تعلم ما لك عند الله، قال: يا أبا حازم، وأين أُصيب ذلك؟ قال: عند قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14] قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] قال: ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أعفني من هذا، قال سليمان: إنها نصيحة تُلقيها إلي، قال أبو حازم: إن ناسًا أخذوا هذا الأمر عَنوة من غير مشورة من المسلمين، ولا اجتماع من رأيهم، فسفكوا الدّماء على طلب الدنيا، ثم ارتحلوا عنها، فليت شِعري ما قالوا وما قيل لهم. فقال بعض جُلَساء سليمان: بئس ما قلتَ أيها الشيخ. فقال أبو حازم: كذبتَ، إن الله أخذ الميثاق على العلماء ليُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه، فقال سليمان: اصْحَبْنا يا أبا حازم تُصِب منّا ونُصِبْ منك، قال: أعوذ بالله من ذلك، قال: ولم؟ قال: أخاف أن أَركن إليكم شيئًا قليلًا؛ فيُذيقني ربّي ضِعْفَ الحياة وضِعفَ الممات، قال سليمان: فأشِرْ عليّ، قال: اتَّقِ الله أن يراك حيث نَهاك، وأن يفقدك حيث أمرك، قال: يا أبا حازم، ادْعُ لي بخير، فقال: اللهم إن كان سليمان وليَّك فيسِّره للخير، وإن كان عدوَّك فخُذْ إلى الخير بناصيته، فقال سليمان: يا غلام، مئةَ دينار، فلما أحضرها قال: خذها يا أبا حازم، قال: لا حاجةَ لي فيها، إني أخاف أن تكون ثمنًا لما سمعتَ من كلامي. فكأن سليمان أُعجب بأبي حازم، وكان الزهري حاضرًا فقال: إنه لَجاري منذ ثلاثين سنة، ما كلَّمتُه قط، فقال أبو حازم: إنك نسيتَ الله فنسيتني، ولو أحببتَ الله لأحببتني، قال الزهري: أتشتمني؟ فقال سليمان: بل أنت شتمتَ نفسَك، أما علمتَ ¬

_ (¬1) جاء هذا الخبر في (ب، خ، د) مختصرًا، والمثبت من (ص) لتفصيل الخبر فيها ووضوح سياقه.

أن للجار على جاره حقًّا، فقال أبو حازم: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفِرُّ بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أراذل الناس تعلَّموا العلم، وأتوا به إلى الأمراء، فاستغنوا به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وانتكسوا، ولو كان علماؤنا يصونون علمَهم لم تزل الأمراء تهابهم، فقال الزهري: كأنك إياي تريد، وبي تُعرِّض، قال: هو ما تسمع (¬1). قلت: كذا وقعت لنا هذه الحكاية بهذا الإسناد، ووقعت لنا بإسناد آخر عن الواقدي قال: لما حجَّ سليمان دخل المدينة وقال: هل ها هنا أحدٌ يذكِّرنا بأيام الله تعالى؟ قيل له: ها هنا أبو حازم المدني، فأرسل إليه، فلما دخل عليه سلَّم، فردَّ - عليه السلام -، وقرَّبه وأدناه وقال: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء؟ فقال: أُعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تقول هذا، والله ما رأيتُك يا أمير المؤمنين قبل اليوم ولا رأيتَني، وذكر بمعنى ما تقدم. وفيه: فقال سليمان: أيّ عباد الله أكرم؟ قال أبو حازم: أهل المروءة والتُّقى، قال: فأي الأعمال أفضل؟ قال: أداء الفرائض، واجتناب المحارم، قال: فأيُّ الدعاء أسمع؟ قال: دعوة المظلوم، قال: فأيُّ الصدقة أزكى؟ قال: على البائس الفقير من غير مَنٍّ ولا أذى، قال: فأي القول أعدل؟ قال: قول الحق عند مَن يُخاف ويُرجى، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا إليها، قال: فأي الناس أحمق؟ قال: من باع آخرتَه بدنيا غيره، قال: فما تقول فيما نحن فيه؟ قال: إن آباءك قهروا الناس، وذكر بمعنى ما تقدم، فقال سليمان: فكيف المَهْرب أو المأخذ؟ فقال: تأخذ المال من حِلِّه، وتصرفه في وجهه. وفيها لما قال له خذ المئة دينار قال: والله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي؟ إن موسى - عليه السلام - لما وَرد ماء مَدْين واستدعاه شعيب؛ قَدَّم له طعامًا فامتنع وقال: أخاف أن يكون أجرَ ما سقيتُ لهما، فإن كانت هذه الدنانير عِوضَ ما حدَّثتك؛ فالميتة والدم ولحم الخنزير أحلّ منها، وإن كانت من حقّي من بيت المال فإن واسَيتَ (¬2) بيني ¬

_ (¬1) "صفة الصفوة" 2/ 158 - 160. (¬2) كذا في النسخ، وصوابه: ساويت.

طلحة بن عبد الله

وبين المسلمين قبلتُها، وإلا فلا حاجةَ لي فيها، قال سليمان: فما لَك مال؟ قال: بلى، الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس، قال: فارفع إليَّ حوائجك، قال: لي حاجة واحدة، قال: وما هي؟ قال: تُنجيني من النار وتُدخلني الجنة، قال: ذاك ليس إليّ، قال: فدعني أسأل من هو إليه. وفيه أن أبا حازم لما قال للزهري ما قال، قال سليمان: صدق والله يا زهري، لو قعدتَ في بيتك لأتيناك (¬1). قلت: كان أبو حازم من أكابر العلماء والزُّهَّاد، مات بعد سنة أربعين ومئة في خلافة أبي جعفر المنصور، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى. [قال هشام: ] وفي هذه السنة حجّ طاوس اليماني، فمرض بمكة، فعاده سليمان بن عبد الملك لما حجّ فما أعاره طرفه، فلما خرج قيل لطاوس في ذلك فقال: أحببتُ أن أُعلمه أن في الناس مَن يستصغر ما هو فيه. وقال أبو اليقظان: [بلغني أن سليمان بن عبد الملك لما حجَّ في سنة سبع وتسعين] وبينما الناس وقوف بعرفات رعدت السماء رعدًا شديدًا، وأظلمت الدنيا وتزلزلت، فخاف سليمان وغُشي عليه، فلما أفاق قال لعمر: هذه مئة ألف فتصدَّق بها، قال: أو خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: إن قومًا جاؤوا وراءك من البلدان في مظالم لم يصلوا إليك بسببها، فجلس سليمان وردَّ المظالم. [فصل: ] وفيها توفي طلحة بن عبد الله ابن عَوْف، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، وكنيته أبو محمد، وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وأمه فاطمة بنت مُطيع بن الأسود العَدَويّ. ولي طلحة المدينة، وكان من سَروات الناس، جوادًا، مُمَدَّحًا، ويقال له: طلحة النَّدى، وتوفي بالمدينة في سنة سبع وتسعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. ¬

_ (¬1) انظر "حلية الأولياء" 3/ 234 - 237.

عبد الله بن سريج المغني

وسمع من عمه عبد الرحمن، وأبي هريرة، وابن عباس - رضي الله عنهم -. وكان ثقة كثير الحديث، قال ابن سعد: كان طلحة إذا كان عنده مال فتح بابه وفرَّقه، وإذا لم يكن عنده شيء لم يأته أحد، فقال له بعض أصحابه: ما في الدنيا أشرّ من أصحابك؛ يأتونك إذا كان عندك شيء، وإذا لم يكن عندك شيء لا يأتونك، فقال: ما في الدنيا خير منهم، لو أتَونا وقتَ العُسرة أحوجونا إلى أن نتكلَّفَ لهم، فإذا أمهلونا حتى يأتينا شيء كان إحسانًا منهم إلينا. أسند طلحة عن أنس وغيره، وروى عنه جماعة من العلماء (¬1). فصل: (¬2) في ذكر أعيان المغنيِّن. وفيها توفي عبد الله بن سُرَيج المغني مولى بني نَوفَل بن عَبد مَناف (¬3). قال الزبير بن بكار: وأمه مولاة لآل المُطَّلب يقال لها: رقية (¬4)، وقيل: هند. وهو المشهور بالغناء، وهو أول من ضرب العود بمكة والمدينة، وقيل: أول من ضرب أبوه في أيام عثمان - رضي الله عنه -؛ وكان أبوه تركيًّا يضرب بالعود والقضيب. وقال أبو الفرج: رأى عبد الله بن سُرَيج العود مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة فضرب به. وقال ابن الكلبي: كان ابن سُرَيج أحول، أعمش، قبيح المنظر جدًّا، يُلَقَّب وَجْهَ الباب، وكان به تأنيث، وكان إذا غنَّى يُسبِل القِناع على وجهه من قبيح صورته. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 159 - 160، و"تاريخ دمشق" 5/ 531 (مخطوط)، و"المنتظم" 7/ 25، و"السير" 4/ 174. (¬2) من هنا إلى ترجمة عبد الله بن عبد الله بن الحارث، زيادة من (ص) ليست في النسخ الأخرى. (¬3) ذكره ابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 255 في وفيات سنة (126 هـ)، وقد اختلف في اسمه، والأشهر أنه عبيد بن سريج، انظر "الأغاني" 1/ 257، و"تاريخ دمشق" 45/ 33. (¬4) في "الأغاني" 1/ 259: راقية.

واختلفوا في وفاته؛ فقال ابن الكلبي: مات مَجْذومًا بمكة، ودفن بمكان يقال له: دَسْم. وقال الهيثم: عاش إلى زمان يزيد بن عبد الملك صاحب حَبابة، وناح عليها وعليه، وقال أبو اليقظان: عاش إلى أيام هشام بن عبد الملك، ومات بظاهر مكة في بستان بني عامر، وكان عمره خمسة وسبعين سنة؛ لأنه وُلد في خلافة عمر بن الخطاب، فإن صحَّت هذه الرواية فإنه ما أدرك يزيدًا ولا حَبابة لأنهما كانا بعد المئة. وقال الهيثم: أصل الغناء من تِهامة، ومكة، والطائف، والمدينة، ووادي القُرى، ودُومة الجَندل، وذي القُرى، وذي المَجاز، ومَجَنَّة، وعكاظ وغيرهم، وذلك لأن هذه الأماكن كانت تقام بها أسواق العرب، ويحضرها العُشَّاق والمتيَّمون، فيتناشدون الأشعار فيما بينهم، فولَّد ذلك الغناء. وكانت العرب تُسمّي العود: الكِران، والمِزْهَر، والبَرْبَط. واختلف الناس في الغناء، فأجازه أهل الحجاز، وتهامة، ومكة، والمدينة، ومنع منه بعض العراقيين. فمَن مَنع منه تعلَّق بقوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ} [لقمان: 6]، قال مجاهد: هو الغناء، وهو اللعب واللهو (¬1)، واللعب حرام، ألا ترى أنه لو اشترى جارية مُغَنِّية بأربعة آلاف درهم فنسيت الغناء عند المشتري عادت إلى قيمتها ساذجة (¬2). وأما مَن أجازه فاحتجَّ بما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "أهديتم الفتاة إلى أهلها - بعلها؟ " قالت: نعم، قال. "وبعثتم معها نَعِيرَ اللَّهو ومَن يغنّي؟ "، قالت: لا، قال: "أما علمتِ أن الأنصار يُعجبهم اللهو، هلا بعثتُم معها مَن يقول: أتيناكم أتيناكم ... فحيُّونا نُحَيِّيكم ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" 18/ 532 - 538 (طبعة هجر). (¬2) انظر خبايا الزوايا (185) 202.

فلولا الحَبَّةُ السَّمراء ... لم نَحْلُلْ بِواديكم (¬1) وبما روى أنس: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بجارية في ظلِّ قصرٍ وهي تقول: هل عليَّ ويحكم .. إن لهوتُ من حَرَج فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَرَج إن شاء الله" (¬2). قالوا: وأما قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} نزلت في قوم كانوا يشترون الكتب من الأسمار والأحاديث وأخبار الأوائل القديمة، فيُضاهُون به القرآن، ويقولون: هي أقدم وأفضل، فنُهوا عن ذلك (¬3). وقد ذكرنا حديث ابن عمر والشبابة والراعي، وفيه كلام طويل. وروى إبراهيم بن مُنذر الحِزامي قال: قدم ابنُ جامِع مكة بمال كثير، ففرَّقه في الضعفاء، فسأل عنه سفيان الثوري أو ابن عُيَيْنة، فقيل له: إنه يغني الملوك فيعطونه المال الكثير، فقال: كيف تَغَنَّى؟ فقال له بعض تلامذته: إنه يقول: [من المتقارب] أطوِّف بالبيت معْ مَن يطوف ... وأرفع [من] مِئزَري المُسْبَلِ فقال سفيان: بارك الله عليه، ما أحسن ما قال! ثم قال: وماذا؟ فقال: وأسجدُ بالليل حتى الصَّباحِ ... وأتلو من المُحْكَمِ المُنْزَلِ فقال: أَحسن الله إليه، ثم ماذا؟ فقال: عسى فارجُ الهمِّ عن يُوسفٍ ... يُسخّر لي ربَّةَ المَحمِلِ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه أحمد من حديث جابر بن عبد الله (15209) وإسناده ضعيف، وأصله في صحيح البخاري (5162) من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة، ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو". وانظر "فتح الباري" 9/ 225. (¬2) أخرج ابن الجوزي في "الموضوعات" (1574) من طريق عبد الله بن عبد الله أبي أويس، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكومة، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّ بحسان بن ثابت وقد رشّ فِناء أُطُمه، وجلس أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سماطين، وجارية يقال لها سيرين معها مزهرها تختلف به بين القوم وهي تغنيهم ... قال ابن الجوزي: وحسين متروك، وأبو أويس ضعيف. وذكر الخبرين ابن عبد ربه في "العقد" 6/ 7 - 8 دون إسناد، ولم أقف عليه من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) انظر "العقد الفريد" 6/ 9، وأسباب النزول 362.

فقال: أمسك، فقد أفسد أخيرًا ما أصلح أوّلًا. وقال الهيثم: أصلُ الغناء من أربعة: ابن سُرَيج، ومَعْبَد، والغَرِيض، وابنُ مُحرِز. ومَعْبَد مات في سنة خمس وعشرين ومئة. وقال إسحاق الموصلي: أول مَن غنّى في الإسلام الغناء الرقيق: طُوَيس، ودلال، ونَوْمة الضُّحى، وأول شعر غُني في الإسلام: [من مجزوء الرمل] قد براني الشَّوقُ حتى ... كِدتُ من وَجدي أذوبُ قال: وقد غنَّى طُوَيْس في أيام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬1). وقال أبو الحارث: اختلف الناس في الغناء بمكة عند محمد بن إبراهيم والي مكة، فأرسل إلى ابن جُرَيج وعمرو بن عُبيد فسألهما، فقال ابن جُريج: لا بأس به، شهدتُ عطاءَ بن أبي رباح في خِتان ولده وعنده ابن سُرَيج يُغني، وكان إذا لحن ردَّ عليه عطاء، وإذا غنى لا يقول له: اسكت، وإذا سكت لا يقول له: غَنِّ، فقال عمرو بن عبيد: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] فمَن يكتب الغناء الملك الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال؟ فقال ابن جُريج: لا يكتبه أحد منهما؛ لأنه بمنزلة اللغو وحديث الناس فيما بينهم من أخبار جاهليتهم وتناشدِ أشعارِهم. وقال الأصمعي: سأل الرشيد إبراهيم بن سعد الزهري هذا المذكور فقال: بلغني أن مالكًا يُحرِّم الغناء، فقال: يا أمير المؤمنين، وهل يجوز لمالك أن يُحلِّل ويحَرِّم؟ والله ما ذاك إلا لابن عمِّك محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله بوحي من الله (¬2)، فمن جعل ذلك إلى مالك؟ والله لقد سمعت مالكًا (¬3) في عرس ابن حَنْظلة يتغنَّى أو يتمثّل: [من مجزوء الوافر] سُلَيمى أزْمَعَتْ بَينا ... فأين تَظنُّها أينا وقال العُتبيّ: دخل عبد الله بن عمر يومًا على عبد الله بن جعفر، وبين يديه جارية في حجرها عود، فقال ابن عمر: هذا ميزان؟ قال ابن جعفر: هذا ميزان روميّ ¬

_ (¬1) الخبران في "العقد" 6/ 10، 27، وما بين معكوفين منهما. (¬2) في "العقد" 6/ 11: والله ما كان ذلك لابن عمك محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بوحي من ربه. (¬3) في "العقد": فشهادتي على أبي أنه سمع مالكًا.

والجارية لك، قال: وما معنى روميّ؟ قال: يوزن به الكلام (¬1)، وقال لها عبد الله: غني، فقالت: [من الوافر] أيا شوقًا إلى البلدِ الأمينِ ... وحيٍّ بين زمزمَ والحَجونِ ثم قال ابن جعفر لابن عمر: هل ترى بهذا بأسًا؟ قال: لا. وقال الأصمعي: سمع ابن عمر يومًا [ابنَ] مُحرِز يُغنّي ويقول: [من الكامل] لو بُدِّلَتْ أعلا منازِلِها ... سُفلًا فأصبح سفلُها يَعلُو لعَرفْتُ مغناها بما اشتملَتْ ... منّي الضُّلوعُ لأهلِها قَبْلُ فقال له ابن عمر: قل: إن شاء الله. وقال الهيثم: مرَّ عبد الله بن جعفر ببعض أزِقَّة المدينة، فسمع غناء من دار، فأصغى إليه فسمع: [من الكامل] قُلْ للكرامِ ببابنا يَلِجوا ... ما في الغرامِ على الفتى حَرَجُ فنزل عن دابَّته، ودخل الدار بغير إذن، وإذا بجماعة من الأشراف، فقاموا إليه وقبَّلوا قدميه وقالوا: أنت مولانا وابنُ عمّ نبينا، وقال له صاحب المنزل: قد قلَّدْتَني مِنَّةً بدخولك إليّ بغير إذن، وما أجد لك مكافأة، فقال: بل أنتم أذِنْتم بقول مغنّيكم: قل للكرام ببابنا يَلجوا، فقال: أنا عبدك، والدار وما فيها لك، فدعا عبد الله بثياب ودنانير وطيب وجارية، فوهب ذلك لصاحب المنزل (¬2). ومن أعيان المغنّين: قال الأصمعي: منهم عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصّدِّيق، ويقال له: ابن أبي عَتيق، وأمه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وكانت عائشة - رضي الله عنها - تُحبُّه وتُعجَب به. ¬

_ (¬1) في "العقد" 6/ 12: فدخل عليه يومًا وبين يديه جارية في حجرها عود فقال: ما هذا يا أبا جعفر؟ قال: وما تظن به يا أبا عبد الرحمن؟ فإن أصاب ظنك فلك الجارية، قال: ما أراني إلا قد أخذتها هذا ميزان رومي، فضحك ابن جعفر وقال: صدقت، هذا ميزان يوزن به الكلام. (¬2) "العقد" 6/ 20.

ومنهم آخر يقال له: ابن عائشة، وقال ابن الكلبي: كان ابن عائشة من أحسن الناس خَلْقًا وغناءً، وأضيقهم خُلُقًا؟ إذا قيل له: غنِّ يقول: ألمثلي يقال هذا؟ عليَّ عِتقُ رَقَبة إن غنَّيتُ يومي هذا كلّه، وإذا قيل: أحسنتَ يقول: ألمثلي يقال هذا؟ عليّ عِتقُ رَقَبة إن غنيتُ في يومي هذا. فلما كان في بعض السنين سال وادي العَقيق، فلم يبق بالمدينة بِكر ولا عاتِق، ولا شابّ، ولا كَهْلٌ، ولا شيخ، إلا وخرجَ يُبصر السيل، فخرج ابنُ عائشة وهو مُعْتَجِرٌ بفضلِ ردائه، وكان الحسن بن علي بن أبي طالب قد خرج فيمن خرج، وبين يدي الحسن غِلمانه، وفيهم أسودان كالسَّارِيَتين، فقال لهما الحسن: والله لئن لم تفعلا ما أقول لكما لأفعلنّ بكما ولأصنعن، اذهبا إلى المُعْتَجِر بردائه، فخذا بضَبْعَيه، فإن فعل ما آمره به وإلا فاقذفاه في العَقيق، فلم يشعر ابن عائشة إلا وقد أخذا بضَبْعَيه والحسن خلفهما، فقال الحسن: أنا فلان، فقال: مرحبًا بك وأهلًا، ما الذي تأمر؟ فقال: أقسم بالله لئن لم تُغنِّ مئةَ صوت ليَقذفَنَّك هذان في العقيق، فصاح ووَلْول، فقال له الحسن: دع عنك هذا وخذ فيما يُخَلِّصُك، فقال: سمعًا وطاعة، أقِمْ مَن يُحصي عليَّ، وشرع في الغناء، فترك الناس العَقيق وأقبلوا عليه، فلما غنّى مئةَ صوت كبَّر الناسُ تكبيرةً واحدة ارتجَّت لها المدينة وأقطارها، ودَعَوا للحسن وقالوا: صلى الله على روحك حيًّا وميتًا، فما اجتمع لنا سرور مثل اليوم. ولما عاد الحسن إلى المدينة أرسل إليه بدنانير وثياب وطيب كثير وقال: ما فعلتُ بك ذلك إلا لشراسة أخلاقك، فكان ابن أبي عتيق يقول: ما مرَّ بي مثل يوم العَقيق (¬1). قصة ابن أبي عَتيق مع عثمان بن حيَّان المُرِّي: حكى ابن الكلبي، عن أبيه قال: لما ولي عثمان المدينة حَرَّم الغناء، وكان ابنُ أبي عَتيق غائبًا، فقدم فنزل على سلَّامة الزَّرقاء -وكانت حاذقةً بالغناء- فأخبرته، فدخل على عثمان فصوَّب رأيَه في تحريم الغناء، ثم قال له: هل لك في امرأة أرسلتني إليك ¬

_ (¬1) "العقد" 6/ 35 - 36.

تقول: قد تُبتُ من صنعة الغناء، وأسألك أن لا تحول بيني وبين مجاورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وكان قد أجَّل المغنِّين ثلاثًا- فقال: ومَن يحول بينها وبين ذلك؟ فقال: لا بأس أن يراها الأمير؟ فقال: نعم، فجاءت فجلست، وشَرعت تُحدِّثه عن مآثر آبائه، فأعجبه ذلك، فقال لها ابن أبي عتيق: أسمعي الأمير قراءتَك، فقرأت فازداد بها عجبًا، فقال: احديه فَحَدَت، فحرَّكه حُداؤها، فقال: غَنِّ فغنَّت، فطرب عثمان حتى نزل من السرير فجلس بين يديها وقال: والله لا يخرج مثلها من المدينة، فقال له: أفتأذن لها وحدها؟ فقال عثمان: قد أذِنتُ للناس كلّهم من أجلها (¬1). ومنهم طُوَيْس، وقد ذكرناه في صدر الكتاب في باب الأمثال. [وله قصة] مع أبان بن عثمان بن عفان بالمدينة (¬2) لما ولّاه معاوية المدينة، قال هشام: جاءه طُوَيس وقد خضب يديه غَمْسًا، وبيده دُفّ، وعليه مُلاءةٌ صفراء، فقال: إني نذرتُ عليّ لله إن وَليتَ أن آتيك على هذه الحال، وأغنّيك صحوتًا، فقال له أبان: ليس هذا موضعه، فقال: جُعلتُ فِداك بأبي وأمي، لا بدَّ من الوفاء بنَذري، فقال: قُلْ، فحسر عن ذراعيه، ومشى بين السِّمامَطين وقال: ما بالُ أهلِكِ يا رباب ... خُزْرًا كأنهمُ غِضاب من أبيات، قال: فصفَّق أبان بيديه، ثم قام من مجلسه فاحتضنه، وقبَّل ما بين عَينيه وقال: تلومونني في طُوَيس؟ ! ثم قال: أيُّما أسَنّ أنا أم أنت؟ فقال: وحياتك، لقد شهدتُ زفافَ أمك المباركة على أبيك الطيب. وكان في المدينة السائب خاثِر المغني، وقد ذكرناه في قَتلى الحَرَّة، وأبو قَطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط، وقد ذكرناه، ومنهم دَلال، ونَومة الضُّحى، ومن طُوَيس تعلّموا الغناء، والغريض قتلتْه الجن لحسن صوته، وقد ذكرناه في صدر الكتاب، وجماعة ما سمَّيتُهم. ¬

_ (¬1) "العقد" 6/ 49 - 50. (¬2) ما بين معكوفين زيادة لتوضيح السياق، وانظر قصته في "العقد" 6/ 27 - 28.

عبد الله بن عبد الله

رجعنا إلى مَن توفّي في هذه السنة: عبد الله بن عبد الله ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، أبوه يعرف ببَبَّة، وكنيته أبو يحيى. من الطبقة الثالثة من أهل المدينة، وكان من أصحاب سليمان بن عبد الملك، خرج حاجًّا معه فقتلته السَّموم بالأبواء في طريق مكة، فصلى عليه سليمان ودفنه، وكان ثقة قليلَ الحديث (¬1). عبد الرحمن بن كعب ابن مالك بن أبي كعب بن القَين الأنصاري الخَزْرَجيّ، وأمه أم ولد. من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، توفي في خلافة سليمان. وأخوه عبد الله بن كعب قائد أبيه، أمه عُمَيرة بنت جُبير، من بني سَلِمة. وأخوهما عبيد الله، كنيته أبو فضالة، وأمه عُميرة أيضًا، وكان ثقة، قليل الحديث. وأخوهم مَعْبد، أمه عُميرة أيضًا، روى عن أبي قتادة. وكلهم من الطبقة الثانية من تابعي المدينة، ولم يُذكر تاريخ وفاة أحدٍ منهم إلا عبد الرحمن (¬2). محمد بن جُبَير ابن مُطْعِم بن عَدِيّ بن نَوْفل بن عَبْدِ مَناف بن قصي، كنيته أبو سعيد، وأمه قتيلة بنت عمرو بن الأزرق، من بكر بن وائل (¬3). ومحمد من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، كان ثقةً قليلَ الحديث، وأخوه نافع بن جبير مات في سنة تسع وتسعين (¬4). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 311، و"مختصر تاريخ دمشق" 12/ 331، وهذه الترجمة وتاليتاها ليست في (ص). (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 268 - 269. (¬3) في "طبقات ابن سعد" 7/ 203: من تغلب بن وائل، وهو الصواب. (¬4) "طبقات ابن سعد" 7/ 205.

موسى بن نصير

[فصل: وفيها توفي] موسى بن نُصَير صاحب فتوح المغرب، كنيته أبو عبد الرحمن. [واختلفوا فيه؛ ] فقيل: أصله من عَين التَّمر، وقيل من (إراشة)، سُبي أبوه من جبل الجليل -بجيم- وهو جبل صيدا وبيروت، [وكان اسم أبيه نَصر، فصغّر فقيل: نُصَير]، وقيل: هو مولى لبني أمية، وقيل: لامرأة من لَخْم. ومولده بقرية كَفَر مُثْرَى (¬1) من قرى الجزيرة في سنة تسع عشرة [في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -]. وولّاه معاوية غزو البحر، وغزا قُبرس، وبنى بها حصونًا، واتَّخذ ميناوات، وشهد تَلَّ راهط ونيرَبَا، ثم هرب. ولما فتح مروان مصر، وعاد إلى الشام، واستخلف ابنَه بمصر، فقصده موسى بن نصير، فاستوهبه عبد العزيز من أبيه مروان. [وقد ذكرنا أنه غزا المغرب، وأنه قدم على الوليد بمائدة سليمان بن داود عليه السلام. وذكره الحميدي في "تاريخ المغرب" وقال: كان أميرًا بإفريقية، وليها في سنة تسع وسبعين، وكانت الولاة بالمغرب من قبله (¬2). وذكره خليفة فقال: ] وفي سنة خمس وتسعين قفل موسى بن نُصير من إفريقية، واستخلف ابنه عبد الله بها، وحمل الأموال في البر والبحر، وكان معه ثلاثون ألف رأس، وقدم على الوليد بن عبد الملك (¬3) ومعه المائدة التي زعم أهل الكتاب أنها مائدة سليمان بن داود - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) في (خ، د، ب): كفرتوثا، والمثبت من "تاريخ دمشق" 17/ 407 وما سلف بين هلالين منه، و"معجم البلدان" 4/ 471، وما سلف ويأتي بين معكوفين من (ص). (¬2) "جذوة المقتبس" 4، و"تاريخ دمشق" 17/ 407 (مخطوط). (¬3) "تاريخ خليفة" 307.

[وقال يعقوب بن سفيان: كان ذلك في سنة أربع وتسعين]، وقدم معه بالتاج الذي أنزل من السماء على سليمان - عليه السلام -، فدخل موسى يوم الجمعة والوليد يخطب، فبهت الوليد مما رأى، وسأله عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عن أعجب ما رأى في البحر، فقال موسى: انتهينا إلى جزيرة، فرأينا فيها ستة عشر جرة خضراء مختومة بخاتم سليمان - عليه السلام -، فأمرتُ بواحدة فنُقبت، وإذا بشيطان يُنغِض رأسَه ويقول: والذي بعثك بالحق وأكرمك بالنبوة؛ لا أعود بعدها أفسد في الأرض، ثم نظر فقال: والله ما أرى سليمان ولا ملكه، ثم ساح في الأرض فذهب، فرددتُ الجرار إلى مكانها (¬1). [قال خليفة: ] وفي سنة تسع وثمانين أغزى موسى ابنه مروان إلى السوس الأقصى، فبلغ السبي أربعين ألفًا (¬2). وولد مروان بن موسى: عبدَ الملك بنَ مروان بن موسى بن نُصَير، ولّاه مروان بن محمد الجَعديّ مصر، وكان حسن السيرة (¬3). [ذكر وفاته: قال الحُميدي في "تاريخ المغرب": ] مات موسى بن نُصير مع سليمان في الحج سنة سبع وتسعين. [واختلفوا في أي مكان؛ فقيل: ] بالمدينة وقيل: بمرِّ الظّهران، وقيل: بوادي القرى، وصلى عليه سليمان [بن عبد الملك. وقال أبو القاسم بن عساكر: ] وكان أعرج (¬4). أسند عن تميم الدّاري، وروى عنه ابنه عبد العزيز بن موسى، واستشهد ابنه عبد العزيز هذا في حياة أبيه، وروى عنه أيضًا يزيد بن مسروق (¬5) اليَحْصُبيّ. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 17/ 411 - 412. (¬2) "تاريخ خليفة" 302، و"تاريخ دمشق" 17/ 409 (مخطوط). (¬3) "تاريخ دمشق" 43/ 293 - 294. (¬4) "تاريخ دمشق" 17/ 407، 412 - 413، وجاء بعد هذا الكلام في (ص): تم الجزء العاشر بحمد الله وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا برحمتك يا أرحم الراحمين ويتلوه في الجزء الحادي عشر السنة الثامنة والتسعون وفيها جهز سليمان بن عبد الملك بن مروان. (¬5) في النسخ خلا (ص): مروان، والمثبت من "تاريخ دمشق" 17/ 407، و"السير"4/ 497 والمصادر فيه.

السنة الثامنة والتسعون

ولما مات موسى عصى ابنُه عبد الله بن موسى على سليمان بن عبد الملك. السنة الثامنة والتسعون (¬1) وفيها جهَّز سليمان بن عبد الملك أخاه مسلمة إلى القسطنطينية بالجيوش، وأمره أن يقيم بها حتى يفتحها أو يأتيه أمره. [قال الواقدي بإسناده: ] لما دنا مسلمة من القسطنطينية أمر كلّ فارس أن يحمل على عجز فرسه مُدَّين من طعام حتى يأتي به القسطنطينية، فلما وصل إليها قال: ألقُوه فألقوه فكان كالجبال، فقال: لا تأكلوا منه شيئًا، وعليكم بالغارات فكلوا منها، وصنع بيوتًا من خشب فشتى فيها وقال: ازرعوا فزرعوا ولم يصيبوا من ذلك الطعام شيئًا، فأذلّ أهل القسطنطينية. وكان معه من وجوه الناس: عبد الله بن أبي زكريا الخُزاعيّ، ومجاهد بن جَبْر وغيرهما. وخرج سليمان فنزل مَرج دابِق، وأقام يجهّز إلى أخيه الإقامات برًّا وبحرًا، وحصر أهل البلد فضيّق عليهم، ومات ملكهم، وكان عندهم رجل يقال له: إليون فقالوا له: إن صرفتَ عنا مسلمة ملّكناك علينا، فأرسل إلى مسلمة يقول: نعطيك عن كل رأس دينار، فأجاب مسلمة، فأرسل إليه إليون يخدعه ويقول: قد أبَوا أن يُعطوك ما قلت لك، وهذا الطعام يحربهم عليك؛ لأنهم يظنون أنك تطاولهم ولا تَصدقهم القتال ما دام الطعام عندك، فلو أحرقتَ الطعام أجابوا إلى ما تريد، فأحرق الطعام وأقام أيامًا، فغدر به إليون، وقوي العدو، وضاق على المسلمين حتى أشرفوا على التَّلَف. وفي رواية: أن سليمان لما نزل مرج دابق عاهد الله لا يفارق المرج حتى يدخل الجيش الذي بعثه إلى القسطنطينية، وأقام مسلمة محاصرها، مستظهرًا عليهم بما عنده من الطعام، وضعف القوم، ومات ملك القسطنطينية، فجاء إليون صاحب أرمينية إلى سليمان، فضمن له أن يسلم إليه أرض الروم إذا ملك البلد، ودخل إليون البلد فملّكوه عليهم، وأقام مسلمة يجمع الطعام حتى جمع شيئًا كثيرًا، وبعث إليه إليون يقول: إنني ¬

_ (¬1) قبلها في (ص): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وما توفيقي إلا بالله.

قد اتَّفقتُ مع الروم بأن أيدينا معك واحدة، ونعطيك ما طلبت فلم يصدقوني وقالوا: نخاف على نفوسنا من السِّباء والقتل، فابعث إليهم من الطعام الذي عندك حتى يعلموا اتّفاقنا، وبعد ذلك يخرجوا من القسطنطينية بالأمان، فأذن لهم مسلمة في نقل الطعام وقد هيَّأ إليون السفن والرجال، فنقلوا ما كان في الحظائر، فلم يدعوا إلا التُّراب والتِّبن، وكانت خديعة من إليون، ثم أصبح إليون فناصبه الحرب، فأقام المسلمون في أسوأ حال من الضيق والجهد والجوع، حتى أكلوا الجلود وورَقَ الشَّجر والجِيف، وهجم الشتاء ونزل الثلج، وسليمان بدابق، فلم يقدر أن يُمدّهم، ومات سليمان فأرسل عمر بن عبد العزيز فأقفلهم، ولام الجند مَسلمة وقالوا: لو كنت امرأةً ما جرى عليك ما جرى من خديعة إليون. وفي هذه السنة بايع سليمان لابنه أيوب بولاية العهد، وكان عبد الملك بن مروان قد أخذ العهد على الوليد وسليمان أن يُبايعا لأحد ابنَي عاتكة بنت يزيد بن معاوية وهما: مروان ويزيد، فمات مروان، وأمسك سليمان عن يزيد وتربّص عليه، وبايع لابنه أيوب رجاء أن يموتَ يزيد، فمات أيوب وبقي يزيد، فولي الخلافة بعد عمر، وبايع سليمان لابنه أيوب في سنة سبع وتسعين. [وقد اختلفت الروايات في ذلك؛ فقال المدائني: سبب ولاية سليمان لابنه أيوب العهد أنه] كان جالسًا يومًا عند أبيه، فتنحَّى عنه فقال: ما لك يا بني؟ قال: خَدرت رجلي، فقال: اذكر أحبّ الناس إليك، فقال: صلى الله على محمد، فقال سليمان: إن ابني هذا سيد، وإني عنه لغافل، فولّاه العهد. وفي هذه السنة غزا يزيد بن المهلَّب جُرْجَان وطَبَرِسْتان وتلك النواحي، فغنم غنائم كثيرة، وقتل وسبى. قال هشام بن محمد: إن يزيد بن المهلَّب لما قدم خراسان أقام ثلاثة أشهر أو أربعة، وسار إلى دِهِسْتان وجُرجان، واستخلف ابنه محمدا على خراسان، وكان أهل دِهِستان طائفة من التُّرك، فنازل دهستان ومعه مئة ألف مقاتل من أهل البصرة والكوفة والشام وخراسان، سوى الموالي والمطوِّعة، فأقام مدة يحاصرها، ويخرجون إليه فيقاتلونه، وقطع عنها المواد، وضيق عليهم.

فأرسل دِهقان دِهِستان إلى يزيد يطلب منه الأمان على نفسه وأهله وماله، وأن يسلّم إليه المدينة، فأجابه ففتح له الباب، فدخل المدينة فأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز والسبي ما لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرًا، وكتب بالفتح إلى سليمان بن عبد الملك. وخرج حتى أتى جُرجان، فاستقبلوه بالصلح، وكانوا قبله يصالحون أمراء المسلمين على مئة ألف، ومئتي ألف، وثلاث مئة ألف على قدر الأوقات، فزادوا يزيد بن المهلب على ذلك، وهابوه وخافوا منه، فاستخلف عليهم أسد بن عبد الله من الأزد. وسار يزيد نحو طَبَرِسْتان وبها الأصبهبذ، فأقام يتهيأ لقتاله، فأرسل الأصبهبذ إلى يزيد يسأله الصلح، فأبى إلا افتتاح البلد، فاستجاش الأصبهبذ عليه الدَّيْلَم وغيرهم، فلم ينل منه يزيد طائلًا ودام القتال، ثم رأى يزيد الصلح، فصالح الأصبهبذ على سبع مئة ألف درهم، وأربع مئة ألف نقدًا، وأربع مئة حمار موقرة زعفرانًا، وأربع مئة رجل، على رأس كل رجل بُرْنُس، على البرنس طيلسان وجام فضَّة وسَرَقة من حرير، وقد كانوا صالحوا قبل ذلك على مئتي ألف درهم، ولولا ما صنع أهل جرجان لكان يزيد افتتحها عنوة. وقال كُلَيب بن خَلَف: كان سعيد بن العاص قد افتتح جرجان صلحًا، ثم نقضوا العهد، فلم يأتِ جرجان بعد سعيد أحد، وسدُّوا الطرق فلم يسلك إليها إلا من طريق واحد، فأتاهم يزيد بن المهلب، فصالحوه على صُلح سعيد بن العاص على ثلاث مئة ألف. وقال كُلَيب بن خَلَف: لم تكن جرجان مدينة، وإنما كانت جبالًا وشعابًا، يقوم الرجل على باب منها فلا يقدم عليه أحد، وكان يقال لملكها: صول، فكان يخرج فيقاتل، ثم اشتدّ عليهم الحصار، فأرسل ملكُها صُول يطلب من يزيد الصُّلح فقال: لا إلا أن ينزل على حُكمي، فأبى وقال: أنا أصالحك على نفسي ومالي وخاصّتي وأهل بيتي، فصالحه ووفى له، ثم دخلها يزيد عنوة، فقتل مَن كان بها. وكان على خزائن يزيد شَهْر بن حَوْشب، فرفِع إلى يزيد أنه أخذ خَريطة، فسأله عنها فأحضرها، فشتم يزيد مَن رفع على شهر، وقال لشهر: خذها فقال: لا حاجةَ لي فيها، فقال القطاميّ الكَلبيّ، وقيل: سِنان بن مُكَمّل النُّميريّ: [من الطويل]

لقد باع شهرٌ دينه بخريطةٍ ... فمَن يأمَنُ القُرَّاءَ بعدك يا شهرُ أخذتَ به شيئًا طَفيفًا وبعتَه ... بشيءٍ يسيرٍ إن هذا هو الغَدرُ (¬1) وقال أبو محمد الثَّقَفيّ: أصاب يزيد بجرجان تاجًا فيه جوهر له قيمة، فقال يزيد لأصحابه: أترون أحدًا يَزهد في هذا التاج؟ ! قالوا: لا، فقال لمحمد بن واسع الأزدي: خذه فهو لك، فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: عَزَمتُ عليك، فأخذه، فقال يزيد لرجل: اخرج خلفه فانظر ما يصنع به، فلقي سائلًا فدفعه إليه، فأخذ الرجلُ السائلَ، فأتى به إلى يزيد فأخبره الخبر، فأخذ يزيد التاج، وعوّض السَّائلَ مالًا. وفي رواية: أن سليمان بن عبد الملك لما كان يزيد بن المهلب عنده؛ كان كلما فتح قتيبة بن مسلم (¬2) فتحًا يقول ليزيد: أما ترى ما يصنع الله على يدي قتيبة؟ فيقول يزيد: ليست هذه الفتوح بشيء؛ إنما الشأنُ في جرجان التي حالت بين الناس والطريق الأعظم، وأفسدت قُومس والبلاد. وكانت جرجان قد عَصَتْ على المهلَّب وقُتيبة والأمراء الذين كانوا بخراسان، فلما ولي يزيد خراسان لم يكن له همٌّ إلا جُرجان، فلما فتح طبرستان أحاط بها بالعساكر من كل وجه، وكانوا قد نقضوا عهد يزيد، وهذه المرة الثانية، وكانوا قد قتلوا من المسلمين أربعة آلاف مع عبد الله بن المُعَمَّر، فحلف يزيد لئن ظفر بهم لا يرفع السيف عنهم حتى يطحن بطواحين من دمائهم، ويخبز من ذلك الطحين، ويأكل منه، فتحضنوا منه، وحولها غِياض وآجام، وليس يعرف لها إلا طريق واحدة، وقد عجز يزيد عنهم لأنهم أشحنوا ذلك الطريق بالرجال ووعروه. فخرج رجل من عسكر يزيد واسمه الهيَّاج بن عبد الرحمن الأزدي، فأوغل وراء وَعِل، فأشرف به على عسكر القوم، فعاد إلى أصحابه، ودخل على يزيد فقال: تريد أن تظهر على القوم بغير قتال ولا تَعَب؟ قال: نعم، قال: أريد جَعالتي، فقال: احتكِم، فقال: أربعة آلاف، قال: هي لك وزيادة، فندب معه جماعة من الفرسان وقال: الموعد بيننا غدًا وقت الظهر. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 539. (¬2) من هنا إلى ما قبل ترجمة كريب بأسطر ليس في (ب).

وبات يزيد يُعبِّي أصحابه، وأصبح فأضرم النيران حول العسكر وفي الغِياض، فخرجوا يقاتلون، فما شعروا إلا بكمين المسلمين وقت الظهر قد حلَّ من ورائهم -وكانوا آمنين من تلك الناحية- فركبهم المسلمون، فدخلوا الحصن وأعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكم يزيد، فسبى ذَراريهم، وقتل مقاتلتهم، وصَلَبهم فرسخين على يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثني عشر ألفًا إلى الأندرهز -وادي جُرجان- وقال لأهل المقتولين بالأمس: اثْأروا، فكان الرجل يقتل الأربعة والخمسة، حتى أُجري الدم في الوادي على الماء، عليه أرحاء فدارت على دمائهم، ثم خبز وأكل ليبرَّ قَسَمه. ويقال: إنه قتل منهم أربعين ألفًا، وبنى بجرجان مدينة لم يكن لها مدينة قبل ذلك، وعاد يزيد إلى مرو، واستعمل على جرجان جَهْم بن زَحْر بن قيس الجُعفيّ. وكتب يزيد إلى سليمان بن عبد الملك: أما بعد، فإن الله قد فتح لأمير المؤمنين فتحًا عظيمًا، وصنع للمسلمين صنعا عظيمًا وذلك فتح جرجان وطبرستان، وقد أعيى ذلك سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قُباذ، وكسرى بن هُرمز، وأعيى الفاروق وعثمان بن عفان، ومَن بعدهما من خلفاء الله، فتحه لأمير المؤمنين كرامة من الله، وزيادة في نعمه عليه، وقد صار عندي من خُمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كلّ ذي حقٍّ حقه -وهم مئة وعشرون ألفًا- من الفيء والغنيمة ستة آلاف ألف، وفي رواية: أربعة آلاف ألف ألف، وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين، وباعث إليه بعَطِرات عليها الأموال والطّيب، أولها عنده وآخرها عندي، العَطِرات: النُّوق الكرائم. فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قُرة مولى بني سَدوس: لا تعيِّن مالًا، وأبْهِم الأمر، وأسقط التَّعيين من الكتاب فإنك بين أمرين: إما أن يستكثره فيأمرك بحمله، وإما أن تسخو نفسه فيُسَوِّغك إياه، فتتكلف الهدايا، فلا يأتيه شيء من قِبَله إلا استقلَّه، وكأني بك وقد استغرقك ما سمَّيت، ولم يقع منه موقعًا، ويبقى المال المسمَّى مخلَّدًا في دواوينهم، فإن ولي والٍ بعده أخذك به، وإن ولي مَن يتحامل عليك لم يرضَ منك

بأضعافه، فاكتب إليه بالفتح، وسَلْه القدوم عليه لتُشافهه بما أحببتَ. فأبى يزيد، وأمضى الكتاب على التَّسْمِية، فكان كما قال الكاتب: البلاء مُوكَّل بالمنطق، مات سليمان قبل وصول الكتاب إليه، فلما ولي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - طلب من يزيد المال، وحبسه لما يذكر. وفيها غزا داود بن سليمان بن عبد الملك أرض الروم، ففتح حصن المرأة مما يلي مَلَطْيَة. وفيها عادت الزلازل أربعين يومًا، وقيل: دامت ستة أشهر، فهدمت القلاع والأماكن العالية. وفيها استعمل سليمان بن عبد الملك عروة بن محمد بن عَطيةَ السَّعديّ على اليمن، وأقرَّه عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، ويزيد بن عبد الملك بن مروان. وكان عروة من الزهَّاد، دخل إلى اليمن ومعه مصحفه وسيفه ورمحه وهو على ناقة فقال: يا أهل اليمن، إن خرجتُ من عندكم بغير ما دخلتُ به إليكم فأنا سارق، فأقام عندهم عشرين سنة، فخرج كما دخل إليها، وأقام أميرًا إلى أيام مروان بن محمد. وقال ابن عبد البر: كان عروة أميرًا على الجند لمروان بن محمد، وهو الذي قتل أبا حمزة الخارجي، وقيل: إنما قتله عبد الملك أخو عروة، وكان عروة من رواة الحديث، أسند عن أبيه وجده عطية بن [عروة بن] القَين، وكانت له صحبة. وروى عن عروة جماعة من أهل اليمن وغيرهم (¬1). وحج بالناس عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أَسيد، وقيل: إنما حجَّ بهم يزيد بن عبد الملك، وهو أصح. وكان العمال في هذه السنة هم العمال الذين كانوا في السنة الماضية. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ دمشق" 47/ 301.

أيوب بن سليمان بن عبد الملك

وفيها توفي أيوب بن سليمان بن عبد الملك وأم أيوب أم أبان بنت أبان (¬1) بن الحكم، وقيل: بنت خالد بن الحكم، وأمها أم عثمان (¬2) بنت خالد بن عُقبة بن أبي مُعَيط. وقد مدحه جرير فقال: [من الطويل] وقد عرف الناسُ الخليفةَ بعده ... كما عرفوا مَجرى النجومِ الطَّوالعِ وقال أيضًا: [من البسيط] إن الإمامَ الذي تُرجَى فَواضِلُه ... بعد الإمام وليُّ العهدِ أيّوبُ كونوا كيوسفَ لما جاء إخوتُه ... واستسلموا قال ما في اليوم تَثْريبُ (¬3) وحكى الهيثم: أن رجلًا جاء يطلب ميراثًا من بعض نساء الخلفاء من سليمان، فقال سليمان: ما إخالُ النساء يرثن من العقار شيئًا، فقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: سبحان الله فأين كتاب الله؟ فقال سليمان: عليَّ بسِجِلّ عبد الملك الذي كتب في ذلك، فقال عمر رحمه الله: كأنك تطلب المصحف! وكان أيوب ولي العهد حاضرًا فقال: ليوشكن الرجل يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين، ثم لا يشعر أن يفارقه رأسه، فقال له عمر - رضي الله عنه -: أما إذا أفضى الأمر إليك وإلى أمثالك؛ فما يدخل على أولئك أشد مما خشيت أن يصيبهم من هذا، فقال سليمان لابنه: مه، لأبي حفص تقول هذا (¬4)؟ ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): أم أبان بنت سليمان بن الحكم، وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ دمشق" 3/ 274 (مخطوط)، وسماها المصعب الزبيري في "نسب قريش" 171، وابن حزم في جمهرته 110: مليكة، ووقع في "العقد الفريد" 4/ 426 سقط يستدرك من هنا والمصادر. (¬2) في النسختين: عمار، وهو خطأ، صوابه في "نسب قريش" 171، و"أنساب الأشراف" 7/ 41. (¬3) البيتان في ديوان جرير 348 - 349، والثلاثة في "تاريخ دمشق" 3/ 274، 275، والبيت: إن الإمام؛ في "أنساب الأشراف 7/ 40، و"العقد" 4/ 426. (¬4) "تاريخ دمشق" 3/ 276.

قال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو صالح المروزي قال: سمعت حاتم بن عطارد قال: حدثني أبو الأبطال قال (¬1): بعثت إلى سليمان بن عبد الملك بستة أحمال مسك، فمررتُ بدار أيوب بن سليمان، فإذا بدار كلّها وما فيها بياض، ثم أُدخلتُ إلى دار فإذا كل ما فيها أصفر، ثم أُدخلت إلى دار وإذا كل ما فيها أحمر وهي حمراء، ثم أدخلت منها إلى دار خضراء وما فيها كذلك، فإذا بأيوب وجارية له على سرير ما أعرفه من الجارية، ولحقني من كان في تلك الدار فانتهبوا ما معي من المسك. ثم خرجت، فلما صرت إلى سليمان صليت العصر في المسجد، وقلت لرجل إلى جانبي: هل شهد أمير المؤمنين الصلاة؟ فأشار إلى سليمان، فأتيته فكلّمته فقال: أنت صاحب المسك؟ قلت: نعم، قال: اكتبوا له بالموافاة، ثم مررت بعد سبعة عشر يومًا فإذا الديار بلاقع، قلت: ما هو؟ قالوا: طاعون أصابهم فماتوا كلهم. [وروى ابن أبي الدنيا (¬2) أن المسك بعثه يزيد بن المهلب من خراسان.] وقال ابن أبي الدنيا: كان سليمان قد عهد إلى أيوب، فمرض ونزل به الموت، فدخل عليه أبوه وهو يجود بنفسه ومعه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ورجاء بن حَيوَة وسعد بن عقبة الكاتب، فلما نظر إلى وجه أيوب خَنَقته العَبْرة فقال: ما يملك العبد أن يسبق إلى قلبه الوَجْد، وليست منكم حِشمة، وإني أجد في قلبي لوعة إن لم أُسكّنها بعَبرة انصَدعت كبدي كَمدًا وأسفًا، فقال عمر: يا أمير المؤمنين، الصبرُ بك أولى، فنظر إلى سعد ورجاء نَظرَ مُستغيث، فقال له رجاء: افعل ما لم تأت بالأمر المُفرط، فقد بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد على ابنه إبراهيم وقال: "تَدمع العين، ويَخشع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب". فبكى سليمان بكاء شديدًا، ثم رقَأت عَبرتُه، وغسل وجهَه، ومات أيوب، فصلّى عليه ومشى في جنازته، ثم وقف على قبره وقال: [من الطويل] وقوفٌ على قبرٍ مُقيمٍ بقَفرَةٍ ... متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مُفارِقِ ثم قال: عليك السّلام يا أيوب، ثم أنشد: [من السريع] ¬

_ (¬1) قوله: قال ابن أبي الدنيا حدثني أبو صالح المروزي، من كتاب "الاعتبار" (16)، وما بعده إلى هنا من (ص). (¬2) في كتاب "الاعتبار" (23)، وما بين معكوفين من (ص).

كنتَ لنا أُنْسًا ففارقْتَنا ... فالعيشُ من بعدك مُرُّ المذاق فقال له عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: بل الصبر؛ فإنه أقرب إلى الله وسيلة، وليس الجزع بمُحْيٍ من مات، ولا برادٍّ ما فات، فقال له سليمان: صدقتَ، وبالله العصمة والتوفيق. وقال ابن أبي الدنيا: اشتدّ جزع سليمان على ابنه أيوب، فجاءه المعزُّون من الآفاق، فقال رجل منهم: إن امرأ حدَّث نفسه بالبقاء في الدنيا، ثم ظن أن المصائب لا تصيبه فيها لَغيرُ جيّد الرأي (¬1). [واختلفوا في وفاته؛ فقال الواقدي: ] توفي في آخر سنة ثمان وتسعين. [وقال هشام: توفي] في المحرَّم لثمان خلون منه في سنة تسعٍ وتسعين، ومات أبوه في صفر لعشرٍ بقين منه سنة تسع وتسعين، فكان بينهما اثنان وأربعون يومًا، وكان عمر أيوب أربع عشرة سنة، وكان من أحسن الناس وَجْهًا، وأطيبهم خُلقًا. [وقيل: إن سليمان أغزى ابنه أيوب مع مسلمة إلى بلد الروم، فعاد أيوب من الغزاة فمرض فمات. وقال المدائني: الثبت عندنا أن أيوب مات بالشام مطعونًا، ولم يكن غازيًا، إنما الغازي مسلمة بن عبد الملك.] وذكر أبو محمد بن حزم في كتابه المسمَّى: "نقط العَروس" (¬2): أن سليمان قتل ابنه أيوب سرًّا؛ لأنه ارتد إلى النصرانية، كان قد ضمَّه إلى عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وكان زِنديقًا فزَنْدقه، فدسّ إليه سليمان سمًّا فقتل أيوب. قال المصنف رحمه الله (¬3): وقد أخطأ ابن حزم؛ فإنهم اتَّفقوا على أن سليمان حزن عليه، حتى قالوا: إنه انفلقت كبِدُه فمات كمدًا، ثم ابن أربعة عشر سنة من أين تأتيه ¬

_ (¬1) "الاعتبار" (17 - 20). (¬2) 2/ 51 (رسائل ابن حزم)، وما سلف بين معكوفين من (ص)، وانظر "أنساب الأشراف" 7/ 41، 42، 56، و"تاريخ دمشق" 3/ 277 - 278 (مخطوط). (¬3) في (ص): قلت.

ثابت بن عبد الله

الزندقة؟ وعبد الله بن عبد الأعلى لم يكن زنديقًا، وإنما المتَّهم بالزندقة أخوه عبد الصمد، وسنذكره. ولما مات أيّوب قال بعض الرجّاز: إن يكُ أيوبُ مضى لشَانِه ... فإن داودَ لفي مكانِه يُقيمُ ما قد زال من سُلطانِه يعني داود بن سليمان. ثابت بن عبد الله ابن الزبير بن العوام، وأمه بنت مَنْظور (¬1) بن زَبَّان. من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل المدينة، كُنيته أبو مصعب، وقيل: أبو حُكَيمة. كان لسان آل الزبير جَلَدًا وفصاحةً وبَيانًا، جمع القرآن في ثمانية أشهر. وكان يشهد القتال مع أبيه، ويبارز بين يديه، وغضب عليه يومًا فقيَّده، وهجم أهل الشام المسجد، فقال له أبوه: قم يا بني فرُدَّهم عني، فقام فردَّهم وهو مقيَّد، فلما قُتل أبوه لحق بعبد الملك فأكرمه. وقال له يومًا: يا ثابت، لمَ غضب عليك أبوك فقيَّدك؟ هو كان أعرف بك حيث فعل بك ذلك، فقال: لأني نَهيتُه أن يقاتل بأهل مكة؛ لأنهم أخرجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخافوه، ونهيته أن يقاتل بأهل المدينة (¬2)؛ لأنهم خذلوا عثمان وهو بينهم حتى قتل، فقال عبد الملك: شِنشِنَةٌ أعرفُها من أَخْزم. ومن ولد ثابت: نافع، وخُبيب، ومُصعب. فأما نافع: فكان من أعبد أهل زمانه، صام خمسين سنة، وكان يُعظِم المعاصي. ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): أم منظور، وهو خطأ، فإن اسمها تماضر بنت منظور، انظر "نسب قريش" 239، و"جمهرة نسب قريش" 1/ 83، و"طبقات ابن سعد" 7/ 406، و"تاريخ دمشق" 3/ 569 (مخطوط). وغيرها كثير. وهذه الترجمة وتاليتها ليستا في (ص). (¬2) في (خ) و (د): مكة، والمثبت من "تاريخ دمشق" 3/ 572، و"التبيين" 261.

[جعفر بن الزبير] بن العوام

وكان لنافع من الولد: عبد الله الأكبر، وعبد الله الأصغر، وكانا من أهل الفضل والصلاح، وكان الأكبر يلي أيتام آل الزبير بالكفاية والأمانة، وكان الأصغر حين توفي الأكبر هو المَنْظور إليه بالمدينة من قريش؛ في هديه وسَمْتِه وفقهه وعفافه، سَرد الدَّهر صيامًا وحُمل عنه الحديث. وأما خُبيب بن ثابت فكان شديدَ العارِضةِ أَيِّدًا، وكان له ولد اسمه الزُّبير بن خُبيب، حمل عنه الحديث، وكان من وجوه قريش فقهًا وعلمًا وعبادة وجمالًا، أقام بمسجده سبع سنين لا يخرج منه إلا للوضوء. وكان لخُبيب ابن اسمه المغيرة، وكان يصحب المهدي، ويعطيه الأموال فيتصدق بها على أهل المدينة (¬1). أسند ثابت بن عبد الله بن الزبير عن أبيه، وسعد بن أبي وقّاص، وقيس بن مَخْرَمة، وروى عنه نافع مولى [ابن] عمر وغيره، وكان ثقة (¬2). [جعفر بن الزبير] بن العوَّام (¬3) أمه زينب بنت مَرْثَد بن عَمرو بن ثَعلبة، وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، وكان قد كبر، وبقي حتى مات في آخر خلافة سليمان. وكان له من الولد: يحيى وثابت، أمهما بَسَّامة بنت عمارة، أنصارية، وصالح، وهند، وأم سلمة، ومحمد، وأم حسن، وحَمَّادة، وشُعيب، وآدم، ونوح، وعمرو، وأم صالح، وعائشة، وأم حَمزة، ومريم، وأم عروة، لأُمَّهات أولاد شَتّى. عبد الرحمن بن الأسود ابن يزيد بن قيس النَّخَعيّ، كُنيته أبو حَفْص، وقيل: أبو بكر، وفد على عمر بن عبد العزيز رحمه الله. ¬

_ (¬1) "التبيين" 261 - 262. (¬2) "تاريخ دمشق" 3/ 569 وما بين معكوفين منه. (¬3) ما بين معكوفين زيادة من طبقات ابن سعد 7/ 182، وكان في (خ) و (د) بدلها: وقال ابن العوام؟ !

عبيد الله بن عبد الله

قوله (¬1): وفد على عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فيه نظر، إن كان فقبل أن يلي الخلافة، وإلا لم يدرك خلافته على ما ذُكر من وفاته في هذه السنة. وكان يدخل على عائشة رضوان الله عليها قبل أن يَحتلم بغير إذن، وبعدما احتلم بإذن فيسألها، قال: فأتيتُها يومًا بعد ما احتلمتُ، فناديتُها من وراء الحجاب فقالت: أفعلتَها أي لُكَع؟ فقلت: نعم، ما يُوجب الغُسل؟ فقالت: إذا التقت المَواسي. وكان عبد الرحمن يصلّي بقومه في رمضان اثنتي عشرة تَرويحة، ويصلّي لنفسه بين كل ترويحتين اثنتي عشرة ركعة، ويقرأ بهم ثُلث القرآن كل ليلة، وكان يقوم بهم ليلة الفطر ويقول: إنها ليلة عيد. وقال الشعبي: أهل بيت خُلقوا للجنة علقمة والأسود وابنه عبد الرحمن. وصلّى عبد الرحمن الفجر بوضوء عشاء الآخرة ستين سنة. واتّفقوا على ثقته ودينه وصلاحه، ومات بالكوفة في هذه السنة، وأدرك عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وحدَّث عن عائشة رضوان الله عليها، وعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، وروى عن أبيه الأسود، وعلقمة، وروى عنه محمد بن إسحاق صاحب المغازي، ومالك بن مِغْوَل، والأعمش وغيرهم (¬2). [فصل: وفيها توفي] عبيد (¬3) الله بن عبد الله ابن عُتبة بن مسعود الهُذَليّ، وكنيته أبو عبد الله. وهو من الطبقة الثانية [من التابعين] من أهل المدينة. وكان عالمًا زاهدًا عابدًا ورعًا. ¬

_ (¬1) أراد به ابن عساكر، انظر تاريخه 9/ 881 (مخطوط). (¬2) "طبقات ابن سعد" 8/ 406، و"تاريخ دمشق" 9/ 879، و"السير" 5/ 11. (¬3) في (خ) و (ص) وما بين معكوفين منها: عبد، وهو خطأ. انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 246، و"المعارف" 250، و"حلية الأولياء" 2/ 188، و"السير" 4/ 475.

قال الزُّهري: أدركتُ أربعةً من بحور العلم من قريش: سعيد بن المسيّب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وعُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة. وحكى أبو نُعيم: أن عمر بن عبد العزيز كان يأتي في إمارته إلى عبيد الله، فربما أذِن له، وربما حَجَبه (¬1). وكان عمر بن عبد العزيز يقول: مَن لي بليلةٍ من عُبيد الله بألف دينار. وكان أحدَ الفقهاء السبعة، وكان الزهري يُلازمه ويأخذ عنه، وإذا رآه قام له، فلما استَنْفَذَ ما عنده جاءه يومًا فلم يقم له، فقال له: ويحك يا بن شهاب، أنت بعدُ في الكُتَّاب. وجدُّه عُتبة أخو عبد الله بن مسعود لأبويه، قديمُ الإسلام، ولم يَرْو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ومات في خلافة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وأما ابنه عبد الله فإنه نزل الكوفة، ومات بها في خلافة عبد الملك. [وقال الواقدي: ] توفي عبيد الله بالمدينة سنة ثمان وتسعين أو تسع وتسعين وقد ذهب بصرُه، وكان ثقةً كثير العلم، [قال: وكان يقول الشعر فيقال له في ذلك فيقول: أرأيتم المَصْدور إذا لم يَنْفُث أليس يموت؟ ] (¬2). روى عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه قال: قدمت المدينةَ امرأةٌ من هُذَيل وكانت جميلة، فكادت تذهب بعقول أكثرهم فخطبوها، فقال عُبيد الله فيها: [من الطويل] أُحِبُّكِ حبًا لا يُحبُّك مثلَه ... قريبٌ ولا في العاشقين بعيدُ أحبك حبًّا لو شَعرتِ ببعضه ... لجُدْتِ ولم يَصعُب عليك شَديدُ وحبُّكِ يا أمَّ الصَّبيِّ مُدَلِّهي ... شهيدي أبو بكرٍ فنعمَ شَهيدُ ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 2/ 188. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 246، وما بين معكوفين من (ص).

وَيعرفُ وَجدي قاسم بنُ محمد ... وعروةُ ما أَلقى بكم وسَعيدُ ويَعلم ما أُخفي سليمانُ علمَه ... وخارجةٌ يُبدي لنا ويُعيدُ متى تسألي عما أقول وتُخْبَرِي ... فلله عندي طارِف وتَليدُ وبلغ ابنَ المسيّب فقال: أما أنت فقد أمنتَ أن تسألَنا، ولو سأَلَتْنا ما شهِدنا لك بزُور (¬1). أسند عبيد الله عن: [أبي] طلحة، وسَهْل بن حُنَيف، وزيد بن خالد الجُهَنيّ، وأبي سعيد، وابن عباس، وأبي هريرة وغيرهم، وروى عنه الزهري وغيره (¬2). وولده عَون بن عبيد الله (¬3)، كان عالمًا شاعرًا، وكانت له منزلة عند عمر بن عبد العزيز، ولما قدم الشعراء على عمر ولم يأذن لهم، خرج عَون يومًا من عند عمر، فناداه جرير فقال: [من البسيط] يا أيُّها القارئ المُرْخي عِمامَتَه ... هذا زمانُك فامْرَح فيه لا زَمَني (¬4) أبلغْ خليفَتَنا إن كنتَ لاقِيَه ... أنّي لدَى البابِ كالمَصْفُود في قَرَنِ (¬5) [وقيل: إنما خاطب جرير مَسلمة بن عبد الملك، وسنذكر القصة في سيرة عمر. وكان عَون من الشعراء الفصحاء، وهو القائل (¬6): ] ¬

_ (¬1) "الأغاني" 9/ 148، و"اعتلال القلوب" 254، و"ذم الهوى" 166، و"المنتظم" 7/ 30. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 246 وما بين معكوفين منه، وانظر "السير" 4/ 475. (¬3) كذا في (خ)، وفي (ص): عبد الله، وصوابُ العبارة: وأخوه عَوْن بن عبد الله ... فإن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أخو عبيد الله بن عبد الله، وليس ولده. انظر "طبقات ابن سعد"8/ 430، و"المعارف" 250 - 251، و"الأغاني" 9/ 139، و"أنساب الأشراف" 10/ 173، و "تاريخ دمشق" 56/ 217، و"تهذيب الكمال" (5142)، و"السير" 5/ 103 وفيه مصادر أخرى. (¬4) ديوان جرير 570، 738، والمصادر في الحاشية السالفة، ورواية الشطر الثاني فيها: إني قد مضى زمني (¬5) هنا ينتهي السقط في (ب) المشار إليه قبل صفحات. (¬6) أقف على نسبة الأبيات التالية لعون، وإنما نسبوها إلى عبيد الله بن عبد الله، انظر "أمالي القالي" 2/ 20، و"مجالس ثعلب" 236 - 237، و"الأغاني" 9/ 149، 150، و"العقد"5/ 288، و"مصارع العشاق" 1/ 321.

كريب بن أبي مسلم

كتمتَ الهوى حتى أضرَّ بك الكَتْمُ ... ولامَك أقوامٌ ولومُهُمُ ظُلْمُ ونمَّ عليك الكاشحون وقبلَهم ... عليك الهوى قد نَمَّ لو نَفعَ النَّمُّ فيا مَن لنفسٍ لا تموتُ فيَنقضي ... عَناها ولا تَحيا حياةً لها طَعْمُ تَجَنَّبْتَ إتيانَ الحبيب تأثُّمًا ... ألا إن هِجران الحبيب هو الإثمُ [تنتهت سيرتهم والله أعلم.] كُرَيْب بن أبي مُسلم مولى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، كنيته أبو رِشدين، ويقال: أبو راشد. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة وقال: مات سنة ثمان وتسعين في آخر خلافة سليمان، وكان ثقةً حسنَ الحديث. وقال موسى بن عُقبة: وضع عندنا كُريب حِمْلَ بعيرٍ من كتب ابن عباس، فكان عبد الله ابن عباس إذا أراد الكتاب كتب إليه: ابعث إليَّ بصحيفة كذا وكذا، فكان ينسخها ويبعث إليه بإحداهما (¬1). وذكره خليفة في الطبقة الثانية من أهل مكة (¬2)، وقال: بعثتْه أمُّ الفضل إلى معاوية رسولًا فقضى حاجتها. وكان ابن عباس يبعثه إلى عائشة يسألها، وبعثه يومًا يسألها عن ركعتين بعد العصر فردَّته إلى أم سلمة. وقال مجاهد: كان ابن عباس يُسمّي عَبيدَه بأسماء العرب؛ عكرمة، ومِسْمَع، وكُرَيب، وكان يقول لهم: تزوَّجوا؛ فإن العبد إذا زنى نُزع منه نور الإيمان. وقيل ليحيى بن مَعين: أيُّما أحب إليك عكرمة أو كريب؟ فقال: كلاهما ثقة. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 288 - 289، وترجمة كريب ليست في (ص). (¬2) "طبقات خليفة" 280، وتاريخه 316، والقول الآتي ليس فيهما، وهو في "تاريخ دمشق" 59/ 335 من غير طريق خليفة.

السنة التاسعة والتسعون

أسند كريب عن ابن عباس مولاه، وأسامة بن زيد، ومعاوية، وعائشة وأم سلمة، وميمونة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، والمِسْوَر بن مَخْرَمَة، وأم الفَضْل بنت الحارث. وقال يعقوب بن شيبة: أدرك عثمان، وعليًّا، وزيد بن ثابت وغيرهم. وروى عنه الأئمة: عمرو بن دينار، وسالم بن أبي الجَعْد، والزُّهري، وشَريك بن عبد الله، ومَكحول، وابناه: رِشدين ومحمد ابني كُرَيب (¬1). السنة التاسعة والتسعون وفيها توفي سليمان بن عبد الملك [بن مروان]، وقام عمر بن عبد العزيز بن مروان رحمه الله. الباب الثامن (¬2) في خلافته وأمُّه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكُنيته أبو حفص. ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة. وذكره ابن سُميع في الطبقة الرابعة (¬3). واختلفوا في مولده؛ فقال ابن سعد: [ولد عمر بن عبد العزيز] سنة ثلاث وستين، [وهي السنة التي ماتت فيها ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال خليفة: [ولد] سنة إحدى وستين بمصر [في السنة التي قتل فيها الحسين بن علي عليهما السلام]. وقال الهيثم: سنة ستين أو تسع وخمسين (¬4). وقال الليث بن سعد: حدثني بعض ولد شُرَحْبيل بن حَسَنة قال: قال رجل: سمعتُ في الليلة التي وُلد فيها عمر مناديًا ينادي بين السماء والأرض: أتاكم اللين والدّين والعمل الصالح، قال: فقلت: مَن هو؟ قال: فكتب في الأرض: (ع م ر) ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 59/ 334 - 337، و"السير" 4/ 479. (¬2) في (خ): الثاني، وهو خطأ، وفي (ص): فصل في خلافة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. (¬3) "طبقات ابن سعد" 7/ 324، و"تاريخ دمشق" 54/ 103 - 104. (¬4) "طبقات ابن سعد" 7/ 324، و"تاريخ خليفة" 234 - 235، و"تاريخ دمشق" 54/ 104 - 106.

[ذكر قصة عمر بن الخطاب في عسسه المدينة: ]

[ذكر قصة عمر بن الخطاب في عسسه المدينة: ] روى يزيد بن هارون، عن يحيى بن المتوكّل، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر قال (¬1): بينا أبي يَعُسُّ المدينة إذ سمع امرأة تقول لابنتها: قومي فشوبي اللبن بالماء، فقالت: يا أماه، أما سمعتِ منادي أمير المؤمنين؟ إنه نادى أن لا يُشابَ اللبنُ بالماء، فقالت: وأين أنت ومناديه الساعة؟ ! قالت: فإذا لم يرني مناديه أما يراني ربُّ مناديه؟ فبكى عمر، ومضى وقد عرّف المنزل، فلما أصبح دعا بالمرأة وابنتها، فسألها هل لها زوج؟ قالت: لا، فقال: يا عبد الله، تزوَّجْها؛ فلو كانت لي إلى النساء حاجة لتزوَّجتُها، قال: فقلت: أنا عنها في غِنى، فقال: يا عاصم تَزَوَّجْها، فتزوَّجها عاصم، فجاءت بابنة فهي أم عمر بن عبد العزيز (¬2). قال ابن سعد: فولد عاصم بن عمر بن الخطاب أمَّ عاصم، وهي أم عمر بن عبد العزيز، وأختَها حفصة بنت عاصم، وأمُّها أم عمارة بنت سفيان بن عبد الله الثقفيّ (¬3). وقيل: كانت الجارية من بني هِلال. وقال ابن عساكر: ويقال: إن اسم أم عمر ليلى، سكنت دمشق مدة، وروى عنها ابنها عمر، وروت عن أبيها عاصم، عن جدّها عمر بن الخطّاب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "نِعْمَ الإدامُ الخَلّ" (¬4) أخرجه مسلم (¬5). ¬

_ (¬1) في (ص) وما بين معكوفين منها: عن يزيد بن هارون، عن عبد الله - رضي الله عنه -. ولم أقف على الخبر بهذا الإسناد، وقد ذكره دون إسناد شمس الدين بن خلكان 6/ 302 - 303 ونقله عن كتاب "جوهرة الزمان في تذكرة السلطان" للمصنف سبط ابن الجوزي. وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 537 - 538 (تراجم النساء) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن عبد الله بن زيد بن أسلم، عن جده أسلم قال: بينا أنا مع عمر ... وأخرجه كذلك 538 - 539 من طريق عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر نهى الأعراب وتقدم إليهم ألا يمذقوا اللبن ... (¬2) في (ص): فجاءت بابنة وجاءت الابنة بابنة فهي أم عمر بن عبد العزيز، وهو وهم، والصحيح ما أثبتناه من النسخ (ب) و (خ) و (د). (¬3) "طبقات ابن سعد" 7/ 16. (¬4) "تاريخ دمشق" 533 (تراجم النساء). (¬5) من حديث عائشة - رضي الله عنها - (2051)، ومن حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - (2051)، وأما حديث عمر فأخرجه ابن عساكر.

[وقال أبو اليقظان: وفي ذلك يقول] عُتْبة بن شَمّاس: [من الخفيف] إن أولى بالحقِّ في كلِّ حقِّ ... ثم أَحْرى بأن يكونَ حقيقا مَن أبوه عبدُ العزيز بنُ مروا ... نَ ومَن كان جدُّه الفاروقا ردَّ أموالنا علينا وكانت ... في ذُرى شاهق تَفوتُ الأَنوقا (¬1) وقال آخر: [من الرجز] يا أيها المظلومُ في بلاده ... إيتِ الإمامَ عُمرًا فنابٍ خليفة الله على عباده ... لم يُؤثر الدُّنيا على معادِه قد أسكن الوعيدَ في فؤاده ... خوفًا أطار النومَ عن رُقاده يحكم بالحقّ على أولاده ... قد أشبه الفاروقَ من أجداده زُهدًا ونُسكًا في ذُرى سداده ... أعانه الله على اجتهاده (¬2) قال ضمرة، عن ابن شَوْذَب: لما أراد عبد العزيز بن مروان أن يتزوّج أمَّ عمر بن عبد العزيز قال لقَيِّمه: اجمع لي أربع مئة دينار من طيّب مالي؛ فإني أريد أن أتزوّج إلى أهل بيت لهم صلاح، فتزوج أم عمر بن عبد العزيز. ذكر صفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: [واختلفوا فيه؛ ] قال الواقدي رحمه الله: كان أسمر نَحيفًا حسن الوجه. [وحكى ابن عساكر، عن إسماعيل بن علي الخطبي قال: ] رأيت صفة عمر في بعض الكتب: أبيض (¬3) رقيق الوجه جميلًا، قد وَخَطه الشَّيب، بجبهته أثر دابة؛ فلذلك سمِّي أشجَّ بني أمية. [وقال ابن سعد: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنت أسمع ابن عمر كثيرًا يقول (¬4): ] يا ليت شعري، مَن هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة؛ يملأ الأرض عدلًا؟ ¬

_ (¬1) "الكامل" 831، و"العقد الفريد" 5/ 291. (¬2) "تاريخ دمشق" 19/ 345 (مخطوط). (¬3) في (ب) و (خ) و (د): قال ابن عساكر كان أبيض، والمثبت من (ص)، والخبر في "تاريخ دمشق"54/ 106. (¬4) في النسخ: قال نافع كنت أسمع ابن عمر كثيرًا يقول، والمثبت من (ص)، وهو موافق لـ"طبقات ابن سعد" 7/ 325، وانظر "السير" 5/ 122، و"تاريخ دمشق" 54/ 123.

قال عبد الله بن دينار: كنا نتحدث أن هذا الأمر لا ينقضي حتى يلي هذه الأمة رجل من ولد عمر، يسير فيها بسيرة عمر، بوجهه شامة، فكنا نقول: هو بلال بن عبد الله بن عمر، وكانت بوجهه شامة، حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. وقال يزيد بن هارون: ضربته دابّة من دواب أبيه فشجَّته، فجعل أبوه يمسح الدم عن وجهه ويقول: سَعِدتَ إن كنتَ أشج بني أمية. وقال ابن الكلبي: دخل عمر داو الدوابّ وهو صغير، فرَمَحَتْه دابة، فسال الدم على وجهه، فدخل أبوه، فلامتْه أمه حيث لم يجعل معه خادمًا، فقال لها أبوه: اسكتي، إن كان أشجَّ بني مروان فيا طُوباك. وقال عبد الجبار بن أبي مَعْن: سمعت سعيد بن المسيب وسأله رجل عن المهدي، فقال له سعيد: أدخلتَ دارَ مروان؟ قال: لا، قال: فادخل تَرَ المهديَّ جالسًا على السّرير، فدخل الرجل، فرأى عمر والناس حوله مجتمعون، فرجع إلى سعيد فقال له: يا أبا محمد، دخلتُ دار مووان فلم أرَ أحدًا أقول هذا المهدي! فقال له ابن المسيب: هل رأيتَ الأشجَّ عمر بن عبد العزيز القاعد على السرير؟ قال: نعم، قال: فهو المهدي (¬1). وقال ابن قُتيبة: صفة عمر في كتاب دانيال: الدَّرْدُوق الأشجّ، أي: القصير (¬2). وقال الهيثم: كان عبد الملك بن مروان يُحبّه، ويُدنيه، ويحنو عليه، ويرفعه فوق أولاده، وزوجه ابنته فاطمة، فقيل له في ذلك فقال: إنه سيلي الخلافة، وهو أشجُّ بني مروان. ذكر بيعته بالخلافة: قال سُهيل بن أبي سهيل: سمعتُ رجاءَ بن حَيوة يقول: لما ثَقُل سليمان كتب كتابَ عهده إلى ابنه وهو غلام لم يبلغ، فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إن مما يَحفظ الله به الخليفةَ في قبره أن يستخلف الرجل الصالح، فقال: سوف أنظر، فمكث يومًا أو ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 327. (¬2) "المعارف" 362.

يومين ثم دعاني فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب في القُسطنطينية، ولا ندري أحيّ هو أم ميت، قال: يا رجاء، فمن ترى؟ قلت: رأيك يا أمير المؤمنين، فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله فاضلًا خيرًا مسلمًا، فقال: هو على ذلك، والله لئن وَلَّيتُه ولم أولّ أحدًا من بني عبد الملك لتكوننَّ فتنة، ولا يتركونه يلي عليهم أبدًا؛ إلا أن أجعل أحدهم بعده -ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم- فقلت: فاجعل يزيد بعده فإنهم يرضَون به ويُسكّنهم، فكتب بيده: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وَلَّيتُه الخلافة من بعدي، ومن بعده ليزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا فيُطمَع فيكم، وختم الكتاب، وأرسل إلى كعب بن حامِز صاحب شرطته: أن مُرْ أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل فجمعهم، ثم قال سليمان لرجاء: اخرج عليهم فأخبرهم أنه كتابي، ومُرْهم فليبايعوا مَن ولَّيت، قال: ففعل رجاء فقالوا: سمعًا وطاعة، قد بايعنا لمن فيه، ثم قالوا: ندخل فنسلّم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فدخلوا فسلّموا، فأشار إليهم سليمان والكتاب في يد رجاء فقال: هذا عهدي، فاسمعوا وأطيعوا، وبايعوا لمن سمَّيتُ فيه، فبايعوا رجلًا رجلًا وانصرفوا. فقال رجاء: فلما تفرَّقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا المقدام، إن سليمان كانت لي به حُرمة ومَودَّة، وكان بي بَرًّا مُلطِفًا، وأخشى أن يكون أسند إليَّ من هذا الأمر شيئًا، فأَنشدك الله وحُرمتي ومَودَّتي إلا أعلمتني؛ إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة، فقال له رجاء: لا والله ما أنا بمُخبِرك حرفًا واحدًا، فانصرف عمر غضبان. قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك فقال: يا رجاء، إن لي بك حُرْمة ومودَّة قديمة، وعندي شكر، فأعلمني أهذا الأمر إليّ؟ فإن كان إلي علمتُ، وإن كان إلى غيري تكلَّمتُ، فليس مثلي مَن يُقصّر به عنه، ولك اللهَ عليَّ أن لا أذكر اسمَك لأحد، قال: فقلت: والله لا أخبرك حرفًا واحدًا مما أسرَّ إلي. قال: فانصرف هشام وهو مُؤيَس، يضرب بإحدى يديه على الأخرى ويقول: والله إني لعين بني عبد الملك بن مروان.

قال وجاء: ودخلت على سليمان وهو يموت، فجعلتُ إذا أخذتْه سكرة من سكَرات الموت حَرَفْتُه إلى القبلة فيقول: يا رجاء، لم يأنِ لذلك بعد، فعلتُ ذلك مرتين أو ثلاثًا، فلما كان في الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنتَ تُريد شيئًا، وذكر الشهادتين، فحَرَفْتُه فمات، فأعْمَضْتُه وسَجَّيتُه بقَطيفَةٍ خضراء، وأغلقتُ الباب، وأرسلتْ إليّ زوجتُه تسأل كيف أصبح، فقلت: قد نام وتغطَّى، ونظر إليه رسولُها مُغطَّى بالقَطيفة، فرجع فأخبرها، فقَبِلَتْ وطنَّت أنه نائم. قال رجاء: وأجلستُ على الباب مَن أثق به، وأوصيتُه أن لا يَريم حتى آتيه، ولا يُدخِل على سليمان أحدًا، وأرسلتُ إلى كعب بن رجاء (¬1) العَنْسِيّ، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين في مسجد دابِق، فقلت: بايعوا، فقالوا: بايعْنا مرَّةً أنبايع أخرى؟ قلت: نعم، فبايعوا، فلما أَحكمتُ الأمر قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، فاسترجعوا، وقرأت عليهم الكتاب، فلما وصلتُ إلى ذكر عمر قال هشام: لا نبايعه أبدًا، قال رجاء: فقلت له: أَضرب والله عُنُقَك، قم فبايع، فقام وهو يجرُّ رجلَيه. قال رجاء: وأخذتُ بضَبْعَي عمر، فأجلستُه على المنبر وهو يَسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه، فلما انتهى هشام إلى عمر قال له: إنا لله وإنا إليه راجعون، أي: حين صار هذا الأمر إليك على ولد عبد الملك، فقال عمر: نعم فإنا لله وإنا إليه راجعون حين صار إلي لكراهتي له. قال رجاء: وغُسِّل سليمان وكُفّن، وصَلّى عليه عمر، فلما فرغ من دفنه أُتي بمواكب الخلافة: البراذين والخيل والبغال، ولكلّ دابّة سائس فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة، قال عمر: دابّتي أوفقُ لي، فركب بغلتَه وصرف تلك الدواب، ثم أقبل فقيل: تنزل منزل الخلافة، فقال: فيه عيالُ أبي أيوب، وفي فُسطاطي كفاية إلى أن يتحولوا، وأقام في منزله حتى فرغوه بعد ذلك. قال رجاء: فلما كان مساء ذلك اليوم قال: يا رجاء، ادعُ لي كاتبًا - وقد رأيتُ منه كلّما سَرَّني- فدعوته له، فأملى عليه كتابًا بليغًا وَجيزًا بغير نسخة، ثم أمر بذلك الكتاب فنُسخ إلى كل بلد. ¬

_ (¬1) كذا، وقد سلف أنه كعب بن حامز، انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 331، و"تاريخ الطبري" 6/ 552، و"تاريخ دمشق" 54/ 133 - 134.

قال رجاء: وبلغ عبدَ العزيز بن الوليد -وكان غائبًا- موتُ سليمان، ولم يعلم بمبايعة الناس عمر، وعهد سليمان إليه، فبايع مَن معه لنفسه، ثم أقبل يريد دمشق يأخذها، فبلغه بيعة عمر، فأقبل حتى دخل على عمر، فقال له: قد بلغني أنك كنتَ بايعتَ مَن قِبَلك، وأردتَ دخولَ دمشق، فقال: قد كان ذلك، ولم أعلم بمبايعتك، ولا أن الخليفة عَقَد لأحد، وخفتُ على الأموال أن تُنهب، فقال له: والله لو بويعتَ وقمتَ بالأمر ما نازعتُك، فقال عبد العزيز: ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك، وبايع عمر - رضي الله عنه -. وقال ابن سعد: قال رجاء بن حَيوة: لما ثَقُل سليمان بن عبد الملك رآني عمر بن عبد العزيز أخرج وأدخل وأتردد، فدعاني فقال: يا رجاء، أُذكّرك اللهَ والإسلام أن تَذكُرني لأمير المؤمنين، أو تُشيرَ بي عليه إن استشارك، فوالله ما أقوى على هذا الأمر، فأَنشُدك الله إلا صرفتَه عني. قال: فانتَهَرْتُه وقلت: إنك لحَريصٌ على الخلافة، أتطمَعُ أن أُشير عليه بك، قال: فاستحيى. ودخلتُ على سليمان فقال: يا رجاء، مَن ترى لهذا الأمر، وإلى مَن تَرى أعهد؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك قادم على الله، وإنه سائلك عن هذا الأمر وما صنعتَ فيه، قال: فمن ترى؟ قلت: عمر بن عبد العزيز، قال: فكيف أصنع بعهد عبد الملك إليّ وإلى الوليد في ابنَي عاتكة أيهما بقي؟ قلت: تجعله بعده، قال: أصبتَ ووُفِّقتَ، جئني بصحيفة، فأتيتُه بها، فكتب عهد عمر ويزيد من بعده. ثم دعوتُ رجالًا فدخلوا عليه، فقال لهم: إني قد عهدتُ عَهدي في هذه الصحيفة، ودفعتُها إلى رجاء، وأمرتُه بأمري، فاشْهَدوا. فشهِدوا، فلم يلبث سليمان أن مات، فقال هشام: إن كان فيها رجل من أولاد عبد الملك وإلا فلا، فقال رجاء: نعم فيها رجل من ولد عبد الملك. وقال ابن سعد: لما قرئ عهد سليمان بدابق وعمر ناحية؛ قام رجل من ثَقيف يقال له سالم من أخوال عمر، فأخذ بضَبْعَيه فأقامه، فقال عمر: والله ما اللهَ أردتَ بهذا، ولن تُصيب بها مني دنيا (¬1). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 332 - 333.

وقال الهيثم: لما وفد الزهري ومكحول الشامي على سليمان بن عبد الملك استشارهما في توليته عمر لما مات أيوب، فصوَّبا رأيَه، فكتب عهده بمحضر منهما وأشهدهما عليه، ومات سليمان، فلما قرئ الكتاب قام مكحول فقال: أين أمير المؤمنين عمر، وكان في أخريات الناس في المسجد، فلم يقم، فمشى إليه، وأخذ بيده، وأقعده على المنبر وهو يقول: والله ما أردتُ هذا، فلما دُفن سليمان قُرِّبت إليه مراكب الملك فقال: بغلتي -وكانت شهباء- فقُرِّبت إليه. وكان يرجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وتركه ولده. وقال بشر: لما ولي عمر بن عبد العزيز خطب الناس، وفُرش له، فنزل وترك الفرش ناحية، فقيل له: لو تحوّلتَ إلى حُجْرة سليمان فتمثّل: [من الطويل] فلولا التُّقى ثم النُّهى خشيةَ الرَّدى ... لعاصيتُ في حبِّ الصِّبا كل زاجرِ قضى ما قضى فيما مَضى ثم لا تَرى ... له صَبْوَةً أُخرى الليالي الغَوابرِ وقال أبو الحكم سيّار: كان أول ما أُنكر من عمر أنه لما دفن سليمان أُتي بدابة سليمان التي كان يركبها، فلم يركبها، وركب دابّته التي جاء عليها، فدخل القصر وقد مُهدت له الفُرش التي كانت لسليمان، فلم يجلس عليها، ثم خرج إلى المسجد، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنه ليس بعد نبيكم نبيٌّ، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحلّ الله حلال إلى يوم القيامة، وما حرَّم حرام إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاضٍ ولكني منفذ، ألا إني لست بمبتدع ولكني رجل منكم، غير أن الله قد جعلني أثقلَكم حِملًا (¬1). وقال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: لما دَفن عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك وخرج من قبره سمع للأرض هَدّة فقال: ما هذه؟ قيل: مراكب الخلافة، فقال: ما لي ولها؟ ! نَحّوها عني، قرِّبوا إليّ بغلتي، فركبها، فجاء صاحب الشرطة يمشي بين يديه بالحَربة، فقال: تنحَّ عني، ما لي ولك؟ ! إنما أنا رجل من المسلمين. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 334.

فسار وسار الناس معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر فقال: أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر من غير رضًى منكم، ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلَعْتُ ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأَنَفسكم، فصاح الناس صيحةً واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فَلِ أمرَنا باليُمن والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأتْ، ورضوا به جميعًا حَمِد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أوصيكم بتقوى الله فإن تقواه خَلَف من كل شيء، وليس من تقواه خَلَف، فاعملوا لآخرتكم؛ فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، وأصلحوا سرائرَكم يُصلحِ الله علانيتَكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هاذم اللذات، وإن مَن لا يذكر من آبائه مما بينه وبين آدم أبًا حيًّا لَمُعْرِق في الموتى، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أُعطي أحدًا باطلًا، ولا أمنع أحدًا حقًّا. ثم رفع صوته حتى أسمع الناس وقال: أيها الناس مَن أطاع الله فقد وجبت طاعتُه، ومَن عصى الله فلا طاعةَ له، أطيعوني ما أطعتُ الله، فإذا عَصيتُ الله فلا طاعةَ لي عليكم. ثم نزل فأمر بالستور فهُتِكت، والثيابِ التي كانت تُبسَط للخلفاء فحُمِلَتْ، وأمر ببيعها وإدخال ثمنها في بيت المال. ثم ذهب يتبوَّأ مَقيلًا، فأتاه ابنُه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ما تريد أن تصنع؟ فقال: يا بُنيَّ، أَقِيل، فقال له: أتَقِيل وما رَدَدْتَ المظالم؟ ! فقال: إني سَهرتُ البارحة مع عمك سليمان، فإذا صليتُ الظُهر ردَدْتُ المظالم، قال: فمَن لك أن تعيشَ إلى الظهر؟ فقال: يا بني، ادْنُ مني، فدنا منه، فقبَّل ما بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صُلبي من يُعينني على الخير. فخرج ولم يَقِل، وأمر مناديه ينادي: ألا مَن كانت له مَظلمة فليَرْفَعْها، فقام إليه رجلٌ ذِمِّي من أهل حمص أبيض الرأس واللحية فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتابَ الله، قال: وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي -وكان العباس

جالسًا- فقال له: يا عباس، ما تقول؟ قال: أقطعني إياها أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وكتب لي بها سِجلًا، فقال عمر: كتاب الله أحقُّ أن يُتَّبَع، قم يا عبَّاس فادفع إليه أرضَه. فانتزعها منه ودفعها إلى الذّمّي، وجعل لا يَدَعُ شيئًا مما كان في يد أهل بيته من المظالم إلا ردَّه. وبلغ الخوارج ما هو عليه من حُسن السيرة فقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل. وقال عمر بن ذَرّ: رجع عمر من جنازة سليمان مُغْتَمًّا، فقال له مولى له: ما لي أراك مُغْتَمًّا؟ فقال: لمثل ما وقعتُ فيه فلْيُغْتَمّ، إنه ليس أحدٌ من أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في شرق الأرض ولا غربها إلا وأنا أريد أن أُؤدّي إليه حقَّه، غير كاتب إليّ فيه، ولا طالبه مني. وقال حمَّاد العَدَوي: سمع الناس عند وفاة سليمان صوتًا يقول: [من الطويل] اليوم قَرَّت واستَقَرَّ قرارها ... على عمرَ المهديِّ قامَ عَمودُها (¬1) وقال: إنما سُمِّي المهدي لأن الخَضِر - عليه السلام - التقاه وقال: أنت المهدي، وستلي الخلافة. قال الواقدي: بويع لعشرٍ بَقِين من صفر سنة تسع وتسعين. دخل عليه بلال بن أبي بُردة حين بويع فقال: يا أمير المؤمنين، مَن تكن الخلافةُ زانته فأنت زِنْتَها، وأنت وإياها كما قال القائل: [من الخفيف] وتَزِيدينَ طَيِّب الطِّيب طِيبًا ... إنْ تَمَسِّيه أين مثلُك أينا وإذا الدرُّ زانَ حُسْنَ وجوهٍ ... كان للدرِّ حُسنُ وَجهك زَينا فقال له عمر: دعني منك، فأنا أعرف بنفسي، إني إلى عفو الله أحوجُ مني إلى مَدحكم (¬2). وقال سَهل بن صَدَقة مولى عمر بن عبد العزيز: حدثني بعضُ خاصّة عمر بن عبد العزيز: أنه حين أفضَتْ إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاء عاليًا، فسئل عن البكاء فقيل: إن عمر بن عبد العزيز خيَّر جواريه وقال: قد نزل بي أمرٌ قد شغلني عنكن، فمَن ¬

_ (¬1) الخبران في "تاريخ دمشق" 54/ 135، 137. (¬2) "تاريخ دمشق" 3/ 490 (مخطوط). ونسب هذا الخبر إلى خالد بن عبد الله القسري، انظر "أنساب الأشراف" 7/ 439، و"العقد" 2/ 134، ونسب إلى رجل في "أنساب الأشراف" 7/ 77، و"تاريخ دمشق" 54/ 181.

أحبَّتْ أن أُعتقها عَتَقْتُها، ومَن أرادتْ أن أُمسكها مسكتُها ولم يكن مني إليها لشيء، فبكين يأسًا منه (¬1). وقيل له في ذلك فقال: وهل يستطيع رجل أن يأتي ذلك وأمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عنقه؛ يسأله الله عنه يوم القيامة. وقالت زوجته فاطمة: والله ما اغتسل عمر من جَنابة ولا احتلام حتى قبضه الله تعالى. وقال العُتْبيّ: لما هجر عمر جواريه ونساءه كتبت إليه فاطمة بنت عبد الملك بن مروان: [من الوافر] ألا [يا] أيها الملكُ الذي قد ... سبى عقلي وهام به فؤادي أراك وَسِعتَ كلَّ الناسِ عَدْلًا ... وجُرْتَ عليَّ من بين العبادِ وأَعطيتَ الرَّعيةَ كلَّ فَضْل ... وما أعطيتَني غيرَ السُّهادِ فيقال: إنه عَطف عليها (¬2). وقال مالك بن دينار: لما ولي عمر بن عبد العزيز قالت رِعاءُ الشَّاء في رؤوس الجبال: مَن هذا الخليفةُ الصالح الذي قد قام على الناس؟ فقيل لهم: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إنه إذا قام خليفة صالح كفَّت الذّئاب والأُسد عن شائنا. وقال ابن سعد: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي خرج إلى مسجد دابِق ليلة ومعه حَرَسيّ، فمرَّ في الظلمة في المسجد فعثر برجل نائم، فرفع رأسه وقال: أمجنونٌ أنت؟ قال: لا، فهمَّ به الحَرسيّ، فقال له عمر: مَهْ، إنما سألني فأجبته (¬3). وقال رجاء بن حَيوة (¬4): كان عمر بن عبد العزيز من أعطر الناس ومن أَلْبَسِ الناس، وأخْيَلِهم في مشيه، فلما استُخلف قَوَّموا ثيابَه اثني عشر درهمًا، كُمَّتَه وعِمامته وقميصه وقَباءه وقَرْطَقه وخُفَّيه ورداءه. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 384 - 485. (¬2) "العقد الفريد" 6/ 409. (¬3) الخبران في "طبقات ابن سعد" 7/ 376، 385. (¬4) في (ص): حدثنا يعقوب بإسناده قال أخبرني رجاء بن حيوة. والخبر في "طبقات ابن سعد" 7/ 389 - 390 عن أحمد بن أبي إسحاق، عن أبي سعيد مولى بني هاشم، حدثنا أبو يعقوب، حدثني رجاء بن حيوة.

[وروى الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي مِرداس (الرقي، عن إبراهيم بن بكار) الأسدي، ] عن يونس بن أبي شَبيب قال (¬1): شَهِدتُ عمر بن عبد العزيز وهو يطوف بالبيت وإن حُجْزَة إزاره لغائبة في عُكَنِه، ثم رأيتُه بعدما استُخلف، ولو شئتُ أن أعدَّ أضلاعَه من غير أن أَمَسَّها لفعلت. وقال المدائني: لما ولي عمر الخلافة نظر إلى ما كان له من عبيد وإماء ورَقيق ومَتاع ولباس وعطر وجوهر وغير ذلك فباعه، فبلغت قيمتُه نيفًا وعشرين ألف دينار، فجعله في سبيل الله، وكان عند فاطمة بنت عبد الملك جوهر له قيمة مثل الدرَّة اليتيمة وقِرطَي مارية، فأمرها فأحضرتْه، فقال: من أين لكِ هذا؟ قالت: من أبي، فقال: إما أن تردّيه إلى بيت المال وإما فارقتك، فقالت: ما كنت لأختارَ عليك الدُّنيا، فردَّته إلى بيت المال، فلما توفي عمر وولي يزيد بن عبد الملك قال: إن شئتِ ردَدْتُه عليك، فقالت: لا والله ما كنتُ لأَطيب به نَفْسًا في حال حياته، ثم أرجع فيه بعد وفاته، لا حاجة لي فيه، فقسمه يزيد في أهله وجواريه. [وقد أخرج ابن سعد (¬2) بمعناه، وفيه أن عمر قال لها: أخرجيه من بيتي فإني أكره أن أكون أنا وهو في بيت، فلما ولي يزيد قال: إن شئت رددته عليك أو قيمته، قالت: لا ذا، ولا ذاك، ولم تأخذ منه شيئًا.] وقال البلاذري: لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه رجل نصراني فقال: يا أمير المؤمنين، إن هشام بن عبد الملك غصبني ضيعتي، فقال عمر: أين هشام؟ فجاء فقال: من أين لك هذه الأرض؟ فقال: وَرِثتُها من أبي عبد الملك، فقال: قم فاقعد مع خصمك، قال: أوكّل وكيلًا، قال: لا، قم فاقعد معه، فقام هشام فقعد مع النصراني، وانتهر هشام النصراني وتوعَّده، فقال له عمر: يا أحول، أتَنْتَهِره عندي، إن عُدتَ ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ص)، وما بين قوسين من "حلية الأولياء" 5/ 257، وانظر "طبقات ابن سعد" 7/ 376. (¬2) في طبقاته 7/ 381 - 382، وما بين معكوفين من (ص).

عاقبتك، ثم أخرج هشام سِجلًّا من عبد الملك بالضيعة، وأخرج النصراني سجلًا بالملك، فقال عمر لابنه عبد الملك: انظر في السِّجِلّين، فنظر فقال: حجة النصراني غالبة، وحق الله أولى أن يُتَّبَع، فقال عمر: أحرِق سجل هشام، فأحرقه وردَّ على النصراني ضيعتَه، فلما ولي هشام الخلافة استُؤذن في أخذ الضَّبعة فقال: لا أردُّ حُكمًا حكم به عمر (¬1). [وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: لما بدأ عمر بأهل بيته في ردِّ ما كان بأيديهم من المظالم قال عمر بن الوليد بن عبد الملك: لا تلوموه ولوموا أنفسكم، عمدتم إلى رجل من آل عمر بن الخطاب فوليتموه عليكم، ففعل بكم هذا. وحكى ابن سعد عن] الواقدي قال: قال عمر لما ولي الخلافة: ينبغي أن أبدأ بنفسي، فنظر إلى ما في يده من أرض ومتاع فخرج منه، حتى فَصِّ خاتم أعطاه إياه الوليد من غنائم إفريقية، وما زال يردُّ المظالم من زمن معاوية بن أبي سفيان إلى زمن سليمان بن عبد الملك (¬2). وقال هشام بن محمد [عن أبيه قال: ] لما جاءت الجمعة التي ولي عمر قبلها خطب، فلما بلغ المكان الذي كانت بنو أمية تسبُّ فيه أمير المؤمنين عليًّا - رضي الله عنه - قال: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية [النحل: 90] ثم نزل، فكان ذلك أشقّ علي بني أمية من ردّ المظالم، وقالوا: غيَّر سنَّة الخلفاء، وبلغ عمر فقال على المنبر: إنما غيَّرتُ البِدعة وأحييتُ السنَّة. وقيل: إن بني أمية كانوا يقولون: اللهم صلِّ على معاوية وجدِّه، لقد لقينا من علي جهده، فلما ولي يزيد أعاد سب أمير المؤمنين (¬3). وقال الهيثم: كان عمر بن عبد العزيز يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مَسعود الهُذَليّ بالمدينة لما كان واليًا، فذكر عمر عليًّا يومًا فنال منه، فقال له عبيد الله: ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 7/ 114. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 335 وما بين معكوفين من (ص). (¬3) بعدها في (ص): قال الواقدي: وما زال عمر يرد المظالم حتى مات ... وقد سلف هذا الخبر قريبًا.

يا عمر، متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ ففهم عمر ما أراد فقال له: مَعذرةً إلى الله وإليك، والله لا عدتُ إلى مثلها أبدًا، فما رؤي عمر بعدها ذاكرًا عليًّا - عليه السلام - إلا بخير (¬1). وقال الواقدي: كان سليمان قد ولّى أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم على المدينة، فلما ولي عمر أقرَّه عليها، فاستقضى أبا طُوالة، وولّى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وضمّ إليه أبا الزناد كاتبًا، فاستقضى عامرًا الشعبيّ، وولّى البصرة عديَّ بن أرطاة، فاستقضى الحسنَ البصري، ثم استعفاه فأعفاه، وولّى اليمن عُروة بن محمد بن عَطيّة السعدني، وولّى الجزيرة عديَّ بنَ عديّ الكندي، وولّى إفريقية إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر حتى توفي عليها، وولّى دمشق محمد بن سُوَيد الفِهريّ، وولى خراسان الجَرَّاح بن عبد الله الحكمي (¬2)، وعزل عنها يزيد بن المهلب. وكتب إلى مسلمة بن عبد الملك أن يَقْفُلَ بمن معه من المسلمين من بلاد الروم، وبعث إليه بالمال والطعام وخمس مئة فرس، فقَفَل راجعًا. [فصل: ] وفيها أسلم ملك الهند، قال ابن عساكر: كتب ملك الهند (¬3) إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الهند والسِّند، ملِك الأملاك؛ الذي هو ابن ألف ملك، وتحته ابنةُ ألف ملك، والذي في مملكته نهران يُنبتان العُودَ والكافور والأَلُوَّة التي يوجد ريحها من اثني عشر فرسخًا، والذي في مَرْبَطه ألفُ فيل، وتحت يده ألفُ ملك؛ إلى مَلِك العرب، أما بعد، فإن الله قد هداني للإسلام، فابعث إلي رجلًا يعلمني القرآن وشرائع الإسلام، وقد أهديتُ إليك هديَّةً من المسك والعَنْبر والنَّدِّ والكادور، فاقبلها فإنما أنا أخوك في الإسلام، والسلام. وفيها حُمل يزيد بن المهلَّب من خُراسان إلى الشام (¬4). ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 54/ 108. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 335، وانظر "تاريخ الطبري" 6/ 554، و"المنتظم" 7/ 48. (¬3) في (ص): وقد ذكر القصة ابن عساكر عن نعيم بن حماد فقال: كتب ملك الهند. ولم أقف على الخبر في "تاريخ دمشق"، وهو في "العقد الفريد" 2/ 202، و"المنتظم" 7/ 45. (¬4) في الطبري 6/ 556، و"المنتظم" 7/ 56 أن ذلك كان في سنة مئة.

[قال الواقدي: ] وفيها اشترى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - مَلَطْيَة من الروم بأربع مئة ألف دينار، وخلَّص منها ألفَ أسير، وبناها وأسكنها المسلمين وإلى هلم جرًّا، وكانت مأوى اللصوص وقُطَّاع الطريق ومركزًا للروم، وكانوا يَشُنُّون منها الغارات إلى بلاد المسلمين، فجعلها منزلًا لعساكر المسلمين، فأمِنت البلاد، وكذا فعل بالجُحْفَة والحجاز؛ كان الأعراب يقطعون منها الطريق، فجعلها منزلًا. وحج بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وكان على المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضاء البصرة بعد الحسن إياس بن معاوية بن قُرَّة. وقال أبو عبيدة مَعْمَر: لما ولّى عمر الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن خرج عليه شَوْذَب الخارجيّ -واسمه بِسطام من بني يَشْكُر- في ثمانين فارسًا أكثرهم من ربيعة، وكان خروجه بجُوخى، فكتب عبد الحميد إلى عمر بن عبد العزيز يُخبره، فكتب إليه عمر: جَهِّز إليهم جيشًا مع رجل حازم في ألفَين، ومُرْه ألا يتعرَّض لهم حتى يُفسدوا في الأرض، ويسفكوا دمًا حرامًا، فجفز إليهم محمد بن جرير بن عبد الله البَجَليّ، وأوصاه بما أوصاه به عمر. وكتب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إلى بِسطام يسأله عن مُخرَجِه، فوافاه كتاب عمر وقد قدم محمد بن جرير، فقام بإزائه لا يُحرِّكه ولا يَهيجه. وكان في كتاب عمر إلى بسطام: بلغني أنك خرجتَ غَضَبًا لله ورسوله، ولستَ أولى بذلك مني، فهلمَّ أُناظرْك، فإن كان الحق بأيدينا فادخُلْ فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نَظَرْنا في أمرنا. فكتب بسطام: قد أنصفتَ، وقد بعثتُ إليك رجلين يُناظرانك، أحدهما من بني شَيبان، والآخر من بني يَشْكُر، فقدما على عمر فناظراه، فكان في جملة ما قالا له: لِمَ أقررْتَ يزيد بعدك خليفة؟ فقال: أقرَّه الذي ولّاه، وما ولَّيتُه أنا، قالا: أرأيتَ لو وَلِيتَ مالًا لغيرك ثم وكَّلتَه إلى غير مأمون عليه، أتُراك كنت قد أدَّيتَ الأمانة إلى من ائتمنَك؟ فقال: أنْظِراني ثلاثًا حتى أنظر.

إبراهيم بن محمد

قال أبو عبيدة: إنما كانت هذه المناظرة في سنة مئة (¬1)، فلما قال لهما عمر: أنظراني ثلاثًا؛ خاف بنو أمية أن يخلع يزيد فيخرج الأمر عنهم فتذهب أموالهم، فدسُّوا إلى عمر - رضي الله عنه - مَن سقاه سمًّا فمات. [فصل: ] وفيها توفي إبراهيم بن محمد ابن طلحة التَّيمي، وهو من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل المدينة، وأمّه خَولة بنت مَنْظور بن زَبَّان بن سَيار بن عمرو بن جابر بن عَقيل بن هِلال بن سُمَيّ بن مازن بن فَزارة. وكان إبراهيم أخا حسن بن حسن بن علي لأُمّه، وكان أعرج، سيِّدًا شريفًا صارمًا، وكان يسمَّى أسدَ قريش وأسَدَ الحجاز، وكانت له نفسٌ شريفة، وعارضة، وإقدام على الخلفاء والأمراء بالكلام الحق. وهو الذي ولّاه عبد الله بن الزبير خراج الكوفة، وهو الذي أقدمه الحجاج معه على عبد الملك بن مروان في سنة خمس وسبعين فكان سبب ولايته على العراق. قال الشيخ أبو الفَرَج بن الجوزي في "المنتظم": إنه مات في سنة تسع وتسعين مُحرِمًا بمنى، ودفن في أسفل العَقَبة (¬2). [وقال ابن سعد عن الواقدي: مات إبراهيم (بمنى) أو ليلة جَمْع، فدفن أسفل العَقبة وهو مُحْرِم (¬3). ولم يذكر تاريخ وفاته رحمه الله تعالى.] (¬4) وذكر ابن سعد والزبير بن بكار ما يدلُّ على أن وفاته تأخرت عن هذا التاريخ؛ قال ابن سعد: حج هشام بن عبد الملك وهو خليفة، وخرج إبراهيم بن محمد بن طلحة تلك السنة فوافاه بمكة، فجلس إبراهيم على الحجر، وطاف هشام بالبيت، فلما مرَّ ¬

_ (¬1) ذكرها الطبري 6/ 555 - 556، وابن الجوزي 7/ 53 - 54 في سنة مئة. (¬2) تحرفت في النسخ الخطية إلى: الكعبة، وينظر المنتظم 7/ 46. (¬3) "طبقات ابن سعد" 7/ 401 وما بين قوسين منه. (¬4) ما بين معكوفين من (ص) وبها انتهت ترجمته.

بإبراهيم صاح به إبراهيم: ناشَدْتُك اللهَ في ظُلامتي، فقال هشام: وما ظُلامتُك؟ قال: داري مقبوضة، قال: ما فعل عبد الملك فيها؟ قال إبراهيم: ترك الحق وهو يعرفه، قال: فما صنع الوليد؟ قال: اتَّبع آثارَ أبيه وقال ما قال القوم الظالمون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، قال: فما فعل سليمان؟ قال: لا قفي ولا سيري، قال: فما فعل عمر؟ قال: رد الحقَّ إلى أهله (¬1) رحمه الله، فاستشاط هشام غضبًا - وكان إذا غضب انقلبت حَوْلَتُه- وقال: أما والله لو كان فيك موضع ضَرْب لأدَّبتُك، فقال: فيَّ والله الدِّين والحَسَب، لا يَبعدنّ الدينُ والحقُّ وأهلُه، وسيكون غدًا بحث وستعلم. ومضى هشام، ثم دعا الأَبْرَش الكلبيّ -وكان خاصًّا به- فقال: يا أبرش، كيف ترى هذا اللسان؟ هذا والله لسان قريش لا لسان كلب، إن قريشًا لا تزال فيهم بقيَّة ما كان فيهم مثل هذا. قال ابن الزبير: كانت هذه الدار بين الصفا والمروة، وتسمَّى دار آلِ عَلْقمة، وكان لآل طلحة منها شيء، والذي أخذها نافع بن علقمة الكناني خال مروان بن الحكم، وصار عاملًا لعبد الملك على مكة، ولم ينصفهم عبد الملك من نافع (¬2). وقال الزبير: قدم إبراهيم على هشام وهو خليفة، فكلّمه هشام فلحن، فأجابه إبراهيم مثل لحنه، فقال له هشام: أتكلّمني وأنت تلحن؟ قال: ما عَدوتُ أن رَدَدْتُ عليك بمثل كلامك. وقال الزبير: جاء إبراهيم إلى باب هشام وقد قام، فأخبره الحاجب بقيامه فقال: أُغلقت دونه الأبواب، وقام بعُذره الحاجب، وبلغ هشامًا فأذن له (¬3). قال عبد الله بن أبي عُبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر: جاء كتاب هشام بن عبد الملك إلى إبراهيم بن هشام المَخْزُومي وهو عامله على المدينة: أن يَحطَّ فَرْضَ آل ¬

_ (¬1) في (ب) و (د): إلى أربابه. (¬2) "نسب قريش" 283 - 284، و"طبقات ابن سعد"7/ 399، و "تاريخ دمشق" 2/ 511 (مخطوط)، و"التبيين"326 - 327. (¬3) "تاريخ دمشق"2/ 510.

صُهيب بن سنان إلى فرض الموالي، ففزعوا إلى إبراهيم (¬1)، فوعدهم خيرًا، ورصد إبراهيم بنَ هشام حتى خرج إلى زيارة قُباء، ولزمه في سوق المدينة وقال: أصلح الله الأمير، قد عرفتَ مكانة صُهيبٍ من الإسلام، وأولاده حُلفائي، قال: ما أصنع بكتاب أمير المؤمنين فيهم؟ فقال: والله إذا أردت أن تُحسنَ فعلت، فقال: ما لك عندي إلا ما قلت -وكان إبراهيم بن محمد رئيسَ بني تَيم- فقال للمخزومي: فإذا أبيتَ، فوالله لا يأخذ أحدٌ من بني تَيم درهمًا واحدًا حتى يأخذ آل صُهيب، فأجابه إبراهيم المخزومي إلى ما أراد، وكان أبو عُبيدة بن محمد بن عمار مع المخزومي، فقال لأبي عبيدة: لا يزال في قريش عزٌّ ما بقي هذا، فإذا مات ذلَّت قريش. وقال ابن سعد: فولد إبراهيم: عمران وأمه زينب بنت عَمرو بن أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ويعقوب، وصالحًا، وسليمان، ويونس، وداود، واليَسَع، وشعيبًا، وهارون، وأمَّ كلثوم، وأمَّ أَبان، وأمهم أم يعقوب بنت إسماعيل بن طلحة بن عُبيد الله، وأمها لُبابَة بنت عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وعيسى، وإسماعيل، وموسى، ويوسفَ، ونوحًا، وإسحاق، لأمَّهات أولاد، وإسماعيلَ الأكبر، وأمَّ أبيها تزوجها عمر بن عبد العزيز بن مروان فولدت له، وأمَّ كلثوم، وأمهم أم عثمان بنت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق (¬2). وابن ابنه محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد صاحب الواقعة مع الجَمَّالين والمنصور، وكان قاضي المدينة، وحكم لهم على المنصور، وكان المنصور يعظّمه، ورماه المنصور بالبخل فقال: أنا لا أجمد في حق، ولا أذوب في باطل، فقال المنصور: أنت إذًا الرجل الكامل. وكان لمحمد بن عمران ولد اسمه عبد الله، ولي القضاء مرارًا (¬3). وروى إبراهيم بن محمد عن أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأسند عن سعيد بن زيد، وعبد الله بن عمرو، وعمه عمران بن طلحة، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وعائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، وخلق من التابعين. ¬

_ (¬1) يعني ابن محمد بن طلحة صاحب الترجمة، وينظر "طبقات ابن سعد" 7/ 399 - 400. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 398. (¬3) "نسب قريش" 284 - 285، و"التبيين" 327 - 328.

سعيد بن أبي الحسن

سعيد بن أبي الحسن أخو الحسن البصري، وكان أصغر من الحسن، وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، وكان الحسن يحبه حبًّا شديدًا، ولما مات حزن عليه حزنًا شديدًا، وأمسك عن الكلام حتى عُرف ذلك في مجلسه وحديثه، فكُلِّم في ذلك فقال: الحمد لله الذي لم يجعل الحُزْنَ عارًا على يعقوب، ثم قال: بئست الدار المُفَرِّقة. قال مُبارك بن فَضالة: دخلنا على الحسن حين نُعي له أخوه وهو يبكي، فعزَّاه بكر بن عبد الله وقال: إن الناس يرونك تبكي فيذهبون بهذا إلى عشائرهم فيقولون: رأينا الحسن يبكي عند المصيبة، فيحتجون به على الناس، فحمد الله الحسن وأثنى عليه وقد خنقتْه العَبْرة وقال: إن الله جعل هذه الرحمة في قلوب المؤمنين؛ فيرحم بها بعضهم بعضًا، فتَدمع العين، ويَحزن القلب، وليس ذلك بجَزَع، إنما الجزع ما كان من اللسان واليد، ثم قال: إن الله لم يجعل حُزْنَ يعقوب عليه ذنبًا ولا عارًا، قال: {وَابْيَضَّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84] ورحم الله سعيد بن أبي الحسن، ما كانت تنزل بي شِدّة إلا وكان يَودُّ أنه لو فداني بنفسه. وقال ابن عَون: دفع إليَّ الحسن بُرنسًا مُطَوَّسًا كان لأخيه لأَبيعه، فذهبت به فلم أُعطَ فيه إلا أربعة وعشرين درهمًا، فقلت له: أفأشتريه أنا؟ قال: فأنت أعلم، ولكني لا أحب أن أراه عليك. قال ابن سعد: مات سعيد قبل سنة مئة، وقد روى الحديث، ورُوي عنه (¬1). [فصل: وفيها توفي] سليمان بن عبد الملك ابن مروان، وأمُّه وَلّادة بنت العباس أم الوليد، وكنيته أبو أيوب. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 178 - 179، و"المنتظم" 7/ 48 - 49، و"السير" 4/ 588.

[ذكر طرف من أخباره: قال الواقدي]: كما فصيحًا، لَسِنًا، طُوالًا، أبيض، وقيل: أسمر، وكان يَخْمَع (¬1) من رجله، وكان مُعْجَبًا بنفسه، حَسنَ السيرة، متَرفِّعًا عن سَفْك الدماء، مفتاحًا للخير، أذهب الله به عن النالص ظلمَ الحجاج، وسَفْكَه للدماء، أطلق المُحَبَّسين من حبس الحجاج، وأباد آل الحجاج، وردَّ المُسَيَّرين، وأنصف المظلومين، وبنى مدينة الرَّمْلَة، ومسجدُها قائم اليوم، وأحسن إلى الرَّعِيَّة، وختم أفعاله باستخلافه عمر بن عبد العزيز على الأمَّة، ولم يكن ممَّن تقدَّم من أهله أعلى هِمَّةً منه مع قصر أيامه، كانت أوائل خيله في الصين مع يزيد بن المهلب، وآخر خيله في طُلَيطلة، وكان أخوه الوليد قد ولّاه فلسطين فأقام بها. قال الواقدي: كان شَرِهًا أكولًا؛ يأكل في اليوم مئةَ رَطْل، ويتناول في ساعة واحدة أربعين رُقاقة مع عدة خِرفان، وكان نِكاحه على قدر أكله. وقال هشام: كان الطبَّاخ يأتيه بالسَّفافيد وعليها الدجاج المشوي، فيُدخل يده في كُمِّه وعليه ثياب الوَشْي، فيمسك السَّفُّود بيده، ويأكل منه أربعين دجاجة. وقال المدائني: حج سليمان فقال لقَيِّمه على طعامه: أطعمني من خِرفان المدينة، ودخل الحمام وخرج وقد شُوي له أربعة وثمانون خروفًا، فأكل من كل خروف جزمازجه (¬2) مع شحم كليته، حتى أتى على آخرها، ثم دعا الناس إلى الطعام، فأكل معهم مثل ما كان يأكل. وأتى الطائف في حجته، فسأله ابن أبي زُهير الثقفي أن ينزل عليه فنزل، فجاءه برُمّان فأكل منه مئةً وسبعيق رمانة، وخروفًا، وست دجاجات، وعشرين رقاقة، ثم أكل مع الناس. ¬

_ (¬1) أي: يعرج. (¬2) في النسخ: جمازجه، والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 50، ولعلها: بمعنى ثمر الأَثْل والطَّرْفاء، فيكون معناه: قطع اللحم المصنوعة مع هذا الثمر، انظر القاموس، ومعجم الألفاظ الفارسية 41.

قال الأصمعي: كنت حاضرًا عند الرشيد يومًا، فجيء بصناديق من ذخائر بني أمية، ففَتح صندوقًا منها، فوجد فيه ثياب الوَشْي وقد سال الدُّهن على صدورها وأكمامها، فسأل الناس عن ذلك فلم يجد عندهم علمًا، وكان عنده رجل من بني أمية فقال: يا أمير المؤمنين، هذه ثياب سليمان بن عبد الملك، كان شَرِهًا أكولًا (¬1). وكان سليمان غيورًا، روى الشعبي قال: كان سليمان يوما جالسًا بمَرْج دابِق في المخيم، وجارية تصبُّ على يديه الماء، فمالت إلى جهة المعسكر تستمع إلى غناء مغنٍّ، فلم يزل يبحث حتى عرف المغني، فأحضره وخصاه وقال: إذا هدر الجمل ضَبعَت الناقة، وإذا هدر الحمام زافت الحمامة، وإذا غنى الرجل شَبَقَت المرأة، ثم سأل عن أصل الغناء فقيل: في المدينة، وهو في المخنَّثين أكثر، فكتب إلى والي المدينة -وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم- أن: احْصِ مَن قِبلَك من المُخَنثين والمغنِّين، فتَشَظَّى قلم الكاتب، فوقعت على الحاء المهملة نقطة فصيَّرتها خاءً مُعجمة، فلما قرأ أبو بكر كتابه قال لكاتبه: لعل الكاتب تَشَظَّى قلمُه فجعل الحاء خاءً، فقال الكاتب: إن على الخاء نقطة كأنها تمرة، أو كأنها سُهَيل، فأحضرهم وخصاهم، فلما بلغ سليمان قال: ما قَصَدْنا هذا (¬2). وحكى ابن عساكر: أن خالد بن عبد الله القسري أخاف عبد الله بن شَيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحَجَبي -ويُسمَّى عبد الله الأصغر، ويعرف بالأعجم لعُجْمَة في لسانه- فوفد على سليمان مُستجيرًا به فأجاره، وكتب إلى خالد: لا سبيل لك عليه، فلما قدم بالكتاب على خالد لم يفتحه، وضربه مئة سَوط، ثم فتحه وقرأه وقال: لو علمتُ ما فيه ما ضربتُك، فرجع عبد الله إلى سليمان فأخبره، فأمر بقطع يد خالد، فكلَّمه فيه يزيد بن المهلَّب، وقبَّل يده فعفا عن قطع يده، وكتب سليمان إلى طلحة بن داود الحَضرَميّ قاضي مكة: إن كان خالد قرأ الكتاب ثم جَلَده فاقطع يده، وإن كان جلده قبل أن يقرأ الكتاب فاضربه مئةَ سَوط مثلَ ما ضرب عبد الله، وشَهِّرْه ثلاثَ ليال، فقرأ القاضي ¬

_ (¬1) انظر "مروج الذهب" 5/ 401. (¬2) "المنتظم" 1/ 17 - 18.

كتابَه، فشهد جماعة أنه ضربه قبل أن يقرأ الكتاب؛ منهم: علي بن عبد الله بن العباس وكان [على أمر] زمزم (¬1)، وعبد الأعلي بن عبد الله بن عامر بن كُرَيز، فضربه طلحة مئة سَوط وسهَّره ثلاثَ ليالٍ، فكان خالد يقول: التَّشهير أشدُّ عليَّ من الضرْب. ومرَّ به الفرزدق الشاعر -وكان قد هجا خالدًا لبُخْله- فقال له: اشدد -أو اضمم- إليك جناحك، قال خالد: فانتفعتُ بقوله، وفي ذلك يقول الفرزدق: [من الطويل] لعَمري لقد سار ابنُ شَيبةَ سِيرةً ... أرتْك نجومَ الليلِ ضاحية تجري لعَمري لقد صُبَّت على ظهرِ خالدٍ ... شَآبيبُ ما استَهلَلْنَ من سَبَلِ القَطْرِ أتَضرِبُ في العصيان مَن ليس عاصيًا ... وتعصي أميرَ المؤمنين أخا قَسْرِ فلولا يزيد بنُ المهلَّب حَلَّقَتْ ... بكفِّك فَتْخاءٌ (¬2) إلى جانب الوَكْرِ وقال فيه أيضًا: [من الطويل] وكيف يَؤمُّ الناسَ مَن كانت امُّه ... تدينُ بأنّ الله ليس بواحدِ (¬3) وقال الهيثم: لما عزل سليمان يزيد بن أبي مُسلم كاتب الحجاج عن العراق؛ أمر أن يُحمل إليه في قيوده، فلما دخل عليه ازدراه وقال: لعن الله مَن حكمك في أمره، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رأيتَني والأمر عنّي مُدبر، وهو عليك مُقبل، ولو رأيتَني والأمر عليَّ مقبل لاستَعْظَمتَ ما استصغرت، فقال له سليمان: ما أظنّ الحجاج إلا إلى الآن يهوي في جهنم، وما استقر في قعرها بعد، فقال: إن الحجاج مَحَضَكم الوُدَّ، وبذل لكم الجهد، وإنه يأتي غدًا بين يدي أبيك وأخيك، فاجعله أين شئت، فصاح سليمان: أخرجوه فأخرجوه (¬4). ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 7/ 422، و"تاريخ دمشق" 9/ 419: داود بن علي بن عبد الله بن العباس، وما بين معكوفين منه. (¬2) في النسخ غير (ص) فليس فيها الخبر: فتخاء عقاب، والكلمة الثانية تفسير للأولى. وانظر ديوان الفرزدق 1/ 301، و"تاريخ دمشق" 9/ 420 (مخطوط)، و"أنساب الأشراف" 7/ 391، و"مروج الذهب" 5/ 411، و"العقد" 4/ 429. (¬3) "أنساب الأشراف" 7/ 382، و"تاريخ دمشق" 9/ 420. (¬4) "مروج الذهب" 5/ 404 - 405، و"العقد" 4/ 427.

وقال الشعبي: جرى بين سليمان وعمر بن عبد العزيز كلام، فقال له سليمان: كذبتَ، فقال له عمر: والله ما كَذبتُ منذ شَدَدْتُ إزاري، وقام مُغضَبًا وهو يقول: إن في غير هذا المجلس لنا سَعَةً، وتجهَّز إلى مصر، فأرسل إليه سليمان، فجاء فقال: يابن عَمّ، والله إن المُعاتَبة تَشُقُّ عليَّ، ولكن والله ما أهمَّني أمرٌ قط من ديني ودنياي إلا كنتَ أوّل مَن أذكره له. وقال الشعبي: دخل عليه أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين، إني مُكلِّمك بكلام فافهمه، فقال: إنا نجود بسَعَةِ الاحتمال على مَن نرجو نُصحه، ونَأمَنُ غِشَّه، فقال الأعرابي: أما إذْ أَمِنتُ بادرةَ لسانك، ومَغَبَّةَ غضبِك، فإني سأطلق لساني بما خَرَسَتْ عنه الألسنةُ من موعظتك تأديةً لحقِّ الله ولإمامتك، إنه قد اكتَنَفك رجالٌ أساؤوا الاختيار لأنفسهم، وباعوا دينهم بدنياهم، ورضاك بسخط ربهم، ولم يخافوا اللهَ فيك، حربٌ للآخرة، سِلمٌ للدنيا، فلا تأمَنْهم على ما ائتمنك الله عليه؛ فإنهم ضيعوا الأمانة، وعَسفوا الأُمَّة، وأنت مسؤولٌ عما اجَتَرموا، وليسوا بمسؤولين عما اجتَرَمْتَ، فلا تُصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غُبْنًا مَن باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: أما أنت يا أعرابي فقد سَلَلْتَ لسانَك، وهو أَمضى من سيفك، فقال: أجل ولكن لك لا عليك (¬1). وقال [أبو القاسم] بن عساكر: كانت دار سليمان بدمشق موضع سقاية جيرون الآن، وبنى دورًا كثيرة مما يلي الباب الصغير موضع الدَّرْب الذي يقال له: درب مُحْرِز، وجعلها دار الإمارة، وبنى فيها قُبَّة صفراء ضاهى بها القبة الخضراء التي بناها معاوية في دار الإمارة. قال: وكان سليمان فصيحًا، مُؤثرًا للعدل، محبًّا للغزو، وجّه جيشًا إلى القسطنطينية فحصرهم، فصالحوه على بناء الجامع بها. وكان مقربًا لعمر بن عبد العزيز مستشيرًا له. وحج بالناس في سنة إحدى وثمانين قبل خلافته، وسنة سبع وتسعين في خلافته. ¬

_ (¬1) "مروج الذهب" 5/ 407 - 409.

وقيل: إنه ولد سنة ستين بالمدينة في دار عبد الملك أبيه. وقال الزبير بن بكّار: جمع عبد الملك بنيه: الوليد، وسليمان، ومَسْلَمة، وقال: ليُنْشدني كلُّ واحدٍ منكم أرقَّ بيت قالته العرب، وقد أجَّلتُكم ثلاثًا، ومن أتاني به فله حُكمه، فخرج سليمان، فرأى أعرابيًّا يسوق إبلًا له وهو يقول: [من البسيط] لو حُزَّ بالسيف رأسي في مَحبَّتِكم ... لمالَ يهوي سريعًا نحوكم رأسي فرجع إليه، فأنشده إياه فأعجبه وقال: يا بنيّ، سَلْ حاجتَك، ولا تنسَ حظَّ الأعرابي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العَهْدَ ليس بمُقَرِّبٍ أجلًا، ولا تركه بمُباعدٍ حَتْفًا، وقد عَهِدتَ إلى الوليد فاجعلني بعده، فقال: نعم، فأقام عبد الملك الحج بالناس سنة إحدى وثمانين، وعهد إليه، وأعطاه مئة ألف درهم فدفعها للأعرابي (¬1). وقال الزبير: كان سليمان لما ولي الخلافة قد عزم على المقام بالبيت المقدس، ونقل إليه أمواله، فبلغه خروج الروم إلى ساحل حمع، وأنهم سَبَوا نساءَّ، فغضب وقال: والله لأَغْزُونَّهم غزاةً أفتح فيها القسطنطينية أو أموت دونها، فأغزى أهل مصر في ألف مركب في البحر إلى القسطنطينية، وقدَّم عليهم عُمر بن هُبَيرة الفَزاريّ، وأغزى أهلَ الشام في عشرين ومئة ألف إليها أيضًا في البرّ، وولّى على الجميع أخاه مَسْلَمة بن عبد الملك. ثم قدم سليمان دمشق، فصعد المنبر يوم الجمعة وخطب، وأخبر الناس بيمينه التي حلفها على فتح بلد القسطنطينية، وأمرهم بالجَهَاز فتجهَزوا، وخرج الناس من دمشق، وأتى مَرْج دابِق فنزل به، وأقام يُجَهِّز البعوث. وقال الزبير: كان سليمان من أفصح ملوك بني أمية، وكان شاعرًا، ومن شعره: [من الطويل] ومن شيمتي ألّا أُفارقَ صاحِبًا ... وإن مَلَّني إلا سألتُ له رُشْدا فإن دام لي بالودِّ دُمتُ ولم أكن ... كآخرَ لا يَرعى ذِمامًا ولا عَهْدا (¬2) ¬

_ (¬1) نقله ابن كثير في "البداية" 12/ 640 عن ابن عساكر. (¬2) "مختصر تاريخ دمشق" 10/ 176، و"البداية والنهاية" 12/ 645.

وقال الهيثم: كان الحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، وأبو حازم، والزُّهري، وعلماء ذلك العصر وزُهّادُه يدعون لسليمان، ويُثنون عليه ويقولون: افتتح الخلافة بإحياء الصلوات في مواقيتها، ومحا سُنَن الحجاج وسجونه وبِدَعه وما لقي منه الإسلام والمسلمون، ثم ختم خلافتَه باستخلاف العبد الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وقال عبد الله بن صفوان بن الأهتم: كنت أقوم على رأس سليمان بن عبد الملك، فدخل عليه رجل من حضرموت من حكمائهم، فقال له سليمان: تكلم بحاجتك، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، مَن كان الغالبُ على كلامه النَّصيحةَ وحسنَ الإرادة، أوفى به كلامُه على السَّلامة، وإني أعوذ بالذي أشخصني من أهلي حتى أوفدني عليك أن ينطقني [بغير] الحق، وأن يُذَلِّل لساني لك بما فيه مصلحة لك وللرعية، وإن اقتصارَ الخطبة أبلغُ في أفئدة أولي الفهم من الإطالةِ والتَّشَدُّق في البلاغة، ألا وإن من البلاغة ما يُفهم وإن قلَّ، وإني مُقْتَصر على الاقتصار، مُجتنب لكثير من الإكثار، يا أمير المؤمنين، أشخَصَني إليك والٍ عَسوف، ورَعيَّة ضائعة، فإن تتعجَّلْ تستدركْ ما فات، وإن لم تعجل هَلَكت الرعيةُ ضَياعًا. فغضب سليمان وقال: البريد البريد، فحضر، فبعث عليه رجلًا وقال: لا تنزل من مركبك حتى تَعزلَ الوالي، ومَن كانت له ظُلامة فخُذْ له بحقّه، ثم أمر للحكيم بمال أو جائزة سنيَّة، فأبى أن يَقبلها وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أحتَسِب سَفَري على الله، وأكره أن آخذ عليه أجرًا من غيره، ولم يَقبلْه (¬1). ذكر بعض خطبه: [حكى هشام بن الكلبي عن أبيه قال: كان سليمان قد نشأ بالبادية عند أخواله، وكان فصيحًا] خطب يومًا فقال: أيها الناس، اتّخِذوا كتاب الله إمامًا، وارضَوا به حَكَمًا، واجعلوه لكم قائدًا؛ فإنه ناسخ لما قبله، ولن ينسخه كتاب بعده. [قال: فما سمع الناس خطبة أبلغ منها ولا أوجز (¬2).] ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 8/ 340. (¬2) "مروج الذهب"5/ 398 - 399، و "العقد"4/ 91 - 92.

وخطبة أخرى: أيها الناس، أين الوليد، وأبو الوليد، وجدّ الوليد، أسمعهم الداعي، واسترد العواري؛ فاضمَحَلَّ ما كان كأن لم يكن، وذهب عنهم طَيِّب الحياة، ففارقوا القصور، وسكنوا القبور، واستبدلوا بلين الوطاء خَشِن التّواب، فهم رهائنه إلى يوم المآب، فرحم الله عبدًا مَهّد لنفسه، واجتهد لدينه، وأخذ من الاستعداد بحَظّه، وعمل في حياته، وسعى لصلاحه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30] (¬1). ومن أخرى: أيها الناس، إن الله جعل الموت حتمًا سبق به حُكمُه، ونَفَذ به أمرُه؛ لئلا يطغى المُتَكَبِّر، ويَمدَّ عُنقه المتجبِّر، ألا وإن الله جعل الدنيا دارًا لا تقوم إلا بأئمة العدل ودعاة الحق، وإن لله عبادًا يُملِّكهم أرضَه، ويَسوس بهم عبادَه، ويُقيم بهم حُدودَه، وقد أصبحت في هذا المقام الذي أنا غير راغبٍ فيه، ولا مُنافس عليه، ولولا أن الخلافة تُحفةٌ من الله لتمنَّيتُ أن أكون كأحدكم، وما هو إلا العدل أو النار (¬2). ذكر وفاته: قال أبو بكر بن عبد العزيز بن الضحاك بن قيس: لشهد سليمان جنازةً بدابِق، فدُفنت في حقل، فجعل سليمان يأخذ من تلك التُّربة ويقول: ما أحسن هذه التربة، ما أطيب ريحها! فما أتى عليه جمعة -أو كما قال- حتى دُفن إلى جانب ذلك القبر (¬3). واختلفوا في سبب وفاته [على أقوال؛ أحدها: ] قال الشعبي: ما زال سليمان بعد وفاة ابنه أيوب يذوب ويَنْحل حتى مات كَمَدًا. وقال المدائني: أتاه دِهقان بدابِق ومعه زِنبيل مملوء بيضًا، وآخر مملوء تينًا أخضر، فقدَّمه إليه، فجعل يُقَشِّر البيض ويأكل كل بيضة بتينة حتى أتى على الزِّنْبيلين، ثم أتوه بقَصْعَةٍ مملوءة مُخًّا مخلوطًا بالسُّكَّر فأكل الجميع، وكان قد أكل قبل التين والبيض والمخ ثلاث مئة وستين شاهلوكة -وهي عين البقر- فأُتخم ومرض ومات (¬4). ¬

_ (¬1) بعدها في (ص): وله خطب كثيرة، ذكر وفاته. (¬2) "المنتظم" 7/ 14 - 15. (¬3) "تاريخ الطبري"6/ 549. (¬4) "أنساب الأشراف" 7/ 51، و"العقد" 4/ 430.

وقال ابن أبي الدنيا: نزل سليمان بمَرْج دابِق من أرض قِنَّسرين، فنظر في المرآة يومًا فأعجبتْه نفسُه فقال: أنا الملك الشَّابّ، أنا السلطان الوهَّاب -وكان جميلًا، وعليه حُلَّةٌ خضراء، وعلى رأسه وَصيفة- فلما قال: أنا الملك الشاب حرَّكت شفتيها، فقال لها: يا جارية، كيف ترينني؟ قالت: قُرَّة العين، ومُنى النَّفْس، قال: فما الذي حرَّكتِ به شفتيكِ؟ قالت: قلت: [من الخفيف] أنت نعمَ المتاعُ لو كنتَ ... تَبقى غيرَ أن لا بَقاءَ للإنسانِ أنت خِلْوٌ من العيوبِ ومما ... يَكرهُ الناسُ غير أنك فانِ ثم خرج إلى الجمعة ليَخطبَ بالناس ويُصلّي، فشرع في الخطبة وصوته يُسمع من أقصى المسجد، فطعن، فلم يزل يَضعف صوتُه، وثَقُل حتى لم يسمعه القريب من المنبر، ثم حُمل إلى بيته فقال: عليَّ بتلك الوَصيفة -التي كانت قائمة على رأسه- فجاءت، فقال لها: أعيدي ما قلتِ، قالت: وما الذي قلت؟ قال: ألستِ القائلة: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى؟ قالت: والله ما طَرقَ سَمعي هذا قط، ولا رأيتُك منذ شهر، فسأل القَيمةَ على الجواري فقالت: صدقت، فارْتَاعَ، وعلم أن نفْسَه قد نُعيت إليه، فما عاش إلا أسبوعًا (¬1). واختلفوا في وفاته؛ فقال هشام بن محمد: تُوفّي بدابِق يوم الجمعة لعشرِ ليالٍ بقينَ من صفر سنة تسع وتسعين، فكانت خلافتُه سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام. [وقال ابن عساكر: إنه توفي في رمضان، وهو وهم منه.] وقال ابن أبي الدنيا: توفي لعشر ليال مضين من صفر. واختلفوا في عمره، فقال قوم: [ولد سنة ستين، فيكون عمره] تسعًا وثلاثين سنة، وقيل: ثلاث وخمسون سنة، والأول أشهر (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ الطبري" 6/ 547، و"مروج الذهب" 5/ 402 - 404، و "العقد" 4/ 425، و"المنتظم" 7/ 49 - 50. (¬2) انظر "المعارف" 361، والطبري 6/ 546، و"مروج الذهب" 5/ 396 - 398، و"العقد"4/ 424 - 425.

وقال الواقدي: صَلَّى عليه عمر بن عبد العزيز، ونزل في قبره، فلما سوّى عليه اللَّبِن اضطرب، فقال ولد صغير لسليمان: عاش والله أبي، فقال عمر: بل عوجل أبوك (¬1). قال: وقد جرى مثل هذا للوليد بن عبد الملك، فإن عمر نزل في قبره ومعه العباس بن الوليد أو عبد العزيز بن الوليد. فجمع الوليد رجليه إلى صدره، فقال ولده: قد عاش أمير المؤمنين، فقال عمر: كلا والله، ولكنه عُوجل (¬2). وقد رثاه جماعة، منهم: الحارث الشاعر، فقال من أبيات: [من الطَّويل] فهلّا على قبرِ الوليدِ سَفَحْتَها ... وقبرِ سُليمانَ الذي عند دابِقِ (¬3) وقال حمزة بن بِيض الحَنَفيّ الشاعر: [من الكامل] ساس الخلافةَ والداك كلاهما ... من بين سُخطَةِ ساخطٍ أو طائعِ ثم الوليدُ أخوك أصبح تاليًا ... وَعلى جبينك نورُ ملكٍ ساطعُ (¬4) يريد بوالديه: مروان وعبد الملك. ذكر أولاد سليمان: كان له أولاد عدة، منهم: أيوب، وداود، وعبد الواحد، ويزيد، وإبراهيم، ويحيى، وعبيد الله، والقاسم، وسعيد، ومحمد، وعمر، وعمرو، وعبد الرحمن، وأم أيوب. فأما أيوب فقد ذكرناه، وقيل: لم يكن في أولاده مثله. وأمَّا داود فأُمّه أم ولد، ولّاه أبوه بعض الصَّوائف، وأراد أبوه أن يَعْهَد له في مرضه فمنعه رجاء بن حَيوَة، وقيل: إنَّما منعه سليمان الخلافة لأنَّه كان ابنَ أَمَة، وهو الذي ¬

_ (¬1) "المنتظم" 7/ 50. (¬2) "تاريخ دمشق" 17/ 847 (مخطوط). وجاء بعد هذا الخبر في (ص): انتهت ترجمة سليمان. ثم جاء ذكر القصة التي جرت لإبراهيم بن سليمان، وستأتي. (¬3) "معجم البلدان" 2/ 417 (دابق)، وهو من أبيات للحزين الأشجعي في "أنساب الأشراف" 7/ 53، و "المؤتلف والمختلف" 123. (¬4) "البيان والتبيين" 3/ 371 وفيه إقواء.

عُيِّر فقيل له: مات أبوك بَشِمًا وأمُّك بَغَرًا (¬1)، وكانت أُمُّه قد حَجَّت فعَطِشت بطريق مكّة، فأكثرت من شُرب الماء فماتت. ويقال: إن صالح بن عبد الله قتله يوم نَهرِ أبي فُطْرُس (¬2). وأمَّا عبد الواحد فكُنيته أبو عثمان، وقيل: أبو خالد، وأمه أم عمرو بنت عبد الله بن خالد بن أَسِيد بن أبي العِيص بن أُميَّة. ولي الموسم لمروان بن محمد، وكان عاملَه على المدينة، وكان أميرًا على الموسم سنة تسع وعشرين ومئة، ونزلت الحرورية بعرفات على النَّاس من كل وجه، فأرسل إليهم عبد الواحد جماعةً من قريش؛ منهم: عبد الله بن حسن بن حسن، وأُميّة بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد العزيز بن عبد الله [بن عبد الله] بن عمر بن الخطاب، فسألوهم أن يكفُّوا عن النَّاس حتَّى يَفْرُغوا من حجِّهم فكفّوا، فلما كان يوم النَّفْر الأول خرج عبد الواحد كأنه يُفيض، فركب رواحِلَه ومضى إلى المدينة، وترك أثقاله بمِنًى. وقال الزُّبير بن بكار: كان عبد الواحد جوادًا مُمَدَّحًا، وقد مدحه إبراهيم بن هَرْمَة كثيرًا، وكان قد أغناه، وأخذ عليه العَهد أن لا يمدحَ غيره، فلما عُزل عبد الواحد عن المدينة وجاء أميرٌ غيره مدحه ابن هَرْمَة، فعُزل ذلك الأمير وأُعيد عبد الواحد إلى المدينة، فجاء إليه ابن هرمة فحجبه، ولم يقبل فيه شَفاعةَ أحد، فتشفَّع إليه بعبد الله بن حسن بن حسن، فركب معه إليه، فلما دخل على عبد الواحد قام له وأكرمه وقال: ألك حاجة؟ قال: نعم، قال: كلُّ حوائجك مَقضيَّة إلَّا ما كان من ابن هَرْمة، فقال: ما أريد غيرها، فشفَّعه فيه، وأذن له فدخل فأنشده: [من الوافر] أعبدَ الواحدِ المأمول إنِّي ... أَغَصُّ حِذارَ سُخْطِك بالقَراحِ رأينا غالبًا خُلقتْ جَناحًا ... وكان أبوك قادِمَةَ الجَناحِ ¬

_ (¬1) البشم: التخمة، والبغر: أن يشرب فلا يروَى، فيصيبه داء من كثرة الشرب. وانظر الخبر في "أنساب الأشراف" 7/ 43، و"تاريخ دمشق" 6/ 23 - 24 (مخطوط). (¬2) رده ابن عساكر وقال: ولا أظنه بقي إلى ذلك الوقت.

وقام عبد الله بن حسن فخرج، وخرج خلفه ابن هرمة وقد تَجَوّز في الإنشاد، فلحق عبد الله فقبَّل رِكابه، فقال له: وَيحك، أما استحييتَ منّي تقول لابن مروان: وكان أبوك قادمةَ الجناح وأنا حاضر؟ ! وأبي الحسن بن علي، وأمي فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فقال له ابن هرمة: فقد قلتُ في إثر هذا البيت: ولكن عُتبةٌ عتِبتْ علينا ... وبعضُ القول يَذْهب في الرِّياحِ فضحك عبد الله وقال: قاتلك الله ما أظْرَفَك. وقيل: لم يكن هذا البيت في القصيدة، وإنَّما ارتجله ابن هرمة. وحكى أبو الفرج الأصفهاني قال: قيل لابن هَرْمَة: بم استحقَّ منك عبد الواحد أن قلتَ فيه: أعبد الواحد المأمول إنِّي فقال ابن هرمة: إن ذهبنا نُعَدِّد صنائعَه التي يستحقُّ بها هذا القول أطلْنا، ولكن أُخبركم ببعض صنائعه عندي؛ كان واليًا على المدينة، وكانتُ مُنقطعًا إليه فأغناني عن مَن سواه، فعُزل عن المدينة، فظننتُ أنَّ مَن يلي بعده يكون مثله، فأقمتُ أغدو وأروح إلى الوالي إلى أن لم يبقَ لي شيء، وتعذَّر عليَّ القُوت، فقلت لأختي: أما تَرينَ ما نحن فيه، فمن أَقصِد؟ قالت: ما أُشير عليك إلَّا بعبد الواحد بن سليمان. فباعت حُليَّها واشترت لي راحلة، فركبتُها وسرتُ حتَّى قدمتُ دمشق، فسألتُ عن عبد الواحد فقيل: هو في المسجد، فأَنَخْتُ راحلتي، ودخلت فسلَّمتُ عليه، فرحّب بي وقال: يا أبا إسحاق، كيف خبرك بعدنا؟ قلت: تلاعبتْ بي المِحَن، وجفاني الأخِلَّاء، ونأى بي الوطن، فلم أجد مَن أَفْزَع إليه في الشدائد إلَّا إليك، ولا مُعَوَّلًا إلَّا عليك، فوالله ما بادرني إلَّا بدمعته، وأومأ إلى فتيان من أولاده فذهبوا. ثم عاد الأول ومعه كيس يحمله خادم، فصبَّه في حجري، فقال عبد الواحد: كم هذا؟ قال: ألف وسبع مئة دينار، والله ما عندنا غيره.

ثم أقبل الثَّاني ومعه عبدان على رؤوسهما كارتان (¬1)، فحطّهما بين يدي، وإذا بها حليُّ نسائه وبناته، وقال له الغلام: والله يا أَبَة ما أبقينَ لهنّ من الحلي إلَّا ما بين يديك. وجاء الغلام الثالث ومعه غلامان معهما من فاخر ثيابه، فوضع الجميع بين يدي وقال: يا أبا إسحاق، إنِّي لمُعْتَذرٌ إليك من قلَّة ما حَبَوتُك به؛ مع بعد الشُّقَّةِ، وطول العهد، وسعةِ الأمل، وقد جئتَنا في آخر السنة، وقد تقسَّمت أموالنا الحقوقُ، ونسفتها (¬2) أيدي المؤمِّلين، فلم يبقَ إلَّا هذه الصُّبابة (¬3)، فآثرناك بها على أنفُسنا، واستقللناها لك. ثم نظر إلى ناقتي وقد ضَعُفَتْ فقال: يا غلام، ناقتي الفلانية فجاء بها، وهي والله أحبُّ إلي مما أعطاني، ووهب لي عبدين يخدماني. أفتلومني على مدحي إياه؟ فقال الرجل الذي سأله: والله إن هذا المدح استتر في جنب ما ذكرت (¬4). وقال الزُّبير: ولَّى مروانُ بنُ محمد عبدَ الواحد مكّة والمدينة والطائف، فلما زالت أيَّام بني أميَّة قتله صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس، وأخذ ماله، وله بالشام عَقِب (¬5). وأمَّا يزيد بن سليمان فكان سيِّدَ ولد أبيه، وكان ينزل فلسطين، فلما قُتل الوليد بن يزيد أراده أهل فلسطين على البيعة بالخلافة، فلم يتمَّ له الأمر، فبعث إليه يزيد بن الوليد مَن ضمن له ما أراد، فأجابه وبايعه (¬6). وقال الزُّبير: يزيد والقاسم وسعيد بنو سليمان، أمهم أمُّ يزيد بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، مات سعيد بن سليمان صغيرًا (¬7). ¬

_ (¬1) الكارة: ما يجمع ويشد ويحمل على الظهر من طعام وثياب. (¬2) في المصادر: ونهبتها. (¬3) البقية من كل شيء. (¬4) "الأغاني" 6/ 107 - 110، و "الفرج بعد الشدة" 3/ 16 - 18، و "تاريخ دمشق" 41/ 6، وانظر ديوان 90 - 91. (¬5) "نسب قريش" 166، و "تاريخ دمشق" 3/ 41. (¬6) "تاريخ دمشق" 18/ 290 (مخطوط). (¬7) "نسب قريش" 165.

وأمَّا إبراهيم بن سليمان فإنَّه عاش إلى أيَّام بني العباس، وله قصة عجيبة حكاها الزُّبير، وذكرها ابن عساكر، قال (¬1): لما أفضت الخلافة إلى بني العباس اختفى رجال من بني أميَّة، منهم إبراهيم بن سليمان، حتَّى أخذ له داود بن علي أمانًا من أبي العباس، فقال له يومًا أبو العباس: حدّثني بما مَرَّ عليك في اختفائك، فقال: كنت مطلوبًا دون أهلي، فكنت أدور البلاد حتَّى دخلت الكوفة، فقصدتُ خرابها، فأفضيتُ إلى رَحْبةٍ واسعة، ودار عالية، وعلى بابها رجلٌ له هيبة وغلمان، فسلَّمتُ عليه وقلبي خائف، فقال: ادخل فأنت آمن، فدخلتُ، فأفرد لي دارًا عند حُرَمه، وأقام بي أحسن القيام، فأقمتُ عنده حَولًا لا يسألني عن شيء، وكان كلّ يوم يركب ويعود وهو مُتَلَهِّف، فقلت له يومًا: ما لي أراك قلقًا؟ فقال. إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي، وقد أباح الخليفة دمه، وجعل لمن يأتي به مئة ألف درهم، وأنا كلّ يوم أركب وأُفتِّش الخراب عليه، وقد أُخبرت أنَّه فيه، قال: فعجبت من كوني في منزله وهو يريد قتلي منذ سنة ولا يعلم غريمه! فقلت: ما اسم أبيك؟ قال: فلان، فقلت: إنه قد وجب عليّ حَقُّك، ومن حَقِّك أن أُقَرِّب خُطاك، قال: وكيف؟ قلت: أنا قاتل أبيك، وأنا إبراهيم بن سليمان، فخذ بثأرك مني، فنظر إلي وقال: أحسب أن الاختفاء قد أضرَّ بك فاخترتَ الموت، فقلت: لا والله، فأنا قتلتُه في اليوم الفلاني بسبب كذا وكذا، فلما علم أني قاتلُه أطرق مفكرًا، واحمَرَّت عيناه ووجهه، ثم رفع رأسه وقال: أما أنت فستلقى ربك، وأبي فيأخذ له بحقِّه منك، وأما أنا فلا أُخفِر ذِمامي، فأخرج فلستُ آمَنُ نفسي عليك بعدها، فخرجتُ وأتبعني بألف دينار وقال: أنت ابنُ نِعمة فاستعن بها على طُرُقك، فلم أقبلها، فهذا أكرم مَن رأيت (¬2). ¬

_ (¬1) في (ص): وفيها أن لسليمان ابن يقال له إبراهيم له قصة عجيبة حكاها الزُّبير بن بكار وذكرها أبو القاسم الدّمشقيُّ قال. (¬2) "تاريخ دمشق" 2/ 436 (مخطوط)، وجاء بعد هذا في (ص): انتهت ترجمته والله أعلم، السنة المئة من الهجرة.

سهل بن عبد العزيز بن مروان

وأمَّا يَحْيَى وعبيد الله ابنا سليمان فأُمُّهما عائشة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفَّان. وأما أمُّ أيوب بنت سليمان فكانت عند عبد العزيز بن الوليد، فماتت في حياة سليمان. أسند سليمان بن عبد الملك الحديث عن أبيه، وعبد الرحمن بن هُنَيدة، وروى عنه ابنه عبد الواحد بن سليمان، والزُّهري. سهل بن عبد العزيز بن مروان كان فاضلًا زاهدًا، روى الحديث عن أبيه، وروى عنه معاوية بن الريَّان. عبد الله بن محمد بن الحَنَفيَّة كنيته أبو هاشم، وأمُّه أم ولد، وهو من الطبقة الثالثة من تابعي أهل المدينة. وكان صاحب علم ورواية، ثقة، قليل الحديث. وكانت الشيعة يتولَّونه، وكان بالشام مع بني هاشم، فحضرته الوفاة، فأوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وقال: أنت صاحب هذا الأمر، وهو في ولدك، وصرف الشيعة إليه، ودفع كتبه إليه، ومات بالحُمَيمة في خلافة سليمان بن عبد الملك (¬1). وقال الهيثم: جرت بينه وبين زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب مُنازَعة في صدقات علي عليه السَّلام، وكان قد شرط في صدقته أنها تكون إلى ذي الذين والفضل من أكابر ولده، فانتهت إلى زيد بن الحسن، فنازعه فيها أبو هاشم وقال: أنا وأنت في النسب إلى جدنا سواء، وإن كانت فاطمة ولدتك ولم تلدني فإن هذه الصدقة ليست لفاطمة، وإنَّما هي لجدّي، وأنا أعلم بالكتاب والسنة وأفقه منك. فخرج زيد من المدينة، فقدم على الوليد بن عبد الملك بدمشق، فكثَّر على أبي هاشم، وأعلمه أن له شيعة بالعراق يتخذونه إمامًا، وأنَّه يدعو إلى نفسه حيث كان، ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 322.

فوقر ذلك في صدر الوليد، وصدَّق زيدًا، وحمله منه على النصيحة، وتزوج نَفيسة بنت زيد بن الحسن. وكتب الوليد إلى عامله بالمدينة بإشخاص أبي هاشم فأشخصه، فلما وصل إلى باب الوليد أمر بحبسه، فأقام مدة، فوفد علي بن الحسين زين العابدين على الوليد بسببه، فقال علي للوليد: ما بال آل أبي بكر وعمر وعثمان يتقربون بآبائهم فيُكْرَمون، وآل رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يتقربون بآبائهم فيُهانون؟ علام حبستَ ابن عمي أبا هاشم؟ ! فذكر له الوليد ما قال زيد فقال: إن بينهما منازعة في صدقة علي، فحمله ذلك على أن رماه عندك بالبُهتان، فصدّقه الوليد وأطلق أبا هاشم (¬1). ذكر وفاته: قال الواقدي: قدم أبو هاشم على سليمان بن عبد الملك، فأكرمه، وقضى حوائجه، وأُعجب بفصاحته وقال: ما كلَّمني قُرشيٌّ قط بمثل هذا، وإني لأظنّه الذي أُخبرنا عنه أنَّه يكون منه كذا وكذا، ووصله وأحسن جائزته، فخرج من دمشق يريد فلسطين، فأرسل سليمان مولى له أديبًا فطنًا، فسبق أبا هاشم إلى بلاد لَخْمٍ وجُذام، فواطأ قومًا منهم، فضربوا أبنيةً على الطَّريق كهيئة الحوانيت، بين كل واحد والآخر أقلّ من ميل، وأعدُّوا عندهم لَبنًا مسمومًا. فمرَّ بهم أبو هاشم راكب على بغلته، فجعلوا ينادون: الشَّراب الشَّراب، اللَّبَن اللَّبن، فتاقت نفسُ أبي هاشم إلى اللبن فقال: هاتوا من لبنكم فناولوه قَدَحًا فشربه، فلما استقرَّ في جوفه وتجاوزهم قليلًا أحسن بالموت، وعلم أنَّه قد اغتيل، فقال لمن معه: أنا ميت، انظروا الذين سقوني اللبن، فعادوا إليهم فلم يجدوا أحدًا، فقال أبو هاشم: ميلوا بي إلى ابن عمي محمد بن علي بالحُمَيمَة -والحميمة من أرض الشراة- فمالوا به إليهم، فأخبرهم أنَّه سُمَّ في لبن غِيلة، وقال: إن هذا الأمر سائر إلى ولدك، وأوقف محمدًا على كتب الشيعة، وأعطاه علامات، ومات عنده (¬2). ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 6/ 599 - 600 (مخطوط). (¬2) "أنساب الأشراف" 2/ 555 - 556، و"مختصر تاريخ دمشق" 13/ 301 - 302.

عيسى بن طلحة

وقال مصعب الزُّبيري: مات أبو هاشم بالحِجْر من بلاد ثمود. وقال عيسى بن علي: مات في عسكر الوليد. وقال أبو مَعْشر: والذي سمَّه الوليد، والأول أصح (¬1). ذكر أولاده: كان له من الولد هاشم وبه كان يُكنى، ومحمد الأصغر لا بقية له، وأمهما أم خالد بنت علقمة (¬2) بن الحُوَيرث، من بني كنانة. ومحمد الأكبر ولبابة، وأمهما فاطمة بنت محمد بن عبيد الله بن العباس. وعلي، وأمُّه أم عثمان من قُضاعة. وطالب، وعون، وعُبيد الله لأمهات أولاد. ورَيطة، وهي أم يَحْيَى بن زيد بن علي المقتول بخراسان، وأمها رَيطة بنت الحارث بن نَوْفل بن الحارث بن عبد المطَّلب. وأمُّ سَلَمة لأم وَلَد. قال الزُّبير: وقد انقرض ولد أبي هاشم إلَّا من قِبَل النساء. عيسى بن طلحة ابن عُبيد الله التَّيمي، كان من حُلَماء قريش وساداتهم، ووفد على معاوية، وأمُّه سُعْدى بنت عوف بن خارِجَة، من قيس عَيلان. وهو من الطبقة الثَّانية من أهل المدينة. وقيل له: ما الحِلم؟ قال: الذُّل. وكان صديقًا لعروة بن الزُّبير. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ دمشق" 6/ 600 - 601، ومختصره 13/ 301، و "تهذيب الكمال" (3532)، و "السير" 4/ 129 - 130. (¬2) في "طبقات ابن سعد" 7/ 321: وأمهما بنت خالد، وفي "نسب قريش" 76: فولد أبو هاشم عبد الله بن محمد: هاشمًا ومحمدًا الأكبر، أمهما خلدة بنت علقمة.

القاسم بن مخيمرة الهمداني

دخل رجل على عيسى وهو ينشد: [من الطويل] يقولون لو عَذَّبْت قلبَك لارْعوى ... فقلتُ وهل للعاشقين قلوبُ عَدِمْتُ فؤادي كيف عَذَّبَه الهوى ... أما لفؤادي من هَواكِ نَصيبُ فقام الرجل، فأسبل إزاره، ومضى إلى باب الحجرة يتبختر، ثم رجع كذلك إلى عيسى فقال: أحسنتَ والله، فضحك عيسى وجلساؤه من طَرَبه. وقال عبد الله بن مُسلم بن جُندب: طَرَقَني عيسى بن طلحة في الليل، فأشرفت عليه وقلت: ما لك؟ فقال: إن جاريةً ابنِ حمران غَنَّتني لك: [من الطَّويل] تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كلّ عينٍ لا تنامُ طَويلُ فوَيلي وعَوْلي فَرِّجوا بعضَ كُربتي ... وإلا فإني مَيِّتٌ بغَليلي وجئتُك أعينُك على طول الليل، فقلت: أدى الله عنك الحق، أبطأتَ عليَّ حتَّى أتى الله بالفَرج (¬1). توفي عيسى في خلافة عمر بن عبد العزيز، وحدَّث عن أبي هُريرة وأبيه، وعن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو وغيرهم. وروى عنه الزُّهريّ، وكان ثقة كثير الحديث (¬2). القاسم بن مُخَيمِرَة الهَمداني من الطبقة الثَّانية من التّابعين من أهل الكوفة. وكان مؤدِّبًا، وكان يدعو بالموت، فلما نزل به كرهه، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكان ثقةً وله أحاديث (¬3). وكان عالمًا، زاهدًا، إمامًا، وَرِعًا. قال: ما اجتمع على مائدتي لونان من طعام، ولا أغلقتُ بابي ولي خلفَه هَمّ. ¬

_ (¬1) "اعتلال القلوب" 346، و "تاريخ دمشق" 14/ 16 (مخطوط)، وانظر "شرح أشعار الهذليين" 909. (¬2) انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 162، و "السير" 4/ 367. (¬3) "طبقات ابن سعد" 8/ 419 - 420.

قيس بن أبي حازم

قال: وأتيتُ عمر بن عبد العزيز فقضى عني سبعين دينارًا، وحملني على بغلة، وفرض لي في خمسين، فقلت: أغنيتني يا أمير المؤمنين عن التجارة، ثم سألني عن حديث فقلت: هِنتني يا أمير المؤمنين، كأنه كره أن يحدثه على هذا الوجه (¬1). وكان القاسم يكره صيد الطير أيَّام فِراخه. أسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعن خلق من التّابعين (¬2). قيس بن أبي حازم عَوف بن عبد الحارث الأَحمَسيّ. من الطبقة الأولى من التّابعين من أهل الكوفة، شهد مع خالد بن الوليد حين صالح أهلَ الحِيرة، والقادسية، وتوفي في آخر خلافة سليمان بن عبد الملك، وروى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وَقَّاص، وابن مسعود، وخَباب، وخالد بن الوليد، وحُذَيفة، وأبي هُريرة، وعُقبة بن عامر، وجرير بن عبد الله، وعَدي بن عَميرة، وأسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهم - (¬3). محمود بن الرَّبيع ابن سُراقة الخَزْرَجي. من الطبقة الخامسة ممن مات رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وهم حُدَثاء الأسنان، وكنيته أبو نعيم، وأمه جَميلة بنت أبي صَعْصَعة من بني النجَّار، وكان يَعقل رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وأدركه. مات محمود في سنة تسع وتسعين وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. أسند عن عِتْبان بن مالك، وعُبادة بن الصَّامت، وروى عنه رجاء بن حَيوَة، والزُّهري، ومَكحول في آخرين. ¬

_ (¬1) "تاريخ أبي زرعة" 1/ 354، و "المعرفة والتاريخ" 2/ 336، و "الحلية" 8/ 82، و "تاريخ دمشق" 58/ 391، و "المنتظم" 7/ 52. (¬2) انظر "تاريخ دمشق" 58/ 383، و "السير" 5/ 201 والمصادر فيهما. (¬3) "طبقات ابن سعد" 8/ 188 - 189، و "تاريخ دمشق" 59/ 145، و "السير" 4/ 198.

نافع بن جبير

وكان له من الولد: إبراهيم ومحمد (¬1). نافع بن جُبَير ابن مُطْعِم بن عَدِيّ بن نَوْفَل بن عبد مَناف بن قُصَيّ، كنيته أبو محمد، وأمه أمُّ قِتال بنت نافع بن ظُرَيب بن عمرو بن نَوْفل. وهو من الطبقة الثَّانية من أهل المدينة، وكان يَخضِب بالسَّواد، ويَربِط أسنانَه بخُرْصان الذَّهَب، ولا يَلْبَس إلَّا البياض، وكان يمشي إلى الحج وراحلته تُقاد خلفَه، وكان من أصحاب زيد بن ثابت، وهو أحد الأئمة، وروى عنه النَّاس، وتُوفّي في سنة تسع وتسعين. وكان له من الولد: محمد، وعمر، وأبو بكر، وأمُّهم أمُّ سعيد بنت عِياض بن عَديّ بن الخِيار. وعلي وأمّه مَيمونة بنت عُبيد الله بن العباس. أسند نافع عن: علي، والعباس، وأبي هريرة، والزبير وغيرهم، وروى عنه الزُّهريّ، وعمرو بن دينار، والنَّخَعي، والشَّعْبي، وخلق كثير، وكان ثقةً (¬2). السنة المئة (¬3) فيها خرجت طائفةٌ من الحَرورِيّة على عبد الحميد بالعراق، فكتب إلى عمر يخبره، فكتب إليه عمر يأمره أن يدعوهم إلى كتاب الله والعمل به وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أعذر في دعائهم كتب إليه: قاتلهم فإن الله لم يجعل [لهم] سَلَفًا يحتجُّون به علينا، فبعث إليهم عبد الحميد جيشًا فهزموه، فلما بلغ عمر بعث إليهم مَسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشُك جيشُ السوء، وقد بعثت إليك مَسْلمة بن عبد الملك، فحُلْ بينه وبينهم. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 6/ 564، و "تاريخ دمشق" 66/ 286، و "المنتظم" 7/ 52، و "السير" 3/ 519 والمصادر في حواشيها. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 203 - 205، و "تاريخ دمشق" 17/ 498، و "السير" 4/ 541. (¬3) ليس في (ص) من هذه السنة سوى ترجمة خارجة بن زيد.

فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم يَنْشبوا أن ظهر عليهم، فلقد مات عمر وفي حبسه منهم عِدة. وقال البَلاذُري: خرج بِسْطام بن مُرَيّ اليَشْكُرِي في زمن عمر، ولقبه شَوْذَب، فقال لقومه: إن هذا الرجل يأمر بالعدل ويعمل به، فادعوه إلى أمركم، وما أنتم عليه من البراءة من عثمان وعلي ومعاوية، وما حكم به الحَكَمان، وأن لا حكم إلا لله، فكتبوا إليه بذلك، فكتب إليهم: من عبد الله عمر إلى العصابة الخارجين بزَعْمِهم يلتمسون الحق، أما بعد، فإن الله سبحانه لم يُلَبس على العباد أمورَهم، ولم يتركهم سُدى، ولم يجعلهم في عَمياء، حتَّى أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فبعث محمدًا - صَلَّى الله عليه وسلم - بشيرًا ونذيرًا، وأنزل عليه كتابًا حَفيظًا؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد وقفتُ على كتابكم، وما دعوتموني إليه. فأمَّا التَّبَرُّؤ من الصّحابة فمعاذ الله، كيف أتبرَّأ من قوم أخبرني الله في كتابه العزيز أنهم سبقونا بالإيمان، وأمرنا أن نستغفر لهم، وسألتموني ردَّ ما حكم به من كان في صدر الأمّة، وقولكم: لا حكم إلا لله، فأقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] وقد خاب مَن دُعي إلى الحقّ ولم يُجب. ثم ختم الكتاب بقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الآية [يوسف: 108] وبعث بالكتاب مع عَوْن بن عبد الله بن عُتبة بن مَسعود الهُذَليّ ومحمد بن الزُّبير الحَنْظَليّ، وقال لهما: ادعوهم إلى الجماعة، وردُّوهم إلى كتاب الله، واضمنا عني ما طلبوا من العمل به. فلما قَدِما عليهم دفعًا إليهم كتاب عمر، فلما وقفوا عليه قالوا: نبعث إليه برجلين يُكلِّمانه، فإن أجاب فذاك، وإن أبي فالله من ورائه، فقال لهم عون: أيَّتُها العِصابة، إنا قد أقمنا من كتاب الله ما قد حَفِظنا، وعَمِلنا بما عَلِمنا، فهل عندكم من علم فتُخرجوه لنا؟ ! قالوا: نعم، نكَفِّر أرباب الذنوب، قال: ولمَ؟ قال:

لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فقال: أخطأتم في التأويل؛ لأنَّ المراد من الآية الجَحْد، أما التأويل بأن يقع حدٌّ فيَدْرَأه عن صاحبه فليس بكفر، قالوا: فإن عُمَّال صاحبكم يظلمون، وقد قال الله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] قال: فتولوا أنتم أعماله، قالوا: نعمل له فنَشْرَكه فيما هو فيه؟ قال: فكونوا أُمَناء على العمال، أي عامل عمل بغير الحق فاعزلوه، فقالوا: نبعث معكما رجلين. فبعثوا معهما رجلًا من بني يَشْكُر، ورجلًا من الموالي يقال له: عاصم، حَبَشيّ، فقوموا على عمر وهو بخُناصِرة في غرفة له، وعنده ابنُه عبد الملك وكاتبه مُزاحِم مولاه، فدخلا على عمر فأخبراه بوصول الرجلين فقال: فتِّشوهما، ففتَّشوهما فلم يجدوا معهما حديدًا، فأذِن لهما. فدخلا عليه فقالا: السَّلام عليك، فردَّ عليهما وأَذِن لهما بالجلوس، فجلسا، فقال عمر: ما الذي نَقَمتُم علينا؟ فقال عاصم: أخبِرْنا عن قيامك بهذا الأمر، أعن تَراضٍ من الأمة أم ابتزَزْتَهم أمرَهم؟ فقال: ما سألتُهم إياه، ولا غلبتُهم عليه، وإنَّما عهده إليَّ رجل لم أسأله إياه لا في سِرٍّ ولا في علانية، فقمتُ فيه قيامَ مُكْرَه، فلم يُنْكره أحدٌ غيركم. فقال له اليَشْكُريّ: رأيناك خالفْتَ أهلَ بيتك، وسمَّيتَ أفعالهم مظالم، وسلكتَ غير طريقهم، فإن كانوا على ضلالةٍ وأنت على هُدَى؛ فالعنْهم وتبرأ منهم ونحن موافقوك، فقال عمر: زعمتم أن لَعْنَ الظالمين فريضة، فمتى لعنتُم فرعون؟ فقال عاصم: ما أعلم أني لعنتُه، قال: ففرعون كان أخبثَ العالم ولم تَلْعَنْه، أفألعنُ أنا أهلَ بيتي وهم مسلمون مُصَلّون إن كانوا ظالمين، فكفى بذلك ذَمًّا ونَقْصا، أليس أن أبا بكر سَفَك دماء أهل الردَّة، وأخذ أموالهم، وسبى ذَراريهم؟ قالا: بلى، قال: أليس عمر ردَّ السَّبايا بعده إلى عشائرهم بفِدية، فهل تبرَّأ عمر من أبي بكر؟ قالا: لا، قال: فأنتم تزعمون أن أبا بكر وعمر من أسلافكم، وقد فعلًا ما فعلًا، ولم تتبرَّؤوا منهما، أفأتبرَّأ أنا من أهلي؟ أليس من أسلافكم مَن سفك دم عبد الله بن خَبَّاب، وبقروا بطنَ امرأته، وقتلوا وأخذوا المال؟ قالا: بلى، قال: فهل تبرَّأتم منهم؟ قالا: لا، قال: فأهلي لم

يفعلوا مثل ذلك؛ ومع هذا ما تبرَّأتُم منهم، فكيف أتبرَّأ من أهلي؟ ثم بكى عمر، فقالا: نشهد أنك على الحق، وأنك تتحرَّى الخير والعدل والصدق. ثم مضيا إلى الخوارج، وحكيا لهم ما جرى فقالوا: كُفُّوا عن هذا الرجل ما كَفَّ عنكم، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: ما خصموني إلَّا بيزيد بن معاوية، فأستغفر الله. ثم رحل بِسطام فنزل حَرَّة؛ مكانًا بأرض الموصل، وعاد عاصم الحَبشيّ إلى عمر - رضي الله عنه - فأقام عنده، فأمر له بعطاء، فمات بعد خمسة عشر يومًا (¬1). وفيها ولَّى عمر - رضي الله عنه - عُمر بن هُبَيرة الفَزاري عاملًا على الجزيرة، فسار إليها فضبطها، ورحل الخوارج إلى أرمينية. وكان بالجزيرة سِنان بن مُكمِّل النُّميري، فركب سنان يومًا على بغلة، فساير عمر بن هُبَيرة فزَحَمَتْه، فقال له عمر: غُضَّ من عِنان بغلتك، فقال له سِنان: إنَّها مكتوبة، فخجل عمر. وذلك لأنَّ عمر أراد أن يُخْجِل سِنانًا بقول القائل: [من الوافر] فغُضِّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا سَعدًا بلغْتَ ولا كِلابا فَخجّله سِنان، وأراد قولَ القائل: [من البسيط] لا تأمَنَنَّ فَزاريًّا خَلوتَ به ... على قَلُوصِك واكتُبها بأسيارِ (¬2) وفيها تزوج محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الحارثيَّة، فولدت له [أبا] العباس السفَّاح في سنة أربع ومئة. وفيها حُمل يزيد بن المُهَلّب إلى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. قال هشام بن محمد: إن عمر - رضي الله عنه - لما عزل يزيد عن خُراسان جاء إلى واسط، وكان عَديُّ بن أَرْطاة أميرًا على البصرة، فركب يزيد السُّفُن يريد البصرة ليلحق بأهله وأمواله، فأرسل عَديُّ بن أَرْطاة موسى بنَ الوجيه الحِميَريّ، فلحقه بنهر مَعْقِل قريبًا من جسر البصرة، فأوثقه، وبعث به إلى عمر. ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 151 - 157. (¬2) "العقد" 2/ 468. والبيت الأول لجرير من قصيدته المشهورة، والثاني لسالم بن دارة.

وكان عمر - رضي الله عنه - يبغض آل المهلب ويقول: هم جبابرة، وكان يزيد يكره عمر ويقول: هو مراءٍ. دخل يزيد يومًا على سليمان وهو يخطر بيده، فقال: إن هذه مِشية يكرهها الله، فقال سليمان لعمر: لا تقل هذا، فقال عمر - رضي الله عنه -: والله إن في رأسه لغَدْرَة، فأغلظ يزيد لعمر وقال: ماذا لَقِينا من لَطِيم الحمار المرائي، فلما ولي عمر - رضي الله عنه - علم يزيد أنَّه كان بعيدًا عن الرياء. وفي رواية أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى عدي بأن يبعث بيزيد إليه موثقًا، فبعث به عديّ مع وكيع بن حسَّان بن أبي سُود التَّميمي مَغلولًا مقيَّدًا في سفينة، فلما انتهى به إلى نهر أبان عوض له أناس من الأزد ليُخلّصوه، فوثب وكيع فقطع قَلْس السفينة، وانتَضى سيفَه، وحلف [بطلاق] زوجته لئن لم يتفرقوا ليضربنَّ عُنُقَ يزيد، فأشار إليهم يزيد فتفرقوا وجاء وكيع بيزيد إلى عين التَّمْر وهناك جند فسلّمه إليهم، فساروا به إلى الشام، ورجع وكيع إلى البصرة (¬1). وقال الهيثم: لما ولي عمر بن عبد العزيز وقف على كتاب يزيد بن المهلب إلى سليمان -الكتاب الذي ذكر فيه حديث المال والفتوح، ولم يقف سليمان عليه- فكتب عمر إلى يزيد: أما بعد، فإن سليمان كان عبدًا من عبيد الله، قبضه الله إليه عند انقضاء أجله، ثم وَليتُ الأمرَ بعده، فبايع مَن قِبَلك، والسلام. فلما قرأ يزيد كتابه قال: الرجل عازلُنا لا مَحالة، ثم كتب إليه عمر - رضي الله عنه - كتابًا آخر يأمره بالقُدوم عليه، وأن يستخلف ابنَه مخلد بن يزيد على عمله، فخرج ومعه وجوه أهل خُراسان، وكان وكيع بن حسَّان بن أبي سُود محبوسًا عنده فحمله معه، وكان في عزم يزيد العصيان على عمر - رضي الله عنه -، فلما دخل واسط أراد أن يقصد البصرة؛ وبها عَديّ ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 556 - 558 وما بين معكوفين منه، و "أنساب الأشراف" 7/ 234 - 236، و "المنتظم" 7/ 56.

ابن أرطأة عامل من قبل عمر - رضي الله عنه -، وعلم عدي فأرسل موسى بن الوَجيه الحِمْيَريّ في جيش، فأدركوه عند نهر مَعْقِل فأوثقوه. وقال المدائني: لما وصل يزيد إلى واسط وجد عديَّ بن أرطاة قد أقبل واليًا عَلى العراق وهو في سفينة، فصعد عديّ فدخل دار الإمارة، واستدعى بيزيد فقيَّده، وبعث به إلى عمر - رضي الله عنه -. وقال هشام بن محمد: لما دخل يزيد على عمر سلَّم عليه بالخلافة، فرد عليه وقال: أين الأموال التي كتبتَ بها إلى سليمان؟ فقال يزيد: ما عندي مال، فقال عمر: فهذا كتابك إلى سليمان بفتوح جُرْجان وطَبَرِسْتان ودِهِسْتان، وأنَّ قِبَلَك ستة آلاف ألف درهم، أو ما هذا كتابُك؟ قال: بلى، وما قصدتُ به إلَّا السُّمعة بتعظيم الفتح عند النَّاس، فقال عمر: قد صار ذلك حقًّا واجبًا للمسلمين، ولا يَسَعني تركُه، فأصرَّ يزيد على الإنكار، فأمر بحبسه، فمرض في الحبس، فأمر عمر بفكّ قُيوده. وبعث عمر - رضي الله عنه - على خراسان الجرَّاح بن عبد الله الحَكَميّ، وقفل عنها مَخْلَد بن يزيد؛ لا يمرُّ بكُورَةٍ إلَّا وفرَّق فيهم أموالًا عظيمة حتَّى قدم على عمر بن عبد العزيز، فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد صنع لهذه الأمة بولايتك عليها، وقد أبتُلينا بك، فلا نكن أشقى النَّاس بولايتك، علام تحبس هذا الشَّيخ؟ إنما أتحمَّل ما عليه فصالِحْني على البعض، فقال عمر - رضي الله عنه -: لا، إلَّا أن تحمل جميعَ ما كتب به إلى سليمان، فقال له مَخْلَد: يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بيِّنة فخُذْ بها، وإن لم تكن لك بَيِّنة فصدِّق مقالةَ يزيد وإلا فاستَحْلِفْه، فقال عمر: لا، إلَّا أن يأتي بجميع المال الذي كتب به بخطه، فإن خطَّه شاهد عليه. وخرج مَخْلَد من عند عمر - رضي الله عنه -، فقال عمر: هذا خير عن أبيه، فلم يلبث مخلد حتَّى مات عند عمر وأبوه في الحبس. ولما أصرَّ يزيد على الامتناع بعث إليه عمر يقول: أدِّ المال واذهب حيث شئت؛ فإنَّك لستَ بفاجر، فنال من عمر وأغلظ للرسول، فقال عمر: ألبِسوه جُبَّةَ صوف،

واحملوه على جَملٍ إلى دَهْلَك، فألبسوه الجُبَّة، وحملوه على الجمل، فلما خرجوا به ومرُّوا على النَّاس أخذ يقول: أمالي عشيرة، أمالي قوم، أيُذْهَب بي إلى دَهْلَك؛ وإنَّما يُذهَب إليها بالفُسَّاق والمحاربين وأهل الريب؟ ! فدخل سلامة بن نُعَيم الخَولانيّ على عمر وقال: يا أمير المؤمنين، ارْدُدْ يزيد إلى محبسه، فإني أخاف إن ذُهب به أن ينتزعه قومه، فإني رأيتُهم قد غضبوا، فردَّه إلى الحبس. وقَدِمت هند بنت المهلَّب على عمر - رضي الله عنه - وهو بخُنَاصِرة فقالت: يا أمير المؤمنين، علام حبستَ أخي؟ قال: خفتُ أن يشقَّ عصا المسلمين، قالت: فالعقوبة إنَّما تكون بعد الذَّنب لا قبلَه (¬1). وهذه هند ذكرها ابن أبي الدُّنيا في كتاب "الفوائد" قال: ذكرت امرأة عند هند بنت المهلب بجَمَال، فقالت هند: ما تحلَّينَ بحِليةٍ -يعني النساء- أحسن عليهن [من] لُبِّ طاهر تحته أدبٌ كامل. وقالت: إذا رأيتم النِّعَم مُسْتَدرَّة فبادروها بالشُّكر قبل حلول الزَّوال. وقالت أم أيوب بن صالح: كُنَّا إذا دخلنا على هند وهي تسبّح باللؤلؤ، فإذا فرغت من التَّسبيح ألقَتْه إلينا وقالت. اقتسمنَه بينكن. وقالت هند: الطاعة مَقرونةٌ بالمحبَّة، فالمُطيع محبوبٌ وإن نَأَتْ دارُه، والمعصية مقرونة بالبُغض، فالعاصي مَمقوت وإن قَرُبَت دارُه، ومَسَّك مَعروفُه (¬2). وقالت مولاة لهند إنَّها دخلت عليها ذات يوم وهي تقرأ. {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21] وتحكي حتَّى غُشي عليها. وقالت هند: إن للكريم أخلاقًا لا يقدر على تغييرها، وكذا اللئيم. وقالت: ليس بعد بَذْلِ الوجه غاية، ولا وراءه نهاية. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 463 - 464 (تراجم النساء). (¬2) "تاريخ دمشق" 462 - 466.

ودَبَّرت هند مَمْلوكًا ثم كرهت بعضَ حالاته، فأرسلت إلى عكرمة مولى ابن عباس تقول: إذا دَبَّر المولى مملوكًا ثم كره بعض أمره؛ أله أن يبيعه ويجعل ثَمنَه في غيره أو في مثله؟ فقال عكرمة: إن كان المكروه منه شيئًا من معاصي الله بيع وجُعل ثمنُه في مثله، وإن كان من مساوئ الأخلاق أقرَّه على أمره. فقالت هند: أخطأ عكرمة، أبعد أن جَرت فيه أسبابُ الحريّة يجوز التصرُّف فيه؟ ! ما كلُّ العبيد لله مطيع، ثم قالت للمدبَّر: غيِّب وجهَك عني، فأنت حرٌّ لوجه الله. وهي التي سألت الحسن فقالت: يا أبا سعيد, أينظر الرجل إلى شعر أخته، أو إلى عُنُقها، أو إلى قُرْطها؟ قال: لا ولا كرامة. وكانت زوجةَ الحجاج، فطلَّقها لما صاحت عند تعذيب أخيها يزيد. روت عن أبيها المهلَّب، والحسن البصري، وأبي الشَّعثاء جابر بن زيد وغيرهم. وفيها كانت زلازل بالشام هَدمت الدُّور والقِلاع، فكتب عمر - رضي الله عنه - إلى الأمصار، وواعدهم يومًا بعينه يخرجون إلى المصلَّى، ثم خرج بنفسه في ذلك اليوم، وخرج معه النَّاس، فدعا وتضرَّع وبكى، فسكنت الزَّلازل. وفيها عزل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الجرَّاح بن عبد الله عن خراسان، وولّاها عبد الرحيم بن نُعَيم القُشَيري، فكانت ولاية الجرّاح عليها سنة وخمسة أشهر، قدمها في سنة تسع وتسعين، وفارقها في رمضان سنة مئة، وسبب عزله أنَّه جنى على أهل خُراسان وغلَّظ عليهم، فقدم على عمر جماعة فقالوا: يا أمير المؤمنين، عشرون ألفًا من الموالي يَغزون بلا عطاء، ومثلهم من [أهل] الذّمَّة قد أسلموا يؤخذ منهم الخراج، ثم ولَّيت علينا سيفًا من بقايا سيوف الحَجَّاج، يعمل بالظلم والعدوان. فكتب إليه عمر: انظر مَن قِبَلَك ممن يُصلِّي إلى القبلة فضع عنه الجزية، فتسارع النَّاس إلى الإسلام، فقيل للجراح: إنما أسلموا تعوُّذًا من الجزية، فامتحنهم بالخِتان، فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه: إن الله بعث محمدًا - صَلَّى الله عليه وسلم - داعيًا ولم يبعثه خاتنًا، وكتب إليه أن اقدم علينا، فقال الجراح: يا أهل خراسان، إنَّما جئتكم بثيابي هذه التي علي وفرسي، ولم أصب من مالكم شيئًا.

ثم سار حتَّى قدم على عمر في شهر رمضان، فقال: متى خرجتَ من خراسان؟ فقال: في رمضان، فقال: صَدق مَن وصفك بالجَفاء، هلَّا أقمت حتَّى تُفطر ثم تخرج. وفي رواية: أن الجراح لما قدم خراسان كتب إلى عمر: إنِّي قدمتُ خُراسان؛ فوَجدتُ بها قومًا قد أبْطَرتْهم الفتنة، فهم ينزون فيها نزوا، أحبُّ الأمور إليهم أن يعودوا فيها ليمنعوا حقَّ الله، فليس يكفّهم إلَّا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلَّا بأمرك. فكئب إليه عمر: يا ابن أمِّ الجَرَّاح، أنت أحرصُ على الفتنة منهم، لا تضربنَّ مُسلمًا ولا مُعاهدًا سوطًا إلَّا في حق، واحذر القِصاص؛ فإنَّك سائر إلى مَن يَعلم خائنةَ الأعين وما تُخفي الصدور، وتقرأ كتابًا لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرة إلَّا أحصاها، والسلام. ثم عزله وولى عبد الرحمن بن نُعَيم القُشَيريّ (¬1) بعد أن استشار أصحابه فأشاروا به، فولاه وكتب إليه: أما بعد، فكن عبدًا ناصحًا لله في عباده، ولا تأخذك في الله لَومةُ لائم؛ فإن الله أولى بك من النَّاس، وحقُّه عليك أعظم، وإياك أن تميل إلى غير الحقِّ أو قولِ غير أهل الأمانة والنَّصيحة، فإن الله لا تخفى عليه خافية، ولا مَلجأ من الله إلَّا إليه. فأقام عبد الرحمن على خراسان حتَّى مات عمر - رضي الله عنه - وقُتل يزيد بن المهلَّب، وعَزله مسلمة بن عبد الملك، وولاها لسعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحَكَم، فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف، وليها في رمضان سنة مئة، وعُزل عنها سنة اثنتين ومئة. وفي هذه السنة كان أول دعوة بني العباس، قال علماء السير: بعث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس من أرض الشَّراة جماعةً إلى خراسان دعاةً لبني هاشم؛ منهم أبو عكرمة السَّرَّاج، وأبو محمد الصادق، ومَيسرة، وعلى خراسان الجَرَّاح بن عبد الله الحَكَميّ لم يكن عُزل بعد، فأمرهم بالدُّعاء إلى أهل بيته، فأوصلوا الكتب إلى أربابها ¬

_ (¬1) في النسخ: عبد الرحمن بن عبد الله القشيري، وهو خطأ، والمثبت من الطبري 6/ 558، و "المنتظم" 7/ 57.

بسر بن سعيد

وعادوا بالجواب، واختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثني عشر نقيبًا -كما فعل موسى عليه السَّلام، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - وهم: سليمان بن كثير الخُزاعيّ، ولاهِز بن قُرَيظ التَّميمي، وقَحْطَبة بن شَبيب الطَّائي، وموسى بن كعب التَّميميّ، وخالد بن إبراهيم أبو داود الشَّيباني، والقاسم بن مُجاشِع التميمي، وعمران بن إسماعيل أبو النَّجم مولى آل أبي مُعَيط، ومالك بن الهَيثم الخُزاعيّ، وطلحة بن رُزَيق الخُزاعيّ، وأبو حمزة عمرو بن أَعين (¬1) مولى خُزاعة، وشِبْل بن طَهمان أبو علي الهَروي مولى لبني حَنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة. وحجَّ بالنَّاس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم بالاتّفاق. وكان العمال في هذه السنة على ما كانوا عليه إلَّا خُراسان. وفيها توفي بُسْر بن سعيد مولى الحَضْرَميِّين، وهو من الطبقة الثَّانية من موالي أهل المدينة، وكان من العُبَّاد المُطيعين، وأهل الزهد في الدُّنيا، ثقةً، كثير الحديث، وَرِعًا. وكان قد أتى البصرة في حاجة له، ثم أراد الرُّجوع إلى المدينة فرافقه الفرزدق الشاعر، فلم يشعر أهل المدينة إلَّا وقد طلعا عليهم في مَحمِل، فعجب أهل المدينة لذلك، وكان الفرزدق يقول: ما رأيتُ رفيقًا خيرًا من بُسر، وكان بسر يقول: ما رأيتُ رفيقًا خيرًا من الفرزدق. مات بُسر بالمدينة سنة مئة وهو ابن ثمان وسبعين سنة. وكان ينزل دار الحَضْرَمِيّين ببني حُدَيْلة، ولم يدع كفنًا، ومات عبد الله بن عبد الملك بن مروان وترك ثمانين مُدْيًا ذهبًا، فبلغ عمر بن عبد العزيز موتهما فقال: والله لئن كان مدخلهما واحدًا؛ لأنَّ أعيش بعيش بُسْر أحبّ إليَّ من أن أعيش بعيش ¬

_ (¬1) في النسخ: عمرو بن أبي أعين، والمثبت من الطبري 6/ 562.

حنش بن عبد الله

عبد الله، فقال له مسلمة بن عبد الملك: هذا والله الذَّبْحُ عند أهل بيتك، فقال له عمر: والله لا ندع أن نذكر أهلَ الفضل بفضلهم. روى بُسر عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن أُنَيس، يزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخُدريّ، وعبيد الله الخَوْلانيّ، وكان الخولاني في حجر مَيمونة بنت الحارث زوج رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - (¬1). حَنَش بن عبد الله ابن عمرو بن حَنْظَلة الشيباني، من الطبقة الأولى من الأبْناء ممن كان باليمن بعد الصّحابة، ثم تحوَّل إلى مصر، وقد روى عنه المصريون، ومات بها، وكنيته أبو الأشعث (¬2). كان حَنَش بن عبد الله الصَّنْعانيّ من أصحاب علي عليه السَّلام، وغزا المغرب بعدما استُشهد علي رضوان الله عليه مع رُوَيفع بن ثابت، وغزا الأندلس مع موسى بن نُصَير، وكان فيمن ثار على عبد الملك بن مروان مع ابن الزُّبير، فأُتي به عبد الملك في وَثاق، فعفا عنه. وسببه أن عبد الملك لما غزا مع مُعاوية بن حُدَيج في سنة خمسين نزل على حَنَش بإفريقية، فحفظ له ذلك. وكانت وفاة حنش بإفريقية سنة مئة. أسند عن علي رضوان الله عليه، وابن عباس، وفَضالة بن عُبيد، وغزا مع فضالة إفريقية، وروى عن جماعة منهم: رُويفِع بن ثنابن، وأبي هريرة، وأبي سعيد. وروى عنه جماعة منهم: قيس بن الحجاج، وابنه الحارث بن حَنَش بن عبد الله، وكان ثقة كثير الحديث. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 277، و "المنتظم" 7/ 57، والسير 4/ 594. (¬2) كذا، وهو خطأ، فإن كنية حنش بن عبد الله أبو رشدين، وأمَّا أبو الأشعث فهي كنية شَراحيل بن شُرحبيل بن كليب بن آدة، وقد أوردهما ابن سعد في طبقاته 8/ 96 متتابعين، فلعل الوهم وقع للمصنف من ها هنا. انظر "تاريخ دمشق" 5/ 359 (مخطوط)، و "تهذيب الكمال" (1539) و (2697)، و "المنتظم" 7/ 57، و "السير" 4/ 492 و 357.

خارجة بن زيد

وأمَّا حَنَش [الذي من] صنعاء دمشق فاسمُه الحسين بن قيس، وقيل: ابن علي، وحَنَش لقبٌ له، وكُنْيته أبو علي الصَّنْعاني الهَمْدَانيّ (¬1)، سافر إلى العراق، وسكن واسطًا، وحدث عن عكرمة وعطاء بن أبي رَباح، وروى عنه سليمان التَّيميُّ، وعلي بن عاصم، وإسماعيل بن عياش. وقد تكلّموا فيه، فقال ابن المَديني: ليس حديثه عندنا بالقويّ، وقال البُخاريّ: ترك أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - حديثه، وضعَّفه ابن مَعين والنَّسائيُّ والدارقطني (¬2). [وفيها مات] خارجة بن زيد ابن ثابت الأنصاريّ، وأمه جَميلة بنت سعد بن الرَّبيع الخَزْرَجيّ. وخارجة من الطبقة الثَّانية من التّابعين من أهل المدينة، وكذا جميع إخوته، وكنيته أبو زيد، وكان في وجهه أثرُ السُّجود بين عينيه. وقال إبراهيم بن يَحْيَى بن زيد بن ثابت: قال خارجة: رأيت في منامي كأني بَنيتُ سبعين درجة فلما فرغتُ منها تَهَوَّرَتْ، وهذه السنة لي سبعون قد أكملتُها. فمات فيها في سنة مئة في خلافة عمر بن عبد العزيز بالمدينة، وصلّى عليه أبو بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم. وروى خارجة عن أبيه زيد، وكان ثقةً كثير الحديث. وقال هشام: كان من الفقهاء السبعة، وكان مجتهدًا. وقال ابن عساكر: قدم دمشق وكانت له بها دارٌ يقال لها: دار خارجة بن زيد، روى عن أم العلاء الأنصارية، وروى عنه سالم بن عبد الله بن عمر، وهو من أقرانه، والزهري، وأبو بكر بن عبد الرحمن (¬3) وغيرهم. ¬

_ (¬1) فرق المصنف بين حنش بن عبد الله الصنعاني، وحنش المسمى: الحسين بن قيس، وذهب إلى أن الأول من اليمن، والثاني من صنعاء دمشق، على أن ابن عساكر في تاريخه جعلهما من صنعاء دمشق كليهما. انظر "تاريخ دمشق" 5/ 359 و 363 - 364 (مخطوط). (¬2) انظر "تهذيب الكمال" 6/ 465. (¬3) كذا، وهو خطأ، صوابه: عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، انظر "تاريخ دمشق" 5/ 401 (مخطوط)، و "تهذيب الكمال" (1573)، و "السير" 4/ 438.

سهيل بن عبد العزيز

وقال البُخاريّ (¬1): أدرك خارجة عثمان بن عفَّان. ولما بلغ عمرَ بنَ عبد العزيز - رضي الله عنه - موتُه صفَّق بيديه واسترجع وقال: ثُلْمَةٌ والله في الإسلام، [رحمه الله تعالى] (¬2). ذكر أولاده: وهم زيد، وعمرو، وعبد الله، ومحمد، وحَبيبة، وحُميدة، وأمّ يَحْيَى، وأم سليمان، وأمُّهم أم عمرو بنت حَزْم نَجَّارية، وعمه يزيد بن ثابت قُتل يوم اليمامة (¬3). ذكر إخوته: وهم سليمان، وسعد، ويحيى، وسَليط، وعبد الرحمن، وعبد الله، قُتلوا كُلُّهم يوم الحَرَّة سنة ثلاث وستين (¬4). سُهيل بن عبد العزيز ابن مروان، أخو عمر بن عبد العزيز لأبيه، وهو والد عمرو بن سهيل الذي ولي البصرة أيَّام يزيد بن الوليد وقتله محمد بن مروان. قال إسحاق بن يَحْيَى: رأيتُ عمر بن عبد العزيز يصلّي على أخيه سُهيل بن عبد العزيز؛ يرفع يديه في كل تكبيرة حَذْوَ مَنْكبيه، ثم سلّم عن يمينه تسليمًا خفيفًا، ورأيتُه يمشي أمام الجِنازة وذلك بخُناصِرة، ورأيتُه يومئذٍ يحمل بين عَمودَي سريره، وقرأ في الصَّلاة: الحمد لله رب العالمين، فقيل له: ألا تذكّر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ فقال: لو أسرَرْتُها لجَهرتُ بها (¬5). ¬

_ (¬1) في تاريخه الصَّغير 1/ 42. (¬2) بعدها في (ص): السنة الحادية والمئة من الهجرة. وما سلف بين معكوفين منها. (¬3) "طبقات ابن سعد" 7/ 258 و 4/ 318. (¬4) "طبقات ابن سعد" 7/ 259 - 261 وزاد عليهم: إسماعيل وزيدًا. (¬5) "جمهرة ابن حزم" 105، و "طبقات ابن سعد" 7/ 352 - 353.

أبو عثمان النهدي

أبو عثمان النَّهدِيّ واسمه عبد الرحمن بن مَلّ بن عمرو بن عَدي [بن وهب] بن ربيعة الحِميَريّ، والله أعلم (¬1). عبد الملك بن عمر ابن عبد العزيز بن مروان، أمُّه فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، وقال ابن سعد: أمّه أم ولد (¬2). وكان صالحًا زاهدًا، يُعين أباه على إقامة الحق وردِّ المظالم. قال بعض مشيخة أهل الشام: كُنَّا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك. قال إسماعيل بن أبي حَكيم: غضب عمر بن عبد العزيز يومًا فاشتدَّ غضبُه، فقال له ابنه عبد الملك بعد أن سكن غضبُه: يا أمير المؤمنين، أنت في قَدْر نعمة الله عليك، وموضعك الذي وضعك فيه، وما ولاك من أمر عباده، يبلغ بك الغضب ما أرى؟ قال: كيف قلت؟ فأعاد عليه كلامَه، فقال: يا عبد الملك، وأنت ما تغضب؟ فقال: وما تنفعني سَعَةُ جوفي إن لم أُرَدِّد فيه الغضب حتَّى لا يظهر منه شيء أكرهه؟ ودخل عبد الملك على أبيه وعنده مَسْلمة بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، أَخْلِني فلي حاجة، قال: دون عمك مَسلمة؟ قال: نعم، فخرج مَسلمة، فجلس بين يديه وقال: ما أنت قائلٌ غدا لربك إذا سألك فقال: رأيتَ بِدعةً فلم تُمتْها، أو سُنَّة فلم تُحْيِها؟ ! فقال له: يا بني، أشيءٌ حمَّلك الرعية إلي، أم رأي رأيتَه من قِبَل نفسك؟ ¬

_ (¬1) لم يذكر له أخبارًا، وانظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 9/ 96، و "المنتظم" 7/ 60، و "السير" 4/ 175 والمصادر في حواشيهما. (¬2) "طبقات ابن سعد" 7/ 324، ولم أقف على مَن ذكر أن أمه فاطمة، بل ذكر المؤرخون أن أمه أم ولد.

فقال: رأي رأيتُه، وعرفتُ أنك مسؤول عنه، فما تقول؟ فقال أبوه: رحمك الله، وجزاك خيرًا يا بُنيَّ من ولد، فوالله إنِّي لأرجو أن تكون من أعواني على الخير، يا بُنَيّ، إن قومَك شَدُّوا هذا الأمر عُقدةً عُقدة وعُروةً عُروة، ومتى ما أردتُ مُكاثَرتَهم على انتزاع ما في أيديهم؛ لم آمَن أن يَفتقوا عليَّ فَتْقًا تكثُر فيه الدّماء، والله لزَوال الدُّنيا أهونُ عليَّ من أن يُهراقَ بسببي مِحْجَمَةٌ من دم، أو ما ترضى أنَّه لا يأتي على أبيك يومٌ من أيَّام الدُّنيا إلَّا وهو يُميت فيه بِدعة، ويُحيي فيه سُنَّة؛ حتَّى يَحكم الله بيننا وهو أحكم الحاكمين؟ قال ابن أبي عَبْلة: جلس عمر يومًا للناس، فلما انتصف النهار ضَجِر ومَلّ، فقال للناس: مكانَكم حتَّى أنصرف إليكم، ودخل ليستريح ساعة، فجاء ابنه عبد الملك، فسأل عنه فقالوا: دخل، فاستأذن له فقال: يا أمير المؤمنين، ما أدخلك؟ قال: دخلتُ لأستريح ساعة، قال: أوَ أمِنْتَ الموت أن يأتيك ورعيَّتُك على بابك ينتظرونك وأنت مُحتجبٌ عنهم، فقام عمر فخرج إلى النَّاس. وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: الحمد لله الذي جعل لي مَن يُعينُني على أمر ديني؛ ولدي عبد الملك، ومولاي مُزاحِم. وقال مزاحم: كان عبد الملك يقول لأبيه: أنْفِذ الحقَّ وإن جاشت بي وبك القُدور، فقال: يا بني لا تَعجَل؛ فإن الله ذَمَّ الخمر في القرآن مَرَّتَين ثم حرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحملهم على الحقِّ جُملة فيَدفعوه وتكون فتنة، فقال: دع عنك هذا، أقم الحقَّ ولو غَلَت بنا المَراجِل. وقال ميمون بن مِهران: قال لي عمر بن عبد العزيز: إن ولدي عبد الملك آثَرُ وَلَدي عندي، فاستفزَّه لي، ثم ائتني بخبره، فدخلت على عبد الملك، فبينا أنا عنده إذ دخل غلام له فقال: قد أخْلَينا الحمَّام، فقلت له: الحمام لك؟ قال: لا، قلت: فما دعاك إلى طرد المسلمين عنه وتَدخله وحدك، فتكسر على صاحب الحمام غلَّتَه؟ ! فقال: أما

صاحب الحمام فقد أرضيتُه، قلت: فهذه نفقةُ إسراف يُخالطها كِبر، وما يمنعك أن تدخلَه مع النَّاس فتكون كأحدهم؟ فقال: أكره أن أرى العورات بادية، وأكره أن أؤدِّبَهم على ترك الأزر فيبغون على سلطاننا، أراحنا الله منه، وخلَّصنا كفافًا (¬1)، فلقد وَعَظْتَني موعظةً أنتفع بها، ووالله لولا شدَّةُ البَرد لما دخلتُه أبدًا، وأقسمتُ عليك أن تَكتُمَ هذا عن أبي؛ فإني أكره أن يَظلَّ طَرفةَ عين واجِدًا عليَّ، ولعل الأجل يحول دون الرِّضى ويستمرُّ سُخطه (¬2)، فقلت: فإن سألني هل رأيتَ منه شيئًا تنقِم عليه فيه أفتراني أنْ أكذب (¬3)؟ ! قال: معاذ الله، أليس قد أبديتُ أعذاري إليك؟ فإن سألك فقل: رأيتُ عيبًا فسترتُه؛ فإنَّه لا يسألُك عن تفسيره؛ لأنَّ الله تعالى قد أعاذه من بحث ما ستره الله تعالى. وقال ميمون بن مِهران: دخلت يومًا على عبد الملك وبين يديه ثلاثة أَقرِصَة وثَريدة، فرقّ له قلبي وقلت: ألا أُكلِّم أباك ليُجري عليك رزقًا واسعًا؟ ! فقال: والله ما يَسرُّني أن يُجري عليَّ من ماله دون إخوتي الصغار، فكيف يُجري عليَّ من فَيءِ المسلمين؟ ! وقال ميمون: جمع عمر العلماء والفقهاء وقال: ما تَرون في هذه الأموال التي أخذها بنو أميَّة غَصْبًا؟ فقالوا قولًا لم يُحجب عمر، وعبد الملك حاضر فقال: إن لم تردَّها إلى أربابهما كنتَ شَريكًا لمن أخذها، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل لي وزيرًا من أهلي عبد الملك ابني، قال ميمون: وكان النَّاس يَرونه أهلًا للخلافة. ذكر وفاته: قال الواقدي: مات عبد الملك في حياة أبيه سنة مئة وعمره تسع عشرة سنة، وكان شديدَ الورَع، كثيرَ العبادة. وقال هشام بن محمد: ابن ست عشرة سنة. ¬

_ (¬1) كذا، وفي "تاريخ دمشق" 43/ 171 - 172: وكرهت أدبهم على الأزر فينعون ذلك علي سلطانًا خلصنا الله منه كفافًا. (¬2) في النسخ: يحول دون سخطه ويستمر الرضى، وفي "تاريخ دمشق": يحول دون الرضا مما فيه سخطه. (¬3) في "تاريخ دمشق": أتامرني أن أكذب.

وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: مات صبيًّا في حياة والده، ولم يتيقّن مقدار عمره. وقال ابن أبي الدنيا: دخل عمر على ولده عبد الملك في مرضه الذي مات فيه فقال: يا بني، كيف تجدك؟ فقال: في الموت، فقال: يا بني، لأنَّ تكون في ميزاني أحبُّ إليَّ من أن أكون في ميزانك، فقال: يا أبه، لأنَّ يكون ما تُحبّ أحبُّ إليَّ من أن يكون ما أحب. قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثني زياد بن أبي حسَّان أنَّه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك، فاستوى قائمًا، وأحاط به النَّاس فقال: يا بُنيّ، لقد كنتَ والله بارًّا بأبيك، والله ما زلتُ منذ وَهَبك الله لي مَسرورًا بك، ولا والله ما كنتُ قط أشدّ سرورًا، ولا أرجى لحظِّي من الله فيك مُذْ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه، فرحمك الله، وغفر لك ذنبك، وجزاك بأحسن عملك، ورحم كلّ شافعٍ يشفع لك بخير من كل شاهدٍ وغائب، رضينا بقضاء الله وسلَّمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين. وقال أبو اليقظان: لما دفن عمرُ ابنَه وكاد أن يَنصَدِع عن قبره قال له محمد بن الوليد بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، اشتغل بما أقبل من الموت إليك عمن هو في شغل عنك، وأعدَّ لنزولك (¬1) عُدَّةً تكون لك حجابًا من النَّار، ثم أنشد (¬2): [من الطَّويل] تَعَزَّ أميرَ المؤمنين فإنَّه ... لما قد تَرى يُغْذَى الصَّغيرُ ويولَد هل ابنُك إلَّا من سُلالةِ آدَمٍ ... وكلٌّ على حوضِ المنيَّةِ يُورَدُ ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 43/ 181: لنزوله. (¬2) نسب البيتان لرجل أو أعرابي دخل على عمر فعزاه عند وفاة ابنه، انظر الكامل للمبرد 1378، والتعازي والمراثي له 47، و "حلية الأولياء" 5/ 359، و "تاريخ دمشق" 43/ 182. وانظر في ترجمة عبد الملك بن عمر: "المعارف" 363، و "حلية الأولياء" 5/ 353، و "تاريخ دمشق" 43/ 169، و "المنتظم" 7/ 58، و "صفة الصفوة" 2/ 127.

أبو رجاء العطاردي

أبو رجاء العُطارديّ من الطبقة الأولى من التّابعين من أهل البصرة، واسمُه عِمران بن تيم، وقيل: ابن مِلْحَان، وقيل: عُطارِد بن بَرْز. قال أبو عمرو بن العلاء: قلت لأبي رجاء: ما تذكّر؟ قال: قَتْلَ بِسطام بن قيس، ثم أنشد بيتًا يرثيه: [من الوافر] فخَرَّ على الأَلاءَةِ لم يُوَسَّد ... كأن جبينَه سيفٌ صَقيلُ وقال: أدركتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا غلامٌ أمرد. قال أبو خَلْدة: قلت لأبي رجاء: مثل من كنتَ حين بُعث رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؟ قال: كنتُ أرعى الإبلَ لأهلي، فقلت: فما فرَّكم منه؟ قال: قيل لنا: بُعث رجلٌ من العرب يقتل النَّاس إلَّا مَن أطاعه، ولا أدري ما طاعتُه، ففَررنا حتَّى قطعنا رمل بني سعد. وقال أبو رجاء: بُعث رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ونحن على ماءٍ لنا، وكان لنا صنم مدور، فحملناه على قَتَب، وانتقلنا من ذلك الماء إلى غيره، فمَرَرْنا برَمْلَة، فانسَلَّ الحجر فوقع في الرَّمْل فغاب فيه، فلما رجعنا إلى الماء فقَدْنا الحجر، فرجعنا في طلبه، فإذا هو في الرمل فاستخرجناه، فكان ذلك أول إسلامي، فقلت: إن إلهًا لم يمتنع من تُرابٍ يغيب فيه لإلهُ سُوء، وإن العَنْزَ لتَمنع حَياها بذَنَبها، فرجعتُ إلى المدينة وقد توفي رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. وقال عُمارة المِعْوَليّ: سمعتُ أبا رجاء يقول: كُنَّا نَعْمِد إلى الرَّملِ فنجمعه، ونَحلُب عليه فنعبده، وكنا نَعْمِد إلى الحَجر الأبيض، فنعبده زمانًا ثم نلقيه. وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقيل: تأخرت وفاته إلى سنة سبع عشرة، وهو وَهْم. قال بكَّار بن الصَّقْر: رأيتُ الحسنَ جالسًا على قبر أبي رجاء حيال اللَّحد، وقد مُدَّ على القبر ثوبٌ أبيض، فلم يُغيّره ولم يُنكره، والفرزدق قاعد قُبالتَه، فقال الفرزدق: يا

أبو سعيد المقبري

أبا سعيد، تدري ما يقول هؤلاء؟ فقال: وما يقولون يا أبا فراس؟ قال: يقولون: قعد على هذا القبر اليوم خيرُ أهل البصرة وشرُّ أهل الأرض، قال: ومن يَعنون بذلك؟ قال: يعنوني وإياك، فقال الحسن: يا أبا فراس، لستُ بخير أهل البصرة، ولستَ بشَرِّها، ولكن أخبرْني ما أعدَدْتَ لهذا المضجع؟ وأومأ بيده إلى اللَّحْد، قال: الخيرَ الكثير، أعددتُ يا أبا سعيد شهادةَ أن لا إله إلَّا الله منذ ثمانين سنة، قال الحسن: الخير الكثير أعددت يا أبا فراس. أسند أبو رجاء عن عثمان، وعلي رضوان الله عليهما. وكان ثقةً كثير الحديث، وله رواية وعلم بالقرآن، وأمَّ قومَه في مسجدهم أربعين سنة، وخرج الحسن البصري في جنازته وهو راكب على حمار، فصلّى عليه، وفيه يقول الفرزدق: [من الطَّويل] ألم ترَ أنَّ النَّاسَ مات كبيرُهم ... وقد عاش قبلَ البَعْثِ بعثِ محمدِ (¬1) أبو سعيد المَقبُريّ واسمه كَيسان، وهو مولى لبني جُنْدَع من بني ليث بن بكر بن عبد مَناة بن كنانة. وهو من الطبقة الأولى من التّابعين من أهل المدينة، وكان منزلُه عند المقابر فقالوا: المَقبُريّ. قال أبو سعيد: كنت مَملوكًا لرجل من جُنْدَع، فكاتبني على أربعين ألفًا وشاة لكلّ أضحى، فتهيّأ المال، فجئت به إليه، فأبى أن يأخذه إلَّا على النُّجوم، فجئت إلى عمر بن الخطاب فذكرتُ ذلك له فقال: يا يَرْفأ، خذ المال فضَعْه في بيت المال، ثم ائتنا العشيَّة نكتبْ عتقَك، فإن شاء مولاك أخذَه، وإن شاء تركَه، وبلغ مولاي فجاء فأخذ المال، ثم أتيتُ عمر بزكاة مالي بعد ذلك فقال: أخذتَ من المال شيئًا منذ عَتقتَ؟ قلت: لا، قال: فارجع به حتَّى تأخذَ منه شيئًا، ثم ائتِنا بعد. ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 138، و "المنتظم" 7/ 61، و "السير" 4/ 253.

مخلد بن يزيد

توفي المقبري سنة مئة، وكان ثقةً كثير الحديث، روى عن عمر - رضي الله عنه - (¬1). مَخْلَد بن يزيد ابن المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة، كنيتُه أبو خِداش الأَزْدِيّ، أحد الأسخياء المُمَدَّحين، أُحصي ما وَهَبه من مَرْو إلى دمشق لما قصد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فكان ألفَ ألف درهم، فلما أراد الدخول على عمر لَبس ثيابًا رَثَّة، فقال له عمر: لقد شَمَّرْتَ! فقال: يا أمير المؤمنين، شمَّرتَ فشمَّرْنا، وإن أسبَلْتَ أسبَلْنَا، يا أمير المؤمنين، ما بالُك وقد وسع النَّاس عَفْوُك إلَّا عن هذا الشَّيخ، فلِمَ حبستَه؟ وأقام مَخْلَد عند عمر - رضي الله عنه - أيامًا، ومات وهو ابن سبعٍ وعشرين سنة، فصلّى عليه عمر، ومشى في جِنازته وقال: لو أراد الله بهذا الشَّيخ خيرًا لأبقى له هذا الفتى (¬2). مُسلم بن يَسار كنيته أبو عبد الله، من الطبقة الثَّانية من التّابعين من أهل البصرة، وهو مولى طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -، وقيل: مولى بني أميَّة، وقيل: مولى أبي بكر الصِّديق - رضي الله عنه -. قال حماد بن سَلَمة، عن حُميد (¬3): إن مسلم بن يسار كان قائمًا في بيته يصلِّي، فوقع إلى جنبه حريق، فما شعر به حتَّى طفئت النَّار. وقال أزهر السمان عن ابن عَون: كان مسلم بن يسار لا يُفَضَّل عليه في ذلك الزمان أحد. وكان إذا دخل المنزل لم يسمع لهم ضجة، فإذا قام إلى الصلاء ضَجُّوا وضحكوا. وذُكر له قلَّةُ التفاته في الصَّلاة فقال: وما يدريكم أين يكون قلبي. وقال أبو نعيم وإسناده: انهدمت ناحية في المسجد، فانزعج لها أهل السوق، ومسلم بن يسار في المسجد فما التفت في صلاته (¬4). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 7/ 78. (¬2) "تاريخ دمشق" 66/ 351. ويعني بالشيح يزيدَ بنَ الهلَّب أبا مَخْلَد. (¬3) في النسخ: قال مسلمة بن حميد، والمثبت من "طبقات ابن سعد" 9/ 185. (¬4) "حلية الأولياء" 2/ 291.

وروى ابن أبي الدُّنيا عن رجل من آل محمد بن سيرين قال: رأيتُ مسلم بن يسار رفع رأسه من السُّجود في المسجد الجامع، فنظرت إلى موضع سجوده كأنه قد صُبَّ فيه الماء من كثرة دموعه. وكان إذا دخل في الصلاة يقول لأهله: تحدَّثوا فلستُ أسمع حديثكم. وكان يقول في سجوده: متى ألقاك وأنت عني راض. وقال ابن المبارك: قال مسلم بن يسار لأصحابه يوم التَّروية: هل لكم في الحج؟ قالوا: خرف الشَّيخ، وعلى ذلك لنُطيعَنَّه، قال: مَن أراد ذلك فليخرج، فخرجوا من البصرة إلى الجَبَّان برواحلهم، فقال: خَلُّوا أزِمَّتَها، فأصبحوا وهم ينظرون إلى جبال تهامة. وقال سليمان بن المغيرة: جاء مسلم بن يسار إلى دجلة وهي تَقذف بالزَّبَد، فمشى على الماء، ثم التفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون شيئًا؟ وقال ابن سعد: كان مسلم ثقةً فاضلًا عابدًا ورعًا، أرفع عندهم من الحسن، حتَّى خرج في فتنة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فوضعه ذلك عند النَّاس وارتفع الحسن. وقال أبو قِلابَة: قال لي مُسلم بن يسار وقد صَحبتُه إلى مكّة وذكر فتنة ابن الأشعث: أحمد الله إليك أني لم أَرْمِ فيها بسَهم، ولم أطعن فيها برمح، ولم أضربِ فيها بسيف، فقلت له: يا أبا عبد الله، فكيف بمَن رآك واقفًا في الصف فقال: هذا مسلم بن يسار، والله ما وقف هذا الموقف إلَّا وهو على الحقّ، فتقدَّم مُقاتل حتَّى قتل؟ فبكى وبكى حتَّى تمنَّيت أن لم أكن قلتُ له شيئًا. وتوفي مسلم في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة مئة أو إحدى ومئة (¬1). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 9/ 187.

يوسف بن عبد الله

وقد لقي جماعة من الصّحابة. وقال أبو حفص الخياط: سمعتُ مالك بن دينار يقول: رأيتُ مسلم بن يسار في منامي بعد موته بسنة، فسلَّمتُ عليه فلم يردَّ السَّلام، فقلت: ما يمنعك من ردِّ السَّلام؟ قال: أنا ميت فكيف أردُّ السَّلام؟ قال: قلت: فماذا لقيتَ بعد الموت؟ قال: ودمعتْ عينا مالك عند ذلك وقال: لقيتُ والله أهوالًا وزلازلَ عِظامًا شدادًا، قال: فقلت: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه أن يكون من الكريم؟ ! قَبِل منّا الحسنات، وعفا لنا عن السيّئات، وضَمِن عنا التَّبِعات، قال: ثم شَهق مالك شَهقةً خَرَّ مَغْشِيًّا عليه، فلبث بعد ذلك أيامًا مريضًا من غشيته ثم مات، فيُرَوْن أنَّه انصدع قلبه فمات (¬1). يوسف بن عبد الله ابن سَلَام الإسرائيلي، من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السَّلام. وكُنيته أبو يعقوب، وهو من الطبقة الخامسة ممن مات النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهم حُدَثاء الأسنان. وقال يَحْيَى بن أبي الهيثم العَطَّار: سمعت يوسف بن عبد الله بن سَلَام يقول: سمَّاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوسف، وأقعدني في حجره، ومسح على رأسي. وكان يروي عن جدَّته أمّ مَعْقِل، وكان ثقة، وله أحاديث صالحة. أسند عن عثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وأبيه عبد الله بن سلام - رضي الله عنهم -. وروى عنه عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن المُنْكَدِر، ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم (¬2). ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 67/ 275، وانظر "المنتظم" 7/ 62، و "السير" 4/ 501. (¬2) انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 565، و "السير" 3/ 509. وقد عمل عمار ريحاوي في القسم الأموي من سنة (76 - 100 هـ) وسائر القسم الأموي حققه الأستاذ رضوان عرقسوسي غفر الله لهما.

السنة الحادية بعد المئة

السنة الحادية بعد المئة فيها هربَ يزيد بنُ المهلَّب من حَبْسِ عمرَ بنِ عبد العزيز - رضي الله عنه -. قال هشام: لم يزل محبوسًا في حبس عمر حتَّى بلغه مرضُه، فأخذ يعملُ في الهرب مخافةَ أن يموت، فيتمكَّنَ منه يزيد بنُ عبد الملك؛ لأنَّه عذَّب أصهارَه آلَ بني (¬1) عَقِيل. فأعدَّ يزيد بنُ المهلَّب الركائب مع مواليه، وكان عمر مريضًا في دَير سَمْعان، فواعد يزيدُ مواليَه مكانًا بعينه، فلما ثَقُل عمر؛ خرج يزيد ومعه امرأتُه عاتكة بنت الفرات بن معاوية العامريَّة، وسار ليلًا، فنَجَوْا. وكتب يزيد إلى عمر: واللهِ لو علمتُ أنك تبقى ما خرجتُ من محبسي، ولكنني لم آمن يزيدَ بنَ عبد الملك. فقال عمر: اللَّهمَّ إنْ كان يزيدُ يريدُ بهذه الأمَّةِ شرًّا؛ فاكْفِهم شَرَّه، وارْدُدْ كيده في نحره (¬2). وقال الهيثم (¬3): كان يزيد محبوسًا في حصن حلب، وكان عمر بخُناصرة، وقيل: بدَير سَمْعان، فلما تيقَّن يزيد موتَ عمر دسَّ إلى عامل حصن حلب مالًا، وإلى الحرس، وقال: إن عمر قد ثَقُل، فلا تشتطُّوا بدمي، فإن وليَ يزيدُ بن عبد الملك لم يُنْظِرني فُواقًا (¬4). فوافقوه، فخرج من حصن حلب متنكّرًا، فلما وصل إلى الفرات؛ كتب إلى عمر بمعنى ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 6/ 564: أبي. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 564. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 239. (¬4) بضم الفاء -أو فتحها- هو ما بين الحَلْبَتَين من الوقت، أو: ما بين فتح يدلّ وقبضها على الضَّرْع. القاموس (فوق).

وجاء كتابُه إلى عُمر وهو في آخِر رَمَق، فقال: اللَّهمَّ إن كان يزيدُ يريدُ بهذه الأمَّة شرًّا فأَحِنْه وهِضْه (¬1)، فقد هاضني. وسار يزيد حتَّى مرَّ بحَدَث الرِّقاق (¬2) وبه الهُذَيل بن زُفَر، ومعه قيس، فلم يُهجه الهُذيل، وسار، فاتَّبعه جماعةٌ من قيس، فأصابوا بعضَ ثَقَلِه، فأرسلَ إليهم الهُذيل، فردَّهم وقال: ما بينكم وبينه ثأر، وإنَّما هو رجلٌ خائف، كان في إسار خاف على نفسه، فهرب. ¬

_ (¬1) أَحِنْه: أهْلِكْه. وهِضْه: أي: اكْسِره وأَضْعِفْه. (¬2) حَدَث الرِّقَاق: موضع بالشام، كما في "القاموس" (رقق). وجاء في "أنساب الأشراف" 6/ 178 أنها بناحية قيس، تجمَّعت فيها لما قُتل عُمير بن الحُباب، فقال الأخطل: ضَرَبْناهُمْ على المكروه حتَّى ... حَدَرْناهم إلى حَدَثِ الرِّقاقِ وتحرفت اللفظة في "تاريخ" الطبري 6/ 564 إلى: الزقاق.

الباب التاسع في ولاية يزيد بن عبد الملك بن مروان

الباب التاسع في ولاية يزيد بن عبد الملك بن مروان وكنيتُه أبو خالد، وأمُّه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. بُويع في اليوم الذي مات فيه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يوم الخميس (¬1) لخمس ليال بقين من رجب، بعهدٍ من أخيه سليمان، وكان يومَ وليَ ابنَ تسع وعشرين سنة، وقيل: سبع وعشرين، وكان أبيضَ جسيمًا متكبِّرًا عاجزًا، صاحب لهو وشراب ولذَّات، وهو صاحب حَبَابة، بالتخفيف، وسَلَّامة، بالتشديد، وهما قَينتان غَلَبَتا عليه، فاشتغلَ بهما عن النَّظَر في أمور الرعيَّة. ذكر ما بدأ به: نقض جميع مابناه عُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وأعاد سبَّ أمير المؤمنين عليه السَّلام، وأعاد الغُصوب التي انتزعَها عمر - رضي الله عنه -، وأماتَ المعروف، وأحيا المنكر. وكان سليمان بن عبد الملك يقول: لولا أخاف اختلاف الأمر علي بني أميَّة لاقتصرتُ على عُمر، ولم أولِّ يزيد، ولفوَّضت الأمرَ إلى عُمر يولِّي من شاء. وكان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يقول: لولا خوف الفتنة لعزلتُ يزيد، ولكني أُولّي سليمان ما تولَّى، والمسلمون أولى بالنظر لأنفسهم. وقال الهيثم: لما توفي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قال يزيد بن عبد الملك في نفسه: ما سكتَ عُمر عن تولية العهد لغيري إلا لحسن ظنِّه بي، وأنه رآني أهلًا لها بعده، وإلا فقد كان قادرًا على صرفها عني وعن بني مروان كلِّهم، لأنَّ النَّاس لا يخالفونه. فلزم يزيد التنسُّك والعبادة، وجرى على أسلوب عُمر في الصَّلاة بالنَّاس، وردِّ المظالم، فأقام على ذلك أربعين يومًا لا تفوتُه صلاة في جماعة، وهجر حَبَابة وسَلَّامة وغيرَهما من القينات. ¬

_ (¬1) في "مروج الذَّهب" 5/ 446، و "تاريخ دمشق" 18/ 338 (مصورة دار البشير): يوم الجمعة.

فقدم الأحوص الشاعر دمشق، فبعثت إليه حَبَابة تقول: ليس في يزيد أمل لأحد، ولا لي، ولا لك؛ ما دام على هذه الحالة، فانظم شيئًا لعله إذا سمعه يعود إلى ما كان عليه، فعمل الأحوص وقال: إذا كنت عِزِّيفًا (¬1) عن اللهو والصِّبا ... فكُنْ حَجَرًا من يابسِ الصَّخْرِ جَلْمَدَا فما العيشُ إلَّا أن تلذَّ وتشتهي ... وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنانِ (¬2) وفنَّدا وبعث بهما إلى حَبَابة، فحفظتهما. وخرج يزيد يُريد صلاة الجُمعة، فمرَّ بحجرة حَبَابة، فسمعها تغنِّي بهما، فوقف، وقال: سبحان الله. فغنَّتْ ثانيًا، فقال: مه، لا تفعل، فلما غنَّت الثالثة نقضَ عِمامتَه وقال: مُرُوا صاحبَ الشرطة أن يصليَ بالنَّاس الجمعة. ثم جلس عندها وقال: هذا الشعر؛ لمن؟ قالت: للأحوص. فاستدعاه، ونادمَه ووصلَه، وانهمك على لهوه، وأشاع الفساد، وأظهر القبائح، وأعلن بشرب الخمر والمعازف، فدخل عليه مسلمة بن عبد الملك، فلامه وقال: أنت قريبُ العهد من عمر، وببابك الوفود والأشراف، وقد انهمكتَ على هذه الإماء. فقال له يزيد: إنِّي لأرجو أن لا تعاتبني بعد اليوم. وهجرَ القِيان إلى أن توجَّه مسلمةُ إلى العراق لقتال آل المهلَّب، ثم عاد إلى ما كان عليه، وكان يلعن مسلمةَ ويقول: حرمَني لذَّاتي، وكان يقول ويكرّر قول الأحوص: وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنانِ وفنَّدا وبقول: واللهِ لا أُطيعُهم أبدًا (¬3). وفيها ولَّى يزيدُ بنُ عبد الملك عبدَ الرحمن بنَ الضحَّاك بن قيس الفِهْريّ المدينةَ، وعزلَ عنها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فقدمَ المدينةَ يومَ الأربعاء لليالٍ بقين من شهر رمضان، فدخلَ عليه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، فسلَّم عليه، فلم يَرَ منه إقبالًا. ¬

_ (¬1) كذا روايته في "المنتظم" 7/ 65. وروايته في "الأغاني" 15/ 132، و "مروج الذَّهب" 5/ 448، و "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 229 (ترجمة حبابة): عِزْهَاةً، وهما بمعنى. وفي "أنساب الأشراف" 7/ 205: مِعْزافًا. (¬2) الشَّنان، كسحاب، لغة في الشَّنآن، وهو البُغض. ينظر "القاموس". (¬3) إضافة إلى المصادر المذكورة آنفًا، ينظر "تاريخ دمشق" 18/ 337 - 343 (مصورة دار البشير).

قال أبو بكر: فرجعتُ إلى منزلي خائفًا منه، وكان شابًّا مقدامًا، فكتبتُ إليه: أمَّا بعد، فإن كنتَ تحدِّثُ نفسَك بالخلود؛ فكم نزلَ هذه الدارَ مثلُك، ثم خرجوا منها، وبقيَتْ آثارُهم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، فاتَّقِ اللهَ ولا تسمع قولَ واشٍ وحاسدٍ على نعمة. وأقام أبو بكر على الخوف منه، فاختصمَ رجلان؛ أحدُهما من بني فِهْر، والآخر من الأنصار، وكان أبو بكر قد قضى للأنصاريّ على الفِهْريّ في أرضٍ كانَتْ بينَهما، فأحضر أبا بكر وقال له: كيف قضيتَ على الفِهْريّ، ودفعتَ أرضَه إلى الأنصاري؟ فقال: أفتاني بذلك سعيد بنُ المسيِّب، وأبو بكر بنُ عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال عبد الرحمن للفهريّ: ما تقول؟ قال: كذا كان، ولكن لا يلزمُني قولُهما. فقال له: قم، تُقرُّ أنَّ سعيدًا وأبا بكر أفتياك، ثم تقول: ما يلزمني قولُهما! اذهبْ فأنت أحمق. وأقام أبو بكر على الخوف من ابنِ الضَّحَّاك، وكان أبو بكر بنُ محمد قد ضربَ أبا المَغْراء عثمانَ بنَ حَيَّان حَدَّينِ في ولايته على حقٍّ، فلما ولَّى يزيدُ عبدَ الرحمن الفِهْريَّ كان ابنُ حَيّان عند يزيد، فقال له: يا أمير المؤمنين، أَقِدْني من أبي بكر بن محمد. فقال يزيد: لا أفعل ذلك برجل اصطنعه أهلُ بيتي، ولكن أولِّيك المدينة، فاقتصَّ منه. فقال: لا أفعل ذلك؛ لأني لو فعلتُه قال النَّاس: ضربه في سلطانه، فلا يكون قَوَدًا، ولكن اكتبْ إلى عبد الرحمن الفِهْريّ. فكتب يزيد إليه يقول: إن كان ابنُ حزم ضربه في أمر بَيِّن؛ فلا تعرضْ له، وكذا إن كان ضربَه في أمر يُختلف فيه (¬1)، وإن كان ضربه في غير ذلك فأَقِدْه منه. فلما قدم بالكتاب قال له عبد الرحمن: ما جئتَ بشيء، أترى ابنَ حَزْم ضربَك في أمر لا يُختلفُ فيه؟ فقال ابن حبَّان: إذا أردتَ أن تُحسنَ أحسنتَ. فقال الفِهْريّ: أمَّا الآن فنعم. وكان في قلبه على ابن حزم، كان يقول: هو خائن، ويتكبّر عليَّ. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): لا يختلف فيه. والتصويب من "أنساب الأشراف" 7/ 194، و "تاريخ" الطبري 6/ 575.

فاستدعى ابنَ حَزْم، فضربه حدَّين في مقام واحد ولم يسأله عن شيء، فرجع ابن حيَّان وهو يقول: أنا أبو المَغْراء، واللهِ ما قربتُ النساء منذ صَنعَ بي ابنُ حَزْم ما صنع، واليوم أقربُهنَّ (¬1). قال الواقدي: ضرب الفِهْريُّ أبا بكر بن حزم ظلمًا وعدوانًا. وفيها قُتل شَوْذب الخارجي، واسمه بِسْطَام. وفيها لحقَ يزيد بنُ المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وحبس عاملَها عديَّ بنَ أرطاة الفَزاري، وخلع يزيدَ بنَ عبد الملك (¬2). قال علماء السِّيَر: لما وليَ يزيد بن عبد الملك الخلافة بعد ما هرب يزيد بن المهلّب كتب إلى عديِّ بن أرطاة يأمره بحبس آل المهلّب، وأن يُوثق يزيد، ويبعث به إليه، وكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن والي الكوفة أن يطلبه ويجتهد في أخذه (¬3). فلما وصل كتابُه إلى عديّ بن أرطاة؛ قبضَ عليّ بني المهلَّب وأهلهم، وكان فيهم المفضَّل وحبيب ومروان بنو المهلب وغيرهم، وحبسهم (¬4). وبعث عبدُ الحميد عاملُ الكوفة جيشًا مع هشام بن مُساحق بن عبد الله بن مخرمة من بني عامر بن لؤي وقال له: اذهب إلى العُذَيب (¬5)، فإنَّه يمرُّ به الآن. فخرج هشام ثم رجع وقال: آتيك به أسيرًا، أم آتيك برأسه؟ فقال: أيَّ ذلك شئت. فتعجَّب مَنْ سمعَه يقولُ ذلك. وسار هشام فنزلَ العُذيب، وأقبل يزيد وهو عن العُذَيب غير بعيد، وهابَ هشام الإقدام عليه، وسار يزيد إلى البصرة (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 574 - 575. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 194. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 575. (¬3) المصدر السابق 6/ 578. (¬4) تاريخ الطبري 6/ 578، وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 240. (¬5) هو ماء بين القادسية والمُغيثة، بينه وبين القادسية أربعة أميال. "معجم البلدان" 4/ 92. (¬6) تاريخ الطبري 6/ 578 - 579، وأنساب الأشراف 7/ 241.

وأرسل عبدُ الملك بنُ المهلَّب يقول لعدي: خُذ ابني حُميدًا، فاحبسه عِوَضي ودَعْني أخرجْ فأرُدَّ يزيدَ عن البصرة حتَّى يأتيَ فارس، ويطلبَ له أمانًا، ولا أدعُه يقربُك. فلم يُجبه عديّ. وكان محمد بنُ المهلَّب بالبصرة لم يُحبس، فجمع مواليَه وفتيةً من أهل بيته وأناسًا، وخرج حتَّى استقبل أخاه يزيد في كتيبة، وبعث إليه عديّ القبائلَ وقد رتَّبهم على كلِّ قبيلة رجلًا، فعلى الأزد المغيرة بن زياد العَتَكيّ، وعليّ بني تميم مُحرز بن حُمْران السَّعديّ، وعلى بَكْر بنِ وائل عمران بن عامر بن مسمع، ومالكُ بنُ المنذر بن الجارود على عبدِ القيس، وعبدُ الأعلى [بن عبد الله] بن عامر القرشيُّ على أهل العالية، وهم من أهل البصرة قريشٌ، وكِنانة، والأزد، وبجيلة، وخثعم، وقيل عَيلان كلُّها (¬1). وكان عديّ قد قدَّم أوَّلًا على الخيل المغيرةَ بن عبد الله الثقفيّ، وأقبلَ يزيدُ بن المهلَّب لا يمرّ بخيلٍ ولا قبيلةٍ إلَّا تَنَحَّوْا له عن الطَّريق حتَّى يمضي، وجاء فنزل دارَه، وبعث إلى عديّ: ادْفعْ إليَّ إخوتي وأنا أخرجُ عن البصرة، وأقيمُ بمكان، وأبعث إلى يزيد بن عبد الملك، فآخُذُ منه أمانًا. فلم يُجبه عديّ. فبعث يزيد بن المهلَّب إلى يزيد بن عبد الملك مع حُميد بن عبد الملك بن المهلَّب يطلبُ الأمان فأمَّنَهُ، وبعث معه خالدَ بنَ عبد الله القسريّ، وعُمر بن يزيد الحَكَميّ. وأقام يزيد بنُ المهلب يُعطي النَّاس الذهبَ والفضَّة، فمال النَّاسُ إليه، وكان عديّ لا يعطي إلَّا الدرهم والدرهمين، ويقول: لا يحلُّ لي أن أُعطيَكم من بيت المال درهمًا إلَّا بأمر أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلَّغوا بهذا حتَّى يأتيَ أمرُه. فقال الفرزدق: أظنُّ رجال الدِّرهمَينِ يسوقُهُم ... إلى الموت آجالٌ لهم ومضاجعُ (¬2) فأحزَمُهم مَنْ كانَ في قعر بيتِه ... وأيقنَ أنَّ الأمرَ لا بدَّ واقعُ (¬3) ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 579 - 508، وأنساب الأشراف 7/ 247. وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬2) في "تاريخ الطبري" 6/ 581، و "ديوان" الفرزدق 1/ 421: ومَصَارعُ. وهما بمعنى. (¬3) في (ب) و (د): لا بد سائر إليه بدل: لا بدَّ واقع. وفي (خ): لا شك صائر إليه! والمثبت من المصدرين المذكورين.

واجتمعَ النَّاس إلى يزيد، وقصدُوا القصر، وكان في طريقه جماعة، فهزمَهم، ووصلَ إلى باب القصر، فخرج إليه عديّ، واقتتلُوا، فقُتل من أهل الشام من أصحاب عديّ جماعةٌ، ومن فرسان الحجَّاج بن يوسف، منهم الحارث بن مصرِّف الأودي من أشراف أهل الشام، وموسى بن الوجيه الحِميريّ، وراشد المؤذّن، وانهزمَ أصحابُ عديّ. وسمع إخوة يزيد صوت الجلبة وهم محبوسون في القصر فقال لهم عبد الملك بن المهلَّب: ما أرى يزيد إلَّا قد ظهر، ولا نأمنُ مَنْ مع عديّ من مُضر ومن الشام أن يأتونا فيقتلونا. وجمعوا متاعًا، وجعلوه خلف باب الحبس، واتكؤوا عليه، فلم يلبثوا إلَّا ساعة حتَّى أقبلَ عبدُ الله بن دينار مولى بني عامر -وكان على شرطة عديّ وحرسِه- ومعه جماعة، فجاء يشتدُّ إلى باب الحبس ليقتلوا أولاد المهلَّب، وأخذوا يعالجون الباب، ولا يقدرون على فتحه، وأعجلَهم النَّاسُ، فانصرفوا. وأُخِذَ عديّ بنُ أرطاة أسيرًا، فجيء به إلى يزيد بن المهلَّب وهو يتبسَّم، فقال له يزيد: لم تضحك؟ فواللهِ إنه ليمنعك من الضحك خصلتان: إحداهما فرارُك من القِتْلة الكريمة حتَّى أَعطيتَ بيدك إعطاء الأَمَة بيدها. والثانية: أنني أتيتُ بك كما يُؤتى بالعبد الآبق إلى مواليه، وليس معك مني عَقْد ولا عهد، فما يؤمّنك أن أضرب عنقك؟ فقال له عديّ: أمَّا أنتَ فقد قَدَرْتَ عليّ، ولكنِ اعلمْ أنَّ بقائي بقاؤك، وهلاكي هلاكُك (¬1)، وقد رأيتُ جنودَ الله بالشام (¬2)، وعلمتُ بلاءهم في كلِّ موطن من مواطن الغَدْر، فتدارَكْ زَلَّتك باستقالة العَثْرة؛ قبل أن يرميَ إليك البحرُ بأمواجه، فإن طلبتَ الإقالة لم تُقَلْ، فاطلب الأمان على نفسك وأهلك. فقال له يزيد: أما قولك: إن بقائي بقاؤُك؛ فلا أبقاني الله حسوة طائر مذعور إن كان لا يبقيني إلَّا بقاؤك. وأمَّا قولك: تَدارَكْ أمْرَك؛ فوالله ما استشرتُك، ولا أنتَ عندي بأمين ولا نصيح. وأمَّا تهدادك لي بالبحر وأمواجه؛ فواللهِ إنه عندي أصغر من ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 6/ 582: وأن هلاكي مطلوبٌ به من جرَّته يده. (¬2) في "تاريخ الطبري": بالمغرب.

خليج. ثم أمر به فحُبس، وقال: إنما أحبسُك لما فعلت بآل المهلب من الحبس والتضييق (¬1). ولمَّا ظهر يزيد على البصرة هربَ رؤساؤها من قيس وتميم ومالك بن المندْر، فلحقوا بالكوفة بعبد الحميد بن عبد الرحمن. وهرب الحواريُّ بنُ زياد العَتَكي إلى الشام يريدُ يزيدَ بن عبد الملك، فلقيَ في طريقه خالدَ بنَ عبد الله القسري وعمر بن يزيد الحَكَميّ ومعهما حُميد بن عبد الملك بن المهلّب قد أقبلوا من عند يزيد بأمان بني المهلَّب وبكلِّ ما يريد يزيدُ بنُ المهلَّب. فقال: ارجعا أيُّها الرجلان، فقد غلبَ يزيدُ على البصرة، وقتل فلانًا وفلانًا، وحبس عديًّا. فرجَعا بحُميد إلى الشام، فقال لهما حميد: أنشُدُكما اللهَ فينا، وإن هذا عدوّنا هو وقومُه، قيما على ما أنتما عليه، فإن يزيد لا يخالفُكُما. فلم يلتفتا إليه. وكان بالكوفة خالد بن يزيد بن المهلب، فوثب عليه عبد الحميد فأوثقه، وأوثقا حُميدًا، وبعثوا بهما إلى الشام، فحبسهما يزيد بن عبد الملك، فهلكا في الحبس بالطاعون. وقيل: إنهما قُتلا (¬2). وكان القُطاميّ الشاعر؛ واسمه الحُصين، وهو أبو الشَّرْقيّ بن قُطَاميّ، وليس هذا بالقُطامي المشهور؛ ذاك اسمُه عُمير بن شُيَيْم (¬3)، واسم الشَّرقيّ هذا الوليد (¬4) = كان مُقيمًا بالكوفة، فلما غلبَ يزيد على البصرة قال القُطاميّ: لعلَّ عيني أنْ تَرَى يزيدا ... يقودُ جيشًا جَحْفلًا رَشِيدًا (¬5) تَسمحُ للأرضِ به وَئيدا ... لا بَرَمًا هِدًّا ولا حَسُودَا ولا جَبَانًا في الوَغَى رِعْدِيدا ... ترى ذَوي التاج له سجودَا ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 582 - 583. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 259 - 260، و "تاريخ الطبري" 6/ 583 - 584. (¬3) ينظر "الشعر والشعراء" 2/ 723، و "معجم الشعراء" ص 47. (¬4) هو عالم بالأدب والنسب، ينظر "تاريخ بغداد" 10/ 382، و "ميزان الاعتدال" 2/ 248 - 249 (شرقي)، و "الوافي بالوفيات" 16/ 132. (¬5) في "تاريخ" الطبري 6/ 585: شديدًا.

لا ينقضُ العهدَ ولا العُهودا ... من نَفَرٍ كانوا ملوكًا (¬1) صِيدَا تَرَى لهم في كلِّ يومٍ عِيدًا ... [من الأعادي جَزَرًا مقصودا] (¬2) فكتب يزيد بن عبد الملك إلى أهل الكوفة يمنِّيهم الزيادات في الإقطاعات والعطاء، فأوَّلُ مَنْ سارَ إلى قتال يزيد بن المهلب القُطاميُّ، فقال يزيد بن المهلَّب: ما أبعدَ قولَ القُطاميّ من فعله (¬3)! وقال المدائني: لمَّا هرب يزيد بن المهلَّب من الشام مرَّ بحَدَث الرِّقاق (¬4) وهناك منزلُ الهُذَيل بنِ زفر، وكان يزيدُ خائفًا منه، فلم يُحِسَّ به الهُذيل إلَّا وقد هجمَ عليه فسطاطَه، ودعا بلبنٍ فشربَه، فاستحيى الهُذيل منه، وعرضَ عليه خيلَه، فلم يأخذ منها شيئًا. ثم سلك البَرِّيَّة، وأتى القادسية، وبعثَ عبد الحميد خلفَه، وسار إلى البصرة. وكان يزيد بنُ عبد الملك قد بثَّ في طلبه الرجال، منهم الهُذيل، وكوثر، والوثيق بنو زُفر بن الحارث الكلابي، فمرَّ بالهُذيل، وفاتَ الكوثر والوثيق. وجاء كتاب يزيد بن عبد الملك إلى عديّ بأن يبعثَ آل المهلب إليه، فحبسهم، فقال له وكيع بن حسَّان بن أبي سُود؛ والي خُراسان كان: اقْتُلْ آلَ المهلَّب. وكان عدوَّهم، فقال عديّ: لا أفعل. قال: فاهدمْ عليهم دُورهم. قال: لا أفعل. قال: فافتَحْ بيت المال، وأنفقْ على النَّاس. قال: لا أفعل، لم يُؤذن لي في ذلك. فقال له وكيع: كأنّي واللهِ بك وقد أُخِذتَ برقبتك. ومات وكيع في تلك الأيَّام (¬5). وأمَّا يزيد بن المهلَّب؛ فقدم البصرة ليلة البدر من رمضان، فنزلَ دار أبيه المهلَّب، وكتبَ من ليلته إلى يزيد بن عبد الملك يطلب منه أمانًا، وبعث يزيدُ بابنه خالد بنِ يزيد وابنِ أخيه حُميد بن عبد الملك بن المهلَّب، فسارا بكتابه إلى الشام، وبعثَ إلى عديّ بنِ أرطاة القاسمَ بنَ عبد الرحمن الهلاليّ -وأمُّه فاطمةُ بنتُ أبي صُفْرة- وقال له: أقْرِهِ ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 6/ 585: هجانًا. (¬2) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري، وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 261. (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 261، و "تاريخ الطبري" 6/ 585. (¬4) حَدَث الرِّقاق: موضع بالشام، وسلف ذكره أوّل أحداث هذه السنة، وتحرف اللفظ في "أنساب الأشراف" 7/ 242 (والخبر فيه) إلى: يحدث الرفاق. (¬5) المصدر السابق 7/ 240.

منِّي السَّلام، وقل له: لا رأي لي في الشقاق، ولا في تفريق الكلمة، وقد كتبتُ إلى أمير المؤمنين أسألُه الأمان، فخلِّ سبيلَ إخوتي كان المصر، فإن جاءني كتابُ أمان فذاك، وإن كان غير ذلك، فتكون قد سلمتَ منَّا وسلمنا منك، فلم يفعل (¬1). فجمع يزيد ربيعة والأزد، وفرَّق فيهم الأموال والسلاح، وخرج فنزلَ جبَّانةَ بني يشكر، وهي نصف بين القصر والبلد. وقال المدائني: إنَّ يزيد بن المهلَّب بعث إلى عديّ بالحسن البصري وأشرافِ أهل المصر يُناشدونه اللهَ في شقِّ عصا المسلمين وسفك دمائهم، فمضَوْا إليه، فلم يقبل وقال: أميرُ المؤمنين أمرَني بحبسهم، فلا أُخرجُهم إلَّا بأمره. فعادوا إلى يزيد، فأخبروه أنَّ عَدِيًّا أمَّن من بقي من ولدِ المهلَّب (¬2)، وكان بعضُ إخوة يزيد حاضرًا ويقال: هو عبد الملك، فقال للحسن: إنكم قد واطأتُم عدوَّنا على هلاكنا، وليست طاعتُه عليكم بواجبة. فقال له الحسن: كذبتَ، ما واطأناه. فغضب عبد الملك وقال للحسن: يا ابن اللَّخناء، أتكذِّبُني، وإنَّما أنت عبدٌ تريد استذلال أهلِ المِصْر بتخشُّعِك، وقد حمَّقْتَ نفسك، وتعدَّيتَ طَوْرَك وقدرَك. ثم قام إليه ليقتله، فمنعه يزيد. وقيل: إنَّما منعه المفضَّل، وقيل: حجيب. ثم قال المفضَّل للحسن: هلَّا أمَّنْتَ الحجَّاجَ على دمك؟ ! فقال: إنَّ الحجاج لم يُعطني أمانًا، وإنَّ عديًّا قد أمَّنَكم من كلِّ ما تكرهون، وأمرني أن أضمن لكم الوفاء عنه، فثِقُوا بقولي وأمانِهِ. فركنا إلى قوله الحسن وأقاما معه -وهما عبد الملك والمفضَّل- وتخلَّف آخرون منهم، فلما دخلوا على عديّ أخفر ذِمام الحسن، وحبَسَهما مع حبيب ومروان ومُدْرك وأبي عُيَينة، فصاروا ستة من بني المهلَّب، وقيَّدهم (¬3). ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" 7/ 242 - 243. (¬2) لم أقف على هذه الرّواية، ورواية "أنساب الأشراف" 7/ 244 - 245 عن علي بن نصر الجهضمي عن مشايخهم، أن عديًّا بعث بالحسن البصري إلى ولد المهلب في عدة ... فناشدوهم ... إلخ. ثم الكلام الآتي بعده فيه بنحوه. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 245.

ثم إنَّ عديًّا بخلَ على النَّاس، وختمَ بيتَ المال، واستقرضَ أموال النَّاس، وفرضَ لكلِّ مقاتل في كل يوم درهمين (¬1). قال: وطُعن رجل من آل عديّ فخرج ثَرْبُه (¬2)، فقيل له: قل: لا إله إلَّا الله، فقال: هاتوا الدرهمين. وخرجت نَفْسُه (¬3)! وجلس يزيد للناس، فبايعوه على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ووجد في بيت المال بالبصرة عشرة آلاف ألف درهم، فلما كان يوم الفطر خطب يزيد بن المهلَّب، وخلع يزيدَ بنَ عبد الملك، ولعن بني مروان، ودعا إلى الرضى من بني هاشم، ولعنَ مسلمةَ بنَ عبد الملك وقال: قد أقبلَتْ إليكم هذه الجرادةُ الصفراء (¬4)، ولعن عبدَ الحميد بنَ عبد الرحمن وقال: لعن الله الضَّبُعةَ العرجاء. يعني عبد الحميد (¬5). وكان الحسن البصريّ يذمُّ يزيدَ وبني المهلب ويقول: فاسقٌ عقدَ خِرَقًا على قَصَب، ثم نعق بأعلاج وطَغَام، فأجابوه. وبلغ يزيد بن المهلب فلم يعرض له (¬6). وكان قتادة بالأهواز ينتقص آلَ المهلب بعدما كبر وعمي، فبعث إليه يزيد من وجأ عنقه (¬7). وفرَّق يزيد عمَّاله في البلاد، فاستعملَ أخاه محمدًا على فارس، وزيادًا على عُمان ومُدركًا على خُراسان، ووَدَاعَ بنَ حُميد اليحمدي على قَنْدَابِيل (¬8)، فقال له أخوه حبيب: لا تولِّه، فإنَّ في عينيه غَدْرةً. فكان كما قال؛ أغلَقَها في وجوههم (¬9). ولما كتب يزيد بن المهلَّب إلى يزيد بن عبد الملك يطلب الأمان؛ استشار يزيدُ بنُ عبد الملك النَّاسَ، فقالت المُضَريَّة: لا تؤمِّنْه، فإنَّه أحمق غدَّار. وقالت النزارية: أمِّنه، ¬

_ (¬1) المصدر السابق 7/ 246. وسلف نحوه قريبًا قبل شعر الفرزدق. (¬2) الثَّرْب: شحم رقيق يُغَشِّي الكرش والإمعاء. ينظر "القاموس". (¬3) المصدر السابق. (¬4) هو لقب مسلمة بن عبد الملك، لصفرة كانت تعلوه. ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 302. (¬5) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 255 - 256. (¬6) أنساب الأشراف 7/ 254 و 255. وبنحوه في "تاريخ" الطبري 6/ 587. (¬7) في "أنساب الأشراف" 7/ 257 أنَّه أمر به فوُجئ في عنقه، وبعث به إلى الأهواز. (¬8) مدينة بالسِّند، وهي قصبة (مدينة) لولاية يقال لها: النُّدْهة. "معجم البلدان" 4/ 402. (¬9) أنساب الأشراف 7/ 256.

وتحقن الدِّماء، وتُطفئ الفتنة. فأمَّنَه على أن يُقيم بالبصرة [وأنفذه] (¬1) مع خالد القسريّ، وعمر الحَكَمي، فقدما العراق وقد استولى يزيد على البصرة. ذكر مسير الجيوش من الشام والكوفة لقتال يزيد بن المهلَّب: قال هشام بن محمد: ثم إن يزيد بن عبد الملك بعث العبَّاس بنَ الوليد بن عبد الملك في أربعة آلاف فارس، ومسلمة بعده في أهل الشام، وبلغ يزيدَ بنَ المهلَّب، فقام خطيبًا وقال: أيها النَّاس، إنما أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى الله عليه وسلم - وجهاد أهل الشام، فإنَّه أعظمُ من جهاد التُّرك والدَّيلم. وكان الحسن جالسًا في المسجد، فقال: سبحان الله! أيزيد يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، ثم رفع الحسنُ صوتَه وقال: واللهِ لقد رأيناك واليًا ومُوَلًّى (¬2) عليك، فما ينبغي عليك ذلك. فقام أصحاب الحسن، فأخذوا بيده وأقاموه. فلما خرج الحسن من المسجد رأى النَّاس صفَّين بالرِّماح والسلاح ينتظرون خروج يزيد، فقال الحسن: قد كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء، وأصبح اليوم يضرب بهم بني مروان ثم يقول: أدعوكم إلى سنَّة العُمَرَين! إنَّ من سنة العُمَرَين أن يُوضع في رجليه قيد، ثم يُردَّ إلى سجن عُمر بن عبد العزيز. فقيل للحسن: يا أبا سعيد، لكأنك راضٍ عن أهل الشام! فقال: قبَّحهم الله، أليس هم الذين هدموا الكعبة وأحرقوها، وأباحوا المدينة ثلاثًا، وهتكوا حَرَمَ رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وحملُوا أهلَه سبايا إلى الشام، وفعلوا وفعلوا؟ ! ثم قرأ الآية: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (¬3) [الرعد: 25]. واستخلف يزيد على البصرة أخاه مروان بن المهلَّب، وقدَّم بين يديه أخاه عبد الملك، وخرج ببيوت الأموال وخزائن السلاح، فنزل واسطًا، وكان قد استشار أصحابَه قبل خروجه من البصرة، فقالوا: نرى أن تخرجَ فتنزل أرض فارس، فتأخذَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المصدر السابق 7/ 259. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): وموليًا. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 587، والكلام فيه بنحوه. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 587، 588.

أبو أمامة أسعد بن سهل

بالشِّعاب والعِقاب، وتدنوَ من خُراسان وفي يدك الحصون والقلاع، وينزل إليك أهلُ الجبال، ولا نَرى أن تُعاجلَ القوم، فإنَّ مطاولتَهم أولى. فقال: تريدون أن تجعلوني طائرًا على رأس جبل! فقال له حبيب أخوه: فسِرْ بأهلك إلى الجزيرة، فاغْلِبْ على بعض حصونها ودَعْ به أهلك ومالك، فإن عطف عليك أهلُ الشام؛ كان أهلُ العراق وراءَك، ويأتيك مَنْ بالموصل من قومك، وأهلُ الجبال والثُّغور، وابذُلِ المال. فقال: قد نزلنا واسطًا (¬1) ويفعل الله ما يريد، وكلُّ كائن مقضيّ (¬2). وأقام بواسط، ومسلمةُ والعباسُ بن الوليد بأرض الحِيرة. وحجَّ بالنَّاس عبدُ الرحمن الفِهْريّ (¬3)، وهو على المدينة، وكان على مكّة عبد العزيز بن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى قضائها الشعبيّ، وعلى البصرة يزيد بن المهلَّب قد غلب عليها، وعلى خُراسان عبد الرحمن بنُ نُعيم الأزدي (¬4). وكان يزيد بن المهلَّب قد ولَّى على خُراسان أخاه مُدرك بنَ المهلَّب، فلما وصل إلى رأس المفازة قال عبد الرحمن بن نُعيم لبني تميم ولمن بخُراسان: هذا مُدرك قد جاء ليُلقيَ بينكم الحرب وأنتم في عافية وعلى طاعة، فاخْرُجُوا فردُّوه. فخرجَ إليه منهم جماعة وقالوا: أنت أحبُّ النَّاس إلينا وقد خرج أخوك ونابذَ الخلفاء، فإن ظهرَ فإنَّما ذلك لنا، وإن تكن الأخرى فما لك أن تُوقعَنا في البلاء بلا فائدة، فارجعْ. فرجع (¬5). وفيها توفي أبو أُمامة أسعد بن سَهْل ابن حُنيف الأنصاري، وأمُّه حَبِيبة بنت أبي أمامة أسعد بن زُرارة أحدِ النُّقَباء. ¬

_ (¬1) بعدها في (ب) و (خ) و (د) زيادة: وكان. وهو سبق قلم من ناسخ الأصل. فقد مرّ مثلها قبل أسطر. (¬2) "تاريخ الطبري" 6/ 588. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 263. (¬3) في (ب) و (خ) و (د): المقبري، وهو خطأ. وهو عبد الرحمن بن الضحَّاك. (¬4) "تاريخ الطبري" 6/ 589. (¬5) المصدر السابق 6/ 585 - 586.

بسطام بن مري

وأسعدُ بن سهل من الطبقة الأولى من التّابعين من أهل المدينة، وكانت أمُّه من المبايعات (¬1). وقال ابن عبد البَرّ: أبو أمامة مشهور بكنيته، وُلد قبل وفاة رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فدعا له، وسمَّاه باسم جدِّه، وكنَّاه بكنيته (¬2). وهو أحد الجِلَّةِ من كبار التّابعين بالمدينة، ولم يسمعْ من رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ولا صَحِبَهُ، وهو الذي صلَّى بالنَّاس الجمعة لما حَصَبُوا عثمان رضوان الله عليه وهو على المنبر (¬3). وكان من فقهاء المدينة، ومات سنة إحدى ومئة، وكان ثقة كثير الحديث. وكان له من الولد: محمد، وسهل، وعثمان، وإبراهيم، ويوسف، ويحيى، وأيوب، وداود، وحبيبة، وأَمامة، أَمُّهم أمَّ عبد الله بنت عتيك بن الحارث من بني هَيشَة، أنصارية. وصالح لأمِّ ولد (¬4). أسند أبو أُمامة عن عُمر، وعثمان، وأبيه سهل، يزيد بن ثابت، وأبي سعيد، وابن عبَّاس، ومعاوية، وسعيد بن سَعْد بن عُبادة. وروى عنه ابناه محمد وسهل، ويحيى الأنصاري، والزهري، في آخرين (¬5). وقدم بكتاب عمر بن الخطاب رضوان الله عليه على أبي عبيدة - رضي الله عنه - بالشام، وغزا معه (¬6). بِسطام بن مُرَيّ اليشكري الخارجي، ويقال له: شَوْذب، لقب له. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 85. (¬2) بنحوه في "الاستيعاب" ص 772. (¬3) ينظر "تاريخ دمشق" 2/ 807 (مصورة دار البشير). (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 85. (¬5) تاريخ دمشق 2/ 804، وتهذيب الكمال 4/ 525. (¬6) تاريخ دمشق 2/ 804 (مصورة دار البشير).

وقد ذكرنا واقعته مع عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ومناظرته إياه، وأنَّه ارتفع إلى أرض أرمينية مدة حياة عمر - رضي الله عنه -، ولم يُقاتله، فلما مات عُمر - رضي الله عنه - أراد عبدُ الحميد بنُ عبد الرحمن العاملُ على الكوفة أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلى محمد بن جرير يأمرُه بمحاربته. وعلم شَوْذَب، فأرسل إلى ابنِ جرير يقول له: ما الذي أعجلكم؟ ! أمات الرجلُ الصالحُ عُمر؟ ولم يعلم شَوْذَب بموته. قالت الخوارج: ما فعل هذا إلَّا وقد مات عُمر. وقال شَوْذَب: قد بَعَثْنا إلى عمر رسولين، فاصبروا حتَّى يرجعا. فلم يمهلهم (¬1) ابنُ جرير، وقاتلَهم في جيش من أهل الكوفة، فأكثرت الخوارجُ فيهم القتل، فولَّوْا منهزمين، وجُرح محمد بن جرير في عجزه، وهرب، فما ردَّه إلَّا أخصاص (¬2) الكوفة، وشَوذَب في أثره. ثم عاد شَوْذَب إلى مكانه، وعاد إليه رسولاه اللذان كانا عند عُمر بن عبد العزيز، فأخبراه بوفاته. وجاءه رسولُ عبد الحميد بن عبد الرحمن (¬3) يقول: إن يزيد بن عبد الملك لا يقارُّكم على ما قارَّكم (¬4) عليه عمر بنُ عبد العزيز. ووجَّه إليهم تميم بنَ الحُباب في ألفين، فلما سمعوا رسالتَه لعنوا يزيد وبني أميَّة، فحاربهم تميم، فقتلوه، وهزموا أصحابَه. فجهَّز إليهم عبدُ الحميد جيوشًا وهم يهزمونها، فجهَّز إليهم مسلمة بنُ عبد الملك سعيدَ بنَ عمرو الحَرَشيّ، -وكان شجاعًا- في عشرة آلاف، فأتاهم ما لا قِبَلَ لهم به، ¬

_ (¬1) في (خ) و (د) (والكلام منهما): يمهل. وأثبتُّ اللفظة على الجادة. وينظر "تاريخ" الطبري 6/ 576. (¬2) جمع خُصّ، وهو بيت من شجر أو قصب. وعبارة الطبري: والخوارج في أعقابهم تَقْتُلُ حتَّى بلغوا أخصاص الكوفة. (¬3) في (خ) و (د) (والكلام منهما): عبد الحميد بن عبد الجبار، وهو خطأ. وهو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب والي الكوفة. وسلف ذكره قريبًا. ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 67 و 157. (¬4) في "تاريخ" الطبري 6/ 576: فراسلهم وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم ...

وكان شَوْذَب في نفر يسير لم يبلغوا المئة، فلما جاءهم سعيد قال شَوْذَب لأصحابه: مَنْ كان يريد اللهَ فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنَّما خرج للدنيا فقد ذهبت الدُّنيا، وإنَّما البقاء في الدار الآخرة. وكسرَ جَفْنَ سيفِه، وكسروا أغماد سيوفهم، وحملوا على سعيد فكشفوه مرارًا حتَّى خاف العار والفضيحة، فصاح بأصحابه: ويحكم، مِن هذه الشرذمة تفرُّون! لا أبا لكم، يا أهل الشام يومًا كأيَّامكم. فحملوا عليهم بأسرهم، فطحنوهم، وقتلوا شَوْذبًا وأصحابَه، ولم يُفلت منهم أحد (¬1). وقال أبو اليقظان: لم يقاتل أحدٌ قتال بِسطام، فبينا أهلُ الشام قد انكشفوا؛ جاءه سهمُ غرْبٍ (¬2)، فذبحه، وتعلَّق أصحابُه برؤوس الجبال، ورجع سعيد وقد قتل معظم أصحابه، وقتل الرَّيَّان بن عبد الله اليشكري، وكان من فرسان شَوْذَب، وقال أخوه شمر (¬3) بن عبد الله يرثيه: ولقد فُجِعتُ بسادةٍ وفوارسٍ ... للحرب سُعْرٍ من بني شيبانِ اِغتالهم (¬4) ريبُ الزمان فغالهم ... وتُركْتُ فردًا غيرَ ذي إخوانِ كَمِدًا تَجرجرُ (¬5) في فؤادي حسرةٌ ... كالنارِ من وجدي على الرَّيَّانِ وفواسٍ باعوا الإله نُفوسَهم ... من يشكرٍ عند الوَغَى فرسانِ وقال حسَّان بن جَعْدة يرثيهم: يا عينُ أذرِي دموعًا منكِ تَسْجَاما ... وابْكي صحابةَ بِسْطامٍ وبِسْطامَا فلن تَرَي أبدًا ما عشتِ بعدَهمُ ... أتقى وأكملَ عند اللهِ أحلامًا أفديهمُ إذْ تأسَّوا عند شدَّتهمْ ... ولم يريدوا عن الأعداء إحجامًا حتَّى مضَوْا للذي كانوا له خرجُوا ... وأورثونا حَزَازاتٍ وآلاما ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 6/ 575 - 577. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 158 - 159. (¬2) سهم غرب، وسهمٌ غَرْبٌ: لا يُدرى راميه. وتحوفت كلمة "غرب" في النسختين (خ) و (د) (والكلام منهما) إلى: غابر. (¬3) في (خ) و (د): سمرة. وهو خطأ. (¬4) في "تاريخ" الطبري 6/ 577: اعْتَاقَهم (يعني عاقَهم). (¬5) في المصدر السابق: تَجَلْجَلُ.

تبيع ابن امرأة كعب الأحبار

إنِّي لأعلمُ أنْ قد أُنزلُوا غُرفًا ... من الجنان ونالوا ثَمَّ خُدَّاما (¬1) تُبيع ابنُ امرأة كعْب الأحبار من الطبقة الثَّانية -وقيل: من الأولى- من التّابعين، من أهل الشام، كان عالمًا قد قرأ الكتب، وسمع من كعب علمًا كثيرًا (¬2). عرض عليه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - الإسلام، فلم يسلم حتَّى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمَ على يد أبي بكر الصِّديق رضوان الله عليه، وكان دليلًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ القرآن على مجاهد بجزيرة قريبة من القسطنطينية يقال لها: أرواد، كانا غازيين بها (¬3). وهو الذي نهى عمرو بنَ سعد الأشدق عن العصيان بدمشق وقال له: إنِّي وجدتُ في الكتب أن رجلًا من قريش يسافر مع ملك، ثم يغدر به، ويدخل مدينة من مدائن الشام يتحرَّزُ بها ويُقتل، وأنا خائف عليك، فاتق الله (¬4). وسأله ابن عباس: ما كان يقولُ كعبٌ في السحاب؟ فقال: إنه كان يقول: إنه غربال المطر، ولولا السحاب لأفسدَ المطر ما على وجه الأرض وما يقع عليه، فقال له ابن عباس: صدقتَ، وأنا سمعتُه يقول ذلك (¬5). مات تُبيع بالإسكندرية سنة إحدى ومئة (¬6). وقد روى عن جماعة من الصّحابة، منهم أبو الدرداء، وجماعة من التّابعين منهم عطاء بن أبي رباح، وكعب الأحبار (¬7)، وغيرهم. ¬

_ (¬1) الأبيات بنحوها في "تاريخ" الطبري 6/ 577 - 578. (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 455. (¬3) تاريخ دمشق 3/ 513 (مصورة دار البشير). (¬4) المصدر السابق 3/ 514. وفيه: فاتق الله لا تكونه. (¬5) المصدر السابق 3/ 516. (¬6) تاريخ دمشق 3/ 518. (¬7) كذا في (ب) و (خ) و (د). والذي في المصدر السابق 3/ 513. أنَّه روى عن كعب الأحبار، وروى عنه عطاء بن أبي رباح. وسلف أول الترجمة أنَّه سمع من كعب علمًا كثيرًا. وينظر أيضًا "تهذيب الكمال" 4/ 313.

أبو الزاهرية

أبو الزَّاهريَّة واسمُه حُدَيْر بن كُرَيْب الحميريّ، وكان صالحًا، من الطبقة الأولى من التابعين (¬1). روى عنه ابنه (¬2) قال: زرت بيت المقدس، فأغلقَ عليَّ السَّدَنَةُ أبوابَ الصخرة، وكنتُ نائمًا ولم يعلموا بي. قال: فما انتبهتُ إلا بتسبيح الملائكة على الصخرة، فوثبتُ مذعورًا، فإذا الملائكة صفوفٌ على الصخرة، ومَلَكٌ قائم بينهم يقول؛ سبحان الدائم القائم، سبحان الحيِّ القيوم، سبحان اللهِ وبحمده، سبحان الملك القُدُّوس، ربِّ الملائكة والروح، سبحان العليِّ الأعلى. فيُجيبه من هو أسفل منه، ثم ترتجُّ الصفوف بالتسبيح، فقلتُ للذي يليني منهم: من الَّذي على الصحرة؟ قال: جبريل، والذي يردُّ عليه ميكائيل، ونحن ملائكةُ الله، مَنْ قال هذا الدعاء في كل سنة مرةً، لم يخرج من الدنيا حتَّى يَرَى مقعدَه من الجنَّة، أو يُرَى له (¬3). مات أبو الزاهريَّة في سنة إحدى ومئة. وقيل: في سنة تسع وعشرين ومئة. والأوَّل أصحّ. أسند عن عبد الله بن بُسْر، وأبي أُمامة الباهليّ، وحُذيفة بن اليمان، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عَمرو بن العاص، وغيرهم. وروى عنه معاوية بن صالح، وابنُه حُميد بن حُدَير، وإبراهيم بن أبي عبلة، وغيرهم، وكان ثقة (¬4). أبو صالح السمَّان وهو الزيَّات، واسمه ذكوان، مولى غطفان، من الطبقة الثانية (¬5) من الموالي بالمدينة. أسند عن جماعة من الصحابة، وروى عنه خلق كثير، وكان ثقةً كثير الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) أورده أبن سعد 9/ 453 في الطبقة الثانية من التابعين من أهل الشام. (¬2) في (ص): روى هشام عنه. (¬3) بنحوه في "تاريخ دمشق" 4/ 283 (مصورة دار البشير). (¬4) ينظر "تاريخ دمشق" 4/ 285، و"تهذيب الكمال " 5/ 491. (¬5) يعني من التابعين. ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 296 - 297. (¬6) ينظر "تهذيب الكمال " 8/ 514 - 515.

سالم بن أبي الجعد

سالم بن أبي الجَعْد الغَطَفاني، مولىً لأشجع، من الطبقة الثانية من التابعين. قال هشام: رخَّص علقمة والأسود لسالم في بيع وَلاء مولىً له من عَمرو بن حُريث بعشرة آلاف درهم، يستعينُ بها على العبادة (¬1). وقال الهيثم: كان لأبي الجعد (¬2) ستةُ بنين؛ اثنانِ منهم يتشيَّعان، واثنانِ مُرجئان، واثنانِ خارجيَّان، فكان أبوهم (¬3) يقول: لقد خالفَ اللهُ بينكم. مات سالم سنة إحدى ومئة، وكان ثقة كثير الحديث. عبد الله بن شَقِيق البصري، كنيتُه أبو عبد الرحمن، العُقيلي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة. كان صالحًا مجابَ الدعوة، وتمرُّ به السحابةُ فيقول: اللهم لا تجاوز موضع كذا وكذا. فيكون كما قال، لا تجاوز حتَّى تُمطر (¬4). وحكى ابن سعد عن أبي قِلابة وذكر عنده عبد الله بن شقيق فقال: أيُّ رجل هو لولا أنَّه تعرَّب (¬5). قال: وكان عثمانيًّا. قيل: توفي في ولاية الحجاج بن يوسف على العراق. وقيل بعد المئة. ¬

_ (¬1) الخبر في "طبقات" ابن سعد 8/ 408 عن عطاء بن السائب. (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): كان لسالم، والتصويب من "طبقات" ابن سعد 409/ 8، و"المعارف" ص 452، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 109. (¬3) تحرفت في النسخ المذكورة إلى: إبراهيم. (¬4) تاريخ دمشق 9/ 413 (مصورة دار البشير). (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 125، وذكره أيضًا ابن عساكر في "تاريخه " 9/ 413 وقيَّد قوله: تعرَّب، بالعين المهملة، وذكر رواية أخرى بالغين المعجمة.

عمر بن عبد العزيز بن مروان - رضي الله عنه -

أسند عن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة -رضي الله عنهم-، وكان ثقةً في الحديث، وروى أحاديثَ صالحة (¬1). عمر بن عبد العزيز بن مروان - رضي الله عنه - قال المصنف رحمه الله: الأَولى ما نُظر فيه سيرة الزاهد الصالح الورع أبي حفص عمر بن عبد العزيز؛ لأنها مرفوعةٌ على الابتداء، منصوبةٌ على التمييز، تحثُّ الطالب على نيل المطالب، وتُزهِّدُ الراغب في دار المعايب، فنَشْرُ نَشْرِه أذكى من العَنْبَر، ونُور نَوْرِه أنور من القمر الأزهر، ولقد اقتفى آثارَ من سلف من السلف، وعَبَرَ وغَيَّر في وجه من غَبَر، فهو أحقُّ بقول القائل من جميع البشر (¬2): ما لذَّ في السمع أحلى من حديثك لي ... إذا ذكرتَهُمُ فاذْكُرْ بلا ضَجَرِ وأنتَ يا مخبري عنهم وذاكرَهُمْ ... أعِدْ حديثَك لي يا طيِّب الخبرِ وقد ذكرنا جُملًا من أخباره، ولُمَعًا من آثاره، فنختم سيرته بفنون، لمثل هذا فليعمل العاملون (¬3). ذكر طرف من ذلك: قال خُصيف: رأيتُ في المنام رجلًا قاعدًا، وعن يمينه رجل، وعن شماله آخر؛ إذْ أقبلَ عمر بن عبد العزيز، فأراد أن يجلس بين الَّذي عن يمينه وبينه، فلصق بصاحبه، فدار، فأراد أن يجلس بين الَّذي عن يساره وبينه، فلصق بصاجبه، فجذبه الأوسط، فأقعده في حجره، فقلتُ: من هذا؟ قالوا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أبو بكر، وهذا عمر (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 9/ 410، و"تهذيب الكمال" 15/ 90. (¬2) من قوله: قال المصنف ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص)، وجاء فيها بدلًا منه قوله: ذكر سيرته، ونذكر هذا البيتين (كذا) قدام السيرة. (¬3) قوله: لمثل هذا ... اقتباس من قوله تعالى من سورة الصافات الآية (61). وقد سلف جمل من أخباره وآثاره في أول سنة (99). (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 324. ولم يرد الخبر في (ص).

وقال أنس: ما صلّيتُ وراء أحدٍ أشبهَ صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى يعني عمر بنَ عبد العزيز (¬1). وقال إسرائيل (¬2): رأيتُ عمر بن عبد العزيز يمشي في المدينة وهو من أحسن الناس لباسًا (¬3)، وأطيبهم ريحًا (¬4)، وأخيلهم في مِشْية، ثم رأيتُه بعد ذلك يمشي مِشية الرُّهبان. قال: وكان عمر يصوم الاثنين والخميس وعشر ذي الحجة والمحرَّم. وقال جويرية بن أسماء: سمعتُ فاطمةَ بنتَ علي بن أبي طالب ذكَرَتْ عُمر بنَ عبد العزيز، فأكثرت الترحُّم عليه، وقالت: دخلتُ عليه وهو أمير المدينة يومئذ، فأخرجَ عني كل خصيّ وحَرَسيّ حتَّى لم يبقَ في البيت أحدٌ غيري وغيره، ثم قال: يا بنت عليّ، واللهِ ما على ظهر الأرض أهلُ بيت أحبَّ إليَّ منكم، ولأنتُم واللهِ أحبُّ إليَّ من أهل بيتي (¬5). وقال حجَّاج الصوَّاف: أمرني عمر بن عبد العزيز أن أشتريَ له ثيابًا وهو أمير على المدينة، فاشتريتُ له ثوبًا بأربع مئة درهم، فقطعه قميصًا ثم لمسه بيده وقال: ما أخشنَهُ وأغلظه! ثم أمر بشراء ثوب وهو خليفة فاشتَروْه بأربعةَ عشرَ درهمًا، فلمسه بيده وقال: سبحان الله ما أنعمه (¬6) وأدقَّه! وقال محمد بن عمار بن سعد القَرَظ: كنَّا نُؤْذِنُ عُمر بنَ عبد العزيز في داره للصلاة فنقول: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاتُه، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، الصلاةَ يرحمُك الله. وفي الناس الفقهاء لا ينكرون ذلك (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 326. ونسب الخبر في (ص) إليه. (¬2) الخبر في "طبقات" ابن سعد 7/ 326 من رواية أبي إسرائيل عن علي بن بَذِيمة. (¬3) في (ب) و (خ) و (د) و (ص): مشية. والمثبت من المصدر السابق. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): وأطيب الناس، بدل: وأطيبهم ريحًا، والمثبت من (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 327. ولم يرد الخبر في (ص). (¬6) في (ص): ما ألينه. والخبر في المصدر السابق 7/ 328. (¬7) طبقات ابن سعد 7/ 328.

وروى ابن سعد عن الواقدي عن مشيخة أهل المدينة (¬1) أنهم قالوا: كان عمر بن عبد العزيز يؤمُّنا ولا يجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. [وفيه دليل على تقوية مذهب أبي حنيفة] (¬2). وعن أيوب السَّخْتياني أنَّ عُمر بنَ عبد العزيز ردَّ المظالم التي كانت في بيت المال، ثم أمر بأن يزكَّى الباقي لماضي السنين (¬3)، ثم نظر فقال: لا يزكَّى إلا لسنة واحدة؛ لأنه ضِمار، أي: هالك (¬4). وكتب عُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إلى أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم والي المدينة أن استبرئ الدواوبن، فانظر كلَّ جَوْر جارَه مَنْ قَبلي (¬5) مِنْ حقِّ مسلم، أو معاهَد، فرُدَّه عليه، وإن كان من أهل تلك المظلمة قد ماتُوا؛ فادْفَعْه إلى ورثتهم. وقام يومًا في جامع دمشق وهو خليفة، فنادى بأعلى صوته: لا طاعةَ لنا في معصية الله (¬6). وكان يقول للناس: الحقُوا ببلادكم، فإني أذكُرُكُم ببلادكم وأنسابكم عندي، إلا من ظَلَمه عامل، فليس عليه مني إذْنٌ، فليأتِني (¬7). وجاءه جماعة من بني مروان فقالوا: إنك قصَّرتَ بنا عمَّا كان يصنعُه مَنْ كان قبلَك. وعاتبوه، فقال: لئن عُدْتُم لمثل هذا المجلس لأَشُدَّنَّ رِكابي، ثم لأقدمَنَّ المدينة ولأجعلنَّها شورى. أما إني لأعرفُ صاحبها الأُعيمش -يعني القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إنَّ لله في بني مروان ذَبْحًا، وأظنُّ أنَّ ذلك الذبح على يدي. وبلغ ¬

_ (¬1) في (ب): الحكم، بدل: المدينة. والخبر في "طبقات" ابن سعد 7/ 329 عن الواقدي عن عبد الحكيم بن عبد الله ابن أبي فروة. (¬2) الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬3) في "الطبقات" 7/ 336: أمر أن يزكَّى لا غاب عن أهله من السنين. (¬4) في "القاموس": الضِّمار من المال: الَّذي لا يُرجى رجوعه. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): جاه من قبل. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 7/ 336. ولم يرد الخبر في (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 337، ونُسب الخبر في (ص) إليه. (¬7) المصدر السابق.

القاسم فقال: رحم الله عُمر، إنَّ القاسم ليضعف عن أُهَيلِهِ، فكيف يقومُ بأمرِ أمَّةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1)؟ ! وكان عُمر - رضي الله عنه - يقول: لو كان إليَّ من الأمر شيءٌ ما عَدَوْتُ بها القاسم، أو صاحب الأَعوص. يعني إسماعيل بن عَمرو بن سعيد بن العاص. وكان عابدًا منقطعًا اعتزل الناس، فنزل الأَعْوص (¬2). وإسماعيل هذا هو أبو محمد الأموي، كان عالمًا زاهدًا، وكان مع أبيه لما غلبَ على دمشق، ثم سيَّره عبد الملك إلى الحجاز مع إخوته، ثم سكن الأعوص، واعتزل الناس، فلم يدخل في شيء من أمور الدنيا، وكان عمر بن عبد العزيز يراه أهلًا للخلافة (¬3). وروى عن ابن عباس وغيره، وروى عنه شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وغيره. وقال الزُّبير بن بكَّار: كان يسكنُ الأعْوَص شرقيَّ المدينة على بضعة عشر ميلًا -وقيل: على بريد منها- ولم يلتبس بشيء من الدنيا ولا سلطان بني أمية (¬4). وعاش إلى أيام بني العباس، ولما قدم داود بنُ علي المدينة قيل لإسماعيل: لو تحوَّلتَ. فقال: لا والله. فلم يعرض له داود، وعاش بعد ذلك يسيرًا، ومات رحمه الله. وقتلَ داود جماعةً من بني أمية، ثم اجتمعَ بإسماعيل، فقال له داود: أساءك ما فعلتُ بأصحابك؟ فقال: كانوا يدًا فقطعتَها، وعَضُدًا فبَتَتَّها، ورُكْنًا فهدمتَه، وجناحًا فهِضْتَه (¬5). قال داود: فإني خليقٌ أن أُلحقَك بهم. فقال: إني إذًا لسعيد (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 338. (¬2) المصدر السابق. والأَعْوص: موضع قرب المدينة، وسيذكره المصنف بعد أسطر. (¬3) تاريخ دمشق 2/ 868 (مصورة دار البشير). وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 453. (¬4) أخرجه ابن عساكر 2/ 869 عن الزبير بن بكار. (¬5) أي: كسرته. وفي "تاريخ دمشق" 2/ 870: نتفته. (¬6) تاريخ دمشق 2/ 870 (مصورة دار البشير).

والأعْوَص من ناحية العراق (¬1). وقال خادم لعمر - رضي الله عنه -: إنه لم يمتلئ من طعام من يومَ وديَ حتَّى مات، ووضع المَكْس عن كلٍّ أرض، وأباح الأحماءَ كلَّها إلا النَقِيع (¬2)، وأمر أن تُبنى الخانات بطريق خُراسان، وفرضَ لكلِّ منفوس (¬3). وكان إذا جلس يقضي حوائج الناس يأمر بشمعة من بيت المال، فإذا شرعَ في حاجة نفسِه طفأها (¬4). وحرَّم الطِّلاء (¬5) في كلِّ أرض، وأمر أن لا يدخل أحد من الرجال الحمام إلا بمئزر، ولا يدخله النساء. وكان يخرج إلى العيد ماشيًا، ويقول: لا تركبوا إلى الجمعة والعيدين (¬6). وكان يبدأ بتكبير التشريق من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة العصر (¬7) من أيام التشريق. وكان إذا صعد المنبر في العيد سلَّم (¬8). قال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز معلِّم العلماء، وكانوا بين يديه تلامذة (¬9). وأُخرج بين يديه مِسك من الخزائن، فأمسك عمر - رضي الله عنه - أنفه بيده مخافة أن يجد ريحه، فقال له رجل: ما ضرَّك لو وجدت ريحه! فقال عمر: وهَلْ يراد من هذا إلا ريحُه (¬10)! ¬

_ (¬1) من قوله: وكان يقول للناس الحقوا ببلادكم (قبل صفحة) إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) النَّقِيع: موضع قرب المدينة كان يستنقع فيه الماء (أي: يجتمع) حماه عمر - رضي الله عنه - لنَعَم الفَيء وخيل المجاهدين، فلا يرعاه غيرها. ينظر "النهاية" (نقع). (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 339 و 340. ونُسب الكلام في (ص) إليه. (¬4) المصدر السابق 8/ 341. (¬5) هو نبيذ مطبوخ يسمَّى طِلاءً تحرُّجًا من أن يسمَّى خمرًا. ينظر "النهاية" (طلى). (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 354. (¬7) في "الطبقات" 7/ 354: الظهر. (¬8) طبقات ابن سعد 7/ 355. (¬9) طبقات ابن سعد 7/ 359، وتاريخ دمشق 54/ 117 - 118 (طبعة مجمع دمشق). (¬10) طبقات ابن سعد 7/ 359.

وأوَّلُ كتاب كتبه عمر - رضي الله عنه - إلى عبد الحميد كان سطرًا واحدًا: أما بعد، إذا أتاك كتابي فأعْطِ كل ذي حق حقَّه. والسلام. فكتب إليه عبد الحميد: إن رجلًا سبَّك، فحبستُه، وقد هممتُ أن أضربَ عنقه، فما ترى فيه؟ فكتبَ إليه: لو قتلتَه لأقَدْتُك به، إنه لا يُقتل إلا مَنْ سبَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاسْتَتِبْه، وخَلِّ سبيلَه (¬1). وقال محمد بن الزُّبير الحنظلي: دخلتُ على عمر بن عبد العزيز وهو يتعشَّى كِسَرًا وزيتًا، فقال: ادْنُ فكُلْ. فقلت: بئس طعام المقرور (¬2). فأنشد عُمر: إذا ما ماتَ مَيْتٌ من تميمٍ ... فَسَرَّكَ أنْ يعيشَ فَجِئْ بِزادِ بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ... أو الشيءِ الملفَّفِ في البِجادِ (¬3) [ثم أنشدني بيتًا ثالثًا: ] تراه ينقل البطحاء شهرًا ... ليأكلَ رأسَ لقمانَ (¬4) بنِ عادِ [قلت: والبيت الأول حكاية جرت لمعاوية، وقد ذكرناها في سيرته] فقلت: يا أمير المؤمنين، ما كُنْتُ أرى أنَّ البيت الثالث فيها. قال: بلى. وقال محمد التيمي: إن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - لما وليَ منع قرابته ما كان يجري عليهم، وأخذَ منهم القطائع التي كانت في أيديهم، فشَكَوْه إلى عمَّته أمِّ عمر، فدخلت عليه فقالت: إنَّ قرابتك يشكونك ويزعمون أنك أخذتَ منهم خير غيرِك. فقال: ما منعتُهم حقًّا كان لهم، ولا أخذتُ منهم شيئًا كان لهم. فقالت: إني رأيتُهم يتكلَّمون، وأخاف أن يهيجوا عليك يومًا عصيبًا. فقال: كلُّ يوم أخافُه دونَ يوم القيامة فلا وقاني اللهُ شَرَّه. ثم دعا بدينار وجَنْب ومجمرة، فألقَى الدينارَ في النار، وجعلَ ينفخُ على الدينار، فلما احمرَّ تناولَه بشيء، فألقاه على الجَنْب، فنَشَّ وقَتَرَ، وقال: أي عمَّة، أما ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 360 دون قوله أول الخبر: وأولُ كتاب كتبَه ... إلى قوله: والسلام. وكذا في (ص). (¬2) الرجل المقرور: الَّذي أصابه البرد. (¬3) البِجاد: كساء مخظَّط من أكسية العرب. والملفَّف في البِجاد: وَطْب اللبن (أي: سِقاء اللبن). وينظر "أدب الكاتب" ص 15، و"بهجة المجالس" 1/ 108. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): شداد، بدل: لقمان. والمثبت من المصادر. ولقمان بن عاد وشداد بن عاد كلاهما من ملوك حمير في اليمن ... ولم يرد هذا البيت (الثالث) في (ص)، وما قبله وما بعده بين حاصرتين منها. والخبر في "طبقات" ابن سعد 7/ 363.

تأوين (¬1) لابن أخيك من مثل هذا؟ فقامت، فخرجت على قَرابته، فقالت: تزوّجون آلَ عُمر، فإذا نزعوا إلى الشِّبْه جزعتُم! اصبروا له (¬2). وقيل له: غَيِّرتَ كلَّ شيء حتَّى مِشْيتَك! فقال: واللهِ ما كانت إلا جنونًا. وكان إذا مشى خطر بيديه (¬3). وقال ربيعة الشَّعْوَذِيّ (¬4): ركبتُ في البريد إلى عمر، فانقطع بي البريدُ في أرض الشام، فركبتُ على دوابِّ السُّخْرة (¬5) حتَّى أتيتُه، فقال؛ ما فعلى جناحُ المسلمين؟ قلت: وما جناح المسلمين؟ قال: البريد. قلت: انقطع في أرض كذا وكذا. قال: فعلى أيِّ شيء جئتَنا؟ قلت: على دوابّ السُّخْرة. قال: أتُسَخِّر في سلطاني؟ ! فأمرَ به، فضُرب أربعين سَوْطًا (¬6). وقال فراتُ بن مسلم: اشتهى عمر - رضي الله عنه - تفاحًا، فبعث إلى بيته، فلم يجدن (¬7) شيئًا يشترون به، فركب وركبنا معه، فمرَّ بدَيرٍ، فتلقَّاه غلمانُ الدَّير معهم طبقٌ فيه تفاح [أو أطباق] فتناول تفاحةً فشمَّها، ثم أعادها إلى الطبق، ثم قال: ادخُلوا دَيرَكم، لا أعلمُ أنكم بعثتُم إلى أحد من أصحابي بشيء إلا عاقبتُكم. فقلت له: يا أمير المؤمنين، اشتهيتَ التفاح، فلما أُهدِيَ إليك ردَدْتَه، وقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعُمر يقبلون الهديَّة! فقال: لا حاجةَ لي فيه، إن أولئك كانت لهم الهدايا، وهي للعمال بعدَهم رِشْوة (¬8). ¬

_ (¬1) أي: تَرِقّين وترحمين. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 364، وتاريخ دمشق ص 542 (طبعة مجمع دمشق- تراجم النساء). (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 364. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬4) في "اللسان" (شعذ): الشَّعوذَة: السرعة، وقيل: هي الخِفَّة في كل أمر. والشَّعْوَذِيّ: رسول الأمراء في مهماتهم على البريد، وهو مشتق منه لسرعته. وقال الليث: الشعوذة والشعوذي مستعمل، وليس من كلام البادية. (¬5) السُّخْرَة: ما سَخَّرْتَه من دابَّة أو رَجُلٍ بلا أجرٍ ولا ثمن. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 365. (¬7) في (ب) و (خ) و (د): يجدون، والمثبت من (ص). وفي "طبقات" ابن سعد 7/ 367: يجد، ونُسب الخبر في (ص) إليه. (¬8) طبقات ابن سعد 7/ 367.

وقال فرات بنُ مسلم: كُنْتُ أعرض على عمر بن عبد العزيز كتبي في كل جمعة، فعرضتُها عليه، فأخذ منها قرطاسًا قدر شبر، أو أربع أصابع كتب فيه حاجة له، فقلت: غفل أميرُ المؤمنين. فلما كان من الغد بعث إليَّ أن ائتِ بكتبك. فأتيتُه بها، فبعثني في حاجة، فلما جئت قال: خُذْ كتبَك. فأخذتُها، فلما فتحتُها وجدتُ فيها قرطاسًا قدر القرطاس الَّذي أخذ من كتبي (¬1). وقال وُهيب بنُ الورد: اتَّخذَ عمر بن عبد العزيز دارًا لطعام الفقراء والمساكين وابن السبيل وقال لأهله: إياكم أن تصيبوا من هذه الدار شيئًا. فجاءت يومًا مولاةٌ له ومعها صَحْفة فيها غَرْفة من لبن، فقال لها عمر - رضي الله عنه -: ما هذه معك؟ قالت: زوجتُك فلانة حامل وتَشَهَّت غَرْفَةً من لبن، والحاملُ إذا تَشَهَّتْ شيئًا ولم تُؤتَ به تُخوِّف على ما في بطنها أن يسقط. فقال: إذا لم يمسك ما في بطنها إلا طعام الفقراء والمساكين فلا أمسكه الله، رُدِّيه. فقالت زوجته: رُدِّيه، فواللهِ لا أذوقُه أبدًا (¬2). وكتب [عمر] إلى عديّ بن أرطاة: أما بعد، فانظر إلى أهل الذِّمَّة، فارْفُقْ بهم، وإذا كَبِرَ أحدهم وليس له مال؛ فأنفِقْ عليه، فإنْ كان له حميمٌ فمُره بالإنفاق عليه وقاصِّه من خَرَاجِه (¬3) كما لو كان لك عبد فكَبِرَتْ سنُّه لم يكن لك بدٌّ أن تنفقَ عليه حتَّى يموت أو يَعتِق. وقد بلغني أنك تأخذُ من الخمر العشور، فتلقيه في بيت المال [أو: بيت مال الله] فإياك أن تُدخلَ بيتَ مالِ الله إلا طيِّبًا. والسلام (¬4). وكان يكتب إلى عماله أن لا تلبس أمةٌ خِمارًا، ولا يتشبَّهن بالحرائر (¬5). وقال له رجل: أبقاك الله. فقال: هذا أمرٌ قد فُرغ منه، ادْعُ لي بالصَّلاح. وبعث ببغلته إلى الرَّعْي، ما قَدَرَ على علفها، ثم باعها بعد (¬6). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 7/ 367 - 368. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 368 - 369، ونسب الخبر في (ص) إليه. (¬3) جاء في "القاموس": تقاصَّ القوم: قاصَّ كل واحد منهم صاحبه في حساب وغيره. ووقع في "طبقات" ابن سعد: جراحه، بدل: خراجه. وهو خطأ. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 370. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬5) المصدر السابق 7/ 371. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 372. ولم ترد هذه الفقرة في (ص).

وأمر أن لا يسخَّن ماؤه الَّذي يتوضأ به في مطبخ العامة (¬1). [وقال ابن سعد: حدثنا أحمد بن أبي إسحاق، عن حمَّاد بن زيد قال: حدثني موسى بن أعين -راعٍ كان لمحمد بن عيينة- قال: كنَّا نرعى الشاة بكِرْمان في خلافة عمر بن عبد العزيز، فكانت الشاءُ والذئاب والوحش ترعى في موضع وأحد، فبينما نحن ذات ليلة، إذ عرض الذئب لشاة، فقلنا. ما نرى الرجل الصالح إلا قد هلك. قال حمَّاد: فنظروا، فإذا عمر قد مات في تلك الليلة] (¬2). وقال محمد بن عمر: بعث عمر بن عبد العزيز إلى المدينة عشرة آلاف دينار، وأمر ابنَ حزم أن يقسمها في بني هاشم ويسوِّيَ بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى، فأنكر ذلك زيد بن الحسن، وقال: يسوِّي بين الكبير والصغير! وأغلظ لعمر، فقال له أبو بكر: لا تبلغ هذه المقالة عنك أمير المؤمنين فيغضبه ذلك، وهو حَسَنُ الرأي فيكم. فقال زيد: أسألك بالله إلا أخبرتَه بذلك. فكتب أبو بكر إلى عُمر يخبره بالمقالة، فلم يؤاخذه عمر رحمة الله عليه. وكتبت إليه فاطمة بنت الحسين تشكرُ له ما صنع، وقالت: يا أمير المؤمنين، لقد أخدمتَ من لم يكن له خادم، واكتسى من كان عاريًا -وكان قد أصابَ كلُّ واحد خمسين دينارًا- فسُرَّ عمر بذلك، فكتب إليها يذكر فضل بيتها وفضلها، ويذكر ما أوجبَ الله لهم عليه وعلى الناس من الحقِّ، وبعث إليها بخمس مئة دينار، وأعطى رسولَها عشرة دنانير (¬3). وقدم رجل من الأنصار على عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين، أنا فلان بن فلان، قُتل جدِّي يوم بدر، وأبي يومَ أُحُد. وجعل يذكر مناقب آبائه، فنظر عمر - رضي الله عنه - إلى عَنْبَسة بن سعيد وهو إلى جنبه وقال: هذه واللهِ المناقب، لا مناقبكم، مَسْكِن ودَير الجماجم! وأنشد: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 374. (¬2) المصدر السابق 7/ 376. وهذا الخبر (وهو بين حاصرتين) من (ص). (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 378 - 379، ونُسب الخبر في (ص) إليه.

تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لَبَنٍ (¬1) وكتب إلى عمَّاله أن يَنْهَوْا النساء عن الخروج مع الجنائز والنِّياحة والبكاء، وكشف وجوههنَّ ونَشْرِ شعورهنَّ، وشَقِّ جيوبهنَّ، وقال: إنما ذلك فعل الجاهلية والأعاجم (¬2). وسُئل عن عليّ وعثمان رضوان الله عليهما والجمل وصفِّين، وما كان بينهم، فقال: تلك دماءٌ كفَّ اللهُ يدي عنها، فأنا أكره أن أغمسَ لساني فيها (¬3). وقدم عليه بلالُ بن أبي بُرْدَة وأخوه عبدُ الله من الكوفة، فاختصما إليه في الأذان في مسجدهم، فارتابَ بهما عمر - رضي الله عنه -، فَدَسَّ إليهما رجلًا من أصحابه يقال له: العلاء بن المغيرة، وكان بلال قد لزم ساريةً يتعبَّد عندها ليلًا ونهارًا، فقال لهما: ما تقولان إن كلَّمتُ أميرَ المؤمنين فولَّاكما العراق؛ ما تجعلان في؟ فبدأ الرجل ببلال، فقال: أُعطيك مئة ألف درهم. ثمَّ أتى أخاه فقال له مثلَ ذلك، فأخبرَ الرجلُ عمر - رضي الله عنه -، فقال لهما: الحقا بمصرِكما. وكتبَ إلى عبد الحميد: لا تُولِّ بلالًا بُليل الشَّر، ولا أحدًا من ولد أبي موسى شيئًا. إذْ سبكنا بلالًا فوجدناه خبثًا كلَّه (¬4). ولما ولِيَ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الخلافة كتبَ إلى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اكتُبْ إليّ بسيرة عمر. فكتب إليه: إنَّ عمر كان في غير زمانك، وفي ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 381. وعجز البيت فيه: شِيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا. وهو من قصيدة لأبي الصَّلْت (والد أمية) في مدح فارس حين قتلوا الحبشة. ينظر "طبقات فحول الشعراء" 1/ 260 - 262. ومَسْكِن: موضع على نهر دُجَيل عند دير الجاثليق، به كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير سنة (72)، وقُتل فيها مصعب، ودَيْر الجماجم: موضع بظاهر الكوفة كانت عنده الوقعة بين الحجاج بن يوسف وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث سنة (82) وكُسر فيها ابن الأشعث. ينظر"معجم البلدان" 2/ 503 - 554 و 5/ 127. والقَعْب: قدح ضخم. (¬2) بنحوه في "طبقات" ابن سعد 7/ 381. ونُسب الخبر في (ص) إليه. (¬3) المصدر السابق 7/ 382. ونسب الخبر في (ص) إليه. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 383 دون قوله آخره: إذ سبكنا ... إلخ. فهو في "تاريخ دمشق" 3/ 490) مصورة دار البشير- ترجمة بلال بن أبي بردة) ولم يرد هذا الخبر في (ص).

رجالٍ غيرِ رجالِك، وإن عملتَ في زمانك ورجالك بمثل ما عملَ به عمر، كنتَ مثلَ عمر وأفضلَ منه (¬1). وقال الحسن بن أبي العمرَّطة: كنتَ إذا رأيتَ عمر قبل أن يستخلف تعرفُ الخير في وجهه، فلما استُخلف رأيتَ الموتَ بين عينيه (¬2). وكان له بِرْذَوْن وعبدٌ يستقي له الماء، ويحتطب له، فقال العبد يومًا: يا مولاي كلُّ الناس بخير إلا أنا وأنت (¬3). قال: اذهبْ فأنت حرّ. وكان قد جعل للخُمْسِ بيتَ مال على حدة، وللصدقة بيت مال على حدة، وللفيء بيت مال على حدة. وكتب إلى الآفاق: لا يُكتب في طُومار (¬4)، فكانت كتبُه إنما هي شبر أو نحوه. ولم يرتزق عمر - رضي الله عنه - من بيت المال شيئًا حتَّى مات. وقال عمر - رضي الله عنه -: خُلِقَتْ لي نفسٌ توَّاقة، فلم تزل تتوَّق إلى الإمارة حتَّى نلتُها فلما نلتُها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتُها تاقَتْ إلى الجنَّة (¬5). وقال عمارة بن أبي حفصة: إن مسلمة بن عبد الملك دخل على عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - في مرض موته (¬6)، فقال لأخته فاطمة بنتِ عبد الملك امرأةِ عُمر: إني أرى أميرَ المؤمنين قد أصبح اليوم مُفِيقًا، وإني أرى قميصه دنسًا (¬7)، فألبسيه غيره حتَّى نأذن للناس عليه. فسكتَتْ [فقال: ألبسي أمير المؤمنين غير هذا القميص. فقالت: واللهِ ما له غيره] (¬8). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 384. (¬2) المصدر السابق. (¬3) بعدها في (ب) و (خ) و (د): وهذا البِرْذَوْن! والمثبت من (ص) وهو كذلك في "طبقات ابن سعد" 7/ 387. (¬4) بعدها في "الطبقات": بقلم جليل ولا يمدَّنَّ فيه. والطومار (أو الطامور): الصحيفة. (¬5) من قوله: وكان قد جعل للخمس بيت مال .. إلى هذا الموضع، لم يرد في (ص). والكلام في "الطبقات" 7/ 388 - 387. (¬6) قوله: في مرض موته، ليس في (ص)، وينظر الكلام الآتي بعد تعليقين. (¬7) في "الطبقات": درنًا. (¬8) طبقات ابن سعد 7/ 389. والكلام بين حاصرتين من (ص). وينظر "تاريخ دمشق" 54/ 170 - 171.

فدخل عليه ثلاثة أيام يقول في كل يوم: اغسلوا قميصه. فبكت فاطمة في اليوم الثالث وقالت: والله ما له غيره (¬1). وخطب الجمعة يومًا بخُناصرة (¬2) وقميصُه مرقوع الجيب منَ بين يديه ومن خلفه، فلما نزل قيل له: إن الله قد أعطاك، فلو لبست وصنعت! فنكَّس رأسه مليًّا ثم رفعه وقد عرفوا أنَّه ساءه ذلك، فقال: إن أفضل القصد عند الجِدَة (¬3)، وأفضل العفو عند المقدرة (¬4). وقال أبو سريع (¬5) الشامي: كان سببُ زهد عمر في الدنيا وإقباله على الآخرة أن بعض عبيده جنى جنايةً، فأمر به فبُطح ليضربه، فقال له: يا مولاي، هل جنيتَ جناية غضب بها عليك مولاك؟ قال: نعم. قال: فهل عاجلك بالعقوبة؟ فانتبه عمر وقال: أطلِقُوه، فأنتَ حرٌّ لوجه الله. وقال المصنف رحمه الله: قرأتُ على شيخنا موفق الدين رحمه الله بروايته عن محمد بن البرَّاء أنَّه ذكر في كتاب "الروضة" أن رجلًا حدَّث عمر بن عبد العزيز أنَّ مَلِكًا من الملوك بنى مدينة فتنوَّقَ في بنائها، ثم صنع طعامًا، ودعا الناسَ إليه، وأقعدَ على أبوابها أناسًا يسألون الناس؛ كلَّ من خرج منها: هل رأيتم بها عيبًا؟ فيقولون: لا. حتَّى جاء آخر القوم؛ أناس عليهم أكسية، فسألهم: هل رأيتُم بها عيبًا؟ قالوا: نعم، عيبين اثنين. قالوا: وما هما؟ قالوا: تخربُ ويموتُ صاحبها. فحبسوهم وأخبروا الملك بذلك، فأحضرَهم، وسألهم، فقالوا مثل مقالتهم، فوقع كلامُهم في قلبه، فبكى وقال: هل تعرفون دارًا لا تخرب ولا يموتُ صاحبها؟ ! قالوا: نعم، الجنَّة. قال: فميعاد ما بيني وبينكم وقتُ السَّحَر بمكان كذا وكذا. ¬

_ (¬1) جاءت هذه الفقرة في (ص) بلفظ: ورواية أبي الحسين بن سمعون قال: كان ذلك في مرضى موته، وأن مسلمة دخل عليه ثلاثة أيام، يقول في كل يوم: اغسلوا قميصه. وأن فاطمة بكت في اليوم الثالث وقالت: واللهِ ما له غيره! (¬2) بُليدة من أعمال حلب تحاذي قنّسرين نحو البادية. معجم البلدان 2/ 390. (¬3) قرأها محقق "طبقات" ابن سعد 7/ 390: الحدَّة! (¬4) المصدر السابق. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬5) في (ص): ابن سريع.

قال: فخرج معهم وترك ملكه، وأقامَ يتعبَّد معهم، فقال لهم ذات يوم: السلام عليكم. قالوا: فهل رأيتَ منَّا شيئًا تكرهُه؟ قال: لا، ولكنكم تعرفوني، فتعظِّموني، وأحبُّ أن أكون في مكان لا أُعرف، ثم فارقَهم وهم يبكون. قال: فلما سمع عمر بن عبد العزيز هذا قام، وخرج إلى البَرِّيَّة، وترك الخلافة، فجاءه مسلمة بنُ عبد الملك وقال له: اتق الله في أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - فواللهِ لئن فعلتَ ليَقتَتِلُنَّ بأسيافهم. فسكن (¬1). وقال ابن سعد: قيل لعمر: يا أمير المؤمنين، لو أتيتَ المدينة، فإنْ قَضى اللهُ موتًا؛ دُفنْتَ في موضع القبر الرابع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، فقال: لأَنْ يعذِّبني الله بكل عذاب إلا النار (¬2)، أحبُّ إليَّ من أن يعلم أني أُرى لذلك أهلًا. وقال عمر - رضي الله عنه - يومًا لكاتبه سليمان بن سعد: بلغني أن عاملنا فلانًا كان زنديقًا. فقال الكاتب: وما يضرُّك؟ قد كان أبو النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كافرًا، فما ضرَّه. فغضبَ عُمر - رضي الله عنه - وقال: ما وجدتَ مثلًا إلا أبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعزله (¬3). [قال أبو الحسين الرازي: وسليمان بن سعد هذا من أمراء دمشق، وهو أول من نقل الديوان من اللغة الرومية إلى العربية، وكان مولىً من أهل الأردن] (¬4). وقال الإمام أحمد رحمه الله: يُروى في الحديث أنَّ الله تعالى يبعثُ على رأس كلِّ مئة سنة لهذه الأمة من يجدِّدُ لها دينَها. فنظَرْنا في المئة الأولى فإذا هو عُمر بن عبد العزيز، وفي الثانية الشافعيّ (¬5). وقال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة. فذكر الأربعة، قال: والخامس عمر بن عبد العزيز (¬6). ¬

_ (¬1) الخبر في "التوابين" لابن قدامة ص 69 - 71 باختلاف يسير. (¬2) بعدها في "طبقات" ابن سعد 7/ 391: فإني لا صبر لي عليه. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬3) تاريخ دمشق 7/ 614 (مصورة دار البشير- ترجمة سليمان بن سعد). (¬4) المصدر السابق 7/ 612. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬5) صفة الصفوة 2/ 113. (¬6) المصدر السابق.

وقال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: لما ردَّ عمر المظالم وانتزعَها من يد أهله وأقاربه؛ كتب إليه عمر بن الوليد بن عبد الملك: أما بعد؛ فإنك أزْرَيتَ على من كان قبلك من الخلفاء، وعبتَ عليهم، وسرتَ بغير سيرتهم بغضًا لهم وشَنْئًا لمن بعدَهم من أولادهم، قطعتَ ما أمرَ الله به أن يُوصل؛ إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم فأدخلتها بيتَ المال جورًا وعدوانًا، ولن تُترك على هذا. فغضب عمر وكتب إليه: من عبد الله عمر أميرِ المؤمنين إلى عمر بن الوليد، أما بعد، فإني قرأتُ كتابك وسأجيبك بنحوٍ منه: أما أوَّلُ شأنك يا ابنَ الوليد كما زعم أبوك؛ فأمُّك بنانة أَمَةُ السَّكون، كانت تطوف في أسواق حمص، وتدخل حوانيتها، ثم الله أعلم بها، اشتراها ذبيان من فَيء المسلمين، فأهداها للوليد، فحملت بك، فبئس المحمول وبئس المولود، ثم نشأتَ فكنتَ جبارًا عنيدًا، تزعمُ أني من الظالمين، لِمَ حرمتُك (¬1) وأهلَ بيتك فَيءَ الله الَّذي فيه حقُّ القرابة والمساكين والفقراء واليتامى، وإنَّ أظْلَمَ منّي وأَتْرَكَ لِعهدِ الله من استعملكَ على جُند المسلمين تحكُم فيهم برأيك، ولم تكن له في ذلك نيَّة إلا حبُّ الوالد لولده، فويلٌ لك وويلٌ لأبيك، ما أكثرَ خُصَماءَكما يومَ القيامة! وكيف ينجو أبوك من خصمائه؟ ! وإنَّ أَظْلَمَ منِّي وأتْرَكَ لِعهدِ الله مَن استعملَ الحجاجَ بنَ يوسفَ يسفك الدم الحرام، ويأخذُ المال الحرام، ويفعلُ ما فعل، وإنَّ أظْلَمَ مني وأتْرَكَ لِعهدِ الله من استعمل قُرَّة بنَ شريك أعرابيًّا جَلْفًا جافيًا على مصر، وأذِنَ له في اللهو والشرب والمعازف، وإنَّ أظْلَمَ مني وأتْرَكَ لعهد الله من استعمل عثمان بن حيَّان على الحجاز ينتهك حرمة الله، ويُنشد الأشعار على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّ أظلم مني وأترك لعهد الله من جعلَ لغاليةَ البربرية سهمًا في خُمس العرب، فرويدًا يا ابنَ بنانة، فلو التقَتْ حَلْقتا البِطان (¬2) ورُدَّ الفَيءُ إلى أهله؛ لتفرَّغْتُ لك ولأهلِ بيتك، فوضعتُكم ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 54/ 287 (طبعة مجمع دمشق): أنْ حَرَمْتُك. (¬2) هو مَثَل يُضرب في الحادثة إذا بلغت النهاية. قال الميداني في "مجمع الأمثال" 2/ 186: يقولون: "البِطان للقَتَب: الحِزام الَّذي يُجعل تحت بطن البعير، وفيه حلقتان، فإذا التقتا؛ فقد بلغ الشدُّ غايتَه". ووقع في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها فقط): التقتا حلقتا البطان. وأثبتُّ اللفظة على الجادّة.

على المَحَجَّة البيضاء، فطالما تركتُم الحقَّ، وأخذتُم في بُنَيَّات الطريق، ومن وراء هذا ما أرجو أن أكون رأيتُه؛ بَيْعُ رقبتِك، وقَسْمُ ثمنِك بين اليتامى والمساكين والأرامل، فإنَّ لكلٍّ فيك حقًّا، ولقد هممتُ أن أبعثَ إليك من يجزُّ جَمَّتَك جَمَّةَ السوء، والسلام علينا، ولا ينالُ سلامُ الله الظالمين (¬1). وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أمَّا بعد، فإنك كتبتَ إليَّ تذكرُ أنَّ سليمان كان يقطع للولاة بالمدينة من بيت المال ثمن شمع يستضيئون به حين يخرجون إلى صلاة العشاء والفجر (¬2)، ولقد عهدتُك وأنت تخرجُ من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوَحِلة بغير سراج! ولعمري لأنتَ يومئذٍ خيرٌ منك اليوم، والسلام. وقال الفِهْرِيّ: كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاح الفَئء، فتناول ابنٌ له صغيرٌ تفاحةً، فانتزعَها من فيه، فأوجعه، فسعى إلى أمِّه مستعبرًا، فأرسلَتْ إلى السوق، فاشترت له تفاحًا، فلما رجع عمر؛ وجدَ ريح التفَّاح، فقال: يا فاطمة، هل أتيتِ شيئًا من تفَّاح الفَيء؟ فقالت: لا. وقصَّت عليه القصة، فقال: واللهِ لقد انتزعتُها من فيه، ولكأنَّما نزعتُها من قلبي، ولكن كرهتُ أن أُضيِّع نصيبي من الله بتفاحة من فَئء المسلمين (¬3). وقال عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك: بكى عمر بنُ عبد العزيز، فبكت فاطمة، فبكى أهلُ الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء. فلما تجلَّت عنهم العَبْرة قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين، مِمَّ بكَيتَ؟ قال: ذكرتُ منصرفَ القوم من بين يدي الله {فَريقٌ في الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ} [الشورى: 7] ثم صرخ وغُشي عليه (¬4). وقال رجاء بن حَيوَة: كان الوفود يجتمعون على بابه فيبكي، ويُبكي أهلَ بيته ويُبكي الوفد، ثم ينصرفون ولا يسألون عن بكائه، قد علموا ما به. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 54/ 287 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عمر بن الوليد)، وصفة الصفوة 2/ 116 - 117. (¬2) بعدها في "صفة الصفوة" 2/ 119: وتذكر أنَّه قد نفد الَّذي كان يُستضاء به، وتسأل أن يُقطع لك من ثمنه بمثل ما كان للعمال. (¬3) صفة الصفوة 2/ 120. (¬4) حلية الأولياء 5/ 269، والمصدر السابق 2/ 121.

وقال زياد بن أبي زياد المدني: أرسلني مولاي ابنُ عياش بن أبي ربيعة إلى عمر بن عبد العزيز في حوائج له، فدخلتُ عليه وعنده كاتب يكتب، فقلت: السلام عليك، فقال: وعليكم السلام. ثم انتبهت فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لسنا ننكر الأولى. وعنده كاتب يقرأ عليه مظالم جاءت من البصرة، فقال: اجلس. فجلستُ على أُسْكُفَّةِ الباب وهو يقرأ عليه وعُمر يتنفَّس صَعَدًا، فلما فرغ؛ أخرجَ من كان في البيت حتَّى وصيفًا كان فيه، ثم قام يمشي حتَّى جلسَ بين يديّ، ووضع يدَيه على ركبتيَّ، ثم قال: يا ابن أبي زياد، استدفأتَ في مِدْرَعتك هذه -قال: وعليَّ مِدْرَعَةٌ من صوف- واسترحتَ ممَّا نحن فيه؟ ثم سألني عن صلحاء أهل المدينة؛ رجالِهم ونسائهم، فما ترك منهم أحدًا إلا وسألني عنه، ثم قال: أترى إلى ما وقعتُ فيه؟ فقلت: أبشِرْ، فإني لأرجو لك خيرًا. فقال: هيهات هيهات! أَشْتِمُ ولا أُشْتَم! وأَضربُ ولا أُضرَب! وأُوذِي ولا أُوذَى! ثم بكى حتَّى جعلتُ أرثي له، فأقمتُ حتَّى قضى حوائجي، ثم أخرج من تحت فراشه عشرين دينارًا، فقال: استعن بهذه، فإنه لو كان لك في الفَئء حقٌّ أعطيناك حقَّك، إنما أنتَ عبد. فأبيتُ أن آخذَها، فقال: إنما هي من نفقتي. فلم يزل بي حتَّى أخذتُها، وكتبَ إلى مولاي يسألُه أن يبيعني منه، فأبى وأعتقَني (¬1). وقال عمرو بن أبي المهاجر: قال لي عُمر بن عبد العزيز: إذا رأيتَني قد مِلْتُ عن الحقّ؛ فضَعْ يديك في تلبابي (¬2)، ثم هُزَّني وقل: يا عمر، ما تصنع (¬3)؟ وقال القاسم بن غزوان: إنْ كان عمر بن عبد العزيز ليتمثَّل بهذه الأبيات: أيقظانُ أنتَ اليومَ أم أنتَ نائمُ ... وكيفَ يُطيقُ النومَ حيرانُ هائمُ فلو كنتَ يقظانَ الغداةَ لقطَّعَتْ ... مدامعَ (¬4) عينيك الدموعُ السواجمُ ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 2/ 121 - 122. ومن قوله: وقال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة، (قبل ثلاث صفحات) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) في (ص): ثيابي. (¬3) حلية الأولياء 5/ 292، وصفة الصفوة 2/ 122. وقد نسب الخبر في (ص) لأبي نُعيم. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): مجاري، والمثبت من (ص)، وهو موافق لأغلب المصادر. وفي "الحلية": محاجر.

بل اغرقت (¬1) في النوم الطويل وقد دَنَتْ ... إليك أمورٌ مُفْظِعاتٌ عظائمُ نهارك يا مغرور نومٌ وغفلةٌ ... وليلُك نومٌ والرَّدَى لك لازِمُ يغرُّك ما يفنى وتُشغلُ بالمنى ... كما غَرَّ باللَّذاتِ في النوم حالِمُ فخرِّق غِطا العَينَينِ (¬2) إنك ناعشٌ ... وثبْ إنَّ رَيبَ (¬3) الدهرِ ويحكَ قائمُ ولا تجعلِ الدُّنيا قرارًا ومَسْكَنًا ... فتُخْصَمَ يوم الحشر حين تخاصمُ فلا أنت في الأيقاظ يقظانُ حازمٌ ... ولا أنتَ في النّوَّام ناجٍ فسالمُ وتكدحُ فيما سوف تكرهُ غِبَّهُ ... كذلك في الدنيا تعيشُ البهائمُ (¬4) وهذه الأبيات لعبد الله بن عبد الأعلى الشيباني (¬5). وقال ابنُ أبي الدنيا: كان عمر يقول: مَنْ صَحِبَني فليَصْحَبْني بخمس خصال: الأولى: يدلُّني على العدل إلى ما لا أهتدي إليه. والثانية: يكون لي عونًا على الخير. والثالثة: يبلِّغُني حاجةَ مَنْ لا يستطيع إبلاغها إليّ. والرابعة: لا يغتاب عندي أحدًا. والخامسة: أن يؤديَ الأمانةَ التي يحملُها مني وإليَّ من الناس، وإلا فهو في حَرَجٍ من صحبتي (¬6). وقال رجاء بن حَيْوة: كانت لعمر درجة فيها مرقاة تتحرك، وكان كلما صعد عليها عمر ونزل ارتاع، فعمد مولاه فشدَّها بطين، فقال له عمر: اقلعه، فإني عاهدتُ الله إنْ وليتُ هذا الأمرَ أن لا أضع لَبِنةً على لَبِنة. وقال المدائني: قدم رجل من أهل مصر على عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فقال: إن أباك ظلمني في أرضي. قال: وأين أرضُك؟ قال: حُلْوان، مكان بمصر. قال: أعرفُها، ولنا فيها شركاء. ثم قام عُمر، ومشى معه إلى الحاكم، فجلس بين يديه مع خصمه، ¬

_ (¬1) في "حلية الأولياء" 5/ 320، و"صفة الصفوة" 2/ 125: أصبحت. (¬2) في (ص): غطاء العيش. (¬3) المثبت من (ص)، وفي غيرها: إن رأيتَ. (¬4) ينظر إضافة إلى ما سلف: تاريخ دمشق 54/ 198، وسير أعلام النبلاء 5/ 138. ولم ترد الأبيات الثلاثة قبل البيت الأخير في هذه المصادر الأربعة، ولم أقف عليها. (¬5) ذكره المرزباني في "معجم الشعراء" ص 350 - 351 في ترجمة ابنه محمد. وينظر "لسان الميزان" 4/ 508. (¬6) بنحوه في "حلية الأولياء" 5/ 336. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 66 - 67.

فقضى القاضي على عمر، فقال عمر: قد أنفقنا عليها. فقال القاضي: ذلك بما نلتُم من غَلَّتِها. فقال عمر: لو حكمتَ بغير هذا لم تلِ لي أمرًا. ثم ردَّها على الرجل (¬1). وقال عبد الله بنُ راشد: أتيتُ عمرَ بالطِّيب الَّذي كان يُصنع للخلفاء من بيت المال، فأمسك على أنفه وقال: إنما يُنتفع منه بريحه (¬2). قال: وقام إليه رجل من الخوارج فقال: أشهد أنك من الفاسقين ولا دِين لك. فنظر إليه عمر وقال: أنت عندنا شاهدُ زُور، لا نُجيز شهادتك، أردتَ أن يستفزَّني الشيطان بعزِّ السلطان، فأنال منك اليوم ما تنالُه مني غدًا. ثم عفا عنه (¬3). وقال رجاء: كان عمر يجمع العلماء والزُّهَّاد عنده كلَّ ليلة، فيتذاكرون الموت والقيامة ويبكون كأنَّ بين أيديهم جنازة (¬4). وقال يزيد بن حوشب: ما رأيتُ أخوف لله من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأنَ النارَ لم تُخلق إلا لهما (¬5). حديث المرأة القادمة عليه من العراق: قال رجاء بن حَيْوَة: قدمت امرأةٌ من أهل العراق على عمر بن عبد العزيز، فلما صارت إلى بابه قالت: هل عليه من حاجب؟ قالوا: لا، فإنْ أحببتِ أن تلجي فَلِجي، فَدَخلَتْ وإذا بفاطمة زوجةِ عمر - رضي الله عنه - جالسة، فنظرَتْ في البيت، فلم ترَ فيه شيئًا، فبكت وقالت: إنما جئتُ لأَعْمُر بيتي من هذا البيت الخراب! فقالت لها فاطمة: واللهِ ما أخربَه إلا عِمارةُ بيوتِ أمثالِك. وأقبل عمر، فدخلَ الدار، فمالَ إلى بئر هناك، فنزع دلوًا فصبَّه على طين وهو ينظر إلى فاطمة، فقالت لفاطمة: استتري من هذا الطيَّان. فقالت فاطمة: ليس بطيَّان، وإنَّما هو أمير المؤمنين. فبكت المرأة، وغسل عمرُ رجليه ومال إلى مُصلَّاه، فصلَّى ما شاء الله، ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 118. (¬2) ينظر "حلية الأولياء" 5/ 326، وسلف نحوه أوائل ترجمته في ذكر طرف من أخباره. (¬3) بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 89. (¬4) الخبر في "تاريخ دمشق" 54/ 194 عن رجل عن عطاء. (¬5) المصدر السابق 54/ 192.

ثم سلَّم وقدَّم مِكْتلًا فيه عنب، وجعلَ يتخيَّر للمرأة منه، ثم قال: من أين المرأة؟ قالت: من أهل العراق، ولي خمسُ بنات كسل (¬1) قال: سمِّي الأولى، فسمَّتْها، ففرضَ لها، ثم الثانية، ثم الثالثة والرابعة، وهي تحمد الله، فلما سمَّت الخامسة، شكَرَتْه، فرمى بالقلم من يده وقال: كُنْتُ أفرضُ لهنَّ حيث كنت تُولين الحمدَ لأهله، أمَّا حيث ولَّيتني إيَّاه، فمُري الأربع يواسبن الخامسة. فدعت له، ودفعَ إليها نفقةً من ما له، وانصرفت. فلما قدمت العراق جاءت بالكتاب إلى عامله عبد الحميد بن عبد الرحمن، فلما نظر في الكتاب بكى، واشتدَّ بكاؤه وقال: رحم الله صاحبَ هذا الكتاب. فبكت المرأة وولولت وقالت: ضاع تعبي. فقال لها عبد الحميد: لا بأس عليك، واللهِ ما كُنْتُ ممَّن يطيعُه في حال حياته، ويعصيه بعد مماته. ففرضَ لبناتها ولها، وزادهنَّ. حديث الجارية وفاطمة: قال الهيثم: كانت لفاطمة بنتِ عبد الملك جارية ذاتُ جمال، وكان عمر - رضي الله عنه - معجبًا بها قبل أن تُفضي إليه الخلافة، فطلبها منها وحرص، فأبت أن تدفعَها إليه وغارت منها، ولم تزل في نفس عمر. فلما استُخلف؛ أمرت فاطمة بالجارية، فأُصْلِحَتْ وحُلِّيَتْ، فكانت حديثًا في حسنها وجمالها، ثم دخلت عليه فاطمة، فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك كنتَ سألتَني فلانة، فأبيتُ عليك، والآن فقد طابَتْ نفسي لك بها، فدُونَكَها. فاستبانَت الفرح في وجهه، وقال: أرسلي بها إليَّ. فأرسلت بها، فلمَّا دخلت عليه نظر إلى شيءٍ أعجبَه، فازدادَ بها عَجَبًا وقال لها: ألقي ثوبك. فلما همَّت أن تفعل؛ قال لها: على رِسْلِكِ، أخبريني، لمن كنتِ؟ ومن أين وصلتِ إلى فاطمة؟ قالت: كُنْتُ لعاملٍ من عمال الكوفة، فأغرمه الحجَّاج أمواله واستصعفاه، فأُخذتُ في رقيقه، فبعثَ بي الحجاج إلى عبد الملك مع المال والرقيق، وأنا يومئد صبيَّة، فوهبني عبدُ الملك لابنته فاطمة. قال: ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، وجاء فيها بعدها غير (ص): كسد.

فما فعل ذلك العامل؟ قالت: هلك. قال: وما ترك ولدًا؟ قالت: بلى. قال: وما حالُهم؟ قالت: سيِّئة. فقال لها: شُدِّي عليك ثوبكِ. ثم كتب إلى عامله عبد الحميد بالكوفة أنْ سَرِّحْ إليَّ فلانَ بنَ فلان على البريد. فسَرَّحه إليه، فلما دخلَ عليه قال له: ارْفَعْ إليَّ جميع ما أغرم الحجاجُ أباك. فلم يرفع شيئًا إلا دفعه إليه، ثم دفع إليه الجارية، وقال: إيَّاك وإيَّاها، فإنها حديثةُ السنِّ (¬1)، ولعل أباك قد ألمَّ بها. فقال الغلام: هي لك يا أمير المؤمنين. فقال: لا حاجة لي فيها. قال: فابْتَعْها مني. قال: لستُ إذَنْ ممَّن ينهى النفس عن الهوى ويأتيه. فقالت الجارية: فأين مَوْجِدتُك بي يا أمير المؤمنين؟ ! فقال: إنها لعلى حالها، ولقد ازدادت. فأخذَهَا الغلام ومضى، ولم تزل الجارية في نفس عمر رحمه الله حتَّى مات (¬2). أنشد العبَّاس بن علي الهاشمي: وإني وصبري عنك والشوقُ نارُهُ ... تَوَقَّدُ في الأحشاء أيَّ تَوَقُّدِ لكالحائم المَهْنُوع رُدَّ شرابهُ (¬3) ... ومصْطبرٍ للقتلِ من كفِّ معتدي وراكبِ هَوْلٍ وهْو يعلمُ ما الَّذي ... يجيءُ به في عُقْبِه اليومَ أو غَدِ وهل هو إلا أن أموتَ صَبابةً ... وشوقًا ولم يغلب هواك تجلُّدي (¬4) ذكر معاتبة بني أمية إيَّاه لما ردَّ المظالم: قال هشام بن محمد: اجتمعَ ببابه أعيانُ بني أمية، ومنهم مَسْلَمة بنُ عبد الملك، ومَسْلَمة بن سعيد بن العاص، فقال مسلمة بنُ سعيد لمسلمة بن عبد الملك: يا أبا سعيد، ما تقول في هذا الأمر الَّذي نحن فيه؟ قال: تلجؤون إلى الصبر إلى أن تنقضيَ ¬

_ (¬1) كذا في النسخ. وفي "اعتلال القلوب" للخرائطي ص 62: فإنك حديث السن. وهو الأشبه. (¬2) اعتلال القلوب ص 61 - 62. وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 54/ 158 - 159 مختصرًا. وينظر "البداية والنهاية" 12/ 696 - 697. (¬3) كذا في (ب) و (خ) و (د)، والمهنوع: من الهَنَع وهو انحناء القامة، أي: عُطف بعضُه على بعض. وفي "اعتلال القلوب " ص 63: الممنوعِ بَرْدَ شرابِهِ. وهو الأشبه. (¬4) اعتلال القلوب ص 63.

مدَّةُ هذا الرجل الَّذي بعثه الله عقوبة لكم بذنوبكم. فقال: لقد أجَّلتنا إلى أمد بعيد تفنى دونه أعمارُنا وأموالُنا، قوموا بنا ندخلْ عليه. وأخبره الحاجب بمكانهم. فقال: قد علمتُ الأمر الَّذي اجتمعوا لأجله، أَدخِلْ عليَّ زعيمَهم، فواللهِ لا انصرفوا إلا بما يُسَوِّدُ وجوهَهم. فدخل مسلمة بن سعيد، فسلَّم وجلس، وأخذ يُثني عليه، فقال له: دع هذا، وخُذْ فيما جئتَ له. فقال: إنَّ الأمر قد أفضى بأهل بيتك إلى حال يرثي لهم منه العدوّ. فقال: هيهات! تلك أَثَرَةٌ حملَها المعتدون على كاهل الدين، فأوقروه، واللهِ ما ازدَدْتُ لهم نَظَرًا إلا زاد البلاء عليهم ثقلًا. قال مسلمة: فادفَعْ إلينا صكاك قطائعنا من خلائفنا، فقال عمر - رضي الله عنه -: أذْكَرتَني الطعن، وكنتُ ناسيًا، يا جارية، هاتِ صندوق السجلَّات. فجاءت بصندوق، ففتحَه، وأخرج السجلَّات، فجعل يقطِّعُها سجلًّا سجلًّا. فقال له مسلمة: واللهِ لا نصبرُ على هذا. فقال: بلى واللهِ لتصبرَنَّ غير مكرم في دنيا، ولا مأجور في دين. فقال مسلمة: أراحنا الله منك. فقال له عمر - رضي الله عنه -: لا ضير، هلمَّ يدي بيدك حتَّى نوافيَ الموسم، فأجعلُها للمسلمين يختارون لأنفسهم ما شاؤوا. فقال مسلمة: واللهِ ما يمنعُني ما يسوءني بأهل بيتي أن أقولَ فيك الحق، واللهِ ما يعدلون بها عنك. فقال له: إنَّ للهِ في بني مروان ذَبْحًا، ووَدِدْتُ أنَّه كان على يدي. فلما بلغَ قومَه ذلك؛ كَفُّوا عنه لما يعلمون من صرامته (¬1). ذكر شيء من كلامه: قال أبو سريع الشامي: زار عمر بن عبد العزيز قبور آبائه، ثم رجع باكيًا، فقيل له: ما الَّذي أبكاك؟ فقال: خاطبني التراب، فقال: ألا تسألني عن ما فعلتُ؟ قال: قلتُ: ما صنعتَ؟ قال: فَصَلْتُ الكفَّين عن الساعدين والقدمين عن الساقين، وفعلتُ وفعلتُ. ثم قال: ألا أدلُّك على ثوب لا يَبْلَى؟ قلت: بلى. قال: التقوى (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 67/ 146 - 147 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة مسلمة بن سعيد) دون قوله آخره: فقال له إن لله في بني مروان ذبحًا ... إلخ. وقد ورد نحوه في خبر آخر في "أنساب الأشراف" 7/ 70. (¬2) ينظر: الهواتف ص 41، وحلية الأولياء 5/ 264، وتاريخ دمشق 54/ 190، والبداية والنهاية 12/ 704.

هذا خطاب بلسان العِبْرة والموعظة والحال، لا بلسان الحقيقة والمقال. وقال: قال عمر - رضي الله عنه - لرجل من جلسائه: يا فلان، لقد أرِقْتُ الليلةَ مفكِّرًا. قال: فيم؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيتَ الميِّتَ في قبره بعد ثلاث لاستوحشتَ منه بعد طُول الأُنس، فإنك ترى الهوامَّ والصديد، مع نتن الريح، وبِلَى الأكفان بعد حُسن الهيئة. ثم شهقَ وغُشيَ عليه، فقالت فاطمة لمولاه مزاحم: أَخْرِجْ هذا الرجل عنَّا. وجعلت تصبُّ الماء على وجهه وتبكي وتقول: ليت حِيلَ بيننا وبين هذا الأمر، فواللهِ ما أصبنا خيرًا منذ وقعنا فيه. فأفاق، فرآها تبكي، فقال: ما الَّذي بكِ؟ فقالت: ذكرتُ مصرعَك بين يدي الله، وفراقَنا لك، فذلك الَّذي أبكاني. فقال: حسبُكِ يا فاطمة، فقد أبلغْتِ. ثم مال فسقط، قالت: فضممتُه إلى صدري وقلت: بأبي أنتَ وأمي، ما نستطيعُ أن نكلِّمك بكلِّ ما نجدُ لك في صدورنا. فلم يزل على حاله حتَّى حضرت الصلاة، فناديتُه، فانتبَهَ فَزِعًا (¬1). ذكر جماعة من الوافدين عليه من الشعراء وغيرهم: لما استُخلف عمرُ بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه -؛ وفدَ عليه الشعراء، فأقاموا ببابه مدَّة لا يصلون إليه، وكانوا جماعة؛ منهم جرير، والفرزدق، وعمرُ بن عبد الله بن أبي ربيعة (¬2)، والأخطل، والأحوص، وكُثيِّر عَزَّة، ونُصَيب، وغيرهم. فمرَّ بهم عَوْنُ بنُ عبد الله بن عُتبة بن مسعود الهُذَليّ، فناداه جرير فقال: يا أيُّها الرجلُ المُرْخِي عِمَامَتَهُ ... هذا زمانُك إني قد مضى زمني أَبْلِغْ خليفتَنا إنْ كنتَ لاقِيَهُ ... أنِّي لَدَى البابِ كالمصفود في قَرَنِ لا تنسَ حاجتَنا لَقِيتَ مغفرةً ... قد طال مُكْثِيَ عن أهلي وعن وطني قال كُثَيِّر (¬3): قدمتُ أنا والأحوص ونُصَيب على عمر، وكلُّ واحدٍ منَّا يُدِلُّ بسابقته عندَه، فكان أوَّلَ مَنْ لقِينا مَسْلَمةُ بنُ عبد الملك، وهو يومئذ فتى العرب، وكلٌّ منَّا ينظر في عِطْفَيه، لا يظنُّ أنَّه شريكُ الخليفة، فأنزَلَنا مسلمةُ عنده، وأحسنَ ضيافتنا، وأكرمَ ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 5/ 268 - 269، وتاريخ دمشق 54/ 190، والبداية والنهاية 12/ 704 - 705. (¬2) في ذكر عمر بن أبي ربيعة في هذا الخبر نظر، فقد مات سنة (93) واستُخلف عمرُ بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه - سنة (99). (¬3) هذا مطلع رواية أخرى غير التي قبلها، وقد جمع المصنف (أو المختصر) بينهما، لكنه وقع في ذلك تناقض فيما جرى للأحوص فيهما. ينظر: الأغاني 9/ 257، والعقد الفريد 2/ 91، والمنتظم 7/ 35 - 42 (وفيه الروايتان).

مثوانا، ثم قال: أما علمتُم أنَّ إمامَكم لا يُعطي الشعراء شيئًا؟ فقلنا: قد جئنا الآن، فافتح لنا في هذا وجهًا. فأقمنا ببابه أربعة أشهر، ومسلمةُ يستأذن لنا، ولا يأذن. قال: فأتيتُ يومَ جمعة وعمر يخطب، فقال في خطبته: لكلِّ سفرٍ زادٌ لا مَحالة، فتزوَّدُوا من الدنيا إلى الآخرة، وكُونوا كمن عاينَ ما أعدَّ اللهُ [له] من ثوابه وعقابه، فعملَ طلبًا لهذا وخوفًا من هذا، ولا يطولَنَّ عليكم الأمَدُ فتقسُوَ قلوبُكم، وتنقادُوا لعدوِّكم، أعوذُ بالله أن آمرَكم بما أنهى عنه نفسي، فتخسرَ سَفْقَتي (¬1)، فارتجَّ المسجدُ بالبكاء، وبكى عمر حتَّى بلَّ ثوبَه. قال كُثَيِّر: فجئتُ إلى أصحابي وقلتُ: جدِّدُوا له من الشِّعر عْيرَ ما أعدَدْتُم، فليس الرجل بدنياوي. قال كُثَيِّر: ثم استأذنَ لنا مسلمةُ وقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك منذ مدَّة (¬2)، وإن سهامَهم مسمومة، وقد مُدح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالشِّعر، وأجاز عليه، فأعطى كعبَ بنَ زهير حُلَّة، وأعطى العبَّاس بن مِرْداس ما قطعَ به لسانَه. فقال عمر: مَنْ بالباب منهم؟ فقال: عمر بنُ عبد الله بن أبي ربيعة. فقال: أليس هو القائل: ثم نَبَّهتُها فهَبَّتْ كَعابًا ... طَفْلَةً ما تُبينُ رَجْعَ الكلامِ ساعةً ثم إنَّها بعدُ قالتْ ... ويلَتَا قد عَجِلْتَ يا ابنَ الكرامِ أعلى غير موعدٍ جئتَ تسعى ... تتخطَّى إليَّ رُوسَ النِّيامِ فلو كان عدوُّ الله إذ فَجَر؛ سترَ على نفسه لكان، واللهِ لا دخلَ عليَّ أبدًا. ثم قال: مَنْ بالباب غيرُه؟ قال: هُمام بن غالب -يعني الفرزدق- فقال: أليس هو القائل: هما دَلَّتاني من ثمانين قامةً ... كما انقضَّ بازٍ أقتَمُ الريشِ كاسرُهْ فلما استَوَتْ رِجْلايَ بالأرض قالتا ... أحيٌّ فيُرْجى أم قتيل نُحاذرُهْ ¬

_ (¬1) في "الأغاني" 9/ 257: صَفْقَتي (تقال بالسين أو الصاد) أي: بيعتي. (¬2) القائل هو عديّ بن أرطاة، وليس مسلمة، وهذا الكلام حتَّى نهاية ذكر دخول جرير على عمر - رضي الله عنه - من رواية غير التي قبلها، وقد جمع بينهما المصنف كما ذكرتُ قبل تعليق، وتنظر الروايتان في "المنتظم" 7/ 35 - 42.

لا والله، لا وطئَ لي بساطًا أبدًا. مَنْ بالباب غيره؟ قال: الأخطل. قال: أليس هو القائل: ولستُ بصائمٍ رمضانَ طَوْعًا ... ولستُ بآكلٍ لحم الأضاحي ولستُ بزائرٍ بيتًا بعيدًا ... بمكةَ أبتغي فيه صلاحي ولستُ بقائمٍ كالعيرِ أدعو ... قُبيلَ الصُّبح حيَّ على الفلاحِ ولكنِّي سأشربُها شَمولًا ... وأسكَرُ عند مُنْبَلَجِ الصباحِ واللهِ لا يدخلُ عليَّ وهو كافر أبدًا. ثم قال: مَنْ بالباب غيره؟ قال: الأحوص. قال: أليس هو القائل: اللهُ بيني وبين سيِّدها ... يَفِرُّ منِّي بها وأتَّبعُهْ لا يدخل عليَّ. ثم قال: مَنْ بالباب غيره؟ قال: جميل بن معمر. قال: أليس هو القائل: أيا ليتنا نحيا جميعًا وإنْ أمُتْ ... يوافقُ في (¬1) الموتى ضريحي ضريحُها فما أنا في طُول الحياة براغبٍ ... إذا قيل قد سُوِّي عليها صفيحُها فلو كان عدوُّ الله تمنَّى لقاها في الدنيا لعل يعملُ بعدَها صالحًا لكان، واللهِ لا يدخلُ عليَّ أبدًا. ثم قال: مَن بالباب غيره؟ قال: جرير بن عطيَّة. قال: أليس هو القائل: طرقَتْكَ صائدةُ القلوبِ فليس ذا ... وقتُ الزيارة فارْجِعي بسلامِ إن كان ولا بدَّ فليدخُلْ هو. فدخل جرير وهو يقول: إن الَّذي بعثَ النبيَّ محمدًا ... جعلَ الخِلافةَ في الإمامِ العادلِ وسعَ الخلائقَ عدلُه ووفاؤُهُ ... حتَّى ارْعَوَى وأقامَ مَيلَ المائلِ ولقد منعتَ بما صنعتَ (¬2) تحرُّجًا ... مَكْسَ العشورِ على جسور الساحلِ إني لآمُلُ منك خيرًا عاجلًا ... والنفسُ مُولَعةٌ بحبِّ العاجلِ ¬

_ (¬1) في "ديوان" جميل ص 51: يوافي لدى. (¬2) في "ديوان" جرير ص 331: ولقد نفعتَ بما منعتَ.

واللهُ أنزلَ في الكتابِ فريضةً ... لابنِ السبيلِ وللفقيرِ العائلِ ثم وقف بين يديه، فقال له عمر - رضي الله عنه -: يا جرير، اتَقِ الله، ولا تَقُلْ إلا حقًّا. فقال: أَأَذْكُرُ الجَهْدَ والبلوى التي شملَتْ ... أم أكتفي بالذي أُنبئتَ من خَبَرِي كم باليمامة من شعثاءَ أرملةٍ ... ومن يتيمٍ ضعيفِ الصوتِ والبصرِ فمَن يُرَجَّى له من بعدِ والدِه (¬1) ... كالفرخ في العُشِّ لم ينهض ولم يَطِرِ فبكى عمر بن عبد العزيز حتَّى بل الأرض بدموعه. ثم قال جرير: يدعوك دعوةَ ملهوفٍ كأنَّ به ... خَبْلًا من الخوفِ أو شيئًا من الشَّررِ (¬2) ما زِلْتُ بعدَك في هَمٍّ يؤرِّقُني ... قد طال في الحيِّ (¬3) إصعادي ومنحدري الخيرُ ما دُمْتَ حيًّا لا يفارقُنا ... بُوركتَ يا عُمرَ الخيراتِ من عُمرِ زاقَ (¬4) الخلافةَ إذْ كانَتْ له قَدَرًا ... كما أَتَى ربَّه موسى على قَدَرِ هذي الأراملُ قد قَضَيتَ حاجتَها ... فمن لحاجةِ هذا الأرملِ الذكَرِ فقال له عمر: يا جرير، إني لا أرى لك حقًّا ها هنا، إن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] فمن أيّ الأصناف أنت؟ قال: أنا ابنُ سبيلٍ منقَطَعٌ به. قال: أولستَ ضيفَ أبي سعيد (¬5)؟ يعني مسلمة. قال: بلى. قال: ما كُنْتُ أحسب أن ضيفَه يكون منقَطَعًا به، وما أرى لك حقًّا. قال: يا أمير المؤمنين إني فقير. قال: لا من أبناء المهاجرين، ولا من أولاد الأنصار، ولا من أولاد التابعين. فقال مسلمة: يا أمير المؤمنين، قد عوَّده الخلائف الإحسان، وإنَّ مثل لسانه ليُتَّقى. قال: يا جرير، عندي عشرون دينارًا، وأربعة أثواب. فدفعها إليه، فلما خرج قال له الشعراء: ما وراءَك؟ قال: إمام يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء (¬6). ¬

_ (¬1) بدل هذا الشطر في "الديوان" ص 211، و"العقد الفريد" 2/ 95: ممَّن يعدُّك تكفي فَقْدَ والدِهِ. (¬2) في الديوان": خَبْلًا من الجنِّ أو خبلًا من النَّشَرِ. (¬3) في "الديوان": ما زلتُ بعدك في دار تعَرَّقني قد عيَّ بالحيِّ ... (¬4) في "الديوان" ص 211، و"العقد الفريد" 2/ 96، و"مختصر تاريخ دمشق" 6/ 48: نال. (¬5) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): أبي شاكر. وهو خطأ .. وينظر "الأغاني" 9/ 258. (¬6) هنا تنتهي إحدى روايتي الخبر، وما بعده تتمة الرواية الأخرى، وقد جمع المصنف بينهما، وقد سلف الكلام عليه.

ثم قال عمر: مَنْ بالباب؟ قال مسلمة: كُثيِّر. قال: فليدخل. فلما دخل سلَّم عليه بالخلافة وقال: يا أمير المؤمنين طال الثَّواء، وقلَّت الفائدة (¬1)، وتحدَّثت وفودُ العربِ بجفائك إيَّانا. فقال له عمر - رضي الله عنه -: يا كُثيِّر، اتَّقِ الله، ولا تقلْ إلا حقًّا. فقال: وَلِيتَ فلم تَشْتُمْ عليًّا ولم تُخِفْ ... بريئًا ولم تسمع مقالةَ مجرمِ تكلَّمتَ بالحقِّ المبين وإنَّما ... تَبَيَّنُ آياتُ الهدى بالتكلُّمِ وقلتَ فصَدَّقْتَ الَّذي قلتَ بالذي ... فعلتَ فأمسى رايشًا كلُّ مسلمِ ألا إنَّما يكفي الفتى بعد بُرْهَةٍ ... من الأَمَدِ الباقي ثِقافُ المُقَوِّمِ وقد لَبِسَتْ لُبْسَ الملوك بِبابِها ... وأبدَتْ لك الدُّنيا (¬2) بكفٍّ ومِعْصَمِ وتُومِضُ أحيانًا بعينٍ مريضةٍ ... وتَبْسِمُ عن مثلِ الجُمانِ المُنَظَّمِ فأعرضْتَ عنها مشمئزًّا كأنَّما ... سقَتْكَ مَدُوفًا (¬3) من سِمامٍ وعلقمِ فما زِلْتَ سَبَّاقًا (¬4) إلى كلِّ غايةٍ ... صعدت بها أعلى البناء بسلَّمِ (¬5) تركتَ الَّذي يفنى وإنْ كان مُونِقًا ... وآثرتَ ما يبقى برأيٍ مصمِّمِ فما بينَ شرقِ الأرضِ والغربِ كلِّها ... منادٍ ينادي من فصيحٍ وأعجمِ يقولُ أميرَ المؤمنين ظلمتَني ... بأخذٍ لدينارٍ ولا أخْذِ درهمِ فلو يستطيع المسلمون لقسَّموا (¬6) ... لك الشطر من أعمارهم غير نُدَّمِ فعشتَ لنا ما حجَّ للهِ راكبٌ ... مُغِذٌّ مُطيفٌ بالمقام وزَمْزَمِ فأرْبِحْ بها من صفقةٍ لمبايعٍ ... وأعْظِمْ بها أعْظِم بها ثم أعْظِمِ ثم قال: مَنْ بالباب؟ فقال: الأحوص. فأَذِنَ له، فدخل فقال (¬7): ¬

_ (¬1) في (ب): العائدة. (¬2) في "ديوان" كُثيِّر ص 344: وقد لبست لبس الهَلُوك ثيابها تراءى لك الدنيا ... وينظر "الأغاني" 9/ 258. (¬3) أي: مخلوطًا. (¬4) في "الديوان" ص 345: توَّاقًا. (¬5) في "الديوان": بلغتَ بها أعلى البناء المقدَّم. (¬6) في "الأغاني" 9/ 259، و"الديوان" ص 346: تقسَّموا. وينظر "العقد الفريد" 2/ 89. (¬7) سلف أن عمر - رضي الله عنه - لم يأذن للأحوص بالدخول عليه. ووقع هذا التناقض بسبب جمع روايتين للخبر كما سلف الكلام عليه.

وما الشعرُ إلا خطبةٌ من مؤلِّفٍ ... لمنطقِ حقٍّ أو لمنطق باطلِ (¬1) فلا تقبلَنْ إلا الَّذي وافق الرِّضى ... ولا تَرْجِعَنَّا كالنساء الأراملِ ولولا الَّذي قد عَوَّدَتْنَا خلائفٌ ... غطاريفُ كانوا كالليوث البواسلِ (¬2) لَمَا وَخَدَتْ شهرًا بِرَحْليَ جَسْرةٌ (¬3) ... تَقُلُّ متونَ البِيدِ بينَ الرَّواحلِ ولكنْ رَجَوْنا منك مثلَ الَّذي به ... صُرِفْنا قديمًا من ذَويك الأفاضلِ رأيناك لم تَعْدِلْ عن الحقِّ يَمْنَةً ... ولا يَسْرَةً فِعْلَ الظَّلُومِ المُخاتِلِ ولكن أخذتَ القصدَ جَهْدَك كلَّه ... تقومُ مقامَ (¬4) الصالحين الأوائلِ فإن لم يكن للشعر عندك موضعٌ ... وإن كان مثلَ الدُّرِّ من قول قائلِ فإنَّ لنا قربى ومحضَ مَودَّةٍ ... وميراثَ آباءٍ مَشَوْا بالمَناصلِ وذادُوا عدوَّ السِّلْمِ عن عُقْرِ دارِهم ... فأرْسَوْا عمودَ الدينِ بعد التمايلِ فقبلَكَ ما أعطى الهُنَيدةَ جِلَّةً (¬5) ... على الشعر كعبًا (¬6) من سَدِيس وبازلِ (¬7) رسولُ الإلهِ المصطفى بنبوَّةٍ ... عليه سلامٌ بالضُّحى والأصائلِ وكلُّ الَّذي عَدَّدْتُ (¬8) يكفيك بعضُهُ ... وقُلُّكَ (¬9) خَيرٌ من بُحورِ السوائل (¬10) فقال له عمر - رضي الله عنه -: إنَّ اللهَ يسألُك عمَّا قلتَ. ¬

_ (¬1) في "العقد الفريد" و"الأغاني" 9/ 259: بمنطق حقٍّ أو بمنطقِ باطلِ. (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): البوازل. والمثبت من المصادر السابقة إضافة إلى "الشعر والشعراء" 1/ 507. (¬3) وَخَدَتْ، أي: أسرعت ووسَّعت الخطو. والجَشرة: العظيمة من الإبل. ووقع في "الشعر والشعراء": رَسْلَةٌ، وفي "العقد الفريد" 2/ 90: شِمِلَّةٌ. والمعنى متقارب. (¬4) في "العقد" و"الأغاني": وتفقو مثال. وفي "الشعر والشعراء": تقدُّ مثال. (¬5) الهُنَيدة: المئة من الإبل، والجِلَّةَ: المَسَانُّ منها. (¬6) يعني كعب بن مالك. ووقع في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): قدما (؟ ) والمثبت من المصادر. (¬7) السَّدِيس من الإبل: ما دخل في الثامنة. والبازل: البعير الَّذي طلع نابُه وذلك في السنة الثامنة أو التاسعة. (¬8) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): أوعدت (؟ ) والمثبت من "الشعر والشعراء" 1/ 507، و"الأغاني" 9/ 260. (¬9) أي: القليل منك. (¬10) في "الشعر والشعراء": بُحورٍ سوائلِ.

ودخل عليه نُصَيب، وكنيتُه أبو مِحْجَن، وهو مولى عبد العزيز بن مروان، فقال له: يا أمير المؤمنين، قد عرفتَ انقطاعي إلى أبيك. ثم استأذنَه في الإنشاد، فلم يأذن، فغضب، فأمره باللحاق بدابِق (¬1) للغزو، ثم قال لمولاه مُزاحم: ما عندك؟ ما غلَّتي بالحجاز؟ قال: خمسون درهمًا. قال: ادفَعْها إليه. فقال نُصيب: إني قد علفتُ دابَّتي بأكثرَ من هذا! فقال: أعْطِهِ ثيابَ الجُمعة. فأعطاه إيَّاها (¬2). قال الهيثم: ولما أنشد الشعراء، قال لهم: واللهِ ما عندي ما أُعطيكم، فانتظِرُوا عطائي. فلما خرج؛ أعطى كل واحد منهم ثلاث مئة درهم، وأمر لنُصيب بمئة وخمسين. قال الأحوص: فواللهِ ما رأيتُ عطاءً أكثر بركةً منها. فاشتريتُ بها وصيفةً، فبعتُها بألف دينار (¬3). وقال دُكين الشاعر: مدحتُ عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة، فامر لي بخمس عشرة ناقةً كرائمَ، فقَدِمَتْ رُفْقَةٌ من مصر، فسألتُهم الصحبة، فأتيتُه فودَّعتُه، فقال: يا دُكين، إنَّ لي نفسًا توَّاقة، فإنْ صِرْتُ إلى غير ما أنا فيه فائْتنِي ولك الإحسان. قال: وكان عنده شيخان لا أعرفُهما، فقلت لأحدهما: مَنْ أنتَ؟ قال: سالم بن عبد الله بن عُمر، وقال الآخر: أنا أبو يحيى مولى الأمير. قال: وخرجتُ إلى مصر بالنُّوق، فجعل الله فيهنَّ البركة حتَّى اقتنيتُ منهنَّ الإبل والعبيد. فأنا ذات يوم بصحراء بَلْخ (¬4)؛ إذا بِناعٍ يَنْعَى سليمان بن عبد الملك، فقلت: ومَنْ قام بعدَه؟ قالوا: عُمر. فتوجَّهتُ نحوه، فلقِيَني جرير الشاعر مقبلًا، فقلت: من أين أقبلت؟ قال: من عند من يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، فانطلقت إلى خُناصرة (¬5)، وإذا به في عرصة الدار، وقد أحاط به الناس، فلم أخلص إليه، فناديت: ¬

_ (¬1) قرية على أربعة فراسخ من حلب. (¬2) ينظر إضافة إلى ما سبق: "تاريخ دمشق" 17/ 556 (مصورة دار البشير- ترجمة نُصيب). (¬3) الأغاني 9/ 260. (¬4) في "الأغاني" 9/ 261: فَلْج. (¬5) بُليدة من أعمال حلب تحاذي قِنَّسرين. معجم البلدان 2/ 390.

يا عُمر الخيراتِ والمكارمِ ... وعُمرَ الدَّسائعِ (¬1) العظائمِ إني امرؤٌ من قَطَن بنِ دارمِ ... أطلبُ دَيني من أخي مَكارِمِ شهادتي واللهُ خيرُ عالمِ ... عند أبي يحيى وعند سالمِ فقام أبو يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، لهذا البدويّ عندي شهادةٌ. فقال عُمر: أعرفُها. ثم قال: يا دُكين، ادْنُ منِّي. فدنوتُ منه فقال: أنا كما قلتُ لك، لي نفسٌ توَّاقة لم تزل تتوق إلى الإمارة حتَّى نلتُها، فتاقَت إلى غاية ما في الدنيا، وهي الخلافة، وها هي تتوق إلى الآخرة. ثم قال: والله ما رزأتُ من أموال المسلمين شيئًا، وما عندي إلا هذه الألف درهم، فخُذْها. فأخذتُها، فبارك الله لي فيها. وأنشد عمر - رضي الله عنه - يومًا قول الأحوص: سيبقى لها في مضمر القلب والحَشَا (¬2) فقال: قاتله الله ما أغفله عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9]. ونفى الفرزدق من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أيُنْشِدُ الهجوَ بحضرة رسول - صلى الله عليه وسلم - الله؟ ! وقال أبو سريع الشامي: قدم وفد من أهل العراق لما استخلف عمر وفيهم غلام فتكلَّم، فقال عمر: الكبيرَ الكبيرَ. فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان الأمرُ بالكِبَر؛ لكان في هذه الأمة من هو أكبر سنًّا منك، وإنَّما المرءُ بأصغَرَيهِ قلبِه ولسانِه. قال: صدقت، تكلَّم. قال: نحن وفدُ الشكر، لا وفدُ الرَّهبة والرغبة، أما الرغبة فقد أتَتْ إلينا منك في بلادنا، وأما الرهبة فقد أمنَّا بعَدْلِك من جَوْرك، فالحمد لله الَّذي منَ علينا بك. فقال عمر: يا غلام، عِظْني وأوْجِزْ. فقال: إن أناسًا غرَّهم حلمُ الله عنهم، وحُسنُ الثناء عليهم، وطولُ آمالهم، فلا يغرَّنَّك ذلك فتزلَّ قدمُك (¬3). ¬

_ (¬1) جمع دَسِيعة، وهي العطية. (¬2) وعجزه: سريرةُ حبٍّ يوم تُبلى السرائر. والخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 145. (¬3) مروج الذهب 5/ 427 - 428، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 74.

وأنشد عمر: تَعلَّمْ فليسَ المرءُ يُولَدُ عالمًا ... وليس أخو علمٍ كمن هو جاهلُ وإن كبيرَ القومِ لا عِلْمَ عندَهُ ... صغيرٌ (¬1) إذا التفَّتْ عليه المحافلُ (¬2) وقال: وفد خالد بن صفوان بن الأهتم على عمر - رضي الله عنه -، فقال: يا ابنَ الأهتم، عِظْني وأَوجِزْ. وبيان عمر على سرير، فقال خالد: إن أقوامًا غرَّهم سترُ الله عليهم، وفتنَهم حسنُ الثناء، فلا يغلبنَّ جهلُ غيرك بك علمَك بنفسك، وإنه ليس أحدٌ من آبائك دون آدم إلا وقد ذاق الموت. فجعل عمر يبكي وابن الأهتم يعظُه، فنزل عمر من سريره، وجلس على الأرض بين يديه وابن الأهتم يقول: وأنت يا عُمر من أولاد الملوك الذين غُذُوا بالنعيم لا يعرفون غيره، وعمر يبكي وقد جثا على ركبتيه وهو يقول: يا ابنَ الأهتم، هيه هيه. فلم يزل يعظه حتَّى غُشِيَ عليه (¬3). وقال: قدم أبو حازم المدني على عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، فلم يعرفه، وعرفَه عُمر، فناداه: يا أبا حازم، ادْنُ منّي. قال أبو حازم: فدنوتُ منه، فقال: ما أراك تعرفني؟ ! فقلت: بلى، أنت أمير المؤمنين. قال: أجل. فقلت: ألم تكن عندنا أميرَ المدينة؟ ! قال: بلى. قلت: كان مركبُك وَطِيًّا، وثوبُك نقيًّا، ووجهُك بهيًّا، وطعامُك شهيًّا، وقصرك مَشِيدًا، وخدمُك كثيرًا؟ ! فما الَّذي غيَّرَّك وقد صرتَ أمير المؤمنين؟ ! [قال: ] فبكى وقال: يا أبا حازم، فكيف لو رأيتَني في قبري بعد ثلاث وقد سألَتْ حدقتاي على وجنتيّ، وجفَّ لساني، وانشقَّ بطني، وجالت الديدان في جسدي لكنت أشدَّ إنكارًا! أعِدْ عليَّ الحديث الَّذي حدثتني عن أبي هريرة بالمدينة. فقلت: حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بين أيديكم عَقَبةً كؤودًا مضرَّسة، لا يجوزُها إلا كلُّ ضامر مهزول" [قال] فبكى طويلًا، ثم قال: أما ينبغي لي أن أُضَمِّرَ نفسي لتلك العقبة لعلِّي أنجو منها، وما أظنني بناجٍ. ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية غير (ص) (فالكلام ليس فيها): صغيرًا وأثبتُ اللفظة على الجادَّة. وينظر "مروج الذهب" 5/ 428، و"الحماسة البصرية" 2/ 76، و"المستطرف" 1/ 107. (¬2) الخبر في "مروج الذهب" 5/ 427 - 428، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 74. (¬3) ينظر "تاريخ دمشق" 5/ 463 - 464 (مصورة دار البشير- ترجمة خالد بن صفوان بن الأهتم). ومن قوله: ذكر جماعة من الوافدين عليه من الشعراء وغيرهم ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

ثم غفا وتصبَّبَ عرقًا، وبكى في نومه بكاءً طويلًا حتَّى علا نحيبُه، ثم تبسَّم واستيقظ، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا البكاء والتبسُّم؟ ! فقال: إني أغفَيتُ، فرأيتُ في منامي كأنَّ القيامةَ قد قامت والناس مئة وعشرون صفًّا، أمَّةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - منها ثمانون صفًّا ينتظرون الحساب، وإذا بمنادٍ ينادي: أين ابنُ أبي قُحافة؟ فجيء به، فحُوسب حسابًا يسيرًا، ثم أُمر به إلى ذات اليمين، ثم جيء بعمر وعثمان وعلي، ففُعل بهم كذلك، ثم نودي: أين عُمر بن عبد العزيز؛ فجيء بي، فُحوسبتُ على القليل والكثير والفتيل والنقير، وغُفر لي وأُمر بي ذات اليمين، فبكَيتُ خوفًا، وتبسَّمتُ فرحًا، ومررتُ في طريقي بجيفة؛ فحركتُها برجلي وقلت: من أنت؟ فقال: الحجَّاج بنُ يوسف الثقفيّ. قلت: ما فعل الله بك؟ قال: قدمتُ عليه، فقتلني بكل قَتْلةٍ قتلتُ قَتْلَةً، وبقتلة سعيد بنِ جُبير سبعين قتلةً، فمن أنت؟ قلت: عمر بن عبد العزيز. قال: فما فعل الله بك؟ قلت: غُفر لي وللخلفاء الأربعة. قال: فالباقون؟ قلت: لا علم لي بهم. ثم قلت: ما تنتظر أنت ها هنا؟ قال: أنتظرُ ما ينتظر الموحِّدون، إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النار. قال أبو حازم: فعاهدتُ الله أن لا أقطعَ لأحدٍ من أهل القبلة بجنَّةٍ ولا نار (¬1). قال عمر لأبي حازم: ارفَعْ إليَّ حوائجَك. فقال: قد رفعتُها إلى من لا تُختزَلُ الحوائج دونه، فما أتاني منها قنعتُ، وما منعني منها رضيتُ، وإني نظرت في هذا الأمر فإذا هو شيئان؛ أحدهما لي، والآخر لغيري، فأمَّا ما كان لي فلو احتلتُ بكلّ حيلة ما وصلتُ إليه قبل أوانه الَّذي قدِّر لي، وأمَّا الَّذي لغيري فلا أطمع فيه، وكما مُنع غيري من رزقي؛ فكذا مُنعتُ من رزق غيري، فعلام أُتعبُ نفسي (¬2)؟ ! ¬

_ (¬1) بعدها في (ص) ما صورتُه: قال بعض العلماء: وهذا عهد وجب على أي حازم نقضه، فإنه لم يكن أورع من الحسن البصري. وينظر الخبر بتمامه ومختصرًا في: "حلية الأولياء" 5/ 299 - 302، و"تاريخ دمشق" 7/ 456 (مصورة دار البشير- ترجمة سلمة بن دينار)، وذكره أيضًا آخر الكتاب 19/ 24 (ترجمة أبي حازم الأسدي ولم يسمّه)، و"المنتظم" 7/ 43 - 45. وورد بعض القصة بين عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن كعب القرظي. ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 361، و"أنساب الأشراف" 7/ 113، و"تاريخ دمشق" 64/ 196 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) بنحوه في "المعرفة والتاريخ" 1/ 679 - 685، و"تاريخ دمشق" 7/ 461 (مصورة دار البشير).

وقال سابق البربري: وفد يزيد بن أبان الرَّقاشي على عمر فقال له عمر: عِظْني. فقال: ليس بين الجنِّة والنار منزل. قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14] فبكى عمر حتَّى سقط (¬1). ويزيد الرَّقاشي من الطبقة الثالثة من التابعين، من أهل البصرة، كان قد صام ستين سنة، حتَّى ذبل جسمُه، وتغيَّر لونُه، وكان يبكي طول الليل ويقول: يا إخوتاه، تعالوْا نبكي أيام الدنيا، وكان قد عطَّشَ نفسه ستين سنة، وكان لا يفطر إلا خمسة أيام (¬2)، ويقول: سبقني العابدون، وقُطع بي. وكان يتقلَّبُ على الرَّمل في اليوم الحارّ ويقول: يا يزيد من يصوم عنك بعد الموت؟ من يصلِّي عنك؟ من يسترضي ربَّك لك؟ ثم بكى حتَّى سقطت أشفارُ عينيه. وكان يقول: إلهي إن كنتَ أذنتَ لأحدٍ من المحبِّين أن يصلِّيَ ويصوم في قبره، فأْذَنْ لي. وقال ثابت البُناني: ما رأيتُ أحدًا أصبرَ على طول القيام والسهر من يزيد، وكان يقول في قصصه: يا معاشر مَن القبرُ بيتُه، والموتُ موعدُه، ألا تبكون؟ ! وقيل له: أما تسأم من البكاء؟ ! فقال: وَدِدْتُ أن أبكيَ بعد الدموع دمًا، ثم الصديد، يا إخوتي، إن لم تبكُوا؛ فارحموا الباكي. وكان ينشد: إنَّا لَنَفْرَحُ بالأيام نقطعُها ... وكلُّ يومٍ مضى يُدني من الأَجَلِ (¬3) حدَّث عن أنس، والحسن البصريّ. ¬

_ (¬1) بنحوه أطول منه في "الزهد الكبير" للبيهقي (551)، و"تاريخ دمشق" 18/ 223 (مصورة دار البشير). (¬2) يعني يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق الثلاثة. وقد روى هو الحديث فيه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أخرجه أبو يعلى في "المسند" (4117). ووقع في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): إلا بعد خسة أيام، وهو خطأ. وينظر "حلية الأولياء" 3/ 50، و"تاريخ دمشق" 18/ 228 (مصورة دار البشير- ترجمة يزيد الرقاشي). (¬3) ينظر "تاريخ دمشق" 18/ 227 - 232 (مصورة دار البشير)، و"صفة الصفوة" 3/ 289 - 290، و"تهذيب الكمال" 32/ 70 - 74. ولعل أبا العتاهية أخذ البيت، فقد نسب الراغب الأصفهاني في "محاضرات الأدباء" 4/ 49 له: نظلُّ نفرح بالأيام نقطعها ... إلخ، وأورده محقق "الديوان" في "تكملته "ص 218 عن الراغب.

وروى عنه الحسن أيضًا، وقتادة، وأبو الزِّناد، والأعمش، وحمَّاد بن سَلَمة، والرَّبيع بن صَبِيح، والأوزاعي، وغيرُهم. وقد تكلَّموا فيه، فقال ابن سَعْد: كان قَدَريًّا ضعيفًا. وقال الإمام أحمد بنُ حنبل - رضي الله عنه - والبخاري: كان شعبة يتكلَّم فيه. وقال أبو أحمد بن عديّ: ليزيد الرَّقاشي أحاديث صالحةٌ عن أنس وغيره، وأرجو أنَّه لابأس به لرواية الثقات عنه من البصريين والكوفيين وغيرهم. وذكره الشيخ جمال الدين ابن الجوزيّ في "الصفوة" وأثنى عليه، وقال: شغله التعبُّد عن حفظ الحديث، فأعرضَت النَّقَلَةُ عمَّا يروي (¬1). ذكر مكاتبات عمر - رضي الله عنه - إلى العلماء ومكاتباتهم إليه: قال أبو عبيد: كتب الحسن البصريّ إلى عمر: أما بعد، فإنَّ الهولَ الأعظم ومُفْظِعاتِ الأمور أمامَك لم تقطع منها شيئًا بعد، وإنه لا بدَّ لك من مشاهدة ذلك ومعاينته؛ إمَّا بالسلامة، وإمَّا بالعَطَب. والسلام (¬2). وقال رجاء بن حَيْوة: لما وليَ عمر - رضي الله عنه - الخلافة كتب إلى الحسن أن يكتبَ إليه بصفات الإمام العادل، فكتب إليه الحسن: أما بعد؛ فإن الله جعلَ الإمامَ العادل قِوَامَ كلِّ مائل، وقَصْدَ كلِّ جائر، وصلاحَ كلِّ فاسد، وقرَّة عين كلِّ ضعيف (¬3)، ومَفْزَعَ كلِّ ملهوف، والإمام العادل كالراعي الشفيق الَّذي يرتادُ لغنمه أطيبَ المراعي، ويذودُها عن مَراتع الهَلَكَة، والإمام العادل كالوالد الحاني على ولده، يسعى لهم صغارًا، ويعلِّمهم كبارًا، يكسبُ لهم في حال حياته، ويدَّخرُ لهم بعد وفاته، والإمام العادل كالأمِّ البَرَّة الشفيقة على ولدها، والإمامُ العادل وصيُّ اليتامى، وخازنُ المساكين، يُربِّي صغيرَهم، وَيمُون كبيرَهم، والإمامُ العادل كالقلب بين الجوارح، تَصلح بصلاحه، وتفسدُ بفساده؛ فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملَّكك اللهُ كعبدٍ ائتمنه سيِّدُه ¬

_ (¬1) ينظر: طبقات ابن سعد 9/ 244، علل أحمد 3/ 55، والتاريخ الكبير للبخاري 8/ 320، والكامل 7/ 2713، وصفة الصفوة 3/ 289 - 290. (¬2) بنحوه في "إحياء علوم الدين" 4/ 56. وورد نحوه أيضًا ضمن كلام طويل للحسن البصري - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" ص 166 (404). (¬3) في "العقد الثمين" 1/ 34: وقوة كلِّ ضعيف.

واستحفظَه في ماله وعيالهِ فبدَّد المال، وشَرَّدَ العِيال، وأفقر أهلَه، وضَيَّع ماله، واعلم أنَّ الله أنزلَ الحدود ليزجر بها عن الفواحش، فكيف إذا أتاها مَنْ وَليَها؟ ! واللهُ أنزلَ القَصاصَ حياةً لعباده، فكيفَ إذا قتلهم من يقتصُّ لهم؟ ! واعلم أن لك منزلًا غير منزلك الَّذي أنت فيه يطولُ فيه ثواؤُك، ويُفارقُك أحبَّاؤك، ويُسلمونك في قعره فردًا وحيدًا، تُقيم فيه إلى أن يُنفَخَ في الصُّور، ويُبعثرَ ما في القبور، ويُتحصَّلَ ما في الصدور، ثم تقوم إلى كتاب لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها (¬1) {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34 - 36] وأنت الآن في المَهَل، فلا تحكم قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل في عباد الله بحكم الجاهلين (¬2)، ولا تسلك سبيل الظالمين المتكبِّرين المتجبِّرين، فتبوءَ بأوزارهم مع أوزارك، وتحملَ أثقالًا مع أثقالك، ولا يغرَّنَّك الذين يتنعَّمون بما فيه بُؤْسُك، ويأكلون الطيباتِ في دنياهم بإذهاب طيِّباتِك في آخرتك، ولا تنظر على قدرك (¬3) اليوم، وانظر إليه غدًا وأنت مأسورٌ في حبائل الجبروت (¬4)، واقفٌ بين يدي الله تعالى في مجمع الخلائق، {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111]. فاجعل كتابي هذا منك بمنزلة الطبيب الَّذي يشفي المريض بالأدوية الكريهة لما يرجو (¬5) له من العافية الشافية، فإني لم آلُ نُصحًا، ولا ادَّخَرْتُ وُسْعًا، والسلام. كتاب آخر منه: قال رجاء بن حَيْوة: كتبَ الحسنُ إلى عُمر: أما بعد، فإنَّ الدنيا دارُ ظَعْن، وليست بدارِ إقامة، وإنما أُخرجَ إليها آدمُ عقوبةً له، ولها في كل حين صَرْعَة (¬6)، تُهين مَنْ ¬

_ (¬1) قوله: لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها؛ مقتبس من الآية (49) من سورة الكهف. (¬2) عبارة "العقد الفريد" 1/ 35: وأنت في مَهَل قبل حُلول الأجل وانقطاع الأَمَل. لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين ... (¬3) في "العقد الفريد": قدرتك. (¬4) في "العقد الفريد": الموت. (¬5) لعلها صواب العبارة: يسقي المريض الأدوية الكريهة لما يرجو له ... وهي بنحوها في "العقد الفريد" 1/ 36. (¬6) في "حلية الأولياء" 6/ 313: قتيل، بدل: صَرْعَة.

أكرمَها، وتُذلُّ مَنْ أعزَّها، وتصرعُ مَنْ آثرَها، ولها في كل وقت قتلى، فهي كالسُّمِّ؛ يأكلُه من لا يعرفُه وفيه حتفُه، فالغِنَى فيها فقرُها، والزادُ منها تركُها، فكن فيها كالمُداوي جُرحَه، يصبرُ على مرِّ الدواء مخافةَ طولِ البلاء، يحتمي قليلًا مخافةَ ما يكرهُ طويلًا، فأهلُ الفضل منطقُهم فيها بالصواب، ومشيُهم بالتواضع، ومَطْعَمُهم الطَّيِّبُ من الرزق، مغمضي أبصارهم عن المحارم، فلولا الآجال التي كُتبت لهم ما تقارَّت أرواحُهم في أجسادهم خوفًا من العقاب، وشوقًا إلى الثواب، عَظمَ الخالقُ في نفوسهم، فصَغُرَ المخلوقُ في عيونهم، فإيَّاك وهذه الخادعةَ القاتلةَ التي قد تزيَّنتْ بخَدْعِها، وقتلتْ بغرورها، وخَدَعت بآمالها، فأصبحت كالعروس المجلوَّة، فالعيونُ إليها ناظرة، والقلوبُ عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها قاتلة، فلا الباقي بالماضي يعتبر، ولا الآخِرُ بما رأى من أفعالها مزْدَجِر، قد أبتِ القلوبُ لها إلا حُبًّا، والنفوس لها إلا عشقًا، ومن عشق شيئًا لم يلهم غيره ولم يعقل سواه، فإيَّاك وإيَّاها، واحذرها كل الحَذَر. وذكر كلامًا طويلًا (¬1). وكتب إليه أبو حازم: احذَرْ أن تلقَى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأنتَ بتبليغ الرسالة مصدِّق، وهو عليك بسوء الخلافة شهيد. وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى عديِّ بن أرطاة عامله على البصرة في عزل من كان من العمَّال من أهل الذِّمَّة، وأن لا يستعين بهم (¬2). وقال في كتابه: إنه يجب على المسلمين أن يضعوا من أهل الشرك ما وضعَ اللهُ منهم، وأن يُنزلوهم منزلتَهمْ التي أنزلَهم اللهُ بها من الذُّلِّ والصَّغار، ولا يشركوهم في أماناتهم، ولا يُسَلِّطوهم (¬3) على أهل الإسلام فيُذلُّونهم. وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى سليمان بن أبي كريمة، وكان غازيًا: إن أحقَّ العباد بإجلال الله وخشيته مَن ابتلاه بمثل ما ابتلاني [به]، ولا أحدَ أشدُّ حسابًا ولا أهونُ على الله [إن عصاه] مني حيث ابتلاني، فادْعُ اللهَ لي، فإنك في معرض خير وإجابة (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر "حلية الأولياء" 6/ 313 - 314، و"إحياء علوم الدين" 3/ 211 - 212. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 104. (¬3) في (ب) و (خ) و (د): ولا يشركونهم ... ولا يسلطونهم. والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 138. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 383 (وما بين حاصرتين منه)، وأنساب الأشراف 7/ 114.

وكتب إلى عديِّ بن أرطاة: لا تَسِرْ في الناس بسيرة الحجَّاج، فإلْه كان بلاءً وافقَ من قومٍ خطايا (¬1). ولقد كان خراج العراق مئة ألف ألف درهم، فما زال ظلمه وسفكُه للدماء حتَّى صار خمسة وعشرين ألف ألف درهم (¬2). وكتب إليه والي بلدة أنَّ سُورَها قد انهدم، ويحتاجُ إلى مَرَمَّة، فكتب إليه عمر - رضي الله عنه -: نَقِّ طُرُقَها من الظلم، وحَصِّنْها بالعدل، فذاك مَرَمَّتُها (¬3). وكتب محمد بن كعب القُرَظيّ إلى عمر - رضي الله عنه - يعظُه، فكتب إليه عمر رضي الله عنه يشكره ويقول: أمَّا بعد، فقد بلغني كتابُك تعظني فيه وتذكِّرني بما هو حظٌّ لي وحقٌّ عليك، وقد أصبتَ بذلك أفضلَ الأجر، إن الموعظة كالصدقة، بل هي أعظمُ أجرًا، وأبقى نفعًا، وأحسنُ ذكرًا، وأوجبُ على المؤمن حقًّا، كلمةٌ يعظُ بها أخاه (¬4) ليزداد بها هدًى هي خيرٌ من مال يُتَصَدَّقُ به عليه؛ وإن كان به حاجةٌ إليه، فكن كالطبيب العالم المجرِّب الَّذي يعلم إذا وضع الدواء أين يضعُه .. في كلام طويل (¬5). وكتب إلى والٍ: أمَّا بعد، فإذا قدرتَ على عقوبة العباد، فاذْكُرْ قدرةَ الله عليك، واعفُ ما لم تكن العقوبة مفسدةً في الدِّين، فإنك بالله تَعِزُّ، وإليه ترجع (¬6). وبلغه عن جند له شيء، فكتب إليهم: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] (¬7). وقال الفُضيل بن عياض في موعظته للرشيد: بلغني أن عاملًا لعمر بن عبد العزيز شُكِيَ إليه، فكتبَ إليه عمر: أمَّا بعد، فإني أُذَكِّرُك طُولَ سهر أهلِ النار مع خُلودِ الأبد، وإيَّاك أن يُنْصَرَفَ بك غدًا من بين يدي الله تعالى (¬8) فيكون آخرَ العهد بك، وانقطاعَ الرجاء منك، ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 119. (¬2) بنحوه في أنساب الأشراف 7/ 116. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 70، وحلية الأولياء 5/ 305، وتاريخ دمشق 54/ 163 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) في "جامع " ابن وهب (336): لكلمة يعظ بها الرجل أخاه ... (¬5) هو بتمامه في المصدر السالف. (¬6) أنساب الأشراف 7/ 94، وتاريخ دمشق 54/ 164. (¬7) تاريخ دمشق (ترجمة أبي عمرو الدمشقي). (¬8) في "حلية الأولياء" 8/ 109 (ترجمة الفضيل): من عند الله تعالى، وفي "التوابين" ص 185: من عند الله تعالى إلى النار.

والسلام. فلما قرأ عامله الكتاب؛ طوى البلاد حتَّى قدم عليه، فقال له: ما الَّذي أقدمك؛ ! قال: قطعتَ قلبي بكتابك، واللهِ لا عُدْتُ إلى ولاية أبدًا. فبكى هارون (¬1). وقال رجاء بن حَيوَة: ولَّى عمر - رضي الله عنه - رجلًا دميمًا قصيرًا على الصدقات، فعدل وأحسن، فكتب إليه عمر - رضي الله عنه -: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيرًا} [هود: 31] (¬2). وبلغه عن عمال له شيء فكتب إليهم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] (¬3). وكتب على قصة مظلوم: إن لم أُنصفك؛ فأنا الظالمُ لك (¬4). وكَتب إليه عبد الحميد عامله على الكوفة يشكو سوء طاعة أهل الكوفة، فكتب إليه عمر: لا تطلبنَّ طاعةَ مَنْ خذلَ عليًّا وكان إمامًا مرضيًّا (¬5). وكَتب إليه في عمال خانوا، فكتب: لأنْ يَلْقَوُا (¬6) الله بخياناتهم أحبُّ إليَّ من ألقاه بدمائهم. وكَتب إلى عماله: لا تتعرَّضوا للكلأ في الجزائر وغيرها، فإنما هو شيءٌ أنبته الله، فليس أحدٌ (¬7) أحقَّ به من أحد. وكتب إليه محمد بن كعب القُرَظي: اجعل كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطَهم أخًا، وأصغرَهم ولدًا، فوقِّرْ أباك، واحترم أخاك، وتحنَّنْ على ولدك (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): فبكى عمر. والمثبت من المصدرين السالفين، والخبر فيهما مطوَّل. (¬2) العقد الفريد 4/ 208. (¬3) بنحوه في المصدر السالف. (¬4) العقد الفريد 4/ 209. (¬5) المصدر السابق، وفيه أنَّه كتب ذلك إلى عدي بن أرطاة. وعند هذا الخبر ينتهي ما عندنا من النسخة (د). (¬6) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): لئن يلقون. والمثبت من "سيرة عمر بن عبد العزيز" ص 61 والخبر فيه مطوّل. (¬7) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): لأحد. وأثبت السياق على الجادة، ولم أقف على هذا الخبر. (¬8) بنحوه في تاريخ دمشق 54/ 139. وهو في الخبر المطوّل بين الفضيل بن عياض وهارون الرشيد في "حلية الأولياء" 8/ 105 - 107، و"التوابين" ص 183 - 186، وسلف قطعة منه قريبًا.

ذكر محبته - رضي الله عنه - لأهل البيت عليهم السلام: وفدَ رُزَيق المدنيُّ مولى عليّ - عليه السلام - على عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، فقال له: يا أمير المؤمنين، إني تعلَّمتُ القرآنَ والفرائضَ والسنن، وليس لي ديوان، فقال له عمر - رضي الله عنه -: من أيِّ الناس أنت؟ فقال: من موالي بني هاشم. فقال: مولى مَنْ منهم؟ قال: مولى رجل من المسلمين، وكان عليٌّ رضوان الله عليه لا يُذكر بين يدي أحد من بني أمية. فقال عمر: أسألُك مولى مَن أنت وتُكاتمُني؟ ! فقال: أنا مولى عليِّ بنِ أبي طالب. فبكى عمر بن عبد العزيز حتَّى وقعت دموعُه على الأرض وقال: وأنا مولى عليِّ بن أبي طالب، حدَّثَني سعيدُ بن المسيِّب عن سعد بن أبي وقاص أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: "أنتَ مني بمنزلة هارون من موسى". ثم قال: يا مزاحم، كم نُعطي أمثاله؟ قال: مئة درهم. قال: أعطه من مالي خمسين دينارًا لولائه لعلي. ثم قال له: اذهب إلى بلدك، فسيأتيك العطاء أسوةَ أمثالِك (¬1). وروى الحافظ ابن عساكر أن عمر - رضي الله عنه - لمَّا وليَ الخلافة استوفد محمد بنَ علي الباقر، فأقام عنده، فكان يستشيرُه، ويصدرُ عن روايته (¬2)، فلما أراد محمد أن يرجع إلى المدينة مشى عمر إليه، وجلس بين يديه، وقضى حوائجَه (¬3). وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: لو كُنْتُ في قَتَلَةِ (¬4) الحسين، وقيل لي يوم القيامة: ادخل الجنَّة؛ لم أدخل مخافةَ أن يراني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأستحي منه. وقال الشعبي: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن حزم والي المدينة أن فرِّق في آل أبي طالب عشرة آلاف دينار. فكتب إليه: في أيِّ ولده أُفرِّق؟ فكتبَ إليه ¬

_ (¬1) الخبر بعضه دون بعض في "تاريخ دمشق" 6/ 251 (ترجمة رزيق) و 18/ 350 (ترجمة يزيد بن عمر بن مورّق) (كلاهما مصورة دار البشير) و 54/ 276 (ترجمة عمر بن الموزق- طبعة مجمع دمشق). وحديث سعد في قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" أخرجه مسلم (2404). (¬2) كذا في (ب) و (خ) (والكلام منهما). ولعل صواب العبارة: ويصدر عن رأيه. (¬3) ينظر "تاريخ دمشق" 63/ 295 و 297 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة محمد بن علي الباقر). (¬4) في (خ): مقتلة. والمثبت من (ب) (والكلام منهما فقط) وهو موافق لما في "وفيات الأعيان"6/ 353، و"الوافي بالوفيات" 12/ 427. والخبر فيهما.

عمر: لو كتبتُ إليك في شاة تذبحها؛ لكتبتَ: أسوداء أم بيضاء؟ فرِّقْ في ولد عليٍّ من فاطمة عشرة آلاف دينار فطالما تَعَدَّتْهم حقوقُهم. ودخل زين العابدين على عمر - رضي الله عنه - وهو والي المدينة، فقام له، وأجلسه إلى جانبه، وقضى حوائجه، فلما خرج قال عمر - رضي الله عنه - للجماعة: مَن ترون خيرَ الناس؟ قالوا: أنتم. قال: لا والله، خيرُ الناسِ في يومنا هذا هذا الرجلُ الَّذي كلُّ الناس يتمنَوْن أن يكونوا مثلَه، ولا يتمنَّى هو أن يكونَ كأحدهم. وقال هشام: كان الوليدُ بن عبد الملك قد كتب إلى زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب يأمره أن يخلعَ سليمان بن عبد الملك، ويبايعَ لعبد العزيز بن الوليد، ويتوعَّدُه بالقتل إن لم يفعل، فأجابه خوفَّا مَعْه، وكتب إليه بذلك. فلما مات الوليد واستخلف سليمان؛ وُجد كتاب زيد إلى الوليد في بعض الخزائن، فكتب سليمان إلى عامله على المدينة: ادْعُ زيدَ بنَ الحسن، فأقرئه هذا الكتاب، فإن اعترف؛ فأخبرني، وإنْ أنكر فقَدِّمْه إلى بين القبر والمنبر فاصْبِرْ يمينَه (¬1) أنَّه ما كتب هذا الكتاب ولا أمرَ من يكتبُه، فلما ورد الكتاب إلى المدينة أرسله العاملُ إلى زبد، فقال: أنْظِرْني. ثم بعث إلى القاسم بن محمد، وربيعة، وسالم بن عبد الله يستشيرُهم في ذلك، واعتذرَ بخوفه من الوليد، وقال: لو لم أُجبه ليقتلنّي، أفتَرَوْن أن أحلف؟ فقالوا: إيَّاك ومبارزةَ الله، وإنَّا نرجو أن يُنجيَك اللهُ بالصدق. فأرسلَ إلى الوالي وأقرَّ أن الكتابَ كتابُه، وإنما فعلَ ذلك خوفًا من الوليد، ولم يحلف. فكتب العامل إلى سليمان يخبره، فكتب إليه: اضْرِبْه مئةَ سوط، ودَرِّعْهُ عباءة، ومشِّهِ حافيًا. وعلم عمر - رضي الله عنه - بالكتاب، فحبس الرسولَ عنده أيامًا، ومرضَ سليمان، فأخذَ منه الكتاب وقال: لا تخرجْ، فإن سليمان مريض، ولعلَّه تَطِيبُ نفسُه. واستنزلَه عنه. فأقام الرسول ثلاثة أيام، ومات سليمان، ووليَ عمر - رضي الله عنه -، فمزَّق الكتاب (¬2). ¬

_ (¬1) أي: أَلْزِمْه باليمين، وحلِّفْه جَهْدَ القَسَم. (¬2) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 6/ 602 (مصورة دار البشير- ترجمة زيد بن الحسن بن علي) ومن قوله: وقال سابق البربري: وفد يزيد (قبل سبع صفحات) ... إلى هذا الموضع ليس في (ص).

حديث الأسير الَّذي كان في [بلاد] الروم: حكى أبو القاسم الدمشقي عن إسماعيل بن [أبي] حكيم المدني كاتبِ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وإسماعيل بن أبي حكيم مولى عثمان بن عفان رضوان الله عليه، ويقال: مولى الزبير بن العوَّام - رضي الله عنه -، روى عن ابن المسيِّب وأقرانِه، توفي سنة ثلاثين ومئة (¬1) - قال: بعثني عمر حين وليَ الخلافة في فداء الأسرى، فبينا أنا بالقسطنطينيَّة أدورُ؛ إذْ سمعتُ قائلًا يترنَّم: أَرِقْتُ وغابَ عني مَنْ يلومُ ... ولكنْ لم أنَمْ أنا والهمومُ كأنّي من تذكُّرِ ما أُلاقي ... إذا ما أظلمَ الليلُ البهيمُ سليمٌ ملَّ منه أقربُوهُ ... وودَّعَهُ المداوي والحميمُ وكم في نحره (¬2) بين المُنَقَّى ... إلى أُحُدٍ إلى ما حازَ رِيمُ إلى الجَمَّاءِ (¬3) من خَدٍّ أسِيلٍ ... نَقيِّ اللونِ ليس به كُلُومُ يضيءُ دُجَى الظلامِ إذا تبدَّى ... كضوء الفجرِ منظرُهُ وسيمُ فلمَّا أنْ دنا منَّا ارْتحالٌ ... وقُرِّبَ ناجياتُ السَّيرِ كُومُ (¬4) أتَينَ مُوَدِّعاتٍ والمَطَايا ... على أكوارها خُوصٌ هُجومُ (¬5) فقائلةٍ ومُثْنِيَةٍ علينا ... تقولُ ومالها فينا حميمُ وأُخرى لُبُّها معنا ولكنْ ... تَسَتَّرُ (¬6) وهْيَ وَاجِمةٌ كَظومُ تَعُدُّ لنا الليالي تحتصيها ... متى هو حائنٌ منَّا قُدومُ متى تَرَ غفلةَ الواشين عنَّا ... تَجُدْ بدموعها العينُ السَّجُومُ ¬

_ (¬1) قوله: وإسماعيل بن أبي حكيم مولى عثمان ... إلى هذا الموضع ليس في (ص). (¬2) كذا في (ب) و (خ) (والأبيات فيهما) و"تاريخ دمشق" 2/ 831 (مصورة دار البشير). وفي "الأغاني" 6/ 114، و"مختصر تاريخ دمشق" (على نهج ابن منظور) 4/ 346: وكم من حُرَّةٍ. (¬3) المُنَقَّى (في البيت قبله): موضع بين أُحُد والمدينة، ورِيم: وادٍ قرب المدينة، والجَمَّاء: جُبَيل من المدينة على ثلاثة أميال من ناحية العقيق. ينظر "معجم البلدان" 5/ 215، و 3/ 114، و 2/ 158. (¬4) الناجيات: جمع ناجية، وهي الناقة السريعة، وكُوم: جمع كَوْمَاء، يعني الناقة التي عظُم سَنامُها. (¬5) الأكوار: جمع كُور، وهو الرَّحْلُ، وخُوص: جمع أخوص، وهو غائرُ العين وضيقُها. والهُجوم: غُؤور العين أيضًا. (¬6) في "الأغاني" 6/ 116: تَصَبَّرُ.

هذه الأبيات لبقيلة (¬1) الأشجعي جاهلي فصيح (¬2). قال إسماعيل: فوقفت عليه وقلت: من أنت؟ فقال: أنا الوابصي، أُسرتُ فعُذِّبتُ، فدخلتُ في دينهم كُرهًا. فقلتُ: ارْجِعْ إلى الإسلام. فقال: أبعد ما وُلدَ لي فيهم ابنان، أدخلُ المدينة، فيقول بعض غلمانها لابني: يا نصراني! لا والله لا أُسلم أبدًا. قال: فقلت له: أفما (¬3) كنتَ تقرأ القرآن؛ ! قال: بلى، ولكن نسيتُه كلَّه سوى آيةٍ واحدة، وهي قولُه تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] فقال إسماعيل للمتنصِّر: إنَّ أمير المؤمنين بعثني في الفداء، وأنتَ أحبُّ مَنْ أفتديه (¬4)، أنشدك الله، ارجعْ إلى الإسلام، فقال: أبعدَ ما بطنتُ في الكفر. وهذا المتنصّر هو الصَّلْتُ بن العاص [بن] وابصة بن خالد بن المغيرة المخزومي. وكان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قد حدَّه في الخمر لمَّا كان واليًا على المدينة، فهربَ إلى الروم فتنصَّر، ومات على النصرانيَّة (¬5). ذكر وفاة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: قال أبو سُليم الهُذلي: خطب عمر بنُ عبد العزيز، فقال: أمَّا بعد، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يخلقكم عَبَثًا، ولم يدع شيئًا من أمركم سدًى، وإنَّ لكم معادًا، فخاب وخَسِرَ من خرجَ من رحمة الله، وحُرمَ الجنَّة التي عرضُها السماواتُ والأرض، واشترى قليلًا ¬

_ (¬1) نقل ابن عساكر في "تاريخه" 2/ 831 عن الزُّبير بن بكَّار أن العتبيَّ صحَّف في اسمه فقال: نفيلة. وكذلك وقع اسمه في "الأغاني" 6/ 114 عن الزبير. ونقل أبو الفَرَج فيه عنه قوله: وسمعت بعض أصحابنا يقول: إن الشِّعر لمعمر بن العنبر الهُذَلي. والصحيح من القول أن بعض هذه الأبيات لابن هَرْمَة من قصيدة له يمدح بها عبد الواحد بن سليمان مخفوضة الميم، ولمَّا غُنِّي فيها وفي أبيات نُفيلة، وخُلط فيه ما أوجب خفض القافية، غُيِّر إلى ما أوجب رفعَها. وينظر "ديوان" إبراهيم بن هَرْمة ص 200 - 203. (¬2) من قوله: سليمٌ ملَّ منه (البيت الثالث) ... إلى هذا الموضع ليس في (ص). وقد جاء فيها البيتان الأولان فقط، وجاء بعدهما ما لفظه: مع جماعة أبيات. (¬3) يوجد خرم في (ب) بدءًا من هذا الموضع وحتى ص 2003. (¬4) في (خ) و (الكلام منها): أحبُّ إليَّ ممن أفتديه. والمثبت من "تاريخ دمشق، 2/ 831 (مصورة دار البشير- ترجمة إسماعيل بن أبي حكيم). (¬5) المصدر السابق.

بكثير، وفانيًا بباق، وخوفًا بأمن، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفُها بعدكم الباقون كذلك حتَّى تُرَدُّون إلى خير الوارثين؟ ! ألا ترون أنكم في كلِّ يوم وليلة تُشيِّعُون غاديًا ورائحًا إلى الله، قد قضى نحبَه، وانقضى أجلُه، حتَّى تغيِّبُوه في صَدْع من الأرض، ثم تَدَعُونه غيرَ ممَهَّد ولا مُوَسَّد؟ ! قد خلعَ الأسباب، وفارقَ الأحباب، وسكنَ التراب، وواجهَ الحساب، مرتهنًا بعمله، فقيرًا إلى ما قدَّم، غنيًّا عمَّا ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموتِ، وايمُ الله، إني لأقول لكم هذه المقالة؛ وما أعلمُ عند أحدكم من الذنوب ما عندي. ثم وضع طرف ردائه على وجهه وبكى، وأبكى الناس، فكانت آخِرَ خطبةٍ خطبَها (¬1). وقال أبو سريع الشامي: آخرُ خُطبة خطبها عُمر - رضي الله عنه - قال: أيُّها الناس، إنَّ لكم مَعَادًا يتجلَّى الله فيه للفصل بين العباد، وإنَّ الَّذي في أيديكم أسلابُ الهالكين، وسيخلفُها بعدكم الباقون؛ حتَّى تردَّ إلى خير الوارثين، وما يبلغني عن أحد منكم حاجة إلا أحببتُ أن أسُدَّ من حاجته، وما يبلغني أن أحدًا منكم لا يسعُه ما عندي إلا وددتُ أنَّه يمكنني تغييره. ثم انتحبَ، وارتجَّ المسجدُ بالبكاء، ثم نزل، فما رئي خارجًا إلا إلى حفرته. وقيل: إنه لما حملَ الناسَ على المحجَّة البيضاء، وصَدَع بأوامر الله تعالى، ولم تأخُذْه في الله لومةُ لائم، اشتاق إلى ما أعدَّ اللهُ لأوليائه، فطارت نفسُه إلى ذلك احتقارًا للدنيا. فذكر ابنُ أبي الدنيا وابنُ عبد البَرِّ أنَّ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أرسل إلى عبد الله بن أبي زكريا وكان مجابَ الدعوة، فلمَّا دخل عليه قال له: يا ابنَ أبي زكريا، هل تدري لِمَ بعثتُ إليك؟ قال: لا. قال: لأمر لست ذاكرَه لك حتَّى تحلفَ في. فقال: يا أمير المؤمنين، واللهِ لا تسألُني شيئًا إلا فعلتُه. فلما استوثق منه، قال: إني قد سئمتُ المُقَام في هذه الدار، فادع الله أن يقبضني إليه. فبكى ابن أبي زكريا وقال: بئس الوافد أنا ¬

_ (¬1) ينظر: تاريخ الطبري 6/ 570 - 571، والأغاني 9/ 266 - 267، وحلية الأولياء 5/ 295، وتاريخ دمشق 41/ 350 - 351 (ترجمة عبد الرحمن بن محمد القاري) و 54/ 141 - 142 (ترجمة عمر بن عبد العزيز) (كلاهما طبعة مجمع دمشق)، وصفة الصفوة 2/ 123. ورواية الخبر منه.

للمسلمين! فقال عمر. هاه قد حلفتَ لي. فبسطَ يدَه وقال: اللهمَّ خِرْ لعمر في لقائك، ولا تُبْقِني بعده. وأقبلَ صبيٌّ صغير لعمر، فقال: وهذا أيضًا، فإني أحبُّه. فدعا له، فمات عُمر، ومات ابنُ أبي زكريا، وماتَ الصبي. وقال عبد الرحمن بن زيد بن جابر: فما شبَّهتُ الثلاثة إلا بخَرَزَات ثلاث في سلك قُطع أسفلُه، فتتابعن في جُمعة (¬1). وقال عبد الله بن المبارك: وجدوا في بعض الكتب: تقتلُه خشيةُ الله. يعني عمر بن عبد العزيز. وقيل: إنه سُمَّ. وهو الأصحّ (¬2). قال أبو زيد الدمشقي (¬3): لما مرض عمر [بن عبد العزيز] دخل عليه الطبيب، فجسَّ نبضَه، وصعَّد النظر فيه، وقال: إنه مسموم، ولا آمنُ عليه الموت. فرفع عُمر - رضي الله عنه - طَرْفَهُ إليه وقال له: ولا نأمنُ الموت على من لم يُسقَ السُّمَّ أيضًا. فقال الطبيب: هل أحسستَ بشيء؟ قال: نعم، قد عرفتُ حين وقع في جوفي. فقال: يا أمير المؤمنين فتعالج. فقال: واللهِ لو علمتُ أن شفائي في طرف أنفي لما مددتُ يدي إليه. قال: فتذهب نفسُك. قال: ربي خيرُ مذهوبٍ إليه، اللهمَّ خِرْ لعُمر في لقائك. فلم يلبث إلا أيامًا حتَّى مات. وقيل لأبي سريع الشامي: فمَنْ سَمَّه؟ قال: وهل سمَّه إلا أقاربُه الذين ضيَّقَ عليهم الأمور بإقامة الحقِّ، ودحض الباطل، وإحياء السنن؟ ! وقال أبو عبد الله الحاكم: استدعى عمر بالخادم الَّذي سمَّه، فقال له؛ لِمَ فعلتَ بي هذا؟ ! فبكى وقال: لشقوتي وشقاء المسلمين، إن فلانًا -وسمَّى بعض بني أمية (¬4) - أعطاني ألف دينار، فبالله استَقِدْ منِّي، فقد ندمتُ. فقال [له] عمر - رضي الله عنه -: واللهِ لو ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ دمشق" 8/ 1056 (مصورة دار البشير- ترجمة عبد الله بن أبي زكريا إياس). (¬2) من قوله: فقال إسماعيل للمتنصِّر قبل هذه الفقرة (ذكر وفاة عمر) ... إلى هذا الوضع، ليس في (ص). (¬3) في (ص): حدثنا هشام بن عبد الله الرازي، أخبرنا أبو زيد الدمشقي قال ... وهو بنحوه في "تاريخ دمشق" 19/ 59 (مصورة دار البشير) وفيه: هشام بن عبيد الله. (¬4) قال ابن عبد ربّه في "العقد الفريد" 4/ 439: يرى الناس أن يزيد بن عبد الملك سمَّه؛ دسَّ إلى خادم كان يخدمه، فوضع السُّمَّ على ظفر إبهامه، فلما استسقى عمر، غمس إبهامه في الماء، ثم سقاه.

أُعطيتُ الدنيا وما فيها لما سممتُك، اذْهَبْ فضع الألف دينار في بيت المال، واذهبْ حيث شئتَ. ولم يتعرَّض له (¬1). وقال هاشم: لما كانت الصَّرْعةُ التي هلك فيها عمر - رضي الله عنه -؛ دخلَ عليه مَسْلَمةُ بنُ عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إنك فغرتَ أفواه ولدِك من هذا المال، وتركتَهم عَيلَةً لا شيء لهم، فلو أوصيتَ بهم إليَّ، أو إلى نُظرائي من أهل بيتك. فقال: أسْنِدُوني. فأسندوه، فقال: واللهِ ما منعتُهم حقًّا هو لهم، ولا أعطيهم ما ليس لهم. وأما قولُك: لو أوصيتَ بهم، فإن وصيِّى اللهُ، ووليِّي الله الَّذي نزل الكتاب، وهو يتولَّى الصالحين (¬2). بنيَّ أحدُ رجلين؛ إما رجلٌ يتقي الله سبحانه، فسيجعلُ له مخرجًا، وإمَّا رجل يكبُّ على المعاصي، فإني لم أكن أقوِّيه على معاصي الله. ثم بعث إليهم وهم بضعةَ عشرَ ذكرًا، فنظر إليهم، فذرفت عيناه، ثم قال: بنفسي الفتية الذين تركتُهم عَيلة لا شيء لهم، يا بنيَّ، إن أباكم خُيِّرَ بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنَّة [فكان أن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنَّة] أحبَّ إليه من أن تستغنوا ويدخل النار. قوموا عصمكم الله (¬3). وقال هشام (¬4): إن عمر بن عبد العزيز قال لولده: يا بَنيّ، إنكم لا تلقون أحدًا من أهل الإسلام والذِّمَّة إلا ويرى لكم عليه فضلًا (¬5). وقال الزُّهري: خلَّف عمر - رضي الله عنه - سبعةَ عشرَ دينارًا، فأخذ كل ولد دينارًا، ومات مسلمة بن عبد الملك وترك ألف ألف دينار، فأخذ كل واحد من ولده نصيبَه. قال رجاء بن حَيوة: فبارك الله فيما ترك عمر، ومحق ما ترك مسلمة، حتَّى إني رأيتُ بعضَ أولاد مسلمة يستعطي من أولاد عمر. ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ دمشق" 54/ 203 (طبعة مجمع دمشق) عن مجاهد. (¬2) اقتباس من قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]. (¬3) حلية الأولياء 5/ 333 - 334. وما سلف بين حاصرتين منه. وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 393، و "العقد الفريد" 4/ 440 - 441، و"تاريخ دمشق" 54/ 203 - 204. (¬4) كذا في (خ) (والكلام منها). والخبر في "الحلية" ضمن الخبر قبله. لكن راويه هاشم كما سلف، فليحرر. (¬5) في "الحلية" 5/ 324: حقًّا.

ولما ثقل عمر - رضي الله عنه - قال: أجلسوني. فأجلسوه، فقال: اللهمَّ [إنك] أمرتَني فقصَّرتُ، ونهيتَني فعصَيتُ، ولكن لا إله إلا الله. ثم رفع رأسه وأحدَّ النظر، فقالوا له: إنك لتنظرُ نظرًا شديدًا. فقال: إني لأرى حَضْرةً ما هم بإنسٍ ولا جنّ. ثم قبض (¬1). وقال - رضي الله عنه -: ما أُحبُّ أن يُخَفَّفَ عني الموتُ، أو يهوَّن عليَّ، فإنه آخرُ ما يُؤجرُ عليه الإنسان. ولما احتُضر قال: اخرجوا عني لا يبقى عندي أحد. فخرجوا (¬2). وقال محمد بن قيس: حضرتُ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أوَّلَ مرضِه، اشتكى لهلال رجب سنة إحدى ومئة، فكان شكواه عشرين يومًا، فأرسل إلى ذِمّيّ ونحن بدَيْر سَمْعان، فساومَه بموضع قبره، فقال الذِّمِّيّ: يا أمير المؤمنين، إنها لخير أن يكون قبرُك في أرضي، قد حلَّلْتُك. فأبى عمر حتَّى ابتاعه منه بدينارين، ثم دعا بالدينارين، فدفعهما إليه (¬3). وقال إبراهيم بن ميسرة: اشترى موضع قبره بعشرة دنانير (¬4). وقال هشام: قال عمر للرهبان: انتفعوا بمكان قبري بعد خمس سنين. وقال له الراهب: أعطني قميصك. فيقال: إنه أسلم. وكانت فاطمة بنت عبد الملك وأخوها مسلمة عند عمر - رضي الله عنه -، فقال أحدهما لصاحبه: لا نكون قد ثَقُلْنا عليه، فخرجا وهو منحرفٌ على غير القبلة. قالا: قلَّما لبثنا حتَّى عُدنا، وإذا هو متوجِّهٌ إلى القبلة وإذا متكلِّمٌ يتكلَّم لا نراه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬5) [القصص: 83]. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 5/ 335، وتاريخ دمشق 45/ 205. ونُسب الخبر في (ص) لأبي نُعيم. (¬2) تاريخ دمشق 54/ 206 مطول. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 392. وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 54/ 205 رواية محمد بن قيس من طريق ابن أبي الدنيا، وفيها أنَّه ابتاعه منه بثلاثين دينارًا. (¬4) المصدر السابق، والأغاني 9/ 267. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 392 - 393. وينظر "تاريخ دمشق" 54/ 206.

قال الواقدي: لما احتُضر عمر - رضي الله عنه - عنه كتب إلى يزيد بن عبد الملك: أما بعد، فإياك أن تدركك الصَّرْعة عند العزَّة، فلا تُقال العَثْرة، ولا تُمكَّنَ من الرَّجْعة، ولا يحمدَك مَنْ خلَّفْتَ، ولا يَعْذِرَك من تَقْدَمُ عليه (¬1). وقال ابن سعد: كتبَ إلى يزيد: سلامٌ عليك، أمَّا بعد، فإني لا أُراني إلا لِما بي (¬2)، ولا أرى الأمر إلا سيُفْضي إليك، فاللهَ اللهَ في أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقالت فاطمة بنتُ عبد الملك: كُنْتُ أسمعُ عمر بن عبد العزيز في مرضه الَّذي مات فيه يقول: اللهم أخْفِ عنهم موتي ولو ساعة من نهار. فلما كان اليوم الَّذي قُبض فيه؛ خرجتُ من عنده، فجلست في بيت آخر، وبيني وبينه باب، وهو في قبَّة له، فسمعتُه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} ثم هدأ. فجعلتُ لا أسمعُ له حسًّا ولا حركةً، فقلتُ لوصيف كان يخدُمه: انظر أميرَ المؤمنين، أنائم هو؟ فدخل عليه وصاح، فوثبتُ فدخلتُ، فإذا هو ميّتٌ قد استقبلَ القبلة، وأغمضَ نفسَه، ووضع إحدى يديه على فيه، والأخرى على عينيه (¬3). وقال (¬4): شممتُ رائحة النَّدِّ والمسك من القبَّة وهو يقول: مرحبًا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جانّ. ثم قبض (¬5). وقال الواقدي: أوصى أن يكفَّن في خمسة أثواب، منها قميص وعِمامة، وكان عنده شعرٌ من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأظفارٌ من أظفاره فقال: إذا مِتُّ فاجعلوه في أكفاني. ففعلوا (¬6). ومات - رضي الله عنه - لعشر ليال بقين من رجب سنة إحدى ومئة. وقيل: لخمسٍ بقين منه. وقيل: في جمادى الآخرة. والأوَّل أصحّ. وعامَّةُ الرُّواة على أنَّ قبرَه بدَير سَمْعان [شمالي حلب] (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 393. (¬2) في (خ) (والكلام منها): فاني. والمثبت من المصدر السابق، والخبر فيه. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 394. (¬4) كذا في (خ) و (الكلام منها فقط، وهي كثيرة الأخطاء) ولعل الصواب: وقالت. يعني فاطمة، فيكون الكلام عندئذ تتمة للخبر قبله. والله أعلم. (¬5) من قوله: وقال محمد بن قيس: حضرت أمير المؤمنين. (الصفحة السابقة) ... إلى هذا الموضع ليس في (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 393 - 394. (¬7) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 395، و"تاريخ دمشق" 54/ 214 - 220. وما بين حاصرتين من (ص).

قال أبو بكر بن عياش وذكر عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: ليُحشرنَّ من دَير سَمْعان رجلٌ كان يخافُ الله تعالى (¬1). [واختلفوا في سنِّه، قال (ابن سعد): حدثنا الفضل بن دُكين قال: سمعتُ سفيان بن عُيينة يقول: كان عمر بن عبد العزيز ابنَ أربعين سنة. قال سفيان: وسألتُ ابنه: كم بلغ من السنِّ؟ فقال: لم يبلغ الأربعين (¬2). قال هشام: قال رجاء بن حَيوة: كان عمر بن عبد العزيز يقول: تمَّت حُجَّةُ الله على أبناء الأربعين أن الرجل إذا لم يبلغ قال الله تعالى للملكين: خفِّفا، فإذا بلغها قال الله تعالى: اكتبا وخفِّفا. فمات للأربعين (¬3). قلت: لم يبلغ أربعين]. وقال كثيِّر عزَّة يرثيه: أقولُ لمَّا أتاني ثَمَّ مَهْلِكُهُ ... لا يَبْعَدَنَّ قِوامُ الحقِّ والدينِ قد غادروا في ضريح اللَّحدِ مُنجدلًا ... بدَير سَمْعانَ قسطاسَ الموازينِ (¬4) لم تُلْهِهِ عُمْرَهُ عينٌ يُفَجِّرها ... ولا النخيلُ ولا رَكْضُ البَراذينِ (¬5) وقال الجُمحيّ: لو كُنْتُ أملكُ للأقدار ترويةً ... تأتي رَوَاحًا وتبييتًا وتبتكرُ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 397. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬2) المصدر السابق 7/ 396. (¬3) لم أقف عليه. وأخرج أبو نُعيم في "الحلية" 5/ 335 عن علي بن زيد عن عمر بن عبد العزيز قال: لقد تمت حجة الله على ابن الأربعين، فمات لها عمر بن عبد العزيز. لكن أخرجه أيضًا ابن عساكر 54/ 201 أيضًا وفي آخره: وما بلغها. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) البيتان في "أنساب الأشراف" 7/ 142، وكذلك نسبهما البلاذري إلى كثيّر. وهما بنحوهما في "العقد الفريد" 3/ 285، و"حلية الأولياء" 5/ 320، ونُسبا في "العقد" لرجل من أهل الشام. (¬5) البيت الثالث في "حلية الأولياء" 5/ 321، وتاريخ دمشق 54/ 212، والبيتان قبله فيهما بنحوهما، ونُسبت الأبيات فيهما لابن عائشة. وصدر البيت الثالث في "العقد الفريد" 3/ 285 وغيره: مَنْ لم يكن همُّه عينًا يفجّرها. والأبيات الثلاثة بنحوها أيضًا في "مروج الذهب" 5/ 445، ونسبت فيه للفرزدق.

دفعتُ عن عُمرِ الخيراتِ مصرعَهُ ... بدَيرِ سمعانَ لكن يغلبُ القَدَرُ (¬1) وللشريف الرضي المُوسويّ: دَيْرَ سمعانَ لا أغَبَّك غيثٌ ... خيرُ مَيْتٍ من آلِ مروانَ مَيتُكْ يا ابنَ عبدِ العزيزِ لو بكتِ العَيـ ... نُ دمًا من شؤونها لبكَيتُكْ أنتَ نَزَّهْتَنا عن القَذْفِ والسَّـ ... ـبِّ فلو أمكنَ الجزاءُ جَزَيتُكْ غير أني أقولُ إنك قد طِبْـ ... ـتَ وإنْ لم يَطُبْ ولم يَزْكُ بيتُك ولا يعرف أهلُ الشام بالشام مكانًا يقال له: دَير سمعان إلا شماليّ حلب، وهو دَيرٌ مشهور، أما المكان الَّذي يَزُورُ الناس فيه قبرَ عمر - رضي الله عنه -، فبالمعرَّة بدير من أعمال معرَّة النعمان (¬2). وقال البلاذري (¬3): مرض بخُناصرة، وتوفّي بدَير سَمْعان، وبين خُناصرة ودَير سمعان أربعون ميلًا، وخُناصرة على تخوم قِنَّسْرين. وقيل: مرض بحمص، وتوفّي بدَير سمعان. ومات - رضي الله عنه - وهو ابنُ تسع وثلاثين سنة وأشهر (¬4). وقال الهيثم بن واقد: استُخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر مضين (¬5) من صفر سنة تسع وتسعين، وتوفي بخُناصرة يوم الأربعاء لخمس ليالٍ بقين من رجب سنة إحدى ومئة، فكانت خلافتُه سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام (¬6). وقيل: بلغ أربعين سنة (¬7). ¬

_ (¬1) البيتان في "أنساب الأشراف" 7/ 143 مع مجموعة أبيات، وفيه: المِرَرُ، بدل: القدر. وقال محقّقُه: في هامش المخطوط: المِرَر جمع مِرَّة، وهي القوة. والبيتان أيضًا بنحوهما في "تاريخ دمشق" 54/ 213 مع أبيات، ونُسبت فيها لمحارب بن دثار، ونسبهما الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 147 لجرير. وليسا في "ديوانه". (¬2) ينظر "معجم البلدان" 2/ 517. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 110. (¬4) المصدر السابق 7/ 66 و 239 - 240. وينظر "تاريخ دمشق" 54/ 213 - 220. (¬5) في "طبقات" ابن سعد 7/ 395: بقين. (¬6) الخبر في المصدر السابق، وجاء فيه بعده: ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، ودُفن بدير سمعان. وسلف هذا الكلام قبله. (¬7) من قوله: وقال كثيّر عزَّة يرثيه ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

وقال رجاء بن حَيوة: قال لي عمر بن عبد العزيز في مرضه: كن فيمن يُغسِّلُني ويُكفّنُني، ويدخل في قبري، فإذا وضعتموني في لحدي فحُلَّ عقدة الكَفَن، وانظر إلى وجهي، فإني قد دفنتُ ثلاثةً من الخلفاء؛ كلُّهم إذا [أنا] وضعتُه في لحده؛ حللتُ العقدة، ثم نظرتُ إلى وجهه؛ فإذا وجهُه مسودٌّ في غير القبلة. قال رجاء: فلما دخلتُ في قبره حللتُ العقدة؛ فإذا وجهُه كالقراطيس في القبلة (¬1). وقال عمر - رضي الله عنه - لمسلمة بن عبد الملك: لما دفنتُ أباك نمتُ عند قبره، فرأيتُه قد أفضى إلى أمرٍ راعني، فعاهدتُ الله إن وليتُ هذا الأمر أن لا أعملَ عمله، وقد اجتهدتُ طول حياتي، وأرجو أنْ أُفضيَ إلى عفو الله ورضوانه. قال مسلمة: فلما دفنَّا عمر - رضي الله عنه -، نمتُ عند قبره، فرأيتُه في روضة خضراء، فيها قصورٌ عالية، وأنهارٌ مطردة، وملكٌ عظيم، فأقبلَ عليَّ وقال: يا مسلمة {لِمِثلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (¬2) [الصافات: 61]. وقال ميمون بن مِهْران: قال لي عُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: لما وَضَعْتُ الوليدَ في قبره نظرتُ في وجهه، وإذا به قد اسوَدّ، فإذا وُضِعْتُ في قبري فاكْشفُ عن وجهي. [قال ميمون: ] فكشفتُ عن وجهه، وإذا به أحسن ما كان في أيام تنعُّمِه (¬3). وقال يوسف بن ماهك: بينا نحن نسوِّي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذْ سقط علينا رَقٌّ من السماء فيه مكتوب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا أمانٌ من الله لعمر بن عبد العزيز من النار (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 394 - 395، وتاريخ دمشق 54/ 207. وأوردها الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 143 وقال: إسنادها مظلم. (¬2) بنحوه في "الأغاني" 9/ 265. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 115. وما سلف بين حاصرتين من (ص). وسلف نحوه عن رجاء بن حيوة قبل خبر. وينظر التعليق عليه. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 395، ونسب الخبر في (ص) إليه. وأورد الذهبي الخبر في "سير أعلام النبلاء" 5/ 143 ثم قال: مثل هذه الآية لو تمَّت لنقلها أهل ذاك الجمع، ولَمَا انفرد بنقلها مجهول، مع أن قلبي منشرحٌ للشهادة لعمر أنه من أهل الجنة.

وقال أبو سريع: لما فرَغوا من دفن عمر - رضي الله عنه - قام مسلمةُ بنُ عبد الملك على قبره وقال: رحمك الله يَا أمير المُؤْمنين، فلقد أورثتَ صالحًا بك اهتَدَوْا واقتَدَوْا (¬1)، وملأتَ قلوبنا بمواعظك خشيةً وتذكارًا، وأنلْتَ لنا شرفًا، وأبقيتَ لنا في الصالحين ذِكرًا، فعليك السلام حيّا وميّتًا. وقال مَسْلَمة: واللهِ ما أمِنْتُ الرِّقَّ حتَّى رأيتُ هذا القبر (¬2). وقال ابنُ عساكر: حَدَّثَنَا عبد الجبار بنُ عبد الصمد الإِمام (¬3) قال: حدثني أبي، حدثني محمَّد بن إسحاق ابن الحريص قال (¬4): حَدَّثَنَا أبو محمَّد [المسيّب بن واضح، حَدَّثَنَا عيسى بن كيسان، عمن حدَّثه] عن عُمير بن الحُباب قال: أُسرتُ أنا وثمانيةُ أنفسٍ في زمن بني أمية، فأمرَ ملكُ الروم بضرب أعناقنا، فضُربت أعناق أصحابي، وشَفع فيَّ بطريق من البطارقة، فوهبَني له، فمضى بي إلى منزله، وكان عُمير جميلًا نبيلًا، فقال له البطريق: تَنَصَّرْ وأُزوِّجُك ابنتي، وأقاسمُك مالي. فقلت: ما أدعُ ديني لأجل امرأة ولا مال. فأقام أيامًا يعرض عليَّ ذلك، وكانت ابنتُه شابَّة جميلة، فقالت لي يومًا: ما يمنعك ممَّا عرض عليك أبي؟ ! فقلت: لا أَدَعُ ديني لأجل امرأة ولا مال. فقالت: أتحبُّ الذهابَ إلى أهلك، أو المُقامَ عندنا؟ قلتُ: الذهاب إلى أهلي. فأَرَتْني نجمًا في السماء وقالت: سِرْ على هذا ليلًا، واكْمُنْ نهارًا. وأطلقتني. فسرت ثلاثًا، فبينا أنا في اليوم الرابع، وإذا أنا بالخيل قد أدركَتْني، فاستسلمتُ، فأشرفوا عليَّ، وإذا بأصحابي المقتلين (¬5) على خيل شُهْب ومعهم آخرون على خيل ¬

_ (¬1) في "الأغاني" 9/ 265. (والكلام فيه بنحوه): أورثتَ صالحينا بك اقتداءً وهدًى. (¬2) العقد الفريد 4/ 437. وفيه قبله قول عمر لبعض بني أمية: إنِّي أرى رقابًا ستردُّ إلى أربابها. (¬3) هذا الكلام على التجوَّز إن لم يكن ثمة سقط، فإن بين عبد الجبَّار هذا وابن عساكر في هذا الخبر ثلاثة رواة. ينظر "تاريخ دمشق" 56/ 129 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) من قوله: وقال أبو سريع: لما فرغوا ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬5) كذا هي اللفظة في تاريخ دمشق 56/ 129 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عُمير بن الحباب) والخبر منه، وفي نسخة (كما في حواشيه): المقتولين. وما سلف بين حاصرتين منه.

شُهب، فقالوا: عمير؟ ! قلت: نعم، أوليس قد قُتلتم؟ ! قالوا: بلى، ولكنَّ الله نشرَ الشُّهداء، وأَذِنَ لهم أن يشهدوا جنازة عُمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه. وحكى الحافظ أبو القاسم أَيضًا عن رجل من أهل الشَّام استُشهد له ابنٌ، فبينا هو في ظاهر البلد مع اموأته في البَيدَر يُصلح أرضًا؛ إذا بفارسٍ قد أقبلَ، فقال الرجل لزوجته: هذا -واللهِ- ابني قد أقبل، فلما قَرُب منهما؛ قال له أبوه: أليس قد استُشهدت؟ ! قال: بلى، ولكنَّ عُمر بن عبد العزيز قد توفّي في هذه الساعة، واستأذنَ الشُّهداء ربَّهم في شهود جنازته، فأَذِنَ لهم في شهودها، وكنتُ فيهم. فنظروا، فإذا عُمر قد ماتَ في تلك الساعة (¬1). ذكر ثناء العلماء عليه وما جرى بعد وفاته - رضي الله عنه -: قال ابن سعد (¬2): كان عُمر بن عبد العزيز ثقةً مأمونًا، له فقه وعلم وورع، وروى حديثًا كثيرًا، وكان إمامَ عدل، رحمه الله ورضيَ عنه. وقال أبو جعفر المنصور: ما ردَّ علينا حقوقنا إلَّا عمر بن عبد العزيز. وقال العباس بن راشد (¬3): خرجتُ مع عمر بن عبد العزيز، فمررنا بوادٍ، فإذا حيَّة ميّتة على الطريق، فنزلَ، فدفَنَها، وإذا بهاتفٍ يهتف: يَا خرقاء، يَا خرقاء. فالتفتنا يمينًا وشمالًا، فلم نرَ أحدًا، فقال عمر رحمه الله: أسألُك بالله أيُّها الهاتف إلَّا أخبرتَنا ما الخرقاء. فقال: الحيَّة التي دفنتَها، فإنِّي سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لها: "يَا خرقاء، تموتين بفلاة من الأرض، فيدفنك خير مؤمني أهل الأرض يومئذ". قال عمر: ومَنْ أنتَ يرحمُك الله؟ قال: أنا من الجنّ السبعة الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا الوادي. فدمعَتْ عينا عمر - رضي الله عنه -، ثم انصرف (¬4). وقال وَهْب بن مُنبِّه: إن كان في هذه الأمة مهديّ فهو عمر (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 54/ 208 - 209 (طبعة المجمع- ترجمة عمر بن عبد العزيز). (¬2) في "الطبقات" 7/ 397. (¬3) في "تاريخ دمشق" 54/ 115: بن أبي راشد. (¬4) المصدر السابق. (¬5) حلية الأولياء 54/ 153، وتاريخ دمشق 54/ 153، وبنحوه فيهما عن الحسن. ومن قوله: ذكر ثناء العلماء عليه ... إلى هذا الوضع، ليس في (ص).

وقال أَحْمد ابن حنبل رحمه الله: إذا رأيتَ الرجلَ يحبُّ عمر بن عبد العزيز ويذكرُ محاسنه وينشرُها، فاعلم أنَّ من وراء ذلك خيرًا إن شاء الله (¬1). وكان [محمد بن] عليّ بن الحسين يقول: يُبعث عمر بن عبد العزيز يوم القيامة أمةً وَحْدَه (¬2). وحكى محمَّد بن المهاجر قال: رأى رجل في منامه من أهل البصرة كأنَّ قائلًا يقول له: حُجَّ في عامك هذا. فقال: من أين أحجُّ؟ ! فقيل له: احْفِرْ مكان كذا وكذا، ففيه درعٌ، فبعها، وحُجَّ بثمنها. ففعل الرَّجل. قال: فلما قضيتُ مناسكي رأيتُ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في المنام وهو يمشي بين أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما فقال [لي]: اقرأ على عمر بن عبد العزيز السلام، وقيل له: إنَّ اسمك عندنا المهديّ، وأبو اليتامى، فشدَّ يدك على التعريف والمكَّاس، وإياك أن تحيدَ عن طريق هذَين، فيُحاد بك عنّي. قال: فانتبهتُ وأنا أبكي، وقدمتُ الشَّام، فأتيتُ عمرو هو بدَير سَمعان، فأخبرتُه، فقال: أعطوه كذا وكذا. فقال: لا آخذُ على رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجرًا. ونام عمر - رضي الله عنه -، ثم انتبه وهو يبكي ويقول: صدق الرَّجل، رأيت الساعة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول لي كما قال البَصْرِيّ (¬3). وقد رثاه خلقٌ كثير، فمن أحسن ما قيل فيه قولُ كُثَيَّر: عمَّت صنائعُه فعمَّ مُصابُهُ ... فالناسُ فيه كلُّهم مأجورُ ردَّت مناقبُه عليه حياتَهُ ... فكأنَّه من نَشْرِها منشورُ والناسُ مَأتَمُهُمْ عليه واحدٌ ... في كل دارٍ أَنَّةٌ وزفيرُ (¬4) ¬

_ (¬1) أورده اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" 1/ 192 (فقرة اعتقاد علي بن المدينيّ). (¬2) حلية الأولياء 5/ 254. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬3) بنحوه في "المنامات" لابن أبي الدنيا ص 70 - 71. وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 4/ 151 - 152. (¬4) تاريخ دمشق 54/ 212 (طبعة مجمع دمشق).

وقال جرير: يَنْعَى النُّعاةُ أميرَ المُؤْمنين لنا ... يَا خيرَ من حجَّ بيتَ اللهِ واعْتَمَرَا وُلّيتَ أمرًا عظيمًا فاصطبرتَ له ... فقُمتَ فيه بحمدِ اللهِ يَا عُمَرَا (¬1) الشَّمسُ كاسفةٌ ليست بطالعةٍ (¬2) ... تبكي عليك نجومَ الليلِ والقَمَرا (¬3) وقال المصنف رحمه الله: ومن أحسن ما سمعتُ في هذا الباب قولُ أبي عبد الله بن سنان الخَفَاجي الشَّاعر من أبيات: إنَّ في جانب المقطَّم مهجو ... رًا ومن أجله تُزار القبورُ ومقيمًا على المعرَّة تطويـ ... ـه الليالي وذِكْرُهُ منشورُ وقال وُهيب بن الورد: بلغَنا أن عُمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمَّا توفّي جاء الفقهاء إلى زوجته يعزُّونها، فقالوا لها: جئناك نعزّيكِ بعمر، فقد عمَّت مصيبةُ الأمة، فأخبرينا يرحمكِ الله عن عمر كيف كانت حالُه في بيته، فإن أعلم النَّاسِ بالرجل أهلُه. فقالت: واللهِ ما كان عمرُ بأكثرِكم صلاةً ولا صيامًا، ولكن واللهِ ما رأيتُ عبدًا قطُّ كان أشدَّ خوفًا منه لله، واللهِ إنْ كان ليكونُ في المكان الذي ينتهي سرورُ الرجلِ بأهله، [بيني وبينه لِحاف] فيخطرُ على قلبه الشيء من أمر الله، فينتفضُ كما ينتفض الطائر إذا وقع في الماء، ثم ينشج ويرتفع بكاؤه حتَّى أقول: خرجت نفسُه، فأطرحُ اللِّحاف عني وعنه رحمةً له، وأقولُ: يَا ليت بيننا وبين هذه الإمارة بُعْدَ المشرقَين، فواللهِ ما رأينا سرورًا منذ دخَلْنا فيها (¬4). وقال عطاء: بكت فاطمة بنتُ عبد الملك زوجةُ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - بعد وفاته حتَّى عَشِيَ بصرُها، فدخل عليها أخواها مسلمة وهشام، فقالا: يا بنت عبد الملك، ما هذا الأمر الذي قد دُمْتِ عليه؟ فإن كان جزعًا على بعلك؛ فإنَّه واللهِ أحقُّ من جُزع ¬

_ (¬1) قال محمَّد بن حبيب في "شرح ديوان جرير" 2/ 736: أراد: يَا عمراه. على النُّدبة. (¬2) انقلبت العبارة في (خ) (والكلام منها) فجاء فيها: الشَّمس طالعة ليست بكاسفة! والتصويب من "الديوان". (¬3) ذكر ابنُ حبيب في "شرحه" عن الكسائي أنَّه أراد أن الشَّمس كاسفةٌ تبكي عليك الشهرَ والدهرَ. وذكر ابن عساكر الأبيات في "تاريخ دمشق" 54/ 212. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 396، وما سلف بين حاصرتين منه. وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 54/ 191 - 192.

عليه، وإن كان على شيء من الدنيا فاتكِ؛ فها نحن وأموالُنا وأهلونا بين يديك. فبكت وقالت: واللهِ ما أَسَفي على شيء من الدنيا, ولكني رأيتُ منه ليلة منظرًا هالني، فعلمتُ أن الذي أخرجه إلى الذي رأيتُ منه هولٌ عظيم، قد أسكنَ في قلبه معرفته. قالا: وما رأيت منه؟ قالت: رأيتُه ذات ليلة قائمًا يصلِّي، فأتى على هذه الآية: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 4 - 5] فجعل يردِّدُها حتَّى طلع الفجر، ويقول: ويلي من يومٍ يكونُ النَّاسُ فيه كالفراش المبثوث. فلما طلع الفجر سقط كأنَّه ميِّت، فلم يُفِقْ حتَّى جاءه المؤذّن يؤذنُه بالصلاة، فقام فَزِعًا، فواللهِ ما ذكرتُ ليلته تلك إلَّا أصابني ما رأيتُم، فلم أملك ردَّ عَبْرَتي (¬1). قال أبو سريع الشَّاميّ: لما مات عمر - رضي الله عنه - جاءت الفقهاء إلى فاطمة يسألونها عن حاله، فقالت: واللهِ لو كان حيًّا لما أخبرتُكم، إنه كان قد فَرَّغ نفسه للنَّاس، يقعدُ لهم يومَه، فإذا أمسى وعليه بقيةٌ من حوائج النَّاس؛ وصلَ يومَه بليلته، فإذا فَرَغَ من الحوائج؛ دعا بسراج من ماله، ثم قام يصلّي ما شاء الله، فإذا فَرَغَ من صلاته وضع رأسَه على يده ودموعه تسيل على خدِّه يشهق شهقةً، فأقول: قد انصدعت كبده. فلا يزال كذلك حتَّى يصبح، فيظلُّ صائمًا، فأقول له: ارفق بنفسك. فيقول: يا بنت عبد الملك، دعيني وشأني، وعليكِ بشأنِك. فأقول: أرجو أن أتَّعظ. فيقول: إذن أخبرك. إنِّي نظرتُ إليَّ، فوجدتُني قد وَليتُ أمرَ هذه الأمة؛ صغيرِها وكبيرِها أبيضِها وأسودِها وأحمرِها، ثم ذكرتُ الغريب المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم في أقاصي الأرض وأطراف البلاد، فعلمتُ أن الله سائلي عنهم، وأنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حجيجي فيهم، فخفتُ أن لا يثبت لي عند الله عذر، ولا يقوم لي عند نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - حُجَّة، وكلَّما ذكرتُ هذا ازدَدْتُ خوفًا ووجلًا (¬2). وقال ابنُ أبي الدنيا: أرسلَ ملكُ الروم [رسالة] إلى عمر [بن عبد العزيز]- رضي الله عنه -، فبعثَ بجوابها مع محمَّد بن معبد وبعثَ معه أُسارى من الروم، ليفاديَ بهم أُسارى من المسلمين. ¬

_ (¬1) بنحوه في "المنتظم" 7/ 72. (¬2) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 54/ 160 عن عطاء، وقد أخرجه ابن عساكر فيه من طريق ابن أبي الدنيا.

قال ابن معبد: فكنتُ إذا دخلتُ على ملك الروم أراه جبَّارًا عاتيًا جالسًا على تخت، وعليه تاجُه، فدخلتُ عليه يومًا وهو جالس على الأرض كئيبًا حزينًا، فقلت: ما الخبر؟ ! فقال: مات العبد الصالح عمر، لو كان أحدٌ بعد المسيح يُحيي الموتى لكان عمر. ثم قال: إنِّي لستُ أعجب ممن يُغلق بابه ويرفضُ الدنيا، وإنما العجب ممَّن الدنيا تحت قدميه وهو يرفضُها (¬1). وقال ابن أبي الدنيا: أرسل عمر - رضي الله عنه - رسولًا إلى القسطنطينية، فخرج يمشي في أزقَّتها، فسمع قارئًا يقرأ القرآن، فوقف عليه، فإذا بأعمى يقرأ القرآن ويطحن في مدار، فسلَّم عليه، فقال: وأنَّى بالسلام في هذه الأرض؟ ! فأخبره أنَّه رسول عمر - رضي الله عنه - وقال له: ما الذي أوقعك ها هنا؟ فقال: أُخذتُ من بعض الطرق، فعرض عليَّ طاغيةُ الروم النصرانية، فأبيتُ، فسمل عينيَّ وصيَّرني إلى هذا الموضع، ويبعث إليَّ في كلِّ يوم بحنطةٍ أطحنُها له. فلما عاد الرسول إلى عمر - رضي الله عنه - أخبره، فبكى [عمر] حتَّى بلَّ الأرضَ من دموعه، وقال له: عُدْ على حالك، وقيل للطاغية: والله لئن لم تبعث بالطحَّان؛ لأَبعثنَّ إليك جنودًا أوَّلُها عندك وآخرها عندي. فلما بلغه الرسالة قال: ما كنَّا لنُحوج الرَّجل الصالح إلى هذا. وأقام الرسول عندَه أيامًا، ودخل عليه يومًا وهو قاعد على الأرض يبكي فقال له: ما لك؟ فقال: أخبرنا سيدنا المسيح أن الرَّجل الصالح إذا كان بين القوم السوء لم يلبث فيهم إلَّا يسيرًا، ثم يخرجُه الله منهم (¬2). فقال له: وما الخبر؟ قال: مات العبد الصالح. قال: فقمتُ وقد يئستُ (¬3) من خلاص الطحَّان. فقال: اذهب فخُذ الطحَّان، ما كنتُ لأجيبَه حيًّا وأخالفَه ميِّتًا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه أبو نعيم في "حلية الأولياء" 5/ 290 - 291. وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 65/ 13 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة محمَّد بن معبد) ولم أقف على الخبر فيما لديّ من كتب ابن أبي الدنيا. (¬2) في (ص): من بيهم. (¬3) في (ص): أيست. (¬4) بنحوه في "سيرد عمر بن عبد العزيز" لابن عبد الحكم ص 148 - 149. ولم أقف عليه فيما لديّ من كتب ابن أبي الدنيا.

ذكر بكاء السماء عليه: قال خالد الرَّبعي: قرأتُ في التوراة: إن السماء تبكي على عمر بن عبد العزيز أربعين صباحًا، أو أربعين سنة (¬1). حديث السَّفَط: قال عمر بن صالح الأَزدِيّ: سمعتُ شيخًا من أهل الشَّام قال: لما مات عمر بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه - كان استودعَ مولًى له سَفَطًا يكون عنده، فجاؤوه فقالوا: السَّفَط الذي كان استودعَك عمر؟ فقال: ما لكم فيه خير. فأبَوْا، حتَّى رفعوا ذلك إلى يزيد بن عبد الملك، فدعا بالسَّفَط، ودعا بني أمية، وقال: حَبْرُكُم هذا قد وجدنا له سَفَطًا استودعه. ففتحوه، وإذا فيه مقطَّعات من مُسُوح كان يلبسُها في الليل. وفي رواية: وكان فيه غُلٌّ ومِسْح (¬2)، وأوصى مولاه أن يرميَه في البحر (¬3). ذكر أولادِه - رضي الله عنه -: قال هشام والزُّبير بن بكَّار: كان له من الولد: عبد الملك، وإسحاقُ، ويعقوبُ، وموسى، وعبدُ الله، وعبدُ العزيز، وعبدُ الله الأصغر، وعاصمٌ، وزبَّان، ومحمَّد الأصغر، ويزيدُ، وبكر، وإبراهيم. ومن الإناث آمنة، وأمُّ عمَّار. فأما عبدُ الملك، فكان يسمى الناسك، وقد ذكرنا أنَّه مات في حياة أَبيه، وأمُّه وأمُّ إسحاقَ ويعقوبَ: فاطمةُ بنتُ عبد الملك. وقال ابن سعد: أمُّه أمُّ ولد (¬4). وأمَّا عبد الله (¬5) بن عمر؛ فأمُّه ليس بنتُ عليّ بن الحارث بن كعب. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 54/ 210 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) الغُلّ: طوق من حديد يُغَلُّ به الشخص، والمِسْح: كساء من شعر، أو ثوب الراهب. (¬3) ينظر "أخبار عمر بن عبد العزيز" للآجري ص 70، و"صفة الصفوة" 2/ 120. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 324. وكذا قال البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 161، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 43/ 169 (ترجمة عبد الملك بن عمر) ولم أقف على من ذكر أن أمَّه فاطمة بنت عبد الملك. (¬5) يعني الأكبر.

وأمُّ عمار بنتُ عمر أختُ عبد الله لأمّه وأبيه. وكان عبد الله شجاعًا حازمًا، وليَ العراقين ليزيد بن الوليد بن عبد الملك سنة ستٍّ وعشرين ومئة، فلما مات يزيد بن الوليد أراد أهلُ العراق أن يبايعوه بالخلافة، فأبى، فلما وليَ مروان اختفى عبد الله بواسط، فلما قدم عُمر بنُ هبيرة العراق قيَّده وبعثَ به إلى مروان بن محمَّد. ويسمى عبدَ الله بنَ الأبَرّ، وهو الذي قال: مررتُ براهبٍ في الجزيرة في صومعة، لم ينزل منها منذ زمن طويل، وكان قد قرأ الكتب، فنزل إليَّ وقال: لم أنزل إلى غيرك، وإنما نزلتُ إليك لحقِّ أبيك، إنَّا نجده في كتُبِنا من أئمَّة العدل بمنزلة رجب من الأشهر الحرم (¬1). وأمَّا عبدُ العزيز بن عمر؛ فكنيتُه أبو محمَّد لأمِّ ولد، وسنذكرُه سنة تسع وأربعين ومئة. وأما عاصم بن عمر فقتله الخوارج في سنة سبع وعشرين ومئة (¬2). وأما يزيد بن عُمر فحدَّثَ عن أَبيه، وأبي سَلَمة، وكنيتُه أبو عَمرو (¬3). وأما آمنة (¬4) بنت عمر؛ فإن عمر - رضي الله عنه - مرَّ بها يومًا فدعاها، فلم تجبه، فأرسل إليها: ما منعك أن تُجيبي؟ فقالت: أنا عريانة. فقال عمر: يَا مُزاحم، انظر إلى تلك الفُرُش التي فتقناها، فاقطع لها منه قميصًا. وبلغ عمَّتَها أمَّ البنين، فأرسلت إليها بتختٍ من ثياب، وقالت: لا تطلبي من أخي شيئًا. وتزوَّج آمنةَ سفيان بن عاصم بن عبد العزيز، وكان ابنَ عمِّها، فحكى بعض أهل المدينة قال. إنِّي لواقفٌ بالعقيق وقد جاء الحاجّ؛ إذ طلعت امرأةٌ أعجَبَنا حالُها، فلما حاذت قصورَ سفيان بن عاصم بن عبد العزيز؛ عدلَتْ إليها، فدخلَتْ القصور، فمكثَتْ ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 5/ 255، وتاريخ دمشق 54/ 156 - 157 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 596، و"تاريخ" الطبري 7/ 317. (¬3) ينظر "تاريخ دمشق" 18/ 349 (مصورة دار البشير) وفيه: حدث عن أَبيه عن أبي سلمة، وقيل: عن أبي سلمة. ولم أقف على كنيته. (¬4) قال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (تراجم النساء) ص 44: ويقال: أمينة.

ساعةً، ثم خرَجَتْ وذهبَتْ، فقلت: ألا تنظرون ما صنعت المرأة؟ فدخلتُ فإذا على الحائط مكتوب: كَفَى حَزَنًا بالوالِهِ الصَّبِّ أن يرى ... منازلَ من يهوى معطَّلةً قَفْرا بلى إنَّ ذا الشوقَ الموكَّل بالهوى ... يزيدُ اشتياقًا كلَّما حاولَ الصَّبْرا وتحته مكتوب: كتبته آمنة بنت عمر بن عبد العزيز (¬1). ذكر فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر - رضي الله عنه -: [قال الزُّبير بن بكَار: ] كانت أحظى نسائه عنده، وكانت موافقة له على الزهد والعبادة. قال عُمارة بن غَزِيَّة: حضرتُ عُرس فاطمة على عمر [بن عبد العزيز] فكانوا يُسْرِجون القناديل بالغالية ودُهنِ البان عوض الزيت. وكان على قبَّتها مكتوب: بنتُ الخليفةِ والخليفةُ جدُّها ... أختُ الخلائفِ والخليفةُ بعلُها (¬2) قال الزُّبير بن بكَّار: لا يُعرف امرأةٌ تستحق هذا البيت غيرُها، وكان لها ثلاثة عشر محرمًا كلُّهم خليفة (¬3): جدُّها مروان بنُ الحكم، وأبوها عبدُ الملك، وإخوتُها الأربعة الوليدُ، وسُليمان، ويزيد، وهشام، وهي عمَّة ثلاثة من الخلفاء: الوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، وجدُّها لأمها يزيد بنُ معاوية (¬4)، وزوجُها عمر بنُ عبد العزيز، ولم يتفق هذا لغيرها فيما تقدَّم (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. ولم ترد هذه الفقرة (يعني ذكر أولاده) في (ص). (¬2) تاريخ دمشق (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق) ص 291 - 292 وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) تعقَّب أبو شامة هذا الكلام بقوله: هذا مبنيّ على أصل فيه خلل. وهو أنّ فاطمة بنت عبد الملك ليست أمها عاتكة بنت يزيد بن معاوية ... وانظر ما يلي. (¬4) إنما جدها لأمِّها المغيرةُ بنُ خالد بن العاص بن هشام. وأمُّ فاطمة بنت عبد الملك هي أمُّ المغيرة بنت المغيرة المذكور، وليست أمّها عاتكة بنت يزيد بن معاوية. نبَّه على هذا أبو شامة في "الروضتين" 1/ 232. يعني فيكون لها عشرة محارم من الخلفاء ... (¬5) اتفق نحوه لعاتكة بنت يزيد، كما سلف في ترجمتها. ونقص من كلامه أعلاه (وعلى أصله) ذكر اثنين: معاوية جدّ أمها، ومعا وية بن يزيد خالها. ومن قوله: جدُّها مروان ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

قال ابن عساكر: فاطمة بنت عبد الملك [بن مروان] كانت لها دار بدمشق بالعقيبة، خارج باب الفراديس، كان يكون بها العميان (¬1). ولما مات عمر - رضي الله عنه - قالت لأخيها مَسْلَمة: إنِّي قد اشتهيتُ أن أجد رائحةَ الولد. فقال لها: ويحك! بعد أمير المُؤْمنين؟ ! قالت: لابدّ. قال: لأَشُورَنَّ (¬2) بك الأزواج. فقالت: قد تَشَوَّرْتُ (¬3) منهم داودَ بنَ بشر بن مروان. وكان داود أعور قبيح المنظر فقال الأحوص: أبَعْدَ الأغَرِّ بنِ عبدِ العزيز ... قريعِ قريشٍ إذا يذكرُ تزوَّجتِ (¬4) داودَ مختارةً ... ألا ذلك الخَلَفُ الأعورُ فقال النَّاس: هذا الخَلَف الأعور. [وقال الجوهري: الشَّوار؛ بالتخفيف: فرجُ الرجل والمرأة، يقال: شوَّر به، أي: كأنه أبدى عورتَه. وقيل: إنما تزوَّجت سليمان بن داود بن مروان. قلت: والأصحّ داود بن بشر بن مروان]. وقال المصنِّف رحمه الله: وقد اتفق لربيعة خاتُون بنتِ أَيُّوب أختِ صلاح الدين رحمه الله مثلُ هذا، فإنَّه ملكَ الشَّامَ ومصر واليمن والجزيرة منهم عدةُ ملوك كانوا لها محرمًا (¬5). وفاطمة بنت عبد الملك ممَّن حدَّثت بالشَّام، وحكت عن زوجها عمر - رضي الله عنه -، وروى عنها عطاء، ومُزاحم مولى عمر، وأخوها مسلمة، وزُفر مولى مسلمة، وغيرُهم. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق (تراجم النساء) ص 290. (¬2) كذا في (خ) واللفظة غير مجوّدة في (ص) (والكلام منهما). وفي "اعتلال القلوب" للخرائطي ص 211: لأتشوَّرنَّ. وفي "الوافي بالوفيات" 13/ 460: لأتسوَّرن (بالسين المهملة)، وفي "تهذيب تاريخ دمشق" 5/ 199: لا تسوري. وينظر كلام الجوهري آخر الخبر. (¬3) في "الوافي بالوفيات" و"تهذيب تاريخ دمشق": تسورت. (¬4) في "اعتلال القلوب"، و"تهذيب تاريخ دمشق": تبدَّلتِ. (¬5) ينظر "الروضتين في أخبار الدولتين" 1/ 231. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص).

ذكر حاجبه وقاضيه وصاحب شرطته - رضي الله عنه -. كان حاجبه رجاء بن حَيوة، وصاحب بيت المال مُزاحم مولاه، وقاضيه عبد الله بن يزيد بن حداس (¬1) الصَّنْعانِيّ وكنيتُه أبو مسعدة، وقيل: أبو مسعود؛ ولّاه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - القضاء على مصر سنة مئة، فأقام إلى سنة خمس ومئة، ثم صرف ولم يرزق على القضاء دينارًا ولا درهمًا، فلما أراد الخروج من مصر كان عنده جوربان من اليمن، فباعهما وتصدَّق بثمنهما، وخرج من مصر مجرَّدًا. وكان صاحب حرسه مالك بن زياد (¬2). وقيل: إن عمر رضي الله عنه استقضى على الشَّام عُبيد الله بن سعيد الأملي (¬3)، وكان صاحب شرطته كعب بن حامد (¬4)، ثم رَوْح بن يزيد السكسكي (¬5). وقال ابن سعد: كان عمرو بن المهاجر صاحب حرس عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، ومات سنة ست وثلاثين ومئة (¬6). ذكر مواليه: منهم مُزاحم بن أبي مزاحم من سَبْي البربر، سكن مكة، وكان زاهدًا عابدًا ورعًا، وكان عمر - رضي الله عنه - يُحبُّه ويُثني عليه ويقول له: يَا مُزاحم، إن الخلفاء تركوا العيون على الولاة، وأنا تركتُك عينًا على نفسي. وقال عمر - رضي الله عنه -: أوَّلُ من أيقظني لهذا الشأن مزاحم؛ حبستُ رجلًا، فأطلتُ حبسَه، فكلَّمني في إطلاقه، فقلتُ: ما أنا مخرجه حتَّى أؤدِّبَه. فقال: يَا عمر، أُحذِّرُك ليلة تمخَّض ¬

_ (¬1) كذا في (خ) (والكلام منها). وفي "فتوح مصر" لابن عبد الحكم: حذافر. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 66/ 108 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) كذا في (خ) (والكلام منها) ولم أعرفه. وينظر ترجمة عبيد الله بن سعيد الأُموي في "تاريخ دمشق"44/ 251 فلعله هو. (¬4) تاريخ داريا ص 90، وتاريخ دمشق 59/ 348 وهو كعب بن حامد العنسي، قال ابن عساكر: ويقال: حامز. (¬5) في (خ) (والكلام منها): العبسي. والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 145، و"تاريخ" اليعقوبي 2/ 308، و"تاريخ دمشق" 6/ 305 (مصورة دار البشير). ووقع في الأخير وفي "تهذيبه" لابن بدران 5/ 343 أنَّه كان على شرطة محمَّد بن عبد العزيز، وهو خطأ. (¬6) في "طبقات" ابن سعد 9/ 466 أنَّه مات سنة تسع وثلاثين ومئة.

بالقيامة، ولقد كدتُ أنسى اسمك ممَّا أسمع النَّاس يقولون: قال الأمير. قال عمر - رضي الله عنه -: فكأنما كشف عني غطاء، فذكِّروا أنفسكم، فإن الذِّكرى تنفعُ المُؤْمنين (¬1). قال الواقديّ. مات عبد الملك بن عُمر أولًا، ثم سَهْل أخو عمر، ثم مولاه مزاحم، ثم عُمر - رضي الله عنه -، وكان مُزاحم عَوْنًا لعمر على أمره (¬2). وقال عمر: ما مزاحم بأدنى الثلاثة عندي، ولقد كان وزير صدق. حكى عنه عمر، والزُّهري (¬3)، وعُيَينَة والد سفيان، وابنُ جُرَيج، وابنُه سعيد بنُ مُزاحم، وغيرُهم (¬4). ومنهم (¬5) سابق بن عبد الله البربري (¬6)، وكنيتُه أبو سعيد، وكان أحدَ الزُّهَّاد البكَّائين والشعراء المبرّزين، وأكثر شعره في الزُّهد والرقائق، كان يُنشد عمر - رضي الله عنه - وعُمر يبكي. [وروى ابن أبي الدنيا عن ميمون بت مهران قال: ] دخل [سابق البربري] على عمر - رضي الله عنه - فقال له: أنشدني، فقال: فكم من صحيحٍ باتَ للموتِ آمنًا ... أَتَتْهُ المنايا بغتةً بعد ما هَجَعْ فلم يستطعْ إذْ جاءه الموتُ بغتةً ... فرارًا ولا منه بقوَّتهِ (¬7) امْتَنَعْ فأصبحَ تبكيه النساءُ مقنَّعًا ... ولا يَسمعُ الداعي وإنْ صوتَه رَفَعْ وقُرِّبَ من لَحْدٍ فصارَ مقيلَهُ ... وفارقَ ما قَدْ كان بالأمسِ قد جَمَعْ فلا يتركُ الموتُ الغنيَّ لِمالِهِ ... ولا مُعْدِمًا في المال ذا حاجة يَدَعْ فلم يزل عمر - رضي الله عنه - يبكي ويضطرب حتَّى غُشِيَ عليه [فقمنا وتركناه] (¬8). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 67/ 62 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) ينظر "حلية الأولياء" 5/ 356 - 357 (ترجمة عبد الملك بن عمر)، و"تاريخ دمشق" 67/ 63 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة مزاحم). (¬3) كذا في (خ) (والكلام منها). والذي في المصدر السابق، و"تهذيب الكمال" 27/ 420 أنَّه يروي عن عمر، وأن الزهري والمذكورين بعده يروون عنه. (¬4) من قوله: وقال المصنف: وقد اتفق لربيعة ... إلى هذا الموضع، مع شعر الأحوص قبله، ليس في (ص). (¬5) أي: من موالي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. قال الصفدي في "الوافي بالوفيات" 15/ 69: قيل: هو مولى عمر، وقيل: مولى الوليد. (¬6) قال ابن الأثير في "اللباب" 1/ 132 الصحيح أن سابقًا البربري ليس منسوبًا إلى البَرْبَر، وإنما هو لقبٌ له. (¬7) في رواية أخرى في "تاريخ دمشق" 7/ 5 (مصورة دار البشير): بحيلته. (¬8) حلية الأولياء 5/ 318، وتاريخ دمشق 7/ 5 (مصورة دار البشير).

وله: إذا أنتَ لم تَرْحَلْ بزادٍ من التُّقَى ... ووافيتَ بعدَ الموتِ مَنْ قد تَزَوَّدَا ندمتَ على أن لا تكونَ شَرَكتَهُ ... وأرْصَدْتَ قبلَ الموتِ ما كانَ أرْصَدَا (¬1) [وله]: أموالُنا لذوي الميراث نجمَعُها ... ودُورُنَا لخراب الدهرِ نبنيها والنفس تَكْلَفُ بالدنيا وقد عَلِمَتْ ... أنَّ السلامة فيها تركُ ما فيها (¬2) روى سابق عن ربيعة بن عبد الرَّحْمَن، وداود بن أبي هند، ومكحول، وغيرهم. قال ميمون بن مهران: دخل سابق على عمر - رضي الله عنه - , فقال له: عِظْني. فقال -وهي أبيات طويلة منها-: باسم الذي أُنزلَتْ من عنده السُّوَرُ ... والحمدُ للهِ أمَّا بعدُ يا عمرُ فما صفا لامرئٍ عيشٌ يُسَرُّ به ... إلا سيَتْبَعُ يومًا صفْوَهُ كَدَرُ والذِّكر (¬3) فيه حياةٌ للقلوب كما ... يُحيي البلادَ إذا ما ماتَتِ المطرُ (¬4) لا ينفعُ الذِّكرُ قلبًا قاسيًا أبدًا ... وهَلْ يلينُ لقلبِ الواعظِ الحجرُ ولا أرى أثرًا للذِّكر في جسدي ... والحَبْلُ في الجَبَل القاسي له أثرُ لا يُشْبِعُ النفسَ شيءٌ حتَّى تُحرِزَه ... ولا يَزالُ لها في غيره وَطَرُ ولا يزالُ وإن كانَتْ لها سَعَةٌ ... لها إلى الشيءِ لم تظفر به نَظَرُ أَبَعْدَ آدمَ ترجُون البقاءَ وهَلْ ... تبقى فروعٌ لأصل حين ينقعرُ (¬5) وقال أبو أَحْمد الحاكم: كان سابقٌ إمامَ مسجد الرقَّة، وقاضي أهلها. ومن شعره: ¬

_ (¬1) المصدران السابقان، وجاء هذان البيتان باختلاف يسير ضمن قصيدة للأعشى في "ديوانه" ص 187. (¬2) تاريخ دمشق 7/ 3 (مصورة دار البشير). (¬3) في "تاريخ دمشق" 7/ 4: والعلمُ. (¬4) قال الزَّبيدي في "تاج العروس" (موت): من المجاز: مات الماء بهذا المكان: إذا نشَّفَتْه الأرض. ووقع في "تاريخ دمشق" 7/ 4: مسَّها المطر. (¬5) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 83، وتاريخ دمشق 7/ 4، و"التبصرة" 1/ 101 - 102.

وللموت تَغْذُو الوالدتُ سِخَالها ... كما لخراب الدَّهْرِ تُبْنَى المساكنُ فلا تَغْتَرِرْ ما عِشْتَ من مُتَجَمِّلٍ ... بظاهر وُدٍّ قد تُغطَّى البطائنُ [وله]: تأوَّبَني هَمٌّ كثيرٌ بَلابِلُهْ ... طروقًا فغال النومَ عني غَوائلُهْ (¬1) فَوَيحِي من الموتِ الذي هو واقعٌ ... وللموتِ بابٌ أنتَ لا بدَّ داخلُهْ ولم أرَ في الدنيا وذو الجهلِ غافلٌ ... أسيرًا يخافُ القتلَ واللهوُ شاغلُهْ ولا يَرْتَجِي عونًا على حَمْلِ وزْرِهِ ... مسيءٌ وأولى الناسِ بالوزْرِ حاملُهْ ويغسلُ ما بالجلدِ من ظاهر الأَذَى ... ولا يغسلُ الذنبَ المخالفَ غاسلُة ومَن تُفْلِتِ الأمراضُ يومًا فإنَّهُ ... سيوشكُ يومًا أن تُصابَ مَقَاتِلُهْ إذا العلمُ لم تعمل به صارَ حُجَّةً ... عليك ولم تُعْذَرْ بما أنتَ جاهلُهْ أرى الغُصْنَ (¬2) لا يَنْمِي إذا اجتُثَّ أصلُهُ ... وليس بباقٍ مَنْ أُبِيحَتْ أوائلُهْ وتطلبُ في الدنيا المنازلَ والعُلا ... وتَنْسَى نعيمًا نائمًا لا تُزايلُهْ كمن غَرَّهُ لَمْعُ السَّرابِ بقَفْرةٍ ... فقصَّر عن وردٍ تَجِيشُ مناهلُة وإنْ فَرِحَت بالمرء يومًا حلائلٌ ... فلا بدَّ يومًا أن تُرِنَّ حلائلُهْ (¬3) من أبيات. ذكر مسانيد عمر: أسند عمرُ رحمة الله كليه الحديثَ عن جماعة من الصَّحَابَة، منهم: عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك, وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعمر بن أبي سلمة، والسائب بن يزيد, ويوسف بن عبد الله بن سلام. وأرسل الحديث عن عبادة بن الصامت، والمغيرة بن شعبة، وتميم الداري، وعائشة رضوان الله عليها، وأمِّ هانئ. ¬

_ (¬1) تأوَّبَني: عاودني، والبلابل: جمع بَلْبَال، وهو شدة الهمّ والوَسواس، وغال: أخذ. والغوائل، جمع غائلة، وهي الداهية. (¬2) في (خ) (والكلام منها): أرض العلم. والمثبت من "تاريخ دمشق" 7/ 7. (¬3) تُرِنّ، أي: تنوح، وحلائل جمع حليلة، وهي الزوجة.

عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة حذيفة

وروى عن خلق من التابعين: ابن المسيِّب، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبي سلمة، وعروة بن الزُّبير، وعُبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وعامر بن سعد بن أبي وقَّاص، وأبي بُرْدَة بن أبي موسى، وأبي حازم، والزُّهري، وعِراك بن مالك، ومحمَّد بن كعب القُرَظي، في آخرين. وروى عنه أبو سلمة بنُ عبد الرَّحْمَن -وهو أكبر منه- ومحمَّد بنُ المنكدر، وابناه عبدُ الله وعبدُ العزيز ابنا عمر، ومَسْلَمة بن عبد الملك، وأخوهُ زَبَّان بن عبد العزيز، وحُميد الطَّويل، ويحيى بن سعيد الأَنْصَارِيّ، وأبو بكر بن محمَّد بن عَمرو بن حزم، وإبراهيم بن أبي عبلة، ورجاء بن حَيوة، وغيرهم (¬1). انتهت ترجمة عمر بن عبد العزيز (¬2). [ومن الذين دخلوا على عمر بن عبد العزيز: ] عُمر بن عبد الله بن أبي ربيعة حُذيفة ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم الشَّاعر، وكنيته أبو الخَطَّاب. [قال الزُّبير: ] وُلد في الليلة التي قُتلَ فيها عمر بنُ الخَطَّاب رضوان الله عليه. كانت العرب تُقِرُّ لقريش بالتقدُّم عليها في كلّ شيء إلَّا الشعر، فلما كان عُمر أقرَّت لها بالشعر أَيضًا (¬3). وكان عُمر شاعرًا مُفْلِقًا فصيحًا، غير أنَّهم نَهَوْا عن شعره وقالوا: هو رُقية الزِّنى (¬4). وكان كثير التشبيب بالنساء قلَّ أن يرى امرأة إلَّا شبَّب بها، وكان يحبُّ زيارتهنَّ ومجالستهنَّ؛ شبَّب بالثُّريَّا [وإليه تنسب] وبسُكَينة بنت الحسين، وفاطمة بنت عبد ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 54/ 101، و"تهذيب الكمال" 21/ 434 - 436. (¬2) من قوله (في الشعر): إذا أَنْتَ لم ترحل بزاد من التقي ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) المنتظم 6/ 313 (وذكر ابنُ الجوزي الترجمة فيه فيمن تُوفِّي سنة 93). (¬4) لم أقف عليه، وهذا الكلام من (خ)، ومن قوله: كانت العرب تقرُّ لقريش ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

الملك بن مروان، وأكثرُ تشبيبه بالثُّريَّا، فلما تزوَّجها سهيلُ بن عبد الرَّحْمَن بن عوف، وحُملت إليه من الشَّام إلى مكة قال عمر: أيُّها المُنْكِحُ الثُّريَّا سُهيلًا ... عَمْرَكَ اللهَ كيفَ يجتمعانِ (¬1) هي شاميَّةٌ إذا ما اسْتَقَلَّتْ ... وسُهَيلٌ إذا اسْتَقَلَّ يماني [وقال إسحاق الموصلي: ] وكانت الثُّريَّا من أجمل النساء وأكملهن، وهي بنت عبد الله بن محمَّد بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف وكانت من أحسن النساء خَلْقًا وخُلُقًا، تأخذ الجرَّة من الماء، فتُفْرِغُها على رأسها، فلا يصيب باطنَ (¬2) فخذها منها قطرة؛ لعِظَم كَفَلِها. وكان عُمر بنُ عبد الله يجتمعُ بها ويخلوانِ ويناشدُها الأشعار، فحجَّ مرَّةً، فقيل له: قد كنتَ تخلو بالثُّريَّا. فقال: برئتُ من ربِّ هذه البَنِيَّة -وأشار إلى الكعبة- إن كنتُ هممتُ بالثُّريَّا أو حَلْلتُ إزاري على حرام قطّ (¬3). ومن شعره في سُكَينةَ قولُه: قالتْ سُكَينَةُ والدموعُ ذوارفٌ ... منها على الخدَّينِ والجِلبابِ (¬4) أسُكَينُ ما ماءُ الفراتِ وطِيبُهُ ... منَّا على ظمأٍ وحُبِّ شرابِ بألذَّ منكِ وإن نأيتِ وقلَّما ... تَرْعَى النِّساءُ أمانةَ الغُيَّابِ وقال في فاطمة بنت عبد الملك: افعلي بالأسيرِ إحدى ثلاثٍ ... وافْهَمِيهِنَّ ثمَّ رُدِّي جوابي ¬

_ (¬1) في "الأغاني" 1/ 122 وغيره: يلتقيان. وينظر "جمهرة نسب قريش" 2/ 548، و"المنتظم" 6/ 315. (¬2) كذا في "تاريخ دمشق" كما في "مختصره" 5/ 353. وفي "الأغاني" 1/ 224: ظاهر. (¬3) ينظر المصدر السابق و"المنتظم" 6/ 315. ومن قوله (بعده): ومن شعره في سكينة ... إلى آخر هذه السخة (101) ليس في (ص). (¬4) بعده في "الديوان" ص 435، ولا بدَّ منه، ولم يرد في (خ) والكلام منها: ليت المغيريَّ الذي لم نَجْزِهِ ... فيما أطال تصيُّدي وطِلابي كانت تَرُدُّ لنا المُنى أيامَنا ... إذ لا نُلام على هوًى وتَصابي

اقْتُلِيهِ قَتْلًا سريعًا مُرِيحًا ... لا تكوني عليه سَوْطَ عذابِ أو أقيدي فإنَّما النَفْسُ بالنَّفْـ ... ـسِ قضاءً مُفصَّلًا في الكتابِ أو صِلِيهِ وَصْلًا تَقَرُّ به العَيـ ... نُ وَشرُّ الوصالِ (¬1) وصْلُ الكِذَابِ فأعطت الذي جاء بالأبيات أربعين دينارًا؛ لكلِّ بيت عَشَرةُ دنانير. قال الزُّبير بنُ بكَّار: أنشدَ ابنُ أبي عتيق سعيدَ بنَ المسيّب قولَ عمر: أيُّها الراكبُ (¬2) المُجِدُّ ابتكارا ... قَدْ قَضَى من تِهامةَ الأَوْطارا إنْ يَكُنْ قلبُك الغَداةَ خَلِيًّا (¬3) ... ففؤادي بالخَيفِ أمسى مُعَارا ليتَ ذا الحجَّ كان حَتْمًا علينا ... كلَّ يومَينِ (¬4) حَجَّةً واعْتمارا فقال ابن المسيِّب: لقد كلَّفَ المسلمين شَطَطًا. قال ابنُ أبي عَتِيق: فقلتُ له: في نفس [الجمل شيءٌ غيرُ ما في نفس سائقه]. ومن شعره: ولمَّا تفاوَضْنا الحديثَ وأسْفَرَتْ (¬5) ... وجوهٌ زهاها الحُسْنُ أَنْ تَتَقَنَّعا وقلتُ لمُطْريهنَّ (¬6) ويحكَ إنما ... ضَرَرْتَ فهل تَسْطِيعُ نَفْعًا فتنفَعَا تَبَالهْنَ بالعِرْفان لَمَّا عَرَفْنَنِي ... وقُلْنَ امرؤٌ باغٍ أَكَلَّ وأوْضَعا وقَرَّبْنَ أسبابَ الهوى لمُتَيَّمٍ ... يقيسُ ذراعًا كلَّما قِسْنَ إصْبَعا قال محمَّد بن سلام: كان عمر عفيفًا، يصف ويقف، ويحومُ ولا يَرِدُ (¬7). ¬

_ (¬1) كذا في "المنتظم"6/ 314. وروايته في "الديوان" ص 417: وصلًا يقرُّ عليه إن شرَّ الوصال ... (¬2) في "الديوان" ص 493: أيها الرائح. وينظر "الأغاني" 2/ 362. (¬3) في "الديوان"، و"الأغاني" 1/ 167: مَنْ يكُنْ قلبُه صحيحًا سليمًا. وفي رواية في "الأغاني" 2/ 362: مَنْ يكن قلبُه الغداة خليًّا. وفي "تاريخ دمشق" 54/ 86: إن يكن قلبُك الغداةَ جليدًا وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬4) كذا في "الأغاني" 1/ 167، و"تاريخ دمشق" 54/ 86. وفي "الديوان"، و"الأغاني" 2/ 362: شهرين. (¬5) كذا روايته في "الحماسة" كما في "شرحها" للتبريزي 3/ 127. وروايته في "الديوان" ص 179، و"الأغاني" 1/ 177 و 8/ 144: فلما تواقَفْنا وسلَّمتُ أشرقَتْ، وفي "الأغاني" 6/ 324: أقبلت، بدل: أشرقت. (¬6) أي: مادِحِهنّ. قال التبريزي: يقال: أطرى فلانٌ فلانًا: إذا مدحَه بأحسن ما قَدَرَ عليه. (¬7) هو في "الأغاني" 1/ 119، و"تاريخ دمشق" 54/ 71 من قول الزُّبير بن بكَّار. وينظر "طبقات فحول الشعراء" 2/ 648.

ذو الرمة الشاعر

وعاش سبعين سنةً، ولما احتُضر قال: واللهِ ما حللتُ إزاري على حرام قطّ. وقال الهيثم: رأى امرأةً في الطواف فكلَّمها فلم تكلّمه، وكان معها زوجُها، فقال: اللهُ بيني وبين قَيِّمِها ... يَفِرُّ منَي بها وأتَّبِعُهْ فقالت المرأة: بل اللهُ بين قيِّمها وبينك، فقيل للمرأة: اشكوه إلى زوجك. فقالت: لا والله، لا أشكوه إلَّا إلى الله في مثل هذا المقام، اللهم اجْعَلْه طعامًا للريح. فركب يومًا فرسًا، فدخلت الريح في ثيابه، فسقطَ ميِّتًا (¬1). ذُو الرُّمَّة الشَّاعر كنيتُه أبو الحارث (¬2)، واسمُه غَيلان بن عُقبة بن بُهَيش بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب العَدَويّ. وهو من الطَّبقة الثَّانية من شعراء الإِسلام، وكان يُشَبِّبُ بمَيّ بنت طَلَبَة (¬3) بن عاصم المِنْقَريّ، ثم بخَرْقَاء بنت عامر بن ربيعة. وكان سببُ ذلك أنَّه مرَّ في بعض أسفاره بحيِّ خَرْقَاء، فرآها قد خرجت من الخِباء، فوقعَتْ في قلبه، فخَرَّقَ إداوتَه (¬4) استطعامًا لكلامها، ثم قال لها: إنِّي رجلٌ على سفر وقد تخرَّقَتْ إداوتي، فأصلحيها. فقالت: أما علمتَ أني خَرْقاء. والخَرْقاءُ لا تُحسنُ العملَ لكرامتها على أهلها (¬5). وكانت الخَرْقاء تقعد للنَّاس في طريق مكة، فإذا قفلُوا تقول لهم: أنا أحدُ مناسِكِكُم، فإذا قالوا: وكيف؟ تقول: أنا صاحبةُ ذي الرُّمَّة التي يقول فيها: ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا السياق. وفي خبر بنحوه في "المنتظم" 6/ 316 نُسب فيه البيت للأحوص. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 53 (ترجمة عبد الله بن عباس) ونُسب فيه البيت أَيضًا للأحوص. (¬2) أورده المصنف في وفيات هذه السنة تبعًا لابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 72. وجاء في باقي المصادر أنَّه تُوفِّي سنة (117). (¬3) في (خ) (والكلام منها) و"المنتظم" 7/ 72: طلحة، والمثبت من"الأغاني" 18/ 25، و"تاريخ دمشق" 14/ 171 (مصورة دار البشير)، وكذا هي في "مختصره" 20/ 233. وينظر "الشعر والشعراء" 1/ 526. (¬4) الإداوة: إناء صغير يُحمل فيه الماء. (¬5) الشعر والشعراء 1/ 527، وتاريخ دمشق 14/ 172 (مصورة دار البشير)، والمنتظم 7/ 73.

تمامُ الحجِّ أن تقفَ المطايا ... على خَرْقاءَ واضعةِ اللِّثامِ وتكشفُ عن لثامها (¬1). قال القحذمي: دخلَ ذو الرُّمَّة الكوفة، فبينا هو يسير في شوارعها إذ رأى جارية سوداءَ واقفةً على باب دار، فاستحسنَها ووقعت بقلبه، فاستسقى ماءً، فأخرجَتْ له كوزًا فشرب، وأراد أن يمازحها، فقال لها: يَا جارية، ما أحرَّ ماءَكِ! فقالت: لو شئتَ لأقبلتَ على عيوب شِعركِ، وتركتَ حَرَّ مائي وبَرْدَه. فقال: وأيُّ شِعْري فيه عيب؟ ! قالت: ألستَ ذا الرُّمَّة؟ ! قال: بلى. فقالت: وأنت الذي شَبَّهْتَ عنزًا بقفرةٍ ... لها ذَنَبٌ فوقَ اسْتِها أمَّ سالمِ جعلتَ لها قَرْنَينِ فوقَ جبينِها ... وطِبْيَينِ (¬2) مُسْوَدَّينِ مثلَ المحاجمِ (¬3) وساقَينِ إن يستمسكا منكَ يتركا ... لساقيكَ يَا غيلانُ مثلَ المياسمِ (¬4) أيا ظَبْيَةَ الوَعْساءِ بينَ جُلاجلٍ ... وبينَ النَّقَا (¬5) آأنتِ أمْ أمُّ سالمِ قال: فنزل ذو الرُّمَّة عن راحلته وقال: أنشدك الله إلَّا ما أخَذْتِيها وما عليها, ولا تذكرين هذا لأحد. فقالت: خُذْ راحلتَك وانصرف راشدًا، فلا ذكرتُه لأحد (¬6). قال المنتجع بن نبهان: كنت عند ذي الرُّمَّة وقد احتُضر، فلما أحسَّ بالموت بكى وقال: ما ظنُّك بي؟ قلت: أَنْتَ أعلم بما جرى بينك وبين مَيَّة. فقال: لا نالتني شفاعةُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إن كنتُ هَمَمْتُ بها بريبة قطّ، ولقد كنتُ هائمًا بها عشرين سنة. ¬

_ (¬1) ينظر "الأغاني" 18/ 38 و 40، و"تاريخ دمشق" 14/ 172، و"المنتظم" 7/ 73. (¬2) الطِّبْيُ: حلمة الضَّرْع التي فيها اللبن. وفي "تاريخ" ابن عساكر: ووَطْبَين، والوَطْبُ: الثدي العظيم. (¬3) جمع مِحْجم، وهي القارورة التي يجمع فيها دم الحِجامة. (¬4) في "المنتظم" 7/ 73: وساقين إن يستمكنا منك يتركا ... بجلدك يَا غيلان مثل المناسم، وروايته مختلفة في "الأغاني"18/ 23 (والخبر فيه بنحوه). (¬5) الوَعْساء: أرض بحضرموت، وجُلاجل -بضم الجيم، وتقال بالمهملة- أرض باليمامة، والنَّقَا: الكثيب من الرمل. وقال ابن الجواليقي: اسم موضع. وينظر "معجم البلدان" 2/ 49 أو 280 و 5/ 379، و"معجم ما استعجم" 2/ 388، و"الروض المعطار" ص 611. وينظر هذا البيت في "ديوان" ذي الرُّمَّة 2/ 767. (¬6) تاريخ دمشق 14/ 77 - 178 (مصورة دار البشير)، و"المنتظم" 7/ 76 - 77.

القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه

وقيل: تأخَّر موتُه إلى أيام هشام بن عبد الملك, وتوفي وهو خارج إليه فدُفن بِحُزْوَى (¬1). وقال المنتجع: كنت مع ذي الرُّمَّة، فلمّا أحسَّ بالموت قال: يَا منتجع، مثلي لا يُدفنُ في غُمُوضٍ (¬2) من الأرض، ولا في بطون الأودية، فإذا متُّ فادفنِّي في رأس فِرِنْداذين (¬3). فدفتنُه به، فهناك قبرُه. ولما احتُضر قال: أنا ابنُ نصف الهَرَم [أنا ابنُ أربعين سنة] وقال: يَا ربِّ قد أشرقَت نفسي وقد علمَت ... علمًا يقينًا لقد أحصيتَ آثاري يَا مُخْرِجَ الرُّوحِ من جسمي إذا احْتُضِرَتْ ... وفارجَ الهَمِّ زَحْزِحْني عن النَّارِ (¬4) ولما سمع الفرزدق شعره قال: ما أحسنَ ما تقول! فقال ذو الرُّمَّة: فما لي لا أُعَدُّ في الفحول؟ فقال الفرزدق: لتقصيرك عن غاياتهم (¬5). ولم يكن لذي الرُّمَّة حظ في الهجو. حدَّثَ ذو الرُّمَّة عن ابن عباس، ووفدَ على الوليد بن عبد الملك، وروى عنه أبو عَمرو بنُ العلاء. وكان له ثلاثةُ إخوة يقولون الشعر: مسعود، وهشام، وخرقاش، بنو عقبة. القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه كنيتُه أبو محمَّد، وكان أحدَ الفقهاء السبعة بالمدينة، وهو من الطَّبقة الثَّانية من التابعين من أهل المدينة. ¬

_ (¬1) الأغاني 18/ 42، وتاريخ دمشق 14/ 181. قال أبو الفَرَج: حُزْوَى: هي الرَّملة التي كان يذكرها في شعره. وقال ياقوت في "معجم البلدان" 2/ 255: موضع بنجد في ديار تميم. (¬2) جمع غَمْض، وهو المنخفِض من الأرض انخفاضًا شديدًا حتَّى لا يُرى ما فيه. (¬3) نقل ياقوت في "معجم البلدان" 4/ 256 - 257 عن أبي منصور قوله: فِرِنْداذ: جبل بناحية الدَّهْناء (رمال في طريق اليمامة إلى مكة) وبحذائه جبل آخر يقال لهما: الفِرِنْداذان ... ثم أورد خبر وفاته بنحوه. ولم تجوَّد اللفظة في (خ) (والكلام منها) ووقع في "المنتظم" 7/ 77: فريدادين (والخبر فيه). (¬4) ينظر "الشعر والشعراء" 1/ 525، و"الأغاني" 18/ 42 و 44، و"تاريخ دمشق" 14/ 180 (مصورة دار البشير). وما بين حاصرتين منها. (¬5) الشعر والشعراء 1/ 524، والمنتظم 7/ 72.

وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: سَوْدَة، وقيل: أمُّ عبد الله، قُتل أبوه محمَّد قريبًا من سنة ستٍّ وثلاثين بعد قتل عثمان رضوان الله عليه، وبقي القاسم يتيمًا في حجر عائشة رضوان الله عليها (¬1). وكان أشبهَ الناسِ بأبي بكر الصديق رضوان الله عليه. قال: كانت عائشة تَحْلِقُ رؤوسَنا عشيَّةَ عرفة، ثم تُخلِّقُنا وتبعث بنا إلى المسجد، ثم تُضَحِّي عنَّا من الغد (¬2). قال رجل للقاسم: أيُّما أفقهُ أنتَ أم سالمُ بن عبد الله؟ فقال: ذاك منزلُ سالم. لم يزدْه على ذلك، كره أن يقول: سالم أعلمُ منّي فيخطئ، وكره أن يقول: أنا أعلم، فيزكِّي نفسه (¬3). والقاسم الذي قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: لو كان إليَّ من الأمر ما عَدَلْتُ عن الأَعمش (¬4). وعُمر قال ذلك قبل أن يذهب بصر القاسم. وبعث إليه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - بألف دينار فردَّها تورُّعًا. وقال أَيُّوب: لقد ترك القاسم مئة أَلْف وهي له حلال (¬5). وكان يصبغ رداءه بالزَّعفران، وكان يلبس جُبَّة خَزّ، وما كان يُجيبُ إلَّا في الشيء الظاهر (¬6). وكان يخضبُ رأسَه ولحيتَه بالحِنَّاء (¬7). وقال: كفِّنُوني في ثيابي التي كنتُ أُصلِّي فيها؛ قميصي وإزاري وردائي. فقال له ابنُه: يَا أبة، ألا تريد ثوبين؟ فقال: يَا بُنّي، هكذا كُفِّن أبو بكر في ثلاثة أثواب، والحيُّ أحوجُ إلى الجديد من الميت (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 58/ 354 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 186. قوله: تُخَلِّقُنَا، أي: تُطَيِّبُنا بالخَلُوق. وتحرف في "الطبقات" إلى: تُحَلِّقُنا (بالحاء المهملة). (¬3) حلية الأولياء 2/ 184، وتاريخ دمشق 58/ 362 (طبعة مجمع دمشق)، والمنتظم 7/ 123. (¬4) تاريخ دمشق 58/ 367 - 368، وبنحوه في "المنتظم" 7/ 123. (¬5) تاريخ دمشق 58/ 357، وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 188. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 186. (¬7) المصدر السابق 7/ 191. (¬8) طبقات ابن سعد 7/ 192.

قال ابن سعد: مات بقُدَيد، فدُفن بالمُشَلَّل، وبين ذلك نحوٌ من ثلاثة أميال، ووضع ابنُه السريرَ على كاهله، ومشى إلى المُشَلّل (¬1). قال الواقدي: مات سنة ثمان ومئة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقال خليفة: سنة ستِّ ومئة (¬2). وقال ابن عساكر (¬3): توفّي في أول ولاية يزيد بن عبد الملك سنة إحدى ومئة أو اثنتين. وقال رجاء بن أبي سَلَمة: ماتَ ما بين مكة والمدينة حاجًّا أو معتمرًا، فقال لابنه: سُنَّ عليَّ التُّرابَ سَنًّا (¬4)، وسوِّ عليَّ قبري، والحَقْ بأهلك، وإيَّاك أن تقول: كان وكان (¬5). وكان للقاسم من الولد: عبد الرَّحْمَن، وأمُّ فَرْوة -وهي أمُّ جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب- وأمُّ حكيم بنت القاسم، وعبدة، وأمُّهم قريبة بنت عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - (¬6). وعبد الرَّحْمَن بن القاسم من خيار المسلمين ورواة العلم، وكان له قَدْرٌ في المشرق (¬7). وابنه عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وليَ القضاء بالمدينة للحسن بن زيد في أيام المأمون. أسند القاسم عن ابن عُمر، وابن عبَّاس، وابن الزبير، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمته عائشة، رضي الله هم عنهم أجمعين. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، وقول الواقديّ الآتي بعده فيه 7/ 193. وترجم له ابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 123 فيمن تُوفِّي سنة (108). وقُديد: موضع قرب مكة، والمُشلَّل: جبل يُهبط منه إلى قُديد من ناحية البحر. ينظر "معجم البلدان" 4/ 313، و 5/ 136. (¬2) طبقات خليفة ص 244، وقال فيه: سنة ستّ آخرها، أوّلَ سنة سبع ومئة. (¬3) في "تاريخه" 58/ 378. (طبعة مجمع دمشق). (¬4) أي: ضَعْه وضعًا سهلًا. (¬5) حلية الأولياء 2/ 184، وتاريخ دمشق 58/ 376. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 186. (¬7) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 452.

محرر بن أبي هريرة

وروى عنه ابنُه عبد الرَّحْمَن، وسالم بن عبد الله بن عُمر، والزُّهري، ونافع مولى ابن عُمر، والشّعبي، وأنس بن سيرين، ويحيى بن سعيد الأَنْصَارِيّ، ومحمَّد بن المنكدر، وأبو بكر بن محمَّد بن عَمرو بن حَزْم، وأسامة بن زيد الليثيّ وربيعة (¬1)، وسعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحْمَن بن عوف، وعبد الله بن عَوْن، ومالك بن دينار، وأيوب السَّخْتِياني، وأبوالزِّناد، وشيبة بن نِصاح المقرئ، وحُميد الطَّويل، وخلق كثير. وكان ثِقَةً رفيعًا، عالمًا فقيهًا إمامًا، كثيرَ الحديث ورعًا، وكان يحدِّثُ بالحديث على حروفه، رحمة الله عليه. مُحَرَّر (¬2) بن أبي هريرة الدَّوْسي، من الطَّبقة الثَّانية من أهل المدينة، تُوفِّي في خلافة عُمر بن عبد العزيز (¬3). وقد روى عن أَبيه، وكان قليل الحديث، وروى عن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. وروى عنه ابنُه مسلم بن المحرَّر، وعطاء، والشعبي، وغيرُهم، ووفد على عبد الملك وابنِه سليمان (¬4). ولقيَ ابنَ عمر - رضي الله عنه -، فسأله عن السَّمَك يكون بالساحل، فينضبُ عنه الماء، فيموت، فقال: هو حلال (¬5). محمَّد بن مروان بن الحاكم وأمُّه أمُّ ولد، يقال لها: زينب، وهو من الطَّبقة الثَّانية من أهل المدينة (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): وأسامة وربيعة بن زيد. وهو خطأ. وقد روى عنه ربيعة بن أبي عبد الرَّحْمَن، وربيعة بن عطاء مولى بني سباع. ينظر "تهذيب الكمال" 23/ 428. (¬2) تحرف في (خ) (والكلام منها) إلى: محمَّد. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 250. (¬4) تاريخ دمشق 66/ 246 (طبعة مجمع دمشق)، وتهذيب الكمال 27/ 275. (¬5) تاريخ دمشق 66/ 252. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 233.

وكان شجاعًا صاحب غزو، وكان أبوه مروان قد ولاه أرمينية، وكان عبدُ الملك يحسُدُه على شجاعته، فتهيَّأ محمَّد للمسير إلى أرمينية مفارقًا لأخيه عبد الملك، فدخل عليه مودّعًا وأنشده: وإنك لا تَرى طَرْدًا لحرٍّ ... كإلصاقٍ به بعضَ الهوانِ فلو كنَّا بمنزلةٍ جميعًا ... جريتَ وأنتَ مضطربُ العِنانِ فرقَّ له عبدُ الملك، وقال: يَا أخي، أَقِمْ، فواللهِ لا رأيتَ منِّي ما تكره بعدَها (¬1). وفي سنة ثلاث وسبعين غزا قيسارَيَّة من أرض الروم إلى مَرْعَش. وغزا سنةَ ستٍّ وسبعين من ناحية مَلَطْيَة. وغزا أَيضًا سنة اثنتين وثلاث وأربع وخمس وسبع وثمانين أرمينية، وصاف بها وشَتَا (¬2). وفي سنة تسعين فتح باب الأبواب ومعظم حصونِه (¬3). وفي سنة إحدى وتسعين عزلَ الوليدُ بنُ عبد الملك محمدَ بنَ مروان عن الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وولَّاها مَسْلَمةَ بنَ عبد الملك، فسار إلى باب الأبواب، ونصبَ عليها المجانيق فَهَدَّ حائط الباب (¬4). وفي سنة إحدى ومئة مات محمَّد بن مروان. وكان له من الولد مروانُ، آخِرُ خلفاء بني أمية، وأمُّه أم ولد. ويزيدُ، وأمُّه رَمْلَة بنت يزيد بن عُبيد الله بن شيبة بن ربيعة بن عبد شمس. وعبدُ الرَّحْمَن، وأمُّه أمُّ جميل بنت عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الخطاب. ومنصور، لأمِّ ولد. وعبدُ العزيز، لأمِّ ولد. وعبدة، ورَمْلة، لأمَّهات أولاد (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 64/ 313 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 64/ 310 - 312. (¬3) المصدر السابق 64/ 312. وباب الأبواب -ويسمى الباب- مدينة على بحر طبرستان (بحر قزوين)، وفي وسطها مُرْسىً للسفن على جانبي سدَّين مُحكمي البناء، وجُعل مدخلُه ملتويًا، ولا تمر به المراكب والسفن إلَّا بإذن. وهي من أهم الثغور، وهي الدَّرْبَند. ينظر "معجم البلدان" 1/ 303. (¬4) تاريخ دمشق 64/ 313. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 233.

مقسم صاحب ابن عباس

وقد روى الزُّهْريّ عن محمَّد بن مروان، وروى عن مروان ولدُه محمَّد (¬1). مِقْسَم صاحب ابن عباس من الطَّبقة الثَّانية من أهل مكة (¬2)، وهو مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطَّلب، ويُكنى أَبا القاسم. وكان قد لزمَ ابنَ عبَّاس، وروى عنه، فبعضُ النَّاس يقول: هو مولى ابن عباس للزومه له، وكان كثيرَ الحديث ضعيفًا، تُوفِّي في سنة إحدى ومئة (¬3). يزيد بن الأصمّ أبو عوف (¬4) العامري، الكُوفيّ من الطَّبقة الأولى من التابعين من أهل الجزيرة (¬5). وهو ابنُ أخت ميمونة زوجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمُّه بَرْزَة بنتُ الحارث؛ قيل: إنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسكن الرَّقَّة، ووفدَ على معاويةَ، وعبدِ الملك، وسليمان وقال: حضرتُ عند سليمان، فجاءه رجل بمال من جسر مَنْبج (¬6)، وعنده عمر بن عبد العزيز فقال عمر لسليمان: إنَّ هذا رجل سوء يحمل مال السوء (¬7). فأطلقَ سليمان [سبيل النَّاس من] (¬8) الجسور والمعابر. ¬

_ (¬1) انقلب الكلام في (خ) (وهو منها فقط) فجاءت العبارة فيها بلفظ: وروى عن محمَّد ولده مروان. وهو خطأ. وينظر "تاريخ دمشق" 64/ 308 وفيه خبرٌ يوضّح ما أثبتُّه أعلاه. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 31 - 32، وذكره أَيضًا 7/ 291 في الطَّبقة الثَّانية من التابعين من أهل المدينة من موالي الأنصار. (¬3) المصدر السابق، بالموضعين المذكورين. (¬4) في (خ) (والكلام منها): بن عوف، وهو خطأ. وسترد الترجمة أَيضًا آخر سنة (104). (¬5) في (خ): الكوفة، والصواب ما أثبتُّه، وقد ذكره ابن سعد في هذه الطَّبقة 9/ 484. وكذا ذكره ابن عساكر في "تاريخه" 18/ 249 (مصورة دار البشير) عن أبي علي الحافظ وغيره. (¬6) في "تاريخ دمشق" 18/ 248: فجاء رجل يقال له: أَيُّوب وكان على جسر منبج يحمل مالًا مما يؤخذ على الجسر. (¬7) في "تاريخ دمشق": هذا رجل مترف يحمل مال سوء. (¬8) ما بين حاصرتين من المصدر السابق.

السنة الثانية بعد المئة

واسم الأصمّ عَمرو بن عُدَس بن عُبادة من بني عامر بن صعصعة. وكان يزيد ثقةً كثير الحديث، روى عن أبي هريرة، وابن عبَّاس، وخالته ميمونة، وكان ينزلُ الرَّقَّة. وقال سليمان بن عبد الله بن الأصم: مات يزيد بن الأصمّ في سنة ثلاث ومئة في خلافة يزيد بن عبد الملك. وقال أبو أَحْمد العجلي: مات بالرَّقَّة سنة إحدى ومئة (¬1). وقيل: سنة ثلاث -أو أربع- ومئة. وقيل: عاش إلى زمن هشام بن عبد الملك (¬2). وأسند عن سعد بن أبي وقَّاص، وعوف بن مالك، وعائشة، وأمِّ الدَّرداء (¬3). وحدَّث عنه عبد الله وعُبيد الله ابنا عبد الله بن الأصمّ، وميمون بن مِهْران، وغيرهم، وكان ثِقَة صالحًا، رحمة الله عليه (¬4). السنة الثانية بعد المئة فيها قُتل يزيد بنُ المهلب وإخوتُه، وعديُّ بنُ أرطأة، وعبد الملك بنُ مِسْمَع، ويزيدُ ابنُ أبي مسلم بإفريقية، وغيرهم، وسنذكرُهم في تراجمهم. وفيها جمع يزيدُ بنُ عبد الملك لمسلمةَ بنِ عبد الملك بعد قَتْلِ يزيدَ بنِ المهلب بين ولاية الكوفة والبصرة وخُراسان، فولَّى مسلمةُ الكوفةَ محمدَ بنَ عَمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط. ويقال له: ذو الشامة. وولَّى على البصرة عبدَ الرَّحْمَن بنَ سُليم الكلبي عاملًا [و] على شرطتها عمر بن يزيد بن عمير التَّمِيمِيّ، فأراد عبد الرَّحْمَن بن سُليم أن يستعر أهل البصرة، فقال له عُمر بن يزيد: تريد أن تفعل ذلك ولم تُهيِّئ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. ونقل المزي في "تهذيبه" 32/ 85 تاريخ وفاته سنة (101) عن رجل من ولده. (¬2) ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 484، و"تاريخ دمشق" 18/ 252 - 252. (¬3) تاريخ دمشق 18/ 246، وتهذيب الكمال 32/ 83، وقد سلف قبل ذلك أنَّه روى عن أبي هريرة ... وكان من الأولى جمع هذا الكلام. (¬4) من قوله: ومن شعره في سُكينة (أوائل ترجمة عمر بن أبي ربيعة) ص 321 ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

حصنًا تكون فيه، فواللهِ لو رماك أهلُ البصرة بالحجارة لقتلونا, ولكن اصْبِرْ حتَّى تنظر. وبعث رسولًا إلى مسلمة يخبره، فعزل عبدَ الرَّحْمَن بنَ سُليم، وأقرَّ عُمَر على الشرطة، وولَّى عاملًا على البصرة عبدَ الملك بنَ بشر بنِ مروان (¬1). وفيها بعث مسلمةُ إلى خُراسان سعيدَ بنَ عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، وكان زوجَ ابنةِ مَسْلَمة بن عبد الملك، ويلقب سعيد خُذينة (¬2). [وسببُه أنَّه لما قدم خُراسان لبس ثيابًا مصبغة، وكان متنعّمًا، فدخل عليه بعضُ ملوكها -أو دهاقينها- فرآه على تلك الحال، فلمَّا خرجَ من عنده قالوا: كيف رأيتَ الأمير؟ قال: خذينة. وهي بلغة الدهاقنة يعني امرأة]. ورُفع إلى سعيد خُذينة أن أقوامًا اختانوا الأموال، منهم جَهْم بن زَحْر الجُعْفيّ، والقعقاع الأَزدِيّ، والمنتجع بن عبد الرَّحْمَن الأَزدِيّ، وعبد العزيز بن عَمرو بن الحجاج الزبيدي، فحبسهم، وبسطَ عليهم العذاب، فمات جَهْم بن زَحْر، وعبد العزيز، والمنتجع. وأقامَ القعقاعُ حتَّى غزت التركُ مَرْو، فأخرج من الحبس (¬3). وفيها عزل سعيد خُذينة شعبةَ بنَ ظُهير عن سَمَرْقَنْد والسُّغْد (¬4)، وولَّى حَرْبَها عثمانَ بنَ عبد الله بن مطرّف بن الشِّخِّير، وولَّى الخراج سليمان بن أبي السَّرِيّ، وولَّى هراةَ معقلَ بنَ عُروة القشيري. وضعَّفَ النَّاسُ سعيدًا، وسَمَّوْه خُذينة (¬5). وبلغ التُّرك، فطمعوا فيه، وجمع خاقان التُّرك، وبعث بهم إلى السُّغْد، وقدَّم عليهم رجلًا يقال له: كورصول، فسار حتَّى نزل القصر الباهليّ وفيه مئةُ أهلِ بيت بذراريّهم، ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 604 - 605. والواو السالفة بين حاصرتين منه. ومن قوله: وغيرهم وسنذكرهم في تراجمهم ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) المصدر السابق 6/ 605. والكلام الآتي بعده بين حاصرتين من (ص). (¬3) تاريخ الطبري 6/ 606 - 607. (¬4) السُّغْد، أو: الصُّغْد: قرًى متصلة خلال الأشجار والبساتين من سَمَرْقند إلى قريب من بُخارى، لا تبين القرية حتى تأتيَها؛ لالتحاف الأشجار بها. ينظر "معجم البلدان" 3/ 222 و 409. (¬5) في (خ) (والكلام منها): وأعلنوا بحديثه. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 600 (والخبر فيه). وينظر "الكامل" 5/ 89.

والذي جاء بهم إلى القصر أنَّ بعضَ الدَّهاقين خطبَ امرأةً في القصر من باهلة، فأبَتْ أن تتزوَّجه، فجاء بالتُّرك، فحصروه. وكان عثمان بن عبد الله بسمرقند، وبين القصر وسمرقند مسافة، فخاف أهلُه أن يُبطئَ عليهم المدد، فصالحوا التُّرك على أربعين ألفًا، وأعطَوْهم الرهائن السبعة عشر رجلًا (¬1). وندبَ عثمانُ النَّاسَ إلى الخروج إلى التُّرك، فانتدب المسيّب بن بشر الرّياحي في أربعة آلاف مقاتل من أعيان القبائل، وفيهم الأشراف ووجوه النَّاس. فسار يومًا، ثم نزل وقال: إنكم تَقْدَمُون على فرسان التُّرك، فإن صبرتُم فلكم الجنة، وإنْ فررتُم فالنار، فمن أراد أن يقدَم فليقدَم. فانصرف عنه أَلْف وثلاث مئة، ثم سار فَرْسَخًا، فقال مثل مقالته، فانصرف عنه أَلْف، وسارَ فَرْسَخًا، وبقي في سبع مئة. ولما قرب من القوم جاءه دِهْقان، فقال له: لم يبق من الدَّهاقين إلَّا من بايع التُّرك غيري، وأنا في ثلاث مئة مقاتل، ونحن معك، والتُّرك قد حصروا القصر وصالحوهم على أربعين ألفًا، وأعطَوْهُم سبعةَ عشرَ رجلًا رهائن، ولما بلغ التُّركَ وصولُكم قَتَلوا الرهائن، وميعادُهم أن يقاتلوهم غدًا، أو يفتحوا لهم القصر. وكان في القصر عبدُ الملك بنُ دِثار الباهليّ، فقال المسيّب لرجلين: اذْهَبا وتَحَيَّلا في وصولكما إلى القصر، وأخْبِرا أهله بالغِياث. فسارا ليلًا فوجدا التُّرك قد أجْرَوا الماء حول القصر، فلا يصلُ إليه أحد، وكانت ليلةً مظلمة، فنزلا عن فرسيهما وشَدَّاه في الشجر، وخاضا الماء إلى القصر، فصاح الدّيدَبان (¬2)، فقالا: اسكت، ونادِ لنا عبدَ الملك بنَ دِثار. فناداه، فأخبرَاه بوصول المسيّب، وأنه على فَرْسخين منهم، فقال عبد الملك: إنَّا كنَّا قد عزمنا على تقديم نسائنا للموت، ثم نموتُ كلُّنا جميعًا. ¬

_ (¬1) عبارة الطبري 6/ 608: "وأعْطَوْهُم سبعة عشر رجلًا رهينة". وهي أنسب، إذ لم يتقدَّم ذكر الرهائن. (¬2) يعني الحارس، أو الطليعة الذي يرقب العدوّ. ووقع في "تاريخ" الطبري 6/ 609 و"الكامل" 5/ 93: الربيئة. وهما بمعنى.

فرجعا إلى المسيّب فأخْبَراه، فقال المسيّب للذين معه: إنِّي سائر إلى هذا العدوّ، فمن أحبَّ أن يذهبَ فليذهبْ. فلم يفارقه أحد، وبايعوه على الموت، وأجمع على بياتهم، وقد أطلقوا الماء حول القصر. فلما كان في الليل قال لهم: اجعلوا شعاركم: يَا محمَّد، وكانوا سبع مئة، فلما كان وقتُ السَّحَر وقد دَنَوْا منهم؛ كرُّوا وحملُوا، وخالطوا التُّرك، فصبروا لهم، وانهزم المسلمون، وأصابَ تركيٌّ عَجُز دابَّة المسيّب، فترجَّلَ، وترجَّلَ أصحابُه، وقاتلوا قتالًا شديدًا، واستُشهد جماعة من المسلمين، وأنزلَ اللهُ نصرَه، فانهزمت الترك، فقال المسيّب: لا تتبعوهم، واقْصِدُوا القصر، ولا تحملوا إلَّا المال والحريم والضَّعْفَى. فحملُوا الجميع، فألحقوهم بسمَرْقَنْد، ونادى المسيّب: مَنْ حملَ امرأة أو صبيًّا أو ضعيفًا [حِسْبَةً] فأجرُه على الله، ومَنْ أبى فله أربعون درهمًا. فحملوا جميعَ مَنْ كان فيه، وتأخَّر (¬1) عن القصر. وعاد التُّرك من الغد إلى القصر، فلم يجدوا فيه أحدًا، وشاهدوا حول القصر قتلاهم، فقالوا: هؤلاء الذين جاؤوكم لم يكونوا من الإنس (¬2). وكان التُّرك أربعين ألفًا. وذكر الشعراء الوقعة، فقال ثابت قُطْنة (¬3): فَدَتْ نفسي فوارسَ من تميمٍ ... غَدَاةَ الرَّوْع في ضَنْكِ المقامِ بقصرِ الباهليّ وقد رأوني ... أُحامي حيثُ ضنَّ به المحامي (¬4) بسيفي بَعْدَ حَطْمِ الرُّمْحِ قُدْمًا ... أذُودُهُمُ بذي شُطَبٍ حُسامِ (¬5) ¬

_ (¬1) كذا. ولعل صواب اللفظة: وتأخَّروا. ويقارن السياق بما في "تاريخ" الطبري 6/ 610. وما بين حاصرتين منه. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 610 - 611، والكامل 5/ 93 - 94. (¬3) هو ثابت بن كعب بن جابر العَتَكيّ الأَزدِيّ، أُصيبت عينُه بخُراسان، فجعل عليها قطنة، فعُرف بذلك، وهو يشتبه بثابت بن قطبة، بالباء الموحَّدة، وهو خُزاعي، وذاك عَتَكيّ. قاله ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" 5/ 89. (¬4) في (خ) (والكلام منها): وقد رآني أحامي حيث أضرب للمحامي. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 611، و"الكامل" 5/ 94، وينظر أَيضًا "تاريخ" الطبري 5/ 549. (¬5) الحُسام: السيف. وشُطَب السيف: المخطوط تتراءى في متنه.

أكُرُّ عليهم اليحمومَ كَرًّا ... ككَرِّ الشَّرْبِ (¬1) آنيةَ المُدامِ أكُرُّ به لَدَى الغَمَراتِ حتَّى ... تَجَلَّتْ لا يضيقُ بها مَقامي فلولا اللهُ ليس له شريك ... وضَرْبي قَوْنَسَ (¬2) الملكِ الهُمامِ إذَا لَسَعَتْ نساءُ بني دِثارٍ ... أمامَ التُّرْكِ باديةَ الخِدامِ فمَنْ مثلُ المسيّب في تميمٍ ... أبي بِشْرٍ كقادمةِ الحِمامِ (¬3) وقال [جرير يذكُر المسيّب] (¬4): لولا حِمايةُ يَرْبوعٍ نساءَكُمُ ... كانت لغيركُمُ منهنَّ أطهارُ حَامَى المسيَّبُ والخَيلانِ في رَهَجٍ ... إذ كان شعبة لا يحمي وزَرَّارُ (¬5) وفيها قطع سعيد خُذينة النهرَ (¬6)، وغزا السُّغْد (¬7)، وكانوا قد نقضوا العهد، وأعانوا الترك على المسلمين، فقال النَّاس لسعيد: تركتَ الغزو وقد أغار الترك وأعانهم [أهل] السُّغْد. فعبر النهر، ولقيَه الترك والسُّغْد، فهزمهم المسلمون، فقال سعيد: لا تتبعوهم، فإن السُّغْد بستانُ أمير المُؤْمنين، وقد هزمتُموهم، أفتُريدُون بَوَارَهم، يَا أهل العراق قد قاتلتُم الخلفاء غير مرة فهل أبارُوكم؟ ! وكره النَّاس سعيد خُذَينة لأنه كان مُولعًا باللهو، ليس له في الغزو حظّ. وقطع النهر مرتين، ولم يُمعن في قتال العدوّ، وكان إذا دخلت سريةٌ بلادَ العدوّ فسَبَوْا وغنموا، رَدّ السَّبْيَ، وعاقبَ السَّريَّة. فقال الهَجَريّ الشاعر: ¬

_ (¬1) اليحموم: الشديد الحرارة، والشَّرْب: القوم يشربون ويجتمعون على الشراب. (¬2) القَوْنَس: مقدَّم الرأس، أو أعلى بيضة الحديد. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 611، والكامل 5/ 94. (¬4) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 6/ 611. ومن دونه يعود الكلام على ثابت قطنة قبله، وهو خطأ. (¬5) كذا في (خ) (والكلام منها). ولفظ عجز البيت في "تاريخ الطبري" 6/ 611: إذْ مازنٌ ثَمَّ لا يُحْمَى لها جارُ. ولفظُه في "ديوان" جرير 1/ 362: أزمانَ شبَّةُ لا يحمي ونَعَّارُ. وشَبَّةُ هو ابنُ عِقال بن شَبَّة بن عِقال. والنَعَّار هنا: المنهزم. قاله محمَّد بن حبيب شارح الديوان. وقوله: زرَّار جاء في بيت ثالث في "تاريخ" الطبري، وعجزه: ولا زُرارة يحميها وزَرَّارُ. قال شارح "الديوان" 1/ 362: أراد بزرَّار كل من كان بسبب زُرارة. اهـ. ووقعت الأبيات في "ديوان" جرير ضمن قصيدة في هجاء الفرزدق. (¬6) يعني نهر بَلْخ، ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 612. (¬7) ويقال: الصُّغْد، وهي قرًى متصلة بين سمرقند وبُخارى، وسلف خبرها قريبًا.

سَرَيتَ إلى الأعداء تلهو بلعبةٍ ... وأيرُك مسلولٌ وسيفك مُغْمَدُ وأنتَ لمن عادَيتَ عِرْسٌ خفيَّةٌ ... وأنتَ لمن وإلى حُسام مُهَنَّدُ (¬1) وكان بخراسان أميرٌ؛ كنيته أبو الهيَّاج، واسمُه حيّان، نبطي، وكان شجاعًا، ومال النَّاسُ إليه، فقال سَوْرَة ابن أبجر (¬2) لسعيد خُذينة: قد مال النَّاس إلى حيَّان، وهو الذي أفسد على قُتيبة بن مسلم خُراسان، وفي عَزْمِهِ الوثوبُ بك. فقال سعيد: يَا سورة، هذا محال. ثم غافل حيانَ أيامًا، ودعا في مجلسه بلبنٍ قد سُحق فيه الذهب، فقُدّم إلى حيَّان، فشربَه، ثم ركب سعيد، وركبَ النَّاس معه، وأظهر أنَّه يقصد عدوًّا، فركض أربعة فراسخ، فعاش حيَّان أربعة أيام ومات، فكره النَّاسُ سعيدًا واستثقلوه (¬3). وفيها غزا عُمر بن هُبيرة أرمينية، فسبى خلقًا عظيمًا، وغنم غنائم كثيرة. وفيها بعثَ ميسرةُ من العراق إلى خُراسان رجالًا يظهرون الدعوةَ العباسيَّة، وبلغ عَمرَو بنَ بَحِير بن وَرْقاء السَّعديّ أمرُهم، فجاء إلى سعيد خُذينة، فأخبره، فاستدعاهم وقال: ما أنتم؟ قالوا: تجار. قال: لا، بل دعاةٌ. فقالوا: ما ندري ما تقول. وجاءت ربيعةُ واليمن، وقومٌ من خُراسان، فقالوا: هؤلاء تجار، وإنْ جاء منهم ما تكره، كان علينا. فأطلقَهم (¬4). وفيها عزل يزيدُ بنُ عبد الملك أخاه مَسْلَمةَ عن العراقين وخُراسان بعد قتل يزيد بن المهلب بثمانية أشهر. وقيل: بستة أشهر. وسببُه أنَّ مسلمةَ استولى على العراقين وخُراسان والبلاد الشَّرقية، فاحتجز الأموال، ولم يبعث إلى يزيد بن عبد الملك منها شيئًا، وضاق الأمر على يزيد، وأراد عزلَه، فاستحيا منه، وكتب إليه: استخلِفْ على عملك، واقْدَمْ عليَّ لأمرٍ لا تحملُه الرسائلُ والكتب. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 614، والكامل 5/ 96. (¬2) في المصدرين السابقين: الحر. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 614، والكامل 5/ 97. (¬4) تاريخ الطبري 6/ 616 - 617، والكامل 5/ 100.

وكان مسلمةُ قبل ذلك قد عزم على زيارة يزيد، فاستشار عبدَ العزيز بنَ حاتم بن النُّعمان في زيارته، فقال له: إنك لَطَروب، وإن عهدَك به لَقريب، وواللهِ لئن فارقتَ بلادك [فإنك لا تخرج من عملك] (¬1) حتَّى تلتقي العامل عليها. فسار مسلمةُ فلما بلغ دُورين لقيه عُمر بن هُبيرة على خمس من دوابّ البريد، فسأله مسلمة عن مَقْدَمِهِ، فقال: بعثني أمير المُؤْمنين لأحوز أموال بني المهلَّب بالبصرة. فقال [مسلمة] لعبد العزيز: هذا ابنُ هُبيرة قد لَقِيَنا. فقال عبد العزيز: فقد أحْبرتُك. فقال: إنما جاء لِحيازة أموالِ بني المهلَّب. فقال: هذا أعجبُ من الأول، انصرفَ ابنُ هُبيرة عن أعمال الجزيرة، وتولَّى جباية أموالِ بني المهلَّب، سوف ترى. فلم يلبث أن جاءه عزلُ عمالِ مسلمة ومطالبةُ ابنِ هُبيرةَ لهم بالأموال، ووصلَ مسلمة إلى الشام. وقال الفرزدق: راحَتْ بمَسْلَمةَ الرّكابُ مودَّعًا ... فارْعَي فَزَارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ عُزِلَ ابنُ بِشْرٍ وابنُ عمرٍو قبلَهُ ... وأخو هَراةَ لمثلها يتوقَّعُ ولقد علمتُ لئن فَزَارةُ أُمِّرَتْ ... أنْ سوفَ تطمعُ في الإمارة أشجعُ يعني بابنِ بِشْر عبدَ الملك بنَ بشر بن مروان، وبابن عمرٍو محمدًا ذا الشامة، وبأخي هَراة سعيدَ خُذينة (¬2). وحجَّ بالنَّاس في هذه السنة عبد الرَّحْمَن بنُ الضحَّاك بن قيس الفِهْرِي، وكان على المدينة، وكان على مكة عبدُ العزيز بنُ عبد الله بن خالد بن أَسِيد، وعلى العراق ابنُ هُبيرة، وعلى قضاء الكوفة القاسمُ بنُ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن مسعود، وعلى البصرة عبد الملك بن بِشر بن مروان (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة ضرورية للسياق. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 308، و"تاريخ" الطبري 6/ 615. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 615 - 616. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 210 - 211 و 308. و"ديوان" الفرزدق 1/ 408. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 617 - 618. ومن قوله: ورُفع إلى سعيد خذينة (أوائل أحداث هذه السنة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

الضحاك بن مزاحم

وفيها تُوفِّي الضحَّاك بن مُزاحم الهلالي [من بني عامر بن صعصعة] من رهط زينب زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وكنيته أبو القاسم، وهو من الطَّبقة الثالثة من التابعين من أهل الكوفة (¬2). وُلد لسنتين وقد أثغر (¬3)، وكان معلّمًا في الكتَّاب، يعلّم النَّاس، ولا يأخذُ منهم على التعليم أجرة. [قال الواقديّ: ] وأصلُه من الكوفة، ثم أقام ببَلْخ، ومات بخراسان. وله تفسيرٌ للقرآن مشهور، وكان عابدًا مجتهدًا، إذا أمسى يقول: لا أدري ما صعد اليوم من عملي ويبكي (¬4). وقال: لقد أدركتُ أصحابي وما يتعلَّمون إلَّا الورع (¬5). مات سنة اثنتين ومئة، وقيل: سنة خمس ومئة. [وقال شعبة (عن مُشاش): قلتُ له: لقيتَ ابنَ عبَّاس؟ قال: لا. وقال عبد الملك بن ميسرة: لم يلق الضحاكُ بنَ عبَّاس، وإنما] لقيَ سعيد بنَ جبير بالرَّيّ، فأخذ عنه التفسير، وكان فَصُّ خاتمه صورة طائر (¬6). عامر بن واثلة ابن عبد الله [بن عُمير] بن جابر الكِنانِيّ، كنيتُه أبو الطُّفيل الليثيّ. ولد عامَ أُحد، وأدرك من حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني سنين، وهو آخر سائر الصَّحَابَة موتًا بمكة، وهو آخِرُ من رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) يعني زينب بنت خريمة، ويقال لها: أم المساكين. ينظر "طبقات" ابن سعد 10/ 111. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬2) ذكره ابن سعد في "طبقاته" 8/ 417 في الطَّبقة الثَّانية. (¬3) أي: نبتت أسنانُه. (¬4) صفة الصفوة 4/ 150. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 418. ونُسب القول في (ص) إليه. (¬6) طبقات ابن سعد 8/ 418. والكلام بين حاصرتين من (ص) غير قوله: عن مُشاش (بين قوسين) فمن "الطبقات". وينظر "الجرح والتعديل" 4/ 458 - 459.

وكان من أصحاب عليّ - عليه السلام -، شهد معه مشاهدَه كلَّها، فلما استُشهد؛ خرجَ إلى مكة، فأقام بها حتَّى مات (¬1). وقال الزبير بن بكَّار: وقد عامر على معاوية، فقال له: ألستَ من قتلة عثمان؟ ! قال: لا, ولكني ممَّن لم ينصره [قال: وما منعك من نصره؟ ! قال: لم ينصره] المهاجرون والأَنْصار. فقال معاوية: واللهِ لقد كان حقًّا عليهم أن ينصروه. قال له عامر: فما منعك أنتَ من نصره ومعك أهل الشام؟ ! فقال معاوية: طلبي بدمه نصرةٌ [له]. فضحك عامر، وقال: أنتَ وعثمانُ كما قال القائل؟ لا أُلْفِيَنَّكَ بعد الموتِ تَنْدُبُني ... [وفي حياتيَ ما زَوَّدْتَني زادي] قال له معاوية: ما أبقى الدهر من ثُكْلِكَ على أبي تراب؟ فقال: ثُكْلِي على أمير المُؤْمنين ثُكْلُ المِقْلات العجوز، والرَّقُوب. قال: فكيف حبُّك له؟ قال: حبُّ أمِّ موسى لموسى. ثم قام فخرج (¬2). وكان عامر فصيحًا فاضلًا شاعرًا حاضرَ الجواب. ومن شعره: أيدْعونَني شيخًا وقد عِشْتُ بُرْهةً ... وهنَّ من الأزواج نحوي نوازعُ وما شابَ رأسي من سنينَ تتابَعَتْ ... عليَّ ولكن شَيَّبَتْني الوقائعُ (¬3) وتوفي بعد سنة مئة، وقال خليفة: تُوفِّي بمكة سنة اثنتين ومئة (¬4). وقيل: سنة سبع ومئة. وقيل (¬5): عشر ومئة، والأوّل أصحّ (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق ص 465 (طبعة مجمع دمشق- تراجم حرف العين). (¬2) تاريخ دمشق ص 460 - 461. وما سلف بين حاصرتين منه. والبيت المذكور لِعَبيد بن الأبرص، وهو في "ديوانه" ص 62، وصدره فيه: لأعرفنّك بعد ... قال ابن عساكر بإثر الخبر: المِقْلات: التي لا يعيش لها ولد، والرَّقوب: الرَّجل الذي قد يئس أن يولد له. (¬3) تاريخ دمشق ص 478. (¬4) لم أقف على هذا القول، والذي في "طبقات" خليفة ص 127: مات بالمدينة، وفي الصفحة 279: مات بعد سنة مئة، ويقال: سنة سبع ومئة. وأورده في "تاريخه" ص 325 فيمن مات في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة (101). (¬5) في (خ) (والكلام منها): وثماني، بدل: وقيل. والصواب ما أثبتّه. وينظر "تاريخ دمشق" ص 480 - 481. (¬6) ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 3/ 470 أن الصحيح في موته سنة عشر ومئة.

عبد الملك بن مسمع

وكان له ابن اسمه الطُّفيل بن عامر، وبه كان يُكنَى، قُتل مع ابن الأشعث يومَ الجماجم. أسند عامر الحديث، أخرج له الإِمام أَحْمد - رضي الله عنه - في "المسند" عشرة أحاديث (¬1)، منها: قال الإِمام أَحْمد رحمه الله: حَدَّثَنَا وكيع، حدَّثنا معروف المكيّ قال: سمعتُ أَبا الطُّفيل عامرَ بنَ واثلة قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوفُ بالبيت على راحلته يستلمُ الحَجَرَ بمِحْجَنِهِ. انفرد بإخراجه مسلم (¬2). قالوا: وإنَّما لم يخرج عنه البخاريّ لأنه كان مُفْرِطًا في التشيّع (¬3). قال ابنُ عبد البَرّ: كان يعترفُ بفضل الشيخين، إلَّا أنَّه كان يقدِّم عليًّا (¬4). وأجمعوا على أنَّه كان ثِقَة مأمونًا (¬5)، روى عن جماعة من الصَّحَابَة؛ عليٍّ، وابنِ عباس، ومعاذِ بنِ جبل، وروى عن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. ووردَ المدائن في حياة حُذيفة، وبعد ذلك في صحبة عليّ رضوان الله عليه (¬6). وذكره ابن عساكر (¬7) فيمن ورد الشَّام، وروى عنه الزُّهري، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيد بن إياس الجُرَيريّ، وفِطْر بنُ خليفة، وجابر بن يزيد الجُعْفيّ، وعليّ بنُ زيد بن جُدْعان، وأبو الزّبير، وجرير بن حازم، وغيرهم - رضي الله عنهم - (¬8) .. عبد الملك بن مِسْمَع الرَّبَعيّ البَصْرِيّ، كان من وجوه أهل البصرة، جوادًا شريفًا سيِّد ربيعة في زمانه. ولَّاه الحجَّاج شطَّي دِجْلة، وأوفدَه على عبد الملك مع وقد البصرة، فدخلَ الشيوخُ أوَّلًا، وتأخر عبد الملك لصغره (¬9). ¬

_ (¬1) ينظر "مسند" أَحْمد (23792) ... (23806). (¬2) مسند أَحْمد (23798)، وصحيح مسلم (1275). (¬3) نقله ابن عساكر في "تاريخه" ص 474 عن محمَّد بن يعقوب الأخرم. (¬4) الاستيعاب ص 517. (¬5) من المعلوم أن الصَّحَابَة كلَّهم ثقاتٌ عدولٌ, - رضي الله عنهم -. (¬6) تاريخ بغداد 1/ 559، وتاريخ دمشق ص 465 (طبعة مجمع دمشق- تراجم حرف العين). (¬7) تاريخ دمشق ص 457 - 481. (¬8) ينظر تاريخ دمشق ص 458، وتهذيب الكمال 14/ 79 - 80. (¬9) عبارة ابن عساكر 43/ 294: فلما قدم عليه وفدُ أهل البصرة قدَّمَ المشيخةَ وأهل النبلاء، فدخل عبدُ الملك في آخر من دخل لصغر سنّه.

عدي بن أرطاة

قال له عبد الملك: انتسبْ. فانْتسبْ، فأحسن، فقال له: ما أخَّرَك يَا غلام؟ فقال: تقدَّمَ أهلُ السِّنِّ والبلاء. فقال له عبد الملك: أنتَ واللهِ أعظمُ بلاءً عندنا، وأعظمُ والدًا. وكان أبوه مِسْمَع على خراسان. وأمرَ أن لا يتقدَّم عليه أحدٌ، وأمر الحجَّاجَ أن يُولِّيَه البحرَين، والبحر والهند والسِّند، فولَّاه، ومات الحَجَّاج وهو عليها. فلما ولي عديُّ بن أرطأة البصرة لعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أقَرَّه عليها، وافتتحَ مدينة القِيقان، ومدينة راكس، وهما بين سجستان والسِّند. ثم إنَّ عديًّا استدعاه في قَومَة يزيد بن المهلب، فلما غلب يزيد على البصرة وأخذَ عديًّا وأصحابَه أُسراء؛ كان فيهم عبدُ الملك بنُ مِسْمَع، فلما قُتل يزيدُ بنُ المهلب وعاد أخوه المفضَّل إلى واسط وقتلَ عديَّ بن أرطأة قتلَ عبد الملك بنَ مِسْمَع في الجملة. وقال خليفة: الذي قتلَ عبدَ الملك بنَ مِسْمَع معاويةُ بن يزيد بن المهلب بواسط في صفر سنة اثنتين ومئة (¬1). عديُّ بن أرطاة وقيل: ابن أبي أرطاة الفزاري، شاميّ، ذكره خليفة في الطَّبقة الثَّانية من أهل الشامات (¬2)، وأبو زُرعة في الثالثة، وابن سُميع في الرابعة (¬3). وقال ابن عساكر: كانت دارُه بدمشق بالباب الشرقي بناحية كنيسة مريم (¬4). وقال الخَطيب: نزل المدائن، وولَّاه عُمر بن عبد العزيز البصرةَ وغيرَها من بلاد العراق (¬5). ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ" خليفة ص 325 - 326. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 269 - 270 و"تاريخ" الطبري 6/ 599 - 600 ولم ترد هذه الترجمة ولا التي قبلها في (ص). (¬2) طبقات خليفة ص 312. وقوله الشامات، يعني الشَّام. سمّيت بذلك لأن أرضها شامات بيض وحُمر وسود. ينظر "القاموس" (شأم). وتحرفت لفظة "الشامات" في (خ) إلى: الشَّام مات. (¬3) تاريخ دمشق 47/ 58 (طبعة مجمع دمشق)، وتهذيب الكمال 19/ 521. (¬4) تاريخ دمشق 47/ 56. (¬5) تاريخ بغداد 14/ 253.

يزيد بن [أبي] مسلم

وخطب عند انقضاء رمضان فقال: كأنَّ كبدًا لم تظمأ، وعينًا لم تسهر، ذهبَ واللهِ الظمأُ والسهر، وبقيَ الأجرُ. فيا ليتَ شِعري! مَن المقبولُ منَّا فنُهنِّئَه، ومَن المطرودُ منَّا فنُعزِّيَه. فيا أيُّها المقبولُ هنيئًا هنيئًا، ويا أنها المطرود جَبَرَ الله مُصابَك. ثم بكى وأبكى (¬1). وكان فصيحًا، وله إلى عمر بن عبد العزيز مُكاتبات مشهورة، وكذا لعمر إليه. [فحكى جدّي رحمه الله قال: ] كتب عمر إلى عديّ أنْ عليك بأربع ليال في السنة، فإنَّ الله يُفرغُ فيهنَّ الرحمة إفراغًا: ليلةِ رجب، وليلةِ النصفِ من شعبان، وليلتي العيدين (¬2). وقال رجاء بن حَيوة: بلغَ عمرَ عنه شيءٌ، فكتبَ إليه: أمَّا بعدُ، يَا عديّ، فإنك غَرَرْتَني بعمامك السوداء، وإرسالك لها من وراء ظهرك، ومجالستك القُرَّاء، أظهرتَ لي الخير، فأحسنتُ بك الظَّنَّ، وقد أظهرَنا اللهُ على كثير مما كنتمُ تكتمون. وإني أُذَكّرُك ليلةً تَمَخَّضُ بيوم القيامة، فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير (¬3). أسند عديّ الحديث عن جماعة من الصَّحَابَة، منهم عَمرو بنُ عَبَسة، وأبو أُمامة، وروى عنه بكر بن عبد الله المُزَنيّ، وغيرُه، وكان ثقةً (¬4). يزيد بن [أبي] مسلم كاتبُ الحجَّاج، وكُنيتُه أبو العلاء، مولى لثَقِيف، استكتَبَهُ الحجَّاج، وكان على نمط الحجَّاج في الجبروت والمظالم وسفك الدماء، وكان يرى رأيَ الخوارج الصُّفْرِيَّة. ولما مات الحجَّاج أقرَّه الوليد على العراق أربعة أشهر، ووليَ سليمانُ فعزلَه وولَّى يزيدَ بنَ المهلَّب العراق، فقيَّده وبعثَ به إلى سليمان في حالة رثَّة، وكان سليمان ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 47/ 60. ولم يرد هذا الكلام في (ص). (¬2) التبصرة 2/ 21. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬3) تاريخ دمشق 47/ 64 دون قوله: وإني أذكّرك ... إلخ، فقد ورد في خبر آخر فيه ص 61. وقوله: فريق في الجنة وفريق في السعير، اقتباس من الآية (7) من سورة الشورى. (¬4) تاريخ دمشق 47/ 51، وتهذيب الكمال 19/ 520. وسلف خبر مقتله آخر الترجمة السابقة.

بالبَلْقاء، فأقامه للنَّاس، فما تظلَّم منه أحد، إلَّا رجلٌ من أهل المدينة قال: لطَمَني لطمةً بالعراق، فأقادَه سليمانُ منه. وقيل: إنما أقامه على درج دمشق، فمرَّ به جرير فقال: كم في وعائك منَ أموالِ مُوتِمةٍ ... شُعْثٍ صغارٍ وكم خَرَّبْتَ من دارِ (¬1) فلما رأى سليمان أن أحدًا لا يتبعه بمظلمة؛ قرَّبه وأدناه. وكان عُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يُبغصْه، فقال لسليمان: لا تستكتبه، فإنَّه بقايا الظلم والجبروت. وخرج يزيدُ في بعث, فردَّه عمر بنُ عبد العزيز، وقال: ليس بمثل هذا يُستعانُ به على عدوِّ المسلمين، واللهِ لا نُصر جيش كان فيهم سيَّاف الحجاج أبدًا. ونقصَه عُمر من العطاء، كان في ألفين؛ فردَّه إلى الثلاثين، فلما تُوفِّي عمر - رضي الله عنه - ولاه يزيد بن عبد الملك إفريقيَّة، فسار فيهم بسيرة الحجَّاج، وكان قوم من الرُّسْتاق (¬2) قد أسلموا وسكنوا الأمصار، فأعادهم إلى قُراهم ووضع عليهم الجزية، فقتلوه، وولَّوْا عليهم محمَّد بنَ يزيد الأنصاريَّ، وكان واليًا عليهم قبلَه، وكان يزيدُ قد حبسَه، فأخرجُوه، وكتبوا إلى يزيد بنِ عبد الملك: إنَّا لم نخلعْ يدًا من طاعة، ولكن يزيد سارَ فينا بالذُّل والهَوَان والعَسْف والسفك، فقتلناه، وولَّينا محمَّد بنَ يزيد الأنصاريّ، وقد أعْذَرْنا إليك. فكتب إليهم يزيد: إنِّي لم أرضَ بما فعل، يزيد، وقد أقررتُ محمدًا على إفريقيَّة، والسلام (¬3). وهذا محمَّد بن يزيد الذي اختاره أهلُ إفريقيَّة أصلُه من البصرة، وهو مولى الْأَنصار؛ قدم الشَّام فاستكتبه عبدُ الملك بنُ مروان، وكان في صحابة سليمانَ وعمرَ بنِ عبد العزيز. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 18/ 388 (مصورة دار البشير). وينظر "مختصره" 28/ 17. قوله: مُوتمة: أي تُوفِّي زوجها، فصار ولدُها يتيمًا. (¬2) كلمة معرَّبة، يعني الموضع الذي فيه زراعة وبيوت مجتمعة. (¬3) بنحوه في "تاريخ" الطبري 6/ 617، و"تاريخ دمشق" 65/ 297 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة محمَّد بن يزيد الأَنْصَارِيّ). وينظر "المنتظم" 7/ 81.

وقال المدائني: كتب الحجَّاج إلى عبد الملك يُشير عليه أن يستكتبَ محمَّد بنَ يزيد الأَنْصَارِيّ وقال: إن أردتَ رجلًا عاقلًا فاضلًا مسلمًا مأمونًا كتومًا تتَّخذُه لِسِرِّك ونفسك؛ فعليك بمحمد. فاستكتبه عبدُ الملك. ثم إن عبد الملك استشارَه مَنْ يولِّي بعده، فقال: الوليد ثم سليمان. وبلغ الوليدَ، فحقَدَها عليه حيث أشار لسليمان (¬1)، فلم يولِّه شيئًا أيامَ خلافته. فلما وليَ سليمان بعثه إلى العراق، فأطلقَ مَنْ كان في سجون الحجَّاج، وفيهم يزيد الرَّقَاشيّ، ويزيد الضَّبيّ، وعابدة من أهل البصرة، وكساهم، وأحسنَ إليهم، وحبس يزيدَ بنَ أبي مسلم، وحمله إلى الشَّام (¬2). وولَّى سليمانُ بنُ عبد الملك محمدًا إفريقيَّة، فأقام بها أيامَ سليمان، وأقرَّه عمر بن عبد العزيز، فلما وَلِيَ يزيدُ بن عبد الملك ولَّى يزيدَ بنَ أبي مسلم إفْرِيقِيَّة. قال محمَّد: فلم أشعر بيزيد بن أبي مسلم إلَّا قد قدم واليًا، فأخذني، وعذَّبني عذابًا أليمًا حتَّى كسر عظامي. قال: فأُتيَ بي يومًا إليه، فعذَّبني، وكان عند المغرب، فقلتُ: ارحمني! فقال: التمسِ الرحمةَ عند غيري، والله لو أن مَلَكًا عند رأسي لأقتلنَّك (¬3). [قال: ] فقلت: اللهمَّ اذكُر لي ما كان منِّي إلى أهل (¬4) الدِّيماس -يعني الحَبْس (¬5) - اللهم اذكُرْ لي يزيد الرَّقاشيّ، وفلانًا وفلانًا. وأُقيمت صلاةُ المغرب فقال: أَخرجُ فأُصلِّي وأعود إلى عذابك. وخرجَ فلمَّا سجدَ وثبَ عليه قومٌ من البربر، فقتلوه، وولَّوْني إفْرِيقِيَّة (¬6). وقال الشعبيّ: كان يزيدُ بنُ أبي مسلم يرى رأي الخوارج الصُّفْريَّة، كما كان الحجَّاج يرى رأيَهم ويُخفيه؛ أُتيَ الحجَّاج بامرأة منهم، فجعل يكلِّمها وهي معرضةٌ ¬

_ (¬1) يعني لم يشر أن تكون الخلافة لأبناء الوليد من بعد الوليد. ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 414 - 415، و"تاريخ دمشق" 65/ 294 - 295. (¬2) من قوله: ولما مات الحجاج أقرَّه الوليد (أول الترجمة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) في "تاريخ دمشق" 65/ 296: لو رأيتُ ملك الموت عند رأسك لبادرتُه نفسَك. (¬4) في (ص): لأهل. وكلمة (قال) السالفة بين حاصرتين منها. (¬5) دِيماس: سجنٌ كان للحجاج بواسط. معجم البلدان 2/ 544. (¬6) تاريخ دمشق 65/ 295 - 297 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة محمَّد بن يزيد الأنصاري).

عنه، فقال لها يزيدُ بنُ أبي مسلم: يُكلِّمُكِ الأمير، وتُعرضين عنه! فقالت: يَا رَدِيّ، عليك وعليه لعنةُ الله. والرَّديُّ عند الخوارج من يعلم الحقَّ ويكتُمُه. وقال الشعبي: خرج يزيدُ بن أبي مسلم يومًا من عند الحجَّاج وهو يقول: قد قضى الأميرُ اليومَ بقضاء لم يقضِ به أحدٌ من أهل القِبْلة. قال الشعبيّ: فقلت: وما هو؟ قال: جعلَ متاعَ البيت للرجل ما لم تُقم المرأةُ البيّنة على شيء منه. قال: فقلت له: اكتُم عليّ، قد قضى به عليُّ بنُ أبي طالب. فرجع إلى الحجَّاج فأخبره، فقال الحجَّاج: كان عليٌّ أقضى الناسِ جميعًا (¬1). [قلتُ: وقد اختلفت الفقهاء في هذه المسألة، وهي ما إذا اختلف الزوج والمرأة في متاع البيت بعد موت أحدهما، أو بعد الطلاق، أو حال قيام النكاح، وكلُّ واحد يدَّعي أن المتاع كلَّه له. كان محمَّد بن الحسن يقول في هذه المسألة سبعة أقاويل عن سبعة من الفقهاء، كلُّ واحد منهم يؤخذ بقوله. ففي قول أبي حنيفة: ما كان يصلُح للرجال؛ فهو للرجال، وما يصلح للنساء فهو للنساء، والذي يصلُح للرجل: العِمامة، والقلنسوة والقوس، والخفّين، ونحوه، والذي يصلح للمرأة: الخِمار، وثياب بدنها، ونحوها، وما كان مشكلًا؛ كالمتاع والفرُش والبُسُط وما أشبهه؛ فهو للباقي منهما في الموت، وفي الطلاق هو للزوج. وعند أبي يوسف للمرأة مقدارُ جهاز مثلِها، وما بقيَ للزوج في الطلاق والوفاة جميعًا. وعند محمَّد: ما يكون للرجال فهو للرجال، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان مشكلًا فهو للزوج وللمرأة نصفان بينهما، وهو قول الشَّافعيّ، وأحذ الروايتين عن أَحْمد. وفي قول ابن أبي ليلى: هو كلُّه للزوج، وهو مذهب عليّ - عليه السلام -. وفي قول الحسن البَصْرِيّ: الكلّ للمرأة. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 18/ 385 - 386 (مصورة دار البشير- ترجمة يزيد بن أبي مسلم).

يزيد بن المهلب

فأبو حنيفة اعتمد على إصلاح النَّاس، وكذا أبو يوسف؛ قال: والزوج هو القائم على المرأة، وما في يده كأنه في يدها. وبه يحتجُّ محمَّد. وزُفر يقول: المناصفة في المشكل أولى من اختصاص البعض، وهو معنى قول مالك والشافعي. وابنُ أبي ليلى يقول: الزوج صاحب اليد. والحسن يقول: الغالب أن المتاع في يد المرأة. وقد بيَّنَّا الوجوه في "شرح الجامع الصغير"] (¬1). يزيد بنُ المهلَّب ابنِ أبي صُفْرة الأَزْديّ، كنيتُه أبو خالد. [وذكره المدائنيّ قال: ] كان قد استخلفه أبوه على خُراسان، فأقرَّه الحجَّاج، وكان يزيدُ متكبِّرًا ويبلغُ الحجاجَ عنه ما يكره، فكتب إليه بالقدوم عليه، فاستشارَ حُضَينَ بنَ المنذر الرَّقَاشيّ (¬2)، فقال له: لا تَقْدَم عليه وتربَّص. فكتبَ الحجَّاجُ إلى أخيه المفضَّل، فأطمعَه في خُراسان. ولما وصل يزيدُ إلى إصطخْر بلَغَهُ موتُ عبد الملك وولايةُ ابنِه الوليد، فقال: الآن هلَكنا (¬3). ثم قدم على الحجَّاج، فأكرمه، وكان لا يُحجب عنه، وكان قُتيبة بنُ مسلم على الرَّيّ، فكتبَ إليه بولاية خُراسان، وأن يحمل المفضَّل بن المهلَّب إليه مُوثَقًا، وكان حبيب بن المهلَّب على كَرْمان -ويُلقَّب بالحَرُون- فعزلَه الحجَّاج، وبعثَ به قُتيبةُ مُوثَقًا. فلمَّا اجتمع عند الحجَّاج بنو المهلَّب: يزيد، وحبيب، والمفضَّل، وعبد الملك، وأبو عُيينة؛ حبَسهم. وأبو عُيينة هو الذي زوَّج الحجَّاجَ هندَ بنت المهلَّب (¬4). ¬

_ (¬1) من قوله: قلت وقد اختلف الفقهاء ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬2) حُضَين؛ بالضاد المعجمة مصغّر، وكنيتُه أبو محمَّد، ويلقَّب أَبا ساسان، من أمراء عليّ - رضي الله عنه - بصفين، وهو ثِقَة. ينظر "تهذيب الكمال" 6/ 555. (¬3) في الكلام اختصار مُخلّ، أو سَقْط، ففي هذا الخبر أن يزيد عزم على القدوم على الحجاج وقال: أرجو أن لا يُقدم الحجَّاج علي بسوء مع رأي أمير المُؤْمنين عبد الملك في المهلَّب وولدِه، وحفظه ما كان من آثاره وبلائه. فاستخلفَ أخاه المفضَّل، وسار إلى الحجَّاج، حتَّى إذا صار إلى إصطخر؛ بَلَغَه موتُ عبد الملك وولاية ابنِه الوليد، فقال: الآن هلكنا. ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 223 - 224. (¬4) من قوله: فكتب إليه بالقدوم عليه ... إلى هذا الموضع. ليس في (ص).

وكان يزيد بن المهلَّب لما خرج إلى خُراسان خرج معه رجل من عبد القيس يقال له: علتب ومعه امرأتُه، فهَوِيَها يزيد، وبعث زوجَها في بعث، فلم يخرج، فدسَّ إليه من سقاه السُّمّ، فمات، فنقل زوجتَه إلى قصره، وكان يأتي المرأة. وبلغ الحجَّاج، فلما حصلَ في يده قال له: ويحك! أتزني وأنتَ والي خُراسان؟ ! فضربَه الحدَّ، وبسط العذاب على يزيد وإخوته. وهربوا من سجنه إلى الشَّام، واستجاروا بسليمان بن عبد الملك، فأجارهم، فأقاموا عنده (¬1) إلى أنْ وَليَ يزيدُ العراق، وخُراسان. ووَليَ عمر بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه -، واستدعى يزيدَ إلى الشَّام، وحبسَه، وهربَ من سجنه إلى العراق. ومات عمر - رضي الله عنه -، واستولَى يزيدُ بن المهلَّب على البصرة، وأخذ عديَّ بنَ أرطاة وحبسه، وأقامَ بالبصرة. وجهَّز يزيدُ بنُ عبد الملك لقتاله مسلمةَ بنَ عبد الملك والعباسَ بنَ الوليد، فسار العبَّاس في أربعة آلاف، وتبعَه مسلمةُ في ثمانين ألفًا من أهل الديوان، وقد ذكرنا ذلك (¬2). ذكر مقتل يزيد وإخوته: ولما خلع يزيدُ بنُ المهلب يزيدَ بنَ عبد الملك قال: إنِّي لأرجو أن أنقضَ دمشق حجرًا حجرًا؛ قال الفرزدق: تُخبِّرُك الكُهَّانُ أَنك ناقضٌ ... دمشقَ التي قد كانتِ الجنُّ خَرَّتِ لها من جبال الثلجِ صخرًا كأنَّه ... قَنَاعِيسُ شُمٌّ أشْرَفَتْ واشْمَخَرَّتِ (¬3) ¬

_ (¬1) من هذا الموضع، حتَّى نهاية الفقرة، ليس في (ص). (¬2) تفصيل الكلام في "أنساب الأشراف" 7/ 222 - 216، و"تاريخ" الطبري 6/ 393 و 556 و 564 و 578. وينظر ما سلف أوائل أحداث ستة (101). (¬3) القناعيس: جمع القِنْعاس، وهو من الإبل: العظيم، والرجل الشديد المنيع. ينظر "القاموس" (قنعس). واشَمَخَرَّت، أي: طالتْ.

أَتَتْكَ خُيولُ الشامِ تَخْطُر بالقَنَا ... لها حِزَقٌ كالطَّيرِ لمَّا اسْتَقَلَّتِ يقودُ نواصيها إليك مُبارَكٌ ... إذا ما تصدَّى للكتيبةِ وَلَّتِ من آل أبي العاصي حوالي لوائِهِ ... ثمانونَ ألفًا كلُّها قد أظلَّتِ (¬1) وجاء مَسْلَمةُ، فنزل الفراتَ، وخرج يزيد فنزلَ واسطًا في ستَّةَ عشرَ ألفًا، ومعه الخزائن والأموال والسلاح وعديُّ بنُ أرطأة وأصحابُه مقيَّدين (¬2). وكان قد استشار يزيد أصحابه، فقال بعضهم: الحَقْ بفارس، وقال بعضهم: الحَقْ بالجزيرة. فقال [يزيد] ابن الحكم بن أبي العاص الثَّقَفيّ: أَبا خالدٍ قد هِجْتَ حَرْبًا فلا تَنَمْ (¬3) ... وقد شَمَّرَتْ حَرْبٌ عَوانٌ فشَمِّرِ وعِشْ مَلِكًا أو مُتْ كريمًا فإنْ تَمُتْ ... وسيفُك مشهورٌ بكفّك تُعذَرِ (¬4) فقال يزيد: أمَّا هذا فنعم. واستخلف على واسط ابنَه معاويةَ بنَ يزيد وعنده الأموال وعديُّ وأصحابُه. ثم خطب يزيد الناس وقال: إنه قد بلغَني وصولُ هذه الجرادة الصفراء -يعني مسلمة- وعاقرِ ناقة ثمود -يعني العباس بن الوليد، وكان العباس أحمرَ، وكانت أمُّه روميَّة- واللهِ لقد كان سليمان عزمَ على أن ينفيَه غير مرة، فكلَّمتُه فيه، فأقرَّه على نَسَبِه، وقد بلغني أنَّه ليس همُّهما إلَّا الْتِماسي (¬5) في الأرض، والله لو جاؤوا بأهل الأرض جميعًا وأنا وَحْدي ما بَرِحتُ العَرْصَةَ حتَّى تكون لي أوْ لهم. واللهِ إنَّ [هؤلاء القومَ لن يردَّهم عن غَيِّهم] إلَّا الطعنُ في صدورهم، وضربُ المَشْرَفِيَّةِ على هامهم (¬6). فقال له بعض ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 261 - 262. والبيت الأول والثالث بنحوهما في "ديوان" الفرزدق 1/ 112. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 263. (¬3) في "أنساب الأشراف" 7/ 264: فلا تُقم. وفي "الأغاني" 12/ 290: حربًا مريرة. وأبو خالد: كنية يزيد بن المهلَّب. (¬4) أنساب الأشراف 7/ 264. (¬5) في (خ) (والكلام منها): التماشي. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 592، وفي "أنساب الأشراف" 7/ 272: تشريدي. (¬6) تاريخ الطبري 6/ 592 بنحوه (وما سلف بين حاصرتين منه)، وأنساب الأشراف 7/ 272. والمَشْرَفيَّة: سيوف منسوبة إلى المَشَارف؛ قُرًى من أرض اليمن، وقيل: من أرض العرب. ينظر "اللسان" (شرف).

القوم: إنَّا نخاف أن تفعل كما فعلَ ابنُ الأشعث. فقال: إنَّ ابنَ الأشعث لم يحم الذِّمار (¬1)، ولا خافَ ولا حفظَ نفسَه وحَسَبَه، وهل كان يُمانعُ أَجَلَه؟ ! ثم قدَّم بين يديه أخاه عبدَ الملك بنَ المهلَّب، ثم سار حتَّى نزل بفم النِّيل، وكان مسلمةُ قد وصلَ الأنبار، وعقدَ الجسر وعبرَ عليه (¬2). وكان مروان بنُ المهلَّب مقيمًا بالبصرة يحثُّ النَّاس على الحرب لأهل الشَّام ويُسرِّح النَّاس إلى يزيد (¬3). وكان الحسن يثبِّطُ النَّاس عن يزيد، ويقول: أيّها النَّاس، الزمُوا رِحالكم، وكُفُّوا أيديَكم، واتقوا [الله] مولاكم، ولا يقتُلْ بعضُكم بعضًا على دنيا زائلة. وبلغ مروانَ، فقام خطيبًا وقال. قد بلغني أنَّ هذا الشيخ الضالَّ المرائي -من غير أن يسمِّيَه- يُثبِّطُ النَّاس عنَّا، واللهِ لو أنَّ جارَه نزعَ من خُصِّ داره قصبةً لَظَلَّ يرعُفُ بها أنفُه، يُنكر علينا أن نطلبَ حقًّا، واللهِ لئن لم ينتهِ عن ذكرنا وعن جَمْعِه إليه سُقَّاطَ الأُبُلَّة وعُلُوج فراتِ البصرة لأُنْحِيَنَّ عليه مِبْرَدًا خشنًا. وبلغ الحسن فقال: والله ما أكرهُ أن يُكرمني اللهُ بهوانه. فقال له أصحابه: واللهِ لو طلبَك لمنعناك (¬4). وبلغ مروان فجدَّ في طلبهم، فتفرَّقوا, ولم يَعرِضْ للحسن، ولم يسكت الحسن عنهم (¬5). ويقال: إنَّ الحسن اختفى في منزل أبي خليفة (¬6) ¬

_ (¬1) الذِّمار: ما ينبغي حمايتُه والذَّوْدُ عنه، كالأهل والعرض. وينظر خبر عبد الرَّحْمَن بن محمَّد بن الأشعث "أنساب الأشراف" 6/ 469 - 470، حيث طلبَه الحجَّاج، فيقال: إنه أُخذ، وأُنزلَ في قصر في طريقه إلى الحجاج، فرمى بنفسه منه فمات، وقيل غير ذلك. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 590. والنيل -في هذا الخبر- بليدة في سواد الكوفة يخترقها خليج كبير. (¬3) المصدر السابق 6/ 593. (¬4) بعدها في "تاريخ" الطبري 6/ 594: فقال لهم الحسن: فقد خالفتكم إذًا إلى ما نهيتُكم عنه ... وانظر تتمة كلامه ثمة. (¬5) ينظر الخبر بتمامه في المصدر السابق 6/ 593 - 594. وينظر أَيضًا "أنساب الأشراف" 7/ 263. (¬6) هو حجَّاج بن عتَّاب العَبْدي البَصْرِيّ. ينظر "التاريخ الكبير" 2/ 276 و"أنساب الأشراف" 121/ 344.

وجاء يزيد فنزل العَقْر وسُورا (¬1)، وجاء مَسْلَمةُ فنزلَ مُقابِلَه، فأقاموا ثمانية أيام، وكان عبد الحميد بنُ عبد الرَّحْمَن قد بَثَقَ المياه بين يزيد والكوفة (¬2)، وبعث بجيوش الكوفة إلى مسلمة، وأقام القتال يعمل بينهم. وقال رجل ليزيد: السلام عليك يَا أمير المُؤْمنين وهو واقف في صف القتال، فأنشد: رُوَيدَكِ حتَّى تنظري عمَّ ينجلي ... غَيَابَةُ هذا العارضِ المتألِّقِ (¬3) فلما طلع الفجر يومَ الجمعة لأربع عشرةَ ليلةً مضت من صَفَر سنة اثنتين ومئة؛ خرجَ مسلمةُ والعبَّاس، فصَفَّا النَّاسَ، وجعل مسلمةُ على ميمنة أهلِ الشَّام الهُذَيل بن زُفر الكلابي، وعلى الميسرة القعقاع بن خُليد العَبْسي (¬4)، ووقفَ هو والعبَّاسُ في القَلْب، وجعلَ يزيدُ على ميمنته حبيبَ بنَ المهلَّب، وعلى ميسرته المفضَّل بنَ المهلَّب، وأقام هو وإخوتُه في القَلْب. وكان يزيد قد ترك الجسر وراءه -وهو من السُّفن- ليحتميَ به، فأمر مسلمةُ الوضَّاحَ مولى عبد الملك بنِ مروان، فأحرقَ السُّفن. ولمَّا رأى أصحابُ يزيد الجسرَ قد أُحرق؛ وهنُوا وانهزموا، فقيل ليزيد: قد انهزموا. فقال: وهل كان قتالٌ؟ ! قالوا: لا, ولكن قد أُحرقَ الجسر، فلم يقف أحدٌ (¬5). فقال: قاتلَهم اللهُ، بَقٌّ دُخِّنَ عليه فطار. ¬

_ (¬1) موضعان من أرض بابل بالعراق. ينظر "معجم البلدان"3/ 278 و 4/ 136. (¬2) أي: كسرَ شطَّ الأنهار بينهما، فجعل المياه تفيض منها لئلا يصل يزيد بن المهلب إلى الكوفة. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 265 و 272، و"تاريخ" الطبري 6/ 592 - 593. (¬3) كذا في "شرح الحماسة" للتبريزي 1/ 190 - 191. وفيه: عماية، بدل: غيابة. وجاء في "أنساب الأشراف" 7/ 273 أن يزيد بن المهلب قال البيت لجاريته بسَّامة حين دخلت عليه وقد تهيَّأت، (وفيه: غمامة، بدل: غيابة). وذكر ابن الأثير البيت في "المثل السائر" 1/ 376 وقال: العارض المتألّق استعارة للحرب، أو الذي أطلّ بمكروهه، كالبارق المتالّق. (¬4) كذا في "أنساب الأشراف" 7/ 267. وفيه بعض اختلاف عما جاء في "تاريخ" الطبري 6/ 595. (¬5) في "تاريخ" الطبري 6/ 595: فلم يثبت أحد.

ثم تقدَّم يزيد وإخوتُه، فقاتلوا، وكانت به خِلْفَةٌ (¬1) قد أضعفَتْه، وبيده تُفَّاحةٌ يَشَمُّها، فبينا هو على ذلك؛ إذا بفرسِ حبيبِ بنِ المهلَّب قد أقبلَ عائرًا (¬2)، فقال يزيد: هذا -واللهِ- فرسُ أبي بِسطام، وأظنُّه قد قُتل، ولا خير في الحياة بعده. وجاءه أبو رؤبة المرجئ، فقال له: ذهبَ النَّاس، فهل لك أن تنصرف إلى واسط، فإنَّها حصن، وبها أموالك، ويأتيك مددُ أهل البصرة وعُمان والبحرين في السفن، وتَرى رأيك، فقال له: قبَّح اللهُ رأيك، ألي تقول هذا؟ ! واللهِ الموتُ أيسرُ على من الفرار. فقال له: أما ترى جبال الحديد حولك. قال: فواللهِ ما أُبالي أحديدًا كانت أو نارًا. ثم تمثل يقول: أبالموتِ خَشَّتْني (¬3) عِبَادٌ وإنَّما ... رأيتُ منايا الناسِ يسعى دليلُها فما مِيتَةٌ إنْ مِتُّها غيرَ عاجزٍ ... بعارٍ إذا ما غالتِ النَّفْسَ غُولُها (¬4) وكان يزيد على بِرذَوْن أشهب، فأقبلَ نحو مَسْلَمةَ لا يريدُ غيرَه، فلما رآه مسلمة دعا بفرسٍ ليركبَه، وعطفت خيولُ الشَّام على يزيد، فمال إلى تلّ، فحملوا عليه حملة رجل واحد فقتلوه (¬5). واختلفوا في قاتله، فقال هشام: الفَحْل بن عيَّاش الكلبيّ؛ نظر إلى يزيد فعرفه، فقال: يَا أهل الشَّام، هذا -واللهِ- يزيد، واللهِ لأقتلنَّه أو ليقتلنِّي، فمن يحملُ معي، فإنَّ دونه أُناسًا. فقال أصحابه: نحن وحملَ وحملُوا، وارتفع الغُبار ساعة، ثم انفرج عن يزيد قتيلًا والفَحْلُ بن عيَّاش إلى جانبه بآخِر رَمَق، فأومأ إلى أصحابه: هذا يزيد أنا قتلتُه، ويومئ إلى نفسه أي: هو قتلني. ومرَّ مسلمةُ بنُ عبد الملك، فرأى الفحلَ صريعًا إلى جانب يزيد، فقال: أما إنِّي [أطنُّ] أنَّ هذا قتلَه (¬6). ¬

_ (¬1) أي: فساد في البطن من إسهال وإقياء. (¬2) أي: من دون حبيب. والفرس العائر: المنفلت من صاحبه. (¬3) أي: خوَّفَتْي. (¬4) الغُول: كلُّ ما أَخَذَ النفسَ من حيث لا تدري فأهلكها. وينظر البيتان في "ديوان" الأَعشى ص 227. (¬5) تاريخ الطبري 6/ 597. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 268 - 269. (¬6) المصدران السابقان. وما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري.

وجاء برأس يزيد مولًى لبني مُرَّة يقال له: عثمان، فقال [الحواري بن] زياد بن عَمرو العَتَكيّ لمسلمة: مُرْ [برأسه فليُغسل ثم ليعمَّم، ففعل ذلك به، فعرفه، فبعث] به مسلمةُ إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط (¬1). وقيل: إنما قتلَ يزيد الهُذَيل بن زُفر الكلابي، والأول أشهر (¬2). وقُتل مع يزيد إخوتُه حبيب ومحمَّد. وقال ابن الجوزيّ في "التلقيح": إنه قُتل مع يزيد زياد ومُدْرك. ثم قال: ومن العجائب: ثلاثةُ إخوة؛ وُلدوا في سنة واحدة، وقُتلوا في سنة واحدة، وكانت أعمارهم واحدة، وعُمْرُ كل واحدٍ ثماني وأربعون سنة (¬3). ثم حُزَّت رؤوسهم، وبعثَ بها مسلمةُ مع رأس يزيد مع خالد بن الوليد بن عقبة، وقيل: مع عَذَام بن شُتَير (¬4) الضَّبِّي. وقيل: مع محمَّد بن عمر المخزومي. وقال هشام: قُتل يزيد وأخوه المفضَّل يُقاتل أهل الشَّام (¬5)، ولم يعلم بقتل إخوته وهو يحمل على أهل الشَّام، فيكشفُهم، وقد انهزم عنه النَّاسُ وهو يُحرِّضُهم ويقول: يَا معاشر ربيعة الكَرَّةَ الكَرَّة، واللهِ ما كنتُم بكُشُفٍ ولا لئام، ولا هذه لكم بعادة، يَا أهل العراق لا نُؤتَى اليومَ من قِبَلكم. فاجتمع إليه ناس، فبينا هو يُريد أن يحملَ على أهل الشَّام قيل له: ما تصنع ها هنا؟ قُتل يزيد ومحمَّد وحَبيب، وانهزمَ النَّاس. فوقف المفضَّل، وتفرَّق النَّاسُ عنه، ومضى يطلبُ واسطًا، وأُسر من أصحاب يزيد ثلاثُ مئة (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 597. وما سلف بين حاصرتين منه، ولا بدّ منه. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 269 و 274. وسيرد أواخر الترجمة أن يزيد بن المهلب تحمَّل عن كوثر بن زفر بن الحارث عشر ديات. وفي بعض روايات الخبر أنَّه تحملها عن الهُذيل بن زفر، فإن صحَّت هذه الرواية فإن من المستبعد أن يكون الهُذيل هو قاتل يزيد. (¬3) هو في "المدهش" لابن الجوزي ص 67. ولم أقف عليه في "التلقيح". (¬4) في (خ) و (الكلام منها): بشير. والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 271. (¬5) في (خ) (والكلام منها): الشمال، والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 273. (¬6) أنساب الأشراف 7/ 273، وتاريخ الطبري 6/ 597 - 598.

ولما وُضع رأسُ يزيد بنِ المهلب بين يدي يزيد بن عبد الملك نال منه بعضُ الحاضرين، فقال يزيد: مَهْ، إنه طلبَ جَسيمًا، وركبَ عظيمًا، ومات كريمًا (¬1). وكان مَسْلَمةُ قد حبسَ الأسرى عند محمَّد بن عَمرو بن الوليد بالكوفة، وكان على شرطته العُريان بن الهيثم، وجاء كتاب يزيد بن عبد الملك إلى محمَّد بن عَمرو: اضربْ أعناقَهم، وهم يقولون: هذا واللهِ جزاؤُنا، نحن انهزمنا بالنَّاس. فما هو إلَّا أَنْ فرغَ منهم وجاء كتابُ مَسْلَمة أن لا يعرضَ لهم بسوء، وكان الأسرى من تميم (¬2). وأمَّا المفضَّل؛ فإنَّه مضى على حميَّة إلى واسط، وبلغَ معاويةَ بنَ يزيد بنِ المهلب قَتْلُ أَبيه وأعمامِه وإخوته -وكان قد قُتل مع يزيد أولادُه محمَّد، وعبد ربّه، والحجَّاج- فأخرج معاوية بن يزيد ثلاثين (¬3) أسيرًا كانوا عنده، فقتلَهم، منهم عديُّ بن أَرْطاة، ومحمَّد بن عديّ بن أَرْطاة، ومالك وعبدُ الملك ابنا مِسْمَع، وعبد الله بن عزرة البصريّ، وعبد الله بنُ دينار مولى بني عامر، والقاسم بن مسلم مولى بني بكر بن وائل. ولما أخرجهم ليضرب أعناقهم قالوا له: ويحك! إن أَبَاك قد قُتل، ونحن ما قتلنا أحدًا، وقَتْلُنا ليس بنافعك، بل يضرُّك في الدنيا والآخرة. فلم يلتفت، وقتلَهم إلَّا ربيعَ بن زياد بن الرَّبيع بن أنس بن الرَّيَّان، فقيل له: نسيتَه؟ قال: لا, ولكنه شيخٌ من قومي، وله شرف ومعروف وبيت عظيم، ولست أَتَّهِمُه في وُدّ، ولا أخافُ بغيَه. وأطلقَه. وقال ثابت قُطنة في قتل عديِّ بنِ أرطأة: ما سَرَّني قَتْل الفَزَاريِّ وابنِهِ ... عديٍّ ولا أحْبَبْتُ قَتْلَ ابنِ مِسْمَعِ ولكنَّها كانَتْ مُعَاويَ زَلَّةً ... وضعتَ بها امْرَءًا (¬4) على غيرِ مَوْضِعِ ثم سار معاويةُ بنُ يزيد إلى البصرة بالأموال والخزائن، ولحقه المفضَّل، واجتمع آل المهلب كلُّهم بالبصرة، وأعدُّوا السفن للهرب إلى كَرْمان (¬5)، فركبوا البحر، وقد ¬

_ (¬1) العقد الفريد 1/ 303، ووفيات الأعيان 6/ 307. وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 304. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 598 - 599. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 275 - 276. (¬3) في "تاريخ" الطبري 6/ 599، و"الكامل"5/ 84: اثنين وثلاثين. (¬4) في (خ) و"تاريخ" الطبري 6/ 600: أمري. والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 275. (¬5) كَرْمان: ناحية كبيرة معمورة ذات بلاد وقرى ومدن واسعة بين فارس ومكران وسجستان وخراسان. ينظر "معجم البلدان" 4/ 454.

كان يزيدُ بن المهلَّب ولَّى وداعَ بنَ حُميد الأزديَّ على قَنْدابيل (¬1)، وقال له: إنِّي سائرٌ إلى هذا العدوّ، فإن ظفِرتُ به أكرمتُك، وإن كانت الأخرى؛ فإذا قدمَ عليك أهلُ بيتي تحصَّنوا بقَنْدابيل حتَّى يأخذوا أمانًا لأنفسهم، وإني قد جعلتُك موضع الأمانة فحقِّقْ حسن ظنِّي فيك. وأخذَ عليه العهود والمواثيق. فلما وقعت هذه الوقعة وركبَ آلُ المهلَّب في السفن بعيالاتهم ومرُّوا بمهزم بن الفزر (¬2) العَبْديّ، وكان يزيدُ استعملَه على البحرين، فاستشاروه، فقال: اللهَ اللهَ، لا تفارقوا هذه السفن، ففيها بقاؤُكم، وإنْ خرجتُم منها تخطَّفَكم النَّاس، وتقرَّبوا بكم إلى بني مروان. ومضَوْا حتَّى إذا كانوا بجبال كَرْمان خرجوا من السفن، وحملوا أهلهم وعِيالهم وأموالهم على الدوابّ، وكان معاويةُ بن يزيد لما وصلوا إلى البصرة أراد أن يتأمَّر على آل المهلَّب، فقالوا: أميرُنا وكبيرُنا المفضَّل، وأنت غلامٌ حَدَث، فوَلَّوْا عليهم المفضَّل، وخرجوا إلى كَرْمان وبها فُلول من أصحاب يزيد، فاجتمعوا إلى المفضَّل. وبعث مسلمة بنُ عبد الملك مدرِك الضَّبّيّ (¬3) في طلب آل المهلَّب، فأدركهم بفارس في عَقَبةٍ، فعطفوا عليه، واقتتلُوا قتالًا شديدًا، فقُتل ممن كان مع المفضل جماعة، منهم النُّعمان بن إبراهيم بن الأشتر، ومحمَّد بن إسحاق بن محمَّد بن الأشعث، وأُخذ ابنُ صُول ملك قُهِسْتان (¬4) أسيرًا، وأُخِذت سُرِّيَّةُ المفضَّل العالية، وجُرح عثمان بن إسحاق بن محمَّد بن الأشعث جراحةً شديدة، فهرب إلى حُلوان، فدُلَّ عليه، فقُتل، وحُمل رأسه إلى مَسْلَمةَ بالحِيرة. ورجع ناسٌ من أصحاب يزيد، فطلبُوا أمانَ مَسْلَمةَ، فأمَّنَهم، منهم مالك بن إبراهيم بن الأشتر، والزَّرْد (¬5) بن عبد الله بن حبيب السَّعْديّ التَّمِيمِيّ، وكان قد شهد مع عبد ¬

_ (¬1) مدينة بالسِّنْد. معجم البلدان 4/ 402. (¬2) في "تاريخ" الطبري 6/ 600: هرم بن الفرار. (¬3) في "تاريخ" الطبري 6/ 601: مدرك بن ضَبّ الكلبي. (¬4) في (خ) (والكلام منها): دهقان. والمثبت من "تاريخ" الطبري. وقُهِسْتان: معرَّب كوهستان، ومعناه: موضع الجبال. ويطلق هذا الاسم على أكثر من موضع من بلاد العجم، والمشهور به الجبال التي بين هَراة ونيسابور. ينظر "معجم البلدان" 4/ 416. (¬5) في "تاريخ" الطبري 6/ 601: الورد. وكذا في المواضع التالية.

الرحمن بن الأشعث مشاهده كلَّها (¬1). ولما وردَ على مسلمة شَتَمَهُ وهو قائم وقال: مرَّةً مع ابن الحائك (¬2)، ومرَّة مع ملَّاح الأزد، ما كنتَ بأهلٍ للأمان، ولكن قد كان، انصرفْ. وكان الذي قد أخذَ له الأمان محمدُ بنُ عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ومسلمةُ عمُّه، وكانت ابنةُ مسلمةَ تحتَه. وطلب الأمانَ لمالك بن إبراهيم بن الأشتر [الحسنُ بنُ عبد الرحمن بن شَراحيل] فقال له الحسن: هذا مالكُ بنُ إبراهيم بن الأشتر. فقال: نعم، انطلق. فقال له الحسن: لِمَ لَمْ تشتمه كما شتمتَ الزَّرْد؟ ! فقال: أجْلَلْتُكم عن ذلك، وكنتمُ أكرمَ عليَّ من أصحاب هذا وأحسنَ طاعة. فقال له الحسن: فنحن نُحبُّ أن نشتمَه، فإنه واللهِ أشرفُ أبًا وجَدًّا، وأسوأُ أثرًا في أهل الشام من الزَّرد. فكان الحسن بعد ذلك يقول: ما ترك شَتْمَهُ إلا حَسَدًا من أن يعرف صاحبَنا؛ أراد أن يُريَنا أنه قد حَقَره (¬3). وأما آلُ المهلَّب فمضَوْا إلى قَنْدابيل، وبعث مسلمةُ إلى مُدرك فردَّه، وبعث في آثارهم هلال بنَ أحوز التميمي، فلحقهم بقَنْدابيل، [فأراد آلُ المهلَّب دخول قَنْدابيل] فمنعهم وداعُ بنُ حُميد من الدخول إليها، وصار مع هلال عليهم (¬4)، ونصبَ هلالٌ راية الأمان، فمال من كان مع آل المهلَّب إليها. وأراد معاوية (¬5) أن يقتل نساء آلِ المهلب خوفًا من السَّبْي والعار وقال: أخافُ عليهنَّ هؤلاء الفُسَّاق. فنهاه المفضَّل وقال: ويحك أتقتلُ أخواتِك وبناتِ أخواتِك ونساءَ أهلِ بيتك؟ ! إنَّا لا نخافُ عليهنَّ منهم. ثم كسروا جُفونَ سيوفهم، ومشَوْا إلى القوم، فقاتلوا حتى قُتلوا عن آخِرهم إلا أبا عُيينة بنَ المهلَّب وعثمانَ بن المفضَّل، فإنَّهما نَجَوَا ولحقا بخاقان (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 6/ 600 - 601. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 281. (¬2) في "تاريخ" الطبري: مع حائك كندة. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 601 - 602. (¬4) ذكر البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 255 - 256 أن يزيد بن الهلَّب لما ولَّى وداع بن حميد قندابيل قال له أخوه حبيب بن المهلَّب: لا تولّه فإن في رأسه وعينيه غدرة، فكان من أمره أنه أغلقها دونهم. فقال المفضَّل: رحم الله أبا بِسطام -يعني حبيبًا- كأنه كان يرى أمر وداع. ويقال: إن وداعًا كان قُتل قبل هربهم إلى قندابيل وسلف كلام حبيب في وداع ص 248. (¬5) في "تاريخ" الطبري 6/ 602، و"الكامل" 5/ 86: مروان بن الهلَّب. (¬6) يعني ملك التُّرك.

وبعث هلال برؤوسهم ونسائهم إلى مَسْلَمة وهو بالحِيرة، وبعث بهم مَسْلَمةُ إلى يزيد بن عبد الملك، وبعث بهم يزيد إلى العبَّاس بن الوليد وهو على حلب. وقال مسلمة: واللهِ لأبيعنَّ ذُرِّيّتَهم في دار الرزق، فقال له الجرَّاح بن عبد الله: أنا أشتريهم منك لأَبِرَّ قَسَمك. فاشتراهم بمئة ألف، ولم يأخذ منه شيئًا، وخلَّى سبيلَهم إلا تسعةَ غِلْمة منهم أحداثٍ، بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فضرب أعناقَهم (¬1). وقال البلاذُريّ: لما قُتل يزيدُ بنُ المهلب هربَ [آلُ المهلَّب] بعيالاتهم إلى قَنْدابيل، فأغلقَ وَدَاعُ بنُ حُميد في وجوههم الأبواب، وحُزقت منازلُهم بالبصرة، وهُدمت دورُهم، وبعث مَسْلَمةُ (¬2) هلال بنَ أحوز المازنيّ التميمي وراءهم في اثني عشر ألفًا، وكان بنو تميم أعداءً لبني المهلَّب، فالتَقَوْا فقُتل المُفَضَّل بن المهلَّب، وأمَّنَ هلالٌ نساءَ آلِ المهلَّب، وقال: من رفعَ سترًا، أو دخل إلى امرأة؛ قتلتُه. فدخل رجل على بعض النساء فقتلَه هلالٌ، فقال نساءُ آلِ المهلَّب: لو وَليَنا المهلَّب ما فعل بنا كما فعل هلال (¬3). وولَّى مسلمةُ هلال بن أحوز السِّند وقَنْدابِيل، فلم يزل عليها حتى قدم عُمر بن هُبيرة العراق، وقدم نساءُ المهلَّب فقال ابنُ هُبيرة لأمِّ مالك بنت زياد بنِ المهلَّب: قد علمتِ أنَّ هلالًا قتلَ رجالكم، وقد كتبتُ إلى يزيد بنِ عبد الملك أنَّ هلالًا خائن، فصَدِّقيني عندَه. وبعثَ بها إلى يزيد، فلمَّا دخلت عليه قال: كيفَ وجدتُم هلالًا؟ فأثنت عليه، وقالت: لو كان المهلَّب حيًّا ما فعل معنا ما فعل هلال. قال: فإنَّ ابنَ هُبيرة يقول عنه كذا وكذا. فقالت: كذبَ واللهِ، ولقد قال: قُولي كذا وكذا، وإن هلالًا لمبالغٌ في طاعتك (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف في "تاريخ" الطبري 6/ 600 - 603. وما وقع فيه بين حاصرتين منه. (¬2) في (خ) (والكلام منها): العباس بن الوليد، بدل: مسلمة. والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 278 - 279 والكلام منه بنحوه. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 280. (¬4) بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 283 - 284. ومن قوله: فأقاموا عنده إلى أن ولي يزيد العراق وخراسان (أوائل ترجمة يزيد بن المهلب) إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

ذكر طرف من أخبار يزيد بن المهلَّب ولد سنةَ ثلاث وخمسين، وجُمع له الكوفةُ والبصرة في سنة سبع وتسعين، وكان جوادًا ممدَّحًا شجاعًا، شهد مع أبيه المهلَّب قتال الأزارقة، وأقام واليًا على خُراسان بعد أبيه أربعَ سنين. [قال الأصمعي: ] ولمَّا عذَّبَه الحجَّاج قرَّر على نفسه كلَّ يوم مئة ألف درهم، فإنْ أدَّاها نهارًا، وإلَّا عذَّبَه ليلًا، فجمع مئة ألف اشترى بها عذابَ يومه، فدخل عليه الأخطل فأنشد: أبا خالدٍ أقْوَتْ خُراسانُ بعدَكُمْ ... وقال ذَوُوا الحاجاتِ أين يزيدُ فلا سُقِيَ المَرْوانِ (¬1) بعدَك قطرةً ... ولا اخضَرَّ بالمَرْوينِ بعدَك عُودُ ولا لسريرٍ بعد ملككَ بهجةٌ ... ولا لجوادِ بعد جُودكَ جودُ وقيل: إن الشعر للفرزدق (¬2). فدفع إليه المئة ألف، وبلغ الحجَّاجَ فقال: أكلُّ هذا الكرم وهو بهذه الحالة؟ ! ارْفَعُوا عنه العذاب (¬3). وقال ابنُ البَرْقي: أغرمَ سليمانُ عُمرَ بنَ هُبيوة ألفَ ألفِ درهم، وخمسَ مئةِ ألفِ درهم، فعَجَزَ عنها، فتحمَّلها يزيدُ عنه. وحجَّ يزيد، فطلبَ حلَّاقًا يحلِقُ رأسَه، فجيء بحلَّاق، فحلقه، فأعطاه ألفَ درهم، فدُهش وقال: هذه أشتري بها أمِّي فلانة. فقال: أعطُوه ألفًا أخرى. فقال: هذه أشتري بها أبي. فقال: أعطوه ألفًا أخرى، فقال: امرأته طالق إنْ حلقَ رأس أحد بعده. فقال: أعطُوه ألفًا أخرى (¬4). ¬

_ (¬1) تثنية مَرْو، إحداهما مَرْو الشاهجان، وهي العظمى، والأخرى مَرْو الروذ، وهي الصغرى، وهما مدينتان مشهورتان بخراسان. قاله ابن خلّكان في "وفيات الأعيان" 6/ 279. وينظر "معجم البلدان" 5/ 111. (¬2) قال ابن خلّكان في "وفيات الأعيان" 6/ 280: المشهور أن صاحب هذه الواقعة والأبيات هو الفرزدق، ثم إني رأيتُ هذه الأبيات في ديوان زياد الأعجم، والله أعلم بالصواب. (¬3) ذكر ابن خلّكان الخبر في "وفيات الأعيان" 6/ 280 ونسبه لابن عساكر. وترجمة يزيد بن المهلّب ليست بين أيدينا، فقد وقعت ضمن خرم في "تاريخ دمشق". (¬4) بنحوه في "وفيات الأعيان" 6/ 280، وينظر "سير أعلام النبلاء" 4/ 504.

وقال خليفة: وَفَدَ [كوثر] بن زُفر بن الحارث الكلابي على يزيد بن المهلب حين ولَّاه سليمان العراق، فقال له: أيُّها الأمير، أنتَ - واللهِ - أعظمُ قَدْرًا من أن يُستعان عليك إلا بك، ولستَ تفعلُ من المَكْرُمات مكرمةً إلا وهي صغيرةٌ في جانب قدرك، وليس بعجيبٍ أن تفعل، وإنَّما العجب أن لا تفعل. فقال: وما حاجتُك؟ قال: عشر دِيَات تحمَّلتُها عن غيري. فقال: هي لك ومثلُها. فقال كوثر: أما ما سألتك بوجهي فأقبلُه منك، وأمَّا ما ابتدأتَني به؛ فلا حاجةَ لي فيه. فقال يزيد: ولمَ وقد كفيتُك فيه دون المسألة؟ ! فقال له كوثر: إنَّ الذي أخذتَ مني بمسألتي ايَّاك وبَذْلِ وجهي أكثرُ من معروفك عندي، فكرهتُ الفضل على غيرِ ما بذلتُ له وجهي. فقال يزيد: فأنا أسألُك كما سألتَني إلا أَهَّلْتَني بقبولها، لا تزالُ حاجتُك بي. فقبلَها منه (¬1). وقال المدائني: كان سعيدُ بنُ عَمرو مُؤاخيًا ليزيد بن المهلَّب، فلمَّا حبسه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - منع الناسَ من الدخول عليه، فقال سعيد لعُمر - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين، لي على يزيد خمسون ألفًا وقد حُلْتَ بيني وبينَه، فإنْ رأيتَ أن تأذنَ لي في الدخول عليه لأطالبه بدَيني. فأذِنَ له، فدخلَ عليه فسُرَّ به يزيد، وقال له: كيف دخلتَ عليَّ؟ ! فأخبره الخبر، فقال: واللهِ لا تخرجُ إلا وهي معك. فأمر له بها (¬2). وقال ابنُ الكلبيّ: رأى يزيدُ في المنام كأنَّه راكبٌ على أسد وهو في مِحَفَّة (¬3)، فقالت عجوز من بكر بن وائل: تركبُ عظيمًا وتُحاط به. وقال هشام عن أبيه قال: أدركتُ الناس يقولون: ضَحَّى بنو حرب بالدِّين يوم كَرْبَلاء، وضحَّى بنو مروان بالكَرَم يوم العَقْر (¬4). ¬

_ (¬1) بنحوه في "ديوان المعاني" للعسكري 1/ 155. وجاء مختصرًا في "عيون الأخبار" 3/ 124، وفيه: الهُذيل بن زُفر، وفي "العقد الفريد" 1/ 255، كريز بن زفر. (¬2) المنتظم 7/ 82. وبنحوه في "عيون الأخبار" 1/ 342. (¬3) المِحَفَّة: مركب للنساء كالهودج، لكن لا قبَّة له. (¬4) وفيات الأعيان 4/ 109 ونُسب القول فيه لكُثيِّر عَزَّة. وذكره البكري في "معجم ما استعجم" 3/ 950 (العقر) دون نسبة.

وقيل ليزيد بن المهلب: لِمَ لِمْ تَبْنِ دارًا؟ فقال: منزلي دارُ الإمارة، أو بطنُ الأرض (¬1). استعمل الوليدُ بنُ عبد الملك عثمانَ بن حيَّان المُرِّي على المدينة، وأمره بالغِلْظَةِ على أهلها، وأن يأخذَ بالظِّنَّة، فلما وليَ سليمان أغرمه ألفي ألف درهم، فتحمَّلت القَيسيَّةُ شطرها، وضاقوا ذرعًا بالشطر الباقي، ووافق ولاية سليمان العراق ليزيد بن المهلَّب (¬2)، فقال عُمر بن هُبيرة والهُذَيل بن زُفر بن الحارث والقعقاع بنُ حبيب: اقصِدُوا يزيد بنَ المهلَّب، فجاؤوا إلى رُواقِهِ، فرحَّب بهم وسألَهم عن سبب قصدهم له، فأخبروه، فقال: إن خير المال ما قُضِيَتْ به الحقوق، وحُمِلَتْ به المغارم، وإنما لي من مالي ما فضلَ عن إخواني، وايمُ الله، لو علمتُ أن أحدًا أملى بحاجتكم مني لهديتُكم إليه، ولكن احتكموا وأكثِرُوا. فقال عثمان بن حيَّان: النصف. قال: نعم وكرامة، اغْدُوا على ما لكم فخُذُوه. فشكروه وانصرفوا. فلما كانوا بباب السُّرادق؛ قال لهم عمر بن هُبيرة: قبَّح اللهُ رأيكم، واللهِ ما يُبالي يزيد أنصفَها حملَ أم كلَّها، فمن أين لك النصف الباقي؟ ! وسمعه يزيد فقال: عليَّ بهم. فدخلوا عليه، فقال: ما الذي بكم؟ فأخبروه، فقال: عليَّ الكُلُّ. وغدا يزيد على سليمان، وأخبره بأنَّ القيسيَّة قد دخلوا عليه، فقال سليمان: واللهِ لآخُذَنَّه بالمال. فقال يزيد: فقد تَحمَلْتُهُ عنه. قال: فأدِّه. قال يزيد: واللهِ ما تحمَّلْتُه إلا لأُؤَدِّيَه عنه. فحمل المال إلى خزانة سليمان، فقال سليمان: وَفَتْ يميني، أَعِيدُوها إلى يزيد. فأعادوها، فقال عديُّ بن الرِّقَاع: لله عَيْنا مَنْ رأى كَحَمَالةٍ ... تحمَّلَها كَبْشُ العراقِ يزيدُ (¬3) وقال الأصمعي: قدم قوم من قُضاعة على يزيد، فقصَّر في حقِّهم، فقال رجل منهم: واللهِ ما نَدْرِي إذا ما فاتَنا ... طلبٌ إليك مَنِ الذي نتطلَّبُ ¬

_ (¬1) عيون الأخبار 1/ 236، والعقد الفريد 1/ 303 بنحوه. (¬2) في "العقد الفريد" 1/ 304: ووافق ذلك استعمال سليمان يزيد بن المهلب على العراق. وهو الصواب. (¬3) الخبر في "العقد الفريد" 1/ 303 - 305 بأطول منه.

ولقَدْ ضَرَبْنا في البلادِ فلم نَجِدْ ... أحدًا سواك إلى المكارمِ يُنسبُ فاصْبِرْ لعادتنا التي عوَّدْتَنا ... أو لا فأرْشِدْنا إلى مَنْ نَذْهَبُ فأعطى كلَّ واحد ألفَ دينار. وأنشده رجل: ما لي أرى أبوابَهم مهجورةً ... وكأنَّ بابك مَجْمَعُ الأسواقِ جاؤوك يبغون النَّدَى وتأمَّلُوا ... جَدْوَاكَ فاجتمعوا من الآفاقِ إني رأيتُك للمكارم عاشقًا ... والمكرماتُ قليلة العُشَّاقِ فأعطاه ثلاثين ألفًا. ومرَّ بأعرابية فقدَّمَتْ له شاةً وقالت: واللهِ لا أملكُ غيرها. فقال لخازنه: ما معك؟ قال: ثمان مئة دينار. قال: أعطها إيَّاها. فقال: إنها تقنعُ منك باليسير! فقال: إن كانت هي تقنعُ باليسير؛ فأنا لا أرْضَى لها إلا بالكثير. قال: فإنها لا تعرفُك! فقال: أنا أعرفُ نفسي. ودفعَ إليها المال (¬1). وقد رثاه خلقٌ كثير، فقال ثابت قُطنة: أَبَى طُولُ هذا الليلِ أنْ يَتَصَرَّما ... وهاجَ لك الهَمُّ الفؤادَ المُتَيَّما على هالكٍ هَدَّ العشيرةَ فَقْدُهُ ... دَعَتْهُ المنايا فاستجابَ وسَلَّما على مَلِكٍ يا صاحِ بالعَقْرِ جُبِّنَتْ ... كتائبُهُ واستَوْرَدَ الموتَ مُعْلِما أَمَسْلَمَ إنْ تَقْدِرْ عليك رِماحُنا ... نُذِقْك (¬2) بها سُمَّ (¬3) الأساودِ مُسْلَما وإنْ نَلْقَ للعبَّاس في الدهر عَثْرةً ... نُكافِئْهُ باليوم الذي كان قَدَّمَا قِصاصًا ولا نَعْدُو الذي كان قَدْ أتى ... إلينا وإنْ كان ابنُ مروانَ أَظْلَما من أبيات. وقال الطِّرِمَّاح: ¬

_ (¬1) بنحوه في المصدر السابق. (¬2) في (خ) (والكلام منها): نذوق. والمثبت من "تاريخ" الطبري، و"الكامل" 5/ 88. (¬3) في المصدرين السابقين: فيء، بدل: سُمّ.

وأما المفضل بن المهلب

لَحَى اللهُ قومًا أسلموا يومَ بابلٍ ... أبا خالدٍ تحتَ السيوفِ البَوارقِ فتًى كان عند الموتِ أَكرمَ منهُمُ ... حفاظًا وأعطى للجيادِ السَّوابقِ ولمَّا نعى الناعي يزيدَ تَزَلْزلَتْ ... بيَ الأرضُ وارْتَجَّتْ (¬1) بمثلِ الصَّواعقِ فلا حَمَلَتْ أزْدِيَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ... جَنِينًا ولا أمَّلْنَ سَيبَ الغَوَادقِ (¬2) وبعث يزيدُ بنُ عبد الملك حين قُتل يزيدُ بنُ المهلَّب إلى الشعراء، فأمرهم بهَجْو يزيد بن المهلَّب وأهلِ بيته، منهم الفرزدق، وكُثيّر، والأحوص، فأمَّا الفرزدق فقال: لقد مدحتُ بني المهلَّب وأهلَ بيته بمدائحَ ما مدحتُ بها أحدًا قطّ، وإنه لَقبيحٌ بمثلي أن أُكَذِّبَ نفسي على كبر السّن، فليُعفني أميرُ المؤمنين. فأعفاه. وقال كُثيّر: إني أكره أن أُعَرِّضَ نفسي لشعراء العراق إن هجوتُ بني المهلَّب. وأمَّا الأحوص فهجاهم، فلمَّا بعث يزيد بن عبد الملك بالأحوص إلى الجرَّاح بن عبد الله الحَكَمي وهو بأَذْرَبيجان وقد كان بلغَ الجرَّاحَ هِجاءُ الأحوص لهم؛ بعث الجراح بِزِقِّ خمر إلى منزل الأحوص، ثم أرسل أُناسًا، فصَحبُّوا الخمرَ على رأسه وأخرجوه على رؤوس الناس، فأَتَوْا به الجرَّاحَ، فأمر بضربه الحدَّ؛ يتناوبُ عليه الرجال، وحلقَ رأسَه ولحيتَه، والأحوص يقول: ليس هكذا تُضربُ الحدود، والجرَّاح يقول: أجل، لِما تعلم (¬3). وأمَّا المُفَضَّل بن المُهَلَّب فكنيتُه أبو غسَّان، وقيل: أبو حسَّان، ولمَّا ولَّى سليمان يزيدَ بن المهلَّب على العراق خلَّفه عند سليمان يأنس به، فولَّاه جند فلسطين، وكان جوادًا سَمْحًا. روى المُفضَّل عن النعمان بن بشير، وروى عنه حاجبُ بنُ المفضَّل، وجَرِيرُ بنُ حازم، وثابت البُنانيّ، وغزا عدَّةَ غَزَوات (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): وانحلت. والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 289، و"ديوان" الطِّرمّاح ص 339. (¬2) في (خ): المغارق. والمثبت من "الديوان". (¬3) طبقات فحول الشعراء 2/ 659، والأغاني 4/ 255 - 256. (¬4) ينظر "تاريخ دمشق" 17/ 106 (مصورة دار البشير).

السنة الثالثة بعد المئة

ذكر إخوة يزيد بن المهلب: قد ذكرناهم في ترجمة المهلَّب، وأنهم كانوا عَشَرة، قُتل في نوبة يزيد منهم ستة: يزيد، وزياد، ومُدْرك، ومحمد، والمُفَضَّلَ. وأقام [أبو] عُيَينة بنُ المهلب عند رُتْبيل (¬1) بسجستان، ومعه عثمان بنُ المفضَّل بن المهلَّب، وعُمر بن يزيد بن المهلَّب حتى أخَذَتْ لهم هندُ بنتُ المهلَّب أمانًا من يزيد بن عبد الملك (¬2). ولما قدمَ أسد بن عبد الله القَسْريّ (¬3) خُراسان؛ كتبَ لعُمر بن يزيد وعثمان بن المفضَّل أمانًا. السنة الثالثة بعد المئة فيها جمع يزيد بن عبد الملك لعُمر بن هُبيرة العراق وخراسان، فعزل عُمر بن هُبيرة سعيدَ بنَ عبد العزيز خُذَينة (¬4) عن خُراسان لأنَّ أهلَها شَكَوْا ضَعْفَه وعَجْزَه، واستعملَ عُمرُ على خُراسان سعيدَ بنَ عَمرو بنِ الأسود بن مالك بن كعب بن وَقْدان بن الحَرِيش الحَرَشي من بني عامر بن صعصعة. وكان فقيرًا يسألُ في الأسواق (¬5)، ثم صار يسقي الماء، فآلَ به الأمرُ إلى أن صار والي خُراسان. وسببُ ولايته أنَّ يزيد بن عبد الملك كتب إلى عُمر بنِ هُبيرة: اكتُبْ إليَّ بأسماء أهلِ البلاء مع مَسْلَمة بن عبد الملك. فكتب إليه ابنُ هُبيرة بأسمائهم، ولم يذكر الحَرَشيّ، فقال يزيد: وأين الحرشي؟ ! وهل كان الفتحُ إلا على يده؟ ولكن حسده ابنُ هُبيرة، فكتبَ إلى ابن هُبيرة: وَلَّهِ خُراسان. فولَّاه، وكان خُذَينة بسمرقند، فقفلَ راجعًا، فقال نَهارُ بنُ تَوْسِعة: ¬

_ (¬1) ملك الترك. (¬2) كذا في (خ) (والكلام منها). والذي في "أنساب الأشراف" 7/ 284، و"الكامل" 5/ 89 أن هند بنت المهلَّب طلبت الأمان لأبي عُيينة، وأمَّا عُمر بن يزيد، وعثمان بن المفضَّل فأمَّنهما أسد بن عبد الله القسري، وسيرد في الكلام بعده. (¬3) في (خ): خالد بن عبد الملك القسري. والمثبت من المصدرين السابقين. (¬4) خُذينة لقب لسعيد بن عبد العزيز، لأنه كان لينًا سهلًا متنعّمًا. وسلف هذا الكلام أوائل سنة (102). (¬5) في "تاريخ دمشق" 7/ 324 (مصورة دار البشير): على الأبواب.

فمَنْ ذا مُبلغٌ فتيانَ قَوْمي ... بأنَّ النَّبْلَ رِيشَتْ كلَّ رَيشِ وأنَّ اللهَ بدَّلَ من سعيدٍ ... سعيدًا لا خُذَينةَ (¬1) من قريشِ ووصل الحَرَشيّ إلى خُراسان، ولم يعرض لأحد من عمال حذينة، وقدم الحَرَشيُّ إلى خُراسان على الغزو، فخطبَ وحثَّ الناسَ على الجهاد وقال: إنكم لا تُقاتلون العدوَّ لكثرة ولا بِعُدَّةٍ ولكن بنصر الله وعزِّ الإسلام. وقال: فلستُ لعامرٍ إنْ لم تَرَوْني ... أمامَ الخيلِ أطعنُ بالعوالي وأضربُ هامةَ الجبَّارِ منهمْ ... بعَضْبِ الحدّ حُودث بالصّقالِ فما أنا في الحروب بمستكينٍ ... ولا أخشى مُصاولةَ الرِّجالِ إذا خَطَرَتْ أمامي حيُّ كعبٍ ... وزافَتْ كالجبالِ بنو هلالِ أبَى لي والدي من كلّ ذَمٍّ ... وخالي في الحوادث خيرُ خالِ (¬2) وولَّى خَراج خُراسان عبدَ الرحمن بن صوار (¬3) الفزاري، فغزا الحَرَشيّ الصُّغْد (¬4)، فغنم أموالًا عظيمة، وقتل وسبى، فلما كان في سنة خمس ومئة عزل ابنُ هُبيرة الحَرَشيَّ، وسنذكره. وفيها غزا العبَّاس بنُ الوليد الروم، ففتَح مدينة يقال لها: رسلة (¬5). وفيها ارتحل أهل الصُّغْد عن بلادهم، ولحقوا بفَرْغانة، وسألوا ملوكها أن يُنجدوهم (¬6) على المسلمين خوفًا من الحَرَشي، وكانوا قد أعانوا التُّرك على المسلمين أيام خُذَينة وقصرِ الباهليّ (¬7). ولما عزموا على الرَّحيل قال لهم ملكهم: لا تفعلوا ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 6/ 619: لا الخنَّثَ. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 620 - 621، والكامل 5/ 104. قوله: عَضْب، أي: قَطْع، وحُودِثَ: جُلِيَ، والصِّقال مصدر كالصَّقْل، يقال: صقلَ السيفَ، أي: جلاه. والمصاولة: الغالبة، وخَطَرَ وزافَ، أي: تبَخْتَرَ. (¬3) في "تاريخ دمشق" 7/ 324 (مصورة دار البشير): ضرار. (¬4) الصُّغد -أو السُّغْد- بين سمرقند وبُخارَى، وسلف الكلام عليها. (¬5) تاريخ الطبري 6/ 619. (¬6) في "تاريخ" الطبري: 6/ 621: سألوا ملكها معونتهم. (¬7) خُذينة هو سعيد بن عبد العزيز، وسلف ذكره قريبًا، وقصُر الباهلي في الصُّغْد، وسلف خبر حصار الترك له، ثم هزيمتهم عنه أوائل سنة (102) وهو جدير بالقراءة.

وتخربوا دياركم، وأقيموا وا حملوا إلى الحَرَشيّ الخَراج الماضي، والتزموا أن تحملوا إليه خَراج المستقبل، وأن تَغْزُوا معه إن أرادَ ذلك، واعتذروا إليه ممَّا مضى، وقولوا غلبَنا التُّرك، وأعطُوه رهائن تكونُ عنده. فقالوا: نخافُ أن لا يرضى، ولكنَّا نأتي خُجَنْدَة، فنستجير بملكها، ونُرسل إلى الحَرَشي فنستوثق (¬1) منه. وساروا حتى نزلوا شِعْبَ عاصم (¬2) بن عبد الله الباهليّ من أرض فَرْغانة؛ كان قتيبةُ بنُ مسلم خلَّفَه فيه، فنُسب إليه. وفيها كثُر فسادُ يزيدَ بنِ عبد الملك، فتنقَّصه أخوه هشام بنُ عبد الملك وتمنَّى موته، فكتب إليه يزيد: أمَّا بعد، فقد بلغني استثقالُك حياتي واستبطاؤك موتي، ولعمري إنك بعدي لواهي الجناح، أجذمُ اليد، وما أستوجبُ منك ما يبلغُني عنك. فكتب إليه هشام: متى فرَّغتَ سَمْعَك [لقول] أهل الشنآن وأعداء النعمة؛ يوشك أن يؤثر ذلك في فساد ذات البَين وقطع الأرحام، والسلام. فكتب إليه يزيد: احفظ وصية أبينا عبد الملك فينا وأنا غافرٌ ما قيل عنك، ومكذِّبٌ به. وكتب في أسفل الكتاب: وإنِّي على أشياءَ منك تُرِيبُني ... قديمًا لَذُو صَفْح على ذاك مُجْمِلُ ستَقطعُ في الدُّنيا إذا ما قَطَعْتَني ... يَمينَك فانظرْ أيَّ كفَّيكَ تُبْدَلُ (¬3) وحجَّ بالناس [في هذه السنة] عبدُ الرحمن بنُ الضحَّاك الفِهْريّ وهو والي مكة والمدينة، وكان على الطائف عبدُ الواحد بنُ عبد الله النَّصْري (¬4)، ولَّاه يزيد إيَّاه في ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): فنستومن (؟ ) وما أثبتُه أقرب إلى رسم الكلمة ومعنى عبارة الطبري وابن الأثير، وهي: ونوثق له ألا يرى أمرًا يكرهه. ينظر "تاريخ" الطبري 6/ 621، و"الكامل" 5/ 104. (¬2) في المصدرين السابقين: عصام. (¬3) مروج الذهب 5/ 459 - 461. والشعر لمعن بن أوس كما في "العقد الفريد" 4/ 444. والخبر فيه بنحوه. (¬4) بالصاد المهملة نسبة إلى بني نصر بن معاوية كما ذكر السمعاني في "الأنساب" 7/ 92 - 93. وتحرف في (خ) إلى: البصري، وفي "تاريخ" الطبري 6/ 620 إلى: النضري. وهو من رجال التهذيب، وله ترجمة في "تاريخ =

أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي

هذه السنة، وكان على العراقين وخُراسان عُمر بنُ هُبيرة، ونائبُه على خُراسان الحَرَشيّ، وعلى قضاء الكوفة القاسم بنُ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى. وفيها توفّي أبو الشَّعْثاء جابرُ بن زَيد الأزْديّ من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، وكان فقيهًا عالمًا يُفتي أهلَ البصرة في غَيبة الحسن وحضوره. قال ابن عباس: لو نزل أهل [البصرة] عند قول جابر بن زيد؛ لأوسعهم عمَّا في كتاب الله علمًا (¬1). قال أبو الشَّعثاء: نظرتُ في أعمال البِرِّ؛ فإذا الصلاةُ تُجِهدُ البَدَنَ، ولا تُجهد المال، والصيامُ مثلُ ذلك، ونظرتُ في الحجّ؛ فإذا هو يُجهِدُ البَدَنَ والمال، فكانَ أفضلَ من ذلك كلِّه (¬2). وكان لا يُماكسُ في كلِّ شيءٍ يُنفقُه؛ يتقرَّبُ به إلى الله تعالى؛ مثل الكِراء إلى مكَة، وفي الرَّقَبة يشتريها للعتق، وفي الأُضحية (¬3). وقال ابن سِيرِين: كان أبو الشَّعْثاء مُسْلِمًا عند الدِّينار والدرهم (¬4). وقال جابر بن زيد: لأَنْ أتَصدَّقَ بدرهم على يتيم أو مسكين أحبُّ إليَّ من حَجَّة، بعد حَجَّة الإسلام (¬5). ¬

_ = دمشق" 44/ 8 (طبعة مجمع دمشق). وذكره السخاوي في "التحفة اللطيفة" 3/ 100، ووقع فيه أنه بمعجمة، ولعله وهم أو سبق قلم. والله أعلم. (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 179، وحلية الأولياء 3/ 85. (¬2) حلية الأولياء 3/ 87، وصفة الصفوة 3/ 237. (¬3) المصدران السابقان. (¬4) بعدها في "الحلية" 3/ 89: يعني كان ورعًا عندهم، والخبر أيضًا في "طبقات" ابن سعد 9/ 180، و"صفة الصفوة" 3/ 237. (¬5) حلية الأولياء 3/ 90، وصفة الصفوة 3/ 237.

خالد بن معدان

وقال ابن سعد (¬1): خرج ناسٌ فرارًا من الطاعون إلى العراق، فقال لهم جابر بن زيد: ما أقربَكم ممَّن أرادكم! ذكر وفاته: قال عَزْرَة (¬2): دخلتُ على جابر وهو يموتُ، فقلتُ: إنَّ الإباضيَّة يزعمون أنك منهم -وكانوا ينتحلونه- فقال: أبرأُ إلى الله منهم. وقال ثابت البُناني: دخلتُ على جابر بن زيد وقد ثَقُل، فقلت له: ما تشتهي؟ قال: نظرة من الحسن. فأتيتُ الحسن -وهو مختفٍ في منزل أبي خليفة- فذكرتُ له ذلك، فقال: اخرُجْ بنا إليه. فقلت: أخافُ عليك. قال: إن الله سيصرفُ أبصارَهم عني. فانْطَلَقْنا، فدخلنا عليه، فقال له الحسن: يا أبا الشعثاء، قُلْ لا إله إلا الله. فقال: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الآية [الأنعام: 158] فلم يزل عنده حتى أسحر، وقال له: ما تقولُ في أهل النهر؟ فقال: أبرأ إلى الله منهم. وخاف الحسنُ الصبح ولم يمت جابر، فقام الحسن قائمًا فكبَّر عليه أربعًا، ثم انصرف (¬3). أوصى جابر أن تُغسِّلَه امرأتُه، ومات في سنة ثلاث ومئة (¬4). وكان جابر أعور. أسند عن ابن عمر - رضي الله عنه -، وابن عباس -رضي الله عنهما-، وروى عنه خلق كثير، وكان ورعًا ثقة (¬5). خالد بنُ مَعْدان ابن أبي كَرِب، أبو عبد الله الكَلاعي، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل الشام. ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 9/ 180. (¬2) في (خ) (والكلام منها): عروة. والتصويب من "طبقات" ابن سعد 9/ 181 والخبر فيه. (¬3) المصدر السابق 9/ 181 - 182. وأبو خليفة المذكور هو حجَّاج بن عتَّاب العبدي البصري. (¬4) المصدر السابق. (¬5) قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 4/ 482: هو من كبار تلامذة ابن عباس. وينظر "تهذيب الكمال" 4/ 435 - 434. ومن قوله: وقال خليفة وفد كوثر بن زفر، ص 358، في فقرة "ذكر طرف من أخبار يزيد" ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

كان عابدًا ورعًا مَهِيبًا، وكان يكرهُ الشُّهرة؛ إذا عظُمَتْ حَلْقَتُه قام (¬1). وكان إذا كتب إلى الوليد بن عبد الملك بدأ بنفسه (¬2). وكان يحبُّ الغَزْو، وهو أول من ضُرب له فُسطاط بدابِق (¬3). وقال [أبو نُعيم فيما رواه عنه أنه قال: ] ما من عبدٍ إلا وله عينان في وجهه يُبصر بهما أمرَ الدنيا، وعينانِ في قلبه يُبصر بهما ما وعدَ الله تعالى بالغيب، فإذا أراد الله بعبده خيرًا فتح عينيه اللتين في قلبه، وإذا أراد به شرًّا تركه على ما هو عليه. ثم قرأ: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} (¬4) [محمد: 24]. وكان خالد يسبِّح كلَّ يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن، فلما مات وجُعل على سريره ليُغسَّل؛ جعلَ يحرِّك أصبعيه. يعني بالتسبيح (¬5). [ذكر وفاته]: وتوفِّي في خلافة يزيد بن عبد الملك في سنة ثلاث ومئة وهو صائم، وكان ثقة. [قال الهيثم: ] ومات بطرسوس غازيًا (¬6). وأسند عن جماعة من الصحابة: أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جَبَل، وعُبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وعبد الله بن عُمر، وأبي أُمامة، وثوبان، والمقدام بن معدي كَرِب، وأبي ذرّ الغِفاري، وعبد الله بن بُسْر، وغيرهم. وكان يقول: أدركتُ سبعين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 5/ 520 (مصورة دار البشير). (¬2) ينظر المصدر السابق 5/ 519 - 520. (¬3) تاريخ دمشق 5/ 520. ودابِق: قرية قرب حلب من أعمال عزاز، بينها وبين حلب أربعة فراسخ. معجم البلدان 2/ 416. (¬4) حلية الأولياء 5/ 212 - 213، وما سلف بين حاصرتين من (ص). وذكر ابن عساكر الخبر في "تاريخه" 5/ 522 من طريق آخر. (¬5) حلية الأولياء 5/ 210، وتاريخ دمشق 5/ 522 (مصورة دار البشير). (¬6) ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 458، و"تاريخ دمشق" 5/ 521 - 523.

سليمان بن يسار

وقد روى عنه خلق كثير، منهم ثَوْر بنُ يزيد، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، وثابت بن ثوبان، وغيرهم (¬1). سليمان بن يسار مولى ميمونةَ زوجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: إنه كان مكاتِبًا لها، فأدَّى وعَتَق، ووهبَتْ ميمونةُ ولاءه لابن عباس - رضي الله عنهما -. وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وكنيتُه أبو أيوب. وقيل: أبو محمد. وهو أحدُ الفقهاء السبعة، وكانوا يفضِّلونه على سعيد بن المسيِّب. [ذكر قصته مع البدوية]: [روى أبو نعيم الحافظ عن أبي حازم قال: ] خرج سليمان [بن يسار] حاجًّا من المدينة ومعه رفيق له، فنزلا منزلًا بالأبواء (¬2)، فأخذَ رفيقُه السُّفْرة (¬3)، ومضى إلى السوق ليبتاعَ لهم طعامًا، وقعد سليمانُ في الخيمة، وكان من أجمل الناسِ وجهًا، فبَصُرَتْ به أعرابيةٌ من رأس الجبل وهي في خيمتها، فانحدرَتْ إليه، وأسفَرَتْ عن وجه كأنه فِلْقةُ قمر، وراودته عن نفسه فذكَّرها اللهَ، فأبت وقالت: لئن لم تفعل لأفْضَحَنَّك، فقال: جهَّزَكِ [إليَّ] إبليس؟ ! ثم وضع رأسَه على ركبتيه [يبكي] فلمَّا رأت ذلك سَدَلَتْ بُرْقُعَها على وجهها، وعادَتْ باكيةً إلى خيمتها. وجاء صاحبُه، فرآه على تلك الحالة، فسأله، فلم يُخبره، فأقسم عليه، فأخبره، فجلس الآخر يبكي، فقال له سليمان: ما لك؟ فقال: أنا أحقُّ بالبكاء منك. قال: ولمْ؟ قال: أخشى لو أني كنتُ مكانك لمَا صبرت. قال سليمان: فرأيتُ يوسف الصِّديِّق [بعد ذلك في المنام وأنا أقول: أنت يوسف الصِّدِّيق؟ ] قال: نعم، أنا الذي هَمَمْتُ وأنتَ الذي لم تَهُمّ (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 5/ 516، وتهذيب الكمال 8/ 168 - 169. (¬2) قرية من المدينة المنوَّرة بينها وبين الجُحفة ثلاثة وعشرون ميلًا. وبالأبواء قبر آمنة أمّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) السُّفرة: ما يحملُ المسافر فيه طعامه. (¬4) حلية الأولياء 2/ 191 - 192. وما سلف بين حاصرتين من (ص).

وكان سليمان يصومُ الدهر (¬1). وقال: استأذنتُ على عائشة -رضي الله عنهما-، فعرفَتْ صوتي، فقالت: أسليمان؟ قلت: نعم. قالت: أدَّيتَ ما قاضَيتَ عليه؟ قلت: بلى، لم يبقَ إلا يسير. قالت: ادخُلْ فإنك مملوك ما بقيَ عليك شيء (¬2). وكان يُحْفي شاربَّه كأنَّه قد حَلَقهُ. ووليَ سوقَ المدينة لعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وعمرُ يومئذ والي المدينة للوليد بن عبد الملك (¬3). ذكر وفاته: مات سنة سبع ومئة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. وقيل: في سنة ثلاث ومئة في خلافة يزيد بن عبد الملك، والأكثرون على ذلك. وقيل: في سنة أربع وتسعين، وقيل: سنة مئة (¬4). أسند سليمان عن زيد بن ثابت، وأبي واقد الليثي، وابن عُمر، وأبي هريرة، وعُبيد الله وعَبد الله ابنَي العباس، وعائشة، وأمّ سَلَمة، وميمونة، وعروة بن الزبير، والمقداد بن الأسود، وحسَّان بن ثابت، وأبي سعيد الخُدري، وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، ومالك بن أبي عامر. وروى عنه الزُّهري، وعَمرو بنُ دينار، وقتادة (¬5)، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن أبي حبيب، وأُسامة بن زيد الليثي، وبُكير بن عبد الله [بن] الأشجّ، ونافع مولى ابن عمر، وعَمرو بن ميمون بن مِهْران (¬6)، وأخوه عطاء، وغيرُهم، وروى عنه ابنُه عبد الله خطبة عُمر بالجابية. ¬

_ (¬1) نُسب الخبر في (ص) لابن أبي الدنيا. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 173. (¬3) المصدر السابق. (¬4) ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 4/ 447 أن هذين القولين شاذّان. (¬5) قال المزي في "تهذيب الكمال" 12/ 103: قيل: لم يسمع منه. (¬6) في (خ) (والكلام منها): ميمون بن مروان، بدل: عمرو بن ميمون بن مهران. وهو خطأ. وينظر "تهذيب الكمال" 12/ 103، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 445.

أبو بردة بن أبي موسى الأشعري

وكان سليمان ثقة رفيعًا عاليًا فقيهًا، كثير الحديث. وإخوتُه: عطاء، وعبد الله، وعبد الملك بنو يسار، وكلُّهم كانوا فضلاء علماء، موالي ميمونة - رضي الله عنهما - (¬1). أبو بُردَة بن أبي موسى الأشعريّ واسمه عامر بن عبد الله بن قيس، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل الكوفة. وليَ القضاء على الكوفة بعد شُرَيح، ووفدَ على معاوية. فأَراه قَرْحةً كانت في ظهره يقال لها: النَّقَّابَة (¬2). وقال ابن عساكر: كان أبو بُرْدة أحول، ولما وليَ القضاء كان سعيد بن جبير كاتبه (¬3). ولمَّا وَليَ يزيدُ بنُ المهلَّب خُراسان قال: دُلُّوني على رجل جامعٍ لخصال الخير. فدُلَّ على أبي بُرْدة، فلما رآه رأى مَخْبَرَه أفضلَ من منظره، فقال له: إني مولِّيك على كذا وكذا. قال: أعْفِني. قال: لا أُعفيك. فقال: حدَّثني أبي عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ وَليَ عَمَلًا وهو يعلمُ أنه ليس بأهل له فَلْيَتَبَوَّأ مقعده من النار". ولستُ بأهل لهذا. فقال له يزيد: الآن حرَّضْتَني على نفسك، خُذْ عهدَك واخْرجْ، فإني غيرُ مُعفيك. فخرج وأقامَ مدَّةً ثم قدم عليه، فقال: حدَّثني أبي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ملعون من سُئل بوجه الله ثم منعَ سائلَه". وأنا أسألُك بوجه الله أن تُعفِيَني. فأعفاه (¬4). ومات بالكوفة سنة ثلاث ومئة، وقيل: سنة أربع، وقيل: سنة ستّ، وقيل: سنة سبع ومئة (¬5). أسندَ عن أبيه، وعن عبد الله بن سَلام. ¬

_ (¬1) ترجم لهم ابن سعد في "طبقاته" 7/ 171 - 174. (¬2) في (خ): النقاية. والمثبت من "تاريخ دمشق" ص 374 (طبعة مجمع دمشق - تراجم حرف العين). قال الزمخشري في "أساس البلاغة" (نقب): النَّقَّابة: قرحة تخرج بالجنب تهجم على الجوف رأسها من داخل. (¬3) تاريخ دمشق ص 384 وص 386 (الطبعة المذكورة في التعليق السابق). (¬4) تاريخ دمشق ص 387 - 388 (الطبعة المذكورة). (¬5) ينظر المصدر السابق ص 390 - 392.

يزيد بن حصين بن نمير

قال أبو بُرْدَة: أرسلني أبي إلى عبد الله بن سلام أتعلَّم منه، فجئتُه فقال: مَنْ أنتَ؟ فأخبرتُه، فرحَّب بي، فقلت: إنَّ أبي أرسلني إليك لأتعلَّم منك. فقال: يا ابن أخي، إنكم بأرض تُجَّار، فإذا كان لك على أحد مالٌ؛ فأهدى إليك هديَّةً؛ فلا تَقْبَلْها، فإنَّها رِبًا (¬1). وأخوه موسى بن أبي موسى: أمُّه أمُّ كلثوم بنت الفضل بن العبَّاس، رَوَى عن أبيه. وأخوهما أبو بكر بن أبي موسى، وهو اسمُه، روى عن أبيه، وكان قليل الحديث يُستضعف، ومات في ولاية خالد بن عبد الله القَسْري، وكان أكبرَ من أبي بُرْدة، وأدركَ جماعة من الصحابة، وكان يسكُن الكوفة، ولا رواية له (¬2). يزيد بن حُصَين بن نُمير السَّكوني الحمصي، من الطبقة الرابعة (¬3) من أهل الشام من التابعين. وليَ حمص لعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، ولسليمان قبله، وكتب إليه عمر [بن عبد العزيز] لا تدعنَّ صليبًا ولا صورة في أسواق حمص إلا مَحَوْتَه، ثم امسحه ببياض (¬4). وكانت وفاتُه بحمص. حدث عن أبيه الحُصَين. والحُصَين هو الذي حاصر مكة واستخلفه مُسْرفُ بن عقبة (¬5). ¬

_ (¬1) لفظ الخبر أقرب إلى رواية عبد الرزاق في "المصنف" (14653) وهو بنحوه في "صحيح" البخاري (3814). وينظر "طبقات" ابن سعد 5/ 386 (ترجمة عبد الله بن سلام). (¬2) ذكرهم ابن سعد في "الطبقات" 8/ 386 - 387. ومن قوله: أسند سليمان (يعني بن يسار آخر الترجمة السابقة) عن زيد بن ثابت ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) في (ص): فصل، وفيها توفي يزيد بن نمير السكوني الحمصي، ذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة الرابعة ... ولم أقف عليه في "تاريخه". (¬4) في (خ) و (ص): ببياض البيض (؟ ). والمثبت من "تاريخ دمشق" 18/ 266 (مصورة دار البشير) وعبارتُه فيها: ثم يُمسح ببياض حتى لا يُرى منها شيء. (¬5) يعني مسلم بن عقبة، سمي مسرفًا لإسرافه في وقعة الحرَّة.

السنة الرابعة بعد المئة

وحدَّث يزيد أيضًا عن معاذ بن جبل، وروى عنه عُليّ بن رباح، وكان مع مروان لما خرج إلى مصر. السنة الرابعة بعد المئة فيها عزل يزيدُ بنُ عبد الملك عبدَ الرحمن بنَ الضَّحًّاك بن قيس الفِهْريّ عن المدينة ومكة، وولَّى عليهما عبد الواحد النَّصْري (¬1). وسببُ عزله أنه خطب فاطمةَ بنتَ الحسين بنِ علي بنِ أبي طالب - عليه السلام -، فقالت: واللهِ ما أُريد النِّكاح، ولقد قعدتُ على بنيّ هؤلاء. وجعلَتْ تُحاجزه، وتكره أن تُنابذَه، لِما تخافُ من شرِّه، وألحَّ عليها وقال: واللهِ لئن لم تفعل لأجلدن أكبرَ بنيها في الخمر. يعني عبد الله بن حسن. وكان على ديوان المدينة رجل من أهل الشام يقال له: ابنُ هرمز، فاستدعاه يزيدُ بنُ عبد الملك ليعملَ حسابَه، فدخل على فاطمة يودِّعُها ويسعرض حوائجها، فقالت: تُعرِّفُ أميرَ المؤمنين ما أَلْقَى من ابنِ الضحاك. وبعَثَتْ كتابًا ورسولًا إلى يزيد، وقَدِمَ ابنُ هُرمز على يزيد، فسأله عن أحوال المدينة، فذكَر له حديثَ ابنِ الضحاك مع فاطمة. فبينا هو يحدِّثه دخلَ الحاجب وقال: رسولُ فاطمة بالباب (¬2). فأذِنَ له، فدخل، فناوله الكتاب، فقرأه يزيد، ونزل عن فراشه وجعل يضرب الأرض بخيزُرانةٍ ويقول: لقد أقدمَ ابنُ الضحَّاك على أمر عظيم، ألا رجلٌ يُسمعُني صوتَه في العذاب وأنا على فراشي؟ فقيل له: عبد الواحد بن عبد الله النَّصْري. فدعا يزيد بقرطاس وكتب فيه بخطّ ¬

_ (¬1) بالصاد المهملة نسبة إلى بني نصر بن معاوية، وسلف التعليق عليه أواخر أحداث السنة السابقة. وتحرف في (خ) (والكلام منها) إلى: المضري، وفي "تاريخ" الطبري 7/ 12، إلى: النضري. (¬2) الذي في "تاريخ" الطبري 7/ 13 أن ابن هرمز لم يذكر له خبر ابن الضحاك مع فاطمة لما استخبره يزيد عن أحوال المدينة، وإنما ذكر ابنُ هرمز ليزيد الخبر لما جاء الحاجب وقال ليزيد: بالباب رسول فاطمة. فعنَّف يزيدُ ابنَ هرمز على ذلك، واعتذر ابنُ هرمز بالنسيان. والخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 189.

يده إلى عبد الواحد وهو بالطائف: سلامٌ عليك، أمَّا بعد، فإنِّي قد ولَّيتُك المدينةَ، فإذا جاءك كتابي هذا فسِرْ إليها، واعزِل ابنَ الضَّحَّاك، وأغرمهُ أربعين ألفَ دينار، وعذِّبْه حتى أسمعَ صوتَه وأَنا على فراشي. والسلام. وسار البريدُ بالكتاب، فقدمَ المدينةَ، ولم يدخل على ابن الضحاك، فارتاب به، وبعث إلى البريد بألف دينار وقال له: لك عهدُ الله عليَّ وميثاقُه إنْ أنتَ أخبرتَني لا أُخبِرُ أحدًا وإنَّ هذه لك، فأخبره، فاستنظره ثلاثًا، وخرج ابنُ الضحاك إلى مَسْلَمة، فاستجارَ به، فكلَّم فيه يزيدَ بنَ عبد الملك، فقال: واللهِ لا أُجيرُه أبدًا وقد فعل ما فعل، ردُّوه إلى المدينة، فردُّوه. فأخذَه عبدُ الواحد، فعذَّبه عذابًا شديدًا، وأغرمَه أربعين ألف دينار (¬1). قال عبد الله بن محمد: فلقد رأيتُه بالمدينة وعليه جُبَّةُ صوف وهو يسأل الناس، ولم يزل على أسوأ حال. وكتب يزيد إلى فاطمة يعتذرُ إليها وشمألُها حوائجَها، فلم يكن ليزيد بن عبد الملك مَنْقَبةٌ مثلُ هذه. قال الواقدي: وكان عَزْلُ ابن الضَّحَّاك عن المدينة النصف من ربيع الأول، وأقام واليًا عليها ثلاث سنين، وكان قد أساء إلى أهلها، وفعل بابن حزم ما فعل، فسُرَّ الناسُ بما جرى عليه. وقَدِمَها عبدُ الواحد النَّصْري يومَ السبت للنصف من شوال هذه السنة (¬2). قال الزُّهري: قلت لعبد الرحمن بن الضحَّاك لما وَليَ المدينة: إنك قادمٌ على قوم يُنكرون كلَّ شيء خالفَ فعلَهم، فالْزَمْ ما أجمعوا عليه، وشاور القاسم بنَ محمد، وسالم بنَ عبدْ الله، فإنهما لا يأْلُوانِكَ رُشْدًا. فلم يأخذ بشيء من ذلك، وعادَى الأنصار طُرًّا، وضرب أبا بكر بنَ حَزْم ظلمًا وعدوانًا في باطل، فما بقيَ منهم شاعرٌ إلا هجاه، ولا صالحٌ إلا عابَه وأتاه بالقبيح، ووليَ المدينةَ عبدُ الواحد بنُ عبد الله ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 12 - 14. (¬2) يعني سنة (104). وعبد الله بن محمد: هو ابنُ أبي يحيى المعروف بسَحْبَل من رجال "التهذيب" روى عنه الواقدي هذا الخبر كما في المصدر السابق.

النصري، فأحسنَ السِّيرة، فلم يَقْدَم عليهم والٍ أحبَّ إليهم منه، وكان يذهبُ مذاهبَ الخير، لا يقطع أمرًا إلا استشار فيه القاسم وسالمًا (¬1). وفيها غزا سعيدٌ الحَرَشيُّ السُّغْد (¬2)، فقتل وسبى، وقطع النهر، ونزل على خُجَنْدَة (¬3)، ونصبَ عليها المجانيق وحصرَهم، فأرسلوا إلى ملك فَرْغانة يستنجدونَه على الحَرَشيّ، فقال: لستُم في جواري. فأرسلوا إلى الحَرَشيّ، فصالحوه، وأعطاهم الأمان على أن يردَّهم إلى الصُّغْد، وأن يردُّوا إليه نساء العرب الذين في أيديهم وأُسارى المسلمين، ويؤدُّوا الخَراج (¬4)، ولا يغتالوا أحدًا، ولا يتخلَّف منهم بخُجَنْدَة أحد. فغدروا وقتلوا من أسارى المسلمين في السِّرّ مئةً وخمسين، وأفلتَ منهم غلامٌ، فأخبرَ الحَرَشيّ، فأرسل إليهم، فأنكروا، وتحقَّق الخبر، فأرسلَ فعزل التُّجار عنهم، وكانوا أربع مئة، معهم أموالٌ عظيمة من الهند والصين، وأمر بقتل السُّغْد، فقتلهم عن آخرهم، وأَفلت منهم جماعة قبل ذلك، وغنم أموال السُّغْد وذراريهم. وكتبَ إلى يزيد بن عبد الملك بالفتح ولم يكتب إلى عُمر بن هُبيرة، فكان هذا مما وجد عليه ابنُ هُبيرة حتى عزلَه. وفتح الحَرَشي قِلاعًا كثيرة وحصونًا لم يفتحها غيرُه، وغنم أموالًا عظيمة، وعاد إلى مَرْو (¬5). وفيها عزلَ عُمر بنُ هُبيرة سعيدَ الحَرَشيَّ عن خُراسان، وولَّاها مسلم بنَ سعيد بن أسلم بن زُرْعة الكلابي. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 14. (¬2) سعيد الحَرَشي: هو ابنُ عَمرو بن الأسود بن مالك وسلف ذكره أول السنة (103). والسُّغد -أو الصُّغد - قرى بين سمرقند وبُخارى، وسلف الكلام عليها. (¬3) بلدة مشهورة بما وراء النهر على شاطئ سيحون، بينها وبين سمرقند عشرة أيام. معجم البلدان 2/ 347. (¬4) في "تاريخ" الطبري 7/ 8: ويؤدُّوا ما كسروا من الخراج. (¬5) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 7 - 10 مطول.

قال هشام: كان الحَرَشيّ قد اطَّرحَ جانبَ ابنِ هُبيرة واستَخَفَّ به , وكان رسولُ ابنِ هُبيرة إذا قدم على الحَرَشيّ يقول له: كيف أبو المُثَنَّى , ويكتب إليه: من سعيد إلى أبي المثنَّى. فقال ابنُ هُبيرة لجميل بن عمران (¬1): قد بلغني عن الحَرَشيّ أشياءُ، فاذهَبْ إلى خُراسان وحقِّق بما قيل لي. فخرج جميل (¬2) على وجه كأنَّه ينظر في الدواوين، فقيل له: ما قدم إلا ليكشف أخبارك. فأرسلَ إليه الحَرَشيّ بِبِطِّيخةٍ مسمومة، فأكلها، فمرض، وتساقطَ شعرُه، وأشرفَ على الموت، فتحاملَ وعادَ إلى ابنِ هُبيرة، فقال: ما وراءَك؟ فقال الأمرُ أعظمُ مما بلغَك، ما يعدُّك الحَرَشيُّ إلا من بعض عماله. فأرسل ابنُ هُبيرة مسلمَ بنَ سعيد الكلابي إلى خُراسان واليًا، فقبض على الحَرَشيّ، وعذَّبه، ونَفَخَ في بطنه النمل (¬3)، واستقضى أمواله. وكان الحَرَشيُّ يقول: لو طَلَبَ منّي ابنُ هُبيرة درهمًا يصعُه في عينه ما أعطيتُه. فلما ذاقَ العذابَ أقرَّ بالأموال، فقال أُذَينة ابن كُلَيب: تَصَبَّرْ أبا يحيى فقد كنت - عِلْمَنَا - ... صبورًا ونهَّاضًا بثِقْلِ المغارمِ (¬4) وقال الهيثم: عزل ابنُ هُبيرة سعيد الحَرشيَّ، وجعله في الحصن (¬5)، فلمَّا وَلِيَ خالدُ بنُ عبد الله القَسْريّ العواق أطلق الحَرَشيَّ وأكرمه، فلما هرب ابنُ هُبيرة من حبس خالد القَسْري أرسَل الحَرَشيّ خلفَه، فلم يدركه. وقال الطبري: أدرك الحَرَشيّ ابنَ هُبيرة في الفرات وهو في سفينة، وغلام قائم على صدرها، فقال الحَرَشيّ: أفي السفينة أبو المثنَّى؟ قال: نعم. فخرج إليه ابن هُبيرة، فقال الحَرَشيّ: يا أبا المثنَّى، ما ظنُّكْ بي؟ قال: إنك لا تدفعُ رجلًا من قومك إلى ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): حميد بن حمران. والمثبت من "تاريخ" الطبري 6/ 15، و"الكامل" 5/ 115. (¬2) في (خ): حميد. والمثبت من المصدرين السابقين. (¬3) كذا في "تاريخ" الطبري 7/ 16، و"الكامل" 5/ 115. وجاء في "أنساب الأشراف" 7/ 380 وفي سياق آخر أنه نفخ في دبره بكير وحبسه. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 15 - 16. (¬5) كذا في (خ) (والكلام منها)، ولعل الصواب: الحبس. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 16.

رجل من قريش (¬1). يعني أبا خالد القَسْريّ، وكان الحَرَشيُّ وابنُ هُبيرة من بني عامر، فلما قال ابنُ هبيرة ذلك قال له الحَرَشيّ: هو ذاك، فالنَّجاء النَّجاء. قال علماء السِّيَر: ولمَّا سارَ مسلم بنُ سعيد الكلابي إلى خُراسان؛ قدم مَرْو وقتَ الظهيرة، فرأى باب دار الإمارة مغلقًا، فدخل المسجد، فرأى بابَ المقصورة مغلقًا، فصلَّى في المسجد، وأُخبر الحَرَشيُّ بقدومه، فأرسل إليه، فقال: أَقدمتَ أميرًا، أو وزيرًا [أو زائرًا]؟ فأرسل إليه: مثلي لا يقدم خُراسان زائرًا ولا وزيرًا، فأتاه الحَرَشيّ، فشَتَمه وحبَسَه وقيَّده، فتَمثَّلَ الحَرَشيُّ وقال: هُمُ إنْ يَثْقَفُوني يقتُلُوني ... وإنْ أَثْقَفْ فليس إلى خُلُودِ (¬2) وفيها غزا الجرَّاح بن عبد الله الحَكَمي أرضَ التُّرْك وبابَ الأبواب (¬3)، وكان أميرًا على أَذَرْبِيجان، وأرمينية، ففتح بَلَنْجَر (¬4)، وهزمَ التُّرك، وغرَّقهم في الماء، وكان من غرق أكثرَ ممَّن قُتل. وفيها وُلد أبو العبَّاس عبدُ الله بنُ محمد بن عليّ السَّفَّاح في ربيع الآخِر (¬5)، فدخلَ أبو محمد الصادق وجماعة من الشيعة الذين قدموا من خُراسان على محمد بن عليّ، فأخرجَه إليهم في خِرْقة، وقال: بهذا يُتمّ اللهُ الأمر، ويُدرَك الثأر من العدوّ إن شاء الله تعالى. وحجَّ بالناس في هذه السنة عبدُ الواحد بن عبد الله النَّصْري، وكان على المدينة ومكة والطائف، وكان على العراق والمشرق عُمر بن هُبيرة، وعلى قضاء الكوفة حُسين بن الحسن الكِنْدي، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يَعْلَى (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في (خ) (والكلام منها) و"تاريخ" الطبري 7/ 17. وعبارة "الكامل" 5/ 116: رجل من قيس. ولعل لفظتي "قريش" و"قيس" محرّفتان عن لفظة: "قَسْر" لقول المصنف بعده: يعني أبا خالد القَسْري. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 18 - 19. والبيت لخالد بن جعفر بن كلاب، أورده أبو الفرج الأصبهاني في "الأغاني" 11/ 83 ضمن قصيدة له، ولفظه فيه: فإمَّا تثقفوني فاقتلوني، فمن أثقف ... (¬3) ويقال فيها: الباب، أيضًا، وهي مدينة على بحر طبرستان، وسلف ذكرها في ترجمة محمد بن مروان بن الحكم، أواخر سنة (101). ولم يرد قوله: باب الأبواب في عبارة "تاريخ" الطبري 7/ 14. (¬4) مدينة خلف باب الأبواب (المذكورة قبل). معجم البلدان 1/ 489. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 15، والمنتظم 7/ 89. وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" 11/ 236 أنه وُلد سنة (105). (¬6) تاريخ الطبري 7/ 20. ومن قوله: فيها عزل يزيد بن عبد الملك عبدَ الرحمن ... (أول أحداث هذه السنة 104) إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

أبان بن عثمان بن عفان

وفيها توفي أبان بن عثمان بن عفَّان وأمُّهُ أمُّ عَمرو بنت جُنْدب بن عمرو بن حُمَمَة، من دَوْس، وكنيتُه أبو سعيد، وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة. وكان من فقهائها. شهد الجمل مع عائشة - رضي الله عنها - وكان ثاني المنهزمين. ولَّاه عبد الملك بن مروان المدينة (¬1). رِبْعيُّ بن حِراش ابن جحش، أبو عمرو الغَطَفاني الكوفي، من الطبقة الثانية من أهل الكوفة (¬2). قال أحمد بن عبد الله العِجْلي: إنَّ رِبْعيَّ بنَ حِراش لم يكذب قطّ؛ كان له ابنانِ عاصيانِ على الحجَّاج، فقيل للحجَّاج: إنَّ أباهما لم يكذبْ قطّ، فلو أرسلتَ إليه فسألتَه عنهما. فأرسل إليه، فقال: أين ابناك؟ فقال: في البيت. قال: قد عفونا عنهما بصدقك (¬3). وقال الحارث العَنَزيَّ: آلَى رِبْعيّ أن لا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أم في النار. قال الحارث: فلقد أخبرني غاسلُه أنه لم يزل متبسِّمًا على سريره ونحن نُغسّلُه حتى فَرَغْنا منه (¬4). وتوفّي سنة أربع ومئة، وقيل: في ولاية الحجَّاج، وقيل: سنة إحدى ومئة، وليس له عقب (¬5). أسند عن عُمر، وعليّ، وحُذيفة، وأبي بَكْرة، وعمران بن الحصين، وغيرهم - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 150، والمعارف ص 201. (¬2) ذكره ابن سعد 8/ 247 في الطبقة الأولى من أهل الكوفة. (¬3) تاريخ دمشق 6/ 201 - 202 (مصورة دار البشير). (¬4) المصدر السابق 6/ 202. (¬5) ينظر "طبقات" ابن سعد 8/ 247 - 248، والمصدر السابق 6/ 203.

وروى عنه: عامر الشعبي، وعبد الملك بن عُمير، ومنصور بن المعتمر، وأبو مالك الأشجعي، وحُميد بن هلال، وإبراهيم بن المهاجر، وغيرهم. وكان ثقة صدوقًا (¬1). [ذكر إخوته: ] [ذكر جدّي في "الصفوة" منهم واحدًا، ولم يسمَّه لنا، وهو الذي تكلّم بعد الموت. فروى ابنُ أبي الدنيا بإلشاده إلى عبد الملك] قال ربْعيّ: كنَّا ثلاثةَ إخوة، وكان أعبدُنا وأصومُنا وأفضلُنا الأوسطَ منَّا، فغِبْتُ غَيبةً إلى السَّوَاد، ثم قدمتُ على أهلي فقالوا: أدْرِكْ أخاك، فإنَّه في الموت. فخرجتُ أسعى إليه، فانتهيتُ إليه وقد قَضَى، وسُجِّيَ بثوب، فقعدتُ عند رأسه أبكيه، فرفعَ يده، فكشفَ الثوبَ عن وجهه وقال: السلام عليكم. فقلت: أي أخي! أحياةٌ بعدَ الموت؟ ! قال: نعم، إني لَقِيتُ ربي، فلقِيَني برَوْحٍ ورَيحان، ورَبٍّ غيرِ غضبان، وإنَّه كساني ثيابًا خُضْرًا من سندسٍ وإستبرق، وإني وجدتُ الأمرَ أيسرَ ممَّا تظنُّون أو تحسبون، فاعملوا ولا تغترُّوا. قالها ثلاثًا. وإني لقيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأقسم أن لا يبرح حتى آتيَه، فعجِّلوا جِهازي. ثم طفئ أسرعَ من حصاة ألقِيتْ في ماء. [هذه صورة ما ذكره جدّي في "الصفوة"] (¬2). كان لربعي ثلاثة إخوة: رَبيع، وعباية، ومسعود بن حِراش، فأمَّا ربيع؛ فمات قبل رِبْعيّ، وهو الذي تكلّم بعد الموت، وأمَّا عباية؛ فروى عن عمر رضوان الله عليهما، والعَقِبُ له (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 197، وتهذيب الكمال 9/ 55. ومن قوله: ولَّاه عبد الملك بن مروان المدينة (آخر الترجمة التي قبلها) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) صفة الصفوة 3/ 73. وهو عند ابن أبي الدنيا في "من عاش بعد الموت" (9) وعبد الملك المذكور في إسناده هو ابن عُمير. وما سلف بين حاصرتين من (ص). والكلام الآتي بعده ليس فيها. وحتى ترجمة عامر الشعبي. (¬3) كذا وقع الكلام في (خ)، ولم يرد في (ص). والذي في المصادر أن بني حِراش ثلاثة: رَبيع، ورِبْعيّ، ومسعود، وليس فيهم عباية، وسلف كذلك قول ربعيّ: كنّا ثلاثة إخوة. الخ ثم إن الذي له عقبٌ مسعود. وما وقع أعلاء وهم من المصنِّف أو المختصر. فقد ورد في "طبقات" ابن سعد 8/ 248 ترجمة عباية بن ربعي الأسدي بإثر ترجمة ربعي بن حراش، فزاده المصنف في بني خراش. والله أعلم. وينظر إضافة إلى ما سلف من المصادر: الإكمال 2/ 426، وغوامض الأسماء المبهمة 1/ 504 - 505.

زياد بن أبي زياد

زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عيَّاش بن أبي ربيعة المخزومي، من الطبقة الثانية من التابعين من موالي أهل المدينة. كان رجلًا عابدًا معتزلًا للناس، لا يزال يكون وحدَه يذكرُ الله، وكانت فيه لُكْنةٌ، وكان يلبس الصوف، ولا يأكل اللحم، وكان له دريهمات يعالج [له] فيها. وكان صديقًا لعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وكان إذا أتى إليه يتخطَّى رقابَ بني أمية، وكانوا يمتعضون من ذلك. وقدم عليه وهو خليفة، فوعظه، وقرَّبَه عُمر، وخَلا بهِ، وكان بينهما كلام كثير. ولزياد عقب بدمشق، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد وغيرُه، وروى عن أنس بن مالك (¬1). وقال محمد بن المنكدر: إني خلَّفتُ زياد بنَ أبي زياد وهو يُخاصم نفسه في المسجد يقول: اجلسي، أين تريدين أن تذهبي؟ إلى دار فلان؟ انظري إلى هذا المسجد. قال: وكان يقول لنفسه: ما لكِ من الطعام إلا هذا الخبز والزيت، وما لكِ من الثياب إلا هذين الثوبين، وما لك من النساء إلا هذه العجوز، أفتُحبِّين أنْ تموتي؟ قالت: أنا أصبرُ على هذا العيش (¬2). وكتب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إلى مولاه ليشتريَه منه، فأبى، وأعتقه مولاه (¬3). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 300، وتاريخ دمشق 6/ 522 - 525 (مصورة دار البشير). وما سلف بين حاصرتين منهما. واسم أبيه (أبي زياد): ميسرة. (¬2) في (خ) (والكلام منها): أنا أصبر على هذا المواضع لي شئت (؟ ). والمثبت من "تاريخ دمشق" 6/ 526، و"صفة الصفوة" 2/ 106، و"المنتظم" 7/ 91. (¬3) صفة الصفوة 2/ 106، والنتظم 7/ 91. وروايته في "تاريخ دمشق" 6/ 527 أن عمر بن عبد العزيز عرض عليه أن يشتريَه من الفيء، فيُعتقه، فأبى ذلك زياد. قال مالك بن أنس (راوي الخبر): فلا أدري لأيّ شيء ترك ذلك زياد مولى ابن عياش. اهـ. وذكر ابن عساكر قبله 6/ 524 رواية أخرى عن مالك وفيها أن الناس أعانوه على فكاك رقبته.

عامر الشعبي

عامر الشَّعْبيّ ابن شَرَاحِيل بن عَبْد بن ذي كِبَار، وهو من حِمْيَر، وعِدادُهُ من هَمْدَان، من ولد حسَّان بن عَمرو القَيل، وُجِدَ (¬1) في جبلِ ذي شَعْبَين (¬2). وُلد سنة جَلُولاء، وهي سنة سَبْعَ عشرةَ (¬3)، وقيل: وُلد لأربعِ سنين بقينَ من خلافة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه بالكوفة (¬4)، وكانت أمُّه من سبي جَلُولاء. وقيل: وُلد الشعبيّ والحسن سنة إحدى وعشرين (¬5). [قال هشام: ] وكان نَحِيلًا ضئيلًا، فقيل له: ما لنا نراك كذا؟ فيقول: زُوحِمْتُ في الرَّحِم (¬6). معناه أنه وُلد هو وأخوه تَوْأَمَين. وكنيتُه أبو عَمرو، وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل الكوفة. قال: أقمتُ بالمدينة ثمانية أشهر، أو عشرة أشهر. وكان سببُ مُقامه بها أنَّه خاف من المختار بن أبي عُبيد، فهرب منه، وقال: تعلَّمتُ الحسابَ من الحارث الأعور، وأقمتُ بخُراسان لا أزيدُ على ركعتين عشرة أشهر (¬7). وكان خرج مع ابن الأشعث وقاتلَ الحجَّاج، وعفا عنه. ¬

_ (¬1) يعني حسان بن عمرو القَيْل. والقَيْل: لقب لملوك اليمن. (¬2) في (خ) (والكلام منها): جبل بين شَعْبَين، وهو خطأ. وشَعْبين: (بلفظ تثنية شَعْب حالة النصب أو الجرّ): حصن باليمن. ينظر "معجم البلدان" 3/ 348. (¬3) ضَعَّفَ الذهبيّ هذا القول في "سير أعلام النبلاء" 4/ 295 لضعف راويه، وهو السَّريُّ بن إسماعيل. وجَلُولاء: ناحية في طريق خراسان (بين العراق وإيران) كان بها وقعة مشهورة، انتصر فيها المسلمون على الفرس. (¬4) قال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" ص 142 (فيه بعض تراجم حرف العين من طبعة مجمع دمشق): هذا القول يدلّ على أنه وُلد سنة عشرين؛ لأن عمر قُتل في آخر سنة ثلاث وعشرين. (¬5) المصدر السابق. ومن أول الترجمة إلى هذا الموضع ليس في (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 8/ 366. (¬7) المصدر السابق 8/ 368.

وقال الشعبيّ: ما كتبتُ سوداء في بيضاء قطّ، وما حدَّثني أحدٌ بحديث فأحببتُ أن يُعيده عَلَيَّ (¬1). وكان يقول: ليتني أفْلَتُّ من علمي كَفَافًا لا لي ولا عَلَيَّ (¬2). وكان يحدَّث الحديث بالمعنى. ووقف على قوم وهم ينالون منه ولا يرَوْنَه، فقال: هنيئًا مريئًا غيرَ داءٍ مُخامرٍ ... لِعَزَّةَ من أعراضنا ما استحلَّتِ (¬3) وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قد ولَّى الشعبيَّ قضاء الكوفة، فتقدَّم إليه اثنان، فقال الشعبيّ لأحدهما: إن لم تُعطه حقَّه، أو جاء بك مرَّةً أخرى لأحبسنَّك ولو كنتَ [ابن] عبد الحميد (¬4). وكان يقضي في المسجد، ويصبغ بالحِنَّاء، ويلتحفُ بملحفة حمراء (¬5). وقال أبو حنيفة: رأيتُ الشعبيَّ يلبس الخَزَّ، ويجالسُ الشعراء، ويلبسُ الفِراء ويقول: دباغُها طُهُورُها (¬6). وكان ابنَ سبع وسبعين سنة وهو يقرضُ الشِّعْر (¬7). وقيل له: يا أبا عَمرو، كم أتى عليك من السنين؟ فقال: باتَتْ تَشَكَّى إليَّ الموتَ مُجْهِشَةً ... وقد حملتُكِ سبعًا بعد سبعينا إنْ تُحْدِثي أملًا يا نفسُ كذبةً ... إلى الثلاث تُوَفِّينَ الثمانينا (¬8) ¬

_ (¬1) المصدر السابق 8/ 368، وتاريخ دمشق ص 157 (طبعة مجمع دمشق - جزء فيه بعض تراجم حرف العين). (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 368، وحلية الأولياء 4/ 313، وتاريخ دمشق ص 175. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 369، وتاريخ دمشق ص 196 - 197. والبيت لكُثَيِّر عَزَّة، وهو في "ديوانه" ص 78. (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 370، وتاريخ دمشق ص 219 (الطبعة المذكورة قبل) وما بين حاصرتين منهما. ومن قوله: وقال الشعبي: ما كتبتُ سوداء ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 371. (¬6) قول أبي حنيفة: "رأيتُ الشعبيّ يلبس الخَزَّ ويجالس الشعراء" في "طبقات" ابن سعد 8/ 370، وأما قوله: يلبس الفِرَاء ويقول: دباغُها طهورُها، فهو فيه 8/ 372 من كلام صالح بن أبي شعيب. وقولُه: "دباغُها طهورها" رُوي مرفوعًا عن عدد من الصحابة، ينظر حديث عائشة - رضي الله عنهما - "مسند" أحمد (25214). (¬7) طبقات ابن سعد 8/ 373. (¬8) بنحوه في "طبقات" ابن سعد 7/ 373، وتاريخ دمشق ص 200. والبيتان بنحوهما للبيد، ينظر "ديوانه" ص 352.

وقال ابنُ سِيرِين: قدمتُ الكوفة وللشعبيّ حلقة عظيمة وأصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ كثير (¬1). وقال الشعبيّ: ما أرى شيئًا أقلَّ من الشِّعر، ولو شئتُ لأنشدتكُم شهرًا لا أُعيدُه (¬2). وقال: لو أنَّ رجلًا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفضظ كلمةً تنفعُه فيما يستقل من عمره؛ لرأيتُ أنَّ سفره لم يَضِعْ (¬3). وقال: العلمُ أكثرُ من عدد القَطْر، فخُذْ من كلِّ شيءٍ أحسنهَ (¬4). وكان للشعبيّ ديوان، وكان يغزو عليه، وكان شيعيًّا، فرأى منهم أمورًا وسمع كلامهم إفراطَهم، فترك رأيهم، وكان يَعِيبُهم (¬5). وقال: اِعلم أنَّ الحسنةَ من الله، والسيئة من نفسك، ولا تكن قَدَريًّا. قال سبط ابنُ الجوزي رحمه الله: وهذا عينُ القَدَر (¬6). وقال مالك بن معاوية (¬7): قال لي الشعبيّ وقد ذكرنا الرافضة: يا مالك، لو أردتُ أن يُعطوني رقابهم عبيدًا، وأن يملؤوا بيتي ذهبًا على أن أكذبَ لهم كَذْبةً واحدة على أمير المؤمنين عليٍّ - عليه السلام - لفعلوا، ووالله لا كذبتُ عليه أبدًا. يا مالك، إني قد درستُ (¬8) أهل الأهواء كلَّهم، فما رأيتُ أحمقَ منهم، فإنهم ينقضون عرى الإسلام عروةً عروة كما ينقض اليهودُ النصرانية، لم يدخلوا في الإسلام ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق ص 165 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) المصدر السابق ص 160. (¬3) حلية الأولياء 4/ 313، وصفة الصفوة 3/ 75 - 76. (¬4) حلية الأولياء 4/ 414، وصفة الصفوة 3/ 76. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 367. (¬6) كيف يكون ذلك وقد حكى ما قاله القرآن: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}؟ وينظر تاريخ دمشق ص 184. (¬7) كذا في (خ) (والكلام منها)، و"العقد الفريد" 2/ 409. ولعل الصواب: مالك بن مغول، كما في "شرح أصول الاعتقاد" (2823) والكلام فيهما بنحوه. (¬8) في (خ): مارستُ، والمثبت من المصدرين السابقين.

رغبة ولا رهبة، ولكن بغيًا للإسلام، وإنَّ أميرَ المؤمنين حرَّقهم بالنار، ونفاهم من البلدان، فنفى عبدَ الله بن سبأ إلى ساباط، وعُبيد الله أخاه إلى الخازِر (¬1). قالت اليهود: لا يكون الملكُ: لا في آل داود، وقالت الرافضة: لا يكونُ الملك إلا في آل عليّ. وقالت اليهود: لا جهاد حتى يخرج المسيح، وقالت الرافضة: لا جهاد حتى يخرج المنتظر المهديّ، واليهود تؤخِّر صلاةَ المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذا الرافضة، واليهود لا ترى الطلاق الثلاث، وكذا الرافضة، واليهود حرَّفوا التوراة، والرافضة حرَّفوا القرآن، واليهود تستحلُّ دماء المسلمين، وكذا الرافضة، واليهود تنحرف عن القبلة، وكذا الرافضة؛ يقولون: غلط في الوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وترك عليًّا، واليهود والنصارى يفضَّلون على الرافضة بخصلتين؛ سُئلت اليهود: مَنْ خيرُ ملَّتكم؟ قالوا: أصحاب موسى. وكذا النصارى قالوا: أصحاب عيسى. وسُئلت الرافضة: مَن شرُّ ملَّتكم؟ قالوا: أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. أمرَهم الله بالاستغفار لهم، فسبُّوهم، والسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة، لا تثبت لهم قدم، ولا تقومُ لهم راية، ولا تُجمع لهم كلمة، دعوتُهم مدحوضة، وجمعهم متفرِّق، وكلَّما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله. ثم قال: ما أُشبِّه تأويلَهم إلا بتأويل رجلٍ مضعوفٍ من بني مخزوم، رأيتُه قاعدًا بفِناء الكعبة، فقال: يا شعبيّ، ما عندك في تأويل هذا البيت: بيتٌ (¬2) زُرارةُ مُحْتَبٍ بفنِائِهِ ... ومُجاشِعٌ وأبو الفوارسِ نَهْشَلُ قلت: وما معناه؟ قال: بنو تميم يغلطون فيه ويقولون: إنما قيل في رجالهم. قلتُ: فما عندك أنت فيه؟ فقال: ما أرادَ بالبيت إلا هذا البيت. وأشارَ إلى الكعبة وزُرارة هو ¬

_ (¬1) الخازر: موضع بين إربال والموصل. وينظر "معجم البلدان" 2/ 237، ووقع في "العقد الفريد": وعبد الله بن سباب نفاه إلى الجازر, وفي "شرح أصول الاعتقاد": وعبد الله بن شباب نفاه إلى جازت (؟ ). والجازر: قرية من أعمال بغداد، قرب المدائن. ينظر "معجم البلدان" 2/ 94. (¬2) كذا في (خ) (والكلام منها). وهو في روايته منصوب على البدل من لفظة "بيتًا" في البيت قبله أول قصيدة للفرزدق في "ديوانه" 2/ 155، ومطلعها: إنَّ الذي سَمَكَ السماء بنى لنا ... بيتًا دعائمُه أعزُّ وأطولُ

الحجر، ومُجاشع زمزم، جشعت الماء، وأبو الفوارس أبو قُبيس. قلت: فنَهْشَل؟ ففكَّر طويلًا، ثم قال: هو مفتاح (¬1) البيت، أسودُ طويل. فقلت: أحسنت (¬2)! سأل عبد الملك بن مروان جلساءه: دلُّوني على رجل أُولِّيه القضاء. فقال له رَوْحُ بن زِنْباع: أدلُّك على رجل إن دعوتُموه أجابكم، وإن تركتُموه لم يأتكم، ليس بالمُلْحِفِ طَلَبًا، ولا بالمُمْعِنِ هَرَبًا. فقال: مَنْ هو؟ قال: عامر الشعبي. فكتب إلى محامله بالعراق أن يولِّيَه القضاء، فهرب عامر إلى الشام مستخفيًا (¬3). وقال الأصمعي: وجَّهَ عبدُ الملك بنُ مروان الشعبيَّ رسولًا إلى الروم في بعض الأمر، فاستكبرَ ملكُ الروم الشعبيَّ (¬4) واستعظمَه، وقال له: مِنْ أهل بيت المَلِك أنت؟ قال: لا. فكتب معه ورقةً لطيفة وقال: ادْفَعْها إلى صاحبك. ثم قال له: أنت أحقُّ بموضع صاحبك. وذلك بعدما سمع كلامه، فقال له الشعبي: على بابه عشرة آلاف خيرٌ مني. فقال: وهذا من عقلك! فلما قدم الشعبي على عبد الملك دفع إليه الورقة، وفيها: عجبتُ من العرب؛ كيف يكون فيهم مثلُ هذا، ويُمَلِّكون غيرَه. فقال عبد الملك: يا عامر، حَسَدني عليك، فأغراني بقتلك. فقال: يا أمير المؤمنين، لو رآك لاستصغرني. وبلغَ ملكَ الروم، فقال: واللهِ ما أردتُ إلا ذاك (¬5). ودخل الأخطل على عبد الملك والشعبيُّ عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، مَنْ هذا؟ فقال عبد الملك: نحن الخلفاء، فلا نُسأل. فخجل الشعبيّ (¬6). ¬

_ (¬1) في "العقد الفريد" 2/ 411: مصباح. وينظر "أخبار مكة" 2/ 69 - 70. (¬2) الخبر بنحوه في "العقد الفريد" 2/ 409 - 411، وبعضه في "شرح أصول الاعتقاد" (2823). زُرارة: هو ابن عُدُس، ومُجاشع: هو ابن دارم، وكذا نَهْشَل. قال البغداديّ في "خزانة الأدب" 8/ 248: أراد أنهم متمكّنون في بيت العزّ كتمكّن المحتبي. وسلف قبل تعليق أن البيت للفرزدق. (¬3) العقد الفريد 1/ 20 دون قوله: فكتب إلى عامله ... إلخ. (¬4) أي: رآه كبيرًا وعظُم عنده. ووقع في "تاريخ دمشق" ص 199: فاستكثر. (¬5) الخبر في "تاريخ دمشق" من روايتين ص 199 - 202. (¬6) تاريخ دمشق ص 207.

وقال الشعبيّ: ما بَكَيتُ من زمان إلا وبَكَيتُ عليه (¬1). ودخل [الشعبيّ] الحمَّامَ، فرأى فيه داودَ الأوْدِيّ بغير مئزر (¬2)، فغمَّضَ الشعبي عينيه، فقال له داود: متى أعمى اللهُ بصرَك؟ فقال الشعبي: منذ هتك الله سترك (¬3). [وحكى الخطيب عن أشياخه قالوا. كان فتًى يُجالس الشعبيَّ ويُطيل الصمت، وكان الشعبيُّ يُعجب به، فقال الفتى يومًا: يا عامر، إني أجد في قفاي حكَّة (¬4)، أفترى أني أحتجم؟ فقال الشعبيّ: الحمد لله الذي حوَّلَنا من الفقه إلى الحجامة. وروى الخطيب بإسناده عن داود بن أبي هند (عن الشعبيّ) (¬5) قال: صاد رجلٌ قُنْبَرَة (¬6)، فقالت: ما تريدُ أن تصنع بي؟ قال: أذبحُكِ وآكلُكِ. فقالت: ما أشفي من وَقَرَم، ولا أُغني من جوع، ولكني أعلِّمك ثلاث خِصال هي خيرٌ لك من أكلي. أمَّا الواحدة أعلّمك إياها وأنا في يدك، والثانية إذا صِرْتُ على الشجرة، والثالثة إذا صِرْتُ على الجبل. قال: نعم. فقالت وهي في يده: لا تَلَهَّفَنَّ على ما فاتك. فخلَّى عنها، فلمَّا صارت على الشجرة (قال: هاتِ الثانية) قالت: لا تُصدِّقَنَّ بما لا يكون أنه يكون. فلمَّا صارت على الجبل قالت: يا شقيّ، لو ذبحتني لوجدتَ في حَوْصَلتي دُرَّة وزنها عشرون مثقالًا. قال: فعضَّ على شفتيه وتلهَّف، ثم قال: هات الثالثة. قالت: قد نسيتَ الثِّنْتَين، فكيف أعلَّمك الثالثة؟ ! قال: وكيف؟ قالت: ألم أقل لك: لا تَلَهَّفَنَّ على ما فات؟ وقد ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص 225. وذكره ابن قتيبة في "معاني الأخبار" 2/ 4 على أنه على معنى قول نهار بن تَوْسِعة: عَتِبْتُ على سَلْمٍ فلما فَقَدْتُهُ ... وجَرَّبْتُ أقوامًا بكَيتُ على سَلْمِ ومن قوله: وهو يقرض الشعر، وقيل له: يا أبا عمرو كم أتي عليك من السنين ص 381 ... إلى هذا الوضع، ليس في (ص). (¬2) في (ص): إزار. ولفظة "الشعي" السالفة ببن حاصرتين منها. (¬3) تاريخ دمشق ص 234. وداود الأوْدي هو ابن يزيد بن عبد الرحمن، وهو ضعيف. ينظر "تهذيب الكمال" 8/ 467. (¬4) في (ص) (والخبر منها): حجة. والمثبت من "العقد الفريد" 3/ 10، والخبر فيه. ولم أقف عليه عند الخطيب البغدادي. (¬5) قوله: عن الشعبيّ (بين قوسين عاديين) لابدّ منه، وهو في "العقد الفريد" 3/ 68. ولم أقف على الخبر عند الخطيب البغدادي. (¬6) القُنْبَرَة (بفتح الباء كما نبَّه عليه الفيروزآبادي) أو القُبَّرة: ضرب من الطير.

تلهَّفْتَ عليَّ، وقلتُ لك: لا تُصَدِّقَن بما لا يكون، وقد صدَّقتَ، فإنه لو جمعت عظامي ولحمي وريشي لم يبلغ عشرين مثقالًا، فكيف يكون في حوصلتي دُرَّةٌ عشرون مثقالًا؟ ! ] (¬1). وسأله سائل: هل لإبليس زوجة؟ فقال: ذاك عُرسٌ ما شهدتُه. ثم فكَّر وقرأ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50] أفتكون ذُرِّيَّةٌ إلا من زوجة (¬2)؟ ! وقال هارون بن معروف: تقدَّم رجلٌ وامرأتُه إلى الشعبيّ في حكومة وهو قاضٍ، فأظهَرَتْ حجَّتَها، وأثبتَتْ بَيِّنَتَها، وكانت جميلة، فقضى الشعبيّ على الزوج حيث لم يكن له بيِّنة، فقال الزوج: فُتِنَ الشعبيُّ لمَّا ... رَفَعَ الطَّرْفَ إليها فَتَنَتْهُ بدَلالٍ ... وبخَطَّيْ حاجِبَيها فمشَتْ مَشْيًا رُوَيدًا ... ثم هزَّتْ مَنْكِبَيها قال للجِلْوازِ قَدِّمْـ ... ـها وأحْضرْ شاهِدَيها فقَضَى جَوْرًا على الخَصـ ... ـم ولم يَقْضِ عليها وسمعه الشعبيُّ، فقال: إن كنتَ كاذبًا فأعمى اللهُ بصرك. فعمي في الحال (¬3). قال صاحب "العِقْد" (¬4): دخلَ الشعبيُّ على عبد الملك بن مروان، فلما رآه؛ تبسَّم وقال: فُتِنَ الشعبيُّ لمَّا ... [رَفَعَ الطَّرْفَ إليها] ¬

_ (¬1) من قوله: وحكى الخطيب عن أشياخه قالوا ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). والخبران في "العقد الفريد" كما سلف ولفظ (قال هات الثانية) بين قوسين منه. (¬2) بنحوه في "تاريخ دمشق" ص 231 و 232 - 233. ولم يرد هذا الخبر في النسخة (ص). (¬3) الخبر في "تاريخ دمشق" من أكثر من رواية فيه ص 221 - 224 ولفظه أعلاه أقرب إلى رواية "العقد الفريد" 1/ 91، وقد نُسب في (ص) إلى ابن عساكر، وليس هو عنده من رواية هارون بن معروف كما جاء هنا، إنما ساق ابنُ عساكر لهارون هذا خبرًا آخر قبله. والله أعلم. (¬4) العقد الفريد 1/ 91 وما سيرد بين حاصرتين منه. ومن بعده، حتى قوله: واتفقوا على فضله وصدقه وثقته (بعد صفحتين) ليس في (ص).

ثم قال له عبد الملك: يا عامر، ما فعلتَ بقائل هذه الأبيات؟ فقال: أوجَعْتُه ضَربًا بما انتهك من حُرْمتي في مجلس القضاء. فقال: أحسنت. قيل: من أين لك هذا العلم؟ فقال: بنَفْي الاغتمام، والسَّير في البلاد، وصبرٍ كصبر الحمار، وبُكُورٍ كبُكُور الغراب (¬1). وقال نافع: سمع ابن عُمر (¬2) الشعبيَّ وهو يحدِّثُ بالمغازي، فقال: لكأنَّ هذا الفتى شهد معنا، وإنه ليُحدّثُ بأحاديثَ حضرناها؛ هو أعلمُ بها منَّا. وكان الشعبيَّ يتمثل دائمًا بقول مسكين الدّارميّ: ليست الأحلامُ في حال الرِّضَى ... إنّما الأحلامُ في وقت الغَضَبْ (¬3) ذكر وفاته: قيل: سنة ثلاث ومئة؛ هو وأبو بُرْدَة بن أبي موسى في جمعة، وقيل: سنة أربع ومئة، وقيل: سنة خمس ومئة (¬4). وحكى ابنُ سعد عن الحسن أنه أُخبر بوفاة الشعبي، فقال: رحمه الله، لقد كان من الإسلام بمكان (¬5). وقيل: سنة عشر ومئة. وهو وهم، وعاش سبعًا وسبعين سنة. وقيل: اثنتين وثمانين سنة (¬6). وتوفي فجأة بالكوفة رحمة الله عليه (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق ص 163. (¬2) في (خ) (والكلام منها): سمعت، بدل من: سمع ابن عمر. والمثبت من "تاريخ دمشق" ص 163 - 164 والخبر فيه من أكثر من رواية. (¬3) تاريخ دمشق ص 194 و 195. (¬4) ينظر "طبقات" ابن سعد 8/ 374، و"تاريخ دمشق" ص 240 - 246، وذكر فيه ابن عساكر في وفاته أقوالًا أخرى. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 374، وأخرجه أيضًا ابن عساكر في "تاريخه" ص 238 من طرق أخرى. (¬6) تاريخ دمشق ص 246 - 247. (¬7) طبقات ابن سعد 8/ 373 - 374.

أسند عن خلقٍ كثير من الصحابة قال: أدركتُ خمس مئةٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وإنما أشار إلى أنهم كانوا في عصره، لا أنّه أخذ عن الكلّ (¬2). وقال إبراهيم الحَرْبي: لقيَ الشعبي أربعةً وثلاثين من الصحابة (¬3). قال ابن سعد (¬4): روى عن عليٍّ رضوان الله عليه، ووصَفَهُ. [وروى] عن أبي هريرة، وابن عُمر، وابن عبَّاس، وعديّ بن حاتم، وسَمُرةَ بنِ جُنْدُب، وعَمرو بن حُرَيث، وعبد الله بن يزيد الأنصاري، والمغيرة بن شعبة، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وابن أبي أوْفَى، وجابر بن سَمُرة، وأبي جُحَيفة، وأنس بن مالك، وعمران بن الحُصَين، وبُريدة الأسلمي، وجرير بن عبد الله، والأشعث بن قيس، وأبي موسى الأشعري، والحسن بن عليّ، وعبد الله بن عَمرو بن العاص، والنُّعمان بن بشير، وجابر بن عبد الله، ووَهْب بن خَنْبَش الطائي، وحُبْشي بن جُنادة السَّلُولي، وعامر بن شهر، ومحمد بن صَيفي، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعُروة البارقيّ، وفاطمة بنت قَيس، وعبد الرحمن بن أبْزَى، وعلقمة بن قيس، وفَرْوة بن نوفل الأشجعيّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والحارث الأعور، وزُهير بن القَين، وعوف بن عامر، والأسود بن يزيد، وسعيد بن ذي لَعْوة، وأبي سَلَمة بن عبد الرحمن، وأبي ثابت أيمن. وقال أبو القاسم الرَّبَعيّ (¬5): روى الشعبي عن سعد بن أبي وقاص، وعَمرو بن العاص (¬6)، وسعيد بن زيد، وأسامة بن زيد (¬7)، والبراء بن عازب، وأبي سعيد الخُدْري، والنُّعمان بن بشير، وابن مسعود (¬8)، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق ص 156، وصفة الصفوة 3/ 76. (¬2) قاله ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 3/ 76. (¬3) صفة الصفوة 3/ 76. (¬4) في "الطبقات الكبرى" 8/ 366. وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬5) كذا في (خ) (والكلام منها)، ولعل الصواب: الدمشقي. والكلام بنحوه في "تاريخ دمشق" ص 138 - 139. (¬6) رواية الشعبي عن عمرو بن العاص مرسلة، كما في "جامع التحصيل" ص 248 عن ابن معين. ثم إن عمرو بن العاص لم يُذكر عند ابن سعد ولا ابن عساكر ولا المزي فيمن روى عنهم الشعبي. (¬7) لم يدرك الشعبي أسامة بن زيد كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم ص 132. (¬8) ذكر ابن أبي حاتم في "المراسيل" ص 132 أن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود.

علي، وكعب بن عُجْرة، بُريدة الأسلمي، وأبي مسعود البَدْريّ، وأدرك عائشةَ (¬1) وأمَّ سَلَمة وميمونة أمهاتِ المؤمنين، في آخرين. وروى عنه الجمُّ الغفير: عبد الرحمن بنُ أبي ليلى، والحارث الأعور، وأبو سَلَمة بنُ عبد الرحمن، ومكحول، وأبو حنيفة النُّعمان، وعاصم الأحول، والأعمش، وإسماعيل بنُ أبي خالد، وجابر الجُعفيّ، وابنُ عَوْن، وفجالد بنَ سعيد، وداود بن أبي هند، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، والحَكَم بنُ عتيبة، وعطاء بن السائب، ومحمد بن سُوقة، وعلقمة بن قيس. وبعضهم قد رَوَى عنه الشعبي، وغيرُهم. واتفقوا على فضله وصدقه وثقته. وقال الشعبيّ (¬2): كان في بني إسرائيل عابدٌ جاهل قد ترهَّب في صومعة، وله حمار يَرْعَى حول الصومعة، فاطَّلع يومًا فرآه يَرْعَى، فقال: يا ربّ، لو كان لك حمار لرعيتُه. فهمَّ به نبيُّ ذلك الزمان، فأوحى الله إليه: دَعْهُ، فإنَّما يثابُ كلّ إنسان على قَدْر عقلِه (¬3). وقال ابن أبي الدُّنيا. حدَّثني أبو عبد الله السَّدُوسيّ (¬4)، عن أبي عبد الرحمن الطائيّ، عن مجالد، عن الشَّعبي (¬5)، عن النُّعمان بن بشير الأنصاري قال: أَوْفَدَني أبو بكر الصديق رضوان الله عليه في عَشَرة من العرب إلى اليمن، فبينا نحن ذات يوم نسيرُ؛ إذ مَرَرْنا إلى جانب قريةٍ أَعجَبَنا عِمارتُها، فقال بعضُ أصحابنا: لو مِلْنا إليها. فدخَلْنا، فإذا هي قريةٌ أحسنُ ما رأيتُ، كأنّها زخاريف الرَّقْم، وإذا بقصر أبيض بفِنائه شِيبٌ وشبَّان، وإذا جَوَارٍ نواهدُ أبكارٌ، فأخذَتْ واحدةٌ الدُّفَّ تضربٌ به وتقول: ¬

_ (¬1) لكن روايته عنها مرسلة، كما في "المراسيل" ص 132. وينظر "جامع التحصيل" ص 248. (¬2) في (ص): وعن أبي مسلمة عن أبي عون، عن الشعبي قال ... إلخ. (¬3) هو في "العقد الفريد" 6/ 164 عن الأصمعي عن الشعبي. ولم أقف عليه من رواية أبي مسلمة عن أبي عون الشعبي (كما في التعليق السابق). ورُوي الخبر (من غير طريق الشعبي) عن جابر مرفوعًا، ولا يصحّ. ينظر "الكامل" لابن عدي 1/ 169 - 170. (¬4) في (ص): قلت: وقد أخرج ابن أبي الدنيا عنه حكاية مليحة في كتاب الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان، وقد تقدّم إسنادُنا قال: حدثنا أبو عبد الله السَّدوسيّ ... والخبر في "الاعتبار" (25). (¬5) قوله: عن أبي عبد الرحمن الطائي، عن مجالد، عن الشعبي، سقط من (ص).

يا (¬1) معشرَ الحُسَّادِ مُوتُوا كَمَدا ... كذا نكونُ ما حَيِينا أَبَدا وإذا بغدير ماء، وسَرْحٍ كثيرِ المواشي (¬2) من الإبل والبقر والغنم والخيل، وحول القصر قصورٌ مستديرة، فقلت لأصحابي: لو وضعنا رحالنا واسترَحْنا. فنزلوا. وأقبلَ قوم من القصر الأبيض على أعناقهم البُسُط، فبسطوا لنا، ثم مالوا علينا بأطايب الطعام وألوان الأشربة، فاسترَحْنا وأَرَحْنا. ثم نهضنا للرحلة، فإذا قوم قد أقبلوا فقالوا: إنَّ سيِّد هذه القرية يُقرئُكم السلام ويقول: اعذروني على تقصير إنْ كان منِّي، فإني مشغولٌ بعُرْسٍ لنا، وإنْ أحببتُم فأقيموا. فدعَوْنا له. ثم عمدوا إلى ما بقيَ من ذلك الطعام، فملؤوا به سُفَرَنا (¬3)، ومضَينا لشأننا. ثم عبَرَتْ برهةٌ من الدهر، فأوفدني معاويةُ في عَشَرة من العَرَب إلى اليمن ليس معي أحدٌ ممن كان في ذلك الوفد، فلما قَرُبْنا من القرية أخذتُ أحدّثُهم حديثَها وما جرى لنا مع أهلها. ثم انتهينا إلى القرية، فإذا هي دكادك وتُلول، والقصورُ خَرابٌ، ما يَبِينُ منها إلا الرُّسوم، والغديرُ ليس فيه قطرةٌ من الماء، وليس هناك داعٍ ولا مُجيب. فبينا نحن وقوف نتعجَّب؛ إذْ لاحَ لنا شخصّ من ناحية القصر الأبيض، فقلت لبعض الغلمان: انطلق حتى نستبرئ ذلك الشخص، فذهب، فما لبثَ أن عادَ مرعوبًا، فقلتُ له: ما وراءك؟ فقال: أتيتُ ذلك الشخص، فإذا عجوزٌ عمياء، فراعتني، فلما سمعَت حِسِّي دَرَجَتْ حتى دخلَتْ في فِناء القصر (¬4). قال النعمان [بن بشير]: فأتيتُ إليها وقد توارَتْ بالتلّ، فقلت: مَنْ أنتِ؟ فقالتْ بصوت ضعيف: أنا عَمِيرة بنت دويل سيِّد هذه القرية في الزمن الأول. ثم قالت: ¬

_ (¬1) لفظة "يا" ليست في (ص)، ولا في "الاعتبار". (¬2) الشَّرْح: الماشية. ووقع في (خ): وسَرْح كبير من المواشي. والمثبت من (ص). (¬3) جمع سُفْرة، هو ما يحمل المسافر فيه طعامه. (¬4) بعدها في (ص): أو التَّلّ.

أبو قلابة الجرمي

أنا ابنةُ مَنْ قد كان يَقْرِي ويُنْزِلُ ... ويَحْثُو على الضِّيفانِ والليلُ أليلُ قلتُ ما فعلَ أبوك وقومكِ؟ قالت: أفناهم الزَّمان، وأبادَتْهم والأيام، وبَقِيتُ بعدَهم كالفَرْخ بَوَّأهُ الوَكْر. فقلت: هل ذكرين زمنًا كان لكم فيه عُرْس، وإذا بِجَوارٍ يغنِّين، وبينهم جارية تضربُ بالدُّفَّ وتقول: معشرَ الحُسَّادِ موتوا كَمَدا؟ فشَهِقَتْ وبكَتْ واستعبَرَتْ وقالت: واللهِ إني لأذكُرُ ذلك العام والشهر واليوم، والعروس كانت أختي، وأنا صاحبةُ الدُّفّ. قال: فقلتُ لها: هل لكِ أن نحملك على أوْطاءِ دوابِّنا ونغذُوكِ بغذاء أهلِنا؟ فقالت: كلا والله، عزيزٌ عليَّ أن أُفارق هذه الأعظم حتى أصير إلى ما صارَتْ إليه. قال: فقلتُ: من أين طعامُكِ؟ قالت: يمرُّ بي الوَّكْب في الفَرْط (¬1)، فيُلقُون إليَّ من الطعام ما يكفيني، والذي أكتفي به يسير، وهذا الكُوزُ مملوءٌ ماءً ما أدري من (¬2) يأتيني به، ولكن أيُّها الرَّكْب، معكم امرأة؟ قلنا: لا. قالت: أفمعكم ثياب بَياض؟ قلنا: نعم. فألقينا إليها ثوبين جديدين، فتجلَّلَتْ بهما وقالت: رأيتُ البارحة كأني عروس أَتَهادَى من بيت إلى بيت، وقد ظننتُ أنَّ هذا يومٌ أموتُ فيه، فأردتُ امرأةً تلي أمري، فلم تزل تحدِّثُنا حتى مالتْ، فنزعَتْ نزعًا يسيرًا وماتَتْ، فيَمَّمْناها وصلَّينا عليها ودفنَّاها. قال النعمان: فلما قدمنا على معاوية حَدَّثْتُه بالحديث، فبكى، ثم قال: لو كنتُ مكانكم لحملتُها، ولكن سَبَق القَدَر (¬3). أبو قِلابة الجَرْميّ واسمُه عبدُ الله بن زَيد بن عامر، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل البصرة (¬4). وكان عابدًا زاهدًا. ¬

_ (¬1) الفَرْط: الجَبَل الصغير، أو رأس الأَكَمة (التلّ). (¬2) في (خ) و"الاعتبار": ما. (¬3) الخبر بتمامه في "الاعتبار" لابن أبي الدنيا (25). (¬4) ذكره ابن سعد في "طبقاته" 9/ 182 في الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة.

[قال هشام: ] طُلبَ للقضاء، فهرب إلى الشام. [وأيضًا حدَّثنا حاتم بن وَرْدان قال: حدَّثنا أبو أيوب قال: طُلب أبو قِلابة للقضاء، فهرب إلى الشام]، فأقام زمانًا، فقيل له: لو وَلِيتَ القضاء، فعدلتَ بين الناس؛ رجوتَ الأجر في ذلك. فقال: السابحُ إذا وقعَ في البحر؛ كم عسى أنْ يَسْبَح (¬1)؟ ! وقال مسلم بن يسار: لو كان أبو قِلابة من العجم [لكان] مُوبذَ مُوبذان. يعني قاضي القضاة، أو عالم العلماء (¬2). وكان محمد بن سِيرِين يقول: ذاك أخي حقًّا (¬3). [وروى ابن سعد عن أيوب قال: قدم أبو قِلابة الشام، فمرض، فأتاه عُمر بن عبد العزيز يعودُه، فقال له: يا أبا قِلابة تَشَدَّدْ لا يشمت بنا المنافقون (¬4). وليس المراد به مرض الموت؛ لأن أبا قِلابة مات بعد عُمر. وذكره أبو القاسم ابنُ عساكر قال: قدم الشام، فنزل داريا في أيام عبد الملك بن مروان، فأُخبر به عبد الملك، فقال: ما أقدمَه؟ قالوا: متعوِّذًا من الحجَّاج، أراده على القضاء. فكتب عبد الملك إلى الحجَّاج ينهاه عنه، فقال أبو قِلابة: قد كنتُ أُحبُّ الشام، وقد دخلتُها، فلن أخرج منها. وكان قد نزل بداريَّا] (¬5). وهو أحد علماء المسلمين، قدم الشام، فنزل بداريَّا على ابن عمَّه بَيهَس بن صُهيب الجَرْمي (¬6). وقال: إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تكرهُه فالتمس له العذرَ جهدَك، فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعلَّ لأخي عذرًا لا أعلمُهُ (¬7). ¬

_ (¬1) الخبر في "طبقات" ابن سعد 9/ 183 من طريق حماد بن زيد عن أيوب. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 183. ونُسب الخبر في (ص) إليه، وذكره أيضًا ابن عساكر ص 550 (طبعة مجمع دمشق- جزء فيه بعض حرف العين). (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 183، وتاريخ دمشق ص 551. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 185، وتاريخ دمشق ص 566. (¬5) تاريخ دمشق ص 538. ومن قوله: وروى ابن سعد عن أيوب ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬6) تاريخ داريا ص 72. وينظر "تاريخ دمشق" ص 539. (¬7) حلية الأولياء 2/ 285، وصفة الصفوة 3/ 238، وتاريخ دمشق ص 563.

قال عثمان بن الهيثم (¬1): كان رجلٌ بالبصرة من بني سعد، وكان قائدًا من قُوَّاد عُبيد الله بن زياد، فسقط الرجل من السطح فانكسرت رجلاه، فدخلَ عليه أبو قِلابة يعودُه، فقال له: أرجو أن تكون لكَ خِيرةً. فقال: يا أبا قِلابة، وأيُّ خِيرة في كسر رجليَّ جميعًا؟ ! قال: ما ستر الله عليك أكثر. فلما كان بعد ثلاث وردَ عليه كتابُ ابنِ زياد يأمرُه أن يخرجَ فيقاتلَ الحسين عليه السلام، فقال للرسول: قد أصابني ما ترى، فلما كان بعد سبعة أيام وافى الخبر بقتل الحسين - رضي الله عنه -، فقال الرجل: رحم الله أبا قِلابة، لقد صدقَ أنَّه كان خِيرةً لي (¬2). وقال أيوب السَّختياني: قال لي أبو قِلابة: احفَظْ عنّي ثلاث خِصال: إيَّاك وأبوابَ السلاطين، ومجالسةَ أهل الأهواء، والزم سُوقَك، فإنَّ الغِنَى من العافية (¬3). مات أبو قِلابة بالشام بداريَّا سنة أربع -أو خمس- ومئة. وقيل: سنة ستٍّ ومئة، أو سبع ومئة (¬4). وقال البخاري: مات قبل ابنِ سِيرِين (¬5). أسند أبو قِلابة عن أنس [بن مالك] ومالك بن الحُوَيرِث، وعَمرو بن سَلَمة، والنُّعمان بن بشير. وأرسل عن ابن عمر، وعائشة، وروى عن أبي مسلم الجليلي، وأبي الأشعث الصنعاني، وأبي أسماء الرَّحَبي، وأبي إدريس الخَوْلاني، وغيرهم. وروى عنه قَتادة، ويحيى بن أبي كثير، وخالد الحذَّاء، وحُميد الطويل، وعاصم الأحول، وداود بن أبي هند (¬6). ¬

_ (¬1) في (ص): حدثني جدّي بإسناده إلى عثمان بن الهيثم قال. (¬2) تاريخ دمشق ص 563، وصفة الصفوة 3/ 238، والمنتظم 7/ 92. (¬3) تاريخ دمشق ص 560، والمنتظم 7/ 92. (¬4) ينظر "طبقات" ابن سعد 1/ 185، و"تاريخ دمشق" ص 567 - 568. (¬5) أخرجه ابن عساكر عن البخاري في "تاريخ دمشق" ص 542 (جزء فيه تراجم حرف العين - طبعة مجمع دمشق). وهو في "التاريخ الكبير" للبخاري 5/ 92 وسقطت منه لفظة "قبل". (¬6) تاريخ دمشق ص 535، وتهذيب الكمال 14/ 542 - 544. وأخرج ابن عساكر ص 548 عن يحيى بن معين قوله: أبو قلابة عن النعمان بن بشير مرسل. وأخرج أيضًا ص 565 عن أبي حفص الفلاس قوله: لم يسمع قتادة من أبي قلابة.

عبد الأعلى بن هلال

وكان يخضبُ بالسَّوَاد رحمة الله عليه. عبد الأعلى بن هلال (¬1) أبو النَّضر السُّلَميّ الحمصي، من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام (¬2). وفد على عُمر بن عبد العزيز، فقال له: أبقاك الله ما دام البقاء خيرًا لك. فقال: يا أبا النَّضر، قد فُرغ من هذا، ولكن قُلْ: أحياك اللهُ حياةً طيِّبةً، وتوفَّاك مع الأبرار (¬3). أسند عن العِرْباض بن سارية، وأبي أُمامة، وواثلة بن الأسقع. وروى عنه الزُّهريُّ وغيرُه. عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري الشاعر، أمُّه سِيرِين أخت ماريَّة القِبْطيَّة أمَّ إبراهيم ابنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، وهو ابن خالة إبراهيم عليه السلام ابنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وكان شاعرًا فصيحًا، وُلد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. جاء عبدُ الرحمن وهو صغير إلى أبيه وقد لَسَعَه زُنْبُور، فقال: يا أبة، لَسَعَني طائرٌ كأنَّه ملتفٌّ في بُرْدَي حِبَرَة. فقال حسان: قلتَ واللهِ الشَّعْرَ يا بُنيّ (¬5). وكان شَبَّبَ برَمْلَة بنت معاوية بن أبي سفيان، وكان يُهاجي عبد الرحمن بنَ الحكم أخا مروان، وكان كلُّ واحدٍ منهما يذكرُ امرأةَ الآخر، فكتبَ معاوية إلى عامله بالمدينة سعيد بن العاص أن يجلد كلَّ واحد منهما مئة جلدة، وكان ابنُ حسان صديقًا لسعيد، فكره أن يضرب صديقَه وابنَ عمه، فأمسك عنهما. ¬

_ (¬1) من هذا الموضع، إلى السنة (105) ليس في (ص). (¬2) تاريخ دمشق 39/ 407 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) المصدر السابق 39/ 405. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 261. (¬5) الكامل للمبرد 1/ 342. والحِبَرة: ثوب من قطن أو كتَّان مخطّط كان يصنع باليمن.

ثم وَليَ مروان، فضربَ ابن حسَّان مئة سوط، ولم يضرب أخاه، فكتب ابنُ حسان إلى النُّعمان بن بشير وهو بالشام، فأخبره، وكان مكينًا عند معاوية، فأخبر النُّعمانُ معاويةَ، فكتب إلى مروان يعزمُ عليه أن يجلد أخاه مئة، فجلده خمسين، فقال أهلُ المدينة: حدَّه حدَّ العبيد. فقال عبد الرحمن لأخيه مروان: فضحْتَني بين الناس، لا حاجةَ لي بما تركتَ. فضربه تمام المئة (¬1). شبَّب عبد الرحمن بنُ حسَّان بامرأةٍ من أهل المدينة، فأرسلت إليه: أنا أختُك من الرَّضاع (¬2)، فقال: دَعَتْني أخاها بعدَ ما كان بينَنا ... من الأمر ما لا يفعلُ الأخَوانِ تقول وقد جَرَّدْتُها من ثيابها ... وقلَّص عن أنيابها الشفتانِ تعلَّم يقينًا أن مروانَ قاتلي ... ومنزوعة من ظهرك (¬3) العَضُدانِ وكان مروان على المدينة، وبلغ المرأةَ فقالت: لعنه الله، واللهِ ما رآني قطّ، ولا أعرفُه. مات عبد الرحمن سنة أربع ومئة (¬4)، وعاش تسعين سنة (¬5). وأسند عن أبيه، وزيد بن ثابت، وأمه سِيرِين. وروى عنه ابنُه سعيد بن عبد الرحمن وغيرُه، وكان قليلَ الحديث. وكان له من الولد إسماعيل، وأمُّ فِراس، والوليد؛ أمُّهم أمُّ شيبة بنت السائب بن يزيد من كِنْدة، وسعيد؛ كان شاعرًا لأمِّ ولد، وحسان، والفُريعَة (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر "الأغاني" 16/ 38 - 39، و"التذكرة الحمدونية" 7/ 222. (¬2) كذا وقع في (خ) (والكلام منها) لكن الخبر المذكور وقع لعبد الرحمن بن الحكم مع أخيه مروان وفيه أنه كان يشبّب بنسائه. ينظر "تاريخ دمشق" 9/ 924 (مصورة دار البشير). (¬3) في (خ) (والكلام منها): كفّك. والمثبت من المصدر السابق. (¬4) ذكره خليفة في "طبقاته" ص 251، ونقله عنه ابن عساكر في "تاريخه" 9/ 916 (مصورة دار البشير) وقال: ولا أُراه محفوظًا. وينظر التعليق التالي. (¬5) ذكر ابن عساكر وغيرُه أنه عاش ثمانية وأربعين عامًا. قال ابن حجر في "الإصابة" 7/ 213: إن ثبت أنه وُلد في العهد النبوي وعاش إلى سنة أربع ومئة؛ يكون عاش ثمانيًا وتسعين، فلعل الأربعين محرّفة عن التسعين. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 262.

عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب

عُبَيد الله بن عَبْد الله بن عمر بن الخطاب أمُّه أمُّ ولد، وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة، وأمُّهُ أمُّ سالم بن عَبْد الله، فسالم أخوه لأمِّه وأبيه. وكنيتُه أبو بكر، وهو أسنُّ من أخيه عبد الله، وكان عُبيد الله قليلَ الحديث. روى عنه الزَّهريُّ وغيرُه، وسمع أباه، وصُمَيتة الليثيَّة، ومات سنة أربع. وكان له من الولد أبو بكر، وعُمر، وعبدُ الله، ومحمد، وأمّ عُمر، وأمُّهم عائشة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر الصدِّيق رضوان الله عليه، والقاسمُ، وأبو عُبيدة، وعثمان، وأبو سَلَمة، وزيد، وعبد الرحمن، وحمزة وجعفر، وهما توأم، وقريبة، وأسماء، وأمُّهم أمُّ عبد الله بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدِّيق رضوان الله عليه، وإسماعيلُ لأمِّ ولد (¬1). عِراك بن مالك الغِفاري من بني كِنانة، كان ينزلُ المدينة في بني غِفار، من الطبقة الثانية من أهل المدينة. كان عُمر بنُ عبد العزيز يُثني عليه ويقول: ما رأيتُ أكثرَ صلاةً ولا صيامًا منه، وكان من أشدِّ أصحاب عُمر في انتزاع ما في أيدي بني أمية من المظالم، فلما وَليَ يزيدُ بنُ عبد الملك عزلَه إلى دَهْلَك، وردَّ الأحْوَص، وكان عُمر قد نفاه إليها، فقال أهل دَهْلَك (¬2): جزى الله يزيد عنا خيرًا، كان عُمر قد نفى إلينا رجلًا يعلِّم أولادَنا [الباطل، وإن يزيد أخرج إلينا رجلًا علَّمنا] الخير والحق (¬3). مات عِرَاك سنة أربع. أسند عن ابن عمر، وأبي هريرة، وزينب بنت أبي سلمة. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 200 - 201، وتاريخ دمشق 44/ 284 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) هي جزيرة في بحر اليمن، وهو مُرْسًى بين بلاد اليمن والحبشة. ينظر "معجم البلدان" 2/ 492. (¬3) تاريخ دمشق 47/ 181 (طبعة مجمع دمشق)، والكلام بين حاصرتين منه.

مجاهد بن جبر

وروى عنه الزُّهريُّ، وعمرُ بنُ عبد العزيز (¬1)، وابنُه خُثَيم بن عِراك في آخرين، وكان ثقة. وابنه خُثَيم كان عفيفًا صليبًا، وليَ شرطة المدينة لزياد بن عُبيد الله الحارثي، وكان زياد على المدينة ومكة في خلافة السفَّاح وأولِ خلافة المنصور (¬2). مجاهد بن جَبْر (¬3) المكّيّ، القارئ، كنيتُه أبو الحجَّاج (¬4)، وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل مكة. قال: كنتُ أقودُ مولايَ السائب وهو أعمى، فيقولُ: يا مجاهد، دَلَكَتِ الشمس (¬5)؟ فأقول: نعم. فيقوم فيصلي [الظهر] (¬6). وكان مجاهد زاهدًا عابدًا، أبيض الرأس واللِّحية (¬7). وقال: مَنْ أعزَّ نفسَه أذَلَّ دينَه، ومن أذلَّ نفسه أعزَّ دينه (¬8). [وقال: ] إن الله لَيُصلحُ بصلاح العبد ولدَه [وولد ولده] (¬9). وقال: إن العبدَ إذا أقبلَ على الله بقلبه أقبلَ اللهُ بقلوب المؤمنين إليه (¬10). وقال: إن لبني آدم جلساءَ من الملائكة، فإذا ذكر الرجلُ أخاه المسلم بخير؛ قالت الملائكة: ولك بمثله، وإذا ذكره بسوء؛ قالت الملائكة: يا ابنَ آدم المستورُ عورتُه، اِرْبَعْ على نفسك، واحمدِ الذي سترَ عورتك (¬11). ¬

_ (¬1) في المصدر السابق وغيره: عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 249 (ذكره في ترجمة أبيه عراك). (¬3) ويقال: ابن جُبَير، كما في "تاريخ دمشق" 66/ 193 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) في (خ) (والكلام منها): أبو إسحاق، وهو خطأ. (¬5) دلكت الشمس: زالت عن كبد السماء. (¬6) طبقات ابن سعد 8/ 27. وما بين حاصرتين منه. (¬7) المصدر السابق. (¬8) حلية الأولياء 3/ 279، وصفة الصفوة 2/ 208. (¬9) حلية الأولياء 3/ 285، وصفة الصفوة 2/ 208. وما بين حاصرتين منهما. (¬10) حلية الأولياء 3/ 280، وصفة الصفوة 2/ 209. (¬11) حلية الأولياء 3/ 284، وصفة الصفوة 2/ 209.

أبو معبد مولى عبد الله بن العباس - رضي الله عنهما -

توفي بمكة وهو ساجد سنة أربع ومئة، وقيل: ثلاث ومئة، وقيل: اثنتين ومئة، وبلغ ثلاثًا وثمانين سنة (¬1). وكان فقيهًا ثقة عالمًا كثير الحديث. أسند عن ابن عُمر، وابن عَمرو، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخُدري، وأبي هريرة، ورافع بن خَدِيج، وابنِ عباس، وغيرهم. وروى عنه أئمة التابعين. وكان له ابنٌ يقال له: عبد الوهَّاب بن مجاهد، روى عنه الكثير، فمن رواياته قال: سُئل أبي فقيل له: إن قومًا يزعمون أنَّ إيمان أهل السماء كإيمان أهل الأرض. فقال: ما جعلَ اللهُ مَنْ هو منغمس في الذنوب كمن لا ذنبَ له (¬2). قال: وبنى أهلها في دارنا عليه (¬3)، فأقامَ أبي سبع عشرة سنة لم يعلم بها من كثرة خشوعه، فرفع رأسه في بعض الأيام فرآها، فقال: متى بُنيت هذه؟ وتبسَّم. قال: وحضر أبي عند سليمان ومات وهو بالشام، وحضر بيعة عمر بن عبد العزيز، وشهد أيضًا وفاة عمر - رضي الله عنه - (¬4). وأقوال مجاهد في التفسير معتبرة (¬5). أبو مَعْبَد مولى عبد الله بن العباس - رضي الله عنهما - واسمه نافذ، وهو أصدقُ مولًى لابن عباس، وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة من الموالي. مات بالمدينة سنة أربع ومئة في آخر خلافة يزيد بن عبد الملك، وكان ثقةً حسن الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 66/ 217 - 219، وصفة الصفوة 2/ 211. وذكر ابن عساكر قولين آخرين في وفاته، وهما: سنة (107) و (108). (¬2) تاريخ دمشق 66/ 215، وسير أعلام النبلاء 4/ 455. (¬3) كذا في (خ) والكلام منها، وعبارة "تاريخ دمشق" 66/ 214 (والخبر فيه بنحوه) عن ابنه عبد الوهَّاب "أنهم بَنَوْا غرفة في دارهم مقابل من دخل من باب الدار". وهي أنسب. (¬4) ينظر المصدر السابق ص 194 - 196. وقوله: "ومات وهو بالشام" فيه نظر فقد ذكر الطبري 6/ 530 وغيرُه أن مجاهدًا كان مع مسلمة بن عبد الملك في غزو القسطنطينية يوم مات سليمان. (¬5) قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 4/ 455: لمجاهد أقوال وغرائب في العلم والتفسير تُستنكر. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 289.

يزيد بن الأصم

يزيد بن الأصمّ وهو يزيد بن عَمرو (¬1) بن عُدَس، أبو عوف العامريّ ابن أخت (¬2) ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابنُ خالة ابنِ عباس. كوفيّ سكن الرقَّة، ووفدَ على معاوية، وعبدِ الملك، وابنِه سليمان (¬3). قال ابن عساكر: دخل على عبد الملك بن مروان، فسأله عن قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]. قال: فقلمت: حدَّثني أبو هريرة (¬4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هو التجبُّر في الأرض، والأخذُ بغير الحق". قال: فنكَّس عبد الملك رأسَه، وجعل ينكُتُ الأرضَ بقضيب في يده (¬5). وتوفي سنة أربع ومئة بالرَّقَّة وهو ابن ثلاث وسبعين (¬6) سنة، وقيل: سنة ثلاث ومئة. حدَّث عن سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه -، وابن عباس، وأبي هريرة، وعوف بن مالك، وعائشة، وميمونة في آخرين. وحدَّث عنه ابنا أخيه عبدُ الله وعُبيد الله ابنا عبد الله بن الأصمّ، وميمون بن مِهْران، وجعفر بن بُرْقان، وأبو إسحاق الشيباني، وغيرُهم (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 18/ 246 (مصورة دار البشير). وقال ابن سعد في "الطبقات" 9/ 484: يزيد بن عبد عَمرو. (¬2) في (خ) (والكلام منها): أخته، بدل: ابن أخت. وهو خطأ. وأُمُّهُ بَرْزَة بنت الحارث، كما في المصدرين السالفين. (¬3) تاريخ دمشق 18/ 246 (مصورة دار البشير). (¬4) وقع في (خ) (والكلام منها): إبراهيم مرة، بدل قوله: أبو هريرة. وهو تصحيف قبيح. (¬5) تاريخ دمشق 18/ 247 (مصورة دار البشير). (¬6) وقع في (خ): أربع وثمانين. وهو وهم من مختصر الكتاب في نقله رواية الواقدي قال: "وفيها -يعني سنة ثلاث ومئة- مات أبو الشعثاء ومجاهد مولى قيس بن السائب، ويزيد بن الأصمّ، وعطاء بن يسار وهو ابن أربع وثمانين سنة" ينظر "تاريخ دمشق" 18/ 251، و"تهذيب الكمال" 32/ 85 - 86، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 518 - 519. (¬7) المصدر السابق 18/ 246، وتهذيب الكمال 32/ 83 - 84. ومن أول ترجمة عبد الأعلى بن هلال (قبل سبع تراجم) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

السنة الخامسة بعد المئة

السنة الخامسة بعد المئة فيها قطع مسلم بن سعيد والي خُراسان النهر إلى التُّرك، وأوغلَ في البلاد حتى وصل أفْشِينَة -مدينة من مدائن الصُّغد (¬1) - فصالحَه ملكُها على مال وستة آلاف رأس، وعاد ليقطع النهر، فتبعه نفر من التُّرك، فلم يظفروا منه بطائل. وفيها غزا الجرَّاح بنُ عبد الله الحَكَمي -وكان على أرمينية وأذربيجان- فأوغلَ في بلاد اللَّان، وجاوز بَلَنْجَر (¬2)، ففتح حصونًا كثيرة، وأصاب غنائم عظيمة. وفيها غزا سعيد بنُ عبد الملك بنِ مروان بلادَ الروم، فقتلَ وسبى، وبعث سرية في ألف فارس، وأوغلُوا في بلد الروم، واشتغلوا بالنهب، ولم يحفظوا المضائق، ولم يَدَعُوا عليها رجالًا، فلما عادوا إلى الدَّرْب وجدوا العدوّ قد أخذ عليهم [المضيق]، فيقال: إنهم قد أُصيبوا جميعًا (¬3). وفيها توفي يزيد بن عبد الملك، ووَليَ أخوه هشام. الباب العاشر في ولاية هشام بن عبد الملك بن مروان (¬4) ومولدُه سنة اثنتين وسبعين بدمشق في العام الذي قُتل فيه مصعب، وكنيتُه أبو الوليد، وهو من الطبقة الرابعة من أهل الشام. وأمُّه عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي. وقيل: اسمها فاطمة، وقيل: مريم (¬5)، وكنيتها أمُّ هشام. ¬

_ (¬1) الصُّغْد -أو السُّغْد- ناحية كبيرة فيها قرى كثيرة بين بُخارى وسمرقند، وقصبتها (أي: مدينتها) سمرقند (وتردَّد ذكرها فيما سلف). وأفْشِينة: موضع وراء نهر الصُّغْد، كما في "الروض المعطار" 322، وسماها ياقوت الحموي في "معجم البلدان" 1/ 231 أفْشِنَة، وينظر فيه أيضًا 3/ 222. (¬2) اللَّان: بلاد واسعة في طرف أرمينية، وبَلَنْجَر: مدينة ببلاد الخَزَر (بلاد الترك) خلف باب الأبواب (مدينة على بحر قزوين). ينظر "معجم البلدان" 1/ 489 و 2/ 367 و 5/ 8 - 9. (¬3) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 21، و"المنتظم" 7/ 96. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) في (ص): فصل في ولاية هشام. (¬5) بعدها في (خ) (والكلام منها): وقيل رهب (؟ ) وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 310.

[قال هشام: ] وكانت حمقاء، تركبُ الوسائد وتزجرُها مثل الخيل، وتعمل من الكُنْدُر (¬1) تماثيل على صورة الجواري، وتُسمِّي كلَّ تمثال باسم جارية، وتنادي: يا فلانة ويا فلانة. فطلقها عبد الملك لحمقها. وقيل: كانت أشجعيَّة. ولما سار عبد الملك لقتال مصعب بن الزُّبير كانت حاملًا به، فقُتل ابنُ الزبير ووضعته أمُّه، وبلغَ عبدَ الملك، فسمَّاه منصورًا تفاؤلًا، وسمَّتْه أمُّه هشامًا باسم أبيها، فلم ينكر عبدُ الملك ذلك (¬2). وكان يزيد بن عبد الملك قد عهد إليه، ثم بايع بعده لولده الوليد بن يزيد، فلما بلغَ الوليدُ؛ ندم يزيد، وأراد هشامًا أن يكون بعد الوليد بن يزيد، فامتنع، وكان مسلمةُ هو الذي أشار على يزيد (¬3) ... وكان عُمر الوليد يومئذٍ اثنتي عشرة سنة، وقيل: إحدى عشرة سنة. فلمَّا بلغ الوليد كان أبوه إذا رآه قال: الله بيني وبين مَنْ جعلَ هشامًا بيني وبينك. يعني مسلمة (¬4). ثم شرع يزيد بن عبد الملك في خلع هشام وتولية الوليد قبله، فأدركه الموتُ (¬5)، وكان هشام بعيدًا عنه بالرُّصافة بمكان يقال له: الزيتونة، فيه قصورُه، [و] جاء البريد بالخاتم والقضيب، فركب إلى دمشق وهو يومئذ ابن أربع -أو ثلاث- وثلاثين سنة (¬6). ذكر بيعته: بويع في شعبان سنة خمس ومئة، ولم يل أربعة إخوة الخلافة غير بني عبد الملك: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشعام. ¬

_ (¬1) هو ضرب من العِلْك. (القاموس: كندر). (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 310، و"تاريخ" الطبري 7/ 25. (¬3) في (خ) (والكلام منها): على يزيد بن الوليد بن يزيد، وفي هذا الكلام سقط. وتمام الكلام أن مسلمة بن عبد الملك هو الذي أشار على يزيد بن عبد اللك بولاية العهد لهشام بن عبد الملك، ثم من بعده لابنه الوليد بن يزيد. ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 312 و 476، و"تاريخ" الطبري 7/ 209، و""العقد الفريد" 4/ 442، و"الأغاني" 7/ 3، و"المنتظم" 7/ 66. (¬4) المصادر السابقة. (¬5) لم أقف على من ذكر هذا. (¬6) تاريخ الطبري 7/ 25، والكامل 5/ 124.

[قال الواقدي: ] وكان أحولَ ظاهرَ الحَوَل، ويلقَّب بالأحول المشؤوم (¬1). وكان عبد الملك قد رأى في منامه أنَّ أمَّ هشام لطَعَتْ رأسَه (¬2) عشرين لَطْعَةً، فبعث إلى ابن المسيِّب فسأله، فقال: تلد غلامًا يملك عشرين سنة. [قال المسعودي: ] ولما وَلِيَ هشام عرض الجند، فمرَّ به رجلٌ تحته فرس نَفُور، فقال له هشام: ما حملك على أن تركبَ هذا؟ فقال: ما فرسي بنفور، ولكنه رأى حَوْلَتَك، فظنَّها عين عَزون (¬3) البيطار، وكان عَزون كأنَّه هشام في حَوْلَته، فقال له هشام: لعنك الله ولعن فرسك. وتضاحك الناس. [قال المسعودي: ] وهشام أوَّلُ من رفع تقبيل الأرض واليد من الخلفاء؛ لمَّا بُويع دخل عليه رجلٌ فقبَّل الأرض، ومال إلى يده ليقبِّلَها، فقال [له] هشام: مه، إنه لا يَفعلُ هذا من العرب إلا الهَلُوع، ومن العجم إلا الخَضُوع، من عادَ لمثله أوجَعْتُه ضربًا. فانتهى الناس (¬4). [قال أبو القاسم الدمشقي: ] وكانت دار هشام بدمشق عند الخوَّاصين اليوم، وبعضُها مدرسةُ نور الدين ابن زنكي رحمه الله (¬5). [قال: ] وكان طرازه وثيابُه تُحمل على تسع مئة جمل (¬6) [ومعناه: خزائنه، لا ملبوس بدنه]. ¬

_ (¬1) ينظر "الأغاني" 7/ 9، وفيه قول الوليد بن يزيد في هشام: هذا الأحول المشؤوم. (¬2) في "أنساب الأشراف" 7/ 318 (والخبر فيه): "فلقت رأسه، فلطعت منه عشرين لطعة". ومعنى لطعت: لَحِسَتْ. (¬3) في مطبوع "مروج الذهب" 5/ 476 (والخبر منه كما ذكر المصنف): غزوان. وفي "أنساب الأشراف" 7/ 320 (والخير فيه بنحوه): أبو جيرون. وجملة "قال المسعودي" السالفة بين حاصرتين من (ص). (¬4) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 48/ 71 (طبعة مجمع دمشق) مختصرًا في ترجمة عَقَّال بن شَبَّة. ولم أقف عليه عند المسعودي في "مروج الذهب". وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬5) مختصر تاريخ دمشق 27/ 97. وترجمة هشام بن عبد الملك وقعت ضمن خرم من "تاريخ دمشق" لذا لم أُحِلْ عليه. (¬6) المصدر السابق 27/ 98، والكلام الآتي بين حاصرتين من (ص). ثم لم يرد فيها الكلام بعده إلى آخر ترجمة عكرمة مولى ابن عباس.

وكان لا يلتفتُ إلى أولاد عمر بن عبد العزيز، ويُظهر أنه يَرْضَى لهم ما رضيَ لهم أبوهم، وفي باطنه العداوةُ لأبيهم (¬1). ولما وَليَ عَزَلَ عُمرَ بنَ هُبيرة عن العراق وخُراسان وولاياته كلّها، وولَّى ذلك خالدَ بنَ عبد الله القَسْري في شوَّال. وقيل: إنما فعل ذلك في سنة ستٍّ ومئة (¬2). وفيها أقام هشام الحلْبَةَ للخيل، فكانت عشرةَ آلاف (¬3) فوس له ولغيره، ولم يجتمع مثلُ ذلك في جاهليَّة ولا إسلام، وأقام على ذلك مدَّةَ خلافتِه، وكانت الحَلْبَةُ كلَّ يوم في زيادة. وفيها أمر بحفر القُنِيّ (¬4) والآبار والمصانع (¬5) بين مكة والمدينة والشام، وأجرى فيها المياه. وفيها قتل هشامٌ غَيلانَ القَدَرِيّ (¬6). وحجَّ بالناس عبد الواحد بن عبد الله النَّصْري (¬7) وهو على مكة والمدينة. وقيل: إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي (¬8)، وخطب بالناس بمكة قبل الظهر (¬9) قبل يوم التروية، فعابَه الناس، ونسبوه إلى الجهل، فقال: عطاءُ بنُ أبي رباح أمرني بهذا. وبلغ عطاء، فقال: ما أمرتُه. ¬

_ (¬1) المنتظم 7/ 99. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 26 (في أحداث سنة 105)، وسيذكره المصنف أول سنة (106). (¬3) في "مروج الذهب" 7/ 466: أربعة آلاف. (¬4) جمع قَناة، وهي الآبار التي تُحفر في الأرض متتابعة ليُستخرج ماؤها ويسيح على وجه الأرض. "النهاية" (قنا). وجاء في سياق آخر في "مختصر تاريخ دمشق" 27/ 98 أن هشامًا هو الذي حفر الهنيَّ وعمله. والهَنِيُّ والمَرِيُّ: نهران بإزاء الرقة والرافقة، ذكرهما ياقوت في "معجم البلدان" 5/ 419. (¬5) جمع مصنع، وهو شبه الحوض. يجمع فيه ماء المطر ونحوه. (¬6) كذا وقع الكلام في (خ) مختصرًا والكلام منها فقط، وسترد ترجمتُه بعد ترجمتين. (¬7) في (خ) (والكلام منها): الأنصاري، وهو خطأ. (¬8) في "تاريخ" الطبري 7/ 26، و"الكامل" 5/ 126 أن إبراهيم بن هشام بن إسماعيل هو الذي حجّ بالناس في هذه السنة (يعني سنة 105)، والنصري على مكة والمدينة. (¬9) في (خ) (والكلام منها): بعد الظهر، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 26، و"الكامل" 5/ 126. وسترد له قصة بنحوها أواخر أحداث سنة (109) (قبل التراجم).

الحكم بن عتيبة

وكان العاملَ على مكة والمدينة والطائف عبدُ الواحد النَّصري (¬1)، وعلى العراق عُمر بن هُبيرة، وقيل: خالد القسري، وكان على قضاء الكوفة حسين بن حسن الكِنْدي، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس (¬2). وفيها توفِّي الحَكَم بن عُتيبة كنيتُه أبو عبد الله، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل الكوفة، كان مولًى لكِنْدَة. وُلد هو وإبراهيم النَّخَعي في سنة واحدة. وكان في أصحابه مثلَ الزهْريّ في أصحابه، وكان عالمًا رفيعًا كثيرَ الحديث، أبيض الرأس واللحية. توفّي بالكوفة سنة خمس ومئة، وقيل: سنة خمس عشرة ومئة (¬3). عكرمة مولى ابن عباس كنيتُه أبو عبد الله، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة. كان عبدًا لابن عباس، أصلُه من البَرْبَر، وكان لحُصَين بن أبي الحرّ العنبري، فلما وَلِيَ ابنُ عباس البصرة لعليٍّ - عليه السلام -؛ وهبَه له، فقبلَه ابنُ عباس منه (¬4). ومات ابنُ عباس - رضي الله عنه - وعكرمةُ عبدٌ، فبِيع، فاشتراه خالد بن يزيد [بن معاوية] من عليّ بن عبد الله بن عباس بأربعة آلاف دينار، فبلغَ ذلك عكرمةَ فأتى عليًّا، فقال له: بعتَ علم أبيك بأربعة آلاف دينار! فراح إلى خالد بن يزيد فاستقاله، فأقاله، فأعتَقَه عليّ (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): البصري، وفي "تاريخ" الطبري 7/ 28: النضري، وكلا هما خطأ. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 28، والكامل 5/ 126. (¬3) وهو الأصحّ كما ذكر الذهبي في "تاريخ الإسلام" 3/ 225. ولم أقف على من ذكر أن وفاته سنة حمس ومئة، وذُكر في المصادر في وفاته السنوات (113) (114) (115). وتنظر ترجمته في "طبقات" ابن سعد 8/ 450 - 451. (¬4) تاريخ دمشق 48/ 204 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 282 - 283، وتاريخ دمشق 48/ 212. وما سلف بين حاصرتين منهما للإيضاح.

وقال عكرمة: كان [ابن عباس] يجعلُ في رجلي الكَبْلَ يعلّمُني القرآن ويعلِّمُني السنة (¬1). وقال: قرأ ابنُ عباس: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164] قال: قال ابن عباس: لم أدرِ نجا القوم أم هلكوا. فما زلتُ أُبيِّنُ له أُبَصِّرُه حتَّى عرفَ أنهم قد نَجَوْا. قال: فكساني حُلَّة (¬2). وكان عمرو بن دينار يسمي عكرمة: البحر؛ لغزارة فضله (¬3). وقال سعيد بن جُبير: لو كفَّ عكرمة عنهم من حديثه لشُدَّتْ إليه المَطَايا (¬4). سئل عكرمة عن يوم القيامة: أمِنْ أيَّامِ الدنيا، أم من أيام الآخرة؟ فقال: صدرُه من أيام الدنيا، وآخِرُه من أيام الآخرة (¬5). ذكر وفاته: توفّي سنة خمس ومئة وهو ابن ثمانين سنة؛ مات هو وكُثَيِّر عَزَّة في يومٍ واحد، وصُلِّيَ عليهما في موضع الجنائز بعد الظهر، فقال الناس: مات اليوم أفقهُ الناس وأشعرُ الناس (¬6). وعجبَ الناس لاجتماعهما في الموت، واختلافِ رأيهما؛ عكرمة، يُظَنُّ أنَّه يرى رأيَ الخوارج، يكفّر بالنظرة، وكُثَيِّر شيعي يقول بالرجعة (¬7). وقيل: سنة ستٍّ ومئة، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة أربع، وقيل: سنة ثمان وهو ابن أربع وثمانين سنة (¬8). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 283، وتاريخ دمشق 48/ 210. وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 283، وتاريخ دمشق 48/ 211. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 284، وتاريخ دمشق 48/ 213. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 284، وتاريخ دمشق 48/ 235. (¬5) تاريخ دمشق 48/ 230. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 288، وتاريخ دمشق 48/ 254. (¬7) المصدران السابقان. (¬8) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 289، و"تاريخ دمشق" 48/ 254 - 257. قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 34: الأصحّ سنة خمس.

غيلان القدري

روى عن ابن عباس، وأبي هريرة، والحسين بن عليّ، وعائشة، -رضي الله عنهم-، وقال: أدركتُ في هذا المسجد -يعني في مسجد المدينة- مئتين من الصحابة. وقد روى عن ابن عمر، والحسن بن علي، وأبي سعيد الخُدري، وروى عنه خلقٌ كثير من علماء الأمصار. وقال موسى بن يسار: رأيتُ عكرمة جائيًا من سمرقند ومعه غلام وسمعتُه وهو بسمرقند وقيل له: ما أقدمَك إلى هذه البلاد؟ فقال: الحاجة (¬1). وكان لا يقبل إلا من الأمراء، وحمله طاوس اليماني على نجيب ثُمِّن بستين دينارًا (¬2). واختلفوا فيه، فضعَّفه قوم، ووثَّقه آخرون؛ قال ابن سعد: كان عكرمة كثيرَ العلم، بحرًا من البحور، وليس يُحتجُّ بحديثه، وتكلَّم الناس فيه (¬3). وقالت مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت الزُّبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج، فطلبه بعض ولاة المدينة فتغيَّب عند داود بن حُصين، فمات عنده (¬4). سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فقيل له: أيُحتجُّ بحديث عكرمة؟ قال: نعم (¬5). غَيْلان القَدَرِيّ [ذكره أبو القاسم بن عساكر (¬6)، فقال: هو غَيلان بن يونس، وقيل: ابن مسلم بن أبي غيلان] مولى عثمان رضوان الله عليه، كانت دارُه بباب الفراديس بدمشق شرقيَّ المقابر، وكنيتُه أبو مروان، وكان كاتبًا ويقول بالقَدَر. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 48/ 224 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) المصدر السابق 48/ 224 و 225. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 288. (¬4) تاريخ دمشق 48/ 252 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) المصدر السابق 48/ 232. ومن قوله: وكان لا يلتفت إلى أولاد عمر (أواخر فقرة ولاية هشام) إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬6) تاريخ دمشق 57/ 420 (طبعة مجمع دمشق).

قال الشعبي. دخل غَيلانُ على عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وهو مصفارّ اللون، فقال له عمر: ما الَّذي بك؟ فقال: أمراضٌ وأحزان. فقال: لَتَصْدُقْنِّي. فقال: ذُقتُ حُلْوَ الدنيا، فوجدتُه مرًّا، فأسْهَرْتُ ليلي، وأظمأت نهاري، وكلُّ ذلك حقير في جنب ثواب الله وعقابه. فقال له عمر: ويحك، ومع هذا تقول بالقَدَر! ارجِعْ. فرجع وتاب. فقال عمر - رضي الله عنه -: اللهمَّ إن كان صادقًا فاقبَلْ توبتَه، وإن كان كاذبًا فسلِّطْ عليه من يقطع يديه ورجليه ولسانه، واجْعَلْه عبرةً للعالمين. فلما مات عُمر أظهر ما كان يُبطن (¬1). [قال المدائني: ] فاستدعاه هشام بنُ عبد الملك وقال له: ويحك يا غَيلان! قد أكثر الناسُ فيك، فعرِّفْنا مذهبك، فإن كان حقًّا اتبعناك، وإن كان باطلًا نزعنا عنك. قال: أوَتُعفيني؟ قال: لا أُعفيك (¬2). وكان غَيْلان يقول: إن معاصي العباد خلقٌ لهم، وإن الله لا يقدِّرها عليهم. فأُخبر هشام، فأمر بقطع يديه ورجليه ولسانه، ففُعل به ذلك، وأُلقِيَ على مَزْبلة؛ فمرَّ به رجل، فقال: يا غَيلان، هذا قضاءُ الله وقَدَره. فأومأ إليه وقال: كذبتَ، ما هذا قضاءَ الله وقدرَه، هذا قضاء هشام. ثم أمر به هشام فصُلب (¬3). وقال عمر بن المهاجر صاحب عمر بن عبد العزيز: وقفتُ عليه وقلتُ له: أدركَتْكَ دعوةُ العبدِ الصالح عمر؟ فأومأ برأسه، أي: نعم (¬4). وقيل: إن غَيلان حسان يقول وهم يمثِّلون به: أدركَتْني دعوة العبد الصالح. وكان غَيلان يبسط لسانَه في بني أمية ويعيب عليهم. واجتمع جماعة عند هشام بن عبد الملك فقال: ما تقولون فيما فعلنا بغَيلان؟ كأنه حكَّ في نفسه شيء. فقالوا: يا أمير المؤمنين، لَقَتْلُكَ غَيلانَ أفضلُ من قتلِ ألفٍ من التُّرك والروم (¬5). ¬

_ (¬1) لفظ الخبر من أكثر من رواية في "تاريخ دمشق" 57/ 421 و 429 و 432. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 332 - 333. (¬3) ينظر "تاريخ دمشق" 57/ 438 - 443 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) المصدر السابق ص 431. (¬5) ينظر المصدر السابق ص 445 - 446.

كثير [ابن عبد الرحمن] بن الأسود

كُثَيِّر [ابن عبد الرحمن] (¬1) بن الأسود ابن عامر بن عُويمر بن مَخْلَد الشاعر، كنيتُه أبو صخر، [الخُزاعي] الحجازي (¬2)، ويُعرف بابن أبي جُمْعَة جدَّه لأمِّه، وأمُّه جُمْعة بنت الأشيم بن خالد (¬3). وقيل: جمعة بنت كعب بن عَمرو (¬4)، من الطبقة الثالثة من الشعراء من أهل المدينة، وكان شيعيًّا، وكان يفدُ علي بني أمية؛ عبدِ الملك، والوليدِ، وسليمان، وعُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، ويزيد بن عبد الملك. وقال ابن ماكولا: كان يتنقَّل في المذاهب (¬5). وكان من فحول الشعراء، ورد كتابٌ من الشام إلى مكة بلعن أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه على المنبر، فسمعهم كُثيِّر، فقام وأخذ بأستار الكعبة [وقال: ] لعنَ اللهُ من يَسُبُّ عليًّا ... وبنيه من سُوقَةٍ وإمامِ أيُسَبُّ المُطَهَّرون أصولًا (¬6) ... والكرامُ الأخوالِ والأعمامِ يأمن الطيرُ والوحشُ ولا يَأ ... مَنُ آلُ الرسولِ عند المقامِ! فضربوه حتَّى أثخنوه (¬7). وكان عند يزيد بن عبد الملك وقد أُتِيَ بآلِ المُهَلَّب بن أبي صُفْرة [فقال: ] حليمٌ إذا ما نال عاقبَ مُجْمِلًا ... أشدَّ العقابِ أو عفا لم يُثَرِّبِ (¬8) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المصادر. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬2) في (خ) (والكلام منها): الغفاري، والمثبت من "تاريخ دمشق" 59/ 287 (طبعة مجمع دمشق)، ولفظة "الخزاعي" بين حاصرتين منه، ومن المصادر. (¬3) الأغاني 9/ 3 - 4. (¬4) المنتظم 7/ 103، ولم أقف على هذا القول عند غيره. (¬5) الإكمال 7/ 161، وتاريخ دمشق 59/ 288 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) في (خ) (والكلام منها): إمامًا، بدل: أصولًا. والمثبت من "المنتظم" 7/ 103. (¬7) المنتظم 7/ 103، ولفظ "وقال" السالف بين حاصرتين منه. والأبيات بنحوها في "نسب قريش" ص 60، و"معجم الشعراء" للمرزباني ص 240، ونُسبت فيهما لكثير بن كَثِير بن عبد المطلب. (¬8) ثَرَّب عليه: قَبَّحه وعيَّره. قال المرزوقي في "شرح الحماسة" 4/ 1758: إذا نال الجانيَ عليه عاقبه وهو مُجمِلٌ، أي: لا يشتطّ ولا يسرف، ولكن ينهج طريق العدل في الانتقام.

فَعَفوٌ (¬1) أميرَ المؤمنين وحِسْبَةٌ ... فما تَحْتَسِبْ من صالحٍ لك يُكْتَبِ أساؤوا فإنْ تغفِرْ فإنَّك أهلُه ... وأفضلُ حِلْمٍ حِسْبَةً حِلْمُ مُغْضَبِ فقال له يزيدُ بنُ عبد الملك: أطَّتْ بكَ الرَّحِم، ولولا قَدْحُهم في المُلك لعفوتُ عنهم (¬2). دخل كُثَيِّر على عبد الملك، فقال له: أنشدني في الإخوان. فأنشده: خيرُ إخوانِك المشاركُ في المُـ ... ــــرِّ وأينَ الشريكُ في المُرِّ أَينا الَّذي إنْ حَضَرْتَ سَرَّك في الحَـ ... ـــيِّ وإنْ غِبْتَ كان أذْنًا وعَينَا ذاك مثلُ الحُسام أَخْلَصَ القَيْـ ... ـــــنُ جَلاءً فازدادَ حُسْنًا وزَينا أنتَ في معشرٍ إذا غِبْتَ عَنهُمْ ... بدَّلُوا كلَّ ما يَزِينُك شَينَا وإذا ما رأَوْك قالوا جميعًا ... أنتَ مِنْ أكرمِ الرِّجالِ علينا فقال له عبد الملك: يغفرُ الله لك يا كُثَيِّر، فأينَ الإخوان؟ غير أني أقول: صديقُك حين تستغني كَثِيرٌ ... وما لَك عند فَقْرِكَ من صديقِ فلا تُنكِرْ على أحدٍ إذا ما ... طوى عنك الزيارةَ عند ضِيقِ وكنتُ إذا الصَّدِيقُ أرادَ غَيظِي ... على حَنَقٍ وأشْرَقَني بريقي غَوْتُ ذنوبَه وصَفَحْتُ عنهُ ... مخافةَ أنْ أكونَ بلا صديقِ (¬3) دخل كُثَيِّر على عبد الملك، فأنشده قصيدتَه التي يقول فيها: على ابنِ أبي العاصي دِلاصٌ حَصِينةٌ ... أجاد المُسَدِّي نَسْجَهما وأذَالها (¬4) فقال له عبد الملك: هلَّا قلتَ كما قال الأعشَى لابن معدي كَرِب: وإذا تجيءُ كتيبةٌ ملمومةٌ ... شهباءُ يخشى الذَّائدون نِهالها ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، و"أنساب الأشراف" 7/ 282، و"المنتظم" 7/ 107. وفي "شرح الحماسة" للمرزوقي 4/ 1758، و"تاريخ دمشق" 8/ 401 (مصورة دار البشير - ترجمة الضحاك بن رمل)؛ فعفوًا. وهو الأشبه. (¬2) الخبر بنحوه في المصادر السابقة. وقوله: أطَّتْ، أي: حَنَّتْ. نقله ابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 107 عن أبي بكر بن الأنباري. (¬3) تاريخ دمشق 59/ 299 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) الدِّلاص: الدِّرْع الليّنة، والمُسَدِّي: الَّذي يُسَدِّي الدِّرع أي: ينسجها، وأذالها، أي: أطال ذَيلها.

كنتَ المُقَدَّمَ غيرَ لابسِ جُنّةٍ (¬1) ... بالسيفِ تضربُ مُعْلِمًا أبطالها وقال له كُثَيِّر: ذاك إنما وصَفَه بالخُرْق، وأنا وصَفْتُك بالْحَزْم (¬2). قال عبد الملك لكُثَيِّر: سَلْ حوائجَك. فقال: تُزوِّجُني عَزَّة. فأرسل إليها، فقالت: أبَعْدَ ما شبَّبَ بي وفضحني في العرب، لا كان ذلك أبدًا. وماتَتْ قبلَه (¬3). قيل لكُثَيِّر: ما بقيَ من شعرك؟ قال: ماتَت عَزَّة فما أطرب، وذهبَ الشبابُ فما أعجب، وماتُ ابن ليلى فما أرغب، وإنما ينشأ الشعر من هذه الخِلال (¬4). وأراد بابن ليلى عبد العزيز بن مروان، وقيل: بشر. ذكر طرف من أخبارهما: كان أولُ عشقه لها أنَّه مرَّ بنسوة من بني ضمْرَة ومعه غنم، فأرسَلْنَ إليه عَزَّة وهي صغيرة، فقالت: يَقُلْن لك النِّسوة: بعنا كبشًا نسيئةً إلى حين تعود. فأعجبَتْهُ، فأعطاها كبشًا، فلما عاد جاءت امرأة منهن إليه بدراهمه، فقال: أين الصَّبِيَّة التي أخذَت الكبش مني؟ قالت: ما تصنعُ بها؟ هذه دراهمُك. فقال: لا والله، لا آخذُ الدراهم إلا ممَّن دفعتُ إليها الكبش. ولم يأخذ شيئًا، وقال: قضى كلُّ ذي دَيْنٍ فَوَفَّى غريمَهُ ... وعَزَّةُ ممطولٌ مُعَنًّى غريمُها نظرتُ إليها نظرةً ما يُسرُّني ... بها حُمْرُ أنعامِ البلادِ وسُودُها (¬5) وقال الزُّبير بن بكَّار: خرج كُثَيِّر يلتمس عَزَّة ومعه شَنٌّ (¬6) فيه ماءٌ، فضربه الحَرُّ، فيَبِس، فلاحَ له كوخٌ، فقصَدَه، فإذا فيه عجوزٌ، فقالت: مَنْ أنت؟ فقال: كُثَيِّر. قالت: ¬

_ (¬1) الجُنَّة: الدِّرْع. (¬2) تاريخ دمشق 59/ 299 - 300 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) بنحوه في "المنتظم" 7/ 104. (¬4) عيون الأخبار 2/ 185، وتاريخ دمشق 59/ 325. وبنحوه في العقد الفريد 5/ 326. (¬5) الأغاني 9/ 25 - 26، والمنتظم 7/ 105 - 106. (¬6) الشَّنُّ: القِرْبَة الخَلَقُ الصغيرة يكون فيها الماء أبردَ من غيرها. ووقع في "تاريخ دمشق" 59/ 316 و"المنتظم" 7/ 106: شُنَيْنة (تصغير شَنَّة، وهما بمعنى).

قد كُنْتُ أتمنَّى لقاءَك، فالحمدُ لله الَّذي أرانيك. فقال لها: وما الَّذي تلتمسينه منّي؟ قالت: ألستَ القائل: إذا ما أتَتْنا خُلَّةٌ كي تُزيلَها ... أبَينا وقلنا الحاجِبيَّةُ أوَّلُ (¬1) سنُوليكِ عُرْفًا (¬2) إنْ أرَدْتِ وصالنَا ... ونحن لتلك الحاجِبيَّةِ أوْصَلُ قال: بلى. قالت: فهلَّا قلتَ كما قال سيّدُك جميل: يا رُبَّ عارضةٍ علينا وَصْلَها ... بالجِدِّ تَخْلِطُهُ بقولِ الهازلِ فأجَبْتُها بالقولِ بعد تأمُّلٍ ... حُبِّي بُثينةَ عن وصالكِ شاغلي لو كان في قلبي كقَدْرِ قُلامةٍ ... فضلًا لغيركِ ما أتتكِ رسائلي قال: فقلتُ: دعي هذا واسقيني ماءً. فقالت: لا والله، وإلَّا ثَكِلْتُ بُثينةَ، لا أسقيك ولو مِتَّ عَطَشًا، فركَضْتُ فرسي، ومَضيتُ أطلبُ الماء، فما وصلتُ إليه إلا بعد جهد كِدت أن أموتَ عَطَشًا (¬3). قال يحيى الأمويّ: لَقِيَتْ امرأةٌ كُثَيِّرًا وكان دَمِيمًا ضئيلًا، فقالت: مَنْ أنت؟ قال: كُثَيِّر. قالت: تسمعُ بالمُعِيدِيِّ خيرٌ من أن تراه. فقال: مَهْ، فأنا الَّذي أقول: فإنْ أكُ مَعْرُوقَ العِظامِ فإنِّني ... إذا ما وَزَنْتِ القومَ بالقومِ أَوْزِنُ فقالت: كيف تكون بالقوم وازنًا وأنتَ لا تُعرفُ إلا بِعَزَّة؟ ! فقال: واللهِ لئن قلتِ ذلك، لقد رفع الله بها قَدْرِي، وزَيَّنَ بها شِعْري، وإنها لكما قلتُ: وما روضةٌ بالحَزْنِ طَيبةُ الثَّرَى ... يَمُجُّ النَّدى جَثْحاثُها وعَرارُها (¬4) بأطيبَ من أردانِ عَزَّةَ مَوْهِنًا ... وقد أُوقِدَتْ بالمَنْدَلِ الرَّطْبِ نارُها (¬5) من الخَفِرات البيضِ لم تَلْقَ شَقْوةً ... وبالحَسَبِ المكنُونِ صافٍ نِجَارُها (¬6) ¬

_ (¬1) الخُلَّة يعني الخليلة. وقصد بالحاجبية: عزَّة. (¬2) أي: معروفًا. (¬3) تاريخ دمشق 59/ 316 - 317، والمنتظم 7/ 106 - 107. (¬4) الحَزْن من الأرض: ما غلُظ، والجَثحاث والعَرار: نَبْتانِ طَيِّبا الرائحة. (¬5) الأردان، جمع رَدْن، وهو القزّ أو الخزّ، والمَوْهن: نحوٌ من نصف الليل، أو بعد ساعة منه، والمَنْدَل: العود الطيب الرائحة. (¬6) الخَفِرات جمع خَفِرة، وهي شديدة الحياء، والنِّجار: الأصل والحَسَب.

فإنْ بَرَزَتْ كانَتْ لِعَينِكَ قُرَّةً ... وإِنْ غِبْتَ عنها لم يَعُمَّكَ عارُها فقالت له: أرأيتَ حين تذكرُ طِيبَها؛ فلو أنَّ زِنْجيَّةً استجمرتْ بالمَنْدَل الرَّطْب لطابَ رِيحُها! ألا قلتَ كما قال امرؤ القيس: خليليَّ عُوجا (¬1) بي على أمِّ جُنْدُبٍ ... نُقَضِّ لُباناتِ (¬2) الفؤادِ المعذَّبِ ألَمْ تَرَ أني (¬3) كلّما جئتُ طارقًا ... وجَدْتُ بها طِيبًا وإنْ لم تَطَيَّبِ فقال كُثير: الحقُّ لَهُوَ -واللهِ- خيرُ ما قيل، لَهُوَ -واللهِ- أنعتُ لصاحبته منّي (¬4). وقال ابن عائشة: وقف كُثّيِّر على قوم يفضِّلون عليه جميلًا ويقولون: هو أصدقُ في حبِّه من كُثَيِّر، وهم لا يعرفونه، فقال لهم: كيف تفضِّلُون جميلًا على كُثَيِّر وقد بلغ جميلًا عن بُثَينَةَ ما يكره؟ فقال: رمى الله في عَينَيْ بُثَينَةَ بالقَذَى ... وفي الغُرِّ من أنيابها بالقَوادحِ وكُثَيِّر عَزَّة أتاه من عَزَّة بعضُ ما يكره، فقال: خليليَّ هذا رَبْعُ عَزَّةَ فاعْقِلا ... قَلُوصَيكُما ثم ابكيا حيثُ حَلَّتِ وما كُنْتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما البُكا ... ولا موجباتِ الحبِّ (¬5) حتَّى تولَّتِ فقلتُ لها يا عَزَّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النفسُ ذَلَّتِ وواللهِ ما قاربتُ إلا تباعَدَت ... وواللهِ ما أكثرتُ إلا أقلَّتِ أسيئي بنا أو أحْسِني لا ملومةٌ ... لَدَينا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ فلا يحسبُ الواشون أنَّ صبابتي ... بِعَزَّةَ كانت غَمْرةً فتَجلَّتِ ومن أرقّ ما قال: هنيئًا مريئًا غير داءٍ مُخامرٍ ... [لعزَّةَ من أعراضنا ما اسْتَحلَّتِ] ¬

_ (¬1) في "ديوان" امرئ القيس ص 41، و"تاريخ دمشق" 59/ 320: مُرَّا. (¬2) جمع لُبانة، وهي الحاجة من غير فاقة. (¬3) كذا في (خ) و"تاريخ دمشق" 59/ 320، وفي "الديوان": ألم تَرَياني. وهو الوجه. (¬4) تاريخ دمشق 59/ 319 - 320. (¬5) في "الشعر والشعراء" 1/ 514، و"التذكرة الحمدونية" 6/ 172: موجعات الحزن. وفي "الأغاني" 9/ 29: موجعات القلب. وفي "الحماسة البصرية" 2/ 123: موجعات البين.

يزيد بن عبد الملك

من أبيات (¬1). [وقال: ] (¬2) فما أحدثَ النَّأيُ المُفَرِّقُ بيننا ... سُلُوًّا ولا طولُ اجتماعٍ تَقَاليا (¬3) وما زادني الواشون إلا صَبابةً ... ولا كثرةُ النَّاهين إلا تماديا (¬4) مات كُثيِّرٌ وعكرمةُ في يوم واحد بالمدينة، فاختلفت (¬5) قريش لكُثَيِّر، ولم يوجد لعكرمة من يحملُه. وقال سليمان بن أفلح: استنشدني الرشيد هارون شعر كُثَيِّر، فأخذت في الإنشاد، فلما جئتُ إلى مدحِ بني أمية [وقفت]. قال: ما لكَ؟ فأخبرتُه، فقال: امْضِهْ وجعل يتعجَّبُ من شعره، فقال له يحيى بن خالد: ما مَدَحَكُم به مروان بن أبي حفصة أجودُ من هذا حيث يقول: نورُ الخلافةِ في المهديّ تعرفُهُ ... وذلك النورُ في موسى وهارونِ فقال هارون: دع هذا الكلام يا أبا علي، فواللهِ، لا يُمدح بشعر مثلِ شعر كُثَيِّر حتَّى يُحاكَ لنا مثلُ طِرازِ هشام (¬6). يزيد بن عبد الملك ابن مروان، كان صاحبَ لهوٍ وشراب، وكان يقول: عمر بن عبد العزيز كان خيرًا مني لنفسه، وأنا خيرٌ منه للناس. وكان يزيد قد اشتغل عن الرعيَّة بسَلَّامة؛ بالتشديد، وحَبَابة؛ بالتخفيف؛ قينتين من المدينة ومكة (¬7). ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ دمشق" 59/ 294 - 295 دون ذكر الأبيات إلا البيت الأخير: هنيئًا مريئًا ... وفي آخره قول كُثَيِّر: فما انصرفوا إلا على تفضيلي. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من عندي لفصل البيتين الآتيين عما قبلهما. (¬3) تقاليًا، أي: تباغضًا. (¬4) تاريخ دمشق 59/ 323 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) في "الأغاني" 9/ 36: فاجتمعت، وفي "تاريخ دمشق" 59/ 325: فأجْفَلَتْ (أي: أسرعت). (¬6) تاريخ دمشق 59/ 292 - 293، وما سلف بين حاصرتين مستفاد منه. (¬7) من أول ترجمة كُثيِّر (الترجمة قبلها) إلى هذا الموضع؛ لم يرد في (ص).

حديث سَلَّامة: وهي جارية سُهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: جارية مصعب بن سُهيل، وتُعرف بسلَّامة القَسّ، وكانت من مولَّدات المدينة (¬1). أخذت الغناء عن مَعْبَد، وابنِ عائشة، وابن سُرَيج، وهالك بن أبي السَّمْح، وجميلة، وعَزَّة المَيلاء (¬2). وكانت من أحسن النساء جمالًا وغِناءً. واسم القَسّ عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، وكان عابدًا مجتهدًا ناسكًا يُقدَّم على عطاء بن أبي رباح في النُّسُك، ولعبادته سُمِّي بالقَسّ. مرَّ بسلَّامة يومًا، فسمع غِناءها، فافتُتنَ بها. قال شيخُنا موفَّق الدين - رضي الله عنه -، يرفعه إلى خلَّاد بن يزيد قال: سمعتُ شيوخًا (¬3) من أهل مكة، منهم سليمان، يذكرون أنَّ القَسَّ كان عند أهل مكَّة من أحسنِهم عبادةً وأظهرهم تبَتُّلًا، وأنه مرَّ يومًا بسلَّامة [جارية كانت لرجل من قريش] فسمع غِناءها، فوقف يستمع، فرآه مولاها، فقال له: هل لك أن تدخل فتستمع؟ فتأبَّى عليه، فلم يزل به حتَّى تَسَمَّح، وقال: أقعدني في موضع لا تراني ولا أراها. قال: أفعل. فدخل فغنَّتْ فأعجبَتْه، فقال مولاها: هل لك أن أُحَوِّلها إليك؟ فتأبَّى عليه، ثم سمع غناءَها وسمحَ، ولم يزل حتَّى شُغف بها وشُغِفَتْ به، وعلم بذلك أهل مكة. فقالت له يومًا: أنا واللهِ أُحبُّك. قال: وأنا واللهِ أُحبُّكِ. قالت: وأُحبُّ أَنْ أضعَ فمي على فمك. قال: وأنا والله. قالت: وأحبُّ أن أُلصِقَ صدري بصدرك، وبطني ببطنك. قال: وأنا ¬

_ (¬1) ينظر "الأغاني" 8/ 346، و 15/ 123، و"تاريخ دمشق" ص 187 (طبعة مجمع دمشق - تراجم النساء.) (¬2) مَعْبَد: هو ابنُ وَهْب، وقيل: ابن قطني، مولى ابن قطر، وابن عائشة: هو محمد، أبو جعفر، وابنُ سُرَيج: هو عُبيد، أبو يحيى، وجميلة هي مولاة بني سُليم، وعَزّة المَيلاء، مولاة للأنصار، سمّيت بذلك لميلها في مشيتها، تنظر أخبارهم في "الأغاني" 1/ 64 و 248، و 2/ 195، و 5/ 101، و 8/ 186، و 17/ 162، وهم من أصول الغناء. (¬3) في (ص)، و"التوابين" ص 237: شيوخنا.

واللهِ كذلك. قالت: يمنعك؟ فواللهِ إنَّ المكان لخالٍ. قال: إني سمعتُ أن الله تعالى يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلا الْمُتَّقِينَ} [الزخوف: 67] وأنا أكره أن تكون خُلَّةٌ ما بيني وبينكِ تؤول إلى العداوة يومَ القيامة. قالت: يا هذا، أفحسبتَ أنَّ ربي وربَّك لا يقبلُنا إذا تُبنا إليه؟ قال. بلى، ولكنْ لا آمنُ أن أُفاجأ. ثم نهض وعيناه تَذْرِفان، فلم يرجع بعد [ذلك] وعاد إلى ما كان عليه من النُّسُك (¬1)، وفيها يقول عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات: لقد فَتَنَتْ رَيَّا وسلَّامةُ القَسَّا ... فلم تتركا للقَسِّ عقلًا ولا حِسَّا (¬2) وقال الهيثم: اشترى يزيدُ بن عبد الملك سلَّامة قبل الخلافة بأربعة آلاف دينار، فأُعجبَ بها، وغلبت عليه، وكان تحته سعدى بنت سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان (¬3)، ويقال لها: العثمانية؛ تزوَّجها في حجَّته في أيام أخيه سليمان على عشرين ألف دينار، وتزوَّج في هذه الحَجَّةِ رُبيحة بنت محمد بن عبد الله بن جعفر على عشرين ألف دينار أيضًا، واشترى سلَّامة في هذه الحجة (¬4)، فلما رأَتْ سعدى ميله إلى سلَّامة اشترَتْ له حَبَابةْ، فغلبت عليه، فَلَهَا عن سلَّامة ووهَبَها لسعدى. وقال الزُّبير بن بكَّار: كانت سلَّامة من أحسن النساء وأكملهنّ، قرأَت القرآن، وقالت الشعر ورَوَتْهُ، وكان الأحوص وعبد الرحمن بنُ حسان يجلسان إليها ويُنشدانِها، فعلقت بالأحوص، وصرفت عن عبد الرحمن، فقال (¬5): ¬

_ (¬1) التوابين لابن قدامة ص 237، وقد أخرجه من طريق ابن أبي الدنيا، وهو في "تاريخ دمشق" ص 190 (طبعة مجمع دمشق - تراجم النساء)، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 197، 198، و"الأغاني " 8/ 350. (¬2) في "الأغاني" 8/ 235، وتاريخ دمشق" ص 187: نَفْسا. (¬3) كذا في (خ) (والكلام منها) وهو خطأ، والصواب أنها سَعْدَة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان كما في "أنساب الأشراف" 7/ 199، و"الأغاني" 15/ 124 (والخبر فيها بنحوه): وأما تلك فهي زوجه الوليد بن يزيد -. ينظر "الأغاني" 7/ 26. (¬4) في "أنساب الأشراف" 7/ 99؛ أن يزيد اشترى سلَّامة لما ولَّي الخلافة، وجاء أول الخبر: قبل الخلافة. وينظر "مروخ الذهب" 5/ 446 - 447. (¬5) هذا الخبر مرويّ في في سلَّامة جارية يزيد بن معاوية كما في "الأغاني" 9/ 134. والظاهر أن المصنف جعلهما واحدًا (إن لم يكن واهمًا). وقد فرَّق ابنُ عساكر أيضًا بينهما في "تاريخ دمشق" (تراجم النساء) ص 183 و 187.

أرى الإقبال منكِ على جليسي ... وما لي في حديثكما (¬1) نصيبُ فقالت سَلَّامة: لأنَّ اللهَ علَّقَهُ فؤادي ... فحازَ القلبَ دونَكُمُ حبيبُ فقال الأحوص: خليلي لا تَلُمْها في هواها ... ألذُّ العيش ما تَهْوَى القلوبُ فخرج ابنُ حسان إلى يزيد بن عبد الملك (¬2) ممتدحًا له، فأكرمه ووصله، فقال: يا أمير المؤمنين، عندي نصيحةٌ، فقال: وما هي؟ قال: جارية بالمدينة لامرأةٍ من قريش. ووصفَها له، وقال: لا تصلح إلا لك. فبعث إلى عامله، فاشتراها وحملَها إليه، فوقعت منه موقعًا. وعاد عبد الرحمن إلى المدينة ومر بالأحوص، وإذا به متبسِّم، فأنشده: يا مبتلًى بالحبِّ مفدوحًا ... ولاقيًا منه تباريحا ألجمَهُ الحبُّ فما ينثني ... إلا بكأس الحبِّ مصبوحَا وصارَ ما يُعجبُهُ مغْلَقًا ... عنهُ وما يكرهُ مفتوحَا قد حازَها مَنْ أصبَحَتْ عنده ... ينالُ منها الشَّمَّ والرِّيحَا خليفةُ الله فَسَلِّ الهوى ... فعَزَّ قلبًا منك مقروحا (¬3) وقال ابن عساكر (¬4): بعث يزيدُ بنُ عبد الملك إلى المدينة، فاشترى سلَّامة بعشرين ألفَ دينار، فخرج أهلُها يودِّعُونها، فامتلأ المكان بالناس، فقالت: فارقُوني وقد علمتُ يقينًا ... ما لِمَنْ ذاقَ فُرْقةً (¬5) من إيابِ ¬

_ (¬1) في "الأغاني" 9/ 134: ... على خليلي وما لي في حديثكُم ... (¬2) في "الأغاني" 9/ 134: يزيد بن معاوية، والقصة في سلامة جاريته كما سلف قبل تعليق .. (¬3) في "الأغاني" 9/ 135: مجروحا (وينظر الخبر فيه). (¬4) رجع الكلام على سلّامة جارية يزيد بن عبد الملك، وهو في "تاريخ دمشق" ص 191 (طبعة مجمع دمشق - تراجم النساء). (¬5) في "الأغاني" 8/ 343، و"تاريخ دمشق" ص 191: ميتة.

إنَّ أهلَ الحِصَاب قد تركوني ... قلقًا مُولَعًا بحبِّ الحِصاب (¬1) ثم بكت وبكى الناسُ، وأرسلت إلى كلِّ واحد بثلاثة آلاف درهم (¬2). حديث حَبَابة: وهو لقبٌ لها. [قال المدائني: ] واسمُها العالية، وكنيتُها أمُّ داود، وكانت جارية لاحق، وقيل: لابنِ مينا، شتب بها وضَّاح اليمنى قبل أن تصل إلى يزيد. وكانت من مولَّدات المدينة، أخذت الغِناء عن ابن سُرَيج، وابن مُحرز، ومعبد، وغيرهم، وكانت من أحسن أهل عصرها وجهًا وغناء وشمائل (¬3). وقال المدائني: اشترى يزيد [بن عبد الملك] حَبّابة في حَجّته [التي حجّها] في خلافة أخيه سليمان بخمسة آلاف دينار (¬4) من عثمان بن سهل بن حنيف (¬5). وبلغ سليمان، فقال: لقد هممتُ أن أحجر على هذا المائقِ (¬6) السفيه. وكان يزيد يهابه وينقيه، فردّها على مولاها، فشخص بها إلى إفريقية، فباعها هناك، وبقي يزيد متلهفًا متحسِّرًا عليها. فلما ولي الخلافة قالت له سعدى (¬7): هل بقي في قلبك من أمور الدنيا شيء؟ قال: نعم، حَبّابة. قالت: وأين هي؟ قال: لا أعلم. ¬

_ (¬1) في (خ) (والكلام منها): الحباب (في الموضعين) بدل: الحِصاب، والمثبت من "تاريخ دمشق" 18/ 341 - 342 (مصورة دار البشير - ترجمة يزيد) وص 91 (تراجم النساء) وهو كذلك في "الأغاني" 8/ 343. والحِصاب: لغة في المحصَّب، والمراد به موضع رمي الحمار بمني، وينظر "معجم ما استعجم" 1/ 451، و (معجم البلدان) 5/ 62. (¬2) المصدران السابقان (الأغاني والتاريخ). ومن قوله: وكان تحته سعدى بنت سعيد بن خالد بن عمرو ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) ينظر "الأغاني" 15/ 122، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 298. (وترجمة حَبَابة ليست في المطبوع من "تاريخ دمشق". (¬4) في المصادر: آربعة آلاف. ينظر: أنساب الأشراف 7/ 200، وتاريخ الطبري 7/ 23. والأغاني 15/ 124، والمنتظم 7/ 109. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬5) قوله: من عثمان بن سهل بن حنيف، ليس في (ص). وهو في "تاريخ" الطبري 7/ 23. (¬6) في (خ): المنافق، والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في "أنساب الأشراف" 7/ 200. (¬7) في المصادر السابقة غير "المنتظم": سعدة.

فأرسلت وبحثت عن أمرها، فقيل: هي بإفريقية، فأرسلت رجلًا تثق به، وأعطته مالًا كثيرًا، فمضى إلى إفريقية، وبذل في ثمنها عشرة آلاف دينار (¬1)، واشتراها وحملها إلى دمشق، ففرحت بها، وألبستها أفخر الثياب والخليّ، وقالت لها: إنما اشتريتك ليزيد. فدَعَتْ لها. ثم قالت سعدى ليزيد: أُحبُّ أن تمضي إلى بستاني بالغوطة تتنزِّه [فيه] قال: نعم. وأرسلت إلى لبستان، فهيّأت الأطعمة، وفرشت المقاصير، وجاء يزيد فأكل وشرب، فقالت له سعدى: قد اشتريتُ لك جاريةً تغنِّي أصوات حَبابة. فقال: وأين هي؟ فضربت بينهم ستارة وقالت: يا جارية، غنِّي. فغنَّت صوتًا كان يزيد يحبُّه وهو لكُثَيِّر عَزَّة: وبين التراقي والفؤادِ حرارةٌ ... مكان الشَّجَا لا تستقلُّ فتبردُ (¬2) فصاح يزيد: صوتُ حَبّابة وربِّ الكعبة، وقام قائمًا، فقالت له سعدى: هي حَبَابة، وقد بعثت إلى إفريقية، فاشتريتها بعشرة آلاف دينار. فحَظِيت سعدي عنده، وارتفعت منزلتها، وقامَتْ ومضت، وتركته مع حَبَابة في البستان. فأقام ثلاثة أيام، فأخذ منه الشرابُ يومًا، فصَعِدَ إلى مستشرفٍ عالٍ وقال لها: غنِّي: وبين التَّراقي والفؤادِ حرارةٌ فغنَّتْ، فأهوى بنفسه وقال: أطيرُ. وأراد أن يُلقي نفسه، فتعلَّقت به وقالت: لنا فيك حاجة (¬3)، على من تترك الأمَّة؟ ! قال: أنت لهم (¬4). وبلغ أبا حمزة الخارجيَّ، فقال: يطيرُ إلى لعنة الله. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 7/ 200، و "تاريخ" الطبري 7/ 23: أربعة آلاف دينار. (¬2) كذا رواية "المنتظم" 7/ 110. وفي "تاريخ" الطبري 7/ 23: بين التراقي واللهاة حرارة ... ما تطمئنُّ وما تسوغ فتبردُ. وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 111. (¬3) قوله: لنا فيك حاجة، ليس في (ص). وجاء فيها آخر الخبر ما لفظُه: "وفي رواية أنَّه لما قال: أريد أطير، قالت حَبَابة: لنا فيك حاجة" .. وهي في "أنساب الأشراف" 7/ 201، و"تاريخ" الطبري 7/ 24. (¬4) ينظر إضافة الي المصدرين السابقين: الأغاني 15/ 140، والمنتظم 7/ 110، ومختصر تاريخ دمشق 7/ 300.

ثم توفّيت حَبَابة، فكانت سببًا لوفاته؛ بينا هو جالسٌ يومًا [معها] في مستشرف وقد قال للخادم: هذا يوم سروري، فلا ترفعنَّ إليّ شيئًا من أمور الناس. فأخذتْ رمَّانةً فأكلت منها حبَّة، فشَرقَتُ بها وماتت (¬1). وقيل: إن يزيد رماها بحبة عنب، فدخلت في فيها، فشَرِقَتْ بها، فماتت (¬2). فتركها في البيت حتى نَتَنَتْ، وحزن عليها حزنًا منعه من الطعام والشراب حتَّى مات كمدًا. [قال الهيثم: ] وخرج في جنازتها محمولًا فلم تحمله قدماه، فسقط إلى الأرض، فقال لمسلمة: صَلِّ عليها. ثم حُمل إلى قبرها وهو ينشد [قول كُثَيِّر]: وإنْ تَسْلُ عنكِ النَّفسُ أو تَدَعِ الصَّبَا ... فبالرُّغم (¬3) أسْلُو عنكِ لا بالتَّجَلُّدِ وكلُّ خليلٍ راءني فهو قائلٌ (¬4) ... مِنَ أجلكِ هذا هامةُ اليومِ أو غَدِ ثمّ حُمل إلى قصره، فما خرج إلا على النَّعْش (¬5). وأشار عليه مسلمةُ أن لا يخرج إلى الناس سبعة أيام لئلا يظهر منه شيءٌ يُسَفَّهُ به (¬6). وقال الهيثم: دفنها ثم نبشَها بعد ثلاث وقد نتَنَتْ، فرمى بنفسه عليها، ولم يمنعه شدةُ نتَنَها من ذلك، وجعل يلثمها ويَشَمُّها، وأعادها إلى قبرها، ولزمه (¬7). وعاش بعدها أربعين ليلة مريضًا، وقيل: خمس عشرة ليلة، وقيل: ثلاثة أيام. وقال الأصمعي: إنه دخل بعد موتها إلى خزائنها ومقاصيرها، فطاف فيها ومعه جارية لها، فترنَّمَت: ¬

_ (¬1) الأغاني 15/ 143، والمنتظم 7/ 111، ومختصر تاريخ دمشق 7/ 301. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 203، ونُسب الكلام في (ص) إليه. (¬3) في المصادر السابقة: فباليأس. (¬4) في (خ) (والبيتان منها): وكل رآني فهو لا شك قاتل. والمثبت من "الأغاني" 15/ 144، وفي "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 302: وكلُّ حبيب زارني. (¬5) بنحوه في "تاريخ دمشق" 18/ 342 (مصورة دار البشير - ترجمة يزيد بن عبد الملك). (¬6) تاريخ الطبري 7/ 24، وبنحوه في "الأغاني" 15/ 145. ولم يرد هذا القول في (ص). (¬7) لم أقف على هذا السياق، والذي في "أنساب الأشراف" 7/ 204، و"المنتظم" 7/ 111، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 302 أنها لما ماتت بقيت عنده ثلاثًا حتَّى أنتنت ... ثم أذن لهم في دفنها. وينظر "الأغاني" 15/ 144.

كفى حَزَنًا بالوالِهِ الصَّبِّ أن يَرَى ... منازلَ مَنْ يَهْوَى مُعَطَّلةً قَفْرَا فغُشيَ عليه، ثم حُمل إلى قبرها، فأقام ثلاثًا لا يأكل ولا يشرب، فلما كان في اليوم الرابع وجدوه ساجدًا عندها ميِّتًا (¬1). ومات في شعبان (¬2) [يوم الجمعة] لخمس بقين منه (¬3) [وهذا قول الواقدي وأبي معشر وغيرهما] (¬4). وقيل: يوم الخميس (¬5). ومات بالبلقاء بإرْبِد، وقيل: بالجَوْلان، فحُمل على أعناق الرجال إلى دمشق، فدُفن بالباب الصغير. [قال أبو القاسم ابن عساكر: ] قيل: إن حَبَابة ماتت ببيت رأس من الأردنّ، ودُفنت هناك، وأقام يزيد بعدها أيامًا، ثم مات، فدُفن إلى جانبها (¬6). وبيان سنُّه ثمانيًا وثلاثين سنة، وقيل: أربعين سنة، وقيل: ستًّا وثلاثين سنة، وقيل: خمسًا وعشرين، وقيل: سبعًا وعشرين سنة، وقيل: ثلاثًا وثلاثين سنة (¬7). ومدَّةُ خلافته أربعُ سنين وشهرًا، وقيل: وستة أشهر، وقيل: أربع سنين إلا ثلاثة أشهر (¬8). ورُويَ أنَّ بعضَ اليهود قال له: إنك تملكُ أربعين سنة، فقال آخر منهم: كذبَ لعنه الله، إنما رأى أنَّه يملكُ أربعين قَصَبة، والقَصَبةُ شهر، فجعلها سنةً (¬9). وقيل: إنه مات بعلَّة السُّلّ. ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 204 - 205، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 302. (¬2) في (ص): واتفقوا على أنَّه مات في شعبان ... (¬3) تاريخ الطبري 7/ 22، وتاريخ دمشق 18/ 345 و 346 (مصورة دار البشير - ترجمة يزيد بن عبد الملك). وقوله: يوم الجمعة (بين حاصرتين) استدركتُه منهما لقوله بعده: وقيل: يوم الخميس. (¬4) ما بين حاصرتين من (ص)، وكلام الواقدي وأبي معشر في المصدرين السابقين. (¬5) ثقات ابن حبان 2/ 319. (¬6) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 7/ 302. ومن هذا الموضع وحتى أول سنة (106) ليس في (ص). (¬7) ينظر "تاريخ دمشق" 18/ 342 - 343 (مصورة دار البشير- ترجمة يزيد) ولم أقف على من قال: إنَّ سنَّهُ خمس -أو سبع- وعشرون، وجاء في "المعارف" ص 364: أنَّه بلغ من السنّ تسعًا وعشرين. (¬8) تاريخ دمشق (النسخة المذكورة في التعليق السابق). (¬9) تاريخ الطبري 7/ 22.

وصلَّى عليه ابنُه الوليد وهو ابن خصس عشرة سنة وهشامٌ يومئذ بالرُّصافة، وقيل: بحمص. وخرج سريرُه وسلَّامةُ خلفَه تقول: لا تَلُمْنا إن خَشَعْنا ... أو هَمَمْنا بخشوعِ قد لَعَمْرِي بِتُّ لَيلِي ... كأخي الداءِ الوجيعِ ثم بات الهمُّ منّي ... دونَ مَنْ لي مِنْ ضجيعِ (¬1) للذي حَلَّ بنا اليَوْمَ ... من الأمر الفظيعِ كلما أبْصرْتُ رَبْعًا ... خاليًا فاضَت دموعي قد خلا من سيِّدٍ ... كانَ لنا غيرَ مُضِيعِ ثم صاحت: يا أمير المؤمنيناه (¬2). ذكر أولاده: الوليدُ؛ وَلَيَ الخلافة، ويحيى، وعاتكة، وأمُّهم أمُّ الحجَّاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجَّاج بن يوسف، وعبدُ الله، وعائشةُ؛ أمُّهما سعدى (¬3) بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -، والغَمْر لأمِّ ولد، وعبدُ الجبَّار وسُليم لأمِّ ولد، وهاشم وأبو سفيان لأمِّ ولد، وسليمانُ، وعبدُ المؤمن، وداود، والعوَّام؛ لأمَّهات أولاد. فأمَّا الوليد فسنذكره. وأما عبد الله فقد ولده سبعةٌ من الخلفاء: أبوه يزيد، وجدُّه عبدُ الملك، وجدُّ أبيه مروان، وجدُّه لأمِّ أبيه معاويةُ بن أبي سفيان، وجدُّه لأمِّه عثمان - رضي الله عنه -؛ لأنَّ أمَّه سعدى بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان، [وأمُّ عبد الله بن عمرو بن عثمان] ابنةُ عبد الله بن عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وكان لعبد الله هذا ولدٌ عظيم القَدْرِ عند المهديّ والرشيد اسمُه عبد المطَّلب (¬4). ¬

_ (¬1) في رواية "الأغاني" 8/ 348: ونجيُّ الهمِّ منّي ... باتَ أدنى من ضلوعي. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 22 - 23. وقال بعده: والشعر لبعض الأنصار. (¬3) في أنساب الأشراف 7/ 295: سعدة. (¬4) أنساب الأشراف 7/ 295 - 296، وما سلف بين حاصرتين منه. واسم أم عبد الله بن عَمرو حفصة.

وأمَّا الغَمْرُ؛ فكان أحدَ الأجواد الممدَّحين، ولَّاه أخوه الوليد بن يزيد غَزْوَ الصائفة، وكانت دارُه بدمشق قِبَلَ (¬1) زقاق العجم. قتلَه عبدُ الله بن عليّ بنهر أبي فُطْرس (¬2) سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وفيه يقول الشاعر: إذا عدَّدَ الناسُ المكارمَ بينَهم ... فلا يَفْخَرَنْ يومًا على الغَمْرِ فاخرُ فما مرَّ مِنْ يومٍ مِنَ الدهرِ واحدٌ ... على الغَمْرِ إلَّا وَهْوَ للناسِ غامرُ (¬3) وهو صاحب سَيح الغَمْر باليمامة (¬4). ولما قدَّمه [عبد الله بن] علي بن عبد الله ليقتلَه قال: إني شيخٌ كبير، وإنْ تركتَني كفيتُك مؤونة قتلي. فقال عبدُ الله بنُ عليّ: قد كان الحُسين شيخًا كبيرًا فقتلتموه. وضربَ عنقه، فعنَّفَ الحاضرون عبدَ الله بنَ علي وقالوا: وهل كان هذا موجودًا في زمن الحسين؟ ! قتلتَ هذا الجواد الممدَّح (¬5)! وأمَّا سُليمان بنُ يزيد؛ فكان ممن أعانَ على قتل أخيه الوليد بن يزيد مع يزيد بن الوليد. بعثَ إليه (¬6) عبدُ الله بنُ علي جيشًا إلى البلقاء، فقتلَه. وأما عبد المؤمن بن يزيد فكان يسكن باب الجابية بدمشق (¬7). ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 57/ 314 (طبعة مجمع دمشق): قبلة. (¬2) في (خ) بطرس، والمثبت من المصدر السابق. ونهر أبي فطرس قرب الرملة بفلسطين. ينظر "معجم البلدان" 4/ 267 و 5/ 315. (¬3) نُسب البيتان في "أنساب الأشراف" 7/ 295 لإسماعيل بن يسار مولى بني تيم بن مُرّة، وجاء البيت الأول مع بيت آخر في ترجمة الغَمْر في "تاريخ دمشق" 57/ 315 (طبعة مجمع دمشق) ونُسب فيه لأبي المهاجر معدان مولى آل أبي الحكم. (¬4) السَّيْح: الماء الجاري، وسَيح الغَمْر باليمامة أسفل المجازة. ينظر "معجم البلدان" 3/ 294. (¬5) الخبر في "أنساب الأشراف" 7/ 296 مختصر. وما سلف بين حاصرتين مستفاد منه. (¬6) يعني إلى سليمان بن يزيد. وينظر "تاريخ دمشق" 7/ 654 (مصورة دار البشير). (¬7) تاريخ دمشق 43/ 320 (طبعة مجمع دمشق).

الأحوص الشاعر

ومن الوافدين على يزيد بن عبد الملك: الأحوص الشاعر وهو عبدُ الله [بن محمد بن عبد الله] بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وجدُّ أبيه عاصم بن أبي الأقلَح من كبار الأنصار، واسمه قيس (¬1) بن عصمة، وابنُه عاصم شهد بدرًا، وقُتل يوم الرَّجيع، وهو حَمِيُّ الدَّبْر (¬2). والأحوص ابن خال حنظلة (¬3) غسيل الملائكة، وكنية الأحوص أبو محمد، [وهو] من الطبقة السادسة من الشعراء الإسلاميين (¬4). وكان الوليد بن عبد الملك نفاه إلى دَهْلَك -جزيرة بأرض الحبشة- فلم يزل بها أيام الوليد وسليمان، فلما وَلِيَ عُمر بن عبد العزيز رجع إلى المدينة وقال: قد وَلَيَ رجلٌ أنا خالُه، فما يصنع بي -وكانت أمُّ عمر بن عبد العزيز أمَّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأمّها بنتُ عاصم بن ثابت بن أبي الأَقْلَح الأنصاري - فبعث عمر - رضي الله عنه - فنفاه إلى دَهْلَت، فأقام بها. فلمَّا وَليَ يزيد بن عبد الملك رجع إلى المدينة (¬5). قال المعافَى: عزم مَعْبَد المغنِّي والأحوص على زيارة يزيد بن عبد الملك فترافَقَا، فلمَّا وصلا إلى البلقاء أصابهم مطر في الليل، فأصبحت الغُذران مملوءةً، فقالا: لو أقمنا يومنا هذا. فأقاما. ¬

_ (¬1) يعني اسم أبي الأقلح، وينظر "الأغاني" 4/ 224. (¬2) قال أبو الفَرَج (في المصدر السابق): كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَه (يعني عاصمًا) بَعْثًا، فقتله المشركون، وأرادوا أن يصلبوه، فحَمَتْة الدَّبْرُ -يعني النَّحل- فلم يقدروا عليه حتى بعث الله الوادي في الليل (يعني السيل في الوادي) فاحتمله، فذهب به. (¬3) كذا في (خ) (والكلام منها) وهو خطأ. وذكر الثعالبي في "ثمار القلوب" ص 64 أن حنظلةَ خالُ أبي الأحوص ... وأنشد بيت الأحوص: غسَّلَتْ خَاليَ الملائكةُ الأبْـ ... ــرارُ مَيتًا أكْرِمْ به من صريعِ وهو بنحوه في "الأغاني" 4/ 234 مع بيتين آخرين. (¬4) كذا ذكره ابن سلّام في "طبقات فحول الشعراء" 2/ 655، ونقله أبو الفَرَج في "الأغاني" 4/ 233. (¬5) مختصر تاريخ دمشق 13/ 278. وينظر ما سلف في ترجمة عِراك بن مالك الغفاري سنة (104).

ورُفع لهم قصرٌ، وإذا بجارية قد خرجت ومعها جَرَّةٌ، فاستقت من الغدير، فسقطت الجَرَّةُ من يدها، فانكسرت، فجلست تبكي، فسألا عن حالها، فقالت: كُنْتُ لرجل من قُريش، فاشتراني رجل من بني عامر بخمسين ألفَ درهم، وهو صاحبُ هذا القصر، فنزلتُ من قلبه ألطفَ منزلة، ثم تزوَّج ابنةَ عمٍّ له، فأساءت إليَّ، وكلَّفتني أن أستقيَ بالجَرَّة كلَّ يوم من هذا الغدير، فشكوتُ إليه، فقال: إنها ابنةُ عمِّي وأنت أَمَةٌ، فلم يَشْكُني، وربَّما أذكر ما كُنْتُ فيه، فوقعت الجَرَّةُ من يدي، فانكسرت. وكان بين أيديهما عودٌ فأخذَتْه وضربَتْ به وغنَّتْ تقول: يا بيتَ عاتكةَ الَّذي أتعزَّلُ ... حَذَرَ العِدَى وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ إني لَأَمنحُكَ الصُّدودَ وأنَّني ... قَسَمًا إليكَ مع الصُّدودِ لَأَمْيَلُ ولقد نزلتَ من الفؤادِ بمنزلٍ ... ما كان غيرُكَ والأمانةِ ينزلُ ولقد شكوتُ إليكَ بعضَ صَبَابتي ... ولَمَا كتمتُ من الصَّبَابةِ أطولُ هل عيشُنا بكَ في زمانكَ راجعٌ ... فلقد تفحَّشَ بعدكَ المتعلِّلُ أعرضتُ عنكَ وليس ذاك لبَغْضَةٍ ... أخشى مقالةَ كاشحٍ لا يعقلُ قال: ثم بكت بكاءً شديدًا حتَّى أبكتهما. قال: فقلنا لها: لمن هذا الشِّعر؟ قالت للأحوص. قلنا: والصوت؟ قالت: لمَعْبَد. فقلنا: أفتَعْرِفينهما؟ قا لت: لا والله. فقال: أنا الأحوص، وهذا مَعْبَدَ، ونحن قاصدان يزيد بنَ عبد الملك، فأنشأت تقول: إنْ تراني الغَدَاةَ أسْعَى بِجَرٍّ ... أستقي الماءَ نحوَ هذا الغديرِ فلقد كنتُ في رخاءٍ من العَيـ ... ـشِ وفي كلِّ نعمةٍ وسرورِ ثم قد تُبصِرانِ ما فيه أصْبَحْـ ... ـتُ وماذا إليه صارَ مصيري أَبْلِغا عنيَ الإمامَ وما يَبْـ ... ـلُغُ صدقَ الحديث مثلُ الخبيرِ أنَّني أَضْرَبُ الخلائقِ بالعُو ... دِ وأَحْكَاهُمُ بِبَمٍّ وزِيرِ (¬1) فلعلَّ الإلَهَ يُنْقِذُ ممَّا ... أنا فيه فإنَّني كالأسيرِ ليتني مِتُّ يومَ فارقْتُ أهلي ... وبلادي وزُرْت أهلَ القبورِ ¬

_ (¬1) البَمُّ: الوتر الغليظ من أوتار العُود، ويقابله في العُود الحديث العُشَيران، والزِّير: الدقيق من الأوتار وأحدُّها، ويقابل البَمّ في العُود. ينظر "المعجم الوسيط".

قال: فلمَّا قدمنا على يزيد أخبرناه خَبَرها، فأرسل إلى مولاها، فاشتراها بمئة ألف درهم، فلما قَدِمَتْ عليه حَظِيَتْ عنده، وبعثَتْ إلينا بالهدايا والألْطَاف (¬1). وقوله: يا بيت عاتكة، ما أرادَ عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وإنما أرادَ عاتكة أخرى يقال لها: أمّ جعفر، كانت عفيفةً صالحة، شبَّبَ بها الأحوص، وقفت عليه يومًا وهو في نادي قومه، فقالت له: اقضِ ثمنَ الغنم التي اشتريتَ منّي. فقال: واللهِ ما أعرفُكِ ولا رأيتُكِ قبل اليوم! فقالت لقومه: خوِّفوه من الله تعالى. فكرَّرَ الأَيمان أنَّه ما رآها قبل اليوم، فكشفَتْ وجْهَها وقالت: يا عدوَّ الله، فأنا عاتكة (¬2) التي شَبَّبْتَ بي وفضحتَني في شعرك. فانكسر الأحوص، وبرئت المرأة. وقال الرِّياشيّ: كتبَ الأحوص إلى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - من دَهْلَك: وكيف تَرَى للنومِ طَعْمًا ولَذَّةً ... وخالُك أَمْسَى مُوثَقًا في الحبائلِ فمَنْ كان أمسى سائلًا عن شماتةٍ ... ليشمتَ بي أو شامتًا غير سَائلِ فقد عَجَمَتْ (¬3) مني الحوادثُ ماجدًا ... صَبُورًا على غَمَّاءِ تلك البلابلِ إذا سُرَّ لم يَفْرَحْ، وليس لِنَكْبَةٍ ... أَلَمَّتْ به بالخاشعِ المتضائلِ (¬4) وقال جعفر بن سليمان: ما سمعتُ بأشعرَ من القائل: إذا رُمْتُ عنها لسَلْوة قال شافعٌ ... من الحُبِّ ميعادُ السُلُوّ المقابِرُ فقيل له: بلى، الأحوص، حيث يقول: سيَبْقَى لها في مُضْمَرِ القلبِ والحَشَا ... سَرِيرَةُ وُدِّ يومَ تُبْلَى السَّرائرُ (¬5) ¬

_ (¬1) ينظر "الأغاني" 21/ 108 - 109، و"مختصر تاريخ دمشق" 13/ 278 - 280 (وليس لديّ ترجمة الأحوص في "تاريخ دمشق" (وأورد ابن عساكر القصة أيضًا في "تاريخه" 19/ 603 (مصورة دار البشير) في ترجمة أم سعيد شاعرة حجازية. ونقل أبو الفرج بإثر القصة عن مصعب الزبيري قوله: أظنُّ القصة كلَّها مصنوعة. (¬2) في "الأغاني" 6/ 258 (والخبر فيه بنحوه): أنا أمُّ جعفر. (¬3) أي: اختبرت وامتحنت. (¬4) ينظر "الأغاني" 4/ 247 و 9/ 65 - 66. (¬5) الأمالي لأبي علي القالي 2/ 166. وفي "الأغاني" 4/ 248 أن عمر بن عبد العزيز ذكر بيت الأحوص هذا ثم قال: إن الفاسق عنها يومئذٍ لمشغول. قلتُ: وقد قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلا الْمُتَّقِينَ}. وقال أيضًا: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. ومن قوله: وكان سنُّه ثمانيًا وثلاثين سنة (قبل ست صفحات) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

السنة السادسة بعد المئة

السنة السادسة بعد المئة فيها عزل هشام بن عبد الملك عُمر بنَ هُبيرة عن العراق كلّه، وولَّاها خالدَ بنَ عبد الله القَسْريّ (¬1). قال سليمان بنُ زياد: كان عُمرُ بنُ هُبَيرة واليًا على العراق، فلمَّا مات يزيد وقام هشام؛ قال عُمر بنُ هُبيرة: يُوَلِّي هشامْ العراقَ أحدَ رجلين: سعيدًا الحَرَشيّ، أو خالدًا القَسْريّ، فإنْ وَلَّى ابنَ النصرانية خالدًا؛ فهو البلاء. فولَّى هشامٌ خالدًا، فقدم واسطًا وقد أُوذِنَ عُمرُ بنُ هُبيرة بالصلاة، فهو يتهيَّأ لها وقد اعتمّ وهو يُسوِّي عِمامتَه، فقيل له: هذا خالد قد قدم. فقال: هكذا تقوم الساعة. أي: تأتي بغتة. فأخذ خالدٌ عُمر فقيَّده وكبَّلَه، وألبسَه مِدْرَعةَ شعر، وعذَّبه عذابًا وجيعًا، فقال له عمر: بئس ما سنَنْتَ على وُلاة العراق، أما تخافُ أن يُفعل بك مثل هذا (¬2)؟ فلما طال حَبْسُ عمر؛ اكترى مواليه دارًا إلى جانب الحَبْس ونَقَبُوا سَرَبًا إليه، وأعدُّوا خيلًا وأخرجوه ليلًا إلى الشام. وتبعه سعيد الحَرَشي، فحال الفرات بينهما (¬3). وقيل: إنه أدركه فاصطنعه (¬4). وأتى ابنُ هُبيرة مسلمةَ بنَ عبد الملك، فاستجارَه، فأجاره (¬5)، وأنزله معه في داره، وجاء وقت الفجر إلى هشام، فصلَّى خلفه، فلما سلَّم قال له هشام: أظنُّ أنَّ ابنَ هُبيرة طرقك في هذه الليلة. قال: نعم، وقد أجَرْتُه فهَبْهُ لي. قال: قد وهبتُه لك. وفي ذلك يقول الفرزدق: ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 26 في أحداث سنة 105، وذكره المصنف ثمة. (¬2) تاريخ دمشق 54/ 309 (طبعة مجمع دمشق - ترجمة عمر بن هبيرة). (¬3) المصدر السابق 54/ 310 - 311. وينظر ما سلف أواخر أحداث سنة (104). (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 17. (¬5) جاء في "أنساب الأشراف" 7/ 380 - 381 أن قيسًا أشارت عليه بأن يستجير بأبي شاكر مسلمة بن هشام، فقال: صبيّ، ولكني أستجيرُ بأبي سعيد مسلمة بن عبد الملك ... وفي "تاريخ دمشق" 54/ 310 أن مسلمة بن هشام أبا شاكر هو الَّذي أجاره.

عبد الواحد بن عبد الله

ولمَّا رأيتَ الأرضَ قد سُدَّ ظهرُها ... ولم تَرَ إلا ظهرَها لك مَخْرَجا دعوتَ الَّذي ناداه يونس بعدَ ما ... ثَوَى في ثلاثٍ مُظْلِماتٍ فَفَرَّجا وأصبحتَ تحتَ الأرضِ قد سِرْتَ ليلةً ... وما سار سارٍ مثلَها حين أدْلَجَا (¬1) وفيها عزلَ هشامُ بنُ عبد الملك [عن المدينة]: عبدَ الواحد بنَ عبد الله ابن كعب بن عُمير النَّصْري، ويعرف بابن بُسْر، وكنيتُه أبو بُسْر، كانت له دارٌ بدمشق في سوق القمح تُعرف بدار العميان، وهو من الطبقة الثالثة من أهل الشام. قال أبو زُرْعة الدمشقيّ: هو جَدُّنا. ولأبيه عبد الله صحبة. وكان عبدُ الواحد رجلًا صالحًا؛ حجَّ بالناس سنة أربع ومئة لمَّا نُزِعَ عن المدينة عبدُ الرحمن الفِهْرِي (¬2)، ولم يَقْدَمْ إليهم والٍ أحبَّ إليهم من عبد الواحد، كان يذهبُ مذاهبَ الخير، ويستشير الفقهاء، كسالم، والقاسم. وقال مصعب الزُّبيري: ثبتَ في أيامه بالمدينة أوقافٌ؛ كثيرة من أوقاف الصحابة، منها وَقْفُ الزبير بن العوَّام - رضي الله عنه -، فهو ثابت إلى اليوم (¬3). ولما عزله هشام صعد المنبر وقال: يا أهل المدينة، واللهِ ما أبكي جَزَعًا من العَزْل، ولا ضَنًّا بالولاية، ولكن أَربأُ بهذه الوجوه المجاورة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتبدَّلَها غيري من لا يعرف من حقِّها ما أعرف، وإني وإياكم كما قال أخو كِنانة: فما القَيدُ أبكاني ولا السجنُ شَفَّني ... ولكنّني من خشية النارِ أجْزَعُ بلى إن أقوامًا أخافُ عليهمُ ... إذا مِتُّ أن يُعطوا الَّذي كُنْتُ أمنعُ فبكى الناس؛ لأنه كان مُحسنًا إليهم، لم يجعل بينه وبينهم حجابًا قطّ (¬4). ¬

_ (¬1) المصدران السابقان. (¬2) هو عبد الرحمن بن الضحاك، وسلف ذكر سبب عزله في سنة (104). (¬3) ينظر ما سلف من هذه الترجمة في "تاريخ دمشق" 44/ 11 - 17 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) لم أقف على هذه القصة لعبد الواحد النصري، وهي في "عيون الأخبار" 1/ 56 - 57 لعبد الرحمن بن الضحاك. وذكر ابن عساكر في و"تاريخ دمشق" 9/ 984 (مصورة دار البشير) روايةً جاءت القصة فيها لمحمد =

أسند عبدُ الواحد عن واثلة بن الأسقع، وعن أبيه عبد الله بن بُسْر، وروى عنه حَريزُ بنُ عثمان، والأوزاعي، وغيرُهما. وفيها ولَّى هشامُ بنُ عبدِ الملك الحُرَّ بنَ (¬1) يوسف بن الحكم بن أبي العاص مصر، فأقامَ واليًا عليها ثلاث سنين، وعزله هشام سنة ثمان ومئة (¬2). وفيها وُلد عبد الصمد بنُ علي بن عبد الله بن العباس في رجب (¬3). وفيها غزا الحخاجُ بنُ عبد الملك بن مروان اللَّان (¬4)، فقتل وسَبَى، فصالحوه على مال، وأدَّوْا إليه الجزية. وفيها مات سالم بن عبد الله، وطاوس اليمانيّ. وفيها استقضى إبراهيمُ بنُ هشام عاملُ المدينة محمدَ بنَ صفوان الجُمحي، ثم عزلَه واستقضى الصَّلْت الكِنْديّ (¬5). وفيها كانت وقعةٌ بأرض بَلْخ -بمكان يقال له: البَرُوقان- بين المُضَريَّة واليمانية وربيعة، وكان مسلم بن سعيد قد قطع النهر، وتأخَّر عنه جماعة منهم عمرو بن مسلم وأبو البختري (¬6)، فقال مسلم لنصر بن سيَّار وكان في عسكره: مُرْهم فليلحقوني. ¬

_ = ابن الضحاك، ثم نبَّه على أنها لعبد الرحمن بن الضحَّاك، ونُسب البيتان في "عيون الأخبار" لدرَّاج الضَّبابي، وعجز البيت الأول فيه: ولا أنني من خشية الموت أجزعُ. وأوردهما ابن عساكر أيضًا 3/ 76 (مصورة دار البشير) في ترجمة الأقيبل. (¬1) في (خ) (والكلام منها): الحرث (يعني الحارث) بدل: الحر بن، وهو تحريف. (¬2) ولاة مصر ص 95، وتاريخ دمشق 4/ 341 (مصورة دار البشير)، والنجوم الزاهرة 1/ 258. ولكن ذكر ابنُ الأثير في "الكامل" 5/ 132 أن الحرَّ بن يوسف وَلِيَ الموصل سنة (106). (¬3) تاريخ الطبري 7/ 29. وعبد الصمد: هو عمّ السفاح والمنصور، وَلِيَ إمرة دمشق وغيرها. (¬4) كذا في "تاريخ" الطبري 7/ 29، و"البداية والنهاية" 13/ 20. وجاء في "الكامل" 5/ 134: الجرَّاح بن عبد الله. وفي "تاريخ دمشق" 4/ 200: الحجَّاج بن عبد الله الحَكَمي، وهو الأشبه، فقد ذكر ابنُ عساكر فيه أن أخاه الجرَّاح ولّاه إمرة الجيش، فغزا اللَّان سنة (106). واللَّان: بلاد واسعة في طرف أرمينية. وسلف ذكرها في السنة قبلها. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 29. ومن قوله: فيها عزل هشام بن عبد الملك عمر بن هبيرة (أول سنة 106) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 30 و"الكامل" 5/ 127 (في الموضعين): البختري (اسم وليس كنية).

فأمرهم فعصَوْا عليه وقاتلوه، فقاتلَهم نصر فنُصر عليهم، وأخذ عَمرَو بنَ مسلم وأبا البختري، وحملا إلى مسلم بن سعيد، فعفا عنهما. وفي هذه الغزوة عزلَ خالدُ بن عبد الله القَسْريُّ مسلمَ بنَ سعيد، وكان قد قطعَ النهر ووصل بُخَارَى، فجاءه كتاب خالد يقول: تِمَّ على غَزاتك (¬1). فسار إلى فَرْغانة، وبلغَه أنَّ خاقان قاصدٌ إليه، فأرسل بعض العسكر، والتقَوا، فظهر عليهم خاقان، وعاد مسلم طالبًا للنهر والعدوُّ خلفَه، فأحرقَ من الأمتعة ما قيمتُه ألفُ ألفٍ، ولقيَ الناسُ من العطش أمرًا عظيمًا، ومات منهم جماعة. وفي رجوع مسلم إلى آمِد (¬2) ورد كتاب أسدِ بن عبد الله القَسْريّ، أخو خالد، وكان قد ولَّاه خالد خُراسان، فبعث بعهده إلى عبد الرحمن بن نُعيم نيابة عنه، فقال مسلم: سمعًا وطاعة. وفيها: قدم أسدُ خُراسانَ -وكان مسلمٌ بفَرْغانة- وقطع النهرَ حتَّى أتى مَرْجَ السُّغْد، فنزلَ به، وعلى خَراج سَمَرْقَند هانئُ بنُ هانئ، فخرج بالناس للقاء أسد، فوافاه بالمَرْج جالسًا على حجر [فتفاءل الناس فقالوا: أسد على حجر] ما عند هذا خيرٌ. وقال أسد: مَنْ ينشُطُ بالمسير (¬3) إلى العسكر وله ثلاثةَ عشرَ درهمًا، وها هي في كُمِّي. وإنَّه ليبكي ويقول: إنما أنا رجلٌ منكم. وبعث إلى عبد الرحمن بن نُعيم بعهده على الجند، ولمَّا علمَ الناسُ بعزل مسلم؛ شتمه بعضُهم، وقنَّعَه عَمرو بن هلال السَّدُوسيّ سَوْطَين (¬4) لِما كان منه إلى بكر بن وائل يوم البَرُوقان، فغضب عبد الرحمن الأمير الجديد، وأغلظ لهم، وأبعدَهم عنه، وسار إلى سمرقند، فوافَى أسدَ بنَ عبد الله بها. وشخص أسدٌ إلى مَرْو، واستعمل على سمرقند الحَسَنَ بنَ أبي عَمَرَّطَة الكِنْديَّ، فقَدِمَتْ على الحسن امرأتُه الجنوب بنتُ القعقاع بن الأعلم الأزدي، فخرج للقائها، ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 33 (والخبر فيه بنحوه): أتمم غزاتك. (¬2) كذا في (خ) (والكلام منها). ولعل الصواب: آمُل، يعني آمُل جَيحُون. (¬3) في (خ): السير، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 37. والكلام السالف بين حاصرتين منه. (¬4) أي: علاه بسوطين. ووقع في (خ): الدوسي، بدل السدوسي، والمثبت من "تاريخ" الطبري.

وجاء التُّرك إلى سمرقند في سبعة آلاف، فتباطأ حتَّى أغاروا، ولم يلقَهم ومَضَوْا، فقال الناس: إنَّما خرج للقاء امرأتِه. وبلغَه فخطب وقال: يعيبون عليَّ! ثم دعا على التُّرك، فقال: اللهم اقْطَعْ آثارَهم، وعَجِّلْ بَوَارهم (¬1). [وكان خليفته حين خرج إلى الترك ثابت قطنة، فخطب الناس فحُصِرَ] (¬2) ثم قال: ومَنْ يُطع اللهَ ورسولَه فقد ضلَّ. وأُرْتجَ عليه، فلما نزل عن المنبر قال: فإنْ لم أكنْ فيكم خطيبًا فإنَّني ... بسيفي إذا جَدَّ الوَغَى لَخَطيبُ فقيل: لو قلتَ هذا [على] المنبر لكنتَ خطيبًا! فقال حاجب الفيل اليشكري: أبا العلاءِ لقد لاقَيتَ مُعْضِلةً ... يومَ العَرُوبة من كَرْبٍ وتَخْنيقِ تلوي اللسانَ إذا رُمْتَ الكلامَ بهِ ... كما هوى زَلِقٌ من شاهقِ النِّيقِ (¬3) أمَّا القُرانُ فلا تُهْدَى لِمُحْكَمِهِ ... من الكتاب ولا تُهْدَى لتوفيقِ (¬4) وحجَّ بالناس في هذه السنة هشامُ بنُ عبد الملك بالاتِّفاق. قال أبو الزِّناد: كتب إليَّ هشامٌ قبل أن يصلَ إلى المدينة أنِ اكْتُبْ لي مناسكَ الحجّ وسُنَنَه. فكتبتُها له، وخرجتُ للقائه، فإني في الموكب خلفَه وقد لقيَهُ سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، فنزل فسلَّم عليه، ثم سارَ إلى جانبه، فصاح هشام: يا أبا الزّناد. فتقدَّمتُ إليه، وسرتُ من الجانب الآخَر. فأسمعُ سعيدًا يقول له: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الله لم يزل يُنعم على أهلِ بيت أمير المؤمنين، وينصرُ خليفتَه المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب، فأميرُ المؤمنين ينبغي له أن يلعنه. قال: فشقَّ على هشام كلامُه وثقُل عليه وقال: ما قدمنا لشتم أحدٍ ولا للعْنِهِ، قدمنا حُجَّاجًا. ثم قطع كلامه وأعرضَ عنه، وأقبل عليَّ وقال: يا عبد الله بن ذكوان، ¬

_ (¬1) الكلام بنحوه أطول منه في "تاريخ" الطبري 7/ 38. (¬2) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري، ولا بدَّ منه، فلولاه يعود الكلام على الحسن بن أبي العمرَّطة، وهو خطأ. وهذا الخبر لثابت قطنة مشهور. (¬3) النِّيق: أرفع موضع في الجبل. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 37 - 38. وذكر الأصبهاني في "الأغاني" 14/ 264 أن القصة جرت لثابت قطنة عندها تقدَّم يزيد بن المهلَّب إليه في أن يصليَ بالناس الجمعة. ومن قوله: وتأخّر عنه جماعة منهم عمرو بن مسلم (قبل صفحتين) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

سالم بن عبد الله

فرغتَ مما كتبتُ إليك؟ قلت: نعم. قال أبو الزِّناد: وثقُل على سعيد ما حضرتُه يتكلَّم به، فرأيتُه منكسرًا كلَّما رآني (¬1). وكان العاملَ في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف إبراهيم بنُ هشام، وعلى العراق خالد القَسْريّ، وعلى خُراسان أخوه أسد، وعلى شرطة البصرة مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى قضائها ثُمامة بن عبد الله بن أنس (¬2). وفيها توفي سالم بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-، وكنيتُه أبو عُمر، وقيل: أبو عبد الله. [وسالم]، من الطبقة الثانية من أهل المدينة، وأمُّه أمُّ ولد [يقال لها: أم سالم]. وكان من خيار قريش وفقهائهم وزُهَّادهم. وكان عبد الله بنُ عمر يُلام في حبِّه فيقول (¬3): يلومُونني في سالمٍ وألُومُهُمْ ... وجِلْدَةُ بينَ العينِ والأنفِ سالمُ [وقد ذكرناه في ترجمة الحجاج بن يوسف]. وكان أبوه يقبِّلُه ويقول: شيخٌ يقبِّلُ شيخًا، ويقول: أُحبُّه حبَّ الإسلام وحبَّ القرابة. قال: وكان أبيض الرأس واللحية، وكان قميصه إلى أنصاف ساقيه] (¬4). [وقال مالك بن أنس: ] كان سالمٌ يلبس الثوب يساوي درهمين، ولم يكن في زمانه أعبدَ ولا أزهدَ ولا أفقه منه (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 35 - 36. (¬2) المصدر السابق 7/ 39. وهذه الفقرة والقصة قبلها لم تردا في (ص). (¬3) عبارة (ص): وحكى ابن سعد بإسناده عن خالد بن أبي بكر قال: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يُلام في حبِّ سالم فيقول ... والخبر في "طبقات" ابن سعد 7/ 195، وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخه " 7/ 27، والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬4) الكلام بين حاصرتين من (ص)، وينظر في المصدر السابق 7/ 195 - 196. (¬5) تاريخ دمشق 7/ 27 (مصورة دار البشير)، وصفة الصفوة 2/ 91، والمنتظم 7/ 114.

[وقال محمد بن إسحاق: ] كان يخرج إلى السوق، فيشتري حوائجه بنفسه. و[حكى الحافظ الدمشقي أن سالمًا] ما كان يأكل في بيته طعامًا إلا ومعه مسكين، فخرج مولاه يومًا يطلبُ مسكينًا، فلم يجد إلا عجوزًا عمياء حَدْباء، فأدخلها، فأكلت معه. وكان أهلُ المدينة يكرهون أمَّهاتِ الأولاد حتَّى نشأ فيهم القُرَّاء السادة: عليّ بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهلَ المدينة علمًا وتقًى وزُهدًا وعبادة وورعًا، فرغب الناسُ حينئذ في اتِّخاذ السَّرَاري (¬1). و[قال المدائني: ] لما احتُضر عبدُ الله بنُ عمر أوصى إلى ابنه عبد الله بن عبد الله، فقيل له: تركتَ سالمًا، وهو أسنُّ من عبد الله! فقال: أكره أن أُدنِّسَ سالمًا بالوصية وأُشغلَه عن العبادة. ولما خرجت جنازة عبد الله بن عمر قال عبد الله لأخيه سالم: تقدَّم فصلِّ على أبيك. فقال [سالم]: يقدِّمُك أبي، وأؤخِّرك أنا! لا يكونُ ذلك أبدًا (¬2). ودخل سالم على (¬3) سليمان بن عبد الملك وعليه ثيابٌ غليظة رَثَّة، فلم يزل سليمان يُدنيه حتَّى أجلسَه معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، وفي أُخريات الناس رجلٌ عليه ثياب لها قيمة، فقال الرجل لعمر: أَمَا قَدَرَ خالُك أن يلبس ثيابًا غير هذه؟ ! فقال له عمر: ما رأيتُ الثيابَ التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثيابك هذه رفعَتْك إلى المكان الَّذي فيه خالي. [قال القاضي: لقد أحسن عمر في جوابه، وأجاد في الذَّبِّ عن خاله]. ورأى سليمان سالمًا حَسَنَ السَّحْنة (¬4)، فقال له: أيُّ شيء تأكلُ؟ قال: الخبز والزيت. فعجب سليمان منه. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 7/ 28 (مصورة دار البشير). ولم ترد هذه الفقرة في (ص). (¬2) المصدر السابق 7/ 29 - 35. وكلُّ ما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) في (ص): ذكر المعافى بن زكريا أن سالمًا دخل على ... إلخ وهو في "تاريخ دمشق" 7/ 30 (مصورة دار البشير) والكلام الآتي بإثر الخبر بين حاصرتين من (ص). (¬4) عبارة (ص): وروى ابن أبي الدنيا أن سليمان رأى سالمًا حسن السَّحنة ... وينظر المصدر السابق 7/ 27 و 33، و"صفة الصفوة" 2/ 91، و"المنتظم" 7/ 114.

ودفع الحجَّاجُ إليه سيفًا (¬1)، وأمره أن يقتل رجلًا، فقال سالم للرجل: أمسلمٌ أنت؟ قال: نعم. قال: أصليتَ اليوم الصبح؟ قال: نعم. [قال: ] فرجع إلى الحجَّاج، ورمى بالسيف، فقال الحجَّاج: لِمَ لم تقتله؛ قال: لأنه ذكر أنَّه مسلمٌ، وأنه صلَّى اليوم صلاةَ الصبح، وقد أخبرني أبي عن أبيه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صلَّى صلاة الصُّبح فهو في ذمَّة الله تعالى" (¬2). فقال [له] الحجَّاج: إنما تقتلُه لأنَّه ممَّن أعانَ على قَتْلِ عثمان. فقال سالم: ها هنا مَنْ هو أولى بعثمان منّي. و[روى ابن أبي الدنيا أن سالمًا] رأى في المنام كأنَّه يقرع باب الجنّة. قيل: من؟ قال: سالم. قيل: كيف نفتح لمن لم تَغْبَرَّ قدماه في سبيل الله؟ ! فلما أصبح خرج غازيًا إلى الشام (¬3). وزحم رجلًا في السوق، فقال الرجل له (¬4): ما أراك إلا رجلَ سُوء. فقال سالم: ما أحسبُك أبعدتَ! وكان سالم يقوم الليل. ذكر وفاته: [حكى ابنُ سعد بإسناده عن عبد الله بن عمر بن حفص قال (¬5): نظر هشام بن عبد الملك إلى سالم بن عبد الله بن عمر يوم عرفة في ثوبين متجرّدًا، فرأى فيه كِدْنة حسنة، فقال: ما طعامُك يا أبا عُمر (¬6)؛ قال: الخبز والزيت. فقال هشام: فكيف تستطيع ¬

_ (¬1) في (ص): وقال ابن سعد بإسناده عن عطاء بن السائب قال: دفع الحجاج بن يوسف إلى سالم بن عبد الله سيفًا ... والخبر في "طبقات" ابن سعد 7/ 195، وتاريخ دمشق 7/ 29. (¬2) أخرجه ابن سعد (كما سلف). وأخرجه أيضًا من طريق سالم عن أبيه مرفوعًا: الطبراني في "العجم الكبير" 12 / (13210). وأخرجه مسلم (657) من حديث جندب بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬3) تاريخ دمشق 7/ 32. (¬4) كذا في (خ) والخبر منها، ولم يرد في (ص)، وهو في "تاريخ دمشق" 7/ 32، و"صفة الصفوة" 2/ 90، و"المنتظم" 7/ 114 وفيها أن رجلًا زحم سالمًا، فقال له سالم: في بعضَ هذا رحمك الله! فقال له الرجل ... إلخ. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 199. وأخرجه من طريقه ابن عساكر "تاريخ دمشق" 7/ 33 - 34. (¬6) في (ص) (والكلام منها، وهو الواقع بين حاصرتين): يا أبا عمرو. والمثبت من المصدرين السابقين، وهو الصواب.

أكلهما؟ ! قال: أُخَمِّرُهُ، فإذا اشتهيتُه أكلتُه. قال: فوُعِك سالم، فلم يزل موعوكًا حتَّى قدم المدينة. قال الجوهري: الكِدْنة: الشحم واللحم (¬1). وقال ابن سعد بإسناده عن أبي فَرْوة قال: مات سالم بن عبد الله سنة ستّ ومئة في آخر ذي الحجة، وهشام بن عبد الملك يومئذ بالمدينة، وكان قد حجَّ بالناس تلك السنة، ثم قدم المدينة، فوافق موت سالم، فصلَّى عليه] (¬2). قال سفيان بن عيينة: حجَّ سالم في السنة التي حجَّ فيها هشام بنُ عبد الملك، فدخل هشام الكعبة وسالمٌ فيها، فقال له: يا سالم، سَلْني حاجة. فقال: إني لأستحي من الله أن أسألَ غيرَه في بيته. وخرج سالم، فخرج هشام على إثره وقال له: قد خرجت، فسَلْني. فقال سالم: من حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا. فقال سالم: ما سألتُها مَنْ يملكُها، فكيف أسألُها من لا يملكها (¬3)؟ ! فلما قدم هشام إلى المدينة وقد وُعك سالم، دخل عليه يعودُه فقال: يا أبا عمر، ألك حاجة؟ قال: نعم، اتَّقِ اللهَ في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال: أوصِني بأهلك. قال: هم في سَعَةٍ من فضل الله. ومات في آخر ذي الحجة وهشامٌ يومئذ بالمدينة، فصلَّى عليه، ورأى هشام كثرةَ الناسِ بالبقيع، فقال لإبراهيم بن هشام المخزوميّ: اضْرِبْ على الناس بعثَ أربعة آلاف. فسُمِّيَ عامَ أربعة آلاف، فكانوا يخرجون إلى الصوائف، فيكونون بالسواحل حتَّى يأتيَ غيرُهم (¬4). ولما رجع من جنازته دخل المسجد فإذا بالقاسم بن محمد بين القبر والمنبر، وكان قد ذهب بصرُه، فوقف عليه هشام وسلَّم، فقام القاسم إليه، فقال [هشام]: كيف أنتَ ¬

_ (¬1) بعدها في (ص) (والكلام منها): وكان سالم يقوم الليل. وقد سلفت الفقرة من النسخة (خ). (¬2) الكلام السالف بين حاصرتين من (ص)، ثم لم يرد فيها الكلام الآتي حتَّى نهاية الترجمة. (¬3) تاريخ دمشق 7/ 32 (مصورة دار البشير)، وصفة الصفوة 7/ 91، والمنتظم 7/ 114 - 115. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 199، وتاريخ دمشق 7/ 34. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 34.

يا أبا محمد؟ كيف حالُك؟ قال: بخير. فقال هشام: واللهِ إني لأُحِبُّ أن يجعلَكم اللهُ بخير (¬1) وهذا يدلُّ على تأخُّر موت القاسم. وقال ابن الكلبي: لما دخل هشام المدينة دعا سالمًا، فأكومه وقال: هذا بقية الناس وابنُ الفاروق، وخيرُ أهل زمانكم. فحُمَّ سالم وقال: ألا ترون الأحول لَقَعَنِي بعينه (¬2). ثم مات سالم رحمة الله عليه. وكان له من الولد: عُمر، وأبو بكر، وأمُّهما أمُّ الحكم بنت يزيد بن عبد القيس، وعبد الله، وعاصم، وجعفر، و [حْفصة]، وفاطمة، وأمُّهم أمّ ولد، وعبدُ العزيز، وعَبْدَة لأمِّ ولد (¬3). أسند سالم عن أبيه عبدِ الله، وأبي أيوب الأنصاري، وابنِ عباس، وأبي هريرة، واختلفوا في سماعه من عائشة رضوان الله عليها (¬4). وروى عنه الزُّهْري، ونافع مولى أبيه، وحُميد الطويل، ويزيد بن أبي مريم الدِّمشقي، وغيرُهم. وقدم الشام على عبد الملك بكتاب أبيه بالبيعة له، وقدم على الوليد وعمر بن عبد العزيز (¬5). وكان كثيرَ الحديث ثقة عاليًا رفيعًا، رحمةُ الله عليه (¬6). ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 29. (¬2) في (خ) (والكلام منها): يعني بعينه. والمثبت من "التذكرة الحمدونية" 9/ 91، و"بغية الطلب في تاريخ حلب" 9/ 4121. والخبر فيهما بنحوه، وشَرَحَها أبو عُبيد في "غريب الحديث" 4/ 410 فقال: يقول: أصابني ما أصابني منها ... يقال: لقعتُ الرجل بعيني: إذا أَصبتَه بها. وسلف الخبر بنحوه قريبًا بين حاصرتين من (ص). (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 194، وزيادة اسم "حفصة" بين حاصرتين منه. (¬4) نقل ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 7/ 27 - 28 عن البخاري أنَّه لم يسمع من عائشة - رضي الله عنها -. (¬5) تاريخ دمشق 7/ 23 - 24 (مصورة دار البشير). (¬6) لم يرد في فقرة "ذكر وفاته" هذه في (ص) إلا ما سلف في أولها بين حاصرتين.

طاوس بن كيسان

طاوس بن كَيْسان أبو عبد الرحمن اليماني، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل اليمن، واتفقوا على أنَّه كان مولًى [فحكى ابنُ سعد عن الواقدي أنَّه قال: كان طاوس مولى] بَحِير بن رَيسان الحِمْيَرِيّ [وكان ينزل الجَنَد] (¬1). وقيل: مولى هَمْدان. وقيل مولًى لابن هَوْذَة الهَمْدَاني، وكان أبوه من أهل فارس (¬2)، وليس هو من الأبناء، فوالى [أهل] هذا البيت. وكان إمامًا عالمًا ورعًا خائفًا. [قال وهب بن منبِّه: ] حجَّ أربعين حخة. [قال: ] وصلَّى الغداة بوضوء العَتَمة أربعين سنة (¬3)، وجالس سبعين من الصحابة (¬4). ودخل هو ووَهْب بن مُنَبِّه على محمد بن يوسف أخي الحجَّاج في غداة باردة، فقعد طاوس على كرسيّ، فقال محمد: يا غلام، هلمَّ ذاك الطَّيلسان فألْقِهِ على أبي عبد الرحمن. فألقَوْه عليه، فلم يزل يحرِّك كتفيه حتَّى ألقاه عنه، وغضبَ محمد بن يوسف، فلمَّا قاما قال له وَهْب: واللهِ إنْ كنتَ لَغَنِيًّا أن تغضِبه علينا، لو أخذتَه فبعتَه وتصدَّقْتَ بثمنه على المساكين. فقال: لولا أخافُ أن أصيرَ إمامًا في أخْذ أموالهم فيُقْتَدَى بي لفعلت (¬5). [وحكى ابن سعد أنَّه مرّ بقوم يبيعون المصاحف فاسترجع] (¬6). وكان يقول: اللهمَّ ارْزُقْني الإيمان والعمل، واحْرِمْني المال والولد (¬7). ¬

_ (¬1) الجَنَد: بلدة باليمن. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬2) لفظ عبارة (ص): قال: وقال الفضل بن دُكَين وغيره: هو مولى لِهَمْدان، وكان أبوه من أهل فارس. قال: وقال عبد المنعم بن إدريس: هو مولى لابن هَوْذة الهَمْداني، وكان أبوه من أهل فارس ... إلخ. والكلام في "طبقات" ابن سعد 8/ 97. (¬3) صفة الصفوة 2/ 288، والمنتظم 7/ 115. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬4) المنتظم 7/ 115. ووقع في "صفة الصفوة" 2/ 290: حُسين، بدل: سبعين. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 101، وصفة الصفوة 2/ 285 - 286. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 8/ 99. وهذا الخبر (وهو بين حاصرتين) من (ص). (¬7) حلية الأولياء 4/ 9. ولفظه فيه: كثرة المال ... وهو الأشبه.

[قال: وقال طاوس: إذا سلَّم عليك الذِّمِّي فقل: علاك السلام] (¬1). وكان يقول: عجبتُ لإخواننا بالعراق كيف يُسمُّون الحَجَّاج مؤمنًا (¬2). وكان إذا مرَّ بالرؤوس في الروَّاسين فرآها مشوية لم ينعس (¬3) تلك الليلة من [شدَّة] خوفه. ومرَّ يومًا فرأى رأسًا مشويًّا فصعق (¬4). ومرَّ وقت السَّحَر [برجل نائم فقال: ما كنت أُرى أن أحدًا ينام وقت السَّحَر] (¬5). وبعث إليه محمد بن يوسف وأيوب بن يحيى بخمس مئة دينار، وقالا (¬6) للرسول: إنْ أخذَها كسَيناك، وأحْسَنَّا إليك. فأتى بها إلى طاوس وقال: هذه نفقةٌ أرسلَ بها إليك الأمير. قال: ما لي بها حاجة. ثم غفلَ عنه طاوس، فرمى بها في كُوَّة البيت، ثم ذهب فقال: قد أخَذَها. فلبثا حينًا، ثم بلغهما عنه شيء يكرهانه، فأرسلا إليه أن ابعث إلينا بمالنا. [فجاءه الرسول، فأخبره، فقال: واللهِ ما قبضتُ لهما مالًا. [وعرفا أنَّه صادق]، فقالا للرسول الَّذي بعثا معه المال: اذهب إليه. فجاء إليه فقال: [المالُ] الَّذي جئتُ به إليك؟ قال: هل قبضتُ منك شيئًا؟ قال: لا. قال: فأين وضعتَه؟ قال: في تلك الكوّة. قال: فأبصِرْهُ حيث وضعتَه. فمدَّ يده إلى الكوّة [فإذا بالصُّرَّة قد سدَّى عليها العنكبوت، فأخذَها ومضى بها إليهما. [قال أبو نُعيم: ] وجلس إليه ابنان لسليمان (¬7) بن عبد الملك، فلم يكترث بهما، فقيل له: ولد أمير المؤمنين! فقال: أردتُ أن يتعلَّما أن لله عبادًا يحتقرون ما هم فيه. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 99. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 155. قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 44 بعد إيراده الخبر: يشير إلى المرجئة منهم الذين يقولون: هو مؤمن كامل الإيمان مع عسفه وسفكه الدماء وسبِّه الصحابة. (¬3) في (ص): يتعشَّ. (¬4) حلية الأولياء 4/ 4، وصفة الصفوة 2/ 285. (¬5) حلية الأولياء 4/ 6 (ونُسب الكلام في ص إليه)، وصفة الصفوة 2/ 289، والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬6) كذا في (ص). وفي (خ): وقالوا. وسياق الخبر في النسختين على الاثنين. وقد نُسب الخبر في (ص) إلى يعقوب بن سفيان، وهو عنده في "المعرفة والتاريخ" 1/ 708 وفيه أن محمد بن يوسف أو أيوب بن يحيى بعث إلى طاوس ... إلخ، والخبر فيه على الإفراد، وكذا هو عند عبد الرزاق (21032)، و"حلية الأولياء" 4/ 14. ومحمد بن يوسف هو أخو الحجاج. والكلام الآتي في الخبر بين حاصرتين من (ص). (¬7) كذا في (خ) و (ص). وفي "حلية الأولياء" 4/ 16 (والخبر منه): ابن لسليمان ... وهو كذلك في "صفة الصفوة" 2/ 287.

وسأله سَلْم بن زياد عن مسألة، فلم يعرّج عليه وانتهرَه، فقيل له: إنه سَلْم صاحب خُراسان قال: فذاك أهونُ له عليّ. [قال الحميديّ: ] ولم يكن في زمن طاوس أزهدَ منه (¬1). [قال الهيثم: ] وكان إذا خرج من اليمن إلى مكة لم يشرب من الآبار التي احتفرها السلطان، ويشربُ من الآبار القديمة (¬2). ومرَّ بنهر قد كراه السلطان، فأرادت بغلته أن تشرب منه، فمنعها (¬3). وكان يُفرَش له الفراش فيُدرجُه ويقول: طَيَّرَ ذكرُ جهنَّم نومَ العابدين. ويتقلَّى كما تتقلَّى الحبَّة على المِقْلى، أقام كذلك أربعين سنة (¬4). وقال عطاء: قال لي طاوس: لا تُنزل حاجتك بمن أغلقَ دونك أبوابَه وقد جَعل عليها حُجَّابَه، ولكن أنزلها بمن بابُه لك مفتوح، وقد أمرك أن تدعوَه، وضمنَ أن يستجيبَ لك (¬5). وقال طاوس: ما من شيء يتكلَّم به الإنسان إلا أُحصي عليه حتَّى أنينُه في مرضه (¬6) [فكان طاوس يكره الأنين]. واقتدى به الإمام أحمد رحمه الله، فإنه ما أنَّ في مرضه حتى مات. وقال عبد الله بن أبي صالح المكي: دخل طاوس عليَّ يعودُني فقلت له. ادْعُ لي، فقال: ادْعُ لنفسك، فإنه يجيب المضطّر إذا دعاه (¬7). ¬

_ (¬1) جاءت هذه الفقرة والتي قبلها في (ص) بالسياق التالي: قال الحميدي: لم يكن في زمان طاوس أزهد منه، سأله سالم (كذا) بن زياد عن مسلمة فلم يعرّج عليه وانتهوه فقيل له: إنه سالم ... (¬2) صفة الصفوة 2/ 288. (¬3) المصدر السابق. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬4) صفة الصفوة 2/ 289، والتبصرة 2/ 322 دون قوله: أقام كذلك أربعين سنة، ونُسب الخبر في (ص) لابن أبي الدنيا. (¬5) حلية الأولياء 4/ 11، وصفة الصفوة 2/ 288. ونسب الخبر في (ص) لابن أبي الدنيا. (¬6) حلية الأولياء 4/ 4، ونُسب الخبر في (ص) إليه والكلام بعده بين حاصرتين منها. (¬7) حلية الأولياء 4/ 10، وصفة الصفوة 2/ 289. ونُسب الخبر في (ص) لأبي نعيم صاحب "الحلية".

[وروى عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل عن أبيه عن سفيان قال: ] قال طاوس: إن الموتى يُفتنون في قبورهم سبعًا، فكانوا يستحبُّون أن يُطْعَم عنهم في تلك الأيام (¬1). [وروى عبد الله أيضًا عن أبيه، عن سفيان الثوري قال: قلت لعبد الله بن أبي يزيد: مع من كنتَ تدخلُ على ابن عباس؟ قال: مع عطاء والعامَّة، وكان طاوس يدخل مع الخاصَّة] (¬2). ذكر وفاته: مات بمكة قبل يوم التروية بيوم، وكان هشام قد حجَّ في تلك السنة وهو خليفة سنة ستٍّ ومئة، فصلَّى عليه، وكان له يوم مات بضع وتسعون سنة (¬3). أسند [طاوس] عن خلق من الصحابة، وأكثرُ رواياته عن ابن عباس، وروى عنه أئمة التابعين؛ مجاهد، وعطاء، وعَمرو بن دينار، ومحمد بن المنكدر، ووَهْب بن مُنَبِّه، والزُّهري، وأبو الزُّبير، وغيرهم. وقال طاوس: بينا أنا بمكة بعث إليَّ الحجاج [بن يوسف] فأتيتُه، فأجلسني إلى جنبه وأتكأني على وسادة إذ سمع ملبِّيًا يلبِّي حول البيت رافعًا صوته بالتلبية، فقال: عليَّ بالرجل. فأُتيَ له، فقال: ممَّن الرجل؟ قال: من المسلمين. قال: ليس عن هذا سألتُك، إنما سألتُك عن البلد. قال: من اليمن. قال: كيف تركتَ محمد بن يوسف (¬4)؟ قال: تركتُه جسيمًا لبَّاسًا رَكَّابًا، خَرَّاجًا ولَّاجًا. قال: ليس عن هذا سألتُك، إنما سألتُك عن سيرته. قال: تركتُه ظلومًا غَشمومًا مطيعًا للمخلوق عاصيًا للخالق. فقال له الحجَّاج: ما حملَك على أن تتكلَّم هذا الكلام وقد علمتَ مكانه مني؟ ! فقال الرجل: أتراه بمكانه [منك] أعزَّ مني [بمكاني] من الله تعالى وأنا وافدُ بيتِه ومصدّق نبيّه - صلى الله عليه وسلم -؟ ! فسكت الحجاج ولم يُحِرْ جوابًا، وقامَ الرجل من غير إذن فانصرف. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 4/ 11، وصفة الصفوة 2/ 289. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) حلية الأولياء 4/ 9، وصفة الصفوة 2/ 295. وهذه الفقرة (بين حاصرتين) من (ص). (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 102، وصفة الصفوة 2/ 290. (¬4) يعني أخا الحجَّاج.

قال طاوس: فقلت في نفسي: الرجل حكيم، فقمتُ خلفه، فجاء إلى البيت، فتعلَّق بأستار الكعبة، ثم دعا بدَعَوات فقال: اللهمَّ بك أعوذُ وبك ألُوذُ، اللهمَّ اجعلْ لي في اللَّهَف إلى جُودك والرضى بضمانك (¬1) مندوحة عن بخل الباخلين، وغنىَ عمَّا في أيدي المستأثرين، اللهمَّ فرجَك القريب ومعروفَك القديم. ثم ذهب، فرأيتُه عشيَّة عرفةَ وهو واقفٌ يقول: اللهم إن كنتَ لم تقبل حجِّي وتعبي ونَصَبي، فلا تحرمني الأجر على مصيبتي. ثم جعل يقول: واسوأتاه منك وإن عفوتَ. ثم غاب عني فلم أره بعد ذلك، فوقع لي أنَّه من الأبدال (¬2). [قال الواقدي: ] وكان لطاوس ابنٌ يقال له: عبد الله، من العلماء الزُّهَّاد، وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من التابعين من أهل اليمن. [قال: ] وكنيته أبو محمد [مات في خلافة أبي العبَّاس السفَّاح، وكذا قال ابن سعد. ورُوي عنه أنَّه عاش إلى أيام المنصور] (¬3). قال مالك بن أنس: لمَّا وَليَ أبو جعفر المنصور الخلافة بعث إليَّ وإلى ابنِ طاوس، فدخلنا عليه وبين يديه أنطاعٌ قد فُرشت، وجَلَاوزة بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فجلسنا وهو مطرقٌ، فرفع رأسه وقال: يا ابنَ طاوس، حدَّثني. فقال: حدَّثني أبي عن جدِّك ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "أشدُّ الناس عذابًا يومَ القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل الجَوْرَ في عدله". قال مالك: فضممتُ ثيابي خوفًا أن ينتضح عليها من دمه. فأطرقَ أبو جعفر ورفع رأسه ثم قال: إيه يا ابن طاوس، عِظْني. فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} إلى قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6 - 14] فقال له أبو جعفر: يا ابن طاوس، ناولني الدَّواة. فقال: لا والله. قال: ولم؟ ! قال: خوفًا أن تكتب بها مظلمة أو إراقة دم مسلم، ¬

_ (¬1) في (خ): بقضائك، والمثبت من (ص)، وهو الموافق لما في "الأولياء" لابن أبي الدنيا (88). (¬2) المصدر السابق، وهو أيضًا في "تاريخ دمشق" 65/ 332 - 233 (ترجمة محمد بن يوسف الثقفي)، وصفة الصفوة 2/ 298، والمنتظم 7/ 116. (¬3) ينظر "طبقات" ابن سعد 8/ 105. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص).

محمد بن شعيب بن شابور

فأكونَ شريكَك فيه. فقال: فاخْرُجا عني. قال مالك: فقمنا فخرجنا، ووالله ما زلتُ أعرفُ الفضلَ لابن طاوس عليَّ (¬1). محمد بن شعيب بن شابور (¬2) القرشي مولاهم، جدُّه [شابور] مولى الوليد بن عبد الملك، ومحمد من الطبقة الخامسة من أهل الشام، وقيل: من السادسة، كان يسكن بيروت وبها مات، وقيل: تأخر موتُه عن هذه السنة، كان أحد الأئمة الثقات، وغمزه يحيى بنُ معين بالإرجاء، ويقال: إنه مات في سنة مئتين، والله أعلم. السنة السابعة بعد المئة فيها وقع في الشام طاعون شديد، فأفنى الناس. وغزا ميمون بن مِهْران البحر في جيش، وكان فيهم معاوية بنُ هشام بن عبد الملك، وأقام بقُبرس أيامًا، وعادوا ومعهم نصفُ الجيش الَّذي ضربه هشام على أهل المدينة (¬3)، وبقي نصفه على وجه البَدَل (¬4). وفيها دخل جماعة من دعاة بني العباس إلى خُراسان، منهم أبو محمد الصادق، ومحمد بن خُنيس، وعمار العبادي (¬5)، بعث بهم بُكير بن ماهان، وكان أسد بن عبد الله القسري على خُراسان، فوشَى بهم رجلٌ من كِنْدة وقال: ها هنا قومٌ يُفسدون الدولة ويدعون إلى الرِّضا من آل محمد، وكان قد بلغ أسدَ حديثُهم، فأوقع عليهم العيون، وكانوا جماعة، فأخذهم، فقتلهم شرَّ قِتْلة، وقطَّع أيديَهم وأرجلَهم من خلاف، وصلبهم، ونجا عمَّار العبادي وعاد إلى بُكير بن ماهان (¬6). ¬

_ (¬1) العقد الفريد 1/ 54 - 55، والتذكرة الحمدونية 3/ 186 - 187. ونُسب الخبر في (ص) هشام بن محمد. (¬2) تحرف الاسم في (خ) إلى: محمد بن سعيد بن سابور. ولم ترد الترجمة في (ص)، وهو الصواب، وإيرادها في (خ) هنا وهم، لأن وفاة المترجم سنة (200) كما سيرد. وتنظر الترجمة في "تاريخ دمشق" 62/ 306 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) قوله: الَّذي ضربه هشام على أهل المدينة، ليس في (ص). (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 40، وما سلف في ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في تراجم سنة (106) عن هذا الجيش. (¬5) في (ص): العبادلي. (¬6) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 40.

وقال المصنف رحمه الله: وهذا بُكير بن ماهان كنيتُه أبو هاشم إلحارثي، أحدُ دعاة بني العباس، قدم على محمد بن عليِّ بن عبد الله بن عباس إلى البَلقاء، وأقام عنده مدَّة، وأخذ عنه، وبعثَه إلى خُراسان داعيًا، وقدم على إبراهيم بن محمد الإمام (¬1) بعد ذلك، فبعث به إلى خُراسان. وروى عنه أبو القاسم الحافظ الدمشقيّ أنَّه قال: يلي من ولد العبَّاس أكثرُ من ثلاثين رجلًا، منهم ستة يُسَمَّوْن باسم واحد، وثلاثة باسم واحد، ويفتح أحد الثلاثة القسطنطينية. وكان يكثر (¬2) .... الدعاة بخراسان، فبعث عَمَّارَ بنَ يزيد إلى خُراسان في سنة ثمان عشرة ومئة، فغيَّر اسمه بخِداش، ثم دعا بهم أوَّلًا إلى بني العبَّاس، فأجابوه، ثم تغيَّر وأظهر دين الخُرْميَّة (¬3)، وأباح المحرَّمات، وأخبرهم [أنَّه] إنما فعل ذلك بأمر الإمام محمد بن علي. وبلغَ أسدَ بن عبد الله، فوضع عليه العيون، فأُخذ وجيء به إلى أسد، فسأله فأغلظ خِداش [له القول] فأمر أسد بقطع يديه ورجليه وسمل عينيه وسلّ لسانه (¬4)، وقال أسد: الحمد لله الَّذي انتقم لأبي بكر وعمر منك. ثم صلبه، وذلك بآمل، وكان أسد بها (¬5). وقال المصنف رحمه الله: وقوله: يلي من بني العباس أكثرُ من ثلاثين رجلًا، منهم ستَّةٌ يُسَمَّوْن باسم واحد، وثلاثة باسم واحد، يفتحُ أحدُهم القسطنطينية؛ فإنه قد وَليَ منهم عن سنة اثنتين وثلاثين ومئة إلى سنة اثنتين وخمسين وستِّ مئة ستةٌ وثلاثون خليفة، أوَّلُهم السفَّاح، وآخِرُهم المستعصم. فمنهم سبعة اسم كل واحد عبد الله، وهم: السفَّاح، والمنصور، والمأمون، والمستكفي، والقائم، والمقتدي، والمستعصم. ¬

_ (¬1) هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عهد إليه أبوه محمد بن علي بالإمامة من بعده. (¬2) في هذا الموضع كلمة لم تتبين لي رسمها: بيت. ولعلها: بث. (¬3) هم الذين يقولون بالتناسخ والإباحة. (¬4) كذا في (خ) (والكلام منها). وفي "تاريخ" الطبري 7/ 109، و"تاريخ دمشق" 3/ 422 (ترجمة بكير بن ماهان): وقطع لسانه. (¬5) المصدران السابقان.

ومنهم ثمانية اسم كل واحد منهم محمد، وهم: المهدي، والمعتصم، والأمين (¬1)، والمعتز، والمهتدي، والقاهر، والراضي، والظاهر (¬2). ومنهم ستة اسم كل واحد منهم أحمد، وهم: المستعين، والمعتمد، والمعتضد، والقادر، والمستظهر، والناصر. ومنهم اثنان اسم كل واحد منهم الفضل، وهما: المطيع، والمسترشد. واثنان اسمهما منصور، وهما: الراشد، والمستنصر. واثنان اسم كل واحد منهما جعفر، وهما: المتوكِّل، والمقتدر. وواحد اسمه علي، وهو المكتفي. وواحد اسمه موسى، وهو الهادي. وواحد اسمه إبراهيم، وهو المتَّقي. واثنان اسم كل واحد منهما هارون، وهما: الرشيد والواثق. وواحد اسمه عبد الكريم، وهو الطائع. وواحد اسمه الحسن، وهو المستضيء. وواحد اسمه يوسف، وهو المستنجد. فهؤلاء ستة وثلاثون (¬3) قد اتفقت منهم ستة أسامي كما ذكر بُكير، ولم يتفق منهم ثلاثة أسامي، ونرجو أن يتفق ذلك ويكون فتح القسطنطينية على يد الثالث، فإنَّ الخلافة باقية في بني العباس إلى يوم القيامة بالحديث الثابت (¬4). ¬

_ (¬1) في الترتيب الزمني: الأمين ثم المعتصم. (¬2) لم يذكر المصنف فيمن اسمه محمد: أبا جعفر المنتصر محمد بن المتوكل، وأبا عبد الله المقتفي محمد بن المستظهر. (¬3) العدد حسب كلام المصنف خمسة وثلاثون. ثم إنه ترك بعضهم، فليحرر كلامه. (¬4) من قوله: وقال المصنف رحمه الله وهذا بُكير (أوائل أحداث هذه السنة) ... إلى هذا الوضع ليس في (ص). وقوله: "بالحديث الثابت" يشير إلى خبر مُلك أولاد العبَّاس وأنه لا يزال فيهم حتَّى يدفعوه إلى عيسى بن مريم. وهو خبر غير ثابت. أورد ابنُ الجوزي طرقه في "الموضوعات" (640) - (646).

عطاء بن يزيد الليثي

وفيها غزا أسد بن عبد الله جبال الطالقان والغَوْر، وكان أهلُها قد هربوا بأهاليهم وأموالهم إلى كهف عظيم في جبل شامخ ليس فيه طريق مسلوك، فعهد (¬1) أسد توابيت وربطَها بالسلاسل، ودلَّاها عليهم، فظفر بهم، وعاد سالمًا غانمًا، فنزل بَلْخ، وبنى مدينتَها، وولَّاها بَرْمَك أبا خالد البَرْمَكيّ، ونقل إليها من الجند والأمراء من كان ينزل بالبَرُوقان. والبَرُوقان عن بَلْخ مقدار فرسخين، وبين النُّوبَهار وبَلْخ مقدار غَلْوتَينْ (¬2). فقال أبو البريد يمدح أسدًا: إنَّ المباركةَ التي حصَّنْتَها ... أَمِنَ الزمانَ بها الذليلُ الخائفُ ومضى لك الذِّكْرُ الَّذي يَرْضَى بهِ ... عنك الإلهُ بما نَوَيتَ فلاطف يا خيرَ مَلْكٍ ساسَ خيرَ رعيَّةٍ ... إني على صِدْقِ اليمينِ لحَالفُ اللهُ أمَّنَها بعزمك بعدما ... كانت قلوبٌ خائفاتُ رواجفُ (¬3) وحجَّ بالناس إبراهيم بن هشام المخزومي بالاتفاق (¬4) وهو على مكة والمدينة والطائف، وخالد القَسْريّ على العراق (¬5). ومات في هذه السنة. عطاء بن يزيد الليثي شيخ الزُّهري. وكنيتُه أبو محمد الكِناني، وكان فاضلًا، توفي وهو ابن اثنتين وثمانين سنة (¬6). السنة الثامنة بعد المئة فيها غزا مسلمةُ بنُ عبد الملك بلادَ الروم، ففتح قيساريَّة الروم. ¬

_ (¬1) في (ص): فعمد. (¬2) قوله: وبين النُّوبهار وبَلْخ مقدار غَلْوَتَين، ليس في (ص). (¬3) تاريخ الطبري 7/ 41 - 42. والشعر فيه بنحوه. (¬4) كلمة: الاتفاق، ليست في (ص). (¬5) المصدر السابق. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 245 وذكره في الطبقة الثانية من أهل المدينة من التابعين.

بكر بن عبد الله المزني

وفيها وقع حريق بدابق. [قال الواقدي: ] احترقت المراعي والدوابّ والرِّجال. وفيها غزا أسدُ بنُ عبد الله الخُتَّل. جاء خاقان لقتال أسد (¬1)، فوجده قد رجع وقطع النهر. وقيل: إن خاقان هزم أسدًا [ذكره أبو عبيدة]. ورجع أسد مفلُولًا إلى مَرْو، وأقبل خاقان إلى بَلْخ. ووقع عندهم الغلاء في رجوعهم، فبيعت شاة بخمس مئة درهم، اشتراها عثمان بن عبد الله بن الشِّخِّير، وكان في ذلك الجيش. وحجَّ بالناس إبراهيم بن هشام المخزومي وهو على ولايته (¬2)، والعمال الذين كانوا في السنة الماضية على حالهم. وفيها توفي بَكْر بن عبد الله المُزَني البصري، من الطبقة (¬3) الثانية من التابعين من أهل البصرة [وليس هو بأخي علقمة] (¬4). وكان ثقة مأمونًا ثبتًا كثير الحديث، حُجَّةً فقيهًا. وكان يقول: عزمت على نفسي أن لا أسمع قومًا يذكرون القدر إلا قمتُ وصلَّيتُ ركعتين. ووقف على عرفة فرقَّ وقال: لولا أني واقف فيهم لقلت: قد غُفر لهم (¬5) ¬

_ (¬1) عبارة (ص): واختلفوا هل كانت هذه الغزاة له أم عليه؟ على قولين: أحدهما أن خاقان جاء لقتال أسد ... (¬2) يعني على المدينة ومكة والطائف، وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 45. (¬3) عبارة (ص): ذكره ابن سعد في الطبقة ... وهو في "طبقات" ابن سعد 9/ 208. (¬4) نقل المزي في "تهذيب الكمال" 4/ 216 عن أبي حاتم قوله: هو أخو علقمة بن عبد الله المزني. ثم قال: وقال غيره: ليس بأخيه. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬5) ينظر ما سلف في المصدر السابق. ولم يرد الخبر الأخير في (ص).

وقال صالح المُرِّي: وقف مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير وبكر بن عبد الله المُزَني بعرفة، فقال مطرِّف: اللهم لا تردَّهم اليوم من أجلي، وقال بكر: ما أشرفَه من مقام وأرجاه لأهله لولا أني فيهم (¬1). وكانت قيمة كسوة بكر أربعة آلاف، وكانت أمُّه مُوسرةً، وكان زوجها كثير المال، وكان يكره أن يردُّ عليهما (¬2) شيئًا. واشترى طيلسانًا بأربع مئة درهم (¬3). ومرض فدخل الناس عليه يعودونه، فجلسوا، فقال بكر: المريض يُعاد، والصحيح يُزار (¬4). [وكان يخضب بالسواد]. وقال: إذا رأيتَ من هو أكبرُ منك فقل: هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح، فهو خير مني، وإذا رأيتَ من هو أصغر منك فقل: سبقتُه إلى المعاصي، فهو خيرٌ مني، وإذا رأيتَ إخوانك يعظّمونك ويكرمونك فقل: هذا فضل منهم عليّ، وإذا رأيتَ منهم تقصيرًا فقل: هذا بذنب أحدثتُه (¬5). [وفي غير رواية ابن أبي الدنيا: إذا رأيتَ من هو أكبر منك، فقل: عَرَفَ اللهَ قبلي، وإذا رأيتَ من هو أصغر منك، فقل: عصيتُ اللهَ قبله، وإذا رأيتَ من هو مثلك، فقل: أنا من ذنوبي على يقين، ومن ذنوب هذا على شكٍّ] (¬6). وقال حُميد: كان بكر مجابَ الدعوة (¬7). ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 3/ 248. ووقع هذا الخبر في (ص) أواخر الترجمة. (¬2) في (ص): عليها. والخبر في "طبقات" ابن سعد 9/ 209. (¬3) للخبر تتمة في "طبقات" ابن سعد 9/ 259، وهي: فأراد الخياط أن يقطعه، فذهب ليذرّ عليه ترابًا، فقال له بكر: كما أنت. فأمر بكافور فسُحق، ثم ذرّه عليه. (¬4) المصدر السابق 9/ 210. (¬5) حلية الأولياء 2/ 226. ونُسب الخبر في (ص) لابن أبي الدنيا. (¬6) الخبر بين حاصرتين من (ص). (¬7) حلية الأولياء 2/ 230. ونُسب القول في (ص) إلى صاحبه أبي نُعيم.

عثمان بن حيان

وقال عبد الله بن أحمد: كان بكر يقول: من مثلُك يا ابن آدم وقد خُلِّيَ بينك وبين الماء (¬1) والمحراب كلما شئتَ دخلتَ على الله ليس يبنك وبينه ترجمان (¬2). [ذكر وفاته: قال ابن سعد: حدثنا مؤمَّل بن إسماعيل قال: مات بكر سنة ستّ ومئة، وهو أثبت عندنا، وقيل: سنة ثمان ومئة] (¬3). أسند بكر عن ابن عُمر، وجابر، وأنس، ومعقل بن يسار، وعبد الله بن معاقل، وغيرهم. عثمان بن حَيَّان ابن مَعْبَد أبو المَغْرَاء، مولى أم الدَّرداء. كان جبَّارًا غَشومًا، ولَّاه الوليد المدينة سنة أربع وتسعين [وعَزَلَ عنها عمر بن عبد العزيز]. [وقال مالك بن أنس: ] وكان يُنشد الأشعار على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويأكلُ التمر، ويرمي أهل المسجد بالنَّوَى، ويستخفَّ بأهل المدينة، ويسبُّ عليًّا - عليه السلام -، وحلق رؤوس جماعة ولحاهم، وكان يؤذي الفقهاء، فلقَّبوه الخبيث. [وما ولّاه الوليد المدينة إلا ليكون عونًا للحجَّاج على سفك الدماء والظلم]. وكان قد التجأ إلى المدينة جماعة من أهل العراق، فبعث بهم إلى الحجَّاج، فضرب رقابَهم، وأقام واليًا على المدينة ثلاث سنين، فما أبقى قبيحًا إلا ارتكبه. فلما مات الحجَّاج والوليد وكان أهل المدينة يقولون في الأزقَّة: يا مهلك مَن مضى، أهْلِك من بقي. فيقول عثمان: أنا الباقي. ولما عُزل لعنوه في وجهه وسبُّوه. ¬

_ (¬1) لعله يعني الدموع. وينظر التعليق التالي. (¬2) الخبر في "حلية الأولياء" 2/ 229، وفيه: خُلِّيَ بينك وبين المحراب ... وفي آخره: إنما طيب المؤمنين هذا الماء المالح. وجاء في حاشية الكتاب: بالهامش قيل: يعني الدموع. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 210. والكلام بين حاصرتين من (ص).

مورق بن المشمرج

[وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل في غيرها] (¬1). مُوَرِّق بن المُشَمْرج [أبو المعتمر] العجلي البصري، من الطبقة الثانية (¬2) من التابعين [من أهل البصرة]. كان ثقةً عابدًا، وكان يقول: أطلب (¬3) أمرًا منذ عشرين سنة لم أقدر عليه، فقيل له: وما هو؟ قال: الصمت عمَّا لا يعنيني. [وقال: تعلَّمتُ الصمت عشرين سنة. أو عشر سنين] (¬4). وقال: ما قلتُ شيئًا في حال الغضب فندمتُ عليه في حالة الرِّضى، وربما أتَتْ عليَّ السنة لا أغضبُ فيها. [وقال مورِّق: ما وجدتُ للمؤمن مثلًا في الدُّنيا إلا كمثل رجل على خشبة في البحر وهو يقول: لعل الله ينجيني] (¬5). [قال (¬6): وكان يُفلِّي رأس أمه]. وكان يدخلُ على إخوانه فيضع عندهم الدراهم ويقول: أمسكوها حتَّى أعودَ إليكم. ثم يبعث إليهم: أنفقوها، فأنتم [منها] في حِلّ (¬7). وطبخ له غلام بيضًا في قِدْر، فقال: في أيِّ شيء طبختَه؟ قال: في قِدْرٍ رُهِنَ عندي. فلم يأكله، وكره استعمال الرَّهن. وقال غيلان بن جرير (¬8): حبس الحجَاج مورِّقًا في السجن فلقيَني مُطَرِّف فقال: ما صنعتُم في صاحبكم؟ [قال: ] قلت: محبوس. قال: تعال حتَّى ندعو [قال: ] فدعا ¬

_ (¬1) تنظر الترجمة في "تاريخ دمشق" 45/ 196 - 208، وما سلف فيها من كلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (ص): ذكره ابن سعد في الطبقة الثَّانية ... وهو في "طبقاته" 9/ 212. والكلام السالف والآتي بين حاصرتين من (ص). (¬3) في (خ) و (ص): يقول لي أطلب (؟ ) ولفظة "لي" سهو، وعبارة "طبقات" ابن سعد: أمرٌ أنا في طلبه. (¬4) الكلام بين حاصرتين من (ص). وهو في "طبقات" ابن سعد 9/ 212. (¬5) المصدر السابق 9/ 213. والكلام من (ص). (¬6) قوله: قال، يعني ابن سعد. وهو في "الطبقات" 9/ 214. (¬7) المصدر السابق. (¬8) في (ص): وحكى ابن سعد عن غيلان بن جرير قال ... والخبر في "طبقات" ابن سعد 9/ 215.

موسى بن محمد

مطرِّف، وأمَّنَّا على دعائه. فلما كان العِشاء، خرج [الحجاج] فجلس وأذِنَ للناس، فدخلوا عليه، وفيهم أبو مورِّق، فدعا الحجَّاجُ حَرَسيًّا وقال: اذْهَبْ بذاك الشيخ إلى السجن، فادفع إليه ابنه. [وكانت وفاتُه في هذه السنة. وقال ابن سعد: توفي مورِّق في ولاية عمر بن هُبيرة على العراق] (¬1). موسى بن محمد [بن علي] بن عبد الله بن عبَّاس، أبو عيسى الهاشمي، وهو أخو السَّفَّاح والمنصور لأبيهما، وأخو إبراهيم الإمام لأبيه وأمِّه. وُلد بالشَّراة من أعمال البلقاء، ومات في حياة أبيه محمد غازيًا في بلاد الروم وله ثماني عشرة سنة، وقيل: سبع وعشرون سنة، وروى عن أبيه محمد (¬2). نُصَيْب بن رباح أبو مِحْجَن الشاعر مولى عبد العزيز بن مروان، وأمُّه نُوبيَّة، فجاء أسودَ، فباعه عمُّه (¬3). و[قال ابن الكلبي: ] كان من العرب من بني الحاف بن قُضاعة [وكانت أمُّه سوداء، فوثب عليها سيِّدها، فجاءت به، فباعه عمُّه من رجل، فاشتراه عبد العزيز بن مروان]. وقيل: إنه هرب، فدخل على عبد العزيز [بن مروان] فمدحه، فقال: ما حاجتُك؟ فقال: أنا عبدٌ. فقال عبد العزيز للمقوِّمين: قَوِّموه. فقالوا: عبدٌ أسودُ ليس به عيب بمئة (¬4) دينار. قال: إنه راعي إبل يُحسنُ القيام عليها. قالوا: مئتا دينار. قال: إنه يَبْرِي ¬

_ (¬1) المصدر السابق. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) كذا في (خ) (ولم ترد الترجمة في ص). ولم يُذكر له رواية. ولعل صواب العبارة: وغزا مع أبيه محمد. وتنظر ترجمته في "تاريخ دمشق" 17/ 403 (مصورة دار البشير) وأوردها ابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 124 مختصرة. وتنظر ترجمة أبيه محمد بن علي بن عبد الله في "طبقات" ابن سعد 7/ 470 - 471. (¬3) الأغاني 1/ 324، وتاريخ دمشق 17/ 555 (مصورة دار البشير)، والمنتظم 7/ 125. (¬4) في (ص): قيمته مئة.

النَّبْلَ وَيرِيشُها. قالوا: ثلاث مئة دينار. قال: إنه يرمي فيُصيب. قالوا: أربع مئة دينار. قال: إنه راوية للأشعار. قالوا: ستّ مئة دينار. قال: فإنه شاعر. قالوا: ألف دينار. فاشتراه بألف دينار. فقال: أصلح الله الأمير، فأين جائزتي؟ فأعطاه ألف دينار، فاشترى أمَّه وأهلَه وأعتقَهم (¬1). وذكره محمد بن سلّام في الطبقة السادسة من شعراء الإسلام (¬2). قال (¬3): وكان حسن الشِّعر، عفيف الفرج، سخيًّا، يفضُل على الناس بماله وطعامه [وكان أهل البادية يسمُّونه (النُّصيب) بالألف واللام لما يرون من جُوده وسخائه] (¬4) ولم يَهْجُ أحدًا تديّنًا. [وقال: وكان عبدًا لبني كعب راعيًا لهم، فباعوه من قلاص بن محرز الكناني، فكان يرعى إبلَه] (¬5). ومدح عبد العزيز بن مروان وعبد الملك وأولادهما، وحصلَ له منهم الأموال [الكثيرة]. ومدح يومًا هشام بن عبد الملك، فقال له: سلني. فقال: يدُك بالعطيَّة أبسطُ من لساني بالمدح. فقال: هذا واللهِ أحسنُ من مدحك بالشعر. وأجزلَ جائزته (¬6). [وكان يخلو بهشام، فينشده مراثي بني أمية (¬7)، فيبكي هشام ويبكي معه نُصيب، ونُصيب هو الَّذي ذكرناه في ذكر ترجمة عمر بن عبد العزيز]. ¬

_ (¬1) الأغاني 1/ 333 - 334، والمنتظم 7/ 125. (¬2) طبقات فحول الشعراء 2/ 675. (¬3) سياق الكلام يظهر أن القائل هو ابنُ سلَّام. ولم أقف عليه من كلامه، وهو في "المنتظم" 7/ 125، وبنحوه لمحمد بن كُناسة في "الأغاني" 1/ 325. (¬4) ما بين حاصرتين (ص)، وزدْتُ كلمة: النُّصيب، بين قوسين من عندي للإيضاح. وعبارة الأغاني: وكان أهل البادية يدعونه النُّصيب، تفخيمًا له. وبنحوها عبارة "المتنظم". (¬5) كذا في "المنتظم" 7/ 125 ونقلَه عنه السِّبط هنا. وقد وهم ابن الجوزيّ - والله أعلم - في قراءة خبر خروج نُصيب إلى عبد العزيز بن مروان؛ قال نُصيب: إني لأخشى من قِلاصٍ ابن مُحْرِزٍ ... إذا وَخَدَتْ ... فجعلَ قِلاصَ بنَ مُحرز شخصًا. ينظر "الأغاني" 1/ 332 وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬6) الأغاني 1/ 338 - 339، والمنتظم 7/ 126. (¬7) في (ص) (والكلام منها وهو ما بين حاصرتين): مراثي في أم هشام! والمثبت من "الأغاني" 1/ 338.

[قال ابن الكلبي: ] وكان نُصيب يُشبِّبُ بأمِّ مسكين، واسمها زينب [وكانت بيضاء مستحسنة، وقيل: كانت سوداء]. قال الضحَّاك بن عثمان الحزامي: خرجت أُريد الحج، فنزلنا الأبواء، فإذا بامرأة حسناء، فأعجبتني، فأنشدتُ: بزينبَ ألْمِمْ قبلَ أن يرحلَ الرَّكْبُ ... وقُلْ إنْ تَمَلِّينا فما مَلَّكِ القَلْبُ وقولا لها ما في البِعاد لذي الهوى ... مريح (¬1) وما فيه لصدع النَّوى شعبُ فقالت: يا فتى العرب، أتعرفُ لمن هذا الشعر؟ قلتُ: نعم، لنُصَيب. قالت: أفتعرف زينب؟ قلتُ: لا. قالت: فأنا زينب [والميعاد لزيارته اليوم، ولعلك لا تبرح حتَّى تراه. قال: فبينما هي تحدّثثي وإذا براكب قد أقبل، فأناخ راحلته وأتى الخيمة، وإذا به نُصَيب، فسلَّم وجلس ناحية، وأخذَ يُنشدها ما أحدث من شعره، فقلت في نفسي: عاشقان أطالا النَّأيَ مدَّة، ولا بدَّ أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة، فقمتُ لأشدَّ راحلتي، فقام معي، فركبنا ووَدَّعَها، وتسايَرْنا، فقال لي: خطر ببالك كذا وكذا؟ قلتُ: نعم. قال: وربِّ الكعبة ما جلستُ منها مجلسًا أقربَ من هذا، ولا كان بيني وبينها مكروهٌ قطّ] (¬2). وقال معاذ (¬3): دخلتُ مسجد الكوفة، فرأيتُ رجلًا لم أرَ أَشدَّ سوادًا منه، ولا ثوبًا أنقى من ثوبه. [قال: ] فقلت: من أنت؟ فقال: نُصَيب. قلت: أخبرني عنك وعن أصحابك. فقال: جميلٌ إمامُنا، وعُمر أوْصَفُنا لِرَبَّات الحِجال، وكُثَيِّر أبكانا على الأطلال والدِّمَن، وأمَّا أنا فقد قلتُ ما قد سمعتَ. قلتُ: فإنَّ الناس يزعُمون أنك لا تُحسن الهَجْو. قال: فأقَرُّوا أنَّني أُحْسِنُ أن أمدح؟ قلتُ: نعم. قال: أفَتَراني لا أُحسنُ أن أقول مكان: عافاك الله: أخزاك (¬4) الله؟ ! قلت: بلى. قال: ولكنّي رأيتُ الناسَ بين ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ص). وفي "تاريخ دمشق" 17/ 560 (مصورة دار البشير)، و"المنتظم" 7/ 127: بُعادٌ. (¬2) ينظر "الأغاني" 6/ 124، والمصدران السابقان، وما بين حاصرتين من (ص)، ونُسب الخبر فيها إلى الزبير بن بكار. (¬3) في (ص): وقال الزُّبير بن بكار: حدثني محمد بن أحمد بن عبد الله، عن معاذ صاحب الهروي قال ... (¬4) في (خ): جزاك، وفي (ص): أجزاك. والمثبت من "تاريخ دمشق" 17/ 558، و"المنتظم" 7/ 129، والخبر فيهما من الطريق المذكورة. وهو في "الأغاني" 1/ 355 - 356 من طريق أخرى.

رجلين؛ رجلٍ لم أسأله، فإنْ هجوتُه ظلمتُه، ورجلٍ سألتُه فمنعني، فكانت نفسي أحقَّ بالهجو منه حيث سوَّلت لي بذل ماء وجهي إليه. وقيل لنُصيب: هَرِمَ شِعْرُك. فقال: بل هَرِمَ عطاؤُكم (¬1). وقال عبد العزيز يومًا لنُصَيب: هل لك فيما يثمر (¬2) المنادمة؟ [فقال: أصلح الله الأمير، اللون مُرَمَّد، والشَّعْرُ مُفَلْفَل، ولم أقعد إليك بكريم عنصر، ولا بِحُسْنِ] مَنْظَر، وإنما أُجالسُك بعقلي ولساني، فإنْ رأيتَ أن لا تَحُولَ بينهما فافْعَلْ، فإنَّ الكأس تُغيِّر الخِلْقَة، فيعظُم أنفُ الرجل ويحمرُّ ويندَمِل. أي: يصير مثل الدُّمَّل. فأعاد عليه القول، فقال: كيف أشربُ ما يشربُ عقلي (¬3)؟ ! قوله: مرمَّل مثل الرُّمال وهي خيوط الحصير (¬4). و[قال العتبي: ] قال له عبدُ العزيز بنُ مروان: هل عشقتَ؟ قال: نعم جارية لبني مُدلج، وكنتُ لا أقدرُ عليها من الواشين، وكنتُ أجلس على الطريق لعلي أراها، وفيها أقول: جلستُ لها كيما تَمُرَّ لعلَّني ... أُخالِسُها التسليمَ إنْ لم تُسلِّمِ فلمَّا رأَتْني والوُشاةَ تَحدَّرَتْ ... مَدَامعُها خوفًا ولم تَتَكَلَّمِ مساكينُ أهلِ العِشْقِ ما كُنْتُ أشتري ... حياةَ جميعِ العاشقين بدرهمِ (¬5) [وهو القائلُ في عمر بن عبد العزيز: أميرَ المؤمنين فَدَتْك نفسي ... ومَنْ فوقَ الترابِ لك الفداءُ من أبيات (¬6)] ¬

_ (¬1) الأغاني 1/ 366، وتاريخ دمشق 17/ 562 (مصورة دار البشير). (¬2) رَسم الكلمة في (خ) (والكلام منها): يثير. والمثبت من [العقد الفريد]. (¬3) "العقد الفريد" 2/ 131 - 132 و 6/ 339، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) كذا في (خ) (والكلام منها) وهذا يدلُّ أنَّ لفظة "مُرَمَّد" السالفة هي عند المصنف: "مُرمَّل" وهي اللفظة المناسبة للسَّجْع؛ لقوله بعده: مُفَلْفَل (أي: مجعَّد) لكن لا يمكنني تغييرها لأنها وقعت ضمن ما استدركته من "العقد الفريد" وهو في موضعين منه. ومن قوله: وقيل لنصيب: هرم شِعْرك ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬5) الأغاني 1/ 375، و"تاريخ دمشق" 17/ 557 (مصورة دار البشير)، والمنتظم 7/ 128 - 129. (¬6) ما بين حاصرتين من (ص). والبيت في "تاريخ دمشق" 17/ 556 من أبيات. وينظر أيضًا "مختصر تاريخ دمشق" 26/ 141.

السنة التاسعة بعد المئة

وقال الزُّبير بن بكَّار: كانت أمُّ مِحْجَن عند نُصَيب، وكانت سوداء، فلما أثْرَى تزوَّجَ بيضاءَ، فغارَتْ أمُّ محجن، فقال لها: [يا أمَّ محجن] واللهِ ما مثلي مَنْ يُغار عليه، وما أحدٌ أكرمَ عليَّ منك. ثم قال لها بعد مدَّة: أريد أن أجمعَ بينكما لإصلاح ذات البين ولمِّ الشَّعَث. فقالت: افعل. فأعطاها دينارًا وقال لها: ازدادي لها به ضيافة لئلا ترى بكِ خَصَاصة، وأعطى الجديدة دينارًا وقال: أصلحي لها به ضيافة (¬1)، ولا تقولي إنه من عندي. ثم قال لصاحب له: إذا اجتمعنا فقل لي: أمْا أحبُّ إليك من زوجَتَيك؟ ثم اجتمعا، فسأله الرجل، فقال: صاحبةُ الدينار. وكانا خلف السّتر، فظنَّتْ كلُّ واحدة أنَّه عناها، فرضيتا (¬2). ونُصيب من شعراء الحماسة، فمن شعره: كأنَّ القلبَ ليلةَ قيلَ يُغْدَى ... بليلى العامريَّةِ أو يُراحُ قَطاةٌ عَزَّها شَرَك (¬3) فباتَتْ ... تُجاذبُه وقد عَلِقَ الجناحُ لها فرخانِ قد تُرِكا بوَكْرٍ ... فعشُّهما تُصَفِّقُهُ الرِّياحُ إذا سمعا هبوب الرِّيح نَصَّا (¬4) ... وقد أَوْدَى به (¬5) القَدَرُ المتاحُ فلا (¬6) في الليل نالتْ ما تَمَنَّتْ ... ولا في الصبح كان لها بَرَاحُ (¬7) السنة التاسعة بعد المئة فيها غزا معاوية بن هشام الروم، ففتح حصنًا يقال له: الطينة (¬8). ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 17/ 562: أهْدِي لها به. (¬2) الخبر في "تاريخ دمشق" 17/ 562، و"المنتظم" 7/ 135، وسياقتُه فيهما أجود. (¬3) عزَّها، أي: غلبها، والشَّرَك: حِبالة الصَّيد. (¬4) أي: نصبا أعناقهما. "شرح الحماسة" للتبريزي 3/ 151. (¬5) في (خ) (والكلام منها): بها. والمثبت من المصدر السابق. (¬6) في (خ): فما. والمثبت من المصدر السابق. (¬7) شرح الحماسة للتبريزي 3/ 151. ونُسب البيتان الأولان في "الأغاني" 2/ 62 و 89 لمجنون ليلى، ونُسب في "ديوان المعاني" 1/ 275 لقيس بن ذريح. ومن قوله: ونُصيب من شعراء الحماسة ... إلخ، ليس في (ص). (¬8) في "تاريخ" الطبري 7/ 46، و"الكامل" 5/ 145: طيبة.

و [فيها] غزا أسد بن عبد الله الترك، فهزم خاقان، وفتح بلدًا يقال له: غُورين، فقال ثابت قطنة: أرى أسدًا في الحرب إذْ نزلَتْ بِهِ ... فقارعَ أهلَ الحربِ فازَ وأوجَبَا أتَتْك وفودُ التُّركِ ما بينَ كابُلٍ ... وغُورين إذْ لم يهربوا منكَ مَهْرَبا حليمٌ وإنَّ الحلمَ فيه سَجِيَّةٌ ... على القوم وَثَّابٌ على مَنْ تَوَثَّبا (¬1) ألم يكُ بالحِصْنِ المباركِ عِصْمةٌ ... لجندك إذ هابَ الجبانُ وأرهبا بنى لك عبدُ اللهِ حصنًا وَرِثْتَهُ ... قديمًا إذا عُدَّ القديمُ وأنجبا من أبيات. وفيها عَزل هشام بنُ عبد الملك خالدَ بنَ عبد الله القسري عن خُراسان، وصرف أخاه أسدًا عنها (¬2). وسببُه أن أسدًا تعصَّب على بعض القبائل ونصرِ بنِ سيَّار، وضربهم بالسِّياط. وخطب يوم جمعة فقال: قبَّح الله هذه الوجوه وجوه أهل الشِّقاق والنِّفاق، والشَّغَب والفشل، اللهمَّ فرِّقْ بيني وبينهم، وأخرِجْني إلى وطني ومهاجَري. وقال (¬3): من يروم ما قِبَلي وأميرُ المؤمنين هشام خالي، وخالدٌ أخي، ومعي اثنا عشر ألف سيف يمانٍ. ثم نزل ودعا بجماعة من أعيانهم، منهم نصر بن سيَّار، فضربهم، ويقال: إنه حلقَهم وقيَّدهم، وبعث بهم إلى أخيه خالد، فكتبَ إليه: ألا بعثتَ برؤوسهم؟ فقال عرفجة التميمي: فكيفَ وأنصارُ الخليفةِ كلُّهم ... عُناةٌ (¬4) وأعداءُ الخليفةِ تُطْلَقُ ¬

_ (¬1) قبله في (خ) (والكلام منها): حليمٌ وإنَّ الحلم فيه سجيَّةٌ ... على القوم إذ لم يهربوا منك مهربا وواضح أنَّه ملفَّق ممَّا قبله وما بعده. لذا لم أُثبته. وغالب هذه الأبيات في "تاريخ" الطبري 7/ 46 - 47 وليس فيه هذا البيت، ولم أقف على مصادر أخرى لها. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 47. (¬3) وكذا في "المنتظم" 7/ 131. وفي "تاريخ" الطبري: وقلّ. (¬4) جمع عانٍ، وهو الأسير.

بكَيتُ ولم أملك دموعي وحُقَّ لي ... ونصر وشهابُ الحرب في الغُل مُوثَقُ وفي ذكرهك قال نصر بن سيَّار: إنْ أكُن مُوثقًا أسيرًا ليهم ... في همومٍ وكربةٍ وغُمومِ (¬1) رهْنَ قَسْرٍ (¬2) فما وجدتُ بلاءً ... كإسارِ الكريمِ عند اللئيمِ من أبيات. وقال الفرزدق: أخالدُ لولا اللهُ لم تُعْطَ طاعةً ... وَلولا بنو مروانَ لم يُوثِقُوا نَصرا إذًا لَلَقِيتُم دون شَدِّ وَثاقِهِ ... بني الحربِ لا كُشْفَ اللقاءِ ولا ضَجرا وكان أهل خُراسان قد لقَّبوا أسدًا الزَّاغ (¬3)، فخطبَ على منبر بَلْخ وقال: لقَّبْتُموني الزَّاغ! واللهِ لأزِيغنَّ قلوبَكم. فلما تعصَّب لليمانيَّة على القبائل؛ فسدت الأمور، وبلغَ هشامًا، فكتب إلى خالد: اغزِلْ أخاك، فقد أفسد بالعصبيَّة البلاد. فكتب إلى هشام يستأذنُ لأسد في الحجّ، فأذِنَ له، فأرسل خالد إلى أخيه، فقدم عليه في دهاقين خُراسان في شهر رمضان، واستخلفَ على خُراسان الحكَمَ بن عَوانة الكلبيَّ (¬4). وكان أسد قد أفنى دعاةَ بني العباس على ما ذُكر، فإنه أوَّلُ من قدم خُراسان في ولاية أسد أبو محمد زياد مولى همدَان؛ بعثَه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وقال له: انزل باليمن (¬5)، والطف بالمُضَرِيَّة (¬6). ونهاه عن رجل من أبْرَشَهْر (¬7) يقال له: ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 49، و"الكامل" 5/ 142: وسهوم. (¬2) في (خ) (والكلام منها): قيس. والمثبت من المصدرين السالفين. (¬3) الزَّاغ: من أنواع الغِرْبان صغير الحجم نحو الحمامة، يقال له: غراب الزرع، وغراب الزيتون، لأنه يأكله ولا يأكل الجيف. ينظر "حياة الحيوان" للدميري 2/ 2. وجاء الكلام بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 7، وفيه أنهم كانوا يصغرونه ويقولون له: أُمَيِّر. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 49. (¬5) في (خ) (والكلام منها): ياليمامة، والمثبت من المصدر السابق. (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 49: والطف بمضر. (¬7) هو اسم لمدينة نيسابور بخراسان، وهو مركب من "شهر" وتعني بالفارسية: البلد، و"أَبْر" وتعني الغيم. قال ياقوت في "معجم البلدان" 1/ 65: ما أراهم أرادوا إلا خِصْبَه. اهـ. وتقال: أبرسهر؛ بالسين المهملة، =

غالب، وكان مائلًا إلى آل أبي طالب، وكان محمد بنُ علي يخافُه أن يدعوَ إلى آل أبي طالب، فحذَّرَ زيادًا منه. فلما دخل زياد خُراسان دعا إلى بني العباس، وبسط يدَه في إطعام الطعام، ولسانَه في ذمّ بني أمية، وبلغَ غالبًا، فخرج من أَبْرشَهْر، فقدم مرو، واجتمع بزياد، ففاوضَه في جعل الأمر في آل أبي طالب، وتنازعا، ثم افترقا عن غير اتفاق على شيء، وخرجَ غالب إلى أبرشهر، وأقام زياد بمرو، واختلف إليه الشيعة، منهم يحيى بن عقيل الخُزاعي، وإبراهيم بن الخطَّاب العَدَويّ. وكان ينزل بَرْزَنَ (¬1) سويدٌ [الكاتب] وكان الحسن بن شيخ كاتب الخَراج على مرْو، ويسكنُ هناك، فبلغَه أمرُ زياد، فأخبر أسدًا به، وكان معه عشرة فيهم رجل يقال له: أبو موسى، فاستحضرهم أسد وقال: اخرجوا من خُراسان. فقالوا: نحن تجار، إذا استوفينا مالنا على الناس خرجنا. فتركهم، ثم دعاهم مرة ثانية وقال: اخرجوا. فقال له أبو موسى: فاقض ما أنت قاضٍ (¬2). فقال أسد: جعلتَني مثلَ فرعون؟ ! ثم أمر بهم فعُذِّبُوا، وقُتلوا شرَّ قِتْلة (¬3). وفيها ولَّى هشامٌ على خُراسان أشرسَ بنَ عبد الله السُّلَميّ، وأمرَه أن يُكاتب خالدَ بنَ عبد الله القسريَّ. وكان أشرس فاضلًا خيِّرًا يسمُّونه: الكامل، فقدم خُراسان، فسُرَّ الناسُ بقدومه، فاستقضى على مَرْو أبا المنازل (¬4) الكندي، فلم يكن له علم بالقضاء، فاستشار مقاتلَ ¬

_ = وتقال أيضًا: برشهر؛ بإسقاط الهمزة. وينظر أيضًا "معجم البلدان" 1/ 384. وتحرفت اللفظة في (خ) (في كل المواضع) إلى: أنوشهر. (¬1) من قرى مرو. ينظر "معجم البلدان" 1/ 382. (¬2) اقتباس من قوله تعالى حكاية عن قول السحرة لفرعون من الآية (72) من سورة طه: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}. (¬3) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 49 - 50. ولفظة "الكاتب" السالفة يبن حاصرتين منه. (¬4) هو عثمان بن عبيد الله، فيما ذكر ابن حبان في "مشاهير علماء الأمصار" ص 196. ووقع في "تاريخ" الطبري 7/ 52: أبا المبارك.

ابنَ حيَّان، فأشار عليه بمحمد بن زيد (¬1)، فاستقضاه، فلم يزل قاضيًا حتى عُزل أشرس. وباشر أشرس الأمور دقيقَها وجليلَها بنفسه، واتَّخَذَ الرابطة (¬2)، وهو أوَّلُ من اتَّخَذها بخُراسان، ووَلَّى على الرابطة عبد الملك بن زياد الباهلي. ولما قدم أشرس كبَّر الناسُ فَرحًا به، فقال شاعر: لقد سمعَ الرحمنُ تكبيرَ أمَّةٍ ... غداةَ أتاها من سليم إمامُها إمامُ هدًى قوَّى به اللهُ أمرَهُم ... وكانت عِجافًا ما تصحُّ (¬3) عظامُها ولما قدم (¬4) أشرس خُراسان قدم على حمار، فقال له بعض النَّبَط: أيها الأمير، إن كنتَ تريدُ أن تكون والي خُراسان فاركَبْ فوسك، وشُدَّ حِزامَه بيدك، وارفع السَّوْط والسيف، واقتحم النار، وإلَّا فارجع. فقال: لا أقتحمُ النار، وأركبُ الحمار والخيل (¬5). وحجَّ بالناس إبراهيم بن هشام [المخزومي] وهو على ولايته. و[قال الواقدي: ] خطب بمنى يوم العيد بعد الظهر وقال: سلوني، فأنا ابنُ الوحيد، لا تسألونَ أحدًا أعلمَ منّي. فقام إليه رجلٌ فقال: الأُضحيةُ واجبة أم سُنَّة؟ فما دَرَى ما يقول، ونزل! وكان على العراق خالد القَسْري، وعلى قضاء البصرة ثُمامة بن عبد الله الأنصاري، وعلى شرطتها بلال بن أبي بُرْدَة (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ): زياد. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 52، و"الكامل " 5/ 143. وذكره ابن حبان في "مشاهير علماء الأمصار" ص 196. (¬2) في (خ) (والكلام منها): المرابطة. وكذا في الموضع التالي. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 52. والرابطة: كوكبة من الفرسان تقوم بدور العسس. ينظر "تكملة المعاجم العربية" 5/ 72. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 52: ما تمُخُّ. (¬4) في (خ) (والكلام منها): وفيها قدم ... ، والصواب ما أثبتُّه إن شاء الله. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 52. (¬5) من قوله: فقال ثابت قطنة (أول سنة 109) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬6) تاريخ الطبري 7/ 53. ومن قوله: وكان على العراق ... إلخ. ليس في (ص).

حبيب بن الشهيد

وفيها توفى حبيب بن الشهيد أبو مرزوق التُّجيبي المصري مولاهم، فقيهُ طرابلس الغرب من التابعين. حدَّث عن عُمر بن عبد العزيز، وحَنَش الصَّنْعاني، وغيرهما (¬1). عبد الملك بن رِفاعة ابن خالد الفَهْميّ المصري، أميرُ مصر [من قِبَل الوليد بن عبد الملك] بعد قُرَّة بن شريك، وأقرَّه سليمان، وعزلَه عُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، فكانت إمرتُه على مصر ثلاث سنين. ثم وفد على هشام، فولاه على مصر في المحرَّم، فقَدِمَها وهو مريض، فمات في المحرَّم، فكانت ولايته شهرًا، وقيل: نصف شهر. وكان ثقةً أمينًا. روى عنه الليث بنُ سعد، وقال الليث: كان يقول: إذا دخلت الهديَّةُ من الباب؛ خرجت الأمانةُ من الطَّاق. يريد العمَّال. ولما مات استخلفَ على مصر أخاه الوليد بنَ رِفاعة، فأقام واليًا عليها بتقرير هشام، إلى سنة سبع عشرة ومئة، فتوفّي بها في جمادى الآخرة (¬2). لاحق بن حُميد ابن شعبة (¬3) السَّدُوسيّ البصري، أبو مِجْلَز، من الطبقة الثانية [من أهل البصرة] (¬4) ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 4/ 164 (مصورة دار البشير)، وهو من رجال "تهذيب الكمال" 5/ 378. (¬2) ولاة مصر ص 87 - 88 و 97، وتاريخ دمشق 43/ 148 - 149 (طبعة مجمع دمشق) وما سلف بين حاصرتين منه للإيضاح، ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) قال المِزّي في "تهذيب الكمال" 31/ 176: لاحق بن حُميد بن سعيد، ويقال: ابن شعبة. (¬4) في (ص): ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية ... إلخ، وما بين حاصرتين منها. وهو في "طبقات" ابن سعد 9/ 215 و 372.

السنة العاشرة بعد المئة

وكان بمرو لمَّا قُتل قُتيبة بنُ مسلم، فولَّاه أهلُ مرْو أمرهم حتى قدم وكيع بن أبي سود (¬1). واستقدمه عمر بن عبد العزيز، فسأله عن أمر خُراسان. وكان أبو مجلز يركب مع قُتيبة بن مسلم في موكبه، فيسبِّحُ الله تعالى اثنتي عشرة ألفَ تسبيحة؛ يعدُّها بأصابعه ولا يعلم به أحد (¬2). وكان زاهدًا عابدًا شريفًا. [وذكره خليفة فقال: مات سنة تسع ومئة (¬3)، وقال البخاري: (مات) قبل الحسن البصري بقليل، والحسن مات في سنة عشر ومئة] (¬4). أسند عن عُمر، وابن عباس، وأنس، وحفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وروى عنه قتادة، وابن سِيرِين (¬5)، وسليمان التَّيميّ، وغيرهم، وكان ثقةً. السنة العاشرة بعد المئة فيها دعا أشرسُ بنُ عبد الله السلَمي [والي خُراسان] أهلَ الذِّمَّة من السُّغْد وسَمَرْقَنْد إلى الإسلام على أن يضع عنهم الجزية، فأسلموا (¬6). فلما أسلموا أخذَ منهم الجزية، فاستنصروا عليه بخاقان والملوك وحاربوه، وكان على سمرقند الحسن بن أبي عَمَرَّطة، فكتب إليه أشرس: إنَّ الخَراج قد انكسر، وفيه ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 18/ 6 - 7 (مصورة دار البشير). (¬2) المصدر السابق 18/ 8. (¬3) كذا في (ص) (والكلام بين حاصرتين منها) وهذا القول عن الفلَّاس، كما في "تاريخ دمشق" 18/ 10 (مصورة دار البشير) وذكر ابن عساكر قبله عن خليفة أن ابن هُبيرة جمع للاحق العراق سنة ستّ ومئة. ولعل ما وقع هنا سبق نظر من المختصر، فلم يرد أيضًا في "تاريخ" خليفة ولا "طبقاته" هذا الكلام. (¬4) التاريخ الكبير للبخاري 8/ 258. (¬5) يعني أنس بن سِيرِين كما في "تاريخ دمشق" 18/ 3، و"تهذيب الكمال" 31/ 177. (¬6) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 54. وجاء بعدها في (ص) ما نصُّه: "فقطعوا النهر، وقيل: "يقطعوه، وإنما أقاموا بسمرقند" (؟ ).

قوَّةٌ للمسلمين (¬1)، وقد بلغني أنَّ أهل السُّغْد وأشباههم لم يُسْلِمُوا رغبةً، وإنما دخلوا في الإسلام تعوُّذًا من الجزية، فانظر من اختتنَ وأقام الفرائض وقرأ سورًا من القرآن وحسُن إسلامُه؛ فارفع عنه خَراجَه. وعزلَ ابنَ أبي العَمَرَّطة، وولَّى هانئ بن هانئ (¬2)، فكتب إلى أشرس: إن الناس قد أسلموا وبنَوا المساجد. وشكا إلى أشرس دهاقينُ بُخارى كَسْرَ الخَراج، فكتب إلى هانئ: خُذ الخَراج. فأعاد الجزية على من أسلم، فامتنعوا. وخرج من السُّغْد سبعة آلاف، فنزلوا على سبعة فراسخ، فخرج إليهم هانئ في جيش وألحَّ عليهم في جباية الجزية، فكفر أهل السغْد وبُخارى ومن كان أسلم، واستجاشوا التُّرك (¬3)، فأَقبل خاقان في جيوشه، وقطع أشرس النهر -وقيل لم يقطعه- ونزل آمُل، وجاء بعض عسكر خاقان فقطع النهر، ثم عادوا وقد أصابوا رجالًا من المسلمين. ومضى أشرس فنزل بِيكَنْد، وقطعَ التُّرك عنهم الماء وعطشوا، وزحف إليهم الترك، فقاتلوهم، فقتلوا من المسلمين جماعةً، وقاتلهم المسلمون، فمات بالعطش منهم سبعُ مئة، ثم انتحى المسلمون وحملوا، فأزالوا التُّرك عن الماء، واقتتلُوا إلى الليل، وعاد العدوّ طالبين بلادهم. وسار أشرس حتى نزل على بُخارى، فحصرها، وكان نصر بنُ سيَّار بسمَرْقَنْد. وجرت لأشرس مع التُّرك حروبٌ كثيرة ووقائع، تارةً له وتارةً عليه، وعاد إلى خُراسان وقد قُتل أعيان المسلمين وأشراف القبائل (¬4). وحجَّ بالناس إبراهيم بن هشام المخزومي، والعمال بحالهم. ¬

_ (¬1) في سياقة الكلام في "تاريخ" الطبري 7/ 55، أن غوزك (صاحب السُّغد) كتب إلى أشرس: إن الخراج قد انكسر، فكتب أشرس إلى ابن أبي العمرَّطة: إن في الخراج قوَّة للمسلمين ... إلخ. (¬2) "تاريخ" الطبري 7/ 55: عزل ابن أبي العمرَّطة عن الخراج وصيَّره إلى هانئ بن هانئ. (¬3) أي: طلبوا منهم جيشًا. (¬4) ينظر الخبر بتمامه وتفصيله في "تاريخ" الطبري 5/ 54 - 60، وقد وقع هنا مختصرًا جدًّا. ومن قوله: فلما أسلموا أخذ منهم الجزية (أول هذه السنة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

[الحسن] بن أبي الحسن يسار

وفيها توفي [الحسن] بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، من الطبقة الثانية من التابعين [من أهل البصرة] (¬1). ويقال: إنه (¬2) من سبي مَيسان (¬3)، ووقع إلى المدينة، فاشترَتْه الرُّبَيّع بنتُ النَّضْر عمَّةُ أنس بن مالك، وأعتَقَتْه. وذكر عن الحسن أنه قال: كان أبواي لرجل من بني النجار، فتزوَّج من بني سَلمة (¬4)، فساقهما إليها من مهرها، فأعتَقَتْهُما. ويقال: بل كانت أمُّ الحسن، واسمُها خَيرة، كانت مولاة لأمِّ سلمة - رضي الله عنهما - زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ووُلد الحسن بالمدينة لسنتين (¬6) بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، فيذكرون أنَّ أمَّه كانت ربَّما غابت، فيبكي الحسن، فتُعطيه أمُّ سلمة ثديَها تُعَلّلُهُ به إلى أن تجيء أمُّه (¬7)، فيدرٌّ عليه فيشربُه، فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك (¬8). وحنَّكه عمر رضوان الله عليه بيده (¬9)، ونشأ بوادي القرى (¬10). ¬

_ (¬1) في (ص): وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية ... إلح. وما وقع بين حاصرتين منها. وهو في "طبقات" ابن سعد 9/ 157. (¬2) يعني يسارًا أبا الحسن البصري. (¬3) في (خ): بيسان. والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في "طبقات" ابن سعد 9/ 157. (¬4) في (خ) (والكلام منها): سليم. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 9/ 157، و"تهذيب الكمال" 6/ 103 عن ابن سعد. (¬5) من قوله: وذكر عن الحسن أنه قال ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬6) في (ص): ذكر مولده: قد حكينا عن ابن سعد أنه قال: ولد لسنتين ... وهو في "طبقاته" 9/ 157. (¬7) تُستأنف النسخة (ب) عند هذا الموضع. (¬8) من قوله: فيذكرون أمَّه كانت ربما غابت ... إلى هذا الموضع ليس في (ص). (¬9) المنتظم 7/ 136. (¬10) طبقات ابن سعد 9/ 157.

وقال [ابن سعد عن] الحسن: رأيتُ عثمان رضوان الله عليه يخطب وأنا ابن خمس عشرة سنة قائمًا وقاعدًا (¬1). [وحكى ابنُ (سعد عن) أبي رجاء (¬2) أنه قال: قلتُ للحسن: متى عهدُك بالمدينة يا أبا سعيد؟ فقال: ليالي صفّين. قال: فقلت: فمتى احتلمتَ؟ قال: بعد صفّين عامًا. ثم قال ابن سعد: وقال محمد بن عمر: والثبت عندنا أنه كان للحسن يوم قُتل عثمان أربع عشرة سنة، وقد رأى عثمان، وسمع منه] (¬3). [قال ابن سعد]: وكان الحسن جامعًا عالمًا، عاليًا رفيعًا، فقيهًا ثقة مأمونًا، عابدًا ناسكًا، كثير العلم فصيحًا، جميلا وسيمًا (¬4). [وقال هشام: كان من أحسن الناس وجهًا حتى سقط من دابة، فتغيَّر وجهُه]. وكان يصفِّر لحيته ويتختَّم بالفضة، ويتعمَّم بعمامة سوداء، ويلبس الطيلسان (¬5). وقال [ابن سعد أيضًا بإسناده عن الحسن قال: ، كنتُ أدخلُ بيوت أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خلافة عثمان، فأتناولُ سقفَ البيت بيدي (¬6). وكان قتادة يقول: عليكم بهذا الشيخ -يعني الحسن- فواللهِ ما رأيتُ رجلًا أشبه برأي عمر بن الخطاب منه (¬7). وكان الحسن ينهى عن الفتن ولم يحضر شيئًا منها قظ، فلما كانت فتنةُ ابن الأشعث مع الحجَّاج انطلق عقبةُ بن عبد الغافر، وأبو الجوزاء، وعبدُ الله بن غالب في نفر من نظرائهم، فدخلوا على الحسن، فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذَ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟ وذكروا ¬

_ (¬1) المصدر السابق 9/ 158. (¬2) أبو رجاء هو محمد بن سيف البصري الأزدي، من رجال "تهذيب الكمال" 25/ 355. وزدتُ لفظ: (سعد عن) بين قوسين من عندي، ولابدَّ منه. وينظر التعليق التالي. (¬3) من قوله: وحكى ابن (سعد عن) أبي رجاء ... إلى هذا الموضع (وهو بين حاصرتين) من (ص). وهو في "طبقات ابن سعد" 9/ 158. (¬4) المصدر السابق. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 160 - 161. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 162. (¬7) المصدر السابق. ولم يرد هذا القول في (ص).

من فِعال الحجَّاج. فقال: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إنْ تكن عقوبةً من الله عزَّ وجل، فما أنتم برادِّي عقوبتِه بأسيافكم، كان يكن بلاءً؛ فاصبروا حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين. فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العِلج! وهم قوم عرب، وخرجوا مع ابن الأشعث، فقُتلوا جميعًا (¬1). وقال رجل: يا أبا سعيد، ما تقول في الفتن مثل (¬2) يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. فقال: ولا مع أمير المؤمنين؟ قال: لا (¬3). وكان ينهى عن الخروج على الحجَّاج، ويأمرُ بالكفِّ عنه، ويقول: واللهِ ما سلَّطه اللهُ عليكم إلا عقوبةً، فلا تُعارضوا عقوبةَ الله بالسيف، ولكن عليكم بالسَّكِينة والتضرُّع (¬4). وقال: لو أن الناس إذا ابتُلُوا من قبل سلطانهم صبروا، ما لبثوا أن يفرِّجَ اللهُ عنهم، ولكنهم (¬5) يجزعون إلى السيف، فيوكلون عليه (¬6). وقال القاسم بن الفضل: رأيتُ الحسن قاعدًا في أصل منبر ابن الأشعث (¬7). وقال أيوب: قيل لابن الأشعث: إنْ سرَّك أن يُقتل الناسُ حولَك كما قُتلوا حول جمل عائشة؛ فأخْرِج الحسن. فأخرجه مكرهًا. فغفلوا عنه، فألْقَى نفسه في بعض تلك الأنهار، فنجا منهم، وكاد يهلك (¬8). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 164. (¬2) في (ب): مع، بدل: مثل. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 165 وفي سياقته بعض الاختلاف عن الخبر أعلاه. ومن قوله: فلما كانت فتنة ابن الأشعث ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬4) الخبر في "طبقات" ابن سعد 9/ 165 بأطول منه. (¬5) في (ب): ولكن. (¬6) في "طبقات" ابن سعد 9/ 165: فيوكلون إليه. (¬7) طبقات ابن سعد 9/ 165. (¬8) الشطر الأول من الخبر في "طبقات" ابن سعد 9/ 164 من كلام أيوب، وشطره الثاني فيه من كلام ابن عون. ومن قوله: وقال: لو أن الناس إذا ابتُلوا ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

[قال هشام: ] وكان يلبس مطارف الخَزّ ويتختَّمُ في يساره ويَخضِبُ بالحِنَّاء، ويركبُ الحمار، ويُبغض أصحابَ الأكسية ويقول: واللهِ لأحدُهم أشدُّ تعجُّبًا بكسائه من صاحب المِطْرف بمِطْرَفِه (¬1)، إنَّ أكثر أهل النار أصحابُ الأكسية (¬2). [ذكر خوف الحسن وبكائه] وقال إبراهيم (¬3) بن عيسى اليشكري: ما رأيتُ أطولَ حُزْنًا من الحسن، وما رأيتُه قطُّ إلا حسبتُه حديث عهدٍ بمصيبة. [وقال سليمان بن المغيرة: ] وكان الحسن يقول: نضحكُ! ولعلَّ الله قد اطَّلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبلُ منكم شيئًا (¬4). [وقال مسمع: لو رأيتَ الحسن لقلتَ: قد بُثَّ عليه حزنُ الخلائق؛ من طول تلك الدمعة، وكثرة ذلك النشيج (¬5). وحكى ابنُ سعد عن يزيد بن حَوْشَب قال: ما رأيتُ أخوفَ من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأنَّ النار لم تُخلق إلا لهما (¬6). وقال حفص بن عمر: ] وبكى الحسن، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني في النار غدًا ولا يبالي (¬7). و[قال يوسف بن أسباط: ] مكث ثلاثين سنة لم يضحك، وأقام أربعين سنة لم يمزح، وكان يقول: لقد أدركتُ أقوامًا ما أنا عندهم إلا لصّ (¬8). ¬

_ (¬1) المِطْرف: رداء -أو ثوب- من خَزّ مربّع ذو أعلام (رسوم). (¬2) يعني الذين يلبسون الصوف ويُظهرون التواضع. وبعض الخبر بنحوه في "طبقات" ابن سعد 9/ 169. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) في (ص): روى أبو نُعيم بإسناده إلى إبراهيم ... والخبر في "حلية الأولياء" 2/ 133. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) ينظر المصدر السابق 2/ 134. (¬5) في (ص) (والكلام منها): التسبيح. والمثبت من "صفوة الصفوة" 3/ 233. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 386 (ترجمة عمر بن عبد العزيز). (¬7) صفة الصفوة 3/ 233. (¬8) حلية الأولياء 8/ 240، وشُعب الإيمان 4/ 265، وصفة الصفوة 3/ 234.

و [روى أبو نُعيم عن حُميد قال: ] بينما هو في المسجد تنفَّس (¬1) نَفَسًا شديدًا، ثم بكى حتى أُرعدت منكباه، ثم قال: لو أنَّ بالقلوب حياةً (¬2) لبكيتُم (¬3) من ليلة تتمخَّض عن يوم القيامة (¬4) ما سمع الخلائق بيوم قطّ أكثر (¬5) من سورة بادية، ولا عينٍ باكية من ذلك اليوم. وقال يونس [بن عبيد: ] كان الحسن إذا أقبل كأنَّه أقبلَ من دفن حميم له، وإذا جلس كأنه أسير يُضرب عنقُه، وإذا ذُكرت النار كأنَّها لم تُخلق إلا له. و[قال أبو بكر بن عيَّاش: ] كان الحسن إذا شيَّع جنازة لم يره أحد في ذلك اليوم، ينفردُ في بيت صغير مظلم، ويبكي ويقول: أنتَ غدًا من أهل القبور. [ذكر نبذة من كلامه ومواعظه] و[حدثنا جدّي رحمه الله بإسناده] عن أبي عبيدة الناجي (¬6) أنه سمع الحسن يقول: يا ابنَ آدم، إنك لا تُصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناسَ بعيب هو فيك، حتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك فتُصلحَه، فإذا فعلتَ ذلك لم تُصلح عيبًا إلا وجدتَ عيبًا آخر لم تصلحه، فإذا فعلتَ ذلك كان شغلك في خاصَّة نفسك، وأحبُّ العباد إلى الله تعالى من كان كذلك (¬7). وقال الحسن: يا ابنَ آدم لا تحقرن من الخير شيئًا وإن صَغُر، فإنَّ عملَك يُوزن، فإذا رأيتَه سرَّك، ولا تحقرنَّ من الشَّرّ شيئًا، فإنك إذا رأيتَه غمَّك، فرحم الله رجلًا كسب طيّبًا، وأنفق طيبًا، ولزم قصدًا، وقدَّم فضلًا ليوم فقره وفاقته (¬8). ¬

_ (¬1) في "حلية الأولياء" 3/ 143: بينما الحسن في يوم من رجب في المسجد وهو يمصُّ ماءً ويمجُّه تنفَّس ... (¬2) بعدها في المصدرين السابقين: لو أن بالقلوب صلاحًا. (¬3) في "الحلية": لأبكيتكم، وفي "صفة الصفوة" 3/ 234: لأبكتْكم. (¬4) في المصدرين السابقين: من ليلة صبيحتها يوم القيامة، إن ليلة تمخّص عن صبيحة يوم القيامة ... (¬5) في (ص): بأكثر. (¬6) هو بكر بن الأسود، أحد الزُّهَّاد. وتحرف في (خ) و (ص) إلى الباجي. والمثبت من (ب). وينظر "ميزان الاعتدال" 1/ 319. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬7) شعب الإيمان 5/ 312، وصفة الصفوة 3/ 234. (¬8) حلية الأولياء 2/ 143، وصفة الصفوة 3/ 235. ولم يرد هذا الخبر في (ص).

ومرَّ الحسن ببعض القرَّاء على بعض بواب الملوك، فقال: فرطحتُم بنعالكم (¬1)، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم، فزَهِدُوا فيكم، أما إنكم لو جلستُم في بيوتكم حتى يكونوا هم الذين يُرسلون إليكم لكان أعظمَ لكم في أعينهم، تفرَّقُوا فرَّقَ الله بين أعضائكم (¬2). [وقال مبارك بن فَضَالة: سمعت الحسن يقول] وقال له شابّ: أعياني قيامُ الليل، فقال [له]: قيَّدَتْك خطاياك (¬3). وقيل للحسن: ألا تدخل على الأمراء فتأمرَهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر؟ قال: ليس للمؤمن أن يُذلَّ نفسه، إنَّ سيوفَهم لَتسبقُ ألسنتَنا (¬4). و[روى هشام بن محمد عن أبيه قال: ] جلس الحسن في المسجد الجامع، فطلع الحجَّاج على برْذَوْن أشهب والشُّرَط حولَه، فجاء إلى باب الجامع، فنزلَ، وجاء إلى حلقة الحسن، فسلَّم وجلس إلى جانبه والحسن يتحدَّثُ، فلما فرغ من حديثه أقبل الحجّاج على أهل الحلقة، فقال: إنَّ هذا لم مبارك، معظِّم لأهل القبلة، ناصحٌ للملَّة (¬5)، صاحبُ سُنَّة ونصيحة للعامَّة والخاصَّة، فعليكم بمجالسته (¬6)، فإنه يُعرفُ فضلُه، وتُرجى عاقبتُه (¬7)، ولولا ما لزمَنا من حقوق الرعتة لأحببتُ الحضورَ معكم. ثم قام وانصرف. فقام شيخ كبير، فقال: يا أبا سعيد، عطائي زهيد، وأنا فقير، ولي عِيال. وبكى، فبكى الحسنُ وقال: إن عدوَّ الله قتلَ عباد الله على الدِّرهم والدِّينار، أخذه من خبيث، ¬

_ (¬1) أي: وسَّعتُم وبسطتُم، وفي "صفة الصفوة" 3/ 236: نعالكم. (¬2) صفة الصفوة 3/ 236. ولم يرد الخبر في (ص). (¬3) المصدر السابق 3/ 235. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 176. (¬5) في (خ): الملة. والمثبت من (ب) و (ص). (¬6) في (ص): بمجالسه. (¬7) في (خ): عافيته. والمثبت من (ب) و (ص).

وأنفقَه في سَرَف، أمَّا إذا خرج عدوّ الله فصاحبُ بغال (¬1) زفَّافة، وجنائب (¬2) هفَّافة، وأمَّا إذا خرج أخوه المسلم فطاوى ماشيًا. [قال: ] وبلغَ الحجاجَ قولُه، فجاء حَرَسيّ وقال: أجب الأمير. فقام فدخل عليه، فسلّم وجلس، فردَّ عليه الحجَّاج وقال: يا حسن، أنت صاحبُ الكلمات؟ قال: نعم. قال: ما حملك على ذلك؟ قال: ما أخذ الله تعالى على العلماء في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] أخذ الله عليهم العهد أن يتكلَّموا بالحق، ويصدّقوا به بالعمل. فأطرق الحجَّاجُ ساعةً والحسن يدعو في نفسه، فرفع رأسَه وقال: اذهبْ فتكلّمْ بما بدا لك، فإنما أنت ناصحٌ لخاصَّتنا وعامَّتِنا (¬3). وقال الشعبي (¬4): لمَّا قدم الحجَّاجُ البصرة؛ جلس للناس في يوم صائف في قبَّة، وفيها الثلج والخِلاف (¬5)، ودخل عليه أبناءُ المهاجرين والأنصار وأشرافُ الناس ووجوهُهم. واستدعى بالحسن، فجاء ودخل، وسلَّم، فردَّ - عليه السلام - وقال: مرحبًا بأبي سعيد، ودعا بكرسيّ، فأجلَسَه عليه إلى جانبه، فقال له الحجَّاج: اخْلع قميصك يا أبا سعيد. فجعلَ الحسنُ يعالجُ زِرَّ قميصه، فأبطأ به، فطأطأ الحجَّاج رأسه إليه حتى قلنا: يتعاطاه؛ من لطفه. وقال: يا جارية، المُدهُن (¬6). فجاءت بمُنهُنٍ، فوضعه على رأس الحسن، وما صنع ذلك بأحدٍ غيرِه، ثم قال له الحجَّاج: يا أبا سعيد، ما لي أراك ¬

_ (¬1) في (ص): نعال. (¬2) جمع جنيبة، وهي الناقة يعطيها الرجلُ القومَ يمتارون عليها له. ينظر "لسان العرب" (جنب)، ووقع في (خ): وحبائب. وقوله: زفافة ... هفَّافة، أي: مسرعة. (¬3) الخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 12/ 371 - 372. وينظر أيضًا "إحياء علوم الدين" 3/ 329، و"المنتظم" 6/ 340 - 341. (¬4) قبله في (ص): "ذكر اجتماع الحسن والشعبي وعمر بن هبيرة عند الحجاج" وفيه إشكال. فسيرد خبران: الأول منهما فيه اجتماع الحسن والشعي عند الحجاج، والثاني: اجتماعهما عند ابن هبيرة. (¬5) في "القاموس": الخِلاف: صنف من الصفصاف، وليس به، سمّي خِلافًا لأن السيل يجيءُ به سَبْيًا، فينبت من خلاف أصله. (¬6) المُدْهُن، بالضمّ: آلةُ الدُّهن وقارورتُه (شاذّ). ينظر "القاموس".

منهوك الجسم؟ لعلَّ ذلك من سوء ولاية، أو قلَّة نفقة، ألا نأمرُ لك بخادم لطيف، ونفقةٍ تُوسع بها عليك؟ فقال: أنا من الله في كفاية. فقال الحجَّاج: لا والله، بل العلمُ والزُّهد فيما نحن فيه. ثم التفتَ الحجَّاح إلينا وذكرَ عليًّا - عليه السلام -، فنِلْنا منه خوفًا من الحجَّاج، والحسنُ ساكتٌ عاضٌّ على إبهامه، فقال له الحجّاج: أخبرني برأيك في أبي تراب. فقال: سمعتُ الله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] فعليُّ فيمن هدى الله إلى الإيمان، ثم ما أقولُ في ابن عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخَتَنِه على ابنته وأحبِّ الناس إليه، وصاحبِ سوابقَ مباركات سبقت له من الله لا تستطيع أنت ولا أحدٌ من الناس أن تحولَ بينه وبينها؟ ! أقول قولي هذا، ولا أعدلُ عنه. فتغيَّر وجهُ الحجَّاج وبَسَرَ وكَلَحَ، وقام مُغْضَبًا عن سريره، فدخلَ بيتَه، وقمنا فخرجنا. قال الشعبي: فأخذتُ بيد الحسن وقلت له: يا أبا سعيد، أغضبتَ الأمير وأوغرتَ صدرَه. فنترَ يده من يدي وقال: إليك عنّي يا عامر، يقول الناس: عامرُ الشعبيّ عامرُ أهل الكوفة وفقيهُها، أتيتَ شيطانًا من شياطين الإنس تكلّمُه بهذا [الكلام]! ويحك يا عامر، هلَّا اتَّقيتَ الله إذْ سُئلتَ فصدَقتَ أو سكتَّ فسَلِمتَ! فقلت: يا أبا سعيد، قد قلتُها وأنا أعلمُ ما فيها. فقال: ذاك أعظمُ في الحجَّة عليك، وأشدُّ في التَّبِعة يا عامر (¬1). قال الشعبي: فما فرَّق الموتُ بيني وبين الحسن حتى اجتمعنا عند عُمر بن هُبَيرة لمَّا وليَ العراقَ ليزيد بن عبد الملك، واجتمع قرَّاء الأمصار، فسألهم عن مسائل، ثم أخرجَهم جميعًا، فلم يبقَ غيري وغير الحسن وابن سِيرِين، فالتفتَ إلى ابنِ سِيرِين فقال: يا أبا بكر، ما رأيتَ من أمرنا منذ قدمنا (¬2)؟ فقال: رأيتُ ظلمًا فاشيًا، ومنكرًا قبيحًا. فغمزه ابنُ أخيه في منكبه، فقال له محمد: أنا الذي أُسألُ، لا أنتَ. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 12/ 369 - 370. (¬2) في (ص): قدومنا.

قال: فالتفت إليَّ وقال: ما تقولُ أنتَ يا عامر؟ فقلت: الأميرُ -وفَّقه الله- مجتهدٌ، والتوفيقُ من الله. فالتفت إلى الحسن، فقال: ما تقول أنتَ يا أبا سعيد؟ إن أمير المؤمنين يزيد يكتب إليَّ في أشياء ليست من طامحة الله، هل ترى [لي] رخصة أن أُمضيَها؟ قال عامر: فنشز (¬1) الحسن وجثا (¬2) على ركبتيه وقال: هذا الشعبيّ فقيه أهل العراق [-أو المشرق-] فسله. فأحال الجواب عليَّ، فقلت: قارِبْ وسدِّدْ وارفُقْ، فإني أرجو أن لا يكون عليك بأس. فقال للحسن: أريد جوابَك أنتَ يا أبا سعيد. فقال له الحسن وقد احمرَّتْ عيناه: إيهِ يا ابْنَ هُبيرة! خَفِ الله في يزيد، ولا تخف يزيدَ في الله، يا ابْنَ هُبيرة، اعرِضْ كتابَ يزيد على كتاب الله، فإن وافقَ، فأفضِه، كان خالف فاضْرِبْ به عُزضَ الحائط، يا ابن هُبيرة، يُوشِكُ -واللهِ- أن ينزل بك ملكُ الموت، فيُنزلك عن سريرك ويخرجَك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك (¬3)، ثم لا يُوسعُه عليك إلا عملُك، يا ابن هُبيرة، إنَّ للهِ سطوات ونِقْمات، وما هي من الظالمين ببعيد، يا ابنَ هُبيرة، لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق. فبكى ابنُ هُبيرة بكاءً شديدًا وقال: الحقُّ -واللهِ- فيما قال الشيخ. ثم قمنا فخَرَجْنا، ولَحِقَنا رسولُه بالبَدْر (¬4) والهدايا إلى الحسن دونَنا، فلم يقبَلْها، وبعث إلينا بألفين [فقلنا: رَفَقْنا فَرَفَقَ لنا، وشدَّد غيرُنا فكثّر له]. قال الشعبي: ولما خرجنا قلتُ للحسن: يا أبا سعيد، ما كنّا نعرف لك الفضل علينا حتى اليوم، حيث أردنا الدنيا وأردتَ ما عند الله. [قال: ] فضرب بيده في صدري وقال: ويحك يا عامر، تدري متى هلك بنو إسرائيل؟ إنما هلكوا حين رخَّص لهم علماؤهم في محارم الله تعالى (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): فنشر. وفي (ص): فسوّى. والمثبت من (ب). (¬2) في (ص): وجلس. (¬3) في (ص): لحدك. (¬4) البَدْر والبَدْرة: كيس فيه مال (ألف أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار). ينظر "القاموس". (¬5) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 217، و"العقد الفريد" 1/ 58 - 59، و"حلية الأولياء"2/ 149 - 150 والكلام السالف بين حاصرتين من (ص).

[ذكر أخبار متفرّقة من سيرة الحسن] [قال الشعبي: كان الحسن كاتبًا للربيع بن زياد]. و[قال ابن سعد: ] قدم الحسن مكة، فأجلسوه على سرير، واجتمعَ الناسُ إليه فحدَّثَهم، وكان فيمن أتاه مجاهد وعطاء وعَمرو بن شعيب، فقالوا: لم نرَ مثل هذا قطُّ. و[روى عنه قتادة أنه] قال: لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدَّثْتُكم (¬1). وكان يُحدِّثُ بالمعاني، فيزيد في الحديث وينقص منه، ولكن المعنى واحد. وكان [يتوضأ ممَّا مسَّت النار، و] يغتسل للجمعة، ويتختَّم في يساره، ولا يُحفي شاربه (¬2). [قال: ووليَ الحسن قضاء البصرة بعد إياس بن معاوية، ثم استعفى، وتكاثر الناسُ عليه يومًا فقال: لابدّ لهؤلاء من وَزَعة. أي: مَن يردُّ عنهم. وقد ذكرناه فيما تقدَّم (¬3). وقال ابن سعد أيضًا عن رَوْح بن عُبادة، عن الحجَّاج بن الأسود قال: تمنّى رجل فقال: ليتني بزهد الحسن، وَوَرع ابن سيرين، وعِبادةِ عامر بن عبد قيس، وفِقْهِ ابن المسيّب. فنظروا في ذلك، فوجدوه كلّه في الحسن] (¬4). وسأله أبو سلمة بنُ عبد الرحمن فقال: هذا الذي تُفتي به الناس؛ شيءٌ سمعتَه، أم برأيك؟ فقال [الحسن]: لا واللهِ، ما كلُّ ما نُفتي به سمعناه، ولكنَّ رَأُيَنا لهم خيرٌ من رَأيهم لأنفسهم (¬5). [وقال الحسن. ذهب الناسُ والنسناس، أسمع صوتًا ولا أرى إنسيًا] (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 158. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬2) في "الطبقات" 9/ 161: لا يُحفي شاربَه كما يُحفي بعض الناس .. (¬3) ينظر "طبقات ابن سعد" 9/ 159 - 161. (¬4) المصدر السابق 9/ 166. وكل ما سلف بين حاصرتين في هذه الفقرة من (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 166. (¬6) في "طبقات" ابن سعد 9/ 127: أنيسًا. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص).

وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد. فقال له [الحسن]. أين غُذيتَ؟ قال: بالأُبُلَّة. قال: من هناك أتيت (¬1). وقال سعيد أخو الحسن يومًا: أنا أعربُ الناس قال الحسن: أنت؟ ! قال: نعم، فإن استطعتَ أن تأخذَ عليَّ كلمةً واحدة. فيال الحسن: نعم، هذه (¬2). ووقع الطاعون بالبصرة، فاجتمع الناس إلى الحسن وقالوا: يا أبا سعيد، هلك الناس. فقال: ليس ما فعل بكم وبكم مهلكًا (¬3)، أقلع مذنب، وأنفق مُمْسك (¬4). و[قال الأصمعي: حُكي عن الحسن أنه] قال: في الكلب عشر خصال محمودة. أحدها: ما يزال جائعًا، وذلك [من] دأب الصالحين. والثانية: لا يكون له مكان معروف، وذلك من علامات المتوكِّلين. والثالثة: لا ينام طول ليله، وذلك من صفات المحبِّين. والرابعة: إذا مات لا يخلِّفُ شيئًا، وذلك من صفات المتزهدين. والخامسة: لا يُفارق صاحبَه وإن آذاه وجفاه، وتلك أمارات المريدين. والسادسة: أن يرضى من الدنيا بأدنى الأماكن، وذلك من أوصاف القانعين. والسابعة: إذا غلب على مكان تركه، ومَضى إلى غيره، وتلك علامات (¬5) الوَرعين. والثامنة: إذا طُرد عَاد، وتلك من صفات المحافظين. والتاسعة: إذا حضر المعلوم قعد بعيدًا، وهذه صفات المساكين (¬6). والعاشرة: ليس له مأوى، وهذه من أوصاف المتجرِّدين (¬7). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 9/ 167. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في (ب): هلكًا. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬4) ينظر "العقد الفريد" 3/ 193، و"محاضرات الأدباء" 4/ 324 - 325، و"وفيات الأعيان" 2/ 70. (¬5) في (ب) و (ص): علامة. (¬6) في (ص): السالكين. (¬7) لم أقف على الخبر. وألحقه ناشر "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" به، ولا تصحُّ نسبته إلى الحسن البصري - رضي الله عنه -، فأسلوبُ هذا الكلام ليس من أسلوبه، ولا من أسلوب عصره، ولا يخفى ما فيه من تكلّف، بل إن بعض الخصال المذكورة فيه لا تليق بالمؤمن.

[ذكر وفاته رحمة الله عليه: ] [قال الواقدي: ] وتوفي الحسن رحمة الله عليه في رجب سنة عشر ومئة [وبينه وبين محمد بن سيرين مئة يوم؛ تقدَّمه الحسن. وقال حمَّاد بن سلمة: كان ذلك] يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة، وغسَّله أيوبُ السَّخْتِياني، وحُميد الطويل. وكان له يوم مات سبع وثمانون سنة [كان أسنَّ من ابن سيرين بعشر سنين (¬1). وحكى ابن سعد قال: ] قال رجل لابن سِيرِين: رأيتُ في المنام طائرًا أخذ [أحسن] حصاةٍ من المسجد. فقال [ابن سِيرِين]: إن صدقَتْ رؤياك مات الحسن. فلم يلبث إلا قليلًا حتى مات (¬2). [وقال ابن قتيبة: لم يحضر ابنُ سِيرِين جنازة الحسن لشيءٍ كان بينهما. قلت: وليس كما ذكر ابن قُتيبة، بل كان ابنُ سِيرِين محبوسًا في حبس الحجَّاج بدَيْن كان عليه، وسأل الخروج ليصلّيَ عليه، فلم يمكّن، ومات ابنُ سِيرِين في الحبس لما نذكر]. [ذكر ما رُؤي له من المنامات] [وفيها كثرة، فنقتصر على ما ثبت منها: قال الواقدي: قال ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات": ] قال مالك بن دينار (¬3): رأيت الحسن في منامي مشرقَ اللون، شديد بياض الوجه، تُبرق مجاري دموعه من شدَّة بياضها على سائر وجهه [قال: ] فقلت: يا أبا سعيد، ألستَ عندنا من الموتى؟ ! قال: بلى. قلتُ: فما الذي صرتَ إليه بعد الموت في الآخرة؟ فواللهِ لقد طال حُزنُك وبكاؤُك في دار الدنيا. [قال: ، فتبسَّم وقال: لقد رفع الله لنا بذلك الحزن والبكاء علم الهداية إلى طريق منازل الأبرار، فحلَلْنا بثوابه مساكنَ المتقين، وايمُ الله، إنَّ ذلك لمن ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 177 - 178. والكلام الواقع بين حاصرتين في هذه الفقرة من (ص). (¬2) المصدر السابق 9/ 174، ولفظة "أحسن" بين حاصرتين منه. (¬3) ما سلف بين حاصرتين من (ص)، وجاء بعده فيها ما صورتُه: وقد حدَّثنا به غير واحد عن أبي بكر محمد بن عبد الله (كذا. والصواب: عُبيد الله) بن نصر بن الزاغوني بإسناده عن مالك بن دينار قال ... الخ والخبر في "المنامات" (39) ص 37.

فضل الله علينا. قلت: فَبِمَ تأمرُني يا أبا سعيد؟ فقال: أطول الناس حزنًا في الدنيا أطولُهم فرحًا في الآخرة. [قال أبنُ أبي الدنيا: ولما مات ابنُ سيرين بعد الحسن رؤي في المنام في حالٍ تُسرّ، فقيل له: فما صنع الله بالحسن؟ فقال: رفع فوقي بسبعين درجة. قيل: ولِمَ ذلك وقد كنتَ تُرى أفضلَ منه؟ ! فقال: ذاك بطول حُزنه] (¬1). أسند الحسن عن خلق من الصحابة وعاصرَهم، منهم عثمان، وعليّ، وابن عُمر، وأنس، وأبو سعيد الخُدري، وجابر بن عبد الله، وعمران بن الحُصَين، وسَمُرة بن جُنْدب، وعبد الرحمن بن سَمُرة وغزا معه كابُل، والأندقان والأندغان (¬2) والأندلستان (¬3) ثلاث سنين. واختلفوا في سماعه من أبي هريرة، وروى عنه خلقٌ كثير من التابعين. وسئل أنس بن مالك عن مسألة فقال: عليكم بمولانا الحسن فسَلُوه، فقيل له في ذلك، فقال: نعم، إنّا سمعنا وسمع، فحفظ ونسينا (¬4). وأرسل الحسن الحديث، واختلف العلماءُ في مراسيله: فعند أبي حنيفة وأصحابه ومالك وأحمد وعامَّة العلماء أنَّها حُجَّة، وعند الشافعيّ ليست بحجَّة (¬5). وحجّ الحسن مرَّتين، مرَّة في أوَّل عمره، وأخرى في آخر عمره (¬6). ¬

_ (¬1) المنامات، بإثر الخبر السابق. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (ص): الأندغان والأندوان. وذكر ياقوت في "معجم البلدان" 1/ 264 أندوان، وقال: قرية من قرى أصبهان. ولم أقف على من ذكر الأندقان والأندغان، وذكر ياقوت 1/ 261 أندغن وقال: من قرى مرو، وأندق، وقال: قرية بينها وبين بخارى عشرة فراسخ. ولعلهما هما. (¬3) كذا في النسخ. ولم أقف عليها. وفي "طبقات" ابن سعد 9/ 158: زابلستان. وذكرها ياقوت في "معجمه" 3/ 125 وقال: كورة (بقعة فيها قرى ومحال) واسعة جنوبي بلخ وطخارستان. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 176. (¬5) من قوله: واختلفوا في سماعه من أبي هريرة ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 9/ 175. ونُسب الكلام في (ص) إليه.

[قلت: وقد روى ابن سعد أن الحسن غسل كتبه قبل الموت] (¬1). وقال سهل بن حُصين كان منلم الباهليّ: بعثتُ إلى عبد الله بن الحسن أنِ ابعثْ إليَّ بكتب أبيك. فبعث إليَّ يقول: إنه لما ثَقُل قال: اجمعها لي. فجمعتُها له، وما أدري ما يصنع بها. فقال للخادم: اُسْجُرْ في التَّنُّور. فسَجَرَه له، ثم أمر بها، فأُحرقت (¬2). وقد روى ابنُ سعد أنه كان يميل إلى القدر، فقال: أخبرنا عارم بن الفضل، حدَّثنا حمَّادُ بنُ زيد، عن أيوب قال: أنا نازلتُ الحسن في القَدَر غيرَ مرَّة حتى خوَّفتُه السلطان (¬3) فقال: لا أعودُ فيه بعد اليوم. وقال أيوب (¬4): لا أعلَمُ أحدًا يستطيعُ أن يعيبَ الحسن إلا به. وقال عمر مولى غَفْرة: كان أهلُ القَدَر ينتحلُون الحسن، وكان قولُه مخالفًا لهم، كان يقول: يا ابن آدم، لا تُرضِ أحدًا بسخط الله، ولا تُطيعنَّ أحدًا في معصية الله، ولا تحمَدَنَّ أحدًا على فضل الله، ولا تلومَنَ أحدًا فيما لم يؤتك الله، إنَّ الله خلقَ الخلق، فمضَوا على ما خلقَهم عليه، فمن كان يظنّ أنه يزداد بحرصه في رزقه، فليزدد بحرصه في عمره، أو يغيّر لونه، أو يزيد في أركانه أو بنائه (¬5). وقال حمَّاد بن سلمة: كان سبب نسبته إلى القدر أنه كان يجتمع إليه جماعة ممَن يرى القدر، كمعبد الجُهنيّ وأمثاله، فيقولون: يا أبا سعيد، إن هؤلاء الظَّلَمة الأشرار يأخذون الأموال، ويسفكون الدماء، ويفعلون ويفعلون، ويَدَّعُون أنما تجري أعمالهم على قَدَر الله تعالى، فيقول: كذبَ أعداء الله، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، إن الله لا يرضى لعباده الكفر (¬6)، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} ¬

_ (¬1) أقف عليه، والكلام بين حاصرتين من (ص). ولم يرد فيها الكلام بعده حتى نهاية الترجمة، وجاء فيها بعده ما صورته: انتهت ترجمة الحسن البصري - رضي الله عنه -. (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 175، وفيه أنه أمر بها فأُحرقت غير صحيفة واحدة ... (¬3) في (خ): بالسلطان. والمثبت من (ب)، وهو موافق لما في "طبقات" ابن سعد 9/ 168. (¬4) في (ب) و (خ): ورب، بدل كلمة: أيوب، وجاء فوقها في (خ): كذا. والمثبت من المصدر السابق والخبر فيه. (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 175. (¬6) لفظ الآية: {وَلَا يَرضى لِعِبَادِهِ الكفر} [النور: 7].

شعبة مولى عبد الله بن عباس

[النحل: 90] {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] ويستنزع آياتِ القرآن المتعلقةَ بهذا المعنى، فنسبوه إلى القَدَر، وتعلَّقُوا عليه به. شعبة مولى عبد الله بن عباس أبو عبد الله من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة (¬1). محمد بن سِيِرين مولى أنس بن مالك، وكنية سِيرِين أبو عَمْرَة، وكنية محمد أبو بكر، وهو من الطبقة الثانية من أهل البصرة. وقيل: من الثالثة (¬2). [وأبوه سِيرِين من الطبقة الأولى من التابعين من أهل البصرة. وقال اين سعد: وأصل محمد من سَبْي عين التمر (¬3). وقال ابن عائشة: كان سِيرِين من أهل جَرجَرايا (¬4)، وكان يعمل قدور النحاس، فجاء إلى عين التمر، فسباه خالد بن الوليد، فوقع في سهم أنس بن مالك، فكاتبه على كذا وكذا ألفًا وغلامين يغلَّان عليه (¬5). قال: وكان سِيرِين قَينًا (¬6). وفي رواية ابن سعد أيضًا أنه كاتبَه على عشرة آلاف درهم وعشر وُصَفاء، في كل سنة ألفُ درهم ووصيفة (¬7). وقال ابن سعد: وُلد لسِيرِين ثلاثةٌ وعشرون ولدًا من أمَّهات أولاد شتَّى (¬8). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 289. ومن خبر حرق كتب الحسن - رضي الله عنه - إلى هذا الوضع، ليس في (ص). (¬2) عبارة (ص): وهو من الطبقة الثانية من أهل البصرة في قول ابن سعد، وذكره خليفة في الطبقة الثالثة. وينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 192، و"طبقات" خليفة ص 210. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 120 و 192. (¬4) قال ابن سعد: أحسب من قال ذلك قد وهم، إنما كان لهم أرض بجرجرايا. وينظر "تاريخ دمشق" 62/ 243 (طبعة مجمع دمشق)، و"صفة الصفوة" 3/ 247. (¬5) في "طبقات" ابن سعد 9/ 119، و"تاريخ بغداد" 3/ 285، و"تاريخ دمشق" 62/ 246: يعملان عمله. (¬6) أي: حدادًا. (¬7) في "الطبقات" 9/ 119: وعشرة وصفاء، في كل سنة ألف درهم ووصيف. (¬8) المصدر السابق 9/ 120.

وروى سِيرِين شيئًا من الحديث، وكانت له أرض بجَرجَرايا، وكانت في يد محمد ابن سِيرِين] (¬1). [ذكر مولد محمد بن سِيرِين: ] [واختلفوا فيه؛ ذكر ابنُ سعد أنه] وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان - رضي الله عنه - (¬2). [وقال أبو الحسن الزيادي: ] ولد سنة (¬3) إحدى وثلاثين [في أيام عثمان]. وأمُّه صفيَّة (¬4) مولاةُ أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - طيّبَها ثلاثةٌ من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعَوْا لها، وحضر إملاكها ثمانيةَ عشرَ بدريًّا، فيهم (¬5) أُبيّ بنُ كعب [يدعو وهم يؤمِّنُون]. ووُلد لمحمد بن سِيرِين ثلاثون ولدًا من امرأة واحدة، لم يبق منهم غير عبد الله بن محمد (¬6). [وروى ابن سعد عن حفصة بنت سيرين قالت: ] وكان محمد يشتري لأمّه ألين ثوب يجد، ويصبُغه، وكانت تحبُّ الصَّبْغ [وما رأيتُه رافعًا صوته عليها قطّ] وكان إذا كلَّمها كأنه مريض، فلو رآه رجلٌ لا يعرفه قال: هذا مريض، فيقال: ما الذي به؟ فيقال: كذا يكون عند أمّه (¬7). وقال جرير بن حازم: سمعتُ محمد بن سِيرِين يحدث رجلًا فقال: ما رأيتُ الرجل الأسود. ثم قال: أستغفرُ الله، ما أُراني إلا [قد] اغتبتُه (¬8). ¬

_ (¬1) من قوله: وأبوه سيرين ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 192. (¬3) ما سلف بين حاصرتين من (ص)، وجاء في (خ) وقيل: وُلد سنة ... إلخ. (¬4) في (ص): وروى ابن سعد عن بكَّار بن محمد عن أبيه قال: أمّ محمد بن سِيرِين صفيَّة ... والكلام في "الطبقات" 9/ 192. (¬5) في (ب) و (خ): فمنهم، والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في المصدر السابق. وفي "تاريخ دمشق"62/ 245: منهم. والكلام الآتي بين حاصرتين من (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 9/ 192 ونُسب الكلام في (ص) إليه. (¬7) تاريخ دمشق 62/ 279 - 280 (طبعة مجمع دمشق)، وينظر المصدر السابق 9/ 197. (¬8) طبقات ابن سعد 9/ 195، وحلية الأولياء 2/ 268.

وكانوا إذا ذكروا عنده رجلًا بسيِّئة ذكر أحسن ما فيه، وذكر يومًا طبيبًا ثم قال: فلانٌ أطبُّ منه. فانتبه وقال: غفر الله له، ما أُراني إلا قد اغتبتُه (¬1). [وروى عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل عن أبيه، عن عفَّان بن مسلم، عن حمَّاد بن زيد قال: قال عاصم الأحول: سمعت] مورِّق (¬2) العجلي [يقول: ] ما رأيتُ رجلًا أفقه في ورعه، ولا أورعَ في فقهه من محمد بن سيرين (¬3). وقال أبو قِلابة: وأيُّنا يُطيق ما يُطيق محمدُ بنُ سِيرِين، يركبُ مثل حدِّ السِّنان (¬4). [وروى ابن أبي الدنيا عن أبي عَوَانة قال: كان محمد بن سِيرِين إذا مشى فيكبّر الناس، كان قد أُعطِيَ هديًا وسمتًا وخشوعًا، فكان الناس إذا رأوه ذكروا الله تعالى] (¬5). [وقال عاصم: ] ولم يكن محمد بن سيرين يترك أحدًا يمشي معه (¬6) وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا (¬7). وأرسل إليه عُمر بن هُبيرة بثلاثة آلاف درهم، فلم يقبلها، فقيل له في ذلك [وأن الحسن قد قبل أربعة آلاف] فقال: إنما بعث بها إليَّ على خير يظنُّه فيَّ (¬8)، ولئن كنتُ كما ظنَّ بي فما ينبَغي لي أن أقبل؛ وإن لم أكن كما ظنّ بي فبالحريِّ أنني لا أقبل (¬9). وكان يقول: العُزْلة عبادة (¬10). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) في (خ): وقال مورِّق ... والكلام المثبت (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 195، وحلية الأولياء 2/ 266، وتاريخ بغداد 5/ 287، وتاريخ دمشق 62/ 58 - 259 (طبعة مجمع دمشق)، وصفة الصفوة 3/ 243. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 197، وحلية الأولياء 2/ 267، وتاريح دمشق 62/ 265. (¬5) الأولياء، لابن أبي الدنيا ص 19 (31). ونفظه فيه عن أبي عَوَانة: رأيتُ محمد بنَ سِيرين يمرُّ في السوق وكبر الناس ... إلخ. والكلام بين حاصرتين من (ص). وينظر "تاريخ دمشق" 62/ 274 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) حلية الأولياء 2/ 267، وصفة الصفوة 3/ 243. (¬7) حلية الأولياء 2/ 263 و 272، وتاريخ دمشق 62/ 273، وصفة الصفوة 3/ 243 - 244. (¬8) في (ص): بي. (¬9) صفة الصفوة 3/ 245 - 246. ونُسب الخبر في (ص) لأبي نُعيم، وهو بنحوه في "حلية الأولياء" 2/ 268. (¬10) صفة الصفوة 3/ 246.

[وقال أبو نعيم عن ابن عون: ] وكان له منازل لا يُكْرِيها إلا لأهل الذمِّة، فقيل له في ذلك، فقال: إذا جاء رأسُ الشهر رُعْتُ الساكن، وأكرهُ أن أروِّع مسلمًا (¬1). [وقال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن أيوب: كان محمد يخاف أن يبغته الموت، فإذا ذي الموت مات كل عضو منه على حدة] (¬2). [وقال عاصم: ] وكان يضحك بين الناس، فإذا خلا بنفسه نشج (¬3)، ولو أُعطيَ الدنيا بحذافيرها لم يفعل. [قال ابن سعد: ] وجاءه رجل فقال: نلتُ منك، فاجعلني في حلّ. فقال: لا أُحِلُّ شيئًا حرَّمه الله (¬4). وكان له سبعة أوراد، فما فاته في الليل يقرأه في النهار (¬5). [وقال مجالد بن سعيد: كان ابنُ سيرين كاتبًا لأنس بن مالك بفارس]. [وقال أبو أحمد العجلي: ] وطُلب للقضاء، فهرب إلى الشام، ومرَّة إلى اليمامة. ولقد أقام بالشام وبدمشق أربع سنين لا يعرف (¬6). [وقال ابن سعد: ] وكان يكنُس المسجد بثوبه (¬7). و[قال أبو أحمد العجلي]: جاءه رجل فادَّعى عليه درهمين، فأنكر، فطلب الرجلُ يمينَه، فحلف، فقيل له في ذلك، فقال: أحلف صادقًا ولا أطعمه حرامًا وأنا أعلم (¬8). [ذكر طرف من تعبيره للرؤيا] وكان أوحدَ وقته في تعبير الرؤيا، وقيل: إنما أخذها عن أمّهِ مولاةِ أبي بكر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 268، وصفة الصفوة 3/ 246. (¬2) تاريخ دمشق 62/ 281 و 282، وينظر: الحلية 2/ 272، وصفة الصفوة 3/ 247. (¬3) ينظر: حلية الأولياء 2/ 274، وتاريخ بغداد 3/ 289، وتاريخ دمشق 62/ 270، وصفة الصفوة 3/ 247. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 199، وحلية الأولياء 2/ 263، وتاريخ دمشق 62/ 275 - 276. (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 199. (¬6) "تاريخ دمشق" 62/ 237، ونُسب الشطر الأول من الكلام فيه لأيوب، والثاني لعبَّاد بن عبَّاد. (¬7) طبقات ابن سعد 9/ 202، وتاريخ دمشق 62/ 273. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬8) بنحوه في "تاريخ بغداد" 3/ 290، و"تاريخ دمشق" 62/ 275.

و [قال أيوب: ] كان الحسن إذا سُئل عن شيء من تعبيرها يقول: عليك بالذي كان (¬1) من آل يعقوب. يعني ابن سيرين. [وقال عبد الله بن مسلم؛ جالستُ ابن سيرين مدَّة ثم توكتُه، وجالستُ الإباضيَّة، فرأيت في منامي كأني مع قوم يحملون جنازة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأتيتُ ابنَ سيرين، فأخبرتُه، فقال: قد جالستَ أقوامًا يريدون أن يدفنوا ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال مغيرة بن حفص: رأيت كأنَّ الجوزاء قد تقدَّمت إلى الثريَّا. فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن، ثم أموتُ بعده. فكان كذلك] (¬3). ذكر حبسه بالدَّين ووفاته: حكى أبو نعيم عن محمد بن سيرين قال (¬4): إني لأعرفُ الذنْبَ الذي حمل به عليَّ الدَّين؛ قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس (¬5). قال أحمد بن أبي الحواري: فحدَّثتُ أبا سليمان الدارانيّ بذلك، فبكى وقال: قَلَّت ذنوبُهم، فعرفوا من أَين يُؤْتَوْن، وكثُرت ذنوبُنا فلم ندر من أين نُؤتى (¬6). [وقال المدائني: ] سببُ حبسه أنه اشترى زيتًا بأربعين ألف درهم، فوجدَ في زِقٍّ منه فأرةً ميتة، فقال: هذه الفأرة كانت في المعصرة، فصب الزيت كلَّه (¬7). [قال: ] ولما حُبس قال له السَّجَّان: اذهب أبي أهلك ليلًا، وتعال نهارًا. فقال: لا والله لا أتعرَّض للجناية على الشرع والسلطان وعليك (¬8). ¬

_ (¬1) في (ص): عليكم بالذي كأنه. والكلام بين حاصرتين منها. (¬2) تاريخ دمشق 62/ 294 (طبعة مجمع دمشق)، وبنحوه في "اعتقاد أهل السنة" (1479). (¬3) تاريخ دمشق 62/ 295 والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) في (خ) و (ب). وقال محمد بن سيرين. والمثبت من (ص). (¬5) في النسخ: أني مفلس، والمثبت، من المصادر التالية. (¬6) حلية الأولياء 2/ 271، وتاريخ دمشق 62/ 288، وصفة الصفوة 3/ 263. (¬7) تاريخ دمشق 62/ 289، والمنتظم 7/ 290. (¬8) بنحوه في "تاريخ بغداد" 3/ 288، و"تاريخ دمشق" 62/ 290.

وقال ابن سعد: اشترى طعامًا بأربعين ألف درهم، فأُخبر عن أصله بشيء كرهه، فتصدَّق به، وبقي المال عليه، فحُبس به، ومات في الحبس، والذي حبسه مالك بن المنذر في دَينِ [امرأةٍ يقال لها: ] أمّ محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان زوجَها سَلْمُ بنُ زياد [وأخرجها معه إلى خراسان، وكان أبوها يلقب كركرة] (¬1). قال ابن سعد [أيضًا]: باع ابن سيرير جارية من هذه المرأة، فرجعت إليه، فشكت أنها تعذبُها، فأخذَها محمد، وكان قد أنفق ثمنها [وهي التي حبسَتْه، وهي التي تزوَّجها سَلْمُ بنُ زياد] (¬2). وقال ثابت البُناني: قال لي محمد بن سِيرِين: يا أبا محمد، إنه لم يكن يمنعني من مجالستكم إلا مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى أخذ بلحيتي وأقمت على المصطبة، فقيل: هذا محمد بن سِيرِين، أكلَ أموال الناس (¬3). وقال هشام: اشترى ابنُ سيرين شيئًا (¬4) فيه ربح ثمانون ألفًا، فعرض في قلبه شيء، فتركه [قال هشام: ] وواللهِ ما هو بِرِبًا (¬5). وقال حمَّاد بن زيد: مات محمد بن سِيرِين يوم الجمعة، وغسَّله أيوب وابنُ عون، وذلك لتسع خلون من شوال، وقيل: ليلة الجمعة لعشر خلون منه، ومات الحسن ليلة الجمعة أول يوم من رجب، بينهما مئةُ يوم [وقيل: أربعون يومًا، والأول أصح وأشهر، وقد ذكره ابن سعد وغيره] (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 197 - 198، وتاريخ دمشق 62/ 289، وليس فيهما في هذه الرواية اسم المرأة، إنما ورد اسمها في الرواية التالية. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬2) المصدر السابق. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 198، وتاريخ دمشق 62/ 290. وفيهما بعده: وكان عليه دين. (¬4) في "طبقات" ابن سعد 7/ 198: "اشترى طعامًا بيعًا من مَنُونيا" وفي "سير أعلام النبلاء" 4/ 616: "اشترى بيعًا من مَنُونيا". ومَنُونيا: قرية من قرى نهر الملك. (ونهر الملك بقعة شاسعة ببغداد). ينظر "معجم البلدان" 5/ 217 و 324. (¬5) المصدران السابقان. ونُسب الخبر في (ص) لابن سعد. (¬6) ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 205، و"تاريخ دمشق" 62/ 237 و 297 و 301 و 302. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص).

وقد بلغ نيّفًا وثمانين سنة. وقد ذكرنا أنه كان له ثلاثون ولدًا من امرأة واحدة عربية؛ مات الجميع بالطاعون، فلم يبق إلا واحد، وهو عبد الله بن محمد، وضمن عن أبيه دينه وقال: لما ضمنتُ عنه دينه قال لي: بالوفاء؟ قلت: بالوفاء. فدعا في بخير. قال ابن سعد (¬1): فقضى عن أبيه ثلاثين ألف درهم، فما مات عبد الله بن محمد حتى قَوّمَ مالُه، فكان ثلاث مئة ألف درهم أو نحوها. قال المصنف رحمه الله: وقد اتفقوا أنه لمَّا مات أنس كان ابنُ سيرين محبوسًا، وأوصى أن يغسّله ابن سيرين، وأنه خرج فغسَّله وعاد إلى الحبس. واتفقوا أيضًا على أنه مات محبوسًا بالدَّين. وبين وفاة أنس ومحمد بن سِيرِين سبع (¬2) عشرة سنة؛ لأن أنسًا مات [إما] في سنة إحدى وتسعين أو ثلاث وتسعين (¬3)، ومحمدٌ مات سنة مئة وعشر سنين. [قلت: ] والعجب من مُقدمه في السجن هذه المدة الطويلة وقد كان في أيامه الخلفاء الأمجاد والأسخياء الأجواد، مثل سليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وأولاد المهلَّب بن أبي صُفْرة، أفما كان في هؤلاء من يُقيلُه هذه العَثْرة (¬4)؟ ! أسند ابنُ سِيرِين عن زيد بن ثابت، وابنِ عمر، وأنس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعمران بن حُصَين، وأبي بَكْرَة، وعبد الله بن الزُّبَيْر، وعديّ بن حاتم، وأبي قتادة، وغيرهم. وقال الفُضَيل بن عياض (¬5): قلت لهشام بن حسان: كم أدرك ابنُ سِيرِين من الصحابة؟ قال: ثلاثين. ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 9/ 204 - 205. (¬2) في (ص): بضع. (¬3) قوله: أو ثلاث وتسعين ليس في (ب)، وجاء بدلها في (ص): اثنتين وتسعين، وما سلف بين حاصرتين منها. (¬4) من قوله: وقال حمَّاد بن زيد: مات محمد بن سيرين ... إلى قوله: قوِّم مالُه فكان ثلات مئة درهم أو نحوها. وقع في (ص) بعد هذه الفقرة. (¬5) في (خ): الفضل بن دكين. والمثبت من (ب) و (ص)، والخبر في "تاريخ دمشق" 62/ 247.

وهب بن منبه اليماني

وروى عن جماعة من التابعين، منهم شُريح القاضي، وكان يُدني مجلسه، وعَبِيدةُ السَّلْماني، ومسلم بن يسار، وغيرهم. وروى عنه خلق كثير، منهم الشعبي، وقتادة، وأيّوب، وابنُ عَوْن، ويونس بن عُبيد. وكان ابن سِيرِين يحدِّث بالحديث على حروفه ويقول: إن هذا العلم دينٌ، فانظُروا عمن تأخذونه. وكان إذا حدَّث لم يقدّم ولم يؤخّر (¬1). وعرض له في آخر عمره في أُذُنيه صَمَم، فكان يتحفَّظ في رواية الحديث. [وقد ذكرنا أنه كان له جماعة من الإخوة، والمشهور منهم ثلاثة: معبد بن سيرين، وكان أسنَّ من محمد وأقدم إخوته. وقال الفلَّاس: كانوا خمسة إخوة: معبد، وهو أكبرهم، ويحيى، وخالد، ومحمد، وأنس، وأنس أصغرهم. وأمَّا حفصة فسنذكرها في سنة ست عشرة ومئة. انتهت ترجمة ابن سيرين رحمه الله تعالى] (¬2). وَهْب بن مُنَبِّه اليَمَاني [وكنيتُه] أبو عبد الله، وهو من الأبناء، وذكره ابنُ سعد في الطبقة الثانية (¬3) من التابعين [من أهل اليمن، وروى في ترجمته حديثًا، فقال: حدَّثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبّه الصنعاني بإسناده عن عُبادة بن الصامت قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكون في أمتي رجلان، أحدهما اسمُه وَهْب، يهبُ اللهُ له الحكمة، والآخر غَيْلان، فتنتُه على هذه الأمة أشرُّ من فتنة الشيطان" (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 62/ 253. (¬2) الكلام بين حاصرتين من (ص). وينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 205 - 206. (¬3) في (ب) و (خ): من الطبقة الثانية، بدل: وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، وأثبتّ عبارة (ص) لتناسب بها زدتُه منها بعد ذلك بين حاصرتين. (¬4) في إسناده مروان بن سالم الدمشقي؛ قال ابن حجر في "التقريب": متروك، ورماه الساجي وغيره بالوضع وسيرد الكلام عليه.

وروى ابنُ سعد عن وَهْب أنه] قال: لقد قرأتُ اثنين وتسعين كتابًا كلّها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلا قليل، وجدتُ في كلِّها أنَّ من أضافَ إلى نفسه شيئًا من أمر المشيئة فقد كفر. قال: وقرأت ثلاثين كتابًا أُنزلت على ثلاثين نبيًّا. [قال: ] ولبث وَهْب اربعين سنةً لم يسبَّ شيئًا فيه روحٌ، ولبث عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءًا. و[قال محمد بن عمر: ] مات [وَهْب] بصنعاء سنة عَشر ومئة. [هذا صورة ما ذكره ابن سعد (¬1). قلت: ولم يُنصف وَهْبًا، فإنه أعظمُ ممَّا ذكر. والحديثُ الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر وَهْب وغَيلان لا يصحّ. ذكره جدِّي في "الموضوعات" (¬2). قال الزُّبَيْر بن بكَّار: ومعنى من الأبناء: الذين بعثهم كسرى من فارس إلى اليمن، فأجْلَوْا السُّود عنها، وقد ذكرناه (¬3). وقال أبو القاسم بن عساكر: قال هشام (¬4): كان وَهْب وهمَّام (وعبد الله) ومعقل ومسلمة (¬5) بنو منبّه من خُراسمان من بلدة هراة (ومنبّه من أهل هراة، خرج) فوقع في فارس أيام كسرى، وكسرى أخرجه (من هراة) ثم أسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحسُن إسلامُه (¬6). ¬

_ (¬1) في "الطبقات" 8/ 102 - 103. وكلُّ ما وقع من كلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) أورده فيه ابن الجوزي من طريقين (666) (667) وقال: هذا حديث موضوع، ونقل عن ابن حبّان قوله فيه: لا أصل بهذا الحديث. (¬3) وقال ابن منظور في "اللسان": يقال لأولاد فارس الأبناء، وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لما جاء يستنجدهم على الحبشة، فنصروه ... وتزوَّجوا في العرب، فقيل لأولادهم: الأبناء. (¬4) كذا في (ص) (والكلام منها). وليس هو في "تاريخ دمشق" عن هشام، بل هو فيه 17/ 950 (مصورة دار البشير) من طريق أحمد بن الأزهر، قال: سمعت مسلمة بن همّام بن مسلمة بن همام بن منبّه يذكر عن آبائه ... (¬5) في (ص) (والكلام منها): سلمة، والمثبت من "تاريخ دمشق" وغيره. واسم "عبد الله" الموضوع بين قوسين عاديين، منه ومن المصادر. (¬6) تاريخ دمشق 17/ 950 (مصورة دار البشير) وما سلف فيه بين قوسين عاديين منه.

قال الإمام أحمد بن حنبل: كانوا أربعة إخوة، أكبرهم وهب، ومعقل، وهمَّام، وغَيلان، وهو أصغرهم، وهو جدُّ غوث (¬1). مات وهب، ثم معقل، ثم غيلان، ثم همام آخرهم (¬2). وقال أبو أحمد العجلي: كان وَهْب قاضيًا على صنعاء، وهو تابعي ثقة، وله المواعظ البالغة (¬3). وقال ابن أبي الدنيا بإسناده عن وَهْب قال: الإيمان (عُريان)، ولباسُه التقوى، وزينتُه الحياء، ورأس ماله الفقه (¬4). ورُوي عن وَهْب أنه قال في مواعظه: يا ابنَ آدم؛ لا أقوى من خالق، ولا أضعف من مخلوق، ولا أقدر من طالب، ولا أضعف من مطلوب في يد طالبه (¬5). يا ابن آدم؛ إنه قد ذهب منك ما لا يرجعُ إليك، وأقام معك ما سيذهب عنك، أقْصِر عن تناول ما لا تَنال، وعن طلب ما لا تُدرك، وعن ابتغاء ما لا يوجد. يا ابن آدم؛ انظر إلى الدهر تجده ثلاثة أيام: يومًا مضى لا ترتجيه، ويومًا لابدّ منه، ويومًا يجيءُ (¬6) لا تأمنه، فأمس شاهد مقبول، وأمين مؤدٍّ، وحكم نافذ الحكم، واليوم صديق مودّع وهو سريع الظَّعْن، وغدًا مظنون. يا ابن آدم؛ مضت أصول نحن فروعُها، فما بقاء الفروع بعد الأصول؟ ! يا ابن آدم؛ إنما أهل هذه الدنيا -أو الدار- سَفْر؛ لا يَحُلُّون عُقَد الرِّحال إلا في غيرها، وإنما يتبلَّغُون بالعواري، فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للمُعير (¬7). ¬

_ (¬1) تحرفت في (ص) (والكلام منها) إلى: برغوث. (¬2) تاريخ دمشق 17/ 950. وينظر "علل" أحمد 2/ 396. (¬3) لم أعرف أبا أحمد العجلي، وقد سلف ذكره أكثر من مرة، وصاحب "الثقات" هو أحمد العجلي، والكلام في "ثقاته" ص 467 بنحوه. (¬4) مكارم الأخلاق (97) لابن أبي الدنيا، وتاريخ دمشق 17/ 959 (مصورة دار البشير). وكلمة (عريان) بين قوسين عاديين منهما. (¬5) في "حلية الأولياء" 4/ 30: ولا أقدرَ ممن طَلِبتُه في يده، ولا أضعف ممن هو في يد طالبه. (¬6) في (ص) (والكلام منها): نحن فيه، بدل: يجيءُ. والمثبت من "الحلية" 4/ 30. (¬7) الكلام في "الحلية" 4/ 30 - 31، و"الصفوة" 2/ 291 - 292 بأطول منه وباختلاف يسير.

وقال أبو نعيم بإسناده عن بكَّار بن عبد الله قال: سمعتُ وَهْبَ بنَ منبّه يقول: مرَّ عابد على عابد، فقال: مالك؟ قال: أعجبُ من فلان، كان قد بلغ من عبادته، ثم مالت به الدنيا، فقال: لا تعجب ممَّن مال إلى الدنيا، ولكن العجب ممَّن استقام (¬1). وقال أبو نُعيم بإسناده عن ابن المبارك، عن أشرس، عن وَهْب قال: قرأتُ في بعض الكتب أن مناديًا ينادي من السماء الرابعة كل صباح أبناءَ الأربعين: زرع قد دنا حصادُه. أبناءَ الخمسين: ماذا قدَّمتُم وماذا أخَّرتُم. أبناءَ الستين: لا عُذر لكم، ليت الخلق لم يُخلقوا، وإذ (¬2) خُلقوا؛ علموا لماذا خُلقوا، قد أتتكم الساعة، فخذوا حذركم (¬3). وروى أبو نُعيم أيضًا أنه قال: قرأتُ في التوراة: أيّما دار بُنيت بقوَّة الضعفاء؛ جُعلت عاقبتُها إلى الخَراب، وأيُّما مالٍ جُمع من غير حِلّهِ كانت عاقبتُه إلى الفقر (¬4). وقال أيضًا: صلَّى وَهبٌ وطاوسُ الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة (¬5). وكان وَهْب يعظ عطاء الخُراساني فقال: ويحك يا عطاء، ألم أُخبَر أنك تحملُ علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا! ويحك يا عطاء، تأتي من يُغلق عنك بابه ويُظهر فقره، وتدع من يفتح لك بابه ويظهر غناه ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. ويحك يا عطاء، اِرْضَ بالدُّون من الدنيا مع سلامة الدين، ولا ترض بالكثير من الدنيا مع ذهاب الدين. وفي رواية: ارضَ بالدُّون من الدنيا مع الحكمة، ولا ترضَ بالدُّون من الحكمة مع الدنيا. ويحك يا عطاء، إن كان يغنيك ما يكفيك (فإن أدنى ما في الدنيا يكفيك، وإن ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 4/ 51، وصفة الصفوة 2/ 293. (¬2) في (ص) (والكلام منها): وإذا. والمثبت من "الحلية" 4/ 33. (¬3) الخبر في "حلية الأولياء" 4/ 33 من طريق بكَّار بن عبد الله بن وهب، وليس من الطريق التي ذكرها المصنف، وذكره ابن الجوزي أيضًا في "صفة الصفوة" 2/ 293 من طريق بكَّار. (¬4) حلية الأولياء 4/ 38، وصفة الصفوة 2/ 294. (¬5) لم أقف عليه في "الحلية". وهو في "صفة الصفوة" 2/ 288، و"المنتظم" 7/ 115 (ترجمة طاوس).

كان لا يغنيك ما يكفيك) فليس في الدنيا شيءٌ يكفيك، ويحك يا عطاء، إنما بطنُك بحرٌ من البحور، ووادٍ من الأودية، وليس يملؤه إلا التراب (¬1). وروى أبو نُعيم عن منير مولى الفضل بن أبي عيَّاش قال: كنتُ قاعدًا عند وَهْب، فجاءه إنسان فقال: مررتُ بفلان وهو يشتُمك. فغضب وقال: ما وجدَ الشيطان رسولًا غيرك؟ ! قال: فما برحتُ من عنده حتى جاءه ذلك الرجل الشاتم، فسلَّم على وَهْب، فردَّ عليه، ومدَّ يده فصافَحه وأجلسه إلى جنبه (¬2). وقال إبراهيم بن عمر: قال وَهْب: إذا مدحك الرجل بما ليس فيك؛ فلا تأمن أن يذمَّك بما ليس فيك (¬3). وقال الهيثم: قال وَهْب: مكتوبٌ في التوراة: أنا الله، قلوبُ الملوك بيدي، أُقلِّبُها كيف شئتُ، فمن كان على الطاعة؛ جعلتُ الملوك عليهم رحمة، ومن كان على المعصية؛ جعلت الملوك (عليهم) نقمة] (¬4). وقال المثنَّى بن الصبَّاح: أقام وَهْب أربعين سنة لم يُفرش له فراش. وكان يحفظُ كلامَه في كل يوم، فإن سَلِمَ أفطر تلك الليلة، وإلا طوى. وسرد الصومَ أربعين سنة. [وقال المثنَّى بن الصبَّاح: وليَ وَهْب القضاء لعروة بن محمد السعدي في أيام عمر بن عبد العزيز (¬5). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 4/ 43، وصفة الصفوة 2/ 294 - 295 (وما بين قوسين عاديين منهما). وذكره ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 48/ 24 - 25 (طبعة مجمع دمشق) في ترجمة عطاء الخُراساني. (¬2) حلية الأولياء 4/ 71، وتاريخ دمشق 17/ 959 (مصورة دار البشير)، وصفة الصفوة 2/ 295. (¬3) تاريخ دمشق 17/ 960 (مصورة دار البشير)، وصفة الصفوة 2/ 295. (¬4) بنحوه في "العقد الفريد" 1/ 7، وكلمة (عليهم) بين قوسين عاديين منه، وذكره أبو نعيم في "حلية الأولياء" 2/ 378 عن مالك بن دينار. ومن قوله: هذا سورة ما ذكره ابن سعد (أوائل الترجمة) ... إلى هذا الموضع -وهو ما بين حاصرتين- من (ص). (¬5) ينظر "المعرفة والتاريخ" 2/ 49.

أبو جعفر القارئ المدني

واختلفوا في وفاته؛ فذكرنا عن الواقدي أنه مات في سنة عشر ومئة. قال هشام: وفي سنة عشر ومئة مات الحسن وابن سيرين بالبصرة، ومات وَهْب بن مُنبِّه بصنعاء. وقال (غيره: مات) (¬1) وهب بن منبّه سنة أربع عشرة ومئة، وقيل: سنة ستَّ عشرة ومئة، والأول أصحّ] (¬2). ولما وليَ يوسف بن عمر العراق بكى صالح بن طريف -وكان سيّدًا- وقال: شهدتُ هذا الخبيث وقد ضرب وَهْبَ بنَ منبّه ... (¬3) حتى قتله. يعني يوسف بن عمر. أسند وَهب عن جماعة من الصحابة، منهم معاذ بن جبل، وابنُ عُمر، وابنُ عَمرو، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، والنعمان بن بشير، وأبو هريرة، وأنس، وأبو سعيد الخُدري، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم. وروى عنه طاوس، وعَمرو بن دينار، وموسى بن عقبة في آخرين. أبو جعفر القارئ المدني واسمه يزيد بن القعقاع، مولى عبد الله بن عيَّاش بن أبي ربيعة [بن المغيرة المخزومي] مولى [عتاقة، وهو] من الطبقة الثالثة من أهل المدينة، وكان إمامَ أهلها في القراءة (¬4) [فلذلك سُمِّيَ القارئ. وقال هشام: غزا مع مولاه بلاد الروم، وأخذ القراءة عن مولاه، وابن عبَّاس، وأبي هريرة، وهم أخذوا القراءة عن أُبيّ بن كعب، وأخذها أُبيُّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -]. ومسحت أمُّ سلمة - رضي الله عنهما - على رأسه وهو صغير، ودَعَت له بالبركة. ¬

_ (¬1) ما بين قوسين عاديين زيادة من عندي لضرورة السياق. وينظر "تاريخ دمشق" 17/ 966 (مصورة دار البشير). (¬2) من قوله: وقال المثنى بن الصبّاح: وليَ وهب القضاء ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). (¬3) ثمة كلمة في هذا الموضع في (ب) و (خ) (والكلام منهما) رسمها: بالقن. والخبر في "الكنى والأسماء" 2/ 677، و"مختصر تاريخ دمشق" 28/ 88، وليس فيهما هذه اللفظة. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 426.

[وكان يُقرئُ الناس في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال نافع بن أبي نُعيم، هو أحد القرَّاء السبعة، قال: ] ولما مات وغُسِّل نَظروا ما بين منحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فقالوا: هذا نور القرآن، ثم صار ذلك البياض غُرَّة بين عينيه (¬1). واختلفوا في وفاته، فقال ابن سعد: توفي في خلافة مروان بن محمد، وكان ثقة قليل الحديث (¬2)، وحكى أبو القاسم الهُذَلي في كتاب "الكامل" أنه توفي سنة عشر ومئة (¬3). وروى ابن أبي الدنيا عن سليمان العمري قال: رأيتُ أبا جعفر القارئ في المنام على ظهر الكعبة، فقلتُ: أبا جعفر؟ قال: نعم، أَقْرِئْ إخواني السلام مني، وأخْبِرهم أنَّ الله تعالى جعلني مع الشهداء الأحياء المرزوقين، وأقْرِئْ أبا حازم السلام، وقل له: يقول لك أبو جعفر: الكَيسَ الكَيس، فإن الله وملائكته يتراءَوْن مجلسك بالعشيَّات (¬4). [وهذا أبو حازم الأعرج صاحب الموعظة لسليمان بن عبد الملك، وسنذكره في سنة أربعين ومئة في خلافة المنصور]. أسند أبو جعفر عن مولاه عبد الله، وعن ابن عمر، وأبي هريرة، وزيد بن أسلم. وروى عنه أبو معشر نَجِيح، وعبد العزيز الدراورديّ، وغيرهما (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه المِزّي في "تهذيب الكمال" 33/ 201 - 202 بإسناده إلى نافع، دون قوله: ثم صار البياض ... إلخ فهو في "تاريخ دمشق" 18/ 368 (مصورة دار البشير) من طريق أخرى وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 426. (¬3) من قوله: واختلفوا في وفاته ... إلى هذا الموضع، مثبت من (ص)، ووقع الكلام في (خ) مختصرًا. (¬4) المنامات لابن أبي الدنيا (321)، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 18/ 370 (مصورة دار البشير). (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 18/ 363، و"تهذيب الكمال" 33/ 200. وما سلف بين حاصرتين من (ص).

السنة الحادية عشرة بعد المئة

السنة الحادية عشرة بعد المئة فيها عزلَ هشامُ بنُ عبد الملك أشرسَ بنَ عبد الله السُّلَميَّ عن خُراسان، وولَّاها الجُنيد بن عبد الله المُرِّي (¬1). وسببُه ما فعل بأهل الذِّمَّة، وانتقضت عليه السُّغْد وبخارى، واستجاشوا عليه بخاقان (¬2)، وفَتَحَ على المسلمين بابًا واسعًا، وذهبت الأموال، وضعفت العساكر من سوء تدبير أشرس مع الذين أعاد عليهم الجزية، فكتب أعيان أهل خُراسان ووجوهُ القبائل إلى هشام بذلك، فعزم على عزله، وتوقَّف حتى ينظر من يصلح، فأهدى الجُنيد إلى أمِّ الحكم (¬3) بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة من جوهر لم يُرَ مثلُها، وأهدى لهشام أُخرى مثلَها، فأعجَبْتُه، فولَّاه خُراسان، فقدمَها وأشرسُ يُقاتل أهلَ بُخارى والسُّغْد، فقال الجُنيد: من يسير معي إلى ما وراء النهر؟ فقيل له: حطَّان (¬4) بن محرز السُّلَمي، وكان نائبَ أشرس على خُراسان، فسار معه، وقطع النهر، وخافَ من التُّرك، فأرسل إلى أشرس أن يُمدَّه بخيل (¬5)، فأرسل إليه عامرَ بنَ مالك الحِمَّاني، فلما كان عامرٌ ببعض الطريق؛ عرضَ له التُّرك والسُّغْد ليمنعوه (¬6) قبل أن يصل إلى الجُنيد وضايقوه، فدخل عامر حائطًا هناك وقاتلوه، وخاقانُ على تل واقف ينظر، وأشرف عامرٌ على التَّلف، فلحقه جماعة من القبائل، فقاتلوا التُّرك، فهزموهم، وهُزم خاقان، وخرج عامر من الحائط، وسار ليلقى الجُنيد وقد صار في سبعة آلاف، فلقيَ الجُنيدَ. ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) و"المنتظم" 7/ 143. ولم يرد الكلام في (ص). والصواب: الجُنيد بن عبد الرحمن، كما في "تاريخ" الطبري 7/ 67 وغيره من المصادر. وله ترجمة في "تاريخ دمشق" 4/ 44 (مصورة دار البشير). وتحرفت لفظة: المُرِّي في (ب) و (خ) إلى: المزني. (¬2) سلف هذا الكلام أوائل سنة (110). (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 67: أم حكيم. (¬4) كذا في (ب) و (خ). وفي "تاريخ" الطبري 7/ 68: الخطاب. وفي "الكامل" 5/ 156: حطاب. (¬5) بعدها في (ب) و (خ) (والكلام منهما): فارس، وهو سهو فيما يبدو، اشتبهت بكلمة: فأرسل، التي بعدها. (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 68: ليقطعوه.

جرير [الشاعر

فلما قربوا من بِيكَنْد؛ جاءهم خاقانُ في جيوشه، واقتتلوا، فظهرَ عليهم خاقان، ثم أنزل الله نصرَه على المسلمين، فهزموا العدوَّ، وأسروا ابنَ أخي خاقان، فبعث به الجُنيد إلى هشام، ثم عاد الجُنيد إلى مروٍ سالمًا غانمًا (¬1). وكان نَصْرُ بن سيَّار على بَلْخ، فعزله الجُنيد، وولَّى على الثغور جماعةً من الأعيان (¬2). وفيها غزا معاوية بنُ هشام الصائفة، ووغلَ في بلد الروم، وغزا أيضًا أخوه سعيد بن هشام، فوصل إلى قيسارية. وولَّى هشامٌ الجرَّاحَ بنَ عبد الله الحَكَميَّ على أرمينية (¬3). وحجَّ بالناس إبراهيم بن هشام وهو على ولايته، وعلى العراق خالد القَسْريّ، وعلى خُراسان الجُنيد (¬4). وفيها توفّي جرير [الشاعر البصري؛ قال الزُّبَيْر بن بكَّار: هو جرير] بن عطية بن حُذيفة -و [حذيفة] هو الخَطَفَى (¬5) - بن بدر بن سَلَمة بن عَوْف بن كُليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، أبو حزرة. وذكره محمد بن سلَّام في الطبقة الأولى من شعراء الإسلام (¬6) وقال: وُلد لسبعة أشهر، وعاش ثمانين سنة، وكانت وفاتُه باليمامة بعد الفرزدق بأربعين يومًا. ¬

_ (¬1) ينظر تفصيل الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 67 - 68. (¬2) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 69. (¬3) المصدر السابق 7/ 67. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 69. ومن قوله: فيها عزل هشام بن عبد الملك أشرس (أول السنة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬5) الكلام بعده ليس في (ص) حتى قوله: أبو حزرة، وجاء بدله في (ص) ما صورتُه: قال الجوهري: الخَطَفَى: هو لقب عوف جدُّ جرير بن عطية الشاعر. وقال أبو عبيدة: الخَطَفَى: هو حُذيفة جدُّ جرير، وإنما لقِّب به لسرعة مشيه. (¬6) طبقات فحول الشعراء 2/ 374، لكن ليس فيه الكلام الآتي. وهو بنحوه في "الشعر والشعراء" 1/ 464. وينظر "الأغاني" 8/ 50، و"المنتظم" 7/ 144، و"مختصر تاريخ دمشق" 6/ 48 (ووقعت ترجمة جرير ضمن خرم في "تاريخ دمشق").

[وقال الجوهري: والجرير حبل يجعل للبعير بمنزلة العِذار للدابة غير الزِّمام، وبه سمّي الرجل جريرًا (¬1). وقال الهيثم: ] وكان جرير يقدَّم على الفرزدق والأخطل. وقال الجاحظ: الشعر أربعة (¬2) أصناف: مديح، وافتخار، وهِجاء، ونَسِيب، وفي جميعها جريرٌ مقدَّم، فإنه قال في الافتخار: إذا غَضِبَتْ عليكَ بنُو تميمٍ ... رأيتَ الناسَ كلَّهمُ غِضابا وقال في المديح: ألستُم خيرَ من ركب المَطَايا ... وأندى العالمينَ بطونَ راحِ وقال في النَّسِيب: إنَّ العيون التي في طَرْفها مرضٌ (¬3) ... قَتَلْنَنَا ثمَّ لم يُحيينَ قَتْلَانا وقال في الهجو: فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كعبًا بلغتَ ولا كِلابا (¬4) و[قال القُتبي: ] (¬5) كان جرير ديِّنًا عفيفًا. قال: ما عشقتُ قطّ فأحتاجَ أن أُشبِّب بالحُرَم، ولو عشقتُ لشَبَّبْتُ تشبيبًا تسمعُه العجوز فتبكي على شبابها. [وروي أنه كان يشبِّب]. وقال عثمان الليثي (¬6): رأيتُ جريرًا وما يضمُّ شفتيه من التسبيح. قلت: وما ينفعُك هذا وقد قذفتَ المُحْصَنات؟ ! فقال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. ¬

_ (¬1) الصحاح 2/ 611 (جرر). والعِذار: ما سال من اللِّجام على خدّ الفرس. وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬2) في النسخ الخطية: الشعراء أربعة. وهو خطأ. (¬3) في (ص): حَوَرٌ. وكذا في رواية "الأغاني" 8/ 6. (¬4) ينظر "طبقات فحول الشعراء" 2/ 379 - 380، و"الأغاني" 8/ 6، و"المنتظم" 7/ 144 - 145، و"مختصر تاريخ دمشق" 6/ 41. (¬5) ما بين حا صرتين من (ص)، والكلام بنحوه في "الشعر والشعراء" 1/ 466، وبنحوه أيضًا في "الأغاني" 8/ 43، و"المنتظم" 7/ 145، ونُسب فيهما للعتبي. (¬6) كذا في (ب) و (خ): الليثي. وفي (ص): العتبي. وفي "مختصر تاريخ دمشق" 8/ 40: البتي، وفي "تاريخ الإسلام" 3/ 21، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 591: التيمي. ولم أعرفه.

وفَدَ جرير على عبد الملك فاستأذنَه في الإنشاد، فقال له: ألستَ القائلَ في الحجَّاج بن يوسف: هذا ابنُ يوسفَ فاعْقِلُوا وتَفَهَّمُوا ... بَرِحَ الخفاءُ فليس حين تَنَاجي مَنْ سَدَّ مُطَّلَعَ النِّفاقِ عليكُمُ ... أم مَنْ يصولُ كصَوْلَةِ الحجَّاجِ أم مَنْ يغارُ على النساءِ حفيظةً ... إذْ لا يَثقْنَ بغَيرِة الأزواجِ قال له: يا أمير المؤمنين، إنما الحجَّاج سيفُك، فإذا مدحناه فإنَّما نمدحُك. فأذنَ له فقال: أتصحُو أم فُؤادُك غيرُ صاحِ ... عشيَّةَ همَّ صَحْبُكَ بالرَّوَاحِ فعَجِلَ عليه عبد الملك وقال: بل فؤادُك يا ابن اللَّخْناء. فقال: تقول العاذلاتُ علاكَ شَيبٌ ... أهذا الشَّيبُ يمنعُني مِراحي (¬1) ثِقي بالله ليس له شريكٌ ... ومِن عندِ الخليفةِ بالنجاحِ ألستُم خيرَ مَنْ ركبَ المطايا ... وأندى العالمين بُطونَ راحِ فطرب عبد الملك، وجعل يقلِّبُ كفّيه ويردِّدُ البيت ويقول: مَنْ مَدَحَنا فليَمدَحنا كذا. وأمرَ له بمئة ناقة برِعائها، فقال جرير: يا أمير المؤمنين، اجْعَلْها سُودَ الحَدَق. ففعل (¬2). قال المصنف رحمه الله: فهذه من أبيات طويلة منها: أغِثْني يا فِداكَ أبي وأمّي ... بسَيْبٍ منك إنك ذو ازتياحِ فإني قد رأيتُ عليَّ حقًّا ... زيارتيَ الخليفةَ وامتداحي سأشكرُ إن رَددتَ عليَّ ريشي ... وأنْبَتَّ القَوَادم في جَناحي أبَحتَ حِمَى تِهامةَ بعد نَجْدٍ ... وما شيءٌ حَمَيتَ بمستباحِ لكم شُمُّ الجبالِ من الرَّوَاسي ... وأعظمُ سَيلِ (¬3) معتلجِ البِطاحِ رأى الناسُ البصيرةَ فاستقاموا ... وبيَّنَتِ المِراضُ من الصحاحِ ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): براح، والمثبت من "الديوان" 1/ 87. والمِراح: المرح. (¬2) بنحوه في "العقد الفريد" 2/ 82 - 83. وينظر أيضًا "الأغاني" 8/ 66 - 67. (¬3) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): نسل، والمثبت من "الديوان" 1/ 90.

دخل أعرابي على عبد الملك فمدحه فأعجبه، فقال: من أنت يا أعرابي؟ فقال: من عُذْرَة، فقال: أولئك أفصحُ الناس، فهل تعرفُ أهجى بيتٍ في الإسلام؟ قال: نعم، قولُ جرير: فَغُضَّ الطَّرفَ إنَّك من نُمَيرٍ ... فلا كعبًا بَلَغْتَ ولا كِلابا فقال: أحسنت. فهل تعرفُ أمدَحَ بيت قيل في الإسلام؟ قال: نعم، قولُ جرير: ألَسْتُم خيرَ منْ ركبَ المطايا ... وأنْدَى العالمينَ بطونَ راحِ فقال: أحسنت يا أعرابي، فهل تعرفُ أرقَّ بيتٍ قيلَ في الإسلام؟ قال: نعم، قولُ جرير: إنَّ العيونَ التي في طَرفها مَرَضٌ ... قَتَلْنَنا ثم لم يُحيينَ قَتْلَانا قال: أحسنتَ يا أعرابي. فهل تعرفُ جريرًا؟ قال: لا والله، وإني إلى رؤيته لمشتاق. فقال: هذا جرير، وهذا الأخطل، وهذا الفرزدق. فأنشأ الأعرابي يقول: فحيَّا الإلهُ أبا حَزْرَةٍ ... وأزغَمَ أنفَكَ يا أخْطَلُ وجَدُّ الفرزدقِ أتْعِسْ به ... ودَقَّ خَياشِيمَه (¬1) الجَنْدَلُ فقال الفرزدق: يا أرغم (¬2) الله أنفًا أنتَ حاملُهُ ... يا ذا الخَنَا ومقالِ الزُّورِ والخَطَلِ ما أنتَ بالحَكَم التُّرْضَى حُكُومتُهُ ... ولا الأصيلِ ولا ذي الرأيِ والجَدَلِ وقال الأخطل: يا شَرَّ مَنْ حَمَلَتْ ساقٌ على قَدَمٍ ... ما مِثْلُ قولكَ في الأقوام يُحتَمَلُ إنَّ الحكومة ليست في أبيك ولا ... في معشرٍ أنتَ منهم إنهم سَفِلُ وقال جرير: ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): خياشمك. والمثبت من "البداية والنهاية" 13/ 43، و"مختصر تاريخ دمشق" 6/ 42. وكذا نقله محقق "ديوان" الأخطل بإثره ص 391. (¬2) في (ب) و (خ): ما أرغم ... والمثبت من "البداية والنهاية" 13/ 43، وملحق "ديوان" الأخطل ص 390. وفي "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 42: قد أرغم ... قوله: الخنا، أي: الفُحش في المنطق، وبنحوه الخَطَل.

شَتمْتُما قائلًا بالحقِّ مقتديًا (¬1) ... عند الخليفةِ والأقوالُ تنتَضِلُ شَتَمْتُماه على رَفْعي ووَضْعِكما ... لا زلتُما في انحطاط أيُّها السَّفِلُ ثم قام جرير، فقبل رأس الأعرابيّ وقال: يا أمير المؤمنين، جائزتي له. وكانت خمسةَ عشرَ ألفًا في كل سنة، فقال عبد الملك: وله مثلُها من مالي. فأعطاه إياها (¬2). [وقال هشام ابن الكلبيّ: ] كان عبد الملك يفضّل الأخطل على جرير، فحضرا يومًا عنده، فأنشد الأخطل: وإني لَقوَّامٌ مقاماتٍ (¬3) لم يكن ... جريرٌ ولا مولى جريرٍ يقومُها فقال جرير: أجل والله، إنك تقومُ (¬4) إلى الخمر فتشربه، وإلى الخنزير فتذبحه وتأكله، وإلى الصليب فتسجد له وتقبِّلُه، وجريرٌ ما يفعل شيئًا من ذلك (¬5). ومن أحسن ما قال جرير: إنَّ الذين غَدَوْا بقلبك (¬6) غادروا ... وَشَلًا بعينك ما يزالُ مَعِينا (¬7) غَيَّضْنَ مِنْ عَبَراتهنَّ وقُلْن لي ... ماذا لَقِيتَ من الهوى ولَقِينا وسمع ابنُ السائب المخزومي (¬8) هذين البيتين -وكان من ظراف الناس، وكان صائمًا- وقد قام إلى صلاة المغرب، فلمَّا صلَّى المغرب وقُدِّمت إليه المائدة قال: ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) وأصل "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 42 (كما ذكر محققوه في حاشيته). وفي "البداية والنهاية"، 13/ 43، وملحق "ديوان" جرير 2/ 1034: مهتديًا. (¬2) الخبر في "تاريخ دمشق" من رواية الكلبي، كما في "مختصره" 6/ 41 - 43، وكذا أورده ابن كثير في "البداية والنهاية" 13/ 42 - 43 من رواية هشام بن محمد الكلبي عن أبيه. وهو في "الأغاني" 8/ 40 - 42 بنحوه أطول منه، من رواية المدائني. ومن قوله: وفد جرير على عبد الملك فاستأذنه في الإنشاد ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) في (ص): مقامًا. وفي "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 44: مقاوم. (¬4) في (ص): لتقوم. (¬5) الخبر في "تاريخ دمشق" كما "مختصره" المذكور في التعليق قبله. ولم يرد الكلام بعده في (ص) حتى نهاية الترجمة. (¬6) كذا في (ب) و (خ)، و"المنتظم" 7/ 330. وفي "تاريخ بغداد" 11/ 214، و "الديوان" 1/ 386: بلُبِّك. (¬7) قال ابن حبيب في شرح "الديوان": الوَشَل: الماء السائل شيئًا بعد شيء. والمَعِين: الظاهر. (¬8) هو عبد الله بن السائب، أبو السائب المخزومي المديني، ذكره الخطيب في "تاريخ بغداد" 11/ 131 وقال: "قدم الأنبار على أبي العبّاس السفّاح"، وأورد له هذا الخبر في ترجمة عبد الله بن عبد الرحمن المدائني =

امرأتُه طالق، وكل مملوك له حرّ إن أفطر الليلة إلا على هذين البيتين. وهما من أبيات، منها -وهو أوَّلُها-: ما للمنازل لا تُجيب حَزِينا ... أصَممْنَ أم قَدُمَ المَدَى (¬1) فَبَلِينا ولقد تكنَّفني (¬2) الوُشاةُ فصادفوا ... حِصنًا بسرِّكِ يا أُميمُ حَصِينا (¬3) قد هاج ذِكْرُكِ والصبابةُ والهوى ... داءً تمكَّنَ في الفؤاد مكينا (¬4) وقال الأصمعي: أحسنُ ما قيل في ملاطفة الإخوان: إلى الله أشكو أنَّ بالغَوْر حاجةً ... وأُخرى إذا أبصرتُ نجدًا بدا ليا فقولا لواديها الذي نزلَتْ به ... أَوَاديَ ذي القَيصُوم أمرعتَ واديا (¬5) وإني لأستحيي أخي أن أرى له ... عليَّ من الفضل الذي لا أرى ليا (¬6) وقال جرير: يا أختَ ناجية السلامُ عليكمُ ... قبل الرَّحيلِ (¬7) وقبل لَوْمِ العُذَّلِ لو كنتُ أعلمُ أنَّ آخِرَ عهدِكُم ... يومَ الرَّحيلِ فعلتُ ما لم أفعلِ وقال: يا أمَّ عمرٍو جزاكِ الله صالحةً (¬8) ... رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا قد خُنْتِ مَنْ لم يكن يخشى خِيانَتَكُم ... ما كنتِ أوَّلَ موثوقٍ بمن (¬9) خانا ¬

_ = 11/ 214، وأورده أيضًا ابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 329 في وفيات سنة (135). وأبو السائب هذا من ولد عبد الله بن السائب أبي السائب المخزومي المكّي الصحابي. ينظر "جمهرة أنساب العرب" ص 143. (¬1) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): الهوى، والمثبت من "الديوان" 1/ 386، و"المنتظم" 7/ 147. (¬2) في "الديوان" 1/ 387، و"المنتظم": تَسَقَّطني. (¬3) في المصدرين السابقين: حَصِرًا بسرِّك يا أُميم ضنينا. (¬4) هذا البيت في "المنتظم" 7/ 147، وليس في "الديوان". (¬5) القيصوم: نوع من النبات قريب من نوع الشِّيح، ويكثر في البادية. وأفرَعَ المكانُ: أخصبَ بكثرة الكلأ. (¬6) الأبيات في "المنتظم" 7/ 146 مع ثلاثة أخرى، وفيه: الذي لا يرى ليا. والبيتان الأوَّلان ضمن قصيدة في "ديوان" جرير ص 498 - 499 (طبعة دار صادر) والأول منها فيه 1/ 75 (بشرح ابن حبيب). (¬7) في طبعتي الديوان: ص 357 و 2/ 939. يا أمَّ ناجيةَ ... قبل الرَّواح ... (¬8) في "الديوان" بطبعتيه المذكورتين ص 491 و 1/ 161، و"المنتظم" 7/ 146: مغفرة. (¬9) في المصادر السابقة: به.

إنَّ العيونَ التي في طَرْفها مَرَضٌ ... قَتَلْنَنَا ثم لم يُحيينَ قَتْلانا يَضرعنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حِراكَ بهِ ... وهُنَّ أضْعَفُ خلقِ اللهِ أركانا أتْبَعتُهُم مُقْلَةً إنسانُها غَرِقٌ ... هل ما ترى تاركٌ (¬1) للعين إنسانا يا حَبَّذا جَبَلُ الرَّيَّانِ من جَبَلٍ ... وحَبَّذا ساكنُ الرَّيَّانِ مَنْ كانا هلْ يَرجِعَنَّ وليس الدهرُ مُرتَجِعًا ... عيش (¬2) بها طالما احلَوْلَى وما لانا ومن شعره: لمَّا تذكَّرتُ بالدَّيرَينِ أرَّقَني ... صوتُ الدَّجاجِ وقَرعٌ بالنَّواقِيسِ فقلتُ للرَّكْبِ إذْ جدّ الرَّحيلُ بنا ... يا (¬3) بُعدَ يَبْرِينَ من باب الفَراديسِ (¬4)! هل دعوةٌ من جبال الثلج مُسْمِعةٌ ... أهلَ الإياد وَحَيًّا بالنَّباريس (¬5) يَخْزَى الوشيظُ إذا قال الصميمُ (¬6) لهم ... عُدُّوا الحصى ثم قيسوا بالمقاييسِ وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِع صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعِيسِ (¬7) قد جَرَّبَتْ عَرَكي في كلِّ معتركٍ ... غُلْبُ الأسودِ فما بالُ الضغابيسِ (¬8) ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): نازل. والمثبت من المصادر السابقة. (¬2) في (ب) و (خ): عيشًا. والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) في "الديوان" ص 250 (طبعة صادر)، و"المنتظم" 7/ 147: ما. وهو في: "معجم البلدان" 5/ 427 بمثل روايتنا. (¬4) يَبْرين: من أصقاع البحرين (منطقة الأحساء)، ينظر "معجم البلدان" 5/ 427. وباب الفراديس بدمشق. (¬5) جبال الثلج؛ ذكر ابنُ حبيب في "شرح الديوان" 1/ 127 أنها بالشام. والإياد: موضع بالحَزْن لبني يربوع بين الكوفة وفَيد، والنَّباريس: شباك لبني كليب، وهي الآبار المتقاربة. ينظر الشرح المذكور، و"معجم البلدان" 1/ 287 و 5/ 256 وأورد فيه ياقوت بيت جرير هذا في الموضعين المذكورين. (¬6) الوشيظ: التابع، والصميم من كل شيء: المحض الخالص. ووقع في (ب) و (خ): مجرى، بدل: يخزى، والمثبت من "الديوان" ص 250 (طبعة دار صادر). (¬7) ابن اللَّبون: ولد الناقة الذي دخل في السنة الثالثة، والقَرَن: الحَبْل الذي يُقرن به البعيران، والبُزْل: جمع بازل، وهو البعير الذي طلع نابُه، وذلك في السنة الثامنة أو التاسعة، والقناعيس: جمع قِنْعاس، وهو من الإبل: العظيم. (¬8) الضَّغابيس: جمع ضُغْبُوس، وهو الرجل الضعيف. ينظر "القاموس". وتُنظر الأبيات في "الديوان" 249 - 251 (طبعة دار صادر) ضمن قصيدة.

عطية بن سعد

ودخل جرير على عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، قد قلتُ فيك ثلاثة أبيات، ما قالت العربُ مثلها، ولن أُنشدك إيَّاها إلا كلّ بيت بعشَرة آلاف درهم. فقال: هاتها، للهِ أبوك. فقال: رأيتُكَ أمسِ خيرَ بني (¬1) مَعَدٍّ ... وأنتَ اليومَ خيرٌ منك أمس وبيتُكَ في المناقب خيرُ بيتٍ (¬2) ... وغَرسُكَ في المغارس خَيمُ غَرْسِ وأنتَ غدًا تزيدُ الضِّعْف ضِعْفًا ... كذاك تَزيدُ سادَةُ عبدِ شمسِ (¬3) فأمر له بثلاثين ألفًا. وكان السبب في وقوع الهجاء بين الفرزدق وجرير أن جريرًا كان يُهاجي البَعِيث -واسمُه خِداش بن بِشْر المجاشعي- فأعانه الفرزدق على جرير، فصار جرير يهجوهما، ثم أعان الأخطل الفرزدق على جرير. والغالبُ على شعر الفرزدق أنه كان يفخر بآبائه، وكان جرير يُعيّر الفرزدق بأن قومه أجاروا الزُّبَيْر - رضي الله عنه - وقتلوه (¬4). عطيَّة بن سَعْد (¬5) ابن جُنادة العَوْفيّ، من جُذيلة، أبو الحسن، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل الكوفة، وكانت أمّه أمَّ ولد. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): من، بدل: بني. والمثبت من "المنتظم" 7/ 145 والمصادر المذكورة معه لاحقًا. (¬2) في "المنتظم"؛ ونبتُك ... نبتٍ. (¬3) الخبر في "المنتظم" 7/ 145 - 146. وذكر أبو الفَرَج في "الأغاني" 18/ 135 البيت الأول والثالث لأعشى بني ربيعة في مدح عبد الملك بن مروان، ونسبهما ابن عبد ربه في "العقد الفريد" 5/ 339 لأعشى همدان، وأوردهما بنحوهما 2/ 137. (¬4) بعده في (خ) ما صورتُه: آخر الجزء السادس، والحمد لله وحده، يتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء السابع عطية بن سعد بن جُنادة العوفي من جديلة. وصلى الله على محمد وآله وسلم. (¬5) جاء في (خ) قبل هذه الترجمة ما صورتُه: الجزء السابع من تاريخ مرآة الزمان للشيخ الإمام العالم العلامة شمس الدين أبي المظفَّر يوسف سبط ابن الجوزي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

الفرزدق الشاعر

وخرج مع ابن الأشعث على الحجَّاج، فلما انهزم ابنُ الأشعث هرب عطيَّة إلى فارس، فكتب الحجَّاج إلى محمد بن القاسم الثقفي أن ادعُ عطيَّة، فإن لعنَ عليَّ بنَ أبي طالب؛ وإلَّا فاضْرِبْه أربع مئة سوط واحْلِقْ رأسه ولحيتَه. فدعاه، فأقرأه كتابَ الحجَّاج، فأبى عطيَّة أن يفعل، ففعل به محمد ذلك. فلما وليَ قُتيبةُ خراسان؛ خرج عطية إليه، فلم يزل بخراسان حتى وليَ عُمر بنُ هُبيرة العراقَ، فكتب إليه يستأذنُه في القدوم، فأذِنَ له، فقدم الكوفةَ، فلم يزل بها إلى أن توفِّي في سنة إحدى عشرة ومئة. وكان ثقةً، وله أحاديثُ صالحة، ومن الناس من لا يحتجُّ بحديثه (¬1). وقد روى عن ابنِ عباس، ومعظمُ رواياته عنه في التفاسير (¬2). الفرزدق الشاعر واسمُه همَّام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عِقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، أبو فراس المجاشعي البصري، والفرزدق لقب له. [قال الجوهري: الفَرَزْدَقَةُ: القطعة من العجين، وأصله بالفارسية: برازدة، وبه سُمِّيَ الفرزدق، واسمه همَّام، فإذا جمعت قلت: فرازق (¬3). وقال الفرَّاء: الفرزدق: الرغيف الحُوَّارَى (¬4) الواسع، شُبّه وجهُه به لِسَعَتِه. وقال أبو نصر بن ماكولا: كان الفرزدق يُكنى في شبابه أبا مكيَّة (¬5). وقال عثمان بن أبي شيبة: ] أحيا جدُّه صعصعة في الجاهلية ألف موؤودة، وحمل على ألف فرس، وكان الفرزدق يفتخرُ به وقال: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 421. (¬2) ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) في (ص) (والكلام منها): فرازدق، والمثبت من "الصحاح" 4/ 1543؛ قال الجوهري بعده: لأن الاسم إذا كان على خمسة أحرف كلها أصول حذفتَ آخر حرف منه في الجمع، وكذلك في التصغير، وإنما حذفت الدال من هذا الاسم لأنها من مخرج التاء، والتاء من حروف الزيادات، فكانت بالحذف أولى. (¬4) الحُوَّارَى: الدقيق الأبيض. ولم أقف على قول الفراء. (¬5) الإكمال 7/ 57 (الكنى والآباء من باب فراس).

ومنَّا الذي منَعَ الوائدات ... وأحيا الوئيدَ فلم يُوأَدِ وقال ابن الكلبي: قدم صعصعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فأسلم] وعلَّمه آياتٍ من القرآن، وقال: يا رسول الله، قد أحييتُ ألف موؤدة، اشتريتُ كلَّ واحدة بناقتين عُشَرَاوين (¬1) وحملتُ على ألف فرس، فهل لي من أجر؟ فقال: "ما أحييتَ فمن باب البرِّ، لك أجرُه، وقد منَّ الله عليك بالإسلام" (¬2). [ذكر طرف من أخبار الفرزدق: روى هشام بن الكلبي عن أبيه قال: ، دخل غالب [بن صعصعة] على عليّ عليه السلام ومعه ابنُه الفرزدق صغيرًا، فقال علي - رضي الله عنه -: مَنْ أنت؟ قال: غالب بن صعصعة المجاشعي، فقال: ذو الإبل الكثيرة؟ قال: نعم. قال: فما فعلت إبلك؟ قال: نكَبَتْها النوائب، ودَهمَتْها الحقوق. فقال: ذلك خيرُ سُبُلها. ثم قالماله: من هذا الفتى معك؟ قال: ابني، وإنه يقول الشعر. قال: علّمه القرآن، فهو خيرٌ له من الشِّعر. قال الفرزدق: فما زال ذلك في نفسي حتى قَيَّدتُها بقيد، وقلت: واللهِ لا أنْزِعُه من رِجْلي حتى أحفظَ القرآن. فما نزعتُه حتى حفظتُه (¬3). [قال ابن الكلبي: ] ومات غالب بِسِيفِ كاظمة (¬4)، فدُفن على رابية، فجعل الفرزدق ذلك المكان حِمًى لا يستجيرُ به أحدٌ إلا أجاره، ولا يلوذُ به عانٍ إلا فكَّه، ولا يأتيه غارم إلا أدَّى عنه. فلما عزم على هجو بني جعفر بن كتاب لشيءٍ جرى بينهم؛ جاءت امرأةٌ من بني جعفر إلى قبر غالب، فضربت عليه فسطاطًا، واستجارت به، وكان ابنُها نافع قد هجا ¬

_ (¬1) مثنّى عشَراء، وهي من النوق ما مضى على حملها عشرة أشهر. (¬2) الخبر في "الأغاني" 21/ 283 مطول، وأخرجه مطولًا أيضًا الطبراني في "الكبير" 8 / (7412) وفي إسناده الطفيل بن عمرو؛ قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" 2/ 308: لا يُعرف، ونقل فيه عن البخاري قوله: لا يصحُّ حديثه. (¬3) معجم الشعراء ص 466، والمنتظم 7/ 149، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 119 (ووقعت ترجمة الفرزدق ضمن خرم في "تاريخ دمشق"). والكلام السابق واللاحق الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬4) السِّيف (بكسر السين): ساحل البحر، وكاظمة: جوٌّ على سِيف البحر في طريق البحرين من البصرة، بينها وبين البصرة مرحلتان (المرحلة: المسافة التي يقطعها السائر في نحو يوم) ينظر "معجم البلدان" 4/ 431.

الفرزدق، فجاء الفرزدق إلى قبر أبيه فرآها هناك، فأخذَتْ حَصَياتٍ من القبر، وقالت: أنا مستجيرة بصاحب هذه التوبة من هجائك. فأجارها، فلما هجا بني جعفر ووصل إليها، قال: عجوزٌ تُصلِّي الخمسَ عاذَتْ بغالبٍ ... فلا والذي عاذَتْ به لا أَضِيرُها وإني على إشفاقها من مخافتي ... وإنْ عَقَّها بي نافعٌ لَمُجيرُها (¬1) وعاذ بقبره مكاتَبٌ قد عجز عن نجومه (¬2) وقال: بقبر ابنِ ليلى غالبٍ عُذتُ بعد ما ... خَشِيتُ الرَّدَى أو أنْ أُرَدَّ إلى (¬3) قَسْرِ فقال: كم كتابُك؟ قال: أربعون ألفًا (¬4). فأدَّاها عنه. [وقال الزُّبير بن بكَّار: ] وقدم الفرزدق على معاوية وابنِه يزيد وعبدِ الملك [بن مروان] وسليمان [بن عبد الملك] وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. [وقال العتبي: ] ودخل [الفرزدق] على سليمان بن عبد الملك فقال له: من أنت؟ كأنه لا يعرفُه. فقال الفرزدق: أوَ ما تعرفُني يا أمير المؤمنين؟ ! قال: لا. قال: أنا الذي منهم أوفى العرب، وأسود العرب، وأجود العرب، وأحلم العرب، وأفرس العرب، وأشعر العرب. فقال: بيِّنْ ما تقول. فقال: أمَّا أوفى العرب؛ فحاجب بن زُرارة الذي رهن قوسه عن جميع العرب، فوفَى بذلك، وأما أسود العرب؛ فقيسُ بنُ عاصم الذي وفدَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فبسط له رداءَه وقال: "هذا سيِّدُ أهلِ الوَبَر". وأمَّا أحلم العرب؛ فالأحنف بنُ قَيس الذي يُضربُ المَثَلُ بحلمه، وأمَّا أجودُ العرب فعتاب بن وَرْقاء الخُزاعي، وأما أفرس العرب؛ فالحَرِيش بن عبد الله السعدي، وأما أشعر العرب؛ فها أنا بين يديك. فغضب سليمان، وساءه ما سمع من افتخاره، ولم يقدر على إنكاره، فقال له: ارجع على عقبيك، فلا شيء لك عندنا. فرجع وهو يقول: أتيناك لا من حاجةٍ عَرَضَتْ لنا ... إليك ولا من قلَّةٍ في مُجاشعِ ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ دمشق" كما في "مختصره" 27/ 124. (¬2) أي: عجز عن أداء الأقساط التي كاتبَ عليها سيِّده ليَعتِقَ. (¬3) في "مختصر تاريخ دمشق" 27/ 124: على. (¬4) في المصدر السابق: ألف درهم، بدل: أربعون ألفًا.

ثم دخل عليه بعد ذلك وأنشده: وَرِثْتُم قناةَ المُلكِ لا عن كَلالةٍ ... عن ابنَيْ منافٍ عبدِ شمسٍ وهاشمِ (¬1) فأجازَه ووصلَه. وكان الفرزدق يهاجي جريرًا ويُهاجيه جرير، ومع هذا فكان كلُّ واحد منهما يراعي صاحبه. ولمَّا هجا الفرزدق هشام بن عبد الملك بقوله: يُقلِّبُ عينَّا لَم تكُنْ لخليفةٍ (¬2) في نور زين العابدين. قول الفرزدق (¬3): هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَهُ (¬4) وحبس هشام الفرزدق بعُسْفان؛ دخل جرير (¬5) على هشام (¬6) وقال له: إن كنت تريد [أن] تبسط يدك على مُضَر؛ فأطلقْ لها شاعرها. يعني الفرزدق. فأطلقه. [وقد ذكرنا القصة] ولم يكن هشام في ذلك الوقت وليَ الخلافة (¬7). ¬

_ (¬1) العقد الفريد 2/ 193 - 194 دون قوله: ثم دخل عليه بعد ذلك وأنشده ... إلخ. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬2) هو صدر بيت، وعجزُه: مُشوَّهةً حَوْلاءَ جَمًّا عيوبُها. وهو في "العقد الفريد" 5/ 325، وللبيت رواية بنحوها في "الأغاني" 21/ 378، وأوله: يقلِّبُ رأسًا ... (¬3) كذا وقع الكلام في (ب) و (خ)، وليس في (ص). ولعل فيه سقطًا. وينظر التعليق التالي. (¬4) هو صدر بيت، وعجزه: والبيتُ يعرفُه والحِلُّ والحَرَمُ، وهو من قصيدة طويلة يمدح بها زينَ العابدين - رضي الله عنه - لما تجاهله هشام بن عبد الملك. ينظر "الأغاني" 21/ 376 - 378، و"تاريخ دمشق" 49/ 126 - 128 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة علي بن الحسين). ومن قوله: وكان الفرزدق يهاجي جريرًا ... إلى هذا الوضع، ليس في (ص). وينظر التعليق التالي. (¬5) قوله: دخل جرير؛ جواب قوله: ولا هجا الفرزدق هشام ... كما هو الكلام في (ب) و (خ). ولم يرد الكلام السابق في (ص)، وجاءت عبارة (ص) هنا بلفظ: ورُوي أن هشام بن عبد الملك حبس الفرزدق بعسفان، ودخل جرير ... إلخ. (¬6) في (ص): على وطأته هشام (؟ ). (¬7) بنحوه في "العقد الفريد" 5/ 325. والكلام بين حاصرتين من (ص).

و [قال أبو عبيد: ] جلس الفرزدق يومًا عند الحسن البصري، فجاءه رجل فقال: يا أبا سعيد، إنا نكون في هذه البعوث والسرايا، فنُصيبُ المرأة من العدوّ، وهي ذاتُ بَعْل، أفَتَحِلُّ لنا من غير أن يطلِّقها زوجُها؟ فقال الفرزدق: قد أجبتُ عن هذا في قولي: وذاتِ حليل أنكحَتْنا رماحُنا ... حلالٌ لمن يَسبِي (¬1) وإنْ لم تُطَلَّقِ فقال الحسن: صدق. و[قال أبو عبيدة: ] كانت هند (¬2) بنت صعصعة عمَّة الفوزدق تقول: مَنْ جاءت من نساء العرب بأربعة مثل مثالي (¬3) يحلُّ لها أن تضع خمارها عندهم؛ فصِرمَت لها (¬4): أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي الزبْرِقان بن بدر. فسُمّيَتْ ذاتَ الخمار. [قلت: ] وقد روى صعصعة [أبو هذه] الحديثَ [عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج له الإمام أحمد في "المسند" حديثًا واحدًا، فقال: حدثنا يزيد بن هارون بإسناده] عن صعصعة بن معاوية عمِّ الفرزدق أنه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}، فقال: حسبي، لا أُبالي أن [لا] أسمعَ غيرَها (¬5). حديث النَّوَار (¬6) [زوجة الفرزدق] [حكى أبو عَمرو الشَّيباني قال: ] كانت النَّوَار ابنة عبد الله بن أعين [بن ضُبيعة] المجاشعي، وكان قد بعثه عليٌّ - عليه السلام - إلى البصرة أيام الحَكَمين، فقتلَتْه الخوارج ¬

_ (¬1) في "طبقات فحول الشعراء" 2/ 336، و"الأغاني" 21/ 304: حلالًا لمن يبني، وفي "العقد الفريد" 5/ 383، و"مختصر تاريخ دمشق" 27/ 127 - 128: أنكحتها رماحنا. (¬2) في "العقد الفريد" 2/ 196، و"ثمار القلوب" ص 295: هُنيدة. (¬3) في المصدرين السابقين: كأربعتي، بدل: مثل مثالي. (¬4) الصِّرمة: القطعة من النخل أو الإبل. (¬5) مسند أحمد (20593). والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬6) بفتح النون وتخفيف الواو.

غِيلةً، فخطب ابنتَه النَّوار رجل من قريش فبعثت إلى الفرزدق، وكانت ابنةَ عمِّه، فقالت: أنتَ أولى ألناس بي، فزوِّجْني من هذا الرجل. فقال: أشْهِدِي عليكِ أَنك [قد] فوَّضْتِ أمركِ إليَّ، وقد رضيتِ بمن أزوِّجكِ. ففعلت. فلما اجتمع الناسُ خطب الفرزدق وقال: إن النَّوَار [قد] فوَّضَتْ أمرَها إليَّ، فاشْهدُوا أني قد تزوَّجْتُها على مئة ناقة سود الحَدَق. وبلغها فأبت، ونافرَتْه إلى عبد الله بن الزُّبَيْر، فلما قدما مكة نزلت على زوجة عبد الله، وهي بنتُ منظور بن زبَّان، ونزل الفرزدق على حمزة بن عبد الله [بن الزبير]. فكان كما أصلح حمزة مع أبيه نهارًا أفسدَتْه بنتُ منظور ليلًا، فتحاكما إلى ابن الزبير، فحكم على الفرزدق، فقال [الفرزدق]: أمَّا البنونَ فلم تُقبل شفاعتُهم ... وشُفِّعَتْ بنتُ منظورِ بنِ زَبَّانا ليس الشفيعُ الذي يأتيك متَّزرًا ... مثلَ الشفيعِ الذي يأتيك عُريانا وبلغ ابنَ الزبير، فقال للنَّوَار: هذا خبيثُ اللسان، وسيهجوني وأضربُ عنقَه، فإن أحببتِ ذلك فافعلي. فقالت: قد أجزتُ نكاحه. فزوَّجَه بها، فأقامَتْ عنده زمانًا، تارةً ترضى به، وتارةً تسخط (¬1). فجاء [يومًا] إلى حلقة الحسن وقال له: يا أبا سعيد، إني قد طلَّقتُ النَّوَار ثلاثًا. ثم ندم وأتبع الثلاث نفسه (¬2)، فقال له الحسن: واللهِ لئن رجعتَ لأرجمنَّك بأحجارك. فمضى وهو يقول: نَدِمتُ ندامةَ الكُسَعِيِّ (¬3) لمَّا ... غَدَتْ منّي مطلَّقةً نَوَارُ وكانت جنَّتي فخرجتُ منها ... كآدمَ حين أخرجه الضِّرارُ ¬

_ (¬1) ينظر: العقد الفريد 6/ 124، الأغاني 9/ 327 و 21/ 292 - 293، والتذكرة الحمدونية 9/ 193. (¬2) في "العقد الفريد" 6/ 125 أن الفرزدق قال لصاحبه (وهو راويتُه): افضِ بنا إلى حلقة الحسن، فإني أريد أن أطلق النَّوَار، فقال له صاحبُه: إني أخاف أن تتبعَها نفسُك. (¬3) هو رجل رمى فأصاب، فظنَّ أنه أخطأ، فكسر قوسه، فلما علم؛ ندا على كسر القوس، فضُرب به المثل في كل أمر كان فيه ندم. (المعارف، ص 612). وتنظر قصة الكُسَعيّ في "مجمع الأمثال" 2/ 348 في المثل: أندم من الكُسَعيّ.

فأصبحتُ الغداةَ ألومُ نفسي ... بأمرٍ ليس في فيه خيارُ وكنتُ كفاقئٍ عينَيهِ عمدًا ... فأصبحَ ما يضيءُ له النهارُ (¬1) ثم راجعها، وماتت عنده، وأوصَتْ أن يصليَ عليها الحسن، فصلَّى والفرزدق حاضرٌ، فلما سُوَّيَ عليها قام فقال: أخافُ وراءَ القبر إن لم يُعافِني ... أشدَّ من القبر التهابًا وأضْيَقا إذا جاءني يومَ القيامة قائدٌ ... عنيد وسوَّاقٌ يسوقُ (¬2) الفرزدقَا لقد خابَ من أولاد آدمَ مَنْ مَشَى ... إلى النار مغلولَ القِلادةِ أزْرَقَا يُساقُ إلى نار الجحيم مُسَربَلًا ... سَرابِيلَ قَطْرانٍ لباسًا مُحَرَّقا إذا شربوا فيها الصديدَ رأيتَهم ... يذوبون من حرِّ الحميم تمزُّقا فبكى الحسن وقال: يا همَّام، ماذا أعدَدتَ لهذا اليوم؟ فقال: شهادةُ أن لا إله إلا الله [وأن محمدًا رسول الله] منذ ثمانين [أو سبعين] سنة، قال الحسن: قد كنتَ من أبغض الناس إليّ، وإنك اليوم لأحبُّ الناس إليّ (¬3). [وفي رواية: فبكى الحسن وقال: يا همَّام، ما أعددتَ لهذا اليوم؟ فكم من مُحصَنةٍ قد قَذَفْتَها! فقال: هل لي من توبة؟ قال: نعم. فقال: أستغفر الله. فقال الحسن: نحن وإياك على الأثْر، فقال الفرزدق: ولسنا بأبقى بعدهم (¬4) غير أنَّنا ... أقمنا قليلًا بعدهم وترحَّلُوا] (¬5) فلما مات الفرزدق رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: نفعتني الكلمة التي راجعتُ الحسنَ فيها عند القبر (¬6). [وقد ذكرنا اجتماع الحسن والفرزدق عند جنازة أبي رجاء العُطاردي وقول الفرزدق: يا أبا سعيد، يزعم الناس أنه قد اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وهو ¬

_ (¬1) ينظر: "العقد الفريد" 6/ 125، و"الأغاني" 21/ 290. (¬2) في "الأغاني" 21/ 392، و"المجالسة وجواهر العلم" (6891) عنيف وسواق يقود. (¬3) الخبر في "تاريخ دمشق" كما في "مختصره" 27/ 131 - 132. وينظر المصدران السالفان. (¬4) في "مختصر تاريخ دمشق" 27/ 132: بأنجى منهم. (¬5) المصدر السابق. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬6) مختصر تاريخ دمشق 27/ 138.

أنت، وشرُّ الناس وهو أنا. فقال الحسن: لا أنا خيرُ الناس، ولا أنت شرُّ الناس. ما أعددتَ لهذه الحفرة؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله. فقال: نِعم العُدَّة، خُذوها من غير فقيه] (¬1). ومن شعره: إن تُنصفونا يا آل مروانَ نقتربْ ... إليكمْ وإلَّا فأْذنوا بِبِعادِ ولولا بنو مروانَ كان ابنُ يوسفٍ ... كما كان عبدًا من عبيد إيادِ (¬2) وقيل: هي لمالك بن الرَّيب (¬3). وقال الفرزدق: إذا ما الدَّهْرُ جرَّ على أُناسٍ ... كَلَاكلَهُ (¬4) أناخَ بآخرينا فقُل للشامتين بنا أَفِيقوا ... سيَلْقَى الشامتونَ كما لَقِينا [حديث دارة الجُلْجُل (¬5) روى ابنُ الكلبيّ عن أبيه، عن الفرزدق قال: مُطرنا في بعض السنين، فخرجتُ إلى ظاهر البصرة على بغلة، فأبعدتُ، وإذا بنسوة في غدير ماء إلى حلوقهنّ مستنقعاتٍ، فقلتُ: سبحان الله! ما أشبه هذا اليوم بدارة جُلْجُل. فنادَتْني واحدٌ منهن: يا صاحبَ البغلة، حدِّثْنا عن دارة جُلْجُل. فقلت: نعم، كان امرؤ القيس بن حُجْر الكِنْدي يَهْوَى عُنيزة بنتَ عمِّه، فخرجَ يومًا في طلبها على ناقة، فوجدها مع أترابٍ لها في غدير يقال له: دارة جُلْجُل وهنَّ في الغدير إلى حلوقهنَّ مثل ما أنتنَّ. فأخذَ ثيابَهنّ وقال: لا أعطيكنّ منها شيئًا حتَّى تخرجَ كلُّ واحدة منكنَّ مجرَّدة، فتأخذ ثيابَها. ¬

_ (¬1) الكلام بين حاصرتين من (ص). وينظر "الأغاني" 21/ 392، والمصدر السابق 27/ 132. (¬2) ديوان الحماسة 2/ 109 - 110 (بشرح التبريزي). (¬3) الشعر والشعراء 21/ 354، وعيون الأخبار 1/ 236 وفيه: بتعادي، بدل: ببعاد. (¬4) جمع كِلْكِلَة، وهي الجماعة. وفي "الأغاني" 21/ 396: بِكَلْكَلَهِ. ولم يرد هذان البيتان ولا اللذان قبلهما في (ص). (¬5) قيل: هي من ديار الضَّباب بنجد فيما يواجه ديار فزارة. ينظر "معجم البلدان" 2/ 150.

ثم نزل الفرزدق عن البغلة، وأخذ ثيابهنَّ وقال: هكذا أفعل بكنّ؛ كما فعل امرؤ القيس. فنادته واحدةٌ منهنَّ وقالت: ويحك! إن امرأ القيس كان عاشقًا عُنيزة، أفعاشقٌ أنتَ بعضَنا؟ قال: أتشبّه به. قال: وتعالى النهار، فخرجت عُنيزة من الغدير وحدَها خوفًا من أهلها، فرآها مُقبلةً ومُدبرة، وخرج الباقيات، فقُلْنَ: يا امرأ القيس، قد أجَعْتَنا وحبستَنا، فما أنت صانعٌ بنا؟ فقال: هذه ناقتي لكُنَّ. فنَحَرَها، وأجَّجَ نارًا وأطعمهنَّ، فقالت واحدة: أنا أحملُ طِنْفِسَتَه (¬1)، وقالت أخرى: وأنا أحملُ رَحْلَه، وقالت عُنيزة: وأنا أحملُه على غارب جملي (¬2)، فكان إذا مال ليُقبِّلها؛ مال الخِدْر، فيكاد أن يقع، فلذلك قال: ألا ربّ يومٍ لك منهنَّ صالحٍ ... ولا سيَّما يومًا (¬3) بدارة جُلْجُلِ ويومَ عَقَرْتُ للعَذَارى مَطِيَّتي ... فواعَجَبًا من رَحْلِها المُتَحمِّلِ وأنشد الأبيات. فقلن النساء (¬4) للفرزدق: ولابدَّ لك أن تفعل بنا ما فعل امرؤ القيس بصواحبات عُنيزة؟ قال: نعم. فهمست واحدة منهنَّ إلى صواحباتها بشيءٍ لم أفهمه، فقالت: ادْنُ منَّا لتنال بُغْيتَك. قال: فدنوتُ، وانغطَطْن في الغدير، ثم خرجت كلُّ واحدة منهنَّ وفي يدها طِين قد ملأت يدها منه، فتعادَين نحوي، وضَرَبْنَ بذلك الطين وجهي وعيني، فامتلأتْ عيناي، وتلوَّثَتْ ثيابي، ووقعْتُ على وجهي لا أدري أين أنا، فأخَذْنَ ثيابي وبغلتي ومَضَينَ، وبقيتُ مكاني مَغْشيًّا عليَّ إلى الليل، فقمتُ وغسلتُ وجهي، وأتيتُ منزلي على أقبح حال، وإذا بالبغلة يقودُها إنسان ويقول: أخَوَاتُك يُسلِّمْنَ عليك، ويُقلْنَ: طلبت منَّا ما لا يمكن دفعُه إليك، وقد بعثنا إليك زوجتَك البغلة، فافعلْ بها سائر ليلتك، وهذا كيسٌ فيه دراهم، فإذا أصبحتَ؛ فادفَعْه إلى الحمَّامي. قال الفرزدق: واللهِ ما رأيتُ مثلهنَّ (¬5). ¬

_ (¬1) الطِّنفسة: البساط، أو ما يوضع فوق الرَّحْل. (¬2) غارب الجمل: ما بين سنامه وعنقه، وهو الَّذي يُلْقَى عليه خِطامُه إذا أُرسل ليرعى حيث شاء. (¬3) في "ديوان" امرئ القيس ص 10: يومٌ. (¬4) كذا في (ص) (والكلام منها). وهي لغة. (¬5) في "الأغاني" 21/ 343، و"المنتظم" 7/ 152 (والخبر فيهما بنحوه): ما مُنيت بمثلهنِّ.

وقد أشرنا إلى طرف من القصة في صدر الكتاب في ترجمة امرئ القيس. وقال أبو عمرو بن العلاء: كان الفرزدق أروى الناس للأشعار. وقد ذكرنا مدحه لأهل البيت] (¬1). ذكر وفاته: قال أبو عمرو بن العلاء: حضرتُ الفرزدق عند وفاته، فما رأيتُ أحسنَ ثقة بالله منه (¬2). [واختلفوا فيها؛ فقال الواقدي: مات في سنة إحدى عشر ومئة. وقال الهيثم: في سنة عشر ومئة. وقال أبو عمرو بن العلاء: ] وقدم جرير من اليمامة بعد موته، فاجتمع إليه الناس، فما أنشدهم، ولا كلَّمهم كلمةً. قالوا: فما الَّذي بك؟ قال: أطفأ -واللهِ- موتُ الفرزدق جمرتي وأسألَ عَبْرتي وقرَّب منيَّتي. ثم شخص إلى اليمامة، فنُعي لنا في شهر رمضان بعد الفرزدق (¬3). وقال [أبو] الهيثم الغَنَويّ: كان جرير بالبادية، فنُعي إليه الفرزدق، فاعترض الطريق، فإذا بأعرابيّ على قَعُود، فقال [له جرير]: من أين؟ قال: من البصرة. قال: فما الخبر؟ قال: رأيت جنازةً عظيمة فيها الحسن البصري فسألتُ عنها، فقيل: جنازة الفرزدق. قوله: رأيتُ جنازة عظيمة فيها الحسن البصري، فيه نظر لأنه ذُكر وفاة الحسن رحمة الله عليه في سنة عشر ومئة، والفرزدق في سنة إحدى عشرة إلا أن تكون تأخَّرت وفاة الحسن رحمة الله عليه (¬4). ¬

_ (¬1) من قوله: حديث دارة الجُلجُل ... إلى هذا الموضع، من (ص). (¬2) مختصر تاريخ دمشق 27/ 137. (¬3) المصدر السابق 27/ 138. (¬4) من قوله: رأيتُ جنازة عظيمة ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

فبكى جرير بكاءً شديدًا، فقيل له: أتبكي على رجل يهجوك وتهجوه منذ أربعين سنة؟ ! فقال: إليكم عنّي، فواللهِ ما تسابَّ رجلان، ولا تناطح كبشان؛ فمات أحدهما؛ إلا تَبِعَه الآخر عن قريب. ثم قال: لعمري لئن كانَ المُخَبِّرُ صادقًا ... لقد عَظُمتْ بلوى تميمٍ وجَلَّتِ فلا حملَتْ بعدَ الفرزدقِ حُرَّةٌ ... ولا ذاتُ حمل في نِفاسٍ تعلَّتِ هو الوافدُ المجبورُ والدافع الأذى (¬1) ... إذا النَّعلُ يومًا بالعشيرة زَلَّتِ [وفي رواية أن جريرًا قال: مات الفرزدق بعد ما جدَّعْتُهُ (¬2) ... ليتَ الفرزدقَ كان عاشَ طويلا فقيل له: بئس ما قلت! أتهجو ابنَ عمِّك بعد الموت، لو رثيته كان أولى بك. فقال: واللهِ إني لأعلم أن بقائي بعده قليل. فعاش أربعين يومًا (¬3). وقيل: إن جريرًا مات بعده بأربعة أشهر، وإنهما ماتا في سنة عشر ومئة، ويدلُّ عليه أنَّ الحسن صلى عليه إن ثبتت الرواية. واختلفوا في مقدار عمره، فقال هشام: ] عاش تسعين سنة. وقيل: قارب المئة، ومات بعلَّة الذُّبَيلة (¬4). وأسند [الفرزدق] عن عليٍّ، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخُدري، والحُسين بن عليّ، - رضي الله عنه -، [وقد ذكرنا أنَّه لقيه في طريق العراق وهو متوجّه إليها]. وروى عن الفرزدق أولاده، وهم: لَبَطَة، وخَبَطَة، ورَكَضَة، وسبطة، والحنطبا. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ (ب) و (خ) و (ص). وفي "مختصر تاريخ دمشق " 27/ 138 (والكلام من أصله "تاريخ دمشق"): هو الوافد المحبوّ والرافع الثَّأَى. وفي "طبقات فحول الشعراء" 2/ 417، و"الأغاني" 21/ 387 (والبيتان الأخيران فيه): هو الوافد المأمون والراتق الثَّأَى. وفي "ديوان" جرير 2/ 636: هو الوافد المحبوّ والحاملُ الثَّأَى. والثَّأَى: الجِراح. (¬2) في "الأغاني" 21/ 387: جرَّعتُه. (¬3) ينظر: طبقات فحول الشعراء 2/ 416، والأغاني 8/ 88 و 21/ 387، والتذكرة الحمدونية 4/ 229. (¬4) ينظر الأغاني 2/ 387، والمنتظم 7/ 152.

يزيد بن عبد الله بن الشخير

قال لَبَطَة: حدثنا أبي قال: لقيَني أبو هريرة، فقال: كم من محصنة قذفتَها! ثم نظر إلى قدميّ، فرآهما صغيرتين، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن لي حوضًا كما بين أَيلة وعَمَّان" فإن قدرتَ أن يكون لقدميك عنده موضع؛ فافعل. قال: فقلت: ذنوبي كثيرة. فقال: لا تيأس (¬1). وكانت وفاته بالبصرة، ولم يبقَ له عقب (¬2). وروى عنه الكُميت الشاعر، وخالد الحذَّاء. يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير [أخو مُطرِّف، وكنيتُه] أبو العلاء، [وهو] من الطبقة الثانية من أهل البصرة. وكان يقول: أنا أسنُّ من الحسن بعشر سنين، وأخي مُطرِّف أسنُّ مني بعشر سنين (¬3). وحكى أبو نُعيم أنَّه كان يقول (¬4): لأن أُعافَى فأشكر؛ أحبُّ إليَّ من أن أُبْتَلَى فأصبر. ثم يقول: اللهمَّ، أيُّ ذلك كان خيرًا لي فعجِّلْ به. وكان إذا قرأ في المصحف؛ غُشِيَ عليه، وكان ثقةً صالحًا، وكانت وفاته بالبصرة، وروى عن أبيه وغيره (¬5). ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ دمشق" 60/ 2 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة لَبَطَة)، و"مختصر تاريخ دمشق" 27/ 118 (ترجمة الفرزدق). ومتن الحديث الذكور صحيح. ينظر "مسند" أحمد (21327). (¬2) مختصر تاريخ دمشق 27/ 138. والكلام السالف بين حاصرتن من (ص). (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 156. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) في (ب) و (خ): وكان يقول ... بدل قوله: وحكى أبو نعيم ... إلخ. والمثبت من (ص). والكلام في "حلية الأولياء " 2/ 212. (¬5) بنحوه في "طبقات" ابن سعد 9/ 156.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [11]

السنة الثانية عشرة بعد المئة

السنة الثانية عشرة بعد المئة فيها غزا معاوية بن هشام الصائفة، فافتتح حصن خَرْشَنة (¬1)، وأوغل في بلاد الرُّوم. وفيها استُشهد الجرَّاح بن عبد الله الحَكَميّ بمرج أرْدَبِيل (¬2)، وافتتحت التُّرْك أرْدَبِيل. ولما دخلَ الجرَّاح غازيًا استخلف أخاه الحجَّاج [بن عبد الله] على أرمينية (¬3). وفيها كانت وقعة الجُنيد [بن عبد الرحمن] مع التُّرك وخاقان. وقيل: كانت هذه الوقعة في سنة ثلاث عشرة ومئة (¬4). قال علماء السير رحمهم الله تعالى: سار الجُنيد من مَرْو، فنزل على نهر بَلْخ، وفرَّق عساكره، فبعثَ عُمارة بنَ خُريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفًا، وبعث إبراهيم بنَ بسام الليثي إلى جهة أخرى في عشرة آلاف، وجاءت التُّرك إلى سمرقند وعليها سَوْرة بن الحُرّ الدارميّ، فكتبَ سَوْرَة إلى الجُنيد يخبره أنَّ خاقان نزل على سمرقند، ولم يمكنه دفعُه، فالغوثَ الغوثَ. فقال الجُنيد للناس: اقطعوا النهر وأغيثوا سَوْرة. فقال له جماعة الأشراف ووجوه القبائل: قد فرَّقتَ جندك، وخاقانُ ليس كغيره، وصاحب خُراسان لا يقطع النهر إلا في خمسين ألفًا، فاكتُبْ إلى الجُند واجمَعْهم واعْبُر. فقال: وكيف لي بسَوْرَة ومن معه من المسلمين؟ ! لو لم أكن إلا في بني مُرَّة أو أهل الشام لَعَبَرْتُ النهر (¬5). ¬

_ (¬1) هي بلد قرب مَلَطْيَة من بلاد الروم، كما وفي "معجم البلدان" 2/ 359. ولم تجوَّد اللفظة في النسخ، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 70. (¬2) أردبيل من أشهر مدن أذربيجان. ينظر "معجم البلدان" 1/ 145. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 70. وما سلف بين حاصرتين من (ص). والكلام الآتي بعد هذه الفقرة حتَّى آخر الأبيات، ليس فيها. (¬4) المصدر السابق 7/ 71. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 71 - 72.

ثم قطع النهر فنزل كِسّ (¬1) وبعث العيون، فعادوا وقالوا: تأهَّبْ فقد أتَوْك. فقال: أيُّ الطريق أقربُ إلى سَمَرْقَنْد؟ قالوا: طريق المحترقة. فقال المجشّر بن مُزاحم السُّلَميّ: القتلُ بالسيف أهونُ من القتل بالنار، إن طريق المحترقة فيها الحشيش والشجر، ولم تُزرع منذ زمان، فإن لقينا خاقان، فأطلقَ علينا النارَ؛ هلكنا كلُّنا. ثم قال المجشِّر: إنه كان يقال: إن رجلًا من قيس عَيلان مُترفًا يهلك على يديه جندٌ من جنود خُراسان، وما إخالُك إلا إيَّاه. فقال الجُنيد: أفْرِخْ رُوعَك (¬2). فقال [المجشّر]: أمَّا ما كان (¬3) بينَنَا مثلك فلا يُفْرَخ. وتلقَّاهم فارسٌ فقالوا: ما اسمُك؟ قال: حَرْب. قالوا: ابنُ مَنْ؟ قال: ابنُ محربة. قالوا: ممَّن؟ قال: من بني حنظلة. قالوا: سلَّط الله عليكم الحَرْب والحَرَب (¬4) والمرّ. ثم دخل الشِّعب وبينهم (¬5) وبين سمرقند أربعةُ فراسخ، وصبَّحهم خاقان في جمع عظيم ومعه أهل السُّغْد وفرغانة والشاش، وصفَّ الجُنيد أصحابَه وفيهم نَصْر بن سيَّار، واقتتلوا قتالًا لم يرَ الناس مثله، وانكشفت الميمنة والميسرة والجُنيد في القلب، وعادت الميمنة إلى مكانها بعد قتال شديد. وجاء الجُنيد إلى الميمنة، فوقف تحت راية الأَزْد وكان قد جفاهم، فقال له صاحب رايتهم: ما جئتَنا لتُكرمنا، ولكن لعلمك أنَّه لا يُوصل إليك ورجل منَّا حيٌّ، فإن ظفرنا كان الفتح لكم، وإن هلكنا لم تبكِ علينا. ثم حمل بالراية، فقُتل، وتناولَها منهم ثمانيةَ عشرَ (¬6) فقُتلوا، وقُتل من أعيان الأزد ثمانون رجلًا، منهم يزيد بن المفضّل الحُدَّاني، ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): كيش. وهو تحريف، والمثبت من المصدر السابق. وكِسَّ: مدينة تقارب سمرقند، وقال البلاذري فيما نقله عنه ياقوت: هي الصُّغد. ينظر "معجم البلدان" 4/ 460. (¬2) أي: أذهبِ الهمَّ من قلبك. والرُّوع: القلب، أو موضع الفزع منه. وهذا من المجاز. يقال: أفرَخَتِ البيضةُ: إذا خرجَ الفَرْخُ منها. ينظر "أساس البلاغة" ص 468، و"القاموس" (روع). وينظر أيضًا "جمهرة الأمثال" 1/ 85. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 72: إذا كان. (¬4) الحَرَب: الويل والهلاك. (¬5) في المصدر السابق: وبينه. (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 74: فتداول الراية ثمانية عشر ...

وكان قد حجَّ فأنفقَ في حجته ثمانين ومئة ألف درهم، وسألَ اللهَ الشهادة، فاستُشهد بعد مقدمه من الحجّ بأيام. ثم نادى الجُنيد: الأرضَ الأرضَ. فنزلوا، وخندقوا عليهم، وأُصيب من الأزد مئةٌ وثمانون، وخلقٌ كثير من القبائل. وكانت الوقعةُ يومَ الجمعة، وباتوا وقد تحصَّنوا بالرِّجال والرِّحال، ليس للعدوّ عليهم طريق إلا من جهة واحدة، وأصبح خاقان يوم السبت، وقصدَهم فلم يقدر عليهم، فنزل مقابلتهم (¬1). وقيل للجُنيد: اكتب إلى سَوْرَة بن الحرّ؛ فليُوافِك بأهل سمرقند. فكتب إليه الجُنيد: أغِثْني. فقال له أصحابه: وكيف تصنع بخاقان وهو بينك وبينهم؟ فاعتذِرْ إليه. فكتب يعتذرُ إليه، فكتب إليه الجُنيد: يا ابنَ اللَّخْناء. وشتمه وتهدَّدَه، وقال له: الزم الماء حتَّى نصل إليك. فخاف فسلك طريقًا آخر، فخرج في خمس مئة (¬2) من أهل سمرقند. وبلغ التركَ، وسار حتَّى بقيَ بينه وبين الجُنيد فرسخ، وركبَ خاقان، فأحاطَ بهم من كل جانب، وأطلق النار في الحشيش، وكانوا قد عطشوا، فترجَّلوا، فقُتلوا عن آخرهم، وأول من قُتل سَوْرَة. وقيل: كانوا ألفين، فسلم منهم القليل (¬3). ولمَّا رأى الجُنيد اشتغال التُّرك بقتال سَوْرَة وأصحابِه خرج من الشِّعب يريد سمرقند، وعاد خاقان، فقيل للجنيد: انزل. فنزلَ، وأحاطَ بهم خاقان، فلما كان في الليل ساروا على حميَّة، وتبعهم العدوّ، فقاتل الموالي قتالًا شديدًا (¬4)، وتأخَّر العدوّ، ومضى الجُنيد إلى سمرقند، فأقامَ بها، ومضى خاقان إلى بلاده. ¬

_ (¬1) ينظر المصدر السابق 7/ 75. (¬2) كذا في (ب) و (خ). والذي في "تاريخ" الطبري 7/ 76 أنَّه خرج في اثني عشر ألفًا. وجاء فيه قبل هذا الكلام أن الجُنيد كتب لسورة: اقدمْ وضَعْ فلانًا بفرخشاذ في خمس مئة ناشب. وينظر التعليق التالي. (¬3) كذا وقع في (ب) و (خ). والذي في المصدر السابق أنَّه لم ينج منهم غير ألفين. (¬4) وذلك أن الجنيد أمر رجلًا فنادى أيُّ عبد قاتل فهو حرّ. وينظر تفصيل الخبر في "تاريخ الطبري" 7/ 78 - 76، فقد أخل المختصر فيه.

وأقام الجُنيد بسمرقند أربعة أشهر، وندبَ بعضَ الناس ليمضي من سمرقند إلى هشام، فجَبُنُوا، فبعث نَهارَ بنَ توسعة وقال له: ... (¬1) وكتب إليه: إنَّ سَوْرَة أمرتُه بلزوم الماء، فعصاني، فقُتل. وقال نهار بن توسعة: لعمريَ (¬2) ما حابيتَني إذْ بعثتَني ... ولكنَّما عَرَّضْتَني للمتالفِ دعوتَ لها قومًا فهابُوا ركوبَها ... وكنتُ امْرأ ركَّابةً للمخاوفِ وأيقنتُ إنْ لم يدفعِ اللهُ أنَّني ... طعامُ سِباعٍ أو لِطَيرٍ عَوائفِ من أبيات. فكتب هشام إلى الجُنيد: قد وجَّهتُ إليك عشرين ألفًا من أهل البصرة والكوفة، وبعث له سلاحًا كثيرًا، منه ثلاثون ألف رمح، وثلاثون ألف قوس. واسترجع هشام وقال: إنَّا لله، الجرَّاح بالباب، وسَوْرَة بخُراسان. وأبلى نصر بن سيَّار في ذلك اليوم بلاءً حسنًا ولم يشكره الجُنيد، فقال نصر: إنْ تحسُدُوني على حُسْنِ البلاء لكم ... يومًا فمثلُ بلائي جرَّ لي الحَسَدا يَأبَى الإلَهُ الَّذي أعلى بقدرتِهِ ... كعبي عليكم وأعطى (¬3) فوقكم عَضُدا (¬4) وضَرْبيَ التُّركَ عنكم يومَ فَرْقِكُمُ ... بالسيف في الشِّعْبِ حتَّى جاوزَ السَّنَدَا هلَّا شكرْتُمْ (¬5) دفاعي عن حَرِيمِكُمُ (¬6) ... وَقْعَ القَنَا وشهابُ الحربِ قد وَقَدَا من أبيات. وكان التُّرك قد قصدوا الجُنيد، فمال به نَصْر بن سَيَّار إلى سند الجبل (¬7) وحماه. ¬

_ (¬1) مكان النقاط في النسختين ما صورته: لقد جئتك بهشام (؟ ) (¬2) في "تاريخ" الطبري 7/ 78: لعمرك. (¬3) في (ب) و (خ): وغطى. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 80 و 84، و"الكامل" 5/ 170. (¬4) في الرواية الأخرى في "تاريخ" الطبري، و"الكامل": عُدَدَا. (¬5) في "الكامل" 5/ 171: هلَّا شهدتمُ. (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 84، و"الكامل" 5/ 171: جُنيدكم. وهو الوجه لما سيأتي. (¬7) سَنَد الجبل: ما قابَلَكَ منه وعلا عن السَّفْح.

ونزلَ خاقان على بُخارى، والجُنيد بسمرقند قد تحصَّن بها ورجع إليها الناس، وكان ببُخارَى قَطَن بنُ قتيبة، فأراد الجُنيد أن يسير إليه ليُنجده، فمنعه أهل الرأي وقالوا (¬1): اصبْر حتَّى يأتيَ المدد من العراق. فخلَّفَ عثمانَ بنَ عبد الله بن الشَخِّير بسمرقند في جيش، وأنفقَ فيهم المال، وأمر الجُنيد ... (¬2) فحُملوا إلى مرو. ولحقَهم خاقان، فاقتتلوا، وعطش خاقان ومن معه، فرجعوا عنهم، وأتى المسلمون بُخارى. وهذه الوقعة يقال لها: وقعة الشِّعْب، وقد أكثر الشعراء فيها القول، وقال بعضُهم يمدحُ نصر بن سيَّار في ذلك اليوم، وهو خالد بنُ المعارك، وهو ابن عرس: يا نصرُ أنت فتى (¬3) نزارٍ كلِّها ... ولك المآثرُ والمَحَلُّ الأرفعُ فرَّجْتَ عن كلِّ القبائلِ كُرْبةً ... بالشِّعْب حين تخاصموا وتضعضعوا ما زلتَ ترميهم بنفسٍ حُرَّ؛ (¬4) حتَّى تفرَّقَ (¬5) جمعُهم وتَصَدَّعُوا فالناسُ كلٌّ بعدها عتقاؤكم ... ولك المكارمُ والمعالي أجمعُ وقال أيضًا من قصيدة طويلة منها (¬6): وكم ثَوَى بالشِّعْب من حازمٍ ... جَلْدِ القُوى ذي مِرّةٍ ماجدِ ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): فقال. وأثبتُّ اللفظة على الجادة. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 81. (¬2) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): وأمر الجُنيد بقتل سَوْرَة وقتل من معه! وهو خطأ قبيح. وقد سلف خبر مقتل سَوْرَة قريبًا في خبر قدومه مع جيشه إلى الجُنيد. ولعل لفظة "قَتْل" محرَّفة عن لفظة "ثَقَل". أي: أمرَ الجُنيد بثَقَلِ سَوْرَة وثَقَلِ مَنْ معه .... إذ الثَقَل: متاع المسافر وحَشَمُهُ. وجاء في "تاريخ" الطبري 7/ 82، و"الكامل" 5/ 169 أن أحد رجالات الجنيد قال له (واللفظ لابن الأثير): الرأي عندي أن تأخذ عيال من قُتل مع سَوْرَة، فتقسمهم على عشائرهم وتحملهم معك، فإني أرجو بذلك أن ينصرك الله على عدوّك. (¬3) في (ب) و (خ): أفتى من، بدل: أنت فتى. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 85، و"الكامل" 5/ 171. (¬4) في (ب): حزنة. (¬5) في المصدرين السابقين: تفرَّجَ. وهما بمعنى. (¬6) وهي في ذمّ الجنيد.

يستصغرُ (¬1) الخَطْبَ ويغشى الوغى ... لا هائبٍ رَعشٍ (¬2) ولا ناكدِ (¬3) فَتَقْتَ ما لم يلتئمْ صَدْعُهُ ... بالفشل المنحسر (¬4) الزائدِ تساقَطُ الهاماتُ من وَقْعها ... بين جناحَي مُتْرَفٍ (¬5) راعد إذْ أنتَ كالطِّفلة في خِدْرها ... لم تدرِ ما مَكْيَدَةُ (¬6) الكائدِ ليتكَ يومَ الشِّعْبِ في حفرةٍ ... مرموسة بالمَدَرِ الجامدِ طارَ لها قلبُك من خِيفةٍ ... ما قَلْبُكَ الطائرُ بالعائدِ سبعون (¬7) ألفًا قُتلُوا ضِيعةً ... وأنتَ منهم دعوةُ الناشدِ لا تُرجعنَّ (¬8) الحربَ من قابلٍ ... ما أنتَ في العودةِ بالحامدِ طوَّقتُه (¬9) طوقًا على نحره ... طوقَ الحمامِ الغَرِدِ الفاردِ (¬10) قصيدةً حَبَّرَها شاعرٌ ... تسري بها البُرْدُ إلى خالدِ (¬11) وحجَّ بالناس في هذه السنة سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل: إبراهيم بن هشام المخزومي (¬12). والعمَّال في هذه السنة هم الذين كانوا في السنة الماضية. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 87: يستنجد. (¬2) في المصدر السابق: غُسٍّ. (¬3) في (ب) و (خ): ولا بالجدّ والتصويب من "تاريخ" الطبري 7/ 87. (¬4) في المصدر السابق 7/ 86: بالجحفل المحتشد. (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 86: مبرق. (¬6) سكَّنتُ الكاف للضرورة. ولفظُه في المصدر السابق: لم تدر يومًا كيدةَ ... (¬7) في "تاريخ" الطبري 8/ 87: خمسون. (¬8) في "تاريخ" الطبري: لا تمرينَّ. (¬9) في المصدر السابق: قَلَّدْتُه. (¬10) الفارد: المنفرد. (¬11) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 86 - 87. ومن قوله: قال علماء السير رحمهم الله تعالى: سار الجنيد ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬12) تاريخ الطبري 7/ 87، ونُسب القول الثاني فيه لأبي معشر، وكذا نُسب إليه في (ص).

الجراح بن عبد الله الحكمي

وفيها توفّي الجرَّاح بن عبد الله الحَكَميّ من بني الحَكَم بن سعد (¬1) العشيرة، دمشقيّ، [ذكره ابن سُميع في] الطبقة الرابعة (¬2) [من أهل الشام. وقال أبو حاتم الرازي: هو مولى مُشْكان بن أبي هانئ جدّ أبي نُواس الشاعر. وقد وهم أبو حاتم، إنما هو دمشقي (¬3)، وكذا وهم خليفة، فذكره في الطبقة الثالثة من أهل الكوفة (¬4). وقال الحافظ الدمشقي: وهم خليفة، إنما هو دمشقي]. وكنيتُه أبو عقبة، وليَ البصرة للحجَّاج بن يوسف في أيام الوليد بن عبد الملك، ثم وليَ العراق في أيام سليمان خلافة عن يزيد بن المهلّب، ثم وليَ خُراسان وسجستان لعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وولي أذربيجان وأرمينية ليزيد بن عبد الملك. و[قال الوليد بن مسلم: ] كان [الجرَّاح] إذا مشى في [المسجد] جامع دمشق يُميلُ رأسه عن القناديل من طُوله (¬5). وكان الحجاج يسمِّيه الطويل. و[قال أبو مسهر: ] كان يقول: تركتُ المعاصي أربعين سنة حياءً من الناس، فلما جاوزتُ الأربعين تركتُها حياءً من الله تعالى (¬6). و[قال علماء السير: ] دخل الجرَّاح إلى التُّرك وكانوا قد ساروا إليه من اللَّان، فالتَقَوْا دون باب الأبواب بفرسخين على نهر أران، وكان الجرَّاح في بعض أهل ¬

_ (¬1) في (ص): أسعد. (¬2) في (ب) و (خ): من الطبقة الرابعة. والمثبت من (ص). والكلام السابق واللاحق الواقع بين حاصرتين منها. (¬3) لم أقف على كلام أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، إنما جاء فيه 2/ 522 - 523 عنه أنَّه من اليمن شامي الأصل حمصي. وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 17. ووقعت ترجمة الجراح بن عبد الله ضمن خرم في "تاريخ دمشق". (¬4) طبقات خليفة ص 156 - 157. (¬5) مختصر تاريخ دمشق 6/ 15 - 16. (¬6) ينظر المصدر السابق 6/ 15 - 16، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 190.

الشام؛ لم يجتمع إليه جنده، والتقَوْا [فاقتتلوا] فانهزمَ ابنُ خاقان، وتبعَهم الجرَّاح، فقتلَهم قتلًا ذريعًا، وأتى مدينةَ الخَزَر -ويقال لها: البيضاء- فافتتحها عَنْوةً، وكان مسيرُه إليها من تَفْلِيس. وجمعت الخَزَر جموعًا عظيمة مع ابن خاقان، وسار الجرَّاح من بَرْذَعَة، فقدم أذربيجان، ونزل بمرج سَبَلان، وبه نهر، فعقد عليه جسرًا، وهو إلى اليوم يسمَّى جسرَ الجرَّاح. ونزلَ ابنُ خاقان على أردبيل -وقيل: ببَلَنْجَر- بمكان يقال له: أشقّ (¬1)، واقتتلوا قتالًا لم يجرِ في الإسلام مثلُه، وظهرت الخَزَر على المسلمين، فكشف الجرَّاحُ رأسَه ونادى: يا معاشر الأمراء، ما تنعمون (¬2)؟ غدوتُم أمراء، وتروحُون شهداء. ثم قال: لم يبق إلا حسبي وديني ... وصارمٌ تلذُّه يميني أين أهلُ الحِفَاظ (¬3)، إنما هي هفوة (¬4)، والملتقى عند الله. وحملَ، وحملَ [معه] الناس، فأبلى بلاءً حسنًا، فاستُشهد، واستُشهد معه جماعة من أعيان الناس (¬5). ورُويَ أن الجُنيد [بن عبد الرحمن] واليَ خُراسان قال في ليلة من ليالي الشِّعْب: يا قوم، ليلةٌ كليلةِ الجرَّاح. فقال له بعضُ القوم: إن الجرَّاح سار إليه العدوّ، فقتلَ أهلَ الحِجَى والحِفاظ، وجنَّ عليه الليل، فانسلَّ مَنْ كان معه تحت الليل إلى مدائن أذربيجان، فأصبح الجرَّاحُ في قلَّةٍ فقُتل (¬6). وقال هشام: لما بلغ الأمصارَ مقتلُ الجرَّاح؛ اهتزَّت الدنيا حُزنًا عليه، وكان صالحًا شجاعًا، فاضلًا عفيفًا، وحزن عليه هشام حزنًا شديدًا. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): أسق. والمثبت من (ص). وبعض هذا الخبر في "تاريخ" خليفة ص 342، وفيه أن الجرَّاح قُتل بأرشق. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 70، و"معجم البلدان" 1/ 152 و 199. (¬2) في (خ): ما تنقمون. والمثبت من (ب) و (ص). (¬3) بكسر الحاء، أي: المحامون عن عوراتهم الذابُّون عنها. ينظر "لسان العرب" 7/ 442. (¬4) في (ص): غفوة. (¬5) بنحوه في "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 18 - 19. (¬6) تاريخ الطبري 7/ 70 - 71.

رجاء بن حيوة

[وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات"] عن امرأة (¬1) من قواعدِ بيت المقدس [قالت]: كان رجاء بن حَيوَة جليسًا لنا، وكان نِعْمَ الجليس، فمات، فرأيتُه في المنام بعد موته بشهر أو نحوه، فقلت له: [يا] أبا المقدام، إلامَ صرت؟ قال: إلى خير، ولكن فَزِعْنا فَزْعةً ظننَّا أن القيامةَ قد قامت، قلت: وفيم ذاك؟ قال: دخل الجرَّاح وأصحابُه بأثقالهم حتَّى ازدحموا على باب الجنَّة، ونُوديَ أهلُ الجنَّة: قُوموا إلى لقاء الجرَّاح. وذلك قبل أن يأتيَهم نعيُ الجرَّاح. و[قال هشام: ] بعثَ هشام سعيدَ بنَ عَمرو الحَرَشيَّ إلى أرمينية، فسار حتَّى نزلَ بَرْذَعَة، وبها ابنُ خاقان فبيَّتَهم ليلًا، فقتلَ ابنَ خاقان وقتلَ من أبطال التُّرك ثلاثين ألفًا، وفنيت التُّرك والخَزَر. ثم بعثَ هشام في أَثَره أخاه مسلمةَ بنَ عبد الملك، فجاز بابَ الأبواب، فأفنى الخَزَر والترك. ورتَّبَ على باب الأبواب الجيوش. وكان مسلمةُ والحرشيُّ في جمع لم يجتمع في الإسلام مثلُه، فيقال: إنه كان زيادةً على مئتي ألفٍ من الفرسان والرَّجَّالة. رجاء بن حَيوَة [ذكره ابنُ سعد في الطبقة الثالثة من أهل الشام؛ قال: وكنيتُه أبو نصر، وكان ثقة فاضلًا كثيرَ العلم. قال جرير بن حازم: رأيتُ رجاء بن حَيوَة ورأسُه أحمر، ولحيتُه بيضاء. هذا صورة ما ذكره ابن سعد (¬2). وذكره الحافظ الدمشقي، فقال: كنيتُه] أبو المقدام الكنديّ، الأردنِّيّ، كان ثقة فاضلًا، كثير الحديث، وكان ينزل الأردنّ، وكان سيِّدَ زمانه [وهو الَّذي أشار على سليمان بن عبد الملك بأن يوليَ عمر بن عبد العزيز الخلافة. وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): وقالت امرأة ... والمثبت من (ص). والكلام السالف بين حاصرتين منها. والخبر في "المنامات" (37). (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 457.

وحكى عن أبي مسهر قال]: كان (¬1) من أهل بَيسان، فانتقلَ إلى فلسطين، وقدم الكوفة مع بشر بن مروان [فسمع منه أبو إسحاق السَّبِيعي وقتادة في هذه القَدْمة] (¬2). وقال مطر الورَّاق: ما رأيتُ أفضلَ ولا أفقهَ من رجاء إلا أنك إذا حرَّكْتَه وجدتَه شاميًّا (¬3). [قال: ولا نعلم أحدًا جازت شهادتُه وحدَه إلا هو. يعني أنَّ رجاء شهد عند سليمان بن عبد الملك بن مروان أن عمر بن عبد العزيز يصلح للخلافة. وأثنى عليه. قلت: ليست هذه بشهادة، وإنما سأله سليمان عن عمر، فأثنى عليه، ولو لم يعلم سليمان بديانة عمر وزهادته، وأنه يصلح للخلافة لما ولَّاه، ولوكان شهادة، فقد قضى سليمان بن عبد الملك بشهادة الواحد مع علمه، وقضاء القاضي بعلمه يجوز عند البعض، فهو فضل منه يجتهد فيه. وحكى أبو نعيم الأصبهاني عن] ابن عون [أنَّه قال]: ثلاثة (¬4) لم أرَ مثلهم، كأنهم (¬5) التَقَوْا فتواصَوْا: ابنُ سِيرِين بالعراق، والقاسمُ بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حَيوَة بالشام. [وقال الهيثم: ] كان رجاء عظيمًا عند بني أمية [صلَّى يومًا خلف عبد الملك بن مروان، فأُرْتِجَ على عبد الملك، فلما سلَّم قال لرجاء: هلَّا فتحتَ عليَّ (¬6)؟ . ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): وقيل: كان ... والمثبت من (ص) والكلام السالف والآتي بين حاصرتين منها. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 6/ 233 و 234 (مصورة دار البشير). (¬3) المصدر السابق 6/ 234. (¬4) في (ب) و (خ): وقال ابن عون: ثلاثة ... والمثبت من (ص) وما بين حاصرتين منها. وينظر المصدر السابق 6/ 235 - 236. (¬5) في (ب): لأنهم، وفي (خ): كانوا. والمثبت من (ص)؛ وهو موافق لما في "حلية الأولياء" 5/ 170، و"تاريخ دمشق" 6/ 235. (¬6) تاريخ دمشق 6/ 235 (مصورة دار البشير). والكلام بين حاصرتين من (ص).

قال: ] وكان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إذا قدمت عليه حُلَل يعزلُ منها حُلَّةً لرجاء ويقول. هذه لخليلي رجاء (¬1). وقال رجاء: كُنْتُ واقفًا على باب سليمان، فجاءني رجلٌ لم أره قبل ذلك، فقال: يا رجاء، إنك قد ابتُليتَ بهذا، وابتُليَ بك، وفي دُنُوِّك منه الوَتَغ (¬2)، فعليك بإغاثةِ الملهوف والضعيف، فإنَّ مَنْ رفعَ حاجةَ ضعيفٍ إلى سلطان لا يقدرُ على رفعها ثبَّتَ اللهُ قدمَه في الآخرة إذا زلَّتِ الأقدام. ثم غاب عني. [الوَتَغ: الهلاك] ويقال: إن الرجل كان الخضر - عليه السلام -. و[قال الحكم بن عُتيبة: ] كان رجاء خطيبًا فصيحًا، وكان يقصُّ على الناس، ويصحبُ الخلفاء، ويأمرُهم بالمعروف، فلمَّا توفّي عمر بنُ عبد العزيز انقطع عن صحبتهم، فسأله يزيد بنُ عبد الملك أن يصحبه فأبى. فقيل له: نخاف عليك منه. فقال: يكفيني إيَّاه مَنْ تركتُه لأجله (¬3). [واختلفوا في وفاته، فقال الواقدي: ] مات رجاء بالشام سنة اثنتي عشرة ومئة، وقيل: سنة إحدى عشرة. ولقي جماعة من الصححابة، وأسندَ عنهم، منهم معاذ بنُ جبل (¬4)، وعبدُ الله بن عَمْرو (¬5)، وأبو الدرداء، وأبو أمامة، والنوَّاس بنُ سمعان (¬6) ومحمود بن الربيع، وعُبادة بن الصامت، وأبو سعيد الخُدري، وجابر بن عبد الله، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَة، ومعاوية، وأمّ الدرداء (¬7). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) أي: الإثم والهلاك والمذمَّة كما سيرد. ووقع في (خ): الوقع، وفي (ص): الوثغ، وكلاهما تحريف، والمثبت من (ب). والخبر في "تاريخ دمشق" 6/ 237. (¬3) صفة الصفوة 4/ 214، وبنحوه في "حلية الأولياء" 5/ 171، و"تاريخ دمشق" 6/ 237 (مصورة دار البشير). (¬4) لكن لم يدركه، كما في "تهذيب الكمال" 9/ 152. (¬5) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): عُمر. والمثبت من "تاريخ دمشق" 6/ 230، و"تهذيب الكمال" 9/ 152. (¬6) بعدها في المصدرين السابقين: من وجه ضعيف. (¬7) ينظر المصدران السابقان. ومن قوله: وأسند عنهم ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

شهر بن حوشب

شَهْر بنُ حَوْشَب (¬1) [وكنيتُه] أبو عبد الله، الأشعري، وقيل: أبو الجعد [مولى أسماء بنت يزيد بن السَّكَن. ذكره ابن سعد في] الطبقة الثانية (¬2) من التابعين من [أهل] الشام. [وذكره خليفة في قرَّاء الشام، دمشقي، وقيل: حمصي. قال خليفة: و] قرأ القرآن على عبد الله بن عباس، عرضَه عليه سبع مرات (¬3). [وقدم البصرة، وسمع (منه) البصريون، وحدَّث بها] (¬4). وقال: كنت بدمشق وقد جاؤوا برأس الحسين ورؤوس أصحابه، فوضعوها على درج دمشق، ورأيتُ أبا أُمامةَ يبكي (¬5). و[قال الهيثم: ] اعتمَّ يومًا وهو يريد السلطان، ثم نظر في المرآة، فرأى طاقةً بيضاء، فنقضَ عِمامتَه وقال: أبَعْدَ الشَّيب سلطان (¬6)؟ ! واختلفوا في وفاته، أمَّا ابنُ سعد، فذكر ثلاثةَ أقوال: أحدها: سنة اثنتي عشرة ومئة؛ حكاه عن الواقدي. والثاني: سنة ثمان وتسعين؛ وحكاه عن عبد الحميد بن بهرام. والثالث: سنة ثمان عشرة ومئة؛ حكاه عن عبد الله بن عامر اليحصبي (¬7). ¬

_ (¬1) بعدها في (ص) قوله: بكسر الشين. ولعله سهو من الناسخ، فلم يرد أنَّه بكسر الشين، بل صرَّح القاضي عياض في "مشارق الأنوار" 2/ 262 أنَّه بفتح الشين. (¬2) في (ب) و (خ): من الطبقة الثانية ... والمثبت من (ص)، والكلام السالف والآتي بين حاصرتين منها. والترجمة في "طبقات" بن سعد 9/ 452. (¬3) تاريخ دمشق 8/ 139 (مصورة دار البشير). وجاء ذكره في "طبقات" خليفة ص 310 في الطبقة الثانية من أهل الشام، دون الكلام المذكور أعلاه. (¬4) تاريخ دمشق 8/ 138 (مصورة دار البشير). (¬5) المصدر السابق، وفيه: فجاؤوا برؤوس فوضعوها ... (¬6) تاريخ دمشق 8/ 140 (مصورة دار البشير). (¬7) كذا وقع. وذِكْرُ القول الثالث وهم، فالذي في "طبقات" ابن سعد 9/ 452 ذكر القول الأول والثاني فقط في ترجمة شهر بن حوشب، وجاء بعدها ترجمة عبد الله بن عامر اليحصبي (وهو أحد القرَّاء السبعة) وقال فيه ابنُ سعد: مات سنة ثمان عشرة ومئة، فجعله المصنف قولًا ثالثًا! =

[وحكى أبو القاسم بن عساكر ما حكاه ابن سعد وقال: مات بحَوْلَايا (¬1) في أيام عمر بن عبد العزيز. قال: وقيل: في أيام عبد الملك بن مروان. وقيل: في سنة إحدى عشرة ومئة. قلت: وقد اختلفوا فيه، فقال ابنُ سعد عن الواقدي: كان ضعيفًا قليل الحديث (¬2). قلت: وقد رَمَوْا شهرًا بشيء آخر، وهو السرقة. وقد روينا أنَّه كان في خُراسانَ على بيت المال، وأنه (أخذ) خريطة فيها دراهم. وقال فيه القَطامي: لقد باعَ شهرٌ دينَه بخريطةٍ ... فمَنْ يأمنُ القرَّاءَ بعدَك يا شهرُ أخذتَ به شيئًا طفيفًا وبعتَهُ ... من ابن جريرٍ إنَّ هذا هو الغدرُ (¬3) وحكى الحافظ ابن عساكر عن ابن عَوْن قال: حَجَجْتُ مع شهر، فسرق عَيبَتِي (¬4). قال: وقال أبو حاتم: بخس الناسُ شهرًا، أي: طعنوه (¬5)]. ¬

_ = وقد جاءت الأقوال في (ب) و (خ) مختصرة دون نسبة إلى أصحابها، والمثبت من (ص)، والكلام الآتي بعده بين حاصرتين منها. (¬1) كذا في (ص) والكلام منها. وفي "تاريخ دمشق" 8/ 147 أنَّه مات بخولان. وهي مِخْلاف (عدة قرى ومحالّ) من مخاليف اليمن. وهي أيضًا قرية كانت بقرب دمشق بها قبر أبي مسلم الخولاني. ينظر "معجم البلدان" 2/ 407. وأما حَوْلايَا فهي قرية كانت بنواحي النهروان، كما في "معجم البلدان" 2/ 322، وذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 4/ 373 أن شهرًا وفد على بلال بن مرداس الفزاري بحولايا، فأجازه بأربعة آلاف درهم. (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 452. (¬3) تاريخ دمشق 8/ 144 (مصورة دار البشير). وأورد الذهبي القصة في "سير أعلام النبلاء" 4/ 375 وقال: إسنادها منقطع، ولعلها وقعت وتاب منها، أو أخذها متأوّلًا أن له في بيت مال المسلمين حقًّا. نسأل الله الصفح. (¬4) المصدر السابق 8/ 143. والعَيبَة: وعاء من جلد، ونحوه، يكون فيه المتاع. (¬5) لم أقف على هذا القول لأبي حاتم (ويراد به الرازي عند إطلاقه) وقول أبي حاتم الَّذي في "الجرح والتعديل" 4/ 383: لا يُحتجُّ بحديثه. ونقل ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" 8/ 145 عن النَّضْر بن شُميل عن ابن عَوْن قال: إن شهرًا نَزَكوه. يعني بَخَسُوه، ونقل أيضًا 8/ 146 عن أبي حاتم السجستاني عن ابن عون قوله فيه: ذاك رجل نَزَكوه. يعني طعنوا فيه، كأنهم ضربوه بالنَّيازك.

طلحة بن مصرف

طلحة بن مُصَرِّف ابن عَمْرو، أبو عبد الله (¬1)، وقيل: أبو محمد، الكوفيّ الهَمْدانيّ، من الطبقة الثالثة. و[قال ابن سعد: ] كان قارئ أهل الكوفة يقرؤون عليه، فلما كثُروا عليه كأنَّه كره ذلك، فمشى إلى الأعمش فقرأ عليه، فمال الناس إلى الأعمش وتركوه (¬2). وكان طلحةُ عالمًا زاهدًا ورعًا. [وروى ابن سعد عن] مالك (¬3) بن مغول [قال: ] انتهيتُ أنا وطلحة إلى زقاق، فتقدَّمني فيه، ثم التفتَ إليَّ وقال: لو علمتُ أنك أكبرُ منّي بساعة ما تقدَّمتُك. [وقال أبو نعيم الأصبهاني: ] أرسل طلحة إلى جارةٍ له فقال: إني أريد أن أُوتِدَ في حائطك وتدًا، فقالت: نعم (¬4). ودخلت امرأة وبيدها قصبة تأخذ من بيته نارًا، فقالت لها زوجتُه: قفي حتَّى أشويَ عليها هذا القَدِيد؛ لأبي محمد يُفطر عليه، وكان في الصلاة، فسلَّم وقال: حبستِ الجاريةَ على أهلها وشويتِ القَدِيدَ على قصبتها بغير إذن سيدتها، لا أذوقه أبدًا (¬5). و[روى أبو نعيم أيضًا عن الفضيل بن عياض قال: بلغني أن طلحة بن مصرِّف] ضحكَ يومًا، فوثب على نفسه، فقال: فيم الضحك؟ إنَّما يضحك من قطعَ الأهوال وجازَ السِّراط (¬6). ثم آلى على نفسه أن لا يضحك حتَّى يعلم بماذا تقع الواقعة. فما افترَّ ضاحكًا (¬7) حتَّى لَقِيَ الله تعالى. ¬

_ (¬1) في (خ): أبو عُمر وأبو عبد الله ... وهو خطأ. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 425. (¬3) في (ب) و (خ): قال مالك ... والمثبت عبارة (ص) وما بين حاصرتين منها. والخبر في "طبقات" ابن سعد 8/ 425. (¬4) حلية الأولياء 5/ 14. وفيه قولها: نعم، وافتح فيه كوَّةً. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬5) بنحوه في المصدر السابق 5/ 14 - 15. (¬6) هو الصِّراط؛ يقال بالسين والصاد. (¬7) في (ص): فما رُئيَ ضاحكًا. والمعنى واحد. والخبر في "حلية الأولياء" 5/ 15.

عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري

[وروى ابنُ أبي الدنيا عن الشعبيّ قال (¬1): ما رأيتُ أحدًا أملك للسانه من طلحة بن مصرِّف. وقال ابن سعد: خرج طلحة مع مَنْ خرج من قرَّاء الكوفة إلى الجماجم، وتوفي بعد ذلك سنة اثنتي عشرة ومئة (¬2). وقال الواقدي: عصمه الله من الحجَّاج] (¬3). أسند طلحة عن أنس، وعبد الله بن أبي أوْفَى، وعبد الله بن الزُّبير، وأدركَ خلقًا من الصحابة، وكان ثقةً، وله أحاديث [صالحة]. عبد الرحمن بن أبي سعيد الخُدري من الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة. توفّي بالمدينة سنة اثنتي عشرة ومئة وهو ابن سبعٍ وسبعين سنة. وروى عن أبيه وغيره (¬4). القاسم بن عبد الرحمن مولى جُوَيرِية بنت أبي سفيان، وقيل: مولى معاوية، وقيل: مولى عبد الرحمن بن خالد بن يزيد بن معاوية. أدرك أربعين بدريًّا، مات سنة اثنتي عشرة ومئة، وقيل: سنة ثماني عشرة ومئة (¬5). [أبو المليح الهُذَليّ واختلفوا في اسمه، فقال ابن سعد: عامر بن أَسامة بن عُمير. وذكره في الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة (¬6). ¬

_ (¬1) الخبر في "الصمت" لابن أبي الدنيا (427) والقول فيه لرجل من تيم الله، كان قد جالس الشعبي وإبراهيم، وليس من قول الشعبي. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 427. (¬3) من قوله: وروى ابن أبي الدنيا ... إلى هذا الموضع -وهو ما بين حاصرتين- من (ص). (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 263. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 452، وتاريخ دمشق 58/ 293 - 304، قال ابن عساكر: هو القاسم بن أبي القاسم من فقهاء أهل دمشق. (¬6) طبقات ابن سعد 9/ 218.

المغيرة بن حكيم

وقال هشام: اسمه أسامة بن عُمير. وقيل: اسمه كنيتُه. قال ابن سعد: وكان عاملًا على الأُبُلَّة، وكان يشهد الجمعة بالبصرة. واختلفوا في وفاته، فقال ابن سعد: توفي في سنة اثنتي عشرة ومئة. قال: وأخبرني رجل من ولده أنَّه مات قبل الحسن بسنة أو نحوها، وشهد الحسن جنازته. قال: وكان ثقة، وله أحاديث، وروى عنه أيوب وغيره. قال: وأوصاهم إذا مات أن يأخذوا من شاربه وأظفاره.] (¬1) المغيرة بن حكيم الصنعاني، من الطبقة الثانية [من أهل صنعاء من الأبناء] (¬2) كان عابدًا مجتهدًا. [قال ابن أبي الدنيا بإسناده عن عبد الله بن إبراهيم، عن أبيه قال: ] سافر المغيرة من صنعاء إلى مكة أكثر من خمسين سفرة حافيًا محرمًا [صائمًا]. لا يترك صلاة السَّحَر في سفره؛ إذا كان السَّحَر؛ نزلَ فصلَّى ويمضي أصحابُه، فإذا صلَّى [الصُّبْح] لحقهم متى ما لحق. [قال: ] وكان يقرأ يومه وليلته القرآن كلَّه، وكان يقرأ في صلاة الصبح من البقرة إلى هود، ويقرأ في صلاة الظهر والعصر وما بينهما تمام القرآن، ثم يختُم بعد العصر، زمانُه كلُّه [كذا]. وكانت وفاتُه بصنعاء. أدرك جماعةً من الصحابة، وروى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وغيرهما [رحمه الله تعالى] (¬3). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. وهذه الترجمة من (ص) وهي ما بين حاصرتين. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 103. (¬3) ينظر ما سلف في الترجمة في "المنتظم" 7/ 155 - 156، و"صفة الصفوة" 2/ 296. والكلام الواقع فيها بين حاصرتين من (ص).

السنة الثالثة عشرة بعد المئة

السنة الثالثة عشرة بعد المئة فيها ولَّى هشام بنُ عبد الملك أخاه مسلمةَ أذربيجان وأرمينية، وعزل الحَرَشيَّ عنها، فأخذَه مسلمة وقيَّده، وبلغَ هشامًا فشقَّ عليه، وكتب إلى مسلمة، فأغلظ له، وقال له: بئس ما فعلت، ما هذا بلاء الحَرَشيّ منَّا. فأطلقَه (¬1). وغزا مَسْلَمةُ اللَّان، ففتحَ حصونًا كثيرة، وأفنى أُممًا من التُّرك. وفيها غزا عبدُ الله البطَّال الرومَ، فاستُشهد معه عبد الوهَّاب بن بُخْت (¬2). وفيها أوغلَ مَسْلَمةُ في بلد التُّرك حتَّى وصل إلى وراء جبار بَلَنْجَر، وقتلَ ابنَ خاقان، ودانَتْ له تلك البلاد، ووصل إلى أماكن لم يصل إليها غيرُه (¬3). وفيها دخل جماعةٌ من دعاة بني العباس إلى خُراسان، فأخذهم الجُنيد [بن عبد الله] فمثَّل بهم وقتلَهم (¬4). و[اختلفوا فيمن] حجَّ بالناس في هذه السنة [فقال الواقدي وأبو معشر: ] هشام بن عبد الملك [بن مروان (¬5). وقال هشام بن محمد.] إبراهيم بن هشام المخزومي. وقيل: سليمان بن هشام بن عبد الملك [بن مروان]. وفيها توفّي عبد الله بن عُبيد بن عُمير (¬6) من الطبقة الثانية من أهل مكة، وكان من أفصح أهل مكة وأصلحهم (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" خليفة ص 344. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 88. (¬3) المصدر السابق. وسلف أواخر ترجمة الجرَّاح الحَكَمي (سنة 112) أن سعيدًا الحَرَشيّ قتل ابنَ خاقان. والله أعلم. (¬4) ينظر المصدر السابق. (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 89 أن الَّذي حجَّ بالناس في هذا العام في قول الواقدي وأبي معشر هو سليمان بن هشام بن عبد الملك، وسيرد هذا القول لاحقًا دون نسبة، وكل ما سلف ويأتي بين حاصرتين من (ص). (¬6) من هذا الموضع وحتى أول السنة الرابعة عشرة لم يرد في (ص). (¬7) طبقات ابن سعد 8/ 34.

عبد الوهاب بن بخت

كان يقول: لا ينبغي لصاحب ورع أن يُذِلَّ نفسَه لصاحب دنيا (¬1). توفّي سنة ثلاث عشرة ومئة بمكة، وكان ناسكًا عابدًا (¬2). أسندَ عن أبيه (¬3)، وغيره. عبد الوهَّاب بن بُخْت صاحب البطَّال، مولى آل مروان، من الطبقة الثالثة من أهل مكة (¬4). خرج من المدينة للغزو، فانبعثت به راحلتُه فقال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] فاستشهد (¬5). وكان إذا خرج في سفر لم يكن أحقَّ بما في يده ورَحْلِه من رفاقه. وكان كثيرَ الحجِّ والعمرة، وغزا مع البطَّال سنةَ ثلاث عشرة ومئة، فكُشف الناس عن البطَّال، فألقى بيضَتَه عن رأسه وصاح: أنا عبد الوهَّاب بن بُخْت، يا معاشر المسلمين، أمِنَ الجنَّة تفرُّون؟ ! ثم قاتل في نحر العدوّ. ومرَّ على رجل يقول: واعَطَشاه! فقال له: تقدَّمْ فقاتِلْ، فالرِّيُّ أمامَك. ثم غاصَ في العدوّ، فقُتل هو (¬6). أسند عن ابن عمر، وأنس، وأبي هريرة، ونافع مولى ابن عمر، وأبي الزِّناد، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم. وروى عنه: مالك بن أنس، وأيوب السَّخْتياني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن سعد، وأسامة بن زيد الليثي، وغيرهم، وكان ثقةً صدوقًا صالحًا (¬7). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 3/ 356. (¬2) ينظر "طبقات" ابن سعد 8/ 34. (¬3) قال المِزي في "تهذيب الكمال" 15/ 259: قيل: لم يسمع منه. (¬4) طبقات خليفة ص 281، وتاريخ دمشق 44/ 75 (طبعة مجمع دمشق). والبطَّال: هو عبد الله أبو محمد، وقيل: أبو يحيى، من الأبطال الشجعان، غزا الروم مع مسلمة. وسلف ذكره أول هذه السنة. له ترجمة في "تاريخ دمشق" 39/ 356 (طبعة مجمع دمشق). و "سير أعلام النبلاء" 5/ 268. (¬5) تاريخ دمشق 44/ 73 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) المصدر السابق 44/ 75. (¬7) تاريخ دمشق 44/ 68، وتهذيب الكمال 18/ 488 - 489.

مكحول الشامي

مكحول الشامي أبو عبد الله، من الثالثة من أهل الشام، قال: كنت مولًى لعمرو بن سعيد بن العاص، فوهَبَني لرجل من هُذَيل بمصر، فأنعمَ عليَّ بها، فما خرجت من مصر حتَّى ظننتُ أنَّه ليس بها علم إلا وقد سمعتُه، ثم قدمت المدينة، فما خرجتُ منها حتى ظننتُ أنَّه ليس بها علمٌ إلا وقد سمعتُه، ثم لقيتُ الشعبيَّ فلم أرَ مثلَه (¬1). واختلفتُ إلى شُريح ستة [أشهر] (¬2) لم أسأله عن شيء، أكتفي بما أسمعُه يقضي به. ورأيتُ أنس بنَ مالك في مسجد دمشق، فسلَّمتُ عليه، وسألتُه عن الوضوء من شهود الجنازة، فقال: كنَّا في صلاة ورجعنا إلى صلاة، فما بال الوضوء فيما بين ذلك (¬3)؟ وكان في يده خاتمٌ من حديد نَقْشُه: ربِّ باعِدْ مكحولًا من النار. وكان يتختَّم في يساره، ويأخذ العطاء، فيتقوَّى به على جهاد عدوّ الله. ورُويَ أنَّه كان من أهل كابُل، وكان يقول بالقدر (¬4)، وكان ضعيفًا في حديثه وروايته. ومات سنة اثنتي عشرة ومئة، وقيل: سنة ثلاث عشرة، وقيل: سنة ثماني عشرة ومئة (¬5). معاوية بن قُرَّة ابن إياس، أبو إياس المُزَنيّ، من الطبقة الثانية من أهل البصرة، كان ثقةً، وله أحاديث (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 456، وتاريخ دمشق 17/ 164 (مصورة دار البشير). (¬2) في (ب) و (خ) (والكلام منهما وليس هو في ص): اختلفت إلى شريح سنة. والمثبت من طبقات ابن سعد 9/ 456، وتاريخ دمشق 17/ 168. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 456، وتاريخ دمشق 3/ 151 (مصورة دار البشير- ترجمة أنس بن مالك - رضي الله عنه -). (¬4) نقل ابن عساكر 17/ 175 عن ابن معين قوله: كان مكحول قدريًّا ثم رجع. (¬5) ينظر ما سلف في "طبقات ابن سعد" 9/ 456 - 457. وينظر أيضًا "تاريخ دمشق" 17/ 177 - 178. (¬6) طبقات ابن سعد 9/ 219.

يوسف بن ماهك

قيل له: كيف ابنُك لك؟ فقال: نِعْمَ الابنُ، كفاني أمر دنيايَ، وفرَّغني لآخرتي (¬1). وفد معاويةُ على عبد الملك مع الحجَّاج، فسألَه عبدُ الملك عن الحجَّاج، فقال: إن صدقناكم قَتَلْتُمونا، وإن كذبناكم خشينا الله. فنظرَ إليه الحجَّاج، فقال له عبد الملك: لا تَعْرِضْ له. فنفاه الحجَّاج بعد ذلك إلى السِّنْد (¬2). وكان معاوية يقول: مَنْ يدلُّني على بكَّاءٍ بالليل، بسَّامٍ بالنهار (¬3)؟ ومات سنة ثلاث عشرة ومئة. وأسند عن أبيه، وعن عليّ - عليه السلام -، وأنس، وابن عُمر، وغيرهم. وقال: لَقِيتُ سبعين من الصحابة، ولو خرجوا فيكم ما عرفوا شيئًا ممَّا أنتم فيه إلا الأذان (¬4). وقال: رأيتُ في المنام -في العام الَّذي مات فيه- أبي (¬5) كأنّي وإيَّاه على فرسَين، فجَرينا جميعًا، فلم أسبِقْه، ولم يسبِقْني، وعاش أبي ستًّا وتسعين سَنَةً، وقد بلغتُ سِنَّهُ. فمات في تلك السنة رحمة الله عليه. يوسف بن ماهَك من الطبقة الثالثة (¬6) من أهل مكة، وأمُّه مُسَيكة. مات سنة ثلاث عشرة ومئة، وقيل: سنة أربع عشرة ومئة. وكان ثقةً قليل الحديث (¬7). أسند عن ابن عَمرو، وابنِ عبَّاس، وابن عُمر، وعائشة، وأمِّ هانئ، وغيرهم (¬8). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. وسترد ترجمة ابنه إياس في السنة (122). (¬2) تاريخ دمشق 68/ 366 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) المصدر السابق 68/ 374. (¬4) تاريخ دمشق 68/ 371 - 372. (¬5) عبارة "تاريخ دمشق" 68/ 376 - 377: قال معاوية بنُ قُرَّة عام مات: رأيت أبي ... إلخ. وهي أنسب. (¬6) كذا في (ب) و (خ) (والكلام منهما)، وفي "طبقات" ابن سعد 8/ 31، و"طبقات" خليفة ص 281: الثانية. (¬7) طبقات ابن سعد 8/ 31. (¬8) ينظر "تهذيب الكمال" 32/ 452. ولم ترد هذه الترجمة، ولا التراجم الأربعة قبلها في (ص).

السنة الرابعة عشرة بعد المئة

السنة الرابعة عشرة بعد المئة فيها غزا عبدُ الله البطَّال بلادَ الروُّم [أيضًا] وخرجَ إليه قسطنطين في جموع الرُّوم، فاقتتلُوا، فكانت الدَّبَرَة (¬1) على قسطنطين، فانهزمَ أصحابُه، وأسرَه البطَّال، وغنمَ عسكرَه وما فيه [ولله الحمد والمنَّة] (¬2). وفيها ولَّى هشامُ بنُ عبد الملك محمدَ بنَ هشام المخزوميّ [مكة] (¬3). وفيها عاد مَسْلَمة بنُ عبد الملك من باب الأبواب بعد ما هَزَمَ خاقان، وأوغلَ في بلاده، وأتى باب الأبواب. ورتَّب عليه الجيوش. وولَّى هشام بنُ عبد الملك مروانَ بنَ محمد بنِ مروان أرمينية وأذربيجان بعد عود مَسْلَمة (¬4). وفيها عزل هشام بنُ عبد الملك إبراهيمَ بنَ هشام عن المدينة، وولَّاها خالدَ بنَ عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، فقَدِمَها خالد في النصف من ربيع الأول، وكانت ولايةُ إبراهيمَ عليها ثماني سنين (¬5). وإبراهيم المعزول خال هشام بن عبد الملك، وهو صاحب العَرْجيّ الشاعر، واسمُه: عبد الله بن عُمر بن عَمْرو ابن عثمان بن عفَّان، وكنيتُه أبو عبد الله، وقيل: أبو عَمرو الأموي (¬6)، وأمُّه آمنة بنتُ عمر بن عثمان بن عفَّان، وأمُّها أمُّ ولد، وإنَّما نزلَ عَرْجَ الطائف، وهو منزل، فنُسبَ إليه. ¬

_ (¬1) في (ص): الدائرة. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 90. (¬3) المصدر السابق، ولفظ "مكة" بين حاصرتين منه، ومن قوله: وفيها ولى هشام بن عبد الملك ... حتى أول السنة الخامسة عشرة، ليس في (ص). (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 90. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 90. (¬6) كذا في (ب) و (خ) (والكلام منهما وليس في ص). وفي "تاريخ دمشق" 37/ 132 (طبعة مجمع دمشق): أبو عثمان، ويقال: أبو عُمر.

وكان شاعرًا مجيدًا من الفرسان المعدودين، جوادًا شجاعًا سخيًّا، صاحب فتوَّة وغَزَل. غزا القسطنطينية في آخر خلافة سليمان بن عبد الملك، فقلَّت النفقةُ على الناس، فقال: يا معاشر التُّجَّار، من احتاجَ من الغُزاة إلى مال، فأعطُوه وأنا ضامنٌ له. فأعطَوْهم عشرين ألفَ دينار، فلما وَلِيَ عُمر بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه - قال: بيتُ مالِ المسلمين أوسعُ من بيت مال العَرْجيّ. فقَضَى عمر - رضي الله عنه - التجَّار من بيت المال (¬1). وسبب حبسِ إبراهيمَ بنِ هشام العَرْجيَّ أن العَرْجيَّ وكَّل بِحُرَمِهِ مولًى له، وقيل: كان مولَى لعبد الله بن عُمر، فقيل له لما قدم: إنه كان يُخالف إلى أهلك، فقتلَه، فحبسَه لأجله (¬2). وقيل: إن الَّذي حبسه محمد بنُ هشام أخو إبراهيم، وكان قد شبَّبَ بأمِّه، واسمُها جَيداء. ومن شعره: إلى جَيدَاءَ قد بعثُوا رسولًا ... ليُخبرَها فلا صُحِبَ الرسولُ كأنَّ العامَ ليس بعامِ حَجٍّ ... تغيَّرتِ المواسمُ والشُّكُولُ (¬3) ومعناه أنَّه بعث الرسول إليها ليخبرَها بسلامة ابنها، وإنَّما شبَّب بأمِّه ليفضحه، فكان محمد يقول لأمِّه: أنت غَضَضْتِ منِّي، وحطَطْتِ من منزلتي، ولو كانت أمي من قُريش لما ولي الخلافة غيري (¬4). وشبَّب العَرْجيُّ بزوجة محمد أيضًا -واسمها جَبْرَة- فقال: عُوجي عليَّ وسلِّمي جَبْرُ ... ماذا الوقوفُ (¬5) وأنتمُ سَفْرُ ما نلتقي إلا ثلاثَ منى ... حتَّى يُفَرِّقَ بيننا الدهرُ (¬6) الحَوْلُ بعدَ الحَوْلِ يتبعُهُ ... ما الدهرُ إلا العامُ (¬7) والشهرُ ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 5/ 264، والأغاني 1/ 395، وتاريخ دمشق 37/ 132. (¬2) أنساب الأشراف 5/ 266. وينظر "الشعر والشعراء" 2/ 574. (¬3) أنساب الأشراف 5/ 264 - 265، والأغاني 1/ 406. (¬4) الأغاني 1/ 409. (¬5) في المصدر السابق: فيم الصدود، وفي "تاريخ دمشق" 37/ 133: فيم الوقوف. (¬6) في المصدرين السابقين: النَّفْر. (¬7) في "الأغاني" 1/ 409: الحول.

وقال في جَيداء: عُوجِي علينا رَبَّةَ الهَوْدَجِ ... إنَّكِ إنْ لا تفعلي تَحْرَجي إنِّي أُتِيحَتْ لي يمانيَّةٌ ... أختُ (¬1) بني الحارثِ من مَذْحِجِ في الحجِّ إن حَجَّتْ وماذا منًى ... وأهلُهُ إنْ هِيَ لم تَحْجُجِ نَلْبَثُ حولًا كاملًا كلَّه ... ما نلتقي إلا على منهجِ (¬2) وبلغ عطاءً قولُه: وماذا منًى ... فقال: الخيرُ كلُّه واللهِ في منًى، حجَّتْ أو لم تحجَّ (¬3). ولم يزل ذلك في قلب محمد بن هشام حتَّى ولَّاه هشامُ بنُ عبد الملك مكةَ، وكتب إليه أن يحجَّ بالناس، فهجاه العَرْجيُّ وقال: ألا قُلْ لِمَنْ أَمْسَى بمكة قاطنًا ... ومن جاء من عمقٍ ونَقْبِ المُشَلَّلِ دَعُوا الحجَّ لا تستهلكوا نَفقاتِكُمْ ... فما حجَّ هذا العام بالمُتَقَبَّلِ وكيفَ يُزَكَّى حجُّ مَنْ لم يكن لَهُ ... إمامٌ لدى تجهيزه (¬4) غَيرُ دُلْدُلِ (¬5) يظَل يُرائي بالصِّيامِ نهارَهُ ... ويلبسُ في الظلماءِ سِمْطَي (¬6) قَرَنْفُلِ وبلغ محمدًا فقال: هذا الفاسق شبَّبَ بِحُرَمِنا، وفَضَحَ نساءَنا، وهجانا من غير سابقةٍ سبقت منَّا إليه، فأخذه فضربه ضربًا مبرِّحًا، وقيَّده، وألبسَه الصوف، وعذَّبه عذابًا أليمًا، وحلفَ لا يُخرجُه من الحبس ما دام له سلطان، فأقام تسع (¬7) سنين حتَّى مات في حبسه. وقال الزُّبير: سببُ حبسه ما كان في قلب محمد منه، فاسْتَعْدَتْ امرأة مولاه الَّذي قتلَه عليه محمدًا، وكان جبَّارًا تائهًا شديدَ الكِبْر، فأخذ العَرْجيَّ، فأقامَه للناس، ¬

_ (¬1) في "الأغاني" 1/ 406، و"تاريخ دمشق" 37/ 134: إحدى. (¬2) المصدران السابقان. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 5/ 266. (¬3) الأغاني 1/ 406، وبنحوه في "تاريخ دمشق" 37/ 134. (¬4) في "الأغاني" 1/ 406: تجميره. (¬5) الدُّلْدُل: حيوان شائك قارض من آكلات الحشرات، وهو نوع من القنافذ. (المعجم الوسيط). (¬6) السِّمْطُ: الخيط ما دام فيه الخَرَز ونحوُه منظومًا فيه. (¬7) في (خ): سبع. والمثبت من (ب)، وهو موافق لما في "الأغاني" 1/ 409.

وشهرَه، ونكَّل به، وتركَه في الشمس مُلْقًى في حرِّ مكة، وصبَّ عليه الزيت، وعذَّبه والنساء يبكين عليه، فقال: سينصرُني الخليفةُ بعدَ رَبِّي ... ويغضبُ حين يُخبَرُ عن مَسَاقي عليَّ عَبَاءةٌ برقاءُ (¬1) ليسَتْ ... مع البلوى تُغَيِّبُ نصفَ ساقي وتغضبُ لي بأجمعها قُصَيٌّ ... قَطِينُ البيتِ والدُّمْثِ الدِّقاقِ (¬2) فكم من كاعبٍ حوراءَ بِكْرٍ ... أَلُوفِ السِّتْرِ واضحةِ التَّراقي بكَتْ جَزَعًا وقد سُمِرت كُبُولي ... وجامعةٌ يُشَدُّ بها وَثاقي (¬3) فلما لم يُغَث قال: أضاعُوني وأيَّ فتًى أضاعُوا ... ليومِ كريهةٍ وسِدَادِ ثَغْرِ وخَلَّوْني بمعترك (¬4) المنايا ... وقد شُرعت أسِنَّتُها لنحري كأنِّي لم أكن فيهم وسيطًا ... ولم تكُ نسبتي في آلِ عَمْرِو (¬5) ويقال: إن هذا الشعر لمحمد بن القاسم الثقفي، وإنَّما تمثَّل به العَرْجيّ. وقال إسحاق المولى: غَنَّيتُ الرشيدَ يومًا: أضاعوني، الأبيات، فقال: هذا لمن؟ قلت: للعَرْجيّ. وأخبرتُه خبرَه وما جرى عليه، فتغيَّر وجهُه، وغضب، وقال: وما جرى على مَنْ فعل به ذلك؟ قلت: إن الوليد بن يزيد قتلَ محمدًا وأخاه إبراهيم. فأسفرَ وجهُه وقال: واللهِ لولا ما (¬6) أخبرتني بأن الوليد قتلهما لما تركتُ أحدًا من بني مخزوم إلا قتلتُه. وقال الزُّبير بن بكَّار: كان أبو السائب المخزوميُّ ظريفًا، سمع منشدًا يُنشد بمكةَ قولَ العَرْجيّ: ¬

_ (¬1) في "الأغاني" 1/ 411 و 412: بلقاء. (¬2) الدُّمْث: جمع دمثاء، وهي الأرض السهلة اللينة. (¬3) في "الأغاني" 1/ 411: خِناقي. والأبيات الثلاثة الأولى في "تاريخ دمشق" 37/ 134 - 135. (¬4) في المصدر السابق 1/ 413: وصبر عند معترك. (¬5) المصدر السابق، وتاريخ دمشق 37/ 135. وينظر "نسب قريش" ص 118. (¬6) في (ب) و (خ): لا، بدل: لولا ما. والمثبت من "الأغاني" 1/ 416، والخبر فيه بنحوه.

علي بن رباح

باتا بأنعم ليلةٍ حتَّى بَدَا ... صُبْحٌ (¬1) تلوَّحَ كالأغرِّ الأشقرِ فتلازمَا عند الفراقِ صَبَابةً ... أَخْذَ الغريمِ بفضلِ ثوبِ المُعْسِرِ فخرج من مكة إلى المدينة، وحلفَ بالطلاق أنَّه لا يتكلَّم من مكة إلى المدينة إلا بهذين البيتين، فلَقِيَه عبدُ الله بنُ حسن بن حسن، فسلَّم عليه، فقال أبو السائب: فتلازما عند الفراقِ صَبابةً ... فظنَّ عبد الله أنَّه قد خُولط، وجعلَ ينظرُ إليه وهو يُنشد البيتين، ثم لقيَه محمد بنُ عمران الطلحي (¬2) قاضي المدينة، فسلَّم عليه، فأنشده: فتلازما عند الفراق ... فأمر القاضي غلامَه فقيَّد أبا السائب بقيدِ بغلتِه، وحملَه إلى المدينة مقيَّدًا. وحجَّ بالناس في هذه السنة (¬3) خالد بنُ عبد الملك بن الحارث بن الحكم وهو على المدينة. وقيل: حجَّ محمد بن هشام المخزومي أميرُ مكة. وفيها توفي عُلَيّ (¬4) بنُ رَباح أبو موسى اللَّخْمي، المصريّ، من الطبقة الثانية، وقيل: من الأولى. روى عن عمرو بن العاص، وغيره، وكان ثقة. ووُلد عام اليرموك، وذهبت إحدى عينيه في غزاة الصَّواري في البحر. وأغزاه عبدُ العزيز بنُ مروان إفريقية، فأقام بها حتَّى توفّي سنة أربع عشرة ومئة (¬5) وقيل: سنة سبع عشرة (¬6). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): الصُّبْح. والمثبت من "الأغاني" 1/ 397 والخبر فيه من طريق آخر. (¬2) في المصدر السابق: التيمي. (¬3) يعني سنة (114). وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 90 - 91. (¬4) أهل مصر يقولون: عَليّ (بالفتح)، وأهل العراق يقولون: عُلَيّ. ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 518، و"تاريخ دمشق" 49/ 199 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) تاريخ دمشق 49/ 200 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) المصدر السابق 49/ 204 - 205.

محمد بن علي بن الحسين

محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، وإنَّما سميَ الباقر لوجهين: أحدُهما: لكثرة سجوده، فإنه بقر جبهتَه، أي: فتحَها، ووسَّعَها. والثاني: لغزارة علمه، وفيه يقول القرَظيّ: يا باقرَ العلمِ لأهل التُّقَى ... وخَير مَنْ لَبَّى على الأجْبُلِ (¬1) وقيل: إنَّما سمّيَ الباقر أقوله: استصرخني الحقُّ وقد حواه الباطل في جوفه، فبقرتُ عن خاصرته، وأطلعتُ الحقَّ (¬2) من حُجُبه حتَّى ظهرَ وانتشرَ بعد ما خفيَ واستتر. ويسمَّى الشاكر والهادي. وهو من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل المدينة، وأمُّه أمُّ عبد الله بنت الحَسَن بن علي بن أبي طالب (¬3). وقال الحاكم: وَلَدَ علي بنُ الحسين ستةً رَوَوا العلم وحدَّثُوا: محمدًا، وعبدَ الله، وزيدًا، وعمر، وحسينًا، وفاطمة، وليس فيهم تابعي غير محمد، وهو باقر العلم. ولمَّا ولِيَ عمرُ بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه - الخلافة أُوفد عليه، فكان يستشيرُه في أموره، فأقام عنده مدَّةً، فلمَّا أراد الانفصال عنه بعث إليه عمر: أنا آتيك لوداعك، فأتاه في رَحْله، فجلس بين يديه، والتزمَه عُمر، ووضعَ صدرَه على صدره، وبكى، وقضى حوائجَه كلَّها، ثم افترقا فلم يجتمعا (¬4). وقال عبدُ الله بنُ عطاء: ما رأيتُ العلماء عند أحدٍ أصغرَ منهم عند محمد الباقر، لقد رأيتُ الحَكَمَ بن عُتيبة عنده كأنَّه يتعلَّم (¬5). وكان الحَكَم عالمًا نبيلًا. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 63/ 298 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) في (خ): الشمس، والمثبت من (ب) وهو المناسب للسياق، ولم أقف على هذا الخبر. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 315، وتاريخ دمشق 63/ 298. (¬4) الخبر في "تاريخ دمشق" 63/ 297 (طبعة مجمع دمشق) مطوّل. (¬5) حلية الأولياء 3/ 186، وتاريخ دمشق 63/ 305. وصفة الصفوة 2/ 110.

وقال الباقر: الصواعقُ تُصيب المؤمن وغيرَ الْمؤمن، ولا تصيب الذاكر (¬1). وقال: الغنى والعزّ يجولانِ في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكانٍ فيه التوكُّلُ أوطناه (¬2). وقال: ما دخل قلبَ امرئ (¬3) شيءٌ من الكِبْر إلا نَقَصَ من عقله مثلُ ما دخل، قلَّ أو كثُر (¬4). وقال جابر الجُعْفي: قال محمد بن علي: يا جابر، إني لمحزون، وإني لمشتغلُ القلب. قلت: وما سببُ ذلك؟ فقال: يا جابر، إنه من دخلَ قلبَه صافي خالصِ دينِ الله شغلَه عمَّا سواه، يا جابر، ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون؟ ! هل هو إلا مركبٌ ركبتَه، أو ثوبٌ لبستَه، أو امرأة أصبتَها (¬5)؟ يا جابر، إن المؤمنين لم يطمئنُّوا إلى الدنيا لبقاءٍ فيها، ولم يأمنوا قدومَ الآخرة عليهم، ولم يُصِمَّهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يُعمهم عن نور الله (¬6) ما رأوا بأعينهم من الزِّينة، ففازُوا بثواب الأبرار، إنَّ أهلَ التقوى أيسرُ أهلِ الدنيا مؤونةً، وأكثرُهم لك معونةً، إن نسيتَ ذكَّروك، وإن ذكرتَ أعانوك، قوَّالين بحقِّ الله، قوَّامين بأمره. يا جابر، انزل (¬7) الدنيا مثل منزلٍ نزلتَه (¬8) وارتحلت عنه، أو كمالٍ أصبتَه في منامك، فاستيقظتَ وليس معك منه شيء، واحفظ اللهِ ما (¬9) استرعاك من دينه وحكمته. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 3/ 181، وصفة الصفوة 2/ 108. (¬2) في (خ): وطّناه، والمثبت من (ب)، وهو موافق لما في المصدرين السابقين. (¬3) في (ب): امرئ مسلم. (¬4) حلية الأولياء 3/ 180، وصفة الصفوة 2/ 108. (¬5) في (خ): تصيبها. والمثبت من (ب)، وهو موافق لما في: حلية الأولياء 3/ 182، وتاريخ دمشق 63/ 308. وصفة الصفوة 2/ 108. (¬6) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): عرفوا والله، يدل: عن نور الله: والمثبت من المصادر السالفة. (¬7) في (خ): اترك. والمثبت من (ب)، وهو موافق لما في المصدرين السابقين. (¬8) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): تركته، والمثبت من المصادر السالفة. (¬9) في "تاريخ دمشق" 63/ 308: بما.

وقال الباقر: قبيح الكلام سلاح (¬1) اللئام، ولَمَوتُ عالمٍ واحد أحبُّ إلى إبليس من موت سبعين عابدًا (¬2). وقال: ما اغرورقت عين بمائها إلا حرَّم اللهُ وَجْهَ صاحِبِها على النار، فإنْ سالتْ على الخدَّين؛ لم يُرْهَقْ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ يومَ القيامة، وما من شيءٍ إلا وله جزاء إلا الدَّمْعة، فإن الله يُكفِّرُ بها بُحور الخطايا، ولو أنَّ باكيًا بكى في أمَّةٍ لحرم الله تلك الأمَّةَ على النار (¬3). وقال عروة بن عبد الله: سألتُ محمد بنَ عليّ عن حِلْيةِ السيوف، فقال: لا بأس بها، قد حلَّى أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - سيفَه. فقلت: وتقول: الصِّدِّيق؟ ! . [قال: ] فوثبَ وَثْبَةً، واستقبَل القبلةَ وقال: نَعَمْ الصِّدِّيق، نَعَمْ الصِّدِّيق، نَعَمْ الصِّدِّيق. -قالها ثلاثًا- ومن لم يقل: الصِّدِّيق، فلا صَدَّقَ اللهُ قولَه لا في الدنيا ولا في الآخرة (¬4). وقال جابر: قال لي محمد بن علي: يا جابر، بلغني أن قومًا بالعراق يزعمون أنهم يُحبُّوننا ويتناولون أبا بكر وعمر، ويزعمون أني أمرتُهم بذلك، ألا فأَبْلِغْهم أنَّني أبرأُ إلى الله منهم، أَمَا والذي نفسي بيده، لو وَلِيتُ لتقرَّبْتُ إلى الله بدمائهم، ولا نالتْني شفاعةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - إن لم أكنْ أستغفرُ لهما وأَترحَّمُ عليهما (¬5). وقال أفلح مولى محمد بنِ عليّ: خرجتُ معه حاجًّا، فلما دخل المسجدَ نظرَ إلى البيت، وبكى حتَّى علا صوتُه، فقلت له: بأبي أنتَ وأمِّي، إنَّ الناس ينظرون إليك، فلو رفقتَ بصوتك (¬6) قليلًا: فقال: ويحك يا أفلح! ولم لا أبكي؟ ! لعلَّ الله أن ينظر ¬

_ (¬1) في "حلية الأولياء" 3/ 183: سلام. (¬2) المصدر السابق، وصفة الصفوة 2/ 109. (¬3) صفة الصفوة 2/ 109. وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (812) من قول الحسن، و (811) عن مسلم بن يسار مرسلًا. وجابر الذكور: هو ابنُ يزيد الجُعفي. (¬4) حلية الأولياء 3/ 185، وتاريخ دمشق 63/ 310 - 311، وصفة الصفوة 2/ 109 - 118، والمنتظم 7/ 161. (¬5) حلية الأولياء 3/ 185، وتاريخ دمشق 63/ 313 - 314، وصفة الصفوة 2/ 110، والمنتظم 7/ 162. (¬6) في "تاريخ دمشق" 63/ 307: بنفسك.

إليَّ برحمة منه فأفوزَ بها عنده غدًا. ثم طافَ بالبيت، وجاء إلى المقام، فصلَّى عنده ركعتين، فلمَّا رفعَ رأسَه إذا موضعُ سجوده مبتلٌّ من دموع عينيه (¬1). وكان محمد إذا ضحك قال: اللهم لا تَمْقُتْني (¬2). وقال: كان لي أخٌ عظيمٌ في عيني، والذي عظَّمه في عيني صِغَرُ الدنيا في عينه (¬3). وقال: ما من عبادةٍ أفضلَ من عفَّةِ بطنٍ أو فَرْج، وما من شيءٍ أحبَّ إلى الله من أن يُسأل، وما يدفعُ القضاءَ إلا الدعاء، وإنَّ أسرع الخير ثوابًا البرُّ والعدل، و [إنَّ] أسرعَ الشرِّ عقوبةً البغي، وكفى بالمرء عيبًا أن يُبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمرَ الناسَ بما لا يستطيعُ التحوُّلَ عنه، وأن يؤذيَ جليسَه بما لا يعنيه (¬4). وقال عُبيد الله بن الوليد: قال لنا محمد بن علي: أيُدخِلُ أحدُكم يدَه في جيب صاحبه فيأخذَ ما يريد؟ قلنا: لا. قال: فلستُم إخوانًا كما تزعمون (¬5). وقال الأسود بن كثير: شكوتُ إلى محمد الحاجة وجفاء الإخوان، فقال: بئس الأخُ أخٌ يرعاك غنيًّا وَيقطعك فقيرًا. ثم أمر غلامه، فأخرجَ كيسًا فيه سبعُ مئة درهم، فدفعَه إليَّ وقال: استَنْفِقْ هذه، فإذا نفدت فأَعْلِمْني (¬6). وقال محمد بن عليّ: مَنْ عَبَدَ الاسم دون المعنى فإنه يعبدُ المسمَّى، ومن عبدَ المعنى دون الاسم فإنه يُخبرُ عن غائب، ومن عبدَ الاسمَ والمعنى فإنَّه يعبد إلهين، ومن عبدَ الاسم بتقريب الاسم إلى حقيقة المعرفة فهو مُوَحِّد (¬7). وقال: شيعتُنا ثلاثةُ أصناف: صنفٌ يأكلون بنا الناسَ، وصنفٌ ينهشمُ مثل الزُّجاج، وصنفٌ مثل الذَّهَب الأحمر، كلَّما دخل النار ازدادَ جَوْدةً (¬8). ¬

_ (¬1) المصدر السابق، وصفة الصفوة 2/ 110. (¬2) حلية الأولياء 3/ 185، وصفة الصفوة 2/ 110. (¬3) حلية الأولياء 3/ 186، وصفة الصفوة 2/ 111. (¬4) حلية الأولياء 3/ 187 - 188، وتاريخ دمشق 63/ 321 (طبعة مجمع دمشق)، وصفة الصفوة 2/ 111. (¬5) حلية الأولياء 3/ 187، وتاريخ دمشق 63/ 320، وصفة الصفوة 2/ 111 - 112، والمنتظم 7/ 162. (¬6) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (292)، وصفة الصفوة 2/ 112. (¬7) لم أقف عليه. (¬8) حلية الأولياء 3/ 183، وتاريخ دمشق 63/ 318.

وقال: أجمعَ بنو فاطمة [على] أنْ يقولوا في أبي بكر وعمر أحسنَ القول (¬1). وقال أبو حنيفة النعمانُ بنُ ثابت: لَقِيتُ أبا جعفر محمدَ بنَ علي، فقلتُ: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال: رحمة الله عليهما. فقلت: إنه يقال عندنا في العراق: إنك تبرأ منهما. فقال: معاذَ الله! كذبَ مَنْ يقولُ هذا عنّي، أوَ مَا علمتَ أنَّ عليًّا زوَّجَ ابنتَه أمَّ كلثوم بنت فاطمة من عمر، وجدَّتُها خديجةُ، وجدُّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)؟ ! وقال أبو جعفر محمد بن علي: إيَّاكم ومجالسةَ (¬3) أصحابِ الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله (¬4). وقال جابر: قلت لمحمد بن علي: أكانَ منكم أهلَ البيت أحدٌ يزعُمُ أنَّ ذنبًا من الذنوب شرك؟ قال: لا. قلتُ: أفكان أحد منكم يقولُ بالرَّجْعَة؟ قال: لا. فقلتُ: أو كان منكم أحدٌ يسبُّ أبا بكر وعمر؟ قال: لا. فأحبَّهما وتولَّاهما واستَغْفِر لهما (¬5). وكان محمد بن علي يلبس الخَزَّ والمُعَصْفَرَ ويقول: لا بأس بالعَلَم في الثوب من الإبْرَيسِم بمقدار أصبعين (¬6). وكان يُرسل عِمامتَه خلفَه. وسُئل عن الخِضاب بالحِنَّاء والكَتَم، فقال: هو خضابُنا أهلَ البيت (¬7). وكان يقول: إيَّاكم وكثرةَ الضحك، فإنه يَمُجُّ العِلمَ (¬8) مَجًّا. ذكر وفاته: قال الواقدي: توفي سنة سبع عشرة ومئة. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 63/ 318. وما بين حاصرتين منه. (¬2) المتنظم 7/ 161. وينظر "سمط النجوم العوالي" 2/ 296. (¬3) في (ب): أن تجالسوا. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 315، وحلية الأولياء 3/ 184. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 315، وتاريخ دمشق 63/ 311 - 312. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 316. الإبْرَيسم: أحسن من الحرير. والعَلَم هنا يعني الرسم في الثوب. (¬7) المصدر السابق 7/ 317. (¬8) في (خ): القلب. والمثبت من (ب) وهو موافق لما في المصدر السابق.

وقال الفضل بن دُكين: سنة أربع عشرة ومئة بالمدينة (¬1). وقال ابن عساكر: سنة ثلاث عشرة، أو خمس عشرة، أو ستَّ عشرة، أو أربع وعشرين ومئة (¬2). وقال الواقديّ: عاش ثلاثًا وسبعين سنة. وقال الهيثم: ثماني وخمسين سنة. وأوصى أن يكفَّن في قميصه الَّذي كان يتعبَّدُ فيه، ودُفن بالبقيع عند أبيه عليهما السلام (¬3). ذكر أولاده: كان له من الولد جعفر، وعبدُ الله، وأمُّهما أمُّ فَرْوَة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدِّيق، وإبراهيم، وأمُّه أمُّ حكيم بنت أسيد بن المغيرة بن الأخْنَسِ بن شَرِيق الثقفي، وعليّ، وزينب، وأمُّهما أمُّ ولد، وأمّ سلمة لأمِّ ولد، والنَّسْلُ لجعفر (¬4). أسند أبو جعفر عن جابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخُدري، وأبي هريرة، وأنس، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن الحنفيَّة، وغيرهم. وقد روى المدائني حديثًا فقال: أتى جابرُ بنُ عبد الله إلى محمد بن علي وهو في الكُّتَاب صغير، فقال له: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسلِّمُ عليك. قيل لجابر: وكيف هذا؟ ! قال: كُنْتُ جالسًا عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والحسينُ في حِجره وهو يُداعبُه، فقال: يا جابر، يُولد له مولودٌ اسمُه عليّ، فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيِّدُ العابدين. فيقوم ولدُه عليّ. ثم يُولد لعليٍّ ولدٌ اسمُه محمد، فإن أدركتَه فأقْرِئْهُ منِّي السلامَ (¬5). وروى أبو جعفر عن ابن المسيِّب، والزُّهري، وقتادة، وكبارِ التابعين. وروى عنه أبو حنيفة، وعَمرو بن دينار، وعبد الرحمن بنُ هُرمز الأعرج، وهو أسنُّ منه، وابنُه جعفر بنُ محمد، وأبو إسحاق الهَمْداني، وعطاء، وابن جُرَيج، وربيعة، ويحيى بن أبي كثير، والحَكَم بن عُتَيبة، والحجَّاج بن أرطاة، وخلق كثير. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 318. (¬2) تاريخ دمشق 63/ 323 - 326، وذكر فيه قولين آخرين في وفاته، وهما ستة (117) و (118). (¬3) ينظر المصدران السابقان. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 315. (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 63/ 303. وعلامات الضعف في الخبر ظاهرة.

أبو النجم الشاعر

وقال أبو يوسف: سألتُ أبا حنيفة فقلتُ: هل لقيتَ أبا جعفر الباقر؟ قال: نعم، وسألتُه يومًا فقلت: هل أراد الله المعاصي؟ فقال: أفيُعصى قهرًا؟ قال أبو حنيفة: فما سمعتُ جوابًا أفحمَ منه (¬1). أبو النَّجْم الشاعر واسمُه المفضَّل (¬2) بن قُدامة بن عُبيد الله، من ولد رَبِيعة بن نزار، وهو من رُجَّاز الإسلام في الطبقة التاسعة (¬3). قال الأصمعيّ: أشعر أرجوزةٍ قالها العرب قول أبو النَّجم: الحمدُ للهِ الوَهُوبِ المُجْزِلِ ... أعْطَى فلم يَبْخَلْ ولم يُبَخَّلِ (¬4) وَفَدَ أبو النَّجم على سليمان وهشام ابْنَي عبد الملك، وأنشدهما وأجازاه. السنة الخامسة عشرة ومئة (¬5) فيها وقع بخراسان قحطٌ شديد، ومجاعة عظيمة، فكتب الجُنيد إلى الكُوَر: إن مَرْو كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقُها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله (¬6). فاحملُوا إليها المادة. فحملُوا الطعام، وبلغ الرغيفُ فيها درهمًا، فقال الجنيد: أَتَشْكُون الجوع؟ ! ولقد وقع بالهند جوعٌ، فبلغت الحبَّة من الحنطة فيها درهمًا (¬7). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا السياق. وأورده اللالكائي (1265) أن غيلان سأل ربيعة ذلك، وأورده القرطبي عند تفسير الآية (22) من سورة الأنبياء أن رجلًا سأل عليًّا - رضي الله عنه - عن ذلك. وينظر "فتح الباري" 13/ 451. (¬2) كذا سماه أبو عَمرو الشيباني فيما ذكر الأصفهاني في "الأغاني" 10/ 150. وسمَّاه غيره: الفَضْل. (¬3) طبقات فحول الشعراء 2/ 749، وتاريخ دمشق 58/ 96 - 97 (طبعة مجمع دمشق). وقال أبو الفرج الأصبهاني في "الأغاني" 10/ 150: هو من رُجَّاز الإسلام الفحول المقدَّمين، وفي الطبقة الأولى منهم. (¬4) تاريخ دمشق 58/ 101. (¬5) تضاف عند هذا الموضع نسخة أحمد الثالث ورمزنا لها بـ (د). وهو أول الجزء العاشر منها. (¬6) اقتباس من قوله تعالى في سورة النحل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112]. (¬7) تاريخ الطبري 7/ 92 وفيه: وإنَّ الحبَّة من الحبوب لتُباعُ عددًا بدرهم. ووقع في (ص): فبلغت حبة الحنطة ...

جعثل بن هاعان

وفيها وقع طاعون بالشام، فأفنى الناس. [واختلفوا فيمن حجَّ بالناس في هذه السنة، فقال أبو معشر: ] حجَّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام [بن إسماعيل] المخزوميّ، وكان أميرًا على مكة والطائف، وقيل: خالد بن عبد الملك [وهو وهم] والأوَّل أصح [والله أعلم] (¬1). وفيها توفيّ جُعْثُل بن هاعان (¬2) أبو سعيد الرُّعيني المصري، قاضي إفريقية في زمان هشام. وكان عمر بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه - قد أشخصه من مصر إلى المغرب ليعلِّم الناسَ القرآنَ، وكان قارئًا فقيهًا، فتوفي هناك (¬3). عبد الله بن بُرَيدة ابن الحُصَيب الأسلميُّ، من الطبقة الثالثة من أهل البصرة (¬4). ولد لثلاث سنين خَلَوْنَ من خلافة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وخرج هو وأخوه سليمان من المدينة في فتنة عثمان رضوان الله عليه، فنزلا البصرة وبها عمران بن الحُصَين، وسَمُرة بنُ جُندب، فسمعا منهما (¬5). أسند عبد الله عن أبيه، وعليّ، وأبي موسى، وابن عبَّاس، وأبي هريرة، والمغيرة، وعائشة - رضي الله عنهم -، وغيرهم. وقيل: إنه لم يسمع من أبيه (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر المصدر السابق. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص)، ولم ترد فيها الترجمتان الآتيتان. (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): عاهان. والمثبت من كتب الرجال. ينظر "تهذيب الكمال" 4/ 558، و"توضيح المشتبه" 2/ 372. (¬3) الترجمة في "تاريخ دمشق" كما في "مختصره" 6/ 50، وقد وقعت ضمن خرم في الكتاب الأصل. (¬4) كذا ذكره خليفة في "طبقاته" ص 211 من الثالثة، وذكره ابن سعد في "طبقاته" 9/ 220 من الثانية. وذكره خليفة أيضًا ص 322 في الطبقة الأولى من أهل خراسان. وينظر "تاريخ دمشق" 32/ 419 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) صحيح ابن حبان 6/ 259 (بإثر الحديث 2513)، وتاريخ دمشق 32/ 428. (¬6) رواية البخاري ومسلم له عن أبيه تدحض هذا القول.

عطاء بن أبي رباح

عطاء بن أبي رَباح [واسم أبي رباح أسلم] كان [عطاء] من موالي الجُند من مخاليف اليمن، ونشأ بمكة [وهو مولى آل أبي مرة بن أبي خُثيم الطبري، ذكره ابن سعد في] الطبقة الثانية من التابعين [من أهل مكة] (¬1). قال: أعْقِلُ قتلَ عثمان. وكان معلِّم الكتَّاب (¬2)، ثقةً فقيهًا، عالمًا كثير الحديث، لم يكن في زمانه أعلمَ بمناسك الحجِّ منه. وكان يُطعم صدقةَ الفطر عن أبويه وهما ميِّتان إلى أن مات (¬3). [وكان يصفِّرُ لحيتَه. قال ابن سعد: سمعت بعض أهل العلم يقول: ] كان [عطاء] أسود أعور، أفطس أشلَّ أعرج، ثمّ عَمِيَ بعد ذلك. وانتهت فتوى أهل مكة إليه (¬4). [هذا حاصل ما ذكره ابنُ سعد (¬5). وقال البخاري: كنيتُه أبو محمد (¬6). وكان فقيه أهل الحجاز ومكة، وكانت أمُّه سوداء يقال لها: بَرَكة (¬7). ويقال: إن شلله كان في أيام ابن الزبير، ضُرب فشَقَتْ يدُه (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د): وهو من الثانية ... والمثبت من (ص)، والكلام الواقع بين حاصرتين منها. (¬2) في (ب) (د) و (خ): الكتابة. والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في "طبقات" ابن سعد 8/ 29، و"تاريخ دمشق" 47/ 393 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 30. (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 30، وتاريخ دمشق 47/ 393. (¬5) في "الطبقات" 8/ 30. وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬6) التاريخ الكبير 6/ 463 - 464. وينظر "تاريخ دمشق" 47/ 388. (طبعة مجمع دمشق). (¬7) تاريخ دمشق 47/ 392. (¬8) المصدر السابق 47/ 393.

وقال سفيان بن عُيينة. وُلد عطاء لسنتين مضتا من خلافة عثمان، وشهد مقتل عثمان، ويقال: إنه وُلد سنة سبع وعشرين. وحكى الفُضيل بن زياد قال (¬1): ] قال الإمام أحمد بن حنبل: العلم خزائنُ، يقسم الله تعالى منه لمن أحبَّ، لو كان يخصُّ بالعلم أحدًا لكان بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم أولى، كان عطاء بنُ أبي رباح حبشيًّا، وكان يزيد بنُ أبي حبيب نُوبيًّا أسود، وكان الحسن وابن سيرين [من] موالي الأنصار. [وروى أبو بكر الخطيب بإسناده إلى إبراهيم الحربي قال: ] (¬2) كان عطاء [بن أبي رباح] عبدًا أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاء؛ جاء سليمانُ بنُ عبد الملك بن مروان، إليه ومعه ابناه وهو يصلِّي، فلما فرغَ من صلاته سألوه عن مناسك الحجِّ وقد حوَّل قفاه إليهم، فقال سليمان لابنيه: قُوما ولا تَنِيا في طلب العلم، فوالله ما أنسى ذُلَّنا بين يدي هذا العبد الأسود. [وقال أبو نُعيم: كانت حلقة الفُتيا بمكّة في المسجد الحرام لابن عباس، وبعده لعطاء بن أبي رباح (¬3). وروى أبو نُعيم عن ابن جُريج قال: ] كان المسجد (¬4) فراشَ عطاء عشرين سنةً، وكان ثوبُه يساوي خمسة دراهم. وقال معاذ بن سعيد: كنا في مجلس عطاء، فتحدَّثَ رجل، فاعترضَ له آخر، فقطعَ حديثَه، فغضبَ عطاء وقال: سبحان الله! ما هذه الأخلاق (¬5)، إني لأسمع الحديثَ من الرجل وأنا أعلمُ به منه فأُرِيه أنِّي لا أُحسنُ منه شيئًا. ¬

_ (¬1) المعرفة والتاريخ 1/ 701، وتاريخ دمشق 47/ 411 - 412، وفيهما: الفضل بن زياد. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (ب) و (د) و (خ): وقال إبراهيم الحربي. والمثبت عبارة (ص)، والكلام الواقع بين حاصرتين منها. والخبر في "الفقيه والمتفقه" 1/ 31، و"تاريخ دمشق" 47/ 394، و"صفة الصفوة" 2/ 212، و"المنتظم" 7/ 166 - 167. (¬3) حلية الأولياء 3/ 311. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): وقال ابن جُريج. والمثبت عبارة (ص). والكلام الواقع بين حاصرتين منها. والخبر في "حلية الأولياء" 3/ 310؛ و"تاريخ دمشق" 47/ 411 و 413. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): ما هذا إلا خلاف ... والمثبت من (ص) وهو موافق لما في "تاريخ دمشق" 47/ 419 و 420. وجاء بعدها أيضًا: وما هذه الطباع.

وقال ابن معين: حجَّ عطاء سبعين حجةً (¬1). [قلت: يعني من مكة إلى عرفات]. وقال الهيثم: حجَّ عبد الملك [بن مروان] فدخل عليه عطاء وهو جالسٌ على سريره وحولَه الأشراف، فقام له قائمًا وأجلسَه معه على سريره وقال له: يا أبا محمد، سَلْ حاجتَك. فقال: اتَّقِ الله في حَرَمِ الله وحَرَمِ رسولِه وأولادِ المهاجرين والأنصار، فبهم جلستَ هذا المجلس، واتَّقِ اللهَ في أهل الثُّغور، فإنهم حصن المسلمين، واتَّقِ اللهَ فيمن على بابك، لا تغفل عنهم. فقال عبد الملك: أفعلُ إن شاء الله. ثم قبض عبد الملك على يده وقال: يا أبا محمد، إنَّما سالتَنا حوائجَ الناس، فما حاجتُك أنت؟ قال: ما لي إليك حاجة. ثم قام وخرج، فقال عبد الملك: هذا وأبيك السُّؤْدُد .. وجعلَ يردِّدُها (¬2). [وقال الهيثم: ] وقد جرى له مع هشام [بن عبد الملك] مثلُ هذا، وبعث إليه [هشام] بمال، فردَّه وقال: قل لا أسألكم عليه أجرًا، إن أجريَ إلا على ربِّ العالمين (¬3). [وقال عبد الرزاق: أخذ الصلاةَ أهلُ مكة (عن ابن جُرَيج، وأخذها ابنُ جُرَيج) (¬4) عن عطاء، وأخذها عطاء عن ابن الزبير، وأخذها ابنُ الزبير عن جدِّه أبي بكر - رضي الله عنه -، وأخذها أبو بكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام -. وقال الإمام الشافعيّ: عطاء سيّد المسلمين] (¬5) ورأَتْ أمُّ عمر بن سعيد بن أبي حسين (¬6) رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في منامها وهو يقول: عطاء سيِّد المسلمين. ¬

_ (¬1) هو في "تاريخ دمشق" 47/ 407 عن ابن معين، عن أبي حفص الأبَّار، عن ابن أبي ليلى. (¬2) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 47/ 404 عن الأصمعي. (¬3) المصدر السابق 47/ 386 - 387. وقوله: قل لا أسألكم عليه أجرًا، من الآية (90) من سورة الأنعام، وقوله: إنْ أجريَ إلا على ربِّ العالمين، من الآية (109) من سورة الشعراء وأوَّلها: وما أسألكم عليه من أجر. (¬4) قوله: (عن ابن جُرَيج، وأخذها ابن جُريج) من المصادر. ينظر "مسند أحمد" (73)، و"أخبار مكة" (282)، و"تاريخ دمشق" 47/ 397. (¬5) من قوله: وقال عبد الرزاق ... إلى هذا الموضع من (ص). ولم أقف على قول الشافعي المذكور، إنما أورد له ابن عساكر 47/ 414 قوله فيه: ثقة. وسيرد في الخبر بعده: عطاء سيد المسلمين، فلعلَّ في الكلام وهمًا، وهو من (ص) وحدها كما سلف، والله أعلم. (¬6) في (ب) و (ج): بن جبير، وفي (خ): بن حصن. والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في "تاريخ دمشق" 47/ 415.

عمر بن مروان بن الحكم

وقال [ابنُه] يعقوب بن عطاء: ذهبت إحدى عينَي أبي، فقلت له يومًا: تشتكي عينيك؟ فقال: ما أبصرتُ بها منذ أربعين سنة شيئًا، وما علمَتْ بها أمُّك (¬1). [واختلفوا في وفاته، فحكى ابن سعد عن الواقدي قال: ] مات عطاء بمكة سنة خمس عشرة ومئة وهو ابن ثمانٍ وثمانين سنة، وقيل: ثمان وتسعين سنة. وقيل: عاش مئة سنة (¬2). وقيل: مات سنة أربع عشرة [ومئة]، وقيل: سنة سبع عشرة ومئة (¬3). أسند [عطاء] عن ابن عُمر، وابن عَمرو، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عبَّاس، وابن الزُّبير، وجابر بن عبد الله، ورافع بن خَدِيج، وزيد بن خالد الجُهني [وابن الزُّبير]، وعائشة، وغيرهم. وكان يقول: أدركت مئتين من الصحابة (¬4). وروى عنه ابن جُريج، والزُّهري، وعَمرو بنُ دينار، وقتادة، وأيوب، ومالك بنُ دينار، وإسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّيّ، والأعمش، والأوزاعيّ، وجابر الجُعْفي، وخلقٌ كثير (¬5). وقال أبو حنيفة: ما رأيتُ أفضلَ من عطاء، ولا أكذبَ من جابر الجُعْفيّ، ما أتيتُه بشيءٍ من رأي إلا أتاني بحديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬6). عُمر (¬7) بن مروان بن الحكم وكنيتُه أبو حفص، وأمُّه زينب بنت عُمر بن أبي سَلَمة المخزوميّ. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 47/ 419، وفيه: ما أعلمتُ بها أمَّك. (¬2) نسب هذا القول في (ص) لابن أبي ليلى، والكلام السالف بين حاصرتين منها. (¬3) نسب هذا القول في (ص) لابن سعد عن الواقدي عن أبي المليح. وليس في "طبقات" ابن سعد هذا القول، وذكره ابن عساكر 47/ 429 عن همام وخليفة وابن المديني. (¬4) تاريخ دمشق 47/ 384 و 389. (¬5) تاريخ دمشق 47/ 385. ومن قوله: وروى عنه ابن جُريج ... إلى قوله: وحجَّ بالناس في هذه السنة الوليد (قُبيل ترجمة الجنيد بن عبد الرحمن في السنة بعدها) ليس في (ص). (¬6) المصدر السابق 47/ 408. (¬7) في (ص): عَمرو. ويقال له كذلك، كما في "تاريخ دمشق" 54/ 270 (طبعة مجمع دمشق).

السنة السادسة عشرة بعد المئة

وكان من خيار بني مروان، ولم يكن بمصر في أيام بني أمية أفضلَ منه، كان يأتي خراب المعافر راكبًا على فرس في السنة يومًا، فيدفع إلى عجائز هناك ما يكفيهنَّ طول السنة. وكان خلفاء بني أمية يكتبون إلى أمراء أهل مصر لا يعصون له أمرًا. وولدُه بالأندلس منهم بقيَّة، وكان لعمرو من الولد: إبراهيم، ومحمد، والوليد، وعبد الملك. وروى عنه الحديث يزيد بن أبي حبيب وغيره (¬1). السنة السادسة عشرة بعد المئة فيها تزوَّج الجُنَيدُ الفاضلةَ ابنةَ المهلَّب بن أبي صُفْرة، وبلغ هشامًا فغضب، وعزله، وولَّى عاصمَ بنَ عبد الله بن يزيد الهلالي على خُراسان، وقال له: إنْ أدركتَه حيًّا فأزْهِقْ نفسَه. فقدم عاصمٌ خُراسان وقد مات الجُنَيد، وكان بالجُنَيد مرض البَطَن. دخل عليه جَبَلَة بن أبي روَّاد عائدًا، فقال له: يا جَبَلَة، ما يقول الناس؟ قال: يتوجَّعون للأمير. فقال له: ليس عن هذا أسألُك. وأشارَ بيده نحو الشام. فقال: يقولون: يقدَمُ على خُراسان يزيد بن شجرة الرُّهاوي. فقال: ذاك سيِّدُ أهلِ الشام. قال: ومَنْ؟ قال: عاصم الهلالي. فقال: لا مرحبًا به ولا أهلًا، إنه عدوّ جاهل (¬2). ومات قبل قدومه. وفيها كانت الحرب بين الحارث بن سُرَيج (¬3) وبين عاصم وأهلِ خُراسان، وخلع الحارثُ هشامَ بنَ عبد الملك، ودعا إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والرضى من آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقصدَ مدينةَ بَلْخ وبها نصر بن سيَّار، فلَّما وصل إلى قنطرة عطاء- وهي ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 54/ 270 - 271، و"المنتظم" 7/ 168. (¬2) في "تاريخ" الطبري: جاهد. والكلام فيه 7/ 93. (¬3) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): شُريح، وهو خطأ. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 94. وذكره ابن ناصر الدين في "توضيح المشتبه" 5/ 327 وقال: صاحب الحروب والفتن ... حدَّث شعبة عن زياد بن علاقة، عن عرفجة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من خرج على أمتي وهم جميع يريد أن يفرّق بينهم، فاقتلوه كائنًا من كان". قال شعبة: كنت سمعت خالد بن سلمة المخزومي يحدّث ذلك عن زياد بن علاقة حين خرج ابن سُريج بخراسان ويلعن ابنَ سُريج.

على نهر بَلْخ مقدارَ فرسخين من المدينة- خرج إليه نصر بن سيَّار في عشرة آلاف، وكان الحارثُ في أربعة آلاف، فدعاهم [الحارث] إلى كتاب الله والبيعة للرضى، فناداه قطن بن عبد الله (¬1) الباهليّ: يا حارث، أنت تدعو إلى كتاب الله والسنة؟ ! واللهِ لو أنَّ جبريلَ عن يمينك، وميكائيل عن يَسارك ما أجبتك. وقاتَلَهم الحارثُ، فأصابت قطن نشابة في عينه، فوقعَ، فكانَ أوَّلَ قتيل. وانهزم نصرُ بنُ سَيَّار إلى بَلْخ، وأتبعَه الحارثُ حتَّى دخَلها، وخرج نصر من باب آخر، وأمر الحارثُ بالكفِّ عنهم. ومر أعرابيٌّ بنساء يبكين، وواحدة منهن تقول: يا أبتاه! ليتَ شِعري! مَنْ دهاك؟ فقال: مَنْ هذه؟ قالوا (¬2): بنتُ قَطَن. فقال لها: أنا دَهَيتُ أباك. وكان على شرطة بَلْخ رجلٌ يقال له: المجتبى (¬3) بن ضُبيعة، وكان قد ضرب الحارثَ بنَ سُريج أربعين سوطًا في إمرة الجُنيد، فحبسه الحارث، فجاء رجل من بني حنيفة، فادَّعَى على المجتبى أنَّه قتلَ أخاه بهَرَاة، فدفعه الحارثُ إليه، فقال: أنا أفدي نفسي منك بمئة ألف درهم. فلم يقبل، وقتلَه. واستولى الحارث على بَلْخ، والجُوزْجان، والفارياب، والطالقان، ومَرْو الرُّوذ. وشاورَ أصحابَه في قصد مَرْو، فقالُوا: لا تفعل، فإن مَرْو بيضة خُراسان، وبها الفرسان، وليس لك بهم طاقة، فأقم هنا، فإنْ جاؤوا إليك فقاتِلْهم، وإلا فاقطعْ عنهم المادة. فسار فنزل الجُوزْجان، وقال أهلُ مَرْو: إنْ مضى إلى أبْرَشَهر ولم يأتنا فرَّقَ جماعتَنا، وإنْ أتانا نُكبِ. وكاتبَه جماعة منهم، وبلغ عاصمًا، فأجمع على الخروج من مَرْو وقال: يا أهل خُراسان، قد بايعتُم الحارث ولا يقصدُ بلدًا إلا أخليتُموها له، أنا لاحقٌ بأبرشهر، وأُكاتبُ أميرَ المؤمنين منها حتَّى يُمِدَّني من الشام بعشرة آلاف. فحلفَ له أعيانُ القبائل إنهم لا يُفارقونه حتَّى يموتوا إنْ بذلَ المال، فقال: نعم. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 95: عبد الرحمن، بدل: عبد الله. (¬2) في (ب): قالوا له. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 95: التجيبي. وكذا في الموضع التالي.

وأقبل الحارث إلى مَرْو في ستين ألفًا ومعه فرسان الأزد وتميم، منهم محمد بن المثنَّى، وحمَّاد بنُ عامر الحِمَّاني، وداود الأعسر، وغيرُهم، وعدَّةٌ من ملوك الطالقان والدَّهاقين. وخرج عاصم، فعسكر بأهل مَرْو بجياسر (¬1) عند البيعة، وأعطى الجُند دينارًا دينارًا، وخمسةَ دراهم (¬2)، فخفَّ عنه الناس، فأعطى كلَّ واحد ثلاثة دنانير. ثم التقَوْا فمال محمد بنُ المثنى برايته إلى عاصم في ألفين، فأتى الأزدَ، وفعل كذلك حمَّاد بن عامر وداود الأعسر وغيرهم، واقتتلُوا، فانهزم أصحابُ الحارث، وغرق منهم بشرٌ كثير في أنهار مَرْو وفي النهر الأعظم، ومضت الدَّهاقين إلى بلادها. وثبت الحارث في بعض الجيش، فبعث إليه عاصم جماعةً، منهم مقاتل بن حبَّان النَّبطي يسألُه ماذا يريد، فلما رآهم الحارثُ بعثَ إليهم محمد بنَ مسلمة (¬3) العنبريّ وحدَه، فقال: إنَّ الحارث وإخوانكم يُقرؤونكم السلام، ويقولون: قد عطشنا وعطشَتْ دوابنا، فدعُونا ننزلِ الليلةَ وتختلفِ الرسل فيما بيننا ونتناظر، فإنْ وافقتمونا على الَّذي نُريد وتريدون (¬4)، وإلا كنتم وراء أمركم. فأبَوْا عليه، فقال مقاتل بنُ حيان: يا أهل خُراسان إنَّا كنَّا بمنزلة أهل بيت واحد، ويدُنا واحدة، وقد أنكَرْنا صنعَ صاحبكم، يوجِّهُ إليه أميرنا عاصم الفقهاءَ والقرَّاء من أصحابه، ويوجِّهُ صاحبُكم -يعني الحارث- رجلًا واحدًا! فقال محمد: إنَّما أتيتُكم مبلِّغًا، الرجلُ يطلبُ كتابَ الله وسنَّةَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - والعملَ بهما، وسيأتيكم ما تطلبون من الغد. فلما انتصف (الليل) سار الحارث إلى عاصم، وبلغ عاصمًا، فسارَ إليه، فالتَقَوْا، فاقتتلُوا قتالًا شديدًا، فقُتل من الفريقين مئة، وظهر عاصم على الحارث، فسار الحارث، فقطع وادي مرو (¬5)، واجتمع إليه زُهاءُ ثلاثة آلاف، ولو ألحَّ عليه عاصم لأهلكه. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): بجيارس. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 96. وذكر ياقوت جياسر في "معجم البلدان" 2/ 195 وقال: من قرى مرو. (¬2) قوله: وخمسة دراهم، ليس في "تاريخ" الطبري 7/ 97. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 97: مسلم. (¬4) في المصدر السابق: فإن وافقناكم على الَّذي تريدون ... (¬5) في (ب) و (خ): نهر مرو. والمثبت من (د)، وهو موافق لما في "تاريخ" الطبري 7/ 98.

الجنيد بن عبد الرحمن

وبعث إليه عاصم يقول: إني أرُدُّ عليك ما أصبتُ منك ومن أصحابك (¬1) على أن ترتحلَ عنَّا. ففعل (¬2). وحجَّ بالناس في هذه السنة الوليد بن يزيد بن عبد الملك وحمل معه (¬3) الخمور والملاهي والكلاب، وأراد أن يشرب بمكة. وكانت الولاة في هذه السنة على ما كانوا عليه إلا خُراسان، فإنه كان عليها عاصم بن عبد الله الهلالي (¬4). وفيها توفي الجُنيد بن عبد الرحمن أبو يحيى، والي خُراسان، كان شجاعًا جَوادًا محترزًا هيوبًا صالحًا. عبر النهر مرارًا، وفتح من بلاد السِّند والهند ما لم يفتحه غيره. وسببُ عزله تزويجُه بنت المهلَّب، فحسده هشام، واستقلَّه لها. والجُنيدُ صاحب غَزَاة الشِّعْب (¬5)، وكانت ولايته على خُراسان خمسَ سنين، وَلِيَها في سنة إحدى عشرة ومئة، ومات في المحرَّم سنة ستَّ عشرة ومئة [وقد ذكرنا وقائعه واجتهاده]. ولمَّا توفي بخراسان استخلفَ عُمارة بن حُريم، فلما قدم عاصم حبسَ عُمارة وعمَّال الجنيد وعذَّبهم على الأموال (¬6). وقال الجُنيد: دخلتُ (¬7) من حَوْرَان آخذُ عطائي فصلَّيتُ الجمعة بجامع دمشق، ثم خرجت إلى باب الدرج؛ وإذا عليه شيخ يقصُّ على الناس يقال له: أبو شيبة، فوَعَظَنا ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 98: إني رادٌّ عليك ما ضمنتُ لك ولأصحابك ... (¬2) من قوله: وروى عنه ابن جُريج (أواخر ترجمة عطاء بن أبي رباح- السنة قبلها) إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) في (ص): وهي الحجة التي حمل فيها معه. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 98. (¬5) سلف ذكرها في أحداث السنة الثانية عشرة بعد المئة. (¬6) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 93. ومن قوله: ولما توفي بخراسان ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬7) في (ص): وحكى عنه أبو القاسم بن عساكر حكاية رواها عنه جُنادة بن عمر (كذا، والصواب: عمرو) بن الجُنيد بن عبد الرحمن قال: دخلت ... إلخ ولم أُثبتها أعلاه لأنها سترد بنحوها آخر الخبر من النسخ الأخرى.

وخوَّفَنا، فبكَينا، فلما فرغَ من قصصه قال: اختموا مجلسَنا بلعنةِ أبي تراب. فلعنوا أبا تراب. [قال الجُنيد: ] فقلتُ لمن عن يميني: ومَنْ أبو تراب؟ فقال: عليُّ بنُ أبي طالب ابنُ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجُ ابنتِه، وأبو الحسن والحسين. قال الجُنيد: فقمتُ إليه -وكان ذا وَفْرَة- فأخذت بوَفْرَتِه وجعلتُ ألطمُ وجهَه ورأسَه بالحائط، وصاحَ، واجتمعَ الناسُ، فوضعوا ردائي في عنقي وساقُوني إلى هشام [بن عبد الملك] والقاصّ يمشي قدَّامي، فدخلنا على هشام، فصاح أبو شيبة: يا أمير المؤمنين، قاصُّك وقاصُّ آبائك وأجدادك يُفعل به هذا؟ قال: ومَنْ فعلَه؟ فأشار إليَّ، فقال لي هشام وعنده أشراف الناس: أبو يحيى! متى قدمتَ؟ فقلت: أمسِ، وكنتُ على المصير إلى أمير المؤمنين، فأدركَتْني الجمعةُ وصلَّيت، وخرجتُ إلى باب الدرج (¬1)، فإذا هذا الشيخُ يقصُّ على الناس، فبكَينا، ودعا فأمَّنَّا، ثم قال: اختموا مجلسَنا بلعنةِ أبي تراب، فسألتُ: من أبو تراب (¬2)؟ فقال لي رجل: علي بنُ أبي طالب، ابنُ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصهرُه على ابنتِه، وأوَّلُ القوم إسلامًا. فواللهِ لو ذكرَ قرابةً لك بمثل هذا لفعلتُ به ما فعلتُ، أفلا أغضبُ لابن عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! فقال هشام: بئس ما صنع! ثم عقدَ لي على السِّند، وقال لجلسائه: مثلُ هذا لا يُجاورُني في بلد (¬3) فيُفسدَ عليَّ البلد. فباعَدَ بِهِ إلى السِّند. رَوَى ذلك ابنُ عساكر عن جُنادة بن عَمرو بن الجُنيد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جدِّه الجُنيد. قال: فمضى، فماتَ بالسِّند، وهو على باب السِّند مُصَوَّرٌ، بيده اليمنى سيف، وفي [يده] الآخرى كيس يُعطي منه الدراهم (¬4). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د): الجامع. والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في "تاريخ دمشق" (4/ 27 (مصورة دار البشير- ترجمة جنادة بن عمرو)، وسلف ذكره أول الخبر. (¬2) في (ص): عن أبي تراب. (¬3) في (ص): البلد. (¬4) الخبر بتمامه في "تاريخ دمشق" 4/ 27 - 28 (مصورة دار البشير- ترجمة جُنادة بن عمرو).

[وروى ابن عساكر أيضًا أنه مات بمَرْو في خُراسان]. ورثاه جماعة من الشعراء، منهم عيسى بن عَصبَة (¬1) أبو جُويرة، فقال: هلك (¬2) الجُودُ والجُنَيدُ جميعًا ... فعلى الجود والجُنَيدِ السلامُ أصْبَحا ثاوَيينِ في بطن مَرْوٍ ... ما تغنَّى على الغصونِ الحَمَامُ (¬3) كنتُما نُهْزَةَ الكرامِ فلمَّا ... مِتَّ ماتَ النَّدَى وماتَ الكِرامُ ثم إنَّ عيسى [بن عَصَبَة] قدم العراق، فلما دخل على خالد القسريّ يمدحُه قال له: ألستَ القائل (¬4): ذهب (¬5) الجودُ والجُنَيدُ جميعأ؟ ! اذهب إلى حيثُ دفنتَ الجُودَ فاستخرِجْهُ (¬6). فقال: أنا قائل هذا، وأنا الذي أقول: لو كان يقعدُ فوق الشمس من كَرَمٍ ... قومٌ بأوَّلهم أو مَجْدِهم قَعَدُوا أوْ خَلَّدَ الجُودُ أقوامًا ذَوي حَسَبٍ ... فيما يحاولُ من آجالهم خَلَدُوا قومٌ أبوهُمْ سِنانٌ حينَ تَنْسِبُهمْ ... طابوا وطابَ من الأولاد ما وَلَدُوا يُحَسَّدُونَ على ما كان من نِعَمٍ ... لا يَنْزغُ اللهُ عنهم ما لَه حُسِدُوا فخرج ولم يعطه شيئًا (¬7). وقوله: أبوهم سِنان، هو جدُّ الجُنَيد؛ لأنه الجُنَيد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سِنان المُرِّيّ. ¬

_ (¬1) تحرف في النسخ إلى: عصمة، وكذا في الموضع التالي. وهو عيسى بن أوس بن عصبة، كما في "المؤتلف والمختلف" للآمدي ص 107، والخبر في "تاريخ" دمشق 4/ 46 (مصورة دار البشير- ترجمة الجنيد). (¬2) في رواية في "تاريخ دمشق" 4/ 45، و"مختصره" 6/ 128: ذهب. (¬3) في (ص): حمام. (¬4) عبارة (ص): قدم العراق بعد ذلك، فامتدح خالد بن عبد الله القسري، فقال له خالد: ألست القائل ... (¬5) في (ص): هلك. وينظر الكلام قبل تعليقين. (¬6) في (ص): ما لك عندنا شيء، بدل قوله: اذهب إلى حيث دفتتَ الجود فاستخرجه. ومن هذا الموضع إلى نهاية الترجمة، ليس في (ص). (¬7) الأمالي 1/ 105 - 106، وتاريخ دمشق 4/ 45. والبيتان الأول والأخير في "أنساب الأشراف" 12/ 15. وبعض الأبيات لزهير بن أبي سُلمى، وهي في "ديوانه" ص 282، وينظر "تاريخ" الطبري 4/ 223، و"العقد الفريد" 5/ 291.

حفصة بنت سيرين

وكان الجنيد من الأجواد الممدَّحين، ولم يكن بالمحمود في حروبه. ولما احتُضر جاءه مؤذِّنُه يُؤْذِنُه بالصلاة، فقال: الصلاةَ أيها الأمير. فقال: يا ليتَها لم تُقل لنا (¬1). حفصة (¬2) بنت سِيرِين أخت محمد [بن سِيرِين] الزاهدة العابدة. [ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب "الفوائد" بإسناده عن] هشام بن حسان [أنها] قرأتِ القرآن (¬3) وهي ابنةُ اثنتي عشرة سنة، وماتت وهي بنتُ تسعين سنة، ومكثت في مُصلّاها ثلاثين سنة لا تخرج إلا لحاجة، وكانت تختِمُ القرآنَ كل يوم وليلة (¬4)، وتصومُ الدهر، وتُفطر العيدَين وأيَّام التشريق. واشترت جاريةً، فقيل للجارية: كيف رأيتِ مولاتَكِ؟ فقالت: صالحة؛ إلا أنَّها قد أذْنَبَتْ ذنبًا عظيمًا فهي الليلَ كلَّه تبكي وتصلِّي. [وقال ابن أبي الدنيا بإسناده إلى هشام بن حسان قال: ] جاءت [حفصة] إلى بيتها (¬5)، فإذا زوجُها على فراشها مع جارية له، فأغلقت الباب، ولم تتكلَّم، فلما كان بعد مدَّة، ضرب زوجُها الجاريةَ، فقالت له [حفصة]: أتضربُ العروس؟ ! فقال: وقد علمتِ؟ ! فوهبَ الجاريةَ لها. [وقال هشام بن حسان: ] كان لحفصة كَفَنٌ مُعَدٌّ، فإذا حجَّتْ وأحرَمَتْ؛ لَبِسَتْه، وإذا كان العشر الآخر (¬6) من رمضان لَبِسَتْهُ، وقامت فيه الليل. [قال: ] وكانت تقول: أما تستحي الحرَّة تغار؟ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 4/ 47 (مصورة دار البشير). (¬2) في (ص): فصل، وفيها توفيت حفصة ... (¬3) في (ب) و (خ) و (د): وقال هشام بن حسان: قرأت القرآن ... والمثبت من (ص)، والكلام بين حاصرتين منها. (¬4) عبارة "صفة الصفوة" 4/ 26: تقرأ نصف القرآن في كل ليلة. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): وجاءت إلى بيتها ... والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منها. وجاء هذا الخبر فيها بعد قوله أواخر الترجمة: وكذا الحسن وعلماء البصرة. (¬6) في (ب) و (د): الأواخر.

الحكم بن عتيبة

و [وروى ابنُ أبي الدنيا عن هشام بن حسان أنه قال: ] كان إذا أشكل على محمد بن سِيرين شيء من القرآن يقول: اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ. وقال ابنُ أبي الدنيا: ربَّما طَفِئَ المصباح في بيت حفصة، فينوَّرُ لها البيت. وقال عاصم الأحول: كنا ندخل (¬1) عليها المسجد وقد تنقَّبت ووضعت الجلبابَ على رأسها، فنقول: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الآية. فتقول: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيرٌ لَهُنَّ} [النور: 60] وذلك بلبس الجلباب. وكان أنس بن مالك يزورُها، وكذا الحسنُ وعلماء البصرة. وكانت وفاتُها بالبصرة في هذه السنة، فلم يبقَ بِكرٌ ولا عانسٌ إلا وشهدَها [رحمها الله تعالى] (¬2). الحَكَم بن عُتيبة أبو عبد الله، مولى كِنْدة، من الطبقة الثالثة (¬3). كان عالمًا ثقة كثير الحديث، فقيه أهل الكوفة. وكان هو وإبراهيم النَّخَعي في سنٍّ واحدة. حمزة بن بِيض ابن نَمِر بن عبد الله، من بني الدُّول بن حنيفة. كان شاعرًا مجيدًا [وكان كالمنقطع] إلى المهلَّب بن أبي صُفْرة، ثم إلى ولدِه، ثم إلى بلال بن أبي بُرْدة، واكتسبَ بالشِّعر ألفَ ألفِ درهم (¬4). ¬

_ (¬1) في (ص): وحكى عن عاصم الأحول قال: كنا ندخل ... إلخ. (¬2) ينظر "حلية الأولياء"، و"صفة الصفوة"4/ 24 - 26، و"المنتظم" 7/ 171 وما بين حاصرتين من (ص). (¬3) يعني من التابعين من أهل الكوفة، كما في "طبقات ابن سعد" 8/ 450. (¬4) بنحوه في "الأغاني" 16/ 202، وما بين حاصرتين منه. وينظر "تاريخ دمشق" 5/ 299 (مصورة دار البشير).

ميمون بن مهران

ولما مدح مَخْلَدَ بنَ يزيد بن المهلَّب -وهو خليفةُ أبيه على خُراسان- أعطاه مئةَ ألف درهم (¬1). ودخل على يزيد بن المهلب السجنَ لمَّا حبسَه عُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، فأنشدَه: أُغْلِقَ دونَ السَّماحِ والجودِ والـ ... ــنَّجْدةِ بابٌ حَدِيدُه أَشِبُ بَرَّزْتَ سبقَ الجَوَادِ في مهَلٍ ... وقَصَّرَتْ دونَ سعيك الرُّتبُ (¬2) فقال له يزيد: يا حمزة أسأتَ حيثُ نوَّهتَ باسمي في غير وقت تنويهه. ثم رمى إليه بخرقة مصرورة، وقال: خُذْ هذا الدينار، وكان عنده صاحب خُبْرِ واقفٌ، فأراد حمزة أن يردَّه، فأشار إليه: خذه ولا تُخدع عنه. فخرج، فإذا في الخرقة فَصٌّ من الياقوت الأحمر، فخرج إلى خُراسان، فباعه بثلاثين ألفًا، فقال له المشتري: واللهِ لو أبيتَ إلا خمسين ألفًا لأعطيتُك. فضاق صدرُه، فأعطاه مئة دينار زيادة (¬3). ميمون بن مِهْران ابن أيوب (¬4)، أبو أيوب الجزري [فقيه أهل الجزيرة. ذكره ابن سعد في] الطبقة الأولى (¬5) من التابعين [الذين نزلوا الجزيرة. وكان ثقة كثير الحديث] (¬6). وولّاه عُمر بنُ عبد العزيز - رضي الله عنه - خَراج الجزيرة، وولَّى ابنه عَمرو (¬7) [بن ميمون] على الديوان. ¬

_ (¬1) الخبر في "الأغاني" 16/ 203 - 204 وفيه الأبيات التي مدح فيها مخلدًا. (¬2) في "الأغاني" 16/ 209: العربُ. والخبر فيه. (¬3) الأغاني 16/ 209 - 210. ولم ترد هذه الترجمة ولا ترجمة الحكم قبلها في (ص). (¬4) كذا في (ب) و (خ) و (د) و (ص) وأظنُّه خطأ. ولم أقف على من نسبَه إلى جدّه. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): من الطبقة الأولى ... والمثبت من (ص)، والكلام بين حاصرتين منها. وهو في "طبقات" ابن سعد 9/ 483. (¬6) ما بين حاصرتين من (ص)، وتحرفت فيها لفظة: نزلوا، إلى: تولوا. والكلام الآتي بعده لم يرد فيها حتى قوله: قال: أدركتُ من لا يتكلم إلا بحقّ. (¬7) وقع خرم في (ب) بدءًا من هذا الموضع إلى أثناء ترجمة سُكينة بنت الحسين في السنة (117).

وكان ميمون بزَّازًا وهو على الخَراج يجلسُ في حانوته، فكتب إلى عمر يستعفيه من الخَراج، فكتب إليه عمر: إنما هو درهمٌ تأخذه من حقِّه وتضعُه في حقّه، فما استعفاؤك من هذا؟ فلمَّا وليَ يزيد بن عبد الملك أقام على الخَراج أشهرًا. وكان وليَ قبلَ ذلك بيت المال بحرَّان لمحمد بن مروان، فكتبَ إليه غَيلان القَدَريُّ يعظُه في ذلك، فقال ميمون: وَدِدْتُ - واللهِ - أن حدقتي سقطت (¬1)، ولم أعمل عملًا (¬2). قيل: ولا لعمر بن عبد العزيز؟ فقال: ولا لعمر بن عبد العزيز. وقال: أدركتُ من لا يتكلَّم إلا بحقّ أو يسكتُ، وأدركتُ مَنْ لم يملأ عينيه من السماء فَرَقًا من ربه، وأدركتُ من أستحيي أن أتكلَّم عنده (¬3). [وقال خَلَف بن حَوْشَب: تكارينا دوابَّ مع ميمون إلى مكان معروف، فقال: لولا ذلك لمررنا على آل فلان] (¬4). وقال أحمد بنُ عبد الله العِجْليّ: كان ميمون إذا رأى شابًّا حسنَ الفعل، ولم يكن على طريقةٍ مُرضيةٍ ابتدأه بالسلام وأكرمَه ولاطفَه، ثم يقول له: ها هنا مريضٌ؛ اذْهَبْ بنا نعوده، ها هنا جنازةٌ؛ اذْهَبْ بنا نحضرها، فيذهب معه، فإذا خلا الفتى بأصحابه قالوا له: ما قال لك ميمون؟ فيخبرهم، فلا يزال به حتى يَنْسُك (¬5). وكان يقول لأصحابه: قولوا في وجهي ما أكره، فإنَّ الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ) و (د) (والكلام منهما): سقطتا. والمثبت من "طبقات" ابن سعد 9/ 483. وعبارة "حلية الأولياء" 4/ 86: وددتُ أن إحدى عيني ذهبت وبقيت الأخرى أتمتع بها. (¬2) في المصدرين السابقين: ولم ألِ عملًا. (¬3) تاريخ دمشق 17/ 473، وبنحوه في "صفة الصفوة" 4/ 194. (¬4) ما بين حاصرتين من (ص) والخبر في "تاريخ دمشق" 17/ 480، و"صفة الصفوة" 4/ 193. (¬5) بنحوه في "تاريخ دمشق" 17/ 478، و"مختصره" 26/ 65. (¬6) حلية الأولياء 4/ 86، وتاريخ دمشق 17/ 483، وصفة الصفوة 4/ 193. ولم يرد هذا القول ولا الخبر قبله في (ص).

وقال [أبو نُعيم: قال ميمون]: إن العبدَ إذا أذنبَ نكتَ في قلبه نُكتةٌ سوداء، فإن تاب مُحِيَتْ من قلبه، فترى قلبَ المؤمن مثلَ المرآةِ الصقيلة، ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصرَه، وأمَّا الذي يُتابع في الذنوب؛ فإنَّه كلَّما أذنبَ نكتَ في قلبه نكتةٌ سوداء، فلا يزال كذلك حتى يسودَّ قلبُه، فلا يُبصر الشيطانَ من حيث يأتيه (¬1). وقال: لا تضربِ المملوكَ على ذنب، ولكن احْفَظْ ذلك كلَّه، فإذا عصى الله فعاقِبْه على معصية الله، وذكره الذنوب التي أذنبَ بينَك وبينَه (¬2). وقال: لا خير في الدنيا إلا لرجلٍ تائب، أو رجل يعمل في الدرجات (¬3). وقال ميمون: قال لي عمر (¬4) بن عبد العزيز: يا ميمون، احفَظْ عني أربعًا: لا تصحبنَّ سلطانًا وإن أمرتَه بمعروف ونهيتَه عن منكر، ولا تخلون بامرأةٍ أجنبية وإنْ أَقْرَأْتَها القرآنَ، ولا تَصِلْ من قطعَ رَحِمَهُ، فإنه لك أقطع، ولا تتكلَّمنَّ اليومَ بكلام تعتذرُ منه غدًا (¬5). وتوفي ميمون بالرقة سنة ست عشرة -وقيل: سنة سبع عشرة- ومئة. وقيل: سنة ثمان عشرة (¬6). [قال أبو القاسم عن] إبراهيم بن محمد السِّمَّريّ (¬7): صلَّى ميمون في سبعةَ عشرَ يومًا سبعةَ عشرَ ألفَ ركعةً، فلما كان في اليوم الثامنَ عشرَ انقطع في جوفه شيءٌ فمات. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 4/ 89، وصفة الصفوة 4/ 194. وهو بمعنى حديث مرفوع لأبِي هريرة، أخرجه الترمذي (3334) وابن حبان (930). (¬2) حلية الأولياء 4/ 88 - 89، وصفة الصفوة 4/ 193. ولم يرد هذا القول في (ص). (¬3) حلية الأولياء 4/ 83، وتاريخ دمشق 17/ 478 (مصورة دار البشير)، وصفة الصفوة 4/ 194. (¬4) في (ص): وحكى عنه ابنُه عمر بن ميمون قال: قال لي عمر ... (¬5) بنحوه في "تاريخ دمشق" 17/ 476 - 477 (مصورة دار البشير). (¬6) جاءت هذه الفقرة في (ص) بلفظ: "ذكر وفاته: قد حكينا عن ابن سعد أنه مات في سنة سبع عشرة ومئة. وحكى الحافظ أبو القاسم عن أبي عروبة في سنة ست عشرة ومئة. قال: وعقبُه بالكوفة. وكذا قال خليفة في سنة (ست) عشرة ومئة بالجزيرة وقبره بالحبيس الأكبر يعني الرقة. وقال أبو عبيدة: سنة ثمان عشرة ومئة". ولم يتقدم ذكر لوفاة ميمون عن ابن سعد، وينظر "تاريخ دمشق" 17/ 471 - 472. (¬7) في (خ) و (د): بن السدي. ولم تجوَّد في (ص). والمثبت من"تاريخ دمشق" 17/ 484.

نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب

أسند ميمون عن عمر (¬1)، وعثمانَ، وابنِ عمر، وابن عَمرو، وابنِ عبَّاس [وأمِّ الدرداء]- رضي الله عنه -، وغيرهم. وروى عن عمر بن عبد العزيز، وأئمة التابعين. وروى عنه الأوزاعيُّ، وحُميد الطويل، والأعمش، وغيرهم. وكان ميمون زاهدًا عابدًا، وَرِعًا صالحًا، ثبتًا، كثيرَ الحديث [رحمه الله تعالى] (¬2). نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب من الطبقة الثالثة من التابعين (¬3)، وكان عبد الله بن جعفر قد أعطى ابن عمر (¬4) فيه اثني عشر ألف درهم، فأبى وأعتَقَه. وقال: سافرتُ مع ابن عمر بضعًا وثلاثين سَفْرة ما بين حَجَّةٍ وعُمرة. وكان نافع عند عبد الله بن عمر كبعض ولده، وكان ثقةً كثيرَ الحديث. ومات سنة ستَّ عشرة ومئة. وقيل: سنة سبع عشرة، وثماني عشرة، وعشرين (¬5). أسند عن مولاه، ورافع بن خَدِيج، وأبي سعيد الخُدري، وغيرِهم. وروى عنه القاسم بن محمد (¬6)، ومالك، والليث، وأيوب، والزُّهري، والأوزاعيّ، وغيرهم. وقال خَلَف البزار: قلتُ للإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: أيُّ الأسانيد أثبت؟ قال: أيوب، عن نافع، عن ابن عمر. وفي رواية: الزُّهريّ، عن نافع، عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) روايته عن عمر عند ابن ماجه كما رمز له المزي في "تهذيب الكمال" 29/ 211 وقال: مرسل. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 17/ 469، و "تهذيب الكمال" 29/ 211. ومن قوله: وروى عن عمر بن عبد العزيز ... إلخ، ليس في (ص). وما سلف بين حاصرتين منها. (¬3) يعني من أهل المدينة، وهو في "طبقات" ابن سعد 7/ 423. (¬4) تحرفت لفظة: عمر، في (خ) و (د) (والكلام منهما) إلى: عمه. والخبر في "تاريخ دمشق" 17/ 513 (مصورة دار البشير). (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 17/ 520، ولم أقف على من ذكر أنه توفي سنة (18)، وذكر الذهبي 5/ 99 أن القول بوفاته سنة (20) شاذ، وهو قول الهيثم بن عدي وأبي عمر الضرير. (¬6) لم أقف على من ذكر أن القاسم روى عنه، وإنما ذكر ابن عساكر والمزي أنه روى عن القاسم.

أبو حية النميري

وقال البخاريُّ: أصحُّ الأسانيد: مالك، عن نافع، عن ابن عمر (¬1). أبو حَيَّة (¬2) النُّميري [الشاعر، واسمه] الهيثم (¬3) بن الربيع بن زُرارة، شاعر مشهور. وكان قد اختلَّ في آخر عُمره، ويُصرع في أوقات، وكان له سيفٌ يقال له: لُعاب المنيَّة، لا فرقَ بينه وبين الخشبة. دخل عليه كلبٌ، فظنَّه لصًّا، فانتضى سيفَه، وقال: أيُّها المجترئُ علينا، أما سمعتَ بلعاب المنيَّة؟ اخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل (¬4) بالعقوبة عليك. فخرج الكلبُ، فقال: الحمدُ لله الذي مسخكَ كلبًا وكفانا حربًا (¬5). السنة السابعة عشرة بعد المئة فيها أعادَ هشام (¬6) ولاية خُراسان إلى خالد بن عبد الله القَسْريّ، فولَّاها أخاه أسد (¬7) بن عبد الله، وعزلَ عاصمَ بنَ عبد الله عنها. وكان السببُ في ذلك أنَّ عاصمًا كتب إلى هشام: أمَّا بعد؛ فإن الرائد لا يكذبُ أهلَه، وقد سبق من أمير المؤمنين إليَّ ما أؤذي به حقَّه، وأُعزفُه وجهَ المصلحة، فإنَّ ذلك من واجب النصيحة. إنَّ خُراسان لا تصلح إلا لصاحب العراق، ليكونَ موادُّها من العراق، فإنَّ أمير المؤمنين بعيد عنها، وربَّما أبطأ الغِياث إليها. فقال بعض أصحاب عاصم: كأنّكم بأسد وقد أقبل. فلمَّا قدم أسد، بعث الكُميتُ بنُ زيد الأسديّ إلى مَرْو بأبيات، منها: ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 17/ 515. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬2) في (ص): حُيَيَّة. ولم أقف على من ذكر ذلك. (¬3) في (خ) و (د) و (ص): هشام. والمثبت من المصادر. (¬4) في (ص): ندخل. (¬5) ينظر خبره في "الشعر والشعراء"2/ 774، و"طبقات الشعراء" لابن المعتز ص 143، و"الأغاني 16/ 307. (¬6) من هذا الموضع، وحتى قوله: وفيها حجَّ بالناس خالد بن عبد الملك (أواخر أحداث هذه السنة قبل ذكر من توفي فيها) ليس في (ص). (¬7) في (خ) و (د) (والكلام منهما): أسيد، وهو خطأ.

ألا أبْلِغْ جماعةَ أهل مَرْوٍ ... على ما كان من نأْيٍ وبُعْدِ رسالةَ ناصحٍ يُهدِي سلامًا ... ويأمرُ في الذي ركبوا بِجِدِّ فلا تَهِنوا ولا تَرْضَوْا بخَسْفٍ ... ولا يَغْرُرْكُمُ أَسَدٌ بعهدِ وكونوا كالبَغَايا إنْ خُدِعْتُمْ ... وإنْ أقْرَرْتُمُ ضيمًا لوَغْدِ وإلا فارفَعوا الراياتِ سُودًا ... على أهلِ الضَّلالةِ والتَّعَدِّي فكيفَ وأنتُمُ سبعون ألفًا ... رَمَاكُمْ خالدٌ بشَبيهِ قِرْدِ فمهلًا يا قُضَاعَ فلا تكوني ... توابعَ لا أصولَ لها بنجدِ (¬1) وفيها وادعَ عاصمٌ الحارثَ الخارجي لمَّا بلغَه قدومُ أسد إلى خُراسان، وكتب عاصم بينه وبين الحارث كتابًا على أن ينزلَ الحارثُ أيَّ كُورةٍ شاء من خُراسان حتى يكتبوا إلى هشام يدعونه إلى كتاب الله وسنَّةِ رسوله، فإنْ أبى كانوا كلُّهم عليه، وأبي يحيى بن حُضَيْن أن يُوادع، وقال: هذا خَلْعٌ لأمير المؤمنين، ولم يختم على الكتاب مع مَنْ ختمَ، فقال خَلَف بن خليفة أبياتًا منها يخاطب يحيى بن حُضَين: أبى همُّ قلبِك إلا اجتماعا ... ويأْبَى رُقادُك إلا امتناعا حَفِظْنا أُميَّةَ في مُلْكها ... ونَخْطِرُ من دونها أنْ تُراعَي نُدافعُ عنها وعن مُلكها ... إذا لم نجد بيديها امتناعا ومنَّا الذي سادَ (¬2) أهلَ العراقِ ... ولو غابَ يحيى عن الثَّغْر ضاعا على ابنِ سُرَيج نَقَضْنا الأمورَ ... وقد كانَ أحْكَمَهما ما اسْتَطاعا من أبيات. وكان عاصم في قرية لكندة (¬3) بأعلى مَرْو، والحارث بقرية لبني العنبر، والتَقَوْا واقتتلُوا، فانهزم الحارث وأصحابه، وعظَّم الناسُ ما فعلَ يحيى بن الحُضَين. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 100. (¬2) في "تاريخ" الطبري 7/ 102: شدَّ. (¬3) في (خ) و (د) (والكلام منهما): المده (؟ )، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 103، ولم ترد هذه اللفظة في عبارة "الكامل" 5/ 187، فجاء فيه: بقرية بأعلى مَرْو.

وكتب أسد إلى أخيه خالد يخبره أنه هزمَ الحارث -وإنَّما كان أسد ببَيْهَق، ولم يشهد الوقعة- ويُخبره بأمر يحيى وما فعل، فأجازَ يحيى بعشرة آلاف دينار، ومئة حُلَّة. وكانت ولاية عاصم على خُراسان سبعة أشهر، وقيل: سنة. وقدم أسد وقد انصرف الحارث بن سُرَيج، فحبس عاصمًا وحاسبَه على ما أنفق من الأموال. ووصل كتاب هشام إلى خالد يأمرُه أن يكتبَ كتابًا إلى أسد يطلب منه الحارث أينما كان، فكتبَ إليه، وكان الحارث بمَرْو الرُّوذ، فسار أسد إلى آمُل، وقدَّمَ بين يديه عبدَ الرحمن بن نُعيم الغامديّ (¬1) في أهل الكوفة والشام. وسار الحارثُ إلى التِّرْمِذ، فحصرَها وطال عليه الحصار، فتأخّر عن البلد خديعةً منه لأهله، فخرج أهلُ البلد، فعاد عليهم، فهزَمهم وقتل عدَّة من الفرسان، وسارَ إليه أسد، فنزل دون النهر، وخرج أهلُ التِّرمذ، فقاتلُوا الحارث فانهزم، وجاء أسد فنزل سمرقند، ثم قفل من سمرقند حتى نزلَ بَلْخ (¬2). وفيها أخذ أسد جماعة من دعاة بني العباس، فقتل بعضَهم وحبسَ بعضًا، وكان فيهم سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وموسى بن كعب، وغيرهم. ولما جيء بهم إلى أسد قال: يا فُسَّاق ألم أنهكم وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] فقال له سليمان: نحن وإيَّاك كما قال الشاعر: لو بغيرِ الماء حَلْقي شَرِقٌ ... كنتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري صِيدَتْ - واللهِ - العقارب على يدك لأنَّا أُناسٌ من قومك، وإنما رَفَعَتْ إليك هذه المُضَريَّة علينا لأنَّا كنَّا أشدَّ الناس على قُتيبة بن مسلم، فطلبوا أن يدركوا بثأرهم (¬3). ¬

_ (¬1) في (خ) و (د) (والكلام منهما): العامري، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 105. (¬2) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 106 - 107 مطوّل. (¬3) في (خ) و (د) (والكلام منهما): منازلهم، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 108، و"الكامل" 5/ 190.

أبان بن صالح

فأمر بهم أسد إلى الحبس، وكان فيهم موسى بن كعب، وكان رأسًا في الشيعة، فأمر به فلُجم بلجام حمار، وجُذب حتى تحطَّمت أسنانُه، ثم كُسر أنفُه ووجهُه، وضربه ثلاث مئة سوط، ثم أَمر به ليُصلب، فشَفَعَ فيه الحسن بن زيد الأزديّ وقال: هو جاري وهو بريءٌ ممَّا قُذِفَ به، وكذا الآخرون. فخلَّى سبيلَهم، فلمَّا ظهر بنو العبَّاس تقدَّم عندهم موسى بنُ كدب، وكان يقول: لمَّا كان لنا أسنان لم يكن لنا خبز، فلما جاء الخبر. ذهبت الأسنان (¬1). و[فيها] حجَّ بالناس خالد بنُ عبد الملك بن الحارث بن الحَكَم بن أبي العاص -ويعرف بابن مَطِيرة- وهو أمير على المدينة، وكان على مكة والطائف محمد بن هشام المخزوميّ، وعلى العراق والمشوق خالد بن عبد الله، وأسدٌ نائبُه، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد (¬2). وفيها توفي أبان بن صالح ابن عمير بن عُبيد (¬3) وُلد سنة ستين، وهو من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل الكوفة (¬4). دخل أبان على عمر بن عبد العزيز، فقال له: أفي ديوانٍ أنت؟ قال: قد كنتُ أكره ذلك مع غيرك، فأَمَّا معك فلا أُبالي. ففرض له. وكانت وفاته بعسقلان وهو ابن خمس وستين سنة (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر المصدران السابقان، و"تاريخ دمشق" 17/ 400 (مصورة دار البشير- ترجمة موسى بن كعب) ومن قوله: فيها أعاد هشام ولاية خراسان إلى خالد (أول هذه السنة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) تاريخ الطبري 7/ 107. ومن قوله: وهو أمير على المدينة، .. إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) قوله: بن عبيد، من (د). (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 455. (¬5) كذا في "تاريخ دمشق" 2/ 302 عن ابن سعد، غير أنَّ في "طبقاته" 8/ 455 أنه مات وهو ابن خمس وخمسين، ونقل ابن عساكر سنّه هذا (55) عن يعقوب بن شيبة بعد نقله كلام ابن سعد، والله أعلم. ولم ترد هذه الترجمة في (ص)، وهي من ضمن الخرم الذي وقع في (ب).

سكينة بنت الحسين

سُكَينةُ بنتُ الحسين ابن علي بن أبي طالب، واسمُها آمنة، وقيل: أُميمة، وقيل: أمينة، وسُكينة لقبٌ لها. وأمُّها الرَّباب (¬1) بنت امرئ القيس بن عديّ بن أوس بن جابر بن كعب بن عُلَيم بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عُذرَة بن زيد اللات بن رُفيده بن ثور بن كلب (¬2). وفيها يقول الحسين بن علي عليه السلام: لعمري (¬3) إنَّني لأُحِبُّ دارًا ... تَحُلُّ بها سُكَينةُ والرَّبَابُ وكانت الرَّبابُ تقول: إنما أُلْبِسُ الدُّرَّ سُكَينةَ لتفضحَهُ، لا أنه يُزيِّنها (¬4). وأوَّلُ من ابتكرهَا مصعب بن الزُّبير بن العوَّام، فولدَتْ له فاطمة، وهي اللباب، وأصدَقَها ألفَ ألفِ درهم، وحملَها إليه أخوها عليّ بن الحسين، ثم قُتل عنها. وقيل: أوَّلُ أزواجِها الحسن بن الحسن بن عليّ، ثم مصعب (¬5)، ثم خلفَ عليها عبدُ الله بن عثمان (¬6) بن عبد الله بن حكيم بن حزام بن خُويلد، فولَدَتْ له عثمان وحكيمًا وربيحة، ثم هلك عنها، فخلف عليها زيد بن عَمرو بن عثمان بن عفان، فهلك عنها، فتزوَّجَها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزُّهْريّ، فأقامت معه ثلاثة أشهر، ¬

_ (¬1) في (ص): وأم سكينة الرَّباب. (¬2) طبقات ابن سعد 10/ 440، والأغاني 16/ 138، وتاريخ دمشق ص 156 (طبعة مجمع دمشق - تراجم النساء). (¬3) في "نسب قريش" ص 59، و"الأغاني" 16/ 136 و 139 و 140: لعمرك. (¬4) في "الأغاني" 16/ 150 و "تاريخ دمشق" ص 159 رواية أخرى، فيها أن سُكينة ألبست بنتها الدرّ. ومن قوله: بن عدي بن أوس بن جابر ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬5) جاء الكلام في (ص) بسياق آخر، ووقع تداخل في الأقوال. ثم لم يرد فيها الكلام الآتي بعده حتى نهاية البيتين الآتيين. وصورة الأقوال في (ص): وقد اختلفوا في أول أزواجها، فقال ابنُ سعد: أول من ابتكرها مصعب بن الزبير بن العوام، فولدت له فاطمة، وهي اللباب. وقال هشام ابن الكلبي: أول أزواجها الحسن بن الحسين بن علي، ثم مصعب بن الزبير: وأصدقَها ألفَ ألفِ درهم، وحملها إليه أخوها علي بن الحسين، فولدت منه. وقيل: أول من ابتكرها عبد الله بن الحسن بن علي - عليه السلام -". ولم أقف على قوله: اللباب. ولا هو في "طبقات" ابن سعد، ولعل صوابه: الرَّباب. ينظر "تاريخ دمشق" ص 156 (تراجم النساء). (¬6) في (خ) و (د) (والكلام منهما في هذا الموضع): عامر، بدل: عثمان. والمثبت من المصادر.

فكتب هشام بن عبد الملك إلى واليه بالمدينة أن يُفرِّقَ بينهما؛ باعتبار أنها كانت وليِّةَ نفسها (¬1)، ثم خلف عليها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان -وكان على مصر- ولم يدخل بها، فنَفِسَ عليه عبدُ الملك، فكتب إليه: اختر إمَّا سُكينة، وإمَّا مصر، فطلَّقها ومتَّعَها عشرين ألف دينار (¬2). وقيل: إنَّ أوَّلَ مَنْ تزوَّجَها عبد الله (¬3) بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فقُتل مع الحسين يوم الطُّفوف قبل أن يبتنيَ بها (¬4). وكانت من أجلِّ نساء قريش، دخلت على هشام في قواعد نساء قريش، فسلبَتْه مِنْطَقَتَه، ومِطْرَفَهُ وعِمامتَه، فدعا هشام بثيابٍ غيرِها فلبسَها. وكان مروان إذا لعن جدَّها عليًّا - عليه السلام -؛ لعنَتْه وأباه وأبا أبيه (¬5). ومن شعرها لما قُتل مصعبٌ زوجُها: فإن يقتلُوه يقتلوا الماجد الذي ... يرى الموتَ إلا بالسيوف حراما وقبلَكَ ما خاضَ الحسينُ منيَّةً ... إلى السيف حتى أوردوه حِماما (¬6) و[قال أبو اليقظان: ] كانت [سُكينةُ] من الجمال والأدب والظَّرَف والسخاء والعفاف والفضل بمنزلة عظيمة، وكان يأوي إلى منزلها العلماء والأدباء والشعراء، فتُخيِّر بينهم وتُجيزهم بالألف دينار وأكثر من ذلك على أقدارهم، وكانوا يفتخرون بأشعارهم ويُحكِّمونها لِما يعلمون من عقلها وأدبها وحِذْقِها بالشعر، وكان يجتمع إلى بابها الفرزدق، وجرير، وكُثَيِّر عَزَّة، ونُصَيب، وجميل، والأحوص، وغيرهم (¬7). [وفدت سُكينة على عبد الملك، فأكرمها وقضى حوائجها. ¬

_ (¬1) قوله: باعتبار أنها كانت وليَّةَ نفسها، من (د). (¬2) ينظر "الأغاني" 16/ 151، و"تاريخ دمشق" ص 156 - 157 (طبعة مجمع دمشق - تراجم النساء)، و"المنتظم" 7/ 175 - 176. (¬3) ينتهي عند هذا الموضع الخرم في (ب) الذي بدأ أوائل ترجمة ميمون بن مهران في أحداث السنة (116). (¬4) تاريخ دمشق ص 156، وبنحوه في "الأغاني" 16/ 153. (¬5) تاريخ دمشق ص 157. (¬6) المصدر السابق ص 158، ومن قوله: ثم خلف عليها عبد الله بن عثمان ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬7) ينظر تفصيل ذلك في "الأغاني" 16/ 161 - 171، و"تاريخ دمشق" ص 160 - 169.

عبد الله بن عبيد الله

ذكر وفاتها: حكى ابن سعد عن هشام بن الكلبي، عن خلف الزهري قال: ] ماتت سُكينة وعلى المدينة خالدُ بن عبد الله بن الحارث بن الحكم، فقال: انتظروني حتى أُصلِّيَ عليها. وخرج إلى البَقِيع، فلم يدخل حتى الظهر، وخشُوا عليها أن تتغير، فاشترَوا لها كافورًا بثلاثين دينارًا، فلمَّا دخل أمَرَ شيبة بن نِصَاح القارئ، فصلَّى عليها. [وهذه رواية ابن سعد أنها ماتت بالمدينة] (¬1). وقال الشيخ أبو الفَرَج في "المنتظم": إنها توفيت بمكة يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول (¬2). روت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حديثًا مرسلًا أنه قال: "بَشرْ قاتلَ الحسين بالنار" (¬3). وقال فائد: حدَّثَتْني سُكينة بنت الحسين، عن أبيها قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَمَلَةُ القرآن عُرفاءُ أهلِ الجنة" (¬4). عَبد الله بن عُبَيد الله ابن عَبْد الله بن أبي مُلَيكة بن عبد الله بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن تيم (¬5) بن مُرَّة. وأمُّه ميمونة بنت الوليد بن أبي حُسين من بني عبد مناف، ولم يكن لعبد الله عقب. وهو من الطبقة الثانية من أهل مكة (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 441. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬2) يعني من هذه السنة (117). والكلام في "المنتظم" 7/ 180. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) تاريخ دمشق ص 155. وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (265) وقال: هذا حديث لا يصحّ، وفائد ليس بشيء. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬5) في "طبقات" ابن سعد 8/ 33: بن كعب بن سعد بن تيم ... (¬6) المصدر السابق.

عبد الرحمن بن هرمز

قيل: كان عبد الله بن جُدْعان عقيمًا، فادَّعى رجلًا وسمَّاه زهيرًا، وكنَّاه أبا مُليكة، وولدُه كلُّهم ينسبون إلى أبي مُليكة. وكان عبد الله [بن جُدْعان] جوادًا، وله مال عظيم، وكانت له جَفْنة عظيمة مباحة للناس، فلما أسَنَّ حَجَرَ عليه رَهْطُه، فكان إذا أعطى أحدًا رجعوا فأخذوه منه، فكان يقول للسائل: كُنْ قريبًا مني حتى ألطمك، وقل: ما أريد إلا لطمتي، أو ما أريد من المال (¬1). فلما رأى ذلك أهلُه؛ خلَّوْا بينه وبين ماله، فقال: إني وإنْ لم يَنَلْ مالي مدى خُلُقي ... وهَّابٌ ما ملكَتْ كفّايَ من مالِ لا أحبسُ المال إلا حيث أتلِفُهُ ... ولا يُغيِّرُني حالٌ على حالِ (¬2) توفي عبدُ الله بمكة سنة سبع عشرة ومئة، وروى عن ابن عباس، وابن الزبير، وعقبة بن الحارث، وعائشة، وكان ثقة كثيرَ الحديث. وأخوه أبو بكر لأبيه وأمِّه، روى الحديث، وله عقب (¬3). عبد الرحمن بن هرمُز الأعرج، أبو داود، مولى محمد بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، من الطبقة الثانية من أهل المدينة، وكان عالمًا فاضلًا. خرج إلى الإسكندرية مرابطًا، فأقام بها حتى مات في سنة سبع عشرة ومئة، وكان ثقةً كثيرَ الحديث (¬4). أسند عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخُدْري، وغيرهما، وأخرج البخاري عنه في "صحيحه" (¬5). ¬

_ (¬1) لعل صواب العبارة: أو أريد من المال. ولفظ "بن جُدْعان" السالف بين حاصرتين زيادة من عندي لئلا يلتبس بصاحب الترجمة. (¬2) المنتظم 7/ 180. وينظر "أنساب الأشراف" 8/ 260 و 266، و"المعارف" ص 475. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 33. وينظر "أنساب الأشراف" 8/ 267. ولم ترد ترجمة ابن أبي مُليكة في (ص). (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 279. (¬5) ينظر "تهذيب الكمال" 17/ 469، وذكر المزّي فيه أنه روى له الجماعة.

علي بن عبد الله بن العباس

عليُّ بن عبد الله بن العبَّاس ابن عبد المطّلب بن هاشم [وكنيتُه] أبو محمد [ذكره ابن سعد في أوَّل] الطبقة الثالثة (¬1) من التابعين من أهل المدينة. [قال: ] وأمُّه زُرعة بنت مِشْرَح بن معدي كرب الكنديّ. [قال: ] وُلد ليلةَ قُتل عليٌّ - عليه السلام -[في شهر رمضان سنة أربعين] فسُمِّيَ باسمه، وكُنِّيَ بكنيته أبا الحسن، فقال له: عبد الملك بن مروان: والله لا أحمل لك الاسم والكنية جميعًا، فغَيِّرْ أحدَهما. فَغيَّرَ الكنية، وصيَّرها أبا محمد (¬2). [وقد اختلفوا فيمن غيَّر كنيته، فحكى ابن سعد أنه عبد الملك بن مروان. وكذا قال الهيثم بن عدي]. قال الهيثم: قدم على عبد الملك، فأكرمه وأقعدَه معه على سريره، وسألَه عن اسمه وكنيته وقال له: حوِّل كنيتك ولك مئة ألف درهم، فقال: أَما وأبي حيٌّ؛ فلا. قال: فهل لك ولد؟ قال: نعم، محمد. فقال: تكَنَّ به. ففعل. [وذكره الطبري بمعناه وقال: قال له عبد الملك: لا يجتمع في عسكري هذا الاسم والكنية لأحد (¬3). وقيل: إنما غيَّرها معاوية]. وقال البلاذري: لما وُلد عليّ أراد معاويةُ عبدَ الله بنَ عباس أن يسمِّيَه معاوية، فأبى عبدُ الله وقال: قد سقَيتُه عليًّا، وكنَّيتُهُ أبا الحسن. ووُلد لعبد الله بن جعفر غلام، فسقَاه عليًّا، وكنَّاه أبا الحسن، فأرسلَ إليهما معاويةُ أن انقلا اسمَ أبي تراب وكنيتَه عن ابنَيْكما، وسمِّياهما باسمي، وكنِّياهما بكنيتي، ولكلِّ واحد منكما ألفُ ألفِ درهم، فأما عبدُ الله بنُ عباس فأبى ذلك، وأجاب عبدُ الله بنُ جعفر، وأخذ المال، فقال ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د): من الطبقة الثالثة ... والمثبت عبارة (ص) وما بين حاصرتين منه. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 307، وتاريخ دمشق 51/ 40 (طبعة مجمع دمشق). وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) تاريخ الطبري 7/ 111 - 112. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص).

معاوية لابن عباس: انقل كنيتَه ولك خمس مئة ألف [ألف] درهم. فقال: أمَّا هذا فنعم. فكنَّاه أبا محمد (¬1). وقال المُعافَى: فامتنع عبدُ الله بن عبَّاس وقال: حدَّثني عليُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من قوم يكون فيهم رجلٌ صالح يموت، فيخلُف فيهم مولود فيسمُّونه (¬2) باسمه وكنيته إلا خَلَفَهم الله بالحسنى". وما كنتُ لأغيِّر اسمَه أبدًا. فقال معاوية: فالكنية. قال: أمَّا هذه فنعم (¬3). و[قال ابن سعد: ] كان أصغرَ ولدِ أبيه سنًّا، وكان أجملَ قرشيِّ مشى على وجه الأرض (¬4). وكان يقال له: السَّجَّاد لكثرة صلاته؛ كان يصلِّي في اليوم والليلة خمس مئة ركعة [يسجد فيها ألف سجدة. وفي روإية ابن سعد أنه كان يصلي في اليوم والليلة] ألف ركعة (¬5). [ذكر طرف من أخباره: قال أبو نُعيم بإسناده عن هشام بن سليمان المخزومي: إن عليًّا، كان إذا قدمَ حاجًّا أو معتمرًا عطَّلت قريشٌ مجالسَها في المسجد الحرام، وعطَّلت حِلَقَها، ولزمَتْ مجلسَه إعظامَّا وإجلالًا له، فإن قعد قعدوا، وإن نهض نهضوا، وإن مشى مَشَوْا جميعًا حتى يخرج من المسجد الحرام (¬6). [وروى أبو القاسم الدمشقي عن الوليد بن مسلم قال: كان لعليّ خمس مئة شجرة، فكان يصلي كلَّ يوم عند كلِّ شجرة ركعتين (¬7). ¬

_ (¬1) الكلام بنحوه في "تاريخ دمشق" 51/ 43 (طبعة مجمع دمشق) ولفظة "ألف" المكررة بين حاصرتين منه. ولم أقف عليه عند البلاذري. ولم يرد كلام الباذري في (ص) ولا كلام المعافى الآتي بعده. (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): فيسميه. والمثبت من "تاريخ دمشق" 51/ 43 - 44 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) المصدر السابق. وقد رمز السيوطي في "الجامع الصغير" (8089) لضعف حديث عليّ المذكور. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 308. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): وقيل ألف ركعة. والمثبت عبارة (ص) وما بين حاصرتين منها. ورواية ابن سعد في "طبقاته" 7/ 308. وينظر "تاريخ دمشق" 51/ 47 - 48. (¬6) حلية الأولياء 3/ 207، وتاريخ دمشق 51/ 50 - 51. (¬7) تاريخ دمشق 51/ 48 - 49. والكلام بين حاصرتين من (ص).

قال: ] وسكن علي الشَّراة من أرض البلقاء، وكان له دارٌ بدمشق قِبليّ سوق الدوابّ (¬1). و[قال المدائني: ] كان صديقًا لعبد الملك بن مروان، وكان [عبد الملك] يحترمُه، دخل عليه يومًا والبرد شديد وقد حال بينهما دخان العُود، فقال له: احمدِ اللهَ يا أمير المؤمنين على ما أنت فيه من الدِّفْء، وممَّا الناسُ فيه من البرد. فقال له عبد الملك: يا أبا محمد، أبعْدَ ابن هند؟ ! كان أميرًا عشرين سنة، وخليفةَ مثلُها، أصبحَ تهتزُّ على قبره يَنْبُوتة، ما هو إلا كما قال الشاعر: وما الدَّهْرُ والأيامُ إلا كما ترى (¬2) ... رَزِيَّةَ مالٍ أو فراقَ حَبِيبِ وإنَّ امْرَأً قد جرَّبَ الدَّهْرَ لم يَخَفْ ... تصرُّفَ عصرَيهِ لَغيرُ أرِيبِ ودخل عبد الملك بن حُريث بن عبد الله (¬3) العُذري (¬4) على الوليد بن عبد الملك وهو خليفة، فسأله حَمَالةً (¬5)، فزَبَرَهُ الوليد بنُ عبد الملك وقال: أنت صِهْرُ لَطيم الشيطان، -يعني عمرَو بنَ سعيد الأشدقَ، وكانت أمُّ حبيب بنت حُريث العُذْريّ (¬6) تحت عَمرو، وولَدَتْ له سعيدًا وأميَّة- فقال: ما أنا صهرَ لَطِيم الشيطان، أنا صهرُ أبي أميَّة عَمرو بن سعيد. ثم أنشدَ شعر يحيى بن الحكم فقال: وما كان عَمرٌو عاجزًا غيرَ أنَّهُ ... أتَتْهُ المنايا بغتةً وهو لا يدري فلو أنَّ عَمرًا كان بالشام زُرْتُهُ ... بأغوارها أو حَلَّ يومًا على مِصْرِ ¬

_ (¬1) المصدر السابق 51/ 36. (¬2) في "أنساب الأشراف" 3/ 82: أرى. وينظر الخبر فيه. (¬3) في "أنساب الأشراف" 3/ 80: عبد الملك بن عبد الله بن نُديرة. (¬4) في (ب) و (خ): العدوي. والمثبت من (د)، وهو موافق لما في المصدر السابق. والكلام من هذا الموضع إلى الكلام عن وفاته (قبل ذكر أولاده) ليس في (ص). (¬5) الحَمَالة: هي ما يحملُه قوم عن قوم من ديّة أو غرامة، ولم تُجوَّد اللفظة في (ب) و (خ) (والكلام منهما) فوقع رسم اللفظة: حاله. والمثبت من "أنساب الأشراف" 3/ 80. وسترد اللفظة على الصواب أواخر الخبر. (¬6) تحرفت في النسخ إلى: العدويّ.

وكانت أمُّ البنين امرأةُ الوليد خلف الستر، فقالت: من هذا الأحمق؟ وسمعها العُذريّ، فأنشد يعرِّضُ بأبيها، وكان قد جُلد في الخمر: وَدِدْتُ وبيتِ اللهِ أنّي فَدَيتُهُ ... وعبدُ العزيز يومَ يُجلد في الخمرِ فقالت للوليد: ما أجرأه عليك! فقال: كُفِّي لا يأتي بما بعده. يعني إلى قوله في القصيدة: غَدَرْتُم بعَمرٍو (¬1) يا بني خَيطِ باطلٍ ... وكلُّكُمُ يبني البَنَانَ (¬2) على غَدْرِ وخَيط باطل: مروان بن الحكم. ثم أمرَ به الوليد، فأُخرِج، فجاء إلى عليِّ بن عبد الله بن عبَّاس فأخبره، فأعطاه حَمَالتَه وكساه. وقال العُذْريّ: شهدتُ عليكمْ أنّكُمْ (¬3) خيرُ قومِكُمْ ... وأنَّكُمُ آلُ النَّبيِّ محمَّدِ فنِعْمَ أبو الأضيافِ والطُّالِبِي القِرَى ... عليٌّ حليفُ الجُودِ في كلِّ مَشْهَدِ فإنَّ الذي يرجو سواكُم وأنتمُ ... بنو الوارثِ الدَّاعي (¬4) لَغيرُ (¬5) مُسَدَّدِ وإنِّي لأرجُو أنْ تكُونوا أئمَّةً ... تسوسون من شئتُم (¬6) بمُلكٍ مؤيَّدِ وإنِّي لِمَنْ والاكُمُ لَمُواليًا ... وإنّي لِمَنْ عاداكُمُ سُمُّ أَسْوَدِ وقال ابنُ الكلبيّ: كان عبد الملك صديقًا لعليّ صداقةً مؤكّدة، لم يزل أثيرًا عنده حتى طلَّق عبد الملك بنتَ عبد الله بنِ جعفر، فتزوَّجها عليٌّ، فتغيَّر عليه عبد الملك، وبسطَ لسانَه فيه، وقال. إن صلاته رياء وسُمعة، وكان الوليد يسمع ذلك من أبيه، فبقي في قلبه حتى آذاه بسبب سَلِيط (¬7). ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 3/ 81: بيحيى. (¬2) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها)، ولعلها جمع بُنانة، وهي الروضة المعشبة. ووقع في المصدر السابق: البيوت. (¬3) في (خ): أنه. والمثبت من (ب) و (د)، وهو موافق لما في المصدر السابق. (¬4) في "أنساب الأشراف" 3/ 82: الزاكي. (¬5) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): فغير. والمثبت من المصدر السابق. (¬6) في المصدر السابق: سُسْتُم. (¬7) بنحوه في "أنساب الأشراف" 3/ 84.

حديث سَلِيط: كانت لعبد الله بن عباس جاريةٌ صفراءُ مولَّدةٌ تخدُمُه، فواقعها اتفاقًا غير طالب ولد، فاغتَنَمتْ ذلك، فأمكَنَتْ من نفسها عبدًا من عبيد المدينة، فوقع عليها فحبلَتْ منه، وحدَّها ابنُ عبَّاس، واستعبدَ ولدَها، وأنكره، وسمَّاه سَلِيطًا. فنشأ جَلْدًا ظريفًا، ولم يزل يخدُم عبد الله بنَ عبَّاس حتى مات، وانتقل إلى علي بن عبد الله، فكان معه يخدُمه بالشام، وكان له من بني أمية موقع، فدسَّ الوليدُ بنُ عبد الملك إلى سَلِيط لما كان في نفسه من عليّ أن يدَّعيَ أنه ابنُ عبد الله بنِ عبَّاس، ويخاصمَ عليًّا في الميراث، ففعل سَلِيط، وأقام شهودًا، وأثبت ذلك على القضاء، فألحقه الوليد بابن عباس، فكان سَلِيط بعد ذلك يؤذي عليًّا، ويستطيل عليه، وينال منه. وكان عند عليّ رجلٌ من ولد أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له: عمر الدَّنّ، فقال لعليٍّ: ألا أقتلُ هذا الدَّعيَّ؟ فناشده اللهَ أن لا يفعل، ونهاه عنه. فاتَّفقَ أنَّ عليًّا خرج إلى بستان على فرسخ من دمشق ومعه سَلِيط وعمر الدَّنّ، ورجل آخر يقال له: عروة بن راشد (¬1)، وقيل: أبو المهنَّى فايد مولى لعلي، فقام عليٌّ يصلِّي، وجلس الدَّنُّ وفايد وسَلِيط يأكلون فاكهةً، فقاما إلى سَلِيط فقتلاه ودفناه، وعفَّيا آثاره وهربا، فلما فرغ على من الصلاة طلبَهم، فلم يجد منهم أحدًا. وقام عليٌّ، فدخل دمشق، وفشا الحديثُ، واستغاثت أمُّ سَلِيط -وقيل: زوجتُه- إلى الوليد، فحرثَ البستان، وأُجري الماء عليه، فوقف عند قبر سَلِيط، فأُخرجَ مقتولًا. فأحضر الوليدُ عليًّا، وسألَه، فقال: واللهِ ما أعلمُ بذلك، وما أمرتُ به. فأحلفه أنه ما يعلمُ مكانَ الدَّنِّ وصاحِبِه، فحلفَ، فأقام الوليدُ عليًّا في الشمس، وصبَّ على رأسه الزيت، وألبسه جُبَّة صوف، وضربَه ستين سوطًا، وقيل: خمس مئة سوط، كان يضربُه أبو الزُّعيزعة مولى عبد الملك بين يدي الوليد. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 3/ 85: أبو راشد.

فكلَّمه فيه عبَّاد بنُ زياد، فأمر أن يُسَيّر إلى دَهْلَك (¬1) -جزيرة في البحر- فكلَّمه فيه سليمان بنُ عبد الملك وقال: إنَّه ابنُ العمِّ ورجل صالح عابد، فإنْ سيَّرتَه إلى دَهْلَك؛ هلك وتقوم علينا الشناعة، فسيَّره إلى الحِجْر، فأقام حتى هلك الوليد. فلما قام سليمان ردَّه إلى دمشق، فانتقل إلى الشَّراة (¬2). وحكى أبو مسعود الدمشقيّ (¬3) أنَّ الوليد رأى أباه عبدَ الملك في المنام، فقال: لِمَ تُؤذي عليًّا وتظلِمُه؟ ! واللهِ لَيَسْلُبَنَّكُم مُلكَكُم. فزادَه ذلك بُغضًا. وكان الوليدُ خبيثًا مبغضًا لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتبَ إلى الآفاق يُشنِّع على عليّ ويقول: قتلَ أخاه. وكان أبو مسلم الخُراساني يدَّعي أنَّه ابنُ سَلِيط، ومما عَدَّدَ عليه المنصور لمَّا ظفر به قال: زعمتَ أنَّك ابنُ سَلِيط، فلم ترضَ حتى نسبتَ إلى عبد الله غيرَ ولده، لقد ارْتَقَيتَ مُرْتَقًى صعبًا. وكان عليُّ بن عبد الله على المدينة في وقعة الحَرَّة، فأحضَرَه مسرف بنُ عقبة (¬4)، وقال له: بايعْ يزيد. فبايعَه (¬5). [واختلفوا في وفاته، فحكى ابنُ سعد على قولين: فقال أبو معشر وغيره: ] توفّي سنة سبع عشرة ومئة. [وقال الواقدي: ] سنة (¬6) ثمان عشرة ومئة [قال: وكان يصبغ بالسواد (¬7). ¬

_ (¬1) دَهلك (وزن جعفر): جزيرة في بحر اليمن بينها وبين الحبشة، قال ياقوت الحموي: كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نَفَوْه إليها. معجم البلدان 2/ 492. (¬2) ينظر الخبر بتمامه في "أنساب الأشراف" 3/ 84 - 86. والشَّراة: صقع بين دمشق والدينة. معجم البلدان 3/ 332. (¬3) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها). ولعله وهم، فالخبر في "أنساب الأشراف" 3/ 86، وقد رواه البلاذري فيه عن أبي مسعود الكوفي ابن القتَّات. (¬4) يعني مسلم بن عقبة، سمِّي مسرفًا لإسرافه في القتل يوم الحَرَّة في أهل المدينة. (¬5) من قوله: ودخل عبد الملك بن حريث (قبل خبر سليط) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬6) في (ب) و (خ) و (د): وقيل: سنة ... إلخ والمثبت عبارة (ص)، والكلام الواقع بين حاصرتين منها. (¬7) ينظر هذا الكلام عند ابن سعد في "طبقاته" 7/ 308 - 309.

وقال خليفة: مات، سنة (¬1) أربع عشرة ومئة بالحِمَّة من أرض الشَّراة وهو ابن ثمان أو سبع وسبعين سنة (¬2). وهو معتدل القامة، وكان يخضب بالوَسْمة (¬3). ذكر أولاده (¬4): قال ابن سعد: فولدَ عليٌّ محمدًا، وأمُّه العالية بنت عُبيد الله بن العبَّاس بن عبد المطلب، وداودَ، وعيسى؛ لأمّ ولد، وسليمانَ، وصالحًا، وهما لأمِّ ولد، وأحمدَ، وبِشْرًا، ومُبشِّرًا، وإسماعيل، وعبدَ الصمد، وهم جميعًا لأمِّ ولد، ولا عقب لبِشْر ومبشِّر، وعبدَ الله الأكبر؛ لا عقب له، وأمُّه أمُّ أبيها بنت عبد الله بن جعفر، وعُبيدَ الله؛ لا عقب له، وأمُّه (¬5) امرأةٌ من بني الحَرِيش، وعبدَ الملك، وعثمان، وعبدَ الرحمن، وعبدَ الله الأصغر الخارج بالشام على أبي جعفر، ويحيى، وإسحاقَ، ويعقوبَ، [وعبدَ العزيز] (¬6)، وإسماعيلَ الأصغر، وعبدَ الله الأوسط، وهو الأحنف، ولا عقب له، وهم لأمَّهات أولاد شتَّى، وفاطمةَ، وأمَّ عيسى الكبرى، وأمَّ عيسى الصغرى، وأمينة (¬7)، ولُبابه، وبُريهةَ الكبرى، وبُريهةَ الصغرى، وميمونةَ، وأمَّ عليّ، والعالية، وهنّ لأمَّهات أولاد شتَّى، وأمَّ حبيب؛ وأمُّها أمُّ أبيها بنت عبد الله بن جعفر. فهؤلاء اثنان وثلاثون ولدًا؛ منهم أحد وعشرون ذكرًا (¬8)، وإحدى عشرة أنثى. فأمَّا محمد؛ فهو أبو الخلفاء، وسنذكره. ¬

_ (¬1) في النسخ المذكورة (والكلام منها): وقيل: سنة ... إلخ والمثبت من (ص) والكلام السالف بين حاصرتين منها. (¬2) كذا أخرج ابن عساكر عن خليفة أنه مات سنة (114) ولم أقف عليه، والذي في "طبقاته" ص 239 و 255 أنه مات سنة (118)، وكذا أورد وفاته في "تاريخه" ص 349 في أحداث سنة (118). (¬3) الوَسْمة: نبات عشبيّ يُصبغ به. (¬4) لم ترد هذه الفقرة ولا ترجمة فاطمة بنت الحسين الآتية بعدها في (ص). (¬5) من قوله: أمُّ أبيها ... إلى هذا الموضع من (د)، وسقط من (ب) و (خ). (¬6) قوله: عبد العزيز، بين حاصرتين، من "طبقات" ابن سعد 7/ 307، وعنه نقل المصنف. وذكره أيضًا مصعب الزبيري في "نسب قريش" ص 29، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 3/ 80. (¬7) في "نسب قريش": أميمة. (¬8) مع ذكر عبد العزيز (كما سلف قبل تعليق) يكون العدد (33)؛ منهم (22) ذكرًا.

فاطمة بنت الحسين

وأمَّا داود؛ فنذكره في سنة ثلاث وثلاثين ومئة. وأمَّا عيسى؛ فهو صاحب قصر عيسى ببغداد؛ توفي في خلافة المهديّ. وأمَّا سليمان؛ فكان وصيَّ أبيه، ونذكره. وأمَّا صالح؛ فهو الذي قتل مروان بنَ محمد الجعديّ، وسنذكره. وأمَّا عبد الصمد؛ فنذكره في سنة خمس وثلاثين ومئة. وأمَّا عبد الله الأصغر؛ فهو الخارج على المنصور، وسنذكره في خلافة أبي جعفر. وأمَّا بناتُ عليّ؛ فكانت فاطمةُ من أفضلهنّ وأسنِّهنَّ، وكان بنو العبَّاس يعظِّمونها لعقلها وفضلها ورأيها. وأمّا أمُّ عيسى الصغرى؛ فكانت عند عبد الله بن الحسين بن عُبيد الله بن العبَّاس (¬1) فلم تلد له، ومات عنها فورثَتْه مع عَصَبته. وأما أمينة (¬2)، فكانت عند يحيى بن جعفر بن تَمَّام بن العبَّاس فلم تلد له. وأمَّا لُبابة فكانت عند عُبيد الله بن قُثَم بن العبَّاس، فولدَتْ له محمدًا؛ مات في حياة أبيه، وولدَتْ له بُريهة؛ تزوَّجَها جعفر بنُ أبي جعفر المنصور، وهو جعفر الأصغر، ويُدعى ابنَ الكُرْدِيَّة. وأمَّا باقي بنات عليّ؛ فلم يتزوَّجن (¬3). أسند عليٌّ الحديثَ عن أبيه، وأبي سعيد الخُدري، وابنِ عُمر، وأبي هريرة، وكان ثقةً قليلَ الحديث. فاطمة بنت الحسين ابن علي بن أبي طالب، - رضي الله عنه -، وأمُّها أمُّ إسحاق بنت طلحة بنِ عُبيد الله. ¬

_ (¬1) في "نسب قريش" ص 30: عبد الله بن الحسين بن عَبد الله بن عُبيد الله بن العباس. (¬2) في المصدر السابق: أميمة، وسلفَ كذلك قبل تعليقين. (¬3) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): يبرزن. والمثبت من "نسب قريش" ص 30، والكلام السالف فيه.

تزوَّجها ابنُ عمها حَسَن بنُ حَسَن بنِ عليّ، فولدَتْ له عبدَ الله، وإبراهيمَ، وحسنًا، وزينب، ثم ماتَ عنها، فخلفَ عليها عبدُ الله بنُ عَمرو بنِ عثمان بنِ عفَّان -ويقال له: المُطْرَف لجماله- فولدت له القاسمَ، ومحمَّدًا، وهو الدِّيباج؛ سُمِّيَ بذلك لجماله، ورُقَيَّةَ؛ بني عبد الله بن عَمرو، ومات عبد الله عنها. وكان زوَّجَه بها ابنُها عبدُ الله بن حسن بن حسن (¬1). وقدمت فاطمة وأختُها سُكينة على هشام بن عبد الملك، فأكرمهما وانبسط إليهما وقال لفاطمة: يا بنت الحسين، صِفي لنا ولدَكِ من ابنِ عمِّك الحسن -يعني عبد الله والحسن وإبراهيم بني (¬2) حسن بن حسن- وولدَكِ من ابن عمِّنا، يعني الديباج والقاسم ابنَي عبد الله بن عَمرو بن عثمان الملقب بالمُطْرَف. فقالت: أمِّا عبد الله بن حسن؛ فسيِّدُنا وشريفُنا والمطاعُ فينا، وأمَّا حسن بن حسن؛ فلسانُنا (¬3) ومِدْرَهُنا (¬4)، وأما إبراهيم بن الحسن؛ فأشبهُ الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - شمائلًا. وأمَّا [اللذان من] ابنِ عمّكم [فإنَّ] محمدًا (¬5) -يعني الدِّيباج- جمالُنا (¬6) الذي نُباهي به، وأمَّا القاسم؛ فعارِضَتُنا الذي نمتنعُ به، وهو أشبهُ الناس بأبي العاص بن أميَّة عارضةً ونفسًا. فقال لها هشام: واللهِ لقد أحسنتِ في وصفهم. ثم وثبَ، فجذبَتْ سُكينةُ بردائه وقالت: يا أحول، كم تَهَكَّمُ بنا! واللهِ ما أبرَزَنا لكم إلا يومُ الطُّفُوف (¬7). فضحك هشام وقال: أنتِ امرأةٌ كبيرةُ السِّنِّ كثيرةُ الشَّرّ إلا أنَّا نُكرمُكِ (¬8). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 10/ 439. (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): بن. وأثبتُّ اللفظة على الجادّة. (¬3) في النسخ المذكورة: فكسابنا. والمثبت من"التذكرة الحمدونية" 4/ 32، و"تاريخ دمشق" ص 283 (طبعة مجمع دمشق- جزء تراجم النساء). (¬4) المِدْرَهُ: السيِّد الشريف، وزعيم القوم وخطيبُهم المتكلم عنهم. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): وأما ابنُ عمكم محمدًا ... واستدركتُ ما بين حاصرتين من "تاريخ دمشق" ص 284، وفي "التذكرة الحمدونية"4/ 33: وأما اللذان من ابن عمّك. (¬6) في النسخ المذكورة: فجمالنا، وأثبتُّ لفظة المصدرين السابقين من أجل قوله: فإن محمدًا. (¬7) الطُّفوف -أو الطَّف- موضع قرب الكوفة، وفيه استُشهد الحسين - رضي الله عنه -. (¬8) الخبر بنحوه في "التذكرة الحمدونية" 4/ 31 - 32، و"تاريخ دمشق" ص 283 - 284.

أم البنين بنت عبد العزيز

وتوفّيت فاطمة في سنة سبعَ عشرةَ ومئة، وقيل: في سنة أربعَ عشرة، وستَّ عشرة ومئة. وكانت وفاتُها بالمدينة. روت عن جدَّتها (¬1) مرسلًا، وعن أبيها، وعمَّتها زينب بنت عليّ، وأخيها عليِّ بن الحسين، وبلال مرسلًا، وعن ابن عباس، وعائشة، وأسماء بنت عُميس. وروى عنها بنوها: عبد الله والحسن وإبراهيم بنو الحسن بن الحسن، وابنُها محمد الدِّيباج، وعائشةُ بنت طلحة بن عُبيد الله (¬2). وقال محمد بنُ عبد الله بن عَمرو بن عثمان بن عفَّان -وهو الدِّيباج- قال: جمعَتْنا أُمُّنا فاطمة بنتُ الحسين بن عليّ فقالت: يا بَنِيّ، واللهِ ما نال أحدٌ من أهل السَّفَه بسفهه شيئًا ولا أدركوا لذَّةً إلا وقد نالها أهلُ المروءات بمروءاتهم، فاستَتِرُوا بجميل ستر الله تعالى (¬3). أمُّ البنين بنتُ عبد العزيز ابن مروان، [أخت عمر بن عبد العزيز، ويقال: إن] اسمها فاطمة، وأمُّها ليلى بنتُ سُهيل بن حنظلة بن الطُّفَيل بن مالك بن جعفر بن كلاب. وكانت أمُّ البنين صالحةً عفيفةً ديِّنةً متصدِّقةً. وقال [ابنُ أبي الدنيا بإسناده عن] عليّ بن أبي حَمَلَة [قال]: سمعتُ أمَّ البنين تقول: أفٍّ للبُخْل، لو كان قميصًا ما لبستُه، ولو كان طريقًا ما سلكتُه (¬4). [قال: ] وكنَّا ندخلُ عليها وما عليها سوى المِقْنَعَة (¬5). ¬

_ (¬1) يعني السيدة فاطمةَ بنتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) تاريخ دمشق ص 272 (طبعة مجمع دمشق- جزء تراجم النساء). (¬3) المصدر السابق ص 284. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬4) أخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 185 من طريق ابن أبي الدنيا، وتحرف فيه لفظ: حَمَلَة، إلى: جميلة. وهو في مصادر أخرى من طريق إبراهيم بن أبي عَبْلَة عن أمِّ البنين. ينظر "تاريخ دمشق" ص 480 - 481. (¬5) المِقنعة: ما تُقَنِّعُ به المرأة رأسها. ووقع في (ص): مِقْنَعَة. ولم أقف على الخبر.

وقال [ابن أبي الدنيا بروايته عن] سعيد بن مسلمة بن هشام الأموي [قال: ] كانت أمُّ البنين تبعثُ إلى نسائها فتجمعهنّ (¬1)، فيتحدَّثن عندها وهي تصلِّي، ثم تنصرف إليهن، فتقول: أُحبُّ حديثَكنَّ، فإذا دخلتُ في صلاتي لَهَوْتُ عنكنَّ (¬2). وكانت تكسوهنَّ الثياب الحسنة، وتُعطيهنَّ الدنانير، وكانت تقول: [لكلّ شيء، أو: ] لكل قوم نَهمة في شيء، ونَهْمَتي في العطاء والصِّلة، وواللهِ إنَّ البذل والمواساة أحبُّ إليَّ من الطعام الطيِّب على الجوع، ومن الشراب البارد على الظمأ. وقالت: ما حسدتُ أحدًا على شيء إلا أن يكون في معروف، فإني كنتُ أُحبُّ أن أشرَكَه فيه. [قال: ] وكانت تُعتق في كلِّ جمعة رقبةً، وتحملُ على فرسٍ في سبيل الله (¬3). وكانت تقول: البخيل من بخل على نفسه بالجنة (¬4). وكانت تقول: إنَّ من كنوز الذخائر عند الله حُسنَ الضمائر في خلقه. وقالت: ما تحلَّى المتحلُّون بشيءٍ أحسنَ من تحلِّيهم بعِظَم مهابة الله في صدورهم، وما استشعر المستشعرون بمثل الخوف من الله تعالى (¬5). و[قال ابن أبي الدنيا بإسناده عن مروان بن محمد بن عبد الملك قال: ] دخلت عَزَّةُ كُثَيِّر عليها، فقالت لها ما قال كُثَيِّر: قضى كلُّ ذي دَينٍ فوفَّى غَرِيمَهُ ... وعَزَّةُ مَمْطولٌ مُعَنًّى غَرِيمُها ما كان هذا الدين يا عَزَّة؟ فاستحيَتْ، فقالت: عليَّ ذاك [قالت: ]، كنتُ وعَدْتُهُ قُبلةً فتحرَّجْتُ منها. فقالت لها: أنْجِزِيها له، وعليَّ إثْمُها. ثم إنها ندمَتْ وأعتقتْ لهذه الكلمة أربعين رقبةً، وكان إذا ذكَرَتْها بكَتْ وتقول: يا ليتني خَرِسْتُ ولم أتكلَّم بها (¬6). ¬

_ (¬1) في (ص): فيجتمعن. (¬2) صفة الصفوة 4/ 299، والتوابين ص 170. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) ينظر ما سبق في "صفة الصفوة" 4/ 299. (¬4) التوابين ص 170. ولم يرد هذا القول في (ص). (¬5) الشطر الأول من هذا القول في "صفة الصفوة" 4/ 300. ولم يرد في (ص). (¬6) هو في "المنتظم" 7/ 184 من طريق ابن أبي الدنيا. ومن طريق آخر في "تاريخ دمشق" ص 481 - 482، و"التوابين" ص 168 - 169.

قتادة بن دعامة

وقال شيخنا موفَّق الدين رحمةُ الله عليه: تَعَبَّدَتْ أمُّ البنين عبادةً ذُكِرَتْ بها في عصرها من شدَّة اجتهادها، فوفَضَت فراش المملكة، تُحيي ليلَها (¬1)، وتصومُ نَهارَها، وكانت على مذهبٍ جميلٍ حتى توفِّيت، رحمها الله تعالى (¬2). [وهي صاحبة وضَّاح اليمن، وقد ذكرناه] (¬3). قَتَادة بن دِعامة السَّدُوسيّ، [ذكره ابن سعد في أوّل] (¬4) الطبقة الثالثة من التابعين من أهل البصرة. [قال: وكنيتُه أبو الخطاب، و] كان ثقةً حُجَّةً مأمونًا على الحديث [أو: في الحديث]. وكان يقول بشيءٍ من القدر. وقال: الحِفْظُ في الصِّغَر كالنَّقْشِ في الحَجَر. وقال: ما قلتُ برأي منذ أربعين سنة. وقال: إذا أعَدْتَ الحديثَ في مجلس أذهبتَ نورَه (¬5). وقيل له: ألا نكتبُ ما نسمعُ منك؟ فقال: إن اللطيف الخبير قد كتبَ. وقرأ: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]. وقدم على سعيد بن المسيِّب، فأقام عنده ثمانية أيام، فقال له سعيد: يا أعمى، ارْتَحِلْ عنَّا فقد أنزَفْتَنا. وقال له سعيد: ما أظنُّ أن اللهَ خلقَ مثلك (¬6). ¬

_ (¬1) لم يرد في (ص) قوله: وقال شيخنا موفق الدين ... ، وجاءت فيها العبارة بلفظ: وكانت مجتهدة في العبادة، وكانت تُحيي ليلها ... إلخ. (¬2) التوابين ص 169. (¬3) وضّاح اليمن اسمه: عبد الرحمن -أو عبد الله- بن إسماعيل بن عبد كُلال. وخبره في "الأغاني" 6/ 209 - 241. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) في (ب) و (خ) و (د): من الطبقة الثالثة. والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منها. (¬5) من قوله: ما قلت برأيي ... إلى هذا الموضع ليس في (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 9/ 228 ولم يرد هذا القول ولا الذي قبله في (ص).

السنة الثامنة عشرة بعد المئة

و [روى عنه أبو نُعيم أنه كان يقول: ] ما سمعَتْ أذناني شيئًا إلا وعاه قلبي (¬1). [قال: ] وكان يختم القرآن كل سبع ليال مَرَّةً، فإذا جاء رمضان ختمَ في كلِّ ثلاث ليالٍ مَرَّةَ، فإذا جاء العشر ختم في كلِّ ليلةٍ مَرَّةً (¬2). وكان قد ذهبَ بصرُه. [وروى ابن سعد أيضًا أنه] مات في سنة (¬3) سبع عشرة ومئة أو في سنة ثمان عشرة ومئة. [هذا صورة ما ذكره ابن سعد] (¬4). أسند عن أنس، وعبد الله بن سَرْجِس، وحنظلة الكاتب (¬5)، وأبي الطُّفَيل، وغيرهم. السنة الثامنة عشرة بعد المئة فيها قفل أسد بنُ عبد الله من سمرقند إلى بَلْخ، وبعث جُدَيعًا الكِرْمانيَّ إلى القلعة التي فيها ثَقَل الحارث بن سُرَيج وثَقَلُ أصحابه (¬6)، ويقال لها: التبوشكان (¬7) من طخارستان العُليا، وكان فيها جماعة من بني تغلب أصهارُ الحارث، فحصرهم الكِرْمانيُّ وفتحَها عَنْوَةً، فقتل المقاتلةَ، وسبى أهلها من العرب والموالي والذراري، وباعهم في سوق بَلْخ (¬8). وفيها اتخذ أسدٌ بَلْخ دارًا، ونقلَ إليها الدواوين. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 334. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬2) حلية الأولياء 2/ 338 - 339. وقوله: فإذا جاء العشر ... إلخ، ليس في (ص). (¬3) في (ب) و (خ) و (د): مات قتادة في سنة ... والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منها. ووقع هذا الكلام فيها قبل قوله: وروى عنه أبو نعيم ... إلخ. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 230. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬5) ذكر المزّي في "تهذيب الكمال" 7/ 439 أن قتادة لم يدرك حنظلة الكاتب. (¬6) الثَّقَل -بالتحريك- المتاع. (¬7) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): السرسكان. والمثبت من"تاريخ" الطبري 7/ 109. (¬8) ينظر المصدر السابق 7/ 109 - 110.

وفيها عزلَ هشام بنُ عبد الملك خالدَ بن عبد الملك عن المدينة، واستعملَ عليها محمد بنَ هشام والي مكة (¬1). وكان خالد بنُ عبد الملك بن الحارث بن الحكم أقام واليًا على المدينة سبع سنين، فرمى اللهُ المدينةَ وما حولَها بالجَدْب والقحط حتى هجَّ الناس إلى الشام، وبولايته يُضرب المثل، فيقال: سُنَيَّات خالد (¬2). وحجَّ خالد بالناس سنة أربع عشرة ومئة، وسبع عشرة، ثم عُزل في سنة ثمان عشرة ومئة. وكان يشتم عليًّا رضوان الله عليه على المنبر؛ قال يومًا: ولقد استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا تراب وهو يعلم أنه كذا كذا، ولكن كلَّمته فيه فاطمة. فصاح به داود بن قيس: كذبتَ كذبتَ (¬3). قال الواقدي: فحدثني [ابن أبي سَبْرَة، عن] صالح بن محمد قال: لما قال خالد ما قال، كنتُ نائمًا (¬4)، فرأيتُ قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انشقَّ -وانفرج- وهو يقول لخالد: كذبتَ كذبتَ. وحجَّ بالناس محمد بنُ هشام وهو على مكة والمدينة والطائف، وعلى العراق خالدٌ القَسْريّ، وعاملُه على البصرة بلال بن أبي بُرْدَة، وعلى خُراسان أخوه أسدُ بنُ عبد الله، وعلى أرمينية وأذربيجان مروانُ بنُ محمد (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 111. (¬2) تاريخ دمشق 5/ 506. وسُنَيَّات: تصغير سِنِين، صُغِّرت لتعظيمها، وهي جمع سُنَيّة. قال الثعالبي في "ثمار القلوب" ص 151: كان يقال: سُنَيَّات خالد، لا أعاد الله أمثالها. وينظر "كتاب سيبويه" 3/ 495. (¬3) تاريخ دمشق 5/ 507 (مصورة دار البشير). (¬4) تحرفت اللفظة في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) إلى: قائمًا. والصواب ما أثبتُّه. وعبارة المصدر السابق: "نمتُ وخالد بن عبد الملك يخطب يومئذ، ففزعت، وقد رأيتُ في المنام كأنّ القبر انفرج ... " وما سلف بين حاصرتين منه. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 112.

أنس بن سيرين

وفيها توفي أنس بنُ سِيرين أبو حمزة، من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة (¬1). وقيل: مات سنة عشرين ومئة (¬2). أسند عن زيد بن ثابت (¬3)، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وغيرهم. وكان ثقةً قليلَ الحديث (¬4). ثابت بنُ أسلم البُنانيّ [أبو محمد. قال ابن سعد: كان من أنفسهم، وبُنانةُ إلى قريش (¬5). وقال الجوهريّ: ] بُنانة [بالضم] اسم امرأة كانت تحت سعد بن لؤيّ بن غالب بن فِهْر، وينسب ولده إليها، وهم رهط ثابت [البُناني (¬6). وذكره ابن سعد في] الطبقة الثالثة (¬7) من التابعين من أهل البصرة. قال: [كان] أنس بن مالك [يقول: إن] لكلِّ شيء مفتاحًا، وإنَّ ثابتًا من مفاتيح الخير. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 206. (¬2) ذكرهما الذهبي في "تاريخ الإسلام" 3/ 210 على عكس ذلك، فقال: توفي سنة عشرين ومئة على الصحيح، وقيل: توفي سنة ثماني عشرة. (¬3) لم تذكر المصادر له روايةً عن زيد بن ثابت، بل جاء فيها أنه دخل عليه. ينظر "العلل ومعرفة الرجال" 2/ 533 - 534، و"التاريخ الكبير" 2/ 32، و"تاريخ دمشق" 3/ 142 - 143 (مصورة دار البشير) - و"تهذيب الكمال" 3/ 347، و"تاريخ الإسلام" 3/ 210. (¬4) من قوله: فيها قفلَ أسد بن عبد الله ... (أول أحداث هذه السنة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 231. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬6) الصحاح (بنن) 6/ 2081. (¬7) في (ب) و (خ): من الطبقة الثالثة، وفي (د): وهو من الطبقة الثالثة، والمثبت عبارة (ص). والكلام بين حاصرتين منها.

[قال: ] وكان ثابت يقول: ما أكثر (¬1) أحد من ذكر الموت إلا ورُئي (¬2) ذلك في عمله. وكان ثابت من أعبد أهل زمانه، وكانت عيناه تُشبه عينَي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أنس بن مالك: ما أشبهَ عينَيك بعينَي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فما زال يبكي حتى عَمِشَتْ عيناه (¬3). [قال: ] وقال له الطبيب: اضمن لي خصلة لأُبرئ عينيك (¬4). قال: وما هي؟ قال: لا تبك. فقال ثابت: وما خيرٌ في عين لا تبكي. و[حكى عنه أبو نُعيم أنه] قال: كابدتُ الليلَ عشرين سنة، ثم نَعِمْتُ به عشرين سنه (¬5). [وروى عنه أيضًا أنه قال: ما دعا العبد (¬6) بدعوة إلا وكَّلَ الله جبريل بحاجته، فيقول: لا تعجل بحاجته (¬7)، فإني أُحبُّ أن أسمع صوت عبدي المؤمن، وإن الفاجر ليدعو، فيقول الله: يا جبريل، عجِّلْ إجابته، فإني لا أُحبُّ أن أسمع صوته] (¬8). وقال: إني لأعلم متى يذكُرُني ربي ويستجيب لي، إذا ذكرتُه، فوَجِلَ قلبي، واقشعرَّ جلدي وفاضت عيناي؛ علمتُ أنَّ ربي قد ذكرني (¬9). ¬

_ (¬1) في (ص): كثّر. (¬2) المثبت من (ص). ولم تجوّد اللفظة في النسخ الأخرى، فرسمت في (ب): فذا، وفي (خ): بدا، وفي (د): فذى. وفي "طبقات" ابن سعد 9/ 232: إلا رئي. (¬3) حلية الأولياء 2/ 323، وصفة الصفوة 3/ 262. وقوله: فقال له أنس بن مالك: ما أشبه عينيك بعيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سقط من (ص). (¬4) في (ب) و (خ) و (د): لا ترى عينيك سوءًا. والخطأ فيها ظاهر. والمثبت من (ص). وفي "حلية الأولياء" 2/ 323، و"صفة الصفوة" 3/ 262: تبرأ عيناك. (¬5) حلية الأولياء 2/ 321، وصفة الصفوة 3/ 260، وفيهما: كابدتُ الصلاة عشرين سنة ... والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬6) في المصدر السابق 2/ 327: المؤمن. (¬7) في المصدر السابق: بإجابته. (¬8) حلية الأولياء 2/ 327 - 328 والخبر (وهو بين حاصرتين) من (ص). (¬9) الخبر في المصدر السابق 2/ 324 بأطول منه.

و [قال ابن أبي الدنيا: ] كان ثابت يصلّي في كل يوم وليلة ثلاث مئة ركعة، فإذا أصبح نظر إلى قدميه وقد ضمرتا، فيأخذُهما بيده (¬1)، فيعصرُهما ويقول: مضى العابدون وقُطع بي (¬2)، والهفاه! [قال: ] وكان يقرأ القرآن في كل يوم وليلة، ويصومُ الدهر، ويبكي حتى تختلف أضلاعُه (¬3). [وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل بإسناده عن جعفر قال: سمعتُ ثابتًا يقول: ما تركتُ في المسجد سارية إلا وختمتُ القرآنَ عندها، وبكَيتُ عندها (¬4). يعني في المسجد البصرة. ذكر وفاته: أمَّا ابنُ سعد؛ فإنه قال: مات في ولاية خالد بن عبد الله القَسْريّ على العراق. ولم يعين وقتًا (¬5). وأمَّا هشام فقال: ] مات بالبصرة سنة ثمان عشرة ومئة. وقال [عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: حدَّثني علي بن مسلم، أخبرنا جعفر، أخبرنا، محمد بن ثابت [البُناني قال]: ذهبتُ أُلقِّنُ أبي وهو في الموت، فقلت: يا أبة، قل لا إله إلا الله، فقال: يا بني، خلِّ عني، فإني في وردي السادس أو السابع (¬6). و[قال أبو نعيم بإسنادهٍ عن شيبان بن حسين (¬7) عن أبيه قال: أنا -واللهِ الذي لا إله إلا هو- أدخلتُ ثابتًا لحدَه ومعي حميد الطويل [أو رجل غيره، شكّ محمد قال: ] فلمَّا ¬

_ (¬1) في (ص): بيديه. (¬2) في (ص): وقد قطع بي. والخبر في "صفة الصفوة" 3/ 261. (¬3) ينظر "حلية الأولياء" 2/ 321، و"صفة الصفوة" 3/ 261. (¬4) الخبر في "حلية الأولياء" 2/ 321، بالإسناد المشار إليه. وهو في "صفة الصفوة" 3/ 262. (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 232. (¬6) حلية الأولياء 2/ 322، وصفة الصفوة 3/ 263. (¬7) في (ص): سنان، بدل: شيبان. وفي "حلية الأولياء" 2/ 219 (والخبر منه): شيبان بن جسر. ولم يتبين لي وجه الصواب فيه.

عبادة بن نسي

سوَّينا عليه اللّبِنَ سقطت لَبِنَةٌ، فإذا بثابت قائمٌ يصلِّي في قبره، فقلت للذي معي: ألا ترى؟ ! فقال: اسكت. فلما سوَّينا عليه وفرغنا منه؛ أتينا ابنتَه، فقلنا لها: ما كان عملُ ثابت؟ فقالت: وما رأيتُم؟ فأخبرناها، فقالت: إنَّه كان يقومُ الليل خمسين سنة، فإذا كان في السَّحَر؛ دعا وقال في دعائه: اللهمَّ إنْ كنتَ أعطيتَ أحدًا من خلقك الصلاةَ في قبره، فأعْطِنيها. فما كان الله تعالى ليردَّ دعاءه (¬1). [وقد ذكر ابن سعد طرفًا منه، فقال بإسناده عن حماد بن سلمة قال: قال ثابت: اللهمَّ إن كنتَ أعطيتَ أحدًا الصلاةَ في قبره، فأعطني ذلك. قال ابن سعد: وكان ثقةً مأمونًا] (¬2). وقال [ابن أبي الدنيا بإسناده عن] إبراهيم بن الصّمّة المهلَّبي [قال: ] حدَّثني الذين كانوا يمرُّون بالجَصّ بالأسحار؛ قالوا: كنَّا إذا مرَرْنا بجنبَات قبر ثابت سمعنا قراءة القرآن (¬3). [وكان لثابت ابنة صالحة، ذكرها ابن أبي الدنيا في كتاب "الفوائد"، وروى أبو سلمة الخراز قال: لما احتُضر ثابت جعل يوصي ابنته ويقول: يا بُنيَّة. فبكت وقالت: يا أبة، ارض بالذي حفظك في ابنك حتى بلغ بك من السنّ والإسلام ما ترى، {الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}. أسند ثابت عن ابن عمر، وأنس، وأبي هريرة، وابن الزبير، وغيرهم، وكان ثقة مأمونًا. عُبادة بن نُسَيّ الكِنْدي، من الطبقة الثالثة من التابعين، وكان ثقة، مات سنة ثمان عشرة ومئة (¬4). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 319. وما سلف بين حاصرتين من (ص). ومحمد المذكور: هو ابنُ سنان الراوي عن شيبان (في إسناد أبي نُعيم في "الحلية"). (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 232. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬3) تهذيب الآثار 2/ 514 (مسند عمر)، وحلية الأولياء 2/ 322، وصفة الصفوة 3/ 263. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 459، وتاريخ دمشق ص 50 (طبعة مجمع دمشق - جزء فيه ترجمة عُبادة).

عبد الله بن عامر القارئ

وكان من الأبدال. وقال مسلمة بن عبد الملك: في كِنْدة ثلاثةُ نفر يُنزل اللهُ بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء: عُبادة بن نُسَيّ، ورجاء بن حَيوَة، وعديّ بن عديّ (¬1). وعُبادة قاضي الأردنّ وسيِّدُ أهلها. وكان بين عبادة ورجلٍ منازعةٌ في شيء، فأسرع إليه الرجل، وبلغَ رجاءَ بنَ حَيوَة، فلقيَ عُبادةَ، فقال له: بلغني ما كان من فلان إليك، فأخبِرْني. قال: لولا أن تكون غيبةٌ لأخبرتُك (¬2). رأى عبادةُ عقبة بنَ عامر الجُهَنّي، وأبا عبد الله الصُّنَابحيّ، وغيرَهما (¬3). عبد الله بن عامر القارئ اليَحْصَبيّ، إمام أهل الشام في القراءة. [ذكره ابن سعد في] الطبقة الثانية (¬4) من التابعين من أهل الشام. [قال: ] وكان قليلَ الحديث، مات سنة ثماني عشرة ومئة (¬5). [هذا صورة ما ذكر ابن سعد، ولم يُنصفه، فإنَّ الرجل كان عظيمًا، وقد ذكره الأئمة. واختلفوا في كنيته، فقيل: أبو عمران، وقيل: أبو عُبيدة، وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو نُعيم، وقيل: أبو عُليم، وأبو موسى، وأبو عبد الرحمن. وقال الجوهري: ويَحْصِب؛ بالكسر: حيٌّ من اليمن، فإذا نسبتَ إليه قلت: يَحْصَبي؛ بفتح الصاد (¬6). وذكره أبو زُرعة الدمشقي في الثالثة وقال: عبد الله بن عامر القاضي]. قضى في أيَّام الوليد بن عبد الملك بدمشق بعد أبي إدريس الخَوْلاني. ¬

_ (¬1) تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 337، وتاريخ دمشق ص 45 (الطبقة المذكورة آنفًا). (¬2) المعرفة والتاريخ 2/ 375 - 376، وتاريخ دمشق ص 46 - 47. (¬3) لم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬4) في (ب) و (خ) و (د): من الطبقة الثانية ... والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منها. (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 452. (¬6) الصحاح (حصب) 1/ 112.

عبد الرحمن بن سابط

[قال: ] وعنه أُخذت القراءةُ العثمانية بالشام (¬1). [واختلفوا في مولده، فقا ل قوم: في سنة عشرة من الهجرة. وقال خالد بن يزيد: سمعت عبد الله بن عامر يقول: ولدتُ في سنة ثمان من الهجرة بقرية يقال لها: رُحاب، من أعمال البلقاء، وقُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولي سنتان. قال خالد: وأقام بدمشق إلى أن توفي بها في سنة ثمان عشرة ومئة وله مئة وعشر سنين. ولما مات أبو الدرداء خلفه ابنُ عامر، وقام بمقامه، واتخذه أهل الشام إمامًا. ورجعوا إلى قراءته، وكان ابن عامر قاضي الجند، وكان على بناء جامع دمشق، لا يرى بدعة إلا غيّرها. وشيخُه الذي قرأ عليه القرآن المغيرة بن أبي شهاب، من بني مخزوم، وبعثه عثمان بالمصحف إلى الشام، وأمره أن يُقرئ الناس، وأقام بالشام مدة، ثم دخل اليمن، فتوفي بها في زمان معاوية بن أبي سفيان، وقيل: في أيام الوليد بن عبد الملك، وله تسعون سنة.] (¬2) عبد الرحمن بن سابط الجُمحيّ المكيّ، من الطبقة الثالثة (¬3). أسند عن أبيه، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وأبي أمامة، وغيرهم. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" أبي زرعة الدمشقي 1/ 201، و"تاريخ دمشق" 9/ 472 (مصورة دار البشير). (¬2) ما بين حاصرتين من (ص) ووقع في (ب) و (خ) و (د) بدلًا منه ما صورتُه: "وتوفي بدمشق وله مئة وعشر سنين. وقيل: مئة إلا سنة، رحمة الله عليه". وينظر "تاريخ دمشق" (الموضع المذكور وما بعده)، و"معرفة القراء الكبار" 1/ 186 - 197. وتنظر ترجمة المغيرة بن أبي شهاب في "معرفة القراء الكبار" 1/ 136، و"غاية النهاية" 2/ 305 - 306، وفيهما أنه مات سنة إحدى وتسعين، وله تسعون سنة. (¬3) وكذا نقل المزى في "تهذيب الكمال" 17/ 125 عن ابن سعد. لكنه في "طبقات" ابن سعد 8/ 32 في الطبقة الثانية، وكذا هو في "طبقات" خليفة ص 281، وسَّمياه: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سابط. قال المزَّى: ويقال أيضًا: عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط ولم ترد هذه الترجمة في (ص).

عروة بن أذينة

عروة بن أُذَيْنَة الشاعر الليثي، [وكنيتُه] أبو عامر، وأُذينة لقبُ أبيه، واسمُه يحيى بن مالك بن الحارث بن عَمرو بن عبد الله (¬1) بن رِجْل (¬2) من يعمر، وهو الشُّدَّاخ من بني بكر بن عبد مناة بن كِنانة. وعُروة شاعر غَزَل. [وقال أبو الفرج الأصبهاني: معدود في الشعراء] مقدَّم، من شعراء أهل المدينة، وهو معدودٌ في الفقهاء والمحدِّثين نقيُّ الدَّخْلَة في تغزُّله، ظاهر العفَّة. روى عنه مالك بن أنس، وعُبيد الله بن عمر العدويّ (¬3). [ذكر قصته مع هشام بن عبد الملك بن مروان: حدثنا غير واحد عن أبي القاسم (ابن) السمرقندي إسماعيل، بإسناده عن (يحيى) ابن عروة بن أُذينة قال: ] أصابت أبي (¬4) إضاقةٌ شديدة، فعملَ شعرًا، وقدمَ على هشام بن عبد الملك في وفد المدينة، فدخل مع الشعراء، فقال له هشام: من أنت؟ فانتسبَ له، فقال: أنت القائل: لقد علمتُ وما الإسرافُ (¬5) من خُلُقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى له فيُعَنِّينِي تَطَلُّبُهُ ... ولو قعدتُ أتاني ما يُعنِّيني قال: نعم. وقد جئتُ إليك وأنا أعلم ذلك. فقال له هشام: تقولُ هذا وتأتي من المدينة إلى الشام [-أو إلى الرُّصافة، قيل: إن هشام كان بها-] (¬6) هلَّا قعدتَ في بيتك ¬

_ (¬1) عبارة (ص): واسمه يحيى بن مالك بن عُمر بن عبد الله. ثم لم يرد فيها الكلام بعده حتى قوله: وقال أبو الفرج الأصبهاني (وهو بين حاصرتين). (¬2) كذا في النسخ الخطية. وقيَّده كذلك ابنُ ماكولا في "الإكمال"4/ 24، ونقله عنه ابن عساكر في "تاريخه" 47/ 202 (طبعة مجمع دمشق). ووقع في "الأغاني" 18/ 322: زُحَل. (¬3) من قوله: نقيُّ الدَّخْلة ... إلى هذا الموضع ليس في (ص). (¬4) في (ب) و (خ) و (د): وقال يحيى بن عروة: أصابت أبي ... إلخ. والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منها، وما وقع بين قوسين عاديين سقط من (ص)، وينظر "الأغاني" 18/ 324 - 325، و"تاريخ دمشق" 47/ 203 - 207، والخبر فيهما بنحوه. (¬5) كذا في النسخ و"الأغاني". وفي "تاريخ دمشق": الإشراف، يعني: ما تتحدَّثُ به النفسُ وتتمنَّاه، وكذا أورده ابن منظور في "اللسان" (شرف) 9/ 172. (¬6) ما بين حاصرتين من (ص).

حتى يأتيَك رزقك؟ ! فقد أكذبتَ نفسَك. فقال: يا أمير المؤمنين، جاء بي أمران، إما تحريكُ رزق، أو أجل. فجزاك الله خيرًا، فلقد وعظتَ فأبلغتَ. فعجب هشام من فصاحته. ثم قام من وقته، فخرج وركب راحلته، وقصد المدينة. فلما كان في الليل؛ ذكره هشام وقال: رجلٌ من قريش وفد عليَّ فجبهتُه ورَدَدْتُه عن حاجته، وهو مع ذلك شاعر لا آمنُ أن يهجوَني. فلمَّا أصبح سأل عنه، فقيل: توجَّه إلى المدينة، فقال هشام: لا جرم واللهِ ليعلمنَّ أنَّ رزقه يأتيه وهو في بيته. فدعا مولًى له، فأعطاه ألفَ دينار، وفرض له فريضتين (¬1) وقال: الحَقْه واعتذِرْ إليه. فسار خلفَه أيامًا، فلحقه فقال له: أمير المؤمنين يقول لك (¬2): أردتَ أن تُكذِّبنا وتُصدِّقَ نفسك، هذه جائزتُك مضاعفة. فقال: قل لأمير المؤمنين: قد صدَّقَني الله وبعثَ برزقي. وواللهِ لا سألتُ أحدًا بعدَها حاجةً أبدًا. فكان سَوْطُهُ يسقطُ من يده، فينزل فيأخذه، ولا يستعينُ بأحد على تناوله. وهذان البيتان من أبيات، منها: لا خيرَ في طمعٍ يُدْنِي لِمَنْقَصَةٍ ... وبُلْغَةٌ من كَفَاف (¬3) العيشِ تكفيني لا أركبُ الأمر تُزْرِي بي عواقبُهُ ... ولا يُعابُ به عِرْضي ولا ديني أقومُ بالأمر أو ما كان (¬4) من أرَبي ... وأُكثِرُ الصمتَ عمَّا (¬5) ليس يعنيني كم مِنْ فقيرٍ غنيِّ النفسِ تعرفُهُ ... ومِنْ غنيٍّ فقيرِ النفسِ مسكينِ ومِنْ أخٍ لي طَوَى كَشْحًا (¬6) فقلتُ له ... إنَّ انطواءك عنّي سوف يطويني لا أبتغي وَصْلَ مَنْ يبغي مُفارقَتي ... ولا أَلِينُ لمن لا يَشتَهِي لِينِي ولمَّا فصل عن هشام قال (¬7): ¬

_ (¬1) في (ص): في نصيبين، بدل: فريضتين. (¬2) قوله: يقول لك، ليس في (ص). (¬3) في "الأغاني" 18/ 324: وغُفَّة من قَوام ... الخ. والغُفَّة -بالضم- البُلْغَة من العيش. (¬4) في "الأغاني": إني لأنطق فيما كان ... (¬5) في المصدر السابق: فيما. (¬6) طوى كَشْحَه على الأمر: أضمره وستره. (والكَشْح: ما بين الخاصرة إلى الضِّلَع الخلف). (¬7) من هذا الموضع إلى قوله: قال الواقدي: توفي سنة ثماني عشرة. (آخر الترجمة) ليس في (ص).

شادَ الملوكُ قصورَهم وتَحَصَّنُوا ... من كلِّ طالبِ حاجةٍ أو راغبِ فإذا تلطَّفَ للدُّخول عليهمُ ... عافٍ تَلَقَّوْهُ بوعدٍ كاذبِ فارْغَبْ إلى مَلِكِ الملوكِ ولا تَكُنْ ... يا ذا الضَّراعةِ طالبًا من طالبِ (¬1) وقال الخرائطي: قال بعض الحكماء: المالكُ [للشيء] (¬2) هو المسلَّط عليه، فمن أحبَّ أن يكون حرًّا فلا يهوى ما ليس له، وإلا صار عبدًا، قال عُروة بن أُذينة: فما كيِّسٌ في الناس يُحْمَدُ رأيُهُ (¬3) ... فيوجدُ إلا وهْو في الحبِّ أحمقُ وما من فتىً ما ذاق طعمَ مرارةٍ ... فيعشقُ إلا ذاقها حين يعشقُ ووقفت سُكَينة بنتُ الحسين - عليه السلام - على عروة ومعها جَوارٍ، فقالت: يا عمّ، تدَّعي النُّسُكَ وتقول: إذا وجَدْتُ أُوَارَ الحبِّ في كَبِدي ... عَمَدْتُ نحو سقاءِ القومِ أبتردُ هَبْني بَرَّدْتُ ببرد الماء ظاهرَهُ ... فمَنْ لنارٍ على الأحشاءِ تَتَّقِدُ ثم التفتَتْ إلى جواريها وقالت: هنَّ أحرارٌ إن كان هذا خرج من قلب صحيح (¬4). وقال عبد الله بن عُبيدة (¬5) بن عمَّار بن ياسر: قلت لأبي السائب المخزومي: لقد أحسن عُروة بن أُذينة حيث يقول: نزلوا ثلاثَ منىً بمنزلِ قلعةٍ (¬6) ... وهُمُ على غَرَضٍ لَعَمْرُكَ ما هُمُ متجاورين بغير دار إقامةٍ ... لو قد أجَدَّ رحيلُهم لم يندموا ولهنَّ بالبيت العتيقِ لُبانةٌ (¬7) ... والبيتُ يعرفُهنَّ لو يتكلَّمُ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 47/ 205 (طبعة مجمع دمشق). وهي في "عيون الأخبار" 3/ 187 (باختلاف يسير) مع بيت رابع، ونُسبت فيه لمحمود الوراق. قوله: عافٍ. يعني طالب معروف. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة لضرورة السياق. (¬3) في (ب) و (خ) و (د): يحذر أنه (؟ ) والمثبت من"تاريخ دمشق"47/ 212. (¬4) تاريخ دمشق 47/ 212 - 214. وينظر "الأغاني" 18/ 329 - 330. (¬5) في "تاريخ دمشق" 47/ 211، و"الأغاني" 18/ 331: بن أبي عُبيدة. (¬6) في المصدرين السابقين: غبطة. (¬7) اللُّبانة: الحاجة من غير فاقة، ولكن من نهْمَة.

محمد بن كعب بن حيان

لو كان حيَّا قملَهنَّ طعائنًا ... حيَّا الحطيمُ وجوهَهنَّ وزمزمُ ثمَّ انصرفْنَ لهنَّ زِيٌّ فاخرٌ ... فأفَضْنَ في رَفَثٍ وحَلَّ المُحْرِمُ فقال أبو السائب: لا والله، ما أجملَ ولا أحسنَ، يصفُهنَّ بهذه الأوصاف، ولا يندمُ على رحيلهنَّ (¬1)؟ ! وقال عروة: نُراعُ إذا الجنائزُ قابلَتْنا ... ويُحزِنُنا بكاءُ الباكياتِ كَرَوْعةِ ثَلَّةٍ لمُغارِ سَبْعٍ (¬2) ... فلمَّا غابَ عادَتْ راتعاتِ (¬3) و[قال الواقدي: ] توفي سنة ثماني عشرة ومئة. وقيل: إنه عاش إلى [أيَّام] الدولة العبَّاسية [بعد ما أسنَّ]. و[قال الواقدي: ] أسند [عروة] عن ابن عمر، وروى عنه ابنُه يحيى بن عروة، ومالك بن أنس، وعُبيد الله العُمريّ، [وروى هو عن نُصيب الشاعر]. وقال أبو عبيد المرزُباني: عروة بن أُذينة مأمون على ما روى من المسند والمرسل، وهو شاعر فصيح مُكثر. محمد بن كعب بن حَيَّان أبو حمزة القُرَظيّ حليف الأوس، من الطبقة الثالثة من أهل المدينة، كان عالمًا زاهدًا عابدًا (¬4). قال: إذا أراد اللهُ بعبدٍ خيرًا جعل فيه ثلاثَ خِلال: فقهًا في الدين، وزَهادةً في الدُّنيا، وبَصَرًا بعيوبه (¬5). ¬

_ (¬1) الأغاني 18/ 331 - 332، وتاريخ دمشق 47/ 211. (¬2) الثَّلَّة: جماعة الغنم، والسَّبُع معروف، وسكّنت باؤه للضرورة. (¬3) تاريخ دمشق 47/ 208. ومن قوله: ولما فصل عن هشام قال. (قبل صفحتين) إلى هذا الوضع، ليس في (ص). (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 419 - 420. (¬5) حلية الأولياء 3/ 213، وتاريخ دمشق 64/ 208 (طبعة مجمع دمشق).

السنة التاسعة عشرة بعد المئة

ومات محمد سنة سبع عشرة -أو ثمان عشرة- ومئة. وقيل: سنة تسع وعشرين ومئة. وقال الفضل بن دُكَين: كان محمد يقصُّ على أصحابه، فسقطَ عليه وعليهم المسجدَ، فقتلهم في سنة ثمان ومئة (¬1). أسند محمد عن زيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، وأبي هريرة، وأنس، وابن عبَّاس، وغيرهم، وكان ثقةً كثيرَ الحديث (¬2). السنة التاسعة عشرة بعد المئة فيها قصد خاقان (¬3) أسدَ بنَ عبد الله بجموع الترك، فقُتل خاقان وقُتل أصحابه، وغنم أسد بن عبد الله أموالًا عظيمة، وفتح بلادًا لم يصل إليها غيره. وتلخيص القصة أنَّ أسدَ بنَ عبد الله غزا الخُتَّلَ (¬4)، وفتحَ حصونًا حصينة، وفرَّق جيوشه وسراياه في البلاد، وبلغَ خاقانَ، فتجهَّزَ للمسير إليه، وقيل لأسد: قد قصَدَك خاقان، فاخْرُجْ من الخُتَّل، فلم يصدِّق. ولما قرب خاقان أرسل صاحب الخُتَّل إلى أسد يقول: أنا الذي كتبتُ إلى خاقان، وإنه قد أظلَّك في جمع عظيم، وأخافُ أن يظفر بك فتعاديَني العرب، ويتقوَّى عليَّ خاقانُ ويستطيل ويقول: أنا (¬5) أخرجتُ العربَ من بلادك، ورددتُ عليك مُلْكَكَ. فعلم أسدٌ حينئذٍ أنه قد صَدَقَه، فأمرَ بالأثقال أن تُقدَّم، وولَّى عليها إبراهيم بنَ عاصم العُقيليَّ، وأخرج معه جماعةً من وجوه القبائل. وكتب أسدٌ (¬6) إلى داود بن شعيب والأصبغ بن ذؤالة الكلبي -وقد كان بعثَهما إلى بعض الوجوه-: إن خاقان قد أقبل، فانضمَّا إلى الأثقال مع إبراهيم بن عاصم. ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 420، و"تاريخ دمشق" 64/ 214 - 218. (¬2) تاريخ دمشق 64/ 193. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) من هذا الموضع، وحتى فقرة: ذكر مقتل خاقان، ليس في (ص). (¬4) الخُتَّل: صُقع كثير المدن على جَيحُون من وراء النهر. ينظر "معجم البلدان" 2/ 346. وتحرفت اللفظة في النسخ (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) إلى: الجبل، وكذا في المواضع التالية. (¬5) في (ب): إنما. (¬6) في (ب) و (خ) و (د): لأسد. وهو خطأ.

وجاء رجل إلى داود والأصبغ، فقال: قُتل أسدٌ ومن معه (¬1)، فقال داود: قبَّح الله الحياةَ بعد إخواننا. وقال الأصبغ: إنْ يهلك أسد؛ فإن الله ناصرٌ دينَه، وإن خالدًا وأميرَ المؤمنين فينا نرجع إليهما. فقال داود: ألا ننظرُ ما فعل أسد؟ فخرجا حتى شارفا عسكر إبراهيم، ورَأَيَا النيران، وقال داود: هذه واللهِ نيرانُ المسلمين. فقال الأصبغ: من أين لك هذا؟ قال: لأنها مجتمعة، ونيرانُ التُّرك متفرِّقة. فقال الأصبغ: هم في مَضِيق. ثم دَنَوَا، فسمعا نُهاقَ الحمير، فعلما أنهم أَخوانُهم؛ لأن التُّرك لا يُعانون الحمير (¬2)، فكبَّرُوا (¬3)، فأجابهما أهلُ العسكر بالتكبير، فنزلا عند إبراهيم. وأقبل أسدٌ من الخُتَّل يريد أن يخوض نهر بَلْخ وقد قطع إبراهيم بالأثقال والسَّبْي. وبلغ أسدًا أن خاقان (¬4) قد قطع المفاوز في أيَّام يسيرة، فقال له أبو تمَّام بن زَحْر وعبد الرحمن بن خنفر الأزديَّان: أيُّها الأمير، إنَّ اللهَ قد أحسنَ بلاءَك في هذه الغزوة وغنمتَ وسلمتَ، فاقطع بنا هذه النُّطفة، فاجعلْها وراء ظهرك. يعنيان نهر بَلْخ. فأَمَرَ بهما فوُجِئَتْ عنقُهما (¬5)، وأقام يومَه. فلما كان من الغد ارتحل، وفي النهر ثلاث وعشرون مخاضة، فأمرَ أن لا يعبر أحدٌ إلا ومعه شاة، وحمل هو بنفسه شاةً، فقال له عثمان بن عبد الله بن مطرِّف بن الشِّخِّير: قد فرَّقتَ الناسَ وشَغَلْتَهُم بحمل الشَّاء، وقد أظلَّك العدوّ، فدَعْ هذا الشَّاء إلى لعنة الله، ومُرِ الناس بالاستعداد للقاء عدوِّهم. فقال: واللهِ ما يعبُر أحدٌ وليس معه شاةٌ حتى يفنى هذا (¬6) الغنم إلا قطعتُ يدَه. فحملَ الناسُ الشَّاء؛ الفارسُ على قَرَبُوس سَرْجه (¬7)، والراجل على عُنقه. ¬

_ (¬1) عبارة الطبري 7/ 114: فأشاع أن خاقان قد كسر السلمين وقتل أسدًا. (¬2) أي: ليس لهم حمير، كما هي عبارة الطبري، وبسياق آخر. (¬3) كذا. والسياق: فكبَّرا. (¬4) قوله: وقد قطع إبراهيم ... الخ، سقط من (ب). (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 115: رقابُهما. وبعدها: وأُخرجا من العسكر. (¬6) في (د): هذه. (¬7) القَرَبُوس: حِنْو السَّرْج، وهما قَرَبُوسان.

ولما خاضت الخيلُ حفرت السنابك مواضع الخائض، فصارَتْ سِباخة، فكان بعضهم يميل مع الشاء، فيقع عن دابَّته، فأمر أسد بإلقاء الشاء في النهر، وأن يعبُر الناس، فما استكملوا العُبور حتى طلعت طلائع التُّرك على الخيل الدُّهْم، فقتلُوا من لم يعبُر، ومَنْ بقيَ ألقى نفسه في النهر فغرق. وإذا خاقانُ قد أقبل، فلما رأى النهر وقف وقال لأصحابه: ما ترون؟ فقال بعضهم: ما نقدرُ على قطعه، وقال آخرون: بلى، نحن خمسون ألفَ فارس، فإذا اقتحمنا جملةً ردَّ بعضُنا عن بعض جِرْيَةَ الماء. فاقتحموا النهر بأجمعهم. فلما رأى المسلمون ذلك، وما كانوا يظنُّون أنهم يقطعون النهر، فدخل المسلمون عسكرهم (¬1)، وخندقوا عليهم، وأدخلُوا معهم أثقالهم، وخرج الغلمان بالبراذع والعَمَد (¬2)، فضربوا وجوه التُّرك، فأدبَرُوا، وبات أسد والتُّرك مُقابِلَهُ. وبلغ خاقان أنَّ الأثقال مع إبراهيم بن عاصم أمامَ أسد، فسار يطلبُها، فأرسل أسدٌ يحذّرُه ويقول: خاقانُ قاصدٌ إليك، فاستعدَّ، وبعثَ به مع فارس يقال له: سعيد الصغير، وقال له: اِلْحَقْ بإبراهيم قبل الليل، وإلا قتلتُك، فقال: ادفع إلي فرسَك الكُمَيت الذَّنُوب، فدفعَه إليه وقال: لئن جُدْتَ برُوحك وأبخلْ (¬3) عليك بفرسي إنَّني لئيم. وسار الرجل، واستشار أسدٌ أصحابه وقال: ما تَرَوْن؟ ننزلُ أم نسير؟ فقالوا: اِقْبَلِ العافية، وماذا عسى أن يكون من الأثقال مع سلامة نفوسنا؟ ! ونصرُ بنُ سيَّار ساكتٌ، فقال له: ما عندك؟ قال: المسير، فإن أدركنا الأثقال خلَّصناهم، وإلَّا قطعنا مسافةً يُحمدُ قطعُها. فقَبِلَ رأيه وسار. ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها). وعبارة الطبري 7/ 116: فلما رأى المسلمون اقتحام التُّرك ولَّوا إلى العسكر، وعبرت التُّرك، فَسَطَعَ رَهَج عظيم لا يُبصر الرجل دابَّته، ولا يعرف بعضهم بعضًا، فدخل المسلمون عسكرهم ... إلخ. (¬2) البراذع جمع بَرْذَعة -وتقال بالمهملة- وهي ما يوضع على الحمار أو البغل ليُركب عليه. والعَمَد، جمع عمود. (¬3) في "تاريخ الطبري" 7/ 117: "وبخلت". وهو أحسن.

وأما الرَّسول إلى إبراهيم؛ فإنَّه سار حتى شارف التُّركَ، فرأته طلائعهم، فقصدُوه، فنجا على فرسِ أسد، ووصل بالكتاب إلى إبراهيم، وخاقانُ قريبٌ من إبراهيم، وقد كشفَ خبرَه، وقد خندقَ إبراهيم عليه، وعلى الأثقال. وجاء خاقان، فصعد على تلٍّ، وجعلَ ينظر على عورةٍ يدخُلُ منها على المسلمين ومعه أهل السُّغْد والخُتَّل، وخلقٌ لا يُحْصَوْن، وجعل يفتقد من أين يُؤتَى المسلمون (¬1)، فرأى وراءهم جزيرةً بينها وبين المسلمين مخاضة، فقال: اذهبوا إلى الجزيرة، وأْتُوهم من أدبارهم. ففعلوا، واستولَوْا على طرف العسكر، وقتلوا جماعةً من المسلمين، واحتَوَوْا على بعض الأثقال، وأحسَّ المسلمون بالهلاك، وإذا رَهَجٌ (¬2) قد ارتفع، ورايةٌ سوداء قد أقبلت (¬3)، وإذا به أسدٌ في جنوده، فنكصت التُّركُ عنهم، وجعل إبراهيم يتعجَّبُ من كفِّ التُّرك عنهم وقد ظفروا، وما ظنَّ أنَّ أسدًا يُوافيه. وكان أسدٌ قد أغذَّ (¬4) السَّيرَ، وجاء فوقف على التلّ الذي كان عليه خاقان، وتَنَحَّى خاقان إلى الجبل، وكان أصحابُه قد قَتَلُوا من المسلمين الذين في الأثقال خلقًا كثيرًا، منهم صَغان، وعامَّةُ أصحابه، وخرجت امرأتُه تبكي إلى أسد، وأسد يبكي معها. ومضى خاقان يقود الأسارى الذين كانوا في الخندق والأوهاق، والإبل وعليها الجواري، فأراد المسلمون أن يحملوا عليهم، فمنعهم أسد وقال: قد استقتلُوا فدَعُوهم. فلم يتبعهم أحد، وانصرفوا. ومضى أسد إلى بَلْخ ونزل في مرجها، وأقبل الشتاء، ونزل الناس في الدُّور، ودخل أسدٌ المدينة. وكان الحارثُ بن سُرَيج في طخارستان، فانضمَّ إلى خاقان، وحسَّنَ إليه قَصْدَ أسد. وبلغ أسدًا، فخطب يوم الأضحى وقال: إن عدوَّ الله الحارث قد استجاش (¬5) طاغيته ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): المسلمين. وأثبتُّ اللفظة على الجادَّة. (¬2) الرَّهَج: الغُبار. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 117: وتربة سوداء، بدل قوله: وراية سوداء قد أقبلت. (¬4) في (ب) و (خ): أجدَّ. والمثبت من (د). والكلام ليس في (ص). (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 119: استجلب.

خاقان ليطفئَ نُورَ الله، واللهُ مُتمُّ نورِه وخاذلُه إن شاء الله، ولا تنظروا إلى قلَّتِكم وكثرتِهم وما جرى على إخوانكم، فإنَّ الله ناصرُكم وخاذلُهم، فضعوا جباهَكم على الأرض، وسَلُوا اللهَ النصرَ، فأقربُ ما يكون العبدُ إلى الله في سجوده (¬1). ففعلوا، ثم دعا ونزل بعد أن صلَّى بهم صلاة العيد. ثم استشار أصحابَه في لقاء خاقان، وكان قد قَرُب من بَلْخ، ولم يبق إلا المُنازَلة، وقد جمع خاقان جمعًا عظيمًا ممَّا وراء النهر، وكان في ثلاثين ألفًا، وأسد في طائفة يسيرة، قد تفرَّق عنه مُعظمُ جيشه، فقال: ما تقولون؟ فاختلفوا، فقال بعضهم: نقيم ببَلْخ، ونكتب إلى خالد والخليفة نستمدُّهما. وقال آخرون: نسلك طريقًا قربيةً إلى مَرْو، ونسبقُ خاقان إليها. وقال نصر بن سيَّار وآخرون: بل نخرجُ إليهم. فقال أسد: هذا هو الرأي. ففرَّقَ أموال بَلْخ في الناس وقوَّاهم وشجَّعَهم (¬2). ثم ارتحل وعلى مقدِّمته سالمُ بنُ منصور البجلي [في ثلاث مئة] (¬3) فلقيَ طليعةً من التُّرك في ثلاث مئة، فأسرهم وقتلهم وهرب بعضُهم (¬4). وسار إليه خاقان، فلما تراءى الجمعان قال خاقان للحارث: ألستَ القائل: إنَّ أسدًا لا يقدر على الخروج من بَلْخ لضعفه؟ فقال له الحارث: إنما هم أكْلَةُ آكِل. وعبَّأَ خاقان جيوشه، وقيل: إنَّه لم يكن معه إلا أربعة آلاف -وكان قد فرَّق جيوشه في الغارات نحو مَرْو وخُراسان والجُوزْجان- وجعل في الميمنة ملك السُّغْد وصاحب الشاش وصاحب الخُتَّل، وفي الميسرة الحارثَ بنَ سُريج (¬5)، ووقف خاقان في القلب ومعه التُّرك وخواصُّه. وعَبَّأ أسد العسكر، فجعلَ في الميمنة الأزد وتميم وملك الجُوزْجان، وفي الميسرة أهل الشام وقنَّسرين وربيعة، ووقف هو في القلب قد ضرب فسطاطه، ونصب سريرَه. ¬

_ (¬1) أخرج الإمام أحمد (9461) ومسلم (482) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "أقْرَبُ ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء". (¬2) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 118 - 120. (¬3) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 7/ 121، و"الكامل" 5/ 204. (¬4) في المصدرين السابقين: فأسر قائدهم وسبعة منهم معه وهرب بقيَّتهم. (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 122 - 123 أن الحارث بن سُريج كان في الميمنة أيضًا.

وقيل: لم يقف في القلب، بل أقامَ أهلَه وأقاربَه فيه، وتأخَّر هو في جمع وراءهم يرى ما يكون منهم. والتقَوْا، فحمل الحارثُ على الميسرة، فهزمهم، فلم يردَّهم شيءٌ دون رُواق أسد، فشدَّت عليهم الميمنة، وكبَّرُوا، وصاحوا، فانهزم خاقان وأصحابُه لا يلوون على شيء، وتبعهم المسلمون مقدارَ ثلاثة فراسخ، وأخذ خاقان طريقًا في الجبال غير الجادَّة، وجاء أسد خلفَه، فحال بينهم وبينَه نهرٌ. ومضى خاقان في خمس مئة فارس، فنزل في الليل وراء الجبل، فقال ملك الجُوزْجان لعثمان بن عبد الله بن الشِّخِّير: إني لأَعْرَفُ الناسِ ببلادي وطُرُقِها، فهل لك في أمر تسودُ به ما عشتَ؟ قال: نعم. قال: تتبعُني. قال: سِرْ. فأخذ به طريقًا يعرفُه حتى أشرفَ على خاقان، وكان خاقان قد فتكَ بالجُوزْجان، وكان خاقان وأصحابُه قد نزلوا وراء الجبل آمنين، فغَشِيَهم الجُوْزجانيُّ وعثمانُ، وحملُوا عليهم، فانهزم خاقان، وتركَ ما في عسكره، فاحتوى عليه الجُوْزجاني وعثمانُ، وكان شيئًا عظيمًا، من جملته ثلاثُ مئة ألفِ رأس من الغنم والخيل والدوابّ، ونساء العرب المَسْبيَّات، ونساء الترك، وأواني الذَّهَب والفضة ممَّا لم يوجد مثلُه، وعادوا إلى أسد بالغنائم. وعاد أسد إلى بَلْخ في اليوم التاسع من خروجه منها، وبين مكان الوقعة وبَلْخ سبعةُ فراسخ. وأمَّا خاقان؛ فوصل إلى بلاده، وأقام يجدِّدُ العُدَّة (¬1) ويجمعُ الرِّجال، ويستعدُّ للغُدُوّ إلى بَلْخ ومَرْو، وقال: ننزلُ أوَّلًا على سمرقند. ودفعَ للحارثِ بنِ سُرَيج وأصحابه الخيلَ والعُدَّة (¬2). ذكر مقتل خاقان: [قال علماء السير: ] كان عنده ملك كبير يقال له: كُورصُول، فجلسا يومًا يلعبان بالنَّرْد على سمرقند، وكان خاقان يحاصوها، فتخاطرا (¬3) على حكم أحدهما، فغلب ¬

_ (¬1) في (خ): العدد. (¬2) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 123 - 125. وهذه الفقرة -من بدء أحداث هذه السنة إلى هذا الموضع- لم ترد في (ص). (¬3) أي: تَرَاهَنَا.

كُورصول فكسرَ يد خاقان، فحلف خاقان ليقتلنَّه، فانعزل كُورصُول بأصحابه ناحيةً، وبيَّتَ خاقان ليلًا فقتله، وانهزم الترك، ومال بعضهم إلى كُورصُول وانقضت أيام خاقان (¬1). وبعث أسد (¬2) إلى أخيه خالد بالفتح مع إبراهيم بن هشام على البريد، فبعث به إلى هشام بن عبد الملك، فأخبره، فلم يُصدِّقه، ثم تبيَّن بعد ذلك، فنزل عن سريره، وسجد سجدةَ الشكر. فحسدت القيسيَّةُ أسدًا وخالدًا، وقالوا لهشام: هذا بعيد، فاكتبْ إلى خالد يكتبْ إلى أخيه أسد أن يبعثَ بمقاتل بن حيَّان، فهو رجلٌ صدوق، فكتبَ هشام إلى خالد، فبعث خالدٌ بكتاب هشام إلى أسد، فدعا بمقاتل بن حيَّان، وقال: سِرْ إلى الشام فأخبِرْ هشامًا بما عاينتَ، فأنتَ ما تقول إلا الحقَّ. فسار مقاتل حتى قدم على هشام وعنده الأبرش الكلبي، فسأله، فقال: إنَّا غزونا الخُتَّل مع أسد، فغنمنا غنائم عظيمة، وأنفد ملك الخُتَّل فاستصرخ بخاقان، فلم نحفل بهم (¬3)، حتى لحقونا، فاستباحوا بعضَ عسكرنا، وأُخذ منا بعضُ المتاع، ونساء من نساء العرب، ومضَوْا. وجئنا إلى مشاتينا، فنزَلْنَا بَلْخ، فأقمنا، وبلَغَنا مجيءُ خاقان، فخرَجْنا إليه، فالتقينا برسداق الجُوْزجان، وأنزلَ اللهُ النصر علينا، فهزمناهم واستبحنا أموالهم ومواشيَهم. وكان هشامٌ متَّكئًا، فاستوى جالسًا وقال: أنتُم استبحتُم عسكر خاقان؟ قال: نعم، وفعلنا به وصنَعْنا. قال: ثم ماذا؟ قال: وانهزم خاقان إلى بلاده، فقُتل. قال هشام: إنَّ أسدًا لضعيف. فقال مقاتل: مهلًا يا أمير المؤمنين، واللهِ ما هو بضعيف، ولقد فعل فوق طاقته. قال: حاجتَك. قال: إن يزيد بن المهلَّب أخذَ من أبي مئة ألف درهم غَصْبًا. فكتب له بها، ففرَّقها مقاتل في أهلِه وورَثَة أبيه. ¬

_ (¬1) يقارن بما في "تاريخ" الطبري 7/ 125. (¬2) لم يرد في (ص) الكلام من هذا الموضع إلى قوله: وفيها خرج المغيرة. (الصفحة التالية). (¬3) عبارة الطبري 7/ 126: وأُنذر أسد بالترك، فلم نحفل بهم.

وقيل: إن هشامًا أحلفَه عليها. وقيل: كتبَ إلى أسد يقول: إنْ صحَّ ذلك، فادْفَعْها إليه. ففعل. وهذه الوقعة تسمَّى وقعة سان وجزَّة (¬1)، وفيها يقول أبو (¬2) الهنديّ يُخاطبُ أسدًا من أبيات، منها: أبا منذرٍ لولا مسيرُك لم تكن ... غزاةٌ (¬3) ولا انْقادَتْ ملوكُ الأعاجمِ ولا حجَّ بيتَ اللهِ ما سار (¬4) راكبٌ ... ولا عَمرَ البطحاءَ بعدَ المواسمِ فكم من قتيلٍ بين سانٍ وجَزَّةٍ ... كثيرِ الأيادي من ملوكٍ قَماقمِ (¬5) تَرَكْتَ بأرضِ الجُوزَجانِ تَزُورُهُ ... سِباعٌ وعِقْبانٌ لِحَزِّ الغلاصمِ فَدَتْكَ نفوسٌ من تميمٍ وعامرٍ ... ومن مُضَرَ الحمراءِ عند المحارمِ (¬6) وفيها خرج المغيرة بنُ سعيد (¬7) بالكوفة، وكان ساحرًا متَشيِّعًا، فحكى عنه الأعمش أنه كان يقول: لو أراد عليُّ بنُ أبي طالب [أن] يحييَ عادًا وثمود وقرونًا بين ذلك كثيرًا لفعل (¬8). وكان يخرج إِلى القبور، فيتكلَّم بكلام، فيُرى شبيه الجراد على القبور. ¬

_ (¬1) تحرَّف في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) إلى: سيار وحره. و"سان" و"جزَّة" موضعان في خُراسان، وسيرد ذكرهما في الأبيات التالية. (¬2) في (ب) و (د): فهر، وفي (خ): بهر بدل: أبو، وكلاهما تحريف، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 119، و"الكامل" 5/ 206. وأبو الهندي في شاعر مطبوع، أدرك دولة بني أمية وأول دولة بني العباس، سمَّاه أبو الفَرَج في "الأغاني" 20/ 329: غالب بن عبد القدوس. وتنظر أخباره فيه. (¬3) في "تاريخ" الطبري، و"الكامل": لم يكن عراق. (¬4) في المصدر السابق: مُذْ حُجَّ، بدل: ما سار، وفي "الكامل" 5/ 206: مَنْ حجَّ. (¬5) جمع قَمْقام، وهو السيِّد. (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 127، و"الكامل" 5/ 207: المآزم. ومن قوله: وبعث أسد إلى أخيه خالد (أول هذه الفقرة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬7) في (ص): سعد. (¬8) المنتظم 7/ 193 ولفظة (أن) بين حاصرتين منه. وبنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 128، و"الكامل" 5/ 207 - 208.

وبلغ خالدَ بنَ عبد الله [القسريَّ] خبرُه، فأرسل إليه، فجيء به وهو في نفر؛ ستة أو سبعة. قال الزُّهري (¬1): وأمر خالد بالنار والنّفط والقَصَب، وقال للمغيرة: خُذْ طَنًّا (¬2)، فأبى، فأخذَتْه السِّياط، فاحتضنَ طَنَّا، فأُحرقَ (¬3) هو ومن معه (¬4). وفيها حكَّم جماعةٌ من الخوارج منهم بُهلولَ بنَ بشر، وكان خرج إلى الحجِّ، فنزل بقرية من قُرى السَّواد، فأمر غلامَه أن يشتريَ بدرهم خلًّا، فجاء غلامُه بخمر، فودَّه، ومضى بُهلول إلى عامل القرية، فكلَّمه، فلم يلتفت إليه وقال: الخمر خيرٌ منك ومن أصحابك. وأغلظَ له، وبقي في قلبه. ومضى إلى مكة، فلقيَ بها مَنْ هو على مثل رأيه، فعزمَ على الخروج على السلطان، فاتَّعد هو ومن كان معه (¬5) أنه إذا عاد من الحجّ خرج بقرية كذا من أرض الموصل. فاجتمعوا هناك وهم أربعون رجلًا، وأمَّرُوا عليهم البُهلول، ونهبوا دوابَّ البريد، فقال البُهلول لأصحابه: ابدؤوا بالعامل (¬6) الذي شتمني فقالوا: إنْ بدأنا به اشتهرَ أمرُنا، وحَذِرَنا خالدٌ وغيره، ونحن نريد أن نبدأ بخالد الذي يهدم المساجد، ويبني البِيَعَ والكنائس، ويولِّي المجوس وأهل الذِّمَّة على المسلمين ينكحون المسلمات (¬7). فدعنا نقصده بغتةً فنقتلَه ونريحَ المسلمين منه. فقال: لابدّ من قَتْلِه. فأتاه فقتلَه. ¬

_ (¬1) هو أبو بكر بن حفص الزُّهري، كما في "تاريخ" الطبري 7/ 129. (¬2) يعني حُزْمة القصب. (¬3) في (ص): فاحترق. (¬4) تنظر المصادر المذكورة قريبًا، و"البداية والنهاية" 13/ 88 - 89. والكلام بعده حتى ترجمة حبيب بن أبي ثابت، ليس في (ص). (¬5) في (د): بمكة، بدل: معه. (¬6) في الكلام اختصار. فبعد قوله: وأمَّروا عليهم البُهلول، جاء في "تاريخ" الطبري 7/ 130 ما لفظه: وأجمعوا على ألّا يمروا بأحد إلا أخبروه أنهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، ووجَّههم إلى خالد ليُنفذهم في أعمالهم. فجعلوا لا يمرُّون بعامل إلا أخبروه بذلك، وأخذوا دوابّ من دوابّ البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع فيها الغلامُ الخلَّ فأعطيَ خمرًا؛ قال بُهلول: نبدأ بالعامل ... (¬7) عبارة "تاريخ" الطبري 7/ 131، و"الكامل" 5/ 210: ويولّي المجوس على المسلمين، ويُنكح أهل الذِّمَّة المسلمات.

وعلم بهم الناس، وكان خالد بواسط، فكتبوا إليه يخبرونه (¬1)، فجاء حتى نزل الحِيرة وبها جيشٌ يُريدُ أن يسير إلى خُراسان مددًا، فجهَّزه إليهم، والتقَوْا على الفرات، واقتَتَلُوا، فقصد البُهلول زعيمَهم، فطعنَه فقتله، وانهزم أصحابُه إلى أبواب الكوفة، فجهَّز إليهم خالد جيشًا آخر، فهزموه إلى الكوفة. وقصد البُهلولُ الموصل، فخاف عاملُها، فكتب إلى هشام يخبره ويستنجدُه، فجهَّز إليهم الجيوش من الشام والجزيرة، وبعث خالد بجيش من العراق، فنزلوا بدَيرٍ بين الجزيرة والموصل، وكان البُهلول في سبعين رجلًا، واقتتلُوا، فلما رأوْا عين الغَلَبة، ترجَّلُوا، وكسروا جُفُون سيوفهم وقاتلوا حتى قُتلوا. وقتلَ البُهلولَ رجلٌ من جَدِيلةِ قيس، كنيتُه (¬2) أبوالموت، طعنَه فصرعه، ونجا منهم اليسير. فرثاه الضَّحَّاك بنُ قيس فقال: بُدِّلْتُ بعد أبي بِشْرٍ وصُحبتِهِ ... قومًا عليَّ مع الأحزابِ أعوانا كأنَّهُمْ لم يكونوا من صَحَابَتِنا ... ولم يكونوا لنا بالأمس إخوانا يا عينُ أذْرِي دُموعًا منكِ واكفةً ... وابْكي لنا جِيرةً كانوا وخِلَّانا خَلَّوْا لنا ظاهرَ الدُّنيا وباطنَها ... وأصبحوا في جِنان الخُلْد جِيرانا (¬3) ولما قُتل البُهلول، خرج عَمرو اليشكري بوصيةٍ من البُهلول، فلم يلبث أن قُتل. ثم خرج وزير السَّخْتِياني بالحِيرة، فجعل لا يمرُّ بقرية إلا أحرقها ولا بأحدٍ إلا قتلَه، فبعث إليه خالد جيشًا، فقاتلوه، فأثخن بالجواح، وحُمل إلى خالد، فلما دخلَ عليه وعظَه، وتلا آياتٍ من القرآن، فأعجبَ خالدًا ما سمع منه، فأمسك عن قتله، وحبسَه، وكان لا يزال يبعثُ إليه في الليل، فيُحادثه ويُسائله. وبلغ ذلك هشامًا، فكتب إليه: قد صِرْتَ حَرُوريًّا تحمي من قده قَتَلَ وحرق! اقْتُلْهُ ثم احْرِقه، فلم يفعل حتى كتب إليه هشام مرارًا يعزمُ عليه، فلمَّا لم يستطع دَفْعَهُ؛ قَتَلَه ¬

_ (¬1) في النسخ: يخبرهم. وأثبتُّ اللفظة على الجادَّة. (¬2) في النسخ المذكورة: رجل من جديلة اسمه قيس وكنيته ... وهو وهم، وجَدِيلة بطن من قيس. ينظر "معجم قبائل العرب" 1/ 172. (¬3) الأبيات في "تاريخ" الطبري 7/ 133 باختلاف يسير. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 370 - 374.

وحرَّقه وجماعةً من أصحابه؛ أُدخلوا المسجد، وجيئوا بالقصب، فأدخلوا فيه، ورُميتْ فيهم النيران، فما اضطربوا، وما زال السَّخْتِياني يتلو القرآن حتى مات (¬1). وفيها خرج الصحاري (¬2) بن شبيب، جاء إلى خالد، فسأله أن يفوض له، فأبى، فخرج إلى جَبُّل (¬3)، واجتمع إليه ثلاثون رجلًا وقالوا له: ما الذي دعاك إلى سؤال خالد الفرض؟ فقال: واللهِ ما أردتُ إلا قَتْلَ ابنِ النصرانية. وقال: لم أُرِدْ منه الفَرِيضةَ إلا ... طَمَعًا في قَتْلِه أنْ أَنَالا فأُرِيحَ الأرضَ منه وممَّن ... عاثَ فيها وعن الحقِّ مالا كلِّ جبَّارٍ عنيدٍ أراه ... تركَ الحقَّ وسَنَّ الضَّلالا إنني سارٍ (¬4) بنفسي لربّي (¬5) ... تاركٌ قِيلًا لديكم (¬6) وقالا بائعٌ أهلي وماليَ أرجو ... في جِنانِ الخُلْد أهلًا ومالا وخرج يريدُ خالدًا، فقال: قد كنتُ خائفًا منه. فبعث إليه جيشًا، فقتلوه وأصحابَه (¬7). وفيها غزا أسدٌ الخُتَّل، وقتلَ ملكَها بدرطرخان. قال علماء السير: سار أسد إلى الخُتَّل (¬8)، وقدَّم بين يديه مصعب بنَ عَمرو الخُزاعي، فلما نزل بقرب الخُتَّل بعث إليه بدرطرخان يطلب منه الأمان على أن يخرج إليه، فأجابه، فخرجَ، فطلب منه أسد أشياء، فقال بدرطرخان: خذ مني ألفَ ألفِ درهم، وصالِحْني. فقال أسد: اخْرُجْ من الخُتَّل، فإنها ليست ببلادك، وإنما غلبتَ ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 133 - 134، وفيه أنهم أحرقوا خارج المسجد، وأنهم اضطربوا جزعًا إلا وزيرًا فإنه لم يتحرك ولم يزل يتلو القرآن حتى مات. (¬2) في (ب) و (د): الطحاري، وفي (خ): الطحاوي. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 137، و "الكامل" 5/ 213. وسماه صاحب "أنساب الأشراف" 7/ 375: شبيب بن يزيد، وكنّاه أبا الصحاري. (¬3) بُليدة بين النُّعمانية وواسط. (والنعمانية: بليدة بين واسط وبغداد). ينظر "معجم البلدان" 2/ 103 و 5/ 294. (¬4) في "تاريخ" الطبري 7/ 138: شارٍ. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): بربي. والمثبت من المصدر السابق. (¬6) في المصدر السابق: لديهم. (¬7) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 137 - 138. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 375. (¬8) هي صِقع واسع على جيحون من وراء النهر. ينظر "معجم البلدان" 2/ 346. وتحرفت اللفظة في (ب) و (خ) و (د) إلى: الجبل، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 134، و"الكامل" 5/ 213.

عليها، فاخْرجْ منها كما دخلتَها. فقال: قد وُلد لي فيها أولاد، واكتسبتُ أموالًا، وأنفقتُ فيها شبابي، فكيف أخرج منها؟ ! فقال له أسد: فأَخْتِمُ في عنقك بالرصاص. فقال: يا أسد، فأين الأمان؟ فختم في عنقه، وبعثه إلى مولاه أبي الأسد ليُوصلَه إلى مأمنه. فسار به إلى عسكر مصعب، فوصلَ عند المساء، وكان سَلَمةُ بن أبي عبد الله في الموالي يضعُ الدَّرَّاجة (¬1) مواضعَها، فقال سَلَمة لأبي الأسد: ما صنعَ الأمير في أمر بدرطرخان؟ فقصَّ عليه القصة، وقال: وقد سيَّره معي إلى مصعب [ليُدخله الحصن، فقال سلمة: إنَّ الأمير لم يُصِبْ فيما صنع، وسينظر في ذلك ويندم، إنما كان ينبغي] (¬2) أن يقبلَ منه ما عرض عليه، أو يحبسه فلا يدعُه يصلُ إلى حصنه، لأنه قد كان يمنعُه من الغارة علينا وقتالِنا رجاءُ الصلح، فأما الآن فإنه إن وصل إلى حصنه (¬3) لم يدع مكيدة إلَّا افتعلَها، فدَعْهُ الليلةَ في قُبَّتي ولا تذهب به إلى مصعب، فإنه ساعةَ ينظرُ إليه يُدخلُه حصنَه. فبات عنده ومعه بدرطرخان في القبة، وسار أسد يقصد عسكر المصعب، فوقع في مضائق، وعطش أسد والناس (¬4). [ونزل] (¬5) أسد تحت شجرة، وجاء المجشّر بن مزاحم السُّلَمي، فقال: أيها الأمير، قد كان بدرطرخان في يدك، فلا أنت قبلتَ منه ما عرضَ، ولا أنت حبستَه حتى تنظر في أمرك، وخلَّيتَ سبيله، فإذا صار في حصنه فعلَ ما يريد. ¬

_ (¬1) الدَّرَّاجة: الدَّبَّابة تُعمل لحرب الحصار، تدخل تحتها الرجال. "القاموس" (درج). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من "تاريخ" الطبري 7/ 136. (¬3) من قوله: يصل إلى حصته ... إلى هذا الموضع، من (د) وسقط من (ب) و (خ). (¬4) بعدها في (ب) و (د): ومولى، وفي (خ): وموالي. والظاهر أن في الكلام سقطًا. ففي "تاريخ الطبري" 7/ 136 أن أسدًا مضى إلى نهر وقد عطش ولم يكن أحد من خدمه، فاستسقى، وكان السُّغدي بن عبد الرحمن أبو طعمة الجرمي معه شاكري (أي: أجير) له ... فسقى أسدًا وقومًا من رؤساء الجند. (¬5) لفظة "ونزل" بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 7/ 136.

حبيب بن أبي ثابت

فندم أسد على تخليته، وأرسل فارسًا إلى عسكر مصعب يقول: إنْ كان العِلْجُ لم يخلّ سبيله فتوقف أمره (¬1)، فجاء الرسول، فوجده في قبَّة سَلَمة، فضبطه، وجاء أسد فنزل في قُبَّته، وأحضر بدرطرخان، فشتمه (¬2)، فعرَّض بدرطرخان بأسد أنه قد نقض العهد، وغدر به بعد الأمان، ورفع حصاة فرفع بها إلى السماء وقال: هذا عهدُ الله، وأخذ أخرى وقال: وهذا عهد محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ أخرى وقال: هذا عهدُ المسلمين. فأمر أسد بقطع يدِه، ودفعَه إلى أولياء أبي فُدَيك - وكان قد قتلَه - فضربوا عنقه. وسار أسد إلى القلعة العظمى، فغلب عليها، وبقيت قلعة صغيرة فوقها فيها أولادُه وأموالُه، فلم يُوصل إليها، فرحلَ أسد إلى مَرْو. وحجَّ مَسْلَمة [بن هشام] (¬3) بنُ عبد الملك بالناس، ومعه محمد بن شهاب الزُّهري. وكان على مكة والمدينة والطائف محمد بن هشام المخزومي، وعلى العراق خالد، وأخوه أسد على خُراسان، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد (¬4). وفيها توفي حبيب بن أبي ثابت [الأسديّ، مولى بني كاهل، واسم أبي ثابت] قيس بن دينار، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل الكوفة (¬5). وكان من أرباب الفضل والزُّهد والوَرَع والفتوى. [وقال ابن سعد: كنيتُه أبو يحيى] وكان يقول: طلبتُ العلم وما لي فيه نيَّة، ثم رزقَ الله النيَّة بعد ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) كذا، وفي "تاريخ" الطبري 7/ 136 أن أسدًا أرسل رسولًا مع دليل إلى عسكر مصعب وقال له: إن أنت أدركتَ بدرطرخان قبل أن يدخل حصنه فلك ألف درهم ... (¬2) في المصدر السابق: وبعث أسد اهد بدرطرخان فحوَّله إليه فشمته، بدل قوله: وجاء أسد فنزل في قبته .. إلخ. (¬3) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 7/ 138. (¬4) المصدر السابق. ومن قوله: وفيها حكّم جماعة من الخوارج منهم بُهلول ... (قبل أربع صفحات) إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 437. (¬6) المصدر السابق.

حبيب بن محمد العجمي

[قال: وقال أبو بكر بن عيَّاش: ] وما كان بالكوفة أحد إلَّا ويذلُّ لحببب (¬1). [وحكى أبو نُعيم عن أبي بكر بن عيَّاش قال: رأيتُ حبيبَ بنَ أبي ثابت ساجدًا، فلو رأيتَه قلتَ: ميّت؛ من طول سجوده. وروى أَبو نعيم عن كامل أبي العلاء قال: ] أنْفق [حبيب بن أبي ثابت] على القرَّاء (¬2) مئة ألف درهم. [وقال سفيان الثوري: ] وكان [حبيب] يقول: ما استقرضت من أحد شيئًا أحبَّ إليَّ من نفسي، أقول لها: امهلي حتى يجيء من حيث أُحبُّ (¬3). وكانت وفاتُه بالكوفة [في هذه السنة] وهو ابن ثلاث وسبعين سنة (¬4). أسند عن ابن عُمر، وابن عبَّاس، وجابر بن عبد الله، وحكيم بن حِزام. حبيب بن محمد العجمي ويعرف بالفارسي البصري (¬5)، من الطبقة الرابعة من التابعين من أهل البصرة. [واختلفوا في سبب زُهده في الدُّنيا وتخلِّيه عنها، وكان مجابَ الدعوة. ذكره جدّي رحمه الله في "الصفوة" (¬6) وقال: حضر مجلس الحسن البصريّ، فتأثَّر بموعظته، فخرج عمَّا كان فيه. ثم ذكر القصة فقال: حدثنا محمد بن أبي القاسم بإسناده عن يونس بن محمد قال: سمعت مشيخة يقولون: ] وكان الحسن يجلس في مجلسه الذي يُذَكِّر فيه كلَّ يوم، وكان حبيب أبو محمد يجلس في مجلسه الذي يأتيه فيه أهلُ الدنيا والتجار وهو غافل عمَّا فيه الحسن، لا يلتفت إلى شيءٍ من مقالته؛ إلى أن التفتَ إليه يومًا، فذكَّره الحسن بالجنَّة، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 438. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): وأنفق على القرَّاء ... والمثبت عبارة (ص) وكل ما سلف وسيأتي بين حاصرتين منها. والكلام في "حلية الأولياء" 5/ 61. (¬3) حلية الأولياء 5/ 61، وصفة الصفوة 3/ 107. (¬4) ينظر "طبقات" ابن سعد 8/ 438. وقوله: في هذه السنة، يعني سنة (119). (¬5) بعدها في (ص) ما صورته: "وكنيتُه أبو سعيد". اهـ. ولم أقف على من كنَّاه بهذا، إنما كنيتُه أبو محمد، كما سيرد. لذا لم أثبت هذه الزيادة من (ص) أعلاه. (¬6) صفة الصفوة 3/ 315. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص).

وخوَّفه من النار، فانصرفَ من عنده، فلم يزل في تبديد ماله حتى لم يبق له شيء، ثم جعل يستقرضُ على الله بعد ذلك (¬1). [وقد ذكر القصة أبو القاسم ابن عساكر بهذا الإسناد عن أبي نُعيم (¬2)، وذكر فيها أن حبيب العجمي وقف على حلقة الحسن وقال: اين همي كوي. ومعناه بالفارسية: أيش يقول هذا؟ ]. وقال أبو جعفر السائح: كان حبيب تاجرًا يُقرض (¬3) الدراهم، فمرَّ ذات يوم بصبيان يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكل الرِّبا. فنكَّس رأسه وقال: يا ربّ، أفشيتَ سِرِّي إلى الصِّبيان، وإنما كنتُ أُعيرُ الدراهم. فرجع إلى بيته، وقدَّم ماله كلَّه بين يديه، ولبس مِدْرَعَةَ شعر، ومرَّ بأولئك الصبيان، فقالوا: اسكتُوا، قد جاء حبيب الزاهد العابد. فبكى وقال: يا ربّ، الكلُّ منك. [وذكر ابنُ عساكر أنه كان يُعير الدراهم]. [وقرأتُ على شيخنا موفق الدِّين رحمه الله من كتاب "التوَّابين" بإسناده قال (¬4): ] كان سببُ (¬5) إقبال حبيب على الآجلة، وانتقاله عن العاجلة، حضورَه مجلس الحسن، فوقعت موعظتُه في قلبه، فخرج عمَّا كان فيه، ثقةً بالله، ومستكفيًا (¬6) بضمانه، فاشترى نفسَه من الله عزَّ وجلّ، فتصدَّق (¬7) بأربعين ألف درهم [في] أربع دَفَعات؛ تصدَّقَ بعشرة آلاف درهم في أوَّل النهار، وقال: يا ربّ، قد اشتريتُ نفسي منك بهذه. ثم أَتْبَعَها ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 3/ 315 - 316. (¬2) تاريخ دمشق 4/ 169 (مصورة دار البشير). وهو في "حلية الأولياء" 6/ 149. (¬3) في "تاريخ دمشق" 4/ 170 (مصورة دار البشير): يُعير (والخبر فيه) وسترد هذه اللفظة آخر الخبر بين حاصرتين من (ص). (¬4) التوابين ص 214، وهو في "حلية الأولياء" 6/ 149. و"المنتظم" 7/ 127. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): وقال شيخنا موفق الدين: كان سبب ... والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منها. (¬6) في (ص) و"التوابين": مكتفيًا. (¬7) في (ب): وتصدَّق.

بعَشَرة آلاف أخرى، وقال: هذه شكرًا (¬1) لما وفَّقْتَني له. ثم أخرجَ عَشرة آلاف أخرى، وقال: يا ربّ، إن لم تقبل منّي الأولى والثانية، فاقبل منّي هذه، ثم تصدَّق بعشرة آلاف أخرى، وقال: يا ربّ، إنْ قبلتَ مني الثالثة، فهذه شكرًا لها. [ذكر طرف من أخباره: قال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن يونس بن محمد قال: سمعت مشيخة لنا يقولون: ] جاء رجل (¬2) إلى حبيب، فشكا إليه دينًا عليه، فقال: اذهب واستقرض وأنا ضامن. فأتى رجلًا، فأقرضَه خمس مئة درهم، وضمنَها حبيب، ثم جاء الرجل فقال: يا أبا محمد، دراهمي، فقد أضرَّ بي حَبْسُها. فقال: نعم، غدًا. فتوضَّأ أبو محمد، ودخلَ المسجد، ودعا الله تعالى. وجاء الرجل، فقال: اذهب، فإن وجدتَ في المسجد شيئًا فخُذْهُ. فذهب، فإذا في المسجد صُرَّةٌ فيها خمس مئة درهم وزيادة، فرجع إليه وقال: يا أبا محمد، قد زادت الدراهم. فقال: اذْهَبْ فهي لك، مَنْ وَزَنَها، وَزَنَها راجحةً. [وقال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن جعفر بن سليمان قال: سمعت حبيبًا يقول: ] أتانا سائل (¬3) وقد عجنَتْ عَمْرَةُ (¬4) وذهبت تجيءُ بنارٍ لتخبزه، فقلت للسائل: خذِ العجين. فاحتملَه، فجاءت عَمْرةُ، فقالت: أين العجين؟ فقلتُ: ذهبوا به يخبزونه (¬5). فلما أكثرَتْ عليّ؛ أخبرتُها، فقالت: سبحان الله! لابدّ لنا من شيء نأكلُه (¬6). وإذا برجل قد جاء بجفنة عظيمة مملوءة خبزًا ولحمًا، فقالت عَمْرة: ما أسرعَ ما خبزُوه وجعلوا معه لحمًا! ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الخطية و"الحلية" (في الموضعين). وفي "التوابين": شكر. وهو الوجه. وفي "المنتظم": شكرانُها. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): وجاء رجل ... والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منها. والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 150، و"تاريخ دمشق" 4/ 173 (مصورة دار البشير). (¬3) في (ب) و (خ) و (د): وقال حبيب: أتانا سائل ... والمثبت عبارة (ص)، والكلام بين حاصرتين منها. والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 152، و"تاريخ دمشق" 4/ 172. (¬4) هي زوجة حبيب، من العابدات، لها ترجمة في "صفة الصفوة" 4/ 35. (¬5) في (خ): ليخبزوه. والمثبت من النسخ الأخرى. (¬6) من قوله: يخبزونه ... إلى هذا الموضع، سقط من (خ).

[وقال عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن جعفر قال: ] كان حبيب (¬1) من أكثر الناس بكاءً؛ بكى ذاتَ ليلة بكاءً كثيرًا، فقالت له عَمْرةُ بالفارسية: كم (¬2) تبكي! فقال: دعيني، فإني أُريد أن أسلك طريقًا لم أسلكه قبل. قال: [وسمعتُه يقول: ] إن الشيطان ليلعب بالقرَّاء كما يلعب الصبيان بالجَوْز. [قال: ] ولو دعاني الله تعالى يومَ القيامة وقال: يا حبيب، هل جئتَني بصلاة يوم، أو صوم يوم، أو ركعة، أو تسبيحة، أو سجدة، سَلِمَتْ من إبليس؟ ما استطعتُ أقول: نعم (¬3). [وروى أبو نُعيم عن أحمد بن أبي الحواريّ قال: سمعتُ أبا] سليمان الداراني [يقول: ] كان حبيب (¬4) يأخذ متاعًا من التُّجَّار يتصدَّق به، فأخذ مرَّةً، فلم يجد شيئًا يُعطيهم، فقال: يا ربّ، ينكسر (¬5) وجهي عندهم. فدخلَ بيتَه فإذا جُوالقُ شعر (¬6) من أرض البيت إلى السقف مملوءةٌ دراهم، فقال: يا رلث، ليس هذا أردتُ [أو ليس أريد هذا. قال: ] فأخذ حاجته وترك الباقي. [وقال أبو بكر بن عبيد المعروف بابن أبي الدنيا: حدثني أبو إسحاق الأدمي (¬7) قال: سمعتُ] مسلم بن إبراهيم [يقول: ] إن رجلًا (¬8) أتى حبيبًا [أبا محمد] فقال: إن لي عليك ثلاث مئة درهم. قال: من أين؟ قال: لي عليك. فقال له حبيب: اذهبْ إلى ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د): وكان حبيب. والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منها. والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 154. (¬2) في "حلية الأولياء": لِمَ. (¬3) في (ص): أني أقول نعم، وفي "حلية الأولياء" 6/ 153، و"تاريخ دمشق" 4/ 176 (والكلام فيه): أن أقول نعم أي ربّ. وفي "صفة الصفوة" 3/ 317 بنحوه. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): وقال أبو سليمان الداراني: كان حبيب ... والمثبت عبارة (ص). والكلام الواقع بين حاصرتين منها. والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 153، و"تاريخ دمشق" 4/ 175. (¬5) في "الحلية": يا ربّ. كأنه قال إنه ينكسر ... إلخ. وبنحوه في "تاريخ دمشق". (¬6) الجُوالق وعاء خَيْش ونحوه، يوضع فيه عادةً القمح ونحوه. (¬7) هو إبراهيم بن راشد بن سليمان. ينظر "تاريخ بغداد" 6/ 586. وتحرفت لفظة "الأدمي" في (ص) (والكلام منها) إلى الأدري. (¬8) في (ب) و (خ) و (د): وقال مسلم بن إبراهيم إن رجلًا ... والمثبت عبارة (ص). والكلام بين حاصرتين منها.

غد. فلما كان من الليل توضَّأ وصلَّى وقال: اللهمَّ إنْ كان صادقًا فأدِّ إليه، وإن كان كاذبًا فابتله في بَدَنه. [قال: ] فجيء بالرجل من الغد وقد ضَرَبَ شِقَّه الفالج (¬1)، فقال: ما لك؟ فقال: أنا الذي جئتُك بالأمس ولم يكن لي عليك شيء، وإنما قلتُ: تستحيي من الناس فتعطيني. فقال له: تعود؟ فقال: لا. فقال. اللهمَّ إن كان صادقًا فألْبِسْهُ العافية. فقام الرجل كأنَّه لم يكن به شيء. وقال [ابن أبي الدنيا عن] السَّريّ (¬2) بن يحيى: اشترى حبيبٌ طعامًا في مجاعة أصابت الناس، فقسَمَه على المساكين، ثم خاط أكيسةً، فجعلها تحت فراشه، ثم دعا الله، فجاء أصحابُ الطعام يتقاضَوْنه، فأخرج تلك الأكيسة، فإذا هي مملوءةٌ دراهم، فوزنَها، فإذا هي حقوقهم، فدفعها إليهم. [وروى ابن أبي الدنيا عن السريّ أيضًا قال: ] كان حبيب (¬3) يُرى يوم التروية بالبصرة، ويرى يوم عرفة بعرفات. [وروى ابن أبي الدنيا عن] عبد الواحد بن زيد [قال: ] كنا عند مالك (¬4) بن دينار ومعنا محمد بن واسع وحبيب أبو محمد، فجاء رجل فكلَّم مالكًا وأغلظَ له في قِسْمَةٍ قَسَمَها فقال: وضعتَها في غير موضعها، وتبعث بها إلى أهل مجلسك ومن يغشاك لتكثر غاشيتك وتصرفَ وجوه الناس إليك. فبكى مالك وقال: واللهِ ما أردتُ هذا. قال: بلى، أردتَ هذا. ومالك يبكي والرجل يُغلظ له، فلما كثَّر الرجلُ رفع حبيب يديه إلى السماء وقال: اللهم إنَّ هذا قد شغلَنا عن ذكرك، فأرِحْنا منه كيف شئت. [قال: ] فسقَطَ الرجلُ ميِّتًا، فحمله أهله على سرير. وكان أبو محمد مستجابَ (¬5) الدعوة. ¬

_ (¬1) في (ص): بالفالج. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): وقال السريّ ... والمثبت عبارة (ص). والكلام بين حاصرتين منها. والخبر في "تاريخ دمشق" 4/ 173 (مصورة دار البشير). (¬3) في النسخ المذكورة: وقال السري: كان حبيب ... والمثبت عبارة (ص) وما بين حاصرتين منها. والخبر في "تاريخ دمشق" 4/ 175. (¬4) في النسخ: وقال عبد الواحد بن زيد: كنا عند مالك .. ، والمثبت عبارة (ص). وما بين حاصرتين منها. والخبر في "تاريخ دمشق" 4/ 171. (¬5) في (ص): مجاب.

[وروى أبو نُعيم عن أحمد بن أبي الحواري قال: ] كان (¬1) حبيب: يقول: من لم يُقِرَّ عينَه (¬2) بك فلا قرَّت، ومن لم يأنس بك فلا أنِس. [وروى ابنُ أبي الدنيا عن عبد الواحد بن زيد قال: ] كانت عَمْرَةُ (¬3) زوجة أبي محمد حبيب سيِّئةَ الخُلُق؛ قالت له يومًا: قد أخرجتَ كلَّ ما كان عندك، وهَبْ أني وأنت نصبر (¬4)، ما تصنع بهؤلاء الصبيان؟ فقُم واخْرُجْ وتسبَّبْ. فخرج إلى المقابر، وأقام يصلي طوال النهار (¬5)، ثم رجع آخر النهار إلى بيته، فقالت: أين كنت؟ فقال: أجَّرْتُ نفسي من (¬6) مستعمل أعمل معه. ثم فعل ذلك أيَّامًا، فقالت له: فأين أجرتُك؟ اطْلُبْ من مستعملك القُوت. فلما غدا إلى الجَبَّان (¬7) قام فصلَّى على عادته، ثم قال: إلهي قد علمتَ الحال، وأنت مطَّلعٌ على السرائر، وقد قالت عَمْرَةُ ما قد علمتَ، ولولاها ولولا الصِّبيان (¬8) لصبرت. ثم أقام إلى الليل، وجاء بعد العشاء الآخرة، وإذا بمائدة قد نُصبت والصبيان يلعبون حولَها والمرأة مسرورة، فدخل البيت وإذا بأكياس فيها دراهم وثياب كثيرة، فقال (¬9): من أين هذا؟ فقالت عمرة: بعث به مستعملُك إلينا مع غلمان صِباح الوجوه، ما رأيتُ في الدُّنيا أحسنَ من وجوههم، وقالوا: سلِّمي على حبيب، وقولي له: يقولُ ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د): وكان. والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منها. ولم أقف على الخبر عند أبي نُعيم. وهو في "تاريخ دمشق" 5/ 177، و"صفة الصفوة" 3/ 320. (¬2) في (ب) و (د): عينيه. (¬3) في (ب) و (خ) و (د): وقال عبد الواحد بن زيد: كانت عمرة. والمثبت عبارة (ص). والكلام بين حاصرتين منها. (¬4) كلمة: نصبر، ليست في (ص). (¬5) في (خ): الليل، وهو خطأ. (¬6) في (ص): إلى. (¬7) في (ص): الجبَّانة. وهما بمعنى، يعني المقبرة. (¬8) في (ب): ولولا هي والصبيان. وفي (ص): ولولا هؤلاء الصبيان. (¬9) في (ص): فقالوا.

لك مستعملك: ما منعتُك الدنيا بُخلًا (¬1)، ولكن ليستكمل نصيبُك من كرامتي، فطِبْ نفسًا، وقَرَّ عينًا، فعندي كلُّ ما تؤمِّلُ. فبكى بكاءً شديدًا، فقالت: مالك؟ ! فقال: ويحك! إنما هو إلهى. فبكت المرأة وقالت: واللهِ لا عُدْتُ لمثلها (¬2). [وحكى أحمد بن أبي الحواري قال: مرَّ حبيب بمصلوب، فوقف عليه وقال: بأبي ذلك اللسان الذي كنت تقول به: لا إله إلَّا الله. اللهم هَبْ لي ذنبَه. قال: وكان قد صلب ووجهه إلى الشرق، فأصبحت خشبتُه قد استدارت إلى القبلة] (¬3). [ذكر وفاته]: وتوفي بالبصرة في هذه السنة. [وروى ابن أبي الدنيا عن أبي زكريا قال: ] وقالت امرأته: كان يقول: إن مِتُّ اليوم، فأرسلي إلى فلان يغسّلني، وافعلي كذا وكذا. يقول ذلك كلَّ يوم (¬4). وقال عبد الواحد بنُ زيد: جزع حبيب عند الموت جَزَعًا شديدًا، فكان يقول بالفارسية: أريدُ أن أسافر سفرًا ما سافرتُه قطّ، وأسلكَ طريقًا ما سلكتُه قطّ، وأزورَ سيِّدي ومولاي ما (¬5) رأيتُه قطّ، وأدخلَ تحت التراب، فأبقى فيه إلى يوم القيامة، ثم يُوقِفُني بين يديه، فأخاف أن يقول: يا حبيب، هل جئتَني بتسبيحة واحدة في ستين سنة لم يظفر بك الشيطان فيها بشيء؟ فماذا أقول وليس لي حيلة؟ أقول: ها يا ربّ قد أتيتُك مقبوضَ اليدين إلى عنقي. قال عبد الواحد بن زيد: فهذا عَبَدَ اللهَ ستين سنةً لم يشتغل بغير العبادة، ولم يتلبَّس من الدنيا بشيء قطّ، فكيف يكون حالُنا نحن؟ واغوثاه بالله (¬6)! . ¬

_ (¬1) كلمة "بخلًا" ليست في (ص). (¬2) لم أقف على هذا الخبر. (¬3) الكلام بين حاصرتين من (ص)، وهو في "تاريخ دمشق" 4/ 177 (مصورة دار البشير). (¬4) تاريخ دمشق 4/ 178 (مصورة دار البشير). (¬5) في (ب) و (خ) و (د): وما. والمثبت من (ص). وهو موافق لما في "تاريخ دمشق" 4/ 177 - 178. (¬6) تاريخ دمشق 4/ 177 - 178، وصفة الصفوة 3/ 320 - 321.

[قلت: روى جدّي رحمه الله في "الصفوة" عن أبي نُعيم الأصفهاني أنه قال: كان حبيب مشغولًا بالتعبُّد، ولا نعرف له حديثًا مسندًا. قال: وقيل: إنه أسند عن الحسن وابن سيرين (وهو وهمٌ من قائله، فإنَّ حبيبًا الذي أسندَ عنهما) (¬1) حبيب المعلِّم]. وروى عنه جعفر بن سليمان، وصالح بن بِشْر المُرِّيّ، ويزيد الخثعمي، وغيرهم (¬2). [وله مع الفرزدق الشاعر حكاية: قال: ] وقدم حبيب [العجمي] الشام، ودخل دمشق، ولقي الفرزدق الشاعر وغيره. قال حبيب: لقيتُ الفرزدق بالشام، فقال: قال لي أبو هريرة (¬3): إنه (¬4) سيأتيك أقوام يؤيسونك من رحمة الله، فلا تأيس (¬5). [وحكى أبو القاسم ابن عساكر أن] الحسن البصري أتاه هاربًا (¬6) من الحجَّاج، فقال: يا أبا محمد، احفظني من الشُّرَط، فهم على إثري. فقال حبيب: يا أبا سعيد، ليس بينك وبين ربِّك من الثقة ما تدعو فيسترَك من هؤلاء؟ ! ادْخُل البيت. فدخل، ودخلَ الشُّرَط على إثره، فقالوا: يا أبا محمد، دخل الحسن ها هنا؟ قال: ادخُلوا. فدخلوا، فلم يروا الحسن، فخرجوا، وذكروا ذلك للحجَّاج، فقال: بلى كان في بيته، ولكنَّ الله طمس على أعينكم فلم تروه. [انتهت سيرة حبيب العجمي، رحمه الله تعالى]. ¬

_ (¬1) قوله: وهو وهم من قائله ... إلخ (وهو ما بين قوسين عاديين) من "حلية الأولياء" 6/ 154 - 155، و"صفة الصفوة" 3/ 321 وسقط من (ص) والكلام منها وهو الواقع بين حاصرتين. (¬2) قوله: وروى عنه جعفر بن سليمان ... إلخ، ليس في (ص). (¬3) في (ب) و (خ) و (د) (والخبر منها): فقال لي قال أبو هريرة. والمثبت من "تاريخ دمشق" 4/ 169، و"مختصره" 6/ 186. (¬4) في (خ): إنك. (¬5) في المصدرين السابقين: تيأس، وهما بمعنى. (¬6) في (ب) و (د) و (خ): وأتاه الحسن البصري هاربًا ... والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منه، والخبر في "تاريخ دمشق" 4/ 170 (مصورة دار البشير).

السنة العشرون بعد المئة

السنة العشرون بعد المئة فيها كانت وفاة أسد بن عبد الله القَسْريّ (¬1). وفيها بعثت الشيعة سليمان بن كثير إلى محمد بن علي [بن العبَّاس] (¬2) يعتذرون إليه ممَّا فعل خِداش، وكان محمد حَنِقًا عليهم، فتنكَّر سليمان، واجتمع به بالشَّراة من أرض البلقاء، فلامه محمدٌ على اتِّباعهم بخِدَاش وما بدا منه، وعاد سليمان بكتاب محمد إلى خُراسان، فلما فتحوه لم يجدوا فيه شيئًا سوى البسملة، فعلموا أنَّ ما كان يأمرهم به خِدَاشٌ من عنده، لا من عند محمد بن علي (¬3). وفيها عزل هشام بنُ عبد الملك خالدَ بنَ عبد الله القَسْريَّ عن العراقين وخُراسان، وعن جميع ما كان إليه، وله أسباب: منها: أن خالدًا كان يستخفُّ بهشام ويقول: ابن الحمقاء، وإذا ورد عليه كتابٌ منه يقول: جاءني (¬4) كتاب الأحول، ويقول: أنا أفتخرُ بولاية العراق من قِبَل الأحول. وبلغ هشامًا، فكتبَ إليه: يا ابنَ اللخناء النصرانية، بلغني أنك تقول: ما ولاية العراق بشرف، كيف [لا] تكون إمرةُ العراق لك شرفًا وأنت من بَجِيلة القليلة الذليلة؟ ! والله ليأتينَّك أصغرُ مَنْ في قريش فيشدُّ يدك إلى عنقك (¬5). ومنها: أن غَلَّة خالد كانت في كل سنة ثلاثة عشر ألفَ ألفِ درهم (¬6)، وكان عليها. . (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 139. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة للإيضاح. ينظر المصدر السابق 7/ 141. (¬3) ينظر تفصيل الكلام في "تاريخ" الطبري 7/ 141 - 142. وخِداش هو عمار بن يزيد، تقوَّل على محمد بن علي، وحمل شيعته على غير منهاجه. ينظر المصدر السابق 7/ 109 وما سلف أوائل سنة (107) أثناء الكلام على ابن ماهان. (¬4) في (د): جاء. (¬5) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 146. (¬6) ينظر المصدر السابق 7/ 142 - 143. (¬7) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): "وكان عليها ديوانا آذاه خالد فيعود إلى حيث جاء". ولم تتبيّن لي. وفي الكلام سقط أو تحريف وتفصيل الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 142 - 143.

ومنها: أن خالدًا كان يقول لابنه يزيد: ما أنتَ بدون مَسْلَمة بن هشام، وكيف بك إذا احتاج إليك أولاد هشام (¬1)؟ ومنها: أنَّ رجلًا من قريش -يقال له: أبو عَمرو (¬2) - دخل على خالد فاستخفَّ به، وعضَّه بلسانه (¬3)، فكتب القرشيُّ إلى هشام يشكوه ويقول: إنه فعل بي وفعل، وأنا قرشيّ وهو من بَجِيلَة. فكتب هشام إلى خالد: أمَّا بعد؛ فإنَّ أمير المؤمنين؛ وإنْ كان أطلقَ يدَك فيمن استرعاك رجاء كفايتك ونهضتك؛ غير أنه لم يفترشك أعزَّة (¬4) أهل بيته لتطأهم بقدمك، فبسطتَ لسانَك عليه بالتوبيخ، تُريد بذلك تصغير خَطَره، واحتقار قدره، حتى أخرجَك ذلك إلى إغلاظ اللفظ عليه في مجلس العامَّة، وباللهِ يُقسِمُ أميرُ المؤمنين لولا ما تقدَّم من خدمتك (¬5)، وما يكره من شماتة عدوِّك بك؛ لوضعَ فيك ما رفع، ويجعلُك تابعًا لمن كان لك تبَعًا، فانهضْ عند قراءتك كتابَ أمير المؤمنين إلى باب القرشيّ (¬6) ماشيًا مستأذنًا عليه، متنصِّلًا إليه، أذِنَ لك أو منعَك، فإن حرَّكَتْه عواطفُ رحمةٍ؛ رحمك، وإن احتَمَلَتْهُ حميَّةٌ وأَنَفَة (¬7) من دخولك عليه؛ فقِفْ ببابه حَوْلًا كاملًا غير مُزايل له حتى يرضى، ثم أمْرُك بعدُ إليه في عزلٍ وولاية، فعليك لعنةُ الله من مُتَّكلٍ عليه بالثقة، فما أكثرَ هفواتِك! وأقذعَ لأهل الشرف ألفاظَك التي لا تزالُ تبلغُ أميرَ المؤمنين من إقدامك بها على من هو أَوْلى بما أنت فيه! ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 143 و 146. (¬2) في "الكامل" 5/ 220: رجل من آل عمرو بن سعيد بن العاص. وجاء في أول الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 143 أنه رجل من قريش، وجاء فيه ص 144: ابن عمرو. (¬3) أي: ذكرَه بسوء. وتحرفت لفظة "وعضّه" في النسخ الخطية إلى: وعظمه. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 143. (¬4) في (خ): لم يعمد يفترشك. والمثبت من (ب) (د) .. وفي "تاريخ" الطبري 7/ 143: لم يفرشك غرَّة. (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 144: حرمتك. (¬6) في المصدر السابق: ابن عمرو، بدل: القرشي. (¬7) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): وأنفتُه. والمثبت من المصدر السابق.

وكتب إلى القرشي (¬1) كتابًا من جنس هذا يقول فيه: وقد بلغ أميرَ المؤمنين بَسْطُ لسانِ خالد عليك، وإمساكُك عنه تعظيمًا لأمير المؤمنين مع مُؤلم ألفاظِه، وشِرار منطقه، وقد حمدَ أميرُ المؤمنين لك ذلك، وجعل أمرَ خالدٍ إليك في عَزْلِه وولايته، فإن عزلتَه؛ أُمضي عزلك إيّاه (¬2)، وإن أقرَرْتَه؛ فتلك مِنَّةٌ عليه، لا يشركك فيها أمير المؤمنين (¬3). ومنها: أن رجلًا مَن أهل الشام قال لهشام: سمعتُ خالدًا يذكرُ أميرَ المؤمنين بما لا أقدرُ على ذكره. قال: قال: الأحول؟ قال: بل أعظم من هذا. ولمَّا كثَّر الناسُ على خالد؛ عزمَ هشامٌ على عزله، وأخفى ما قد عزم عليه من أمره، وكتب إلى يوسف بن عُمر الثقفيِّ كتابًا بخطِّه وهو باليمن، فيه: سِرْ إلى العراق، فقد ولَّيتُك إيَّاه، وإيَّاك أنْ تُخبر بذلك أحدًا، وخُذِ ابنَ النصرانية وعماله واشْفِ صدري منهم. فقدم في ثلاثين من أصحابه في جمادى الآخرة، ولما كان قريبًا من الكوفة؛ نزل فعرَّس، وكان طارق بن أبي زياد خليفةُ خالد بالكوفة قد ختنَ ولده، فأهْدَى [له] (¬4) ألفَ عتيق، وألفَ وصيف، وألفَ وصيفة؛ سوى الثياب والأموال. وجاء يوسف، فدخل المسجد، وصلَّى بالناس صلاة الفجر، وأرادَ العَسَسُ خالدًا، فخرج (¬5) [طارق] (¬6) من الكوفة إليه وهو بواسط، فقال له: ما أقدمَك؟ قال: أتيتُ معزِّيًا للأمير في أسد، وكان الواجبُ أن أسعى ماشيًا. فبكى خالد وقال له: ارجعْ إلى عملك. فأخبرَه طارقٌ الخبر، فقال له خالد: فما الرأي؟ قال: تركبُ إلى أمير ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 145: ابن عَمرو. (¬2) لفظة "إياه" من (د). (¬3) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 144 - 145. (¬4) لفظة "له" بين حاصرتين، من "تاريخ" الطبري 7/ 147، وفي "الكامل" 5/ 221: فأهدى إليه. (¬5) في (خ): خارجًا، بدل: فخرج، والمثبت من (ب) و (د)، والكلام ليس في (ص). وينظر التعليق التالي. (¬6) لفظة "طارق" بين حاصرتين زيادة لابدّ منها. وقد وقع في هذا الكلام دمج روايتين، ففي "تاريخ" الطبري 7/ 147 - 148، و"الكامل" 5/ 221 آخر الرواية الأولى أن يوسف دخل المسجد وصليَّ بالناس صلاة الفجر، ثم أرسل إلى طارق وخالد، فأخذهما وإن القدور لتغلي. ثم جاء فيهما بعدها رواية مطوَّله، وفيها ما سيرد من أن طارقًا خرج ... إلخ.

المؤمنين، فتعتذرُ إليه مما بلغه عنك. فقال خالد: كيف أمضي إليه بغير إذنه؟ قال: فتسيرُ إلى آخر عملك، وأتقدَّم أنا، فأستأذنُه في القدوم عليه. قال: ولا هذا. قال: فأذهبُ إلى هشام، فأضمنُ له جميعَ ما انكسر في هذه السنين، وآتيك بعهدك مستقبلًا. قال: وما مبلغُه؟ قال: مئة ألف ألف. قال: ومن أين أجد هذا، واللهِ ما أجدُ عَشَرةَ ألفِ ألف (¬1). قال طارق: أتحمَّلُ أنا وسعيد بن راشد [أربعين] ألف ألف درهم والزَّينبي وأبانُ بنُ الوليد عشرين ألفَ ألفٍ، ونفرِّق الباقي على العمال. فقال خالد: إني إذًا للئيمٌ حيث سوَّغْتُ قومًا (¬2) نعمةً ثم أرجعُ فيها! فقال طارق: إنَّا نقيك بأنفسنا وأموالنا (¬3)، ونستأنفُ الدنيا، وتبقى النعمة عليك وعلينا خيرٌ من أن يجيءَ من يطالبُنا بالأموال. وهي عند تُجَّار الكوفة، فيتربَّصون بنا فنقتل، وتُؤكل تلك الأموال. فأبى خالد، فودَّعه طارق وبكى وقال: هذا آخِرُ ما نلتقي في الدنيا. ومضى (¬4). وبعث يوسف بنُ عمر، فأخذ طارقَ بنَ أبي زياد، فضربَه خمس مئة سوط، وكبَّله بالحديد، ثم صادرَ عمال خالد على تسعة آلاف ألف درهم، فقيل له: أخطأتَ، لو لم تفعل لصالحوك على مئة ألف ألف، فقال: قد رَهَنْتُ لساني معهم، فلا أرجعُ فيما قلتُ (¬5). وقيل: إنه أخذَ منهم مئة ألف ألف درهم، ثم أخذ خالدًا فعذَّبه. وفيها ولَّى يوسفُ بنُ عمر خُراسان جُدَيعَ بنَ عليّ الكِرْمانيَّ، وعزل جعفرَ بنَ حنظلة، وكان أسدٌ لمَّا مات استخلفه عليها. وكان يوسف بنُ عمر قد كتبَ إلى هشام يستأذنُه أن يولِّيَ على خُراسان سَلْمَ بنَ قُتيبة الباهليَّ، فكتب إليه هشام: إنَّ سَلْمَ بنَ قُتيبة ليس له بخُراسان عشيرة، ولو كان له بها عشيرةٌ لم يُقتل أبوه بها (¬6). ¬

_ (¬1) قوله: قال ومن أين أجد ... ألف ألف. سقط من (خ). (¬2) في (خ): يومًا، بدل: قومًا. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 149: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا. (¬4) الرواية في المصدر السابق 7/ 148 - 149 مطولة. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 151. (¬6) المصدر السابق 7/ 154.

وكان جُدَيع بمَرْو، فلمَّا جاءه كتاب يوسف صَعِدَ المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم ذكر ما كان في خُراسان من الفتن وغلبة الأعداء، وذكر أسدًا وترحَّم عليه، وذكر أنَّ اللهَ أخمد به الفتن، وفتح البلاد، وذكر أخاه خالدًا بالجميل وأثنى عليه، وذكر قدوم يوسف بن عمر العراق، وحثَّ الناس على الطاعة ولزوم الجماعة، ثم قال: غفر الله للميِّت -يعني أسدًا- وعافَى اللهُ المعزول -يعني خالدًا- وبارك للقادم - يعني يوسف بن عمر. ثم نزل (¬1). وفيها عُزلَ الكِرْمانيُّ هذا عن خُراسان، ووليَها نصرُ بنُ سيَّار بن ليث بن رافع من بني بكر بن عبد مناة بن كِنانة، وأمُّه زينب بنت حسان من بني تغلب (¬2). وسببُ ولايته أنَّ أسدًا لمَّا توفّي استشار هشامٌ أصحابَه فيمن يولِّي خُراسان، فأشاروا عليه بأقوام، وكان فيمن سمَّوْا عثمان بنُ عبد الله بن الشِّخِّير، ويحيى بن الحُضين بن المنذر الرَّقاشي، ونَصْرُ بنُ سيَّار الليثيّ، وقَطَن بن قُتيبة بن مسلم، والمجشِّر بن مُزاحم السُّلَمي، فقال: صِفُوهم لي، فقالوا: أمَّا عثمانُ فصاحبُ شراب، وأمَّا [ابنُ] حُضين ففيه تِيهٌ شديد، وأمَّا قَطَن فرجلٌ موتور، وأما المجشِّر فشيخ هرم (¬3). وسكتوا عن نَصْر بنِ سيَّار، فقال: أُولِّيها نَصْرًا. فقالوا: ليس له بها عشيرة. فقال هشام: أنا عشيرتُه. ثم بعث بعهده مع عبد الكريم بن عقبة الهِفَّاني (¬4). وقيل: إن هشامًا استشار أصحابَه، فذكروا له الكِرمانيَّ، ووصفُوه بالحزم والشجاعة، فقال: ما اسمه؟ قالوا: جُدَيع. فتطيَّر منه وقال: لا حاجةَ لي فيه، وسمَّوْا له يحيى بنَ نُعيم الشيباني من ربيعة، فقال: ربيعة لا يُسَدُّ بها الثُّغُور. فوصفُوا له عقيل بن معقل الليثيّ وقيل: ليس بالعفيف، فقال: لا حاجةَ لي فيه. وسمَّوْا له جماعةً، ووصفُوا بعضهم بالشُّؤم، وبعضَهم بالكذب، حتى وصفُوا له نَصْرَ بنَ سيَّار، فقال باسمه، فولَّاه (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 154. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 155: هِمّ، بدل: هرم. والمعنى متقارب. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 154 - 155، وفيه: عبد الكريم بن سَلِيط بن عقبة الهِفَّاني. (¬5) المصدر السابق 7/ 155 - 156.

وقيل: إن يوسف بن عمر لما قدم العراق استشار أصحابه من يولِّي خُراسان، فسمَّوْا له جماعة، منهم نَصْرُ بنُ سيَّار، فكتب إلى هشام بأساميهم، وأثنى على القيسيَّة، وكتبَ اسم نَصْر بن سيَّار الكِناني في آخرهم، وقال: هو قليل العشيرة بخُراسان. فكتب إليه هشام يقول: قد فهمتُ كتابَك وإطراءك القيسيَّة، ولكنك تَقَيَّسْتَ عليَّ وأنا مُتخندِفٌ عليك (¬1)، وأمَّا قِلَّةُ عشيرة نَصْر؛ فما قلَّ مَنْ أنا عشيرتُه. وولَّاه خُراسان، وكتب إلى نَصْر أن يُكاتب يوسف بنَ عُمر (¬2). ولمَّا وليَ نَصْر خُراسان؛ أحسنَ السيرة وعَدَلَ، فَعَمَرَتْ خُراسانُ عِمارةً لم تُعمر قبلَها مثلَها، فقال سوَّار بن الأشعر (¬3): أضْحَتْ خُراسانُ بعد الخوفِ آمنةً ... من ظلمِ كلِّ غَشُومٍ الحُكم جبَّارِ لما أتى يوسفًا أخبارُ ما لقيَتْ ... اختارَ نصرًا لها نصْرَ بنَ سيَّارِ ووصل عهدُ نَصْر إليه في رجب هذه السنة، فكانت ولايةُ الكِرْمانيّ (¬4) شهرين، وقيل: ثلاثة أشهر. وحجَّ بالناس [في هذه السنة] محمد بنُ هشام بن إسماعيل، وكان على مكة والمدينة والطائف. وقيل: سليمان بن هشام بن عبد الملك. وقيل: يزيد بن هشام بن عبد الملك. وكان على العراق يوسفُ بنُ عُمر، وعلى قضاء الكوفة ابنُ شُبرمة، وعلى قضاء البصرة كثير بنُ عبد الله السُّلَمي، وقيل: عامر بن عبيدة الباهليّ (¬5)، وعلى خُراسان نَصْرُ بن سيَّار، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد (¬6). ¬

_ (¬1) أي: جعلتَ نفسَك مثلي وأنا أكرمُ منك نسبًا. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 156 - 157. (¬3) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): الأشقر، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 158، و"الكامل" 5/ 227، و"وفيات الأعيان" 7/ 108. (¬4) هو جُدَيع بن علي، ، وقد سلف الكلام عليه قريبًا. (¬5) الذي في "تاريخ" الطبري 7/ 159، و"الكامل" 5/ 228 أنه كان على البصرة كثير بن عبد الله السلمي، وعلى قضائها عامر بن عبيدة الباهلي. (¬6) المصدران السابقان. ومن أول أحداث هذه السنة (سنة 120) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

أسد بن عبد الله

وفيها توفِّي أسدُ بنُ عبد الله ابن يزيد بن أسد بن كُرْز بن عامر البجليّ القَسْريّ [أخو خالد بن عبد الله القسري. قال أبو القاسم ابن عساكر: وهما] من أهل دمشق، وكان لأَسَد دارٌ بها عند سوق الزَّقَّاقين بناحية دار بطيخ. [وذكر أن جدّه من الصحابة. وقال أبو القاسم: ولَّاه أخوه خُراسان سنة ثمان ومئة (¬1)، فغزا التُّرك، وكانوا في جمع عظيم، فهزمَهم، ثم عزله هشام في سنة تسع ومئة (¬2)، وولَّى أشرسَ بن عبد الله السُّلَمي، ثم عزله في سنة ثلاث عشرة ومئة، وولّى الجُنيد بن عبد الرحمن بن مُرَّة الغطفاني، ثم عزله في سنة خمس عشرة ومئة، وولَّى عاصم بن عبد الله الهلاليَّ، ثم ولَّى أسدًا] ففتح البلاد (¬3)، وأباد العدوَّ، وبنى مدينة بَلْخ، وأقام بها. وكانت له مع التُّرك وخاقان وقائعُ لم تكن لغيوه، ودوَّخ ملوك الهند والصين، وقطعَ النهر مرارًا، وفي كلِّ وقائعه كان منصورًا، وأقام إلى سنة عشرين ومئة، فتوفِّي بها قبل عَزْل أخيه خالد بيسير، واستَخْلَفَ على مَرْو جعفرَ بنَ حنظلة البَهْراني. [وولَّى هشام نَصْرَ بن سيَّار على خُراسان، فلم يزل نجها حتى مات هشام]. ذكر وفاة أسد: [ذكر هشام والمدائني والواقدي قالوا: كان له دُبَيْلَةٌ (¬4) في جوفه، فحضر المِهْرجَان ببَلْخ، وقدم عليه الدَّهاقين والأمراء بالهدايا، وكان فيمن قدم عليه إبراهيم بن ¬

_ (¬1) في "تاريخ" خليفة ص 340 حوادث سنة (106) أن خالدًا وليّ فيها أخاه أسدًا خُراسان، وقد أخرج ابنُ عساكر كلام خليفة، وسلف الكلام على تولية أسد سنة (106). (¬2) في "تاريخ دمشق" 2/ 798: ثمان ومئة. وكذا في "تهذيب الكمال" 2/ 506. (¬3) الكلام السالف بين حاصرتين من (ص). وجاء بدلًا منه في (ب) و (خ) و (د) ما لفظه: ولي خُراسان مرتين، وغزا الغُور وكانوا في جمع عظيم، فهزمهم وفتح البلاد ... إلخ، وينظر "تاريخ دمشق" 2/ 798 (مصورة دار البشير). (¬4) تصغير دَبْلَة، وهي خُرَاج ودُمَّل كبير يظهر في الجوف فيقتلُ صاحبها غالبًا، ينظر "لسان العرب" 11/ 235 (دبل).

عبد الرحمن الحنفي عاملُه على هَراة، وكان معه دِهْقان هَراة (¬1)؛ قَدِما بهديَّة، فقُوِّمَتْ بألفِ ألفِ درهم، وكان فيما قدما به قصرٌ من ذهب، وقصرٌ من فضة، وصِحافٌ من ذهب وفضة، وأسدٌ جالسٌ على السرير، وأشرافُ خُراسان على الكراسيّ حولَه، فدخلا، فوضعا القَصْرَين بين يديه والهدايا والثيابَ على اختلاف أنواعها [بحيث امتلأ البساط] (¬2) ثم قام الدِّهْقانُ -واسمُه خُراسان- خطيبًا، فقال: أصلح الله الأمير، إنَّا معاشرَ الفرس، أكلنا الدنيا [أربع مئة سنة -وهذه رواية الواقدي، أما هشام فقال: ] أربعة آلاف سنة [وهو الأصح؛ لأنها مدة ملك فارس - أيها الأمير، إنَّا أكلنا الدنيا] بالحلم والوقار، والهَيبة والعقل، وليس فينا كتاب منزَّل (¬3)، ولا نبيٌّ مُرْسَل، وكانت الرجالُ عندنا ثلاثة: رجلٌ ميمون النقيبة، أينما توجَّهَ فتحَ الله عليه، ورجلٌ تَمَّتْ مروءتُه وعظم عفوُه، ورجلٌ رَحُبَ صدرُه وبسطَ يدَه. وإن الله جعل أوصاف هؤلاء الثلاثة فيك، فلا نعلمُ أحدًا أتمَّ للملك والرئاسة منك أيها الأمير (¬4). إنك ضبطتَ أهل بيتك وحَشَمَك ومواليَك عن الرعيَّة، فليس منهم أحدٌ يستطيع التعدِّي على كبير ولا صغير، وغني وفقير، وبنيتَ الرِّباطات في المفاوز يأوي إليها الفقراء (¬5) والغُرباء. ومن يُمْنِ نقيبتك أنك لقيتَ (¬6) خاقان في مئة ألف ومعه الحارث بن سُريج أوهذه رواية المدائني: في مئة ألف، وفي رواية هشام: ثلاثين ألفًا] فهزمتَه، وقتلتَ أصحابه، وغنمتَ عسكره. ¬

_ (¬1) واسمُه خُراسان، كما سيرد، وجاء لفظ العبارة في "تاريخ" الطبري 7/ 139: " ... عاملُه على هَراة وخُراسان ودهقان هَراة" بزيادة واو بين كلمتي خُراسان ودهقان، وهو خطأ. وقد أخرج الخبر المزّي في "تهذيب الكمال" 2/ 507، وفيه العبارة على الصواب، وينظر تعليق محققه عليه. (¬2) كذا في (ص) (والكلام بين حاصرتين منها). وجاء في "تاريخ" الطبري 7/ 139، و"تاريخ دمشق" 2/ 799 لفظ: السِّماط وهو ما يُمَدُّ ليوضع عليه الطعام في المآدب ونحوها. (¬3) في (ص) والمصدرين السابقين: ناطق، بدل: منزل. (¬4) عبارة (ص): "ولا نعلم أحدًا أتَّم كدخدانية منك أيها الأمير. ومعنى كدخدانية: الملك والرئاسة". والمثبت عبارة (ب) و (خ) و (د) وهي منقولة عن أصل واحد، وواضح أن مختصرَه ذكر الكلمة الفارسية بالمعنى. وجاءت اللفظة في "تاريخ" الطبري 7/ 140: كتخدانية، وفي "تهذيب الكمال" 2/ 508: كنداجية. (¬5) في (د): الفقير. (¬6) في (ص): ولقيت، بدل: ومن يُمن نقيبتك أنك لقيتَ.

ومن يُمْنِ نقيبتك بسطُ يدك في الأموال، فلا ندري (¬1) أيُّ المالينِ أقرُّ لعينك؛ مالٍ قدم عليك، أم مالٍ خرجَ من يدك، بل أنت بما خرج أقرُّ عينًا وأسمحُ نفسًا (¬2). فجزاك الله عن رعيَّتك أفضلَ الجزاء، ووفَّقهم لشكر أياديك، وأدام عليهم نعمتَه، وأسبغ (¬3) فضله. [قال المدائني: ] فأعجبَ أسدًا كلامُه وقال: أنت خيرُ دهاقيننا، وأحسنُهم هديَّةً. ثم فرَّقَ أسدٌ الهدايا على من كان حاضرًا، فلم يُبق منها شيئًا، ثم قام عن سريره. ومرض بعد أيام، وأفاقَ، فجلس يومًا والناسُ حولَه وخُراسانُ - دهقانُ هَراة - فيهم، فأُهْدِيَ لأسد كُمَّثْرَى، ففرَّقَه على الناس واحدةً واحدة، [ورَمَى إلى خُراسان بواحدة] فانقطعت الدُّبَيلة في جوفه فمات، وكانت وفاتُه في المحرَّم (¬4). وقال محمد بن أبي رجاء: مرَّ أسدُ بنُ عبد الله على دِهقان يعذَّب في حبسه بِدَهَقٍ (¬5)، فناداه: يا أسد، إن كنتَ تعطي مَنْ يَرحم، فارحَمْ من يُظلم (¬6)، إن السماوات لتنفرجُ لدعوة المظلوم، فاحْذَرْ ممن (¬7) لا ناصر له إلَّا الله، ولا جُنَّةَ إلَّا الثقة به، ولا سلاحَ إلَّا الابتهالُ إليه، فإنَّه لا يُعجزه شيءٌ، يا أسد، إنَّ البغي مصرعُه وَخِيمٌ، ولا تغترَّ بإبطاء الغِياث من ناصرٍ منى شاء أن يُغيثَ أَغاثَ، وقد أَمْلَى لقومٍ لكي يزدادوا إثمًا، ومَنْ رغبَ عن التمادي فقد نال إحدى الغنيمتبن، ومن خرج عن (¬8) السعادة فلا غاية له إلَّا الشقاوة. ¬

_ (¬1) في الصدرين السابقين: وأما رُحْبُ صدرك وبسط يدك؛ فإنا ما ندري ... (¬2) من قوله: ومن يمُن نقيبتك بسطُ يدك ... إلى هذا الوضع، ليس في (ص). (¬3) في (ب) و (د): أسبغ. (¬4) ينظر الخبر بنحوه أطول منه في "تاريخ" الطبري 7/ 139 - 141، و"تاريخ دمشق" 2/ 799 (مصورة دار البشير)، و"تهذيب الكمال" 2/ 507 - 510 وكلُّ ما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬5) الدَّهَق: خشبتان تُعصر بهما الساق. (¬6) في "تاريخ دمشق" 2/ 799: إن كنت تعطي من ترحم، فارحم من تظلم. (¬7) رسمت اللفظة في (ب) و (خ) و (د) مفصولة: مِنْ مَنْ. ولم تتكرر في "تاريخ دمشق" 2/ 799. (¬8) في "تاريخ دمشق" 2/ 799: من.

ولما بلغ خالدًا وفاةُ أسد أخيه، بكى بكاءً عظيمًا، وتأسَّف وقال: رحم الله أسدًا، واللهِ ما مشيتُ قطُّ نهارًا إلَّا ومشى خلفي، ولا مشيتُ ليلًا إلَّا ومشى أمامي، ولا علا قطُّ بيتًا أنا تحتَه (¬1). وقال سليمان بن قتَّة، وكان صديقًا لأسد: سَقَى اللهُ غيثًا (¬2) حَزْنَ بَلْخٍ وسَهْلَهَا ... ومَرْوَى خُراسانَ السحابَ المُجمَّمَا وما بي لتُسقاهُ ولكنْ لحفرةٍ (¬3) ... بها غَيَّبُوا شِلْوًا (¬4) كريمًا وأعظُما فقد كان يُعطي السيفَ في الرَّوْع حقَّهُ ... ويُرْوِي السِّنانَ الزَّاعِبيَّ (¬5) المُقَوَّما وقال العبديُّ، ويقال له: ابن عِرْس (¬6): نَعَى أسدَ بنَ عبدِ الله ناعٍ ... فَرِيعَ القلبُ للمَلِكِ المُطاعِ ببَلْخٍ وافقَ المقدارُ يسري ... وما لقضاءِ ربِّك من دِفاعِ فجُودي عينُ بالعَبَراتِ سَحًّا ... ألم يُحْزِنْكِ تفريقُ الجِماعِ أتاه حِمامُهُ في جوف نجدٍ (¬7) ... وكم بالصِّيغ من بَطَلٍ شُجاعِ كتائبُ قد يُجيبون المنادي ... على جُرْدٍ مُسَوَّمةٍ سِراعِ سُقِيتَ الغَيثَ إنك كنتَ غَيثًا ... مَرِيعًا عند مُرتادِ النَّجاعِ أسند أسدٌ عن أبيه، وعن ابن عفيف الكندي، وروى عنه سَلْم بن قُتيبة الباهليُّ وغيرُه. وقال البخاري: أسدُ بنُ عبد الله القَسْريُّ دمشقيٌّ ثقة (¬8). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 2/ 801. (¬2) في "تاريخ" الطبري 7/ 141، و"تاريخ دمشق" 2/ 801: بلخًا. (¬3) في المصدرين السابقين: ولكنَّ حفرةً. (¬4) يعني جَسَدًا. (¬5) نسبةً إلى زاعِب، رجل أو بلد، أوهي سِنانٌ (رماح) إذا هُزَّتْ كأنَّ كُعوبَها يجري بعضها في بعض للينها. (القاموس: زعب). (¬6) واسمُه خالد بن المعارك، كما سلف أواخر أحداث سنة (112) (قبل التراجم). (¬7) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها). وفي "تاريخ" الطبري 7/ 141، و"تاريخ دمشق" 2/ 801: صِيغ. والصِّيغ: ناحية بخراسان، وذكر ياقوت في "معجمه" 3/ 439 أن أسدًا هلك بها. (¬8) لم أقف على هذا القول للبخاري، وذكره العقيلي في "الضعفاء" 1/ 27 ونقل عن البخاري قوله فيه: لم يتابع في حديثه، وذكره. وينظر "التاريخ الكبير" 2/ 50.

حماد بن أبي سليمان

وقال هشام: سمع رجل عِباديٌّ (¬1) نصرانيٌّ قول (¬2) سليمان: وقد كان يُعطي السيفَ في الرَّوْعِ حقَّهُ (¬3) فقال العِباديُّ: لقد وجدَه الموتُ ليلًا، وما أغنى عنه عِزُّه فتيلًا، وأصبح في التراب حاسرًا مسؤولًا، قد تبرَّأ منه الحميم، ومَلَّهُ الخليلُ والنديم، وصار إلى ربِّ العرش العظيم، يسألُه عما قدَّم، ويحاسبُه على ما اجترم. فبلغ خالدًا قولُه، فأمرَ به فضُرب مئةَ سَوْط، وحلقَ رأسَه ولحيتَه وقال: يا خبيث، ومَنْ لم يذلَّ بالموت؟ ! فقال العِباديُّ: لو علمتَ أنك تذلُّ بالموت لما صنعتَ بي هذا كلَّه في كلمة ما قصدتُ بها مكروهًا، وأخفرتَ ذِمَّةَ نبيِّك، وظلمتَ رجلًا من رعيَّتك، وقد وكلتُك إلى الله يوم يَعَض الظالم على صديه. فرقَّ له خالد، وأعطاه خمسة آلاف درهم وقال له: حلِّلْني. فقال: أنت في حِلّ (¬4). حمَّاد بن أبي سليمان فقيه أهل الكوفة، من الطبقة الثالثة من التابعين. وكان يقرأ في المصحف ودموعُه تبَلُّ الورق (¬5). وقيل لإبراهيم النَّخَعيّ: من نسألُ بعدَك؟ قال: حمَّاد بنَ أبي سليمان (¬6) وعنه أخذ أبو حنيفة العلم، وهو أوَّلُ من جلسَ في حلقته. وكان أبو حنيفة يقول: ما أُصلي صلاة إلَّا وأترحَّمُ على حمَّاد (¬7). ¬

_ (¬1) نسبة إلى عِباد الحِيرة، وهم عدَّة بطون من قبائل شتى نزلوا الحِيرة، وكانوا نصارى. ينظر "الباب" 2/ 311. (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): مولى، بدل: قول. والمثبت هو الصواب إن شاء الله. (¬3) شطر بيت سلف قريبًا (الصفحة السابقة). (¬4) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" 2/ 802. ومن قوله: وقال محمد بن أبي رجاء: مر أسد ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 452. (¬6) المصدر السابق. (¬7) بنحوه في "تاريخ بغداد" 15/ 457 (ترجمة أبي حنيفة - رضي الله عنه -).

سلم بن قيس

وقال ابن سعد: كان حمَّاد ضعيفًا في الحديث، واختلط في آخر عمره، وكان كثيرَ الحديث مُرْجئًا (¬1). سَلْم بن قيس العلويُّ البصريُّ، من الطبقة الثانية، وليس من ولد عليّ بن أبي طالب، وإنما هو من ولد عليِّ بن ثوبان (¬2)، كانوا بالبصرة، وأمُّهم فُكيهة (¬3)، تزوَّجَها بعد أبيهم عليُّ بنُ مسعود الغسَّانيّ، وإيَّاهم عَنَى أميَّةُ بنُ [أبي] الصَّلْت بقولِه: للهِ دَرُّ بني عليٍّ ... أَيِّمٍ (¬4) منهم وناكِحْ ويقال: إنما نُسبوا إلى عليِّ بن مسعود زوجِ أمِّهم (¬5). وفي رواية الحديث أربعةٌ (¬6) يقال لكلِّ واحد منهم: العَلَويّ، وليسوا من ولد عليّ ابن أبي طالب رضوان الله عليه: أحدهم هذا. والثاني: خالد بن يزيد، من ولد عليِّ بن سُوْد (¬7). والثالث: جندب بن سرحان (¬8)، من بني مدلج. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 452. ولم ترد ترجمة حماد في (ص). (¬2) لم تجوَّد الكلمة في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) فجاء رسمُها فيها: بومان، وفي "المنتظم" 7/ 202: يونان، والمثبت من "الأنساب" 9/ 41. (¬3) كذا وقع في النسخ. وفي الكلام سقط أو وهم. فالذين أمُّهم فُكيهة هم بنو جندب بن سرحان (وسيرد ذكره) تزوجت بعد أبيهم علي بن مسعود الغساني، وإياهم عنى أمية ... إلى آخر الكلام الآتي بعده. وينظر "الأنساب" 9/ 41 - 42، و"المنتظم" 7/ 202. (¬4) في النسخ: كم أيّم. وهو خطأ. (¬5) الكلام مكرر لما سبق، والله أعلم. وينظر الكلام قبل تعليق. (¬6) كذا قال. وسأذكر عند الرابع أنه وهم على تحريف فيه. (¬7) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها)، و"المنتظم" 7/ 202: الأسود، وهو خطأ. وينظر "الأنساب" 9/ 41، و"اللباب" 2/ 353 - 354. (¬8) في النسخ: مرجان. وهو خطأ. وينظر المصدران السابقان.

سليمان بن حبيب

والرابع: مديح بن عبد مناة (¬1). وما عدا هؤلاء ممَّن يقال له: العَلَويّ، منسوب إلى عليِّ بن أبي طالب - عليه السلام -. وكانت أشفار عيني سَلْم بيضاء، فينظر إليها، فيظنُّها الهلال، فيقول: قد رأيتُ الهلال، قبل الناس بيومين، فيقول له الحسن البصري: خلِّ بين الناس وبين هلالهم حتى يَرَوْه. أسند سَلْم عن أنس بن مالك، وروى عنه جرير بن حازم، وغيره، وضعَّفه ابنُ المديني، ووثَّقه ابنُ معين، وكانت وفاته بالبصرة في هذه السنة (¬2). سليمان بن حبيب أبو ثابت (¬3) الداراني الدمشقي المحاربي، من الطبقة الثالثة من التابعين، وكان ثقةً، صدوقًا، قليل الحديث. توفي سنة عشرين ومئة. وقيل: لسنة ستٍّ وعشرين. ويقال له: قاضي الخلفاء، لأنَّه أقام قاضيًا على دمشق ثلاثين سنة، قضى للوليد بن عبد الملك، ولسليمان، ولعُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وليزيد بن عبد الملك، ولهشام. ويقال: إنَّه قضى لعبد الملك، وللوليد بن يزيد على قول من قال: إنه مات سنة ستٍّ وعشرين. أسند عن أنس، وأبي هريرة، ومعاوية، والوليد بن عُبادة بن الصامت، وغيرهم. ¬

_ (¬1) كذا وقع في النسخ، وهو وهم من المصنّف أو المختصر، على تحريف في اللفظ في النُّسخ، فليس ثمة راوٍ بهذا الاسم، وإنما هذا الكلام تتمة لذكر قبيلة جندب بن سرحان (المذكور قبل) من بني مدلج، فقال السمعاني بعد أن أورده: ومُدلج من بني عبد مناة بن كنانة، فجعله المختصر راويًا رابعًا، ثم تحرَّف اللفظ إلى: مديح بن عبد مناة! وينظر "الأنساب" (العلوي) 9/ 41 - 42، و"المنتظم" 7/ 202. (¬2) ينظر "الجرح والتعديل" 4/ 263، و"كامل" ابن عدي 3/ 1175 - 1176، و"ضعفاء" العقيلي 2/ 164، و"المنتظم" 7/ 202. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) في (ب) و (خ): بن ثابت، وهو خطأ، والمثبت من (د). وذكر ابن عساكر في "تاريخه" 7/ 551 (مصورة دار البشير) كنيته فقال: أبو بكر، وقيل: أبو ثابت، وقيل: أبو أيوب.

عبد الله بن كثير

وأقام في مدَّة ولايته يقضي بالشاهد واليمين (¬1). عبد الله بن كثير أبو مَعْبَد القارئ، من أبناء فارس الذين كانوا بصنعاء، وهو أحدُ القرَّاء السبعة. أخذ القراءة عن مجاهد، وقرأ عليه أبو عَمرو بنُ العلاء، وكان ديِّنًا صالحًا (¬2). عاصم بن عمر بن قتادة ابن النعمان الأنصاري، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل المدينة، له رواية بالعلم والسِّيَر والمغازي ومناقبِ الصحابة، وكان ثقةً كثير الحديث. أسند عن أبيه، وأنس بن مالك، وغيرهما، وروى عنه محمد بن إسحاق، وغيره. وقيل: إنه مات سنة تسع وعشرين ومئة، وهو وهم، وليس له عقب (¬3). عديّ بن عديّ بن عميرة ابن فروة بن زُرارة (¬4) الكندي الحضرمي، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل الجزيرة، وليَ القضاء عليها في خلافة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. وكان ثقة إن شاء الله تعالى، ناسكًا، وليَ الجزيرة وأرمينية وأذربيجان لسليمان بن عبد الملك، ويقال له: سيّد أهل الجزيرة، ومات بالجزيرة، وقيل: بالرُّها. ووثَّقه عامَّة الأئمة، وسئل الإمام أحمد - رضي الله عنه - عنه فقال: لا يُسألُ عن مثل هذا (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: طبقات ابن سعد 9/ 459، وتاريخ داريا ص 77 - 78، وتاريخ دمشق 7/ 551 - 555. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬2) ينظر: طبقات ابن سعد 8/ 45، وطبقات خليفة ص 282، وتهذيب الكمال 15/ 468. ومعرفة القراء الكبار 1/ 197، وسير أعلام النبلاء 5/ 318. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) ينظر: طبقات ابن سعد 7/ 415، وتاريخ دمشق (جزء فيه بعض تراجم حرف العين - طبعة مجمع دمشق) ص 64 - 73، وذكر فيه ابن عساكر أقوالًا أخرى في وفاته. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬4) تحرفت لفظة: زرارة، في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) إلى: بهراة. (¬5) ينظر طبقات ابن سعد 9/ 485، وتاريخ دمشق 47/ 144 - 152 (طبعة مجمع دمشق). ولم ترد هذه الترجمة في (ص).

عمرو بن شعيب

عَمرو بن شُعيب ابن محمد بن عبد الله بن عَمرو بن العاص، من الطبقة الثالثة من أهل المدينة. كان يُطيل الصلاة بين الظهر والعصر، وقد تكلَّموا فيه (¬1). مُجَمِّع بن سمعان (¬2) أبو حمزة الكوفي التيميّ من الطبقة الثالثة من التابعين، كان ورعًا صالحًا صديقًا لسفيان الثوريّ، وكان سفيان يقول: ليس من عملي (¬3) ما أرجو أن لا يَشُوبَه شيء سوى حبِّي (¬4) لمجمِّع، وما في الدنيا أورع منه. ودخل سفيان الثوري عليه؛ فإذا في إزار سفيان خرق، فناول مجمِّع سفيانَ أربعةَ دراهم وقال: اشتر إزارًا، فقال سفيان: لا أحتاجُ إليها. فقال مجمِّع: أنا أحتاجُ إلى ذلك. فأخذَها واشترى بها إزارًا، فكان سفيان يقول: كساني مجمِّع جزاه الله خيرًا إزارًا (¬5). و[روى ابن أبي الدنيا عن مجمِّع أنه] خرج إلى السوق (¬6) ليبيع شاةً، فقال له المشتري: أترضاها لي؟ فقال: لو رضيتُها لنفسي ما بعتُها، قال: وما الذي بها. قال: في لبنها مُلوحة (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر طبقات ابن سعد 7/ 412 وقول المصنف: تكلَّموا فيه، غير دقيق، فإن عَمرًا ثقة في نفسه، لكن تكلَّموا في روايته عن أبيه، عن جدّه، وقالوا: إن كان المقصود بجدّه محمدًا، فالرواية مرسلة، وإن كان عبدَ الله؛ فالإسناد متصل، فقد صحَّ أن عَمرًا صحبَ جدَّه الأعلى عبدَ الله، وبيّن العلماء أن بعض الروايات الضعيفة في هذا الإسناد كانت من الرواة عن عمرو. وقد صحَّح الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إسناد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه. ينظر كلامه في التعليق على حديث الترمذي (322). (¬2) كذا في "الجرح والتعديل" 8/ 295، و"الأنساب" (الحائك) 4/ 32. وجاء في "حلية الأولياء" 5/ 89، و"الأنساب" (النَّساج) 12/ 74: بن صمغان، وفي "صفة الصفوة" 3/ 107: بن يسار. (¬3) في (ج): أعمالي. (¬4) في "حلية الأولياء" 5/ 90، و"صفة الصفوة" 3/ 108: كحبّي، بدل: سوى حبّي. (¬5) المصدران السابقان. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬6) في (ب) و (خ) و (د): وخرج مجمع إلى السوق ... والمثبت من (ص) والكلام بين حاصرتين منها. (¬7) لم أقف عليه بهذا السياق. والذي في المصادر: أنهم سألوه: كيف شاتك هذه؟ قال: ما أرضاها. وفي رواية أخرى قال: يخيَّل إليَّ أن في لبنها ملوحة. ينظر: المعرفة والتاريخ 2/ 683، وحلية الأولياء 5/ 90، وصفة =

محمد بن واسع بن جابر

[قال أبو حاتم الرازي: ] كان [مجمِّع] مجاب الدعوة (¬1)؛ دعا الله أن يميته قبل الفتنة، فمات بالكوفة صبيحة اليوم الذي خرج فيه زيد بنُ علي. روى مجمِّع عن ماهان العابد، وروى عنه سفيان الثوريّ، وغيره (¬2). محمد بن واسع بن جابر الأزدي البصريّ، أبو عبد الله، ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة (¬3) من أهل البصرة؛ قال: ومات بعد الحسن بعشر سنين؛ كأنه مات في سنة عشرين ومئة. وقال خليفة: محمد بن واسع من الطبقة الرابعة (¬4). ولا يقدَّم عليه أحدٌ في زمانه في الزُّهد والعبادة والورع، وكان الحسن يُسمِّيه زَينَ القُرَّاء (¬5). وكان محمد يصوم الدهر ويُخفيه (¬6)، ويقول: اللهم إنْ كان أخلقَ وجهي كثرةُ ذنوبي؛ فهبني لمن أحببتَ من خلقِك (¬7). وقال سعيد بن عامر: كان بين ابنِ محمدِ بن واسع وبين رجل شيء، فشكاه إلى أبيه، فقال له: وأيُّ شيءٍ أنت؟ ! واللهِ ما اشتريتُ أمَّك إلَّا بثلاث مئة درهم، وأما أبوك فلا كثَّر اللهُ في المسلمين مثلَه. قال سعيد بن عامر: ونحن نقول: بلى، كثَّر الله في المسلمين مثلَه (¬8). ¬

_ = الصفوة 3/ 108، والمنتظم 7/ 198 (وذكره فيه ابن الجوزي في وفيات سنة 119). والشطر الأول من الخبر ورد نحوُه عن محمد بن واسع الأزدي. ينظر "تاريخ دمشق" 65/ 173 (طبعة مجمع دمشق). (¬1) في (ب) و (خ) و (د): وكان مجاب الدعوة ... والمثبت من (ص) والكلام بين حاصرتين منها. والخبر في "المنتظم" 7/ 198. (¬2) الجرح والتعديل 8/ 296. (¬3) في (ب) و (خ) و (د): من الطبقة الثالثة ... والمثبت من (ص). وهو في "طبقات" ابن سعد 9/ 240. (¬4) قوله: قال ومات بعد الحسن ... إلخ، من (ص)، وجاء بدلًا منه في (ب) و (خ) و (د) قولُه: وقيل: من الرابعة. وكلام ابن سعد في "طبقاته" 9/ 241، وأورده خليفة في "طبقاته" ص 215. (¬5) حلية الأولياء 2/ 346، وتاريخ دمشق 65/ 160 (طبعة مجمع دمشق) وينظر منه ص 155. (¬6) حلية الأولياء 2/ 351، وتاريخ دمشق 65/ 158. (¬7) حلية الأولياء 2/ 353. (¬8) طبقات ابن سعد 9/ 241، وتاريخ دمشق 65/ 166. وأخرجه أبو نُعيم في "حلية الأولياء" 2/ 350 من طريق آخر.

ولما ثَقُل؛ دخلَ عليه أصحابُه، فجاء هارونُ بنُ رِئاب، فأوسعوا له، فجلس ناحيةً والقوم في تقريظ محمدٍ، ومحمدٌ مغلوبٌ، فأفاقَ، فسمعَ بعضَ قولهم، فقال: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} الآية [41: الرحمن] إذا جُمع بين ناصيتي وقدمي لا يُغني عني -واللهِ- ما تقولون شيئًا، يا إخوتي، يُذهَبُ بي - واللهِ - عنكم إلى النار، أو يعفو الله عني (¬1). وروى أبو نُعيم عن موسى بن يسار قال: صحبتُ (¬2) محمد بنَ واسع من مكة إلى البصرة، فكان يصلِّي الليل أجمع في المَحْمِل جالسًا يومئُ برأسه إيماءً، وكان يأمرُ الحادي يكونُ خلفَه أَنْ يرفع صوتَه حتى لا يُفطن له، وكان ربَّما عرَّس من الليل، فينزلُ فيصلِّي، فإذا أصبح أيقظَ أصحابَه (¬3). [وروى أبو نعيم الحافظ بإسناده قال: كان محمد بنُ واسع مع قتيبة بن مسلم في جيش، وكان قُتيبة صاحب خُراسان، وكانت التُّرك قد خرجت إليهم، فبعث إلى المسجد لينظر مَنْ فيه، فقيل: ليس فيه غير محمد بن واسع رافعًا أصبُعَة، فقال قُتيبة: أصبُعُه تلك أحبُّ إليَّ من ثلاثين ألفَ عِنان (¬4). وروى أحمد الدورقيّ عن أبي أحمد المرُّوذي عن عليّ بن بكَّار، عن محمد قال: كان محمد. وذكره. وقد رواه الدورقيّ من وجه آخر] عن عبد الواحد بن زيد [قال: ] خرج محمد (¬5) بن واسع في غَزاة مع قُتيبة، وقد لقيَ التُّركَ في يوم لا يُرى فيه إلَّا الرؤوس طائرةً، فقال ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 241، وتاريخ دمشق 65/ 180 (طبعة مجمع دمشق). ومن قوله: وكان محمد يصوم الدهر ويخفيه ... إلى هذا الموضع، لم يرد في (ص). (¬2) في (ب) و (د): وقال موسى بن بشار: صحبتُ ... إلخ. والمثبت من (ص). وقوله: بشار، محرَّف عن: يسار. (¬3) حلية الأولياء 2/ 346، وتاريخ دمشق 65/ 158 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) حلية الأولياء 2/ 353. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): وقال عبد الواحد بن زيد: خرج محمد ... إلخ. والمثبت من (ص)، والكلام السالف بين حاصرتين منها.

قتيبة [بن مسلم]: انظروا إلى (¬1) محمد بن واسع. فنظروا؛ وإذا به في طرف الميمنة رافعًا أصبُعَهُ إلى السماء، فأخبروا قُتيبة، فقال: تلك الأصبع الفاردة (¬2) أحبُّ إليَّ من مئة ألف سيف شهير، وسِنانٍ طَرِير (¬3). ثم قال: لا يُخذل جيشٌ فيه محمد بن واسع، احملُوا على بركة الله. فحملُوا، فانهزمت التُّرك. [قال الجوهري: شَهَرَ سيفَه يَشْهَرُه شَهْرًا، أي: سَلَّهُ. والطَّرِير: ذو الرُّواء والمنظر. وروى ابنُ أبي الدنيا عن عِلْجَةٍ كانت في دار محمد بن واسع أنها كانت تقول كلماتٍ بالأعجمية؛ معناها: هذا رجلٌ إذا جاء الليل؛ لو كان قتل أهل الدُّنيا ما زاد (¬4). وروى ابنُ أبي الدُّنيا] عن مطر الوَّراق قال: ما اشتهيتُ (¬5) أن أبكيَ قَطُّ إلا نظرتُ إلى وجه محمد بن واسع، فأبكي حتى أشتفيَ، كأنه ثَكِلَ عشرةً من الحُزْن. وروى أبو نُعيم عنه أنه كان يقول: لو كان (¬6) للذنوب رائحة ما قدرتُم أن تدنُوا منّي من نَتَن ريحي. وروى أيضًا عن عبد العزيز بن أبي روَّاد قال: رأيتُ في يد محمد (¬7) بن واسع قَرْحة، فاغتممتُ، فقال: أتدري ما للهِ عليَّ في هذه القَرْحةِ من نعمةٍ حيثُ لم يجعلها على طرف ذكري، أو لساني، أو على حدقتي. ¬

_ (¬1) لفظة "إلى" ليست في (ص). (¬2) في (ص): الفارعة. (¬3) كذا في النسخ الخطية وأصول "تاريخ دمشق" 65/ 175، والخبر فيه بنحوه عن الأصمعي. وفي "سير أعلام النبلاء" 6/ 121: وشاب طرير. وهو الأشبه. (¬4) صفة الصفوة 3/ 267، والمنتظم 7/ 204. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): وقال مطر الورَّاق: ما اشتهيتُ ... إلخ. والمثبت من (ص)، والكلام الواقع بين حاصرتين منها. والخبر في "تاريخ دمش" 65/ 156، و"صفة الصفوة" 3/ 268، و"المنتظم" 7/ 204. (¬6) في (ب) و (خ) و (د): وكان محمد يقول: لو كان ... والمثبت من (ص) والخبر في "حلية الأولياء" 2/ 349، و"تاريخ دمشق" 65/ 164 - 165، و"صفة الصفوة" 3/ 268. (¬7) في النسخ المذكورة: وقال عبد العزيز بن روّاد: رأيتُ في يد محمد ... إلخ، والمثبت من (ص)، والخبر في "حلية الأولياء" 2/ 352، و"تاريخ دمشق" 65/ 171، و"صفة الصفوة" 3/ 268.

وقال ابنُ شَوْذَب: فرَّق أميرٌ بالبصرة (¬1) مالًا، فبعث إلى مالك بنِ دينار منه فقبلَ، فأتى محمد بنُ واسع، فقال له: يا مالك، قبلتَ جوائزَ السلطان؟ ! [فقال: يا أبا بكر (¬2)، سَلْ جلسائي، فقالوا: يا أبا بكر] اشتَرَى بها رقابًا فأعتقَهم. فقال له محمد: أنشدك الله، أقَلْبُكَ الساعةَ له على ما كان قبل أَن يُجيزك؟ قال: اللهمَّ لا. قال: ترى أيُّ شيء دخلَ عليك؟ فقال مالك لجلسائه: إنما يعبد اللهَ مثلُ محمد بنِ واسع، أمَّا مالك فإنَّه حمار. ومرض محمد، فجاء يحيى البكَّاء يستأذنُ عليه، فقالوا: يحيى البكَّاء، فقال محمد: إن شرَّ أيامكم يومَ نُسبتُم فيه إلى البكاء (¬3). [وفي رواية أبي نُعيم عن محمد أنه قال: ] إن كان الرجلُ ليبكي عشرين سنةً وامرأتُه معه لا تعلم به (¬4). وكان يقول: ما آسى من الدُّنيا على شيء إلَّا على صاحب (¬5) إذا اعْوَجَجْتُ قوَّمَني، أو قوتٍ من الدنيا ليس لأحد فيه منَّة، ولا للهِ على فيه تبعة (¬6). [وروى ابن أبي الدنيا عنه لما احتُضر بكى وقال لأصحابه: إخوتي، أتدرون إلى أين يُذْهب بي؟ واللهِ الذي لا إله إلَّا هو إلى النار، أو يعفو عني] (¬7). ¬

_ (¬1) في (خ): أمير المؤمنين، بدل: أمير بالبصرة، والمثبت من (ب) و (د)، ولم يرد هذا الخبر في (ص). وهو في "حلية الأولياء" 2/ 354، و"تاريخ دمشق" 65/ 162، و"صفة الصفوة" 3/ 269، وما سيرد فيه بين حاصرتين منها. (¬2) يُكنى محمد بن واسع بأبي عبد الله وأبي بكر. تاريخ دمشق 65/ 143 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) حلية الأولياء 2/ 347، وصفة الصفوة 3/ 269. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬4) المصدران السابقان. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). وجاء فيها بعد هذا الخبر قولُه: "قال: وكان محمد يصوم الدهر ويخفيه"، وسلف هذا القول من النسخ الأخرى أول الترجمة. (¬5) في "تاريخ دمشق" 65/ 168، و"صفة الصفوة" 3/ 270: إلا على ثلاث: صاحب ... إلخ. وينظر التعليق التالي. (¬6) بعدها في "تاريخ دمشق": وصلاةٍ في جميع يُرفع عني سهوها ويكتبُ لي فضلها. وكذا في "صفة الصفوة" لكن بتقديم وتأخير. (¬7) هذا الخبر من (ص). وسلف نحوه من النسخ الأخرى أوائل الترجمة، وهو بهذا اللفظ في "حلية الأولياء" 2/ 348، و"تاريخ دمشق" 65/ 178، و"صفة الصفوة" 3/ 271.

أسند محمد عن أنس بن مالك، والحسن، وابن سيرين، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومُطرِّف بن الشِّخِّير، ومحمد بن المنكدر، وأبي بُرْدة، وعطاء، وطاوس، وعُبيد بن عمير، وغيرهم (¬1). وروى عنه حمَّاد بنُ سَلَمة، وهشام بن حسان، ومَعْمَر، وحمَّاد بنُ زيد في آخرين. وقدم الشام زائرًا بيتَ المقدس. وقال عبد الواحد بن زيد (¬2): خرجتُ مع محمد بن واسع إلى الشام ومعنا مالك بن دينار نؤمُّ بيت المقدس، فلما كنا بين الرُّصافة وحمص سَمِعْنا مناديًا ينادي من تلك الرِّمال: يا محفوظ، يا مستور، اعْقِلْ في ستر مَنْ أنت، فإن كنت لا تعقل؛ فاحذر الدنيا، وإنْ كنتَ لا تُحسنُ أن تحذرَها؛ فاجْعَلْها شوكةً، وانظر أين تضعُ قدمك منها. وقال مالك: رأيتُ محمد بنَ واسع ومحمد بنَ سيرين في المنام وهما في الجنة، فقلت: فأين الحسن؟ قالا: عند سِدْرَةِ المُنْتَهى (¬3). وقال وكيع: أريد محمد بنُ واسع على القضاء فامتنع، فقالت له زوجتُه: لك عيالٌ ونحن في ضائقة. فقال: ما دُمْتِ تَرَينِي أصبرُ على الخَلِّ والبَقْل فلا تطمعي في هذا منّي (¬4). وقال القُشَيريُّ: قال بعضُهم: رأيتُ في المنام كأنَّ القيامةَ قد قامت، وإذا بقائلٍ يقول: أدخِلُوا محمد بنَ واسع ومالك بنَ دينار الجنة، فنظرتُ أيُّهما يُقدَّم، فتقدَّم محمد بنُ واسع، وتأخَّر مالك [بن دينار، ودخلا الجنة]. فقلت: ما السببُ؟ فقيل لي: إنّه كان لمحمد قميصٌ واحد، ولمالك قميصان (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: والحسن وابن سيرين ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) في (ص): حماد بن زيد، وهو خطأ. والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 156 (ترجمة عبد الواحد بن زيد)، و"تاريخ دمشق" 65/ 144. (¬3) تاريخ دمشق 65/ 182. (¬4) حلية الأولياء 2/ 353، وتاريخ دمشق 65/ 159. (¬5) الرسالة القشيرية (بشرح الشيخ زكريا الأنصاري) 3/ 246. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص).

أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم

أبو بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزم الأنصاريّ الخزرجيّ، اسمُه أبو بكر، وكنيتُه أبو محمد، وأمُّهُ كَبْشَة (¬1) بنتُ عبد الرحمن بن سعد، أنصاريَّة. وأبو بكر من الطبقة الثالثة من أهل المدينة [وخالتُه عَمرة بنت عبد الرحمن التي روت عن عائشة، وقد ذكرناها]. وولَّاه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قضاء المدينة في إمارته عليها، فلما وليَ عمرُ الخلافة ولَّاه إمرةَ المدينة (¬2) فكان يصلي بالناس ويتولَّى أمرَهم. ولم يَطْلُعْ على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسيفٍ قطّ، وكان يخلعُ نعليه إذا أراد صعود المنبر (¬3). وقال عطَّاف بن خالد عن أمه قالت: قالت زوجة أبي بكر: ما اضطجع (¬4) على فراش بالليل منذ أربعين سنة. وكان السجود قد أكلَ جبهتَه وأنفَه (¬5). [قال خليفة]: وحجَّ بالناس سنة ستٍّ وتسعين، وسنة تسع وتسعين، وسنة مئة، كان أميرًا على الموسم (¬6). وكانت وفاته بالمدينة في هذه السنة (¬7) وهو ابن أربع وثمانين سنة. ¬

_ (¬1) عبارة (ص): الخزرجي، وأبو محمد له صحبة ورواية، وأمُّ أبي بكر كبشة ... إلخ. ويعني بأبي محمد: عمرَو بنَ حزم جدَّ أبي بكر. وأما محمد بن عَمرو، فله رؤية، وليس له سماع إلَّا من الصحابة. قاله صاحب "التقريب". (¬2) قوله: وولَّاه عمر ... إلى هذا الموضع، جاء في (ص) بدلًا منه: وقال ابن سعد: كان أبو بكر على قضاء المدينة، ولّاه عمر بن عبد العزيز المدينة. وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 414. (¬3) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 28/ 165. (ووقعت ترجمة أبي بكر بن محمد ضمن خرم في "تاريخ دمشق"). (¬4) في (ب) و (خ) و (د): وقالت زوجتُه: ما اضطجع ... إلخ والمثبت من (ص)، وجاءت العبارة فيها: وقال خالد بن عطاف بن خالد عن أمه ... وهو خطأ. والخبر في "المعرفة والتاريخ" 1/ 437 - 438، و"تهذيب الكمال" 33/ 139، و"مختصر تاريخ دمشق" 28/ 161. (¬5) مختصر تاريخ دمشق 28/ 161. (¬6) ينظر "تاريخ خليفة" ص 313 و 319 و 320 و 321، و"مختصر تاريخ دمشق" 28/ 163. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬7) يعني سنة (120). والكلام في "طبقات" ابن سعد 7/ 415.

أبو نضرة المنذر بن مالك

[وقال ابن سعد: ] وكان ثقةً كثير الحديث. [ولم يذكر له رواية. وقال أبو القاسم ابن عساكر: أسند أبو بكر الحديث عن خالته عَمْرة عن عائشة، وعن عُمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، وغيرهم.] (¬1) وكان له من الولد عبدُ الله؛ مات سنة ثلاثين ومئة، ومحمد، وعبد الرحمن، وأمُّهم فاطمة بنت عُمارة، أنصارية (¬2)، وأَمَةُ الرحمن؛ لأمِّ ولد، وأبو بكر وهو اسمه (¬3). أبو نَضْرة المنذرُ بنُ مالك ابن عبد القيس، من الطبقة الثانية من أهل البصرة. وكان ثقة إن شاء الله، كثيرَ الحديث، وليس كلُّ أحدٍ يَحتجُّ به. وقيل: إن وفاته كانت في زمن الحسن، وأنَّ الحسن صلَّى عليه (¬4) السنة الحادية والعشرون بعد المئة وفيها غزا نَصْرُ بنُ سيَّار ما وراء النهر، وقتلَ كورصول، وكان ملكًا. قال علماء السير: كان نصر قد غزا ما وراء النهر مرارًا، فلما كان في الثالثة، أراد غزو الشاش، فحال بينه (¬5) وبين قطع نهر الشاش كورصول، فكانت بينهم مُراماة بالنُّشَّاب، ¬

_ (¬1) الكلام بين حاصرتين من (ص). وينظر "تهذيب الكمال" 33/ 137 .. (¬2) لم يرد الكلام الآتي بعده في (ص)، وجاء فيها ما صورته: انتهت ترجمته رحمه الله. (¬3) كذا وقع في (ب) و (خ) و (د). ولم يرد في (ص). وأبو بكر ليس من الأولاد، وإنما هو صاحب الترجمة، وذكرُه هنا وهم غالبًا وليس إيرادًا لاسمه، فقد سلف أول الترجمة. والكلام في "الطبقات الكبرى" 7/ 414، فبعد أن ذكر ابنُ سعد أسماء أولاد أبي بكر بن محمد، قال: وأبو بكر (يعني صاحب الترجمة) هو اسمه، فتابع المصنف الكلام. والله أعلم. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 207، والحَسَن المذكور هو البصري - رضي الله عنه - وتوفي سنة (110). وقد وقعت هذه الترجمة هنا في وفيات سنة (120) ولم أقف على من ذكر أن وفاته كانت في هذه السنة، والذي في المصادر أن وفاته كانت سنة ثمان -أو تسع- ومئة. وقال البخاري في "لتاريخ الصغير" 1/ 244: مات أبو نضرة قبل الحسن بقليل. وينظر "طبقات خليفة" ص 209، و"تاريخه" ص 338 - 339، و"تهذيب الكمال" 28/ 510. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬5) في (ب) و (خ) و (د): ولما أراد نصر غزو الشاش حال بينه ... إلخ. بدل قوله: قال علماء السير: كان نصر قد غزا ... إلى هذا الموضع. وهو مثبت من (ص).

وجاء الحارث بن سُريج -وكان بأرض التُّرك- فانضمَّ إلى كورصول، وجلس نصر يتوضَّأ على [جانب النهر - وقيل: كان على] سريره - ووصيفٌ له يصبُّ على يديه [الماء] فقصده الحارث [بن سُريج] بسهم، فأصاب وجهَ الوصيف، فتحوَّل نصر من سريره. فلما كان في الليل قطع كورصول النهرَ في نفر يسير، فبيَّتَ (¬1) أهلَ العسكر، وظنَّ أهلُ العسكر أن التُّرك قد عَبَرُوا كلُّهم، فساقَ كورصول شاءَ العسكر (¬2) ودوابَّهم، فخرج عاصم بنُ عُمير وهو على خيل سمرقند (¬3)، وتبعَهم، فأسرَ كورصول، وجاءَ به إلى نَصر [فإذا هو] شيخُ كبير، فقال: من هذا؟ فقال بعضهم: هذا صاحبُ أربعة آلاف قبَّة، فقال نصر: اقتلوه. فقال له: وما ينفعُك قتلُ شيخ كبير؟ أنا أفدي نفسي بألف بُخْتيّ (¬4) وألفِ بِرْذَوْن. فاستشار نصر من حولَه من أهل الشام وأهل خراسان فقالوا: وما يجدي علينا قتلُه؟ خُذْ منه ما بذلَ نتقوَّى به على الكفَّار. فقال له: كم سِنُّك؟ قال: لا أدري. قال: كم غزوتَ غزوةً؟ قال: اثنتين وسبعين غزوةً. قال: أشهدتَ يومَ العطش؟ قال: نعم. قال: واللهِ لو بذلتَ لي ما طلعَتْ عليه الشمس ما تركتُك تغزو في المسلمين بعدَها. ثم صلبه على شاطئ النهر، فلما نظر إليه التُّرك مرَّغُوا خدودَهم على التراب، وقطعوا آذانهم، وجعلوا يصرخون، وجاؤوا بآنيته (¬5) فأحرقوها. ولما أراد نصر الرحلةَ؛ أمر به فأُحرق لئلا يعبروا فيأخذوا عظامَه، فكان ذلك أشدَّ عليهم من قتله (¬6). ثم سار نصر إلى الشَّاش (¬7)، فسبى ثلاثين ألفًا، وجاءه كتاب يوسف بن عمر: سِرْ إلى هذا الغارسِ ذنبَه في الشاش -يشير إلى الحارث بن سُرَيج- أينما كان. فاستشار ¬

_ (¬1) في (د): فثبت، وفي (ب) و (خ): فثبتت. (¬2) في (ص): بالعسكر، بدل: شاء العسكر. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 174: على جند أهل سمرقند. (¬4) البُخْتيّ: واحد الإبل الخُراسانية، جمعها بُخْت. (¬5) المثبت من (د)، وقي (ب) و (خ): بابنته! وفي "تاريخ" الطبري 7/ 175: بأبنيته. (¬6) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 173 - 175 بأطول منه. (¬7) في "تاريخ" الطبري 7/ 175: فرغانة، بدل: الشاش.

أصحابه فتوقَّفوا، فقال يحيى بن حُضَيْن -وهو الذي خالف عاصمًا في نوبة (¬1) الحارث بن سُريج وقال: هذا عزلُ الخليفة (¬2) -: يا نصر، سِرْ بنا إلى الحارث. فقال له نصر: إنك تكلَّمتَ في أيام عاصم بكلمة ارتفعتَ بها عند الخليفة، وزِيدَ في عطائك، وبلَغْتَ الدرجة الرفيعة، فقلتَ: أقولُ مثلَها لَعَلِّي أحظى، سِرْ في المقدِّمة فقد ولَّيتُك قتال الحارث. فسار إلى الحارث، فلم يظفر منه بشيء، ومضى الحارثُ في أهل الشاش والتُّرك (¬3). وأقبل نصر فنزل سَمَرْقَند، ثم عاد فقصد الشَّاش، وكان ملكها يقال له: بدر (¬4)، فصالح نصرًا على الجزية، وشرط عليه إخراجَ الحارث من بلده، فأخرجَه إلى فارياب (¬5) ثم سار (¬6) نصر إلى فَرْغَانة. ذكر صلحه مع ملكها: قال سليمان بن صُول: لما نزل نصر أرض فَرْغانة دعاني، فقال: اذهب إلى صاحب فَرْغَانة، وانظر ما يرى (¬7) في حديث الصُّلح. قال سليمان: فلما قدمتُ على الملك قال: اذهبوا به إلى الخزائن والسلاح والعساكر (¬8) ليرى ما أعددتُ لهم. قال سليمان: فرأيتُ سلاحًا كثيرًا وأموالًا ورجالًا، فلما رجعت إليه قال: كيف رأيت؟ قلت: رأيتُ عُدَّةً حسنة، ولكنَّ المحصورَ لا يَسْلَمُ من خصال، قال: وما هنَّ؟ قلت: لا يأمنُ أقربَ الناس إليه وأوثقَهم في نفسه أن يثبَ عليه، فيتقرَّبَ به، أو يفنى ما قد جمع فيسلِّم إلى ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها). (¬2) ينظر خبر مخالفة يحيى بن حُضين لعاصم -وهو ابن عبد الله الهلالي- في صلح الحارث بن سُريج أوائل أحداث سنة (117). (¬3) من قوله: وجاءه كتاب يوسف بن عمر (قبل عدة أسطر) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬4) في "تاريخ" الطبري 7/ 177: قدر. (¬5) كذا في (د). وفي (ب) و (خ): قاريان. وفي (ص): فأخرجه من بارباب. وفي "تاريخ" الطبري 7/ 177: فاراب. (¬6) في (ب): صار. (¬7) في (ص): ترى. (¬8) قوله: والعساكر، ليس في (ص).

خصمه، أو يصيبه (¬1) داء فيهلك. فقال: قم حتى ننظر. فقمتُ، وفكَّر، فرأى الصُّلْحَ خيرًا. فدعاني وأجابَ إلى الصُّلح، وأحسنَ جائزتي، وبعث معي أمَّه، وكانت صاحبةَ أمرِه. [قال: ] وقدمتُ على نصر، فلما رآني؛ سُرَّ بالصُّلح وقال: أنت كما قال [الأول]: فأرسِلْ (¬2) حكيمًا ولا تُوصِهِ. وأخبرتُه، فدعا لي (¬3)، وأذنَ لأمِّه، فدخَلَتْ عليه، فأكرمَها، وبين يديها ترجمان يعبِّر عنها، فكان في (¬4) جملة ما قالت: كلُّ مَلِكَ لا يكون عنده ستةُ أشياء فليس بمَلِك: وزيرٌ عاقلٌ يُشاورُه في أمره ويثقُ به، وطبَّاخٌ إذا لم يشتهِ الطعام (¬5) اتَّخَذَ له ما يشتهي، وزوجةٌ إذا دخلَ عليها مغتمًّا، فنظر إلى وجهها ذهبَ غمُّه، وحصنٌ إذا فزع إليه نجَّاه -وقيل: إنها أرادت بالحصن الفرس السابق (¬6) - وسيفٌ إذا قارعَ الأقران لم يخشَ خيانتَه، وذخيرةٌ إذا حملَها فأينما كان (¬7) من الأرض عاش بها. ودخل تميم بن نصر بن سيار فقالت: مَنْ هذا؟ قال: تميم بن نصر. فقالت: ما له نُبلُ الكبار، ولا حلاوة الصِّغار. ثم دخل الحجَّاج بن قتيبة بن مسلم، فقالت: مَنْ هذا؟ قال: الحجَّاج بن قتيبة. [قال: ] فحيَّتْه وسألت عنه وقالت: يا معشر (¬8) العرب، ما لكم وفاء، ولا يصلح بعضُكم لبعض، قُتيبةُ هو الذي وطَّأَ لكم البلاد، وذلَّل ما أرى، وهذا ولدُه تُقعده دون مجلسك، فحقُّك يا نصر أنْ تُقعده مكانَك، وتجلسَ دونه. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د): يصفه، والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في "تاريخ" الطبري 7/ 177. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): أوسل. والمثبت من (ص). وهذا عجز بيت صدرُه: إذا كنتَ في حاجةٍ مُرسِلًا، وجاء في شعر طَرَفَة بن العبد وغيره. ينظر "ديوانه" ص 64. (¬3) في (ص): فدعاني. وهو تحريف. (¬4) في (ص): من. (¬5) في (ص): إذا اتشته نفسُه الطعام. (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 178: تعني البرذون، بدل قوله: وقيل إنها أرادت ... وجاء هذا القول في (ص) آخر الخبر. (¬7) في (ص): فأين كان. (¬8) في (ص): معاشر.

ثم قامت وخرجت، وبعثَ إليها نصر بالصِّلات والتُّحَف، وسار معها سليمان بن صول إلى ابنها، وتقرَّر الصلح، وانهزم الحارث إلى بلاد التُّرك والفارياب (¬1)، وعاد نصر إلى مَرْو (¬2). وفيها خرج زيد بنُ عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب - عليه السلام -. واختلفوا في سبب خروجه على أقوال: فقال أبو مِخْنَف: كان أوَّلُ أمره أنَّ يزيد بن خالد بن عبد الله القَسْريّ ادَّعَى مالًا قِبَلَ زيد (¬3) بن عليّ، ومحمد بن عُمر بن عليّ بن أبي طالب، وداود بن عليّ بن عبد الله بن عبَّاس، وإبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف، وأيوب بن سَلَمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ. فكتبَ يوسف بن عمر إلى هشام في ذلك، وهشام بالرُّصافة يومئذ، وعنده زيد بنُ عليّ، والحسنُ بنُ الحسن بن علي؛ ارتفعا إليه في صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، ومحمد بنُ عمر بن عليّ بن أبي طالب يومئذٍ مع زيد بن علي، فلما وقف هشام على كتاب يوسف ذكرَ لهم ذلك، فأنكروا، فقال هشام: فأَنَا باعثٌ بكم إلى يوسف لتُقابلوا يزيد بنَ خالد، فقال له زبد: أنشدك الله والرحم أن تبعث بي إلى يوسف، فإنني أخافُ أن يتعدَّى عليَّ. فقال هشام: ليس له ذلك. وكتب إليه: إذا قدم عليك فلان وفلان فاجْمَعْ بينهم وبين يزيد بن خالد، فإنْ أقرُّوا بما ادَّعى عليهم فسَرِّحْهم إليَّ، وإنْ أنكروا فسله البيِّنة، فإنْ لم يُقم البيِّنة، فاستَحْلِفْهم بعد العصر بالله الذي لا إله إلَّا هو ما استودعكم يزيد بن خالد القسريّ وديعة، ولا له قبلكم شيء (¬5). ثم خلِّ سبيلَهم. ¬

_ (¬1) في (ص): الفاريات. (¬2) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 177 - 178 بأطول منه، دون قوله آخره: ثم قامت وخرجت ... إلى آخر الخبر. (¬3) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): يزيد. وهو خطأ. (¬4) كذا وقع في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها). وهو وهم، فإن الحسن بن الحسن بن عليّ توفي سنة (97). والذي في "تاريخ" الطبري 7/ 161 أن زيدًا خاصم بني الحسن بن الحسن بن عليّ ... إلخ. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 525. (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 161: ما استودعهم يزيد ... ولا له قبلهم شيء.

وبعث بهم، واحتبسَ أيوبَ بنَ سلمة عنده؛ لأنه كان من أخواله (¬1)، فلم يؤخذ بشيء من ذلك. فلما قدموا على يوسف أكرمهم، وأجلسَ زيدًا قريبًا منه، وألطفَ (¬2) في المسألة، فأنكروا. وأحضرَ يزيدَ بنَ خالد وقال: هؤلاء الذين ادَّعَيتَ عليهم المال قد حضروا. فقال: ما لي عندهم قليل ولا كثير. فغضب يوسف وقال: أَبِي تهزأُ، أم بأمير المؤمنين؟ ! ثم عذَّبه عذابًا ظُنَّ أنه قتلَه. وأخرجهم إلى المسجد، فاستحلفَهم، فحلفوا له، فخلَّى عنهم، فساروا إلى المدينة، وأقام زيد بالكوفة (¬3). وقال الهيثم (¬4): قدم زيدُ بنُ علي، ومحمد بنُ عمر بنِ علي، وداودُ بنُ علي بن عبد الله بن عباس على خالد بن عبد الله القَسْريّ العراقَ، فأجازَهم، ورجعوا إلى المدينة، فلما عُزل خالد ووليَ يوسفُ العراقَ؛ كتب إلى هشام يُخبوه بقدومهم على خالد، وأنه أجازَهم، وأن خالدًا ابتاعَ من زيد أرضًا بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ولم يقبض الأرض، ودفعَ إليه المال. فكتب هشام إلى عامله بالمدينة أن يُسرِّحهم إليه، فلما قدموا على هشام، سألهم، فأقرُّوا بالجائزة، وأنكروا ما سواها. وسألَ زيدًا عن الأرض، فأنكرها وحلفوا لهشام فصدَّقَهم (¬5). وقيل: إن زيدًا إنما قدم على هشام مخاصمًا لابن عِمِّه عبدِ الله بنِ حسن بنِ حسن بن عليٍّ في ولاية وقوف عليّ بن أبي طالب، وكانا تنازعا قبل ذلك إلى خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم والي المدينة، فتنازعا، فأغلظَ عبدُ الله لزيد، وقال له: يا ابنَ الهندكيَّة. فقال زيد: أجل، واللهِ لقد صبرَتْ بعد وفاة سيِّدها، فما تعتَّبَتْ بابها إذ لم يصبر غيرُها. أشار إلى عمَّته فاطمة بنت الحسين أمِّ عبد الله. ¬

_ (¬1) لأن أمَّ هشام بن عبد الملك ابنةُ هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة. تاريخ الطبري 7/ 161. (¬2) في "تاريخ" الطبري: وألطفه. (¬3) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 160 - 162 بأطول منه، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 527. (¬4) في (خ): وفيها، بدل: وقال الهيثم. والمثبت من (ب) و (د) والكلام ليس في (ص). (¬5) تاريخ الطبري 7/ 160.

ثم ندم زيد، واستحيا من عمَّته، فلم يدخل عليها زمانًا، فأرسلَتْ إليه: يا ابنَ أخي، إني لأعلم أنَّ أمَّك عندك كأمِّ عبد الله عنده. وقالت لابنها عبد الله: بئس ما قلتَ لأمِّ زيد، واللهِ لنِعْمَ دخيلةُ القوم كانت (¬1). وقال لهما خالد بن عبد الملك: اغْدُوا عليَّ لأفصلَ (¬2) بينكما. واجتمع (¬3) الناس، وجرت منازعات أفضَتْ إلى ما لا يليق. فخرج زيد إلى هشام بن عبد الملك (¬4). وقيل: إن الذي ادَّعى بالمال خالدُ بنُ عبد الله؛ قال عطاء بن مسلم: لمَّا قدم زيد على يوسف قال له: إن خالدًا زعم أنه أودعك مالًا، فقال: أَنَّى يُودِعُني مالًا وهو يشتم آبائي على منبره! فأحضر خالدًا في عباءة وقال: زعمتَ أنك أودعتَ زيدًا مالًا وهذا زيدٌ يُنكر. فقال له خالد: أتريد أن تجمع مع إثمك فيَّ إثمًا في هذا؟ ! كيف أُودِعُه مالًا، وأنا أشتُمُهُ وأباه على المنبر؟ ! فشتمَه يوسف وردَّه إلى حبسه (¬5). وقال أبو عُبيدة (¬6): لمَّا جمع يوسفُ بينهم وبين خالد؛ قالوا له: يا خالد، ما دعاك إلى ما صنعتَ؟ فقال: غلَّظ عليَّ يوسفُ العذاب، فادَّعيتُ ما ادَّعيتُ، وأمَّلْتُ أن يأتيَ اللهُ بالفرج قبل قدومكم. فأَطلقَهم [يوسف]، فمضَوا إلى المدينة، وتخلَّفَ زيد وداود بالكوفة (¬7). وقال ابن سعد: دخل زيد بنُ عليّ على هشام بن عبد الملك، فرفعَ إليه دَينًا كثيرًا وحوائج، فلم يقض له حاجة، وتهجَّمه (¬8)، وأسمعَه كلامًا شديدًا. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 164، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 520. (¬2) تحرف في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) إلى: الأفضل. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 164. (¬3) في النسخ المذكورة: وأجمعَ. (¬4) لم يرد تتمة الخبر في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها)، وفيه أن زيدًا خرج إلى هشام، فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص، فكلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها: ارجع إلى أميرك ... وينظر بتمامه في "تاريخ" الطبري 7/ 164 - 165. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 166 - 167. (¬6) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): أبو عبيد. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 167. (¬7) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 167 بأطول منه. (¬8) في "طبقات" ابن سعد 7/ 320: وتجهَّمه.

قال سالم مولى هشام وحاجبُه: فخرج زيد وهو يَفْتِلُ شارَبه [ويقول: ] ما أَحَبَّ أحدٌ الحياة قطّ إلَّا ذَلَّ. ثم مضى، فكان وجهُه إلى الكوفة، فخرج بها. فأخبرتُ هشامًا بعد ذلك بما قال زيد يومَ خرجَ من عنده، فقال: ثكلَتْك أمُّك! ألا أخبرتَني بذلك قبل اليوم؟ ! وما كان دَينُه؟ قلت: خمس مئة ألف درهم. فقال هشام: إنَّ عطاءنا له ذلك أهونُ علينا ممَّا صارَ إليه (¬1). وقال عُمر بن شبَّة: لما دخلَ زيدٌ على هشام وكان يكرهُه، فقال له: بلغني أنك تذكرُ الخلافة وتتمنَّاها، ولستَ هناك. قال: ولمَ؟ قال: لأنك ابنُ أَمَة. فقال له زيد: ليس عند الله أعلى منزلةً من نبيّ ابتعثَه، وقد كان إسماعيلُ - عليه السلام - ابنَ أَمَة، وخرجَ من ظهره سيِّدُ الأنبياء، وكان أخوه إسحاق ابنَ حُرَّة، فأخرجَ الله مِنْ ظهره من مَسَخَهُ خنازير وقردة. فقال هشام: اخرجْ. فخرج وهو يقول: واللهِ لا رأيتَني بعد اليوم إلَّا حيثُ تكره. فقال له سالم مولى هشام: يا أبا الحُسين (¬2)، لا يظهرنَّ هذا منك. وقال هشام: واللهِ لانبئنا خبر (¬3) قبل خلعه إيَّانا (¬4). فخرج إلى الكوفة فكان كما قال. وقال هشام بن محمد: لمَّا أقام زيد بالكوفة جعلت الشيعة تختلف إليه ويقولون: إنَّا لنرجو أن تكون المهديّ (¬5)، وأنَّ اللهَ يُهلك بني أمية على يدك (¬6). [وجعل] يوسف بن عمر يسألُ عنه، فيقال (¬7): هو ها هنا، فيرسل إليه [أن] (¬8) اخْرُجْ إلى المدينة. وهو يعتلُّ عليه. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 320. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): أبا الحسن. وهو خطأ. وينظر الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 165 - 166، وبنحوه في "العقد الفريد" 4/ 482 - 483 و 5/ 89. (¬3) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها). وينظر التعليق التالي. (¬4) في "تاريخ" الطبري 7/ 165: والله ليأتينَّك خلعُه أول شيء. (¬5) في "تاريخ" الطبري: المنصور، بدل: المهدي. وكذا في "أنساب الأشراف" 2/ 526. والخبر فيه بنحوه. (¬6) في (خ): يديك، والمثبت من (ب) و (د)، والكلام ليس في (ص). (¬7) في (ب) و (خ) و (د): فقال. وهو تحريف. (¬8) الكلمتان بين حاصرتين زدتُهما لتمام السياق، ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 166، والكلام فيه بنحوه.

فأقام سبعة أو ثمانية أشهر، فبعثَ فأخرجَه، وبعثَ معه من أشخصَه إلى القادسية أو إلى العُذيب، فتبعَتْه الشيعة وقالوا: إلى أين تذهب ومعك منَّا مئة ألف مقاتل يضربون دونك بأسيافهم؟ فقال له داود بنُ علي: يا ابن عمّ، لا يَغُرَّنَّك هؤلاء من نفسك، فقد رأيتَ ما فعلوا بأهل بيتك، قد خلَّوا من كان أعزَّ عليهم منك؛ خذلُوا جدَّك عليًّا حتى قُتل، والحسنَ بعده، ثم قتلوا الحُسين وإخوته وأعمامَك، وسَبَوْا أهلَك، وإني خائف واللهِ إن رجعتَ معهم أن لا يكون عليك أشدَّ منهم (¬1). وقال عطاء بن مسلم: كتب هشام إلى يوسف أن أَشْخِصْ زيدًا إلى بلده، فإنه لا يقيمُ ببلد غيره فيدعوهم إلَّا أجابوه. فأشخَصَه، فلما كان في الثعلبية أو القادسية؛ لحقه المشائيم (¬2) -يعني أهل الكوفة- فردُّوه وبايعوه، فأتاه سَلَمةُ بنُ كُهيل، فقال له: كم بايع جدَّك منهم (¬3)؟ قال: أربعون ألفًا. قال: فكلم بايع عليًّا (¬4). قال: ثمانون ألفًا. قال: فكم معك (¬5)؟ قال: ثلاث مئة. قال: نشدتُك الله، أنتَ خير أم جذُك؟ قال: جذي. قال: فأنتَ خيرٌ أم أميرُ المؤمنين؟ قال: أمير المؤمنين (¬6). قال: أفَقَرْنُك الذي خرجتَ فيه خيرٌ أم القرنُ الذي خرج فيه جدُّك؟ قال: ذلك القرن. فقال: أتطمع أن يفيَ لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدِّك وبأبيه (¬7)؛ ! قال: فإنهم قد بايعوني، ووجبت البيعةُ في عنقي وأعناقهم. قال: أفتأذنُ لي أن أخرجَ من البلد؟ قال: ولمَ؟ قال: لأنني لا آمنُ أن يحدثَ في أمرك حَدَثٌ، فلا أملكُ نفسي. فأَذِنَ له، فخرج من البلد إلى اليمامة، وقُتل زيد بعد ذلك (¬8). ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 168، 166 والكلام فيه من أكثر من رواية. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 526. (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): المياشيم، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 168. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 168: كم بايعك (وهو الصواب) بدل قوله: كم بايع جدَّك منهم. وقد وقع للمختصر في هذا الخبر غير هذا الوهم، وسأشير إلى ذلك في موضعه. (¬4) في المصدر السابق: فكم بايع جدَّك. وهو الصواب. (¬5) في المصدر السابق: فكم حصل معه. وهو الصواب. (¬6) قوله: قال: فأنت خير أم أمير المؤمنين قال أمير المؤمنين. ليس في المصدر السابق. وذِكْرُ المصنِّف لعليٍّ - رضي الله عنه - في هذه الرواية وهم. (¬7) قوله: وبأبيه، ليس في المصدر السابق. وينظر التعليق الذي قبله. (¬8) تاريخ الطبري 7/ 168 - 169.

وقيل: كتب هشام إلى يوسف بن عمر لما فصل عنه زيد: أما بعد، فقد قدم زيدُ بنُ عليّ الكوفة وهو رجلٌ لَسِنٌ قادرٌ على صناعة (¬1) الكلام، واجتلاب القلوب بحلاوة لسانه وكثرة مخارجه في حُججه، وما يُدِلُّ (¬2) به عند لَدَدِ الخصام من السطوة على الخصم لنَيل (¬3) الفَلْج (¬4) بحجَّته، فأشْخِصْه عاجلًا إلى الحجاز، ولا تُمكِّنْه من المُقام (¬5) بالكوفة، فإنه إنْ أعاره أهلُها أسماعَهم، فحشاها من لين لفظه، وحلاوةِ منطقِه، مع ما يُدِلُّ (¬6) من القَرابة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجَدَهم مائلين إليه غير متَّئدةٍ قلوبُهم، ولا ساكنةٍ أحلامُهم (¬7)، وحَقْنُ (¬8) دمائهم والأمنُ من الفُرقة أحبُّ إليَّ من سفك دمائهم، وتفريقِ الكلمة، وقطعِ السُّبُل، والجماعةُ حَبْلُ الله المتينُ وعروتُه الوُثْقى، فأَوْعِدْ أشرافَ المِصْرِ بالعقوبة واستصفاء الأموال، وأوْقِعْ بأهل السَّوَاد، فأولئك من يختار الفتنة، ولا يغرَّنَّكم (¬9) كثرتُهم، واجعل حصنك الذي تأوي إليه الثقةَ بالله، والمحاماةَ عن دينه (¬10). قال هشام: ورجع زيد من القادسية، فاختفى بالكوفة، وبايعَه خمسةَ عشرَ ألفًا، وبعث إلى أهل السَّوَاد، فبايعوه. وتزوَّج امرأتين بالكوفة، إحداهما ابنة يعقوب بن عبد الله السُّلَمي، والثانية ابنة عبد الله [بن أبي العنبس] الأزدي، وأمُّها أمُّ عَمرو بنت الصَّلْت، كانت شيعيَّة، فبلغها مكانُ زيد، فأتت مُسَلِّمةً عليه، وكانت امرأة جميلةً إلَّا أنَّها قد أَسَنَّتْ، فسلَّمت على ¬

_ (¬1) جاء في وصفه في "تاريخ" الطبري 7/ 169 أنه خليق بتمويه الكلام وصوغه. (¬2) في "تاريخ" الطبري 7/ 169: يُدلي. (¬3) المثبت من المصدر السابق. ووقع رسم اللفظة في النسخ: ليشمال. ولم تتبيّن لي، ولعلها: لينال. (¬4) الفَلْجُ: الظَّفَر والفوز. ينظر "القاموس". (¬5) في (ج): القيام. (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 170: يُدلي به. (¬7) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): أخلاقهم. والمثبت من المصدر السابق. (¬8) في (خ) و (د): ويحقن دمائهم (كذا) والأمر من الفرقة ... إلخ. وفي (ب): أو يحقن دماؤهم ... والكلام ليس في (ص). وأثبتُ اللفظ مستفيدًا من عبارة "تاريخ" الطبري 7/ 170. (¬9) في (خ): ولا يفرقكم. والمثبت من (ب) و (د). والكلام ليس في (ص). (¬10) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 169 - 170 بنحوه أطول منه.

زيد، فأعجبَتْه، فسألها أن يتزوَّجَها، فقالت: إني امرأة قد طعنتُ في السّنّ، فقال: وقد رضِيتُ. فقالت: أنا أعلمُ بنفسي، ولو كنتُ متزوِّجةً ما عدلتُ بك أحدًا، ولكن لي ابنةٌ هي أوسمُ منّي وأجمل. فتزوَّجَها، فأولدَها جارية، ثم توفيّت. وكان زيد ينتقل من البصرة إلى الكوفة إلى السَّواد، ومرَّة ينزل الكوفة في دُور أصهاره الأزْديِّين والسُّلَميِّين والقبائل، فأقام من سنة عشرين حتى قُتل في سنة اثنين وعشرين ومئة، ويوسف بالحِيرة. وكانت بيعتُه على كتاب الله، وسنَّة رسوله، وجهادِ الظالمين، والدَّفعِ عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، ونُصرة المظلومين، وما أشبه ذلك. فأقام بضعةَ عشرَ شهرًا، وقيل: سنتين، ثم أمرَ أصحابه بالتهيؤ للخروج، فأقاموا يستعدُّون ويتأهَّبُون (¬1). وفيها غزا مروان بن محمد بلاد صاحبِ سريرِ الذهب، وبابَ الأبواب، فأخربَ بلاده، وفتحَ حصونَه، وأعطاه الجزية كلَّ سنة ستة آلاف (¬2) رأس، ومن الأموال ما لا يحصى (¬3). وفيها أوفد يوسفُ بنُ عُمر خالدَ بنَ صفوان بن الأهتم على هشام بن عبد الملك، فوعظَه موعظةً بالغة. قال خالد: قدمتُ على هشام وقد خرجَ بأهله وحَشَمِهِ، فنزل في أرض قاع صَحْصَاح (¬4) في عامٍ بَكَّرَ [وَسْمِيُّه، وتتابعَ وَلِيُّه (¬5)، وأخذتِ الأرضُ زُخْرُفَها من نُوَّارٍ (¬6) ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه في "تاريخ الطبري" 7/ 171 - 173 أطول منه. وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 526 - 527. ومن قوله: واختلفوا في سبب خروجه على أقوال (قبل ست صفحات) إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) تكررت لفظة: آلاف، في (ص). (¬3) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 160، و"المنتظم" 7/ 207. (¬4) الصَّحْصَاح والصَّحْصَح: الأرض المستوية الواسعة. (¬5) الوَسْميُّ: مطر الربيع الأول، والوليُّ: المطر يسقط بعد المطر. ولفظة: وسميُّه، بين حاصرتين، من "تاريخ دمشق" 5/ 464 (مصورة دار البشير)، و"المنتظم" 7/ 215. (¬6) النُّوَّار: الزهر، وفي (د): نَوْر، وهما بمعنى.

مُزْهِر، وربيعٍ مُونِق (¬1)، فهو أحسنُ منظرًا في صعيد كأنَّ ترابَه قِطَعُ الكافور، وقد ضُرب له فُسطاط فيه أربعةُ فُرُش من خَزّ أحمر، وعليه دُرَّاعةٌ (¬2) حمراء، وعِمامةٌ حمراء من خَزّ، وقد أخذَ الناسُ مجالسَهم، فأخرجتُ رأسي من ناحية السِّماط (¬3)، فنظرَ إليَّ كالمستنطق لي، فقلت: أتمَّ اللهُ عليك النعمة، وألهمَك الشُّكْر، وجعلَ ما قَلَّدَك من هذا الأمر رَشَدًا، وعاقبةَ ما تؤولُ إليه حَمْدًا يُخلصُه لك بالتُّقَى، فيدومُ لك بغير كَدَر عليك فيه، فقد أصْبَحْتَ للمسلمين ثقةً، ومُستراحًا يستريحون إليك في أمورهم، فجعلني الله فداك، ولقد منَّ الله عليَّ بالنظر إليك، وما أجدُ يا أمير المؤمنين شيئًا هو أبلغ من حديثِ مَنْ سلفَ قبلَك من الملوك، ذلك هديَّة على ما أولى الله من الاجتماع بك، وكيف جعلني الله أهلًا لذلك (¬4)، فإنْ رأى أمير المؤمنين أن يسمعَ مني ذلك أخبرتُه. قال: وكان هشام متَّكئًا، فاستوى جالسًا وقال: هاتِ يا ابنَ الأهتم. فقلت: إن ملكًا ممَّن كان قبلك خرج في عام مثلِ عامِنا هذا إلى الخَوَرْنَق والسَّدِير (¬5)، فنظر فأبعد النظر، فقال لجلسائه: هل رأيتُم مثلَ ما أنا فيه؟ قال: وعنده رجلٌ من بقايا حَمَلَةِ الحُجَّة على أدب الله ومنهاجه، ولن تخلوَ الأرضُ من قائمٍ للهِ بحُجَّة. وذكرَ ابنُ الأهتم الموعظة التي ذكرناها في باب ملوك الحِيرة، وأنَّ ملكَ الخَوَرْنق والسَّدِير تزهَّد. وأنشدَ أبياتَ عديّ بن زيد العِباديّ التي أوَّلها: أيُّها الشَّامِتُ المُعَيِّرُ بالدَّهْـ ... ــرِ أَأَنتَ المُخَلَّدُ المَوْفُورُ ¬

_ (¬1) أي: يُعجبُ الناظرين إليه. (¬2) الدُّرَّاعة: جُبَّةٌ مشقوقة المقدَّم. (¬3) أي: الصَّفّ، أو ما يمُدُّ ليوضع عليه الطعام. (¬4) كذا وقعت سياقة الكلام من قوله: فجعلني الله فداك ولقد منَّ الله عليّ ... إلى هذا الموضع في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) وتنظر سياقتُه في "تاريخ دمشق" 5/ 464 (مصورة دار البشير)، و"المنتظم" 7/ 216 فهي أولى. (¬5) الخَوَرْنق: قصر كان بظهر الحِيرة، أمر ببنائه النعمانُ بن امرئ القيس الأكبر، بناه له رجل من الروم يقال له: سِنِمَّار، وله معه قصة ومَثَل. والسَّدِير: نهر أو قصر قريب من الخَوَرْنق كان النعمان الأكبر اتخذه لبعض ملوك العجم، على أقوال. ينظر "معجم البلدان" 2/ 401، و 3/ 201.

وخالد بن صفوان بن الأهتم

قال: فبكى هشام حتى أخْضَلَ لحيتَه، وبلَّ عِمامتَه، وأمرَ بنزع آنيته, وانفرد عن أهله وحشمه، وعاد إلى مصره. قال خالد: فاجتمع إليَّ حاشيتُه وخدمُه وقالوا: كدَّرْتَ على أمير المؤمنين لَذَّتَه، ونَغَّصْتَ عليه مأدُبتَه! فقلت: إليكم عنّي، فإني عاهدتُ الله أن لا أخلوَ بملكٍ إلَّا ذكَّرْتُه بأيَّام الله تعالى (¬1). وخالدُ بنُ صفوان بن الأهتم من بني تميم، واسمُ جدِّه الأهتم عبدُ الله بن سنان بن سُمَيّ (¬2) بن سِنان بن مِنْقَر، وإنما لُقِّب بالأهتم لأن قيس بن عاصم (¬3) ضربَه بقوس، فهتمَ فاه (¬4). وكان صفوان رئيس بني تميم، وكان خطيبًا، وأوصى عند وفاته بمئة وعشرين ألف درهم، وحضره الحسن البصري فقال (¬5): ما هذه؟ فقال صفوان: أعددتُها لعضِّ الزمان، وجفوةِ السلطان، وإعراض الإخوان. فقال الحسن: خلَّفْتَها لمن لا يحمدك، وتَقْدَمُ على من لا يعذُرُك. وكان خالد من فصحاء العرب، وكان شحيحًا، طلب منه رجلٌ شيئًا، فأعطاه درهمًا، فقال: أما تستحيي تُعطيني درهمًا؟ ! فقال خالد: يا أحمق، الدرهمُ عُشْرُ العَشَرة، والعَشَرةُ عُشْرُ المئة، والمئة عُشْرُ الألف، والألف عُشْر العَشَرَة آلاف (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر الخبر مطولًا في "تاريخ دمشق" 5/ 464 (مصورة دار البشير)، و"المنتظم" 7/ 215 - 218، وهو بنحوه في "أنساب الأشراف" 11/ 353 - 356. وينظر خبر الخَوَرْنق في "التوّابين" ص 64 - 67. (¬2) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها). وإنما اسمُ الأهتم سنانُ بن سُمَيّ ... إلخ، وهو جدُّه الأعلى، فخالد هو ابنُ صفوان بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم. ينظر "أنساب الأشراف" 11/ 343، و"تاريخ دمشق" 5/ 463. (¬3) بعدها في (د) كلمة غير واضحة، ولعلها: المنقري. (¬4) أي: كسر أسنانه. (¬5) في "أنساب الأشراف" 11/ 344: فقال قائل لصفوان. (¬6) بعدها في "تاريخ دمشق" 5/ 475: ألا ترى كيف ارتفع الدرهم إلى دِيَةِ المسلم، واللهِ ما تطيبُ نفسي بدرهم أُنفقُه إلَّا درهمًا قرعتُ به باب الجنة، أو درهمًا أشتري به موزًا فآكله. والخبر أيضًا في "أنساب الأشراف" 11/ 356 دون هذه الزيادة، وفيه: والألف عُشر دية المسلم، بدل قوله: والألف عُشر العشرة آلاف.

وقال خالد بنُ صفوان لعمرو بن عبيد: لِمَ لا تأخذُ مني؟ فقال: ما أخذَ أحدٌ من أحدٍ شيئًا إلَّا ذلَّ له، وأنا أكرهُ أن أَذِلَّ لك (¬1). وتفاخرَ الأبرش الكلبيّ وخالد بين يدي هشام بن عبد الملك، فقال الأبرش: لنا رُبْع البيت -يريد الرُّكنَ اليمانيّ- ومنَّا حاتم الطائيّ، والمُهَلَّبُ بنُ أبي صُفْرة. فقال خالد: منَّا النبيُّ المُرسل، ولنا الكتابُ المُنزل، ولنا الخليفةُ المؤمَّل. فقال الأبرش: لا فاخرتُ مُضَريًّا بعد اليوم (¬2). ووفد على هشام قومٌ من اليمن من كلب، ففخروا بقومهم، فأكثروا، فقال هشام لخالد (¬3): أَجِبْهُم. فقال: يا أمير المؤمنين، هم بين حائكِ بُرْد، ودابغ جِلْد، وسائسِ قِرْد، ملكَتْهُم امرأةٌ، ودَلَّ عليهم هُدْهُد، وأغرقَتْهم فأرة. فلم تقم بعدها ليمانيّ قائمة. وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] فقال: كان - واللهِ - عيسى - عليه السلام - سريًّا. فقال له خالد: يا أبا سعيد، إنَّ العرب تسمي الجدولَ: السَّرِيَّ. فقال له الحسن: صدقتَ (¬4). وكان أمية بنُ عبد الله بن أَسِيد عاملَ عبد الملك على البصرة، وكان يحارب أبا فُديك الخارجي، فهزمه (¬5)، فدخل البصرة، فقال الناسُ: كيف ندعو لمنهزم؟ ! فقام خالد بن صفوان فقال: بارك الله لك أيُّها الأمير في قدومك، والحمد لله الذي نظر لنا [عليك] ولم ينظر لك (¬6) [علينا] فقد تعرَّضْتَ للشهادة جُهْدَك، لكن علمَ اللهُ حاجتَنا إليك، فآثَرَنا بك، ولك عند الله ما تحبُّ. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 5/ 476 (مصورة دار البشير). (¬2) العقد الفريد 3/ 330 و 4/ 46، وبنحوه مختصر في "أنساب الأشراف" 11/ 359 في المفاخرة على باب الحجاج. (¬3) كذا في "الأذكياء" ص 158. وفي رواية "عيون الأخبار" 1/ 217: فَخَرَ ناسٌ من بني الحارث بن كعب عند أبي العباس، فقال أبو العباس لخالد ... وكذا هو في "أنساب الأشراف" 11/ 367، والخبر فيه بنحوه. (¬4) فضائل القرآن لأبي عبيد ص 206 - 207، وتاريخ دمشق 5/ 496. (¬5) يعني هزَمَه أبو فُديك. (¬6) في (ب) و (خ) و (د): لنا، بدل: لك. والمثبت من "تاريخ دمشق" 5/ 469، وما بين حاصرتين منه، وهو بنحوه في "أنساب الأشراف" 11/ 356 - 357.

وقال خالد: أحسنُ الكلام ما لم يكن بالبدويِّ المُغْرب، ولا بالقرويِّ المُخْدَج، ولكن ما شَرُفَتْ مبانيه، وظَرُفَتْ معانيه، ولذَّ على أفواه القائلين، وحَسُنَ في آذان المستمعين، وازداد حُسنًا على ممرِّ السنين (¬1). وقيل لخالد: أيُّ الإخوان أحبُّ إليك؟ فقال: مَنْ سدَّ خَلَلي، وغَفَرَ زَلَلي، وقَبِلَ عِللي، وحقَّق أملي (¬2). وقال: من تزوَّج امرأة فليتزوَّجْ عزيزةً في قومها، ذليلةً في نفسها، أدَّبَها الغنى، وأذلَّها الفقر (¬3). ودخل خالد الحمَّام، وفيه رجل معه ابنُه، فأراد أن يُعرِّف خالدًا ما عنده من البيان والفصاحة، فقال: يابنيّ، ابدأ بيداك ورجلاك. ثم التفتَ إلى خالد وقال: يا خالد، هذا كلامٌ قد ذهبَ أهلُه. فقال خالد: هذا كلامٌ ما خلق اللهُ له أهلًا قطُّ (¬4). وقال: لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها من غير أهلِها، ولا تطلبوا ما لستُم له بأهل، فتكونوا للمَنْع أهلًا (¬5). وقال: لا تطلبُوا ما لا تستحقُّون، فإنَّ مَنْ طلبَ ما لا يستحقُّ؛ استوجبَ الحرمان (¬6). وقال: فَوْتُ الحاجة خيرٌ من طلبها من غير أهلها، وأشدُّ من المصيبة سوءُ الخَلَف منها (¬7). وقيل له: إن أقوامًا قد أصابوا أموالًا، فتكلَّموا وعَلَوْا، فقال: قَدَ انْطَقَتِ الدراهمُ بعد عِيٍّ ... أُناسًا طالما كانوا سُكوتا ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 11/ 371، وتاريخ دمشق 5/ 469. (¬2) بنحوه في "تاريخ دمشق" 5/ 470 و 471. وقوله: وحقَّق أملي، من (د). (¬3) تاريخ دمشق 5/ 471، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 11/ 349. (¬4) تاريخ دمشق 5/ 471. (¬5) تاريخ دمشق 5/ 475، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 11/ 360. (¬6) المصدران السابقان. (¬7) أنساب الأشراف 11/ 363، وبنحوه في "تاريخ دمشق" 5/ 476.

الربيع بن أبي راشد

فما عادُوا على جارٍ بخيرٍ ... ولا رفعو المَكْرُمَةٍ بيوتا كذاك المالُ يستُرُ (¬1) كلَّ عَيبٍ ... ويتركُ كلَّ ذي حَسَبٍ صُمُوتا (¬2) وحجَّ بالناس في هذه السنة محمد بنُ هشام المخزوميُّ وهو على ولاية مكَّة والمدينة والطائف. وكان العاملَ على العراق يوسفُ بنُ عمر، وعلى قضاء الكوفة ابنُ شُبرمة، وعلى قضاء البصرة عامر بنُ عبيدة، وعلى خُراسان والمشرق نَصْرُ بن سيَّار (¬3). وفيها توفي الربيع بن أبي راشد أبو عبد الله الزَّاهد، من الطبقة الثالثة من أهل الكوفة. [قال أبو نُعيم بإسناده عن عُمر بن ذرّ قال: كنتَ إذا رأيتَ الربيع بن أبي راشد كأنه مخمارٌ من غير شراب. وروى ابنُ أبي الدُّنيا عن خَلَف بن حَوْشَب قال: ] قال الربيع: لو فارق (¬4) ذكر الموت قلبي ساعةً لخشيتُ أن يفسد عليَّ قلبي (¬5)، ولولا أن أُخالفَ مَنْ كان قبلي لكانت الجَبَّانةُ مسكني إلى أن أموت (¬6). وقال (¬7): لولا أن تكون بدعة لَسِحْتُ -أو هِمْتُ- في الجبال. ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 5/ 476: يجبر. (¬2) تاريخ دمشق 5/ 476. ومن قوله: وفيها أوفد يوسف بن عمر خالد بن صفوان (قبل خمس صفحات) إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) تاريخ الطبري 7/ 179. دون قوله: والمشرق. وقوله: وكان العامل على العراق يوسف ... الخ، ليس في (ص). (¬4) في (ب) و (خ) و (د): قال: لو فارق ... والمثبت من (ص). والكلام بين حاصرتين منها. (¬5) حلية الأولياء 5/ 76، وصفة الصفوة 3/ 109. (¬6) حلية الأولياء 5/ 77، وصفة الصفوة 3/ 109. (¬7) في (ص): وفي رواية، بدل: وقال. والخبر في "حلية الأولياء" 5/ 77.

عطاء السليمي

وروى أبو نُعيم عن عُمر بن ذَرّ قال: رأى الربيع (¬1) رجلًا مريضًا يتصدَّق بصدقة، فقسمها بين جيرانه، فقال: الهدايا أمام الزيارة. فلم يلبث الرجل أيامًا حتى مات، فبكى الربيع وقال: أحسَّ (¬2) - واللهِ - بالموت، فرأى أنه لا ينفعُه من ماله إلَّا ما قدَّمه بين يديه. [قال: ] وقال [الربيع]: لولا ما يؤمِّل المؤمنون من كرامة الله لهم بعد الموت لتقطَّعت قلوبهم في الدنيا (¬3). [قال: ] وقال سفيان الثوري: لم يكن في الكوفة رجل أكثرَ ذكرًا للموت من الربيع بن أبي راشد، إنْ كان الربيعُ من الموت لعلى حذر (¬4). [أسند الربيع عن الثوريّ، وسعيد بن جبير، وكان قليلَ الحديث، رحمه الله تعالى] (¬5). عطاء السَّلِيمي [كان] من الخائفين المجتهدين، وهو من الطبقة الرابعة من أهل البصرة. [وذكرَ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان] أقام أربعين سنة لم يرفع رأسَه (¬6) إلى السماء حياءً من الله تعالى، ولم يضحك، فرفعه مرةً ففُتق فتقٌ في بطنه. و[روى ابن أبي الدنيا أنه] كان إذا توضَّأ انتفض وارتعد وبكى، فيقال له في ذلك، فيقول: إني أُريد أن أَقْدَم على أمرٍ عظيم، أُريد أن أقوم بين يدي الله تعالى (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د): ورأى الربيع ... والمثبت من (ص). والخبر في "الحلية" 5/ 77. (¬2) في (ب) و (خ) و"صفة الصفوة" 3/ 109: أحسن. والمثبت من (د) و (ص). وهو كذلك في "حلية الأولياء" 5/ 77. (¬3) حلية الأولياء 5/ 76، وصفة الصفوة 3/ 110، وفيهما: لانشقَّت في الدنيا مرائرهم، ولتقطَّعت أجوافهم. (¬4) حلية الأولياء 5/ 77، وصفة الصفوة 3/ 110. (¬5) ما بين حاصرتين من (ص). (¬6) في (خ): طرفه، والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 221، و"صفة الصفوة" 3/ 325. والكلام السالف والآتي بين حاصرتين من (ص). (¬7) حلية الأولياء 6/ 217، 218، وصفة الصفوة 3/ 325.

وروى ابن أبي الدنيا عن صالح المُرِّي أنه قال: كان عطاء (¬1) قد أضرَّ بنفسه حتى ضَعُفَ، فسألتُه أن يشربَ شَرْبةً من سَويق (¬2)، وبعثتُ بها مع ابني، وقلت: لا تبرح حتى يشربَها، فجاء فقال: قد شربَها. فلما كان في اليوم الثاني بعثتُ له مثلَها، فرجع وقال: لم يشربها، فأتيتُه و [لُمتُه]. قلت: هذا ممَّا يُعِينُك على الصلاة والعبادة. فقال: إني عالجتُ نفسي على شُربها فلم أقدر، وكلما أردتُ أن أشربَها ذكرتُ قولَه تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17]. فبكى صالح وقال: أنا في وادٍ، وأنت في واد. وروى ابنُ أبي الدنيا أن جارة لعطاء سجرت تَنُّورًا (¬3)، فنظر إليه [عطاء] فغُشيَ عليه. وقال الدورقي: كان إذا بكى (¬4)، بكى ثلاثة أيام بلياليها، ودخلوا عليه وحوله بَلَلٌ، فظنُّوه قد توضَّأ، فقالت عجوز في داره: هذه دموعُه. و[قال ابن أبي الدنيا: ] عُوتب على كثرة بكائه، فقال: إني إذا ذكرتُ أهل النار وما ينزلُ بهم من العذاب مثَّلتُ نفسى بينهم، فكيف بنفس تُغَلُّ يدُها إلى عنقها، وتُسحب إلى النار، وما يغني البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله (¬5)؟ ! وخرج في جنازة، فغُشيَ عليه أربع مرات حتى صُلِّيَ عليها (¬6). وروى أبو نُعيم قال: كان عطاء يمسُّ (¬7) جسدَه بالليل مخافةَ أن يكون قد مُسخ. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د): وقال صالح المُرِّي: كان عطاء ... إلخ. والمثبت من (ص). والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 218، و"صفة الصفوة" 3/ 325. (¬2) هو طعام يتخذ من دقيق الحنطة والشعير؛ سمّي بذلك لانسياقه في الحلق. (¬3) في (ب) و (د). وسجرت جارة لعطاء تنورًا. وفي (خ): وسجرت جارية ... والمثبت من (ص). والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 218، و"صفة الصفوة" 3/ 326. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): وكان إذا بكى ... إلخ. والمثبت من (ص). والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 218، و"صفة الصفوة" 3/ 326 عن عبد الرحمن بن مهدي عن عفيرة العابدة، وليس عن الدورقي. (¬5) محاسبة النفس (137)، وصفة الصفوة 3/ 327. (¬6) حلية الأولياء 6/ 220، وصفة الصفوة 3/ 327. (¬7) في (ب) و (خ) و (د): وكان يمسُّ ... والمثبت من (ص). والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 222، و"صفة الصفوة" 3/ 328.

[قال: ] وقيل له: ما هذا الذي تصنع بنفسك؟ فقال: صِدْتُ حمامًا منذ أربعين سنة وقد تصدَّقتُ بثمنه مرارًا. كأنه لم يعرف صاحبه (¬1). و[روى ابن أبي الدنيا أن عطاءً] كان يقول: التمسوا لي هذه الرُّخَصَ لعلِّي أن ألقى اللهَ وأنا حَسَنُ الظنِّ به (¬2). [قال: ] وقيل له: ما تشتهي؟ قال: أبكي حتَّى لا أقدر أن أبكي. وكان دموعه الدهر سائلة على خديه (¬3). و[قال عليُّ بن بكَّار: ] مكثَ على فراشه أربعين سنة لا يقوم ولا يخرج من مكانه من الخوف (¬4). ولقد كانت الفاكهة تجيءُ وتمرُّ وهو لا يعرفُها (¬5). وكانت وفاتُه بالبصرة في هذه السنة، فأدرك أيام أنس، ولقيَ الحسن، وابنَ سِيرين، ومالك بنَ دينار، وخلقًا من هذه الطَّبقة، وشغَلَتْه العبادة عن الرواية (¬6). وروى ابنُ أبي الدنيا عن صالح المُرِّيّ قال: لما مات عطاء (¬7) حزنتُ عليه حزنًا شديدًا، فرأَيتُه في المنام، فقلتُ: يَا أَبا محمَّد، ألستَ في زمرة الموتى؟ قال: بلى. قلتُ: فإلامَ صرتَ إليه؟ فقال: إلى خير كثير وربٍّ غفور شكور. قلت: واللهِ لقد كنتَ طويلَ الحزنِ في الدنيا. فتبسَّم وقال: أما واللهِ يَا أَبا بِشر، لقد أعقبني ذلك راحةً طويلة، وفرحًا دائمًا. قلت: ففي أيِّ الدرجات أَنْتَ؟ قال: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] (¬8). ¬

_ (¬1) المصدران السابقان. (¬2) بنحوه في "حلية الأولياء" 6/ 217، و"صفة الصفوة" 3/ 329. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬3) صفة الصفوة 3/ 329. (¬4) حلية الأولياء 6/ 217، وصفة الصفوة 3/ 329. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬5) حلية الأولياء 6/ 223، وصفة الصفوة 3/ 329. (¬6) صفة الصفوة 3/ 330. (¬7) في (ب) وخ) و (د): وقال صالح المُرّيّ لما مات عطاء ... والمثبت من (ص). (¬8) حلية الأولياء 6/ 172 (ترجمة صالح المُرّيّ)، وصفة الصفوة 3/ 330 - 331.

عطية بن قيس

عطيَّة بن قيس الكلابي مولاهم، وكنيتُه أبو يحيى، ولأبيه صحبة، وهو من الطَّبقة الرابعة من التابعين من أهل الشَّام (¬1). وذكره أبو زُرْعة في الثالثة وقال: غزا القسطنطينية (¬2) مع يزيد بن معاوية (¬3). وكان النَّاس يُصلحون مصاحفَهم على قراءة عطيَّة وهم جلوس على درج الكنيسة قبل أن يُبنى جامع دمشق (¬4). و[اختلفوا في وفاته، فقال البُخَارِيّ: ] مات سنة إحدى وعشرين ومئة وهو ابنُ مئة وأربع سنين (¬5). وقيل: إنه مات سنة عشر ومئة، وإنه ولد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقبض [رسول الله]- صلى الله عليه وسلم - وله سبع سنين (¬6). حكاه أبو القاسم ابن عساكر عن أبي مُسْهِر؛ قال: وكانت له دار بدمشق (¬7) بنواحي كنيسة اليهود عند الجِير. [قال: ] أسند عن أبي الدَّرداء، وعَمرو بن عَبَسة، وعبد الله بن عَمرو، والنُّعمان بن بشير، وغيرهم. وروى عنه ابنُه سَعْد، وأبو بكر بن أبي مريم، وسعيد بن عبد العزيز، وكان ثِقَة كثير الحديث (¬8). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 464. وذكر ابنُ حجر أباه قيسًا في "الإصابة" 8/ 267 في القسم الثالث، وهم الذين لم يرد في خبر أنَّهم اجتمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا رأوه، سواء أسلموا في حياته أم لا. قال ابن حجر في هذا القسم 1/ 6: وهؤلاء ليسوا أصحابه باتفاق من أهل العلم الحديث. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): وقيل من الثالثة، غزا القسطنطينية ... إلخ، والمثبت من (ص). (¬3) بنحوه في "تاريخ دمشق" 48/ 61 - 62 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) المصدر السابق 48/ 63. (¬5) التاريخ الكبير 7/ 9، والصغير ص 312. وعنه ابن عساكر في "تاريخه": 48/ 59، ونقل عنه ص 61 منه أنَّه مات وهو ابنُ أربع وثمانين سنة. (¬6) كذا وقع، وهو وهم واضح، فلو كان كذلك؛ لكان من صغار الصَّحَابَة. والذي ذكره ابن عساكر في "تاريخه" 48/ 58 أنَّه وُلد في حياة رسول الله (ص) في سنة سبع. (¬7) في (ب) و (خ) و (د): وكانت داره بدمشق ... والمثبت من (ص). والكلام في المصدر السابق 48/ 57. (¬8) ينظر "تاريخ دمشق" 48/ 57، و"تهذيب الكمال" 20/ 153.

محارب بن دثار

مُحارِب بن دِثار السَّدُوسيّ الشَّيبانِيّ، أبو المُطرِّف (¬1)، من الطَّبقة الثالثة من أهل الكوفة. قال: لما أُكرهتُ على قضاء الكوفة بكَيتُ وبكى عيالي، فلما عُزلت عن القضاء بكَيتُ وبكى عيالي (¬2). وحدَّث عن ابن عُمر، وجابر بن عبد الله، وعمران بن حِطَّان، وغيرهم. وروى عنه الأعمش، وسفيان الثَّوريّ، وسفيان بن عُيينة، وغيرُهم. وقال سفيان الثوريّ: ما رأيتُ أحدًا أُفَضِّلُه على مُحارب (¬3). وقال الإِمام أحمدُ - رضي الله عنه - ابنُ مَعِين وابنُ أبي حاتم والدارقطني: مُحارب ثِقَة (¬4). وكان إذا جلس في مجلس الحكم يترك على وجهه خرقة ويبكي ويقول: اللهمَّ كما ابتليتَني به؛ سَلِّمْني منه، وأعنّي عليه (¬5). وكان يقول: أظلم الناسِ من ظُلم لغيره (¬6). وتقدَّم إليه رجلان، فادَّعى أحدُهما على الآخر حقًّا، فأنكرَ، فشهدَ عليه رجلٌ، فقال المشهود عليه: واللهِ لقد شهدَ عليَّ بزُور، وإن بيني وبينه لحقدًا، فقال محارب: سمعتُ عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزولُ قدما شاهدِ الزُّور عن مكانهما حتَّى يُوجب الله له النَّار". فرجع الشاهدُ عن شهادته (¬7). ¬

_ (¬1) في "طبقات" ابن سعد 8/ 424، و"تاريخ دمشق" 66/ 229 (طبعة مجمع دمشق): أبو مطرف. قال ابن عساكر: ويقال: أبو النضر، ويقال: أبو كُردُوس. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 424، وتاريخ دمشق 66/ 242. (¬3) تاريخ دمشق 66/ 233 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) ينظر المصدر السابق 66/ 233. وقوله: ابن أبي حاتم، سبق قلم، فالتوثيق لأبي حاتم، نقله عنه ابنُه. (¬5) تاريخ دمشق 66/ 237. (¬6) المصدر السابق 66/ 238. (¬7) الخبر في "تاريخ دمشق" 66/ 239 - 240 بأكثر من رواية. والمرفوعُ منه أخرجه ابن ماجه (2373) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. وإسناده ضعيف جدًّا، ويغني عنه حديث أبي بكرة في "صحيح" البُخَارِيّ (2654)، و"صحيح" مسلم (87) بأن شهادة الزُّور من أكبر الكبائر.

محمد بن يحيى بن حبان

وقال عمر بن السَّكَن: رأيتُ (¬1) رسولَ خالد بن عبد الله القَسْريِّ قد جاء إلى مُحارب، فسارَّه بشيء، فقال مُحارب: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15]. ولما مات عُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، دعا مُحارب كاتبَه، فقال: اكتب مرثيَّة، فكتب: بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، فقال: امحُهُ، فإنَّ الشعر لا يُكتبُ فيه بسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (¬2). ثم قال مُحارب: لو أعظمَ الموتُ خَلقًا أن يُواقِعَهُ ... لِعَدْلِهِ لم يَزُرْكَ الموتُ يَا عمرُ كم من شريعةِ حقٍّ قد أقَمْتَ لَهُمْ ... كانت أُمِيتَتْ وأخرى منك تُنْتَظَرُ يَا لَهْفَ نفسي ولَهْفَ الواجدينَ معي ... على البحور (¬3) التي تغتالُها الحُفَرُ لو كنتُ أملكُ والأقدارُ غالبةٌ ... تأتي رَواحًا وتأتينا (¬4) وتبتكرُ صرفتُ عن عُمرِ الخيراتِ مصرعَهُ ... بدَيرِ سَمْعانَ لكنْ يغلبُ القَدَرُ ومات محارب في آخر ولايةِ خالدِ بنِ عبد الله القسريّ في خلافة هشام (¬5). وقال ابنُ سعد (¬6): له أحاديث ولا يحتجُّون بحديثه، وكان من المُرجئة الأُول الذين لا يشهدون لعليّ وعثمان بإيمان ولا كفر، ويرجئون أمرَهما. قال المصنف رحمه الله: لا يضرُّه قولُ ابن سعد مع شهادة من سمَّينا من الأئمة له بالصدق والثقة والأمانة والديانة. محمَّد بن يحيى بن حَبَّان ابن مُنقذ بن عَمرو الأَنْصَارِيّ، أبو عبد الله، من الطَّبقة الثالثة من أهل المدينة، وهو من فقهائها. كانت له حلقةٌ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ثِقَة كثير الحديث. ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ دمشق" 66/ 241 من طريق عمر بن السكن عمَّن رأى رسول خالد، وكذا في رواية أخرى بعدها من طريق عمر بن السكن، أخبرني رجل حفر محارب بن دثار، وجاءه رسول خالد ... إلخ. (¬2) في (ب) و (د): بسم الله. (¬3) في "تاريخ دمشق" 66/ 245: النجوم. (¬4) في المصدر السابق: وتبيانًا. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 424، وتاريخ دمشق 66/ 245. (¬6) في "الطبقات" 8/ 424.

نمير بن أوس

تُوفِّي بالمدينة وعمرُه أربعٌ وسبعون سنة، وله عقب (¬1). نُمير بن أوس الأَشْعريّ، قاضي دمشق، من الطَّبقة الرابعة، وكان يحضرُ القراءة في جامع دمشق. ولاه هشام القضاء، ثم استعفاه، فأعفاه. أسند نُمير عن حذيفة، وأبي موسى، وأبي الدَّرداء، وغيرهم، وروى عنه ابنُه الوليد بن نُمير، وكان قليلَ الحديث. وقيل: مات سنة ثلاث وعشرين ومئة (¬2). السنة الثَّانية والعشرون بعد المئة فيها استُشهد زيدُ بن عليّ بن الحسين [بن عليّ بن أبي طالب]- عليه السلام -، وعبدُ الله البطَّال (¬3). وفيها سار يحيى بن زيد إلى خُراسان (¬4). وفيها وُلد المفضَّلُ بنُ صالح، ومحمَّد بنُ إبراهيم بن عليّ (¬5). واستقضى يوسفُ بنُ عُمر محمدَ بنَ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى على الكوفة وابنَ شُبرمة على خُراسان (¬6). وحجَّ بالنَّاس محمَّد بنُ هشام المخزومي، وكانت العمال في هذه السنة هم الذين كانوا في السنة الماضية (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 418. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬2) يعني أنَّه تُوفِّي سنة (120) على اعتبار أنَّه أورده في وفيات هذه السنة، وزاد آخر الترجمة القول الآخر. وينظر ما سلف في ترجمته في "طبقات" ابن سعد 9/ 459، و"تاريخ دمشق" 17/ 642 (مصورة دار البشير). ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) تاريخ الطبري 7/ 191. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 189. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 191. (¬6) المصدر السابق. وقوله: واستقضى يوسف بن عمر ... إلخ، ليس في (ص). (¬7) المصدر السابق. وقوله: وكانت العمال ... إلخ، ليس في (ص).

إياس بن معاوية

وفيها تُوفِّي إياس بن معاوية ابن قُرَّة بن إياس المُرِّيّ البصريّ، من الطَّبقة الثالثة من تابعي أهل البصرة. [ونسبه ابنُ سعد، فقال: إياس بن معاوية بن قُرَّة بن إياس بن هلال بن رئاب بن عُبيد بن سُواءة بن سارية بن ذُبيان بن ثعلبة بن أوس بن مُزينة]. وكنيتُه أبو واثلة [قال: ] وكان ثقةً، قاضيًا على البصرة [وله أحاديث. قال: وكان] عاقلًا من الرجال فطنًا (¬1). [قال: ] ولما استُقضيَ أتاه الحسن، فبكى إياس. [قال: ] وقيل له: كيف ابنُك (¬2)؟ فقال: نِعْمَ الابنُ، كفاني أمرَ دنياي، وفرَّغَني لآخرتي. [قال: وقيل له: ما أحدٌ إلَّا ويعرفُ عيب نفسه، فما عيبُك؟ قال: كثرة الكلام. وروى أبو نُعيم الحافظ بمعناه عن داود بن أبي هند قال: قال إياس: ] كلُّ رجلٍ لا يعرفُ عيبَه فهو أحمق، فقيل له: يَا أَبا واثلة، ما عيبُك؟ فقال: كثرةُ الكلام (¬3). وقدم البصرة، فأتاه ابنُ شُبرمة (¬4)، فسأله عن خمس وسبعين (¬5) مسألة، فما اختلفا إلَّا في ثلاث أو أربع مسائل، ردَّه فيها إياس إلى قوله، ثم قال له: يَا ابنَ شُبْرُمة، هل قرأتَ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 233. وقد اختلف ترتيب الكلام في (ب) و (خ) و (د) قليلا عن (ص)، وأثبتُّ ترتيب (ص) لموافقتها المصدر المذكور. والكلام الواقع بين حاصرتين منها. (¬2) كذا وقع، وهو وهم، فقد ذكروا أن معاوية بن قرَّة (أَبا إياس) هو الذي سئل عن ابنه إياس. ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 233، و"حلية الأولياء" 3/ 124، و"تاريخ دمشق" 3/ 225 (مصورة دار البشير). وسلفَ الخبر في ترجمة معاوية بن قُرة في تراجم من تُوفِّي سنة (113). (¬3) حلية الأولياء 3/ 124، وتاريخ دمشق 3/ 237 (مصورة دار البشير). والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬4) كذا في (ب) و (خ) و (د) وليس في (ص)، وهو وهم، ففي الخبر أن إياس بن معاوية قدم واسط، فجعلوا يقولون: قدم البصريّ، قدم البصريّ، فأتاه ابنُ شُبرمة ... إلخ. ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 233، و"تاريخ دمشق" 3/ 226. (¬5) في المصدرين السابقين: عن بضع وسبعين.

القرآن؟ قال: نعم. قال: فهل قرأتَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]؟ قال: نعم. قال: فهل وجدتَه بَقَّى لآل شُبْرُمة شيئًا ينظرون (¬1) فيه؟ قال: لا. فقال إياس: إن للنُّسُك فروعًا -فذكر الصلاةَ، والصومَ، والحج، والجهاد- وإني لا أَعلمُك تعلَّقتَ من النُّسُك بشيء أحسن من النظر في الرأي (¬2). وكان إياس سيّدًا فاضلًا ذكره الأئمة، وله نوادر [عجيبة، وحكايات] غريبة. [ذكره المدائنيُّ وصنَّفَ له كتابًا وسمَّاه: زَكَن إياس (¬3). وقال هشام: وأمُّ إياس من أهل خُراسان، وكان رزقُه على القضاء في كل شهر أَلْف درهم] (¬4) ذكر طرف من أخباره: قال إياس: قلتُ لأمي: ما شيء سمعتِه عند ولادتي؟ فقالت: طشت وقع من أعلى الدار، ففزعتُ، فولدتُك في تلك الساعة. وذكر أبو القاسم ابن عساكر عن حمَّاد بن سلمة قال: قال إياس: أذكُر ليلةَ وُلدتُ (¬5)، وضعَتْ أمي على رأسي جَفْنة. وذكر في "مجمع الأمثال" (¬6) طرفًا من حكاياته. وكذا ذكر هشام والهيثم، فمن ذلك أن إياسًا قدم الشَّام (¬7)، فقدَّم خصمًا له إلى قاضي عبد الملك [بن مروان] وكان خصمُه ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): ينكرون، وهو تحريف، والمثبت من المصدرين السابقين. (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 233، وتاريخ دمشق 3/ 226. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬3) ذكره الثعابي في "ثمار القلوب" ص 92. والزَّكَن: الظنُّ بمنزلة اليقين، والفِراسة. (¬4) الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬5) في (ب) و (خ) و (د): وقال أذكر ليلة ... والمثبت عبارة (ص)، وهذا الخبر والذي قبله في "تاريخ دمشق" 3/ 226، و"تهذيب الكمال" 3/ 409. ونقل محققه عن حاشية أصله الخطيّ بخطّ الذهبيّ في الخبرين ما صورته: الحكايتان مع ضعف سندهما كالمستحيل. (¬6) 1/ 325، وذكر فيه المثل: أزكن من إياس، وذكره أَيضًا العسكري في "جمهرة الأمثال" 1/ 507، والزمخشري في "المستقصى" 1/ 148. (¬7) في (ب) و (خ) و (د): ودخل إياس الشام ... والمثبت من (ص). والخبر بنحوه في "عيون الأخبار" 1/ 68، و"العقد الفريد" 2/ 271، و"تاريخ دمشق" 3/ 223 (مصورة دار البشير).

شيخًا، فقال له القاضي: يَا غلام، أما تستحي تُقدِّمُ شيخًا كبيرًا؟ ! فقال [له] إياس: الحقُّ أكبر منه. فقال له: اسكُت. فقال: ومن ينطقُ بحجتي إذا سكتُّ؟ فقال: ما أحسبُك تقول حقًّا. فقال: أشهد أن لا إله إلَّا الله. قال: ما أظنُّك صادقًا. فقال: ما بالظَّنِّ تبطلُ أحكامُ الشرع وتذهب الحقوق. فدخل القاضي على عبد الملك، فأخبره، فقال: اقْضِ حاجته واصْرِفْه لئلا يُفسد علينا أهلَ الشَّام. [ومن ذلك أنَّه] دخل عليه ثلاث نسوة، فقال: الواحدة مُرضِع، والأخرى بِكْر، والثالثة ثيِّب. قيل له: من أين عرفتَ؟ ! فقال: أمَّا المُرضع فإنَّها لما قعدت أمسكت بيدها ثديَها، وأمَّا البِكْر فإنَّها لما دخلت لم تلتفت إلى أحد، وأمَّا الثيِّب فإنَّها لمَّا دخلت رمقت بعينيها (¬1). و[منها أنَّه] تحاكم إليه رجلان في مال، فجحدَ المدَّعَى عليه، فقال للطالب: أين دفعتَ إليه المال؟ قال: عند شجرة في مكان كذا وكذا، فقال للطالب: اذهب إلى تلك الشجرة لعلك [أن] تتذكَّر المال. فمضى، وأمسك المطلوبَ عنده، ثم قال له بعد ساعة: أترى خصمَك وصلَ إلى تلك الشجرة؟ قال: نعم [-أو لا بعد-] فقال: [قُم] يَا عدوَّ الله [أو: ] يَا خائن، فأدِّ إليه ماله. فأقرَّ بالمال (¬2). [وقال محمَّد القيسي (¬3): ] أودعَ رجلٌ رجلًا مالًا، وخرج إلى مكة، فلما عاد، طلبَ المال، فجحدَه، فأتى إياسًا، فأخبره، فقال: هل علم خصمُك أنك جئتَ إليّ؟ قال: لا. قال: فاذهب ولا تُحدث شيئًا حتَّى تأتيَني. فلما كان بعد أيام دعا إياس ذلك الرجل وقال: أمنزلُك حصين؟ قال: ولِم؟ قال: قد ضاق بيتُ المال بالمال، ولي أَيضًا مال، وأريدُ أن أُودع الجميع عندك. ففرح الوجل ومضى ليُفرغ منزله. فدعا إياسٌ صاحب المال وقال: اطلب مالك منه، فإن أبي فقل له: بيني وبينك القاضي. فجاءه فقال: ادفعْ إليَّ مالي. قال: مالك عندي شيء. فقال: بيني وبينَك القاضي. فقال: أُنسيت، خُذ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 225 (مصورة دار البشير). (¬2) أنساب الأشراف 10/ 295 - 296، وتاريخ دمشق 3/ 234 وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) كذا في (ص) (والكلام ما بين حاصرتين منها). وفي "تاريخ دمشق": 3/ 234: روح أبو الحسن القيسي.

مالك. فأخذَه، وأخبرَ صاحبُ المال القاضي، ثم جاء المُودَع إلى القاضي وقال: قد فرَّغتُ المنزل. فقال له القاضي: الخائنُ لا يكون أمينًا. وأسقط شهادتَه (¬1). وكتب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إلى عديّ بن أرطأة عاملِه على البصرة أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجوشني، فَولّ القضاء أنفذَهما. فجمع بينهما، فقال إياس لعديّ: أيُّها الرَّجل، سَلْ عنّي وعن القاسم فَقِيهَي العصر: الحسنَ وابنَ سِيرِين. وكان القاسم يغشاهما، وإياسٌ لا يغشاهما، فعلم القاسم أنَّه إن سألهما عنه أشارا به، فقال لعديّ: أيها الأمير لا تسأل عني ولا عنه، فواللهِ إنَّ إياسًا أفقهُ منّي، وأعلم بالقضاء، فإنْ كنتُ كاذبًا فلا يحلُّ لك أن تولّيَني، وإن كنتُ صادقًا فينبغي أن تقبلَ قولي. فقال إياس لعديّ: إنك جئتَ برجلٍ فوقفتَه على شفير جهنم، فنَجَّى نفسه بيمين كاذبة يستغفرُ الله منها، وينجو مما يخاف. فقال له عديّ: أمَّا إذ فهمتَها فأنتَ لها. فاستقضاه (¬2). [وذكر المدائنيّ عن أبي إسحاق بن حفص بن نوح قال: ] قيل لإياس: فيك أربع خصال: دَمامة، وكثرةُ كلام، وإعجاب (¬3) بنفسك، وتعجيل بالقضاء، فقال: أمَّا الدَّمامة فالأمر فيها إلى غيري، وأما كثرةُ الكلام؛ فبصواب أتكلَّم أم بخطأ؟ قالوا: بصواب. قال: فالإكثارُ من الصواب أمثل، وأما إعجابي بنفسي؛ أفيعجبكم ما ترون مني؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أحقُّ أن أُعجَبَ بنفسي، وأمَّا تعجيلُ القضاء؛ فكم هذه؟ وأشار بيده خمسة، فقالوا: خمسة. قال: عجلتُم، ألا قلتُم واحدة واثنتين وثلاثة وأربعة وخمسة؟ قالوا: ما نعدُّ شيئًا قد عرفناه. قال: فمالي أحبسُ شيئًا قد تبيَّن لي فيه الحُكم (¬4)؟ ! ¬

_ (¬1) بنحوه في "أنساب الأشراف" 10/ 296، و"تاريخ دمشق"3/ 234 (مصورة دار البشير). (¬2) بنحوه في "أنساب الأشراف" 10/ 293، و"تاريخ دمشق" 3/ 231. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬3) في (ص): وإعجابك. (¬4) أنساب الأشراف 10/ 293، وحلية الأولياء 3/ 123، والمنتظم 7/ 221، وصفة الصفوة 3/ 264. وما سلف بين حاصرتين من (ص).

بلال بن سعد

و [قال حُميد الطَّويل: ] ماتت أمُّ إياس، فبكى وقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فأُغلق أحدُهما. فقال له بكر بن عبد الله المُزَنِيّ: يَا أَبا واثلة، أمَّا أحدُ بابَيك فقد أُغلق عنك، فانظر كيف تكون في الباب المفتوح (¬1). و[قال المدائنيّ: ] كان يوسف بن عمر قد ضربه لأمر، فخرج من البصرة ومات [بعبداينا (¬2)، وكانت له بها ضيعة. ولم يذكر المدائنيّ ولا ابن سعد تاريخ وفاته، وذكرها خليفة، فقال: مات إياس، بواسط سنة اثنتين وعشرين ومئة (¬3). أسند [إياس] عن أنس بن مالك، وأبيه معاوية، والحسن البَصْرِيّ، وابن سيرين، وابن المسيِّب، وغيرهم. [وفيها تُوفِّي] بلال بن سعد ابن تميم السَّكوني، وذكره ابن سعد في الطَّبقة الرابعة من أهل الشَّام [وقال: كان ثِقَة لا يغيِّر شيبة. هذه صورة ما ذكر ابنُ سعد (¬4). وذكره الأئمة؛ فقال البُخَارِيّ: كنيتُه أبو عمرو (¬5). وذكره أبو القاسم ابنُ عساكر؛ فحكى عن أبي مسهر الغساني قال: كان بلال بن سعد] بالشَّام (¬6) مثل الحسن البَصْرِيّ في العراق. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 237 (مصورة دار البشير). (¬2) كذا رسمت في (ص) (والكلام منها)، وفي "تهذيب الكمال" 3/ 440: مات بعبدسا. ولعلها: عَبَرْتا، وهي قرية بين بغداد وواسط. ينظر "معجم البلدان"4/ 78. (¬3) كذا في "تاريخ دمشق" 3/ 244 عن خليفة، وهو في "تاريخه" ص 212 بنحوه، وليس فيه قوله: بواسط. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) في "الطبقات"9/ 465. وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬5) التاريخ الكبير 2/ 108. (¬6) في (ب) و (خ) و (د): وكان بالشَّام ... إلخ. والمثبت من (ص)، والكلام بين حاصرتين منها. والخبر في "تاريخ دمشق" 3/ 473 - 474 (مصورة دار البشير).

زبيد بن الحارث

وكان إمام جامع دمشق؛ جَهْوَرِيَّ الصوت، فكان إذا كبَّر أو قرأ؛ سُمع صوتُه (¬1) من الأوزاع -قرية على باب الفراديس- ولم يكن البنيان يومئذ متصلًا (¬2). وكان واعظ أهل دمشق، وكان زاهدًا عابدًا، ورعًا صائمًا، قائمًا ثِقَة، وكان يغتسل لكل صلاة، وورده في كل يوم وليلة ألفُ ركعة. [قال: ] ومن كلامه: زاهدُكم راغبٌ، وعالمُكم جاهل، ومجتهدُكم مقصِّر. وقال: كفى بنا أن الله يزهِّدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها. وقال: أخٌ لك كما لقيك أخبرك بعيب فيك خيرٌ لك من أخ كلَّما (¬3) لقيَك وضعَ في كفِّك دينارًا (¬4). وقال: لا تكن وليًّا لله في العلانية، عَدُوًّا له (¬5) في السَّرِيرة. [واختلفوا في وفاته، فقيل: إنه مات في هذه السنة. وقيل: في أيام هشام من غير تحقيق] (¬6). أسند بلال عن أَبيه، وجابر بن عبد الله مرسلًا، وعن أبي الدَّرداء (¬7)، وروى عنه الأَوْزَاعِيّ، وعبد الله بن العلاء بن زَبْر، وربيعة بن يزيد القصير، وغيرهم. زُبيد بن الحارث ابن عبد الكريم اليامي، أبو عبد الله، من الطَّبقة الثالثة من أهل الكوفة. ¬

_ (¬1) في (ص): تكبيره. (¬2) تاريخ دمشق 3/ 476 بنحوه. (¬3) في (ص): إذا. (¬4) تاريخ دمشق 3/ 477. قال ابن عساكر بإثره: كذا قال: بعيب فيك. والمحفوظ: بخطبك (كذا) من الله. ونقله عنه المزي في "تهذيب الكمال" 4/ 294، وفيه: بحظك من الله. وهي رواية أخرى في "تاريخ دمشق". (¬5) في (ب) و (خ) و (د): غير واله. والمثبت من (ص)، وهو الموافق لما في المصدر السابق. (¬6) ما بين حاصرتين من (ص). (¬7) في "تاريخ دمشق" 3/ 473: وجابر بن عبد الله وأبي الدَّرداء مرسلًا.

زيد بن علي بن الحسين

قال شعبة: ما رأيت بالكوفة شيخًا خيرًا منه، كنتُ جالسًا معه يومًا في المسجد، فمرَّت امرأةٌ معها كُبَّة قُطن، فوقعت الكُبَّة منها، فلم تفطن لها، وفطن زُبيد، فقام وتركني جالسًا، فما زال يهرولُ على إثرها حتَّى أدركها، فدفع إليها الكُبَّة، ثم رجع إليَّ (¬1). وقال عبد الرَّحْمَن بن زُبيد: كان زُبيد قد قسم الليل أثلاثًا: ثُلُثًا عليه، وثُلُثًا عليَّ، وثلثًا على أخي، فكان يقوم ثُلُثه، ثم يضربُني برجله، فإذا رأى مني كسلًا قال: نَمْ يا بنيّ، وأنا أقوم عنك. ثم يجيء إلى أخي، فيضربُه برجله، فإذا رأى منه كسلًا قال: نم، فأنا أقوم عنك. فيقوم حتَّى يصبح (¬2). وقال سفيان: كان زُبيد إذا كانت ليلة مَطِيرة، أخذ شعلةَ نار، فطافَ على عجائز الحيّ، فقال: أتُرِدْنَ نارًا؟ أَوَ كَفَ (¬3) عليكنَّ بيت؟ فإذا أصبح طاف عليهنَّ فيقول: ألكنَّ حاجةٌ إلى السوق؟ أتُرِدْنَ شيئًا (¬4)؟ توفّي سنة اثنتين وعشرين ومئة، وقيل: سنة ثلاث وعشرين ومئة. أسند عن أَبن عُمر، وأنس بن مالك، وغيرهما (¬5). زيد بن علي بن الحسين ابن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -. قد ذكرنا سبب [مُقامه و] خروجه [بالكوفة (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 426 - 427. (¬2) حلية الأولياء 5/ 32. (¬3) وكَفَ الماء وغيرها: سال وقطر قليلًا قليلًا. (¬4) حلية الأولياء 5/ 31. (¬5) كذا قال وإنما روايةُ زُبيد عن التابعين. وقال ابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 221: أدرك ابنَ عُمر وأنسًا. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬6) سلف في أحداث السنة (121).

قال هشام: ] ولما عزم [زيد] على الخروج وشاع ذلك؛ خرج سليمان بن سراقة البارقي (¬1) إلى يوسف بن عمر وهو بالحِيرة، فأخبره الخبر وقال: إنه يختلف إلى منزل رجل يقال له: طُعمة، من بني تميم، ورجل آخر يقال له: عامر، وكلاهما من بارق، فأرسلَ إليهما، فأحضرَهما عنده وسألهما عن زيد، فاتَّضَحَ له أمرُه لما كلَّماه. وخاف زيد أن يُؤخذ، فتَعجَّل الأجل (¬2) الذي بينه وبين الذين (¬3) بايعوه. ولما علم جماعةٌ من الشيعة ذلك اجتمعوا إلى زيد وقالوا: ما تقولُ في أبي بكر وعمر؟ فقال زيد: رحمهما الله وغفرَ لهما، ما سمعتُ أحدًا من أهل بيتي تبرَّأَ (¬4) منهما ولا يقول فيهما إلَّا خيرًا. [ذكر مناظرته للشيعة: قال هشام: ] فلما قال لهم ذلك، قالوا: هما وَثَبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم. فقال لهم زيد: إنهما وإن كانا قد دفعانا عن حقِّنا واستأثرا به دونَنا غير أنهما قد وَلِيَا فَعَدَلَا، وعملا بالكتاب والسُّنَّة. قالوا: فلمن تُقاتل إذا كانوا أولئك ما ظلموك، فهؤلاء الذين تريد قتالهم ما ظلموك أَيضًا؟ ! فقال لهم: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إنهم ظالمون لي ولنفوسهم وللأمة، وإنما أدعوكم إلى كتاب الله وسُنَّة رسولِه، وإحياء السُّنن وإماتة البدع، فإنْ وافقتموني سعدتُم، وإنْ أبيتُم فلست عليكم بوكيل (¬5). [وقال الهيثم: ] قالوا له: ما نقاتل معك حتَّى تتبرَّأَ منهما، فقال: معاذَ الله، واللهِ لا فعلتُه أبدًا. ففارقوه ورفضوا الحقَّ، فسمَّاهم (¬6) الرافضة (¬7). ¬

_ (¬1) في (ص): والبارقي. وفي النسخ الأخرى: المارقي، والصواب ما أثبتُّه. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 180. (¬2) في (ب) و (خ): الأمر، بدل: الأجل. والمثبت من (ص) و (د)، وهو موافق لما في "تاريخ" الطبري 7/ 180. (¬3) في (ب) و (خ) و (د): الذي. والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في المصدر السابق. (¬4) في (ص): يتبرَّأ. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 180 - 181، وينظر "أنساب الأشراف" 2/ 528 - 529. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬6) في (ص): فسُمُّوا. (¬7) بنحوه في المصدر السابق، و"أنساب الأشراف" 2/ 528 - 529.

[وقال هشام: ] وكانوا قد اجتمعوا بأبي جعفر محمَّد بن عليّ وقالوا: ما تقولُ في زيد بن علي؟ قال: سيِّدُنا وأفضلُنا، بايِعُوه (¬1). فلما قال لهم ما قال في الشيخين رضوان الله عليهما؛ تركوه. ذكر خروجه ومقتله: [قال هشام: ] اتفق زيد مع من بايعه أنَّه يخرجُ ليلةَ الأربعاء أول [ليلة من] صفر سنة اثنتين وعشرين ومئة (¬2) [وهذا قول هشام. أما المدائنيّ فإنَّه قال: كان خروجُه في صفر سنة إحدى وعشرين ومئة. وكذا قال الواقدي. فقد اتفقوا على أن مقتله في صفر، وإنما اختلفوا في السنة. ورُوي أنَّه قُتل يوم عاشوراء، والأول أصح] (¬3). وبلغ يوسفَ بنَ عُمر وهو بالحِيرة، فبعث إلى الحَكَم بن الصَّلْت -وكان على شرطته- أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم ويَحْصُرَهم فيه، فبعث الشرطة (¬4) والعُرفاء والمقاتلة، فأدخلهم المسجد ونادى مناديه: من أدركناه في رَحْلِهِ فقد برئت منه الذِّمَّة. فأتى النَّاسُ المسجدَ يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بليلة، فلما جنَّ الليل؛ خرج زيد من دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصحاري وكانت ليلةً شديدة البرد، وأوقدوا النيران على الجرادي، وهو قصب مجتمع [والعامَّة تقول: الهرادي، بالهاء، وهو خطأ] ولما أوقدوا الجرادي نادَوْا بشعارِهِ: يَا منصور أمِت أمِتْ. فلما أصبحوا خرجوا إلى صحراء عبد القيس، فلقيَهم جعفر بن العبَّاس الكنديّ، فحمل عليه القاسم الحضرميّ من أصحاب زيد، فأُخذ (¬5) وقد ارْتُتَّ (¬6)، فجيء به إلى الحَكَم بن الصَّلْت، فقتله، وهو أوَّلُ من قُتل من أصحاب زيد، وأمر الحَكَم بالدروب فأُغلقت، وبأبواب المسجد وأهلُ الكوفة فيه. ¬

_ (¬1) بنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 529. وفي "تاريخ" الطبري 7/ 181 أن القصة مع جعفر بن محمَّد بن عليّ، (¬2) تاريخ الطبري 7/ 181. (¬3) من قوله: وهذا قول هشام ... إلى هذا الموضع، من (ص). وجاء بدله في (ب) و (خ) و (د) ما صورتُه: وقيل: سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة ثلاث وعشرين. (¬4) في (ص): الشرط. (¬5) أي: القاسم، وفي (ص): فأخذه. (¬6) أي: أُثخن بجراحه وأشرف على الموت.

وأرسل [الحكم] إلى يوسف بن عمر، فأخبره، فأقبل من الحِيرة ومعه أهلُ الشَّام ووجوه قريش، فنزل قريبًا من الكوفة، وبعث الزُّبير بن سليم (¬1) الأراشي في ألفين، وزيدُ بنُ علي مكانَه لم يأته سوى مئتي رجل، وثمانية عشر رجلًا، فقال: سبحان الله! فأين الذين (¬2) بايعوني؟ ! فقيل له: في المسجد الأعظم محصورون. فقال: ما هذا ممَّن بايَعَنا بعذر. ثم أقبل زيد من جَبَّانة سالم حتَّى انتهى إلى جَبَّانة الصيَّادين وبها خمس مئة من أهل الشَّام، فحمل عليهم زيد وأصحابُه -وتحت زيد بِرْذَون أدهم اشتراه من بني نَهْد بخمسة وعشرين دينارًا، فلما قُتل أخذه الحكم بن الصَّلْت صاحب الشرطة (¬3) - فهزمَ أهلَ الشَّام، ثم مرَّ على دار رجل من الأزد يقال له: أنس بن عمرو، وكان ممَّن بايعه، فناداه زيد: يَا أنس، اخرج فقد جاء الحقّ وزهق الباطل. فلم يجبه، فناداه مرارًا ولم يخرج، فقال زيد: اللهُ حسيبُكم. ولما خذله أهلُ الكوفة؛ جعل يقول: قد حذَّرني داود بن عليّ منكم، فلم أحذر (¬4). ثم سار زيد حتَّى انتهى إلى الكُناسة وبها جماعة من أهل الشَّام، فحمل عليهم، فانهزموا، وخرج إلى الجبَّانة ويوسف بنُ عمر على تل في مئتي رجل، فلو حملَ عليه زيد لقتله، فقال نصر بن خزيمة لزيد: اذهب بنا إلى المسجد، فإنَّ النَّاس الذين بايعوك به فلتخلِّصهم (¬5). فذهب إلى المسجد، فلما انتهى إليه أقبل أصحابُ زيد يُدخلون راياتهم من فوق الأبواب ويقولون: يَا أهل الكوفة اخرجوا، وجعل نصرُ بن خُزيمة يناديهم: أخرجوا من الذُّلّ إلى العزّ. وأشرفَ أهلُ الشَّام عليهم من سطوح المسجد يرمونهم بالحجارة، ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 2/ 531: الريان بن سليمة، وفي "تاريخ" الطبري 7/ 182: الريان بن سليم. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): الذي. والمثبت من (ص). (¬3) قوله: فلما قتل أخذه الحكم بن الصلت صاحب الشرطة، ليس في (ص). (¬4) قوله: ولما خذله أهل الكوفة ... إلى هذا الموضع، وقع في (ص) بنحوه في موضع لاحق. (¬5) في (خ): فتخلصهم. والمثبت من النسخ الأخرى.

واقتتلوا، وحال بينهم الليل، ورجع الفريقان، ونزل زيد بن عليّ دار الرزق، وبات يوسف بنُ عمر على التلّ. فلما كان صباح يوم الخميس جهَّز يوسف بنُ عمر العبَّاسَ بنَ سعد (¬1) المُزَنِيّ -وكان على شرطته بالحِيرة- فبعثَه في أهل الشَّام، فساروا (¬2) حتَّى انتهَوْا إلى دار الرزق، فخرج إليه زيد في أصحابه، واقتتلوا، فهزمهم زيد، وقتلَ من أهل الشَّام نحوًا من سبعين رجلًا، وانصرفوا وهم بشرِّ حال. ثم بعث إليهم يوسف جيشًا آخر، فقاتلوهم في الليل إلى أن تهوَّر [الليل] فجاء زيدَ بنَ عليّ سهمٌ في جبهته (¬3)، فثبتَ فيها، ووصلَ إلى دماغه، فرجعَ ورجعَ أصحابه، ولا يظنُّ أهلُ الشَّام أنَّهم رجعوا إلَّا بسبب المساء والليل. وجاء أصحابُه بطبيب يقال له: سفيان (¬4) -مولًى لبني رُؤاس- فانتزع النَّصْل من جبهته (¬5)، فصاح ومات. فقال أصحابُه: أين ندفنه؟ واختلفوا فيه، فقال بعضهم: نُلبسه درعه ونلقيه في الماء، وقال آخرون: بل نحزُّ رأسَه ونرميه بين القتلى. فقال ابنُه يحيى: لا والله، لا تأكل الكلاب لحم أبي. فدفنوه في حفرة، وسكَّروا ماء النهر، وأجْرَوْا عليه الماء. وأصبح يوسف بن عمرو قد تفرَّق أصحاب زيد، فعلم أنَّه قد قُتل، فجعل يفتِّشُ القتلى عليه، وكان معهم لما دُفن غلامٌ سِنْديّ، فدلَّهم على مكانه، فاستخرجَه يوسف، فقطع رأسَه، وبعث به إلى الشَّام، وصلبَ بدنَه بالكُناسة [هو] وجماعةٌ ممن كان معه: نصر بن خُزيمة، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأَنْصَارِيّ وغيرُهما (¬6). ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 185: سعيد. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): فسار. والمثبت من (ص)، وهو الأنسب للسياق. (¬3) في (خ): جنبه، وهو تحريف، وفي (ب) و (د): جبينه، والمثبت من (ص) لمناسبة السياق. وعبارة الطبري 7/ 181: فأصاب جانب جبهته اليسرى. (¬4) كذا في "أنساب الأشراف" 2/ 535. وفي "تاريخ" الطبري 7/ 186: شُقير. (¬5) في (ب) و (د): جبينه. (¬6) ينظر الخبر مفصّلًا في "تاريخ" الطبري 7/ 181 - 188. وبنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 529 - 536. وجاء في (ص) بعد هذا الكلام ما صورتُه: وفي رواية أن زيدًا لما خذله أهل الكوفة جعل يقول: قد حذَّرني داود بن عليّ فلم أحذر. وسلفت هذه العبارة بنحوها من باقي النسخ، وأشرفُ إليها في التعليقات.

والذي نبشَ زيدًا وقطع رأسه وصلبه خِراش بنُ حَوْشب بن يزيد الشَّيبانِيّ. وقد أشار إليه السيِّد (¬1) الحميري في مرثيَّة يرثي بها زيدًا فقال: بتُّ لَيلِي مُسَهَّدًا ... ساهرَ العينِ مُقْصَدا (¬2) ولقد قلت قولةً ... وأطَلْتُ التَّلَدُّدا (¬3) لعنَ الله حَوْشَبًا ... وخِراشًا ومَزْيدا ويزيدًا فإنَّهُ ... كان أعتى وأعندا (¬4) ألفَ أَلْفٍ وألفَ أَلـ ... فٍ من اللَّعْنِ سَرْمَدا إنهم حاربوا الإلـ ... ـهَ وآذَوْاءَ محمَّدا شَرَكُوا في دم المُطَهَّـ ... رِ زيدٍ تعمُّدا (¬5) ثم عالوه (¬6) فوق جِذْ ... عٍ صريعًا مُجَرَّدا يَا خِراشَ بنَ حَوْشَبٍ ... أنتَ أشقى الوَرَى غدا (¬7) [وقال هشام: ] لما وصل الرأس إلى هشام؛ نصبَه على درج دمشق، ثم بعثَ به إلى المدينة، وأقام البَدَنُ مصلوبًا حتَّى مات هشام ووليَ الوليد بن يؤيد، فأمر به فأُحرق (¬8). [وقال أبو عُبيدة معمر: ] لما قُتل زيد قال رجل من بني أسد لابنه يحيى (¬9): الرأي أن تخرج إلى خُراسان، فلكم بها شيعة. قال يحيى: ومن لي بذاك؟ فقال: تتوارى حتَّى يكفَّ عنك الطلب، ثم تخرج. فواراه عنده ليلة، ثم خاف، فأتى عبدَ الملك بنَ بشر بن ¬

_ (¬1) في (ص): الشريف. (¬2) قوله: مُسَهَّدًا، أي: لم أنم، يقال: سَهدَهُ الهَمُّ ونحوُه، أي: نفى عنه النَّوم. والمُقْصَد: من يمرض فيموت سريعًا. "معجم متن اللغة". (¬3) في المصدر السابق: التبلُّدا. (¬4) في (ص): وأعتدا. (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 190: تعنُّدا. (¬6) رُسمت اللفظة في (ب) و (خ) و (د): فاعلوه (؟ ) والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في المصدر السابق. (¬7) تاريخ الطبري 7/ 190. وفي "أنساب الأشراف" 2/ 539 ثلاثة أبيات (الثالث والسادس والتاسع). وقولُه: والذي نبش زيدًا ... إلخ مع الأبيات، وقع في (ص) آخر هذه الفقرة (قبل فقرة: فصل يتعلق يزيد). (¬8) تاريخ الطبري 7/ 189. (¬9) يعني يحيى بن زيد. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص).

مروان بن الحكم فقال له: إنَّ قرابة زيد بك قريبة، وحقُّه عليك واجب، قال: أَجل، ولقد كان العفوُ عنه أقربَ للتقوى قال: وهذا ابنُه غلامٌ حَدَث لا ذنبَ له، وإن علمَ به يوسف بنُ عمر قتلَه، فتُجِيرُه وتُواريه عندك. قال: نعم وكرامة. فأتاه به، فواراه، وبلغَ يوسفَ بنَ عمر، فبعث إلى عبد الملك يقول: ابعثْ إليَّ بالغلام، وإلا كتبتُ فيك إلى أمير المُؤْمنين. فبعثَ إليه: كيف أُواري من ينازعُني سلطاني ويدَّعي أن له فيه أكثرَ من حقي؟ ! وما بلغك باطلٌ وزُور. فصدَّقه يوسف، ثم خرج يحيى في نفر يسير من الزيدية إلى خراسان (¬1). [وقال هشام وأبو عُبيدة: ] ثم خطب يوسف بن عمر فقال: يَا أهل الكوفة إن يحيى بن زيد يتنقَّل في حِجال نسائكم كما كان يفعل أبوه، واللهِ لو أبدى لي صفحته لفعلتُ به كما فعلتُ بأبيه (¬2). [وقال أبو مِخْنَف: ] ولما [قُتل زيد] دخل يوسف الكوفة [و] صعد المنبر وقال: يَا أهل هذه المَدَرَة الخبيثة، أبشروا بالصَّغار والهَوَان، لا عطاءَ لكم عندنا ولا رزق، ولقد هممتُ أن أهدم دوركم وأسلبكم أموالكم، وواللهِ ما صعدتُ المنبر إلَّا لأُسمعَكم ما تكرهون، فإنكم أهل بغي وشقاق، وخلاف ونفاق، ما منكم إلَّا من قد حارب الله ورسولَه، ولو أذنَ لي أميرُ المُؤْمنين فيكم لقتلتُ مقاتلتكم، وسبيتُ ذراريكم (¬3). فصل يتعلق بزيد بن عليّ: كنيتُه أبو الحسين، وقيل: أبو الحسن، وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: فتاة (¬4)، وقيل: جيداء. وهو من الطَّبقة الثالثة من التابعين من أهل المدينة (¬5)، رأى في المنام كأنَّه أضرمَ نارًا بالعراق أُطفئت ومات، فقال لابنه يحيى: قُتلتُ يَا بُنيّ وربِّ الكعبة (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 189. (¬2) المصدر السابق. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬3) تاريخ الطبري 7/ 191، وما سلف بين حاصرتين من (ص). وجاء فيها بعد هذا الكلام قوله: والذي نبش زيدًا وقطع رأسه ... إلخ، مع أبيات للسيد الحميري، وسلف في الصفحة السابقة من النسخ الأخرى. (¬4) فتاة، ليس اسمًا لها، وإنما يعني أنها أمُّ ولد كما ذكر. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 319. (¬6) بنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 521، و"تاريخ" الطبري 7/ 162. دون قوله: فقال لابنه يحيى ... إلخ.

وذكر المسعودي أن زيدًا أقام مصلوبًا (¬1) بالكوفة خمس سنين -وقيل: أربع سنين- لم تُرَ له عورةٌ سترًا من الله عليه [فلما كان الوليد بن يزيد كتب إلى عامله بالكوفة أن أحرق زيدًا بخشبته، فحرقه، وأذرى رماده في الفرات (¬2). وقال الواقديّ: ] وصلبوه عُريانًا بغير سراويل، فجاءت عنكبوت، فنسجت على عورته. [وحدثني عبد الله بن جعفر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤي مستندًا إلى خشبة زيد يبكي ويقول: هكذا تفعلون بولدي! قلت: وقد أخرج هذه الآثار أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه" فروى عن إسماعيل بن عليّ الخطبي قال: كان كنية زيد بن عليّ أبو الحسين، وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: جيداء. ظهر بالكوفة في خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان سنة إحدى وعشرين ومئة، وقُتل ليومين خلوا من صفر سنة اثنتين وعشرين ومئة وهو ابنُ اثنتين وأربعين سنة، وصُلب بالكوفة، وفي تاريخ قتله خلاف، ولم يزل مصلوبًا إلى سنة ستّ وعشرين ومئة، ثم أنزل بعد أربع سنين من صلبه (¬3). قال: وسئل سفيان بن عُيينة: متى مات الزُّهريّ؟ قال: سنة ثلاث وعشرين ومئة، وفيها قُتل زيد بن عليّ - رضي الله عنه -. وروى أبو القاسم أَيضًا أن زيدًا صُلب ووجهُه ناحية الفُرات، فأصبح وقد دارت خشبتُه نحو القبلة، ففعلوا به ذلك مرارًا، وعمدت عنكبوت فنسجت على عورته، وكانوا صلبوه عُريانًا (¬4). وروى أبو القاسم أَيضًا بإسناده إلى جرير بن حازم قال: رأيتُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في النَّوم مسندًا ظهره إلى خشبة زيد وهو يبكي ويقول: هكذا تفعلون بولدي (¬5)؟ ! ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د): وأقام مصلوبًا ... والمثبت من (ص). (¬2) مروج الذهب 5/ 472 - 473، وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬3) تاريخ دمشق 6/ 656 (مصورة دار البشير). (¬4) المصدر السابق، وما قبله منه. (¬5) المصدر السابق.

وقال ابنُ سعد بإسناده (إلى سَحْبَل بن محمَّد) قال: ما رأيت أحدًا من الخلفاء أشدَّ عليه من الدِّماء من هشام، ولقد دخله من مقتل زيد بن عليّ ويحيى بن زيد أمرٌ شديد، وقال: وددتُ أني كنت فَدَيتُهما (¬1). قلت: وذِكْرُ يحيى في هذا الحْبر وهمٌ من ابن (سعد) فإنَّ يحيى قُتل بعد موت هشام في أيام الوليد لما نذكر. وقال ابنُ سعد (¬2): قُتل زيد يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين ومئة -وقيل: سنة اثنتين وعشرين ومئة -وهو ابن اثنتين وأربعين سنة. وقال أبو نُعيم -يعني الفضل بنَ دُكَيْن-: إن زيدًا قُتل يوم عاشوراء. وقال أبو القاسم ابن عساكر: كان زيد يسمَّى ذا الدمعة؛ لكثرة بكائه (¬3). قال: وسمع الحديث من أَبيه، وأخيه محمَّد، وأبان بن عثمان. وروى عنه ابنُ أخيه جعفرُ الصادق، والزُّهْرِيّ، وشعبة، وغيرهم. قال أبو القاسم ابن عساكر.] (¬4) وسأله آدم بن عبد الله الخثعميّ عن تفسير قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]: مَنْ هم؟ قال: أبو بكر وعمر. قيل له: فأنت تقول هذا؟ ! قال: لا أنالني الله شفاعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إن لم أُوالهما (¬5). - رضي الله عنه -. ومن شعر زيد رحمة الله عليه: مُنْخَرِقُ الخُفَّينِ (¬6) يشكو الوَجَى ... يُدمينَهُ (¬7) أطرافُ مَرْوٍ حِدَادْ شرَّدَه الخوفُ وأزْرَى بِهِ ... كذاك مَنْ يكرهُ حَرَّ الجِلادْ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 320 (وما بين قوسين عاديين منه). (¬2) المصدر السابق. (¬3) تاريخ دمشق 6/ 654 (مصورة دار البشير). (¬4) من قوله: وحدثني عبد الله بن جعفر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤي مستندًا إلى خشبة زيد ... إلى هذا الموضع من (ص). وجاء مختصرًا في (ب) و (خ) و (د)، ووقع فيها أخطاء في أسماء من روى عنهم، ومن رَووْا عنه. لذا أثبتُّ نسخة (ص). (¬5) تاريخ دمشق 6/ 647. (¬6) في (خ): الكعبين. والمثبت من (ب) و (د) والكلام ليس في (ص). (¬7) في المصادر الآتية: تنكبُه.

قد كانَ في الموت له راحةٌ ... والموتُ حَتْمٌ في رقابِ العبادْ (¬1) وهذا قاله لمَّا كان يتردَّد من البصرة إلى الكوفة متخفّيا، ومن قبيلة إلى قبيلة. وكان يتمثَّل بهذين البيتين ويقول: وكنتُ إذا قومٌ غَزَوْني غَزَوْتُهمْ ... فهل أنا في ذا يال هَمْدانَ (¬2) ظالمُ متى تجمعِ القلبَ الذكيَّ وصارمًا ... وأنفًا حَمِيًّا تَجْتَنِبْكَ المظالمُ وهما لعَمرو بنِ برَّاقة الهَمْدانيّ؛ أغار عليه رجل من هَمْدان اسمُه حُريم، فاستاقَ إبلَه، فأغار عليه عَمرو، فاستاقَ إبلَه. وهي من أبيات منها: ومَنْ يطلبِ العزَّ الممنَّعَ بالقَنا ... يَعِشْ ماجدًا أو تخترمْهُ المخارِمُ (¬3) ذكر أولاد زيد: فولدَ [زيدُ بنُ علي] يحيى بنَ زيد المقتول بخراسان، وأمُّه رَيطة بنتُ أبي هاشم عبدِ الله بنِ محمَّد بن الحنفيَّة، بعث إليه نصرُ بنُ سيار سَلْم بنَ أحْوَز فقتله، وعيسى، وحُسينًا، ومحمدًا، وهم لأمِّ ولد (¬4). وهذا حسين يقال له: المكفوف كُفَّ بصرُه، وكنيتُه أبو عبد الله، وكان له من الأولاد: مُلَيكَة، وميمونة؛ وتزوَّجَ ميمونةَ مُحَمَّد المهدي بن المنصور، فتوفي عنها، فخلفَ عليها عيسى بن جعفر الأكبر ابن أبي جعفر المنصور، فلم تلد له، وعُليَّة بنت حسين، وأمُهنَّ كَلْثم بنت عبد الله بن عليّ بن الحسين بن عليّ - عليه السلام -، ويقال لها: الصَّمَّاء، ويحيى بن حسين، وسُكينة بنت حسين لم تبرز، وفاطمة بنت حسين، تزوَّجَها محمَّد بنُ إبراهيم الإمامِ، فولدَتْ له حَسَنًا، وسليمان، وخديجة، وزَينب، والحُسين، بني (¬5) محمَّد بن إبراهيم [بن محمَّد] بن عليّ بن عبد الله بن عبَّاس (¬6). ¬

_ (¬1) البيان والتبين 1/ 311 و 3/ 359، والعقد الفريد 4/ 483 و 5/ 89، وقال الحصري في "زهر الآداب" 1/ 78: رُويت هذه الأبيات لمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين، وقد رُويت لأخيه موسى. (¬2) أي: يَا آل هَمْدان. وتحرف قوله: ذا يال همدان في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) إلى: ذياك هذان. (¬3) ينظر "الأغاني" 21/ 175 - 177، و"العقد الفريد" 1/ 119. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 319. وما بين حاصرتين منه للإيضاح. (¬5) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): بنو. وأثبتُّ اللفظة على الجادَّة. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 612. وما سلف بين حاصرتين منه.

وقال أبو الفرج الأصفهاني (¬1): كان محمَّد بن يحيى بن زيد بن عليّ (¬2) قد قام بطبرستان بعد مقتل أبيه في أيام بني العباس واستولى عليها، فكان يُفَوِّقُ الخَراجَ وبيتَ المال في القبائل؛ قريشٍ أولًا، ثم في الأنصار، ثم في العلماء وأهل القرآن وسائر الطبقات حتَّى لم يُبق درهمًا. وإنه جلس يومًا على عادته، ففرَّق المال، فقام إليه رجلٌ، فسأله: أَمِنْ بني عبد مناف أَنْتَ؟ قال: نعم. قال: أَمِنْ بني أميَّة أَنْتَ؟ قال: نعم. قال: من أيِّ ولده؟ فأمسك. قال: لعلَّك من ولد يزيد بن معاوية؟ قال: نعم. فقال: بئس الاختيارُ اخترتَ لنفسك حيث قصدتَ بلدًا ولاتُه آلُ أبي طالب، وعندك ثأرُهم في سيِّدهم، وقد كان لك منصرفٌ إلى الشَّام، أو إلى العراق، ولقد جهلتَ وخاطرتَ بنفسك. فنظر إليه العلويُّون نظرًا منكرًا، فصاح بهم محمَّد، فسكنوا، فقال: هل تظنُّون في قتل هذا دَرَكًا لقتل الحسين؟ ! أيُّ جُرم لهذا؟ إن الله يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وهذا ما قتل، وواللهِ لئن تعرَّضَ إليه أحد لأُقِيدنَّه به (¬3). ثم قال: اسمعوا حديثًا يكون لكم قدوةً: عُرض على أبي جعفر سنةَ حجَّ جوهرٌ فاخر، وقيل له: هذا كان لهشام بن عبد الملك، وقد بقيَتْ منه بقيَّة عند محمَّد بن هشام، وهو معك بمكة، فأمر بغلق أبواب الحرم، وأمرَ الربيعَ (¬4) أن يقفَ على بابِ يعترضُ النَّاس، وكان محمَّد بن هشام في المسجد قد تنكّر، وكان في المسجد عمِّي محمدُ بن زيد، فرأى محمَّد بنَ هشام متحيِّرًا ولم يعرفه، فقال له: يَا هذا ما الذي بك؟ قال: ولي الأمان؟ قال: نعم. قال: أنا محمَّد بن هشام، فمن أَنْتَ؟ قال: محمَّد بن ¬

_ (¬1) روى التنوخيُّ الخبر في "الفرج بعد الشدة" 2/ 334 عن أبي الفرج الأصفهاني، ورواه ابن حمدون في "التذكرة الحمدونية"2/ 213 عن التنوخي. (¬2) كذا قال. ولعله وهم، ففي المصدرين السابقين: محمَّد بن زيد الداعي. ثم إنّ المصادر لم تذكر ليحيى بن زيد بن عليّ ابنًا اسمُه محمَّد، مع أنَّ المصنف سيذكره في ترجمة أَبيه يحيى بنّ زيد، آخر السنة (125). فلعل الوهم تكرّر، والله أعلم. (¬3) في النسخ المذكورة: لأقصدنه به. وأثبتُّ اللفظة على الجادَّة مستفيدًا من عبارة المصدرين السابقين، وفيهما: واللهِ لا يعرضُ له أحد إلَّا أقدتُه به. (¬4) هو الرَّبيع بن يونس وزير أبي جعفر المنصور.

سلمه بن كهيل

زيد بن عليّ بن الحسين. فقال: عند الله أحتسبُ نفسي. فقال: يَا ابنَ العمّ، لا بأس عليك، أنا أُخلِّصُك، ولكن لا بدَّ من مكروه أنالُك به يكون سببًا لخلاصك. قال: افعل. فجعلَ عِمامتَه في عنقه، وأقبلَ يجزُه ويَلْطِمُه إلى باب الحرم، والربيعُ قائم على الباب، فقال له: يَا أَبا الفضل (¬1)، إنَّ هذا جمَّالٌ خبيثٌ من أهل الكوفة، أكراني جِمالًا ذاهبًا وراجعًا، وقد هرب مني، وأكراها لبعض الخُراسانية، ولي عليه بيِّنة، فضُمَّ إليَّ حَرَسِيَّيْن يقدِّمانه إلى القاضي، ويمنعان الخُرَاسَانِيّ من إعزازه. فضمَّ إليه حَرَسِيّين وقال: اذهبا معه. فلما خرج من المسجد قال: تؤدِّي إليَّ حقِّي؟ قال: نعم يَا ابنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال للحَرَسِيّينِ: انْصَرِفا فقد اعترف. فانصَرَفا. فقَبَّلَ ابنُ هشام يدَ محمَّد وقال: بأبي أَنْتَ وأمي، اللهُ أعلمُ حيث يجعلُ رسالاتِه. ثم أخرج جوهرًا له قيمة، فدفعَه إليه وقال: شَرِّفْني بقبوله. فقال له: يَا ابن عمّ، نحن أهلُ بيت لا نأخذُ على المعروف أجرًا وقد تركتُ [لك] (¬2) أعظمَ من هذا وهو دمُ زيد بن علي، فانصرفْ راشدًا، ودارِ شخصَك حتَّى يخرجَ هذا الرجلُ من البلد، فإنَّه مُجِدٌّ في طلبك. فمضى وتوارى. قال: ثم أمر للرجل الأُموي من العطاء مثل ما أمر به لواحدٍ من بني عبد مناف، وكساه ووصلَه من عنده، وبعثَ معه رجالًا، فأوصلوه إلى مأمنه (¬3). [وفيها تُوفِّي] سَلَمهُ بنُ كُهيل الحضرميّ، من الطَّبقة الثالثة من أهل الكوفة، كان ثِقَة كثير الحديث (¬4). وقال سفيان الثَّوريّ: سَلَمةُ بن كُهيل ركنٌ من الأركان (¬5). ¬

_ (¬1) هي كنية الرَّبيع بن يونس (المذكور) وزير المنصور. (¬2) لفظة "لك" من المصدرين السابقين. (¬3) الخبر بنحوه في "الفرج بعد الشدة" 2/ 334 - 337؛ و"التذكرة الحمدونية" 2/ 211 - 213. ولم يرد في (ص). (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 434، وكنيتُه أبو يحيى، كما في "تاريخ دمشق" 7/ 509 (مصورة دار البشير). (¬5) تاريخ دمشق 7/ 511 (مصورة دار البشير).

عبد الله البطال

وكان من شيعة عليّ - عليه السلام - (¬1). وقال سَلَمة: رأيت رأس الحسين بن عليّ على قناة وهو يقرأ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2) [البقرة: 137]. ومولده سنة سبع وأربعين، ومات سنة اثنتين وعشرين ومئة. وقيل: سنة ثلاث وعشرين (¬3). أسند عن جُندب بن عبد الله البَجَلي، وأبي جُحيفة السُّوَائي، وأبي الطُّفيل، والشعبيِّ، وغيرهم. وروى عنه سفيان الثوريّ، وقيس بن الربيع، ومِسْعَر (¬4)، ومنصور، والأعمش (¬5). عبد الله البطَّال مولى بني أمية [شاميّ] دمشقي، وكنيتُه أبو يحيى، كان شجاعًا مقدامًا جوادًا، صاحب غَزَوات ونكايات في العدوّ. [وكان معه عبد الوهَّاب بن بُخْت وقد ذكرناه. قال خليفة: وفي سنة اثنتين وعشرين (¬6) استُشهد البطَّال ببلاد الروم. وقال أبو عبيدة معمر: في سنة ثلاثَ عشرةَ ومئة. وهو وهم، الذي استُشهد في سنة ثلاث عشرة ومئة عبدُ الوهَّاب بن بُخت (¬7). وقال ابنُ أبي الدنيا: أوَّلُ من قال: الشجاعة صبرُ ساعة البطَّال. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 7/ 512 - 513. (¬2) المصدر السابق 7/ 509، والله أعلم بصحته. (¬3) المصدر السابق 7/ 515 - 516، وذكر فيه ابن عساكر أَيضًا قول ثالثًا وهو سنة (121). (¬4) تحرفت اللفظة في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) إلى: مسعود. (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 7/ 509 (مصورة دار البشير)، و"تهذيب الكمال" 11/ 313 - 314. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬6) كذا في (ص) والكلام منها (وهو ما بين حاصرتين). والذي في "تاريخ" خليفة ص 352 - ونقله عنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 39/ 364 (طبعة مجمع دمشق) -: إحدى وعشرين. (¬7) تاريخ الطبري 7/ 88.

وذكر أبو القاسم ابن عساكر فقال (¬1): ] وكان ينزلُ أنطاكية، ولما ولَّى عبدُ الملك ولدَه مَسْلَمَة غزوَ الرُّوم أوصاه به، وقال: اجْعَلْهُ على طلائعك وعَسَسِ عسكرك في الليل، فإنَّه مقدامٌ ثِقَة أمين. [وخرج عبد الملك فشيَّعَهم إلى ظاهر دمشق]. فعقد مسلمة للبطَّال على عَشَرة آلاف من أهل الشَّام والجزيرة، وجعلهم سيَّارة فيما بين حصون الروم وعسكر المسلمين (¬2). وحكى أبو القاسم عن الوليد بن مسلم عن بعض شيوخه قال: قيل للبطَّال: ما أعجبُ (¬3) ما رأيتَ في غَزَواتك؟ فقال: نزلتُ على قرية وقلتُ لأصحابي: لا تُهيجوهم، وإذا بيتٌ فيه سراج يَزْهَر، وامرأة تخوِّفُ ابنًا لها يبكي وهي تقول له: اسكُتْ وإلا سلَّمْتُك إلى البطَّال. [قال: ] وأنا قائم على الباب وهي لا تشعر بي، فلما أكثر البكاء أخَذَتْه على يدها وأشارت به إلى الباب وقالت: خُذْ يَا بطَّال. فقلت: هاتِ. وأخذتُه. وحكى [أبو القاسم أَيضًا عن] الوليد بن مسلم عن بعض شيوخه قال: رأيتُ البطَّال قافلًا من الحجّ في السنة التي قُتل فيها، يُخبر أنَّه لا يزال مشغولًا بالجهاد عن الحجّ، ويسأل الله الشهادة. ثم غزا في عامة ذلك، وأقبل ملك الروم -وقيل: ليبون (¬4) - في مئة أَلْف، فالتقاهم البطَّال، فشدَّتْ عليه أبطال الروم، فشاطَتْه (¬5) برماحها، وسقط عن سرجه وبه رَمَق. وأقبل الليل فافترقوا، فقال البطَّال للنَّاس: الحقوا ببعض الأمصار. وبقي الليلَ مكانَه، وبلغ ليبونَ الخبرُ، فجاء فنزل، وقعد عند رأسه وقال له: يَا أَبا يحيى، كيف رأيتَ؟ قال: ما زالت الأبطال تَقْتُلُ وتُقْتَل. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 39/ 356 - 357، وما قبله منه ص 364. (¬2) المصدر السابق، وما وقع من كلام بين حاصرتين من (ص). (¬3) في (ب) و (خ) و (د): وقيل له: ما أعجب ... والمثبت عبارة (ص). والكلام في "تاريخ دمشق" 39/ 358 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) في المصدر السابق: ليون. وفي (ص): وقيل: ابن لبنون. (¬5) في "تاريخ دمشق" 39/ 361: شالته.

أبو عمران عبد الملك بن حبيب

ودعا ليبون بالأطباء، فنظروا إلى جراحاته، فقالوا: قد أَنْفَذَت مقاتلَه. فقال: هل من حاجة؟ قال: نعم، تأمرُ من ثبت معي من المسلمين يَتَولَّوْا أمري ودفني، وتُخْلِيَ سبيلَ مَنْ ثبتَ معي. فقال: نعم. ووفَىَ له (¬1). أبو عمران عبد الملك بن حبيب الجَوْنيّ، من الطَّبقة الثالثة من التابعين من أهل الكوفة (¬2)، وكان من الخائفين المتعبِّدين. [قال ابن سعد (¬3): كان] ثِقَة كثير الحديث. وكان إذا سمعَ (¬4) صوتَ المؤذِّن؛ تغيَّر لونُه، وفاضَتْ عيناه. [وكان يقصُّ على النَّاس ويبكي. قال: وكان يقول في قَصصه: لا يغرنَّكم مِن ربِّكم طولُ الأمل، فإنَّ أخذه أليم شديد (¬5)، وحتى متى تبقى وجوه أوليائه تحت أطباق الثرى، وإنما هم يحبسون ببقية آجالكم حتَّى تُبعثون جميعًا. وقال: وعظ موسى يومًا، فشقَّ رجلٌ ثيابَهُ، فأوحى الله تعالى إلى موسى: قُلْ للرجل صاحب القميص: لا يشقُّ قميصه، ولكن ليشقَّ لي عن قلبه. وقال: تصعدُ الملائكةُ إلى الله بالأعمال، فينادي المَلَكَ: ألقِ تلك الصحيفةَ -أو الصحائف- فيقول: يَا ربّ، قالوا خيرًا -أو عملوا- وحفظناه عليهم، فيقول الله: لم ¬

_ (¬1) الخبر في المصدر السابق من أكثر من رواية. (¬2) كذا في النسخ الأربعة، وهو خطأ، والصواب: البصرة، كما في "طبقات" ابن سعد 9/ 237، و"صفة الصفوة" 3/ 264 وذكره خليفة في "طبقاته" ص 215 في الطَّبقة الرابعة من أهل اليمن. (¬3) في "الطبقات الكبرى" 9/ 237. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) في (ص): وقال النوري (كذا): كان إذا سمع ... إلخ. ولم أعرفه. ولعله محرَّف. والخبر في "المنتظم" 7/ 223، و"صفة الصفوة" 3/ 264 عن الحارث بن سعيد. (¬5) قوله: فإن أخذه أليم شديد، اقتباس من الآية (102) من سورة هود.

قيس بن مسلم

يريدوا به وجهي. قال: وينادي المَلَكَ: اكتُبْ لفلان كذا وكذا، فيقول: يَا ربّ لم يعمل! فيقول: إنه نواه] (¬1). أسند عن أنس، وجُندب بن عبد الله، وعائذ بن عَمرو، وأبي برزة الأسلميّ، وغيرهم، وروى عنه جماعة من التابعين. قيس بن مسلم الجَدَلي، من الطَّبقة الرابعة (¬2) من أهل الكوفة. كان من العبَّاد الخائفين، كان يصلي في المسجد من أول الليل إلى السَّحَر، يبكي طول ليلِه. وزارَ محمدَ بنَ جُحادة ليلةً، فأتاه وهو في المسجد بعد العشاء الآخرة ومحمدٌ قائم يصلي، فقام قيس في الناحية الأخرى يصلي (¬3)، فلم يزالا على ذلك حتَّى طلع الفجر (¬4). وكان قيس إمام مسجده، فرجع ليصلي بالحي، ولم يلتقيا فقال بعض أهل المسجد لمحمد: زارك أخوك قيس البارحة، فلم تنفتل إليه. فقال: واللهِ ما علمتُ به. ثم غدا محمَّد على قيس، فلما رآه قام، فاعتنقا، وجلسا يبكيان. أسند قيس عن طارق بن شهاب، وسعيد بن جبير، وعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى (¬5). محمَّد بن جُحادة الأزديّ مولاهم، من الطَّبقة الثالثة من أهل الكوفة. كان من العابدين لا ينام من الليل إلَّا أيسرَه. ¬

_ (¬1) من قوله: وكان يقصُّ على النَّاس ويبكي ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). وهو في "صفة الصفوة" 3/ 265. (¬2) كذا في "صفة الصفوة" 3/ 127. وذكره ابن سعد في "الطبقات" 8/ 434 في الطَّبقة الثالثة. (¬3) قوله: فقام قيس في الناحية الأخرى يصلي، من (د)، وليس في (ب) و (خ) (ولم ترد الترجمة في ص). (¬4) صفة الصفوة 3/ 127. (¬5) المصدر السابق.

مسلمة بن عبد الملك

رأت امرأة من جيرانه كأنَّ حُلَلًا فُرِّقَتْ على أهل مسجدهم (¬1)، فلما انتهى الذي يُفرِّقها إلى محمَّد بن جُحادة؛ دعا بسَفَطٍ، فأخرجَ منه حُلَّةً صفراء. قالت: فلم يقم لها بصري، فكساه إياها وقال له: هذه لك بطول السَّهَر. قالت المرأة: فواللهِ لقد كنتُ أراه بعد ذلك، فأتخايلُها عليه (¬2). مَسْلَمَةُ بنُ عبد الملك ابن مروان، وكنيتُه أبو سعيد (¬3)، وقيل: أبو الأصبغ. وكان شجاعًا جوادًا صاحب همَّة وعزيمة، وله غَزَوات كثيرة من أول ولاية أَبيه عبد الملك إلى هذه السنة. وقد ذكرنا منازلتَه القسطنطينية، وبلادَ الخُوارزم، واللَّان، والعراق، وغيرَها، و [قد] كان جديرًا بالخلافة، وإنَّما زَوَى بنو أمية عنه الأمر؛ لأنَّ أمَّه أمَةٌ، وما كانوا يرون إلَّا ولايةَ أولاد الحرائر، ويُسمُّون بني الإماء الهُجَناء. وقال الأصمعيّ: سابقَ عبدُ الملك يومًا بين مَسْلَمة وسليمانَ ابنَيه، فسبق سليمانُ، فقال عبد الملك: ألم أنهكُمْ أنْ تحملُوا هُجَناءكم ... على خيلكم يومَ الرِّهان فتُدركوا وما يستوي المرءانِ هذا ابنُ حُرَّةٍ ... وهذا ابنُ أُخرى ظهرُها متشرِّكُ وتَرْعَشُ عَضْدَاهُ ويضعفُ صوتُهُ (¬4) ... وتَقْصُرُ رجلاه فلا يتحرَّكُ وأدرَكْتَهُ خالاتُه فَنَزعْنَهُ ... ألا إنَّ عِرْق السَّوْءِ لا بدَّ يُدْرِكُ (¬5) فقال مسلمة: يَا أمير المُؤْمنين، ما هذا قال حاتم الطَّائيّ. قال: فما الذي قال: فأنشد مسلمة: ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): المسجد. والمثبت من (د) وهو موافق لما في "صفة الصفوة" 3/ 111. (¬2) المصدر السابق. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) في (ب) و (خ) و (د): بن مروان أبو شاكر وقيل: أبو سعيد ... وهو خطأ، فأبو شاكر هو مسلمة بن هشام بن عبد الملك، والمثبت من (ص) وهو الصواب. وينظر "تاريخ دمشق" 67/ 151 و 190 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) في "العقد الفريد" 6/ 130: وتضعف عضداه ويقصُرُ سَوْطُهُ، وفي "التذكرة الحمدونية" 7/ 183: فتضعف ساقاه وتفترُ كفُّه، وفي "معجم الشعراء" للمرزباني ص 66: فيفتُر كفَّاه ويسقط سَوْطُهُ. (¬5) نُسبت الأبيات في "العقد" للأعور الشّنّي، وفي "التذكرة" لبعض بني عبس، ونسبه المرزباني لعمرو بن مُبْرد العبدي.

وما أنكحونا طائعين بناتِهمْ ... ولكن خطبناها بأسيافنا قَسْرَا وكائِنْ ترى (¬1) فينا من ابنِ سَبِيّةٍ ... إذا لقيَ الأعداءَ يطعنُهم شَزْرَا أغرُّ إذا اغبرَّ (¬2) اللثامُ كأنَّهُ ... إذا ما سرى تحت الدُّجَى قمرًا بدرا (¬3) فخجل عبدُ الملك. وقيل: إنَّ بني أمية إنما امتنعوا من استخلاف أبناء أمَّهات الأولاد لا استهانة بهم (¬4)، وإنما كانوا يرون في الملاحم (¬5) أنَّ انتهاء ملكهم وزواله يكون على يد ابنِ أَمَة. وكذا كان، فإنَّ مروان بن محمَّد كانت أمُّهُ سَبِيَّة، سباها أبوه محمَّد من عسكر مصعب بن الزُّبير، وكان زوالُ ملكهم على يده، وإلا فما كان في بني عبد الملك أَسَدَّ رأيًا، ولا أتمَّ عقلًا، ولا أقوى قلبًا، ولا أشجع نفسًا، ولا أسخى كفًّا من مَسْلَمة، وإنَّما تركوه لما ذكرنا، وهو الأصحّ. وقيل: إنَّه رام الخلافةَ فلم ينلها، ومَنَعتْه الأقدار. وقال الزُّبير بن بكَّار: كان من رجالهم، ويلقَّب بالجَرَادة الصفراء. وله آثار في الحروب، ونكايات في التُّرك والروم والخَزَر واللَّان (¬6). وذكره ابنُ سُميع في الطَّبقة الرابعة من أهل الشَّام (¬7). وقال خليفة في سنة إحدى وتسعين (¬8): عزل الوليدُ بنُ عبد الملك محمدَ بنَ مروان عن الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وولَّاها مسلمةَ بنَ عبد الملك، ولم يزل يغزو الروم كلَّ عام ¬

_ (¬1) أي: وكم ترى. (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): اغترَّ. والمثبت هو الصواب إن شاء الله. (¬3) في النسخ المذكورة: قمر البدرا. والمثبت من "العقد الفريد" 6/ 131. والأبيات فيه بنحوها، وهي برواية أخرى أَيضًا في "التذكرة الحمدونية" 7/ 183 - 184 (ونُسبت فيه لمسكين الدَّارميّ). وهذا الخبر (قول الأصمعيّ) لم يرد في (ص). (¬4) في (ص): للاستهانة بهم. وهو تحريف. (¬5) قوله: في الملاحم، ليس في (ص). (¬6) بنحوه في "تاريخ دمشق" 67/ 152 (طبعة مجمع دمشق) عن الزُّبير بن بكّار. (¬7) المصدر السابق 67/ 153 عن ابن سُميع. (¬8) تاريخ خليفة ص 303.

من سنة ستٍّ وثمانين، إلى سنة ثمانٍ وتسعين؛ اثنتي عشرة سنة؛ ما فيها عام إلَّا ويفتح فيه حصونًا، أو يهزم فيه جيوشًا (¬1)، وافتتح مدينة الصقالبة، ولقيَ خاقان، فهزمه (¬2). وحجَّ بالنَّاس سنة أربع وتسعين، وغزا قَيسارَّية سنة ثمان ومئة (¬3)، وحجَ بالنَّاس أَيضًا سنة تسع عشرة ومئة (¬4)، وأخربَ ما بين الخليج والقسطنطينية في البرّ والبحر، وحصرها في سنة ثمان وتسعين، أغزاه إياها أخوه سليمان في البرّ والبحر (¬5)، وكان طامعًا في فتحها, لما رُويَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَتُفْتَحَنَّ القُسطَنْطينيَّة، ولَنِعْمَ الأميرُ أميرُها, ولَنِعْمَ الجيشُ جيشُها" (¬6). و[قال خليفة أَيضًا] (¬7) في سنة إحدى ومئة: جمع له يزيد بن عبد الملك إمرة العراقين، وولَّاه محاربة يزيد بن المهلب. وفي سنة سبع ومئة ولّاه هشام [بن عبد الملك] أرمينية وأذَرْبيجان (¬8). قال [أبو القاسم] ابن عساكر (¬9): وكانت داره بدمشق عند باب الجامع القِبليّ. وقال هشام: جرى بين الوليد بن عبد الملك وأخيه مَسْلَمة شيءٌ، فدخل عليه، فاسترضاه، فلما قام مَسْلَمة ليخرج قال الوليد: خُذوا السمع كلَّه بين يدي أبي سعيد. فقال مَسْلَمة: واللهِ يَا أمير المُؤْمنين، لا أمشي إلَّا في ضوء رضاك عنِّي. فأُعجب الوليد، ورضي عنه (¬10). ¬

_ (¬1) في (ص): ويُفتح فيه حصون أو جُهزم فيه جيوش. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 67/ 153 - 156 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) المصدر السابق 67/ 156. (¬4) قوله: وحجَّ بالنَّاس أَيضًا سنة تسع عشرة ومئة، ليس في (ص). وهو في "تاريخ دمشق" 67/ 161. (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 67/ 156 و 158. وقوله: وحصرها في سنة ... إلخ، ليس في (ص). (¬6) أخرجه أَحْمد في "المسند" (18957) من حديث بشر الخثعمي، وذكر محقِّقُوه أن إسناده ضعيف لجهالة أحد رواته. (¬7) في "تاريخه" ص 325، وذكره عنه ابن عساكر 67/ 161. (¬8) تاريخ خليفة ص 337، وتاريخ دمشق 67/ 161. (¬9) في "تاريخه" 67/ 151. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬10) بنحوه في المصدر السابق 67/ 164.

وقال الواقديّ: أوصى مَسْلَمَةُ بثلث ماله لأهل الأدب، وقال: إنها صناعة مهجورة، مجفوٌّ أهلُها (¬1). ويقال: إنه مات في سنة إحدى وعشرين ومئة. ورثاه الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقال: فليتك لم تَمُتْ وفَدَاكَ قومٌ ... تراخى بينهم عنا (¬2) الدِّيارُ سقيمُ الصدرِ أو عَسِرٌ (¬3) نكيدٌ ... وآخَرُ لا يزورُ ولا يُزارُ عنى بالأوَّل يزيدَ بنَ الوليد، وبالثاني هشام بنَ عبد الملك، وبالثالث مروان بنَ محمَّد. وقد رثاه الكُمَيت الشاعرُ -والأبياتُ في الحماسة- فقال: فما غابَ عن حِلْمٍ ولا شَهِدَ الخَنَا ... ولا استعذبَ العوراءَ يومًا فقالها ويبتذلُ النفسَ المصونَةَ نفسَهُ (¬4) ... إذا ما رأى حقًّا عليه ابتذالها من أبيات (¬5). وكان لمسلمة أولاد وعقب، منهم محمَّد بن يزيد بن مَسْلَمة الأُموي، عاشَ إلى زمن المأمون، ومَدَحَ الحسنَ بنَ وَهْب متولِّي الخَراج لعبد الله بن طاهر بدمشق، فقال: يسقي رياضًا من المعروف حاليةً ... فهُنَّ للمجدِ مصطافٌ ومُرْتَبَعُ حيث المكارمُ معمورٌ مساكنُها ... بآلِ وَهْبٍ وشَمْلُ المجدِ مجتمِعُ كانت عَوارِيَ حتَّى حلَّها حسنٌ ... فأصْبَحَتْ ولها من جُودِهِ خِلَعُ (¬6) أسندَ مسلمةُ عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وروى عنه عُيينة والد سفيان (¬7). ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ دمشق" 67/ 168 من طريق آخر. (¬2) في "تاريخ دمشق" 67/ 169: عنها. وفي "الأغاني" 7/ 7: تُريحُ غبيَّهم عنَّا. (¬3) في "الأغاني": شَكِسٌ، وفي "تاريخ دمشق": شَرَفٌ. (¬4) منصوبة على البدل من "النفس". قاله المرزوقي في "شرح الحماسة" 4/ 1794. (¬5) المصدر السابق 4/ 1793 - 1794. (¬6) تاريخ دمشق 65/ 301 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة محمَّد بن يزيد الأُموي). (¬7) تاريخ دمشق 67/ 151 (طبعة مجمع دمشق). ومن قوله: وقال هشام: جرى بين الوليد بن عبد الملك ... إلى هذا الموضع (دون الأبيات الثلاثة الأخيرة) جاء في (ص) بعد الفقرة الآتية بعدها.

ذكر واقعة جرت لمسلمة في بلاد الروم: حكى القاضي التنوخي عن رجل من أهل الكوفة قال (¬1): كنَّا في غَزاة مع مَسْلَمةَ بن عبد الملك في بلاد الروم، فسبى سَبْيًا كثيرًا، فأحضروا شيخًا كبيرًا، فأمر بقتله، فقال له: ما حاجتُك إلى قتلي (¬2) وأنا شيخٌ كبير، إن تركتَني أتيتُك بأسيرَينِ شابَّين مسلمين. قال: ومن لي بذاك؟ قال: إنِّي إذا وعدتُ وفَيتُ. قال: لستُ أثقُ بك. قال: فدعني [حتى] أطوف [في] عسكرك لعلّي أجدُ من يكفلني إلى أن أعود. قال: اذهبْ. ووكَّل به من يطوفُ معه. فجعل يتصفَّح الوجوه حتَّى مرَّ بفتًى من بني كلاب قائمًا يَحُسُّ فرسَه، فقصَّ عليه القصة، فجاء معه إلى مسلمة وكَفِلَه، وأطلقَ الشَّيخ. فلما مضى قال له مسلمة: أتعرفُه؟ قال: لا واللهِ. قال: فكيف ضمنتَه؟ قال: رأيتُه يتصفَّح الوجوه، فاختارَني من بينهم، فكرهتُ أن أُخلفَ ظنَّه. فلما كان من الغد؛ حضر الشيخُ ومعه شابَّانِ أسيرانِ، فدفَعَهما إلى مسلمة وقال: إن رأى الأميرُ أن يأذنَ لهذا الشابّ بالمصير معي إلى حصني لأكافئه. فقال مسلمة للشابّ: إن شئتَ فامضِ معه. فمضى معه، فلما صار في حصنه قال له [الشيخ]: يَا فتى، علمتُ أنك ابني. قال: كيف أكونُ ابنَك، وأنا رجلٌ مسلم من العرب، وأنت شيخ نصرانيّ من الروم؟ ! قال: فأخبِرْني؛ هل أمُّك روميَّةٌ سُبِيَتْ؟ قال: نعم. قال: فإنْ وصفتُها تصدِّقُني؟ قال: نعم. فشرع الروميُّ يصفُها، فقال: هي واللهِ كذلك، فكيف عرفتَ أنّي ابنُها؟ ! قال: بالشَّبَهِ، وتعارفِ الأرواح، وصِدْقِ الفِراسة. ¬

_ (¬1) في "الفرج بعد الشدة" 2/ 29 - 31. وهو أَيضًا في "التذكرة الحمدونية" 9/ 275 - 277، و"المنتظم" 9/ 271 - 272. (¬2) في (ص): إلى قتل مثلي.

السنة الثالثة والعشرون بعد المئة

ثم أخرج إليه امرأةً لم يشكَّ أنها أمّه، وخرجَتْ معها عجوزٌ كأنها هي. فقال الشيخ: هذه جَدَّتُك، وهذه ابنتُها خالتُك. فأقبلا يُقبِّلانِ رأس الفتى ويبكيان، ثم دعا بشبابٍ في الصحراء، فقال: هؤلاء أخوانُك وبنو خالاتك. ثم أخرجَ حُليًّا كثيرًا، وثيابًا فاخرة، وقال: هذا عندنا منذ سُبيتْ أمُّك، فخُذْهُ معك، وادْفَعْهُ إليها، وأَقْرِئْها عنّا السلامَ. وبكى الشيخ، وبكَوْا معه، ثم أعطاه لنفسه مالًا كثيرًا وثيابًا وحُلِيًّا، وحملَه على عدَّة دوابَّ، وألحقَه بعسكر المسلمين. فأخْبِرَ مسلمةُ الخَبر، فجعلَ يتعجَّب، فلما قدم الفتى على أمِّهِ، أخرجَ لها شيئًا فشيئًا وهي تعرفُه وتبكي وتقول: باللهِ (¬1) فتحتُم الحصن الفلانيّ، وقتلتُم شيخًا من صفته كذا وكذا، وهو واللهِ أبي، ولي أمٌّ عجوز، وأختٌ وإخوة. وأكثرتِ البكاء، فقال لها: لا بأس عليكِ. وحدَّثَها الحديث، ودفعَ إليها ما بعثَه الشيخ [معه إليها] (¬2). السنة الثالثة والعشرون بعد المئة [حكى البلاذُري أنَّ في هذه السنة] خرج خمسة وعشرون ألفًا من الرُّوم، فنزلُوا على مَلَطْيَة، فبعثَ إليهم هشام بن عبد الملك الجيوش، فقَتلُوا منهم مقتلةً عظيمة، وانهزم الباقون (¬3). وفيها صالحَ نَصْرُ بنُ سيَّار السُّغْد، وكانت التُّرك قد تفرَّقَتْ بعد مقتل خاقان في أيام أسد بن عبد الله، واشتغلوا بالغارات بعضهم على بعض، فطمع أهل السُّغد في الرجوع إلى بلادهم، فبعثوا إلى نَصْر بن سيَّار، فأجابهم إلى ما طلبوا. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): واللهِ. والمثبت من (د) و (ص). (¬2) الخبر في المصادر السابقة وما بين حاصرتين من (ص). ووقع فيها بعده ما سلفت الإشارة إليه قبل القصة. (¬3) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 349. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص).

وكانوا قد شرطوا عليه شروطًا؛ منها: أنْ لا يُعاقبَ من كان مسلمًا وارتدَّ عن الإِسلام، ولا يؤخذون بما كانوا أخذُوه من بيت المال، ولا يُؤخذ أُسارى المسلمين من أيديهم إلَّا بحكم حاكم وشهادة العدول. وأنكر أمراءُ (¬1) خُراسان وأشرافُهم ذلك، فكلَّموا نصرًا، فقال: أما واللهِ لو عاينتُم نكايتَهم في المسلمين، وشدَّةَ شوكتهم؛ لما أنكرتُم ذلك. ثم كتب كتابًا إلى هشام، وبعثَ رسولًا في ذلك، فأبى هشام أن يُنفذ الصُّلح، فقال له الرسول: ما جَرَّبْتَ يَا أمير المُؤْمنين حَرْبَهم ونكايتهم في المسلمين، فقال له الأبرش الكلبي: يَا أمير المُؤْمنين، تألَّف القوم، فقد عرفتَ نكايتَهم. فأمضى الصُّلْح على ذلك (¬2). وفيها بعث يوسفُ بنُ عمر الحكمَ بنَ الصَّلْت إلى هشام يسألُه أن يضمَّ إليه خُراسان مع العراق حسدًا منه لنصر بن سيَّار، فإنَّه كانت قد حَسُنت سيرتُه، فلم يلتفت إليه هشام، وكتب إلى يوسف: فيما قِبَلَك كفايةٌ، ولك فيه سَعَةٌ، فدع الكنانيَّ وعملَه (¬3). وفيها غزا نَصْرُ بنُ سيَّار غزوةً ثانيةً إلى فَرْغَانة، وغَنِمَ غنائم كثيرة، وبعث معن بن أحمر (¬4) إلى هشام، فجعل معن طريقه على العراق، فاجتمع بيوسف بن عمر، فقال: يَا ابن أحمر، أيغلبكم ابن الأقطع يَا معاشر قيس على سلطانكم. يعني نصرًا. فقال: قد كان ذلك. فقال: إذا وَرَدْتَ على أمير المُؤْمنين فابقر بطنَه. فلما قدم [على] (¬5) هشام سألَه عن أمر خُراسان، فأثنى على يوسف بن عمر بخير، فقال: ويحك! أخْبِرْني عن خُراسان! فقال: ليس لك جند أعزّ ولا أكرم؛ إلَّا أنَّه ليس لهم قائد. قال: ويحك! فما فعل نصرُ بنُ سيَّار؟ ! قال: إنه لا يَعْرِفُ ولدَه من الكِبَر. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): قرّاء. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 192. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 192. (¬3) ينظر الخبر في المصدر السابق 7/ 192 - 193 مطولًا. (¬4) تحرفت في (ب) و (خ) و (د) إلى: بن أَحْمد. والتصويب من "تاريخ" الطبري 7/ 193، و"الكامل" 5/ 252. ووقع في "تاريخ"الطبري: مغراء، بدل: معن. والكلام ليس في (ص). (¬5) لفظة "على" بين حاصرتين زيادة من عندي لضرورة السياق.

ربيعة بن يزيد

وكان عنده شُبيل (¬1) بن عبد الرَّحْمَن المازنِيّ، فسأله عن نصر، فأثنى عليه، فلم يلتفت هشام إلى مقالِ ابن أحمر (¬2). وقيل: إن يوسف كتب إلى هشام يذكرُ له كِبَرَ نَصْر وضعفَه، ويذكرُ له سَلْمَ (¬3) بنَ قتيبة، فكتب إليه هشام: الْهُ عن ذكر الكِنانِيّ (¬4). وقيل: إنَّ القيسيَّة اتفقت مع يوسف على مكايدة نصر، وكاتبوا هشامًا، ورمَوْه بأنه شيخ قد كَبِر، وأنه لا يصلح للولاية، فلم يلتفت هشام إليهم، وعرفَ حَسَدَ يوسفَ له، وكتب إلى نصر يخبرُه، فأبعدَ نصرٌ القيسية وأهانهم، فقال بعض الشعراء: لقد بغَّضَ اللهُ الكرامَ إليكمُ ... كما بَغَّضَ الرحمنُ قيسًا إلى نَصْرِ رأيتُ أَبا ليث يُهين سَرَاتِهم ... ويُدْني إليه كلَّ ذي ضَعَةٍ غَمْرِ (¬5) [واختلفوا فيمن] حجَ بالنَّاس في هذه السنة [فقال الواقديّ: ] يزيد بن هشام بن عبد الملك. وقال المسعوديّ (¬6): محمَّد بن هشام المخزومي وهو على ولايته، وكذا باقي العمَّال. وفيها تُوفِّي ربيعة بن يزيد القصير الدِّمشقيّ، أبو شعيب (¬7) الإياديّ، مولى بني أمية، من الطَّبقة الرابعة من أهل الشَّام (¬8). [وقال أبو سعيد بن يونس: ] كان حَسَنَ السَّمْت (¬9)، كثيرَ العبادة. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): وكان عنده خراسان شبيل ... ولم تتبين لي، ولعل صواب العبارة: وكان عنده من خراسان شُبيل ... إلخ. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 193 - 194. (¬3) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): سالم، والمثبت من المصدر السابق، وهو الصواب. (¬4) المصدر السابق. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 197. وفيه: كلَّ ذي والث غمرِ. (¬6) في (ب) و (خ) و (د): وقيل، بدل قوله: وقال المسعودي. والمثبت من (ص). والكلام السالف بين حاصرتين منها. (¬7) في (ب) و (خ) و (د) و (ص): أبو الأشعث، وهو خطأ. والتصويب من المصادر. (¬8) طبقات ابن سعد 9/ 469. (¬9) في (ص): الصمت. وهو خطأ. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص).

سعيد بن أبي سعيد كيسان

[وقال أبو القاسم الحافظ: ] ما أذَّن المؤذِّن منذ أربعين سنة إلَّا وهو في المسجد (¬1) وقدم مصر، وخرج إلى المغرب مع كلثوم بن عياض (¬2) القشيري، فاستُشهد بإفريقية. أسند عن واثلة بن الأسقع، وعُمر بن عبد العزيز، وأقرانه، وروى عنه الأوزاعيُّ وغيره. وكان ثِقَة، أخرج له مسلم في "صحيحه" (¬3). سعيد بن أبي سعيد كَيسان مولى بني ليث بن كِنانة المَقْبُريّ، من الطَّبقة الثالثة من التابعين من أهل المدينة. مات سنة ثلاث وعشرين ومئة، وقيل: سنة خمس وعشرين، وقيل: سنة ستّ وعشرين. أسندَ عن جماعة من الصَّحَابَة، منهم سعدُ بنُ أبي وقَّاص، وابنُ عمر، وأنس، وأبو هريرة، وجابر، وغيرهم. وروى عنه مالك بن أنس، وابنُ أبي ذئب، وعُبيد الله بن عمر العُمري، وغيرهم. وكان ثقةً، جليلَ القدر، كثيرَ الحديث، لكنّه كَبِرَ واختلطَ قبل موته بأربع سنين، رحمةُ الله عليه (¬4). عائشة بنتُ طلحةَ ابنِ عُبيد الله التَّيميّ أحدِ العشرة [المبشَّرين بالجنة] وأمُّها أمُّ كلثوم بنتُ أبي بكر الصِّدّيق رضوان الله عليه، وأمُّها حَبِيبةُ بنتُ خارجة (¬5) بن زيد الأَنْصَارِيّ [الخزرجيّ. تزوَّجَها طلحةُ بنُ عُبيد الله. وقد ذكرناها في ترجمته]. ¬

_ (¬1) بنحوه في "مختصر تاريخ دمشق" 8/ 292. (ووقعت هذه الترجمة ضمن خرم في الكتاب الأصل "تاريخ دمشق"). والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (ب) و (خ) و (د): العاص. والمثبت من (ص) وهو موافق لما في "مختصر تاريخ دمشق" 8/ 293، وهو الصواب. (¬3) وأخرج له أَيضًا البُخَارِيّ وأصحاب السنن. ينظر "تهذيب الكمال" 9/ 148 و 150. ولم ترد عبارة: أخرج له مسلم، في (ص). (¬4) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 424، و"تاريخ دمشق" 7/ 341 - 346 (مصورة دار البشير). ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬5) في (ب) و (خ) و (د): بنت أبي خارجة، والمثبت من (ص) وهو الصواب. والكلام السابق واللاحق بين حاصرتين منها.

وأولُ أزواج عائشةَ [بنت طلحة] عبد الله بنُ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصديق، فولَدَتْ له عبدَ الرَّحْمَن، وعمرانَ، وأبا بكر، وطلحة، ونفيسة، ثم هجرَتْه، وعادت إليه، فتوفِّيَ عنها، فخلف عليها مصعب بن الزُّبير [بن العوَّام] فأصدقها مئة أَلْف دينار -وقيل: خمس مئة أَلْف درهم- وأهدى إليها هدية بمثل ذلك، فكتب أنس بن زُنَيم (¬1) إلى عبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنهما -: أَبْلِغْ أميرَ المُؤْمنين رسالةً ... من ناصح لك لا يُريد خِداعا بُضْعُ (¬2) الفتاةِ بألفِ ألفٍ كاملٍ (¬3) ... وتبيتُ ساداتُ الجنودِ جياعا (¬4) [وقال هشام: ] ولما قُتل عنها مصعب؛ أرسلَ إليها بشْرُ بنُ مروانَ عمرَ بنَ عبيد الله بن معمر التَّيميّ خاطبًا لها على بِشْر [بن مروان] فقالت لعمر: أما وجدَ رسولًا سواك؟ ! وأين أنتَ عن نفسك؟ ! فقال: أوتفعلين؟ ! قالت: نعم. فتزوَّجَها. وبعث إليها ألفَ ألفِ درهم [كما فعل مصعب] (¬5). وقال الشيخ أبو الفرج ابنُ الجوزيّ [في "المنتظم"]: إنَّ بِشْر بنَ مروان لمَّا خطبها قدمَ عُمر بنُ عُبيد الله بن معمر التَّيمي من الشَّام، فنزل الكوفةَ، فبلغه أن بشرًا خطبها، فأرسلَ إليها جاريةً تقول لها: [يقول لك] (¬6): أنا ابنُ عمّك، وخير لكِ من هذا المَطْحول، ولئن تزوَّجْتُك لأملأن بيتَك خيرًا. فتزوَّجَها، وبَنَى بها بالحِيرة (¬7). وكانت تَصِفُ له مصعبًا، فيكاد يموتُ من الغيظ (¬8). ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): زهيم. وهو خطأ. وهو أنس بن أبي أناس بن زُنيم، من كنانة من الدُّول. ينظر "الشعر والشعراء" 2/ 737. (¬2) البُضْعُ: عقد الزواج والمَهْر. (¬3) لفظة "كامل" من المصادر، وجاء مكانها في النسخ المذكورة كلمة رسمها: فصية. ولم تتبيَّن لي. (¬4) الشعر والشعراء 2/ 737، والمعارف ص 233، وأنساب الأشراف 6/ 119 و 358، و 8/ 238، والأغاني 3/ 361. ونسب الشعر في "الأغاني" 16/ 155 لعبد الله بن همام، والرواية فيه في زواج مصعب من سُكينة بنت الحسين. وذكر البلاذري أن نسبة الشعر لأنس بن زُنيم أثبت. وجاء في بعض هذه المصادر: الجيوش، بدل: الجنود. ومن قوله: فكتب أنس بن زُنيم ... إلى هذا الموضع، لم يرد في (ص). (¬5) ينظر "الأغاني" 11/ 184. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬6) قوله: يقول لك، بين حاصرتين، من "المنتظم" 7/ 227. (¬7) المنتظم 7/ 227. وهو في "الأغاني" 11/ 183 - 184. (¬8) الأغاني 11/ 187 و 188، والمنتظم 7/ 228.

[وقال الزُّبير بن بكَّار: كان عبد الله بن مُحَمَّد الرَّحْمَن بن أبي بكر أَبا عُذْرها، ثم مصعب بن الزُّبير, ثم عمر بن عُبيد الله بن معمر، ولما مات عنها عُمر، ناحَتْ عليه قائمةً، وكان ذلك عند العرب أمارةً أن لا تتزوَّجَ المرأةُ بعد زوجها أبدًا (¬1). [وكانت تُؤْثرُ عُمرَ بنَ عُبيد الله بن معمر على عبد الله ومصعب. وقال محمَّد بن إسحاق: كانت امرأة لا تخشى من الرجال، وتبرزُ لهم. قال: وكنتُ أدخلُ عليها وهي متكئة، ولو أنَّ خلفَها بعيرًا أُنيخ ما رؤي. وكانت تقلبُ الجرَّةَ على رأسها، فلا يُصيب الماءُ باطنَ فخذَيها من عظم عجيزتها. وقال الواقديّ: ] وكان بنو مروان يُعظِّمونها ويحترمُونها. ووفدت على جماعة منهم عبد الملك ابن مروان، والوليد بن عبد الملك، ولممليمان، وهشام، وكانوا يُعطونَها المال الكثير. وكانت فائقةَ الجمال، وافرةَ "الإحسان" ديِّنةً صالحة، كثيرةَ الخير (¬2). [قال ابن الكلبي: ] وكنيتُها أمُّ عمران. [وذكرها أبو زُرعة الدِّمشقيّ وقال: هي امرأة جليلة، حدَّث النَّاسُ عنها لجلالة قدرها وأدبها (¬3). وذكرها الجاحظ في كتاب "البغال" فقال: ] وفدَتْ [عائشة] على عبد الملك وأرادت الحج، فحملَها عليس ستين بغلًا من بغال الملوك [-وفي رواية أنها وفدت على الوليد-] فقال حاديها: يَا عيشَ يَا ذاتَ البغال الستِّينْ ... لا زلتِ ما عِشْتِ كذا تَحُجِّينْ (¬4) وكانت سُكينةُ بنتُ الحسين قد حَجَّت في تلك السنة، وكانت عائشةُ أكثر تحمّلًا منها، فنزل حادي سُكينة فقال: ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 8/ 238 و 243، و"الأغاني" 11/ 180 و 185، و"تاريخ دمشق" ص 212 (طبعة مجمع دمشق- تراجم النساء)، والكلام السالف والآتي بين حاصرتين من (ص). (¬2) بعدها في (ب) و (خ) و (د): جليلة، حدَّث النَّاس عنها لجلالة قدرها وأدبها. وسيرد هذا الكلام من (ص) بين حاصرتين عن أبي زرعة الدِّمشقيّ. (¬3) نقله ابن عساكر في "تاريخ دمشق" ص 207 (تراجم النساء) عن أبي زُرعة. (¬4) من قوله: فقال حاديها ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). والكلام السالف بين حاصرتين منها. وينظر "الأغاني" 11/ 188، و"تاريخ دمشق" ص 208 (تراجم النساء). و"المنتظم" 7/ 228.

يَا عَيشَ هذي ضَرَّةٌ تشكوكِ ... لولا أبوها ما اهتدى أبوكِ فأمرت عائشةُ حاديَها فسكت (¬1). [وحكى أبو القاسم ابن عساكر عن عمر بن شبَّة قال: ] استأذَنَت عاتكةُ بنتُ يزيد بن معاوية عبدَ الملك في الحجّ، فقال لها: ارفعي حوائجَكِ واستظهري، فإنَّ عائشةَ بنت طلحة العام في الحجّ. فرفعت حوائجَها وتجهَّزت، فبينا هي بين مكة والمدينة؛ أقبلَ رَكْبٌ في جماعة، فضَعضَعها، وفَرَّق جَمْعَها، فقالت: مَنْ هؤلاء؟ فقيل: جارية من جواري عائشة بنت طلحة، فلمَّا كان بعد ساعة؛ وإذا بِرَكْبٍ آخرَ مثلِه، فقالت: مَنْ هؤلاء؟ فقالوا: ماشطة (¬2) عائشة [بنت طلحة]. وإذا برَكْبٍ عظيم فيه ثلاثُ مئة راحلة، والعَمَّاريات (¬3) والبغال الشُّهب، فقالت: من هؤلاء؟ فقالوا: عائشة. فقالت عاتكة: ما عند الله خيرٌ وأبقى (¬4). و[قال الزُّبير بن بكَّار: ] لما تأيَّمت عائشةُ كانت تُقيم بمكة سنةً، وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مالٍ لها بالطائف، وقصرٍ لها فيه تتنزَّه هناك (¬5). [قال: ] وقدمت على هشام بن عبد الملك، فقال: ما أقدَمَكِ؟ فقالت: منعت السماءُ القَطْرَ، وحبس السلطانُ الحقَّ. فأمرَ لها بمال (¬6). وتوفّيت في هذه السنة. أسندت عن خالتها عائشة أمّ المُؤْمنين رضوان الله عليها، وروى عنها طلحة ابن عبد الله، (¬7) بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، وكانت من ثقات النساء. ¬

_ (¬1) "الأغاني" 11/ 188، و"المنتظم" 7/ 228. وقوله: فنزل حادي سكينة ... إلى هذا الموضع ليس في (ص). (¬2) في (ب) و (خ) و (د): سبطة. والمثبت من (ص) وهو الصواب. (¬3) جمع عمارية، وهو نوع من المحامل تُحمل على بغل. ينظر "تكملة المعاجم العربية" 7/ 308. (¬4) الأغاني 11/ 188 - 189، وتاريخ دمشق ص 206 (تراجم النساء). والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬5) الأغاني 11/ 190، والمنتظم 7/ 228. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬6) المنتظم 7/ 228، وهو في "الأغاني" 11/ 189 - 190 بأطول منه. (¬7) ما بين حاصرتين من "تاريخ دمشق" ص 207، و"تهذيب الكمال" 35/ 238.

السنة الرابعة والعشرون بعد المئة

و [قال أبو القاسم ابن عساكر: ] قد أخرج البُخَارِيّ حديثها (¬1). السنة الرابعة والعشرون بعد المئة فيها قدم جماعة من شيعة بني العباس من خُراسان إلى الكوفة يريدون مكة، ولما اجتمعوا بالكوفة غُمِزَ عليهم، فأُخِذُوا وحُبسوا، وكان فيهم بُكَير بن ماهان. ثم إنهم أُطلقوا، وبقيَ بُكَير، وكان في الحبس أبو عاصم، وعيسى بن معقل العجلي، ومعه أبو مسلم؛ غلام يخدُمُه، فدعاهم بُكير إلى بني العباس، وذكر ذهابَ دولة بني مروان، فأجاباه إلى ذلك، فقال بُكير لعيسى: ما هذا الغلام منك؟ قال: مملوك لي. قال: أتبيعُه؟ قال: هو لك بغير ثمن. فقال: لا آخذه إلَّا بالثَّمن. فقال: خُذه بما شئت، فأعطاه أربع مئة درهم. ثم أُطلقوا من السجن، فبعث به بُكير إلى إبراهيم الإِمام، فأعطاه إبراهيمُ لأبي موسى السَّرَّاج (¬2)، وأقام معه، وكان يختلفُ إلى خُراسان. وفي رواية: قدم سليمان بن كثير، ولاهز بن قريط (¬3)، وقحطبة بن شبيب من خُراسان إلى الكوفة يريدون مكة، كما دخلوا الكوفة سألوا عن عاصم بن يونس العِجْليّ وعيسى وإدريس ابني مَعْقِل (¬4)، فقيل لهم: حبسهم يوسف بنُ عمر لميلهم إلى بني العبَّاس وهم من عمال خالد القَسْريّ، ومعهم في الحبس أبو مسلم غلامٌ يخدُمهم، فدخلوا عليهم في الحبس، فرأوا أَبا مسلم وفيه العلامات، فقالوا: مَنْ هذا الغلام؟ قالوا: غلام من السرَّاجين يخدُمُنا (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج حديثها أَيضًا مسلم وأصحاب السنن. ينظر "تهذيب الكمال" 35/ 238. ولم أقف على قول ابن عساكر. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): فأعطاه إبراهيم لموسى المزاج، وفيه خطأ وتحريف. والتصويب من "تاريخ" الطبري 7/ 198. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 92 و 133 - 134، و"تاريخ دمشق" 41/ 389 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) في النسخ المذكورة: لاقط، وهو خطأ. (¬4) في النسخ المذكورة: وعيسى بن إدريس وأخيه معقل، والتصويب من المصادر السابقة. (¬5) تنظر المصادر السابقة. والسَّرَّاجون: صانعو السُّروج.

عامر بن عبد الله

وفيها غزا سليمان بنُ هشام الصائفة، والتقاه ليبون (¬1) ملك الروم، فهزمه سليمانُ وغَنِمَهُ (¬2). واختلفوا فيمن حجَّ بالنَّاس، فقال الواقديّ: محمَّد (¬3) بن هشام المخزومي وهو على ولايته. وقال هشام: حجّ بهم (¬4) عبدُ العزيز بنُ الحَجَّاج بن عبد الملك بن مروان، وكانت معه امرأتُه أمُّ سلمة ابنةُ هشام بن عبد الملك. و[قال الواقديّ: ] أرسل إليها محمَّد بنُ هشام بالهدايا، فلم تقبل منه، فجاء فوقف على بابها، فاستحيَتْ منه، فأمرَتْ بقبض هداياه. والعمالُ بحالهم كما كانوا في العام الماضي (¬5). وفيها تُوفِّي عامر بن عبد الله ابن الزُّبير بن العوّام، وأمُّه حَنْتَمَة بنتُ عبد الرَّحْمَن، مخزومية. [وذكره ابن سعد في] الطَّبقة الثالثة (¬6) من التابعين من أهل المدينة، وكنيتُه أبو الحارث. وكان عابدًا فاضلًا، ويغتسل كل يوم طلعت شمسُه (¬7). [وقال ابن سعد بإسناده عن سفيان قال: يقولون: إن عامرًا] اشترى نفسه من الله بستِّ ديات (¬8). وقال مالك بن أنس: رأيتُ عامرَ بنَ عبد الله يواصلُ [يوم] سبع عشرة، ثم يُمسي، فلا يذوقُ شيئًا حتَّى القابلة يومين وليلة (¬9). ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 199: أليون. (¬2) من قوله: فيها قدم جماعة من شيعة بني العباس ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) في (ب) و (خ) و (د): وحج بالنَّاس محمد ... إلخ. والمثبت عبارة (ص). (¬4) في النسخ المذكورة: وقيل: حجّ بهم ... إلخ. والمثبت من (ص). (¬5) تاريخ الطبري 7/ 199. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬6) في (ب) و (خ) و (د): وهو من الطبقة الثالثة ... والمثبت من (ص). (¬7) طبقات ابن سعد 7/ 407. (¬8) المصدر السابق 7/ 408. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬9) طبقات ابن سعد 7/ 407، ولفظة "يوم" بين حاصرتين منه. ولم يرد هذا الخبر في (ص).

و [روى أبو نعيم عن مالك قال: ] (¬1) كان [عامر] يقف عند موضع الجنائز يدعو وعليه قَطِيفة، وربَّما سقطت عنه وما يشعر بها، وربَّما خرج منصرفًا (من العتمة) (¬2) من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيعرضُ له الدعاء في الطريق قبل أن يصل إلى منزله، فيرفعُ يديه ويدعو حتَّى يُنادَى بالصبح، فيرجع إلى المسجد، فيصلِّي الصبح بوضوء العَتَمة. وكان يفرِّقُ البَدْرة؛ عشرةَ آلاف درهم، فيُمسي وما معه منها درهم. و[روى ابنُ أبي الدنيا أن عامرًا] كان يتحيَّنُ العُبَّاد وهم سجود: أَبا حازم، وصفوان بن سُليم، وغيرهما، فيأتيهم بالصُّرر فيها الدنانير والدراهم، فيضعها عند نعالهم بحيث يُحسُّون بها ولا يشعرون بمكانه، فيقال له: هلَّا أرسلتَ بها إليهم؟ فيقول: أكرهُ أن يتمعَّرَ وجهُ أحدِهم إذا نظر إلى رسولي أو لقيَني (¬3). و[قال الزُّبير بن بكار: ] كان [عامر] إذا شهد جنازة وقف على القبر وقال: ألا أراك ضيقًا (¬4)؟ واللهِ لأوسعنَّك، ألا أراك مظلمًا؟ واللهِ لأُنوِّرَنَّك. ثم يرجع، فأوَّلُ شيءٍ تقعُ عليه عيناه من ماله تقرَّبَ به إلى ربِّه، وإنْ كان رقيقُه ليتعرَّضُون له عند انصرافه من الجنائز ليُعتقهم (¬5). و[قال الزُّبير بن بكَّار: فحدَّثني عمِّي مصعبُ بنُ عبد الله قال: ] سمع [عامر] صوتَ المؤذِّن وهو يجودُ بنفسه، ومنزلُه قريب من المسجد، فقال: خُذُوا بيدي. فقالوا: إنك عليل. فقال: أسمعُ داعيَ الله فلا أجيبُه؟ ! فأخذوا بيده، فدخلَ إلى صلاة المغرب، فركع مع الإِمام [ركعة] ومات (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ص). والخبر في "حلية الأولياء" 3/ 166. (¬2) قوله: من العتمة (بين قوسين عاديين) من المصدر السابق. (¬3) صفة الصفوة 2/ 131. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): لا أراك إلَّا ضيقًا. والمثبت من (ص) وهو موافق لما في المصدر السابق. (¬5) صفة الصفوة 2/ 131. (¬6) المصدر السابق 2/ 131 - 132.

كلثوم بن عياض

[وقال ابن سعد: مات عامر قبل موت هشام بن عبد الملك، أو بعده بقليل. ومات هشام في سنة أربع وعشرين ومئة] (¬1). أسند عامر عن أَبيه وغيره من الصَّحَابَة، وحدَّث عن خلق من التابعين، وكان ثقةً مأمونًا، وله أحاديث يسيرة. فولدَ عامر عتيقًا (¬2)، وعبدَ الله لا بقيَّة له، والحارثَ درج، وعائشةَ، وأمَّ عثمان "الكبرى" وأمَّ عثمان الصغرى، وأمُّهم قريبة بنت المنذر بن الزُّبير بن العوام - رضي الله عنه -. كلثوم بن عياض القُشيريّ، أمير المغرب، من الطَّبقة الرابعة من التابعين من أهل الشَّام (¬3). وكان جليلًا نبيلًا فصيحًا، له خطب ومواعظ. ووليَ دمشقَ لهشام، وولَّاه غَزْوَ المغرب، فخرجَ في سنة ثلاث وعشرين ومئة واليًا على إفريقية، وخرج في سنة أربع وعشرين للقاء ميسرة الصُّفْريّ (¬4)، فالتَقَوْا على وادٍ من أودية طنجة، فقاتل كلثوم قتالًا شديدًا حتَّى قُتل ومن صبر معه، واستولى ميسرة الصُّفْرِيّ على إفريقية، فولَّى عليها حنظلة بن صفوان، ثم مات ميسرة في هذه السنة (¬5). الزُّهْريُّ واسمُه محمَّد بن مسلم بن عُبيد الله بن عَبْد الله الأصغر بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة بن كلاب بن مُرَّة. وكنيتُه أبو بكر، وأمُّه عائشةُ بنت عبد الله الأكبر بن شهاب. ذكره ابن سعد في أول الطَّبقة الرابعة من التابعين من أهل المدينة (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 407. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) تحرفت في (ب) و (خ) و (د) إلى: "عفيفًا". والتصويب من "طبقات" ابن سعد 7/ 407 (والكلام منه)، و"نسب قريش" ص 243. ومن قوله: فولد عامر عتيقًا ... إلى آخر الفقرة، ليس في (ص). (¬3) تاريخ دمشق 59/ 455 عن ابن سُميع، ونقل ابن عساكر قبله أن أَبا زُرعة ذكره في الثالثة. (¬4) نسبة إلى الصُّفْريَّة، فرقة من الخوارج. (¬5) تاريخ دمشق 59/ 456 (طبعة مجمع دمشق). وينظر "تاريخ خليفة" ص 352 - 355 (سنة 122 - 124). (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 429.

[وقد نسبَه مالك بن أنس كما ذكره ابنُ سعد؛ قال: وجدُّه عبد الله شهدَ مع المشركين بدرًا وأُحُدًا. وكان أحدَ النَّفَر الذين تعاقدُوا يومَ أُحُد على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن رأوه، أو يُقتلون دونه، وهم عبد الله بن شهاب، وابنُ خَلَف، وابنُ قَمِئة، وعُتبة بن أجب وقَّاص. وقد ذكرناه] (¬1). وكان أبوه مسلم مع عبد الله بن الزُّبير (¬2). واختلفوا في مولد الزُّهْريّ؛ فحكى ابنُ سعد عن الواقديّ أنَّه وُلد في سنة ثمان وخمسين؛ السنة التي ماتت فيها عائشة - رضي الله عنها - (¬3). وقال يعقوب بن شيبة: في سنة ستٍّ وخمسين (¬4). وروى ابنُ سعد أنَّه كان يَصْبُغُ بالسَّوَاد، ووَوَى عن مالك بن أنس قال: رأيتُه يَخْضِبُ بالحِنَّاء (¬5). وقال سفيان بن عُيينة: رأيتُ الزُّهريَّ أحمرَ الرأس واللحية، وفي حُمرتها انكفاء (¬6)، كأنه يجعلُ فيه كَتَمًا. قال سفيان: وأنا يومئذ ابنُ ستَّ عشرةَ سنة. وقال ابنُ سعد: قال مالك بن أنس: ما أدوكتُ فقيهًا محدِّثًا غيرَ الزُّهْريّ؛ جمعَ بين العلم والرواية وكثرةِ الحديث (¬7). وكان يقال: إنه جمع القرآن في ثمانين ليلة (¬8). ¬

_ (¬1) من قوله: وقد نسبه مالك ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص)، وينظر "أنساب الأشراف" 1/ 378. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 430، وتاريخ دمشق 64/ 400 ضمن خبر مطوّل. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 439، وتاريخ دمشق 64/ 385. (¬4) أخرجه ابن عساكر 64/ 382 عن يعقوب، عن ابن بُكير قولَه. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 437. (¬6) في (ص) (والكلام منها): انطفاء. والمثبت من "المعرفة والتاريخ" 1/ 620 , و"تاريخ دمشق" 64/ 389. (¬7) بنحوه في "طبقات" ابن سعد 7/ 434، و"تاريخ دمشق" 64/ 428. (¬8) المعرفة والتاريخ 1/ 633، وتاريخ دمشق 64/ 390.

وقال الليث بن سعد: قال ابنُ شهاب: ما استودعتُ قلبي شيئًا فنسيتُه (¬1). [وحكى أبو نُعيم عنه أنَّه قال: إنَّ هذا العلم إنْ أخَذْتَه بالمكابرة (¬2)؛ غلبَكَ؛ ولم تظفر منه بشيء، ولكن خُدهُ مع الليالي والأيام تَظْفَرْ به]. وقال الزُّهْري: جالستُ سعيد بن المسيّب عشرين سنة (¬3)؛ ركبتي مع ركبتِه، فكانت كيوم واحد. وقال ابن أبي ذئب: كان الزُّهْريُّ قد ركبه دين وضاقَتْ حالُه، فوفد [إلى] الشَّام يريد (¬4) عبدَ الملك، فجالس قَبِيصة بنَ ذُؤيب. قال الزُّهْرِيّ: فبينا نحن ذات ليلة نَسْمُرُ عنده؛ إذْ جاءه رسولُ عبد الملك، فقال: أجِبْ أميرَ المُؤْمنين. فقام معه، ثم عاد إلينا، فقال: أيُّكم يحفظُ قضاء عمر في أمَّهات الأولاد؟ فقلت: أنا. فقال: قُمْ. فأدخَلَني على عبد الملك، وإذا به جالسٌ على نُمْرُقَة، وبيدِهِ مِخْصَرَةٌ (¬5)، وعليه غِلالة (¬6)، وهو ملتحفٌ بِسَبَنِيَّة (¬7)، وبين يديه شمعة، فسلَّمتُ عليه، فقال: مَنْ أَنْتَ؟ فانتسبتُ له، فقال: إنْ كان أبوك لَنعَّارًا في الفتن (¬8). فقلت: عفا اللهُ عمَّا سلف. فقال: اجلس. فجلست. فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. فقال: اقرأ من سورة كذا وكذا. فقرأتُ. فقال: أتفرض؟ قلت: نعم. فقال: ما تقول في امرأة ¬

_ (¬1) المعرفة والتاريخ 1/ 635، وتاريخ دمشق 64/ 402. ومن قوله: وكان أبوه مسلم مع عبد الله بن الزُّبير ... إلى هذا الموضع بلفظه من (ص)، ووقع في النسخ الأخرى مختصرًا ودون نسبة الأقوال إلى قائليها. (¬2) كذا في (ص) (والكلام منها)، وهو ما بين حاصرتين، و"صفة الصفوة" 2/ 138 وفي "حلية الأولياء" 3/ 364: بالمكاثرة. (¬3) كذا في النسخ الأربعة. وفي "طبقات" ابن سعد 7/ 433، و"تاريخ دمشق" 64/ 392: عشر سنين. وفي رواية في "تاريخ دمشق": ثمان سنين. (¬4) في "تاريخ دمشق" 64/ 373: زمان، بدل: يريد. ولفظة "إلى" السالفة بين حاصرتين منه. وهذا الخبر لم يرد في (ص) (¬5) النُّمْرُقة: الوسادة الصغيرة، والمِخْصَرَة: ما يأخذه الملك يُشير به إذا خاطبَ، والخطيب إذا خطب. (¬6) الغِلَالة: الشِّعار (الذي يلي الجسد من الثياب). (¬7) السَّبنِيَّة: نوع من الثياب منسوب إلى سَبَن؛ بلدة ببغداد. (¬8) أي: ساعيًا فيها.

ماتَتْ وتركَتْ زوجًا وأبوَين؟ فقلت: للزَّوج النِّصف، وللأمِّ السُّدُس، وللأب الباقي. فقال: أصبتَ الفرض؛ وأخطأتَ اللفظ، إنَّما لزوجها النِّصف، ولأمِّها ثُلُثُ ما بقي، وهو السُّدُس، ولأبيها الباقي. [قال: فإنَّ الفريضة على حالها، وهو رجلٌ ترك زوجتَه وأبوَيه. فقلت: لزوجته الرُّبُع، ولأمِّه الرُّبُع، ولأبيه ما بقي. قال: فقال لي: أصبتَ الفرض، وأخطأتَ اللفظ، ليس هكذا يُفرض، لزوجته الرُّبُع، ولأمِّه ثُلُث ما بقي، وهو الرُّبُع من رأس المال، وللأب ما بقي]. ثم قال: حَدِّثْني، فقلتُ: حدَّثَني سعيدُ بنُ المسيّب أنَّ فتًى من الْأَنصار كان يلزمُ عُمر بنَ الخطَّاب، وكان عُمر مُعْجَبًا به، فَفَقَدَهُ فقال: ما لي لا أرى فلانًا؟ وأرسل إليه، فجاء وهو بَزُّ الهيئة، فقال: ما الذي أرى بك؟ ! فقال: يَا أمير المُؤْمنين، إنَّ إخوتي خيَّروني بين أمِّي وبين ميراثي من أبي، فاخترتُ أمِّي, ولم أكن لأُخرِجَها على رؤوس الملأ، فأَخذتُها بجميع ميراثي من أبي. فقام عمر مُغْضَبًا، فصَعِدَ المنبر، فحمدَ اللهَ وأَثْنَى عليه، ثم قال: أمَّا بعد، أيُّها النَّاس، أيُّما رجلٍ وَطِيءَ أَمَةً، فولَدَتْ منه، فله أنْ يستمتع بها ما عاش، فإذا ماتَ فهي حُرَّة. فقال عبد الملك: صدقتَ، هكذا حدَّثني سعيدُ بنُ المسيِّب، فقلتُ: يَا أمير المُؤْمنين، اقضِ دَيني. فقال: قد قضاه الله. قلتُ: واقرض لي. قال: لا والله لا أجمعهما لك أبدًا. قال: فقدمتُ المدينة، فأتيت سعيدَ بن المسيِّب، فسلَّمتُ عليه، فدفَعَ في صدري فقال: ويحك يَا زُهْريّ! حملتَ حديثي إلى بني مروان! فجعلتُ أعتذرُ إليه فلم يقبل عذري (¬1). وقال ابن سعد: استعمل هشامُ بنُ عبد الملك ابنَه أَبا شاكر مسلمةَ بنَ هشام على الحجّ سنة [ستَّ] (¬2) عشرة ومئة، وأمرَ الزُّهريَّ (¬3) أن يسيرَ معه إلى مكة، ووضع عن ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 64/ 373 - 374 (طبعة مجمع دمشق) وما سلف بين حاصرتين منه. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬2) لفظة "ستّ" بين حاصرتين من"طبقات" ابن سعد 7/ 433، و"تاريخ دمشق" 67/ 191 (طبعة لمجمع دمشق - ترجمة مسلمة). (¬3) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): وأمره، بدل: وأمر الزُّهري. والمثبت من المصدرين السابقين للإيضاح.

الزُّهْريّ من ديوان مالِ الله سبعة عشر أَلْف دينار، فلمَّا قدم أبو شاكر المدينة؛ أشار عليه الزُّهْريُّ أن يصنع إلى أهل المدينة خيرًا، وحضَّه على ذلك، فأقام بالمدينة نصف شهر، وقسم الخُمس على أهل الديوان، وفعل أمورًا حسنة، وأمره الزُّهري أن يُهِلَّ من باب مسجد [ذي] الحُلَيْفَة إذا انبعثت به راحلتُه، وأمره محمَّد بنُ هشام [بن إسماعيل] المخزوميّ أن يُهِلَّ من البيداء، فأهلَّ من البيداء (¬1). واستعمل هشام ابنَه يزيد على الحجّ سنة ثلاث وعشرين ومئة (¬2)، وأمر الزّهريَّ، فحجَّ معه في تلك السنة. وقضى هشام [بن عبد الملك] عن الزُّهْرِيّ ثمانين أَلْف درهم (¬3). وكانت الدنيا عند الزُّهْريّ لا قدرَ لها (¬4). وكان سخيًّا، ولا يدّخر شيئًا، وما جمع أحدٌ من العلم ما جمع [ابنُ شهاب]. وكان يقول: لولا هذه الأحاديث التي سالَتْ علينا من المشرق ما نعرفها؛ ما كتبتُ حديثًا، ولا أذنتُ في كتابته (¬5). [وقال: ما هذه الأحاديث التي لا أَزِمَّة لها ولا خُطُم (¬6). وقال المدائنيّ: ] وأقام بالرصافة مع هشام [بن عبد الملك عشرين] (¬7) سنة يعلّم أولاده الفقه والأدب. [وولَّاه قضاء المدينة، وكان قبل ذلك مع عبد الملك بن مروان، قدم عليه سنة اثنتين وثمانين، وكانوا يفضّلون الزُّهْريّ على الحسن البصري] (¬8). ¬

_ (¬1) المصدران السابقان، وما بين حاصرتين منهما، ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): ثلاث عشرة ومئة، وهو خطأ. والتصويب من "طبقات" ابن سعد 7/ 433. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 197. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 437 - 438، وتاريخ دمشق 64/ 451. (¬4) من قوله: وقال ابن أبي ذئب: كان الزُّهْرِيّ قد ركبه دين (قبل صفحتين). إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 433، وفيه: في كتابه. وفي (خ): كتابتها. والخبر بنحوه في "المعرفة والتاريخ" 1/ 637. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 437، وحلية الأولياء 3/ 365، وتاريخ دمشق 64/ 411. والخُطُم: جمع خِطام، وهو ما يوضع على خَطْم الجمل ليُقادَ به. وهو الزِّمام أَيضًا. (¬7) ما بين حاصرتين من (د) و (ص). والخبر بنحوه في "المعرفة والتاريخ" 1/ 636. (¬8) الكلام بين حاصرتين من (ص)، وقوله: وكانوا يفضّلون ... إلخ بنحوه في "طبقات" ابن سعد 7/ 436.

وحكى أبو نُعيم عن عمرو بن دينار قال: ما رأيتُ أحدًا أهون عليه الدينار والدّرهم مثلَ الزُّهْريّ، ما كانت الدنيا عنده إلَّا مثل البعر (¬1). وقال الزُّهْريّ: ما سمعتُ مثلَ أربع كلمات تكلَّم بهنَّ رجلٌ عند هشام [بن عبد الملك]. قال له: لا تَعِدَنَّ عِدَةً لا تثق من نفسك بنجازها (¬2)، ولا يغرَّنَّك (¬3) المرتقى وإن كان سهلًا إذا كان المنحدرُ وَعْرًا، واعلم أنَّ للأعمال جزاءً، فاتَّق العواقب، وأن للأمور بغتاتٍ، فكُنْ على حَذَر. ودخل الزُّهْريُّ على الوليد بن عبد الملك، فقال له الوليد: يَا زُهْرِيّ، ما حديثٌ يُحدِّثُنا به أهلُ الشَّام؟ قال: وما هو يَا أمير المُؤْمنين؟ قال: يحدِّثُونا أنَّ الله إذا استرعى عبدًا [رعيَّته] كتبَ له الحسنات، ولم يكتب عليه السيّئات. فقال: هذا باطل يَا أميرَ المُؤْمنين، أيُّما أكرمُ على الله؛ خليفةٌ نبيٌّ، أم خليفةٌ غيرُ نبيّ؟ فقال: بل خليفةٌ نبيّ. قال: فإنَّ الله تعالى يقول: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. فهذا وعيدٌ (¬4) لنبيٍّ خليفة، فكيف بخليفةٍ غيرِ نبيّ؟ ! فقال الوليد: إن النَّاس ليغرُّونا في ديننا (¬5). ذكر وفاته: قال أبو الزِّناد: كان الزُّهْريُّ يقدحُ أبدًا عند هشام في الوليد بن يزيد ويقول: اِخْلَعْه. ويَعِيبُهُ، ويذكر أمورًا عظيمة لا يُنطقُ بها، حتَّى يذكرَ الصِّبيانَ أنَّهم يُخضبون بالحِنَّاء، ويقول لهشام: ما يحلُّ لك إلَّا خلعُه. وكان هشام لا يستطيع ذلك للعقد الذي عقده [له] ولا يسوءُه ما يصنعُ الزُّهري رجاء أن يُؤَلِّبَ ذلك النَّاس عليه. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 3/ 371، وتاريخ دمشق 64/ 413. (¬2) في "العقد الفريد" 1/ 59، و"التذكرة الحمدونية" 1/ 262: بإنجازها. (¬3) في (ب) و (د): ولا يغرَّك. والمثبت من (ص) وهو موافق لما في المصدرين السابقين. (¬4) في (ب) و (د): وعيده. (¬5) العقد الفريد 1/ 60، وبنحوه في "الأغاني" 7/ 11. ولم يرد هذا الخبر في (ص).

[قال أبو الزِّناد: ] فكنتُ يومًا عند هشام في الفسطاط وأنا أسمعُ كلامَ الزُّهْريّ في الوليد وأتغافل. ودخل الحاجبُ فقال: هذا الوليدُ على الباب. فأذِنَ له، فلما دخلَ أوسعَ له هشام على فراشه، وأنا أعرف في وجه الوليد الغضبَ والشَّرّ. فلما استُخلفَ الوليدُ؛ دعاني فقال لي: أرأيتَ يومَ دخلتُ على الأحول وأنتَ عنده، والزُّهْريُّ يقدح فيَّ؟ فقلت: نعم. فمن أين علمتَ؟ قال: الخادم الذي كان قائمًا على رأس الأحول حدَّثَني بذلك قبل أن أدخل إليكم، وأخبرني أنك لم تنطق بحرف. فقلت: نعم. قال: قد كنتُ عاهدتُ اللهَ لئن أمكنني من الزُّهْريّ لأَقتلنَّه، وقد فاتَني (¬1). وكان الزُّهْريُّ قد اتَّعَدَ هو وابنُ هشام إن مات هشام قبلهما أن يلحقا بجبل الدُّخان. فمات الزُّهْري قبل هشام بأربعة أشهر -وقيل: بأشهر- سنة أربع وعشرين ومئة (¬2). قال ابنُ سعد: وقال محمَّد بن عمر: قَدِمَ الزُّهْريُّ في سنة أربع وعشرين ومئة إلى أمواله بثلبة (¬3) بشَغْب وبَدَا، فأقام فيها، فمرض هناك، فمات، وأوصى أن يُدفن على قارعة الطريق، ومات لسبع عشرة من شهر رمضان وهو ابنُ خمس وسبعين سنة. وقال ابنُ سعد: وأخبرني الحسين بن المتوكِّل العسقلاني قال: رأيتُ قبر الزُّهْرِيّ بأَدَامَى، وهي خلف شَغْب وبَدَا، وهي من أول محمل فلسطين، وآخر عمل الحجاز، وبها ضَيعَةُ الزُّهْرِيّ التي كان فيها (¬4). قال: رأيت قبره مجصّصًا أبيض. قال ابنُ سعد: قالوا: وكان الزهريُّ ثِقَة كثير الحديث والعلم والرواية, فقيهًا جامعًا. هذا صورة ما ذكره ابنُ سعد. وقال هشام: مات سنة خمس وعشرين ومئة. والأول أشهر (¬5). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 438 وما سلف بين حاصرتين منه. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 438 - 439، وتاريخ دمشق 64/ 459. ومن أول هذه الفقرة حتى قوله: جبل الدخان، ليس في (ص). (¬3) كذا في (ص) و"طبقات" ابن سعد 7/ 439. ولم أعرفها. (¬4) ينظر "معجم البلدان"1/ 125 و 3/ 351 - 352. (¬5) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 439. ومن قوله: قال ابن سعد: قال محمَّد بن عمر: قدم الزُّهْرِيّ ... إلى هذا الموضع، بلفظه من (ص)، وجاء في النسخ الأخرى مختصرًا، ودون نسبة الأقوال لأصحابها.

أسند عن جماعة من الصَّحَابَة: ابن عُمر، وأنس، وسهل بن سعد، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن ثعلبة، وأبي أُمامة بن سهل بن حُنيف، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وعبد الرَّحْمَن بن أزهر، ومحمود بن الرَّبيع، ومحمود بن لبيد، ومسعود بن الحكم، وكثير بن العباس، وأبي مُويْهِبَة، وأبِي الطُّفَيل في آخرين من الصَّحَابَة. وروى عن فقهاء المدينة السبعة، وعليِّ بنِ الحُسين زين العابدين، وغيرهم، وروى عنه الجَمُّ الغفير. وقدم الشَّام فووى الحديث، فحدَّثَ عنه الأوزاعيّ، وسليمانُ بنُ موسى، وسعيد بن عبد العزيز، وغيرهم (¬1). وقال الزُّهْريّ: قدمتُ على عبد الملك، فقال: من أين قدمتَ؟ قلت: من مكة. قال: مَنْ خلَّفتَ يسودُ أهلها؟ قلتُ: عطاء [بن أبي رباح] (¬2) قال: فمن العربِ هو أم من الموالي؟ قلتُ: من الموالي. قال: وبمَ سادَهم؟ قلت: بالدِّيانة والرِّواية. قال: إنَّ أهل الدِّيانة والرواية ينبغي لهم أن يسودوا. ثم قال: فمن يسودُ أهلَ اليمن؟ قلت: طاوس. قال: فمن العرب هو أم من الموالي؟ قلتُ: من الموالي. قال: وبمَ سادهم؟ قلتُ: بالدِّيانة والرِّواية. قال: فمَنْ يسودُ أهل مصر؟ قلتُ: يزيد بن أبي حبيب. قال: أمن العرب هو أم من الموالي؟ قلتُ: من الموالي. قال: بم سادهم؟ قلتُ: بالدّيانة والرِّواية. قال: فمن يسودُ أهلَ الشَّام؟ قلت: مكحول. قال: أمن العرب هو أم من الموالي؟ قلتُ: من الموالي؛ عبدٌ نُوبيّ أعتقَتْهُ امرأةٌ من هُذَيل. قال: فمن يسودُ أهلَ الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مِهْران. قال: من العرب هو أم من الموالي؟ قلتُ: من الموالي. قال: فمن يَسُود أهلَ خُراسان؟ قلت: الضَّحَّاك بن مُزاحم. فقال: أمن العرب هو أم من الموالي؟ قلتُ: من الموالي. قال: فمن يسودُ أهلَ البصرة؟ قلتُ: الحسن بن أبي الحسن. قال: أمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فمن يَسُودُ أهلَ الكوفة؟ قلت: إبراهيم النَّخَعيّ. قال: أمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 64/ 370 - 371، و"تهذيب الكمال" 26/ 420 - 430. ومن قوله: ابن عمر، وأنس، وسهل ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) ما بين حاصرتين من المصادر للإيضاح.

السنة الخامسة والعشرون بعد المئة

فقال: فَرَّجْتَ عنِّي. واللهِ يَا زُهْريّ ليسودَنَّ الموالي على العرب حتَّى يُخطب لها على المنابر والعربُ تحتَها. فقلتُ: إنَّما هذا أمرُ الله ودينُه، مَنْ حفظَه سادَ، ومن ضَيَّعه سقط. قال: صدقتَ (¬1). السنة الخامسة والعشرون بعد المئة فيها توفّي هشامُ بنُ عبد الملك بن مروان، ووليَ الوليدُ بنُ يزيد بنِ عبد الملك بن مروان. الباب الحادي عشر في ولايته (¬2) وكنيتُه أبو العباس، وأمُّه وأمُّ إخوته يحيى وعاتكةَ: أمُّ الحجَّاج بنت محمَّد بن يوسف الثَّقَفيّ أخي الحجَّاج. [قال الواقديّ: ] ويُدْعَى خليع بني مروان (¬3). واختلفوا في مولده على أقوال: أحدها: وُلد بدمشق سنة تسعين. والثاني: بطبريَّة؛ سنة اثنتين وتسعين. والثالث: سنة سبع وثمانين، وأربع وثمانين، وخمس وثمانين. [ذكر بيعته] واختلفوا فيها، فقال هشام بن محمَّد الكلبيّ: بُويع يومَ السبت في شهر ربيع الآخِر سنة خمس وعشرين ومئة. وقال الواقديّ: بُويع يوم الأربعاء لستٍّ خلون من شهر ربيع الآخر، سنة خمس وعشرين ومئة. ¬

_ (¬1) معرفة علوم الحديث ص 198 - 199، وتاريخ دمشق 47/ 412 - 413 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عطاء)، والمنتظم 7/ 21. قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 85: الحكاية منكرة، ولعلها تمَّت للزهري مع أحد أولاد عبد الملك ... فيزيد (يعني ابنَ أبي حبيب) كان في ذلك الوقت شابًّا لا يُعرف بعدُ. والضَّحَّاك لا يدري الزُّهري من هو في العالم، وكذا مكحول يصغر عن ذاك. اهـ. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬2) لم يرد هذا العنوان في (ص). (¬3) ينظر "مروج الذهب" 6/ 10، والكلام بين حاصرتين من (ص). ولم أقف على من نسبَ القول للواقدي.

وقال الواقدي والهيثم: وليَ الوليد الخلافة وقد جاوز الأربعين، ووخطَه الشّيب (¬1). ولم يَلِ الخلافة بعد عمِّه سوى اثنين: الوليد، والمعتضد [من بني العبَّاس بعد عمِّه المعتمد]. ولمَّا وليَ الوليد كتب إلى الآفاق بالبيعة له، وجاءته الوفود. وكتب إليه مروان بن محمَّد -وكان واليًا على أرمينية وأذربيجان - كتابًا منه: بارك الله لأمير المُؤْمنين فيما صار إليه من ولاية عباده، ووراثةِ بلادِه، إنَّ سكرةَ الولاية حملَتْ هشامًا على ما حاول من تصغيرِ حقِّ أميرِ المُؤْمنين، ورامَ من الأمر المستصعب [عليه] الذي أجابه المدخُولُون في آرائهم وأديانهم، فوجد (¬2) ما طمع فيه مستصعبًا، وزاحَتْه (¬3) الأقدار بأشدِّ مناكبِها، وكان أميرُ المُؤْمنين بمكان حاطه الله فيه حتَّى آزره بأكرم مناطق الخلافة، فقام بما أراه (¬4) الله له أهلًا، ونهض مستقلًّا بما حُمِّل منها، مثبتة ولايتُه في سابق القدر إلى الأجل المسمَّى. فالحمد لله الذي اختاره لخلافته ووثائق (¬5) عُرى دينه، وساق إليه ما كرهه الظالمون، فرفعه الله ووضعَهم، فمن أقامَ على تلك الخسيسة من الأمور أوبق نفسَه، وأسخط ربَّه، ومن عدلت به التوبة نازعًا عن الباطل إلى الحقّ وجد الله توَّابًا رحيمًا. وإني نهضتُ إلى منبري لمَّا انتهى إليَّ ما خصَّ اللهُ به أميرَ المُؤْمنين، وأعلمتُ مَنْ قِبَلي، فاستبشَروا وبايعوني، فأكَّدْتُ عليهم العهودَ والمواثيق، فكلُّهم حَسُنَتْ إجابتُه، وحصلَتْ طاعتُه ومودَّتُه، فآتِهِمْ يَا أمير المُؤْمنين من مال الله الذي آتاك، فإنك أجودُ الخلائف جودًا، وأبسطُهم يدًا. ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ دمشق" 17/ 921 - 922 و 936 - 937 (مصورة دار البشير). (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): فوجدوا. والمثبت من"تاريخ" الطبري 7/ 216. (¬3) في "أنساب الأشراف" 7/ 495: فزحمتْه. (¬4) في النسخ المذكورة و"التذكرة الحمدونية" 4/ 162: رآه. والمثبت من"تاريح" الطبري 7/ 216. (¬5) الكلمة غير مجوَّدة في النسخ المذكورة. والمثبت من المصدر السابق. وفي "أنساب الأشراف" 7/ 495: واختصه بوثائق، وفي "التذكرة الحمدونية" 4/ 162: وقلَّده وثائق ...

ولولا ما أُحاولُ من سدِّ الثَّغْر الذي أنا به لخفتُ أن يحملَني الشوقُ إلى أمير المُؤْمنين أن أستخلفَ رجلًا عن غير أمره، وأَقدَمَ لمعاينته، فإنَّها لا تَعْدِلُها عندي نعمة، فإنْ رأى أميرُ المُؤْمنين أن يأذنَ لي في المسير إليه لأُشافِهَه بأمور كرهتُ ذكرها في كتاب فعل (¬1). [وقال الهيثم: ] ولما بُويع الوليد جلس مجلسًا عامًّا، فأجرى النَّاسَ على ما كان لهم، ولم يُسأل عن شيء فقال لا. وأحسنَ إلى الخاصَّة والعامَّة، وأجرى الجِرايات على زَمْنَى أهل الشَّام وعُميانهم، وكساهم، وأمرَ لكلِّ إنسان منهم بخادم كما فعل الوليد بن عبد الملك، وزاد النَّاسَ في العطاء، وزاد مَنْ وفد إليه أَيضًا، وأقامَ دُور الضِّيافة للقادمين عليه، وأقام في المنازل للحجاج الضِّيافاتِ لهم ولدوابِّهم، فقيل له: [إنك تُبادر إلى نعم كثيرًا] لو تأنَّيتَ في المواعيد، فإنَّ للعِدَة عند الطالب حلاوةً. فقال: لا أُعوِّدُ لساني ما لم يَعْتَدْهُ. يعني ما قلتُ: لا، قطٌّ (¬2). وفيها عقدَ الوليدُ البيعةَ لابنَيه الحَكَم وعثمان، وذلك في رجب لمَّا مضى من خلافته شهران، وكتبَ بذلك إلى الآفاق [وإلى يوسف بن عمر]. فكتب يوسف بن عمر إلى نَصْر بن سيَّار نسخةَ الكتاب، وكان فيه أن يبايعَ مَنْ قِبَلَه من الأمراء والأشراف، ويؤكِّد عليهم العهودَ والمواثيق، فيُبايع أولًا للحَكَم، ثم من بعده لعثمان، فإن حَدَث بواحد منهما حادث (¬3)، فأمير المُؤْمنين [أملكُ] في ولده ورعيَّته، يقدِّمُ من شاء، ويؤخِّر من شاء. وكتب في يوم الخميس النصف من شعبان سنة خمس وعشرين ومئة، وبعث يوسف بالكتاب إلى نَصْر مع عقَّال بن شَبَّة التَّمِيمِيّ، وعبد الملك بن نعيم القيني، فقرأ نَصْر كتابَه على أهل خُراسان، فأجابوا بالسمع والطاعة. ¬

_ (¬1) تنظر المصادر السابقة. ولم يرد هذا الخبر في (ص). وذكر ابن حمدون في "التذكرة" أن هذا الكتاب من كلام عبد الحميد (بن يحيى الأنباري، المعروف بالكاتب). (¬2) تاريخ الطبري 7/ 217 - 218. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 493 - 494، و"المنتظم" 7/ 242. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) في (ص): حَدَث.

وفيها وفدَ يوسفُ بنُ عمر على الوليد [بن يزيد] فاشترى نَصْرَ بنَ سيَّار وعماله، فأجابَه إلى ذلك، وعاد يوسفُ إلى العراق، ولم يُظهرْ شيئًا من ذلك، وكتب إلى نَصْر بن سيَّار بأن يَقْدَمَ عليه، ويحملَ معه ما قَدَرَ من الهدايا والأموال، ويقدم بأهله. فلما ورد كتابُه على نصر قسَّم الهدايا على أهل خُراسان والعمال، فلم يدع بخُراسان جاريةً ولا عبدًا ولا بِرْذَوْنًا فارهًا إلَّا أَعدَّه، واشترى أَلْف مملوك، وكساهم، وأعطاهم السلاح، وحملَهم على الخيول، وكان قد أعدَّ خمس مئة وصيفة، وأباريقَ الذهب والفضة والتماثيل. فبينا هو (¬1) كذلك جاءه كتابُ الوليد [بن يزيد] يستحثُّه ويقول: ابعثْ إلينا ببرابط وطنابير وكلِّ صَنَّاجة بخراسان، وكلِّ بازي وبِرْذَوْن، ويَقْدَم معه بوجوه خُراسان. فأخبر قومٌ من المنجِّمين نصرًا أنَّه سيكونُ فتنة، وألحَّ عليه يوسفُ بنُ عمر بالكُتُب، وبعث رسولًا وقال له: إنْ قَدِم؛ وإلا فعرِّف الناسَ أنَّه قد خُلع. فأكرمَ نصرٌ الرسولَ وأجازَه وأرضاه، وأقامَ يتربَّص حتَّى قُتل الوليد بنُ يزيد، وهربَ يوسفُ من العراق، فردَّ الهدايا إلى قصره (¬2). وفيها بعثَ الوليدُ [بن يزيد] خاله يوسفَ بنَ محمَّد بن يوسف الثَّقَفيّ واليًا على المدينة ومكة والطائف، وعزل محمدًا وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل المخزومي، وأمرَه بتعذيبهما وإقامتهما للنَّاس، ويبعثَ بهما في عباءتين مقيَّدَينِ إلى يوسف بن عمر بالعراق، فيعذبهما ويقتلهما -وكان الوليد قد رُفعَ إليه أنهما اختانا أموالًا عظيمة- ففعل (¬3). قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وكان الوليد مُضْطَغِنًا على هشام بن عبد الملك (¬4)، فلما وليَ الخلافةَ أظهرَ ما كان في قلبه من هشام بن عبد الملك، وقصدَ ¬

_ (¬1) في (د): هم. (¬2) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 224 - 225 بأطول منه، وينظر "المنتظم" 7/ 242. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 226 - 227، والمنتظم 7/ 243. (¬4) في "الأغاني" 1/ 415: مضطغنًا على محمَّد بن هشام (يعني ابنَ إسماعيل المخزومي).

أقاربَه، فاستدعى محمدًا وإبراهيمَ (¬1) من الحجاز، فقدما عليه في شعبان هذه السنة، فدعا الوليد بالسِّياط، فقال له محمَّد: أنشدُك اللهَ والرَّحِم! فقال الوليد: وأيُّ رحم بيني وبينَك؟ وهل أنتَ إلَّا رجلٌ من أشجع؟ قال: فإنِّي أسألك بصهر عبد الملك. فقال: إنَّك لم تحفظه. قال: فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أن يُضربَ قرَشِيٌّ إلَّا في حدٍّ. فقال: ففي حدٍّ أضربُك، أنتَ أوَّلُ من سنَّ ذلك على العَرْجيّ (¬2)، وهو ابنُ عمِّي وابنُ أمير المُؤْمنين عثمان، فما رَعَيتَ حقَّه ولا حقَّ جدِّه، ولا نسبتَه بهشام. قال: فإنَّه قد هجاني وفضحني وذكرَ أمِّي وزوجتي، وفعل بعرضي ما قد علمت. فقال: أنا وليُّ ثأرِه، فإنَّه ماتَ في حبسك. اضربْ يَا غلام. فضَرَبَهما، وأوثَقَهما في الحديد، وبعثَ بهما إلى يوسف بن عمر، فعذَّبَهما حتَّى قتلَهما (¬3). ولمَّا وليَ يوسفُ بنُ محمَّد الثقفيّ المدينةَ عزلَ سَعْد (¬4) بنَ إبراهيم عن القضاء، وولَّى يحيى بنَ سعيد الأَنْصَارِيّ. وفيها قدم جماعة من الشيعة مكةَ، فيهم سليمانُ بنُ كثير، وقحطبة بنُ شبيب، ومالك بن الهيثم (¬5)، واجتمعوا بمحمد بن عليّ، وأخبروه بقصة أبي مسلم، وما رأَوْا فيه من العلامات، فقال لهم: حُرٌّ هو أم عبد؟ فقالوا: أمَّا هو فيزعُمُ أنَّه حُرٌّ، وأما عيسى (¬6) فيزعُمُ أنَّه عبد. قال: فاشتَرَوْه وأعْتَقُوه، وأعطَوْا محمدًا مئتي أَلْف درهم وثيابًا، فقال: ما أظنُّكم تلقَوْني بعد عامي هذا، فإنْ حدثَ بي حَدَثٌ (¬7) فصاحبُكم إبراهيم بن محمَّد، فإنِّي أختارُه لكم، وأُوصيكم به خيرًا. فصَدَرُوا من عنده، وتوفّي عقب ذلك في هذه السنة (¬8). ¬

_ (¬1) يعني محمدًا وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل المخزومي، وهما خالا هشام بن عبد الملك. (¬2) هو عبد الله بن عُمر بن عَمرو بن عثمان بن عفَّان. وسلف ذكره أوائل سنة (114)، وينظر "الأغاني" 1/ 383. (¬3) الخبر بنحوه في "الأغاني" 1/ 415 - 416. (¬4) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): سعيد، والتصويب من "تاريخ" الطبري 7/ 227، و"الكامل"5/ 274. (¬5) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): أهتم. والتصويب من "تاريخ" الطبري 7/ 227، و"الكامل" 5/ 274. (¬6) يعني عيسى بن معقل، وسلف ذكره أوائل أحداث سنة (124). (¬7) في (ب): حادث. (¬8) يعني سنة (125). والكلام في "تاريخ" الطبري 7/ 227. ولم ترد هذه الفقرة في (ص).

إبراهيم بن هشام بن إسماعيل

وفيها قتل يحيى بن زيد بن عليّ، وسنذكرُه. وحجَّ بالنَّاس يوسف بن محمَّد بن يوسف الثَّقَفيّ وهو على المدينة ومكة والطائف، والعمالُ بحالهم (¬1). وفيها توفّي إبراهيم بن هشام بن إسماعيل ابن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي خال هشام بن عبد الملك (¬2). قد ذكرنا ضَرْبَ الوليد له ولأخيه محمَّد [بن هشام] وإنفاذَهما إلى يوسف بن عمر، فعذَّبَهما عذابًا أليمًا، فأقَرَّا بأموال عظيمة. وكان الوليد قد كتب إلى يوسف: احْبِسْهما مع ابنِ النصرانية، يعني خالدًا القَسْرِيَّ. ففعل. وعذَّبَهما [يوسف] حتَّى لم يبقَ فيهما موضع للضرب، فكان محمَّد بنُ هشام مطروحًا، فإذا أراد أن يقوم جذبوا بلحيته. ولما اشتدَّ بهما الحال تحاملَ إبرإهيمُ لينظر في وجه أخيه محمَّد، فوقعَ عليه، فماتا جميعًا. وكان الوليد قد كتب إلى يوسف بن عمر: نفسَك نفسَك إنْ عاش منهما أحد. ولما بلغَ الوليدَ قتلُهما قال: يَا ثارات العَرْجيّ (¬3). وكان إبراهيم لما وليَ المدينة احتجز الأموال، وبلغ هشامَ بنَ عبد الملك عنه أشياءُ، فكتب إليه: أمَّا بعد: فإنِّي لم أعْزِلْكَ حتَّى كنتُ أنا وإياك كما قال القَطاميُّ: ولكنَّ الأديمَ إذا تَفَرَّى ... بِلًى وتَعَيُّنًا غلبَ الصَّنَاعَا ¬

_ (¬1) المصدر السابق 7/ 228. (¬2) قوله: بن هشام بن الوليد ... إلخ. ليس في (ص). (¬3) الخير في "الأغاني" 1/ 415 - 416، وسلف بعضه قريبًا.

واللهِ ما عزلتُك وقد بقيَ من أديمك شيءٌ أتَمَسَّكُ به (¬1) فلما قرأ كتابَه استرجع وقال: كنتُ واليًا، فأصبحتُ سوقةً. فقام رجل من بني أسد بن خُزيمة فقال: فإنْ تكن الإمارةُ عنك زاحَتْ ... فإنك للهشامِ وللوليدِ وقد مرَّ الذي أصبحتَ فيهِ ... على مروانَ ثمَّ على سعيدِ فسُرِّيَ عنه، وأحسنَ جائزة الأسديّ (¬2). وقال خليفة: وفي سنة خمس وعشرين كتب الوليد إلى يوسف بن عمر، فقدمَ عليه، فدفعَ إليه خالدَ بنَ عبد الله القسريَّ، وإبراهيمَ ومحمدًا ابنَي هشام، وأمره بقتلهم. فحملهم إلى الحِيرة، وخالدٌ في عَباءة في شَقِّ مَحْمِل (¬3)، فعذَّبَهم حتَّى قتلهم (¬4). وأمَّا محمَّد: فقال الزُّبير: كان من وجوه قريش، حجَّ بالنَّاس سنة خمس عشرة ومئة، وثماني عشرة، وإحدى وعشرين، واثنتين وعشرين، وأربع وعشرين ومئة (¬5). وفي أيامه قُتل جعفر بن عُلْبة الحارثيّ. وكان من حديثه أن محمدًا هذا تزوَّج أخت جعفر، وكان بينه وبين عقيل دمٌ، فاستجار بصهره محمَّد، فشكاه بنو عقيل إلى هشام بن عبد الملك، فكتب إلى محمَّد بإنصافهم، فلم يُنصفهم منه، وحبسه خوفًا عليه منهم، فشكوه (¬6) مرارًا، فكان آخر الأمر أنَّ بني عقيل قالوا: يبرزُ لنا خصمُنا، ونحن نهبُ له الدم، فأخذ عليهم محمَّد العهود ألا يغدروه، فقال ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 564. قوله: الأديم: يعني الجلد المدبوغ، وتَفَرَّى: تشقّق وتقطَّع، وتَعَيَّنَ: بَلِيَ ورَقَّ، والصَّنَاع؛ يقال: رجلٌ صَنَاع اليد: أي: ماهر في العمل فيها. (¬2) المصدر السابق. ومن قوله: وكان إبراهيم لما وليَ المدينة ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص)، وجاء فيها بدلًا منه قوله: وقد ذكرنا ولايةَ إبراهيم بن هشام على المدينة، وعزلَه عنها. (¬3) المَحْمِل: الهَوْدَج، أو العِدْلان على جانبي الدَّابة يُحمل فيهما، وهو المراد هنا. (¬4) تاريخ خليفة ص 362. وسلف بنحوه قريبًا. وينظر "جمهرة نسب قريش" 2/ 740 - 741. (¬5) في تاريخ خليفة ص: 346 و 349 و 352 و 356 (السنوات المذكورة) وفيه أيضًا ص 350 أنَّه حجَّ بالناس سنة عشرين ومئة. (¬6) في (خ): فسألوه. والمثبت من (ب) و (د). والكلام ليس في (ص).

جبلة بن سحيم

العقيليون لرجل فيهم يقال له: رحمة بن طراف: إذا برز جعفر فاقتُلْه، واندسَّ بين الناس، فلما أبرزه محمَّد؛ وثب عليه رحمة، فقتله، فأخذه محمَّد وأخذ بني عقيل، فحبسهم، ولا زال يعذِّب رحمة حتَّى قتله. ومات هشام بنُ عبد الملك بعد جمعة (¬1). وجعفر من شعراء الحماسة، فمن شعره: لا يكشفُ الغمَّاء إلا ابنُ حرَّةٍ ... يرى غَمَراتِ الموتِ (¬2) ثمَّ يزُورُها نُقاسِمُهُمْ أسيافَنَا شَرَّ قِسْمةٍ ... ففينا غَواشيها وفيهم صدورُها (¬3) ومن شعره: هوايَ مع الرَّكْبِ اليمانيّ (¬4) مُصْعِدٌ ... حثيثٌ (¬5) وجُثماني بمكةَ موثَقُ عَجِبْتُ لِمَسْرَاها وأَنَّى تَخَلَّصتْ ... إليَّ وبابُ السجنِ دونيَ مُغْلَقُ أَلَمَّتْ فَحَيَّتْ ثمَّ قامَتْ فَوَدَّعَتْ ... فلمَّا تَوَلَّتْ كادتِ النفسُ تَزْهَقُ فلا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُمْ ... لشيءٍ ولا أنِّي من الموتِ أَفْرَقُ ولا أنَّ نفسي يَزْدَهِيها وَعِيدُكُمْ ... ولا أنَّني بالمَشْيِ في القَيدِ أخْرَقُ ولَكِنْ عَرَتْني في هواكِ صَبَابَةٌ ... كما كنتُ أَلْقَى منكِ إذْ أنا مُطْلَقُ (¬6) جَبَلَة بن سُحَيْم أبو سُرَيرة (¬7) الشَّيباني الكُوفيّ، من الطَّبقة الرابعة [من أهل الكوفة (¬8). ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا الخبر، ولعله في ترجمة محمَّد بن هشام بن إسماعيل في "تاريخ دمشق"، وهي ضمن خرم فيه. وتنظر أخبار جعفر بن عُلْبة في "الأغاني" 13/ 45 - 57. (¬2) في (خ): اليوم (؟ ). (¬3) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 49 - 50. قوله: ففينا غواشيها ... الخ. قال المرزوقي: المعنى: قاسمناهم سيوفنا، ففينا مقابضها وفيهم مضاربُها. (¬4) في "شرح ديوان الحماسة" 1/ 51 أو المصادر الأخرى: اليمانين. (¬5) في المصدر السابق: جَنِيبٌ، وذكر فيه المرزوقي رواية: حثيث. وقال: الصحيح: جَنِيب، لفظًا ومعنًى. (¬6) شرح ديوان الحماسة 1/ 51 - 55. ومن قوله: وكان إبراهيم لما ولي المدينة احتجز الأموال (قبل صفحتين) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬7) في "الإكمال" 4/ 297: أبو سُوَيْرة. وذُكرت له الكنيتان في "تهذيب الكمال" 4/ 498، و"مختصر تاريخ دمشق" 5/ 374. (¬8) ذكره ابن سعد في "الطبقات" 8/ 429 في الطَّبقة الثالثة من أهل الكوفة.

صالح بن أبي صالح

قال ابن عساكر (¬1): ] حكى عن ابن عُمر، [ورأى حنظلة الأَنْصَارِيّ (¬2) إمام مسجد قُباء. وقد أخرجَ البخاريُّ حديثه في الصوم والمظالم والأطعمة والشركة]، وكان ثقةً. [وروى عن معاوية بن أبي سفيان] قال: دخلتُ على معاوية في خلافته وفي عنقه حبلٌ وصبيٌّ يقودُه، فقلت: أتفعلُ هذا وأنتَ خليفة؟ ! فقال: اسكت يَا لُكَع، سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ كان له صبيٌّ فليتَصَابَى له" (¬3). صالح بن أبي صالح مَوْلى التَّوْأمة، من الطَّبقة الثالثة من أهل المدينة (¬4). أسند عن أبي هريرة، وله أخبار قليلة يُضعَّفُ فيها (¬5) محمَّد بن عليّ بن عبد الله ابن العباس بن عبد المطَّلب، [وكنيتُه] أبو عبد الله، [وهو] من الطَّبقة الرابعة (¬6) من أهل المدينة، وأمُّه العالية بنتُ عُبيد الله (¬7) بن العبَّاس. وهو أبو الخلفاء من بني العبَّاس، وكان بينه وبين أَبيه عليّ في السّنّ أربعَ عشرةَ سنةً وأشهُر، فلمَّا شابا خَضَبَ عليٌّ بالسَّوَاد، و [خضب] محمَّد بالحِنَّاء، فلم يُفَرَّق بينهما إلَّا بالخِضاب لتشابههما، وقُربِ سنَّي بعضهما من بعض (¬8). ¬

_ (¬1) وقعت الترجمة ضمن خرم في "تاريخ دمشق" وهي في "مختصره" 5/ 374. (¬2) كذا في (ص) (والكلام منها وهو ما بين حاصرتين). وفي "تهذيب الكمال" 4/ 498: روى عن حنظلة الأَنْصَارِيّ. (¬3) نسبه السيوطي في "تاريخ الخلفاء" ص 175 لابن أبي الدنيا وابن عساكر، ثم نقل عن ابن عساكر قوله فيه: غريب جدًّا. وقال المناوي في "فيض القدير" 6/ 271: فيه محمَّد بن عاصم؛ قال الذهبي في الضعفاء: مجهول، بيَّض له أبو حاتم. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 425. (¬5) قال ابن حجر في "تقريب التهذيب": صدوق اختلط، قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جُرَيج. اهـ. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬6) في (خ): الثالثة، والمثبت من باقي النسخ. وهو في "الطبقات" 7/ 470. (¬7) في النسخ الأربعة: عبد الله، وهو خطأ. (¬8) أنساب الأشراف 3/ 80. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص).

ووُلد محمَّد (¬1) بالحِمَّة من أرض البلقاء سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة ستين. وفي الليلة التي توفّي فيها محمَّد، وُلد فيها محمَّد المهديّ بن أبي جعفر المنصور، فسُمِّيَ باسمه، وكُنِّيَ بكنيته (¬2). وذكره خليفة في الطَّبقة الثالثة من أهل الشامات (¬3). وكان ... (¬4) بن العباس سيدهم بعد أَبيه عليّ. [قال هشام: ] وكان نبيلًا جليلًا، فاضلًا فصيحًا، وله الكلامُ الحسنُ، والهمَّةُ العالية. قال: شرُّ الآباء مَنْ دعاه البِرُّ إلى الإفراط، وشَرُّ الأبناء مَنْ دعاه التقصيرُ إلى العقوق (¬5). وكان وصيَّ أبي هاشم عبد الله بن محمَّد بن الحنفيَّة (¬6)، وكان ابتدأ الدعوة، فلمَّا احتُضر أوصى إلى محمَّد بن عليّ، فلم يزل منذ سنة سبع وثمانين إلى سنة أربع وعشرين ومئة، فمات محمَّد وقد انتشرت الدعوة، وكثُرت الشيعة (¬7). وكان يقول: لنا ثلاثةُ أوقات: موتُ الطاغية يزيدَ بنِ معاوية، ورأسُ المئة، وفتقٌ بإفريقية، فعند ذلك تظهرُ دولتُنا، ويُقبل أنصارُنا من المشرق (¬8). و[قال أبو اليقظان: ] بعث [محمد بن عليّ] إلى خُراسان رجلًا، وأمره أن يدعوَ إلى الرِّضى من آل محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسمِّيَ أحدًا، فأجابه سبعون، فاختارَ منهم اثني عشر نقيبًا (¬9). ¬

_ (¬1) في (ص): وقد ذكرنا مولد محمَّد ... (¬2) أنساب الأشراف 3/ 88. (¬3) في (ب) و (خ) و (د): ومحمَّد بن عليّ من الطَّبقة الثالثة من أهل الشَّام. وأثبتُّ لفظ (ص). وهو في "طبقات" خليفة ص 312. وأخرجه عنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 63/ 398 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) موضع النقاط كلمة غير واضحة، رسمها: رحمه (؟ ) ولم ترد هذه الفقرة في (ص). (¬5) أنساب الأشراف 3/ 91. (¬6) في (ص): وكان وصيّ هاشم بن محمَّد بن الحنفية، وهو خطأ. ولم يرد الكلام الآتي بعده فيها. (¬7) ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 471، و"أنساب الأشراف" 3/ 88 و 129. (¬8) أنساب الأشراف 3/ 90. ومن قوله: وكان ابتدأ الدعوة ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬9) في (ب) و (د): نفسًا، وفي (خ): رجلًا. والمثبت من (ص) وهو موافق لما في "أنساب الأشراف" 3/ 90، والخبر فيه تتمة للخبر السابق. وينظر فيه أَيضًا ص 129.

وإنَّما اختار محمَّد خُراسان؛ لأنَّه فكَّر فرأى أهلَ الكوفة شيعةً لعليِّ بن أبي طالب رضوان الله عليه وهم غدر، وأهلَ البصرة عثمانية، وأهلَ الشَّام سفيانية ومروانية، وأهلَ الجزيرة خوارج، وأهلَ المدينة مختلفين، فبعضُهم شيعة عليّ رضوان الله عليه، وبعضُهم يميلون إلى أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما، وأهلَ مصر مختلفي الآراء والأهواء، وأهلَ خُراسان قلوبُهم خاليةٌ من الأهواء (¬1)، وهم أهل قوة وبأس ونجدة وعُدَّة. و[حكى أبو القاسم ابن عساكر قال: ] (¬2) قدم محمَّد بن عليّ على هشام، فقال له: ما الذي أقدمك؟ قال: حوائج. قال: انتظر بها دولتَك التي تتوقَّعونها وتَرْوُون فيها الأخبار، وترشِّحون لها أحداثَكم. فقال: أُعِيذُك بالله يَا أمير المُؤْمنين من هذا. قال: بلى، أنتُم تقولون كذا، وقد جعلتُم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُوقًا، قد كتبَ إليَّ عاملُ ناحيتك أنَّ النَّاسَ يجيئون إليك بالمال من كل ناحية، فأدِّ (¬3) مئة أَلْف درهم. وحبسه وأقدمه في الشَّمس وقال: عذِّبوه. وكان في عسكر هشام أبو موسى السَّرَّاج، ومعه أبو مسلم غلامٌ ابنُ عشرين سنة، يعلِّمُه صَنْعَةَ السُّروج، وكان أبو موسى من أهل الدعوة، فجمع له مئة أَلْف درهم، وكلَّمُوا فيه هشامًا، فأخذَها وأطلقه (¬4). وقال [الهيثم: قال] الأبرش الكلبي لهشام: إن كان الله تعالى قد قدّر لهم أن ينالوا الخلافة، فلا بدَّ لهم منها، فيجب عليك مصانعتُهم لأجل ولدك وعَقِبك، وإنْ لم يكن في المقدور أن ينالوها؛ فما خوفُك ممَّا ليس بمقدَّر؟ فأمسك هشام عن محمَّد، وخلَّى سبيلَه (¬5). وحكى أبو القاسم أَيضًا عن محمَّد بن سليمان (¬6) بن عبد الله النَّوْفلي قال: لمَّا تحدَّث النَّاس أن الخلافة تصيرُ إلى بني العبَّاس؛ كتب هشام إلى عامله بالمدينة أن ¬

_ (¬1) في (ص): الأهوية. (¬2) الكلام بين حاصرتين من (ص) ولم أقف على الخبر في "تاريخ دمشق" وهو في "أنساب الأشراف" 3/ 92. (¬3) في (ص): فإذا، بدل: فأدّ. (¬4) أنساب الأشراف 3/ 92 بأطول منه. وسلف ذكر أبي موسى السرَّاج أو سنة (124). (¬5) المصدر السابق 3/ 93. (¬6) في (ب) و (خ) و (د): وقال محمَّد بن سليمان ... والمثبت عبارة (ص).

يُشخص محمَّد بنَ علي إلى الشام، فأشخصَه إلى دمشق، وأمره هشام بلزوم بابه، فاشترى محمَّد جاريةً بدمشق، فولدت ولدًا، فأنكره محمَّد، فخاصَمَتْه أمُّه إلى هشام، فأحضر محمدًا، فحلف أنَّه ليس منه، ففرَّق بينهما، فلما بلغ الغلام سبع سنين؛ دسَّ إليه محمَّد من اغتاله وقتلَه، فاستعدت أمُّه عليه هشامًا، فحلفَ إنه ما قتله، ولا دَسَّ عليه من قتلَه. فطرح هشام عليه العيون وقال: بالأمس يَقتُلُ أبوه عليٌّ سَلِيطًا (¬1)، واليوم يَقتلُ هذا ولدَه! وأرسل إلى ضياع الغوطة في السِّرِّ يبحثُ عنه، فقال رجل من أهل المِزَّة: عندي من هذا علم. فأُحضر إلى هشام، فسأله، فقال: كنتُ أسقي بستانًا لي بالمِزَّة ليلًا، فرأيتُ رجلًا راكبًا على فرس، وخلفَه آخر، ورجلٌ يمشي معه، فقتلوا واحدًا [منهم] ودفنوه، ولم يشعروا بي، وقد علَّمتُ على الموضع الذي دفنوه فيه، وتبعتُ أثرهم حتَّى دخلوا البلد (¬2)، وعرفتُ الدار التي دخلوها. فقال له هشام: لله دَرُّك! فقد فرَّجتَ عني. وأرسل معه أقوامًا إلى الدار، فإذا هي دارُ محمَّد بنِ على، فأحضرَه وسألَه، فأنكر (¬3)، فبعث إلى الصَّبي فنبشَه، وأخرجَه مقتولًا، فقال هشام: لولا أن الأب لا يُقاد بابنه (¬4) لأقَدْتُك به. فضربه سبعَ مئة سَوْط (¬5)، ونفاه إلى الحِمَّة. فكان ذلك سببًا لضرب عبد الله بن عليّ هشامًا بعد موته؛ لأنه فعلَ بأخيه ذلك (¬6). واختلفوا في وفاته؛ فحكى ابنُ سعد أنَّه توفّي بالشَّراة من أرض الشَّام في خلافة الوليد بن يزيد سنة خمس وعشرين ومئة وهو يومئذ ابنُ ستين سنة، فعلى هذه الرواية ينبغي أن يكون مولده سنة خمس وستين (¬7). ¬

_ (¬1) سلفت قصة سَلِيط آخر ترجمة علي بن عبد الله بن العباس في أحداث سنة (117). (¬2) في (ص): المدينة. (¬3) في (ص): فأنكرة. (¬4) في (ص): على ابنه. (¬5) في (ص): فصبره خمس مئة سوط. (¬6) الخبر في "تاريخ دمشق" 62/ 189 - 190 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة محمَّد بن سليمان بن عبد الله النوفلي). (¬7) في (ص): سنة ستين، وهو خطأ.

وحكى أبو القاسم ابن عساكر عن عيسى بن المنصور أنَّه مات سنة ستّ وعشرين (¬1) وهو ابنُ ثلاثٍ وستين. وقال المدائنيّ: في سنة أربعة وعشرين ومئة. [وقال الواقديّ: المثبت عندنا أنَّه مات في سنة خمس وعشرين ومئة قبل قتل الوليد بن يزيد بقليل، والوليدُ قُتل في سنة ست وعشرين ومئة] (¬2). وبين وفاته ووفاة أَبيه سبع سنين، وقيل: خمس سنين، وقيل: مات سنة اثنتين وعشرين ومئة، وقيل: سنة أربع وعشرين. ذكر أولاده: فولدَ محمدُ بنُ عليّ عبدَ الله الأصغر، وهو أبو العباس القائم بالخلافة، وداودَ، وعُبيدَ الله (¬3)، ورَيْطَة؛ هلكت ولم تبرز، وأمُّهم رَيْطَة بنت عُبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان (¬4). قال البلاذُري: خطب محمَّد بنُ عليّ إلى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - رَيطَةَ وعُمرُ يومئذ خليفة، فقال له: وما يمنعك منها؟ هي أملكُ بنفسها. فتزوجَها بحاضر قِنَّسْرِين في دار طلحة بن مالك الطَّائي. فحملت بأبي العبَّاس، وولدَتْه في سنة مئة، وقيل: في سنة إحدى ومئة. وكانت أوَّلًا عند عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فمات عنها، فتزوَّجَها الحجَّاج بنُ عبد الملك [بن مروان] ثم طلَّقها. فخرج محمَّد بن عليّ من الشراة إلى الصائفة، فتزوَّجها كما ذكرنا (¬5). ¬

_ (¬1) الرواية في "تاريخ دمشق" 63/ 400 عن إبراهيم بن عيسى بن منصور، وفيه أنَّه مات سنة خمس وعشرين ومئة. (¬2) من قوله: واختلفوا في وفاته ... إلى هذا الموضع؛ اللفظ من (ص). ووقعت الأقوال في (ب) و (خ) و (د) مختصرة دون نسبة. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص)، فقط ولم يرد الكلام الآتي فيها. وينظر "طبقات ابن سعد" 7/ 471، و"تاريخ دمشق" 63/ 400 - 403. (¬3) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): عبد الله، وهو خطأ. والتصويب من المصدر التالي. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 470. (¬5) أنساب الأشراف 3/ 90، وما سلف بين حاصرتين منه.

وعبدَ الله الأكبر، وهو أبو جعفر المنصور، وليَ الخلافة بعد أخيه [أبي العباس] (¬1)، وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: سلامة، بربريَّة (¬2). وإبراهيمَ الإِمام الذي كان أهلُ الدعوة يصيرون إليه، ويصدرون عن رأيه، وأمُّه أمُّ ولد، اسمها جان (¬3). ويحيى، والعالية، وأمُّهما أمُّ الحكم بنت عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطَّلب (¬4). وموسى، وأمُّه أمُّ ولد، غزا مع أَبيه محمَّد، فمات ببلاد الووم، وابنُه عيسى؛ ولَّاه أبو العبَّاس للعهد بعد أبي جعفر، فخلعَه أبو جعفر (¬5). والعبَّاسَ، وأمُّه أم ولد، وإسماعيلَ، ويعقوبَ -وهو أبو الأسباط (¬6) - ولُبابة؛ تزوَّجَها جعفر بن سليمان بن عليّ، فهلكت عنده ولم تلد له شيئًا، وهم لأمَّهات أولاد شتَّى. أسند محمَّد بنُ عليّ عن أَبيه، وعمر بن عبد العزيز، وأبي هاشم بن محمَّد بن الحنفية. وروى عنه حبيبُ بنُ أبي ثابت، وهشامُ بنُ عروة، والزُّهْري، وأخوه عيسى بن علي، وابناه أبو العباس، وأبو جعفر، وغيرهم (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "طبقات" ابن سعد 7/ 470 للإيضاح. (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): بربرة. والمثبت من المصدر السابق 3/ 128. وفي "جمهرة أنساب العرب" ص 20: "نفزيَّة". ونفزة: بلدة بالمغرب. (¬3) في النسخ المذكورة: جاف. والمثبت من "أنساب الأشراف" 3/ 128. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 470. (¬5) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): أبي جعفر، وأثبتُّ اللفظة على الجادة. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 318 وما قبله ص 309. (¬6) كذا في "طبقات" ابن سعد 7/ 470 (والكلام منه). وفي "أنساب الأشراف" 3/ 115: أبو الأسباط يعقوب بن عليّ بن عبد الله. (¬7) تاريخ دمشق 63/ 396 (طبعة مجمع دمشق)، وتهذيب الكمال 26/ 153. ومن قوله: وبين وفاته ووفاة أَبيه (قبل هذه الفقرة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

معبد المغني

مَعْبَد المغنِّي [واختلفوا في اسم أَبيه، فقيل: قَطَن، وقيل: وَهْب، وكنيتُه] أبو عبَّاد، من أهل المدينة مولى معاوية بن أبي سفيان، وقيل: مولى العاص بن وابصة المخزوميّ (¬1). كان أديبًا فصيحًا يُضربُ المَثَلُ بجودة غنائه، وكان مقدَّم المغنّين بالمدينة. [وذكره أبو الفَرَج الأَصْبهانِيّ في أول "الأغاني" في شعر أبي قَطِيفة (¬2)، وقال: له الصوت المشهور: القَصْرُ فالنَّخْلُ فالجَمَّاءُ بينَهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جَيرُونِ وقد ذكرناه في ترجمة أبي قَطِيفَة. قال: ] ومع هذا كان مقبولَ الشهادة عند قضاة المدينة إلى أن نادمَ الوليدَ بنَ يزيد، فردُّوا شهادته (¬3). وتوفّي بدمشق عند الوليد (¬4) في سنة خمس وعشرين ومئة، ومشى الوليد في جنازته هو [وأخوه] الغَمْر بن يزيد [والوليد يومئذ خليفة. قال: وقال كَرْدَم بن مَعْبَد: رأيتُ الوليدَ وأخاه الغَمْر يمشيان في جنازة أبي في قميصين ورداءين حتَّى دُفن. قال: وخرجَتْ سَلَّامة جاريةُ يزيد بن عبد الملك -وهي سَلَّامة القَسّ- فأخذت بعمود سرير أبي وقالت: كلما أبصرت رسمًا (¬5) ... خاليًا فاضَتْ دموعي] (¬6) ¬

_ (¬1) الأغاني 1/ 36، وتاريخ دمشق 68/ 431 (طبعة مجمع دمشق). والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬2) الأغاني 1/ 8. (¬3) الأغاني 6/ 22 بنحوه، واللفظ لابن عساكر في "تاريخه" 68/ 431 (طبعة مجمع دمشق). والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬4) في "الأغاني" 1/ 37، و"تاريخ دمشق" 68/ 434، و"المنتظم" 7/ 246: تُوفِّي في عسكر الوليد. (¬5) في "الأغاني" 1/ 37، و"تاريخ دمشق" 68/ 434: ربعًا. (¬6) من قوله: والوليد يومئذ خليفة ... إلى هذا الموضع (وهو ما بين حاصرتين) من (ص). والخبر في المصدرين السابقين.

هشام بن عبد الملك بن مروان

هشام بن عبد الملك بن مروان [قد ذكرنا بعض سيرته، فنذكرُ طرفًا من أخباره. ذكر المدائنيّ جملةً منها فقال: ] كان فظًّا غليظًا بخيلًا، يجمع الأموال، ويباشر الأمور بنفسه، وكان يخضب بالسَّواد. [قال: وبلغ من بخله أنَّه] كان يقف على القصَّاب بنفسه، فيسألُه عن اللحم وسعره. ورأى رجلًا يشتري لحمًا بدرهم. فقال: أحسنتَ، أكثرُ من هذا سَرَفٌ (¬1). [قال: ] ودخل [هشام] بستانًا، فأقبلَ خواصُّه يأكلون من الثمر ويقولون: بارك الله لأمير المُؤْمنين. فقال: كيف يباركُ فيه وأنتم تأكلون هذا الأكل؟ ! ثم قلع (¬2) شجرَه وغرسَه زيتونًا. [قلت: وهذا بعيد أن يصدر من خليفة، وقد أجبنا عن هذا في ترجمة الوليد بن عبد الملك، ولعل هذا البستان قد كان للمسلمين، فكره أن يختصَّ به هؤلاء دون غيرهم. والعجب من المدائنيّ يحكي مثل هذا ويقول: وكان طِرازُه (¬3) يُحمل على تسع مئة جمل (¬4). وقال الهيثم بن عديّ: ] وكان [هشام] إذا صلَّى الغداة؛ فأوَّلُ مَنْ يدخلُ عليه صاحبُ حرسه، فيخبرُه بما حدث في الليل، ثم يدخل عليه بعده مَوْليانِ له، مع كلِّ واحد منهما مصحف، فيقعدُ واحد عن يمينه، والآخر عن شماله، فيقرأ جزأه، وهما يأخذان عليه، ثم يدخلُ الكاتب، فيقعدُ بين يديه، ويدخل الحاجب، فيقول: فلان على الباب، وفلان، فيأذنُ لمن شاء منهم، ثم تُعرض عليه القصص وهو يقرأها، ويأمر ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 339 - 340. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (ص): قطع. والخبر في المصدر السابق. (¬3) الطِّراز: ثياب السلطان. (¬4) مختصر تاريخ دمشق 27/ 98. وسلف في الكلام على هشام سنة (105) وجاء ثمة أن المعنى خزائنه، لا ملبوس بدنه. وجاء "العقد الفريد" 4/ 446 أنَّه خرج حاجًّا فحمل ثياب طُهره على ستِّ مئة جمل. وفي "المنتظم" 7/ 97 أنَّه جُمع له من الكُسَى والفُرش ما حمله على سبع مئة بعير. وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (ص).

الكاتب بالتوقيع، إلى نصف نهار الظهر، فيحضر الطعام، فيأكلُ هو والناس إلى الظهر، فإذا أذَّنَ قام إلى الصلاة [فيصلِّي] فإن كانت قائلةٌ قال (¬1) إلى العصر، ثم يجلس، فيقضي حوائج النَّاس إلى المغرب، وإن لم تكن قائلة لم يَقِل (¬2)، ويقضي حوائج النَّاس طول النهار (¬3). [قال الهيثم: ] وما كان يأكل التفَّاح؛ لأنه رأى في منامه أنَّه قُدِّم إليه طبق فيه تفَّاح، فأكل منه تسعةَ عشر تفاحةً وبعض الأخرى، فأمر مَنْ يسألُ المُعبِّرين، فقالوا: تملك تسعَ عشرةَ سنة وبعضَ أخرى، فكان يتطيَّر من التفَّاح (¬4). [وحكى الهيثم أَيضًا قال: ] قال عقَّال بن شبَّة: دخلتُ على هشام وعليه قَبَاءٌ أخضر فَنَكٌ (¬5)، فبعثني إلى خُراسان، وجعل يوصيني وأنا أنظرُ إلى القَبَاء، ففَطِنَ، فقال: ما لك؟ ! فقلت: رأيتُ عليك قَبَاءً مثل هذا قبل أن تليَ الخلافة، أهو هذا؟ قال: إي واللهِ الذي لا إله إلَّا هو، ما لي سواه، وما لي من هذا المال إلَّا حفظُه لكم، وصونُه عمَّن يأكلُه. قال: فكنتُ إذا دخلتُ عليه رأيتُ رجلًا محشوًّا عقلًا (¬6). المشهور عن طِراز هشام خلافُ ذلك، فإنَّه قيل: إن كسوتَه تُحمل على ماتين كره (¬7) من البغال. وقد تقدَّم في هذا الكتاب ما يدل على ذلك. وكان عطاء هشام في كلِّ سنة مئتي دينار لنفسه (¬8). ¬

_ (¬1) في (ص): نام. (¬2) في (ص): ينم. (¬3) الخبر بنحوه في "المنتظم" 7/ 98. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) بنحوه في المصدر السابق 7/ 97. (¬5) القَبَاء: ثوبٌ يُلبس فوق الثياب أو القميص ويُتمنطق عليه. والفَنَك: أجود أنواع الفَرْو. (¬6) تاريخ الطبري 7/ 201 - 202، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 321 - 322. (¬7) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها). ولعل اللفظ: مئتي كُرَّة. فقد جاء في "المعجم الذهبي" ص 265: كُرَّه: مهرة الحمار أو الحصان. وسلف نحو هذا الخبر قريبًا، ولم يرد في (ص). (¬8) أنساب الأشراف 7/ 324 - 325، وتاريخ الطبري 7/ 203 وفيهما أن عطاء هشام مئتا دينار ودينار، يأخذهما يعقوب مولاه ويغزو عنه.

[فإن قيل: فهذا يُنافي ما ذكروا أنَّ طِرازَه كان يُحمل على تسع مئة جمل، ووُجد له يومَ ماتَ عَشَرَةُ آلاف قميص، وسبعةُ آلاف سراويل؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّه يحتمل أنَّه كانت له أموال من مواريثَ واكتساب، فكانت ثروتُه منها، وما كان يأخذُ من بيت المال سوى مئتي دينار. والثاني: أنَّه يحتمل أنَّ هذا القولَ منه كان قبل أن يليَ الخلافة، ثم تغيَّر حالُه بعد ما وليَها. والثالث: أنَّه يحتمل أنَّ ما نُقل عنه أنَّه كان طِرازُه يُحمل على تسع مئة جمل وما كان له من القمصان وغيرها غيرُ ثابت. وقال أبو اليقظان: ] وأغلظ رجلٌ لهشام، فقال له غير مُغْضَب: ليس لك أن تُغلِظَ على إمامك (¬1). قال: وتفقَّد [هشام] بعضَ ولدِه يومَ جمعة، فلم يجده، فسأل عنه، فحضر، فقال: ما الذي منعك من الجمعة؟ فقال: نفَقَتْ دابَّتي. فقال: واللهِ لا ركبتَ دابَّةً إلى سنة (¬2). [قال: ] ونظر يومًا إلى قوم يَنْفُضُون الزيتون، فقال: القُطُوهُ لَقْطًا، ولا تنفُضُوه نَفْضًا، فتُفقأَ عيونُه، وتكسرَ (¬3) غصونُه (¬4). و[قال هشام بن الكلبي: ] كان سبب نزوله الرُّصافة الهرب من الطاعون، [وكذا كان بنو أمية ينزلون البراري، فوقع طاعون بدمشق، فخرج هشام إلى موضع الرُّصافة] فلما خرج قيل له. لا تخرج، فإنَّ الخلفاء لا يُطْعَنُون [وإن الطاعون لا يصيب أحدًا من الملوك] فقال: تريدون [أن] تجرِّبُوا فيَّ؟ ! وبنى قصَرين عظيمين بالرُّصافة، وكانت مدينةً عتيقةً من مدائن الروم، وقصد أيضًا القرب من العراق والجزيرة والشَّام (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 204 عن بشر مولى هشام. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬2) المصدر السابق، والمنتظم 7/ 98. (¬3) في (ب) و (خ) و (د): وتكسروا. (¬4) أنساب الأشراف 7/ 356 (وبنحوه ص 352 - 353)، وتاريخ الطبري 7/ 206، والعقد الفريد 4/ 447. (¬5) بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 330، و"تاريخ" الطبري 7/ 207.

[وحكى القاضي التنوخي عن الهيثم بن عدي، عن حمَّاد الراوية قال: كنتُ منقطعًا إلى يزيد بن عبد الملك، وهو يومئذ خليفة، وكان هشام يجفوني لذلك. فلمَّا مات يزيد ووليَ هشام؛ نزلتُ إلى العراق، فأقمتُ بالكوفة سنةً ملازمًا لبيتي لا أخرج منه سنة. قال: فخرجت يوم جمعة، فصلَّيتُ عند باب الفيل، وإذا شرطيَّان قد وقفا على رأسي، فقالا: أحب الأمير يوسف بن عمر. فقلتُ: أسيرُ إلى أهلي، فأودِّعُهم وداعَ من لا يرجع إليهم أبدًا. قالا: لا سبيل إلى ذلك (¬1). قال: فاستسلمتُ ومضَيْتُ إلى يوسف، فدخلتُ، فسلَّمتُ عليه، فردَّ السلام، ورمى إليَّ بكتاب هشام، وإذا فيه: فإذا قرأتَ كتابي هذا؛ فابعث إليَّ بحمَّاد الراوية غير مروَّع، وادْفَعْ إليه جملًا مَهْرِيًّا (¬2)، وخمس مئة دينار، وليكن عندنا بدمشق بعد اثنتي عشرة [ليلة]. قال: فقبضتُ المال، وسِرتُ إلى دمشق، فوافيتُها في اثنتي عشرة ليلة، ودخلتُ على هشام، وإذا به في مجلس مفروش بالرُّخام، بين كل رُخامتين قضيبٌ من الذهب، وحيطانُه كذلك، وهو جالس على طِنْفِسةٍ حمراء، وعليه ثياب من الخَزّ حُمْرٌ، وبين يديه أواني الذهب، فيها المسك والعنبر، يُقلِّبُهُ بيده، فتفوحُ رائحتُه، فسلَّمتُ عليه، فردَّ، واستدناني، فقَبَّلْتُ قدميه، وبين يديه جاريتان لم أرَ مثلَهما، وفي أذن كلِّ واحدة منهما حلقتان تتوقَّدان، فسألني عن حالي، فقلتُ: أنا بخير. فقال: أتدري لِمَ أرسلتُ إليك؟ قلت: لا. قال: خطرَ ببالي قولُ القائل: ودَعَوْا (¬3) بالصَّبوح يومًا فجاءت ... قَينَةٌ في يمينها إبريقُ فلم أدرِ لمن هو. قال: فقلتُ: هذا البيت لعديّ بن زيد العِبَادي، من قصيدة أنشدني إيَّاها هو. قال: وما هي؟ فقلت: ¬

_ (¬1) قال ابن خلِّكان في "وفيات الأعيان" 2/ 209: ما يمكن أن تكون هذه الواقعة مع يوسف بن عمر الثَّقَفيّ لأنه لم يكن واليًا على العراق في التاريخ المذكور، بل كان متوليه خالد بن عبد الله القسري. (¬2) نسبة إلى مَهْرَة بن حَيدان (أبو قبيلة)، وهم حيٌّ عظيم باليمن. وإبلُهم من نجائب الإبل وخيارها. (¬3) في (ص) (والكلام منها): ودعونا. والمثبت من المصادر.

بَكَرَ العاذلون في بَكَرِ (¬1) الصُّبْـ ... ــــــحِ يقولون لي ألا تَسْتَفِيقُ ويلومون فيكِ يَا ابنة عبد اللـ ... ــهِ والقلبُ عندكم موهوقُ (¬2) لستُ أُصْغِي إلى مَلَامِ عَذولٍ (¬3) ... أعَدُوٌّ يلومُني أم صديقُ زانَها حسنُها وفرعٌ عميمٌ ... وجَبِينٌ صَلْتٌ (¬4) ووجهٌ أنِيقُ نادمتُها على عُقارٍ كعين الـ ... ـــــدِّيكِ صَفَّى سُلافها الرَّاووقُ ثم كان المِزاجُ ماءَ سحابٍ ... لا صَرًى آجِنٌ ولا مطروقُ فدعا بالصَّبُوح يومًا فجاءَتْ ... قَيْنةٌ في يمينها إبريقُ فقال هشام: أحسنتَ يَا حمَّاد واللهِ. ثم قال للجارية: اسقيه. فسقَتْني شَرْبَةً أذهبَتْ ثُلث عقلي. وقال: أعِدْ. فأعدتُها، فطرب حتَّى نزل من فرشه وقال للجارية الأخرى: اسقِيه. فسقَتْني شَرْبَةً أذهبَتْ بثلثي عقلي. فقال هشام. إن شربتَ الثالثة افتضحْت، فسَلْ حوائجَك. فقلتُ: كائنةً ما كانت؟ قال: نعم. قلت: إحدى الجاريتين. قال: هما معًا لك بما عليهما وما لهما. ثم قال للأخرى: اسقيه. فسقَتني شَرْبَةً سقطتُ منها، فلم أعقل. فلما أصبحتُ؛ إذا الجاريتان عند رأسي، وإذا عَشَرةٌ من الخدم؛ مع كل واحد بَدْرَة، فقال لي واحد: أميرُ المُؤْمنين يعتذرُ إليك، فخُذْ ما بعثَ به إليك. فأخذتُ البِدَرَ والجاريتين وانصرفتُ. قلت: كذا ذكر القاضي التَّنوخي وأبو الفَرَج الأصفهاني أن الواقعة كانت مع هشام (¬5). وقال المُعافَى بن زكريا: وقد رُوي مثلُ هذا لحمَّاد مع يزيد بن عبد الملك، وهو أشبه؛ لأنه كان جوادًا، وهشام كان بخيلًا. ¬

_ (¬1) في المصادر: في وَضَح. (¬2) أي: محبوس. (¬3) في المصادر الآتية: لست أدري إذ أكثروا العذل فيها. (¬4) أي: واضح في سعة وبريق. وجاء هذا الشطر برواية مختلفة عن المصادر. (¬5) الفرج بعد الشدة 4/ 287 - 290، والأغاني 6/ 75 - 77. وينظر "وفيات الأعيان" 2/ 207 - 209، و"تاريخ دمشق" 5/ 278 - 279.

قلتُ: وهذا أصحّ من وجه آخر، وذلك أن هشامًا لم يكن يشربُ المسكر، ولا يسقيه أحدًا بحضرته، وكان يُنكر ذلك ويُعاقب عليه، وقد كانت أوقاتُه محفوظة؛ بخلاف الوليد، فإنَّه كان مشتهرًا بشرب الخمر، ولو كانت الواقعة مع هشام فقد رُويَ أنَّه لما أنشده حمَّاد الشعر طربَ، وأقام عنده مدَّة، فوصله بمئة أَلْف درهم] (¬1). [وقال الهيثم: ] ووقَّع [هشام] على قصة متظلّم: أتاك الغَوْث (¬2) إن كنتَ صادقًا، وحلَّ بك النَّكال إن كنتَ كاذبًا. [وكتبَ إلى والي خُراسان وهو محارب الترك: احذَرْ ليالي البيات] (¬3). وكتبَ إليه والي المدينة يشكو أولاد الْأَنصار. فكتب إليه: احْفَظْهم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهَبْهُم له. وكتب إلى والي العراق وهو يحارب الخوارج: ضَعْ سيفَك في كلاب أهل النَّار، وتقرَّبْ إلى الله بقتل الفجَّار (¬4). و[قال الأبرش بن الكلبيّ: ] وقع طاعون بدمشق، فخرجَ هشام هاربًا، فمرَّ على دَير فيه راهبٌ، وإلى جانبه بستان، فأدخلَ هشامًا إليه، وجعل يتخيَّرُ له أطايبَ الفاكهة، وهو يأكلُ. فقال: يَا راهب، بعني (¬5) بستانك. فلم يجبه، فقال: ما لك ساكت؟ فقال: وددتُ أنَّ النَّاس كلَّهم ماتُوا غيرك. قال: ولِمَ؟ قال: عساك [أن] تشبع! والتفت هشام إلى الأبرش فقال: تسمعُ ما يقول؟ فقال له الأبرش: واللهِ ما لَقِيَك ابنُ حرّة غيره (¬6). ¬

_ (¬1) سلف كلام ابن خلّكان أَيضًا في "وفيات الأعيان" 2/ 209 في نقد الخبر أَيضًا أن يوسف بن عمر الثَّقَفيّ لم يكن واليًا بالعراق في التاريخ المذكور، بل كان متولّيه خالد بن عبد الله القسري. (¬2) في (ص): العون. (¬3) ما بين حاصرتين من (ص). وينظر الخبر والذي قبله في "العقد الفريد" 4/ 209. (¬4) هذا الخبر والذي قبله في المصدر السابق. (¬5) في "العقد الفريد" 4/ 447: هبني. (¬6) في (ص): مثله. والخبر في "أنساب الأشراف" 7/ 352، و"العقد الفريد" 4/ 447.

و [قال الأبرش: ] كان هشام يقول: أكلتُ الحُلو والحامض حتَّى لم أجد لواحدٍ منهما طعمًا، وشممتُ ألوانَ الطِّيب حتَّى ما أجدُ له رائحةً، وأتيتُ النساء حتَّى ما أُبالي أتيتُ امرأةً أو حائطًا. وعدَّدَ ما نال من اللذَّات في الدنيا، ثم قال: وما رأيتُ (¬1) ألذَّ من جليس تسقطُ بيني وبينه مؤونةُ التحفُّظ (¬2). وقال الأبرش: ما كان يدخلُ بيتَ مالِ هشام درهمٌ حتَّى يُشْهِدَ على العامل أربعين عَدْلًا، ويستحلفَه أربعين يمينًا أنَّه أخذ هذا المال من وجهه، وأنه (¬3) صرف كل حقٍّ إلى مستحقِّه (¬4). و[قال الأبرش: ] شتم هشامٌ رجلًا من الأشراف، فقال له: أما تستحي تشتِمُني وأنت خليفة الله في أرضه؟ ! فاستحيا هشام منه وقال: اقتصَّ. فقال: أكون إذن سفيهًا. قال: فخُذْ من المال ما شئت، قال: ما كنتُ لأبيعَ عِرْضي بعَرَض الدنيا. قال: فهَبْهَا لي. قال: أمَّا هذه فنعم. قال: فنكَّسَ هشام رأسَه وقال: واللهِ لا أعودُ لمثلها أبدًا (¬5). [وقال المدائني: كان هشام يذكر في خطبته يوم العيدين: الحمد لله الذي ما شاء صنع، وما شاء أعطى وما شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع، ومن شاء ضرَّ ومن شاء نفع (¬6). وقال المدائنيّ: ] وجرى بين مسلمة وأخيه هشام منافرة، فقال له مسلمة: كيف تطمع في الخلافة وأنت جبانٌ بخيل؟ ! فقال [هشام]: إلَّا أني عفيف حليم (¬7). ¬

_ (¬1) في (ص): وما وجدتُ شيئًا. (¬2) العقد الفريد 6/ 379 - 380. (¬3) في (ص): وأن ذلك العامل، بدل: وأنه. (¬4) بنحوه في "مختصر تاريخ دمشق" 27/ 99. (¬5) بنحوه في "الكامل" 5/ 263 - 264، و"مختصر تاريخ دمشق" 27/ 99 (ووقعت الترجمة ضمن خرم في "تاريخ دمشق")، و"البداية والنهاية" 13/ 152 - 153. (¬6) أنساب الأشراف 7/ 319. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬7) المصدر السابق 7/ 320، وبنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 205.

وقال هشام: اثنان يتعجَّلان النَّصَب، ولعلهما لا يظفران بالبُغْية: الحريصُ في حرصه، ومعلِّمُ البليد بما لا يبلُغه فهمُه (¬1). وقال لما تغيَّر على خالد القَسْرِيّ: الإفراط في الدالَّة تُفسد الحُرمة (¬2). [وقال أَيضًا: ] (¬3) نال رجل من عرض هشام فأحضره، فأخذ يعتذر، فقال له هشام: وتتكلَّم أَيضًا؟ ! فقال: إن الله تعالى يقول: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] أفنُجادِلُ اللهَ جدالًا ولا نُكلِّمُك كلامًا. فقال له هشام: تكلَّم بحجِّتك (¬4). [قال: ] ودخل عليه أعرابيٌّ، فجلس يأكل على سِماطه، فتعلَّقَتْ شعرة بلقمة في يد الأعرابي، فقال له هشام: نَحِّ الشعرةَ من لقمتك. فقال الأعرابي: وكأنَّك تُلاحظُني ملاحظةَ من يرى الشعرةَ في اللقمة! واللهِ لا أكلتُ لك بعد اليوم طعامًا. ثم خرج وهو يقول: ولَلموتُ خيرٌ من زيارة باخلٍ ... يلاحظُ أطرافَ الأكيلِ على عَمْدِ (¬5) وبعث إليه خالد القَسْريُّ حاديًا وقال: ليس في الدُّنيا من يَحْدُو مثلَه، فأحضره هشام وحدا بين يديه، فقال: قد همَّتِ الشمسُ ولما تَقْفُلِ ... فَهيَ على الأُفْقِ كعينِ الأحولِ فلم يقل هشام شيئًا (¬6). و[روى ابن أبي دريد، عن أبي عبيدة، عن يونس قال: ] اشترى هشام جارية، وخلا بها، فقالت: يَا أمير المُؤْمنين، ما أطمعُ في منزلة أعلى من منزلتي هذه إذْ صِرتُ إلى الخلافة، ولكن أخافُ النَّار، فإنَّه ليس لها خطر. قال: وما ذاك؟ قالت: إن بعض ولدك ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 327. (¬2) المصدر السابق 7/ 354. وهذا القول والذي قبله لم يردا في (ص). (¬3) يعني المدائني. والكلام بين حاصرتين من (ص). والكلام معطوف على ما ورد قبل قولين، لأنهما لم يردا في (ص). (¬4) العقد الفريد 2/ 187. (¬5) المصدر السابق 2/ 457 و 6/ 182. (¬6) الخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 330 - 331، و"تاريخ" الطبري 7/ 207، و"الأغاني" 10/ 155، و"العقد الفريد" 1/ 318 و 2/ 306، و"التذكرة الحمدونية" 3/ 373، وفيها أن هشامًا غضب وطرده. ولم يرد الخبر في (ص).

فلانًا اشتراني، فبتُّ عنده ليلة فألمَّ بي، ولا يحلُّ لك مَسِّي. [قال: ] فحظيت عنده، ولم يعرض لها، وولَّاها أمره (¬1). وقال لمؤدِّب أولاده: إذا سمعتَ من أحدٍ منهم كلمةً عوراء في مجلسِ جماعةٍ؛ فلا تُؤنِّبه، فتُخجله، وعسى أن يُبصر خطأه، فيكون بصره للخطأ أعظمَ من ابتدائه به، ولكن احفظها عليه، فإذا خَلَوْتَ به فرُدَّه عنها (¬2). ودخل الأبرش الكلبيُّ -واسمُه سعيد بن الوليد بن عبد عَمرو- على هشام، فسأله حاجة، فامتنع منها، فقال الأبرش: قد وعدتُ بها رجلًا، فلا بدَّ منها. فقال هشام: فذاك أبعدُ لك أن تعدَ بما ليس إليك. قال: فإنَّه مستحقٌّ. فقال هشام: فالكثيرُ من يرى أنَّه مستحقٌّ أمرًا ليس له بأهل. قال الأبرش: فقلت: أفٍّ لك، [إنك] واللهِ ما علمتُ قليلُ الخيرِ نَكِدًا، واللهِ ما نُصيبُ الشيء منك إلَّا بعد مسألة، فإذا أصبناه منك؛ مَنَنْتَ به، فقال: لا واللهِ، ولكن وجَدْنا الأعرابيَّ أقلَّ شكرًا. فقلت: واللهِ إنِّي لأكرهُ الرجلَ يُحصي ما يُعطي. ودخل أخوه سعيد بن عبد الملك ونحن في ذلك، فقال: يَا أَبا مجاشع، أتقول هذا لأمير المُؤْمنين؟ ! قلت: نعم، صحبتُ هذا وهو - واللهِ - أرذلُ بني أميَّة، وأنا يومئذ سيِّدُ قومي، وأكثرُهم مالًا، وأوجهُهُم جاهًا، [أُدْعَى] إلى الأمور العظام من قِبل الخلفاء، وما يطمع هذا فيما صار إليه، حتَّى إذا صار إلى البحر الأخضر؛ غرفَ لنا منه غَرْفَةً. فقال هشام: صدقتَ يَا أبرش، اغْفِرْها لي، فواللهِ لا أعودُ إلى شيءٍ تكره أبدًا. [قال: ] فما زال مكرمًا لي حتَّى مات (¬3). وكان بين مسلمة وهشام ابني عبد الملك تباعدٌ، وكان الأبرش يدخلُ عليهما، وكان أحسنَ النَّاس حديثًا وعقلًا، فقال له هشام: كيف تكون خاصًّا بي وأنت تتردَّد إلى مسلمة وقد علمتَ ما بينَنا، فقال الأبرش: أنا كما قال الشَّاعر: ¬

_ (¬1) المنتظم 7/ 98. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) لم أقف عليه. ولم يرد هذا القول في (ص). (¬3) مختصر تاريخ دمشق 4/ 189. وما سلف بين حاصرتين منه. ولم يرد هذا الخبر في (ص).

أُعاشِرُ قومًا لستُ أُخبِرُ بعضَهم ... بأسرار بعضٍ إنَّ صدري لَواسعُ فقال له هشام: أنتَ -واللهِ- كذلك (¬1). و[قال أبو القاسم ابن عساكر: ] عاش الأبرش إلى أيام [أبي جعفر] المنصور، [فحكى محمَّد بن سلَّام قال: ] حدا الأبرش بالمنصور في طريق الحج فقال: أغرُّ بين حاجبيه نورُهُ ... إذا توارى وبه ستورُهُ فأعطاه المنصور درهمًا، فقال له: يَا أمير المُؤْمنين، لقد حَدَوْتُ هشامًا بهذا [البيت] فأعطاني عَشَرَةَ آلاف درهم، فقال: يَا ربيع، طالِبْهُ بها، فإنَّ هشامًا أخذه من غير حِلِّهِ وأعطاه لمن لا يستحقُّه، فلم يزل أهل الدولة يشفعون له حتَّى أخذ المنصور منه الدرهم وخلَّاه (¬2). وقال هشام يومًا لجلسائه: كم أكثرُ [ما] ضَمَّتْ عليه الحَلَبَةُ من الخيل في الجاهلية والإِسلام؟ قالوا: ألفُ فرس. فأقام هشام أربعة آلاف فرس، وبرز إلى الدَّهناء -وهي صحراء الرُّصافة- وأطلق الخيل، فقال حفص الأُمويُّ الشَّاعر: إنَّ الجوادَ السابقَ الإمامُ ... خليفةُ اللهِ الرِّضى الهُمامُ أنجبَه (¬3) السَّوابقُ الكرامُ ... من منْجِباتٍ ما بهنَّ ذَامُ إنَّ هشامًا جدُّه هشامُ ... جرى به الأخوالُ والأعمامُ وأحرز المجدَ الذي أقاموا ... في حَلْبةٍ تَمَّ لها التَّمامُ من آلِ فِهْرٍ وهمُ السَّنَامُ ... سُبَّاقُ غاياتٍ لها ضِرامُ من أبيات. فأعطاه هشام مالًا وثيابًا وخيلًا. ولا تُعلم حَلْبَةٌ أُقيمت بمثل هذه (¬4). وكان حفصٌ هجَّاءً لبني هاشم، مادحًا لبني أمية، فلما ظهر عبد الله بن عليّ، أباح دمَه، فهرب، وطال عليه الأمر، وضاقت به الحيل، فجاء إلى مجلس عبد الله، فقال: ¬

_ (¬1) المصدر السابق 4/ 190، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 314. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬2) مختصر تاريخ دمشق 4/ 190 - 191، وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) في (ب) و (خ) و (د): أتينه. والمثبت من "تاريخ دمشق" 5/ 194، و"مختصره" 7/ 213. (¬4) تاريخ دمشق 5/ 194. وفيه قبله الخبر الآتي. ولم يرد في (ص).

عائذٌ بالله وبالأمير. قال: من أنت؟ قال: حفص الأُموي. قال: ألستَ الهجَّاء لبني هاشم؟ ! [قال: ] فأنا الذي أقول: وكانَتْ أميةُ في ملكها ... تجورُ وتُكثرُ عُدْوانَها فلمَّا رأى اللهُ أنْ قد طغَتْ ... ولم يُطِقِ النَّاسُ طغيانَها رماها بسفَّاحِ آل الرسولِ ... فجدَّ بكفَّيه أعيانَها ولو آمنَتْ قبلَ وقعِ العذابِ ... لقد قَبِلَ اللهُ إيمانَها فقال له عبد الله: اقعُدْ. فقعدَ بين يديه، وتغدَّى معه، فسارَّ عبد الله خادمًا له، ففزع حفص وقال: أيها الأمير، إنِّي قد تَحرَّمْتُ بطعامك، وفي أقلَّ من هذا كانت العربُ تُجير في الدِّماء، فقال: لا بأس عليك. وجاء الخادمُ ومعه خمسُ مئة دينار، فقال له: خُذْها وأصلح ما شَعَّثْتَ منَّا. وكان هشام جالسًا يومًا وعنده الأبرش [الكلبي] إذ طلعت جارية، فقال الأبرش؛ مازحَها فقال: هَبي لي حُلِيَّكِ، فقالت: لأنتَ أطمعُ من أَشْعَب. فقال هشام. مَنْ أَشْعَب؟ قالت: مِضْحاكٌ بالمدينة. وذكرتْ طرفًا من حكاياته، فقال هشام: اكتُبوا إلى عامل المدينة ليُحمل إلينا. ثم استدرك، فأطرقَ رأسه ساعةً (¬1) ورفع رأسه فقال: يَا أبرش، نكتبُ إلي عامل مدينةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيحمل إلينا مضحاكًا! لا ها اللهِ ذا. ثم تمثَّل بهذا البيت: إذا أنتَ طاوَعْتَ الهَوى قادَك الهَوَى ... إلى بعض ما للنفسِ فيه مقالُ (¬2) وقال سليمان بنُ مجالد أخو أبي جعفر المنصور من الرَّضاعة: قدمنا الرُّصافةَ على هشام وأبو جعفر على حمار، وإنا أسوقه، فنرلنا على مَسْلَمةَ بنِ عبد الملك ليأخذ ¬

_ (¬1) في (ب) و (ص). فأطرق ساعة. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 317، ومروج الذهب، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 101. واختلف سياق الخبر في (ص) عن باقي النسخ، فجاء فيها قوله: وقال هشام بن محمَّد: كان هشام بن عبد الملك ينشد دائمًا: إذا أَنْتَ طاوعت ... البيت قال: وسببُه أنَّه كان جالسًا يومًا وعنده الأبر الكلبي إذا طلعت جارية .. إلخ.

مقاتل بن حيان البلخي

رأيه، فدفَع إلينا خمس مئة درهم، وسُفْرَة فيها طعام، وحذَّرَنا هشام (¬1) وقال: لا تبيتا الليلة ها هنا. فخرجنا فسرينا طُول الليل، فلما طلعَ الفجر نَزَلْنَا نصلي، فإذا بهشام في موكبه، فلما رآنا رقَّ لنا، ونزل فصلَّى، وبعث إلى أبي جعفر بفرسه الذي كان عليه، فركبه (¬2)، وركبتُ الحمار، فقال أبو جعفر: اللهمَّ كما حَمَلْتَنِي على فرسه؛ فأجْلِسْنِي في مجلسِه. فاستجابَ الله له (¬3). وقال هشام: يُعرفُ حُمقُ الرجلِ بأربعة أشياء: بطول لحيته، وكنيته، وإفراط شهوته، ونقش خاتمه. فدخل عليه شيخ طويل اللحية، فقال: أمَّا هذا فقد أتاكم بواحدة، فانظروا أين هو من الثلاثة؟ فقال له: ما كنيتُك؟ قال: أبو الياقوت. قال. فأيُّ الطعام تحبُّ؟ قال: الجَلَنْجَبِين (¬4). قال: فما نَقْشُ خاتَمِك؟ قال: {وَتَفَقَّدَ الطَّيرَ فَقَال مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] فقال: حسبك (¬5)! ذكر جماعة من الوافدين عليه: [قال علماء السير: ومن الوافدين على هشام: ] مقاتل بن حيَّان البَلْخيّ [مولى بني بكر بن وائل، وقيل: مولى بني شيبان، وقيل: مولى تيم الله] ذكره خليفة في الطَّبقة الثالثة (¬6) من أهل خُراسان. ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها). والجادة: هشامًا. (¬2) في (د): فنزل فركبه. (¬3) الخبر بأطول منه في "تاريخ دمشق" 7/ 636 (مصورة دار البشير- ترجمة سليمان بن مجالد) ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬4) كلمة فارسية، وتعني مربّى الورد بالعسل. (¬5) عيون الأخبار 2/ 39 - 40. وبنحوه في "البيان والتبيين" 4/ 18 - 19. (¬6) في (ب) و (خ) و (د): مقاتل بن حيان البلخي من الطَّبقة الثالثة ... إلخ. والمثبت من (ص) وما بين حاصرتين منها. وهو كذلك في "تاريخ دمشق" 17/ 112 (مصورة دار البشير) عن خليفة لكنه في "طبقاته" ص 322 في الطبقة الثانية.

وفد على عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وعنده رجلٌ يُحدِّثُه، وعُمرُ مقبلٌ عليه بوجهه. قال مقاتل: فلما خرج قلت: يَا أمير المُؤْمنين، مَنْ هذا الذي أقبلتَ عليه بوجهك؟ قال: أرأيتَ؟ ! قلت: نعم. قال: ذاك الخَضِر - عليه السلام - (¬1). [قال: وكانوا ثلاث إخوة، أو أربعة: مقاتل، والحسن، ويزيد، ومصعب بنو حيَّان]. وكان حيَّان يلي الولايات بخراسان، عظيمَ القدر عند بني أمية، وحضر قتال المهلَّب بن أبي صُفْرة يوم العَقْر (¬2). وكان قتيبة يكتب إلى الحجَّاج، فيشكره ويذكر مواقفه، فكتب إليه الحَجَّاج: يَا أَبا حفص، ما أدري ما حيَّانُك، إلَّا أني أراه مشتملًا لك على غَدْرَة. فكان كما قال، ألَّب [حيَّان] على قتيبة، وأعان عليه حتى قتلوه (¬3). وكان مقاتل ناسكًا فاضلًا، أسلمَ على يده خلقٌ كثير من أهل كابل في أيام أبي مسلم، وكان قد هرب منه، فالتجأ إلى ملك كابُل، وأقام عنده حتَّى مات، فحزن عليه الملك فقيل له: إنه ليس من أهل دينك! فقال: إنه رجل صالح (¬4). حدَّث مقاتل عن سالم، وعطاء، ومجاهد، والحسن البَصْرِيّ، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وأبي بُرْدَة، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم. وصنَّف التفسير (¬5)، وروى عنه الأئمة والزُّهَّاد، كعبد الله بن المبارك، وإبراهيم بن الأدهم، وحفص بن ميسرة، في آخرين. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. وفي صحة هذا الخبر نظر. فالذي ذهب إليه المحققون من العلماء أنَّه لو كان حيًّا زمن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للزمه المجيء إليه والإيمان به. ينظر خلاصة الكلام فيه في "عون المعبود" 11/ 392 - 393. (¬2) في "تاريخ دمشق" 17/ 113: حضر قتال يزيد بن المهلَّب، وهو الصواب. والعَقْر عدة مواضع، منها عقر بابل قرب كربلاء قتل عنده يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وهو المراد هنا. ينظر و"معجم البلدان" 4/ 136. (¬3) تاريخ دمشق 17/ 113. وقتيبة: هو ابن مسلم. (¬4) المصدر السابق. (¬5) كذا قال، وهو وهم، وصاحب التفسير مقاتل بن سليمان، وهو ضعيف، بينما مقاتل بين حيان ثِقَة، روى له مسلم والأربعة.

الأخطل الشاعر

واتفقوا على صدقِهِ وثقته وورعه، لم يتكلَّم فيه أحد. قال المصنف رحمه الله: ولم أقف على تاريخ وفاته (¬1). ومن الوافدين عليه: الفرزدق الشاعر [قال أبو عبيدة: أنشده: فبِتْنَ بجانبيَّ مصرَّعاتٍ ... وبتُّ أفُضُّ أغلاقَ الخِتامِ عنى بالفَضِّ عن الجماع. فقال هشام: أمَّا أَنْتَ؛ فقد أقررتَ بالزِّنى، وأنا وليُّ إقامته، ولابدَّ من حدِّك. فقال له الفرزدق: يمنعك من ذلك آية. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلى قوله: {مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224 - 226]. ثم ارتحل يقول: لقد شهدتْ لي في الطواسينِ آيةٌ ... أقامَ بها عذري الكتابُ المنزَّلُ "يقولون ما لا يفعلون" وإنني ... من القوم قوَّالٌ لما كنتُ أفعلُ فقال له هشام: نجَوْتَ] (¬2). و[من الوافدين على هشام: ] الأخطل الشاعر [واسمه غياث بن غَوْث، وقيل: ابن غُوَيْث. وقال الجاحظ: اسمه غيث (¬3) بن مُغيث بن الصَّلْت بن طارق (¬4) التغلبي النصراني. واختلفوا لم سُمِّيَ الأخطل؛ قيل: لطول أُذنيه ورخاوتهما. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 4/ 143: مات قبل الخمسين ومئة تقريبًا. (¬2) لم أقف عليه. ووردت القصة للفرزدق مع سليمان بن عبد الملك، كما في "الشعر والشعراء" 1/ 478، و"الأغاني" 21/ 373، وهذا الكلام من (ص) وهو ما بين حاصرتين، ولم يرد في (ب) و (خ) و (د) منه سوى قوله أعلاه: ومن الوافدين عليه الفرزدق الشَّاعر، والأخطل الشَّاعر ... وسلفت ترجمة الفرزدق سنة (111). (¬3) كذا في (ص) والكلام منها. وفي "تاريخ دمشق" 57/ 331 عن الجاحظ: غوث. (¬4) كذا في رواية في المصدر السابق. وفي غيرها: طارقة.

قال الجوهريُّ (¬1): أذنٌ خَطْلاء: بيِّنة الخَطَل مسترخية، وثَلَّةٌ خُطْل، وهي الغنم المسترخية الآذان. وكذا الكلاب. قال: ومنه سُمِّيَ الأخطل. وقيل: إنما سُمِّيَ به لخَطَل لسانه، أي: طوله. وقيل: إنما سُمِّيَ به لفُحش كلامه. قال الجوهري (¬2): وكان الأخطل يلقَّب بدَوْبَل، وهو حمار صغير لا يكبر، وكان الأخطل مقدَّمًا عند بني أمية. قال حمَّاد الراوية: وكان يُقدَّم على الفرزدق وجرير. والأخطل هو الذي أمره يزيد بن معاوية أن يهجوَ الْأَنصار، فقال: واللُّؤمُ تحتَ عمائمِ الأنصارِ (¬3) وقد ذكرناه. وقال أبو عُبيد: ] دخل على هشام، فأنشده قصيدتَه التي يقول فيها: وإذا افْتَقَرْتَ إلى الذخائر لم تَجِدْ ... ذُخْرًا يكون كصالحِ الأعمالِ فقال له هشام: يهنيك الإِسلام. فقال: مازلتُ مسلمًا. يعني في دينه (¬4). ذكر وفاته [روى هشام بن محمَّد الكلبي عن أَبيه قال: ] جلس [هشام بن عبد الملك] يومًا في قصره [مع ندمائه] وأمر بحفظ الأبواب، وإذ دخل عليه رجل جميلٌ، كأنَّ الشمسَ تطلعُ من ثناياه [أو ثيابه]، فألقى إليه صحيفة من ذهب فيها مكتوب: بئس الزاد إلى المعاد العدوانُ على العباد. ثم غاب الرَّجل، فسأل هشامٌ الحجَّاب: من أين دخل هذا؟ ! فقالوا: ما رأيناه. فأنكر هشام (¬5)، ومات بعد ذلك بشهر (¬6). ¬

_ (¬1) في "الصحاح" 4/ 1685 (خطل). (¬2) المصدر السابق 4/ 1695 (دبل). (¬3) ينظر "الشعر والشعراء" 1/ 484، و"تاريخ دمشق" 57/ 343. (¬4) طبقات فحول الشعراء 2/ 493 - 494، والأغاني 8/ 310، وتاريخ دمشق 57/ 334. (¬5) في (ص): فأنكس هشام رأسه. (¬6) مختصر تاريخ دمشق 27/ 103. وفي صحة الخبر نظر.

وقال الواقديّ: خرج هشام يومًا إلى أصحابه وهو كئيب، فسألوه عن حاله، فقال: كيف لا أحزن وأنا أموت بعد ثلاث وثلَاثين ليلة؟ ! فلما استكملها مات، كأنَّه رآه في منامه (¬1). [قال أبو اليقظان: ] ولما احتُضر نظر إلى أولاده يبكون حوله، فقال: جاد لكم هشام بالدنيا، وجُدْتُم له بالبكاء، وترك لكم جميع ما جمع، وتركتُم عليه إثم ما اكتسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يُغفر له (¬2)! وقال [ابن أبي الدنيا في كتاب "الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان" عن] المنهال مولى بني أمية: حبسَ هشام بنُ عبد الملك عياضَ بن مسلم (¬3) كاتب الوليد بن يزيد، وضربه، وألبسه المُسُوح، فلم يزل محبوسًا حتَّى مات هشام. فلما ثَقُل وصار في حدِّ أنَّه لا يُرجى؛ رَهِقَتْه غَشْيَة، فظنُّوا أنَّه قد مات، فأرسل عِياض إلى الخُزَّان: احتفظوا بما في أيديكم، فلا يصلنَّ أحدٌ إلى شيء. وأفاقَ هشام فطلبوا من الخُزَّان شيئًا، فلم يعطوهم. فقال هشام: إنما كنا خُزَّانًا للوليد. ومات [هشام] من ساعته، فخرج عِياض إلى الخزائن فختم عليها، وأمر بهشام، فأُنزل عن سريره، ومنعهم أن يكفِّنوه من الخزائن، فكفَّنه غالب مولاه، ولم يجدوا قُمْقُمًا يسخنوا [له] فيه الماء حتَّى استعاروه (¬4). [وقيل: ] واشترَوْا له حطبًا من السوق، فقال النَّاس: إن في ذلك لعبرةً لمن اعتبر (¬5). [قال هشام: وكان الوليد بن يزيد قد هرب من الرُّصافة خوفًا من هشام، وتركَ كاتبَه عياضَ بنَ مسلم عند هشام يطالعُه الأخبار، وكان عياض كاتبًا لعبد الملك بن مروان، فعلم هشامٌ، فحبسَه] (¬6). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 323، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 104 ضمن خبر مطول. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 362، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 104. (¬3) في النسخ: عياض بن أبي مسلم، وهو خطأ. (¬4) الاعتبار (62)، وتاريخ دمشق 56/ 455 (ترجمة عياض بن مسلم) وكذا في ترجمة هشام كما في "مختصره" 7/ 104 - 105، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 323 - 324، و"تاريخ" الطبري 7/ 201. (¬5) مختصر تاريخ دمشق 27/ 105. (¬6) الكلام بين حاصرتين من (ص).

وقال الهيثم [والواقدي]: لما حجَّ الوليد بنُ يزيد في سنة ستَّ عشرة ومئة، وظهر منه من الفسق ما ظهر [وحملِه الخَمر في الصناديق إلى مكة، وكلابَ الصيد]، مَقَتَه هشام ونفاه، فخرج من الرُّصافة إلى الشَّام بأهله [وقيانه] فنزل ماءً [بالشام] يقال له: الأزرق، وقيل: [نزل على ماء يقال له]: الأغدق (¬1) [وخلَّف كاتبه عياضًا بالرُّصافة] وخرج معه بعبد الصمد بن عبد الأعلى، فجلسا يشربان يومًا [فقال الوليد لعبد الصمد: أنشدني]. فأنشده عبدُ الصمد أبياتًا منها: لعلَّ الوليدَ دنا مُلْكُهُ ... فأمسى إليه (¬2) قد استجمعا وكُنَّا نُؤمِّلُ في مُلْكِهِ ... كتأميلِ ذي الجَدْب أن يُمْرِعَا عَقَدْنا له مُحْكَمَاتِ العُهُو ... دِ (¬3) طوعًا وكان لها موضعا فبلغ هشامًا، فكتب إلى الوليد: قد بلغني [أنك] اتخذت عبدَ الصمد الزنديقَ نديمًا وجليسًا، وقد تحقَّقَتْ عندي الآن زندقتُك ومروقُك عن الإِسلام، فإنْ عشتُ فسوف ترى. ثم قطع ما كان يُجريه عليه وعلى عبد الصمد، ثم قال لابنه: إنَّ عِياضًا يكاتب الوليد، فاضربه ضربًا مبرّحًا. فضربه وسجنه، وبلغ الوليد فقال: مَنْ يثقُ بالنَّاس؟ هذا الأحول المشؤوم قدَّمه أبي [عليّ] ويفعل بي هذا؟ ! ثم تمثَّل: أتشمخون ومنَّا (¬4) رأسُ دولتِكم (¬5) ... ستعلمون إذا كانَتْ لنا دُوَلُ (¬6) ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الأربعة، و"الأغاني" 2/ 240. ووقع في "تاريخ" الطبري 7/ 211، و"الأغاني" 7/ 8: الأغدف. وفي "الأغاني" أَيضًا: الأبرق، بدل: الأزرق. (¬2) في النسخ: إليها. والمثبت من"تاريخ" الطبري 7/ 211، و"الأغاني" 7/ 9 وهو المناسب للسياق. (¬3) في المصدرين السابقين: الأمور، بدل: العهود. (¬4) في النسخ الأربعة: زمانًا. والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 482، و"تاريخ" الطبري 7/ 212، و"الأغاني" 7/ 10. (¬5) في المصادر السابقة: نعمتكم. (¬6) كذا في النسخ الأربعة. والبيت (كما في المصادر السالفة) ضمن أبيات قافيتها لام مفتوحة، وفي "تاريخ" الطبري 7/ 212: إذا كانت لنا دولا. وفي "أنساب الأشراف" 7/ 482: إذا صرتم لنا خَوَلا. وفي "الأغاني" 7/ 10: إذا أبصرتُم الدولا.

ثم كتب إلى هشام: بلغني أنَّك قطعتَ صلتي وما فعلتَ بأصحابي، فإن كان ذلك لشيءٍ في نفسك عليَّ، فقد سَبَّبَ [الله] لي من العهد، وكتبَ لي من العمر، وقَسَمَ لي من الرِّزق ما لا يقدرُ أحدٌ على قطعه، أو على قطع شيء منه دون مدَّته، وقَدَرُ الله يجري بمقاديره، كره النَّاس أو أحبُّوا، لا تأخير لعاجله، ولا تعجيل لآجله. وكتب في أسفل الكتاب: رأيتُكَ تبني دائمًا (¬1) في قطيعتي ... ولو كنتَ ذا عزمٍ (¬2) لهَدَّمْتَ ما تبني تُثير على الباقين منّي (¬3) ضغينةً ... فويلٌ لهم إنْ مُتَّ من شرِّ ما تجني كفرتَ يدًا من منعمٍ لو شكرتَها ... جزاكَ بها الرحمنُ ذو الفضلِ والمَنِّ (¬4) فكتب إليه هشام يُوبِّخُه ويُفَسِّقُه ويزندقُه، وقال: أستغفرُ الله مما كنتُ أُجريه عليك، فإنِّي إلى المأثم أقربُ من غيره. فلما قرأ كتابَه أيقن بالعزل، ولم يجد من طرد عبد الصمد بدًّا، فأبعدَه، وكتبَ إلى هشام يعتذرُ من منادمته. و[بقي] الوليد مقيمًا بالأزرق منكسرًا مهمومًا، فركب يومًا ولجَّجَ في البَرِّيَّة ومعه أبو الزُّبير المنذر بن أبي عمرو، فقال: يَا منذر، لقد طالتْ عليَّ الليلة، وأرقْتُ أرقًا كثيرًا، وإني لخائفٌ من الأحول المشؤوم. وجعل يشكو إليه، وإذا براكبين قد أقبلا من صدر البَرِّيَّة، فَقرُبا منه، فتأمَّلَهما، وإذا بمولًى لآل أبي سفيان (¬5)، وآخر يقال له: جردبة، فقال لهما: أمات هشام (¬6)؟ ! قالا: نعم. قال: فما فعل كاتبي (¬7)؟ فأخبراه بما ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 7/ 484، و"تاريخ" الطبري 7/ 215: جاهدًا. (¬2) في "أنساب الأشراف": ذا عقل، وفي "تاريخ" الطبري: ذا إرب. (¬3) في المصدرين السالفين: مجنى بدل: منّي. وفي "أنساب الأشراف": ستترك للباقين. (¬4) يُقارن سياق الخبر هنا بسياقه في المصدرين السابقين. (¬5) في "أنساب الأشراف" 7/ 490، و"تاريخ" الطبري 7/ 215: مولى أبي محمَّد السفياني. (¬6) في المصدرين السابقين: فلما بَصُرا بالوليد نزلا ثم دنوا منه فسلَّما عليه بالخلافة، فوجم ثم قال: أمات هشام ... وبنحوه في "الأغاني" 7/ 15. (¬7) في (ص): عياض (وهو اسم الكاتب).

صنع في الخزائن، فكتب الوليد إلى العبَّاس بن الوليد بن عبد الملك وكان بدمشق: أن سِرْ إلى الرُّصافة، واحْتَطْ على الخزائن، وعلى أموال بني هاشم، إلَّا مسلمة بن هشام، فلا تتعرَّضْ له، وكان مسلمةُ يكلِّم أباه دائمًا في الرِّفق بالوليد (¬1). فسار العبَّاس إلى الرُّصافة، ففعل ما أمره له الوليد. وجاءته أمُّ سلمة بنت يعقوب المخزومية -وهي امرأة مسلمة بن هشام- فشكت زوجَها إلى العبَّاس [وقالت: إنه لا يُفيق من الشراب، ولا اكترث لموت أَبيه. فوبَّخه العبَّاس] ونهاه عنها فأكذَبها مسلمة، وطلَّقَها في ذلك المجلس، فشخصت تُريد فلسطين، فمرَّت بالحِمَّة، فتزوَّجَها أبو العبَّاس السفَّاح (¬2). واختلفوا في وفاة هشام، فقال أبو معشر: تُوفِّي هشام ليلة الأربعاء لستٍّ خلونَ من ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومئة بقصره بالرُّصافة، وبها قبرُه، وهي من أرض قنّسرين. وقال المدائنيّ والبلاذُري: مات لستّ خلونَ من ربيع الآخِر من ورم لحقَه في حَلْقِهِ يقال له: الحرذون، وقيل: الذُّبْحَة [وهي وجع الحلق. قال المدائني: والرُّصافة قديمة بناها بعض ملوك الرُّوم، وإنما نُسبت إلى هشام لبنائه بها قصرَين عظيمَين. واختلفوا في أيَّامه، فقال الواقديّ: ] كانت أيامُ خلافتِه تسعَ عشرةَ سنة وسبعة أشهر وعشر ليال. [وهذا موافق لما أكل من التفاح في منامه]. وقال الكلبي: تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وأيامًا. واختلفوا في سنّه، فقال هشام: عاش خمسًا وخمسين سنة، وقيل: ستًّا وخمسين، وقيل: من الخمسين إلى خمس وخمسين، وصلّى عليه ابنُه مسلمة بن هشام (¬3). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 490 - 491، وتاريخ الطبري 7/ 215 - 216. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 491، والأغاني 7/ 25. (¬3) جاءت الأقوال في (ب) و (خ) و (د) دون نسبة لقائليها، والمثبت من (ص) وما سلف بين حاصرتين منها. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 323، و"تاريخ" الطبري 7/ 201، و"العقد الفريد" 4/ 452، و"مختصر دمشق" 27/ 105.

[وقال ابن أبي الدنيا: ] ولما مات [هشام] ودفن، وقف مولًى له على قبره، فقال: فُعل بنا بعدك. وعدَّد أشياءَ. وهناك أعرابيٌّ قائم، فقال: إيه عنك (¬1)، فلو كُشف لكم عنه لأخبركم أنَّه لقيَ أشدَّ ممَّا لقيتُم (¬2). [قال أبو القاسم ابن عساكر: ] ولمَّا مات هشام وأخذوا في غَسْلِهِ والناسُ قيامٌ؛ نظرَ ابنُ عبد الأعلى الشَّاعر إلى البيت الذي فيه هشام وقال: وما سالمٌ عمَّا قليلٍ بسالمٍ ... ولو كثُرَتْ أحراسُه وكتائبُهْ ومَنْ يكُ ذا بابٍ شديدٍ وحاجبٍ ... فعمَّا قليلٍ يهجُرُ البابَ حاجِبُهْ ويُصبحُ بعد العزِّ يُقصيهِ أهلُهُ ... رهينًا بلحدٍ لم تُمَهَّدْ جوانبُهْ فما كان إلَّا الدَّفْنُ حتَّى تفرَّقَتْ ... إلى غيره أجنادُهُ ومَوَاكبُهْ وأصبح مسرورًا به كلُّ شامتٍ ... وأَسْلَمَهُ أحبابُه وأقارِبُهْ فنفسَكَ فَاكْسُهَا (¬3) السَّعادةَ والتُّقَى ... فكلُّ امرئٍ رهنٌ بما هو كاسِبُهْ [قال: ] فما رؤي أكثر باكيًا من ذلك اليوم (¬4). وسالم في هذا الشعر كاتبُ هشام ومولاه. وهذا الشَّاعر اسمُه عبد الله [بن عبد الأعلى] وهو أخو عبد الصمد المتهومِ بالزَّنْدقَة [وكان جليسَ الوليد بن يزيد بن عبد الملك. وكان لعبد الله شعر، ومنه ما كان يَتَرنَّمُ به عمر بنُ عبد العزيز: أيقظانُ أنتَ اليومَ أمْ أنتَ نائمُ] (¬5) وكان عبد الله مباينًا لعبد الصمد، وهو القائل: ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) و (د). وفي (ص): إنه عنك مشغول. (¬2) بنحوه في "مختصر تاريخ دمشق" 27/ 105. (¬3) في (ص): فاكْسِبْها. (¬4) ينظر: تاريخ دمشق 7/ 40 (مصورة دار البشير- ترجمة سالم بن عبد الله مولى هشام)، ومختصره 12/ 334 (ترجمة عبد الله بن عبد الأعلى). وذكر المسعودي الخبر مع الأبيات في "مروج الذهب" 5/ 414 - 415 في وفاة سليمان بن عبد الملك. (¬5) صدر بيت، وعجزُه: وكيف يُطيق النومَ حيرانُ هائمُ. ينظر "حلية الأولياء" 5/ 319، و"تاريخ دمشق" 54/ 197 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -). وهذا الكلام الواقع بين حاصرتين من (ص).

قال لي أنتَ أخو الكلبِ وفي ... ظَنِّهِ أنْ قد تَنَاهَى واجْتَهَدْ فَحَمِدْتُ اللهَ شُكرًا أنَّهُ ... ما دَرَى أنِّي أخو عبد الصَّمَدْ (¬1) وكان أبو جعفر المنصور يثني على هشام ويقول: كان رجل القوم. ذكر أولاده: كان له عدَّةُ أولاد: معاوية، وسليمان، ومَسْلَمة، ويزيد، [ومحمد]، وسعيد، وعبد الملك، ومروان، وزيد، وعبد الرحمن، وقُريشْ، وأمُّ يحيى، وأمُّ سلمة، وزَينب. فأمَّا معاوية: [بن هشام؛ فقال الزُّبير بن بكار: ] كنيتُه أبو شاكر، كان جوادًا ممدَّحًا، سيِّد ولد هشام، وكان يسكن دار أَبيه بدمشق. [وحكينا عن أبي القاسم ابن عساكر أنها كانت] بناحيه الخوَّاصين، وبعضُها اليوم مدرسة نور الدين محمود [بن زنكي] رحمه الله. وأمُّه أمُّ ولد، وهي أمُّ أخيه سعيد، ويقال: أمُّه أمُّ حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص، وهي أمُّ مَسْلَمة، ويزيد، ومحمَّد، وأمّ يحيى. ومعاوية من الطَّبقة الرابعة من أهل الشَّام، غزا الروم (¬2) من سنة ست ومئة إلى سنة تسع عشرة ومئة وفتح فتوحًا كثيرة، [وكان البطَّال معه في بعضها، وكان ينزل دَيْرَ حَنِينَاء (¬3). ¬

_ (¬1) هذا الخبر من (ب) و (خ) و (د) ولم يرد في (ص). ونسب ابن عساكر هذا الشعر في "تاريخ دمشق" 42/ 287 لعبد المحسن الصُّوري، وقد قاله في أخيه عبد الصمد بن محمَّد. ثم إن ابن عساكر لم يذكر الشعر في ترجمة عبد الصمد بن عبد الأعلى. ولعل المصنف (أو المختصر) وهم، فقد سلف له مثلُ هذا، والله أعلم. (¬2) في (ص): وذكره ابنُ سُميع في الطَّبقة الرابعة من أهل الشام وقال: كان معاوية بن هشام سيد ولد هشام وغزا الروم ... إلخ. وسلف بعض هذا الكلام من النسخ الأخرى، وينظر "تاريخ دمشق" 68/ 382 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) حَنِينَاء من أعمال دمشق، كما ذكر ياقوت في "معجم البلدان" 2/ 312، ونقل عن نصر قوله: هي من قرى قِنّسرين.

وقال الهيثم: لما حجَّ الوليد بن يزيد في سنة ست عشرة ومئة ومعه الخمور وكلاب الصيد والقِيان؛ عزم هشام على خلعه وتوليةِ ابنِه معاوية الخلافة، فكتب الوليد بن يزيد إلى هشام: يَا أيُّها السائلُ عن مذهبي ... إنِّي على دينِ أبي شاكرِ يشربها صِرْفًا وممزوجةً ... بالثلج أحيانًا وبالفاترِ فقال هشام لابنه: ويحك! أُرَشِّحُك للخلافة، ويعَيِّرُني بك الوليد! وقيل: إن صاحب الواقعة مسلمة بن هشام، وإن الوليد عيَّرَ هشامًا بمسلمة، وكان يكنى أَبا شاكر أَيضًا] (¬1). وذكر أبو القاسم ابن عساكر عن مروان بن الهُذيل (¬2) قال: تذاكروا أيامَ هشام ودوامَها، وما كفَّ الله عنه من المكروه ممَّن خالفه من أعدائه، وما يعطي جيوشَه من النصر والظَّفَر في جميع الأقطار، فخرج ابنُه معاويةُ يومًا يتصيَّد، فركض خلف ثعلب، فعثر به فرسُه، فوقعَ ميتًا، فقال هشام: واغوثاه بالله! أُرَشِّحُهُ للخلافة، ويعدو خلف ثعلب (¬3)! قال مروان (¬4): ولم تزل المصائب تتوالى على هشام بعد ذلك حتَّى مضى لسبيله. وقيل: إن معاوية هلك في سنة ثماني -أو تسع- عشرة ومئة. وولدُه عبد الرَّحْمَن بنُ معاوية هو الداخل إلى المغرب، وسنذكره. وأمَّا سليمان: فكنيتُه أبو الغَمْر، وأمُّه أمُّ حكيم بنت يحيى بن الحكم، وهي أمُّ مروان. وقيل: سليمان لأمِّ ولد. وكان شاعرًا، وسجنَه الوليد بن يزيد بعد موت أَبيه هشام بعمَّان بعد أنْ ضربَه مئةَ سَوْط، وحلقَ رأسَه ولحيتَه لأنه كان يحرِّض أباه عليه. ¬

_ (¬1) هذا الخبر من (ص) (وهو ما بين حاصرتين) ولم أقف عليه في حقّ معاوية بن هشام، وسيرد الخبر من النسخ الأخرى في مسلمة بن هشام وهو الذي ذكرَتْه المصادر كما سيرد. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): وقال مروان بن الهذيل: تذاكروا ... والمثبت عبارة (ص). وجاء في "تاريخ دمشق" 68/ 385: مرزوق بن أبي الهُذيل. وهو الأشبه. غير أنَّه جاء آخر الخبر (كما جاء هنا): قال مروان ... الخ. والله أعلم. (¬3) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 207، والمصدر السابق. (¬4) تاريخ دمشق 68/ 385. وينظر الكلام قبل تعليق.

فأقام محبوسًا، فلمَّا قُتلَ الوليد بن يزيد؛ خرجَ من السجن، فلحقَ بيزيد بن الوليد، فولَّاه بعض حروبه، فكسَرَهُ مروان بن محمَّد بعين الجَرّ (¬1)، فهرب إلى تدمر، ثم استأمن [إلى] مروانَ فأمَّنه، فبايعه، ثم خلعه، واجتمع إليه سبعون ألفًا، وطمع في الخلافة، فبعث إليه مروان جيشًا فكسره، ومضى إلى حمص، فتحصَّن بها، فسار إليه مروان، فهرب منه، ولحق بالضحَّاك بن قيس الشيبانيّ الحروريّ، فبايَعَه سليمان، فقال الشَّاعر: ألم ترَ أن الله أظهرَ دينَهُ ... وصلَّتْ قريشٌ خلفَ بَكْرِ بنِ وائلِ (¬2) وعاش سليمان إلى أيام السَّفَّاح، فقتله السفَّاح [بشعر قاله سُدَيف، وسنذكره في أيام السفَّاح] (¬3). وغزا سليمان أرضَ الرُّوم سنة ثلاث عشرة ومئة، فافتتح أقرن، وأخذ عظيمًا من عظمائهم، وغزا الصائفة في سنة عشرين، وما زال على الصوائف حتَّى مات هشام (¬4). وأمَّا مسلمة بنُ هشام: كنيتُه أبو شاكر، وأمُّه أمُّ حكيم، وكان شريفًا ممدَّحًا. وليَ الموسمَ سنة عشر ومئة، وغزا الصائفة سنة تسعَ عشرةَ ومئة (¬5)، وغزا سنة إحدى وعشرين، وسنة عشرين، وسار معه أبوه هشام مودِّعًا له حتَّى أتى مَلَطْيَة (¬6). وكان قد عزمَ على توليته الخلافة وخلع الوليد، وأجابه أعيان بني أمية وأهلُ الشَّام، فعيَّر الوليدُ بنُ يزيد أباه هشامًا فقال: ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): بعين الجد. والمثبت من"أنساب الأشراف" 7/ 579، و"تاريخ دمشق" 7/ 651 (مصورة دار البشير). وقال ياقوت في "معجم البلدان" 4/ 177: عين الجرّ موضع معروف بالبقاع بين بعلبك ودمشق. قلت: واسمها الآن: عنجر. (¬2) تاريخ دمشق 7/ 651 (مصورة دار البشير). وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 576 - 580. (¬3) ما بين حاصرتين من (ص)، ولم يرد فيها من الكلام على سليمان بن هشام إلَّا قوله المذكور آخرًا: وعاش سليمان إلى أيام السفَّاح ... إلخ. وسُديف: هو ابن ميمون، وهو الذي حرَّض على قتل سليمان بشعر قاله لأبي العبَّاس السفاح. (¬4) تاريخ دمشق 7/ 652 - 653 (مصورة دار البشير). (¬5) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) وفيه نظر، فالذي حجَّ بالنَّاس سنة عشر ومئة إبراهيم بن هشام المخزومي، كما في "تاريخ" خليفة ص 340، و"تاريخ" الطبري 7/ 66 وأما مسلمة فقد حجَّ بالنَّاس سنة تسع عشرة ومئة، كما في "تاريخ" خليفة أيضًا ص 349 و"تاريخ" الطبري 7/ 138، و"تاريخ دمشق" 67/ 191 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) تاريخ دمشق 67/ 192.

يَا أيُّها السائلُ عن ديننا ... إنِّي (¬1) على دينِ أبي شاكرِ نشربُها صِرْفًا وممزوجةً ... بالثَّلجِ (¬2) أحيانًا وبالفاترِ فقال بعضُ موالي المدينة: يَا أيُّها السائل عن ديننا ... إنِّي (¬3) على دين أبي شاكرِ الواهب الجُرْدَ (¬4) بأرسانها ... ليس بزنديقٍ ولا كافرِ يعرِّضُ بالوليد بن يزيد. ولما رشّحه هشام للخلافة قال الكُميت الشَّاعر (¬5): إنَّ الخلافةَ كائنٌ أوتادُها ... بعدَ الوليدِ إلى ابنِ أمِّ حكيمِ ولما بلغَ خالدَ بنَ عبد الله القَسْرِيَّ قال: أنا بريءٌ من خليفة يسمَّى أَبا شاكر، فحقدَها عليه مسلمة، فلما مات أسدُ بنُ عبد الله أخو خالد؛ كتبَ مسلمةُ بنُ هشام إلى خالد بشعرٍ هجاه به يحيى بنُ نوفل وأخاه حين مات: أراحَ من خالدٍ وأهلكَهُ ... ربٌّ أراحَ العبادَ من أسَدِ أما أبوه فكان مُؤْتَشَبًا ... عبدًا لئيمًا لأَعْبُدٍ قُفُدِ (¬6) وبعث بالطُّومار (¬7) مع رسولٍ على البريد، فظنَّ خالدٌ أنَّه عزَّاه عن أخيه، فلما فتح الطُّومار لم يجد فيه غيرَ البيتين، فقال: ما رأيتُ كاليومَ تعزيةً (¬8). ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 7/ 330، و 477، و"تاريخ" الطبري 7/ 210، و"الأغاني" 7/ 4، و 16/ 279: نحن. (¬2) في المصادر السابقة: بالسُّخْن. (¬3) في (ب) و (د): أنا. وفي المصادر السابقة: نحن. (¬4) جمع أجرد، وهو الفرس السبَّاق ... وفي "الأغاني" 7/ 4 و 16/ 279: البُزْل. (¬5) قوله: يعرِّضُ بالوليد ... إلخ، من (د)، وعبارة (ب) و (خ) بعد البيتين: فقال الكميت الشَّاعر. والكلام ليس في (ص). (¬6) قوله: مُؤْتَشَب أي: غير صريح في النسب، وقُفد: جمع أقفد، وهو من يمشي على صدور قدميه من قبل الأصابع ولا تبلغ عقباه الأرض، أو الكزّ اليدين والرجلين. (¬7) يعني الصحيفة. (¬8) الخبر بتمامه في "تاريخ" الطبري 7/ 210 - 211، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 477 - 478، وبعضه في "أنساب الأشراف" 7/ 330، و"الأغاني" 7/ 4 و 16/ 279. ومن قوله: وأما سليمان؛ فكنيته أبو الغمر (قبل صفحتين) ... إلى هذا الموضع ليس في (ص).

وأمَّا يزيد بنُ هشام: فاستعملَه أبوه على الحجِّ سنةَ ثلاث وعشرين ومئة (¬1)، وحجَّ معه الزُّهريّ [وكان الزهريُّ مؤدِّبه] فقال: بعَثَنا هذا مع ولده ليُقيمَ من أَوَدِه، وعاش يزيد بعد قتل الوليد بن يزيد (¬2)، ويعرف بالأفقم، وأمُّه أمُّ حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص. وأما محمَّد بن هشام: فأمُّه أمُّ حكيم، وكان هشام يحبُّه حبًّا شديدًا، أدَّبَهُ سليمان بن سليم، وكان فاضلًا، فقدم على هشام الرُّصافة، فقال له: يَا سليمان، قد بلغَني عنك فضلٌ، وأنا مسارعٌ إليك بكلِّ خير، ومستعينٌ بك على أموري، وإنَّ محمدًا ابني منِّي بالمكان الذي بلغك، وهو جِلْدَةُ ما بين عينيّ، وأرجو أن يبلغَ اللهُ به أفضلَ ما بلغَ [من] أهل بيته، وقد ولَّيتُك تعليمَه وتأديبه، فعليك بتقوى الله، وأداء الأمانة فيه بخصال لو لم يكن إلَّا واحدة لكنتَ حقيقًا أن لا يضيِّعَها، فكيف إذا اجتمعت؟ ! أما الأولى: فأنتَ مؤتَمَنٌ عليه، فيحقُّ لك أداءُ الأمانة فيه. وأمَّا الثَّانية: فإنِّي إمامٌ ترجوني وتخافُني. وأما الثالثة: فأوَّلُ ما آمرُك فيه أن تأخذَه بكتاب الله وسنة رسوله، وروِّه من الأشعار التي للعرب، ثم اخْتَرْ له من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخباره، وعَلِّمْهُ طرفًا من الحلال والحرام، والخُطب والسِّيَر، وأدْخِلْ عليه أهلَ الفضل والدِّين، وجَنِّبْهُ أهلَ الدَّعارة والفسوق وشرَّاب الخمور، وإذا سمعتَ منه الكلمةَ الحسنةَ فاشكُرْهُ عليها، وإذا سمعتَ منه الكلمة العوراء فأغضَّ عنها (¬3). وأمَّا سعيد بن هشام: فأمُّه أمُّ ولد، وقيل: أمُّ عمَّار (¬4) بنت سعيد بن خالد بن عَمرو بن عثمان بن عفَّان. ¬

_ (¬1) تاريخ خليفة ص 354. (¬2) قوله: فقال بعثنا هذا مع ولده ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). وما سلف بين حاصرتين منها. (¬3) تاريخ دمشق 7/ 619 (مصورة دار البشير- ترجمة سليمان بن سليم بن كيسان)، وبنحوه في "محاضرات الأدباء" 1/ 107 ومن قوله: وأمُّه أمُّ حكيم بنت يحيى (قبل الكلام على محمَّد بن هشام) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬4) في "أنساب الأشراف" 7/ 310: أمُّ عثمان.

وكان عاملًا لأبيه على حمص، وكان مُغْرًى بالشراب والنساء، فوفد أبو الجَعْد الطائيّ على هشام، فبينا هو في الطريق، إذا بخصيّ لهشام، فقال له أبو الجَعْد: هل لك أن أُعْطِيَك هذا الفرس؟ فإنِّي لا أعلمُ في الخيل مثلَه. قال الخصيّ: نعم. قال: تُوصلُ هذا الكتاب إلى مولاك. ودفع إليه كتابًا مختومًا، فدفعه الخَصِيُّ إلى هشام، ففتحه، فإذا فيه: أبْلِغْ لديك أميرَ المُؤْمنين فقد ... أمدَدْتَنا بأميرٍ ليس عِنِّينا (¬1) طَوْرًا يُخالفُ عَمْرًا في حَلِيلَتِهِ ... وعند داحةَ (¬2) يبغي الأجْرَ والدِّينا ففهم هشامٌ، فأرسلَ إلى سعيد من جاء به، فضربه بالخيزرانة، وقال: يَا لُكَع، أعَجَزْتَ أن تفجر فجور قريش؟ ! يعني أخْذَ المال دون الزِّنى. واللهِ لا وَلِيتَ لي ولايةً أبدًا. فما وليَ له ولاية حتَّى مات هشام (¬3). وقال البلاذري (¬4): ولَّى هشامٌ ابنَه سعيدًا حمص، فكان يُرسل إلى امرأة عَمرو بن الدليل من بني الرَّباب، فيكون معها، فشهدوا عليه بذلك عند هشام، فأحضره وقال: يا ابن الخبيثة، أتزني وأنتَ ابنُ أمير المُؤْمنين؟ ! فضربه الحدّ وقال: والله لا وَلِيتَ لي ولايةً أبدًا. فيقال: إنه مات من ذلك الضرب (¬5). [قال البلاذري: ] والمثبت أنَّه عاشَ بعد موت أَبيه. وقال أبو اليقظان: كان سعيد من أجمل الغلمان، وكان عبد الصمد بن عبد الأعلى يؤدِّبُه، فأراده على الفاحشة، فدخل سعيد على أَبيه هشام، فقال: إنه واللهِ لولا أنتَ لم ... ينجُ منّي سالمًا عبدُ الصَمَدْ إنَّه قد رامَ منِّي خُطَّة ... لم يَرُمْها قبلَه منِّي أَحَدْ ¬

_ (¬1) في (خ): يغنينا. والمثبت من (ب) و (د)، وهو موافق لما في "العقد الفريد" 4/ 448 والخبر فيه بنحوه. (¬2) في "أنساب الأشراف" 7/ 345: تاجة. والبيتان فيه بنحوهما بقافية مكسورة. (¬3) ينظر المصدران السابقان، والكلام ليس في (ص) وينظر التعليق التالي. (¬4) عبارة ص: وأما سعيد؛ فقال البلاذري ... إلخ. لم يرد فيها الكلام السابق كما سلف في التعليق قبله. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 347. (¬5) في (ص): الحدّ.

رامَ بي جهلًا وجهلًا بأبي ... يُولجُ العصفورَ في بيت الأَسَدْ (¬1) فقال له هشام: لا ولا كرامة (¬2). وقال الزُّبير بنُ بكَّار: هذه الواقعة جرت لسعيد بن عبد الرَّحْمَن بن حسان [مع عبد الصمد] وكان [سعيد] غلامًا مضيئًا، وفَدَ على هشام، فأراد عبدُ الصمد منه الفاحشةَ، فدخل على هشام، فأنشده الأبيات، فقال: لو فعلتَ بعبد الصمد شيئًا لم أُنكر عليك [لأنه أنشده: لم ينجُ مني سالمًا عبد الصمد] (¬3). وقال هشام: وفي سنة إحدى عشرة ومئة أغزى [هشام ابنَه] سعيدًا الصائفة، فبلغ [إلى] قيسارية الروم (¬4). وخلع سعيدٌ مروانَ بنَ محمَّد، وكان بحمص، فنازله مروان، وصالحَ أهلَ حمص على أن يُسلِّمُوا إليه سعيدًا وابنيه عثمان ومروان، فسلَّموهم إليه، فبعثَ بهم إلى خُراسان، فحبسَهم. ولما هُزم مروان يومَ الزَّاب وثب سعيد على السَّجَّان فقتلَه، وكان معه في الحبس جماعة، منهم أبو محمَّد السفياني، وشَرَاحيل بن مَسْلَمة بن عبد الملك. فأمَّا أبو محمَّد فلم يبرح من الحبس، وخرج سعيد وشَراحيل إلى خُراسان وأرادا أن يملكاها، فوثبَ الغوغاء عليهما، فقتلوهما. وجاء مروان منهزمًا بعد خمس عشرة ليلة، فأطلقَ السفيانيَّ من الحبس (¬5). وباقي أولاد هشام ليس لهم ذكر (¬6). ¬

_ (¬1) في المصادر التالية: خِيس الأسد. والخِيس: موضع الأسد. (¬2) تاريخ دمشق 7/ 362 - 363 (مصورة دار البشير). (¬3) الأغاني 8/ 271 - 272، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 480. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) ينظر "تاريخ دمشق" 7/ 361 (مصورة دار البشير). (¬5) ينظر المصدر السابق 7/ 362. (¬6) من قوله: وخلع سعيد مروان بن الحكم ... (قبل عدة أسطر) إلى هذا الموضع ليس في (ص).

ذكر نساء هشام [بن عبد الملك: ذكر المدائنيّ أنَّه] كان عنده فاطمة بنت القاسم بن محمَّد بن جعفر بن أبي طالب، وهي فاطمة الكبرى (¬1)، وأمُّها زينب الكبرى بنتُ عليّ بن أبي طالب - عليه السلام -. قال لها هشام يومًا: أنتِ بغلةٌ لا تلدين، فقالت: ليس كما ظننتَ، ولكن يأبَى كرمي أن يُدَنِّسَه لُؤمُك. [وقال الزُّبير بن بكَّار: ] وكان عنده عَبْدَة بنت عبد الله الأسوار (¬2) بن يزيد بن معاوية [بن أبي سفيان]، وأمُّها أمُّ موسى بنت عَمرو بن سعيد بن العاص، وَلَدَتْ من هشام. [وعَبْدَةُ هذه المذبوحة لمَّا ظهر عبد الله بنُ عليّ بن عبد الله بن العباس على الشَّام] وكانت من أجمل النساء، نظر إليها يومًا [هشام] وعليها ثيابٌ سُودٌ رِقاق [مثل ثياب الرُّهبان يوم عيدهم] فملأته سرورًا، ثم فكّر، ففطنت، فقالت [له]: أكرهتَ هذه الثياب؟ قال: لا، ولكن رأيتُ هذه الشامة بكَشْحِك (¬3)، وبها تُذبحُ النساء، أما إنهم سيُنزلونك عن بغلة شهباءَ وردة، ثم يذبحونكِ ذَبْحًا. فلما ظهر عبد الله بنُ علي أَخَذَ منها جواهر لا يعلم قيمتَها إلَّا الله تعالى، ثم أطلقها، فخرجت في الليل على بغلة، فقالت: ما لونُها؟ قالوا: دهماء. فقالت: نَجَوْتُ. فقيل لعبد الله [بن عليّ]: إن أفلتَتْ أخبرَتْ أَبا جعفر (¬4) بما أخذتَ منها فيأخذَه منك، اقْتُلْها. فبعثَ في آثارها وقد أضاء الصبح، فنظرَتْ، فإذا بالبغلة شهباء وردة. ولحقها (¬5) الرسول، فقال لها: قد أُمرنا بقتلك. فقالت: هذا أهونُ [عليَّ]. ثم نزلَتْ، فشَدَّتْ دِرْعَها بحيث لم يُرَ منها ومن جسدها شيء. فذَبَحها (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 7/ 653 - 654 عن المدائنيّ أن فاطمة هذه كانت عند سليمان بن هشام بن عبد الملك. ثم أورد لها الخبر المذكور ولعل المصنف وهم فيه. (¬2) المثبت من (ص). وفي (ب) و (خ) و (د): بن الأسوار، وهو خطأ. (¬3) الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضِّلَع الخلف. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): أَبا العباس. والمثبت من (ص) وهو الصواب. (¬5) في (خ): فردَّها. والمثبت من (ب) و (د) و (ص). (¬6) تاريخ دمشق ص 224 - 225 (طبعة مجمع دمشق- جزء فيه تراجم النساء).

وقال ابنُ عساكر: دفعَها عبد الله بنُ علي -وتعرفُ بصاحبة الخال- إلى قوم من الخُراسانية، فدخلوا بها البَرِّيَّة حافيةً حاسرةً، فقتلوها (¬1). [قال: ] وكانت قبل هشام عند يزيد بن عبد الملك، وكانت حَوْلاء جميلة. وحكى ابن عساكر أَيضًا عن ثعلب قال. أخذها عبد الله بنُ عليّ من حمص بعد ما أَخَذَ منها الجواهر، فدفعها إلى الكابلي (¬2) مولاه، وقال: اذبحها بامرأةِ زيد بن عليّ [قال: ] فلما أراد أن يذبحها تمثَّلَتْ بقول الفرزدق: إذا جرَّ الزمانُ على أُناسٍ ... كلاكلَهُ أناخَ بآخرينا فقُلْ للشَّامتين بنا أفِيقُوا ... سيَلْقَى الشامتون كما (¬3) لَقِينا فذبحها الكابليّ بحربته (¬4). فلما دخل الزَّنْجُ البصرةَ في أيام الخبيث المدَّعي بأنه علويّ؛ هجموا دار جعفر بن سليمان بن عليّ [بن عبد الله بن العباس]-وجعفرٌ ابنُ أخي عبد الله بن عليّ الذي ذَبَحَ عَبْدة- فوجدوا ابنتَه وهي عجوز كبيرة -وقيل: كانت أمَّه- وقد بلغت تسعين سنة، فقالت: اذهبوا بي إلى صاحبكم، فإنَّه ابنُ خال جدَّتي أمِّ الحسن بنت جعفر بن الحسن بن الحسن بن عليّ [وكان الخبيث يدَّعي أنَّه عَلَويّ] فقال [لها] الزَّنْج: بكِ أُمِرْنا: فذبحوها بحربةٍ كما ذُبحت عَبْدة (¬5). [قال الزُّبير بن بكَّار: ] وكان عند هشام أمُّ حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص، وحفصة بنت عمران بن محمَّد بن طلحة بن عُبيد الله التَّيمي، ورُقَيَّة بنت عبد الله بن عَمرو بن عثمان بن عفان، وأمُّ سَلَمة بنت عبد الرَّحْمَن بن سُهيل بن عَمرو، وأمُّ عبد الله (¬6)؛ مخزوميّة. ¬

_ (¬1) ينظر إضافة إلى المصدر السابق ما جاء فيه في أواخر ترجمة محمَّد بن سليمان النوفلي 62/ 190 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) في المصدر السابق: الكاملي. (¬3) في (ص): بما. (¬4) في "تاريخ دمشق" ص 226: فذهب بها الكاملي فذبحها بخَرِبةٍ بحمص. (¬5) ينظر الخبر بتمامه في "تاريخ دمشق" ص 224 - 225 (طبعة مجمع دمشق- تراجم النساء). وينظر أَيضًا أواخر ترجمة محمَّد بن سليمان النوفلي في "تاريخ دمشق" 62/ 190 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) كذا في النسخ الأربعة. وفي "أنساب الأشراف" 7/ 311: أم عبد الملك.

ذكر حاشيته: كان قاضيه محمَّد بن صفوان الجُمحي، وكان على شرطته خالد بن عثمان الكلبي، ويلقَّب بالمجراش. وحَجَبُهُ جماعة، منهم الأبرش الكلبي، واسمُه سعيد [بن الوليد] (¬1) بن عبد عمرو بن جبلة بن وائل. وكان قوَّالًا بالحقّ، وسالمٌ مولاه كان يَحجبُهُ ويكتُب له. [وقال هشام بن الكلبي: ] جاءت الخلافةُ هشامًا وعنده الأبرش [وسالم] فسجد هشامٌ وسالم، ولم يسجد الأبرش، فلما رفعَ هشام رأسَه من السجود، قال له: يَا أبرش، ما منعك أن تسجد؟ فقال: أمَّا أنتَ فأتَتْك الخلافة فسجدتَ شكرًا لله، وأمَّا هذا فشريكك فيها، وأما أنا فلي بك خاصَّة، ولي عليك حُرمة، وأنا رجل من العرب، وأخافُ أن تغيِّرك الخلافة عليَّ، فعلَامَ أسجد؟ فقال [له] هشام: لك عليَّ [الآن] عهدُ الله وميثاقُه أن لا أتغيَّر عليك أبدًا. فقال الأبرش: الآن طاب السجود، الله أكبر. وسجد (¬2). [وقد ذكرنا واقعة الأبرش معه، وأنه عاش إلى أيام المنصور، وأنه حدا بالمنصور في طريق الحج، وأنه أعطاه درهمًا] (¬3). ذكر موالي هشام [بن عبد الملك] ومولياته: كان له خلقٌ لا يُحْصَوْن على قدر طِرازه، ولم يكن في مواليه أنجبُ من سالم [وقد ذكرناه]. ولم يكن في مولياته مثل غضيض [ولها قصة عجيبة]. قال شيخنا موفقُ الدين رحمة الله عليه [في كتاب "التوَّابين" عن سليمان بن خالد] (¬4): وُصف لهشام رَبِيبةٌ لبعض عجائز الكوفة؛ جاريةٌ مشهورةٌ بالكمال والفضل، فائقةُ الحُسْن، قارئةٌ لكتاب الله، راويةٌ للأشعار، مع عقل وأدب، فأرسل إلى عامله بالكوفة، فاشتراها بمئتي أَلْف درهم (¬5) وحديقة نخل يُسْتَغَلُّ منها كلَّ سنة خمسُ مئة دينار (¬6). ¬

_ (¬1) لفظ: بن الوليد، بين حاصرتين، من "تاريخ دمشق" 2/ 577 (مصورة دار البشير- ترجمة الأبرش). (¬2) المصدر السابق. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) سلفت قصته هذه أوائل هذه الترجمة. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) كتاب التوابين ص 171. (¬5) في (ص): دينار، وهو سهو واضح. (¬6) في "التوابين" ص 171: مثقال.

فقَدِمَتْ على هشام، فأَمَرَ لها بأنواع الحُلِيّ والجواهر، وفاخر الفُرُش، وأفردَ لها مقصورةً ووصائفَ. فبينا هو ذاتَ يوم قد خلا بها في مستشرف له، فتذاكرا طُرُفَ الأخبار، وأنشدَتْ غرائبَ الأشعار، فازدادَ بها سرورًا، وإذا بصوارخَ في جِنازة يحملُها فِئامٌ من النَّاس، ووراء الجنازة نادبةٌ من بين النساء وهي تقول: بأبي المحمول على الأعواد، المُنْطَلَقُ به إلى محلَّة الأموات، المُتَخَلَّى في قبره وحيدًا فريدًا، ليت شعري هل أنتَ ممَّنُ يناشد حَمَلَتَهُ: أسْرِعُوا بي؟ أم أنتَ ممَّن يُناشدهم: ارجعوا بي، إلامَ تُقدِّموني (¬1)؟ ! قال: فهملَتْ عينا هشام ولها عن لذَّته، وجعل يبكي ويقول: كفى بالموت واعظًا. فقالت غَضِيض: قد قَطَّعَتْ هذه النادبةُ نِياطَ قلبي، فقال هشام: الأمرُ جِدٌّ. ثم دعا الخادمَ ونزلَ عن مستشرفه، ومضى. ونامت غَضِيض في مكانها (¬2)، فأتاها آتٍ في منامها فقال لها: أَنْتَ المفتنةُ بشبابِك، واللاهيةُ بِدلالِكِ، كيف بكِ إذا نُقر في النَّاقور، وبُعثر ما في القبور، وخرجوا منها للنشور، وقُوبلوا بالأعمال التي قدَّموها؟ ! فاستيقَظَتْ مُرْتاعةً، ودَعَتْ بماء فاغتَسَلَتْ، وألقَتْ عنها لِباسَها وحُلِيَّها، وتَدَرَّعَتْ بمِدْرَعَةِ صوف، وحَزَمَتْ وَسَطَها بخيط، وتناولَتْ عصًا، وألقَتْ في عُنقها جِرابًا، واقتحَمَتْ مجلس هشام، فلمَّا رآها أنكرها، فنادَتْ: أنا جاريتُك غَضِيض، أتاني النذير، فقَرَعَ مسامعي وَعِيدُه، وقد قَضَيتَ مني وَطَرًا، وقد أتيتُك لتُعتِقَني من رِقِّ الدنيا. فبكى هشام، وقال: شَتَّانَ ما بين النَّظْرَتَين (¬3) وأنت في طَرَبِك، فإلى أيِّ مكان تقصدين؟ قالت: إلى البيت الحرام. فقال: أنتِ حُرَّةٌ لوجه الله، لا سبيلَ لأحدٍ عليك. ¬

_ (¬1) أخرج البُخَارِيّ (1314) عن أبي سعيد الخُدري أن رسول الله (ص) قال: "إذا وُضعت الجنازةُ واحتملها الرجال على أعناقهم، فإنْ كانتْ صالحة قالت: قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يَا ويلَها! أين يذهبون بها؟ يسمع صوتَها كلُّ شيء إلَّا الإنسان، ولو سمعه لصعق". (¬2) في (ص): مجلسها. (¬3) في (ص): النظر.

يحيى بن جابر

فخرَجَتْ من قصر الخلافة زاهدةً في الدنيا، راغبةً في الآخرة، سائحةً على وجهها، حتَّى قدمت مكة. وأقامت صائمةً قائمةً تعود على نفسها بالغَزْل (¬1) في قُوتها، فإذا أَمْسَتْ طافَتْ بالبيت، ثم تدخلُ الحِجْرَ، فتبكي وتنوحُ على نفسها وتقول: يَا ذُخْري، أنتَ عُدَّتي، لا تَقْطَعْ منك رجائي، وأنِلْنِي مُنايَ، وأحسِنْ منقلبي ومثواي. فلم تزل كذلك حتَّى غَيَّرَ مَرُّ الجديدَينِ (¬2) بَشَرَتَها، وأقرحَ البكاء عينَيها، والمِغْزَلُ بَنَانَها، حتَّى تُوفِّيت على ذلك، رحمها الله تعالى. انتهت سيرة هشام بن عبد الملك. يحيى بن جابر ابن حسان الطائيّ، قاضي حمص، [وكنيتُه] أبو عمرو. وذكره ابنُ سعد في الطَّبقة الثالثة من التابعين من أهل الشَّام، [وقال: ] له أحاديث، مات سنة ستّ وعشرين ومئة. هذا صورة ما ذكر ابنُ سعد (¬3). وذكر أبو القاسم ابنُ عساكر، فروى عن بعضهم أنَّه قال: خرجتُ ليلةً في السَّحَر، وإذا بركبٍ؛ قلتُ: من أنتم؟ قالوا: الجنّ. قلتُ: وما لكم؟ قالوا: رحلنا من عند يحيى بن جابر من كثرة قراءته للقرآن (¬4). وقال: أسند يحيى عن أبي ثعلبة البَهْزيّ (¬5)، وعَوْف بن مالك، والنَّواس بن سمعان، والمقدام بن معدي كرب مرسلًا، وكان ثِقَة صالحًا، رحمه الله تعالى (¬6). ¬

_ (¬1) في (ص): بالمغزل. (¬2) الجديدان: الليل والنهار. ووقع في (ص): حتَّى غيَّر الجديد. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 461. (¬4) تاريخ دمشق 18/ 45 (مصورة دار البشير). (¬5) كذا في (ب) و (خ) و (د)، و"تاريخ دمشق" 18/ 45 (مصورة دار البشير). و"تهذيب الكمال" 31/ 249. وجاء فيهما أَيضًا في ذكر شيوخ يحيى اسمُ: ضَمْرَة بن ثعلبة السُّلَمِيّ. وضَمْرَةُ هذا بَهزِيّ سُلَميّ، كما في "الإصابة" 5/ 194، فالظاهر أن أَبا ثعلبة محرَّف عن ابن ثعلبة الذي هو نفسُه ضَمْرة، ويكون ذكره قد تكرَّر فيهما وهمًا. ثم إنه لم يذكر في كُنى الصَّحَابَة أبو ثعلبة البَهْزِيّ. والله أعلم. وقد تحرَّفت لفظة: البهزيّ في "تهذيب الكمال" إلى: النَّهْدِيّ. (¬6) وقع اختلاف في ترتيب الكلام في (ب) و (خ) و (د) عن (ص). وأثبتُّ لفظ (ص) ليتوافق الكلام مع ما جاء فيها عن ابن سعد في "طبقاته" وعن ابن عساكر في "تاريخه".

يحيى بن زيد بن علي

يحيى بن زيد بن عليّ ابن الحسين بن عليّ بن أبي طالب - عليه السلام -. قد ذكرنا خروجَه إلى خُراسان (¬1). [وقال هشام بن محمَّد: ] قال أبو مِخْنَف: أقام [يحيى بن زيد] عند الحَرِيش بن عَمرو [بن داود] ببَلْخ حتَّى هلك هشام [بن عبد الملك] ووليَ الوليدُ بنُ يزيد [بن عبد الملك] فكتب يوسفُ بنُ عمر إلى نَصْر بنِ سيَّار يخبرُه بخبر يحيى بن زيد ويعرِّفُه أنَّه عند الحَرِيش [بن عمرو] ويأمرُه أن يُرسلَ إليه فيأخذَه. فكتب نصر [بن سيَّار] إلى عَقِيل بن مَعْقِل العِجْليّ يأمرُه أن يأخذَ الحَرِيش، فلا يفارقَه حتَّى يُهلكه أو يأتيَه بيحيى بن زيد. فبعث عَقِيل إلى الحَرِيش، فطلبَه منه، فقال: لا علمَ لي به. فجلدَ (¬2) الحَرِيشَ ستَّ مئة سَوْط، فقال له: واللهِ لو كان تحتَ قدميَّ ما رفعتُهما لك عنه. فحبسه. فجاء قُريش بن الحَرِيش، فقال له: لا تقتلْ أبي، وأنا أدلُّك عليه. فدلَّه عليه، وإذا هو في بيت في جوف بيت، فأخذه ومعه رجلان، أحدهما يزيد بن عَمْرو (¬3)، والآخر الفَضْل مولى عبد القيس؛ صحباه من الكوفة. فحبسهم نصر، وكتب إلى يوسف بن عُمر يُخبرُه. فكتب يوسف إلى الوليد بن يزيد يُخبرُه، فكتب إليه الوليد: مُرْ نَصْرَ بنَ سيَّار بأن يؤمِّنَه، ويأخذَ عليه العهود، ويُخلِّيَ سبيلَه وسبيلَ أصحابه. فدعاه نَصْر، فحذَّرَهُ الفتنة، وأمرَه باللَّحاق بالوليد بن يزيد، وأخذَ عليه العهود والمواثيق، وأَمر له بألفي درهم وبغلين. ¬

_ (¬1) في ذكر مقتل أَبيه زيد (تراجم سنة 122). (¬2) في (ص): ضرب. (¬3) كذا في (ب) و (خ) و (د) و"أنساب الأشراف" 2/ 543. وفي (ص) و"تاريخ" الطبري 7/ 228 (والكلام منه): عُمر.

فخرج هو وأصحابُه حتَّى انتهى إلى سَرَخْس وعليها عبد الله بنُ قيس بن عُباد (¬1)، فأقامَ بها، فكتبَ نَصْر إلى عبد الله أن يُشْخِصَه عنها. وكان على طُوس الحسن بن يزيد (¬2) التَّمِيمِيّ، فكتبَ إليه نصر: إذا مرَّ بك يحيى فلا تُمكِّنْهُ من المُقام [بطُوس] وأشْخِصْه إلى أبرشهر، وكان عليها عَمرو (¬3) بن زُرارة. وكتب إليه نصر بمثل ذلك، وإلى ولاة البلاد، كلَّما وصل إلى بلد لا يُمكِّنوه من المُقام حتَّى يَقْدَمَ الشَّام. فسار حتَّى وصل إلى بَيْهق، وكان يخاف اغتيال يوسف بن عُمر [إيَّاه] (¬4). وبَيهَق أقصى خُراسان، وأدناها من قُومَس، فاجتمعَ إليه سبعون رجلًا، وكان قد صحبَه تجَّار، فأخذَ أصحابُه دوابَّهم، وقالوا: نحن نُعطيكم أثمانَها. وكان عَمرو بن زُرارة على أبرشهر، فكتب إلى نصر يُخبُره بما صنع يحيى. فكتب إليه وإلى ولاة البلاد: [عبد الله بن قيس والي سَرَخْس، والحسن بن يزيد والي طُوس] (¬5) أن اجتمعوا على قتال يحيى. فاجتمعوا في عشرة آلاف فارس، ويحيى في سبعين رجلًا، والتَقَوْا، فهزمَهم يحيى، وقَتلَ عَمرَو بنَ زُرارة، وأصاب يحيى دوابَّ (¬6) كثيرة. وأتى [يحيى] هَرَاة وعليها مُغَلِّس بنُ زياد العامريّ، فلم يعرض واحد منهما لصاحبه، وبلغَ نصرَ بنَ سيَّار، فبعث سَلْمَ بنَ أحوز إلى يحيى في جيش كثيف، فسار حتَّى أتى هَراة وقد رَحَلَ عنها يحيى، فسار خلفَه، فأدركَه بالجُوزْجَان على قرية منها، والتَقَوْا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فرمى عيسى العَنَزِيّ - من عَنَزَة (¬7) - بنُشَّابة نحو يحيى، ¬

_ (¬1) في (ص): عبادة. (¬2) في "تاريخ" الطبري 7/ 229: زيد. (¬3) في (ص): عُمر. وكذا في الموضع التالي. (¬4) لفظة: "إيّاه" وقبلها لفظة: بطوس، بين حاصرتين، من"تاريخ" الطبري 7/ 229. وأما ما سلف قبلهما بين حاصرتين من أول الترجمة فمن (ص). (¬5) ما بين حاصرتين من (ص). (¬6) في النسخ الأربعة: دوابًّا. وأثبتُّ اللفظة على الجادَّة. (¬7) في (ص): فرمى رجل من عَنَزَة اسمه العنبري، وهو تحريف، وكذا تحرَّفت لفظة العنزي في النسخ الأخرى إلى العنبري.

فوقعت في جبهته، فوقع ميِّتًا، وقُتل أصحابُه بأسرهم. ومرَّ سوْرَة بن مُحَمَّد بن عزيز (¬1) الكِنديّ بيحيى، فنزلَ، فحزَّ رأسه، وسلبوه قميصه، وبعثوا برأسه إلى يوسف بن عُمر، وصلبوا جسدَه كما فعلوا بأبيه. وقيل: إنهم صلبوه برأسه وجسده، وكتبوا إلى الوليد [بن يزيد] فكتب الوليد إلى يوسف بن عمر. إذا أتاك كتابي هذا فأحْرِقْ (¬2) عجل العراق، ثم انْسِفْه في اليمِّ نَسْفًا (¬3). فأنزلُوه من جِذْعِه، ففعلوا به ذلك. [وهذه رواية هشام عن أبي مِحْنَف] (¬4). وقال الهيثم [وأبو اليقظان]: لم يزل مصلوبًا حتَّى ظهر أبو مسلم، فأنزله من جِذْعِه، وغسَّلَه، وكفَّنَهُ، وصلَّى عليه، وأقام النِّياحة عليه بالجُوزجان سبعة أيام، وفي جميع كُوَرِ خُراسان (¬5). وجعل أبو مسلم يبحثُ على أسامي من قاتلَ يحيى من أهل الديوان، فإن كان حيًّا قتلَه، وإن كان ميّتًا نبشَه وأحرقَه، وخَلَفَه في أهله وعشيرته (¬6) بسوء. [واختلفوا في مقتل يحيى، وقال هشام: في سنة خمس وعشرين ومئة، والأصحّ في هذه السنة. قال الواقديّ: ] وأمُّ يحيى [بن زيد] رَيطَة بنت أبي هاشم بن محمَّد بن الحنفية (¬7). وكان ليحيى [بن زيد] أولاد، منهم: محمَّد بن يحيى (¬8)؛ لما قُتل أبوه كان صغيرًا [وقيل: كان قد] نشأ بالكوفة، ثم خرج إلى طبرستان، واستولى عليها. ¬

_ (¬1) رُسمت اللفظة في (ب) و (خ) و (د): عوير. ورسمت في (ص): عرين. والمثبت من "أنساب الأشراف" 2/ 544، و"تاريخ" الطبري 7/ 230. (¬2) في (د) و (ص): فحرّق. (¬3) أخذه من قوله تعالى حكايةً عن خبر عجل السامريّ: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97]. (¬4) ينظر الخبر مفصَّلًا في "تاريخ" الطبري 7/ 228 - 230، وبنحوه في "أنساب الأشراف" 2/ 544 - 542. (¬5) تاريخ دمشق 18/ 111 (مصورة دار البشير) وقوله: كُوَر، هو جمع كُورة، وهي الصِّقع الواسع. (¬6) في (ب) و (خ) و (د): وعترته. والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في المصدر السابق. (¬7) المصدر السابق. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬8) كذا وقع، ولعله وهم. فلم يذكر مصعب الزُّبيري في "نسب قريش" ص 66 (ولا غيرُه) له هذا الابن، وذكر ابنُ قتيبة في "المعارف" ص 216 أن يحيى بن زيد لا عقب له. وقد سلفَ أن ذَكَرَ المصنف خبرًا لمحمد بن يحيى في ترجمة زيد بن عليّ بن الحسين في أحداث سنة (122). وينظر التعليق عليه.

السنة السادسة والعشرون بعد المئة

السنة السادسة والعشرون بعد المئة فيها قُتل الوليدُ بنُ يزيد بن عبد الملك بن مروان، ووليَ يزيدُ بنُ الوليد بن عبد الملك الخلافة. الباب الثاني عشر في ولايته (¬1) وكنيتُه أبو خالد، وأمُّه شاه فريد بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى بن أبرويز (¬2)، وهو القائل: أنا ابنُ كسرى وأبي مروانُ ... وجدِّيَ المعظَّمُ الخاقانُ (¬3) وقال المدائني: أمُّ يزيد أمُّ ولد [من ولد] المُخدج بن يزدجرد، أصابَها قتيبةُ بنُ مسلم بخُراسان، فبعثَ بها إلى الحجَّاج، فبعث الحجَّاج بها إلى الوليد بن عبد الملك، فأصابها، فحملت بيزيد، وكان لها نسبة إلى كسرى وقيصر (¬4). ويزيد هذا أولُ خليفة من بني أمية كانت أمُّه أمَّ ولد، لأنها سُبيت كما ذكرنا. وذكره ابن سُميع في الطبقة الرابعة (¬5) من أهل الشام. وُلد بدمشق سنة ثمانين، وقيل: سنة ستٍّ وتسعين، وقيل: بعد السبعين (¬6). وكان أسو نحيفًا، طُوالًا، أحول، مربوعًا، خفيفَ العارضَين، مليح الوجه، حسن السِّيرة. وسُمِّيَ النَّاقص. واختلفوا لم سُمِّيَ الناقص على أقوال: ¬

_ (¬1) هذا العنوان من (ب) و (خ) و (د). (¬2) في "أنساب الأشراف" 7/ 540: كسرى أبرويز (بدون لفظة بن بينهما). (¬3) في "أنساب الأشراف" 7/ 541، و"تاريخ" الطبري 7/ 298 وقيصر جدي وجد خاقان. قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 375: جدة فيروز هي بنت خاقان ملك التُّرك. (¬4) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 540 - 541. (¬5) في (ب) و (خ) و (د): ويزيد من الطبقة الرابعة. . . والمثبت عبارة (ص). (¬6) في (ص): التسعين.

أحدها (¬1): لأنه نقصَ الجندَ عن العطاء الذي كان الوليد بنُ يزيد زادهم، وكان قد زادَهم عشرةً عشرةً، فردَّ العطاءَ إلى ما كان عليه في أيام هشام [بن عبد الملك. ذكره الطبريّ] (¬2). والثاني (¬3): لأنه كان ناقص أصابع اليدين والرجلين. والثالث: سمِّيَ بالناقص كماله [ذكره خليفة] (¬4). والرابع: أنه كان يرى رأى المعتزلة، وتشدَّدَ (¬5) في أمر دينه، وقد كانوا يفضِّلونه في الدِّيانة على عُمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. و[قال ابن الكلبيّ: ] كان رجلًا عاقلًا عفيفًا ورعًا إلا أنه يُنسب إلى رأي غَيلان القَدَريّ. ويقال: إنَّ مروان بن محمد سماه الناقص (¬6). [قال البلاذُريّ: ] كان أقْبَل (¬7). والقَبَلُ (¬8) في العين: إقبالُ السَّواد على الأنف (¬9). [وقال الجوهوي: رجلٌ أقْبَل، وهو الذي كأنه ينظر إلى طرف أنفه. قال: (والقَبَلُ) أيضًا: فَحَجٌ، وهو أن يتدانى صدر القدمين، ويتباعدَ عقباهما. قال: والقَبَلُ على وجوه. وذكرها. ¬

_ (¬1) قوله: "واختلفوا لم سمِّي الناقص على أقوال أحدها" من (ص). (¬2) تاريخ الطبري 7/ 261 - 262 و 299. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬3) قوله: والثاني. من (ص). وجاء بدلها في (ب) و (خ) و (د) لفظ: وقيل. وكذا قوله: والثالث، والرابع. (¬4) نقله ابنُ عبد ربّه في "العقد الفريد" 1/ 50 عن خليفة بلفظ: قيل له الناقص لفرط كماله. ولم أقف عليه في "طبقات" خليفة، ولا "تاريخه". (¬5) في (خ): وشذَّ. (¬6) أنساب الأشراف 7/ 540. وقال الطبري في "تاريخه" 7/ 262: شتم مروان بنُ محمد يزيدَ بنَ الوليد فقال: الناقص بن الوليد، فسمَّاه الناس الناقص لذلك. (¬7) بالباء الموحَّدة. والكلام في "أنساب الأشراف" 7/ 540، وتحرَّفت اللفظة في مطبوعه وفي (ص) إلى: أقيل (بالياء)، وشرح عليها محققه! (¬8) في (ص): والقيلُ. . . وهو تصحيف كما سلف في التعليق السابق. (¬9) الصحاح (قَبَل). وذكره أيضًا ابن الأثير في "النهاية" 4/ 9 (قَبَل) في صفة هارون - عليه السلام -، ثم قال: وقيل: هو مَيلٌ كالحَوَل.

ذكر بيعته: حكى أبو القاسم ابن عساكر قال (¬1): ] بُويع [يزيد] بالخلافة بقرية المِزَّة، ثم دخل دمشق، فغلبَ عليها، وبعث إلى ابن عمِّه الوليد بن يزيد، فقتلَه. وكان ظهورُه على دمشق في سنة ستٍّ وعشرين ومئة في جمادى الآخرة، وبُويع أوَّلَ رجب. وهو أوَّلُ خليفة خرجَ يومَ العيدِ بين صَفَّين من الفرسان عليهم السلاح من باب الحصن إلى المُصَلَّى ثم رجع. [ذكر خطبته: قال هشام بن الكلبي عن أبيه: ] ولما بُويع [يزيد بن الوليد بن عبد الملك] خطب، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: أيُّها الناس، ما خرجتُ أَشَرًا ولا بَطَرًا، ولا حرصًا على الدُّنيا، ولا رغبةً في المُلك، ولكن خرجتُ غضبًا لله تعالى ولدينه، وداعيًا إلى كتابه وسُنَّة رسوله (¬2)، لمَّا هدم الفاسقُ الوليدُ معالمَ الدين والهدى، وأطفأ نور الإسلام والتُّقَى، واستحلَّ المحارمَ وكذَّب بالكتاب ويوم الحساب، فسألتُ اللهَ أن يُريحَ العباد والبلاد منه، فاستجابَ اللهُ فيه دعائي، وسمع ندائي. أيُّها الناس، إنَّ لكم عليَّ أن لا أضعَ حجرًا على حجر، ولا لَبِنةً على لَبِنَة، ولا أُكْثِرَ مالًا، ولا أُعطِيَه زوجةً ولا ولدًا، ولا أُغلقَ بابي دونكم، ولكم عطاؤُكم في كلِّ شهر، فإن وَفَيتُ بما قلتُ فعليكم بالسمع والطاعة، وإنْ لم أفِ (¬3) فلكم (¬4) أن تخلعوني وتُولُّون من أهل الصلاح مَنْ شئتُم، وأنا أَدخلُ في طاعته. ألا وإنَّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق (¬5). ¬

_ (¬1) وقعت ترجمة يزيد بن الوليد بن عبد الملك ضمن خرم في "تاريخ دمشق". والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (ب) و (د): وسننه، وفي (ص): وسنته. والمثبت من (خ) وهو موافق لما في "أنساب الأشراف" 7/ 542، و"تاريخ" الطبري 7/ 268. (¬3) في (خ): أوف. (¬4) في (ص): لكم. (¬5) ينظر "تاريخ" خليفة ص 365 والمصدران السالفان.

فأوَّل من بايعَه يزيد الأفقم (¬1)، وقال له قيس بن هانئ: دُمْ على ما أنتَ عليه، فما قام مقامَك أحدٌ من أهلك، ولئن قالوا: عمر بن عبد العزيز، فلقد أخَذَها بسبب سَيِّئ، وأنتَ أخذتَها بسببٍ صالح. وبلغ مروانَ بنَ محمد قولُه فقال: قاتلَه الله، لقد عابنا جميعًا (¬2). و[قال الهيثم: ] سلك يزيد بنُ الوليد طريق عُمر بن عبد العزيز، وكان يُعرف بالتألُّه والتواضع، والزُّهْد والنُّسُك. و[قال الواقدي: ] حجَّ الوليد بن يزيد في سنة ستّ عشرة ومئة، وحمل معه الخمور والقِيان وكلاب الصيد، وحجَّ في تلك السنة يزيد بن الوليد، فرأى الوليدَ يطوف بالبيت، فقال يزيد (¬3): وربِّ هذه البَنِيَّة، إن هذا الذي يطوف بها لكافرٌ بربِّها (¬4)، ولأُجاهدنَّه بنفسي وأهلي (¬5). [قال الواقدي: ] وفي هذه الحَجَّة (¬6) لَقِيَ يزيدُ بنُ الوليد أيوبَ السَّخْتِيانيَّ، فكتبَ عنه (¬7). وكان يزيد كثيرَ الصلاة في الليل. وفي هذه السنة اضطرب حَبْلُ بني مروان، وهاجَتْ الفتن، وانتقض أمرُهم. فمن ذلك: أنَّ سليمان بن هشام ابن عبد الملك كان محبوسًا بعمَّان، حبسه الوليد بن يزيد، فلما قُتل الوليد] خرج من سجق عمَّان، وأخذَ ما كان بعمَّان من الأموال، وقدمَ دمشق على يزيد بن الوليد يلعنُ الوليد ويَعِيبُه ويرميه بالزَّندقة (¬8). ¬

_ (¬1) في النسخ الأربعة: يزيد بن الأفقم. وهو خطأ. فالأفقم لقب ليزيد بن هشام بن عبد الملك. وينظر الكلام في "أنساب الأشراف" 7/ 543، و"تاريخ" الطبري 7/ 269. و"تاريخ دمشق" 59/ 179 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة قيس بن هانئ). (¬2) المصادر السابقة. ومن قوله: وقال له قيس بن هانئ. . . إلى هذا الموضع، ليس في (ص)، وما سلف قبله بين حاصرتين منها. (¬3) وقع اختلاف في هذا الموضع في سياق الكلام في (ب) و (خ) و (د) عن (ص). وأثبتُّ سياقة (ص) ليتوافق الكلام مع ما جاء منها بين حاصرتين. (¬4) في (خ): بها، بدل: بربها. (¬5) بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 541. (¬6) في (ص): السنة. (¬7) أنساب الأشراف 7/ 541. (¬8) تاريخ الطبري 7/ 262. وما سلف بين حاصرتين من (ص).

ومنها وثوبُ أهل حمص على دار العبَّاس بن الوليد بن عبد الملك وهدمها. [قال علماء السير: ] وكان مروان بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان عاملًا للوليد بن يزيد على حمص، وكان من وجوه بني سروان، فلما قُتل الوليد بن يزيد، أغلق أهلُ حمص أبوابَها، وأقاموا النوائح على الوليد، وكان العباس [بن الوليد] خارجًا عن حمص، فقيل لهم بأنه كان ممَّن قاتلَ الوليد. فعَمَدُوا إلى دار العبَّاس، فهدموها، وانتهبوا متاعَه وسلبوا حُرَمَه، وحبسُوا بنيه، وكاتبُوا الجند، وطلبُوا بدم الوليد، فأجابوهم، وكان مروان بنُ عبد الله بن عبد الملك بحمص في دار الإمارة، فأتَوْا إليه، فوافقَهم خوفًا منهم. وعَصَوْا على يزيد بن الوليد، فبعث إليهم رسلًا؛ منهم يعقوبُ بنُ هانئ، وقال: ما أدعوكم إلى نفسي، ولكن أدعوكم إلى الشُّورى. فطردوا رسله وهمُّوا بقتلهم. وكان أمر حمص إلى معاوية بن يزيد بن حُصين، وليس إلى مروان بن عبد الله [بن عبد الملك] شيء، وكان عندهم أبو محمد السُّفْياني، فقال لهم: لو أتيتُ دمشق ورآني أهلُها لم يخالفوني. وبعث يزيدُ بن الوليد مسرورَ بنَ الوليد والوليدَ بنَ رَوْح في جند كثيف، فنزلوا حُوَّارين، وقدم (¬1) على يزيدَ بن الوليد سليمانُ بنُ هشام من عمَّان، فأكرمَه يزيد، وتزوَّج يزيدُ أختَه أمَّ هشام بنتَ هشام [بن عبد الملك بن مروان] وبعثَ به إلى الجيش إلى حُوَّارين، وأمرهم بطاعته (¬2). [قال يحيى بن عبد الرحمن البهراني: ] ولما نزل الجيش بحُوَّارين؛ قام مروان بنُ عبد الله [بن عبد الملك] خطيبًا [بحمص] فقال: إنكم خرجتُم لجهاد عدوِّكم، والطلبِ بدم خليفتكم، وقد سار إليكم منهم عُنُق (¬3)؛ إنْ أنتم قطعتُموه اتَّبعه ما بعده، وكنتم عليه أجرأَ، ولستُ أرى لكم المُضيَّ إلى دمشق وتتركون هذا الجيشَ حْلفكم. ¬

_ (¬1) في (ص): ووفد. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 262 - 263. وكلُّ ما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) العُنُق: الجماعة من الناس.

فقال السِّمْطُ بنُ ثابت -وكان بينه وبين مروان تباعد-: هذا واللهِ العدوُّ القريب الدار، يريد أنْ يَنقُضَ جماعتَكم، وهو قَدَريّ يرى أقوال (¬1) القَدَريَّة. [قال: ] فوثبوا على مروان، فقتلوه وقتلوا ابنَه، وولَّوْا عليهم أبا محمد السُّفيانيّ، وخرجوا قاصدين عسكر سليمان بن هشام، ثم عدلوا إلى دمشق. وبلغ سليمانَ، فسار خلفَهم، فلحِقَهم بالسُّليمانيّة (¬2)، مزرعةٍ كانت لسليمان بن عبد الملك خلف عَدْرا، على أربعةَ عشرَ ميلًا من دمشق. وكان يزيد بنُ الوليد لما بلغَه أمر أهل حمص؛ بعث عبدَ العزيز بنَ الحجاج في ثلاثة آلاف، وأمرَه أن يُقيم على ثنيَّة العُقاب، ووجَّه هشامَ بنَ مُصاد في ألف وخمس مئة إلى عَقَبة السُّليمانيّة (¬3)، فأقام بها، وأمرهم أن يُمِدَّ بعضُهم بعضًا. وجاء أهل حمص، وانضمَّ سليمان إلى باقي الأمراء واقتتلوا، فقُتل من الفريقين جماعة، وانهزم أهلُ حمص، وجيء بأبي محمد السُّفياني ويزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية أسيرَين إلى سليمان بن هشام، فبعثَ بهما إلى يزيد بن الوليد، فحبسَهما مع الحَكَم وعثمان ابنَي الوليد بن يزيد. وقُتل من أعيان أهل حمص ثلاثُ مئة رجل. ثم نزل سليمان بنُ هشام وعبد العزيز بنُ الحجَّاج بمرج عَدْرا، واجتمع أهل دمشق، وبايعُوا يزيد بنَ الوليد، فأعطاهم العطاء، وأجاز الأشراف، واستعمل معاوية بنَ يزيد ابنِ حصين على حمص (¬4)، وأقام باقي الجند بدمشق (¬5). وفيها وثبَ أهلُ فلسطين على عاملهم (¬6) سعيد بن عبد الملك بن مروان، فطردوه، وكان حسنَ السِّيرة، وكان بنو سليمان بن عبد الملك ينزلون فلسطين وكان أهلُها يُحبُّونهم، وكان يزيد بنُ سليمان سيِّدَ بني سليمان، ورأسُ أهل فلسطين يومئذ سعيدُ بنُ رَوْح بن ¬

_ (¬1) في (ص): رأي، بدل: أقوال. (¬2) في (ص): بالسلمانية. (¬3) في (ص): السلميَّة. (¬4) في (ص): من أهل حمص. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 263 - 266. (¬6) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): بعاملهم. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 266.

زِنْباع، فلما قُتل الوليد كتب سعيد بن رَوْح إلى يزيد بن سليمان -وهو نازل بمكان يقال له: السبع- يقول: قد قُتل الخليفة، فاقْدَمْ علينا نولِّكِ أمرَنا. وبعث إلى سعيد بن عبد الملك؛ اخْرجْ عنَّا، فإنَّ الأمرَ قد اضطرب، وقد ولَّينا أمرَنا رجلًا رَضِيناه. فخرج سعيد ولحقَ بيزيد بن الوليد بدمشق، وبايع أهلُ فلسطين يزيدَ بنَ سليمان، فدعاهم إلى قتال يزيد بنِ الوليد. وبلغ أهلَ الأردنّ، فولَّوْا عليهم محمدَ بنَ عبد الملك. وبلغ يزيدَ بنَ الوليد، فأرسل إليهم سليمانَ بنَ هشام في عسكر دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفيانيّ، وكان أهل دمشق في ثمانين ألفًا (¬1). وبعث يزيد بنُ الوليد إلى يزيد بنِ سليمان ومحمد بنِ عبد الملك يدعوهما إلى الطاعة، ويَعِدُهما ويُمنِّيهما، وكان رسولُه إليهما عثمان بن داود الخولانيّ؛ واجتمع برؤوس أهل فلسطين والأردنّ، ومنَّاهم ووعدَهم، فخذلُوا يزيدَ بنَ سليمان ومحمد بنَ عبد الملك، ونهبوا متاعَهما بطبريَّة، وبايعوا يزيد بنَ الوليد، وجاؤوا إلى سليمان بن هشام وأطاعوه (¬2). وفيها عزلَ يزيدُ بنُ الوليد يوسفَ بنَ عُمر عن العراق، وولَّاها منصورَ بنَ جُمهور. وكان قد ندبَ لولاية العراق عبدَ العزيز بنَ هارون بن عبد الله بن دِحْية بن خليفة الكلبيَّ، فقال عبد العزيز: لو كان معي جندٌ لقبلتُ. فتركَه، وولَّاها منصورَ بنَ جُمهور (¬3). وحكى هشام بن محمد عن أبي مِخْنَف قال: قُتل الوليدُ بنُ يزيد يومَ الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ستٍّ وعشرين ومئة. وبايعَ الناسُ يزيدَ بنَ الوليد بدمشق، وسار منصورُ بنُ جمهور من البَخْراء (¬4) في اليوم الذي قُتل فيه الوليدُ إلى العراق في ستة أنفس، وبلغ [خبرُه] (¬5) يوسفَ بنَ عمر فهرب. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 267: أربعة وثمانين ألفًا. (¬2) ينظر الخبر مطولًا في "تاريخ" الطبري 7/ 266 - 268. ومن قوله: وفيها وثب أهل فلسطين. . . إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) تاريخ الطبري 7/ 270. (¬4) البَخْراء: ماءة منتنة على ميلين من القُليعة في طرف الحجاز، وعندها قُتل الوليد بن يزيد. ينظر "معجم البلدان" 1/ 356. ووقع في (ص) (والكلام منها): البحر، وهو خطأ. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 270 (والخبر فيه). (¬5) لفظة "خبره" بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 7/ 270 والكلام منه. ومن قوله: وحكى هشام بن محمد عن أبي مخنف. . . إلى هذا الموضع؛ لفظُهُ من (ص)، وجاء بدلًا منه في (ب) و (خ) و (د) لفظ: وسار إلى العراق في اليوم الذي قُتل فيه الوليد بن يزيد في ستة أنفس. . . إلخ.

وقدم منصور الحِيرَة في أيَّام خلَتْ من رجب، فاستولى على بيوت الأموال، وأعطى الناس، وولَّى على واسط حُريث بن [أبي] الجَهْم، واستعملَ جريرَ بن يزيد بن جرير بن عبد الله على البصرة، وبايع ليزيد بن الوليد بالعراق، وأقام بقيَّة رجب وشعبان، وانصرف (¬1) في رمضان. [وقيل: ] وكان منصور [بن جمهور] أعرابيًّا جافيًا جِلْفًا غَيلانيًّا قَدَريًّا، وإنما ساعد [يزيدَ بنَ الوليد] على قتل الوليد [لأجل الاعتقاد، و] حميَّة لخالد القَسْريّ [حيث قتله يوسفُ بنُ عُمر]، فلما قُتل الوليدُ قال له يزيد [بنُ الوليد]: قد ولَّيتُك العراق، فسِرْ إليه، واتَّقِ الله، واعلم أني إنَّما قتلتُ الوليدَ لفسقه، ولِما أظهر (¬2) من الجَوْر، فلا ترتكب مثل ما قتلتُه عليه (¬3). ولِما بلغ يزيدَ بنَ حُجْرةَ الغسانيَّ -وكان ديِّنًا صالحًا فاضلًا، له قَدْرٌ بالشام، حضر قتل الوليد ديانةً ومجاهدةً- فقال ليزيد: يا أمير المؤمنين، أَوَلَّيتَ منصورًا العراق؟ قال: نعم، لبلائه وحُسن معونته. قال: إنَّ منصورًا ليس هناك؛ لأعرابيَّتِه وغِلظته وجفائه في الدين. قال: فمن أُوَلِّي؟ قال: رجلًا من أهل الدِّين والصَّلاح، عارفًا بالحدود والأحكام (¬4). ولما سار [منصور] إلى العراق كتب في (¬5) الطريق إلى سليمان (¬6) بن سُليم يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وإنَّ الوليد يدَّل نعمةَ الله كفرًا فسفك [الدِّماء، فسفك اللهُ] دمه وعجَّل بروحه إلى النار، وولَّى خلافتَه مَنْ ¬

_ (¬1) في النسخ الأربعة: وصرف، والمثبت من المصدر السابق، والخبر فيه. (¬2) في (ص): ظهر. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 270 - 271. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) المصدر السابق 7/ 271. (¬5) في (ب) و (د): من. والكلام ليس في (ص). (¬6) لفظة "منصور" السالفة بين حاصرتين زيادة من عندي للإيضاح. وعبارة "تاريخ" الطبري: وأقبل منصور حتى إذا كان بالجَمْع كتب إلى سليمان. . . إلخ. وجَمْع: قلعة بوادي موسى من جبال الشَّراة.

هو خيرٌ منه وأحسنُ هَدْيًا، فخُذْ يوسفَ وعمَّاله لا يَفُوتنَّك منهم أحد، وإيَّاك والمخالفةَ، فيحلَّ بك ما لا قِبل لك به. والسلام (¬1). وبلغ يوسفَ بنَ عُمر، فهربَ إلى الشام على طريق السَّماوة حتى أتى البَلْقاء، ولم يخرج معه من الكوفة سوى سفيان بن سُليم (¬2)، وغسان [بن قعاس] العُذْري، ومعه من ولده لصلبه ستُّون ما بين ذكر وأنثى. ولمَّا بلغَ يزيدَ بنَ الوليد نزولُ يوسف بن عمر البَلْقاء؛ أرسلَ إليه محمدَ بنَ سعيد الكلبيَّ في خمسين فارسًا، فأحاطَ بدار يوسف بالبَلْقاء، وفتَّشَ عليه، فلم يجده، وكان [يوسف] قد لبسَ ثيابَ النساء، وجلسَ بين نسائه وبناته، ففتَّشهنَّ، فظفرَ به، فجاء به إلى دمشق في وَثاق، فحبسَه مع ابنَي الوليد، فأقام محبوسًا مدَّة ولاية يزيدَ بنِ الوليد، وشهرين وعشرة أيام في ولاية إبراهيم بن الوليد، فلما قرب مروان من دمشق وليَ قَتْلَهم يزيدُ بنُ خالد، فقتل الغلامين ويوسف [بن عمر، وسنذكر ذلك (¬3). وفي رواية: لمَّا جيءَ بيوسف بن عمر؛ قال له: ما أقدمَك؟ قال: قدم منصور واليًا. قال: لا، ولكنَّك (¬4) كرهتَ أن تليَ عملي. فحبَسه. وفي رواية أنه] لمَّا أُخِذَ يوسفُ من البَلْقاء وجيء به إلى دمشق؛ لقيَه عاملٌ لسليمان، فنتفَ لحيتَه، وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة. فأُدخِلَ (¬5) على يزيد، فجعل يُمسكُ لحيتَه ويقول: يا أمير المؤمنين، نتفَ لحيتي فما أبقى منها شعرة. فأمر بحبسه في الخضراء (¬6)، فدخل عليه محمد بن راشد فقال: أما (¬7) تخافُ أن يطَّلع عليك بعضُ من ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 271. وما سلف بين حاصرتين منه. ومن قوله: ولما بلغ يزيدَ بنَ حجرةَ. . . إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) في (ص): سلامة. وفي "تاريخ" الطبري 7/ 273: سفيان بن سُليم بن سلامة. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 274. (¬4) في (ص) (والكلام منها، وهو ما بين حاصرتين): وليتك، بدل: ولكنك. والمثبت من المصدر السابق. (¬5) في (ص): فأدخلاه. وكذا هي اللفظة في "تاريخ" الطبري 7/ 275، غير أن الخبر جاء فيه مفصّلًا، فضمير التثنية يعود عنده على مسلم بن ذكوان ومحمد بن سعيد الكلبي اللذين أرسلَهما يزيد بن الوليد في طلب يوسف، وظفرا به، ولم يرد لهما ذكر هنا. (¬6) هو دار الإمارة بدمشق. (¬7) في (ص): ألا.

قد وترتَ، فيُلقي عليك حجرًا فيقتلك؟ فقال: ما فطنتُ لهذا، فنشدتُك اللهَ إلا كلَّمتَ أمير المؤمنين أن ينقلَني إلى مجلس غير هذا. فكلَّم يزيدَ فيه، فقال: إنه لَأحمق! واللهِ ما حبستُه إلا لأبعثَ به إلى العراق، فيُقامَ للناس، وتُؤخذَ المظالمُ من ماله ودمه (¬1). [حديث نصر بن سيَّار: قال هشام: ] وكان يزيد [بن الوليد] قد ولَّى منصور [بن جمهور] خراسان مع العراق، فبعث منصورٌ عماله على خُراسان، فامتنعَ نصرٌ من تسليمها إليهم. وأُرجِفَ الناسُ بقدوم منصورٌ خُراسان، فخطب نَصْرٌ الناس وذمَّ منصورًا وقال: الجِلف الجافي المخذول المبتور، لئن جاءنا (¬2) لأُقطِّعنَّ يديه ورجليه. ثم فرَّق العمَّال في البلاد، وأمرَهم بحسن السيرة، ودعا الناس إلى البيعة (¬3). وفِيها عزلَ يزيدُ بنُ الوليد منصورَ بنَ جمهور عن العراق، وولَّاها عبدَ الله بنَ عمر بن عبد العزيز [وقال له: إن الناس يميلون إلى أبيك، فسِرْ إليها. وقد ذكر القصة أبو عُبيدة معمر] (¬4) قال (¬5): وكان [عبد الله بن عمر] (¬6) متألِّهًا صالحًا، فقدم العراق وأحسنَ السيرة إلى الناس، وقال لمنصور: إن شئتَ أن تُقيم معي فأقم -وكان قد خاف منه أن لا يسلِّم إليه العراق- فقال منصور: لا، بل أسيرُ إلى الشام، وصفحَ له عبد الله عمَّا أخذ من الأموال، وكانت ولاية منصور على العراق شهرين وعشرة أيام. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 275. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): لا رجانا، بدل: لئن جاءنا، وأثبتُّ اللفظة مستفيدًا من عبارة الطبري 7/ 278: إن جاءنا. (¬3) ينظر المصدر السابق. وما سلف بين حاصرتين من (ص). ومن قوله: وأرجف الناس بقدوم منصور. . . إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬4) ما بين حاصرتين من (ص) ثم يرد فيها الكلام بعده حتى قوله: وفيها بعث إبراهيم بن محمد الإمام بكيرَ. . . (بعد خمس صفحات). (¬5) لفظة قال، من عندي لربط سياق (ص) بسياق النسخ الأخرى، وينظر التعليق السابق. (¬6) لفظ: عبد الله بن عمر، زيادة من "تاريخ" الطبري 7/ 284 للإيضاح.

ثم كتب عبد الله بنُ عمر لنَصْر بن سيَّار عهدَه على خُراسان، وكانت الفتنةُ قد وقعت بين اليمانيَّة والفَزَاريَّة، وأظهرَ الكِرْمَانيُّ الخلافَ، وقام معه جماعة، فلمَّا ورد كتاب عبدُ الله بنُ عمر على نصر بعهده؛ خمدت الفتنة، وحبس نصرٌ الكِرْمَانيَّ. واسمُ الكِرْمَانيّ جُدَيْع بنُ عليّ، وإنما سُمِّيَ الكِرْمانيَّ لأنَّه وُلد بكِرْمَان. ولما أقام الفتنة قيل لنصر: اقتُلْهُ. فقال: لا، ولكن لي ولدٌ ذكور وإناث، وله ولد كذلك، فنُزوِّجُهُ. فقالوا: لا تفعل، واحْبِسْهُ. فأرسلَ إليه عبدَ الله (¬1) بنَ بسام صاحبَ حرسه، فأتاه به، فقال له نصر: يا كِرْمَانيّ، ألم يأتني كتاب يوسفَ بنِ عمر يأمرُني بقتلك، فراجعتُه فيك، وقلت: شيخُ خُراسان وفارسُها، وحَقنتُ دمك؟ قال: بلى. قال: ألم أَغْرَمْ عليك ما كان لزمَك من الغُرْم، وقسمتُه في عطايات الناس؟ قال: بلى. قال: ألم أَرِشْ (¬2) عليًّا ابنَك على كُرهٍ من قومك؟ قال: بلى. قال: فجعلتَ عوضًا من ذلك إقامةَ الفتن! فقال الكِرْمَانيّ: واللهِ ما أُحِبُّ الفتنَ. فيَتَثبَّتُ (¬3) الأميرُ في أمري ولا يعجل. وقال له جلساؤه: اقْتُلْه. فقال الكِرْمَانيّ: لَجُلَساءُ فرعونَ كانوا خيرًا منكم حيث قالوا: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} (¬4) [الأعراف: 111] فحبسَه في شهر رمضان هذه السنة. وبعثت الأَزْدُ إلى نصر المغيرةَ بنَ شعبةَ الجهميَّ، وخالد بنَ شعيب الحُدَّانيّ (¬5)، فكلَّماه فيه، فقال: لا ناله مني سوء. وأرادَت الأَزْد نَزْعَهُ من يد نَصْر، ثم تراجعوا، فجعل معه نصرٌ في القُهَنْدِز (¬6) رجالًا منهم، فقال رجل من نَسَف الأَزْد (¬7): أنا أُخرِجُه. فجاء إلى مجرى الماء في القُهَنْدِز، فحفرَه ووسَّعه، فأخبرَ الكِرْمَانيُّ أصحابَه، فواعدَهم ليلةً بعينها، وخرجَ من السَّرَب في ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 288: عبيد الله. (¬2) يقال: راشَ فلانًا: أي قوَّاه وأعانه وأصلح حاله. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 288: فلْيَسْتأْنِ الأمير ويتثبَّت. (¬4) القول في "تاريخ" الطبري 7/ 288 للمقدام وقُدامة ابني عبد الرحمن بن نُعيم الغامدي، وليس للكرماني. (¬5) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): الحياني. والمثبت من المصدر السابق. (¬6) كلمة فارسية يعني: قلعة قديمة. ينظر "المعجم الذهبي" ص 446 وضبطتُ اللفظة منه. (¬7) في "تاريخ" الطبري 7/ 289: من أهل نَسَف.

تلك الليلة على بطنه، فالتَوَتْ عليه حيَّةٌ، فلم تضرَّه. وخرج إلى أصحابه، فأخذوه ومضَوْا، فما ارتفعت الشمس حتى صار في ثلاثة آلاف من الأزد وغيرهم. وخرج نَصْرٌ بعسكره إلى باب مَرْو الرُّوذ (¬1)، وخطب الناس، فنال من الكِرْمَانيّ وقال: ولد بكِرْمَان، فكان كِرْمَانِيًّا، ثم سقط إلى هَراة، فكان هَرَويًّا، والساقطُ بين الفِراشين لا أصلٌ ثابت، ولا فرعٌ نابت. ثم ذمَّ الأَزْد فقال: إن يستوثقوا (¬2) فأذلُّ قوم، هم كما قال الأخطل الشاعر (¬3): ضفادعُ في ظلماءِ ليل تجاوَبَتْ ... فدَلَّ عليها صوتُها حيَّةَ البحرِ ثم عزمَ على قتال الأَزْد، فسَفرَ الناسُ بين نصر والكِرْمانيّ، فأمَّنَه، وأمرَه بلزوم بيته. ثم عزمَ نصرٌ على إخراجه من خُراسان، فقيل له: إن فعلتَ نَوَّهْتَ باسمه، فقال: إن الرجل إذا نُفِيَ من بلده صَغُرَ أمرُه، فقيل له: إذا أخرجتَه يُقال: خاف منه. فقال نصر: إن الذي أتخوَّفُه إذا خرجَ أيسرُ ممَّا أتخوَّفُه وهو مقيم. ثم جاء الكِرْمانيُّ فدخل سُرادق نصر، فأمَّنه وسكتَ عنه (¬4). وجاء نصرًا عزلُ منصور [بن جمهور] وولاية عبد الله [بن عمر بن عبد العزيز] (¬5) فخطب وقال: قد علم اللهُ أنَّ ابن جمهور لم يكن من عمَّال العراق، فعزلَه، واستعملَ الطيَّبَ ابنَ الطيِّب. فغضب الكِرْمانيُّ لابنِ جمهور، وشرَع في جمع الناس إليه، واستعدَّ للقتال وأرسل إليه نصرٌ سَلْمَ بنَ أحْوَز. . . فرجع إلى نصر (¬6) فأخبره، فأرسل إليه ¬

_ (¬1) وقع خرم في (ب) بدءًا من هذا الموضع، وحتى أثناء سنة (145). (¬2) لم تجوّد الكلمة في (خ) و (د) (والكلام منهما) فجاء رحمها فيهما: نسبوا تبووا. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 290. وفي "الكامل": يستوسقوا. (¬3) في المصدرين السابقين: وان يأبَوْا فهم كما قال الأخطل. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 290 - 291. (¬5) الكلام بين حاصرتين زيادة من عندي للإيضاح. (¬6) مكان النقط سقط في (خ) بمقدار سطر، وهو في (د) لكنه غير واضح. والكلام من هاتين النسختين. وفي "تاريخ" الطبري 7/ 291 أن نصرًا أرسل إلى الكِرْماني مع سَلْم بن أحوز: إني واللهِ ما أردتُ بك في حبسك سوءًا، ولكن خفتُ أن تُفسد أمر الناس، فائْتني. فقال الكِرْمانيّ: لولا أنك في منزلي لقتلتُك، ولولا ما أعرفُ من حمقك أحسنتُ أدبَك، فارجع إلى ابن الأقطع فأبلغه ما شئت من خير أو شرّ. فرجع إلى نصر فأخبره. . . إلح.

جماعةً وهو يمتنع، ثم تهيَّأ للخروج إلى جُرجان وهو على عزم الخلاف، وجرت بينهما محاوراتٌ كثيرة (¬1). وفيها اتَّفق نَصْرُ بنُ سيَّار مع الحارث بن سُرَيج، وأخذَ له كتابَ أمان من يزيد. وسببه أنَّ الفتنة لما وقعت بخراسان بين نَصْر والكِرْمانيّ؛ خاف نَصْرٌ أن يتفق الكِرْمانيّ مع الحارث والتركِ عليه، فأرسل مقاتلَ بنَ حيَّان النَّبَطي ومعه جماعةٌ إلى الحارث في الصُّلح، وبعثَ نصرٌ إلى يزيد يطلب له الأمان. وقيل: إنما أخذَ الأمانَ للحارث خالدُ بن زياد (¬2)؛ من أهل التِّرْمِذ، وخالدُ بنُ عَمرو (¬3) مولى بني عامر؛ خرجا إلى يزيد [بن الوليد] إلى دمشق، ودخلا عليه فقالا: يا أمير المؤمنين، أنتَ قتلتَ ابنَ عمِّك لإقامة كتاب الله، وعُمَّالُك يَظلمون! فقال: ما الذي أصنع؟ قالا: وَلِّ أربابَ البيوت، وضُمَّ إلى كلِّ عاملٍ رجلًا (¬4) من أهل العلم والفقه. فقال: أفعل. وسألاه أمانًا للحارث، فأمَّنَه، وكتبَ لهما كتابًا إلى عبد الله بن عُمر بن عبد العزيز بردِّ ما كان اصطفى من أموالهم وذراريهم. فقدما على عبد الله الكوفة، وكتب لهما كتابًا إلى نصر بردِّ ما كان أخَذَ لهم (¬5)، فردَّ ما قدر عليه. ومضيا إلى الحارث بن سُريج، فلقيا عنده مقاتل بن حيَّان (¬6) وأصحابَه الذين بعثهم نصر إلى الحارث ومعه أمانُ نصر للحارث، فأقبلَ الحارثُ يريد مَرْو، وكان مُقامُه بأرض الترك اثنتي عشرة سنة (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر الكلام مفصّلًا في المصدر السابق. (¬2) في (خ): يزيد. والمثبت من (د)، وهو موافق لما في "تاريخ" الطبري 7/ 293. (¬3) في (خ) و (د) (والكلام منهما): حارث، بدل: عمرو. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 293، و"الكامل" 5/ 308. (¬4) في "تاريخ" الطبري 7/ 293: رجالًا. (¬5) يقارن بما في المصدر السابق 7/ 294. (¬6) في (خ) و (د) (والكلام منهما): سليمان. وهو خطأ، وسلف ذكر مقاتل قريبًا. (¬7) تاريخ الطبري 7/ 294.

ذكر كتاب مروان بن محمد إلى الغمر بن يزيد يأمره بالطلب بدم أخيه [الوليد]

ذكر كتاب مروان بن محمد إلى الغَمْر بن يزيد يأمرُه بالطلب بدم أخيه [الوليد] من جملته: أمَّا بعد، فإنَّ هذه الخلافة من الله على مناهج نُبوَّة رسلِه، وإقامةِ شرائعِ دينِه، أكرمَهم الله بما قلَّدهم منها (¬1)، يُعزُّهم ويُعزُّ مَنْ (¬2) أعَزَّهم، والحَين على من ناوأهم وابتغَى غيرَ سبيلهم، فلم يزالوا أهلَ رعايةٍ لما استودعهم اللهُ منها، يقومُ بحقِّها ناهضٌ بعد ناهض بأنصار لها من المسلمين، وكان أهلُ الشام فيها أحسنَ طاعة، وأذبَّ عن حرمة، وأوْفَى بعهد، وأشدَّ نِكايةً في مارقٍ مخالفٍ ناكث، ناكبٍ عن الحق، فَدرَّتْ نِعَمُ اللهِ عليهم [قد عُمر بهم الإسلام، وكُبِتَ بهم الشركُ وأهلُه] وقد نبذوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود وقام بذلك من أَشعلَ ضِرامَها وإن كانت القلوبُ عنه نافرة، ولن يَضِيعَ دمُ الخليفة المظلوم. وذكر كلامًا طويلًا، وقال في آخره: وما إطراقي إلا لأنتظر ما يأتيني عنك، وأسطوَ بانتقام، وأُشَمِّرَ للقدريَّة إزاري، وأضربَهم بسيفي، فلا تَهِنْ عن ثأر أخيك، فإنَّ الله جارُك وكافيك. والسلام (¬3). وفيها بعثَ إبراهيمُ بنُ محمد الإمامُ بُكَيرَ بنَ ماهان إلى خُراسان ينعى محمدًا أباه، ويُوقفُهم على وصيِّته إلى إبراهيم (¬4). وفيها أخذ يزيدُ بن الوليد البيعةَ لأخيه إبراهيمَ بنِ الوليد، وجعلَه وفيَ عهدِه، ومن بعده لعبد العزيز بن الحجَّاج بن عبد الملك [بن مروان] لكونه باشرَ قتلَ الوليدِ بنِ يزيد، وذلك لأنَّ يزيد بن الوليد مرضَ، فقيل له: اعهد وانظر للمسلمين. فعهدَ إلى إبراهيم، ثم إلى عبد العزيز. [قال الطبري: حملته القدريَّة على ذلك. يعني أن يزيد بن الوليد كان قدريًّا] (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): منا. (¬2) في (خ): على، بدل: مَنْ. (¬3) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 281 - 282. وما سلف بين حاصرتين منه. ومن قوله: وكان عبد الله بن عمر متألهًا (قبل خمس صفحات). . . إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬4) تاريخ الطبري 7/ 294 - 295. (¬5) قول الطبري هذا بنحوه في "تاريخه" 7/ 295، وليس بلفظه. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص).

الباب الثالث عشر في خلافة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

وفيها عزلَ يزيدُ بنُ الوليد يوسفَ بنَ محمد [بن يوسف] الثقفي عن المدينة، وولَّاها عبدَ العزيز بن عبد الله بن عَمرو بن عثمان بن عفَّان (¬1). وفيها أظهر مروانُ الخلافَ على يزيدَ بنِ الوليد، وقدمَ من أرمينية إلى حرَّان والجزيرة في عشرين ألفًا، وأظهر الطلبَ بدم الوليد، وتهيَّأ لقصد دمشق، فكاتبَه يزيدُ بنُ الوليد على أن يُبايعَه ويُبقيَ عليه (¬2) ما بيده من الجزيرة والموصل وأرمينية وأذربيجان، فتوقَّفَ، واستعدَّ يزيد بنُ الوليد للقائه، وضمَّ إلى دمشق عساكر الشام (¬3). وكتب إلى مروان: أمَّا بعد، فإني أراك تقدِّمُ رِجْلًا وتُؤَخِّرُ أُخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيِّهما شئْتَ (¬4). فرضيَ مروانُ وبايعَه بحرَّان، وأقام مطيعًا ليزيد [بن الوليد]. فمات [يزيد بن الوليد] في آخر السنة وقام (¬5) بعده أخوه إبراهيم بنُ الوليد [بن عبد الملك بن مروان أخو يزيد لأبيه]. الباب الثالث عشر في خلافة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: نعمة، وقيل: خشف، بربريةٌ، وكنيتُه أبو إسحاق، ومولدُه بحمص. بويع يومَ مات أخوه يزيد في ذي الحجة هذه السنة، وكان ضعيفَ الرأي؛ يُسَلَّم عليه بالإمرة جمعة، وبالخلافة أخرى، وفي جمعة لا يسلِّمون عليه أصلًا، ولقَّبوه الصَّلَتَان (¬6)، أي: الحمار الشديد [ذكره الجوهريّ (¬7). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) في (ص): على. (¬3) الخبر مختصر جدًّا، وهو مطوّل في "تاريخ" الطبري 7/ 295 - 298. (¬4) العقد الفريد 1/ 50 و 4/ 464. وينظر كلام ابن قتيبة آخر مقدمته لكتاب "أدب الكاتب" في استشهاده بهذا القول. (¬5) في (ص): وأقام. (¬6) أنساب الأشراف 7/ 552. (¬7) في "الصحاح" 2/ 256 (صلت).

خالد بن عبد الله

قال هشام: ] وفيه يقول الشاعر، نُبايعُ إبراهيمَ في كلِّ جُمعةٍ ... ألا إنَّ أمرًا أنت واليه ضائعُ نُبايعُ إبراهيمَ في كلِّ ساعةٍ ... فكَمْ وإلى كَمْ كلِّ يومٍ نُبايع (¬1) وكان يُكثرُ البيعة في كلِّ وقت. ولما بُويع وثَبَ عليه الحَكَم بنُ ضبْعان بن رَوْح بن زِنْباع الجُذامي، واستولى على فلسطين، وخلع إبراهيم، ودعا إلى سليمان بن هشام بن عبد الملك، واستمال لَخْمًا وجُذامًا، فأجابوه. [قال هشام: ] وأقامَ إبراهيم أربعة أشهر، ثم خَلَعَه مروان في سنة سبع وعشرين ومئة، وعاش إلى سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وسنذكره. وقيل: كانت ولايتُه سبعين يومًا. [واختلفوا فيمن] حجَّ بالناس فِي هذه السنة [فقال الواقديّ: ] عبدُ العزيز بن عُمر بن عبد العزيز بن مروان وهو على المدينة ومكة والطائف. وقيل: حجَّ بهم عُمر بن عبد الله بن عبد الملك، بعثه يزيد بن الوليد (¬2). وكان العاملَ على العراق عبدُ الله بنُ عُمر بن عبد العزيز، وعلى قضاء الكوفة ابنُ أبي ليلى، وعلى قضاء البصرة عامرُ بنُ عبيدة، وعلى عمالتها (¬3) المسور بنُ عمر بن عبَّاد، وعلى خُراسان نَصْرُ بنُ سيَّار (¬4). وفيها توفّي خالدُ بنُ عبد الله ابن يزيد بن أَسَد بن كُرْز بن عامر البَجَليّ القَسْريّ، [من بَجِيلة، وقَسْر فَخِذٌ منها. ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 7/ 552: فكَمْ كمْ إلى كَمْ كلَّ يومٍ نُبايعُ. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 548 - 550، و"تاريخ" الطبري 7/ 299، و "العقد الفريد" 4/ 465 - 468، و "تاريخ دمشق" 2/ 557 - 559 (مصورة دار البشير). (¬3) كذا في (د). وفي (خ): عمالها. وفي "تاريخ" الطبري 7/ 299: وعلى أحداث البصرة المسور. . . ولم ترد هذه العبارة في (ص). (¬4) تاريخ الطبري 7/ 299.

وذكره الجوهريّ فقال: وقَسْر بطن من بَجِيلة، وهم رهط خالد بن عبد الله القَسْريّ] (¬1). واسم قَسْر مالك بن عبقر من بَجِيلة. ويقال: إن خالدًا غير صحيح النسب في بَجِيلة. [قال: وبَجِيلة حيٌّ من اليمن، والنسبة إليهم: بَجَليّ، بالتحريك. ويقال: إنَّهم من مَعَدّ؛ لأن نزار بن مَعَدّ وَلَدَ مُضرَ وربيعةَ وإيادًا وأنمارًا، ثم أنمارٌ وَلَدَ بَجِيلة وخَثْعم، فصاروا باليمن (¬2). قال أبو القاسم ابن عساكر: وخالد وأسد من أهل دمشق، وجدُّهما يزيد بن أسد] وفد يزيد بن أسد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل الشام، وروى الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكنية خالد أبو الهيثم. [وقال هشام: ] وكنية أبيه عبد الله أبو يحيى، وكان من عقلاء الرجال [وقد ذكرناه فيما تقدّم]. [وقال المبرّد: ] قال عبد الملك بن مروان لعبد الله أبي خالد: ما مالُك؟ فقال: شيئان: الرِّضى عن الله، والغِنَى عن الناس. فقيل له بعد ذلك: هلَّا أخبرتَه بمقدار مالِك؟ فقال: لم يَعْدُ أنْ يكون قليلًا فيحتقرني، أو كثيرًا فيحسدني (¬3). [وقال ابن معين: وأهل خالد بن عبد الله ينكرون أن يكون لجدِّه صحبة، ولو كان له صحبة لعرفوا ذلك] (¬4). ذكر طرف من أخبار خالد: [قال خليفة: ] وليَ خالد مكة سنة تسع وثمانين، فلم يزل واليًا عليها حتى مات الوليد، فأقرَّه سليمان، ثم عزلَه، وولَّى مكَّة داود بنَ طلحة. ¬

_ (¬1) الصحاح 2/ 791 (قسر). والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) المصدر السابق 4/ 1630 (يحل) ولم يجوّد النسب في (ص) والكلام منها (وهو ما بين حاصرتين) فأثبتُّه من هذا المصدر. (¬3) الكامل للمبرّد 1/ 270. (¬4) الكلام بين حاصرتين من (ص). =

وفي سنة ستٍّ ومئة وَلِيَ خالد العراق، وعُزل سنة عشرين ومئة [ووليَها يوسف بن عمر (¬1). وذكر الهيثم بن عديّ خالدًا في أبناء النصرانيات. وذكره أبو القاسم ابن عساكر وقال: ] وكانت له دار بدمشق، وهي مربَّعة القزّ، ويعرف اليوم بدار الشريف اليزيدي (¬2)، وإليه يُنسبُ الحمَّام الذي مقابلَ قنطرة سنان بباب توما. و[قال: وروى الحسن بنُ الحسين قال: ] حْطبَ [خالد] بواسط فقال: أيُّها الناس، تنافسُوا في المكارم، وسارِعُوا في المغانم، واشترُوا الحمدَ بالجود، ولا تكتسبوا بالباطل (¬3) ذَمًّا، ولا تعتدُّوا بمعروف لم تعجلوه، ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة لا يبلغُ شُكرَها؛ فالله أحسنَ له جزاءً وأجزلَ له عطاءً. واعلموا أنَّ حوائج الناس إليكم نِعَمٌ من الله عليكم، فلا تَمَلُّوا النِّعم فتُحَوَّلَ نِقَمًا، وإنَّ أفضل المال ما اكتسب به صاحبُه أجرًا، وأورثَ له ذِكْرًا. ولو رأيتُم المعروفَ رأيتُموه رجلًا حسنًا جميلًا يَسُرُّ الناظرين، ويفوقُ العالمين، ولو رأيتُم البُخْلَ، لرأيتُم رجلًا قبيحًا مُشَوَّهَ الخلق، قبيحَ المنظر، تَنْفِرُ عنه القلوب، وتغضُّ دونَه الأبصار. أيُّها الناس، مَنْ جادَ ساد، ومن شكرَ ازداد، ومن بخلَ رَذُلَ، وأكرمُ الناسِ مَن أعطى مَنْ لا يرجوه، ومَنْ عَفَا عن قدرة، وأوصلُ الناسِ مَنْ وصلَ مَنْ قطعَه، وما لم يَطِبْ حَرْثُهُ لم يَزْكُ نَبْتُه، والفروعُ عند مغارسِها تنمو، وبأصولها تسمو (¬4). و[قال أبو القاسم ابن عساكر: ] أُتِيَ خالد برجلٍ يدَّعي النبوّة، فقال: ما آية نبوَّتك؟ قال: أُنْزل عليَّ قرآن. قال: وما هو؟ قال: إنَّا أعطيناك الجماهر، فصلِّ لربك وهاجر، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 5/ 488 - 489 (مصورة دار البشير)، وينظر "تاريخ" خليفة ص 310 و 317. (¬2) في (ص): الزيدي. (¬3) في "أنساب الأشراف" 7/ 437، و"تاريخ دمشق" 5/ 491: بالمَطْل. (¬4) تاريخ دمشق 5/ 490. وبعض الخطبة في "أنساب الأشراف" 7/ 437.

ولا تطع كلَّ كافر وفاجر. فأمر به فصُلب. فقال له رجلٌ (¬1) وهو يُصلب: إنا أعطيناك العمود، فصل لربِّك على عود، وأنا ضامنٌ لك أن لا تعود (¬2). [قال: ] وحرَّم الغِناء، فجاءه شيخ كبير اسمه حنين، فأخرج عودَه وقال: أيُّها الشَّامتُ المعيِّرُ بالشَيـ ... ـبِ أَقِلَنَّ بالشبابِ افْتِخَارَا قَدْ لبستُ الشبابَ قبلَك حينًا ... فوجدتُ الشَبابَ ثوبًا مُعارا فبكى خالد، وأطلقَه وقال: لا تُعاشر المُعَرْبِدين (¬3). وقال خالد (¬4): إني لَأُطْعِمُ كل يومٍ ستَّةً وثلاثين ألفًا من الأعراب التمرَ والسَّويق (¬5). [وحكى عن الأصمعيّ قال: ] وجاءه أعرابيّ فقال: أيُّها الأمير، لم أصُنْ وجهي عن مسألتك، فصُنْ وَجْهَكَ عن رَدِّي، وضَعْني من معروفك حيثُ وضعتُك من رجائي. فأَمَرَ له بما سأل. ودخل عليه رجل ومعه جِرابٌ، فقال: أيُّها الأمير، إن رأيتَ أن تملأَه لي دقيقًا. فقال: املؤوه دراهم. فخرجَ على الناس، فقالوا: ما صنع الأمير في حاجتك؟ فقال: سألتُه ما أشتهي، فأمرَ لي بما يشتهي (¬6). [وحكى أيضًا أبو القاسم عن ابن أبي الدنيا قال: ] خرج [خالد] يومًا إلى ظاهر الكوفة ومعه الأشراف ووجوهُ الناس، وكان يومًا شديدَ البرد، فقام إليه رجل فقال: ناشدتُك اللهَ أيُّها الأمير لَمَا أمرتَ بضرب عنقي. قال: ولم؟ ! هل قطعتَ طريقًا، أو قتلتَ نفسًا؟ قال: لا، ولكن الفقر والحاجة. قال: تَمَنَّ. قال: ثلاثين ألفًا. فأمرَ له بها، ثم قال خالد لمن معه: هل علمتُم تاجرًا ربح في ساعةٍ سبعينَ ألفًا؟ ! قالوا: وكيف؟ ¬

_ (¬1) هو في "أنساب الأشراف" 7/ 434: حمزة بن بيض الحنفي، وفي "العقد الفريد" 6/ 145: خلف بن خليفة. (¬2) تاريخ دمشق 5/ 491 (مصورة دار البشير)، والمصدران السابقان. (¬3) المصدر السابق. (¬4) في (ص): قال: وكان يقول على المنبر. (¬5) أنساب الأشراف 7/ 428، وتاريخ دمشق 5/ 491. (¬6) تاريخ دمشق 5/ 491 - 492.

قال: نويتُ له مئة ألف، فاقترحَ ثلاثين ألفًا، فقد ربحتُ سبعين، فارْجِعُوا بنا، فما ربحَ أحدٌ ما ربحتُ الغداة (¬1). [وحكى أبو القاسم أيضًا عن أبي تمَّام الطائي قال: ] قدم عليه أسدُ بنُ عبد الله بأموال خُراسان، فجلس خالد يُفَرِّقُ البِدَرَ، وقال: إنما هذه الأموال ودائعُ لا بدَّ من تفريقها. فقال له [أخوه] أسد: إنَّ الودائعَ تُجمع ولا تُفَرَّق. فقال له خالد: ويحك! إنها ودائعُ المكارم، وأيدينا وكلاؤُها، فإذا أتانا المُملقُ فأغنيناه، والظمآن فأرويناه (¬2)، والملتجئُ فآويناه، فقد أدَّينا فيه الأمانة (¬3). وقال ابنُ عيَّاش الهَمْدانيّ: بينا أنا ذاتَ يوم واقفٌ بباب أبي جعفر أنتظرُ الإذن؛ إذْ خرجَ الربيعُ بنُ يونس الحاجب، فقال: يقولُ لكم أميرُ المؤمنين: بمن تشبِّهوني من خلفاء بني أميَّة؟ فسكتَ القوم، فقلتُ [للربيع]: أنا أعلمُ مَنْ يُشْبِهُه. فدخل ثم خرج وقال: يقول لك أميرُ المؤمنين: ليس بك الجواب، وإنَّما تريد الدخولَ للكُدْيَة (¬4). فقلت: ما بنا عن أمير المؤمنين غنىً. قال: فاذكُر الجواب. قلت: حتى أدخل. قال: إنك تُبْرِمُهُ بكثرة السؤال والحوائج. قلت: لا. فدخل ثم خرج، فقال: ادخُلْ. فدخلتُ، وكان في كُمِّي رُقْعةٌ لآل خالد بن عبد الله يشكُون الضائقة، فقال لي أبو جعفر: ويحك! ما أكثرَ رِقاعَك وحوائجَك ومسألتَك! إنك تُنغِّصُ علينا مجلسَنا بذلك. فقلتُ: لا أَعْدَمَنا اللهُ أميرَ المؤمنين. قال: بمن تُشَبِّهوني؟ قلت: بعبد الملك بن مروان. قال: وكيف؟ قلت: لأنَّ أوَّلَ اسمِه عين، وأوَّلَ اسمِك عين، وأوَّل اسم أبيه ميم، وأوَّل اسمِ أبيك ميم، وقتلَ ثلاثةً من الجبابرة أوَّلُ أسمائهم عين، وكذا أنت [قال: مَنْ قتل؟ قلت: ] قتلَ عبد الله بن الزُّبير، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وعَمرَو بن سعيد الأشدق. قال: وأنا مَنْ ¬

_ (¬1) المصدر السابق 5/ 492. (¬2) عبارة (ص): فأسقيناه أو فأرويناه. (¬3) تاريخ دمشق 5/ 492. (¬4) يعني كثرة السؤال والإلحاح.

قتلتُ؟ قلتُ: عبد الرحمن بن مسلم، وعبد الجبَّار بن عبد الرحمن. قال: هيه. فأردتُ أن أقول: وعمَّك عبدَ الله بنَ علي، فأدركني ذهني فقلت: وسقط البيت على عبد الله بن عليّ، فقتلَه. فقال: وسقطَ عليه البيتُ فقتلَه، فما ذنبي؟ قلت: لا شيء، إنما أردتُ أن أُخبرك. فآنستُ منه لينًا، فقلتُ: وهذا الآخر حائطُه مائلٌ؛ إن لم تدعموه بشيء، خفتُ أن يسقط عليه فيقتلَه. [أعني عيسى بن موسى]، وكان عيسى محبوسًا عنده ليخلعَ نفسَه ويولّيها المهديّ. فضحك، ووضع كُمَّهُ على وجهه، واستترَ، وتغافل كأنه لم يفهم. وتخشخشت الرُّقعةُ في كُمِّي، فقلتُ لها: استَتِري، فليس هذا يومُكِ. فقال: دَعْها مكانَها. فقلت: إنْ رأى أميرُ المؤمنين أنْ ينظرَ فيها بما أراه الله، فهي لآل خالد القَسْرِيّ، أصبَحُوا عالةً يتكفَّفُون الناس على الطرق، فأخَذَها وقال: لأُحَدِّثَنَّك عن خالد بحديث تأكلُ به الخبز. إني لما تزوّجتُ أمَّ موسى بنت منصور بن عبد الله بن يزيد؛ كان مَهْرُها ثلاثين ألفَ درهم، [ففدَحَني] فقلتُ: آتي الكوفةَ، فإنَّ لنا بها شيعةً، فركبتُ حمارًا، وركب مولًى لي حمارًا آخر، وسِرْنا، فلما قَرُبْنا من سَواد الكوفة؛ مررنا بقرية على شيخ في مستشرف على باب بيت، فسَلَّمْنا عليه، فما حَفَلَ بنا، فدلَّنا إلى دار واسعة، فنزَلْنا بها، فسألَ بعضُ أهل الدار مولايَ عني وعن اسمي ونسبي، فأخبره، فمضى وقعدنا مُتَحَيِّرِين. وإذا برسولٍ قد جاء ومعه رُقْعَةٌ، فسألني فيها المصير إليه ويقول: بي علَّةٌ تمنعُني من القيام، فهممتُ بالقيام، فقال لي مولاي: إلى مَنْ تريد؟ [إلى] رجل ما رآنا أهلًا لردِّ السلام؛ نمشي إليه؟ ! قلت: نعم. فمشَيتُ إليه، فرحَّب بي، وأخذَ يعتذرُ بمرضه، وسألَني عن سبب مخرجي، فاستَحْيَيتُ أن أذكرَ له حاجتي وقلت: يكون في مجلس آخر. فمدَّ يده إلى الدَّواة، فكتب رُقْعَةً وختمَها، ورمى بها إلى مولاي وقال: اِلْقَ وكيلي بها. فأخَذْنا الرُّقْعَةَ، ودعوتُ له، وقمتُ، فأتينا الدار، وأتينا بما نحتاج إليه، ولم نَحْفِلْ بالرُّقْعَة، وحَقَرْنَاها، ورمى بها مولاي في زاوية البيت، وإذا بوكيله قد غدا علينا وقال:

ألا تُوصلون إلينا الرُّقْعَة وتقبضون مالكم قبل أن يَفْرَغَ ما عندنا؟ فناوَلْناه الرُّقعة، فإذا فيها مئةُ ألف درهم. قال: وهو يستقلُّها لكم، فلم أُصدِّق وقلتُ: حميرُنا ضعيفة، فأَعْطِنا ثلاثين ألفًا، وندخلُ الكوفة، فنقبض الباقي. فقال: وأين تريدون؟ قلنا: الشام إلى الحِمَّة. فغابَ ورَجَع وقال: يأمركم أبو الهيثم أن تَلْقَوْا وكيلَه بالشام في قرية كذا. وكتبَ لنا ورقةً أخرى، وأخذَ الأولى. فقلتُ: مَنْ هذا الشيخ؟ قال: خالد بن عبد الله القَسْرِيّ الأمير، به علَّةٌ، وهو ها هنا يشربُ اللبن. قال: ودخلنا الكوفة، ثم خَرَجْنا إلى الشام، فقلتُ لمولاي؛ قد حصلَ لنا الذي كنَّا نريد، وهو المهرُ ثلاثون ألفًا، أفلا نمضي إلى الحِمَّة؟ فقال: وما علينا أن نجتمع بوكيله في القرية التي سمَّاها؟ وأتَينا القريةَ، ونزلنا على وكيله، وأعطيناه الرُّقعة، فوقف عليها وقال: إلى أين أحملُ المال؟ فظنَنَّاه سبعين ألفًا تمامَ المئة ألفِ درهم، وإذا به ثلاثُ مئة ألفِ درهم (¬1)، وطِيبٌ وثيابٌ، وطُرَفٌ وهدايا، وقال: قد أمرني أنْ أحملَها إلى مَأْمَنِكم. فجهَّز معنا قومًا إلى مأمننا، فوَصَلْنا الحِمَّة بخيرٍ كثير. ثم قال: يا ابن عيَّاش، فما جزاءُ ولدِ هذا مني؟ ثم قرأ الرُّقْعةَ، ووقَّع عليها بردِّ ضِياعهم وأموالهم وأشيائهم، وكان شيئًا كَثيرًا. و[كان] ولَّى محمد بنَ خالد المدينة (¬2)، ثم نقم عليه بسبب إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن حسن بن حسن، فغضبَ على محمد، واستصفَى أمواله. وحكى القاضي التنوخي عن الأصمعي قال: دخل [رجل] أعرابيٌّ على خالد، فقال: قد قلتُ فيكَ بيتين [من الشعر] قال: قُلْ. فقال: لَزِمْتَ نَعَمْ حتى كأنَّك لم تَكُنْ ... سمعتَ من الأشياءِ شيئًا سوى نَعَمْ ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 5/ 494: مئة ألف درهم، وكذا في "مختصره" 7/ 376. (¬2) لفظة "كان" بين حاصرتين زيادة من عندي لضرورة السياق. وعبارةُ "تاريخ دمشق" 5/ 495: وكان سببُ سخطه على محمد بن خالد بن عبد الله القَشري أنه حين ولّاه المدينة تقدَّم إليه في أخذ محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن حتى يُنفذهما إليه موثقين أو يقتلهما، فقصَّر محمد بن خالد حتى عزل وخرجا عليه، فحقد ذلك عليه أبو جعفر فعزله واستصفى أموالهم. والخبر بتمامه في المصدر المذكور، وما سلف بين حاصرتين منه، ولم يرد هذا الخبر في (ص).

وأنكرتَ لا حتى كأنَّك لم تكن ... سمعتَ بها في سالفِ الدَّهْرِ والأُمَمْ فأعطاه عشرين ألفًا (¬1). [قال: ] ودخلَ عليه أعرابيٌّ، فأنشدَه وقال: قد كانَ آدمُ قبلُ حينَ وفاتِهِ ... أوصاكَ وَهْوَ يجودُ بالحَوْبَاءِ ببنيهِ أَنْ تَرْعَاهُمُ فَرَعَيتَهُمْ ... وكَفَيتَ آدَمَ عَيلَةَ الأبناءِ فقال له: احتكم. فقال: عشرين ألفًا. فأمر له بها، وجلَدَهُ خمسين، وأمر أن يُنادَى عليه: هذا جزاءُ من لا يعرفُ قيمةَ الشِّعْر (¬2). وقال خالد (¬3) [بن عبد الله]: إنما يحتجبُ الوالي لثلاث خصال: إمَّا لِعِيٍّ فيه، فهو يكرهُ أن يَطَّلعَ عليه الناس فيظهرَ جهلُه، وإمَّا رجلُ سوء، فيكره أن يطَّلع الناس على عورته، وإمَّا بخيل يكرهُ سؤال الناس إيَّاه. [وقال الزُّبير بن بكَّار: ] وكانت له جارية [يحبُّها] اشترى لها فَصَّ ياقوت بعشرين ألفًا، فوقع الخاتم من يدها في الخلاء، فقالت له: أحْضِرْ مَنْ يُخرجُه، فقال: لا، أنتِ عندي أعزُّ من أنْ يقعَ في ذلك الموضع (¬4) ويعود إلى أصبعك، فاشترى لها فَصًّا بخمسين ألفًا (¬5). [حديث خالد مع الفتى السارق: قال الخرائطي بإسناده عن ابن عيَّاش قال: عرض خالد بن عبد الله السجون، فكان في محبسه يزيدُ بن فلان البجليّ. فقال له خالد: على أيّ شيءٍ حُبِستَ؟ قال: في تُهمة. قال: تعود إن أطلقتُك؟ قال: نعم. وكره أن يُصرِّحَ بالقصة أو يُومئَ إليها، فتفتضح ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 5/ 496، وفي آخره: قال خالد: يا غلام، عشرة آلاف، وخادمًا يحملها. (¬2) الخبر في "تاريخ دمشق" 5/ 497 وفيه أن خالدًا أمر للأعرابي بعشرين ألفًا قبل أن ينشده البيتين، وبعشرين ألفًا بعدها. وذكر البلاذري البيتين في "أنساب الأشراف" 7/ 436 ونسبهما لابن بيض. (¬3) في (ص): وقال ابن معين: قال خالد. . . إلخ. وهو خطأ، وإنما نقل قول خالد هذا الهيثم بنُ عدي، كما في "تاريخ دمشق" 5/ 500 وغيره. وقد تكرر مثل هذا الخطأ في النسخة (ص). (¬4) في (ص): المكان. (¬5) بنحوه في "تاريخ دمشق" 5/ 495.

معشوقتُه لكي لا ينالها أهلُها بمكروه. فأمر خالد بقطع يده، فكتب إليه أخٌ كان ليزيد، فقال: أخالدُ قد أُعطيتَ واللهِ عشوةً ... وما العاشقُ المسكينُ فينا بسارقِ أقرَّ بما لم يأتِهِ المرءُ إنَّهُ ... رأى القَطْعَ خيرًا من فضيحة عاشقِ (¬1) ولولا الذي قد خفتُ من قطع كفِّهِ ... لألفيتَ في أمر الهوى غيرَ ناطقِ إذا بدت الغاياتُ (¬2) في السَّبْقِ للعُلى ... فأنتَ ابنَ عبدِ اللهِ أوَّلُ سابقِ فلما قرأ خالد الأبيات؛ فهمَ، فأرسل إلى أولياء الجارية وقال: زَوِّجُوها منه. فقالوا: لا؛ بعد ما ظهر عليه ما ظهر، فلا. فقال: زَوِّجُوها طائعين، وإلا زوَّجتُه وأنتم كارهين (¬3). فزوَّجوه، ونقدَ خالد المَهْرَ من عنده. وهذه رواية الخرائطي (¬4). وذكرها القاضي التَّنُوخي (¬5) أتمَّ من هذا عن الهيثم بن عديّ، عن ابن عيَّاش قال: كان لِعَمرو (¬6) بن دُويرة السحمي أخ (¬7) قد كَلِفَ بابنة عمٍّ له كَلَفًا شديدًا، وكان أبوها (¬8) يكرهُ ذلك، فشكاه إلى خالد -وهو أمير العراق- فحبسه خالد، ثم سُئل، فأطلقَه، فحملَه الحبُّ على أن تسوَّر عليها الحائط. فقبض عليه أبوها، وأتى به خالدًا، وادَّعى أنه سرقَ، وجاء بجماعة، فشهدوا عليه، فسأل خالدٌ الفتى، فاعترف أنه دخل المنزل ليسرق، ولم يسرق؛ يدفع بذلك الفضيحة عن ابنة عمِّه. ¬

_ (¬1) في "اعتلال القلوب" ص 238، و"تاريخ دمشق" 5/ 496: عاتق. والعاتق: الجارية أول ما تدرك، أو التي لم تتزوّج. (¬2) في المصدرين السابقين: الرايات. (¬3) كذا في (ص) (والكلام منها). والجادة: كارهون. وعبارة المصدرين السابقين: لئن لم تزوّجوه طائعين لَتُزَوِّجُنَّهُ كارهين. (¬4) في "اعتلال القلوب" ص 237 - 238، وأخرجها ابن عساكر من طريقه في "تاريخ دمشق" 5/ 495 - 496. (¬5) في "نشوار المحاضرة" 4/ 263 - 264، و"الفرج بعد الشدة" 4/ 306. (¬6) في (ص): لعمر. والتصويب من المصدرين السابقين. (¬7) في (ص) (والكلام منها): ابنٌ. والمثبت من المصدرين السابقين، وهو الصواب؛ لقوله آخر الخبر: فكتب إليه أخوه، وعبارة المصدرين السابقين: فرفع عَمرو أخوه إلى خالد. . . (¬8) في (ص): أبوه. والمثبت من المصدرين السابقين لصحة السياق.

فأراد خالد قَطْعَ يده، فكتب إليه أخوه بالأبيات، فأحضرَ الجاريةَ، وأمر بتزويجها منه، فامتنع [أبوها] وقال: ليس لها بكُفْؤ. فقال له خالد: وكيف لا يكون لها كُفْؤًا وقد بذلَ يدَه دونَها؟ ! واللهِ لئن لم تُزوِّجْهُ؛ لأُزوِّجَنَّه وأنت كاره. فزوَّجَه إياها أبوها، وساقَ خالد المَهْرَ من عنده عشرة آلاف درهم. وزاد فيها بيتًا آخر (¬1) فقال: ومثلُ الذي في قلبه حَلَّ (¬2) قلبَها ... فكُنْ أنتَ تَجْلُو الهَمَّ (¬3) عن قلبِ عاشقِ] وكان خالدٌ يقول: مَنْ أصابَه غُبار موكبي فقد وجبَ حقُّه عليَّ (¬4). ذكر قتلِ خالد الجَعْدَ بنَ درهم: وكان يقول بخلق القرآن، ولمَّا أظهر هذه المقالةَ طلبَه بنو أميَّة، فهرب إلى الكوفة، فأقام بها، وبلغَ خالدًا خبرُه، فأرسلَ مَنْ أوثقَه وحبسَه. فلما كان يوم عيد الأضحى؛ أحضرَه إلى تحت المنبر، وخطب وقال: أيُّها الناس، إنَّ الأُضْحية سنَّةُ نبيكم، وهذا الجَعْد يقول: إن الله ما كلَّم موسى تكليمًا، وإنَّما كلَّمَتْه الشجرة، ولا اتخذَ اللهُ إبراهيم خليلًا، فانْصَرِفُوا وضَحُّوا، فإني مُضَحٍّ بالجعد. ثم نزل فذبَحَه. والجَعْدُ أوَّلُ من قال بخلق القرآن. وقيل: إنَّما أخذَ هذه المقالةَ من أبان بن سمعان، وأبان أخَذَها عن طالوت ابن أخت لَبِيد بن الأعصم اليهودي الذي سحرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان زِنْدِيقًا (¬5). ومن الجَعْد تعلَّم جَهْمُ بنُ صفوان الذي يُنسب إليه الجَهْميَّة، ثم سافر جَهْمُ بنُ صفوان إلى خُراسان، ونزل التِّرمِذ وأظهرها، فقتله سَلْم بنُ أَحْوَز بمَرْو، لأنَّ جَهْمًا كان صاحبَ جيش الحارث بن سُرَيج. ¬

_ (¬1) البيت في "الفرج بعد الشدة" ولم يرد في "نشوار المحاضرة". (¬2) في (ص): مثل، والمثبت من "الفرج بعد الشدة". (¬3) في "الفرج بعد الشدة": فُمنَّ لتجلو الهمَّ. وذكر محقِّقُه في حاشيته رواية البيت أعلاه من بعض نسخه، وهذا الخبر بتمامه من (ص) وهو بين حاصرتين. (¬4) لم أقف على هذا القول. (¬5) وأخذها طالوت من لَبِيد اليهودي، ينظر "الكامل" 7/ 75 (أحداث سنة 240) و"مختصر تاريخ دمشق" 6/ 51.

ثم أخذ هذه المقالةَ عن جَهْم بِشْرٌ المَرِيسيّ، وأخذها عنه أحمد بنُ أبي دُؤاد القاضي. وكان الجَعْد يسكنُ دمشق، وله بها دارٌ ملاصقة كنيسةَ النصارى، وهو الذي يُنسب إليه مروان بنُ محمد الجَعْديّ، لأنه كان يعلِّمُه لمَّا كان صبيًّا بهذه الدار. وقُتل الجَعْد بالكوفة سنة ثلاث ومئة أو اثنتين ومئة (¬1). ويقال: إنه كان من أهل حرَّان، وكان مولى ابن مروان. وقيل: مولًى لسُوَيد بن غَفَلَة الجُعْفيّ، شهد عليه ميمون بن مِهْران [وغيره] بأنه زنديق، فبعث به هشام إلى خالد القَسْريّ، وأمرَه بقتله، فحبسه زمانًا، فرفعت امرأتُه قصة بسببه، فقال هشام: أحيٌّ هو؟ ! قال: نعم. فكتب إلى خالد يلومُه ويعزمُ عليه أن يقتلَه، فضحَّى به. وقيل: صلبه (¬2). وقيل: كان ذلك بواسط، وقيل: بمكة، وقيل: بالكوفة. وسأل رجل خالدًا حاجة، فاعتلَّ عليه، فقال الرجل: واللهِ لقد سألتُك من غير حاجة. قال: وما دعاك إلى ذلك؟ ! قال: رأيتُك تحبُّ من لك عنده حسنُ بلاء، فأردتُ أن أتعلَّق منك بحبل مودَّة. فوصلَه وحباه (¬3). ذكر ما نُقل عنه من الهَنَات: [قال الهيثم: ] كانت أمُّه نصرانيَّة [سوداء قبيحة المنظر، وهو يعدُّ من أبناء النصرانيات]. ¬

_ (¬1) المثبت من (خ) و (د) واختلف السياق فيهما عن (ص) بتقديم وتأخير مع إحالة لبعض الكلام إلى ابن عساكر. وينظر "مختصر تاريخ دمشق" 6/ 50 - 51 ووقعت ترجمة الجعد بن درهم ضمن خرم في "تاريخ دمشق". (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 321. (¬3) كذا في "العقد الفريد" 1/ 255، والخبر في "عيون الأخبار" 3/ 126 و"تاريخ دمشق" 2/ 800 لأخيه أسد بن عبد الله. وجاء لفظ العبارة آخر الخبر في (خ): فوصله وأجزل حباه، وهي غير واضحة في (د) لطمس وقع في بعض الأسطر، ولم يرد الخبر في (ص)، والمثبت من "العقد الفريد" وعبارته: فوصله وحباه وأدنى مكانه.

ولم يأمرها بالإسلام (¬1)، وبنى لها بالكوفة بِيعةً، وساقَ إليها الأقساء، وأقام الناقوس يُضرب قبل أذان المسلمين عند صلاتها، فتكلَّم الناس في هذا، وأنكروا عليه، وبلغه فقال: كان دينهم خير من دينها (¬2). وقال الهيثم: وكانت [أمُّه] قَلْفاءَ سوداءَ قبيحة المنظر، فعُيِّرَ بها، فكان يقال: ابن القَلْفَاء (¬3)، فختَنَها على كبر سنِّها (¬4). فقال ابن أعشى هَمْدَان: لعمرُك ما أدري وإني لسائلٌ ... أقلفاءُ أمْ مختونةٌ أمُّ خالدِ فإنْ كانتِ المُوسَى جَرَتْ فوقَ بَظْرِها ... فما خُتِنَتْ إلا بمَرِّ الحدائدِ (¬5) [وقال الفضل بن دُكين: ] بنى [خالد] بجامع الكوفة فَوَّارة للماء، ثم دعا بقَسِّ من قُسُوس النصارى وقال له: ادْعُ لها بالبركة، فإن دعاءك أرجى من دعاء أبي تُراب. يعني أمير المؤمنين علي - عليه السلام -، وكان ينالُ منه أعظم منال (¬6). [قال الهيثم: ] وكان خالد بخيلًا على الطعام، فكان إذا أراد رجلٌ تضييع حقِّ أحدٍ؛ أدخله سِماط خالد ويقول له: كُلْ وأكثِرْ، فإذا أكلَ وأكثرَ أبطل [خالد] حقَّه. [وحكى أبو القاسم ابنُ عساكر عن يحيى بن معين قال (¬7): كان خالد رجل سوء، وكان يقع في عليّ بن أبي طالب، ويذكره بما لا يحلُّ ذِكْرُه. ¬

_ (¬1) ذكر البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 408 أنه كتب إليها يدعوها إلى الإسلام فلم تستجب له. (¬2) كذا في (د). وفي (ص): خير دينها، وفي (خ): خير من ديننا! ولم تتبيّن. وجاء في "أنساب الأشراف" 7/ 409 أن خالدًا كتب إلى بلال بن أبي بُردة أن يبنيَ بِيعةً بالبصرة، فكتب إليه بلال: إن أهل البصرة لا يُقارُّوني على ذلك، فكتب إليه خالد: ابْنِها لهم، فلعنة الله عليهم، إن كانوا شرًّا منهم دينًا. وفيه في ص 405: نعم يبنونها فلعنهم الله إن كان دينها شرًّا من دينكم! (¬3) في "الأغاني" 22/ 14: ابن البظراء. (¬4) في (ص): على كُرهٍ منها. وفي "الأغاني": وهي كارهة. (¬5) ينظر "الأغاني" 22/ 14 - 15 وفيه البيتان مع بيت ثالث، وعجز الثاني برواية أخرى، وهما أيضًا في "أنساب الأشراف" 7/ 406. (¬6) أنساب الأشراف 7/ 408. (¬7) تاريخ دمشق 5/ 501 (مصورة دار البشير)، والكلام بين حاصرتين من (ص).

قال: ] وهو القائل في زمزم: لا تُنزح ولا تُذمّ. بلى والله تُنزح وتُذمّ، ولكن أميرَ المؤمنين الوليد بن عبد الملك قد ساقَ إليكم قناةً بمكة لا تُنزح ولا تُذمّ، ولا تُشبه أمَّ الخنافس. يعني زمزم (¬1). [وحكى عن أبي عاصم النبيل قال: ] لما أخذ خالد سعيد بنَ جُبير وطَلْقَ بنَ حبيب، وبعث بهما إلى الحجَّاج؛ أنكر الناسُ عليه، فخطب فقال: أنكرتُم عليَّ ما فعلتُ، واللهِ لو أمرَنى أميرُ المؤمنين -وأشار إلى الكعبة- أن أنقضَها حجرًا حجرًا لفعلتُ (¬2). [وحكى ابن عساكر أيضًا عن شبيب بن شبَّة قال: وليَ خالد العراق من قبل هشام بن عبد الملك في سنة سبع عشرة ومئة، وكان سبب عزله] أن امرأةً وقفت له فقالت (¬3): تغلَّب عليَّ غلامُك النصرانيّ [أو المجوسي] وأكرهني على الفجور، فقال لها [خالد]: فكيف وجدتِ قُلْفَتَه؟ فكتب حسان النَّبَطيّ إلى هشام بذلك -وكان واجدًا عليه- فعزلَه وولَّى يوسف بنَ عمر (¬4). [وذكر أبو الفرج الأصبهاني أن] منشأ خالد (¬5) بالمدينة، وكان يتبع المخانيث، ويصحب المُغنِّين، ويمشي بين عُمر بن أبي ربيعة وبين النساء بالرسائل (¬6) وكان يقال له: الخِرِّيت [أي: الدليل] وكلُّ ما ذكر عُمر في شعره: فأرسلتُ الخِرِّيتَ، فإنَّما يريد خالدًا، لأنه كان حاذقًا في الجمع بين عُمر والنساء. وكان خالد أجبن الناس وأذلَّهم، وأقساهم قلبًا. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 404، وتاريخ دمشق 5/ 501. (¬2) الخبر في أنساب الأشراف 7/ 405 عن أبي عاصم النبيل عن عمر بن قيس. وفي "تاريخ دمشق" 5/ 501: عن أبي عاصم عن عَمرو بن قيس. وهو بنحوه في "الأغاني" 22/ 17. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) في (خ) و (د): ووقفت له امرأة فقالت. . . إلخ. والمثبت عبارة (ص) والكلام بين حاصرتين منها. (¬4) أنساب الأشراف 7/ 441 - 442، وتاريخ دمشق 5/ 501. (¬5) في (خ) و (د) وكان منشأ خالد. . . إلح. والمثبت من (ص) وهو ما بين حاصرتين. والكلام في "الأغاني" 22/ 6 - 7. (¬6) في (ص): بالمراسل.

ذكر هلاكه: ولمَّا وليَ خالدٌ مكةَ للوليد بن عبد الملك؛ ضربَ حُبابة جاريةَ ابنِ سُهيل، وكانت قَينةً، وتسمَّى العالية، فلمَّا صارت إلى يزيد بن عبد الملك؛ خاف خالدٌ منها، وكانت تُراعي عُمر بن هُبيرة، ويسمِّيها بنتي (¬1). فدخلَ خالد على عُمر، وسألَه أن يترضَّاها، فأهدى لها ابنُ هُبيرة هدايا، وسألها أن ترضى عن خالد، فرضيت عنه، وقالت لابن هُبيرة: قد وهبتُه لك. فلم يشكر خالد ذلك. وكان ابنُ هُبيرة عاملًا ليزيد بن عبد الملك على العراق، فعزلَه هشام لما وَلِيَ، وولَّى خالدًا على العراق (¬2). وقال إياس بن معاوية: كنتُ جالسًا عند ابن هُبيرة في يوم جمعة وقد أذَّن المؤذِّنُ بواسط؛ إذا بغلام يعدو، فقال: إن قومًا قدموا على البريد، وإذا به خالد، فدخلَ المسجد، فصلَّى بالناس، وحبسَ ابنَ هُبيرة، وضيَّق عليه، فقال الفرزدق: لَعَمْري لئن نابَتْ فَزَارةَ نَوْبَةٌ ... لَمِنْ حَدَثِ الأيام تسجُنُها قَسْرُ لقد حَبَسَ القَسْريُّ في سجنِ واسطٍ ... فتىً شَيْظَمِيًّا لا يُنَهْنِهُهُ الزَّجْرُ فتًى لم تُوَرِّكْهُ الإماءُ ولم يَكُنْ ... غداءً له لحمُ الخنازيرِ والخمرُ يعرِّضُ بخالد؛ لأن أمَّه كانت نصرانيَّة. فقال ابنُ هُبيرة: ما رأيتُ أكرمَ من الفرزدق، هجاني أميرًا، ومدحنى أسيرًا (¬3). وكان الفرزدق قد هجا عُمرَ بنَ هُبيرة في أيام يزيد بن الوليد، فقال: أميرَ المؤمنين وأنتَ عَفٌّ ... كريمٌ ليس بالطَّبِعِ الحريصِ أَأَطْعَمْتَ العراقَ ورَافِدَيهِ ... فَزاريًّا أحَذَّ يدِ القميصِ ¬

_ (¬1) كذا رسم هاتين الكلمتين في (خ) و (د) (والكلام منهما). وقال ابن قتيبة في "المعارف" ص 408: كانت تدعوه أبي. وذكر البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 377 أن عمر بن هبيرة تبنّى حُبابة، وكذا قال صاحب "الأغاني" 15/ 127. وسلف الكلام على حبابة سنة (105) في ترجمة يزيد بن عبد الملك. (¬2) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 377 - 378. (¬3) المصدر السابق 7/ 378 - 379. قوله: شيظميًّا، أي: طويلًا، ويُنَهْنِهُهُ: يُحرِّكُه. ينظر "الكامل" للمبرّد 2/ 988 - 989.

ولم يكُ قبلَها راعي مخاضٍ ... ليأمَنَهُ على وَرِكَي قَلُوصِ تَفَهَّقَ بالعراق أبو المثنَّى ... وعَلَّمَ قومَهُ أَكْلَ الخَبِيصِ وأرادَ بالرَّافدَين الفراتَ ودِجْلَة (¬1). ثم عذَّب خالدٌ ابنَ هُبيرة، وهرب منه إلى الشام، واستجارَ بمسلمة بنِ عبد الله، فأجارَه، ورضيَ عنه هشام. فلما وفد خالد على هشام أمر الناسَ بتلقِّيه، فخرج معهم عُمر بنُ هُبيرة، فلما رآه خالد قال له: أبَقْتَ إباقَ العبد. فقال له ابنُ هُبيرة: لمَّا نِمْتَ نَوْمَ الأَمَة (¬2). ثم مات هشام، ووَلِيَ الوليدُ بنُ يزيد، وكان يوسف بن عمر باليمن، فكتب إليه الوليد بولاية العراق وتعذيبِ خالد، فأخذَ خالدًا فعذَّبه. وقال الهيثم: ولمَّا ولَّى الوليدُ يوسفَ بن عمر العراق، دفع يوسفُ بنُ عمر في خالدِ وأصحابه خمسين ألفَ ألفِ درهم، فقال الوليد: أبلغوا خالدًا ذلك. فقال خالد: متى عهد (¬3) العرب تبيعُ الأحرار؟ ! ثم أقام (¬4) يوسفُ بنُ عمر خالدًا في عَباءة، وضربه ضربًا مُبَرِّحًا، ووضعَ الحْشبَ على ساقيه وقدميه، وأقام عليه الرِّجال، فكسَرُوا أعضاءه عضوًا عضوًا، ولم ينطق [خالد] بحرف حتى مات، وذلك بالحِيرَة، فلفُّوه في عَباءة، وألْقَوْه في حفرة، واستخرجَ يوسفُ منه ومن أصحابه تسعين ألفَ ألفِ درهم (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "الكامل" للمبرّد 2/ 985. قال: الطَّبع: الشديدُ الطمع الذي لا يفهم من شدة طمعه. والأحذّ: الخفيف. وقال ابن قتيبة في "المعارف" ص 408: يريد أنه خفيف اليد، نسبهُ إلى الخيانة. اهـ. وتفهَّق، أي: امتلأ مالًا. ووقع في "المعارف": تفتَّق. وقال المبرّد في معنى البيت الثالث: كانت بنو فَزارة تُرمى بغشيان الإبل. وأورد بيتًا في هذا المعنى. وقوله: أبو المثنّى، هو عمر بن هبيرة المهجوّ، والخَبِيص: حلواء مخبوصة من التمر والسمن. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 381، والعقد الفريد 2/ 185. ومن قوله: ذكر هلاكه (أول الفقرة). . . إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) في (ص): عهدت. (¬4) في (ص): لفَّ. (¬5) ينظر الخبر مطولًا في "أنساب الأشراف" 7/ 453 - 455، و"تاريخ" الطبري 7/ 259 - 260، و"البداية والنهاية" 13/ 196.

وقال البخاريّ: كان خالد بواسط، ثم قُتل بالكوفة قريبًا من سنة ستٍّ وعشرين ومئة (¬1)، وروى خالد عن أبيه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). [وقد ذكرنا أنه لم تكن لجدّه صحبة (¬3). وروى عن خالدٍ حُميدٌ (¬4) الطويل وغيره]. وكانت وفاته في محرَّم. وقال الهيثم: عقرَ عامرُ بنُ سهلة على قبره فرسه، فضربه يوسف بن عمر سبع مئة سوط (¬5). وحكى أبو القاسم ابن عساكر، عن أبي عبيدة قال: لما هلك خالد لم يرثِهِ أحد من العرب مع كثرة أياديه عندهم إلا أبو الشَّغْب العَبْسيّ (¬6)، قال: ألا إنَّ خيرَ الناسِ حيًّا وهالكًا (¬7) ... أسيرُ ثقيفٍ عندهُمْ في السلاسلِ لَعَمْرِي لَقَدْ أعْمَرْتُمُ السِّجْنَ خالدً ... وأوْطَأْتُموه وَطْأَةَ المُتَثَاقِلِ فإنْ تَسْجُنُوا القَسْرِيَّ لا تَسْجُنُوا اسْمَهُ ... ولا تَسْجُنُوا مَعْرُوفَهُ في القَبائلِ (¬8) ذكر أولاد خالد: كان له عِدَّةُ أولاد، والمشهور منهم يزيد ومحمد [ابنا خالد]. فأمَّا يزيد فحبسه الوليد بن يزيد، فلما قُتل الوليد خَلَصَ من الحبس، وكان مع يزيد بن الوليد، فلما مات [يزيد بن الوليد] ودخل مروان بنُ محمد الشام؛ اختفى يزيد بن خالد بدمشق، فلما وثب أهلُ دمشق بزامل بن عَمرو عامل مروان بن محمد؛ وَلَّوْا ¬

_ (¬1) في "التاريخ الكبير" 3/ 158: سنة مئة وعشرين، ونقله عنه المزِّي في "تهذيب الكمال" 8/ 117. (¬2) المصدران السابقان، وتاريخ دمشق 5/ 486 - 487 (مصورة دار البشير). (¬3) ذكر المزيّ في "تهذيب الكمال" 8/ 108 أن لجدّه صحبة. (¬4) في (ص) (والكلام منها، وهو ما بين حاصرتين): بن حميد، وهو خطأ. (¬5) أنساب الأشراف 7/ 454، وتاريخ الطبري 7/ 260، وتاريخ دمشق 5/ 502. (¬6) واسمُه عِكرشة بن أربد، ينظر: طبقات ابن سعد 1/ 256، والإكمال 6/ 249. وتحرف لفظ: أبو الشَّغْب في (خ) و (د) و (ص) إلى: الأشعث. (¬7) في (ص): وميتًا. (¬8) تاريخ دمشق 5/ 502، وشرح الحماسة للمرزوقي 2/ 927 - 928 (البيتان الأول والثاني). وذكر البلاذُري في "أنساب الأشراف" 7/ 450 - 451 البيتين الأول والثالث بنحوهما.

عليهم يزيدَ بنَ خالد، فبعث مروانُ جيشًا من حمص إلى دمشق، فاستولى عليها، واختفى يزيد عند رجل من أهل المِزَّة، فدُلَّ عليه فقتلوه (¬1). واختلفوا في كيفية قتله، فقال خليفة: قتله رجل من بني صعصعة يقال له: نُمير بن فلان (¬2). في سنة سبع وعشرين ومئة. وروى أبو القاسم ابنُ عساكر عن إسحاق بن مسلم العُقيلي أن مروان (¬3) بن محمد كان جالسًا يأكل الطعام، فقيل له. يزيد بن خالد بالباب. فقال: يدخل. فدخل (¬4) بين أربعة قد أمسكوه، فاستدناه مروان حتى مسَّتْ ركبتاه ركبتَيه، فأدخلَ مروان يدَيْه في عينيه، فقلَعهما، ثم مسح [مروان] يديه، وعاد إلى أكل الطعام، ثم صلبه [مروان] بعد ذلك (¬5). وكان ليزيد بن خالد ولد اسمُه خالدُ (¬6) بن يزيد، كنيتُه أبو الهيثم. حدَّث عن [عبد العزيز بن] عمر بن عبد العزيز، وهشام بن عروة، وعبد الله بن عون (¬7)، وغيرهم. وروى عنه الوليد بنُ مسلم وغيرُه، إلا أن أبا أحمد بنَ عديّ قال لا يُتابَع على حديثه. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 18/ 270، وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 572 - 573، و"تاريخ" الطبري 7/ 313 - 314. (¬2) انقلب الكلام على المصنف، وصواب العبارة: قتلَه رجل من بني نُمير يقال له: صعصعة، وهو صعصعة بن الفرات، ويقال: يزيد بن الفرات النميري، من أهل دمشق، ذكره ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 8/ 316. وقد وقع في "تاريخ" خليفة ص 374، و"تاريخ دمشق" 18/ 271 (ترجمة يزيد بن الوليد): تميم، بدل: نمير، وهو تحريف. وجاءت العبارة على الصواب في "مختصر تاريخ دمشق" 27/ 339. واقتصرت عبارة (خ) و (د) على لفظ: قتله نمر بن فلان من بني صعصعة. والمثبت من (ص). (¬3) في (خ) و (د): وقيل: إن مروان. . . إلخ. والمثبت من (ص). (¬4) في (ص): فأُدخل. (¬5) تاريخ دمشق 18/ 270 - 271 (مصورة دار البشير)، وقد قدَّم راوي الخبر إسحاقُ بنُ مسلم العقيلي لهذا الكلام بقوله: لقد رأيتُ من مروان فعلًا ما رأيت لعربيّ ولا عجميّ أختي منه ولا أرذل. . .، وذكر الخبر. (¬6) في (ص): وقال ابن عساكر: وكان ليزيد بن خالد. . . إلخ. وهو منقول بالمعنى، وإنما ترجم له ابنُ عساكر في "تاريخه" 5/ 570 (مصورة دار البشير). (¬7) في (خ) و (د): عمر، والتصويب من المصدر السابق. ولم يرد هذا الكلام في (ص) ووقع بدلًا منه: حدث عن محمد بن الكلبي صاحب التفسير والسير.

دراج بن سمعان

وأما محمد بنُ خالد [القسريّ] فولَّاه أبو جعفر المدينة واتَّهمه ببني عبد الله بن حسن (¬1) [وسنذكره إن شاء الله تعالى]. دَرَّاج بنُ سَمْعان واسمُه عبدُ الرحمن (¬2)، وكنيتُه أبو السَّمْح، بصريّ، مولى عبد الله بن عَمرو بن العاص. أدرك مولاه، وحدَّث عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبيدي، والسائب مولى أمِّ سَلَمة، في آخرين. وحدَّث عنه الليثُ بنُ سعد، وغيرُه. وقال ابنُ معين: درَّاج ثقة صدوق. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو أحمد بنُ عديّ: ومما ننكره من أحاديث: "أصدقُ الرؤيا بالأسحار" و"الشتاء ربيع المؤمن". و"الشِّياع حرام". وهو صوت الزُّمَّارة (¬3). عبد الرحمن بن القاسم ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وكنيته أبو محمد، فقيهٌ ابن فقيه، زاهدٌ ابن زاهد، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وأمُّهُ قريبة -وقيل: أسماء- بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصدِّيق (¬4). [قال سفيان بن عيينة: ] كان أفضل أهل زمانه، زُهْدًا ووَرَعًا، وعلمًا (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 61/ 395 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) لم يجزم باسمه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 6/ 56 - 59، ولا المِزّي في "تهذيب الكمال" 8/ 477، وإنما قالا يقال: اسمُه عبد الرحمن. (¬3) ينظر الكلام في "تاريخ دمشق" 6/ 56 - 59 (مصورة دار البشير) وكلام ابن عدي في "الكامل" 3/ 980 - 981 وأورد له أحاديث أخرى منكرة، مثل: "أكْثِرُوا من ذكر الله حتى يقال: مجنون" و"لا حليم إلا ذو عثرة". ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 452، وفيه أن أمَّه قريبة، وطبقات خليفة ص 268، وفيه أن أمَّه أسماء. وكذا نُسب الكلام في (ص) إليهما. وينظر "تاريخ دمشق" 41/ 312 - 314 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) التاريخ الكبير 5/ 340، وتاريخ دمشق 41/ 313.

خرج إلى الشام (¬1) متظلِّمًا من خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم ويقال له: ابن مُطَيرة، وكان قد آذى عبدَ الرحمن، فكتب خالد إلى هشام [بن عبد الملك] بأن عبد الرحمن قد توجَّه إلى العراق. وكثَّر عليه، فلم يشعر هشام إلا وعبد الرحمن على بابه، فأذِنَ له، فدخلَ، فرحَّب به وأدناه وقال: ما الذي أقدمك؟ فشكا إليه خالدًا، فغضب [هشام] وقال: واللهِ لا يلي [لي] عملًا أبدًا. وعزلَه. [وقال الزُّبير بن بكَّار: ] وُلد عبدُ الرحمن في حياة عائشة - رضي الله عنها -. واختلفوا في وفاته، فروى ابنُ سعد عن الواقدي، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد قال: كان الوليد بن يزيد بن عبد الملك لما استخلف بعث إلى أبي الزِّناد (¬2)، وإلى عبد الرحمن بن القاسم، ومحمد بن المنكدر، وربيعة، فقدموا الشام، فمرض عبد الرحمن بن القاسم، ومات بالفَدَّينِ (¬3) من أرض الشام، فشهدوه. ولم يذكر ابن سعد السبب الذي أقدمهم لأجله، ولا ذكر السنة التي مات فيها. فأما السبب؛ فإن الوليد أرسل إليهم يسألهم عن الطلاق قبل النكاح. وأمَّا السنة؛ فقال خليفة: في سنة ستٍّ وعشرين ومئة. وقال الهيثم: وافق الفَدَّينَ من أعمال دمشق والوليد به، فمات عبد الرحمن (¬4). وقيل: مات في أيام مروان بن محمد [هو وابنُ أبي نَجِيح (¬5). قال ابن سعد: ] وكان عبد الرحمن [ورعًا] ثقة كثير الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 41/ 312: هشام، بدل: الشام. والخبر في "نسب قريش" ص 280 لمصعب الزبيري، وأخرجه ابن عساكر عنه. ونسب في (ص) لخليفة، ولعله وهم. فلم أقف عليه عند خليفة. وقد وقع في (ص) أوهام من هذا القبيل. (¬2) في (ص) (والكلام منها): ابن أبي الزناد، وهو خطأ. (¬3) موضع من أرض حوران، ذكره ياقوت في "معجم البلدان" 4/ 240 وذكر أيضًا هذا الخبر. (¬4) من قوله: واختلفوا في وفاته. . . إلى هذا الموضع، من (ص). وجاء في (خ) و (د) مختصرًا جدًّا. وتحرف فيهما لفظ: الفَدَّيْن، إلى: القدس. وينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 452، وذكر خليفة وفاته في "تاريخه" ص 368 في سنة (126)، وص 398 في سنة (131)، وذكر التاريخين أيضًا في "طبقاته" ص 268. (¬5) تاريخ خليفة ص 398، وعنه ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" 41/ 318. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 452.

عمرو بن دينار

فولَدَ عبدُ الرحمن إسماعيلَ، وأسماء، وأمُّهما حبابة (¬1) بنت عبد الرحمن بن عبد الله، أنصارية. وعبدَ الله؛ وليَ القضاء بالمدينة للحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب في خلافة المنصور، وأمُّه عاتكة بنت صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (¬2). وكان نقش خاتم عبد الرحمن بن القاسم اسمه واسم أبيه (¬3). عمرو بنُ دينار مولى باذان، من الأبناء، وهو من الطبقة الثالثة، من أهل مكة (¬4). وكان إمامَ أهل مكة، وكان يحدِّثُ بالمعاني، ويمنعُ الناسَ أن يكتبوا ويقول: عليكم بالحفظ (¬5). وسأله رجل عن شيء فلم يجبه، فقال له الرجل: إنَّ في نفسي منها شيئًا فأجبني، فقال عمرو: والله لأَنْ يكونَ في نفسك منها مثل أبي قُبيس أحبُّ إليَّ من أن يكون في نفسي منها مثل الشَّعيرة (¬6). وكان ثقةً ثبتًا كثيرَ الحديث، لا يغيِّر شيبَه، مات في سنة ستٍّ وعشرين ومئة. الكُمَيْت بن زيد (¬7) ابن خُنَيْس (¬8) بن مجالد بن وُهيب (¬9) بن عَمرو بن سُبَيْع بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دُودان بن أسد بن خُزيمة بن مُدْرِكَة بن إلياس بن مُضر بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان (¬10)، ¬

_ (¬1) في المصدر السابق: حبّانة. (¬2) المصدر السابق. ومن قوله: فوَلَد عبدُ الرحمن إسماعيلَ. . . إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 452. (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 40. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬5) بمعناه في المصدر السابق 8/ 41. (¬6) في المصدر السابق: الشعرة. (¬7) في (خ) و (د) و (ص): يزيد، وهو خطأ. (¬8) في (خ) و (د)، و"تاريخ دمشق" 59/ 460: حبيش. والمثبت من (ص)، وهو الموافق لما في "الأغاني". (¬9) في (خ) و (د) (والكلام منهما): وهب، وهو خطأ. (¬10) قوله: بن مجالد بن وهيب. . . إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

أبو المُسْتَهِلّ الأسديُّ الشاعر، أوحدُ الشعراء، وصدرُ الفضلاء، أثنى عليه الأئمَّة، واعترفوا له بالفضل. [ورُوي أن الكُميت] وُلد في سنة إحدى ستين، وقيل: في سنة ستين. ولم يجتمع في شاعر ما اجتمعَ فيه، كان حافظًا للقرآن، خطيبًا كاتبًا، حسنَ الخطّ، نسَّابة، راميًا بالنَّبْل مصيبًا، شجاعًا ديِّنًا، سخيًّا فقيهًا، للشيعة جَدِلًا، محبًّا لأهل البيت. وهو أوَّلُ من ناظرَ في التشيُّع (¬1). ولو لم يكن لبني أسد منقبة وجارٌ إلا الكُميت كفاهم، ولولاه ما عرف الناس قبائل نزار من غيرها (¬2). ولولا شعرُه لم يكن للغةٍ تُرْجُمان، ولا لبيانٍ لسان (¬3). وكان في زمن بني أميَّة، ولم يدرك الدولة العبَّاسية، وامتدحَ هشامَ بنَ عبد الملك، فأعطاه مئة ألف درهم (¬4). وكان للكُميت عمٌّ، فأدخله ماءً لهم وقال: واللهِ لا أخرجتُك حتى تقول الشعر. فما رام من الماء حتى قال قصيدتَه المشهورة، وهي أولُ شعره: طَرِبْتُ وما شَوْقًا إلى البِيضِ أطْرَبُ ... ولا لَعِبًا منّي وذو الشَّيبِ يلعبُ! ولم تُلْهِنِي دارٌ ولا رَسْمُ منزلٍ ... ولم يَتَطَرَّبْني بَنانٌ مُخَضَّبُ ولا أنا ممَّن يَزْجُرُ الطيرَ همُّهُ ... أَصاحَ غرابٌ أم تَعرَّضَ ثعلبُ ولا السانحاتُ البارحاتُ عشيَّةً ... أَمَرَّ سَلِيمُ القَرْنِ أمْ مَرَّ أَعْضَبُ ولكنْ إلى أَهْلِ الفضائلِ والنُّهَى ... وخيرِ بني حوَّاءَ والخيرُ يُطْلَبُ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 59/ 463 - 464 (طبعة مجمع دمشق)، وأخرج فيه ابن عساكر عن الجَرْمي الراوية الكوفي، أو عن العتَّابي قال: كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر. وذكر نحوه. (¬2) هو من كلام أبي عُبيدة؛ أخرجه عنه ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" 59/ 464 دون قوله: وجارٌ. ولم يرد هذا القول في (ص). (¬3) هو قول أبي عكرمة الضّبّيّ؛ أخرجه عنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 59/ 466، وفيه: ولا للبيان لسان. (¬4) ينظر "الأغاني" 17 / ص 8 وما بعدها.

إلى النَّفَر البِيضِ الذين بِحُبِّهِمْ ... إلى اللهِ فيما نَابَني أتَقَرَّبُ بني هاشمِ رَهْطِ النبيِّ فإنَّني ... لَهُمْ وبِهِمْ أرْضى مِرارًا وأغْضَبُ ألَمْ تَرَني مِنْ حبِّ آلِ محمَّدٍ ... أرُوحُ وأغْدُو خائفًا أَتَرقَّبُ خَفَضْتُ لهم منّي جَنَاحِي مَوَدَّةً ... إلى كَنَفٍ عِطْفاهُ أَهْلٌ ومَرْحَبُ فما ليَ إلا آلَ أحمدَ شِيعةٌ ... وما ليَ إلا مَشْعَبَ الحقِّ مَشْعَبُ (¬1) وجدنا لكم في آلِ حاميمَ آيةً ... تَأَوَّلَها منَّا تَقِيٌّ ومُعْرِبُ فطائفةٌ قد أكْفَرُوني بحبِّكُمْ ... وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومُذْنِبُ من أبيات، وهي مئةٌ وخمسةٌ وأربعون بيتًا (¬2). والسانح: الذي يجيءُ عن يسارك إلى يمينك من الطير والظِّباء، والبارحُ بخلافه، والأعْضبُ: المكسور القَرْن. وقوله: وطائفةٌ قد أكفروني بحبِّكم: وهم الحَرُوريَّة، والطائفة الأخرى: المُرْجِئة. فلما قالها قال عمُّه لقومه: يَهنِيكم نعمتان (¬3) فيكم شاعرٌ، وطاهر المولد. يعني أنه مُحبٌّ لأهل البيت (¬4). وأتى الكميتُ عليَّ بنَ الحُسين زينَ العابدين (¬5) رضي الله عنه، فقال له: يا ابنَ رسولِ الله، قد قلتُ فيكم شعرًا، فإنْ كتمتُه خشيتُ الله، وإن أظهرتُه خِفْتُ على نفسي، فاجمعْ مواليَك وأهلَ بيتك وخاصَّتَك. فجمعهم عليّ وقال: هاتِ. فقام قائمًا، وأنشده هذه القصيدة. فقال له عليَّ بن الحسين - رضي الله عنهما -: إنْ عَجَزْنا عن مكافأتك فلن يعجز الله ورسوله. وقد جعلتُ (¬6) لك عليَّ وعلى أهل بيتي أربعَ مئةِ ألفِ درهم، فاستعنْ بها. فقال: معاذَ الله أنْ آخذَ على مدحكم ثمنًا ولو أنه الدنيا إلا ممَّن أردتُ وجهَه والوسيلةَ إليه وعنده. ¬

_ (¬1) المشعب: الطريق. قال البغدادي في "الخزانة" 4/ 317: استشهد به النُّحاة -منهم صاحب الجُمل- على تقديم المستثنى على المستثنى منه. (¬2) ينظر "شرح هاشميات الكميت" ص 43 - 99. (¬3) في "تاريخ دمشق" 59/ 466: ليهنكم النعمتين. (¬4) الخبر في المصدر السابق. (¬5) في (خ) و (د) (والكلام منهما): بن زين العابدين، وهو خطأ. (¬6) في (د): قصدتُ.

فقال عليٌّ - رضي الله عنه -: لا بدَّ. فقال: ثوبُك الذي على جسدك؛ أجعلُهُ لي كَفَنًا يومَ لقائه. فأعطاه جميعَ ما كان عليه (¬1). وحكى أبو القاسم ابن عساكر أن الكُميت رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال له: أنشِدْني: طربتُ وما شوقًا إلى البِيضِ أطرَبُ. . . فأنشده، فدعا له ولقومه بالبركة، فكانت محالُّهم ومنازلُهم مباركة، ما دخلَها أحدٌ إلا وجدَ أثر البركة في بني أسد (¬2). وحكى ابن عساكر أيضًا عن ثور بن يزيد الشامي قال: رأيتُ الكُميت في منامي بعد موته، فقلت: ما فعلَ الله بك؟ فقال: غفرَ لي، ونصبَ لي كُرسيًّا، وأجلَسَني عليه وقال لي: أنشِدْ: طربتُ وما شوقًا إلى البِيض أَطربُ (¬3) وحكى ابنُ عساكر أيضًا عن أبي عبد الله المفجّع أنه قال: رأيتُ عليًّا - عليه السلام - في المنام فقلت: أشتهي أن أَقولَ الشِّعر فيكم أهلَ البيت. فقال: عليك بالكُميت، فاقتفِ أثرَه، فإنه إمامُ شعرائنا أهلَ البيت وقائدُهم، وبيده لواؤُهم. [قال أبو عبد الله: ] فهذا كان سبب قولي الشعر في أهل البيت (¬4). [وقال ابنُ عائشة: والكُميت هو القائل في يوم الغدير: نَفَى عن عينك الأَرَقُ الهُجُوعا ... وهَمٌّ يمتري منها الدُّمُوعا لدى الرحمنِ يشفعُ في المثاني ... وكان له أبو حَسَنٍ شفيعا (¬5) ولومَ الدَّوْحِ دَوْحِ غَدِيرِ خُمٍّ ... أبانَ له الولايةَ لو أُطِيعا ولكنَّ الرِّجال تدافعوها (¬6) ... فلم أرَ مثلَها خطرًا مَنِيعا (¬7) ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ دمشق" 59/ 469، ولم يرد هذا الخبر، ولا الذي قبله في (ص). (¬2) المصدر السابق 59/ 464. (¬3) المصدر السابق 59/ 479 - 480. وظاهر أن الخبر موضوع. (¬4) تاريخ دمشق 59/ 480. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬5) كذا في (ص) (والكلام منها). وفي "شرح الهاشميات" ص 196: لدى الرحمن يصدعُ في الثاني وكان له أبو حسن مطيعا. (¬6) في المصدر السابق: تبايعوها. (¬7) في المصدر السابق: مبيعا.

قال الكُميت: رأيتُ أميرَ المؤمنين في المنام، فقال: أنشِدْني هذه الأبيات، فأنشدتُه إيَّاها، فقال لي: اسمع يا أبا المُسْتَهِلّ وقال علي - عليه السلام -: فلم أرَ مثل ذاكَ اليومِ يَوْمًا ... ولم أرَ مثلَه حَقًّا أُضِيعَا قال الكُميت: فانتبهتُ مذعورًا] (¬1) [قال ابن عائشة: ] وللكُميت في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأبياث المشهورة التي أوَّلها: أنَّى ومن أينَ هاجَك (¬2) الطَّرَبُ ... من حيثُ لا صَبْوَةٌ ولا رِيَبُ ما ليَ في الدارِ بعد ساكنها ... ولَوْ تَذَكَّرْت أَهْلَها أَرَبُ لا الدَّارُ رَدَّتْ جوابَ سائِلِها ... ولا بَكَتْ أهلَها إذا اغْتَرَبُوا ومنها: إلى السِّراجِ المُنيرِ أحمدَ لا ... تَعْدِلُني رَغْبَةٌ ولا رَهَبُ عنه إلى غيرهِ ولَوْ رفَعَ الـ ... نَّاسُ إليَّ العيونَ وارْتَقَبُوا مِنْ (¬3) بينِ حوَّاءَ إنْ نُسِبَتْ إلى ... آمنةَ طال بينَك (¬4) الهَدَبُ قَرنًا فَقَرْنًا تَنَاسَخُوك لك الـ ... ـفِضَّةُ منها بيضاءُ والذَّهَبُ حتى علا بيتُك المهذَّبُ [من ... خِنْدِفَ] علياءَ تحتَها النُّخَبُ (¬5) يا صاحبَ الحَوْضِ يومَ لا شِرْبَ (¬6) للـ ... ـوَاردِ إلا ما كان يَضْطَرِبُ نَفْسِي فَدَتْ أعظُمًا تَضَمَّنَها ... قبرُكَ فيه العفافُ والحَسَبُ وهي مئة ونيّفٌ وثلاثون بيتًا (¬7). [والكُميت من شعراء الحماسة، وقد ذكرناه في ترجمة مسلمة بن عبد الملك؛ رثاه بأبيات (¬8). ¬

_ (¬1) هذا الخبر من (ص) (وهو ما بين حاصرتين) ولم أقف عليه. والوضع عليه ظاهر. (¬2) في "شرح الهاشميات" ص 100: آبكَ. (¬3) في "شرح الهاشميات" ص 112: ما. (¬4) في المصدر السابق: اعتمَّ نبتُك. (¬5) في المصدر السابق: العربُ. (¬6) في (ص): يشرب. (¬7) شرح الهاشميات ص 100 - 144. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬8) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 4/ 1793 - 1796.

وحكى ابن عائشة قال: ] وكان الكميت يمدحُ بني هاشم ويذمُّ بني أميَّة، فطلبه هشام، فدخل البراري، فأقام مدَّة سنين، ثم طال عليه، فخرجَ إلى برِّيَّة الشام، وكان مسلمةُ بنُ عبد الملك قد خرج مُتصيِّدًا، فصادفَ الكميتَ، فسلَّم على مَسْلَمة، وقيل: أما بعد حمد الله: يا مَسْلَمَ بنَ أبي الوَليـ ... ـدِ لميِّتٍ إنْ شئتَ ناشِرْ عَلِقَتْ حِبالي من حِبا ... لِكَ ذِمَّةَ الجارِ المُجاورْ فقال مَسْلَمةُ: مَن هذا الذي بدأَنا بالسلام، ثم ثنَّى بحمد الله -أو بقوله: أمَّا بعد- ثم بالشعر؟ ! فقيل له: الكُميت. فأعجَبَه ما سمعَ من فَصاحته وبلاغَته، وسألَه عن غَيبَته، فقال: الخوفُ والجوع. قأجاره. وكان لمسلمة عند هشام كلَّ يوم حاجة مقضيَّة، فأدخلَه على هشام وهو لا يعرفُه، فقال [الكُمَيْت]: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمةُ الله وبركاته، الحمد لله. فقال هشام: نعم، الحمدُ لله. فقال الكميت: مبتدئ الحمدِ ومبتدعِه (¬1)، الذي خصَّ بالحمد (¬2) نفسَه، وأيَّد به (¬3) ملائكتَه، وجعلَه فاتحةَ كتابه، ومنتهى شكره، وكلامَ أهلِ جنَّته، أحمدُه حَمْدَ مَنْ علمَ يقينًا، وأبصرَ مستبينًا (¬4)، وأشهدُ له بما شَهِدَ لنفسه قائمًا بالقسط، لا إله إلا هو (¬5) وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه العربيّ، ونبيُّه الأمِّيُّ. وهذا مقامُ العائذ (¬6) بك يا أمير المؤمنين، فكم من عاثرٍ أقَلْتَه عَثْرَتَه، ومجرمٍ غفرتَ له زلَّتَه، فقال هشام: مَن أنت؟ فقال مَسْلمة: الكُمَيت، وقد أَجَرْتُه. فقال له هشام: ويحك! مَنْ سَنَّ لك سبيل الغَواية؟ فقال: الذي أخرج أبي من الجنة فنسيَ ولم يجد له عزمًا (¬7)، وأميرُ المؤمنين كريحِ رحمةٍ أثارَت سحابًا متفرِّقًا، فلفقَتْ (¬8) ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): مبتدئًا الحمد ومبدعه. والمثبت من (ص). (¬2) في (خ) و (د): بالمدح. والمثبت من (ص). (¬3) في (ص): وأربد (؟ ) وفي "العقد الفريد" 2/ 184: وأمر. (¬4) في (ص): مستقينًا. وهو تحريف. (¬5) في (ص): لا إله إلا هو العزيز الحكيم. (¬6) في الكلام اختصار مخلّ، فبعد الشهادتين أثنى الكُميت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ابتدأ بالاعتذار لهشام عمَّا كان منه، ثم قال: وهذا مقام العائذ. . . إلخ. ينظر كلامه بتمامه في "العقد الفريد" 2/ 184. (¬7) يشير إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115]. (¬8) في (ص): فلفَّت.

الوليد بن يزيد بن عبد الملك

بعضَه إلى بعض، فتلألأَتْ بَوارقُه، ثم هطلَ (¬1) على الأرض، فعاشَتْ بعد الجَدْب. {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت: 39] فرضيَ عنه هشام ووصلَه (¬2). وقال معاذ الهَرَّاء (¬3): أشعرُ الأوَّلين والآخِرين الكُمَيت. وشعرهُ خمسةُ آلاف بيت وتسعة وثمانون بيتًا. وقيل: خمسة آلاف ومئتا بيت وتسعة وثمانون بيتًا (¬4). وكانت وفاته في سنة ستٍّ وعشرين ومئة، وقيل: سنة سبع وعشرين ومئة. وابنُه المُسْتَهِلّ شاعرٌ، وفدَ على هشام، وحبسَه عبدُ الله بنُ علي بن عبد الله بن عباس فقال: إذا نحن خِفْنا في زمان (¬5) عدوِّكُمْ ... وخِفْنَاكُمُ إنَّ البلاءَ لَرَاكدُ (¬6) [وفيها قُتل] الوليد بن يزيد بن عبد الملك ابن مروان، ذكره ابن سُميع في الطبقة الرابعة (¬7) من أهل الشام (¬8)، وكنيتُه أبو العبَّاس. ¬

_ (¬1) في (ص): هطلت. (¬2) الخبر في "العقد الفريد" 2/ 183 - 184 بأطول منه، وثمة رواية أخرى في "الأغاني" 17/ 6 - 7 فيها أن الذي شفع للكُميت عند هشام ابنُه مسلمة. أبو شاكر. (¬3) في (ص): وحكى أبو القاسم ابن عساكر عن معاذ الهرَّاء. ولم أقف عليه عند ابن عساكر، ولعله وهم، وسبق مثل هذا الوهم في (ص). وذكر الخبر أبو الفرج الأصبهاني في "الأغاني" 17/ 33، وابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 256. (¬4) عبارة (ص): "وشعره خمسة آلاف بيت وزيادة. واختلفوا في الزيادة، فقيل: مئة وتسعة وثمانون بيتًا وقيل: ومئتا بيت وتسعة وثمانون بيتًا". اهـ. والذي في "الأغاني" 17/ 40، و"تاريخ دمشق" 59/ 480، و"المنتظم" 7/ 256 أنها خمسة آلاف ومئتان وتسعة وثمانون بيتًا. ولم أقف على من قال غير ذلك. (¬5) في (خ): بلاد، بدل: زمان. والمثبت من (د) و (ص). (¬6) تاريخ دمشق 67/ 77. ورواية خبره في "الأغاني" 17/ 26 مع أبي جعفر المنصور. (¬7) في (خ) و (د): وهو من الطبقة الرابعة، والمثبت من (ص) ولفظ: "وفيها قتل" بين حاصرتين منها. (¬8) تاريخ دمشق 17/ 921 (مصورة دار البشير).

ولد سنة تسعين بدمشق، وقيل. سنة اثنتين وتسعين، وقيل: سنة سبع وثمانين. وكان يزيد عَقَدَ له العهد بعد [أخيه] هشام وكان ابنَ إحدى عشرة سنة، فلما بلغَ أرادَ أن يقدِّمه على [أخيه] هشام؛ فتوفّي يزيد وابنه الوليد ابنُ خمسَ عشرةَ سنة، ولم يزل هشام معظّمًا للوليد حتى ظهرَ منه ما ظهر من شُرب الخمر، واتِّخاذ القِيان، وغير ذلك. [فحكى الطبري عن جُويرية بن أسماء أن الوليد (¬1) لمَّا ظهر منه ما ظهر] أراد هشام أن يقطع عنه الندماء، فولَّاه الحج سنة عشر ومئة (¬2)، فحمل معه كلابًا وخمرًا في الصناديق، وحمل معه [في الصناديق] قُبَّة على قَدْر الكعبة، وأراد أن يَنصبَها على الكعبة ويجلس فيها، فخوَّفَه أصحابُه وقالوا: لا نأمنُ عليك الناسَ وعلينا معك. فتركها. وظهر منه استخفافٌ بالدِّين وتهاونٌ، وبلغَ ذلك هشامًا، فعزم على خلعه، وأن يعهد إلى ابنِه مَسْلَمة بن هشام، فأرادَه على أن يخلَع نفسه، فأبى، فأراده أن يجعلَ ابنه مسلمة بعدَه، فأبى، فتنكَّر له هشام وأضرَّ به، وعملَ في السّرِّ في خلعه وتولية ابنه [مَسْلَمة، ووافقَه على ذلك جماعة، منهم محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزومي] (¬3). وتمادى الوليد في شُرب الخمر والاستهتار واللعب، فقال له هشام: ويحك (¬4) يا وليد، واللهِ ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا، لا تدع (¬5) شيئًا من المنكر إلا تأتيه غير متحاشٍ ولا مستتر. ¬

_ (¬1) في (ص) والكلام منها (وهو ما بين حاصرتين): عن جُويرية بن أسماء، عن عبد الصمد بن عبد الأعلى أخي عبد الله بن عبد الأعلى مؤدّب الوليد أن الوليد. . . إلخ. وذِكْرُ عبد الصمد في الإسناد وهمٌ. ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 209. (¬2) كذا في النسخ، وسيرد كذلك قريبًا في فقرة حديث القُبَّة أن ذلك كان سنة عشرٍ ومئة، وفي "تاريخ" الطبري 7/ 209 (والكلام منه) أَن ذلك كان سنة تسع عشرة ومئة، وجاء في "الكامل" 5/ 264 أنه سنة: ستَّ عشرة ومئة، وسلف كذلك في ترجمة هشام (فقرة ذكر وفاته) أنه سنة ستَّ عشرة ومئة. ولعل ما جاء في "تاريخ" الطبري وهم، فقد جاء فيه بعده أن هشامًا وليَّ ابنه مسلمة الموسم سنة تسع عشرة ومئة وسيرد هنا بعده. (¬3) الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) في (خ): ويلك. والمثبت من (د) و (ص)، وهو موافق لما وفي "تاريخ" الطبري 7/ 210 (والكلام منه). (¬5) في (ص): ما تدع.

فلم يُجبه الوليد، وقام من عنده، وكتب إليه: يا أيها السائل عن ديننا ... [دينى على دين أبي شاكرِ] [وذكر البيت الثاني (¬1). فغضب هشام وقال: أرشِّحُك للخلافة، ويعيِّرني بك الوليد! فالزم الجماعة والأدب. وولَّاه الموسم سنة تسع عشرة ومئة، فحجَّ وأظهر التنسُّك، وفرَّق في الحرمين أموالًا كثيرة، فقال بعض أهل المدينة، أو بعض مواليهم: يا أيها السائلُ عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكرِ وقد ذكرنا البيت الثاني] (¬2). وأقامَ الوليد بالبرِّيَّة حتى مات هشام ووليَ الخلافةَ، وأوقعَ بأولاد هشام وحاشيته، واستصفى أموالهم إلا [ما كان من] مسلمة بن هشام، فإنه لم يعرض (¬3) له؛ لأنه كان يكلِّم أباه في الرِّفق به. وقال الوليد [هذه الأبيات]: ليتَ هشامًا عاشَ حتى يَرَى ... مِكْيَالهُ (¬4) الأوْفَرَ قد أُتْرِعا كِلْناهُ بالصَّاعِ الذي كالهُ ... وما ظَلَمْناهُ بهِ إصبَعا ¬

_ (¬1) والبيت الثاني: نشربها صِرْفًا وممزوجةً ... بالسُّخْنِ أحيانًا وبالفاترِ وهو في "تاريخ" الطبري 7/ 210. وسلفت القصة بنحوها في ذكر معاوية ومَسْلَمة ابني هشام في ترجمة هشام (فقرة ذكر أولاده) في السنة (125) والكلام الواقع بين حاصرتين أعلاه من (ص). وجاء في (خ) و (د) الشطر الأول للبيت، وبعده قوله: البيتين. (¬2) وهو: الواهِبِ الجُرْدَ بأرسانها ... ليس بزنديق ولا كافرِ يعرِّض بالوليد. والكلام في "تاريخ" الطبري 7/ 210. وما بين حاصرتين من (ص). وسلف الكلام في ذكر مسلمة بن هشام (في ترجمة هشام- فقرة ذكر أولاده) وينظر "الأغاني" 7/ 2 - 4. (¬3) في (ص): يتعرّض. (¬4) في "تاريخ دمشق" 17/ 924: مِحْلَبَه. قال ابن عساكر: معناه الإناء الذي يحلب فيه.

وما أتَينا ذاكَ عن بِدْعةٍ ... أَحَلَّهُ القرآنُ لي أجْمَعَا (¬1) ولما دخلت سنة ستٍّ وعشرين ومئة زادَ فسادُ الوليد على الحدّ. [فروى هشام بن الكلبيّ عن أبيه قال: ] كان [فاسقًا] سيِّئ الاعتقاد، مستهترًا بأمور الدين، مجتهدًا في هدم قواعد الإسلام، لم يُبقِ قبيحًا إلا ارتكبَه. ومن شعره: تلاعبَ بالبريَّةِ (¬2) هاشميٌّ ... بلا وَحْيٍ أتاهُ ولا كتابِ فقُلْ للهِ يمنعُني طعامي ... وقُل للهِ يمنعُني شرابي يُذكِّرُني الحسابَ ولستُ أدري ... أحقًّا ما يقولُ من الحسابِ (¬3) وكان يأمرُ المُغَنِّين يغنون بهذا. [قال الواقدي: ] وابتلاه الله بثلاثة وثلاثين علَّةً، أيسرُها أنه كان يبولُ من سُرَّته، ثم قُتل القِتْلَةَ الشَّنيعة. [قال المبرِّد: ] وكان ألحد في شعره، فلم يلبث إلا أيامًا حتى قُتل (¬4). وذكر أبو القاسم الحافظ في "تاريخه" عن صالح بن سليمان (¬5) قال: حجَّ الوليد بن يزيد، فأراد أن يشرب الخمر على ظهر الكعبة، فهمَّ قومٌ أن يقتلوه، وجاؤوا إلى خالد بن عبد الله القَسْريّ -وكان على مكة- وقالوا: كن معنا، فأبى، وأخبر الوليدَ وقال له: لا تَخْرُجْ، فإنهم قاتلوك، فقال: أخبرني مَنْ هم؟ قال: عاهدتُهم ألا أُخبرَك بهم. فلما وليَ (¬6) الوليد، سلَّم خالدًا إلى يوسف بن عمر (¬7)، فعذَّبه حتى قتلَه. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 215 - 216. والأبيات في "الأغاني" 7/ 18 والمصدر السابق. (¬2) في "مروج الذهب" 6/ 11: تلعَّب بالخلافة. (وفيه هذا البيت والذي يليه). (¬3) لم يرد البيتان الثاني والثالث في (ص). (¬4) نقله المسعودي في "مروج الذهب" 6/ 11 عن المبرِّد بعد إيراده البيتين الأول والثاني من الأبيات السالفة. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬5) في (خ) و (د): وقال صالح بن سليمان. والمثبت من (ص). (¬6) في (خ): جاء. والمثبت من (د) و (ص). (¬7) العبارة في "تاريخ دمشق" 17/ 929 (مصورة دار البشير) والخبر منه: قال الوليد: إن لم تخبرني بهم بعثتُ بك إلى يوسف. قال: فبعث به إلى يوسف بن عمر. . . إلخ.

[حديث القبَّة التي صنعها الوليد لينصبها على الكعبة: قد ذكر الطبريُّ وغيره طرفًا من حديثها، وأنه أراد أن ينصبها على ظهر الكعبة في سنة عشر ومئة لما حجَّ. وذكر الواقديُّ أنه صنع قبَّةً أخرى لمَّا وليَ الخلافة. فحكى الواقدي عن أبي الزِّناد قال: كان الوليد بن يزيد قد اتخذ قُبَّةً من ساج ليجعلها مقابل الكعبة]. وذكر جدَّي في "المنتظم" فقال بإسناده عن أصبغ بن الفرج، سمعتُ سفيانَ بنَ عُيينة يُحدِّث (¬1) أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، صنع قُبَّةً ليجعلَها مقابل الكعبة، ويطوفَ هو ومن يريدُ فيها، ويطوفَ الناسُ من ورائها، وكان قصدُه خبيثًا، وربَّما شرب الخمر فيها. وبعث بها من الشام على الإبل، وأرسل معها قائدًا في ألف فارس، وبعث معه مالًا وثيابًا يفرَّق في أهل الحرمين. فقدِمَ القائد المدينة، ونصبَ القُبَّة في مصلى المدينة، فأفزعَ أهلُ المدينة ذلك، وجاؤوا إلى سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عَوْف الزُّهْري -وكان قاضيًا على المدينة- فأخبروه، فغضب وقال: أحْرِقُوها. فقالوا: معها ألفُ فارس. فدعا بدِرْعِهِ الذي شهد فيه جدُّه عبد الرحمن بنُ عوف - رضي الله عنه - بَدْرًا، فلبسَه، وركب فرسه، فما تخلَّف عنه قرشيٌّ ولا أنصاريٌّ وبيده شُعلةٌ من نار، فجاء إلى القُبَّة، فأحرقَها، وانهزمَ القائدُ إلى الشام، وشبع [عبيد] أهل المدينة من النَّاطف (¬2) ممَّا أخذوا من حديدها. وبلغ الوليدَ، فكتبَ إلى سعد بن إبراهيم: ولِّ القضاءَ مَنْ شئتَ، واقْدَمْ علينا. فقدم الشام، فأقامَ بباب الوليد شهرًا لا يصلُ إليه حتى نَفَدَتْ نفقتُه. فبينا هو ذات عشيَّة في المسجد؛ إذا بفتًى في مُلاءة صفراء سكران، فقال: من هذا؟ قالوا: خالُ الوليد بن يزيد. فقام سعد وأخذ السَّوطَ، فضربَ به الأرضَ، وحدَّه حدَّ الخمر، وركب راحلته، وكرَّ راجعًا إلى المدينة. ¬

_ (¬1) الخبر في "المنتظم" 1/ 237 بغير الإسناد المذكور أعلاه. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬2) الناطف: ضربٌ من الحلوى يصنع من اللوز والجوز والفستق. ولفظة "عبيد" السالفة بين حاصرتين من "المنتظم" 7/ 238. والخبرُ منه، وهو أيضًا في "أخبار القضاة" 1/ 161 - 162.

ودخل الفتى على الوليد وهو مجهود فقال: من فعل به هذا؟ قالوا: سعد. فقال الوليد: عليَّ به. فلحقوه، فردُّوه من مرحلة. فلما دخل على الوليد قال له: يا أبا إسحاق، لِمَ فعلتَ هذا بابن أخيك؟ فقال: إنك ولَّيتَني أمرًا فرأيتُ منكرًا يجبُ فيه إقامةُ الحدّ [فأنكرتُه] فأقمتُه، وجدتُه سكرانًا في المسجد، وفيه الوفود ووجوهُ الناس، فخفتُ أن ينصرف عنك الناس بتعطيلك (¬1) حدود الله. فقال: جزاك الله خيرًا. وأمرَ له بمال، ولم يذكر له حديثَ القُبَّة (¬2). وقال الهيثم: لما أعلنَ الوليدُ بالفسق؛ عزم هشام على خلعه، فكتبَ إليه الوليد: خُذُوا مُلْكَكُمْ لا ثَبَّتَ اللهُ مُلْكَكُمْ ... ثَباتًا يُساوي ما حَيِيتُ قِبالا (¬3) ذَرُوا ليَ سَلْمَى والطِّلاءَ وقَينَةً ... وكأسًا ألا حَسْبي بذلك مالا (¬4) إذا ما صَفَا عيشي بكأسٍ رَوَّيةٍ (¬5) ... وعانقتُ (¬6) سلمى لا أُريدُ بِدَالا (¬7) [وقال المرزُباني: هذا الشعر قاله الوليد لأبيه يزيد بن عبد الملك لما بلغ الوليد وبدا منه ما يُوجب الخلع، فأراد خلعه، فقال هذا الشعر (¬8). قال: وكان أبوه قد بايع له وله إحدى عشرة سنة. وقال أبو عُبيدة: ] ولما تنكَّر الناسُ على الوليد وطعنُوا فيه قال له معاوية بن عَمرو بن عُتبة: يا أمير المؤمنين، يُنطقني الأمن بك، ويُسكتني الهَيبَةُ لك، وأراك ترتكب أشياءَ ¬

_ (¬1) في (ص): بتعطيل. وما سلف بين حاصرتين منها. (¬2) ينظر الخبر في المصدرين السابقين. (¬3) كذا في "أنساب الأشراف" 7/ 475، وفي "الأغاني" 7/ 79: عِقالا. وقِبال النَّعل: السَّير الذي يكون بين الإصبعين، أو الذي يقع على ظهر الرِّجل من مقدَّم الشِّراك. ينظر "معجم متن اللغة". (¬4) في (ص): وكأسًا لأحسى بكرة وأصالا. (¬5) في "أنساب الأشراف" 7/ 475، و"الأغاني" 7/ 79: برملة عالجٍ. (¬6) في (ص): وعاينتُ. (¬7) أنساب الأشراف 7/ 475. وجاء في "الأغاني" 7/ 79 أن الناس لما هجموا على الوليد ليقتلوه، دخل القصر وأغلق الباب، وقال هذه الأبيات. ثم عَلَوْا الحائط وقتلوه. وجاء في "العقد الفريد" 4/ 460 أن الوليد قال هذه الأبيات لا أكثر الناس القول فيه. (¬8) لم أقف عليه. وهذا الكلام -وهو ما بين حاصرتين- من (ص).

أخافُها عليك، فأسكتُ مطيعًا أم أقولُ مُشفقًا؟ فقال: كلٌّ مقبولٌ منك، وللهِ فينا عِلْمُ غيبٍ نحن صائرون إليه (¬1). وقال المدائني: واقع الوليد جارية وهو سكران، فلمَّا طلع الفجر قال لها: اخرجي فصلِّي بالناس، فامتنعت، فحلفَ عليها، فخرجت متلثِّمة، فصلَّت بالناس في محراب جامع دمشق وهي على حالها (¬2). [قال: ] وما جرَّأه على الزندقة إلا عبدُ الصمد بنُ عبد الأعلى. [قال أبو اليقظان: ] وحضر جماعة من بني أمية عند هشام بن عبد الملك [فيهم العبَّاس بن الوليد بن عبد الملك، فتذاكروا الوليدَ وفعلَه، ودخل الوليدُ، فقال له العبَّاس بن الوليد: يا وليد، كيف حبُّك للرُّوميَّات؟ قال: كيف [لا] (¬3) أُحبُهُنَّ وهنَّ يَلِدْنَ مثلَك؟ ! فقال له هشام: يا وليد، ما شرابُك؟ قال: شرابُ أمير المؤمنين. ثم قام [الوليد] فخرج وجمعَ جراميزَه، ووثبَ على السَّرْج من غير أن يُمسك (¬4) بيده شيئًا، ولا وضعَ رجله في الرِّكاب، ثم التفتَ إلى بعض ولدِ هشام وقال: أيُحسِنُ أبوك أن يفعل مثل هذا؟ فقال: لأبي مئة عبد يصنعون مثل هذا. فقال الناس: لم نُنصفه في الجواب (¬5). [الجراميز: الأعضاء. قال الجوهري: يقال: جَمَعَ جراميزَه: إذا انقبضَ ليثب] (¬6). [قال الهيثم: ] وكان الوليدُ [بنُ يزيد] شديدَ القُوَى، يضربُ الوتد الحديد في الأرض ويَشُدُّ رِجلَيه معه، ثم يثبُ على الفرس مُسرعًا ما يمسُّ بيده الفرس فِيقلعُ الوتد (¬7). ¬

_ (¬1) بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 520، و"العقد الفريد" 4/ 460. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 510، والعقد الفريد 4/ 460، والأغاني 7/ 47. (¬3) لفظة "لا" بين حاصرتين من "الأغاني" 7/ 4. وهو بنحوه أيضًا في "أنساب الأشراف" 7/ 478، و"العقد الفريد" 4/ 450، وما سلف بين حاصرتين من (ص) والخبر في هذه المصادر من غير الطريق المذكور. (¬4) في (ص): يمليه. (¬5) العقد الفريد 4/ 450 - 451. وبعضه في المصدرين الآخرين السابقين. (¬6) الصحاح 2/ 764 (جرمز). والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬7) بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 512، و"تاريخ" الطبري 7/ 253 من طريق آخر.

وكان يلقَّب بالبيطار؛ لأنه كان يصيدُ حُمُر الوحش، فَيَسِمُها باسمه، ثم يُطلقها، ورأى السفَّاحُ يومًا حُمُرَ وَحْشٍ في البَرِّيَّة، عليها وَسْمُ الوليد (¬1). [قال هشام: ] وفتح الوليد يومًا المصحف ليتفاءل فيه، فخرج في أول صفحة: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)} [إبراهيم: 15] فغضب، ونصبَ المصحف غرضَّا وَرماه بالنُّشَّاب حتى مزَّقَه وهو يقول: تُهَدِّدُني بجبَّارٍ عنيدٍ ... فها أنا ذاك جبَّارٌ عنيدُ إذا ما جئتَ ربَّك يومَ حَشْرٍ ... فقُلْ يا ربِّ مزَّقَني الوليدُ فقُتل بعد أيام (¬2). وكان إذا طربَ يقول للمغنّي: أعِدْ أعِدْ بحقِّ عبد شمس، بحقِّ أمية، ويَعُدُّ أجدادَه الكفار واحدًا بعد واحد (¬3). [حديث سلمى وسعدى]: ذكر هشام بن محمد عن أبيه أنَّ الوليد [بن يزيد] قد تزوَّج سُعْدَى بنت سعيد بن خالد بن عَمرو بن عثمان بن عفَّان، وكان لها أخت اسمها سلمى، فزارت [سلمى] أختها سعدى، فرآها الوليد، فعَشِقَها، وذلك قبل أن يلي الخلافة، فطلَّق أختَها سُعدى، وخطب سلمى من أبيها، فقال: أيريد الوليدُ أن يكونَ فحلًا لبناتي؟ ! ولم يزوِّجه، وهام الوليدُ بسلمى، وقال فيها الأشعار، فسقطت منزلتُه عند الناس (¬4). ومن شعره فيها: شاعَ شعري (¬5) في سليمى وظَهَرْ ... ورواه كلُّ بدوٍ وحَضَرْ ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 474 و 500 - 551. (¬2) الأغاني 7/ 49. (¬3) الأغاني 2/ 226، ومروج الذهب 6/ 9. ونُسب الكلام في (ص) لأبي الفرج الأصبهاني، وهو في الأغاني" بالمعنى. (¬4) أنساب الأشراف 7/ 474. (¬5) في (خ): ذكري.

وتهاداه الغواني دائمًا (¬1) ... وتغنَّينَ به حتى اشْتَهَرْ (¬2) قلتُ قَوْلِي في سُلَيمى معجَبًا ... مثلما قال جميلٌ وعُمَرْ لو رأينا لسُلَيمى أثرًا ... لسجدنا ألفَ ألفٍ للأثَرْ واتَّخَذْناها إمامًا مُرْتَضًى ... ولكانَتْ حَجَّنَا والمُعْتَمَرْ إنَّما بنتُ سعيدٍ قمرٌ ... هَلْ حَرِجْنَا إنْ سَجَدْنا للقَمَرْ (¬3) ومنه: أقْصِرَا عن مَلامَتي عَاذِلَيَّا (¬4) ... إنَّ عَذْلي يزيدُني اليومَ غَيَّا لا تَلُوما هُدِيتُما إنَّ قلبي ... عَشِقَ اليومَ شادنًا قُرَشِيَّا (¬5) من أبيات. وقوله (¬6): خَبَّروني أنَّ سَلْمَى ... خَرَجَتْ يومَ المُصَلَّى فإذا طَيرٌ مَلِيحٌ ... فوقَ غُصْنٍ يَتَفَلَّى قلتُ يا طَيرُ ادْنُ منِّي ... فدنا ثم تدلَّى [قلتُ هل أبصرتَ سَلْمى ... قال لا ثم تولَّى] (¬7) فنكا في القلب كَلْمًا (¬8) ... باطنًا (¬9) ثم تخلَّى ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 7/ 488، و"تاريخ دمشق" ص 176 (تراجم النساء): وتهادته العذارى بينها. وفي "العقد الفريد" 4/ 454: وتهادته الغواني بينها. وفي (ص): ظاهرًا، بدل: دائمًا. (¬2) في المصادر السابقة: انتشر. (¬3) الأبيات في المصادر السابقة. (¬4) في (ص): ملامي عاذلًا. (¬5) لم أقف عليهما. (¬6) في (ص): "ومن شعره وهو يؤكّد كفره". ثم ورد فيها البيتان الأولان من الأبيات التالية. وليس فيهما صريح كفر؛ مقارنة بما سلف من شعره قبل خبر سلمى وسعدى. (¬7) ما بين حاصرتين من المصادر المذكورة لاحقًا، ولا بدَّ منه للسِّياق. (¬8) في (خ) و (د) (والكلام منهما): حزنًا. والمثبت من "العقد الفريد" 4/ 454، و"الأغاني" 7/ 36، و"تاريخ دمشق" ص 176 (تراجم النساء). وقوله: نكا، أي: نكأ، سُهِّل للضرورة. (¬9) في (خ) و (د) (والكلام منهما): بالمنا، ولعله تحريف. والمثبت من المصادر السابقة. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 7/ 487. وجاء في (ص) البيتان الأوَّلان فقط.

في أشعار كثيرة من هذا الجنس. وقال الهيثم: طلَّقَ الوليدُ سُعْدَى، وكانت محبوبتَه أولًا، ثم عشقَ أختها [سلمى] ورجعت سُعْدَى إلى المدينة، فتَزَوَّجَها بِشْر بنُ الوليد بن عبد الملك [بن مروان] وندمَ الوليد على طلاقها حيث فاتته أختُها، فقال لأشعب المِضْحاك: هل لك أن تُبلغَ سُعْدَى عني رسالة ولك عشرون ألفَ دينار؟ قال: نعم. عجِّل بالمال. فأعطاه إياه، ثم قال له: إذا دخلتَ عليها فأنْشِدْها: أسُعْدَى ما إليكِ لنا سبيلُ ... ولا حتى القيامةِ من تلاقِ عسى ولعلَّ دَهْرًا أن يُؤاتي ... بموتٍ من خليلٍ أو فراقِ فقدم أشعب المدينة، ودخل عليها، فأنشدها البيتين، فقالت: ارجع إليه، وقل له: أتبكي على سُعْدَى (¬1) وأنتَ تركتَها ... فقد ذهبَتْ سُعْدَى فما أنتَ صانعُ فرجع إليه إلى دمشق وأنشده الييت، فغضب الوليد وقال: اختر إحدى ثلاث: إمَّا أن أُلقيَك من القصر، أو أقتلَك، أو ألقيَك إلى السِّباع. فقال: حاشاك أن تفعل بي هذا وقد نظرت عيناي إلى سُعْدى. فضحك وأطلقَه (¬2). وقال أبو اليقظان: لما بلغ هشامًا أنَّ الوليدَ يخطب سلمى؛ كتب إلى أبيها سعيد: أتُزَوِّجُ ابنَتَك عدوَّ الله الفاسق؟ ! أتريد أن تجعله فحلًا لبناتك؟ ! وبلغ الوليدَ، فقال: إن تزوَّجْتُ سُلْمى فهي طالق. وقال ابنُ عساكر (¬3): كان هشام قد تزوَّج أمَّ سلمة (¬4) بنت سعيد بن خالد بن عمرو ابن عثمان بن عفَّان، ثم خلفَ عليها الوليدُ بنُ يزيد، وهي التي حلف بطلاقها قبل الدخول بها، واستقدَمَ الفقهاء لأجلها، وكانت عنده أختُها لأبويها أمُّ عبد الملك، وهي سُعْدى بنت سعيد، وأمُّها أمُّ عَمرو بنت مروان بن الحكم، وأمُّها زينب بنت عُمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد. ¬

_ (¬1) كذا رواية البيت في "العقد الفريد" 4/ 453. وفي "الأغاني" 7/ 27 و 19/ 170: أتبكي على لُبْنَى. . . وجاء صدر البيت بهذا اللفظ لقيس بن ذَريح كما في "الأغاني" 9/ 217. (¬2) المصدران السابقان، والتذكرة الحمدونية 7/ 235. (¬3) في "تاريخ دمشق" ص 172 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق). ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬4) هي كنية سلمى، كما في المصدر السابق.

قال المصنّف رحمه الله: والمشهورُ أن التي حلف الوليد بطلاقها قبل نكاحها سلمى (¬1) أخت سُعْدَى قال: يوم أتزوَّجُ سلمى بنت سعيد فهي طالق. وكتب إلى فقهاء الأمصار فقالوا: لا طلاقَ قبل النكاح، منهم ابن طاوس اليماني، وسِمَاك بن الفَضْل اليماني؛ قالوا: إنَّما النكاح عقدٌ يُعْقَد، والطلاق تحلَّة، وكيف يُحَلُّ عقدٌ قبل أن يُعقد؟ ! فأعجبَ الوليدَ قولُ سِمَاك، فولَّاه قضاء اليمن. وقال البخاري (¬2): كتب إلى فقهاء المدينة يسألُهم عن هذا، فكتبوا إنه لا يقع، منهم عبدُ الرحمن بنُ القاسم، وربيعة، وأبو بكر بنُ محمد بن عَمرو بن حَزْم، وأبو الزِّناد، وغيرُهم. وقد ذكرنا في ترجمة عبد الرحمن بن القاسم أنه مات بالفَدَّين (¬3) بالشام، والوليدُ إنَّما استقدمه ليسألَه عن هذا. قال المصنِّف رحمه الله: وقد اختلف الفقهاء في وقوع الطلاق قبل النكاح، فقال أبو حنيفة: يقع، وهو قولُ عمر، وابن مسعود، والحسن، والزُّهْري، والنَّخَعيّ، والشعبيّ، وسالم بن عبد الله، في آخرين. وعند الشافعيّ وأحمد لا يقع، وهو مذهب من سَمَّينا من فقهاء المدينة. وكذا تعليق العِتاق بالمِلْك. وقال مالك: إن خَصَّ صحَّ، وإن عمَّ لا يصحّ (¬4). وقال هشام بن محمد: كان سعيدُ بنُ خالد بن عَمرو بن عثمان بن عفَّان نازلًا بالفَدَّين، فخرج الوليد قبل أن يليَ الخلافة، فنزل قريبًا منه، فمرَّ زيَّاتٌ على حمار يسوقُه وعليه زيت، فأخذ ثيابَ الزَّيَّات، فلبسَها وساق الحمار حتى دخل قصر سعيد ¬

_ (¬1) وكنيةُ سلمى أمُّ سلمة كما ذكرت. فلا معنى لتعقُّب المصنِّف. وينظر ما بعده في "تاريخ دمشق" ص 175. (¬2) في "التاريخ الصغير" 1/ 322، وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخه" ص 177 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق). (¬3) من أرض حوران بالشام، ينظر "معجم البلدان" 4/ 240. وسلفت ترجمة عبد الرحمن بن القاسم قريبًا. وتحرفت لفظة الفَدَّين في (خ) و (د) (والكلام منهما) إلى: القدس. (¬4) من قوله: وقال البخاري: كتب إلى فقهاء المدينة ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

وهو ينادي: من يشتري الزيت؟ فخرج الجواري ينظرن إليه، فقالت جارية منهنّ لسلمى: يا مولاتي، ما رأيتُ إنسانًا أشبهَ بالوليد من هذا الزَّيَّات! فاطَّلعت سلمى، فرأَتْه، فعرفَتْه، فقالت: ويحك! واللهِ إنه الوليد، وقد رآني، فقولي له: يا زيَّات، اخْرُجْ، فإنَّا لا نريد زيتَك. فخرجَ وقد لمحها (¬1). واختلفت الروايات في تزويجه بها، فقال البلاذري: أكرهَ الوليدُ أباها لما وَلِيَ الخلافة على تزويجها منه، فحملَها من المدينة إلى الشام، فمرضت، وماتت ليلة دخل بها (¬2). وقيل: أقامَتْ عنده شهرًا. وقيل: أربعين ليلة. فلما ماتت بكاها ورثاها (¬3). وقال لها يومًا: خطبتُكِ إلى أبيك وأنا وليُّ العهد، فلم يفعل، وأطاع هشامًا، أكان أبوك يطمع في الخلافة؟ وأنشد يقول: وإنك والخلافةَ يا سعيدُ ... لكالحادي وليس لَهُ بعيرُ فقالت له سلمى: ولِمَ لا يطمعُ فيها وهو ابنُ أمير المؤمنين، وعنه أخذتُموها (¬4)؟ ! ورُويَ أن أباها مات قبل أن يليَ الوليد الخلافة، وكانت تحته سعدى أختها، فلما مات أبوها خرجت سلمى مُسفرةً في ثياب بياض (¬5)، فقالت له وهي لا تعرفُه: ويحك، مات أبي! فوقَعَتْ في نفسه، فطلَّق أختَها وخطَبَها إلى وليِّها (¬6)، فلم يزوِّجوه، فهامَ بها وقال الأشعار، ثم تزوجها بعد ذلك (¬7). وأرسل الوليد إلى المدينة، فجمع المغنِّين، فلما وصلُوا كره أن يُدخلهم العسكر نهارًا لئلا يراهم الناس، فأدخلهم ليلًا، وكان ساخطًا على محمد بن عائشة، فكلَّمه فيه مَعْبَد، فأمر بإحضاره فغنَّاه: ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 486، وبنحوه في "الأغاني" 7/ 28 - 29. (¬2) الكلام بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 475. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 500، والأغاني 7/ 30 و 31 و 65. وقوله: وقيل أربعين ليلة ... إلخ، ليس في (ص). (¬4) أنساب الأشراف 7/ 499، وتاريخ دمشق ص 173 (تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق) ولم يرد البيت في (ص). (¬5) في (ص): بيض. (¬6) في (ص): أوليائها. (¬7) تاريخ دمشق ص 173 (تراجم النساء).

أنتَ ابنُ مُسْلَنْطِحِ (¬1) البِطاحِ ولم ... تُطْرَقْ عليك الحُنُيُّ والوُلُجُ طُوبَى لفَرْعَيكَ من هنا وهنا ... طُوبى لأعراقِكَ التي تَشِجُ لو قُلْتَ للسَّيل دَعْ طريقَك والـ ... ـمَوْجُ عليه كالهَضْبِ يعتلجُ لارْتَدَّ أوْ سَاخَ أو لكان له ... في سائر الأرضِ عنك مُنْعَرَجُ فرضيَ عنه ووصلَه (¬2). [قال الأصمعي: ] ومن شعر الوليد: علِّلاني واسقياني ... من شرابٍ أصفهاني (¬3) من شرابِ الشيخِ كِسْرى ... أو شرابِ الهرمزانِ إنَّ في الكأس لَمِسْكًا ... أو بكَفَّي مَن سقاني [إنما الكأسُ ربيعٌ ... يُتعاطَى بالبَنَانِ] شَغَلَتْني نغمةُ العِيـ ... ـدانِ عن صوتِ الأذانِ وتعوَّضْتُ عن الحو ... رِ عجوزًا في الدِّنانِ هذا البيت ليزيد بن معاوية [وقد ذكرناه] وربَّما وقع تضمينًا (¬4). [ذكر قصته مع النصرانية]: روى الحافظ ابنُ عساكر عن محمد بن الحسين بن دريد، عن أبي حاتم، عن العُتبي قال: نظر الوليد إلى جارية نصرانية يقال لها: سَفْرى، فجُنَّ بها، وجعل يُراسلها وتأبى ¬

_ (¬1) المُسْلَنْطِح: الفضاء الواسع. (¬2) الخبر في "أنساب الأشراف" 7/ 506، و"العقد الفريد" 4/ 455، وجاء فيهما البيت الأول فقط. وجاءت هذه الأبيات لطُرَيح بن إسماعيل؛ في مدح الوليد بن يزيد، كما في "الشعر والشعراء" 2/ 678، و"الأغاني" 4/ 316، و"تاريخ دمشق" 8/ 507 - 508 (مصورة دار البشير- ترجمة طريح). وسيرد البيت الرابع في ذكر طُريح (فقرة الوافدين على الوليد) وجاءت الأبيات في "العقد الفريد" 5/ 293 في مدحه لأبي جعفر المنصور. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬3) في (خ) و (د): الأصفهاني. والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في "أنساب الأشراف" 7/ 503، و"العقد الفريد" 4/ 458. (¬4) الأبيات في المصدرين السابقين دون البيتين الأخيرين، ولم أقف عليهما في المصادر التي بين يديّ. وما سلف بين حاصرتين من (ص).

عليه، حتى بلغَه أن عيدًا للنصارى قد قرُب، وأنها ستخرجُ فيه، وكان في موضع العيد بستانٌ، وكان النساء يدخلنه، فصانَع الوليدُ صاحب البستان أن يدخل فينظر إليها، فأجابه، فتقشَّف الوليد وغَيَّرَ حليته، ودخل البستان. وجاءت سَفْرَى فجعلت تمشي حتى انتهَتْ إليه، فقالت لصاحب البستان: مَنْ هذا؟ فقال: رجل مصابٌ. فجعَلَتْ تُمازحه وتُضاحكه حتى اشتفى من حديثها والنظر إليها، ثم خرج، فقال صاحب البستان لسفرى: أتدرين مَن الرجل؟ قالت: لا. قال: الوليد بن يزيد، وإنما غيَّر حليته لينظر إليك. فجُنَّت به بعد ذلك، فكانَتْ عليه أحرصَ منه عليها، فقال الوليد في ذلك [هذه الأبيات]: أَضْحَى فؤادُك يا وليدُ عميدا ... صَبًّا قديمًا للحِسانِ صَيُودَا من حُبِّ واضحةِ العوارضِ طَفْلَةٍ ... بَرَزَتْ لنا نحو الكنيسةِ عِيدا ما زلتُ أرمُقُها بعَينَيْ وامقٍ ... حتى بَصُرْتُ بها تُقَبِّلُ عُودا عُود الصليبِ فوَيْحَ نفسي مَنْ رأى ... منكم صليبًا مثلَه معبُودا فسألتُ ربي أن أكونَ مكانَه ... وأكونَ في لهبِ الجحيم وَقُودا قال المُعافى بن زكريا: لم يُدرك مُدْرِكُ الشيبانيُّ هذا الحدَّ من الخلاعة إذ قال في عَمرو النصرانيّ: يا ليتني كنتُ له صَلِيبًا ... فكنتُ منه أبدًا قريبا أُبْصِرُ حُسنًا وأَشَمُّ [طِيبا] ... لا واشيًا أخشى ولا رَقِيبا (¬1) قال: ولمَّا ظهر أمر الوليد وعلمه الناس، قال: ألا حبَّذا سَفْرَى وإن قيل إنني ... كَلِفْتُ بنصرانيَّةٍ تشربُ الخمرا يهونُ عليَّ أن نظلَّ نهارَنا ... إلى الليل لا أُولَى أُصَلِّي ولا عصرا (¬2) ورُوي عن القاضي المُعافى [يعني في كتابه المسمَّى بالجليس والأنيس] وذكر فيه أن الوليد [بن يزيد] خرج من دمشق ومعه راكبان، فسار إلى الحِيرَة عند الكوفة؛ بلغَه أن ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 17/ 928 (مصورة دار البشير)، وينظر أخبار مدرك الشيباني في "معجم الأدباء" 19/ 135. ومن قوله: عود الصليب (البيت الثالث) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) تاريخ دمشق 17/ 928 (مصورة دار البشير) ولم يرد البيت الثاني في (ص).

بها خمَّارًا موصوفًا بجودة الخمر، فسلك طريق السَّماوة حتى نزلَ عليه، فشرب عنده خمسة أقداح، وأعطاه خمس مئة دينار، وعاد من وقته إلى دمشق (¬1). [ثم قال القاضي المعافى عقيب هذه الحكاية: أخبار الوليد بن يزيد كثيرة، قد أتينا على معظمها في كتابنا، وذكرنا من سيرته وسفاهته وحماقته وهزله ومجونه وسخافة دينه وما صرَّح به من الإلحاد في القرآن]. [وحكى أبو القاسم ابن عساكر عن الوليد بن مسلم قال: ] كتب الوليد إلى المدينة يحمل إليه أشعب الطامع، فدخل عليه في سراويل من جلد قردٍ وله ذنب، فقال له: غَنِّ، فغنَّى صوتًا ورقَّص، فأعطاه ألف درهم ونادمَه (¬2). [حديث ابن مَلِك دُنباوند (¬3) مع الوليد: ذكر علماء السير -منهم الهيثم- قال: ] بلغَ الوليدَ أن ابنَ مَلِك دنباوند مستحسن الصورة، وكان أمردَ مفرط الجمال، فكتب إلى يوسف بن عمر بأن يحمله إليه، فقال يوسف: أعلى كِبَر سنِّي أصيرُ قَوَّادًا؟ ! ثم تعلَّل عليه، وقال: أخافُ عصيان الله (¬4). فألحَّ عليه، فاحتال يوسف على أبيه بحيلة، وكتب إليه: قد بلغ أميرَ المؤمنين عنك خلافه (¬5)، فابْعَثْ إليه بالهدايا مع أعزّ الناس عندك، وهو ولدُك، فبعث به إليه، فأقام عندَه حتى قُتل، وكان الغلام يقول: لو حبل رجلٌ من رجل لحبلتُ من الوليد بعدَّة أولاد (¬6). [ذكر نزوله إلى البركة وفيها الخمر]: قال المدائني: كان الوليد يملأ البِرْكة خمرًا، وينزل بثيابه، فيغبُّ (¬7) فيها، ويصعد والجواري يرقصن ويغنّين حوله حتى يقع مغشيًّا عليه. ¬

_ (¬1) الخبر في "الجليس الصالح"، و"تاريخ دمشق" 17/ 928 - 92 مطول، وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬2) أنساب الأشراف 7/ 508، والأغاني 7/ 46. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬3) دُنباوند -أو: دَباوند- صِقْع واسع بين الرّي وطبرستان. ينظر "معجم البلدان" 2/ 436 و 475. (¬4) في (ص): عضيان أبيه. (¬5) في (ص): خلافًا. (¬6) لم أقف على هذا الخبر. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬7) في (ص): فيعيث، وسيرد الخبر مفصّلًا. وما سلف بين حاصرتين من (ص).

وقال الهيثم: ألفى نفسه يومًا في البِرْكة وعنده مَعْبَد المغنّي، فأعطاه ألف دينار، وقال: اكتُمْ عليَّ (¬1). وقال أبو الفرج الأصفهاني: دخل عليه يومًا عَطَرَّدُ المغنِّي وهو قاعد على شَفِير بِرْكةٍ مُرَصَّصَةٍ (¬2) مملوءةٍ خمرًا، ليست بالكبيرة، ولكن يدورُ الرجلُ فيها سِباحةً، فقال له: غَنِّ: حَيِّ الحُمُولَ. فقال عَطَرَّدُ: حَيِّ الحُمولَ بجانبِ العَزْلِ (¬3) ... إذْ لا يُلائمُ شكلُها شَكْلي إنِّي بِحَبْلِكِ واصلٌ حَبْلِي ... وبِريشِ نَبْلكِ رَائشٌ نَبْلِي وشمائلي ما قد علمتِ وما ... نبحَتْ كلابُكِ طارقًا مثلي قال: فشقَّ ثيابه -وكان عليه بُرْدَة صنعانية لا يُدْرَى ما قيمتُها- حتى خرج منها كيومَ ولدَتْه أمُّه، ثم رمى بنفسه في البِرْكة، فشربَ منها حتى عُرف فيها النُّقصان، وأُخرج ميِّتًا سَكِرًا، وضَمَمْتُ البُرْدة إليّ ومضيتُ إلى منزلي. ثم دعاني في اليوم الثاني وقال: غنِّ، فغنَّيتُ: أيذهبُ عمري هكذا لم أَنَلْ به ... مجالسَ تَشْفي قَرْحَ قلبي من الوَجْدِ وقالوا تداوى إنَّ في الطب (¬4) راحةً ... فعزَّيتُ (¬5) نفسي بالدواء فلم يُجْدِي فشَقَّ بُرْدَةً عليه مثلَ تلك، وألقى نفسَه في البِرْكة، فنهل منها حتى أُخْرِج ميِّتًا سَكِرًا. فلما كان في اليوم الثالث دعاني وفعل كذلك، فلما أفاقَ دفعَ إليَّ خمس مئة دينار، وقال: كأنِّي بك وقد قدمتَ المدينة وقلتَ: فعلَ الوليد كذا وكذا. والله لئن قلتَ كلمةً لأقتلنَّك. ¬

_ (¬1) الأغاني 1/ 52 - 53. (¬2) في (ص): مرصَّعة. (¬3) العَزْل: ماءٌ بين البصرة واليمامة. ذكره ياقوت في "معجم البلدان" 4/ 119، وأورد عنده هذا البيت، ونسبه لامرئ القيس. (وينظر الكلام بعد تعليقين). والحُمول: جمع حِمْل، وهو الهَوْدَج. (¬4) في (ص): القلب. (¬5) في "الأغاني" 3/ 308: فعلَّلْتُ.

قال عَطَرَّد: فواللهِ ما أَخبرتُ بشيء من ذلك حتى قُتل الوليد (¬1). وقال عَطَرَّد: رأيتُ الوليدَ يشربُ سبعين قَدَحًا من الخمر ولا يسكر. وسكر ليلة فقام إلى ابن عائشة، فقبَّل كلَّ عضو فيه حتى ذكره (¬2). وكان ينزل في البِرْكة في اليوم مرارًا ويغيِّر ثيابَه. [وقد نسبه أبو الفرج فقال: ] وعَطَرَّد: كنيتُه أبو هارون، مولى عَمرو بن عوف الأنصاري، كان عَطَرَّد ينزلُ قُباء، وكان جميل الوجه، حَسَن الصوت بالغناء، فقيهًا قارئًا لكتاب الله، عَدْلًا في شهادته، أدرك أيام بني أمية وصدرًا من دولة بني هاشم، وانقطع إلى سليمان بن عليّ، ومات في أيام المهديّ [محمد بن أبي جعفر المنصور] (¬3). قال المصنف رحمه الله: وكيف يكون عَدْلًا وهو يشهد مجالس الوليد؟ ! فإن كان قبل ذلك يحتمل. قال أبو الفَرَج: حبس والي المدينة جماعةَ المغنِّين وفيهم عَطَرَّد، فأُخبِرَ بدينه ومروءته، فدعاه وأطلقه، فقال: أيها الأمير، لِمَ حبستَ هؤلاء؟ قال: على الغِناء. قال: ظلمتَهم، فواللهِ ما أحسنوا منه شيئًا قطّ. فضحك الوالي وأطلقَهم (¬4). ذكر مقتل الوليد: [ذكر علماء السير كالواقدي وهشام وأبي مِخْنَف والمدائني والحافظ ابن عساكر في "تاريخه" قالوا: ] كان الوليد بن يزيد قبل أن يلي الخلافة على استهتار (¬5) بالدين وقلة المبالاة به، فلما وليَ الخلافة ازداد من اللهو والركوب إلى الصيد وشربِ الخمر ومنادمةِ الفُسَّاق، فثقُل أمرُه على الرعيَّة والجند وكرهوه. ¬

_ (¬1) الأغاني 3/ 307 - 309، وتاريخ دمشق 48/ 45 - 46 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عطرَّد). قال أبو الفرج الأصبهاني 3/ 304: الشعرُ لامرئ القيس بن عابس الكندي، هكذا روى أبو عَمرو الشيباني وقال: إن من يرويه لامرئ القيس بن حُجْر يغلط. (¬2) الأغاني 2/ 226. (¬3) الأغاني 3/ 303. وينظر "تاريخ دمشق" 48/ 45. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) الأغاني 3/ 307. (¬5) في (خ) و (د): قد استهان. والمثبت من (ص).

وكان من أعظم ما جَنَى على نفسه إفسادُه أهلَه وبني أعمامه أولاد الوليد وأولاد هشام واليمانية، وهم أعظم جند خُراسان (¬1)، وكان يكره المواضعَ التي فيها الناس، فكان ينتقل من مكان إلى مكان. واشتدَّ على أولاد هشام ضربُ سليمان بن هشام مئة سوط، وحَلْقُ رأسه ولحيته، وتغريبُه إلى عمَّان، وحبسُه بها إلى أن قُتل الوليد [وقد ذكرناه]. ومن ذلك جارية كانت لآل الوليد فأخذَها، فكلَّمه عمُّه فيها، فقال: لا أردُّها. فقال عمُّه: إذن تكثر الصواهل حول عسكرك (¬2). ومنها: حبسُ يزيد بن هشام، ويقال له: الأفقم. ومنها: أنه حبسَ سعيدَ بن بَيْهس حتى مات في الحبس، وكان قد استشارَه الوليدُ في البيعة لابنَيه الحَكَم وعثمان، فقال: لا أرى ذلك، فإنهما غلامان لم يحتلما. فنَقَم عليه (¬3). ومنها: أمرُه يوسف بن عمر بقتل خالد بن عبد الله القَسْري، وكان قد كتب إلى خالد أن يُبايع لابنَيه الحَكَم وعثمان، فامتنع وقال: ويحكم كيف أُبايع من لا أصلي خلفَه. ولا أقبلُ شهادتَه. قيل: فالوليد مع فسقه يُصلَّى خلفَه! قال: فسقُ [الوليد] غائبٌ عني ولا أتيقَّنُه، وإنَّما هو أخبارُ الناس. وبلغ الوليدَ، فغضبَ عليه، ثم إن خالدًا بايعَ بعد ذلك، وبقي في قلب الوليد، فأمرَ يوسفَ بنَ عمر بقتله، فثارت اليمانيَّة حميةً لخالد (¬4). ومنها: أن بني هشام وبني الوليد شهدوا عليه بالكفر وغشيان أمَّهات أولاد أبيه، وقالوا: قد اتَّخذَ مئة جامعة، وكتبَ على كلِّ واحدة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها، ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 231 (والكلام فيه بنحوه): وهم عُظْم جند أهل الشام. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 515، وتاريخ الطبري 7/ 231 - 232. والصواهل: جمع صاهل، وهو الفرس. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 516، وتاريخ الطبري 7/ 232. (¬4) المصدران السابقان.

ورمَوْه بالزَّندقة، وأنه مُباح الدم، وأنه تجرّأ على بيت الله الحرام، وشربَ فيه الخمر لما حجَّ، وعملَ القُبَّة ليضاهيَ بها الكعبة. وكان أشدَّهم عليه يزيدُ بنُ الوليد بن عبد الملك، وكان الناس يسمعون منه لزهده ونُسُكِه وعبادته، وكان يقول: ما يسعُنا السكوتُ عن الفاسق وكفرِه وفجورِه، ويأمرُ الناس بجهادِه وسفكِ دمه (¬1). فأجمع (¬2) على قتل الوليد عامَّةُ جنده ورعيَّته، ومُعظمُهم من قُضاعةَ واليمانيَّة، فاجتمع الأشرافُ، وأُمراء القبائل: منصور بن جمهور، وحُرَيث، وشبيب بن أبي مالك، وغيرهم، واجتمعت اليمانية إلى يزيد بن الوليد [بن عبد الملك] وأرادوه على البيعة، فقال له عُمر (¬3) بن يزيد الحَكَمي: شاوِرْ أخاك العبَّاس، فإنْ وافقك على البيعة لم يخالفك أحد، فإنه سيِّدُ بني مروان. وكان العام قد أجدب، ونزل الطاعون بالبلاد، وخرج بنو أميَّة إلى البرِّيَّة، وكان العبَّاس [بن الوليد] نازلًا بالقَسْطَل (¬4)، وأخوه يزيد قريبًا منه، فأتى يزيدُ أخاه العبَّاس، فشاورَه، فقال له العبَّاس: مهلًا يا يزيد، فإنَّ في نقض عهد الله فسادَ الدين والدنيا، فلا تفعل. فعاد يزيد إلى منزله، ولم يسمع من أخيه، وجاء إليه الناس أرسالًا يُبايعونه سرًّا، فلما كثَّروا عليه أتى أخاه العبَّاس، فأخبره فقال: واللهِ لئن عُدْتَ إلى هذا لأشُدَّنَّك وَثاقًا، وأبعثُ بك إلى أمير المؤمنين. وكان مع يزيد قَطَن [مولاهم] (¬5). فلما خرجا من عنده أرسل العباس إلى قَطَن فجاء فقال له: ويحك يا قَطَن! أترى يزيدَ جادًّا في قوله؟ ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 515 و 517، وتاريخ الطبري 7/ 232. (¬2) في (ص): فاجتمع. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 237: عَمرو. (¬4) يطلق هذا الاسم على أكثر من موضع، المشهور منها اثنان: أحدهما قرب البلقاء من أرض دمشق في طريق المدينة، والثاني بين حمص ودمشق، ولعله المراد هنا، فقد قال ابن الأثير في "الكامل" 5/ 283: وكان العباس بالقسطل، ويزيد بالبادية أيضًا، بينهما أميال يسيرة. (¬5) في (د): قطن بن خليفة. ولم أقف على من نسبه كذلك. ولفظة "مولاهم" بين حاصرتين من المصدر السابق.

فقال له: ما أظنُّ ذلك، ولكنّه قد دخلَه ما صنع (¬1) الوليد بأهلك وببني هشام، واستخفافُه بالدِّين وتهاونُه بالإسلام. فقال له: ازْجُرْه عن ذلك (¬2). وبلغ مروانَ بنَ محمد بأرمينية أن يزيد يُؤلِّبُ الناس على الوليد، فكتب إلى سعيد بنِ عبد الملك يأمرُه أن ينهى يزيد والناس، ويكفَّهم عن ذلئا، وكان سعيد متألِّهًا ناسكًا، وكان في كتاب مروان: أما بعد، فإنَّ الله جعلَ لكلِّ أهل بيت أركانًا يعتمدون عليها، ويتَّقون بها المخاوفَ، وأنت -بحمد الله- ركنٌ من أركان بيتك، وقد بلغني أن قومًا من سفهاء أهل بيتك قد أسَّسُوا (¬3) أمرًا؛ إن تَمَّتْ لهم رؤيتُهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم، افتتَحوا بابًا لن يُغلقه اللهُ عنهم حتى تُسفَكَ دماءُ كثيرٍ منهم، وأنا مشتغلٌ بأعظم ثغور المسلمين، ولو اجتمعتُ بهم لَرَمَّمْتُ فسادَ أمرهم بيدي ولساني. وذكر كلامًا طويلًا، وقال في آخره: فإنَّ فيما سَعَوْا فيه تغييرَ الدول، وكفرَ النعم، فبادِر الأمر وحبلُ الأُلفة مشدود، والناس سكونٌ، والثُّغور محفوظة، والسلام. فبعث سعيد بكتابه إلى العبَّاس بن الوليد، فدعا العبَّاسُ يزيدَ بنَ الوليد، فنهاه وتهدَّدَه وخوَّفه، فأنكر ذلك. وقال العباس: إني أُعيذُكُمُ باللهِ من فِتَنٍ ... مثلَ الجبالِ تَسَامَى ثم تندفعُ إنَّ البَرِيَّةَ قَدْ مَلَّتْ سياسَتَكُمْ ... فاسْتَمسِكُوا بعمودِ الدينِ وارْتَدِعُوا لا تُلْحِمُن ذئابَ الناسِ أنفسَكُمْ ... إنَّ الذِّئابَ إذا ما أُلْحِمَتْ رَتَعُوا لا تَبْقُرُونَ بأيديكم بطُونَكُمُ ... فثَمَّ لا حَسْرَةٌ تُغْني ولا فَزَعُ (¬4) ¬

_ (¬1) في (ص): صنعه. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 518 - 519، وتاريخ الطبري 7/ 237. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 238: استنُّوا. (¬4) أنساب الأشراف 7/ 520 - 521، وتاريخ الطبري 7/ 238 - 239. وينظر "الأغاني" 7/ 75. ومن قوله: وبلغ مروان بن محمد ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

[قال هشام: ] ويقال للوليد بن يزيد بعضُ هذا من غير تصريح، ولا يلتفت، بل هو منهمكٌ على لذَّاته وفسادِه. [قال: ] وبايع يزيدَ خلقٌ كثير، فأقبل [يزيد] من البادية إلى دمشق متنكّرًا في سبعة نفر على حُمُر، فنزلوا بِجَرُود (¬1) -على مرحلة من دمشق (¬2) - فنزل فنام. وقام فدخل دمشق ليلًا وقد بايعَه أكثرُ أهل دمشق وأهل الضِّياع، ولم يبق ممَّن لم يُبايعه من أهل المِزَّة إلا معاوية بن مَصَاد، وكان سيِّدَ أهلِ المِزَّة، فمضى يزيد إلى المِزَّة من ليلته -وبين دمشق والمزة ميل أو أكثر- ووقع مطرٌ شديد، فدقُّوا على معاوية، ففتحَ لهم، ودخلُوا، فقال معاوية ليزيد: اجلس على الفراش، فقال: إن في رجلي طينًا، وأكره أن أُفسد عليك فراشَك، فقال: ما تَنْدُبُنا إليه أفسدُ، وكلَّمه يزيدُ، فبايعَه معاويةُ، وعاد يزيد إلى دمشق. وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجَّاج بن يوسف، وكان قد خافَ من الطاعونَ، فخرج فنزلَ قَطَنا (¬3)، واستخلفَ ابنَه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج (¬4) كثير بن عبد الله السلميّ. وواعدَ يزيدُ أصحابَه أن يخرج ليلة الجمعة بين المغرب والعشاء، فدخل المسجدَ في أصحابه، وأوَّلُ من بايعَه بإمرةِ المؤمنين يزيدُ بنُ عنبسة، وقال له: أبشِرْ بنصر الله وعَوْنِه، فقال يزيد: اللهمَّ إنْ كان هذا لك رِضًا؛ فأعنِّي عليه وسَدِّدْني له، وإن كان غيرَ رِضًا؛ فاصْرِفْه عنّي (¬5). واستولى على دمشق والأموال، وجاءه أصحابه من كل مكان، فأرسل من ليلته إلى عبد الملك بن محمد (¬6) بن الحجَّاج بن يوسف، فأخَذَه، وأخَذَ كلَّ من يُخافُ منه. ¬

_ (¬1) في (خ) و (د) و (ص): فنزلوا بحردة. وهو خطأ. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 239، و"الأغاني" 7/ 75. (¬2) واسمُها الآن جَيرُود، تقع في القلمون، من أعمال دمشق. والمرحلة، هي المسافة التي يقطعها المسافر في نحو يوم. (¬3) منطقة إلى الجنوب الغربي من دمشق. (حوالي 24 كم عنها). (¬4) تحرَّف في النسخ الخطية إلى: أبو العلاج. (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 240: فاصرفه عني بموت. (¬6) في النسخ الخطية: محمد بن عبد الملك، وهو خطأ، والمثبت من المصادر المذكورة لاحقًا، وقد سلف الاسم قريبًا على الصواب.

ولما أصبح جاءه أهلُ الضِّياع، فدخل أهلُ المِزَّة من باب الجابية، والسَّكاسك من الباب الشرقيّ، وأهلُ داريَّا يَقْدُمُهم يعقوبُ بنُ عُمير العبسي، فدخلُوا من الباب الصغير، وأقبل أهلُ حَرَسْتا ودُوما يَقْدُمُهم عيسى بن شبيب العجلي (¬1)، فدخلوا من باب توما، وجاء أهل دَير مُرَّان والأَرْزَة وسَطْرَا (¬2) ومعهم حُميد (¬3) بن حبيب اللَّخْمي، فدخلوا من باب الفراديس، وجاءت القبائل من كلِّ ناحية ومكان، وقد وصفَهم بعضُ الشعراء، فقال: فجاءَتْهُمُ أنصارُهُمْ حين أصبحوا ... سَكاسِكُها أهلُ البيوتِ الصَّنادِدِ وكلبٌ فجاؤوهم بِخَيلٍ وَعُدَّةٍ ... مِن البِيضِ والأبدانِ ثُمَّ السَّواعدِ (¬4) وجاءتهمُ شعبانُ والأَزْدُ شُرَّعًا ... وعَبْسٌ ولَخْمٌ بين حامٍ وذائدِ وغسَّانُ والحيَّانِ قيسٌ وتَغْلِبٌ ... وأحْجَمَ عنها كلُّ وانٍ وزاهدِ فما أصبحوا إلا وهم أهلُ مُلْكِها ... قد استَوْثَقُوا من كلِّ عاتٍ ومارِدِ فأكْرِمْ بهم أنصارَ سيِّدِ قَوْمِهِ ... تَوَالى على حُرْماتها كلُّ جاحدِ (¬5) ونادى منادي يزيد بن الوليد: هلمُّوا إلى عطائكم. وفتحَ بيت المال، وفرَّق ما فيه [على الناس] (¬6)، ومن لم يكن له عطاءٌ أعطاه ألف درهم. ثم نادى مناديه: مَنْ يَنْتَدِبْ لقتال الفاسق وله ألفُ درهم؟ [فاجتمع إليه أقلُّ من ألف رجل، فأمر رجلًا فنادى: مَنْ ينتدب إلى الفاسق، وله ألف وخمس مئة؟ ] (¬7). فانتدبَ ألفٌ وخمس مئة، وعليهم منصور بن جُمْهُور، ويعقوب بن عبد الرحمن الكلبي، وهَرِم ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 241: التغلبي. (¬2) داريّا وحَرَسْتا ودُوما ودَيْر مُرَّان وسَطْرا، من قرى دمشق، ذكرها محمد كرد علي في "غوطة دمشق"، وذكر ياقوت أكثرها في "معجم البلدان". (¬3) في النسخ الخطية: أحمد، والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 524، و"تاريخ" الطبري 7/ 242. (¬4) في (خ) و (د) (والكلام منهما): شم السواعد، والمثبت من "تاريخ" الطبري. والبِيض جمع الأبيض، وهو السيف. (¬5) الخبر بتمامه أطول منه في "تاريخ" الطبري 7/ 239 - 242. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 521 - 524، و"الأغاني" 7/ 75 - 77. وينظر أيضًا ترجمة رزيق (أو رزين) بن ماجد في "تاريخ دمشق" 6/ 254 - 255 (مصورة دار البشير) ففيه خبر قتل الوليد. ولم يرد في (ص) من الأبيات إلا الأول منها. (¬6) ما بين حاصرتين من (ص). (¬7) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 7/ 243، وهو بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 525.

ابن عبد الله بن دِحْية، وحميد (¬1) بن حبيب اللخمي، كلُّ واحد على طائفة، وقدَّم على الجميع عبدَ العزيز بنَ الحجَّاج بن عبد الملك بن مروان (¬2). وخرج من دمشق مولًى للوليد بن يزيد، فأتى الوليد (¬3) وهو بالأَغْدَق (¬4) من أرض عمَّان البَلْقاء في يومه على فرس، فنفق فرسه، وأخبرَه الخبر، فضربَه مئةَ سَوْط وحبسَه (¬5). وقال يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية -وقيل: بَيهَس بن زُمَيل الكِلابي (¬6) - للوليد [بن يزيد]: سِرْ بنا إلى حمص، فإنَّها حصينةٌ، وتبعثُ الجيوش إلى يزيد. فقال عبدُ الله بنُ عَنْبَسَة بن سعيد بن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يَدَعَ عسكرَه ونساءه قبل أن يُقاتِل (¬7). فقال يزيد بن خالد: وماذا يخاف على حُرَمه ونسائه؟ وإنَّما يأتيهنَّ (¬8) عبدُ العزيز بنُ الحجَّاج، وهو ابنُ عمِّهنَّ. وقال الأبرش الكلبي للوليد: سِرْ يا أمير المؤمنين إلى تدمر، فهي حصينةٌ، وبها بنو عمِّي. فقال الوليد: بها بنو عامر، وقد خرجوا عليّ، ولكن دلَّني على مكان حصين. فقال: أرى أن تنزلَ الهَزِيم. قال: أكره اسمَه. قال: فالبَخْرَاء، قصر النعمان بن بشير. فقال: ما أقبحَ أسامي منازِلِكم ومياهكم! وقال له بَيهَس بنُ زُمَيْل: أمَّا إذْ أبَيْتَ أن تنزل حمص أو تدمر؛ فهذا حصن البَخْراء فانْزِلْه. فقال: أخافُ الطاعون. فقال: الذي يُرادُ بك أشدُّ من الطاعون. فنزل البَخْرَاء. ¬

_ (¬1) في (خ) و (د) (والكلام منهما): وعقد لحميد بدل: وحميد! والتصويب من "تاريخ" الطبري 7/ 243. (¬2) من قوله: وعليهم منصور بن جمهور .. إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) في (خ) و (د): فأتاه. والمثبت من (ص). (¬4) في (خ) و (د): الأغدف، والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في "تاريخ دمشق" 17/ 931 (مصورة دار البشير- ترجمة الوليد). وسلف بهذا اللفظ أيضًا في خبر وفاة هشام. وذكر الطبري 7/ 211 أن الأغدق ماء بالأزرق بين أرض بَلْقين وفَزَارة. (ووقع في مطبوعه: الأغدف). (¬5) تاريخ الطبري 7/ 243. وقوله: فنفق فرسه ... إلخ، ليس في (ص). (¬6) قوله: وقيل بيهس بن زُميل الكلابي، ليس في (ص). (¬7) في "تاريخ" الطبري 7/ 243: قبل أن يُقاتِل ويُعذر. (¬8) في المصدر السابق: أتاه.

وسار عبدُ العزيز بنُ الحجَّاج يقصد الوليدَ بنَ يزيد، فوصلَ إلى ذَنَبة، فلقيَ ثَقَل الوليد، فأخذَه، ونزل قريبًا من البَخْراء، وجاء الوليدَ رسولُ العبَّاسِ بن الوليد وهو بالقَّسْطَل (¬1) يقول: أنا واصلٌ إليك. ثم زحف إليه عبدُ العزيز، وعلى ميمنته حُوَيّ بن عَمرو (¬2) السَّكْسَكِيّ، وعلى ميسرته يعقوبُ الكلبيّ، وعلى مقدِّمته منصور بنُ جمهور، فجلس الوليد على سريره وقال: أتتوثَّب الرجالُ عليَّ وأنا أثبُ على الأسد وأتخصَّرُ الأفاعي؟ ! وكان ينتظر العباسَ بنَ الوليد. فبعث عبدُ العزيز إلى أصحاب الوليد زيادَ بنَ حُصين السَّكْسَكِيّ يدعوهم إلى كتاب الله وسنَّةِ رسوله، فَطَعنَه قَطَريّ مولى الوليد فقتلَه، وحملُوا على عبد العزيز، فقتلوا من أصحابه عِدَّة، وحُملت رؤوسهم إلى الوليد وهو جالس على باب حصن البَخْراء، وعلى رأسه لواء مروان بن الحكم الذي عُقد بالجابية (¬3). وقال الوليد: مَنْ جاء برأس فله خمس مئة [درهم]. فجاءه رجلٌ برأس، فقال: اكتبوا اسمَه. فقال: يا أميرَ المؤمنين، ليس هذا يومٌ يُعمل فيه بنسيئة (¬4). وبلغ عبدَ العزيز مجيءُ العباس لنُصرة الوليد، فأرسلَ إليه منصورَ بنَ جُمهور، فلقيَه قريبًا من البَخْراء وهو في ثلاثين من بنيه، فقال له منصور: اعْدِلْ إلى عبد العزيز. فشتمه [العبَّاس]، فقال له منصور: واللهِ لئن تقدَّمْتَ لأفعلنَّ بك ولأصنعنَّ. وأغلظَ له، وعدلُوا به إلى عسكر عبد العزيز كُرهًا وهو يسترجعُ وكان في بنيه، ولم يكن معه أحد من أصحابه، وكان قد تقدَّمَهم. ولما أتَوْا به عبد العزيز قال له: بايع أخاكَ يزيد. فخاف منهم، فبايع، وقال: هذه خُدعة من خُدَع الشيطان، هلك بنو مروان. ¬

_ (¬1) في (د): القُسيطل. وقد سلف ذكر القسطل قريبًا. (¬2) كذا في النسخ (وتحرَّف فيها إلى عمر)، و"تاريخ دمشق" 17/ 931 (مصورة) وله ترجمة فيه 19/ 368 (طبعة مجمع دمشق). وفي "أنساب الأشراف" 7/ 527، و"تايخ" الطبري 7/ 244: عَمرو بن حُوَيّ. والله أعلم. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 244 - 245، وتاريخ دمشق 17/ 931. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 527 - 528. (¬4) الأغاني 7/ 79.

ونصبوا له رايةً، ونادَوْا: قد بايعَ العباسُ. فلما رأى أصحاب الوليد ذلك تفرَّقوا عنه. فظاهر الوليدُ بين دِرْعين (¬1)، وركبَ فرسَه السِّنديّ، وقاتلهم (¬2)، فصاح رجلٌ: اقتُلُوا الفاسقَ عدوَّ الله قَتْلَ (¬3) قوم لوط، أرْمُوهُ بالحجارة. فلما سمع ذلك دخل القصر، وأغلقَ البابَ، وأحدقَ عبدُ العزيز وأصحابُه بالقصر، فدنا الوليد من الباب فقال: أما فيكم رجل شريفٌ له حَسَبٌ أُكلِّمُه؟ فقال له يزيد بن عنبسة السَّكْسَكيّ: تَكَلَّمْ. فقال: مَنْ أنت؟ قال: فلان. قال: يا أخا السَّكاسِك، ألم أَزِدْ في أُعْطِياتكم (¬4)؟ ! ألم أَرْفَعِ المُؤَنَ عنكم؟ ! ألم أُعْطِ فقراءَكم؟ ! ألم أفعل كذا وكذا؟ فقال له يزيد: نحن ما نَقَمْنا عليك في أنفسنا، ولكنَّا نَقَمْنا عليك انتهاكَ حُرُماتِ الله، وشربَ الخمر، واللِّواط، والفسقَ، ونكاحَ أمَّهات أولاد أبيك، واستخفافَك بأمرِ الله. فقال: حَسْبُك، فقد أكثرتَ، فواللهِ لا يُرْتَقُ فَتْقُكُم، ولا تُجمع كلمتُكم، ولا يُلَمُّ شَعَثُكُم بعد اليوم. ثم عاد إلى القصر، فجلس ونشر المصحف في حِجْرِهِ وقال: يومٌ كيومِ عثمان، فتسوَّرُوا عليه الجدار، فكان أوَّلَ من نزل يزيدُ السَّكْسَكيّ هذا، وسيفُ الوليد إلى جنبه، فقال له: نحِّ سيفَك. فقال الوليد: لو أردتُ السيفَ لكان لي ولكم حالٌ غيرُ هذه. فأخذ يزيدُ بيد الوليد وهو يريد حَبْسَهُ، وأن يؤامِرَ فيه. فنزل من الحائط عَشَرَةٌ، منهم منصور بن جُمهور، والسَّريّ بن زياد بن [أبي] كبشة، وعبد السلام اللخمي (¬5)، فضربَه عبدُ السلام على رأسه والسَّرِيّ على وجهه، واحتزَّ رأسَه أبو علاقة القُضاعي، وجاؤوا به إلى عبد العزيز، فبعث به إلى يزيد مع رَوْح بن مُقبل، فوافاه وهو باللؤلؤة ظاهر باب الجابية، فسجدَ يزيدُ وقال: الحمد لله على قتل الفاسق (¬6). ¬

_ (¬1) في (ص): ولما رأى الوليد ذلك ظهر بين درعين ... (¬2) في "أنساب الأشراف" 7/ 528، و"تاريخ" الطبري 7/ 245: وأتوه بفرسيه: السِّندي والزائد، فقاتلهم قتالًا شديدًا. وفي "تاريخ دمشق" 17/ 932، و"مختصره" 26/ 376: وأتوه بفرسين ... إلخ. (¬3) في (ص): مثل، وفي المصادر المذكورة سابقًا، و"الأغاني" 7/ 79: قِتْلَةَ. (¬4) في (ص): عطائكم. (¬5) في (خ) و (د) و (ص): السلمي. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 246، و"تاريخ دمشق" 17/ 932، و"مختصره" 26/ 377. (¬6) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 526 - 527، و"تاريخ" الطبري 7/ 243 - 247، و"الأغاني" 7/ 78 - 81 و"تاريخ دمشق" 17/ 930 - 932. وليس فيها قوله: فوافاه وهو باللؤلؤة ظاهر باب الجابية.

وقال ابن عمَّار: قاتلَ الوليد حتى قُطعت يدُه، فدخل بعد ذلك إلى القصر، فضربَه يزيدُ بنُ خالد القَسْريّ تسع ضربات، وكان محبوسًا عنده، فأخذ بثأر أبيه خالد (¬1). وقيل: إنه قُتل وكان مُصْطَبحًا، وحُمِلَ جسدُه سرًّا، فدُفن بباب الفراديس (¬2). وقال نوح بن عَمرو (¬3): رأيتُ خَدَم الوليد [بن يزيد] وحَشَمَه يومَ قُتل يأخذون بأيدي الرجال، فيُدخِلُونهم (¬4) عليه ليقتلوه (¬5). وقال عَمرو بنُ مروان الكلبي: قُطعت كفُّ الوليد، فبعث بها عبدُ العزيز إلى يزيد بن الوليد قبل الرأس؛ قُدم بها ليلةَ الجمعة، وأُتِيَ بالرأس من الغد، فأمر يزيد بنصب الرأس، فقال يزيد بن فَرْوَة (¬6): إنَّما تُنصَبُ رؤوسُ الخوارج، وهذا ابنُ عمِّك وخليفة، ولا آمنُ إن نصبْتَه أن ترقَّ قلوبُ الناس، ويغضبَ له أهلُ بيته، فلم يلتفت [إليه] وطاف به (¬7)، ثم نصبه، وبعثَ به إلى أخيه سليمان بن يزيد، فنظو إليه [سليمان] وقال: بعدًا له وسُحْقًا، أشهدُ أنه كان فاسقًا شَرُوبًا للخمر، ولقد راودني [أو أرادني] على نفسي (¬8). [وكان الرأسُ مع ابن فَرْوَة مولى بني مروان، فخرج به من دار سليمان، فتلقَّتْهُ مولاة للوليد، فأخبرها ابنُ فَرْوَة بقول سليمان، فقالت: كذب -واللهِ- الخبيث، ما فعل، ولو كان أراده على نفسه؛ ما كان يمتنع عليه] (¬9). ¬

_ (¬1) الخبر في "أنساب الأشراف" 7/ 536 مختصر. (¬2) ينظر المصدر السابق 7/ 536 و 537، وتاريخ دمشق 17/ 937. (¬3) هو نوح بن عَمرو بن حُوَيّ السكسكي، أخو حُوَيّ بن عَمرو. ينظر "تاريخ دمشق" 19/ 398 (طبعة المجمع). (¬4) في (خ): فيدخلوا بهم، وفي (د): فدخلوا بهم. والمثبت من (ص)، وهو موافق لما في "تاريخ" الطبري 7/ 247، و"تاريخ دمشق" 17/ 932، والخبر فيهما. (¬5) في النسخ: ليقتلونه، وأثبتُّ اللفظة على الجادة، وهي لم ترد في المصدرين السابقين. (¬6) تحرَّف في النسخ و "تاريخ دمشق" 17/ 934 إلى: قُرَّة. وأثبتُّ اللفظة على الصواب لأنها سترد في النسخ و"تاريخ دمشق" كذلك في تتمة الخبر. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 7/ 532، و"تاريخ" الطبري 7/ 250 - 251، و"مختصر تاريخ دمشق" 26/ 378. وليزيد بن فروة ترجمة في "تاريخ دمشق" 18/ 361. (¬7) يعني يزيد بن فروة، حيث أمره يزيد بن الوليد بذلك، كما في المصدرين السابقين، وكما سيرد من (ص) بين حاصرتين. (¬8) المصادر السابقة، وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬9) أنساب الأشراف 7/ 532 - 533، وتاريخ الطبري 7/ 251، وتاريخ دمشق 17/ 935، وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص)، وتحرف فيها: ابن فروة، إلى: أبي فروة.

وقال ابن عساكر: بذل يزيد بن الوليد في رأس الوليد مئة ألف (¬1)، فلما حضر بين يديه سجد، ونصبَه على حائط دمشق، وبقيَ دمُهُ على الحائط حتى دخلَ المأمون دمشق سنة خمس عشرة ومئتين، فأمر بحكّه (¬2). ولما قتل الوليد نهبَ (¬3) الناسُ خزائنَه وأمواله ومتاعَه. قال الزِّياديّ (¬4): قدم برأس الوليد على يزيد عَشَرَة، منهم منصور بن جمهور، ورَوْح بنُ مُقْبل، وعبدُ الرحمن وَجْهُ الفَلْس (¬5)، فأعطى كلَّ واحدٍ منهم عَشَرَة آلافِ درهم. وقال المدائني: كان الوليد صاحبَ لهوٍ وصَيد ولذَّات، فلما وليَ الأمرَ كره (¬6) الأماكن التي يراه الناس فيها، فلم يدخل مدينة من مدائن الشام حتى قُتل. [وقال هشام بن عمَّار -فيما حكاه عنه أبو القاسم بن عساكر (¬7) - إن العباسَ بنَ الوليد قاتل مع الوليد بن يزيد حفظًا لبيعته، فطعنه رجل من أصحاب عبد العزيز، فرماه (¬8) وأخذه أسيرًا إلى عبد العزيز]. وقال يزيد بن خالد القَسْرِيّ: تَرَكْنَا أميرَ المؤمنين مجدَّلًا ... مُكِبًّا على خَيشُومِهِ غيرَ ساجدِ وإنْ تقطعُوا منَّا مَنَاطَ قِلادَةٍ ... قَطَعْنَا بها منكم مَنَاطَ قَلائدِ وإن تَشْغَلُونا عن أذانٍ فإنَّنا ... شَغَلْنَا الوليدَ عن أذانِ الوَلَائدِ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 17/ 934. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) في (ص) و (د): انتهب. وينظر المصدر السابق. (¬4) هو أبو عاصم الزيادي، ونقل الكلام الآتي عن الحكم بن النعمان مولى الوليد بن عبد الملك، كما في "تاريخ" الطبري 7/ 251 - 252. ووقع في (ص): وقال هشام الزِّيادي. (¬5) هو عبد الرحمن بن ميمون بن صَلَّتان، له ترجمة في "تاريخ دمشق" 42/ 52 - 53 (طبعة مجمع دمشق). (¬6) في (ص): جعل يكره، وهو كذلك في "أنساب الأشراف" 7/ 515، والخبر فيه عن المدائني، وفي "تاريخ" الطبري 7/ 231 عن المنهال بن عبد الملك. (¬7) كذا في (ص) (والكلام منها وهو ما بين حاصرتين) ولم أقف عليه عند ابن عساكر، ولعله وهم، وقد سبق مثل هذه الأوهام في هذه النسخة، وهو في "أنساب الأشراف" 7/ 531. (¬8) كذا في (ص)، وجاء بدلها في المصدر السابق: فأرداه عن فرسه.

من أبيات (¬1). [وقال الوليد وأبو معشر وهشام بن محمد: ] قُتلَ الوليد [بن يزيد] يوم الخميس لليلتَين بقيتا من جمادى الآخِرة سنة ستٍّ وعشرين ومئة بناحية من نواحي دمشق. وقيل: بقرية [يقال لها: ] البَخْراء فيها قصرُ النُّعمان بن بشير. وقيل: هي من أعمال ذَنَبَة والمَاطِرُون. واختلفوا في سنِّهِ على أقوال: أحدُها: أنه قُتل وهو ابنُ ثمانٍ وثلاثين سنة (¬2). والثاني: ابنُ ستٍّ وثلاثين سنة. والثالث: ابنُ اثنتين وأربعين سنة. والرابع: ابنُ خمس وأربعين سنة. والخامس: ابنُ إحدى وأربعين سنة. والسادس: ابن ستٍّ وأربعين سنة (¬3). [قلت: وهذا الاختلاف إنَّما نشأ من اختلافهم في مولده. وقد ذكرنا في خلافته؛ منهم من قال: وُلد في اثنتين وتسعين، أو في سنة تسعين، أو سنة أربع -أو خمس- وثمانين] (¬4). ¬

_ (¬1) الأبيات في (خ) و (د)، ولم ترد في (ص)، وهي في "تاريخ" الطبري 7/ 260 - 261، و "تاريخ دمشق" 17/ 937 باختلاف يسير، ولفظ صدر البيت الأخير فيهما: فإن تشغلونا عن ندانا فإننا. والشطر الثاني فيهما وفي "العقد الفريد" 4/ 463 بلفظ: شَغَلْنا الوليدَ عن غناء الولائد. وهو الأشبه. ونسبت الأبيات في هذه المصادر لخلف بن خليفة. (¬2) بعدها في (ص) (والكلام منها): قاله الواقدي، وهو خطأ، وإنما هذا قول هشام الكلبي، والقول بعده للواقدي كما في "تاريخ" الطبري 7/ 253. (¬3) من قوله: واختلفوا في سنه على أقوال ... إلى هذا الموضع؛ لفظُه من (ص)، وجاء في (خ) و (د) مختصرًا، ودون نسبة الأقوال لأصحابها. وينظر المصدر السابق (والكلام منه)، و "أنساب الأشراف" 7/ 537، و"تاريخ دمشق" 17/ 935 - 937. (¬4) ما بين حاصرتين من (ص).

واختلفوا في أيَّامه، فقال أبو معشر: كانت أيَّامُه سنة وثلاثة أشهر. وقال هشام بن محمد: سنة وشهرين واثنين وعشرين يومًا (¬1). [وهذا الاختلاف على حسب ما اختلفوا في بيعته. وقد ذكرتُه هناك] (¬2). وكان له من الولد: عثمان، وأمُّه عاتكة بنتُ عثمان بن محمد [بن عثمان بن محمد] (¬3) بن أبي سفيان بن حَرْب، والحَكَم لأمِّ ولد، وهما اللذان عهد إليهما، فلما قُتل؛ دَخَلَا في سِرْب القصر، فأخَذَهما عبدُ العزيز بنُ الحجَّاج، فأتى بهما يزيدَ بنَ الوليد، فدَفَعهما إلى عمِّهما سليمان، فبقيا عنده أيَّامًا، ثم ردَّهما إلى يزيد بنِ الوليد وقال: قد كَثُرَ اختلافُ الناس إليهما، ولهما بيعةٌ في أعناقهم، وأخافُ الوثوبَ معَهما، فحبسهما يزيدُ في الخضراء في القصر (¬4). وسعيدٌ؛ أمُّهُ أمُّ عبد الملك بنت سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفَّان، والعباسُ، ويزيدُ، وفِهْر، ولُؤيّ، وقُصَيّ، والعاص، وواسط (¬5)، والفتح (¬6)، وذُؤابة، وأمُّ الحجَّاج؛ لأمَّهات أولاد شتَّى. وأمُّ الحجَّاج تزوَّجها محمد بن [يزيد بن] (¬7) الوليد بن عبد الملك، ثم خَلَفَ عليها يحيى بن عبد الله (¬8) بن مروان بن الحكم. وأَمَةُ الله بنتُ الوليد، تزوَّجها عبدُ العزيز بنُ الوليد بن عبد الملك (¬9). ¬

_ (¬1) قوله: واختلفوا في أيامه ... ، لفظُه من (ص)، وجاء في (خ) و (د) مختصرًا. (¬2) ما بين حاصرتين من (ص). (¬3) ما بين حاصرتين من "نسب قريش" ص 167، و "جمهرة أنساب العرب" ص 91. (¬4) أنساب الأشراف 7/ 537. (¬5) في (خ) و (د) (والكلام منهما): وواصل ودولة. أما واصل فهو محرَّف عن واسط، والمثبت من المصادر الثلاثة السابقة و"تاريخ دمشق" 47/ 41 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عثمان بن الوليد). وأما دولة فلم أجد من ذكر ذلك، ووقع في "أنساب الأشراف" 7/ 476: ذؤالة، ولعله محرف عن ذؤابة الآتي. (¬6) في المصادر السابقة: فتح، بدون أل التعريف. (¬7) ما بين حاصرتين من "نسب قريش" ص 167، و"جمهرة أنساب العرب" ص 92 وعبارته: تزوَّجها محمد بن أمير المؤمنين يزيد بن الوليد، وجاء في "تاريخ دمشق" 47/ 41 (الطبعة المذكورة سابقًا): محمد بن يزيد بن محمد بن الوليد بن عبد الملك. (¬8) في "جمهرة أنساب العرب" و"تاريخ دمشق": عُبيد الله. (¬9) ذُكر في المصادر السابقة من أولاد الوليد أيضًا: موسى والوليد. ومن قوله: وكان له من الولد عثمان ... إلى هذا الموضع، لم يرد في (ص).

ابن ميادة الشاعر

ولم يحجَّ الوليد سوى حَجَّةٍ واحدة في سنة ستّ عشرة ومئة، ونَقْشُ خاتَمِه: يا وليد احذر الموت (¬1). وكاتبه العاص (¬2) بن مسلم، وحاجبُه قَطَريّ مولاه، وقاضيه محمد بن صفوان الجُمحي، وعلى شرطته أحمد بن محمد الكلبي (¬3). ذكر جماعة من الوافدين عليه منهم: ابنُ ميَّادة الشاعر واسمه رَمَّاح بنُ أبرد بن ثوبان (¬4)، من بني ذُبيان، وكنيتُه أبو شُرحبيل، وميَّادة أمُّه، وكانت بربريَّة، وقيل: صقلبية، وقيل: فارسية، وإنما سُمِّيت ميَّادة لأنها ركبت بعيرًا ونعست عليه، فجعلت تميد، فقال رجل: مَنْ هذه؟ قالوا. أَمَة؛ اشتراها بنو ثريان، فقال: ما هذه إلا ميَّادة. وكان من المخضرمين، أدرك الدولتين. وذكره الصُّولي فقال: قدم ابنُ ميَّادة على الوليد بن يزيد، فأقام ببابه مُدَّةً، فلم يصل إليه، فكتب إليه: ألا ليتَ شِعْري هَلْ أَبِيَتَنَّ لَيلَةً ... بحرَّةِ لَيلَى حيثُ حلَّ بها أهلي (¬5) وهَلْ أسْمَعَنَّ الدهرَ أصواتَ هَجْمَةٍ ... تَطَالعُ من هَجْلٍ خَصِيب إلى هَجْلِ (¬6) بلادٌ بها نِيطَتْ عليَّ تمائمي ... وقُطِّعْنَ عنّي حيثُ أَدْرَكَني عَقْلِي ¬

_ (¬1) صبح الأعشى 6/ 354. (¬2) كذا في (خ) و (د) (والكلام منهما). وجاء في "النجوم الزاهرة" 7/ 336: العباس. (¬3) لم أقف عليه. وقوله: وكاتبه العاص ... إلخ لم يرد في (ص). ويقارن بما في "تاريخ" خليفة ص 367 - 368. (¬4) كذا في (خ) و (د)، و"الأغاني" 2/ 261، و"جمهرة أنساب العرب" ص 254. وفي (ص)، و"أنساب الأشراف" 7/ 538، ونسخة من "الأغاني" كما في حاشيته: ثريان (وسترد هذه اللفظة بعد سطرين)، وفي "مؤتلف" الآمدي ص 180: شريان، وجاء رسُمها في "تاريخ دمشق" 6/ 279: نونان. والله أعلم. (¬5) كذا في النسخ. والذي في المصادر: رَبَّتَنِي أهلي، أي: رَبَّوْني. (¬6) الهَجْل: المطمئنُّ من الأرض. وسيرد معنى الهجمة.

فإنْ كنتَ عن تلك المواطنِ حابِسي ... فَعَجِّلْ عليَّ الرِّزْقَ واجْمَعْ بها شَمْلِي (¬1) فأمر له بمئة ناقة سوداء الحَدَق، ومئة عِرابي بيضاء (¬2)، ومئة حمراء. [والهَجْمة من الإبل ستون. وحكى الجوهريُّ عن أبي عُبيد قال: الهَجْمة من الإبل ستون، أقلُّها أربعون إلى ما زادت (¬3)، وهُنيدة مئة]. وروى أبو القاسم الحافظ عن عبد الوهَّاب المدائني قال: لما قُتل الوليد بن يزيد رثاه ابنُ ميَّادة فقال: أيا لَهْفي على الملكِ الجوادِ (¬4) ... غداةَ أصابَهُ القَدَرُ المُتَاحُ ألا أبكي الوليدَ فتى قريشٍ ... وأسْمَحَها إذا عُدَّ السَّماحُ لقد فَعَلَتْ بنو مروانَ فعلًا ... قَبِيحًا ما يسوغُ به القَرَاحُ (¬5) فظَلَّ كأنَّه أسدٌ عقيرٌ ... تكسَّرُ في مناكِبِه الرِّماحُ (¬6) [وقال الأصمعي: كان ابنُ ميَّادة يُشبِّبُ بجارية سوداء، فقيل له: ألا تشتريها؟ فقال: إذن يفسد حبُّها] (¬7). ومن شعر ابن ميَّادة قولُه: وإني لِما اسْتَوْدَعْتِ يا أُمَّ مالكٍ ... على قِدَمٍ من عَهْدِنا لَكَتُومُ أَأُخْبِرُ سِرًّا ثم أسْتَكْتِمُ الذي ... أُخَبِّرُهُ إني إذًا لَلَئيمُ (¬8) وقوله: ¬

_ (¬1) في "الشعر والشعراء" 2/ 772: فأفشِ عليّ الرزق واجمع إذن شملي. وفي "الأغاني" 2/ 310: فأيسِر عليَّ ... قال ابن قتيبة: أخذ البيت من المجنون. (¬2) لم أقف على لفظة: عِرابي في المعاجم، وجاء فيها ذِكْر الإبل العِراب، وهي خلاف البخاتّي. (¬3) عبارة "الصحاح" عن أبي عبيد: الهجمة من الإبل أوَّلُها الأربعون إلى ما زادت. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬4) في (ص): المرجَّى. (¬5) القَرَاح من كل شيءٍ: الخالص. يقال: ماءٌ قَرَاح. (¬6) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 538 - 539، و"الأغاني" 2/ 313، و"تاريخ دمشق" 6/ 280 (مصورة دار البشير). (¬7) تاريخ دمشق 6/ 283 (مصورة دار البشير) والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬8) المصدر السابق 6/ 281، ولم يُجوَّد البيت الثاني فيه، ولم يرد البيتان في (ص).

يزيد بن مقسم

فواللهِ ما أَدْرِي أيَغْلِبُني الهَوَى ... إذا جَدَّ جِدُّ البَينِ أمْ أنا غَالِبُهْ فإنْ أستطِعْ أغْلِبْ وإنْ يغلبِ الهَوَى ... فمِثْل الذي لاقَيتُ يُغْلَبُ صَاحبُهْ (¬1) وقال: أشاقَكَ بالقِنْعِ (¬2) الغَدَاةَ رُسُومُ ... دَوَارِسُ أَدْنَى عَهْدِهنَّ قَدِيمُ مَنَازلُ أمَّا أهلُها فَتَحمَّلُوا ... فساروا وأمَّا حُبُّهُمْ فمُقِيمُ ولم تَرَ عَيني مَرْبَعًا مثل مَرْبَعٍ ... عَهِدْناهُ لو كان النَّعيمُ يدومُ (¬3) ومن الوافدين عليه: يزيد بن مِقْسَم ويُعرف بابن ضَبَّة، وهي أمُّه، وهو من أهل الطائف، من أولاد المغيرة بن شعبة. [قال أبو القاسم بن عساكر: ] (¬4) مدحه خمسين بيتًا، فأعطاه خمسين ألفًا، وهو أوَّلُ من عدَّ الأبيات، وأجازَ على كلِّ بيت ألفَ درهم. وكان وفد على هشام لمَّا أفضت إليه الخلاقة مهنِّئًا له مع الشعراء، فمنعه من الإنشاد وقال: عليك بالوليد فامْدَحْه. وبلغ الوليدَ، فأرسلَ إليه بخمس مئة دينار وقال: لو أمِنْتُ هشامًا لمَا فارقتَني، ولكن اخرجْ إلى الطائف، فقد سَوَّغْتُك جميعَ غَلَّتِهِ. فقال: أرى سَلْمَى تَصُدُّ وما صَدَدْنَا ... وغَيرَ صُدُودِها كُنَّا أرَدْنا وقد ضَنَّتْ بما وَعَدَتْ وأَمْسَتْ ... تُغَيِّرُ عَهْدَها عمَّا عَهِدْنا لقد بَخِلَتْ بنائلها علينا ... ولو جادَتْ بنائلها حَمِدْنَا ومنها: ¬

_ (¬1) طبقات الشعراء لابن المعتز ص 108، والأغاني 2/ 352 ولم يرد هذان البيتان في (ص). (¬2) ذكر ياقوت في "معجم البلدان" 4/ 407 عن نصر أن القِنْع جبل وماء لبني سعد بن زيد مناة بن تميم باليمامة. ثم أورد خمسة أبيات، منها هذا البيت والذي يليه، ونسبها لمزاحم العقيلي. (¬3) المصدر السابق، وتاريخ دمشق 6/ 281 (ولم تجوَّد بعض الألفاظ فيه) والمَرْبَع: الوضع الذي يُقام فيه زمن الربيع. ولم ترد هذه الأبيات في (ص). (¬4) وقعت ترجمة يزيد بن ضبَّة ضمن خرم في "تاريخ دمشق". والكلام بنحوه في "الأغاني" 7/ 95 - 99.

سعيد بن عبد الرحمن

وَلِينا الناسَ أزمانًا طِوَالًا ... وسُسْنَاهُمْ ودُسْنَاهُمْ وقُدْنا إذا هابَ الكريهةَ مَنْ يَلِيها ... وأعظَمَها الهَيُوبُ لها عَمَدْنا نَرَى حَقًّا لسائلنا علينا ... فَنَحْبُوهُ ونُنْجِزُ ما وَعَدْنا ونحمي جارَنا ونَراهُ منَّا ... ونَرْفُدُهُ فَنُجْزِلُ ما رَفَدْنا وما نعتدُّ دونَ المَجْدِ مالًا ... إذا يُغْلَى بمكرمةٍ أَفَدْنا فأثَّلَ مَجْدَنا أنَّا كرامٌ ... بحَدِّ المَشْرَفيَّةِ عنه ذُدْنا من أبيات. فلما وليَ الوليدُ دخلَ عليه، فأكرمَه وأدناه، وقال: هذا طريدُ الأحول؛ لصحبته إيَّاي. ثم نادَمَه ومَدَحَه بقصائد. وقال ابنُ ضَبَّة ألفَ قصيدة، اقتسمتها شعراء العرب فانتحَلَتْها، وعاش حتى أدركَه الأصمعي، وهو مخضرم (¬1). ومنهم: سعيد بن عبد الرحمن ابن حسان بن ثابت الأنصاري [ذكره أبو الفرج الأصبهاني (¬2). وقال أبو القاسم الحافظ: وسعيد هذا شاعرٌ ابنُ شاعر ابن شاعر (¬3)، وكنيتُه أبو عبد الرحمن. وذكره ابنُ سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة. قال: وأمُّه أمُّ ولد، وكان له من الولد: الفَرْعَة وفاطمة] (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف في هذه الترجمة: الأغاني 7/ 95 - 103. وجاءت الترجمة في (ص) مختصرة جدًّا، فمن قوله: لما أفضت إليه الخلافة مهنئًا ... إلى هذا الموضع، ليس فيها. (¬2) في "الأغاني" 8/ 269. (¬3) تكررت لفظة "ابن شاعر" في (ص) (والكلام منها) أربع مرات، والمثبت من "تاريخ دمشق" 7/ 291 (مصورة دار البشير). (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 418. وقوله: ذكره أبو الفرج ... إلخ (وهو ما بين حاصرتين) من (ص).

الغريض المغني

وأنشده (¬1): أبائنةٌ سُعْدَى ولم تُوفِ بالعَهْدِ ... ولم تَشفِ قلبًا تَيَّمَتْهُ على عَمْدِ سقَى اللهُ ذاك الغَوْرَ ما سَكَنَتْ به ... ونَجْدًا إذا صارَتْ نَواها إلى نَجْدِ وقد قُلْتُ إذْ أَهْدَتْ إلينَا تحيَّةً ... عليها سلام اللهِ من نازحٍ مُهْدِي من أبيات. ودموعُ الوليد تَتَحادَرُ على خدَّيه، ثم وصله بمالٍ كثير (¬2)، وأحسن جائزتَه وقد انقرض نسل حسان [بن ثابت]- رضي الله عنه -، فلم يبق منهم أحد. [وكان سعيد قليل الحديث شاعرًا] ومنهم: الغَرِيض المغنّي ذكره أبو الفرج الأصبهاني، وكنيتُه أبو يزيد، وقيل: اسمُه كنيتُه. وكان حاذقًا في الغناء والنَّوْح، وكان مولى الثُّريَّا (¬3) وأختها، وكان ظريفًا حُلو الشمائل، مليح الصوت. أسْلَمَتْه الثُّريَّ 4 اإلى ابن سُريج المغنِّي ليُعلِّمه الغِناء، فخافَ أن يظهرَ عليه، فلم يقبله، فتعلَّم النَّوْحَ، ففتَن النساء. وقال الزُّبير بن بكَّار: حججتُ ومعنا الغَرِيض، فغنَّى بأبيات عمر بن أبي ربيعة، وهي هذه الأبيات: أيها الراكبُ المُجِدُّ ابتكارا ... قد قضى من تهامةَ الأوطارا إن يكن قلبُك الغداةَ خَلِيًّا ... ففؤادي بالغَوْر أَمْسَى مُعارا فلم يبق في الحجّ إلا من بكى وطرب. قال: وماتت مولاتُه الثُّريَّا، فخرج بين عمودَي سريرها يبكي وينوح ويقول: ¬

_ (¬1) أي أنشد الوليدَ. (¬2) الأغاني 8/ 269 - 271 وما سيرد بين حاصرتين من (ص). (¬3) الثُّريَّا هي بنت علي بن عبد الله، صاحبة عمر بن أبي ربيعة الشاعر.

طريح بن إسماعيل

ألا يا عَينُ ما لكِ تَدْمَعِينا ... أمِنْ جَزَعٍ بَكَيتِ فتَعْذُرِينا أمَ أنتِ مصابةٌ تبكين شَوْقًا ... وشَجْوُكِ مثلُه أَبْكَى العيونا فبكى الناس والجنُّ، وكانت الجنُّ قد نَهَتْهُ عن النَّوْح، وهَرَبَتْ من الحرم إلى تِهامة من نوْحِه، فلم ينته، فلَوَوْا عُنقَه، فمات (¬1). ومنهم: طُرَيح بن إسماعيل ابن سعيد بن عُبيد، أبو الصَّلْت الثقفي. قال يمدح الوليد: لو قلتَ للسَّيلِ دَعْ طَرِيقَكَ والْـ ... ـمَوْجُ عليه كالهَضْبِ يَعْتَلِجُ من أبيات (¬2). ومنهم: ابنُ عائشة واسمُه محمد بن جعفر [أبو جعفر المدني، ذكره أبو الفرج الأصبهاني، قال (¬3): ولم يُعرف له أب، وكان يزعم أن اسم أبيه جعفر، وأمُّه عائشة مولاة كثير بن الصلت الكِنْدي حليف قريش، وقيل: مولاة المطّلب بن وَدَاعة السَّهْميّ]. كان حاذقًا في الغِناء، وفد على الوليد ونادَمَه. صعد يومًا إلى سطح قصرِ ذي خُشُب (¬4)، وغَنَّى، فطَرِبَ [ومشى على الشُّرُفات] فوقع فمات (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "الأغاني" 2 / ص 259 وما بعدها، و"تاريخ دمشق" 19/ 257. (¬2) الأغاني 4/ 316، وتاريخ دمشق 8/ 507 (مصورة دار البشير) وسلفت الأبيات آخر فقرة حديث سلمى وسعدى. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) الأغاني 2/ 203. (¬4) ذو خُشُب: واد على مسيرة ليلة من المدينة. معجم البلدان 2/ 372. (¬5) تاريخ دمشق 61/ 241 (طبعة مجمع دمشق). وثمة روايات أخرى في وفاته ذكرها الأصبهاني في "الأغاني" 2/ 237 - 235.

الحسين بن عبيد الكلابي

ومنهم: الحُسين بن عُبيد الكلابي قال ابنُ عساكر: خرج الوليد يتصيَّد ومعه الحُسين الكلابي، فانقطعا عن الناس، وتعالى النهار، وجاع الوليد، فمالا نحو قوية، فوجدا رجلًا في مبقلة، فاستطعماه، فجاء بخبز شعير، ورُبَيْثا (¬1) وزيت وكُرَّاث، فأكلا، فقال الحسين: إنَّ مَنْ يُطْعِمُ الرُّبَيثا مع الزَّيـ ... ـتِ (¬2) بخبزِ الشَّعيرِ والكُرَّاثِ لَحَقِيقٌ بلَطْمةٍ أو بِثِنْتَيـ ... ـنِ لِقُبْحِ الصَّنِيعِ أو بثلاثِ فقال له الوليد: اسكُتْ قبَّحكَ الله، فإنَّ الجودَ بَذْلُ الموجود، ألا قلتَ: بِبَدْرَةٍ أو بِثِنْتَينِ؟ ! ثم لحقهما العسكر، فأمر الوليدُ للرجل بثلاثِ بِدَر (¬3). قال هشام: لما قُتل الوليد غضب أبو محمد زيادُ بنُ عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب السُّفيانيّ، وسار إلى حمص، وبها مروان بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وكان عاملَ الوليد عليها، وهو من سادات بني أُميَّة، فاتفقا على طلب ثأر الوليد، ووافقَهما أهلُ حمص على قتال يزيد بن الوليد بدمشق. فاختلف السُّفْيانيُّ ومروان، فقال السُّفيانيّ: يا أهل حمص، إن مروانَ يُثَبِّطُكم عن الطلب بدم الوليد المظلوم، فثارُوا على مروان فقتلوه، وحملوا رأسَه على قناة إلى السُّفْيانيّ، فعزَّ عليه وقال: واللهِ ما أرَدْتُ هذا. فبايَعوه، وخرج من حمص، فنزل جُوسِيَة (¬4) بين حمص وبَعْلَبَكّ، وكانت حِصْنًا من حصون دمشق، فبعث إليه يزيدُ بنُ الوليد سليمانَ بنَ هشام، وعبدَ العزيز بنَ الحجَّاج، ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): وزبيبًا (وهو تحريف) والمثبت من "أنساب الأشراف" 7/ 512، و"تاريخ دمشق" 5/ 6 (مصورة دار البشير). ووردت القصة في "تاريخ" الطبري 8/ 174 في المهديّ وعمر بن بزيع، وذكر محقِّقُه أنه جاء في حاشية إحدى النسخ أن الرُّبَيثاء نوع من الصِّحْنَاة. اهـ. والصِّحناة (أو الصِّحناء) إدام يُتَّخَدُ من السمك الصغار المملّح، كما في "المعجم الوسيط". وجاء اسم الرُّبَيثاء في "الموشَّى" ص 191 في باب ذكر زيّ الظرفاء من الطعام. (¬2) في "أنساب الأشراف" 7/ 512، و"تاريخ" الطبري 8/ 174: الرُّبَيثاء بالزيت. (¬3) المصادر السابقة. والبِدَر جمع البَدْرَة، وهي كيس فيه مال. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬4) من قُرى حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق. معجم البلدان 2/ 185.

يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

فنزلا ثَنِيِّة العُقَاب (¬1)، وجاء السُّفياني، فنزلَ القُطَيفَة (¬2) -وتُعرفُ بقُطَيفة هشام بن عبد الملك لأنه هو الذي اتَّخذَها- والتَقَوْا، فخذلَ السُّفيانيَّ جندُه، فأخذوه أسيرًا وجاؤوا به إلى يزيد بن الوليد، فحبسَه مع الحكم وعثمان ابْنَي الوليد حتى كان من أمره ما كان، وسنذكرُه إن شاء الله تعالى (¬3). وقال المصنِّف رحمه الله: وقد رُويَ في الوليد حديثٌ: فقال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدَّثنا أبو المغيرة، عن ابنِ عَيَّاش-وهو إسماعيل- عن الأَوْزاعيّ، عن الزُّهْرِيّ، عن ابن المسيِّب، عن عمرَ بنِ الخطاب رضوان الله عليه قال: وُلد لأخي أمِّ سَلَمة غلامٌ، فَسَمَّوْه الوليد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سمَّيتُموه باسم فَراعِنَتِكم، ليكونَنَّ في هذه الأمة رجلٌ يقال له: الوليد، لَهُوَ شَرٌّ على هذه الأمَّةِ من فرعون على قومه". قال الأوزاعيّ: فكان الناسُ يَرَوْنَ أنَّه الوليدُ بنُ عبد الملك، حتى قام الوليد بنُ يزيد، فرأينا أنَّه هو. وقد تكلَّموا في هذا الحديث، وذكره الشيخ جمالُ الدين بنُ الجوزيّ رحمه الله في "الموضوعات" والله أعلم (¬4). وفيها توفي يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان قد ذكرنا قيامه على الوليد بن يزيد وقتلَه إيَّاه. فقال أبو أحمد الحاكم: وليَ الخلافة بعد الوليد بن يزيد ستة أشهر؛ لأنه بُويع في جمادى الآخرة. ¬

_ (¬1) هي ثَنِيَّة (طريق في الجبل) مشرفة على غوطة دمشق يطؤها القاصد من دمشق إلى حمص. معجم البلدان 2/ 85. (¬2) هي قرية دون ثنيَّة العُقاب للقاصد إلى دمشق من ناحية حمص (وينظر التعليق السابق). معجم البلدان 4/ 378. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 550 - 551. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬4) مسند أحمد (109)، والموضوعات (665). وقال ابن حبَّان في "المجروحين" 1/ 125: هذا خبر باطل.

وقال الواقدي: توفي في سلخ ذي القَعْدَة. وقيل: سلخَ ذي الحِجَّة. وقال أبو معشر: مات يوم الأضحى بالطاعون في الخضراء بدمشق، فكانت ولايتُه ما بين خمسة أشهر إلى ستة أشهر، لم يُمَتَّع بالدنيا، وتغلَّب عليه المتغلِّبون. وقال هشام: وليَ ستة أشهر وأيامًا. وقيل: خمسة أشهر واثني عشر يومًا. واختلفوا في سنِّهِ، وهو على مقدار اختلافهم في مولده: فقيل: إنه وُلد في سنة ستّ وتسعين، فيكون له اثنتان وثلاثون سنة. وقيل: ستة وثلاثون. وقيل: جاوز أربعين سنة. والأصحُّ أنه لم يجاوز الأربعين. وصلَّى عليه أخوه إبراهيم بنُ الوليد القائم بعده، ودُفن بين باب الجابية والباب الصغير، وقيل: بباب الفراديس. وقال ابنُ قُتيبة: قد ذُكر في الكتب المتقدِّمة بحُسْن السيرة، ففي بعضها: يزيد بن الوليد سجَّاد بالأسحار، ولايتُهُ رحمة، ووفاتُهُ نِقْمَة. وقال الواقدي: مات سنة سبع وعشرين ومئة. وهو وهم. قال الواقدي: ومات بعده أخوه العبَّاس بن الوليد من جراحة جُرِحَها يومَ قاتلَ عن الوليد بن يزيد. وكانت وفاتُه بالقَسْطَل معتزلًا للناس. وكان نقش خاتمه: الملك لله وحدَه. وقال هشام: كان أسمر طُوالًا جميلًا، بخدِّهِ خالٌ. وهذا ما انتهى إلينا، والله أعلم، رحمه الله تعالى (¬1). ¬

_ (¬1) هذه الترجمة؛ لفظُها من (ص)، وجاءت في (خ) و (د) مختصرة ودون نسبة الأقوال إلى أصحابها. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 540 - 547، و"تاريخ" الطبري 7/ 298 - 299. ووقعت ترجمة يزيد بن الوليد ضمن خرم في "تاريخ دمشق".

السنة السابعة والعشرون بعد المئة

وكان ليزيد بن الوليد من الولد: أبو بكر، وعبد المؤمن، وعليّ؛ أمُّهم كلبيَّة، وعبدُ الله؛ لأمِّ ولد، وخالد، والوليد؛ قَتَلَهما مروان لمَّا أسَرَهما (¬1). وكان عامل يزيد على العراق عبدُ الله بنُ عمر بن عبد العزيز، وعلى مكة والمدينة عبدُ العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفَّان (¬2)، وعلى مصر إبراهيمُ بنُ عمر بن عبد العزيز. وقيل: ولَّاه مصر، فلم يقبل (¬3). وكاتبُه ثابت بن سليمان (¬4)، وحاجبه قَطَن مولاه (¬5)، وقاضيه عثمان بن عمرو بن موسى التميمي (¬6). السنة السابعة والعشرون بعد المئة وفيها سار مروان إلى الشام يطلب ثأر الوليد بن يزيد، وقيل: إنما قصد خلع إبراهيم بن الوليد والبيعةَ لنفسه. وكان مروان مُقيمًا بحَرَّان وله الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وإلى باب الأبواب. فسار في جند الجزيرة، وخلَّف ابنَه عبدَ الملك بحرَّان -وقيل: بالرَّقَّة- في أربعة آلاف (¬7)، فلما وصل إلى قِنَسْرين؛ كان بها بِشْر ومسرور ابنا الوليد، ويزيدُ بنُ عُمر بن هُبيرة في القَيسيَّة، فخرج إليه بِشْر ومسرور، فقَاتَلاه، فمالت القَيسيَّة إلى مروان ويزيد بن عمر بن هُبيرة (¬8)، وأسلموا بِشْرًا ومسرورًا إلى مروان، فحبسهما بعد أن فضَّ جمعهما. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 541. (¬2) في المصدر السابق 7/ 546: عبد العزيز بن عُمر بن عبد العزيز. وجاء في "تاريخ" خليفة ص 370 (السنة 126) أن يزيد ولَّى عبد العزيز بن عبد الله بن عَمرو بن عثمان بن عفَّان مكة والمدينة والطائف، ثم عزله وولَّاها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 546. (¬4) جاء ذكره في المصدر السابق 7/ 545 ضمن سياق خبر. (¬5) ذُكر في "تاريخ" خليفة ص 369 في خبر ولاية إبراهيم أخي يزيد. (¬6) جاء في المصدر السابق ص 371 أن يزيد استقضى عثمان بن عمر التيمي على المدينة. (¬7) في "تاريخ" الطبري 7/ 300: أربعين ألفًا. (¬8) عبارة الطبري: "ودعاهم مروان إلى مبايعته، فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة في القيسية". اهـ. وبشر: هو أخو يزيد بن الوليد، كان قد ولَّاه يزيد قِنَسْرِين.

وخطب قبل لقائهما وقال. أمري مثلُ [أمر] معاوية حين طلب بدم الخليفة المظلوم عثمان، فانهضوا إلى هذا القَدَريّ الغَيلانيّ -يعني إبراهيم أخا يزيد- فإنهما ابتزَّا على الخلافة من غير مشورة من المسلمين ولا رِضًا، فإنَّ جهادَهم واجب. ولقد كنتُ على عزم أن أُجاهدَ أخاه القَدَريَّ الغَيلاني، فسبقَني أجلُه، وصار إلى نار تَلَظَّى، فإنَّه كان مبتدعًا ضالًّا (¬1). وكان مروان في ثلاثين ألفًا. وقيل: إن بِشْرًا ومسرورًا كانا بدمشق، فبعث بهما أخوهما (¬2) إلى لقاء مروان في جمع كثير، فأسرهما، وغنمَ عسكرَهما، وقتلهما. وقيل: اسمهما خالد والوليد (¬3). وسار مع مروان أهلُ قِنَّسْرين وحمص (¬4). وكان أهل حمص قد امتنعوا من بيعة إبراهيم وعبد العزيز [بن الحجَّاج] فبعث إليهم إبراهيمُ عبدَ العزيز بنَ الحجَّاج في جند دمشق. وأغذَّ مروان السير إلى حمص، فلما قرُبَ منها رحلَ عبدُ العزيز عنها، وخرج أهلُها إلى مروان، فبايعوه. وجهَّزَ إبراهيمُ سليمانَ بنَ هشام بن عبد الملك في مئة ألف وعشرين ألفًا، فخرجَ على البِقاع، فنزل عين الجَرّ (¬5)، وأقبلَ مروانُ في ثمانين ألفًا، فنزل قريبًا من سليمان، وراسله في الكفِّ عن قتاله، وأن يُخَلُّوا عن الحَكَم وعثمان ابْنَي الوليد -وهما ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 548. (¬2) يعني إبرإهيم بن الوليد. وينظر المصدر السابق. (¬3) لم يُذكر الوليدُ من إخوة يزيد بن الوليد، فليس للوليد بن عبد الملك ولد اسمه الوليدُ، وجاء في "أنساب الأشراف" 7/ 541 أن خالدًا والوليد ابني يزيد قتلهما مروان حين أسرهما. (¬4) كذا في (خ) و (د) (والكلام منهما). والصواب: الجزيرة، بدل: حمص، كما في "تاريخ" الطبري 7/ 300. وبعد أن قرُب مروان من حمص، رحلَ عبد العزيز بن الحجاج عنها -كما سيرد- وسار مروان عندئذ بالجميع (أهل الجزيرة وقنسرين وحمص) يريد إبراهيم بن الوليد. ينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 7/ 548. (¬5) واسمها الآن: عنجر.

محبوسان في الخضراء بدمشق- وضَمِنَ مروانُ عنهما ألا يُؤاخِذَا مَنْ قتلَ أباهما [وألا] (¬1) يطلبا أحدًا ممَّن تولَّى قَتْلَه، فأبى سليمان عليه، وقاتلَه أيَّامًا. فلما كان في بعضها وقد اقتتلوا من حين ارتفاع النهار إلى العصر وقد استحرَّ القتل بينهما، وكثُرت الجراحات في الفريقين، وبين العسكرين نهرٌ جرَّارٌ -وهو الذي يجري في البِقاع بين جبلين- فرتَّب مروان جماعةً من أصحابه وقال: ارتفعوا عنا ناحية الجبل، فاقطعُوا الأشجار، واعملُوا جسورًا واعبُرُوا عليها. وكانوا عَشَرَة آلاف، ففعلوا ذلك، وقطعوا النهر، فلم يشعر بهم سليمانُ إلا وقد خالطُوا عسكرَه وهو مشغول بالقتال من ناحية النهر، فانكسروا وانهزموا إلى دمشق، وقُتل منهم نحو من ثمانية عشر ألفًا، وأُسر مثلُهم، وغنمَ مروانُ ما في عسكرهم، وأخذَ البيعةَ للحَكَم وعثمان على الأُسارى، وأعطى كل واحد منهم دينارًا دينارًا (¬2). وكان في جملة المنهزمين إلى دمشق مع سليمان يزيدُ بنُ خالد بن عبد الله القَسْريّ، وأصبحوا بدمشق، وسار مروان في إثرهم. فلما قرب من دمشق؛ اجتمع الذين باشروا قتل الوليد إلى إبراهيم وعبد العزيز ويزيد بن خالد، وقالوا: إن بقيَ الغلامانِ في الحبس حتى يَقْدَمَ مروان ويصيرَ الأمر لهما؛ لم يستبقيا أحدًا من قَتَلَةِ أبيهما، فالرأُيُ أن نقتلَهما. وولَّوْا ذلك يزيدَ بنَ خالد القَسْريَّ (¬3). وكان معهما في الحبس أبو محمد السُّفياني، ويوسفُ بنُ عمر، فأرسل يزيدُ بن خالد مولًى له يُكنى أبا الأسد في عِدَّة من أصحابه، فدخلَ السجن، فشدخَ الغلامَين بالعُمُد، وأخرجَ يوسفَ بنَ عمر، فضربَ عنقَه، وقصدُوا السفيانيَّ ليقتلوه، فدخل بيتًا صغيرًا، وأغلق بابَه، وألقى عليه الوسائد، واعتمد على الباب، فلم يقدروا على فتحه، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 7/ 301. (¬2) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 301 مع اختلاف في الأرقام الواردة فيه. (¬3) المصدر السابق 7/ 301 - 302، وتاريخ دمشق 5/ 240 - 241 (مصورة دار البشير- ترجمة الحكم بن الوليد). وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 549، و"تاريخ دمشق" 47/ 40 - 41 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عثمان بن الوليد).

فدَعَوْا بنار ليُحرقوه، فلم يُؤْتَوْا بها، حتى قيل: قد داخلت خيلُ مروان دمشق، فهربَ إبراهيم، ونهبَ سليمانُ بيتَ المال، وقسَّمه في الجُند، وخرج هاربًا (¬1). وثارَ مَن بدمشق من موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجَّاج، فنهبوها -وقيل: إنهم قتلُوه بها- ونبشُوا [قبر] يزيد بن الوليد، وصلبُوه على باب الجابية (¬2). ودخل مروان دمشقَ، وجيء بالغلامَين مقتولَين مشدوخَين، فأمر بدفنهما، وأُتيَ بالسُّفياني يَرْسُفُ في قيوده، فسلَّم على مروان بإمرة المؤمنين -وهو يومئذ يُسَلَّم عليه بالإمرة- فقال له: مَهْ، ما هذا؟ قال: إن الحَكَم وعثمان جعلاها لك بعدَهما، وأنشدَه شعرًا قاله الحَكَم في السجن، وهو: ألا مَن مُبْلِغٌ مروانَ عنِّي ... وعَمِّي الغَمْرَ طال بِذا حَنِينا بأنّي قد ظُلِمْتُ وصارَ قومي ... على قَتْلِ الوليدِ مُشايعينا أيذهب كلُّهم بدمي ومالي ... فلا غَثًا أُصِيبُ (¬3) ولاسَمِينا ومروانٌ بأرضِ بني نِزارٍ ... كليثِ الغابِ مفترشٌ عَرِينا ألا يَحْزُنْك قتلُ فتى قريشٍ ... وشَقُّهُمُ عِصِيَّ المسلمينا ألا واقْرَ السلامَ على قُريشٍ ... وسكانِ الجزيرةِ أجمعينا وسارَ (¬4) الناقصُ القَدَريُّ فينا ... وألقَى الحَرْبَ بين بني أبينا أتُنْكَثُ بَيعَتي من أجلِ أُمِّي ... فَقْد بايَعْتُمُ قَبْلي هَجِينا ولو شَهِدَ الفوارسُ من سُلَيمٍ ... وكعبٍ لم أكُنْ لهُمُ رَهِينا فليتَ خَؤُولتي في غير كلبٍ ... وكانت في ولادتهم حزينا (¬5) ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 302. ومن قوله: يطلبُ ثأر الوليد بن يزيد (أوّل أحداث هذه السنة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) تاريخ الطبري 7/ 311 وما سلف بين حاصرتين منه. ولفظ (ص): "وثار من دمشق من موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فنهبوها، ونبشوا يزيد بن الوليد، وقيل: إنهم قتلوا عبد العزيز بها وصلبوه على باب الجابية". (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 311، و"الكامل" 5/ 323: أصبتُ. (¬4) في "تاريخ" الطبري: وساد. (¬5) في المصدر السابق: وكانت في ولادة آخرينا.

فإنْ أَهْلِكْ أنا ووَلِيُّ عَهْدي ... فمروانٌ أميرُ المؤمنينا وكان الحَكَم ابنَ أَمَة، ويزيدُ الناقصُ ابنَ أمة، وقد بايعوه. فلما أنشده السُّفياني الشِّعر؛ قال له: مُدَّ يَدَك. فبايَعَه، وبايعَه الناس. وجيء بيزيد بن خالد، وعبد العزيز بنِ الحجَّاج، فصلَبَهما على باب الجابية بالحَكَم وعثمان (¬1). وطلبَ إبراهيمُ بنُ الوليد وسليمانُ بنُ هشام منه الأمانَ، فأمَّنَهُما، وحضرا فبايعاه. وقيل: بعد انفصاله من دمشق طلب منه إبراهيم وسليمان الأمان، فأمَّنَهما، وكان سليمان بتدمر فيمن معه من إخوته ومواليه وأهله، فقدموا عليه، فبايعوه، وأحسنَ إليهم (¬2). وانقضت أيام إبراهيم، وكانت سبعين يومًا، وقيل: أربعة أشهر وعشرة أيام، وقيل: تسعين ليلة، وقيل: أربعين، والأوَّل أصحّ (¬3). وقُتل إبراهيم يومَ الزَّاب مع مروان، قتلَه أبو عون، وقيل: غرق في الزَّاب. وقيل: قتلَه مروان قبل الزَّاب. وقيل: قتلَه عبد الله بنُ عليّ (¬4). وكان أبيضَ جميلًا مقبولَ الصورة، سمع الزُّهْريَّ وغيرَه (¬5). وكان حاجبُه وَرْدان مولاه، وقاضيه عثمان بن عمر التيمي، ونَقْشُ خاتمه: إبراهيم يثقُ بالله (¬6). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 7/ 550. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 312. (¬3) أنساب الأشراف 7/ 550، وتاريخ الطبري 7/ 299. وينظر "تاريخ دمشق" 2/ 558 - 559 (مصورة دار البشير). (¬4) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 550، و "مروج الذهب" 6/ 32، و"وفيات الأعيان" 1/ 443، و"تاريخ دمشق" 2/ 557 (مصورة دار البشير). (¬5) تاريخ دمشق 2/ 557 و 558. (¬6) المصدر السابق 2/ 558. وجاء في "صبح الأعشى" 6/ 354 أن نقش خاتمه: توكلت على الحي القيوم. ومن قوله: ودخل مروان دمشق وجيء بالغلامين (قبل الأبيات) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

الباب الرابع عشر في ذكر مروان [بن محمد بن مروان] بن الحكم

الباب الرابع عشر في ذكر (¬1) مروان [بن محمد بن مروان] بن الحَكَم [وكنيتُه] أبو عبد الملك، وأمُّه لُبانة (¬2) جارية إبراهيم بن الأشتر، أخذها أبوه يوم قُتل إبراهيم. وقيل: إنه لما أخذها كانت حاملًا من إبراهيم بمروان. واختلفوا فيها، فقال المدائني: كانت عربيَّة، وقال غيره: كرديَّة، وقيل: روميَّة. وقال الهيثم: أخذها محمد وهي حامل من طبَّاخ لمصعب بن الزُّبير يقال له: زربا (¬3). وقال المسعودي: اسمها طروبة، ويقال لها: رَيَّا (¬4). [ذكر صفته]: قال هشام: كان مروان طُوالًا أحمر أزرق، أهدل الشفة، أبيض الرأس واللحية، لا يغيِّر شَيبَه، جوادًا سمحًا شجاعًا. [وكان] يلقَّب بحمار الجزيرة (¬5)، لأنه كان حمارَ الحرب، وكان له مهر يقف تحته في الحرب يومًا وليلة لا يبول ولا يروث. وكان من خطباء بني أمية وفصحائها، قد دوَّخ بلاد الخَزَر، وباب الأبواب، وله الوقائعُ المشهورة. ¬

_ (¬1) في (ص): فصل في ذكر ... (¬2) في "تاريخ دمشق" 67/ 2 (طبعة مجمع دمشق): لُبابة. وفي حاشيته: لبانة (نسخة). (¬3) في "أنساب الأشراف" 7/ 561: زربي، وفي "العقد الفريد" 4/ 468: رُزبا. (¬4) من قوله: واختلفوا فيها ... إلى هذا الموضع، سياقتُه من (ص)، ووقع الكلام في (خ) و (د) دون نسبة الأقوال لقائليها. وينظر ما سبق في "أنساب الأشراف" 7/ 561، و"تاريخ" الطبري 7/ 442 - 443، و"مروج الذهب" 6/ 46 - 47، و"تاريخ دمشق" 67/ 2 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) ينظر "أنساب الأشراف" 3/ 179 و 218 و 7/ 574، و"تاريخ" الطبري 7/ 443، و"العقد الفريد" 4/ 468، و "تاريخ دمشق" 67/ 10 (طبعة مجمع دمشق).

وكان يلقَّب بالجعديّ؛ لأن الجَعْد بن درهم كان مُؤدِّبَه، لكنه ما كان يرى اعتقاده (¬1). ووُلد سنة اثنتين وسبعين، وقيل: سنة ستٍّ وسبعين. [ذكر بيعته: قال علماء السير: ] بويعَ لأربعَ عشرةَ ليلةً خلت من صفر سنة سبع وعشرين ومئة، ولما بُويع جمعَ القبائل والأشراف وأهل الأردنّ وغيرهم، وأكَّد عليهم العهود والمواثيق، وانصرف إلى منزله بحرَّان (¬2). وفيها دعا عبدُ الله بنُ معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى نفسه بالكوفة، وحارب عبدَ الله بنَ عُمر بنِ عبد العزيز، فهزمه عبدُ الله بنُ عمر إلى الجبال، فغلب عليها (¬3). قال أبو مِخْنَف: قدم عبد الله بن معاوية الكوفةَ (¬4) زائرًا لعبد الله بن عُمر وملتمسًا صلتَه، وليس في عزمه الخروج، فتزوّجَ ابنة حاتم بن الشرقي بن عبد المؤمن بن شَبَث بن ربعيّ، فلما قُتل الوليد ووقعت الفتنة في الشام وفي خُراسان بين نصر والكِرْمانيّ قال له أهل الكوفة: قد انتقض حبل بني مروان، وأنتم أحقُّ بالخلافة منهم. فدعا بالكوفة سرًّا وعبدُ الله بنُ عُمر بالحِيرَة، وبايعَه جماعة، منهم ابن ضَمْرة الخُزاعي، وبلغ عبدَ الله بنَ عمر، فبعث إلى ابن ضَمْرة، فأرضاه، فقال: إذا التقينا تخلَّيتُ عنه. ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 67/ 10: يقال له: مروان الجعدي، نُسب إلى رأي الجعد بن درهم. (¬2) في (ص): بحوران، وهو خطأ. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 312. وجاء في (ص) بعده قوله: وقيل: إن بعد انفصاله من دمشق طلب منه إبراهيم وسليمان الأمان فأمَّنهما ... إلى آخر الفقرة التي سلفت قريبًا قبل ذكر مروان بن محمد. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 302. ولم يرد في (ص) الكلام الآتي بعده (وفيه تفصيل الخبر برواياته) حتى قوله: وفيها أظهر الخلاف الحارث بن سُريج ... (¬4) أورد الطبريُّ هذا الخبر بإسناده إلى عاصم بن حفص التميمي، وليس عن أبي مخنف، وقد أورد عن أبي مخنف قولًا قبله.

وجاء عبد الله بنُ عُمر من الحِيرة، وخرج إليه عبدُ الله بنُ معاوية فيمن بايعه من الشيعة، فالتَقَوْا بين الكوفة والحِيرَة، فانهزم الناس معه، وبقي ابن معاوية وحدَه، فقال: تَفَرَّقَتِ الظِّباءُ على خِراشٍ ... فما يدرى خِراشٌ (¬1) ما يَصِيدُ ثم عاد إلى الكوفة، وخرج إلى المدائن، وتبعَه قوم من أهل الكوفة، فمضى إلى الجبال وحُلوان، فغلب عليها وعلى هَمَذَان، وأصبهان والرّيّ، وخرج إليه عَبيدُ أهل الكوفة، وقال: ولا يُعجِبَنَّك قولُ امْرِئٍ ... يُخالفُ ما قال في فِعْلِهِ (¬2) وقال أبو عبيدة مَعْمَر: قدمَ عبدُ الله والحسنُ ويزيدُ بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر على عبد الله بنِ عُمر بنِ عبد العزيز وهو عامل على الكوفة، فنزلُوا في دار مولًى لهم يقال له: الوليد بن سعيد، فأكرمَهم ابنُ عمر. وأجازهم، وأجرى عليهم في كلّ يوم ثلاث مئة درهم. فبينما هم كذلك مات يزيد الناقص، وبايعَ الناسُ أخاه إبراهيمَ، ومِن بعدِه لعبد العزيز بن الحجَّاج، وقُدم ببيعتهما على عبدِ الله بنِ عُمر وهو بالكوفة، فندبَ الناسَ إلى بيعتهما، فبايعوا، فبينا هم على ذلك؛ ورد الخبر أن مروان قد سار من الجزيرة إلى الشام، وأنه امتنعَ من بيعة إبراهيم وعبدِ العزيز، فزاد ابنُ عُمر عبدَ الله بنَ معاوية على ما كان يُجريه عليه، واحتبسَه عنده، وأعَدَّهُ لمروان إن ظهرَ على إبراهيم يبايعُه (¬3) ويقاتل به مروان. وماجَ الناسُ في الفتنة. ولمَّا ظهر مروانُ على إبراهيم قدم الكوفةَ إسماعيلُ بنُ عبد الله القَسْري أخو خالد هاربًا من مروان -وكان في عسكر إبراهيم- وافتعل كتابًا على لسان إبراهيم بولاية الكوفة، وأخبر اليمانيَّة بذلك سرًّا أنَّ إبراهيم ولَّاه الكوفةَ والعراق. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 303، و"الأغاني" 12/ 229: خداش (في الموضعين). (¬2) تاريخ الطبري 7/ 303. وينظر "الأغاني" 12/ 228 - 232. (¬3) في "أنساب الأشراف" 7/ 164، و"تاريخ" الطبري 7/ 304: ليبايع له.

وبلغ الخبرُ عبدَ الله بنَ عمر، فبَاكَرَهُ الغَداةَ، فقاتلَه ومعه عُمر بنُ الغضبان، فلما رأى إسماعيلُ الغَلَبَة، وأنه ليس معه عهدٌ صحيح، وأن إبراهيم قد هربَ واختفى من مروان؛ خاف أن يتَّضحَ أمرُه فيفتضحَ ويُقتل، فقال لليمانيَّة: إني كارهٌ سَفْكَ الدماء، فكُفُّوا أيديَكم، فتفرَّقُوا عنه. فذكر إسماعيل لأهل بيته أنَّ مروان دخلَ دمشق وهربَ إبراهيم، فانتشرَ ذلك في الكوفة فاشْرأَبَّ الناس للفتنة، ووقعت العصبيَّةُ بينهم. وسببُه أنَّ ابنَ عمر فَضَّلَ ربيعةَ ومُضر في العطاء علي بني تميم (¬1)، فاختلفوا، وثارت الفتنة، وطمعت الشيعة حين رأت الناس قد صاروا فئتين، فدَعَوا ابنَ معاوية إلى البيعة، وأدخلوه المسجد (¬2)، ووليَ ذلك هلالُ بنُ أبي الوَرْد مولى بني عِجْل، وأخرجوا عاصمًا من القصر، فلحقَ بأخيه عبدِ الله بن عُمر بالحِيرَة (¬3). وجاء أهل الكوفة إلى ابن معاوية وهو في المسجد، فبايعوه، وفيهم منصور بنُ جُمهور، وعُمر بنُ الغضبان بن القبعثرى، وإسماعيل القَسْريّ، وأعيانُ أهل الكوفة، وجاءته البيعة من سواد الكوفة والمدائن. فجمع الناسَ، وخرجَ إلى الحِيرَة لقتال ابنِ عُمر، وبرزَ له ابنُ عمر فيمن كان عنده من أهل الشام [فخرج رجلٌ من أهل الشام] (¬4) يطلب البِراز، فبرزَ له القاسمُ بنُ عبد الغفَّار العِجْلي، فقال له الشاميّ: مَنْ أنت؟ فأخبره بنفسه، فقال: واللهِ ما أُريد قتالك، وما أريد رجلًا من بكر (¬5)، وإني أُخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن سوى منصور بن جمهور وإسماعيل القسري، والباقون قد كاتبوا ابنَ عُمر (¬6)، وجاءته كتب من بقي معكم من مضر، ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (د) (والكلام منهما). ولعل الصواب: تَيْم، فالعبارة في المصدرين السابقين: ولم يُعط جعفر بن نافع بن القعقاع وعثمان بن الخيبري أخا بني تيم اللات شيئًا، ولم يُسَوِّهما بنظرائهما. (¬2) سياق الخبر في المصدرين السابقين يفيد أن عبد الله بن معاوية لم يكن معهم في المسجد. (¬3) في (خ) و (د) (والكلام منهما): بالحرَّة. وهو خطأ. (¬4) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 7/ 306. (¬5) في (خ) و (د) (والكلام منهما): وإنما، بدل: وما أريد ... والصواب ما أثبتُّه. وعبارة الطبري: وما أظنُّ أن يخرج إليَّ رجل من بكر بن وائل، واللهِ ما أُريد قتالك. (¬6) في "أنساب الأشراف" 7/ 167، و"تاريخ" الطبري 7/ 306: أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن؛ لا منصور، ولا إسماعيل، ولا غيرهما، إلا وقد كاتب عبد الله بن عمر ...

ولم أرَ لكم أيُّها الحيُّ من ربيعة كتابًا ولا رسولًا، وهم غدًا على عزم الإيقاع بكم، فإن أردتُم ابنَ عمر؛ أبلغتُه، وإن أردتُم الوفاءَ لصاحبكم؛ فأنتُم وذاك. وانفصلَ أحدُهما عن صاحبه، ورجعَ القاسم وأخبر قومَه، وقال: إنَّ ربيعة ومُضر ستقفُ بإزاء ميسرتِه، فقال ابن معاوية: سوف يتَّضحُ لنا هذا غداةَ غدٍ. فلما كان من الغد؛ التَقَوْا، فانكَشَفَ أصحابُ ابنِ معاوية، ومالت ربيعةُ ومُضر ومَنْ كَتَبَ إلى ابن عمر إلى عسكره، وقاتلَ عُمر بنُ الغضبان قتالًا شديدًا، فجاء أصحابُه، فأخذوا بعِنان دابَّتِه حتى أدخلوه الكوفة (¬1). وفي رواية أنَّ ابنَ معاوية خرج إلى الحِيرَة في جمع عظيم وابنُ عُمر قاعدٌ يتغدَّى، فلم يعبأ به، فلما فرغَ من غَدائه؛ ركبَ ومعه أهلُ الشام، ونادى: مَنْ جاء برأس فله خمسُ مئة درهم، فجاء رجل برأس، فأعطاه خمس مئة درهم، فلما رأى الناس وفاءه حملُوا على أصحاب ابنِ معاوية، فجاؤوا بخمس مئة رأس، وانهزمَ ابنُ معاوية (¬2). وقال أبو عبيدة: جاء ابنُ معاوية وإخوتُه، فدخلوا القصر، وقال لعمر بن الغضبان وأصحابه: يا معاشر ربيعة، قد رأيتُم ما صنعَ الناسُ بنا، ودماؤنا في أعناقكم، فإنْ كنتُم مقاتلين معنا قاتَلْنا، وإلَّا؛ فخذُوُا لنا ولكم أمانًا. فقال له عمر: نعم. ثم زحف إليهم أهلُ الشام، فقاتلوهم أيامًا، فرأَوا الغَلَبَةَ، فأرسل عمر بنُ الغضبان إلى ابنِ عمر، فأخَذَ له أمانًا ولبني معاوية والزَّيديَّة، فأمَّنَهم ابنُ عمر، وأنَّ بني معاوية يمضون حيث شاؤوا. وأرسلَ ابنُ عمر إلى ابن الغضبان يأمرُه أن يُخرِجَ ابنَ معاويةَ من القصر وينزلَ به ابن الغضبان، فأرسل فأخرجَه ومَنْ معه من إخوته والشيعة، فسارَ إلى المدائن، ونزل عمرُ القصر (¬3). وفيها أظهرَ الخلافَ الحارثُ بنُ سُرَيج على نَصْر بن سَيَّار. ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 305 - 307 مطول. (¬2) المصدر السابق 7/ 307 - 308. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 308 - 309. ومن قوله: قال أبو مخنف: قدم عبد الله بن معاوية الكوفة (من أوائل "ذكر بيعته" ... إلى هذا الموضع، لم يرد في (ص).

وكان يزيدُ بنُ الوليد كَتَبَ للحارث كتابَ أمان، فسار إلى مَرْو، فلما قَرُب من مَرْو؛ تلقَّاه سَلْمُ بنُ أحْوَز والناسُ معه، فقال له محمد بن الفَضْل العَبْسيّ: الحمدُ لله الذي أقرَّ أعيُنَنَا بقُدومك، وردَّك إلى فئة الإسلام والجماعة، فقال له الحارث: يا بني، أما علمتَ أنَّ الكثير إذا كانوا على معصية الله تعالى لم يكونوا جماعة، وأن القليل إذا كانوا على طاعته (¬1) كانوا جماعة، وما قَرَّتْ عيني منذ خرجتُ إلى يومي هذا، وما قُرَّةُ عيني إلا أن يُطاع اللهُ تعالى. وتلقَّاه نصر، وأنزلَه قصرًا، وأجْرَى عليه كلَّ يوم خمسين درهمًا، وأطلقَ مَنْ كان في حبسه من أهل الحارث، ومحمدَ بنَ الحارث (¬2)، والأَلُوفَ وأمَّ بكر ابنَتَي الحارث. وكان للحارث عودٌ يُقاتلُ به وزنُه ثمانيةَ عشرَ رِطْلًا. وأعطى نصرٌ الحارثَ أموالًا وثيابًا، ففرَّقَها في أصحابه، وكان لا يجلسُ على فِراش، ولا يشتغلُ بالمآكل واللَّذَّات، ويقتصرُ على الشيء اليسير، فعرض عليه نصرٌ أن يُولِّيَه أيَّ الولايات شاء، ويعطيَه مئة ألف، فلم يقبل وقال: لا أُريد إلا العمل بكتاب الله وسنَّةِ رسوله، ولست من لذَّات الدنيا وتزويجِ العقائل في شيء، وما أريد إلا ما ذكرتُ لك من العمل بالكتاب والسنَّة، واستعمالِ أهل الصلاح والخير، فإن فعلتَ ساعدتُك على عدوِّك. وأرسل الحارث إلى الكِرْمانيِّ يقول: إنْ عملَ نصرٌ بكتاب الله وسنَّةِ رسوله؛ ساعدتُه، وإن لم يعمل استعنتُ بك عليه. وظهر من نَصْر جَوْرٌ، فأرسلَ إليه الحارث يقول: خرجتُ (¬3) من هذه البلدة [منذ] (¬4) ثلاثَ عشرةَ سنة من الجَوْر وأنتَ تُريدني عليه؟ ! ¬

_ (¬1) في (د): طاعة. (¬2) في "تاريخ" الطبري 7/ 309: أطلق نصر مَنْ كان عنده من أهله؛ أطلق محمد بن الحارث ... إلخ. (¬3) رُسمت اللفظة في (خ) و (د) (والكلام منهما): حرت، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 310. (¬4) لفظة "منذ" بين حاصرتين من المصدر السابق.

[و] دَبَّ (¬1) إلى الحارث أعيانُ بني تميم وأشراف القبائل، فبايَعَه منهم ثلاثةُ آلاف (¬2). وفيها انتقضَ [أهلُ] الشام على مروان ونكثوا بيعته. قال مخلد (¬3) بن محمد بن صالح: أقام الناسُ بالشام ثلاثة أشهر في طاعة مروان وهو مقيم بحرَّان [ثم انتقضوا عليه] (¬4). وسببُه [أنَّ] (¬5) ثابت بنَ نُعيم الفلسطيني كاتبَ الأطرافَ ورَاسَلَهم، فسار إليهم مروان. وأرسل أهلُ حمص إلى مَنْ بتدمر من كلب، فشَخَصَ إليهم منهم الأصبغ بن ذُؤالة الكلبيّ ومعه بنوه: حمزة وذُؤالة وفُرافِصَة، ومعاوية السَّكْسَكيّ وكان فارسَ أهل الشام، وعصمة بن المقشعرّ، وغيرهم في ألف فارس من فرسانهم، فدخلُوا حمصَ ليلةَ عيد الفطر، ومروان يومئذٍ بحماة، ومعه إبراهيم بنُ الوليد المخلوع، وسليمانُ بنُ هشام، وكان يُكرمُهما، ويجلسان معه على غَدائه وعَشائه، ويسيران معه في موكبه. فسار من حماة مُجِدًّا، فنزل على حمص وقد رَدَمُوا أبوابَها واستعدُّوا لقتاله، والكلبيَّةُ عندهم، فأحدقَ بالمدينة، وركبَ يومًا فوقف بإزاء باب من أبوابها، فأشرفَ عليه جماعةٌ من السُّور، فقال لهم مروان: ما الذي دعاكم إلى النَّكْث؟ قالوا: ما نَكَثْنا، ونحن على طاعتك. فقال: إن كنتُم كما تزعمون فافتحوا الباب. ففتحُوا له الأبواب. فدخل عَمرو بنُ الوضَّاح في الوضَّاحيَّة إلى حمص، فقاتلَه بعضُ أهلِ المدينة، فقَتَلَ منهم نحوًا من خمس مئة، وخرجَ من باب تدمر، وانهزمَ الأصبغ والسَّكْسَكيّ، وأُسر ابنا الأصبغ ذؤالة وفُرافِصة في ثلاثين رجلًا ومروان واقفٌ على الباب، فأُتيَ بهم إليه، فضرب أعناقَهم، وأَمرَ بالقتلى -وكانوا خمسَ مئة، أو ستَّ مئة- فصُلِبُوا حولَ حمص، وهَدَم من حائطها مقدارَ الغَلْوة. ¬

_ (¬1) الواو بين حاصرتين زيادة من عندي من أجل السياق. ويقارن بما في المصدر السابق. (¬2) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 309 - 310 مطوَّل. ومن قوله: وكان يزيد بن الوليد كتب للحارث ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬3) في (خ): مجالد، والمثبت من (د)، وهو موافق لما في المصدر الآتي. (¬4) ما بين حاصرتين زيادة من عندي لضرورة السياق. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 312. (¬5) لفظة "أن" بين حاصرتين من عندي. وينظر المصدر السابق.

وكان على دمشق زامل بنُ عَمرو، فثارَ أهلُ الغوطة عليه، فحصروه، وولَّوْا عليهم يزيدَ بن خالد القَسْريَّ، وكان زامل في أربع مئة فارس، وقائدٍ يُقال له: ابن هبَّار القرشيّ (¬1)، وقاتلَ أهلَ دمشق مع زامل. وبعثَ مروانُ من حمص أبا الورد -[واسمه] (¬2) مجزأة- بن الكوثر بن زفر بن الحارث، وعَمْرَو بنَ الوضَّاح في عَشَرة آلاف، فقاتلوا (¬3) أهلَ الغوطة، وخرجَ زامل من البلد وقاتلَ مع أبي الورد، فانهزمُوا، وقُتل أبو عِلاقة، وبعثَ أبو الورد برأسه إلى مروان وهو بحمص (¬4). وجاء ثابت بن نُعيم من فلسطين إلى طبريَّة، فحصَرَها وعليها الوليد بنُ معاوية بن مروان ابن أخي عبد الملك، فقاتلوه أيامًا، وبلغ مروانَ، فكتبَ إلى أبي الورد أن يُمِدَّهم بنفسه، فسار إلى طبريَّة، ورحلَ مروان من حمص إلى دمشق. ولما علم أهلُ طبريَّة بوصول أبي الوَرْد خرجوا من المدينة على ثابت، فاستباحوا عسكرَه، فانهزمَ إلى فلسطين، وجمع أهلَه وجندَه، فسارَ إليه أبو الورد، فقاتلَه وهزَمَه، وفرَّقَ جَمْعَه، وأَسَرَ ثلاثةً من ولده، وهم: نُعيم وبُكير وعمران، فبعث بهم إلى مروان وهو بِدَيْر أيوب (¬5)، فأمرَ بمداواة جراحاتهم. وتغيَّب ثابتُ بنُ نعيم ومعه ولدُه رفاعة، ووَلَّى مروانُ الرُّماحِسَ بنَ عبد العزيز الكنانيَّ فلسطين، وأمره بطلب ثابت، والتلطّف له، فدَلَّ عليه رجل من أهله، فأخذه، وبعثَ به إلى مروان موثقًا، فأمر به وبأصحابه فقُطِّعت أيديهم وأرجلُهم، وصُلبوا على أبواب دمشق. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 313: أبو هبَّار. وفي "أنساب الأشراف" 7/ 569 (والخبر فيه بنحوه): خالد بن يزيد بن هبَّار. وترجم له ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 5/ 587 (مصورة دار البشير). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من "تاريخ" الطبري 7/ 313 للإيضاح. (¬3) في (خ): فقتلوا. والمثبت من (د) والخبر ليس في (ص). (¬4) وقُتل أيضًا مع أبي عِلاقة (وهو السَّكْسَكيّ) يزيدُ بن خالد القَشْري -وكان أهل غوطة دمشق قد ولَّوْه عليهم- وبُعثَ برأسيهما إلى مروان بحمص. ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 572، و"تاريخ" الطبري 7/ 313 - 314. وينظر أيضًا ما سلف في فقرة ذكر أولاد خالد القسري في ترجمته السنة (126). (¬5) هي قرية بحوران من نواحي دمشق. معجم البلدان 2/ 499.

وأمَّا رِفاعةُ بنُ ثابت، فأَفْلَتَ إلى العراق، وكان منصورُ بنُ جمهور قد لحق بالسِّند، فمضى إليه، فأكرمه وولَّاه، وخلَّفه مع أخيه منظور بن جمهور. وخرج منصور من السِّند غازيًا، فوثبَ رِفاعةُ على منظور فقتلَه، واستولى على البلد، وكان منصورٌ قد توجَّه إلى المُلْتَان (¬1)، وأخوه بالمنصورة، فرجع منصور إلى المنصورة، فأخذَ رِفاعَة، فبَنَى له أسطوانةً من آجرّ مجوَّفة، وأدخلَه فيها، ثم سَمَّرَه فيها (¬2)، وبَنَى عليه. وأقام مروان بِدَير أيوب (¬3). وفيها بايع مروانُ بالعهد لابنَيه عُبيد الله وعبد الله بدَير أيوب (¬4)، وزوَّجَهما ابنتَي هشام بن عبد الملك: أمَّ هشام وعائشة، وجمعَ لذلك أهلَ بيتِه، منهم من ولد عبد الملك: محمدٌ وسعيد وبكَّار، وأولاد الوليد وسُليمان ويزيد وهشام، وغيرُهم، وأشرافُ العرب. وقطعَ على أهل الشام بعثًا، وقوَّاهم بالعطاء، وجعل على كلِّ جند [منهم] قائدًا [منهم]، وأمرهم باللَّحاق بيزيد بن عُمر بن هبيرة في عشرة آلاف من أهل الجزيرة وقِنَّسْرِين، وأمرَه أن ينزلَ دورين (¬5) حتى يأتيَه أمرُه. وانصرف مروان من دَير أيوب وقد استقام له الشامُ كلُّه إلا تدمر، فسار حتى نزل القَسْطَل من أرض حمص ممَّا يلي تدمر، وبينهما مسيرةُ ثلاثةِ أيام، وبَلَغَهُ أنهم قد غوَّرُوا ما بينه وبين تدمر من المياه، وطمُّوا الآبار بالصخر، فهيَّأَ المَزَادَ والقُرَب، وأمرَ مَنْ معه بحمل المياه، فكلَّمه سليمانُ بنُ هشام والأبرشُ الكلبيُّ بأن يُعْذِرَ إليهم ويحتجَّ عليهم، فأجابَ إلى ذلك. وقال للأبرش: وَجِّهْ إليهم. فبعث [الأبرشُ] أخاه عَمْرَو بنَ الوليد يحذِّرُهم ويُنذرُهم ويُخوِّفهم هلاكَ قومِهم، فطردُوه ولم يُجيبوه، فسألَه [الأبرشُ] ¬

_ (¬1) المُلْتان -أو: المُوْلتان- بلد في الهند على سمت غزنة. ينظر "معجم البلدان" 5/ 227. (¬2) أي: شدَّه فيها. وفي "تاريخ" الطبري 7/ 364: سمَّره إليها. وينظر تفصيل الخبر فيه. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 7/ 574 - 575. (¬3) من قوله: قال مخلد بن محمد بن صالح (قبل صفحتين) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬4) في "تاريخ" الطبري 7/ 314: "وأقبل مروان من دَير أيوب حتى بايع لابنيه عُبيد الله وعبد الله". ولم يرد في (ص) الكلام الآتي بعده بطوله حتى ترجمة بلال بن أبي بردة. (¬5) لم أقف على من ذكرها. وجاء في "تاريخ" الطبري 7/ 205 أنها أرض أُقطِعها هشام بن عبد الملك.

أن يُوَجِّه به إليهم، ففعل، فأتاهم وقال: يا حَمْقَى، ما لكم به طاقة، وقد أقبلَ إليكم بجنود الشام والجزيرة. فأجابه عامَّتُهم، وهَرَبَ من لم يثق بمروان، منهم معاويةُ بن أبي سفيان بن يزيد بن معاوية فكان صهر الأبرش على ابنته، وغيرُه، وكتبَ إلى مروان يُخبره، فكتب إليه: اهْدِمْ سُور تَدْمُرَ، واقْدَمْ برؤسائهم معك. ففعل، وقدم عليه بالأصبغ بن ذؤالة وابنه حمزة، وغيرهما. وسار مروان في البَرِّيَّة حتى قدم الرُّصَافة، ومعه سليمانُ بنُ هشام، وعمُّه سعيدُ بنُ عبد الملك، وإخوتُه جميعًا، وإبراهيمُ المخلوع، وجماعةٌ من أعيان بني مروان، فأقاموا بالرُّصافة يومًا. ثم شخص مروانُ إلى الرَّقَّة، واستأذَنَه سليمانُ بنُ هشام أن يُقيم بالرُّصافة أيامًا ليتقوَّى ومَنْ معه من مواليه، ويريحوا دوابَّهم، ثم يلحقُه، فأَذِنَ له. وسار مروان إلى قرقيسيا وابنُ هُبَيرة بها ليجهِّزَه إلى العراق لمحاربة الضَّحَّاك بن قيس الشيبانيّ الحَرُوريّ (¬1). وكان سببُ خروج الضَّحَّاك أنَّه لما قُتل الوليدُ بنُ يزيد؛ ظهر بالجزيرة سعيدُ بنُ بَهْدَل الشَّيبانيُّ الحروريُّ في مئتين من أهل الجزيرة، فيهم الضَّحَّاك بنُ قَيس، فاغتنمَ قَتْلَ الوليد وخروجَ مروان إلى الشام، فخرج بالجزيرة بكَفْر تُوثَا، وخرج بِسْطَامُ البَيهَسِيّ وهو مخالفٌ لرأيه، وكان في مِثْل عُدَّتِه من ربيعة، فسارَ كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، فلمَّا تقاربا؛ بعث سعيدٌ الخيبريَّ؛ أحدَ قُوَّادِه -وهو الذي هزم مروانَ وهو في مئة وخمسين، ومروانُ في مئة ألف- فبيَّتَ بِسطامًا على غِرَّة (¬2)، فقتلَه وهزمَ أصحابه، ولم يُفْلِتْ منهم سوى أربعةَ عشرَ، وقَتَلَ الباقين، وكان يحملُ ويقول: ¬

_ (¬1) الخبر بتمامه في "تاريخ" الطبري 7/ 314 - 316. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) كذا استطرد المختصر (أو المصنف) هنا في التعريف بالخيبريّ، ووَهِمَ في جعله المئةَ والخمسينَ عددَ الذين كانوا مع الخيبريّ يومَ هَزَمَ مروانَ، وإنما هذا عددُ الذين كانوا معه في هذه الواقعة ليُبَيِّتُوا بِسطامًا، وعبارة الطبريّ 7/ 316 توضّح الوهم؛ قال: "وجَّه سعيدُ بنُ بهدل الخيبريَّ -وهو أحدُ قوَّاده، وهو الذي هَزَمَ مروانَ- في نحو مئة وخسين فارسًا ليُبَيِّتَهُ". يعني بِسطامًا. أمَّا عددُ الذين كانوا مع الخيبريّ يوم هَزَمَ مروانَ -وهو في القلب- فهو ثلاثُ مئة وخمسون، كما في "تاريخ" خليفة ص 379، وذكر الطبري 7/ 347 أنهم كانوا في نحو أربع مئة، وقُتل الخيبريّ على إثرها. وسيرد خبره في تراجم سنة (128).

إنْ تكُ بِسطامًا فإني الخَيبَرِي ... أضربُ بالسَّيفِ وأَحمي عَسْكَرِي ثم مضى مَن بقيَ من أصحاب بِسطام إلى مروان، وسارَ سعيدُ بنُ بَهْدَل نحو الكوفة لمَّا بلغَهُ اختلافُ أهلِها مع أهل الشام، وأن ابنَ عُمر تُقاتِلُه المُضَربَّةُ، فمات سعيدٌ في طريقه بطاعون أصابَه، واستخلَفَ الضَّحَّاكَ بنَ قيس من بعده. وكانت لسعيد امرأةٌ تسمَّى حَوْماء، فرثاه الخيبريُّ بأبيات، منها: سقى اللهُ يا حَوْماءُ قبرَ ابنِ بَهْدَلٍ ... إذا رَحَلَ السارونَ لم يَتَرَحَّلِ (¬1) ثم جعلَ الضَّحَّاك طريقَه على الموصل، فتبعَه منها ومن الجزيرة ومن الأسواد (¬2) نحوٌ من ثلاثة آلاف، وبالكوفة يومئذ النَّضْرُ بنُ سعيد الحَرَشي ومعه المُضَرِيَّة، وبالحِيرَة عبدُ الله بنُ عُمر في اليمانيَّة، والقتالُ يعملُ بينهم كلَّ يوم ما بين الحِيرة والكوفة. فلما قَرُبَ الضَّحَّاك من الكوفة؛ اتَّفَقَ الحَرَشيُّ مع ابنِ عُمر، وصارَ أمرُهما واحدًا، وأجمعوا على قتال الضَّحَّاك، وخَنْدَقُوا على الكوفة، ومع ابنِ عمر يومئذٍ من أهل الشام نحوٌ من ثلاثين ألفًا. وجاء الضَّحَّاك، فاقتَتَلُوا أيامًا، فظهر عليهم الضَّحَّاك، فقُتل عاصمُ بن عُمر بن عبد العزيز أخو عبد الله، وانهزمَ ابنُ عمر إلى واسط، وهَرَبَ الحَرَشيُّ والمُضَرِيَّةُ وإسماعيلُ بنُ عبد الله القَسْريُّ إلى مروان بالشام. واستولى الضَّحَّاك والحَرُوريَّة على الكوفة وأرضها وجبال السَّوَاد (¬3)، ثم تَوَجَّهَ إلى عبد الله بن عمر بواسط، واستخلفَ على الكوفة رجلًا من أصحابه -يقال له: مِلْحان- في مئتي فارس، ووصل إلى واسط، فحصَرَ ابنَ عمر بواسط (¬4)، وكان معه عطيَّةُ الثعلبيّ من قُوَّاد قِنَّسْرِين، فخاف حصارَ الضَّحَّاك، فخرج في ثمانين (¬5) من قومه طالبًا ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 316 - 317. (¬2) يريد جمع سَوَاد، وهي قرى البلدات. والكلام ليس في (ص). (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 317: وجَبَوا السَّواد. (¬4) كذا وقع سياق الكلام في (خ) و (د) (والكلام منهما) بهذا التكرار، وعبارة الأصل (في المصدر السابق) أرصنُ وأحكم. (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 317: سبعين أو ثمانين.

مروان، فخرجَ على القادسية، وبلغ مِلْحانَ أمرُه (¬1)، فخرج في إثره، واقتتلُوا، فهزمَه عطيَّة، وألحقَه بالكوفة. وسار إلى مروان، فكانَ معه (¬2). وقيل: إنه قتل مِلْحان. ولمَّا مات ابنُ بَهْدَل وبايعتِ الشُّرَاةُ الضَّحَّاك؛ أقامَ بشَهْرَزُور (¬3)، وثابَتْ إليه الصُّفْرِيَّة من كلِّ وَجْه حتى صار في أربعة آلاف، ولم يجتمع مثلُها لخارجيٍّ قبلَه. وقُتل الوليد، ونزلَ مروانُ من أرمينية إلى الجزيرة، ووَلَّى على العراق النَّضْرَ بنَ سعيد وكان من قُوَّاد ابنِ عُمر [فشخصَ إلى الكوفة، ونزل ابنُ عمر الحِيرَةَ، فاجتمعت المُضَريَّة إلى النَّضْر، واليمانية إلى ابن عمر] (¬4) فقاتَلَه أربعة أشهر. [ثم] أمدَّ مروانُ النَّضْرَ بعبَّاد بن الغُزَيِّل (¬5)، وأقبل الضَّحَّاك يريد الكوفة، فأرسلَ ابنُ عُمر إلى النَّضْر: إنَّ الضَّحَّاك لا يريدُ غيري وغيرَك، فلنجتمع عليه. فتعاهدا على ذلك. ونزل ابنُ عمر الكوفةَ، فكان يصلِّي بأصحابه في المسجد ناحية، ويصلِّي النَّضْر بأصحابه ناحية (¬6). وجاء الضَّحَّاك فنزل النُّخَيلَة في رجب هذه السنة (¬7)، فاقتتلوا أيامًا وقَتلَ البِرْذَوْنُ بنُ المورِّق الشيبانيُّ من أصحاب الضَّحَّاك عاصمَ بنَ عمر، فدفَنَه بنو الأشعث بن قيس في دارهم، وقَتَلُوا جماعةً من أصحابِ ابنِ عُمر والنَّضْر. وانهزمَ ابنُ عمر في أصحابه إلى واسط، وهربَ أعيانُهم، وحزنَ ابنُ عمر على أخيه حُزنًا عظيمًا ورَثَاه فقال: ¬

_ (¬1) في المصدر السابق: ممرُّه. (¬2) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 317 - 318. (¬3) هذه رواية أخرى للخبر -وهي رواية أبي عُبيدة مَعْمَر- كما في "تاريخ" الطبري 7/ 318. ولم يفصل المختصر (أو المصنّف) بينهما. (¬4) ما بين حاصرتين من المصدر السابق. (¬5) لم يذكر المختصِرُ في الرواية السابقة أنَّ مروان أمدَّ النَّضْر بعبَّاد. وذكره هنا، وهو ثابتٌ في الروايتين كما في "تاريخ" الطبري 7/ 317 و 318. ولفظة "ثم" السالفة بين حاصرتين منه. (¬6) في المصدر السابق: كان ابنُ عمر يصلّي في مسجد الأمير بأصحابه، والنَّضْر بنُ سعيد في ناحية الكوفة يصلّي بأصحابه. (¬7) يعني سنة سبع وعشرين.

رَمَى غَرَضي (¬1) رَيبُ الزَّمانِ فلم يَدَعْ ... غْدَاةَ رَمَى في الكفِّ للقوس (¬2) مَنزَعَا رَمَى غَرَضي الأقصى فأقْصَدَ عاصمًا ... أخًا كان لي حِرزًا ومأوًى ومَفْزَعا فإنْ يَكُ حزنٌ أو تَتَابُعُ غُصَّةٍ (¬3) ... أَدَابَتْ (¬4) عَبِيطًا من دم الجوفِ أنجعا (¬5) تَجَرَّعْتُها في عاصمٍ واحْتَسَيتُها ... لَأَعْظَمُ (¬6) منها ما احْتَسَى وتَجَرَّعَا فلَيتَ المنايا كُنَّ خَلَّفْنَ عاصمًا ... معِشْنا جميعًا أو ذَهَبْنَ بِنا مَعَا (¬7) وقال ابنُ عَبْدِ البَرّ: هذا الشِّعرُ لعبد الله بن عمر بن الخطاب يرثي به أخاه عاصمًا (¬8). وكان عبدُ الله بنُ عمر يقول: بلغني أن عينَ بنَ عين بن عين يقتلُ ميمَ بنَ ميم. يعني أنَّه يقتلُ مروان (¬9). ونزل ابنُ عمر والنَّضْر بواسط، وعادَ بينهما القتالُ على ما كان قبل ذلك، فالنَّضْر يطلبُ العراقَ بعهد مروان، وابنُ عمر لا يسلِّمُه إليه. وجاء الضَّحَّاك إلى واسط، فاصطلحا على قتاله، فأقام يُقاتلُهم شهر شعبان ورمضان وشوَّال، وقُتل من أعيان الفريقين جماعةٌ، منهم عبدُ الملك بنُ علقمة، وكان من رؤوس الخوارج، فَتَكَ في المسلمين، فبعث إليه ابنُ عمر منصور بنَ جمهور في ¬

_ (¬1) في (خ) و (د) (والكلام منهما): غرضًا. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 320، و"تاريخ دمشق" ص 62 (جزء فيه ترجمة عاصم- طبعة مجمع دمشق). (¬2) في "تاريخ" الطبري: رمى للقوس في الكفّ. (¬3) في المصدرين السابقين: فإن تَكُ أحزانٌ وفائضُ عَبْرَةٍ. (¬4) في "تاريخ دمشق" ص 63: أثَرْنَ. (¬5) في المصدرين السابقين: منقعا. (¬6) في المصدرين السابقين: فأعظم. (¬7) أورد المبرّد في "الكامل" 3/ 1379 البيتين الثالث والرابع بنحوهما. (¬8) بنحوه في "الاستيعاب" ص 575 (ترجمة عاصم بن عمر بن الخطاب) وأورد فيه ابنُ عبد البَرّ البيت الأخير. وذكر ابنُ حجر في "الإصابة" (ترجمة عاصم أيضًا) أن ابن عمر تمثَّل بقول متمّم بن نُوَيرة: فليت المنايا كُنَّ خلَّفْنَ مالكًا ... فقال ابنُ عمر: كُنَّ خلَّفن عاصمًا. (¬9) بعدها في "تاريخ" الطبري 7/ 320: وكان يأمل أن يقتلَه، فقتله عبدُ الله بنُ علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.

ستِّ مئة فارس من كلب، وكان ابنُ علقمة في كتيبة قويَّة، فقتلَ جماعةً من أصحاب ابنِ عمر، ورآه منصور، فحملَ عليه وضربَه بالسيف على حَبْل عاتِقِهِ (¬1)، فقطَعَه، فخرَّ ميِّتًا، وكان بين يديه امرأةٌ من الخوارج تقاتلُ، يقال لها: سادة، وكانت في زِيِّ الفرسان، فأخذَتْ بلجام فرس منصور (¬2) وقالت: يا فاسق، قتلتَه! فضرب يدها، فقطع عِنانَ فرسِه، ودخلَ البلد. ولما طال الحصار على ابن عمر قال له منصور: واللهِ ما رَأَينا في الناس مثلَ هؤلاء قطّ! فَلِمَ نُحارِبُهم؟ أعْطِهِم الرِّضا، واجْعَلْهم بينك وبين مروان، وأقِمْ مستريحًا بواسط، فإنْ ظفروا به؛ كان ما أرَدْتَ، وإنْ ظفر بهم وأرَدْتَ قِتاله؛ قاتَلْتَهُ وأنتَ مستريح. فقال له ابنُ عمر: لا تعجل حتى ننظرَ ونَتَرَوَّى. فقال له: إلى متى وقد هزمونا غير مرة، ونخافُ أن يستأصلونا. وخرج منصور إليهم، فوقفَ على فرسه بإزائهم، وناداهم: إني أُريدُ أن أُسْلِم وأسمعَ كلامَ الله، فقالوا: هلمَّ، فجاءهم، فنزلَ عندهم، ودَعَوْا له بغَدَاء، فتغدَّى، فقال منصور: من الفارس الذي أخَذَ بعِنان فرسي يومَ علقمة؟ فنادَوْا: يا أمَّ العشير (¬3). فجاءت امرأةٌ من أجمل النساء، فاقالت: أنت ابنُ جُمهور؟ قال: نعم. قالت: قَبَّحَ اللهُ سيفَك، أين ما تُذكر منه؟ ! فواللهِ ما صنعَ شيئًا. تعني أنه ما جَرَحَها (¬4). فقال: يا أمير المؤمنين، زَوِّجْني إيَّاها. فقال: إنَّ لها زوجًا، وكانت تحت عبيدة (¬5) بن سوَّار التغلبي. ثم إن عبد الله بن عُمر وادعهم، وخرجَ إليهم في آخر شوَّال (¬6) من هذه السنة (¬7). ¬

_ (¬1) حبل العاتق: عَصَبٌ بين العُنُق والمَنْكِب. (¬2) وهم المختصر (أو المصنف) في تسمية المرأة. وعبارة الطبري 7/ 322 توضّح ذلك؛ قال: وأقبلت امرأةٌ من الخوارج شادَّةً حتى أخذت بلجام منصور ... وجاء في "أنساب الأشراف" 7/ 602 أنها أمُّ العشنزر. (¬3) كذا في (خ) و (د) (والكلام منهما وليس في ص). وفي "تاريخ" الطبري 7/ 323: أمّ العنبر، وسلف في التعليق السابق أن في "أنساب الأشراف": أمّ العشنزر. (¬4) في "تاريخ" الطبري 7/ 323: تعني ألا يكون قتلها حين أخذت بعنانه فدخلت الجنة. وبنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 603. (¬5) في (خ) و (د): عُبيد. والمثبت من المصدرين السابقين. وسيرد لاحقًا. (¬6) في (خ): في جيش في آخر شوال. والمثبت من (د) وينظر التعليق التالي. (¬7) عبارة الطبري 7/ 323: ثم إن عبد الله بن عمر خرج إليهم في آخر شوَّال فبايعه.

وفيها خلع سليمانُ بنُ هشّام مروانَ بنَ محمد. قد ذكرنا مُقامَ سليمان بالرُّصافة (¬1)، فلما أقبلَ البعث الذي قطعَه مروان على أهل الشام -وهم عشرة آلاف ليبعثهم إلى يزيد بن عُمر بن هبيرة (¬2) - ووصلُوا إلى الرُّصافة؛ دَعَوْا سليمان إلى خلع مروان، فقالوا: أنت أولى بالخلافة منه، وأرْضَى عند أهل الشام. فأجابَهم، وخرجَ بأولاده وإخوته ومواليهم (¬3)، فعسكر بهم، وسار إلى قِنَّسْرِين، وكاتبَ أهلَ الشام، فأقبلُوا إليه من كلِّ ناحية. وبلغ مروانَ وهو بقَرْقِيسيا، فقال لابن هُبيرة: أقِمْ بدُورين في عسكرك. ودخلَ من تخلَّف من موالي سليمان وولدِ هشام حصن الكامل -وهو بالبَرِّيَّة بمكان يقال له: الهَنِيّ- فتحصَّنُوا فيه. فأرسل إليهم مروان: لا تتعرضوا إليّ ولمن يتبعُني بسوء، فلا عهد لكم عندي. وسار (¬4) في سبعين ألفًا من أهل الشام والقبائل، فكانوا يخرجون من حصن الكامل، فيتبعون من يلحقُ بمروان، فيسلبونهم سلاحَهم وخيولَهم. وجاء مروان فنزلَ بقرية من أعمال قِنَّسْرِين يقال لها: خُساف (¬5) في سبعين ألفًا، وجاء سليمان، واقتتلوا (¬6)، فهزمَه مروانُ، واستولَى على عسكره، وقال: اقتُلُوا الأُسارى إلا عبدًا مملوكًا، فقَتَلُوا يومئذٍ نَيِّفًا وثلاثين ألفًا. ¬

_ (¬1) سلفت الإشارة إليه قريبًا قبل ذكر سبب خروج الضَّحَّاك. (¬2) وذلك لمحاربة الضّحّاك بن قيس. ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 323 - 324. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 324: ومواليه. (¬4) أي: سليمان. وحقُّ هذه العبارة: وسار سليمان ... الخ أن تأتي بعد قوله الآتي: فكانوا يخرجون من حصن الكامل ... الخ. ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 324. (¬5) في (خ) و (د): أخشاف. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 324 وخُساف: بَرِّيَّة بين بالِس وحلب، ذكرها ياقوت في "معجم البلدان" 2/ 370. (¬6) الذي نزل بُخساف في نحوٍ من سبعين ألفًا (كما في المصدر السابق) هو سليمان بن هشام. ثم دنا منه مروان واقتتلوا ... إلخ.

وقُتل إبراهيمُ بنُ سليمان، وكان أكبرَ ولده، وأُتِيَ بخالد بن هشام المخزومي خالِ هشام [بن عبد الملك] وكان بادنًا وهو يلهث، فقال له مروان: أَي فاسقُ، أما كان لك في خمر المدينة وقِيانها ما يشغلُك عن قتالي؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، أكرهني سليمانُ، فأنشُدُك اللهَ والرَّحِمَ. قال: وتكذبُ أيضًا؟ ! كيف أكرهك وقد خرجتَ بالقِيانِ وزِقاقِ الخمر والبَرابط؟ ! ثم ضَرَبَ عنقَه. وادَّعى كثيرٌ من الجند أنهم رقيق، فأمَرَ ببيعهم فيمن يزيد (¬1). وأمَّا سليمان؛ فمضَى هاربًا إلى حمص وانضمَّ إليه مَنْ أفلَتَ ممَّن كان معه، فعسكر بها، وبنى ما كان مروانُ أمرَ بهدمه من سُورها. ونزل مروان على حصن الكامل، فضربَه بالمجانيق، فنزلُوا على حكمه، فقتلَ منهم نحوًا من ثلاث مئة، ومثَّل بهم شرَّ مِثْلَة، ومضى جماعةٌ إلى الرَّقَّة مجرَّحين، وهلك أكثرُهم (¬2). وعاد مروان إلى حمص، فلمَّا كان قريبًا منها؛ اجتمع أهلُها ومن كان مع سليمان وقالوا: إلى متى ننهزم من مروان؟ ! تَعَالوْا حتى نبايع على الموت. فبايع منهم تسعُ مئة، وأجمعوا على تبييت مروان، فبلغَه ذلك فاحترز، فتهيَّؤوا له، وكمنوا في زيتونٍ على طريقه بقريةٍ بجَبَل السَّمَّاق يقال لها: تل منّس. وكان لا يسير إلا على تعبئة. فنادى أصحابَه، والتَقَوْا، فاقتتلُوا من لَدُن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، وكان معاويةُ السَّكْسَكيُّ على شرطة سليمان، فأُخذ أسيرًا، وأُتيَ به إلى مروان، فقال: الحمدُ لله الذي أمكَنَني منك، فطالما بلغتَ منّا. فقال له: استَبْقِني، فإني فارسُ العرب. قال: كذبتَ، الذي جاء بك أَفْرَسُ منك. وكان أسرَه فارسٌ من بني سُليم، فأوثقَه، وانهزمَ سليمان، وقَتَلَ منهم مروانُ سبعة آلاف (¬3). ولما وصل سليمان إلى حمص خلَّفَ أخاه سعيدَ بنَ هشام بها، ومضى هو إلى تدمر، فأقام بها. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 325. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 579 - 580. (¬2) الذي في "تاريخ" الطبري 7/ 325 أنه هلك بعضهم، وبقي أكثرُهم، وكانت عِدَّتُهم جميعًا نحوًا من ثلاث مئة. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 326: ستة آلاف.

وجاء مروان فحصرَ حمصَ عَشَرَةَ أشهر، ونصبَ عليها نيِّفًا وثمانين منجنيقًا تضربُ ليلًا ونهارًا، وهم مع ذلك يخرجون إليه، فيقاتلونه ويبَيِّتُون بعضَ عسكرِه، فلمَّا طال عليهم وأيقنوا بالهلاك؛ راسلوه يطلبون منه الصُّلح، فقال: على أن تُسْلِمُوا إليَّ سعيدَ بنَ هشام وابْنَيه عثمانَ ومروانَ، وحَبَشيًّا كان يُشرفُ من السُّور، فيشتمُ مروانَ أقبحَ شَتْم والقبائل (¬1)، فسلَّمُوهم إليه، فقتلَ الحَبَشيَّ، ومثَّلَ به، وأوثقَ سعيدًا وابنَيه. وسار إلى قرقيسيا ليجهِّزَ ابنَ هبيرة إلى الضحَّاك. وقيل: إنَّ سليمان لما هُزم على خُساف هرب إلى واسط، فكان عند عبدِ الله بنِ عمر، وأنه بايع الضَّحَّاك بنَ قيس الخارجيَّ، وقال: أنا سائرٌ معك أُقاتلُ مروان. فقال شُبيل بن عَزْرة الضُّبعيُّ: ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أَظْهرَ دينَهُ ... وصَلَّتْ قُريشٌ خَلْفَ بَكْرِ بنِ وائلِ (¬2) ولما اتفقَ ابنُ عُمر وسليمان وابنُ جُمهور وصاروا يدًا واحدة؛ علم النَّضْر بنُ سعيد الذي ولَّاه مروان العراق أنَّه لا طاقة له بهم، فهربَ ولحقَ بمروان (¬3). ولما استقام الشامُ لمروان في ذي القَعْدَة سنة سبع وعشرين ومئة، بعثَ (¬4) يزيدَ بنَ عُمر بن هُبيرة في جندٍ كثيف من الشام والجزيرة لقتال الضحَّاك، وولَّاه العراق، فسار حتى نزل نهر سعيد بن عبد الملك. وقيل: اتفق الضَّحَّاك مع ابنِ عمر على أنَّ بيد الضَّحَّاك الكوفةَ وسوادَها، وبيدِ ابن عُمر كَسْكَر ومَيسان وكُوَر دِجْلَة والأهواز وفارس، واتفقوا على قتال مروان (¬5). وسار الضَّحَّاك في ذي القَعْدَة على طريق الموصل، وانحطَّ ابنُ هُبيرة من نهر سعيد، فنزل غَزَّة من أرض عين التمر، وكان عاملَ الكوفة للضحاك المثنَّى بنُ عمران، وبلغه ¬

_ (¬1) لم ترد هذه اللفظة في الخبر في المصدر السابق، وجاء فيه أنهم يُسلِّمون إلى مروان سعيدًا وابنَيه، ورجلًا يسمى السكسكي، والحبشيّ المذكور. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 327. وتحرف اسم الشاعر في (خ) و (د) إلى: شبل بن عروة. (¬3) المصدر السابق. (¬4) في (خ) و (د): وبعث. والمثبت هو الصواب، وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 327. (¬5) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 327 - 328.

نزولُ ابن هُبيرة غَزَّة، فسار ومعه منصور بن جمهور، فالتَقَوْا على غَزَّة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا أيامًا متوالية، فقُتل المثنَّى، وانهزم منصورٌ إلى الكوفة، وقُتل جماعةٌ من أعيان الخوارج، وانهزمَ الباقون، فقال مسلم حاجبُ يزيد بن هُبيرة: أذَقْنَ المثنَّى (¬1) يومَ غَزَّةَ حَتْفَهُ ... وأذْرَتْ عُزَيرًا بين تلك الجَنَادِلِ وعَمْرًا أزارَتْه (¬2) المَنِيَّةَ بعدما ... أطافَتْ بمنصورٍ كعابُ (¬3) الحبائلِ وقال فيه غَيلان [بنُ حُرَيث]: نُصِرْتَ يومَ العينِ إذ لَقِيتَا ... كنصرِ داودٍ على جَالُوتَا (¬4) ولما انهزمَ منصور إلى الكوفة لا يلوي على شيء؛ جمعَ من كان بها من اليمانيَّة والصُّفْريَّة ومَنْ وصلَ منهم من الغلب، ومَنْ تخلَّفَ منهم عن المسير مع الضَّحَّاك، وسار بهم حتى نزل بهم الرَّوْحَاء، وجاء ابنُ هُبيرة، فاقتتلُوا أيامًا، فانهزمَ منصور، ودخلَ ابنُ هُبيرة الكوفة، ونَفَى الخوارجَ عنها، وولَّى عليها عبدَ الرحمن بنَ بشير العِجْلي. وبلغَ الضَّحَّاك ما جرى على أصحابه، فبعث إلى ابنِ هُبيرة عُبيدةَ بنَ سَوَّار التغلبيَّ، فجاء فنزل الصَّرَاةَ (¬5)، وانضمَّ إليه منصورُ بنُ جمهور، وكان ابنُ هُبيرة قد عزم على المسير إلى واسط وبها ابنُ عمر، فبلغَه حديثُ عُبيدة، وأنَّه على الصَّرَاة، فسار إليه، فاقتتلُوا أيَّامًا (¬6). وفيها تَوَجَّهَ سليمانُ بنُ كثير ولاهز بنُ قُرَيْط (¬7) وقحطبة بنُ شبيب إلى مكة، وكان قد حجَّ إبراهيم بن محمد الإمام، فاجتمعوا به، وأخبروه أنَّ معهم عشرين ألفَ دينار، ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 328: أرَتْ للمثنّى. (¬2) في (خ) و (د) (والكلام منهما): وعمر أن أردَتْه. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 328. وعَمرو، وعُزَيْر (في البيت قبله) من رؤساء أصحاب الضحّاك. (¬3) في المصدر السابق: كفات. (¬4) المصدر السابق، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬5) الصَّرَاة: نهران ببغداد، الصَّرَاة الكبرى، والصَّرَاة الصغرى. معجم البلدان 3/ 399. (¬6) ينظر ما سلف في "تاريخ" الطبري 7/ 328 - 329. (¬7) في "تاريخ" الطبري 7/ 329: قريظة، وفي "الكامل" 5/ 339: قريظ.

بلال بن [أبي] بردة

ومئتي ألفِ درهم، ومِسْكًا وطِيبًا، ومتاعًا كثيرًا، فأمرَهم أن يسلِّموا الجميعَ إلى عُروة مولى محمد بن عليّ، وكان معهم أبو مسلم، فقالوا لإبراهيم: هذا مولاك (¬1). وحجَّ بالناس [في هذه السنة] عبد العزيز بنُ عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة ومكة والطائف (¬2)، وكان عمال العراق مختلفين، وعلى خُراسان نَصرُ بنُ سَيَّار، والكِرْمانيُّ والحارث بنُ سُرَيج ينازعانِه (¬3). وفيها توفِّي بلالُ بن [أبي] بُرْدَة ابن أبي موسى الأشعري من الطبقة الثالثة من أهل البصرة. [ذكره خليفة وقال: ] ولَّاه خالد [بنُ عبد الله] القسريُّ [الشرطة و] القضاء سنة تسع (¬4) ومئة، فلم يزل قاضيًا إلى سنة عشرين ومئة حتى قدم يوسف بن عمر العراق (¬5). وقال المدائني: كان بلال ملازمًا باب خالد القسريِّ، فكان لا يركبُ إلا يراه في موكبه، فتبرَّم به ومقتَه، وقال لبعض الشُّرَط: اِيتِ صاحبَ العِمامة السوداء فقل له: يقول لك الأمير: ما لزومك لبابي وموكبي؟ ! لا أُوَلِّيكَ ولايةً أبدًا. فأدَّى إليه الشُّرْطيُّ رسالةَ خالد القَسْريِّ، فقال: قل له: واللهِ لئن ولَّاني لا عَزَلَني أبدًا. فأبلَغَه ما قال، فقال: قاتَلَه الله، إنه لَيَعِدُ من نفسه بنهضة وكفاية ودعابة. فولَّاه إمرةَ البصرة والقضاء، فكان يقضي بين الناس وهو أمير. وقيل: إنَّ خالدًا ولَّاه قضاء الكوفة قبل البصرة، ولما ولي القضاء قال قتادة -وقيل: خالد بن صفوان بن الأهتم-: سحابةُ صَيْفٍ عن قليلٍ تَقَشَّعُ ¬

_ (¬1) المصدران السابقان. ومن قوله: وزوَّجَهما ابنتي هشام بن عبد الملك ص 337 حتى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) بعدها في (ص): وهذا بالاتفاق. والكلام بعده إلى آخر الفقرة، لم يرد فيها. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 329، والكامل 5/ 340. (¬4) في (ص): سبع، وهو خطأ. (¬5) تاريخ خليفة ص 361، وتاريخ دمشق 3/ 491 (مصورة دار البشير).

ثابت بن نعيم الجدامي

فدعاه بلال وقال: أنت القائل كذا وكذا؟ قال: نعم. [قال: ] (¬1)، واللهِ لا تَقَشَّعُ حتى يُصيبَكَ منها شُؤْبُوب (¬2). فضربَه مئةَ سَوْط (¬3). وكان بلال ظالمًا غَشُومًا، دخلَ عليه مالك بنُ دينار، فقال له: يا أبا يحيى، ادْعُ لي، فقال له [مالك]: كيف أدعو لك، وعلى الباب ألفٌ يَدْعُون عليك (¬4)؟ ! و[قال المدائني: ] لما قدمَ يوسف بنُ عمر العراق؛ حَبَسَ عمَّال خالد (¬5) [وحَبَسَ بلالًا]، فقال للسَّجَّان: خُذْ منِّي مئةَ ألف [درهم] وقل ليوسف: إنَّني قَدْ مِتُّ. فجاء السَّجَان إلى يوسف [فأخبرَه أنه قد ماتَ. فقال: أُحِبُّ أن أراه ميِّتًا، فجاء إلى بلال] فأخبرَه. وقال: أخافُ أن يقتلني يوسف. فترك على وجهه مرقَّعةً وغَمَّهُ حتى مات، وأخرجَه إليه ميِّتًا، [فقال رجل: ] هذا رجل قصدَ أمرًا، فانعكس عليه مقصودُه [فبلالٌ يُعَدُّ فيمن قصد حاله، فانعكست عليه] (¬6). وروى بلال عن أبيه عن جدِّه، وروى عنه جماعةٌ من أهل البصرة و [أهل] الكوفة. ثابت بن نُعيم الجُداميّ من أهل فلسطين، كان رأسًا في اليمن، غزا المغرب في أيام هشام مع حنظلة بن صفوان الكلبيّ، فأفسد عليه الجُنْدَ، فكتب حنظلة إلى هشام يشكوه، فقال: ابْعَثْ به ¬

_ (¬1) لفظة "قال" بين حاصرتين، زيادة من عندي لضرورة السياق. (¬2) الشُؤْبوب: الدّفعة من المطر. وفي "أنساب الأشراف" 7/ 402، و"أخبار القضاة" لوكيع 2/ 25، و"تاريخ دمشق" 3/ 493: شُؤبوب بَرَد. (¬3) ينظر إضافة إلى ما سبق: الكامل 2/ 557، والعقد الفريد 4/ 36، ووفيات الأعيان، والوافي بالوفيات 10/ 279، وجاء في رواية في "الأغاني" 17/ 15 أن الكُميت تمثل بالبيت لما مرَّ به خالد القسري، وصدرُه فيه: أراها -وإن كانت تُحَبُّ- كأنها ... إلح. وجاءت القصة كذلك في "العقد الفريد" 1/ 81 و 3/ 176 بين ابن شُبرمة، وطارق بن أبي زياد. والبيت من شعر عِمْران بن حِطَّان الخارجي كما في "تاريخ دمشق" 52/ 245 (طبعة مجمع دمشق). ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬4) تاريخ دمشق 3/ 493 (مصورة دار البشير). (¬5) في (خ) و (د): حبسه في عمال خالد، والمثبت من (ص)، والكلام بعده بين حاصرتين متها. (¬6) بنحوه في "أنساب الأشراف" 7/ 399 - 400، و"تاريخ دمشق" 3/ 495 (مصورة دار البشير). وما سلف بين حاصرتين من (ص).

الحكم بن الوليد

إليَّ. فبعثَ به إليه، فحبسَه، فلم يزل محبوسًا حتى قدم على هشام مروانُ بنُ محمد، فاستوهَبَه منه، فوهبه إيَّاه، فأشخصَه معه إلى أرمينية، وأكرمه، وولَّاه بعضَ أرمينية، فكَفَرَ إحسانَه وعصى عليه، فاعتَقَلَه، ثم مَنَّ عليه وأطلقَه. وشهدَ البيعة بدمشق لمروان بالخلافة، وولَّاه فلسطين، فأفسد عليه الشامَ، وراسلَ اليمانيَّة، فخلعوا مروان. وجاء إلى طبريَّة، فهزمه جيش مروان، فهرب واختفى، فتلَطَّفَ مروانُ حتى جيء به إليه ومعه أولادُه، فقطَّع يَدَيهِ ورِجْلَيه، وصَلَبه، وقتلَ أولادَه وأهلَه (¬1). الحَكَم بن الوليد ابن يزيد بن عبد الملك بن مروان، كان الوليدُ عَقَدَ له ولأخيه عثمان ولايه العَهْد بعده، واستعمل الحَكَمَ على دمشق، وعثمانَ على حمص. والحكم القائل: فإن أَهْلِكْأنا وَوَليٌّ عهدي الأبيات (¬2). وأمُّهُ أُمُّ ولد. قال الزُّبير بن بكَّار: شُدِخَ الحَكَم بالعُمُد، وذُبح عثمان فهو يسمَّى المذبوح، وأمُّه عاتكةُ بنت عثمان بن محمد بن عثمان بن محمد بن أبي سفيان بن حرب بن أميَّة (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 579 - 580 (مصورة دار البشير). وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 574 - 575. وفيهما وفي المصادر الأخرى أن مروان قتل ثابتًا وابنيه، وقول المختصر: وأهله، فيه نظر. وسلف بعض أخباره في أحداث هذه السنة (أواخر فقرة ذكر بيعة مروان). ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬2) سلفت الأبيات أوائل أحداث هذه السنة وهي في "تاريخ الطبري" 7/ 311 - 312، و"تاريخ دمشق" 5/ 240 - 241 (مصورة دار البشير) وتنظر فيه ترجمة الحكم بن الوليد. (¬3) تاريخ دمشق 47/ 40 - 42 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عثمان بن الوليد). وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 302، ولم ترد ترجمة الحكم بن الوليد في (ص).

سعد بن إبراهيم

سَعْد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف، [وكنيتُه] أبو إسحاق، الزُّهْري، [وهو] من الطبقة الرابعة من أهل المدينة. وأمُّهُ أمُّ كلثوم بنتُ سَعْد بن أبي وقَّاص. [قال ابن سعد: ] وَلِيَ قضاءَ المدينة، وكان يصومُ الدَّهر، ويختمُ القرآنَ في كلِّ يوم وليلة (¬1). وقال أبو نُعيم: صام أربعين سنة (¬2). وقال ابنُه: كان أبي يحتبي، فما يَحُلُّ حَبْوَتَهُ حتى يختم القرآن، وإذا جاءت الليالي الأفراد في العشر الأواخر من شهر رمضان ختم القرآن كلَّ ليلة (¬3)، وكان لا يأكل إلا مع المساكين. [وقال ابن سعد: ] توفّي بالمدينة سنة سبع وعشرين ومئة (¬4). ويقال: سنة ستّ وعشرين -أو خمس وعشرين- ومئة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة (¬5). أسند عن عبد الله بن جعفر، وأنس بن مالك، و [أبي أُمامة بن] (¬6) سهل بن حُنَيف، ورأى ابنَ عمر، وروى عن أبيه، وابنِ المسيِّب، وخلقٍ كثير من التابعين. وروى عنه من التابعين: يحيى بنُ سعيد الأنصاري، والثوريُّ، وغيرهما، وهو من رجال "صحيح" البخاري (¬7). وكانت له نِسْعَةٌ (¬8) مُعَلَّقةٌ، فإذا قامَ بالليل ونَعَسَ؛ تَعَلَّقَ بها. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 447 - 44، وتاريخ دمشق 7/ 96 و 100 (مصورة دار البشير). وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬2) حلية الأولياء 3/ 169، وذكر رواية أخرى عن شعبة قال: كان سعد يصوم الدهر. (¬3) في المصدر السابق و"تاريخ دمشق" 7/ 100: لم يفطر حتى يختم القرآن. وقوله: يجتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن، من (د). وفيها: حباته، بدل: حبوته، والمثبت من المصدر المذكور. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 448. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬5) تاريخ دمشق 7/ 105. (مصورة دار البشير). (¬6) ما بين حاصرتين من "تاريخ دمشق" 7/ 95، و"تهذيب الكمال" 10/ 241. (¬7) ومن رجال مسلم أيضًا. (¬8) النِّسْعَة (بكسر النون): قطعة من النِّسْع، والنِّسْعُ: سَيْر عريض طويل تشَدُّ به الحقائب أو الرِّحال أو نحوها. والخبر في "تاريخ دمشق" 7/ 100، وتحرفت هذه اللفظة فيه وفي (خ) و (د) (والكلام منهما) إلى: تسعة.

عبد العزيز بن الحجاج

وقضى في خادمه برأي ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن، فأخبره ابنُ أبي ذئب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ذلك، فقال له ربيعة: قد اجتهدتَ وأمضيتَ الحُكْمَ. فقال له: أردُّ قضاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأُمْضِي حُكْمَك ورأيَك؟ ! ودعا بالصحيفة فشقَّها، وقضى بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقيل له: مَنْ أفْقَهُ أهلِ المدينة؟ فقال: أتقاهم لربِّه (¬2). وسعدٌ الذي أحْرَقَ القُبَّةَ التي بعثَ بها الوليدُ بنُ يزيد إلى المدينة (¬3)، وفيه يقول الشاعر: لسعدِ بنِ إبراهيمَ خَمْسُ مَنَاقِبٍ ... عَفَافٌ وعَدْلٌ فاضلٌ وتَكَرُّمُ ومَجْدٌ وإطعام إذا هَبَّتِ الصَّبَا ... وأمرٌ بمعروفٍ إذا الناسُ أحْجَمُوا (¬4) وكان له من الولد: إسحاقُ وآمنةُ؛ أمُّهُما أمُّ كلثوم بنت محمد بن عبد الله الحَكَمي، وإبراهيمُ وسَوْدَةُ؛ أمُّهما أَمَةُ الرحمن، من بني عامر بن لُؤيّ، ومحمدٌ وإسماعيلُ لأمِّ وَلَد (¬5). عبد العزيز بن الحجَّاج ابن عبد الملك بن مروان، [وكنيتُه] أبو الأصبغ، وهو الذي تولَّى قتل الوليد بن يزيد، وولَّاه يزيد الناقص العهدَ بعد أخيه إبراهيم لمساعدته إيَّاه على ذلك (¬6). وأمُّه ريطَة بنت عُبيد الله بن عبد الله الحارثيّ أُمُّ أبي العبَّاس السَّفَاح؛ تزوَّجَها محمد بن عليّ بعد ما طلَّقها [عبد الله بن] (¬7) عبد الملك (¬8)، فعبد العزيز أخو السَّفَّاح لأمّه. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 7/ 101 (مصورة دار البشير). (¬2) المصدر السابق 7/ 102، وبنحوه في "حلية الأولياء" 3/ 169. (¬3) سلف ذكم القُبَّة أوائل ترجمة الوليد بن يزيد في أحداث السنة (126) وكان الوليد يريد أن يجعلها مقابل الكعبة. والخبر في "المنتظم" 7/ 237 - 238. (¬4) تاريخ دمشق 7/ 102 - 103، والوافي بالوفيات 15/ 149. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 447. ومن قوله في هذه الترجمة: وروى عنه من التابعين يحيى بنُ سعيد ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬6) تاريخ دمشق 42/ 301 (طبعة مجمع دمشق). (¬7) ما بين حاصرتين من "نسب قريش" ص 30، و"تاريخ دمشق" ص 105 - 106 (ترجمة النساء- طبعة مجمع دمشق). (¬8) من قوله: وولَّاه يزيد الناقص العهد ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

عمرو بن عبد الله

وتزوَّج عبد العزيز أمَّ سَلَمة بنتَ هشام بن عبد الملك [ابنةَ عمّه]. [وحكى أبو القاسم ابنُ عساكر قال: ] حجَّ عبد العزيز بالناس (¬1) سنة أربع وعشرين ومئة، ومعه زوجتُه أمُّ سَلَمة بنت هشام (¬2). ولما دخل مروان دمشق ثار بعبد العزيز موالي الوليد [بن يزيد]. [قال خليفة: توجَّه عبد العزيز بن الحجَّاج بن عبد الملك إلى داره ليُخرج عياله، فثار به الموالي] وأهل دمشق، فقتلوه، واحتزُّوا رأسَه، وأتَوْا به أبا محمد السُّفيانيَّ، وكان محبوسًا مع الغلامَين (¬3)، فأخرجوه في قيوده ووضعوه على منبر دمشق، ووضعوا رأسَ عبد العزيز بين يديه، ثم حلُّوا قيودَه، فخطبَ وبايعَ لمروان [بن محمد]، ولعنَ يزيدَ وإبراهيم [ابني الوليد] وعبدَ العزيز، ورماهم بالقَدَر، وأمرَ بجسد عبدِ العزيز، فصُلبَ منكوسًا بباب الجابية، وبعث برأسه إلى مروان، واستأمن السفيانيُّ لأهل دمشق، فأمَّنَهم مروان (¬4). عمرو بنُ عبد الله ابن عليّ، أبو إسحاق السَّبِيعيّ الهَمْدانيّ، من الطبقة الثالثة، -وقيل: الرابعة- من أهل الكوفة. وُلد لثلاثِ سنين بقين من خلافة عثمان رضوان الله عليه، وصلَّى خلف عليٍّ رضوان الله عليه الجمعة بعد الزَّوال، قال: وسمعتُه يخطب وهو أبيضُ الرأس واللحية، أجلح (¬5). وقال لي أبي: قُمْ، فانظر إلى أمير المؤمنين (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): وحجَّ بالناس ... والمثبت عبارة (ص) وما بين حاصرتين منها. والكلام في "تاريخ دمشق" 42/ 301 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) في (خ) و (د): وهي معه، بدل: ومعه زوجته ... إلخ. والمثبت من (ص). (¬3) يعني الحَكَم وعثمان ابنَي الوليد بن يزيد، وسلف خبرهما قريبًا. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) تاريخ خليفة ص 373 - 374، وتاريخ دمشق 42/ 302 (طبعة مجمع دمشق) وما سلف بين حاصرتين منه. (¬5) الأجلح من الناس: الذي انحسر شعره عن جانبي رأسه. النهاية (جلح). (¬6) طبقات ابن سعد 8/ 431، وحلية الأولياء 4/ 341.

وغزا الروم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ووفَدَ على معاوية، وفرضَ له في ثلاث مئة من العطاء (¬1). وقال: كابدتُ الليل أربعين سنة (¬2). وهو من كبار التابعين، وكان قد كُفَّ بصرُه، وهو من أقران الشعبي. وقال مغيرة: كنت إذا رأيت أبا إسحاق ذكرت به الضرب الأول (¬3). وقال العلاء بن سالم العَبْديّ: ضَعُفَ أبو إسحاق عن القيام، فكان لا يقدر أن يقومَ إلى الصلاة حتى يُقام، فإذا أقاموه؛ قرأ ألفَ آية وهو قائم (¬4). وفي رواية: فكأن يقرأُ البقرةَ وآلَ عمران قائمًا (¬5). ويقوم ليلة النصف (¬6). مات أبو إسحاق وله مئة سنة -وقيل: تسع وتسعون (¬7) - في سنة ثمان وعشرين ومئة. وقيل: سنة تسع وعشرين، وقيل: سنة ثلاثين ومئة. أدرك خلقًا كثيرًا من الصحابة، وروى عن ثلاثة وثلاثين (¬8) من الصحابة. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 13/ 540 (مصورة دار البشير). (¬2) في "أخبار أصبهان" 2/ 26 - وعنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 13/ 544: كان يكابد الليل متهجدًا أربعين سنة. وفي "حلية الأولياء" 4/ 339، و"تاريخ دمشق" 13/ 548 عن أبي إسحاق قال: ما أقلت عيني غمضًا منذ أربعين ستة، فلعل المصنف نقل الخبر بالمعنى. (¬3) حلية الأولياء 4/ 338، وصفة الصفوة 3/ 104، وفيه: الصدر الأول. (¬4) حلية الأولياء 4/ 339، وأخبار أصبهان 2/ 26، وصفة الصفوة 3/ 105. (¬5) المصدران السابقان. (¬6) كذا في (خ) و (د) (والكلام منهما) وغالب الظنّ أن الكلام محرَّف عن قوله في "صفوة الصفوة" 3/ 105 عن سفيان قال: كان أبو إسحاق يقوم ليل الصيف كله، وأما الشتاء فأوله وآخره وبين ذلك هجعة. (¬7) طبقات ابن سعد 8/ 432، وفي "أخبار أصبهان" 2/ 26 أنه توفي وهو ابنُ تسعين سنة، ونقله عنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 13/ 544. (¬8) في "أخبار أصبهان" 2/ 26 - وعنه ابن عساكر-: أربعة وثلاثين، وفي "حلية الأولياء" 4/ 338 و 341، و"صفة الصفوة" 3/ 105: أربعة -أو ثلاثة- وعشرين.

علي بن زيد بن عبد الله

وسمع من عليّ، وسعيد بن زيد، وابنِ عُمر، وأسامة بن زيد، وابن الزُّبير، والمغيرة، وابن عبَّاس، والبَرَاء بن عازب، وعديّ بن حاتم، وزيد بن أرقم، ورافع بن خَدِيج، والنعمان بن بشير، ومعاوية، وغيرهم (¬1). وروى عن خلق من التابعين، وروى عنه الثوريُّ (¬2)، والأعمشُ، وابنُ عُيَينة، وغيرُهم. وقال رجل لشعبة: أسمعَ أبو إسحاق من مجاهد؟ قال: وما يصنع بمجاهد؟ هو كان أحسنَ من مجاهد ومن الحسن وابنِ سِيرِين (¬3). وقال الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل رحمه الله: أبو إسحاق والأعمش رَجُلَا أهلِ الكوفة (¬4). وقال ابن عساكر: اختلط في آخر عمره (¬5). عليُّ بن زيد بن عبد الله ابن زهير بن عبد الله بن جُدْعَان، أبو الحسن التَّيميّ، من الطبقة الرابعة من أهل البصرة. وُلد أعمى (¬6). وجدُّه عبد الله بن جُدْعان، كان أحدَ الأجواد، وكان في داره حِلْفُ الفضول في الجاهلية، وشَهدَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7). وكانت جفنتُه يُرْتَقَى إليها بسُلَّم (¬8)، ووقع فيها ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 4/ 341، وتاريخ دمشق 13/ 539. وذكر المزي في "تهذيب الكمال" 22/ 103 أنه قيل: لم يسمع من علي، ولا من أسامة بن زيد، ولا من المغيرة. وذكر ابنُ أبي حاتم في "المراسيل" ص 122 عن أبيه أن أبا إسحاق لم يسمع من ابن عمر. (¬2) وهو أثبت الناس فيه، كما ذكر المِزِّي في "تهذيب الكمال" 22/ 109. (¬3) تاريخ دمشق 13/ 549 (مصورة دار البشير). (¬4) تاريخ دمشق 13/ 553. (¬5) المصدر السابق 13/ 553 - 554، ولم ترد هذه الرجمة في (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 9/ 251. (¬7) أنساب الأشراف 8/ 263، و"الرَّوْض الأُنُف" 1/ 55 - 156. (¬8) قال ابن قتيبة، فيما نقله عنه السهيلي في "الروض الأُنُف" 1/ 158: كانت جفنتُه يأكل منها الراكب على البعير. وقال أبو هلال العسكري في "ديوان المعاني" 1/ 302: كان لعبد الله جفنة يأكلُ منها القائم والقاعد والراكب. ولعل المختصر نقل الخبر بالمعنى.

عمرو بن قيس

رجل (¬1) فغرق. ولمَّا كَبِرَ حَجَرَ عليه أهلُه لئلا يتلفَ مالُه، فكان يقول للرجل: آدْنُ منّي حتى أَلطِمَك، وطَالِبْني بالقَوَد، فكان يُرضيه بمال (¬2). مات عليٌّ بالبصرة سنة سمبع وعشرين، وقيل: سنة إحدى وثلاثين ومئة في طاعون البصرة. أسند عن أنس بن مالك، وغيره، وروى عنه الثوريُّ وغيرُه. وكان أعلمَ الناس بعلم الحسن البصري، وكان الحسن يستخفي من الحجَّاج عنده (¬3)، ووفَدَ على عمرَ بن عبد العزيز. وقد تكلَّموا فيه. وقال ابنُ عساكر: كان يتشيَّع، واختلط في آخر عمره (¬4). عَمرو بن قيس [ابن ثور] (¬5) بن مازن بن خيثمة، أبو ثور السَّكُوني الحمصي الكِنْدي، من الطبقة الثالثة (¬6)، وقيل: الثانية فيمن وَلِي السرايا (¬7). ووليَ الصائفة لعُمر بن عبد العزيز، رحمةُ الله عليه، من تابعي أهلِ الشام (¬8). ومولدُه سنة أربعين، وتوفّي سنة سبع وعشرين، وقيل: سنة خمس وعشرين، والأوَّل أصحُّ. قال ابنُ عساكر: وسارَ إلى دمشق (¬9) سنة ستٍّ وعشرين لطلب الثأر بدم الوليد بن يزيد. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (د) (والكلام منهما). وفي "الرَّوْض الأُنف" 1/ 158: صبيّ، وفي "البداية والنهاية" 3/ 266: صغير. وهو الأشبه. (¬2) أنساب الأشراف 8/ 2385. وسلف نحوه في ترجمة عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مُليكة سنة (117). (¬3) تاريخ دمشق 12/ 94 (مصورة دار البشير). (¬4) ينظر المصدر السابق 12/ 98 و 99. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬5) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬6) طبقات ابن سعد 9/ 462. (¬7) تاريخ دمشق 13/ 594 (مصورة دار البشير) عن أبي زُرعة. (¬8) المصدر السابق 13/ 593. (¬9) في المصدر السابق: قدم دمشق مكرهًا.

عمير بن هانئ

وقيل: عاش إلى أوَّل خلافة المنصور. قال إسماعيل بن عيَّاش: أدرك عَمرو سبعين من الصحابة أو أكثر، وروى عنه الأوزاعيُّ وغيره، وكان صالح الحديث (¬1). عُمير بن هانئ أبو الوليد العَنْسيّ، من أهل داريا. [ذكره ابن سُميع] من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام (¬2). [وحكى أبو القاسم ابن عساكر عن الوليد بن مسلم قال]: كان يُسبِّحُ كلَّ يوم مئة ألف تسبيحة لا يفتُرُ لسانُه من ذكر الله (¬3). [قال: ] ووَلِيَ الكوفة للحجَّاج في أيام عبد الملك، ووَلِيَ خَراج دمشق في خلافة عمر بن عبد العزيز (¬4). وروى عن ابن عُمر وغيره، وروى عنه الزُّهريُّ وغيرُه، وكان ثقة. وقال قوم: قتلَه مروانُ بنُ محمد؛ لأنه كان من شيعة يزيد الناقص، فقتله الصَّقْر بن حبيب المُرِّي بداريَّا، وأُدْخِلَ رأسُه على رُمْح إلى دمشق، وقيل: المقتولُ ابنُه (¬5). أدرك عُمير خلقًا من الصحابة. [قال البخاري: زعم أنه أدرك ثلاثين من الصحابة (¬6). وكان ثقة، رحمه الله تعالى] (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر المصدر السابق 13/ 595. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬2) بعدها في (ص) ما لفظُه: "وقال: حفظ عن معاذ بن جبل". وهو خطأ ظاهر؛ إذ إن وفاة معاذ - رضي الله عنه - سنة (18). لذا لم أُثبته أعلاه. والصواب: حفظ عن معاوية. ينظر "تاريخ دمشق" 56/ 157. (¬3) تاريخ دمشق 56/ 161 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) المصدر السابق 56/ 155. (¬5) تاريخ دمشق 56/ 162. وينظر "تاريخ داريا" ص 75 - 77. (¬6) التاريخ الكبير 6/ 535، وعنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 56/ 157. (¬7) ما وقع بين حاصرتين في هذه الترجمة من (ص).

يوسف بن عمر

يوسف بن عُمَر ابن محمد بن الحكم بن أبي عَقيل الثقفي [ابنُ] (¬1) ابنِ عمِّ الحجَّاج [بن يوسف]. ولِيَ اليمن لهشام [بن عبد الملك] ثم ولّاه العراقين، وأقرَّه الوليد بن يزيد. [وقال أبو القاسم الحافظ: ] كانت دارُه بدمشق ناحية سوق الغزل العتيق. [وقال خليفة: ولّاه هشام اليمن في سنة ستٍّ ومئة، فقدمها في رمضان لثلاث ليال بقين منه، فلم يزل واليًا عليها حتى مات هشام. و[قال المدائني: ] كان يُطعِمُ العراقَ كلَّ يومٍ على خمس مئة خُوان، وكانت مائدتُه وأقصى الموائد سواءً. [وقال الأصمعيّ: ] ولَّى أعرابيًّا عملًا، فخانَ فيه، فقال له [يوسف]: يا عدوَّ الله، أكَلْتَ مال الله؟ ! قال: فمالُ منْ آكُلُ؟ واللهِ لو طلبتُ من الشيطان درهمًا واحدًا ما أعطاني. فضَحِكَ يوسف وأطلقه. وكان يقتفي آثار الحجَّاج. [وقد ذكرنا أن يوسف بن عمر] قتلَ زيدَ بنَ عليّ، وضربَ وَهْبَ بن مُنبِّه حتى مات، وقتلَ خالدَ [بنَ عبد الله] القَسْرِيَّ بالعذاب، ومات بلالُ بنُ أبي بُردة في حَبْسِهِ. ولما قُتل الوليدُ بنُ يزيد، هرب من العراق إلى البَلْقَاء، فبعثَ يزيدُ الناقصُ، فأخَذَه وحبَسَه، وعَزَمَ أن يُسيِّرَه إلى العراق، فيقامَ للناس ويُقتصَّ منه المظالم من ماله ودمه، فمات يزيد، وبقي يوسف في الحَبْس، فدخلَ عليه يزيدُ بنُ خالد القَسْرِيُّ، فقتلَه بأبيه. وحكى أبو القاسم ابن عساكر عن محمد بن المغيرة الكوفي قال: كنتُ بدمشق لما قُتل يوسف بنُ عمر، فقطعُوا رأسَه، وربطُوا رِجْلَيهِ بشريط، وجعل الصِّبْيَانُ يجرُّونه، فتمرُّ المرأة، فتَرَى جسدًا صغيرًا، فتقول: في أيِّ شيء قُتل هذا الصبيُّ المسكين؟ ! لِما تَرَى من صِغَر جُثَّتِه (¬2)، وكان من أعظم الناس لحيةً، وأصغرِهم قامةً. ¬

_ (¬1) لفظة "ابن" بين حاصرتين من (ص)، وكذلك كل ما سيرد بين حاصرتين في هذه الترجمة. (¬2) لفظ هذا الخبر من (ص)، وهو في (خ) و (د) بنحوه ودون إسناد.

السنة الثامنة والعشرون بعد المئة

وقُتِلَ [يوسفُ] وهو ابنُ بضع وستين سنة. وقال أبو غسان الثقفيّ: كنتُ بدمشق، فقيل لي: رأَينَا ابنَ عمِّك يوسفَ بنَ عمر مقتولًا في هذا الموضع، وفي مذاكيره حَبْلٌ يُجَرُّ به، ثم رأَينَا بعد ذلك يزيدَ بنَ خالد القَسْرِيَّ في هذا الموضع، وفي مذاكيره حَبْلٌ يُجَرُّ به (¬1). السنة الثامنة والعشرون بعد المئة فيها بعث إبراهيمُ الإمام أبا مسلم إلى خُراسان، وأَمَّرَهُ على أصحابه وشيعتِه، وكتبَ إليهم بذلك، فأتاهم فلم يقبلوا منه، وخرجَ من قابل إلى مكة، وأخبره أبو مسلم أنهم لم يُنفذوا أمرَه، فقال إبراهيم: قد كنتُ عرضتُ الأمرَ على جماعة منهم، فلم يقبلوه. ثم كتب له كتابًا ثانيًا: إني قد أمَرْتُهُ بأمري، فلا تُخالفوه. ثم أوصاه بوصايا، منها: أنه قال: انزل بين الحيِّ من اليمن (¬2) وأَكْرِمْهُم، فإنَّ الله مُتَمِّمٌ بهم هذا الأمر، واتَّهِمْ ربيعة، واقْتُلْ من شَكَكْتَ فيه من مُضَر، وإن استطعتَ أن لا تدعَ في خُراسان [لسانًا] عربيًّا (¬3) فافْعَلْ، وأيُّما غلام بلغ خمس سنين أو خمسة أشبار (¬4) واتَّهمْتَه فاقْتُلْه، ولا تُخالف سليمان بنَ كثير، ولا النُّقَباء الاثني عشر، فمانه لا يتمُّ هذا الأمرُ إلا على الوجه الذي ذكرتُ لك. وفيها قُتل الخيبريُّ الخارجيُّ، وسنذكرُه إن شاء الله تعالى (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "مختصر تاريخ دمشق" 28/ 85 - 89، ووقعت ترجمة يوسف بن عمر ضمن خرم في "تاريخ دمشق". وينظر خبر يوسف بن عمر مفصَّلًا في "أنساب الأشراف" 7/ 442 - وما بعدها، وسلف بعض أخباره في أحداث السنوات السابقة. وقوله: ثم رأينا بعد ذلك يزيد بن خالد القسري في هذا الموضع ... إلخ، من (د). وكلُّ ما وقع بين حاصرتين في هذه الترجمة من (ص). (¬2) في (خ) و (د) (والكلام منهما): مُضَر، وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 344، و "الكامل" 5/ 348. (¬3) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري، وفي "الكامل": من يتكلم بالعربية. (¬4) في المصدرين السابقين: وأيُّما غلام بلغ خمسة أشبار. (¬5) الخبر مفصل في "تاريخ" الطبري 7/ 346 - 347، و"الكامل" 5/ 350.

إسماعيل بن عبد الرحمن السدي

وفيها لقيَ المختارُ بن عَوْف أبو حمزةَ الخارجيُّ الأزديُّ البصريُّ عبدَ الله بنَ يحيى, فدعاه إلى مذهبه، وكان مُقيمًا بحضرموت ويحجُّ كلَّ موسم، ويدعو الناسَ إلى مخالفة بني مروان، فقال لعبد الله بن يحيى: أنتَ من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أُقاتلُ مَنْ خالفَهم، فاخْرُجْ معي إلى حضرموت، فإني مطاعٌ هنالك. فخرج معه، فبايَعَه أبو حمزة بالخلافة (¬1). وحجَّ بالناس [في هذه السنة] عبدُ العزيز بنُ عمر بنِ عبد العزيز وهو على مكة والمدينة والطائف، وكان بالعراق عُمَّالُ الضحاك، وعبدُ الله بنُ عمر، وعلى قضاء البصرة ثُمامةُ بنُ عبد الله بن أنس، وعلى خُراسان نَصْرُ بنُ سَيَّار، والفتنةُ قائمةٌ بين نَصْر والحارث والكِرْمانيِّ (¬2). وفيها توفّي إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّيّ صاحب التفسير والمغازي والسِّيَر. [وقال الجوهري: سُمِّي إسماعيلُ السُّدِّيَّ؛ لأنه كان يبيع المقانع (و) الخُمُر في سُدَّة مسجد الكوفة، وهي ما يبقى من (الطاق) المسدود] (¬3). وكان إمامًا فاضلًا عارفًا بالوقائع وأيَّام الناس. [وذكره ابنُ سعد] من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الكوفة [وقال: السُّدِّيُّ صاحب التفسير] مات سنة سبع وعشرين ومئة (¬4). [وقال الهيثم: مات في سنة ثمان وعشرين ومئة]. وقد تكلموا فيه، ووثَّقَه سفيان الثوريُّ، وشعبة، ويحيى بن سعيد القطَّان (¬5)، وغيرُهم. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 348. (¬2) ينظر المصدر السابق 7/ 347 - 348. (¬3) ما بين حاصرتين من (ص)، وهو في "الصحاح" 1/ 482 (سدد) ولفظة "الطاق" بين قوسين عاديين منه. (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 441. والكلام السالف والآتي الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬5) نقل الترمذيُّ توثيقَهم للسُّدّيّ في "سننه" بإثر الحديث الآتي ذكره.

جابر بن يزيد الجعفي

وضعَّفَه قوم لرواية حديث الطَّير، ورواه التِّرمذيُّ عن السُّدِّيّ عن أنس قال: كنَّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده طائرٌ، فقال: "اللهمَّ ائْتِني بأحبِّ خلقِك إليك يأكلُ معي من هذا الطائر (¬1) ". فأَتَى عليٌّ، فأكلَ معه. فلمَّا ضعَّف ابنُ معين وابنُ مهدي حديثَ الطائر وثقه الترمذي (¬2). وقال الحاكم النيسابوري: حديث الطائر يلزمُ البخاريَّ ومسلمًا إخراجُه في "صحيحيهما" لأنه على شرطهما، ورجاله ثقات (¬3). وأخرج الحديث أبو لفَرَج [ابن] الجوزي رحمه الله في "الأحاديث الواهية" (¬4) عن أنس وابن عباس من طرق كثيرة، وقال في آخره: وكان الحاكم أبو عبد الله قد صنَّف في طرقه جزءًا ضخمًا، وأدخله في "المستدرك على الصحيحين". فبلغ الدارقطنيَّ فقال: يُستدركُ عليهما حديث الطائر؟ ! فبلغ الحاكمَ، فأخرجه من الكتاب (¬5). جابر بن يزيد الجُعفي من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة، وقد تكلَّموا فيه وضعَّفوه (¬6). الحارث بن سُرَيج الخارجي قد ذكرنا أنَّ يزيدَ بنَ الوليد أمَّنَه، وأقام بمَرْو، واجتمع إليه ثلاثةُ آلاف. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (3721) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث السُّدِّيّ إلا من هذا الوجه. (¬2) كذا في (خ) و (د) (والكلام منهما). ولعل الصواب: فكما ضعَّف ابن معين ... إلخ. وقد نقل ابنُ الجوزيّ في "العلل المتناهية" 1/ 230 تضعيف ابن مهدي وابن معين لإسماعيل السُّدّيّ، وسلف كلام الترمذي على الحديث في التعليق السابق، وكلامه ليس توثيقًا له. (¬3) أخرج الحاكم حديث الطير في "المستدرك" 3/ 130 - 131 من غير طريق السُّدِّي وقال بإثره: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه. ولعل المصنف نقل كلام الحاكم بالمعنى. (¬4) واسمه: العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، والكلام فيه 1/ 236. (¬5) هو في "المستدرك" كما سلف. وقد ذكر الذهبيّ في "تاريخ الإسلام" 9/ 89 في ترجمة الحاكم بسند صحيح عنه أنه سُئل عن حديث الطائر، فقال: لا يصحّ. قال الذهبيّ: لعله تغيَّر رأيه. اهـ ومن قوله: وقد تكلموا فيه ووثقه سفيان ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 8/ 464. ولم ترد هذه الترجمة في (ص).

فبينما هم على ذلك قدمَ ابنُ هُبيرة العراق، وكتبَ إلى نصر بنِ سيَّار بعهده على خُراسان، فقال الحارث: إنَّما أمَّنَني يزيد [بن الوليد] ومروان لا يُجيز أمانَه، ولا آمَنُهُ على نفسي. ودعا إلى نفسه، ونال من مروان، فأتاه سَلْمُ بنُ أَحْوزَ، وحمَّاد بنُ عامر، وقَطَن بن محمد، ووجوه القُوَّاد وقالوا: نُذَكِّرُك اللهَ أن تُفَرِّقَ جماعتَنا وقد أمَّنَك نصر، واجتمعَتْ كلمتُنا بك، فلا تُفَرِّقْها. فلم يلتفت، وخرجَ فعسكر بظاهر مَرْو، وأرسل إلى نصر: اجْعَلِ الأمرَ شُورى. فأبى نصر. وكان جَهْمُ بنُ صفوان مولى بني راسب صاحبُ المقالة الذي ينسب إليه الجَبْر كاتِبَ الحارثِ وصاحِبَ عسكرِه ومتولِّي أمرِه، فأمره الحارث أن يكتبَ كتابًا فيه سيرةُ الحارث، فكتبَه، وقرأه على الناس، ومشى بينهما السُّفراء، وأن يكون بينهما رجالٌ يعملون بكتاب الله وسنَّة رسوله، فاختارَ نصرٌ مقاتل بنَ سُليمان، ومُقاتلَ بنَ حَيَّان، واختار الحارث المغيرةَ بنَ شعبة الجهضمي ومعاذ بن جَبَلة. وقال الحارث [لنصر] (¬1): اعْزِلْ سَلْمَ بنَ أحْوَز عن شُرطتك، واستعمل بِشْرَ بنَ بِسطام البُرْجُميّ. فعزلَه. وأمر نصرٌ كاتبَه أن يكتبَ ما يرضَوْن به من السُّنن (¬2) والسير، ومَنْ يختارون من العمال فيولِّيهم الثَّغْرَين: سَمَرْقَنْد وطَخَارستان. وكان الحارثُ يقول: إنه صاحبُ الرَّايات السُّود، وإنه يهدمُ سُورَ دمشق، ويزيل مُلْكَ بني أميَّة. وبلغ نصرًا، فأرسل إليه يقول: قد بلغَني عنك كذا وكذا، فخُذْ منّي خمسَ مئة رأس، ومئتي بعير، واحْمِلْ من الأموال ما شئت، ومن آلة الحرب، وسِرْ. ولَعَمْري لئن كنتَ صاحبَ ذاك إني لفي يدك، وإن كنتَ لستَ ذاك؛ فقد أهلكتَ عشيرتَك. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 7/ 330. وينظر سياق الكلام وترتيب أحداثه فيه فهو أحسن. (¬2) في (خ) و (د) (والكلام منهما): الصور، والمثبت من المصدر السابق.

فقال الحارث: قد علمتُ أنَّ هذا حقٌّ، ولكن لا يُتابعُني (¬1) عليه أصحابي. فقال نصر: فقد تبيَّن أنهم ليسوا على رأيك، ولا لهم مثلُ بصيرتك، وأنهم رَعاع وفُسَّاق، فاذكر اللهَ (¬2) في عشرين ألفًا من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بيننا (¬3). وقال سَلْم بن أحوز: دعني أَفْتِكْ بالحارث. فقال: قد أمَّنَّاه (¬4). ثم أرسل نصر إلى الحارث يستميلُه ويقول: أُوَلِّيك ما وراء النهر، وأُعطيك ثلاثَ مئة ألف درهم. فلم يقبل، وتَنَاظَرَا مُدَّةً، ثم تَرَاضيا أن يحكم بينهما مُقاتلُ بنُ حَيَّان وجَهْمُ بنُ صفوان، فحَكَما أن يعتزلَ نصر، ويكونَ الأمرُ شُورى، فلم يرضَ نَصْر. وكان جَهْمٌ يقصُّ في عسكر الحارث، ويُؤَشِّبُ (¬5) الناس في (¬6) الفتنة، ويُميلهم إلى الحارث. وكتبَ الحارثُ سيرتَه، فكانَتْ تُقْرَأُ على الناس وفي المساجد والطُّرُق. واحترزَ نصر على مَرْو، فولَّى عليها سَلْمَ (¬7) بنَ أحْوز وعلى القَهَنْدَز (¬8)، وعلى أبواب البلد، وسدِّ عوراتِه، وقَدِمَ عليه جماعة من قُوَّاد خُراسان، فاستظهر على الحارث، والحارثُ نازلٌ بظاهر مَرْو وقد عسكر، وقدمَ عليه الكِرْمانيُّ في وجوه خُراسان فكان مع الحارث، وانضمَّ (¬9) إليه خلقٌ كثير، ومقصودُه أن يستوليَ على مَرْو ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 331، و"الكامل" 5/ 343: لا يُبايعني. (¬2) في "تاريخ" الطبري: فأُذكِّرُك اللهَ. (¬3) في المصدر السابق: بينكم. (¬4) ثمة اختلاف في ترتيب أحداث هذا الخبر عن روايته في "تاريخ" الطبري 7/ 330 - 331. (¬5) كذا رسم اللفظة في (خ) و (د) (والكلام منهما) يقال: أشَّبَ بينهم: حَرَّش. (¬6) في (د): على. (¬7) في (خ): سالم. والمثبت من (د)، وهو موافق لما جاء من قبل، ولما في "تاريخ" الطبري 7/ 331. ووقع في بعض المصادر: سالم. (¬8) عبارة "تاريخ" الطبري 7/ 331: وحوَّلَ السلاحَ والدواوين إلى القَهَنْدَز. قال ياقوت في "معجم البلدان" 4/ 419: هو (أي: القهندز) في الأصل اسم الحصن أو القلعة في وسط المدينة، وهي لغة كأنها لأهل خراسان وما وراء النهر خاصَّة، وأكثر الرواة يسمُّونه: قُهُنْدُز، وهو تعريب كُهُنْدُز، معناه: القلعة العتيقة ... قال: وهو في مواضع كثيرة، منها: قهندز سمرقند، وقهندز بخارى، وقهندز بلخ، وقهندز مرو، وقهندز نيسابور، وهو في مواضع كثيرة. (¬9) في (د): وانضاف.

ويُخرجَ نصرًا منها، فقال لأصحابه: ما نجعلُ شعارنا؟ فقال له مقاتل بن سليمان: إن شعار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حم، لا ينصرون" (¬1). فجعلوه شعارهم والتقَوْا، فهجمَ بعضُهم المدينة، وحملَ رجل على جَهْم فطعنه في فيه، فقتلَه، عاقَبَهُ اللهُ حيث أقدم على كتابه أنَّه مخلوق (¬2)، وجاؤوا إلى منزل سَلْم، فنهبوه فنادى سَلْم: مَنْ جاء برأسٍ فله ثلاثُ مئة. وقيل: إنَّما أُسِرَ جَهْمٌ، فأخذ يخدعُ سَلمًا، فقال له سَلْم: لو ملأتَ لي هذه المَلَاةَ (¬3) كواكبَ، وأنزلْتَ (¬4) عيسى بن مريم من السماء؛ ما نجوتَ، ولو كنتَ في بطني لشَقَقْتُ بطني حتى أقتلَك، واللهِ لا تقومُ مع اليمانيَّة أكثر ممَّا قمتَ. ثم ضرب عنقه. وكُنية جَهْم أبو مُحْرِز. وانهزمَ الحارثُ، وكان الكِرْمانيُّ قد انضمَّ إليه في قتال نصر، فشجّع الحارث وقال له: قف فعاد وقاتلَ الكِرْمانيُّ قتالًا شديدًا، وقتَلَ من أصحاب نصر جماعةً. وهَزَمَت اليمانيَّةُ مُضَرَ، واليمانيَّةُ مع الحارث والكِرْمانيّ، فبعث الحارثُ إلى نَصْر يقول: إن اليمانيَّةَ يُعَيِّروني بانهزامكم وأنا كافٌّ عنكم، فاجعل حُماةَ أصحابِك بإزاء الكِرْمانيّ، ففعل. ثم ظهر الكِرْمانيُّ على مَرْو، وخرج نَصْرٌ منها في حُماةِ أصحابه، وقال نَصْر لنسائه: سيخلُفُني فيكنَّ الحارثُ بنُ سُرَيج ويحميكنَّ. ثم سار حتى نزلَ نيسابور، فتلَقَّوْه بالهدايا والتُّحف (¬5). ولما سار نَصْر من مَرْو؛ غَلَبَ عليها الكِرْمانيُّ والحارثُ، فهدم الكِرْمانيُّ دُورَ بعضِ أصحاب نَصْر، وأفسدَ أصحابُه فيها، فقال الكِرْمَانيُّ: إنما أُريدُ كتابَ الله. فقال له ¬

_ (¬1) كذا وقع هنا. وإنما هذا شعار نصر بن سيَّار، اقترحه عليه مقاتل بن سليمان. ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 332. (¬2) كذا قال المصنف -وبنحوه في "البداية والنهاية" 13/ 217 - وظاهر أن مراده بجهم هنا هو ابنُ صفوان رأس الجهمية، وليس كذلك، فالذي طُعن في فيه في هذه الواقعة هو جَهْم بنُ مسعود الناجي، وكان على باب نِيق الذي دخل الحارثُ المدينةَ منه. ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 332. (¬3) الملَاةُ: فَلَاة ذات حرّ. (¬4) وكذا في "البداية والنهاية" 13/ 217. وعبارة "تاريخ" الطبري 7/ 335: وأَبْرأكَ إليَّ، بدل: وأنزلت. (¬5) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 337 - 338.

مقاتل بن حيَّان: أفي كتابِ الله هَدْمُ الدُّورِ وانتهابُ الأموال والفساد؟ ! فأخَذَه الكِرْمانيَّ، فحبسَه في خيمة، ثم شفعَ فيه معمر بن مقاتل بن حيَّان، فأطلقَه. وأنكر الحارث هَدْم الدُّور، فَهَمَّ به الكِرْمانيُّ، ثم توقَّف. وكان مُدَبِّرَ أمرِ عسكرِ الكِرْمانيّ مقاتلُ بنُ سليمان. ثم اختلف الحارثُ والكِرْمانيُّ، والتَقَوْا واقتَتَلُوا قتالًا شديدًا، فانهزم أصحابُ الحارث عنه، وبقي في مئة، فقاتلَ، فقُتل وقُطع رأسُه، وصُلب على باب مَرْو بغير رأس. وكان مقتلُه بعد خروج نصر [من مَرْو] بثلاثين يومًا، وقُتل يوم الأحد لستٍّ بقين من رجب. وكان يقال: إن الحارث يُقتل تحت زيتونة أو شجرة غُبيراء، فقُتل عندها. ونَهَبَ الكِرْمانيُّ أمواله. وكان الحارثُ يُظهر الندمَ على متابعة الكِرْمانيّ (¬1). وغلبت اليمانيَّةُ على المُضَريَّة، فهدَمُوا دُورَهم بمَرْو، ونَهبُوا أموالهم (¬2). وقال نَصْر بن سيَّار يُخاطبُ الحارثَ بن سُرَيج حين قُتل: يا مُدْخِلَ الذُّلِّ على قومِهِ ... بُعْدًا وسُحْقًا لكَ من هَالِكِ شُؤْمُك أَرْدَى مُضَرًا كُلَّها ... وغضَّ من قومكَ بالحارِكِ ما كانتِ الأَزْدُ وأشْياعُها ... تَطْمَعُ في عَمرٍو ولا مَالكِ (¬3) وكان عليٌّ وعثمانُ ابنا الكِرْماني قد أبْلَيَا في ذلك اليوم بلاءً حسنًا حين قُتل الحارث، فقال شاعرٌ يمدحُهما: إني لَمُرتَحِلٌ أُريدُ بِمِدْحَتِي ... أخَوَينِ فوقَ ذُرَى الأنامِ ذُرَاهُما فاقا المُلُوكَ ولم يزالا نُجْعَةً ... لا يَعْدَمُ الضَّيفُ الغَرِيبُ قِرَاهُما أعْني عَلِيًّا إنه وشقيقُهُ ... عثمانُ ليس يَذِلُّ من وَالاهُما ¬

_ (¬1) الخبر في تاريخ الطبري 7/ 340 - 341 بأطول منه، وما سلف بين حاصرتين منه للإيضاح. (¬2) المصدر السابق 7/ 342. ويلاحظ أنه وقع في إيراد أحداث هذه السنة اختصار مخلّ وأوهام، فيغني عنه ما في "الكامل" 5/ 342 - 346. (¬3) المصدر السابق، وفيه بيت رابع. وعمرو ومالك بطنان من تميم. ينظر "الكامل" 5/ 347.

جهم بن صفوان

جَرَيا لِكَيْما يَلْحَقَا بأبيهما ... جَرْيَ الجَوادِ من البعيدِ مَدَاهُما فَلَأَمْدَحَنَّهما بما قد عَايَنَتْ ... عيني وإنْ لَمْ أُحْصِ كلَّ نَداهُما فهما التَّقِيَّانِ المشارُ إليهما ... الحَامِيانِ الكاملانِ كِلاهُما وهُما أزَالا عن أَرِيكةِ مُلْكِهِ ... نَصْرًا ولاقَى الذُّلَّ إذْ عَادَاهُما نَفَيَا ابنَ الاقْطَع بَعْدَ قَتْلِ حُماتِهِ ... وتَقَسَّمَتْ أسْلَابَه خَيلَاهُما والحارثُ ابنُ السَّرْجِ إذْ قَصَدَا له ... حتى تَعَاوَرَ رأسَه سيفاهُما أخَذَا بعَفْو أبيهما في قَدْرِه ... إذْ عَزَّ قَوْمُهُما ومَنْ صَافَاهُما فَلَئنْ هُما لَحِقَا به لِمُنَصَّبٍ ... يَسْتَعْلِيانِ ويَلْحَقَانِ أباهما ولَئِنْ أبَرَّ عليهما فلَطَالما ... جَرَيَا فَبَذَّهُما وبَذَّ سواهُما (¬1) وأمَّا: جَهْمُ بنُ صفوان فإنه صاحبُ البِدَع، وهو أوَّلُ مَنْ قال: الاسمُ غير المسمَّى، وأخذ (¬2) القولَ بخلق القرآن عن الجَعْد (¬3) بن دِرْهم، وافقَ المعتزلة والكَرَّاميَّة (¬4) في مسائل، ونَفَى رؤيةَ الله تعالى، وعذابَ القبر، والصِّراطَ والميزان. حفص بن الوليد ابن سيف الحضرمي، أبو بكر القاري (¬5)، كان وجيهًا عند بني أمية، ولَّاه هشام الصوائف ومصر، فأقامَ بها حتى وليَ مروانُ بنُ محمد، فعصى عليه، فبعثَ إليه حَوْثَرةَ بنَ سُهيل الباهليَّ، فخرج إليه حفص، فقاتلَه، فقُتل حفص. ¬

_ (¬1) الأبيات في "تاريخ" الطبري 7/ 343 - 344 باختلاف يسير. ولم يرد هذا الخبر (خبر الحارث بن سريج) في (ص)، واقتُصر فيها على قوله: وفيها قُتل الحارث بن سريج. (¬2) في (خ): وأحدث. وهو تحريف. (¬3) في (خ) و (د) (والكلام منهما وليس في ص): الجعدي، وهو خطأ. (¬4) نسبة إلى محمد بن كرَّام، كانوا يقولون: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، وكانوا يقولون بالتجسيم والتشبيه وخلق القرآن. وتحرَّفت لفظة: الكرَّامية في (خ) و (د) إلى: الكرامة. (¬5) كذا نسبه المصنف وابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة" 1/ 263 وغالبًا ما ينقل عنه، ولم أقف على من نسبه كذلك. ولعله وهم.

حي بن هانئ المعافري

رَوَى عن الزُّهْرِيّ وغيرِه، ورَوَى عنه الليثُ بنُ سعد، وغيرُه، وكان ثقةً (¬1). حَيُّ بنُ هانئ (¬2) المَعَافِريّ غزا مع جُنادة [بن أبي أمية] البحر والمغرب في زمن معاوية، وكان فارسًا عظيمًا، ديِّنًا صالحًا متواضعًا، يخرج إلى السوق، فيشتري حاجتَه بنفسه. روى عنه الليث بنُ سعد وغيرُه. وقال الليث: سألتُه عن القَدَر، فقال: أنا في الإسلام أقْدَمُ منه، ودين أنا أقدمُ منه لا خير فيه. يعني أنَّ الكلام فيه حَدَثَ بعد مولدِه. وكانت وفاتُه بمصر (¬3). سعيد بن مسروق الثوري أبو سفيان، من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الكوفة. كان فاضلًا زاهدًا عابدًا (¬4). الضَّحَّاك بن قيس الخارجيّ قد ذكرنا أنه استولى على الكوفة في السنة الماضية، وانضمَّ إليه عبد الله بنُ عمر [بن عبد العزيز] (¬5) وسليمان بنُ هشام ومنصور بنُ جمهور خوفًا من مروان بن محمد. قال أبو مِخْنَف: لمَّا حاصرَ الضَّحَّاكُ عبدَ الله بنَ عمر بواسط أرسل إليه يقول: مُقامُك ها هنا في غير فائدة، هذا مروان بالجزيرة، فسِرْ إليه، فإن قتلتَه (¬6) فأنا معك. ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف في ترجمته في "تاريخ دمشق" 5/ 191 - 193 (مصورة دار البشير) وهو من رجال "تهذيب الكمال" 7/ 78. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬2) والمشهور في اسمه حُيَيَّ، كما ذكر المِزّي في "تهذيب الكمال" 7/ 490، وكنيتُه أبو قَبِيل. (¬3) ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 518، والمصدر السابق. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 445. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬5) ما بين حاصرتين زيادة من عندي للإيضاح. (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 345: قاتلته.

فصالحه وارتحل عن واسط طالبًا مروان، وجاءت كتب الجزيرة والموصل إلى الضَّحَّاك أن يقدم عليهم، فسارَ إليهما في هذه السنة، ومعه سليمان بن هشام. وقيل: جاءه وهو على نصيبين، وتولَّى على الموصل (¬1) وبها القَطِرانُ بن أَكْمَه الشَّيبانيّ نائبُ مروان، ففتحَ أهلُ المَوْصل المدينةَ للضَّحَّاك، فدخلَها، وقاتلَهم القَطِرانُ، فقتلُوه ومَنْ كان معه من أهله وقومه، واستولى الضَّحَّاك على الموصل وكُوَرِها (¬2). وكان مروان على حمص يحاصرُها، فكتب إلى ابنِه عبدِ الله -وهو نائبُه بالجزيرة- أن يسير إلى نَصِيبين ليشغل الضَّحَّاك عن الجزيرة، فسار في سبعة آلاف وخلَّف بحرَّان قائدًا في ألف، وسارَ إليه الضَّحَّاك، فلم يكن له به قوة، لكثرة ما مع الضَّحَّاك؛ كان معه مئة وعشرون ألفًا، يرزقُ الفارسَ مئةً وعشرين درهمًا في كل شهر، وصاحبَ البغل مئة، والرَّاجِلَ ثمانين. وأقام الضَّحَّاكُ على نَصِيبين يُحاصرُها، وجاء مروانُ في جنودِه في ستين ألفًا، فالتَقَوْا على كفرتُوثا (¬3) بمكان يقال له: الغَزّ، فاقتتلوا يومَهم ذلك إلى الليل، فلما كان عند المساء تَرَجَّلَ الضَّحَّاك وتَرَجَّل معه [من] أجنادِ عسكرِه ستةُ آلاف، وأهلُ عسكرِه لكثرتهم لا يعلمون بما كان منهم (¬4)، وأحدَقَتْ بهم خيلُ مروان، فقَتَلُوا الضَّحَّاك وعامَّةَ مَنْ تَرَجَّلَ معه، وانصرفَ مَنْ بقيَ من أصحابه إلى عسكرهم، ورجع أصحابُ مروان إلى عسكرهم، ولا يعلم مروانُ بقتل الضَّحَّاك حتى فقدَه أصحابُه وسط الليل، فأخبرهم رجلٌ أنه رآه مقتولًا، فبكَوْا وناحُوا عليه. فجاء عبدُ الملك بن بِشْر التغلبيُّ -وهو قائد من قُوَّاد الضحاك- فدخلَ عسكر مروان، فأخبره بقتله، فأرسلَ معه جماعةً معهم الشمع والنيران إلى موضع المعركة فقلَّبُوا القتلى، فاستخرجوه، وأتَوْا به مروان وفي وجهه ورأسه أكثرُ من عشرين ضربةً، ¬

_ (¬1) كذا وقع في (خ) و (د) (والكلام منهما). وعبارة "تاريخ" الطبري 7/ 345: وكاتبه أهل الموصل ودَعَوْه أن يقدم عليهم فيمكّنوه منها. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 345. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 604 - 605. (¬3) تحرفت اللفظة في (خ) و (د) إلى: امريوثا. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 346. (¬4) في "تاريخ" الطبري: منه.

الخيبري

فكبَّر عسكرُ مروان وعلمَ عسكر الضَّحَّاك أنهم قد علمُوا بقتله، وقطعَ مروانُ رأسَه، وبعث به من ليلته (¬1) إلى مدائن الجزيرة، فطافوا به فيها (¬2). وقيل: كان مقتل الضَّحَّاك سنة تسع وعشرين ومئة (¬3). الخَيبِرَيّ لما قُتل الضَّحَّاك بايعَ عسكرُه الخَيبَرِيَّ، وأصبحوا على قتال مروان، وكان سليمانُ بنُ هشام وأهلُ بيته ومواليه مع الخَيبَريّ، وهو في أكثرَ من ثلاثة آلاف من أهله ومواليه، وكان قد تزوَّجَ منهم أخت شَيبان الحَرُوريّ الذي بُويعَ بعد مقتل الخيبريّ. وتقابلت الصفوف، وكان عسكر مروان ميمنة وميسرة، ففي الميمنة أهلُ الشام مع ابنه عبدِ الله، وفي الميسرة أهلُ الجزيرة مع إسحاق بن مسلم العُقيليّ، ومروانُ واقف في القلب، فحمل الخَيبَرِيُّ في نحوٍ من أربع مئة من الشُّراة (¬4)، وقصدَ مروانَ، فانهزمَ مروان، وخرجَ من العسكر، والميمنةُ والميسرةُ ثابتة، وهجم الخَيبَرِيُّ سُرادقَ مروان، فجلس على فَرْشِه، وقطع أطنابَه (¬5)، وقتل مَنْ لَقِيَهُ، فلما رأى عَبيدُ مروان قلَّة [مَنْ] مع الخَيبَرِيِّ، ثَابُوا إليه بعُمُد الخِيام، فقتلُوه وأصحابَه في خيمة مروان وحولَها. وبلغ مروانَ الخبرُ وقد جاوز العسكرَ بخمسة أميال -أو بستَّة- منهزمًا، فعاد إلى عسكره، ورَدَّ خُيولَه عن مواقفها إليه. وعلمت الخوارجُ بقتل الخيبريِّ، فولَّوْا عليهم شَيبان، وبايعوه، فقاتَلَهم مروانُ بعد ذلك بالكراديس (¬6)، وأبطل الصفَّ (¬7). ¬

_ (¬1) في (د): ليله. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 345 - 346. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 607 - 608. (¬3) لم يرد خبر الضحاك بن قيس في (ص) واقتُصر فيها على قوله: وفيها قُتل الضحاك بن قيس. (¬4) في (خ): أهل الشراة. وهو سبق قلم. والشُراة يعني الخوارج. (¬5) عبارة "تاريخ" الطبري 7/ 347: "حتى انتهوا إلى حجرة مروان فقطعوا أطنابها وجلس الخيبريُّ على فرشه". وهي أحسن. (¬6) جمع كُرْدُوسة، وهي طائفة عظيمة من الخيل والجيش. (¬7) في (خ): الصفوف، والمثبت من (د)، وهو موافق لما في "تاريخ" الطبري 7/ 347.

عبد الواحد بن زيد

ثم رحلت الخوارج عن موضعها ومعهم سليمان بنُ هشام، فأقاموا بنواحي الجزيرة، وعادَ مروان إلى حرَّان (¬1). عبد الواحد بن زيد أبو عُبيدة، واعظُ أهل البصرة، من الطبقة الرابعة من أهلها. كان من الزُّهَّاد العُبَّاد الخائفين المجتهدين، وعلى يده باب الحسن البصريّ (¬2)، وكان يحضر مجالسه العلماء والزُّهَّاد. وكان يحضر في مجالس مالك بن دينار، فروى ابن أبي الدنيا عن الحارث بن عبيد قال (¬3): كان عبد الواحد بنُ زيد يجلس إلى جنبي عند مالك بنِ دينار، فكنتُ لا أفهمُ كثيرًا من مواعظ مالك لكثرة بكاء عبد الواحد. وروى ابن أبي الدنيا عن زيد بن عمر قال: شهدتُ مجلس (¬4) عبد الواحد بعد العصر، فكنتُ أنظرُ إلى مَنْكبَيه ترتعد (¬5)، ودموعُه تتحدَّرُ (¬6) على لحيته وهو ساكتٌ، والناسُ يبكون، فقال: ألا تستحيون من طول ما لا تستحيون؟ وفي القوم فتًى، فغُشِيَ عليه، فما أفاقَ حتى غربت الشمسُ، فأفاقَ وهو يقول: ما لي؟ ما لي؟ كأنَّه يُعَمِّي على الناس. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 607 - 609. (¬2) المثبت من (ص). وكأنَّ المعنى -إن صحَّت اللفظة والله أعلم- أنه كان ملازمًا للحسن البصري. وتحرفت لفظة "باب" في (خ) و (د) إلى: تاب! (¬3) في (خ) و (د): وقال الحارث بن عبيد: كان عبد الواحد ... والثبت عبارة (ص). والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 159 من طريق آخر، ولم أقف عليه عند ابن أبي الدنيا، أو من طريقه. (¬4) في (خ) و (د): وقال زيد بن عمر: شهدتُ مجلس ... إلخ. والمثبت عبارة (ص). والخبر في "تاريخ دمشق" 43/ 348 (طبعة مجمع دمشق) من طريق ابن أبي الدنيا. (¬5) كذا في (خ) و (د) و (ص)، و"صفة الصفوة" 3/ 321 - 322 (والخبر فيه دون نسبة). وفي "تاريخ دمشق" 43/ 348: فكنت أنظر إلى منكبه يرتعد. وهو الجادة. (¬6) في (خ) و (د): تتحادر. والمثبت من (ص) وهو موافق لما في المصدرين السابقين.

وروى أبو نُعيم عن مِسْمَع بن عاصم قال: شهدتُ عبدَ الواحد (¬1) ذاتَ يوم وهو يعظُ، فماتَ في ذلك المجلس أربعةُ أنفس قبل أن يقوم. قال مِسْمَع: فأنا شهدتُ جنائزَهم [أو جنازة بعضهم]. وروى ابن أبي الدُّنيا عن بكر بن مصاد قال: سمعتُ عبدَ الواحد يقول: يا إخوتاه، ألا تبكون شوقًا إلى الله تعالى؟ ! ألا إنه مَنْ بكى شوقًا إلى الله؛ لم يَحْرُمْهُ النظرَ إليه. يا إخوتاه، ألا تبكونَ خوفًا من النار؟ ! ألا إنَه مَنْ بكى خوفًا منها أعاذَه الله منها. يا إخوتاه، ألا تبكون خوفًا من شدّة العطش يومَ القيامة؟ ! يا إخوتاه، ألا تبكون؟ ! بلى، فابْكُوا على الماء البارد في أيَّام الدنيا لعلَّه أن يَسْقِيَكُمُوه في حظائر القدس مع خير النُّدماء من النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا. ثم جعل يبكي حتى غُشِيَ عليه (¬2). وروى ابن أبي الدنيا عن حصين بن القاسم الوزَّان قال: لو قُسم (¬3) بثُّ عبدِ الواحدِ على أهل البصرة لوسعهم، فإذا أقبلَ سَوادُ الليل نظرتَ إليه كأنه فرسُ رِهانٍ مُضَمَّرٌ، يتحزَّمُ ثم يقومُ إلى محرابه، فكأنَّه رجلٌ مخاطب. وروى ابن أبي الدنيا عن حيَّان الأسود قال: حدَّثني عبدُ الواحد قال (¬4): أصابَتْني علَّةٌ في ساقي، فكنتُ أتحاملُ عليها للصلاة. [قال: ] فقمتُ ليلةً، فأجهدتُ وَجَعًا، فجلستُ، ثم لفَفْتُ إزاري في محرابي. ووضعتُ رأسي عليه، ونمتُ، فبينا أنا كذلك إذا بجاريةٍ تفوقُ الدُّنيا حُسنًا تَخْطِرُ بين جوارٍ مُزيَّنات، فقالتْ لهنَّ: ارفَعْنَه ولا تُهِجْنَهُ. ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): وقال مسمع بن عاصم: شهدت عبد الواحد ... إلخ، والمثبت من (ص) والكلام الآتي بين حاصرتين منها، والخبر بلفظه في "صفوة الصفوة" 3/ 322 دون نسبة. وبنحوه أطول منه في "تاريخ دمشق" 43/ 353 من طريق ابن أبي الدنيا. ولم أقف عليه عند أبي نعيم، ولعل صاحب (ص) وهم فنسبه إليه، فقد سلف له مثل ذلك. (¬2) الخبر في "حلية الأولياء" 6/ 160 - 161 من طريق ابن أبي الدنيا. ودون نسبة في "صفوة الصفوة" 3/ 322. (¬3) في (خ) و (د): وقال حسين بن القاسم الوزَّان: لو قُسم ... إلخ. والمثبت من (ص). والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 161، و"تاريخ دمشق" 43/ 343 من طريق ابن أبي الدنيا. (¬4) في (خ) و (د): وقال حيَّان الأسود: حدثني عبد الواحد قال .. إلخ والمثبت من (ص). والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 161، و"تاريخ دمشق" 43/ 345 من طريق ابن أبي الدنيا، وفي "تاريخ دمشق": حيَّان بن الأسود.

[قال: ] فاحتملنني عن الأرض، وقالت لغيرهنّ: افرُشنَ له، ومَهِّدْنَ له. [قال: ] ففَرَشْنَ تحتي سبع حشايا لم أرَ في الدنيا مثلهنَّ، ووَضَعْنَ تحت رأسي مَرافِقَ حِسانًا خُضْرًا، ثم قالت للَّاتي حَمَلْنَني: اجعلنه على الفُرُش رويدًا ولا تُهِجْنَهُ. ففعلن، ثم قالت: احفُفْنَهُ بالرَّيحان والياسمين، ففعلنَ، ثم وضَعَتْ يَدَها على موضع علَّتي التي كنتُ أجدُ في ساقي، فمسحَتْ ذلك المكانَ بيدها، ثم قالت: قُمْ -شفاكَ الله- إلى صلاتك غير مضرور. [قال: ] فاستيقظتُ واللهِ كأني نَشِطْتُ من عِقال، فما اشتكيتُ تلك العِلَّةَ بعد ليلتي تلك، ولا ذهبَتْ حلاوةُ منطقِها من قلبي: قُمْ -شفاكَ الله- إلى صلاتك غير مضرور (¬1). وروى أبو نُعيم عن أبي سليمان الدارانيّ قال: أصابَ (¬2) عبدَ الواحد الفالجُ، فسألَ اللهَ أن يُطلقه (¬3) وقتَ الوضوء (¬4)، فكان إذا أراد يتوضَّأ أُطلق، [فإذا رجع؛ رجع الفالج عليه] (¬5). وقال أبو نعيم: صلى عبد الواحد صلاة الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة. وروى أبو نعيم عن أبي سليمان الدارانيّ قال: ذُكر لي (¬6) عن عبد الواحد [بن زيد] أنه قال: نِمْتُ ليلةً عن وردي، فإذا بجاريةٍ لم أرَ أحسنَ وجهًا منها، عليها ثياب حرير خضر، وفي رجلها (¬7) نعلانِ، [والنَّعلان] يسبِّحان، والزِّمامان يُقَدّسان، وهي تقول: يا ابنَ زيد جِدَّ في طلبي، فإني في طلبك. ثم قالت: مَنْ يشتريني ومَنْ يَكُنْ سَكَني ... يَأمَنُ في ربحه من الغَبَنِ ¬

_ (¬1) المصدران السابقان، وصفة الصفوة 3/ 323، وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (خ) و (د): وقال أبو سليمان الداراني: أصاب ... إلخ. والمثبت من (ص). والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 155 ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 43/ 345. (¬3) في (ص): يشفيه في. (¬4) في "تاريخ دمشق": الصلاة. (¬5) المصدران السابقان، وصفة الصفوة 3/ 324، وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬6) في (خ) و (د): وقال أبو سليمان الداراني ذكر لي ... والمثبت من (ص) والخبر في "حلية الأولياء" 6/ 157 - 158 ومن طريقه أخرجه ابن عساكر 43/ 350. (¬7) في (ص): رجليها.

فقلت: [يا جارية] فما ثمنُك؟ فقالت: تَوَدُّدُ اللهِ مَعْ محبَّتِهِ ... وطُولِ فِكْرِ يُشابُ بالحَزَنِ فقلتُ: لمن أنتِ؟ فقالت: لمالكٍ لا يَرُدُّ لي ثَمَنًا ... مِن خاطبٍ قد أتاهُ بالثَّمَنِ قال: فانتبه، وآلَى على نفسه أن لا ينامَ الليل (¬1). وذكر أسلم الكوفيُّ (¬2) أنَّ امرأةً من عابدات البصرة وقفَتْ على عبد الواحد وهو يَعِظُ، فصاحت [به]: أيُّها المتكلِّم عن غيره، تكلَّم عن نفسك، وإلا فاصْمُتْ، ما أُشَبِّهُك إلا بمعلِّم الصبيان، تعلِّمُهُم نهارًا، فإذا عادوا إلى منازلهم نَسُوه، وإنما ينبغي أن تَعِظَ بلسانِ فعلِك، لا بزخاريف عباراتك، واللهِ لو متَّ ما صلَّيتُ عليك. قال: فدهش عبدُ الواحد من كلامها، ونزل من المنبر واجمًا، فنزل، فجلس في بيته، فلم يخرج إلى الناس سنة كاملةً. قال المصنف رحمه الله: وهذه العابدة اسمها حَيُّونَة (¬3)، وكانت من العابدات، وكانوا يفضِّلُونها على الحسن وابنِ سيرين، وكانت لا تزال بمقابر البصرة، فإذا قيل لها في ذلك تقول: وليس للميِّت في قَبْرِهِ ... فِطْرٌ ولا أضحى ولا عَشْرُ بان (¬4) من الأهل على قربِهِ ... كذاك مَنْ مسكنُه القَبْرُ (¬5) وكانت تقول: مَنْ أحبَّ [الله] أنِسَ، ومَنْ أَنِسَ طَرِبَ، ومن طَرِبَ اشتاق، ومن اشتاقَ وَلِهَ، ومَنْ وَلِهَ خَدَم، ومَنْ خَدَمَ وَصَلَ، ومن وَصَلَ اتَّصَلَ، ومَن اتَّصَلَ قَرُبَ، ومَنْ قَرُبَ سهر، ومَنْ سَهِرَ تَوالتْ عليه الهُموم والأحزان (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر أيضًا "صفة الصفوة" 3/ 324. (¬2) في "عقلاء المجانين" ص 132: سلام الأسود. والخبر فيه بنحوه. (¬3) تحرفت في (خ) و (د) إلى: حيوفة، وفي (ص) إلى: حيوية. والمثبت من "عقلاء المجانين" ص 131، وكذا قيَّدها ابن ناصر الدين في "توضيح المشتبه" 2/ 220. (¬4) في (ص): تأمن. (¬5) عقلاء المجانين ص 132. (¬6) المصدر السابق باختلاف يسير.

عثمان بن عاصم

وكانوا إذا قرَّبوا إليها طعامًا وقت إفطارها تبكي وتقول: كيف يشتغل المُحِبُّ عن حبيبه بأكل الطعام، يُوشك أن يَقْدَمَ رسولُ الحبيب وهو مشتغل بالأكل عن حبيبه، فلا تقرَّ عينُه بلقائه. ثم تبيتُ طاويةً (¬1). أسند عبد الواحد عن الحسن وأقرانِه، وروى عنه أسلم الكوفي (¬2) وغيره. وذكر الهيثم بنُ عديّ أن عبد الواحد بن زيد مات في هذه السنة. وحكى الحافظ ابنُ عساكر عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال (¬3): مات عبد الواحد في سنة سبع وسبعين ومئة. [والأول أقرب إلى الصواب، لأنه من الطبقة الرابعة من التابعين، فقد تقدم موتُه]. قال ابن عساكر: كان عبد الواحد يسوحُ في الشام، وقدم دمشق [وروى عن الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وعُبَادة بن نُسيّ، وأبي عبد الله القرشي صاحب أبي الدرداء وغيره] (¬4). قال ابن عساكر: وقد ضعَّفَه ابنُ مَعِين وغيرُه في الحديث، وبعضُهم يرميه بالقَدَر (¬5). عثمان بن عاصم ابن حَصِين -بفتح الحاء- الأسديّ، من الطبقة الرابعة (¬6) من الكوفيين [الفقهاء والمحدِّثين. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) كذا وقع، وقد روى عبد الواحد بن زيد عن أسلم الكوفي، كما في "حلية الأولياء" 6/ 164، و"تاريخ دمشق" 43/ 335, و"صفة الصفوة" 3/ 325. (¬3) الخبر في "تاريخ دمشق" 43/ 353 عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن رَوْح بن عبد المؤمن. (¬4) تاريخ دمشق 43/ 335، وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬5) الكلام بالمعنى في المصدر السابق 43/ 341 - 342. (¬6) كذا نقل ابن عساكر في "تاريخه" 45/ 265 عن ابن سعد، لكنه في "طبقات" ابن سعد 8/ 439 من الثالثة، وكذا ذكره من الثالثة الهيثم بن عدي فيما نقله عنه ابن عساكر 45/ 263، وذكره خليفة في "طبقاته" ص 159 من الرابعة.

يزيد بن أبي حبيب

وقال أبو حاتم الرازي: ] (¬1) يقال: إنه (¬2) من ولد عَبِيد (¬3) بن الأبرص الشاعر. وروى أبو القاسم ابن عساكر عن أبي أحمد العسكري أنه قُرئ القرآن عليه (¬4) بمسجد الكوفة خمسين سنة. [قال: ] وبعث إليه السلطان بجائزة سنيَّة، فردَّها، فقيل له: [لم رددتَها، أو: ] ما منعك من قبولها؟ فقال: الحياء والكرم (¬5). [وقال خليفة: مات سنة سبع -أو ثمان- وعشرين ومئة] (¬6). أسند عن ابن عبَّاس، وأنسٍ، وابنِ الزُّبير [والشعبيّ، وسعيد بن جبير، وأبي عبد الرحمن السُّلَمي]. وروى عنه سفيان الثوريّ وغيرُه، وكان صدوقًا صالحًا، أثنى عليه الإمام أحمد رحمة الله عليه، وغيرُه (¬7). ولم يكن له ولد ذكر، وكانت له ابنة تزوَّجَها قيسُ بنُ الربيع (¬8). يزيد بن أبي حبيب [ذكره ابن سعد] من الطبقة الثالثة من تابعي أهل مصر [قال: ويُكنى أبا رجاء، مولًى لبني عامر بن لؤي، من قريش، وكان ثقة كثير الحديث، مات في سنة ثمان وعشرين ومئة. هذا صورة ما ذكره ابن سعد (¬9). وقال أبو سعيد بن يونس: اسمُ أبي حبيب سُويد العامريّ. ¬

_ (¬1) كما في "الجرح والتعديل" 6/ 160. وأخرجه عنه ابن عساكر في "تاريخه" 45/ 266. والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (خ) و (د): ويقال إنه ... (دون نسبة للكلام) والمثبت من (ص). (¬3) في (خ) و (د): عبد الله، وهو خطأ. (¬4) في (خ) و (د): وقرئ القرآن عليه ... (دون نسبة للكلام) والمثبت عبارة (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 439، وتاريخ دمشق 45/ 275، وفيه: الحياء والتكرم. (¬6) طبقات خليفة ص 159. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬7) تاريخ دمشق 45/ 261. وقوله: وروى عنه سفيان الثوري ... إلخ، ليس في (ص). (¬8) المصدر السابق 45/ 266. (¬9) طبقات ابن سعد 9/ 520.

السنة التاسعة والعشرون بعد المئة

وُلد يزيد سنة ثلاث وخمسين، وكان نُوبيًّا، فقيه أهل مصر] (¬1)، وهو أوَّلُ مَنْ أظهرَ بها الحلال والحرام والفقه، وإنما كانوا يتحدَّثُون بالملاحم والفتن، وكان أحدَ الثلاثة الذين جعلَ إليهم عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه القضاءَ بمصر. وكان الليث بن سَعْدٍ يُثني عليه [دائمًا]، ويقول: يزيدُ بنُ أبي حَبِيب سيِّدُنا وعالِمُنا. وكان يزيد يقول: أبي نُوبيٌّ من دُنْقُلَة (¬2)، اشتراه شَرِيك بنُ الطُّفَيل العامريّ، فولاؤُنا له (¬3). أسند يزيد عن أبي الطُّفَيل، [وعبد الله بن الحارث بن جَزْء] (¬4) وغيره، وروى عنه: سُليمان التَّيميُّ، وغيرُه، وكان فاضلًا زاهدًا ثقة، توفي بمصر [في هذه السنة] (¬5). السنة التاسعة والعشرون بعد المئة فيها سار أبو الدَّلْفَاء شيبان بن عبد العزيز اليشكري إلى الموصل. قال الهيثم: إنَّ (¬6) مروان لمَّا قُتل الضَّحَّاك والخَيبَريّ نزلَ بإزاء الخوارج وقد ولَّوْا عليهم شَيبان، فقال لهم سليمان بنُ هشام: الرأيُ أن نسير إلى المَوْصل على حامية، ونُخندِقَ علينا، فإنَّ مروان يضجر، فينصرف أو نظفر به. فساروا ونزلُوا شرقيَّ المَوْصل، وجاء مروان فنزل غربيَّ دِجْلة، ودِجْلَةُ بينهما، فأقاموا يقتتلون تسعةَ أشهر، ويزيدُ بنُ عُمر بن هُبيرة بقَرْقِيسيا في جندٍ كثيف من أهل الشام والجزيرة، فكتبَ إليه مروان أن يسيرَ إلى الكوفة وعليها يومئذٍ المثنَّى بنُ عِمْران الخارجيّ. ¬

_ (¬1) الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) هي مدينة كبيرة من بلاد النُّوبة، طول بلادها على النِّيل مسيرة ثمانين ليلة. ويقال لها أيضًا: دُمْقُلَة. ينظر "معجم البلدان" 2/ 470 و 478. (¬3) ينظر "الإكمال" 7/ 380، والمصدر السابق 2/ 470 - 471. (¬4) ما بين حاصرتين من (ص). وأبو الطُّفيل: هو عامر بن واثلة. (¬5) قد سلف من كلام ابن سعد أنه مات في هذه السنة (سنة 128). وينظر "تهذيب الكمال" 32/ 102 - 106. وما وقع بين حاصرتين من (ص). (¬6) تحرَّفت لفظة "إن" في (خ) و (د) (والكلام منهما) إلى: بن. والهيثم المذكور: هو ابنُ عديّ. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 348.

وأقام مروانُ بإزاء الخوارج وكانوا قد استَوْلَوْا على المَوْصل، وعقدُوا جسورًا من شرقيِّ دِجْلة إلى المَوْصل، فكانت مِيرَتُهُم وما يحتاجون إليه منها، ومروان غربيَّ المَوْصِل قد خندقَ عليه، فأقامَ يقاتلهم تمامَ السنة دائمًا بُكرةً وعشيًّا. فخرج يومًا رجلٌ من عسكر مروان وطلبَ البِرازَ، فبرز إليه أميَّة بن معاوية بن هشام ابنُ أخي سليمان، فأخذَه الرجل أسيرًا، فأتى به مروانَ، فقال له: يا عمّ، أَنْشُدُكَ اللهَ والرَّحِم. فقال: أنتم قطعتُم وشائج الأرحام بيننا. وأمرَ به فقُطعت يداه ورِجلاه، وسُليمان وإخوتُه ينظرون إليه، ثم قتلَه (¬1). وسار ابنُ هُبيرة إلى العراق، فقاتلَ خليفةَ الضَّحّاك، فقتلَه، وأبادَ الخوارجَ، واستولَى على الكوفة، فكتب إليه مروان أن يُمدَّه، فأمدَّه بعامر بن ضُبارة في سبعة آلاف (¬2). وبلغَ شيبانَ قدومُه، فبعث إليه قائدَين: الجَوْن وابن غوث (¬3)، فلقُوا ابنَ ضُبارة بالسنّ دون المَوْصل، واقتتلُوا، فهزَمَهم ابنُ ضُبارة، وعادوا إلى الخوارج، وتفرَّقَ عنهم كثيرٌ من أهل الطَّمع وخذَلُوهم، وانقطعت عنهم الموادّ، وفرغَ ما في المَوْصل من المِيرَة، وكانوا في مئة وعشرين ألفًا، فأصبحوا في أربعين ألفًا، فقال لهم سليمان: قد ضَعُفْنا، وكلَّما جئنا نضعف، ومروانُ تأتيه الموادّ، فارتَحِلُوا من المَوْصل، فلا مُقام لنا بها. فساروا على حميَّة نحو حُلْوان [إلى] الأهواز وفارس، وبعثَ مروانُ ابنَ ضُبارة، وأضافَ إليه جندًا مع جماعة من قوَّاده، وأمرَه أن يتبعهم حتى يستأصلَهم، وافترقوا فرقتين وهو في آثارهم، وافترقُوا من فارس، فأخذ شيبانُ ناحيةَ البحرين، فقيل: إنه قُتلَ بها، وسار سليمان بأهله ومواليه نحو السِّند، وركبوا في السفن، وعاد مروان إلى حرَّان، فأقام بها حتى شخص إلى الزَّاب (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 349 - 350. (¬2) المصدر السابق. (¬3) في (خ) و (د): قايد بن الحرث وعون. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 350. وينظر "الكامل" 5/ 354. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 350 - 351. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 612 - 613.

وقال أبو مِخْنَف (¬1): لمَّا سار ابنُ هُبيرة من قَرْقِيسيَا يريدُ الكوفة وبها المثنَّى بن عمران العائذي من الخوارج، وافى (¬2) الكوفةَ في شهر رمضان، فهزم الخوارجَ ودخلَها. وكان خليفةَ الضَّحَّاك بالعراق عُبيدةُ بنُ سوَّار، فجمع من الخوارج جمعًا عظيمًا، وقصدَ ابنَ هُبيرة، وقطعَ إليه الصَّرَاة (¬3)، فخرج إليه ابنُ هُبيرة والتَقَوْا، فقُتل عُبيدة وعدَّةٌ من أصحابه. وكان منصورُ بنُ جُمهور مع الخوارج إلا أنه لم يقطع الصَّرَاة، فلما قُتل عُبيدة؛ سار منصور إلى الماهَين (¬4)، فغلبَ على الجبال أجمع، وسار ابنُ هُبيرة إلى واسط، فأخذ ابنَ عمر فحبسه. وسارَ سليمانُ إلى فارس -وقيل: إلى السِّنْد كما ذكرنا- وأمرَ مروانُ ابنَ ضُبارة أن يتبعَ شيبانَ الخارجيَّ بالعساكر، فسار خلفَه، وأمدَّ منصورٌ شيبانَ، فخرج شيبانُ إلى إصطخر، فلقي عبد الله بن معاوية، فلم يتفق بينهما أمرٌ، فسارَ شَيبان إلى كِرْمان، ونزلَ ابنُ ضُبارة بإزاء ابنِ معاوية أيامًا، ثم ناهضَه القتال، فانهزمَ ابنُ معاوية، فلحق بهَرَاةَ، وأقبل ابنُ ضُباره نحو كِرْمان، فالتقى شيبان، فهزمَه، واستباحَ عسكرَ الخوارج، وهربَ شيبان إلى سِجِسْتان، فهلكَ بها (¬5). وقيل: إنَّما قُتل شيبان بعُمان قعّله جلندي بنُ مسعود بن جيفر (¬6) الأزديّ. ¬

_ (¬1) هذه رواية أخرى للخبر، كما في "تاريخ" الطبري 7/ 351. (¬2) في (خ) و (د): فوافى. والصواب ما أثبتُّه. (¬3) عبارة الطبري: "ودخل ابنُ هُبيرة الكوفة، ثم سار إلى الضَّراة: وبعثَ شيبانُ عُبيدةَ بنَ سوَّار في خيل كثيرة، فعسكر في شرقيّ الصَّراة، وابن هُبيرة في غربيِّها". والصَّراة: نهران ببغداد؛ الصَّراة الكبرى، والصَّراة الصغرى. ينظر "معجم البلدان" 3/ 399. (¬4) لعلهما الدِّينَوَر، ونهاوند، فيقال للأولى: ماه الكوفة، وللثانية: ماه البصرة. ينظر "الروض المعطار" ص 519. (¬5) ينظر الخبر مفصلًا في "تاريخ" الطبري 7/ 351 - 352. وقد وقع هنا مختصرًا. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 7/ 612 - 613. (¬6) في (خ) و (د): خليد بن مسعود بن جعفر، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 353. وهو الصواب. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 7/ 613 - 614. ومن قوله: فيها سار أبو الدَّلفاء ... (أول أحداث هذه السنة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص).

وفيها كتب إبراهيم الإمام (¬1) إلى أبي مسلم والنُّقَباء بخُراسان بإظهار الدعوة ولُبس السَّواد. ذكر أسامي النُّقَباء: وهم اثنا عشر: سليمان بنُ كثير [الخُزاعيّ]، ومالك (¬2) بن الهيثم الخُزاعيّ، وزياد بن صالح الخُزاعيّ، وطلحة بن رُزيق (¬3)، وعَمرو بن أعين الخُزاعيّ، وقحطبة بن شبيب بن خالد بن مَعْدان الطائيّ، واسمُه زياد، وموسى بن كعب التميميّ، ولاهز بن قُريط، والقاسم بن مُجاشع (¬4)، وأسلم بن سلَّام، وخالد بن إبراهيم، وأبو عليّ الهَرَويّ، على اختلاف منهم، لأنَّ بعضَهم يجعل شبل بن طهمان مكان عَمرو بن أعين، وعيسى بن كعب مكان موسى، وأبا النجم إسماعيلَ بنَ عمران مكان الهَرَوي (¬5). وهؤلاء اختارَهم محمد بنُ عليّ بن عبد الله بن عبَّاس من سبعين من أهل خُراسان لما بعث إليهم رسولَه، فاستجابوا له، فقال: نتبَّرك بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ العقبة. والمشهورُ منهم ثلاثة: سليمانُ بنُ كثير، وقحطبةُ، وأبو منصور طلحةُ بن رُزيق بن سعد (¬6)، واعتماد أبي مسلم (¬7)، فإنه كان قد شهد وقائع ابنِ الأشعث مع الحجَّاج، وغزا مع المهلَّب وقُتيبة، وكان خبيرًا بالحرب. وكان بين أبي مسلم وبين سليمان بن كثير تباعدٌ؛ لأنَّ محمدًا وإبراهيمَ كانا يُفضِّلانِه على أبي مسلم، وأوَّلُ ما بعثَ إبراهيمُ أبا مسلم لم يقبله سليمان، وردَّه إلى العراق، ثم بعثه إبراهيمُ ثانيًا. ¬

_ (¬1) في (ص): إبراهيم بن الإمام، وهو خطأ، فالذي يُطلق عليه الإمام هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس. (¬2) في (خ) و (د): سليمان بن كثير بن مالك ... وهو خطأ، وزدتُ لفظةَ "الخزاعي" بين حاصرتين للإيضاح ولموافقة السياق. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 379 - 380، و"الكامل" 5/ 380. (¬3) بتقديم الراء على الزاي، كما قيَّده ابن الأثير في "الكامل" 5/ 380. (¬4) بعدها في (خ) و (د) (والكلام منهما): من بني بكر بن وائل، وهو خطأ. وينظر المصدران السابقان. (¬5) يقارن بما في المصدرين السابقين. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 7/ 129 - 130. (¬6) كذا في (خ) و"الكامل" 5/ 380. وفي (د) و"تاريخ" الطبري 7/ 380: أسعد. (¬7) كذا وقعت العبارة في (خ) و (د) والكلام منهما، والكلام في المصدرين السابقين يفيد أن أبا مسلم كان يُشاورُ والد أبي منصور في الأمور، فلعل الصواب: "اعتماد" بدون واو.

واختلفت الروايات في كيفية إظهار الدعوة، فقال قوم: لم يزل أبو مسلم يختلف إلى خراسان حتى وقعت الفتنةُ والعصبيَّة بها وانتقض الحبل. فكتب سليمانُ بنُ كثير إلى أبي سلمة [الخلَّال] وهو بالكوفة يسألُه أن يكتب إلى الإمام إبراهيم أن يبعثَ رجلًا من أهل بيته، فكتبَ أبو سَلَمة إلى إبراهيم، فبعثَ أبا مسلم. فلما كان في هذه السنة (¬1)؛ كتبَ إبراهيمُ إلى أبي مسلم أن يَقْدَمَ عليه ليسألَه عن أخبار الناس، فخرجَ في النِّصف من جُمادى الآخرة في جماعة من الشيعة كأنه يُريد الحجَّ، وسار على بلاد خُراسان، فمرَّ على بِيوَرْد (¬2) ونَسَا وقُومس، وجرت له في طريقه خُطوبٌ مع عمَّال نَصْر بن سيَّار، فلما وصل إلى قُومِس؛ تلقَّاه رسولُ إبراهيم بكتابين، أحدهما إليه، وفيه: قد بعثتُ إليك براية النَّصر، فارْجعْ من حيثُ يلقاك كتابي هذا، ووَجِّهْ إليَّ قحطبة بنَ شبيب بما معك يوافيني به المَوْسم. فعاد أبو مسلم إلى خُراسان، وبعثَ إليه بقحطبة، وقدمَ أبو مسلم مَرْو في [أوّل يوم من] شهر رمضان سنة تسع وعشرين [ومئة] (¬3). والكتاب الآخر إلى سليمان بنِ كثير، فدفعَه أبو مسلم إليه، وفيه: أَظْهِرْ دعوتَك ولا تتربَّصْ، وأرْسِلْ إلى الشيعة وأخْبِرْهُم. ونزل أبو مسلم قرية من قرى مَرْو؛ يقال لها: سِيكيذنج (¬4)، والكِرْماني وشيبان الخارجيّ يُقاتلان نَصْرَ بنَ سيَّار، فبثَّ أبو مسلم الدعوةَ وأظهرَها يوم الفِطْر. وفي رواية: أنَّ أبا مسلم جهَّز قحطبة إلى إبراهيم من قُومِس، وبعث معه بالأموال التي اجتمعت عنده، وعادَ إلى مَرْو، فنزلَ قريةً يقال لها: فنين، وأظهر الدعوة في شعبان (¬5). والأصحُّ في رمضان. ¬

_ (¬1) يعني سنة (129). (¬2) في (خ) و (د): بيروند، والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 354، وهي أبِيوَرْد، وهي ونَسا وقُومِس من مدن خُراسان. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 355، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) كذا في (خ) و (د): سين ثم ياءان، بينهما كاف، ثم ذال معجمه ونون وجيم. وهي على الأغلب اللفظة الأعجمية للفظة: سِيقَذَنْج؛ ذكرها السمعاني في "الأنساب" 7/ 224 (السيقذنجي) وقال: هي قرية من قرى مَرْو على ثلاثة فراسخ منها. ووقعت في "معجم البلدان": سِيفَذَنْج (بالفاء)، وفي "تاريخ" الطبري 7/ 355: سفيذنج (بتقديم الفاء). (¬5) تاريخ الطبري 7/ 355.

ولبسوا الأسود، وصلَّى بهم أبو مسلم صلاة العيد، وبدأ بالصلاة قبل الخطبة -وقيل: إن الذي صلَّى بالناس سليمانُ بنُ كثير (¬1) - بغير أذان ولا إقامة، وخطبَ بعدَ الصلاة، وكان بنو أميَّةَ يخطُبون قبل الصلاة، لينالوا من أمير المؤمنين - عليه السلام - قبل أن يتفرَّق الناس، ويُصلُّون بأذان وإقامة مخالفةً لسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأوَّل من فعلَ ذلك مروانُ بنُ الحَكَم في أيَّام معاوية، فأخرجَ مسلمٌ عن طارق بن شهاب قال: خطب مروانُ يومَ العيد قبلَ الصلاة، فقام بعضُ الحاضرين فقال: يا مروان، أخْرَجْتَ المنبرَ يومَ العيد، ولم يخرجه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وخَطَبْتَ قبلَ الصلاة، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضوان الله عليهما يخطبُون بعد الصلاة، فقال مروان: قد تُرك ذلك. قال أبو سعيد الخُدري: أمَّا هذا. فقد قضى ما عليه، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ رأى منكم منكرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيده، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فبلسانه، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (¬2). وكان بنو أميَّة يُكَبِّرون في الأولى أربعَ تكبيرات، وفي الثانية ثلاثَ تكبيرات، فخالفَهم أبو مسلم، فكَبَّرَ في الأولى ستَّ تكبيرات، وفي الثانية خمسَ تكبيرات (¬3)، وهو مذهبُ ابنِ عبَّاس، وبه أخذَ الشافعيُّ (¬4). ثم أظهرَ أبو مسلم الرايةَ التي بعثَ بها إبراهيمُ إليه، ويُقال لها: السحاب، وقيل: الظّلّ، فمن قال: السحاب (¬5)؛ فقال بأن السحاب يُطبِّقُ الأرضَ، فكذا دعوةُ بني العبَّاس، ومَنْ قال: الظِّلّ؛ تأوَّلَ أنَّ الناسَ يعيشون في ظل دولتهم (¬6). ¬

_ (¬1) القولان في روايتي "تاريخ" الطبري 7/ 355 و 357. (¬2) صحيح مسلم (49) والقصة فيه بنحوه، وينظر "مسند" أحمد (11073). (¬3) تاريخ الطبري 7/ 357. (¬4) ذكر النووي في "المجموع" 5/ 20 أن المعروف من نصوص الشافعيّ -وبه قطع الجمهور- أنه في الركعة الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام وسوى تكبيرة الركوع، وفي الثانية خمس تكبيرات، سوى تكبيرة القيام من السجود والهُوِيّ إلى الركوع. وينظر أيضًا "المغني" 3/ 271 - 272. (¬5) قوله: وقيل: الظل ... إلى هذا الموضع، ليس في (خ) وهو من (د). (¬6) كذا ذكر المختصِر. والذي ذكره الطبري في "تاريخه" 7/ 356، وابن الأثير في "الكامل" 5/ 358 أن إبراهيم الإمام بعث بلواء يُدْعَى الظِّلّ، على رُمْح طوله أربعة عشر ذراعًا، وراية تُدْعَى السَّحاب على رُمْح طوله ثلاثة عشر ذراعًا.

وأوَّلُ فتحٍ جاء أبا مسلم من قِبَل موسى بن كعب في بِيوَرْد (¬1)، تم فتح من قِبَل مَرْوَرُوذ. ثم قدم أبو الوضَّاح وعامَّةُ الدُّعاة من الأماكن، هذا ونصر بن سيَّار يُقاتلُ الكِرْمانيَّ والخوارج. وقال الهيثم: عقد أبو مسلم اللواء الذي بعثَ به إبراهيم إليه على رُمح طوله عشرة أذرع. وقيل: خمسة عشر ذراعًا. ولما اجتمعت الشيعة إلى أبي مسلم وقَويَ أمرُه؛ كتب إلى نَصْر بن سيَّار، وكان من عادته أن يبدأ باسم نصر، فيقول: للأمير نصر (¬2)، فكتبَ إليه: من عبد الله أبي مسلم إلى الأمير نصر (¬3)، أمَّا بعد، فإنَّ الله عيَّر أقوامًا فقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} الآيتين [فاطر: 42 - 43]. ولم يذكر غير ذلك. فلمَّا قرأَ نصرٌ كتابَه؛ عظُم عليه حيث بدأَ بنفسه، وقال: لهذا الكتاب شأن (¬4). ثم سار أبو مسلم، فعسكر بالماخُوان (¬5)، وأمو مُحرر بن إبراهيم أن يقطعَ المادَّةَ عن نَصْر من ناحية مَرْوالرُّوذ وبَلْخ، فقطعَها، وكان مُحرز في ألف رجل، فبعث إليه نصرٌ مولاه يزيد في خيل عظيمة لقتال أبي مسلم، فوجَّه إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخُزاعي، فالْتقَوْا على قرية يقال لها: اللِّين (¬6)، فدعاهم مالك إلى الرِّضا من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبَوْا، وقاتلوه، وكان في مئتين، فاقتتلوا عامَّةَ النهار. وقدمَ على أبي مسلم صالحُ بنُ سليمان الضَّبِّيُّ وجماعةٌ، فأرسلهم إلى مالك، فقَويَ بهم جيشُه. وترجَّل مالكٌ وأصحابُه، فقَتَلُوا من أصحاب يزيد أربعةً وثلاثينَ، وأسَرُوا يزيدَ، وبعثَ مالك بالرؤوس والأُسارى إلى أبي مسلم، وكان يزيدُ قد جُرح جراحاتٍ كثيرة، ¬

_ (¬1) رُسمت في (خ) و (د) (والكلام منهما): ببروند. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 355، وسلف مثلها قريبًا. (¬2) في (خ) و (د): الأمير نصر، والمثبت من المصدر السابق 7/ 357. (¬3) لم أقف على من ذكر هذا اللفظ، ولعل المختصر أورده بالمعنى، واسم أبي مسلم عبدُ الرحمن، فقولُه: عبد الله، ربّما يكون -إن صحَّ النقل- على عادتهم في استخدامه في كلامهم. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 357 - 358. (¬5) في (خ) و (د): بالملخوان، وهو تحريف. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 358. (¬6) في المصدر السابق: آلين. وذكر اللفظين ياقوت في "معجم البلدان" 1/ 56، و 5/ 29.

فأمرَ أبو مسلم مَنْ داواه، وأحسنَ إليه، فلمَّا برئ، خيَّره أبو مسلم بين المقام عنده والدُّخول في الدعوة، وبين الرجوع إلى مولاه، فاختار الرُّجُوع، فأخَذَ عليه العهود أن لا يقاتلَه أبدًا، وخَلَّى سبيلَه، واستحلفه أن لا يكذب عليهم، وأن يحكيَ ما شاهد من أحوالهم. فلمَّا قدم على نَصْر؛ قال له: لا أهلًا ولا سهلًا، وشَتَمَه وقال: واللهِ ما استبقاك القومُ إلا ليتَّخذُوك حُجَّةً علينا. فقال له يزيد: هو واللهِ كما ظننتَ، وقد استحلفوني أن لا أكذبَ عليهم، وأنا أقول واللهِ إنَّهم لَيُصلُّون الصلواتِ لمواقيتها، ويتلون القرآن، وبذكرون الله كثيرًا، ويدعون إلى الرِّضا من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أحسبُ أمرَهم إلا سيعلُو، ولولا أنَّك مولايَ أعتَقْتَني من الرِّقِّ؛ لما رجعتُ إليك، ولَأَقَمْتُ معهم. وكانت هذه الحروبُ أوَّلَ الفتوح (¬1). ولمَّا ظهر أبو مسلم تسارعَ إليه الناس، وكان الكِرْمانيُّ وشيبان الخارجيّ على نصر لا يكرهان ذلك (¬2)؛ لأنه يدعو إلى خلع مروان، وكان أبو مسلم نازلًا في خِباء من شعر، ليس له حاجبٌ ولا بوَّاب، فمال الناس إليه، وعَظُم في عيونهم (¬3). وغلبَ خازم بن خُزيمة على مَرْوالرُّوذ، وقتلَ عاملَ نصر (¬4). ولمَّا وقعت هذه الواقعة والوقائع؛ كتب نصر إلى مروان يُخبرُه بخروج أبي مسلم وكثرة أتباعه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد (¬5). ويقال (¬6): دَسَّ نَصْرٌ إلى أبي مسلم رجلًا أظهر أنه من شيعتهم حتى عرف الذين يكاتبُونه من الشام ويكاتبُهم، وبحث عن الدعوة، فأخبرَه أبو مسلم بذلك، ولم يعلم أنه دسيس (¬7). ¬

_ (¬1) ينظر ما سبق في "تاريخ" الطبري 7/ 358 - 359. (¬2) يعني لا يكرهان أمرَ أبي مسلم. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 364. (¬3) المصدر السابق. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 360، والمنتظم 7/ 271. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 369. (¬6) في (خ) و (د): وقال. وأثبتُّ اللفظة على الجادَّة. (¬7) بنحوه في "أنساب الأشراف" 3/ 136.

فكتب نصرٌ إلى مروان بذلك، وفي أسفل الكتاب يقول: أرى خلَلَ الرَّمادِ وَمِيضَ جَمْرٍ ... ويوشِكُ أن يكونَ له ضِرَامُ فإنَّ النارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى ... وإنَّ الحربَ أوَّلُهُ (¬1) كَلَامُ فإنْ لم تُطْفِئُوها تَجْنِ حَرْبًا ... مُشَمِّرَةً يَشِيبُ لها الغُلامُ فقلتُ تعجُّبًا يا ليتَ شِعْرِي ... أأيقاظ (¬2) أميَّةُ أمْ نِيامُ فإن يَكُ قَوْمُنا أضْحَوْا نِيامًا ... فقُلْ قُومُوا فقد حانَ القِيامُ (¬3) فكتبَ إليه مروان: الشاهدُ يَرَى ما لا يواه الغائب، فاحْسِمْ الثُّؤْلُولَ قِبَلَك. والسلام. فلما قرأ نصر كتابَه قال: أمَّا صاحبُكم فقد أخبرَكم أنه لا غَنَاء عنده (¬4). وقال الهيثم: كتب نصر إلى مروان: إنَّا وما نَكْتُمُ من أَمْرِنا ... كالثورِ إذْ قُرِّبَ للباخِعِ أو كالتي يَحْسِبُها (¬5) أهلُها ... غَيدَاءَ بِكْرًا وَهْيَ في التاسعِ كُنَّا نُرَفِّيها فقد مُزِّقَتْ ... واتَّسَعَ الخَرْقُ على الرَّاقِعِ كالثَّوبِ إذْ أنهجَ فيه البِلَى ... أعْيَا على ذي الحِيلةِ الصَّانعِ (¬6) وكان مروان بحرَّان، فلم يستتمَّ قراءةَ الكتاب حتى مَثُلَ بين يديه رجل من أصحابه ممَّن كان يحفظ الطريق من الشام إلى خُراسان، ومعه كتابٌ من أبي مسلم إلى إبراهيم مع رجل خُراسانيّ، وكان أهلُ خُراسان والقبائلُ قد اتَّفقُوا على حَرْبِ أبي مسلم، فكتبَ إلى إبراهيم يُعرِّفُه، فكتب إليه إبراهيم يقول (¬7): لا تَدَعْ بخراسان عربيًّا إلا قَتَلْتَه وهو يأمرُه فيه بالجِدِّ والاجتهاد. ¬

_ (¬1) في "مروج الذهب" 6/ 62: أولها. (¬2) في (خ) و (د): أأيقاظًا، وأثبتُّ اللفظة على الجادَّة من المصادر. (¬3) ينظر المصدر السابق، و"تاريخ" الطبري 7/ 369، و"العقد الفريد" 4/ 478، و"الحماسة البصرية" 1/ 107 - 108. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 369، والمنتظم 7/ 272. (¬5) في (خ) و (د): يحبسها. وهو تحريف. (¬6) الأبيات في "مروج الذهب" 6/ 69، و"الروض المعطار" ص 200. (¬7) يعني أن هذا الرجل الخُراسانيَّ الذي أتَوْا به مروانَ كان قد عاد بكتاب إبراهيم إلى أبي مسلم بعد أن أوصل كتاب أبي مسلم إلى إبراهيم. ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 370.

فلمَّا تَأمَّلَ مروانُ الكتابَ قال لحامله: لا تُرَعْ، كم دفعَ إليك صاحبك قال: كذا وكذا، فقال: هذه عشرة آلاف درهم، واكتُمْ أمر الكتاب. فكتَمَه وحبَسَه مروان (¬1). وكان في الكتاب: دونَكَ أَمْرًا قَدْ بَدَتْ أشْراطُهُ ... إنَّ السبيلَ واضحٌ سِراطُهُ (¬2) لم يبق إلا السيفُ واختراطُهُ وقيل: إن رسولَ أبي مسلم لمَّا أخَذَ الجوابَ من إبراهيم؛ تقرَّبَ به إلى مروان. فكتبَ مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك -وهو عاملُه على دمشق- أن يكتب إلى عامل البلقاء أن يسيرَ إلى كداد والحَمَّة (¬3)، ويوثِقَ إبراهيم بن محمد، ويحملَه إلى حرَّان. فأخذه عاملُ البلقاء أخذًا عنيفًا، وكان يصلِّي في مسجد القرية، فأوثَقَه وكفَّ رأسَه في كساء، وبعثَ به إلى مروان ومعه عِدَّةٌ من أهله يشيِّعُونه؛ عبدُ الله بنُ عليّ، وعيسى بنُ عليّ، وعيسى بنُ موسى، فلمَّا وصلُوا حرَّان؛ انصرفُوا عنه، فأحضرَه مروانُ ووبَّخَهُ وشَتَمه، وأغلظَ له، ونال من بني هاشم وقال: يا منافق، فعلتَ كذا وكذا؟ فأنكر، فأخرج كتابَه والرسولَ، فأُسْقِطَ في يده، وقال له مروان: أيرجو مثلُك أن ينال الخلافة؟ ! فغضبَ إبراهيم وقال: قد رجَوْتُها، وأنتَ ابنُ طريدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعينِه، أفلا أرجوها أنا وأنا ابنُ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي وليُّه؟ ! فأمر بضربه وحَبْسِه، فحُبس مع عبد الله بنِ عمر بن عبد العزيز (¬4). ¬

_ (¬1) الرواية في "مروج الذهب" 6/ 69، و"الروض المعطار" ص 200 أن الرجل الخُراساني قد أُتيَ به إلى مروان وهو يحمل كتاب أبي مسلم إلى إبراهيم، فأعطاه مروان عشرة آلاف درهم، على أن يكتم الأمر، ويوصل الكتاب إلى إبراهيم، ثم يعود إليه بما يكتبُ به إبراهيم إلى أبي مسلم. (¬2) يعني صراطه، يقال بالسين والصاد، وجاءت اللفظة بالصاد في "أنساب الأشراف" 3/ 138، و"مروج الذهب" 6/ 72. (¬3) في "أنساب الأشراف" 3/ 136: الحُميمة (تصغير الحَمَّة) ويقال لها كذلك، وهي قرية من كوَر دمشق من أعمال البلقاء، وتكرَّر ذكرها. ووقع في "تاريخ" الطبري 7/ 370: كرار الحميمة، وفي "مروج الذهب" 6/ 70: الكرار والحميمة. (¬4) أنساب الأشراف 7/ 136 - 137، ومروج الذهب 6/ 70 - 71.

ولمَّا اشتدَّ أمرُ أبي مسلم، وكتب نصرٌ إلى مروان وأجابَه بذلك الجواب؛ كتب نَصْرٌ إلى ابن هُبيرة يستمدُّه، وفي آخر الكتاب: أَبْلِغْ يزيدَ وخَيرُ القَوْلِ أصْدَقُهُ ... وقَدْ تَبَيَّنْتُ أنْ لا خَيرَ في الكَذِبِ أنَّ (¬1) خُراسانَ أرضٌ قد رأيتُ بها ... بَيضًا لو أفْرَخَ قد حُدِّثْتَ بالعَجَبِ فِراخُ عامَينِ إلا أنَّها كَبِرَتْ ... لمَّا يَطِرْنَ وقد سُرْبِلْنَ بالزَّغَب فإنْ يَطِرْنَ ولم يُحْتَلْ لَهُنَّ بها ... يُلْهِبْنَ نِيرانَ حَرْبٍ أَيَّما لَهَبِ (¬2) وفيها قُتل جُدَيعٌ بنُ عليّ (¬3) الكِرْمانيُّ. قد ذكرنا قَتْلَ الكِرْمانيّ للحارث بن سُريج (¬4)، ولمَّا قَتَلَ الحارثَ خَلَصَتْ له مَرْو، وقَويَ، فجهَّزَ (¬5) إليه نَصرٌ سَلْمَ بنَ أحْوَز في فرسان نصر ووجوه القبائل، والتَقَوْا فاقتَتَلُوا قتالًا شديدًا، فهزَمَهم الكِرْمانيُّ، وعادوا إلى نصر مفلولين، وقُتل منهم جماعة، فقال عَقِيل بن مَعْقِل لنصر: قد شأَمْتَ العربَ، فجِدَّ في الأمر. فجهَّزَ إلى الكِرْمانيِّ عِصْمَةَ بنَ عبد الله الأسديَّ، والتَقَوْا، فهزَمَه الكِرْمانيُّ، وقَتَلَ من أصحابه أربع مئة، وكلَّما جهَّزَ إليه جيشًا هَزَمَه، فحينئذٍ قَويَ أمرُ أبي مسلم، وقام الدُّعاةُ في كل ناحية، وكتبَ أبو مسلم إلى نصر والكِرْمانيّ: إنَّ الإمام قد أوصاني بكما، فلستُ أعدو رأيَه فيكما. وكاتَبَ اليمانيَّةَ والمُضَريَّة حتى صار هَوَى الفريقَينِ معه (¬6). ولما رأى الكِرمانيَّ قد ظهر على نصر؛ كتبَ إليه أبو مسلم: أنا معك. فقَبِلَه الكِرْمانيُّ، وجاء أبو مسْلم فانضمَّ بعسكره إلى عسكره، فاشتدَّ ذلك على نَصْر، وأرْسَلَ ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): أمَّا. والمثبت من المصادر. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 369 - 370. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 148 - 149، و"مروج الذهب" 6/ 65 - 66، و"الكامل" 5/ 366. (¬3) في (خ) و (د): علي بن جُديع، وهو خطأ. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 367. وقال البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 144: جُديع بن سعيد، ويقال: بن علي. (¬4) سلف في ترجمته في أوائل سنة (128). (¬5) في (خ) و (د): جَهَّزَ. والصواب ما أثبتُّه. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 368. (¬6) تاريخ الطبري 7/ 368 - 369. وينظر "الكامل" 5/ 363 - 364.

إليه (¬1): ويحك لا تفعل، فإني واللهِ خائفٌ عليك منه، ولكن هلمَّ إلى المُوادعة؛ أدخلُ مَرْو أنا وأنت، ونكتبُ كتاب الصُّلح. وجاء نصر في عسكره، فدخل مَرْو، ودخلَ الكِرْمانيُّ دارَه، وأبو مسلم مقيمٌ في عسكره قريبًا من مَرْو. [و] ركب الكِرْمانيُّ في مئة فارس، وبعث إلى نصر: اخْرُجْ إليَّ حتى نتَّفقَ على الصُّلْح، فلاحَ لنصرٍ منه غِرَّةٌ، فبعثَ إليه ابنَ الحارثِ بنِ سُريج في ثلاث مئة فارس، فالتَقَوْا في الرَّحْبة، فطُعن الكِرْمانيُّ في خاصرته، فوقع من فرسه، وحُمل إلى نصر، فقَتَلَه وصَلَبَه بالرَّحْبة. وأقبلَ عليُّ ابنُ الكرمانيِّ في جمع عظيم إلى نصر، فقاتلَه، فخرجَ نصرٌ من مَرْو، وأرسلَ عليُّ بنُ جُدَيع الكرمانيّ إلى أبي مسلم، فجاء فأنزلَه دارَ الإمارة بمَرْو، وبايعَه وقال: أنا معك على أمرك، فمُرْني بما تريد. وأقاما بمَرْو (¬2). وفيها غلبَ عبدُ الله بنُ معاوية على فارس. قال علماء السِّيَر: لما هزم عبدُ الله بنُ عمر بن عبد العزيز عبدَ الله بنَ معاوية بن عبد الله بن جعفر بالكوفة؛ خرج إلى المدائن (¬3)، وأتاه قومٌ من أهل الكوفة، فخرج إلى حُلْوان والجبال، فاستولَى عليها وعلى قُومِس وأصبهان والرَّيّ، وكان محاربُ بنُ موسى مولى بني يشكر عظيمَ القدر بفارس، فبايَع لابن معاوية، وخرجَ به إلى كِرْمان، ثم إلى أصبهان، وذهب به إلى إصطخر -بلد فارس- فولَّى عبدُ الله أخاه الحسن على الجبال، واستعمل أخاه يزيد على فارس، وانضمَّ إليه سليمان [بن هشام] بن عبد الملك، ومنصورُ بنُ جُمهور، وبنو هاشم، وشيبان الخارجيُّ، وأبو جعفر المنصور عبد الله، وعيسى بن علي (¬4)، فأقاموا بفارس. ثمَّ إنَّ محاربَ بنَ موسى نافَرَ عبدَ الله بنَ معاوية وحارَبَه، وكان يزيد بن معاوية أخو عبد الله بسابور، وكان مخلد بن محارب عنده فحبَسَه، ونصبَ محارب الحربَ ¬

_ (¬1) أي: إلى الكِرْماني. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 370 - 371، والكامل 5/ 364 - 365. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 144 - 145. (¬3) ينظر ما سلف في ذلك أوائل أحداث سنة (127). (¬4) في "تاريخ" الطبري 7/ 372: وعبد الله وعيسى ابنا علي. ولفظ "بن هشام" السالف بين حاصرتين منه.

لعبد الله، فقيل له: ابنك في حبس أخيه وتُقاتُله؟ ! فقال: نعم. وقاتَلَه، فهزمه عبدُ الله، فأتى كِرْمانَ، فأقام بها، وقدم محمدُ بنُ الأشعث (¬1)، فصار معه ثم قاتَلَهُ، فقتلَهُ محمد (¬2) وأربعةً وعشرين ابنًا معه، ولم يزل عبد الله بن معاوية بإصْطَخْر، فبعث إليه يزيدُ بنُ عمر بن هُبيرة ابنَ ضُبارة مع داود ابنِه، فأمرَ ابنُ معاوية فكسروا قنطرةً بينهم، فوجَّه ابنُ هُبيرة مَعْنَ بنَ زائدة من وجه آخر، فقاتلَهم، فهربَ ابنُ معاوية من فورِهِ إلى سِجِسْتان، ومضى شيبان الخارجيُّ إلى جزيرة كاوان، ومضى منصورُ بنُ جُمهور إلى السِّند، وعَمرُو بنُ سَهْل بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر، وأُسِرَ جماعةٌ من أصحاب ابنِ معاوية، منهم عبدُ الله بنُ علي بنِ عبد الله بن عبَّاس، فسبَّه ابنُ ضُبارة وقال له: ما الذي جاء بك إلى ابنِ معاوية وأنت مخالفٌ له -أو قد عرفتَ خلافَه لمروان- فقال: كان عليَّ دَينٌ فأتيتُه بسببه (¬3)، واستَوْهَبَهُ منه حَرْبُ بنُ قَطَن الهلالي وقال: ابنُ أُختنا، فوهبَه له، وجهَّزَه إلى يزيد بن عُمر بن هُبيرة (¬4). وأقامَ ابنُ ضُبارة بمفازة كِرْمان يطلبُ عبدَ الله بنَ معاوية (¬5). وحجَّ بالناس [في هذه السنة] عبدُ الواحد بنُ سليمان بن عبد الملك بن مروان، فلم يدر الناسُ بعرفة إلا وقد طلعت أعلامٌ سُود على الرِّماح، وأبو حمزة الخارجيُّ قد أتى من حضرموت من عند عبد الله بن يحيى بن زيد مُحَكَّمًا مُظْهِرًا خلافَ مروان في سبع مئة فارس، ففزع الناسُ لمَّا رأَوْهُم، وقالوا: ما لكم؟ فأظهروا التحكيم (¬6)، وسبُّوا مروانَ وآلَ مروان، فراسلَهم عبدُ الواحد [بن سليمان] وهو يومئذٍ على مكَّةَ والمدينة والطائف، وطلبَ الأمانَ حتى ينفر الناسُ النَّفْر الأخير، فأجابوه وقالوا: نحن بحجِّنا أضَنُّ، وعلى ديننا أَشَحُّ. ووقفُوا بعرفة ناحيةً. ¬

_ (¬1) في (خ) و (د) (والكلام منهما): ابن محمد بن الأشعث، وهو خطأ. ومحمد بن الأشعث هو ابنُ يحيى الخزاعي، أحد قوَّاد بني هاشم، له ترجمة في "تاريخ دمشق" 61/ 135 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) في (خ) و (د): ابن محمد، وهو خطأ. وينظر التعليق السابق. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 374: كان عليَّ دَيْنٌ فأدَّيتُه. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 374 وجاء بعده فيه: فحمله ابن هُبيرة إلى مروان. (¬5) المصدر السابق. ومن فقرة: ذكر أسامي النُّقباء (أوائل أحداث هذه السنة) إلى هذا الوضع، ليس في (ص) إلا لفظ: "وفيها قتل علي بن جديع الكرماني" على قلب في الاسم مثل ما وقع في (خ) و (د)، وصححتُه في موضعه. (¬6) في (خ) و (د): التحكم. والمثبت من (ص). وما سلف بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري 7/ 376.

ودفعَ بالناس عبدُ الواحد [بن سليمان] ونزلَ بمنًى، ونزلَ أبو حمزة بقرن الثعالب (¬1)، فأرسل إليه عبدُ الواحد بوجوه الناس: عبدِ الله بن حسن بن حسن، ومحمدِ بنِ عبد الله بن عَمرو بن عثمان، وعبدِ الرحمن بنِ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدِّيق، وعُبيدِ الله بنِ عُمر بن حفص (¬2) بن عاصم، وربيعةَ بنِ أبي عبد الرحمن، وغيرِهم، فدخلوا عليه، فتقدَّم عبدُ الله بنُ حسن، ومحمدُ بنُ عبد الله، فقال: انْتَسِبَا. فانْتَسَبَا له، فعبَسَ في وجوههما، ثم تقدَّم عبدُ الرحمن بنُ القاسم، وعُبيد الله بنُ عمر، فقال: انْتَسِبَا. فانتسَبَا، فتبسَّم إليهما وقال: واللهِ ما خرَجْنا إلا لنسير بسيرة أبويكما (¬3). فقال له عبد الله بنُ حسن: واللهِ ما بعثَ بنا الأميرُ لنفضِّل بين آبائنا، ولكن جئنا برسالة، وهذا ربيعةُ يخبرك بها. فقال ربيعة: هل يُنقض العهد؟ قال: لا والله، معاذَ الله أن أنقضَ العهدَ وبينا وبينكم هُدْنةٌ حتى تنقضي. وخرجُوا من عنده، وأخبرُوا عبدَ الواحد. فلما انقضى النَّفْر الأوَّل مضى عبد الواحد إلى المدينة وخلَّى مكة لأبي حمزة، فدخلَها من غير قتال (¬4) فقال شاعر يهجوه: زار الحجيجَ عصابةٌ قد خَالفوا ... دِينَ الإلهِ وفَرَّ عَبْدُ الوَاحِدِ تركَ الحلائلَ والإمارةَ هاربًا ... ومَضَى يُخَبِّظ كالبعيرِ الشارِدِ (¬5) ¬

_ (¬1) قرن الثعالب هو قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد. ينظر "مشارق الأنوار" 2/ 199. ووقع في "تاريخ" الطبري 7/ 375: قُرين الثعالب. (¬2) في (خ) و (د): عبد الله بن عمر بن جعفر، والتصويب من "تاريخ" الطبري 7/ 375. وكذا في الموضع الآخر. (¬3) في (خ) و (د): أبيكما. والتصويب من المصدر السابق. (¬4) جاء آخر القصة في (ص) مختصرًا، وصورته: فأرسل إليه عبدُ الواحد بن سليمان بوجوه الناس وقالوا: قد جئنا برسالة. قال: وما هي؟ قال: هل يُنقَضُ العهد؟ قال: لا والله، معاذ الله أن أنقض العهد وبيننا وبينكم هُدْنة حتى تنقضي. وخرجوا من عنده، وأخبروا عبد الواحد، فلما انقضى النفر الأخير مضى عبد الواحد إلى المدينة وخلَّى مكة لأبي حمزة، فدخلَها من غير قتال والفتنة قائمة. (¬5) ينظر الخبر بتمامه في "تاريخ" الطبري 7/ 374 - 376، وفيه بيت ثالث. وقوله: فقال شاعرهم يهجوه، مع البيتين، ليس في (ص).

سالم بن أبي أمية

وكان على العراق يزيدُ بنُ عُمر بن هُبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجَّاجُ بنُ عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عبَّادُ بنُ منصور، وعلى خُراسان نَصْرُ بن سيَّار والفتنة قائمة (¬1). سالم بن أبي أمية [وكنيتُه] أبو النَّضْر، مولى عمر بن عبد الله بن معمر التَّيميّ، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة (¬2)، وكان يفدُ على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فيعظُه. وروى ابنُ أبي الدُّنيا أنَّ سالمًا قال لعمر بن عبد العزيز وهو يعظُه: يا أمير المؤمنين (¬3) عبدٌ خلقَه اللهُ بيده، ونفَخَ فيه من روحه، وأسجدَ له ملائكتَه، وأسكنَه جنَّتَه؛ عصاه مرَّةً واحدة، فأخرجه من الجنة بتلك الخطيئة الواحدة، وأنا وأنتَ نعصي الله كلَّ يوم مرارًا ونتمنَّى على الله الجنة! وكانت وفاتُه بالمدينة. أسند عن أنس بن مالك، [وعبد الله بن أبي أوفى، وعَوْف بنِ مالك الأشجعي، وغيرِهم]. وروى عنه مالك والسُّفْيانان، وغيرُهم (¬4). وكان ثقةً كثير الحديث (¬5). عاصم بن بَهْدَلَة بدال مهملة -ابن أبي النَّجُود، الكوفيُّ الأَسَديُّ المقرئ، صاحبُ القراءة المشهورة، وأحدُ القُرَّاء السبعة أئمَّةِ الأمصار المُقْتَدَى بقراءتهم. وهو من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الكوفة. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. ولم يرد هذا الكلام في (ص). (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 506، وعنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 7/ 15 (مصورة دار البشير). وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) في (خ) و (د): قال له يومًا: يا أمير المؤمنين، بدل قوله: وروى ابن أبي الدنيا ... إلخ. وهي عبارة (ص) والخبر في "تاريخ دمشق" 7/ 17 (مصورة دار البشير)، من طريق ابن أبي الدنيا بأطول منه. (¬4) تاريخ دمشق 7/ 13 (مصورة دار البشير) وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 506.

قال عاصم: ما قدمتُ من سفر على أبي وائل قطّ إلا وقبَّل يدي (¬1). قرأ عاصم على أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، وزِرّ بن حُبيش، فأبو عبد الرحمن قرأ على ابنِ مسعود - رضي الله عنه -، وزِرٌّ قرأ على عليٍّ - عليه السلام - (¬2). قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: وأهل الكوفة يختارون قراءته وأنا أختارها أيضًا. وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمة الله عليهما: سألتُ أبي عن عاصم، فقال: كان صالحًا ناسكًا عابدًا (¬3). قال: ولمَّا مات أبو عبد الرحمن؛ جلس عاصم موضعه بجامع الكوفة (¬4). وروى عنه الحديثَ والقراءةَ قبل سنة مئة، وكان ذا نُسُكٍ وأدبٍ وفصاحة وصوت طيِّب (¬5). مات سنة تسع وعشرين -وقيل: ستَّة وعشرين، أو سبع وعشرين، أو ثمان وعشرين- ومئة (¬6). وقال أبو بكر بن عياش: دخلتُ عليه عند وفاته وهو يقرأ: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} الآية (¬7) [الأنعام: 62]. وقال أبو علي الأهوازيُّ: ليس أحد من القراء السبعة أعظمَ روايةً للحديث من عاصم، وهو من التابعين، وقد روى عن ثلاثةٍ من الصحابة ولَقِيَهم: أنس وأبي رِمْثة العبدي، والحارث البَكْري. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 438، وذكره ابن عساكر في "تاريخ دمشق" ص 19 - 20 (جزء فيه عاصم- طبعة مجمع دمشق) بنحوه من طرق. وأبو وائل: هو شقيق بن سلمة. (¬2) تاريخ دمشق ص 12 - 13 (الجزء المذكور). (¬3) هذا القول والذي قبله في المصدر المذكور. (¬4) أورده الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 257 عن أبي بكر بن عيَّاش. (¬5) المصدر السابق 5/ 259 عن سلمة بن عاصم. (¬6) جاء في المصادر أنه توفي سنة سبع وعشرين أو ثمان وعشرين، قال الذهى في "معرفة القراء الكبار" 1/ 209: "فلعله توفّي في أول ثمان وعشرين". ولم أقف على من ذكر وفاته سنة (129) إلا عند ابن الجوزي حيث أورده في "المنتظم" 7/ 273 في ذكر من توفي فيها. وينظر "التاريخ الكبير" 6/ 487، و"تاريخ دمشق" ص 24 - 26 (الجزء المذكور سابقًا)، و"تهذيب الكمال" 13/ 479. (¬7) تاريخ دمشق ص 24. وذكر ابنُ عيَّاش راوي الخبر أنه قرأها بكسر الراء. قال الذهبي في "معرفة القراء الكبار"1/ 209: هي لغة هُذيل.

السنة الثلاثون بعد المئة

وقال ابن عساكر: لم يلقَ عاصمٌ أحدًا من الصحابة، والأحاديثُ التي أسنَدَها عن هؤلاء الثلاثة فيها مقال (¬1). وقال الأهوازيُّ: قرأ على عاصم سبعون إمامًا من علماء الأمصار، منهم: أبو بكر بنُ عيَّاش، وحفْصُ بنُ سليمان، وأبو عَمرو بنُ العلاء، والأعمشُ، ومحمدُ بنُ أبي ليلى، وشُعبة بن الحجَّاج، والخليلُ بن أحمد، وجرير بن حازم، وحمزة الزيَّات، وحمَّاد بن سَلَمة، وسفيانُ بن عُيَينة، وغيرُهم. وروى عنه: عطاء، وسفيان الثوريُّ، ومنصور بن المُعْتَمِر في آخرين. وقال الدارقطني: كان عاصم ثقةً، وفي حفظه للحديث شيء (¬2). يعني أنه شغلَه القرآنُ على الحديث (¬3). السنة الثلاثون بعد المئة فيها نزل أبو مسلم دار الإمارة بمَرْو، واتفق عليّ بن الكِرْمانيِّ معه على حرب نَصْر بنِ سيَّار. وكان نزوله مَرْو لسبعٍ خَلَوْن من جمادى الأولى (¬4) يوم الخميس، وكان ابنُ الكِرْمانيّ اتَّفق أوَّلًا مع نصر، فأرسل إليه أبو مسلم يقول: ما أظنُّك تجمع أنت ونصرٌ في موضع واحد بعد أن قتلَ أباك وصلبَه، فإنه لا يأمنُك ولا تأمنُه. فرجع عن نصر، وصار مع أبي مسلم (¬5). وهرب نَصْرٌ من مَرْو لعشرٍ خلونَ من جمادى الأولى سنة ثلاثين، وصَفَتْ مَرْو لأبي مسلم (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه ولا على قول الأهوازي قبله والآتي بعده. (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" ص 23 عن الدارقطني. (¬3) لم ترد ترجمة عاصم بن بهدلة في (ص). (¬4) في "تاريخ" الطبري 7/ 377: لتسع خلون من جمادى الآخرة. وفي الصفحة بعدها: لتسع خلون من جمادى الأولى. وقال ابن الأثير في "الكامل" 5/ 378: في ربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 377. (¬6) المصدر السابق 7/ 379.

وأخذ أعيانَ أصحاب نصر: سَلْمَ بنَ أحْوَز، ويونس بن عبد ربِّه، وعقيل بن معقل، ومنصور بن [أبي] الخرقاء، وغيرهم، فحبسهم، وشاورَ أصحابَه فيهم، فقالوا: هؤلاء رؤوس الفتنة، وأعيانُ العصبيَّة، وسَلْمُ بنُ أحوز قتلَ زيدَ بنَ عليّ، والرأيُ أن تجعلَ حُبُوسَهم قبورَهم. فقَتَلَهم أبو مسلم، فكانوا نيِّفًا وعشرين رجلًا (¬1). وكانت بيعةُ أبي مسلم لبني هاشم على أهل خُراسان: أبايعُكم على كتاب الله وسُنَّةِ رسولِه، والطاعةِ للرضا من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهلِ بيته (¬2)، عليكم بذلك عهدُ الله (¬3) وميثاقُه والطلاق والعِتاقُ، والمشيُ إلى بيت الله، ونحوُه. وكان نصر قد وادعَ أبا مسلم، ثم خاف منه، فخرج من مَرْو في نفر يسير في الليل هاربًا إلى سَرَخْس، ثم مضى إلى طُوس، وسار إلى نيسابور في ثلاثة آلاف (¬4). وكان أبو مسلم قد أمنَ نَصْرَ بنَ سيَّار، وأقامَ معه بمرو، وأبو مسلم في دار الإمارة، فأرسل إلى نصر لاهزَ بنَ قُرَيط يدعوه إليه، فقرأ لاهز: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] فقال: أُجدِّدُ الوضوء. وقامَ، فدخلَ بستانًا، وركب دابَّة وهرب (¬5). فقال أبو مسلم بعد ذلك: ما الذي دعا نصرًا إلى الهرب؟ فقيل له: قرأ لاهز: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} فقاله: يا ابن قُريط، أتُدَاجي (¬6) علينا وفي الدِّين؟ ! وضربَ عُنقَه. وفيها قَدِمَ قحطبةُ [بن شبيب] على أبي مسلم خُراسان من عند إبراهيم الإمام قبل أن يُحبَسَ إبراهيم، ومعه لواءٌ عَقَده [له] إبراهيم بيده وعهدٌ منه بتقدُّمه الجيوش، فأجابَ ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 380. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) قوله: وأهل بيته، ليس في المصدر السابق. (¬3) في (خ) و (ب) (والكلام منهما): بذلك العهد لله. والتصويب من "تاريخ" الطبري 7/ 380. (¬4) بنحوه أطول منه في "تاريخ" الطبري 7/ 382. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 381. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 146. (¬6) داجاه: ساتره بالعداوة ولم يبدها له، وفي "تاريخ" الطبري 7/ 385: أتدغل (والخبر فيه بنحوه) وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 147. ولاهز بن قُريط من النقباء الاثني عشر، سلف ذكرهم سنة (129).

أبو مسلم بالسمع والطاعة، وبعثه على مقدمته، وضمَّ إليه العساكر، وجعلَه صاحبَ الأمر والنهي، وكتب له إلى الأمصار والعساكر بالطاعة (¬1). وفيها توجَّه قحطبةُ إلى نيسابور للقاء نصر. قال علماء السِّيَر: إن أبا مسلم لمَّا قتل [شيبان] الخارجيَّ وابْنَي الكِرْمانيّ (¬2)، وغلبَ على مَرْو، واستعمل العمَّال على الكُوَر؛ بعثَ قحطبةَ بنَ شبيب إلى طُوس، ومعه عِدَّة من القُوَّاد، منهم أبو عَوْن عبدُ الملك بنُ يزيد، ومقاتل بنُ حكيم العكّيّ، وخالد بنُ بَرْمك، وخازم بنُ خُزيمة، والمنذر بنُ عبد الرحمن، وعثمان بنُ نَهِيك، وجَهْوَر بنُ مَرَّار العجلي، وأبو العبَّاس الطُّوسيّ، وأبو الجَهْم وجعلَه كاتبًا لقحطبة على الجُند، وكان بطُوس رابطةٌ لنصر، فانهزمت، ودخل الناس باب طُوس، فمات في الزِّحام بضعةَ عشرَ ألفًا (¬3). وكان نصرٌ قد بعث ابنَه تميمًا في ثلاثين ألفًا من فرسان خُراسان، وسار إليهم قحطبةُ، والتَقَوْا، فقُتِلَ تميمُ بنُ نَصْر، وانهزمَ عسكرُه، وقَتَلَ منهم قحطبةُ مقتلةً عظيمة، واستباحَ العسكر، وسار إلى نيسابور يقصدُ نَصْرًا، فهرب نَصْر إلى جُرْجَان، وبها نُباتة بن حنظلة الكلابي (¬4)؛ كان يزيد بنُ عُمر بنِ هُبيرة قد بعثَه مددًا لنصر، وسار إليه قحطبة، فقاتَلَه نُباتة (¬5) -وكان فارسًا عظيمًا- في عشرة آلاف (¬6)، فلما انهزم أهل الشام الذين كانوا مع نُباتة؛ دخل مسجدًا هناك بعد أن نَكَى فيهم وقاتلَ قتالًا شديدًا، فخرقوا ¬

_ (¬1) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 388 وما بين حاصرتين منه للإيضاح، والمصنف ينقل الكلام بالمعنى، وقوله: وعهدٌ منه بتقدُّمه الجيوش، ليس في المصدر المذكور. (¬2) سيرد ذكر قتل أبي مسلم لهؤلاء الثلاثة في تراجمهم في هذه السنة. (¬3) ينظر المصدر السابق. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 390. (¬5) في (خ) و (د): ابن نباتة. وهو خطأ. (¬6) ليس في "تاريخ" الطبري ذكر عدد من كان مع نُباته، بل جاء فيه 7/ 392 أنه قُتل منهم عشرة آلاف. وقال البلاذري في "أنساب الأشراف" 3/ 152: قتل منهم عشرة آلاف، ويقال: ستة آلاف.

عليه سقف المسجد، ورَمَوْه بالحجارة حتى قتلُوه، وبعث قحطبةُ برأسه إلى أبي مسلم، وسار نصر حتى نزل الرَّيَّ (¬1). وفيها قُتل عامرُ بنُ ضُبارة (¬2). وفيها استولى أبو مسلم على خُراسان، وصار (¬3) إلى نيسابور، وكان ممَّا قوَّى أمرَه بخُراسان وقوعُ الفتنة بين مُضر وربيعة واليمانيَّة. وسببُه ميلُ نصر إلى بني تميم، وتقديمُه إيَّاهم، وتأخيرُه ربيعةَ ومُضر، فغضب جُدَيْع بن سعيد الكِرْماني (¬4)، وكان من ربيعة، فاحتال نصرٌ عليه حتى قتلَه بمَرْو وصلَبَه؛ على ما ذكرنا (¬5). وقيل: إنه علق إلى جانبه سمكةً. يعني أنه كان صيَّادًا بعُمان (¬6). فصارَ ابنُهُ عليٌّ إلى أبي مسلم، وخلعَ مروانَ، فقَويَ به أبو مسلم، واشتدَّتْ شوكتُه، ثم قَتَلَ بعد ذلك عليًّا وعثمانَ ابنَي جُدَيع الكِرْمانيّ. وكان أهلُ جُرجان قد عزموا على قتل قحطبة، فعلم بهم، فقتلَ منهم ثلاثين ألفًا (¬7). وقال الهيثم: إنما كانت وقعةُ نُباتة (¬8) لما وصل نصر إلى الرّيّ، فكتبَ (¬9) إلى ابن هُبيرة يستمدُّه، فأبطأ عليه الغِياث، فكتب إلى مروان يشكو ابنَ هبيرة ويقول: [إنما أنا] ¬

_ (¬1) الخبر من روايتين في "تاريخ" الطبري 7/ 392. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 152. (¬2) سيرد خبر مقتله في الخبر الآتي، وذكره الطبري 7/ 405 في أحداث سنة (131). وأشار المختصر إلى هذا آخر الخبر. (¬3) في (د): وسار. (¬4) هو جُديع بن عليّ الكرماني السالف ذكرُه. ويقال: ابن سعيد. ينظر "أنساب الأشراف" 3/ 144. (¬5) في أحداث سنة (129). (¬6) ينظر "تاريخ" الطبري. وقال البلاذري في "أنساب الأشراف" 3/ 145: صَلَبَه نصرٌ وعلَّق معه سمكة، يُعيِّره بعُمان وصيد السمك. (¬7) كذا وقع سياق هذه العبارة في (خ) و (د) (والكلام منهما). والحاصل أنه في هذه السنة قَتَلَ قحطبةُ من أهل جُرجان هذا العدد حين بلغه أنه أجمع رأيهم على الخروج عليه بعد مقتل نُباتة بن حنظلة. ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 401. (¬8) في (د): بن نباتة، وهو خطأ. ووقع في (خ): بين بن نباتة (؟ ). (¬9) في (د): كتب.

كرجل أُخرجَ من بيته إلى حُجرته، ثم من حُجرته إلى داره، ثم من داره إلى فِنائها، ثم من فِنائها إلى الطريق (¬1). فكتبَ مروانُ إلى ابن هبيرة، فأمدَّه بنُباتة بن حنظلة (¬2)، فالتقاهم قحطبة يومَ الجمعة مستهلَّ ذي القَعْدَة -وقيل: في ذي الحجَّة- فقال قحطبة: هذا يومٌ نرجو فيه النصرَ والظَّفَر. والتَقَوْا، فانهزمَ أهلُ الشام، وقُتل نُباتة، وبعث قحطبةُ برأسه، فطِيفَ به في خُراسان (¬3). وبلغ ابنَ هبيرة، فجهَّزَ إلى نصر خمسين ألفًا مع عامر بن ضُبارة المُرِّيّ، وبعثَ ولدَه داودَ بنَ يزيدَ بنِ هُبيرة، وجاء نصر إليهم ومعه أولاد [هـ]: مساور، وقُديد (¬4)، ومبشّر، والتَقَوْا بأصبهان، فاقتتلُوا قتالًا لم يجر قبلَه مثلُه، وقُتل أعيانُ قُوَّاد قحطبة، وقُتل عامرُ بنُ ضُبارة، وبنو نصر الثلاثة، ومعظمُ أهل الشام، وبعث قحطبةُ برؤوسهم إلى أبي مسلم وهو بنيسابور مع عيسى بن ماهان مولى خُزاعة، فاحتَبَسَه أبو مسلم عنده، فلم يخرج من خراسان حتى قتله (¬5). وقيل: إنَّ هذه الوقعة كانت سنة إحدى وثلاثين (¬6). وفيها دخل أبو حمزة الخارجيُّ المدينةَ. وقيل: إنما دخلَها (¬7) بعدَ وقعة قُديد. ذكر وقعة قُدَيد: ولمَّا هرب عبدُ الواحد من مكة إلى المدينة، أقامَ أبو حمزة بمكة، فجهَّز إليه عبدُ الواحد عبدَ العزيز بنَ عبد الله بن عمرو بن عثمان في جيش أهل المدينة، فلما كانوا في ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 401. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 149. (¬3) المصدر السابق 3/ 151 - 152. (¬4) في (خ) و (د): حديد، والمثبت من "أنساب الأشراف" 3/ 152، والهاء السالفة بين حاصرتين زيادة من عندي من أجل السياق. وينظر المصدر المذكور. (¬5) ينظر المصدر السابق 3/ 152 - 153. ويلاحظ أن هذا الخبر بطوله مقتطع من عدة مصادر، ولم أقف على رواية الهيثم. (¬6) من قوله: فيها نزل أبو مسلم دار الإمارة (أول أحداث هذه السنة) ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬7) في (خ) و (د): أبادَ خلقًا، بدل: إنما دخلَها. والمثبت من (ص).

العقيق؛ إذا بجُزُرٍ منحورة، فتفاءلوا بها، وتعلَّق لواء عبد العزيز بشجرة، فانكسر الرُّمح، فتطيَّر الناسُ بذلك (¬1)، ثم ساروا إلى قُدَيد، فنزلوها ليلًا [فلم يَرُعْهُم إلا القومُ قد خرجوا عليهم] (¬2). وقيل: إنَّ خُزاعةَ دَلَّتْ عليهم أبا حمزة، فكَبَسَهم في الليل، فلم يُفْلِتْ منهم إلا القليل، وانهزمَ الباقون، ووقعَ المأْتَمُ في المدينة، وبكى الناسُ قتلاهم. وجاء أبو حمزة إلى المدينة، فانهزمَ عبد العزيز إلى الشام، وصَعِدَ أبو حمزة المنبر فذمَّ أهلَ المدينة (¬3). وقال الواقدي: كانت الحرورية أربع مئة، وخرجَ إليهم أهلُ المدينة، فقال أبو حمزة: واللهِ ما لنا حاجةٌ إلى قتالكم، فدعونا نمضي (¬4) إلى عدوِّنا -يعنون مروان- فأبى أهلُ المدينة، فالتَقَوْا لسبع ليال خلَوْن من صفر يوم الخميس سنة ثلاثين [ومئة] فقتلوا أهلَ المدينة لم يُفْلِتْ منهم إلا الشريد، وقُتل أميرُهم عبد العزيز بن عبد الله، واتهمت (¬5) قريشٌ خُزاعة أن يكونوا داهنُوهم، ودخلت الحروريَّةُ المدينةَ لسبع عشرة [ليلة خلت] من صفر (¬6). وقال هارون بن موسى: إن أبا حمزة لما خطب قال: يا أهل المدينة، مَرَرْتُ بكم في زمان الأحول -يعني هشام بن عبد الملك- وقد أصابتكم جائحة في ثماركم، فكتبتُم إليه تسألونه أن يضع عنكم، فكتب إليكم إنه يضعُها عنكم، فقلتم: جزاك الله خيرًا، فلا جزاه اللهُ خيرًا، ولا جزاكم خيرًا. ¬

_ (¬1) الَّذي في "تاريخ" الطبري 7/ 393 أنهم لما كانوا بالحَرَّة لقيتهُم جُزُرْ منحورة، فمضَوْا، فلما كانوا بالعقيق تعلَّق لواؤهم بسَمُرة فانكسر الرمح، فتشاءموا. وسلف خبر عبد الواحد (وهو ابن سليمان بن عبد الملك بن مروان) سنة (129) قبل التراجم. (¬2) ما بين حاصرتين من المصدر السابق لضرورة السياق. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 394. (¬4) كذا في (خ) و (د). والجادة: نمضِ، كما هو في "تاريخ الطبري" 7/ 395. (¬5) في (خ) و (د): وانتبهت. والمثبت من المصدر السابق. (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 395: لتسع عشرة خلت من صفر. وما سلف بين حاصرتين منه.

يا أهل المدينة، واللهِ إنَّا لم نخرجْ من ديارنا وأموالنا أشَرًا ولا بَطَرًا، ولا عَبَثًا ولا لَهْوًا، ولا لدولة مُلك، ولكنَا رَأَينَا مصابيحَ الحقِّ قد عُطِّلَتْ، وعُنِّفَ القائلُ بالحقِّ، وقَلَّ القائمُ بالقِسْط، فضاقَتْ علينا الأرضُ بما رَحُبَتْ، وسمعنا داعيًا يدعو إلى طاعة الرحمن، وحُكْم القرآن، فأجَبْنا داعيَ الله، ومن لم يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض (¬1)، وإنَّا لَقِينا رجالكم بقُدَيد، فدَعَوْناهم إلى طاعة الرحمن وحُكْم القرآن، فدَعَوْنا إلى طاعة الشيطان وحُكْم ابنِ مروان، فشتَّانَ ما بين الغَيِّ والرُّشْد. يا أهل المدينة، أوَّلُكم خيرُ أوَّل، وآخِرُكُم شرُّ آخِر. [يا أهل المدينة] الناسُ منَّا ونحنُ منهم إلا [مشركًا عابدَ وثن، أو مشركَ أهلِ كتاب، أو إمامًا جائرًا. يا أهل المدينة] مَنْ زعَمَ أنَّ اللهَ كلَّفَ نفسًا فوق طاقتها، وسألَها ما لم يُوتها؛ فهو عدوٌّ لله، وحربٌ لنا. يا أهل المدينة، أخبِرُوني عن ثمانية أسهم فَرَضَها اللهُ في كتابه على القويِّ والضعيف، فجاء تاسعٌ ليس له منها سهمٌ واحد، وأخذ الجميعَ لنفسه مكابرًا محاربًا للهِ ورسولِه. يا أهل المدينة، بلغني أنكم تنتقصون أصحابي وتقولون: شبابٌ أحداث، وأعرابٌ جُفاة، وهل كان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا شبابًا أحداثًا؟ وأصحابي واللهِ شبابٌ مكتهلُون (¬2) في شبابهم، غاضةٌ عن الشَّرِّ أعينُهم، ثقيلةٌ عن الباطل أقدامُهم، قد باعوا اللهَ أنفسًا تموتُ بأنفسٍ لا تموت، صيامٌ نهارُهم، قيامٌ ليلُهم مَحْنِيَّةٌ أصلابُهم على تلاوة القرآن، كلَّما مرُّوا بآية خوفٍ شهقوا خوفًا من النار، وإذا مرُّوا بآية شَوْقٍ؛ شهقوا شوقًا إلى الجنّة. فلما نظروا إلى السيوف وقد انتُضِيَتْ، والرِّماحِ وقد أُشْرِعَتْ، وإلى السهام وقد فُوِّقَتْ، وأُرْعِدَت الكتيبةُ بصواعق الموت؛ استَخَفُوا وعيدَ الكتيبةِ لوَعْدِ الله تعالى (¬3)، ولم يستخفُّوا وَعْدَ الله (¬4) لوعيد الكتيبة، فطُوبى لهم وحسنُ مآب. فكم من عينٍ في منقار طائر طالما فاضَتْ في جوف الليل من خوف الله، وكم يدٍ (¬5) زالتْ من مَفْصِلِها ¬

_ (¬1) اقتباس من قوله تعالى: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} [الأحقاف: 32]. (¬2) في "تاريخ" الطبري 7/ 396: شبابٌ واللهِ مكتهلون ... إلخ، دون قوله: وأصحابي. (¬3) في "تاريخ" الطبري 7/ 397: لوعيد الله تعالى. (¬4) في المصدر السابق: وعيد الله. (¬5) في "تاريخ" الطبري: وكم من يدٍ.

طالما اعتمدَ (¬1) بها صاحبُها. يا أهل المدينة، مَنْ زنى فهو كافر، ومن سرقَ فهو كافر، ومن شكَّ في الله فهو كافر. فمال الناس إليه لما سمعوا قوله: من زنى فهو كافر (¬2). ثم نزل من المنبر، فأقامَ عندهم ثلاثةَ أشهر؛ يُحسن السيرة. وقال الواقدي: قُتل بقُدَيد سبعُ مئة (¬3)، فقال الشاعر: ما لِقُدَيْدَ (¬4) ومَالِيَهْ ... أفْنَتْ قُدَيدُ رجالِيَهْ فَلَأَبْكِيَنَّ سَرِيرَةً ... وَلَأبْكِيَنَّ عَلَانِيَهْ قال علماء السير: وبلغَ مروانَ حديثُه، فانتخبَ من عسكره أربعةَ آلاف، واستعملَ عليهم عبدَ الملك بنَ محمد بنِ عطية السَّعْدِيّ (¬5)، وأعطى كل رجل مئة دينار، وفرسًا عربيًّا، وبغلًا لثَقَلِه، وأمره أن يُقاتلهم، فإنْ ظَفِرَ بهم؛ سار إلى اليمن إلى عبد الله بن يحيى بن زيد (¬6) ومن تبعه. فسار ابنُ عطيَّة حتَّى نزل العُلا، وخرج أبو حمزة، فنزل بوادي القُرى، وخلَّفَ بعضَ أصحابه بالمدينة. وخرج رجل من المدينة طالبًا للشام، فلَقِيَه رجلٌ من عسكر ابنِ عطية، فقال للمدنيّ: ما اسمُك؟ فقال: العَلاء. قال: ابنُ منْ؟ قال: [ابن] أفلح. قال: مَوْلى مَنْ، قال: مولى أبي الغَيث. قال: فأين نحن؟ قال: بالعُلا. قال: فأين نحن غدًا؟ قال: بغالب. فأردفه خلفَه وأتى به ابنَ عطيَّة، وأخبرَه الخبر، فسُرَّ به، ووهبَه دراهم. ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): اعتهد. والمثبت من المصدر السابق. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 395 - 397، وما سلف بين حاصرتين منه، وفيه زيادة، وينظر "البيان والتبيين" 2/ 241 - 125، و"عيون الأخبار" 2/ 249 - 250، و"أنساب الأشراف" 7/ 626 - 629، و"العقد الفريد" 4/ 414 - 146، و"الأغاني" 23/ 237 - 23، و"الكامل" لابن الأثير 5/ 389 - 390. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 398. (¬4) في (خ) و (د): ما لي قديد. ورسمتُ اللفظ على الجادَّة. وفي "أنساب الأشراف" 7/ 633، و"تاريخ" الطبري 7/ 397، و"الأغاني" 23/ 234: ما للزمان. (¬5) في (د): بن السعدي. (¬6) قوله: بن زيد، وهمٌ، وسأذكره في ترجمته في هذه السنة. وقوله: الثَّقَل، أي: المتاع.

ثم التَقَوْا، فقال أبو حمزة: لا تُقاتلوهم حتَّى نختبرَهم. فصاحوا بهم: ما تقولون في القرآن؟ فصاح ابنُ عطيَّة: نضعُه في جوف الجَوالق (¬1). قال: فما تقولون في مال اليتيم؟ قال: نأكلُه ونفجُرُ بأمِّه، في أشياءَ مثلِ هذا الجنس، فلما سمعوا كلامَهم؛ قاتلُوهم حتَّى أمْسَوْا وابنُ عطيَّة يقاتلُهم. فصاحوا: ويحك يا ابنَ عطية، إن الله جعلَ الليلَ سَكَنًا، فاسكُنْ! فأبى، وقاتلَهم حتَّى قَتَلَهم. وبلغ أهلَ المدينة فوثبُوا على من كان بالمدينة من الخوارج، فقتلُوهم. ثم دخل ابنُ عطيَّة المدينة، فأقامَ شهرًا، ثم سار إلى مكة، ثم إلى اليمن (¬2). وكان عبدُ الله بن يحيى بصنعاء، فخرج إلى ابنِ عطية، واقتتلُوا، فقُتل عبدُ الله، ودخل ابنُ عطيَّة صنعاء، وبعث برأس عبد الله مع ابنه إلى مروان، فكتب إليه مروان أن يُغِذَّ السَّير حتَّى يحجَّ بالناس، فخرج من اليمن في نفر يسير، فقتل؛ لما نذكر (¬3). وفيها كانت زلازل شديدة بالشام وأخربت (¬4) البيت المقدَّس، وأهلكت أولادَ شدَّاد بن أوس فيمن هلك، وخرج أهل دمشق إلى البَرِّية، فأقاموا أربعين يومًا. وقيل: كانت في سنة إحدى وثلاثين ومئة. وانشَقَّتْ قُبَّة جامع دمشق، وبقيت على حالها ساعة، وبان الضوءُ منها، ورَأَوْا السماء، ثم جاءت زلزلةٌ أخرى، فردَتَّها إلى مكانها، وانشقَّتْ صخرةُ بيت المقدس والقُبَّة، ومات معظم أهل بيت المقدس تحت الرَّدْم. ولما انشقَّتْ قُبَّةُ بيت المقدس شاهدوا الكواكب منها، وسمع الناسُ قائلًا يقول من الهواء: رُدُّوها رُدُّوها عَدِّلُوها. فعادَتْ (¬5). ¬

_ (¬1) يعني الكيس من الخيش (معرَّب). (¬2) تاريخ الطبري 7/ 398 - 399. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 634 - 637. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 400. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 639 - 640. ومن قوله: ذكر وقعة قديد ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬4) في (ص): أخربت. والخبر في "النجوم الزاهرة" 1/ 311. (¬5) لم أقف عليه.

إسماعيل بن أبي حكيم

وحجَّ بالناس [في هذه السنة] محمد بنُ عبد الملك بن مروان (¬1)؛ قال المسعوديُّ: وهو آخِرُ مَنْ حجَّ بالناس في أيام بني أمية (¬2). وفيها توفّي إسماعيل بنُ أبي حكيم المدنيُّ مولى عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه - (¬3). وكان كاتبًا لعمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه [لمَّا كان عُمر على المدينة. وهو الَّذي بعثَه عُمر لمَّا وَلِيَ إلى الرُّوم، وسمع الأسيرَ يقول: أرِقْتُ وغابَ عني من يلومُ ... ولكن لم أنَمْ أنا والهمومُ وقد ذكرنا القصة في ترجمة عمر بن عبد العزيز، وكانت وفاته بالمدينة.] أسند عن ابن المسيّب وغيره، وروى عنه مالك بن أنس وغيره، وكان ثقة (¬4). أمية بن عبد الله بن عَمْرو (¬5) ابن عثمان بن عفَّان، أبو عثمان من الطبقة الرابعة من أهل المدينة (¬6). وأمُّهُ أمُّ عبد العزيز بنتُ عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية. قدم غازيًا على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما الَّذي أقدمَك؟ قال: الغزوُ إن شاء الله تعالى. فقال له: يا أبا عثمان، صنعتَ الَّذي يُشبهك وما كان عليه أوَّلُوك وخيارُ سلفك. ودفع إليه خمسين دينارًا، فاستَقَلَّها وقال: إنَّ هذه لا تُغني عني شيئًا. فقال عمر: ما يستحقُّ من كان في هذا الوجه أكثرَ من هذا. فقال: علي دَينٌ. فقال عمر: ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 402. وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) مروج الذهب 9/ 63. وذكر فيه المسعودي أيضًا أن الوليد بن عروة بن محمد بن عطية حجَّ بالناس سنة (131) بكتاب افتعله على لسان عمّه عبد الملك (وسيرد). ثم قال: فهذا آخر ما حجَّ بنو أمية. (¬3) قال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 2/ 830 (مصورة دار البشير): ويقال: مولى الزبير بن العوَّام. (¬4) المصدر السابق ... وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬5) في "تاريخ دمشق" 3/ 130 (مصورة دار البشير): عمر. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 480، وعنه بن عساكر في "تاريخ دمشق" 3/ 131 (مصورة دار البشير).

بديل بن ميسرة العقيلي

أكتبُ إلى عاملي أن يبيع مالك، ويقضيَ دينَك (¬1). فقال: ما جئتُك لتبيعَ مالي وتُفْلِسَني! قال: واللهِ ما هو إلا ما قلتُ لك. فعاد إلى المدينة. قُتل أمية يوم قُديد. أسند عن أبيه وغيره، وروى عنه محمد بن إسحاق وغيره، وكان ثقةً (¬2). بُدَيل بن مَيسَرة العُقيلي من الطبقة الثالثة من البصرة (¬3)، كان من العبَّاد الخائفين. قال بشر بن منصور: بكى بُدَيل العُقيليُّ حتَّى قَرِحَتْ مآقيه، فعُوتب في ذلك، فقال: إنما أبكي خوفَ العطش يومَ القيامة. ثم بكى بعد ذلك حتَّى ذهب بصرُه (¬4). وقال بُديل: مَنْ أراد بعمله وجهَ الله أقبلَ اللهُ إليه بوجههِ وبوجوه العباد -أو بقلوب العباد- إليه، ومن عمل لغير الله صرفَ اللهُ عنه وجهَه، وصرفَ قلوبَ العباد عنه. وقال: الصيام مَعْقِلُ العابدين. وروى عن أنس بن مالك وغيره، وكان ثقة (¬5). حُمَيد بن قَيس الأعرج المكيّ، القارئ، مولى بني أسد بن عبد العُزَّى، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل مكة، وهو مولى [آل] الزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه -. وكان قارئَ أهلِ مكة، ويقرأ في المسجد، ويجتمع الناسُ عليه حين يختمُ القرآن، وكان أفرضَ أهلِ مكَّةَ وأحْسَبَهُمْ. أسند عن مجاهد وغيره، وروى عنه الثوريُّ وغيره، وكان ثقةً كثيرَ الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق": نكتب إلى عاملك، فيبيع مالك، فيقضي دينك، حيث فضل عليك قضاه من بيت مال المسلمين. (¬2) المصدر السابق. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 239. (¬4) بنحوه في "صفة الصفوة" 3/ 265. (¬5) ينظر ما سلف في المصدر السابق. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 8/ 47 - 48، وتاريخ دمشق 5/ 351 (مصورة دار البشير) وما سلف بين حاصرتين منهما.

الخليل بن أحمد

قال ابنُ سعد: وأخوه عُمر (¬1) بن قيس -ويلقب بسَنْدَل- ضعيف، وهو الَّذي عبث (¬2) بمالك بن أنس وقال: مرَّة يُخطئ ومرَّة لا يُصيب، وكان عند والي مكة. وبلغ مالكًا، فقال: هكذا الناس. فقال سَنْدَل: تَغَفَّلَ الشيخ. ففهم مالك، وحلفَ لا يكلِّمُه أبدًا (¬3). الخليل بن أحمد ابن عَمْرو، الفراهيديُّ النحويُّ، البصريُّ الأزديّ، من الطبقة الثالثة [من أهل البصرة]. [قال الجوهري: ] والفُرهود: حيٌّ من يَحْمَد، وهم بطنٌ من الأزد [يقال لهم: الفراهيد، منهم الخليل بن أحمد العروضيّ يقال: رجل فَراهيديّ وفُرْهُوديّ] (¬4). وكنيتُه أبو عبد الرحمن. قال محمد بن سلَّام: لم يتسمَّ أحدٌ في الإسلام بأحمد قبل أبيه سوى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن في العرب بعد الصحابة أذكى من الخليل ولا أجمع، وكان قد بَرَعَ في علم الأدب، وهو أوَّلُ من صنَّفَ العَرُوض، وكان من أزهد الناس، وأعلاهم نفسًا، وأشدِّهم تعفُّفًا، وكان الملوك يقصدونه ويتعرَّضون له لينال منهم، ولم يفعل. وكان يعيش من بستان خلَّفَه له أبوه. وقال الرِّياشي: بعث إليه سليمان بنُ علي الهاشمي بألف دينار وقال: تتَردَّدُ إلى أولادي تُقرئُهم الأدب. فأخرج للرسول جَرَّةً، فيها كِسَرٌ يابسة، ثم قال: مَنْ يَقْنَعْ بهذا لا يحتاجُ إلى سليمان. وردَّ المال، وكتب إليه: أبْلِغْ سليمانَ أنِّي عنهُ في سَعَةٍ ... وفي غِنًى غير أنِّي لستُ ذا مالِ وأنَّ بينَ الغِنَى والفقرِ منزلةً ... مقرونةً بجديدٍ ليس بالبالي ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): عمرو. وهو خطأ. (¬2) في (خ) و (د): عيب. والتصويب من "طبقات" ابن سعد 8/ 48. (¬3) المصدر السابق. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬4) "الصحاح " 2/ 517 (فرهد) وما سلف بين حاصرتين من (ص).

سخَّى بنفسيَ أنّي لا أَرَى أحدًا ... يموتُ جوعًا ولا يَبْقَى على حالِ والفَقْرُ في النَّفْس لا في المالِ نعرفُهُ ... وقَبْلَ ذاك الغِنَى في النفسِ لا المالِ والرِّزْقُ عن قَدَرٍ لا العَجْزُ يَنْقُصُهُ ... ولا يَزِيدُك فيه حَوْلُ مُحْتالِ (¬1) قال المصنِّف رحمه الله: وهذه الرِّوايةُ وَهْم؛ لأنَّ الخليل مات سنة ثلاثين [ومئة] (¬2) ولم تكن دولةُ بني العباس ظهرَتْ، ولا وَليَ أحدٌ منهم البصرة ولا غيرَها، والذي بعث بالمال إليه سليمانُ بنُ حبيب بن المهلَّب بن أبي صُفْرة (¬3)، [قال جدِّي في "المنتظم": ] ثم آلَ الأمرُ بالخليل إلى أن صار وكيلًا ليزيد بن حاتم المُهلَّبي، فكان يجري عليه في كل شهر مئتي درهم. قال الواقدي: كان الخليل يحجُّ سنة ويغزُو سنةً إلى أن مات بالبصرة [في هذه السنة] (¬4). أسند عن عاصم الأحول وغيره، وأخذ العربيَّةَ عن أبي الأسود الدُّؤلي، وأخذها عنه النَّضْر بن شُمَيل والأئمَّة. وقال النَّضْر: سمعتُ الخليل يقول: الأيامُ ثلاثةٌ: معهودٌ، وهو أمس، ومشهودٌ، وهو اليوم، وموعودٌ، وهو غد (¬5). وما أكثر القُوتَ لمن يموتُ (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر: طبقات ابن المعتز ص 96 - 99، والأمالي 2/ 269، ونزهة الألبّاء ص 45 - 48، والمنتظم 7/ 279 - 280، وأخبار النحويين للسيرافي ص 30 - 31، ومعجم الأدباء 11/ 72 - 77، وإنباه الرواة 1/ 341 - 347، وبغية الوعاة 1/ 557 - 560. (¬2) كذا ذكر المصنف في وفاته (وأورده في وفيات هذه السنة) ولم يذكر أحد أنَّه مات في هذه السنة إلا ابن الجوزي، فقد أورده في وفيات هذه السنة (سنة 130) في "المنتظم" 7/ 279 - 281، وهو صاحب أوهام. وذكرت المصادر أنَّه توفي (175) أو (170) أو بضع وستين. (¬3) المنتظم 7/ 80، والكلام الآتي فيه. (¬4) لم أقف عليه من قول الواقدي، وهو في المصدر السابق من قول عبيد الله بن محمد بن عائشة، دون لفظ: بالبصرة في هذه السنة. (¬5) المنتظم 7/ 281. (¬6) جاء في المصدر السابق هذا الرجز: =

سليمان بن أبي سليمان

[قلت: وقد كان الخليلُ بنُ أحمد شاعرًا فصيحًا، روى له أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه " أبياتًا في ترجمة عاصم بن محمد الدينوري، وهي هذه الأبيات: ] (¬1) سأُلْزِمُ نَفْسي الصَّفْحَ عن كلِّ مُذْنِبٍ ... وإنْ كَثُرَتْ منهُ عليَّ الجرائمُ وما الناسُ إلا واحدٌ من ثلاثةٍ ... شريفٌ ومَشْروفٌ ومثلي مقاومُ فأمَّا الَّذي فَوْقي فأَعْرِفُ فَضْلَهُ ... وأتْبَعُ فيه الحَقَّ والحَقُّ لازمُ وأمَّا الَّذي مِثْلي فإنْ زَلَّ أو هَفَا ... تَفَضَّلْتُ إنَّ الفَضْلَ بالعزِّ حَاكمُ وأمَّا الَّذي دُوني فإنْ قال صُنْتُ عن ... إجابتِه عِرْضِي وإنْ لامَ لائمُ سليمان بن أبي سليمان أبو إسحاق الشَّيباني، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الكوفة، كان عالمًا بالعربيَّة، ونقل عنه الأئمة، وروى عن التابعين. مات سنة تسع وعشرين، وقيل: سنة ثلاثين، وقيل: لسنتين خلتا من خلافة المنصور، وكان ثقة (¬2). سُلَيم بنُ عامر من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الشام، كان ثقةَ قديمًا معروفًا. قال: انطلقتُ إلى بيت المقدس، فمررتُ بأمِّ الدَّرْدَاء [بدمشق]، فأمَرَتْ لي بدينار وسقَتْني طِلاءً. يعني الرَّبّ (¬3). ¬

_ = يكفيك من دهرك هذا القوتُ ... ما أكثر القوتَ لمن يموتُ ومن قوله: أسند عن عاصم ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬1) ما بين حاصرتين من (ص)، وجاء بدلًا منه في (خ) و (د) عارة: و"من شعره". وينظر في "تاريخ دمشق" ص 87 (طبعة مجمع دمشق- جزء فيه عاصم). (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 464 - 465. وذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 6/ 194 أن وفاته كانت سنة (139) أو (138). وأن قال: سنة (129) فهو خطأ فاحش. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 468. وما سلف بين حاصرتين منه.

شيبان بن سلمة الحروري

شهد سُليم جنازةً فيها أبو أُمامة الباهليُّ على لاب دمشق، وشهدَ فتح القادسية، وسمع المقداد بنَ الأسود وغيره، وروى عنه صفوانْ بنُ عَمرو، وغيرُه (¬1). شيبان بن سَلَمة الحَرُوريّ اتفق مع عليّ بن الكِرْمانيّ على قتال نَصْر بنِ سيَّار؛ لأن شيبانَ حَرُوريٌّ، ونصر مروانيّ، ونصرٌ قتلَ [أباه] الكِرْمانيَّ وصَلَبَه، ونصرٌ مُضَري، وابنُ الكِرْمانيّ يمانيّ، فلما صالح ابنُ الكِرْمانيّ أبا مسلم على نصر؛ فارقَه شيبان، لأنه لم يكن له طاقةٌ بحرب أبي مسلم وابنِ الكرماني، وكان نصر قد هرب من مَرُو إلى سَرَخْس، فانحاز شيبان عن مَرْو، وصار إلى سَرَخْس، ورحل عنها نصر، واجتمع إلى شيبان جمعٌ من بكر بن وائل، فأرسل إليه أبو مسلم يدعوه ويسألُه الكفَّ، فحبسَ شيبانُ رُسُلَه وفيهم المنتجع بن الزُّبير، فكتبَ أبو مسلم إلى بسَّام بن إبراهيم مولى بني ليث -وكان ببِيوَرْد- يأمرُه بقتال شيبان، فسار إليه والتَقَوْا، فَهزَمَه بسَّام وقتلَ شيبان (¬2). وهل شيبان هذا هو الَّذي هلك بكِرْمان أم غيره؟ فيه قولان. شيبة بن نِصَاح القارئ مولى أمّ سَلَمة زوجِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، صاحبُ القراءة، كان فاضلًا. أخذ القراءة عن جماعة من الأئمة، وأخذها عنه جماعة، وكان قليل الحديث لشغله بالقرآن (¬3). عامر بن ضُبارة من أصحاب يزيد بن عُمر بن هُبيرة، وهو الَّذي هزم عبدَ الله بنَ معاوية إلى فارس وكِرْمَان. ¬

_ (¬1) ينظر "تهذيب الكمال" 11/ 344 - 346، و"مختصر تاريخ دمشق". واستبعد الذهبي وفاته سنة (130) وذكر أنَّه مات قبل ذلك. ينظر "سير أعلام النبلاء" 5/ 851 - 186. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 385 - 386. وما سلف بين حاصرتين منه. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 618 - 619. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 508. وقول المصنف: صاحب القراءة، فيه إيهام، فليس هو من القراء العشرة.

عبد الله بن ذكوان

ولما ورد كتابُ مروان إلى ابنِ هبيرة بتجهيز الجيوش إلى نصر بن سيَّار؛ كتب إلى عامرٍ وابنِه داودَ بنِ هُبيرة أن يسيرا إلى قحطبة بن شبيب، فسارا في خمسين ألفًا، فنزلوا بأصبهان في مدينة جيّ، وكان يقال لعسكره: عسكر العساكر؛ لِحُسنه، وقوَّةِ رجاله، وكثرةِ عدده، وسارَ قحطبة في جيوشه، فنزل قريبًا منهم، ثم التَقَوْا وعلى ميمنة قحطبةَ العَكّيُّ، ومعه خالد بن بَرْمَك، وعلى ميسرته عبدُ الحميد بن ربعيّ (¬1)، ومعه مالك بن طراف (¬2)، وقحطبةُ في عشرين ألفًا، وابنُ ضُبارة في مئة ألف، وقيل: في مئة وخمسين ألفًا. فخاف قحطبة ورفعَ مصحفًا على رأس رمح ونادى: يا أهل الشام والعراق (¬3)، ندعوكم إلى ما في هذا المصحف. فشتموه وأفحشوا له في القول. فقال قحطبة: الآن تحقَّق البغي، ومَنْ بُغِيَ عليه لينصرنَّه الله (¬4). ثم أمرَ أصحابَه أن يحملوا، فحملوا عليهم حملة رجل واحد، فلم يكن بينهم كثير قتالٍ حتَّى انهزمَ أهلُ الشام، وهربَ داودُ بنُ يزيدَ بنِ هُبيرة، فقال ابنُ ضُبارة: لعن الله شَرَّنا مُنْقَلَبًا. وقاتلَ حتَّى قُتل. وقتلَ قحطبةُ أهلَ الشام قتلًا ذريعًا، وأصاب من العُدد والمتاع والأموال والرقيق ما لا يُحصى عددُه، وكتبَ قحطبةُ إلى أبي مسلم بالفتح. وقيل: كان هذا سنة إحدى وثلاثين ومئة (¬5). عبد الله بن ذكوان أبو الزِّناد، ويُكنى أبا عبد الرحمن، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل المدينة، وهو مولى رَمْلَة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكانت تحت عثمان بن عفَان رضوان الله عليه (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): بن الربيع، والمثبت من "أنساب الأشراف" 3/ 152، و"تاريخ" الطبري 7/ 406. (¬2) في "أنساب الأشراف": الطواف، وفي "تاريخ" الطبري: طريف. (¬3) قوله: والعراق، ليس في "تاريخ" الطبري 7/ 406. (¬4) اقتباس من قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60]. (¬5) أورد الطبري الخبر في "تاريخه" 7/ 405 - 406 في أحداث سنة (131). وكذا ابن الأثير في "الكامل" 5/ 398 - 399. (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 508.

وَليَ أبو الزِّناد خَراجَ العراق مع عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب لعُمر بن عبد العزيز، فقدم الكوفة. وكان حمَّادُ بن [أبي] سليمان صديقًا له، فكان يأتيه ويُحادثُه، وشَغَلَ أبو الزناد ابنَ أخي حمَّاد في شيء من عمله، فأصابَ عَشَرَةَ آلاف درهم، فأتاه حمَّاد فتشكَّر له (¬1). وقال مالك بن أنس: كانت لأبي الزِّناد حلقة على حِدَة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن سعد: سألتُ محمد بنَ عمر عن السبعة الذين كان أبو الزِّناد يحدِّثُ عنهم، فيقول: حدَّثني السبعة، فقال: ابنُ المسيِّب، وعُروةُ بنُ الزُّبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بنُ محمد، وعُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار (¬2). ومات أبو الزِّناد بالمدينة فجأة في مغتسله ليلةَ الجمعة لسبعَ عشرةَ خَلَتْ من شهر رمضان سنة ثلاثين ومئة وهو ابن ست وستين سنة. وكان ثقةً كثير الحديث فصيحًا بصيرًا بالعربية، عالمًا عاقلًا من كبار فقهاء المدينة ومحدِّثيها (¬3). روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وحدَّث عن أنس وغيرِه، وروى عنه مالك بنُ أنس وغيرُه. ويقال: إن ذكوان كان أخًا لأبي لؤلؤة (¬4) قاتلِ عمر رضوان الله عليه. وقال البخاري: أصحُّ الأسانيد كلِّها: مالك عن نافع عن ابن عُمر، وأصحُّ أسانيدِ أبي هريرة: أبو الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق، وتاريخ دمشق 9/ 185 (مصورة دار البشير). (¬2) المصدران السابقان، وهؤلاء هم الفقهاء السبعة. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 509، وتاريخ دمشق 9/ 180. (¬4) في (خ) و (د): خالًا لأبي لؤلؤة، وهو خطأ. وينظر "تاريخ دمشق" 9/ 179 و 186. (¬5) تاريخ دمشق 9/ 184.

وقال أبو حنيفة: قدمتُ المدينة، فرأيت الناسَ على ربيعة، ولم أرهم على أبي الزِّناد، وكان أفقهَ من ربيعة، فقلت له: يا أبا الزناد، أنتَ أفقهُ منه، والعملُ عليه دونك! فقال: أما علمتَ أن كفًّا من حظٍّ خيرٌ من جِرابٍ من علم (¬1). وقال الليث بن سعد: رأيتُ أبا الزناد وخَلْفَهُ ثلاثُ مئة طالب علم وفقه وشعر وأصناف العلوم، ثم لم يلبث أنْ بقيَ وحدَه، وأقبلوا على ربيعة، وكان يقول: شِبْرٌ من حظٍّ خيرٌ من جِرابٍ من علم (¬2). وكان الإمام أحمد رحمه الله يثني على أبي الزِّناد ويقول: ثقة صدوق فصيح، كثير الحديث (¬3). وقال ابن معين: كان مالك بن أنس لا يرضى أبا الزناد ويقول: كان كاتبًا لهؤلاء. يعني بني أمية (¬4). وكان لأبي الزناد ولد اسمُه عبدُ الرحمن، وكنيتُه أبو محمد، وَلِيَ خَراجَ المدينة، وقدمَ بغداد ومات بها سنة أربع وسبعين ومئة وهو ابنُ أربع وسبعين سنة (¬5). و[أخوه أبو] القاسم بن أبي الزناد رُويَ عنه الحديث (¬6). ولعبد الرحمن ولد اسمُه محمدٌ، بينه وبين أبيه في السنّ سبعَ عشرةَ سنة، وفي الوفاة إحدى وعشرون ليلة (¬7)، ومات ببغداد، ودُفن بمقبرة باب التبن، وكان قد لحق رجال أبيه؛ إلا أنَّه لم يرو عنهم في حياة أبيه احترامًا له، فلما مات روى عنهم (¬8). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) بنحوه في المصدر السابق. (¬3) هذا قول ابن سعد، ونقله عنه ابن عساكر، وسلف قريبًا. (¬4) تاريخ دمشق 9/ 186. (¬5) في (خ) و (د): أربع وتسعين سنة، وهو خطأ؛ لأنه وُلد سنة مئة. والتصويب من "طبقات" ابن سعد 7/ 595، والكلام السابق فيه، وقال ابن سعد أيضًا: وكان كثير الحديث ضعيفًا. وينظر "تاريخ بغداد" 11/ 494، 498. (¬6) وهو ثقة، وزدتُ ما بين حاصرتين من المصدر السابق. (¬7) في (خ) و (د): سنة، وهو خطأ. والتصويب من "طبقات" ابن سعد 7/ 595، و"تاريخ بغداد" 3/ 529 و 533. (¬8) بنحوه في "طبقات" ابن سعد 7/ 595 - 596، و "تاريخ بغداد" 3/ 529.

عبد الله بن عيسى

عبد الله بن عيسى ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو محمد الأنصاريُّ، وهو ابنُ أخي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان عبدُ الله وأخوه أكبرَ من عمِّهما، وكانا يُفضَّلان عليه، وعبدُ الله أوثقُ ولدِ أبي ليلى (¬1). وقال ابنُ معين: هلك عبد الله بن عيسى سنة ثلاثين ومئة، وكان يتشيّع (¬2). أسند الحديث عن جدِّه عبد الرحمن، وغيره. وقال: لَقِيتُ زيدَ بنَ علي بن الحسين بالشام، فذاكرتُه المسح على الخفَّين وقلت: إن عليًّا - عليه السلام - مَسَحَ. فقال: أنتم أعلمُ بعليٍّ منَّا، كان فيكم، أمَّا أنا ففي نفسي منه شيء. [قال: ] وحدَّثته [بحديث] فكتبَه في ألواح صغار معه (¬3). عبد الله بن معاوية ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أبو معاوية، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وأمُّه أمُّ عَوْن بنت عَوْن بن العبَّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وكان له من الولد جعفر؛ لا بقيَّة له. خرج عبد الله بالكوفة في خلافة مروان بن محمد، فبعثَ إليه مروان جندًا، فلحقَ بأصبهان، فغلبَ عليها وعلى تلك الناحية، واجتمعَ إليه خلق كثير، وذلك في سنة إحدى وثلاثين ومئة، ثم قُتل. ويقال: هرب، فلحقَ بخُراسان وأبو مسلم يدعُو بها، فأخذه وحبسه في السجن حتَّى مات (¬4). وكان عبد الله صديقًا للوليد بن يزيد، ويفدُ عليه وعلي بني أمية فيكرمونه (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 37/ 284 (طبعة مجمع دمشق). وينظر "المعرفة والتاريخ" 2/ 620 و 3/ 91. (¬2) تاريخ دمشق 37/ 286. (¬3) المصدر السابق 37/ 282 وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 481، وعنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 39/ 160 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 39/ 157 و 159 (طبعة مجمع دمشق).

وقال أبو نُعيم في "تاريخ أصبهان": عبدُ الله بن معاوية صاحب الميدان، قدمها متغلّبًا [عليها] سنة ثمان وعشرين ومئة في أيام مروان ومعه أبو جعفر المنصور، فاقام إلى سنة تسع وعشرين، فخرج منها هاربًا إلى خُراسان (¬1). وقال إسماعيل الخُطَبيّ: كان بين ابن معاوية ومروان حرب، فلما جاءت الدَّولة العبَّاسيَّة، بعث إليه أبو مسلم مالك بنَ الهيثم، فحاربَه، فظفر به، وحمله إلى أبي مسلم، فحبسه وقتلَه (¬2). وقيل: ما زال محبوسًا حتَّى مات في ذي القَعْدة سنة إحدى وثلاثين (¬3). وقال هشام: مات على فراشه محبوسًا سنة ثلاثين. وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: بلغنا عن عبد الله بن معاوية أنَّه قال: أيُّها المَرْءُ لا تَقُولَنَّ قَوْلًا ... لستَ تدري ماذا يَعِيبُك منهُ اِلْزَمِ الصَّمْتَ إنَّ في الصَّمْتِ حُكْمًا ... وإذا أنتَ قلتَ قَوْلًا فَزِنْهُ وإذا القومُ أَلْغطُوا (¬4) في حديثٍ ... ليس يعنيك شانُه فَالْهُ عنهُ وقال أبو نُعيم: كان عبد الله بن معاوية قد استنجد بالفُضيل بن الأقرع، فلم ينهض معه، فقال فيه: رأيتُ فُضيلًا كان شيئًا مُلفَّفًا ... فأبرزَه التمحيصُ حتَّى بَدَا لِيا أأنتَ (¬5) أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ ... فإنْ عَرَضَتْ أيقنتُ أنْ لا أخا لِيا كلانا غنيٌّ عن أخيه حياتَهُ ... ونحن إذا مِتْنا أشذُّ تَغَانِيا (¬6) وكان الشافعيُّ رحمة الله عليه يتمثَّل دائمًا ببيتين لعبد الله بن معاوية، وهما: ¬

_ (¬1) تاريخ (أخبار) أصبهان 2/ 42، وعنه ابن عساكر في "تاريخه" 39/ 161. (¬2) تاريخ دمشق 39/ 164 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) قاله أبو نُعيم في "تاريخ" أصبهان 2/ 42. (¬4) في (خ) و (د) (والكلام منهما): أغلظوا. والمثبت من "تاريخ دمشق" 39/ 166. (¬5) في (خ) و (د): رأيتُ والمثبت من المصادر. (¬6) تاريخ دمشق 39/ 167. والأبيات في "الكامل" للمبرد ضمن خمسة أبيات. قال المبرّد: قوله: كان شيئًا ملفَّقًا، أي: كان أمرًا مُغَطَّى. وقوله: أأنت أخي: تقرير وليس باستفهام.

عبد الله بن يحيى بن زيد

أرى نفسي تَتُوقُ إلى أمورٍ ... يُقصِّرُ دونَ مبلغهنَّ مالي فَنَفْسِي لا تُطاوعُني لبُخلٍ ... ومالي ليس يَبْلُغُهُ فَعَالي (¬1) وكان جوادًا مُمَدَّحًا، فصيحًا شاعرًا. عبد الله بن يحيى بن زيد ابن عليّ بن الحسين - عليه السلام - (¬2). ويسمَّى الحضرميّ؛ لأنه ذهبَ إلى اليمن، واستولى على حضرموت، وهو الَّذي بعث أبا حمزة الخارجيَّ إلى مكة والمدينة، وقَتَلَه ابنُ عطيَّة وسارَ إلى اليمن فقتلَ عبدَ الله. عبد العزيز القارئ (¬3) المدنيُّ النحويُّ، يقال له: بشكست، وعنه أخذ أهل المدينة النحو. وفد على هشام بن عبد الملك، فقال هشام لصبيانه: تلاحنُوا عليه. فجعل بعضُهم يقول: رأيت أبو رجاء، وجاءني أبا رجاء، ومررتُ بأبا رجاء. فأخذَ غضارةً فيها طعام، وغمسَ لحيتَه فيها، ثم ردَّها على ثيابه، فقال له هشام: ما هذا؟ ! قال: هذا جزاءُ مَن يُعاشر الأنذال. فضحك هشام ووصلَه (¬4). وكان يرى برأي الخوارج ويكتمُه، فلمَّا ظهر أبو حمزة خرجَ معه (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 39/ 166. والبيتان في "الحماسة" ضمن خمسة أبيات. قال المرزوقي في "شرح الديوان" 3/ 1183: "يُروى: لا يقوم له فَعالي". اهـ. والفَعَال: العمل الحميد. (¬2) كذا نسبَ المصنف هذه الترجمة، ولعله اقتبسه من خبره في "المنتظم" 7/ 278 حيث نسبَه: عبد الله بن يحيى بن زيد. والصواب في نسبه: عبد الله بن يحيى بن عَمرو بن شُرحبيل بن عَمرو بن الأسود الكندي، الخارجيّ، الأعور، المعروف بطالب الحقّ. وسلف خبره مع عبد الملك بن محمد بن عطية في أحداث هذه السنة بعد ذكر وقعة قُديد. وينظر: "أنساب الأشراف" 7/ 620، و"تاريخ" الطبري 7/ 398 - 400، و"الأغاني" 23/ 224 - وما بعدها، و"جمهرة أنساب العرب" ص 428. (¬3) في (خ): بن القارئ، وهو خطأ. (¬4) تاريخ دمشق 43/ 42 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) المصدر السابق 43/ 43.

عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي

عبد الملك بن محمد بن عطيَّة السعديّ من قوَّاد مروان بن محمد، وهو الَّذي قتلَ أبا حمزة الخارجيَّ بوادي القُرى وعبدَ الله بن يحيى بصنعاء، وبعثَ برأسه إلى مروان وأغذَّ المسير ليحجَّ بالناس. قال الزُّبير (¬1) بن عبد الرحمن: خرجتُ معه ونحن اثنا عشر رجلًا بعهد مروان على الحجِّ ومعه أربعون ألف دينار في خُرْجِه، فسارَ حتَّى نزل الجُرْف، وقد خلَّف عسكرَه وخَيلَه ورَجْلَه (¬2) وراءَه بصنعاء، وفطنَ له بعضُ أهل تلك المياه (¬3)، فجاؤوا بالخيل والرجال والسلاح يرمونا ويقولون: أنتم لصوص، فأخرج ابنُ عطية كتابَ مروان وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين وعهدُه على الحجِّ، وأنا ابنُ عطيَّة، فقالوا: هذا باطل، وقاتلونا، فقُتل ابنُ عطيَّة ومن كان معه، وبقيتُ أنا، فانتسبتُ إلى هَمْدَان، فأطلقُوني (¬4). قال الواقدي: وكان ابنُ عطيَّة قد استنابَ بالمدينة ابن أخيه عروةَ بنَ عطية (¬5)، وبلغَه خبرُ عمِّه، فسار إلى الذين فعلوا ذلك، فأفناهم، وبقرَ بطونَ نسائهم، وذبح الأطفال في المهود وحرَّقهم بالنار، ومثَّل بهم كلَّ مُثْلة (¬6). ويقال: إن الوليد حجَّ بالناس هذه السنة (¬7). ¬

_ (¬1) وكذا في "تاريخ دمشق" 43/ 232. وفي "تاريخ" الطبري 7/ 455: أبو الزبير. (¬2) رَجْل، جمع راجل، مثل صحب وصاحب. (¬3) كذا في (خ) و (د). ولعلها: المباءة، يعني منزل القوم. وفي "تاريخ" خليفة ص 394 - 395: فنزل واديًا من أودية مراد بقرية يقال لها: شبام. وفي "الأغاني" 23/ 255: فلما كان بأرض مراد تلقَّفت عليه جماعة. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 400، وتاريخ دمشق 43/ 232. (¬5) كذا قال، وإنما هو: الوليد بن عروة بن محمد بن عطية، كما في "تاريخ" خليفة ص 407، و"تاريخ" الطبري 7/ 399 و 411، و"تاريخ دمشق" 43/ 232. ونسبه أبو الفرج في "الأغاني" 23/ 254: الوليد بن عروة بن عطية. وينظر التعليق التالي. (¬6) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 410 - 411، وأما المصادر الأخرى السابقة ففيها أن عبدَ الرحمن بنَ يزيد ابنَ أخي عبد الملك -وكان بصنعاء- لما بلغه خبرُ مقتل عمّه؛ أرسل شعيبًا البارقيَّ وفعل ذلك. (¬7) في المصادر المذكورة آنفًا أن الَّذي حجَّ بالناس في سنة 130: محمد بن عبد الملك بن مروان، وأما الوليد بن عروة بن محمد بن عطية فقد حجَّ بالناس سنة (131) وسيرد. قال الطبري 7/ 131: لما أبطأ عليه عمُّه عبد الملك افتعل كتابًا من عمّه يأمرُه بالحجِّ بالناس، فحجَّ بهم.

عثمان وعلي ابنا جديع الكرماني

عثمان وعليّ ابنا جُدَيْع الكِرْمانيّ كان أبو مسلم قد استشعر منهما، وكانا حاكمَين على القبائل، فبعث أبو مسلم أبا داود إلى بلخ فَفَتَحَها، فولَّاها أبو مسلم عثمانَ، وبعث به إليها، وأقام عليٌّ عنده، وسار أبو مسلم إلى نيسابور وعليٌّ معه، وكتبَ أبو داود إلى أبي مسلم أن اقْتُلْ عليًّا في اليوم الفلانيّ، وأنا أقتلُ أخاه عثمان فيه. فقال أبو مسلم لعليّ: قد فَتَحْنا هذه البلاد ونحتاج إلى عمال ثقات، فسَمِّ لنا من خواصِّك من تعلم لنُعطيَهم الجوائز، فسمَّى له جماعةً من أعيان أصحابه، فاغتال أبو مسلم عليًّا فقتلَه وأصحابَه، وقتلَ أبو داود عثمانَ وأصحابَه في يوم واحد. وكان أبو داود أشار على أبي مسلم أن يفرِّق بينهما (¬1). [وفيها توفّي] محمد بن سُوقة أبو بكر، مولى بَجِيلة [ذكره ابن سعد] من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة [وقال: ] كان تاجرًا ورعًا يبيع الخَزّ (¬2). [وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: ، قدَّم بين يديه عشرين ومئة ألف درهم؛ حتَّى قال (¬3) سفيان الثوريّ: ما بقي أحد يُدفَعُ به البلاء عن أهل الكوفة إلا محمد بن سُوقة. وكان يقول: أمران لولا (¬4) نُعَذَّب إلا بهما؛ لكنَّا مستحقين [بهما] العذاب: أحدُهما أنَّ أحدَنا يفرحُ بالشيء من الدنيا يزداد، والثاني: أن ينقص شيء من دنياه فيحزنَ عليه، ولا يحزن على شيء من نقصان دينه (¬5). ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه أطول منه في "تاريخ" الطبري 7/ 386 - 388. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 147، وأبو داود: هو خالد بن إبراهيم الشيباني أحد النقباء الاثني عشر. ومن ترجمة سليمان بن أبي سليمان ... إلى هذا الموضع، ليس في (ص). (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 459، وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) في (خ) و (د): وقال، بدل: حتَّى قال. والخبر بنحوه في "حلية الأولياء" 5/ 5. و"المنتظم" 7/ 282. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) في "حلية الأولياء" 5/ 4. و "المنتظم" 7/ 282: لو لم. (¬5) حلية الأولياء 5/ 4، والمنتظم 7/ 282، وما سلف بين حاصرتين منهما، ولم يرد هذا الخبر في (ص).

محمد بن المنكدر

قال: [وكان يقول: ] أحبُّ الأشياء إلى الله إدخالُ السرور على المؤمن، وما بقيَ في الدُّنيا ما يُسْتَلَذُّ إلا الإفضالُ على الإخوان (¬1). [وروى أبو نُعيم عن مهديّ بن سابق قال: ] طلبَ منه ابنُ أخيه شيئًا، فبكى، فقال له: يا عمّ، لو علمتُ أنَّ مسألتي تبلغُ منك هذا ما سألتُك. فقال: واللهِ ما بكائي لسؤالك، وإنما بكَيتُ لأني لم أبتدئك قبلَ سؤالك (¬2). وكانت وفاتُه بالكوفة في هذه السنة. أدرك أنس بنَ مالك [وأبا الطُّفيل] وغيرَه، وروى عن كبار التابعين، وكان ثقة (¬3). محمد بن المنكدر ابن عبد الله بن الهُدَيْر بن عبد العزَّى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سَعْد بن تَيم بنُ مرَّة رهط أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. [وكنيتُه] أبو عبد الله، وقيل: أبو بكر، [وهو] من الطبقة الرابعة من تابعي أهل المدينة. وأمُّه أُمُّ ولد. [وقال ابن سعد بإسناده عن أبي معشر قال: ] دخل المنكدر على عائشة - رضي الله عنه -، فقال: قد أصابَتْني جائحةٌ، فأعينيني، فقالت: ما عندي شيء، ولو كانت عندي عَشَرةُ آلاف لبعثتُ بها إليك. فلمَّا خرج من عندها؛ جاءتها عَشَرَةُ آلاف من عند خالد بن أسيد، فقالت: ما أوشك ما ابتُليت! ثم أرسلَتْ بها إليه في أثره، فدخل السوق، فاشترى منها جاريه بألفي (¬4) درهم، فولدت له ثلاثة أولاد، فكانوا عبَّاد المدينة، وهم: محمد وأبو بكر وعُمر بنو المنكدر (¬5). ¬

_ (¬1) الخبر في "حلية الأولياء" 5/ 6 في ترجمة محمد بن سُوقة في قصة بين محمد بن المنكدر ومحمد بن سُوقة، وفيه: قالوا: يا أبا عبد الله، أيُّ العمل أحب إليك؛ قال: إدخال السرور ... إلخ. وأبو عبد الله كنية محمد بن المنكدر، وأورد الخبر ابن سعد في "طبقاته" 7/ 440، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 149 في ترجمة ابن المنكدر، غير أن أبا نُعيم كنّى محمد بنَ سُوقة أبا عبد الله، وأورد الخبر في ترجمته، وسلف أن كنية ابن سُوقة أبو بكر. وينظر "المنتظم" 7/ 282. (¬2) حلية الأولياء 5/ 6 - 7. والمنتظم 7/ 282 - 283. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) ينظر "حلية الأولياء" 5/ 7. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬4) في (ص): يألف. (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 440، وكل ما سلف بين حاصرتين من (ص).

وروى ابن سعد عن سفيان قال: تعبَّد (¬1) محمد بن المنكدر وهو غلام، وكانوا أهلَ بيت عبادة، فكانت أمُّه تقول له: لا تمزح مع الصِّبيان فتهونَ عليهم. وروى ابن سعد عن جعفر بن سليمان قال (¬2): كان محمد [بن المنكدر] يضع خدَّه على الأرض، ثم يقول لأمِّه: يا أماه، قومي فضعي قدمك على خدّي. [وروى أيضًا عن ابن المبارك قال: ، قال محمد: بات أخي عمر يصلي وبتُّ أغمزُ رِجْلَي أمي، وما أحبُّ أنَّ ليلتي بليلته (¬3). [قال: ] وكان محمد يقومُ الليل فيصلي ويقول؛ كم من عينٍ ساهرةٍ في رزقي الآن في البَرِّ والبحر (¬4). وروى ابن سعد أيضًا عن محمد بن سوقة قال: أودعَ رجلٌ (¬5) محمد بنَ المنكدر مئة دينار، ثم خرج إلى [الحج، أو إلى] الغزو، وقال: إن احتجتَ فاسْتَنْفِقْها. فأنْفَقَها. وقدم الرجل فطلبها [ولم يكن عند محمد شيء] فقال له محمد: غدًا إن شاء الله تعالى. ثم دخل المسجد فقام يدعو ويصلِّي. فجاء إنسان [إلى المسجد] بصُرَّة وهو ساجد، فوضعها في نعله. فلما قامَ ليخرج وجَدَها، فأخذها وعَدَّها، فإذا هي مئةُ دينار، فدفعَها إلى الرجل. قال الواقدي: فأصحابُنا يتحدَّثون أنَّ الَّذي وضعَها عامرُ بنُ عبد الله بن الزُّبير، وكان كثيرًا ما يفعلُ مثلَ هذا. و[قال الواقدي: ] كان محمد يحجُّ كلّ سنة ومعه عِدَّةٌ من أصحابه، فحجَّ سنةً؛ فبينا هو في منزل من منازل مكَّة قال للغلام: اذْهَبْ فاشترِ لنا كذا وكذا. فقال: واللهِ ما ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): وقال سفيان: تعبَّد ... (دون نسبة لابن سعد). والمثبت من (ص)، والخبر في المصدر السابق، و"حلية الأولياء" 3/ 153. (¬2) في (خ) و (د): وقال جعفر بن سليمان ... (دون نسبة لابن سعد) والمثبت من (ص)، والخبر في "طبقات ابن سعد" 7/ 441. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 441. (¬4) المصدر السابق، وتاريخ دمشق 65/ 49. (¬5) في (خ) و (د): وقال محمد بن سوقة: أودع رجل. إلخ. والمثبت عبارة (ص) والخبر في المصدر السابق، وبنحوه في "المعرفة والتاريخ" 1/ 657، وما سيرد فيه بين حاصرتين من (ص).

عندنا ولا درهم. قال: فاذْهَبْ، فإنَّ الله يأتي به. قال: من أين؟ قال: سبحان الله! ورفع صوتَه بالتلبية، وفعلَ أصحابُه كذلك. وكان إبراهيم بنُ هشام المخزوميُّ قد حجَّ في تلك السنة، فسمع أصواتهم، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: محمدٌ وأصحابُه يحجُّون كلَّ عام، ومحمدٌ يحملُهم ويتحمَّلُ مُؤْنَتَهم. فقال: ما بدٌّ أن يُعانَ محمدٌ على هذا. فأرسلَ إليه بأربعة آلاف درهم من ساعته، فقال محمد لغلامه: ويحك! ألم أقل لك: اذْهبْ فاشتِر لنا؟ اذهب الآن فقد أتانا الله بما ترى (¬1). و[حكى عنه أبو نعيم] قال: كابدتُ نفسي أربعين سنة حتَّى استقامت (¬2). [قال: وكان يقول: آيةٌ في كتاب الله أبكَتْني: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] (¬3). وحكى أبو نُعيم أنَّه قال (¬4): ، إن الله يحفظُ المؤمنَ في ولده وولدِ ولدِه ودُويرَةِ أهلِه ودُويراتِ مَنْ حولَه، فلا يزالون في حفظ الله ورعايته ما دام المؤمن بين أظهرهم. و[حكى عنه أيضًا أنَّه] قال: الفقيه يدخل بين الله وبين عباده، فلينظر كيف يدخل (¬5). ذكر وفاته: [قال ابن سعد: ] توفي سنة ثلاثين [ومئة]، أو إحدى وثلاثين [ومئة] (¬6). وقيل: سنة سبع وعشرين، أو ثمان وعشرين وله ست وسبعون سنة. وكان ثقة ورعًا عابدًا قليل الحديث، يكثر الإسناد عن جابر بن عبد الله (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 442 - 443، وتاريخ دمشق 65/ 51، وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬2) حلية الأولياء 3/ 147، وتاريخ دمشق 65/ 51، وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬3) بنحوه في "حلية الأولياء" 3/ 146. (¬4) حلية الأولياء 3/ 148، وعنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 65/ 65، والكلام الواقع بين حاصرتين من (ص). (¬5) حلية الأولياء 3/ 153. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 7/ 444. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬7) المصدر السابق.

وأسند عن أبي هريرة، وأنس، وابن عباس، وابن عُمر، وابن الزُّبير، وأسماء بنت أبي بكر، وغيرهم (¬1). وروى عنه أكابر التابعين، واستقدَمَه الوليدُ بنُ يزيد مع الفقهاء ليسألَه عن الطلاق قبل النِّكَاح، فروى عنه من أهل الشام صَدَقَةُ بن عبد الله، وغيرُه. وقال له صدقة: أنتَ الَّذي أحْلَلْتَ للوليد أمَّ سلمة؟ فقال: أحلَّها له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، حدَّثني عنه جابر أنَّه قال: "لا طلاق فيما لا يملكه ابنُ آدم، ولا عِتادق فيما لا يملكُه ابنُ آدم" (¬2). وقال مالك: كان محمد سيِّدَ القرَّاء، لا يكادُ أحدٌ يسألُه إلا بكى، أو يكاد يبكي (¬3). وقال سفيان بن عُيينة: كان محمد من معادن الصدق، ويجتمع إليه الصالحون (¬4). وكان إذا بكى مسح وجهه ولحيته بدموعه ويقول: بلغني أن النار لا تأكل موضعًا تمسُّه الدموع (¬5). وروى أبو نُعيم أنَّه جزع عند الموت، فقيل له: لم تجزع؟ قال: أخشى آية من كتاب الله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (¬6). وقال ابن زيد: دخلَ عليه صفوان بن سُلَيم وهو في الموت، فقال له: يا أبا عبد الله، كأني أراك قد شقَّ عليك الموت؟ فما زال يهوِّنُ عليه الأمر ويتجلَّى عن محمد حتَّى لكأنَّ في وجهه المصابيح. ثم قال له محمد: لو ترى ما أنا فيه لَقَرَّتْ عينُك. ثم قضى رحمة الله عليه (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 65/ 37 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) المستدرك 2/ 419 - 420، وتاريخ دمشق 65/ 37، ولفظ المرفوع فيهما: "لا طلاق لمن لا يملك، ولا عتق لمن لا يملك". (¬3) حلية الأولياء 3/ 147، وتاريخ دمشق 65/ 45. (¬4) تاريخ دمشق 65/ 45. (¬5) المصدر السابق 65/ 50. (¬6) حلية الأولياء 3/ 146، وعنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 65/ 67. وبنحوه في "المعرفة والتاريخ" 1/ 656. (¬7) المعرفة والتاريخ 1/ 656، وحلية الأولياء 3/ 147، وتاريخ دمشق 65/ 69.

وكان له من الولد: عُمر، وعبدُ الملك، والمنكدر، وعبد الله، ويوسف، وإبراهيم، وداود لأمّ ولد (¬1). ذكر إخوته: وهما عُمر، وأبو بكر لأمِّه وأبيه. فأما عمر؛ فكان من العُبَّاد المجتهدين، ولم يكن له ولد؛ قالت له أمُّه: يا بنيّ، إني لَأُحبُّ أن أراك نائمًا. فقال: يا أمَّاه، إني لأستَقْبلُ الليلَ فيهولُني، فيدركُني الصبح وما قضيتُ حاجتي (¬2). وقدم المدينةَ رجلٌ بمال، فقال: دُلُّوني على رجل من قريش أُعطيه هذا المال. فدلُّوه على عمر، فأعطاه المال فابى أن يقبله، ودُلَّ على أخيه محمد، فأتاه، فأبى أن يقبلَه، فدُلَّ على أبي بكر، فأتاه فأبى أن يقبلَه، فقال الرجل: يا أهل المدينة إن استطعتُم أن يلدكم المنكدر فافعلوا (¬3). وبعث بعض الأمراء إلى عمر بن المنكدر بمال، فوضعه الرسول بين يديه، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فجاء أخوه أبو بكر، فرآه يبكي، فجلس يبكي لبكائه، وجاء محمد، فرآهما يبكيان، فجلس يبكي لبكائهما، فبكى الرسول لبكائهم، وأرسلَ إلى صاحبه يُخبره بذلك، فأرسل الأمير ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يستعلم الخبر، فقال لعمر: يا أخي، ما الَّذي أبكاك من صلة الأمير؟ ! قال: إني خشيتُ أن تغلب الدنيا على قلبي، فلا يكون للآخرة فيه نصيب، فذلك الَّذي أبكاني، وأمر بالمال فتصدَّق به على فقراء أهل المدينة. وجاء ربيعة فأخبر الأمير، فبكى وقال: هكذا واللهِ يكون أهلُ الخير (¬4). وأخوهما أبو بكر كان أسنَّ من محمد. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 440. (¬2) المصدر السابق 7/ 444، وبنحوه في "المعرفة والتاريخ" 1/ 659. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 444 - 445، وتاريخ دمشق 65/ 55. (¬4) صفة الصفوة 2/ 145 - 146.

يزيد بن عبد الرحمن

دخلَ أعرابيٌّ المدينةَ، فرأى حال بني المنكدر وفضلَهم وموقعَهم من الناس، فخرج من المدينة، فلقيَه رجلٌ فقال: كيف تركتَ الناس؟ قال: بخير وإن استطعتَ أن تكون من آل المنكدر فكن (¬1). وكان أبو بكر من الزُّهَّاد، ثقة قليل الحديث، وله عقب. وكان لهم أخ رابع اسمه ربيعة بن المنكدر، من فقهاء المدينة (¬2). يزيد بن عبد الرحمن ابن أبي مالك الهَمْدَاني قاضي دمشق (¬3). وجدُّه أبو مالك هانئ له صحبة، قدمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمَ ومسحَ على رأسه، ودعا له بالبركة، وخرجَ مع الجيوش إلى الشام، فلم يرجع (¬4). ويزيد من الطبقة الرابعة من أهل الشام، وله أحاديث، وتوفّي بدمشق سنة ثلاثين ومئة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة (¬5). أسند عن واثلة بنِ الأسقع وغيره، وروى عنه الأوزاعيُّ وغيرُه (¬6). وأخوه الوليد: استقضاه عُمر بن عبد العزيز رحمةُ الله عليه على نواحي دمشق، ومات بالكوفة سنة سبع وعشرين ومئة (¬7). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 445 - 446. (¬2) كذا ذكر المختصر (أو المصنف) وهو وهم، فلم يُذكر للمنكدر ابن بهذا الاسم، ولا ذُكر أحد بهذا الاسم أيضًا من فقهاء المدينة. ولعله وهم بربيعة بن أبي عبد الرحمن -وهو ربيعة الرأي- فهو من موالي آل المنكدر، ومن فقهاء المدينة. (¬3) تاريخ دمشق 18/ 328 (مصورة دار البشير). (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 440. (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 465، وتاريخ دمشق 18/ 334 (مصورة دار البشير). (¬6) تاريخ دمشق 18/ 328. (¬7) طبقات ابن سعد 9/ 465، وتاريخ دمشق 17/ 832 - 835، وفيهما في ذكر وفاته أقوال أخرى. ومن قوله في ترجمة محمد بن المنكدر: وأسند عن أبي هريرة وأنس ... إلى هذا الموضع، لم يرد في (ص).

السنة الحادية والثلاثون بعد المئة

السنة الحادية والثلاثون بعد المئة فيها وجَّهَ قحطبةُ ابنَه الحسنَ إلى نصر بقُومِس، وكان في جيش الحسن أبو كامل العُقَيليُّ، فجهَّزه الحسنُ بين يديه في خيل، وأردفه بقائد آخر، فلمَّا قرُب أبو كامل من قُومِس صار إلى نصر، وأخبره بمكان القائد الَّذي خلَّفه، فبعثَ إليهم نصر خيلًا، فهربَ بعضُهم وأخذ أصحابُ نصر الباقين ومتاعَهم، وسار الحسن إلى قُومِس، فهرب نَصْرٌ إلى الرَّيّ (¬1). وفيها جهَّز قحطبةُ أبا عون إلى شهرزور، وكان بها عثمانُ بنُ سفيان، فلقيَ أبا عون، فاقتتلُوا قتالًا شديدًا، فيقال: إن عثمان قُتل -ويقال: هرب- واستباح أبو عون عسكره، وأقام أبو عون في شهرزور في ثلاثين ألفًا (¬2). وفيها رحل مروان من حرَّان إلى الموصل لما بلغَه خبر أبي عَوْن وأنه بشهرزور، وسار في جنود الشام والجزيرة والعراق وأرمينية وأذربيجان، وصحبَ معه بني أمية، وفتحَ الخزائنَ، وبَذَلَ الأموال والخيولَ والسلاح، فنزل الموصل، وقيل: نزل الزَّاب الأكبر (¬3). وفيها سار قحطبة إلى يزيد بن عُمر بنِ هُبيرة. قال علماء السير: لمَّا قدم داودُ بن يزيد بن عمر بن هُبيرة منهزمًا في نوبة ابنِ ضُبارة؛ حشدَ ابنُ هُبيرة جيوشًا لا تُحصى، وسارَ فقطعَ الفُراتَ ودِجْلة، وأتى جَلُولاء، وجاء قحطبة، فعادَ ابنُ هُبيرة إلى عُكْبَرَا (¬4)، وجاء قحطبةُ فقطعَ الفوات من قرية يقال لها: دِمِمَّا، وسارَ ابنُ هبيرة يريد الكوفة خوفًا عليها من قحطبة (¬5). ¬

_ (¬1) يقارَن بما في "تاريخ" الطبري 7/ 403. (¬2) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 409 بأطول منه. (¬3) المصدر السابق. (¬4) بُليدة من نواحي دُجَيْل، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ. معجم البلدان 4/ 142. (¬5) ينظر الخبر مفصلًا في "تاريخ" الطبري 7/ 410. ودِمِمَّا: قرية كبيرة على الفرات قرب بغداد عند الفلُّوجة. وتحرَّفت اللفظة في (خ) و (د) (والكلام منهما) إلى: دهما. وينظر "معجم البلدان" 2/ 471.

أيوب بن أبي تميمة السختياني

وفيها حجَّ بالناس الوليدُ بنُ عُروة السَّعديُّ ابنُ أخي عبد الملك بنِ محمد بن عطية [السَّعديّ الذي قتلَ أبا حمزة الخارجي] وكان عمُّه [ابنُ عطيَّة] قد استنابَه وولَّاه المدينةَ ومكةَ والطائف (¬1). ووقع بالبصرة طاعون [في هذه السنة] فأفنى الناس (¬2). وفيها توفي أيوب بن أبي تميمة السَّخْتِياني واسم أبي تميمة كَيسان مولى لِعَنَزَه. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من تابعي أهل البصرة. [وقال حمَّاد بن زيد: ] وُلد [أيوب] قبل الطاعون الجارف بسنة، وكان الجارف سنة سبع وثمانين (¬3). وكان الحسن إذا رآه يقول: هذا سيِّدُ الفتيان (¬4). وقال [حماد بن زيد: قال] أيوب: إن قومًا يريدون أن يرتفعوا؛ ويأبى الله إلا أن يَضَعَهم، وآخرين يريدون أن يتواضعوا، ويأبى الله إلا أن يرفعهم (¬5). وكان النُّسَّاك يومئذٍ يُشمِّرون ثيابَهم، وكان أيوب يجر قميصه، فقيل له في ذلك، فقال: كانت الشُّهرةُ فيما مضى في تذييلها، فالشهرةُ اليومَ في تشميرها (¬6). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 7/ 410 - 411. وما سلف بين حاصرتين من (ص). وينظر ما سلف في ترجمة عبد الملك بن محمد بن عطية في تراجم سنة (130). (¬2) تاريخ خليفة ص 398. وذكره الطبري في "تاريخه " 7/ 401، وابن الأثير في "الكامل" 5/ 393، و"المنتظم" 7/ 278 في أحداث سنة (130). (¬3) كذا في النسخ الخطية عندنا، والنسخ الخطية لطبقات ابن سعد كما في حواشيه 9/ 246. وسيتعقَّبه المصنف أواخر الترجمة. وذكر خليفة الطاعون الجارف في "تاريخه " ص 265 في أحداث سنة (69). وذكر المزي في "تهذيب الكمال " 3/ 463، والذهي في "سير أعلام النبلاء" 6/ 16 أنَّه وُلد سنة (68). (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 246، والمعرفة والتاريخ 2/ 232، وحلية الأولياء 3/ 3. (¬5) المصدر السابق 9/ 247. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬6) طبقات ابن سعد 9/ 248، وحلية الأولياء 3/ 7. ولم يرد هذا الخبر في (ص).

وقال: ما على وجه الأرض أحبُّ إليَّ من بَكْر. يعني ابنَه. ولَأَنْ أَدْفِنَهُ أحبُّ إليَّ من أنْ يأتيَني. يعني هشامًا، أو بعض الخلفاء (¬1). وكان أيوب إذا خرج يأخذ في طريق غير مسلوك لئلا يلقاه أحد فيقول: هذا أيُّوب (¬2). وقال الحميدي: لَقِيَ سفيانُ بنُ عُيَينة ستةً وثمانين من التابعين، وكان يقول: ما رأيتُ مثلَ أيوب (¬3). وقال سلَّام [بن (أبي) مطيع]: كان أيوب يقومُ الليل يُخفي ذلك، فإذا كان قُبيل الصبح؛ رفعَ صوتَه كأنَّه إنَّما قام تلك الساعة (¬4). و[قال حمَّاد بن زيد: (قال أيوب): إذا لم يكن ما تريد، فأرِدْ ما يكون (¬5). وقال هشام بن حسان: ] حجَّ أيوب أربعين حجة (¬6). و[قال حمَّاد بن زيد: ] كان [أيوب] يحدِّث بالحديث فيرقُّ، فيمسحُ أنفَه ويقول: ما أشدَّ الزُّكام (¬7)! وقال بِشْر الحافي: دخلَ بُدَيْل على أيوب يعودُه وقد مَدَّ على فراشه سَبَنيَّةً (¬8) حمراءَ يدفعُ بها عنه الرِّياء، فقال له بُدَيْل: ما هذا؟ فقال أيوب: هذه خيرٌ من الصوف الَّذي عليك (¬9). وفي رواية: علَّقَ أيوبُ على بابه سترًا أحمر، فدخلَ عليه بُدَيل الزاهد وعليه كساء، فقال له: يا أيوب، ما هذه الشهرة؟ فقال له: السِّتر الأحمرُ خيرٌ من الكساء الَّذي عليك. فخجل بذلك بُدَيل. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 249، ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬2) بنحوه في المصدر السابق. (¬3) حلية الأولياء 3/ 3. (¬4) المعرفة والتاريخ 2/ 241، وحلية الأولياء 3/ 8، وما سلف بين حاصرتين من (ص)، غير أنَّه سقط منها لفظة "أبي". (¬5) المعرفة والتاريخ 2/ 233. وهذا الخبر من (ص)، سقط منها قوله: قال أيوب. (¬6) حلية الأولياء 3/ 5. (¬7) العلل ومعرفة الرجال 1/ 405، والثقات 8/ 146، وصفة الصفوة 3/ 295. وبنحوه في "حلية الأولياء" 3/ 6 - 7. (¬8) السَّبَنِيَّة: ضرب من الثياب تُتَّخذُ من مُشَاقَة الكَتَّان، منسوبة إلى موضع بناحية المغرب يقال له: سَبَن. قاله ابن الأثير في "النهاية " 2/ 340. وفي "القاموس": سَبَن، بلدة ببغداد، منها الثياب السَّبَنيَّة. (¬9) صفة الصفوة 3/ 295.

توبة بن كيسان

وقال أيوب: لا يَنْبُلُ الرجلُ حتَّى يكودْ فيه خَصْلتان: العفَّةُ ممَّا في أيدي الناس، والتجاوزُ عن زَلَّاتهم (¬1). ذكر وفاته: قال ابن سعد: أجمعوا على أنَّه مات في الطاعون بالبصرة سنة إحدى وثلاثين وهو يومئذ ابنَ ثلاث وستين سنة (¬2). قلت: وقد ناقض ابنُ سعد قوله: إنه ولد سنة سبع وثمانين. أسند أيوب عن أنس (¬3)، وعَمرو بن سلمة الجَرْميّ، وعن أبي عثمان النَّهْدي، وأبي رجاء العُطاردي، وغيرهم. وقال ابن سعد: بيان أيوب ثقةً عدلًا ورعًا، كثير العلم، رحمه الله تعالى (¬4). توبة بن كَيسان أبو المُوَرِّع العَنْبريّ، مولى [بني العنبر] من الطبقة الثالثة من أهل البصرة (¬5). وفد على هشام بن عبد الملك، وأَذِنَ له أن يتَّخَذ حمَّامًا بالبصرة، ويحتفر بئرًا بالبادية في الخِرْنِق (¬6)، على ثلاث مراحل من البصرة، وكان لا يُفعلُ ذلك إلا بإذن خليفة. وكان يوسف بن عُمر قد أكرهه على ولاية سابور والأهواز، فامتنع فحبَسَه وقيَّده، قال: أتاني آتٍ في منامي فقال: سلِ اللهَ العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، فقلتُها ثلاثًا، ففرَّجَ الله عني (¬7). ¬

_ (¬1) بنحوه في "مكارم الأخلاق" (42). (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 250. (¬3) في "تهذيب الكمال" 3/ 457: رأى أنس بنَ مالك. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 246. ومن قوله: ذكر وفاته ... إلى هذا الموضع؛ لفظه من (ص)، ووقع في (خ) و (د) مختصرًا. (¬5) طبقات ابن سعد 9/ 239. (¬6) في (خ) و (د) (والكلام منهما) و "تاريخ دمشق" 3/ 552 (مصورة دار البشير): الحريق. والمثبت من المصدر السابق. وجاء فيه وفي "تاريخ دمشق" أن الَّذي أذن له بذلك سليمان بن عبد الملك. (¬7) بنحوه أطول منه في "تاريخ دمشق" 3/ 554، وفيه أيضًا من طريق ابن سعد أن يوسف بن عمو ولّاه على سابور، ثم على الأهواز، فعُزل يوسف وهو واليه على الأهواز، وهو في طبقات ابن سعد 9/ 240.

فرقد بن يعقوب

وتوفي بمكان يقال له: ضَبُع بالطاعون، على ميلين من البصرة (¬1)، ودفن هناك وهو ابن أربع وسبعين سنة. أسند عن أنس وغيره، وروى عنه الثوريُّ وغيرُه، وكان ثقة صدوقًا (¬2). فرقد بن يعقوب أبو يعقوب السَّبَخيّ، ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل البصرة (¬3)، وكان زاهدًا متعبِّدًا. [روى عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قال: ] (¬4) اجتمع عُبَّادٌ من أهل الكوفة، فقالوا: انحدِرُوا بنا إلى البصرة فننظرَ إلى عُبَّادهم، فانحدروا فدخلوا على فَرْقَد، فحادثوه ساعة، فقالوا: الغداء. فأخرجَ لهم قُفَّةً فيها كِسَرٌ من شعير سُود، فقالوا: الملح؟ فقال: قد طرحناه في العجين. و[روى أيضًا عن جعفر بن سليمان قال: ] قال [فرقد]: إن ملوك بني إسرائيل كانوا يقتلون علماءهم (¬5) على الدين، هانَّ ملوككم إنما يقتلونكم على الدُّنيا، فدَعُوها لهم. و[روى أيضًا عن جعفر بن سليمان قال: ] قال [فرقد]: قرأتُ في التوراة: مَنْ أصبح حزينًا على الدُّنيا أصبح ساخطًا على ربّه، ومن جالسَ غنيًّا فتضعضع له؛ ذهبَ ثُلُثا دينِه، ومن أصابَتْه مصيبة فشكاها إلى الناس، فإنَّما يشكو ربَّه تعالى (¬6). وقال [فرقد]: ما انتبهتُ من نومي إلا أخافُ أن أكونَ قد مُسِخْتُ (¬7). ¬

_ (¬1) في "معجم البلدان" 3/ 452: على يومين من البصرة. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 3/ 551. ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) ذكره ابن سعد في "الطبقات" 9/ 242 في الطبقة الثَّالثة من أهل البصرة. وكذا ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 3/ 271. (¬4) ما بين حاصرتين من (ص). والخبر في "حلية الأولياء" 3/ 45 من طريق عبد الله بن أحمد، عن أحمد بن إبراهيم، عن الهيثم بن معاوية، عن شيخ له قال ... وينظر "صفة الصفوة" 3/ 271 - 272. (¬5) في "حلية الأولياء" 3/ 46، و"صفة الصفوة" 3/ 272: قراءهم. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬6) المصدران السابقان. وما سلف بين حاصرتين من (ص). (¬7) حلية الأولياء 3/ 47، وصفة الصفوة 3/ 272.

مالك بن دينار

[ذكر وفاته: قال ابن سعد: ] مات بالبصرة أيّام الطاعون [سنة إحدى وثلاثين ومئة، وكان ضعيفًا منكر الحديث (¬1). وقد] أسند عن أنس، وسمع سعيدَ بنَ جبير، وإبراهيم النخعي، وأبا الشعثاء، وغيرهم، وضعَّفه ابنُ سعد. قال المصنّف رحمه الله: لم يكن ضعيفًا، وإنَّما شغلَه التعبّد عن حفظ الحديث. مالك بن دينار وكنيتُه أبو يحيى، ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من التابعين من أهل البصرة، ولم ينصفه، فإنه كان جليلَ القَدْر في ذاك العصر والصدر، وذكره في سطرين، فقال: كان مولًى لامرأة من بني سامة بن لؤيّ، وكان ثقة قليل الحديث يكتب المصاحف، ومات قبل الطاعون بيسير، وكان الطاعون في سنة إحدى وثلاثين ومئة. هذا صورة ما ذكر (¬2). قلت: وقد ذكره أرباب السِّيَر، ورَوَوْا من مناقبه الغُرر، فقال خليفة (¬3): مالك من الطبقة الخامسة من أهل البصرة. واختلفوا في أبيه على أقوال: أحدها: أنَّه من سَبْي سِجِسْتان. والثاني: من سَبْي كابُل. والثالث: أنَّه مولى خِلَاس (¬4) [بن عَمرو] بن المنذر. وكان مالك زاهدًا عابدًا ورعًا خائفًا باكيًا، وله الكلام الحسن والنوادر العجيبة. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 242. والكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 242. (¬3) ينظر "طبقات" خليفة ص 216. (¬4) في (خ) و (د): مولى لجلاس، وفي (ص): مولى حلاس، وكلاهما خطأ، والمثبت من "تاريخ دمشق" 66/ 49، ولفظ "بن عمرو" بعده بين حاصرتين منه، والكلام فيه. وخِلَاس بن عمرو من رجال "تهذيب الكمال" 8/ 364.

ذكر سبب توبته: قرأتُ على شيخنا الموفَّق من كتاب "التوَّابين" (¬1) عن مالك بن دينار أنَّه سُئلَ عن سبب توبته، فقال (¬2): كُنْتُ شُرْطيًّا مُنهمكًا على شُرب الخمر، فاشتريتُ جاريةً نفيسةً، فوقَعَتْ في قلبي أحسنَ مَوْقع، ووَلَدَتْ لي بنتًا، فشُغِفْتُ بها، فلمَّا دَبَّتْ على الأرض؛ ازْدَدْتُ لها حُبًّا، فكنتُ إذا وضعتُ المُسْكِرَ بين يَدَيّ؛ جاذَبَتْني عليه، وهَرَقَتْه على ثوبي، فلما تَمَّتْ لها سنتان؛ ماتَتْ، فأَكْمَدَني حُزْنُها. فلما كانت ليلةُ النصف من شعبان -وكانت ليلةَ الجمعة؛ بِتُّ ثَمِلًا من الخمر، ولم أُصَلِّ العِشاءَ الآخِرة- نمتُ، فرأيتُ في المنام كأنَّ القيامةَ قد قامَتْ وقد نُفخ في الصُّور، وبُعثرَ ما في القبور، وحُشر الخلائقُ وأنا معهم، فسمعتُ حِسًّا من ورائي، فالتفتُّ؛ فإذا بتِنِّينٍ فاتحٍ فاه، أزرقَ أسودَ؛ كأعظمِ ما يكون، وهو مسرعٌ نحوي، فهربتُ منه، وإذا بشيخٍ (¬3) نقيِّ الثوبِ طيِّبِ الرائحة، فسلَّمتُ عليه، فردَّ، فقلتُ: أجِرْني من هذا التِّنِّين أجارَك الله. فبكى وقال: أنا ضعيفٌ، وهذا أقوى مني، ولا أقدرُ عليه، ولكن أسْرِعْ فلعلَّ اللهَ أن يُتيحَ لك (¬4) ما يُنجيك منه. قال: فولَّيتُ هاربًا على وجهي، وصَعِدْتُ على شَرَفٍ من شُرَف القيامة، فأشرَفْتُ على طبقات النِّيران، فنظرتُ إلى هَوْلها، فكِدْتُ أن أهويَ فيها من خوفي من التِّنِّين، فصاح بي صائح: ارْجِعْ، فلستَ من أهلها، فأطمأْنَنْتُ إلى قوله، ورجع التِّنِّين في طلبي، فأتيتُ الشيخَ فقلتُ له: سألتُك بالله إلا أجَرْتَني من هذا التِّنِّين. فقال: أنا ضعيف، ولكنْ سِرْ إلى هذا الجبل، فإنَّ فيه ودائعَ المسلمين، فإنْ كانت لك فيه وديعةٌ فسَتنصُرُك. قال: فنظرتُ فإذا جبلٌ مستديرٌ من فضَّة، وفيه كُوًى مُخَرَّمة وستورٌ معلَّقة، على كل خوخةٍ سترٌ، وتحتَه مصراعان مُرَصَّعانِ باليواقيت، وهما من الذهب الأحمر والفضة ¬

_ (¬1) ص 215 - 218. (¬2) من أول ترجمة مالك بن دينار رحمه الله ... إلى هذا الموضع؛ لفظُه من (ص)، وجاء في (خ) و (د) مختصرًا ودون نسبة الأقوال إلى أصحابها. (¬3) في (ص): شيخ كبير. (¬4) في (ص): يفتح عليك.

البيضاء، والتِّنِّين من ورائي، فصاح بعضُ الملائكة: ارفعوا السُّتور، فلعلَّ أن يكونَ لهذا البائسِ فيكم وديعةٌ تُجيرُه من عدوِّه، فرُفِعَتْ تلك السُّتور، وأشرفَ من تلك الكُوَى أطفالٌ كأنَّ وجوهَهم الأقمار وقَرُبَ التِّنِّينُ منِّي، وإذا بابنتي التي ماتَتْ فيهم، فلمَّا رأَتْني صاحَتْ: أبي واللهِ. ثم وثَبَتْ في كَفَّةٍ من نور، وأشارَتْ إلى التِّنِّين، فولَّى هاربًا، ثم قعَدَتْ في حِجْري، ومدَّت يدَها إلى لِحْيتي، وقالت: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]؟ فبكَيتُ وقلت: بلى. ثم قلت: ما هذا التِّنِّين؟ فقالت: عملُك السَّيِّءُ؛ قَوَّيتَهُ، فأرادَ أن يُغرقَك في نار جهنَّم. قلت: فذاك الشيخ؟ قالت: عملُك الصالح؛ أضْعَفْتَه. قلتُ: فما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت: نحن أطفالُ المسلمين قد أُسْكنَّا في هذا الجبل إلى يوم القيامة ننتظرُ قُدومَكم عليمْا، فنشفعَ لكم. قال: فانتبهتُ فَزِعًا، وأصبحتُ تائبًا إلى الله عزَّ وجلّ (¬1). ذكر طرف من أخباره: روى أبو الشعثاء أنَّه كان يكتب المصاحف؛ يكتبُ المصحف في أربعة أشهر ولا يشرط أُجرةً، فإذا جيء بالأُجرة؛ فإن كان ذلك دون حقِّه أخذَه، وإن كان أكثرَ من حقِّه أخَذَ حقه، وردَّ الباقي (¬2). وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدَّثني [محمد] بنُ كُليب، عن يوسف بن عطيَّة قال: قال مالك بن دينار: مَنْ دخلَ بيتي فأخَذَ شيئًا فهو حلالٌ له، أمَّا أنا فلا أحتاجُ إلى قُفل ومفتاح (¬3). وروى عبد الله بن الإمام أحمد أيضًا عن عليّ بن مسلم، عن سيَّار قال: قال مالك بن دينار لرجل من أصحابه (¬4): إني لأشتهي رغيفًا بلبن قال: فجاءه الرجلُ به، فجعل ¬

_ (¬1) الخبر في "التوابين" ص 215 - 218. باختلاف يسير. (¬2) الخبر في "حلية الأولياء" 2/ 368 عن سيَّار، عن جعفر. وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 66/ 56 (طبعة مجمع دمشق). وأما قول أبي الشعثاء (وهو جابر بن زيد) فقد ورد في خبر آخر في "تاريخ دمشق" قبل هذا الخبر. (¬3) حلية الأولياء 2/ 367، وتاريخ دمشق 66/ 62. (¬4) من قوله: ذكر طرف من أخباره ... إلى هذا الموضع؛ لفظه من (ص) ووقع في (خ) و (د) مختصرًا.

يقلِّبُ الرغيف وينظر إليه ويقول: اشتهيتُك منذ أربعين سنة، وغلبتُك حتَّى اليوم؛ تريدُ أن تغلبَني؟ ! وأَبَى أن يأكلَه (¬1). وروى عَوْنُ بن الحكم عن أبيه، عن مالك قال: قدمتُ من سفر، فلما صِرْتُ إلى الجسر قام العشَّار، فقال: لا يخرجنَّ أحدٌ من السفينة حتَّى نُفتِّشَه. قال: فأخذتُ ثوبي فوضعتُه على عنقي، ثم وثبتُ فصرتُ على الأرض، فقال: ما الذي أخرجك؟ قلت: ما معي شيء. قال: فاذهب. قلت في نفسي: هكذا أمر الآخرة (¬2). وروى أبو نعيم عن مالك بن دينار أنَّه وقعَ حريق في بيته، فأخذَ المصحف وخرجَ، فقيل له: البيت! فقال: ما فيه شيءٌ إلا السِّنْدانَة، فما أُبالي أن يحترق (¬3). وفي رواية: وقع حريق بالبصرة، فأخذ كساءَه وخرج وقال: هلكَ أصحابُ الأثقال، ونجا المُخِفُّون. وقال ابن باكويه الشيرازي: دخل اللصوص بيت مالك بن دينار، فلم يجدوا شيئًا، فصاح بهم: ما ضرَّكُم لو صلَّيتُم ركعتين (¬4). وكان قُوتُه كلَّ ليلة رغيفان، يأكلهما بملح جَرِيش، فكان يأكلُ في الشهر بدرهمين -أو بدرهم- ودانقين، فيقال له: ألا تأكلُهما بإدام فيقول: إدامُهما أن يكونا سخنين (¬5). قال: وكان عنده رِكْوَةٌ يتوضَّأْ منها، فأخرجَها من بيته، فقيل له في ذلك، فقال: إذا دخلت في الصلاة جاءني الشيطان فيقول: سُرِقَت الرِّكْوَة، فيشتغلُ قلبي (¬6). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 366، وتاريخ دمشق 66/ 61. (¬2) صفة الصفوة 3/ 277. (¬3) حلية الأولياء 2/ 368، وتاريخ دمشق 66/ 66، وصفة الصفوة 3/ 280. والسِّندانة؛ كما في "تاج العروس": الأتان. (¬4) صفة الصفوة 3/ 287. (¬5) بنحوه في "حلية الأولياء" 2/ 368، و"تاريخ دمشق" 66/ 58 - 59، و"صفة الصفوة" 3/ 284. (¬6) حلية الأولياء 2/ 364، وتاريخ دمشق 66/ 66 - 67، وصفة الصفوة 3/ 385.

وروى عنه عبدُ الله بنُ الإمام أحمد أنَّه كان يقول: لقد هممتُ أن آمُرَ إذا مِتُّ أنْ أُغَلَّ، فألقى اللهَ مغلولًا كما يُفعل بالآبق، فإذا قال لي: لمَ فعلتَ هذا؟ فأقول: يا ربّ، لم أرضَ لك نفسي طَرْفَةَ عين (¬1). قال: وقرأ يومًا قاريءٌ في مجلسه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالهَا} فجعل مالكٌ ينتفض، وأهلُ المجلس يبكون ويصرخون، وغُشِيَ على مالك، فحُمل إلى منزله صريعًا (¬2). وروى أبو نُعيم أن رجلًا قال لمالك بن دينار: يا مُرائي، فقال: لي بالبصرة كذا وكذا سنة، ما عرفَ اسمي غيرك (¬3). وروى ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار أنَّه قال: لو وقف إنسان على باب المسجد وقال: ليخرجْ إلي شرُّكم؛ لبادرتُ إليه. ذكر نبذة من كلامه وواقعاته: حكى أبو نُعيم بإسناده إلى سيَّار، عن جعفر قال: سمعتُ مالكًا يقول: ما تنعَّمَ المتنعّمون بمثل ذكر الله تعالى (¬4). وسمعته يقول: يا حملة القرآن، ماذا زرعَ القرآنُ في قلوبكم؟ فإنَّ القرآن ربيعُ المؤمن، كما أن الغيثَ ربيعُ الأرض، وقد ينزل الغيث من السماء فيصيب الحُشَّ، فتكون فيه الحبة فلا يمنعُ نتنُ موضِعِها أن تهتزَّ وتخضرَّ وتحسن، أين أصحابُ سورة؟ أين أصحاب سورتين؟ ماذا عملتُم فيها (¬5)؟ وروى عبد الله بن الإمام أحمد أنَّ مالكًا كان يقول: يتزوَّج أحدُكم ديباجة الحيّ، فتأخذُ بقلبه، فيقول لها: أيَّ شيءٍ تريدين؛ فتقول: مِرْطًا من كذا وكذا، فتَمْرَطُ دينَه، ولو تزوَّج يتيمةً ضعيفة، فكساها وأطعَمَها؛ كان له أجرٌ؛ لكان خيرًا له (¬6). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 361، وتاريخ دمشق 66/ 92 و 93، وصفة الصفوة 3/ 374. (¬2) صفة الصفوة 3/ 379 - 370. (¬3) بنحوه في "حلية الأولياء" 8/ 339، و"تاريخ دمشق" 66/ 74، و "صفة الصفوة" 3/ 387. (¬4) حلية الأولياء 2/ 358، وصفة الصفوة 3/ 273. (¬5) حلية الأولياء 2/ 358 - 359، وصفة الصفوة 3/ 273 - 274. (¬6) حلية الأولياء 2/ 380، وصفة الصفوة 3/ 274 - 275. ووقع في (ص): كان له أجرًا كان خيرًا له.

وحكى عنه ابن باكويه أنَّه قال: مَثَلُ قُرَّاءِ زماننا كرجل نصبَ فَخًّا، وجعل فيه حبَّةَ بُرٍّ، فجاء عصفور، فوقف عليه وقال: ما غَيَّبَك في التراب؟ قال: التواضع. قال: فلأيِّ شيءٍ انحنَيتَ؟ قال: من طول العبادة. قال: فما هذه البُرَّة (¬1) المنصوبة فيك؟ قال: أعددتُها للصائمين. فلما كان وقتُ المغرب؛ دنا العصفور منها ليأخذَها، فخنَقَه الفَخُّ، فقال العصفور: إن كان كلُّ العُبَّاد مثلَك، فلا خير في العُبَّاد اليوم (¬2). وروى عن جعفر بن سليمان الضُّبَعِيّ قال: مرَّ والي البصرة بمالك وهو يتبختر في مشيته، فصاح به مالك: أقْلِلْ من مِشْيَتِك، فهذه مِشيَةٌ يُبغِضُها اللهُ ورسولُه. فهمَّ به أعوانُه، فقال: دعوه. ثم قال: يا مالك، ما أُراك تعرفُني. فقال مالك بن دينار: ومَنْ أَعْرَفُ بك منِّي؟ أمَّا أوَّلُك فنُطفةٌ مَذِرَة، وأمَّا آخِرُك فجيفةٌ قَذِرة، وأنت فيما بين ذلك تحملُ العَذِرَة. فنكس الوالي رأسه ومضى (¬3). وقال مالك: إن البَدَنَ إذا سَقِمَ، لم ينجعْ فيه طعامٌ ولا شراب؛ فكذا القلبُ إذا عَلِقَه حبُّ الدنيا (¬4). وروى ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: كفى بالمرء إثمًا أن يكونَ أمينًا للخَوَنَة، وكفى بالمرء شرًّا أن لا يكون صالحًا ويقعَ في الصَّالحين (¬5). قال: وقال مالك بن دينار: إذا لم تكن صادقًا فلا تَتَعَنَّى (¬6). قال: وقال مالك بن دينار: يقول الله في بعض الكتب: إنَّ أهْونَ ما أنا صانع بالعَالِمِ إذا أَحَبَّ الدُّنيا أنْ أُخرِجَ حلاوةَ ذِكْرِي من قلبه (¬7). ¬

_ (¬1) يعني حبَّة البُرّ (القمح). (¬2) صفة الصفوة 3/ 276. (¬3) بنحوه في "حلية الأولياء" 2/ 385، و"تاريخ دمشق" 66/ 83، و"صفة الصفوة" 3/ 276 - 277. (¬4) الزهد (142)، وحلية الأولياء 2/ 363، وتاريخ دمشق 66/ 85. ولم يرد هذا الخبر في (ص). (¬5) بنحوه في "حلية الأولياء" 2/ 373، و"تاريخ دمشق" 66/ 91، و"صفة الصفوة" 3/ 282. (¬6) صفة الصفوة 3/ 283. والتَّعنِّي: النَّصَب. (¬7) حلية الأولياء 2/ 360، وصفة الصفوة 3/ 280.

وروى أبو نُعيم عنه أنَّه قال: اتَّقُوا السَّحَّارة -يعني الدنيا- فإنها تسحرُ قلوب العلماء (¬1). [وقال: ] وإنَّ العالم إذا لم يعمل بعمله زَلَّتْ موعظتُه عن القلوب كما يزلُّ القَطْرُ عن الصَّفَا (¬2). وقال: ما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظمَ من قسوةِ القلب (¬3). وقال جعفر بن سليمان: كان مالك يُرى يومَ التَّرويةِ بالبصرة، ويومَ عرفةَ بعرفات (¬4). وروى ابنُ أبي الدنيا عن مالك أنَّه كان له صديق يخدم السلطانَ، فاعتقلَه وقيَّده، فدخلَ عليه مالك فرآه مقيَّدًا، فشقَّ عليه فقال: من قيَّدك؟ قال: السلطان. فرفع مالك رأسه، فإذا زِنْبيل معلَّق، فقال. ما هذا؟ فقال: فيه شيء للأكل. فحطَّه فإذا دجاجٌ وحلوى وخبزُ حُوَّارَى، فقال له مالك بن دينار: واللهِ ما قيَّدك غيرُ هذا. وقال ابنُ أبي الدنيا فيما رواه عنه قال: مرَّ تاجرٌ بعشَّارين، فحبسوا عليه سفينته، فأرسل إلى مالك، فجاءه، فلما رآه القوم؛ قاموا إليه وعظَّموه، وأطلقوا السفينة، وقالوا: يا مالك، ادْعُ لنا. وعندهم كُوز [معلَّق] يجعلون فيه الدراهم التي يأخذونها من الناس، فقال: قولُوا للكُوز يدعو لكم! كيف أدعو لكم وألفٌ يدعون عليكم؟ ! أترى يُستجابُ لواحد ولا يُستجابُ لألف (¬5)؟ ! [قال: ] وأجدبت الأرض بالبصرة، فخرجَ الناس يستسقون، فلقيَهم مالك، فقال: إلى أين؟ قالوا: نطلب المطر. فقال: أنتم تستبطئون الغيث، وأنا أستبطئ الحجارة (¬6)! ¬

_ (¬1) ذم الدنيا (39)، وحلية الأولياء 2/ 364، وصفة الصفوة 3/ 283. (¬2) حلية الأولياء 6/ 288، وصفة الصفوة 3/ 283. (¬3) حلية الأولياء 6/ 287، وصفة الصفوة 3/ 287. (¬4) صفة الصفوة 3/ 277. (¬5) حلية الأولياء 2/ 374، وتاريخ دمشق 66/ 83، وصفة الصفوة 3/ 281. (¬6) حلية الأولياء 2/ 374، وتاريخ دمشق 66/ 85، وصفة الصفوة 3/ 281.

وقال: أخَذَ السَّبُع ولدَ امرأة، فتصدَّقت بلقمة، فألقى السَّبُع ولدَها ونُوديَتْ: لُقْمةٌ بلُقْمة (¬1). [ذكر الشابّ مع مالك بن دينار: روى أبو عبد الله بن باكويه الشيرازي] (¬2) قال جعفر بن سليمان: مررتُ أنا ومالكُ بنُ دينار بالبصرة، وإذا بشابٍّ من أحسنِ الشَّباب جالسٍ يَعْمُرُ قصرًا ويقول: افعلوا كذا وكذا. فتقدَّم إليه مالك، فسلَّم عليه وقال: كم في عزمك أن تنفق (¬3) على هذا القصر؟ فقال: مئة ألف درهم. فقال: ألا تُعطيني هذا المال؛ أتصدَّقُ به، وأضمنُ لك على الله قصرًا في الجنّة بولْدانِه وقِبابِه وحُورِه وقُصورِه؟ فقال: أجِّلْني الليلة. فقال: نعم. وبات مالك يدعو ليلتَه ويبكي، فلما كان عند السَّحَر إذا بالشَّابِّ قد أقبلَ ومعه البَدْر (¬4)، فدَعَا مالك بدواة وقرطاس (¬5)، وكتب: هذا ما ضَمِنَ مالكُ بنُ دينار لفلان ابن فلان على الله قصرًا في الجنَّة، فيه كذا وكذا. ووصَفَه، وأخَذَ الشابُّ الكتاب، ودفعَ المال إلى مالك، ففرَّقَه في الفقراء والمساكين وأرباب البيوت، ومضى على ذلك أربعون يومًا. فبينا مالكٌ في محرابه قد صلَّى الفجر، وإذا بالكتاب مُلْقًى بين يديه، وفي ظهره مكتوب بالنور (¬6): هذه براءةٌ من العزيز الغفَّار لمالك بن دينار أنَّا وَفَّينا للشابِّ بالقصر الَّذي ضَمِنْتَه له، وزِدْناه سبعين قصرًا. قال: ففزع مالك، وأخَذَ الكتاب، وقصدَ منزل الشّابّ، وإذا بالبابِ مسوَّد والصُّراخ في الدار [والنعي على الباب] فقال: ما هذا؟ قالوا: مات الشّابُّ البارحة. قال: مَنْ غَسَّلَه؟ قالوا: فلان. قال: عليَّ به. فجاء فقال: أنتَ غسَّلْتَه؟ قال: نعم. قال: ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 384، وصفة الصفوة 3/ 284. (¬2) ما بين حاصرتين من (ص). (¬3) في (خ) و (د) و (ص): تعزم. والمثبت من "التوابين" ص 251، والكلام فيه بنحوه. (¬4) يعني الكيس الَّذي فيه المال. وفي "القاموس": البَدْر والبَدْرَة: كيس فيه ألف -أو عشرة آلاف- درهم أو سبعة آلاف دينار. (¬5) في (خ) و (د) و (ص): وميضا (؟ ) وهو -على الأغلب- سبق قلم. والمثبت من "التوابين" ص 252. (¬6) في (ص): بالذهب.

فما الَّذي أوصاك به قبل موته؟ قال: دفعَ إليَّ كتابًا وقال: اجْعَلْه بين يديَّ وكَفَني. فجعلتُه. فأخرجَ مالكٌ الكتاب وقال: أهذا هو؟ قال: إي والله. وصاحَ الغاسلُ وبكى، وارتفع الصياح في الدار والمحلَّة. فقال شابٌّ من جيرانه: يا مالك، خُذْ منِّي مئتي ألف درهم، واضْمَنْ لي على الله مثلَ هذا. فقال: هيهات هيهات! كان ما كان (¬1). ذكر وفاته: واختلفوا فيها، فحكينا عن ابن سعد أنَّه قال: مات قبل الطاعون بيسير، وكان الطاعون في سنة إحدى وثلاثين ومئة (¬2). وقال غير ابن سعد: مات سنة سبع وعشرين (¬3) ومئة. وقيل: سنة ثلاث وعشرين ومئة. وقيل: تقدَّمت وفاتُه على هذا التاريخ؛ فروى ابن أبي الدنيا عن عبد الواحد بن زيد، وقيل له: ما كان سببُ وفاةِ مالك بن دينار؟ قال: رؤيا رآها، رأى مُسلمَ بنَ يسار في المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: وما يكون من الكريم؟ قَبِلَ منَّا الحسناتِ، وتجاوزَ عن السيِّئات. قال: ثم شهق مالك، وخرَّ مغشيًّا عليه، ثم لبثَ أيَّامًا مريضًا، فيُرَوْنَ أنَّه انصدعَ قلبُه فمات (¬4). ومسلمُ بنُ يسار مات سنة مئة، أو إحدى ومئة. أسند مالك عن أنس، والحسن البصري، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد (¬5). قال مالك بن دينار: خرج سليمان بن داود عليهما السلام يومًا في مَوْكبه، فمرَّ ببلبل على غصن يَصْفِر (¬6)، وضرب (¬7) بذنبه الأرض، فقال سليمان: أتدرون ما يقول هذا؟ ¬

_ (¬1) الخبر في "التوابين" ص 251 - 253 باختلاف يسير. (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 242. (¬3) في (خ) و (د) و (ص): سبع عشرة ومئة، وهو خطأ. (¬4) تاريخ دمشق 66/ 92. والكلام السالف لفظه من (ص)، ووقع في (خ) و (د) دون نسبة الأقوال لقائليها. (¬5) بعدها في (ص) (والكلام منها): وجعفر بن سليمان، وهو خطأ، إنما روى عنه جعفر. (¬6) في (ص): فصفر. (¬7) في "تاريخ دمشق" 7/ 595 (مصورة دار البشير- ترجمة سليمان - عليه السلام -): ويضرب.

محمد بن إسماعيل

قالوا: اللهُ ورسولُه أعلم. قال: إنه يقول: قد أصبتُ اليومَ نصف تمرة، فعلى الدنيا وأهلها العَفَاء (¬1). محمد بن إسماعيل أبو بكر الفَرْغانيّ، أحدُ مشايخ الصوفية ومجتهديهم. [حكى ابن جهضم عنه أنَّه] كان يمشي وفي كمّه مفاتيح، يُوهم [الناس] أنَّه من التجار وأبناء الدنيا، ولا مأوى له إلا المساجد الخَراب. وكان يلبسُ الثيابَ الثمينة، ويطوي اليومين والثلاثة دائمًا (¬2). و[ذكره أبو عبد الرحمن السلميّ، وأثنى عليه وقال: ] مرَّ براهبٍ من رهبان الشام في صومعة، فناداه: يا راهب، لمن تعبد] قال: للسيد المسيح. قال: ولمَ؟ قال: لأنه أقام أربعين يومًا لم يأكل ولم يشرب. قال: فأنا أفعلُ ذلك. فأقام تحت الصومعة أربعين يومًا لم يأكل ولم يشرب، ولم ينم، فنزلَ الراهب من الصَّومعة، وأسلمَ على يده (¬3). منصور بن زاذان مولى عبد الله بن أبي عَقِيل الثقفيّ، ذكره ابن سعد فيمن نزل من الفقهاء والمحدِّثين بواسط، وكان صاحِبَ الحسن البصري، وروى عنه هُشيم وأصحابُه، وكان ثقة ثبتًا صالحًا سريعَ القراءة؛ يريد أن يَتَرَسَّلَ فيها فلا يستطيع، وكان يختم في الضحى، يُعرف ذلك منه بِسَجَدَات القرآن. [وكان قد تحوَّل من واسط، فنزل المبارك؛ على تسعة فراسخ من واسط. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، وفيه: السلام، بدل: العَفاء. (¬2) بنحوه في "تاريخ دمشق" 61/ 122 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) لم أقف عليه في "طبقات الصوفية" للسلمي، وفيه ترجمة أبي بكر الفرغاني ص 302 - 306. وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 61/ 191 - 120 بنحوه مطولًا بأكثر من رواية وليس في طُرُقها أبو عبد الرحمن السُّلميّ. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص).

قال يزيد بن هارون: مات منصور سنة الوباء في الطاعون سنة إحدى وثلاثين ومئة. هذا صورة ما ذكره ابنُ سعد (¬1). وذكر أبو نُعيم بإسناده إلى هشام بن حسان قال: ] كُنْتُ أصلّي (¬2) أنا ومنصور [بن زاذان] جميعًا، فكان يختم القرآن ما بين الظهر والعصر، ويختمُه ما بين المغرب والعشاء، ثم يبكي وينقُضُ عِمَامتَه ويبلُّها بدموعه [ويضعها بين يديه. وقيل: يمسحُ بها دموعه] (¬3). وروى ابن أبي الدنيا عنه أنَّه كان يصلِّي بين المغوب والعشاء ركعتين يختِمُ فيهما القرآن (¬4). [قال: ] وصلَّى الفجر بوضوء العشاء الآخِرة أربعين سنة (¬5). وكان يقول: لو قيل لي: إنَّ ملك الموت على الباب؛ ما كان عندي زيادة في العمل (¬6). وكان نهارُه وليلُه مشغولًا بالصلاة والقرآن. وحكى أبو نُعيم عن أبي حمزة قال: شهدتُ جنازة منصور، فرأيتُ الرِّجال على حِدَة، والنساء على حِدَة، والنصارى على حِدَة [واليهود على حِدة] (¬7). أسندَ منصور عن أنس، وأرسلَ عنه (¬8)، وأسندَ عن الحسن وغيره (¬9). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 313. وهذا الكلام بين حاصرتين من (ص). (¬2) في (خ) و (د): وقال هشام بن حسان (دون ذكر الإسناد) والمثبت من (ص). (¬3) بنحوه في "حلية الأولياء" 3/ 57 - 58 أطول منه. (¬4) بنحوه في المصدر السابق. (¬5) في "صفة الصفوة" 3/ 12 عن هشيم: عشرين سنة. (¬6) بنحوه في "حلية الأولياء" 3/ 58، و"صفة الصفوة" 3/ 12. (¬7) حلية الأولياء 57/ 3. والكلام السالف بين حاصرتين من (ص). (¬8) في "تهذيب الكمال " 28/ 524: روى عن أنس بن مالك؛ يقال: مرسل. (¬9) في (ص) أسند عن الحسن وابن سيرين وعطاء ونظرائهم. وينظر المصدر السابق.

نصر بن سيار

نصر بن سيَّار والي خُراسان، كان حازمًا شجاعًا جوادًا، لمَّا رأى حَبْلَ بني مروان قد انتقض وأماراتِ الزَّوال ظاهرة ... (¬1) مرضَ بالرَّيّ بعد أن أخرجه أبو مسلم من مَرْو، وكان بنيسابور، فأخرجَه قحطبةُ منها. ولمَّا مرض بالرَّيّ حُمل إلى سَاوة قريبًا من هَمَذَان، فماتَ بها في ربيع الأول هذه السنة، وله خمسٌ وثمانون سنة (¬2). واصل بن عطاء رئيس المعتزلة من البصرة، وهو مولًى لبني ضبَّة، وقيل: لبني هاشم (¬3). وهو أوَّلُ مَنْ قال بالمنزلة بين المنزلتين، ومعناه أنَّ الإنسان إذا ارتكبَ كبيرةً يخرج من الإيمان، ولا يدخلُ في الكفر، فإن ماتَ من غير توبة؛ خُلِّد (¬4) في النار، وهو مذهب عَمرو بنِ عُبيد من مشايخ المعتزلة. وعند أهل السُّنَة: من ارتكبَ كبيرةً دون الكفر، لا يخرج من الإيمان، وإن مات من غير توبة؛ إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عاقبَه، ثم مآلُه إلى الجنَّة. وعند الخوارج: يخلَّد في النار، وقد كفر. [وجه قول واصل: أن الإيمان ما يستحقُّ به الثواب، والعصيان ما يستحقُّ به العقاب، ولا يتصوَّر الاجتماع بينهما، ولأجل هذه المسألة سُمُّوا معتزلة] (¬5). وكان ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (د). والظاهر أن في الكلام سقطًا. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 403 - 404، ولم ترد هذه الترجمة في (ص). (¬3) وقيل أيضًا: مولى لبني مخزوم. ينظر "أمالي المرتضى" 1/ 163. (¬4) في (ص): يخلَّد. (¬5) ما بين حاصرتين من (ص). وفي تسميتهم المعتزلة؛ قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 464 في واصل بن عطاء: طرده الحسن عن مجلسه لما قال: الفاسق لا مؤمن ولا كافر، فانضمَّ إليه عَمرو (يعني ابنَ عُبيد) واعتزلا حلقة الحسن، فسُمُّوا معتزلة.

السنة الثانية والثلاثون بعد المئة

الصدرُ الأوَّل مجتمعين (¬1) على مذهب أهل السُّنَّة إلى أن ظهرت الخوارج، فقالوا بالتخليد في النار، فذهب المعتزلة إلى ما حَكينا [عنهم] فصار قولهم منزلة بين منزلتين. [وجه قول الخوارج: قولُه تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14]. ولأهل السنة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، خاطبهم بالإيمان مع ارتكاب العصيان، والأمرُ بالتوبة لمن لا ذنب له محال. وقولهم: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر؛ لا يصحّ؛ لأن الوقف أمر إلهي لا يُطَّلعُ عليه، فلا بدّ من الحكم، والله تعالى ما أخرجه من الإيمان؛ لما تَلَوْنا، فيبقى على حاله. وأما الآية التي احتجَّتْ بها الخوارج؛ فمحمولةٌ على الكفر، لا على ما سواه. وقد قرَّرْنا هذه المسائل في كتب الأصول] (¬2). السنة الثانية والثلاثون بعد المئة فيها هلك قحطبةُ بنُ شبيب بن خالد بن مَعْدَان. وفيها خرج محمد بنُ خالد بن عبد الله القَسْريُّ بالكوفة، ولبس السَّوَاد، وأخرجَ عاملَ ابنِ هُبيرة، وجاءها الحسن بنُ قحطبة، فدخلَها بعد هلاك أبيه. ذكر القصة: خرجَ ابنُ خالد بالكوفة ليلةَ عاشوراء وعلى الكوفة زياد بنُ صالح الحارثيُّ خليفةُ ابنِ هُبيرة، فهرب منها إلى واسط، ودخل محمدٌ القصر، فلما كان يوم الجمعة ثاني يوم هلك فيه قحطبة؛ نزل حَوْثَرَةُ مدينة ابن هُبيرة بأهل الشام، فتفرَّق مَنْ كان مع محمد، ¬

_ (¬1) في (ص): لأن الصدر الأول كانوا مجمعين ... إلخ. (¬2) ما بين حاصرتين من (ص)، وبه ينتهى ما توافر من هذه النسخة. وجاء فيها بعده ما صورته: تمَّ الجزء الحادي عشر بحمد الله وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا وحسبنا الله ونعم الوكيل، ويتلوه في الجزء الثاني عشر السنة الثانية والثلاثون بعد المئة إن شاء الله تعالى.

وأرسلَ إليه أبو سَلَمة الخلَّال يأمرُه بالخروج من القصر واللَّحاقِ بأسفل الفرات لقلَّةِ مَنْ معَه، وكثرةِ مَنْ مع حَوْثَرَة، ولم يبلغ أحدًا من الفريقين هلاكُ قحطبة. ثم إن أصحاب حَوْثَرَة تسلَّلُوا عنه ودخلُوا الكوفة، فسار إلى ابن هُبيرة وهو بواسط، وكتب محمد إلى قحطبة يأمرُه بالإسراع إلى الكوفة، فقرأه الحسن ابنُه على الناس، وسار فدخلَ الكوفةَ، وسألَ عن أبي سَلَمة الخلَّال، وأتَوْا إليه فاستخرجوه، فخرج فعسكرَ بالنُّخَيلَة يومين، ثم ارتحلَ فنزلَ حمَّامَ أعْيَن، ووجَّهَ الحسنَ بنَ قحطبةَ إلى واسط لقتال ابنِ هُبيرة (¬1). وقيل: إن الحسن لما سار إلى الكوفة؛ جعلَ يسألُ في الطريق عن منزل أبي سلمة وزيرِ آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فدلوه عليه، فجاء حتَّى وقفَ على بابه، وخرجَ إليهم فقدَّمُوا له دابَّةً من دوابِّ قحطبة، فركبها، وجاء حتَّى وقَفَ في جَبَّانة السَّبِيع (¬2)، وبايعَه أهلُ خراسان، فاستعملَ محمدَ بنَ خالد القسريَّ على الكوفة. وبعثَ الحسنَ بنَ قَحْطَبَةَ إلى واسط لقتال ابنِ هُبيرة في عِدَّةٍ من القُوَّاد، ووجَّه حُميدَ بنَ قحطبة إلى المدائن، وبعث خالد بن بَرْمَك إلى دَيرقُنَّى (¬3)، وبسَّامَ بنَ إبراهيم إلى الأهواز وبها عبدُ الواحد بنُ عُمر بن هُبيرة، وخرجَ أبو سَلَمة فعسكر بحمَّام أعين، وأقام محمد الكوفة. وسار بسَّام إلى الأهواز، فخرجَ إليه عبدُ الواحد، واقتتلُوا، فهزمه بسَّام، فلحق عبدُ الواحد بالبصرة وبها سَلْمُ بن قُتيبة الباهليُّ عاملُ يزيد بن [عمر بن] هُبيرة، وكان خارج البصرة سفيانُ بنُ معاوية بن يزيد بن المهلَّب، فكتبَ إليه أبو سَلَمة بعهده على البصرة، وأمرَه أن يُظهر بها دولة (¬4) بني العباس، ويدعو إلى الإمام القائم فيهم، وينفي سَلْمَ بنَ قُتيبة، فكتب سفيان إلى ابنِ قُتيبة يُخبرُه بكتاب أبي سلمة، ويأمرُه بالخروج من البصرة، ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 417 - 418 مطوَّل. (¬2) محلَّة بالكوفة. قال ياقوت: أهل الكوفة يسمُّون المقابر جبَّانة كما يسميها أهل البصرة المقبرة، وبالكوفة محالّ تسمَّى بهذا الاسم وتضاف إلى القبائل. "معجم البلدان" 2/ 99. (¬3) يعرف بدير مَرْماري السليخ، وهو على ستة عشر فرسخًا من بغداد. معجم البلدان 2/ 528. (¬4) في "تاريخ" الطبري 7/ 419: دعوة.

فلم يجبه، فجمع سفيان اليمانية وغيرهم، وجمع سَلْم مَنْ كان بالبصرة من مُضر والعرب وبني أمية. وجاء سفيان إلى المِرْبَد، وخرج إليه سَلْم، واقتَتَلُوا، فقُتل [ابنُه] معاويةُ بنُ سفيان، وحُمل رأسُه إلى سَلْم، فأعطى الَّذي جاء به عشرة آلاف درهم (¬1)، وانهزم سفيان، وهدم سَلْم دور آل المهلَّب، وأقامَ بالبصرة حتَّى قُتل ابنُ هُبيرة، فخرج عنها، وولَّاها السفَّاحُ بعد ذلك سفيانَ بنَ معاوية (¬2). وفيها بُويعَ أبو العبَّاس عبدُ الله بنُ محمد السفَّاح بالخلافة، وسنذكره. ولمَّا بُويعَ خرجَ إلى عسكر أبي سَلَمة، فنزلَ في سُرادقه بحمَّام أعين، واستخلف على الكوفة عمَّه داود، وبعث بعمِّه عبد الله إلى أبي عَوْن بشهرزور، وبعث بابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قَحْطَبَة بواسط وهو يُحاصر ابنَ هبيرة، وفرَّق أهلَه في الحجاز ومكة والمدينة (¬3). وعزلَ (¬4) داود عن الكوفة، وبعثَه إلى المدينة، وولَّاها عيسى بن موسى، وكان عيسى فاضلًا لطيفًا يُدني العلماء ويستشيرُهم، ولقيَ يومًا عبدَ الرحمن بنَ زياد بن أنعم، فقال له: ما منعك من إتياني؟ فقال: وما أصنعُ عندك؟ إنْ أَدْنَيتَني فَتَنْتَني، وإن أبعَدْتَني أحْزَنْتَني، وليس عندي ما أخافُك عليه، وما عندك ما أرجوه. فسكت (¬5). وعِيب على السفَّاح تفرقة أهله عنه في هذا الوقت. وفيها كانت وقعة الزَّاب وهزيمة مروان. ¬

_ (¬1) في المصدر السابق 7/ 420: ألف درهم، وهو الأشبه من سياقه. ولفظة "ابنُه" في السالفة بين حاصرتين زيادة من عندي للإيضاح. (¬2) ينظر الخبر مفصلًا في "تاريخ" الطبري 7/ 419 - 420. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 431. (¬4) كذا في (خ) و (د) (والكلام منهما حتَّى آخر الجزء). ولعل الصواب: ثم عزل ... فقد سلف ذكره. (¬5) لم أقف على هذا الخبر بهذه السياقة، وذكره الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" 7/ 23 في ترجمة إبراهيم بن عثمان؛ بينه وبين موسى بن عيسى أمير الكوفة يومئذ.

قد ذكرنا أن أبا عون عبدَ الملك بن يزيد الأزديّ -وقيل: عبد الله- نزل شهرزُور، وأن مروان سار ببني أمية، فنزلَ الموصل. وفي رواية أنَّ مروان أقبلَ من حرَّان، فنزلَ منزلًا في طريقه وقال: ما اسمُ هذا المنزل؟ قالوا: بَلْوَى. فقال: لا، بل بُشْرى وعَلْوَى. وسار حتَّى أتى الموصل، وجاء أبو عَوْن فنزلَ الزَّاب، وجهَّز إليه أبو العباس القُوَّادَ في تسعة آلاف فارس، وقال: مَنْ يسيرُ إلى مروان من أهل بيتي؟ فلم يُجبه أحد، فأعادَ القولَ، فلم يُجبه أحد، فيقال: إنه قال: من سار إليه فهو الخليفة من بعدي. فقال عمُّه عبدُ الله بن علي: أنا. قال: سِرْ على بركة الله. فسارَ حتَّى قَدِمَ على أبي عَوْن فتحوَّل له عن سُرادقه، فنزلَ به. وجاء مروان فنزل على الزَّاب والعسكران متقابلان. فسأل عبدُ الله عن مخاضة فدُلَّ عليها، فأمرَ عبدُ الله عُيينةَ بنَ موسى، فعبرَ إلى عسكر مروان في خمسة آلاف، فاقتتلُوا إلى الليل، ورُفعت النيران، وتحاجزوا، ورجع عُيينة فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله. وأصبح مروان، فعقد الجسر، وبعث عبدُ الله جماعة، فهزمهم عسكرُ مروان، وعبَرَ إليه عبدُ الله بنُ عليّ وعلى ميمنته أبو عَوْن، وعلى ميسرته عبدُ الله الطائي، فقال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إنْ زالت الشمس اليومَ ولم يقاتلونا كنَّا الذين ندفعُها إلى عيسى بن مريم، وإن قاتلونا قبلَ الزوال فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. وأرسلَ مروان إلى عبد الله يسألُه المُوادعة لينظرَ في أمره، ففطن عبدُ الله، فقال: كذبَ ابنُ زُريق (¬1)، لا تزولُ الشمس حتَّى أوطئَه الخيل إن شاء الله تعالى (¬2). وقال هشام: قطع عبد الله بنُ عليّ الزَّاب في اثني عشر ألفًا، وقيل: في عشرين ألفًا، وكان مروان في سبعين ألفًا، وقيل: في مئة وخمسين ألفًا. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (د) (والكلام منهما)، و"تاريخ" الطبري 7/ 433. وفي "أنساب الأشراف" 7/ 650: كذبتَ يا ابن زربي. وجاء فيه أيضًا 7/ 561 أن أم مروان كانت جارية لزربي طباخ مصعب أو خبّازه. (¬2) ينظر الخبر بتمامه في "تاريخ" الطبري 7/ 432 - 433.

وقال الحسين بن الفهم: عمل السفَّاح بيتين وقال لرجل: إذا التقى الجمعان؛ فاصْعَدْ على رأس جبل، وأنشدهما، ففعل الرجل، وهما: يا آلَ مروانَ إنَّ اللهَ مُهْلِكُكُمْ ... ومُبْدِلٌ أَمْنَكُمْ خَوْفًا وتَشْرِيدا لا عمَّرَ اللهُ من أولادِكُمْ أحدًا ... وبَثَّكُمْ في بلاد الخَوْفِ تَطْرِيدا فلما سمع ذلك أهل الشام انزعجوا، وارتاع مروان (¬1). وقال هشام: كان السببُ في خِذْلان مروان أنَّ بني أمية كانوا يعتمدون على قحطان، فأخَّرهم مروان وقدَّم عليهم أعداءهم. وقال مروان: لا تَبْدؤوهم بقتال، وجعل يُراعي الشمس، فحمل الوليد بنُ معاوية بن مروان -وكان ختن مروان على ابنته- فغضبَ مروانُ عليه وشَتَمه، فكشفَ الوليدُ ميمنةَ عبدِ الله، فانحازَ أبو عَوْن إلى عبدِ الله، فصاح عبدُ الله: الأرضَ الأرضَ. وترجَّلَ وأشرعوا الرِّماح، وجَثَوْا على الرُّكَب، وقال عبدُ الله: يا ربّ، إلى متى نُقتلُ فيك؟ فصاح أهلُ خراسان (¬2): يا محمد، يا منصور (¬3). وقال مروان لقُضاعة: انزلوا. فقالوا: قُلْ لبني سُليم فلينزلوا. فقال للسكاسك: احملوا. فقالوا: قُلْ لبني عامر فليحملوا. فأرسل إلى السَّكون، فقالوا: قل لغَطَفان. فقال لصاحب شُرطته كوثر بن الأسود الغَنَوي: انزل. فقال: لا والله، ما كُنْتُ لأجعلَ نفسي غَرَضًا. فقال: أما واللهِ لأَسُوءَنَّك. فقال: واللهِ وَدِدْتُ أنك تقدر على ذلك. وانهزم أهلُ الشام، فانهزم مروان (¬4). وقال أبو اليقظان: نزل ليبول وتحته فرسٌ أشقر وأمسك عِنانَه بيده، ولم يأمن عليه أحدًا، فانقطع العِنان، فأُفلت الفرس، فرآه أهلُ الشام فقالوا: قُتل مروان. فانهزمُوا، وفيه يقول بعضهم: ببَوْلَة زالت دولة. ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ دمشق" كما في "مختصره" 13/ 306. (¬2) في "تاريخ" الطبري 7/ 434: ونادى: يا أهلَ خُراسان. (¬3) في "أنساب الأشراف" 7/ 651: ونادى أهلُ خُراسان: يا لثارات إبراهيم الإمام، يا محمد، يا منصور، يالثارات الحسين وزيد ويحيى، يا منصور أمت. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 433 - 434. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 651.

وقطع مروان الجسر، فكان من غرق يومئذٍ أكثرَ ممن قُتل، وكان فيمن غرق يومئذٍ إبراهيم بن الوليد المخلوع. ووقف عبدُ الله بن علي على الزَّاب، واستخرجَ ممَّن غرق ثلاث مئة وقرأ: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَينَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50] وعقد عبدُ الله الجسر (¬1). وقال الهيثم: منذ لقيَ مروان أهلَ خراسان ما كان يُدير شيئًا إلا انقلبَ عليه. ولما التقى بأهل خراسان بسط الأنطاع، ونثرَ عليها المال، فمال الناس إليه، فقيل له: شغلتَهم بالمال عن القتال! فأرسلَ ابنَه عبدَ الله وقال: مَنْ أخذَ منه شيئًا فاقتُلْه. فظنَّ الناسُ أنها الهزيمة، فانهزموا (¬2). وغنم عبدُ الله بنُ عليّ عسكرَ مروان بما فيه (¬3). وكانت وقعة الزَّاب يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومئة (¬4). وقال بعضُ ولد سعيد بن العاص يُعَيِّرُ مروانَ وينشد: لَجَّ الفِرارُ بمروانٍ فقلتُ لهُ ... عادَ الظَّلُومُ ظليمًا هَمُّهُ الهَرَبُ ماذا (¬5) الفِرارُ وتَرْكُ المُلْكِ إذْ ذهَبَتْ ... عنك الهُوَينَى فلا دينٌ ولا حَسَبُ وكتب عبدُ الله إلى السفَّاح بالفتح (¬6). وجاء مروان إلى الموصل، فمنعوه الدخول، فقيل: ويحكم هذا مروان! قالوا: كذبتُم، مروان لا يهرب. فسار إلى حرَّان (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 434. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 651 - 652، و"مروج الذهب" 6/ 73 - 74. (¬2) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 435 من رواية أخرى. (¬3) المصدر السابق 7/ 434. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 435، ومروج الذهب 6/ 74. (¬5) في "تاريخ" الطبري 7/ 434، و"تاريخ دمشق" 67/ 22 (طبحة مجمع دمشق): أين. (¬6) الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 434. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 652، و"تاريخ دمشق" 67/ 22. (¬7) تاريخ الطبري 7/ 439.

وقال إسماعيل بن عبد الله القسريّ: دعاني مروان، فقال لي: يا أبا هاشم -وما كنَّاني قبلها-: ما تقول؟ فأنتَ الموثوقُ به، ولا عِطْرَ بعدَ عروس. فقلت: علامَ أجمعتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال: أرتحلُ بمواليَّ وأهلي ومن تبعني، وأقطعُ الدَّربَ، وأنزلُ ببعض مدائن الرّوم، وأكتبُ إلى قيصر وأستوثقُ منه، وما ذاك بعار، قد فعلَه قبلي غيري من الأعاجم، ولا يزال يأتيني الفارُّ والطامع حتَّى يكشفَ الله أمري وينصرَني على عدوِّي. فلما رأيتُ ما أجمعَ عليه -وكان هو الرأي- ولكني رأيتُ بلاءه في نزار (¬1) وآثاره فيهم، فقلتُ: أُعيذُك بالله من هذا الرأي أن يحكمَ فيك وفي بناتك وحُرُمِك وأهلِ بيتك أهلُ الشِّرك، ولو حدثَ بك حادثٌ؛ ضاعَ من معك، ولكن اقطع الفرات، ثم استَنْفِرْ أهلَ الشام جندًا جندًا، فإن لك في كل بلدة عُدَّةً (¬2) وصنائع، يسيرون معك، فإن استظهرتَ، وإلا مضَيتَ إلى إفريقية، فهي بلادٌ واسعة. فقال: هذا هو الرأي. فلما قطع مروان الفرات؛ لم يتبعه من قيس إلا رجلان: الكوثر بن الأسود الغَنَويّ، وابن جذيمة (¬3) السُّلَميّ، وكان أخا مروان من الرَّضاعة، ولم ينفع مروانَ عصبيَّتُه للنِّزاريَّة شيئًا، بل غدرُوا به وخانوه وخذلوه، وكلما اجتاز ببلدٍ هم فيه؛ نهبُوه لمَّا رأَوا من إدبار الأمر عنه، فحينئذٍ علمَ أنَّ إسماعيل غَشَّه (¬4). وقال مروان وهو منهزم لخادمه بَسِيل -وكان حازمًا-: يا بَسِيل، واأَسَفَى على دولةٍ ما نُصِرَتْ، ويدٍ ما ظَفِرَتْ، ونعمةٍ ما شُكِرَتْ! فقال له الخادم: مَنْ أمَهَلَ الصغير حتَّى يَكْبَر، واليسيرَ حتَّى يكثر، والخفيَّ حتَّى يظهر؛ أصابَه مثلُ هذا. فقال مروان: إذا انقضت المدَّة لم تنفع العُدَّة (¬5)، وأنشد: إذا أقبلَتْ كانت تُقادُ بشعرةٍ ... وإن أدْبَرَتْ مَرَّتْ تَقُدُّ السَّلاسِلا ¬

_ (¬1) في "مروج الذهب" 6/ 83: قحطان. (¬2) في المصدر السابق (والكلام فيه بنحوه): عزة. (¬3) في "مروج الذهب" 6/ 84: ابن حمزة. (¬4) الخبر بتمامه في "مروج الذهب" 6/ 83 - 85 باختلاف يسير. وينظر "أنساب الأشراف"7/ 652 - 653. (¬5) بنحوه في "تاريخ دمشق" 67/ 22 (طبعة مجمع دمشق).

وكان مروان يهمل الأمور الحقيرة، ولا ينظر في عاقبة. قال هشام: ولما جاء عبد الله بن عليّ من الزَّاب إلى الموصل وعليها هشام بن عَمرو التغلبي؛ فتح له الأبوابَ، فدخل. وجاءه كتاب أبي العباس يأمرُه باتباع مروان، فسار خلفَه إلى حرَّان، فأخذ مروانُ أهلَه وعياله وأولادَه وأمواله، وقتلَ عبدَ الله بن عمر بن عبد العزيز وإبراهيم الإمام على ما يُذكر إن شاء الله تعالى (¬1). وخلَّف مروانُ بحرَّان صهره أبان بن يزيد، فخرج إلى عبد الله طائعًا، فأمَّنَه وكلَّ مَنْ كان بحرَّان والجزيرة (¬2). وكان لمروان بحرَّان قصرٌ قد غرم عليه عشرة آلاف درهم، فاحتوى عبدُ الله على ما فيه من خزائن مروان، ثم هَدَمَه (¬3). وأمَّا مروان فإنه لما قطعَ الفرات ومرَّ بقنَّسرين وحمص والعواصم، ورأَوْا قلَّة مَنْ معه؛ طمعوا فيه، ونهبُوه، وجاء إلى دمشق وعليها الوليد بن معاوية بن مروان ختنُ مروان على ابنته -وكان قد بعثه مروان بعد يوم الزَّاب بين يديه إلى دمشق- فخلَّفَهُ مروانُ بها، ثم مضى إلى فلسطين (¬4). وسار عبدُ الله بنُ علي من حرَّان حتَّى قطع الفرات، ولحقه عبدُ الصمد [بن علي]؛ أمدَّه به السفاح (¬5) في أربعة آلاف، فالتقاه أهلُ قِنَّسْرِين والعواصم وحمص طائعين، وجعل طريقَه على بعلبكّ، وجاء إلى دمشق على عين الجر ونزل المِزَّة، وقدم عليه صالحُ بنُ علي من عند السَّفَّاح في ألفين -وقيل: في ثمانية آلاف- فنزل مَرْجَ العَذْراء (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 439، وما سيرد في ترجمة إبراهيم الإمام في هذه السنة (132). (¬2) في (خ) و (د): فأمَّنَه ولكلّ من كان بالجزيرة. والمثبت من "تاريخ" الطبري 7/ 438. (¬3) مروج الذهب 6/ 75. (¬4) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 652 - 653، و"تاريخ" الطبري 7/ 638 و 639. (¬5) في (خ) و (د): أمدَّه بالسفّاح. والصواب ما أثبتُّه. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 440. و"أنساب الأشراف" 7/ 654. وما سلف بين حاصرتين للإيضاح. (¬6) تاريخ الطبري 7/ 440، وعين الجر المذكورة يقال لها الآن عنجر.

ذكر حصار دمشق: نزل عبدُ الله بنُ عليّ على الباب الشرقيّ، وصالحُ [بن علي] على باب الجابية، وأبو عَوْن على باب كيسان، وبسامُ بنُ إبراهيم على الباب الصغير، وحُميد بنُ قحطبة على باب توما، والعبَّاس بن يزيد على باب الفراديس، وقيل: نزل عليه عبد الصمد (¬1)، وبدمشق يومئذ خمسون ألف مقاتل، فحصرهم عبدُ الله بنُ علي يومَ الاثنين والثلاثاء، ووقعت الفتنة بينهم بدمشق، فقَتَلَ بعضُهم بعضًا، وقُتل الوليدُ بنُ معاوية، وفُتحت يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان (¬2). وقيل: إنما فَتَحَت الأبواب القحطانيةُ؛ لبسوا السَّواد، ووقعوا في المُضَريَّة، فقتلُوا منهم خلقًا كثيرًا (¬3)، وأباحَها عبدُ الله ثلاث ساعات، وعلت الوايات السود على سورها. وقال ابن عساكر (¬4): جعل عبدُ الله بنُ علي جامِعَها سبعين يومًا إصطبلًا لدوابِّه وجِماله وقتلَ على سورها أربعةَ آلاف. وقال (¬5): أمرَ السَّفَّاح عمَّه صالح [بن علي] بالمسير إلى دمشق في البعوث التي بعثَها من أهل الكوفة وخُراسان ليحاصرَ دمشق مع أخيه عبد الله [بن علي] وكان صالحٌ أكبرَ منه، فسار على السَّمَاوة في ثمانية آلاف، فنزلَ مَرْجَ العَذْرَاء ومعه القُوَّاد: بسَّام بن إبراهيم، وأبو شَرَاحِيل صاحبُ حرسه، ويزيد بن هانئ وهو على شرطته، وغيرهم، ونزل عبدُ الله بنُ عليّ دمشق في أيَّام بقين من شعبان. وقدم صالح، فنزل على باب الجابية، ونزل أبو عَوْن بباب كَيسان، وبسَّام بالباب الصغير، ونزل حُميد بن قحطبة بباب الفراديس، ونزل العبَّاس بن زُفَر بباب تُوما، ونزل عبد الصمد [بن علي ويحيى بن جعفر] على باب الفراديس الآخر المسدود، ونزل عبد الله بنُ عليّ على باب شرقيّ " وبدمشق يومئذ خمسون ألف مقاتل، وفيها الوليد بن معاوية بن ¬

_ (¬1) في المصدر السابق: وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس. (¬2) في "تاريخ" الطبري 7/ 440: لعشر مضين من رمضان. (¬3) في (د): عظيمًا. (¬4) في "تاريخ دمشق" 62/ 188 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة محمد بن سليمان النوفلي). (¬5) في "تاريخ دمشق" 8/ 513 (مصورة دار البشير- ترجمة الطُّفيل بن حارثة الكلبي).

عبد الملك بن مروان، فحصَرُوا دمشق أقلَّ من شهرين، وقاتلُوهم من الأبواب كلِّها وألقى اللهُ العصبيَّة بين اليمانيَّة والمُضَريَّة، فقتل بعضُهم بعضًا، ثم تسوَّرَ أهلُ الكوفة عليهم بُرجًا من أبراجها، فافتتحوها عَنْوَةً، وقُتل الوليد، وأمر عبدُ الله بقلع حجارة سور دمشق، فقُلعَتْ حجرًا حجرًا بعد أن أثخنَ في القتل، وأباحَها ثلاث ساعات (¬1). وذكر ابنُ عساكر أيضًا (¬2) أن أهل دمشق بعثوا قاضيَهم يحيى بنَ يحيى الغَسَّانيَّ ليأخذَ لهم أمانًا، فأجابَه عبدُ الله، وبلغَ الصوتُ أهلَ دمشق بالأمان، ونادى مناديه بذلك، فخرج من المدينة ناسٌ كثير وأصعدوا إليهم من المُسَوِّدة خلقًا كثيرًا، فقال يحيى لعبد الله: اكتُبْ لنا كتابَ أمان بالذي جعلتَ لنا. فأخذ عبد الله الدَّواة والقرطاس ليكتب، فحانَتْ منه التفاتةٌ، فرأى المُسَوِّدة قد غشيت حائط السُّور، فتوقَّف وقال: أما ترى قد فتحناها عَنْوةً؟ فقال: لا والله، بل غدرًا؛ لأنك أعطيتَهم الأمان، فخرجَ منها مَنْ خرج، وصَعِدَ إليها من صَعِد، فإن كان كما تقول؛ فارْدُدْ رجالك عنها، وارْدُدْ إلينا مَدِينتَنا. فقال له عبدُ الله: لولا ما أعرفُ من مودَّتك لنا أهلَ البيت لما استقبلتَني بهذا، فقال له يحيى: أنتَ واللهِ من بيت الرحمة والرأفة، وقرابتُك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تزيدُك إلا رحمةً وتعظيمًا. وكان على يحيى ثوبٌ أبيض، وجميعُ الناس عليهم السَّواد، فقال عبد الله: اذهبوا به إلى حُجرتي خوفًا عليه، وبعث بعَلَم إلى دار يحيى، فركزُوه عليها وقال: من دخلَ دارَ يحيى فهو آمِن. فسلمت دارُه وما وَالاها. ذكر نبشه قبور بني أمية: قال محمدُ بنُ سليمان النَّوْفَليُّ (¬3): كنتُ مع عبد الله بن عليّ لما نَبَشَ القبور، فأوَّلُ ما نبش [قبرُ] معاوية بن أبي سفيان، فلم يجد فيه إلا خطًّا أسود مثل الهَبَاء، ووُجد في قبر عبد الملك جمجمة (¬4)، وكان يوجد في القبر العضو بعد العضو إلا هشامَ بنَ عبد الملك, ¬

_ (¬1) المصدر السابق، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) في "تاريخ دمشق" 18/ 216 (مصورة دار البشير- ترجمة يحيى بن يحيى الغساني). (¬3) الخبر في ترجمته في "تاريخ دمشق" 62/ 188 - 189 (طبعة مجمع دمشق). (¬4) في المصدر السابق: جمجمتُه.

فإنه وُجد صحيحًا؛ لم يَبْلَ منه إلا أرنبةُ أنفه، فضربه بالسياط وصلبَه أيَّامًا، ثم حرقه وذرَّه في الرِّيح (¬1) كما فعل يزيد بن عليّ، وكان هشام قد ضرب أخاه محمدًا سبع مئة سَوْط. وقال عُمر بن هانئ (¬2): لم يجد في قبر معاوية شيئًا أصلًا، ونبشَ قبر يزيد بن معاوية بِحُوَّارِين، فوَجد فيه خطًّا من رماد بطول القبر، واستخرجَ سليمان من دابق، فوجد بعضَه صحيحًا، فَحَرَقه وتتبَّع القبور، فما وجدَ فيها من العظام حَرَقَهُ (¬3). فعابَتْ عليه امرأةٌ من دمشق وقالت: يا ويح عبد الله! إنَّ الشَّاةَ لا يضرُّها السَّلْخُ بعد الذَّبْح. ذكر مسير عبد الله إلى فلسطين: سار عبدُ الله [بن علي] يطلبُ مروان، فنزل بفلسطين، وجاءه كتاب أبي العبَّاس أن يُوجِّهَ صالحَ بنَ عليّ خلفَ مروان، فسار صالحٌ من نهر أبي فُطْرُس في جماعة من القُوَّاد إلى مصر، فيهم أبو عَوْن، وذلك في ذي الفَعْدة، وعبد الله نازلٌ على نهر أبي فُطْرُس -وهو نهرٌ بالرَّمْلة، ولا يُعرفُ اليوم- فقَتَلَ على النهر من بني أمية اثنين وسبعبن رجلًا (¬4). قال ابنُ عساكر (¬5): تتبَّع عبدُ الله [بن عليّ] أولاد الخلفاء، فأخذَ منهم سبعين، فقتلهم وجعلَ عليهم الموائد وهو يأكلُ ويسمعُ أنينَهم ولا يرقُّ، والناس يبكون. وقال المُبَرِّد (¬6): دخل شِبْلُ بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله [بن علي] وقد أجلسَ ثمانين رجلًا من بني أمية على موائد (¬7) الطعام، فَمَثَل قائمًا بين يديه وقال: أصبح المُلْكُ ثابتَ الآساسِ (¬8) ... بالبهاليلِ من بني العبَّاسِ ¬

_ (¬1) في (د): وذرَّى رماده في الريح. (¬2) ويُقال: عَمرو بن هانئ، ذكره ابن عساكر في "تاريخه" في عُمر وعَمرو 54/ 301 و 56/ 109 وقال: هو الذي تولّى نبشَ قبور بني أمية بدمشق. (¬3) بنحوه في "مروج الذهب" 5/ 471 - 472. وينظر "محاضرات الأدباء" 4/ 389. (¬4) ينظر خبر مسير صالح بن علي خلف مروان في "تاريخ" الطبري 7/ 440 - 441. (¬5) في "تاريخ دمشق" 62/ 188 - 189 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة محمَّد بن سليمان النوفلي). (¬6) في "الكامل" 3/ 1367. (¬7) في "الكامل": سُمُط. (¬8) الآساس (بالمدّ) جمع أُسّ، وتقديره: فُعْل وأفعال، وقد يقال للواحد: أساس، وجمعُه: أُسس. قاله المبرّد في "الكامل" 3/ 1368.

طلبُوا وتْرَ هاشمٍ فشَفَوْهُ (¬1) ... بَعْدَ مَيلٍ من الزَّمان وياسِ لا تُقِيلَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ عِثارًا ... واقْطَعَنْ كلَّ رَقْلَةٍ وأَواسي (¬2) ذُلُّها أظهَرَ التَّوَدُّدَ منها ... وبِها منْكُمُ كحزِّ المواسي ولقد غَاظَني وغاظَ سَوَائي (¬3) ... قُرْبُهُمْ من نَمارقٍ وكَراسي أنْزِلُوها بحيثُ أنْزَلَها اللهُ ... بدارِ الهَوَانِ والارْتكاسِ (¬4) واذكرُوا مَصْرَعَ الحسينِ وزيدٍ (¬5) ... وقتيلًا بجانب المِهْرَاسِ والقتيلَ الذي بحرَّانَ أضحى (¬6) ... ثاويًا بين غُرْبَةٍ وتناسي نِعْمَ شِبْلُ الهِراشِ مَوْلاك شِبْلٌ ... لو نَجا من حبائلِ الإفلاسِ فأمر بهم عبدُ الله فشُدخوا بالعُمُد، ثم بُسِطَتْ عليهم البُسُط، ودعا بالطعام، وجعلَ يأكلُ ويسمعُ أنينَهم حتى ماتوا جميعًا. ثم قال للشاعر: لولا أنك خلطتَ كلامَك بالمسألة؛ لأغْنَمْتُكَ أموالهم، ولَعَقْدتُ لك على جميع موالي بني هاشم (¬7). وقيل: لم يقتلهم لقول الشاعر، وإنما جاءه الخبر بأنَّ الشام قد انتقضَ عليه، وأنَّ أبا الورد والسُّفيانيَّ قد ثاروا وثار معهم (¬8) بنو أمية، فخاف عبدُ الله على نفسه، فقتلَهم. وقال الهيثم: جمعَهم عبدُ الله ليفرضَ لهم العطاء، فقتلَهم. ¬

_ (¬1) في "كامل" المبرِّد: فشَفَوْها. (¬2) الرَّقْلَةُ: النخلةُ الطويلة، ويقال إذا وُصف الرجل بالطُّول: كأنه رَقْلَة. والأواسى (بتشديد الياء أو تخفيفها) جمع آسِيَّة، وهي أصل البناء بمنزلة الأساس. قاله المبرِّد. (¬3) سَوَائي، أي: سِوَاي، وهي بالقصر مع كسر السين، وبالمدّ مع فتحها. ينظر المصدر السابق. (¬4) في "كامل" المبرّد 3/ 1367: والإتعاس. (¬5) في "كامل" المبرّد: وزيدًا. (¬6) جاء في حاشية (د) ما صورتُه: "الذي بجانب المِهْراس حمزةُ - رضي الله عنه -، والقتيل الذي بحرَّان إبراهيم بن محمد". اهـ. والمِهْراس: ماءٌ بأُحُد؛ قاله المبرِّد، وقال أيضًا: إنما نَسبَ شِبْلٌ قتلَ حمزة إلى بني أميَّة لأن أبا سفيان بن حرب كان قائد الناس يومَ أُحد. (¬7) الكامل للمبرد 3/ 1367 - 1368. وينظر "العقد الفريد" 4/ 485 - 486. ورُوي الخبر بنحوه لأبي العباس السفاح في قصيدة بنحوه لسُدَيْف. ينظر "طبقات ابن المعتز" ص 38 - 40، و"الأغاني" 4/ 344 - 346. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 3/ 182 و 7/ 662. (¬8) كذا. والجادَّة: ثارا وثار معهما.

وأما صالح بن علي؛ فقدَّم بين يديه أبا عَوْن، وكان مروان بالفَرَمَا (¬1)، ووصل صالح إلى العَرِيش، فأحرقَ مروانُ ما كان معه من طعام وعَلَف، وسارَ حتى قطعَ النيل، وأغرق الجسور (¬2)، ونزلَ بِبُوصِير، فجاءه فقتلَه لما يُذكر في ترجمته إن شاء الله تعالى. وفيها خلعَ أبا العبَّاس بالشام والجزيرة جماعةٌ، منهم أبو الوَرْد مجزأة بن الكوثر بن زُفر بن الحارث الكلابيّ، وكان من قوَّاد مروان، فلما انهزم كان أبو الوَرْد بقِنَّسْرِين، فلمَّا مرَّ به عبدُ الله [بن علي] بايعَه، وكان ولد مَسْلَمة بن عبد الملك مقيمين ببَالِس والنَّاعورة، مجاورين لأبي الوَرْد، فقَدِمَ قائدٌ من قُوَّاد عبدِ الله في مئة وخمسين فارسًا عَلى ولد مسلمة، فبعث (¬3) بهم، ونزلَ في حصن مسلمة، فأرسلُوا إلى أبي الوَرْد يسألونه، فغضب، وسار إلى القائد، فقتلَه ومَنْ معه، وخلع أبا العبَّاس، ولبسَ البياض، ودَعَا أَهلَ قِنَّسْرِين إلى ذلك، فأجابوه، وأبو العباس يومئذ بالحِيرة، وعبدُ الله بالبَلْقاء يحاربُ حبيب (¬4) المُرِّيّ، فإنه خرجَ على عبد الله لما قتل بني أمية، وقاتلَه. فلمَّا بلغ عبدَ الله خبرُ أبي الورد صالحَ حبيبًا وأمَّنَهُ ومن معه، ورجعَ إلى دمشق، فخلَّف فيها أبا غانم عبد الحميد بن ربعيّ الطائي (¬5) في أربعة آلاف، وخلَّف امرأتَه أمَّ البنين بنت محمَّد بن عبد المطلب النوفلية وأمهاتِ أولاده وثَقَلِه، وسار يطلبُ قِنَّسْرِين. فلما بلغَ حمصَ انتقضَتْ عليه دمشق، وثارَ أهلُها مع عثمان بن عبد الأعلى بن سُراقة الأزديّ، وقاتلوا أبا غانم، فهربَ، فنهبوا ثَقَلَ عبدِ الله، ولم يتعرضوا لأهله، وسارَ عبدُ الله إلى أبي الوَرْد ومعه أخوه عبد الصمد، فكانوا في عشرة آلاف، وأبو الوَرْد في أربعين ألفًا من أهل قِنَّسْرِين وحمص وتدمر، وقدَّموا عليهم أبا محمَّد بن زياد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية -وقيل: هو زياد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية (¬6)، وقيل: زياد بن عبد الله بن ¬

_ (¬1) بالتحريك والقصر: مدينة على الساحل من ناحية مصر. ينظر "معجم البلدان" 4/ 255. (¬2) كذا في (خ). وغير واضحة في (د)، ولعل الصواب: وأحرق الجسور. فعند الطبري 7/ 441: قطع الجسر وحرَّق ما حوله. (¬3) كذا. ولعل الصواب: فعبث. (¬4) في (خ) و (د): ابن حبيب (وكذا في الموضع التالي) وهو خطأ، وهو حبيب بن مُرَّة المُرِّي. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 443، و"الكامل" 5/ 433. (¬5) في (خ) و (د): الكناني، والتصويب من "تاريخ" الطبري 7/ 444، و"الكامل" 5/ 433. (¬6) رجَّح البلاذُري هذا القول في "أنساب الأشراف" 3/ 190.

معاوية، وقيل: هو العبَّاس بن محمَّد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية- وقالوا: هذا هو السُّفياني الذي وُعدنا به في الملاحم، وكان أبو الورد متولِّي الأمر. والتَقَوْا بمَرْج الأَخْرم، ومع عبد الله أخوه [عبدُ الصمد، و] (¬1) حُميد بن قحطبة، وجماعة من القُوَّاد، واقتتلُوا أيَّامًا، وفي كلِّ يوم يظهر عليهم أبو الوَرْد ويكشفُهم، فكان آخِرُ أمرهم أنَّ عبدَ الله ومَنْ معه استقتلُوا، وكذا أبو الوَرْد ثبت في خمس مئة من أهله وفرسانه، فكانت الدَّبَرَة على أبي الوَرْد، فقُتل هو والخمسُ مئة، وهربَ السُّفْياني ومَنْ معه من الكلبيَّة إلى تدمر، وأطاع أهلُ قِنَّسْرِين عبدَ الله وبايعوه، وعاد عبدُ الله إلى دمشق، فلم يقاتلوه، فأمَّنهم، وبايعوه، ولم يؤاخذهم بما كان منهم. وهرب السُّفياني من تدمر إلى الحجاز، فبعثَ إليه زيادُ بنُ عُبيد الله (¬2) الحارثيُّ خيلًا فقاتلوه فقتلُوه وأخذُوا ابنَينِ له أسيرين وبعث زياد برأس أبي محمَّد وابنَيه إلى أبي جعفر في خلافته، فأمرَ بتخليتهما ولم يقتلهما (¬3). وكانت وقعةُ أبي الوَرْد يومَ الثلاثاء آخر ذي الحجة (¬4). وقيل: جُرحَ أبو الوَرْد، فحُمل إلى أهله فمات (¬5). وقال البلاذُريّ (¬6): كان ببالِس ابنةٌ لمسلمة بن عبد الملك، فخطبَها عاملٌ لعبد الله بن عليّ من أهل خُراسان، فتعلَّلَتْ عليه ومَاطَلَتْه، وكتبَتْ إلى أبي الوَرْد تستجيرُ به، فخرج أبو الوازع أخو أبي الوَرْد في جماعة، فأتَوْا بالِس والعاملُ في الحمَّام، فدخلُوا عليه فقتلُوه، ولحقَ بهم أبو الوَرْد، ودعا الناس، فأجابوه من قيس وغيرها سبعةُ آلاف (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة ضرورية من عندي، وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 191، و "تاريخ" الطبري 7/ 445. (¬2) قوله: بن عبيد الله، من "تاريخ" الطبري 7/ 445، ولم تجوَّد اللفظة في (خ) و (د) وجاء رسمها فيهما: بن عريد. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 191، ووقع في "الكامل" 5/ 434: بن عبد الله، وهو خطأ. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 445. وأبو محمَّد هو السُّفياني. (¬4) بنحوه في المصدر السابق، وبعده زيادة: سنة ثلاث وثلاثين ومئة. (¬5) المصدر السابق. (¬6) في "أنساب الأشراف" 3/ 190. (¬7) كذا. وهي لغة. واللغة الأفصح: وأجابه ... كما هو في "أنساب الأشراف" 3/ 190.

وبلغ السفيانيَّ، فتداخلَه الطمع وقال: أنا الموعودُ به في الملاحم أنه يَرُدُّ دولةَ بني أمية، فنزل دَير حنينا، ووافقَه أبو الورد. وبلغَ عبدَ الله وهو بنهر أبي فُطْرُس، فقَتَلَ جميع من كان معه من بني أمية ومن يهوَى هواهم، ووجَّه عبدَ الصمد إلى السُّفياني في سبعة آلاف وهو بقِنَّسْرِين، فاقتتلوا، فانهزمَ الناسُ عن عبد الصمد حتى أتَوْا حمص، وعاد عبد الصمد، فنزلَ على أربعة أميال منها، وجاء عبد الله من الأردنّ (¬1)، فاجتمع ناحية، وجاء السُّفياني إلى مَرْج الأخرم وعلى ميمنته أبو الورد، وعلى ميسرته الأصبغ بن ذُؤالة الكلبي، واقتتلوا، فانهزم أبو الوَرْد وجُرح، فمات قبل أن يصل إلى أهله، وهربَ السُّفياني في البرِّيَّة حتى أتى المدينة وعليها زياد بنُ عُبيد الله الحارثي، فاختبأ في دار، فأخرجوه منها، فقاتل، فقتلوه وقتلوا ابنَه وصلبوهما (¬2). وقيل: إنما قُتل السفيانيّ في أوَّل خلافة المنصور (¬3). وفيها خلعَ أهلُ الجزيرة أبا العباس وبَيَّضُوا لمَّا بلغهم خروجُ أبي الوَرْد والسُّفيانيّ، وكان بحرَّان يومئذ موسمى بنُ كعب في ثلاثة آلاف، فحصروه، وقدم عليهم إسحاق بنُ مسلم (¬4) من أرمينية -وكان من عمَّال مروان- فقدَّمَه أهلُ الجزيرة عليهم، وأقاموا يقاتلون موسى بن كعب نحوًا من شهرين، فبعث أبو العبَّاس أخاه أبا جعفر، فجعل طريقه على الفرات، فغلَّق أهلُ قَرْقيسيا والرَّقة والبلاد الفراتيَّةُ الأبواب في وجهه، ولبسوا البياض، فلمَّا وصلَ إلى حرَّان سار إسحاق إلى الرُّها -وقيل: كان هذا في سنة ثلاث وثلاثين ومئة- وقاتلَهم أبو جعفر، فهزَمَهم، وخرج إليه موسى بنُ كعب، وجاء بكَّار بن مسلم (¬5)، فانضمَّ إلى أخيه إلممحاق بالرُّها، ومضى إسحاق إلى سُمَيسَاط، وأقام بكَّار بالرُّها، وجاء إليه أبو جعفر فقاتلَه، فكانت بينهم وقعات. ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبريّ 7/ 445: وأقبل عبد الله بن علي بنفسه فنزل على أربعة أميال من حمص وعبد الصمد بن علي بحمص. وكتب عبد الله إلى حُميد بن قحطبة، ققدم عليه من الأردنّ. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 3/ 191. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 191. (¬3) المصدر السابق. (¬4) في (خ) و (ب): إسحاق بن موسى بن إبراهيم، وهو خطأ، والتصويب من "تاريخ الطبري" 7/ 447. (¬5) في (خ) و (د): بكار بن موسى، وهو خطأ. والتصويب من المصدر السابق.

وكتب أبو العبّاس إلى عمِّه عبد الله [بن علي] أن يسير (¬1) إلى إسحاق بسُمَيسَاط، وإسحاقُ وأخوه بكَّارٌ في ستين ألفًا، فأقاموا وبينهما الفرات، ثم إن إسحاق راسلَ عبدَ الله وأبا جعفر، وطلبَ الأمان له ولمن معه، فأجاباه إلى ذلك (¬2). وقيل: إنما صالحَ بعد سبعة أشهر لمَّا علمَ أنَّ مروانَ قُتل، وكان يقول: في عنقي بيعة له، فكيف أنكثُها؟ ! فلما قُتل مروان؛ صالحَ أبا جعفر، وخرجَ إليه، فكان عندَه من أعظم أصحابه عاليَ المنزلة (¬3). واستقام الشام (¬4) والجزيرةُ لأبي العبَّاس ووَلَّى أخاه المنصورَ الجزيرةَ وأذربيجان وأرمينية، فلم يزل عليها حتى وليَ الخلافة (¬5). وفيها بعث أبو العبّاس أخاه أبا جعفر إلى أبي مسلم يستطلعُ رأيَه في قتل أبي سَلَمة حفص بن سليمان الخلَّال، ويذكُر له ما كان من قصده عند قدوم بني العبَّاس الكوفة. وكان جلسَ السَّفَّاح ذاتَ ليلة بعد ما ظهر على الشام والجزيرة وعنده أخوه أبو جعفر وأهلُه، فتذاكروا ما فعلَ أبو سَلَمة، فقال واحدٌ منهم: وما يُدريكم لعلَّ ذلك عن رأي أبي مسلم؟ فقال أبو العباس: إنْ كان ذلك عن رأيه؛ فإنَّا نتوقَّعُ بلاءً إلا أن يدفعَه الله عنَّا. ثم قال أبو العباس لأخيه أبي جعفر: ليس أحدٌ منا أخصَّ بأبي مسلم منك، فاخْرُجْ إليه، واسْتَعْلِمْ رأْيَه، فما يخفى عليك؛ فإن كان عن رأيه احْتَلْنا (¬6) لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابَتْ نفوسنا. قال أبو جعفر: فخرجتُ إليه وأنا وَجِلٌ، فلما انتهيتُ إلى الرَّيّ؛ إذا بكتاب أبي مسلم يقول لعامل الرَّيّ: قد بلغَني أنَّ عبدَ الله بنَ محمَّد قد توجَّه إليك، فإذا قدم فأشْخِصْه إليَّ ساعة يَقْدَم. فأتاني العاملُ فأخبرني، وأمرَني بالرَّحيل، فازْدَدْتُ وَجَلًا، وسِرْتُ وأنا خائف. ¬

_ (¬1) تحرَّف اللفظ في (خ) و (د) إلى: عبد لله بن بشير، وزدتُ ما بين حاصرتين من المصدر السابق للإيضاح. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 446 - 447. (¬3) المصدر السابق. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 177. (¬4) في (خ): الناس، بدل: الشام. والتصويب من "تاريخ" الطبري 7/ 447. (¬5) المصدر السابق. (¬6) في "تاريخ" الطبري 7/ 448: أخذنا، بدل: احتلنا.

فلما ورَدْتُ نيسابور؛ إذا كتابُه قد وردَ على عاملها بمثل ذلك؛ إلا أنه يقولُ فيه: إذا قدم عليك فأشْخِصْهُ ساعةَ يَقْدَم، ولا تدعه يُقيم، فإنَّ أرضَك أرضُ خوارج، ولا آمنُ عليه. فطابت نفسي وقلت: أراه يُعْنَى بي. فلما كنتُ على فرسخين من مَرْو تلقَّانى أبو مسلم في الناس، فلما رآني ترجَّل ومشى إليَّ وقبَّل يدي، فقلت له: اركب. فركْبَ، وأنزلَني دارًا بمَرْو، وأقمتُ ثلاثًا لا يكلِّمُني، وقال لي في اليوم ائرابع: ما الذي أقدمَك؟ فأخبرتُه، فقال: أوَفعلَها أبو سَلَمة؟ ! أنا أكفيكُمُوه. ودعا مرَّار بنَ أنس الضَّبِّيّ، وقال: انطلق إلى الكوفة فاقْتُلْ أبا سلمة حيث لقيتَه، وانته في ذلك إلى رأي الإِمام. فقدم الكوفةَ وقعدَ له في طريقه، فقتلَه ليلًا، وقالوا: قتَلَتْه الخوارج. وكان أبو مسلم يأتي أبا جعفر في تلك الأيام، فينزل على باب الدار، ويجلس في الدِّهليز ويقول: استأذنوا لي على أبي جعفر. فكان أبو جعفر يقول لغلمانه: إذا جاء فافتحوا له الباب، وليدخل على دابَّته. فعرفه الغلمان، فقال: لا بدَّ من الإذْن (¬1). وفي رواية: أنَّ أبا العبَّاس كتب إلى أبي مسلم يخبرُه بما كان عزمَ عليه أبو سَلَمة من الغشّ، فكتب إليه: إنْ كان أمير المؤمنين قد اطَّلع على ذلك منه فَلْيَقْتُلْهُ، فقال داود بن عليّ لأبي العبَّاس: لا تفعل، فيحتجَّ عليك به أبو مسلم وأهلُ خراسان، ولكن اكتُبْ إليه ليتولَّى هو أمْرَ قَتْلِه. فكتب إليه، فأرسلَ إليه، فقتلَه، وسنذكرُه إن شاء الله (¬2). وقيل: لما قُتل أبو سَلَمة؛ بعث أبو العبَّاس أخاه أبا جعفر إلى أبي مسلم في رجال من الشيعة، فيهم الحجّاج بن أرطاة، وإسحاق بن الفضل الهاشمي، فقوموا عليه بخُراسان، فركب أبو جعفر يومًا، وسايَرَه سليمانُ بنُ كثير وعُبيد الله بن الحسن الأعرج، فقال له سليمان: يا أبا جعفر، إنَّا كنَّا نرجو أن يتمَّ أموكم، فإذا تمَّ (¬3) فادعونا ¬

_ (¬1) ينظر الخبر بتمامه في "تاريخ" الطبري 7/ 448 - 449. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 3/ 175. (¬2) ينظر "تاريخ الطبري" 7/ 449. (¬3) في "تاريخ الطبري" 7/ 450، و"الكامل" 5/ 437: فإذا شئتم، وهو الأشبه. وكذا وقع في "أنساب الأشراف" 3/ 188، وبعض الخبر فيه.

إلى ما تريدون (¬1)، وإن شئتم قلبناها عليه، فظنَّ أبو جعفر أنه دسيس، وخاف، وجاء عبد الله، فأخبز أبا مسلم (¬2)، فدعا [أبو مسلم] سليمان وقال له: أليس الإِمام كتب إليَّ: من اتَّهَمْتَه فاقْتُلْه؟ قال: بلى. قال: فإني قد اتَّهَمْتُك. فقال: أَنْشُدُكَ الله. فقال: اقْتُلُوه، فضربُوا عُنُقَه (¬3)، وقتل ابنَه محمدًا (¬4). فلما رجع أبو جعفر قال لأخيه: لستَ أنتَ الخليفة، وإنَّما الخليفةُ أبو مسلم. قال: وكيف؟ قال: واللهِ ما يصنعُ إلا ما أراد. وأخبره بقتله سليمان (¬5). وقال الهيثم: لمَّا قدم أبو جعفر على أبي مسلم ليُهَنِّئهُ بظهور الإِمام وما فتحَ اللهُ على يديه وأنَّ أَثَره عند الإِمام جميل؛ لم يُكرمهم، ولم يخرج إلى لقائهم، وحَجَبَهم على بابه ثلاث ساعات، ولم يخاطب أبا جعفر بالإمرة، بل: يا أبا جعفر، فحقدَها عليه، فلما عاد إلى أخيه قال له: لا مُلْك لك ولا سلطان حتى تَقتلَ أبا مسلم، فقد تَعَدَّى العبدُ طَوْرَه. فقال له: اسكت، لا يسمع هذا القول منك أحد. وكان السفاح عاقلًا (¬6). وفيها بعث السَّفَّاح أخاه أبا جعفر إلى واسط لقتال [يزيد بن عمر] بنِ هُبيرة، وكان الحسنُ بنُ قحطبة محاصرًا له، وقد خَنْدَقَ يزيدُ عليه، وكان معن بن زائدة من قُوَّاده. وكتبَ أبو العباس إلى الحسن: إنَّما بعثتُ أخي إليك ليسكنَ الناسُ إليه ويثق ابنُ هُبيرة بأمانه إنْ طلبَ الأمان، والأمرُ أمرُك، والتدبيرُ إليك (¬7). ¬

_ (¬1) كذا وقع، وسيرد كذلك في ترجمة سليمان بن كثير. والذي في المصدرين الآتيين أن سليمان بن كثير قال للأعرج: إنّا كنّا نرجو أن يتمّ أمركم ... إلخ. ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 450، و"الكامل" 5/ 437. وينظر التعليق التالي. (¬2) كذا في (خ) و (د). وعبارة "الكامل": فظنَّ عُبيد الله أنه دسيس من أبي مسلم، فأتى أبا مسلم فأخبره ... إلخ. وبنحوها أطول منها عبارة الطبري. (¬3) المصدران السابقان. (¬4) خبر قتل أبي مسلم محمدَ بنَ سليمان بن كثير ذكره البلاذُري في "أنساب الأشراف" 3/ 188 - 189. (¬5) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 450، و "الكامل" 5/ 437. (¬6) الخبر بنحوه في "أنساب الأشراف" 3/ 171 - 172. (¬7) أنساب الأشراف 3/ 163. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 457.

فلما قدم أبو جعفر تَحوَّلَ له الحسن عن سُرادقه فأنزله فيه، وأقاموا يقتتلون أيَّامًا، وثبتَ مَعْنُ بنُ زائدة مع ابنِ هُبيرة، وطال الحصارُ عليهم (¬1). وكان أبو جعفر يقول: ابنُ هبيرة يُخندقُ عليه مثل النساء. وبلغَ ابنَ هُبيرة، فأرسلَ إليه: أنتَ القائل كذا وكذا؟ ابرُزْ إليَّ لترى. فأرسلَ إليه أبو جعفر: ما أجدُ لي ولك مَثَلًا إلا كأسد لَقِيَ خنزيرًا، فقال له الخنزير: بارِزْني. فقال الأسد: ما أنتَ لي بكُفْء، فإنْ بارزتُك فنالني منك سوء؛ كان عارًا، وإنْ قتلتُك قتلتُ خنزيرًا، فلم أحصل على حَمْد، ولا في قتلك فخر، فقال: لئن لم تُبارزني لأُعَرِّفَنَّ السباع أنك جَبُنْتَ عني. فقال الأسد: احتمالُ عارِ كذبِك أيسرُ من تلطيخ ترابي بدمك (¬2). ثم إنه كاتبَ القُوَّاد (¬3) وفيهم ابنُ هُبيرة، فطلبَ الصُّلْح، فأجابَه أبو جعفر وكتبوا كتاب الصلح والأمان، وبعثه أبو جعفر إلى أبي العباس فأمضاه، وكتب فيه: فإنْ غَدَرَ ابنُ هبيرة، أو نكثَ، فلا عَهْدَ له ولا أمان (¬4). وكان من رأي أبي جعفر الوفاء له، وكان أبو العبَّاس لا يقطعُ أمرًا دون أبي مسلم، وكان أبو مسلم قد جعلَ أبا الجهم عينًا له على أبي العبَّاس، فشاور أبا مسلم في ابنِ هُيبرة فقال: اقْتُلْه (¬5). ولمَّا عاد أبو جعفر من واسط؛ مضى إلى الجزيرة، فأقام بها. ووَلَّى أبو العبَّاس أخاه يحيى بنَ محمَّد على الموصل، وعزلَ عمَّه داود [بن علي] عن الكوفة، وولَّاه مكةَ والمدينة واليمن [واليمامة] , وولَّى عيسى بن موسى الكوفةَ، فاستقضى ابنَ أبي ليلى. ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف"، و"تاريخ" الطبري 7/ 451. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 172، وتاريخ الطبري 8/ 78، والكامل 6/ 31 (أحداث سنة 158 - ترجمة المنصور). (¬3) لعل الضمير يعود على أبي العباس، ففي "تاريخ" الطبري 7/ 454: وكاتب أبو العباس اليمانيَّة من أصحاب ابنِ هُبيرة وأطمعهم. (¬4) أنساب الأشراف 3/ 164. (¬5) في الكلام اختصار مُخلّ، وعبارة الطبري توضّح ذلك، ولفظها: وكان أبو الجهم عينًا لأبي مسلم على أبي العباس، فكتب إليه بأخباره كلها، فكتب أبو مسلم إلى أبي العباس: إن الطريق السهل إذا أُلقيت فيه الحجارةُ فَسَدَ، لا واللهِ لا يصلح طريق فيه ابنُ هُبيرة.

إبراهيم الإمام بن محمد بن علي

وكان على قضاء البصرة الحجَّاجُ بنُ أرطاة، وعلى السِّند منصورُ بنُ جمهور، وعلى خُراسان أبو مسلم، وعلى الجزيرة أبو جعفر، وعلى الشام عبدُ الله بنُ علي، وعلى مصر أبو عون. وحجَّ بالناس داودُ بنُ علي، وهي أوَّل حَجَّة حجَّها بنو العباس (¬1). وفيها توفي إبراهيم الإِمام بن محمَّد بن عليّ ابن عبد الله بن عبَّاس، أخو السَّفَاح، من الطبقة الخامسة من أهل المدينة. وأمُّه أمُّ ولد بربريَّة، اسمُها سلمى. وكان أبوه محمَّد أوصى إليه، فكان شيعتُهم يختلفون إليه ويكاتبونه من خُراسان، وتأتيه رسلُهم، فبلغ ذلك مروانَ بنَ محمَّد، فبعثَ إليه فحبسه بأرض الشام، فمات في حبسه سنة إحدى وثلاثين ومئة وهو ابن ثمانٍ وأربعين سنة. قاله ابنُ سعد (¬2). ووُلد سنة ثمان وسبعين، وقيل: سنة اثنتين وثمانين (¬3). وكان يصلِّي كل يوم وليلة ألفَ ركعة، وقيل: خمس مئة، ويقول: هذه صلاة أبي وجدِّي (¬4). وكان إخوتُه يحترمونه ويُعظِّمونه، وهو الذي مهَّد الأمور لهم، وكان جوادًا زاهدًا فصيحًا، يقول: نحن قومٌ لا نمنعُ عند السؤال، ولا نَجْفُو عند الاستعطاف، فالكامل المروءة مَنْ حَصَّنَ دينَهُ، ووصَلَ رَحِمَهُ، واجتنبَ ما يُلام عليه (¬5). ومَدَحَه إبراهيم بن هِرْمة، فقال: ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف في "تاريخ" الطبري 7/ 458، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) في "الطبقات الكبرى" 7/ 544 - 545. (¬3) تاريخ دمشق 2/ 539 (مصورة دار البشير). (¬4) أنساب الأشراف 3/ 139، وفيه: يصلي خمس مئة ركعة، بدل قوله: ألف ركعة. (¬5) المصدر السابق 3/ 140.

جَزَى اللهُ إبراهيمَ عن أهل بَيتِهِ (¬1) ... رشادًا وتعظيمًا (¬2) ومَنْ شاءَ أرشدا وأنتَ امْرُؤ حُلْوُ المُؤَاخاةِ باذِلٌ ... إذا ما بخيلُ القومِ لم يَصْطَنِعْ (¬3) يَدَا فلم أرَ في الأقوام مِثْلَكَ سَيِّدًا ... أهشَّ لمعروفٍ وأصْدَقَ مَوْعِدا ولو لم يجد للواقفين (¬4) ببابِهِ ... سوى الثوبِ أَلْقَى ثَوْبَهُ وتَجَرَّدَا من أبيات. ولمَّا حبَسَه مروان يئس من نفسه، فكتبَ كتاب العهد إلى أخيه أبي العباس، وبعثَ به مع سابق مولاه، وقال له: قُلْ لأخي أبي العبَّاس: أنت وَصِييِّ بأمر أبي محمَّد بن عليّ. وكان في الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من إبراهيم بن محمَّد إلى أخيه عبد الله بن محمَّد، حفظك اللهُ يا أخي بحفظ أهلِ الإيمان, وتَوَلَّاك بالخير والصلاح، كتابي إليك من حَرَّان، والرَّجلُ قاتلي لا محالة، فإنْ هلكتُ فأنت الإمامُ الذي يُتمُّ اللهُ به وعلى يديه ما أثَّلْنَا، وتُرْعَى به حُرْمَةُ أوليائنا ودُعاتِنا، فعليك بتقوى الله وطاعته في قولك وقعلك وإصلاح نئتك، ليصلح لك عملُك، واستوص باهلِ دعوتنا وشيعشَا خيرًا، واحفظ عبدَ الرحمن -يعني أبا مسلم- فإنَّه أمينُنا، والساعي في دولتنا، واشْخَصْ عن الحَمَّة (¬5) وكداد إلى أوليائنا بالكوفة أنت وأهلُنا مُسْتَتِرين عمَّن تخافون غِيلَتَه لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (¬6). وكان أبو العباس أشبهَ الناس بإبراهيم. وسببُ حَبْسِه أنَّ أبا مسلم بعث إليه كاتبًا عربيًّا، فاستنطقَه إبراهيم، فوجده فصيحًا، فساءه ذلك، فكتب إلى أبي مسلم يلومُه ويقول: هذا يُفسِدُ علينا أمرنا فاقْتُلْه. ففتح الكتاب وقرأه، فجاء إلى مروان، فوَشَى به، فحبسَه (¬7). ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 3/ 141، و"تاريخ دمشق" 2/ 540، و"مختصره" 4/ 153: جُلِّ قومه. (¬2) في "أنساب الأشراف" و"تاريخ دمشق": رشادًا بكفَّيه. (¬3) في (خ) و (د): يستطع، والمثبت من "تاريخ دمشق". (¬4) في (خ): للوافدين. والمثبت من (د) وهو موافق لما في المصدر السالف. (¬5) في "أنساب الأشراف" 3/ 139: الحُميمة (تصغير الحَمَّة) ويقال لها ذلك أيضًا، وهي بلد من أرض الشراة من أعمال عمَّان في أطراف الشام. (¬6) الخبر في المصدر السابق 3/ 139 - 140 بنحوه. (¬7) بنحوه في "تاريخ دمشق" 2/ 539. وسلف أيضًا رواية أخرى في سبب حبس إبراهيم في أحداث سنة (129).

ذكر وفاته: مات هو وعبدُ الله بنُ عُمر بن عبد العزيز في سجن مروان بالطاعون. وقيل: هدم مروانُ عليه بيتًا، فقتلَه. وقيل: كان محبوسًا ومعه عبدُ الله بنُ عُمر بن عبد العزيز وشَراحيل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، فكانوا يتزاورون، وكان إبراهيم خِصّيصًا بشراحيل، فأتاه رسولُه بلبن، فشربَه فتوعَّك، وجاءه شراحيل، فقال: ما الذي حبسك عن زيارتي اليوم؟ فقال: اللبن الذي بعثتَ به إليَّ اليوم وَعَكَني، فانزعج شَراحيل وقال: واللهِ ما بعثتُ إليك لبنًا، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! احتيل واللهِ لك. فأصبح إبراهيم ميّتًا. وقيل: غُمَّ في جِراب نَوْرَة؛ جُعل رأسُه فيه، فاختنق، وغُمَّ عبدُ الله بنُ عمر [بن عبد العزيز] بمرفقة فيها ريش. وقيل: إنَّ مروان لمَّا عادَ من الزَّاب مفلولًا، بعثَ إلى إبراهيم وعبدِ الله بنِ عُمر حاجبَه صقلاب ومعه عشرون من مواليه خَزَر وصَقَالبة ورُوم، فدخلوا السجن وخرجوا، فأصبح إبراهيمُ وعبدُ الله ميِّتَين، فيقال: دِيسَتْ بطونُهما، ويقال: غَمُّوهما، ويقال: هدمُوا البيت عليهما، ويقال: عصروا ما بين فخذيهما. ولمَّا أصبحا ميِّتَين، أُلْقِيَا على باب السجن، فمرَّ مهلهل بن صفوان السهميّ، فواراهما، وكفَّنَهما، ودفَنَهما بحرَّان (¬1). وعاش إبراهيم خمسًا وخمسين سنة، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: خمسين. ورثاه إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هِرْمة الفِهْريّ، فقال: قد كنتُ أحسَبني جَلْدًا فضَعْضَعَني ... قبرٌ بحرَّانَ فيه عِصْمَةُ الدِّينِ فيه الإمامُ وخَيرُ النَّاسِ كُلِّهِمُ ... بين الصفائح والأحجارِ والطِّينِ فيه الإمامُ الذي عَمَّتْ مصيبتُهُ ... وعَيَّلَتْ كلَّ ذي مالٍ ومسكينِ (¬2) ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف في خبر وفاته "أنساب الأشراف" 3/ 137، و"تاريخ" الطبري 7/ 435 - 437، و"تاريخ دمشق" 2/ 541. (¬2) الأبيات في "تاريخ" الطبري 7/ 437، وبنحوها في "أنساب الأشراف" 3/ 142، مع بيت رابع. وينظر "تاريخ دمشق" 2/ 543 (مصورة دار البشير).

وكان لإبراهيم من الولد محمدٌ الأكبر، أمُّه زينب بنت سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس (¬1)، وإليها يُنسب الزَّينبي، وهو محمَّد بن سليمان بن عبد الله بن محمَّد بن إبراهيم الإِمام. وكان أبو جعفر قد ولَّى محمدَ بنَ إبراهيم مكةَ والمدينةَ واليمنَ، ثم ولَّاه الجزيرة، فلما مات أخوه عبد الوهَّاب بالشام؛ ولَّاه مكانَه، وأقام حتى مات في أيام هارون (¬2). ومحمدٌ الأصغر؛ ليس له ذكر. وعبدُ الوهَّاب بن إبراهيم؛ ولَّاه المنصور الشام، فمات به، وولدُه محمَّد بن عبد الوهَّاب أمُّه عائشة بنت سليمان بن علي، وولدَ محمَّد بنُ عبد الوهَّاب إبراهيمَ بنَ محمَّد يقال له: ابن عائشة؛ نُسب إلى جدَّته، وكان أبوه يُنسب إلى أمِّه عائشة. وعزم إبراهيم هذا على الخروج على المأمون ببغداد، وبايعَه محمَّد بن إبراهيم الإفريقي وفرح البغدادي مولى أمِّ جعفر بنت المنصور، ومالك بن شاهي الكاتب، وعلم المأمون فقتلَه. وأمّ حبيب بنت إبراهيم تزوَّجَها عيسى بن موسى، فَولَدَتْ له موسى بن عيسى (¬3). أسندَ إبراهيم عن أبيه محمَّد، وجدِّه عليّ، وأبي هاشم بن محمَّد بن الحنفيَّة. وروى عن إبراهيم: أخواه أبو العبَّاس وأبو جعفر، ومالك بن الهيثم، وأبو مسلم الخُراسانيّ (¬4). ¬

_ (¬1) كذا قال المختصر (أو المصنف) وهو وهم، فزينب هذه زوجة محمَّد بن إبراهيم الإِمام، وولدَتْ له عبدَ الله بنَ محمَّد. كما في "أنساب الأشراف" 3/ 94 و 127 (طبعة المستشرقين، وسقط من طبعة العظم 3/ 154 ذكر زينب بنت سليمان). وابنُها عبدُ الله صلّى على مالك بن أنس - رضي الله عنه -، وكان واليًا يومئذ على المدينة. ينظر "طبقات" ابن سعد 7/ 575. وجاء الكلام في الأصل الخطي لـ "تاريخ دمشق" ص 114 (كما في حواشيه -تراجم النساء- طبعة مجمع دمشق) على الصواب، فقلبت محققتُه الاسم، وجعلتها زوجَ إبراهيم بن محمَّد، ووهم السمعاني فقال 6/ 345: ظني أنها زوجة إبراهيم الإِمام. وتنظر ترجمتها في "سير أعلام النبلاء" 10/ 238. (¬2) ينظر "تاريخ دمشق" 60/ 344 - 345 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة محمَّد بن إبراهيم). (¬3) أنساب الأشراف 3/ 142 - 143. (¬4) تاريخ دمشق 2/ 538 (مصورة دار البشير).

حفص بن سليمان

حفص بن سليمان أبو سَلَمة الخلَّال، وزيرُ آلِ محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وهو مولى السَّبيع. وقيل: لم يكن خلَّالًا، وإنَّما كان يجلسُ إلى الخلَّالين. وقيل: كان له حوانيت يعمل فيها الخلّ. وقيل: نُسب إلى خِلَلِ (¬1) السيوف، وهي الجُفون، والعربُ تسمِّي من يعملُها خَلَّالًا. وهو أوَّلُ مَنْ وَزَرَ لبني العبَّاس، وكان من دُعاتهم وشيعتهم؛ غير أنه أراد نقل الأمر عنهم إلى غيرهم (¬2). وكان بُكير بن ماهان رئيس الدُّعاة، فلما حضرته الوفاة؛ كتب إلى إبراهيم الإِمام يُخبره أنه قد استخلفَ أبا سلمة، وكتب [إبراهيم] إلى خُراسان بذلك، وخرج [أبو سلمة] إليهم، فأطاعوه، ودفعوا له خُمس أموالهم ونفقات الشيعة (¬3). فلمَّا انهزمَ ابنُ هُبيرة إلى واسط ودخل الحسن وحُميد ابنا قحطبة الكوفة: سألا عن أبي سلمة؛ فدُلَّا عليه، فأخرجاه، وفوَّضا إليه الأمر (¬4). ولما مات إبراهيمُ الإمامُ؛ خافَ أبو سَلَمة انتقاض الأمر، فكتب كتابين؟ أحدُهما إلى أبي [عبد الله] (¬5) جعفر بن محمَّد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، والآخر إلى عبد الله بن حسن بن حسن (¬6) بن علي بن أبي طالب على نسخة واحدة، يدعو كلَّ واحدٍ منهما إلى الشخوص إلى الكوفة ليأخذ له البيعةَ على أهل خُراسان، ¬

_ (¬1) بكسر الخاء، جمع خِلَّة. (¬2) أراد نَقْلَهُ إلى آل أبي طالب (لما مات إبراهيم الإمام) كما سيرد، وينظر "مروج الذهب" 6/ 92، و"مختصر تاريخ دمشق" 7/ 200. وينظر أيضًا "الأوائل" للعسكري 2/ 98، وسماه: أحمد بن سليمان. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 329 (أحداث سنة 127)، وما بين حاصرتين زيادة من عندي للإيضاح. (¬4) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 418. (¬5) ما بين حاصرتين من "مروج الذهب" 6/ 93. (¬6) في المصدر السابق 6/ 94: الحسين. وهو خطأ.

وبعث بالكتابين مع محمَّد بن عبد الرحمن بن أَسْلَم -وأسْلَم مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لمحمد: العجلَ العجلَ ولا تكن كوافد قوم عاد لما قدم مكةَ. فسار الرسول حتى قدم المدينة، فبدأ بجعفر، فدفع إليه الكتابَ، فقال: من أين هذا؟ قال: من أبي سَلَمة. فقال: ما لي ولأبي سلمة؟ ! وكان ليلًا، فقرَّب الكتابَ إلى السراج فأحرقَه. ومضى الرسول إلى عبد الله بن حسن بالكتاب الآخر، فلما قرأه، سُرَّ به، وقام من فوره، فركب حمارَه، وأتى منزل جعفر (¬1)، فلمَّا رآه جعفر؛ أعْظَمَهُ -وكان عبدُ الله أسنَّ منه- وقال له: ما الذي أتى بك؟ فأخبره الخبر، فقال جعفر: ومتى كان أهلُ خُراسان شيعةً لنا؟ أنتَ بعثتَ أبا مسلم إلى خُراسان، وأمرتَه بلُبس السواد؟ قال: لا. قال: فما لَك ولهدْا؟ فغضب عبدُ الله وقال: واللهِ ما بك إلا الحَسَدُ لابني محمَّد، وإنَّه مهديُّ هذه الأمة. فقال جعفر: واللهِ لقد كتبَ إليَّ بمثل ما كتبَ إليك، فأحرقتُ كتابَه قبل أن أقرأه. فانصرفَ عبدُ الله مُغْضَبًا، وأقام الرسولُ بالمدينة حتى بُويع أبو العبَّاس، ولولا الطُّوسيُّ لَمَا بُويع، وسنذكرُه إن شاء الله تعالى (¬2). وتيقَّن أبو العباس ذلك، فتنكَّر لأبي سلمة، فعاتَبَه أبو سلمة يومًا، فقال أبو العباس: ما علمتُ إلا خيرًا، هذا عبدُ الله بن عُمر يقول لابنه سالم: وجلدةُ بينَ العينِ والأنفِ سالمُ (¬3) وأنت جلدةُ وجهي كلِّه. وإنما قصدَ أن يُطَمْئِن في أوَّل الأمر. ثم بعث أخاه أبا جعفر أَبِي أبي مسلم يستطلع رأيَه على ما ذكرنا (¬4)، وكتبَ معه: ¬

_ (¬1) في "مروج الذهب" 6/ 94 (والخبر فيه): فلما كان من غد ذلك اليوم الذي وصل فيه الكتاب ركب عبد الله حمارًا حتى أتى منزل جعفر. (¬2) الخبر في "مروج الذهب" 6/ 93 - 97 باختلاف يسير وخبر الطوسيّ (وهو أبو حُميد) فيه بإثره. (¬3) عجز بيت، وصدرُه: يلومونني في سالم وألومُهم. ويُروى: يديرونني عن سالم وأديرهم. وينظر "المعارف" ص 186، و"العقد الفريد" 2/ 437، و 5/ 287، و"التذكرة الحمدونية" 8/ 288 و 398، و"المصون في الأدب " ص 103 والحاشية على الخبر فيه. (¬4) سلف خبر إرسال أبي العباس أبا جعفر إلى أبي سلمة قريبًا (قبل الكلام على إبراهيم الإِمام).

من عبد الله أمير المؤمنين إلى أبي مسلم، سلامٌ عليك، أما بعد، فإنَّه لم يزل من رأي أمير المؤمنين وأهل بيتِه الإحسانُ إلى المحسن، والتجاوزُ عز المسيء ما لم يَقْدَحْ في الدَّوْلة (¬1)، وإنَّ أمير المؤمنين قد وهبَ جُرْمَ حفص بن سليمان لك، وتركَ إساءته لإحسانك إنْ أحبَبْتَ، والسلام. فلما قدم أبو جعفر عليه؛ دفعَ إليه الكتاب، فقال: أفَعَلَها الملعون؟ ! ثم ندب مَرَّارَ بنَ أنس الضَّبِّيَّ لقتل أبي سلمة، وكتب إلى أبي العباس: لعبد الله أمير المؤمنين، أمَّا بعد، فإنه لا يتمُّ إحسانُ أحد حتى لا تأخذه في الله لومةُ لائم، وقد قبلتُ مِنَّةَ أميرِ المؤمنين، وأسرعتُ إلى الانتقام له، والسلام (¬2). وقال الصُّوليّ: قدم مرَّار على أبي العباس وهو بالهاشمية في قصر الإمارة، فأخبره بما قدم له، وعلم أبو سلمة، فاختفى، فنادَى منادي أبي العباس: ألا إن أمير المؤمنين قد رضيَ عن أبي سلمة، فظهر، ودخلَ عليه، فعاتبَه وكساه ووصلَه، وكان يَسْمُرُ عندَه، فَسَمَرَ ليلةً عنده ثم خرج، فوثبَ عليه مرَّار فقتلَه، فقال الناس: قتَلَتْه الخوارج. فأمر أبو العبَّاس بغسله وتكفينه، وأمر أخاه يحيى بن محمَّد، فصلَّى عليه، ودُفن بظاهر الهاشميَّة. فقال سليمان بن المهاجر البجلي: إنَّ الوزيرَ وزيرَ آلِ مُحَمَّدٍ ... أوْدَى فمَنْ يَشْناكَ (¬3) كان وَزِيرا إنَّ المنايا (¬4) قد تَسُرُّ وربَّما ... كان السرورُ بما كرهتَ جديرا (¬5) ¬

_ (¬1) في "أنساب الأشراف" 3/ 176: ما لم يَكِدْ دينًا. ومثلها في "المصون" للعسكري ص 101 وزاد بعدها: أو يَثْلِمْ مُلْكًا. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 176، وفيه: وآثرتُ الانتقام له، بدل: وأسرعتُ إلى الانتقام له. (¬3) بإبدال الهمزة ألفًا، أي: يُبِغضُك، والهمزة هنا في قواعد الإملاء على الواو, لكن ذكر ابن قتيبة في "أدب الكاتب" ص 262 - 263 أن بعض الكتَّاب اختار كتابة هذه اللفظة على الألف لأنها تكتب منفردةٌ على الألف، وذكر ألفاظًا أخرى، مثل: هو يقرأُه، يملأُه ... (¬4) في "مروج الذهب" 6/ 136: المساءة. (¬5) تاريخ الطبري 7/ 449 - 450 دون ذكر البيت الثاني. وينظر "أنساب الأشراف" 3/ 176.

خصيف بن عبد الرحمن

وذكر المسعودي أنَّ أبا مسلم لما بلغه ما فعل أبو سلمة؛ كتب إلى أبي العباس: اقتُلْهُ. فكتب إليه أبو العباس: ما كنت لأنسي (¬1) كثيرَ إحسانه، وعظيمَ بلائه، وصَالِحَ أيَّامه؛ بزَلَّةٍ كانت منه، وهي خَطْرَةٌ من خَطَرات الشياطين. فأرسل إليه أبو مسلم، فقتله. وكانت وِزارته أربعة أشهر، وقيل: ثلاثة أشهر، وقيل: ستة أشهر. وكان أبوه سليمان حيًّا، فاعتقله أبو العباس، فقيل له: إنه رجل صالح. فأطلَقَه. وكان السفَّاح أمر لأبي اللفائف الشاعر بِصِلةٍ، فتأخَّرت، وكانت كتبُ السفاح لا تنفذ إلا بعلامةِ أبي سلمة، وكانت: "الحمد لله" (¬2)، وهو أوَّلُ مَنْ وَقَّعَها، فوقف له يومًا وقد خرج من عند السفَّاح، وقال: قُلْ للوزير أراه الإله ... في الحقِّ رُشْدَهْ الباذِلِ النُّصْحَ طوعًا ... لآل أحمدَ جُهْدَهْ أطَلْتَ حَمْلَ كتابي ... وأخْذَهُ (¬3) ثم رَدَّهْ يا واحدَ الناسِ وَقَعْ ... الحمدُ للهِ وَحْدَهْ فوقَّع له، وأعطاه من ماله أربع مئة درهم. خُصَيف بن عبد الرحمن وقيل: ابن يزيد، الجزري الحرَّاني، مولى بني أمية، وأخوه خِصَاف، وُلدا توأمين؛ وُلد خُصَيف أوَّلًا، وكان لهم أخ ثالث اسمُه مخصَّف. وقد خُصيف على عُمر بن عبد العزيز وهشام بالرُّصافة ويقال: إنه وليَ بيت المال. قال أحمد بن أبي الحواري (¬4): خرجَ مكحول وعطاء إلى هشام بن عبد الملك، فأقاما ببابه مدَّةً لم يأذن لهما، فدخلا المسجد، وإذا خُصَيف يُحدِّث، فلما رآهما قال: ¬

_ (¬1) في "مروج الذهب" 6/ 134: لأفسد. (¬2) في "أدب الكتَّاب" للصولي ص 134، و"الأوائل" للعسكري 2/ 99: آمنتُ بالله وحدَه (في الموضعين). (¬3) في المصدرين السابقين: أطَلْتَ حَبْسَ كتابي وخَتْمَهُ ... وفي الأول منهما: وحَمْلَهُ، وفي الثاني: وخَتْمَهُ، بدل: وأَخْذَهُ. (¬4) تاريخ دمشق 5/ 622 (مصورة دار البشير).

سعيد بن عبد الملك

كان العلماءُ إذا علموا عملوا، وإذا عملوا عرفوا، وإذا عرفوا هربوا، فقال أحدهما للآخر: إنما يعني إيَّانا. فركبا راحلتيهما ورجعا إلى الشام، ولم يدخلا على هشام. وبلغ هشامًا، فأرسل إليهما بجائزتهما. مات خُصيف بالجزيرة -وقيل: بالعراق- سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة سبع وثلاثين ومئة، وهو من الطبقة الأولى من أهل الجزيرة (¬1). روى خُصيف عن مجاهد وغيره، وروى عنه الثوري وغيره، وضعَّفه الإِمام أحمد رحمة الله عليه، ووثَّقه ابنُ سعد (¬2). وقال عتَّاب بن بشير: قال لي خُصيف: كنتُ مع مجاهد، فرأيتُ أنس بنَ مالك، فأرَدْتُ أن آتيَه، فقال لي مجاهد: لا تذهب إليه، فإنه يُرخِّصُ في الطِّلاء، فلم آتِهِ، فقلتُ لخُصَيْف: ما أحوجَك أن تُضْرَبَ ضَرْبَ الصبي بالدِّرَّة! ويحك، أتدع صاحبَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقيمُ على قول مجاهد (¬3)؟ ! سعيد بن عبد الملك ابن مروان، أبو محمَّد، ويُعرف بسعيد الخير، كان متألِّهًا، وليَ الصائفةَ لهشام، ووليَ فلسطين للوليد بن يزيد، وكان حسنَ السيرة، وكانت له بدمشق دار وأملاك، منها محلَّة الراهب قِبْليّ المصلّى. وكان له تابوتٌ فيه مِسْحٌ وثَوْبٌ من شعر (¬4)، فإذا جنَّ الليل؛ نزع ثيابه ولبسه وصلَّى. وكانت له بالموصل أملاك، منها سوق سعيد. قتله عبدُ الله بن علي بنهر أبي فُطْرُس (¬5). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 487. (¬2) ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 487، و"علل" أحمد 2/ 484 و 3/ 118، و"تاريخ دمشق" 5/ 627 (مصورة دار البشير). (¬3) الكامل لابن عدي 3/ 941. (¬4) المِسْح: الكساء من شعر. وجاء في "تاريخ دمشق" 7/ 309 (مصورة دار البشير) أن له ثَوْبَي شعر. (¬5) يعني في هذه السنة (سنة 132)، وينظر "تاريخ دمشق" 7/ 310.

سليمان بن كثير

سليمان بن كثير ابن أمية بن أسعد، أبو محمَّد الخُزاعي المروزي من أكابر نقباء بني العباس، كان يتردَّد من خُراسان إلى الحَمَّة إلى محمَّد بن علي، وهو الذي قرَّرَ أمرَه بخُراسان. وغضب على أبي مسلم يومًا، فضربَه بالدَّواة، فشجَّه، فحقَدها عليه. ولمَّا بعث إبراهيم أبا مسلم إلى خراسان احتقره سليمان فردَّه (¬1). وكان سليمانُ طويلَ اللسان، مُدِلًّا بأَثَرَة في الدَّولة؛ اجتمع يومًا في كَرْم جماعةٌ من الشيعة، فتذاكروا أمر أبي مسلم بعد ما قدم من عند الإِمام، فقال سليمان ليس يسودُّ هذا الكرم حتى يسوّد اللهُ وَجْهَه ويسقيَني دمَه. وبلغ أبا مسلم فعاتبه، فقال: إنَّما عَنَيْتُ بقولي: يُسوِّدَ اللهُ وَجْهَه، أي: يصيرُ عِنَبًا، ويسقيني من دمه، أي: من عصيره. ولما قدم أبو جعفر على أبي مسلم سايَره سليمان، وقال: إنْ شئتُم قَلَبْنَاها عليه، فقتله أبو مسلم، وقد ذكرناه (¬2). وقال ابن عبدوس: بعث به إلى خُوارزم فقتلَه وابنَه محمدًا. ولما تمكَّن أبو جعفر من أبي مسلم وعاتبه قال له: أنت قتلتَ سليمان مُفتينا، وشيخ دعوتنا، ورئيس شيعتنا وابنَه، فقال: لأنه بال على كتاب الإِمام. قال: كذبتَ، وإنما قتلتَه لأنه سايرَني يوم كذا وكذا لمَّا قدمتُ عليك (¬3). صفوان بن سُليم أبو عبد الله الزُّهْرِيّ، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وهو مولى حُميد بن عبد الرحمن بن عَوْف (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ" الطبري 7/ 360 - 361. (¬2) في فقرة إرسال أبي العباس أخاه أبا جعفر إلى أبي مسلم في أحداث هذه السنة (قبل ترجمة إبراهيم الإِمام). (¬3) ينظر ما سبق بنحوه في "أنساب الأشراف" 3/ 188 - 189 بتقديم وتأخير. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 511، وتاريخ دمشق 8/ 328 (مصورة دار البشير).

كان ثقةً، كثيرَ الحديث، عابدًا، عاهدَ الله أن لا يضعَ جَنْبَهُ إلى الأرض، فأقامَ أربعين سنة لم يضع جنبه، فلما نزلَ به الموت قيل له: ألا تضطجع؟ فقْال: فما وفَّيتُ لله بالعهد إذًا. فأسندوه، فماتَ وهو كذلك (¬1). وكان السجود قد نقر جبهتَه. وخرج إلى الحج في مَحْمِل، فما وضع جَنْبَه فيه حتى رجع. وكان يصلِّي في الصيف في البيت، فإذا جاءه الشتاء؛ صلَّى في السطح لئلا ينام. وقال أنس بن عياض: رأيتُ صفوانَ بنَ سُليم ولو قيل له: غدًا القيامة؟ ما كان عنده مزيدٌ على ما هو عليه من العبادة. وكان صفوان إذا أراد الخروج من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة بكى ويقول: أخاف أن لا أرجع إليه (¬2). وقال سفيان: جاء رجلٌ من أهل الشام، فقال: دُلُّوني على صفوان بن سُليم، فإني رأيتُه دخلَ الجنة. قال: قلتُ: بأيّ شيء؟ قال: بقميص كساه إنسانًا. وسأل بعضَ إخوان صفوان، فقال: خرجَ ليلةً من المسجد -وكانت باردة- فرأى رجلًا عُريانًا، فخلعَ ثوبَه، فكساه إيَّاه (¬3). وقال كثير بن يحيى: قدم سليمانُ بنُ عبد الملك المدينةَ وعُمرُ بنُ عبد العزيز رحمة الله عليه عاملُه عليها، فصلَّى بالناس الظهر، واستند إلى المحراب، واستقبل الناسَ بوجهه، وفتح باب المقصورة، فنظر إلى صفوان عن غير معرفة، فقال لعمر: من هذا الرجل؟ ما رأيتُ سمتًا أحسنَ منه. قال: هذا صفوانُ بنُ سُليم. فقال: يا غلام، كيسٌ فيه خمس مئة دينار. فأتى به، فقال لخادمه: اذهبْ إلى ذلك المصلِّي، فادْفَعْه إليه. فجاء الخادمُ، فجلس إلى صفوان، فلما رآه صفوان [ركع وسجد، ثم] سلَّم من صلاته وقال: ما حاجتُك؟ قال: أمرَني أميرُ المؤمنين -وهو ينظر إليك- أن أدفعَ إليك هذا ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 3/ 159, وتاريخ دمشق 8/ 330، وصفة الصفوة 2/ 153 - 154. (¬2) ينظر ما سلف في المصادر السابقة. (¬3) حلية الأولياء 3/ 161، وتاريخ دمشق 8/ 331 - 332، وصفة الصفوة 2/ 154.

الكيس، وفيه خمسُ مئة دينار، ويقول: استعنْ بها على زمانك وعيالك. فقال صفوان: لستُ الذي أُرْسِلْتَ إليه. فقال: ألَسْتَ صفوانَ بنَ سُليم؟ قال: بلى، ولكن اذْهَبْ فاسْتَثْبِتْ وعُدْ. دقال: فخذ الكيس حتى أذهب وأعود. فقال له: لا، فاذْهَبْ فاسْتَثْبِتْ. فمضى الخادمُ، وقام صفوان، فأخذَ نعلَه وخرج، فلم يُرَ بالمدينة حتى خرج سليمان (¬1). أسندَ صفوانُ عن ابن عمر، وجابر، وأنس، و [أبي أمامة بن] سهل بن حُنَيف، وعبدِ الله بن جعفر وغيرهم. وسمع كبار التابعين. وروى عنه الأئمة: محمَّد بن المنكدر، والثوريُّ، ومالك بن أنس، في آخرين (¬2). واتفقوا على صدقه وثقته وزَهَادته. ذُكر للإمام أحمد - رضي الله عنه - صفوان بن سليم وقلة حديثه وأشياء خُولف فيها، فقال الإِمام أحمد: إنما كان صفوان يُستسقى بحديثه، ويُستنزل القَطْر بذكره (¬3). وقال المنكدر [بن محمَّد بن المنكدر]: خرج صفوان في جنازة وفيها أبو حازم وجماعة من العُبَّاد، فلما دُفن الميِّت؛ التفت صفوان إليهم فقال: أمَّا هذا فقد انقطعت عنه أعمالُه، واحتاج إلى دعاءِ مَنْ خَلَّفَه بعده. فأبكى واللهِ الناسَ جميعًا (¬4). وكان يقول: اللهمَّ إني أُحبُّ لقاءك، فأَحِبَّ لقائي (¬5). وكان سفيان الثوريُّ إذا حَدَّثَ عنه يقول: حدثني صفوان وكنتَ إذا رأيتَه علمتَ أنَّه يخشى الله (¬6). مات صفوان سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وقيل: سنة أربع وعشرين ومئة (¬7)، وهو وهم. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 3/ 160، وتاريخ دمشق 8/ 331، وصفة الصفوة 2/ 155، وما سلف بين حاصرتين منها. (¬2) تاريخ دمشق 8/ 327 وما سلف بين حاصرتين منه، ولا بدّ منه. (¬3) المصدر السابق 8/ 333، ولفظه لابن الجوزي في "صفة الصفوة" 2/ 156، ولم أقف على من ذكره بقلّة الحديث، وقد قال فيه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 7/ 511: كان ثقة كثير الحديث. (¬4) تاريخ دمشق 8/ 333، وما سلف بين حاصرتين منه للإيضاح. (¬5) المصدر السابق 8/ 334. (¬6) تاريخ دمشق 8/ 329، وفيه: سفيان بن عيينة، وكذا في "تهذيب الكمال" 13/ 188. (¬7) نقله ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 8/ 329 عن الترمذيّ.

عبد الله بن عمر بن عبد العزيز

عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ابن مروان، من الطبقة الخامسة، من أهل الشام، كان وصيَّ أبيه، وأمُّه لميس بنتُ عليّ بن الحارث بن كعب (¬1)، كان جوادًا شجاعًا ديِّنًا صالحًا ممدَّحًا، جُمع له المصران: الكوفة والبصرة، وحفرَ بالبصرة نهرًا يُعرف بنهر ابنِ عمر. وكان وليَ العراق ليزيد الناقص أيَّام خلافته، وكانت ستةَ أشهر، فلما ماتَ أقامَ عبدُ الله على ولايته، فأراده أهلُ العراق على البيعة لمكان أبيه، وقالوا: هذا رجل صالح بنُ رجل صالح (¬2). وقال يحيى بن منصور الذُّهْليّ: خِلافَتُكُمْ حُلْوَةٌ عَذْبَةٌ ... أعادَ الإلهُ لنا حَالها (¬3) فدُونَكها يا ابنَ عبدِ العزيزْ ... يُسَرْبِلُك (¬4) اللهُ سِرْبَالها وقال المدائني: كان يزيدُ بنُ الوليد قد ولَّى منصورَ بنَ جُمهور العراق في رجب سنة ستٍّ وعشرين، فقدمَها، وهربَ يوسفُ بنُ عمر إلى البلقاء، وفتح منصور بيوت الأموال، وأعطى الناس أرزاقهم. فلمَّا قويَ أمرُ يزيد ولَّى عبدَ الله بنَ عمر العراقيين، فقدمها في رمضان، فكانت ولاية منصور شهرين وأيَّامًا، فقال عبدُ الله لمنصور: أنت أحدُ أخوالي، والخالُ والد، فأقم عندي. وكان منصور خائفًا منه بسبب إخراج المال، فصفح عنه (¬5)، وأجرى عليه في كل شهر عشرة آلاف درهم (¬6)، فكان منصور يقاتل معه (¬7). ¬

_ (¬1) في "طبقات" ابن سعد 7/ 324، و"تاريخ دمشق" 37/ 127 (طبعة مجمع دمشق): علي بن الحارث بن عبد الله بن الحُصين. (¬2) أنساب الأشراف 7/ 161. (¬3) لفظ العجز في المصدر السابق: وتُدعى على اسمك أحلى لها. (¬4) في المصدر السابق 7/ 161 و 173: سَرْبَلَكَ. ووقع في الموضع الثاني: عليك بها يا ابن عبد العزيز. (¬5) في (خ): فصفح منصور عنه، وهو خطأ. (¬6) في "أنساب الأشراف" 7/ 163: ثمانية آلاف درهم. (¬7) ينظر المصدر السابق 7/ 162 - 163.

فبينا هو كذلك جاءه الخبر بأنَّ مروان قد سار من الجزيرة يريد الشام طالبًا بدم الوليد، وجرت قصة عبدِ الله بن معاوية ومحاربته عبدَ الله، وجاء الضحاك الحَرُوريُّ إلى الكوفة، ومضى ابن عمر إلى واسط، وسار إليه الضحَّاك وحصرَه، ثم اتفقا، وقد ذكرناه (¬1). ولما قُتل الضحاك دعا ابنُ عمر بالعراق إلى نفسه (¬2)، وكان يقول: أنا عين بنُ عين ابن عين أقتُلُ ميمَ بنَ ميم بن ميم. يعني مروانَ بنَ محمَّد، فمات في حبس مروان. ولما ظهر عبدُ الله بنُ علي على الشام قيل له: إن عبد الله بنَ عمر يذكر أنه قرأ في الكتب أنه يقتلُ مروانَ عينُ بنُ عين بن عين، وكان يؤمِّلُ أن يكون هو. فقال عبد الله: أنا واللهِ ذاك، وأفْضُلُ ابنَ عمر بأربعة أعين، أنا عبدُ الله بنُ علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن عَمرو (¬3) -يعني هاشمًا- بن عبد مناف. وكان ابنُ عمر مقيمًا بواسط، فلما ولَّى مروانُ ابنَ هُبَيرة العراقَ قصدَه وحصرَه في القصر، وخذَلَه أصحابُه، ووثبَ من كان بواسط على ابن عمر، وسَدُّوا عليه بابَ القصر باللَّبِن، فأخذَه ابنُ هُبيرة، فبعثَ به إلى مروان، فحبسَه كما ذكرنا (¬4). وقال ابن أبي الدنيا: إن مروان بَنَى لابن عمر بيتًا صغيرًا، وأدخله فيه، فذهب يُقيم صُلْبَه فلم يقدر، فذهب يمدُّ رِجْلَه فلم يقدر، فقال لابنه: يا بنيّ، الحمد لله، بينا خاتَمي يجوزُ في مشارق الأرض ومغاربها؛ صِرْتُ لا أملك إلا موضعَ قَدَمي. ثم أصبح ميتًا (¬5). أسندَ عبدُ الله عن أبيه عُمر، ورَوَى عنه ابنُه بُسْر-بسين مهملة- وكان بُسْر في صحابة المهدي بن المنصور. ¬

_ (¬1) ينظر "أنساب الأشراف" 7/ 164 - 174، وسلفت هذه الأخبار في أحداث سنة (127). (¬2) في "أنساب الأشراف" 7/ 173: لما ظهر أمر مروان دعا عبد الله بن عمر إلى نفسه. (¬3) في (خ) و (د): عُمر، وهو خطأ. (¬4) ينظر "تاريخ" خليفة ص 384 (سنة 129)، و"أنساب الأشراف" 7/ 175، و"تاريخ دمشق" 37/ 130 - 131 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) الخبر في "تاريخ دمشق" 37/ 131 من طريق ابن أبي الدنيا.

عبد الله بن عيسى

عبد الله بن عيسى ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو محمَّد، الأنصاريُّ الكوفيُّ، أوثقُ ولدِ أبي ليلى، وهو أكبرُ من عمِّه محمَّد بن عبد الرحمن. أسند عبد الله عن جدِّه، والشعبيّ، وغيرِهما، وروى عنه الثوريُّ وغيرُه، وكان صدوقًا ثقة (¬1). قحطبة بن شبيب ابن خالد بن مَعْدان، أبو عبد الله الطائي المروزي، واسمُه زياد، وقحطبة لقبٌ له، كان من دعاة بني العبَّاس وثقاتِهم (¬2). قد ذكرنا أخباره، واختلفوا في سبب هلاكه على أقوال: أحدها: أنه لمَّا وصلَ إلى خانْقِين وكان ابنُ هُبيرة بجَلُولاء؛ بينهما خمسةُ فراسخ؛ رَحَلَ (¬3) ابنُ هبيرة، فقطع الفرات من غربيِّها، وجاء قحطبة فنزل من شرقيِّها، ثم قطعها من دِمِمَّا في المحرَّم من هذه السنة، وقد اجتمع إلى ابنِ هُبيرة فَلُّ ابنِ ضُبارة، وجهَّزَ إليه مروان حوثرة بن سهيل الباهليّ في عشرين ألفًا من أهل الشام. وكان ابنُ هُبيرة نازلًا مقابل الفلُّوجة. وقال هشام: كان ابن هُبيرة (¬4) نازلًا غربيّ الفرات، وقحطبة شرقيّها، فسأل عن مخاضةٍ يعبرُ منها إلى ابنِ هُبيرة، فدُلَّ على مخاضة، وذلك عند غروب الشمس عشية الأربعاء لثمان خلون من المحرَّم، فاقتحم قحطبة المخاضة في عِدَّةٍ من أصحابه. وفي رواية: فعبر من أصحابه أربعُ مئة، وغرق هو، وقاتلوا حوثرةَ طول الليل، وأصبحوا قد فقدوا أميرهم قحطبة، فأقاموا ابنَه حُميدًا مكانَه، ثم وُجد قحطبة غريقًا، فدفنه أبو ¬

_ (¬1) تنظر ترجمته في "تاريخ دمشق" 37/ 281 - 286 (طبعة مجمع دمشق). (¬2) تاريخ دمشق 59/ 9 (طبعة مجمع دمشق). (¬3) في (خ) و (د): ثم رحل. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 412 - 413، والخبر فيه مطول. (¬4) من قوله: نازلًا مقابل الفلُّوجة ... إلى هذا الموضع، ليس في (خ).

الجَهْم، وقال (¬1): مَنْ كان عندَه علمٌ (¬2) من قحطبة فليخبرنا. فقال مقاتل بن مالك العَكّيّ: سمعتُه يقول: إنْ حدثَ بي حادثٌ، فالحَسَنُ ابْني أميرٌ على الناس. فبايَعوا الحسن (¬3). والثاني: أن قحطبة وُجد قتيلًا في جدول، وإلى جانبه [حرب بن] سَلْم (¬4) بن أحوز قتيلًا، وظنُّوا أنَّ كلَّ واحدٍ منهما قَتَلَ صاحبَه. والثالث: أن قحطبة قاتلَ تلك الليلة قتالًا شديدًا، وحملَ عليه معنُ بن زائدة، فضربه بالسيف على رأسه، فوقع في الماء، فأخرجوه حيًّا، فقال: إن متُّ فادْفِنُوني في الماء لئلا يقفَ أحد على خبري (¬5). والرابع: أنه أصابَتْه طَعْنَةٌ في وجهه، فوقعَ في الفرات، فغرق، والذي طعنه يحيى بن حُضَين (¬6) من أهل الشام (¬7). والخامس: أنه كان في عسكره رجل يقال له: أحلم بن بسام؛ كان قحطبة قتلَ جماعةً من أهله، فلمَّا خاضَ المْراتَ وجاء ليصعد من مكان صعب ولم يكن بقي معه أحد من أصحابه لاشتغالهم بالعبور، فقال أحلم: لا [أطلبُ] أثرًا بعد عين (¬8)، الآن أصبْتُ ثأرَ أولادي وأهلي. فضربه بالسيف على رأسه، فوثبَ به الفرس، فغاص في الماء بسلاحه وفرسه، فلم يوقف له على أثر (¬9). ¬

_ (¬1) في "تاريخ" الطبري 7/ 414: فقال رجل من عُرض الناس. (¬2) في المصدر السابق: عهد. (¬3) ينظر تفصيل الخبر في "تاريخ" الطبري 7/ 412 - 414. وينظر أيضًا "أنساب الأشراف" 3/ 153 - 154. (¬4) في (خ) و (د): سلمة، وهو خطأ. وما بين حاصرتين زيادة من "أنساب الأشراف" 3/ 154، و"تاريخ" الطبري 7/ 415، ولابد منها. (¬5) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 415. (¬6) من قوله: طعنة في وجهه ... إلى هذا الموضع، ليس في (د). (¬7) جاء في "تاريخ" الطبري 7/ 415 في رواية أنَّ ابن حُضين ادَّعَى قتله، وجاء فيه أيضًا 7/ 416 - 417 (وبنحوه سياق الكلام أعلاه) أن ابن حُضين حكى عن أحلم أنه قتله. وهو الكلام الآتي بعده. (¬8) ما بين حاصرتين زيادة من عندي لضرورة السياق، وهذا مثل، وقوله: بعد عين، أي: بعد المعاينة. وينظر "جمهرة الأمثال" للعسكري 2/ 389. (¬9) ينظر "أنساب الأشراف" 3/ 154، و"تاريخ" الطبري 7/ 414 - 417. ولم أقف على هذا الخبر بهذه السياقة.

محمد بن أبي بكر بن محمد

وقال أبو الجهم: أنا استخرجتُه من الماء غريقًا، فدفنتُه بالفلُّوجة (¬1). محمَّد بن أبي بكر بن محمَّد ابن عَمرو بن حَزْم، أبو عبد الملك الأنصاري، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وأمُّه فاطمةُ بنتُ عُمارة من بني النجار. وليَ قضاء المدينة، وكان يقضي (¬2) في المسجد، فإذا قضى قضاءً يُخالف الحديث ورجع إلى منزله؛ قال له أخوه عبدُ الله، وكان صالحًا: يا أخي، قضيتَ اليومَ بكذا وكذا، فيقول: نعم. فيقول عبد الله: فأين أنتَ من الحديث؟ فيقول محمَّد: فأين العملُ؟ يعني ما أجمع عليه أهلُ المدينة. ومعناه أنَّ إجماعَهم أقوى من الحديث، وبه أخذَ مالك. مات محمَّد بالمدينة وهو ابنُ اثنتين وسبعين سنة، وله بها عقب (¬3). محمَّد بن عبد الملك بن مروان أخو سعيد لأبويه (¬4)، أمّهما أمَّ ولد، كان ناسكًا يسكن الأردنّ. وهو من الطبقة الرابعة من أهل الشام. ولَّاه مصرَ أخوه هشامُ سنة خمس ومئة، وعزلَه سنة ستٍّ ومئة. وحجَّ بالناس سنة ثلاثين ومئة، وقتلَه عبدُ الله بنُ عليّ بنهر أبي فُطْرُس. حدَّث عن رجل عن أبي هريرة، وسمع من المغيرة بن شعبة، وروى عنه الأوزاعيُّ وغيرُه، وكان ثقة (¬5). ¬

_ (¬1) قوله: فدفنته بالفلوجة، من (د). (¬2) في (د): يقص، وهو خطأ. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 490 - 491. (¬4) ذكر ابن سعد في "طبقاته" 7/ 221 أولاد عبد الملك، وذكر منهم عبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمدًا وسعيد الخير والحجاج لأمَّهات أولاد. ولم أقف على من ذكر أن أمَّ محمَّد هي أيضًا أمَّ سعيد. (¬5) ينظر ما سبق في هذه الترجمة في "تاريخ دمشق" 63/ 157 - 162 (طبعة مجمع دمشق).

مروان بن محمد بن مروان بن الحكم

مروان بن محمَّد بن مروان بن الحَكَم (¬1) قد ذكرنا سيرتَه، فنذكُرُ مقتلَه، وما يتعلَّقُ به وقد ذكرنا هزيمتَه من الزَّاب إلى الفَرَمَا، وصالحُ بن علي في آثاره. وقد رُويَ هزيمته على وجه آخر؛ قال مَخْلَد بن محمَّد مولى عثمان بن عفان رضوان الله عليه: كان مروان في عشرين ومئة ألف، فانهزم إلى حرَّان وبها أبان بن يزيد بن محمَّد بن مروان ابنُ أخيه، وكان عاملَه عليها، فأقام بها نيِّفًا وعشرين يومًا، فلما دنا منه عبدُ الله بنُ علي؛ أخَذَ أهلَه وعِياله، وقطع الفرات، وخلَّفَ أبانَ بنَ يزيد بها -وكان خَتَنَهُ على ابنته أمِّ عثمان بنت مروان، فلما نزل بها عبدُ الله؛ خرجَ إليه أبانُ فبايعَه، فأمَّنَه. ومضى مروان إلى مصر، وتبعَه صالح بنُ عليّ، وعلى مقدِّمته أبو عون [و] (¬2) عامرُ بنُ إسماعيل الحارثي، فلَقِيَتْهُم خيلُ مروان، فقتلوهم وأسروا منهي رجلًا، فسألوه عن مروان، فطلبَ الأمانَ، فأمَّنوه، فقال: هو نازلٌ في كنيسة بُوصِير، فقصدُوه في الليل، وهربَ أصحابُه، وخرج إليهم، فأحاطوا به، فقتلُوه (¬3). وقال الهيثم: أدْخَلَ مروانُ حُرَمَهُ وأهلَه الكنيسة ببُوصِير، ولحقَه أبو عون، فخرج إليهم وقد لبس سلاحَه، وركبَ جوادَه، وكشفَ رأسَه، ونادى: أنا مروان، قد كانت لله علينا حقوقٌ ضَيَّعْناها, ولم نَقُمْ بما يلزمُنا منها، فانتقم الله منَا، وما هي من الظالمين ببعيد. ثم حمل عليهم، فقَتَلَ منهم جماعة، وتكاثرُوا عليه، فقتلوه. وقيل: طعنه رجل من أهل البصرة ولم يعرفه، فصُرع، فصاح رجلٌ: قُتل أميرُ المؤمنين. وابتدرُوه، فسبق رجلٌ من أهل الكوفة كان يبيع الرُّمَّان، فاحتز رأسَه، وبعثَ ¬

_ (¬1) كذا نسبه ابن عساكر 67/ 5، والذهبي في "تاريخ الإِسلام" 3/ 732. وجاء في "سير أعلام النبلاء" 6/ 74: مووان بن محمَّد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة ضرورية، واسم أبي عون عبد الملك بن يزيد، وسيرد ذِكْرُه آخر هذه الترجمة. وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 655، و"تاريخ" الطبري 7/ 440. (¬3) في هذا الخبر اختصار شديد، وهو من أكثرَ من رواية وليس من رواية مخلد بن محمَّد وحدَه كما ذكر المختصِر، وقد سلف بعضُه، وأوَّله في "تاريخ" الطبري 7/ 437 - 438، وآخره فيه 7/ 440 - 441.

به أبو عَوْن إلى صالح [بن علي، وبعث به صالح] مع يزيد بن هانئ -وكان على شرطته-[إلى] أبي العباس، وذلك يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومئة (¬1). قال أبو اليقظان: ولما جاؤوا بالرأس إلى صالح؛ وضعَه بين يديه، وأمرَ بتقويره ونفضه، فنُفض، فوقعَ لسانُه، وهناك هرَّةٌ، فتنا ولَتْه وذهبت، فدُهش صالح وقال: ماذا في الأيام من العجائب! لسانُ مروان في في هرَّة (¬2)! وأنشده شاعر: قَدْ سَهَّلَ (¬3) اللهُ مصرًا عَنْوَةً لكُمُ ... وأهلكَ الظالمَ الجَعْديَّ إذْ ظَلَما فَلَاكَ مِقْوَلَهُ (¬4) هِرٌّ يُجَرِّرُهُ ... وكان ربُّك من ذي الكفرِ منتقما وجاء عامر بن إسماعيل إلى الكنيسة التي فيها بناتُ مروان وحُرَمُه، فرأى خادمًا قد شهر سيفًا، ودخل الكنيسة، فقال له: ويحك ما تصنع؟ فقال: أمرَني مولاي مروان أن أقتلَ بناتِهِ ونساءَه إذا قُتل، فقال عامر: اقتلوه. فقال: لا تقتلني، فعندي ميراثُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأخرجَهم إلى ظاهر بُوصِير، فبحث عن الرمل، وإذا بالبُرْدَة والقضيب والقَعْب والمِخْضَب الذي كان للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ دفَنَهُ مروان لئلا يصل إلى بني العبَّاس (¬5). فبعثَ به صالح إلى أخيه عبد الله، ورأس مروان، فبعث به عبدُ الله إلى السفَّاح مع يزيد بن هانئ بعد أن نصب الرأس بالفسطاط ودمشق والجزيرة، وكتبَ معه: قَتَلْنا عدوَّ الله شبه فرعون بأرضه (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 441 - 442، وما سلف بين حاصرتين مستفادٌ منه، وينظر "أنساب الأشراف" 7/ 656. وفي رواية عند ابن عساكر 67/ 28 (طبعة مجمع دمشق) أن صالح بن علي بعث بالرأس إلى أبي العباس مع خزيمة بن يزيد بن هانئ. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 111، وبنحوه 7/ 656، والكامل 5/ 427. (¬3) في "أنساب الأشراف" 3/ 111، و "الكامل" 5/ 427: قد فتح. (¬4) المِقْوَل: اللسان. (¬5) ينظر "أنساب الأشراف" 3/ 111، و 7/ 656 - 657، و"مروج الذهب" 6/ 76 - 77. قوله: القَعْب، يعني القَدَح الذي يشرب فيه، والخضب: إناء يغسل فيه الثياب. (¬6) لم أقف على الخبر بهذا السياق.

فلما حصل الرأس بين يدي السفَّاح؛ سجد وقال: الحمدُ لله الذي أظهرني عليك، وأظفرني بك، ولم يبق ثأري قبلك، وما أُبالي لو متُّ الساعة، قتلتُ بالحسين مئتي رجل من أعيان بني أمية، وأحرقتُ شِلْو هشام بابن عمِّي زيد، وقتلتُ مروان بأخي إبراهيم. وأنشد: لو يشربون دمي لم يُرْو شاربَهُمْ ... ولا دماؤهُمُ جَمْعًا تُرَوِّيني (¬1) وتصدَّق بعشرة آلاف دينار. ثم قال للدَّين حوله: أيكُّم يعرفُ هذا الرأس؟ فلم ينطق أحد. فقام أبو جَعْدة بنُ هُبيرة المخزومي -وكان من الأشراف- فمشى إلى الرأس، فتأمَّلَهُ وقال: أنا واللهِ أعرفُه، هذا رأسُ خليفتنا أبي عبد الملك بالأمس. فقال له أبو العباس: متى ولد؟ قال: في سنة ستٍّ وسبعين. وتغيَّظَ من كان حاضرًا حيث كنَّاه. قال أبو العبَّاس: وفي لصاحبه، ولو أوليناه خيرًا لَكان لنا أشْكَرَ (¬2). وأمَّا البُرْدَة والقضيب والمِخْضَب والقَعْب؛ فتوارثَه بنو العبَّاس إلى أيام المقتدر، فحارَبَه مؤنس، فركب المقتدر لقتاله إلى الشَّمَّاسيَّة والبُرْدَةُ عليه، وبيده القضيب، فانهزمَ عنه عسكرُه، ونزلَ رجلٌ من أصحاب مؤنس، فقطع رأسَ المقتدر وحملَه إلى مؤنس، وأخذَ البُرْدَةَ والقضيب، فكان آخرَ العهد بهما لا يُدْرَى ما أصابَهما. وجاء عامر بن إسماعيل إلى باب الكنيسة وقال: أخْرِجُوا إليَّ أكبرَ بناتِ مروان، فخرجت وهي تُرْعَد، فقال: "لا بأس عليك. فقالت: وأيُّ بأسٍ أعظمُ من إخراجكَ إيَّايَ حاسرةً، ولم أرَ رجلًا قطّ. فيقال: إنه وضعَ رأسَ مروان في حِجْرها، فصرخَتْ، فقال: كذا فعلتُم برأس زيد بن علي؛ وضعتُموه في حِجْر زينب بنت علي (¬3). وبعث صالح إلى عامر يأمره أن لا يتعرَّض لأحد من حريم مروان (¬4)، وأن يُحْمَلْنَ إلى فُسطاطه، وكان بمصر، فحُملن إليه، فتكلمت الكبرى: فقالت: يا عمَّ أميرِ ¬

_ (¬1) في "مروج الذهب" 6/ 101، و"الأغاني" 4/ 343: للغيظ تُرويني. (¬2) الخبر في "مروج الذهب" 6/ 101 - 104 بأطول منه، وينظر أيضًا "الأغاني" 4/ 343. وأبو عبد الملك كنية مروان. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) في (د): أن لا يتعرَّض أحد لحريم مروان.

المؤمنين، أسعدك [الله] في أمورك كلِّها, نحن بناتُ عمِّك وأخيك (¬1)، فليَسَعْنا من عَفْوكم ما وَسِعَكُم من جَوْرِ أسلافنا. فقال صالح: ألم يقتل يزيدُ الحُسينَ بنَ عليّ ومعه ثمانيةَ عشرَ من ولد عليّ بن أبي طالب؟ ! ألم يُخرج حُرَمَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وبناتِه وأهلَه سبايا على أقتاب الجمال بارزاتٍ كاشفاتٍ رؤوسَهنَّ، مُوثقات لا وطاء تحتهنّ، ولا غطاءَ فوقهنَّ؟ ! ورأسُ الحسينِ يُطافُ به في البلدان على قَناة كأنَّه رأسُ بعض الكفَّار؟ ! أما أوْقَفَ بناتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موقف السبايا يتصفَّح وجوهَهنَّ أهلُ الشام، ويطلبون منه أن يهبَ لهم بعضهم؟ ! ألم يضرب ثنايا ابنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! ألم يقتل هشامٌ زيدَ بنَ عليّ وصلَبَه مدَّة سنتين، ثم أحرقه ونسفَه في التراب؟ ! ألم يقتل الوليدُ بنُ يزيد ولدَه يحيى، وفعلَ به كما فعل هشام بأبيه؟ ! ألم يقتل أبوك أخي إبراهيم؟ ! ألم، ألم ... وعدَّد هناتِ بني أمية. فقالت: يا عمّ، إنَّ الله سبحانه يقول في كتابه الكريم الذي أنزله على رسوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} {وَأَنْ لَيسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى} ولم نفعل ممَّا ذكرتَ شيئًا ولا أردناه، إنما ينبغي أن يقابل الظالم، لا المظلوم. فقال صالح: قد وسعكم عفونا، فإنْ شئتِ زوَّجتُك الفضلَ بنَ صالح، أو رددتُكم إلى حرَّان. فقالت: تَرُدُّنا إلى حرَّان. فقال: أفعل (¬2). وعاش مروان سبعًا وخمسين سنة، وقيل: اثنتين وستين، وقيل: تسعًا وستين، وكانت مدة ولايته منذ بُويع إلى أن قُتل خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يومًا (¬3). ذكر أولاده: كان له من الولد عبدُ الله، وعُبيد الله، وعبدُ الملك -وبه كان يكنى، وهو أكبر ولده- ومحمد، وعبد العزيز، وأبان، ويزيد، وأبو عثمان، وعبد الغفَّار (¬4). والمشهور من ولده عبدُ الله وعُبيدُ الله؛ خرجا هاربَيْنِ إلى الحبشة. ¬

_ (¬1) في "مروج الذهب" 6/ 78 (والخبر فيه بنحوه): نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمِّك. (¬2) ينظر "مروج الذهب" 6/ 78 - 80، و"الكامل" 5/ 427 - 428. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 442. وينظر "العقد الفريد" 4/ 469، و"مروج الذهب" 6/ 47 - 48. (¬4) العقد الفريد 4/ 469، وجمهرة أنساب العرب ص 107. وذكر البلاذري في "أنساب الأشراف" 7/ 562 عن أبي اليقظان أنه لا يُعلم لمروان ولد غير عبد الله وعُبيد الله وعبد الملك وعبد الغفار.

وقال ابنُ عساكر: كان الحجَّاج بنُ قُتيبة بن مسلم الباهلي مع مروان ببُوصير، فقال: خرجتُ مع أولاد مروان لما قُتل هاربين على النيل، فمشينا حتى تقطعت أقدامنا، وكان معنا أمُّ مروان بنت مروان، فما سمعنا لها كلمةً ولا أنَّة واحدة، وعليها مِقْرَمَةٌ (¬1)، ليس عليها غيرها (¬2)، حتى أتينا البحر، وخرجنا إلى جُدَّة. قال ابن عساكر: فأخذَ (¬3) الحجاجُ بأمان، وحُمل إلى أبي العباس، فقال له: يا حجَّاج، كنتَ مع مروان وأولاده؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قوم أحسنوا إلينا وخلطُونا بأنفسهم، فلم يجمل بنا مفارقتهم إلا عن رضًى منهم. فقال له أبو العباس: هذا واللهِ الوفاء (¬4). وذكر ابن الكلبي القصة أتمَّ من هذا، فقال: التقى مروان وعامر بن إسماعيل ببُوصِير، فاقتتلُوا ليلًا، وعبدُ الله وعُبيدُ الله ابنا مروان واقفانِ ناحيةً في جمعٍ من أهل الشام، فحملَ عليهم أهلُ خُراسان فأزالُوهم عن مواقفهم، وقُتل مروان، وانهزمَ عبدُ الله وعُبيد الله على وجوههما في السَّحَر، وقَتَلَ الخُراسانيون مَنْ قدروا عليه من أهل الشام، ورجعوا عنهم. وطلع الفجر، ولحق الناسُ بعبد الله وعُبيد الله منقطعين؛ العشرة والعشرون، والأكثر والأقلّ، فيقولان لهم: كيف خلَّفْتُم أميرَ المؤمنين؟ فيقولان: تركناه يقاتل. وجاء مولًى له، فأخبرهم بقتله، فبكى عبدُ الله، فقال له عُبيد الله: يا ألْأم الناس، فررتَ عنه وتبكي عليه؟ ! ولحقَهم ألفان. ¬

_ (¬1) المِقْرَمَة: سترٌ فيه رَقْم ونقوش. ولم يرد في عبارة "تاريخ دمشق" 4/ 258 (مصورة دار البشير) أن لابنة مروان مِقْرَمَة ... وينظر التعليق التالي. (¬2) الذي في "تاريخ دمشق" أنَّ لابن مروان مِيثرَة يُلَبِّبُهَا في عنقه في النهار، ويفترشُها بالليل. والمِيثَرة: ثوبٌ تُجلَّلُ به الثياب، ووقع بدلًا من هذه اللفظة في "تهذيب تاريخ دمشق" لابن بدران 4/ 51: فروة. وسيرد في الخبر المطوَّل بعده أنه كان لعبد الله بن مروان مِقْرَمَة. (¬3) في (خ): فأخذَنا. (¬4) الخبر في "تاريخ دمشق" 4/ 208 (مصورة دار البشير) بأطول منه.

فأتَوْا بلادَ النُّوبة (¬1) ومعهم أمُّ الحكم بنت عبيد الله (¬2)، فأنزلهم ملكُ النُّوبة، وأكرمهم، وأقام بهم، وأجرى عليهم ما يُصلحهم، فقالوا: نريد اليمن. فنهاهم وقال: بين أيديكم بلاد السودان (¬3)، وهم عدد كثير، ولا آمنهم عليكم، فأقيموا عندي. فأبَوْا، وخرجوا من عنده. واعترضهم السودان، فلم يقتلوهم، ولكن منعوهم الماء حتى باعوهم القِرْبَةَ بخمسين دينارًا (¬4)، فأخذوا منهم مالًا عظيمًا، ثم أطلقوهم، فساروا، فاعتَرَضَ لهم جبلٌ بين طريقين، فسلك عبدُ الله أحدَهما ظنًّا منه أنَّ للجبل غايةً يجتمعون عندها، فلم يلتقُوا، وعرضَ لعُبيد الله عدوّ، فقتلوه وأصحابَه، وأخذُوا ابنتَه أمَّ الحكم وهي صبيَّة، وتمزَّق أصحابُه، وتقطَّعت أقدامُهم، ووافاهم عبدُ الله عليه مِقْرَمَة (¬5)، فكانوا كلُّهم ما بين أربعين إلى خمسين رجلًا، منهم الحجّاج بن قُتيبة بن مُسلم -ويقال له: الحَرُون- وعفَّان مولى بني سلمة (¬6). ورآهم التجَّار، فعبروا إليهم في السفن، وعبروا بهم إلى المَنْدب (¬7)، وبعث عبدُ الله، فاشترى ابنةَ أخيه أمَّ الحكم، وخرجوا إلى مكَّة، وقد تقطَّعت أرجلُهم من المشي، ورحمهم الناس، ورقُّوا لهم، وفارقَهم الحَجَّاج من مكة. ثم قصدُوا العراق، فخرجوا من مكة مشاةً إلى الكوفة، فغُمزَ عليهم، فأخذَهم العامل وبعثَ بهم إلى المهديّ، فحبسَ عبدَ الله، ثم أرادَ أن يُطلقه (¬8)، فقال له عيسى بن عليّ: إنَّ له في أعناقنا بيعةً. ¬

_ (¬1) بلاد النُّوبة: بلاد واسعة عريضة جنوبي مصر. ينظر "معجم البلدان" 5/ 309 .. (¬2) في "العقد الفريد" 4/ 470 (والخبر فيه بنحوه مطول): ومعهم أم خالد بنتُ يزيد، وأمُّ الحكم بنت عُبيد الله؛ صبيَّة جاء بها رجل من عسكر مروان حين انهزموا، فدفعها إلى أبيها. (¬3) في المصدر السابق: إنكم في بلاد السودان. (¬4) في "العقد الفريد" 4/ 471: بخمسين درهمًا. (¬5) سلف معناها في الخبر قبله، وسلف أنه وقع بدلها في "تاريخ دمشق" لفظة: مِيثَرة. (¬6) في "العقد الفريد" 4/ 471: مولى بني هاشم، وفي حاشيته: مولى بني سلم (نسخة). (¬7) يعني باب المندب، وهو مرسًى ببحر اليمن، وتحرفت اللفظة في (خ) و (د) إلى: المندوب. (¬8) في "العقد الفريد" 4/ 472: أن يقتله، وفي هامشه: أن يخلّيه (نسخة).

وكان يقول (¬1): أين كانت حلومُنا في نسائنا؟ ! ألا زوَّجْنَاهنَّ من أكفائنا من قريش، فكُفينا مؤنتهنَّ اليوم. قال الخطيب (¬2): وكان عبدُ الله وليَّ عهدِ أبيه بعد أخيه عُبيد الله (¬3)، وأقام بأرض النُّوبة زمانًا، ثم رجع إلى الشام مستخفيًا في أيَّام المهديّ، فأُخِذَ وحُمل إلى بغداد، فحبسه المهديّ بها حتى مات في حبسه. وقال سليمان بن [أبي] جعفر: كنتُ واقفًا ليلة على رأس أبي؛ المنصور، وعنده عمومتُه: إسماعيل، وسليمان، وصالح، [وعيسى] فتذاكروا أيَّام بني أمية وما صنع بهم عبدُ الله، وقَتْلَ مَنْ قَتَلَ منهم بنهر فُطْرُس، فقال أبو جعفر: ألا مَنَّ عليهم لِيَرَوْا من دولتنا ما رَأَينا من دولتهم، ويرغبُوا إلينا كما رَغِبْنا إليهم؟ ! فقد -لعمري- عاشوا سُعداء، وماتوا فُقداء. فقال إسماعيلُ بنُ علي: يا أمير المؤمنين، إنَّ في حبسك منهم عبدَ الله (¬4) ابنَ مروان، وقد كانَتْ له قصةٌ عجيبة مع ملك النُّوبة، فابعثْ إليه فسَلْهُ عليها، فقال: يا مُسَيِّب، عليَّ به. فأُخرجَ فتًى مقيَّدٌ بقيدٍ ثقيل، وغُلٍّ ثقيل، فمثَلَ بين يديه، وسلَّم عليه بالخلافة، فقال: يا عبد الله (¬5)، رَدُّ السلام أَمْنٌ، ولم تسمح نفسي لك بذلك بعد، ولكن اقْعُدْ. وجاؤوا بوسادة فثُنيت، فقعد عليها، فقال له: قد بلغني أنه كانت لك قصةٌ مع ملك النُّوبة، فحدِّثْني بها. فقال: يا أمير المؤمنين، والذي أكرمَك بالخلافة، ما أقدرُ على النفس من ثقل الحديد، ولقد صَدِئ قَيدي ممَّا أُرَشِّشُ عليه من البَوْل، وأصبُّ عليه الماء في أوقات الصلوات، فقال: يا مسيَّب، أطلق عنه حديدَه. فأطلَقَه. ¬

_ (¬1) ذكره مولى لمروان عن مروان أنه قاله وهو هارب. ينظر المصدر السابق. (¬2) في "تاريخ بغداد" 11/ 385. (¬3) قوله: بعد أخيه عُبيد الله، ليس في "تاريخ بغداد". (¬4) في "تاريخ دمشق" 44/ 418 (طبعة مجمع دمشق): عُبيد الله، وقد أورده ابن عساكر في ترجمته. وسلف في الخبر قبله أن عُبيد الله قُتل في مسيره إلى اليمن. وقال ابن عساكر آخر الخبر: قيل: إن الذي حكى هذه الحكاية عبد الله. (¬5) في "تاريخ دمشق": عُبيد الله. وينظر التعليق السابق.

فقال: يا أمير المؤمنين، لما قصدَ عبدُ الله بنُ علي إلينا كنتُ أنا المطلوبَ من بين الجماعة؛ لأني كنتُ وليَّ عهد أبي، فلما قُتل أخذتُ عَشَرةَ آلاف دينار، ودعوتُ عشرةً من غلماني؛ كلُّ واحد على فرس، وشدَدْتُ في وسط كلِّ واحد منهم هِمْيانًا فيه ألفُ دينار، وشدَدْتُ في وسطي جوهرًا له قيمة، وأوقرتُ خمسةَ أبْغُل متاعًا، وهربتُ إلى بلاد النُّوبة، فسرنا فيها أيامًا (¬1)، فإذا بمدينةٍ خرابٍ، فدخَلْنا دارًا من دُورها، وبعَثْتُ غلامًا أثقُ بعقله، فقلت: اذْهَبْ إلى ملك النُّوبة، وخُذْ لي أمانًا، وابْتَعْ لنا مِيرَةً. فمضَى وغاب عني زمانًا، ثم أقبل ومعه آخر، فدخلَ، فكَفَّر لي (¬2) وقال: الملكُ يقولُ لك: أمحاربٌ أنتَ، أم راغبٌ إليَّ، أم مستجيرٌ بي؟ فقلت: أمَّا محاربٌ؛ فمعاذ الله، وأما راغبٌ؛ فما كنتُ لأبغيَ بديني بدلًا، وأما مستجيرٌ به؛ فلعمري. فقال: أمَّا المِيرَةُ فسنأتيك الساعةَ بها، وأمّا المَلِك فصائر إليك غدًا. ومَضَى، وإذا بالمِيرَة قد أقْبَلَتْ. فلما كان من الغد؛ فَرَشْتُ الدار بالفُرُش، وصَعِدْتُ على أعلاها أنظرُ من بين شُرْفَتَين أرْقُبُ مجيئه، وإذا برجل قد أقبل؛ عليه بُرْدٌ متَّزرٌ به، وعلى عاتقه بُرْدٌ آخر، وهو حافٍ راجلٌ، ومعه عَشَرةٌ بأيديهم الحِراب؛ ثلاثةٌ يَقْدُمُونَه، وسبعةٌ وراءه، فهانَ عليَّ أمرُه، وسوَّلَتْ لي نفسي قتلَه. فلما قَرُبَ من الدار؛ إذا بسوادٍ عظيم قد أقبل، فوافَى زهاء عشرة آلاف عِنان، فكانت موافاةُ الخيل إلى الدار وقتَ دخوله، فأحدقُوا بها، ودخلَ، فقال لتَرْجُمانِهِ: أين الرجل؟ فأومأ إليَّ، فأخذَ بيدي فقبَّلَها، ووضَعَها على صدره، وجعلَ يدفعُ ما على الأرض من البُسُط والفُرُش برجله، وقعدَ على الأرض، فظنَنْتُ أنَّ ذلك شيئًا يُجِلُّونَه أن يجلسوا عليه، فقلت لتَرْجُمانه: لِمَ لَمْ يقعدْ على الفُرُش؟ فسأله, فقال: قل له: إني مَلِكٌ، وكلُّ ملكٍ حقّ له أن يتواضعَ لله تعالى؛ إذ رَفَعَه. ثم أطرق مفكّرًا، ثم رفع رأسه وقال للترجمان: قل له: كيف سُلِبْتُم هذا الملك وأنتم أقربُ الناس إلى نبيِّكم؟ ! فقلتُ: جاء مَنْ كان أقربَ إليه منَّا، فسَلَبَنَا وقَتَلَنَا وطَرَدَنا، وشَرَّدَنا في البلاد، فخرجتُ مستجيرًا بك. ¬

_ (¬1) في "تاريخ دمشق" 44/ 419: ثلاثًا. (¬2) أي: انحنى لي ووضع يده على صدره وطاطأ رأسه تعظيمًا.

فقال: سله: لِمَ كنتُم تشربون الخمر وهي محرَّمةٌ عليكم في كتابكم؟ ! قلت: فعلَ ذلك عبيدٌ وأتباعٌ وأعاجمُ دخلُوا في ملكنا من غير رأينا. قال: فلِمَ كنتُم تلبسون الحريرَ والدِّيباج، وتُحَلّون سُروجَكم بالذَّهب والفضَّة، وهو محرَّمٌ عليكم؟ ! فقلتُ: فعلَ ذلك عبيدٌ وأتباع. قال: فلِمَ كنتُم إذا خرجتُم إلى الصَّيد تقحَّمْتُم القُرى، وكَلَّفْتُم أهلَها ما لا طاقةَ لهم به بالضَّرب الوجيع، وأكلتُم أموالهم بغير الحق، ثم ما كفاكم ذلك حتى تَجُوسُوا زُروعهم، فتُفسدوها في طلب دُرَّاج -أو عصفور- قيمتُه نصفُ درهم، والفسادُ محرَّمٌ عليكم في دينكم؟ ! فقلت: عبيدٌ وأتباع. فقال: لا والله، ولكنَّكم استَحْلَلْتُم ما حرَّم الله، وأتيتُم ما نهاكم عنه، فسلبَكم العزَّ، وألبسكم الذّلَّ، ولله فيكم نِقْمَةٌ لم تبلغْ غايتَها، وإني أتخوَّفُ عليكم أن تنزل بك النِّقْمةُ إذْ كنتَ من الظَّلَمة، فتشملَني معك، فإنَّ النِّقْمَةَ إذا نزلَتْ عَمَّتْ وشَمَلَتْ، فاخْرُجْ من بلادي بعد ثلاث، فإني إنْ وجَدْتُك بعدَها قتَلْتُك وأخَذْتُ جميعَ ما معك وقتَلْتُ أصحابَك. ثم قام وخرج. فأقمتُ ثلاثًا، ثم عُدْتُ إلى مصر مستخفيًا، فغُمز عليَّ، فأخذَني عاملُك، فبعثَ بي إليك، وها أنا ذا والموتُ أحبُّ إليَّ من الحياة. فهمَّ أبو جعفر بإطلاقه، فقال له إسماعيل بنُ علي: في عنقي له بيعة. قال: فماذا ترى؟ قال: يُترك في بعض دُورنا، ويَجري عليه ما يجري على أمثاله. قال: ففعل. فوالله ما أدري أمات في حبسه، أم أطلقه المهديّ. ويحتمل أن الواقعة كانت مع المهديّ (¬1). ذكر قضاة مروان وكتَّابه وحجَّابه ونحو ذلك: كان على قضائه عثمانُ بنُ عُمر بن موسى بن عبد الله (¬2) بن معمر التَّيميّ، وكان عالمًا فاضلًا. ¬

_ (¬1) الخبر في "تاريخ دمشق" 44/ 418 - 421 باختلاف يسير وبعض زيادة. (¬2) في "تاريخ دمشق" 47/ 7: عُبيد الله.

قال: رأيتُ في المنام كأنَّ عاتكةَ بنت يزيد (¬1) بن معاوية على منبر دمشق ناشرةً شَعْرَها تنوح وتقول: أينَ الشبابُ وعيشُنا اللَّذُّلذي (¬2) ... كُنَّا به زَمَنًا نُسَرُّ ونَجْذِلُ ذَهَبَتْ بَشَاشَتُهُ وأصبحَ ذِكْرُهُ ... أَسَفًا يُعَلُّ به الفؤادُ ويُنهَلُ قال عثمان: فلم يكن بين هذا المنام وزوال ملك بني أمية إلا أقل من شهرين. والبيتان للأحوص من قصيدته التي يقول فيها: يا بيتَ عاتكةَ التي أتَعَزَّلُ (¬3) ثم استقضى المنصورُ عثمانَ على العراق، فمات بالحِيرة قبل أن يبنيَ بغداد (¬4). واستقضى مروان سليمان بن عبد الله بن عُلاثة (¬5). وأما كاتبُه فعبد الحميد بن يحيى بن سعد العامري مولى بني عامر بن لؤي، وكان معلِّمًا، وهو الذي يُضرب به المَثَلُ في الكتابة. وقد أشار بعض الشعراء إليه ومدح بعض الوزراء فقال: البَدْرُ يَخْجَلُ من مُنائِكْ ... والبَحْرُ يَدْهَشُ من عَطائِكْ يا سيِّد الوزراءِ مِنْ عَبْـ ... ــــدِ الحميدِ ومن أولئكْ ما أحوجَ الدنيا إلى خَرْ ... قِ العوائدِ من بقائكْ وأصل عبد الحميد من الأنبار، وسكن الرَّقَّة، وأستاذُه في الكتابة سالم مولى هشام بن عبد الملك، وهو صاحب الرسائل والبلاغات؛ قال له مروان لمَّا رأى دولتَه قد أدبرت: القومُ محتاجون إليك لأدبك، فإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حُسن الظن بك، فاستأمِنْ إليهم، وأَظْهِر الغَدْرَ بي، فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد وفاتي في حُرَمي، فأنشده: ¬

_ (¬1) في المصدر السابق: عاتكة بنت عبد الله بن يزيد. (¬2) في (خ) و (د): الماضي اللّذّ. والمثبت من "تاريخ دمشق" 47/ 10 (طبعة مجمع دمشق) والخبر فيه. وكذا هي رواية البيت في "الأغاني" 21/ 112 والخبر فيه بنحوه. وينظر "ديوان" الأحوص ص 152 - وما بعدها. (¬3) وعجزُه: حَذَرَ العِدَى وبه الفؤاد موكَّلُ. وتنظر المصادر السابقة. (¬4) تاريخ دمشق 47/ 10 (طبعة مجمع دمشق). (¬5) العقد الفريد 4/ 469.

أُسِرُّ وفاءً ثم أُظْهِرُ غَدْرَةً ... فَمَنْ لي بعُذْرٍ يُوسِعُ الناسَ ظاهرُهْ يا أمير المؤمنين، إن الذي أمَرْتَني به أنفعُ الأمرين لك، وأقبحُهما بي، ولكني أصبر حتى يفتحَ الله عليك، أو أُقتَلَ معك (¬1). ولما قُتل مروان؛ استخفى عبدُ الحميد بالجزيرة، فغُمز عليه، فأُخذ، فدفعَه أبو العباس إلى عبد الجبَّار صاحب شُرطته، فكان يُحمى له طشتًا بالنار ويضعُه على رأسه حتى مات (¬2). وكان على حِجابة مروان صِقلاب مولاه، ويقال: مقلاص، وعلى الخاتم عبد الأعلي بن ميمون بن مِهْران (¬3). ولما قُتل مروان عاد صالح من مصر إلى الشام ومعه أموالُ مروان والرَّقيق والسلاح، واستخلف أبا عون على الفُسطاط والديار المصرية (¬4). وهذا أبو عَوْن اسمُه عبدُ الملك بنُ يزيد الأزديُّ مولاهم، الجُرجانيُّ، أحد قوَّاد بني العباس". شهد حِصار دمشق مع عبد الله بعد أن كُسر مروان على الزَّاب، ووليَ إمرةَ مصر [في خلافة السفَّاح] خلافةً لصالح بن عليّ مرَّتين، فكانت ولايته الثانية عليها ثلاثَ سنين وستةَ أشهر. وعاش إلى أيَّام المهديّ، ولم يُذكر لنا تاريخُ وفاته (¬5). قال الطبريّ: مرض فعادَهُ المهديُّ؛ فإذا منزلٌ رَثٌّ، وبناءُ سوء، وإذا طاقٌ صُفَّتُهُ التي هو فيها لَبِنٌ (¬6)، فأَعجب المهديَّ حالُه وقال له: أوصْي بحاجتك، وسَلْني ما أردتَ، واحْتَكِمْ في حياتك ومماتك، فوالله لئن عَجَزَ مالُك عن شيء تُوصيني به ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 184، والعقد الفريد 1/ 79، ومروج الذهب 6/ 81 - 82. (¬2) تاريخ دمشق 9/ 811 (مصورة دار البشير). (¬3) تاريخ خليفة ص 408 (أحداث سنة 132). (¬4) تاريخ الطبري 7/ 442. (¬5) ينظر "تاريخ دمشق" 43/ 303 (طبعة مجمع دمشق). وما سلف بين حاصرتين منه. (¬6) الطَّاق: ما يُجعل كالقوس من الأبنية، والصُّفَّة: الظُّلَّة.

منصور بن المعتمر

لأَحْتَمِلَنَّهُ (¬1) كائنًا ما كان. فدعا له وقال: يا أمير المؤمنين، حاجتي إليك أن تَرْضَى عن عبد الله بن أبي عون. فقال: يا أبا عَوْن، إنَّه على غير الطريق، وعلى خلاف رأيِنا ورأيك، إنه يقع في الشيخين أبي بكر وعمر، رضوان الله عليهما. ولما خرج المهدي من بيته؛ قال لبعض مَنْ كانَ معه من ولده وإخوته: ما لكم لا تكونون (¬2) مثل أبي عون؟ ! واللهِ ما كنتُ أظنُّ إلا أن منزلَه مبنيًّا بالذهب والفضة، وأنتم إذا وجدتُم درهمًا بنيتُم بالساج والذهب (¬3)! انتهت أيام (¬4) بني أمية، وعددُ ملوكهم أربعةَ عشرَ ملكًا، أوَّلُهم معاوية، وآخِرُهم مروان، وأيامهم إحدى وتسعين سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام، منها فتنةُ ابن الزبير تسعُ سنين واثنا عشر يومًا. وقال المسعوديّ: كان ملكُهم ألفَ شهر، وهو المراد بقوله تعالى: {لَيلَةُ الْقَدْرِ خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (¬5). وكذا ذكر الثعلبيّ في أحد الأقوال. وقيل للأبرش الكلبيّ: ما كان سبب زوال ملك بني أمية مع كثرة العَدَد والعُدَد والأموال والموالي وغير ذلك؟ فقال: أبْعَدُوا أصدقاءهم ثقةً بهم، وقرَّبوا أعداءَهم جهلًا منهم، فصار الصديقُ بالبعاد عدوًّا، ولم يَصِرْ العدوُّ بالدُّنُوِّ صديقًا (¬6). والله أعلم. منصور بن المعتمر أبو عتَّاب السُّلَميُّ، من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة. قال: طلَبْنا العلم وما لنا فيه تلك النِّيَّة، ثم رزَقَ اللهُ فيه بعدُ. ¬

_ (¬1) في (خ): لاحتملتُه. (¬2) في (خ) و (د): تكونوا. والمثبت من "تاريخ" الطبري 8/ 180، وتاريخ دمشق 43/ 304 وجاء في بعض أصوله (كما في حاشيته): تكونوا. (¬3) الخبر في "تاريخ" الطبري بأطول منه، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخه". (¬4) في (خ): أيام دولة. والمثبت من (د). (¬5) ينظر "مروج الذهب" 6/ 51 - 52. ولا يخفى ما في هذا القول من تكلُّف وتعسُّف. (¬6) نسبه صاحب "سمط النجوم العوالي" 3/ 253 لأبي مسلم الخراساني.

وقال سفيان بن عُيينة: كان منصور قد عَمِشَ من البكاء؛ كانت له خرقة ينشّف بها الدموع، وزعموا أنه صام ستين سنة، وقام ليلَها (¬1). وقال زائدة بن قُدامة: صام منصور أربعين سنة (¬2)؟ [صام] (¬3) نهارها وقام (¬4) ليلَها، وكان يبكي الليل كلَّه، فتقول له أمُّه: يا بني، قتلت قتيلًا! فيقول: أنا أعلم ما صنعتُ بنفسي. فإذا أصبحَ كَحَلَ عينيه، ودهَنَ رأسَه، وبرَّق شفتيه، وخرج إلى الناس، فأخذَه يوسفُ بنُ عمر عاملُ الكوفة، فأراده على القضاء، فامتنع. قال زائدة: فدخلتُ عليه وقد جيء بالقيد ليُقيَّد، فجاءه خصمان، فقعدا بين يديه، فلم يسألهما, ولم يكلِّمهما. وقيل ليوسف: لو نثرتَ لحمه؛ لم يلِ لك قضاءً. فخلَّى عنه. وقال أبو عَوَانة: لما أُجلس للقضاء؛ كان يأتيه الرَّجلُ فيقصُّ عليه أمرَه، فيقول: قد فهمتُ ما قلتَ، ولكن ما أدري ما الجواب. وبلغَ ابنَ فبيوة فقال: هذا أمرٌ لا يصلح إلا أن نعينَ عليه صاحبَه بشهوة. فتركه. وقال [العلاء بن] (¬5) سالم العبدي: كان منصور يصلِّي في سطحه، فلما مات؟ قال غلامٌ لأمه: يا أمَّاه، الجِذْعُ الذي كان في سطح منصور؛ ما أراه؟ فقالت: ليس ذاك بجذع، ذاك منصور، وقد مات! وقيل: كان منصور يحيي الليلَ كلَّه في ركعة لا يركع فيها ولا يسجد. وقال سفيان: إنما كان الليلُ مطيَّةً عند منصور من المطايا متى شاء ارتحل (¬6). أسند عن أنس (¬7) وغيره، وكان ثقةً مأمونًا عاليًا رفيعًا، كثيرَ الحديث (¬8). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 456. (¬2) صفة الصفوة 3/ 112. وفي "حلية الأولياء" 5/ 41 عن زائدة وسفيان: ستين سنة. (¬3) ما بين حاصرتين من "صفة الصفوة". وفي "الحلية": يصوم. (¬4) في (خ) و (د): وقيام، والمثبت من "صفة الصفوة". وفي "الحلية": يقوم. (¬5) ما بين حاصرتين من المصدرين السابقين. (¬6) في "صفة الصفوة" 3/ 114: ارتحله. (¬7) كذا ذكر أبو نُعيم في "حلية الأولياء" 5/ 42، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" 3/ 115، غير أن الذهبي قال في "سير أعلام النبلاء" 5/ 402: ما علمتُ له رحلة ولا رواية عن أحد من الصحابة. (¬8) تنظر الأقوال السالفة في "حلية الأولياء" 5/ 40 - 42.

الوليد بن معاوية

الوليد بن معاوية ابن مروان بن عبد الملك بن مروان (¬1)، أمُّه بربريَّة، ويقال: إن أمَّه زينب بنتُ الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب. كان أميرًا على دمشق في آخر أيام بني أميَّة، وكان يُسمى أُصَيهِبَ قريش المذكور في الملاحم أنه يُقتل. ولما حَصَرَ عبدُ الله [بنُ عليّ] دمشقَ وقعت الفتنةُ بين اليمانيَّة والمُضَريَّة، فقُتل بينَهم. وقيل: إنه تحدَّر من ناحية باب الفراديس، فدخل دارًا، فاختبأ فيها، ودخل عبدُ الله الخضراء وابنةُ مروان زوجةُ الوليد بها، فجلس عبد الله على فِراشها، فألقَتْ نفسَها على الجدار، فقال لها عبد الله: يا بنت مروان، أين ابنُ الصُّنَّاجة؟ يعني زوجَها. فقالت: الرِّجال أعلمُ بالرِّجال. ثم غُمز عليه، فجاؤوا به فقتلَه. وقال عَمرو (¬2) بن يزيد البصري في الملاحم: يُقتل أُصَيهب قريش بدمشق، ويقتل معه سبعون صِدِّيقًا. فَقتلَ عبدُ الله [بنُ علي] بدمشق أربعة آلاف، وبعث بيزيد ابن أخي الوليد صاحب هذه الترجمة (¬3) إلى أبي العباس، فقتلَه بالحِيرة وصَلَبه. يحيى بن يحيى أبو عثمان الغسَّاني، من الطبقة الثالثة، وقيل: من الثانية، من أهل الشام (¬4). ¬

_ (¬1) قال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 17/ 908 (مصورة دار البشير): ويقال: الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان بن الحكم. ويقال: الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم. ثم قال: والأول أثبت. (يعني المذكور أعلاه). (¬2) في "تاريخ" دمشق 17/ 908، ومختصره 26/ 356: عُمر. (¬3) كذا قال المصنف (أو المختصر) وجاء في المصادر التالية أنه أخو الوليد بن معاوية، واسمه يزيد بن معاوية. ينظر "تاريخ" خليفة ص 404 (سنة 132)، و"المحبَّر" ص 486، و "أنساب الأشراف" 7/ 663 و 664 (وتحرَّف فيه يزيد إلى: زيد)، و"تاريخ دمشق" 9/ 782 (مصورة دار البشير- ترجمة عبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك). (¬4) ذكره ابن سعد في "طبقاته" 9/ 470 في الخامسة، وذكره خليفة في "طبقاته" ص 314 في الثالثة. ينظر "تاريخ دمشق" 18/ 213 - 214 (مصورة دار البشير) وللمترجم خبر مع عبد الله بن عليّ أورده المصنف له في فقرة "ذكر حصار دمشق" أوائل أحداث هذه السنة.

يحيى بن أبي كثير اليماني

كان عامل سليمان وعمر بن عبد العزيز رحمهما الله على الموصل، وكان سيِّدَ أهل الشام وقاضيَهم. شرب شربة [فشرق فيها] فمات بدمشق سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة خمس وثلاثين ومئة (¬1). قال: أنْزِلُوا الأضياف ولا تَكَلَّفُوا لهم مؤونة، فإنكم متى تكَلَّفْتُم لهم؛ ثَقُلَ عليكم، فتتغيَّرُ وجوهُكم، فيظهرُ فيها ذلك فيتأذَّوْن؛ لأن طلاقةَ الوجه عند الضَّيف أحبُّ إليه من القِرَى، أطعموهم ما حضر (¬2). أسند عن أبيه وابن المسيِّب وغيرهما، وروى عنه سفيان بن عُيينة وغيرُه، وكان ثقة. يحيى بن أبي كثير اليماني مولًى لطيِّئ. قال أيوب السَّخْتياني: ما بقيَ على وجه الأرض مثلُ يحيى بن أبي كثير (¬3). وكان من علماء الإِسلام، وكان يقول: ميراثُ العلم خيرٌ من الذَّهب والفضَّة، والنفسُ الصالحةُ خيرٌ من اللؤلؤ (¬4). وقال: العالِمُ مَنْ يخشَى اللهَ عزَّ وجلَّ. وقال: ما صَلَحَ منطقُ رجل إلا عرفتَ ذلك في سائر عملِه، ولا فَسَدَ منطقُ رجل إلا عرفتَ ذلك في سائر عمله (¬5). توفي سنة تسع وعشرين، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين ومئة. أَسند عن أنس وغيره، وروى عنه الأئمة، وكان صدوقًا ثقة زاهدًا ورعًا. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 18/ 216 - 217 وما سلف بين حاصرتين منه. (¬2) المصدر السابق 18/ 215 دون قوله: فتتغيَّر وجوهكم ... من القرى. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 116، وصفة الصفوة 4/ 75. (¬4) صفة الصفوة 4/ 76. وفي "حلية الأولياء" 3/ 67: واليقين الصالح خير من اللؤلؤ. (¬5) حلية الأولياء 3/ 68، وشطره الأول في "صفة الصفوة" 4/ 76، وكذا النسخة (خ).

يزيد بن عمر بن هبيرة

يزيد بن عمر بن هُبيرة ابن مُعَيَّة (¬1)، أبو خالد الفَزَاريّ. وأبوه عمر من الطبقة الرابعة من أهل الشام، غزا القسطنطينية مع مسلمة بن عبد الملك سنة سبع وتسعين (¬2)، وجَمعَ له [يزيد بن عبد الملك] العراقيين (¬3) سنة ثلاث ومئة، فأقام واليًا على العراق ستَّ سنين (¬4)، وعزلَه هشام، ومات وعمرُه نيِّفٌ وخمسون سنة، ولم يُذكر لنا تاريخُ وفاته. وكان لعمر أولاد: يزيد بن عُمر (¬5)، وسفيان، وعبد الواحد، ولم يكن فيهم مثل يزيد. وليَ [يزيد] قِنَّسْرِين للوليد بن يزيد، وكان مع مروان [يومَ غَلَبَ] على دمشق، وجمعَ له ولاية العراقيين سنة ثمان وعشرين (¬6). وكان سخيًّا يعطي زوَّارَه في كلِّ شهر خمس مئة ألف درهم (¬7). وكان خطيبًا شاعرًا شجاعًا، ورزقُه في كل شهر ستّ مئة ألف درهم؛ يقسمُها في أصحابه وفي العلماء والزُّهَّاد وأربابِ البيوت (¬8). وكان ابنُ شُبرمة من سُمَّارِهِ. ودخلَ عليه قوم، فرأَوْا قميصَه مرقوعًا، فعجبوا، فقال: قد يُدْرِكُ الشَّرَفَ الفتى ورداؤُه ... خَلَقٌ وجَيبُ قَمِيصِهِ مَرْقُوعُ (¬9) ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): معاوية، وهو خطأ. والمثبت من "تاريخ دمشق" 18/ 350 (وهو مصدر المصنف) وكذا هو في "مختصر تاريخ دمشق" 27/ 387. ومُعَيَّة تصغير معاوية. ينظر "وفيات الأعيان" 6/ 313. (¬2) الكلام هنا عن عُمر أبي يزيد، ووهمَ ابنُ تغري بردي في "النجوم الزاهرة" 1/ 323 فجعله ليزيد. وينظر "تاريخ دمشق" 54/ 302 - 303 (طبعة مجمع دمشق- ترجمة عمر بن هبيرة). (¬3) ما بين حاصرتين زيادة ضرورية لصحة السياق. (¬4) المعارف لابن قتيبة ص 408. (¬5) في (خ) و (د): يزيد وعمر. وهو خطأ، والتصويب من المصدر السابق. (¬6) تاريخ دمشق 18/ 350 - 351 (مصورة دار البشير) وما سلف بين حاصرتين منه. (¬7) المعارف ص 409. (¬8) بنحوه في "تاريخ دمشق" 18/ 353. وقوله: وكان خطيبًا ... ألف درهم، ليس في (خ). (¬9) المصدر السابق. والشعرُ لابن هَرْمَة، وتمثَّل به يزيد.

وكان إذا رأى وَهَنًا (¬1) أنشد: والثوبُ إنْ أَسرعَ فيه البِلَى ... أعيا على ذي الحِيلةِ الصَّانعِ كنَّا نُداريها فقد مُزِّقَتْ ... واتَّسَعَ الخَرْقُ على الرَّاقعِ (¬2) وهو الذي بني المدينة الهاشمية بالكوفة، وكان عزمَ على تسميتها: الجامعة، فقيل له: أرأيتَ إنْ قيلَ: أين الأمير؟ فيقال: في الجامعة! فسمَّاها: المحفوظة، فلمَّا نزلها أبو العبَّاس؛ سمَّاها الهاشمية، وزاد في بنائها (¬3). وقال زياد بن عبد الله (¬4) الحارثي خالُ السَّفَّاح: وفدتُ على مروان في جماعة ليس فيهم يمانيٌّ غيري، وكان يزيد بنُ هبيرة على شُرطته وهو على بابه يسمع إنشادَ الشعراءِ وخُطَب الخطباءِ في مدح مروان، ويبحث عن أنسابهم، فقلت: إنْ عرفَ نَسَبي زادَني عنده شرًّا، فتأخرتُ, فلمَّا لم يبق غيري قال في: انتسِبْ. فقلتُ: أنا من اليمن. فقال: من أيّها؟ قلت: من مَذْحِج. فقال: إنك لَتطمحُ بنفسك، اخْتَصِرْ. فقلت: من بني الحارث بن كعب، فقال: يا أخا بني الحارث، إن الناس يزعُمون أن أبا اليمن قرد، فما تقول؟ فقلت: الحجَّة ظاهرة، وكان متَّكئًا فاستوى قاعدًا وقال: وما حجَّتك؟ قلتُ: ينظر في كنية القرد، فإن كان يُكنى بأبي اليمن؛ فهو أبو اليمن، وإن كان يكنى بأبي قيس؛ فهو ممَّن يُكنى به. فوجَمَ، وجعل اليمانيُّة تَعَضُّ على شِفاهها، والقيسيَّة تكاد تزدردُني. ودخل بها الحاجب على مروان، وقام ابنُ هُبيرة، فدخل عليه ثم خرج وقال: أين الحارثيُّ؟ فقلت: ها أنا، فدخل بي على مروان وهو يضحك، فقال: إيه عنك وعن ابنِ هُبيرة! وايمُ اللهِ لقد حَجَجْتَه، أوليس يزيدُ بنُ معاوية يقول: تَمَسَّكْ أبا قَيسٍ بفَضْلِ عِنانها ... فليس عليها إنْ هَلَكْتَ ضَمانُ فلَمْ أرَ قِرْدًا قبلَه سَبقَتْ بهِ ... جِيادُ أميرِ المؤمنين أتانُ ¬

_ (¬1) تحرفَّت اللفظة في (خ) و (د) إلى: ذهبًا. والتصويب من "أنساب الأشراف" 3/ 165. (¬2) البيتان بنحوهما للحُمام الأزدي، وهما في "الحماصة البصرية" 2/ 53. وينظر "جمهرة الأمثال" للعسكري 1/ 160. (¬3) أنساب الأشراف 3/ 169. (¬4) في "تاريخ دمشق" 6/ 478 (مصورة دار البشير): زياد بن عبيد الله بن عبد الله، فإن صحّ ما وقع في (خ) و (د)؛ فيكون قد نُسب إلى جدّه.

وخرجتُ من عنده، ولحقَني إبنُ هُبيرة، فوضعَ يده بين منكبيَّ وقال: يا أخا بني الحارث، واللهِ ما كان كلامي إيَّاك إلا هَفْوة، وإن كنتُ لَأَرْبأُ بنفسي عن ذلك، ولقد سرَّني أن لُقِّنْتَ الحُجَّة عليَّ ليكون ذلك أدبًا لي فيما أستقبل، وأنا لك بحيث تحبُّ، واجعلْ منزلَك عليَّ. ففعلتُ، فأكْرَمَني وأحسنَ نُزُلي وضيافتي (¬1). وابنُ هُبيرة من قَيْس. ذكر مقتله: قد ذكرنا أن السَّفَاح وأبا جعفر أمَّنَاه، وأمّا بواسط وبها أبو جعفر، وكان السَّفَّاحُ لا يقطعُ أمرًا دون أبي مسلم، فكتب إليه في معناه، فكتب إليه أبو مسلم: إن الطريق السهل إذا وُضعت فيه الحجارة مَنعَتْ من سُلُوكه، فأزل هذا الحجر الثقيل من الطريق (¬2). وقال المدائني: لما كتب أبو جعفر بينه وبين ابن هُبيرة كتابَ الصُّلح؛ خرجَ إلى أبي جعفر وبينه وبينه ستر، فقال ابنُ هُبيرة: أيُّها الأمير، إنَّ دولتكم بِكْرٌ، فأذِيقُوا الناسَ حَلاوتَها، وجَنِّبُوهُم مَرَارتَها، تَصِلْ محبَّتُكُمْ إلى قُلُوبهم، ويَعْذُبْ ذِكْرُكُم على ألسنتهم، وما زلنا منتظرين لدعوتكم، فوفع أبو جعفر الستر بينه وبينه وقال في نفسه: عَجَبًا لمن يأمرُني بقتل مثل هذا (¬3)! وكان مع ابن هُبيرة يومَ خرجَ إلى أبي جعفر ألفٌ وثلاثُ مئة، فقيل له: أقْلِلْ، فما في كثرة الجيش فائدة. فصار يخرجُ في ثلاثة أنفس، يتغدَّى مع أبي جعفر، ويتعشَّى معه، ويُثني له وسادة، فيقال: إنه كان يُكاتب آلَ أبي طالب، ويدعو إليهم وإلى خلع أبي العباس. ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص 479، وذكر ابن عساكر بإثر الخبر عن ابن دريد أن هذه الرواية أصحُّ من الرواية التي جاء الخبر فيها مع محمد الملك بن مروان (وذكرها قبلها) لأن زيادًا لم يدرك عبد الملك. (¬2) بنحوه في "تاريخ" الطبري 7/ 454، و "تاريخ دمشق" 18/ 355 (مصورة دار البشير). (¬3) تاريخ خليفة ص 402 (أحداث سنة 132)، والعقد الفريد 1/ 79 - 80، وتاريخ دمشق 18/ 354 (مصورة دار البشير).

وجاءه كتابُ أبي مسلم يحثُّه على قتله، فكتب أبو العباس إلى أبي جعفر يأمره بقتله، فقال: لا أفعل وله في عنقي عهدٌ وأَيمان، فلا أضيِّعها يقول أبي مسلم، فكتب: ما أقتلُه يقول أبي مسلم، بل بنَكْثِه وغَدْره ودسيسه إلى آل أبي طالب، وقد أُبيح لنا دمُه، فلم يُجبه أبو جعفر وقال: هذا فَسَادُ الملك، فكتب إليه أبو العباس: لستَ منّي ولستُ منك إنْ لم تقتلْه، فقال أبو جعفر للحسن بن قَحْطَبَة: اقتله أنتَ. فامتنع، فقال خازم بن خُزيمة: أنا أقتلُه. فدخل عليه في جماعة من قُوَّاد خُراسان وهو في القصر وعنده ابنُهُ داود، وكاتبُه عُمر بن أيوب، وعدَّةٌ من مواليه، وعليه قميص مصريّ، ومُلاءة مورَّدة، وعنده الحجَّام وهو يريد أن يحجمه، فلما رآهم سجد، فقتلُوه وقتلُوا ابنَه وكاتبَه ومَنْ كان معه، وحملُوا رأسَه إلى أبي جعفر -وكان مَعْنُ بنُ زائدة غائبًا عند السَّفَّاح فَسَلِم- ويعث أبو جعفر برأسه إلى السَّفَّاح (¬1). وكان ليزيد ثلاثة أولاد: داود، قُتل معه، والمُثنَّى؛ وكان واليًا لأبيه على اليمامة، فقتلَه أبو حمَّاد المروزيّ، ومَخْلَد؛ له عقب (¬2). ولما قُتل قال بعض الخُراسانيين لبعض أصحابه: ما كانَ أكبرَ رأسِ صاحبِكم! فقال له: أمانكم كان أعظم (¬3)! ولما قُتل هدم أبو جعفر قصر واسط (¬4). ورثاه أبو عطاء السِّنْدِيّ، فقال: ألا إنَّ عينًا لم تَجُدْ يومَ وَاسِطٍ ... عليك بجاري دمعِها لَجَمُودُ عَشِيَّةَ قامَ النائحاتُ وشُقِّقَتْ ... جُيوبٌ بأيدي مَأتمٍ وخُدُودُ فإن تُمْسِ مَهْجُورَ الفِناءِ فربَّما ... أقامَ به بعدَ الوُفودِ وُفُودُ فإنَّك لم تَبْعَدْ على مُتَعَهِّدٍ ... بلى كلُّ مَن تحتَ التُّرابِ بعيدُ (¬5) ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 164 - 165. وينظر "تاريخ" الطبري 7/ 456، و"تاريخ دمشق" 18/ 356. (¬2) المعارف ص 409. (¬3) أنساب الأشراف 3/ 172، وفيه: أمانُكم له كان أعظم. (¬4) في المصدر السابق: أمر أبو جعفر بهدم مدينة واسط. (¬5) أنساب الأشراف 3/ 166، والشعر والشعراء 2/ 769، وتاريخ الطبري 7/ 456، والعقد الفريد 3/ 287، و"التذكرة الحمدونية" 4/ 203.

يونس بن ميسرة

يونُس بنُ مَيْسَرة ابن حَلْبس، أبو حَلْبَس الجُبْلاني، بجيم وباء منقوطة بواحدة، قبيلة من حِمْيَر، وهو من الطبقة الخامسة من أهل الشام. ولما دخل المسوِّدة دمشقَ؛ دخلوا مسجدَها، فقتلُوا مَنْ وجدُوا فيه، فقُتل يونسُ يومئذ، وكان ضريرًا، ولما قتلُوه أُخبروا بصلاحه، فقعدُوا يبكُون عليه. وكان صالحًا ثَقة، عاش عشرين ومئة سنة؛ أقام مدَّةً يُقرئ القرآن بجامع دمشق. ويقال: إن عبد الله [بن علي] لما هجم دمشق؛ خرج يونُس من الجامع إلى داره، فَرَمَحَتْهُ بغلةٌ فمات. أسند عن ابن عمر، وواثلة، ومعاوية، وغيرهم، وروى عنه الأوزاعيُّ وغيره (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر "طبقات" ابن سعد 9/ 471، و"حلية الأولياء" 5/ 250 و 252، و "مختصر تاريخ دمشق" 28/ 116 - 119 (ووقعت ترجمته ضمن خرم في "تاريخ دمشق") وينظر أيضًا "تهذيب الكمال" 32/ 54، 544، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 230.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [12]

النسخ الخطية المعتمدة في السنوات (133 - 499 هـ) 1 - نسخة الخزائنية، ورمزها (خ) وتتألف من عدة أجزاء متتابعة: أ- الجزء السابع وفيه السنوات (111 - 179 هـ). ب- الجزء الثامن (180 - 236 هـ). جـ- الجزء التاسع (237 - 309 هـ). د- الجزء العاشر (310 - 389 هـ). هـ- الجزء الحادي عشر (390 - 462 هـ). و- الجزء الثاني عشر (463 - 560 هـ). 2 - جزء من نسخة أحمد الثالث، فيه السنوات (115 - 142 هـ)، ورمزها (د). 3 - أجزاء من نسخة باريس، ورمزها (ب)، وهي: أ- جزء فيه السنوات (96 - 149 هـ). ب- جزء فيه السنوات (190 - 281 هـ). جـ- جزء فيه السنوات (358 - 405 هـ). د- جزء فيه السنوات (440 - 467 هـ). هـ- جزء فيه السنوات (464 - 517 هـ). 4 - أجزاء من نسخة المتحف البريطاني، ورمزها (ف)، وهي: أ- جزء فيه السنوات (218 - 278 هـ). ب- جزء فيه السنوات (282 - 460 هـ). جـ- جزء فيه السنوات (405 - 463 هـ). 5 - نسخة مجهولة رمزها (م) وتتألف من جزأين: أ- جزء فيه السنوات (327 - 448 هـ).

ب- جزء فيه السنوات (450 - 568 هـ). 6 - جزء من نسخة أخرى مجهولة رمزها (م 1) فيه السنوات (282 - 465 هـ). وانظر وصفًا مفصلًا لهذه النسخ في مقدمة الجزء الأول من الكتاب. * * *

أبواب في ذكر بني العباس

أَبواب في ذكر بني العباس البابُ الأول في خلافة أبي العباس السفاح واسمه عبد الله بنُ محمد بن عليِّ بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وأُمُّه رَيْطة (¬1) بنت عُبَيد الله [بن عبد الله] (¬2) بن عبد المَدَان بن الدَّيَّان، من بني الحارث بن كعب، وكانت قبل أن يتزوَّجها محمد عند عبد الملك بن مروان، فأولدها الحجَّاج بن عبد الملك، فهو أخو السفاح لأُمّه (¬3). وقال ابن الكلبي: أراد محمد أن يتزوَّج ريطة، فمنعه مثها بنو أميَّة؛ الوليد وسليمان؛ لأنه قيل لهم: زوالُ مُلككم على يد رجلٍ أمُّه حارثية، فلما قدم عمر بنُ عبد العزيز رحمه الله شكا إليه محمد، فقال: تزوَّج من شئت، فتزوَّجها، فأولَدَها أبا العباس، وعُبَيد الله، وداود، وآمنة (¬4). وقيل: إن محمدًا تزوَّجها بعدما طلَّقها [الحجاج بن] (¬5) عبد الملك، وكان صديقه فتنكر على محمد وعابه. وولد له السفاح بالشراة سنة خمس، وقيل: سنة أربع، وقيل: سنة ثمان ومئة، وولي الخلافةَ وهو ابنُ سبع وعشرين سنة. وكان أصغرَ من أخيه أبي جعفر، وكان ¬

_ (¬1) ويقال في اسمها كذلك رائطة. انظر تاريخ ابن عساكر تراجم النساء ص 105. (¬2) ما بين حاصرتين من أنساب الأشراف 3/ 90. (¬3) كذا قال المصنف، وهو خطأ تابع فيه المسعوديَّ في مروج الذهب 6/ 88، والصواب أن ريطة كانت عند عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ثم مات عنها، فتزوجها بعده الحجاج بن عبد الملك، فأولدها عبد العزيز بن الحجاج، ثم طلقها، فعبد العزيز بن الحجاج هو أخو السفاح لأمه. انظر: أنساب الأشراف 3/ 90، وتاريخ اليعقوبي 2/ 307، وتاريخ ابن عساكر 42/ 301، وتراجم النساء منه ص 105، والوافي بالوفيات 18/ 473. (¬4) في مروج الذهب 6/ 88: ميمونة، بدل: آمنة. (¬5) ما بين حاصرتين من أنساب الأشراف 3/ 90.

ذكر خروجهم من الشام إلى الكوفة

أبيض، طوالًا، وقيل: معتدل القامة، جَعْدًا، [له] (¬1) وَفْرةٌ، حسنَ الوجه واللحية، جميلًا، أشبه الناس بأبيه محمد، ويقال: إنه كان بينه وبين أبيه محمد في السِّن أربع عشرة سنة. وسُمِّي السَّفَّاح لما سفَحَ من دماء المُبْطِلين، وقيل: السفَّاح: هو القادر على الكلام. وكان لَسِنًا فصيحًا، لم يكن في الخلفاء أفصح منه. ويلقَّب بالمرتضى والقائم، والسفَّاحُ أشهر ألقابه. وقال أبو محمد علي بن أحمد بن حزم: أول الأسماء التي وقعت على الخلفاء: الصِّديقُ، والفاروق، وذو النورين، ثم لم يتسمَّ أحدٌ من خلفاء بني أمية بلقب، وإنما كان يُقال لهم: الخلائف، حتى قام أبو العباس فسُمِّي السفَّاح، ثم المنصور، وهما أول من تسمَّى بهذا الاسم، ثم المهدي محمد بنُ المنصور، وأول ما سُمي به محمد بن الحنفية، ثم محمد بنُ عبد الله بن الحسن، ثم من بعدُ جماعة من أمراء المغرب. وقد أخرج الخطيب أحاديث في "تاريخه" منها: عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرجُ رجل في انقطاعٍ من الزمن، وظهورٍ من الفتن، يُسمَّى السفَّاح، يكون عطاؤه المال حَثْيًا" (¬2). وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنَّا السفَّاح، والمنصور، والمهديُّ" (¬3). وهذه الأخبار لا تثبتُ مرفوعةً ولا موقوفة. ذكر خروجهم من الشام إلى الكوفة لما حُمِل إبراهيمُ الإمام إلى حرَّان نعى نفسَه إلى أهله حين شيعوه، وأمرهم بالمسيرة من الحِمَّة إلى الكوفة مع أخيه أبي العباس؛ خوفًا عليهم من مروان. قال المصنف رحمه الله: في عامَّة النسخ: الحِمَّة، وهو وهمٌ؛ لأن الحِمَّة مكان بحوران، والمكان الذي كان فيه بنو العباس يقال له: الحُمَيمة، بالبلقاء، وهي قرية ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من التنبيه والإشراف للمسعودي ص 309. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 238. وأخرجه أحمد (11757). (¬3) تاريخ بغداد 11/ 238.

بالشَّراة بأرض الشَّوْبَك، بينها وبين الشَّوْبَك مقدار يوم. فخرجوا، وهم: أبو العباس وأبو جعفر ويحيى بنو محمد بن علي، وداود وصالح وإسماعيل وسليمان وعبد الله وعيسى وعبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عباس، وموسى بنُ داود، وعيسى بنُ موسى، ويحيى بنُ جعفر بنُ تمام بن العباس، وعبد الوهاب بن إبراهيم الإمام (¬1). وقال ابنُ أبي الدنيا: خرج أبو العباس من الحِمَّة يريد العراق ومعه أخوه عبد الله بن محمد، وعبد الله، وعيسى، وموسى وأمه أم موسى بنت علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بدُومة الجَنْدَل، فقال لهم داود: أين تريدون؟ قالوا: الكوفة؛ فإنَّ لنا بها شيعةً، وقد كاتبنا أبو سلمة، فقال لهم داود: أتأتون الكوفة وشيخُ بني مروان بحران مُطِل على العراق والشام والجزيرة -يعني مروان- وشيخُ العرب في سادات العرب -يعني: يزيد بنَ عمر بن هبيرة- فقال أبو العباس: يا عم، من أحب الحياة ذل، ثم تمثَّل بقول الأعشى (¬2): فما ميتةٌ إن متُّها غيرَ عاجز ... بعارٍ إذا ما غالت النفس غُولُها فالتفت داود إلى من معه وقال: صدق ابنُ أخي، ارجعوا بنا معه نعيشُ أعزاء، أو نموت كرامًا، فرجعوا معه، فكان عيسى بنُ موسى يقول: إن أربعة عشر نفرًا خرجوا من الحِمَّة يريدون العراق يطلبون ما طلبنا لعظيمه هممُهم، كبيرة نفوسُهم، شديدةٌ قلوبُهم (¬3). قال الهيثم: فمرُّوا على ماء عليه حيٌّ من العرب، فنظرت امرأةٌ من الحيِّ في وجوههم، فقالت: تالله ما رأيتُ وجوهًا كاليوم، هذا خليفة -وأشارت إلى أبي العباس- وهذا خليفة -وأشارت إلى أبي جعفر- وهذا خارجي -وأشارت إلى عبد الله بن عليّ- فكان كما قالت. قال الواقدي: فقدموا الكوفةَ في صفر، فأنزلهم أبو سلمة في دار الوليد بن سعد في ¬

_ (¬1) ينظر تاريخ الطبري 7/ 423، والمنتظم 7/ 298؛ ففيهما بعض الاختلاف في ذكر من خرج مع أبي العباس. (¬2) ديوانه ص 227. (¬3) والخبر كذلك في أنساب الأشراف 3/ 144، وتاريخ الطبري 7/ 428، ومروج الذهب 6/ 91 - 92.

ذكر ظهورهم

بني أَوْد، وكتَمَ أمرهم عن القوّاد من الشيعة أربعين يومًا، وكتب إلى المدينة إلى آل أبي طالب، وأقام منتظرًا جوابهم. وكان أبو العباس كلما أرسل إليه في ظهورهم يقول: ما آن لكم أن تخرجوا بعدُ. وكان أهل خراسان إذا سألوه عن الإمام يقول: نحن في انتظاره. ولمَّا طال الأمر على أبي العباس أرسل إلى أبي سلمة يقول: أنا الليلةَ آتيك، فقال أبو سلمة لأسد بن المرزبان وسَلْم مولى قحطبة: إذا أتاني الليلة رجل من صفته كذا وكذا، فتحدَّث معي، وقمتُ وتركته، فاقتلوه؛ فإنه يريد أن يفسد علينا ما قد عزَمنا عليه، وجاءه أبو العباس فقال له: ما السببُ في كونك أقدَمْتنا وتُماطلُنا؟ وتناظرا ساعةً، فغضب أبو سلمة وأشار إلى القوم، ففهم أبو العباس، فتعلق بثوبه وضاحَكَه، وقام فخرج معه، ولما عاد أبو العباس إلى أهله قال: الآن أفلتُّ منه، وفي عزمه صَرفَ الأمر إلى غيرنا، فقال داود بنُ علي وأخوه عبد الله: الرأيُ أن تخرج فتعلم الشيعة والقوّاد بك (¬1). ذِكْر ظهورهم لما قوي أمرُ الدعاة بخراسان وشارفوا العراق استدعى أبو سَلَمة بني العباس إلى الكوفة، وصيَّرهم في منزله في سرداب، وكان يراعي الأخبار، وكان الدعاة يُؤمرون بقصده إذا ظهروا على الكوفة؛ ليُعرِّفهم الإمامَ فيسلِّمون الأمر إليه. فلما أوقع قحطبة بابن هُبَيرة الوقعة العظيمة على الفرات، وغرق قحطبةُ، وانهزم ابنُ هبيرة إلى واسط، ودخل ابنا قحطبة الكوفةَ، وطلبا أبا سلمة وخرج إليهما، قالا: أين الإمام؟ أخرِجه إلينا، فقال: لم يحضر الوقتُ الذي يجوز فيه ظهورُه، وأخفى الأمر عن بني العباس، وعزم على نقل الأمر إلى بني فاطمة على نبيِّنا وعليها الصلاةُ والسلام، وكاتَبَ جماعةً منهم، فتأخَّروا عنه. وساء ظنُّ بني العباس به، فاحتالوا حتى أخرجوا مولى لهم أسود كان معهم في السرداب، وقالوا: اعرفْ لنا الأخبارَ، فخرج وعاد، فعرَّفهم أن قحطبة غرق، وأن ¬

_ (¬1) انظر أنساب الأشراف 3/ 156.

ابنَيه دخلا الكوفة، وأن ابنَ هُبَيرة هرب إلى واسط، فقالوا: اخرُجْ، فتعرَّض لابني قحطبة، وعَرِّفهما مكانَنا، ومُرْهما أن يكبسا الدارَ علينا، فخرج العبدُ، وكان حُمَيد بن قحطبة يعرفُه، فتعرَّض له، فلما رآه أكبر رؤيتَه، وقال: ويحكَ! ما فعل ساداتُنا؟ أخبره بمكانهم، وأدَّى إليه الرسالةَ. فركب في طائفة من الجيش، وهجم الدار وأبو سلمة غافل، وأراه العبدُ موضعَ السِّرداب، فدخل حُمَيد فقال: السلامُ عليكم أهلَ البيت ورحمةُ الله وبركاته، فردوا عليه، فقال: أيكم ابنُ الحارثية؟ وكانت أمُّ أبي لعباس [عبد الله بن] (¬1) محمد بن علي حارثيةً، وكان إبراهيمُ الإمام لما بثَّ الدعاةَ قال: الإمامُ بعدي ابنُ الحارثية الذي معه العلامة، والعلامة قولُه تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5]، ولم يُسِرَّها براهيمُ إلا إلى أبي العباس، فلما قال ابنُ قحطبة: أيّكم ابنُ الحارثية؟ ابتدَرَ أبو لعباس وأبو جعفر كلُّ واحد يقول: أنا ابنُ الحارثية (¬2)، فقال ابنُ قحطبة: فأيّكم معه العلامة؟ قال أبو جعفر: فعلمتُ أنّي قد أُخرجتُ من الخلافة؛ لأني لم كن معي علامة، فقرأ أبو العباس الآيةَ، فسلَّم عليه ابنُ قحطبة بالخلافة، ثم انتضى سيفه، وقال: بايعوا أميرَ المؤمنين، فبايعه أخوتُه وأهلُه الذين كانوا معه في السِّرداب، أخرجه في الحال إلى المسجد، وأصعَدَه المنبر، فحُصِر عن الكلام، فتكلم دونه داود بنُ علي، وقام دونه بمِرْقاة. وجاء أبو سلمة وقد استوحَشَ، فدفع حُمَيد بن حطبة ي صدره وقال: أما زعمتَ أن الإمامَ لم يَقْدَمْ؟ فقال: إنما أردتُ أن أدفع ظهورَه حتى يهلك مروان، فقبل منه أبو العباس ذلك، وأجلسه إلى جانبه. قال الصُّولي: قدم أبو العباس وأهلُه الكوفةَ على أبي سلمة، فسترهم، وعزم على أن جعلها شورى بين بني عليٍّ وبني العباس حتى يختاروا، ثم قال: أخاف أن لا يتَّفقوا، فعزم على أن يعدل بها إلى ولد فاطمة عليها السلام. ¬

_ (¬1) في (د) و (خ): كانت أم أبي العباس حارثية، وأم محمد بن علي حارثية. وهو خطأ، والمثبت من الفرج بعد الشدة للتنوخي 4/ 273 - 274. (¬2) سيرد في الباب الثاني أن أم أبي جعفر بربرية، وأن اسمها سلامة، وهو ما اتفقت عليه مصادر ترجمته.

فكتب إلى جعفر بن محمد، وعبد الله بن حسن، وعُمر بن علي بن الحسين، وبعث بالكتب مع رجلٍ من مواليهم، فبدأ بجعفر، فأحرقَ كتابَه ولم يقرأه، وقال للرسول: قل له: أنتَ شيعة لغيرنا، وهذا جوابُه. وأما عبد الله فقبل الكتابَ، وركب إلى جعفر، فقال: هذا كتابُ أبي سلمة يدعوني إلى الأمر، ويرى أنِّي أحقُّ الناس به، وقد جاءته شيعتُنا من خراسان، فقال له جعفر: ومتى صاروا شيعتَكَ؟ وهل تعرفُ أحدًا منهم. أنتَ بعثتَ أبا مسلم إلى خراسان؟ وأغلَظَ له، فقال عبد الله: هذا الكلامُ منك لشيء. فقال: النصحُ واجب على كلِّ مسلم لكلِّ مسلم، فكيف أدَّخره عنك، فلا تُمنينَّ نفسك الأباطيل؛ فإنَّ هذه الدولة لهؤلاء القوم وليست لأحدٍ من ولد أبي طالب، وقد جاءني كتابُه بمثل ذلك فحرَّقتُه، فانصرف عبد الله غيرَ راضٍ، وأما عُمر فردَّ الكتاب، وقال: ما أعرفُ كاتبَه فأُجيبَه. وأبطأ الأمر على أبي سلمة وعلى أبي العباس إلى أن لقي حُميد بنُ قحطبة ومحمد بن صول مولى من مواليهم فدلّهما عليهم، فأخرجهم كما ذكرنا (¬1). وقال أبو اليقظان: كان أبو الجهم بنُ عطية، وأبو حُمَيد الطوسيُّ من كبار الشيعة الخراسانيين، فسألا أبا سلمة عن الإمام، فقال: لم يَقْدَم بعد، فلقي أبو حُميد مولى لأبي العباس يقال له: سابق الخوارزمي، فسأله عنهم، فقال: هم بالكوفة، قد أمرهم أبو سلمة أن يُخفوا أمرهم، فجاء أبو حُميد إلى أبي الجهم فأخبره. وقال البلاذُري: خرج صالح بنُ الهيثم رضيعُ أبي العباس ومعه سابق، فلقيهما أبو حُمَيد وكان يعرفُهما؛ لأنه كان يتردَّد إلى الإمام، فقال لصالح: ألستَ رضيعَ ابن الحارثية؟ وقال لسابق: ألستَ مولاه؟ قالا: بلى. قال: فما تصنعان هاهنا؟ فأخبراه، فجمع الشيعةَ ودخل عليهم، فبكى أبو العباس وقال: تركَنَا أبو سلمة هاهنا ولم يُعلمكم بنا، وبلغ أبا سلمةَ، فجاء فسلَّم على أبي العباس بالخلافة، فقال له أبو حُمَيد: على رَغْم أنفك يا ماصَّ بَظْر أُمِّه الخلالة! فقال له أبو العباس: مَهْ. ثم أخرج أبو العباس على بِرْذَون أبلَقَ، وقد أحدَقَ به أهلُه ومواليه، وداود بنُ علي إلى جانبه، والناسُ ¬

_ (¬1) انظر مروج الذهب 6/ 93 - 98، والبدء والتاريخ 6/ 67 - 69.

ذكر خطبة أبي العباس

يقولون: من هو أميرُ المؤمنين؟ ولا يعرفونه، فقصر داودُ دون أبي العباس، فعرف الناسُ أنه الخليفة، وأبو الجهم وأبو حُمَيد يمشيان بين يديه، وأبو سلَمة خلفَه على فرس (¬1). وبُويع ليلةَ الجمعة لثلاث عشرة مضت من ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين. وقيل: يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر. وقيل: في نصف جمادى الآخرة. وقال هشام: ظهَرَ يوم الأربعاء ويوم الخميس، وصلى بالناس الجمعة، وأولُ من بايعه موسى بنُ كعب التميميُّ الذي ألجمه أسد بنُ عبد الله بلجام حمار، وجذبه فكسر أسنانَه. وقال خليفة: بُويع بالكوفة في دار الوليد بن سَعْد مولى هاشم في بني أَوْد. وقال المغيرة: رأيتُ أبا العباس حين خرج إلى الجمعة على بِرْذَون أشهب بين عمِّه داود بن علي وأخيه أبي جعفر شابًّا جميلا، تعلوه صفرةٌ، دخل المسجد فَصَعِدَ المنبر، وصَعِدَ داود فوقف على عتبتين من المنبر، فحمد داودُ اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: أيُّها الناس والله ما علا منبرَكم هذا خليفةٌ بعد علي بن أبي طالب غير ابن أخي هذا. قال: ثم إني رأيتُه الجمعةَ الأخرى كأنَّ وجهه ترسٌ، وعنقَه إبريق فضة، وقد ذهبت الصُّفرة (¬2). ذكر خطبة أبي العباس قال: الحمدُ لله الذي اصطفى الإسلامَ لنفسه دينًا، وارتضاه وأيَّده بنا، وجعلنا أهلَه وحِصْنَه، والقوَّام به، والذابِّين عنه، والناصرين له، وألزَمَنا كلمةَ التقوى وجعلنَا أحقَّ بها وأهلَها، وخصَّنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرابته، وأنبتَنا من شجرته، واشتقَّنا من نبعته (¬3)؛ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] وأحلَّنا من الإسلام بالمنزل الرفيع، وخصَّنا بالتقديس والتطهير، فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ} [الأحزاب: 33] وقال: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرًا إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي} [الشورى: 23] فاللهُ فضَّلَنا، وأوجَبَ على الناس حقَّنا ومودَّتَنا. ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 156 - 157. (¬2) تاريخ خليفة بن خياط ص 409 - 410. (¬3) النَّبْع: واحدته نَبْعة، وهو شجر تتخذ منه القِسِي. اللسان: (نبع).

وذَكَر السبئية وعابَهم؛ حيث جعلوا الرياسةَ والخلافةَ في غيرنا (¬1). ثم قال: فلما قبض الله رسوله قام بالأمر من بعده أصحابه، فحووا مواريث الأمم، وعدلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فابتزوها وتداولوها، فجاروا فيها، وظلموا أهلها، واستأثروا بها، فأملى الله لهم حينًا حتى آسفوه، فانتقم منهم بأيدينا، وردَّ علينا حقَّنا، وتولَّى نصرَنا والقيامَ بأمرنا ليمُنَ بنا على الذين استُضعفوا في الأرض، وختَمَ بنا كما افتتَحَ بنا، وأنا السفاح المُبيح، والثائر المُبِير. ثم أثنى على أهل الكوفة، وزادهم في أعطياتهم مئةَ درهم مئة درهم، فدعوا له. وكان موعوكًا، فاشتدَّ به الوَعْكُ، فجلس على المنبر وقام داود دونه بمرقاتين فقال: الحمد لله الذي أهلك عدوَّنا، وأصار إلينا ميراثَنا من نبينا - صلى الله عليه وسلم -. أيها الناس، أقشعت حَنادِسُ (¬2) الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضُها وسماؤها، وطلعت شمسُها من مطلعها، وبزغ قمرها، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم؛ أهلِ الرأفة لكم، والعطف عليكم. أيها الناس، إنَّا والله ما خرجنا لنكثر مالًا، ولا لنحفر نهرًا، ولا لنبني قصرًا، ولقد كانت أموركم تُمِضُّنا (¬3)، ويعزّ علينا سوءُ سيرة بني مروان فيكم، واستذلالُهم لكم، واستئثارُهم بفيئكم ومغانمكم، والآن لكم ذمَّة الله، وذمَّة رسوله، وذمَّة العباس أن نحكم فيكم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فتبًّا لَبني حرب وبني مروان؛ حيث آثروا [العاجلةَ على الآجلة، والدار الفانية على الباقية، فركبوا] (¬4) الآثامَ، وظلموا الأنامَ، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم (¬5)، وجاروا على العباد، وأفسدوا في البلاد، وركضوا في ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (خ)، وفي تاريخ الطبري 7/ 425 وغيره: وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا. (¬2) الحنادس، مفردها الحِنْدس: وهي الظلمة، والحنادس: ثلاث ليال من الشهر؛ لظلمتهن. اللسان: (حندس). (¬3) مضّه الشيء وأمضّه: بلغ من قلبه الحزن به. القاموس: (مضض). (¬4) ما بين حاصرتين من (د). (¬5) في (د) و (خ): وعبثوا بالجرائم، والمثبت من تاريخ الطبري 7/ 427.

ميادين الغيّ جهلًا باستدراج الله، وأمنًا لمَكْرِه، فبُعدًا للقوم الظالمين. أيها الناس، إنَّ أمير المؤمنين إنَّما عاد إلى الخطبة بعد الصلاة لأنه كَرِه أن يخلِطَ بكلام الجمعة غيرَه، وإنما قطَعَه عن الكلام ما هو فيه من الوَعْك، فادعوا الله له بالعافية؛ فقد أبدلكم الله بمروان عدوِّ الرحمن، وخليفةِ الشيطان، الشابَّ المكتهل، والفتى المتمهِّل (¬1)، المقتفي بسَلَفِهِ الأخيار، وأهله الأبرار. ثم أثنى على أهل خراسان، ونزل. وقيل: إنه قال: وإن هذا الأمر فينا، وليس بخارج عنَّا، فظنَّ الناس أنه يدعو لنفسه، ففطِنَ، فقال: واعلموا أنه ما صَعِدَ المنبرَ بعد أمير المؤمنين عليٍّ مثلُ خليفتكم هذا، ففرح الناسُ ودعوا له، وأيقنوا أنَّ الخليفة هو أبو العباس. وكان بنو أميةَ يخطبون قعودًا؛ تكبُّرًا منهم، ومخالفة للسنة، فقام السفاحُ وخطبَ قائمًا؛ اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده -رضي الله عنهم-، فضجَّ الناسُ له بالدعاء، وقالوا: أحييتَ السنةَ يا ابنَ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولما صَعِدَ أبو العباس المنبرَ كان بيده عصًا، فوقعت من يده، فتطيَّر من ذلك، فناوله إياها داود بن علي، وأنشده: [من الطويل] فألقَتْ عصاها واستقرَّت بها النَّوى ... كما قرَّ عينًا بالإيابِ المسافرُ (¬2) وقال هشام الكلبي: بينا أبو العباس في خطبته بالكوفة، وهي أول خطبة خطَبَها، إذ قام إليه رجلٌ وفي عنقه مصحفٌ، فقطع عليه الكلام وقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجلٌ من آل أبي طالب، أَنْشُدك الله إلا أخذتَ بحقِّي ممَّن ظلمني. قال: ومن ظلمَكَ؟ قال: ابنُ أبي قحافة. قال: وما الذي فعل بك؟ قال: أخذَ ميراثَ أُمِّي فاطمة من فَدَك. قال: فمَنْ قام بعده؟ قال: ابنُ الخطَّاب. قال: فما فعَلَ في ميراثك؟ قال: استمرَّ على ظلمي. قال: فمن قام بعده؟ قال: ابنُ عفَّان. قال: فما فعل معك؟ قال: فعل كما فعل من تقدَّمه. قال: فمن قام بعده؟ قال: أبي عليٌّ. قال: استمرَّ على ظلمك، أم رد حقَّك ¬

_ (¬1) في (د) و (خ): المقبل، والمثبت من تاريخ الطبري 7/ 427، وتاريخ اليعقوبي 2/ 351. (¬2) مجمع الأمثال 2/ 101، والبيت لمعقر البارقي، وهو في الحماسة البصرية 1/ 241، وانظر تخريجه ثمة.

عليك؟ فانقطَعَ الرجلُ وجعل يلتفتُ يمينًا وشمالًا يطلب مكانًا يهربُ منه، فقال له أبو العباس: والله لولا أنها أولُ خطبةٍ خطبتُها بالعراق لأخذتُ ما فيه عيناك، ثم عاد إلى خطبته كأنما يقرؤها من قرطاس (¬1). ولما فرغ السفاحُ من خطبته قام إليه السيد فأنشده: [من السريع] دُونَكُموها يا بني هاشمٍ ... فجدِّدوا أمرًا بها طامسًا دونكموها لا علا كَعْبُ مَنْ ... أمسى عليكم مُلْكَها نافسًا دونكموها فالبَسوا تاجَها ... لا تعدَموا منكم لها (¬2) لابسًا خلافةَ الله وسلطانَه ... وعنصرًا كان لكم دارِسًا والمُلكُ لو شُوورَ في ساسة ... ما رامَ إلا منكمُ سائسًا لم يُبْقِ عبدُ الله بالشام مِنْ ... آلِ أبي العاص امرأً عاطسًا فقال له أبو العباس: سَلْ حاجتَكَ. قال: ترضى عن سُلَيمان بن حبيب بن المهلَّب، وتوليه الأهواز. قال: قد فعلت، وكتَبَ عهدَه، ودفعَه إلى السيد، فقدم به على سليمان، فلما وقعتْ عينُه عليه أنشده هذه الأبيات: [من المتقارب] أتيتُكَ يا قَرْم أهل العراق ... بخير كتابٍ من القائم أتيتُكَ من عند خير الأنا ... م وذاكَ ابنُ عمِّ أبي القاسم أتينا بعهدك من عنده ... على منْ يليكَ من العالم يولِّيك فيه جِسامَ الأمور ... فأنتَ صنيعُ بني هاشم فقال له سليمان: شريف، وشفيع، وشاعر، ووافد، ونسيب، احتكمْ. فقال: جاريةٌ جميلة ومن يخدمها، وبَدْرة ومن يحملُها، وفرس وسائسُه، وتَخْتٌ من الثياب. فقال: قد أمرتُ لك بكلِّ ما سألت، ولك في كلِّ سنة مثلُه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الأذكياء لأبي الفرج بن الجوزي ص 53. (¬2) في (د) و (خ): منها لكم، والمثبت من المنتظم 7/ 303، والوافي بالوفيات 9/ 201. (¬3) الخبر في المنتظم 7/ 303 - 304، والوافي بالوفيات 9/ 201 - 202. والسيد: هو أبو هاشم، إسماعيل بن محمد بن يزيد، المعروف بالسيد الحِمْيَري. والتخت: وعاء تصان فيه الثياب. القاموس: (تخت).

وقيل: إن السيِّد لما قال له سليمان: احتَكمْ، قال: [من الطويل] سأحكمُ إنْ حكَّمتني غيرَ مسرِف ... ولا مقصر يا ابن الكُماة الأكارمِ ثلاثةُ آلافٍ وعبدٌ وبغلةٌ ... وجاريةٌ حسناء ذاتُ مآكمِ وسرجٌ وبِرْذَون سريعٌ وكسوة ... وما ذاك بالإكثار من حكمِ حاكمِ على ذي نَدًى يعطيكَ حتى كأنما ... ترى بالذي يعطيكَ أحلامَ نائم أرحني بها من مجلسي ذا فإنَّني ... وحقِّكَ إن لم أُعطَها غيرُ رائمِ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) المنتظم 7/ 304.

السنة الثالثة والثلاثون بعد المئة

السنة الثالثة والثلاثون بعد المئة فيها ثار أهلُ خراسان على أبي مسلم، وزعيمُهم شَرِيك بنُ شيخ المُهْريّ، وانضافَ إليه ثلاثون ألفًا، وقالوا لأبي مسلم: ما بايعناكَ على سفك الدماء، وأخذ الأموال، والعملِ بغير كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله، وخاف منهم أبو مسلم، وخرج من مَرْو، وكانوا ببلخ، وقيل: ببخارى، وقد اجتمع إلى شَرِيك خلق كثير، فجهَّز إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي في جيوشه، والتقوا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقُتِل شَرِيك (¬1). وفيها عزل أبو العباس أخاه يحيى بنَ محمد عن الموصل، وكان قد ولاه إياها في السنة الماضية، فسفك الدماء. وكان أهلُ الموصل ثلاثة أصناف: صنف خوارج، وصنف لصوص، وصنف تجار، فنادى منادي يحيى: الصلاة جامعة، فاجتمعوا في الجامع، فجرَّد فيهم السيف، فاستأصلَهم، وهدم سورَها، وأباحَها، وكان يحيى عجولًا، قليل الرَّوِّيَة، فلقبوه الحَتْف، وجرى عليهم منه من القتل واستباحةِ الحريم ما لم يَجْرِ على غيرهم (¬2). قال يوسف الكوفيّ: حججتُ سنة ثلاث وثلاثين ومئة، وإذا رجلٌ متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: اللهمَّ اغفر لي، وما أُراكَ تفعل. فقلتُ له: ما هذا القنوط؟ فقال: ذنبي عظيمٌ، كنتُ مع يحيى بن محمد بالموصل، فأمرنا يوم جمعةٍ، فاعترضنا المسجد، فقتلنا ثلاثين ألفًا، ثم نادى مناديه: مَنْ علَّق سوطه على دار فهي له بما فيها، فعلقت سوطي على دار ودخلتُها فإذا رجل قاعدٌ، وابنان له وامرأة، فقتلتُ الرجل، وقلت للمرأة: هاتِ ما عندك وإلا ألحقتُكِ به (¬3)، فجاءت بمتاع وسبعة دنانير وقالت: ما عندي غيرُ هذا. فقتلتُ أحدَ الابنين، وقلتُ: هات وإلا قتلتُ الآخر، فلما رأت مِنّي الجدَّ قالت: ارفقْ فعندي لأبيهما دِرعٌ، فجاءت بِدرْعٍ مُذْهبة ما رأيتُ أحسن منها، فجعلتُ أقلّبها إعجابًا بها، وإذا على جانبها مكتوبٌ بالذهب: [من الوافر] ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 459. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 320. (¬3) في أمالي الزجاجي ص 53: وإلا ألحقت ابنيك به.

إذا جار الأميرُ وكاتباه ... وقاضي الأرض داهَنَ في القضاء فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ ... لقاضي الأرض من قاضي السماء قال: فارتعدتُ، وسقط السيف من يدي، وخرجتُ إلى ها هنا من وقتي (¬1). ولما بلغ السفَّاحَ فعلُ أخيه أعظَمَ ذلك، وعزله، وولى على الموصل عمَّه إسماعيل بنَ عليٍّ. وفيها مات داود بنُ علي بعد أن أفنى مَنْ كان في الحجاز من بني أُميَّة، وولَّى أبو العباس خاله زياد بنَ عُبيد الله (¬2) الحارثي على المدينة ومكة والطائف. وفيها فرَّق أبو العباس عمَّاله في البلاد، فبعث إلى البصرة والبحرين وعُمان وتلك النواحي عمَّه سليمان بنَ عليٍّ، وبعث محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد المَدَان الحارثي إلى اليمن، وولَّى عبد الله بنَ على وصالح بنَ علي الشامَ، ومحمد بن الأشعث إفريقية، فسار إليها فافتتحها. وفيها نزل ملك الروم على مَلَطْيَة، وكان عمر بنُ عبد العزيز رحمة الله عليه قد اشتراها وجعلها معقِلًا للمسلمين، فحصَرَها في هذه السنة وضايقها، وقاتلوه قتالًا شديدًا، وكان عبد الله وصالح على الشام، فلم يكن لهما به طاقةٌ، فطلَبَ منه المسلمون الأمانَ، فأعطاهم، ففتحوا له الأبوابَ، فدخل، وهدَمَ الجامع، والسور، ودارَ الإمارة، وبعث مع المسلمين خيلًا أوصلتهم إلى المأمن، ووفى لهم. وحجَّ بالناس زياد بن عُبَيد الله الحارثي وهو على الحجاز، وعلى الكوفة عيسى بنُ موسى، وعلى قضائها ابنُ أبي ليلى، وعلى البصرة وما والاها سليمان بنُ علي، وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى خراسان أبو مسلم، وعلى السِّند منصور بن جمهور مخالف لبني العباس، وعلى الشام عبد الله بنُ علي، وعلى الجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بنُ يزيد، وعلى دواوين الخراج خالد بنُ بَرْمَك. ¬

_ (¬1) أمالي الزجاجي ص 53. (¬2) في (د) و (خ): عبد الله، وهو خطأ.

حسان بن عتاهية

[فصل] (¬1) وفيها توفي حسان بنُ عتاهية ابن عبد الرحمن المصري، ولي إمرةَ مصر لهشام، ثم عُزِل عنها، وولاه إياها مروان سنة سبع وعشرين ومئة، وكان عالمًا، جالس عطاء بنَ أبي رباح، وسمع منه، قتَلَه شرعبة بأمر صالح بن علي سنة ثلاث وثلاثين ومئة (¬2). الحسن بنُ الحُرّ ابن الحَكَم النَّخَعيُّ [ويقال: ] الجُعفيُّ، من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة، أوصى له عَبْدة بنُ أبي لُبابة -وهو خالُه- عند وفاته بجارية، فأقامَتْ عنده لا يطؤها، فقيل له في ذلك، فقال: كان خالي عندي بمنزلة الوالد، فأنا أكره أن أطَّلِعَ مُطَّلَعَه. وقال الأوزاعي: ما قدِمَ علينا من العراق أفضلُ من الحسن. وكانت وفاتُه بمكة. أسند عن أبي الطفيل، وخاله عبدة، وغيرهما، وروى عنه محمد بنُ عَجْلان، وغيره، وكان ثقة قليلَ الحديث (¬3). داود بنُ علي ابن عبد الله بن عباس عمُّ السفَّاح، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وأُمُّه أمُّ ولد، بربريةٌ اسمُها لُبابة، ولَّاه أبو العباس مكة والمدينة، وحجَّ بالناس سنة اثنتين وثلاثين، وهي أول حجةٍ حجَّها ولدُ العباس، ثم صار إلى المدينة، فأقام بها أشهرًا، ثم ماتَ بالمدينة في شهر ربيع الأول -واستخلَفَ على المدينة ابنَه موسى، فلما بلغ السفَّاحَ ولَّى زيادًا الحارثيّ- وهو ابن اثنتين وخمسين سنة، وقيل: خمسًا وخمسين سنة. روى عن أبيه، وروى عنه محمد بن أعبد الرحمن بن، أبي ليلى وغيره، وولد سنة ثمان وسبعين، وليَ إمرةَ الكوفة قبل الحجاز. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (د). (¬2) الإكمال لابن ماكولا 2/ 456، وتاريخ ابن عساكر (مخطوط) 4/ 387 - 388. (¬3) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 473، وتاريخ دمشق (مخطوط) 4/ 425 - 429، وما بين حاصرتين منه.

عمر بن أبي سلمة

وسمع سالم بن أبي حَفصة وهو يطوفُ بالبيت ويقول لبيكَ يا مُهلكَ بني أُميَّة، فأعطاه ألفَ دينار. قدم داودُ دمشق غيرَ مرة، وكان بها لما وصل الخبرُ بوفاة هشام بن عبد الملك، وكتب إلى أخيه محمد بذلك، وكان بدمشق حين ابتدأ أهلُ المزة في التدبير على الوليد بن يزيد، وعوضوا عليه أن يُبايع ليزيد بن الوليد فأبى. وكان جوادًا، سمحًا، شجاعًا، فصيحًا، خطيبًا، شاعرًا، ورثاه إبراهيم بنُ هَرْمة فقال: [من المسرح] أَرْوَعُ لا يُخلِفُ العِداتِ ولا ... تمنعُه من سؤاله العِلَلُ لكنه سابغٌ عطيتَه ... يدركُ منه السُّؤَّال ما سألوا لا عاجزٌ عازب مروءته ... ولا ضعيفٌ في رأيه زللُ يحمدُه الجارُ والمباعدُ والـ ... أرحامُ تُثني بحسنِ ما يصلُ حَلَّ من المجد والمكارم في ... خيرِ محلٍّ يحلُّه رجل (¬1) عُمر بن أبي سلَمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهريُّ، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وأُمّه أمُّ ولد، قتَلَه عبد الله بنُ علي فيمن قتل مع بني أمية، أسند عن أبيه، وروى عنه سعد بنُ إبراهيم، وكان قليل الحديث، لا يحتجُّ بحديثه (¬2). محمد بن عمر ابنِ علي بن أبي طالب، أبو عبد الله، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وأُمُّه أسماء بنتُ عَقِيل بن أبي طالب، وكان له من الولد عُمر، وعبد الله، وعُبَيد الله، أُمُّهم خديجة بنتُ علي بن حُسين بن عليِّ بن أبي طالب، وجعفر، وأمُّه أمُّ هاشم، مخزومية (¬3). ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى 7/ 471، وأنساب الأشراف 3/ 95 - 97، وتاريخ دمشق 6/ 24 - 31، والمنتظم 7/ 323. وما بين حاصرتين من ابن سعد وابن عساكر. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 464 - 465، وفيه: وكان كثير الحديث، وتاريخ دمشق 54/ 55 - 61. (¬3) في (د) و (خ): وجعفر وأم هاشم أمهما مخزومية، والمثبت من طبقات ابن سعد.

سمع من أبيه، ومن عليِّ بن حُسين وغيرهما، وكان صدوقًا، ثقة، قليلَ الحديث، وفَدَ على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، وهشام بن عبد الملك (¬1). * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 323، 473، وتاريخ ابن عساكر 63/ 449 - 453، وانظر تهذيب الكمال 6/ 450.

السنة الرابعة والثلاثون بعد المئة

السنة الرابعة والثلاثون بعد المئة فيها في ذي الحجَّة تحوَّل السفَّاح من الكوفة إلى الأنبار، وشرع في بناء مدينته المعروفة بالهاشمية، وسببُه أن أبا مسلم كتب إليه: إنَّ أهل الكوفة شارَكوا شيعة أمير المؤمنين في الاسم، وخالفوهم في الفعل، ورأيُهم في آل أبي طالب الذي تعلمه، يُطمعونهم في ما ليس لهم، ويغوونهم في الباطل، ثم يخذلونهم، ولا أثر بعد عين، فلا تؤهِّلهم لجوارك فليست دارُهم لك بدار. فانتقل إلى الأنبار (¬1). وفيها خالف بسَّام بن إبراهيم بن بسام أبا العباس، وخرج عليه، واستمال جماعةً من قوَّاد خراسان، ونزل المدائن، فوجَّه إليه أبو العباس خازم بن خزيمة، فلقيه، واقتتلوا، فهرب بسَّام، وتبعه خازم، فمرَّ على جماعة من بني عبد المَدان أخوالِ أبي العباس بقريةٍ من قرى العراق يقال لها: دارُ المطامير وهم في مجلسٍ لهم، وكانوا نحوًا من خمسة وثلاثين منهم ومن مواليهم، فلم يُسلِّم عليهم خازم؛ لأنهم أجاروا رجلًا من أصحاب بسَّام يقال له: المغيرة، فلما رجَعَ شتموه حيث لم يُسلِّم عليهم، فقال: بالأمس تؤوون عدوَّ أمير المؤمنين، واليوم تشتموني؟ ! فأغلظوا له في القول، فضرب أعناقَهم، ونهب أموالهم، وعاد إلى الكوفة. واجتمعت اليمانيةُ وأخوالُ أبي العباس إليه، وقالوا: فعل خازم بأخوالك ما لم يفعله أحدٌ، وتجرَّأ على الخلافة بقتل أهلك، فهم أبو العباس بقتله، فدخل موسى بنُ كعب وأبو الجهم عليه، وقالا: إن أهل خراسان فعلوا ما قد علمت، وإن [ابنَ] خُزَيمة من أفاضلهم، والذي فعلَه في طاعتك وإقامةِ حرمتك، وإن كان ولابدَّ من قتله فنعيذك بالله أن تتولَّى ذلك بنفسك، ابعثْه إلى بعض الوجوه التي فيها أعداؤك، فإن هلَكَ بلغتَ مرادَك، وإن ظهر كان لك. وكان قد ظهر بجزيرة ابن كاوان وعُمان خوارج، فبعث إليهم، وكتب إلى سليمان بن علي إلى البصرة بتجهيزهم، فسار خازم في جيش من أهل خراسان ومعه أهله ومواليه إلى البصرة، وركب في السفن إلى عُمان وبها الجلندى وكان من الإباضية، ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 169 - 170.

وشَيْبان من الصُّفرية، [فالتقى ابن خزيمة بشيبان قبل الجلندى، فقتله] (¬1)، وجاء الجلندى، فاقتتلوا أيامًا، وظهر على [ابن] خزيمة، وقُتل إسماعيل أخو خازم لأمه، وجماعةٌ من أهل خراسان، وكان الجلندى نازلًا في بيوت من خشب، فحمل أصحابُ [ابن] خُزيمة قوارير النفط في رؤوس الرماح، وحملوا، فأحرقوا البيوتَ، فاشتغلوا بأولادهم وأهاليهم، ثم وضع [ابن] خُزيمة السيفَ فيهم، فقتل منهم سبع مئة مقاتل، وقتل الجلندى، وبعث برؤوسهم إلى البصرة (¬2). وفيها بعث أبو العباس موسى بنَ كعب إلى السِّند لقتال منصور بن جمهور، فسار في خمسة آلاف من العرب والموالي، وخرج منصور للقائه في اثني عشر ألفًا، والتقوا، فانهزم منصور وأصحابُه، ومات عطشًا في الرمال، وبلغ عاملَه على السند، وكان عيال منصور وخزائنُه بالمنصورة، فأخذهم وأخذَ أموالهم، ودخل الخزر، واستولى موسى على السند (¬3). وفيها بنى أبو العباس الأميال من مكة إلى الأنبار، وضرَبَ المَنَار على الطرق، وأقام البُرُد، واستخدم الرجال. وحجَّ بالناس عيسى بنُ موسى وهو على الكوفة، وكان على قضائها ابنُ أبي ليلى، وعلى مكة واليمامة والطائف زيادٌ الحارثي، وعلى اليمن عليّ بنُ الربيع بن عُبيد الله الحارثيّ -كان قد تُوفي في هذه السنة محمد بنُ عُبيد الله الحارثي، وكان على اليمن، فبعث السفَّاح مكانَه عليَّ بنَ الربيع- وكان على البصرة وأعمالها سليمان بنُ علي، وعلى قضائها عبَّاد بنُ منصور، وعلى السند موسى بنُ كعب، وعلى خراسان أبو مسلم، وعلى الموصل إسماعيل بنُ علي، وعلى أذربيجان محمد بنُ صول، وعلى الجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى الشام عبد الله بنُ علي، وعلى فلسطين صالح بنُ علي، وعلى مصر أبو عون، وعلى ديوان الخراج خالد بنُ برمك، واستقامت الدنيا لأبي العباس (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (د). (¬2) تاريخ الطبري 7/ 461 - 463، وانظر تاريخ الإسلام 3/ 595. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 464. (¬4) المنتظم 7/ 325.

إسماعيل بن محمد

وفيها تُوفي إسماعيل بنُ محمد ابن سَعْد بن أبي وقَّاص، أبو محمد، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وأُمُّه أمُّ ولد، وكان له من الولد أبو بكر، وأمُّ محمد، وأمُّ كلثوم، وأمُّ القاسم، أمّهم أمُّ سُلَيمان بنتُ عبد الله بن عُبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطَّاب، وأمّها عائشة بنتُ عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وله أحاديث، وكان ثقةً يعدُّ من فقهاء المدينة ومحدِّثيهم، وكان من كبار رجال سفيان بن عُيَينة. اجتمع هو والزهريّ فتذاكرا حديثَ تسليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، فقال إسماعيل: حدثني عامر بنُ سَعْد، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلِّم تسليمةً عن يمينه، وتسليمةً عن يساره حتى يُرى بياضُ خدَّيه، فقال الزهريّ: لم نسمع هذا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال إسماعيل: أكلَّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعتَ؟ قال: لا. قال: فالثلثين؟ قال: لا. قال: فالنصف؟ [قال: لا]. قال: فاجعل هذا في النصف الذي لم تسمعه (¬1). أسند عن أبيه، وأنس بن مالك، وسالم بن عبد الله بن عمر، وغيرهم، وروى عنه الزهريّ، ومالك بنُ أنس، وابنُ عُيينة في آخرين (¬2). يزيد بنُ يزيد ابن جابر الأَزْدي، من الطبقة الخامسة من أهل الشام، كان من الخائفين البكَّائين، أثنى عليه الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه، فقال: كان من صالحيهم. أسند عن الزهريِّ وغيره، وروى عنه الثوريّ وغيره، وكان ثقةً إن شاء الله (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خريمة في صحيحه (727)، وأبو نعيم في الحلية 8/ 176. وما بين حاصرتين منهما. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 467، وانظر السير 6/ 128. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 471، مختصر تاريخ دمشق 28/ 29 - 30، وانظر السير 6/ 158.

يونس بن محمد

يونس بن محُمد أبو عبد الله، مولى عَبد القَيس، من الطبقة الرابعة من أهل البصرة. قال: ما كتبتُ شيئًا قطُّ. وكان يُحدِّث ثم يقول: أستغفر الله، ثلاثًا. وقال محمد بنُ عبد الله الأنصاريُّ: رأيتُ سُلَيمان وعبد الله ابني علي بن عبد الله بن عباس، وجعفرًا ومحمدًا ابني سُلَيمان بن علي يحملون سرير يونس على أعناقهم. وكان يونسر خزَّازًا، فجاء رجلٌ يطلب ثوبًا، فقال لغلامه: انشر الرِّزمة (¬1)، فنشرها الغلام، وقال: صلى الله على محمد، فقال: ارفعه، وأبي أن يبيعه مخافةَ أن يكون قد مَدحه. وغلا الحريرُ في موضعٍ قريب من البصرة، وكان إذا غلا في ذلك الموضع غلا بالبصرة، فاشترى يونسُ حريرًا من رجل بثلاثين ألفًا، فلما كان بعد ذلك قال يونس للرجل: هل كنتَ علمتَ أنَّ الحرير غلا بأرض كذا؟ قال: لو علمتُ ما بعتُه. قال: فخُذ حريرَكَ، ورُدَّ المال، فرده. وجاء يونس بشاةٍ إلى السوق ليبيعها فجعل يقول: من يشتريها على أنها تقلع الوَتِد، وتبدِّد العلف؟ فقيل له: ما يشتريها أحد على هذا. فقال: ديني هو، أبيعه؟ ! وجاء رجلٌ من أهل الشام إلى سوق الخَزِّ، فقال: أريدُ مُطْرفًا بأربع مئة، فقيل له: هو عند يونس بن عُبَيد، فجاء إليه، فقال: ما عندي مِطْرفٌ إلا بمئتين. وأقيمت الصلاة، فقام يونس يصلِّي فجاء وقد باع ابنُ أخيه المطْرفَ من الرجل بأربع مئة درهم، فقال: وأين الرجل؟ قال: ذهب. قال: ويحكَ! كيف بعتَه إياه بأربع مئة وهو بمئتين؟ قال: رضي به. فتبعه يونس، وقال: يا عبدَ الله، المطْرفُ الذي باعكَ إياهُ ابنُ أخي بأربع مئة إنما هو الذي قلتُ لك: إنه بمئتين، فإن شئتَ فدعْه، أو خذه وخذ مئتين، فقال له الرجل: من أنتَ؟ قال: رجلٌ من المسلمين. قال: أسألك بالله من أنت؟ قال: أنا يونس بنُ عُبَيد. فقال: والله إنا نكون في نَحْر العدوِّ، فإذا اشتدَّ علينا الأمرُ قلنا: اللهمَّ فرج عنا بيونس بن عُبيد (¬2)، فيُفرّج عنا. وإنا لنُمنع القَطْر، فنسأل الله به فيسقينا. ¬

_ (¬1) الرزمة ما شُدَّ في ثوب واحد. القاموس: (رزم). (¬2) في حلية الأولياء 3/ 15: اللهم رب يونس بن عبيد فرج عنا، أو شبيه هذا.

واجتمع يونس وعبد الله بنُ عَوْن، فتذاكرا الحلال، فكلاهما قال: ما في بيتي درهم حلال. وقال هشام بنُ حسَّان: ما رأيتُ أحدًا يطلبُ العلم لله إلا يونس بنَ عُبَيد. ومرض يونس فقال أيوب السّخْيياني: ما في العيش بعدكَ من خير. وقال حمَّاد بنُ زيد: قال لنا يونس بنُ عُبيد: احفظوا عني ثلاثًا: [لا يدخلنَّ أحدُكم على سُلطان يَعِظه، و] (¬1) لا يخلوَنَّ [أحدكم] بامرأؤ شابة وإن أقرأها القرآن، ولا يمكننَّ [أحدكم] سمعَه من ذي هوى. وجاءه رجل يشكو الفقرَ والحاجةَ، فقال له: أيسرّكَ ببصرك الذي تبصرُ به مئةَ ألف؟ قال: لا. [قال: ] فبسمعكَ الذي تسمع به؟ قال: لا. قال: فبعقلكَ الذي تعقلُ به؟ قال: لا. وجعل يعدِّد أعضاءه. ثم قال: أرى لك [مئين] ألوفًا وأنتَ تشكو الحاجة! وقال: ما شبَّهتُ طالب الدنيا إلا برجلٍ نائم رأى في منامه ما يكره وما يحبّ، ثم انتَبَه وهو على ذلك. وقال إسحاق بنُ إبراهيم: نظَرَ يونس إلى قدميه لما احتضر وبكى، وقال: ما اغبرَّتا في سبيل الله. أسند عن نس بن مالك، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وكان عالمًا، زاهدًا، عابدًا، ورعًا، ثقةً، كثير الحديث، ومات سنة أربع وثلاثين، وقيل: سنة تسع وثلاثين ومئة (¬2). * * * ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 3/ 307، وما بين حاصرتين منه. (¬2) الطبقات الكبرى 9/ 259، وحلية الأولياء 3/ 15 - 23، وما سلف بين حاصرتين منه.

السنة الخامسة والثلاثون بعد المئة

السنة الخامسة والثلاثون بعد المئة فيها خرج زياد بنُ صالح من وراء النهر، فسار إليه أبو مسلم، وقطع النهر، ووصل إلى بخارى، فاستأمن إليه جماعةٌ من قوَّاد زياد، فقال لهم أبو مسلم: ما الذي دعاه إلى الخروج؟ قالوا: سِباع بنُ النعمان -وكان بآمُل- فبعث إليه فقتَلَه، ولما رأى زياد تفرُّق أصحابه عنه إلى أبي مسلم [استأمن إلى دهقان، فقتله، وجاء برأسه إلى أبي مسلم] وظفِرَ أبو مسلم بكتُبٍ من عيسى بن ماهان إلى القوَّاد تُفسد على أبي مسلم أمرَه، وتسعى بأبي داود خالد بن إبراهيم نائب أبي مسلم، فبعث أبو مسلم بالكتُب إلى أبي داود، فعاتَبَ عيسى بنَ ماهان، فأنكر، فأخرج له الكتُبَ، فسكت وكان أبو داود محسنًا إليه، فأُدخل ابنُ ماهان في جُوالِق (¬1) وضُرب بالعُمُد حتى مات، وعاد أبو مسلم إلى مَرْو (¬2). وحجَّ بالناس سُلَيمان بن عليٍّ وهو على البصرة وأعمالها، وكان على المدينة زيادٌ الحارثيُّ، وعلى مكة والطائف العباس بنُ عبد الله بن مَعْبَد بن العباس، وعلى الكوفة عيسى بنُ موسى، وعلى الجزيرة أبو جعفر، وعلى الشام عبد الله بنُ علي، وعلى الأردن صالح بنُ علي (¬3)، وعلى مصر أبو عَوْن، وعلى ديوان الخراج خالد بنُ بَرْمَك. [فصل] (¬4) وفيها تُوفي إسماعيل بنُ سالم أبو يحيى الأسَديُّ، الكوفيُّ، ولاه هشام بنُ عبد الملك موضع بغداد رابطة في خمس مئة فارس، فكانوا يغيرون على من قِبَلَهم من الخوارج وقعات (¬5). ¬

_ (¬1) وهو الوعاء، جمعه جَوالِق بفتح الجيم وكسر اللام. الصحاح والقاموس: (جلق). (¬2) تاريخ الطبري 7/ 466 - 467، وما سلف بين حاصرتين من (أ). (¬3) كذا في (د) و (خ)، وفي تاريخ الطبري 7/ 467، والمنتظم 7/ 326 أن الأردن كانت تحت ولاية عبد الله بن علي، وفي الطبري كذلك أن صالح بن علي كان على البلقاء وفلسطين. (¬4) ما بين حاصرتين من (د). (¬5) كذا في (د) و (خ)، ولم نقف على من ذكر تولية هشام بن عبد الملك له، وقد جاء في المنتظم 7/ 327: وكان =

رابعة العدوية

وكان شجاعًا، ديِّنًا، ورعًا، صالحًا. أسند عن الشعبي وغيره، وروى عنه سفيانُ الثوري وغيره. وسُئل الإمام أحمد رحمةُ الله عليه عنه فقال: ثقة ثقة، وقيل لابن معين: أثقة هو؟ قال: نعم، أوثقُ من أساطين الجامع (¬1). رابعةُ العَدَوية البصريةُ، الزاهدة، كانت مولاةً لآل عتيك، وكان سفياد الثوريُّ وأقرانُه يتأدَّبون بها. وقال جعفر بن سليمان: أخذ سفيانُ الثوري بيدي وقال: مُر بنا إلى المؤدِّبة التي لا أجدُ من أستريح إليه سواها، فدخلنا عليها، فرفع سفيانُ يديه وقال: اللهمَّ إني أسألُك السلامة، فبكت رابعةُ، فقال لها: ما يُبكيك؟ فقالت: أنتَ عرَّضتني للبكاء. قال: وكيف؟ قالت: أما علمتَ أن السلامةَ من الدنيا تركُ ما فيها؟ فكيف وأنتَ متلطِّخ؟ وقال عبد الله بنُ عيسى: دخلتُ على رابعة فوجدتها جالسةً، فجعلتُ أسمع وَقْعَ دموعها على البَوَاري (¬2) مثل وَكْفِ المطر: طَقْ طَقْ، ثم اضطربتْ وصاحتْ، فقمنا وخرجنا. وقال رياح القَيسيّ: احتاجت رابعةُ، فقيل لها: ألا تسألين أهلك يغيّرون من زيك؟ فبكت وقالت: وعزة ربي ما سألتُ الدنيا قط يملكها، فكيف أسألُها ممن لا يملكها؟ وقال لها رجل: ادعي لي، فقالت. من أنا؟ أطِعْ ربَّك وادْعُه؛ فإنه يجيب المضطرَّ إذا دعاه. ودخل عليها بن عبد العزيز (¬3) وكِلاب بن جُريّ، فتذاكروا بين يديها الدنيا، ¬

_ = أصله من الكوفة، ثم تحول فسكن بغداد قبل أن تبني وتسكن، وكانت ببغداد لهشام بن عبد الملك وغيره من الخلفاء خمس مئة فارس رابطة يغيرون على الخوارج إذا خرجوا في ناحيتهم قبل أن يضعف أمرهم. (¬1) ترجمته في طبقات ابن سعد 9/ 323، وتاريخ بغداد 7/ 174 - 177، والمنتظم 7/ 326 - 327. (¬2) البواري جمع بُوري: وهو الحصير المنسوج، وقد يكون من القصب. اللسان: (بور). (¬3) في صفة الصفوة 4/ 28: صالح بن عبد الجليل، وهو الصواب.

وأقبلوا يذمُّونها، فقالت لهم: أرى الدنيا بئرًا نبعُها في قلوبكم. قالوا: وكيف؟ قالت: لأنكم نظرتُم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم فتكلمتُم فيه، ومن أحبَّ شيئًا أكثَرَ من ذكره. وكانت تقول: أستغفر الله [من قِلَّة صدقي في قولي: أستغفرُ الله] (¬1). ودخل عليها سفيان الثوري فقال: واحُزْناه! فقالت: لا تكذبْ. قال: فما أقول؟ قالت: قُل: واقِلَّة حُزْناه؛ لأنك لو كنتَ محزونًا ما هنَّاك عَيش. وكتب إليها سلَيمان بنُ علي والي البصرة يخطبُها، وقال في كتابه: أما بعد، فإنَّ لي من غلَّتي في كلِّ يوم مئةً وعشرين ألف درهم، ولن تذهب الأيامُ والليالي حتى يصير لي مئتا ألف درهم، وإني راغبٌ فيك، والسلام. فكتبت خلف الكتاب: أما بعدُ، فإن الزهد في الدنيا راحةُ القلب والبدن، والرغبةُ فيها تُورث الهمَّ والحَزَن، وما يسرُّني أن الله تعالى خوَّلني أضعافَ ما خوَّلك وشغلني به عنه طَرْفةَ عين، فإذا قرأتَ كتابي هذا فاجعل الموت نُصبَ عينيك، فكأنْ قد جاء، والسلام. وقالت عَبْدة بنتُ أبي شوال وكانت تخدِمُ رابعة: كانت رابعة تصلّي الليلَ كلَّه، فإذا طلع الفجر هَجَعَتْ في مصلَّاها هَجعةً خفيفة حتى يُسْفر الفجر، ثم تَثِبُ إلى الصلاة فَزِعةً، وتقول: يا نفسُ كم تنامين! وإلى كم لا تقومين! يوشك أن تنامي نومةً لا تقومين منها إلا بصرخة يوم النشور. فكان هذا دأبَها طول عمرها. وقال عبد الله بنُ عيسى: طبخت رابعةُ قدرًا، فاحتاجت إلى بصلة، ولم تكن عندها، فجاء طائر في منقاره بصلة فألقاها إليها. وقال مِسْمَع بنُ عاصم: قالت رابعة: اعتللتُ علَّة، فمنعني عن قيام الليل والتهجد، فأقمتُ أيامًا أقرأُ وردي إذا ارتفع النهار؛ لما يُذكر أنه يعدِلُ قيامَ الليل، ثم إنَّ الله رزقني العافيةَ، فاعتادتني فترة في عقب العلَّة، وكنتُ قد سكنتُ إلى قراءة جزئي في النهار، وانقطع عنَي قيامُ الليل، فبينا أنا راقدةٌ ذات ليلةٍ رأيتُ في منامي كأنِّي رُفِعتُ إلى روضة خضراء ذات قصور، فبينا أنا أتعجبُ من حسنها إذ بطائرٍ أخضر وجارية تطاردُه كأنها تريد أَخْذَه، فشغلني حسنُها عن حسنه، فقلتُ: ما تريدين منه؟ دعيه؛ فوالله ما رأيتُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من صفة الصفوة 4/ 28.

طائرًا أحسن منه، فقالت: ألا أريكِ ما هو أحسنُ منه؟ قلتُ: بلى. فأخذت بيدي، فأدارت بي في تلك الروضة حتى انتهتْ بي إلى باب قصر، فاستفتحت، ففُتح لها بابٌ ظهر منه شعاع استبان من ضوء نوره ما بين يدي وما خلفي، فقالت: اُدخلي، فدخلت إلى بيتٍ يَحار فيه البصر، يتلألأُ حسنًا، ما أعرفُ في الدنيا شيئًا أشبِّهه به، فبينا نحن نجول فيه إذ رُفع لنا باب إلى بستان، فأهوتْ نحوَه وأنا معها، فتلقَّانا وصفاء كأنَّ وجوههم اللؤلؤ، بأيديهم المجامر، فقالت: أين تريدون؟ قلن: نريد فلانًا، قُتل في البحر شهيدًا، قالت: أفلا تجمِّرن هذه المرأة؟ فقلن: قد كان لها حظٌّ في ذلك فتركته. قالت رابعة: فأرسلتْ يدَها من يدي، ثم أقبلت عليَّ وقالت: صلاتُكِ نورٌ والعباد رقودُ ... ونومُكِ ضدٌّ للصلاة عتيدُ وعمركِ غُنْمٌ إنْ عقلتِ ومهلةٌ ... يسير ويفنى دائبًا ويبيدُ ثم غابت عنِّي، واستيقظتُ بنداء الفجر، فوالله ما ذكرتُها فتوهَّمتُها إلا طاش عقلي، وأنكرت نفسي. ثم غُشي على رابعة، فوالله ما نامت بعد هذه الرؤيا بليلٍ حتى ماتت (¬1). وقالت زُلفى بنتُ عبد الواحد (¬2): قلتُ لرابعة: يا عمَّة، لم لا تأذنين للناس يدخلون عليك؟ فقالت: وما أرجو من الناس؟ إن أتوني حَكَوا عني ما لم أقل أو أفعل ما لو رأيتُه لفزعت منه، واستوحشت منه، بلغني أنهم يقولون: إني أجدُ الدراهم تحت مصلاي، وأطبخُ القدرَ بغير نار، فقلت لها: إنهم يخبرون عنك أنَّك تجدين الطعام والشراب في منزلك: [فهل تجدين شيئًا فيه؟ ] (¬3) فقالت: يا بنتَ أخي، لو وجدتُ في منزلي شيئًا من ذلك ما مسستُه، ولا وضعتُ يدي عليه، ولكنّي أُخبرك أني أشتري الشيءَ فيبارَك لي فيه، وقال رِباح القَيسيّ: نظرتْ إليَّ رابعة وأنا أُقبِّل صبيًّا [من أهلي] (¬4) وأضمه إليَّ، فقالت: رياح، أتحبُّه؟ قلت: نعم، فقالت: ما كنتُ أحسب أنَّ في قلبك موضعًا فارغًا لمحبة غيره. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 365. (¬2) في (د): بنت عبد الوارث. (¬3) ما بين حاصرتين من تلبيس إبليس ص 369. (¬4) ما بين حاصرتين من (د).

قال ابنُ أبي الدنيا: فصرخَ رِياح، وسقط مغشيًّا عليه، فلما أفاق جعل يمسح العرقَ عن وجهه، ويقول: رحمةٌ منه ألقاها في قلوب العباد للأطفال. وجاء رجلٌ إلى رابعة فقال: إني كنتُ في ثَغْر مرابطًا، فرأيتُ منكرًا، فخرجتُ منه لأعمل في تغييره، فقالت له: ارجع إلى ثَغْرك؛ فإنك إن صرتَ إلى أبوابهم رأيتَ من المنكر ما يصغُرُ عندك ما خرجتَ في تغييره، ثم لا تأمَنُ على نفسك الفتن. وقالت: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامي، فقلت: يا رسول الله، اُعذرني؛ فإن محبَّة الله شغلتني عن محبَّتك، فقال: يا مباركة، إذا أحببتِ الله فقد أحببتِني. وذُكر بين يديها أن عابدًا في بني إسرائيل كان لا يَطْعَم الطعام في كلّ سنة إلا مرَّة واحدة، ينزل من صومعته، فيأتي مزبلة على باب ملك، فيتقمَّمُ منها من فضل مائدته، فقال رجل عندها: وما على هذا إذا كان بهذه المنزلة أن يسأل الله أن يجعل رزقَه في غير هذا؟ فقالت رابعة: إنَّ أولياء الله إذا قضى لهم قضاء لم يتسخَّطوه. وخرجت رابعةُ في يوم عيدٍ، فلما رجعت قيل لها: كيف رأيتِ العيد؟ فقالت: رأيتُكم خرجتُم لإحياء سنَّة وإماتة بدعة، فأظهرتُم نعمًا أدخلتُم بها على المسلمين ذلَّة. ولما قصَّ رياحٌ على الناس جاء يستأذن على رابعة، فلم تأذن له، وقالت: لم ظهر حزنه على الناس (¬1). ذكر وفاتها: قالت عَبْدة بنتُ أبي شوال: لما احتضرت رابعة دعتني، وقالت: يا عَبْدة، لا تُؤْذني بموتي أحدًا، وكفِّنيني في جبَّتي هذه. جبَّة من شعر كانت تقومُ فيها إذا هدأت العيون، فكفَّنَاها في تلك الجبَّة وخمار من صوف كانت تلبسه. قالت عَبْدة: فرأيتُها بعد ذلك في منامي بسنة أو نحوها وعليها حُلَّة استبرق خضراء، وخمار من سندس أخضر، لم أَرَ في الدنيا أحسنَ منها، فقلتُ لها: يا رابعة، ما فعلت تلك الجبَّة والخمار؟ فقالت: نُزِعا عني وأُبدلت بهما هذا الذي ترين عليَّ، وطُويت ¬

_ (¬1) في (د) حزنه للناس.

زهرة بن معبد

أكفاني، وخُتم عليها، ورُفعت إلى عليِّين ليكمل لي بها ثوابُها يوم القيامة، فقلت لها: أفلهذا كنت تعملين أيامَ الدنيا؟ فقالت: وما هذا عند ما رأيتُ من كرامة الله لأوليائه؟ قلت: فما فعلت عبيدة بنتُ أبي كلاب؟ فقالت: هيهاتَ هيهاتَ، سبقتنا والله إلى الدرجات العُلَى. قلت: بمَ ذلك، وقد كنتِ عند الناس أكبر منها؟ قالت: لأنها لم تكن تبالي على أيِّ حال أصبحتْ من الدنيا وأمستْ، فقلت: فما فعل أبو مالك [تعني ضَيغمًا] (¬1) قالت: يزور الله متى شاء. قلت: فما فعل بِشْر بنُ منصور؟ قالت: بخ بخ! أُعطي والله فوق ما كان يُؤمِّل، فقلت: مُرِيني بأمرٍ أتقرَّب به إلى الله قالت: عليك بكثرة ذِكْره، أَوْشَكَ أن تغتبطي بذلك في قبرك. وكانت وفاةُ رابعة رحمةُ الله عليها بالبصرة هذه السنة (¬2). زُهرة بنُ مَعبد ابن عبد الله بن هشام التَّيميُّ، من الطبقة الثالثة من أهل مصر (¬3)، كان من الأبدال، وكان يسكن الفُسْطاط، ثم انتقل إلى الإسكندرية، ومات بها. قال زُهرة: قال لي عمر بنُ عبد العزيز: يا أبا عَقِيل، أين تسكنُ؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، الفُسْطاط، فقال: أتسكنُ الخبيثة المُنتنة، وتدع طيبة؛ فإنك تُحصِّل بها الدنيا والآخرة، ولست أعني طيبة بالمدينة، وإنما أعني الإسكندرية، ولولا ما أنا فيه لأحببتُ أن يكون منزلي بها حتى يكون قبري بين ذينك الميناءين. حدث زهرة عن ابن عمر وابن الزُّبير وغيرهما، وروى عنه المصريون (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (د). (¬2) انظر ترجمة رابعة العدوية وأخبارها في الرضا عن الله (21)، والمنامات (51)، كلاهما لابن أبي الدنيا، وتاريخ بغداد 2/ 365 - 366، وصفة الصفوة 4/ 27 - 30، ووفيات الأعيان 2/ 285 - 288، والسير 8/ 241 - 242. (¬3) في (د) و (خ): من أهل البصرة، وهو خطأ، والمثبت من ابن سعد 9/ 521، وفي تاريخ ابن عساكر 6/ 444: مدني سكن مصر. (¬4) المنتظم 7/ 328، وانظر تهذيب الكمال 3/ 33.

سليمان بن هشام

سليمان بنُ هشام ابن عبد الملك بن مروان، قد ذكرنا مبايَنَتَه لمروان، فلما قُتل مروان بعث إلى أم سلمة بنت يعقوت المخزومية زوجةِ السفاح -وكانت قبله عند مَسْلَمة بن هشام بن أخي سليمان، وطلَّقها- وسألها أن تكلِّم السفاح فيه، فكلَّمته وقالت: ما زال مباينًا لمروان، والتجأ إلى الخوارج وقاتَلَه، ومضى إلى الهند، وقد قدم العراق، وأُريد أن تكتب له أمانًا، فأَمر بأن لا يُتعرَّض له، فكان يحضر مجلسَ السفَّاح ويُدْنيه، وكتب [أبو مسلم إلى] (¬1) السفاح يقول: بقي من الشجرة الملعونة فرعٌ، فإن أهملتَه بسَقَ، وإذا كان عدوُّك ووليُّك عندك سواء، فمتى يرجو المطيعُ خيرَكَ، ويخاف عدوُّك المخائف عنك، وأشار بقتله فلم يقتله، فدسَّ أبو مسلم إلى سُدَيف مالًا، وقال: قل شعرًا، فدخل سُدَيف يومًا على السفَّاح، فرأى سليمان عنده، فقال: [من الخفيف] يا ابنَ عم الرسول أنتَ ضياءٌ ... استبنَّا بك اليقينَ الجليّا لا يغرنك ما ترى من رجالٍ ... إن تحت الضُّلوع في داءً دويّا فضَعِ السيفَ في ذوي الغدر حتَّى ... لا ترى فوقَ ظهرِها أمويّا قطَنَ البُغضُ في المُشاش فأضحى ... ثاويًا في قلوبهم مطويّا فقال سليمان: قتلتَني قتلكَ الله، ثم قام، فقال: يا أبا العباس، إنَّ هذا يستحثك (¬2) علي، وإنك تريد اغتيالي، فقال السفاح: يا جاهل، ومَنْ يمنعُني منك؟ فقال: أمانُك، فقال لعبد الجبار صاحب شرطته: اضربْ عنقَه، فضربَ عنقَه وعنقَ ولديه، وصلَبَهم. ويُروى أن سُديف أنشده بيتين آخرين لما لم يقتل سليمان، فقال: [من الوافر] علامَ وفيم تُتْرَكُ عبدُ شمس ... لها في كل ناحية ثُغاءُ فما بالرَّمْس من حرَّان فيها ... وإن قُتلت بأجمعها وفاءُ فسكتَ السفَّاح، فقال: إنَّ سليمان لو لم يقم، ويفحش في كلامه، ولم يخاطب السفاح بإمرة المؤمنين، لما قُتل (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (د). (¬2) في (خ): يستحدك، وفي أنساب الأشراف: يشحذك، والمثبت من (د). (¬3) أنساب الأشراف 3/ 182 - 183، وانظر الأغاني 4/ 343 وما بعدها.

عبد الله بن السائب المخزومي

عبد الله بن السائب المخزومي من الطبقة الثالثة من أهل المدينة، والسائبُ له صحبة، وكان خليطَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال في حقِّه: "نعم الخليطُ السائبُ، لا يُشاري، ولا يماري" (¬1). وكان عبد الله أديبًا، عفيفًا، مغرى بحبِّ الغزل، يهتزُّ عند سماعه، صام يومًا، فلما صلَّى المغرب وقُدّمت المائدةُ سمع قائلًا يقول ويترنَّم بقول جرير: إن الذين غَدَوا بقلبك غادروا ... وَشَلًا بعينك لا يزال مَعِينا غيَّضن من عَبَراتهن وقلن لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا (¬2) فقال عبد الله: كلُّ امرأةٍ له طالقٌ، وكلُّ مملوك له حرّ إن أفطَرَ في هذه الليلة إلا على ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (15505)، والخطيب في تاريخ بغداد 11/ 132، وأخرجه أبو داود (4836)، وابن ماجه (2287)، بنحوه، وجاء عندهما أن السائب هو الذي قال ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -. والحديث مضطرب جدا، قال ابن عبد البر في ترجمة السائب من الاستيعاب (1061): منهم من يجعل الشركة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للسائب بن أبي السائب، ومنهم من يجعلها لأبي السائب أبيه، ومنهم من يجعلها لقيس بن السائب، ومنهم من يجعلها لعبد الله بن السائب، وهذا اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجة. اهـ. أما جعل المصنف لعبد الله بن السائب من الطبقة الثالثة من أهل المدينة، فلم نقف على من وافقه على ذلك سوى ما جاء في تاريخ بغداد 3/ 131، والمنتظم 7/ 329 من أنه مديني، وزاد الخطيب أنه قدم الأنبار على أبي العباس السفاح، والله أعلم بصواب ذلك كله؛ فإن عبد الله بن السائب بن أبي السائب المخزومي عداده في صغار الصحابة، وهو مقرئ أهل مكة، وذكره ابن سعد 6/ 94 - 96 في الطبقة الرابعة فيمن أسلم عند فتح مكة، وكان قد ذكر قبله ترجمة أبيه في الطبقة ذاتها، وأورد له حديث شركته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك ترجم ابن عبد البر لعبد الله بن السائب في الاستيعاب (1492)، وقال: من قراء أهل مكة، سكن مكة وتوفي بها. اهـ. وكذلك قال الذهبي في السير 3/ 388، وقال في تاريخ الإسلام 2/ 657: توفي بعد السبعين، وقيل غير ذلك. وأما والده السائب بن أبي السائب فقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب (1061) أنه قد اختلف في صحبته، وأن منهم من جعله فيمن قتل بوم بدر كافرًا، ثم رجح إسلامه وأنه من جملة المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامه منهم. وانظر كذلك تهذيب الكمال 3/ 104، و 4/ 141 - 142. ولعل عبد الله بن السائب الذي ترجم له الخطيب وابن الجوزي والمصنف هو غير الصحابي، فاختلطت ترجمة هذا في ترجمة هذا، والله أعلم بالصواب. (¬2) ديوان جرير بشرح ابن حبيب 1/ 386. والوشَل: الماء السائل شيئًا بعد شيء.

عطاء بن أبي مسلم ميسرة

هذين البيتين. وسمع ليلة وهو في المدينة منشدًا ينشد ويقول: [من البسيط] أفدي الذين أذاقوني مودَّتَهم ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رَقَدوا واستنهضوني فلمَّا قمتُ نحوَهمُ ... بثقل ما حمَّلوني في الهوى قَعَدوا لأخرجنَّ من الدنيا وحبّهمُ ... بين الجوانح لم يشعر به أحدُ حسبي بأن تعلموا أنِّي محبُّكم ... قلبي وأن تجدوا بعضَ الذي أجدُ ألقيتُ بيني وبين الحبِّ معرفةً ... وليس تنفدُ حتى ينفدَ الأبدُ وليس لي مُسْعِدٌ في الحبِّ يُسْعِدُني ... وقد بليتُ وقد أضناني الكَمَدُ وكانت ليلةً شديدة البرد، فخرج عبدُ الله من داره وصاح به: يا هذا، قد وجدتَ المُسْعِد، أين تبغي؟ قال: وادي العرج. وهو على أميالِ من المدينة، فشيَّعه إلى هناك، ورجع وقد كاد يتلَفُ، فقيل له: خاطرتَ بنفسك والبردُ شديد! فقال: ساعدتُ محبًّا، وأحييتُ مسلمًا، وأنلت مكرمةً، وأبقيتُ لي ذِكْرًا جميلًا (¬1). وكانت وفاتُه بالمدينة. عطاء بنُ أبي مسلم مَيسرة أبو عثمان الخُراسانيُّ البَلْخي، مولى المهلَّب بن أبي صُفْرة، من الطبقة الثالثة من أهل الشام، كان عالمًا، زاهدًا، فصيحًا من أهل خراسان. قال: صيامُ النهار، وقيامُ الليل، أيسرُ من شرب الصديد، ومقطَّعات النيران والحديد، الوَحَاء الوَحاءَ (¬2)، النَّجاء النَّجاءَ. جدّوا في دار الفناء لدار البقاء، واجعلوا الدنيا كشيء فارقتموه، فوالله لتفارقُنَّها كرهًا، واجعلوا الموتَ كشيء ذُقتموه، فوالله لتذوقنَّه كرهًا، واعلموا أن سفر الدنيا منقطعٌ، وأكيَسُ الناس من تجهَّز لسفر لا ينقطع. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 134 - 135، والمنتظم 7/ 329 - 330. والأبيات للعباس بن الأحنف، وتنسب كذلك إلى بشار بن برد. (¬2) أي: البِدارَ البِدارَ، والإسراع. اللسان: (وحي).

يحيى بن محمد

وقال: ما من عبدٍ يسجدُ لله سجدة في بقعةٍ من بقاع الأوض إلا شهدتْ له يوم القيامة، وبكت عليه عند موته. مات في سنة خمس وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين بأريحا من أرض بيت المقدس، فحُمل إلى المقدس فدفن هناك. أسند عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبي هريرة، وأوسل عن معاذ بن جَبَل، وروى عن ابن المسيب وغيره، أوروى، عنه عمر بنُ عبد العزيز، والثوري، وخلقٌ كثير من الأئمة، وكان ثقةً، صدوقًا، فاضلًا (¬1). يحيى بن محمد ابنِ عليِّ بن عبد الله بن عباس، خرج مع إخوته وأعمامه من الشَّرَاة لطلب الخلافة، وولَّاه السفَّاح الموصل، ففعل فيها ما فعل، فعزَلَه، ثم ولَّاه فارس، فمات بها، وأمُّه أمُّ الحَكَم بنتُ عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (د). وانظر ترجمة عطاء في طبقات خليفة 2/ 801، وحلية الأولياء 5/ 193 - 209، وتاريخ ابن عساكر 48/ 5 - 27، والمنتظم 7/ 331. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 128. وانظر الكلام عن فتك يحيى بن محمد بأهل الموصل فيما سلف من أحداث سنة 133 هـ.

السنة السادسة والثلاثون بعد المئة

السنة السَّادسة والثلاثون بعد المئة فيها قدم عبد الله بنُ علي من الشام إلى الأنبار، وأبو العباس بها في قصره، وقيل: كان بالهاشمية، فأكرمه، وعقَدَ له على الصائفة في أهل خراسان مضافًا إلى قِنّسرين، وحمص، وحماة، والعواصم، ودمشق، والشام، فعاد إلى الشام. وفيها عهِدَ أبو العباس إلى أخيه أبي جعفر، ومن بعده إلى عيسى بن موسى، وختَمَ على العهد بخاتمه وخواتيم أهل بيته، وكان قد مرض وأخوه أبو جعفر في الحج فخاف. وفيها كتب أبو مسلم إلى السفاح يستأذنه في الحج، فأذِنَ له، فقدِمَ عليه بالأنبار، فأمر الناسَ بتلقِّيه، فتلقَّاه الأشراف، ولما دخل على أبي العباس أكرمَه، وأنزله قريبًا منه، فكان كلّ يوم يأتيه للسلام، فقال السفاح: لولا أن أبا جعفر يحج العام لاستعملتُك على الموسم. وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعدًا، وكان أبو العباس لما صفَتْ له الأمور بعث أبا جعفر إلى أبي مسلم يأمره أن يأخذ البيعةَ لأبي العباس وأخيه أبي جعفر من بعده، ففعل. فلما قدم أبو مسلم على أبي العباس قال له أبو جعفر: اُقتله؛ فوالله إنَّ في رأسه لغَدْرة، وأطعني فيه، فقال له: يا أخي، قد عرفتَ ما كان من بلائه وقيامه في أمرنا، فقال: إنما كان ذلك بدولتنا، ولو أقمتَ أقل الناس لقام به. قال: فكيف بأصحابه؟ قال: إذا قتلناه ذلُّوا وتفرَّقوا، وأنا أتولَّى قتلَه إذا دخل عليك، فقال له: يا أخي، عزمتُ عليك إلا كففت عن هذا، فقال له: أخاف إن لم تتغدَّ به اليوم يتعشَّى بنا غدًا. قال: فدونَكَه. وخرج أبو جعفر عازمًا على قتله، وندم أبو العباس، فبعث إليه خصيا، فوجده محتبيًا بسيفه، فقال له: أمير المؤمنين يقول لك: الأمرُ الذي عزمتَ عليه لا تنفذه، فكفَّ أبو جعفر (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 468 - 469. وانظر الإمامة والسياسة لابن قتيبة 2/ 132، وعنده: فوجده محتفيًا بسيفه، بدل: محتبيًا.

وفي رواية: كتب أبو مسلم إلى أبي العباس يستأذنُه في الحجّ، فأذِنَ له، وكتب إليه أن اقدم في خمس مئة من الجند، فكتب أبو مسلم: إني قد وتَرت (¬1) الناس، فلا آمنُ على نفسي، فكتب إليه: فأقبِل في ألف، فإنما أنتَ في سلطان أهلك، وطريقُ مكة لا تحمل العسكر، فشخَص ثمانية آلاف فرَّقهم فيما بين نيسابور والرَّي، وقدم بالأموال والخزائن، فجعلها في الرَّي، ثم قدم في ألف، وكان أبو جعفر على الجزيرة وإرمينية وأذربيجان، فاستأذن أخاه في الحج فأذنَ له، فقدم عليه، واستخلف على عمله مقاتل بن حكيم العكِّي. ولما دخل أبو مسلم على أبي العباس كان عنده أخوه أبو جعفر، فلم يُسلِّم عليه أبو مسلم، فقال له أبو العباس: يا أبا مسلم، هذا أخي أبو جعفر، فقال: إنَّ مجلس أمير المؤمنين لا تُقضي (¬2) فيه الحقوق. قال أبو اليقظان: كتب أبو مسلم إلى أبي العباس يستأذنُه في الحجِّ، فكتب إليه: الجهادُ أفضل. فكتب إليه: إني حججتُ بغير مالي، ولا بد لي منه، فأذِنَ له، فسار إلى العراق، وقال في طريقه لخواصِّه: إني أرجو أن يموت أبو العباس، فأغلِبَ على الأمر. وكتب عيونُ أبي العباس إليه بذلك، فلما دخل عليه رأى من أبي العباس جفوة، فلما شاوره أخوه، وأشار بقتله، علم أنَّ أبا جعفر فيه على الصواب، وعزم على قتله، ثم توقَّف. وقال أبو الهيثم: إنما قصد أبو مسلم بالحجِّ أن يصلِّي بالناس، ويقف بعرفة، وفهم أبو العباس، فكتب إلى أخيه أبي جعفر، وكان بالجزيرة: إن أبا مسلم قد استأذن للحج، وهو يظنُّ أني أوليه الموسم، فاقدَم حاجًّا؛ لئلا يقدَم، فقدِم أبو جعفر، واستخلف على أرمينية الحسن بن قحطبة، وقدم بعده أبو مسلم، فقال: ما وجد أبو جعفر عامًا يحجُّ فيه غيرَ هذا؟ ثم سار أبو جعفر وأبو مسلم إلى الحجّ. قال هشام: فكان أبو مسلم يتقدَّم أبا جعفر بمرحلة، فكان يحفر البِرَكَ والمصانع، ويتصدَّق، ويحمل المنقطعين، فكان الصِّيت والذِّكر له، ولما انقضى الحجُّ نفر أبو ¬

_ (¬1) في (د) و (خ): زبرت، والمثبت من الطبري 7/ 469، والمنتظم 7/ 333. (¬2) في (د): لا يقصر، وهي في (خ) غير منقوطة، والمثبت من: نساب الأشراف 3/ 188.

مسلم قبل أبي جعفر، فازداد حَنَقًا عليه، ولما عاد من الحج نزل أبو مسلم بذات عِرْق، ونزل أبو جعفر ببستان ابن عامر، فجاء الخبر بوفاة أبي العباس وولايته بعدَه، ومن بعده عيسى بنُ موسى، وأنَّ عيسى هو الذي أخذ البيعة لأبي جعفر. وقال الهيثم: لما أخذ البيعةَ له عيسى بنُ موسى في اليوم الذي مات فيه أبو العباس كتب إليه يخبره بذلك، وبعث بالكتاب مع محمد بن الحُصَين العَبْديّ، فالتقى أبا جعفر بمكان يقال له: ضُفينة (¬1)، فتفاءل أبو جعفر، وقال: صفا لنا أمرُنا. وقيل: بمكان يقال له: ذلة (¬2)، فقال: ذل لنا الأمرُ، فأرسل إلى أبي مسلم يقول له: قد حدَثَ أمرٌ، فأسرع إليَّ، فجاءه، فألقى إليه الكتابَ، فلما قرأه بكى واسترجع، ونظر إلى أبي جعفر، فرآه قد جَزعَ جزعًا شديدًا، فقال له: تأتيك الخلافةُ وتجزع؟ فقال: أخاف شر عبد الله بن عليٍّ، وشيعة (¬3) عليّ، فقال: لا بأس عليك، أنا أكفيكَ أمرَه؛ لأنَّ عامة مَنْ معه من خراسان، وهم لا يعصوني، فسُرِّي عن أبي جعفر، وبايعه أبو مسلم، ثم قَدِما الكوفة. * * * ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (خ)، وهو موافق لما في مختصر تاريخ دمشق 13/ 313، وفي الطبري 7/ 471، وتاريخ اليعقوبي 2/ 364: الصُّفَيَّة. وانظر معجم البلدان: 3/ 415. (¬2) في تاريخ الطبري 7/ 471، وتاريخ اليعقوبي 2/ 364: زَكِية. وانظر معجم البلدان 3/ 146. (¬3) في (د): وشغبه. والمثبت موافق لما في الطبري 7/ 472.

الباب الثاني في خلافة أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس

الباب الثاني في خلافة أبي جعفر عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس وهو أبو الخلفاء العباسيين من لدنه وإلى هلمَّ جرّا، وأمه سلامةُ، بَرْبَرِية، وقيل: هي بنتُ بشير، مُزَنية. وُلد بالشراة في اليوم الذي مات فيه الحجاج بنُ يوسف سنة أربع وتسعين في ذي الحجَّة، وفيه أعذر، وفيه ولي الخلافة، وفيه مات. وقالت أمُّه سلامة: لما حملت به رأيتُ في منامي كأنَّ أسدًا خرج من فرجي، فأقعى وزأر، وضرب بذنبه الأرض، فأقبلتْ إليه الأُسد من كل جانب ومكان، فكلَّما انتهى إليه أسد سجد له. صفته: كان أسمر، طوالًا جدًّا، نحيفًا، خفيف العارضين، معرق الوجه بالسواد، يتطيب في كل شهر بألف مثقال طيب يخضب به رأسَه ولحيتَه. وقيل: لم يكن يُغيِّر شيبَه إلا بالطِّيب، وكان له أبهة الملوك في زي النساك، يعرف الشرف في تواضعه، والعقل في مشيته، تقبله القلوب، وتتبعه العيون، لم يزل مشهورًا بطلب الفقه والآثار، وفيه يقول ابن هَرْمة (¬1): [من الطويل] له لحظاتٌ في حِفافَيْ سريرِه ... إذا كرَّها فيها عقاب ونائلُ كريمٌ له وجهان وجهٌ لدى الرِّضا ... أسيل ووجهٌ في الكريهة باسلُ وأمُّ الذي أمَّنتَ آمنةُ الرَّدى ... وأمُّ الذي أوعدتَ بالثُّكل ثاكلُ وليس بمعطي العفوَ عن غير قدرةٍ ... ويعفو إذا ما أمكَنَتْه المَقاتلُ وكان والده محمد بنُ عليٍّ وجَّهه إلى البصرة يدعو إلى الرضا من آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا قدم البصرةَ كان يأتي عمرو بنَ عُبَيد ويتألفه، فلما عاد إلى الشَّراة سمعه أبوه يذكر ¬

_ (¬1) ديوانه ص 168 وما بعدها.

شيئًا من كلام عمرو، ويُقايس فيه، فقال محمد: هذا والله كلام مولى بني تميم، يعني عمرو بن عُبيد، وكان ينكره (¬1). ذكر بيعته: بويع في ذي الحجَّة بالأنبار يوم الأحد لثلاث عشرة خلت منه، وقيل: لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، أو مضت منه، وهو ابنُ إحدى وأربعين سنة، أو اثنتين وأربعين، وهو أول من لُقِّب بالمنصور. وقال أبو نعيم: قدم أصبهان مع عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وخرج منها إلى فارس (¬2). وكان يقال له: عبد الله الطويل، وكان يلقَّب بالدَّوانيقي، وسببُه أن سائلًا سأله قبل أن يلي الخلافة، ولم يكن معه سوى ثلاثة دوانيق، فدفعها إليه، فلقّب بذلك. وقال محمد بنُ إبراهيم الإمام: قال المنصور يومًا ونحن جلوس عنده: أتذكرون رؤيا رأيتُها ونحن بالشَّراة؟ قلنا: ما نذكُرها، فغضب، وقال: كان ينبغي لكم أن تكتبوها في ألواح الذهب، وتعلّقوها في أعناق الصبيان، فقال له عيسى بنُ موسى: يا أمير المؤمنين، إن كنَّا قصَّرنا فنحن نستغفر الله من ذلك، فحدّثنا، قال: نعم، رأيتُ كأنِّي في المسجد الحرام، وبابُ الكعبة مفتوح، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، إذا بمنادٍ ينادي: أين عبد الله بن محمد؟ فقام أخي أبو العباس، فتخطَّى رقابَ الناس حتى صار على درج البيت، فأخذ بيده، فأدخل البيت، فما لبث أن خرَجَ علينا ومعه لواء قدر أربعة أذرع وأرجح، وخرج من باب المسجد، ثم نُودي: أين عبد الله؟ فقمتُ أنا وعبد الله بنُ علي نستبِقُ حتى صِرْنا إلى الدرجة، فجلس وأخذ بيدي، فأُصعدت وأدخلتُ الكعبة، وإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس عنده أبو بكر وعمر وبلال -رضي الله عنهم-، فعقَدَ لي لواءً، وأوصاني بأمَّته، وعمَّمني بيده بعمامة كان طولُها ثلاثة وعشرين ذراعًا، ودفع إلي اللواء، وقال: خُذْها إليك يا أبا الخلفاء خالدةً إلى يوم القيامة (¬3). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 207 - 255. (¬2) أخبار أصبهان 2/ 43. (¬3) المنتظم 7/ 336 - 337.

قال المصنف رحمه الله: وقد ولي الخلافةَ أخوان، وثلاثة، وأربعة؛ فأمَّا الأخوان فأبو العباس وأبو جعفر، وموسى وهارون، والواثق والمتوكِّل، والمسترشِد والمقتفي، وأما الثلاثة فالأمين والمأمون والمعتصم، والمقتدر والمقتفي والقاهر، والراضي والمتَّقي والمطيع، وأما الأربعة فلم يكونوا إلا في بني مروان الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك (¬1). وبعث عيسى بنُ موسى إلى عبد الله بن عليٍّ بأن يأخذ البيعة لأبي جعفر على الناس، ويُبايع له قبل قدوم أبي جعفر من الحجِّ، وبعث بالكتاب مع يزيد بن زياد، فانصرف عبدُ الله بمن معه من الجيوش من الشام، فنزل حرّان، وبايع لنفسه؛ لما نذكر. ورخصت الأسعار عند ولاية أبي جعفر الخلافة، حتى بيع الكبش بدرهم، والحمل بأربعة دوانيق، والتمر ستون رطلًا بدرهم، والزيتُ عشرة أرطال بدرهم، والسمنُ ثمانية أرطال بدرهم (¬2). ولما عاد من الحج كتب إليه بعضُ إخوانه الذين كانوا يعاشرونه من قبل: [من مجزوء الكامل] إنا بطانتُك التي ... كنَّا نكابدُ ما تكابدْ ونُرى فنُعرف بالعدا ... وة والعناد لمن تُعاندْ ونبيتُ من خوف عليـ ... ـك ربيئة (¬3) والليلُ هاجدْ هذا أونُ وفاء ما ... سبقَتْ به منك المواعدْ فكتب عليها أبو جعفر: صدقتَ، وألحقه بخاصته (¬4). [فصل] (¬5) وفيها تُوفي ¬

_ (¬1) المدهش ص 68. (¬2) المنتظم 7/ 348، وفيه: والزيت ستة عشر رطلا بدوهم. (¬3) في (د) و (خ): وجنة؟ ! والمثبت من العقد الفريد، والربيئة: الطليعة التي تتقدم القوم. (¬4) العقد الفريد 2/ 168. (¬5) ما بين حاصرتين من (د).

ربيعة بن أبي عبد الرحمن

ربيعة بن أبي عبد الرحمن فرُّوخ مولى آل المنكدر، التيميّ (¬1)، أبو عثمان، وقيل: أبو عبد الرحمن، ويقال له: ربيعة الرأي، وهو من الطبقة الرابعة من أهل المدينة. وكان إذا مرض وضع الموائد لعوَّاده يأكلُ منها كلُّ مَنْ يعوده، فلا يزال كذلك حتى يخرج. وقال مالك: ذهبت حلاوةُ الفقه منذ مات ربيعة. وقال ربيعة: إنما الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم ومن يتولَّاهم. وكانت لربيعة مروءةٌ وسخاء، مع فقهٍ وعلم، وكانت له حلقة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان محمد بنُ عليِّ بن الحسين وابنُه جعفر يجلسان في حلقته. وقال الليث بن سعد، [عن يحيى بن سعيد] (¬2): ما رأيتُ أسَد عقلًا من ربيعة. وكان صاحب معضلات أهل المدينة، ورئيسَهم في الفتيا. وكان فرُّوخ خرج في البعوث إلى خراسان غازيًا [وربيعةُ حَمْل] (¬3)، وخلَّف عند أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، وقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكبٌ على فرس، وبيده رمح، فنزل عن فرسه، ثم دفع الباب، فخرج ربيعةُ وقال له: يا عدو الله، أتهجُم على منزلي؟ فقال فرُّوخ: يا عدو الله أنت، دخلتَ على حَرَمي! وتَواثَبا، وتلبَّبَ كلُّ واحد منهما على صاحبه، حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالك بنَ أنس والمشيخة، فأتوا يعينون ربيعة، وجعل ربيعة يقول: والله لا أفارقُك إلا عند السلطان، وفرُّوخ يقول كذلك، وكثُرَ الضجيج، فلما بَصُروا مالكًا سكت الناس كلُّهم، فقال مالك: أيها الشيخ، لك في غير هذا المنزل سَعَة، فقال فروخ: هي داري، وأنا فرُّوخ. وسمعت امرأتُه كلامَه فخرجت، فلما رأته قالت: هذا والله زوجي، وهذا ابنُه الذي خلَّفه وأنا ¬

_ (¬1) تحرفت في (د) و (خ) إلى: السمين. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 9/ 417. (¬3) ما بين حاصرتين من (د).

حامل به، فاعتنقا جميعًا، وبكيا، ودخل فروخ المنزل وقال: أخرجي المال الذي عندك، وهذه أربعة آلاف دينار معي، فقالت: المال دفنتُه. فخرج ربيعةُ إلى المسجد وجلس في حلقته، وأتاه مالك بنُ أنس، والحسن بنُ زيد، وابنُ عليٍّ اللَّهَبي، وأشراف المدينة، وأحدق الناس به، فقالت له امرأته: اخرج وصلِّ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج فنظر إلى الحلقة فرآها وافرة، فوقف عليها ورآه ربيعة، فنكس رأسَه يُوهمه أنه لم يره، فقال فرُّوخ لرجل إلى جانبه: مَنْ هذا؟ قال: ربيعة. فقال: لقد رفع الله ابني، ثم رجع إلى منزله، فقال لأمه: لقد رأيتُ ابنَك في حالة من العلم والفقه ما رأيتُ أحدًا من أهل العلم عليها، فقالت له: أيُّما أحبُّ إليك ثلاثون ألف دينار أو الحالة التي رأيتَه فيها؟ قال: لا والله إلا هذا. قالت: فإنِّي أنفقتُ المال كلَّه عليه حتى صار كذا، فقال: نعم ما فعلتِ، والله ما ضيَّعته (¬1). وقال ابنُ وهب: تعبَّد ربيعة دهرًا طويلًا يصلّي النهار والليل، وجالسَ القاسم بنَ محمد، فنطق بعقل ولب، فكان القاسمُ إذا سُئل عن شيء يقول: سلوا ربيعة. وقال سوَّار بنُ عبد الله: ما رأيتُ أحدًا أعلم من ربيعة الرأي، فقال له معاذ بنُ معاذ: ولا الحسنَ وابن سِيرين؟ قال: لا، ولا الحسنَ، ولا ابنَ سِيرين. وقال بكر بنُ عبد الله الصَّنعاني: أتينا مالك بنَ أنس، فجعل يُحدِّثنا عن ربيعة، وكنَّا نستزيده، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة؟ هو نائم في ذاك الطاق، فأتيناه، فأنبهناه وقلنا له: أنتَ ربيعةُ الذي يُحدّث عنك مالك بنُ أنس؟ قال: نعم. قلنا: كيف حظِيَ بك مالك ولم تحظَ أنت بنفسك؟ فقال: أما علمتُم أن مثقالًا من دولة خيرٌ من حِمْل علم؟ واستقدمه أبو العباس إلى الأنبار ليولِّيه القضاء، فلما أراد الخروج قال لمالك: إنْ سمعتَ أنِّي حدثتُهم، أو وَلِيتُ لهم قضاء، أو قبلتُ منهم مالًا، أو أفتيتُهم، فلا تعدَّني شيئًا، فلما قدم على السفاح استدعى منه ذلك، وبعث إليه بخمسة آلاف درهم، فلم ¬

_ (¬1) أورد الذهبي هذه القصة في السير 6/ 93 - 94، ووصفها بقوله: حكاية باطلة. ثم عقب بنقدها، فانظر كلامه ثمة.

عبد الله بن محمد

يقبلها، ولم يَلِ شيئًا، ولا حدَّثهم بشيء، ولا أفتاهم. وقال إبراهيم بنُ المنذر: سعى أبو الزناد بربيعة إلى عامل المدينة في شيء، فأخذ ربيعةَ، فجلَدَه وحلَقَ رأسَه ولحيتَه، ثم عُزِل ذلك العاملُ، ووَلي آخرُ من بني تيم، فأخذ أبا الزناد، فأدخله بيتًا، وسد بابَه ليقتله جوعًا وعطشًا عوضَ سِعايته بربيعة، وبلغ ربيعةَ، فجاء إلى الوالي، فسأل في أبي الزناد، فقال الوالي: وهل فعلتُ به ذلك إلا لما سعى بك؟ فقال: أمَّا أنا فأحاكمه غدًا إلى الله تعالى، وأما في الدنيا فلا، ولابدَّ من إخراجه، فأخرَجَه. ولما ضُرب وحُلقت لحيتُه كانت امرأة تأتي إلى حلقته فيَ يوم في المسجد وتقول: يا أبا عبد الرحمن، انتقَمَ الله ممن حلَقَ لحيتَك، فلما أبرَمَتْه قال لها: يا هذه، إن ذاك حلَقَها مرةً، وأنت تحلقينها كلَّ يوم. توفي بالأنبار في هذه السنة، وقيل: رجع إلى المدينة فمات بها، وقيل: مات سنة ثمان وثلاثين ومئة. سمع من أنس بن مالك، وعامَّة التابعين من أهل المدينة، وروى عنه الثوريُّ، ومالك، وشعبة، والليث، وغيرهم. واتفقوا على صدقه، وثقته، ودينه، وورعه. وجاءه رجل من الفقهاء، فجلس إليه، فقال له: إذا جاءك رجلٌ يسألُك عن مسألة فلا يكن همُّك أن تخرجَه مما وقع فيه، وليكن همُّك أن تتخلَّص مما سألك عنه. وقال سفيان الثوريُّ: كنتُ جالسًا يومًا عند ربيعة، فغطَّى رأسَه، ثم بكى واضطجع، فقلت: ما يبكيك؟ [قال: ] رياء ظاهر، وشهوةٌ خفيَّة (¬1). عبد الله بنُ محمد ابنِ علي بن عبد الله بن العباس، أبو العباس السفَّاح. أولُ من أجاز بألف ألف درهم: قدم عليه في خلافته عبد الله بنُ حسن بن حسن، فأكرمه، وأنزله قريبًا منه، فقال له يومًا: يا أمير المؤمنين، سمعتُ بألف ألف درهم، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من مختصر تاريخ دمشق 8/ 288. وانظر في ترجمة ربيعة الرأي: طبقات ابن سعد 7/ 509 - 511، وتاريخ بغداد 9/ 414 - 422، والمنتظم 7/ 349 - 351، والسير 6/ 89 - 96.

وما رأيتُها قطُّ، فأمر بها أبو العباس فأحضرتْ، فلما رآها عبد الله استهالها، فقال: احملوها معه إلى منزله، فجاء الناس يهنُّونه، فقال عبد الله: أتشكرون رجلًا أعطانا بعضَ حقِّنا وفاز بالباقي؟ وبلغ أبا العباس، فلم يقل شيئًا (¬1). واجتمع عند السفاح وجوهُ بني هاشم والشيعةُ، وكان المجلس أحشَد ما يكون، فقام عبد الله بنُ حسن بن حسن، وبيده مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين، أعطِنا حقَّنا الذي جعله الله لنا في هذا الكتاب. فأشفق الناسُ أن يعجّلَ إليه أبو العباس بشيء، ولا يريدون ذلك في شيخ قريش وسيِّد بني هاشم، أو يعيى بجوابه، فيكون ذلك ردًّا ونقصًا له، فأقبل عليه غير متأثر ولا مُغْضَب، فقال له: إن جدَّك عليًّا كان خيرًا مني وأعدل، وَلي هذا الأمرَ، فأعطى جدَّك الحسنَ وعمَّك الحُسين شيئًا، وكانا خيرًا منك، وكان الواجبُ أن أعطيك مثلَه، فإن كنتُ فعلتُ فقد أنصفتُك، وإن كنتُ زدتُك فما هذا جزائي منك. فعجِبَ الناسُ من حسن جوابه (¬2). وقال حَفْص بنُ عمر: قدم عبد الله بنُ حسن بن حسن على أبي العباس في خلافته، فأكرمه وحباه، وقرَّبه وأدناه، وصنع به شيئًا لم يُصنع بأحد، وكان بالأنبار، وكان عبد الله يسمُرُ عنده، فسمر عنده ليلة إلى نصف الليل يحادثه، ودعا أبو العباس بسفطٍ فيه جوهر، ففتحه وقال: هذا والله يا أبا محمد الذي وصل إليَّ من الجوهر الذي كان في يدي بني أمية، ثم قاسمَه إيَّاه، فأعطاه نصفه، وبعث بالنصف الآخر إلى أمِّ سلمة امرأته، وقال: هذا عندك وديعةٌ، ثم تحادثا ساعةً، ونعس السفاح، فتمثَّل عبد الله، وقال: [من الوافر] ألم تَرَ حَوْشبًا أمسى يُبَنِّي ... قصورًا نفعُها لبني نُفَيلهْ يؤمِّل أن يُعمَّر عمر نوحٍ ... وأمرُ الله يأتي كلَّ ليلهْ فانتبه أبو العباس، ففهم، وقال: يا أبا محمد، تتمثَّل بمثل هذا الشعر عندي وقد رأيتَ صنيعي بك ولم أدخر عنك شيئًا؟ ! فقال: يا أمير المؤمنين، هفوةٌ كانت والله ما أردتُ بها سوءًا، ولكنها أبياتٌ خطرت لي فتمثَّلت بها، فإن رأى أميرُ المؤمنين أن ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 186. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 239. ...

يحتمل ما كان مني في ذلك فليفعل. قال: قد فعلتُ (¬1). وقال البلاذري: قدم عبد الله على السفاح [فأخذ بيده] (¬2) وهو يمرُّ به على قصوره بالهاشمية يُريه إيَّاها، وكان معجبًا بها، فأنشد عبد الله البيتين، فغضب السفاح، واحمَّرت عيناه، وجذب يدَه من يده، وقال: ما أردتَ بهذا؟ فقال: ازَهدُك فيها، فقال السفاح: [من الوافر] أريدُ حياتَه ويريدُ قتلي ... عذيرَكَ من خليلكَ من مراد (¬3) وكان الحسدُ غالبًا على عبد الله للسفَّاح، ولا ينهاه عن ذلك إكرامُه له، ولما أنشد الشعر قال له السفاح: أفٍّ لك، ما يُهلك الحسودَ نفسُه ولسانُه، اخرج عنِّي. فخرج إلى المدينة. وقال الزُّبير بن بكَّار: كتب [أميرُ المؤمنين أبو العباس] إلى عبد الله بن حسن يذكر له تغيب (¬4) ابنيه محمد وإبراهيم، وكتب في كتابه: أريد حياته ويريد قتلي، فكتب عبد الله بنُ حسن، وقال: [من الوافر] وكيف يريدُ ذاك وأنتَ منه ... بمنزلةِ البياض من السَّواد ويعني قول عبد الله: قصورًا نفعُها لبني نُفيله: نفيلة أمّ ولد الحسن بن علي (¬5) -رضي الله عنهما-، جاءت منه بالقاسم، وأبي بكر، وعبد الله، قُتِلوا مع الحسين - رضي الله عنه - يوم الطَّفوف. قال أبو اليقظان: قدم على السفَّاح بنو الحسن بن علي، فأحسن إليهم، وأعطاهم الأموال، وأقطَعَهم القطائع، وقال لعبد الله: احتكِمْ. قال: ألف ألف درهم، فاستقرَضَها السفاح من ابن مقرن البصري (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 475 - 476، وتاريخ دمشق 33/ 195. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬3) البيت لعمرو بن معدي كرب، وهو في ديوانه ص 111. وفي (أ) و (خ): عذرتك، والمثبت من الديوان. والسياق الذي ذكره المصنف لم نقف على من وافقه عليه، وقد أورد ابن عساكر الخبر في تاريخ دمشق 33/ 164 - 165 بما يوافق ما سيذكره المصنف نقلًا عن الزبير بن بكار، وانظر أنساب الأشراف 2/ 410. (¬4) في (د) و (خ): بغيبة، والمثبت من تاريخ دمشق 33/ 164، وما بين حاصرتين منه كذلك. (¬5) في (د) و (خ) والمنتظم 8/ 92: الحسين بن علي، وهو تحريف. انظر نسب قريش ص 50، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 39. (¬6) في العقد الفريد -والخبر فيه- 3/ 74: الصيرفي.

وأُتي أبو العباس بجوهرٍ، فجعل يُقلِّبه وعبدُ الله يبكي، فقال له أبو العباس: يا أبا محمد، ما يُبكيك؟ فقال: هذا عند بنات مروان، وما رأت بناتُ عمِّك مثلَه قط، فحَبَاه به. ودخل عليهما أبو جعفر فقام السفاحُ، وأخذ بيد عبد الله، وجعل يُرِيه قصورَه بالهاشمية، فتمثَّل عبد الله بالشعر، فقال له أبو جعفر: ألا تسمع؟ إنّ هذا يظنُّ أن الأمر يصلُ إليهم! فقال عبد الله: ما ذهبتُ هذا المذهب، وإنما هي كلمةٌ جرَتْ على لساني لم أتعمدها، وخشَّنت تلك الكلمةُ صدر أبي العباس. وخرج عبد الله إلى المدينة، فبعث السفاح رجلًا من ثقاته معه، وأمره أن يضبط ما يسمعُ منه، فلمَّا قدم عبد الله المدينةَ اجتمع إليه الطالبيون، ففرَّق فيهم الأموال التي أعطاه السفاح، واستأثر بالجوهر، وكان قيمتُه مئتي ألف دينار، وفرح الطالبيون بالأموال، فقال لهم عبدُ الله: أفرحتُم؟ قالوا: وكيف لا نفرحُ بما كان محجوبًا عنا بأيدي قوم آخرين؟ ! وعاد الرجل فأخبر السفَّاح، فلم ينطق، وصبر لينظر ما يكون منهم، وبلغ أبا جعفر وأعمامَ السفاح فقالوا: أدِّبه، فقال: العفو أقربُ إلى التقوى، والتغافل من أخلاق الكرام، ومات على ذلك، وقام أبو جعفر، ففعل بهم ما فعل. وقال الهيثم: لما أنشد عبدُ الله الشِّعر وغضب السفَّاح بلغ أبا جعفر، فقال: الرِّفق أولى. وبلغ السفاحَ قولُه، فقال: أيقول لي هذا؟ والله لا كان حَتْفُ عبد الله وبَني حسنٍ إلا على يده. فكان كما قال (¬1). وكان السفَّاح يسمع الغناء من وراء السّتارة، ويطرَبُ، ويُجيز عليه في الحال، ويقول: نتعجَّل السُّرور، ونؤجل مكافأته؟ وأول من أحدث السِّتارة بينه وبين ندمائه في الجاهلية أزدشير بنُ بابك، والسفَّاح في الإسلام. قيل لأبي العباس: الخلافةُ جليلة، فلو احتجبتَ عن مَنْ يشاهدك كان أكثر هيبة، فاحتجَبَ. ¬

_ (¬1) الأخبار السالفة في العقد الفريد 3/ 74 - 75، وانظر المنتظم 7/ 300.

وكان من أبسط الناس على الطعام، فكان من أراد [أن] يسألَه حاجةً سأله وهو على الطعام، وكان إبراهيم بن مخرمة الكندي لا يسألُه إلا وهو على المائدة، فقال له يومًا: [يا] إبراهيم، ما دعاك إلى أن تشغلني عن الطعام بحوائج الناس؟ فقال: التماس النجاح لمن أسألُ له، فقال له السفَّاح: لله درُّكَ، إنك لخليق بالسُّؤْدُد بحسن فطنتك. وكان السفاح أحلَمَ الناس، وأعقَلَهم، وأسخاهم، مدَحَه [وأهلَه] (¬1) أبو عطاء السِّنديُّ فلم يُعطه شيئًا، فهجاهم، وقال: [من الطويل] بني هاشمٍ عودوا إلى نَخَلاتكم ... فقد عاد بيعُ التمر صاعًا بدرهمِ فإن قلتُمُ رهطُ النبيّ محمد ... فإنَّ النصارى رهطُ عيسى ابن مريمِ (¬2) وبلغ السفاحَ فلم يقل شيئًا، فقيل له: عاقبه، فقال: لا أجمعُ له بين العقوبة والمنع. وكتب إليه رجلٌ سِعاية، فكتب عليها: تقرَّبتَ إلينا بما يُبعدكَ عنَا. ومر يومًا ومعه عيسى بنُ موسى على فَعَلةٍ، فقال: إن السعيد مَنْ سلم من الدنيا، ولوددتُ أني لم أتقلَّد منها شيئًا، ولهؤلاء أحسنُ حالًا منَّا، وأخفُّ ظهرًا، فقال له عيسى: لقد أحسن الله إليك إذ أنقذَ بك الأمةَ من جَوْر بني أُميَّة. وكان السفّاح يقول: لأستعملنَّ اللينَ حتى لا تنفع إلا الشدَّة، ولأُغمدنَّ سيفي إلا أن يسلَّه الحقّ، ولأُعطينَّ حتى لا أرى للعطاء موضعًا. وخرج يومًا متنزِّهًا بظاهر الأنبار، فأمعَنَ في البرية، فشذَّ عن أصحابه، فوافى خِباءً لأعرابي، فوقف وسلم عليه، فردَّ وقال: ممَّن الرجل؟ فقال: من كِنانة. قال: من أيِّ كِنانة؟ قال من أبغض كنانة إلى كنانة. قال: فأنتَ من قريش؟ قال: نعم. قال: فمن أيِّ قريش؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش. قال: فإذًا أنتَ من ولد عبد المطَّلب؟ قال: نعم. قال: فمن أيّ ولد عبد المطَّلب؟ قال: من أبغض ولد عبد المطَّلب إلى ولد عبد المطَّلب. قال: فإذًا السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمةُ الله وبركاته، ووثَبَ قائمًا، فاستحسَنَ أبو العباس ذلك منه، وأمر له بجائزة سَنِيَّة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين لم يرد في (خ)، وأثبتناه من (د). (¬2) البيتان، وما أشار إليه المصنف من مدح أبي عطاء للسفاح في أنساب الأشراف 3/ 185.

ذكر وفاته: نظر يومًا في المرآة -وكان من أحسن الناس وجهًا- فقال: اللهمَّ إني لا أقول كما قال سليمان بنُ عبد الملك: أنا الملكُ الشاب، ولكنّي أقول: اللهم عمّرني طويلًا في طاعتك بخير وعافية، فما استتمَّ كلامَه حتى سمع غلامًا من غلمانه يقول لغلام آخر: الأجلُ بيننا شهران وخمسةُ أيام، فتطيَّر من ذلك، فما مضت الأيامُ حتى أخذته الحمَّى، فمات بعد شهرين وخمسة أيام. وقال المسيِّب الضبِّيّ: اجتمع للسفَّاح فتحُ السِّند وإفريقية، ومكاتبةُ صاحب الأندلس، فقال لبعض عمومته: أسمعتَ أنه إذا فُتح السِّند وإفريقية ماتَ القائمُ من آل محمد، فقال عمُّه: كلا، فما برح حتى دعا بدُوَّاج لقشعريرة أصابته (¬1). وقال عيسى بنُ عليّ: أتيتُ في بعض الأيام إلى باب أبي العباس، فوجدتُ عليه رجلين، فسلم علي أحدُهما، فقلتُ: من أنتَ؟ فقال: وافدُ السِّند، أتيتُ بطاعةِ أهلها إلى أمير المؤمنين، [وقلت للآخر: من أنتَ؟ قال: وافدُ إفريقية، أتيتُ بطاعة أهلها إلى أمير المؤمنين] (¬2)، فقلتُ: ما أدخل عليه بمثل هاتين البِشارتين، فدخلتُ عليه وهو يسرِّح لحيتَه، فأخبرتُه، فتغيَّر وجهُه، وسقط المشطُ من يده، فقال: نُعيَتْ إليَّ نفسي، واسترجع، فقلتُ: وكيف هذا؟ فقال: حدَّثني أخي إبراهيمُ الإمام، عن أبي هاشم عبد الله بن محمدِ بن الحنفية، عن أبيه (¬3)، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يقدَمُ عليَّ في مدينتي هذه وافدان في يومٍ واحد: وافدُ السِّند، ووافدُ إفريقية بطاعتهم، ثم لا ألبثُ إلا ثلاثةَ أيامٍ حتى أموت". وقد أتاني الوافدان، فأعظَمَ الله أجرَكَ في ابن أخيك يا عمّ، فقلتُ: كلا يا أمير المؤمنين، فقال: والله ما كذَبْتُ ولا كُذِبْتُ. ثم وُعِكَ، فأمرني أن أصلي بالناس، ثم أوصاني أن أُغسِّله وأُكفنه، وأُصلّي عليه، وكتب كتابَ العهد لأخيه، فلما كان يومُ العيد صليتُ بالناس ودخلتُ عليه، فإذا على ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 202. والدواج بوزن رمان وغراب: اللحاف الذي يلبس. القاموس: (دوج). (¬2) مما بين حاصرتين من (د). (¬3) كذا في (د) و (خ)، وفي تاريخ بغداد 11/ 242، والمنتظم 7/ 354: عن علي بن أبي طالب.

وجهه مثل حبة الخَرْدَل، فلما كان في اليوم الثاني صارت مثل العَدَسة، فلما كان في اليوم الثالث دخلتُ عليه، فإذا هو كالزِّقِّ المنفوخ، ومات في اليوم الثالث. قال المصنف رحمه الله: هذا حديثٌ لا يصحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من قولِ أبي هاشمٍ، وقد كان كثير المطالعة لكتب الأوائل والملاحم، فلعلَّه وجد ذلك فيها. وقال المدائنيّ: هاج الدمُ بأبي العباس، فأشار عليه الأطباء بالفَصْد، فلم يُقدم عليه، فحُمَّ ونزل به الموت، وكان يتقلَّب على الفراش، فيبقى جلدُه على الفراش. ودخل عليه طبيب فقال له بعضُ عمومته: كيف أصبح أميرُ المؤمنين؟ فقال: أصبَحَ بحمد الله بارئًا، فسَلَتَ أبو العباس بيده لحمَ ذراعه، فانسَلَت وتناثر لحمُه، فقال: كيف أكون بارئًا، أو يكون صالحًا من هذا حالُه؟ وكان قد عزم على البيعة لابنه محمد، ثم فكَّر وقال: هو حدَثٌ، وما عذري عند ربي؟ فقالت له أم سلمة امرأتُه: ولِّ غيرَه، واجعله ثانيًا، فقال: أخاف أن يقصُر عمرُ من أجعله قبله، فتدرك الخلافةُ محمدًا وهو صغير، فيُختلف عليه، فتضيع الأمة، ولكن أُصيِّر الأمرَ إلى مَنْ أثقُ بعقله واحتماله (¬1)، فكتب اسمَ أبي جعفر، وبعده عيسى بنَ موسى، وجعل العهدَ في منديلٍ وختم عليه بخاتمه، ودفعه إلى عيسى بن علي. وقال البلاذري: لما قال أبو العباس: من أولِّي؟ قال له عيسى بنُ علي: يا أمير المؤمنين، اُذكر رجلًا تمدُّ الناسُ إليه أعناقَهم بعدك، فقال: كنتُ وعدتُ عبد الله بنَ عليِّ إن قام بهذا الأمر أن أولّيه الخلافة، فقال له عيسى: فانظر؛ فإنَّ ذلك لا يُقدِّم أجلًا ولا يؤخِّره، فسكتَ، واستشار سعيد بنَ عمرو بن جَعْدة المخزوميَّ، فقال: يا أمير المؤمنين لا أشيرُ عليك بشيء، بل أُحدِّثك حديثًا تستدلُّ به، كنت مع مَسْلَمة بن عبد الملك بالقسطنطينية وقد جاءه نعيُ سليمان وولايةُ عمر بن عبد العزيز، فبكى بكاء عظيمًا، وجزع جزعًا شديدًا، فقلت له: لا تجزعْ لموت سليمان، ولكن اجزَعْ لخروج الأمر عن ولد أبيك إلى ولد عمّك، فازداد بكاؤه، فقال السفَّاح: قد فهمتُ، وأخذ بقوله (¬2)، وقال: أخذتَ ¬

_ (¬1) في (خ): من أثق به وبعقله، والمثبت من (د)، وهو موافق لما في أنساب الأشراف 3/ 202. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 203، وسياقه مختصر مع اختلاف يسير.

بثأرك من عبد الله بن عليّ، وكان عبد الله قد عاقبه وآذاه، وبلغ أبا جعفر قال: سعيد ابنُ أختنا. ومعناه أن أم جَعْدة بن هُبَيرة أمُّ هاني بنت [أبي طالب بن] (¬1) عبد المطلب. وقال المرزباني: جسّ طبيبٌ نبضَ السفَّاخ، فقال له السفَاخ: [من مجزوء الكامل] انظر إلى ضعف الحَرا ... كِ وذلِّه بيد السكونِ يُنبئك أن بنانَه ... هذا مقدمةُ المَنونِ فقال له الطبيب: إنك صالح، فقال: [من الوافر] يُبشِّرني بأني ذو صلاحٍ ... يثبّتني وبي داءٌ دفين لقد أيقنتُ أني غيرُ باق ... ولا شكّ إذا وضَحَ اليقينُ وكان آخر كلامه: إليكَ يا ربّ لا إلى النار. وصلى عليه موسى بنُ عيسى، وكبَّر خمسًا. وقال الطبريُّ: صلى عليه عمُّه عيسى بنُ على، ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره (¬2). وقيل: دُفن بالهاشمية. وبالأنبار بجنب منبر الجامع قبرٌ يقال: إنه قبرُه. وقال الطبريّ: مات بالجدريّ، وقال هشام: توفي ابنَ (¬3) ست وثلاثين، وقيل: ابنَ ثلاث وثلاثين سنة. وكانت أيامُه أربع سنين، وثمانية أشهر، منها ثمانيةُ أشهر وأربعةُ أيام يُقاتل فيها مروان، وملَكَ بعد مروان أربع سنين، وقيل: وتسعة أشهر، وقيل: وعشرة أشهر. وخلَّف من الثياب تسعَ جباب، وأربعة أقمصة، وخمس سراويلات، وأربعة طيالسة، وخمس مطارف خزّ، وبردةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أخذها من مروان (¬4). وقال المدائني: دفع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بُرْدًا إلى أهل دُومة الجَنْدل، أو أهل مَقْنا أمانًا لهم، فاشتراه أبو العباس منهم أو من أولادهم بأربع مئة دينار، وقيل: بأربعة آلاف ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (د)، وطبقات ابن سعد 6/ 536. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 471. (¬3) في (د) و (خ): سنه، والمثبت من الطبري. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 470 - 471، وليس فيه ذكر البردة.

دينار، فهو الذي تلبسه الخلائف. ذكر أولاده: كان له من الولد محمَّد، والعباس، وعلي، وإبراهيم، وإسماعيل، ورَيطة، درَجَ الأربعةُ، ولم يبق سوى محمَّد ورَيطة، وأمُّ الجميع أمُّ سلمة بنتُ يعقوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد [بن الوليد] (¬1) بن المغيرة المخزوميّ، ولم يتزوّج غيرَها، وكانت قبله عند عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، فمات عنها، فتزوّجها أبو شاكر مَسْلَمة بنُ هشام بن عبد الملك، فطلّقها لما شَكَتْه إلى العباس بن الوليد بالرّصافة، وقالت: إنه يشربُ الخمر، فقال له العباس: ويحك! أبوك يرشِّحك للخلافة وتشرب الخمر؟ ! فطلَّقها. وأُمّها هند بنتُ عبد الله بن جبَّار بن سُلْمى بن مالك بن جعفر بن كِلاب. اجتازت بالحمّة لما طلّقها مَسْلَمة وهي تريد فلسطين، تعرَّضت للسفاح فقال: ليس عندي مال، فأرسلت إليه تسع مئة [دينار] (¬2) فتزوَّجها عليها, ولما ولي الخلافَة ما كان يقطعُ أمرًا دونها، وغلبَتْ عليه، وكانت من عقلاء النساء. ولما توفي أبو العباس خطبَها إسماعيل بنُ عيسى، فغضب أبو جعفر وقال: أيرتقي مرتقى أمير المؤمنين؟ ! وتهدَّدَه، فأعرض عنها. ولما مات أبو العباس حزنتْ عليه حزنًا شديدًا، فدخل عليها أبو دُلامة ليعزّيها، فبكى عندها، وقال: [من الكامل] إن أجملوا في الصبر عنكَ فلم يكن ... صبري على جَزَعي عليك جميلا يجدون عنك خلائفًا وأنا امرؤٌ ... لو عشت دهري ما وجدتُ بديلا إني سألتُ الناس بعدكَ كلَّهم ... فوجدتُ أجودَ من سألتُ بخيلا فقالت له أمّ سلمة: يا أبا دُلامة، ما أُصيب بأمير المؤمنين غيري وغيرك، فقال: يا سيدتي، لا أنا ولا أنت سواء، أنتِ لك منه أولاد تتسلَّين بهم، وأنا ما لي منه ولد، فضحكت، وقالت: ما تدعُ أحدًا إلا وتضحكُه، ولم تكن ضحكتْ قبل ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (د)، وأنساب الأشراف 3/ 203. (¬2) ما بين حاصرتين من (د). (¬3) الأغاني 10/ 255، و"التذكرة الحمدونية" 4/ 287.

وتأخَّرت وفاةُ أمِّ سلمة إلى أيام محمَّد المهديّ. ودخل خالد بن صفوان على السفّاح، فخلا به، وقال: يا أمير المؤمنين، إني فكَّرتُ في سَعَة سلطانك ومالك، وإذا قد ملكتكَ امرأة [واحدةٌ] اقتصرتَ (¬1) عليها، فإن مرضَتْ مرضتَ، وإن عوفيَتْ عوفيتَ، وقد حرَّمتَ على نفسك الالتذاذَ بالجواري، إنَّ منهنَّ الطويلة الغيداء، والبضّة البيضاء، والرقيقة السمراء، والرشقة اللَّعساء، والمولَّدات من المكيات والمدنيات والعراقيات والشاميات، ذوات الألسن العذبة، والقدود المُهفهفة، والأصداغ المُزَرفنة، والعيون المكحّلة. ووصف النساء فأطال، فقال له أبو العباس: والله ما طرق سمعي أحسن من هذا القول، أعِدْه، فأعاده أحسن مما ابتدأه، ثم قام فخرج، وبقي السفاح مطرقا، [مغمومًا مفكِّرًا، فدخلت عليه أمُّ سلمة، فسألته عن حاله، فلم يُجبها، فألحَّت عليه، (¬2)، فأخبرها، فقالت؟ وما قلت لابن الفاعلة؟ فقال: سبحان الله! ينصحُني وتشتمينه؟ ! فأمرت غلمانَها بضربه، فاختفى، ولحَّ أبو العباس في طلبه، فأحضروه، فدخل وجاءت أم سلمة فوقفت خلفَ السِّتر، فقال له: ياخالد، أعِد الكلامَ الذي قلتَ لي؛ فإني مشتاق إلى سماعه، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أخبرتك أن العرب اشتقَّت اسمَ الضرَّة من الضرر، والثلاث كأثافي القِدْر [يغلي عليهن] والأربع شرٌّ [مجموع لصاحبه] ولم يكن أشراف العرب يقتنون سوى امرأة واحدة, وأخبرتُك أن أبكار الجواري رجالٌ لا خصى لهم، وقلتُ لك: إن بني مخزوم جرثومةُ قريش، وإن عندك سيدةُ نساء الدنيا، وأنَّى مثلها؟ فقال السفاح: برئت من قرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كنتُ سمعتُ منك هذا سوى الساعة! فقالت أم سلمة: صدقتَ يا عم، وضحكَت، فقال له أبو العباس: ويحك! ما هذا؟ قال: هذا الذي تسمعُ، أردت أن تُهلكني؟ فقام فخرج، فبعثت إليه أمُّ سلمة بعشرة آلاف درهم، وتَخْتَ ثياب، وبرذون (¬3). وأما محمَّد بن السفَّاح فولد بأرض البلقاء، وخرج مع أبيه إلى الكوفة، ولَّاه عمُّه ¬

_ (¬1) في (خ): فتضرب، والمثبت من (د)، وما بين حاصرتين منها كذلك. (¬2) ما بين حاصرتين من (د). (¬3) مروج الذهب 5/ 112 - 118، وتاريخ دمشق - تراجم النساء ص 527 - 528، وما بين حاصرتين منهما.

المنصور البصرةَ، وكان غيرَ محمودِ السيرة، وكان أبو جعفر يكرهُه، فلما ولاه البصرة بعث معه بالمُجَّان والزنادقة ليبغِّضَه إلى الناس. وتعشَق محمَّد زينبَ بنتَ سليمان بنِ عليٍّ، وقال: [من السريع] زينبُ ما ذنبي وما [ذا] الذي ... غضبتُم فيه ولم تُغضَبوا والله ما أعرف لي عندكم ... ذنبًا ففيم العَتْب يا زينبُ (¬1) وكان يركب إلى المِرْبد (¬2) يتصدّى لها لعلّها تكون في بعض المناظر لتنظرَ إليه، ومن شعره: [من السريع] لو أبصر العاذلُ منكِ [الذي] ... أبصرتُه أوسع في العذر (¬3) وقيل: إنما كان يُشبِّب بزينب بنت محمَّد بن عبد الله بن حسن، وهي التي أراد الدخول بها ليالي قُتل أبوها، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وأغزاه أبو جعفر الدَّيلَم سنة إحدى وأربعين ومئة في أهل الكوفة والبصرة والجزيرة، وولَّاه البصرة سنة سبع وأربعين، وكان محمَّد طويلًا جسامًا، أحول، يلوي العمود الحديد بيده وكان يروم الخلافة، وتُوفي ببغداد بعد الخمسين ومئة. ويقال: إن المنصور سمَّه، كان بالبصرة طبيبٌ يقال له: الخصيب، يُظهر النصرانية، وهو زنديقٌ لا يبالي مَنْ قتل، فأرسل إليه المنصور أن يتوخَّى قتلَ محمَّد، فاتَّخذ سمًّا قاتلا وأسطر عليه، فعرضت له حرارةٌ، فدسَّ إليه السمَّ في شربةٍ، فشربها فمات، فكتبت أمُّه إلى المنصور تخبره أن الخصيب قتلَه، فأمر بحمله إليه، فضربه ثلاثين سوطًا ضربًا خفيفًا، وحبسه أيامًا، وأعطاه ثلاث مئة درهم وأطلقه. وأما رَيْطة فتزوَّجها محمَّد بنُ عبد الله بن حسن بن حسن، فقتل قبل الدخول بها، فتزوَّجها محمَّد المهدي، فولدت له عليًّا وعبدَ الله، وكانت من أشدِّ الناس قوةً، وكذا ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 204، وأشعار أولاد الخلفاء من كتاب الأوراق للصولي ص 4. (¬2) المربد: موضع بالبصرة من أشهر محالها، كان يكون سوق الإبل فيه قديمًا، ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس. معجم البلدان 5/ 98. (¬3) ما بين حاصرتين من (د)، والبيت مع آخرين قبله قالها محمَّد في زينب، وقد أوردها الصولي في كتاب الأوراق (أشعار أولاد الخلفاء) ص 8.

عبد الملك بن عمير

كان أخوها محمَّد، ركب يومًا مع [المهدي] وهو أمير، فعاتبه (¬1) في شيء، وغمز ركابَه، وضغط رجلَه فيه حتى ضاق به الحديد، فلم يقدر على إخراج قدمه منه حتى ردَّته أختُه رَيطة. وأولُ مَنْ وزر لأبي العباس أبو سلمة، ثم خالد بنُ بَرْمَك، وقاضيه ابنُ أبي ليلى، وحاجبه أبو غسان مولاه، وقيل: والربيع، ونقشُ خاتمه: الله ثقةُ عبدِ الله، وبه يؤمن. أسند عن أخيه أَبراهيم الإِمام، وروى عنه عمُّه عيسى بنُ عليّ، وابنُ أخيه محمَّد المهدي. ولما مات جزعَ عليه أبو جعفر جَزَعًا عظيمًا، واستقدَمَ حمَّاد الراوية من البصرة، فلما دخل عليه قال: أنشدني شعرَ هفّان بن همام (¬2) يرثي أباه، فأنشده: [من الطويل] خليليَّ عُوجا إنها حاجةٌ لنا ... على قبر همّام سقته الرواعدُ على قبر مَنْ يُرجى نداه ويُبتغى ... جَدَاه إذا لم يحمد الأرضَ رائد كريم النَّثا حلو الشمائل بينه ... وبين المزجَّى نَفْنَفٌ متباعدُ وضعنا الفتى كلَّ الفتى في حَفِيرة ... بحُرِّين قد ناحت عليه العوائدُ صريعًا كنصل السيف تضرِبُ حولَه ... ترائبَهنَّ المُعْولاتُ الفواقدُ (¬3) فبكى أبو جعفر حتى اخضلَّت لحيته. عبد الملك بن عُمَير أبو عمر اللَّخْميّ، وُلد لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان رضوان الله عليه، وهو من الطبقة الثالثة من أهل الكوفة. ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 3/ 203: عابثه المهدي. وهو الصواب، وما بين حاصرتين منه كذلك. (¬2) سماه صاحب الحماسة البصرية 1/ 352: أهبان بن همام بن نضلة الأسدي. (¬3) الأبيات مع غيرها في الأغاني 6/ 81، ونسبها صاحب الحماسة البصرية 1/ 352 - 353 إلى أهبان بن همام. وقوله: كريم النثا، تحرف في (د) و (خ) إلى الثنا. والنثا: ما أخبرت به عن الرجل من حسن أو سيئ. اللسان: (نثا). والمزجى من كل شيء: الذي ليس بتام الشرف ولا غيره من الخلال المحمودة. اللسان (زجا). وحُرِّين: بلد قرب آمد. معجم البلدان 2/ 252.

عثمان بن عروة بن الزبير

كان يقول: والله إني لأُحدِّث بالحديث وما أدَعُ منه حرفًا (¬1). وولي قضاءَ الكوفة قبل الشَّعبي، وروى عن جماعة من الصحابة وكثير من التابعين، وتُوفي بالكوفة سنة ستٍّ وثلاثين ومئة، وقال: لي مئةٌ وثلاثُ سنين، وعاش بعد هذا القول سنة. عثمان بن عروة بن الزبير (¬2) من الطبقة السادسة، وقيل: الرابعة من أهل المدينة، وأمُّه أم يحيى بنتُ الحَكَم بن أبي العاص بن أُمية، وكان من وجوه قريش وساداتهم، جوادًا، خطيبًا، جميلًا. وَفَد على مروان بن محمَّد فأعطاه مئة ألف درهم، فلما قدم المدينة أغلى الناسُ كِراء الحُمُر من كثرة ما يرجون جوائزَه. وكان على صدقات الزُّبير حتى مات، وكان الناسُ قد أجمعوا على محبَّته، وكان يقول: الشكرُ وإن قلَّ جزاءُ كلِّ نائلٍ وإن جلَّ. حدَّث عن أبيه، وروى عنه أخوه هشام بنُ عروة وغيره، وكان ثقةً، صدوقًا، فاضلًا. * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 433. (¬2) ترجم له ابن سعد 7/ 462 في الطبقة الرابعة، وكذلك نقل عنه ابن عساكر في تاريخه 11/ 136 (مخطوط)، ولم نقف على من ذكره في الطبقة السادسة.

السنة السابعة والثلاثون بعد المئة

السنة السابعة والثلاثون بعد المئة فيها قدم أبو جعفر الكوفة، وتأخَّر أبو مسلم بعده بأيام، وقيل: بل قدم الأنبار. قال الهيثم: لما تُوفي أبو العباس كان أبو جعفر بذات عِرْق، وأبو مسلم بين يديه بمرحلة، فكتب إليه أبو جعفر: قد حدث أمرٌ ولا بدّ من اجتماعي بك فيه، فلم يرجع، وكتب إليه كتابًا بدأ فيه بنفسه، فاستشاط غضبًا، وقال: أنا بريءٌ من العباس إن لم أقتل ابنَ وشيكة، فقال له عُتبة بنُ عبد الرحمن الثعلبي (¬1): اُذكر قول القَطاميّ: [من البسيط] قد يُدرك المتأنِّي بعضَ حاجته ... وقد يكون مع المستعجِل الزَّللُ (¬2) فأمسك عن قتله، وكان أبو مسلم لا يخالطُه خوفًا منه. وقال المدائنيّ: كتب عيسى بن موسى إلى أبي جعفر بالبيعة مع محمَّد بن الحُصَين، فلقيه أبو مسلم قبل أبي جعفر، فأخذ منه الكتاب وقرأه، وأمسَكَه عنده يومين، ثم كتب إلى أبي جعفر: من عبد الرحمن أبي مسلم إلى أبي جعفر بن محمَّد، عافاك الله وأمتَعَ بك، أتاني أمرٌ أفظعني، وبلغ منِّي كلَّ مبلغ، وهو وفاة أمير المؤمثين، فرحمه الله وغفر له، وأسألُه أن يُعظِمَ أجرَكَ فيه، ويُحسن الخلافةَ عليك، وإنه ليس أحدٌ من أهلك أشدَّ تعظيمًا لحقِّك، وأصفى نصيحةً لك منِّي، ولك عندي كلّ ما يسرُّك. ولم يُسلِّم عليه فيه بالخلافة؛ لأنه قصدَ أن يُرعبه (¬3). فكتب إليه أبو جعفر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى أبي مسلم، أما بعدُ فقد أتاني كتابُك، وهو كتابُ غيرِ موفّقٍ لرشد، ولا مسدَّد لصواب، ولكن ذكرتُ ما تقدَّم من طاعتك، فعطَفَني ذلك عليك، وقد ولَّيتُك مقدّمتي، فسِرْ حتى تُوافي الأنبار، ومن أنكرتَ منه شيئًا فاصرفْه، فسبق أبا جعفر إلى الأنبار، واجتمع بعيسى بن موسى، ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (خ)، وفي أنساب الأشراف 3/ 200 أن المنصور أرسل الكتاب مع عطية بن عبد الرحمن التغلبي، وأن الذي ذكره قول القطامي هو يزيد بن أسيد. (¬2) البيت في ديوانه ص 25. (¬3) انظر أنساب الأشراف 3/ 211.

ذكر عصيان عبد الله بن علي

فأراده على البيعة وخَلْع أبي جعفر، فلم يُجبه، وقال: الأصل لعمِّي أبي جعفر، ولو قدَّمني عليه عمِّي أبو العباس لقدَّمتُه على نفسي، فقال: والله ليَعزِلنَّك من ولاية العهد ويقتلني. وبلغ أبا جعفر فازداد على أبي مسلم حَنَقًا. ولما عاد أبو جعفر من الحج اعترضته أعرابية، فقالت: يا أمير المؤمنين، أحسَنَ الله لك العزاءَ عن أخيك، ومتَّعك بالخلافة، ولقد أحسن إليك في الحالين، وأعظم لك النعمةَ في المنزلتين، سلبَكَ خليفةً، وأفادك خلافةً، فاحتسبْ عند الله ما سلبكَ، واشكُر له ما منَحَك. فأُعجب بكلامها، ووَصَلَها. وقال الهيثم: لما عاد أبو جعفر إلى الكوفة نزل الحِيرة، وصلَّى بالناس الجمعة، ثم سار إلى الأنبار في المحرَّم، فوجد عيسى بنَ موسى قد أحرز الأموال والخزائن والدواوين، فسلَّم إلى أبي جعفر جميعَ ذلك وبايعه، وجعلَه أبو جعفر وليَّ عهده من بعده، وأكَّد الأَيمانَ والعهود، ثم أقام أبو جعفر وأبو مسلم بالأنبار لينظر ما يكون من عبد الله بن عليٍّ. ذكرُ عصيان عبد الله بن عليٍّ لما تُوفي السفَّاح كتب إليه عيسى بن موسى كتابًا يخبره بوفاته، وأنه عهِدَ إلى أخيه أبي جعفر، ويأمره بأخذ البيعة له على الناس، وبعث بالكتاب مع أبي غسَّان يزيد بن زياد حاجبِ السفاح، فوافاه وقد قارب درب الروم يُريد الغزو، فجمع الناسَ وقرأ عليهم الكتاب، وقال: إنَّ أبا العباس قال لأهله وأنا حاضرٌ: مَنْ قتل مروان فهو وليُّ عهدي، فلم يُجبه غيري، فقال لي: إن قتلتَه فأنتَ وليّ عهدي، وقد قتلتُه، وأنا أولى، فبايِعوني، فقام جماعةٌ من قوَّاد خراسان فشهدوا له، منهم خفاف المروزيُّ، وأبو عاصم الطائيُّ، فبايعوه إلا نفرٌ يسير، وكان فيمن بايعه حُمَيد بنُ قحطبة، ثم عاد إلى حرَّان وبها مقاتل العكّي، فتحصن بقلعة حرَّان، فحصره واستنزله، وقال: عصيتَ عليَّ، وأمرَ بضرب عنقه (¬1). وقال البلاذريُّ: لما بعث عيسى بنُ موسى بالكتاب مع أبي غسَّان وقرأه، وادَّعى ¬

_ (¬1) ينظر المنتظم 8/ 3 - 4.

عبدُ الله ما ادعى مِن قَتْل مروان، صدَّقه أبو غسان، وبايَعَه بالخلافة، وشهِدَ له بذلك، فقال الهيثم بن زياد الخزاعي: نَشَدتُكَ الله أن تُهيِّج الفتنة، وتُعرَض نفسَك؟ أهلَ بيتك للهلاك وزوالِ النعمة، فقتَلَه عبدُ الله (¬1). وقال المدائني: كتب أبو العباس إلى عبد الله يأمره بغزو الصائفة، فوافاه كتابُه عند وفاته وهو مما يلي درب الحدث يريد دخول الروم، فدعا بعبد الحميد بن ربعي الطائيِّ، وخفاف بن منصور المازني، ونصير بن المحتفر (¬2) المزني، وحباش بن حبيب الطائي، وادَّعى ما ادعاه من قتل مروان، وأنه وليّ العهد من بعده، فصدَّقوه وبايعوه بالخلافة، وفيهم حميد بن قحطبة، وعاد فنزل قنَّسرين، واستعمل عليها زُفَر بنَ عاصم، وعلى دمشق عثمان بنَ عبد الأعلى، واستعمل على فلسطين الحكم بنَ ضبعان، وكتب إلى الحسن بن قحطبة وكان على أرمينية، وإلى مالك بن الهيثم وكان على أذربيجان، وإلى محمَّد بن صول وهو بسمَيْساط (¬3) يدعوهم إلى نفسه، فأبوا عليه، وسار إلى حرَّان وعليها مقاتل بن حكيم العكّي في أربعة آلاف مقاتل، وكان عاملَ أبي جعفر على الجزيرة فعصى عليه، فنصب المجانيق على البلد، وضايقه، فطلب مقاتل الصلحَ، فصالحه ودخل عبدُ الله حرَّان في صفر سنة سبع وثلاثين، ثم سار إلى الرقَّة واستعمل أخاه عبدَ الصمد على الجزيرة، وجعله وليَ عهده، وصير على شرطته منصور بن جعونة العامريّ، وبعث بمقاتل العكّي وبولديه إلى ابن سُراقة وأمره بقتلهم فلم يفعل، وقيل: بل قتَلَه واستبقى ولديه، فلما هُزِم عبدُ الله قتلهما ابنُ سراقة واسمُه عثمان بنُ عبد الأعلى، أزديٌّ، واستعمل عبدُ الله على قِنَّسرين حُميدَ بنَ قحطبة، وكتب إلى زُفر بن عاصم: إذا ورد عليك حميد بنُ قحطبة فاقتله ومَنْ معه، فوقع حُميد بالكتاب فقرأه، وعاد إلى الأنبار، فقدم على أبي جعفر (¬4). ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 117 و 214. (¬2) في أنساب الأشراف 3/ 117: المخنفر. (¬3) في أنسات الأشراف 3/ 119: بشمشاط، وكلاهما بلدتان على الفرات غير أن سميساط من أعمال الشام، وشِمْشاط في طرف إرمينية. انظر معجم البلدان 3/ 258 و 362. (¬4) أنساب الأشراف 3/ 117 - 119.

ذكر مسير أبي مسلم لقتال عبد الله بن علي وهزيمة عبد الله إلى البصرة

ذِكْر مسير أبي مسلم لقتال عبد الله بن عليٍّ وهزيمة عبد الله إلى البصرة ولمّا بدا من عبد الله ما بدا جمع أبو جعفر أهلَه وقوَّاده واستشارهم، فقال له أبو مسلم: إن شئتَ أقمتُ ببابك أخدمُكَ، وإن شئتَ ذهبتُ إلى خراسان، وجهَّزت إليك الجنود، وإن شئتَ سرتُ إلى عبد الله. فقال أبو جعفر: بل تسير إلى عبد الله، فإنما هو أنا أو أنت، فسار أبو مسلم يقصد عبد الله وهو بحرَّان قد جمع إليه العساكر والسلاحَ وما يحتاج إليه، وخندق عليه , ولم يتخلّف من القوَّاد عن أبي مسلم أحدٌ؛ وبعث على مقدّمته مالك بنَ الهيثم الخزاعي، ووافاه الحسن بنُ قحطبة من إرمينية، فاجتمع بأبي مسلم بالكُحَيل من أرض الموصل. وفي رواية: فسار عبد الله حتى نزل نصيبين، وكان قد قَتَل من أهل خراسان سبعة عشر ألفًا خاف أن لا يوافقوه، فنفرت عنه قلوبُ الخراسانيين، ولما وصل أبو مسلم إلى الكُحَيل ولقيه الحسن بنُ قحطبة جعله على مقدّمته. وقيل: إن أبا جعفر شيَّع أبا مسلم إلى عُكْبَرا، وبعث أبو جعفر إلى محمَّد بن صول أن يجتمع بعبد الله ويقتله غِيْلة، فجاء إليه ابنُ صول، وكتب إلى عبد الله عيونُه: صُلْ بابن صول، فقتله عبد الله. ولما وصل أبو مسلم إلى الجزيرة، ووجد عبدَ الله قد خندق عليه بعث إليه مكيدةً استنزله عن خندقه: إني لم أُومر بقتالك، وإنما ولَّاني أميرُ المؤمنين الشامَ، وأنا أريدُها، وبلَّغ من كان معه من أهل الشام، فقالوا لعبد الله: كيف نقيمُ معك وأبو مسلم ينصرفُ إلى بلادنا وحرمنا فيقتل من قدر عليه، ويسبي ذرارينا، ونحن في خندق؟ ! ولكن نخرج إلى بلادنا، فإن قصدَنا قاتلناه، فقال عبد الله: والله ما يريدُ الشامَ، وما يريد إلا قتالَكم، فقالوا: لا طاقةَ لنا على هذا. فارتحل عبدُ الله من خندقه، وجاء أبو مسلم فنزل موضعه، فقال عبدُ الله: ألم أقلْ لكم: إنَّه ما يريدُ الشامَ، إنَّما يريد قتالكم؟ فاقتتلوا ستة أشهر أو خمسة. وكان أهلُ الشام ظاهرين بالعدّة والخيل والفرسان، وكان على مقدّمة أبي مسلم الحسن بنُ قحطبة، وعلى ميمنته حُمَيد بنُ قحطبة، وعلى ميسرته خازم بن خُزَيمة (¬1) ¬

_ (¬1) تحرفت في (د) و (خ) إلى: خزيمة بن خازم. انظر تاريخ الطبري 7/ 477.

وعلى ميمنة عبدِ اللهِ بكارُ بنُ مسلم العقيليُّ، وعلى ميسرته حبيبُ بن سُوَيد الأسديُّ، وعلى الخيل عبد الصَّمد بن عليّ، فأقاموا يقتتلون كلّ يوم، فلما كان يوم الثلاثاء لتسع خَلَون (¬1) من جمادى الآخرة التقوا، فأزالوا أهل خراسان عن مواقفهم وأبو مسلم يرتجز ويقول: مَنْ كان ينوي أهلَه فلا رَجَعْ ... فرَّ من الموت وفي الموت وَقَعْ (¬2) وكان له عريشٌ يجلس فيه إذا التقى الناس ينظر، فإن رأى خللًا بعث إلى صاحبه يأمره بإصلاحه. ولما انكشف أهل خراسان، وقَتَل عبدُ الصَّمد منهم ثمانية عشر رجلًا ترجَّل أبو مسلم وصاح: يا أهلَ الشام، ويا مَنْ معهم من أهل خراسان، أنا أبو مسلم الذي تعرفوني. وحملت الميمنة والميسرة والقلب، وأتي أبو مسلم بحصان، وقيل له: اركب فما هذا وقته، فركب وصدقوا الحملة، وانهزم أهلُ الشام لا يلوون على شيء، فقال عبدُ الله بن سُراقة: ماذا ترى؟ فقال: أرى أن نقاتل، فإما أن نموت أو الظَّفَر، وإن الفرار عارٌ على مثلك، وقد عبتَه بالأمس على مروان، ألستَ القائل: قبَّح الله مروان! فرَّ من الموت؟ وها أنت تفرُّ من الموت، فلم يلتفت عبد الله إلى قوله، فقال له ابنُ سراقة: وأنا معك، وهرب في البرية إلى البصرة، وترك عسكره بما فيه، فاستولى عليه أبو مسلم، وأمر أن لا يُقتل منهم أحد، وكتب إلى أبي جعفر بالفتح. وأما عبد الله فسار في البرية في مواليه وأهله حتى قدم البصرة على أخيه سليمان بن علي، فأنزله وأكرمه، وأقام عنده متواريًا، وقصد عبدُ الصَّمد الكوفة مستجيرًا بعيسى بن موسى، فأخذ له أمانًا من أبي جعفر، وأقام عنده. قال البلاذري: إن حُمَيد بنَ قحطبة أخذ عبد الصمد أسيرًا، وجاء به إلى أبي مسلم , فبعث به إلى أبي جعفر، فيه بعضُ عمومته, فأطلقه (¬3). ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 7/ 478: يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون. (¬2) البيتان في أنساب الأشراف 3/ 121 مع اختلاف في الترتيب , وهما في تاريخ الطبري 7/ 478 بمثل ترتيب المصنف. (¬3) أنساب الأشراف 3/ 121، والذي كلمه فيه هو إسماعيل بن علي.

ولما وصل عبد الله إلى البصرة، وكانت عنده أَمَة الحُميد بنتُ [محمد بن] (¬1) عبد المطلب بن ربيعة، قالت له: أفنيتَ أهل الشام وكانوا فرسانكم، وأهلَ خراسان وكانوا أنصاركم، ثم ادّعيت الخلافةَ، وحاربت ابنَ أخيك وهو الخليفة، فلم تُبق غايةً، ولم تدع جهدًا، ثم هربتَ إلى غير حصن ولا ملجأ، فهلا متَّ كريمًا، فوالله لتقاسينَ ذلا طويلًا، وهوانًا كبيرًا. فغضب من كلامها وفارقها، وكَان لها منه أولاد: محمَّد، وعيسى، وأم محمَّد، وأم عبد الله. وأما أبو مسلم فإنه لما كتب إلى أبي جعفر بالفتح بعث أبو جعفر أبا الخصيب مولاه ليُحصي ما أصابوا في عسكر عبد الله، فغضب أبو مسلم من ذلك، وسنذكره إن شاء الله. وأقام عبد الله عند أخيه سليمان بالبصرة مدةً، ثم نزل سليمان إلى أبي جعفر، فقال له: يا أمير المؤمنين إنَّ عبد الله ابنُ أبيك، وعفوكَ لا يضيق عنه، وفيه مستصلحٌ، فأمِّنه، فقال: هو آمنٌ إذا رأيتَه. وسنذكر هذا إن شاء الله تعالى. وفيها قتل أبو جعفر أبا مسلم الخراساني، وولَّى خراسان أبا داود خالد بنَ إبراهيم. وفيها خرج فيروز الأصبهبذ -واسمُه سِنباذ- على أبي جعفر بخراسان، وكان مجوسيًّا من بعض قرى نيسابور، وكان أبو مسلم قد أحسن إليه واصطنعه، فلما قُتل خرج ثائرًا طالبًا بدمه، وتبعه خلقٌ كثير، واستولى على نيسابور وقومِس والرّي، وأخذ خزائن أبي مسلم التي كان أودَعَها بالرّي، واستعجل أمره، وقصد العراق، فبعث إليه أبو جعفر جمهور بن مزار العِجْلي في جيوش العراق، فالتقوا بين الري وهمذان، واقتتلوا قتالًا عظيمًا، فكانت الدبرة على سنباذ وأصحابه، فقُتل منهم نحو من ستين ألفًا، وسبىى جمهور نساءهم وذراريَّهم، وقُتل سنباذ بعد ذلك بين قومِس وطبرستان، وكان سنباذ من الدَّيلم، أفنى خلقًا كثيرًا، فبعث إليه أبو جعفر جمهور، فهرب إلى طبرستان، فقتله صاحبها، وأقام جمهور بخراسان، فعزله أبو جعفر عن الري، وولَّاها مُجاشع بن يزيد الضبِّيَّ (¬2)، فلما قدم على جمهور بكتاب أبي جعفر قتَلَه وبعث برأسه إلى أبي جعفر، وخلع أبا جعفر، واستولى على البلاد، فبعث إليه أبو جعفر محمَّد بنَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من أنساب الأشراف 3/ 123. (¬2) في أنساب الأشراف 3/ 280: الضبعي.

صفوان بن صالح

الأشعث ويزيد بنَ حاتم، فانهزم إلى أذربيجان، فوثب جماعةٌ ممن كان معه فقتلوه، وأتوا برأسه إلى يزيد بن حاتم، فقال لهم: ويحكم! وثق بكم، وأمَّنَكم على نفسه وخنتموه؟ ! فضرب أعناقَهم، وبعث برأس جمهور إلى أبي جعفر (¬1). وقيل: كانت هذه الوقعة سنة ثلاث وأربعين ومئة. وفيها خرج ملبّد بن حرملة الشَّيباني بالجزيرة، وتَبِعَه خلقٌ كثير، وبعث إليه أبو جعفر جيوشًا وهو يهزمُها، وكان في نفر يسير هزم عسكر الجزيرة، وعسكر الموصل، ويزيد بن حاتم المهلّبي، والمهلهل بن صفوان، وزياد بن مشكان، وسار إليه حُمَيد بن قحطبة وهو على الجزيرة والتقوا فهزمه ملبّد، فدخل بعضَ الحصون، فصالحه حُمَيد على مئة ألف درهم حتى كف عنه، وأقام حاكمًا على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان. وقال الواقديُّ: إنما كان خروجُ ملبّد في سنة ثمان وثلاثين. وحجَ بالناس إسماعيل بنُ علي وهو على الموصل، وكان على المدينة زياد بنُ عُبيد الله، وعلى مكة العباس بنُ عبد الله بن معبد، ومات في آخر السنة، فأضاف أبو جعفر مكة إلى زياد، وكان على الكوفة عيسى بنُ موسى، وعلى البصرة سليمان بنُ عليٍّ، وعلى خراسان أبو داود، وعلى مصر صالح بنُ عليٍّ، وعلى الجزيرة حُمَيد بن قحطبة وملبّد متولي عليها (¬2). [فصل] (¬3) وفيها توفي صفوان بنُ صالح ابن صفوان، أبو عبد الله الدمشقيُّ، ولد سنة ست وتسعين، وكان زاهدًا عابدًا، فقيهًا على مذهب أهل العراق، وكان يؤذِّن بجامع دمشق وداره بربض باب الفراديس. أسند عن سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه الإِمام أحمد رحمة الله عليه وغيره، ¬

_ (¬1) انظر أنساب الأشراف 3/ 278 - 280، وتاريخ الطبريّ 7/ 495، وفيهما جمهور بدل جمهور. (¬2) في (د): على معظمها، والمثبت من (خ). (¬3) ما بين حاصرتين من (د).

عبد الرحمن بن مسلم

وكان صدوقًا ثقةً (¬1). عبد الرحمن بنُ مسلم ابن سنفيرون بن إسفنديار، أبو مسلم، الخراسانيُّ المروزيُّ، صاحبُ الدعوة. وقيل: عبدُ الرحمن بنُ عثمان بن يسار، وقيل: عبد الرحمن بن محمَّد. وقال الخطيب: كان اسمه إبراهيم بن عثمان بن يسار بن شيدوس بن جوذرن من ولد بزرجمهر، وفي رواية: كان يُسمّى إبراهيم بن حكان (¬2)، فسماه إبراهيمُ الإِمام عبدَ الرحمن، وكناه أبا مسلم، وكانت كنيته أبا إسحاق. وولد سنة مئة بأصبهان برستاق فريذين، وكان أبوه قد أوصى به إلى عيسى بن موسى السرّاج، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، وجمع عيسى بينه وبين إبراهيم الإِمام، وأقام بالكوفة حتى بلغ، فقال له إبراهيم: غَيِّر اسمَك، فإنه لا يتمُّ لنا الأمر إلا بتغييره على ما وجدنا في الكتب فغيَّره، وزوَّجه إبراهيم ببنتِ عمران بن إسماعيل الطائي -ويُعرف بأبي النجم- على أربع مئة درهم، وهي بخراسان مع أبيها، زوّجه إياها عند خروجه إلى خراسان، وبنى بها بخراسان، وزوّج أبو مسلم ابنتَه فاطمةَ من مُحْرِز بن إبراهيم، وفاطمةُ هي التي يدعو إليها الخُرَّمِيَّة إلى هلمّ جرًّا. ومات عيسى بنُ موسى السرَّاج ولأبي مسلم تسع عشرة سنة (¬3). وقيل: إنَّ جماعةً من شيعة بني العباس قدموا مكة من خراسان، فنزلوا الكوفة وفيهم بُكَير بن ماهان، وكان كاتبًا لبعض عمال السِّند، وسليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وقَحْطبة بن شبيب في آخرين، فلما نزلوا الكوفة غُمِزَ عليهم، فحُبِس بُكير بن ماهان وخُلِّي عن الباقين، وكان في ذلك الحبس عيسى بنُ معقل ومعه غلامٌ يخدمه وهو أبو مسلم، فدعا بُكير عيسى إلى بني العباس فأجاب، وقال له: ما هذا الغلامُ منك؟ فقال: ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 335 - 337 (مخطوط). وقد ذكر أقوالًا في سنة مولده ووفاته كلها يخالف ما حكاه المصنف. (¬2) في أنساب الأشراف 3/ 93: حيكان. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 466.

مملوكٌ اشتريتُه، فقال: أتبيعُه؟ فقال: هو لك بغير ثمن، قال: لا. فاشتراه بأربع مئة درهم، وحمله إلى الإِمام، فرأى فيه العلامات، فقال: احتفظ به، وكان مع عيسى يُعلمه صنعةَ السُّروج (¬1). وقيل: إنه كان من أهل خُطَرنيَة قريةٍ من سواد الكوفة، وكان قَهْرَمانًا لإدريس بن مَعْقِل العِجْليّ (¬2). وقيل: إنه كان من أهل أصبهان، وكان يخدم إدريس وعيسى ابني معقل، وكان قد حبسهما يوسف بنُ عمر على الخراج فيمن حبس من عمال خالد بن عبد الله القَسري (¬3). وقيل: كان لرجل من أهل هَرَاة يقال له: أبو بوشنج (¬4)، فقدم على الإِمام وهو معه، فأعجبه عقله، فابتاعه منه بألفي درهم وعشرين درهمًا، فأعتقه وأقام عنده حتى بعثه إلى خراسان. وقيل: كان أبوه من خَوَل آل معقل، فأسلموه إلى خرّاز بالكوفة، فبينا هو يخرزُ شيئًا في يده إذ رأى الناس يتعادون، فقال: ما الذي بهم؟ قالوا: فيلٌ دخل الكوفة، فقال: وأنى في فيل من العجب؟ إنَّما العجبُ في [أن تروني] (¬5) أقلبُ دولة وأقيم دولة! وقيل: إن أباه كان من أهل بابل (¬6)، وكان اسمه زاذان بن بيدار بن هرمز (¬7)، وأمُّه تسمى وَشيكة، بِيعَ فاشتُري للإمام بتسع مئة درهم. وقيل: إنه كان عربيًّا، سُبي وبِيع فاشتراه الإِمام. وقيل: إنَّه كان من الأكراد، وقد نسبه أبو دُلامة إليهم فقال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) انظر الكامل 5/ 255. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 360. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 198. (¬4) كذا في (د) و (خ)، وفي أنساب الأشراف 3/ 135: لرجل من أهل هراة أو بوشنج. وهو الأشبه. (¬5) ما بين حاصرتين من أنساب الأشراف 3/ 135. (¬6) في (د) و (خ): كابل، والمثبت من أنساب الأشراف 3/ 135. (¬7) كذا في (د) و (خ)، وفي أنساب الأشراف 3/ 135: زادان بن بنداد هرمز.

أفي دولة المنصور حاولتَ غَدْرةً ... ألا إنَّ أهل الغدر آباؤك الكُرْدُ (¬1) وقيل: كان عبدًا لأبي موسى السرَّاج، وكان من كبار الشيعة، وكان الجماعةُ الذين ذكرناهم في أول الفصل قد واعدُوا الإِمام أن يوافيَهم بمكَّة، فوافاهم إبراهيم بها، فأعطوه عشرين ألف دينار ومئتي ألف درهم، ومتاعًا وتحفًا جلبوها من خراسان، فرأى أبا مسلم مع أبي موسى السرَّاج، فأعجبَه فاشتراه، وأقام عنده حتى بعثَ به إلى خراسان. وقال شهاب بن عبد الله: كان أبو مسلم يتردَّد إلى خراسان من الإِمام بكتبٍ إلى الشيعة، وهو راكبٌ على حمار، قال خادم لسليمان بن كثير: لقد جاءنا يومًا فلم نعرض عليه الطعام؛ كان عندنا أحقر من ذلك، فلامنا سليمان وقال: بئس ما فعلتم (¬2). وقال أبو اليقظان: كان أبو مسلم يدَّعي أنه ابن سليط بن عبد الله بن عباس، وأطمعَ نفسه في الخلافةِ بهذه الدعوى (¬3). ذكر صفته: كان أسمر -وقيل: أبيض حسن اللون- مليح الوجه، رَبْعةً -وقيل: طُوالًا- تعلوه صفرة، وكان شجاعًا فاتكًا، ذا عقلٍ ورأي وحزمٍ وتدبيرٍ، يقول بتناسخِ الأرواح، ويرى رأي الكيسانيَّة (¬4)، وأن محمدَ بن الحنفية هو المهدي، وأنَّه حيّ يرزق. ذكر طرف من أخباره: قيل له: بم أدركتَ ما أدركت؟ فقال: ارتديتُ بالصبر، والتحفتُ بالكتمان، وحالفتُ الأحزانَ والأشجان، وسامحتُ المقادير حتى بلغتُ غاية همَّتي، وأدركتُ نهاية بغيتي. وفي رواية: وساعدني القَدَرُ؛ فأدبر الحرمان، وأقبل الإقبال، وأنشد لنفسه: [من البسيط] ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 235، وطبقات الشعراء ص 62، والشعر والشعراء 2/ 778، ووفيات الأعيان 3/ 155. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 136. (¬3) انظر الكامل 5/ 256. (¬4) انظر الملل والنحل 1/ 154.

قد نلتُ بالحزم والكتمانِ ما عجزت ... عنه ملوكُ بني مروان إذ حشدوا ما زلتُ أضربهم بالسيفِ فانتبهوا ... من رقدةٍ لم يَنمهَا قبلهم أحدُ طفقتُ أسعى عليهم في ديارهمُ ... والقوم في ملكهم بالشامِ قد رقدوا ومن رعى غنمًا في أرضِ مسبعةٍ ... ونام عنها تولَّى رعيَها الأَسَدُ (¬1) عُرض على أبي مسلم فرسٌ جواد، فقال (¬2): ماذا يصلح هذا؟ فقال جلساؤه: لغزو العدو، فقال: لا, ولكن يركبُه الرجل فيهرب عليه من جار السوء. ودخل عليه رؤبة فقال له: أنشدني: [من الرجز] وقاتم الأعماق خاوي المخترقْ فأنشده، فلما بلغ إلى قوله: يرمي الجلاميد بجلمودٍ مدقْ قال له: قاتلَك الله! لشدَّ ما استصلَبْتَ الحافر، ثم قال: أنا ذاك المدق، ثم اعتذر إليه من قوله، وأجازه بمال، فقال رؤبة: فوالله ما رأيتُ أعجميًّا أفصحَ منه، وما ظننتُ أنَّ أحدًا يعرف هذا الكلام غيري وغير أبي (¬3). نقب رجل بيت المال وأخذ منه، [فكتب: يُدرَأ عنه الحدُّ (¬4). وكتب إليه سليمان بن كثير كتابًا أغلظ له فيه] (¬5)، فكتب إليه: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)} [الأنعام: 67]. وكتب إلى قحطبة: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (¬6) [القصص: 77]. ووقَّع على قصَّة محبوس: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 467، وتاريخ دمشق 41/ 393 (طبعة مجمع اللغة). (¬2) في (خ): فقيل. والمثبت من (د) وتاريخ دمشق 41/ 391. (¬3) الأغاني 20/ 348 - 349. وانظر ديوان رؤبة ص 104 - 106. (¬4) ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد 4/ 220 في توقيعات الفضل بن سهل، وتمامه: وفي قصة رجل نقب بيت المال: يدرأ عنه الحدّ إن كان له فيه سهم. (¬5) ما بين حاصرتين من (د). (¬6) العقد الفريد 4/ 218.

وكتب على قصَّة آخر: العدلُ أوثقه، والتوبةُ تطلقه (¬1). ذكر مقتله: وله أسباب، منها: تهاونه لما قدم عليه أبو جعفر، ومنها: قتلُ سليمان بن كثير، وادعاؤُه أنَّه ابن سليط، وتقدّمه على أبي جعفر في الحجّ، ولما قدم الأنبار دعا عيسى بنَ موسى إلى خلعِ أبي جعفر، ومنها: أنَّه لما توجَّه إلى قتال عبد الله بن علي كان إذا ورد عليه كتاب من أبي جعفر يقرؤه ويلويه (¬2) بيده استهزاءً به، ثم يلقيه إلى مالك بن الهيثم ويتضاحكان. ولمَّا انهزمَ عبد الله بن عليّ بعثَ أبو جعفر أبا الخصيب مولاه إلى أبي مسلم ليحزر أموال عبد الله، فشتم أبو مسلم أبا الخصيب، وأراد قتله، فقال القوَّاد: المرسلُ لا يقتل، فخلَّى سبيلَه، فعادَ إلى أبي جعفر فأخبره، فخاف أبو جعفر أن يفوته إلى خراسان، وكان القُوَّاد قد قالوا لأبي مسلم: نحنُ غنمنا مال عبد الله، وليس لأبي جعفر فيه غير الخمس. ولما خاف أبو جعفر من ذهابه كتبَ إليه مع يقطين بن موسى كتابًا يقول فيه: قد ولَّيتُك مصر والشام، فهي خيرٌ من خراسان، فوجَه إلى مصر من أحببت، وأقم بالشام لتكون قريبًا من أمير المؤمنين، متى أحببتَ لقاءَه لقيتَه، فلمَّا دخل يقطين على أبي مسلم سلّم عليه، فقال: لا سلَّم الله عليك يا ابن اللخناء، أؤتمنُ على الدماء، ولا أؤتمن على الأموال (¬3)؟ ! فقال له يقطين: امرأتُه طالق إن كان أمير المؤمنين أرسلني إليك إلَّا مهنيًا بالظفر وبتولية الشام وخراسان (¬4)، فغضبَ أبو مسلم وقال: أهو يوليني الشام ومصر، وخراسانُ لي؟ ! فلمَّا خرج يقطين قال أبو مسلم: إني لأعلمُ أنَّ امرأتَهُ طالق، ولكنَّه نظر لصاحبه. ¬

_ (¬1) التوقيعان الأخيران أوردهما ابن عبد ربه في العقد الفريد 4/ 219 من توقيعات جعفر بن يحيى. (¬2) في أنساب الأشراف 3/ 230، وتاريخ الطبري 7/ 481، والمنتظم 8/ 5: فيقرؤه ثم يلوي شدقه. (¬3) انظر مروج الذهب 6/ 178. (¬4) كذا في (خ) و (د)، وهو خطأ؛ لأن المنصور كتب بتوليته على الشام ومصر؛ ليبعده عن خراسان. وهذا واضح من سياق الخبر.

وقال البلاذري: بعث أبو جعفر مرزوقًا أبا الخصيب إلى أبي مسلم ليحصي أموال عبد الله، فغضب أبو مسلم وقال: ما لأبي جعفر ولهذا؟ ! وإنَّما له الخمس، فقال له مرزوق: هذا مال أمير المؤمنين دون الناس، وليس سبيل هذا سبيل الخمس، فشتمَه وهمَّ بقتله، ثم أمسك. وبعث أبو جعفر يقطين بن موسى إلى أبي مسلم في هذا الأمر، فلمَّا دخلَ عليه قال أبو مسلم: أفعلها ابنُ سلَّامة الفاعلة؟ لا يَكني، فقال له يقطين: عجلت أيُّها الأمير، إنَّما أمرني أمير المؤمنين أن أَحصيَ ما في عسكر الناكث، ثم أسلِّمه إليك ترى فيه رأيك، وإنَّما قصدَ أن يعلم ما فيه. ثمَّ عاد يقطين إلى أبي جعفر وأخبرَه بشتمه إيَّاه وتنقصِه به، وقال: إنَّه على عزم المضي إلى خراسان عاصيًا مخالفًا (¬1). فخرج أبو جعفر من الأنبار من وقته، فنزل المدائن، وكتبَ إلى أبي مسلم ليقدم عليه، فوافاه كتابه وهو على الزاب، فكتب [إليه]: أما بعد، فإنَّه لم يبق لأمير المؤمنين عدوٌّ إلَّا أمكنَه الله منه، وقد كنَّا نروي عن ملوك ساسان أنَّ أخوفَ ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، ونحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريُّون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاكَ ذاك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيتَ إلَّا أن تعطي نفسك إرادتها نقضنا ما أبرمنا بنفوسنا (¬2)، والسلام. فلما قرأ أبو جعفر الكتاب وقيل له: قد سلك طريق حلوان، فقال: رُبّ أمرٍ لله دون حلوان، وكتب إليه: أما بعد، فليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغاشّة لملوكهم، الذين يتمنون اضطرابَ الدُّوَل لكثرة جرائمهم، وإنَّما راحتُهم في انتشار نظام الجماعة، فلمَ سوَّيتَ نفسَك بهم، وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملتَ من أعباء هذا الأمر على ما أنت به! وقد حمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالةً ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 230 - 231. (¬2) في تاريخ الطبري 7/ 483، والكامل 5/ 470: نقضت ما أبرمت من عهدك ضنًّا بنفسي.

لتسكنَ إليها، وأسألُ الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك؛ فإنه لم يجد بابًا يفسد به نيَّتك آكد عنده من الباب الذي فتحَه عليك، والسلام. وقيل: إنَّما بعث إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجليّ، فخدعه وردَّه، وكان رجل زمانه (¬1)، ولم يبعث إليه عيسى بن موسى، وهو الأصح (¬2). وقال الصولي: كان أبو مسلم قد كتب إلى أبي جعفر كتابًا، فكان سببًا لهلاكه، كتب إليه: من أبي مسلم إلى أبي جعفر، سلام على من اتَّبع الهدى، أما بعد، فإنِّي كنت قد اتخذت إمامًا، وجعلته على ما افترضه الله على خلقه، وله قرابةٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحرَّف القرآنَ عن مواضعه، ودلَّاني بغرور، فأمرني أن أجرد السيف، وأرفعَ الرحمة، ولا أقبل العذر، ولا أقيلَ العثرة، ففعلت ذلك توطئة لسلطانه، ثم استنقذني الله بالتوبة، فإن يعفُ عنِّي، فقِدمًا عُرِف بالعفو، وإن يعاقبني فبما قدَّمت يداي، وما الله بظلام للعبيد. وقال البلاذري: كتب إليه: من عبد الرحمن أبي مسلم (¬3) إلى عبد الله بن محمَّد، أمَّا بعد، فإنِّي كنت اتخذت أخاكَ إمامًا، وجعلتُه على الدِّين عَلَمًا، وقبلتُ منه الوصيَّة التي زَعمَ أنَّها صارت إليه، وكان في قرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحلّه من العِلْم على ما كان عليه، ثمَّ إنه مستخف (¬4) القرآن، وأوطأني عشوة (¬5) الضلالة، وأوثقني برِيقة الفتنة، فهتكتُ بأمره حرماتٍ حتم الله صونَها، وسفكتُ دماءً فرضَ الله حقنَها، وزويتُ الأمرَ عن أهله، ووضعتُه في غير محلِّه، وذكر تمام الكتاب. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 7/ 483: واحد زمانه. (¬2) سياق الخبر في تاريخ الطبري 7/ 483 يدل على أن حامل الرسالة عيسى بن موسى، وأن المنصور وجه جرير بن عبد الله إلى أبي مسلم ليخدعه. فتأمل. (¬3) في أنساب الأشراف 3/ 232: بن مسلم. (¬4) فوقها في (خ): كذا. وفي أنساب الأشراف 3/ 233: استخف بالقرآن. وفي تاريخ الطبري 7/ 484، والكامل 5/ 470: فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه. (¬5) أوطاني عَشوة: لبس علي، والمعنى فيه أنه حمله على أن يركب أمرًا غير مستبين الرشد، فربما كان فيه عطبه. اللسان (عشا).

فلمَّا وقف أبو جعفر عليه كتب إليه: من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الرحمن، أمَّا بعد فإنَّ أخي كان لي إمام هدى يدعو إلى الله على بينة من ربِّه، فأوضح لك السبيل، ونهجَ لك المنهج، فلو كنت بأخي اقتديتَ ما كنتَ عن الحقِّ مائلًا، وعن الشيطان وأمره (¬1) صادرًا [وواردًا] , ولكن لم يسنح لك أمران إلَّا كنت لأرشدهما تاركًا، ولأغواهما موافقًا، تقتلُ قتلَ الفراعنة، وتبطشُ بطش الجبَّارين، وتحكمُ بالجور، وتقضي بالظلم، ثم أخبركَ أيها الضالّ أنِّي قد وليتُ موسى بن كعب خراسان، وأمرتُه بالمقام بنيسابور، فإن أردتَ خراسان لقيكَ من دونها بمن معه من قوادي وشيعتي، وأنا موجِّهٌ إليك إلى لقائك [أقرانَك] (¬2)، فأجمع كيدك فإنَّك غيرُ مسدَّدٍ ولا موفَّق، والسلام (¬3). فلما قرأ كتابه شاور أبا إسحاق المروزي وقال له: هذا موسى بن كعب دونَ خراسان، وهذه سيوف أبي جعفر من خلفنا، وقد أنكرتُ من أثق به من عسكري وخاصَّتي، فقال له أبو إسحاق: إنَّ أبا جعفر يضطغنُ عليك أمورًا قديمة، فلو كنت إذ ذاك واليتَ رجلًا من آل أبي طالب كنتَ أقرب إلى الحقّ، ولو كنت قبلتَ توليته إيَّاك الجزيرة والشام ومصر والصوائف كنتَ في فسحة من أمرك أن ترسل إلى المدينة فتختلس رجلًا من ولد فاطمة فتنصِّبَه إمامًا، كنت استملت به الناس، ورميتَ أبا جعفر بنظيره، أتطمع أن تحاربه وأنت بحُلوان وعساكرُه بالمدائن وخراسان والشام، وهو خليفةٌ مجمَعٌ على خلافته ثم تظهر؟ ! ليس ما ظننت. قال: فما الرأي؟ قال: أن تستوثق من قوَّادك، قال: إنَّهم غيرُ موافقين. قال: فإن رأيتَ أن تبعثني إلى أبي جعفر فآخذَ لك منه أمانًا، فإمَّا عفا عنك، وإمَّا عاجلك وأنت على شعبة من عزِّك، من قبل أن ترى الذُّلَّ والصغار من عسكرك، فإما أخذوكَ أسيرًا، أو قتيلًا يركضون برأسك إلى المدائن. فقال: سأنظر (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ): وأهله. والمثبت من (د). (¬2) ما بين حاصرتين من (د). (¬3) انظر تاريخ دمشق 41/ 400 (طبعة مجمع اللغة العربية). (¬4) انظر تاريخ دمشق 41/ 400 - 401.

وكان أبو جعفر يقول: [الذي] نخافُه من أبي مسلم أعظمُ من الذي كنا نخافه من أبي سلمة، يعني أنَّ أبا مسلم يدَّعي أنَّه ابنُ سليط (¬1). وفي روايةٍ أنَّ أبا جعفر لمَّا قرأ كتابَ أبي مسلم الذي يقول فيه: إنِّي اتخذتُ أخاكَ إمامًا، كتب إليه يستعطفه. ويقول: للمدلِّ بطاعته ونصيحته مقال، ولم يزدك عندنا ما كتبتَ إلَّا ما تحبّ، فراجع أحسن مراجعة، ولا يدعونَّك ما أنكرته إلى التجنِّي، فإنَّ المغضبَ ربما تعدَّى في القول، فاقدم مبسوطَ اليد في أمرنا، محكَّمًا فيما هويت من الحكم فيه، ولا تُشمت بنا وبك الأعداء، والسلام (¬2). وأمر أبو جعفر بني هاشم بن عيسى بن موسى، وعيسى بن علي ومن حضَر أن يكتبوا إليه (¬3) يشكرون ما كان منه من الطاعة، ويحذِّرونَه الخلاف والشقاق وعاقبةَ الغدر، وأن يقدم على أبي جعفر، ونحو ذلك. وبعثَ بالكتاب مع أبي حميد المروذي، وقال: لاطفه أوَّلًا، فإن أجاب، وإلَّا فقل له. يقول لك أمير المؤمنين: لست للعباس (¬4)، لئن لم تأتني لأطلبنَّك بنفسي (¬5)، ولو خضتَ البحر لخضتُهُ، ولو اقتحمت النار لاقتحمتُها حتى أقتلَك أو أموتَ قبل ذلك. ولا تقل ذلك حتى تأيسَ منه ومن رجوعه. فقدم أبو حميد عليه وهو بحُلوان فدفع إليه الكتاب ولاطفه وقال: إن الناسَ يبلغونكَ عن أمير المؤمنين ما لم يقله حسدًا لك، يريدونَ زوال النعمة عنك، فلا تفسد ما كان منك، فإنَّك لم تزل أمين (¬6) آل محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وما ذخرَ لك من الأجر أعظم ممَّا أنت فيه من الدنيا، فلا تحبط أجرَك، ولا يستغوينَّك الشيطان. فقال له أبو مسلم: متى كنت تكلمني ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 230. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 233. (¬3) كذا، وفي تاريخ الطبري 7/ 484: وقال أبو جعفر لعيسى بن علي وعيسى بن موسى ومن حضره من بني هاشم: اكتبوا ... (¬4) في (خ): لست أبي العباس. والمثبت من (د). (¬5) تمامه كما في تاريخ الطبري 7/ 484: لست للعباس وأنا بريء من محمَّد إن مضيتَ مشاقًا ولم تأتني، إن وكلتَ أمرك إلى أحد سواي وإن لم أن طلبك وقتالك بنفسي ... (¬6) في (خ) و (د): أمير. والتصويب من تاريخ الطبري 7/ 484.

بهذا الكلام؟ ! فقال: أنت الذي أمرتنَا بطاعةِ أهل بيت نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - بني العباس، ودعوتنا من أراضٍ متفرقة، وجمعتنَا على طاعتهم، وقلت: من خالفَهم فاقتلوه، ولو كنتُ أنا فاقتلوني، فلا تفسد أمرَنا وتفرِّق كلمتنا. فقال: قوموا لأنظر، فقام [أبو] حميد، وشاورَ أصحابَه وخواصّه، فقالوا: والله لئن أتيتَه ليقتلنَّك، ولا يأمنك بعدها أبدًا، فسر إلى خراسان، فهم صنائعك وجندُك، فإن استقامَ لك (¬1)، وإلَّا كنت في عز ومَنعة وبلاد واسعة. فدعا [أبا] حميد (¬2) وقال له: ارجع إلى صاحبك وقيل له: لا حاجة لي في لقائه، فلاطفه وقال له: لا تفعل، وهو يأبى عليه، فلمَّا آيسه آعاد عليه ما قال أبو جعفر، فوجمَ طويلا وكسره ذلك القول. وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبي داود نائب أبي مسلم بخراسان: إنَّ لك خراسان ما بقيتُ وبقيتَ، وجاء أبا مسلم كتابُ أبي داود يقول: إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله ومخالفةِ أهل بيت نبيه، فلا تخالفنَّ إمامك، ولا ترجعنَّ إلا بإذنه، فوافاه كتابه على تلك الحال، فزادَه خوفًا وهمًّا، فاستدعى [أبا] حميد وقال له: قد رجعتُ عن المسير إلى خراسان، ثم رأيتُ أن أوجِّه أبا إسحاق المروزي إلى أمير المؤمنين يستوثقُ لي منه. وقدم أبو إسحاق على أبي جعفر، فأمرَ بني هاشم بتلقِّيه، وأكرمه أبو جعفر وقال: اصرفه عن وجهه ولك ما أحببت (¬3)، فرجع إليه فقال: ما أنكرتُ شيئًا، رأيتُهم معظِّمين لحقِّك، فارجع إلى أمير المؤمنين، فقال نيزك أحدُ قواده: ما ترى؟ فقال: [من الكامل] ما للرجال مع القضاء عزيمة (¬4) ... ذهبَ القضاء بحيلة المُحتالِ (¬5) [فقال: ] والله ليقتلنَّك، ولكن احفظ عني ما أقول: إذا دخلتَ عليه فاقتله، وبايع لمن شئت، فإنَّ الناسَ لا يخالفونك. ¬

_ (¬1) بعدها في (خ): الأمر. (¬2) في (خ) و (د): فدعا حميدًا. والمثبت وما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 7/ 485. (¬3) في تاريخ الطبري 7/ 486، والمنتظم 8/ 10، والكامل 5/ 473: ولك ولاية خراسان. (¬4) في أنساب الأشراف 3/ 232، وتاريخ الطبري 7/ 486، والكامل 5/ 473: محالة. (¬5) البيت أورده أيضًا القالي في الأمالي 2/ 269، لكن فيه: الأقوام بدل: المحتال. ومثله في أنساب الأشراف.

ذكر قدومه على أبي جعفر

وقال خليفة: كتب أبو جعفر إلى أبي مسلم: احتفظ بما في يدكَ من مال عبد الله بن عليّ، فغضب وعزم على التوجُّه إلى خراسان (¬1)، فبعث إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجليّ، وكان صديقًا لأبي مسلم كان يعرفه لمَّا كان بخراسان، وكان جرير أوحد زمانه، وكتب معه أبو جعفر: أما بعد؛ فإن المعاصي تطبع على القلوب، وتَرينُ عليها، فأفق أيّها السكران، وقَعْ أيُّها الطائر، وانتبه أيُّها النائم، فإنَّك مغرور بأضغاث أحلام، والسلام. فلمَّا قرأه أغلظَ لجرير، فما زال يخدعُه حتى صرفَه عن خراسان وأقدمَه من حُلوان إلى المدائن. وقال أبو اليقظان: لمَّا حجَّ أبو مسلم نزلَ الحيرة، فقيل له: إن ها هنا راهبًا قد أتت عليه مئتا سنة، عنده علمٌ من العلم الأول، فأتاه أبو مسلم فسلَّم عليه، فقال له الراهب: إنَّك قد قمتَ بالكفاية، ولم تزل (¬2) في العناية، وقد بلغتَ النهاية، وكأن قد عاينت تلفك، فاغتمَّ أبو مسلم، فقال له الراهب: أحرقتَ نفسك وشتتَّ أمرك، ولم تؤت من حزمٍ وثيق، ولا من رأيٍ أنيق، ولا من تدبيرٍ نافع، ولا من رأيٍ مراجع، وما استجمعَ في أحدٍ أملُه إلَّا أسرعَ في تفريقه أجلُه، والتقدير في يدي من يَبطُل معه التدبير، فانصرف أبو مسلم وقد علم بقربِ أجله، فما عاشَ إلا يسيرًا وقُتل. ذكر قدومه على أبي جعفر قال أبو أيوب المُورِياني وزير أبي جعفر: كان أبو جعفر نازلًا بالمدائن بمكانٍ يقال له: الرُّوميَّة، وقد كان رؤي لأبي مسلم أنَّه يقتل بالرّومية، وكان يظنُّ أنَّه يُقتَل بالروم. قال جرير الذي أقدم أبا مسلم إلى المدائن: لما قربنا من المدائن قال لي: يا جرير، أين أميرُ المؤمنين؟ قلت: قريبًا من المدائن، قال: في أيِّ موضع؟ قلت: في صحراءٍ يُقال لها روميّة، فأطرق طويلًا، ثم استرجع وقال: إذا كان كل مقضي كائنًا، فأيّ شيءٍ ينفعُ الحذر؟ ¬

_ (¬1) تاريخ خليفة ص 416. (¬2) في تاريخ دمشق 42/ 397: تألُ.

قال جرير: وقد كان قيل له: إنَّك تُقتَل بروميّة، فظنَّها بلدَ الروم، ثم قال: إنا لله، ذهبت والله نفسي بيدي، ثم أقبلَ يخاطب نفسَه ويقول: ويحَك يا أبا مسلم، فتحَ الله لك من باب المكايد في عدوك وصديقك ما لم يفتح لأحدٍ، حتى إذا دانَ لك مَنْ بينَ المشرق والمغرب خدعَك عن نفسك من كان بالأمس يهابُ من ينظر إليك، ثم تمثَّل: [من الوافر] فهل من خالد إمَّا هلكنا ... وهل في الموتِ يا للناسِ عارُ (¬1) وقال المورياني: دخلتُ على أبي جعفر وهو جالسٌ في خباء من شعر، وبين يديه كتابُ أبي مسلم، يذكرُ فيه أنَّه قادمٌ عليه، فرمى به إليّ، وكان قد صلَّى العصر وهو في مصلَّاه، فقلت له: ما تريد أن تصنع؟ فقال: والله لئن ملأتُ عيني منه لأقتلنَّه، فاسترجعتُ في نفسي وقلت: ما أرى أصحابَهُ يرضونَ بقتله، ولا يدعون منَّا أحدًا [حيًّا] (¬2)، وبعثتُ في الليل إلى سلمة بن سعيد بن جابر (¬3)، ووعدتُه بالولايات والأموال، وقلتُ: تلتقي غدًا أبا مسلم وتعدُه وتمنِّيه عن أمير المؤمنين وتقول [وتقول] , وكان قصدي أن يطمئنَّ، فقال: أفعل، فدخلت على المنصور وأخبرتُه بما خطر لي وما فعلت، فقال: ادع سلمة، فدعوته فدخل، فقال: إنَّ أبا أيوب استأذن [لكم] (¬4) أفتحبُّ أن تلقى أبا مسلم؟ قال: نعم، قال: فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام، وصف له شوقي إليه، فخرج فلقيَه، فأخبره. وقال: إنَّ أمير المؤمنين أحسن الناس رأيًا فيك، فطاب قلبه وسرّ، وكان خائفًا، فلمَّا قرب من المدائن أمرَ أبو جعفر الناسَ بتلقيه، فلمَّا كان عشية قدم، قلت للمنصور: هذا الرجلُ قد قدم، فماذا تريد أن تصنع؟ قال: أقتله حين تقع عيني عليه، فقلت: أنشدك الله أن [لا] (¬5) تفعل هذا، إنَّه يدخلُ عليك معه الناس وأصحابه، فإن دخل ولم يخرج لم آمن البلاء، ولكن إذا دخلَ عليك فأكرمه ومُره بالانصراف، فإذا كان غدًا فارأ فيه رأيَك، فدخلَ عليه عشيةً، فسلَّم وقام قائمًا بين يديه، فردَّ وقال له: قد وصلتَ متعوبًا، فانصرف فأرح نفسك، وادخل الحمَّام فإن للسفر قشفًا، ثم اغد عليّ. ¬

_ (¬1) المنتظم 8/ 7، والبيت منسوب لعدي بن زيد في الشعر والشعراء 1/ 41. (¬2) ما بين حاصرتين من (د). (¬3) في (خ) و (د): سلمة بن سعد بن رجاء. والتصويب من تاريخ الطبري 7/ 486، والكامل 5/ 474. (¬4) ما بين حاصرتين من (د). (¬5) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. وانظر تاريخ الطبري 7/ 487.

وقال أبو اليقظان: أمر أبو جعفر عيسى بن موسى والأشرافَ بتلقي أبي مسلم، فخرجَ عيسى في صدر الموكب وكان صديقًا له، فتسايرَا، فقال أبو مسلم لعيسى: هل تدري ما مثلي ومثلك ومثل عبد الله بن علي ومثل المنصور؟ قال: لا. قال: كمثل ثلاثة نفر، كانوا في سفر، فأتوا على عظام نخرة، فقال أحدهم: عندي صنعةٌ (¬1)، إذا رأيتُ عظامًا مفرقة جمعتها، وقال الآخر: إذا رأيتُ عظامًا موصولةً كسوتُها لحمًا، وقال الآخر: إذا رأيتُ عظامًا مكسوةً لحمًا أجريت فيها الروح، ففعلوا ذلك، فإذا الذي أحيوه أسد، فقال الأسد: ما أحياني هؤلاء إلَّا وهم قادرون على أن يميتوني، فوثبَ عليهم فأكلهم، وكذا والله عمُّك معنا، والله ليقتلنِّي ويخلعك وليقتلنَّ عمَّه عبد الله بن علي. أشار إلى نفسِه وأنَّه كان سببًا لإحياء الدولة، وأنَّ عبد الله مهدَها، وأنَّ عيسى قرَّر له الأمر. ولمَّا دخل أبو مسلم على أبي جعفر -قال البلاذري- قام له قائمًا واعتنقَه ورحَّب به وأدناه وقال: كدتَ أن تمضي إلى خراسان قبل أن نلتقي، فأُلقي إليك ما أريد (¬2)؟ وقال خليفة: ثنى له وسادةً، فجلس عليها وقال: يا أمير المؤمنين، مر بأمرك، فقال: انصرف إلى منزلك واسترح ليذهبَ عنك قال السفر، فقام وخرج. قال أبو أيوب: فندم أبو جعفر حيث لم يقتله وشتمني وقال: متى أقدر منه على ما قدرت عليه؟ فقلت: تربَّص، فلن يفوتك. وأقام أيامًا يتروَّى في قتله، وأبو مسلم يأتي إليه كلَّ يومٍ وهو يكرمُه وينتظر به الفرص. وقيل: إنَّ أبا جعفر بعثَ إليه بعيسى بن موسى، فحلف له بعتقِ كلّ مملوك له وصدقةِ ما يملكه وطلاق نسائه أنَّه لا يؤذيه، وقال له عيسى: لو خُيِّر المنصورُ بين موتِ ولده وموتِك لاختار موت ولده، فإنَّه لا يجدُ منك خلفًا (¬3). وهذا إنَّما قاله له قبل أن ينزل المدائن. ¬

_ (¬1) في المنتظم 8/ 7: عندي طب. (¬2) أنساب الأشراف 3/ 232. (¬3) المنتظم 8/ 7.

وقال ابن الكلبي: استشار أبو جعفر عيسى بن موسى، فقال: ما تقولُ في قتله؟ فقال عيسى: [من الطويل] إذا كنتَ ذا رأيٍ فكن ذا رويَّةٍ ... فإنَّ فسادَ الرأي أن تتعجَّلا فقال له المنصور: وما الرأيُ (¬1) إلَّا أن تؤامرَ عاجزًا ... وما الحزمُ إلَّا أن تَهُمَّ فتفعلا وأنشد المنصور لنفسه: إذا كنتَ ذا رأيٍ فكن ذا عزيمةٍ ... فإنَّ فسادَ الأمر أن يترددَا ولا تهملِ الأعداءَ يومًا بقدرةٍ ... وبادِهِمُ (¬2) أن يَملكوا مثلهَا غدًا ثم استشار سَلْم بن قتيبة فيه، فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فقال: حسبك، [لقد] أودعتها أذنًا واعية (¬3). ثم رتَّبَ له جماعةً منهم عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج (¬4) صاحب المربعة، وأبو حنيفة صاحب الدرب ببغداد، ثمَّ استدعاه مع أبي نصر حاجبِه، فلمَّا قرب من الباب أُنزِل وأُخذَ سيفُه في الدهليز، فقال: الآن عرَف الرامي موضع سهمه، فضُرِبَ مثلًا لمن يمكن عدوه من نفسه (¬5). قال البلاذري: فلمَّا دخل ثنى له وسادة، فجلس عليها، وكان قد أوصَى الجماعةَ: إذا صفَّقت فأخرجوا فاقتلوه، فلمَّا استقرَّ به المجلسُ شرعَ يعاتبُه، فقال: أخبرني عن كتابك إلى أمير المؤمنين أخي تنهاه عن الموات من الأرض، أردتَ أن تعلِّمنا الدين؟ قال: ظننتُ أنَّه لا يحل لي، فلمَّا أمرني بأخذه أخذتُ بقوله. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (د). وهو خطأ، والصواب: وما العجز. انظر البيت في أنساب الأشراف 3/ 236، والكامل في الأدب 1/ 268 دون نسبة. (¬2) في المنتظم 8/ 10: وبادرهم، والخبر فيه بنحوه مختصر. (¬3) انظر مروج الذهب 6/ 175، وما سلف بين حاصرتين من (د). (¬4) تحرفت في (خ) و (د) إلى: عمار بن نهيك ومنذر بن رواحة! والتصويب من أنساب الأشراف 3/ 236، وانظر تاريخ الطبري 7/ 488. (¬5) انظر المنتظم 8/ 11.

قال: فأخبرني عن كتابك إلى نائِبك بالري تقول: إذا قدم عليك عبد الله بن محمَّد فأشخصهُ إلي، أما كان لي ما أخاطَبُ به إلا عبدَ الله بن محمَّد؟ قال: إني وجدت الله تعالى يقول {مُحَمَّدٌ} - صلى الله عليه وسلم - في حقّ نبيّه، وقال في حق عدوه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}، فسمَّى نبيَّه باسمه وكنى عدوه. قال: فأخبرني بهوانك بنا حين قدمنا عليك واستخفافك، فقال: ما قصدتُ إلا إقامة الهيبة لأذل أعداءكم. قال: فأخبرني عن ادعائكَ أنَّك ابنُ سليط، ومقصودُك الخلافة، فقال: والله ما فعلتُه، وكيف أنتسبُ إلى غير أبي؟ قال: فخطبتُك أمينة بنت علي بن عبد الله؟ قال: كذبُوا عليّ، وأنا بكفء لها (¬1)! قال: فأخبرني عن تقدُّمك إيَّاي في الحجّ، قال: كرهتُ اجتماعنَا على المياه، فنضرَّ بالناس. قال: فجاريةُ عبد الله بن علي، أردتَ أن تسبيها؟ قال: لا والله، بل ضربتُ عليها قبَّةً، ووكلتُ بها من يحفظُها خوفًا عليها من مغيرة الجيش. قال: فأخبرني عن ستِّ مئة ألف من المسلمين قتلتهم صبرًا. قال: لتستقيمَ دولتُكم. قال: فلم أردتَ أن تذهبَ إلى خراسان مخالفًا عاصيًا؟ قال: دخلكَ منّي شيءٌ، فأردتُ المقام هناك وأكتب إليك بعذري. قال: فأخبرني عن نصلين أصبتَهما في متاع عبد الله بن علي، فقال: هذا أحدهما، ثم سلَّه وناولَه إياه، فهزَّه أبو جعفر، وجعلَه تحت فراشه، وقال له: ما تقول فيمن سلَّ على مولاه سيفًا؟ قال: يقتل به، قال: فقد سللتَه، قال: ما سللته عليك، بل لك. ثم أخذَ أبو جعفر يعدِّدُ عليه الجنايات، فقال له أبو مسلم: لا تدخلنَّ على نفسك، فقدرِي أصغرُ من أن يبلغَ ما ذكرت. فلما ألحَّ عليه قال: دع عنك هذا، واذكر صنيعي معكم، فما أخافُ إلا الله تعالى، فغضبَ أبو جعفر وقال: يا ابنَ اللخناء إنما كان ذلك بريح دولتنا, ولو كانت أمَةٌ مكانك لفعلَت أعظم ما فعلت، وضربَه بعمودٍ كان في يده، ثم صفَّقَ، فخرجوا عليه فضربوهُ بأسيافهم، فلم تغنِ شيئًا، فقال أبو مسلم ودنا منه: ¬

_ (¬1) كذا.

ليشتَفي عدوّك (¬1)، فقال: وأيُّ عدو أعدى لي منك؟ ألستَ الذي بايعتنا على أن من خرج علينا قتلته؟ وأنت الخارجُ علينا، فقد حكمنا عليك [بحكمك] (¬2) على نفسك، ثم صاح: اذبحوه، فذبحوه، ولفُّوه في كساء. وكان أبو جعفر لمَّا استدعاه جاء إلى سرادق عيسى بن موسى فقال له: قم معي إليه فإنِّي أخافه، فقال له: قف حتى أجدِّد الوضوء، ولا تدخل عليه حتى أجيء معك، وأطال عيسى الوضوء، وطلبه أبو جعفر، فدخلَ عليه فقتله، ثم جاء عيسى بن موسى على الأثر، فقال: وأين أبو مسلم؟ فأشارَ إليه أبو جعفر وهو ملفوف في الكساء، فقال: قتلته؟ ! واسترجع وقال: قد علمتَ بلاءه فينا وفعله في دولتنا، أهلكت نفسَك وأهلكتَنا، ومن يثق إليك بعد هذا؟ فقال له أبو جعفر: [اسكت يابن الشاة (¬3)، وهل كان لنا معه سلطان؟ ! خلع الله قلبك. وقيل: قال عيسى: أحنثتني في أيماني، وأهلكتني، فقال: لك بكل شيءٍ ضعفه. ودخل إسماعيل بن عليّ فقال: يا أمير المؤمنين، رأيتُ الليلة في منامي كأنَّك قتلتَ أبا مسلم، وكأنِّي وطئته برجلي، ولم يعلم بقتله، فقال له أبو جعفر] (¬4): قم فصدق رؤياك، ها هو ملفوفٌ في الكساء، فقام فوطئه برجله، وأمر أبو جعفر بإخراج البدر ورأس أبي مسلم، فأُخرج إلى أصحابه، فأخذوا المال، ثم انصرفوا، وألقي جسدُه في دجلة، وأنشد أبو جعفر قول أبي عطاء السُّدي (¬5): [من السريع] زعمتَ أن الدَّينَ لا يُقْتضَى ... فاستوفِ بالكيلِ أبا مجرمِ سُقيتَ كأسًا كنتَ تَسقي بها ... أمرَّ في الحلقِ من العلقمِ (¬6) وقال أبو دلامة: [من الطويل] ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (د)، وفي المنتظم 8/ 12، ومروج الذهب 6/ 182: استبقني لعدوك. (¬2) ما بين حاصرتين من (د). (¬3) كانت أم عيسى توفيت وهو صغير أو مرضت، فأرضع لبن شاة. انظر أنساب الأشراف 3/ 235. (¬4) ما بين حاصرتين من (د). (¬5) كذا في (خ) و (ف). وفي أنساب الأشراف: السندي. وهو الصواب. (¬6) انظر الأبيات أيضًا في تاريخ الطبري 7/ 491، ومروج الذهب 6/ 184 - 185، والمنتظم 8/ 13.

أبا مجرمٍ ما غَيَّر الله نعمةً ... على عبدهِ حتى يغيِّرها العبدُ أبا مجرمٍ (¬1) خوفتني القتلَ فانتحَى ... عليك بما خَوَّفتني الأسدُ الوردُ أفي دولة المنصورِ حاولتَ غدرةً ... ألا إنَّ أهلَ الغدرِ آباؤكَ الكُرْدُ (¬2) فلا يقطع الله اليمينَ التي بها ... علاكَ صقيلُ الشَّفرتينِ له حدُّ فما كان إلَّا الموتُ في غمد سَيفه ... وما خِلتَ أنَّ الموتَ يَضْبطُه غِمدُ فأصبحتُ في أهلي وأصبحتَ ثاويًا ... بحيثُ تلاقي في ذُرى دجلة المَدُّ (¬3) وكان أبو مسلم قد تهدَّده بالقتل، ولما سمعَها أبو جعفر قال له: احتكم، فقال: عشرة آلاف درهم، فأمر له بها وقال: لو تعدَّيتَها قتلتُك (¬4). وقال بشار بن برد: [من الطويل] أبا مسلمٍ ما طيبُ عيشٍ بدائمٍ ... وما سالمٌ عمَّا قليلٍ بسالمِ كأنَّكَ لَم تَسمَع بِقَتلِ مُتَوَّجٍ ... عزيزٍ وَلَم تَعلم بِفَتكِ الأعاجِم لَحى اللهُ قومًا شرَّفوك عليهمُ ... فقد كنت مشروفًا خَبيثَ المَطاعِمِ (¬5) وقال حفص بن حميد (¬6): ظهر أبو مسلم لخمسٍ بقينَ من رمضان سنةَ تسعٍ وعشرين ومئة، ثم سار إلى أبي العباس في سنة ست وثلاثين ومئة، وقُتِل بالمدائن سنة سبعٍ وثلاثين ومئة، فكانت ولايته سبع سنين وعشرة أشهر (¬7)، وكان له يوم قتل ست وثلاثون سنة، وقيل: عاش ثمانيًا وثلاثين سنة، والأوَّل أصح. وقد اعتبر بعضُ العلماء هذا السنَّ -وهو ستٌّ وثلاثون سنة- من جماعةٍ قَصرت ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 3/ 236، وتاريخ دمشق 41/ 403 - وذكر فيه البيتين الأولين فقط: أبا مسلم. (¬2) هذا البيت سلف ص 66 من هذا الجزء. (¬3) أنساب الأشراف 3/ 236. (¬4) انظر وفيات الأعيان 2/ 320 (ترجمة أبي دلامة). (¬5) أنساب الأشراف 3/ 236، وديوان بشار 2/ 500 - 502. (¬6) القول في تاريخ بغداد 11/ 470، وتاريخ دمشق 41/ 405 لمحمد بن أحمد بن محمَّد بن مولى البخاري، والخبر الذي قبله في تاريخ دمشق عن حفص بن حميد، فلعله خلل في الاختصار، أو انتقال بصر، والله أعلم. (¬7) في تاريخ بغداد 11/ 470، وتاريخ دمشق 41/ 405: وبقي أبو مسلم فيما كان فيه ثمانية وسبعين شهرًا غير ثلاثة عشر يومًا. والأشهر الثمانية والسبعون بالسنين ست سنوات ونصف، فتأمل.

أعمارُهم، وبلغُوا الغاية فيما عانوه، فأوَّلُهم الإسكندر الرومي، وابن المقفع صاحب الفصاحة، وسيبويه في علم العربية، وأبو تمام في الشعر وعلومه، وإبراهيم النظَّام في المعمَّق في علم الكلام، وأبو مسلم وغيرهم (¬1). وقال الهيثم (¬2): قيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم كان خيرًا أم الحجاج؟ فقال: لا أعلم (¬3) أن أبا مسلم كان خيرًا من أحد، ولكن قولوا: الحجَّاجُ شرٌّ منه. قال المدائني: ولو لم يكن من قتلاه إلَّا إبراهيم الصائغ، وكان بينه وبين أبي مسلم عهدٌ من مبتدأ الدعوة أن يعملَ بالحقّ، فلما ملكَ أبو مسلمٍ بسطَ يده وظلمَ وفتك وقتل من لا يجوزُ قتلُه، فنهَاه مرارًا فلم ينته، فدخل عليه يومًا وقال: قد تعدَّيتَ طورَك وفعلتَ وفعلت، فقال له أبو مسلم: فأينَ كنتَ عن نصر بن سيار وهو يبعثُ إلى الوليد بن يزيد بزقاق الخمر؟ قال: لم يكن لي مع نصر عهد، وزقاقُ الخمر أهونُ من سفك الدماء. وكان أبو حنيفة النعمان بن ثابت قد حدَّث إبراهيمَ عن حمَّاد (¬4) عن عكرمة عن ابن عباس أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيدُ الشهداء عمِّي حمزة، ثمَّ رجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ، فأمَره ونهاه، فقتله على ذلك". ولمَّا حدثه بهذا الحديث قال له: قم يا أبا حنيفة حتى تدخل على أبي جعفر (¬5) فتأمره وتنهاه. قال: إنِّي ضعيف، قال: فأكتبه لي فكتبه [له]، فخرجَ به إلى خراسان، فدخل على أبي مسلم، فأمَره ونهاه، فقال له: قد قبلنا، فهل لك أن تجلس في بيتك؟ فقال: لا، فأمرَ بقتله، فاختصَم فيه ثلاثة، فقال إبراهيم: لا تختصموا كلُّكم شريك، فضربَه رجلٌ، فلم يُجد الضرب، فبقي حلقومه معلَّقًا فرموه في بئر، فكان يُسمع أنينه ثلاثة أيام. ¬

_ (¬1) المنتظم 8/ 18 - 19. (¬2) الخبر في تاريخ دمشق 41/ 405 عن حفص بن حميد. بدل: الهيثم. (¬3) في تاريخ دمشق: لا أزعم. (¬4) قوله: عن حماد. وهمٌ، فالحديث في تاريخ دمشق 41/ 394، وفيه أن أبا حنيفة قال: أنا حدثت إبراهيم الصائغ عن عكرمة .. وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط (4079) وقال الطبراني بعده: لم يرو هذا الحديث عن عكرمة إلا أبو حنيفة. (¬5) كذا.

قال ابن أبي الدنيا: رؤيَ إبراهيمُ في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي مغفرةً بعد مغفرة (¬1)، فقيل: فما فعلَ أبو مسلم؟ فقال: هو في مقلى من نار يُقلَى فيه (¬2). سمع أبو مسلم عكرمة مولى ابن عباس (¬3)، وأبا الزبير محمَّد بن مسلم بن تَدْرُس المكي، ومحمد بن علي بن عبد الله (¬4) بن عباس وابنه إبراهيم الإِمام، وثابت بن أسلم البُنَاني، وعبد الرحمن بن حرملة الأسلمي (¬5)، وإسماعيل بن عبد الرحمن السُّدي. وروى عنه عبدُ الله بن المبارك (¬6)، وعبد الله بن شُبْرُمة الضبيّ، ويزيد بن منيع (¬7)، وعبد الله بن المنيب (¬8)، [و] المروزيّ (¬9) في آخرين. وقام رجل إلى أبي مسلم وهو يخطُب وعليه السَّواد، فقال: يا أبا مسلم، ما هذا السواد الذي أرى عليك؟ فقال: هذه ثيابُ الهيبة والدولة، حدثني أبو الزُّبير عن جابر بن عبد الله أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح إلى مكة وعليه عمامةٌ سوداء، يا غلام، اضرب عنقَه (¬10). وخطب أبو جعفر بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس، لا تخرجوا من أُنْسِ الطَّاعة إلى وَحْشةِ المعصية، ولا تُسِرُّوا غشَّ الأئمَّة، فإنَّه لم يسر أحدٌ قطُّ [منكرًا] (¬11) إلا أظهرَه الله على صفحاتِ وجهه وفلتات لسانه، ومن نازعَنا هذا الثَّوْبَ أذقناه حرَّ ما في ¬

_ (¬1) في المنامات لابن أبي الدنيا (137)، وتاريخ دمشق 41/ 406: مغفرة ما بعدها مغفرة. (¬2) في تاريخ دمشق 41/ 406 أن راوي المنام قال: فرأيت في منامي رجلًا على مقلاةٍ على النار يقلى. وفي الطبقات السنية 1/ 249 - نقلًا عن تاريخ دمشق-: ورأيت في منامي رجلًا على مِصْلاةٍ على النار يغلي. (¬3) تعقبه الذهبي في سير أعلام النبلاء 6/ 50 فقال: وهذا غلط، لم يدركه. (¬4) في (خ) و (د): ومحمد بن عبد الله بن علي. والتصويب من تاريخ دمشق 41/ 387. (¬5) في (خ) و (د): وعبد الله بن حرملة السلمي. والتصويب من تاريخ دمشق 41/ 387. (¬6) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 6/ 50: ولا أدرك ابن المبارك الرواية عنه، بل رآه. (¬7) في (خ) و (د): بن أبي منيع. والتصويب من تاريخ دمشق. (¬8) تحرفت في (خ) و (د) إلى: المسيب، والتصويب من سير أعلام النبلاء 6/ 50. (¬9) هو بشر والد مصعب بن بشر. انظر تاريخ دمشق 41/ 387، وما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬10) تاريخ بغداد 11/ 467. (¬11) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 11/ 470، وتاريخ دمشق 41/ 404.

هذا الغِمد، وإن عبد الله بن مسلم بايعَنا وبايعَ لنا على أن من نكثَ بنا (¬1) فقد أبيح دمه، ومن نكثَ فإنَّما يَنكُثُ على نفسه، وقد حكمنا عليه حكمه على غيره لنا ولم يمنعنا إقامة الحقّ له من إقامتهِ عليه. قال الصُّولي: وقال: [و] لا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحقّ، ألا وإنَّ أبا مسلم أحسنَ مبتدِئًا وأساءَ مُعْقِبًا، وأخد من الناس بنا أكثر ما أعطانا، ورجح قبيحُ باطنه على مليح ظاهوه، وعلمنَا من خُبْثِ نيَّته وفساد طَويَّته وسريرته ما لو علم اللائمُ لنا في قتلهِ لعَذَرَنا وعنَّفنا [في إمهاله] , وما زال ينقضُ بيعَته ويخفرُ ذمَّتَهُ حتى حكمنَا فيه حكمَه في غيره، ولله درُّ النابغة الذبياني حيث يقول: [من البسيط] ومن أطاعك فانفعه بطاعتِه ... كما أطاعَكَ وادلُلْهُ على الرَّشَدِ ومن عصاكَ فعاقبهُ معاقبةً ... تَنهى الظلومَ ولا تقعدْ على ضَمَدِ (¬2) وعزم المنصورُ على قتل خواصِّ أبي مسلم، منهم أَبو إسحاق صاحب حرسه، ونصر بن مالك (¬3) صاحب شرطته، فقال له أبو جهم: يا أمير المؤمنين، الجندُ جندُك، أمرتَهم بطاعته فأطاعوه، فدعا أبا إسحاق، فقال له: أنت المتابع لعدوِّ الله فيما كان يفعل، فأخذَ يلتفتُ يمينًا وشمالًا، يظنُّ أنَّ أبا مسلم في الحياة، فقال له أبو جعفر: تكلَّم، فقد قُتِل الفاسق، وأمر بإخراجه مقطَّعًا، فخرَّ أبو إسحاق ساجدًا وقال: الحمد لله، والله ما أمنتُه يومًا واحدًا، وما تجئته قط إلا وقد أوصيتُ وتحنطتُ وتكفَّنت. ودعا بمالك بن الهيثم وكلَّمه بمثل ذلك، فاعتذر إليه، فقال: فرِّقوا جندَ الفاسق. وبعث لقواده بجوائز سنية، وأرضَى جندَه. وكان قد ترك جندَه بحُلوان، وقدم على أبي جعفر في ثلاثة آلاف، وكان قد خلف على خزانته أبا نصر خازنه وصاحب رأيه، فخالف أبا جعفر ومضى إلى خراسان، ثم حُمِلَ إليه بعد ذلك، فقال: أنت الذي أشرتَ على أبي مسلم أن يمضي إلى خراسان؟ ¬

_ (¬1) في (خ): منا. وفي تاريخ بغداد: 11/ 470، وتاريخ دمشق 41/ 404: نكث بيعتنا. (¬2) تاريخ دمشق 41/ 405. والبيتان في ديوان النابغة ص 33، والضمد هو الحقد. انظر اللسان (ضمد). (¬3) في تاريخ الطبري 7/ 492: أبو نصر مالك. ولعلها الصواب. والمثبت من النسخ، والمنتظم 8/ 13، والسير 6/ 67.

قال: نعم، كانت له عندي أيادي وصنائع، فاستشارني فنصحتُه، وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحتُ لك، فعفا عنه. وقال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في "المنتظم": كان أبو الجهم عينًا لأبي مسلم على المنصور، فعطشَ يومًا، فأمرَ له المنصور بقدحٍ فيه سويقُ لوز وسكَّر، وفيه سمّ، فشربَه، فلما استقر في جوفه أحسَّ بالموت، فقام مسرعًا، فقال له المنصور: إلى أين؟ قال: إلى حيث أرسلتني، فلما وصل إلى رحله مات، فقال الشاعر: تجنَّب سويقَ اللوز لا تقربنَّه (¬1) ... فشُرْبُ سويقِ اللوز أَردى أبا الجهم وذهبت شربة أبي جهم مثلًا للشيء الطيِّبِ الطعم الخبيثِ العاقبة (¬2). وقال الهيثم: قال أبو جعفر: ثلاثٌ كنَّ في صدري شفاني الله منها؛ كتاب أبي مسلم إليَّ وقد مات أخي وبويع في: عافانا الله وإياك، وتقدُّمه إيايَ في طريق مكة (¬3)، وضربُ سليمان بن حبيب بن المهلَّب ظهري بالسِّياط. وقال البلاذري: كان أبو جعفر يقول: أخطأتُ ثلاثَ مرات ووقاني الله شرَّها، قتلتُ أبا مسلم وحولي من يقدم طاعتَه على طاعتي، فلو وثبوا بي لذهبتُ ضياعًا، ويوم الريوندية خرجتُ بنفسي، فلو أصابني سهمٌ غَرْب لذهبت ضياعًا، وخروجي إلى الشام، ولو اختلفَ بالعراق سيفان لذهبت الخلافةُ ضياعًا (¬4). ثم سار أبو جعفر إلى الحيرة، فأقام بها ثلاثًا ثم توجّه إلى الأنبار. * * * ¬

_ (¬1) في (خ): لا تشربنه. (¬2) المنتظم: 8/ 15. (¬3) في عيون الأخبار لابن قتيبة 1/ 26، والمنتظم 8/ 15، بدل: وتقدمه إياي في طريق مكة: ودخول رسوله علينا وقوله: أيكم ابن الحارثية. (¬4) أنساب الأشراف 3/ 237.

السنة الثامنة والثلاثون بعد المئة

السنة الثامنة والثلاثون بعد المئة فيها ولَّى أبو جعفر صالح بن علي الصائفة، فسارَ من مصر إلى الشام، ووافاه العباسُ بن محمَّد بن علي -أخو السفاح والمنصور- وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، واجتمعوا على مَلَطْية، وأقام صالح بها حتى بني سورَها والجامع ودار الإمارة، وعادَ إليها المسلمون، ورتَّبَ بها أربعة آلاف رابطة، وقَفل عنها، وأجاز صالحٌ العباسَ بن محمَّد وعيسى بن علي كلَّ واحدٍ بأربعين ألف دينار. وقيل: إن ذلك كان في سنة تسع وثلاثين. وإنَّ ملك الروم دخلَ ملطية في هذه السنة فهدمَ سورَها، وعفا عمن كان بها من المقاتلة وغيرهم، فلم يتعرَّض لكبير ولا صغير. وفيها عصى جمهور بن مرَّار العِجْليّ على أبي جعفر وخلعَهُ. وسببُه أنَّه وجهَه لقتال سنباذ، فهزمَه، وسار إلى الري، فاحتوى على ما كان فيها من خزائن أبي مسلم فطمع فيها, واستأثر بها لنفسه، وبعث إليه أبو جعفر يأمُره أن يحملَها إليه، فأبى، فبعثَ إليه محمَّد بن الأشعث الخُزَاعيّ، فهزم جمهور وأصحابه، فلحقوا بأَذْرَبيجان، ثمَّ أُخِذَ بعد ذلك وقُتل (¬1). وفيها قتل الملبَّدُ الخارجيّ. وحجَّ بالناس الفضل بن صالح من الشام من عند أبيه، فلمّا وصل المدينة أدركَهُ كتابُ أبي جعفر بولايته على الموسم، وكان على المدينة ومكة والطائف زياد الحارثي، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن عليّ، وعلى خراسان أبو داود خالد بن إبراهيم. [فصل] (¬2) وفيها توفي ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 497. (¬2) ما بين حاصرتين من (د).

ملبد بن حرملة الشيباني الخارجي

ملبّد بن حرملة الشيباني الخارجي قد ذكرنا خروجه في السنة الماضية، وبعث إليه أبو جعفر جيوشًا وهو يهزمها، واستفحلَ أمرُه، وكان ممَّن بعث إليه زياد بن مشكان في خمسة آلاف، وملبَّد في مئتين، فهزمه ملبَّد، فكتب إليه أبو جعفر: العجب كلُّ العجب لمن يخافُ ما لم يقضَ عليه، أو يفرُّ مما قضيَ أن يصيبَه، فلِم هبتَ قتال الملبَّد وهو في قلَّة وأنتَ في كثرة؟ وقد علمت أنَّ للعباد آجالًا لا يستقدمون عنها ولا يستأخرون، ثم بعث إليه أبو جعفر صالح بن صبيح في أربعة آلاف، فالتقاه ملبَّد على نصيبين، فهزم عسكرَه وقتل صالحًا، وحوى ما في عسكره، فبعثَ إليه أبو جعفر خازم بن خزيمة في ثمانية آلاف، فسارَ خازم حتى نزل الموصِل، وجاء الملبد فنزل على بلد، وقطع خازم دجلة، ونزل فخندق، وقصدَه الملبد، والتقوا، وعلى ميمنة خازم نضلة (¬1) بن نعيم، وعلى ميسرته أبو حماد، مولى بني سليم، واقتتلوا إلى الليل، وانحازَ الملبد وأصحابه عنهم، وعزم على الهرب، ثم عادوا والتقوا فكشفُوا ميمنة خازم وميسرتَه، وانتهوا إلى القلب وفيه خازم، فترجَّل وترجَّلَ أصحابُه، واقتتلوا، فهزموا ملبدًا وأصحابَه، وقتلوا الملبَّد وعامَّة من معه، وكانوا قد بلغوا ثمان مئة، وهربَ من سَلِمَ منهم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): نصر. والمثبت من تاريخ الطبري 7/ 498. وفيه أن نضلة بن نعيم كان على المقدمة والطلائع، وعلى الميمنة زهير بن محمَّد العامري. (¬2) انظر تاريخ الطبري 7/ 498.

السنة التاسعة والثلاثون بعد المئة

السنة التاسعة والثلاثون بعد المئة فيها غزا صالحُ بن عليّ الصائفة بعد فراغه من سور مَلَطْية، وأوغل في بلاد الروم، وكان معه أختاه لبابة وأم عيسى ابنتا عليّ بن عبد الله بن عباس، وكانتا قد نذرتا إن أزال الله ملكَ بني أمية أن تجاهدا في سبيلِ الله. وخرج (¬1) ملك الروم من القسطنطينية في مئة ألف، وبلغَ جيحان، فأُخْبِر بخبر صالح وبكثرة من معه من المسلمين، فرجع. وفيها وصل عبدُ الرحمن بنُ معاوية بن هشام بن عبد الملك إلى جزيرة الأندلس، وملَكَها، ويسمَّى الداخل، وكنيتُه أبو المطرِّف، وأمه أمُّ ولد، يقال لها: راح، وبويع بالأندلس في هذه السنة، [وهو أوَّلُ الخلائف من بني أمية بالمغرب، فأقام واليًا ثلاثًا وثلاثين سنة] (¬2)، وسنذكر سيرته عند وفاتِه إن شاء الله تعالى (¬3). وفيها وسَّع أبو جعفر [المسجد الحرام] (¬4) ممَّا يلي دار الندوة. قال الطبري: وفيها عزلَ أبو جعفر سليمان بن عليّ عن البصرة وأعمالها، وقيل: إنَّ ذلك كان سنة أربعين، وولَّاها سفيان بن معاوية، فقدمها سفيان في رمضان (¬5)، وخافَ عبد الله بن علي فاستتر، فكتب أبو جعفر إلى سليمان بن علي وعيسى بن علي في القدوم عليه ومعهما عبد الله بن علي وأصحابه ومواليه، وكتبَ لعبد الله من الأمان ما رضياه ووثقا به، فخرجُوا من البصرة، وقدموا على أبي جعفر يومَ الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجَّة. ¬

_ (¬1) هنا انتهى الخرم في النسخة (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) و (د). (¬3) في سنة 172 هـ. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب) و (د). (¬5) في تاريخ الطبري 7/ 500 أن أبا جعفر ولاه البصرة في رمضان.

ذكر حبس عبد الله ومن كان معه وقتل بعض أصحابه

ذكر حبس عبد الله ومن كان معه وقتل بعض أصحابه ولمَّا قدموا على أبي جعفر دخل عليه سليمان وعيسى، وتركا عبدَ الله في الدهليز ليأخذا له إذنًا، وأعلماه بحضوره، وكان قد هيَّأ له حبسًا في قصره، فلمَّا أعلماه بحضوره، وسألاه أن يدخل عليه، قام من مجلسه، وقال: أسرعا بعبد الله، فخرجَا فلم يجداه، فرجعَا إلى أبي جعفر، فحيل بينه وبينهما، وأخذت سيوفُ أصحابِ عبد الله من عواتقهم، وحبسوا، وأمر أبو جعفر بقتل بعضهم بين يديه، وبعثَ بجماعةٍ منهم إلى خراسان، فقتلهم واليها. وقيل: إنَّ حبْسه كان في سنة أربعين ومئة (¬1). وحجَّ بالناس العباسُ بن محمَّد أخو السفاح والمنصور، وعلى الحجاز زياد بحاله، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سفيانُ بن معاوية، وعلى خراسان أبو داودة وعلى مصر صالح بن علي، ويتردَّد إلى الصوائف (¬2). وفيها توفي داود بن أبي هند دينار مولى لآل الأعلم القشيريين (¬3) وكنية داود أبو بكر. ولدَ بسَرْخَس، وكان ثقةً كثير الحديث، يفتي على زمن الحسن، وصام أربعين سنةً لا يعلمُ به أهله، وكان خَزَّازًا، يحملُ معه غداءه من عندهم، فيتصدَّق به في الطريق، ويرجع عشيًّا فيفطرُ معهم، وتوفي سنة تسع وثلاثين، وقيل: سنة أربعين، وقيل: إحدى وأربعين ومئة بطريق مكة، وقيل: بالبصرة، وهو ابنُ خمسٍ وسبعين سنة. أسند عن أنس بن مالك وغيره، ورَوى عنه الثوريُّ وغيوُه، وناظرَ غيلان القدريَّ بدمشق وظهرَ عليه. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 501 - 502. (¬2) تاريخ الطبري: 7/ 502. (¬3) في (ب) و (خ) و (د): القرمين، والمثبت من طبقات ابن سعد 9/ 254، وتاريخ دمشق 6/ 5 (مخطوط)، والمنتظم 8/ 24.

عثمان بن عبد الأعلى

عثمان بن عبد الأعلى ابن سراقة الأزديّ قاضي دمشق في أيام الوليد بن يزيد، ثمَّ وليها لعبد الله بن علي، كانت دارُه بباب توما، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، وولده بداريا. وقال أبو الحسين الرازي: ولما خرجَ عبد الله بن علي لحربِ أبي مسلم أخذَ مقاتل العكيّ أسيرًا، فبعث به إليه (¬1) -وكان (¬2) أميرًا على دمشق لأبي العباس- فقتل مقاتل، ثم وجه المنصور صالحَ بن علي فأخرب دار عثمان بدمشق ونهبهَا، وهي النيبطون (¬3). وهذا عثمان هو الذي ثار بدمشق نوبة أبي الورد (¬4)، وقاتل عبد الله بن علي، وعاد عبدُ الله وأَمَّنهم، وطلب ابنَ سراقة فهرب واختفى، ولم يظهر حتَّى مات في هذه السنة، وكان يسبُّ بني هاشم، وهو الذي أخرجَ السفياني، وأمَّن أبو جعفر الناسَ كلَّهم إلَّا هو. قال المصنف: وهو الذي ذكرنَا أنَّه قتلَ العكيّ وابنه بالرقة، وهو الذي قال لعبد الله بن عليّ يومَ لقي أبا مسلم: إنَّك قد عبت على مراون الفرار، فكيف تفر؟ (¬5) عمرو بن مهاجر بن دينار أبو عبيد، من الطبقة الرابعة من أهل الشام، وهو مولى أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية مولى عتاقة، وكان صاحب حرس عمر بن عبد العزيز. قال عمرو: سمعتُ مولاتي أسماءَ بنت يزيد بن السكن تقول: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقتلُوا أولادَكم [سرًّا] (¬6) -يعني الغِيلَة- فوالذي نفسي بيده إنَّه ليدرك الفارس ¬

_ (¬1) أي إلى عثمان بن عبد الأعلى. (¬2) أي مقاتل العكي. انظر تاريخ دمشق 45/ 296 (طبعة مجمع اللغة). (¬3) في تاريخ دمشق 45/ 298. النيبطن، ويسمى كذلك لأنه كان لا يسكنه غير النبط. (¬4) انظر تاريخ دمشق 7/ 444. (¬5) انظر تاريخ الطبري 7/ 478. وانظر ترجمته في تاريخ داريا ص 79 - 80 وتاريخ دمشق 45/ 293 - 298 (طبعة مجمع اللغة العربية). (¬6) ما بين حاصرتين من طبقات ابن سعد 7/ 466.

فيُدَعْثِرُه" (¬1). ولد عمرو سنة أربع وسبعين. وقال: صليت على ستين جنازة ماتوا في الطاعون خلف واثلة بن الأسقع، فجعل الرجال ممَّا يليه، والنساءَ ممَّا يلي القبلة. أسندَ عن أبيه، وعمر بن عبد العزيز، وروى عنه الأوزاعيُّ وغيرُه، وكان ثقةً لَه حديث كثير، وقال: صلَّيتُ خلفَ أنس بن مالك (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أي: يصرعهُ ويهلكه، والمراد: النهي عن الغيلة، وهو أن يجامع الرجل امرأته وهي مرضع وربما حملت. والحديث أخرجه أيضًا أبو داود (3881)، وابن ماجه (2011). (¬2) انظر ترجمة عمرو بن مهاجر في تاريخ دمشق 56/ 49 - 56 (طبعة مجمع اللغة العربية).

السنة الأربعون بعد المئة

السنة الأربعون بعد المئة فيها هلكَ أبو داود خالد بن إبراهيم والي خراسان، وولاها أبو جعفر لعبدِ الجبار بن عبد الرحمن الأزدي. وسببُ هلاكه أنَّ جماعةً من الجند شغبوا عليه، وكان نازلًا بظاهر مرو في دار، وكان ليلًا، فصعد إلى سطحها، فأشرفَ من الحائط ونادَى أصحابه، ليعرفوا صوته، فانكسرَت إجُرَّةٌ تحت رجله، فسقط وتكسَّر ظهره، فمات، وقام عاصم صاحب شرطته بخراسان حتَّى قدم عبد الجبار، فرفعَ إليه أنَّ جماعةً من القواد مائلين إلى آل أبي طالب، منهم مُجاشع بن حريث الأنصاريّ صاحبُ بخارى، وأبو المغيرة خالد بن كثير مولى تميم صاحب قوهستان، والحريش بن محمَّد الذهلي، فضربهم ضربًا مبرحًا، وقتلَ بعضهُم، وحبسَ بعضًا، وكان فيمن حبس الجنيد بن خالد الثعلبيّ (¬1)، ومعبد بن الخليل المُرِّيّ (¬2)، وغيرهما. وفيها أحرم بالحج أبو جعفر من الحِيرة، ومضى إلى مكة، فوقف بعرفة وخطب فقال: أيُّها الناس إنَّما أنا سلطانُ الله في أرضه، أسوسُكُم بتوفيقه ورشده، وخازنُه على فيئه، أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قُفلا، فإن شاء فتحني، وإن شاء أقفلني، فارغبُوا إلى الله في هذا اليوم الشريف، وسلُوه أنْ يهب لي ولكم من فضله فهو اليوم الذي قال فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية (¬3). وفي هذه الحجة قال أبو جعفر للربيع: انظر إن رجلًا يُعرِّفني دورَ النَاس بالمدينة ولا يكلِّمني إلَّا جوابًا، فجاءه برجل من أهل المدينة، فأطلقَ له ألف درهم، ولم يكلِّمهُ إلا جوابًا، ولم يعطوه شيئًا، فجعل يسأله: هذه الدار لمن؟ فيقول: دار فلان، حتى قال: هذه دارُ عاتكة، فعجبَ أبو جعفر من ابتدائه بكلامٍ لم يسأله عنه، ثم فكَّر، فإذا الرجل قصد قول الأحوص من قصيدته التي يقول فيها: ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 7/ 503، وتاريخ الإِسلام 3/ 608: التغلبي. (¬2) في تاريخ الطبري 7/ 503: المزني. (¬3) انظر تاريخ الطبري 8/ 89.

يا دار عاتكة التي أتعزَّلُ وأراد بهذا: [من الكامل] وأراكَ تفعلُ ما تقولُ وفيهم ... مَذِقُ اللِّسانِ يقولُ ما لا يفعلُ (¬1) فضحك المنصور وعلم أنَّهم لم يعطوه شيئًا، فأمر له بها. وفي هذه الحجَّة استعدَى الجمَّالون على أبي جعفر إلى محمَّد بن عمران الطلحيّ قاضي المدينة، وقالوا: استأجرنا وجمالنا من الكوفة إلى ها هنا ولم يعطنا شيئًا، فقال القاضي لكاتبه: اكتب لهم ليحضرَ معهم مجلسَ الحكم فينصفَهم، فقال له: أوتعفني فإنَّه يعرف خطِّي، قال: لا أعفيك، فكتب نمير وختَمَه الطلحيُّ وقال: والله لا يذهب به سواك، قال نمير: فأخذتُه ومضيت به إلى الربيع الحاجب، فأخذَه ودخلَ به على أبي جعفر، ثمَّ خرج فقال لمن حضر من وجوه أهل المدينة والأشراف: أميرُ المؤمنين يسلِّمُ عليكم ويقول: قد دعيتُ إلى مجلس الحكم، فلا أعلمنَّ أحدًا قام إليَّ إذا خرجت، ولا يبدأني بسلام، ثمَّ خرج والمسيّبُ بين يديه، والربيع وأنا خلفه، وهو في إزارٍ ورداء، فسلَّم على الناس، فما قامَ إليه أحدٌ، فدخلَ المسجدَ فبدأ بالقبر، فسلَّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الطلحيُّ متكئًا فقعد واحتبَى بردائه، وجاءَ أبو جعفر فجلس، فوالله ما كلَّمه كلمةً، ولا تحرَّك له، ودعا بالحمَّالين، فادَّعوا عليه، ولم يكن له بينة فقضَى عليه لهم، ثمَّ قام أبو جعفر ومضى، وقال للربيع: إذا قام مَنْ عنده من الخصوم فائتني به، فقال: والله ما دعا بك حتى فرغ من أمر الناس جميعًا، ثم استدعاه، فلمَّا دخل سلَّم، فردَّ عليه وقال: جزاكَ الله عن دينك وعن نبيك وعن خليفتك وعن حسبك أفضل الجزاء، قد أمرت لك بعشرةِ آلاف دينار فاقبضها. فكانت عامَّة أموال الطلحيِّ من تلك الصلة (¬2). وقال عبد الرحمن بن صالح: أنفقَ أبو جعفر في أهل المدينة في حجَّته هذه أموالًا عظيمة، أعطَى كل شريفٍ ألف دينار، وفَرَّق فيهم صحافَ الذهب والفضَّة والثياب، ولم ¬

_ (¬1) ديوان الأحوص ص 153، 161. (¬2) المنتظم 8/ 181 - 182، وانظر أخبار القضاة لوكيع 1/ 193.

سلمة بن دينار

يدعْ منهم أحدًا إلا أعطاه وأغناه، فيقال: إنَّ أحدًا من الخلفاء لم يعطهم مثل ذلك (¬1). ثمَّ سار إلى البيت المقدس وقد هدمتهُ الزلازل، فشكا إليه أهله، فقال: قد علمتُم الحال، وما عندي مال، وسوفَ أنظر فيه إن شاء الله تعالى، ثم خرج من بيت المقدس ونزلَ دمشق، وسار على الشام حتى وافى الرقة، وآتى بمنصور بن جعونة العامري فقتله (¬2). وكتب إلى صالح بن علي وهو على الصائفة ببناء المصميصة، ثم سلك على البلاد الفراتية حتى أتى هاشمية الكوفة، وبعث بالرواد إلى مكان بغداد. وكان العمال بحالهم إلَّا خراسان؛ فإنَّ عاملها عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي. [فصل] وفيها توفي سلمة بن دينار أبو حازم المدني، مولى بني أشجع (¬3)، وقيل: مولى الأسود بن سفيان المخزومي (¬4) وهو من الطبقة الرابعة من أَهل المدينة، وكان أعرج عابدًا زاهدًا ورعًا ثقةً صدوقًا كثيرَ الحديث، لم يكن في زمانه مثله، وكان يقصُّ بعد الفجر والعصر في مسجد المدينة. وقدم سليمان بن عبد الملك المدينة، وبعثا إليه فأتاه، فسأله عن حاله، وقال له: يا أبا حازم [ما] (¬5) مالك؟ قال: لي مالان، قال: وما هما؟ قال: الثقة بالله، واليأسُ ممَّا ¬

_ (¬1) المنتظم 8/ 28. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 504، والكامل: 5/ 500. (¬3) كذا في (ب) و (خ) و (د). والصواب -كما في طبقات ابن سعد 7/ 515 - مولى لبني شِجع من بني ليث بن بكر ... وقال المزي في تهذيب الكمال 11/ 272: ويقال: مولى لبني شجع من بني ليث وهو شجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. وقال بعضهم: أشجع وهو وهم، ليس في بني ليث أشجع؛ إنما فيهم شِجْع، وقال ذلك أبو علي الغساني الحافظ. اهـ. (¬4) هو قول البخاري، كما في التاريخ الكبير 4/ 78. (¬5) ما بين حاصرتين من (د).

في أيدي الناس. وقالت له امرأته: قد هجمَ الشتاء علينا, ولابد لنا مما يصلحُنا من الثياب والطعام والحطب فقال: من هذا كلّه بدّ، ولكن خذي فيما لا بد منه، الموت، ثم البعثُ، ثم الوقوفُ بين يدي الله تعالى، ثمَّ الجنَّة أو النَّار. وقال: إنّي لأدعو الله في صلاتي حتى بالملح. وكان له حمار يركبُه إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشهود الصلوات. وقال: ما مضى من الدنيا فحُلم، وما بقي فأماني. وقال: لا يحسنُ عبدٌ فيما بينه وبين ربّه إلَّا أحسنَ ما بينه وبين خلقه، ولا يعور ما بينه وبين ربه إلَّا عوَّر الله ما بينه وبين خلقه، ولمصانعةُ وجهٍ واحد أيسرُ من مصانعة الوجوه كلِّها، إنَّك إذا صانعتَ هذا الوجهَ مالت إليك الوجوهُ كلُها. وقال: إذا رأيتَ الله عَزَّ وَجَلَّ يتابعُ نعمَه عليك وأنت تعصيه فاحذره. وقال: كلُّ نعمةٍ لا تتقرَّب بها إلى الله تعالى فهي بليَّة. وكتب إلى الزهريّ: عافانا الله وإيَّاك أبا بكير من الفتن، فقد أصبحتَ بحالٍ ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمَك، أصبحت شيخًا كبيرًا، قد أثقلتكَ نعمُ الله عليك، بما أصحَّ من بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حُججَ الله بما علَّمك من كتابه، وبما فقَّهك من دينه، وفهَّمكَ من سنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، فرمى بك في كلِّ نعمةٍ أنعمَها عليك، وكل حُجةٍ يحتجُّ بها عليك الغرضَ الأقصى، ابتلى في ذلك شكركَ، وأبدى فيه فضلَه عليك، وقد قال الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] فانظر أيّ رجلٍ تكون إذا وقفتَ بين يديه وسألك عن نِعَمه عليك كيف رعيتها؟ وعن حججه كيف قضَيتها؟ ولا تحسبنَّ الله راضيًا منك بالتعذير، ولا قابلًا منك التقصير، فإنَّ الله تعالى أخَذَ ميثاقَه على العلماء ليُبَيننَّه للناس ولا يكتُمونَه، وإنَّ أدنى ما ارتكبتَ وأعظم ما احتقبت أنَّك آنستَ الظَّلمَة، وسهَّلت لهم طريقَ الغيّ بدنوِّك حيث أُدنيت، وإجابتك حين دُعيت، فما أخلقَك أن ينوَّه غدًا باسمك مع الظلمة، وأخذك ما ليس لمن أعطاك، جعلوك قطبًا تدورُ عليه رَحى باطِلهم، وجسْرًا يعبرون عليك به إلى بلائهم، وسُلَّمًا إلى

ضلالتهم، يُدْخِلُون بك الشك على العلماء، ويقتادونَ بك قلوب الجهَّال إليهم، فما أيسرَ ما عَمروا لكَ في جنْب ما خرَّبوا عليك، وما أقلَّ ما أعطوك في قدْر ما أخذوا منك، فانظر لنفسك، وحاسبها، واستقِلِ العثرةَ، فما يؤمنك أن تكونَ من الذين قال الله في حقهم. {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169]. إنَّك لست في دار مقامٍ، قد أُوذِنت بالرحيل، فما بقاءُ المرء بعد أقرانه؟ طوبى لمن كان منها على وجَلٍ، فتجهَّز فقد دنا السفر، وداوِ (¬1) دينَك فقد سقم، ولا تحسبنَّ أنِّي أردتُ تعنيفك وتعييرك، ولكن أردتُ إيقاظَك، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55] ونحمدُ الله إذ عافانا ممَّا ابتلاكَ به، والسلام. ومن كلامه: عند تصحيح الضمائر تغفرُ الكبائر، وإذا عزمَ العبد على ترك الآثام أتته الفتوح. وما في الدنيا شيءٌ يسرُّك إلَّا وقد أُلزِق به شيءٌ يسوؤك. وقال: إنَّ العبدَ ليعملُ الحسنةَ تسرُّه حين يعملُها، وإنَّها أضرُّ عليه من سيئة يعملها، وإنَّه ليعملُ السيئةَ تسوءه حين يعملُها، وهي أنفعُ له من الحسنة التي عملَها؛ لأنَّه إذا عملَ حسنةً يرى أن له فضلًا على غيره، ولعلَّ الله يحبطُها، ويعمل السيئةَ فتحدثُ له خوفًا ووجلًا. وقال: وجدتُ الدنيا شيئين؛ فشيءٌ هو لي لا أقدرُ على تعجيله قبل أجله، ولو طلبتُه بقوَّةِ أهل السماوات والأرض، وشيءٌ هو لغيري، لا أنالُه فيما مضى، ولا أرجوهُ فيما بقي، ففي أيِّ هذين أفني عمري؟ وكان يمرُّ بالفاكهة فيقول: موعدُك الجنة. ومرَّ بجزَّارٍ فقال له: يا أبا حازم، خذ من هذا اللحم فإنه جيِّد، فقال: ما معي درهم، فقال: أنا أُنظِرك، فقال: فأنا أنظرُ نفسي. ودخلَ مسجد دمشق فوسوسَ له الشيطانُ: إنكَ على غير وضوء، وإنَّك أحدثتَ بعد وضوئِك، فقال: ما بلغ نصحك إلى هذا الحد! ¬

_ (¬1) في (خ) و (د): دار. والمثبت من (ب) وحلية الأولياء 3/ 249، وصفة الصفوة 2/ 163.

وكان يبكي ويمسح بدموعه وجهه فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: بلغني أنَّ النار لا تصيب موضعًا أصابَه الدمعُ من خشية الله تعالى. واجتمع الزهريُّ وأبو حازم عند سليمان بن عبد الملك، فقال له سليمان: ما تقول في العلماء؟ فقال: أدركت العلماء وقد استغنوا بعلمهم عن أهل الدنيا, ولم يستغنِ أهلُ الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلمَّا رُئي هذا وأصحابه -وأشار إلى الزهريّ- تعلَّموا العلمَ لينالوا به الدنيا، إنَّ هذا وأصحابَه ليسوا بعلماء، وإنَّما هم رواة -وكان سليمان متكئًا، والزهريُّ عند رجليه- كان السلاطين يطلبونَ العلماء فيفرُّون منهم، واليومَ العلماءُ يطلبون الأمراء فيهربون منهم. وقال الأصمعي: بينا أبو حازم يطوف بالبيت، وإذا بامرأةٍ قد سفرَتْ عن وجهها وهي تطوف وقد فتنت الناس بحسنها، فقال لها: يا أمةَ الله ألا تستري وجهك؟ ! فقالت: يا أبا حازم، أنا من النساء اللواتي قال فيهن الشاعر: [من الطويل] من اللَّاءِ لم يحججنَ يبغين حسبة ... ولكن ليقتلنَ البريء المغفَّلا وتُعمي بعينيها القلوبَ إذا بدت ... لها نظرٌ لم يخطِ للحَيِّ مقتلا فأقبل أبو حازم على أهل الطواف وقال: يا أهلَ بيت الله، تعالوا ندع الله عزَّ وجلَّ أن لا يعذِّبَ هذا الوجه بالنار. وبلغَ سعيدَ بن المسيب فقال: لو كانَ من أهل العراق قال: يا عدوَّة الله، ولكن ظُرْفُ أهل الحجاز. وقال سفيان بن عيينة: كان أبو حازم ينشد: [من البسيط] الدَّهرُ أدَّبني والصبرُ ربَّاني ... والقوتُ أقنعنِي واليأسُ أغنانِي وأحكمتني من الأيَّام تجربةٌ ... حتَّى نهيتُ الذي قد كان ينهانِي وقال سليمان العمري: رأيتُ أبا جعفر القاري في المنام وهو على الكعبة، فقلت له: يا أبا جعفر، قال: نعم، أقرئ إخواني مني السلام، وأخبرهم أن الله عَزَّ وَجَلَّ جعلني مع الشهداء الأحياء المرزوقين، وأقرئ أبا حازم السلام وقيل له: يقول أبو جعفر: الكَيْس الكَيْس، فإنَّ الله وملائكته يَتَراءَونَ (¬1) مجلسك بالعشيات. ¬

_ (¬1) في النسخ: يتزاورون. والمثبت من تاريخ دمشق 7/ 486 (مخطوط)، وصفة الصفوة 2/ 167، والمنتظم 8/ 35.

عروة بن رويم اللخمي

مات رحمة الله عليه سنة أربعين، وقيل: سنة أربعٍ وأربعين، وقيل: سنة خمس وثلاثين ومئة (¬1). أسند عن ابن عمر وأنس، وروى عن كبار التابعين، وروى عنه الزهريُّ، ومالك، والثوري، وخلقٌ كثير (¬2). عروة بن رُويم اللخمي أبو القاسم، من الطبقة الرابعة من أهل الشام (¬3)، وقيل: من الثالثة (¬4). أسند عن أنس، وسمع من علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وروى عنه الأوزاعيُّ وأقرانه. وأخرج له أبو نعيم أحاديث منها: عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ كاتب الشمال ليرفع القلمَ ستَّ ساعاتٍ عن العبد المسلم، فإن ندمَ واستغفرَ وتاب ألقاها عنه، وإلا كتِبت واحدة" (¬5). منصور بن جعونة ابن الحارث بن خالد العامري (¬6). استعملَ عمرُ بن عبد العزيز رحمة الله عليه أباه جعونة على الدرب ومَلَطْية، فغزا وغنم، وأوفد ابنَه منصورًا على عمر بالخبر، فقال له عمر: هل أصيب أحدٌ من ¬

_ (¬1) قال ابن سعد في طبقاته 7/ 515: توفي أبو حازم في خلافة أبي جعفر بعد سنة أربعين ومئة. (¬2) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7/ 515، وطبقات خليفة ص 264، وحلية الأولياء 3/ 229، وتاريخ دمشق 7/ 455 (مخطوط)، والمنتظم 8/ 32 (وفيات سنة 141 هـ)، وصفة الصفوة 2/ 156، وتهذيب الكمال 11/ 272، وسير أعلام النبلاء 6/ 96، وتهذيب التهذيب 2/ 71. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 464. (¬4) طبقات خليفة ص 312. (¬5) حلية الأولياء 6/ 124. وقيل في وفاة عروة غير ذلك. انظر -بالإضافة إلى ما سبق- تاريخ دمشق 47/ 244 - 246 (طبعة مجمع اللغة)، وسير أعلام النبلاء 6/ 137، وتهذيب الكمال: 20/ 10 - 11، وتهذيب التهذيب 3/ 92. (¬6) كذا ذكر الطبري في تاريخه 7/ 504، وابن الأثير في الكامل 5/ 500 أنه قتل في هذه السنة. وفي تاريخ دمشق 17/ 214، والمنتظم 8/ 29 أن قتله كان سنة 141 هـ.

المسلمين؟ فقال: لا، إلَّا رويجل، فغضب عمر وقال: رويجل رويجل، يكرِّرها، وقال: يجيء أحدُكم بالشاة والبقر، ويصابُ رجل من المسلمين، وأنت تقول: رويجل؟ ! لا تلي لي أنت ولا أبوك ولاية أبدًا. ولمَّا ولي مروان بن محمَّد ولاه الرُّها، وكان أبو جعونة قد سكنها ومات بها، فلمَّا ظهرت الدولةُ العباسيَّة امتنعَ من البيعة للسفاح، وهرب، فلمَّا خلعَ عبدُ الله بن علي أبا جعفر ظهرَ منصور، فجعلهُ عبد الله على شرطته، وصار من وجوه قواده، فلمَّا سار عبد الله للقاء أبي مسلم خلَّف أهله وأمواله وأثقاله بالرُّها عند منصور، وانهزم عبد الله إلى البصرة، فجاء أبو مسلم إلى الرُّها فحصرَها مدة طويلة، ثمَّ نزل بالأمان فنقله أبو مسلم إلى ملطية، وأخربَ سور الرُّها وسائر أسوار بلاد الجزيرة، ولمَّا عاد أبو جعفر من الحج نزل الرقة، فوجد فيها منصور، وفي قلبه منه ما فيه، وقد أمَّنه، فجلسَ أبو جعفر يومًا يتحدَّث فقال: ألا تشكرونَ الله يا أهل الجزيرة إذ دفع عنكم الطاعون، فقال منصور: الله أعدلُ أنْ يجمعكم علينا والطاعون، فغضبَ أبو جعفر واحمرَّت عيناه، وأمر به فضربَ عنقه (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ دمشق 7/ 214 (مخطوط)، وانظر أيضًا ترجمة أبيه جعونة في تاريخ دمشق 4/ 1 (مخطوط).

السنة الحادية والأربعون بعد المئة

السنة الحادية والأربعون بعد المئة فيها كمل بناء المصيصة على يدي جبريل بن يحيى البجليّ الجرجانيّ (¬1)، وكان سخيًّا شجاعًا صاحبَ همَّة، أقام عليها سنتين حتى أدارَ سورها، وأسكنها المسلمين، وكانت مدينةً قديمةً من بناء الروم. وفيها خرجت الراوندية على أبي جعفر، وهم قومٌ من أهل خراسان كانوا على رأي أبي مسلم، إلا أنهم يقولون بتناسخ الأرواح، ويدَّعون أنَّ روح آدم انتقلت إلى عثمان بن نهيك (¬2)، وأنَّه ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم. وقيل: إنَّ في اعتقادهم أنَّ الإمامَ هو ربهم، واعتقدوا في أبي جعفر ذلك، وأن الهيثم بن معاوية هو جبريل. ويقال لهم: السبعيَّة؛ يقولون: الأرض سبع، والسماوات سبع، والإمام سبع، والأنهر سبع، فعدوا العباس، ثمَّ ابنه عبد الله، ثمَّ ابنه علي، ثُمَّ ابنه محمَّد، ثمَّ ابنه إبراهيم الإِمام، ثمَّ أبو العباس، ثمَّ أبو جعفر، وقالوا: أنت إلهنا، وطافوا حول قصره، وكانوا ست مئة، وكان ذلك بالكوفة في الهاشميَّة، ولمَّا سمعهم المنصور قال: يدخلُهم الله النَّار في طاعتنا, ولا يدخلهم الجنة في معصيتنا، واطلع عليهم فقالوا: أنت ربُّنا، فحبس منهم ثمانين (¬3) رجلًا، وقال: ارجعوا عن هذه المقالة، فغضبَ الباقون، ودخلوا السجن فأخرجوهم، وقصدُوا قصرَ أبي جعفر يريدونه، فخرجَ بنفسه ماشيًا، وصاح في الناس، وغُلقت أبواب المدينة، ولم يكن عنده في القصر دابَّة -فمن ذلك اليوم رُبط فرس النوبة، واستمرَّت الخلفاء -وجيء بدابةٍ فركبها، وكان معن بن زائدة مختفيًا عند أبي الخصيب حاجب أبي جعفر ليأخذ له أمانًا بسبب قتاله مع ابن هبيرة، وكان أبو العباس قد أمنه، فلما ولي أبو جعفر طلبه فاختفى، فلمَّا وقعت هذه الحادثة خرج متلثمًا قد جعل ذيل قبائه في منطقته، وجاء فأدخلَ يده في لجام دابة أبي جعفر، وأبلى بلاءً حسنًا، وقاتل قتالا شديدًا، حتى أباد الراوندية عن آخرهم، فقال له ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 7/ 509، والمنتظم 8/ 31: الخراساني. (¬2) في (ب) و (خ) و (د): نفيل، والمثبت من تاريخ الطبري 7/ 505، والمنتظم 8/ 29، والكامل 5/ 502. (¬3) كذا في (ب) و (خ) و (د). وفي المصادر أنه حبس مئتين.

أبو جعفر: من أنت؟ فكشف لثامه، فسرَّ به، وكان الربيع قد جاء ليأخذ بلجام فرس أبي جعفر فقال له معن: تنح فليس هذا يومك. ولما قتل القوم فتحت أبوابُ المدينة، وعاد أبو جعفر إلى قصره، وحضر العشاء، فأمسك أبو جعفر يده وقال: أين معن؟ فحضر، فأجلسه قريبًا منه مكان قُثَم. وقال لعيسى بن علي: يا أبا جعفر، أسمعت بأسد الرجال؟ هذا أسد الرجال، وقد كنت أسمع أن الرجل يقاتل ألفًا، فلم أصدق حتى رأيت معن بن زائدة، فقال له معن: والله ما قوَّى متني إلا ما رأيتُ من شجاعة أمير المؤمنين وعلوِّ همته، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وولَّاه اليمن. وجاءهم عثمان بن نهيك الذي ادعوا أنَّ فيه روح آدم فناداهم: يا قوم اتَّقوا الله، ارجعوا عن هذه، فرماه واحدٌ بسهمٍ فقتله، فشيعه أبو جعفر إلى قبره ماشيًا، وصلى عليه، ووقفَ على قبره حتى دفن. وقيل: إنَّ واقعة الراوندية كانت في سنة ست أو سبعٍ وأربعين (¬1). وفيها عَصى عبد الجبار بن عبد الرحمن عامل خراسان. وسببه أنَّ أبا جعفر عزم على عزله، وكان قد فتكَ في أهل خراسان، وقتلَ رؤساءهم، وأبادَ شجعانهم، فكتبوا إلى أبي جعفر يشكونه ويقولون: قد نَغِلَ الأديمُ، فشاور وزيره أبا أيوب فقال: اكتب إليه أنك تريد غزوَ الروم، واطلب من عنده من الجنود، فإذا خرجوا من عنده فأبعث إليها من شئت، فكتب إليه بذلك، فأجاب: إنَّ التركَ قد جاشت، وإن فرَّقتَ الجيوشَ ذهبت خراسان، فجهَّز إليه أبو جعفر ابنَه محمدًا المهدي، وولَّاه خراسان وقال: إذا وصلتَ إلى الريّ فأقم بها, ولا تتعداها، فأقامَ بالري، وبعث إليه الجيوش. وفهم رؤساء خراسان انحرافَ أبي جعفر عنه، فلمَّا التقى بجيش المهدي خانَه عسكرُه وأخذوه أسيرًا، فأوثق وقُدم به على جمل عليه جبَّةُ صوف وقد أداروا وجهه إلى ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) و (د)، والمنتظم 8/ 30، وفي تاريخ الطبري 7/ 505: في سنة سبع وثلاثين ومئة أو ست وثلاثين ومئة.

ذكر طرف من أخبار زياد

عجز الجمل، ومعه أولاده وخواصه، فعذَّبهم أبو جعفر حتى استخرج منهم الأموال، وقطع يدي عبد الجبار ورجليه وصَلَبه، ونفى أولاده إلى دَهْلَك، جزيرة باليمن، فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند فسبوهم، وأفلت منهم عبدُ الرحمن بن عبد الجبار، وعاش حتى مات بمصر سنة تسعين ومئة (¬1). وفيها فتحت طبرستان لمَّا حُمِل عبد الجبارِ إلى أبي جعفر كتبَ إلى ابنه محمَّد بغزو طبرستان، فبعثَ أبا الخصيب وخازم بن خزيمة إلى طبرستان؟ وهي بلادُ الأصبهبذ، وكان يحارب المصمغان ملك دُنباوند، فاتفقا على قتال المسلمين، وعاد الأصبهبذ إلى بلاده ومعه المصمغان، فكتبَ المهدي إلى أبيه يستمدُّه، فأمدَّه بعمر بن العلاء فقال بشار بن برد: [من المتقارب] فقلِ للخليفة إن جئتَهُ ... نصيحًا ولا خيرَ في المتَّهمْ إذا أيقظتك حُروب العدا ... فنبِّه لها عُمَرًا ثم نمْ فتىً لا ينام على ونيةٍ (¬2) ... ولا يشربُ الماءَ إلا بدمْ ثم سارت الجيوشُ مع أبي الخصيب وخزيمة وعمر، فالتقوا مع الكفار، فهزموهم وفتحوا طبرستان، والتجأ الأصبهبذ إلى بعض الحصون، وانهزم المصمغان إلى بلاده، وأُسِرَت ابنةُ الأصبهبذ فهي أم إبراهيم بن العباس بن محمَّد بن علي، وأُخذت البحترية، وهي أمُّ منصور بن المهدي. وفيها عزل أبو جعفر زياد بن عبيد الله الحارثي عن مكة والمدينة والطائف، وولَّاها محمَّد بن خالد بن عبد الله القسريَّ. وقيل: إنَّما ولى محمدًا المدينةَ لا غير، وولَّى مكَّة والطائف الهيثم بن معاوية العكي (¬3). ذكر طرف من أخبار زياد ولي لأبي جعفر وأبي العباس قبله مكَّة والمدينة، وكان شجاعًا عاقلًا. ¬

_ (¬1) كذا، وفي تاريخ الطبري 7/ 509، والكامل 5/ 506: سنة سبعين ومئة. (¬2) في تاريخ الطبري 7/ 510، والمنتظم 8/ 31: دمنة. (¬3) في تاريخ الطبري 7/ 511، والكامل 5/ 507: العتكي.

قال يعقوب بن سفيان: في سنة خمس وثلاثين ومئة عُزِل زياد عن مكَّة وحدها، ووليها العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس (¬1)، وفي سنة ثمان وثلاثين نزعَه أبو جعفر عن ولايته، وولَّى محمَّد بن خالد القسري، وقيل: في هذه السنة (¬2). قال الواقديّ: دعا زياد الحارثيّ ابنَ أبي ذئب ليوليه القضاء، فامتنع، فقال: جرُّوا برجليه ابن الفاعلة، فقال له ابن أبي ذئب: عجلتَ، أأمنت أن أردَّها عليك فتسيرَ بها الركبان، والله ما تركتُها خيفةً منك ولكن تركتُها لله تعالى، فندم زياد، وبعثَ إليه بمالِ فلم يقبله. وقال ابن عساكر: كان لزياد كلَّ يومٍ على خوانه صَحْفة فيها جدي بلبن، لا يأكل منه غيره، ويقال لها: المَضِيرة، فوضعها الطبَّاخ بين يدي أشعب، ولم يعلم زياد (¬3)، فأَكلَها كلَّها، وزياد في انتظارها، فقال: يَا غلام، وأين الصَّحْفة؟ ! فقال: أكلها أشعب، فقال: زياد لأشعب: هنَّأك الله يَا أَبا العلاء، وكان قبل رمضان بيومين، فقال زياد: قد حضر هذا الشهر المبارك، وقد رقَّ قلبي لأهل السجن وما هم فيه من الضرر، وقد رأيتُ أن أبعثَك إليهم فتصلّي بهم الصلوات في النهار والتراويح في الليل، ففهم أشعب، وكان يحفظ القرآن، فقال: أو غير ذلك أيُّها الأمير؟ قال: وما هو؟ [قال: ] أعطي الله عهدًا أن لا آكل مضيرةً بعد اليوم، فضحك زياد. قال الزُّبير بن بكَّار: بعثَ أبو جعفر بمال إلى زياد ليفرِّقَه في مكة، فدخل أبو حمزة من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطَّلب، فقال: أيُّها الأمير، بعث إليك أميرُ المُؤْمنين مالًا لتفرِّقه في القواعد والعميان واليتامى، فاكتبني في القواعد، فقال: أَنْتَ رجل، قال: فاكتبني في العميان، قال: أما هذا فنعم، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الآية. [الحج: 46]. فقال: واكتب ابني في الأيتام، فقال: نعم، من كنت أباه كان يتيمًا، فأخذ هو في ¬

_ (¬1) المعرفة والتاريخ 1/ 116. (¬2) انظر المعرفة والتاريخ 1/ 124، وتاريخ دمشق 6/ 480 (مخطوط). (¬3) في تاريخ دمشق 6/ 480 (مخطوط) أن زياد هو أمره أن يضعها بين يدي أشعب حتَّى أتى على ما فيها، فاستبطأ زياد المضيرة.

حسين بن عبد الله

العميان، وبنوه في الأيتام. قال الهيثم: وسببُ عزلِه أنَّه كان بخيلًا، احتقن بدهن، فأراد إهراقه، فقال: استصبحوا به، وبلغ أَبا جعفر فعزلَه. والأصح في سبب عزله ميله إلى محمَّد بن عبد الله بن حسن. وحج بالنَّاس صالح بن عبد الله (¬1)، وهو على الشَّام والصوائف، وعلى المدينة محمَّد بن خالد، وعلى مكة والطائف الهيثم بن معاوية، وعلى خراسان محمَّد المهديّ، وعلى البصرة سفيان، وعلى الكوفة عيسى بن موسى (¬2)، وفي ولايته ظهرَتِ الخطَّابيَّة، ورئيسُهم أبو الخطاب، وكان يدَّعي علمَ الغيب، ويرى شهادةَ الزور لمن بايعه. وقال جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين - رضي الله عنهم -: كان يدخلُ عليَّ ويخرج من عنديَ، فيكذبُ عليَّ ويقول: إنَّ السلاحَ لا يعملُ فيَّ، فقتلَه عيسى بن موسى وأراحني منه. وفيها تُوفِّي حسين بن عبد الله ابن عبيد الله بن العباس بن عبد المطَّلب، من الطَّبقة الرابعة من أهل المدينة، وأمُّه أسماء بنت عبد الله بن عباس. توفِّي بالمدينة سنة أربعين أو إحدى وأربعين ومئة، وهو ابنُ اثنتين وثمانين سنة. رَوى عن أَبيه وغيره، ورَوى عنه محمدُ بن إسحاق وغيره، وكان كثيرَ الحديث، ولا يحتجُّ بحديثه. وبعث المنصور إلى ابنه عبد الله، فأقدمَه عليه من المدينة، وزوَّجه عمَّته أمَّ عيسى بنت عليِّ بن عبد الله بن عباس، فلم تلد له، وتوفِّي فورثَتْهُ (¬3). ¬

_ (¬1) فوقها في (خ) كذا، وفي الهامش: لعله علي، وهو الأصح. واسمه كما في تاريخ الطبري 7/ 511، والمنتظم 8/ 31، والكامل 5/ 508: صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 511. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 472، وتهذيب الكمال 6/ 383.

عاصم بن سليمان

عاصم بن سليمان أبو عبد الرَّحْمَن مولى بني تميم، من الطَّبقة الرابعة من أهل البصرة. كان قاضيًا بالمدائن في خلَافة المنصور، وكان ثقةً كثير الحديث، معدودًا في كبار الحفَّاظ الثِّقات، وكان صائمًا قائمًا لا يضعُ جنبَه في الليل إلى الأرض. أسندَ عن أنس وغيره (¬1). موسى بن عقبة بن أبي عياش أبو محمَّد، صاحبُ "المغازي"، مولى الزُّبير - رضي الله عنه -. كان ثقةً قليلَ الحديث. قال محمَّد بن عمر: كان لإبراهيم وموسى ومحمَّد بني عقبة [حلقةٌ] (¬2) بمسجدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا كلُهم فقهاء محدثين. وكان سبب تصنيف موسى "المغازي" أنَّ أهلَ المدينة اختلفوا فيمن شهدَ بدرًا، فسألوه أن يصنِّفَ في ذلك كتابًا، فصنَّف "المغازي"، فكان مالك يقول: عليكم بمغازي الشيخ الصالح موسى بن عقبة، فإنَّها أصح المغازي، فمن قال: إنَّه شهدَ بدرًا، فقد شهدها، ومن قال: لا، فلا. مات موسى بن عقبة سنة إحدى وأربعين، وقيل: سنة اثنتين وأربعين، وقيل غيرُ ذلك. أسند عن أم خالد [بنت خالد] (¬3) بن سعيد بن العاص، وأدركَ ابن عمر وغيره، ورَوى عنه الأئمَّة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 9/ 255، 321، وتهذيب الكمال 13/ 485، وسير أعلام النبلاء 6/ 13. (¬2) ما بين حاصرتين من طبقات ابن سعد 7/ 519. (¬3) ما بين حاصرتين من تهذيب الكمال 29/ 117. (¬4) انظر ترجمته -بالإضافة إلى ما سلف- في: طبقات خليفة ص 267، وسير أعلام النبلاء 6/ 114.

موسى بن كعب

موسى بن كعب أبو عيينة التميميّ. أحدُ نقباء بني العباس، وهو أوَّل من بايع أَبا العباس بالخلافة، وأخرجه إلى النَّاس، وكان أبو جعفر يعظِّمُ قدرَه، ولَّاه مصر والسند. وهو الذي أخذه أسد بن عبد الله القسري وعذَّبه وألجمَه بلجام حمار، فكسِرت أسنانه، فلمَّا صار الأمر إلى بني هاشم أمالوا الدنيا عليه، فكان يقول: كانت لنا أسنان وليس عندنا خبز، فلما جاءَ الخبز ذهبت الأسنان. وكان على شرطة أبي جعفر (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 7/ 511، وتاريخ دمشق 17/ 399، والمنتظم 8/ 35، والوافي بالوفيات 26/ 541.

السنة الثانية والأربعون بعد المئة

السنة الثَّانية والأربعون بعد المئة [و] فيها نقض أصبهبذ طبرستان العهد الذي كان بينه وبين المسلمين، وقتل من كان ببلاده منهم، فبعثَ إليه أبو جعفر خازمَ بن خزيمة، وروح بن حاتم، وأبا الخصيب، فحصروه في الحصين مدة، فطال عليهم الحصار، فاحتال أبو الخصيب بحيلة كانت سببًا للفتح، فحلق رأسه ولحيته وقال: اضربوني بالسياط، وأخرجوني حافيًا حاسرًا، ففعلوا به ما قال، فأتى حصن الأصبهبذ وطلبَ أمانَه، فلمَّا دخَل عليه قال: من فعل بك هذا؟ فقال: أصحابي، قلت لهم: ارحلوا عنه، فاتهموني وفعلوا بي ما ترى، فأحسن إليه ونادمه، وجعلَه من خواصه، وأقام عنده حتَّى عرف عورة الحصن، فأرسلَ إلى أصحابه في نشابةٍ، وواعدَهم ليلة بعينها، فجاؤوا والأصبهبذ وأصحابه سكارى، ففتح لهم باب الحصين، فقتلوا من كان فيه من المقاتِلة، وسَبوا الذريَّة، وكان في يد الأصبهبذ خاتم في فصِّه سمُّ ساعة، فمصَّه فمات. وظفروا في الحصن بشكلة ابنة قهرمان المصمغان، فبعثوا بها إلى المهدي، فهي أمُّ إبراهيم بن المهدي (¬1). وفيها توجَّه أبو جعفر إلى البصرة، فصام بها رمضان، وخطب يوم العيد، وبنى مصلى البصرة على يد سلمة بن سعيد (¬2). وولَّى عيسى بن عمرو الكندي على البصرة (¬3)، وقيل: إنَّه لم يعزل عنها سفيان. وبعث عمر بن حفص بن أبي صفرة واليًا على الهند والسند، وعَزل عيينة بن موسى بن كعب عنها (¬4). وفيها ولَّى أبو جعفر أخاه العباس بن محمَّد على الجزيرة والعواصم. وفيها ولَّى محمَّد بن الأشعث على مصر، وعزل عنها نوفل بن الفرات، ثم عزلَ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 512 - 513، والمنتظم 8/ 36، والكامل 5/ 509. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 513. (¬3) المنتظم 8/ 36. (¬4) تاريخ الطبري 7/ 512، والكامل 5/ 509.

محمدًا عنها وأعاد إليها نوفلًا، ثم عزله وولاها حميد بن قحطبة (¬1). وقال ابن الكلبي: كان عمرو بن عبيد صديقًا لأبي جعفر، وكان قبلَ الخلافة إذا قدم البصرة نزل عليه، وكان عمرو إذا قدم الشَّام أو الكوفة وأبو جعفر بها نزل عليه، فزارهُ عمرو مرَّةً وعلى أبي جعفر ثوبٌ خَلَق، وبينَ يديه قصعة فيها ثريد بغير لحم، فقال أبو جعفر لغلامه: أمعك درهم تشتري به لأبي عثمان لحمًا أو تمرًا؟ فقال: لا والله، فقال عمرو: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] فلمَّا قدم أبو جعفر البصرة وضع كتابًا على لسان محمَّد بن عبد الله بن حسن يدعوه إلى نفسه وخلع أبي جعفر، ودسَّه مع رجلٍ لا يعرف، فلمَّا جاء إلى عمرو لم يأخذ الكتاب، وقال للرسول: قل لصاحبك: دعنَا نشربُ الماء البارد، وننتقلُ في الظلِّ إلى أن نموت. ويقال: إن محمدًا كتبَ إليه حقيقة، فلمَّا قدمَ أبو جعفر البصرة استدعى عَمرًا وأدناه وأكرمه وقال له: بلغني أن محمدًا كتبَ إليك كتابًا يدعوك إلى إمامته فأجبته، فقال: والله ما قرأته، ولقد قلت لرسوله كذا وكذا، فقال: صدقت وبررت هذا ثغرٌ قد أمناه، ولكن أثلج صدري بيمين، فقال له عمرو: لئن حلفتُ لك تقيَّةً لأكذبن تقيَّةً (¬2)، قال: صدقت، وعرضَ عليه مالًا، فأبى أن يقبلَه منه. وفيها خلع عيينة بن موسى بن كعب أَبا جعفر بالسند، وكان أبو جعفر قد جهَّزَ إليه عمر بن حفص، فحاربَه عيينة فهزمَه عمر، وغلب على السند. وقيل: سبب عصيان عيينة أن أباه كان على شرطة أبي جعفر، وكان قد استنابَ فيها المسيَّب بن زهير، فلمَّا مات موسى خاف المسيَّب أن يبعث أبو جعفر إلى عيينة فيوليه مكان أَبيه، فكتبَ إليه المسيّب يخوِّفه القدومَ ويشير عليه بملازمة السند، ويقال: إنَّه كتب إليه بيتًا من الشعر، ولم يذكر غيره فقال: فأرضَك أرضَك إن تأتنا ... تنم نومةً ليس فيها حُلُمْ (¬3) ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 514، والمنتظم 8/ 37، والكامل 5/ 510 - 511. (¬2) في أنساب الأشراف 3/ 266: لئن كذبتُ تقية لأستجيزن أن أحلف لك تقية. (¬3) تاريخ الطبري 7/ 512، والكامل 5/ 509.

حميد بن أبي حميد الطويل

وحجَّ بالنَّاس إسماعيل بن عليٍّ عم المنصور، وكان على المدينة محمَّد بن خالد القسري؛ وعلى مكَّة والطائف الهيثم بن معاوية، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية، وعلى الشَّام صالح بن عليّ، وعلى مصر حميد بن قَحطبة (¬1). [فصل] (¬2) وفيها تُوفِّي حُميد بن أبي حميد الطَّويل كان ثِقَةً كثير الحديث، وماتَ وهو قائمٌ يصلِّي. أسندَ عن أنس وغيره، وروى عنه مالك وغيرُه، واتَّفقوا على أنَّه ثِقَةٌ صدوق، وهو خالُ حماد بن سلمة (¬3). خالد الحذَّاء ولم يكن حذاء، كان ثقةً كثير الحديث، مهيبًا لا يجترِئُ عليه أحد. روى عن أنس وغيره، وروى عنه الأئمة (¬4). سليمان بن عليّ ابن عبد الله بن عباس، أبو أَيُّوب. من الطَّبقة الرابعة من أهل المدينة، وأمُّه أمُّ ولد. تُوفِّي بالبصرة وهو ابنُ تسعٍ وخمسين سنة. وقيل: أربعٍ وخمسين، وقيل: ثلاث وخمسين، وقيل: ستين سنة، وصلَّى عليه أخوه عبد الصمد. وولد سليمان سنةَ اثنتين وثمانين، وكان مقدَّمًا عند السفَّاح والمنصور، ووليَ البصرة وما يليها وكور دجلة والأهواز والبحرين وعُمان، ووليَ الموسمَ سنة خمسٍ وثلاثين ومئة، وكان شجاعًا جوادًا. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 514، والمنتظم 8/ 37، والكامل 5/ 510 - 511. (¬2) ما بين حاصرتين من (د). (¬3) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 9/ 251، وتهذيب الكمال 7/ 355، وسير أعلام النبلاء 6/ 163، وغيرها. (¬4) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 9/ 258، وسير أعلام النبلاء 6/ 190 وغيرها.

سمع يومًا وهو في سطح دارِه نسوةً من جيرانه يقلن: ليتَ الأمير نظر إليَّ فأغنانا، فصرَّ دنانير في صُرَرٍ على عددهنَّ وألقاها إليهنّ، فماتت واحدةٌ منهنَّ فَرحًا. وكانت له بالبصرة آثارٌ جميلة، سَكَن مكانًا (1) يقال له: الصنْدل (¬1)، وغرمَ أموالًا كثيرة حتَّى عذب ماء البصرة، واستخرج المغيثة (¬2) من أرض الطليحة (¬3)، فغرم عليها أَلْف أَلْف درهم، وبنى مساجدَ كثيرة، واتخذَ منارًا بين مكَّة والبصرة، وفيه يقول الشَّاعر: [من البسيط] كم من يتيم ومسكين وأرملة ... جبرتهم بعدَ فقر يا سليمانُ ومسجدٍ خربٍ لله تعمرُه ... فيه كهولٌ وأشياخٌ وشبانُ وكتب إليه عبد الله بن حسن بن حسن يستمنحُه، فبعثَ إليه بثلاثين أَلْف أَلْف دينار (¬4)، واعتذر إليه من خوفه من أبي جعفر بسبب أولاده. وسليمان أوَّلُ من قدَّم الصلاة على الخطبة يوم العيد بالعراق من عمال بني العباس. وكان رفيقًا رحومًا لم يتعرَّض لمن كان بالبصرة من بني أميَّة، فلم يسلموا في بلد سلامتهم في البصرة (¬5). ولمَّا حجَّ أنفقَ في صلات المهاجرين والأَنْصار وقريش والموسم خمسةَ آلاف أَلْف درهم، وكان أبو جعفر قد جعلَ له خراجَ أعماله، لا يحمل إليه منها شيئًا، فكان يخرجُ أموالًا عظيمةً، وكان يعتقُ كل سنَةٍ عشيةَ عرفة مئة رقبة. وقال مجيب المازنِيّ: لمَّا قدم سليمان البصرة واليًا قيل له: إنَّ بالمربد رجلًا من بني سعد مجنونًا سريع الجواب، لا يتكلَّم إلَّا بالشعر، وكانت له ناقة يعمل عليها، فأرسلَ إليه سليمان قهرمانًا له، فقال: أحب الأمير، فامتنع عليه، فجرُّوه، فخرقَ ثوبه، ¬

_ (¬1) كذا وقع في (ب) و (خ) و (ف) وهو تحريف. وجاء في أنساب الأشراف 3/ 99، وفتوح البلدان ص 364: وسكر القندل. والقندل: موضع بالبصرة. معجم البلدان 4/ 402. (¬2) المغيثة: رَكِيَّةٌ (بئر) بين القادسية والعذيب. معجم البلدان 5/ 163. (¬3) كذا في (ب) و (خ) و (ف). وهو تحريف. وفي أنساب الأشراف 3/ 99: البطيحة، والبطيحة: أرض واسعة بين واسط والبصرة. (¬4) في أنساب الأشراف 3/ 100: بألف دينار. (¬5) في (ب) وأنساب الأشراف 3/ 100: رقيقًا.

وزبره، واستاق ناقتَه، وأتى به سليمان، فقال له سليمان: حيَّاك الله يَا أخا بني سعد، فقال: [من الرجز] حيَّاك ربُّ النَّاسِ من أميرِ ... يَا فاضلَ الأصلِ عظيم الخيرِ إنِّي أتاني الفاسقُ الجلوازُ (¬1) ... والقلبُ قد طار به اهتزازُ فقال [له] (¬2) سليمان: إنَّما بعثتُ به إليك ليشتري ناقتَك. فقال: ما قال شيئًا في شراءِ الناقه ... وقد أتَى بالجهلِ والحماقة فقال: وما الذي فعل؟ فقال: خرَّق ثوبًا لي (¬3) وشقَّ بردتي ... وكان وجهي في الملا وزينتي (¬4) فقال: أفتعزم على بيعها؟ قال: أبيعُها من بعد ما لا أوكسُ ... والبيعُ في بعض الأوان أكيس قال: فكم شراؤها؟ قال: شراؤها عشرٌ ببطن مكَّة ... من الدنانير القيام (¬5) السكَّة ولا أبيع الدهر أو أزداد ... إنِّي لربحٍ في الورَى معتادُ قال: بكم تبيعها؟ قال: خذها بعشر وبخمس وازنهْ ... فإنَّها ناقةُ صدقٍ مازنه فقال: تحطنا وتحسن؟ فقال: تباركَ الله العليُّ العالي ... تسألُني الحطَّ وأنت الوالي قال: نأخذُها ولا نعطيكَ شيئًا. فقال: وأين ربي ذو الجلال الأفضلِ ... إنْ أَنْتَ لم تخشَ الإلهَ فافعلِ فأمر له سليمان بألف درهم، وعشرةِ أثواب، فقال: ¬

_ (¬1) الجلواز: الشُّرَطي. القاموس (جلز). (¬2) ما بين حاصرتين من (د). (¬3) في المنتظم 8/ 38، وتاريخ دمشق 7/ 629 (مخطوط): سربالي. (¬4) في (ب) و (خ) و (د): وزندي. والتصويب من المصادر. (¬5) في تاريخ دمشق 7/ 629: الفئام.

صبحتني منك بألف فاخره ... شرَّفك الله بها في الآخره وكسوةٍ طاهرة حسانِ ... كساك ربِّي حللَ الجنانِ فقال سليمان: من يقول: إنَّ هذا مجنون! ؟ ما رأيتُ أعرابيًّا قطُّ أعقلَ من هذا. ذكر أولاده: كان له جعفر ومحمَّد وإبراهيم وموسى وعلي وعبد الرَّحِيم وعبد الرَّحمن وعيسى وعبد الله وإسحاق لأمهات أولاد شتى، ومحمَّد وأم جعفر (¬1) أمُّهما أمُّ الحسن بنت جعفر بن الحسن بن الحسن بن عليّ. ومن أعيانهم محمَّد وإسحاق وعبد الرَّحِيم، فأمَّا محمَّد فكنيتُه أبو عبد الله، وليَ الكوفةَ والبصرة لأبي جعفر، وكان قبله عليها سلم بن قتيبة، فكتب إليه أبو جعفر أن اهدم دور من خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فكتب سلم يشفعُ فيهم، فقال أبو جعفر: لو كتبتُ إليه في شربةِ ماء لراجعني فيها، فعزلَه وولَّى محمدًا مكانه، ثم ولي مُحَمَّد البصرة وكور دجلة وفارس والأهواز والبحرين وعُمان واليمامة للمهدي والهادي والرشيد، وماتَ وهو ابن إحدى وخمسين سنة. وأمَّا إسحاق فكنيتُه أبو يعقوب، وليَ المدينة والبصرة ومصو والسند لهارون، ووليَ حمص وإرمينية لمحمد الأمين. وأمَّا عبد الرَّحِيم، فوليَ السند لهارون. وكان لسليمان بنات منهنَّ عائشة تزوجها عبد الوهَّاب بن إبراهيم الإمام، وزَينب تزوَّجها محمَّد بن إبراهيم الإِمام. أسندَ سليمانُ الحديثَ عن أَبيه وعكرمة، ورَوى عنه ابناه محمَّد وجعفر وغيرُهما (¬2). * * * ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) و (د). وفي أنساب الأشراف 3/ 104: جعفر ومحمَّد. (¬2) بعدها في (د): تم الجزء العاشر، ويتلوه في الحادي عشر السنة الثالثة والأربعون بعد المئة. وكان الفراغ من نسخه يوم الاثنين سادس ذي الحجة سنة ثمان عشرة وسبع مئة. وكتبه العبد الفقير إلى الله تعالى أَحْمد بن العلم الأقسماوي، عرف بالحكيمي، غفر الله له ولوالديه ولصاحب الكتاب ولقارئه ومستمعيه ولجميع المسلمين. آمين آمين، والحمد لله رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليمًا.

السنة الثالثة والأربعون بعد المئة

السنة الثالثة والأربعون بعد المئة فيها ثارت الدَّيْلَم على المسلمين بعد قتل سنباذ، فأفنوا من ناحية البصرة والرّي خلقًا عظيمًا، فجهَّز إليهم أبو جعفر حَبيب بنَ عبد الله في جيوش الكوفة فأوقع بهم. وفيها عَزل أبو جعفر الهيثم بنَ معاوية عن مكة والطائف، وولَّاها السَّريَّ بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطَّلب، وكان السَّريّ على اليَمامة، فولاها أبو جعفر قُثَم بنَ العباس، وعَزل حُمَيد بن قَحْطَبة عن مصر، وولَّاها يزيد بن حاتم. وحجَّ بالنَّاس عيسى بن موسى وهو على الكوفة وأعمالها، وعلى البصرة سفيان بن معاوية (¬1). وفيها تُوفِّي سُلَيمان بن طَرْخَان أبو القاسم (¬2) التَّيميّ، من الطَّبقة الرابعة من أهل البصرة، كان من العُبَّاد المجتهدين، يُصلِّي الليل كلَّه، ويصلِّي الغَداةَ بوضوء عشاء الآخرة، ويدور هو وابنه المُعتَمِر بالليل في المساجد؛ يصلّيان مرةً في هذا المسجد، ومرةً في هذا المسجد حتَّى يُصبحا، وكان مائلًا إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه. وقال يحيى بن سعيد الأَنْصاريّ: ما جلستُ إلى رجلٍ أَخْوفَ لله منه. وقال المعتمر بن سليمان لمحمد بن عبد الأعلى: لولا أنك من أهلنا ما حدَّثتُك عن أبي بهذا، مكث أبي أربعين سنة يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويصلّي الصبحَ بوضوء العشاء، وربما جدَّد الوضوء من غير نوم. وقال معتمر: سقط بيتٌ لنا كان أبي يكون فيه، فضُرِب له فُسطاط فكان فيه حتَّى مات، فقيل له: لو بَنيتَه! فقال: الأمر أعجلُ من ذلك، غدًا أموت. ¬

_ (¬1) في (خ): عيينة، وهو خطأ، والمثبت من (ب)، وانظر تاريخ الطبري 7/ 516، والمنتظم 8/ 40. (¬2) كذا، والذي في المصادر أن كنيته أبو المعتمر، انظر طبقات ابن سعد 9/ 251، وحلية الأولياء 3/ 27، وتهذيب الكمال (2516)، والمنتظم 8/ 41، وصفة الصفوة 3/ 296، والسير 6/ 195.

وقال يحيى بن سعيد القَطَّان: مكث سليمان في قبة لُبُود (¬1) ثلاثين سنة، وكان يقرأ آية واحدة يُردِّدُها طول الليل. وقيل لسليمان: أَنْتَ أَنت. قال: لا تقولوا كذا، لا أدري ما يبدو لي من ربي، ثم قرأ: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]. وكان يقول: إن الرَّجل لَيُذْنِبُ الذنْبَ فيُصبح وعليه مَذَلَّتُه. وقال السري: قَدَحَ سليمان عينَه (¬2)، فنهاه الطبيب أن يُمِسَّها بماء، [فمسَّ فرجَه] , وكان يرى الوضوء من مسِّ الفَرْج، فنزع القُطنة من عينه وتوضّأ، ثم أعاد القُطنة إلى مكانها، وجاء الطبيب فنظر ولم ير شيئًا يُنكره، فقال: انظر، قال: ما أرى شيئًا أُنكره، قال: فإنِّي توضَّأتُ، قال: فإن الله قد رزقك العافية (¬3). وقال مُعتَمر بن سليمان: قال لي أبي حين احتُضر: يَا معتمر، اقرأ عليَّ أحاديث الرُّخَص؛ لعلِّي ألقى الله وأنا حَسنُ الظنِّ به. وقال رَقَبة بن مَصْقَلة: رأيتُ ربَّ العزَّة سبحانه في المنام فقال لي: يَا رَقَبة، وعزَّتي وجَلالي لأُكرمنَّ مَثوى سليمان التَّيميّ؛ فإنَّه صلى أربعين سنة الغَداة على وضوء العتمة، فأتيتُ سليمان فأخبرتُه، فحدَّثني مئةَ حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: هذا لما جئتَني به من البِشارة، فلما كان بعد مدة مات، فرأَيتُه في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، وأدناني وقرَّبني، وغَلَّفني (¬4) بيده، وقال: هكذا أفعل بأبناء ثلاث وثمانين. وقال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التَّيميّ في ساعةٍ يُطاع الله فيها إلَّا وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلّيًا، وإن لم يكن في ساعة صلاة وجدناه إما يتوضأ للصلاة، أو عائدًا مريضًا، أو مُشيّعًا جنازة، أو قاعدًا في المسجد يسبِّح، وكنا نرى أنَّه لا يُحسن أن يعصي الله عَزَّ وَجَلَّ. وكانت وفاته بالبصرة. ¬

_ (¬1) اللبود: كل شعر أو صوف متلبِّد، وضرب من البُسُط. المعجم الوسيط (لبد). (¬2) قَدَحَ عَينَهُ: إذا أخرج منها الماء الفاسد. تاج العروس (قدح 7/ 43). (¬3) صفة الصفوة 3/ 299 وما بين معكوفين منه. (¬4) غلّفني: لطخ لحيتي بالطِّيب. اللسان (غلف).

يحيى بن سعيد

أسند عن أنس وغيره، وروى عنه جماعة من الأئمة، واتَّفقوا على صدقه وثقته وأمانته وزهادته. قال يزيد بن هارون: ليس بتَيميّ ولكنه مُرِّي، ومنزله في التَّيم فنُسب إليهم. يحيى بن سعيد أبو سعيد الأَنْصَارِيّ، القاضي، الفقيه, من الطَّبقة الخامسة من أهل المدينة، وأُمُّه أم ولد، قدم على المنصور الكوفة فاستقضاه على الهاشمية. وقال سليمان بن بلال: قال لي يحيى: والله ما خرجتُ من المدينة وأنا أجهل شيئًا، فلما قدم العراق كتب إليّ يقول: كنتُ قلتُ لك عند خروجي من المدينة: إنِّي ما أجهل شيئًا، وإنه والله لأَوَّلُ خصمين جلسا بين يدي فاقتضيا بشيء والله ما سمعتُه قط، فسَلْ ربيعةَ عنه، واكتب إليَّ بما يقول من غير أن يعلم أنني كتبتُ إليك، والسلام. وقال وهيب: قدمتُ المدينة فما رأيت أحدًا إلَّا تعرف وتُنكر إلَّا يحيى بن سعيد ومالك بن أنس. وتوفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ست وأربعين. أسند عن أنس وغيره، وروى عنه الأئمة. واتَّفقوا على عدالته وصدقه وثقته، وأنه كان أحدَ حُفَّاظ الدنيا، وأثنى عليه الأئمة، فقال الإِمام أَحْمد - رضي الله عنه -: يحيى بن سعيد أثبتُ النَّاس حجة. وقال الثَّوريّ: يحيى أَجَلُّ عند أهل المدينة من الزُّهريِّ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 517، وتهذيب الكمال (7431)، والمنتظم 8/ 42، والسير 5/ 468.

السنة الرابعة والأربعون بعد المئة

السنة الرابعة والأربعون بعد المئة فيها قدم محمَّد المهديّ من خُراسان إلى العراق، فنزل الحيرة عند أَبيه، وبنى برَيطَة بنت عمِّه أبي العباس. وعزل أبو جعفر محمَّد بن خالد عن المدينة، وولَّاها رياح بن عثمان (¬1) المُرِّي، وحج أبو جعفر، واستخلف على عسكره وعلى الحِيرة خازم بن خُزيمة (¬2)، وجدِّ في طَلَب إبراهيم ومحمَّد ابني عبد الله بن حسن، وكانا قد تخلَّفا عن أبي جعفر لما حجَّ في زمن أخيه أبي العباس وععه أبو مسلم، وكذا في حجَّته الثَّانية، فلما حجَّ هذه السنة -وهي حجَّتُه الثالثة- جدَّ في طلبهما، وأذكى العيونَ عليهما. قال أرباب السير: كان محمَّد بن عبد الله يذكر أن أَبا جعفر بايعه بمكة ليلة تشاور بنو هاشم عند اضطراب حَبْلِ بني مروان (¬3)، وكان أبو جعفر حاضرًا، فكان محمَّد يقول: كيف أبايع مَن بايعني؟ ! فلما ولي أبو جعفر الخلافة لم يكن له همٌّ إلَّا طلب محمَّد وإبراهيم، وكلُّ من يسأله عنهما من بني هاشم يقول: ما اختفيا إلَّا خوفًا منك، ولا بأس عليك منهما، إلَّا حسن بن زيد فإنَّه قال: والله ما آمَنُ وُثوبهما عليك، فأيقظ مَن لا ينام، فكان بنو الحسن يقولون: اللهم إن دماءنا عند الحسن بن زيد. وقال عبد الرَّحْمَن بن أبي الموالي: لما وَلي أبو جعفر ألحَّ في طلب إبراهيم ومحمَّد، وتغيَّبا عنه بالبادية، وأمر زيادًا الحارثيّ بطلبهما، فكان لا يَجِدُّ، فعزله وولَّى المدينة محمَّد بن خالد القَسريّ، وأمره بطلبهما فلم يبالغ، وكان يعرف مكانهما، فعزله، وولّى رياح بن عثمان بن حيَّان المُرِّي، فجدَّ في طلبهما ولم يُداهِن، فخافا منه، فجعلا ينتقلان من موضع إلى موضع، واغتمَّ أبو جعفر بتغَيُّبهما، فكتب إلى رياح أن ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): عثمان بن رباح، والمثبت من الطبري 7/ 517، والمنتظم 8/ 44، وتاريخ الإِسلام 3/ 777، والبداية والنهاية 13/ 349. (¬2) في (خ) و (ب): خزيمة بن خازم، والمثبت من المصادر، انظر الحاشية السابقة. (¬3) في الطبري 7/ 517، والمنتظم 8/ 44: ليلة تشاور بنو هاشم فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر بني مروان.

يأخذ أباهما عبد الله، وأخويه حسن وداود، ومحمَّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو أخوهم لأمهم فاطمة بنت حسين، في عدَّةٍ منهم، ويَشُدَّهم وثاقًا، ويبعث بهم إليه حتَّى يوافوه بالرَّبذَة، وأن يأخذني معهم. قال محمَّد بن عمر: فأنا رأيتُ عبد الله وأهلَ بيته يخرجون من دار مروان بعد العصر وهم في الحديد، فيحملون في مَحامِلَ عَرايا ليس تحتهم وطاء، وأنا يومئذٍ غُلامٌ قد راهَقْتُ الاحتلام. قال ابن أبي الموالي: وأُخذ معهم يومئذ نحوٌ من أربع مئة من جُهَينة ومُزينة وغيرِهم من القبائل. ووافى أبو جعفر من الحج إلى الرَّبَذَة وهم بها مُكَتَّفين في الشَّمس، وسأل عبد الله أَبا جعفر أن يأذن له في الدخول عليه، فلم يأذن له، ولم يَره حتَّى فارق الدنيا، ثم دعاني فأُدخِلتُ عليه وعنده عيسى بن عليّ، فلما رآني عيسى قال: نعم هو هو يَا أمير المُؤْمنين، وإن أَنْتَ شَدَّدتَ عليه أخبرك بمكانهما، فدنوتُ منه وسلَّمتُ عليه فقال: لا سلَّم الله عليك، أين الفاسقان ابنا الفاسق، الكذابان ابنا الكذاب؟ فقلت: يَا أمير المُؤْمنين، هل ينفعني الضدقُ عندك؟ قال: وما ذاك؟ قال: امرأته طالق وعليَّ وعليّ إن كنتُ أعرف مكانهما، فلم يُصدِّقني، وقال: السِّياطَ، فأُتي بها، وأُقِمتُ بين العُقابَين (¬1)، فضربني أربع مئة سَوط، ورُدِدتُ إلى أصحابي على تلك الحال. ثم بعث إلى الدِّيباج محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان -وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله- فلما دخل عليه قال: أخبرني عن الكذَّابَين ما فعلَا، وأين هما؟ فقال: والله يَا أمير المُؤْمنين ما لي بهما علم، وإني لصادق، فقال: جَرِّدوه، فجرَّدوه، فضربه مئةَ سَوط، وألقى عليه قميصَ قُوْهِيٍّ على الضَّرب، ثم حُمل إلينا، فوالله ما قدرنا على نزع القميص من لُصوقه بالدم، حتَّى حُلبت عليه شاة، ثم قال: احْدُروهم إلى العراق، فقُدم بنا إلى الهاشميَّة فحُبِسْنا، فكان أول من مات عبد الله بن حسن (¬2). ¬

_ (¬1) خشبتان يشبح الرَّجل بينهما ليجلد. تاج العروس (عقب). (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 476 - 477.

وقال الهيثم: دسَّ أبو جعفر كتابًا إلى عبد الله بن حسن مع عُقْبة بن سَلْم (¬1) الأَزدِيّ، وبعث معه ألطافًا وهدايا على لسان بعض الشيعة، فلما قدم على عبد الله أخبره فزَبَره، ثم عاد فزبره مرارًا، فلما أَنِس به أخذ ذلك منه وقال: اذهب فأخبرهم أن ابني خارجٌ في وقت كذا وكذا، فعاد إلى أبي جعفر فأخبره. وكان محمَّد وإبراهيم ينتقلان في المياه والأمصار خوفًا من أبي جعفر، تارةً في تِهامة، وتارة في اليمن واسثعام والعراق ومصر، ثم في البصرة والهند والسِّند والمغرب، فلما حج في هذه السنة أبو جعفر قَسم قسمًا في بني هاشم خصَّهم بذلك، وقال لعبد الله: أين ابناك؟ فقال: لا أعلم بهما، فقام ابن سَلْم فتراءى له، فلما رآه وَجَم، فقال أبو جعفر لعبد الله: كذبت يَا ماصّ، فقال: يَا أَبا جعفر، بأيِّ أُمَّهاتي تُمِصّني؟ ! بخديجة بنت خُوَيلد، أم بفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم بفاطمة بنت الحسين؟ فقال ولا بواحدة منهن، ولكن بالجَرْباء بنت قَسامة بن زهير، فقام المُسَيَّب بن زهير فقال: دَعْني أضربْ عُنق ابن الفاعلة، فقام زياد بن عبيد الله فألقى عليه رداءه وقال: هَبْه لي يَا أمير المُؤْمنين وأنا أستخرج ابنيه. وفي رواية: أن أَبا جعفر جاءه كتاب بعض ثقاته يخبره أن رسول عبد الله وابنيه خرج إلى خراسان ومعه الكتب يستدعيهم إلى الخروج معه، وبعث بالرسول والكتب إلى أبي جعفر، فبعث أبو جعفر بالرسول والكتب على حالها بطوابعها إلى عبد الله وقال: إنِّي أُتيتُ برسولك وهذه الكتب معه، وقد رددتُها بحالها إليك كراهيةَ أن أطَّلع على ما يُغيِّر قلبي عليك، فلا تَدْعُ إلى التَّقاطع بعد التواصل، وإلى الفُرقة بعد الاجتماع، وأظهر إليَّ ابنَيك؛ فإنهما يصيران إلى ما تُحبُّ من الولاية وتعظيم المنزلة، فكتب إليه عبد الله يَتنصَّل من ذلك، ويُنكره ويقول: فعل ذلك عدوٌّ يريد الفُرقة بعد الاجتماع. فبينا أبو جعفر كذلك وَرد عليه كتابُ بعض ثقاته يخبره: أن الرسول بعينه خرج بالكتب بعينها إلى خراسان، وأنه نازل بالبصرة على فُلان المُهَلَّبي، فبعث أبو جعفر فحبس الرسول، وأخذ الكتب وبعث بها إلى خراسان مع بعض ثقاته، وعادت الأجوبة ¬

_ (¬1) في النسختين: علقمة، وهو خطأ، انظر تاريخ الطبري 7/ 519، وأنساب الأشراف 2/ 412، والمنتظم 8/ 45، وتاريخ الإِسلام 3/ 777.

بما يكره، واستبان له الأمر، فكتب إلى عبد الله: [من الوافر] أريد حَياتَه ويُريد قَتلي (¬1) قد علمتُ ما فعلتَ، وجاءت الأجوبة من خُراسان، وقد ثَبتَ عندي أنك تعرف مكان ابنَيك، فدُلَّني عليهما ولك عهدُ الله وميثاقُه أنني أُحسن جائزتَهما، وأضعهما حيث وَضَعَتْهما القرابة، واستدرِكْ الأمرَ قبل تفاقمه، فكتب إليه أنَّه ما يعرف مكانهما، وكتب في الكتاب: [من الوافر] وكيف أُريد ذاك وأنت منِّي ... بمنزلةِ البياضِ من السَّوادِ (¬2) وكيف أريد ذاك وأنت مني ... وزَنْدُكَ حين يُقدَح من زِنادي فقال أبو جعفر: والله لَيُقْتَلَنَّ محمَّد بأصل سَلْع، وليُقْتلنَّ إبراهيم على النهر العباب يعني الفرات، فكان كما قال. وقال السِّنديّ مولى أبي جعفر: لما اشتبهت الأمور على أبي جعفر دعا عُقبة بن سَلْم الباهليّ، وبعث معه بمال وقال: إنما أدخلتُك بين لحمي وعظمي، فلا تُوطِئني عَشْوةً (¬3)، اذهب إلى المدينة فجالس عبد الله بن حسن حتَّى يأنس بك، وقيل له: إن فلانًا وفلانًا من خراسان بعثوا إليك بمال وثياب وهدايا -وكان المال عشرة آلاف دينار- واحترِز. فقدم المدينة، فلقي عبد الله وجلس إليه، فلما أَنِس به ذكر له ذلك، فأخذ منه المال والثياب، ثم تركه أيامًا وقال له: معي إلى ابنيك كتابان وأربعون أَلْف دينار، فإن دَلَلْتني عليهما سَلَّمتُ ذلك إليهما، ورجعتُ إلى خراسان بما يَشرح صدورَ أهلها وتَقبله عقولُهم، وإلا عُدت إليهما، فأدفع إليهما الكتابين والمال، ثم قال لعبد الله: مثلي لا ينصرف إلَّا عن فضل؛ ليكون القوم منّي على ثِقَة، قال: وما هو؟ قال: تخلع أَبا جعفر، وتبايع ابنك محمدًا، ومن بعده إبراهيم، قال: نعم، فخلع أَبا جعفر وبايع ¬

_ (¬1) تمامه: عذيرك من خليلك من مراد. وهو لعمرو بن معدي كرب، انظر العقد الفريد 5/ 76. (¬2) كذا، وفي المصادر: بمنزلة النِّياط من الفؤاد، انظر أنساب الأشراف 2/ 410، والعقد الفريد 5/ 76، والأغاني 21/ 120. (¬3) أوطأه عشوة: أركبه على غير هدى من الطريق.

لابنيه، وبايعهما أَيضًا عقبة بن سَلْم، وأخذ كتابه وكتاب ابنيه وخرج إلى مكة، فوافى أَبا جعفر، فأخبره بحقيقة الأمر. فقدم أبو جعفر المدينة، وأحضر عبد الله، وسأله عن ابنيه فأنكرهما، فقال لعُقبة: تراءى له، فلما رآه أُسقط في يده، وتغيَّر لونُه وقال: أقِلْني وصلَتْك رَحِم، فقال: لا أقالني الله إن أقلتُك، ووالله لا بدَّ من ولديك، فقد ظهر السرّ، ولله علي أن لا أَضُرّهما، فسكت عبد الله، فأمر بحبسه وحبس أهله وأعيان بني حسن، وخاف أبو جعفر أن يحاربه أهل المدينة فلم يدخلها, ولم يختلف عليه منهم اثنان. وقال أبو اليقظان: لما حج أبو جعفر كان محمَّد وإبراهيم مُسْتخفيين بمكة، وكان بعضُ قُوَّاد أبي جعفر من شيعتهما فقال: هل لكما أن أقتله؟ فقال محمَّد: لا والله حتَّى تدعوه، فانتقض أمرُهما. وقال الواقديّ: إنما أمر أبو جعفر رياحًا بحبس آل أبي طالب في سنة أربع وأربعين -وقيل: في سنة ثلاث وأربعين- فأقاموا في الحُبوس ثلاث سنين، فجاء محمَّد بن عبد الله ليلًا إلى أمه هند مستخفيًا، فقال: يَا أُمَّاه، قد حَمَّلتُ أبي وأهلي وعمومتي ما لا طاقة لهم به، وقد عزمتُ على أن ألقى أَبا جعفر، وأضع يدي في يده؛ فعسى أن يخلي عنهم، فتنكَّرَت وحملتْ طعامًا إلى السجن، وتلطَّفتْ للسجَّان حتَّى دخلتْ عليهم، فأخبرت عبد الله بقول محمَّد فقال: قولي له: نحن فَرَجُنا بيد الله، والأمور مَقضيَّة، والصبر أولى، ومُريه فليَجِدّ في أمره ولا يَني، فخرجتْ من عندهم، وأبلغته ما قال. ولما نزل أبو جعفر الرَّبذَة أمر رياح بن عثمان بإخراجهم إليه، فأخرجهم من المدينة، ولما صاروا بقصر نَفِيس (¬1) على ثلاثة أميال من المدينة؛ دعا بالقيود والأغلال والحدَّادين، وقيَّدهم وغلَّهم، وضيَّق عليهم القيود حتَّى أثَّرت في أرجلهم، ثم أتى بهم الرَّبَذَة على الجمال وليس تحتهم وطاء ولا فوقهم غِطاء، وقام أبو جعفر ينظر إليهم من وراء السِّتر، ولما مووا بدار جعفر بن محمَّد بكى وقال: والله لا حُفظت حُرمةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد اليوم، ثم حُملوا في المحاملِ عُراة، وخرج أبو جعفر في ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): بلقيس، والمثبت من تاريخ الطبري 7/ 540.

مَحْمِل ومُعادِله الربيع، فصادفهم يومًا في المسير، والشمس قد قرعتهم وهم عِطاش، فناداه عبد الله: يَا أبا جعفر، هكذا فعلنا بكم يوم بدر؟ فلم يكلِّمه، وأخزاه وثَقَّل عليه، فلما قدم إلى الكوفة أنزلهم في سِرداب. وقال الهيثم: دعا أبو جعفر بمحمد الدِّيباج في الرَّبَذَة فدخل عليه -وكان أحسن النَّاس صورة- فوقف بين يديه، فقال له: يَا دَيُّوث، فقال محمَّد: سبحان الله، والله لقد عرفتُني بغير ذلك، قال: فكيف زوَّجتَ ابنتك الفاسقَ إبراهيم؛ وقد حلفتَ لي أنك لا تَغُشّني ولا تمالئ عليّ؟ ! فأنت بين أن تكون دَيُّوثًا أو حانثًا. وايم الله، لقد هممتُ أن أرجُمها، فقال له محمَّد: والله ما مالأتُ عليك ولا غَشَشتُك، وأما أنت فقد رَميتَ هذه الجارية، وهي بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الله قد أكرمها بولادته لها، فأمر به فشُقَّت ثيابُه، وضربه أربع مئة سوط (¬1)، فغُشي عليه وأبو جعفر يقول: الرأسَ الرأسَ، وبدت عورتُه، ووقع سَوط في عينه فسالت عينُه على خدّه، وأُخرج والسِّياط قد غيَّرتْ حاله وجَماله، ورُدَّ إلى أصحابه وهو يصيح: العطش العطش، فلم يتجاسر أحد أن يسقيه، فقال: يَا معاشر المسلمين أيموتُ أولادُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَطَشًا. وقال عمر بن شبة: كان أبو جعفر كافًّا عن محمَّد الدِّيباج حتَّى قال له رِياح المُرِّي: ما أخاف عليك إلَّا من محمَّد بن عبد الله بن عمرو؛ فإنَّه عظيم عند أهل الشَّام، وقد أمنتَ خراسان والعراق؛ لأن خراسان شيعتُك، والعراق شيعة علي، وأهل الشَّام شيعة عثمان، وهذا من ولده، فوقع ذلك في نفس أبي جعفر، ففعل به ما فعل. وفي رواية: لما دخل الدِّيباج على أبي جعفر قال له: أين إبراهيم ومحمَّد؟ فقال: لا عهد لي بهما من عام أول، قال: أليس ابنتك تحت الفاسق إبراهيم، قال: بلى، قال: فهي زانية، فقال: مه، أتقول هذا لابنة عمِّك! فقال يَا ابن اللخناء، فقال: أيّ أُمَّهاتي تُلَخِّن، فشتمه، وذكر أمَّه، وفعل به ما فعل. وابنة محمد رُقيَّة، وفيها يقول الشَّاعر وهو زوجها إبراهيم: [من الطويل] خليليَّ من قيسٍ دعا النَّومَ واقعُدا ... يَسرُّكما ألا أنام وتَرقُدا ¬

_ (¬1) في الطبري 7/ 542: فضرب خمسين ومئة سوط.

أَبِيتُ كأنّي مُسْعَرٌ من تَذكُّري ... رُقَيَّة جَمْرًا من غَضًا مُتَوقّدا (¬1) وقال أبو اليقظان: أُخبر رياح أن محمدًا في جبال رَضْوى، فخرج في طلبه، فرآه محمَّد من بعيد فصعد الجبل ومعه أمُّ وَلَدٍ له، فسقط ولدها فمات، فقال محمَّد: [من السريع] مُنْخَرِقُ السِّربال يشكو الوَجَى ... تَنْكُبُه أطرافُ مَرْوٍ حِدادْ شَرَّده الخوفُ وأَزْرى به ... كذاك مَن يَكْرَه حَرَّ الجِلادْ قد كان في الموتِ له راحةٌ ... والموتُ حَتْمٌ في رقابِ العِبادْ (¬2) قد تقدم أن عبد الرَّحْمَن بن الأشعث أنشد هذه الأبيات في بعض وقائعه لما خرج على الحجاج، فيحتمل أن محمَّد بن عبد الله تمثَّل بها والله أعلم. وقال الهيثم: كان زياد الحارثيّ يطلب محمدًا، فرآه يومًا في الصحراء فقال له: مَن أَنْتَ؟ فقال: أعرابي، فعرفه ولم يكلِّمه، وقال له: اذهب حيث شئت، ولقيه يومًا على بئر فوقف بين قَرْنَيها يستقي -وكان جسيمًا وسيمًا - فعرفه زياد فقال: قاتله الله أعرابيًّا ما أحسن ذِراعه. ورآه مرة في صحراء المدينة، فجلس محمَّد وأعطاه ظهره، فقال له زياد: امرأة رأتنا فاستحيت (¬3). وبلغ أَبا جعفر فعزل زيادًا، وأوثقه وأخذ جميعَ ماله، ووجد له عينًا مئة أَلْف دينار، وحُمِل إلى أبي جعفر فقال له: ما هذا؟ فقال: إن دماء بني فاطمة عندي لعزيزة. وكان لزياد كاتب من أهل الكوفة اسمه عمر بن حفص (¬4) كان يتشيَّع، فهو الذي كان يُثَبِّط زيادًا عن طلب محمَّد وأخيه. فولّى محمَّد بن خالد القَسْري ثم عزله، وولى رِياحًا. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 543. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 535، وأنساب الأشراف 2/ 427، والمنتظم 8/ 47، وتاريخ الإِسلام 3/ 779، والسير 6/ 212. (¬3) في الطبري 7/ 536 أن الذي لقي محمدًا واجتمع به رياح بن عثمان. (¬4) في تاريخ الطبري 7/ 521: حفص بن عمر.

وقال يحيى بن خالد بن بَرْمَك (¬1): اشترى أبو جعفر عَبيدًا من الأعراب الذين يسكنون البوادي، وأعطى كل واحد البعير والبعيرين، وأمرهم أن يطلبوا محمدًا على المياه فإنَّه قد ضلَّ منهم شيء. وقال عمر بن شبة: ولَّى أبو جعفر الفضلَ بنَ صالح الموسم سنة ثمان وثلاثين، وقال له: إن رأيت محمدًا وإبراهيم فلا تفارقهما حتَّى تُحضرهما إليّ، فلما حج أتاه بنو هاشم ولم يأته محمَّد وإبراهيم، فقال لأبيهما: ما منع ولديك أن يأتياني؟ فقال: والله ما منعهما من إتيانك رِيبة ولا سوء، ولكنهما حُبِّب إليهما الخَلوة والبادية والصَّيد، لا يشهدون مع أهلها خيرًا ولا شرًّا، فسكت الفضل. وقال الزَّعفَراني: قدم محمَّد البصرة، فنزل في بني راسب، فأقام ستة أيام وخرج، وبلغ أَبا جعفر، فسار من الكوفة إلى البصرة، واستدعى عمرو بن عبيد وقال: يَا أَبا عثمان، هل بالبصرة أحدٌ نخافه على أمرنا؟ فقال: لا، فانصرف راجعًا إلى الكوفة. وقال عمر بن شَبَّة: حج المنصور في سنة أربعين ومئة ومعه ابنه المهدي، فأتاه عبد الله بن حسن في جماعة من بني هاشم، فتكلَّم المهدي فلَحَن، فقال عبد الله: يَا أمير المُؤْمنين، ألا تأمر ابنَك هذا بتعديل لسانه وقد اخترتَه وليَّ عهدك على الأُمَّة؟ ! فتغافل أبو جعفر عنه، وأخذ كتابًا ينظر فيه، وعبد الله يُردِّد القول، فغضب أبو جعفر وقال له: أين ابنُك؟ قال: لا أدري، قال: لتأتينّي به، قال: والله لو كان تحت قدميَّ ما رفعتُهما عنه، فأمر بحبسه وقال: ألست القائل لأبي العباس: [من الوافر] ألم تَرَ حَوشبًا أضحى يُبَنِّي (¬2) وكان أمنَّ النَّاس عليك وأوصلَهم لك؟ ! وحجّ في تلك السنة إبراهيم ومحمَّد وهما مُستخفيان ومعهما جماعة من الشيعة، فاتَّفقوا على اغتيال أبي جعفر، وقال لهم عبد الله بن محمَّد الأمير: أنا أكفيكموه، فقال محمَّد: لا والله لا نقتله غِيلة حتَّى أدعوه، فانتقض أمرُهم، ودخل معهم قائد من قواد ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): شريك، والمثبت من الطبري 7/ 519. (¬2) تمامه: قصورًا نَفْعُها لبني بُقَيلة، انظر طبقات ابن سعد 7/ 475، وتاريخ الطبري 7/ 525، وأنساب الأشراف 2/ 408 - 409.

ذكر من حبس مع عبد الله بن حسن بن حسن

أبي جعفر، وبلغ الخبر أَبا جعفر فطلبه فهرب، وقتل أبو جعفر أصحاب ذلك القائد واسمه خالد بن حسان، وكان أراد أن يطعن أَبا جعفر بحَربةٍ بين الصَّفا والمروة فنهاه عبد الله بن حسن. ذكر مَن حُبس مع عبد الله بن حسن بن حسن حُبس معه حسن وإبراهيم ابنا حسن بن حسن، وحسن بن جعفر بن حسن بن حسن، وسليمان وعلي وعبد الله وعباس بنو داود بن حسن بن حسن، وأبو بكر بن حسن بن حسن، ومحمَّد وإسماعيل وإسحاق بنو إبراهيم بن حسن بن حسن، وعباس بن حسن، أخذوه وهو قاعد على بابه فقالت أمه عائشة بنت طلحة بن عمر بن عبيد الله بن مَعْمَر: دعوني أشمّه، فقالوا: لا والله لا شَمَمْتيه أبدًا. وعلي بن حسن بن حسن العابد، وموسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، وعلي بن محمَّد بن عبد الله بن حسن بن حسن، وكان قد قدم من مصر. فهؤلاء ستة عشر رجلًا من أعيانهم، وقيل: كانوا عشرين، وحبسوا معهم محمدًا الدِّيباج، وهو أخو بني حسن لأمهم، وأمهم فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وحُبس معهم عبد الرَّحْمَن بن أبي الموالي وأبا حنين. وجاء علي بن حسن بن حسن بن حسن إلى رياح فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: لتَحبسَني مع أهلي، فحبسه معهم. ولما خرج رياح بهم إلى الرَّبَذَة قال غالب الهَمْداني من أبيات: [من المنسرح] نفسي فَدت شَيبةً هناك وظُنْـ ... ـبُوبًا به من قيوده نَدَبُ والسَّادةَ الغُرَّ من بَنيه فما ... رُوقِبَ فيه الإلهُ والنَّسبُ يا حلَقَ القَيدِ ما تضمَّنْتَ من ... حِلمٍ وبِرٍّ يَشوبُه حَسَبُ وأمَّهاتٌ من العَواتِكِ أخْـ ... ـلَصْنَك بِيضٌ عَقائلٌ عُرُبُ كيف اعتذاري من الإله ولم ... تُشْهَر فيك المأثورَةُ القُضُبُ ولم أَقُد غارةً مُلَمْلَمَةً ... فيها بنات الصَّرِيحِ تَنْتَحِبُ والسَّابقاتُ الجِيادُ والأَسَلُ ... الذُّبَّلُ فيها أَسِنَّةٌ ذُرُبُ

أصبح آلُ الرَّسول أحمدَ في النا ... سِ كذي عُرَّةٍ به جَرَبُ بُؤسًا لهم ما جَنَتْ أكفُّهُمُ ... وأيَّ حَبلٍ من نَسْلِه قَضَبوا (¬1) ولما نزلوا الكوفة حبسهم في سِرداب، وضَيَّق عليهم حتَّى ماتوا عن آخرهم. ولما قدم المنصور الكوفة صَعِد المنبر فخطب وقال: يَا أهل خُراسان، أنتم شيعتُنا وأنصارُنا وأهلُ دعوتنا، إن علي بن أبي طالب حَكَّم الحكمين، فافترقت عليه الأمة، واختلفت عليه الكلمة، ثم وثب عليه شيعتُه وأصحابُه وثقاتُه وأنصاره فخذلوه وقتلوه، ثم قام من بعده ولدُه الحسن، فوالله ما كان فيها برجل، عُرضت عليه أعراضُ الدنيا كلها، ودسَّ إليه معاوية: إنِّي أجعلك وليَّ عهدي من بعدي، فخدعه، فانسلخ منها، وسلَّمها إليه، وأقبل على النساء يتزوَّج كلَّ يوم امرأة ويطلِّقُها من الغد، فلم يزل كذلك حتَّى مات، ثم قام من بعده أخوه الحُسين، فخدعه أهلُ هذه المَدَرَةِ السَّوداء -وأشار إلى الكوفة- أهل النِّفاق والشِّقاق ومساوئ الأخلاق، والله ما هي بحَربٍ فأحاربها، ولا بسِلْمٍ فأسالمها، فرَّق الله بيني وبينها، وزادها بُعدًا وسُحقًا، فأسلموه وخذلوه حتَّى قتلوه، ثم قام من بعده زيد بن عليّ، فغَرُّوه حتَّى أسلموه، ولقد ناشده أبي محمدُ بنُ علي ألا يفعل، وألا يقبل خِداع أهل هذه المَدَرَةِ السَّوداء، وقال له: إنَّا لنجد في بعض الكُتب أن بعضَ أهلنا يُصلَب بالكوفة، فاحذر أن تكون ذلك، فلم يقبل، وقال له: عمِّي داود: لا تثق بهم؛ فإنهم غُدُرٌ فُجُر، فلم يقبل، حتَّى صُلب بالكُناسة ثم أُحرق. ووثب علينا بنو أمية، فأماتوا شَرَفنا، وأذهبوا عِزَّنا، لا والله ما كان لهم عندنا تِرةٌ يطلبونها, ولا مَأثُرةٌ يَرومونها فنَفَونا من البلاد، وشَرَّدونا في كل واد، فتارةً بالحجاز، وتارة باليمن، ومرةً بالعراق، ومرةً بالشَّراة، حتَّى أقامكم الله لنا شيعة وأنصارًا، وأحيا بكم شَرَفنا، وأعزَّ ديننا، ودفع بكم الباطلَ عنا، وأظهر حقَّنا، وأصار إلينا أمرَنا وميراثنا من نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فقَرَّ الحقُّ مَقَرَّه، وأعزَّ الله أنصارَه، وقُطع دابرُ القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. فلما استقرَّ الأمرُ فينا وثب علينا هؤلاء الظَّلَمة؛ بغيًا وحسدًا منهم لنا، ثم أنشد: ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 545 - 546. الظنبوب: حرف السَّاق، والمأثورة القضب: السيوف القاطعة، والأسل الذبل: الرماح الدقيقة، الذرب: الحديدة الماضية، والعُرَّة: داء، قضبوا: قطعوا.

إسحاق بن عبد الله

جَهْلًا علينا وجُبنًا عن عدوِّهمُ ... لبئستِ الخَلَّتن الجهلُ والجُبنُ ثم قال: إنِّي والله ما أتيتُ هذا الأمر من جهالة، وإنما بلغني بعض السّقم عنهم، فدَسَسْتُ إليهم رجالًا وأموالًا، فوالله ما بقي منهم كبير ولا صغير، ولا شيخ ولا شاب إلَّا استحلُّوا دماءنا وأموالنا، فحينئذ استَحْلَلْتُ بنَقْضِهم بيعتي، وحِنثهم في أيمانهم، وطَلَبِهم الفتنة، وتفريق الكلمة، والتماس الخروج عليّ، ثم قرأ: {وَحِيلَ بَينَهُمْ وَبَينَ مَا يَشْتَهُونَ} الآية [سبأ: 54] ثم نزل (¬1). وكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية، وعلى المدينة رياح المُرِّي، وعلى مكة السَّرِيّ بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم، وعلى خراسان نوَّاب المهدي. وفيها تُوفِّي إسحاق بن عبد الله ابن أبي فَرْوة، أبو سليمان، من الطَّبقة الخامسة من أهل المدينة، وكان كثير الحديث، ولا يحتجون بحديثه (¬2). صالح بن كَيسان أبو محمَّد، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وكان يُؤدِّب عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، وأولادَ الوليد بن عبد الملك، ثم ضمهَّ عمر إلى نفسه، وكان قد جمع بين الحديث والفقه والدين والمروءة. أسند عن ابن عمر وغيره، وروى عنه مالك والأئمة، واتَّفقوا على صدقه وثقته وأمانته، وسئل عنه الإمام أحمد رحمة الله عليه فقال: بخ بخ قد رأى ابن عمر. وهو ثِقَة، يُعدُّ في التابعين. وقال أبو عبد الله الحاكم: مات صالح وهو ابن مئة ونيف وستين سنة (¬3) , ولقي ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 92 - 94، ومروج الذهب 6/ 203 - 207. (¬2) طبقات ابن سعد 7/ 523، وتهذيب الكمال (361). (¬3) رد هذا القول الذهبي في السير 5/ 456، وانظر طبقات ابن سعد 7/ 512، وتهذيب الكمال (2820).

عبد الله بن شبرمة الضبي

جماعة من الصَّحَابَة، وكان ثِقَة ثبتًا. عبد الله بن شُبْرُمَة الضَّبِّي أبو شبرمة. من الطَّبقة الرابعة من أهل الكوفة، كان فقيهًا، حسن الخُلق، قليلَ الحديث. وقال عبد الرَّزّاق عن مَعمر: كان ابن شبرمة عندنا واليًا باليمن، فلما عُزل شَيَّعتُه، فنظر إليّ وقال: أَحْمد الله، أما إنِّي لم أستبدل بقميصي هذا قميصًا منذ دخلتَها، إنما أقول لك حلالًا، أما الحرام فلا سبيل إليه. وكان يحضر هو ومحمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عند عيسى بن موسى يَسْمُران كل ليلة، فإذا جاءا وقفا على دوابهما حتَّى يؤذن لهما، وربما خرج إليهما عياض حاجب عيسى فيقول: انصرفا، فينشد ابن شبرمة ويقول: [من الطَّويل] إذا نحن أعتَمْنا وطال بنا الكَرى ... أتانا بإحدى الرَّاحتَين عِياضُ (¬1) يزيد بن أبي مريم ابن أبي عطاء، أبو عبد الله، من الطَّبقة الخامسة من أهل الشَّام، كان إمام جامع دمشق حين بناه الوليد بن عبد الملك. وتوفي في هذه السنة، وقيل: سنة خمس وأربعين ومئة. أسند عن أبي إدريس الخَولاني، ورأى واثلة بن الأسقع، وروى عنه الأَوْزَاعِيّ وغيره، وكان ثِقَة صدوقًا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 469، والسير 6/ 347. (¬2) تاريخ دمشق 18/ 381، وتهذيب الكمال (7644).

السنة الخامسة والأربعون بعد المئة

السنة الخامسة والأربعون بعد المئة فيها خرج إبراهيم بالبصرة ومحمَّد بالمدينة على أبي جعفر فقُتلا، وسنذكرهما إن شاء الله تعالى. وتتابعت الحوادث على أبي جعفر من كل جانب، والخوارج (¬1) والترك خرجوا إلى باب الأبواب فقتلوا من المسلمين خلقًا كثيرًا، فكان أبو جعفر يترنَّم: [من الوافر] تَفرَّقت الظِّباء على خِراشٍ ... فما يدري خِراشٌ ما يصيدُ وفيها أُسِّست بغداد، قال الجوهري: بغداد، وبَغدان، ومَغذان، تذكر وتؤنث (¬2). قال أبو حاتم: سألتُ الأصمعيّ عن بغداد وبغداذ ومَغدان وبغدين هل يقال ذلك؟ فكره أن يتكلم بشيء منه وقال: هذا كلُّه رديء، أخشى أن يكون شركًا، وأبغضه إليَّ بغداذ بذال معجمة. وإنما كرهوا ذلك؛ لأنه كان بالمشرق صنم يقال له: بغ، وموضع بغداد يقال له: داذ قرية، فأقطع كسرى خصيًّا له موضع بغداد، فقال الخصي: بغ داذ أي: عطية الصنم، وداذ عطية. وقيل: كان في موضعها دعي فيه صنم اسمه بغ، وسادنه يقال له: داذ. وقال الفراء: كل ما جاء من اللغات في بغداد يُراد به: عَطيَّة الصنم، فكُره الجميع لهذا. وقال ابن الأنباري: بغ: بستان، وداذ اسم رجل. وقال ابن الأعرابي: دخلت إلى موضع بغداد -وهو أَجَمة ليس فيه إلَّا كوخ- وفيه رجل من الأولين ينظر مَبْقَلة له، فلما جاء أبو جعفر ووضع الأساس قال: ما اسم هذا المكان؟ قالوا: لا ندري، فقيل له: ها هنا رجل من الأولين، فبعث إليه فقال: ما اسمك؟ قال داذ، قال: وما يقال لهذا الموضع؟ قال: بغ، يعني: المبقلة، فقال أبو ¬

_ (¬1) كذا في النسختين (خ) و (ب)، وفي الطبري 7/ 649: وفيها خرجت الترك والخزر. (¬2) الصحاح (بغدذ 2/ 561).

جعفر: سموها باغ داذ؛ يعني بستان صاحب هذه المبقلة. ولا يُتابَع ابن الأعرابي على ذلك، والمحفوظ أن هذا الاسم كان يعرف به هذا الموضع قبل أبي جعفر (¬1). ويقال: دار السلام. لما ولي المنصور الخلافة بنى بالكوفة مدينة يقال لها: الهاشمية غير مدينة ابن هُبيرة (¬2)، وبنى إلى جانبها أخرى وسمّاها الرُّصافَة فلم تحمله، وانتقل إلى الهاشمية، وبنى بها قصرًا عظيمًا، فلما ثارت عليه الرّيوندية كرهها وخاف على نفسه، فاختار بناء بغداد ليأمَن على نفسه. وقال الهيثم: حذَّره النَّاس من أهل الكوفة -وكانوا قد أفسدوا جنده- وقالوا: إن أَبا العباس انتقل عنهم، وهم قوم قد عرفت ثوراتهم كل وقت، وأنت قريب منهم، فارحل إلى بعض الأماكن. فبعث الرُّوَّاد فلم يظفروا بما كان في نفسه، فخرج بنفسه، فبدأ بناحية واسط، وعاد في دجلة فرأى موضع بغداد، ثم سار إلى الموصل، وعاد إلى موضع بغداد فأعجبته وقال: هذا سرة العراق، والعراق سرة الدنيا, ولهذا اختارت الأكاسرة المدائن وهي قريبة من هذا, ولولا إحياء سنَّة الأعاجم وآثارهم لسكنتُ المدائن، ولكن هذا موضع حسن، يأتينا في دجلة جميع ما في الجزيرة من الميرة وغيرها، وهذه الصَّراة يأتينا فيها كل ما في الشَّام ومصر، وهذه دجلة يأتينا فيها كل ما في الهند والسند وفارس والأهواز وعُمان والبصرة وتلك النواحي. وروى الخَطيب: أن بغداد كانت مزرعة يقال لها: المباركة، وكانت لستين نفسًا من البغداديين، فعوَّضهم أبو جعفر عنها عوضًا أرضاهم به، وقسمه بينهم (¬3). وقال سليمان بن مجالد: لما خرج أبو جعفر من الكوفة يرتاد منزلًا نزل بساباط المدائن، فرَمِد بعض أصحابه، فأقام يعالج عينيه، فقال له الطبيب: أين يريد أمير ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 368 - 369 والخبر فيه عن المظفر بن عاصم بن أبي الأغر. (¬2) في تاريخ الطبري 7/ 614، والمنتظم 8/ 69، بنى الهاشمية قبالة مدينة ابن هبيرة، وكانت مدينة ابن هبيرة التي بحيالها مدينة أبي جعفر الهاشمية إلى جانب الكوفة. (¬3) تاريخ بغداد 1/ 317، والمنتظم 8/ 70.

المُؤْمنين؟ قال: يريد منزلًا ينزله، فقال: إنَّا نجد في كتبنا أن رجلًا يُدعى مِقلاصًا يبني مدينة بين دجلة والصَّراة؛ وتُدعى الزَّوراء، فإذا أسَّسها أتاه فَتْق من الحجاز، فقطع بناءها وأقبل على إصلاحه، فإذا كاد يلتئم أتاه فَتْق من البصرة أكبر منه، فلا يلبث الفتقان أن يلتئما، ثم يعود إلى بنائها فيُتمِّمه، ثم يُعمَّر طويلًا، ويبقى الملك في عَقِبه. فأخبرني صاحبي بقول الطبيب، فأخبرتُ أَبا جعفر فقال: أنا والله ذلك، لقد سُمِّيتُ مِقلاصًا وأنا صبي، ثم انقطعت عني (¬1). وقال الصُّولي. لما أراد أبو جعفر أن يبني بغداد كان يؤتى من كل أرض بتراب فيُعَفِّنه، فيصير عقاربَ وهَوامّ، فأُتي بتربة بغداد فعَفَّنه، فخرج صُرَيصر (¬2) فأعجبه ذلك، وكان هناك دعي فيه واهب في صومعة، فاطَّلع فقال: لا يقدر علي بنائها إلَّا رجل يُقال له: مِقلاص، وبلغ أَبا جعفر فقال: الله أكبر، كانت أمي تُسمّيني مِقلاصًا وأنا صغير، ثم انقطع عني. قال الهيثم: فقال له الراهب: لا بد لك من فتقين، يعني إبراهيم ومحمدًا، ثم قال له: ضعها ها هنا تأتيك الميرة من المغرب وطرائف مصر والشَّام في الفرات، وتجيئك المِيرة في دجلة من الصين والهند والبصرة وواسط وأذربيجان وأرمينية والروم والجزيرة والموصل وديار بكر ونحوها، ثم تكون بين الفرات ودجلة في خندق لا يصل إليك عدو إلَّا على جسر أو قنطرة، فإذا خفتَ أخربتَ الجميع فتأمن, وهذه المدينة لا يبنيها إلَّا رجل يقال له: أبو الدَّوانيق، فضحك أبو جعفر وقال: أنا ذاك. قال الخَطيب: وكان في موضع القصر الذي بناه على الفرات دير، وإلى جانبه قرية يقال لها: العتيقة؛ وهي التي افتتحها المثنَّى بن حارثة، فنزل المنصور الدَّير، وكان عنده قرى ومزارع هي موضع بغداد، وحشد لها الصُّنَّاع والفَعَلة من البصرة والكوفة والشَّام والجزيرة ومصر، ومن الأقطار، ووضع أساسها في وقت اختاره له نُوبَخت المنجِّم، وكان الطالع القوس، وقال له نوبخت: إن الطالع يقتضي أنها لا تخرب، ولا يموت فيها خليفة (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 615، والمنتظم 8/ 71. (¬2) في تاريخ بغداد 1/ 374، والمنتظم 8/ 74: فخرج صرارات. (¬3) انظر المنتظم 8/ 72، وتاريخ بغداد 1/ 386.

قال المصنف رحمه الله: كذب نوبخت، إن كان أراد مدينة المنصور التي هي بغداد وهي من الجانب الغربي من دجلة فقد خربت خرابًا كليًّا بحيث لم يبق منها شيء، وقُتل فيها الأمين، ومات بها محمَّد القاهر، وإن أراد الجانب الشرقي فقد مات بها عامة الخلفاء، وقتل بها المقتدر، ولم يخرج عنها سوى الراشد والمسترشد. ثم أحضر المهندسين، وضرب اللَّبِن، وأحرق الآجر، وأمر أن تُخَطّ له، فخُطَّت وبُيِّن له صورتها. قال ابن عياش: فأخذ بيده لبنة وقال: بسم الله وبالله {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]. ثم قال لخالد بن بَرْمَك: ما ترى في نقض إيوان كسرى وصرف أنقاضه إلى بناء هذه المدينة؟ فقال: لا أرى ذلك، قال: ولم؟ قال: لأنه عَلم من أعلام الإِسلام، يَستدلُّ به الناظر إليه على أنَّه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما هو بأمر دين، فقال أبو جعفر: أبيت إلَّا الميل إلى أصحابك الأعاجم. وأمر أن يُنقَض القصر الأبيض، فنُقضت ناحية منه، وحُمل نقضه، فنظروا في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الحديد، فقال أبو جعفر لخالد: ما ترى؟ قال: قد كنتُ أرى أن لا يُنقض، فأما الآن فأرى أن يُهدم حتَّى يَلحق بالأرض، قال: ولم؟ قال: لئلا يقال: إنك عجزت عن هدم ما بناه أولئك، فأعرض عن هدمه. وذكر الخَطيب: أن المنصور همَّ بنقض الإيوان، واستشار أصحابه فصَوَّبوا رأيه إلَّا كاتب من الفرس فقال له: يَا أمير المُؤْمنين، قد علمتَ خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تلك القرية، وكان منزله ومنزل أصحابه على ما قد علمت، خرج أصحاب تلك المنازل مع ضعفهم إلى صاحب هذا الإيوان مع عزَّته وصعوبة أمره؛ حتَّى غلبوه، وسلبوه ملكَه قهرًا، وقتلوه، فيجيء الجائي من أقاصي الأرض، فينظر إلى تلك القرية وإلى هذا الإيوان؛ فيتيقن أن الله أيَّده، وكان معه ومع أصحابه، ففي تركه فخر لكم، فاتَّهمه (¬1). وأمر المنصور أن يُجعل الأساس من أسفله خمسين ذراعًا، وأعلاه عشرين ذراعًا. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 455، والمنتظم 8/ 73.

وابتدأ البناء في سنة خمس وأربعين ومئة، وفرغ في سنة ست وأربعين. وبناها مدورة الشكل ليكون الملك في وسطها, ولا يكون إلى موضع أقرب من موضع، وهي ثلاثون ومئة جَريب (¬1)، وأنفق عليها ثمانية عشر أَلْف أَلْف درهم. وقال الطبري: أنفق عليها أربعة آلاف (¬2) وثمان مئة وثلاثة وثلاثين درهمًا، على المدينة والسور وقصر الذهب والإيوان والسقوف؛ لأن الأستاذ من الصنَّاع كان يعمل في يومه بقيراط إلى خمس حبات، والرُّوزجاري يعمل بحبتين إلى ثلاث حبات. قال الخَطيب: ومبلغ الأربعة آلاف درهم من الفلوس مئة أَلْف [أَلْف] فلس وثلاثة وعشرون أَلْف فلس (¬3). وهذا تفاوت عظيم من ثمانية عشر أَلْف ألفما درهم إلى أربعة آلاف درهم. وكانت كل لَبِنة عرض ذراع في ذراع، وزنها سبعة وعشرون رطلًا بالعراق (¬4). وكان أبو حنيفة النُّعمان بن ثابت يَعُدُّ اللَّبِن بالقصب، وهو أول من فعل ذلك. وجعل لها أربعة أبواب: باب الكوفة لمن يأتي من الحجاز، وباب الشَّام لمن يأتي من المغرب (¬5)، وباب البصرة لمن يأتي من البصرة والأهواز وفارس ونحوها، وباب خراسان لمن يأتي من المشرق، وبين كل باب وباب ألفًا ذراع ومئتا ذراع، ونقل إليها أبواب واسط -التي نقلها الحجاج من مدينة بناها سليمان - عليه السلام - قريبة من واسط، ويقال لها: الزَّنْدَوَرْد؛ اتَّخذت لها الشياطين خمسة أبواب من الحديد؛ لا يقدر على عمل مثلها أحد من النَّاس، وخربت تلك المدينة- وجعل على كل باب سورًا (¬6) وحُجَّابًا، وعلى كل باب قائدًا، وجعل حولها الخنادق، وكان لا يدخل أحد راكبًا من هذه الأبواب إلَّا عم المنصور داود بن عليّ؛ فإنَّه كان مُنَقْرَسًا، فكان يُحمل على ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): ومئة أَلْف جريب، والمثبت من تاريخ بغداد 1/ 378، والمنتظم 8/ 75. (¬2) في تاريخ الطبري 7/ 655: أربعة آلاف ألف. (¬3) هذا الكلام من تتمة خبر الطبري وليس للخطيب، وإنما نقله الخَطيب في تاريخه 1/ 378 - وعنه ابن الجوزي في المنتظم 8/ 75 - عن بعض الكتب. (¬4) في تاريخ بغداد 1/ 381، والمنتظم 8/ 75: وزنها مئة وسبعة عشر رطلًا. (¬5) في (ب): من الغرب. (¬6) في النسختين: ستورًا، وانظر تاريخ بغداد 1/ 384، والمنتظم 8/ 77.

مِحَفَّة، ومحمَّد المهدي. وقال عبد الصمد بن عليّ للمنصور: يَا أمير المُؤْمنين، أنا شيخ كبير، عُدَّني بعضَ بغال الروايا التي تصل إلى الرِّحاب، فأمر أن تعمل قُنيّ الماء إلى المدينة فعملت. قال المصنف رحمه الله: قول الخَطيب: إلَّا داود بن عليّ وهم؛ لأن داود مات سنة ثلاث وثلاثين، ولم يُدرك من دولة بني العباس سوى ثمانية أشهر، وإنما القائل للمنصور سليمان بن عليّ. وكانت مساحة قصر المنصور وجامعه الذي هو قائم اليوم أربع مئة ذراع في مثلها، وبنى القُبَّة الخضراء في ارتفاع ثمانين ذراعًا، وكانت ترى من أقصى بغداد، وعلى رأسها تمثال فرس عليه فارس. وقال أبو القاسم التَّنوخي: كان على رأس القبة الخضراء صنم على صورة فارس بيده رمح، فكان إذا مدَّ الرمح واستقبل بعض الجهات عُلم أنَّه قد ظهر بها خارجي، فيَرِد الخبر بذلك. وقال القاضي التنوخي: إن في سنة تسع وعشرين وثلاث مئة في جمادى الآخرة كانت ليلة شديدة المطر والرعد الهائل والبرق؛ سقطت القبة الخضراء، وكانت تاجَ بغداد، ومأثرة بني العباس، وهو أول بناء بنوه، وكان بين بنائها وسقوطها مئة ونيف وثمانون سنة، وكانت محبس أبي جعفر، ومن دون القبة أربع قباب، وبنى على دجلة قصرًا وسماه الخلد، فكان يكون تارة فيه وتارة في القبة (¬1). وقال الإِمام أَحْمد رحمة الله عليه: حَدُّ بغداد من الصَّراة إلى باب التّبن (¬2) طولًا، والصراة وهي النهر الذي عليه القنطرتان بباب البصرة العتيقة والجديدة، وباب التبن هو مشهد موسى بن جعفر. فأما عرضها فمن دجلة من الشرق إلى مكان غربي بغداد يقال له: الكَبْش والأَسَد، قريب من قبة إبراهيم الحربي، وكانت عنده أسواق عظيمة تمنع الماشي من المشي لكثرة الزحام، وهي اليوم مزارع وصحارى. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 383، 385، والمنتظم 8/ 78. (¬2) تاريخ بغداد 1/ 380.

وكان الجامع مبنيًّا باللبن، فنقضه هارون وبناه بالآجُر، واسمه مكتوب عليه إلى اليوم، وإنما سُمِّيت الأماكن التي حولها بنهر طابق, ونهر القَلَّايين، ونهر الدجاج لأنها كانت أنهارًا تدخل إلى المدينة، وقيل: إن القنطرة العتيقة من بناء الفرس. ولما فرغ من بنائها قدم عليه رسول من الروم، فأمره أن يطوف في أقطارها فطاف، فقال له: كيف رأيتها؟ قال: رأيت أعداءك معك فيها، قال: ومن هم؟ قال: السوقة، فأمر بنقلهم ونقل الأسواق إلى الكَرْخ. وقال الطبري: جعل لها ثمانية أبواب، أربعة خارجة وأربعة داخلة، وخطَّ جامعها الحجاج بن أرطأة، وقيل: إن قبلته على غير صواب، ويحتاج المصلِّي فيه أن ينحرف قليلًا إلى باب البصرة، وقبلة مسجد الرصافة أَصوب. وقال خالد بن الصلت: ولاني أبو جعفر على رُبع من أرباع المدينة، ففرغتُ منه، ورفعت إليه حساب النفقة وهو يحسب بيده، فبقي منها خمسة عشر درهمًا، فحبسني أيامًا حتَّى أدَّيتُها إليه. ودخل يومًا فطاف في قصره، فأعجبه مكان فيه، فأراد أن يعلم ما أنفق عليه، فقال للمسيِّب: أحضر لي بنَّاء فارهًا، فأحضره فقال: كم غرم علي هذا القصر؟ فلم يردَّ عليه شيئًا، فخافه المسيّب لأنه تولى بناءه فقال: تكلَّم، فلم يُحِر جوابًا، فأخذ بيده وأدخله الحجرة التي استحسنها وقال: ابن لي بإزاء هذا المجلس طاقًا، فبناه في يومين، فقال للمسيب: ادفع إليه أجرته على حسب ما عمل، فحاسبه المسيّب فأصابه خمسة دراهم، فقال أبو جعفر: لا أرضى هذا، فنقصه درهمًا، ثم أخذ المسيّب والأمناء والبنّائين والمهندسين بحساب الطاق، فخرج على المسيّب ستة آلاف درهم، فأخذه بها، فما خرج من القصر حتى حملها (¬1). قال الخَطيب: وعقد عليها المنصور ثلاثة جسور: جسر له ولخواصّه، وجسر للأجناد، وجسر للعامة (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 651 - 652، 654 - 655. (¬2) تاريخ بغداد 1/ 437، والمنتظم 8/ 80، وفيها أنَّه عقد ثلاثة جسور، أحدها للنساء .....

ذكر كراهية سكنى بغداد

ذكر كراهية سكنى بغداد قد كره غير واحد من السلف سُكناها والمقام بها، وكان الفُضيل بن عياض لا يرى الصلاة فيها، قال: كانت مَبْقلة لأيتام، أخذها أبو جعفر منهم ولم يعطهم شيئًا، وكان ينهى أصحابه عن المقام بها ويقول: أخبثهم مؤدبهم (¬1). وقال بشر الحافي: بغداد ضيقة على المتَّقين، ما ينبغي لمؤمن أن يقيم بها، قيل له: فهذا أَحْمد بن حنبل وأنت مقيمان بها؟ ! فقال: دفعتنا الضرورة إلى المقام بها كما دفعت الضرورة إلى أكل الميتة. وسئل الإِمام أَحْمد رحمة الله عليه عن مسألة في الورع فقال: لا أتكلم فيه وأنا آكل من غلَّة بغداد، إنما يتكلم فيه بشر الحافي لأنه لا يأكل من غَلَّتها. وسئل أَيضًا عن درهم من غلَّة بغداد فقال للسائل: أما غلة بغداد فأنت تعرفها، فأيش تسألني عنها؟ وقال سفيان الثَّوريّ: المتعبِّد في بغداد كالمتعبِّد في الكَنيف. وكان ابن المبارك كلما أقام يومًا ببغداد تصدق بدينار. وقيل: كانت تُمسح ويؤدَّى خراجُها، فلما بناها أبو جعفر لم تُمسح بعد ذلك. وقال الخَطيب: ابتاع أبو جعفر ما بين قنطرة البردان إلى الجسر ولم يؤدِّ ثمنه، ورفع ذلك إلى هارون وابنه المأمون فلم يؤدِّيا شيئًا. وكان عبد الله بن المبارك يَذمُّ الزَّاهد الذي يسكن بغداد، فقال: [من الخفيف] أيها الزَّاهدُ الذي لبس الصُّو ... ف وأضحى يُعدُّ في الزُّهادِ الزم الثَّغْرَ والتعبُّدَ فيه ... ليس بغداد مسكنَ العبَّادِ إن بغداد للملوك مناخٌ ... ومَحلٌّ للقارئ الصيَّادِ (¬2) ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 1/ 293: أخبثهم مؤذنوهم. (¬2) انظر تاريخ بغداد 1/ 293 - 296، 315 - 317.

ذكر من مدحها

ذكر من مدحها قال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: يَا أَبا موسى، رأيت بغداد؟ قلت: لا، قال: ما رأيتَ الدنيا (¬1). وقد مدحها جماعة من الشعراء، وقال طاهر بن المظفَّر بن طاهر الخازن شعرًا ينشده: [من الطَّويل] سقى الله صَوْبَ الغاديات محلَّةً ... ببغدادَ بين الكَرْخ فالخُلْد فالجسرِ هي البلدةُ الحسناء خُصَّت لأهلها ... بأشياءَ لم يُجمعن مذ كنَّ في مصرِ هواءٌ رقيقٌ في اعتدالٍ وصحَّةٍ ... وماءٌ له طعمٌ ألذُّ من الخَمْرِ ودَجلتُها شَطَّان قد نُظما لنا ... بتاجٍ إلى تاجٍ وقصرٍ إلى قصرِ تراها كمسكٍ والمياه كفضَّةٍ ... وحَصباؤها مثلَ اليواقيتِ والدُّرِّ وقال أبو محمَّد: [من الوافر] على بغدادَ مَعْدنُ كلِّ طِيبٍ ... ومَغنى نُزهَة المتنزِّهينا سلامٌ كلما جَرحَت بلَحْظٍ ... عيونُ المشتهين المشتهينا دخلنا كارهين لها فلما ... ألِفناها خرجنا مُكرَهينا وما حبُّ الديار بنا ولكن ... أَمَرُّ العيش فُرقةُ مَن هَوينا وقال محمَّد بن الهمذاني: [من الطَّويل] فدًى لكِ يَا بغداد كلُّ مدينة ... من الأرض حتَّى خِطَّتي وبلاديا فقد طفتُ في شرق البلاد وغربها ... وسَيَّرتُ خيلي بينها ورِكابيا فلم أر فيها مثلَ بغدادَ منزلًا ... ولم أر فيها مثلَ دجلة واديا ولا مثل أهليها أرقَّ شمائلًا ... وأعذبَ ألفاظًا وأحلى معانيا وكم قائلٍ لو كان وُدُّكَ صادقًا ... لبغدادَ لم ترحل فكان جوابيا يقيم الرجال الأغنياء بأرضها ... وترمي النَّوى بالمُقتِرين المراميا وقال علي بن محمَّد بن حَبيب: كتب إلي أخي من البصرة وأنا ببغداد: [من البسيط] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 292، 347، والمنتظم 8/ 84.

ذكر حكم أراضيها

طِيبُ الهواء ببغداد يُصرِّفُني ... قِدْمًا إليها وإن عاقَتْ مَعاذيرُ فكيف صَبريَ عنها الآن إذ جمعتْ ... طِيبَ الهواءين مَمدودٌ ومَقصورُ (¬1) ذكر حكم أراضيها منع جماعة من العلماء بيع أرض بغداد، وأجازوا بيع أنقاضها دون أرضها، وبه قال الإِمام أَحْمد وبشر الحافي رحمة الله عليهما، واحتجوا بأن عمر رضوان الله عليه وقف بغداد منه، وأجاز آخرون بيع أرضها وأنقاضها، واحتجوا بأن عمر رضوان الله عليه أقرَّ السَّواد في يد أهله، وأخذ منهم الخراج عوضًا عن الأرض، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه، فإن عنده أرض السواد مملوكة لأهلها، يجوز بيعها لهم وتصرفهم فيها؛ لأن عمر - رضي الله عنه - ملكهم إياها (¬2). وقولهم: إن عمر رضوان الله عليه وقفها لا يصح، وإنما وقف الشَّام في الصحيح من الروايات، ووضع الخراج على السواد. ذكر أحاديث في ذمها عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيكون لبني عمي مدينة من قِبل المشرق، بين دجلة ودُجَيل وقُطْرُبُّل والصَّراة، تُشَيَّد فيها بالخشب والآجر والذهب، يسكنها شرار خلق الله وجبابرة أمتي، أما إن هلاكها على يد السُّفياني، كأني بها والله قد صارت خاوية على عروشها". وفي رواية: "تكون مدينة بين دجلة والفرات، يكون فيها مُلك بني العباس، وهي الزَّوراء، تُذبح فيها الرجال كما تذبح الغنم" فقيل لعلي رضوان الله عليه: لم سُمّيت الزوراء؟ فقال لأن الحرب تدور في جوانبها حتَّى تطبقها. وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكون مدينة بين أنهار في أرض جوخى يقال لها: الزوراء، يسكنها جبابرة أمتي، يُعذَّب أهلها بأربعة أصناف: ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 356 - 358. (¬2) انظر الخراج لأبي يوسف 28، 35، والمغني لابن قدامة 6/ 467، وشرح فتح القدير 4/ 359، وحاشية ابن عابدين 4/ 177، وتاريخ بغداد 1/ 292.

إبراهيم بن حسن

خسف ومسخ وقذف" قال البرقاني. ولم يذكر الرابع. وحديث عن أنس لفظه: "تبنى مدينة بين دجلة ودُجَيل، هي أسرع ذهابًا في الأرض من وَتد الحديد في الأرض الرّخوة". وهذه الأحاديث واهية الإسناد لا تثبت (¬1). قال البيهقي: لما بنى أبو جعفر بغداد انتدب له جماعة منهم الغلابي وعمر بن يحيى وعمار (¬2) بن سيف، وكانوا من غلاة المتشيعين، فوضعوا مثل هذه الأخبار ليُنفِّروا النَّاس عن سكنى بغداد، وتكثر الشناعات على أبي جعفر. وحج بالنَّاس السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس، وكان على مكة، والمدينة رياح بن عثمان المُرِّي (¬3)، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سَلْم بن قتيبة الباهليّ، وعلى خراسان المهدي ونُوَّابه بها. وفيها تُوفِّي إبراهيم بن حسن ابن حسن بن عليّ بن أبي طالب في سجن أبي جعفر، وهو من الطَّبقة الرابعة من أهل المدينة، وأمه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وكان من العُبَّاد الزُّهَّاد الأجواد. وله من الولد إسحاق، ويعقوب، وأم إسحاق، ورقية، وإسماعيل، أمهم رُبيحة بنت محمَّد بن عبد الله المخزومي، ومحمَّد، وعلي، وفاطمة، وحسنة لأمهات أولاد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر هذه الأحاديث والكلام عليها في تاريخ بغداد 1/ 332، 338، 339، والموضوعات لابن الجوزي (892 - 896). (¬2) في (ب) و (خ): عثمان، والمثبت من المصدرين السالفين، فقد ورد من طريقه حديث جرير بن عبد الله البَجَليّ، ولم يذكره المصنف. (¬3) في الطبري 7/ 649، والمنتظم 8/ 88 أن والي المدينة في هذه السنة عبد الله بن الرَّبيع الحارثيّ. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 479.

إبراهيم بن عبد الله

إبراهيم بن عبد الله ابن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب، أبو إسحاق، وقيل: أبو القاسم، وأمه هند بنت أبي عُبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطَّلب بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، وهو من الطَّبقة الخامسة من أهل المدينة. وكان له من الولد: حسن، أمُّه أُمامة بنت عصمة بن عبد الله بن حَنظلة بن الطُّفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب. وعلي، لأم ولد. وقد كان محمَّد بن عبد الله لما ظهر وغلب على مكة والمدينة وسُلِّم عليه بالخلافة؛ وجَّه أخاه إبراهيم هذا إلى البصرة، فدخلها أول يوم من رمضان سنة خمس وأربعين، فغلب عليها، وبَيَّض أهل البصرة معه، وخرج منهم ومعه عيسى بن يونس (¬1)، ومعاذ بن معاذ، وعبَّاد بن العَوَّام، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وجماعة كبيرة من الفقهاء وأهل العلم، فلم يزل بالبصرة شهر رمضان وشوال. وقتل أخوه محمَّد بالمدينة، فلما بلغه ذلك استعدَّ وخرج يريد أَبا جعفر وهو بالكوفة، وكان عيسى بن موسى بالمدينة، فكتب إليه أبو جعفر يأمره أن يُقبل إلى الكوفة، وكان قد أحرم بعمرة، فرفضها وأقبل إلى أبي جعفر، فوجَّهه في القُوَّاد والجند والسلاح إلى إبراهيم، وأقبل إبراهيم ومعه جماعة كبيرة أكثر من جماعة عيسى، فاقتتلوا بباخمرى وهي على ستة عشر فرسخًا من الكوفة، وانهزم حُميد بن قَحْطبة وكان على مقدمة عيسى، وانهزم النَّاس معه، وعيسى يناشدهم الله فلا يَلْوون عليه، ومرُّوا منهزمين، وقال عيسى لحميد: الله الله في الطاعة، فقال: لا طاعة في الهزيمة. ولم يبق مع عيسى أحد بينه وبين عسكر إبراهيم، وثبت عيسى في مئة رجل من خاصَّته وحشمه، فقيل له: لو تَنَحَّيتَ من مكانك حتَّى يَثوبَ النَّاس إليك فتَكُرَّ بهم، فقال: لا أزول من مكاني هذا حتَّى أُقتل أو يفتح الله علي، ولا يقال: إنه انهزم. وتقارب الفريقان، وإذا قد أقبل فارس نحو عسكر إبراهيم قد عصب رأسه بعصابة ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): عيسى بن مولى ويونس، والمثبت من طبقات ابن سعد 7/ 538، وتاريخ الطبري 7/ 634، وسيرد أن عيسى بن مولى سار إلى إبراهيم وقاتله حتَّى استأصله.

صفراء، وغيَّر لَأمته، وإذا به حُميد بن قَحطبة، ورجع معه مَن كان قد انهزم، وخالطوا عسكر إبراهيم، واقتتلوا قتالًا شديدًا؛ حتَّى قتل الفريقان بعضهم في بعض، وجاء إبراهيم سهم عائر لا يُدرى مَن رمى [به] فوقع في حلقه فنحره، فتنحَّى عن موقفه وقال: أنزلوني، فأنزلوه وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] أردنا أمرًا وأراد الله غيره. ثم جعل أصحابه يقاتلون دونه ويحمونه، ورأى حُميد اجتماعهم فأنكره، فقال لأصحابه: شدوا على تلك الحال على الجماعة، فشَدُّوا عليهم حتَّى أفرجوهم عن إبراهيم، ونزلوا فحَزُّوا رأسه وأتوا به عيسى بن موسى، فنزل وسجد، وبعث به إلى أبي جعفر. وكان قتله يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة وهو ابن ثمان وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قُتل ثلاثة أشهر إلَّا خمسة أيام، هذا قول ابن سعد (¬1). وقال الطبري: لما أُهبط آدم من الجنة صَعِد على أبي قُبَيس، فوضع الله له الأرض حتَّى رأى جميع ما فيها، وقال الله له: هذه كلها لك، قال: يَا رب، كيف أعلم ما فيها؟ فقال: إذا رأيت نجم كذا كان كذا، فكان يعلم ذلك بالنجوم. ثم أنزل الله عليه مرآة يرى بها ما في الأرض، فلما مات آدم - عليه السلام - أخذها فقطس الشيطان، فكسرها، وبنى عليها مدينة جابرت بالشرق، فلما كان سليمان عليه السلام استدعى فقطس وطلبها منه، فأخرب جابرت وأتاه بها، فكان ينظر فيها فيرى ما في أقطار الأرض، حتَّى مات سليمان، فوثب بعض الشياطين عليها فذهب بها، وبقيت منها بقية، فتوارثها بنو إسرائيل، حتَّى صارت إلى رأس الجالوت، فأُتي بها إلى مروان بن محمَّد، فكان يحكّها ويجعلها على مرآة أخرى، فيرى فيها ما يكره، فرمى بها وضرب عنق رأس الجالوت، ودفعها إلى جارية له، فجعلتها في كُرسفة في حَجَر. فلما ولي أبو جعفر الأمر سأل عنها، فأُحضرت إليه، فكان يحكُّها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى ما فيها، ويرى عدوَّه من صديقه، فكتب إلى رياح بن عثمان: إن ¬

_ (¬1) طبقاته 7/ 540، وما بين معكوفين منه.

محمدًا في بلاد فيها الأُتْرجُّ والعنب، وببلاد فيها كذا وكذا فاطلبه، وتارة هو في [شعب من] شِعاب رَضوى، فكان يطلبه، ثم نظر يومًا فيها فقال: محمَّد وإبراهيم معي في عسكري بالكوفة، وطلبهما أشدَّ الطلب، فمضى محمَّد إلى المدينة، وإبراهيم إلى البصرة، وخرجا عليه (¬1). قال المصنف رحمه الله: وليس العجب من الطبري؛ فإن من عادته أن يأتي بالغرائب والعجائب، وإنما العجب من جدّي أن يحكي مثل هذا في "المنتظم"، وهذا شيء تأباه العقول السليمة والأذهان الصحيحة, وكيف يرى محمدًا وإبراهيم ولا يعرف مكانهما؟ وقال غيره: لما حبس أبو جعفر عبد الله وأهله أشفق محمَّد وإبراهيم منه، فخرجا إلى عدن، ثم مضيا إلى الهند، ثم عادا إلى الكوفة وبها أبو جعفر، وكاتبهما قوم من شيعتهما بالكوفة، ووعدوهما أن يثوروا بأبي جعفر. ومضى إبراهيم إلى البصرة، ودعا النَّاس فأجابه خلق كثير، ثم أظهر الدعوة، وغلب على البصرة والأهواز وفارس، وأقام ظاهرًا عليها حتَّى قُتل أخوه محمَّد بالمدينة، فلما قتل ازداد النَّاس حرصًا على قتال أبي جعفر، فخرج إبراهيم في رمضان في مئة أَلْف، فقال عفان بن مسلم الصَّفَّار: حَزرتُ عسكر إبراهيم فإذا به أقل من عشرة آلاف. وقيل: إن مقدم إبراهيم البصرة كان في سنة ثلاث وأربعين مُنصرَفَ النَّاس من الحج، وكان الذي أقدمه وعادله في محمله يحيى بن زياد بن حسان النَّبطيّ، وأنزله منزله، وقام بأمره، وبايعه النَّاس سرًّا إلى سنة خمس وأربعين. وكان إبراهيم يقول: تنقَّلتُ في البلاد؛ حتَّى دخلت على أبي جعفر، وأكلتُ على مائدته، وخرجتُ وقد سكن الطَّلَبُ عني، ولما خط بغداد كاتبني قوم من أصحابه وقالوا: اقدم علينا، فقدمت وأبو جعفر ببغداد نازل في الدَّير وقد خطَّ البناء. وروي أن المنصور قال للمسيب: والله إن إبراهيم معي في عسكري، ثم خرج ينظر إلى القنطرة العتيقة التي أمر ببنائها على الصَّراة؛ فوقعت عينه على إبراهيم، فاندس في ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 534 - 535، والمنتظم 8/ 47، وما بين معكوفين منهما.

النَّاس، وأتى قائدًا فلجأ إليه، ولجَّ أبو جعفر في طلبه. وكان مع إبراهيم رجل يقال له: سفيان العَمِّي، فاحتال في إخراجه، ومضى إلى البصرة، وغلب عليها، وأخذ عاملها سفيان بن معاوية فحبسه، ووجد في بيت مالها ست مئة أَلْف ففرَّقها، وعزم على قصد الكوفة. وبلغ أَبا جعفر، فكتب إلى عيسى بن موسى وهو بالمدينة: إذا قرأت كتابي هذا فدع ما أَنْتَ فيه واقدم عاجلًا، ولم يكن عند أبي جعفر سوى ألفي رجل، وكانت عساكره متفرقة مع المهدي بالري ثلاثون ألفًا، وبإفريقية أربعون ألفًا، فكتب إلى سَلْم بن قتيبة فقدم عليه من الرّيّ، فاستعمله على ميسرة عيسى وقال: لا يَهولنَّك جمعُ إبراهيم؛ فوالله إن ابني عبد الله لجملا بني هاشم المقتولان جميعًا. وأقام على الميمنة حُميد بن قَحطبة. وقال السندي بن شاهك: لما استفحل أمر إبراهيم أقام المنصور نيفًا وخمسين ليلة في مُصلّاه، ينام عليه ويقعد عليه، وعليه جُبَّة صوف قد اتَّسخ جَيبُها، فما غيَّرها، وهجر اللذات والنساء، وأُهديت إليه في تلك الأيام امرأتان إحداهما فاطمة بنت محمَّد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، والأخرى أمة الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أَسيد بن أبي العِيص، فلم يلتفت إليهما ولا رآهما، قيل له في ذلك فقال: ليست هذه الأيام من أيام النساء حتَّى أعلم رأس إبراهيم لي أو رأسي له. وكان جعفر ومحمَّد ابنا سليمان بن علي قد أخرجهما إبراهيم من البصرة، فكتبا إلى أبي جعفر يخبراه بخبر إبراهيم، فبعث إليهما خيلًا، وأمرهم أن يقيموا معهم، وكتب إليهما يُوبِّخُهما، ويُعجِّزهما في خروج إبراهيم، وكتب في أسفل كتابه: [من البسيط] بلِّغ بني هاشمٍ عني مُغَلْغَلَةً ... فاستيقظوا إن هذا فِعلُ نُوَّامِ تعدو الذئابُ على مَن لا كلابَ له ... وتتَّقي مَرْبِضَ المستيقظ الحامي وقال الحجاج بن قتيبة بن مسلم: دخلت على أبي جعفر وقد جاءه فَتْقُ البصرة وفارس والأهواز، وهو يَنكت الأرض ويتمثل: [من الكامل] ونَصبتُ نفسي للرِّماح دَريئةً ... إن الرئيس لمثل ذاك فَعولُ فقلت: يَا أمير المُؤْمنين، أَنْتَ على عدوك كما قال الأَعمش: [من المتقارب]

ذكر مسير إبراهيم إلى أبي جعفر

وإنْ حَرْبُهم أُوقِدَتْ بينهم ... فحَرَّت لهم بعد إبرادِها وُجِدتَ صَبورًا على رُزْئها ... وكَرِّ الحروب وتَردادِها (¬1) فقال: يَا حجَّاج، قد عرف إبراهيم صعوبةَ جانبي، وإنما جَرَّأه على الخروج أهلُ البصرة والأهواز وغيرها، ثم استرجع وقال: قد استعنت عليه بالله تعالى، ولا قوة إلَّا به. قال: ودخلت عليه والعساكر محيطة به، ولقد كان عليه مئة أَلْف سيف بالكوفة كامنة بإزاء عسكره، ينتظرون صيحة واحدة فيثبون به، فوجدته صقرًا أحوزيًّا مُشَمِّرًا، قد قام إلى ما نزل به من النَّوائب يَمرُسها، وإنه كما قيل: [من الرجز] نَفْسُ عصامٍ سَوَّدتْ عِصاما ... وعلَّمتْه الكَرَّ والإقداما وصيَّرتْه مَلكًا هُمامًا (¬2) وقال أبو عبيدة: أُهديت التميمية (¬3) إلى أبي جعفر في تلك الأيام فما نظر إليها، وكان إبراهيم قد تزوج بالبصرة نهيكة (¬4) بنت عمر بن سلمة، فكانت تأتيه في مُصَبَّغاتها وألوان ثيابها. ذكر مسير إبراهيم إلى أبي جعفر قال: ولما عزم إبراهيم على قصد أبي جعفر أشار عليه جماعة من قُوَّاده أن يقيم بالبصرة ويبعث الجنود، فإن ظهروا عليهم أمدَّهم بغيرهم. وقال أهل الكوفة: إن بالكوفة أقوامًا لو رأوك لماتوا دونك، فما زالوا به حتَّى سار نحو أبي جعفر. وقال عبد الله بن جعفر المدينيّ: خرجتُ مع إبراهيم ليلة يطوف في عسكره، فسمع أصوات طَنابير وغناء، فقال: ما أطمع في نصر عسكر هذا فيه. ¬

_ (¬1) ديوانه 123 - 124، وتاريخ الطبري 7/ 640 - 641. (¬2) الأبيات للنابغة الذبياني، وهي في ديوانه 118، وتاريخ الطبري 7/ 641. (¬3) في الطبري 7/ 641: اليتيمة. (¬4) في تاريخ الطبري 7/ 641، وأنساب الأشراف 2/ 445: بهنكة.

وسار إليه عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفًا، وحُميد بن قَحطبة على مُقدّمته في ثلاثة آلاف، وودَّعهم أبو جعفر إلى بعض الطريق، وعاد إلى البصرة في نفر يسير. وقال أوس بن مهلهل: لما سار إبراهيم من البصرة سبق أصحابه يرتاد لهم منزلًا، فسمعته يقول: [من الوافر] أمورٌ لو تدبَّرها حَليمٌ ... إذًا لنهى وهَيَّب ما استطاعا ومَعصيةُ الشَّفيقِ عليك مِمّا ... يَزيدك مرّةً منه استماعا وخيرُ الأمر ما استعجلْتَ منه ... وليس بأن تَتَبَّعَه اتِّباعا ولكنَّ الأديمَ إذا تَفرَّى بِلًى ... وتَعَيُّنًا غلب الصَّناعا فعلمت أنَّه ندم على مسيره (¬1). ولما توسط إبراهيم المنازل قال له عبد الواحد بن زياد (¬2) بن لبيد: إن هذه بلاد قومي وأنا أعرف النَّاس بها، فلا تقصد قصْد عيسى، ولكن دعني أسلك بك طريقًا لا يشعر بك أبو جعفر إلَّا وأنت بالكوفة معه، قال: لا، فقيل له: إنك غير ظاهر على هذا الأمر حتَّى تأخذ الكوفة، فإذا أخذتَها هرب إلى حُلوان فسرتَ إليها، فلم يقبل. ولما نزل باخمرى قيل له: خَنْدِقْ عليك، فقال أصحابه: نحن في مئة أَلْف لا يُخندق علينا، وقيل له: كَرْدِس أصحابَك كراديس فإن الصف ينتقض، وكلما انهزم كردوس لقي آخر، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] (¬3). وقال له المضاء لما نزلوا باخَمرى: إن هؤلاء القوم مُصَبِّحوك غدًا بما يَسدُّ عين الشَّمس من السلاح، وأصحابك عراة، فدعني أُبيِّتهم وأُشَتِّت جموعهم، فقال: إنِّي أكره البَيات والقَتْل، فقال له المضاء: تكره القتل وتطلب الملك. وقال عيسى بن موسى: لما فَصلتُ عن أبي جعفر قال لي: إن هؤلاء الخُبثاء -يعني المنجِّمين- يزعمون أنك مُلاقي إبراهيم، وتكون لك جولة، ثم تظفر وتفيء إليك أصحابك. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 643، والأبيات للقطامي وهي في ديوانه 34 - 35. (¬2) في (ب) و (خ): يزيد، والمثبت من الطبري 7/ 643. (¬3) في الطبري 7/ 644 أن قائل ذلك أصحاب إبراهيم لا هو.

قال عيسى: فلما التقينا انهزم عني أصحابي، وبقيت في ثلاثة أو أربعة، فقال لي مولى لي: ما وقوفُك وقد ذهب النَّاس؟ فقلت: والله لا نظر أهل بيتي إلى وجهي وقد انهزمتُ عن عدوي وعدوّهم، فوالله لكان أكثر ما ترى أنني كنت أقول للمُنهَزِمة: أقرئوا أهلَ بيتي مني السلام وقولوا لهم: إنِّي لم أجد ما أفديكم به غير نفسي، فبينا نحن كذلك إذ جاء محمَّد وجعفر ابنا سليمان بن عليّ إبراهيمَ من وراء ظهره، فكرُّوا عليهم، ورجعنا نحن من ورائهم، ووالله لولا ابنا سليمان لافتضحنا. وكان من صنع الله بنا أن أصحابنا لما انهزموا اعترض لهم يومئذ نهر، ولم يجدوا مَخاضة، فكروا راجعين إلينا فكان الفتح. وكان بَثَقَ البُثوقَ قومٌ من أصحاب أبي جعفر فأصبح عسكر إبراهيم في الوحل والماء (¬1)، وقيل: بل إبراهيم بثق البثوق ليكون القتال من جهة واحدة، فلما انهزم أصحاب عيسى منعهم الماء من الهرب، فرجعوا، وثبت إبراهيم في خمس مئة، وقيل: في سبعين، فجاءه سَهْم عائر، فوقع في نحوه فسقط، واجتمع أصحابه يقاتلون دونه، وجاءهم حُميد بن قَحطبة فقاتلهم فانفرجوا عنه، فنزلوا وحَزّوا رأسَه. وقيل: إن الحرَّ آذاه، فحلَّ أزرار قَبائه، وحسر الزَّرَد عن لبَّته، فجاءه سهم فوقع في نحره، فاعتنق فرسه وكرَّ راجعًا، وأحاطت به الزيدية. وفي رواية: لما انهزم أصحاب عيسى تبعتهم الرايات، فنادى منادي إبراهيم: لا تتبعوا مُدبرًا، فكرَّت الرايات راجعة، ورآها أصحاب عيسى فرجعوا، فكانت الهزيمة. وقُتل أصحاب عيسى، وبلغ أوائلهم الكوفة، فقال أبو جعفر: أعِدّوا لنا الدواب والإبل، وكان عزمه أن يقصد الريّ. وكان نوبخت المنجِّم قد دخل عليه عند مسير عيسى فقال: يَا أمير المُؤْمنين، الظَّفَر لك وسيقتل إبراهيم، فلم يقبل منه ذلك، فقال: احبسني عندك؛ فإن لم يكن الأمر كما قلت وإلا فاقتلني، فبينا هو كذلك إذ جاءه الخبر بقتل إبراهيم، فقال أبو جعفر: [من الطَّويل] ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): يوم من أصحاب أبي جعفر فأصلح ... والتصويب مستفاد من تاريخ الطبري 7/ 646، ونصُّ عبارته: كان بباخمرى ناسٌ من آل طلحة، فمخروها على إبراهيم وأصحابه، وبثقوا الماء، فأصبح أهل عسكره مرتطمين بالماء.

فألقتْ عصاها واستقرَّتْ بها النَّوى (¬1) وأقطع نوبخت أَلْف جَريب بنهر جَوْبَر (¬2)، وأتي برأس إبراهيم إلى الكوفة ليلة الثلاثاء لخمس بقين من ذي القعدة، فأمر به أبو جعفر فنُصِب في السوق. وقيل: إن الرأس لما وُضع بين يدي أبي جعفر جعلت دموعه تسيل على خدِّ إبراهيم، ثم قال: والله إنْ كنتُ لهذا لكارِهًا، ولكن ابتُليتَ بي وابتليتُ بك. ولما وُضع الرأس بين يدي أبي جعفر ودخل النَّاس؛ جعل كلُّ واحدٍ يُسيءُ القولَ في إبراهيم وينال منه، يلتمسون رضا أبي جعفر، وأبو جعفر ساكت متغيِّر اللون، حتَّى دخل جعفر بن حنظلة البهرانيّ فقال: عظَّم الله أجرَك يَا أمير المُؤْمنين في ابن عمك، وغَفر له ما فرط منه في حقِّك، فأسفر وجه أبي جعفر، وأقبل عليه وقال: مرحبًا وأهلًا يَا أَبا خالد، إلى هنا إلى هنا، فعلم النَّاس أن ذلك قد وقع منه موقعًا، فدخلوا وقالوا مثل قول جعفر. وقد رثى إبراهيم جماعة منهم: عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزُّبير فقال: يَا صاحبيَّ دعا الملامَةَ واعلما ... أن لستُ في هذا بألومَ منكما وقفا بقبر ابنِ النَّبِيّ هُديتما ... لا بأس أن تقفا به وتسلما قبر تضمَّن خيرَ أهلِ زمانه ... حَسَبًا وطيبَ سجيَّةٍ وتكرُّما شَهْمٌ نفى بالعدلِ جَوْرَ زمانه ... ولقي عظيماتِ الأمور وأنعما لم يَجتنبْ قصْدَ السبيل ولم يَجُرْ ... عنه ولم يفتح بفاحشةٍ فما ضحَّوا بإبراهيم في يوم الوَغى ... فتصرَّمت أيامه وتَصرَّما بطلٍ يخوض بنفسه غَمراتها ... لا طائشًا رعشًا ولا مُستسلما أضحى بنو حسنٍ أُبيح حَريمُهم ... فينا وأصبح نَهبُهم مُتَقَسَّما ونساؤهم في دورهنَّ نوائحٌ ... سَجْعَ الحمام إذا الحمامُ ترنَّما ¬

_ (¬1) تمامه: كما قرَّ عينًا بالإياب المسافرُ، انظر تاريخ الطبري 7/ 648. (¬2) في (ب) و (خ): بنهر حور، والمثبت من الطبري 7/ 648، وفي الكامل 5/ 571: حويزة، ولعل الصواب: نهر جوبرة، كما ذكر ياقوت في معجمه.

يتوسَّلون بقتلهم ويرونه ... شَرفًا لهم عند الإِمام ومَغنما والله لو شهد النبيُّ مُحَمَّدٌ ... صلى الإله على الرسول وسلَّما إشراعَ أمته الأسنَّةَ لابنه ... حتَّى تقطَّرَ من ظُباتهم دَما حقًّا لأيقن أنَّهم قد ضيَّعوا ... تلك القرابةَ واستحلُّوا المَحْرَما (¬1) وقال الهيثم: لما خرج إبراهيم بالبصرة صعد أبو جعفر المنبر وقال: [من البسيط] ما لي أُكفكفُ عن سعد ويَشتُمني ... ولو شتمتُ بني سعد لقد سكنوا جَهلًا علينا وجُبنًا عن عدوِّهم ... لبئست الخَلَّتان الجَهْلُ والجبنُ ثم قال: أما والله لقد عَجزوا عن أمرٍ قُمنا به، فما حَمِدوا القائم، ولا عَضدوا الكافي، ولا شكروا المنعم، أشرب منها رَنْقًا على غَصَص، وأبيت على مَضض، كلا والله إنِّي لا أصل ذا رَحِمٍ بقطيعة نفسي، ولئن لم يُرْضَ مني بالعفو ليُطْلَبنَّ ثم لا يوجد عندي (¬2). وذكر كلامًا طويلًا. وكان فقهاء الكوفة والبصرة يُحرِّضون النَّاس على القتال مع محمَّد وإبراهيم، فقال عبد الله بن إدريس: رأيت أَبا حنيفة وهو قائم على درجته، ورجلان يستفتيانه في الخروج مع محمَّد وإبراهيم فقال: أسرعا ولا تَنِيا. وقال الأَعمش لجماعة من أعيان الكوفة: ما يُقعدكم عنه؟ والله لو كنت بصيرًا ما سبقني إليه أحد. وقال هشام بن حسان: قاتلوا أَبا الدوانيق. وسئل شعبة عن هذا فقال: القتال مع إبراهيم مثل القتال ببدر الصغرى. وكان صالح المُرِّي بالبصرة يخطب ويقول: قاتلوا المارق مع ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه. وكان بشير الرحَّال يقصُّ بالبصرة على النَّاس، ويعرِّض بأبي جعفر ويقول: العصبي من العصبة، ما أشبه الليلة بالبارحة، أيها النَّاس، قاتلوا مَن أماتوا الكتاب والسنة، ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 7/ 602 - 603. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 92، وأنساب الأشراف 3/ 303، ومروج الذهب 6/ 196.

وعطَّلوا الحدود، ودَعَوا إلى طاعتهم دون طاعة الله. وكان يمشي في الأسواق ويقول: أيها النَّاس، كنتم تلتمسون رجلًا يقوم بالعدل فقد أتاكم الله به، فانصروه تَرشدوا، وقوموا معه تُفلحوا، فمَن قَدَر على الخروج بنفسه فليخرج، ومن لم يقدر فليُعنه بالمال والسلاح، ثم يقول: [من الرجز] أَبا الدَّوانيقِ لقيتَ غيّا ... ابرُزْ تُلاقي أسدًا شَّرِيّا أبيضَ يدعو جدَّه عليًّا ... وجدَّه لأمه النبيَّا وأنت تدعو الجدَّ بَرْبَرِيّا واختلفوا في المكان الذي قُتل فيه إبراهيم فقيل: باجَمرا وباجُميرا، بجيم وراء مهملة، وباخمرا بخاء، وباخُميرا بخاء معجمة وراء مهملة، قال الجوهري: باخَمرا مكان بالبادية وبه قبر إبراهيم بن عبد الله بن حسن (¬1)، وقد أشار إليه دِعْبِل فقال: [من الطَّويل] قبورٌ بكُوفانٍ وأخرى بطَيبةٍ ... وأخرى بفَخٍّ ما لها صَلواتي وأخرى بأرضِ الجُوزَجانِ محلُّها ... وقبرٌ بباخَمْرى لدى الغرفات (¬2) وقال أبو اليقظان: لما وُضع رأس إبراهيم بين يدي المنصور قال للربيع: اذهب به إلى أَبيه وأهله -وكانوا في السجن- فجاء الرَّبيع بالرأس إلى عبد الله، فرآه يُصلّي، فقال له: أسرع فلما سَلَّم نظر إلى الرأس، فأخذه فوضعه في حجره وقال: رحماك الله أَبا إسحاق، لقد وفيتَ بعهد الله ولم تَنقُص الميثاق، فقال له الرَّبيع: فكيف كان في نفسك (¬3)؟ فقال كان والله كما قال القائل: [من الطَّويل] فتًى كان يحميه من العار سَيفُه ... ويكفيه سوءاتِ الذُّنوب اجتنابُها ثم قال للربيع: قل لصاحبك: قد مضى من بؤسنا أيام ومن نعيمك أيام، والملتقى (¬4) بيننا القيامة، والحاكم الله، فأبلغه ما قال الربيعُ، فما رأيته منكسرًا مثل انكساره حين قلتُ له. ¬

_ (¬1) صحاح الجوهري (خمر). (¬2) مروج الذهب 6/ 195، وديوانه ص 80. (¬3) في مروج الذهب 6/ 202: كيف كان حال أبي القاسم في نفسه. (¬4) من هنا وقع سقط في (ب) يمتد ثلاث صفحات إلى بداية ترجمة حسن بن حسن.

وقد رُوي أن عبد الله مات قبل مقتل محمَّد ابنه، إبراهيم قُتل بعد محمَّد. قال البلاذري: حمل رأس إبراهيم ومحمَّد إلى خراسان فطِيف بهما، ثم رُدَّا إلى بغداد، فدفنهما الذي حملهما في منزله بدرب أبي حنيفة (¬1). وقال حُميد بن قَحطبة: دخلت على أبي جعفر وبين يديه مَصارينُ البطِّ مَحشوَّةٌ بالملح والسكر فقال: أين إبراهيم؟ أراد أن يحول بيني وبين هذا. ثم خطب أبو جعفر أهلَ الكوفة فنال منهم وسبَّهم وقال: يَا أهل هذه المَدَرَة السوداء الخبيثة، بلغني أنكم تقولون: سمع في عسكر إبراهيم قائلًا يقول: أَقْدِم حَيزُوم، تُشبِّهونه بعسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، أكفارٌ نحن؟ لعنكم الله ولعن مَدَرَتَكم، تُريدون قتالي إن ظهر إبراهيم؟ قد بلغني أن فيكم مئة أَلْف سيف معه، والعجب للحجاج كيف لم يقتل مقاتلكم، ويسبي ذراريكم وقد كان ناصحًا لبني أمية، فقام إليه المسيّب بن زهير الضَّبِّي وقال: والله ما سبقنا الحجاج إلى أمر تخلَّفنا عنه، وما خلق الله أعزَّ علينا من نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وقد أَمَرْتَنا بقتل أولاده فأطعناك، فهل نصحناك؟ فقال له أبو جعفر: اقعد لا قعدت (¬2). وقال أبو عمرو بن العلاء: حضرتُ مجلسَ إبراهيم بن عبد الله، ففقد رجلًا من أصحابه، فسأل عنه فقال له رجل: تركتُه يريد أن يموت، فضحك بعض القوم وقال: في الدنيا أحدٌ يريد أن يموت؟ فقال إبراهيم: لقد ضحكتم منها عربية، معنى يريد: يكاد، قال الله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] أي: يكاد، فقلت له: ما نزال بخير ما دام فينا مثلك (¬3). وقال المدائنيّ: كتب أبو جعفر إلى أهل المدائن بعد مقتل إبراهيم ومحمَّد أبياتًا لسُبَيع بن ربيعة بن معاوية اليَربوعيّ، وهي: [من الطَّويل] ولولا دِفاعي عنكمُ إذ عَجزتُم ... وبالله أَحمي عنكمُ وأدافعُ لكنتم ذُنابى أهلِ مروانَ مثل ما ... عهدناكمُ والله مُعْطٍ ومانعُ ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 445. (¬2) مروج الذهب 6/ 198، وأنساب الأشراف 2/ 441. (¬3) تاريخ بغداد 12/ 50.

لضاقت (¬1) أمورٌ منكمُ لا أرى لها ... كَفاةً وما لا يَحفظُ الله ضائعُ فسَمُّوا لنا مَن طحْطَح النَّاسَ عنكمُ ... ومَن ذا الذي تُحنى عليه الأضالعُ وما زال منّا قد علمتم عليكمُ ... على الدَّهرِ إفضالٌ يُرى ومنافعُ وما زال منكم أهلُ غَدرٍ وجَفْوَةٍ ... وبالبغي (¬2) مُغتَرٌّ وللرَّحْم قاطعُ ودَبَّ رجالٌ للرِّياسةِ منكم ... كما دَرجَتْ تحت الغَديرِ الضَّفادِعُ ثم كتب في أسفل الكتاب: والله لقد عجزوا عن أمرٍ قُمنا به، فما شكروا, ولقد مهَّدوا فاستوعروا، والله لا أكرم أحدًا بإهانة نفسي، ولئن لم تقبلوا الحق لتَطلُبُنَّه ثم لا تجدونه (¬3)، والسَّعيد مَن وُعِظ بغيره. وقال جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنهم -: لما قُتل إبراهيم بباخمرا حَشَرنا أبو جعفر من المدينة، فلم يدع بها [منا] محتلمًا، فقدمنا الكوفة عليه، فأقمنا ببابه شهرًا نتوقَّع القتل، فخرج إلينا بعد ذلك الربيع الحاجب فقال: أين هذه الغلومة (¬4)؟ فقلنا: ها نحن، فقال: ليدخل على أمير المُؤْمنين رجلان من ذوي الحِجا. قال جعفر: فدحْلتُ عليه والحسن بن زيد، فلما صرنا بينَ يديه قال لي: أَنْتَ الذي تعلم الغيب؟ قلت: لا يعلم الغيب إلَّا الله، قال. أَنْتَ الذي يُجبى إليه الخراج؟ قلت: إنما يُجبى الخراجُ إلى أمير المُؤْمنين. قال: هل تدرون لم دعوتُكم؟ قلت: لا قال: أودتُ أن أهدِم ديارَكم، وأُغوِّرَ قُلُبَكم، وأقطع نخيلكم، وأُنزلكم بالسَّراة بحيث لا يجيئكم أحد من أهل العراق ولا من غيره؛ فإنهم لكم مفسدة. فقلت: إن سليمان ملك فشكر، وإن أَيُّوب ابتُلي فصبر، وإن يوسف ظُلم فغفر، وأنت من ذلك السِّنخ. فتبسم وقال: أعِد، فأعدتُ، فتبسم وقال: مثلُك يكون زعيم القوم، قد عفوتُ عنكم، ووهبتُ لكم جُرمَ أهل البصرة. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 95: لضاعت. (¬2) في الطبري وأنساب الأشراف 3/ 351: وبالله. (¬3) في تاريخ الطبري 8/ 92: والله لئن لم يقبلوا الحق ليطلبنه ثم لا يجدونه عندي. (¬4) في الفرج بعد الشدة 1/ 313: أين هؤلاء العلوية.

حسن بن حسن

ثم قال: حَدَّثني عن آبائك، فقلت: حَدَّثني أبي، عن جدي، عن أَبيه عن علي (¬1) - عليه السلام -. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صِلةُ الرَّحم تعمرُ الدِّيار، وتُطيل الأعمار، وإن كانوا كفارًا". قال: ما أردتُ هذا. فقلت: حَدَّثني أبي، عن آبائه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الأرحام معلَّقةٌ بالعرش تنادي: يَا رب، صِلْ مَن وَصَلني، واقطع من قطعني". فقال: ما أردْتُ هذا. قلت: حَدَّثني أبي، عن آبائه، عن علي - عليه السلام -، عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: "إن ملكًا من ملوك الأرض كان قد بقي من عمره ثلاث سنين، فوصل رحمه، فجعلها الله ثلاثين سنة". فقال: هذا أردت. ثم أكرمَنا ووصَلَنا وردَّنا إلى المدينة. حسن بن حسن [ابن حسن] بن عليّ بن أبي طالب (¬2)، أبو جعفر (¬3)، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -، من الطَّبقة الرابعة من أهل المدينة، كان من العلماء الزهَّاد، مات في السجن بالكوفة في الهاشمية. وكان له من الولد: عبد الله، مات في السجن أَيضًا. وعلي السجَّاد، سمِّي بذلك لعبادته، مات أَيضًا في السجن، كان يسجد في كل يوم أَلْف سجدة، وكان أفضلَ أهل زمانه نُسكًا وورعًا وعبادة، ولا يتناول لأحد من أهله طعامًا ولا تمرة، ولا من الأقطاع التي أقطعهم (¬4) أبو العباس وأبو جعفر، ولا يتوضّأ من تلك العيون، ولا يشرب منها، وكان السجان يحبّه ويكرمه، ويَلطف به لما يرى من عبادته، وولده حُسين بن عليّ الخارج بفخّ في زمن الهادي، وسنذكره إن شاء الله. وحسين (¬5)، أمهم أم حبَّان بنت عامر بن عبد الله بن بشر بن عامر مُلاعب الأسِنَّة بن ¬

_ (¬1) في (خ): عن جده عن علي. (¬2) ما بين معكوفين من طبقات ابن سعد 7/ 478، وتهذيب الكمال (1198)، وتاريخ الإسلام 3/ 844. (¬3) في طبقات ابن سعد 7/ 479 أنها كنية ولده عبد الله. (¬4) هنا ينتهي السقط في (ب) المشار إليه قبل صفحات. (¬5) في طبقات ابن سعد 7/ 479، ونسب قريش 56، وجمهرة ابن حزم 42: وحسن، والمثبت موافق لنسخة =

رياح بن عثمان المري

مالك بن جعفر بن كِلاب. وعباس بن حسن مات في السجن أَيضًا، وأمه عائشة بنت طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان بن عمرو التَّيميّ. وعلي الأصغر بن حسن، وفاطمة، أمهما أم حَبيب بنت عمر بن عليّ بن أبي طالب. وأم سلمة، وأم كلثوم ابنتا حسن، وهما لأم ولد. وقال الخَطيب: كان السفاح قد اختصّ بعبد الله بن حسن بن حسن اختصاصًا كليًّا، بحيث كان يقعد معه بغير سراويل في قميص واحد، وكان يعدُّه والدًا، وكان يسأله عن ابنيه محمَّد وإبراهيم كثيرًا، فقال عبد الله يومًا لأخيه الحسن: إنه قد أكثر في طلبهما، فقال له حسن: إذا سألك عنهما فقل: علمُهما عند عمهما الحسن، فدعا الحسن وسأله عنهما فقال: يَا أمير المُؤْمنين، أكلِّمُك كما يكلم الرَّجل ابنَ عمه، أم بهيبة الخلافة؟ قال: بل كما يكلم الرَّجل ابن عمه، قال له: أنشدك الله، إن كان قد قُدِّر لمحمد وإبراهيم أن يليا من أمور النَّاس شيئًا، فجهدت أَنْتَ وأهل الأرض أن يردوا ما قدَّر الله لهما؛ أتقدرون على ردِّه؟ قال: لا، قال: فأنشدك الله، إن كان الله لم يُقدِّر لهما من الأمر شيئًا، فاجتمع أهل الأرض أن ينالا ما لا قُدِّر لهما أينالاه؟ قال: لا. قال: فما تنغيصك على هذا الشيخ النعمة التي أنعمتَ بها عليه كلّ وقت تطلبهما منه؟ فقال أبو العباس: لا أذكرهما بعد اليوم، فما ذكرهما حتَّى فرَّق الموت بينهما. وكانت وفاة الحسن في ذي القعدة بالهاشمية في حبس أبي جعفر وله ثمان وستون سنة (¬1). رياح بن عثمان المُرِّيّ وهو ابن عم مُسْرِف بن عُقبة المُرِّيّ الذي بعثه يزيد بن معاوية إلى المدينة فأباحها ثلاثًا، وفعل فيها ما فعل. ولما انتشر أمر إبراهيم ومحمَّد ابني عبد الله بن حسن استشار أبو جعفر عيسى بن موسى فيمن يوليه المدينة فقال: ولِّ رجلًا من أهل بيتك له خبرة بالأمور، ومُره بالبحث ¬

_ = من طبقات ابن سعد. (¬1) تاريخ بغداد 8/ 245 - 246، والمنتظم 8/ 90، وتهذيب الكمال (1198).

عن أمرهما، فقال: إن ولَّيتُ رجلًا لمن أهل بيتي يمنعه الرحم والقرابة من مكروههما وطلبهما، فقال: ولِّ رجلًا من أهل العراق فقال: إن أهل العراق قد امتزجت محبة علي بن أبي طالب بدمائهم وأبشارهم، فيمنعلا ذلك منهما، ولكن أهل الشام قاتلوه وسفكوا دم أولاده هم وأبناؤهم، فقد توارثوا بُغضه، ورباح بن عثمان المري ابن عم مسرف بن عقبة، قد فعل بأهل المدينة ما فعل، فولاه، وأمر بطلبهما، فدخل المدينة، وصعد المنبر وقال: {يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13]، أنا ابن عم مسلم بن عُقبة، الشديدُ الوطأة عليكم، الوَبيلُ العقابِ لكم، الخبيثُ السيرة فيكم، وأنتم عقب الذين حصدهم سيفه، وايم الله، لأحصدنّ منكم من بقي، ولأَسُومنكم سوء العذاب. ثم نزل (¬1)، وكان ظلومًا غشومًا فاسقًا. ووقف على عبد الله بن حسن فقال له: أيها الشيخ، والله ما استعملني أمير المؤمنين لقرابة قريبة، ولا ليدٍ سلفت لي إليه، ووالله لا لعبتَ بي كما لعبتَ بابن القَسْري وزياد الحارثي، والله لأزهقنَّ نفسك أو تأتي بابنيك، فرفع عبد الله رأسه إليه وقال: كأني بك والله قد ذُبحتَ كما تُذبح الشاة، فكان كما قال. ومعنى هذا أن زيادًا الحارثي كان يكوه البحث عن ابني عبد الله، وينشد: [من الوافر] أُكَلَّفُ دْنبَ قومٍ لستُ منهم ... وما جَنتِ الشّمالُ على اليمينِ (¬2) وكذا محمد القسري. وقال عمر بن شبة: لما ظهر ذكر إبراهيم ومحمد استشار أبو جعفر أبا الشعثاء (¬3) من قيس بن عَيلان في من يولي المدينة، فقال: ولِّ رجلًا من آل طلحة أو الزبير فإنهم لهم عَدوّ، فقال: كيف أنهز (¬4) أهلَ بيتي بعدوِّهم؟ ولكن أختار لها صُعيليكًا من العرب، فولَّى رباح بن عثمان، فقدم المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين، ونزل دارَ مروان، ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 431. (¬2) انظر تاريخ الطبري 7/ 530، 533. (¬3) في تاريخ الطبري 7/ 531: أبا السعلاء، وفي الكامل 5/ 519: أبا العلاء. (¬4) نهزه: ضربه ودفعه، وفي الطبري: ولكني أعاهد الله ألا أثَّئر من أهل بيتي بعدوي وعدوهم، وفي الكامل: ولكني أعاهد الله لا أنتقم من بني عمي وأهل بيتي بعدوي وعدوهم.

ثم أقبل على بعض الناس وقال: هذه دار مروان؟ قالوا: نعم، قال: هذه المِحْلال المِظْعان، ونحن أول مَن يَظعن عنها. وقال الزبير بن بكار: كان رياح قد ولي دمشق لصالح بن علي، ومصر لأبي جعفر، وكان فاتكًا، حضر عند عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه وعنده رَجاء بن حَيوَة، فأُتي بغِلْمَةٍ من آل المُهَلَّب لم يبلغوا الحِنْث، فقال عمر: ما تقولون فيهم؟ فقال رياح: أقول ما قال نوح في أمثالهم: {وَلَا يَلِدُوا إلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] فأعرض عنه عمر، ثم قال لرجاء: ما تقول أنت؟ قال: أقول: لا سبيل لك عليهم، لأنهم لم تَجْرِ عليهم الأقلام والأحكام. وأطلق عمر رحمة الله عليه سبيلهم، فلما خرجا قال رياح لرجاء: إن الله خلق رجالًا للخير وأنت منهم، وخلق رجالًا للشر وأنا منهم (¬1). ورياح هو الذي تولَّى حبسَ بني حسن، وتقييدَهم، والتضييقَ عليهم، وحملَهم إلى العراق، ولما أوصلهم إلى الكوفة ردَّه أبو جعفر إلى المدينة. وكان رياح قد حبس محمد بن خالد القسري، ووجأ عُنُقه، وعَذَّب كُتَّابَه، فلما ظهر محمد بن عبد الله بالمدينة حَبس رياحًا وضيَّق عليه، فلما قصد عيسى بن موسى المدينة واقتتلا، دخل إبراهيم بن خُضير، وخُضَير اسمُه مصعب بن [مصعب بن] الزبير (¬2)، وكان مع محمد بن عبد الله بن الحسن، فأتكى رياحًا وذبحه كما تُذبح الشاة، وقصد محمد بن خالد القَسريّ، فردم بينه وبينه بابًا، ونجا فلحق بالكوفة، ورجع إبراهيم بن خُضَير فقاتل مع محمد حتى قُتل. ولما ذُبح رياح أُخرج من الحبس، فجعل صبيان المدينة في رِجله شريطًا، وجَرُّوه في الأزِفَّة ويقولون: [من مجزوء الرمل] سَلَحَتْ أمُّ رِياحٍ ... فأتَتْنا برِياحِ وأتَتْنا بأميرٍ ... ليس من أهلِ الصَّلاحِ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 311 (مخطوط). (¬2) ما بين معكوفين من أنساب الأشراف 2/ 425، وانظر جمهرة ابن حزم ص 124.

رؤبة بن العجاج

ما سمعنا بأمير ... قبل هذا من سِفاحِ (¬1) رُؤبة بن العجَّاج واسمه عبد الله بن رؤبة بن أسد بن صَخر بن كنيف (¬2) بن عمرو، أبو الجَحَّاف التميمي. من الطبقة التاسعة من الرُّجَّاز، وهو مخضرم، من رُجَّاز الإسلام وفُصحائهم، بدوي نزل البصرة، ومدح الدولتين بني أمية وبني العباس، وأخذ عنه أئمة اللغة، واحتجوا بشعره، وجعلوه إمامًا، وأراجيزه مشهورة، ووفد على الوليد وسليمان بن عبد الملك، وأنشدهما ووصلاه. وقال أبو عبيدة: حدثني رؤبة، عن أبيه قال: سألتُ أبا هريرة فقلت: ما تقول في هذا: طاف الخيالان فهاجا سَقَما ... خيالُ لُبنى وخيالُ تُكتَما قامت تُريك رهبةً أن تُصرَما ... ساقًا بَخَنْداةً وكَعْبًا أدْرَما -وساقٌ بَخَنْداةٌ أي: ناتئة، والدَّرَم في الكعب: أن يواريه اللحم حتى لا يكون له حَجْم- فقال: قد كان يُحْدا بنحوٍ من هذا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يَعيبُه (¬3). أسند رؤبة عن أبيه، عن أبي هريرة، ودغفل بن حَنظلة النَّسَّابة وغيرهما، وروى عنه ابنه عبد الله بن رؤبة، ومَعْمَر بن المثنّى، وأبو عمرو بن العلاء، والنَّضْر بن شُمَيل وغيرهم. زيد بن أسْلَم مولى عمر بن الخطاب، أبو أسامة. من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، كانت له حلقة في مسجد رسول الله، فقال مالك ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 431 - 432. (¬2) تاريخ دمشق 6/ 284، ونسبه في طبقات فحول الشعراء ص 738: رؤبة بن العجاج، واسمه: عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كثيف. انظر الشعر والشعراء ص 594، والمؤتلف للآمدي ص 175، والأغاني 20/ 345، والسير 6/ 162، وتاريخ الإسلام 3/ 861. (¬3) تاريخ دمشق 6/ 285.

سديف بن ميمون

ابن أنس: كان زيد على مَعْدِن بني سُليم، وكان مَعْدِنًا لا يزال يُصاب فيه الناس من قبل الجِنّ، فلما وليهم زيد شكوا ذلك إليه، فأمرهم أن يؤذِّنوا ويرفعوا أصواتهم بالأذان، ففعلوا، فارتفع ذلك عنهم إلى اليوم. وكان إذا أتاه إنسان يسأله فخلط عليه يقول له: اذهب فتعلم كيف تسأل، ثم تعال فاسأل. وقال ابن عساكر: كان زيد مع عمر بن عبد العزيز في خلافته (¬1). وقال البخاري: كان علي بن الحسين يجلس في حلقة زيد بن أسلم فيقال له: أتتخطّى رقاب قومك إلى حلقة عبد ابن الخطاب؟ فيقول: إنما يجلس الرجل إلى الرجل لينتفع به، وأنا أنتفع به (¬2). أسند زيد عن أنس بن مالك، وابن عمر وغيرهما، وروى عنه الزهري، ومالك بن أنس، والثوري وغيرهم. واتفقوا على صدقه وثقته وفضله، وتوفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ست وثلاثين أو سبع وثلاثين ومئة (¬3). وأخوه خالد بن أسلم؛ كان أشد شابًّا بالمدينة، ويكتى أبا ثَور، وكان أسنَّ من زيد (¬4). سُدَيف بن ميمون الشاعر المكي، مولى أبي لهب (¬5)، كان أسودَ اللون، بَصَّاصًا، بدويًّا، قبيحَ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 543. (¬2) التاريخ الكبير 3/ 387. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 507، والسير 5/ 316. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 507. (¬5) في هامش (خ) حاشية: سديف -كزبير- بن إسماعيل، شاعر. قاموس. أهـ. قلت: ولم يسمِّ أباه إسماعيل غير صاحب القاموس، وسكت الزبيدي فلم يتعقبه، انظر المحبَّر ص 486، الشعر والشعراء ص 761، والأغاني 16/ 135، وطبقات ابن المعتز ص 37، وأنساب الأشراف 2/ 446، وضعفاء العقيلي 2/ 180، وتاريخ دمشق 7/ 70 (مخطوط)، وميزان الاعتدال (2938)، والوافي بالوفيات 15/ 125، ولسان الميزان 4/ 18.

المنظر، خبيثَ المَحْضَر، وكان قد طعن في خلافة أبي جعفر وهجاه، ومدح محمد بن عبد الله. وقال البلاذُرِيّ: وصل أبو جعفر سُدَيفًا بألف دينار، فأعطاه لمحمد بن عبد الله بن حسن معونة له، فلما خرج محمد صار سُدَيف من خاصّته، ومدحه فقال: [من السريع] إيهًا أبا إسحاقَ مُلِّيتَها في ... في صحّةٍ تبقى وعُمرٍ يطولْ اذكُر هداك الله فِعْل (¬1) الأُلى ... سِير بهم في مُصْمَتاتِ الكُبولْ وصعد محمد المنبر يومًا بالمدينة، فقام سُديف وأشار إلى العراق وقال يريد أبا جعفر: [من الكامل] أسْرَفْتَ في قتل البريَّةِ عامدًا ... فاكفُفْ يديك أضَلَّها مَهْدِيُّها فلتأتينك رايةٌ (¬2) حَسَنِيَّةٌ ... جَرَّارةٌ يَحْتَثُّها حَسَنيُّها وبلغ أبا جعفر فقال: قتلني الله إن لم أقتلْه شَرَّ قِتلة. وكان سُدَيْف يقول: صار فَيئُنا دولةً بعد القسمة، وإمارتُنا غلَبةً بعد المشورة، وعهدنا ميراثًا، واشتُريت الملاهي والمعازف بأموال الأرامل واليتامى، وحَكم أهلُ الذمَّة في أبشار المسلمين، وتولّى القيام بأمورهم فاسقُ كل مَحلَّة، اللهم إنه قد استَحْصَد زرعُ الباطل وبلغ نهايته، فأتِحْ له يدًا من الحق حاصدة؛ تُبدِّد شملَه، وتُفرِّق جمعَه، ليظهرَ الحقُّ في أحسن صورته، وأتمِّ أموره (¬3). ولما قُتل محمد بن عبد الله هرب سُدَيف إلى المدينة فاختفى فيها، وبلغ أبا جعفر، فكتب إلى عمِّه عبد الصّمد بن علي وهو عامله على مكة والمدينة أن: اقتل سُديفًا، فأخذه، وحَفِظ له ما كان له فيهم من المدائح، وحبسه، وكاتب فيه أبا جعفر مرارًا، فكتب إليه: والله لئن لم تقتله لأقتلنَّك، ولا تغترَّ بأنك عمي، أليس هو القائل لي: أسْرفتَ في قتل البريَّةِ عامدًا ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 2/ 447، والشعر والشعراء ص 762، وطبقات ابن المعتز ص 41: ذَحْل. (¬2) في (خ) و (ب): زلة، والمثبت من العقد الفريد 5/ 88، وفي ضعفاء العقيلي 2/ 181، وتاريخ دمشق 7/ 72: غارة. (¬3) الشعر والشعراء 2/ 761، وطبقات ابن المعتز ص 38، وتاريخ دمشق 7/ 71 - 72.

فلما حج أبو جعفر أخرج عبد الصّمد سُديفًا من الحرم فقتله، ولقي أبا جعفر عمُّه عبد الصمد في الطريق، فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه انسلام، بل قال: ما فعلتَ في أمر سُدَيف؟ قال: قتلتُه، فقال: وعليك السلام يا عمّ، يا غلام، قف فوقف، فأمر عبد الصمد فعادله. وقيل: إن سُديف طلب من عبد الصّمد أمانًا، فأعطاه على أول لا يبعث من المدينة (¬1)، واستحلفه على ذلك، فلما قدم أبو جعفر المدينة قيل له: قد رأينا سُدَيفًا، فقال: على به، فجُعل في جُوالِق، وخيط محليه، وضرب بالخشب حتى مات، ورمي به في بئر. وقيل: كان به رَمَق فمات. ولما خرج محمد بالمدينة وإبراهيم بالبصرة قال سُديف: [من البسيط] إن الحمامةَ يوم الشّعب من حَضَنٍ ... هاجتْ فؤادَ محبٍّ دائم الحزَنِ إنا لنأمُلُ أن ترتدَّ أُلفتُنا ... بعد التَّباغضِ والشَّحناءِ والإحَنِ وتنقضي دولةٌ أحكامُ قادَتنا ... فيها كأحكام قومٍ عابدي وَثَنِ فانهض ببيعتكم بطاعتنا إن ... الخلافة فيكم يا بني حَسَنِ ألستَ أكرمَهم قومًا إذا انتسبوا ... عودًا وألْقاهُمُ ثَوبًا من الدَّرَنِ وأعظمَ الناس عند الله منزلةً ... وأبعدَ الناس من عجزٍ ومن أفنِ (¬2) وقد اختلفوا في وفاته؛ فحكينا أن عبد الصّمد قتله بأمر أبي جعفر، وقيل: إنه لما بلغه هجاؤه كتب إلى عمه عبد الصمد فدفنه حيًّا. وقيل: بعث المنصور خزيمة بن خازم -أو خازم بن خزيمة- مُتنكِّرًا، وقال له: عند السارية الفلانية شيخ آدم طوال يُكثر التلفُّت، فاجلس إليه، وأظهر الميل إلى آل أبي طالب، ثم قل له بعد أيام: مَن القائل: أسرفتَ في قتل البرية عامدًا؟ فقدم خازم المدينة، وجلس إلى الشيخ الموصوف، وأظهر له الميل إلى الطَّالبيين، ¬

_ (¬1) في أنساب الأشراف 3/ 254، وتاريخ دمشق 7/ 72: فأمّنه وأحلفه ألا يبرح من المدينة. (¬2) العقد الفريد 5/ 87 - 88.

عبد الله بن حسن

وقال له: مَن القائل: أسرفتَ في قتل البرية؟ فقال له الشيخ: إن شئتَ أنبأتُك مَن أنت، أنت خازم بن خُزيمة، بعثك أمير المؤمنين ليعرف من قال هذا الشعر، قل له: والله ما قلتُه، وإنما قاله سُدَيف بن ميمون، وأنا القائل لما خرج محمد ودعوني إلى الخروج معه هذه الأبيات: [من الطويل] دعَوني وقد شالت (¬1) لإبليس راية ... وأُوقد للغاوين نارُ الحُباحِبِ أبالليثِ يغترُّون يحمي عَرينَه ... ويَلْقون جَهلًا أُسْدَه بالثعالبِ فلا يَنْفَعَني السِّنُّ إنْ مِلتُ نحوكم ... ولا أحكَمَتني صادقاتُ التجاربِ وإذا بالشيخ ابن هَرْمة الشاعر. قال خازم: فقدمتُ على أبي جعفر فأخبرته فقال: صدق، وأمر بدفن سُديف حيًّا. وقد أخرج الحافظ ابن عساكر لسُديف حديثًا عن محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أبغضنا أهلَ البيت حشره الله يوم القيامة يهوديًّا" قال: فقلت: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال: "نعم". قال أبو جعفر العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل. وذكر سُديفًا في كتاب "الضعفاء والمتروكين" (¬2). وقال ابن عساكر: ما زال سُديف يبحث حتى ظفر بابنين لبسر بن [أبي] أرطاة بساحل دمشق، فذبحهما كما ذبح بسر ابني عبيد الله بن عباس. وقد روى سُديف عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وروى عنه حَنان بن سدير الصَّيرفي (¬3). عبد الله بن حسن ابن حسن بن علي بن أبي طالب، أبو محمد، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي، وهو من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وكان من العُبَّاد، وله شَرَف وعارضة وهَيبة ولسان شديد، وأدرك دولة بني العباس، ووَفَد على السفَّاح بالأنبار، وكانت له منزلة ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): فقد شيلت، والمثبت من العقد الفريد 5/ 89، وأنساب الأشراف 2/ 429. (¬2) تاريخ دمشق 7/ 70 - 71، وضعفاء العقيلي 2/ 180. (¬3) تاريخ دمشق 7/ 70، 71.

عند الخلفاء، وفد على سليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، وهشام بن عبد الملك، وكانوا يفضِّلونه ويميزونه ويرفعون منزلته. وقال له عمر: أَنشُدك الله أن تقف ببابي إلا في الساعة التي آذن للناس فيها؟ فإني أستحيي من الله أن يراك واقفًا ببابي ولا يؤذن لك. وكان عبد الله بن علي قد عزم على قتل مَن كان بالحجاز من بني أمية، فقال له عبد الله: يا ابن عمّ، إذا أسرعتَ في القتل إلى أكفائك فمَن تُباهي بسلطانك؟ فاعف يعف الله عنك، فأمسك. وكان عبد الله بن حسن شيخَ أهله، وسيدًا من ساداتهم، ومقدَّمًا فيهم فضلًا وعلمًا وكرمًا وحسبًا. وحبسه أبو جعفر بالهاشمية فمات في حبسه بالكوفة. وقال الهيثم: حبسهم أبو جعفر في سِرداب تحت الأرض، لا يعرفون ليلًا ولا نهارًا، والسِّرداب عند قنطرة الكوفة، وهو موضع بَراز، ولم يكن عندهم بئر للماء ولا سقاية، فكانوا يبولون ويتغوَّطون في مواضعهم، وإذا مات فيهم ميت لم يُدفن، بل يَبلى وهم ينظرون إليه، فاشتدَّت عليهم رائحة البول والغائط، وكان الوَرَمُ يبدو في أقدامهم، ثم يترقَّى إلى قلوبهم فيموتون (¬1). ويقال: إن أبا جعفر ردم عليهم السرداب فماتوا، فكان يُسمع أنينُهم أيامًا. وقال أبو معقل بن إبراهيم (¬2): أخذ أبو جعفر عبد الله بن حسن فقيَّده وحبسه في داره، فلما أراد الخروج إلى الحج وقفت له ابنة لعبد الله بن حسن على الطريق واسمها فاطمة، فلما مرَّ بها قالت: [من الكامل] ارحم كبيرًا سِنُّه مُتهدِّمًا ... في السجن بين سلاسل وقيودِ وارحم صغارَ بني يزيد فإنهم ... يَتُموا لفَقدك لا لفقدِ يزيدِ إن جُدتَ بالرَّحِمِ القريبة بيننا ... ما جدُّنا من جدكم ببعيد ¬

_ (¬1) مروج الذهب 6/ 200 - 201. (¬2) في (خ) مغفل، وفيها وفي (ب): بن أبان، والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 91، وتاريخ دمشق 33/ 167، والمنتظم 8/ 92.

فقال أبو جعفر: أذكرتِنيه، ثم أمر به فحُدر إلى المُطْبِق، فكان آخر العهد به، والمطبق بغداد. والصحيح أنه مات بالكوفة بالهاشمية في سنة خمس وأربعين ومئة، وعمره خمس وسبعون سنة، وقيل: اثنتين وسبعين سنة. وكانت له أحاديث؟ قال حفص بن عمر مولاه: رأيتُ عبد الله يتوضأ ومسح على خُفَّيه، فقلت له: أتمسح؟ قال: نعم، قد مسح عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ومَن جعل عمر بينه وبين الله فقد استوثق لنفسه. وذكر عبد الله يومًا مقتل عثمان - رضي الله عنه - فبكى حتى بلَّ لحيتَه وثوبَه. وقال عبد الله: إياك ومعاداة الرجال؛ فإنك لن تَعدم مكرَ حليم، ومفاجأة لئيم. وقال: المِراء يفسد الصداقةَ القديمة، ويحلُّ العُقَد الوثيقة. وقيل له: إن فلانًا غيَّرته الولاية، فقال: مَن ولي ولاية أكبر منه غيَّرتْه، وإن كانت نفسُه أكبر منها لم تغيره. وولد له جماعة من الأولاد وجميعهم من الطبقة الخامسة من أهل المدينة. وقال الواقدي: وَلَدت هند بنت أبي [عبيدة بن عبد الله بن] زَمْعَة موسى بن عبد الله وهي بنت ستين سنة، ولا يُعلم امرأة وَلدت لستين سنة إلا قرشية، ولا لخمسين إلا عربية (¬1). وقال محمد بن حكيم: حبسه أبو جعفر قبل خروج إخوته، ثم أطلقه فخرج معهما، فظفر به، فضربه ألف سوط ولم ينطق، فعجب أبو جعفر وقال. لقد عجبت من صبر هؤلاء، فما بال هذا الغلام الذي لم تره عينُ الشمس؟ وسمعه موسى فقال: [من الكامل] إني من القوم الذين يَزيدُهم ... جَلَدًا وصَبْرًا جَفوَةُ السُّلطانِ (¬2) وكان فاضلًا شاعرًا، كتب إلى زوجته أم سلمة بنت محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد ¬

_ (¬1) نسب هذا القول في الأغاني 16/ 360، وتاريخ بغداد 15/ 13، وتاريخ دمشق 17/ 283 (مخطوط) إلى الزبير بن بكار، وانظر طبقات ابن سعد 7/ 540، ونسب قريش ص 53، وأنساب الأشراف 2/ 404، 450، والتبيين ص 279، وما بين معكوفين من هذه المصادر. (¬2) تاريخ دمشق 17/ 284.

الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وهو بالعراق يستدعيها فأبت، فكتب إليها: [من الطويل] فلا تتركيني بالعراق فإنها ... بلادٌ بها أُسُّ الخيانةِ والغَدْرِ فإني زعيم أن أجيءَ بضَرَّةٍ ... مقابلةِ الأجدادِ طَيِّبةِ النَّشْرِ (¬1) أسند عبد الله عن أبيه، وأمه فاطمة بنت الحسين - عليه السلام -، وعن جماعة، وروى عنه مالك حديث السَّدْل وعَمِل به، ولما قيل له في ذلك قال: رأيتُ مَن يوثَق به يفعله. قيل: ومَن هو؟ قال: عبد الله بن حسن (¬2). واتفقوا على صدقه وثقته وفضله، وكان ثبتًا مأمونًا فقيهًا عالمًا، وكان يترضّى عن أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، ويمسح على خُفَّيه ويقول: قد مسح عمر على خفيه، وهو خير من مِلْءِ الأرض مثلي. وكان يقول: ما أرى أن أحدًا يسب أبا بكر وعمر يقبل الله توبته أبدًا، وإني لأتقرب إلى الله بحبهما، وكان يأمر أهله وأولاده بمحبتهما، والتبرِّي ممن يسبُّهما (¬3). قال المصنف رحمه الله: وعبد الله بن الحسن بن محمد بن الحسن بن الحسين بن عيسى بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كنيته أبو الغنائم النسَّابة، ابن القاضي أبي محمد العَلَوي الزَّيدي، لم أقف على تاريخ وفاته، صنَّف كتابًا في النسب عشر مجلدات، وسماه: "نزهة عيون المشتاقين إلى وصف السادة الغُرّ الميامين" وتصنيفه يدل على الاعتزال والتشيع. وله في فخر الدولة بن أبي الجِنّ لما عزل [ابن] مُحرِز البعلبكيّ عن تولّي أوقاف العلويين، وكان سيئ السيرة، قال: [من الطويل] ولو لم يكن للفخر أجرٌ يَحوزُه ... ينال به جناتِ عدنٍ على علْم سوى عزلِه بعد الإياس ابنَ مُحرِزٍ ... وإنصافهم بعد التظلم في القَسْمِ (¬4) ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 2/ 452، وتاريخ بغداد 15/ 12، وتاريخ دمشق 17/ 285. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 90، وتاريخ دمشق 33/ 146. (¬3) انظر في ترجمته غير مما سلف من مصادر: طبقات ابن سد 7/ 474، وتاريخ الطبري 7/ 524 وما بعدها، والعقد الفريد 5/ 74، وتهذيب الكمال (3213)، والتبيين ص 129، وتاريخ الإسلام 3/ 904. (¬4) تاريخ دمشق 33/ 179 - 180.

عبد الله بن المقفع

عبد الله بن المُقَفَّع واسمه داذَوِيه من أهل فارس، كان مجوسيًّا، وإنما سمّي المقفَّع لأنه ولي للحجاج ولاية، فمد يده وأخذ المال، فعذّبه الحجاج حتى تقَفَّعَتْ يدُه، وحرص على تأديب ولده عبد الله، وكان يجمع له العلماء. وكان عبد الله فصيحًا جوادًا، وجاءت الدولة وقد مات أبوه فصحب بني علي بن عبد الله بن عباس، وكان يكتب لهم، وكتب أيضًا لأبي جعفر. وكان بليغًا، وهو أول من رتب الخطب وقال: شرِبتُ من الخطب رِيًّا، ولم أضبط لها رَويّا، فغاضت ثم فاضت، فليست هي نظامًا، ولا في غيرها كلامًا. وجاء إلى عيسى بن علي فقال له: قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك، فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القوَّاد ووجوه الناس، فإذا كان غدًا فاحضر، ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس يأكل ويزَمْزِم على عادة المجوس، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فقال: أكره أن أبيت ليلةً على غير دين، فلما أصبح أسلم على يده. وكان مع فضله يُتَّهم بالزندقة، وكان بعد أن أسلم إذا مرّ ببيت النار للمجوس يتمثل: [من الكامل] إني لأمنَحُكَ الصُّدودَ وإنني ... قسمًا إليكَ مع الصُّدود لأَمْيَلُ (¬1) وكان محمد المهدي يقول: ما وجدتُ كتابَ زَنْدَقة إلا وأصله ابن المقفع. وقد صنَّف المصنفات الحسان، منها: "الدرة اليتيمة" التي لم يُصنَّف في فنِّها مثلها، وكان له الكلام البليغ، فمن كلامه: ينبغي لمن خَدَم السلطان ألا يغتر به إذا رضي، ولا يتغير له إذا سَخِط، ولا يستثقل ما حَقَله، ولا يُلْحِف في مسألته. وقال: لا تكن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك، وكن حافظًا إذا ولاك، أمينا إذا ائتمنك، راضيًا إذا أسخطك، ومع هذا فالحذر من صحبته كل الحذر. ¬

_ (¬1) البيت للأحوص، وهو في ديوانه ص 166.

وقال: لا تغُرَّنَك سَعَةٌ تكون فيها؛ فإن أعظم الناس خطرًا مَن يدبر في ما في يده (¬1)، والملوك إلى حسن التدبير أحوج إليه من السُّوقة؛ فإن السوقة قد تعيش بغير مال، والملوك لا بد لهم من المال، ولا قِوام لهم إلا به. وقال: لا ينبغي للملك أن يغضب؛ لأن القُدوة من وراء حاجته، ولا أن يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على ما لا يريد، ولا أن يبخل؛ لأن البخل مذموم، ولا أن يكون حَقودًا؛ لأن خطوه يَجلُّ عن المجاراة. وقال: من أوقع الأمور في الدين، وأنهكِها للجسم، وأتلفِها للمال، وأفسدِها للعقل، وأذهبِها للوقار؛ الغَرامُ بالنساء، ومن البلاء على المُغرَم بهن أنه لا ينفكُّ يَسأم فيما عنده، وتَطمَح عيناه إلى ما ليس عنده، وربما هجم على ما يظنه حسنًا وهو قبيح، حتى لو لم يبق في الأرض إلا امرأة واحدة ظن أن لها شأنًا غير شأن مَن ذاقه، وهذا غاية الحُمْق. وقيل له: مَن أدَّبَك؟ قال: نفسي، إذا رأيتُ شيئًا أذُمُّه من غيري اجتنبتُه. وحضر يومًا مَأدُبة فيها معن بن زائدة، وفيها جواري يغنّين، فغنت واحدة بمعن فأعطاها ألف دينار، وغنَّت أخرى لابن المقفع فأعطاها مئة ألف درهم، فقال معن: لله در الفارسي فلقد بَرَّز علينا. واجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد، فقيل للخليل: كيف رأيتَه؟ فقال: علمُه أكثر من عقله. ذكر مقتله: كان ابن المقفَّع يعيب سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلَّب عامل البصرة، وينال من أمه -وهي ميسون بنت المغيرة بن المهلَّب- ويقول: يا ابن المُغْتَلِمَة، والله ما اكتفت أمك برجال العراق حتى نكحها رجال أهل الشام. وكان أنف سفيان كبيرًا؛ فكان ابن المقفع إذا دخل عليه قال: السلام عليكما، يعني نفسَه وأنفَه. ¬

_ (¬1) في الأدب الكبير لابن المقفع 67، والمنتظم 8/ 53: فإن أعظم الناس خطرًا أحوجهم إلى التقدير.

وقال له يومًا: ما تقول في زوج وامرأة كم لهما من الميراث، يسخر به على ملأ من الناس. وقال سفيان يومًا: ما ندمتُ على سكوت قط، فقال له ابن المقفع: الخَرَس زَيْنٌ لك فكيف تندم عليه؟ وكان يستخِفُّ به وسفيان لا يقدم عليه لمكانته، وكان سفيان يقول: والله لأُقَطِّعنه إربًا إربًا وعينه تنظر. فقدم سليمان بن علي وعيسى بن علي البصرة ليكتبا أمانًا لعبد الله بن علي، وكان ابن المقفّع يكتب لعيسى بن علي، وأمره فكتب كتاب أمان، واتَّفق أن أبا جعفر قال لابن المقفع: اكتب كتابَ أمان لعبد الله بن علي، وسهّل الأمر فيه، فكتب كتاب أمان وفيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله بن علي فنساؤه طوالق، ودوابُّه حُبُس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حلٍّ من بيعته، وأمواله صدقة، وعليه المشي إلى بيت الله حافيًا، وكان ابن المقفع يَتَنَوَّق في الشروط، فلما وقف عليه أبو جعفر عَظُم عليه ذلك، ولما حبس عبد الله بن علي أرسل إليه يقول: ما هذا أمانُك وكتابُك؟ ! فساءه ذلك، فكتب إلى سفيان بن معاوية يأمره بقتله، وكان سفيان مُضْطَغِنًا عليه. فاستأذن ابن المقفع يومًا على سفيان، فأخَّر إذنه حتى خرج مَن عنده، ثم أذن له فدخل، فعدل به إلى حجرة، ولما دخل على سفيان قال له: أتذكر ما كنتَ تقول في أمي؟ فقال: أنشدك الله أيها الأمير في نفسي، فقال: أُمِّي مُغْتَلِمَة؟ إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد، وأمر بتنُّور فسُجِر، ثم أمر به فقُطِّعت أعضاؤه عضوًا عضوًا، وهو يُلقيها في النار وهو ينظر، حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق عليه التنور وقال: ليس عليَّ في المُثْلَةِ بك حَرَج؛ لأنك زنديق قد أفسدتَ الناس. ولما خرج القوم من عند سفيان رأوا غلمانه على الباب، فسألوهم عنه فقيل: دخل بعدكم واختفى أثَرُه، فخاصم سليمان بن علي وعيسى بن علي سفيان، وأشخصاه إلى المنصور مُقيَّدًا، وحضر الشهود الذين شهدوا أنه دخل دار سفيان ولم يخرج، وأقاموا الشهادة، فقال لهم أبو جعفر: إنا ننظر في هذا، أرأيتم إن قتلتُ سفيان بن معاوية وخرج ابن المقفع من هذا الباب -وأومأ إلى باب خلفه- وخاطبكم، ما تروني صانعًا بكم، أأقتلكم بسفيان، فرجعوا كلهم عن الشهادة، وعلموا أن قتله كان برضاه،

عبد الله بن محمد

وأضرب عيسى عن ذكره. وقال البلاذي: لما قدم عيسى بن علي (¬1) البصرة في أمر عبد الله قال لابن المقفع: اذهب إني سفيان في أمر كذا وكذا، فقال: ابعث إليه غيري فإني أخاف منه، فقال: اذهب فأنت في أماني، فذهب إليه ففعل به ما ذكرنا. وقيل: ألقاه في بئر المخرج وردم عليه الحجارة. وقيل: أدخله حمامًا وأغلق بابه فاختنق. وابن المقفع من شعراء "الحماسة"، قال في باب المراثي: [من الطويل] رُزئْنا أبا عمروٍ ولا حيَّ مثلَه ... فلله رَيْبُ الحادثاتِ بمَن وَقَع فإن تكُ قد فارَقْتَنا وتركتَنا ... ذَوي خَلَّةٍ ما في انْسِدادٍ لها طَمَعْ فقد جرَّ نفعًا فقْدُنا لك إننا ... أمِنَّا على كلِّ الرَّزايا من الجَزَعْ (¬2) عبد الله بن محمد ابن عَقيل بن أبي طالب، وكنيته أبو محمد، وأمه زينب الصغرى بنت علي بن أبي طالب. وهو من الطبقة الرابعة من أهل المدينة، قدم على هشام بن عبد الملك فأمر له بأربعة آلاف دينار، فسُرِقت منه، فجمعوا له مثلها فقال: إن كانت صدقةً لا تحلّ لنا، وإن كانت صِلَةً قبلتُها، قالوا: صلة، فأخذها. وكانت وفاته في هذه السنة بالمدينة، وكان كثيرَ العلم إلا أنه مُنكر الحديث. أسند عن ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعلي بن الحسين، وابن المسيب وغيرهم. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): لما قدم ابن موسى، والمثبت من أنساب الأشراف 3/ 252. (¬2) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 863، وانظر أمالي المرتضى 1/ 134، أخبار الحكماء ص 148، وفيات الأعيان 2/ 151، الوافي بالوفيات 17/ 633، السير 6/ 208، تاريخ الإسلام 3/ 910، لسان الميزان 5/ 21، خزانة الأدب 8/ 177، أمراء البيان 99 - 158 لمحمد كرد علي. وذكره ابن الجوزي في المنتظم 8/ 52 في وفيات سنة (144 هـ).

عمرو بن عبيد بن باب

وقال يعقوب بن سفيان: هو صدوق إلا أن في حديثه ضعفًا. وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: هو ثقة. وقيل: إنه تغير في آخر عمره (¬1). عمرو بن عُبيد بن باب أبو عثمان البصري المعتزلي، وباب من سبي فارس وهو مولى آل عَرادة بن يربوع بن مالك. وقال الخطيب: كان أبوه نَسَّاجًا، ثم صار شُرطيًّا للحجاج بن يوسف، وهو من سَبْي سجستان. وقال الزبير: كان أبوه يخلف أصحاب الشُّرَط بالبصرة، فكان الناس إذا رأوه مع أبيه قالوا: خير الناس مع شرِّ الناس! فيقول أبوه: صدقتم هذا إبراهيم وأنا آزر. وقال الهيثم: كان عمرو عالمًا زاهدًا ناسكًا عابدًا ورعًا عفيفًا، من أهل السنة، يجالس الحسن البصري، وحفظ عنه، واشتهر بصحبته، ثم أزاله عن ذلك واصل بن عطاء المعتزلي (¬2)، وغيَّر أحواله، ونقله من القول بالسنة إلى الاقدر والاعتزال. وقال أبو اليقظان: كان عمرو من دعاة يزيد الناقص في أيام بني أمية، ثم قال بإمامة أبي جعفر. وكان أبو جعفر يعظمه ويحترمه ويمدحه ويقول: نَثرتُ الحبَّ للناس فلقطوا إلا عمرو بن عبيد. ذكر نبذة من مواعظه لأبي جعفر: قال عُقبة بن هارون: دخل عمرو بن عبيد على أبي جعفر المنصور وعنده المهدي بعد أن بايع له ببغداد، فقال له: يا أبا عثمان، عظني فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر الذي أصبح في يدك لو بقي في يد غيرك لما وصل إليك، وإني أُحذِّرك ليلة تَمَخَّضُ بيومٍ لا ليلة بعده، ثم أنشده: [من البسيط] ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 481، وأنساب الأشراف 2/ 72، وتهذيب الكمال (3543)، والسير 6/ 204، وتاريخ الإسلام 3/ 908، وميزان الاعتدال (4309)، ولم أقف على كلام أحمد. (¬2) في (ب): الغَزَّال، وهو وصف لواصل، صحيح، انظر السير 5/ 464.

أيُّهذا الذي قد غَرَّه الأملُ ... ودون ما يأمُلُ التَّنغيصُ والأجَلُ ألا ترى أنَّما الدنيا وزينتُها ... كمنزل الرَّكب حَلُّوا ثُمَّتَ ارتحلوا حُتوفها رَصَدٌ وعيشُها نَكَدٌ ... وصَفْوُها كَدَرٌ ومُلْكُها دُولُ تظلُّ تَقرَعُ بالرَّوعاتِ لساكنَها ... فما يَسوغُ له لينٌ ولا جذَلُ كأنه للمنايا والرَّدى غَوَضٌ ... تظلُّ فيه بناتُ الدَّهرِ تَنتضلُ تُديره ما أدارتْه دوائرُها ... منها المصيب ومنها المخطئ الزَّللُ والنفس هاربةٌ والموت يَرصُدها ... وكل عَثْرَةِ رِجْلٍ عندها جَلَلُ والمرءُ يَسعى بما يَسعى لوارثه ... والقبرُ وارثُ ما يسعى له الرجلُ فبكى المنصور (¬1). وقال إسحاق بن الفضل: بينا أنا على باب المنصور وإلى جانبي عُمارة بن حمزة إذ طلع عمرو بن عبيد على حمار، فنزل عن حماره، ونحَّى البساط برجله، وجلس دونه، فالتفت إلي عمارة وقال: ما تزال بصرتكم ترمينا بأحمق أحمق، فما فصل كلامه من فيه حتى خرج الربيع فقال لعمرو: أجب أمير المؤمنين يا أبا عثمان جُعلت فداك، فمرَّ متوكِّئًا عليه، فقلت لعمارة: إن الرجل الذي استَحْمَقْتَ قد دُعي وتُرِكنا! فقال: كثيرًا ما يكون مثل هذا. فأطال اللبث، ثم خرج الربيع وعمرو متكئ عليه فقال: يا غلام، حمار أبي عثمان، فما برح حتى علا سرجَه وسوَّى ثيابَه، واستودعه الله، فأقبل عمارة على الربيع وقال له: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل فعلًا لو فعلتموه بولي عهدكم كنتم قد قضيتم حقَّه! قال الربيع: فما غاب عنك والله أكثر من فعل أمير المؤمنين وأعجب، فقال: حدِّثْنا، فقال: ما هو إلا أن سمع بمكانه فما أمهل حتى فُرِش له مجلسٌ باللُّبود، ثم انتقل هو والمهدي إليه، ثم أذِن له فدخل، فسلَّم عليه، فردَّ عليه ورحَّب به، وما زال يُدنيه حتى أتكأه على فخذه، ثم سأله عن أهله يُسمِّيهم واحدًا واحدًا الرجال والنساء، ثم قال له: يا أبا عثمان عِظني، فقال: ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 14/ 64، والمنتظم 8/ 58 - 59.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} إلى قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} فبكى بكاء شديدًا كأنه لم يسمع تلك الآيات إلا في تلك الساعة وقال: زدني، فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر منه نفسَك ببعضها، واعلم أن هذا الأمر الذي صار إليك إنما كان في يد مَن كان قبلك، ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى مَن هو بعدك، وإني أُحذِّرك ليلةً تَمَخَّضُ صبيحتُها عن يوم القيامة، فبكى والله أشد من الأول، فقال له سليمان بن مجالد: رِفقًا بأمير المؤمنين فقد أتعبتَه اليوم، فقال له عمرو: بمثلك ضاع الأمر وانتشر لا أبا لك، ماذا خفت عليه إن بكى من خشية الله تعالى؟ فقال المنصور: يا أبا عثمان أعنِّي بأصحابك، فقال: أظهر الحقَّ يتبعْك أهلُه. قال: قد بلغني أن محمد بن عبد الله بن حسن كتب إليك كتابًا، قال: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه قال: فما أجبتَه؟ قال؛ أوليس قد عرفتَ أيامَ كنت تتردَّد إلينا أني لا أرى السيف؟ فقال: قد أمرتُ لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على سفرك وزمانك، فقال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتأخُذَنَّها، قال: والله لا أخذتها، فقال له المهدي: يحلف أمير المؤمنين وتحلف؟ وكان على المهدي سوادُه وسيفه، فقال للمنصور: مَن هذا الفتى؟ فقال: هذا ابني محمد المهدي وهو وليُّ العهد، فقال: والله لقد أسميتَه اسمًا ما استحقَّه عملُه، وألبستَه لباسًا ما هو من لُبس الأبرار، ولقد مهَّدت له أمرًا أمتع ما يكون فيه أشغل ما يكون عنه. ثم التفت إلى المهدي فقال له: يا ابن أخي، إذا حلف أبوك وحلف عمُّك كان أبوك أقدر على الكفارة من عمك، فقال له المنصور: يا أبا عثمان، هل لك من حاجة؟ قال: نعم؛ لا تبعث إليَّ حتى آتيك، قال: إذًا لا تأتيني، قال: عن حاجتي سألتني، ثم ودَّعه ونهض، فأتبعه بصرَه وهو يقول: [من الرجز] كلُّكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صَيد (¬1) غير عمرو بن عبيد ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) و (ب) زيادة: كلكم يطلب دنيا، ولم أقف على أحد ذكرها.

وقال البلاذري: دخل عمرو بن عبيد على أبي جعفر وعليه طيلسان مُخَرَّق، فرمى أبو جعفر طَيلَسانه عليه، ثم قال له: عِظني، فوعظه فبكى وقال: يا أبا عثمان ارفع إليَّ حوائجَك، فقال: أولها أن ترفع هذا الطيلسان عني، ولا تعطني شيئًا حتى أسألك، ولا تبعث إلي حتى آتيك، واتق الله في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فقال: يا أبا عثمان، إن أكثر ما أخاف عمال السوء الذين يظلمون الرعية، والله لوددت أقوى خلق الله عليها يليها دوني، هذا صاحبا فارس؛ رفع إليَّ خراجَ ما زعم أنه حصل في السنة الماضية خمسة آلاف درهم، وكتب إليَّ صاحبُ خبري هناك أنه قد احتبس لنفسه خمس مئة ألف درهم من مال المسلمين، فبمن أثق؟ أما بطني فوالله ما أبالي ما جاوز لَهَواتي، وهذه جُبَّتي لها ثلاثون شهرًا منذ لبستُها، فعلام أتأسَّف على الدنيا وهذه صفتي، وأما مقدار ما يكفيني من المطعم والمشرب فإذا هو في كل شهر عشرة دراهم (¬2)، أفتراني أتعمَّد ظُلمَ مسلم أو ذمي وهذه حالي؟ ودخل عمرو على المنصور فقال: يا أمير المؤمنين، إن من وراء بابك نيرانًا تأجَّجُ من الجَور والظُّلم، واللهِ ما يُعمَل وراء بابك بكتاب الله ولا سنة رسوله، وإن الله سائلك عن مثاقيل الذرِّ من الخير والشر، وإن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خُصماؤك يوم القيامة، وإن الله لا يرضى منك إلا العَدْل في بريَّته، وكان على رأس أبي جعفر سليمان بن مجالد فقال له: اسكت أيها الشيخ فقد شققتَ على أمير المؤمنين وأبكيتَه، فقال عمرو: مَن هذا؟ فقال أبو جعفر: هذا أخوك سليمان بن مجالد، فقال له: ويحك، والله إنه ميت ومُخَلٍّ ما في يديه، ومُرْتَهَن بعمله، وأنت والله غدًا جيفةٌ بالعَراء، ثم التفت إلى أبي جعفر وقال: والله لَقُربُ هذا الجدار خيرٌ لك من قُرب سليمان إذ طوى عنك النصيحة، ومنع مَن ينصحك، وكأني والله بهذا غدًا جيفة على الصراط يُجَرُّ برجله إلى النار، وإن هذا وأمثاله اتخذوك سُلَّمًا إلى شهواتهم، وإنهم لا يغنون عنك من الله شيئًا يوم القيامة، فقال أبو جعفر: فكيف أصنع؟ فقال: اطرد عنك هؤلاء الشياطين، واصحب أهل الصلاح، قال: فهذا خاتمي فابعث به إلى أصحابك فوَلِّهم، فقال: إن أهل الدين لا ¬

_ (¬1) أنساب الأشراف 3/ 263 - 264. (¬2) كذا، ولم أقف على مَن ذكر هذه القطعة.

عمرو بن ميمون بن مهران

يأتونك ومثل هذا معك؛ لأنهم إن أطاعوهم أغضبوا ربهم، وإن عصوهم أغروك بقتلهم، ارفع عَلَم العدل وقد استغنيتَ عن أصحابي (¬1). عمرو بن مَيمون بن مِهران أبو عبد الله الجزري، كان فاضلًا زاهدًا، عرض عليه أبو جعفر المنصور أن يُقطعه قَطيعةً فأبى وقال: إني رأيت همَّ الرجلِ على قدر انتشار ضَيعته، وإني يكفيني من هَمِّي ما أحاطت به داري، فإن رأيت أن تُعفيني، فأعفاه، وبلغ هذا الكلام الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، فلم يزل يُردِّده حتى حفظه. وكان يعطش فما يستسقي من أحد حتى يأتي بيته فيشرب منه، فيقال له في ذلك فيقول: كل معروف صدقة، وما أحبُّ أن يتصدَّق عليَّ أحد. وقال الواقدي: مات سنة خمس وأربعين بالجزيرة وقال ابن أخيه عبد الحميد: مات عمرو بالكوفة لأنه قال: بلغني أنه يُحشر من ظهرها سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، فأحببتُ أن أموت بها. وقيل: إنه مات سنة أربعين ومئة، وقيل: سنة ثمان وأربعين، وسمع أباه، وعمر بن عبد العزيز، والزهري وغيرهم، وروى عنه ابن عيينة (¬2)، وابن المبارك، ويزيد بن هارون، واتفقوا على صدقه وثقته وورعه، وأثنى عليه الإمام أحمد رحمة الله عليه بذلك. محمد بن عمران ابن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التَّيمي، أبو سليمان، قاضي المدينة الذي حكم بين الجَمَّالين والمنصور (¬3)، وهو من الطبقة الخامسة من أهل المدينة، وأمه أسماء بنت سلمة بن عمر بن أبي سلمة، وأمها حفصة بنت عبد الله بن عمر بن ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 272، والمعارف ص 482، وأنساب الأشراف 3/ 262، ومروج الذهب 6/ 208، وأمالي المرتضى 1/ 164، وتاريخ بغداد 14/ 63، وتهذيب الكمال (4995)، والمنتظم 8/ 58، وتاريخ الإسلام 3/ 941، والميزان (6057)، والسير 6/ 104. (¬2) الذي في المصادر: سفيان الثوري، انظر تاريخ بغداد 11/ 89، وتاريخ دمشق 56/ 76، وتهذيب الكمال (5046)، والمنتظم 8/ 93، والسير 6/ 346، وتاريخ الإسلام 3/ 945، وطبقات ابن سعد 9/ 487. (¬3) سلفت القصة في الصفحة 94.

يحيى بن الحارث الذماري

الخطاب، وأمها أسماء بنت زيد بن الخطَّاب بن نُفَيل. قضى لبني أمية، ثم للمنصور على المدينة، وكان جَليلًا مَهيبًا صَليبًا من الرجال، وكان قليل الحديث، ومات بالمدينة في سنة أربع وخمسين ومئة، وقيل: سنة خمس وأربعين ومئة، فبلغ موته أبا جعفر فقال: اليوم استوت قريش. اتفقوا على صدقه وثقته وديانته وورعه ونزاهته، وكان له من الولد عبد الله وعبد العزيز (¬1). يحيى بن الحارث الذِّماريّ من الطبقة الرابعة من أهل الشام، كان عالمًا بالقراءة، إمام جامع دمشق، قرأ على واثلة بن الأَسْقَع، وعبد الله بن عامر، وقال: قلت لواثلة: بايعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدك هذه؟ قال: نعم، قلت: أعطنيها حتى أقبِّلَها، فأعطانيها فقبلتُها. وقال سُويد بن عبد العزيز: سألت الذِّماريّ عن عدد آيِ القرآن، فأشار بيده اليمنى وقال: سبعة آلاف ومئتان، وأشار بيده اليسرى وقال: وستة وعشرون. وقال الواقدي: مات يحيى بالشام سنة خمس وأربعين ومئة وهو ابن تسعين سنة (¬2)، وروى عن عمرو بن مَرْثَد الرَّحَبيّ وغيره، وروى عنه الأوزاعي وغيره. وفي آخر هذه السنة ثار السودان بالمدينة. ذكر السبب: كان رياح بن عثمان المُرِّي قد استعمل على الصدقة أبا بكر بن عبد الله بن أبي سَبْرة، وبعثه إلى طيّئ وأسد، فأخذ صدقاتهم، ثم اتَّفق خروج محمد بن عبد الله بن حسن، فقدم ابنُ أبي سَبْرة ومعه أربعة وعشرون ألف دينار قد أخذها من الصدقات، فدفعها إلى محمد بن عبد الله فتقوى بها، وكان رياح محبوسًا، فلما قُتل محمد كتب ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكر في أولاد محمد بن عمران: عبد العزيز، انظر نسب قريش 285، وطبقات ابن سعد 7/ 548، والمعارف ص 232، وأنساب الأشراف 8/ 231، وجمهرة ابن حزم ص 139، والتبيين ص 327. (¬2) في طبقات ابن سعد 9/ 467 وهو ابن سبعين سنة، وانظر تاريخ دمشق 18/ 48 (مخطوط)، والسير 6/ 189، وتاريخ الإسلام 3/ 1007.

عيسى بن موسى إلى أبي جعفر يخبره بخبر ابن أبي سبرة، فأمره أن يقيِّده ويحبسه، ففعل، وقُتل عيسى وهو في الحبس. وقيل: إن كثير بن حُصَين الذي استخلفه عيسى على المدينة ضربه سبعين سَوطًا وقيَّده، وقدم عبد الله بن الربيع الحارثي المدينة من قِبل أبي جعفر يوم السبت لخمس بقين من شوال، وكان معه جند، فأفسدوا وعاثوا فيها، فوثب عليهم سودان المدينة والرَّعاع، وقتلوا جندَه، وانتهبوا رحلَه، وخرج الحارثي من المدينة هاربًا، فنزل ببئر المُطَّلب على خمسة أميال من المدينة يريد العراق، وكسر السُّودان باب الحبس، وأخرجوا ابن أبي رُهْم (¬1)، وكسروا قيدَه، وحملوه حتى وضعوه على المنبر، فحذ على طاعة أبي جعفر، ونهى عن مخالفته، فقيل: صلِّ بالناس، فقال: أنا أسير والأسير لا يَؤم، ورجع إلى محبسه. وبلغ أبا جعفر فعلُ أبي بكر بن أبي سَبْرة بن أبي رُهْم القرشي، فولَّى على المدينة جعفر بن سليمان، وقال له: إن بيننا وبين أبي بكر بن أبي سَبْرة رَحِمًا، وقد آسى وأحسن، فإذا قدمتَ المدينة فأطلقه وأحسن جِواره، فلما وصل جعفر أطلقه. وكان مَعْن بن زائدة عاملَ أبي جعفر على اليمن، فسأل أبو بكر بن أبي سَبْرة جعفرًا والي المدينة أن يكتب له كتاب وصية إلى معن، فكتب له، فلقي الرَّابحيَّ الشاعر، فقال له أبو بكر: هل لك أن تخرج معي إلى اليمن؟ فقال: اكفني أمر عائلتي، فأمر لهم بما يصلحهم، ثم خرج معه فقدما على مَعْن، فلما قرأ كتاب جعفر قال له: جعفر أقدر على صِلَتِك مني فلا شيء لك عندي، فانصرف مغمومًا، فلما انتصف النهار دعاه معن وقال له: ما الذي حملك على القدوم عليَّ وأمير المؤمنين عليك واجد؟ فقال: قد زال ما عنده وأوصى بي جعفرًا، قال: كم عليك دين؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأعطاه ستة آلاف دينار وقال: اقض دينك وأصلح بألفين حالك، فجاء إلى منزله، وأخبر الرَّابِحيّ فجاء إلى معن فأنشده: [من الكامل] ¬

_ (¬1) هو أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سَبْرة بن أبي رُهْم.

الرَّابحيُّ يقول في مدحٍ ... لأبي الوليد أخي (¬1) النَّدى الغَمْرِ ملكٌ بصنعاءِ الملوك له ... ما بين بيت الله والشِّحْرِ فقال معن بن زائدة: فكان ماذا؟ فقال: حملتْ به أمٌّ مباركةٌ ... وكأنَّها بالحَمْلِ لم تدري فقال معن: ثم ماذا؟ فقال: حتّى إذا ما تمَّ تاسعُها ... وَلَدَتْه أولَ ليلةِ القَدْرِ وأتتْ به بِيضًا أسرَّتُه ... يُرجى لحمل نوائب الدّهرِ مسح القوابلُ وَجْهَه فبدا ... كالبدر بل أبهى من البدر فنَشا بحمد اللَّه حين نشا ... حَسَنَ المروءة طيِّبَ الذِّكرِ حتّى إذا ما طرَّ شاربُه ... خضع الملوكُ لسيِّدٍ بَهْرِ (¬2) فإذا وَهَى ثَغْرٌ يقال له ... يا مَعْنُ أنت سِدادُ ذا الثغْرِ فأعطاه ألف دينار، وخرج أبو بكر والرابحيُّ من اليمن، فقال له: أما الأربعة آلاف فلدَيني، وأما الألفان فبيننا نصفان، فقاسمه إياها. وعتب أبو جعفر على معن، فكتب معن يقول: جاءني كتاب جعفر، فظننت أن أمير المؤمنين قد رضي عنه، فكتب أبو جعفر إلى جعفر بن سليمان يعاتبه، فكتب إليه جعفر: إنك لما أوصيتَني به لم يكن من استيصائي به غير كتاب إلى معن أوصيه به. * * * ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): مدح الأريب أخي، والمثبت من أنساب الأشراف 3/ 108، والفرج بعد الشدة 2/ 23، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 145، والخبر دون الشعر في تاريخ الطبري 7/ 659 - 614، وتاريخ بغداد 16/ 536 - 538، والمنتظم 8/ 68، والسير 7/ 332. (¬2) في (خ) و (ب): لسيد القهر، وفي مختصر تاريخ دمشق 28/ 146: لسيد فهري، والمثبت من الفرج بعد الشدة 2/ 24.

السنة السادسة والأربعون بعد المئة

السنة السادسة والأربعون بعد المئة فيها بنى بغداد وتحوَّل إليها أبو جعفر في صفر، وكتب إلى الآفاق أن تَرِد عليه خطباؤهم وشعراؤهم وعلماؤهم، فكان فيمن قدم عليه من شعراء المدينة: إبراهيم بن علي بن سَلَمة بن عامر بن هَرْمَة، أبو إسحاق الفِهري المدني، من الخُلُج، والخُلُج قوم من عَدْوان، ألحقهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالحارث [بن فِهْر] بن مالك بن النَّضْر بن كنانة (¬1)، وسمُّوا بذلك لأنهم اختُلِجوا من عَدْوان. وكان ابن هَرْمَة شاعرًا فصيحًا، وهو أحد المخضرمين، أدرك الدولتين بني أمية وبني العباس، وكان يمدح الطالبيين ويحبّهم، ويقدّمهم علي بني العباس، وخرج مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فلما قُتل عاد إلى المدينة فأقام بها إلى أن قدم فيمن قدم على المنصور. قال ابن هَرْمَة: دخلتُ عليه وأنا خائف منه وقد جلس للناس وبينه وبينهم سِتْر، وقد اجتمع الخطباء والشعراء من كل مصر، وأبو الخَصيب الحاجب قائم عند الستر يقول: يا أمير المؤمنين، هذا فلان الخطيب، ثم يقول: اخطب، وهذا فلان الشاعر، ثم يقول: أنشد، قال ابن هرمة: وكنتُ آخر مَن بقي، فقال الحاجب: يا أمير المؤمنين، هذا ابن هَرْمَة فقال: لا مرحبًا به ولا أهلًا، ولا أنعم الله به عينًا، فاسترجعتُ وقلت: ذهبتْ والله نفسي، فقلتُ في نفسي: هذا موقف إن لم أُنشد فيه هلكتُ، فقال أبو الخَصيب: أنشِدْ، فأنشدتُ قصيدتي اللامية، إلى أن قلتُ في مدحه: [من الطويل] له لَحَظات في خَفاء سَريرةٍ ... إذا كَرَّها فيها عِقابٌ ونائلُ فأمُّ الذي أمَّنتَه تأمَنُ الرَّدى ... وأُمُّ الذي حاولتَ بالثُّكْلِ ثاكِلُ (¬2) فقال: يا غلام، ارفع الستر، ثم قال: أتممها، وقال: ادنُ فدنوت، فجلستُ بين يديه وبيده مِخْصَرة فقال: يا إبراهيم، قد بلغني عنك أشياء ولولاها لفضَّلتُك على ¬

_ (¬1) كذا، وفي الأغاني 4/ 367، وسمط اللآلي ص 398 أن الذي استلحقهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. وما بين معكوفين منهما. (¬2) وتقدمت أبيات ابن هرمة في الصفحة 41.

نُظرائك، فأقرَّ لي بذنبك أَعْفُ عنك، فقلتُ في نفسي: هذا عالم فقيه يريد أن يقتلني بحجَّة، فقلت: يا أمير المؤمنين، كلُّ ما بلغك مما عفوت عني بسببه فأنا مقرٌّ به، فضربني بالمِخْصَرة وقال: قد أمرتُ لك بعشرة آلاف درهم وخِلْعَة، وألحقتُك بنُظرائك مثل: رؤبة، وطريح بن إسماعيل، ولئن بلغني عنك ما أكره قتلتُك، فقلت: إن بلغك ذلك فأنت في حلٍّ من دمي، فقال: إن الزمان ضيِّق بأهله فاشتر بهذه إبلًا عَوامِلَ، وإياك أن تقول: كلما مدحتُ أمير المؤمنين أعطاني مثلها، هيهات والعَودُ إلى مثلها، قال: فقدمت المدينة، فأتاني رجل من الطالبيين فسلَّم علي، فقلت: تنحَّ عني لا تَشِيط بدمي، فقال: ألستَ القائلَ فينا: [من المتقارب] ومهما أُلام على حُبِّهم ... فإني أُحبُّ بني فاطمهْ بني بنت من جاء بالمُحْكَما ... تِ والدِّين والسُّنَّة القائمهْ ولستُ أُبالي بحبِّي لهم ... سواهم من النَّعَمِ السَّائمهْ قال ابن هرمة: فقلت: أعضَّ قائلَها بهَنِ أُمّه، فقال: قد قلتَها، فقال: أعضُّ بهَنِ أمي خير من أن أُقتل. ودخلتْ يومًا على المنصور جارية وعليه ثوب مَرْقوع فقالت: خليفةٌ يكون عليه ثوب مرقوع؟ ! فسمعها فقال: وَيحك أما سمعتِ قولَ ابن هَرْمَة: [من الكامل] إمَّا تَرَيْني شاحبًا مُتَبَذِّلًا ... كالسَّيفِ يَخْلَق جَفْنُه فيضيعُ ولَرُبَّ لَذَّةِ لَيلةٍ قد نِلتُها ... وحَرامُها بحلالها مَدفوعُ قد يُدرِكُ الشَّرفَ الفتى ورداؤه ... خَلَق وجَيبُ قميصِه مَرقوعُ (¬1) وفيها عزل أبو جعفر عبدَ الله بن زياد الحارثيّ (¬2) عن المدينة، وولَّى جعفرَ بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس. ¬

_ (¬1) الشعر والشعراء ص 753، طبقات الشعراء ص 20، أنساب الأشراف 3/ 255، تاريخ بغداد 7/ 46، تاريخ دمشق 2/ 474، المنتظم 9/ 21 (وفيات سنة 176)، السير 6/ 207، تاريخ الإسلام 3/ 809، ديوانه ص 144، 168، 214. (¬2) كذا في (ب) و (خ). والصواب: عبد الله بن الربيع. انظر تاريخ الطبري 7/ 656، والمنتظم 8/ 96، والكامل 5/ 576.

ولد جعفر بالشراة من أرض البلقاء، ونشأ بها عند أهله، وخرجَ معهم منها إلى الكوفة لَمَّا تولَّى أبو العباس الخلافة، وكان مع أبيه سليمان بالبصرة. قال الأصمعي: ما رأيتُ أشرفَ نفسًا من جعفر، ولا أكرم أخلاقًا. ركبَ يوم جمعة إلى الجامع ومعه جماعةٌ من الموالي، فمر بأبي سعيد الضبعي، وكان لجعفر جارية تسمى الخيزران يحبُّها، فناداه الضبعي: يا جعفر، أتحبُّ الخيزران، قال: نعم، فقال الضبعي: [من البسيط] نبئتُها عشقَتْ حشًّا فقلتُ لها ... ما يعشق الحَشَّ إلَّا كلُّ كنَّاسِ فضرب جعفر وجه دابته، ومضى مسرعًا حياءً من الناس (¬1). وركبَ يومًا في مواليه وحشمه وفُهوده وسُقوره (¬2)، فناداه رجل: يا جعفر، انظر أيَّ رجلٍ تكون غدًا إذا وقفت بين يدي الله، وقد خرجتَ من قبرك وحيدًا، ولا ينفعكَ هذا الجمع، ولا يغني عنك من الله شيئًا؟ وليسألنَّكَ اللهُ وحدَك، وأنتَ قائمٌ بين يديه وحدَك، فبكى جعفر، ورجعَ من نزهته إلى داره حزينًا كئيبًا. قال المصنف رحمه الله: ولم أقف على تاريخِ وفاة جعفر، إلَّا أنَّ ابن عساكر قال: كان حيًّا إلى سنة أربع وأربعين ومئة (¬3). وفيها عزل أبو جعفر عن البصرة سلم بن قتيبة، وسببُه أنه كتب إليه يقول: اهدم دورَ من خرج مع إبراهيم، واعقر نخيلَهم، فرقَّ عليهم، وكتبَ إليه يسألُه فيهم، فكتب إليه: افعل ما تؤمر، فكتب إليه سلم: بأيِّ ذلك أبدأ، بالدور أم بالنخل؟ فغضبَ أبو جعفر وكتب إليه: لو كتبت إليك آمرك بإفساد تمرهم لكتبت: بماذا أبدأ بالبرنيّ أم بالشهريز؟ فعزلَه وولى محمد بن سليمان، فعاث في البصرة. وكانت ولاية سلم عليها شهورًا، وهدم محمدٌ دورًا كثيرة، وحرقَ نخلًا، من ذلك ¬

_ (¬1) انظر عقلاء المجانين ص 92. (¬2) السقر: الصقر. انظر القاموس (سقر). (¬3) كذا، وفي مختصر تاريخ دمشق 6/ 62: سنة أربع وسبعين ومئة.

رياح بن عمرو

دار يعقوب بن الفضل (¬1)، وعون بن مالك، وأبي مروان، وعبد الواحد بن زياد، والخليل بن الحصين، وغيرهم. ثمَّ عزل أبو جعفر محمد بن سليمان عن البصرة، وولَّاها محمد بن أبي العباس (¬2). وعزل عيسى بن موسى عن الكوفة وولَّاه البصرة في جمادى الأولى هذه، وولى الكوفة محمد بن سليمان الذي عاث بالبصرة. وغزا الصائفة جعفر بن حنظلة البهرانيّ. ودخلت الخزر إلى تفليس، وفيها جبريل (¬3) بن يحيى، فهزموه وقتلُوا من المسلمين خلقًا كثيرًا. وحجَّ بالناس عبدُ الوهاب بن إبراهيم الإمام. رياح بن عمرو أبو المهاصر القيسي، كان من الخائفين المتعبدين. قال محمد بن الحر بن عبد ربه القيسيّ قرابة رياح: كنتُ إذا دخلت عليه المسجدَ أراه يبكي، وإذا دخلت عليه البيت أراه وهو يبكي، ورأيته في الجبَّان وهو يبكي، فقلت له يومًا: أنت دهرَك في مأتم وبكاء، ثم قال: يحقُّ لأهل المصائب والذنوب أنْ يكونوا كذا. وقال رياح: لي نيف وأربعون ذنبًا، قد استغفرت لكلِّ ذنب مئة ألف مرة. وجاء رياح بعد العصر يسأل عن ضيغم، فقيل: هو نائم، فقال: أنومٌ في هذه الساعة؟ ثم ولَّى. قال مالك بن ضيغم. فأتبعناه رسولًا وقلنا: ألا نوقظه لك؟ فغاب الرسول حتى غربت الشمس، ثم رجع، فقلنا له: أبطأت! فقال: هو كان أشغل من أن يفهم عني شيئًا، أدركتُه وهو يدخل المقابر، وهو يعاتبُ نفسه ويقول: قلت: نومٌ هذه الساعة؟ ينامُ الرجل متى شاء، وما عليك من هذا، تسألين عما لا يعنيكِ، لله عليَّ أن ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): الفضل. والتصويب من تاريخ الطبري 7/ 191، وسيأتي الكلام عنه في أحداث 169 هـ. (¬2) في المنتظم 8/ 96: محمد بن العباس. (¬3) تحرفت في (ب) و (خ) إلى حرملة. وانظر المنتظم 8/ 96.

ضيغم بن مالك العابد

لا أوسِّدَك الأرضَ سنة إلَّا من عذر، وجعل يوبِّخُها ولا يعلمُ بمكاني، فانصرفتُ وتركتُه. وكان رياح إذا صلى على البواري يُسمَع لدموعه عليها وقعٌ كوقعِ المطر: طَقْ طَقْ. وربما وُجد في بعض سكك المدينة مغشيًا عليه من الخوف. وكان له مِسْحٌ من شَعر، وغُلُّ من حديد، فكان إذا جنَّهُ الليلُ لبس المسح وجعل الغُلَّ في عنقه، وبكى وتضرَّع إلى الصبح. وقال الحارث بن سعيد: أخذ بيدي رياح وخرج بي إلى المقابر وقال: تعال حتى نبكي على ممرِّ الساعات ونحن على هذه الحال، ثم صرخَ ووقعَ مغشيًّا عليه، ثم أفاقَ وهو يقول: وانفسَاه وانفسَاه، ثمَّ قال: لنفسك فابك، ثم قام من غشيته وهو يقول: "تلك إذًا كرة خاسرة" فلم يلبث إلَّا أيَّامًا حتى مات، وكانت وفاته في هذه السنة. أسند عن حسان بن أبي سنان وطبقته، وشغله التعبُّد والخوفُ والبكاءُ عن الرواية (¬1). ضيغم بن مالك العابد كان من الخائفين البكائين المحزونين، وهو من الطبقة الخامسة من أهل البصرة، كان وردهُ في كلِّ يوم أربع مئة ركعة، وكان يركعُ حتى لا يقدر أن يسجد، ثمَّ يرفعُ رأسه إلى السماء ويقول: قرَّةَ عيني، كيف عزفت قلوبُ الخليقة عنك؟ ! وقال أبو أيوب مولى ضيغم: سمعته يقول: إلهي، لو أعلمُ أن رضاكَ في قرضِ لحمي لقرضته بالمقاريض. وقال مالك بن ضيغم: قالت أم ضيغم له يومًا: ضيغم، قال لها: لبيك يا أماه، قالت: كيف فرحك بالقدوم على الله؟ فصاح صيحة لم يُسمع صاح مثلَها قطّ، وسقط مغشيًّا عليه، فجلست العجوز تبكي عند رأسه وتقول: بأبي أنت وأمي، ما نستطيعُ أن نذكرَ بين يديك شيئًا من أمر ربك. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في حلية الأولياء 6/ 192، والمنتظم 8/ 97، وصفة الصفوة 3/ 367، وسير أعلام النبلاء 8/ 174.

عمرو بن قيس الملائي

وقالت له: ضيغم، قال: لبيك، قالت: أتحبُّ الموت؟ قال: نعم، قالت: ولم؟ قال: رجاء خير ما عند الله، فبكت العجوز وبكى، وتسامع أهلُ الدار، فجلسوا يبكون لبكائهم. وقالت له يومًا آخر: ضيغم قال: لبيك يا أمَّاه، قالت: أتحبُّ الموت؟ قال: لا، قالت: ولم؟ قال لكثرةِ تفريطي وغفلتي عن نفسي، فبكت العجوز وبكى ضيغم، وبكى أهلُ الدار. وقال رجلٌ لأمِّ ضيغم: ما أطولَ حزن ضيغم! فبكت وقالت. لمثل ما نُدِبَ إليه فليحزن، ذهب الحسن وأصحابه بالحزن، وهل رأيتَ محزونًا قط؟ وكان لا يشربُ الماءَ البارد، فقيل له في ذلك، فقال: حَانتْ منِّي نظرةٌ إلى امرأة، فجعلتُ على نفسي ألا أذوقَ الماء البارد أيَّام الدنيا، أنغِّصُ عليها الحياة، وكان ينشد: [من الكامل] قد يَخزُنُ الورع التقيُّ لسانَه ... حذوَ الكلامِ وإنَّه لمفوَّهُ وكانت وفاته في هذه السنة رحمة الله تعالى عليه (¬1). عمرو بن قيس المُلَائي من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة، كان من الأبدال، وكان يقول: حديثٌ أرقِّقُ به قلبي وأبلغُ به إلى ربِّي أحبُّ إليَّ من خمسين قضيةً من قضايا شريح. وكان سفيان الثوري يقعُد بين يديه ينظرُ إليه، لا يكاد يَصرِفُ بصره عنه. وكان يصوم الدهر ولا يعلم به أحد. ولَمَّا احتُضر بكى، فقال له أصحابه: علامَ تبكي؟ فلقد كنتَ والله منغَّصَ العيشِ أيَّام حياتك، فقال: والله ما أبكي على الدنيا، وإنَّما أبكي خوفًا أن أحرم خير الآخرة (¬2). وقال سفيان الثوري: عمرو بن قيس هو الذي أدبني، علَّمني قراءةَ القرآن ¬

_ (¬1) وكذا أورده ابن الجوزي في المنتظم 8/ 98 في وفيات هذه السنة. وقال الذهبي في السير 8/ 421، والصفدي في الوافي بالوفيات 16/ 374: توفي سنة ثمانين ومئة. والله أعلم. وانظر ترجمته أيضًا في صفة الصفوة 3/ 357. (¬2) في صفة الصفوة 3/ 125: خوف الآخرة.

والفرائض، فكنت أطلبُه في سوقه، فإن لم أجدهُ وجدتُه في بيته، إمَّا يصلِّي، وإمَّا يقرأُ القرآن، فإن لم أجدهُ في بيته وجدتُه في المسجد في زاوية كأنَّه سارقٌ يبكي، فإن لم أجده في المسجد وجدتُه في المقابر قاعدًا ينوح ويبكي على نفسه، فلمَّا مات عمرو أغلق أهل الكوفة حوانيتهم وخرجوا بجنازته إلى الجبَّان، وكان قد أوصى أن يصلِّي عليه أبو حيان التيميّ، فتقدَّم أبو حيَّان وكبَّر أربعًا، وسمعوا صائحًا يصيح: قد جاء المحسِن عمرو بن قيس، وإذا البرِّيَّةُ مملوءةٌ من طير أبيض لم يُر على خِلقتها وحسنها، وجعل الناس يتعجَّبون منها، فقال أبو حيان: من أيِّ شيءٍ تتعجبون؟ هذه ملائكةٌ جاءت فشهدت عَمرًا. وقال الخطيب: لما مات عَمرو رأوا البرِّيَّةَ مملوءةً رجالًا عليهم ثيابٌ بيض، فلمَّا صُلِّيَ عليه ودفن لم يُرَ في الصحراء أحد، وبلغ ذلك أبا جعفر، فقال لابن شبرمة وابن أبي ليلى: ما مَنعكُما أن تذكُرا لي هذا الرجل؟ فقالا: قد كان يسألنا أن لا نذكُره لك (¬1). وتوفي بالكوفة، وقيل: بالشام، وقيل: ببغداد، وقيل: بسجستان. سمع عكرمة، وأبا إسحاق السبيعي، وعطاء، ومحمد بن المنكدر، وروى عنه سفيان الثوري وغيرُه، وكان صدوقًا ثقة سيدًا خائفًا ورعًا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 14/ 62 - 63. (¬2) انظر ترجمته في حلية الأولياء 5/ 100، وتاريخ بغداد 14/ 60، والمنتظم 8/ 98، وتهذيب الكمال 22/ 200، وسير أعلام النبلاء 6/ 250، وتهذيب التهذيب 3/ 299.

السنة السابعة والأربعون بعد المئة

السنة السابعة والأربعون بعد المئة فيها خلع أبو جعفر ابن أخيه عيسى بن موسى من العهد، وولَّاه المهدي، وجعل عيسى بعدَه، وكان أبو العباس قد عهدَ إلى أبي جعفر، وبعده إلى عيسى بن موسى -وأقرَّه أبو جعفر على ذلك- وولَّاه الكوفة وأعمالها، وقدَّمه على الجيوش، وقتل عيسى محمدًا وإبراهيمَ ابني عبد الله بن حسن. وكان أبو جعفر لعيسى مكرمًا، وكان إذا دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأجلس محمدًا المهدي عن يساره، فلمَّا رأى أبو جعفر من ولده أمارات الصلاح، وأنَّه يصلحُ للأمر، وعزمَ على خلع عيسى وتوليته بعد محمد المهدي، وكان يستحي من عيسى، فأشار إليه أبو جعفر يومًا بألطف إشارةٍ، فصرخ عيسى -وكان قد فهم ذلك- فقال: [فـ] أين العهودُ والمواثيق والطَّلاق والعِتَاق والحجُّ ماشيًا وصدقةُ الأموال؟ فلم يجبه، فأعرضَ عنه أبو جعفر، وقال لابنه محمد: اجلس عن يميني في مجلس عيسى، وكان يجلسُ فيه، وإذا دخلَ عيسى بعد محمد جلسَ دون محمد، ولا يجلس عن يسار أبي جعفر، وأبو جعفر يتغيَّظُ من ذلك، وعيسى صابرٌ لا ينطقُ بحرف، ثم زاد هوانُ أبي جعفر لعيسى، فأمرَ أن يحفر الحائط الذي خلف عيسى كان يقعد عنده، ثمَّ يؤذن له على أبي جعفر، فيقوم فيدخل عليه والترابُ على قلنسوته وطيلسانه لا يغيِّره، فيقول له أبو جعفر [ما هذا؟ فلا يجيبه، فيقصد أبو جعفر] (¬1) أن يشكو، وهو لا يتكلَّم. وأمر أبو جعفر عيسى بن علي أن يدخل بينه وبين عيسى بن موسى، فيقال: إن عيسى بن علي سقى عيسى بن موسى سُمًّا، فمرضَ وتناثرَ شعرُه، وطلبَ من أبي جعفر أن يمضيَ إلى الكوفة، فقال له: أقم ها هنا، فقال: الكوفة أصلح، وكان ابن بختيشوع قد قال لعيسى: ما يمكنني أن أعالجـ[ــك] بحضرة أبي جعفر؛ لأنه لا آمنه على نفسي، فأذن أبو جعفر لعيسى في المسير إلى الكوفة، فسارَ وأقامَ يتمرَّض حتى برِئ، فقال أبو زياد يحيى بن زياد البُرْجُمي: [من المنسرح] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

أَفْلَتَ من شربةِ الطبيب كما ... أفلتَ ظبيُ الصَّريمِ من قبرِهْ (¬1) من قانصٍ يُنْفِدُ الفريص (¬2) إذا ... رُكبَ سهمُ الحتوفِ في وترِهْ دافعَ عنك المليك صولته ... صولة ليث يزيد في خُمُرِهْ حتى أتانا وفيه داخِلةٌ ... تُعرفُ في سمعِه وفي بصرِهْ أزعرَ قد طارَ عن مفارِقِه ... وحف أثيث النباتِ من شَعَرِهْ وكان عيسى لما سار من بغداد إلى الكوفة خرج أبو جعفر في إثره، فأقامَ أيَّامًا بالحيرة يُجْرِي الخيلَ في الحلبة، وعاد عيسى مِرارًا، ورجع إلى بغداد. وفي رواية أنَّ عيسى بن علي قال لأبي جعفر: إنما يمتنعُ عيسى بن موسى من البيعة للمهديّ؛ لأنَّه يتربَّصُ هذا الأمرَ لابنه موسى، فموسى هو الذي يمنعُه، فقال أبو جعفر لعيسى بن علي: فكلِّم أنت موسى بن عيسى فكلَّمه، فلم يجبه وامتنع، فتهدده، فخاف أن ينقل عيسى بن علي مجلسَه إلى المنصور فجاء إلى العباس فاستكتمَه ما يريد أن يقوله، فقال له: قل غير خائف، قال: قد علمتَ ما يلاقي هذا الشيخ أبي من الذل وصنوف الهوان، وقد رأيتُ أن أفدي أبي بنفسي، تقول لأمير المؤمنين إذا اجتمعنا تقول له: يا عيسى قد علمتُ سببَ ضنِّك بهذا الأمر عن المهدي؛ لعلوِّ سنِّك ودنوِّ أجلك، وإنما تَضنُّ به لأجلِ ابنك موسى، أفتراني أبقي ابنك بعدك، فيلي على ابني؟ كلا والله، ولآتين على نفس ابنك وأنت تنظر، فإن أجابَ فعسى يجيب من خوفه عليّ، فقال له العباس: يا ابنَ أخي، جزاك الله خيرًا، فلقد فديتَ أباك بنفسك. ثمَّ أتى أبا جعفر فأخبره، فقال: جَزى الله موسى خيرًا، وسوف أفعلُ ما أشارَ به. وجاء عيسى بن موسى فدخلَ على أبي جعفر، وعمومتُه وأهلُه عنده، فقال له: يا عيسى أعلم أنك إنَّما تريدُ هذا الأمر لابنك هذا المشؤوم عليك وعلى نفسه، فقال عيسى بن علي: البول البول، فقال أبو جعفر: ألا ندعو لك إناء فتبول فيه، فقال: في مجلس أمير المؤمنين، ذاك ما لا يكونُ أبدًا، وقام عيسى بن علي إلى أقرب البلاليع، ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ). وفي أنساب الأشراف 3/ 288، وتاريخ الطبري 8/ 11، وأشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم من كتاب الأوراق ص 309: قتره. (¬2) الفريص: أوداج العنق. القاموس (فرص). وتحرفت في أشعار أولاد الخلفاء ص 310 إلى: من قابض يقبض العريض.

فقال عيسى بن موسى لابنه موسى: قم مع عمِّك، فاجمع عليه ثيابه، فقام موسى من ورائه فجمعَ ثيابه وعيسى لا يعلم، ثم علم فقال: من هذا؟ قال: موسى بن عيسى (¬1)، [فقال]: بأبي أنت، والله إنكما لأحق بهذا الأمر، ولكن المرء مغرًى بما تعجَّل، قال موسى: فقلت في نفسي: قد أمكنني والله من مقاتله، وهو الذي يغري أبا جعفر بي وبأبي، والله لأقتلنَّه بما قال. ورجع موسى إلى أبيه عيسى فأخبره بما قال عيسى بن علي، وقال: إن هذا قد قتلني وإيَّاك، فدعني أخبر أبا جعفر بما قال ليقتله ويشفي صدورنا منه، فقال له أبوه: أفٍّ لك، ائتمنك عمُّك على مقالةٍ أراد أن يَسرَّك بها فجعلتَها سببًا لهلاكه؟ لا يسمعن هذا منك أحد.؟ وأعاد أبو جعفر كلامَه على عيسى بن موسى، فلم يجبه، فقال أبو جعفر: يا ربيع، اخنق موسى بحمائل سيفه، فقام فجعلَ يخنقُه خنقًا رويدًا، وموسى يصيح: الله الله فيَّ يا أمير المؤمنين، فوالله إني لبعيدٌ مما تظنُّ، والمنصورُ يقول: اشدد يا ربيع، والربيع يوهمه أنه يريد تلفه، وهو يرخي خناقه وموسى يصيح: الله الله فيّ. فلمَّا رأى ذلك عيسى بن موسى قال لأبي جعفر: والله ما كنتُ لأظنُّ أنَّ الأمرَ يبلغُ بك هذا كلَّه، فوالله ما أرى أن يقتل عبدٌ من عبيدي بسبب هذا الأمر، فكيف بولدي! وقد علمتَ ما فعلتُ معك، أخذت لك البيعة وأنت غائب، وحفظتُ عليك الخزائن، وقتلت إبراهيم ومحمد ابني عبد الله، وفعلت وفعلت، وأمَّا إذا أبيتَ فإنِّي أشهدُك أنَّ نسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وما أملك في سبيل الله، وهذه يديَ بالبيعة لمحمد المهدي، واصرف أموالي ومماليكي فيمن شئت، فقال له أبو جعفر: إنَّك قد قضيت حاجتي كارهًا، ولي حاجته أحبُّ أن تقضيها طائعًا، فتسلِّي بها ما في نفسي من الحاجة الأولى، قال: وما هي؟ قال: تجعلُ الأمرَ من بعد المهدي لنفسك، فقال: ما كنتُ لأدخلَ فيها بعد إذ خرجتُ منها، فلم يدعه ومن حضر حتى قال: فأميرُ المؤمنين أعلم، ثم خرج عيسى من عند أبي جعفر. وكان أبو (¬2) جعفر لمَّا عزمَ على البيعة لابنه، وامتنع عيسى وعرف الجند فكان ¬

_ (¬1) فوقها في (خ): كذا، وما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. انظر تاريخ الطبري 8/ 13. (¬2) هذه رواية أخرى فيما جرى بين المنصور وعيسى بن موسى. انظر تاريخ الطبري 8/ 14.

عيسى إذا ركب أسمعوه ما يكره فشكاهم إلى أبي جعفر، فتقدَّم إلى الجند بأن لا يؤذوه، وقال: عيسى جلدة ما بين عيني، ومن آذاه قتلته، فكانوا يكفُّون ثم يعودون، ثم إنَّ أبا جعفر كتبَ إليه كتابًا طويلًا يذكرُ فيه ما كانوا فيه على أيام بني أمية، وأنَّ الله أنقذهم ونصرَهم عليهم، ثم قال في آخره: وإنَّه لما نشأ هذا الغلام -يعني المهدي- قذفَ الله في قلوب شيعتنا وأنصارنا محبَّتَه، وأشربَها مودَّته، فصاروا لا يذكرون إلَّا فضلَه، وهم لا ينوهون إلَّا باسمه، فلمَّا رأى أميرُ المؤمنين ما قذفَ الله في قلوبهم من ذلك علمَ أنَّ الله تعالى تولَّى ذلك، وأنَّه ليس لأحدٍ فيه من العباد صنعٌ، فلم يجد بدًّا من متابعتهم (¬1) واستصلاح قلوبهم، فأحبَّ أن يعلمَك ذلك؛ ليكون ابتداؤه من قِبَلك؛ لتعلم شيعتنا وأنصارُنا من أهل خراسان أنَّك أسرعتَ إلى ما أحبُّوا، والسلام. فكتب إليه عيسى كتابًا طويلًا، منه: أما بعد، فإنَّني وصلني كتابُك، تذكرُ فيه ما أجمعتَ عليه من خلاف الحقّ، وركوب الإثم في قطيعة الرَّحِم، ونقضِ ما أخذَ الله عليه الميثاق من العامَّةِ بالوفاء للخلافة، والعهدِ من بعدك؛ لتقطعَ ما أمر الله به أن يوصل من حبله، وتفرِّقَ ما ألَّفَه من جمعه، وتجمع [بين] (¬2) ما فرق الله من أمره؛ مكابرةً لله في سمائه، ودخولًا (¬3) عليه في قضائه، ومتابعةً للشيطان في هواه، ومن كابرَ الله صرعه، ومن نازعه قمعَه، ومن خادعه خدعه، ومن توكَّل عليه منعَه، ومن تواضعَ له رفعه، إنَّ الذي أُسِّس عليه البناءُ، وحض عليه (¬4) الحذاءُ من الخليفة الماضي: عهدٌ ليس لأحدٍ من المسلمين رُخصة ديه، فلا يدعونَّك إلى الأمن من البلاء الاغترارُ بالبقاء، والترخيصُ في ترك الوفاء، فإنَّ من أجابَك إلى ترك ما وجب لي، واستحلَّ ذلك منِّي، لم يخرج إن أفتيته بالرخصة وأمكنته الرخصة (¬5) أن يكون إلى ذلك منك أسرع، ويكون بالذي أسَّست من ذلك أبْخَع، فاقبل العافية، وارض من الله بما صنع، وخذ ما أوتيت بقوة، وكن من الشاكرين، ومن راقبَ الله حفظَه، ومن أضمر خلافَه ¬

_ (¬1) في (خ): مبايعتها. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخ الطبري 8/ 17: وحَوْلًا. (¬4) في تاريخ الطبري 8/ 17: وخُطَّ عليه. (¬5) في تاريخ الطبري 8/ 17: إذا أمكنته الفرصة، وأفتنتهُ الرخصة ....

خذلَه، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} ولسنا مع ذلك نأمن حوادث الدهر وبغتات الموت قبلَ ما شرعت فيه من قطيعتي، فإنْ عجَّلَ بي أمرٌ كنتَ قد كُفيت مؤنةَ ما اغتممت به، وسترت منك قبيحَ ما أردتَ إظهاره، وإن بقيتُ بعدك لم تكن أوغرتَ صدري وقطعت رحمي، وغير خافٍ عنك أنَّ الشيطان عدوٌّ مضلٌّ مبين، ينزغ بين أهل الحق؛ ليفرِّق جمعهم، ويشتت كلمتَهم، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، ويتبرَّأ منهم عند حقائق الأمور، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52]، ثمَّ وصفَ الذين اتقوا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، والسلام. فلمَّا قرأ أبو جعفر كتابَه اشتدَّ غضبُه، وكتب إليه: اسْلُ عنها تنَل منها عوضًا (¬1) [في الدنيا] (¬2)، وتأمن من تبعاتها في الأخرى. وعاد الجندُ إلى أذاه، فلم يمنعهم أبو جعفر، فكان إذا ركبَ مشوا حوله، ونالوا منه، وقالوا: أنت البقرةُ التي قال الله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وكانوا يجلسونَ على بابه يمنعون من يدخل إليه، فشكاهم إلى أبي جعفر، فقال: إنِّي أخافُ عليك وعلى نفسي، فإنَّ الجندَ قد أُشربوا حبَّ هذا الفتى، فلو قدَّمتَه بين يديك فكان بيني وبينك لكَفّوا، فأجابَ إلى خلع نفسه. وفي روايةٍ أنَّ عيسى لما امتنعَ من الإجابة، قال أبو جعفر لخالد بن برمك: قد أعيتنَا وجوهُ الحيل، وضلَّ عنا الرأي في عيسى، فهل عندك حيلة؟ قال: نعم، ضمَّ إليَّ رجالًا من أعيان الشيعة، وأذهب إليه أكلمه، فضمَّ إليه ثلاثين رجلًا ومضى إليه، فدخل عليه فكلَّمه، وساعدَه القوم، وما أبقوا في الكلام بقية، وهو يقول: ما كنتُ أخلع نفسي، وقد جعلَ الله لي الأمرَ من بعده، فلمَّا خرجوا من عنده قال لهم خالد: ما عندكم؟ قالوا: تعيدُ على أمير المؤمنين ما قال، فقال: لا، بل نخبره أنَّه قد أجاب، ونشهد عليه أنه قد أنكر (¬3)، فقالوا: هذا هو الصواب، فدخلُوا على أبي جعفر، فقالوا: قد ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): غرضًا. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 19. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) كذا في (خ) و (ب). وفي تاريخ الطبري 8/ 20: ونشهد عليه إن أنكره.

أجاب، فكتب إلى الآفاقِ بالبيعة للمهدي، وبلغَ عيسى فأنكر، فشهدُوا عليه، ولم ينفع إنكارُه، وشكر أبو جعفر ذلك لخالد، وكان المهديُّ يصفُه بجزالة الرأي. وفي رواية أنَّ أبا نُخَيلة عمل شعرًا منه: [من الرجز] إلى أمير المؤمنين فاغتدي ... سِيري إلى بحرِ البحور المزبدِ إنَّ الذي ولَّاك ربُّ المسجدِ ... أمسَى وليُّ عَهدِها بالأسعدِ عيسى فزحْلفها (¬1) إلى محمدِ ... حتى تؤدَّى من يدٍ إلى يدِ فقد رضينا بالغلامِ الأمردِ (¬2) من أبيات. وشاعت ووقعت في أفواه العالم والخدم، وبلغت أبا جعفر، فاستدعاه ومجلسُه غاصٌّ بالناس، وعيسى بن موسى حاضر والقواد، فقال: أنشدني أرجوزتَك، فأنشده، فأعجبته، وكتب له إلى الرَّيِّ بعشرة آلاف درهم، فأخذَ الخطَّ وخرج، فقال له عقال بن شبة: أمَّا أنتَ فقد سررت أمير المؤمنين، فإن صح الأمرُ نلتَ خيرًا منه، وإلَّا فابتغ نفقًا في الأرض أو سلَّمًا في السماء من عيسى بن موسى، فبعثَ عيسى في طلبه من ذبحَه وسلخَ وجهه، فلم يعرف. وقال الهيثم: بلغَ أبا جعفر أرجوزةُ أبي نخيلة فاستدعاه، فأنشدَه إيَّاها بمحضر من عيسى بن موسى والأشراف والقوَّاد، فقال: قل للأميرِ الواحدِ الموحَّدِ ... ليس وليُّ عهدِنا بالأرشدِ عيسى فَزَحْلِفْها إلى محمدِ ... وناد بالبيعة جمعًا واحشدِ فلمَّا انقضى المجلس دعاهُ أبو جعفر، وكتبَ له بالجائزة إلى الرَّيّ، وقال له: احذر عيسى بن موسى، فخرجَ إلى الرَّي وبعثَ عيسى وراءَه مولاه قطري ومعه جماعةٌ، فاغتالوه، فذبحوه وسلخوا وجهَه، ورموا جسدَه للنسورِ فأكلته. وقيل: إنهم قتلوه بعد أخذ الجائزة. وفي روايةٍ أنَّ سلمَ بن قتيبة قال لعيسى لمَّا امتنع: أيُّها الرجل، بايع، فإنَّه لم ¬

_ (¬1) زحلفه: دحرجه ودفعه. القاموس (زحلف). (¬2) انظر الأبيات في تاريخ الطبري 8/ 22، وفيه اختلاف عما هنا.

يخرجك من الأمر، قد جعل لك الأمر بعد ابنه، فأجابَه وأتى سلم أبا جعفر فأخبره بذلك، فسُرَّ وحظي [سلم] (¬1) عنده، وبايع عيسى، ووفَى له المهديُّ بما ضمن، وكان قد ضمن له عشرة آلاف ألف درهم، وثلاث مئة ألف درهم بين أولاده، وسبع مئة ألف لواحدة من نسائه، فوفى له أبو جعفر بجميع ذلك، وكساه كسوة قيمتُها ألف ألف درهم ومئتي ألف درهم (¬2). وكانت ولاية عيسى بن موسى على الكوفة وسوادها ثلاث عشرة سنة. ولمَّا بويع المهدي قيل لشبيب بن شيبة (¬3) التميمي: كيف رأيت؟ فقال: رأيت الداخل راجيًا والخارج راضيًا. ولقي عيسى بن موسى لشريك بن عبد الله القاضي، وكان قد عُزِل عن القضاء، فقال له: يا أبا عبد الله، أما رأيت قاضيًا عُزِل؟ فقال: بلى، ورأيتُ وليَّ عهد خُلع. ولما عهد أبو جعفر إلى المهدي أوصاه فكان مما قال له: استدم النعم بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتأليف، والنصر بالتواضع، ولا تُبرِم أمرًا حتى تفكِّر فيه، فإنَّ فكر العاقل مرآته تريه حسناته وسيئاته، واعلم أن لا تعمر البلاد إلَّا بالعدل، ولا تدومُ نعمةُ السُّلطان إلا بالمال، وأقدر الناس على العفو أقدرُهم على العقوبة، وأعجزُ الناس مَنْ ظَلَمَ من هو دونه (¬4). وفيها غارت الترك مع استرخان الخوارزمي على تفليس، وكان بها حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد، فخرجَ إليهم، فقاتلهم فقتلوه، وقتلوا خلقًا كثيرًا من المسلمين وسبوا. وفيها انتثرت الكواكب من أوَّل الليل إلى الصباح، فخاف الناس (¬5). وفيها حجَّ أبو جعفر، وعزم على قبض جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، فنجَّاه الله منه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) انظر أنساب الأشراف 3/ 289، وتاريخ الطبري 8/ 24 - 25. (¬3) في (خ) و (ب): شبه. والمثبت من أنساب الأشراف 3/ 291. (¬4) المنتظم 8/ 105. (¬5) تاريخ الطبري 8/ 7.

قال الربيع: لَمَّا قدم المنصور في هذه الحجَّة المدينة قال: ابعث إلى جعفر بن محمد من يأتيني به متعبًا (¬1)، قتلني الله إن لم أقتله، فبعثت إليه فجاء، فقلت: يا أبا عبد الله، اذكر الله، فقد أَرسَلَ إليك لأمرٍ عظيم، فاسترجع جعفر، فلمَّا دخل عليه قال له: أي عدوَّ الله! أنت الذي اتَّخذك أهلُ العراق إمامًا يجبون إليك زكاة أموالهم، وتلحدُ في سلطاني، وتبغيه الغوائل؟ قتلني الله إن لم أقتلك. فقال: يا أمير المؤمنين، إن سليمان أُعطيَ فشكر، وأيوبَ ابتُليَ فصبر، وإن يوسفَ ظُلِم فغفر، وأنت من ذلك النسخ (¬2). فقال له أبو جعفر: إليَّ، و [أنت] عندي أبا عبد الله البريءُ الساحة، السليمُ الناحية، القليلُ الغائلة، جزاك الله من ذي رحمٍ أفضلَ ما جازى ذوي الأرحام عن أرحامهم. ثمَّ تناول يده فأجلسَه معه على فرشه، ثم دعا بغاليةٍ فغلَّفه بيده، ثمَّ قال: في حفظ الله وكلاءته. يا ربيع، الحق أبا عبد الله بجائزته وكسوته، فانصرفَ وتبعته وقلت له: قد رأيتُ العجبَ قبل دخولك وبعده، فأخبرني ما قلت. فقال: إنِّي دعوت بدعاء، قلت: اللهمَّ احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك عليّ، لا أهلكُ وأنت رجائي، اللهم إنَّك أكبرُ وأجلُّ مما أخاف وأحذر، اللهمَّ بك أدفع في نحره، وأستعيذُ بك من شرِّه. وكان العامل في هذه السنة على مكة والطَّائف عبد الصمد عمُّ المنصور، وعلى المدينة جعفر بن سليمان، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة عقبة بن سلم، وعلى قضائها سوَّار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم، وعلى خراسان نوَّابُ المهدي. ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ)، والمنتظم 8/ 106، وفي الفرج بعد الشدة للتنوخي 1/ 318 - وما سيأتي بين حاصرتين منه-: بغتة. وفي نسخة أشار إليها محققه: بغتًا. ووقع في الفرج بعد الشدة لابن أبي الدنيا (75)، وفي نسخة بهامش الفرج بعد الشدة للتنوخي: تعبًا. (¬2) كذا في (ب) و (خ)، وفي المنتظم 8/ 106: الشيخ (تحريف). وفي الفرج بعد الشدة لابن أبي الدنيا، والفرج بعد الشدة للتنوخي: السنخ. وهي الصواب. السنخ: الأصل. القاموس (سنخ)، وسبق الخبر في الصفحة 151.

عبد الله بن علي

عبد الله بن علي ابن عبد الله بن العباس عم المنصور، وأمه بربريَّةٌ يقال لها: هنَّادة، ولد سنة ثلاث ومئة، وقيل: سنة اثنتين ومئة في آخر ذي الحجة، وهو الذي هَزم مروان بالزاب، وتبعه إلى دمشق، وفتحَ دمشق، وهدمَ سورها، وجعلَ جامعها سبعين يومًا لدوابه وجماله وخيله، وقتلَ من أعيان بني أمية ثمانين رجلًا بنهر أبي فُطْرس من أرض الرملة، وطلبَ الخلافةَ، وهزمه أبو مسلم إلى البصرة، وشفعَ فيه أخوتُه إلى أبي جعفر، وأخذُوا ماله أمانًا منه، واستوثقوا بالأيمان والطلاق والعتاق والمشي حافيًا إلى مكة، فلما وقفَ أبو جعفر عليه قال: كل هذا يلزمني إذا وقعتْ عيني عليه، فلمَّا جاؤوا به إليه حبسَهُ، ولم تقع عينُه عليه، ولمَّا حُبس قال: [من الوافر] أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا (¬1) وبلغَ أبا جعفر فقال: نحن ما أضعناه، هو أضاعَ نفسَه، وأرادَ ضياع نفوسنا، فكانت نفوسُنا أعزَّ عندنا من نفسه. وقال ابن عساكر: دخلَ عبد الله بن علي يومَ فتح دمشق من باب كيسان، وعليه قميصٌ أسود وعمامة سوداء، وهو متقلِّدٌ سيفًا أسود، فرأته امرأة، فقالت: ما أقبحَ وجهَك وأشد لونَ سوادِك (¬2). ودخلَ دمشق، وقتل منها من أعيان بني أمية أربع مئة رجل (¬3). وكان عبدُ الله قد خرجَ مع عبد الله بن معاوية [بن عبد الله] (¬4) بن جعفر، فأسره ابن ضبارة، وبعث به إلى مروان بن محمد، فقال: ما الذي أخرجك مع ابن معاوية؟ قال: إنما أتيتُه طالبًا لرفده، فأحسنَ إليه وخلَّى سبيله، فلما كان يوم الزاب قال مروان: ما صفةُ الذي يحاربني؟ قالوا: ذاك المصفار (¬5) اللون، الدقيقُ الذراعين، الذي عفوتَ عنه، فقال مروان: رب معروف يجني (¬6) لصاحبه شرًّا، فذهب مثلًا. ¬

_ (¬1) وتمامه: ليوم كريهةٍ وسداد ثغرِ. وهو لعبد الله بن عمرو العرجي. انظر الشعر والشعراء 1/ 125. (¬2) تاريخ دمشق 646/ 36 (طبعة مجمع اللغة) غير أن القائل فيه في هذا الخبر شيخ لا امرأة. (¬3) تاريخ دمشق 36/ 646. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وأنظر أنساب الأشراف 3/ 127. (¬5) كذا في (ب) و (خ). وفي أنساب الأشراف 3/ 127: المصغَّر. وفيه أيضًا أنه شديد البياض حسن الوجه. (¬6) في أنساب الأشراف: يخبئ.

ومن شعر عبد الله: [من مجزوء الكامل] الظلمُ يصرع أهلَهُ ... والظلم مرتعُه وخيمُ ولقد يكون لك البعيـ ... ـــدُ أخًا ويقطعُك الحميمُ وقال أيضًا: [من البسيط] بني أمية قد أفنيتُ آخرَكم ... فكيف لي منكم بالأوَّلِ الماضي يطيِّب النفسَ أنَّ النار تجمعُكم ... عُوِّضتم من لظاها شرُّ مُعتاضِ منيتُمُ لا أقال الله عثرتكم ... بليثِ غابٍ إلى الأعداءِ نهَّاضِ إن [كان] غيظي لفوتٍ منكم فلقد ... رضيتُ منكم بما ربِّي به راضي (¬1) ذكر وفاته: حجَّ أبو جعفر في سنة سبع وأربعين ومئة بعد أن عقدَ البيعة لابنه محمد وبعده لعيسى بن موسى، فلما عزم على الحجّ دعا عيسى بن موسى سرًّا وقال له: إنَّ عبد الله بن عليّ أرادَ أن يُزيل النعمةَ عنِّي وعنك، وأنتَ وليُّ عهدي بعد ابني، والأمرُ صائر إليك، فخذ عبدَ الله بن عليّ فاضرب عنقَه، وإيَّاك أن تَخُورَ أو تضعف، فينتقضَ على ما دبرتُ لك. ثمَّ مضى أبو جعفر إلى الحج، وكتبَ إليه من الطريق يقول: يا عيسى، ما فعلتَ في الأمر الذي أُوعِزُ إليك فيه؟ فكتبَ إليه قد أنفذتُ ما أمرتَ به، فلم يشك أبو جعفر أنَّه قتلَه، وكان عيسى قد سترَ عبد الله بن عليّ، واستشار كاتبه يونس بن فروة (¬2) وابن شبرمة وابن أبي ليلى، فقال: إنَّ هذا الرجل قد دفعَ إليَّ عمَّه سرًّا، وأمرني بقتلِه، فماذا ترون؟ قال يونس: إنه أراد أن يقتلَه ثم يقتلك بعده، قال فما ترى؟ قال: استره في منزلك بحيث لا يراه أحد، فإن طلبه منك، فادفعه علانيةً، ولا تدفعه سرًّا، وأمَّا ابن أبي ليلى فقال: امض لما أمرك به، وأمَّا ابنُ شبرمة فإنَّه قال: لا تقتله فيقتلَك ويستريحَ منكما جميعًا. فلمَّا قدم أبو جعفر من الحج دسَّ إلى عمومته من يحرِّكُهم على مسألته في عبد الله، فجاؤوا إليه واستعطفوه وسألوه الرحم، فأجابَهم ودعا بعيسى، فقال: يا عيسى، إنِّي ¬

_ (¬1) انظر الأبيات في أشعار أولاد الخلفاء ص 298، وتاريخ دمشق 36/ 647. وما بين حاصرتين منهما. (¬2) في (ب) و (خ) بن أبي فروة. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 8، وتاريخ دمشق 36/ 656.

كنتُ لمَّا خرجتُ إلى الحج دفعتُ إليك عبد الله يكون في منزلك، وقد كلَّمني فيه عمومتي، وقد أجبتُهم إلى سؤالهم فيه، فسلِّمه إليهم، فقال: ألم تأمرني بقتله؟ ! وقد امتثلتُ أمرك، فقال: ما أمرتُك إلَّا بحبسِه، قال: هذا كتابُك من الحج، فقال: كذبت، فقال: والله ما كذبت، وما الكذبُ من شيمتي، ولقد قلتَ لي كذا وكذا في ليلة كذا وكذا، فقال أبو جعفر لعمومته: إنَّ هذا قد أقرَّ بقتل أخيكم، وادَّعى أنَّني أمرتُه، وما أمرته، فخذوه واقتلوه، فقاموا إليه وخرجوا به إلى ظاهر القصر ليقتلوه، فلمَّا رأىَ أنَّه مقتولٌ، قال: ردُّوني إلى أبي جعفر، فردُّوه فقال: إنَّما أردتَ أنْ أقتلَه ثم تقتلني، وقد انعكس عليك الأمرُ، هذا عمُّك حيٌّ، فتسلَّمه، فأخذهُ أبو جعفر فحبسَه عنده في قصره، فوقع عليه البيتُ الذي كان فيه فمات. وقيل: بنى له دارًا وجعل في أساسِها الملح، وأطلقَ الماء في الليل على الأساسات، فذابَ الملحُ، فوقعت الحيطانُ عليه فمات. وقيل: دفعَه إلى أبي الأزهر المهلّب بن عيسى (¬1) وقال: اقتله، فدخلَ عليه وهو نائمٌ فخنقَه، وكان إلى جانبه جاريةٌ، قال أبو الأزهر: فأردتُ خنقَها، فقالت: بالله يا أبا الأزهر قتلةٌ غير هذه، فما رحمتُ أحدًا غيرها، فأدرتُ وجهي عنها، وأمرت من خنقَها، ووضعتها إلى جانبه في الفراش، ووضعت يديه تحتها كأنَّهما متعانقين، ثم هدمتُ البيت عليهما، ثم دعوت القاضي ابن عُلاثة والشهود، وقلت: سقطَ البيتُ عليهما، فشاهدوهما، ثم دفنتُهما. ومات عبد الله وله خمسٌ وأربعون سنة. وسأل أبو جعفر بن عياش المنتوف، هل تعرف ثلاثةً أوائلُ أسمائهم عين، قَتلوا ثلاثةً أوائل أسمائهم عين؟ قال: نعم، عبد الرحمن بن ملجم قتل عليًّا - عليه السلام -، وعبد الملك بن مروان قتل عبد الله بن الزبير وسقطَ البيتُ على عمِّك عبد الله بن عليّ، فقال أبو جعفر: فسقطَ عليه البيتُ، فما ذنبي؟ قال: ما قلت إنَّ لك ذنبًا. وقيل: إنَّ الواقعةَ كانت مع أبي دلامة قال: وأنت أوَّل اسمك عين، قتلتَ عبد الله ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ). وفي أنساب الأشراف: المهلب بن العبيثر، وهو الصواب.

ابن حسن، وعبدَ الرحمن أبا مسلم، ووقعَ البيتُ على عمِّك عبد الله بن علي، فقال له أبو جعفر: وما كان فيه؟ قال: ما أدري ولكنَّني أحببتُ إعلامك. وقد قتل جماعةٌ أعمامَهم، منهم المنصور، والمعتضدُ غرَّق عمَّه أبا عيسى في الماء، وسَقى المعتضدُ عمَّه المعتمد السم، وكذا فعل جماعةٌ من ولاة المغرب، وقتل جماعة أولادَ إخوتهم، فأبو جعفر سمَّ محمد بن السفاح، والمعتصمُ قتل العباس بن المأمون، والقاهرُ قتل ابن أخيه [أبا] أحمد بن المكتفي بعصر خصييه (¬1). أسند عبد الله بن علي الحديثَ عن أبيه وإخوته محمد وداود ابني علي (¬2)، ورَوى عنه سلمةُ قاضي دمشق، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر رسالة نقط العروس في تواريخ الخلفاء لابن حزم ضمن مجموع رسائله 2/ 92. (¬2) في تاريخ دمشق 36/ 645: حدث عن أخويه محمد وداود ابني علي. ولم أقف على من ذكر أنه روى عن أبيه. بل روايته -كما في تاريخ ابن عساكر- عن أخويه عن أبيه، فالله أعلم. وانظر تهذيب الكمال 21/ 35، وسير أعلام النبلاء 5/ 284.

السنة الثامنة والأربعون بعد المئة

السنة الثامنة والأربعون بعد المئة فيها توفي جعفر الصادق ابن محمد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أبو عبد الله، وقيل: أبو إسماعيل، ويلقب بالصابر، والفاضل، والطاهر، وأشهر ألقابه الصادق. من الطبقة الخامسة من أهل المدينة. وأمه أمُّ فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وكان جعفر مشغولًا بالعبادة عن طلب الرياسة. قال عمرو بن أبي المقدام: كنتُ إذا رأيت جعفر بن محمد علمتُ أنَّه من سُلالة النبيين. وقال جعفر لسفيان (¬1): إذا أنعمَ الله عليك بنعمةٍ فأحببتَ بقاءها ودوامَها فأكثر من الحمد لله والشكر عليها، فإنَّ الله تعالى قال في كتابه العزيز: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وإذا استبطأتَ الرزق فأكثر من الاستغفار، فإنَّ الله يقول في كتابه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} الآيات [نوح: 10 - 12] يا سفيان، إذا حزبك أمرٌ من سلطان أو غيره فأكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم، فإنها مفتاح الفرج، وكنزٌ من كنوز الجنة. وقال: لا يتم المعروف إلَّا بثلاث؛ بتعجيله، وتصغيره، وستره. وسئل: لم حرم الله الربا؟ فقال: لئلَّا يتمانع الناسُ المعروف. وقال بعض أصحاب جعفر: دخلتُ عليه وبين يديه ابنُه موسى وهو يوصيه، فكان مِمَّا حفظتُ من وصيته أن قال: يا بنيّ، احفظ وصيتي، فإنَّك إن حفظتَها عشتَ سعيدًا ومتَّ حميدًا، يا بنيّ، إنَّه من قنع بما قسم الله له استغنى، ومن مد عينيه إلى ما في يد ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): وسفيان. والتصويب من صفة الصفوة 2/ 168. وانظر حلية الأولياء 3/ 193.

غيره ماتَ فقيرًا، ومن لم يرض بما قسمَ الله له اتَّهم الله في قضائه، ومن استصغرَ زلَّة نفسه استعظمَ زلَّة غيره، ومن استصغرَ زلَّة غيره استعظمَ زلَّة نفسه، ومن كَشَفَ حجابَ غيره انكشفت عورات بيته، ومن سل سيفَ البغي قُتِل به، ومن احتفر لأخيه بئرًا سقط فيها، ومن داخلَ السفهاء حُقِّر، ومن خالط العلماءَ وُقِّر، ومن دخل مداخلَ السوء اتُّهم، قل الحق لك وعليك، وإيَّاك والنميمة؛ فإنَّها تزرعُ الشحناء في قلوب الرجال، وإذا طلبت الجودَ فعليك بمعادنه. ووقع الذباب على وجه أبي جعفر المنصور، فذبَّه عنه، فعاد فذبَّه، فعاد حتى أضجره، فدخل عليه جعفر بن محمد، فقال له المنصور: يا أبا عبد الله، لم خلق الله الذُّباب؟ فقال: ليُذِلَّ به الجبابرة. وكان جعفر يقول: من لم يغضب من الجفوة لم يشكر النعمة. وقال: أصلُ الرجل عقلُه، وحَسَبُه تقواه، وكرمه دينه، والناس في آدم مستوون. وقال: لقد عزت السلامةُ حتى خفيَ مطلبُها، فإن تكن في شيء ففي الخمول، [فإن طُلِبت في الخمول] (¬1) ولم توجد فيوشكُ أن تكون في التخلِّي، فإن لم توجد، ففي الصمت، والسعيدُ من وجد في نفسه حالة (¬2) يشتغلُ بها. وقال الليث بن سعد: حججتُ سنة ثلاث عشرة ومئة، فارتقيتُ أبا قبيس بعد العصر، وإذا برجلٍ جالسٍ يدعو، فقال: يا رب يا رب، حتَّى انقطعَ نفَسُه، ثم قال: يا رباه يا رباه، حتى انقطعَ نفسه، [ثم قال: يا الله يا الله، حتى انقطع نفسُه] (¬3)، ثم قال: يا حيّ يا حيّ، حتى انقطع نفسه، ثم قال: يا إلهي، أشتهي العنبَ فأطعمنيه، وإنَّ بُرْدَيَّ قد أخلقَا فاكسُني، قال الليث: فوالله ما استتمَّ كلامَه حتى نظرتُ إلى سلَّةٍ مملوءةٍ عنبًا، وليس على وجه الأرض عنب، وإذا ببردين موضوعين لم أر في الدنيا مثلهما، فلمَّا أرادَ أن يأكل قلت: أنا شريكك، قال: ولم؟ قال: لأنِّي أمَّنْتُ على دعائك، فقال: تقدَّم فكل، فتقدَّمت فأكلت عنبًا لم أرَ قط مثلَه، ما كان له عَجَم، حتى شبعتُ ولم تتغيَّر ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر صفة الصفوة 2/ 171. (¬2) في صفة الصفوة 2/ 171: خلوة. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

السلَّة، فقال: لا تدَّخر شيئًا، ثم قال: خذ أحد (¬1) البردين، فقلت: أنا في غنى عنه، فاتَّزرَ بواحد وارتدى بالآخر، ثم نزل والبردان اللذان كانا عليه بيده، فلقيَه رجلٌ في المسعى فقال له: يا ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكسني، فإنِّي عريان، فدفع إليه البردين، فقلت للرجل: من هذا؟ قال: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، قال الليث: فطلبتُه بعد ذلك فلم أقدر عليه. وكان جعفر من الأجواد، كان يُطعِم الناسَ حتَّى لا يُبقي لعياله شيئًا. قال سفيان الثوري: قلت له: يا ابن رسول الله، اعتزلت الناس! فقال: فسدَ الزمان، وتغيَّر الإخوان، ورأيتُ الانفرادَ أسكنَ للفؤاد، وأنشد: [من الكامل] ذهبَ الوفاءُ ذهاب أمس الذاهبِ ... فالناسُ بين مخاتلِ ومُواربِ يفشون بينهم المودَّة والصفا ... وقلوبُهم محشوَّةٌ بعقاربِ وقال جعفر: الوقوفُ عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة. وقال: إنَّ على (¬2) كلِّ صوابٍ نورًا فما وافق الحق فخذوه، وما خالفَ الصوابَ فدعوه. وقال: من أخرجَه الله من ذلِّ المعصيةِ إلى عزِّ الطاعة فقد أغناهُ بغير مال، وأعزَّه بغير عشيرة، ومن خافَ الله خافَه كل شيءِ، ومن لم يخف منه أخافَه من كل شيء، ومن زهدَ في الدنيا غرسَ الله الحكمةَ في قلبه، فنطقَ بها لسانُه. وقال محمد بن عمر: سمعتُ جعفر بن محمد يقول لغلامه مُعَتِّب: اذهب إلى مالك بن أنس فاسأله عن كذا وكذا، ثم ائت فأخبرني. قال الواقدي: أخذَ المنصور مُعتِّبًا هذا لما حجَّ المنصور فضربه ألف سوط حتى مات. ولمَّا خرجَ محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة هربَ جعفر إلى ماله بالفُرْع، فلم يزل به هناك مقيما متنحيًا عمَّا كانوا فيه حتى قُتِل محمد واطمأنَّ الناس، فرجعَ إلى المدينة، ¬

_ (¬1) في صفة الصفوة 2/ 174: أحب. وليست في (ب). (¬2) في (ب) و (خ): وقال ابن علي. والمثبت هو الصواب وانظر تاريخ اليعقوبي 2/ 381.

فأقام بها إلى سنة ثمان وأربعين ومئة، فتوفي بها وهو ابن إحدى وسبعين سنة (¬1). ودُفن بالبقيع عند أبيه وجذه، وعلى قبره رخامة مكتوبٌ عليها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمدُ لله مبيد الأمم ومحيي الرمم، هذا قبرُ فاطمة بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سيِّدة نساء العالمين، وقبر علي بن الحسين، ومحمد بن عليّ، وجعفر بن محمد عليهم الصلاة والسلام (¬2). وقال الهيثم: سُمَّ جعفر، فما زال مريضًا حتَّى مات رحمة الله عليه. ذكر أولاده: فولد إسماعيلَ الأعرج، وعبدَ الله، وأمَّ فروة، وأمُّهم فاطمة بنت الحسين الأثرم بن حسن بن علي بن أبي طالب، وموسى بن جعفر، حبسه هارون ببغداد عند السندي مولى هارون، فمات في حبسه، وإسحاق، ومحمدًا، وفاطمة تزوَّجَها محمد بن إبراهيم الإمام، فهلكت عنده، وأمهم أم ولد، ويحيى، والعباس، وأسماء، وفاطمة الصغرى، وهم لأمهاتِ أولادٍ شتى (¬3). فأمَّا محمد فكان يسمى الديباج لحسنه، وأمَّا موسى فالنسلُ له، وأمَّا إسماعيل فإليه ينسب الإسماعيليَّة، وأمَّا محمد فإنَّه خرج على المأمون في سنة ثلاث ومئتين، وتوفي سنةَ أربعٍ ومئتين. أسند جعفر عن أبيه، ونافع، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم. وروى عنه سفيانُ الثوري، ومالك بن أنس، وشعبة، وأيوب السختياني في آخرين. قال ابن أبي حازم: كنت عند جعفر بن محمد إذ جاء ابنه فقال: سفيانُ الثوري على الباب، فأذن له، فدخل، فقال له جعفر: إنَّك رجل يطلبك السلطان، وأنا أتَّقي السلطان، فقم فاخرج غير مطرود، فقال سفيان: حَدّثني حتى أسمع وأقوم، فقال جعفر: حدّثني أبي عن جدِّي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أنعم الله عليه نعمة فليحمد ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 544. (¬2) مروج الذهب 6/ 165. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 544.

الأعمش

الله، ومن استبطأَ الرزق فليستغفر الله، ومن حزبهُ أمر فليقل: "لا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم" فلمَّا قام سفيان قال جعفر: خذها يا سفيان ثلاثًا، وأيُّ ثلاث (¬1) (¬2). الأعمش [سليمان] (¬3) بن مهران الأسدي مولى بني كاهل. من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة، ولد يوم عاشوراء سنةَ ستين يوم قتل الحسين - رضي الله عنه -، وقيل: ولد سنة ثمان وخمسين، ويقال: إن أباه مهران شهد مقتل الحسين - عليه السلام - (¬4). ولد الأعمش بدنباوند، وقيل: بطبرستان، وقيل: ولد بالكوفة (¬5) ونشأ بها. وكان صاحب قرآن وفرائض وعلم بالحديث، علامة الإسلام. قال عيسى بن يونس: ما رأينا في زماننا مثل الأعمش، ما رأينَا الأغنياء والسلاطين في مجلس أحدٍ أحقرَ منهم في مجلسِه، وهو محتاجٌ إلى درهم. وقال وكيع: منذ سبعينَ سنة لم يفت الأعمشَ التكبيرةُ الأولى في جماعة (¬6)، ورأيتُه يومَ الجمعة قد راح إلى الجامع وعليه فروةٌ قد قلبَها، فجعلَ جلدَها على جلده، وصوفها إلى خارج (¬7). ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 2/ 169. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (642)، (4132) (طبعة دار الرشد)، والخطيب في تاريخ بغداد 4/ 296. وقال البيهقي: تفرد به الزنبري ... والمحفوظ هذا الكلام من قول جعفر نفسه، وقد روي من وجه آخر ضعيف نحو رواية الزنبري. قال المناوي في فيض القدير 6/ 90: والزنبري هذا أورده الذهبي في الضعفاء وقالوا: ضعفه أبو زرعة وغيره .... (¬2) انظر ترجمته بالإضافة إلى المصادر السابقة في تاريخ اليعقوبي 2/ 381، وأنساب الأشراف 3/ 115، وسير أعلام النبلاء 6/ 255 وغيرها. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) انظر طبقات ابن سعد 8/ 461، 463. (¬5) لم أقف على من ذكر أنه ولد بالكوفة! ؟ (¬6) تاريخ بغداد 10/ 12. (¬7) من قوله: ورأيته يوم الجمعة ... إلى هنا ذكره الخطيب في تاريخه لكن من قول أحمد بن عبد الله العجلي، لا من قول وكيع.

وقال الربيع بن نافع: كنَّا نجلسُ إلى الأعمش، فيقول: هل في السماء غيم؟ يعني: هاهنا من نكره؟ ذكر وفاته قال أبو بكر بن عياش: دخلتُ على الأعمش في مرضه الذي مات فيه، فقلت: ألا أدعو لك طبيبًا؟ فقال: ما أصنعُ به، فوالله لو كانت نفسي بيدي لطرحتُها في الحشّ، فلا تؤذنن أحدًا بي إذا مت، واذهب واطرحني في لحدي (¬1). ومات سنة ثمانٍ وأربعين ومئة، وهو ابن ثمانٍ وثمانين سنة. وقيل: سنة سبعٍ وأربعين. وأدرك جماعةً من الصحابة وعاصرهم، ورأى أنس بن مالك، وقال: سمعت أنسًا (¬2) يقرأ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} فقيل له: {وَأَقْوَمُ} فقال: "أصوب" و {وَأَقْوَمُ} سواء. وسمع خلقًا من التابعين، وروى عنه الجمُّ الغفير، وكان ثقةً، وقيل: إنَّه كان يدلس، وشنَّع عليه المحدِّثون، فلذلك وقعَ فيهم. وكان يَرى الماء من الماء، فما كان يغتسلُ من الجنابة حتى يُنزل، وأقامَ مدَّةً على ذلك حتى بلغه حديثُ عائشة رضوان الله عليها: "إذا التقى الختانان وجبَ الغُسل، أنزلَ أو لم ينزل" (¬3)، فرجع عن مذهبه رحمة الله عليه (¬4). * * * ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 5/ 51. (¬2) في (ب) و (خ): إنسانًا. تحريف. وانظر تاريخ بغداد 10/ 6. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 163 بهذا اللفظ لكن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرج ابن ماجه (608) من حديث عائشة أنها قالت: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا. وانظر مسند أحمد (4206). (¬4) انظر المبسوط للسرخسي 1/ 68 - 69، ولم يذكر فيه رجوعه عن مذهبه.

السنة التاسعة والأربعون بعد المئة

السنة التاسعة والأربعون بعد المئة فيها تمَّ بناءُ أسوار بغداد وخنادقها، وأجري الماء في قنواتٍ عليها من نهر طابق وغيره. وفيها انفتقَ على أبي جعفر فتقٌ عظيمٌ من خراسان، وقيل: في السنة الآتية. وفيها توفي سلم بن قتيبة ابن مسلم بن عمرو بن الحصين، أبو عبد الله الباهلي [الخراساني]، والد سعيد بن سلم. ولي إمرة البصرة ليزيد بن عمر بن هبيرة في أيام مروان بن محمد، ثمَّ وليها في أيام أبي جعفر. وكان أميرًا كبيرًا، عاقلًا عادلًا، عَرَضَتْ حاجةٌ لأبي عمرو المديني إلى سلم وهو والي البصرة، فذكرهَا لبعضِ أصحابه، فضمن [له] (¬1) قضاءها، ثم مطلَه، فلم يقضها، قال أبو عمرو: فوقفت له على طريقه، وكانت بيني وبينه مودَّةٌ قديمةٌ، فلمَّا رآني قال: أطالبٌ قبلَنا حاجةً يا أبا عمرو؟ قلت: نعم، حاجةٌ حمَّلتُها فلانًا منذ أيام، فقال: أخطأت الحزم، إذا كانت لك حاجةٌ فلا تحمِّلها من يرتشي، فإنَّما يؤثر من يطعمه ولا يؤثرك، ولا كذَّابًا فإنَّه يُقرب إليك البعيد، ولا أحمق فإنَّه يجهدُ نفسه ولا يصنعُ لك شيئًا، ثم أمر بقضائها. مات سلم بن قتيبة بالرَّيّ في سنة تسع وأربعين ومئة، فصلَّى عليه المهدي؛ لعظم شأنه. ودخل رجلٌ على سلم بن قتيبة في حاجةٍ، وسيفه بيده، فانحنى عليه متكئًا، وجعلَ يُكلِّم سلمًا فجرح رجله، ولم يعلم الرجل وسلم ساكت، حتى فرغ الرجل من حاجته ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

عيسى بن عمر

وخرج، وكادت أصبع سلم تنقطع، فدعا بمنديل فشدَّها، فقيل له: ألا أمرتَهُ برفع سيفه عن رجلك، فقال: خشيتُ أن أقطعَه عن حاجته. وقال: المروءة الصبر على أخلاق الرجال (¬1). عيسى بن عُمر النحويُّ، الثقفيُّ، العالم الفاضل [الزاهد] (¬2). صنف في النحو كتبًا كثيرة، منها "الإكمال" و"الجامع"، فقال الخليل بن أحمد: [من الرمل] بطلَ النحوُ جميعًا كلُّه ... غير ما أحدثَ عيسى بنُ عمرْ ذاك "إكمالٌ" وهذا "جامعٌ" ... فهما للنَّاس شمسٌ وقمرْ (¬3) كُرْز بن وَبَرة الكوفيّ سكن جُرجان، وهو من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة، كان عابدًا زاهدًا، خائفًا مجتهدًا، يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكر، فيضربونَه حتى يغشى عليه. وسأل ربه أن يعطيه الاسم الأعظم، على أن لا يَسألَ به من الدنيا شيئًا، فأعطاه، فسأل أن يقوِّيَه على ختم القرآن، فكان يختمُه في اليوم والليلة ثلاثًا. قال الفضيل بن غزوان: كان كرز يختمُ القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات، ولم يرفع رأسَه إلى السماء أربعين سنة؛ حياءً من الله تعالى. وقال أبو سليمان المُكْتِب: صحبتُ كرزًا إلى مكَّة، فكان ينزلُ فيصلِّي، فرأيت يومًا سحابةً تظلُّه، وكان يومًا شديدَ الحرّ، فقال: اكتم عليّ، فحلفتُ له، وما حدَّثتُ به ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ دمشق 7/ 522 (مخطوط)، والمنتظم 8/ 117، وتاريخ الإسلام 3/ 877. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) انظر ترجمته في المنتظم 8/ 118، وإنباه الرواة 2/ 374، ووفيات الأعيان 3/ 486، وتهذيب الكمال 23/ 23، وسير أعلام النبلاء 7/ 200، وتاريخ الإسلام 4/ 178، وتهذيب التهذيب 3/ 363. قال الذهبي في السير: أرخ القفطي وابن خلكان موته في سنة تسع وأربعين ومئة، وأراه وهمًا، فإن سيبويه جالسه وأخذ عنه، ولعلَّه بقي إلى بعد الستين ومئة.

أحدًا حتَّى مات. وروى أبو نعيم عنه أنَّه دُخِل عليه وهو يبكي، فقيل له: ما يُبكيك؟ فقال: بابي مغلقٌ، وستري مسبلٌ، ومنعتُ حزبي أن أقرَأه المارحة، وما ذاك إلَّا من ذنب أحدثتُه (¬1). ولَمَّا مات رأى رجل فيما يرى النائم كأنَّ أهلَ القبور جلوسٌ على قبورهم، وعليهم ثيابٌ جُدُد، فقيل لهم: ما هذا؛ قالوا: إنَّ أهل القبور كُسوا ثيابَّا جَدُدًا؛ لقدوم كُرْز عليهم. أسند كرز عن طاوس، وعطاء، والربيع بن خُثَيم، والقرظي، وغيرهم (¬2). قلت: ومن ولد كرز رحمة الله عليه الشيخُ الصالح، العارفُ الزاهدُ، الورعُ الرباني، عيسى بن أحمد بن إلياس بن أحمد بن خليل بن محمود بن محمد بن سالم بن سليم بن يوسف بن خالد بن بركة بن مبارك بن داود بن شريف بن ربيح (¬3) بن رباح بن كرز بن وبرة، اليونينيُّ المولد والمنشأ رحمة الله عليه، كان من أعيان [أصحاب] (¬4) شيخ الإسلام أسد الشام عبد الله اليوفيني رحمة الله عليه، وممن يشارُ إليه بالزهد والعبادة، والاجتهاد والعلم بالطريق، والعمل بما يعلم، ولم يزل مقيمًا بقرية يونين ظاهرَ بعلبك في زاويته شمالي القرية، منقطعًا إلى العبادة والاجتهاد، غيرَ مكترثٍ بمن يزوره من أرباب الدنيا، لا يختار رؤيتهم، وكان يصومُ النهار ويقوم الليل، ولم يتزوَّج في عمره (¬5)، ولا اشتغلَ بغير عبادةِ ربِّه ومطالعةِ كتب الأحاديث النبويَّة والرقائق وما يجري مجراها، وله الكراماتُ الظاهرة (¬6). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 5/ 79. (¬2) انظر ترجمته في حلية الأولياء 5/ 79، والمنتظم 8/ 118، وصفة الصفوة 3/ 120، وسير أعلام النبلاء 6/ 84. (¬3) في ذيل مرآة الزمان لليونيني 1/ 24: رميح. (¬4) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. انظر ذيل مرآة الزمان 1/ 25. (¬5) ذكر القطب اليونيني في ذيل المرآة 1/ 25 أنَّه عقد على امرأة عجوز كانت تخدمه لاحتمال أن يتناول منها شيئًا فتمسَّ يده يدها. (¬6) توفي سنة 654 هـ، وانظر ترجمته أيضًا في تاريخ الإسلام 14/ 760.

كهمس بن الحسن

كَهْمَس بن الحسن أبو (¬1) عبد الله (¬2) القيسي، كان زاهدًا ورعًا، يصلِّي كل يومٍ وليلةٍ ألفَ ركعة، ويقول لنفسه: قومي يا مأوى كلِّ سوء، فوالله ما رضيتك لله ساعة (¬3) قط. وهو من الطبقة الرابعة من أهل البصرة. وكان يعملُ كلَّ يوم بدانقين في الجصّ، ثم يشتري بهما فاكهةً لأمِّه. وقال بشر بن الحارث: خرج كهمس ومعه دينار، فسقطَ منه، فطلبَه فوجده، فتركَه وقال: لعلَّه غيرُ ذلك الدينار. وأكلَ ذات يومٍ سمكًا، فأخذ من حائطِ جاره طينًا فغسلَ به يده، قال: فأنا منذ أربعينَ سنة أبكي على ذلك الطين، كيفَ أخذتُه بغير علمه؟ ! وكان يصلِّي حتى يُغْشَى عليه. وكان مشغولًا بالعبادة وخدمةِ أمِّه، فماتت، فخرج إلى مكَّة فماتَ بها. أسندَ عن عبد الله بن شقيق العقيلي، وعبد الله بن بُرَيدة، ومصعب بن ثابت، وغيرهم، وكان ثقةً. الوَضِين بن عطاء ابن كنانة، أبو كنانة الخزاعي، من الطبقة الخامسة من أهل الشام، كان ضعيفًا في الحديث، ماتَ بدمشق في عشر ذي الحجة سنة تسعٍ وأربعين ومئة، وأصله من بانياس، وسكن كفر سوسية. وكان بينه وبين المنصور صداقةٌ قديمة قال: فلما وليَ الخلافة وفدتُ عليه، فسألني ¬

_ (¬1) في (خ): بن. (¬2) وكناه أبا عبد الله أيضًا أبو نعيم في الحلية 6/ 211، وابن الجوزي في المنتظم 8/ 119، ووقع في صفة الصفوة 3/ 313: يكنى أبا عبيد الله. وفي غيرها من مصادر ترجمته أن كنيته أبو الحسن. انظر تهذيب الكمال 24/ 232، وسير أعلام النبلاء 6/ 316، وتاريخ الإسلام 3/ 954، وتهذيب التهذيب 3/ 476. (¬3) بعدها في (خ): واحدة. وانظر حلية الأولياء 6/ 211، والمنتظم 8/ 119، وصفة الصفوة 3/ 314.

عن حالي وعيالي، فقلت: عندي ثلاثُ بنات، والمرأة، وخادم، فجعلَ يردِّدُها ويقول: في بيتك ثلاثة حتى ظننت أنَّه سيمولني، ثم قال: أنت أيسرُ العرب، أربعة مغازل تدق (¬1) في بيتك، ولم يعطني شيئًا. أسند عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعطاء ومكحول وغيرهم، وروى عنه الوليد بن مسلم وغيره (¬2) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 17/ 779 (مخطوط): تدور. (¬2) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 9/ 470، وتاريخ دمشق 17/ 776. (¬3) بعدها في (ب): آخر الجزء الخامس ولله الحمد، ويتلوه إن شاء الله في الجزء السادس: السنة الخمسون بعد المئة فيها عزل أبو جعفر.

السنة الخمسون بعد المئة

السنة الخمسون بعد المئة فيها خرج أستاذسيس العجمي في ثلاث مئة من أهل سجستان وهراة وباذغيس وكور خراسان، وغَلب على هذه الأماكن، وهزم قوَّاد أبي جعفر، واستولى على مرو الروذ، وكان محمد بن أبي جعفر المهدي يومئذ بالرَّيّ، فجهَّز إليه أبو جعفر خازم بن خزيمة في جيشٍ كثيف، وأمرَه بقتال أستاذسيس، وكان أكثر عسكر أستاذسيس رجالة، فهزمَهم الله، وقُتِل من أصحاب أستاذسيس سبعون ألفًا، وأسروا أربعةَ عشر ألفًا، فضرب خازمٌ رقابَهم، والتجأَ أستاذسيس إلى جبل، وأقامَ خازم يحاصره وكان قد بقي مع أستاذسيس ثلاثون ألفًا، فنزلوا على حكم خازم، فأسرَ أستاذسيس وأولاده وأَعْتَق الثلاثين ألف، وكتب خازم إلى المهدي بالفتح. وقال الواقدي: كانت هذه الوقعة في سنة إحدى وخمسين ومئة (¬1). وفيها عزل أبو جعفر جعفرَ بن سليمان عن المدينة وولاها الحسن بن زيد بن الحسن (¬2) (¬3) بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -. وفيها توفِّي جعفر بن أبي جعفر المنصور، ويقال له: الأكبر. وفيها توفي أبو حنيفة. وكان على المدينة الحسنُ بن زيد العلويّ، وحجَّ بالناس محمد بن إبراهيم الإمام، وكان على مكة في هذه السنة (¬4)، وعلى الكوفة محمد بن سليمان بن علي، وعلى ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 32 أن الواقدي ذكر أن خروج أستاذسيس كان في سنة خمسين ومئة، وأن هزيمته في سنة إحدى وخمسين ومئة. (¬2) في (خ): الحسين. والتصويب من المصادر. (¬3) وقع في المعرفة والتاريخ 1/ 135، وتاريخ الطبري 8/ 32، وتاريخ الإسلام 3/ 806: بن الحسن بن الحسن. والمثبت هو الصواب انظر الكامل 5/ 593، والبداية والنهاية 13/ 414. وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7/ 542، وستأتي ترجمته في وفيات سنة ثمان وستين ومئة. (¬4) في تاريخ الطبري 8/ 32: وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان العامل على مكة والطائف ... وقيل كان العامل على مكة والطائف محمد بن إبراهيم الإمام. وانظر الكامل =

الحجاج بن أرطاة

البصرة عقبة بن سالم، وعلى قضائها سوَّار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم، وعلى خراسان المهدي. الحجاج بن أرطاة ابن ثور النخعيّ، وكنيته أبو أرطاة، ذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة من أهل الكوفة، وكان شريفًا مَرِيًّا (¬1)، وكان في صحابة أبي جعفر، فضمَّه إلى المهدي، فلم يزل معه حتى توفي بالري، والمهدي بها يومئذٍ في خلافة أبي جعفر. وذكره الخطيب وقال: وهو أوَّلُ من ولي القضاءَ بالبصرة لبني العباس، جاء يومًا إلى حلقة عثمان البَتِّي، فجلس في عرض الحلقة، فقيل له: ارتفع إلى الصَّدر، فقال: أنا صدرٌ حيثُ كنت. قال: وكان فيه تيهٌ شديد (¬2). وكان من حفَّاظ الحديث والفقهاء، استُفتي وهو ابن عشرين سنة (¬3)، وحضر مع أبي جعفر بناءَ بغداد، وولي خطها، ونصبَ قبلةَ مسجدِها (¬4). وروى الخطيب عن القاضي أبي يوسف قال: كان الحجاج بن أرطاة لا يشهدُ جمعةً ولا جماعة ويقول: أكرهُ مزاحمةَ الأنذال (¬5). وكانت وفاته بالرَّيّ في هذه السنة. عبدُ الملك بن عبد العزيز بنِ جُرَيج إمامُ أهل مكة، ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل مكَّة، وكنيتُه أبوالوليد. ¬

_ = 5/ 594، والمنتظم 8/ 122. (¬1) كذا وقع في (خ) وطبقات ابن سعد 8/ 479، والمريّ: الرجل المقبول في خَلْقِه وخُلُقِه. اللسان (مرا). ووقع في تاريخ بغداد 9/ 134 - نقلًا عن ابن سعد-: سريًّا. وسريًّا أي صاحب شرف ومروءة. انظر اللسان (سرا). (¬2) تاريخ بغداد 9/ 137، 139. (¬3) في تاريخ بغداد 9/ 135 من قول حجاج: استفتيت وأنا ابن ست عشرة سنة. (¬4) تاريخ بغداد 9/ 133. (¬5) ونقل في السير 7/ 72 عنه أنه قال: لا تتمُّ مروءة الرجل حتى يترك الصلاة في الجماعة. قال الذهبي: لعن الله هذه المروءة، ما هي إلا الحمق والكبر، كي لا يزاحمه السوقة.

عبد العزيز بن سلمان

قال: وولد عبدُ الملك بنُ عبدِ العزيز سنةَ ثمانين، عام الجحاف؟ سَيلٌ كان بمكَّة (¬1). واختلفوا في وفاته، فحكى ابنُ سعد عن الواقدي أنَّه ماتَ في أول عشر ذي الحجَّة سنة خمسين ومئة، وهو ابنُ ست وسبعين سنة، وكان ثقة كثيرَ الحديث (¬2). وقال أحمد العجلي: مات سنة تسع وأربعين ومئة (¬3). وقال علي بن المديني: في سنة إحدى وخمسين ومئة. سمع ابنُ جريج من عطاء بن أبي رباح، وكان عطاء يقول: هو سيدُ شبابِ أهل الحجاز (¬4). عبد العزيز بن سلمان (¬5) أبو محمد الراسبي البصري، من الطبقة السادسة من أهل البصرة. قال ابن أبي الدنيا: كانت رابعةُ تسمِّيه سيدَ العابدين من أهل البصرة (¬6). وقال ابن أبي الدنيا: كان عبد العزيز إذا ذَكَر القيامةَ والموت صرخَ كما تصرخُ الثَّكَلى، ويصرخ الخائفون من جوانب المسجد (¬7). قال: وربَّما رُفع الميِّت والميتان. وروى ابن أبي الدنيا عن مسمع بن عاصم قال: بت أنا وعبد العزيز بن سلمان (¬8) وكلاب بن جري وسلمان الأعرج على بعض سواحل البحر، فبكى كلاب حتى خشيت ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 53 - 54. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 54. (¬3) المنتظم 8/ 125. ونقل هذا القول عن ابن المديني وأبي حفص الفلاس. وقال الذهبي في السير 6/ 334: وهذا وهم. فقد قال يحيى القطان ومكي بن إبراهيم وأبو نعيم وعدة: مات سنة خمسين ومئة ... ثم قال: عاش سبعين سنة، فسنه وسنُّ أبي حنيفة واحد، ومولدهما ووفاتهما واحد. (¬4) انظر ترجمته أيضًا في تاريخ بغداد 12/ 142، وتهذيب الكمال 18/ 338. (¬5) في (خ) والمنتظم 8/ 125: سليمان، والمثبت من حلية الأولياء 6/ 243، وصفة الصفوة 3/ 377، وتاريخ الإسلام 4/ 683. (¬6) انظر صفة الصفوة 3/ 377، والقول فيه من رواية أحمد بن أبي الحواري عن عبد العزيز بن عمير. (¬7) أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/ 243 بإسناده إلى أبي طارق التبان، وانظر صفة الصفوة 3/ 377، والمنتظم 8/ 126. (¬8) في (خ): سليمان. والمثبت من حلية الأولياء 6/ 244، وصفة الصفوة 3/ 377.

أن يموت، وبكى عبد العزيز لبكائه، ثم بكى سلمان وأنا لبكائهم، لا أدري ما أبكاهم! فسألت عبد العزيز عن بكائه فقال: إني نظرت إلى أمواج البحر تموجُ، فذكرت أطباق النيران وزفراتها، فذلك الذي أبكاني، ثم سألت كلابًا وسلمان فقالا نحوًا من ذلك، قال مسمع: فما كان في القوم شر منِّي، ما كان بكائي إلَّا لبكائهم رحمةً لما يصنعون بأنفسهم. وروى أبو نعيم عن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: كان أبي إذا قامَ من الليل ليتهجَّد سمعتُ في الدار جلبةً شديدةً، واستقاءً للماء الكثير، قال: فنرى أنَّ الجن كانوا يستيقظون للتهجُّد، فيصلُّون معه. وروى ابن ناصر بإسناده إلى دهثم -وكان من العابدين- قال: كنت آتي عبد العزيز، فأبطأتُ عليه يومًا ثم جئتُه، فقال: ما الذي أبطأك عنِّي؟ قلت: العيال، قال: هل وجدت لهم شيئًا؟ [قلت: لا]، قال (¬1): فهلمَّ لندعو، فدعا بدعاءٍ، وأمَّنتُ، وإذا والله الدراهمُ والدنانير تتناثرُ في حجورنا، فقال: دونكها، ومضى ولم يلتفت، قال: فأخذتُها وعددتها، وإذا مئةُ دينار ومئة درهم، قيل له: فما صنعت بها، قال احتبستُ قوتَ عيالي جمعةً حتى لا يشغلوني عن خدمة عبد العزيز ورؤيته (¬2)، ثم أخرجت الباقي في سبيل الله. فقال الراوي: يحقُّ والله لهؤلاء أنْ يُرزقوا بغيرِ حساب. وروى ابن أبي الدنيا قال: قيل لعبد العزيز: ما بقي من لذَّتك؟ قال: سردابٌ أخلو فيه بربي. قال: وكان لا ينام إلا مغلوبًا، ويقول: لا نومَ في دار الدنيا، ما للعابدين والنوم! وروى ابن أبي الدنيا أيضًا قال: دعا عبد العزيز يومًا في مجلسه لمُقْعَدٍ من إخوانه، فوالله ما انصرفَ المقعد إلى أهله إلَّا ماشيًا على رجليه بإذن الله تعالى (¬3). ¬

_ (¬1) فوقها في (خ): كذا. وما بين حاصرتين من المنتظم 8/ 125، وصفة الصفوة 3/ 378. (¬2) في المنتظم 8/ 126، وصفة الصفوة 3/ 379: حتى لا يشغلني عن عبادته وشكره وخدمته فكرٌ في شيءٍ من عرض الدنيا. (¬3) كتاب مجابي الدعوة لابن أبي الدنيا (123).

مسعود الضرير العابد

مسعود الضرير العابد وكنيته أبو جهير، البصريُّ الزاهدُ العابد، من قتلى صالح المري، ذكر واقعته جماعةٌ منهم ابن أبي الدنيا والخطيب، فقال الخطيب: أخبرني عبيدُ الله بن أبي الفتح الفارسيّ بإسناده عن صالح المُرِّيّ قال: قال لي مالك بن دينار: اغدُ بي يا صالح إلى الجبَّانة، فإنِّي قد وعدتُ نفرًا من إخواني بأبي جهير مسعود الضرير، نسلِّم عليه، فقال صالح: وكان أبو جهير هذا قد انقطعَ إلى زاوية يتعبَّدُ فيها، لا يدخل البصرة إلَّا يومَ الجمعة في وقت الصلاة، ثمَّ يرجع من ساعته، قال: فغدوتُ لموعد مالك إلى الجبانة، وإذا به قد سبقني ومعه محمد بن واسع وثابت البُناني وحبيب العجمي، فقلتُ: هذا يوم سرور، فانطلقنَا نريدُه، فأتينَا منزلَه، فسألنا عنه، فقيل: الآن يخرجُ إلى الصلاة قال: فانتظرناه فخرج رجلٌ إن شئتُ أن أقولَ قد خرجَ من قبره لقلت. قال: فوثبَ رجلٌ فأخذ بيده، فأقامَه عند باب المسجد، فأذَّن، ثم دخلَ فصلّى ما شاء الله، ثم أقامَ الصلاة، فصلَّينا معه، فلمَّا قضى صلاته جلس كهيئة المهموم، فتوافر القوم في السلام عليه، فتقدَّم محمد بن واسع فسلَّم عليه، فردَّ السلام وقال: من أنت؟ قال: محمد بن واسع، قال: مرحبًا وأهلًا، أنتَ الذي تقول هؤلاء -وأومأ بيده إلى البصرة- إنَّك أفضلُهم، لله [أبوك إن قمت بشكر ذلك]، فقام ثابت البناني فسلَّم عليه، فقال: من أنت؟ قال: ثابت، قال: مرحبًا، أنت الذي يزعم أهل هذه القرية أنَّك من أطولهم صلاةً؟ فقام إليه حبيب العجمي فسلَّم عليه، فقال: من أنت؟ [قال: أنا حبيبٌ، أبو محمد] قال: مرحبًا أبا محمد، أنت الذي تزعم هؤلاء القوم أنَّك لم تسأل الله شيئًا إلَّا أعطاك؟ فهلَّا سألتَه أن يخفيَ لك ذلك، وأخذ بيده فأجلسه إلى جنبه، فقام مالكٌ فسلَّم عليه، فقال: من أنت؟ فقال: مالك بن دينار، قال: بخٍ بخٍ! أبو يحيى، إن كنت كما يقولون، أنت الذي يزعمُ هؤلاء أنَّك أزهدهم، الآن تمَّت الأماني، قال صالح: فقمتُ لأسلِّمَ عليه، فأقبل على القوم وقال: انظروا كيف تكونون في مجمع القيامة، قال: فسلَّمتُ عليه، فقال: من أنت؟ قلت: صالح، قال: أبو بشر القارئ، قلت: نعم، فقال: مرحبًا بك، قد أتمنَّاك على ربِّي، ثم قال: اقرأ عليَّ، فابتدأتُ، فما أتممتُ الاستعاذَة حتى خرَّ مغشيًّا عليه، ثم أفاق، فقال: عد إلى قراءتك، فقرأت قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23] قال: فصاح

إمام الأئمة وسراج الأمة أبو حنيفة النعمان بن ثابت

صيحة [ثم] انكبَّ لوجهه، وانكشفَ بعض جسده، وجعل يخورُ كما يخور الثور، ثم هدأ، فدنوتُ منه لأنظر ما به، فإذا قد فارق الدنيا، فخرجنا نسألُ هل له أحد؟ قالوا: عجوزٌ تخدمه، فأرسلنا إليها فجاءت، فقالت: ما له؟ قلنا: قُرِئ عليه القرآن فمات، قالت: فمن قرأ عليه، صالح القارئ لعلَّه قرأ عليه؟ قلنا: نعم، وما يدريك من صالح؟ قالت: لا أعرفه، غيرَ أنِّي كثيرًا ما كنت أسمعُه يقول: إن قرأَ عليَّ صالحٌ قتلني. فهيأنَاه ودفنَّاه رحمةُ الله عليه (¬1). إمامُ الأئمَّة وسراجُ الأمَّة أبو حنيفة النعمان بن ثابت ذكرهُ ابنُ سعد في الطبقة الخامسة من أهل الكوفة (¬2)، والكلام على ترجمته في فصول: الفصل الأول في ذكر نسبتهِ ومنشئِه ومولده وطلبه العلم: أمَّا مولده، قال أبو بكر الخطيب بإسناده إلى إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة النعمان بن ثابت: يقول: نحنُ من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقعَ علينا رقٌّ قط (¬3). وفي رواية الخطيب أيضًا عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة أنه قال: جدِّي النعمانُ بن ثابت بن النعمان بن المرزبان بن زوطى من أهل كابل الأكاسرة، استرق جدي زوطى يوم القادسية، فولد النعمان، فذهبَ به أبوه إلى عليٍّ - عليه السلام - وهو صغير، فدعا له بالبركة وفي ذريته، فنحنُ نرجو أن نكونَ قد استجابَ الله فينا (¬4). واختلفوا في مولد أبي حنيفة على ثلاثة أقوال: أحدها: في سنة ثمانين من الهجرة، والثاني: سنة إحدى وثمانين، والثالث: سنة إحدى وستين (¬5). ¬

_ (¬1) المنتظم 8/ 127 - 128، وصفة الصفوة 3/ 331 - 334. وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 489. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 448. (¬4) لم أقف على هذا الخبر بهذا السياق، وفي تاريخ بغداد 15/ 448 بعد قول إسماعيل بن حماد السالف قريبًا: والله ما وقع علينا رقٌّ قط: ولد جدي في سنة ثمانين، وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته، ونحن نرجو من الله أن يكون قد استجاب الله ذلك لعلي بن أبي طالب فينا. (¬5) قال الخطيب في تاريخه 15/ 453 بعد ذكر هذا القول: لا أعلم لصاحب هذا القول متابعًا.

وأمَّا منشؤه فبالكوفة، بها ولد، وبها نشأ ثم سافر إلى الحجاز وغيره. وأما طلبه العلم فروى الخطيب بإسنادِه قال: قال أبو حنيفة: لما أردتُ العلمَ جعلتُ أتخيَّر العلوم، وأسأل عن عواقبها، فقيل لي: تعلَّم القرآن، قلت: فماذا يكون إذا تعلَّمتُ القرآن وحفظتُه آخر أمري؟ قالوا: تجلسُ في المسجد فيقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثمَّ لم تلبث أن يخرجَ فيهم من هو أحفظُ منك، فتذهبُ رياستُك. قلت: فإن سمعتُ الحديث وكتبتُه حتى لم يكن في الدنيا أحفظُ مني، فما يكون آخر أمري؟ قالوا: إذا كبِرت وضعفت حَدَّثت واجتمعَ عليك الصبيان والأحداث، ثمَّ لا تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب، فيصير عارًا عليك في عَقبك، فقلت: لا حاجةَ لي في هذا. ثمَّ قلت: أتعلَّمُ النحو، فإذا حفظتُ النحوَ والعربيَّة فما يكون آخر أمري؟ قالوا: تقعدُ معلمًا، فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة. قلت: فإن نظرتُ في الشعر فلم يكن أحدٌ أشعرَ منِّي، ما يكون من أمري؟ قال: تمدحُ هذا فيَهبُ لك ويخلع عليك، فإن حرمَكَ هجوتَه، فتقذف المحصنات، فقلت: لا حاجةَ لي في هذا. قلت: فإن نظرتُ في الكلام فما يكون آخره؟ قالوا: لا تسلم من النظر في مشنِّعاتِ الكلام، فتُرمى بالزندقة، فإمَّا أن تؤخذ فتقتل، وإمَّا أن تسلم فتكون مذمومًا ملومًا. قلت: فإن تعلَّمتُ الفقهَ، قالوا: تُسألُ وتُفتي الناس، وتُطْلَبُ للقضاء وإن كنت شابًّا. قلت: فليس في العلوم شيء أنفع من هذا، فلزمتُ الفقه وتعلَّمتُه (¬1). قلت: وقد أتى أبو حنيفة على جميع هذه العلوم، فحكى الخطيب في "تاريخه" في غير موضع أنه ختمَ القرآن ثلاثين سنة (¬2)، وسمعَ الحديثَ من خلقٍ كثير، وكان نحويًّا لغويًّا. ¬

_ (¬1) انظر لزامًا ما علقه الذهبي في السير 6/ 396 - 397 حول وضع هذه القصة، وما في متنها من نكارةٍ دالَّة على اختلاقها. (¬2) أخرج الخطيب في تاريخه 15/ 484 بإسناده إلى حفص بن عبد الرحمن قال: كان أبو حنيفة يحيي الليل بقراءة القرآن في ركعة ثلاثين سنة.

فصل: وأما ورعه وزهده ونحو ذلك: فرَوى الخطيبُ عن يحيى بن سعيد القطَّان قال: جالسنا والله أبا حنيفة وسَمعنا منه، وكنتُ إذا رأيتُه أو نظرتُ في وجهه علمتُ أنَّه يخشى الله تعالى، أو يتَّقي الله (¬1). وروى الخطيب عن ابن المبارك قال: قدمتُ الكوفةَ فسألتُ عن أزهد أهلها وأورعهم، فقالوا: أبو حنيفة (¬2). قد جعلَ على نفسه أنَّه لا يحلف بالله تعالى إلا تصدَّق بدرهم، فحلفَ بالله اتِّفاقًا فتصدَّق بدرهم، ثمَّ جعل على نفسه أنه متى حلف بالله تعالى تصدَّق بدينار، وكان على ذلك، وكان إذا أنفقَ على عياله نفقةً تصدَّق بمثلها، وكان إذا اكتسَى ثوبًا جديدًا كسا بقدر ثمنه الشيوخ من العلماء والزهاد، وكان إذا وُضِع بين يديه طعامٌ رفع منه جزءًا للفقراء والمساكين. وروى الخطيب عن وكيع أنه قال: كان والله أبو حنيفة عظيمَ الأمانة، وكان الله في قلبه جليلًا عظيمًا، يؤثرُ رضاه على كل شيء، ولو أخذته السيوفُ في الله تعالى لاحتمل، فرضي الله عنه رضا الأبرار، فلقد كان والله منهم (¬3). وروى الخطيب أيضًا عن ابن المبارك قال: ما رأيتُ أحدًا أورعَ من أبي حنيفة، لقد جُرِّبَ بالسياط والأموال فما التفت (¬4). وحكى الخطيب أيضًا عن المسعوديّ [عن أبيه] (¬5) قال: ما رأيتُ أحسنَ أمانة من أبي حنيفة، مات وعنده ودائع بخمسين ألفًا، ما ضاع منها دينارٌ ولا درهم. وحكى أيضًا عن يوسف السَّمتيّ قال: أجاز أبو جعفر أبا حنيفة بثلاثين ألف درهم في دُفعات لَمَّا قدم عليه بغداد، فقال: يا أمير المؤمنين إني غريبٌ ببغداد، وليس لي منزلٌ، فاجعلها في بيت المال، فإذا خرجتُ أخذتها، فأجابه أبو جعفر إلى ذلك، فلمَّا ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 482. (¬2) هنا تم كلام عبد الله بن المبارك، وما بعده من كلام وكيع. انظر تاريخ بغداد 15/ 489، 490. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 490. (¬4) تاريخ بغداد 15/ 491. (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 15/ 491.

ماتَ أبو حنيفة أُخرجت ودائعُ الناس من بيته، فقال المنصور (¬1): خدعنا أبو حنيفة رحمه الله. فصل في عبادته وخشيته: رَوى الخطيبُ عن سفيان بن عيينة قال: كان لأبي حنيفة مروءةٌ وصلاةٌ من الليل في داره، وكان الناس ينتابونَه فيصلُّون (¬2) معه. وكان يختمُ القرآنَ في ركعة وتره، وكان يُسمَّى الوَتِد لكثرة صلاته. وفي رواية: كان يُحيي الليلَ بركعةٍ يختمُ فيها القرآن ثلاثين سنة. وروى الخطيب عن أسد بن عمرو قال: صلى أبو حنيفة الفجرَ بوضوءِ العشاء الآخرة أربعين سنة، وكان يُسمعُ بكاؤه عامَّة الليل حتى ترحمَه جيرانُه، وحُفِظ عنه أنَّه ختمَ القرآن في الموضع الذي كان فيه ساكنًا (¬3) سبعة آلاف مرة. ورَوى الخطيبُ عن ابن المبارك أنَّه كان بالقادسية، فجاءَ رجلٌ فوقعَ في أبي حنيفة، فقال له ابن المبارك: ويحكَ! أتقعُ في رجل صلَّى خمسًا وأربعين سنة خمس صلوات بوضوء واحد، وكان يجمعُ القرآن في ركعتين في ليلة، وتعلَّمتُ العلمَ (¬4) الذي عندي منه. وروى الخطيب عن أبي يوسف قال: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمع رجلًا يقول: هذا أبو حنيفة لا يَنامُ الليل، فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدَّث الناس عنِّي بما لا أفعل، وكان يحيي الليل كلَّه، صلاةً ودعاءً وتضرُّعًا (¬5). وروى الخطيب عن مِسْعر بن كِدام -وكان من العباد- قال: أتيتُ أبا حنيفة في مسجده، فرأيتُه يصَلِّي الغداةَ ثم يجلسُ يعلِّمُ الناس طولَ نهاره إلى العشاء، فقلت في نفسي: متى يتفرَّغ هذا للعبادة؟ لأتعاهدنَّه الليلة، فتَعاهدته، فلمَّا هدأ الليل انتصبَ في المسجد قائمًا إلى الصباح، فصلَّى الفجر، ثمَّ جلسَ للناس إلى العشاء الآخرة، ثم فعل ¬

_ (¬1) في (خ): أبو حنيفة. وفوقها: كذا. والمثبت من تاريخ بغداد 15/ 492. (¬2) تاريخ بغداد 15/ 483. (¬3) في تاريخ بغداد 15/ 485: في الموضع الذي توفي فيه. (¬4) في تاريخ بغداد 15/ 485: الفقه. (¬5) تاريخ بغداد 15/ 486.

في الليلة الآتية كفعلِه في الماضية، ثم تعاهدتُه ففعل أيَّامًا كثيرة، فقلت: لألزمنَّه حتى أموت، فيقال: إنَّ مِسْعرًا ماتَ فيَ مسجد أبي حنيفة وهو ساجد (¬1). وقال خارجة: ختمَ القرآن في الكعبةِ أربعةٌ من الأئمة: عثمان بن عفان، وتميم الداريّ، وسعيد بن جُبير، وأبو حنيفة (¬2). قال (¬3): وكان أبو حنيفة يختمُ القرآنَ في شهر رمضان كلَّ يومٍ وليلةٍ مرتين. وكان يقوم الليلَ بآيةٍ يردِّدُها، وهي قوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَينَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]. وحُكيَ عن الحسن بن صالح قال: كان أبو حنيفة ينشدُ دائمًا هذا البيت: [من الطويل] كفى حَزنًا أنْ لا حياة هنيَّة ... ولا عملٌ يرضى به الله صالحُ (¬4) فصل: وأما حلمه واحتماله: فروى القاضي الصيمريُّ عن يزيد بن هارون قال: ما رأيتُ أحلَمَ من أبي حنيفة، كان إذا بلغَهُ عن رجل أنَّه نال منه، بعث إليه برفقٍ وقال: غفرَ الله لك، قد وكَلتُكَ إلى من يَعلمُ منِّي خلافَ ما قلت. قال: وجاءه رجلٌ فنال منه. وقال: يا ابنَ الفاعلة، فبكى وقال: إنَّ الله يَعلمُ مني خلافَ ما قلت، فَرَقَّ الرجل وقال: أسألُك بالله إلَّا جَعلتني في حلّ، فقد أخطأت، فازداد بكاءُ أبي حنيفة وقال. أنت في حلّ. فصل في فتاويه وما يتعلق بها: قال أبو يوسف: قيل لأبي حنيفة: إن العرزميَّ (¬5) يقول: كانت عائشةُ تسافر مع غير محرم، فقال أبو حنيفة: إنَّها أمُّ المؤمنين، فهي من جميع المسلمينَ ذاتُ محرم. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 487. (¬2) تاريخ بغداد 15/ 488. (¬3) القائل هو يحيى بن نصر، كما في تاريخ بغداد 15/ 488. (¬4) ذكره الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص 36، لكن من رواية أبي يوسف. (¬5) في (خ): العرمي. والتصويب من شرح معاني الآثار للطحاوي 2/ 116.

وحكى الليث بن سعد قال: كنتُ أسمع بأبي حنيفة، فتَتوقُ نفسي إليه، فبينما أنا في المسجد الحرام إذا بالناس مجتمعين على رجلٍ، فدنوتُ من الحلقة ورجلٌ جالس، فقال له رجل: يا أبا حنيفة، إني رجلٌ ذو مال، ولي ولد عاق، أزوِّجُه المرأةَ وأنفق عليه المال الكثير، فيطلقها، فيذهب مالي، وأشتري له الجاريةَ بالألوف، فيعتقها، فيذهب ثمنها، فهل عندك من فَرَجْ؟ فقال أبو حنيفة من غير فكرةٍ ولا رويَّة: نعم أدخله سوق الرقيق، فإذا وقعتْ عينُه على جارية فاشترها لنفسك، ثمَّ زوِّجْهُ إيَّاها، فإنْ طلَّقها رجعت مملوكةً لك، وإن أعتقَها لم ينفذ عتقه. قال الليث: فوالله ما أعجبني ما رأيتُ من صوابه كما أعجبني ما رأيتُ من سرعةِ جوابه. وقال شريك القاضي: عَجزت النساءُ أن تلدنَ مثل أبي حنيفة، فقيل له: وكيف؟ قال: كنَّا في جنازة غلامٍ من بني هاشم قد تبعَه وجوهُ الناس وأشرافهم، وإلى جانبي ابنُ شبرمة، فوقف الناس، فقلنا: ما للجنازة لا تنبعث؟ قالوا: خرجت أمُّ الغلام والهةً حاسرةً، وكانت جميلةً، فحلفَ أبوه بطلاقها لترجعن، وحلفتْ هي بصدقةِ ما تملك وعتق عبيدها لا رجعت حتى يصلَّى عليه، وكان في الجنازة علماء الكوفة، فسئلوا عن ذلك، فلم يكن عندهم فَرَج، وكان أبوالغلام قد رأى أبا حنيفة في طرف الناس فجاءه مستصرخًا وأخبره الخبر، فقال: ضعُوا الجنازةَ فوُضِعت، ثم قال للرجل: تقدَّم فصلِّ على ابنك، فصلى عليه، وقال لأمِّه: ارجعي، فقدْ خَرجت من يمينك، احملوا الميِّتَ. فتحيَّر الناس من سرعة فتياه وتدقيقِ فطنته. وقال شريك القاضي: حدثني عليُّ بن عاصم قال: سألت أبا حنيفة عن درهمٍ لرجل، ودرهمين لآخر، اختلطوا، ثمَّ ضاع درهمان وبقيَ درهم واحد، ولم يُعلم من أيِّ الثلاثة هو، فقال: الدرهمُ الباقي بينهما أثلاثًا، قال: فلقيتُ ابن شبرمة، فسألتُه عنها، فقال: هل سألتَ أحدًا؟ قلت: نعم، أبا حنيفة، قال: فما الذي قال؟ فأخبرتُه فقال: أخطأ، الدرهمُ الباقي بينهما نصفان احتياطًا وتعديلًا للقسمة، فلقيت أبا حنيفة فأخبرته وقلت: خُولفتَ في المسألة، وذكرَ له قول ابن شبرمة -وكان أبو حنيفة لو وزن عقلُه بعقلِ الأرض لرجح عليهم- فقال: إنَّ الثلاثة لَمَّا اختلطت وجبت الشركةُ بينهما، فصار لصاحب الدرهمِ ثلثُ كلِّ درهم، ولصاحب الدرهمين ثلثا كلِّ درهم، فأيُّ درهمٍ

ذهب ذهبَ بحصتهما. قال: فاستحسنتُ جوابه. وقال عبد الله بن محمد العقيلي: شهدت بالكوفة وليمةَ أخوين تزوَّجا بأختين، فبني بهما في الليل، واجتمعَ الناسُ صبيحةَ تلك الليلة، وفي الوليمة أبو حنيفة وابن شبرمة والثوريُّ وابنُ أبي ليلى وغيرهم، فأبطؤوا بالطعام، فقيل: ما لهم؟ فقيل: غُلِطَ بالمرأتين فابتنى كلُّ واحدٍ من الأخوين بامرأة الآخر، فسُئل الثوريُّ فقال: لكلِّ واحدةٍ منهما مهر، وتعتدُّ بثلاثة قروء، وترجعُ إلى زوجها إن شاء، وقال كلُّ واحدٍ قولًا فلم يوافق القوم، وأبو حنيفة ساكت، فاجتمعوا إليه وسألوه فقال: عليَّ بالغلامين، فجاءَ فخَلا بكلِّ واحدٍ منهما وقال له: أراغبٌ أنت فيما هجمتَ عليه، فقالا: نعم، فقال: لكلِّ واحد منهما طَلِّق امرأتَك واعقد على التي دَخَلْتَ بها، ففعلا، وكبَّر الناس، وحضرتِ الموائدُ فأكلوا. وروى الخطيبُ عن الحسن بن زياد اللؤلؤيّ قال: كانت بالكوفة مجنونةٌ يقال لها: أم عمران، وكانت تجلس بالكُناسة، فمرَّ بها رجلٌ فكلَّمها بشيءٍ لم تؤثره، فقالت له: أيا ابن الزانيين، وابن أبي ليلى يسمع، فأمرَ بإدخالها المسجد، وأقام عليها حدَّين؛ حدًّا لأبيه، وحدًا لأمِّه، وبلغ أبا حنيفة فقال: أخطأ في ستة مواضع؛ أقام الحدَّ في المسجد، ولا تقامُ الحدود في المساجد، وضربَها قائمة، ولا تضرب النساءُ قيامًا بل قعودًا، وضربها حدَّين، وإنما تضرب حدًّا واحدًا، وهي مجنونةٌ، والمجنونُ لا حدَّ عليه، وضربها حدين لأبيه وأمه، وهما غائبان، ولا يجوزُ إقامة الحدِّ للغائب حتى يحضر. قلت: وقد أخطأ ابن أبي ليلى في كونه قَضى بعلمه من غير دعوى؛ لأنَّه قال في أول الحكاية: وابن أبي ليلى يسمع (¬1). وسُئل أحمد بن حنبل عن مسألةٍ، فأجاب، فقيل له: إنَّ ابن المبارك لم ينزل من السماء (¬2). وقد ينبه الصغيرُ لمَا يخفى على الكبير والمتأخِّر عن المتقدم في كلِّ عصرٍ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 480. وجاء في هامش (خ) ما نصه. قلت: الظاهر أن يكون بعد الدعوى، وقد طويت في الكلام بناء على متعارف الفقهاء بل العوام من أن الحكم لا يتحقق قبل الدعوى. وانظر تفسير القرطبي 8/ 151 - 152. (¬2) كذا، ولم أقف عليه بهذا السياق. وفي طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/ 329: سأل رجل أحمد بن حنبل، فقال: أكتب كتب الرأي؟ قال: لا تفعل، عليك بالآثار والحديث. فقال له السائل: إن عبد الله بن المبارك قد كتبها، فقال له أحمد: ابن المبارك لم ينزل من السماء، إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق.

وأوان، وقد قال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيمَانَ} [الأنبياء: 79]. وقال عبد الله بن أبي داود الحربي: أرادَ الأعمشُ الحجَّ، فقال: من هاهنا، نذهبُ إلى أبي حنيفة، يكتب لنا منه مناسكَ الحجّ. فصل في مناظرته لقتادة: روى النضر بن محمد قال: قدمَ قتادةُ الكوفة، فنزل دارَ أبي بُردة، فجلسَ يومًا للناس، وقد اجتمع إليه أشرافُ الكوفة وعلماؤهم، فقال: لا يسألني اليومَ أحدٌ عن الحلال والحرام إلَّا أجبتُه، فقام إليه أبو حنيفة فقال: يا أبا الخطاب، ما تقولُ في رجلٍ غاب عن أهله أعوامًا، فظنَّتِ امرأتُه أنَّه قد مات، فتزوَّجت، ثمَّ رجعَ زوجُها الأول، ما تقول في صداقها؟ فقال: أَوَقَعَتْ هذه المسألة؟ قال: لا، قال: فلم تسألني عن شيءٍ ما وقع (¬1)؟ فقال أبو حنيفة: إنَّا نستعد للأشياء قبلَ وقوعها (¬2)، فإذا وقعَ الشيءُ عرفنَا الدخول فيه والخروج منه. فقال: اسألوني عن التفسير، فقال أبو حنيفة: ما تقول في قوله تعالى: {قَال الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40] من هو؟ قال: آصف بن برخيا، وكان يعرفُ الاسم الأعظم، فقال أبو حنيفة: أفيجوز أنْ يكون في زمان نبيٍّ من هو أعلم منه؟ فانقطع قتادة (¬3). وفي روايةٍ أنَّ أبا حنيفة سأله فقال له: ما تقول في امرأة غاب زوجها فنُعِيَ إليها، فاعتدَّت ثم تزوَّجت رجلًا، فقدم الأول الغائب؟ فقال لها: كيف تزوَّجْتِ وأنا غائب؟ وقال لها الثاني: كيف تزوَّجتِ ولكِ زوج؟ فقال قتادة: لا أجيبُكم في هذا بشيء، اسألوني عن التفسير، فسأله عن آصف، فقال قتادة: من أين أنت؟ فقال: من أهل الكوفة، فقال: من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا؟ فقال: لا، ولكنِّي أفضِّلُ الشيخين، ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 15/ 477: فلم تسألني عمَّا يقع. (¬2) في تاريخ بغداد 15/ 477: للبلاء قبل نزوله. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 477 - 478. قال محققه: إسناده ضعيف، فإن النضر بن محمد القرشي العامري المروزي المتوفى سنة 183 هـ يبعد أن يكون أدرك الخبر، فإن قتادة توفي سنة 117 تقريبًا ولا نعلم للنضر رواية مبكرة مثل هذه، فهو يروي عن أبي حنيفة وطبقته .. وآثار الوضع ظاهرة عليه.

وأحبُّ الحسنين أو الختنين، وأمسحُ على الخفين، وأصلي خلف كل برٍّ وفاجر، ولا أُكَفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنب، فقال له قتادة: عرفْتَ فالزم. وتفرَّق الناس عن قتادة. وقال أبو مطيع: كان ابن المبارك يقول إذا ذُكر أبو حنيفة: ما يُقال في رجل عُرِضت عليه الدنيا والأموالُ الجليلة فردَّها. وقد ذكرنا أنَّ أبا جعفر أعطاهُ مالًا فلم يقبله. فصل: فأمَّا جودُه وسماحتُه وكرم أخلاقه: رَوى الخطيب عن قيس بن الربيع قال: كان أبو حنيفة رجلًا ورعًا فقيهًا محسودًا، وكان كثير الصلةِ والبرِّ لكلِّ من جاء إليه، كثير الإفضالِ على إخوانه (¬1). وقال قيس بن الربيع: كان أبو حنيفة يبعثُ بالبضائع إلى بغداد، فيشتري بها الأمتعة وما يحتاجُ إليه الشيوخُ المحدِّثين والفقهاء والزهَّاد، ويدفعُ إليهم النفقات، ويقول: احمدوا الله تعالى، فإنِّي ما أعطيتُكم من مالي شيئًا، هذه أرباحُ بضائع أَجرى الله أرزاقَكُم منها على يدي (¬2). وروى الخطيب عن شيخٍ سمَّاه أبو سعيد الكندي قال: كان أبو حنيفة يبيع الخَزَّ، فجاءه رجلٌ فقال: يا أبا حنيفة، قد احتجتُ إلى ثوب خَزٍّ، فقال: ما لونه؟ قال: كذا وكذا، قال: اصبر حتى يقع وآخذه لك، فما دارت الجمعة حتى وقعَ، فجاء الرجل، فقال له أبو حنيفة: قد وقعت حاجتُك، ثم أخرج إليه ثوبًا فأعجبه، فقال: يا أبا حنيفة كم أزن للغُلام، فقال: درهمًا، فقال: أتهزأ بي؟ فقال: لا والله، إنِّي اشتريتُ ثوبين بعشرين دينارًا ودرهمًا، فبعتُ أحدَهما بعشرين دينارًا، وبقي هذا بدرهم، وما كنتُ لأربحَ على صديقٍ، فأخذه (¬3). وروي عن أبي يوسف ورواه الخطيب عن أبي مطيع عن أبي حنيفة قال: دخلتُ على أبي جعفر فقال: يا أبا حنيفة، عمَّن أخذتَ العلم؟ قلت: عن حماد بن أبي سليمان ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 492. (¬2) تاريخ بغداد 15/ 493. قال محققه: إسناده تالف، فيه أحمد بن عطية هو الحماني الكذاب، ومتن الخبر منكر، فأين كانت بغداد، وإنما قدمها أبو حنيفة عند تأسيسها، وتوفي ولم تكن قد أصبحت مدينة حضرية فيها الأسواق. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 495.

[عن إبراهيم] عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس، فقال: لقد استوثقتَ لنفسك (¬1). وروى الخطيب عن عبد الله بن رجاء قال: كان لأبي حنيفة جارٌ بالكوفة إسكاف، يعمل نهارَه، فإذا جاء إلى بيته شربَ ليلًا، فإذا دبَّ فيه السكر غزل بصوت يقول: [من الوافر] أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعُوا ... ليومِ كريهةٍ وسِدَاد ثغر كأنِّي لم أكن فيهم وسيطًا ... ولم تك نسبتي في آل عمرو أُجرَّرُ في المجامعِ كل يومٍ ... فيالله مظلمتي وصبري والأبيات للعرجي وقد ذكرناها في ترجمته. قال: فلا يزالُ يردِّدُ الأبيات حتى ينام، وأبو حنيفة يسمعُ صوتَه عامة الليل، ففقدَ صوته ذاتَ ليلة، فسأل عنه، فقالوا: أخذه العَسَس وهو محبوس، فصلَّى أبو حنيفة الفجرَ ومضى إلى الأمير، فلما علمَ بمجيئه قال: لا يدخل عليَّ إلا راكبًا حتى يطأ بساطي، وخرج إليه والتقاه ورحَّب به، وقال: أنا كنتُ أولى بقصدك، ما حاجتك؟ قال: جاري الإسكاف أخذه العسس، فأمر بإطلاقِه وإطلاق كلِّ المحبسين (¬2)، فركبَ أبو حنيفة، وجاء الإسكافُ فقبَّل يديه، فقال: يا هذا ما أضعناك (¬3)؟ فقال: لا والله، بل حفظتَ ورعيتَ، فجزاكَ الله عن جوارك خيرًا، ثمَّ تاب الرجلُ فلم يعد إلى ما كان عليه. وروى الصيمري عن أبي يوسف قال: قال هارون الرشيد: صف لي أبا حنيفة، قال: فقلتُ: كان والله شديد الذبَّ عن محارم الله، طويلَ الصمت، دائمَ الفكر، لم يكن مِهْذَارًا ولا ثرثارًا (¬4)، مشتغلًا بما هو فيه عن الناس، لا يذكر أحدًا إلا بخير. فقال هارون: هذه والله أخلاق الصالحين. وذكر أبو القاسم بن النفيس بإسناده إلى خارجة بن مصعب قال: خرجتُ إلى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 15/ 458. قال محققه: إسناده ضعيف، أبو مطيع هو الحكم بن عبد الله البلخي، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث ... وكل الأخبار التي رويت له مع أبي جعفر فيها نظر، فإن العلاقة بينهما كانت متوترة، وقلَّما اتصل أبو حنيفة به. (¬2) في تاريخ بغداد 15/ 497 أنه أفرج عن كل من أخذ في تلك الليلة إلى ذلك اليوم. (¬3) في تاريخ بغداد 15/ 497: يا فتى أضعناك؟ وانظر الخبر أيضًا في أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص 41. (¬4) في (خ): ترثا. والتصويب من التذكرة الحمدونية 2/ 222.

الحجِّ، فأودعتُ جاريتي عند أبي حنيفة، ثم مضيت إلى اليمن فأقمت أربعة أشهر، وعدتُ إلى الكوفة، فدخلتُ على أبي حنيفة مسلِّمًا، فقلت: كيف رأيتَ خدمة الجارية؟ فقال: والله ما أبصرتها، وكيف تتوهَّم أني استخدمتُها؟ فسألت الجارية عن أخلاقه في منزله فقالت: والله ما رأيتُ في الدنيا مثلَه، لقد رصدته أربعةَ أشهر فما اغتسلَ من جنابة، فسألتُ جاريته فقالت: إنَّما ترك هذا خشيةَ أن تحنين إلى مثل ذلك (¬1). وقال أبو يوسف: جاءه رجل فقال: إني وضعتُ كتابًا على لسانكَ إلى فلان، فوهبَ لي أربعة آلاف درهم، فقال أبو حنيفة: إن كنتم تنتفعونَ بهذا فافعلوا. وروى الخطيب عن سهل بن مُزاحم قال: كان أبو حنيفةَ كثير التفضُّل على إخوانه، باذلًا لهم حتى عرضه، وكان يقول: اللهم من ضاق صدره بنا، فإنَّ قلوبَنا قد اتسعتْ له (¬2). فصل: وأما وفور عقله وبره بوالديه: روى الخطيب عن ابن المبارك قال: قلت لسفيان الثوري: ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة، ما سمعتُه يغتابُ عدوًّا له قط، فقال سفيان: هو والله أعقلُ من أن يسلِّطَ على حسناتِه ما يذهب بها (¬3). وروى الخطيب عن علي بن عاصم قال: لو وُزِنَ عقل أبي حنيفة بعقل نصفِ [أهل] الأرض لرجَحَ (¬4). وحكى الخطيب عن خارجة بن مصعب أو يزيد بن هارون قال: ما رأيتُ أورعَ ولا أعقلَ ولا أفضلَ من أبي حنيفة (¬5)، وما وقع أحد في أبي حنيفة إلَّا دلَّ على نقصانِ عقله (¬6). وحكى الخطيب أيضًا أنَّ أبا حنيفةَ كان يجيء بوالدتِه في شهر رمضان إلى مسجد ¬

_ (¬1) وأخرجه أيضًا الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص 38. (¬2) انظر تاريخ بغداد 15/ 481. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 497. (¬4) تاريخ بغداد 15/ 497، وما بين حاصرتين منه. (¬5) تاريخ بغداد 15/ 498 من قول يزيد بن هارون. (¬6) تاريخ بغداد 15/ 498 من قول خارجة بن مصعب.

عمر بن ذر، فيصلِّي إلى السحر، وكان بيتُه بعيدًا من المسجد (¬1). وقال حجر بن عبد الجبَّار الحضرميّ: كان في مسجدنا قاصٌّ يقال له زُرعة، فأرادت أمُّ أبي حنيفة أن تستفتي في شيءٍ، فأفتاها أبو حنيفة، فلم تقبل وقالت: لا أقبل إلَّا من زُرعة القاصّ، فجاء بها أبو حنيفة إلى زُرعة، فقال: هذه أمِّي تستفتيك في كذا وكذا، فقال: سبحان الله، معك أَيشٍ أقول؟ ! فقال: لا بدَّ أن تفتيَها، فقال لها: الجواب كذا وكذا، فقال أبو حنيفة: قد قلت لها هذا ولم تقبل، فقال لها زرعة: القولُ ما قالهُ أبو حنيفة، فرضيت وانصرفت (¬2). وروى الخطيب عن أبي يوسف قال: قال لي أبو حنيفة: لا تسألني عن أمر الدين وأنا ماشٍ، ولا قائم، ولا متكئئ فإنَّ هذه الأماكن لا يجتمعُ فيها عقلُ الرجل (¬3). فصل: فأمَّا صفتُه وصفة لباسه: فروي عن أبي يوسف أنَّه قال: كان أبو حنيفة ربعةً من الرِّجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، وكان أحسنَ الناس منطقًا، وأحلاهم نغمةً (¬4)، حسنَ الوجه، حسنَ الثياب، طيِّبَ الرائحة، سريعًا إلى مواساة الإخوان. وروى إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه قال: كان أبي طوالًا (¬5) تعلوه سمرةٌ، وكان كثيرَ التعطُّر، يُعرَف بطيب الريح إذا أقبلَ من شدَّة تعطُّره. والأول أشهر. فصل: وأمَّا ضربُه على القضاء ونحوه: روَى الخطيب بإسناده قال: كلَّم ابنُ هُبيرة أبا حنيفة أنْ يَليَ القضاء، فأبى، فضربه مئةَ سوطٍ وعشرةَ أسواط، كلَّ يومٍ عشرة، وكان ابن هُبيرة عاملَ بني أمية على العراق (¬6). قال أبو بكر بن عياش: وكان ذلك في أيَّامٍ باردة، ثمَّ قُيِّدَ بأثقلِ الحديد وحبس. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) انظر الخبر بنحوه في تاريخ بغداد 15/ 501. (¬3) انظر الخبر في التذكرة الحمدونية 1/ 442. (¬4) إلى هنا كلام أبي يوسف، وما بعده هو من كلام أبي نعيم. انظر تاريخ بغداد 15/ 453. (¬5) في تاريخ بغداد 15/ 454: عن عمر بن حماد بن أبي حنيفة أن أبا حنيفة كان طوالًا. (¬6) تاريخ بغداد 15/ 448.

قال الخطيب: فجاءتهُ أمه فقالت: يا نعمان، إن علمًا أفادك الضرب والحبس لحقيقٌ بك أن تنفر عنه، فقال: يا أمَّاه لو أردتُ الدنيا لما ضُربت، ولكن أردتُ وجهَ الله وصيانةَ العلم، ولم أعرِّضه للهلكة. وقال الخطيب بإسناده عن ابن داود: لما امتنعَ أبو حنيفة من ولاية القضاء حَلف ابن هُبيرة لئن لم يفعل ليضربنَّه بالسياط على رأسه، فقال أبو حنيفة: ضربهُ في الدُّنيا أسهلُ عليَّ من مقامع الحديد في الآخرة، والله لو قتلني لما فعلت. وبلغَ ابن هُبيرة فقال: بلغ من قدره أن يعارض يميني بيمينه، فدعا به فشافهه، فقال: يا ابنَ هبيرة، إنَّما هي موتةٌ واحدةٌ، فضربَه على رأسه عشرين سوطًا، فقال له أبو حنيفة: يا ابنَ هُبيرة، اذكر مقامك غدًا بين يدي الله تعالى، فإنَّه أذلُّ من مقامي بين يديك، ولا تتهدَّدني، فإنّي أقول: لا إله إلَّا الله، واللهُ سائلُك عنِّي، فأمرَ به إلى السجن، فانتفخَ رأسه ووجهُه، فرأى ابن هُبيرة في تلك الليلة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يوبِّخه ويعاتبُه لأجله، فاستحضره واستحلَّه وأطلقَه. ورَوى الخطيب أنَّ أبا حنيفة كان يخرجُ كلَّ يوم فيضرب، فبكى بكاءً شديدًا وقال: إنَّ غمَّ والدتي أشدُّ عليَّ من الضرب (¬1). وروى الخطيب عن ابن المبارك قال: أشخص أبو جعفر أبا حنيفة إلى بغداد وأراده على القضاء، فأبى فحلفَ ليفعلنّ، فحلفَ أبو حنيفة أن لا يفعل، فقال الربيع: أميرُ المؤمنين: يحلفُ وأنتَ تحلف، فقال: هو أقدر على كفارة يمينه منِّي، فأمر به إلى السجن فمات فيه (¬2)، وسنذكره. وقال أبو حنيفة لبعض أصحابه: أوصيكُم أن لا يليَ أحدٌ منكم القضاء، وإن دعته الضرورة إلى الدخول فيه فلا يجعلْ بينه وبين الناس حاجبًا، وأوصاهم. فصل في رؤياه النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: روى الخطيب عن هشام بن مهران قال: رَأىَ أبو حنيفة في المنام كأنَّه نبشَ قبر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إلى ابن سيرين فسألَه فقال: صاحبُ هذه الرؤية يثوِّرُ علمًا لم يُسبق إليه، ¬

_ (¬1) انظر تاريخ بغداد 15/ 449. (¬2) انظر تاريخ بغداد 15/ 450.

فحينئذٍ نظرَ أبو حنيفة وتكلَّم (¬1). وفي رواية: هذا رجلٌ يحيي سنَّةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروي أنَّ الشافعيَّ ولد في السنة التي مات فيها أبو حنيفة. وروى القاضي أبو حازم عن وكيع بن الجرَّاح قال: كنَّا عند أبي حنيفة، فجاءته امرأةٌ فقالت: يا أبا حنيفة مات أخي وترك ستَّ مئة دينار، فأعطوني دينَارًا واحدًا، فأطرقَ، ثمَّ رفعَ رأسه وقال: خلَّف أخوك بنتين وأمًّا وزوجة واثني عشر أخًا وأنت؟ قالت: نعم، قال: للبنتين الثلثان أربع مئة، وللأم السدس مئة دينار، وللمرأة الثمن خمس وسبعون دينارًا، بقي خمسةٌ وعشرون؛ للإخوة أربعة وعشرين، لكلِّ واحدٍ ديناران، بقي لك دينارٌ واحد (¬2). وقال محمد بن الحسن: دخلَ اللصوصُ دارَ رجلٍ، فأخذوا متاعَه، وأحلفوه بالطلاق ثلاثًا أنَّه لا يتكلَّم، وأصبح الرجل، فرأى قماشه في السوق يباع، وهو لا يقدرُ على الكلام، فجاء إلى أبي حنيفة، وأشار إليه أدنى إشارة، ففهم، فجمعَ أبو حنيفة أربابَ التُّهم في المسجد، وقال للرجل: اقعد على باب المسجد، وجعل يُخرِجُ واحدًا واحدًا، ويقول: هذا الذي أخذَ قماشك، فإن كان غيرَه أخذ، قال: لا، وإن كان أخذ سكت، فردُّوا عليه جميعَ ما أخذ منه. فصل في وفاته: حكى الخطيب عن الواقديِّ قال: أشخصَ أبو جعفر المنصور أبا حنيفة من الكوفة إلى بغداد (¬3)، وعَرضَ عليه القضاء فامتنع، فحبسَهُ فأقام في حبسِه خمسة عشر يومًا، وماتَ فدُفنَ في مقابر الخيزران سنة خمسينَ ومئة، وعمرُه سبعون سنة. وحكى الخطيبُ أيضًا عن الصيمريِّ أنه سمَّ في سويق، فامتنع من شربه، فقال: لتشربنَّه مُكرهًا، فشربه، ثم قام مبادرًا، فقال له أبو جعفر: إلى أين؟ قال: إلى حيثُ بعثتَ بي! فمضوا به إلى السجن، فمات وهو ساجد (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 459. (¬2) جا ءفي هامش (خ) ما نصه: روي هذا عن علي - رضي الله عنه -. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 452. (¬4) انظر أخبار أبي حنيفة للصيمري ص 87.

وحكى الخطيب عن عبد الله بن مطيع عن أبيه قال: رأيتُ جنازة أيَّام أبي جعفر يحملُها اثنان، وخلفَها رجلٌ بباب خراسان. وقيل يحملها أربعة (¬1)، فقلت: لمن هذه؟ فقيل: لرجلٍ من أهل الكوفة يقال له: أبو حنيفة، مات في السجن، فلمَّا جازوا بها بابَ خراسان، كأنَّما نُودي في الناس، فعبرنا به إلى الجانب الشرقي، وصلَّوا عليه عند باب الجسر، ثمَّ كثر الزحام، فلم يصلُوا به إلى مقبُرة الخيزران إلى بعد العصر، وجاء أبو جعفر المنصور فصلَّى على قبره، ومكثَ الناسُ يصلُّون على قبره أربعين يومًا، وقيل: عشرين يومًا، وكان قد أوصَى أن يُدفن في الجانب الشرقيّ؛ لأنَّ الجانب الغربي غَصْبٌ، وقد ذكرناه. وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: كنتُ بالكوفة أتوقَّع قدومَه، فجاء نعيُه (¬2). وقيل: إنَّه تكلَّم في أيَّام خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فحُبس بهذا السبب. واختلفوا في أي شهر مات فقال الخطيب: في رجب (¬3)، وقال الصيمري: في شعبان (¬4)، وقال أبو يوسف: في شوال. قال: ولَمَّا دُفِن سمع الناس ثلاثَ ليالٍ عند قبره صوتًا -ولا يرون شخصًا- وهو يقول: [من الرمل] ذهبَ الفقهُ فلا فقهَ لكم ... فاتَّقوا اللهَ وكونوا خلفَا مات نعمان فمن هذا الذي ... يحيي الليل إذا ما سدفا (¬5) وروى الربيع عن الشافعي أنه قال: إنِّي لأتبرَّك بقبر أبي حنيفة، فإذا عرضت حاجةٌ إلى الله تعالى قصدتُه، وصلَّيتُ عنده ركعتين، فما يبعدُ قضاؤها (¬6). ورؤيت له مناماتٌ كثيرة، فروى الخطيب عن السري بن طلحة قال: رأيتُ أبا حنيفة ¬

_ (¬1) في أخبار أبي حنيفة ص 88. وخلفها رجل ومعها أربعة أنفس. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 489. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 584. (¬4) في أخبار أبي حنيفة ص 89: توفي أبو حنيفة في رجب أو شعبان. (¬5) في أخبار أبي حنيفة ص 2: سجفا. (¬6) أورده الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص 89 من طريق علي بن ميمون.

في المنام، فقلت له: من أينَ أقبلت؟ قال: من عند ربِّ العزَّة، أنصفَني من سفيانَ الثوري. وروى شبابة بن سوار عن أبيه قال: رأيتُ أبا حنيفة في المنام في حالةٍ حسنة، فقلت: ما فعلَ الله بك؟ قلت (¬1): غفرَ لي، قلت: بالعلم؟ فقال: هيهات: إنَّ للعلم آفات، وإنَّما غفرَ لي بقول الناس فيَّ ما لم يعلمه الله منِّي. وقال القاضي الصيمري: ومن مدائح ابنِ المبارك في أبي حنيفة هذه الأبيات: [من الوافر] لقد زانَ البلادَ ومن عليها ... إمامُ المسلمين أبو حنيفَهْ بآثارٍ وفقهٍ مع حديثٍ ... كآيات الزبورِ على صحيفَهْ فما في المشرقينِ له نظيرٌ ... ولا في المغربين ولا بكوفَهْ رأيتُ العائبين له سِفاها ... خلاف الحقِّ مع حُججٍ ضعيفَهْ يبيتُ مشمِّرًا سهرَ الليالي ... وصامَ نهارَه لله خيفَهْ وصانَ لسانَه عن كل إِفْكٍ ... وما زالتْ جوارحه عفيفة يعف عن المحارم والملاهي ... ومرضاةُ الإلهِ له وظيفهْ فمن كأبي حنيفةَ في نداهُ ... لأهل الفقر في السنةِ الجحيفَهْ وكيف يحل أنْ يؤذَى فقيهٌ ... له في الدين آثارٌ شريفَهْ وقد قال ابنُ إدريسٍ مقالًا ... صحيح النقل في حِكَمٍ لطيفَهْ بأنَّ الناس في فقهٍ عيالٌ ... على فقهِ الإمام أبي حنيفَهْ وقيل فيه أشعار كثيرة. وروى الخطيب عن أحمد بن الحسن الترمذي قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: يا رسول الله، ما ترى ما الناس فيه من الاختلاف؟ فقال: في أي شيء؟ فقلتُ: فيما بين أبي حنيفة ومالك والشافعي، فقال: أمَّا أبو حنيفة فما أدري من هو، وأمَّا ¬

_ (¬1) فوقها في (خ): كذا، وبالهامش: لعلها: قال.

مالك فقد كتب العلم، وأمَّا الشافعي فمنِّي وإليَّ (¬1). قلت: هذا من قلَّة فهم الخطيب والذي رأى المنام؛ لأنَّه كيف يُظَنُّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا يعرفُ أبا حنيفة، أليس قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "تُعرَضُ عليَّ أعمالُ أمتي يوم الاثنين والخميس" (¬2)؟ فلا بدَّ أن يَعْرفَ من يعرض عليه من أمَّته (¬3)، ثمَّ هذا معارَضٌ بما رَوى الفضلُ بن خالد قال: كنتُ أبغضُ أبا حنيفة، فرأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: إنَّ كلامَ أبي حنيفة ككلام لقمان الحكيم، لا بل يزيدُ عليه، فرجعتُ إلى عند أبي حنيفة (¬4). وقد قال العوَّام بن حوشب: اذكروا محاسن السلف؛ لتجمعوا القلوبَ عليهم، ولا تذكروا مساوئَهم فتنفِّروا النفوس عنهم. انتهت ترجمةُ أبي حنيفة - رضي الله عنه -. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 380 (ترجمة أحمد بن عبد الله بن علي الفرائضي). (¬2) لم أقف عليه، ولعله يريد ما أخرجه الحارث في مسنده (953 - بغية الباحث) من حديث بكر بن عبد الله المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما كان من حسن حمدت الله عليه، وما كان من سيء استغفرت الله لكم". قال البوصيري في اتحاف الخيرة المهرة 7/ 74: هذا مرسل ضعيف، جسر بن فرق القصَّاب أبو جعفر البصري؛ مجمع على ضعفه، ولم أر من وثقه. (¬3) جاء في هامش (خ) ما نصه: لعله يريد أن كلًّا من الخطيب والترمذي حملا النفي الواقع في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رآه الترمذيُّ -على ظاهره، والذي ينبغي أن يحمل عليه الحمل على زيادة فضله، وعدم بلوغ التحمل إلى حقيقته ونهايته، والتعبير بصيغة التكلم من قبيل قوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} والله أعلم. (¬4) ولا يخفى أن المنامات لا يعتمد عليها في إثبات فضيلة ولا في إنقاص منزلة.

السنة الحادية والخمسون

السنة الحادية والخمسون فيها عزل أبو جعفر عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة عن السند وولَّاه إفريقيَّة، وولَّى مكانه على السند هشام بن عمرو التغلبي (¬1). وفيها ابتدأ أبو جعفر بعمارة الرصافة بالجانب الشرقيّ، وعمل لها سورًا، وخندقًا، وأجرى إليها الماء كما فعلَ ببغداد. وسببه أن أبا جعفر استشارَ بعضَ أقاربه فقال: ما ترى ما نحن فيه من شغب الجند ووثوبهم علينا كلَّ وقت؟ ! فقال له: الرأيُ عندي أنْ تعبُر بولدك إلى الجانب الشرقيّ، وابنِ له هناك قصرًا وبلدًا، وحوِّل معه من الجيوش جيشًا، فيصير ذاك بلدًا وهذا آخر، فإن فسدَ عليك أحد البلدين ضَربهم بالآخر، وإن فسدت عليك المضريَّةُ ضربها باليمانية، أو اليمانية ضربها بالمضريَّة، الخراسانية ضربها بأعدائها (¬2). ففعل أبو جعفر ذلك، فاستقامت له الأمور. ووُزِنَ ما بين الرصافة وبغداد فكانت بغداد أعلى من الرصافة بذراعين وثلاثين ذراع (¬3)، كذا ذكره الخطيب. وهو بعيدٌ في رأي العين اليوم. وفيها قدم المهديُّ على أبي جعفر ببغداد، فالتقاه أبوه، وأحسن إلى أصحابه، وكساهم، وحملهم، وكذا فعل المهدي (¬4). وفيها جدَّد أبو جعفر البيعة لنفسه ولابنه محمد المهدي، ثمَّ لعيسى بن موسى من بعده، فكان من يبايعه يقبِّلُ يدَه ويد المهدي، ثم يمسحُ على يد عيسى بن موسى ولا يقبِّلُها (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 37. (¬2) كذا في (خ)، ونص الكلام كما في تاريخ الطبري 8/ 39: فإن فسد عليك أهل هذا الجانب ضربتهم بأهل ذلك الجانب، وإن فسد عليك أهل ذلك الجانب ضربتهم بأهل هذا الجانب، وإن فسدت عليك مضر ضربتها باليمن وربيعة والخراسانية، وإن فسدت عليك اليمن ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها. (¬3) كذا، وفي تاريخ بغداد 1/ 394: ذراعين ونحو من ثلثي ذراع. وانظر أيضًا المنتظم 8/ 148. (¬4) يريد أن المهدي فعل مثل ذلك بمن وفد عليه من عامة أهل بيته. انظر تاريخ الطبري 8/ 36 - 37، والمنتظم 8/ 146. (¬5) تاريخ الطبري 8/ 39.

أشعث الحداني

وحج بالناس محمد بن إبراهيم الإمام، وهو كان العامل على مكَّة والطائف، وعلى المدينة الحسنُ بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة جابر بن توبة الكلابيّ، وعلى قضائها سَوار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم (¬1). وفيها توفي أشعث الحُدَّاني من الطبقة الرابعة من عباد البصرة، وكان من الخائفين. قال ابن أبي الدنيا بإسناده إلى حزم قال. قال لنا أشعث الحداني: انطلقوا بنا إلى أبي محمد حبيب العجمي نسلِّم عليه، وذلك عند ارتفاع النهار، فانطلقنا معه، فسلَّمنا عليه وجلسنا، فأخذ حبيب في البكاء وبكى أشعث، فما زالا كذلك حتى حضرت صلاة الظهر، فصلَّينا، ثم أَخذا في البكاء إلى العصر، فصلَّينا، وما زالا يبكيان إلى المغرب، ثم قام وخرج، ثمَّ التفتَ إلينا وقد ركب حماره وقال: إنَّ أناسًا ينهون عن هذا فأطيعهم؟ قلنا: إذًا أنت أعلم، فقال: والله لا أطيعُهم أبدًا. أسندَ عن الحسن وابن سيرين، وأقرانهما (¬2). قلت: وفي الطبقة الرابعة من أهل البصرة رجلٌ آخرُ يقال له الحُدَّاني أيضًا، إلا أنَّ اسمَه عبد الله بن غالب كان من الزهَّاد الخائفين. قال أبو نعيم بإسناده إلى المغيرة بن حبيب قال: قال عبد الله بن غالب الحُدَّاني لما برز للعدو: على ما آسى من الدنيا؟ فوالله ما فيها للبيب جذلٌ، والله لولا محبَّتي لمباشرة السهر بصفحة وجهي، وافتراش الجبهة لك يا سيدي، والمراوحة بين الأعضاء في ظلم الليل؛ رجاءَ ثوابك وحلول رضوانك لقد كنتُ متمنِّيًا لفراقِ الدنيا وأهلها. ثمَّ كسرَ جفن سيفه، وتقدَّم فقاتل حتَّى قُتل، فحُمِل في المعركة وبه رمق، فماتَ دون العسكر، فلمَّا دُفِنَ أصابوا من قبرِه رائحة المسك. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 40. (¬2) انظر ترجمته في المنتظم 8/ 150، وصفة الصفوة 3/ 335، وتهذيب الكمال 3/ 272، وسير أعلام النبلاء 6/ 274.

جعفر بن أبي جعفر المنصور

قال: فرآه رجلٌ من إخوانه في منامه، فقال: يا أبا فراس إلى ما صرت؟ قال: إلى الجنة، قال: بم؟ قال: بحسن اليقين، وطول التهجُّد، وظمأ الهواجر، قال: فما هذه الرائحةُ الطيِّبةُ التي توجد من قبرك؟ قال: تلك رائحةُ التلاوة والظَّمأ، قال: فقلت: أوصني، قال: اكسب لنفسك خيرًا، لا تخرج عنك الليالي والأيَّام عطلًا (¬1). قلت: تقدَّمتْ وفاةُ عبد الله بن غالب الحُدَّاني على وفاة أشعث الحُدَّاني؛ لأنَّ جدِّي ذكر في "صفوة الصفوة" عن مالك بن دينار أنَّه قال: نزلتُ في قبر عبد الله بن غالب، وأخذتُ من ترابِه، فإذا هو مسك، قال: وفُتِنَ الناسُ به فبُعِثَ إلى قبره فسوِّي (¬2). ومالك بن دينار توفي في سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين ومئة. جعفر بن أبي جعفر المنصور كان يتولى إمارة الموصل والجزيرة وتوفي في حياة أبيه (¬3)، وكان للمنصور جعفران، أكبر وأصغر، وهذا هو الأكبر، وهو شقيقُ محمد المهدي، وأمُّهما أروى بنت منصور أخت يزيد بن منصور الحميري، وكنيةُ جعفر أبو الفضل (¬4). قيل: إنه مات في سنة خمسين ومئة، وصلَّى عليه المنصور أبوه ودفنه بمقابر قريش (¬5). حسان بن أبي سنان (¬6) من الطبقة الرابعة من أهل البصرة، وكان من الخائفين المتعبِّدين الورعين. قال ابنُ أبي الدنيا بإسناده: عن محمد بن عبد الله الزرّاد قال: خرجَ حسان إلى العيد، فلمَّا ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 3/ 334. وانظر حلية الأولياء 2/ 257 - 258، وذكر الخبر فيه مختصرًا من غير طريق المغيرة بن حبيب. (¬2) صفة الصفوة 3/ 335. ووفاة عبد الله بن غالب في سنة ثلاث وثمانين، كما في تهذيب الكمال 15/ 421. (¬3) المنتظم 8/ 151. (¬4) أنساب الأشراف 3/ 312. (¬5) تاريخ الطبري 8/ 32، وانظر ما سلف ص 206 من هذا الجزء. (¬6) كذا أورده أيضًا في هذه السنة ابن الجوزي في المنتظم 8/ 152، ولم أقف على من ذكر تاريخ وفاقه، لكن أورده الذهبي في تاريخ الإسلام 3/ 395 في الطبقة الثالثة عشرة (121 - 130 هـ)، فالله أعلم.

رَجع قالت له امرأتُه: كم من امرأة حسناء نظرت إليها اليوم؟ فلم يجبها، فألحَّت عليه، قال: ويحك! والله ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى وجعت إليك. وروى ابن أبي الدنيا أنَّ غلامًا لحسان بن أبي سنان كتب إليه من الأهواز: إنَّ قصب السكر أصابته آفةٌ، فاشتر السكَّر فيما قبلك، فاشتراه من رجل، فلم يأت إلَّا القليل فإذا مِمَّا ربح ثلاثون ألفًا، قال: فأتى صاحبَ السكَّر فقال له: يا هذا، إنَّ غلامي كان كتب إليَّ ولم أعلمك بكذا وكذا، فأقلني، فقالط الرجل: قد علمتُ الآن وطيبتُه، فقالط: لم آت الأمر من وجهه (¬1)، أقلني، فما زال به حتى أقاله، وردَّ عليه ماله. وروى ابن أبي الدنيا عن أبي يحيى الزرَّاد قال: كان حسان يتمثل كثيرًا: [من البسيط] لا صحَّةُ المرء في الدنيا تؤخِّرُه ... ولا يقدم يومًا موته الوجَعُ قال: وكان يدخلُ مع امرأته في الفراش، ثمَّ يخادعها ويخرج فيصلِّي إلى الصباح، قال: وكان يبكي حتى يبلَّ ما بين يديه، ولا يُسمَع له صوت. قال ابن أبي الدنيا أيضًا: ومرَّ حسان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبلَ على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك؟ ! لأعاقبنَّك بصوم سنة، فصامها. قال: وكان يقول: لولا المساكين لما اتّجرتُ، وكان يأخذ الربحَ فيخرجُ منه قوتَ عياله، ويتصدَّق بالباقي. ذكر وفاته: حدثنا عبد الوهاب بن علي الصوفي بإسناده عن يحيى بن بسطام التميميّ جارِ حسان قال: كان حسان يصوم الدهرَ، ويفطر على قرص، ويتسحَّر بآخر، فنحل وسقم جسمه، حتى صار كهيئة الخيال، فلمّا مات وأدخل مغتسله لغسله، كشف الثوب عنه، فإذا هو كهيئة الخيط الأسود، وأصحابه يبكون حوله فسمعوا قائلًا يقول من ناحية البيت: [من الوافر] تجوَّعَ للإله لكي يراهُ ... نحيلَ الجسم من طولِ الصيامِ ¬

_ (¬1) في (خ): لم أت الأمر إلَّا من وجهه، والمثبت من الحلية 3/ 118، وصفة الصفوة 3/ 337.

عبد الله بن عون بن أرطبان

وقام لربِّه في الليل حتى ... أضرَّ بجسمِه طولُ القيامِ سينعمُ في الجنان بحورِ عينٍ ... نواعم قاصراتٍ في الخيامِ فكانوا يرون أنَّ بعض الجن بكاه، قال: فوالله ما رؤي في البيت إلَّا باكيًا. أسندَ حسَّان عن أنس والحسن وابن سيرين وثابت البُناني وغيرهم، وإنَّما شغلته العبادة عن الرواية. عبد الله بن عون بن أَرطبان ذكره ابنُ سعد في الطبقة الرابعة من أهل البصرة وقال: كنيتُه أبو عون، مولى عبد الله بن ذَرَّة (¬1) بن سرَّاق (¬2) المزني، وكانَ أكبرَ من سلمان التيميّ، وكان عثمانيًّا، ثقةً، كثيرَ الحديث، ورعًا. وقال حماد بن زيد: ولد ابنُ عون قبلَ الطاعون الجارف بثلاث سنين. وكان لا يسلِّمُ على القدريَّة إذا مرَّ بهم. قال: وكان إذا حدث بالحديث تخشَّعَ عنده حتى يرحمه من حضره مخافة أن يزيد فيه أو ينقص منه. ويقول: وددتُ أنِّي خرجتُ منه كَفافًا، يعني العلم. قال: وكان له إخوانٌ يأتونَه فيأذن لهم خاصة، ولا يأذن للجماعة. قال: وكانوا إذا جاؤوه سلَّموا عليه، فيردُّ، ويجلسون كأنَّ على وجوههم (¬3) الطير من الخشوع والخضوع، وكان لا يدعُ أحدًا يمشي معه، واتَّبعه يومًا محمد بن سيرين (¬4) فقال له: ألكَ حاجة؟ قال: لا، قال: فانصرف. قال: وكان لا يمازح أحدًا، ولا يماري أحدًا، ولا ينشد شِعرًا. وإذا صلَّى الغداة مكثَ مستقبلَ القبلة يذكرُ الله تعالى، فإذا طلعتِ الشمسُ صلَّى، ثم ¬

_ (¬1) في (خ): درة. غير معجمة. وانظر طبقات ابن سعد 9/ 261، وتاريخ دمشق 37/ 227. (¬2) في (خ): سراقة. والمثبت من طبقات ابن سعد 9/ 261، وتاريخ دمشق 37/ 229. (¬3) كذا في (خ). وفي طبقات ابن سعد 9/ 262: رؤوسهم. (¬4) كذا في (خ). وهو خطأ، والذي في طبقات ابن سعد 9/ 262: واتبع ابن عون محمدَ بن سيرين ...

أقبلَ على أصحابه. قال ابن سعد: وحدثنا بكَّار بن محمد بهذا كلِّه. قال بكَّار: وما رأيتُ ابن عون شاتمًا أحدًا قط، لا عبدًا (¬1)، ولا أمةً، ولا شاةً، ولا دجاجةً، ولا رأيتُ أحدًا أملكَ للسانه منه. قال: وكان بلال بن أبي بردة قد ضربه بالسِّياط؛ لأنه تزوَّج امرأة عربية، قال بكار: فما سمعتُه يذكرُ بلالًا بشيءٍ قطّ، ولقد بلغني أنَّ أقوامًا قالوا: يا أبا عون، فعلَ بلالٌ كذا وكذا، فقال: إنَّ الرجل قد يكون مظلومًا، فلا يزالُ يقول حتى يصيرَ ظالمًا. وقال بكَّار: لقد صحبتُه مدَّة فما سمعتُه حالفًا على يمينٍ برَّةٍ ولا فاجرة حتَّى فرق الموت بيننا. قال: وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وما رأيتُ بيده دينارًا ولا درهمًا وما رأيته وزنَ شيئًا قط، وكان إذا توضَّأ لا يعينُه على وضوئه أحد، ويمسح وجهه بمنديلٍ أو خرقة. قال: وكان يغتسلُ للجمعة والعيدين ويتطيب، ويَرى ذلك سُنَّةً، ويلبس أنظفَ ثيابه، وما رأيتُه دخلَ حمَّامًا، ولا أكل طعامًا فيه ثوم قط. وكان إذا وصل إنسانًا وصلَهُ سرًّا، وما كان يحب أن يطَّلعَ على عمله أحدٌ. قال: وكان عثمان البتي يقول في شهادة الرجل لابنه (¬2): لا يجوزُ إلَّا أن يكون مثل ابن عون. وكان ابن عون إذا اجتهدَ في الدعاء يقول: يا أحد يا أحد. قال بكار بن محمد: ورأيت بعض أسنان ابن عون مشدودةً بالذهب. قال: ومات في رجب سنة إحدى وخمسين ومئة. وهذا الذي ذكرناه روايات ابن سعد (¬3). وروى أبو نعيم عن يحيى بن سعيد القطان قال: ما سادَ ابنُ عون الناسَ أن كانَ ¬

_ (¬1) في (خ): ولا عبدًا. والمثبت من طبقات ابن سعد 9/ 262. (¬2) في طبقات ابن سعد 9/ 265 وتهذيب الكمال 15/ 400: لأبيه. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 261 - 268.

أتركَهم للدُّنيا، وإنَّما سادَهم بحفظ لسانه. وروى أبو نعيم أيضًا عن يونس بن عبيد أنه قال: إنِّي لأعرف رجلًا منذ عشرين سنة يتمنَّى أن يَسْلَمَ له يومٌ من أيام ابن عون فلا يقدر عليه، وليس ذلك أن يسكت يومًا لا يتكلَّم، ولكن يتكلَّم فيسلم كما يسلم ابن عون. وقال ابن المبارك: إنما ارتفعَ ابنُ عون بالاستقامة. ورَوى أبو نعيم عن خارجة بن مصعب قال: صحبتُ عبد الله بن عون أربعةً وعشرين سنةً، فما أعلمُ أنَّ الملائكةَ كتبت عليه خطيئةً قط. قال: وكان لا يغضبُ فإذا أغضبَه أحدٌ قال: باركَ الله فيك (¬1). وروى ابن بطة أنَّ ابن عون كان له حوانيتُ يكريها لأهلِ الذمَّة ولا يكريها للمسلمين، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّ لمجيء رأس الشهر روعة، وأنا أكرهُ أن أروِّعَ مسلمًا (¬2). وقال عثمان البتي: ما رأت عيناي مثلَ ابن عون، قيل: ولا الحسن وابن سيرين، قال: ولا الحسن ولا ابن سيرين. وروى أبو نعيم أن أمَّ ابن عون نادته فأجابها فارتفع صوته على صوتها فأعتق رقبتين (¬3). قال: وكان له جمل يغزو عليه ويستقي عليه الماء، وكان يحبُّه، فضربه غلام لابن عون على وجهه فسألت عين الجمل على خدِّه، فجاء به الغلام وقد خاف، فقال له ابن عون: فهلَّا كان على غير الوجه، اذهب فأنت حرٌّ لوجه الله. وكان ابن المبارك يقدم البصرة فيقال: ما الذي أقدمك؟ فيقول آخذ من أخلاق ابن عون وآدابه. وقال ابن معين: ولد ابن عون سنة أربعٍ أو ستٍّ وستين، وكان أكبر من أيوب ¬

_ (¬1) انظر حلية الأولياء 3/ 37 - 40. (¬2) صفة الصفوة 3/ 310. (¬3) حلية الأولياء 3/ 39.

بسنتين، وعاش ابن عون بعد أيوب عشر سنين (¬1). قال: وقال ابن عون (¬2): كنت شمَّاسًا في بيعة مَيسان فوقعتُ في سهم عبد الله بن ذرَّة المُزَني. ذكر وفاته اتفقوا على أنه مات في هذه السنة. أدرك ابنُ عون أنس بن مالك وصحبه (¬3)، ويقال: إنَّه رَوى عنه، ورَوى عن الحسن وابن سيرين وأبي رجاء العطاردي والقاسم بن محمد ومجاهد ونافع وغيرهم. وقال بكَّار بن محمد: ما رأيتُ أصبرَ منه في مرضه؛ ما شكا علَّةً قطّ حتى مات. وقال الحافظ ابن عساكر: قدم ابن عون الشام وشاهد غيلان القدري مصلوبًا (¬4). * * * ¬

_ (¬1) كذا في (خ). وفي تاريخ دمشق 37/ 226 (طبعة مجمع اللغة): عشرين سنة. (¬2) القائل هو أرطبان جدُّ عبد الله. انظر تاريخ خليفة 1/ 128، وتاريخ دمشق 37/ 231. (¬3) حلية الأولياء 3/ 41، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء 6/ 364: وما وجدت له سماعًا من أنس بن مالك ولا من صحابي، مع أنه ولد في حياة ابن عباس وطبقته، وكان مع أنس بالبصرة وقد ورد عنه أنه رأى أنسًا وعليه عمامة خز. اهـ. وهذا الأخير الذي رواه ابن عون عن أنس أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 41 - 42. (¬4) انظر تاريخ دمشق 37/ 225.

السنة الثانية والخمسون بعد المئة

السنة الثانية والخمسون بعد المئة فيها غَزا الصائفة محمد بن الإمام، وغزا حُميدُ بن قحطبة كابُل، وكان واليًا على خراسان. وفيها قتلت الخوارج معنَ بن زائدة بسجستان، وقَتل أبو جعفر هاشم بن الأسماهيج (¬1)، وكان قد عصى عليه بإفريقيَّة، فحُمِل إلى العراق، فالتقاه أبو جعفر بالقادسيَّة، فضرب عنقَه. وفيها توفي سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى (¬2) وكنيته أبو أيوب التميمي، ويُعرف بابن بنت شرحبيل، فقيه أهل دمشق. وقال الحافظ ابن عساكر: كان ثقةً، إلَّا أنَّه لسلامةِ صدره يروي عن الضعفاء. وحج المنصور في هذه السنة ولم يعلم به محمد بن سليمان بالكوفة ولا عيسى بن موسى حتى جاوز الكوفة أو قرب منها، وكان قد أَخفى عليهما مسيرَه لغرضٍ له. وكان العمالُ على ما هم عليه في العام الماضي إلَّا مصرَ والبصرة، وقد ذكرنا ذلك. وفيها توفي صالح بن علي ابن عبد الله بن عباس، ولد بالسراة من أرض البلقاء سنة ستٍّ وتسعين، وأبو جعفر أكبر منه بشهرين، وأمُّ صالح سعدى، وقد ذكرنا أنه كان مع أخيه عبد الله بن علي على فتح دمشق، وأنَّه تَبع مروان إلى مصر حتى قتله، وولي الموسم وإمرة دمشق. وذكره خليفة فقال: وفي سنة ثمان وثلاثين ومئة نزلَ صالح مرجَ دابق، وأقبلت جيوش الروم مع قسطنطين في مئة ألف، فلقيه صالح فنصره الله عليه، فقتلَ وسبى، ¬

_ (¬1) كذا في (خ) وأصول المنتظم كما أشار إلى ذلك محققه 8/ 155، وفي تاريخ الطبري 8/ 41: الأشتاخنج. وفي الكامل 5/ 608: الأساجيج. (¬2) إيراد سليمان بن عبد الرحمن في وفيات هذه السنة وهم؛ لأنه توفي سنة 233 هـ، وولادته في هذه السنة أو التي بعدها. انظر ترجمته في الوافي بالوفيات 15/ 398.

معن بن زائدة بن عبد الله الشيباني

ونجا سالمًا. قال: وصالح حجَّ بالناس في سنة إحدى وأربعين ومئة (¬1). وقال الوليد بن مسلم فيما حكاه عنه الحافظ ابن عساكر: وفي سنة سبع وثلاثين ومئة لَمَّا أفضى إلى أبي جعفر الأمرُ غزا صالح الروم، فقدم الشام فنزل بدير سمعان وحلب وما يليها، ثم أغزى الصائفة في سنة ثمان وثلاثين ومئة في أهل المشرق، وأغزاه أبو جعفر الصائفةَ في سنة ثلاث وأربعين ومئة، فنزلَ على جسر جيحان وبنى عليه حصن أذنة (¬2). وقد ذكرنا ذلك. واختلفوا في وفاته قال يعقوب بن سفيان: توفي في سنة اثنتين وخمسين ومئة، وهو على حمص وقنسرين، فاستخلفَ ابنه الفضل بن صالح مكانه، فأقرَّه أبو جعفر (¬3). وقال يعقوب بن سفيان: وبلغني أنه مات بعين أباغ من ناحية الشام وقد بلغ ثمانيةً وخمسين سنة (¬4). معن بن زائدة بن عبد الله الشَّيباني وكنيته أبو الوليد، وقيل: أبو يزيد، وقد نسبه الجوهريُّ فقال: وقولهم: حَدِّث عن معنٍ ولا حرج، فهو معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك الشيباني، وهو عم يزيد [بن مَزْيَد] (¬5) بن زائدة. وكان معن أجود العرب، وكان شجاعًا فطنًا، سيِّد الأجواد ممدحًا. وقد ذكرنا أنَّه كان مع ابن هبيرة بواسط، فلمَّا وقع الصلحُ بعثَه أبو جعفر إلى أخيه أبي [العباس (¬6)] السفاح ببشارة فتح واسط وأن يستحلفَه لابن هبيرة، وقَتل أبو جعفر ابنَ هبيرة، ¬

_ (¬1) تاريخ خليفة ص 417، 419. (¬2) في تاريخ دمشق 8/ 208 (مخطوط) أنه وجه هلال بن ضيغم السلامي من أهل دمشق في جماعة من أهل دمشق فبنوا على جسر سليمان حصن أذنة. (¬3) المعرفة والتاريخ 1/ 139. (¬4) قوله: وبلغني، هو من كلام الحافظ ابن عساكر. انظر تاريخ دمشق 8/ 208. (¬5) ما بين حاصرتين من الصحاح (معن). (¬6) في (خ): أبي السفاح وما بين حاصرتين زيادة من عندنا.

ونجا معن؛ لأنَّه كان عند أبي العباس بالهاشمية. ذكر طرف من أخباره: قال الهيثم بن عدي: كان أبو جعفر قد ولاه الولايات، فنُقِل إليه أنه احتجز الأموال، فغضب عليه وتهدده إلى يوم الهاشمية، فلمَّا فدى المنصورَ بنفسه وقاتلَ بين يديه تقدَّم عنده تقدُّمًا عظيمًا، فولَّاه اليمن، فأعطَى عطايا لم يعطها أحدٌ غيره؛ أتاهُ أعرابيٌّ فأنشدَه أبياتًا من الشعر، فأعطاه مئة ألف درهم. وقال المدائني: دخلَ عليه أبو جعفر (¬1) يومًا ومعن يقاربُ في الخُطا فقال: يا معن كَبُر سنُّك، فقال: يا أمير المؤمنين في طاعتك، قال: وإنَّك لتتجلَّد، فقال: على أعدائك، فقال: إنَّ فيك لبقية، قال: هي لك. قال: ودخلَ عليه يومًا، فنظرَ إليه أبو جعفر، ففكَّر واحمرَّ وجهُه وقال: لست أنسى لك يوم واسط مع ابن هبيرة، وهمَّ أن يضربَه بعمود، فقال: يا أمير المؤمنين، ذاك نصري لباطلهم، فكيف بحقِّك؟ فقال له: أحسنت، وولَّاه سجستان. ورَوى مروان بن أبي حفصة قال: كان المنصورُ قد طلبَ معن بن زائدة طلبًا شديدًا، وجعل فيه مالًا، قال: فحدثني معن باليمن أنَّه اضطُّر لشدَّة الطلب، قال: وكنت ببغداد فوقفت في الشمس حتى لوَّحَتْ وجهي، وخَفَّفتُ عارضَي لحيتي، ولبستُ جبَّة صوف خشنة، وركبت جملًا في زيِّ الأعراب، وتنكرت، وخرجت من بغداد أريدُ البادية، فلمَّا صرت بباب حرب تبعني أسودٌ متقلِّدٌ سيفًا، حتى إذا غبت عن الحرس قبضَ على خطام الجمل فأناخه وقبضَ عليَّ، فقلت: ما لك؟ فقال: أنت طَلِبَةُ أميرِ المؤمنين، فقلت: ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟ فقال: أنت معنُ بن زائدة، فقلت له: يا هذا اتَّق الله (¬2)، فقال: دع عنك هذا، فأنا والله أعرفُ بك من نفسك، قال: فقلت: فإن كنتُ كما تقول فهذا جوهرٌ له قيمة، حملتُه معي بأضعاف ما بذل المنصور في طلبي لمن جاء بي، فخذه ولا تسفك دمي، فقال: هاته، فأخرجتُه إليه، فنظر فيه ساعةً، فتحيَّر، قال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتَني أطلقتك، قلت: قل، قال: فإنَّ الناسَ قد وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبتَ قطُّ ¬

_ (¬1) كذا في (خ). والصواب -كما في تاريخ بغداد 15/ 317 - : دخل على أبي جعفر. (¬2) في الأغاني 10/ 84، والفرج بعد الشدة 4/ 52، ووفيات الأعيان 5/ 245: اتق الله، وأين أنا من معن.

مالكَ كله؟ قلت: لا، قال: فنصفه؟ قلت: لا، قال: فثلثه؟ قلت: لا، حتى بلغ العشر، فاستحييت منه وقلت: أظنّ، فقال: ما أراك فعلته، أنا رجلٌ (¬1) -أو عبد- رزقي من أبي جعفر عشرون درهمًا، وهذا الجوهرُ قيمته آلاف الدنانير، قد وهبتُه لك، ووهبتُ لك روحك، لجودك المأثور بين الناس، ولتحتقرَ بعد هذا كلَّ شيءٍ تعملُه، ولا تتوقَّف في مكرمة، ثمَّ رَمى بالعقد في حجري، وخَلَّى زمام البعير وانصرف، قال: فقلت له: يا هذا، والله لقد فضحتَني ولَسَفكُ دمي أهونُ عليَّ مِمَّا فعلت، فخذ هذا العقد، فإنِّي غنيٌّ عنه، فضحك وقال: أردتَ تكذبني في مقالي هذا، والله لا آخذه ولا آخذ للمعروف ثمنًا أبدًا، قال: فوالله لقد طلبته لَمَّا أمنت، وبذلتُ لمن جاءَ به ما شاء، فما عرفت له خبرًا. وفي رواية أن معن قال: فلمَّا رضي عنِّي المنصور سألني عمَّا جرى لي في غيبتي، فأخبرتُه خبرَ العبد، فطربَ وقال: لا يبقى في العبيد عبدٌ إلَّا، ويعرض عليّ وأنا قاعد، فجعلوا يعرضون العبيد حتى مرَّ بي صاحبي، فقلتُ: هذا والله هو، فأحسنَ إليه المنصور ووصله، وجعلَه من خاصته. وروى الخطيب عن أبي عبيدة قال: وقف شاعرٌ بباب معن حولًا لا يصلُ إليه، وكان معن شديدَ الحجاب، فكتب إليه: [من الوافر] إذا كان الجوادُ له حجابٌ ... فما فَضْلُ الجوادِ على البخيلِ وفي رواية غير هذا: إذا كان الكريمُ له حجابٌ ... فما فضلُ الكريمِ على اللئيمِ فكتب إليه معن: إذا كان الجوادُ قليلَ مالٍ ... ولم يُعذَرْ تعلَّلَ بالحجابِ فقال الشاعر: إنَّه قد آيسني من معروفه، ثمَّ ارتحلَ منصرفًا، وأُخبِر معن بانصرافه، فأرسل إليه بعشرة آلاف درهم. وقال: هي لك عندنا في كل زَوْرَة (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، وفي الأغاني 10/ 84، والفرج بعد الشدة للتنوخي 4/ 53، ووفيات الأعيان 5/ 246: راجل. وهو الصواب. (¬2) تاريخ بغداد 15/ 318 - 319.

وحكى أبو عثمان المازني قال: بينما معن جالس في أصحابه إذ أقبلَ أعرابيٌّ راكبٌ على بعير، فجاء حتى أبركَ بعيرَهُ ووقف بين يدي معن وقال: [من المنسرح] أصلحكَ الله قلَّ ما بيدي ... فما أطيقُ العيال إذ كثروا ألحَّ دهرٌ رمى بكلكلِهِ ... فأرسَلُوني إليكَ واعتذروا (¬1) قال: فأخذت معن أريحيَّة وقال: لا جرمَ، والله لأُعجلنَّ أوبتَك، ثمَّ قال: يا غلام، ناقتي الفلانيَّة وألفُ دينار، فدفعَها إلى الأعرابيِّ وهو لا يعرِفُه. وحكى القاضي التنوخي قال: إنَّ معنَ بن زائدة أُتي بثلاث مئة أسير، فأمرَ بضرب أعناقهم، فقال له غلام منهم: يا معن، تقتلُ أسراك وهم عِطاش؟ فقال: اسقوهم، فسقوهم، فقال: اقتلوهم، فناداه ذلك الغلام: يا معن، تقتلُ أضيافك؟ ! فأطلقهم (¬2). وقال العتبي: كان معن مع جوده أحلمَ الناس. ذكر وفاته: حكى البلاذري قال: ولَّى أبو جعفر معن بن زائدة سجستان، فاندسَّ له قومٌ من الخوارج مع قومٍ من الصنَّاع كانوا يعملون في داره، فقتلوه وهو يحتجم، فقتلهم يزيد بن مزيد (¬3). وقال يعقوب بن سفيان: قتل معن بأرض خراسان سنة اثنتين وخمسين ومئة (¬4). وقال الخطيب: بلغني أنَّ المنصور ولَّاه سِجستان، فنزل بُست، فأساء السِّيرةَ في أهلها فقتلوه (¬5). ورثاه الشعراء، فقال الحسين بن مطير وهو من شعراء الحماسة هذه الأبيات: [من الطويل] ألِمَّا على معنٍ فقولا لقبره ... سقتكَ الغوادي مَرْبعًا ثم مَرْبَعَا ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 15/ 317: وانتظروا. (¬2) الفرج بعد الشدة 4/ 91. (¬3) أنساب الأشراف 3/ 270. (¬4) المعرفة والتاريخ 1/ 139. (¬5) تاريخ بغداد 15/ 322 - 323.

فيا قبر معنٍ كيف واريتَ جُودَهُ ... وقد كان منه البَرُّ والبحرُ مُتْرَعا ويا قبر معنٍ أنت أوَّلُ حفرةٍ ... من الأرض خَطَّتْ للسماحة مَضْجَعا بلى قد وسعتَ الجود والجودُ ميِّتٌ ... ولو كانَ حيًّا ضِقْتَ حتى تَصدَّعا فتًى عِيشَ في معروفه بعدَ موتِه ... كما كان بعد السَّيلِ مجراهُ مرتعا ولما مضى معنٌ مضَى الجود وانقضى ... وأصبحَ عِرْنينُ المكارمِ أجدعا (¬1) وهي من قصيدة منها: وما كان إلَّا الجودُ صورةَ وجهه ... فعاش كريمًا ثم ولَّى مودِّعا وقد كان معن في المواقف غُرَّةً ... لآل نزارٍ ساميَ الطَّرفِ أروَعا (¬2) ولما بلغت هذه الأبيات محمد المهدي شقَّ عليه فغضب وقال: ما أبقى ابن مطيرٍ لنا ولغيرنا شيئًا، فحكى البلاذري قال: خرج محمد المهدي يتصيَّد، فلقيَه الحسينُ بن مطير فأنشده: [من البسيط] أضْحَتْ يمينُك من جودٍ مصورةً ... لكن يمينُك (¬3) منها صورةُ الجودِ من حُسنِ وجهك تُضْحِي الأرضُ مشرقةً ... ومن بنانكَ يجري الماءُ في العودِ فقال له المهدي: كذبتَ، وهل تركتَ لأحدٍ في شعركَ موضعًا بعد قولك في معن: ألِمَّا على معنٍ وقولا لقبره فقال له الحسين بن مطير: يا أمير المؤمنين، وهل معن إلَّا حسنةٌ من حسنات أبيك، أو من حسناتك، فرضي عنه، وأمرَ له بألفي دينار. وقال الحافظُ ابن عساكر: كان الشافعيُّ ينشد للحسين بن مطير هذه الأبيات: [من الطويل] وليس من الفتيان من راحَ أو غدا (¬4) ... لشرب صَبُوحٍ أو لشربِ غَبُوقِ ولكن فتى الفتيانِ من راحَ واغتدى ... لضرِّ عدوٍّ أو لنفعِ صديقِ ¬

_ (¬1) الأمالي 1/ 275. (¬2) انظر أنساب الأشراف 3/ 270، وتاريخ بغداد 15/ 321 - 322. (¬3) في تاريخ بغداد 15/ 321، وتاريخ دمشق 5/ 130 (مخطوط): لا بل يمينك. (¬4) في تاريخ دمشق 5/ 131: وليس فتى الفتيان من راح واغتدى.

السنة الثالثة والخمسون بعد المئة

السنة الثالثة والخمسون بعد المئة وفيها قدمَ أبو جعفر البصرة، وبنى بها قصرًا، ونزل عند الجسر الأكبر. وكانت الحبشةُ (¬1) قد أغارت على جُدَّة، فجهَّز إليهم المراكب. وقيل: إنَّ هذه القِدْمةَ هي الأخيرة إلى البصرة، وقيل: إنَّما قدمَ البصرة في سنة خمسٍ وخمسين ومئة، ولم يعدْ إليها (¬2). وفيها ادَّعى الخلافة أبو حاتم الإباضيُّ بالمغرب، وسُلِّمَ عليه بها أربعين يومًا، فسار إلى إفريقية، وبها عمر بن حفص بن عمار بن أبي صفرة الذي كان أميرًا على السند، وانضاف إلى أبي حاتم الإباضي أبو عادي (¬3) وأبو قُرَّة الصُّفْري، وكانوا في ثلاث مئة ألف وخمسين ألفًا، منهم خمسةٌ وثمانون (¬4) ألفًا فوارس، فخرج إليهم عمر في البربر، والتقوا، فقتلوه ومن كان معه من البربر (¬5)، ومَلكُوا إفريقية. وفيها أخذ أبو جعفر الناسَ بلبس القلانس الطِّوال، فكانوا يرفعونها بالقصب من داخل، فقال أبو دلامة الشاعر في ذلك: [من الطويل] وكنا نرجِّي من إمامٍ زيادةً ... فزادَ الإمامُ المصطفى في القلانِسِ تراها على هامِ الرجال كأنَّها ... دنانُ يهوب جُلِّت بالبرانسِ وفيها توفي عبد الله بن أبي ليلى (¬6) القاضي، فاستقضي مكانه على الكوفة شريكُ بن عبد الله النخعي. وفيها غزا الصائفة معتوق (¬7)، وقيل: معروف بن يحيى الهمداني، فأوغل في بلاد ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 42، والمنتظم 8/ 166، والكامل 5/ 595، 609: الكرك. (¬2) انظر تاريخ الطبري 8/ 42، والمنتظم 8/ 166. (¬3) كذا في (خ). وفي تاريخ الطبري 8/ 42، وتاريخ الإسلام 4/ 9: أبو عاد. (¬4) كذا في (خ) وتاريخ الإسلام 4/ 9. وفي تاريخ الطبري 8/ 42: خمسة وثلاثون. (¬5) كذا، وفي تاريخ الطبري 8/ 42: قتله أبو حاتم الإباضي وأبو عاد ومن كان معهما من البربر. (¬6) كذا في (خ). وفي تاريخ الطبري 8/ 43: عبيد ابن بنت أبي ليلى. ووقع في الكامل 5/ 610: عبيد ابن بنت ابن أبي ليلى. وفي المنتظم 8/ 171: عبيد الله بن أبي ليلى. وفي تاريخ خليفة ص 434: فاستقضى أبو جعفر عبدَ الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم شريك ... (¬7) كذا في (خ). وفي تاريخ خليفة ص 427، والمعرفة والتاريخ 1/ 139، وتاريخ الطبري 8/ 43، والمنتظم =

الحسن بن عمارة بن المضرب

الروم، وفتح حصونًا منها اللاذقية، وأخرج منها ستَّة آلاف رأس من السبي الصغار سوى الرجال البالغين (¬1). وقيل: إنَّما فتح اللاذقية مسعود بن عبد الله الجحدري. وحجَّ بالناس محمد المهدي، وكان على المدينة الحسن بن زيد العلوي، وعلى مكة محمد بن إبراهيم الإمام. الحسن بن عُمارة بن المُضَرِّب أبو محمد القاضي الكوفي، ولي القضاء ببغداد في خلافة أبي جعفر، وكان جوادًا. قال الخطيب: جاءه رجل فقال: أيُّها القاضي، لي على مِسْعَر بن كِدَام سبعُ مئة درهم من ثمن دقيق، وقد مطلَني، فدفعَها إليه الحسنُ بن عُمارة وقال: أعط مسعرًا كلَّما أراد، وتعال إليَّ فأنا أعطيكَ ثمنَه. حدَّثَ الحسنُ عن الزهري، وأبي إسحاق السَّبيعي، وغيرهم، وأبي الزبير المكّيّ. وكان ثقة (¬2). حيوة بن شريح ابن صفوان بن مالك، أبو زرعة، ذكره ابنُ سعد في الطبقة الرابعة من أهل مصر وقال: كنيتُه أبو يزيد وكان ثقةً (¬3). وكان فقيهًا عابدًا مجتهدًا مجابَ الدَّعوة، وروي عن ابن المبارك أنَّه قال: ما وصف لي أحد فرأيتُه إلَّا كانت رؤيتُه دون صفتِه إلَّا حيوة بن شريح فإنَّ رؤيته كانت أكثر (¬4) من صفته. ¬

_ = 8/ 167، والكامل 5/ 610، والبداية والنهاية 13/ 428: معيوف. (¬1) في المنتظم 8/ 167: وأخرج منها ستة آلاف امرأة سوى الرجال البالغين. (¬2) بل هو متروك الحديث. انظر ترجمته في تاريخ بغداد 8/ 322، والنتظم 8/ 169، وتهذيب الكمال 6/ 265 وغيرها. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 522. (¬4) في تهذيب الكمال 7/ 481: أكبر.

شقيق بن إبراهيم البلخي

وقال ابن أبي الدنيا بإسناده قال: كان حيوة من البكائين، وكان ضيِّقَ الحالِ جدًّا، فجلستُ إليه ذات يوم وهو مختلٍ يدعو وحدَه، فقلت له: يرحمُك الله، لو دعوتَ الله يوسِّع عليك في معيشتك؟ ! قال: فالتفت يمينًا وشمالًا فلم ير أحدًا، فأخذ حصاةً من الأرض وقال: اللهمَّ اجعلها ذهبًا، فإذا هي والله تبرةٌ في كفِّه ما رأيتُ أحسن منها، قال: فرمى بها إليّ وقال: أنفقها، ثمَّ قال: هو أعلمُ بما يصلحُ به عباده. ورَوى أبو الفضل بن ناصر عن أشياخه أنَّ أبا عون لَمَّا قدم مصر ووليها، وقتلَ من قتل بها، واستولى عليها، أرسلَ إلى حيوة بن شريح، فلمَّا حضر قال: إنَّا معاشر الملوك لا نُعصَى، ومن عصانا قتلناه، وقد ولَّيتُك القضاء، فقال: حتى أُآمر أهلي، قال: اذهب، فجاء إلى أهلِه فاغتسلَ وتطيَّبَ ولبسَ أنظف ثيابه، ثمَّ جاء فدخل عليه فقال: من جعلَ السحرة أولى بما قالوا منا؟ اقضِ ما أنت قاض، لا أتولَّى لك شيئًا، فافعل ما بدا لك، فقال له: قد أعفيتُك فاخرج، فخرجَ من عنده. أسندَ حيوة عن جماعةٍ من التابعين، ورَوى عنه ابن المبارك، والليثُ بن سعد، وابنُ وهب، وكان ثقةً صدوقًا (¬1). شقيق بن إبراهيم البلخي أبو علي، من كبار مشايخ خراسان، له لسانٌ في التوكُّل، وهو أوَّل من تكلَّم بكُورة خراسان في علوم الأحوال، وهو أستاذ حاتم الأصم، وكان له دنيا واسعة، فخرجَ منها، وتزهَّد وصحبَ إبراهيم بن أدهم وغيره. ذكر طرف من أخباره: رَوى أبو نعيم الحافظ بإسنادهِ عن عليِّ بن محمد بن شقيق قال: كان لجدِّي ثلاثُ مئة قرية، ولم يكن له كفنٌ يكفَّنُ فيه، قَدَّم ذلك كلَّه بين يديه، وثيابه وسيفه إلى الساعة معلق يتباركون به (¬2). وذكر أبو عبد الله بن خميس في كتاب "مناقب الأبرار" قال: سببُ توبةِ شقيق أنَّه كان من أبناء الأغنياء، فخرجَ في تجارةٍ إلى أرض الترك وهو حَدَثٌ، فدخلَ بيت ¬

_ (¬1) المنتظم 8/ 168، وتهذيب الكمال 7/ 478، وسير أعلام النبلاء 6/ 404. (¬2) حلية الأولياء 8/ 59.

الأصنام، فرأى خادمها وقد حلقَ رأسَه ولحيته، ولبسَ ثيابًا أرجوانية، فقال له شقيق: إنَّ لك صانعًا حيًّا عالمًا قادرًا، فاعبده، ولا تعبد هذه الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع، فقال: إنْ كان قادرًا كما تقول فهو يرزُقك وأنت في بلدِك، فلم تعنَّيتَ إلى ها هنا؟ فانتبه شقيقٌ وأخذ في الطريق (¬1). وحكى عنه أبو نعيم الحافظ قال: خرجت من ثلاث مئة ألف درهم، وكنت مرابيًا، ثمَّ لبستُ الصوف عشرين سنة وأنا لا أعلم، حتَّى لقيتُ عبد العزيز بن أبي روَّاد، فقال لي: يا شقيق، ليس الشأنُ في لبس الصوف وأكل خبز الشعير، إنَّما الشأن في المعرفة، وأن تعبدَ الله لا تشرك به شيئًا، قال: فقلت: فسِّر لي هذا، فض ل: جميعُ ما تعملُه يكون لله خالصًا، ثم تلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. وفي رواية: وتكون بما في يد الله أوثقَ منك بما في أيدي المخلوقين، ثم يكون الإخلاصُ منك في جميع ما تعملُه لله تعالى (¬2). وروى أبو نعيم بإسناده إلى محمد بن أبي عمران قال: سمعتُ حاتمًا الأصمّ يقول: كنَّا مع شقيق البلخيّ، ونحن مصافو الترك، في يومٍ لا أرى فيه إلا رؤوسًا تندَر وسيوفًا تَقطَع، فقال لي شقيق ونحن بين الصَّفَّين: يا حاتم، كيف ترى نفسك في هذا اليوم، تراها مثل الليلة التي زفَّت إليك فيها امرأتك؟ فقلت: لا، فقال: ولكنِّي أرى نفسي والله في مثل تلك الليلة، ثمَّ نام بين الصفين ودرقتُه تحتَ رأسه، حتى سمعتُ غطيطَه (¬3). في "المناقب" قال: فقد عليُّ بن موسى بن ماهان أميرُ بلخ كلبًا للصيد في عنقِه قلادةٌ من ذهب، فسُعِي برجلٍ من جيران شقيق إليه أنَّه أخذَه، فطلبه فهرب، فدخلَ دار شقيق مستجيرًا به، فجاء أعوانه خلفَه، فقام شقيق ومضى إلى الأمير وقال له: لا تتعرَّض له، فبعدَ ثلاثة أيَّامٍ آتيك بالكلب، وأقام شقيق مهتمًا، فلما كان في اليوم الثالث قدم صديقٌ لشقيق من السفر، فوجد الكلبَ بقلادة الذهب في الطويق، فأخذَه وقال: أهديه لشقيق، فجاء بالكلب إلى شقيق، فتحيَّر وقال: هذا كلب الأمير، فحملَه إليه، وبرئ ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 179. (¬2) حلية الأولياء 8/ 59 - 60. (¬3) حلية الأولياء 8/ 64.

من الضمان. فيقال: إنه سلكَ طريق الفقر بعد ذلك (¬1). قال: ودخلتُ البصرة، فوُصف لي رجلٌ من المنقطعين إلى الله تعالى، فقصدتُه ودخلت عليه، فقال: من أنت؟ قلت: شقيقٌ البلخيّ، قال: معلِّمُ أهل خراسان؟ قلت: كذا يقال: قال: ما بلغَ من توكُّلك؟ قلت: استوى عندي الريف والبرِّيَّة، والأمصارُ والفيافي، فنظر إليَّ كالمنكر عليّ وقال: إنَّما يشكُّ في الرزق ويشتغلُ به من يشكُّ في الخالق، ثمَّ قال: لو كنتُ طيرًا ما استحللتُ أن أطيرَ فوق دارٍ أنت ساكنها (¬2). وقال حاتم الأصم: دخل شقيقٌ البلخيُّ الري (¬3)، فجاءَه محمد بن مقاتل الرازي قاضيها وفقيهها، فقال له: أشتهي أن تجعلَ مقامَك عندي، قال: أخافُ أن تطَّلع مني على عيب فتبعدني، ثم أرجعُ إليك فلا تقبلني، وأنا مع من يطلعُ منِّي على العيوب فيسترُ عليَّ ويرزقُني، ولم ينزل عليه. وقال حاتم: قال لي شقيق: حججتُ فطُفتُ بالبيت، ثمَّ نمتُ في جانب المسجد، وإذا قد نزلَ ملكان من السماء، فقال أحدهما لصاحبه: كم حجَّ العام؟ فقال الآخر: ثلاثة، وعدَّهم، فقال: وشقيق فيهم؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: عليه فضلُ ثوبٍ، قال: فلمَّا كان في العام القابل حججتُ في عباءةٍ ورقدتُ في مكاني، وإذا بهما قد نزلا، فقال أحدُهما لصاحبه مثلَ مقالته عام أول، فقال: وفيهم شقيق؟ قال: نعم، وقد شفَّعه الله في كلِّ من حجّ. قلت: فضلُ ثوبٍ لا يمنعُ من قَبول الحج، وإنَّما شقيق كان يشيرُ إلى التجرُّد المحض والتوكُّل السديد، فعوقِبَ على قدر ما كان يشيرُ إليه. ذكر المختار من كلامه: حكى أبو نعيم عنه أنَّه قال لحاتم الأصمّ: اصْحَبِ الناس مثلما تصحبُ النَّار، خُذْ منفعتها واحذر أن تحرقك (¬4). وحكى عنه في "المناقب" أنَّه قال: قرأتُ القرآن عشرين سنة حتى ميَّزتُ الدنيا من ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 181. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 184. (¬3) في (خ): الذي. وفوقها: (كذا). والمثبت من مناقب الأبرار 1/ 185، وهو الصواب. (¬4) حلية الأولياء 8/ 77 (ترجمة حاتم الأصم).

الآخرة، فأصبتُه في حرفين؛ قوله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيرٌ وَأَبْقَى} الآية [الشورى: 36] (¬1). وقال حاتم: سمعتُه يقول: قرأتُ أربعةً وعشرينَ كتابًا في التوحيد، فوجدتُ معانيها كلَّها في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} الآية [الأنبياء: 22]. وقال: الزاهد الذي يقيم زُهْدَهُ بلسانه. وقال: طهِّر قلبَك من حبِّ الدنيا؛ ليدخلَ فيه حبُّ الآخرة. وقال: جعلَ الله أهلَ طاعتِه أحياءً في مماتهم، وأهلَ معصيته أمواتًا في حياتهم. وقال حاتم: قدمَ شقيقٌ الكوفة حاجًّا، فلقيه سفيان الثوريّ، فقال له: أنت شقيق الذي تدعو إلى التوكل وتنهى عن المكاسب؟ فقال شقيق: ما قلت كذا. قال: فكيف قلت؟ قال: قلت: حلالٌ بيِّن، وحرامٌ بيِّن، ومتشابهٌ فيما بين ذلك، ولكن دخلت الآفةُ من الخاصَّة على العامَّة، وهي خمس طبقات؛ العلماءُ، والزهَّادُ، والغزاة، والتجَّارُ، والملوك. فأمَّا العلماءُ فهم ورثة الأنبياء، لم يرثُوا دينارًا ولا درهمًا، وإنَّما ورثوا العلمَ، فإذا كان العالمُ طامعًا، فالجاهل بمن يقتدي؟ وأمَّا الزُّهَّاد فهم ملوكُ الدنيا، فإذا أصبحَ الزَّاهدُ راغبًا، فالراغب بمن يقتدي؟ وأمَّا الغزاةُ فجندٌ من جنود الله في أرضه، وإذا كان الغازي يحبُّ التصدُّر في المجالس والراحة، فمن يغزو؟ وأمَّا التجَّار فهم أمناء الله في أرضه، فإذا كان التاجرُ خائنًا فبمن يقتدي الأمين (¬2)؟ وأمَّا الملوك فهم الرُّعاة، وإذا كان الراعي هو الذئب، فالذئب كلُّ ما يجده يأكله. يا سفيان، لا تجمعن (¬3) للدنيا إلَّا على مقامك فيها، فسلَّمَ عليه سفيانُ ومضى. وقال: الفقرُ تقارنُه ثلاثه أشياء؛ فراغُ القلب، وراحةُ النفس، وخفَّة الحساب، ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 180. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 185: الخائن. (¬3) في (خ): لا تخمص. والمثبت من مناقب الأبرار 1/ 185، وتهذيب تاريخ دمشق 6/ 333. وانظر تاريخ دمشق 8/ 99 (مخطوط).

وهيب بن الورد

والغنى يقارنُه ثلاثة أشياء؛ تعبُ اليقين، وشُغلُ القلب، وشدَّة الحساب. وقال: العبادةُ عشرة أجزاء، تسعةٌ منها في الهرب من الناس، والعاشرُ في السكوت. قال: وسأله رجل عن الفتوة أو عن التوكُّل، فقال له شقيق: فما تقول أنت؟ فقال: إنْ أُعطينا شكرنا، وإن منعنَا صبرنا، فقال له شقيق: فكلابُ بلخ عندنا بهذه الصفة، قال: فما تقول أنت؟ فقال: إنْ فقدنا صبرنا، وإن وجدنا آثرنا. وفي رواية: وإنْ مُنِعنا سُررنا. وقال ابن باكويه الشيرازي: توفي شقيق ببلخ في سنة ثلاث وخمسين ومئة (¬1). أسند الحديث وصحب المشايخ، ولازمَ إبراهيم بن أدهم مدَّةً. وهيب بن الورد مولى بني مخزوم، ذكره ابن سعد من الطبقة الثالثة من أهل مكة، وقال: كان يسكن مكَّة، وكان من العُبَّاد، وكانت له أحاديث ومواعظ وزهد، وكان اسمه عبد الوهاب فصُغِّر، فقيل: وهيب. وروى عنه عبد الله بن المبارك وغيره. وأخوه عبد الجبار بن الورد (¬2)، وروى عن ابن أبي مليكة وغيره. وهذا قول ابن سعد (¬3). وقال أبو نعيم: كنيته أبو عثمان وقيل: أبو أميَّة. وكان زاهدًا ورعًا خائفًا، ينظر في دقائق الورع. ورَوى أبو نعيم عن بشر الحافي أنَّه قال: أربعةٌ رفعَهم الله بطيب المطعم؛ وهيب بن الورد، وإبراهيم بن أدهم، ويوسف بن أسباط، وسالم الخوَّاص (¬4). وقال زهير بن عباد: جلس الفضيلُ بن عياض والثوريُّ (¬5) وابن المبارك ووهيب ¬

_ (¬1) وكذا أورده ابن الجوزي في المنتظم 8/ 170 في وفيات سنة 153. وفي تاريخ دمشق 8/ 102 (مخطوط)، وسير أعلام النبلاء 9/ 316، وتاريخ الإسلام 4/ 130، والوافي بالوفيات 16/ 173 أنه توفي سنة أربع وتسعين ومئة. وستأتي ترجمته في تلك السنة مضافة من (ب) فقط. (¬2) في (خ): بن أبي الورد. وهو خطأ. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 49 - 50. (¬4) لم أقف عليه في الحلية. (¬5) الخبر في حلية الأولياء 8/ 143، وصفة الصفوة 2/ 218 دون ذكر الثوريّ فيه.

بمكة، فتذاكروا الرطب، فقال وهيب: أوقد جاء أوانه؟ فقال له ابنُ المبارك: يرحمُك الله، فهذا آخره، أو لم تأكل؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال وهيب: بلغني أنَّه من القطائع، قال له ابن المبارك: أوليسَ عامَّة ما في السوق من القطائع؟ لو منعنا هذا لضاق على الناس، أوليس القمحُ الذي يأتي من مصر من القطائع، وما أحسبك تستغني عن القمح، فصعق وهيب، فقال الفضيل لابن المبارك: ما الذي صنعتَ بالعبد الصالح؟ فقال: ما كنت أرى أنَّ كلّ هذا الخوف قد أعطيه، فلمَّا أفاق وهيب قال: يا ابن المبارك، دعني من ترخيصك، لا آكلُ من القمح إلَّا كما تأكل المضطرُّون الميتة، فزعموا أنه نحلَ جسمُه حتى مات هزالًا. وقال قادم الديلمي [قيل] (¬1) لوهيب: ألا تشربُ من ماء زمزم؟ فقال: بأيِّ دلو؟ وما كان يشرب إلَّا بدلوه. وقال أبو نعيم: كان سفيان الثوري إذا حدَّث الناس في المسجد الحرام وفرغَ يقول: قوموا بنا إلى الطبيب، يعني وهيب بن الورد. وما كان يأكلُ من الفواكه شيئًا. ورَوى ابن أبي الدنيا بإسناده عن محمد بن يزيد بن خنيس قال: قال وُهيب بن الورد: عجبًا للعالم كيف تجيبُه دواعي قلبه إلى الضحك! وقد علمَ أنَّ له في القيامة روعات ووقفات وفزعات، ثمَّ غشي عليه. وروى ابن أبي الدنيا أيضًا عن وهيب أنَّه كان قد حلف أن لا يضحكَ حتى يعلم ما تأتي به رسلُ الله، قال: فسمعوه عند الموت يقول: وَفيتَ لي وما وفيتُ لك. وقال بشر الحافي: كانت خضرةُ البقل تبينُ من بطنِه من الهُزال. أسند وهيب عن عطاء ومنصور بن زَاذان وغيرهما، وشغله التعبُّد عن الرواية (¬2). والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من صفة الصفوة 2/ 219. (¬2) انظر ترجمته إضافة إلى ما ذكر في المنتظم 8/ 172، وتهذيب الكمال 31/ 169.

السنة الرابعة والخمسون بعد المئة

السنة الرابعة والخمسون بعد المئة فيها خرج أبو جعفر إلى الشام، فنزل البيت المقدس، وجهَّز يزيدَ بن حاتم إلى إفريقية في خمسين ألفًا، وأنفق فيهم ستة وثلاثين (¬1) ألفَ ألف درهم، وأمرهُ بقتال الخوارج الذين قَتلوا عمرَ بن حفص بإفريقيَّة، فسار إلى إفريقية، ولَمَّا رجع من الشام مر بالرقَّة، فعزمَ على بناء الرافقة مدينة إلى جانبها، فامتنع أهلها وقالوا: تخرب مدينتنا، وتتعطَّلُ أسواقنا، فلم يلتفت إليهم، فأرادوا محاربتَه، فلم يقدروا، فشرع في بناء الرافقة، وهي اليوم القائمةُ، وخربت الرقة، وهي العتيقةُ الخراب اليوم. وقال الواقدي: وفي هذه السنة وقعت صاعقةٌ في المسجد الحرام، فأحرقت خمسة نفر، وكانت قدرةُ الله عظيمة (¬2). جعفر بن بُرْقان الكلابيّ الجزري ذكره ابنُ سعد فيمن نزلَ الجزيرة من الفقهاء والمحدِّثين بعد الصحابة، وقال: كان ثقة صدوقًا، له روايةٌ وفقهٌ وفتوى في دهره، وكان كثيرَ الخطأ في حديثه، وكان ينزل الرقَّة، وبها مات في سنة أربعٍ وخمسين ومئة (¬3). وحكى الحافظ ابن عساكر عن سفيان الثوري قال: ما رأيتُ أفضلَ منه، كان من بقايا المسلمين (¬4). وقال ابن معين: كان أُمِّيًّا لا يكتب. الحكم بن أبان العدني ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل اليمن، وقال: هو من أهل عدن، مات سنة ¬

_ (¬1) كذا في (خ). وفي تاريخ الطبري 8/ 44، والمنتظم 8/ 174: ثلاثة وستين. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 44، والمنتظم 8/ 174، والكامل 5/ 612. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 488. (¬4) قوله: ما رأيت أفضل منه. هو من قول سفيان الثوري. أمَّا قوله: كان من بقايا المسلمين، فهو من قول سفيان بن عيينة. انظر تهذيب الكمال 5/ 15 - 16.

عمر بن ذر بن عبد الواحد

أربعٍ وخمسين ومئة (¬1). وقال أبو نعيم: كنيته أبو عبس (¬2). قال: وحدَّثنا عبد الله بإسناده إلى عبد الله بن الضيف (¬3) قال: سمعتُ مشيخةً يقولون: كان الحكمُ بنُ أبان سيِّدَ أهلِ اليمن، وكان يصلِّي بالليل، فإذا غلبَه النوم ألقَى نفسه في البحر، وقال: أُسبِّح لله عزَّ وجلَّ مع الحيتان. سمعَ الحكمُ من عكرمة مولى ابن عباس وغيره، وكان ثقةً زاهدًا ورعًا. عمر بن ذر بن عبد الواحد (¬4) أبو ذر الهمذاني الكوفي، ذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة من أهل الكوفة قال: وكان قاصًّا (¬5). وقال النضر بن إسماعيل (¬6): حضرتُ جنازةً فيها عُمر بن ذَرّ، وحولَه الناسُ، فلمَّا وُضِع الميت في قبرِه قام عمر وأشار إليه وقال: أمَّا أنت فقد قطعتَ سفر (¬7) الدنيا، فطوبى لك إنْ لقيت في سفرك إلى الآخرة خيرًا. فضجَّ الناسُ بالبكاء. وذكر جدِّي رحمةُ الله عليه أنَّه مات له ولدٌ، فوقف على قبره وقال: ليت شعري ماذا قلتَ، وماذا قيل لك؟ لقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، اللَّهمَّ إنِّي قد وهبتُ له إساءته إلي، فهبْ له إساءتَه إليك، فإنَّكَ أكرمُ مني. وفي رواية: لقد شغلنَا البكاءُ لك عن البكاء عليك، والحزنُ لك عن الحزنِ عليك، اللَّهمَّ إنِّي قد وهبت له ما قصَّر فيه من حقِّي، فهب له ما قصَّر فيه من حقَك، فإنَّك أولى بالكرم. فلمَّا دفن قال: يا ذرّ، خلوتَ وخُلِي بك، وانصرفنا عنك وتركناك، ولو أقمنا ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 105. (¬2) لم أقف عليه في ترجمته في الحلية 10/ 140 - 141. وانظر صفة الصفوة 2/ 297. (¬3) كذا في (خ). والصواب -كما في الحلية 10/ 141 - : إسحاق بن الضيف. (¬4) كذا في (خ). وفي المصادر: عمر بن ذر بن عبد الله. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 482. (¬6) في (خ): شميل. وهو تصحيف. والمثبت من حلية الأولياء 5/ 116، وتاريخ دمشق 54/ 22. (¬7) في (خ): شرف.

عندك ما نفعناك (¬1). وقال الهيثم: حجَّ عمر بن ذر فلما لبَّى قال: لبيك اللهمَّ لبيك، ما زلنا نهبُط واديًا، ونعلو شرفًا، ويبدو لنا علمٌ حتى أتيناك بها، نَقِبَةً أخفافها (¬2)، دَبِرةً ظهورُها (¬3)، ذبِلةً أسنمتُها، قد أتعبنَا أبداننا، وأنفقنَا أموالنا، وليس لنا همٌّ لذلك، بل أعظمُ المؤنة أن نرجع بالخسران، يا خير من نزل النازلون بفنائه. وقال ابنُ أبي خيثمة: كان كلَّما لبَّى يقولُ ذلك، فيبكي ويُبكي الناس. وقال ابن أبي خيثمة (¬4): قيل لعمر بن ذرّ: أيُّما أعجب إليك، البكاء للخائف أم الكمد؟ فقال: طولُ الكمَد؛ لأنَّه إذا بَكَى استراحَ، وإذا لم يبكِ لم يتسلّ. وأنشد: [من الطويل] إذا رقَّ قلبُ المرء درَّت جفونُه ... دموعًا له فيها سُلُوٌّ من الكَمَدْ وإنْ غصَّ بالأشجانِ من طول حُزنِه ... علاه اصفرارُ اللونِ في الوجهِ والجسَدْ ذكر وفاته: حكى ابنُ سعد أنه مات في سنة ثلاثٍ وخمسين ومئة (¬5). وقال النضر بن شميل (¬6): في سنة أربعٍ وخمسين ومئة. وقال ابن أبي خيثمة: لا يختلفون في خوفه وزهده وورعه. وقال ابن سعد: كان مرجئًا [فمات] (¬7)، فلم يشهده سفيانُ الثوري ولا الحسنُ بن صالح بن حي، وكان ثقةً كثير الحديث. ¬

_ (¬1) انظر حلية الأولياء 5/ 108. (¬2) نَقِبَ الخفُّ: تخرَّق، ونَقِب البعير: حفي. القاموس (نقب). (¬3) الدَّبَرَة: قرحة الدابة والبعير، ودَبِرَ البعير يَدْبَرُ دَبَرًا فهو دَبِرٌ وأدبر، والأنثى: دَبِرَةٌ ودَبْرَاء، وإبلٌ دَبْرَى. اللسان (دبر). (¬4) هو في الحلية 5/ 112، وتاريخ دمشق 54/ 21 (طبعة مجمع اللغة) من غير طريق ابن أبي خيثمة. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 482. (¬6) كذا، ولم أقف عليه. (¬7) ما بين حاصرتين من طبقات ابن سعد 8/ 482.

علي بن صالح بن حي الهمداني

وقال ابنُ أبي الدنيا: سألَه بعض الخلفاءِ عن القدر، فقال: ها هنا شيءٌ يشغلُ عن هذا، قال: وما هو؟ قال: ليلةٌ صبيحتُها القيامة (¬1). انتهى (¬2). علي بن صالح بن حي (¬3) الهمداني من الطبقة السادسة من أهل الكوفة، من أقران سفيان الثوري. وقال ابن سعد: كنيتُه أبو محمد، قال: وكان علي صاحب قرآن، وهذا عليّ وأخوه حسن ابنا صالح ولدا توأمين في بطنٍ واحد، تقدَّمه علي بساعةٍ، فلم أسمع حسنًا يسمِّيه باسمه قط، كان يقول: قال أبو محمّد. توفي علي في سنة أربع وخمسين ومئة. قال: وقال هشام بن محمد: أمُّ علي وحسن أمُّ الأيسر بنت المقدام بن مسلم، هَمْدانية. وقال أبو نعيم الأصفهاني بإسناده إلى وكيع بن الجراح يقول: كان عليّ والحسن ابنا صالح وأمُّهم قد جزؤوا الليلَ بثلاثةِ أجزاء، فكان عليٌّ يقومُ الثُّلث ثم ينام، ويقوم الحسن ثم ينام، وتقوم أمُّهم الثلث، فماتت أمهما، فجزآ الليلَ بينهما، فكأنا يقومان حتى الصباح، ثم مات عليّ فقام الحسنُ كلَّه (¬4). وفي روايةٍ عن صالح العجليّ أنَّهم كانوا يختمونَ القرآن في كل ليلةٍ يقرأ عليٌّ ثلثه، والحسن ثلثَه، وأمُّهُم الثلث، فماتت أمُّهما، فجزآه بينهما، فمات عليٌّ فقام به الحسن، فكان يختمُه في كلِّ ليلة. وقال يحيى بن آدم: قال الحسنُ بن صالح: قال لي أخي عليّ في الليلة التي مات فيها: يا أخي، اسقني ماءً، وكنت قائمًا أصلِّي، فلمَّا قضيتُ صلاتي أتيتُه بماء، فقال: ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 54/ 17. (¬2) انظر ترجمته أيضًا في تهذيب الكمال 21/ 334، وسير أعلام النبلاء 6/ 385، وتهذيب التهذيب 3/ 223. (¬3) في طبقات ابن سعد 8/ 495: علي بن صالح، واسم صالح حي بن صالح، وفي تهذيب الكمال 20/ 464: علي بن صالح بن صالح بن حي. (¬4) حلية الأولياء 7/ 327 - 328.

أبو عمرو بن العلاء بن عمار العريان

يا أخي، ما هذا، أليس قد شربتُ الساعة؟ قلت: ومن سقاك، وليس في الغرفة غيري وغيرك؟ فقال: أتاني جبريلُ - عليه السلام - بقدحٍ من ماء الساعة، فسقاني وقال: أنتَ وأخوك وأبوك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وخرجتْ روحُه. وفي رواية: وأمّك. وقال أبو نعيم (¬1): مات علي بن صالح في سنة أربع وخمسين ومئة، وماتَ أخوه حسن بعده بثلاثة عشر سنة، في سنة سبع وستين ومئة، وسنذكرُه هناك إنْ شاء الله تعالى (¬2). أبو عمرو بن العلاء بن عمار العريان من الطبقة الخامسة من أهل البصرة. واختلفوا في اسمه على أربعة أقوال؛ أحدها: زبَّان، والثاني: عريان، والثالث: سفيان (¬3)، والرابع: يحيى، وقيل: إنَّ اسمَه كنيته، قال الأصمعيُّ: ما عرفنا له اسمًا إلَّا الكنية. وولدَ أبو عمرو سنةَ سبعين في أَيَّام عبد الملك بن مروان، ونشأَ بالبصرة، وقرأَ القرآن على جماعةٍ، منهم مجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، والحسن، وغيرهم، وكان أبو عمرو من سادات الفضلاء، وهو أحدُ الأئمَّة القراء السبعةِ المذكورين. وقال الأصمعيُّ: سألتُه عن ثمانية آلاف مسألة من القرآن والشعر والنحو والعربيَّة، فأجابَ عنها، كأنَّه في قلوب العرب. وذكره خليفة في الطبقة السادسة من أهل البصرة (¬4). ¬

_ (¬1) هو الفضل بن دكين، لا صاحب الحلية. انظر التاريخ الصغير للبخاري ص 119. (¬2) انظر ترجمته أيضًا في صفة الصفوة 3/ 152، وسير أعلام النبلاء 7/ 371، وتهذيب التهذيب 3/ 168. (¬3) لم أقف على من ذكر أنَّ اسمه سفيان سوى ابن الجوزي في المنتظم 8/ 182، وذكر له الذهبي في معرفة القرّاء الكبار 1/ 224 نقلًا عن أبي عبد الله القصار تسعة عشر اسمًا. ليس سفيان واحدًا منها. واسم أخي أبي عمرو أبو سفيان. فالله أعلم. (¬4) طبقات خليفة ص 220.

وأمُّه عائشة بنت عبد الرحمن بن ربيعة من بني حنيفة، وقال أبو عبيد (¬1): كان أبو عمرو صدوقًا، صحيحَ السماع، عالمًا بفنون العلوم، عارفًا بالقرآن، وكان قد كتب عند العرب الفصحاء ما ملأ به بيتًا، فاحترقَ البيت، فرجع إلى ما كان في حفظه وخاطره. وذكره الخطيب وأثنى عليه وقال: دخل عليه رجل من أصحابه، وأبو عمرو مريضٌ، فقال له الرجل: إنِّي أريدُ أن أساهرَك الليلة، قال له: أنتَ معافى، وأنا مريض أو مبتلى، فالعافيةُ تمنعُك أن تسهر، والمرضُ لا يدعني أنام، فأسأل الله لكَ دوام العافية، ولي عظيمَ الأجر. قال: ومن كلام أبي عمرو: من سألَ الناس حاجةً، فقد عرَّضَ نفسَه للرقِّ، فإن قضاها المسؤول استعبَده، وإن ردَّه ولم يقضها رجعَ كلاهما ذليلان؛ هذا بذلِّ السؤال وهذا بذلِّ الردّ. وقال: رأيتُ أعرابيًّا وأنفُه كأنَّه كوزٌ من عظمه، فضحكتُ منه، فقال: ما لك؟ والله لقد كُنْتُ في قوم ما كانوا يسمونَني إلَّا الأفطس. قال: وسمع أعرابيًّا مناديًا ينادي على غلَامٍ: من يشتريه بعيبه؟ قال: وما عيبُه؟ قال: يبولُ في الفراش، فقال: إنْ وجد فراشًا يبولُ فيه. وقال الأصمعي: حدثني أبو عمرو بن العلاء قال: بينما أنا أمشي في شدَّة الحرّ، سمعتُ قائلًا يقول: [من الطويل] وإنَّ امرأ دُنياهُ أكبر همِّه ... لمتمسكٌ منها بحبلِ غرورِ قال: فقلت: أجنيٌّ أم إنسيّ؟ فقال: بل جنيٌّ، فنقشته على خاتمي. وقال الأصمعي: قال لي أبو عمرو: يا عبد الملك، كن على حذرٍ من الكريم إذا أهنتَه، ومن النئيمِ إذا أكرمتَه، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا ما جنته (¬2)، ومن الفاجر إذا عاشرتَه، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألُك، ولا تسأل من لا يجيبُك، أو تحدِّث من لا يُنصِتُ إليك. ¬

_ (¬1) كذا في (خ). ولعله أبو عبيدة. انظر معرفة القراء 1/ 235. (¬2) في تهذيب الكمال 34/ 128، وسير أعلام النبلاء 6/ 409: مازحته.

ذكر وفاته: واختلفوا فيها، فقيل: إنَّه مات بالكوفة وعمرُه يومئذ أربعةٌ وثمانون سنة. وقال ابن زبر: مات سنة أربعٍ وخمسينَ ومئة. وقال ابنُ قتيبة: ماتَ وهو مسافرٌ في طريق الشام (¬1)، وهو ابن سبعٍ وثمانين سنة. وقال وكيعُ بن الجرَّاح: رأيتُ قبرَه بظاهر الكوفة. وقيل: إنَّ الَّذي قبرُه بالكوفة أبو عمرو بن العلاء، حليفٌ لبني أمية، وليس بصاحبِ هذه الترجمة (¬2). أسند عن أبيه العلاء، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وغيرهم، وكان جليلَ القدرِ في زمانه. * * * ¬

_ (¬1) المعارف ص 540. (¬2) في معرفة القراء 1/ 236: قال وكيع: قرأت على قبر أبي عمرو بالكوفة: هذا قبر أبي عمرو بن العلاء مولى بني حنيفة. قال الذهبي: إن صح هذا فلعله أراد ولاء الحلف.

السنة الخامسة والخمسون بعد المئة

السنة الخامسة والخمسون بعد المئة فيها قال الواقدي: بَنى أبو جعفر أسوارَ الكوفة والبصرة ونيسابور (¬1)، وأدارَ عليها الخندق من أموال أهلها، وإنَّما قصدَ عقوبةَ أهل الكوفة، أمرَ مناديه فنادى: احضروا عطاء أمير المؤمنين، فحضروا، فأعطى كل واحدٍ خمسةَ دراهم، وأحصى عددهم، ووضعَ على كل واحد خمسة دنانير (¬2)، فقال شاعرهم: [من مجزوء الرمل] يا لقومي ما لقينَا ... من أميرِ المؤمنينَا قسمَ الخمسمةَ فينا ... وجَبانَا أربعينَا وولى عمارة سور الكوفة الهيثم بن معاوية العكي (¬3) وسعيد بن دعلج، وقيل: إنَّما ولى عِمَارة سور البصرة الهيثم وسعيدًا. وعزل عن البصرة عبد الملك بن [أيوب بن] (¬4) ظبيان، واستعملَ عليها الهيثم، وضمَّ سعيد بن دعلج إليه. وفيها وردت كتبُ يزيد بن حاتم على أبي جعفر بأنه قَتل الخوارج الذين قتلُوا عمر بن حفص، واستقامت إفريقية والقيروان ليزيد بن حاتم. وقال الطبريُّ: وفيها بعث المنصور ابنه محمدًا المهدي لبناء الرافقة على بناءِ مدينة بغداد في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وسورها وخنقها (¬5). قلت: وأيُّ مناسبةٍ بين البلدين، بينهما بينٌ وأيُّ بين، وقد ذكرنا أنَّ الرافقةَ هي القائمةُ يومئذٍ، أمَّا الرقَّة، فإنَّه استولى عليها الخراب! (¬6) وفيها عزل أبو جعفر أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة، وأغرمهُ أموالًا وحبسه. ¬

_ (¬1) قوله: ونيسابور. ليس في تاريخ الطبري 8/ 46، والمنتظم 8/ 183، والكامل 6/ 5. (¬2) في المصادر السابقة: أربعين درهمًا. (¬3) كذا في (ج) والمنتظم 8/ 183. وفي تاريخ الطبري 8/ 46، والكامل 6/ 6: العتكي. (¬4) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬5) تاريخ الطبري 8/ 46. (¬6) لا وجه لهذا الاستبعاد، وأراد الطبري أن بناء الرّافقة على نسق بناء بغداد في أبوابها وفصولها ... إلخ.

أشعب بن جبير الطامع

وحجَّ بالناس عبدُ الصمد بن علي وكان على مكَّة والطائف محمد بن إبراهيم الإمام. وفيها توفِّي أشعبُ بن جبير الطامع ويقال: إنَّ اسمَه شعيب، وقيل: شعبان، وأشعبُ أصح. وكان أشعب خال الأصمعي، وقيل: خال الواقدي. وكنيته أبو العلاء، وقيل: أبو إسحاق. واختلفوا في اسم أمِّه، والمشهور جعدة مولاةُ أسماء بنت أبي بكر الصديق، وقيل: أم حُميدة، وقيل: أم حَميدة. [واتفقوا أنَّه مولى] (¬1)، وإنما اختلفوا في اسم مولاه، فقال قومٌ: كان مولى عثمان بن عفان، وقيل: مولى سعيد بن العاص وقيل: مولى عبد الله بن الزبير، وقيل: مولى فاطمة بنت الحسين. وذكره أبو الفرج الأصفهاني فقال: كان أبوه مولى لآل الزبير، خرجَ مع المختار بن أبي عبيد، فقتله مصعب بن الزبير، وقال: تخرجُ عليَّ وأنت عبدي؟ قال: وأمُّه حميدة، ويقال لها: أم الجلندع (¬2) مولاة أسماء بنت أبي بكر، ويعرف أشعب بابن أم حميدة، قال: كان أزرقَ أحولَ أكشف، والأكشف الَّذي في ناصيته زغبات شعرٍ متفرِّقة، وكان أقرع (¬3). نشأ بالمدينة في دور آل أبي طالب؛ لأنَّه قد قيل إنَّه مولى فاطمة بنت الحسين، وربته عائشة بنتُ عثمان بن عفان. وذكر جدِّي في "المنتظم" أنَّ أشعبَ ولد في سنة تسع من الهجرة، وعاش دهرًا طويلًا، وأدركَ عثمان بن عفان (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المنتظم 8/ 175 (في وفيات سنة 154 هـ). (¬2) في الأغاني 19/ 135: أم الخلندج. (¬3) الأغاني 19/ 140. (¬4) المنتظم 8/ 175 - 176.

وقال أبو الفرج الأصبهاني: قال أشعب: كانت أمِّي تغري بين أزواجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا على أم أشعب فماتت (¬1). وامرأة أشعب: بنتُ وردان الَّذي بنى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين هدمَ الوليدُ بن عبد الملك المسجد على يد عمر بن عبد العزيز (¬2). وكان أشعب قد تعبَّدَ وقرأ القرآن وتنسَّك وروى الحديث، وكان حسنَ الصوت بقراءة القرآن، وربَّما صلى بهم في المسجد، وله أخبارٌ مستطوفة. ذكر طرف من أخباره: قال الخطيب بإسناده إلى أبي العباس الكاتب قال: قيل لأشعب: طلبتَ العلمَ، وجالستَ الناس، ثمَّ تركت، فلو جلست لنا فسمعنا منك؟ فقال: نعم، فجلسَ لهم، فقالوا له: حدثنا، فقال: سمعت عكرمةَ يقول: سمعتُ ابن عباس يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خَلَّتان لا تجتمعان في مؤمن" ثم سكت، قالوا: وما هما؟ قال: نسي عكرمةُ واحدة، ونسيت أنا الأخرى (¬3). فضحكُوا وانصرفوا. وقال الهيثم بن عدي: مرَّ أشعب برجلٍ يعملُ طبقًا، فقال: اعمله واسعًا؛ لعلَّهم يهدونَ إلينا فيه شيئًا. قال: وقال أشعب: ما خرجتُ في جنازةٍ فرأيتُ اثنين يتشاوران (¬4)، إلَّا ظننتُ أنَّ الميتَ قد أوصى لي بشيء. وقال سليمان الشاذكوني: كان لي ابنٌ في المكتب، وأشعبُ جالس عند المعلم، فقرأ: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص: 25] فقام أشعب ولبس نعليه، وقال: امشى بين يدي، قال: فقال: إنَّني إنَّما أقرأ حزبي، فقال: قد عجبت أنَّك تفلح أنت وأبوك. وحكى الزبير بن بكار قال: كان سالم بن عبد الله بن عمر يستخفُّ أشعب ويضحك منه، فخرج يومًا سالمٌ إلى بستان له بظاهر المدينة ومعه حرمه وأهله يتنزَّه، وعلم به ¬

_ (¬1) الأغاني 19/ 135. (¬2) الأغاني 19/ 137. (¬3) تاريخ بغداد 7/ 504. (¬4) في تاريخ بغداد 7/ 509: يتسارَّان.

أشعب، فجاء فوجدَ الباب مغلقًا، فتسوَّر الحائط، فقال له سالم: ويحكَ، تسوَّرت علي بناتي وحرمي، فقال: قد علمتَ ما لنا في بناتك من حقٍّ وإنك لتعلم ما نريد، فضحك سالم وأعطاه طعامًا، فأكل وحملَ معه إلى بيته. وقال الزبير: أكل أشعبُ يومًا مع سالم (¬1) تمرًا، فجعل يقرنُ تمرتين تمرتين، فقال له سالم: قد نهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القِرَان في التمر (¬2)، فقال: لو رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذا التمرَ لرخَّصَ فيه حفنةً حفنة. قال: وقيل لأشعب: لم لا تتزوَّج؟ فقال: أريدُ امرأةً أتجشَّأُ في وجهها فتشبع، وتأكلُ فخذَ جرادةٍ فتتخم. وقال الزبير: وفدَ أشعبُ على الوليد بن عبد الملك، فاستدعى بالمغنين، قال أشعب: فمنعني الحاجب فقلت: مكِّنِّي من الدخول ولك نصفُ ما يحصلُ لي، فقال: قد مكَّنتُك، فدخلتُ، فغنَّى القوم فأجازهم ولم يجزني، فقلت: يا أمير المؤمنين، اضربني مئةَ سوط نصفُها للحاجب، ففهم فقال: لا بل أعطيكَ مئة دينار وللحاجب مثلها. وقيل: إنَّ هذه الواقعة جرت لأشعب مع الوليد بن يزيد بن عبد الملك. وقال الهيثم: رأى أشعب رجلًا يشوي دجاجةً أوَّل النهار فلم يأكلها، ثمَّ عاد آخرَ النهار فشواها، فقال أشعب: هذه الدجاجةُ مثل آل فرعون يعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا. وبلغَ فاطمة بنت الحسين وكانت مولاته، فقالت: أوَبَلَغ من هزل الخبيث أنْ يتلاعبَ بالقرآن؟ وضربَتْهُ مئةَ سوط، وأعطتهُ مئة دينار. وقال الزبير: قيل له: ما بلغ من طمعك؟ فقال: ما زفَّت امرأةٌ إلى زوجها إلَّا كنستُ بيتي رجاءَ أن تهدى إليّ، ولا رأيتُ دخانًا طالعًا من دارٍ إلَّا ظننت أن أهله يبعثون إليَّ بطعام. قال: واجتازَ يومًا بقومٍ ينسجونَ شقة (¬3)، فقال: طوِّلوها لعلَّ أن يُهدَى إليَّ منها شيء. ¬

_ (¬1) هو سالم بن أبي الجعد، كما في تاريخ بغداد 7/ 504 (من غير طريق الزبير). (¬2) حديث النهي عن القرآن أخرجه البخاري (2455)، (2489)، (2490)، (2446)، ومسلم (2045). (¬3) كذا.

عبد الكريم بن أبي العوجاء

قال: ورأى قوسًا ينادى عليه من يشتريه بدينار، فمْال أشعب: لو أنَّ هذا إذا ضُرِب به طائرٌ وقعَ مَشويًّا بين رغيفين ما شريتُه بدينار. وقال الهيثم: وقيل له: هل رأيتَ أطمعَ منك؟ قال: نعم، أمِّي كنت إذا جئتُها بشيءٍ أتهجَّاه حرفًا حرفًا مخافةَ أن أخبرها به جملةً فتموت فرحًا. واختلفوا في وفاته، فقال الأصمعيُّ: مات في هذه السنة. وقال الجاحظ: عاشَ إلى أيَّام المهدي، وكان في فتنة عثمان بن عفان يسقي الماء. وقال [أبو] (¬1) القاسم بن عساكر: أسندَ أشعب عن أبان بن عثمان، وعبد الله بن جعفر، وسالم بن عبد الله. وقد حكى ابنُ عساكر (¬2) عن الدارقطنيِّ أنَّهما أشعبان؛ أحدهما الطامع مولى عثمان بن عفان، وهو ابن أم حميدة، والثاني أشعب بن جبير، مولى ابن الزبير. وقال عبد الغني بن سعيد: هما واحد (¬3). وذكره الخطيب (¬4) قال: وهو خال الواقدي، قدمَ بغداد في أيام المنصور والمهدي، وغنَّى بها، وكانت له ألحانٌ مطربة. وهذه الروايةُ تدلُّ على أنَّه مات في أيام المهدي. عبد الكريم بن أبي العوجاء وكان متَّهمًا بالزندقة، وهو خالُ معن بن زائدة، فأتي به إلى محمد بن سليمان (¬5) عامل أبي جعفر على الكوفة، فحبسَه، وبلغَ أصحابَهُ ببغداد، فألحُّوا على حاشية أبي جعفر بالشفاعات فيه، فكتبَ أبو جعفر إلى محمد: لا تحدثنَّ فيه حدثًا حتَّى يأتيك أمري، وبذلَ ابنُ أبي العوجاء لمحمد بن سليمان مئة ألف درهم على أن يؤجِّله ثلاثة أيام علي يدي ابن أبي الجبَّار صاحب شرطة محمد، ولأبي الجبار أيضًا وعده بمال، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين ليس في (ج). وانظر تاريخ دمشق 3/ 49 (مخطوط). (¬2) تاريخ دمشق 3/ 59 (مخطوط). (¬3) وكذا قال الخطيب في تاريخه 7/ 552: والذي عندي أنهما واحد. (¬4) انظر تاريخ بغداد 7/ 501. (¬5) في (ج): سلمان. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 48، والمنتظم 8/ 184، وغيرها.

فأخبر أبو الجبَّار محمدًا، فقال: والله لقد أذكرتنيه، وكنتُ قد نسيتُه. وكان محمد قد خرجَ إلى الجمعة، فلمَّا عاد من الجمعة أخرجَه وأمرَ بضرب عنقه، فلما أيقن بالقتل قال: أمَّا والله لئن قتلتموني لقد وضعتُ على نبيِّكم أربعةَ آلاف حديث، أحرِّمُ فيها الحلال، وأُحِلُّ فيها الحرام، ولقد فطرتكم في يوم صومِكم، وصوَّمتكم في يوم فطركم. فقتله. وذكر جَدِّي أنَّ عبد الكريم بن أبي العوجاء كان من الزنادقة الذين قصدوا إفسادَ الشريعة، وهو خالُ معن بن زائدة، وخال زيد بن حماد بن سلمة (¬1). ووردَ في ذلك اليوم كتابُ أبي جعفر يقول: إيَّاك أن تحدثنَّ في ابن أبي العوجاء حديثًا، فأفعل بك كذا وكذا، فلمَّا قرأ محمدٌ كتابه قال للرسول: هذا رأسُ ابن أبي العوجاء، وذاك بدنُه مصلوب بالكُناس، فعاد الرسول فأخبر أبا جعفر، فغضب وقال: لقد هممتُ أن أفتديه به (¬2)، فعزله عن الكوفة وولاها عمرو بن زهير، وقال لعيسى بن موسى أو لعيسى بن علي: هذا عملُك أنت! أشرتَ بتولية هذا الغلام الجاهل، يقتلُ رجلًا بغير أمري. فقال له عيسى: إنَّه قتلَه على الزندقة، فإنْ كانَ قتلُه صوابًا فهو لك، وإن كان خطأً فهو عليه، والله لئن عزلتَه على ما صنع بالزنديق لينصرفنَّ بالثناء الحسن والذكر الجميل، ولترجعنَّ اللائمة من العامة عليك، فمزَّق أبو جعفر عهدَ عمرو بن زهير، وأقر محمدًا على الكوفة. قلت: ومحمد بن سليمان هو الَّذي قتلَ حمَاد عجرد على الزندقة أيضًا، وإنما لُقِّبَ بعجرد لأنَّ أعرابيًّا مرَّ به وهو يلعبُ مع الصبيان في يومٍ شديد البرد وهو عريان، فقال: تعجردت يا غلام. والمتعجرِد المتعرِّي. وذكره الخطيب فقال: كان شاعرًا ماجنًا خليعًا ظريفًا، نادم الوليد بن يزيد، وهجا بشار بن برد (¬3)، وقدمَ إلى بغداد في أيام المهدي. ¬

_ (¬1) كذا، وفي كتاب الموضوعات لابن الجوزي 2/ 19 عند ذكر أقسام الرواة الذين تعمدوا الكذب: ... كعبد الكريم بن أبي العوجاء ربيب حماد بن سلمة، فكان يدلس الأحاديث في كتب حماد ... وكان خال معن بن زائدة. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 48، والمنتظم 8/ 185، والكامل 6/ 7: أقيده به. (¬3) في تاريخ بغداد 519: وهاجى بشار بن برد.

وكان حمَّاد قد شبَّب بزينب بنت سليمان بن علي أخت محمد بن سليمان ومن قوله فيها. [من مجزوء الكامل] إنِّي أحبُّكِ فاعلمي ... إن لْم تكوني تعلمينَا حبًّا أقلُّ قليله ... كجميعِ حبِّ العالمينَا (¬1) فطلبه أخوها محمد بن سليمان، فالتجأ إلى محمد بن السفاح، فلمَّا هلك ابن السفاح استجار عجرد بقبرِ سليمان، فقال محمد: والله لأبلنَّ قبرَ أبي سليمانَ من دمِه، فهرب إلى بغداد فاستجار بأبي جعفر المنصور فأجاره، وقال له: اهجُ محمدًا فهجاه، فبعث إليه محمد من اغتاله فقتله (¬2). وقيل: إنَّما خرج من الأهواز يريد البصرة، فمرض فمات في طريقه، فدفن على تلٍّ هناك، فلمَّا قَتَل المهديُّ بشارًا في الزندقة بالبطيحة، حُمِلَ فدفن على عجرد، فمرَّ بهما أبو هشام الباهلي، فكتب على القبرين: [من السريع] قد تبع الأعمى قفا عجردٍ ... فأصبحَا جارينِ في دارِ صارا جميعًا في يدي مالكٍ ... في النار والكافرُ في النَّارِ قالت بقاعُ الأرض لا مرحبًا ... بقُربِ حمَّادٍ وبشَّارِ (¬3) قال: وكان بشار لَمَّا بلغه مرضُ حمادٍ قال: [من السريع] لو عاش حمَّادٌ لَهونَا به ... لكنَّه صارَ إلى النارِ قال ومن شعر حماد: [من البسيط] إن الكريم لتخفى عنك عسرتُه ... حتَّى تراهُ غنيًّا وهو مجهودُ بُثَّ النوال ولا يمنعكَ قلَّتهُ ... فكلُّ ما سدَّ فقرًا فهو محمودُ وللبخيلِ على أمواله عِلَلٌ ... زرقُ العيون عليها أوجهٌ سودُ (¬4) وقيل: إنَّ حماد عجرد مات سنة ثمان وستين، والأصح أن محمدَ بن سليمان قتلَه ¬

_ (¬1) في الأغاني 14/ 356 أنَّه قالها في جوهر جارية ابن عون. (¬2) انظر الأغاني 14/ 378 - 380. (¬3) الأغاني 14/ 380 - 381. (¬4) المنتظم 8/ 297.

مشعر بن كدام بن ظهير

في سنة خمسٍ وخمسين ومئة. مِشعر بن كِدَام بن ظُهير أبو سلمة، الكوفيُّ الزاهد العابد، ذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة من أهل الكوفة، قال: وقال سفيان بن عيينة: رأيتُ مسعرًا، وربَّما يجيئه الرجلُ فيحدِّثه بالشيء هو أعلم به منه، فيتسمَّع له وينصت. قال: وقال الهيثم: لم يسمع مِسعرٌ حديثًا قط إلَّا في المسجد الجامع، وكانت له أمٌّ عابدةٌ، وكان يحملُ لها لِبْدًا ويمشي معها حتَّى يدخلا [المسجد]، فيبسط لها اللِّبد، فتصلّي، ثم يعودُ فيحمل اللبدَ معها إلى بيتها (¬1). وحكى أبو نعيم عن سفيان الثوري أنَّه قال: ما رأيتُ في زمانِه مثله. قال: وقال سفيانُ بن عيينة: ما لقيتُ أحدًا أُفَضله عليه (¬2). قال: وقال ابنُه محمد بن مسعر: كان أبي لا ينامُ حتَّى يقرأَ نصف القرآن (¬3). وكان يخفي أعماله ويقول: أشتهي أنْ أسمعَ صوتَ باكيةٍ حزينة (¬4). وروى ابن أبي الدنيا قال: بكى مسعرٌ يومًا، فبكت أمُّه، فقال لها: يا أمَّاه، ما أبكاكِ؟ فقالت: رأيتُك تبكي فبكيتُ لبكائك، فقال: يا أمَّاه، لمثلِ ما نهجمُ عليه غدًا فلنُطِلِ البكاء، قالت: يا بنيَّ، وما هو؟ قال: القيامة وما فيها. وكان لا يزال باكيًا طول دهره، وما كان له مأوى إلَّا المساجد (¬5). وقال سفيان بن عيينة: قال رجل لمسعر: أتحبُّ أن يخبركَ الرجلُ بعيوبك؟ فقال: إنْ كان ناصحًا فنعم، وإن كان يريدُ أن يوبِّخني فلا (¬6). ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 484 - 485. (¬2) حلية الأولياء 7/ 209. (¬3) حلية الأولياء 7/ 216. (¬4) حلية الأولياء 7/ 218. (¬5) في طبقات ابن سعد 8/ 485: ولم يكن له مأوى إلَّا منزله والمسجد. (¬6) حلية الأولياء 7/ 217.

قال عبد الله بن المغيرة: سمعتُ مسعرًا ينشد هذه الأبيات: [من الهزج] ألا قد فسدَ الدَّهرُ ... فأضحَى حُلوهُ مُرَّا وقد جرَّبتُ من أهوى ... فقد أنكرتُهم طُرَّا فألزِم نفسك اليأسَ ... من الناس تعشْ حُرَّا (¬1) وروى أبو نعيم عن عبد الرحمن بن صالح (¬2)، قال: قال مسعر هذه الأبيات: [من البسيط] تفنى اللَّذاذةُ مِمَّن نال صَفوتَها ... من الحرامِ ويبقَى الإثمُ والعارُ تبقى عواقب سُوءٍ من مَغَبَّتِها (¬3) ... لا خيرَ في لذَّةٍ من بعدها النارُ ذكر وفاته: ذكر ابنُ سعد عن أبي نُعيم الفضل بن دُكَين أنَّه ماتَ في سنة خمس وخمسين ومئة، وحَكى أيضًا في سنة اثنتين وخمسين ومئة (¬4). قال ابن سعد: مات مسعر ولم يشهد سفيانُ الثوري والحسنُ بن صالح جنازتَه؛ لأنَّه كان مُرجئًا (¬5). قلت: وليس كما ذكر ابنُ سعد، فإنَّ عامَّة العلماء قد اتفقوا على دينِ مسعر وزهده وخوفه وصدقه. وقال أبو نعيم الحافظ بإسناده عن حسين (¬6) بن يحيى بن آدم عن أبيه قال: لما حضرت مسعرًا الوفاةُ دخل عليه سفيان الثوري فوجده جزعًا، فقال له: لم تجزع، فوالله لوددت أنِّي متُّ الساعة، فقال مسعر: أقعدوني، فأقعدوه، فأعاد عليه سفيان ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 3/ 135. (¬2) كذا في (خ)، وتمام الإسناد كما في الحلية 7/ 221: حدثنا الحسين بن محمد: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان قال: سمعت عبد الله بن صالح يقول. (¬3) في (ج): مغيبها. والمثبت من الحلية. (¬4) وهو قول محمد بن عبد الله الأسدي. طبقات ابن سعد 8/ 484. وكذا أورده ابن الجوزي في المنتظم 8/ 159 في وفيات سنة 152 هـ. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 485. (¬6) في حلية الأولياء 7/ 212: حسن.

أبو هاشم البغدادي الزاهد

الكلام فقال: إنَّك إذًا لواثقٌ بعملك، لكنِّي والله يا سفيان لكأنِّي على شاهق جبل، لا أدري أين أهبط، فمكى سفيان وقال: أنتَ أخوفُ لله منِّي. وروى أبو نعيم أيضًا عن مصعب بن المقدام قال: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وسفيان الثوري آخذ بيده وهما يطوفان، فقال الثوريُّ: يا رسول الله، مات مسعر بن كدام، فقال: نعم، وقد استبشر بموته أهلُ السماء (¬1). انتهت ترجمته. أبو هاشم البغدادي الزاهد ذكره الخطيب وأثنى عليه وقال: قال أبو هاشم: إن الله تعالى وَسَمَ الدّنيا بالوَحْشة؛ ليكون أُنسُ المريدين به دونها، فأهلُ المعرفة فيها مستوحشون، وإليه مشتاقون. وقال أبو هاشم: أعوذ بالله من علم لا ينفع. وكان أبو هاشم من أقران أبي عبد الله البراثي، وصحبه الثوريُّ، وكان سفيان يقول: ما زلت أُرائي وأنا لا أشعر حتَّى جالستُ أبا هاشم، فأخذتُ منه ترك الرياء، وأدَّبني بذلك. والله أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 7/ 210. (¬2) تاريخ بغداد 16/ 573، والمنتظم 8/ 186.

السنة السادسة والخمسون بعد المئة

السنة السادسة والخمسون بعد المئة فيها عزلَ أبو جعفر المنصور الهيثمَ بن معاوية عن البصبرة، فأقدمَه بغداد، فأقام أيَّامًا وتوفِّي، فخرج المنصورُ في جنازته، وصلّى عليه، ودُفن في مقابر قريش (¬1). وفيها مات حمزةُ بن حبيب بن عُمارة أبو عمارة الزيَّاتُ القارئ. ذكره ابنُ سعد في الطبقة السادسة من أهل الكوفة، وقال: هو مولى لآل عِكرمة بن ربعي (¬2) التيمي، وكان يجلبُ الزيت من الكُوفة إلى حُلْوان، ويجلب من حُلوان الجبنَ والجوز إلى الكوفة، وكان صاحبَ قراءات القرآن والفرائض. قال: ومات حمزة بحُلوان سنةَ ستٍّ وخمسين ومئة، وكان رجلًا صالحًا، وكانت عنده أحاديث، وكان صدوقًا صاحبَ سنَّة. وهذا قول ابن سعد (¬3). وكان الأعمشُ إذا رآه يقول: هذا حبرُ القرآن. وحمزة صاحب المنام، حدثنا غيرُ واحدٍ عن أبي الفضل بن ناصر بإسناده إلى خلف بن هشام البزَّار قال: قال لي سليم بن عيسى: دخلتُ على حمزة بن حبيب الزيَّات، فوجدتُه يمرِّغ خدَّيه على الأرض ويبكي، فقلت: أعيذك بالله، فقال: لماذا استعذت؟ رأيتُ البارحة في منامي كأنَّ القيامة قد قامت، ودعي بقرَّاء القرآن، فكنتُ فيمن حضر، فسمعت قائلًا يقول بكلامٍ عذبٍ: لا يدخل عليَّ إلَّا من عمل بالقرآن، فرجعتُ القهقرى، فهتف باسمي: أين حمزة بن حبيب الزيات؟ فقلت: لبَّيك داعيَ الله، فبدرني ملكٌ وقال: قل: لبيك اللَّهمَّ لبيك، فقلت كما قال لي، فأدخلني دارًا سمعت فيها ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 50/ 8، والمنتظم 8/ 187، 192. (¬2) في (ج): ربيعة. والتصويب من طبقات ابن سعد 8/ 507، والمعارف ص 529، والمنتظم 8/ 188. (¬3) في طبقاته 8/ 507.

ضجيجَ القرآن، فوقفت أرعد، فإذا بقائل يقول: لا بأسَ عليك، اقرأ وارقَ (¬1)، فرقيت، فقيل لي: اقرأ سورةَ الأنعام، فقرأت -وأنا لا أدري على من أقرأ- حتَّى بلغتُ الستين آيةً، فلما بلغتُ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} قال لي: يا حمزة، ألستُ القاهرَ فوق عبادي؟ قلت: بلى، قال: صدقت، اقرأ، فقرأت حتَّى أتممتها، ثم قال لي: اقرأ فقرأتُ الأعراف حتَّى بلغت آخرها، فأومأتُ إلى الأرض بالسجود، فقال لي: حسبك ما مضى، لا تسجد يا حمزة، من أقرأك هذه القراءة؟ قلت: سليمان، قال: صدق سليمان، من أقرأ سليمان؟ قلت يحيى، قال: صدق يحيى، من أقرأ يحيى؟ قلت: أبو عبد الرحمن السلمي، قال: صدق أبو عبد الرحمن السلمي، من أقرأ أبا عبد الرحمن؟ قلت: ابن عم نبيك عليّ، قال: صدق علي، فمن أقرأ عليُّا؟ قلت نبيُّك محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ومن أقرأ نبيِّي؟ قلت؟ جبريل، قال: صدق جبريل، ومن أقرأ جبريل؟ قال حمزة: فسكت، فقال لي: يا حمزة قل: أنت، قلت: ما أتجاسرُ أن أقول: أنت، فقال: قل: أنت، فقلت: أنت، فقال: صدقتَ يا حمزة، وحقِّ القرآن لأكرمنَّ أهلَ القرآن لا سيما إذا عملوا بالقرآن، يا حمزة، القرآنُ كلامي، وما أحبُّ أحدًا كحبِّي أهلَ القرآن، ادن يا حمزة، فدنوتُ فضمخني بالغالية وقال: ليس أفعل بك وحدك هذا، قد فعلتُ ذلك بنظرائك من فوقك، ومن دونك، ومن أقرأَ القرآن كما أقرأته لم يردْ بذلك غيري، وما خبأتُ لك عندي أكثر، فأعْلِم أصحابك بحبِّي لأهل القرآن وفعلي بهم، فهم المطيعون (¬2) الأخيار، وعزَّتي وجلالي، لا أعذبُ لسانًا تلا القرآن بالنار، ولا قلبًا وعاه، ولا أذنًا سمعتهُ، ولا عينًا نظرت إليه، فقلت: سبحانك سبحانك. ثم انتبهت، أفتلومني أن أبكي وأتمرَّغَ في التراب؟ ! وقال جرير بن عبد الحميد: مرَّ بنا حمزةُ فاستسقى بماء، فأتيتُه بماء، فقال: أنت ممن يحضرنا في القراءة؟ قلت: نعم، قال: لا حاجة لي في مائك. ¬

_ (¬1) بعدها في المنتظم 8/ 189، وتهذيب الكمال 7/ 319: فأدرتُ وجهي فإذا أنا بمنبرٍ من درٍّ أبيض، دفتاه من ياقوت أصفر، مراقيه زبرجد أخضر، فقيل لي: ارق واقرأ، فرقيت. (¬2) في المنتظم 8/ 190، وتهذيب الكمال 7/ 320: المصطفون.

الربيع بن أنس

أسند حمزة عن الأعمش وغيره. وروى الخطيبُ عن أبي مسحل قال: رأيتُ الكسائيَّ في المنام كأنَّ وجهه القمرُ أو البدر، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بقراءة القرآن، فقلت: فما فعلَ بحمزة الزيَّات؟ قال: ذاك في أعلى عِلِّيين، لا نراه إلَّا كما نرى الكواكب (¬1). الربيع بن أنس من (¬2) بكر بن وائل، ذكره ابنُ سعد في الطبقة الخامسة من أهل البصرة (¬3)، وكان عالمًا فاضلًا، وله في تفسير القرآن. وكان قد هرب من جورِ الحجَّاج، فسكنَ قرية من قُرى مرو، يقال لها: بُرْز، ثم تحوَّل إلى أخرى يقال لها: سَذَوَّرْ، فأقامَ بها حتَّى مات. ولما ظهرت دولةُ بني العباس بخراسان طُلِبَ فتغيَّبَ، فخلصَ إليه ابنُ المبارك وهو مختفي، فسمعَ منه أربعينَ حديثًا (¬4). وقيل: إنَّه مات في أيام أبي جعفر من غير تاريخ (¬5). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 13/ 358 (ترجمة الكسائي). وانظر ترجمة حمزة إضافة إلى ما سبق في معرفة القراء الكبار 1/ 250، وسير أعلام النبلاء 7/ 90. (¬2) في (ج): ابن. وهو تصحيف، والتصويب من المصادر. (¬3) كذا قال، وذكره ابن سعد في طبقاته 9/ 373 فيمن كان بخراسان بعد الصحابة من الفقهاء والمحدثين. (¬4) ونقل الذهبي في السير 6/ 170 عن ابن أبي داود قال: سجن بمرو ثلاثين سنة. قال الذهبي: سجنه أبو مسلم تسعة أعوام، وتحيَّل ابن المبارك حتَّى دخل إليه فسمع منه. (¬5) لم أقف على من ذكره في هذه السنة. وقال الذهبي في تاريخ الإسلام 3/ 647: بقي الربيع إلى سنة تسع وثلاثين ومئة. وانظر سير أعلام النبلاء 6/ 170.

السنة السابعة والخمسون بعد المئة

السنة السابعة والخمسون بعد المئة فيها بنى أبو جعفر قصره المسمَّى بالخُلْد على شاطئ دجلة، وكان يعاقب من يسميه الخلد ويقول: إنَّما الخُلْدُ في الجنَّة، فقال الناس: تسمِّيه بالخلد وتعاقبُ عليه. وفيها حوَّل المنصور أسواقَ بغداد إلى ظاهرها من الضواحي إلى الكرخ وباب محول ودرب الشعير -ذكر ذلك الخطيب- لئلَّا تخالطه العامة في مدينته، ورتَّبَ الأسواق، فجعل سوقَ البزازين في أعلاها، وسوق القصَّابين في أسفلها، وأباحها للناس، ولم يأخذ منهم خراجًا ولا غلَّة عن الأسواق مدَّة حياته، فلمَّا قام المهديُّ حَسَّنَ له أصحابُه، فأمرَ بوضع الخراج على الحوانيت وعلى التجَّار (¬1). وروى الخطيب عن حميد بن الصباح مولى المنصور قال: لَمَّا أراد المنصورُ أن يذرعَ الكرخ ومكان الأسواق قال لي: احمل الذِّراعَ معك، فخرجتُ ونسيتُه، وخرج المنصور، فلمَّا صرنا إلى الكرخ قال لي: أين الذراع؟ فقلت: نسيتُه ودهشت، فضربني بمقرعةٍ وشجَّني، وسال الدم على وجهي، فلمَّا رآني قال: حدثني أبي عن أبيه عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ضربَ عبدَهُ في غير حدٍّ حتَّى يسيلَ دمُه فكفارتُه عتقُه"؛ أنت حر (¬2). وفيها حجَّ بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. قال الواقديُّ: وكان واليًا على المدينة (¬3). وفيها توفِّي سَوَّار بن عبد الله القاضي بالبصرة، وكان عادلًا يقضي بالحق. روى أبو عبد الله الحاكم قال: شكا أهلُ البصرة سوارًا الحاكم إلى المنصور، ¬

_ (¬1) انظر تاريخ بغداد 1/ 390 - 391. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 27. (¬3) تاريخ الطبري 8/ 53.

عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام

فاستقدمَه، فلمَّا دخل عليه جلسَ، فعطسَ المنصورُ، فلم يشمِّته سوَّار، فقال له أبو جعفر، ما لك لا تشمتُني، فقال: لأنَّك لم تحمد الله، فقال: أنت ما حابيتني (¬1) في عطسة، تحابي غيري؟ ! ارجع إلى عملك. قال: وكتبَ أبو جعفر إلى القاضي سوّار وهو بالبصرة: انظر إلى الأرضِ التي تخاصم فيها فلانٌ القائد وفلانٌ التاجر، فادفعها إلى القائد، فكتب إليه: قد قامتِ البيّنة عندي أنَّها للتاجر، فلستُ أخرجُها من يديه إلَّا ببينة، فكتبَ إليه أبو جعفر: والله الَّذي لا إله إلَّا هو لتدفعنَّها إلى القائد، فكتب إليه سوَّار: والله الَّذي لا إله إلَّا هو لا أخرجتُها من يد التاجر إلَّا بحقّ، فلمَّا وقف أبو جعفر على كتابه قال: الله أكبر، مُلئت - والله - الدنيا عدلًا، صارت قضاتي تردني إلى الحق. وكانت وفاة سوَّار بالبصرة، وصلى عليه سعيد بن دعلج (¬2). عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام ابن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبَّاس. ولد بالشراة من أرض البلقاء، ولَّاه المنصور إمرةَ دمشق وفلسطين والصائفة سنة أربعين ومئة. قال الحافظ ابن عساكر: فلم تحمد ولايتُه، وولَّاه أيضًا ما هدم ملك الروم من سور مَلَطية في سنة أربعين ومئة (¬3). قال: وقال يعقوب بن سفيان (¬4): خاصمَ عبدُ الوهاب امرأتَه في ضيعةٍ بدمشق، ¬

_ (¬1) في (ج): حييتني. ولعل المثبت هو الصواب. انظر أخبار القضاة 2/ 61 - 62، وتاريخ الإسلام 4/ 71. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 52، وانظر أخبار سوار في أخبار القضاة 2/ 57 - 88، وتاريح الإسلام 4/ 70. وفيه: سوار بن عبد الله بن سوار بن عبد الله بن قدامة. وهذا خطأ، والصواب -كما في نسخة بهامشه- سوَّار بن عبد الله بن قدامة ... وسوار بن عبد الله بن سوار بن عبد الله بن قدامة هو حفيد المذكور، توفي سنة 245 هـ، وستأتي ترجمته. وذكره الذهبي في وفيات الطبقة الخامسة والعشرين 5/ 1149. (¬3) تاريخ دمشق 44/ 64، 65 (طبعة مجمع اللغة). (¬4) الخبر في تاريخ دمشق 44/ 65 من طريق الأوزاعي، والخبر الَّذي قبله من طريق يعقوب بن سفيان، فلعله انتقال بصر، والله أعلم.

عبيد الله بن أبي زياد الرصافي

فقال: بيني وبينك القاضي، فقالت: إنَّه يقضي لك، فقال: اختاري رجلًا يحكمُ بيننا، فقالت: الأوزاعيّ، فاستدعاه، فحكم بينهما، فظهر الحقُّ لها عليه، فلمَّا خرجَ من عنده بعثَ إليه مع غلامه بثلاث مئة دينار، وقال: قل له يستعين بها على وقته ورباطه، فلحقَه وأدَّى الرسالة، فقال الأوزاعي: معاذَ الله أن آخذ على حكمي أجرةً، فلما عاد إليه قال: لقد وُفِّق هذا الشيخُ في رَدِّها. وقال الخطيب: عبدُ الوهَّاب هو صاحب سُويقة عبد الوهَّاب ببغداد، وليَ الشام لأبي جعفر، وكان عظيم القدر، قال: ومات بالشام (¬1). وقال ابن أبي الدنيا: لما احتضر جعل يقول: ويحكم أيموت مثلي؟ وقيل: مات وهو والٍ على دمشق في سنة ثمانٍ وخمسين ومئة، واستخلف ابنَه إبراهيم بن عبد الوهاب على دمشق بعد وفاته (¬2). عبيد الله بن أبي زياد الرُّصافي أبو مَنيع الدمشقي، وهو أخو امرأة هشام بن عبد الملك من الرضاعة، واسمُها عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية، وهي التي قتلَها عبدُ الله بن علي لَمَّا فتح دمشق، وقد ذكرناها هناك. وسمع من الزهري لما قدم على هشام بالرصافة. ومات عبيدُ الله صاحب هذه الترجمة وهو أسود الرأس أبيضُ اللحية، وكان ثقةً صدوقًا (¬3). أبو عمرو الأوزاعيّ ذكرهُ ابنُ سعد فيمن كان بالعواصم والثغور بعد الصحابة، وقال: اسمُه عبد الرحمن بن عمرو، والأوزاع بطن من هَمْدان، وهو من أنفسهم. ولد سنة ثمانٍ وثمانين، وكان ثقةً، مأمونًا، صدوقًا، فاضلًا، خَيِّرًا، كثيرَ الحديث ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 12/ 271. (¬2) تاريخ دمشق 44/ 67 (طبعة مجمع اللغة). (¬3) انظر ترجمته في تاريخ دمشق 44/ 248 (طبعة مجمع اللغة)، وتهذيب الكمال 9/ 39.

والعلم والفقه، وكان مكتبُه باليمامة، وكان يسكنُ بيروت، ومات بها في سنة سبعٍ وخمسين ومئة في آخرِ خلافة أبي جعفر وهو ابنُ سبعين سنة. هذا صورةُ ما ذكره ابنُ سعد في ترجمة الأوزاعيّ (¬1). قلت: وقد ذكره الأئمة، فقال البخاريُّ: اسمُه عبدُ الرحمن بن عمرو: ويقال: ولدَ سنة تسعين، والأوزاعُ من حِمير الشام (¬2). وقال البخاري أيضًا في "تاريخه": والأوزاع قرية بدمشق إذا خرجت من باب الفراديس (¬3). وحكى ابنُ عساكر قال: كان الأوزاعيُّ يسكنُ الأوزاعيُّ قرية بدمشق بباب الفراديس، ثمَّ انتقلَ إلى بيروت مرابطًا إلى أنْ مات بها (¬4). وقال الجوهريُّ: والأوزاع بطنٌ من هَمْدان، الأوزاعيُّ منها (¬5). وحَكى ابن عساكر عن العباس بن الوليد (¬6) قال: كان الأوزاعيُّ قد ولدَ ببعلبك ونشأ بالبقاع، ونقلته أمُّه إلى بيروت. قال: وقال الأوزاعي: كُنْتُ محتلمًا في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقد حكاه البخاريُّ أيضًا (¬7)، وهذا يدلُّ على أنَّه ولد سنةَ ثمانٍ وثمانين. وقال الواقديُّ: كان رَبْعةً، خفيفَ اللحم، أسمر، يخضب بالحنَّاء (¬8). وكان إمامَ أهل الشام في الحديث، وله المواعظُ الحسنة البالغة. وروى أبو نعيم الأصفهاني قال: كتبَ الأوزاعيُّ إلى أخٍ له: أما بعد: فإنَّه قد أُحيطَ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 494. (¬2) التاريخ الكبير 5/ 326، والتاريخ الصغير 2/ 124، وليس فيهما قوله: ولد سنة تسعين. (¬3) التاريخ الكبير 5/ 326، والتاريخ الصغير 2/ 125. (¬4) تاريخ دمشق 41/ 142 (طبعة مجمع اللغة). (¬5) الصحاح (وزع). (¬6) في تاريخ دمشق 41/ 152 عن العباس بن الوليد عن أبيه. (¬7) تاريخ دمشق 41/ 152، والتاريخ الكبير 5/ 326، والتاريخ الصغير 2/ 125. (¬8) هو في تاريخ دمشق 41/ 153 من قول عبد الرحمن السلمي.

بك من كلِّ جانب، وإنه يُسارُ بك كلَّ يومٍ وليلة مرحلة، فاحذر الله تعالى والمقام بين يديه، وأن يكون آخر العهد بك، والسلام (¬1). وقال بشرُ بن الوليد (¬2): كُنْتُ إذا رأيتُ الأوزاعيَّ كأنَّه أعمَى من شدَّة الخشوع. وروى أبو نعيم باسناده عن يوسف بن موسى القطَّان قال: قال الأوزاعيُّ: رأيت ربَّ العزَّة في المنام، فقال لي: يا عبدَ الرحمن، أنتَ الَّذي تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: قلت: بفضلِك يا رب، ثم قلت: يا ربّ أَمِتْنِي على الإسلام، فقال: وعلى السُّنَّة (¬3). ذكر وفاته: عن ابن سعد أنَّه قال: مات في سنة سبع وخمسين ومئة، هذه السنة (¬4). وقال ابن المديني: في سنة إحدى وخمسين. وقيل: في سنة ست أو خمس وخمسين ومئة في صفر. وحكى الحافظ ابن عساكر عن خيران بن العلاء قال: دخل الأوزاعي الحمام ببيروت، فوجدوه مستقبل القبلة، ويدُه اليمنى تحت خده، وهو ميِّت (¬5). وحكى عن أبي مسهر (¬6) قال: بلغنا أن امرأة (¬7) أغلقت على الأوزاعيِّ باب الحمام، ولم تتعمد، فماتَ فيه، فأمرها سعيد بن عبد العزيز أنْ تعتق رقبة. قال: وقال الصوري: شيَّعَ جنازةَ الأوزاعيّ أربعةُ أديان، المسلمين، واليهود، والنصارى، والقبط (¬8). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 6/ 140. (¬2) في تاريخ دمشق 41/ 188: بشر بن المنذر. (¬3) حلية الأولياء 6/ 142 - 143. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 494. (¬5) تاريخ دمشق 41/ 214. (¬6) في (ج): ابن مسهر. والمثبت من تاريخ ابن عساكر 41/ 214. (¬7) في تاريخ دمشق: امرأته. (¬8) تاريخ دمشق 41/ 219.

ولم يخلف سوى ستِّ دنانير (¬1). قال: وقال محمد بن عبيد الطنافسي: كُنْتُ جالسًا عند سفيان الثوريّ، فجاءَه رجلٌ فقال: رأيتُ في المنام كأنَّ ريحانةً من المغرب قلعت، فقال: إن صدقَتْ رؤياك فقد مات الأوزاعي، فجاء الخبر بعد أيَّامٍ أنَّه ماتَ في تلك الليلة (¬2). وروى ابنُ أبي الدنيا عن يزيد بن مذعور (¬3) قال: رأيتُ الأوزاعيَّ في المنام، فقلت: دلَّني على عملٍ أتقرَّب به إلى الله تعالى، فقال: ما رأيتُ هناك درجةً أرفعَ من [درجةِ العلماء، ومن بعدها] (¬4) درجة المحزونين. أسند الأوزاعيُّ عن خلقٍ كثير. وذكر الحافظ ابن عساكر عن أبي عثمان الحرَّاني قال: قدمتُ على الأوزاعيّ ببيروت لأسمع عليه، فقال: من أين جئت؟ قلت: من حَرَّان، قال: كم لك عنها؟ قلت: ثمانية أيام، قال: فمِنْ دمشق إليها عشرة أيام، فكيفَ إلى هاهنا في ثمانية أيام؟ قلت: على دواب البريد، فقال: والله لا حدَّثتُك حتَّى تعود إلى حرَّان وتأتي على راحلتك، قال: فرجعتُ إلى حرَّان واكتريتُ دابَّةً، وجئت إلى بيروت ومعي المكاري وآخر يشهدُ لي بذلك، فحدَّثني (¬5). وروى الخطيب عن الأوزاعيِّ حكايةً عجيبةً قال: حدثنا أبو الحسن بن الحسن بن محمد بن جُمَيع الغساني بصيدا بإسناده عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيِّ قال: خرجتُ أريد بيت المقدس، فرافقني يهوديّ، فلما صرنا إلى طبرية نزلَ فاستخرجَ ضفدعًا، فشدَّ في عنقه خيطًا، فصار خنزيرًا، فقال: اصبر حتَّى أذهبَ فأبيعَه من هؤلاء النصارى، فذهب فباعَه وجاء بطعام، ثمَّ ركبنا، فما سرنا غير بعيد، وإذا القومُ في ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 41/ 214. (¬2) تاريخ دمشق 41/ 213. (¬3) في (ج): مذكور. والمثبت من تاريخ دمشق. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 41/ 220. (¬5) الخبر في تاريخ دمشق 3/ 271 (مخطوط) (ترجمة أيوب بن خالد أبو عثمان الحراني)، وفيه بعض اختلاف فينظر.

طلبه، فقال: أحسبُه صارَ في أيديهم ضفدعًا، قال: فحانت منِّي التفاتةٌ، وإذا بدنُه ناحيةً ورأسُه ناحية، قال: فلم انظروا إليه خافوا من السُّلطان، فرجعوا، فقال لي الرأس: أَرَجعوا؟ قلت: نعم، قال: فالتأمَ الرأسُ إلى البدن، فقلت: والله لا أرافقُك أبدًا، ففارقتُه ومضيتُ إلى حال سبيلي (¬1). حكايةٌ أخرى حكاها الحافظ ابن عساكر عن ابن المبارك (¬2) قال: قدمتُ الشام، فأتيتُ الأوزاعيَّ ببيروت، فقال لي: يا خراسانيّ، من هذا الَّذي خرج بالكوفة؟ يعني أبا حنيفة، فقلت: رجلٌ فقيهٌ يقال له أبو حنيفة، فقال: أنهاك عنه، قال: فرجعتُ إلى منزلي، فاستخرجتُ من كتابي مسائل وقعت عليها النعمانَ بن ثابت، ثم أتيتُه وهو يؤذِّنُ للصلاة، فناولتُه، فما زال قائمًا حتَّى قرأَ صدرًا منها، ثم وضعَها في كُمِّه، وأقام الصلاة، ثمَّ تقدَّم فصلَّى، وكان هو الإمام والمؤذِّن، فلما فرغَ من الصلاة نظر في المسائل حتَّى أتى على آخرها، وقال: يا خراسانيّ، من النعمان بن ثابت؟ فقلت: شيخٌ لقيتُه بالعراق، فقال: هذا شيخٌ جليلٌ نبيلٌ من المشايخ، فاذهب إليه واستكثر منه، فقلت: هذا أبو حنيفة الَّذي نهيتَ عنه، فقال: الزمه، فلنعمَ الشيخ هذا، فلنعم الشيخُ هذا. حكايتُه مع الزاهد: حدَّثنا عبد العزيز بن محمود البزاز بإسناده عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيِّ قال: حدثني بعضُ الحكماء قال: خرجتُ أريدُ الرِّباط، حتَّى إذا كُنْتُ بعريش مصر أو دونه، وإذا بمظلَّةٍ (¬3) فيها رجلٌ قد ذهبت عيناه ويداه ورجلاه، وهو يقول: اللَّهمَّ إني أحمدكَ حمدًا يوافي محامدَ خلقك، إذ فضَّلتني على كثير من خلقِك تفضيلًا، قال: فقلت: والله لأسألنَّه، أعُلِّمه أم ألهمَه؟ فدنوتُ منه فسلَّمت عليه، فردَّ، فقلت: على أيِّ شيء تحمده؟ والله ما أعلمُ من البلاءِ نوعًا إلَّا وهو بك. وفي رواية: على أيِّ نعمةٍ من نعمه تحمده، أم على أيِّ فضيلةٍ تشكره؟ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 289 (ترجمة إسماعيل بن عبد الله بن مهرجان). (¬2) وأخرجها الخطيب في تاريخه 15/ 463 - 464. (¬3) في (ج): بظل. والمثبت من تاريخ دمشق 60/ 223 (طبعة مجمع اللغة).

محمد بن طارق المكي

فقال: أليسَ ترى ما قد صنع بي؟ قلت: بلى، فقال: وعزته لو أنَّه صبَّ عليَّ من السماء نارًا فأحرقتني، وأمرَ الجبال فدمَّرتني، والبحارَ فغرقتني، والأرض فخسفت بي ما ازددتُ له إلَّا حبًّا وشكرًا. وفي رواية: أفلا أحمدُه حيث أبلى جوارحي وأنطقَ لساني بذكرِه، أو أطلق لساني. ثمَّ قال: لي إليك حاجة، كان لي ابنٌ يتعاهدني في وقت صلاتي ولطعمني عند إفطاري، وقد فقد منذ أمس، فانظر هل تحسُّه (¬1) لي؟ قال: فقلت: إنَّ في قضاء حاجةِ هذا العبد الصالح قربةٌ إلى الله تعالى، فخرجتُ في طلبه، وإذا بالسبعِ قد افترسَه في كثيب رمل، وهو يأكله، فقلت: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، كيف أخبرُ هذا العبدَ الصالح بمثل هذا؟ قال: فأتيته، فقلت له: أيُّما أفضل مرتبةً عند الله وأكرم، أنت أم أيوب؟ فقال: أيوب قلت: فإنَّ الله ابتلاه فصبر، قال: بلى، فأخبرته بخبر ولده، فقال: الحمدُ لله الَّذي لم يجعل في قلبي حسرةً من الدنيا، ثم شهق شهقةً فمات، فقلت: إنَّا لله! من يعينني على غسلِه ودفنه؟ وإذا بركبٍ يويدون الرِّباط، فأشرتُ إليهم فأقبلوا، فأخبرتُهم خبرَه، فنزلوا فغسلناه من ماء البحر، وصلَّيتُ عليه وهم خلفي، ودفناه في مظلته، ومضوا، ونمتُ عندَه تلك الليلة، فرأيته في المنام في روضةٍ خضراء وعليه ثيابٌ خضر، وهو قائمٌ يتلو القرآن، فسلَّمتُ عليه، فردَّ، فقلتُ له: بم صرتَ إلى هذا؟ فقال: وردتُ من الصابرين درجة لم ينالوها إلَّا بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء. فقال الأوزاعي: فما زلت أحبُّ ذلك البلاء منذ حدثني الحكيمُ بهذا الحديث (¬2). محمد بن طارق المكي من الطبقة الثَّالثة من أهل مكَّة، كان زاهدًا عابدًا ورعًا. قال أبو نعيم الحافظ بإسناده عن محمد بن فضيل قال: رأيتُ في الطوافِ محمد بن طارق وقد انفرجَ له أهلُ الطواف، فحزروا طوافَه في اليوم والليلة فكان عشرة فراسخ. وقال أبو نعيم: وبه ضَرَب المثلَ ابنُ شبرمة فقال: [من البسيط] ¬

_ (¬1) في (ج). تجبيه. والمثبت من تاريخ دمشق 60/ 224. (¬2) تاريخ دمشق 60/ 223 - 225 (طبعة مجمع اللغة).

لو شئتَ كنت كَكُرزٍ في تعبُّده ... أو كابنِ طارق حولَ البيت في الحرمِ قد حالَ دون لذيذِ العيشِ خوفُهما ... وسارعَا في طلاب الفوزِ والكرمِ قال: وكانَ ابنُ طارق يطوفُ في كلِّ يوم وليلة سبعينَ أسبوعًا (¬1)، وكان كُرز يختمُ القرآن في يوم وليلةٍ ثلاث مرات. وقد ذكرناه. وحكى أبو نعيم عن ابن شبرمة قال: لو اكتفى أحدٌ بسفِّ التراب كفى ابن طارق كفٌّ من تراب (¬2). * * * ¬

_ (¬1) يقال: طاف بالبيت أسبوعًا، أي: سبع مرات. مختار الصحاح (سبع). (¬2) حلية الأولياء 5/ 81 - 82 (ضمن ترجمة كرز)، وصفة الصفوة 2/ 217، والمنتظم 8/ 198، وتهذيب الكمال 25/ 404.

السنة الثامنة والخمسون بعد المئة

السنة الثامنة والخمسون بعد المئة فيها انتقل المنصور إلى قصوه المسمى بالخُلْد، وكان عند باب خرسان، ثمَّ اندرس فلا عين ولا أثر (¬1). وقال ابن أبي الدنيا: حدثني ابن جهور قال: مررتُ [مع] علي بن هاشم الكوفي بالخُلْد، فوقف ينظرُ إلى تلك الآثار فقال: [من مجزوء الكامل] بنوا وقالوا لا نموتُ ... وللخرابِ بنى المُبَنِّي ما عاقلٌ فيما رأيتُ ... إلى الحياة بمطمئنِّ (¬2) وفيها سقط أبو جعفر عن دابته بجرجرايا (¬3) فانشجَّ ما بين حاجبيه، وكان قد خرجَ معه ابنُه المهدي مشيِّعًا له إلى الموصل (¬4)، فوقعَ عند عَوده. وفيها أمر أبو جعفر ببناء قصر كسرى الَّذي بالمدائن -ويسمَّى القصر الأبيض- وأن يرمَّم، وقال: كلُّ من وجد في داره شيءٌ من الآجرِّ الخسروانيّ مما نقضَه من بناء الأكاسرة فليغرمه، قال: لأنَّ هذا من أموالِ المسلمين من الفيء، فمات المنصورُ ولم يتم ذلك. وقال عمر بن شبة: وفيها سخطَ المنصور على محمد بن إبراهيم الإمام وهو أمير بمكة، قال: وسببُه أنَّ المنصور كتب إليه يأمرُه بحبسِ رجل من آل أبي طالب، وعبّاد بن كثير، وسفيان الثوري، وابن جريج، ففعل، فلمَّا كان في بعض الليل أفكر فيهم، وبلغَه أنَّ أبا جعفر قد خرجَ من بغداد متوجِّهًا إلى مكَّة في شوّال حاجًّا، وكان قد قلّد المهدي، وكان قد أحرم ونوى الحجَّ والعمرة، فلمَّا كان في الطريق أفكر محمد بن إبراهيم الإمام في الطالبيِّ وسفيان ومن حبسه وقال: لعلَّه يقتلُهم فأهلك عند الله، ثمَّ ¬

_ (¬1) المنتظم 8/ 200 - 201، وانظر تاريخ بغداد 1/ 385. (¬2) تاريخ بغداد 1/ 407، والمنتظم 8/ 201. (¬3) في (ج): بجرجانا. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 57، والمنتظم 8/ 197. (¬4) كذا في (ج). وفي تاريخ الطبري 8/ 57، والمنتظم 8/ 197: الرقة.

ذكر وصية أبي جعفر لابنه المهدي لما سار إلى مكة

أرسل إليهم فأطلقَهم، وقال: إنَّه واصلٌ فاستتروا، وطلبَ منهم أن يحاللوه، ففعلوا ودعوا له، ولَمَّا قرب أبو جعفر من مكَّة بعث إليه محمد بن إبراهيم بألطاف وهدايا، فلمَّا أُخبِر بها المنصور أمرَ أن تضربَ وجوهها نحوَ مكَّة، ففعلوا، ولقيه محمد في بعضِ الطريق فسلَّم عليه، فلم يرد، وكان محمدٌ يسير ناحيةً، فعُدِل بمحمل أبي جعفر عن الطريق إلى شعب، فنزل فبال فيه، ثم ركب ومحمدٌ واقفٌ ومعه طبيب، فقال له محمد: اذهب وانظر نجوه، فمضى الطبيب وعاد، وقال له: قد رأيتُ نجو رجلٍ لا يعيش إلَّا يسيرًا، فماتَ بعد أيام، وسَلِم محمدٌ منه (¬1). ذكر وصية أبي جعفر لابنه المهدي لما سار إلى مكة وقد اختلفت الرواياتُ في ذلك، أمَّا الهيثمُ بن عديّ فإنَّه قال: شخصَ المنصورُ متوجِّهًا إلى مكة، فنزل بقصر عَبْدَويه، وأقام به ثلاثًا، وانقضَّ كوكبٌ عظيمٌ بعد إضاءة الفجر، وبقي أثرُه بيِّنًا إلى طلوع الشمس، وذلك لثلاثٍ بقين من شوَّال. فكان مِمَّا أوصاه أنْ قال له: إنِّي سأوصيك، وما أظنّك تفعلُ شيئًا منها، وكان لأبي جعفر سَفَطٌ فيه دفاتر، لا يأمنُ أحدًا عليه، ومفتاحُه في كمه، فأعطاه للمهدي وقال له: احتفظ به، فإنَّ فيه علمَ آبائكَ، ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن حزبك أمرٌ فانظر في الدفتر الكبير، فإنْ أصبتَ ما تريد فيه، وإلا فالثاني والثالث، حتَّى بلغَ سبعة، فإن لم تصب، فالكراسة الصغيرة، فانظر فيها فإنَّك واجدٌ ما تريد فيها، وما أظنك تفعل. وانظر إلى هذه المدينة فإياك أن تستبدل بها، فإن فيها عزَّك، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما لو حُبس عنك الخراج عشرَ سنين كان عندك كفايةٌ لأرزاقِ الجند والنفقات وعطاء الذُّرِّيَّة ومصالح الثغور، فاحتفظ ببيوت الأموال، فإنَّك لا تزالُ عزيزًا ما دامَ بيتُ مالِك عامرًا، وما أظنك تفعل. وأوصيكَ بأهل بيتكَ أن تُظهر كرامتَهم وتقديمهم والإحسانَ إليهم، وتعظِّمَ أمرَهم، وتولِّيَهم المنابر، وتوطئ الناسَ أعقابهم، فإنَّ عزَّكَ عزُّهُم وذوهم لك، وما أظنك تفعل. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 8/ 58 - 59.

وانظر أهل خراسان، فأحسن إليهم، فإنَّهم أنصارُك وشيعتُك الذين بذلُوا أموالهم وأرواحَهم في دولتك، وأن تتجاوزَ عن مسيئهم، وتحسنَ إلى محسنهم، وتخلُفَ من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينةَ الشرقيَّة فإنَّك لا تتمُّ بناءَها، وما أظنك تفعل. وإياك أن تستعين برجلٍ من بني سُليم، وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في أمرك ومشورتك، وأظنُّك ستفعل (¬1). وهذه رواية الهيثم بن عدي، وأمَّا غيرُ الهيثم فقال: إنَّ أبا جعفر لَمَّا ودع ولدَه المهدي قال له: يا أبا عبد الله، إنِّي سائرٌ، وإنِّي غيرُ راجع، فأسألُ الله بركةَ ما أقدم عليه، هذا كتابُ وصيتي مختوم، فإذا بلغَك موتي فافتحه واقرأه، وعليَّ ثلاثُ مئة ألف درهم دين، ولست أستحلُّها (¬2) من بيت المال، فاضمنهَا عنِّي، وما يفضي إليكَ من الأمر أعظمُ منها. وذكر أبو يعقوب بن سليمان قال: حدَّثتني عطَّارةُ أبي جعفر قالت: لَمَّا عزمَ أبو جعفر على الحجِّ دعا ريطة بنت أخيه أبي العباس امرأة المهدي، وكان المهديُّ بالرَّيّ قبل شخوص أبي جعفر، فأوصاها بما أراد، وسلم إليها مفاتح الخزائن، ولا يطَّلع عليها أحدٌ إلَّا المهدي ولا هي، حتَّى يصحَّ عندهم موتُه. ومضى إلى الحجِّ، وقدم المهديُّ من الرِّيّ، فأخبرته الخبرَ، فلمَّا ماتَ أبو جعفر، وولي المهديُّ الخلافة فتحَ ذلك الباب ومعه ريطة، وإذا أزجٌ (¬3) عظيمٌ فيه جماعةٌ من آل أبي طالب قد قُتِلوا وفي آذانهم رقاعٌ فيها أسماؤهم وأنسابهم، وإذا فيهم أطفالٌ وشبابٌ ومشايخ، فلمَّا رأى المهديُّ ذلك ارتاع واسترجع، ثمَّ حفرَ لهم حفيرة ودفنهم فيها، وبنى عليهم دكانًا (¬4). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 102 - 104. (¬2) في (ج): أتحملها. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 104. (¬3) الأزج: ضرب من الأبنية. القاموس (أزج). (¬4) تاريخ الطبري 8/ 104 - 105.

الباب الثالث في خلافة المهدي

الباب الثالث في خلافة المهدي واسمه محمد وكنيتُه أبو عبد الله. وقال الخطيب: وأمُّه أمُّ موسى بنت منصور بن عبد الله. واختلفوا في مولده، فقال الخطيب: ولد سنة سبعٍ وعشرين ومئة (¬1). وقال الهيثم: سنة تسعٍ وعشرين بالبلقاء بالحميمة، وقيل: سنة إحدى وعشرين ومئة. وكلُّ من قام بالمغرب يسمِّي نفسَه المهدي. ذكر صفته: كان أسمَر طوالًا أبيض حسن الوجه. وذكرَ أبو محمد بن حزم في كتاب "نقط العروس" وقال: كان المهديّ أعور (¬2). قلت: وقد وهم ابن حزم فإنَّ الخطيب قال: كان بعينِ محمد المهدي اليمنَى بياض (¬3)، لا يبصر به، وقال الهيثم: كان بعينه اليسرى نكتةُ بياض لا تظهرُ إلَّا لمن تأمَّله، لم تضره. وفيها توفي شيبان الراعي (¬4) الزاهد العابد، وحجَّ مع سفيان الثوري. وروى جدي عن أبي نعيم أنَّه قال بإسناده إلى محمد بن حمزة قال: كان شيبان إذا أجنبَ وليس عنده ماءٌ دعا ربَّه، فتجيء سحابة فتظلُّه فيغتسل منها، وكان يذهب إلى ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 382. (¬2) نقط العروس 2/ 77 (ضمن رسائل ابن حزم). (¬3) تاريخ بغداد 3/ 384. (¬4) المنتظم 8/ 219، وترجمة شيبان في حلية الأولياء 8/ 317. وقال الصفدي في الوافي بالوفيات 16/ 201. توفي في حدود السبعين ومئة، فالله أعلم. وأورده الذهبي في تاريخ الإسلام 4/ 410 في الطبقة السابعة عشرة. وقال: لا أعلم متى توفي، ولا من حمل عنه.

الجمعة فيخطُّ على غنمه خطًّا، فيجيء فيجدها لم تتحرك. هذا صورة ما ذكره جدي في ترجمته. قلت: وقد روي أن شيبان عاشَ إلى زمان ذي النون المصري، واجتمعَ به في جبل لبنان. وذكر المعافى بن زكريا أنَّه اجتمع بهارون الرشيد في الحج، فقال: حجَّ هارون، فقيل له: شيبان في الركب، فقال: اطلبوه، فأتوه به، فقال له: يا شيبان عظني، فقال: لأنْ تصحبَ أقوامًا يخوفونَك حتَّى تبلغَ المأمن خيرٌ لك من أن تصحبَ أقوامًا يؤمنونك حتَّى تبلغ المخاوف، إنَّما أنت رجلٌ من هذه الأمة، استرعاك الله عليها، وقلَّدكَ أمورَها، وأنت مسؤول عنها، فاعدل فيها، واقسم بينها بالسويَّة، واتَّقِ الله في نفسك، هذا الَّذي يخوِّفُك، فإذا بلغتَ المأمن انتفعت (¬1) به، وإذا أمَّنوك قبل أن تبلغَ المخاوف عطبت. فبكى هارون حتَّى رحمَه من حوله. وذكره الحافظ ابن عساكر (¬2)، فقال: كان شيبان من أكابر أهل دمشق، تركَ الدنيا، وخرج إلى جبل لبنان فانقطعَ به، وأكلَ المباحَ. وصحبَ سفيان الثوريّ، فعرضَ لهما سبعٌ، فقال سفيان، أما ترى السبع؟ فقال شيبان: لا تخف غير الله الله، فلمَّا سمعَ السبعُ صوتَ شيبان جاء إلى بين يديه وبصبص، فأخذ بأذنه فعركها، وقال له: اذهب، فذهب، فقال له سفيان: ما هذه الشهرة؟ فقال شيبان: لولا مخافةُ الشهرةِ ما حملَ زادي إلى مكَّة على ظهره سواه. وروى ابن ناصر قال: قرأ رجلٌ عند شيبان: {فَمَنْ يَعْمَلُ مِثقَال ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] فهام شيبان على وجهه سنةً، فلمَّا كان بعد سنة لقيه الرجل، فقال: يا شيبان، من أين؟ فقال: من ذاك الحساب الدقيق، وقرأ الآية (¬3). ¬

_ (¬1) في صفة الصفوة 4/ 376: أمنت. (¬2) ذكر ابن عساكر في تاريخه 8/ 150 (مخطوط) شيبان المجنون وقال: أحد الزهاد، كان بجبل لبنان من جبال أطرابلس من ساحل دمشق، حكى عنه ذو النون المصري حكاية تقدمت في ترجمة سالم خادم ذي النون المصري (7/ 45). انتهى. وذكر ابن حبان في الثقات 6/ 448 شيبان الراعي وقال: من عباد أهل مرو. (¬3) انظر صفة الصفوة 4/ 377.

وذكر أبو عبد الله بن خميس في كتاب "مناقب الأبرار" في ترجمة ذي النون المصري عن صاحبه سالم قال: بينما أنا مع ذي النون في جبل لبنان إذ قال لي: مكانك يا سالم حتَّى أعود إليك، فغاب عنِّي في الجبل ثلاثةَ أيَّام، فلمَّا كان بعد ثلاثٍ رجعَ متغيِّر اللون، ذاهب العقل، فقلت له بعدما رجعَتْ نفسُه إليه: يا أبا الفيض، أعارضَك سبع؟ فقال: دعني من تخويف السباع، إنِّي غبت في هذا الجبل ثلاثةَ أيام، كلَّما هاجت النفس أطعمتُها من نبات الأرض، وسقيتُها من العيون، ثم إنِّي دخلتُ كهفًا من الكهوف فرأيتُ رجلًا أبيضَ الرأس واللحية، أشعث أغبر نحيفًا، كأنَّما نشر من قبر، وهو قائمٌ يصلِّي، فلمَّا سلَّم من صلاته سلَّمت عليه، فردَّ السلام، ثمَّ عاد إلى صلاته، فما زال يصلي إلى العصر، ثم استندَ إلى حجر هناك مقابل المحراب يسبِّح، فقلت له: رحمك الله، ادع لي دعوة، فقال: آنسك الله بقربه، ثم سكت فقلت: زدني، فقال: من آنسَه الله بقربه أعطاه أربع خصال، عزًّا في [غير] عشيرة (¬1)، وعلمًا من غير طلب، وغنًى من غير مال، وأُنسًا من غير جماعة، ثم شهقَ شهقةً وغشيَ عليه، فلم يفق إلَّا بعد ثلاثة أيام حتَّى توهمتُ أنَّه قد مات، فلمَّا كان بعد ثلاث قام فتوضَّأْ من عين هناك ثم قال: كم فاتني من الفرائض؟ قلت: صلاة ثلاثة أيَّام فقضاهن، ثم استند إلى الصخرة وقال: إنَّ ذكرَ الحبيب هيَّج شوقي ... إنَّ حبَّ الحبيب أذهلَ عقلي ثم بكى وقال: قد استوحشتُ من ملاقاة المخلوقين، وأنست بربِّ العالمين انصرف عني بسلام، فقلت: وقفتُ عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة منك، فقال: حب مولاك، ولا ترد بحبِّه بديلًا، فالمحبون لله هم تيجان العباد، وأمحلام الزهاد، وهم أصفياء الله وأحباؤه، ثمَّ صرخ صرخة وسقطَ ميتًا، فبقيتُ متحيِّرًا فيه، وإذا بجماعةٍ من العُبَّادِ منحدرين من الجبل، فتولَّوا أمره ودفنوه، فسألتُهم عنه فقالوا: هذا شيبان المصاب، قلت: فهل تعرفونَ من كلامه شيئًا، قالوا: كلمةً واحدة، كان إذا ضجرَ يقول: إذا بك لم أجن، يا حبيبي فبمن؟ ! فقلت: عميَ والله عليكم. قلت: وبسفحِ لبنان بالبقاع قريةٌ يقال لها: قبر إلياس، قريبٌ منها قبرٌ يقال: إنَّه قبرُ شيبان الراعي. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من مناقب الأبرار 1/ 99، وتاريخ دمشق 7/ 46 (مخطوط).

عبد الله بن محمد

عبد الله بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس، أبو جعفر المنصور. وقد ذكرنا سيرتَه متفرقةً في الكتاب، فنذكرُ ما وقعَ إلينا من أخبارِه وذكرِ طرف منها. قال علماء السير: عن الربيع الحاجب قال: كان أبو جعفر يصلِّي الفجرَ، ثم يجلسُ فينظر في مصالح الرعية إلى الظهر، فيصلِّي، ثمَّ يقيل إلى العصر، ثم يجلس من وقت العصر إلى المغرب يقضي حوائجَهم، ثمَّ يصلِّي ويقرأ ما بين المغرب والعشاء الآخرة، ثمَّ يجلسُ مع سُمَّاره إلى ثلث الليل الأوَّل، ثم ينام الثلث الأوسط، ثم ينتبه فيصلِّي إلى الفجر، ثم يقرأ في المصحف حتَّى ترتفعَ الشمس، فيجلس للناس، وكان هذا دأبَه طولَ خلافته إلى أن توفي. ذكر مذهب أبي جعفر في الغناء: قال الصولي: إنَّ أبا جعفر لم يكن يظهر لندمائه بشربٍ ولا غناء، ولا رآهُ أحدٌ يشربُ غير الماء، وبينه وبين ندمائه ستارة، فإذا أعجبه غناءُ مغنٍّ قال: باركَ الله فيك، وما كان يعطي الندماء والمغنين من بيت المال. وقال الأصمعيّ: لم يكن يُسمَع في دار المنصورِ لهوٌ ولا غناء ولا لعب. قال حماد التركي: كُنْتُ واقفًا على رأسه، إذ سمعَ صوت جلبة في الدار، فقال لي: انظر ما هذا؟ فنظرت، وإذا خادمٌ بيده طنبور، وقد جمعَ الجواري حولَه، وهو يلعب به، وهنَّ يضحكن منه، قال: فأخبرته فقال: وما الطنبور؟ قلت: ملهاةٌ تعمل بخراسان، فقال: خذه من يده، واضرب به رأسَ الخادم حتَّى تكسرَه على رأسه، ثمَّ اذهب بالخادم إلى السوق فبعه، قال: ففعلتُ ما أمرني به (¬1). وهذا يدلُّ على أنَّه كان يكرهُ الغناء. ذكر أخباره متفرقة: حكى الهيثم بن عديّ قال: كان المنصور يبخلُ إلَّا في الطيب، فإنَّه كان يُغلِّفُ رأسه ولحيته في كل شهرٍ بألف مثقالٍ من أنواع الطيب، وكان يأمرُ أهله به. ¬

_ (¬1) انظر الخبر في تاريخ الطبري 8/ 63.

وقال سالم الأبرش (¬1): كان المنصورُ من أحسن الناس خُلقًا ما لم يخرج إلى الناس، فإذا لبسَ ثيابه وجلس على سريره، تغيَّر لونُه، واربدَّ وجهه، واحمرَّت عيناه، وتغيرت صفاته، فسفكَ الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وكان يقول: إذا رأيتموني قد لبستُ ثيابي وجلستُ على سريري، فلا يدنونَّ مني أحدٌ منكم إليَّ لا أعره بشرّ (¬2). وقال عبد الصمد بن علي: خلوت يومًا بأبي جعفر المنصور، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، لقد لهجت بالعقوبة حتَّى كأنَّك لم تسمع بالعفو، فقال: لأنَّ بني أميَّة لم تبل رممهُم، وآل أبي طالب لم تسكن بعد سيوفهم، ونحن بين قوم قد رأونا بالأمس سوقةً واليوم خلفاء، ولا تتمهَّدُ هيبتُنا في صدورهم إلَّا باطِّراح العفو وإكمال العقوبة. وقال الزبير بن بكار: قال المنصور: الخليفةُ لا يصلحُه إلَّا التقوى، والسلطان لا يصلحُه إلَّا الطاعة، والرعيَّةُ لا يصلحها إلَّا العدل (¬3). وروى المعافى بن زكريا عنه أنَّه قال للمهدي: لا تجلسْ مجلسًا إلَّا ومعكَ رجلٌ من أهل العلم يحدّثك، فإنَّ محمد بن شهاب الزهري قال: إنَّ الحديثَ ذكَرٌ لا يحبُّه إلَّا الذُّكور من الرجال، ويكرهه مؤنَّثهم. وصدق أخو بني زهرة. قال: وكتبَ إلى عامله بالمدينة أن لا تبع الثمارَ التي في الأشجار إلَّا ممن نغلبه ولا يغلبنا، فأمَّا الَّذي يغلبُنا فهو المفلس الَّذي لا مال له، فيذهب مالنا قبله. وقال محمد بن سلَّام الجمحي: قيل للمنصور: هل بقيَ من لذَّات الدنيا شيءٌ لم تنله؟ قال: نعم، خصلةٌ واحدة، أنْ أقعد على مصطبة، وحولي أصحابُ الحديث، فأملي عليهم، قال: فغدى عليه الندماء والوزراءُ بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم هم، إنَّما هم أصحابُ الثياب الدنسة، المشققة أرجلُهم، الطويلة شعورُهم، الشعث الغبر، أصحاب الآثار ونقلةُ الحديث. وقال محمد بن سليمان الهاشمي: دخلتُ على أبي جعفر وهو في بيتٍ صغير وعليه ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 63: سلّام الأبرش. (¬2) كذا في (ج). وفي تاريخ الطبري 8/ 64: فلا يدنون مني أحدٌ منكم، مخافة أن أعرَّه بشيء. وفي المنتظم 7/ 346: ... لئلا أغره بشر. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 247.

جُبَّةٌ هرويَّة مرقوعةٌ، فقال: هذا بيتي، وهذه جبَّتي، ليس لي غيرهما، قال: وتحته مِسْحٌ على باريَّة. وبلغ أبا جعفر بن سليمان (¬1) فقال: الحمدُ لله الَّذي ابتلاه بفقر نفسه مع اتِّساع ملكه. وحكى المدائنيُّ قال: ماتَ إسحاق بن مسلم من بثرةٍ خرجتْ في ظهره، فشيَّع أبو جعفر جنازَته، وحمل سريره، وصلى عليه، وجلس عند قبره، فقال له موسى بن كعب: أتفعلُ هذا وقد كان مبغضًا لك كارهًا لخلافتك، فقال: ما فعلت هذا إلَّا شكرًا لله تعالى حيثُ قدَّمه أمامي، قال: أفلا أخبرُ أهل خراسان بهذا، فقد دخلتهم وَحْشةٌ؟ قال: بلى، فأخبرهم، فكبَّروا. وحكى المدائني قال: نظرَ أبو جعفر إلى بعض القضاة وبين عينيه أثرُ السجود، فقال: لئن كنت أردتَ بهذا وجهَ الله، فما ينبغي لنا أن نشغلكَ عنه، وإنْ كنت إنَّما أردتنا به، فينبغي أن نحترزَ منك، وعزلَه. وقال المدائني أيضًا: أتي أبو جعفر برجلٍ، فأمرَ بقتله، وعنده عمرو بن عبيد، فقال عمرو: حدثني الحسن البصري عن أنس قال. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ينادي غدًا يوم القيامة منادٍ بين يدي الله تعالى: من كانت له يدٌ عند الله فليقم، فلا يقومن إلَّا من عفا". فقال له أبو جعفر: أنت سمعتَ هذا من الحسن، قال: نعم. فأطلقَه (¬2). ذكر وفاته: واختلفوا في سببها على قولين: أحدهما: أنَّه كان كثير الأكل ولا يستمرئُ طعامًا، ويشكو ذلك إلى الأطباء، و [يسألهم أن] (¬3) يعملوا له الجوارشنات برأيه لا برأيهم، وكانوا يأمرونه بتقليلِ ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 81: محمد بن جعفر. (¬2) أورد الخبر الغزالي في الإحياء، وفيه: سوار بن عبد الله، بدل: عمرو بن عبيد. والخبر فيه عن الحسن مرسلًا. وأخرج الحديث البيهقي في شعب الإيمان (7977) (طبعة مكتبة الرشد) من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا. قال البيهقي: تفرد به عمر بن راشد. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 59، والمنتظم 8/ 219.

الطعام، ويقولون: هذه الجوارشنات ضررُها أكثر من نفعها، وإنَّها تُحدِثُ من الأمراض ما لا يفيدُ معها دواء، وإنَّ علتها شديدة. وكان عنده طبيبٌ من الهند قد قدم عليه، فأمره أن يتخذ له سفوفًا لهضم الطعام، فيه الأفاويه والأدوية الحارَّة، فكان الهنديُّ ينهاه ويوافق أطباءه ولا ينتهي. فقال بعض أطبائه: لا يموتُ هذا إلَّا بالبَطَن، فقيل له: ومن أين ذاك؟ قال: لأنَّه يأخذ الطعام كلَّ يوم ويتناول الجوارشنات الحارَّة فيهضم الطعام، ويهضم معه شيئًا من شحم بطنه ومصارينه ومعدته، فتخلو وترن (¬1) وتضعف عن حملِ ما حملَها، فيحدث له مرض البَطَن، ثم ضربَ لذلك مثلًا فقال: أرأيتَ لو أنَّك وضعتَ جرَّة على مرفع، والجرَّة جديدة وتحتها آجرة (¬2)، فقطرت عليها دائمًا أليس تثقب الآجرَّة؟ قالوا: بلى، قال: فكذا هذا، فكان كما قال مات بالبَطَن. والثاني: أنَّ أبا جعفر كان كثيرَ الركوبِ في الهواجر، وكان محرورًا مع علو سنِّه، فغلبَ (¬3) عليه المرار الأحمر، فانخرق مزاجه، واتَّفق حجُّه في تلك السنة، وكان الحرُّ شديدًا، فمرضَ بالحوف (¬4)، وكان قد تيقَّن أنَّه يموتُ في تلك السَّفرة؛ لأنَّه رأَى أماراتِ ذلك. حدثنا عبد الوهاب بن علي الصوفيّ بإسناده إلى أبي سهل الحاسب عن طيفور قال: كان سبب إحرامِ أبي جعفر من الكوفة للحج أنَّه نامَ ليلةً بمدينة السلام، ثمَّ انتبه فزعًا، ثم عاود النوم، ثم انتبه فزعًا، فعل ذلك ثلاثًا، ثم قال: يا ربيع، قد رأيتُ في منامي عجبًا، كأنَّ آتيًا أتاني فهينم بشيءٍ لم أفهمه، ثمَّ كرره حتَّى حفظتُه، قال: وما هو؟ قال: [من الطويل] كأنِّي بهذا القصر قد بادَ آهلُهْ ... وعُرِّي منه أهلُه ومنازلُهْ وصارَ رئيسُ القومِ من بعد بهجةٍ ... إلى جدثٍ تُبنى عليه جنادلُهْ ¬

_ (¬1) كذا. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 60: ووضع تحتها آجرة جديدة. (¬3) كذا في (ج). وفي تاريخ الطبري: يغلب. وهو الأشبه. (¬4) كذا.

وما أحسبني إلَّا وقد دنت وفاتي، وحانَ أجلي، وما لي غير ربِّي، ثمَّ قام فاغتسلَ، وصلَّى ركعتين، وقال: قد عزمت على الحجّ، ثمَّ خرج ونحن معه حتَّى انتهى إلى الكوفة، فنزل النجف، وأمر بالرحيل بعد أيام، ثم قدَّم جنده وأثقاله، وبقيتُ أنا وهو في القصر، فقال: ائتني بفحمة، فأتيتُه بها، فكتب على الحائط شيئًا، وخرجَ فعدت إلى القصر كأنِّي أطلبُ شيئًا، وإذا به قد كتبَ على الحائط بالفحمة هذه الأبيات: [من مجزوء الكامل] المرءُ يأملُ أنْ يعيـ ... ــش وطولُ عَيشٍ قد يضرُّهْ تفنى بشاشتُه ويحـ ... ـــدثُ بعد حلو العيش مرُّه وتضرُّه الأيام حتـ ... ـى ما يرى شيئًا يسرُّه (¬1) وروى ابنُ الأنباريِّ أيضًا بإسناده عن أبي إسحاق الخُتَّلي (¬2) قال: لما حجَّ المنصور في آخر عمره، نزلَ بعض المنازل، فرأى كتابةً على الحائط، فقرأها فإذا هي هذه الأبيات: [من الطويل] أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بدَّ واقع أبا جعفر هل كاهنٌ أو منجِّمٌ ... لك اليومَ عن حَرِّ المنيَّة دافعُ (¬3) وقد رواها الخطيب أيضًا عن الربيع، إلَّا أنَّه قال: خرجَ المنصور يتبرَّز، فقضى حاجته، فإذا الريح قد ألقت إليه ورقة فيها مكتوب البيت الأول. قال الربيع: فناداني: يا ربيع، نُعيتْ إليَّ نفسي في رقعة، فقلت: لا والله ما أعرف رقعةً، ولا أدري ما هي! فمات في وجهِه ذلك. وقال سليمان بن أبي شيح: حدَّثني أبي قال: خرجتُ مع المنصور حاجًّا في سنة ثمان وخمسين ومئة، فرأيتُ في منامي كأنَّ رأسًا قد قُطِع، فسألتُ عديلي سعيد بن خالد فقال: الرأسُ أبو جعفر، وما أراه إلَّا سيموت عن قريب، فمات. وقال أبو اليقظان: جلسَ المنصورُ يبولُ بطريق مكَّة، فألقت إليه الريحُ ورقةً فيها: ¬

_ (¬1) انظر المنتظم 8/ 220. (¬2) المنتظم 8/ 221. وفيه: الجيلي. بدل: الختلي. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 252.

[من الطويل] أبا جعفر حانت وفاتُك وانقضت ... [سنوك] وأمرُ الله لا بدَّ نازلُ أبا جعفرٍ هل كاهنٌ أو منجِّمٌ ... يردُّ قضاءَ الله أم أنتَ جاهلُ فقال: بادروا بي إلى حَرم الله. وقال الربيع: لَمَّا نزلَ بستان بني (¬1) عامر اشتدَّ وجعه فسارَ منه إلى بئر ميمون، فنزلَها، وكان قد أمر بنصبِ الخشب ليصلبَ عليها سفيانَ الثوريّ وعبَّادَ بن كثير وابنَ جريج. قال جدي في "المنتظم" بإسناده: عن عبد الرزاق يقول: بعثَ أبو جعفر الخشَّابين حين خرج إلى مكَّة، وقال: إنْ رأيتم سفيان الثوريّ فاصلبوه، فجاء النجَّارون، ونصبوا الخشب، ونودي سفيان، وإذا رأسه في حجر الفضيل ورجلاه النَّجارون، ابن عيينة، فقالوا له: يا عبد الله، اتَّقِ الله ولا تشمت بنا الأعداء، فقام إلى أستار الكعبة فأخذها، ثمَّ قال: برئتُ منه إن دخلَها أبو جعفر، فمات قبل أن يدخلَها، فأخبر سفيان بموته فلم يقل شيئًا (¬2). وقال ابن البراء: فتوفِّي أبو جعفر ببئر ميمون لستٍّ خلونَ من ذي الحجَّة سنة ثمانٍ وخمسين ومئة (¬3)، وذلك ليلةَ السبت مع طلوع الفجر، ولم يحضره عندَ وفاته إلَّا الربيع وخدمُه، وكتمَ الربيعُ موتَه، ومنعَ النساءَ وغيرهنَّ من البكاء عليه والصراخ، ثمَّ أصبح الربيع فأحضرَ أهلَ بيته، فأولُ من دعا عيسى بن موسى وعيسى بن علي وموسى بن المهدي، وأخذ عليهم البيعةَ للمهدي وبعده لعيسى بن موسى، ثمَّ دعا بالقوَّاد فبايعوا، وتوجَّه محمد بن سليمان والعباس بن محمد إلى مكَّة فأخذا البيعة للمهديِّ على الناس بين الركن والمقام، ثمَّ خرجا إلى بئر ميمون، وأخذا في جهاز المنصور وغسله وتكفينه ودفنه، وكان المتولِّي لذلك الربيع وأهلُ بيت المنصور ومواليه، ودُفن عندَ صلاة العصر، وكُشِفَ رأسُه لأجل الإحرام. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 60: بستان ابن عامر. (¬2) المنتظم 8/ 204. وما بين حاصرتين منه. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 253.

واختلفوا فيمن صلَّى عليه، فقال الواقدي: عيسى بن موسى، ونزل في قبره في شعب الخوز، وقيل: الَّذي صلَّى عليه إبراهيم بن محمد بن علي (¬1) كان المنصور قد أوصى بذلك، و [ذلك] أنَّه خليفته على الصلاة بدار السلام. وروي أن الربيع: قال لا يصلِّي عليه أحدٌ يطمعُ في الخلافة، فقدَّموا إبراهيم بن محمد، وقيل: إبراهيم بن يحيى، وهو يومئذٍ حَدَث، ودُفن عند ثنية المَعْلاة قريبًا من كداء بأعلى مكة، ونزلَ في قبره عيسى بن موسى، وقيل: عيسى بن علي، والعباس بن محمد، والربيع والريّان مولياه، ويقطين بن موسى. ويقال: إنَّ البغلةَ عثرت بين بستان بني عامر وبئر ميمون فسقطَ فمات. وقال الطبري: ركب فرسًا فلما صار في الوادي الَّذي يقال له: سَقَر، وكان آخر منزلٍ في طريق مكة، كبا به الفرس، فدُقَّ ظهرُه، فمات (¬2). وقال الصوليّ: دفن بين الحجون وبئر ميمون بمكانٍ يقال له: الحوري. ويقال: إنَّه حُفِر له قبورٌ كثيرة، دُفن سرًّا في بعضها، وعموا آثارَ قبره خوفًا عليه من آلى أبي طالب لئلَّا ينبشوه. وقد أشارَ الطبريُّ إلى هذا فقال: وحُفر له مئةُ قبرٍ؛ لئلَّا يعرفَ موضعُ قبره، ودفن في غيرها خوفًا عليه. واختلفوا في مبلغ سنِّه على أقوال: أحدها: أربعٌ وستون سنة، والثاني: خمس وستون سنة، والثالث: ثلاث وستون، والرابع: ثمان وستون. وقد ذكرنا أنَّه ولد في سنة أربعٍ وتسعين، أو خمسٍ وتسعين، السنة التي مات فيها الحجاج. واختلفوا في مدة خلافته بعد اتِّفاقهم على أنها كانت اثنتين وعشرين سنةً إلَّا أيَّامًا، وإنما اختلفوا في تلك الأيام، فقال هشام بن محمد: إلَّا أربعة وعشرين يومًا، وقال أبو معشر. إلَّا ثلاثة أيام، وقال الزبير بن بكَّار: إلَّا سبع ليالٍ، وقال الواقدي: إلَّا ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 61: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 107.

يومين (¬1). وولي الخلافةَ في ذي الحجَّة. ذكر ما ترك من المال: قال الربيع: جمعَ ما لم يجمعه أحدٌ قبلَه، ترك ستّ مئة ألف ألف وستين ألف ألف درهم، وأربعة عشر ألف ألف دينار، وكان قد حُمل إليه من خزائنِ مروان اثنا عشر ألف عِدْلٍ خز، فأخرجَ ثوبًا ففصله جبَّتين، له واحدة، ولمحمد المهدي واحدة، وترك من الخيل والبغال والدواب عشرةَ آلاف دابة، ومن الموالي خمسةَ آلاف، ومن الجواهر واليواقيت عدَّة صناديق، وغير ذلك. قال المسعوديّ: ومع هذا فإنَّه كان ينظر فيما لا قيمة له، ولا ينظر فيه أحدٌ من العوام، اتَّفق مع صاحب مطبخه على أنْ يكونَ له الرؤوس والجلود والأكارع، وعلى الطباخ الحطبُ والتوابل (¬2). انتهت ترجمته. * * * ¬

_ (¬1) هذا قول عمر بن شبة، وقال الواقدي: كانت ولاية أبي جعفر اثنتين وعشرين سنة إلَّا ستة أيام. انظر تاريخ الطبري 8/ 62. (¬2) مروج الذهب 6/ 222.

السنة التاسعة والخمسون بعد المائة

السنة التاسعة والخمسون بعد المائة فيها خرج المهدي من بغداد، فنزل البردان، فأقام يجهِّزُ الجيوشَ إلى الصائفة، فجهَّزَ العباس بن محمد، وبين يديه الحسنُ الوصيف في الموالي، وقُوَّاد خراسان، وغيرهم، فساروا إلى الروم حتَّى بلغوا أنقرة، وفتحُوا مدينةً يقال لها: المطمورة، وعادوا سالمين غانمين. وفيها توفي حميدُ بن قحطبة وإلي خراسان. وفيها فتحَ المهديُّ الخزائن وفرَّق الأموال. وفيها بنَى المهدي جامع الرّصافة، وأدارَ عليها السُّور والخنادق. وفيها وجَّه المهديُّ عبدَ الملك بن شهاب المسمعي في المراكب إلى الهند في جيشٍ كثيفٍ، منه ألفان من أهل البصرة، ومن الشام سبع مئة، ومن مطوّعة أهل البصرة ألف رجل -وقيل: كانوا ثمانية آلاف- فوصلوا إلى الهند، ونزلوا على مدينةٍ يقال لها: باربد في سنة ستين ومئة. وفيها توفِّي معبدُ بن الخليل عامل السند. وفيها أمر المهديُّ بإطلاق من كان في حبس أبيه أبي جعفر، إلَّا من كان عليه دم، أو كان عنده لأحدٍ مظلمة أو حق، أو كان ساعيًا في الأرض بالفساد (¬1). وفيها أعتق المهديُّ أمَّ ولده الخيزُران وتزوَّجها. وفيها تزوَّج المهديّ أيضًا أمَّ عبد الله بنت صالح بن عليّ أخت الفضل بن صالح. وحجَّ بالناس في هذه السنة يزيدُ بن منصور خالُ المهدي، في قول الواقديِّ وأبي معشر وغيرهما (¬2). حُمَيد بن قَحْطَبَة أحدُ قوَّاد أبي جعفر، وهو الَّذي غرقَ أبوه في الفرات، وهو الَّذي حزَّ رأس محمد بن [عبد الله بن] حسن بن حسن، وقد ذكرناه في عدة مواضع. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 8/ 116 - 117. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 123.

عبد العزيز بن أبي رواد

وولَّاه أبو جعفر مصر، فأقام عليها سنةً وشهرين، وولَّاه أبو جعفر خراسان في سنة إحدى وخمسين ومئة، وماتَ بخراسان في هذه السنة (¬1). وفيها توفي عبدُ العزيز بن أبي رَوَّاد مولى المغيرة بن المهلَّب بن أبي صُفرة. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل مكَّة، وحكى عن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي قال: توفي عبد العزيز بمكَّة سنة تسع وخمسين ومئة، وله أحاديث، وكان معروفًا بالصَّلاح والورع والعبادة، وهذا قول ابن سعد (¬2). وقال أبو نعيم الحافظ بإسناده إلى عبد الصمد بن يزيد قال: سمعتُ شقيقًا البلخي يقول: ذهب بصرُ عبد العزيز عشرينَ سنةً، فلم يعلم به أهلُه ولا ولده، فتأمَّله ابنُه ذات يومٍ فقال: ذهبت عينُك يا أبه، فقال: نعم يا بنيّ، الرضا عن الله أذهب عين أبيك منذ عشرينَ سنة (¬3). وروى الخطيب عن شعيب بن حرب الزاهد قال: جلستُ إلى عبد العزيز خمسَ مئة مجلس، فما أحسبُ صاحبَ الشمال كتب عليه شيئًا (¬4). وروى أبو نعيم بإسناده قال: مكثَ عبد العزيز أربعين سنةً لم يرفع رأسَه إلى السماء حياءً من الله تعالى، فبينما هو يطوفُ بالبيت، إذ طعنَه المنصور أبو جعفر بأصبعه في خاصرته، فالتفتَ إليه فقال: قد علمتُ أنَّها طعنة جبَّار (¬5). وقد ذكرنا طرفًا منه. وكانت وفاتُه في هذه السنة بمكَّة. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ دمشق 5/ 350. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 55. وفيه: وكان مرجئًا، وكان معروفًا بالصلاح والورع والعبادة. (¬3) حلية الأولياء 8/ 191. (¬4) تاريخ بغداد 6/ 586 (ترجمة أبي سهل المدائني)، والمنتظم 8/ 231. (¬5) حلية الأولياء 8/ 191.

محمد بن عبد الرحمن

أسند عن جماعة من كبار التابعين، كعطاء وعكرمة ونافع وغيرهم (¬1). محمد بن عبد الرحمن ابن المغيرة بن الحارث بن هشام بن شعبة، أبو الحارث القرشي، ويعرف بابن أبي ذئب. ذكره ابن سعد في الطبقةِ الخامسة من أهل المدينة. وقال: وأمّ أبي ذئب أم حبيب بنت العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. وكان أبو ذئب قد أتى قيصر، فسعى به عثمان بن الحويرث شيطان قريش، فحبسَ قيصرُ أبا (¬2) ذئب، حتَّى مات في حبسه. قال: وقال محمد بن عمر: ولدَ محمد بن أبي ذئب سنةَ ثمانين عام الجُحَاف، وكان من أورع الناس وأفضلهم، وكانوا يرمونه بالقَدَر، وما كان قدريًّا، لقد كان ينفي قولَهم ويعيبه، ولكنه كان رجلًا كريمًا، يجلس إليه كلُّ أحدٍ ويغشاه فلا يطرده، ولا يقول شيئًا، وإن هو مرض عادَه، فاتَّهموه بالقدر لهذا. وكان يصلِّي الليلَ كله، ويجتهدُ في العبادة، ولو قيل له: إنَّ القيامة تقومُ غدًا ما كان فيه مزيد من الاجتهاد. قال: وأخبرني أخوه أنَّه كان يصومُ يومًا ويفطرُ يومًا، فقدم رجل من الشام، فسأله عن الرجفة، فحدَّثه، فلمَّا قَضى حديثَه -وكان ذلك يوم إفطاره- فقلت له: قم تغدَّى، فقال: دعه اليوم، فسردَ الصومَ من ذلك اليوم إلى أن مات. وكان شديدَ الحال، يتعشَّى بالخبز والؤيت، وكان يحفظ حديثه كلَّه، لم يكن له كتاب ولا شيءٌ ينظرُ فيه. قال: ولما خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة لزمَ ابنُ أبي ذئب بيتَه، فلم يخرج منه حتَّى قُتل محمد. قال: وقال محمد بن عمر: دعا زياد الحارثيُّ محمد بن أبي ذئب ليستعملَه على ¬

_ (¬1) انظر ترجمته أيضًا في تهذيب الكمال 18/ 136، وسير أعلام النبلاء 7/ 184. (¬2) في (ج): ابن أبي ذئب. والمثبت من طبقات ابن سعد 7/ 558.

بعض عمله، فأبى، فحلفَ زياد ليعملن، فحلف ابنُ أبي ذئب أن لا يعمل، فقال زياد: جرُّوه برجله ابن الفاعلة، فقال له: والله ما هو من هيبتك تركتُ أن أردَّها عليك مئة مرة، ولكن تركتها لله تعالى. وندم زياد على ما قال له، وقال من حضره: إنَّ مثل ابن أبي ذئب لا يصنعُ به مثل هذا، إنَّ من شرفِه وحاله وفضله في نفسه وقدرِه عند أهل البلد [أمرًا] عظيمًا (¬1)، فازداد زياد ندمًا وقال: أنا آتيه، فأستحلُّه، فقالوا: لا تأمن أن يسمعك ما تكره، فأرسلَ زياد إلى أخيه طالوت مئة دينار وقال: أعطها لأخيك، وتحلَّل لي منه، فقال: ما أفعل، فقال: فافعل بها ما شئت، فاشترى بها جاريةً فأهداها لأخيه، فهي أم ولده، واسمها سلامة، ولو علم أنَّها من زياد ما قبلهَا. قال: وقال الواقدي: كان الحسن بن زيد والي المدينة يُجري على ابن أبي ذئب في كل شهر خمسةَ دنانير، فلمَّا غضب أبو جعفر على الحسن بن زيد عزله عن المدينة، وولَّى عبد الصمد بن علي. قال: وقال الواقدي: دخلَ ابنُ أبي ذئب: على عبد الصمد وهو والي المدينة، فكلَّمه في شيء، فقال له عبد الصمد: إنِّي لأظنُّك مرائيًا، فأخذ عودًا من الأرض وقال: لمن أرائي؟ والله، الناسُ عندي أهون من هذا. قال: وقال محمد بن عمر: حجَّ المنصور، فدعا الحسن بن زيد وابن أبي ذئب، فأراد أن يغريَ بينهما، فقال لابن أبي ذئب، نشدتُك، ما تعلم من الحسن بن زيد؟ فقال: أمَّا إذا نشدتني فإنَّه يدعونا فيستشيرنا، فنخبره بالحق، فيدعُه ويعملُ بهواه، فقال الحسن بن زيد: نشدتُك الله يا أمير المؤمنين إلَّا سألتَه عن نفسك، فقال له أبو جعفر: نشدتك الله ما تعلم مني؟ ألستَ تراني أعملُ بالحق؟ ألست تراني أعدل؟ فقال له: أما إذا نشدتني بالله فأقول: اللهمَّ لا، فما أراك تعدل، ولا تعملُ بالحق، وإنَّك لتستعملُ الظَّلمةَ، وتدعُ أهلَ الخير والفضل. قال الواقدي: فحدَّثني محمدُ بن إبراهيمَ بن محمدِ بن عليّ، وإبراهيمُ بن يحيى بنِ ¬

_ (¬1) في (خ): عظيم. والمثبت وما بين حاصرتين من طبقات ابن سعد 7/ 561.

محمد بن علي، وأُخبرتُ عن عيسى بن عليّ، قالوا: نحن عند أبي جعفر حين كلَّمه ابنُ أبي ذئب بما كلَّمه به من ذاك الكلام الشديد، فظننا أنَّ أبا جعفرٍ سيعاجلُه، فجعلنا نكفُّ ثيابنا، ونتنحى (¬1) مخافة أن يصيبنا من دمه. قال: وجزعَ أبو جعفر واغتمّ، وقال له: قم فاخرج فخرج، ورزقَه اللهُ السلامة من أبي جعفر. قال الواقدي: وخرجَ ابنُ أبي ذئب إلى أمِّ ولده سلامة، فقال لها: احتسبي دنانيرك التي كان حسن بن زيد يجريها عليك. قالت: ولم؟ قال: سألني أبو جعفر عنه، فقلت: كذا وكذا، فقالت: ففي الله خلفٌ وعوضٌ منها. وخرجَ الحسنُ بن زيد، فذكر ذلك لابن أبي الزناد وقال: والله ما ساءني (¬2) كلامه، ولقد علمتُ أنَّه أراد الله بذلك، ولم يرد به الدنيا ولا رضا أبي جعفر، فلمَّا كان رأسُ الشهر بعثَ إليه بعشرة دنانير؛ زاده خمسةً أخرى، وقال: إنَّما زدته لإرادته وجه الله. فلم يزل يجريها عليه في كلِّ شهرٍ حتَّى مات. قال الواقدي: أرسَلُوا إلى ابن [أبي] ذئب، فأقدموه إلى بغداد، فأعطوه ألفَ دينار فلم يقبلها، فقالوا: خذها ففرقها في أهل المدينة، فأخذَها، فلمَّا كان بالكوفة اشتكى، فماتَ فدُفن بالكوفة في سنة تسع وخمسين ومئة، وهو يومئذ ابنُ تسعٍ وسبعين سنة. قال: وكان يُفتي بالمدينة، وكان عالمًا ثقةً فقيهًا عابدًا ورعًا فاضلًا. هذا قول ابن سعد (¬3). وقال جدِّي في "المنتظم" عن محمد بن خلَّاد قال: لما حجَّ المهدي دخلَ مسجدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يبق أحد إلَّا قام، إلَّا ابن أبي ذئب، فقال له المسيب بن زهير: قم فهذا أمير المؤمنين، فقال ابن أبي ذئب: إنَّما يقومُ الناس لربِّ العالمين، فقال المهدي: دعهُ فلقد قامت كل شعرةٍ في رأسي (¬4). ¬

_ (¬1) في (ج): ونتحاذا. والمثبت من طبقات ابن سعد 7/ 562. (¬2) في (ج): سألني. وفوقها: كذا. والمثبت من طبقات ابن سعد 7/ 562. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 558 - 563. (¬4) المنتظم 8/ 234.

قلت: كذا وقعتْ هذه الرواية، وهي وهم؛ لأنَّ المهدي حجَّ في سنة ستين، وابنُ أبي ذئب مات باتِّفاقهم في سنة تسعٍ وخمسين ومئة، فلعلَّ الواقعةَ كانت مع المنصور، فغلط الكاتب، والله أعلم. انتهت ترجمته. * * *

السنة الستون بعد المئة

السنة الستون بعد المئة فيها خلع المهدي عيسى بن موسى، قد ذكرنا أنَّه كتب إليه يسأله أن يخلعَ نفسه فامتنع (¬1). وفيها فتحَ عبدُ الملك بن شهاب المسمعيّ مدينةَ باربد بأرض الهند، وقد ذكرنا أنَّ المهدي جهَّزَهُ إليها في السنة الماضية، وكانوا قد أقاموا عليها مُدَّةً، وكانوا قد نصبوا عليها المجانيق، فافتتحوها عَنْوةً، وقتلوا وسبوا، وكان في السبي ابنة ملك باربد، وأرادوا الرجوعَ إلى البصرة، فهاج عليهم البحر، فلم يقدروا على ركوبه، فأقاموا حتَّى يطيبَ لهم البحر، فأصابَهم داءٌ في أفواههم، فمات منهم ألفُ رجلٍ منهم الربيع بن صبيح، ثمَّ ركبوا البحرَ، فهاج عليهم فتكسَّرت مراكبُهم، فغرق بعضُهم ونجا البعض، وقدموا البصرة، وبها محمد بن سليمان (¬2). وفيها خرج يوسف بن إبراهيم - ويقال له البرم - بخراسان منكرًا على المهديِّ سيرتَه، واجتمعَ إليه خلقٌ كثير، فبعثَ إليه المهدي يزيدَ بن مزيد، فاقتتلَا، فظفر به يزيد، فأسره وحملَه إلى المهدي، فلمَّا قربَ من بغداد أُركِبَ على بعيرٍ، وحُوِّل وجهه إلى ذنبه، وفُعِل بأصحابه كذلك، وكان البرم قد قتل أخًا لهرثمة بن أعين بخراسان، فأمرَ المهديُّ هرثمةَ، فقطعَ يدي البرم ويدي أصحابه، وضرب أعناقهم، وصلبَهم. وفيها توفِّي عبدُ الله بن صفوان (¬3) الجمحيّ والي المدينة. وحجَّ بالناس في هذه السنة محمد المهدي، وحجَّ مع المهدي ابنُه هارون، واستخلفَ على بغداد ابنه موسى ومعه يزيد بن منصور خال المهدي، وحج معه جماعةٌ ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 8/ 124 - 128. (¬2) انظر تاريخ الطبري 8/ 128. (¬3) كذا في (ج) والمنتظم 8/ 245، والكامل 6/ 41، 48. وفي تاريخ الطبري 8/ 123، 132: عبيد الله بن صفوان. وتمام اسمه: عبيد الله بن محمد بن صفوان. انظر المعرفة والتاريخ 1/ 147، وتاريخ بغداد 7/ 12، وتاريح الإسلام 4/ 145، والعقد الثمين 5/ 317. وانظر أيضًا أخبار القضاة لوكيع 3/ 249 - 251.

من أهل بيته، وحجَّ معه يعقوب بن داود على منزلته التي كانت عنده، وأتاه حين وافى مكة بالحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فأحسنَ إليه المهديّ، ووصله، وأقطعه مالًا بالحجاز، ووفّى له ما أمنه به. ونزع المهديُّ كسوةَ البيت وكساه كسوةً جديدة، وكانت الكسوة قد أثقلت الكعبة، فخافت الحجبةُ أن تنهدم، فأنهوا ذلك إليه، فنزعَها وجَرَّد الكعبةَ وخَلّقَهَا (¬1)، ثم كساها كسوة واحدة، ونزع ما كان من كسوة بني أمية، وكان هشام قد كساها ديباجًا ثخينًا، فأزاله. وكان قد حملَ معه من العراق ثلاثين ألف ألف درهم، ومتاعًا كثيرًا، وقُدِم عليه وهو بمكة من مصر بثلاثِ مئة ألف دينار، ومن اليمن مئتي ألف دينار، فقسَّم الجميع في أهل الحرمين، وفرَّق فيهم الثياب، وكانت [مئة ألف ثوب، و] (¬2) خمسين ألف ثوب. ووسَّع في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمرَ بنزع المقصورة التي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنُزِعت، وأراد أن ينقص من المنبر ما كان معاوية زاد فيه، فشاورَ مالك بن أنس، فقال مالك (¬3): إنَّ المسامير التي عملَها معاوية في الخشب الأوَّل قد عتقت، ومتى نُزِعت ربَّما تكسَّر الجميع، فتركَه. وتزوَّج المهديُّ في هذه السفرة في مقامه بالمدينة رقيَّة بنت عمرو العثمانيَّة. وحمل محمد بن سليمان الثلج إلى المهدي بمكّة، فكان أوَّلَ من حُمل الثلج له من الخلفاء إلى مكَّة المهديُّ. وفي هذه السفرة كان على قضاء المدينة عثمانُ بن طلحة بن عمر بن عبيد الله (¬4) بن مَعمر، فدخل على المهديِّ وسأله أن يعفيَه من القضاء، فابى، فقال له عثمان: والله لو علمتُ أن بلد الروم يجيروني ولا يمنعوني من الصلاة لاستجرتُ به. فقال له المهدي: ¬

_ (¬1) أي: طلاها بالخَلوق. والخلوق: ضرب من الطيب. مختار الصحاح (خلق). (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 133، والمنتظم 8/ 238. (¬3) في تاريخ الطبري 8/ 133: فذكر عن مالك بن أنس أنَّه شاور في ذلك، فقيل له ... (¬4) في (خ): عبد الله. والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 151، والمنتظم 8/ 239.

إبراهيم بن أدهم

وأنت على الأوَّل، فقال: إي والله، قال: قد أقلتُك. وكان قد استوجبَ رزقَ عشرة أشهر، فقال له المهدي: فخذ ما لك عندنا من الرزق، فقال: والله ما بي عنه من غنى، ولكنّ إخواني كانوا يكرهونَ هذا، ولي بهم أُسوة، ولم يأخذ شيئًا مِمَّا أَمَر له المهديُّ من الرزق. انتهى. وفيها توفي إبراهيم بن أدهم ابن منصور بن يزيد بن جابر التميمي العجلي، أبو إسحاق البلخي، وأصله من كورة بلخ، من أبناء الملوك. ذكر مولده: روى الحافظ ابن عساكر عن إبراهيم بن شمَّاس قال [سمعت الفضل بن موسى يقول] (¬1): حجَّ أدهم أبو إبراهيم، ومعه أمُّ إبراهيم، وكانت حبلى به، فولدت إبراهيم بمكة، فطافَ به أبوه حولَ البيت ودار به على الحلق في المسجد وقال: ادعو الله لولدي أن يجعلَه ولدًا صالحًا. وعاد به إلى بلخ، فنشأَ به إلى حين ما ترك الدنيا. واختلفوا في سبب تركه الدنيا وإقباله على الآخرة على وجوه: أحدها ما قرأتُه على شيخنا الموفق عبد الله بن أحمد المقدسي رحمه الله في كتاب "التوابين" قال: حدثنا محمد بن عبد الباقي بإسناده عن محمد بن إسحاق السرّاج قال: سمعتُ إبراهيم بن بشار خادم إبراهيم بن أدهم يقول: قلت: يا أبا إسحاق، كيفَ كان أوائل أمرك؟ قال: كان أبي من أهل بَلخ، وكان من ملوك خُراسان، وحُبِّبَ إلينا الصيدُ، فخرجتُ راكبًا فرسي، وكلبي معي، فبينما أنا كذلك، ثار أرنب أو ثعلب، فحرَّكتُ فرسي، فسمعتُ نداءً من ورائي: ليس لهذا خُلِقْتَ، ولا به أمرت، فوقفتُ انظر يَمْنةً وَيسْرةً، فلا أرى أحدًا، فقلت: لعنَ الله إبليس، ثم حرَّكتُ فرسي فأسمع نداء أجهر من ذلك: يا إبراهيم، ما لهذا خلقت، ولا به أمرت، فلعنت إبليس، فسمعتُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 2/ 373.

نداءً من قربوس سرجي يقول ذلك، قال: فقلت: أُنبِهت أُنبِهت، جاءني نذيرٌ من ربِّ العالمين، والله لا عصيتُ الله بعد يومي هذا ما عصمني ربِّي. فرجعتُ إلى أهلي، ثم جئتُ إلى أحد رعاةِ أبي، فأخذتُ منه جُبَّةً وكساء، وألقيتُ إليه ثيابي، ثم أتيتُ العراق، تخفضُني أرض وتضعُني أخرى، فعملت أيَّامًا، فلم يصفُ لي الحلال، فقيل لي: عليك بالشام؛ فإنَّ الحلال الصافي بطرَسُوس، فقصدتُها أحصدُ مع الحصَّادين (¬1). وسنذكرُ تمام الحكاية. وفي رواية ابنِ بشار أيضًا (¬2) أنَّه سُئِل عن إبراهيم فقال: كان أبوه من أبناء الأشراف، وكان أبوه كثيرَ المال والخدم، فخرج إبراهيمُ يومًا إلى الصيد مع الغلمان ومعه البُزَاة والصقور، فركضَ فرسه، وإذا بصوتٍ من فوقه: يا إبراهيم، ما هذا العبث؛ ؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} الآية، اتَّقِ الله وعليك بالزاد ليوم الفاقة، فنزل عن دابته، وأخذ في عمل الآخرة. وفي رواية: صادفَ راعيًا فأخذ جبَّته وأعطاه ثيابَه وفرسه، وفارقَ غلمانَه وأتى مكَّة فصحبَ بها سفيان الثوري والفضيلَ بن عياض، ثمَّ أتى الشام فأقام بطرسوس، وأنَّه صادف داود - عليه السلام - في بعض البراري، فعلَّمه الاسمَ الأعظم، فدعا به، فرأى الخضرَ - عليه السلام -، فقال له: إنِّي لقيتُ رجلًا ولم أعرفه، علَّمني الاسمَ الأعظم، فقال: ذاك أخي داود - عليه السلام - (¬3). والوجه الثاني قرأته أيضًا على شيخنا الموفَّق من "التوابين" قال: حدَّثنا أبو بكر عبدُ الله بن محمد بن أحمد بن النَّقُّور بإسناده عن عبد الله بن الفرج العابد قال: حدَّثني إبراهيم بن أدهم بابتدائه كيف كان، قال: كُنْتُ جالسًا يومًا في منظرةٍ لي إلى الطريق، وإذا بشيخٍ عليه أطمَار، وكان يومًا حارًّا، فجلسَ في [ظلِّ] (¬4) القصر ليستريح، فقلت ¬

_ (¬1) انظر تمام الخبر في التوابين ص 174 - 175. (¬2) الخبر في تاريخ دمشق 2/ 373 (مخطوط) من رواية يونس بن سليمان البلخي. وانظر صفة الصفوة 4/ 152. (¬3) انظر تاريخ دمشق 3/ 372 - 373. (¬4) ما بين حاصرتين من التوابين ص 177.

للخادم: اخرج إلى هذا الشيخ، فأقرئه منِّي السلام، واسأله أن يدخلَ إلينا، فقد أخذ بمجامع قلبي. فخرجَ إليه، فقام معه فدخل إليَّ، فسلَّمَ، فرددتُ - عليه السلام -، واستبشرتُ بدخوله، وأجلستُه إلى جانبي، وعرضتُ عليه الطعام، فأبى أن يأكل، فقلت له: من أين أقبلت؟ فقال: من وراءِ النهر، فقلت: أين تُريد؟ قال: الحجّ إن شاء الله تعالى، قال: وكان ذلك في أول يومٍ من العشر، أو الثاني. فقلت: في هذا الوقت؟ ! فقال: يفعل الله ما يشاء، فقلت: فالصحبة. قال: إن أحببتَ ذلك. فلمَّا كان الليل قال لي: قم، فلبستُ ما يصلحُ للسفر، فأخذ بيدي، وخرجنا من بلخ، فمررنا بقريةٍ لنا، فلقيني رجلٌ من الفلَّاحين، فأوصيتُه ببعض ما أحتاجُ إليه، فقدَّم إلينا خبزًا وبيضًا، وسألنا أن نأكل، فأكلنا، وجاء بماء فشربنا، وقال: بسم الله، قم، فأخذَ بيدي، وجعلنا نسير، وأنا أنظرُ إلى الأرض تجذبُ من تحتنا كأنَّها الموج، فمررنا بمدينة بعد مدينة، فجعل يقول: هذه مدينة كذا، هذه مدينةُ كذا، هذه الكوفة، ثم قال: الموعدُ هاهنا في مكانك هذا في هذا الوقت من الليل، حتَّى إذا كان الوقت من الليل، إذا به قد أقبل، فأخذَ بيدي وقال: بسم الله، وجعل يقول: هذا منزل كذا، هذا منزل كذا، هذه كذا، هذه المدينة، وأنا أنظرُ إلى الأرض تجذبُ من تحتنا كأنَّها الموج، فصرنا إلى قبرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فزرناه، ثمَّ فارقني، وقال: الموعدُ في هذا الوقت من الليل في المصلَّى [حتى إذا كان الوقتُ خرجتُ، فإذا به في المصلَّى] (¬1)، فأخذ بيدي، وفعلَ كفعله الأول والثاني، حتَّى أتينا مكَّة، ففارقني، فقبضتُ عليه وقلت: الصحبة، فقال: إنِّي أريدُ الشام فقلت: وأنا معك، فقال: إذا انقضى الحجُّ فالموعدُ هنا عند زمزم، حتَّى إذا انقضى الحجُّ إذا به عند زمزم، فأخذ بيدي، فطُفنا بالبيت، ثمَّ خرجنا من مكَّة، ففعل كفعله الأوَّل والثاني والثالث، وإذا نحنُ ببيت المقدس، فقال: السلامُ عليك، أنا عازم على المقام هاهنا إنْ شاء الله تعالى، ثمَّ فارقني، وما رأيتُه بعد ذلك، ولا عرَّفني اسمه. قال إبراهيم: ورجعتُ إلى بلدي أسيرُ سيرَ الضعفاء منزلًا بعد منزل، حتَّى رجعتُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من التوابين ص 178.

إلى بَلْخ، فكان ذلك أول أمري. والثالث ذكرهُ ابن خميس في "المناقب" عن أحمد بن عبد الله صاحب إبراهيم بن أدهم قال: كان إبراهيم من أبناء ملوك خراسان، فبينما هو ذات يوم مشرف من قصره، إذ نظر إلى رجل بيده رغيف يأكله في فناء قصره، ثم قام فشرب الماء بكفيه، ثمَّ نام، فوكَّل به إبراهيم غلامًا له وقال: إذا قامَ من نومه فأتني به، فلمَّا استيقظَ الرجل أخذه الموكَّل به، فأدخلَه على إبراهيم، فقال له: أكلت الرغيف وشبعت؟ قال: نعم، قال: وشربتَ من الماء فرويت؟ قال: نعم، فقلت في نفسي: وما أصنع بالدنيا والنفس تقنعُ بهذا؟ فخرجَ إبراهيمُ سائحًا إلى الله تعالى، فلقيَهُ رجلٌ يسيحُ، حسنُ الثياب والوجه، طيِّبُ الرائحة، فقال لإبراهيم: يا غلام من أين؟ قال: من الدنيا إلى الآخرة، فقال: أجائعٌ أنت؟ قال: نعم، فقام الرجلُ فصلَّى ركعتين، وإذا عن يمينه طعام وعن شماله ماء، قال: فقال لي: كل، فأكلت بقدر شبعي، وشربت بقدر ربِي (¬1)، ثم قال لي الشيخ: اسمع واعقل، ولا تعجل، فإنَّ العجلةَ من الشيطان، ولا تحزن، وإياك والتمرُّد على الله، فإنَّ العبد إذا تمرَّد عليه أورثَه في قلبه ظلمةً وضلالة، وحرمَهُ الرزق، ولا يبالي في أي وادٍ أهلكه الله، يا غلام، إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا جعلَ في قلبه نورًا يفرقُ به بين الحق والباطل، وإني معلِّمُك أمرَ دينك واسم الله الأعظم، فإذا جُعتَ فادع الله به حتَّى يُشبعك، وإذا عطشتَ فادع الله به حتى يرويك، وإذا جالستَ الأخيار فكن لهم أرضًا يطؤوك، فإنَّ الله يغضبُ لغضبِهم ويرضى لرضاهم، يا غلام، خذ كذا حتى آخذ أنا كذا. قال: فلم أبرح، فقال الشيخ: اللهمَّ احجبه عني واحجبني عنه. قال: فلا أدري أين ذهب، قال: فلقيني رجلٌ، حسن الثياب، حسن الوجه، طيِّبُ الرائحة، فسلَّم علي وقال: لقيتَ في طريقك شيخًا من صفته كذا وكذا؟ قلت: نعم، فبكى، فقلت: أقسمتُ عليك بالله من ذاك الشيخ؟ فقال: أخي إلياس أرسلَهُ الله إليك ليعلِّمَكَ اسمَه الأعظم، قلت: فبالله من أنت؟ قال: أنا الخضرُ، - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) في (خ): وشبعت بقدر أربي، والمثبت من مناقب الأبرار 1/ 75، وتاريخ دمشق 2/ 375.

ذكر طرفٍ من أخباره: قال أبو نعيم الحافظ: حدثنا الغطريفي، حدثنا إسحاق بن دَيمُهر، حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا بشر بن المنذر قال: كنتُ إذا رأيتُ ابن أدهم كأنَّه ليس فيه روح، لو نفخَتْهُ الريحُ لسقط، قد اسودَّ، متدرع بعباءة (¬1). وروى أبو نعيم عن شقيق البلخي قال: قلتُ لإبراهيم: تركتَ مُلْكَ خراسان، فقال: ما تهنَّيت بالعيش إلَّا في بلاد الشام، أفرُّ بديني من شاهقٍ إلى شاهق، أو من جبلٍ إلى جبل، من يراني يقول: موسوس، من يراني يقول: هو حمال (¬2). وروى أبو نعيم بإسناده إلى إبراهيم بن بشار قال: كنت يومًا مارًّا مع إبراهيم بن أدهم في الصحراء، فأتينَا على قبرٍ مسنَّمٍ، فترحَّم عليه وبكى، فقلت: قبر من هذا؟ فقال: قبرُ حميد بن جابر أمير هذه المدن كلِّها، كان غريقًا في بحار الدنيا، فأنقذَه الله منها، ولقد بلغني أنَّهُ سر يومًا بشيء من الملاهي، فنام في مجلسه ذلك مع من يخصُّه مع أهله، فرأى في منامه رجلًا قائمًا على رأسه بيده كتاب، فناولَه إيَّاه، ففتحَه، فإذا فيه مكتوب بالذهب: لا تؤثرنَّ فانيًا على باق، ولا تغترنَّ بملكك وقدرتك وسلطانك، وخدمك وعبيدك، ولذَّاتك وشهواتك، فإنَّ الذي أنت فيه جسيم لولا أنَّك عديم، [وهو ملك] (¬3) لولا أنَّ بعدَه هُلك، وهو فرحٌ وسرور لولا أنَّ بعدَه غرور، وهو يوم لو كان يُوثَقُ له بِغَدٍ، وسارع إلى أمر الله تعالى، فإنَّ الله يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، فانتبه فزعًا وقال: هذا تنبيهٌ من الله عزَّ وجلَّ، وهو موعظة، فخرجَ من ملكه ولم يعلم به، وقصدَ هذا الجبل فتعبَّد فيه، فلمَّا بلغني حديثُه قصدته فسألتُه، فحدثني ببدوِّ أمره، وحدَّثته ببدوِّ أمري، وما زلتُ أقصدُه حتى مات، ودفن هاهنا، فهذا قبرُه رحمه الله تعالى (¬4). وروى أبو نعيم عن ابن بشار عن إبراهيم بن أدهم، وذكر بدايته وأنه سمع نداءً يقول ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 8/ 9، 27. (¬2) حلية الأولياء 7/ 369. ووقع في صفة الصفوة 4/ 155: جَّمال. (¬3) ما بين حاصرتين من حلية الأولياء 8/ 33. (¬4) حلية الأولياء 8/ 33.

له: ما لهذا، ما لهذا خلقت، ولا به أمرت، قال: فوصلتُ إلى العراق، فعملتُ به أيَّامًا، فلم يصفُ في منها، يعني العراق، فسألتُ بعض المشايخ، فقال لي: إن أردت الحلال فعليك ببلاد الشام، فسرتُ إلى مدينةٍ يُقالُ لها: المنصورة، وهي المصيصة، فعملتُ بها أيَّامًا، فلم يصفُ في شيءٌ من الحلال، فسألت بعض المشايخ فقال: إن أردتَ الحلال الصافي فعليك بطَرَسُوس؛ فإنَّ فيها المباحات والعملَ الكثير، فتوجَّهتُ إلى طَرَسُوس، فعملت أيَّامًا انظر البساتين، وأحصدُ مع الحصَّادين، فبينما أنا قاعدٌ على باب البحر جاءني رجلٌ فاكتراني أنظر بستانًا له، فكنتُ فيه أيَّامًا كثيرةً، فإذا بخادمٍ قد أقبلَ ومعه أصحابه، فقعدَ في مجلسه وصاح: يا ناظور، فقلت: هو ذا أنا، فقال: اذهب فأتني بأكبر رمانٍ تقدرُ عليه وأطيبه، فذهبتُ وأتيتُه بأكبر رمان، فأخذ الخادم رمانةً فكسرَها، فوجدَها حامضة، فقال: يا ناظور أنت في بستاننا منذ كذا وكذا، تأكل فاكهتنا ورمانَنا، لا تعرفُ الحلو من الحامض، قال إبراهيم: فقلت: والله ما أكلتُ من فاكهتكَ شيئًا، ولا أعرفُ الحلوَ من الحامض، فقال الخادم لأصحابه: أما تسمعون كلام هذا؟ أتراكَ لو أنَّك إبراهيم بن أدهم، زاد على هذا؟ فانصرف، فلمَّا كان من الغدِ ذكر صفتي في المسجد، فعرفني بعضُ الحاضرين، فجاء الخادم ومعه عنق من الناس، فلمَّا رأيتُهم اختفيتُ خلفَ الشجر، والناسُ داخلون، فاختلطتُ معهم وأنا هارب (¬1). وقرأتُ على شيخنا الموفق رحمه الله بإسناده عن إبراهيم بن بشار قال: ركبنا البحر مع إبراهيم بن أدهم، فبينما نحنُ نسير بريح طيِّبةٍ، وكانت مراكب كثيرة، فعصفت ريحٌ شديدةٌ على المراكب، فتقطَّعت، وإبراهيمُ ملفوف في عباءةٍ مستلق، فجاء أهلُ المركب إليه، فقالوا: ما ترى ما نحن فيه، وأنت مستلقٍ غير مكترث؟ ! فجلسَ وهو يقول: لا أفلحَ من لم يكن استعدَّ لمثل هذا اليوم، ثم حرَّك شفتيه، وإذا بهاتفٍ ينادي: من اللُّجَّة تخافون، وفيكم إبراهيمُ بن أدهم، أيُّها الريحُ والبحرُ الهائج، اسكنَا بإذن الله، فسكنَ البحرُ، وذهبت الريح حتى صار البحر كأنه دُفّ، يعني لوحًا من خشب. وفي رواية أنَّهم لَمَّا قالوا: ما ترى ما نحن فيه من الشدَّة، قال: ليس هذا بشدَّة، إنَّما الشدَّة الحاجة إلى الناس، ثم قال: اللهمَّ قد أريتنَا قدرتك فأرنَا عفوك. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 7/ 368 - 369.

وروى أبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري قال: مرَّ بعضُ الجند بإبراهيم وهو ينظرُ كرمًا، فقال له: ناولني من هذا العنب، فقال: ما أذنَ في صاحبُه فيه، فقلب السوط وجعل يقنِّعُ رأسَه، وإبراهيمُ يطأطئ رأسَه ويقول: اضرب رأسًا طالما عصى الله، فأعجز الرجل عنه ومضى (¬1). وفي رواية: فرآه رجلٌ يَعرِفُ إبراهيم، فقال للجندي: ويحكَ ما الذي صنعت، هذا إبراهيم بن أدهم، ترك ملْكَ خراسان، فنزلَ الجنديُّ عن فرسه، وجاءَ فوقع على قدمي إبراهيم يُقَبِّلهما ويبكي ويعتذر إليه، فقال له إبراهيم بن أدهم: الرأسُ الذي يحتاجُ اعتذارَك تركته ببلخ. وروى أبو نعيم عن عليِّ بن بكَّار قال: كنَّا جلوسًا يومًا بالمصيصة، وفينا ابن أدهم، فقدم رجلٌ من أهل خراسان، فقال: أيُّكم إبراهيم بن أدهم؟ فقلنا: هذا، فقال: إنَّ إخوتك قد بعثوني إليك، فلمَّا سمع بذكر إخوته قام وأخذ بيده فنحَّاه ناحيةً وقال: ما الذي جاء بك؟ فقال: أنا عبدك، ومعي فرس وبغلة وعشرةُ آلاف درهم، بعثَ بها إليك إخوتك، فقال: إن كنت صادقًا فأنت حرّ، وما معك لك، ولا تخبرن أحدًا، اذهب. فانصرف الرجل (¬2). وحكى ابن باكويه الشيرازي قال: كان إبراهيم بعسقلان جالسًا، فجاء خادم، فلمَّا رآه نزل من فرسه وجعل يقبِّل يدي إبراهيم وقدميه ويبكي، فقال له إبراهيم: ما الذي أقدمَك إلى هاهنا؟ قال: ماتَ بعض مواليك، وقد أتيتُك بميراثه ثلاثين ألف درهم، فقال: ما لكم ولاتِّباعي، فقال الخادم: قد تعنَّيتُ من بلخ إلى هاهنا، فاقبلها مني، فقال: إنْ كان ولا بد، فاقسمها ثلاثة أثلاث، ثلث لك ولعيالك (¬3)، وثلث لمساكين بلخ، وثلث لمساكين عسقلان، ففعل الخادم ذلك. وحكى ابن باكويه أيضًا عن أبي سليمان الداراني قال: صلَّى إبراهيم بن أدهم خمس عشرة صلاةً بوضوءٍ واحد. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 7/ 379. (¬2) حلية الأولياء 7/ 383. (¬3) في صفة الصفوة 4/ 156: ثلث لك لعنائك.

وحكى ابن باكويه عن عبد الله بن الفرج (¬1) العابد قال: اطَّلعت يومًا على إبراهيم بن أدهم وهو نائمٌ في بستان بالشام، وعندَ رأسه أفعى في فيها طاقةُ نرجس، وهي تروِّحُ عليه. وحكى القاضي أبو عبد الله الحسين بن نصر بن محمد بن خميس الموصلي في كتاب "مناقب الأبرار" طرفًا من أخبار ابن أدهم، فحكَى عن سهل بن عبد الله (¬2) قال: صحبتُ إبراهيم بن أدهم، فمرضت، وكان معه نفقة قد أخذها من نِظَارة البساتين، فأنفقها عليَّ، فنفدت، فاشتهيتُ شهوةً فباع حمارَه، واشترى في ما طلبت، فلمَّا تماثلتُ قلت: أين الحمار؟ قال: بعته، قلت: لم ذاك؟ قال: لأجل حاجتك التي أردت، قلت: فعلامَ أركب؟ قال: عنقي، فحملني ثلاثة منازل. وفي "المناقب" عن إبراهيم بن بشار قال: أسرينا ليلةً وليس معنا شيء، ولا لنا ما نفطرُ عليه، فرآني حزينًا مهمومًا، فقال: يا ابن بشار، لا تهتمّ، ماذا أنعمَ الله على الفقراء من الراحة في الدنيا والنعيم في الآخرة، وإنما يَسأل ويُحاسِب هؤلاء المساكين، أغنياء في الدنيا فقراء يوم القيامة، أعزَّة في الدنيا أذلَّة في الآخرة، لا تحزن، فرزقُ الله مضمون، وها هو سيأتيك عن قريب، نحن والله الذين تعجَّلنا الراحةَ في الدنيا لا نبالي على أي حالٍ أصبحنا من الدنيا وأمسينا إذا أطعنا الله، ثمَّ قال إلى صلاته، وإذا برجلٍ قد جاء بثمانية أرغفةٍ وتمرٍ كثير، فوضعَه بين أيدينا، وقال: كلوا يرحمكم الله، فسلَّم إبراهيم من صلاته وقال: كل يا مغموم، فدخلَ سائلٌ، فقال: أطعمونا لله، فاعطاهُ ثلاثةَ أرغفة، وأعطاني ثلاثة، وأخذ هو رغيفين، وقال: المواساةُ من أخلاق المؤمنين (¬3). قال: وقال ابن بشار: خرجتُ أنا وإبراهيم وأبو يوسف الغسولي نريدُ الإسكندرية، فمررنا بنهر الأردن، فقعدنَا في مكانٍ نستريحُ، وكان مع أبي يوسف كسيرات يابسة، فألقاها بين أيدينا، فأكلناها وحمدنا الله تعالى، وقام إبراهيم فدخلَ النهرَ فخاضه إلى ركبتيه، ثم سمَّى وشرب بكفيه ثلاثًا حتى روي، ثمّ خرجَ من النهر، فمدَّ رجليه وقعد وقال: لو علم الملوكُ وأبناء الملوك ما نحنُ فيه من لذيذ العيش لجالدونا عليه بالسيوف أيَّام الدنيا، أو أيام الحياة، لا نُسألُ عن حجّ ولا زكاة، قال: فقلت: طلبُوا الراحةَ ¬

_ (¬1) في (خ): عبد الله بن أبي الفرج. والتصويب من تاريخ دمشق 2/ 392، وصفة الصفوة 4/ 157. (¬2) في مناقب الأبرار: سهل بن إبراهيم. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 52 - 53.

والنعيم، فضلُّوا الطريقَ المستقيم، فنظرَ إليَّ، وتبسَّم وقال: من أين لك هذا الكلام (¬1)؟ وحكى في "المناقب" أيضًا عن إبراهيم أنَّه كان يقول: ما كانت لي قطُّ مؤنة على أصحابي إلَّا في شيءٍ وإحد، ما كنتُ أحسن أن أكري نفسي من الحصادين، فكانوا يكرونني ويأخذونَ الأجرةَ لهم (¬2). وحَكى أيضًا عن يزيد بن سفيان قال: كان إبراهيمُ قاعدًا شرقي دمشق (¬3)، فمرَّ به رجلٌ راكبٌ على بغلة، فقال: يا أبا إسحاق، إنَّ لي إليك لحاجة، قال: وما هي؟ إن أمكنني قضاؤها فعلت، فقال: إنَّ برد الشام لشديد، وإنِّي أريدُ أن أبدِّل ثوبيك هذين بثوبين جديدين، فقال له إبراهيم: إن كنت غنيًّا قبلتُ منك، وإنْ كنتَ فقيرًا لم أقبل منك، فقال: أنا والله كثير المال والضياع والعبيد والتجارات، فقال له إبراهيم: ألا أراكَ تغدو وتروح على بغلتك هذه؟ فقال: أعطي هذا، وآخذ من هذا، فقال له إبراهيم: فأنتَ فقير؛ لأنَّك تبتغي الزيادة، لا أقبلُ منك شيئًا. وحكى أيضًا في "المناقب" عن إسحاق بن فديك [حدثنا أبي] قال: خرجتُ أنا وإبراهيم نريدُ الغزو، فبينما نحن في الطريق إذ سمعنا جلبةَ، فإذا بإبراهيم بن صالح قد خرج إلى الصيد ومعه البُزاة والشواهين، ومعه الكلاب، ومعه جواريه مرخيات شعورهنَّ، متبرجات، فنظرتُ إليهنَّ، فقال لي إبراهيم: منه يا فديك، لا تنظر إليهنَّ، قذرات يحضن ويبلن ويتغوطن ويهرمن، واعمل للواتي لا يحضنَ ولا يبُلن ولا يهرمْن، عربًا أترابًا، كأنَّهن الياقوت والمرجان، قال: وانتهينا إلى الكروم والأعناب فقال: يا فديك: لا تنظر إلى المقطوع الممنوع، واعمل لغير المقطوع الممنوع، ثم دخلنا إلى صور، ونحن نريدُ الركوب في البحر للغزو، واجتمعنَا خمسةَ نفر، فقلنا: لا بدّ أن يأتيَ كلُّ واحدٍ بدينارين لأجل المركب، فتفرقنا وقصدَ إبراهيمُ خلاءً من الأرض، وصلَّى ركعتين، والتفتُّ فإذا ما ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 57. وليس فيه قوله: لا نُسأل عن حجّ ولا زكاة. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 68. (¬3) في مناقب الأبرار 1/ 53، وحلية الأولياء 7/ 393، وتا ريخ دمشق 2/ 371 من طريق أبي نعيم: في مشرفة بدمشق.

حولَه ذهب يقد، فأخذَ منه دينارين وقال: لا حاجةَ لي في سواهما (¬1). في "المناقب" أيضًا عن إبراهيم بن أدهم قال: كنتُ بالبيت المقدَّس، فبت ليلةً تحت الصخرة، فرأيتُ ملكيت قد نزلا من السماء، فقال أحدُهما للآخر: مَنْ هاهنا؟ فقال: إبراهيم بن أدهم، قال: ذاك الذي حطَّ الله درجة من درجاته، قال: ولم؟ قال: لأنَّه اشترى بالبصرة تمرًا، فوقعت تمرةٌ من تمر البقَّال على تمره، قال إبراهيم: فانتبهتُ فزعًا، وتجهَّزتُ إلى البصرة، واشتريتُ تمرًا من ذلك البقَّال، وألقيتُ على تمره من تمري واحدة، ثمَّ عُدت إلى البيت المقدَّس، فنمتُ تحت الصخرة في ذلك المكان، فلمَّا كان في الليل نزل الملكان، فقال أحدهما لصاحبه: مَنْ هاهنا؟ فقال: إبراهيم بن أدهم. قال: ذاكَ الذي ردَّ الله منزلتَه ورفع درجته؟ قال: نعم (¬2). وحكى في "المناقب" أيضًا عن بقيَّة بن الوليد قال: حدثني إبراهيم بن أدهم قال: تعلَّمتُ المعرفة من راهبٍ يسكنُ ديرَ سمعان (¬3)، أُخبِرتُ بصومعتِه، وقلت له: كم لك في هذه الصومعة؟ فقال: منذ سبعين سنة، قلت: فما طعامك؟ فقال: كل ليلة حمصة، قلت: وكيف تقيم صلبك؟ فقال: انظر إلى هذه الأديرة التي حولي، إنَّهم يأتون في السنة إلى صومعتي يومًا واحدًا، يزينونها ويعظمونها ويطوفون حولها، يجعلون ذلك اليوم عيدًا، فكلَّما ضعفت نفسي من الجوع ذكرتُ ذلك اليوم، فتقوى نفسي، فاحتمل أنت يا حنيفي تعبَ الساعة لعزِّ الأبد. قال: فوقرت المعرفةُ في قلبي، ثمَّ قال: اصبر ترى العجب، ثمَّ ألقى إلي عشرين حمصة، وقال: ادخل هذا الدير، وقل: هذه من قُوتِ الراهب، فإنَّهم قد أبصروني حين ألقيتُها إليك، قال: فأخذتُها ودخلتُ الدير، فقالوا: ما هذه؟ قلت: من قوت الراهب، قالوا: وما تصنع بها؟ نحن أحقُّ بها منك، فبعها منَّا، فبعتُ كل حمصة بدينار، ثمَّ رجعتُ إليه فأخبرتُه، فقال: يا حنيفي، أخطأت، لو طلبتَ منهم عشرين ألف دينار لأعطوك، ثم قال: يا حنيفي هذا عزُّ من لا يعبدُه، فكيف عزُّ من يعبده، قال: ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 53 - 54. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 55. (¬3) كذا في (خ). وفي مناقب الأبرار 1/ 63، وحلية الأولياء 8/ 29: تعلمت المعرفة من راهب يقال له: أبا سمعان.

فانصرفتُ وقد حصلت لي أشياء لم تحصل لي قبل ذلك. وحكى عنه في "المناقب" قال: رأيت في النوم جبريل قد نزلَ إلى الأرض، فقلت له: ما تصنع؟ فقال: أكتب أسامي المحبين، قلت: مثل من؟ قال: مثل مالك بْنِ دينار، وثابت البُناني، وأيوب السختياني، وعدَّ جماعةً، قلت: فهل أنا منهم؟ قال: لا. قال: فاكتبني تحتَهم: محب المحبين، فقال: إنَّ الله قد أمرني أن أكتبَك في أولهم (¬1). وحكى ابن باكويه الشيرازي عن إبراهيم بمعناها فقال: دخلتُ البصرة فإذا برجلٍ على باب الجامع يكتبُ شيئًا، قلت: ما تكتب؟ قال: أسامي المحبِّين في هذه البلدة، قال: فقلت: هل أنا منهم؟ قال: لا أدري، قلت: اكتب اسمي تحت أساميهم؛ كتب المحبين، قال: فرأيت الحق سبحانه وتعالى في المنام في تلك الليلة، فقال: يا إبراهيم قد غفرتُ لك بمحبَّتك للمحبِّين. وحكى عنه في "المناقب": لما سررتُ في أسفاري إلَّا ثلاثَ مرات؛ كنتُ في سفينةٍ وفيها رجل مضحاك، فكان يريدُ أن يضحك الجماعة، فيقول: كنَّا نأخذُ العلج من بلاد الترك هكذا، ويأخذُ من شعر لحيتي، ويهزُّ رأسي؛ لأنَّه ما رأى أحقر مني. والثانية: كنتُ مريضًا في مسجد، فدخلَ المؤذِّنُ فقال: قم واخرج، فلم أقدر على القيام، فجرَّ برجلي وأخرجني من المسجد. وفي رواية: لَمَّا جرَّ برجلي دخلت شظيَّةٌ من البارِيَّة في عيني فألقاني على بابٍ المسجد، وكانت ليلةً مظلمة، والثلج ينزل، فنمتُ، وقد عاينت (¬2) من عيني شدَّة، فرأيت الحق سبحانه في منامي، فقال: يا ابن أدهم أكلُّ هذا فيَّ؟ تمنَّ عليّ؟ فقلت: يا إلهي، اغفر لقيِّم المسجد. يعني حيث كان هو السبب في كوني أراك. والثالثة: كان عليَّ بالشام فروةٌ، فنظرتُ يومًا، فلم أميِّز بين شعرِ الفروة والقَمْل (¬3). وحكى عن إبراهيم بن بشار قال: كنَّا إذا سافرنا مع إبراهيم بن أدهم نأخذُ الرُّطَبَ من شجر البلوط (¬4). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 66 - 67. (¬2) كذا في (خ). (¬3) مناقب الأبرار 1/ 69. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 71.

وحكى أيضًا في "المناقب" عن محمد بن المبارك الصوريّ قال: كنتُ مع إبراهيم في طريق بيت المقدس، فنزلنا وقت القيلولة تحت شجرةِ رمَّان، فسمعتُ صوتًا من الشجرة يقول: يا أبا إسحاق، أكرمنا بأن تأكلَ منَّا شيئًا، فطأطا إبراهيمُ رأسَه، فعاد ذلك الصوتُ ثانيًا وثالثًا، ثم ناداني الصوتُ: يا محمد، كن شفيعنا إليه ليتناول منَّا شيئًا، فقلت: يا أبا إسحاق قد سمعت، فقام ثمَّ أخذ رمَّانتين، فأعطاني واحدة، وأخذ هو واحدة، فأكلتُها وهي حامضة، فكانت شجرةً قصيرةً، فلمَّا عُدنا من الزيارة إذا بها قد طالت وارتفعت، وحسنت وحلا رمانها، وصارت تحملُ في كلِّ سنةٍ مرتين، فكانوا يسمونها شجرة العارفين (¬1). وحكى في "المناقب" عن حذيفة المرعشي قال: صحبتُ إبراهيم بن أدهم في طريق مكة وكان يصلِّي عند كل ميلٍ ركعتين، ثمَّ دخلنا الكوفة، فأوينَا إلى مسجد خراب، فنظر إليَّ وقال: يا حذيفة، أرى بك أثرَ الجوع؟ قلت: نعم. فقال: ائتني بدواةٍ وبياض، فأتيتُه بها، فكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أنتَ المقصودُ بكلِّ حال، والمشارُ إليه بكلِّ معنى، وكتب هذه الأبيات: [من الكامل] أنا حامدٌ أنا ذاكرٌ أنا شاكر ... أنا جائع أنا قانعٌ أنا عارِي هي ستةٌ وأنا الضمينُ لنصفها ... فكن الضمينَ لنصفِها يا جارِي مدحِي لغيرِكَ لَهْبُ نارٍ خضتها (¬2) ... فأجز عبيدَك من دخولِ النارِ ثم دفع إليَّ الورقةَ وقال: لا تعلِّق سرَّكَ بغير الله، واخرج فنَاولها أولَ من تلقاه، قال: فخرجتُ وإذا برجلٍ راكب على بغلة، فناولتُه إيَّاها، فقرأها وبكى وقال: أين صاحب هذه الرقعة؟ قلتُ: في المسجد الفلاني، فأخرجَ صُرَّةً من كمِّه فيها دنانير كثيرة، فدفعَها إليَّ (¬3)، فجئتُ إلى إبراهيم فأخبرته، فقال: لا تمسّها فالساعة يأتي، فما كان بأسرع من أن أتى الرجل، فدخلَ المسجد، فقبَّل قدمَي إبراهيم وبكى وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وحَسُنَ إسلامُه، وأنفقَ ماله على الفقراء، وكان رئيسَ البلد، وصحب إبراهيم بن أدهم (¬4). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 72. (¬2) في مناقب الأبرار 1/ 73: خفتها. (¬3) بعدها في مناقب الأبرار 1/ 73، وحلية الأولياء 8/ 38: فسألت عنه فقيل: هو نصراني. (¬4) في (خ): أحمد. والتصويب من حلية الأولياء 8/ 38، وتاريخ دمشق 2/ 398 (مخطوط).

وحكى في "المناقب" عن أبي عمير بن عبد الباقي قال: حصدَ إبراهيمُ بأذنة بعشرين دينارًا، فدخل أذنة ومعه صاحبٌ له، فأراد إبراهيم أن يحلقَ رأسه ويحتجم، فجاء إلى الحجام، فجلسَ بين يديه، فلما رآه الحجام حقره وقال: ما في الدنيا أبغضُ إلي من هؤلاء، ما وجدوا غيري، فحلق رأسَ جماعة وحجمهم، وتهاون بإبراهيم وصاحبه، وإبراهيم ساكت، فلمَّا لم يبق عنده أحد التفتَ إليهما وقال: ما تريدان مني؟ فقال إبراهيم: أحتجم وأحلق رأسي، وقال صاحبه: أمَّا أنا فلا أحتجمُ ولا أحلق رأسي؛ مِمَّا رأى من تهاونِ الحجَّام بهما، فحجمَ إبراهيم وحلقَه، فلمَّا فرغَ قال لصاحبه: ادفع إليه الدنانير، فقال له: حصدت وتعبتَ في الحر، وتعطي هذا الجلف (¬1) الجافي الذي أهاننا وفعل بنا ما فعل عشرين دينارًا؟ فقال له إبراهيم: اسكت، تركتُه لا يحتقرُ أحدًا من الفقراء بعدها. ثم دخل طَرَسُوس، فقال لصاحبه: خذ من هذه الكتب فارهنها على ما نأكل، فخرجَ صاحبه، وإذا بخادمين بين أيديهما جَمَّازات وخيلٌ وبغال، عليها صناديق فيها أقمشةٌ وستون ألف دينار، وخادم يقول: الذي أبغيه أشقر أحمر، يقال له: إبراهيم بن أدهم، فدلَّه صاحبه عليه، فلمَّا رآه بكى وقال: صرتَ حصَّادًا بعد ملك خراسان، حتى أفضى بك الحال إلى هذا؟ ! فقال له إبراهيم: ما وراءك؟ فقال: مات الشيخ والدك، فقال له إبراهيم: موته يأتي على كل ما أتيتَ به، فما الذي تريد؟ فقال. أنا عبدك، ولَمَّا مات الشيخ ركب كل واحدٍ من إخوتك هواه، وأخذَ كلُّ واحدٍ من المملكة ما قدر عليه، وأخذت أنا ما ترى، وجئتُ أقيمُ عندكَ في الثغر بعد أن سألتُ العلماء، فقالوا: ما يقبل الله منك صرفًا ولا عدلًا، حتَّى ترجعَ إلى مولاك فيحكم فيك، وفيما معك بما أحب، فقال له إبراهيم: إن كنت صادقًا فأنت حرٌّ لوجه الله، وكلُّ ما معك فهو لك، قم واخرج عنِّي، ثمَّ التفتَ إلى صاحبه فقال: رهنت تلك الكتيبات؟ فقال: نعم. فأخضَرَ ما رَهنَها عليه، فأكل. وحكى في "المناقب" عن إبراهيم بن أدهم أنَّه قال: بتُّ (¬2) ليلةً في المسجد الحرام، ¬

_ (¬1) في (خ): الحنف. ولعل المثبت هو الصواب. وانظر الخبر في مناقب الأبرار 1/ 76 - 77، وتاريخ دمشق 2/ 388 (مخطوط). (¬2) في مناقب الأبرار 1/ 80: طفت.

وكانت ليلةً مطيرةً مظلمة قد خلا الطواف، وطابت نفسي، فوقفت عند الملتزم وقلت: اللهمَّ اعصمني حتَّى لا أعصيك، فهتف بي هاتفٌ: يا إبراهيم، أنت تسألُني العصمةَ، وكلُّ عبادي يسألونها، فإذا عصمتكم، فعلى من أتفضَّل، ولمن أغفر؟ فبتُّ ليلتي أستغفرُ الله إلى الصباح حياءً من الله تعالى. وحكى ابن باكويه الشيرازيّ عن شقيق البلخي قال: قال لي إبراهيم: إنَّه لم ينبُل عندهم أو عندنا من نبل بحجٍّ ولا جهاد، إنَّما نُبْلُ من نَبُل من كان يعقلُ ما يدخلُ جوفه، يعني الرغيفين. يا شقيق، ماذا أنعمَ الله على الفقراء، فبكى شقيق وقال: أتعجَّبُ من سماءٍ يسقي غيثُها بلدًا ظَعَنتَ منه، وبؤسًا لقوم أنت فيهم كيف لا يستسقونَ بك. وكان شقيق يأخذُ كفَّ إبراهيم ويقبِّلُها ويرفعُها إلى السماء ويقول: بحرمةِ صاحب هذا الكف عندك، وبالسرِّ الذي وجدَه منك، جُد على عبدك الفقير بفضلك، وإنْ لم يستحقَ ذلك. وحكى جعفر بن أحمد السراج عن إبراهيم قال: طابَ قلبي يومًا مع الله تعالى، وتذكرتُ حسنَ صنيعة ربِّي، فقلت: إلهي إن كنتَ أعطيتَ أحدًا من المحبين لك (¬1) ما تسكنُ به قلوبهم قبل لقائِكَ، فأعطني، فقد أضرَّ بي القلق، قال: فرأيتُ الحقَّ سبحانه وتعالى في منامي، فقال: يا إبراهيم، أما استحييت منّي تسألُني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي؟ وهل يسكنُ قلبُ المحبِّ إلى غير حبيبه؟ أم هل يستريحُ المشتاقُ إلا إلى من اشتاقَ إليه؟ فقلت: يا رب، تهتُ في حبِّك، فما أدري ما أقول. وحكى ابن أبي الدنيا عن خلف بن تميم قال: كنتُ مع إبراهيم في سفر، فقطعَ السبعُ الطريقَ على القافلة، فقال الناس: يا أبا إسحاق، الأسد، فجاء إليه فقال: يا أبا الحارث، إن كنتَ أُمرتَ فينا بشيءٍ فامض إلى ما أُمرتَ به، وإلا فتنحّ عن الطريق، فولَّى الأسد وهو يُهمهم. وحكى عن شعيب بن حرب قال: خرجتُ من الكوفة مع سفيان الثوريّ نريدُ زيارة إبراهيم بن أدهم، ولم نطعم قبلَ ذلك بثلاثة أيام، فسألنا عن إبراهيم، فدلُّونا عليه، فأتيناه وهو بالمصيصة في الجامع في مشرفةٍ، ورأسُه في ريقه (¬2)، فحركته وقلت: ¬

_ (¬1) في (خ): له، والمثبت من صفة الصفوة 4/ 158. (¬2) كذا، وفي مناقب الأبرار 1/ 78: وهو نائم في الشمس في وسط الجامع في زُرْناقته.

أخوك سفيان جاء إلى زيارتك، فقام وسلَّم عليه واعتنقا وجلسا يتذاكران، ثمَّ قام وقمنا معه، فأكرينا نفوسَنا في الحصاد؛ كلُّ واحدٍ بدرهم، وأكرى إبراهيمُ نفسه بثلثي درهم، فلما كان عند المساء قال سفيان: امضِ واشتر لنا ما نفطرُ عليه، قال: فاشتريتُ لهم طعامًا، فلمَّا صلَينا العشاء قال سفيان لإبراهيم: كل، فقال إبراهيم: لا، بل أنت كل، فأنت أعلمُ منِّي وأكبر فما أتقدمك، فقال سفيان: إنَّا قد حصدنا وأجهدنَا أنفسنا، فقال إبراهيم: فهل تضمنُ أنَّا نصحناه؟ (¬1) فقال سفيان: لا أدري، فقال إبراهيم: لا حاجةَ في فيه، فقال سفيان: ولا أنا أرغبُ فيما زهدتَ فيه، فتصدَّقنا بالطعام، وبتنَا طاويين. وحكى ابنُ باكويه الشيرازي عن ابن بشار قال: حدَّثني إبراهيم بن أدهم قال: مررتُ في بعض بلادِ الشام في بعض الجبال، وإذا بحجرٍ مكتوب عليه نقشٌ بالعربية بَيِّن: [من مجزوء الخفيف] كلُّ حيٍّ وإن بقي ... فمنَ العمرِ يستقِي فاعمل اليوم واجتهد ... واحذر الموتَ يا شقِي فبينا أنا واقفٌ أقرأ وأبكي إذ أتاني رجلٌ أشعث أغبر، عليه مِدرَعَةٌ من شعر، فسلَّم عليَّ فرددتُ عليه، فقال: ما يبكيك؟ قلت: قرأتُ هذين البيتين فبكيت، فقال: وأنت لا تتعظ حتى توعظ؟ سر معي حتى أريك غيره، فمضيتُ معه غير بعيد وإذا بصخرةٍ عظيمةٍ شبه المحراب، فقال: اقرأ وابك ولا تقصر، ثمَّ قام يصلِّي وتركني، وإذا في أعلاها نقش عربي. [من الكامل] لا تبتغي جاهًا وجاهُك ساقطٌ ... عند المليكِ وكنْ لجاهكَ مصلحا وفي الجانب الأيمن مكتوب: [من مجزوء البسيط] من لم يثق بالقضاءِ والقدر ... لاقى أمورًا كثيرةَ الضرر وعلى الجانب الأيسر مكتوب: ما أزين التُّقى وأقبحَ (¬2) الخنا، وكل مأخوذٌ بما جنى، وعند الله الجزاء. ¬

_ (¬1) قائله كما في مناقب الأبرار 1/ 79: سفيان. (¬2) في حلية الأولياء 8/ 12، وتاريخ دمشق 2/ 404: وما أقبح.

وفي أسفلها مكتوب: [من مجزوء الخفيف] إنما الفوزُ والغنى ... في تقى الله والعملْ ثم التفتُّ فلم أره، فلا أدري مضَى أو حُجِب عني. وحكى ابن باكويه عن ابن بشار قال: سمعتُ إبراهيم ينشد: [من البسيط] أرى أناسًا بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضُوا بالعيشةِ الدونِ فاستغنِ بالله عن دنيا الملوكِ كما ... استغنى الملوك بدنياهُم عن الدِّينِ ذكر نبذةٍ من كلامه: حكى في "المناقب" عن ابن بشار قال: دخلتُ على إبراهيم وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: بؤسًا لأهل النار، لو نظروا إلى زوَّارِ الرحمن، وقد حُمِلوا على نجائب مرحَّلة بالدرِّ والياقوت والمرجان، يزفُّون إلى الله زفَّا، وقد نُصبت لهم المنابر، ووُضعت لهم الكراسي، وأقبلَ عليهم الجليل بوجهِه الكريم يقول: إليَّ إليَّ يا عبادي المطيعين، إليَّ إليَّ يا أوليائي المشتاقين، إليَّ إليَّ يا أحبائي المقرَّبين وأصفيائي الصادقين، ها أنا ذا فاعرفوني، من كان منكم مشتاقًا فليتمتَّع بالنظر إلى وجهي، فوعزَّتي وجلالي لأفرحنكم بجِواري، ولأونسنَّكم بقربي، ولأبيحنَّكم دارَ كرامتي، من الغرفات تشرفون، وعلى الأسرَّة تتكئون، مقيمون لا تظعنون، آمنينَ لا تخافون ولا تحزنون، تصحُّون لا تسقمُون، وللنعيم لا تسأمون، كلُوا واشربُوا هنيئًا بما كنتم تعملون (¬1). وقال ابن بشار: سُئِل إبراهيم: لم حُجِبت القلوبُ عن علَّام الغيوب؟ فقال: لأنَّها أحبَّت ما أبغضَ الله، وآثرت دارَ الغرور، وتركتِ العملَ لدار فيها حياةُ الأبد في نعيم لا يزول ولا ينفد. قال: وقال: من ذلَّل نفسَه رفعَه مولاه، ومن اتَّقاه وقاه، ومن أطاعه نجَّاه، ومن أقبل عليه أرضَاه، ومن توكَّل عليه كفاه، ومن سألَه أعطاه، ومن شَكرهُ جازاه. قال: وقيل له: أنت عبدٌ؟ قال: نعم، قال: لمن؟ فلمَّا أراد أن يقول غُشي عليه، فلمَّا أفاق قال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} الآية [مريم: 93]. ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 79.

وقال ابن بشار: سمعتُ إبراهيم بن أدهم يقول: ليسَ من علامة المحبَّة أن نحبَّ ما أبغضَ حبيبُنا، إنَّ مولانا ذمَّ الدنيا فمدحناها، وزهَّدنا فيها فآثرنَاها، ونهانا عنها فطلبنَاها، دعتكُم دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، تتقلَّبون في شهواتها، وتتلوَّثون بتبِعاتها [تبنون] بالغفلة مساكنَها، وتعمرونَ بها مواطنها، أتطمعونَ في مجاورةِ الحقّ سبحانَه في دارِه التي دَوَّرها لأوليائه، وتأملون أن تحطُّوا رحالكم في منازل قربه، وأنتم غرقَى في بحار الدنيا، قتلى بسيوف الطمع والهوى، مِنْ جَفعِها ما تشبعون، ومن التنافسِ عليها ما تملُّون (¬1). وقال: أطبْ مطعمَك، ولا عليك أنْ [لا] (¬2) تقومَ الليل وتصومَ النهار. وقال ابنُ بشار: وقال له رجل: أوصني، فقال: اعلم أنَّك لن تنال درجةَ القوم حتى تجوز ستَّ عقاب: تُغلق باب النعمة، وتفتح باب الشدَّة، وتُغلق باب العز، وتفتح باب الذلّ، وتغلق باب الرَّاحة، وتفتح باب الجهد والعناء، وتغلق باب النوم، وتفتح باب السهر، وتغلق باب الغنى، وتفتح باب الفقر، وتغلق باب الأمل، وتفتح باب الاستعداد للأجل (¬3). قال: ومرَّ إبراهيمُ بسوق البصرة، فقام إليه النالس فقالوا: يا أبا إسحاق، اللهُ تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ونحن ندعوه فلا يستجاب لنا، فقال: قد ماتت قلوبكم بعشرة أشياء: أحدها: أنَّكم ادعيتم معرفةَ الله ولم تؤدُّوا حقَّه. والثاني: قرأتم كتابه ولم تعملوا به. والثالث: ادَّعيتُم طاعةَ رسوله (¬4)، وتركتم سنته. والرابع: أنَّكم ادعيتم عداوة الشيطان، ووافقتموه. والخامس: أنَّكم تيقنتم الجنَّة، ولم تعملوا لها. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 8/ 24، ومناقب الأبرار 1/ 61، وما بين حاصرتين منهما. (¬2) ما بين حاصرتين من حلية الأولياء 8/ 31، ومناقب الأبرار 1/ 52. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 52. (¬4) في حلية الأولياء 8/ 16، ومناقب الأبرار 1/ 55: ادعيتم حبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

والسادس: ادَّعيتم أنَّكم تخافونَ من النار، وألقيتم نفوسَكم فيها. والسابع: علمتم أنَّ الموتَ حقّ، ولم تستعدوا له. والثامن: اشتغلتُم بعيوب إخوانكم، ونبذتم عيوبَ أنفسكم. والتاسع: أكلتُم نعمةَ ربكم، ولم تشكروه. والعاشر: دفنتُم موتاكم ولم تعتبروا. وقال ابن بشار: كان إبراهيمُ يتمثل دائمًا بهذين البيتين: [من البسيط] ولقمةٌ بجريشِ الملح آكلها ... ألذ من تمرة تُحشَى بزنبُورِ (¬1) كم لقمةٍ جلبتْ حتفًا لصاحِبِها ... كحبَّةِ القمحِ دَقَّت عُنْقَ عصفورِ قال: وقال: إن أدمنتَ النظرَ في مرآة التوبة بانَ لك قبيحُ المعصية. قال: وقال: من أحبَّ أن يكونَ وليًّا لله فليدعِ الدُّنيا والآخرة. وكتب إليه الأوزاعيُّ: إنِّي أريدُ أن أصحبَك، فكتبَ إليه إبراهيم: الطيرُ إذا طارَ مع غير شكلِه من الطيور طار وتركه. قال: وقال: إن الصائمَ القائمَ الحاجَّ المعتمر مَنْ أغنى نفسَه عن الناس. قال: وقال: أعربنَا الكلامَ فما نلحن، ولحنَّا في الأعمالِ فما نُعرِب. قال: وقيل له: اللحمُ قد غلا، فقال: أرخصُوه. وصحبَه رجل، فلمَّا أراد أن يفارقَه قال له: يا أبا إسحاق، هل وجدتَ فيَّ عيبًا؟ فقال له إبراهيم: إنِّي لحظتُك بعين الوداد، فاستحسنتُ كلَّ ما بدا منك، فسل غيري عن عيبك. ذكر وفاته: واختلفوا فيها فقال الواقدي: مات سنة ستين ومئة، وقال البخاريُّ: سنة إحدى وستين ومئة. واختلفوا في أيِّ مكانٍ توفي، فروى الحافظُ ابن عساكر عن أبي عبد الله الجُوْزَجاني رفيق إبراهيم بن أدهم قال: مرضَ ونحن في بعض الجزائر، فقال: أروني القوسَ، ¬

_ (¬1) المراد بالزنبور هنا التين الحلواني. انظر القاموس (زنبر).

فقبضَ عليها ومات، فدفنَّاه في بعض جزائر البحر في الروم (¬1). قال: وقال البخاري: دُفِنَ في بلاد الروم عند حصن يقال له: سوس (¬2). قال: وقال الربيع بن نافع: دفَن بساحل البحر، وقيل: إنه توفي بجزيرةٍ من جزائر البحر، وحمل إلى صور، فدفن بمكانٍ يقال له: مدفلة. قلت: وقد رأيتُ بجبلة قبرًا يقال: إنَّه قبرُه، وهو ظاهرٌ يزار. أسند إبراهيم عن قتادة وأبي إسحاق السبيعي، وأبي حازم، والثوريّ، والفضيل بن عياض، ومالك بن أنس (¬3)، ومالك بن دينار، والأعمش، ومقاتل بن حيَّان وغيرهم، وإنما قلَّت روايات ابن أدهم؛ لأنَّه شغلته العبادةُ وطلبُه الحلال، والتدقيقُ في باب الورع عن ذلك. ومن رواياتِه عن قتادة قال: بلغني أنَّه كان في بني إسرائيل رجلٌ ذبحَ عجلًا بين يدي أمِّه، فأيبسَ الله يده، فبينما هو ذات يومٍ جالسٌ إذ سقط فرخٌ من وكره وهو يبصبص إلى أبويه، وهما يبصبصان (¬4) عليه، فأخذَه فردَّه إلى وكره رحمةً له، فرحمه الله، وردَّ عليه يديه (¬5) رحمةً له بما صنع. وقال الحافظ ابن عساكر: روي عن الشافعيِّ أنَّه قال: كان سفيان معجبًا بإبراهيم بن أدهم، وكان إذا ذكره قال: أجاعتهم الدنيا فجاعوا، وخافُوا من النار فأمنوا، ثم ينشدُ يقول: [من الطويل] أجاعتهم الدُّنيا فجاعُوا ولم يَزلْ ... كذاك أخو التَّقوى عن العيش مُلْجَما أخو طيّئ داود منهم ومسعر ... ومنهم وهيبٌ والغريب (¬6) ابن أدهمَا أولئك أصحابي وأهلُ مودَّتي ... فصلَّى عليهم ذو الجلال وسلَّما انتهت ترجمته رحمة الله عليه. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 408 (مخطوط). (¬2) في تاريخ دمشق 2/ 408، وتهذيب الكمال: ودفن بسوقين، حصن ببلاد الروم. (¬3) لم أقف على من ذكر له رواية عن مالك بن أنس. (¬4) في شعب الإيمان (10571) - طبعة مكتبة الرشيد-: يتبصبص ... يتبصبصان. (¬5) كذا في (خ). وفي شعب الإيمان: يده. (¬6) في تاريخ دمشق 2/ 408 (مخطوط): والعريب.

الحسن بن عجلان

الحسن بن عجلان أبو سعيد الجُفْري، أحدُ الأبدال. رَوى أبو نعيم عن أبي عمران التمَّار قال: غدوتُ ليلةً قبل الفجر إلى مسجد الجُفْري، وإذا باب المسجد مغلق، وسمعتُ ضجَّةً في المسجد وجماعةً يؤمنون على دعائه، ثم هدأت الضجَّة، وفَتحَ الباب، فدخلتُ فلم أر أحدًا، فلما طلعَ الفجر وصلَّى بالناس وتفرَّقوا، قلت له: يا أبا سعيد، إني رأيت عجبًا، وسمعت عجبًا، فقال: ما رأيت وما سمعت؟ فأخبرته قال: أولئك جنُّ نصيبين يأتون إلى هاهنا، فيشهدون ختمَ القرآن في كل ليلة جمعة (¬1). وروى الحسن عن أبي الزبير وثابت البُناني وغيرهما (¬2). زمعة بنُ صالح المكِيّ من الطبقة الرابعة من أهل مكَّة، وكان من العبَّاد. قال ابن أبي الدنيا بإسناده إلى القاسم بن راشد الشيباني قال: كان زمعةُ عندنا نازلًا، وكان له أهل وبنات، وكان يقومُ الليل فيصلِّي ليلًا طويلًا، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: يا أيها الركب المعرسون ... أكل هذا الليل ترقدون ألا تقومون فترحلون قال: فيتواثب الناس من كلِّ ناحيةٍ، فمن هنا باك، ومن هنا داع، ومن هنا قارئ، ومن هنا متوضِّئ، فإذا طلعَ الصباح نادى بأعلى صوته: [من الرجز] عند الصباحِ يَحمدُ القومُ السُّرى (¬3) أسندَ زمعةُ عن ابنِ طاوس وغيره، ورَوى عنه وكيع (¬4). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 10/ 139 - 140، والمنتظم 8/ 242. (¬2) انظر ترجمته أيضًا في تهذيب الكمال 6/ 73 وغيره. (¬3) صفة الصفوة 2/ 229 - 230، والمنتظم 8/ 242 - 243. وانظر الرجز في مجمع الأمثال 3/ 2، فقد نقل عن المفضل أن أول من قال ذلك خالد بن الوليد - رضي الله عنه -. (¬4) انظر ترجمته أيضًا في تهذيب الكمال 9/ 386.

شعبة بن الحجاج بن ورد

شعبةُ بن الحجاج بن ورد ولد بواسط سنة ثلاثٍ وثمانين، ونشأ بها، ثمَّ انتقلَ إلى البصرة. ذكرهُ ابنُ سعد في الطبقة الخامسة من أهل البصرة وقال: هو من الأزد، وكان شعبة أكبر من سفيان بعشر سنين، وكان ثقةً مأمونًا، صاحب حديث، وهو من الأزد، مولى للأَشاقر مولى عِتَاقة، ويكنى أبا بسطام، وتوفي شعبة في سنة ستين ومئة بالبصرة، وهو ابنُ خمس وسبعين سنة. قال: وقالت لي أمي: ها هنا امرأةٌ تحدِّثُ عن عائشة، فاذهبْ فاسمع منها، فذهبت فسمعتُ منها. وهذا قول ابن سعد (¬1). وذكره الخطيب فقال: شعبةُ بن الحجاج العتكيُّ مولاهم، واسطيّ الأصل، بصريُّ الدار. كان يصوم الدهر، ولقد عبدَ الله حتى جفَّ جلده على عظمه (¬2). وكان المهديُّ يحترمُه، وسمع منه أحاديث. قال: وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلتُ على شعبة في وقتٍ قطّ إلَّا رأيتُه يصلي. قال: وكانت ثيابُه تساوي عشرةَ دراهم، إزارُه وقميصُه ورداؤه، وكان كثيرَ الصدقة (¬3). وقال الخطيب عن قُراد أبي نوح قال: رأى عليَّ شعبةُ قميصًا فقال: بكم اشتريتَ هذا؟ قلت: بثمانية دراهم، فقال: هلَّا اشتريت قميصًا بأربعة دراهم، وتصدَّقت بأربعة (¬4). وقال الأصمعيُّ: كان زاهدًا عابدًا عالمًا، لم يكن في زمانه أعلمَ منه بأشعار العرب. وقال الخطيب: وهبَ المهديُّ لشعبةَ ثلاثين ألف درهم، فقسمها، وأقطعَهُ ألفَ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 280 - 290. (¬2) انظر تاريخ بغداد 10/ 353، 363. (¬3) تاريخ بغداد 10/ 361. (¬4) تاريخ بغداد 10/ 362.

عبد الرحمن بن عبد الله

جَريب بالبَصرة، فلم يجد شيئًا يطيبُ منها، فتركَها (¬1). وقال الخطيب: قدم شعبةُ بغداد مرتين، وحدَّث بها، وكان قدومُه إليها بسبب أخٍ له حُبِس بدَين كان عليه، فقال سفيان الثوري: هو ذا شعبة قد جاء إليهم، فبلغ شعبة فقال: هو لم يحبس أخوه، وأمروا له بشيءٍ فلم يأخذه حتى مات (¬2). وكان الثوري يقول: شعبةُ أستاذنا، وهو أميرُ المؤمنين الصغير في الحديث. فقال الخطيب: خرجَ الليثُ بن سعد يومًا، فقوَّموا ثيابَه ودابَّته وخاتمَه وما كان عليه بثمانية عشر درهمًا درهم إلى عشرين ألفًا (¬3)، وخرج شعبة يومًا، فقوَّموا ثيابه وحماره وسرجَه ولجامَه ستَّةَ عشر درهمًا (¬4). قال: وكان شعبة يسمَّى إمامَ المتقين (¬5). وقال الثوريّ: ما رأيتُ أورعَ من شعبة، كان إذا شكَّ في الحديث تركه. وقال ابن المبارك: كنتُ عند سفيان الثوري، فجاءه نعيُ شعبة، فقاك: اليوم مات الحديث (¬6). عبد الرحمن بن عبد الله ابن عُتبة بن عبد الله بن مَسْعود الهُذَليّ. ذكره ابنُ سعد في الطبقة الخامسة من أهل الكوفة، قال: ويقال له: المَسْعوديّ. ماتَ ببغداد، وكان كثيرَ الحديث، إلا أنَّه اختلطَ في آخر زمانه (¬7). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 355. (¬2) تاريخ بغداد 10/ 354. (¬3) كذا في (خ). وفي تاريخ بغداد 10/ 362: ثمانية عشر ألف درهم إلى عشرين ألفًا. (¬4) في تاريخ بغداد 10/ 362: ثمانية عشر درهمًا إلى عشرين درهمًا. وفيه أن حمار شعبة وسرجه ولجامه وثياب بدنه وخفه ونعله بيعت بستة عشر درهمًا. (¬5) سماه بذلك يحيى بن معين. انظر تاريخ بغداد 10/ 363. (¬6) تاريخ بغداد 10/ 366 - 367. (¬7) طبقات ابن سعد 8/ 486.

السنة الحادية والستون بعد المئة

السنة الحادية والستون بعد المئة فيها خرجَ المقنَّع الخارجي بخراسان -واسمه حكيم- بقريةٍ من قرى مرو، وكان يقولُ بتناسخ الأرواح، فاستغوَى خلقًا كثيرًا، واستفحلَ أمرُه، وسار إلى ما وراء النهر، فبعثَ المهديُّ لقتاله جماعةً من القوَّاد، فيهم معاذ بن مسلم، وكان على خراسان، وعقبة بن مسلم، وجبريل بن يحيى، وليث مولى المهدي، وقدَّم المهدي سعيدَ الحَرَشيّ على الجميع، فتحصَّن المقنَّع بقلعة بِكَشٍّ، وعنده ما يحتاجُ إليه من الميرةِ والطعام. وفيها أمر المهديُّ ببناء القصور التي كانت بطريق مكَّة في القادسية وزُبالة وغيرهما، وأقام المنار، واتخذَ المصانعَ في كل منهل، وجدَّد البرك، وحفر الركايا، وولَّى ذلك أبا موسى بن موسى وأخاه. وأمرَ المهديُّ ببناء (¬1) جامع البصرة، وزادَ فيه مِمَّا يلي القبلة، وعن يمينه ممَّا يلي رَحبة بني سُليم، وولّى عمارةَ ذلك محمد بن سليمان، وهو يومئذٍ والي البصرة. وفيها أمرَ المهديُّ بنزعِ المقاصير من مساجد الجماعات، وتقصيرِ المنابر، وتصييرها إلى المقدارِ الذي كان عليه منبرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتبَ بذلك إلى الآفاق، فعَمِلوا به. وفيها زاد المهدي في المسجد الحرام ومسجد المدينة. وحجَّ بالناس موسى بن المهدي، وهو وليُّ عهد أبيه. وكان العامل على مكَّة والطائف واليمامة جعفر بن سليمان، وعلى اليمن علي بن سليمان، وعلى الكوفة إسحاق بن الصبَّاح (¬2). وفيها توفي أبو دُلامة الشاعر الكوفي، مولى بني أسد. ¬

_ (¬1) أي بالزيادة فيه. انظر تاريخ الطبري 8/ 136، والمنتظم 8/ 248. (¬2) انظر تاريخ الطبري 8/ 141، والمنتظم 8/ 251.

واختلفوا في اسمه، والمشهور زند بنون، وأبوه اسمه الجون. وقيل: اسم أبي دلامة زيد، بباء (¬1). وكان عبدًا مولدًا حبشيًّا، [لرجل] (¬2) من أهل الرقة، يقال له قُصاقص بن لاحق الأسدي. وكان فصيحًا خليعًا ماجنًا، ولم يكن له في دولة بني أمية ذكرٌ، فلمَّا ظهرت دولة بني العباس انقطعَ إلى أبي العباس وأبي جعفر والمهدي، فكانوا يقدِّمونَه ويستظرفون نوادره. ذكر طرف من أخباره: روى الخطيب عن الأصمعي قال: أمر المنصور أبا دُلَامة بالخروج نحو عبد الله بن علي، فقال له أبو دُلامة: نشدتُك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني في شيءٍ من عساكرك، فإني شهدتُ تسعة عساكر انهزمت كلُّها، وأخاف أن يكون عسكرك العاشر، فضحكَ منه وأعفاه (¬3). وحكى الخطيب عن العتَّابي قال: دخل أبو دُلامة على المهديّ، فطلب منه كلبًا للصيد، فأمر له به، فقال: وأين قائده؟ فأعطاه، قال: وأينَ الجاريةُ التي تطبخُ الصيد، فأمر له بها، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أقطعني ضيعة أعيشُ فيها، فقال: قد أقطعتُك مئة جريب من العامر، ومئةً من الغامر، قال: وما الغامر؟ قال: الخراب الذي لا يُنبت. قال أبو دلامة: فقد أقطعتُ أميرَ المؤمنين خمسَ مئة جريب من الغامر من أرض بني أسد، ثم قال له المهديّ: هل بقيت لك حاجة؟ قال: نعم، تأذنُ لي في تقبيلِ يدلّ، قال: ما إلى ذلك سبيل، فقال: والله ما رددتني عن حاجةٍ أهونَ فقدًا عليَّ منها (¬4). وفي رواية: ما على عيالي أيسرَ من ترك هذه الحاجة. ¬

_ (¬1) كذا ضبطها الخطيب في تاريخ بغداد 9/ 517 بالباء المنقوطة بواحدة، وفي الأغاني 10/ 235: زيد بالياء، ورجحا الأول. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 9/ 517. (¬3) تاريخ بغداد 9/ 518 - 519. (¬4) تاريخ بغداد 9/ 522.

وحكى الأصمعي قال: كساه أبو جعفر ساجًا، فشرب ليلةً فسكر، وخرجَ فأخذه العسس، فجاذبوه فخرَّقوا الساج، وكتبَ صاحب العسس إلى المنصور فأخبره فقال: احبسه في بيت الدجاج لتصغرَ نفسه عنده، فحبسَه فيه، فلمَّا كان في بعض الليل صحا فنادى جاريتَه، فشتمَه السجَّان، فلمَّا رأى نفسَه في بيت الدجاج قال للسجَّان: ويحك من أدخلني هاهنا؟ فقال: أعمالك الخبيثة، فقال: ائتني بدواة وبياض، فأتاه بها، فكتبَ: [من الوافر] أمن صهباءَ صافيةِ المزاجِ ... كأنَّ شُعاعها لهب السِّراجِ تهشُّ لها القلوب وتشتهيها ... إذا برزت تَرَقْرَقُ في الزُّجَاج وقد طُبِخت بنار الله حتَّى ... لقد صارت من النُّطَفِ النِّضَاجِ أميرَ المؤمنين فدتكَ نفسي ... علامَ حبستني وخَرَقْتَ ساجِي أُقادُ إلى السُّجون بغير ذنبٍ ... كأنِّي بعض عُمَّال الخراجِ ولو معهم حُبِستُ لهان وجدي ... ولكنِّي حُبِستُ مع الدَّجَاجِ دجاجات يطيفُ بهنَّ ديك ... يُناجي بالصياح إذا يناجِي وقد كانت تخبِّرُني ذُنوبي ... بأنِّي من عذابِك غيرُ ناجِ على أنِّي وإنْ لاقيتُ شرًّا ... لخيرِك بعدَ ذاكَ الشرِّ راجِي وقال للسجَّان: أوصل هذه إلى أمير المؤمنين ولك صلة، فأوصلَها إلى المنصور، فقرأَها وأمر بإحضاره، فقال: أين بتَّ البارحة؟ قال: مع الدجاج، فقال: ما كنتَ تصنع، فقال: بتُّ أقوقي معهنَّ إلى الصباح، فقال: لعلك بِضْتَ شيئًا من البيض؟ فقال: نعم اثنتان، فضحك واستتابه، ووصلَه (¬1). وقيل: إنَّ هذه الواقعةَ جرت لأبي دُلامة مع المهدي، وأن المهديَّ أمرَ بتخريق ساجه، ولهنا قال: وخرقتَ ساجي (¬2). وقال الأصمعي: كان أبو دلامة قليل الصلاة مدمنًا على شربِ الخمر، فألزمَه أبو جعفر المنصور الصلوات، ومنعَه من الشُرب، وحبسَه في قصره، فقال ينشد هذه الأبيات: [من الطويل] ¬

_ (¬1) انظر الخبر في تاريح بغداد 9/ 519 - 520، والأغاني 10/ 251 - 252. (¬2) انظر العقد الفريد 1/ 261 - 262.

ألم تريا (¬1) أنَّ الإمامَ أقامني (¬2) ... بمسجدِه والقصرِ ما لي وللقصرِ يكلِّفني الأولى جميعًا وعَصرها ... فويلي من الأُولى وويلي من العصرِ ويمنعني عن مجلسٍ أستلذُّه ... وأكرمُ فيه بالسماعِ وبالخمرِ وما ضرَّهُ والله يغفر ذنبه ... لو أنَّ ذنوبَ العالمينَ على ظهْرِي وبعثَ بها إلى أبي جعفر فقرأها وقال: قاتلَه الله، يحملُ ما أراد، دعوه. وحكى الأصمعيُّ أيضًا قال: دخلَ أبو دلامة يومًا على المهدي في خلافته وهو يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: ماتت أم دُلامة، فاغتمَّ المهدي، وأعطاه أربعة آلاف درهم وثيابًا برسم الكفن، فخرجَ من عنده، وقال لامرأته: قومي فادخلي على الخيزران، وقولي لها: مات أبو دُلامة، ففعلت، فأعطتها مثلَ ما أعطاه المهدي، واتَّفق دخولُ المهدي على الخيزران، فعزَّته في أبي دلامة، فقال: الساعة خرجَ من عندي وأخبرني بموتِ امرأته، وأعطيته كذا وكذا، فقالت: والساعةَ كانت عندي امرأتُه، وأخبرت أنَّه مات، وأعطيتُها كذا وكذا، فقال المهدي: عملونا (¬3) والله، فلما كان بعد يومين دخلَ على المهديّ فقال له: يا أبا دُلامة أحياةٌ بعد الموت؟ فقال: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20] فضحكَ المهديُّ ولم يقل شيئًا. وقال الهيثم بن عديّ: دخل أبو دلامة على أبي جعفر فأنشده: لو كان يَقعدُ فوقَ الشمس من كَرَم ... قومٌ لقيل اقعدوا يا آلَ عباسِ ثمَّ ارتقُوا في شعاعِ الشمس كلُّكم ... إلى السماء فأنتُم سادة الناسِ فقال له أبو جعفر: حدث أمر؟ قال: نعم وَلدت في البارحةَ ابنة، فقلت فيها هذين البيتين: [من الوافر] فما ولدتك مريمُ أمُّ عيسى ... ولم يكفلك لقمانُ الحكيمُ ولكن قد تضمُّك أمُّ سوء ... إلى لَبَّاتها وأبٌ لئيمُ (¬4) ¬

_ (¬1) في (خ): تر. والمثبت من الأغاني 10/ 248. (¬2) في الأغاني 10/ 248: أن الخليفة لزني. (¬3) كذا في (خ). وفي تاريخ بغداد 9/ 522 - من غير طريق الأصمعي-: خدعانا والله. (¬4) انظر الأغاني 10/ 239 - 240، وتاريخ بغداد.

فنصحكَ أبو جعفر وأعطاه ألفي درهم. وذكر في "العقد" أنَّ هذه الواقعة كانت مع المهدي، وأنَّ أبا دلامة خاطَ خريطة من شقائق النعمان (¬1)، ولمَا دخل على المهدي أنشده البيتين، وأن المهدي قال له: أتريد أن أعينك على تربيتها؟ قال: نعم. وكانت الخريطةُ بين أصابعه، فقال: يا أمير المؤمنين، املأ لي هذه الخريطة دراهم، فاستصغرها المهديُّ وقال: وما عسى أن تسعَ هذه؟ فقال أبو دلامة: من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير، فأمر أن تملأ، فلما نشرت ملأت صحنَ الدار، فدخل فيها أربعةُ آلاف درهم، وقال المهدي: أعطوه إيَّاها (¬2). وقال الأصمعيُّ: لقي أبو دلامة معنَ بن زائدة في الصيد، فأخذ بعنان فرسه وقال: [من الكامل] إنِّي حلفت بإنْ رأيتُك سالمًا ... بقُرَى العراقِ وأنت ذو وَفْرِ لتصلينَّ على النبيِّ محمدٍ ... ولتملأنَّ دراهمًا حِجْرِي فقال له معن: أمَّا الصلاة فنعم، وأمَّا الدراهم فلمَّا نوجع من الصيد، فقال: جعلت فِداءك، لا تفرِّق بينهما، فاستسلفَها له، وصَبَّها في حجره حتى أثقله (¬3). وحكى المبرد عن الأصمعيِّ قال: أمر أبو جعفر أصحابَه بلبس القلانس الطِّوال، ودراريع بين أكتافها مكتوب فيها هذه الآية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، وأمر بشدِّ السيوف في أوساطهم، فدخلَ أبو دلامة يومًا عليه وهو في ذلك الزيّ، فقال له أبو جعفر: كيف أصبحت؟ فقال: بشر حال، قال: وكيف؟ قال: ما ظنُّك بمن أصبحَ وجهُه في وسطه، وسيفُه في استه، وقد نبذَ كتاب الله وراءَ ظهره؟ فضحك أبو جعفر، ووصلَه (¬4). ولأبي دُلَامة شعرٌ في القلانس الطوال وهو: وكنا نرجِّي من إمامٍ زيادةً ... فزادَ الإمامُ المصطفى في القلانسِ ¬

_ (¬1) بهذا. وفي العقد الفريد 1/ 260: خريطة من شقق. وفي تاريخ بغداد 9/ 521: من خرق. (¬2) العقد الفريد 1/ 260 - 261. (¬3) ذكر الخبر بنحوه الأصفهاني في الأغاني 10/ 253 لكن القصة فيه مع المهدي لا مع معن، وذكره ابن عبد ربه في العقد 1/ 263، والخبر فيه مع أبي دُلف والي العراق. والله أعلم. (¬4) انظر الأغاني 10/ 236، والعقد الفريد 1/ 264.

سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري

تراها على هامِ الرجال كأنَّها ... دنانُ يهودٍ جُلِّلت بالبرانسِ وقد ذكرنا البيتين في سنة ثلاث وخمسين ومئة (¬1). وقال الأصمعي: اشترى أبو دلامة جارية بألفي دينار، ولم يكن معه ثمنُها، فكتبَ إلى العباس بن أبي جعفر المنصور أبياتًا يتقاضاه بثمنها، منها ما يقول: [من البسيط] أبصرتُ جارية محجوبةً لهمُ ... تطلَّعت من أعالي [القصر] ذي الشُّرفِ قالوا لك الخيرُ ما أبصرتَ قُلت لهم ... حبيبةً (¬2) أقصدتني من بني خَلَفِ فقام شيخٌ دهي (¬3) من تِجارهم ... قد طالما خدعَ الأقوامَ بالحَلِفِ فابتاعها في بألفي أحمر فغدا ... بها إلي وألقاها على كتفِي بتنا كذلك حتى جاءَ صاحبُها ... يبغي الدنانيرَ بالميزان ذي الكَفَفِ فإنْ تصلنِي قضيتُ القومَ حقَّهم ... وإن تقل لا فحقُّ القومِ في تَلَفِ فبعثَ إليه العباسُ بألفي دينار. وأبو دلامة هو الذي قالتْ له أمُّ سلمة امرأة أبي العباس السفاح: يا أبا دلامة، ما حزنَ على أمير المؤمنين أحدٌ مثلي ومثلك، فقال: يا ستِّي، أنت لك منه أولاد، وأنا ما لي منه ولد، فضحكَتْ، ولم تكن ضحكت قبل ذلك. وقد ذكر ذلك. وقال الهيثم: ماتَ أبو دلامة في هذه السنة، ويقال: إنَّه عاش إلى أيَّام هارون الرشيد. انتهى. سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ذكرهُ ابنُ سعد في أوَّل الطبقةِ السادسة من أهل الكوفة، ويكنَى أبا عبد الله. [قال] (¬4): وقال محمد بن عمر: وُلدَ سنة سبعٍ وتسعين في خلافة سليمانَ بن عبد ¬

_ (¬1) ص 242 من هذا الجزء. (¬2) في العقد الفريد 1/ 265: جَنِيَّةً. (¬3) في الأغاني 10/ 267، والعقد الفريد 1/ 265: بهيٌّ. وما بين حاصرتين منهما. (¬4) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق، انظر طبقات ابن سعد 8/ 492.

الملك، وكان ثقةً مأمونًا كثيرَ الحديث، وأجمعوا على أنه توفِّي بالبصرة وهو مستخفٍ في شعبان سنة إحدى وستين ومئة في خلافة المهدي. قال: وكان سفيان يقول: وجدتُ قلبي يصلحُ بمكَّة والمدينة مع قوم غرباءَ أصحاب بيوت. قال: وكان سفيان يقول دائمًا: سَلِّم سلِّم. قال: وكان سفيان يتَّجِر، ويفرِّق الربحَ على إخوانه الفقراء. وكان له ابنٌ ليسَ له غيرُه، فكان سفيان يقول: ما في الدنيا شيءٌ أحبَّ إليَّ منه، وإني لأحبُّ أن أقدِّمه، قال: فماتَ ابنُه ذاك فجعلَ كلَّ شيءٍ لأختِه وولدها، ولم يورّث أخاهُ المبارك بن سعيد شيئًا. وطُلِبَ سفيان في أيَّام المهدي، فخرجَ إلى مكَّة، فكتبَ المهديُّ إلى محمد بن إبراهيم يطلبُه، فبعثَ محمد إلى سفيان وأعلَمه، قال: إنْ كنتَ تريدُ إتيانَ القوم فاظهر حتى أبعثَ بك إليهم، وإنْ كنتَ لا تريدُ إتيانهم [فتوار، قال: ] (¬1) فتوارى سفيان، وطلبَه محمدُ بن إبراهيم، وأمر مناديًا ينادي بمكة: من جاء بسفيان فله كذا وكذا، فلم يزل متواريًا بمكَّة لا يظهر إلَّا لأهل العلم ومن لا يخافه. وقال أبو شهاب الحنَّاط: بَعَثَتْ أختُ سفيان لسفيان معي إلى مكة بجرابٍ فيه كعك، وخشكنانك، فأتيتُ مكَّةَ فسألتُ عنه، فدلُّوني عليه، فأتيتُه، وكان صديقًا لي، فسلَّمتُ عليه، فلم يحفل بي، وكان متَّكِئًا فما قعد، كما أعرف منه، فقلت: إنَّ أختكَ بعثت معي بجرابٍ فيه كعكٌ وخشكنانك، فاستوى جالسًا وقال: عجِّل عليَّ به، فقلت: أتيتُك وأنا صديقك، فسلَّمتُ عليك، فلم تردَّ عليَّ ذاك الرد، فلمَّا أخبرتُك بجراب كعك وخشكنانك ما يساوي شيئًا جلستَ وكلَّمتني، فقال: يا أبا شهاب، اعذرني، فوالله لي أربعةُ أيام أو ثلاثة أيام ما ذقتُ طعامًا، فعذرتُه والله. قال ابن سعد: فلما خافَ سفيان بمكة قدم البصرة، فنزلها بقرب منزلِ يحيى به. سعيد القطَّان، وعلمَ به يحيى، فحوَّله إلى جواره، وفتحَ له بابًا إليه، فكان يأتيه بمحدِّثي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من طبقات ابن سعد 8/ 493.

أهل البصرة يسمعونَ منه، فكان فيمن أتاه جرير بن حازم، والمباركُ بن فَضالة، وحَمَّاد بن زيد، وغيرهم، وأتى عبدُ الرحمن بن مهدي ولزمَه، وكان يحيى وعبد الرحمن يكتبان عنه تلك الأيَّام، فخافَ سفيان أن يشتهرَ بالبصرة فقال ليحيى بن سعيد: حوّلني من هذا المكان، فحوَّله إلى منزلِ الهيثم بن منصور الأعرجي من بني سعد بن زيد [مناة] (¬1) بن تميم فلم يزل فيه، فكلَّمه حمادُ بن زيد في تنحيته عن السلطان، وقال: هذا فعلُ أصحاب البدع، وما تخاف منهم؟ فأجمعَ سفيان وحَمَّاد بن زيد أن يقدما بغداد على المهدي. وكتب سفيان إلى المهدي، أو إلى يعقوب بن داود، فبدأ بنفسه، فقيل له: إنَّهم يغيظون من هذا، فبدأ بهم، فجاء جوابُ كتابه بما يحبُّ من القرب والكرامة، والسمع منه والطاعة، فكانَ على عزم الخروج إليهم، فحُمَّ ومرضَ مرضًا شديدًا، وحضرَه الموتُ، فجزع، فقال له مرحوم بن عبد العزيز: يا أبا عبد الله ما هذا الجزع؟ إنَّك تقدم على الربِّ الذي كنتَ تعبدُه، فسكنَ وهدأ، وقال: انظروا من ها هنا من أصحابنا الكوفيين، فأرسلوا إلى عبّادان، فقدم عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر، والحسن بن عيَّاش أخو أبي بكر بن عيَّاش، فأوصى إلى عبد الرحمن، وأوصاه أن يصلِّي عليه، فأقاما عنده حتى مات. وخرجت جنازته، وصلَّى عليه عبد الرحمن، وشهدَه الخلق، ودفنوه، وانصرف عبد الرحمن والحسنُ بن عيَّاش فأخبرا أهلهما بموته (¬2). وهذا قول ابن سعد (¬3). وذكره الخطيب في "تاريخه" وأثنى عليه فقال: كان إمامًا من أئمَّة المسلمين، وعلمًا من أعلام الدين، مُجْمَعًا على أمانتِه [بحيث يستغنى عن تزكيته، مع الإتقان] (¬4)، والحفظ والمعرفة والورع والزهد، قدمَ بغداد غير مرَّة، وخرجَ منها إلى خراسان، ويقال: إن نسيبًا له مات ببخارى فخرجَ بسبب ميراثه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من طبقات ابن سعد 8/ 493. (¬2) كذا، وفي طبقات ابن سعد 8/ 495: ثم انصرفا إلى الكوفة فأخبرا أهلها بموت سفيان. (¬3) طبقات ابن سعد 8/ 492 - 495. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 10/ 219.

وقيل: إن الميت كان عمَّه، وقيل: إنما خرج لزيارة صديقٍ له، وهو ابن ثمان عشرة سنة، فجلسَ بها ثم عادَ إلى الكوفة. قال الخطيب: مرَّ سفيانُ ببغداد فرأى جلَّادًا كان يجلد الناس، وقد عمِي وهو يتصدَّق، فأعطاه قطعةً وقال: ليس هذه صدقةً عليك، هذه شماتةٌ بك (¬1). وروى الخطيب عن علي بن ثابت قال: رأيتُ الثوريَّ في طريق مكَّة، فقوَّمت كلَّ شيءٍ عليه حتى نعليه: درهم وأربعة دوانيق (¬2). وروى الخطيب عن يوسف بن أسباط قال: صلينا العشاء الآخرة، فقال لي سفيان: ناولني المَطْهرة، فناولته إيَّاها، فأخذَها بيمينه، ووضعَ يساره على خدِّه، ونمتُ فما استيقظتُ إلَّا وقد طلع الفجر، فنظرتُ فإذا المطهرةُ بيمينِه، ويساره على خده، وهو بحاله، فقلت له: ما هذا؟ فقال: لم أزل منذ ناولتني المَطْهرة أتفكَّر في أمرِ الآخرة حتَّى الساعة (¬3). وروى الخطيب عن يوسف بن أسباط قال: قال سفيان: إنَّ فجَّارَ القرَّاء اتَّخذوا القرآنَ سلَّمًا إلى الدنيا، فقالوا: ندخل على الأمير، نفرِّج عن المكروب، ونتكلَّم في المحبوس (¬4). قال: وكان سفيان لا يقبلُ برَّ أحد، وكانَ معه نحوٌ من مئتي دينارٍ يَتَّجِرُ له بها قوم. وحكى الخطيب أيضًا عن محمد بن عبد الوهاب قال: ما رأيتُ الفقراء أعزَّ منهم في مجلس سفيان ولا رأيتُ الأغنياء أذلَّ منهم في مجلسه (¬5). وروي عن سفيان الثوري أنَّه قال: لقد خفتُ الله خوفًا، وددت أنِّي خُفِّف عنِّي؛ لئلا يذهب عقلي. قال: وقال يوسف بن أسباط: كان سفيان إذا أخذ في الفكر بالَ الدم (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 221. (¬2) تاريخ بغداد 10/ 230. (¬3) تاريخ بغداد 10/ 225. (¬4) لم أقف عليه في تاريخ بغداد، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة 3/ 149 من رواية صالح بن خليفة الكوفي عن سفيان. (¬5) تاريخ بغداد 10/ 230 وفيه: الفقر ... الغنى. بدل: الفقراء. . . الأغنياء. (¬6) انظر حلية الأولياء 7/ 23، وصفة الصفوة 3/ 148، 149.

وقال أبو نعيم: كان سفيان يقول: لو لم أعلم لكان أقلَّ لحزني (¬1). وقال يعقوب بن يوسف السني (¬2): كان سفيان يقول: إذا سمعتُ صيحةً بالليل أضعُ يدي على رأسي وأقول: جاء العذاب. قال: وكان ينامُ أوَّل الليل، ثم ينتبه فزعًا، فينادي: النار النار النار، إنَّ ذكرَها شغلني عن النومِ والشهوات، ثم يأخذ في الصلاة والبكاء. وروى أبو نعيم عن عليِّ بن حمزة ابن أخت سفيان قال: ذهبتُ ببول سفيان إلى الديراني، وكان لا يخرج من باب الدير، فأريتُه إيَّاه، فقال: ليس هذا ببول حنيفي، قلت: بلى والله، إنَّه من أفضل الحنيفية، فقال: فأنا أجيء معك، فاستأذنتُ سفيان له، فقال: أدخِلْهُ، فدخلَ فجسَّ عرقَه وخرج، فقلت له: أي شيء رأيت؟ فقال: ما ظننتُ أنَّ في الحنيفية مثل هذا رجل، قد قطع الحزن كبدَه. قال: وكان يبكي ويقول: أخاف أن أستلبَ الإيمانَ قبل موتي (¬3). وقال علي ابن أخيه: شبعَ سفيان ليلةً، فنام، ثمَّ استيقظَ مرعوبًا وقال: والله لا نمتُ الليل بعدَها، الحمارُ إذا زيد في علفه نام (¬4). قال: وقيل لسفيان: كيف أصبحت؟ فقال: في دارٍ قد والله حارت فيها الأدلَّاء (¬5). وقال الأوزاعي: لو قيل لي: اختر لهذه الأمة ما اخترت غير سفيان. وقال ابن أبي الدنيا: كان سفيان يقول: ما أنفقتُ درهمًا في بناء، ولا استودعتُ قلبي شيئًا فخانني قط. وقال أبو نعيم: كان سفيان يقول: اللهمَّ إنَّك العليم بحاجتي غير معلم، وما أطلبُ ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 6/ 363. (¬2) كذا في (خ). ولعلها. النسوي. ولم أقف عليه في المعرفة والتاريخ، وأورده ابن الجوزي في صفة الصفوة 3/ 148 عن عبد الرحمن بن عبد الله عن سفيان. (¬3) انظر حلية الأولياء 7/ 12. (¬4) هو في تاريخ بغداد 10/ 226 وغيره: عن أبي خالد الأحمر. (¬5) في حلية الأولياء 7/ 14: قال رجل لسفيان الثوري: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: تسألني كيف أصبحت! وقد والله تحيرت ....

إلَّا فكاك رقبتي من النار، إلهي إنَّ الجزعَ قد أرَّقني، ولو كان في عذرٌ في التخلِّي لما أقمتُ مع الناس طرفةَ عين (¬1). ذكر وفاته: قال أبو نعيم: خرجَ سفيان من الكوفة في سنة خمس وخمسين ومئة ولم يرجع إليها، ومات سنة إحدى وستين ومئة، وهو ابنُ ستّ وستين سنة. وقال خليفة: توفّي سنةَ اثنتين وستين ومئة (¬2). وقال الخطيب: وسنة إحدى وستين أصحّ (¬3). وكذا قال ابن سعد (¬4). وحكى أبو نعيم عن ابن مهدي قال: مات سفيان عندي، فلما اشتد به الوجع جعل يبكي، فقال له رجل: أراك كثير الذنوب؟ فقال: ما أخاف من ذنوبي، وإنَّما أخافُ أن أستلبَ الإيمانَ عند الموت (¬5). وقال ابن مهدي: توضَّأ سفيان تلك الليلة ستينَ مرَّة، فلمَّا كان عند السحر قال لي: يا ابن مهدي، ضع خدي على الأرض، فما أشدَّ الموت وكربه. قال: فخرجت لأعلم حماد بن سلمة (¬6) وأصحابه، وإذا بهم قد استقبلوني. وقالوا: آجرَك الله. فقلت: من أين علمتم؟ قالوا: ما منَّا أحدٌ إلا أُتي البارحة في منامه فقيل له: ماتَ سفيان. وقال الخطيب: حجَّ المهديُّ فدخلَ عليه فوعظه، وعنده أبو عبيد وزيرُه، فقال له يا أبا عبد الله، قد كانت كتبكَ تأتينا، فقال: ما كتبتُ إليكم، ثمَّ قام، فقال له المهدي: إلى أين؟ قال: أعود، وترك نعله، ثم عاد فأخذها ومضى، وانتظره المهديّ فلم يعد، فسألَ عنه، فقالوا: عاد وأخذ نعلَه، فغضب وقال: أمن الناس كلهم إلَّا الثوريّ، فخرجَ إلى البصرة، فاستخفى، فلمّا احتضر قال: ما أشدَّ الغربة، انظروا هل هاهنا ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 7/ 60. (¬2) تاريخ خليفة ص 437، وطبقاته ص 168. (¬3) تاريخ بغداد 10/ 243. (¬4) في طبقاته 8/ 492. (¬5) حلية الأولياء 7/ 12. (¬6) كذا، وفي صفة الصفوة 3/ 150: لأعلم حماد بن زيد.

أحدٌ من أهل بلدنا؟ فنظروا، فإذا أفضل أهل الكوفة هناك؛ عبد الرحمن [بن عبد الملك] بن أبجر والحسن بن عيَّاش (¬1)، وقد ذكرناه. ومات ليلًا فجاء جرير بن حازم بعدما دُفِنَ فصلَّى عليه (¬2). وقال الخطيب: وقد روي أنَّه دفن كتبه قبل وفاته. قلت: وهذا محمولٌ على أنَّه رَوى عن قوم ثقات وغير ثقات، فاشتبة الأمرُ عليه، أمَّا إذا كانت عن ثقات، فإنَّه لا يجوزُ دفنها، وسنذكر هذا المعنى في ترجمة بشر الحافي، وأحمد بن أبي الحواري. ذكر ما رُؤي له من المنامات: حكى الخطيب عن عبد الرحمن بن مهدي قال: رأيتُ سفيان الثوري في المنام بعد موته، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: لم يكن إلا خير، ما وُضِعتُ في اللحد حتى أُوقِفت بين يدي الله تعالى، فحاسبني حسابًا يسيرًا، ثم أمرَ بي إلى الجنَّة، فبينما أنا أدورُ بين أشجارها وأنهارها، سمعتُ قائلًا يقول: سفيان؟ قلت: نعم، قال: تحفظُ يومًا آثرتَ الله على هواك؟ قلت: إي والله، فأخذتني صواني النثار من جميع الجنة (¬3). وفي رواية فقلت: ما فعلَ الله بك؟ فقال: [من الطويل] نظرتُ إلى ربِّي كفاحًا، وقال لي ... هنيئًا رضائي عنك يا ابن سعيدِ فقد كنتَ قوَّامًا إذا الليل قد سَجى ... بعبرةِ محزونٍ وقلبِ عميدِ فدونَك فاختر أيَّ قصرٍ تريدُه ... وزرني فإنِّي منك غير بعيدِ وروى ابنُ أبي الدنيا عن سُعَير بن الخِمس قال: رأيتُ سفيان في المنام وهو يطيرُ من شجرةٍ إلى شجرة، ومن نخلةٍ إلى نخلة، وهو يقرأ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 228 - 229. (¬2) تاريخ بغداد 10/ 241. (¬3) تاريخ بغداد 9/ 440 (ترجمة رشيق أبو الحسن الرقي). (¬4) تاريخ بغداد 10/ 244 من غير طريق ابن أبي الدنيا.

وحكى ابن أبي الدنيا عن أبي خالد الأحمر قال: رأيتُ سفيان بعد موته في المنام، فقلت: كيف حالك يا أبا عبد الله؟ فقال: بخير، استرحتُ من غموم الدنيا، وأفضيتُ إلى رحمةِ الله تعالى (¬1). أسندَ سفيان عن خلقٍ كثير من التابعين. وقال ابن المبارك: كتبتُ عن ألفٍ ومئة شيخ، ما كتبتُ عن أفضل من سفيان. قيل له: فهل رأيتَ أفضل منه؟ فقال: فهل رأى سفيانُ مثلَ نفسه؟ وقد ذكرنا أنَّه لم يكن له ولدٌ إلَّا واحد، وأنَّه مات في حياة أبيه، وكان لسفيان ابنُ أختٍ يقال له: سيف بن محمد، رَوى عنه الحديث. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 243 - 244.

السنة الثانية والستون بعد المئة

السنة الثانية والستون بعد المئة فيها قُتِل عبدُ السلام بن هاشم اليشكُري الخارجيّ، وكان قد خرجَ بالجزيرة، واستفحلَ أمرُه، وقويت شوكتُه، فجهَّز المهدي إليه جيوشًا، وهو يهزمها ويقتلُ قوَّادها، فبعثَ إليه شبيب بن واج المرورُّوذي، فانهزم عبد السلام إلى قِنَّسرين، فلحقه شبيب فقتلَه. وفيها وضع المهدي دواوينَ الأزِمَّة، وولَّى عليها عمرو بن بزيع مولاه، ولم يكن لبني أمية دواوين أزمة، ومعناه أن يكون لكلِّ ديوانٍ زمام، وهو رجلٌ يضبطُه، وقد كانت قبلَ ذلك الدواوين مختلطة. وفيها كتبَ المهديُّ إلى الآفاق بأن يجري على المجذَّمين وأهل السجون. وفيها خرجت الرومُ إلى الحدَث، فهدمُوا سورها. وفيها حبس المهدي موسى بن جعفر. وحجَّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن جعفر بن المنصور. وفيها توفِّي أبو عبيدة الخوَّاص واسمه عبَّاد بن عبَّاد، وكانَ من أهل المحبَّة والشوق، وعنه أخذ المشايخُ الطريق. وروى ابنُ باكويه الشيرازي عن عبدِ الأعلي بن سليمان قال: رأيتُ أبا عبيدة الخوَّاص وهو يمشي في الأسواق ويصيح: واشوقَاه إلى من يراني ولا أرَاه. وروى ابن أبي الدنيا عن عقبة بن فضالة قال: سمعتُ أبا عبيدَة بعدما كبر وهو آخذ بلحيته، يبكي ويقول: قد كبرتُ فأعتقني. سمع أبو عبيدة الأوزاعيَّ وأقرانَه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر المنتظم 8/ 259، وصفة الصفوة 4/ 275.

السنة الثالثة والستون بعد المئة

السَّنةُ الثالثةُ والستُّون بعد المئة فيها ولَّى المهديُّ ابنَه هارونَ المغربَ كلَّه وأَذْرَبيجان وإرْمِينيَة، وجعل كاتبَه على الخَراج ثابتَ بن موسى، وعلى رسائله يحيى بنَ خالدِ بن برْمَك. وحجَّ بالناس علي بن المهدي، وكان على مكةَ والطائفِ والمدينة واليمامة جعفرُ بن سليمان، وعلى الكوفة إسحاقُ بن الصباح، وعلى قضائها شَريك، وعلى البصرة والبحرين وعُمانَ والأهوازِ وفارسَ محمدُ بن سليمان، وعلى خراسانَ المسيَّبُ بن زهير، وعلى السِّند نصرُ بن محمدِ بن الأَشعث. وفيها توفِّي إبراهيمُ بن طَهمان أبو سعيدٍ الخراساني. وُلد بهراة، ونشأ بنَيسابور، ورحل في طلب العلم. وكان حسنَ الخُلق، سخيًّا، واسع النفس، يطعم الطعامَ ويُحسن إلى طلحة العلم. ورد بغدادَ وحدَّث بها، ثم انتقل إلى مكَّة، فسكنها إلى أن مات بها. وروى الخطيبُ عن أبي زُرعةَ قال: سمعت أحمدَ بن حنبل، وذُكر عنده إبراهيمُ بن طهمان، وكان متَّكئًا من عِلَّة، فاستوى جالسًا وقال: لا ينبغي أن يُذكرَ الصالحون فيُتَّكأ (¬1). ثم قال أحمد: حدَّثني رجل من أصحاب ابنِ المبارك قال: رأيتُ ابنَ المبارك في النوم ومعه شيخٌ مَهيب، فقلت: مَن هذا معك؟ قال: سفيانُ الثوري، قلت: من أين أَقبلتم؟ فقالوا: نحن كلَّ يومٍ نزور إبراهيمَ بن طهمان، قلت: وأين تزورونه؟ قال: في دار الصِّدِّيقين دارِ يحيى بنِ زكريا. وقد ذكرنا أنَّه مات بمكَّة. أَرطاةُ بن المنذرِ بن الأسود أبو عَدِيٍّ السَّكونيُّ الحمصي. كان في أيام عمرَ بنِ عبد العزيز، وفَرَضَ له. ¬

_ (¬1) في (خ): متكئًا، والمثبت من تاريخ بغداد 7/ 20.

حريز بن عثمان الرحبي الحمصي

وقال الحافظُ ابن عساكر (¬1) بإسناده عن المازنيِّ قال: قال أرطاةُ بن المنذر: أتيتُ عمرَ بن عبدِ العزيز، ففرض لي في جَبَلةَ وقال: أَرطاة، ألا أُحدِّثك بحديثٍ هو عندنا من العلم المخزون؟ قلت: بلى، قال: إذا توضَّأتَ عند البحرِ فالتفت إليه وقل: يا واسعَ المغفرةِ اغفر لي؛ فإنَّه لا يرتدُّ إليك طَرفُك حتى يغفرَ لك ذنوبَك. وقال أحمد: كان ثقة. حَرِيزُ بن عثمانَ الرَّحَبي الحِمصي ولد سنةَ ثمانين، ووفد على عمرَ بنِ عبد العزيز، وكان يُبغض عليًّا - عليه السلام -، فروى الخطيبُ (¬2) عن يزيدَ بنِ هارونَ قال: رأيتُ ربِّ العزَّة في المنام، فقال لي: يا يزيد، لا تكتبْ عن حَرِيز بن عثمانَ شيئًا، فقلت: يا ربِّ، ما علمتُ منه إلَّا خيرًا! فقال: لا تكتبْ عنه؛ فإنه يسبُّ عليَّ بنَ أبي طالب. وفي رواية: فإنه يُبغض أبا الحسنِ عليَّ بن أبي طالب (¬3). أَبغضه الله. وقال جدِّي في "المنتظَم" (¬4): اتفق العلماءُ على أنَّه ثقة، لكن اتَّهموه بأنه يُبغض عليَّ بنَ أبي طالب. وكيف يكون ثقةً وهو يُبغض أميرَ المؤمنين! ومَن أَبغض آحادَ الصحابةِ أو سبَّه يكون ملعونًا؛ لقوله - عليه السلام -: "لعنَ اللهُ مَن سبَّ أَصحابي" (¬5) فكيف بأمير المؤمنين وابنِ عمِّ رسولِ ربِّ العالمين! وإنما كان يُبغض عليا لأنه قُتل جَدَّان له كانا مع معاويةَ بصِفِّين مع مَن قُتل، لا أن عليًّا باشر قتلَهما، صرَّح بهذا الخطيبُ فقال: عن عمران (¬6) بن أَبَان: سمعتُ حَرِيزًا يقول: لا أُحبُّه، قتل آبائي. يعني عليًّا. وكذا ذكر الحافظُ ابن ¬

_ (¬1) في تاريخه 2/ 163 (مخطوط). (¬2) في تاريخه 9/ 185. (¬3) هي عند الخطيب أيضًا. (¬4) 8/ 266. (¬5) أخرجه الطبراني في الأوسط (7015) والكبير (13588) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، وأخرجه في الأوسط (4771) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬6) في (خ): عمر، والمثبت من تاريخ بغداد 9/ 185.

عيسى بن علي

عساكرٍ وقال: كان حَرِيزٌ منحرفًا عن علي بن أبي طالب (¬1)، وقد روى ابنُ عيَّاش قال: سألتُ حَريزًا عن هذا فقال: واللهِ ما سببتُه قطّ، رحم اللهُ عليًّا. قاله مئةَ مرَّة. فيحتمل أنَّه رجع عن ذلك. أَسند حَريزٌ عن عبد الله بن بُسرٍ من الصحابة، وروى عن جماعةٍ من التابعين، وروى عنه إسماعيلُ بن عباس وغيرُه. وقال الخطيبُ (¬2): قدم بغدادَ وحدَّث بها. فمن رواياته: قال: سمعتُ الوليدَ بن عبدِ الملك يقول على مِنبر دمشق: هذا الذي يرويه الناسُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال لعليِّ بن أبي طالب: "أنتَ منِّي بمنزلة هارونَ من موسى" إنما هو: أنت منِّي بمنزلة قارونَ من موسى. قلت: وهذا من أدلِّ الدليلِ على أنه كان يُبغض عليًّا، وأما هذا الحديثُ فقد ضعَّفه الرُّواة، وقال الخطيب (¬3): في إسناده عبدُ الوهاب بنُ الضحَّاك، كان كذَّابًا. وقد ذكرناه في ترجمة الوليدِ بن عبدِ الملك. وقال الواقدي: توفي حَرِيزٌ سنةَ ثلاثٍ وستين ومئةٍ وله ثلاثٌ وثمانون سنة. وقيل: سنةَ ستٍّ وستِّين ومئة (¬4). عيسى بنُ عليِّ ابن عبدِ الله بن عباس، عمُّ أبي العباسِ وأبي جعفرٍ المنصور، وأخو محمدِ بن عليّ، وأخو عبدِ الله وعبدِ الصمد وداودَ وسليمانَ بَني عليّ. وذكره ابنُ سعدٍ في الطبقة الرابعةِ من أهل المدينة، قال: وأمُّه أمُّ ولد، وهي أمُّ داودَ بنِ علي، وكان عيسى بنُ علي من أهل العافية، لم يَلِ لأهل بيتِه عملًا حتى توفِّي في خلافة المهديّ. هذا قولُ ابنِ سعد (¬5). ¬

_ (¬1) نقل في تاريخه 4/ 333 (مخطوط) عن ابن ماكولا قولَه: كان يرمى بالانحراف عن علي، وعنه في ذلك اختلاف. (¬2) في تاريخه 9/ 182. (¬3) في تاريخه 9/ 186. والكلام هنا في رواية: أنت مني بمنزلة قارون من موسى. وأما الرواية الأخرى فهي في صحيح البخاري (3706) و (4416)، وصححيح مسلم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬4) لم أقف على هذا القول. (¬5) في طبقاته 7/ 472.

وذكره الخطيبُ وقال (¬1): كُنيته أبو العباس، وقيل: أبو موسى. وقال الخطيب: ولد سنةَ ثمانٍ وثمانين، أو ثلاثٍ وثمانين (¬2). وأُمُّه بربرية، اسمُها لُبابة. وقيل: ولد سنةَ إحدى وثمانين (¬3). وكان معتزلًا للسلطان، وله مذهبٌ جميل، واليه يُنسَب نهرُ عيسى وقصرُ عيسى ببغداد، وكانت وفاتُه في جمادى الآخرةِ بقصره على نهر عيسى، وكان المهديُّ بالبَرَدان يجهِّز الجيوشَ مع ابنه هارون، فصلَّى عليه موسى بنُ المهديِّ ومشى في جنازته، ودخل المهديُّ في اليوم الثاني فصلَّى على قبره، ودُفن في مقابر قريش. ويقال: إنَّه مات في سنة أربعٍ وستين ومئة، أو خمسٍ وستِّين ومئة. * * * ¬

_ (¬1) لم نقف على قوله في تاريخه، وانظر تهذيب الكمال، وتاريخ الإسلام 5/ 471. (¬2) ذكر في تاريخه 12/ 467 القول الثاني فقط، ولم نقف على القول الأول. (¬3) انظر تهذيب الكمال.

السنة الرابعة والستون بعد المئة

السنةُ الرابعةُ والستون بعد المئة فيها بنى المَهديُّ قصرَه بعيسى باذَ وسمَّاه قصر السلامة (¬1). قال الزُّبَيْر بن بكَّار: فحدَّثني عمِّي مصعبُ عبدِ الله عن جدِّي عبدِ الله بن مصعب قال (¬2): لما فرغ المهديُّ من بناء هذا القصرِ جلس للناس، ففرَّق في أبناء المهاجرين والأنصارِ ثلاثةَ آلافِ ألف درهم، فأَغنى كلَّ عائل، وجبر كلَّ كسير، وفرَّج عن كل مكروب، وفرَّق في الشعراء والخطباءِ خمسَ مئة ألفِ درهم، فقال الناس: هذا مهديُّ هذه الأمةِ الذي بشّر به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيها خرج المهديُّ حاجًّا، فوصل إلى العَقَبة، فعطش الناس وأخذته حُمَّى، فرجع من العقبة، وغضب على يقطين بنِ موسى حيث لم يُصلح المصانعَ على الوجه، ولاقى الناسُ شدَّة من قلَّة الماء، ولَمَّا عاد المهديُّ إلى العراق، بعث أخاه صالحًا فحجَّ بالناس، وكان العاملُ على مكةَ والطائفِ والمدينةِ جعفرُ بن سليمان. * * * ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 150: وفيها بنى الهدي بعيسى باذ الكبرى قصرًا من لَبِن إلى أن أسس قصره الذي بالآجر الذي سماه قصر السلامة. (¬2) في المنتظم 8/ 270: حدثني مصعب قال.

السنة الخامسة والستون بعد المئة

السَّنة الخامسةُ والستون بعد المئة فيها جهَّز المهديُّ ابنَه هارونَ إلى الصائفة في بلاد الرومِ غازيًا في جمادى الآخرة، وضمَّ إليه الربيعَ مولاه، فأَوغل فيها، وسار هارونُ في نيِّف وتسعين ألفًا ومعه الخزائنُ والأموال والعُدَد، وكان في خزائنه من الدراهم أَحدٌ وعشرون ألفَ ألفِ درهم وأربعُ مئةِ ألفٍ وزيادة، ومن الذهب مئةُ ألفٍ وسبعٌ وسبعون (¬1) ألفَ دينارٍ وزيادة، فأَناخ على خليج القُسْطَنطينية وصاحبتُها يومئذٍ امرأةُ أَليون، ولها ابنٌ صغير من أليون، ومات وهو في حجرها، فأَقام هارونُ يَسبي ويقتل، فقتل من الرُّوم نيِّفًا وخمسين ألفًا، وغنم من الدوابِّ عشرين ألفًا، وذبح من البقر والغنمِ مئةَ ألفِ رأس، فأَرسلت إليه المرأةُ تطلب الصلح، فصالحها وشرط عليها في كل سنةٍ سبعين ألفَ دينارٍ وما تيسَّر من العُروض والأُسارى، وأن تُقيمَ لهم الأَدلَّاء؛ فإنهم كانوا قد أَوغلوا في المضائق، ففعلت. ورجع هارونُ غانمًا سالمًا، وبيع البِرذونُ بدرهم، والبغلُ بعشرة دراهم (¬2)، والدّرعُ بأقلَّ من درهم، وعشرون سيفًا بدرهم. فقال مروانُ بن أبي حفصة: [من الطويل] أَطفتَ بقُسطنطينة الرُّومِ مُسْنِدَّا ... إليها القَنَا حتى اكتسى الذِّلَّ (¬3) سورُها وما رِمتَها حتى أَتتك ملوكُها ... بجِزيتها والحربُ تَغلي قدورها وفيها عزل المهديُّ خلفَ (¬4) بن عبدِ الله عن الرَّي وولَّى عيسى مولى المنصور (¬5). وتزوَّج هارونُ زبيدةَ بنتَ جعفرٍ وبنى بها. وحجَّ بالناس صالحُ بن المنصور. وفي هذه السَّنةِ توفي ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 152: وأربعة وتسعين، وفي المنتظم 8/ 277، والكامل 6/ 66: وثلاثة وتسعين. (¬2) في تاريخ الطبري: بأقل من عشرة دراهم. (¬3) الذلّ: اللين، وهو ضد الصعوبة. مختار الصحاح (ذلل). والبيتان في الديوان ص 60. (¬4) في (خ): خالد، والتصويب من تاريخ الطبري 8/ 153، والمنتظم 8/ 278، والكامل 6/ 67. (¬5) في المصادر: مولى جعفر.

داود بن نصير الطائي، أبو سليمان

داودُ بن نُصير الطائي، أبو سليمان ذكره ابنُ سعد (¬1) في الطبقة الخامسةِ من أهل الكوفة، وقال: داودُ بن نصير الطائي، ويُكنَى أبا سليمان، وكات قد سمع الحديثَ وتففه، وعرف النحوَ وأيامَ الناس وأمورَهم، ثم تعبَّد، فلم يكن يتكلَّم في شيءٍ من ذلك. قال: وكان له جليسٌ يذاكره في الحديث، فقال له: لا تذاكرني في شيءٍ من ذلك أبدًا. وروى ابنُ سعدٍ عن الفضل بن دُكَين قال: كنتُ إذا رأيت داودَ الطائيَّ لا يُشبه القرَّاء، عليه قَلَنسُوة طويلةٌ مما يلبَس التجار، وجلس في بيته عشرين سنةً أو أقلَّ حتى مات، وحضرتُ جنازتَه مما رأيتها من كثرة الخَلْق. مات سنةَ خمسٍ وستِّين ومئةٍ في خلافة المهدي. وهذا قولُ ابن سعد، واتفقت الأئمَّة عليه، فقالوا: كان كبيرَ الشأن في العلم والورعِ والزُّهد والعبادة. وسمع الحديثَ الكثير وتفقَّه على أبي حنيفة، وعرف أيامَ الناس، وكان مكمَّلًا في حاله. وقال الهيثم: جاءت امرأةٌ إلى حلقة أبي حنيفةَ وداودُ جالس، فسألت مسألةً في الحيض، فأَجابها داود، فقالت: يا داود، هذا العلمُ فأين العملُ به؟ فوقع كلامُها في قلبه فاعتزل. والقولُ الثاني: حديثُ المرأةِ التي اجتاز بها في المقابر، فقال ابنُ عائشة: مرَّ داود الطائيُّ بمَقْبُرة، فسمع امرأةً وهي تقول: يا حبيبي، ليت شعري بأيّ خدَّيك بدأ البِلى، باليمنى أو باليسرى؟ قال: فصَعِق. وقرأتُ على شيخنا الموفَّقِ من كتاب "التوَّابين" (¬2) عن الحِمَّاني قال: مرَّ داود بمقبرة على امرأةٍ تبكي وتقول، وذكره ثم قال: إنَّها أنشدت: [من الطويل] مقيمًا (¬3) إلى أن يبعثَ اللهُ خَلْقَه ... لقاؤك لا يُرجَى وأنت قريبُ ¬

_ (¬1) في طبقاته 8/ 487. (¬2) ص 225 - 226. (¬3) في التوابين: مقيم.

تَزيد بِلًى في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... وتُسلَى كما تَبلى وأنت حبيبُ فانقطع داودُ إلى العبادة. ذِكْرُ طَرَف من أخبار داود: روى أبو نُعَيم (¬1) عن ابن عم لداودَ قال: ورث داودُ من أبيه عشرين دينارًا، فأَنفقها في عشرين سنةً كل سنةٍ دينارًا، ينفق في كلِّ شهرٍ درهمًا، منه يأكل ومنه يتصدَّق، وورث بيتًا، فكان يكون فيه، لا يعمره، كلَّما خرب منه جانبٌ تركه وتحوَّل إلى جانبٍ آخَر، فخرب كلُّه إلا زاويةً منه كان يكون فيها. وروى أبو نُعيمٍ أيضًا (¬2) عن حفصِ بن عمرَ الجُعفيِّ قال: ورث داودُ عن أمِّه أربعَ مئةِ في رهم، فمكث يتقوَّت منها ثلاثين عامًا، فلمَّا نفدت جعل ينقض سقوفَ الدُّويرة فيبيع الخشبَ والبواريَ واللَّبِن، حتى بقي نصفُ سقف. قال: وجاءه صديق فقال: لو أعطيتَني هذه فأَبضعتُها لك لعلك أن تستفضلَ منها شيئًا تنتفع به. فما زال حتى دفعها إليه، ثم فكَّر فيها، فلقيه بعد العشاءِ الآخرة، قال: ارددها علي، قال: ولم؟ قال: أخاف أن يدخلَ فيها شيءٌ غير طيِّب. فأخذها منه. وقال إسحاقُ بن منصور: دخلتُ أنا وصاحبٌ لي على داودَ الطائيّ وهو قاعدٌ على التراب، فقلت لصاحبي: هذا رجل زاهد، فقال داود: إنَّما الزاهد مَن قَدَرَ فترك. وقال ابنُ أبي الدنيا: حدَّثني أحمدُ بن عمران: حدَّثني الوليدُ بن عُقبة قال: كان يُخبز لداودَ الطائيِّ ستُّون رغيفًا يعلِّقها بشريطٍ يُفطر في كلِّ ليلةٍ على رغيفَين بملحٍ وماء، فأخذ ليلةً فطرَه فجعل ينظر إليه. قال: ومولاةٌ له سوداءُ تنظر إليه، فقامت فجاءته بشيءٍ من تمر، فأَفطر ثم أحيا ليلَه إلى الصباح، ثم أصبح صائمًا، فلما جاء وقتُ إفطارِه أخذ رغيفًا ومِلحًا وماء، فجعل يعاتب نفسَه ويقول: اشتهيتِ البارحةَ تمرًا فأطعمتكِ إياه، واشتهيتِ الليلةَ تمرًا! لا ذاق داودُ تمرًا ما دام في الدنيا. وروى أبو نُعيمٍ (¬3) عن حمَّادِ بن أبي حنيفةَ قال: قالت مولاةٌ لداودَ الطائي: يا داود، ¬

_ (¬1) في حلية الأولياء 7/ 347. (¬2) في الحلية 7/ 346. (¬3) في الحلية 7/ 351.

لو طبختُ لك دسمًا، قال: فافعلي، قال: فطبختْ له شحمًا، ثم جاءته به، فقال لها: ما فعل أيتامُ بني فلان؟ قالت: على حالهم، قال: اِذهبي به إليهم، فقالت: طبختُه لك وأنت إنَّما تأكل الخبزَ بالماء! فقال: إنِّي إذا أكلته كان في الحُشّ، وإذا أكله الأيتامُ كان عند اللهِ مذخورًا. وروى أبو نُعيم عن محمد بن بِشْر (¬1) العَبدي قال: قال داودُ يومًا لمولاةٍ له: أَشتهي لبنًا، فخذي رغيفًا وائتي البقَّال فاشتري به لبنًا، ولا تُعلمي البقالَ لمن هو. فذهبتْ فجاءته به، فأكل. وفطن البقالُ أنها تريد اللبنَ لداود، فطيّبه له، فقال لها داود: علم البقالُ لمن تشترين اللبن؟ قالت: نعم، قال: اِرفعيه. فما عاد إليه. قال (¬2): وجاءه فُضيلٌ يومًا، فلم يفتخ له، فجلس فضيلٌ خارجَ الباب يبكي، وداودُ يبكي من داخل. قيل لمحمد (¬3): كيف لم يفتح لهم الباب؟ ! فقال: كثَّروا عليه فغمُّوه فحجبهم، فمَن جاء منهم كلَّمه من وراءِ الباب. قال (¬4): وقالت له أمّه: يا بني، لو اشتهيتَ شيئًا اتخذتُه لك، فقال: يا أُمَّاه، أَجيدي؛ فإني أريد أن أدعوَ إِخواني. قال: فاتخذتْ وأَجادت، فقعد على الباب لا يمرُّ به سائلٌ إلا أَدخله وأطعمه، فقالت له أمُّه: لو أكلتَ منه، قال: فمَن أكله غيري؟ فماتت أمُّه، وكانت موسِرة، فأَخرج جميعَ ما تركتْ حتى لصق بالأرض. وروى أبو نُعيمٍ عن إسماعيلَ بن زبَّان قال: حجم داودَ حجَّامٌ، فأعطاه دينارًا لم يملك غيرَه، فقيل له: هذا إِسراف! فقال. لا عبادةَ لمن لا مروءةَ له (¬5). وروى عبدُ الله بن أحمدَ بنِ حنبلٍ قال: قال رجلٌ لداود: لو نحَّيتَ العنكبوتَ عن السَّقف، فقال: أَمَا علمتم أنهم كانوا يكرهون فضولَ النَّظر! ¬

_ (¬1) في (خ): بشران. والمثبت من الحلية 7/ 353. (¬2) في الحلية 7/ 353. (¬3) أي: ابن بشر العبدي. (¬4) في الحلية 7/ 353. (¬5) قوله: فقيل له: هذا إسراف ... ، ليس من رواية إسماعيل بن زبان، بل هو من رواية أبي سعيد السكري، وكلاهما في الحلية 7/ 354.

وروى عبدُ الله بنُ أحمدَ بن حنبلٍ عن ابن المباركِ أنَّه كان يقول؛ وهل الأمرُ إلَّا ما كان عليه داودُ الطائي. وحكى أبو نُعيم (¬1) أنَّ امرأةً من أهل داودَ صنعت ثريدةً بسمن، ثم بعثت بها إليه عند إفطاره مع جاريةٍ لها، قالت الجارية: فوضعتُ القصعةَ بين يديه، فشرع يأكل، وإذا بسائل على الباب، فقام فدفعها إليه وجلس معه على الباب حتى أَكلها، ثم دخل فغسل القَصعة، ثم عمد إلى تمرٍ كان بين يديه قد أعدَّه لإفطاره، فوضعه في القصعة ودفعه إليها وقال: أَقرئيها السَّلام. قالت الجارية: فدفع إلى السائل ما جئناه به، ودفع إلينا ما أَعدَّه لإفطاره، وبات طاويًا. وروى الخطيبُ (¬2) عن إسماعيلَ بن زَبَّانَ قال: قالت دايةُ داود: يا أبا سليمان، أَما تشتهي الخبز؟ فقال: يا داية، بين مَضغ الخبزِ وشُربِ الفَتيت قراءةُ خمسين آية. وروى أبو نُعيم (¬3) عن عبد اللهِ بن صالح العِجلي قال: دخلتُ على داودَ في مرضه الذي مات فيه، وليس في بيته إلَّا دَنٌّ مقيَّر يكون فيه خبزٌ يابس ومِطهرة، ولَبِنة على التُّراب يجعلها تحت وسادة، فهي مِخدَّته، وليس في بيته لا قليلٌ ولا كثير. وقال قَبِيصة: كان يشرب الماءَ السُّخْن، فيقال له: أما نبرِّد لك الماء؟ فيقول: الذي يُبرَّد له الماءُ في الصيف ويسخَّن له الماءُ في الشتاء لا يحبُّ لقاءَ اللهِ تعالى. وقال محمدُ بن حسَّان: قدم محمدُ بن قَحطبةَ الطائيُّ الكوفةَ وكان ابنَ عمِّ داود، فأرسل إلى داودَ ببدْرة (¬4)، فردَّها، فأرسل إليه ببَدرتَين مع مملوكين وقال لهما: إنْ قبلهما فأنتما حُرَّان، فأَتيا إليه، فردَّهما، فقالا: إنَّ في قَبولهما عِتقَنا، فقال: إنْ كان في قبولهما عتقُكما من الرِّقّ، ففيه عِتقُ رقبتي من النار. ولم يقبلْهما، وقال: قولا له يردُّهما على مَن أخذهما منه، فهو أَولى. ¬

_ (¬1) في الحلية 7/ 348. (¬2) في تاريخه 9/ 318. وهو في الحلية 7/ 350. (¬3) في الحلية 7/ 348. (¬4) البدرة: كيس فيه ألف درهم، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار. القاموس المحيط (بدر).

وقال طلحةُ القَنَّاد (¬1): ورث داودُ من ابن عمٍّ له مئةَ ألفِ درهمٍ لم يكن له وارثٌ غيره، فلم يأخذْ منها درهمًا وتصدَّق بالجميع. ذِكر نُبذةٍ من كلامه: ذَكَرَ ذلك ابنُ أبي الدنيا وأبو نُعيم والخطيبُ وصاحبُ "مناقب الأَبرار" وغيرُهم. فمن ذلك ما رواه أحمدُ بن أبي الحَوَاري عنه أنَّه قال: ما أَخرج اللهُ عبدًا من ذُلِّ المعصية إلى عزِّ الطاعةِ إلا أَغناه بلا مال، وأعزَّه بلا جاهٍ وبغير عشيرة، وآنسه من غير جماعة. وقال بكرُ بن محمد: قال لي داود: فرَّ من الناس فرارَك من الأسد. وروى الخطيبُ عن أبي الرَّبيع الأعرجِ أنَّه جاء إلى داودَ من واسط ليسمعَ منه شيئًا ويراه، فأقام على بابه ثلاثةَ أيامٍ لا يصل إليه، قال: كان إذا سمع الإقامةَ خرج، فإذا سلَّم وثب فدخل منزلَه. قال: فجاء فسلَّم يومًا وقد سبقتُه إلى بابه، فلما جاء ليدخلَ قلت: ضيفٌ رحمك اللهُ أتيتك من واسط، وأحبُّ أن تزوِّدَني شيئًا (¬2)، فقال: صُم الدنيا واجعلْ فِطرَك الموت، قلت: زدني، قال: فِرَّ من الناس كفرارك من الأسد، غيرَ طاعنٍ عليهم (¬3) ولا تاركٍ لجماعتهم. قال: فذهبتُ أَستزيده، فوثب إلى المحراب وقال: الله أكبر. وفي رواية: فقلت له: أَوصني، فقال: إن كان لك والدان فبِرَّهما. وروى أبو نُعيم (¬4) عن عبد اللهِ بن إدريسَ قال: قلتُ لداود: أَوصني، فقال: أَقلِل من معرفة الناس، قلت: زدني، قال: ارضَ باليسير من الدنيا مع سلامة الدِّين كما رضي أهلُ الدنيا بالدنيا مع فساد الدِّين، قال: فقلت: زدني، فقال: اجعل الدنيا كيومٍ صمتَه ثم أَفطِر على الموت. ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 9/ 316: عمرو بن طلحة القناد. (¬2) اختصر المؤلف هنا القصة، ففي تاريخ بغداد 9/ 315: قلت: ضيف رحمك الله، قال: إن كنت ضيفًا فادخل، قال: فدخلت فأقمت عنده ثلاثة أيام لا يكلمني، فلما كان بعد ثلاث قلت: رحمك الله أتيتك من واسط وإني أحببت أن تزودني شيئًا .... (¬3) في (خ): عنهم. (¬4) في الحلية 7/ 343.

وروى أبو نُعيمٍ (¬1) عن صَدَقةَ الزاهدِ قال: خرجنا مع داودَ الطائيِّ في جنازة بالكوفة، فقعد داودُ ناحيةً وهي تُدفن، فجاء الناسُ فقعدوا قريبًا منه، فقال: مَن خاف الوعيدَ قَصُرَ عليه البعيد، ومَن طال أملُه ضعف عملُه، وكل ما هو آت قريب، وكلُّ ما يشغلك عن الله من مالٍ وولد فهو عليك مشؤوم، وإنَّ أهلَ القبور إنَّما يفرحون بما يقدِّمون، ويندمون على ما يخلِّفون. وروى أبو نُعيم عنه أنَّه كان يقول: سبقني العابدون وبقيتُ (¬2) وقُطع بي، والهفاه. وروى ابنُ أبي الدنيا عنه أنَّ رجلًا قال له: أَوصني، فقال: إنما الليلُ والنهارُ مراحل، ينزلهما الناسُ مرحلةً بعد مرحلةٍ حتى ينتهيَ بهم ذلك إلى آخر سفرِهم، فإن استطعتَ أن تقدِّمَ في كلِّ مرحلةٍ زادًا لما بين يديها فافعل، فإنَّ انقطاعَ السفر عن قريب، والأمرُ أَعجل من ذلك، فتزوَّد لسفرك، واقضِ ما أنت قاضٍ من أمرك، فكأنَّك بالأمر قد بغتك، إنِّي لَأقول لك هذا وما أَعلمُ أحدًا أشدَّ تضييعًا مني لذلك. وقال أبو نُعيم (¬3): قال رجلٌ لداود: أَوصني، فقال: عسكرُ الموتى ينتظرونك. وقال له رجل: أَوصِني، فقال: لا يراك اللهُ حيث نهاك، ولا يفقِدُك حيث أمرك، فاستحيي من قربه منك وقدرته عليك. وقال أبو نُعيم (¬4): قال رجلٌ لداود: أرأيتَ لو أنَّ رجلًا دخل على هؤلاء الأمراءِ فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟ قال: أخاف عليه السوط، قال: إنَّه يقوَى عليه، قال: أَخاف عليه السَّيف، قال: إنَّه يقوى عليه، قال: أَخاف عليه الداءَ الدَّفين، قال: ما هو؟ قال: العجْب. وقال سهلُ بن بكَّار: كان داودُ يقول: يا سوادَ ليلةٍ لا تُضيء، ويا بُعدَ سفرٍ لا ينقضي. قال: وجلس إليه عُقبةُ بن موسى، فقال له: يا عقبة، كيف يتسلَّى عن الحزن مَن ¬

_ (¬1) في الحلية 7/ 357، وانظر مناقب الأبرار 1/ 177. (¬2) في (خ): أو وقطع. والمثبت من الحلية 7/ 336. (¬3) في الحلية 7/ 356، 358. (¬4) في الحلية 7/ 358.

تتجدَّد عليه المصائبُ كلَّ يوم! فخرَّ عقبةُ مغشيًّا عليه. قال: وقيل له: دلَّنا على رجلٍ نجلس إليه، فقال: تلك ضالَّة لا توجَد. ذِكْر وفاتِه وما يتعلَّق بها: روى أبو نُعيمٍ (¬1) عن حفص بنِ عمرَ الجُعفي قال: اشتكى داودُ أيامًا، وكان سبب علَّته أنه مرَّ بآية فيها ذِكرُ النار، فكرَّرها مرارًا في الليلة فأَصبح مريضًا، فوجدوه قد مات ورأسُه على لَبِنة. وفي روايةٍ (¬2) أنَّه نزع نزعًا شديدًا. وقال حمَّاد بنُ أبي حنيفة: رأى رجلٌ في منامه في الليلة التي مات فيها داودُ أن داودَ يعدو وهو مكشوفُ الرأس، فقال له: إلى أين؟ فقال: الآن تخلَّصتُ من السجن. فانتبه الرجلُ وقد ارتفع الصُّراخ بموت داود. وقد ذكرنا أنَّ ابنَ سعدٍ قال: مات سنةَ خمسٍ وستِّين. وقال الهيثم: سنةَ ستٍّ وستّين ومئة. وقيل: سنةَ ستِّين ومئة. ذِكر ثناء العلماء عليه: قد ذكرنا أن سفيانَ الثوريَّ كان إذا ذُكر عنده داودُ يقول: أَبصر الطائيُّ أمرَه. وقال ابنُ المبارك: وهل الأمرُ إلَّا ما كان عليه داود. وحكى الخطيبُ (¬3) عن محارِب بن دِثارٍ أنَّه كان يقول: لو كان في الأُمم الماضيةِ مثلُ داود، لقَصَّر اللهُ علينا خبرَه. وقال عبدُ العزيزِ بن محمد: رأيتُ داودَ الطائيَّ في المنام على المنبر والناسُ حوله، وفي روايه: رأيتُ في المنام قائلا يقول: مَن يحضر؟ فقلت: أنا، فقال: اسمع كلامَ ذاك العالمِ الذي يخطب ويُخبر عن أعلى المراتبِ ومنازلِ الأولياء. قال: فنظرتُ فإذا داودُ الطائي، ففهمت كلامَه: [من البسيط] ما نال عبدٌ من الرحمن في منزلةً ... أعلى من الشَّوق إن الشَّوقَ محمودُ (¬4) وروى الخطيبُ عن إسحاقَ بن منصورٍ قال: لَمَا مات داودُ الطائي شيَّع الناس ¬

_ (¬1) في الحلية 7/ 340. (¬2) هي في الحلية 7/ 341. (¬3) في تاريخه 9/ 318. (¬4) حلية الأولياء 7/ 360.

عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان

جنازته، فلما دُفن قام ابن السَّماك على قبره فقال: يا داود، كنت تُسهر نومَك إذا الناسُ [ينامون، فقال القومُ جميعًا: صدقت. وكنت تربح إذا الناسُ] (¬1) يَخسرون، فقال الناسُ جميعًا: صدقت، حتى عدَّد فضائلَه كلَّها. فلمَّا فرغ قام أبو بكرٍ النَّهْشلي، فحمد الله، ثم قال: يا ربّ، إن الناسَ قالوا ما عندهم ومبلغَ ما علموا، اللهمَّ فاغفر لداودَ ولا تكِلْه إلى عمله. فكان (¬2) قولُ النهشليِّ أعجبَ إلى الناس من قول ابنِ السمَّاك. أسند داودُ عن جماعةٍ من التابعين، منهم: أبو حنيفة، والأَعمش، وعبدُ الملك بن عُمَير، وحبيبُ بن أبي عَمرة، وحُميدٌ الطويل، وغيرُهم، ومات بالكوفة. انتهت ترجمتُه. عبدُ الرحمن بنُ ثابت بن ثَوبان أبو عبدِ الله العَنْسيُّ الدمشقي. ذكره ابنُ سعدٍ في الطبقة الخامسةِ من أهل الشام (¬3). وكان من الأَبدال، مجابَ الدَّعوة، إذا رأته السِّباعُ خضعت بين يديه. وقد حكى الحافظُ ابن عساكرٍ عنه حكايةً عجيبة رواها عن محمدِ بن حسَّان الجبلي، قال: كان ابنُ ثوبانَ يسكن صَيدا بساحل دمشق، حمل يومًا غِرارةَ قمحٍ على حمارةٍ له، وخرج من صيدا فأَلقاها في الطاحون، وترك الحمارةَ ترعى في المَرْج، فجاء السَّبُعُ فافترس الحمارة، فرأى السبعَ قد افترسها، فصاح به: يا كلب، أَكلتَ حمارتي! تعال فاحمل دقيقَنا، فجاء السَّبعُ فأَلقى على ظهره الغِرارةَ وحملها إلى صيدا، فلمَّا وصل إلى بابها صاح به: قِفْ، فوقف، فأَلقى الغِرارةَ عن ظهره وقال: اذهب يا كلبُ لئلّا يفزعَ الصبيانُ منك، فذهب. وحكى أيضًا (¬4) عن ابن ثوبانَ أنه دخل على المهديِّ فأَغلظ له في الكلام، فغضب المهديُّ وقال له: يا ابنَ ثَوبان، واللهِ لو كان المنصورُ حيًّا لما أَقالكَها، فقال له: لا تقلْ هذا، فواللهِ لو كُشف لك عنه حتى يُخبرَك بما عاينَ وما لقي لَما جلستَ مجلسَك ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 9/ 320. (¬2) قوله: فكان قول ... ، ليس في تاريخ بغداد. (¬3) لم نجده في طبقاته. (¬4) في تاريخه 9/ 893 - 894 (مخطوط). والخبر الأول لم نجده.

وراد العجلي الكوفي

هذا. فبكى المهديّ. قال (¬1): ودعاه أخٌ له فقال: تعشَّ عندي اللَّيلة، فما زال ينتظره حتى طلع الفجر، فلقيه فقال: ما الذي أَبطأَ بك عني؟ فقال: كنتُ في الوتر، فعرضتْ لي روضةٌ خضراء، فما زلت أَنظر فيها حتى أصبحت. وكانت وفاةُ ابنِ ثوبانَ في هذه السَّنة، وقد بلغ تسعين سنة، ومولدُه سنةَ خمسٍ وسبعين. أَسند عن أبيه وعطاءِ بن أبي رباحٍ وأبي الزِّناد وهشامِ بن عروةَ وغيرِهم. وقال الخطيب: قدم بغدادَ وحدَّث بها (¬2). وكان أحمدُ بن حنبلٍ يُثني عليه ويقول: كان أعبدَ أهلِ الشام. ورُوي عنه أنَّه كان صالحًا عابدًا سليمَ الصدر. وقال أبو داود (¬3): كان فيه سلامةُ صدر، ولاه المهديُّ على المظالم ببغداد. ورَّاد العجلي الكوفي من الطبقة السادسةِ من أهل الكوفة، كان من الخائفين البكَّائين. وروى ابنُ أبي الدنيا عن حفص بنِ غياثٍ قال: كنّا عند عمرَ بن ذَرٍّ ذاتَ يوم وهو يتكلَّم، فذكر رواجفَ القيامةِ وزلازلَها، فوثب رجلٌ من بني عِجلٍ يقال له: ورَّاد، فجعل يبكي ويصرخ ويضطرب، فحمل إلى منزله من بين القوم صريعًا، فقال عمرُ بن ذَرّ: يا ليت شعري ما الذي قصَّر بنا وكَلَم قلب ورَّادٍ حتى أبكاه الله! واللهِ إنْ هذا إلَّا من صفاء قلبِه وتراكُم الذنوبِ على قلوبنا. وكان ورَّادٌ يدخل المسجدَ مقنَّعَ الرأس، فيعتزل ناحية، فلا يزال يصلِّي ويبكي ويدعَو ما شاءَ الله. فكان هذا دأبَه، وكان قد عاهد الله ألا يضحك حتى ينظر إليه، وكان يصوم الدهر ويفطر على قُرصَين من شعيرٍ ويقوم الليل، فإذا كان في السَّحر جلس فدعا، وكان من دعائه: إلهي، عبدُك يحبُّ الاتصال بطاعتك، فأَعِنه عليها يا إلهي بتوفيقك أيها المنان، مولاي، عبدك يحب اجتنابَ ¬

_ (¬1) في تاريخه 9/ 893. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 487. (¬3) في (خ): ابن داود. والمثبت من المصادر.

يزيد بن منصور بن عبد الله الحميري

سَخَطك، فأَعِنه على ذلك بتوفيقك، مولاي، عبدُك عظيمُ الرجاءِ لخيرك، فلا تقطع رجاءه يومَ يفرح الصابرون (¬1). فلا يزال على هذا حتى يُصبح، فلمَّا مات وحُمل إلى قبره، إذا اللحدُ مفروش بالرَّيحان، فأخذ بعضُ الذين نزلوا القبرَ منه شيئًا، فمكث عنده سمبعين يومًا طريًّا لا يتغيَّر، والناسُ يأتون إليه فيشاهدونه بُكرةً وعشيًّا، فخاف الأميرُ أن يفتتنَ الناس، فأَرسل فأخذه، ففقده الأميرُ من منزله فلا يُدرَى أين ذهب. يزيد بن منصورِ بن عبد الله الحِميَري خالُ المهدي. ولَّاه المنصورُ البصرةَ واليمن والولاياتِ العظيمة، وكذا المهديّ، وكان شجاعًا حازمًا جَوَادًا، محترمًا في بني العبَّاس. وقد ذكرنا أنه حجَّ بالناس في سنة تسع وخمسين ومئة، وسنةِ ستِّين مع المهدي (¬2)، وكانت وفاتُه بالبصرة في هذه السَّنة بالاتفاق، واللهُ أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في المنتظم 8/ 280، وصفة الصفوة 3/ 162: الفائزون. (¬2) لم يحج سنة ستين مع المهدي، بل استخلفه مع ابنه الهادي على بغداد. انظر تاريخ الطبري 8/ 132 - 133، والمنتظم 8/ 238، والكامل 6/ 48.

السنة السادسة والستون بعد المئة

السَّنة السادسة والستُّون بعد المئة فيها عقد المهديُّ البَيعةَ لابنه هارونَ بعد موسى. ولقَّبه الرَّشيد، وكان هارونُ قد عاد من القُسطنطينية سالمًا غانمًا ومعه من المال ما كان تقرَّر بينه وبين المَلِكة، فقدم بغدادَ في المحرَّم. وفيها غضب المهديُّ على وزيره يعقوبَ بنِ داودَ وحبسه في المُطْبِق، فأقام سبعَ عشْرةَ سنةً محبوسًا، ثم أُخرج في أيَّام هارون، وسنذكره في سنة اثنتين وثمانين ومئة. وفيها اعتمر المهديُّ في رمضان، ومضى إلى المدينة فصلَّى بالناس صلاةَ الفِطر وخطب، وأَطلق المهديُّ عبدَ الصمد بنَ عليٍّ من حبسه. وفيها أَجدبت البلاد، فأمر المهديُّ الناسَ أن يَستسقوا، فذكر مصعبُ بن عبدِ الله الزُّبيريُّ عن الفضل بنِ الربيع قال: قُحِطَ الناسُ في سنة ستٍّ وستين ومئة، فنادى المهديُّ في الناس بأن يصوموا ثلاثةَ أيامٍ ويخرجوا في اليوم الرابعِ للاستسقاء، فصاموا ثلاثةَ أيامٍ وخرجوا في اليوم الرابعِ فسُقوا. وقيل: إنَّ الثلجَ نزل في الليلة الثالثة، فقال لَقيطُ بن بُكيرٍ (¬1) المحاربيُّ في ذلك هذه الأبيات: [من الخفيف] يا إِمامَ الهدى سُقينا بك الغيـ. ... ـــــثَ وزالت عنَّا بك اللَّأواءُ بتَّ تدعو الإلهَ والناسُ نُوَّا ... مٌ (¬2) عليهم من الظَّلام غِطاءُ رقدوا حيث طال ليلُك فيهم ... لك خوفٌ تضرُّعٌ (¬3) وبكاءُ فسُقينا وقد قُحِطنا وقلنا ... سنَةٌ قد تنكَّرت (¬4) شهباءُ بدعاءٍ أَخلصته في ظلام الـ ... ــــــليلِ لله فاستُجيب (¬5) الدُّعاءُ بثلوجٍ تحيا بها الأرضُ حتى ... أَصبحتْ وهي زهر خضراءُ ¬

_ (¬1) في (خ): بكر. والمثيت من تاريخ الطبري 8/ 183. (¬2) في (خ): نيام. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬3) في (خ): وتضرع. ولا يستقيم به الوزن. (¬4) في (خ): ناكدت. وهو خطأ. (¬5) في (خ): فاستجاب. والمثبت من تاريخ الطبري.

خالد بن برمك، أبو العباس

وفيها أمر المهديُّ بإِقامة البريدِ من اليمن إلى مكَّة، ومن مكَّةَ إلى بغداد، ولم يكن قبل ذلك. وفيها أُتي المهديُّ بجماعةٍ من الأَعيان اتُّهموا بالزَّندقة، فاستتابهم المهديُّ وأطلقهم، وكان منهم داودُ بن رَوح بنِ حاتم، وكان أبوه روحُ بن حاتِمٍ عاملًا عَلى البصرة، فمنَّ المهديُّ على داود، ثم أَرسله إلى أَبيه وقال له: أَدِّب ولدَك. وحجَ بالنَّاس إبراهيمُ بن يحيى بنِ محمدٍ وهو على المدينة، واللهُ أعلم. وفيها توفِّي خالدُ بن بَرْمَك، أبو العباس ولد سنةَ تسعين، وكان يختلف إلى محمَّد بنِ عليٍّ (¬1) بالحُمَيمة، فلما مات محمدٌ اختلف إلى إبراهيمَ الإِمام، ولما قُتل أبو سَلَمةَ الخلَّالُ أمره أبو العباسِ أن يقرأَ الكتبَ عليه ويُجيبَ عنها، ولم يزل أمرُه يعلو حتَّى تُوفِّي السفَّاح وهو كاتبُه (¬2)، وكان يكره هو والعقلاءُ أن يقال: الوزير؛ لقول سليمانَ بنِ مهاجرٍ في قتل أبي سَلَمة: [من الكامل] إنَّ الوزيرَ وزيرَ آلِ مُحَمَّدٍ ... أَودَى فمَن يشناك كان وزيرًا وأمُّ خالد بنتُ يزيدَ امرأةُ خالدِ بن بَرْمكَ أَرضعت ريطةَ بنتَ السَّفَّاح بلِبان أمِّ يحيى بنتِ خالد، وأَرضعت أمُّ سلمةَ المخزوميةُ زوجةُ السفَّاح أمَّ يحيى بنتَ خالدٍ بلِبان ابنتِها ريطة، فدخل خالدٌ يومًا على السفَّاح، فقال له: يَا خالد، أَمَا رضيتَ حتَّى استخدمتَي؟ ففزع خالد وقال: كيف وأنا عبدُك؟ ! فضحك وقال: ريطة ابنتي تنام مع ابنتك أمِّ يحيى في مكانٍ واحد، فأَنتبهُ بالليل وقد انكشفتا، فأَقوم فأمدُّ اللِّحافَ عليهما، فقبَّل خالدٌ يديه وقال: مولًى يؤجَر في عبده وأَمَته. وأمُّ خالدِ بن بَرْمك أَمَةُ الله بنتُ صُول. ولما تُوفِّي أبو العباسِ أقرَّه أبو جعفرٍ على وزارته مُدَيدة، ثم استوزر أَبا أيوبَ المورياني، وكان أبو جعفرٍ يأنس بخالد, وكان أبو أيوبَ يحسُده، فأراد أن يُبعدَه عنه، ¬

_ (¬1) هو والد السفاح. انظر تاريخ دمشق 5/ 413 (مخطوط)، وتاريخ الإِسلام 4/ 350. (¬2) تاريخ الطبري 7/ 450.

فاتفق هجومُ الأكرادِ على فارس، فاشتدَّ ذلك على أبي جعفر، فاستشار أَبا أيوبَ وقال: انظر رجلًا أولِّيه فارس، فقال: ما أعرفُ رجلًا يقوم بها مثلَ خالد، فقال: صدقت. وعقد له على فارسَ وولَّاه حربها وخَراجها، وإنما كان يلي الحربَ واحدٌ والخراجَ آخَر، فكان خالدٌ أولَ مَن جُمع له الحربُ والخراج في دولة بني العباس، فسار إلى فارسَ ومعه وجوهُ النَّاس، وانتجعه الشعراءُ ومدحوه. وقال أبو عمرٍو العمراوي: أَجمع النَّاسُ ممن عرفناه من السادات والملوك والعلماءِ أنَّه ما بلغ مبلغَ خالدِ بن بَرمكَ أحدٌ من ولده، وأنَّ الفضائل التي (¬1) تفرَّقت فيهم اجتمعت فيه، كان فوق يحيى في رأيه وحِلمه، وفوق الفضلِ في سَخائه وكرمه، وفوق جعفرٍ في كتابته وفصاحته، وفوق محمدٍ في حُسن أُبَّهته، وفوق موسى في بأسه وشجاعته. ثم تصرَّفت الولاياتُ بخالد، وجرت له مع أبي جعفرٍ قِصص، وأَغرمه ثلاثةَ آلافِ أَلْف درهم، وولَّاه الموصل، فمات أبو جعفرٍ وهو عليها وابنُه يحيى على أَذْرَبيجان. ولما مات المنصورُ أقرَّه المهديُّ على الموصل وزاد فارسَ وأعمالها، فبعث ابنَه يحيى إليها، ثم ولي الرَّي، وكان مع المهديِّ بطَبَرِسْتان. وخالدٌ أوَّل مَن سمّى المنتجِعين الزوَّار، وكانوا يسمَّون السؤَّال، فقال ابنُ حُبيباتٍ (¬2) يزيدُ بن خالدٍ الكُوفيّ (¬3): [من الطويل] حذا خالدٌ في جُوده حَذْوَ بَرْمَكٍ ... فمجدٌ له مستطرَفٌ وأَثيلُ فسمَّاهم الزُّوَّارَ سَترًا عليهمُ ... وذلك مِن فعل النَّبيلِ نبيلُ ومِن مدحه في خالد: [من البسيط] لم يبقَ إلَّا الذي شيرازُ منزلُه ... أَعني ابنَ برمكَ مِمَّن يُرتجى أَحدُ إنْ أَنْتَ لم تنقلب من خالدٍ بغنًى ... فاقعدْ فقد مُلك المعروفُ والصُّعدُ وما أحدٌ من أهل خراسانَ إلَّا ولخالدٍ عليه مِنَّة ويد، وعلى غيرهم، وما كان له ¬

_ (¬1) في (خ): الذي. (¬2) في (خ): حيان. وهو خطأ. (¬3) وكذا في الوافي 13/ 248، والبيتان في ديوان بشار بن برد 2/ 465، ونسبهما له صاحب الأغاني 3/ 173.

صاحبٌ وله دارٌ إلَّا وهي من نعمة خالد، ولا بستانٌ ولا قريةٌ ولا ابنٌ إلَّا وأمُّ ولدِه من خالد، ولا نعمةٌ إلَّا وخالدٌ أصلُها، وأَوقف على أبنائهم الأَوقاف. وخرج خالدٌ مع قَحطبةَ لمحاربة ابنِ ضبارة (¬1)، فنزلوا بعيدًا منه ولم يستعدُّوا للقائه، فجلس قحطبةُ وخالدٌ يومًا على سطح في قرية، وإذا بقطيعٍ من الوحش والظِّباء قد خالطت العسكر، فصاح خالد: اِلبسوا السلاحَ فقد دهمكم العسكر، فلبسوا، وإذا بابن ضبارةَ قد أَقبل في جيوشه، والتقَوا فاقتتلوا، فقُتل ابنُ ضبارة وغنموا عسكرَه، فقال قحطبةُ لخالد: من أين علمت؟ فقال: رأيت قُطعانَ الوحش والظباءِ قد أَقبلت خالطت العسكر، ومن صفتها أن تنفِر، فعلمتُ أنَّه قد دهمها جيشٌ عظيم، فخالطت الإنسَ من خوفها منه. وهجا أبو سَمَاعةَ المُعَيطيُّ خالدًا ويحيى فقال: [من الخفيف] زرتُ يحيى وخالدًا مخلِصًا للَّه ... [دِيني] (¬2) فاستصغرا بعضَ شاني ولو أنِّي أَلحدتُ في الله يومًا ... ولو أنِّي عبدتُ ما يعبدانِ ما استخفَّا فيما أظنُّ بشأني ... ولأَصبحتُ منهما في مكانِ إنَّ شَكلي وشكلَ مَن يجحد ... الله وآياتِه لَمختلفانِ وبلغ خالدًا فلم يقل شيئًا، وكان حليمًا، وبقيت في قلب يحيى، فلما مات خالدٌ وولي يحيى الوزارةَ دخل عليه المُعَيطي، فلما رآه يحيى قال: مَن القائل: زرتُ يحيى وخالدًا مخلصًا لله؟ قال: ما أعلم. فاستحلفه بالله وبطلاق زوجتِه وصدقةِ ماله أنَّه ما يعلم مَن قاله، فحلف، فالتفت يحيى إلى أصحابه وقال: نحتاج نجدِّد لأبي سَمَاعةَ منزلًا وزوجة، يَا غلام، أَعطِه عشرةَ آلافِ درهمٍ وتختًا من الثياب، فأَعطاه، وخرج المعيطيُّ فقال: ما أَصنع بابن الزانية [أبي] (¬3) إلَّا كرمًا، وبلغت يحيى، فاستدعاه فقال: ما الذي قلت؟ ¬

_ (¬1) في الوافي 13/ 248: لمحاربة يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 5/ 413 (مخطوط). (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق.

فأَنكر وقال: حسدوني، فقال يحيى: لا أَعدمك اللهُ ما جبلك عليه من لؤم طباعِك ومذمومِ أخلاقك، وما هو إلَّا كما قال عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: المؤمنُ لا يَشفي غيظَه. ثم إن المُعَيطيَّ هجا سليمانَ بنَ أبي جعفر، وكان محسِنًا إليه، فضربه مئة سَوطٍ وحلق رأسَه ولحيتَه (¬1). ذِكْر وفاةِ خالد: كان المهديُّ قد أَشخصه إلى الغزو لبلاد الرومِ مع ابنه هارون، فمات أخوه الحسنُ بن برمكَ في تلك الغَزاة، فجزع عليه ومرض، ودخل بغدادَ وهو مريض، فبعث إليه المهديُّ من عنده أَكفانًا وحَنُوطًا، وبعث ابنَه موسى بنَ المهدي فصلَّى عليه، وذلك في جمادى الأُولى من هذه السَّنةِ (¬2) وهو ابنُ خمسٍ وسبعين سنة. * * * ¬

_ (¬1) فُعل به ذلك بأمر من هارون الرشيد، كما في تاريخ دمشق. (¬2) ذكرت المصادر وفاته في سنة 165، أو 163. انظر تاريخ دمشق 5/ 414، ووفيات الأعيان 1/ 332، وتاريخ الإسلام 4/ 350، والوافي 13/ 248.

السنة السابعة والستون بعد المئة

السَّنة السابعةُ والستُّون بعد المئة فيها جدَّ المهديُّ في طلب الزَّنادقة، وكتب إلى الآفاق بسببهم، وقتل صالحَ بن عبدِ القُدُّوس، وأُحضر بين يديه آدمُ بن عبدِ العزيز بنِ عمرَ بن عبدِ العزيز -وكان شاعرًا ماجنًا خَليعًا ثم تنسَّك، وكان يُرمى بالزَّندقة- فقال له المهديّ: زعموا أنك زِنديق، فأَنكر، فضربه ثلاثَ مئةِ سَوط، فقال: واللهِ ما أشركتُ بالله طَرْفَة عين، ولو قطعتَني إِرْبًا إربًا ما أَقررتُ على نفسي بباطل، قال: ألستَ القائل: [من مجزوء الرمل] اسقني واسق خليلي ... في مدى الليلِ الطويلِ قهوةً صفراءَ (¬1) صِرْفًا ... سُبيتْ من نهر بِيلِ (¬2) قل لمن يلحاكَ فيها ... من فقيهٍ أو نبيلِ أَنْتَ دعْها وارجُ أخرى ... من رَحيق السَّلسبيلِ فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، كنتُ فتًى من فِتيان قريشٍ أَمجُن مع الفتيان بلساني، واعتقادي مع ذلك التوحيدُ والإيمانُ بالله، فلا تؤاخذني بما أَسلفت، فالتوبة تَجبُّ ما قبلها، واحفظْ فيَّ عُمَر، فخلَّى سبيلَه. وبات آدمُ ليلةً ببغداد فأَكلته البراغيث, فقال: [من الطَّويل] تطاولَ في بغدادَ ليلي ومَن يَبِت ... ببغدادَ يلبث [ليلَه] غيرَ راقدِ بلادًا (¬3) إذا زال النهارُ تقافزت ... براغيثُها من بين مثنَى وواحدِ دَيازِجةٌ (¬4) شُهْبُ البطونِ كأنها ... بِغالُ بريدٍ سُرِّحت في مواردِ وهذه الأبياتُ من قصيدةٍ يمدح فيها الرَّيّ، أولُها: هنيئًا لَأهل الرَّيِّ طِيبُ بلادِهم ... وواليهم الفضلُ بن يحيى بنِ خالدِ ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 7/ 485 وتاريخ دمشق 2/ 657 (مخطوط)، وتاريخ الإِسلام 4/ 577: صهباء. (¬2) نهر في بغداد. (¬3) في تاريخ بغداد 7/ 484: بلاد. (¬4) الديزج: معرب ديزه، وهي لون بين لونين غير خالص. لسان العرب (دزج).

بشار بن برد

وفيها أمر المهديُّ يقطينَ بن موسى بزيادةٍ في المسجد الحرام، وكان ضيِّقًا، فقدم يقطينُ فاشترى دُورًا كثيرةً وأَدخلها في المسجد، فمات المهديُّ ولم يتمَّ بناؤه. وفيها (¬1) أَظلمت الدنيا ظلمةً شديدة لليالٍ بقينَ من ذي الحِجَّة، وأَمطرت السماءُ رملًا أَحمر، ودام ذلك، ثم وقع عقيبَه وباءٌ شديد هلك معظمُ أهلِ بغدادَ والبصرة، وأقامت الْظُّلمة من السَّحر حتَّى ارتفع النهار. وفيها توفِّي عيسى بنُ موسى. وحجَّ بالنَّاس إبراهيمُ بن يحيى بن محمدٍ وهو على المدينة، ولَمَّا عاد إلى المدينة توفِّي بعد الحجِّ بأيام، وولَّى المهديُّ المدينةَ إسحاقَ بن عيسى بنِ علي. وفيها توفِّي بشَّارُ بن بُرْد أبو معاذٍ العُقَيلي الشَّاعر، مولى بني عُقَيل، ويقال له: المرعَّث؛ لقوله: [من مجزوء الخفيف] مَن لظَبْيٍ مرعَّثٍ (¬2) ... فاتنِ الطَّرْفِ والنظرْ قال لي لستَ نائلي (¬3) ... قلتُ أو يَغلب القَدَرْ وُلد وهو أَعمى، وكان يأتي من التَّشبيهات بما لا يقدر أن يأتيَ بمثله البُصَراء، مثل قولِه: [من الطَّويل] كأنَّ مَثارَ النَّقْع فوق رؤوسِنا (¬4) ... وأَسيافَنا ليلٌ تَهاوَى كواكبُهْ وكان بشارٌ شاعرًا خطيبًا، صاحبَ منثورٍ ومِزْواجٍ (¬5) وسَجْع ورسائل، وهو المقدَّم في الشعراء المحدَثين، وهو بصريٌّ قدم بغداد، وشهد له أبو تَمَّامٍ بالفضل، وقال الشِّعرَ ولم يبلغ عشرَ سنين، وقال ثلاثةَ عشَرَ ألفَ بيتٍ جيِّد، فمنه: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) في (خ): وقال ولعله سهو. (¬2) في ديوان بشعار 2/ 414 (ملحقات قافية الراء): قال ريم مرعث. وأخرج الخَطيب في تاريخه 7/ 610 عن أبي عبيدة: قيل لبشار المرعث لأنه كان يليس في أذنه وهو صغير رعاثًا، والرعاث: القُرْط. (¬3) في الديوان: لست والله نائلي. (¬4) في الديوان 1/ 273: رؤوسهم. (¬5) كذا في (خ)، والمنتظم 8/ 289، ولعله أراد: ومزدوج، كما في البيان والتبيين 1/ 49. قال ابن منظور في لسان العرب (زوج): وازدوج الكلام وتزاوج: أشبه بعضه بعضًا في السجع أو الوزن. وانظر معجم المصطلحات البلاغية ص 651.

ولها مِيسَمٌ كثَغر (¬1) الأَقاحي ... وحديثٌ كالوَشي وشيِ البُرودِ نزلتْ في السَّواد من حَبَّة القلـ ... ـبِ وزادت زيادةَ المستزيدِ (¬2) عندها الصبرُ عن لقائي وعندي ... زَفَراتٌ تأكلن صبرَ الجليدِ ومنه: [من مجزوء البسيط] قالوا العَمَى منكرٌ قبيحٌ ... قلت لفقدي لكمْ يهونُ واللهِ ما في الأَنام شيءٌ ... تأسَى على فقده العيونُ (¬3) أخذه أبو العلاءِ المعرِّيُّ فقال: [من السريع] أَبا العَلَا يَا ابنَ سليمانا ... إنَّ العَمَى أَولاك إِحسانا لو عاينتْ عيناك هذا الورى ... لم يرَ إنسانُك إنسانًا (¬4) وكان أبوه يضربه ويقول: كفَّ لسانَك عن النَّاس، فقال له: يَا أَبَة، لا تضربْني، وقيل لهم إذا شكَوني إليك: ليس على الأَعمى حَرَج. فقال لهم ذلك، فقالوا: فِقهُ بُرْدٍ أضرُّ علينا من شِعر بشار. ومن شِعره في ابن هُبَيرةَ من أبيات: [من الطَّويل] إذا كنت في كلِّ الأمورِ (¬5) معاتبًا ... خَليلَك لم تلقَ الذي لا تعاتبُهْ إذا أَنْتَ لم تشربْ مِرارًا على القَذَى ... ظمئتَ وأيُّ الناسِ تصفو مشاربُهْ فعِشْ واحدًا أو صِلْ أخاك فإنَّه ... مقارِفُ ذنبٍ (¬6) مرَّةً ومجانبُهْ أخوك الذي إنْ تدعُه لمُلِمَّة ... يُجِبْك وإنْ عاتبتَه لانَ جانبُهْ إذا كان خرَّاجًا أخوك من الهوى ... توجِّهُه في كلِّ إِرْبٍ ركائبُهْ فخَلِّ له وجهَ الفراقِ ولا تكن ... مطيَّةَ رحَّالٍ بعيدٍ مذاهبُهْ فأعطاه ابنُ هُبيرةَ أربعين ألفًا. وقيل: إنها للمتلمِّس. ¬

_ (¬1) في الديوان 2/ 5: مضحك كفر. (¬2) هذا البيت من ملحقات قافية الدال 2/ 230. (¬3) الديوان 2/ 539، باختلاف يسير. (¬4) قال الصفدي في نكت الهميان ص 75: ومن المنحول لأبي العلاء المعري ... ثم ذكرهما. (¬5) في الديوان 1/ 266: الذنوب. (¬6) في (خ): ذنبًا.

الحسن بن صالح بن حي

ذِكرُ وفاته: بلغ المهديَّ أنَّه هجاه، وشهد قومٌ عليه بالزندقة، فأمر المهديُّ بضربه، فضُرب ضربَ المتلف، فمات وقد بلغ نيِّفًا وتسعين سنة. وقيل: سعى به يعقوبُ بن داودَ إلى المهديِّ وقد هجا أخاه صالحًا لَما ولَّاه المهديُّ البَطِيحةَ والأهوار فقال: [من الطَّويل] همُ حملوا فوق المنابرِ صالحًا ... أَخاك فضجَّت من أخيك المنابرُ (¬1) وبلغ يعقوب، فدخل على المهديِّ فقال: إنَّ هذا الأعمى الزنديقَ قد هجاك، فقال: وما الذي قال: فقال: أَوَ تُعفيني؟ فقال: لا بدّ، فقال: قال: [من السريع] خليفةٌ يزني بعمَّاته ... يلعب بالدُّفِّ وبالصَّولجانْ أَبدلنا اللهُ به غيرَه ... ودسَّ موسى في حِرِ (¬2) الخَيزُرانْ وكان بشارٌ لما استولى يعقوبُ على المهديِّ وولَّى الزيديةَ نفائسَ الأعمالِ هجاه فقال: [من البسيط] بني أُميةَ هبُّوا طال نومكمُ (¬3) ... إنَّ الخليفةَ يعقوبُ بنُ داودِ ضاعت خلافتكمْ يَا قومُ فاطَّلبوا ... خليفةَ الله بين النارِ والعُودِ فقال المهدي: عليَّ به. فخاف يعقوبُ أن يَقدَمَ على المهديِّ فيمدحَه فيعفوَ عنه، وكان بشارٌ بالبَطِيحة، وقيل: بالبصرة، فأرسل يعقوبُ غِلمانًا ليُحضروه إلى المهديِّ وقال لهم: غرِّقوه في الخرَّارة بالبَطِيحة. وقيل: إن المهديَّ قتله ودفنه على حمَّاد عَجْرد على تلّ. فإن صحَّت هذه الرواياتُ فقد تقدَّمت وفاتُه؛ لأن المهديَّ نكب يعقوبَ في سنة ستٍّ وستِّين ومئة، وعلى قول مَن يقول: إنه دُفن على قبر عَجْرد، فقد تأخَّرت وفاته؛ لأنَّ عَجْردًا هلك سنةَ ثمانٍ وستِّين ومئة، والله أعلم. الحسنُ بن صالحِ بن حَيّ أبو عبدِ الله الكُوفيّ، من الطَّبقة السادسة. كان ناسكًا عابدًا فقيهًا وَرِعًا، كان يسمَّى ¬

_ (¬1) الديوان 2/ 404 (ملحقات قافية الراء). (¬2) الحِر: فرج المرأة. والبيتان في الديوان 2/ 534. (¬3) رواية الديوان 2/ 155: يَا أيها النَّاس قد ضاعت خلافتكم.

صالح بن عبد القدوس

حيَّةَ الوادي؛ لأنَّه ما كان ينام الليلَ ولا يقبل بِرَّ أحد، وكان يُفطر على خُبز الشعير. وقال: فتَّشنا على الورع فلم نجدْه في شيءٍ أعزَّ منه في اللسان. وقام ليلة بـ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)} [النبأ: 1] يردِّدها ويبكي ويغشى عليه، ثم يُفيق فيردِّدها إلى الصباح. وكان يصلِّي الليل كلَّه ثم يجلس في مصلاه، ويجلس أخوه عليٌّ يبكي في حجرته، وتجلس أمُّهما تبكي في غرفتها. وقال خَلَف بنُ تميم: لما مات عليٌّ وماتت الأمُّ ومات حسن، رأيتُه في المنام، فقلت: ما فعلت الوالدة؟ فقال: بُدِّلت واللهِ بذاك البكاءِ سرورَ الأبد. قلت: وعليٌّ وأنت؟ فقال: وهل نتَّكل إلَّا على عفوه. وكان حسنٌ إذا صعد المنارةَ ليؤذِّنَ أَشرف على المقابر، فإذا نظر إلى الشَّمس تحوم على القبور صرخ وغُشي عليه، فيُحمل إلى منزله. وكان إذا خرج في جنازةٍ فنظر إلى اللَّحد فيغشى عليه، فيُحمل على النَّعش إلى بيته. وكان لَمَّا مات ابنَ ستِّين سنة، واتفقوا على أنَّه كان ثقةً صحيحَ السَّماع كثيرَ الحديث. أَسند عن أبي إسحاقَ السبيعي وأعيانِ التابعين، وشغله الخوفُ عن الرواية. صالحُ بن عبد القُدُّوس أبو الفضلِ البَصْرِيّ، مولى الأَزد. كان شاعرًا فصيحًا فاضلًا متكلِّمًا، وله الشعرُ الرائقُ في الزُّهد وغيرِه، وقد اتَّهمه المهديُّ بالزَّندقة فأَمر بحمله إليه، فلمَّا خاطبه أَعجبه غزارةُ علمِه وأدبُه وحُسنُ بيانه، فأَمر بإطلاقه، فلما ولَّى ردَّه وقال له: ألستَ القائل: [من السريع] والشيخُ لا يترك أخلاقَه ... حتَّى يوارَى في ثرى رَمْسِهِ إذا ارعوى عادَ إلى جهله ... كذي الضَّنَى عاد إلى نُكسهِ قال: بلى، قال: وأنت لا تترك أخلاقَك (¬1)، ونحن نحكم فيك بحكمك. ثم أَمر به فقُتل وصُلب على الجسر. ¬

_ (¬1) في (خ): أخلاقه. والمثبت من المصادر، انظر طبقات الشعراء لابن المعتز ص 90، وتاريخ بغداد 10/ 413، ووفيات الأعيان 2/ 493، وتاريخ الإِسلام 4/ 411.

وأوَّل هذه الأبيات: وإنَّ مَن أدَّبتَه في الصِّبا ... كالعُود يُسقى الماءَ في غرسهِ حتَّى تراه ناضرًا مُورِقًا ... بعدَ الذي أَبصرتَ من يُبسه والقَ أخا الضِّغْن بإِيناسه ... ليدركَ الفرصةَ في أُنسه كاللَّيث لا يَفرِس أَقرانَه ... حتَّى يرى الفُرصةَ في فَرْسه ما يبلغ الأعداءُ من جاهلٍ ... ما يبلغ الجاهلُ من نفسه والشيخُ لا يترك أخلاقَه ... حتَّى يوارَى في ثَرَى رَمسه إذا ارعوى عادَ إلى جهله ... كذي الضَّنى عاد إلى نُكسه ومن شِعره: [من الكامل] المرءُ يجمع والزمان يفرِّق ... ويظلُّ يَرْقع والخطوبُ تمزِّقُ ولَأَن يعاديَ عاقلًا خيرٌ (¬1) له ... من أن يكونَ له صديقٌ أحمق فارغبْ بنفسك لا تصادقْ أَحمقًا ... إنَّ الصديقَ على الصديق مصدَّق وزِن الكلامَ إذا نطقتَ فإنما ... يُبدي عيوبَ ذوي العقولِ المنطق ومن الرِّجال إذا استوت أخلاقُهمْ (¬2) ... مَن يُستشار إذا استُشير فيُطْرق حتَّى يُجِيلَ بكلِّ وادٍ قلبَه ... فيرى ويعرف ما يقول فيَنطِق وإن امرؤٌ لسعتْه أَفعى مرَّة ... تركتْه حين يُجَرُّ حبلٌ يَفْرَق لا أَلقينَّك (¬3) ثاويًا في غُربةٍ ... إنَّ الغريبَ بكلِّ نَبلٍ يُرشَق ما النَّاسُ إلَّا عاملان فعاملٌ ... قد مات من عطشٍ وآخَرُ يَغرق والناسُ في طلب المعاشِ وإنَّما ... بالجَدِّ يُرزق منهمُ مَن يُرزق لو يُرزقون على وِزان عقولهمْ ... أَلفيتَ أكثرَ مَن ترى يتصدَّق وإذا الجنازةُ والعروسُ تلاقيا ... أَلفيتَ مَن تبع العَرائِسَ (¬4) يعبق ¬

_ (¬1) في (خ) وتاريخ بغداد 10/ 414: خيرًا، والمثبت من تاريخ الإِسلام 4/ 412. (¬2) في تاريخ بغداد، ووفيات الأعيان 2/ 493: أحلامهم. (¬3) في (خ): لألقينك. وهو خطأ. (¬4) في (خ): الجنازة. وهو خطأ. والمثبت من المصادر.

ورأيتَ مَن تبع الجنازةَ باكيًا ... ورأيت دمعَ جوانحٍ (¬1) يترقرق لو سار ألفُ مدجَّجٍ في حاجةٍ ... لم يقضِها إلَّا الذي يترفَّق إن الترفُّقَ للرفيق موافقٌ ... وإذا تسابق فالترفُّق أَسبَق بقي الذين إذا يقولوا يَكذِبوا ... ومضى الذين إذا يقولوا يَصْدُقوا (¬2) وقال: [من البسيط] إنَّ الغنيَّ الذي يرضى بعيشته ... لا مَن يظلُّ على ما فات مكتئبا لا تحقرنَّ من الأيام محتقَرًا ... كلُّ امرئٍ سوف يُجزى بالذي كسبا قد يحقر المرءُ ما يَهوى فيركبه ... حتَّى يكونَ إلى توريطه سببا إنَّ العدوَّ إذا أَبدى مُكاشرَةً ... إذا رأى منك يومًا فرصةً وثبا إذا وترتَ امرأً فاحذرْ عداوتَه ... مَن يزرع الشوكَ لا يحصدْ به عِنَبا (¬3) وقال: [من الوافر] أَنِستُ بوحدتي ولزمتُ بيتي ... وطاب العيشُ لي ونما السرورُ وأدَّبني الزمانُ فصرتُ فردًا ... وحيدًا لا أُزار ولا أَزور ولستُ بقائلٍ ما دمت حيًّا ... أَسار الجيشُ أم ركب الأَمير ومَن يكُ جاهلًا برجال دهري ... فإنِّي عالمٌ بهمُ خبير (¬4) وقال: [من الكامل] لا يُعجبنَّك مَن يصون ثيابَه ... حَذَرَ الغبارِ وعِرضُه مبذولُ ولربَّما افتقر الفتى فرأيتَه ... دَنِسَ الثيابِ وعِرضُه مغسول (¬5) وقال: [من الطَّويل] تخيَّرْ من الإِخوان كلَّ ابنِ حُرَّةٍ ... يسرُّك عند النائباتِ بلاؤهُ ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد: نوائح. (¬2) وقع في هذا البيت اضطراب في (خ)، فأثبت ما في تاريخ بغداد. (¬3) الأبيات الثلاثة الأوَل في تاريخ دمشق 8/ 205 (مخطوط)، وتاريخ بغداد 10/ 415، ووفيات الأعيان 2/ 493. والييتان الأخيران في تاريخ دمشق 8/ 506. (¬4) تاريخ دمشق 8/ 205. (¬5) تاريخ دمشق 8/ 204.

وقارِنْ إذا قارنتَ حُرًّا فإنَّما ... يَزين ويُزري بالفتى قُرناؤه حبيبًا وفيًّا ذا حِفاظٍ بغَيبةٍ ... وبالبِشر والبُشرى يكون لقاؤه أريبًا إذا شاورتَ في كلِّ مُشْكلٍ ... أديبًا يسوءُ الحاسدين بقاؤه فلن يَهلِكَ الإنسانُ إلَّا إذا أتى ... من الأمر ما لم يرضَه نُصحاؤه تمسَّك بهذا إنْ ظفرتَ بوُدِّه ... فيَهنيك منه وُدُّه ووفاؤه (¬1) قال: [من الطَّويل] تجنَّبْ قرينَ السُّوءِ واصرِمْ حباله ... فإنْ لم تجد عنه مَحيصًا فدارهِ ومَنْ يطلب المعروفَ من غير أهلِه ... يجدْه وراءَ البحرِ أو في قراره ولله في عَرْض السَّماواتِ جنَّةٌ ... ولكنَّها محفوفةٌ بالمكاره وقال: [من السريع] كلٌّ إلى الغاية محثوثُ ... والمرءُ موروث ومبعوثُ فكن حديثًا حَسَنًا سائرًا ... بعدَك فالدنيا أحاديث (¬2) واختلفوا في قتله هل قتله المهديُّ أو عاش بعدَه، فقال الخَطيب (¬3): قتله المهديّ، وكان قد هجاه، وبلغه عنه أنَّه عرَّض برسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في أبيات. وقال أبو اليقظان: كان صالحٌ يناظر أَبا الهُذيل العلَّاف المعتزليَّ ويظهر عليه دائمًا ويحمِّقه ويستجهله، فحمله ذلك على أن صنَّف كتابًا في الزَّندقة وعزاه إلى صالح، وبعث به إلى المهديِّ وقال: هذا تصنيفُ صالح، فقتله المهديُّ في آخر سنةِ ثمانٍ وستِّين ومئة، ومات المهديُّ في المحرَّم أوائلَ سنةِ تسعٍ وستِّين ومئة، فكان بينهما أقلُّ من شهر. وقال أحمدُ بن عبدِ الرَّحْمَن المعبِّر: رأيت صالحًا في منامي ضاحكًا مستبشرًا، فقلت له: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: وردتُ على ربٍّ لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته وقال: قد علمتُ براءتك مما رُميتَ به، فطِبْ نفْسًا وقرَّ عينًا. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 206. (¬2) شعب الإيمان 6/ 357، وتاريخ دمشق 8/ 204. (¬3) في تاريخه 10/ 413 - 414.

عتبة بن أبان بن صمعة

وقال الهيثم: لما طلب المهديُّ صالحًا هرب واستخفى منه، ومات المهديُّ وقام الهادي، فلم تَطُلْ أيامه، فلم يطلبْه، ووَلي الرشيدُ وقدم الرقَّة، فجلس يومًا مجلسَ العامَّة، فدخل عليه صالحٌ وهو لا يعرفه، فأنشد: [من الكامل] لَمَّا رأتكَ الشمسُ طالعةً ... سجدتْ لوجهك طلعةُ الشمسِ خيرُ الخلائقِ أَنْتَ كلِّهمِ ... في يومك الماضي وفي أمسِ مِن نبعةٍ طالت أَرومتها ... أهلِ الوفا ومعادنِ القُدس إنِّي أتيت إليك من جَزَع ... كان التوكُّل عنده تُرسي واللهُ يعلم أنَّني رجل ... ما إنْ أَضعتُ إِقامةَ الخَمس من أبيات، فقال له هارون: مَن أَنْتَ؟ فقال: عبدُك صالح، قال: قد عفونا عنك. وأمر له بعشرة آلافِ درهم، وكتب له كتابًا إلى عامل البصرةِ يوصيه به (¬1). والظاهر أن المهدي قتله، والله أعلم. عُتبة بن أَبان بنِ صَمعة (¬2) ويلقَّب بعتبة الغلام لصِغَر سنِّه، بل لجِدِّه في العبادة واجتهادِه. وكان كثيرَ التعبُّد والبكاء، يصوم الدهرَ ويُفطر على خبز الشعير والملح الجَرِيش، وكان يَعجِن دقيقَه في الشَّمس ويأكله ويقول: كِسرةٌ وملحٌ حتَّى يُهيَّأ لنا الطعامُ الطيِّب في الدار الأخرى. وكان يَضفِر الخُوصَ ويتقوَّت به. وهو من الطَّبقة السادسةِ من أهل البصرة. بكى في مجلس عبدِ الواحد بن زيدٍ تسعَ سنين، لا يفترُ من البكاء من حينِ ابتداءِ عبد الواحدِ إلى حينِ يقوم، فقيل له: إنَّا لا نفهم كلامَك من بكاء عُتبة، فقال: تبكي عينُه على نفسه وأَنهاه أنا! لَبئس واعظُ قومٍ أنا! ونام عُتبةُ ليلةً على جانب البحرِ وقال: إنْ تعذِّبْني فإنِّي لك مُحبّ، وإنْ رحمتَني فإنِّي ¬

_ (¬1) الحكاية في زهر الآداب 2/ 840 - 841، وصاحبها علي بن خليل مولى يزيد بن مزيد الشَّيبانِيّ، لا صالح بن عبد القدوس. والله أعلم. (¬2) في (خ): صنعة. والمثبت من المنتظم 8/ 292، وتاريخ الإِسلام 4/ 451، والبداية والنهاية 13/ 536.

عيسى بن موسى

لك مُحبّ. فلم يزل يردِّدها إلى الفجر. وقال: نأكل الخبزَ والملحَ ونقول: العُرس في الدار الأُخرى. وكان يقول: قَطَعَ ذِكْرُ العَرْضِ على الله أَوصال المحبِّين. وكان يقول: كابدتُ الليلَ عشرين سنة ثم تنعَّمت به عشرين سنة. وقال عبدُ الواحد بنُ زيد: انطلقتُ أنا وعتبةُ في حاجة، حتَّى إذا كنا برَحبة القصَّابين إذا بعُتبةَ يَعرَق عَرَقًا شديدًا، وكان ذلك في يوم شاتٍ شديدِ البرد، فقلتُ له في ذلك، فقال: هذا مكانٌ عصيتُ الله فيه. وكان لعُتبةَ بيتٌ يتعبَّد فيه، فلمَّا خرج إلى الشَّام أَقفله وقال: لا تفتحوه حتَّى يَبلغَكم موتي، فاستُشهد في بعض الغَزَوات، ففتحوه وإذا فيه قبرٌ محفور وغُلٌّ من حديد. وقال قُدامة بنُ أَيُّوب: رأيتُ عتبةَ في المنام بعد موته، فقلت له: يَا عُتبة، ما فعل اللهُ بك؟ فقال: دخلتُ الجنةَ بتلك الدَّعَواتِ المكتوبةِ في حائط بيتك. قال: فلما أصبحتُ نظرت إلى بيتي، فإذا على الحائط مكتوب: يَا هاديَ المضلِّين، ويا راحمَ المذنبين، ويا مُقيلَ عَثَرات العاثرين، ارحمْ عبدَك المسكينَ والمسلمين أجمعين، واجعلنا مع الأحياءِ المرزوقين، مع الذين أَنعمتَ عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداءِ والصالحين، آمينَ يَا ربَّ العالمين. عيسى بنُ موسى ابنِ محمَّد بن عليِّ بن عبدِ الله بن العباس، أبو موسى. هو ابنُ أخي السَّفَّاحِ والمنصور، نشأَ بالبَلقاء، ثم خرج مع أهله إلى العراق، كان جليلًا نبيلًا في أهل بيته، ولي إِمرةَ الموسمِ في خلافة عمَّيه، وولَّاه أبو العباسِ العهدَ بعد أبي جعفر، ومولدُه سنةَ ثلاثٍ أو أربعٍ ومئة، وتوفِّي أبوه موسى غازيًا في بلاد الرومِ سنةَ ثمانٍ ومئةٍ وعُمره سبعٌ وعشرون سنة، وكان عيسى طفلًا، فضمَّه إليه إبراهيمُ الإِمام، فكان يتيمَه، ولما أَخذ مروانُ إبراهيمَ ويئس من نفسه، أَوصى مَن حضره من خاصَّته أن الأمرَ بعده لأبي العباسِ ثم لعيسى بنِ موسى (¬1)، ففعل ذلك أبو العباس مدةَ ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 57/ 241: ثم من بعده لأبي جعفر عبد الله بن محمَّد، ثم لعيسى بن موسى.

خلافته، وأَوصى إلى أبي جعفرٍ أن يجعلَه بعده، فعاب النَّاسُ على أبي العباسِ مخالفتَه لأخيه إبراهيم، ثم خَلَعَه المنصورُ بعد ذلك، ولَمَّا خلعه أَقام بالكوفة، ومدةُ إقامته في العهد ثلاثٌ وعشرون سنة، ثم خلعه المهديّ، وكان يلقَّب في ولاية العهدِ بالمرتضَى، وهو الذي تولَّى قتال إبراهيمَ ومحمدٍ ابنَي عبدِ الله بنِ حسن، واستعمله أبو العباسِ على الكوفة، فلم يزل واليًا عليها حتَّى عزله أبو جعفرٍ سنةَ سب وأربعين ومئةٍ، وولَّاها محمدَ بن سليمانَ بنِ عليّ. وفي عيسى يقول ابنُ هَرْمة (¬1): [من المتقارب] قضيتُ اللُّبانةَ من حاجتي ... وقلتُ لعبديَ قُمْ فارحلِ أَتتك الرواحلُ والمُلجَمات ... بعيسى بنِ موسى فلا تَعجَلِ تأنَّيت أَرجوك إنَّ الرَّجا ... ءَ منك على الخير للأفضل (¬2) فأنت كريمُ بني هاشمٍ ... إذا المجدُ ولَّى إلى المُفْضِل سَبوقٌ إلى قَصَبات العُلى ... عَطوفُ اليدين على المُعْيِل (¬3) فدونَكَها يا ابنَ ساقي الحَجِيج ... فإنِّي بها عنك لم أَبخل توارثتُموها وكنتمْ بها ... أَحقَّ وأَوْلى من الجُهَّل من أبيات. وكان عيسى إذا حج حجَّ بأُناس من أهل المدينة، ويتعرَّضون له فيَصِلُهم، فمرَّ بأبي الشدائدِ الفَزاريِّ وهو يُنشد ويقول: [من الرجز] وعُصبةٌ إن حجَّ عيسى حجُّوا ... وإنْ أَقام بالعراق دجُّوا والقومُ (¬4) قومٌ حجُّهمْ مُعْوَجُّ ... ما هكذا كان يكون الحجُّ فسلَّم عليه أبو الشَّدائد، فلم يردَّ عليه وقال: ويحك تهجو حجَّاجَ بيتِ الله! فاعتذر إليه. ¬

_ (¬1) في (خ): هرثمة. والمثبت من تاريخ دمشق 57/ 250. وهو إبراهيم بن عليّ، ستأتي ترجمته في الصفحة 456. (¬2) في تاريخ دمشق: على الخبر الأفضل. (¬3) في تاريخ دمشق: العيِّل. (¬4) في (خ): وللقوم، وفي تاريخ دمشق 57/ 251: فالقوم.

ووُلد لعيسى ابنة، فاغتمَّ وامتنع من الطعام، فبلغ ذلك بُهلولًا، فجاءه فدخل عليه وقال: أيُّها الأمير، بلغني أنَّه ولد لك ابنةٌ فاغتممت، فأيُّما أحبُّ إليك ابنة عاقلة أو ابنٌ مجنون مثلي؟ فقال: لا واللهِ إلَّا ابنةً عاقلة، ودعا بالطعام فأَكل. وبلغ عيسى أنَّ الحسن بنَ قحطبةَ أشار على المنصور يخلعه وولايةِ المهدي، فهدَّده بالقتل، فتمثل المنصور بقول جَرِير: [من الكامل] زعم الفرزدقُ أنْ سيقتل مِرْبعًا ... أَبشِر بطول سلامةٍ يَا مِربعُ (¬1) ذِكْرُ وفاته: كانت وفاتُه بالكوفة لثلاث ليالٍ بقين من ذي الحِجَّة، وكان يومئذٍ على الكوفة رَوحُ بن حاتِم عاملًا للمهدي، فأحضر القضاةَ والشهودَ والقوَّاد وأَشهدهم على وفاته، وحضر جنازتَه، فقيل له: تقدَّم فصلِّ عليه، فقال: ما كان اللهُ ليرى رَوحًا يصلِّي على عيسى بنِ موسى، فليتقدَّم أكبرُ ولده، فأَبَوا عليه وأَبى عليهم، فتقدَّم العباسُ بن عيسى فصلّى عليه. وأَظلمت الدنيا عند موتِه يومًا كاملًا. وبلغ المهديَّ امتناعُ رَوحٍ من الصلاة عليه، فغضب وكتب إليه: قد بلغني ما كان من نُكوصك عن الصلاة على عيسى، أَبنفسك (¬2) أم بأَبيك أم بجَدِّك كنت تصلِّي عليه! أوليس (¬3) ذلك مقامي لو حضرتُ فإذا غبتُ كنتَ أَولى به لموضعك من السُّلطان! ثم أَمر بمحاسبته، وكان يلي الخَراجَ مع الصَّلاة والأحداث. وتوفِّي عيسى والمهديُّ واجدٌ عليه وعلى ولده، وكان يكره أن يتقدَّمَ عليه لجلالته، وكان لعيسى خمسٌ وستُون سنةً يوم مات. ذِكرُ أولاده: كان له أَحد وخمسون ولدًا: أحدٌ وثلاثون ذَكَرًا، وعشرون أُنثى، فمات من الذكور واحدٌ ومن الإناث سِتّ، فورثه من الذكور ثلاثون ومن النِّساء أربعَ عشرةَ امرأة. * * * ¬

_ (¬1) ديوان جرير 2/ 916. (¬2) في (خ): أم بنفسك. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 164. (¬3) في (خ): وليس. والمثبت من تاريخ الطبري.

السنة الثامنة والستون بعد المئة

السَّنة الثامنةُ والستُّون بعد المئة فيها مات زعيمُ الزنادقةِ عمرُ الكَلْوذاني، فأَقاموا عِوضه محمدَ بن عيسى من أهل ميسان، ويلقب حمدويه، وأُتي بجماعةٍ منهم إلى المهديِّ فقتلهم. وفيها نقضت الرومُ الصلحَ الذي كان هارونُ قرَّره، فبعث المهديُّ إليهم عليَّ بن سليمانَ وقيسَ بن يزيدَ بن البدرِ بن البطَّال في جيشٍ كثيف، وكان ابنُ البطال على قِنَّسرينَ وعليُّ بن سليمانَ على الجزيرة (¬1)، فأَوغلوا في بلاد الرومِ وقتلوا وسَبَوا، وخرج المهديُّ نحو واسط فنزل على نهر، فوصل أهلُه وخواصُّه، فسُمِّي نهرَ الصِّلة لذلك، وهو تحت واسط. وحجَّ بالنَّاس عليُّ بن المهدي، وهو ابن رَيطة. وفيها تُوفِّي الحسنُ بن زيدِ ابن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب، أبو محمدِ الهاشميُّ المدنِيُّ. من الطَّبقة الخامسةِ من أهل المدينة، وأمُّه أمُّ ولد. وكان عابدًا ثِقَة، وعنده أحاديث. ولَّاه أبو جعفرٍ المدينة، فوليها خمسَ سنين، ثم غضب عليه وعزله، واستصفى كلَّ شيءٍ له فباعه، وحبسه، وولَّى بعده عبدَ الصمد بنَ علي، فكتب المهديُّ إلى عبد الصَّمد: إياك وحسنَ بنَ زيد، ارفقْ به ووسِّع عليه، ففعل عبدُ الصمد. فلم يزل محبوسًا حتَّى مات أبو جعفر، فأَخرجه المهديُّ فأَقدمه عليه، وردَّ عليه كلَّ شيءٍ ذهب له، ولم يزل مع المهديِّ حتَّى خرج المهديُّ يريد الحجَ سنةَ ثمانِ وستِّين وهو معه، وكان الماءُ في الطريق قليلًا، فخشي المهديُّ على مَن معه من العطش، فرجع من الطريق ولم يحجّ، ومضى حسنُ بن زيدٍ إلى مكَّة، فاشتكى أيامًا ومات بالحاجر، فدُفن هناك. ¬

_ (¬1) كذا قال، وهو وَهم منه رحمه الله تعالى، والصواب أن علي بن سليمان -وهو يومئذ على الجزيرة وقنسرين- وجَّه يزيدَ بن بدر بن البطال في سرية إلى الروم. انظر تاريخ الطبري 8/ 167، والكامل 6/ 78.

حماد بن سلمة

وكان من الأَجواد الممدَّحين، وأوَّل ما عُرف من شرفه أنَّ أباه تُوفِّي وهو غلام وخلَّف دَينًا عليه أربعةَ آلافِ دينار، فحلف ألا يُظلَّه سقفٌ حتَّى يقضيَ دَينَ أَبيه، فقضاه، ومات على خمسة أميالٍ من مكَّة، وقيل: بالمدينة، وهو ابنُ خمسٍ وثمانين سنة، وكان له من الولد: محمَّد، والقاسم، وأمُّ كلثوم، تزوَّجها السفَّاح، فوَلدت له غلامَين هلكا صغيريد، وأمُّهم أمُّ سلمةَ بنتُ حسينٍ الأَثرم بنِ حسن بن عليِّ بن أبي طالب، وعليّ، وإبراهيم، وزيد، وعيسى، وأمّهم أمُّ ولد، وإسماعيل، وإسحاق لأمِّ ولد، وعبدُ الله، وأمُّه رَباب بنت بِسطام من بني شيبان. أَسند الحسنُ عن أَبيه وعن عكرمةَ وغيرِهما، وروى عنه محمدُ بن إسحاقَ ومالكُ بن أنسٍ وابنُ أبي ذِئْب وغيرُهم، وكان ثقةً صدوقًا رحمه اللهُ تعالى. حمَّاد بن سَلَمة أبو سلمةَ البَصْرِيّ، مولى بني تميم. من الطَّبقة الخامسةِ من أهل البصرة، وهو ابنُ أخت حُميدٍ الطَّويل، وكانا يقصَّان على النَّاس. وكان حمادٌ زاهدًا عابدًا صالحًا، لو قيل له: إنَّك تموت غدًا، ما زاد في العمل شيئًا. وقال مقاتلُ بن صالح: دخلت على حمَّاد، فإذا هو جالسٌ في البيت على حصيرٍ ليس فيه غيرُه ومصحفٌ يقرأ فيه، وجِرابٌ فيه عِلْمه، ومِطهرةٌ يتوضَّأ فيها. فبينا أنا جالسٌ عنده إذ دقَّ البابَ داقّ، فقال: يَا صَبيَّة، اُخرجي فانظري مَن هذا، فخرجت وعادت، وقالت: رسولُ محمدِ بن سليمان، فأَذن له، فدخل فناوله كتابًا فيه: من محمدِ بن سليمانَ إلى حمادِ بن سَلَمة، سلامٌ عليك، أما بعد: فصبَّحك اللهُ بما صبَّح به أولياءَه وأهلَ طاعته، قد وقعت مسألةٌ فأْتِنا لنسألَك عنها، والسلام. فقال مقاتل: قال لي: اقلبْ الكتاب، فقلبتُه، فقال: اكتب، فكتبت: أمَّا بعد: وأنت صبَّحك اللهُ بما صبَّح به أولياءه وأهلَ طاعته، إنَّا أدركنا العلماءَ وهم لا يأتون أحدًا، فإن كانت وقعت مسألةٌ فأْتنا وسلْ عمَّا بدا لك، ولا تأتِني إلَّا وحدك، ولا تأتني بخَيلك ورَجِلك، فإنِّي لا أَنصح لك، والسلام. قال: فبينا أنا عنده إذ جاء محمدُ بن سليمان، فقال للصَّبية: قولي له لا يَدخل إلَّا وحده، فدخل وسلَّم وجلس بين يديه وقال: ما لي إذا نظرتُ إليك امتلأتُ رعبًا؟ ! فقال

حماد: سمعتُ ثابتًا البُنانيَّ يقول. سمعت أنس بن مالكٍ يقول: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ العالِمَ إذا أراد بعِلمه وجهَ اللهِ هابَه كلُّ شيء، وإذا أَراد يكتنزُ به الكنوزَ هاب من كلِّ شيء"، فقال: أربعون أنس درهمٍ تأخذها تستعين بها على ما أَنْتَ عليه، فقال: اردُدْها على مَن ظلمتَه بها، فقال: واللهِ ما أعطيتك إلَّا ما ورثتُه، قال: لا حاجةَ لي فيها، ازوها عنِّي زوى اللهُ عنك أوزارَك، قال: فتقسمها، قال: فلعلي لا أَعدلُ فيها فيقول بعضُ مَن يُرزَق منها: لم يَعدِل، ازوها عني زوى اللهُ عنك أَوزارَك (¬1). وقال موسى بنُ إسماعيل: ما رُئي حمادٌ ضاحكًا قط، كان مشغولًا بنفسه، إمَّا أن يقرأ، وإما أن يصلِّي، وإما أن يسبِّح. وقال حماد: كانت لي جارةٌ ولها بناتٌ يتامى، وكانت ليلةً ممطرة، فوكف عليهم السَّقف، فسمعتُ المرأةَ وهي تقول: يَا رفيقُ ارفقْ بنا، فسكن المطرُ وانقطع الدَّلف، فقلت: هذه امرأةٌ مستجابةُ الدعوة، فأخذتُ في كمِّي دنانيرَ ونزلت، فطرقتُ عليها الباب، فقالت: كن حمادَ بن سَلَمة، فقلت: أنا حمَّاد، ففتحت البابَ وقالت: ما الذي بك؟ قلت: سمعتكِ وأنت تقولين: يَا رفيقُ ارفق بنا، فما بلغ من رِفقه بك، قالت: قطع الدلفَ عنا وأَدفأَ البيت، فنام الصِّغار. فأخرجتُ الدنانيرَ من كمِّي وقلت: أَنفقي هذه الدنانيرَ علي بناتك وأَيتامِك، وإذا بصبيَّة خُماسية -أي: بنتُ خمسِ سنين- قد خرجتْ وعليها جبَّة صوفٍ تستبين حروفها، فقالت: قد علمنا يَا حمادُ أنَّما بعثك إلينا بالدنيا ليطردَنا عن بابه، ردَّ دنانيرَك عافاك الله، فنحن في غِنًى عنها. ثم أَغلقت البابَ ودخلتْ، فانصرفتُ. وقال يونُس بنُ محمَّد: مات حمادٌ في المسجد وهو يصلِّي، وقيل: وهو ساجده وقال أبو عبدِ الله التَّميميُّ عن أَبيه قال: رأيتُ حمادَ بن سلمةَ في المنام بعد موته، فقلت: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: خيرًا، أَوقفني بين يديه وقال: طال ما كددتَ نفسَك في دار الدنيا، فاليومَ أُطيل راحتَك وراحةَ المتعوبين في الدنيا، بخٍ بخٍ ماذا أَعددتُ لهم! أَسند حمادٌ عن الحسن وابنِ سِيرينَ (¬2) والأوزاعيِّ والزُّهري وخَلْقٍ كثير، واتفقوا ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 62/ 194 - 195، وانظر الجامع لأخلاق الراوي (846). (¬2) هو أنس بن سيرين، ولم تذكر المصادر ممن ذكرهم المصنف غير أنس هذا. انظر تهذيب الكمال، والسير 7/ 444 - 445.

خارجة بن مصعب بن خارجة

على صدقه وثقتِه وديانته. خارجةُ بن مصعب بن خارجة أبو الحجَّاج. كان من الجوَّالين الرحَّالين في طلب الحديث، فيقال: إنَّه طاف الدنيا، وروى عنه الأئمَّة، ولم يسمع من الزُّهْرِيّ، وسبب ذلك أنَّه رآه يومًا في السُّوق راكبًا وبين يديه الأَعوان، قال: فقلت: مَن هذا؟ فقالوا: الزُّهْرِيّ، ولي شرطةً لبعض بني مروان، فقلت: قبَّح اللهُ هذا مِن عالِم، وانصرفتُ ولم أسمع منه، ثم ندمت، فقدمتُ على يونُس، فروى لي عن الزّهري. وقد ضعَّفه بعض الأئمَّة لأنه كان يقول بالإِرجاء (¬1). عُبيد (¬2) الله بنُ الحسن ابنِ الحُصين بن أبي الحُرِّ العنبري. قاضي البصرة، طُلب للقضاء بعد وفاةِ سوَّار بنِ عبد اللهِ فهرب، فقال له أبوه: يَا بُني، إن كنتَ هربت طلبًا لسلامة دِينك فقد أحسنت [وإن كنتَ هربت ليكونَ أحرصَ لهم عليك فقد أحسنْت] (¬3) أَيضًا. فاستُقضي بعد سوَّار. وكان يقول: لأَن أكونَ ذَنَبًا في الحقِّ أحبُّ إليَّ من أن أكونَ رأسًا في الباطل. وكتب المهديُّ إليه كتابًا وهو قاضي البصرة، فقرأه وردَّه، فاستقدمه المهديُّ وقال: رددتَ كتابي! فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، لم أردَّ كتابك، ولكنَّ الكتابَ الذي ورد عليَّ كان ملحونًا، وأميرُ المُؤْمنين لا يكتب كتابًا ملحونًا. فأَعجبه ووصله وردَّه إلى عمله. وكان عُبيد الله فقيهًا عاقلًا عفيفًا، وكان كثيرَ المَزح، فقال له رجل: إنَّك لا تعاب بشيءٍ إلَّا بالمزح، فقال: إنِّي لأَمزح ولا أَقول إلَّا حقًّا. ثم قال: لو قلتُ لك: إنَّ في داري عيسى بنَ مريمَ الساعةَ أكنتَ تصدِّقني؟ فقال الرَّجل: هذا من ذاك، وكان في ¬

_ (¬1) بل ضعِّف بما هو فوق الإرجاء، كتدليسه عن الكذابين. انظر تاريخ دمشق 5/ 407 - 411، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإِسلام 4/ 348 - 349. (¬2) في (خ): عبد الله، والمثبت من المصادر. انظر طبقات ابن سعد 9/ 286، وتاريخ بغداد 12/ 7، والنتظم 8/ 298، وتاربخ الإِسلام 4/ 449. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 12/ 8.

محمد بن ميمون

داره رجلٌ جصَّاص يعمل فيها، فصاح به: يَا عيسى، قال: لبَّيك، قال: ابنُ مَن أَنْتَ؟ قال: ابنُ مريم، فقال عبد الله للرجل: إذا اتَّفق لي مثلُ هذا فما أصنع؟ ! وشتمه رجل، فقبض على لحيته وقال: شيبي يمنعني أن أردَّ عليك. ولي القضاءَ سنةَ سبعٍ وخمسين ومئة، ومات سنةَ ثمانٍ وستِّين، وكان ثِقَةً صدوقًا. محمدُ بن ميمون أبو حمزةَ السُّكَّري. سُمِّي بذلك لحلاوة كلامه، وكان فاضلًا جَوَادًا سَمْحًا عالمًا. أراد جارٌ له بيعَ داره فقال: كم ثمنُها؟ فقال: ألفًا دينار، ألفٌ لثمن الدار، وألف لجوار أبي حمزة (¬1). وبلغه، فأرسل إليه بأربعة آلافِ دينًارٍ وقال: لا تبعْ دارَك. وقال: ما شبعتُ منذ ثلاثين سنةً إلَّا أن يكونَ عندي ضيف. وقال ابنُ مَعين: كان من ثقات النَّاس، وقدم بغدادَ في حَداثته، وكان مجابَ الدَّعوة، وكان الحسينُ بن واقدٍ قاضيًا، فأتى أَبا حمزةَ فأَخبره بقضيَّة قضى فيها، فقال له: قضيتَ بالجَور (¬2)، أَنْتَ لا تعرف القضاءَ فلم دخلتَ فيه؟ فبكى ابنُ واقدٍ وقال: اللهم ابتلِ أَبا حمزةَ بما ابتليتَني به، فقال أبو حمزة: اللهم إن ابتليتَني بما ابتليتَه به فأَعمِ بصري، فما مضت الأيامُ حتَّى استُقضي أبو حمزةَ وذهب بصرُه بعد أيام، فاستُجيب لهما جميعًا. ومات في سنة ثمانٍ وستِّين ومئة، وقيل: سنةَ سبعٍ وستين. أَسند عن أبي إسحاقَ السبيعي والأعمشِ وغيرِهما، وروى عنه ابنُ المبارك وغيرُه، وكان صَدوقًا ثِقَة، احتج بحديثه البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما وغيرُهما. مِنْدَل (¬3) بنُ علي أبو عبدِ الله العَنَزي. كان فاضلًا صدوقًا. وقال معاذُ بن معاذ: دخلت الكوفةَ فلم أجد ¬

_ (¬1) في المصادر: ألفان لثمن الدار، وألفان لجوار أبي حمزة. انظر تاريخ بغداد 4/ 435، والمنتظم 8/ 302، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإِسلام 4/ 558. (¬2) في (خ): بالجوار. والمثبت من تاريخ بغداد 4/ 434. (¬3) في (خ): منذر. وهو خطأ، والمثبت من تاريخ بغداد 15/ 331، والمنتظم 8/ 302، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإِسلام 4/ 522.

بها أحدًا أَورعَ من مِنْدَل. ومرَّت جاريةٌ ومعها سلَّة فيها رُطَب بمِنْدل في حَلْقته، وأصحابُ الحديث حوله، فوقفت تسمع كلامَه، فظنَّ أنَّ السلَّة قد أُهديت إليه، [فقال: قدِّميها قدِّميها، وقال لمن حوله: كلوا، فأَكلوا ما فيها، وانصرفت الجاريةُ إلى سيِّدها وقد احتبست، فقال لها: ما أسرعَ ما جئتِ! فقالت: وقفت أَسمع من هذا الشيخِ فقال: قدِّمي السلَّة، ففعلت، فأكل الذي حولَه ما فيبها، وكان سيدُها رجلًا من العرب] (¬1)، فقال لها: أنتِ حرَّة لوجه اللهِ تعالى. حدَّث مِنْدل عن الأَعمش وغيرِه، وقال ابن مَعين: لا بأسَ به، وقال مرَّة: هو ضعيف، رحمه اللهُ تعالى. * * * ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 15/ 331 - 332.

السنة التاسعة والستون بعد المئة

السَّنة التاسعةُ والستُّون بعد المئة فيها في أوَّلها خرج المهديُّ من بغدادَ يريد ماسَبَذان، واستخلف الربيعَ الحاجبَ على بغداد، وسببُ خروجه أنَّه رأى تقديمَ هارونَ على موسى، فأَرسل إلى موسى وهو بجُرْجان يستدعيه إلى بغدادَ وقد علم بذلك، فامتنع، فأَرسل إليه بعضَ الموالي فلم يُجِب، فسار المهديُّ يريده، فمات في طريقه. وحدُّ ماسَبَذان من باهندف إلى الماهكي إلى القَرْمِيسين إلى حُلْوان، هذا كلُّه يسمَّى ماسَبَذان، وكان موسى الهادي بجُرْجان، فهلك المهديُّ بقريةٍ من قُرى ماسَبَذان. البابُ الرابع في ذِكْر موسى الهادي إلى الله أبي محمَّد وُلد بالرَّيِّ سنةَ ستٍّ وأربعين ومئة، وبويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوه، وهو يومُ الجُمُعة، ثانيَ عشرين المحرَّم، وهو ابنُ أربع وعشرين سنة، وكان مقيمًا بجُرْجانَ يحارب أهلَ طَبَرستان. وكان مع المهدي -لَمَّا مات- ولدُه هارونُ ومولاه الربيعُ ويحيى بنُ خالد، فاجتمع الموالي والقوَّاد وعمرُ بن بزيعٍ ونُصيرٌ والمفضَّل وأَشاروا على هارونَ بأن يرجعَ إلى بغدادَ ويحملَ المهديَّ معه؛ فإنَّه متى علم الجندُ بموته شَغَبوا وطلبوا أرزاقَهم، فقال هارون: ادعُوا لي أَبي يحيى بنَ خالد، وكان المهديُّ لما ولَّى ابنَه هارونَ من الأَنبار إلى إِفريقيةَ فوَّض أمورَ البلاد إلى يحيى بنِ خالد، فكان عند هارونَ بمنزلة الوالد، فلمَّا حضر يحيى عند هارونَ قال له: إنَّ الموالي والموَّادَ قد أشاروا بأن يُحملَ أميرُ المُؤْمنين إلى بغداد، وذكروا كذا وكذا، فقال يحيى: ليس هذا برأي، قال: ولمَ؟ قال: لأنَّه أمر لا يخفى، وربما تعلَّقوا بمَحْمِله إذا سار وشغبوا وطلبوا رزقَ ثلاثِ سنينَ وأكثروا، ولكن أرى أَن يوارَى ها هنا، وتوجِّهَ نُصيرًا الوصيفَ بالخاتَم والقضيبِ والتعزية والتهنئةِ إلى أمير المُؤْمنين الهادي على البريد؛ فإنَّ الجندَ لا ينكرون ذلك، وتُعطيَ الجندَ كلَّ واحدٍ مئتين مئتين، وتناديَ فيهم بالقُفول، فإذا قبضوا العطاءَ لم يبقَ لهم همَّة سوى أوطانِهم وأهاليهم، ففعل هارونُ ذلك، وتقدَّموا إلى بغدادَ وتأخَّر هارون، ولما علموا

ببغدادَ بموت المهديّ شغبوا وطلبوا من الرَّبيع الحاجبِ أرزاقَهم، فاعتذر، فأَحرقوا بابَه وأَطلقوا الحبوس، وكان نائبَ المهديِّ ببغداد، وقدم هارونُ بغداد، فطلب الجندُ أرزاقَهم، فبعثت الخَيزُرانُ إلى الرَّبيع، فدخل عليها، فأما يحيى فلم يدخل؛ لعلمه بشدَّة غَيرة موسى، وأَشار عليها الربيعُ بالإِنفاق في الجند لسنتين، فقبلتْ رأيَه، فسكتوا. وقيل: إنّما أَنفق فيهم رزقَ ثمانيةَ عشَرَ شهرًا، وذلك قبل قدومِ هارون، فلمَّا قدم هارونُ أخذ البَيعةَ لأخيه موسى، وضبط أمورَ بغداد، وبلغ الهادي دخولُ الربيعِ على الخَيزران، فعزَّ عليه، وكتب إلى الرَّبيع يتهدَّده بالقتل، وكتب إلى يحيى يشكره ويأمره أن يستمرَّ على حالة في أمر أخيه هارون. واجتمع الربيعُ بيحيى بنِ خالد وكان بينهما مودَّة، فأَخبره بكتاب موسى إليه وقال: لا صبرَ لي على القتل وجَرِّ الحديد، فقال: أرى أن تبعث ابنَك الفضلَ يستقبله بالهدايا والأَلطاف، فإنِّي أرجو أن تُكْفى شرَّه، فبعث ابنَه بالهدايا، ومع هذا فإنَّه أَيقن بالهلاك، وكتب وصيَّته وأَوصى إلى يحيى، فقال: لا أحبُّ أن أنفردَ بشيء، وأرى أن يكونَ معي الفضلُ وأمُّ الفضل، فأَجابه الرَّبيع إلى ذلك. وأما نُصيرٌ الوصيفُ فإنَّه وصل إلى جُرجانَ بالخاتَم والبَيعة والقضيب، فسار الهادي من فوره ذلك على خَيل البريد، فتلقَّاه الفضلُ بالهدايا إلى هَمَذان، فأَدناه وقرَّبه، وسأل الرَّبيع فقال: كيف مولاي؟ وأَظهر [أنَّه] إنَّما نقم عليه لكونه فرَّط في الأموال، ولم يُمكِنه أن يُظهِرَ أن ذلك لأجل اجتماعِ الرَّبيع بالخَيزُران، فلمَّا قرب من بغدادَ استقبله الرَّبيع، وعاتبه على إِخراج الأموال، فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، شغب الجندُ وخفتُ على دار الخلافة، فقبل عذرَه وولَّاه الوزارةَ مكانَ عُبيدِ الله (¬1) بنِ زياد بنِ أبي ليلى، وكانت موافاةُ الهادي إلى بغدادَ عاشرَ صَفَر، وكان خروجُه من جُرجانَ في العشرين من المحرَّم, ولا يُعرف خليفةٌ ركب خيلَ البريدِ سواه، فقال شاعر (¬2): [من السريع] لَمَّا أتتْ خيرَ بني هاشمٍ ... خلافةُ اللهِ بجُرْجانِ ¬

_ (¬1) في (خ): عبد الله. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 189، والمنتظم 8/ 306. (¬2) هو سلم بن عمرو الخاسر، كما في الأغاني 19/ 285 , ومعجم الأدباء 11/ 240.

شَمَّر للحرب (¬1) سَرَابيلَه ... برأيِ لا غُمْرٍ ولا وانِ وخرج لتلقِّيه هارونُ أخوه والأشرافُ ووجوهُ النَّاس، ونزل بالخُلد، ثم جلس للتَّعزية والتهنئة، فأَنشده مروانُ بن أبي حفصةَ وقال (¬2): [من الطويل] لقد أَصبحتْ تختال في كلِّ بلدةٍ ... بقبر أميرِ المُؤْمنين المقابرُ طَوَى طَوْدَ عزٍّ هاشميٍّ لمدَّة ... وأَشرفَ طودَ عزَّةِ الدهرِ قادرُ (¬3) ولَمَّا جلس الهادي في مستقرِّ الخلافةِ واستقامت له الأمورُ، جدَّ في طلب الزنادقة، وكان أبوه قد وصَّاه فقال: إن أَفضى إليك هذا الأمرُ فتجرَّدْ لهذه العصابةِ أصحابِ ماني الزِّنديق؛ فإنَّها فرقةٌ تدعو النَّاسَ إلى ظاهرٍ حسن، كاجتناب الفواحشِ والزُّهد في الدنيا والعملِ للآخرة، ثم يخرجون من هذا إلى تحريم اللُّحوم، ثم إلى عبادة اثنين: النُّور والظُّلمة، ثم إلى نكاح الأمهاتِ والبناتِ والأَخوات، وسَرِقةِ الأطفال من الطُّرقات، فجرِّدْ فيهم السيفَ وتقرَّبْ إلى الله بقتلهم. فكان أوَّلُ ما شرع فيه طَلَبَهم، ونصب ألفَ جِذعٍ ببغداد، وصلب مَن قَدَرَ عليه منهم، وكتب إلى الآفاق بذلك، وكان فيمن قتل عليُّ بن يَقطين، وذُكر عنه أنَّه حجَّ فرأى النَّاسَ في الطَّواف حول الكعبةِ فقال: ما أَشبهَهم ببقرٍ تدرس في البَيدر، فقال العلاءُ بن الحدادِ يخاطب الخليفة: [من السريع] أيا (¬4) أمينَ اللهِ في خلقه ... ووارثَ الكعبةِ والمنبرِ ماذا ترى في رجلٍ كافرٍ ... يشبِّه الكعبةَ بالبَيدر ويجعل النَّاسَ إذا ما سَعَوا ... حُمْرًا تدوس البُرَّ في الدَّوْسر وقتل الهادي من بني هاشمٍ يعقوبَ بن الفضلِ بن عبد الرَّحْمَن بن عبَّاس بن ربيعةَ بن الحارثِ بن عبد المطَّلب، وكان المهديُّ قد بلغه عن يعقوبَ وابنٍ لداودَ بن عليِّ بن عبدِ الله بن عباس أنَّهما زنديقان، فخلا بهما في مجلسٍ متفرّقَين، وأَقرَّا له بالزندقة، وقال له يعقوبُ بن الفضل: أما أنا فأُقرُّ بها بيني وبينك سرًّا, ولو قرضتَ لحمي ¬

_ (¬1) في المصدرين: للحزم. (¬2) ديوانه ص 48. (¬3) البيت الثاني ليس في الديوان، ولم أجده في غيره من المصادر. (¬4) في (خ): يَا. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 190.

بالمقاريض ما أُقرُّ بها ظاهرًا. فقال له: ويلك لو كُشفت لك السماوات وكان الأمرُ كما تقول، لكنتَ حقيقًا أن تغضبَ لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فلولاه مَن كنتَ من النَّاس؟ ! أَمَا واللهِ لولا أنِّي جعلتُ عليَّ عهدَ اللهِ تعالى إنْ أنا وليت هذا الأمرَ ألا أقتلَ هاشميًّا لَقتلتك. ثم قال كما سنذكره. وكان المهديُّ قد عهد إلى الهادي: أَقسمتُ عليك إنْ وليتَ هذا الأمرَ بعدي ألا تناظرَهما ساعةً واحدة. وحبسهما المهدي، فمات ابنُ داودَ بن عليٍّ في الحبس قبل وفاةِ المهدي، وأما يعقوبُ فعاش محبوسًا حتَّى مات المهدي. وقدم الهادي من جُرْجان، فذكر وصيةَ أَبيه، فأرسل إلى يعقوبَ مَن ألقى على وجهه فراشًا وغمَّه حتَّى مات وانتفخ، فأُلقي في دجلة (¬1). وكان ليعقوبَ بنِ الفضل أولاد، فمنهم فاطمة، فلمَّا مات أبوها اعترفت بأنَّها حاملٌ منه، وقالت: أَكرهني، فبعث بها الهادي إلى رَيطةَ بنتِ أبي العباس، فرأتها مخضوبةً مكحَّلة، فقالت لها: فهبْ أنكِ كنت مكرَهة، فما بالُ الخِضاب والكُحل! ولعنتْها، فماتت فَزَعًا. وقيل: إنَّما دخلت فاطمةُ وخديجة زوجةُ الفضل على الهادي، فضربهما على رؤوسهما فماتتا. وفيها خرج الحسينُ بن عليِّ بن الحسنِ (¬2) بن الحسن [بن الحسن] بن عليّ عليه السلام، فقُتل بفَخّ، اسم مكان، وفيها هلك الربيعُ الحاجب. وحجَّ بالنَّاس سليمانُ بن أبي جعفرٍ المنصور، وكان على المدينة عمرُ بن عبدِ العزيز العُمَري، وعلى مكةَ والطائفِ عبيدُ الله بن قُثَم، وعلى اليمن إبراهيمُ بن سَلْم (¬3) بنِ قتيبة، وعلى البحرين سويدٌ الخُرَاسَانِيّ، وعلى الكوفة موسى بنُ عيسى، وعلى البصرة محمدُ بن سليمان، وعلى خراسانَ والبلادِ الشَّرقية جماعةٌ من الموالي. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 191، والمنتظم 8/ 310 أنَّه دفن. (¬2) في (خ): الحسين. والمثبت من المصادر. انظر تاريخ الطبري 8/ 192، والمنتظم 8/ 310، والكامل 6/ 90، وتاريخ الإِسلام 4/ 283، والبداية والنهاية 13/ 553، وما يرد بين حاصرتين منها. (¬3) في (خ): سليمان. والمثبت من المصادر.

إبراهيم بن عثمان

فصل وفيها تُوفِّي إبراهيمُ بن عثمان أبو شيبة، قاضي واسط، مولى بني عَبْس. وكان كاتبَه يزيدُ بن هارون. وقال يزيد: ما قضى على النَّاس رجل كان أعدلَ منه. حدَّث عن هشام بنِ عروةَ وغيرِه، وروى عنه يزيدُ بن هارونَ وغيرُه، رحمه الله. إلَّا أنَّه روى أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وكان يصلي في رمضانَ كلَّ ليلةٍ عشرين ركعةً والوتر، وروى أنَّه شهد صِفِّين مع عليٍّ - عليه السلام - سبعون من أهل بدر (¬1)، وقد أَنكر عليه الإمامُ أَحْمد بنُ حنبل رحمةُ الله عليه وابنُ مَعين ذلك، وقالا: ما صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عشرين ركعة، ولا شهد صفين من أهل بدرٍ سوى خزيمةَ بنِ ثابت (¬2). إدريسُ بن عبدِ الله ابن حسنِ بن حسن بن عليّ - عليه السلام - (¬3). كان قد خرج مع الحسين صاحبِ فَخّ، فلما قُتل الحسينُ هرب إلى مِصر، وكان على بريدها واضحٌ مولى صالحِ بن منصور، وكان يميل إلى [آلِ] (¬4) أبي طالب، فحمله على البريد إلى المغرب، فوصل إلى أرضِ طنجة، فنزل بمدينةٍ يقال لها: وليلى (¬5)، فاستجاب له مَن بها وبنواحيها من البربر، وبلغ الهاديَ فقتل واضحًا وصلبه. ويقال: إنَّ هارونَ هو الذي قتله، ودسَّ موسى أو هارونُ إلى إدريس الشمَّاخَ اليماميَّ (¬6) مولى المهدي، فدخل المغربَ وأَظهر أنَّه طبيب، فأَحضره إدريس، وأقام عنده وأَنِس به، فشكا إليه مرضًا في أسنانه، فأَظهر سَنُونًا (¬7) مسمومًا، وقال له: إذا ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 24. (¬2) قال الذهبي في الميزان 1/ 47: سبحان الله! أما شهدها علي! أما شهدها عمار! (¬3) ذِكره هنا وهم، وتابعه عليه صاحب الوافي 8/ 319، والنجوم الزاهرة 2/ 59. والصواب أن وفاته بعد السبعين، انظر معجم البلدان (وليلى)، وتاريخ ابن خلدون 4/ 12 - 13، والوفيات لابن قنفذ ص 139 - 140، والأعلام. (¬4) ما بين حاصرتين من الوافي بالوفيات 8/ 318. (¬5) في (خ): ولية. وهو خطأ. انظر معجم البلدان، والكامل 6/ 93، ووفيات ابن قنفذ. (¬6) في (خ): اليماني. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 198، والكامل 6/ 93. (¬7) السنون: شيء يستاك به. مختار الصحاح (سنن).

الحسين بن علي

طلع الفجرُ فاستنَّ به، وهرب الشماخُ من ليلته ولم يعلم به إدريس، فلمَّا طلع الفجر استنَّ به وجعل يردِّده في فيه، فسقط فوه ومات، وطلب الشماخ فلم يقدرْ عليه، وخرج إلى إِفريقيةَ وبها إبراهيمُ بن الأغلب عاملُ الهادي، فأَقام عنده، وكتب إلى هارون يُخبره بموت إِدريس، فبعث له صلَةً سَنِيَّة، وولَّاه بريدَ مصر، فقال بعضُ الشعراء، ويقال: إنَّه الهادي أو الرشيد (¬1): [من الكامل] أَتظنُّ يَا إدريسُ أنك مُفْلِتٌ ... كيدَ الخلافةِ أو يقيك فِرارُ إنَّ السيوفَ إذا انتضاها سَخْطةً ... طالت وقصَّر دونها الأَعمار مَلِكٌ كأنَّ الموتَ يَتْبع أمرَه ... حتَّى تخال تُطيعه الأَقدار ولَمَّا هلك إدريس ولي مكانَه ابنُه إدريسُ بن إدريس، وأَقام أولادُهم بالمغرب مدَّة. الحسيُن بن عليِّ ابن الحسن [بنِ الحسن بن الحسن] (¬2) بن عليّ - عليه السلام -، صاحبُ فَخّ، رحمه الله، خرج في هذه السَّنة بالمدينة، وكان عليها عمرُ بن عبدِ العزيز بنِ عبد الله بن عبد الله بن عمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه -، وكان قبله على المدينة إسحاقُ بن عيسى بنِ علي، فاستعفى، فأعفاه الهادي وولَّى العُمَري. وسببُ خروجِ الحسين أنَّ العمريَّ أخذ الحسنَ بن محمَّد بنِ عبد الله بن حسن -وكُنيته أبو الزفت- وجماعةً، فحدَّهم في شرابٍ زعم أنَّهم شربوه، وطاف بهم المدينةَ وحبسهم، فجاء إليه الحسينُ بن عليٍّ صاحبُ فَخّ، فلامه وقال: إنَّ أهلَ العراق لا يرون بهذا الشرابِ بأسًا، وقد حددتَهم فأَطلِقْهم. وكان العمريُّ يخاف خروجَ الحسن بن محمَّد المحدود، فاختفى الحسن، وكان صاحبُ فخَّ ويحيى بنُ عبد اللهِ بن حسنٍ قد كفلاه، فطلبه العُمَري منهما، فأَجمعوا على الخروج في تلك الليلة: الحسينُ بن عليّ، والحسنُ ويحيى ابنا عبدِ الله بن حسن، وإدريس بن عبدِ الله بن حسن، وجماعة من بني هاشمٍ وشيعتِهم، فأصبح الحسين بن عليٍّ وقد لبس البَياض وصعد منبرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في (خ): والرشيد، والمثبت من الوافي 8/ 318. والأبيات في ديوان مروان بن أبي حفصة ص 50، ونسبها صاحب زهر الآداب 2/ 1031 لأشجع السلمي، وقال الطبري في تاريخه 8/ 199: فقال بعض الشعراء، أظنه الهنازي. اهـ. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 192، وتاريخ الإِسلام 4/ 283، والبداية والنهاية 13/ 555.

وصلَّى بهم الفجر، وبايعه النَّاسُ على الكتاب والسُّنة، وقال: أيها النَّاس، أنا ابنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي مسجد رسوله، وأنا أَدعوكم إلى كتاب اللهِ وسنَّةِ رسوله، فإنْ وفيتُ وإلا فلا بيعةَ لي في أعناقكم، واختفى العُمَري، وكان في بيت المالِ عشرون ألفَ درهم، وقيل: سبعون ألفَ دينار، فأخذوها، وثار بنو العباسِ وخالدٌ البربري، وكان يومئذٍ على الصَّوافي بالمدينة في جمعٍ كبير، وقد ظاهر بين دِرعين وبيده السيفُ صَلْتًا وهو يقول: يَا حسين، قتلني اللهُ إنْ لم أقتلْك. وحمل عليهم، فانتدب له يحيى وإدريس ابنا عبدِ الله بنِ حسن، فضربه يحيى على أنفه، فهشم البيضةَ ونفذ السيفُ في رأسه، وضربه إدريس من خلفه، فوقع، فتعاونا عليه فقتلاه وسلباه، وجرَّا برجله إلى البَلاط، فولَّى مَن كان معه منهزمين، وأقبل الليلُ فتفرَّقوا، وأغلق أهلُ المدينة أبوابَهم. فلما طلع الفجرُ اجتمعت شِيعةُ بني العباس ومَن تبعهم من أهل المدينة، فاقتتلوا إلى آخِر النهار، وفشت الجِراحاتُ في الفريقين، ووصل الخبرُ في ذلك النهارِ أن مباركًا التُّركي قد قدم من بغدادَ حاجًّا فنزل بئرَ المطَّلب، فخرج إليه العباسيُّون وشيعتهم وكلَّموه في القتال معهم، فجاء من الغد، فنزل الثَّنيَّة في دار عمرَ بن عبد العزيز، ووعد النَّاسَ بالقتال، فلمَّا غَفَلوا عنه، ركب رواحلَه وانصرف. وأقام الحسينُ بالمدينة أحدَ عشرَ يومًا، ثم خرج منها لستٍّ بقين من ذي القَعدة، وجعل يشتم أهلَ المدينة وهم يقولون: لا ردَّك اللهُ إلينا. ثم وجدوا مسجدَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قد ملأه أصحابُه بولًا وقذَرًا، فغسلوه، ثم دخل الحسنُ مكَّة، فأخذ أصحابُه ستورَ الكعبة ونادى مناديه: أيُّما عبدٍ أتانا فهو حُرّ، فجاءه عبيدُ أهلِ مكة، فقال النَّاس: أَيُعتِق هذا عبيدَ غيرِه! أكفارٌ نحن مثلَ أهلِ الطائف! وكان الحسينُ قد واعد شيعتَه الخروجَ بمِنى، وإنما حثَّه على الخروج ما بدا من العُمَري، وبلغ الهاديَ الخبر، فانعزل في بيتٍ صغير وحده، وتغيَّر حاله، ولم يتجاسرْ أحدٌ أن يدنوَ منه، فأرسل إليه خواصُّه وأهلُه خادمًا صغيرًا وقالوا: قِفْ قريبًا منه لعلك أن تظفرَ منه بشيء، فوقف، ففَطِنَ الهادي فقال: [من الكامل] رَقَدَ الأُلى ليس السُّرى من شأنهم ... وكفاهم الإِدلاجَ مَن لم يَرقُدِ (¬1) وكان قد حجَّ في هذه السَّنةِ رجالٌ من بني العباس، منهم محمدُ بن سليمانَ بنِ علي، ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 203.

والعباسُ بن محمَّد، وموسى بنُ عيسى، وكان على الموسم سليمانُ بن أبي جعفر، فكتب الهادي إلى محمَّد بن سليمانَ بتوليته على حرب الحسينِ بن عليّ، فقيل له: عمُّك العباس بُن محمَّد أَولى، فقال: دعوني لا أُخدع عما بي، فلقيهم الكتابُ وقد انصرفوا من الحجّ، وكان محمدُ بن سليمانَ قد خرج في عِدَّة من الرجال وعُدَّة من السلاح؛ لأن الطريقَ كان مَخوقًا من الأَعراب، ولم يحتشدْ لهم حسين، فأتاه خبرُهم وهم (¬1) بصَوبه، وكان قد خرج بخَدَمه وإِخوته، وانتهى عيسى بنُ موسى (¬2) إلى بطن نخلٍ على ليلتين (¬3) من المدينة، وانتهى إليه الخبرُ ومعه أهلُه وخواصُّه وخدمه، وبلغ الخبرُ إلى العباس بن محمدٍ وهو بالرَّبَذة ومعه أهلُه وخدمه، فكاتبوا محمدَ بن سليمانَ وواعدوه مكَّة، فاجتمعوا بذي طُوى ومعهم سليمانُ بن المنصور، وانضمَّ إليهم مَن وافى الموسمَ من شِيعة بني العباسِ ومواليهم، وجاء الحسينُ بن عليّ وأصحابه واصطفُّوا للقتال، فنادى محمدُ بن سليمان: مَن جاء برأسٍ فله خمسُ مئةِ درهم، وحملوا على حسينٍ ومعه نساؤه وأهلُه في المحافل، فعرقبوا الإِبل، فوقعت المحامل، وهزموا أصحابَه وقتلوهم وفرغوا منهم، ورجعوا إلى مكَّة ولم يشعروا ما فعل يحيى بنُ عليّ، فبينما هم كذلك إذا برجلٍ من أهل خراسان يصيح: لي البِشارة، هذا رأسُ حسينِ بن عليّ، وإذا في جبهته ضربةٌ وفي رأسه أخرى، وجاء الحسنُ بن محمَّدٍ المكنى بأبي الزفت وقد أُصيبت إحدى عينيه, فوقف خلف محمدِ بن سليمانَ والعباسِ بن محمد، واستدار به موسى بنُ عيسى وعبدُ الله بن العباس بنِ محمدٍ وأَمرا به فقتل, فغضب محمدُ بن سليمانَ وقال: تقتلان مَن استجار بي! ودخل مكَّة مغضبًا، وجُمعت الرؤوس فكانت مئةَ رأس، منها رأسُ الحسينِ بن عليّ، ورأسُ أبي الزفت، ورأس سليمانَ بن عبدِ الله بنِ حسن، وذلك يومَ التَّروية، وكانت فاطمةُ بنت عليٍّ مع أخيها، فأخذت فتُركت عند زينبَ بنتِ سليمان، ولَمَّا قدم موسى بنُ عيسى على الهادي قال أول: هِيه، تقتل أَسيري! يعني أبا الزفت, ولم يُقتل صبرًا غيرُه (¬4)، فقال: خفت أن ¬

_ (¬1) في (خ): وهو. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 196. (¬2) في تاريخ الطبري: موسى بن عليّ بن موسى. (¬3) في تاريخ الطبري: على الثلاثين. (¬4) في تاريخ الطبري: ولم يقتل أحد منهم صبرًا. وقد ذكر المصنف قبل قليل كيفية قتله.

تشفعَ فيه عائشةُ وزينبُ إلى أمِّ [أمير] (¬1) المُؤْمنين فتُطْلقه، ولما بلغ الهاديَ أن مباركًا التركيَّ لم يقاتلْ غضب عليه، وأَمر بقبض أموالِه وتصييره في سياسة الدوابّ. وكان مباركٌ لما وصل المدينةَ أرسل إلى حسين بنِ على يقول: واللهِ لأَن أسقطَ من السماءِ فتخطَفَني الطيرُ أو تهويَ بي الريحُ في مكانٍ سحيق أَيسرُ عليَّ من أن أشوكَك بشوكة، ولكن لا بدَّ من الإِعذار، وإني إذا التقيتُك انهزمتُ. فخرج إليه حسينٌ فاقتتلا، فانهزم مباركٌ عنه، فلحق موسى بنَ عيسى، وغضب الهادي على موسى بنِ عيسى لقتله أَبا الزفت، وأَمر بقبض أمواله، وأفلت إدريسُ إلى المغرب، وقد ذكرناه، وهرب يحيى بنُ عبد الله بنِ حسن، وكان العمريُّ مستخفيًا بالمدينة، فلما بلغه مقتلُ الحسينِ بن عليّ أَحرق دارَه ودارَ جماعةٍ من أهل بيته ومَن خرج معه، وقطع نخيلَهم وأخذ أموالهم. ولما قُتل الحسينُ بن عليٍّ بعثوا برأسه مع يقطين بنِ موسى، فوضعه بين يدي الهادي، فقال: كأنَّكم قد جئتم برأس طاغوتٍ من الطواغيت، إنَّ أوَّل ما أَفعل بكم أن أَحرمَكم جوائزَكم، فلم يُعطِهم شيئًا، ثم تمثَّل: [من الرجز] قد أَنصفَ القارَةَ مَن راماها (¬2) الأبيات. وقال الهيثم: اجتمع بمكَّة إلى بني العباسِ أربعةُ آلافِ أَلْف (¬3)، وجاء الحسينُ بن عليٍّ فنزل بفَخَّ في نفرٍ يسير، وكانوا عُراة، وذلك في ليلة الجُمُعة، فشدُّوا على المحامل فقتلوا أهلَه وقتلوه. وقال سعيدُ بن مسلم: قد كان الهادي يودُّ لو جيءَ بالحسين بنِ عليٍّ حيًّا ليمرَّ به على أهله ويتألَّفَهم بذلك. وقُتل سليمانُ بن عبدِ الله بن حسنٍ صبرًا، وعبدُ الله بن الحسنِ بن عليٍّ أمَّنوه ثم قتلوه، وقتلوا إسحاقَ بن إبراهيمَ بن الحسنِ بن الحسن بن عليٍّ - عليه السلام -، ولما ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 198. (¬2) تمامه -كما في تاريخ الطبري 8/ 203 - : إنَّا إذا ما فئة نلقاها نرد أولاها على أخراها (¬3) في مروج الذهب 6/ 266: أربعة آلاف فارس.

الربيع بن يونس

ألقَوا الرأسَ بين يدي الهادي ارتجل أبياتًا، وهي: [من الرمل] إنَّ هذا الدهرَ جمٌّ عَجَبُه ... غادياتٌ رائحاتٌ نُوَبُهْ قطع الأرحامَ فيما بيننا ... طالبًا أمرًا بعيدًا مَطلبُه كنتُ أَهوى أَسْره لا قتلَه ... وكفى لو قد كفاهمْ هَرَبه كيف قتلي مثلَه لو قد أتى ... شافعًا فيما حباه نَسَبُه وقال أَيضًا: [من البسيط] في كلِّ يومٍ لنا من أهلنا حسدٌ ... لأَنْ ملكْنا وصرنا سادةَ البشرِ سلَّى همومي وأَطفا نارَ مَوجِدتي ... عونُ الإِله على الأَعداء بالظَّفَر (¬1) ولم يُدفَن من قتلى فَخَّ أحد، بل تُركوا في البرِّية، فأكلتهم السِّباعُ والطيور، فاجتاز بهم بعضُ محبِّيهم فقال: [من مجزوء الكامل] ولأَبكينَّ على الحسيـ ... ـنِ بعَوْلةٍ وعلى الحسنْ وعلى ابن عاتكةَ الذي ... أَثوَوه ليس له كَفَن تركوا بفخَّ عظامه (¬2) ... في غير منزلةِ الوطن كانوا كِرامًا سادةً (¬3) ... لا طائشين ولا جُبُن غَسَلوا المذلَّةَ عنهمُ ... غَسْلَ الثياب من الدَّرن كلُّ العباد تحبُّهمْ (¬4) ... ولهمْ على النَّاس المِنَن وكان بين وفاةِ المهديِّ وخروجِ الحسين بنِ عليٍّ إلى أن قُتل تسعةُ أشهرٍ وثمانيةَ عشَرَ يومًا، وهرب يحيى بنُ عبد الله بنِ حسنٍ ومعه جماعة. الرَّبيعُ بن يونسَ ابنِ محمَّد بن أَبي فَروة، أبو الفضل، حاجبُ المنصور. واسمُ أبي فروةَ كَيسان، مولى الحارثِ الحفار، والحفارُ مولى عثمانَ بن عفَّان - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) معجم الشعراء للمرزباني ص 289. (¬2) في مروج الذهب 6/ 268، والروض المعطار ص 437: غدوة. (¬3) في مروج الذهب والروض المعطار: قتلوا. (¬4) في المصدرين: هدي العباد بجدهم.

وأبو فروةَ من أَرْأَسه، بل من سَبيٍ من جبل الخليلِ بالشَّام، وهو جبلُ صيدا. وقيل: أبو فروةَ من سَبي عينِ التَّمر، ابتاعه ناعمٌ الأسدي ودخل به المدينةَ وعليه فروة، فاشتراه عثمانُ رضوانُ اللهِ عليه فأَعتقه، وجعل يحفر القبور، وكان أَلثغ، فلمَّا قام النَّاسُ على عثمانَ كان معهم، فناداه: يَا أُثمان، رُدَّ المدالم، فقال له عثمانُ رضوانُ الله عليه: أَنْتَ أوَّلُها، ابتعتَ من بيت المالِ لتحفرَ قبورَ المسلمين فتركتَ ذلك. ثم ولد أبو فروةَ عبدَ الله، وولد عبد الله محمدًا، وولد مُحَمَّد يونس، وكان يتيمًا في حجر جدَّته، وكان لجدَّته جاريةٌ نفيسة، فواقعها بغير إذن جدَّته، فحملت منه، فولدت الرَّبيع، فجحده يونُس، وجحدته جدتُه، فلما شبَّ باعته، فاشتراه زيادُ بن عبيدِ الله الحارثيُّ فأَهداه إلى أبي العباس، ثم انتقل إلى أبي جعفر، فاستمال ابنُ أبي فروة بالأموال حتَّى شهدوا له بأنه ابنُ يونسَ وأنه أقرَّ به، وكان محمدُ بن أبي فروةَ من أجلِّ موالي المدينة وأَسراهم نفسًا وكَرَمًا ويسارًا، فخطب إلى محمَّد بنِ يوسفَ مولى عثمانَ - رضي الله عنه - ابنتَه عمارة، فزوَّجه إياها، فولدت له يونسَ بن محمَّد، ونشأ على طريقة أَبيه. وكان المنصورُ صيَّر الربيعَ خليفةَ حاجبِه أبي الحصيب مرزوقٍ مولاه، ثم أَعتقه وصيَّره حاجبَه، ثم بلغه أن الربيعَ يقول: إنه ابنُ يونس، فدعاه وأدَّبه، وقال: يَا ابنَ الخبيثة! أَعتقتُك واصطفيتك وأنت تدَّعي ولاءَ عثمان! ووجَّه المنصورُ إلى يونسَ فقال له: إنَّ الربيعَ يزعم أنَّه ابنُك، فأَنكر ذلك وحلف عليه، فأعجب أَبا جعفرٍ وأَحسن إلى الرَّبيع ووصله، وبهذا كان جعافرُ بن يحيى يُكنى أَبا رَوح؛ لأن أهلَ المدينة يكنون اللقيطَ أَبا رَوح. وقال الصُّولي: ما رأيتُ أحدًا من أهل العلم إلَّا وهو يصحِّح نسبَ الربيعِ أنَّه ابنُ يونسَ بنِ محمَّد، وكان المنتوفُ يطعُن في نسبه ويقول له فيه شبهةٌ من المسيح، يخدعه بذلك، فكان يُكرمه، فأُخبر المنصور بمقالة المنتوفِ فقال للربيع: ويحك، إنَّه يقول: لا أبَ لك، فتنكَّر له بعد ذلك، ودخل فتًى من بني هاشمٍ على المنصور، فسأله عن أَبيه فقال: مرض - رضي الله عنه - في وقت كذا، وجعل يكثر الترحُّمَ على أَبيه، فاغتاظ الربيعُ فقال: كم تترحَّم على أبيك بين يدي أميرِ المُؤْمنين؟ فقال له الفتى: ما أَلومك؛ لأنك ما ذقتَ حلاوةَ الآباء، فضحك أبو جعفر حتَّى استلقى على ظهره، ولم يُرَ ضاحكًا مثلَ ذلك

اليوم، ووصل الفتى. يعني أن الربيعَ لقيطٌ لا يُعرف له أب، وفيه يقول الحارثُ بن الدَّيلمي: [من الطَّويل] شهدتُ بإذن اللهِ أنَّ محمدًا ... رسولٌ من الرَّحْمَن غيرُ مكذَّبِ وأنَّ ولا كيسانَ للحارث الذي ... وَلِي زمنًا حفرَ القبورِ بيثرب (¬1) وكان الربيعُ فطنًا لبيبًا، دخل المنصورُ دارًا فرأى على حائطٍ مكتوبًا: [من الطَّويل] وما ليَ لا أبكي بعينٍ قريحةٍ (¬2) ... وقد قُرِّبت للظاعنين حُمولُ وتحتها مكتوب: إيه إيه إيه، فسأل أبو جعفرٍ خواصَّه فلم يفهموا معناه، فقال الرَّبيع: يَا أميرَ المُؤْمنين، لما كتب هذا البيتَ ولم يجد مَن يساعده على حاله بكى، والباكي يقول: إيه إيه، فعجب المنصورُ من فطنته، وأَعتقه واستوزره بعد ذلك. وقال الرَّبيع: رأى المنصورُ على حائط قصرِه مكتوبًا: [من الطَّويل] وما ليَ لا أبكي وأَندُب ناقتي ... إذا صدر الرِّعيانُ نحو المناهلِ وكنتُ إذا ما اشتدَّ شوقي رَحَلتُها ... فسارت بمحزونٍ طويل البلابل وتحته مكتوب: آه آه، فلم يدرِ ما هو، وفطنتُ فقلت: يَا أميرَ المُؤْمنين، قال هذا الشِّعرَ ثم تأوَّه فكتب تأوهَه وتنفُّسه، فقال لي: يَا غلام، ما أخفَّكَ على قلبي! قاتلك اللهُ قد أَعتقتك ووليتك مكانَ ياسر. وكان شابٌّ من بني هاشمٍ يدخل على أبي جعفرٍ فيسلِّم من بعيدٍ وينصرف، فدخل يومًا، فأَدناه أبو جعفرٍ وقرَّبه وأَمره بالغداء معه، فقال: قد تغدَّيت، والربيعُ واقفٌ على رأس أبي جعفر، فلمَّا خرج الشابّ، لحقه الربيعُ فدفع في قفاه، وفعل الحجَّاب كذلك، فشكا الشابُّ إلى عمومته ذلك، فدخلوا على أبي جعفرٍ وأَخبروه فقال: إنَّ الربيعَ لم يُقدم على هذا جُزافًا، فإن شئتم أَمسكنا عنه، وإن شئتم سألناه، فقالوا: سَلهْ، فدعاه وقال له: لِمَ فعلتَ بهذا الفتى ما فعلت؟ فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، إن هذا الجاهلَ كان يأتي كلَّ يومٍ فيسلِّم من بعيدٍ وينصرف، فلمَّا كان بالأمس أَدناه أميرُ المُؤْمنين وقرَّبه ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 9/ 404. (¬2) في المنتظم 8/ 332: حزينة.

وقال: تغدَّ معي، فامتنع، فدلَّ على سوءِ أدبه، وظنَّ أن طعامَ أميرِ المُؤْمنين للعلف، ونسي أنَّه للشَّرف، فقال له: أَحسنت. وكان أبو جعفرٍ يقول: إنِّي لأَضنُّ بالربيع عن الولاية، هو أكبرُ منها. وقال المنصورُ يومًا: سَلْني ما تريد، فقد سكتَّ حتَّى أَبرمت، وخفَّفت حتَّى ثقلت، وأَكثرتَ حتَّى قللت، فقال له: يَا أميرَ المُؤْمنين، واللهِ لا أغتنم مالك، ولا أستقصر عُمرَك، ولا أستصغر فِعلَك، وإنَّ يومي بفضلك عليَّ لأَحسنُ من أمسي، وغدًا في تأميل رجائي أحسنُ من يومي، فقال له المنصور: علمي بهذا منك أَحلَّك هذا المحل مني، فسلني ما شئت، قال: أسألك أن تحبَّ ابني الفضلَ وتقرِّبَه، فقال: أما الحبّ، فليس بمالٍ يوهب، ولا بزينة تُبذَل، وإنما تؤكِّده الأسباب، وأما تقريبُه، فقد أَجزتُه بألف ألفِ درهم، ولم أَصِلْ بها غيرَ عمومتي. وكان المنصورُ يقول: واللهِ ما من أحدٍ قريب أو بعيد يُطيف بي إلَّا وقد غفرتُ له ذنوبًا، إلَّا الرَّبيع، فإنّه ما أذنب إليَّ ولا أخطأَ في شيءٍ قط. ولَمَّا شرع المنصورُ في بناء بغدادَ وخرج عليه محمدٌ وإبراهيم، جعل المنصورُ يدور في بستان، وإذا بشجرة خلافٍ قد نبتت، ولم يكن أبو جعفر يعرفها قبل ذلك، فقال: يَا ربيع، ما هذه؟ فكره أن يقول: شجرةُ الخلاف، فقال: هذه شجرةُ الوِفاق، فأُعجب أبو جعفرٍ به. ذكر وفاته: كان الهادي في قلبه عليه، فقال لسعيد بنِ سَلْم: أريد قتلَ الربيعِ وما أدري كيف أَصنع، فقال له: أَقعِد له رجلًا في الطريق ومعه سكِّين مسمومةٌ ومُرْه بقتله، فأَقعد له في الطريق رجلًا وأَمره بقتله، فخرج الربيعُ من عنده ليلًا، فلم يمرَّ على ذلك الرَّجل، وسلك غيرَ الطريقِ الذي كان فيها، ثم علم الربيعُ بعد ذلك، فانصدع قلبُه فمات بعد ثمانيةِ أيام. وقيل: إنَّه كانت للرَّبيع جارية، فأَهداها إلى المهديِّ فوهبها لابنه الهادي، فكانت أعزَّ الخلقِ عليه، فوشى بعضُ أعداءِ الرَّبيع إلى الهادي وقال: إنَّه يقول: ما وضعتُ بيني وبين الأرضِ مثلَ أَمَةِ العزيزِ، يعني الجارية، فغار الهادي غَيرةً شديدة، ودعا به

المهدي محمد بن عبد الله

يومًا، فأكل معه وناوله بيده قَدَحًا مسمومًا، فشربه خوفًا لا يقتله، ثم قام إلى داره فقال لأهله: إن موسى سقاني كأسًا مسمومًا، ومات من ساعته. وكانت وفاةُ الربيع في هذه السَّنة، وقيل: في أوَّل سنةِ سبعين قبل موت الهادي بأشهر، وله ستُّون سنة. ذِكرُ أولاده: كان له من الأَولاد الفضل، ويعقوب، وعبدُ الله، والقاسم، وجعفر، ويونُس، وإِبراهيم، وعبيدُ الله, ومحمَّد، وموسى، وكلُّهم أَعقبوا إلَّا موسى، ولم يرَ في الحجابة أعرفُ من الرَّبيع وولدِه، حجب الربيعُ للمنصور وللمهديّ، وحجب ابنُه الفضلُ هارونَ [و] (¬1) الأمين، وحجب ابنُه العباسُ بن الفضل للأمين، فعباسٌ حاجبُ بن حاجبِ بن حاجب، وفيه يقول أبو نُوَاس: [من الكامل] ساد الرَّبيعُ وساد فضلٌ في العُلا ... وعلتْ بعباس الكريمِ فروعُ عبَّاسُ عباسٌ إذا شهد الوغى ... والفضلُ فضلٌ والربيعُ ربيع (¬2) ووُلد العباسُ بن الفضلِ في آخر خلافةِ أبي جعفر، وأما يعقوبُ بن الرَّبيع، فكان شاعرًا ماجنًا خَليعًا، اشترى جاريةً فأُعطي فيها مئةَ ألفِ دينارٍ فلم يبعها، فماتت عنده، فقال فيها الأَشعار، فمنها: [من الكامل] أَضحَوا يصيدون الظِّباءَ وإنني ... لأَرى تصيُّدَها عليَّ حرامًا أَشبهنَ منكِ سوالفًا وشمائلًا (¬3) ... فأَرى بذاك لها عليَّ ذِماما أَسند الربيعُ عن أبي جعفرٍ وعن جعفر الصادقِ وغيرِهما، وروى عنه ابنُه الفضل وغيرُه. المهديُّ محمدُ بن عبدِ الله ابنِ محمَّد بن عليِّ بن عبد الله بنِ العباس. كان حسنَ الأخلاق كثيرَ الحياء، جَوَادًا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المنتظم 8/ 333. (¬2) الديوان ص 415. (¬3) في نشوار المحاضرة 7/ 7، وتاريخ بغداد 16/ 390: مدامعًا.

سَمْحًا حليمًا، عارفًا بأيَّام النَّاس. دخل ابنُ الخياط المكِّي عليه فقبَّل يدَه ومدحه، فأَمر له بخمسين ألفَ درهم، فلمَّا قبضها فرَّقها على النَّاس وقال: [من الطَّويل] لمستُ بكفِّي كفَّه أَبتغي الغنى ... ولم أدرِ أن الجُودَ من كفِّه يُعدي فلا أنا منه ما أَفاد ذَوو الغنى ... أَفدتُ وأَعداني فضيَّعتُ ما عندي (¬1) وبلغه فأعطاه عوضَ كلِّ درهمٍ دينارًا. وقال المهديّ: ما توسَّل أحدٌ إليَّ بوسيلة ولا تذرَّع بذريعةٍ هي أقربُ إلى وأحبُّ من أن يذكرَني يدًا سلفت مني إليه أُتبِعها بأُختها؛ لأن منعَ الأواخرِ يقطع شكرَ الأوائل. وقال حسنٌ الوصيف: جلس المهديُّ جلوسًا عامًّا، فدخل عليه رجل في يده نعلٌ في منديل، فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، هذه (¬2) نعلُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَهديتها لك، فأخذها منه وقبَّل باطنَها ووضعها على عينيه، وأَمر للرجل بعشرة آلافِ درهم، فلما خرج الرجلُ قال المهديُّ لجلسائه: أَتروني أنِّي [لم] (¬3) أعلمْ أنَّ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لم يرَها فضلًا عن أن يكونَ لبسها؟ ولو كذَّبناه قال للنَّاس: أتيت أميرَ المُؤْمنين بنعل رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فردَّها عليّ، وكان مَن يصدِّقه أكثرَ ممن يدفع خبرَه؛ إذ كان من شأن العامَّةِ الميلُ إلى أشكالها والنُّصرةُ للضعيف على القويِّ وإن كان ظالمًا، فاشترينا لسانَه وقبلنا هديَّته وصدَّقنا قولَه، ورأينا الذي فعلنا أنجح وأرجح. وقال سليمانُ بنُ علي: دخل الربيعُ يومًا على المهديِّ وبيده قطعةٌ من جراب فيها كتابةٌ برماد وخاتمٌ من طين قد عُجن بالرَّماد وهو مطبوعٌ بخاتم الخلافة، فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، أعرابيٌّ على الباب ينادي: مَن يدلُّني على الرَّبيع؟ هذا كتابُ أمير المُؤْمنين، فأخذه المهديُّ وضحك وقال: هذا واللهِ خطِّي وخاتَمي، وصدق، ثم شرع يحدِّث فقال: خرجت أمسِ إلى الصيد في غِبِّ سماء، فلما أصبحت هاج علينا ضبابٌ شديد، ¬

_ (¬1) اختلف في نسبة البيتين، انظر الأغاني 3/ 150 - 151 و 20/ 1، وديوان بشار 2/ 236، وديوان دعبل ص 446 - 447. (¬2) في (خ): هذا. والمثبت من تاريخ بغداد 3/ 387. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد.

وفقدتُ أصحابي حتَّى ما أَرى منهم أحدًا، وأصابني من الجوع والبردِ والعطشِ ما اللهُ به عليم، وتحيَّرت، فذكرت دعاءً سمعتُه من أبي يحكيه عن أَبيه عن جدِّه عن ابنَ عباسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قال إذا أَصبح وأَمسى: بسم الله وبالله ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله، اعتصمتُ بالله وتوكَّلت على الله، حسبي اللهُ [ولا حولَ] (¬1) ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم، وُقي وكُفي وشُفي من الحرق والغرقِ والهدم وميتةِ السُّوء" فلما قلتُها رُفع لي ضوءُ نار، فقصدتُها، وإذا بأعرابيٍّ في خيمةٍ له يوقد نارًا، فسلَّمت عليه وقلت: هل من ضيافة؟ قال: اِنزل، فنزلت، فقال لزوجته: اِطحني ذاك الشعير، فأخذتْ في طحنه، فقلت: اِسقني ماء، فأتاني بسقاءٍ من لبنٍ فيه مَذْقة، فشربتُ منه شربةً ما شربت قطُّ شربةً إلَّا وهي أطيبُ منه وألذّ، وأَعطاني حِلْسًا، فنمت نومةً ما نمت عمري ألذَّ منها، ثم انتبهتُ وإذا به قد ذبح شُويهةً لم يكن له سواها، وإذا بامرأته تقول: قتلتَ نفسَك وصِبيتَك، إنَّما كان معاشُكم من هذه الشاةِ وقد ذبحتَها، فبأيّ شي؟ تعيش؟ ! قال: فقلت لها: لا عليك، هاتِ الشاة، فشققتُ جوفَها واستخرجتُ كَبِدها، وأخرجت سكِّينًا من خفِّي، فشرحتها وشويتُها على النَّار وأَكلتها، فما أكلتُ أطيبَ منها. ثم قلت: هل عندكَ ما أَكتب لك فيه؟ فجاء بهذه القطعة، فأخذتُ عُودًا من الرَّماد الذي كان بين يدي، فكتبتُ هذا الكتابَ وختمته بهذا الخاتمَ، وأمرته أن يجيءَ ويسألَ عن الرَّبيع فيدفعَه إليه، ثم قرأ المهديُّ الكتاب، وإذا فيه: خمسُ مئةِ أَلْف درهم، فقال: واللهِ ما أردتُ إلَّا خمسين ألفَ درهم، ولكن خرجت بخمس مئةِ أَلْف، واللهِ لا أَنقص منها درهمًا واحدًا ولو لم يكن في بيت المالِ غيرُها، اِحملوها معه، فما كان إلَّا القليلُ حتَّى كثرت إبلُ الرجلِ وشاؤه، وصار منزلًا من المنازل ينزله النَّاسُ مَن أراد الحجَّ من الأَنبار إلى مكَّة، وسمِّي مضيف أمير المُؤْمنين. واعترضته امرأةٌ وقالت: يَا عصبةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - انظر في حاجتي، فأَعجبه كلامُها وقال: ما سمعتُها من أحدٍ قبلها، اقضوا حاجتَها وأعطُوها عشرةَ آلافِ درهم. وقدم المهديُّ البصرة، فكان يصلِّي بالنَّاس الصلواتِ الخمسَ في جامع البصرة، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 3/ 390.

فأقيمت الصلاةُ يومًا، فقال أَعرابيّ: يَا أميرَ المُؤْمنين، لستُ على طهرٍ وقد رغبتُ إلى الله في الصلاة خلفَك، فوقف في المحراب قائمًا حتَّى توضَّأ الأعرابيُّ وجاء، فأُخبر بمجيئه، فكبَّر وصلَّى، فعجب النَّاسُ من سماحة أخلاقِه. وهاجت ريحٌ في زمن المهديّ، فدخل بيتًا في جوف بيتٍ وأَلصق خدَّه بالأرض، وجعل يمرِّغ وجهَه على التُّراب، ثم قال: اللهم إنه بريءٌ من هذه الجنايةِ كلُّ هذا الخلقِ غيري، فإن كنتُ المطلوبَ من بين خلقِك فها أنا بين يديك، اللهمَّ لا تشمت بي أهلَ الأديان، اللهم احفظ محمدًا في أمَّته، اللهمَّ هذه ناصيتي بين يديك. فلم يزل كذلك حتَّى انجلت الرِّيح. وكان العَوفيُّ على مظالم المهدي، فصلَّى المهديُّ المغربَ بالنَّاس ثم انصرف يتنفَّل، فقام العَوفي فقعد في قِبلَته وجذب بثوبه، فقال: ما لك؟ ! قال: شيءٌ أَولى بك من النافلة، قال: وما هو؟ قال: سلامٌ مولاك -وسلام قائمٌ على رأسه- غصب قومًا ضَيعتهم، وقد صحَّ ذلك عندي، فمرْه بردِّها، فقال: حتَّى نُصبح، فقال العَوفي: لا واللهِ إلَّا الساعة، فأمر قائدًا أن يذهبَ إلى الضيعة ويُخرجَ منها أصحابَ سلَّام ويردَّها على أَربابها، ففعل. وكان المهديُّ إذا جلس للمظالم يقول: أَدخِلوا عليَّ القُضاةَ والعلماءَ أولًا، فلو لم يكن ردِّي المظالمَ إلَّا حياءً منهم [لكفى] (¬1). وقال سوَّار بنُ عبد اللهِ القاضي: انصرفتُ يومًا من دار المهديّ، فلمَّا دخلتُ منزلي دعوتُ (¬2) بالغداء، فجاشت نفسي، فأمرت بردِّه، ثم دعوتُ جاريةً أُلاعبها، فلم تَطِب نفسي، فدخلتُ للقائلة، فلم يأخذْني نوم، فركبت بغلتي وخرجت، فاستقبلني وكيلي ومعه ألفًا درهمٍ من غَلَّتي، فقلت: اِتبعني، وأَطلقت رأسَ البغلة، وعبرت الجسرَ وصرتُ في شارع بابِ الأنبار، وإذا بدارٍ على باب شجرةٍ وعلى الباب خادم، وقد عطشت، فاستسقيتُ ماء، فدخل وأَخرج قُلَّةً نظيفة طيبةَ الرائحة، فشربت، وحضر وقتُ العصرِ وهناك مسجد، فدخلت وصلَّيت، وإذا بأعمى قد دخل يلمس بيديه، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين يقتضيه السياق. (¬2) في (خ): دخلت، ولعله سهو. والمثبت من تاريخ دمشق 62/ 501.

فقلت: ما تريد؟ قال: أَنْتَ، قلت: وما حاجتُك؟ قال: شممتُ منك ريحَ الطِّيب، فعلمتُ أنك من أهل النَّعيم، فأردتُ أن أشرحَ لك قصَّتي. قلت: قل، قال: أَترى هذا القصر؟ قلت: نعم، قال: هذا كان لأبي، فباعه وخرج إلى خُراسان، وخرجتُ معه، فمات وزالت عنا النِّعمة، فجئتُ إلى صاحب القصرِ أسأله أن يَصِلَني وأصيرَ على سوَّار بن عبدِ الله القاضي؛ فإنَّه كان صاحبَ أبي، قال: فقلت: ومَن أبوك؟ فذكر رجلًا كان أصدقَ النَّاس إليّ، فقلت: يَا هذا، إنَّ الله قد أتاك بسوَّار، منعه الأكلَ والنومَ والقيلولةَ حتَّى جاء به فأَقعده بين يديك. ثم قلتُ للوكيل: هاتِ الدراهم، فدفعتُها إليه، ثم قلت: إذا كان غدًا فصِرْ إلى المنزل، وركبتُ بغلتي وعدت، وقلت: ما أُحدِّث أميرَ المُؤْمنين بأطرفَ من هذا، فدخلت عليه فحدَّثته، فعجب وأمر لي بألفَي دينار، ثم قال: عليك دَين؟ قلت: نعم، قال: كم هو؟ قال: خمسون ألفَ دينار، فأَمسكَ وجعل يحدِّثي ساعة، ثم قال: امضِ إلى منزلك، فمضيت، وإذا بخادمٍ قد سبقني ومعه خمسون ألفَ دينار، فقال: أميرُ المُؤْمنين يقول: اقضِ بها دَينك، فلمَّا كان من الغد جاءني رسولُه، فمضيتُ إليه، فقال: يَا سوَّار، فكَّرتُ في أمرك فقلت: هذه يقضي بها دَينه ويحتاج للقَرض، قد أمرتُ لك بخمسين ألفَ دينارٍ أخرى، فقبضتُها وانصرفت، وجاءني المكفوف، فوصلته بأربعة آلافِ دينار (¬1). وقال الخرائطي: أهدر المهديُّ دمَ رجلٍ كان يسعى في فساد الدَّولة، وجعل لمن يدلُّه عليه مئةَ ألفِ درهم، فخرج يومًا في بعض شوارعِ بغدادَ مستخفيًا، فرآه رجل فعرفه، فلبَّبه وقال: هذا طِلبةُ أميرِ المُؤْمنين، وإذا بمعن بنِ زائدةَ قد أَقبل في موكبه، فصاح: يَا أَبا الوليد، خائفٌ فأَجِره، وميَت فأَحْيه، فقال للرجل: دعْه فقد أجرتُه، فقال: إن أميرَ المُؤْمنين أَوعد عليه بكذا وكذا، فمضى إليه وأَخبره، وأما مَعْن، فبعث بالرجل إلى داره وقال: لا يَخلص إليه أحدٌ وفيكم عينٌ تَطرِف، ودخل معنٌ على المهديِّ فسلَّم عليه، فلم يردَّ وقال: يَا معن، تُجير علي! قال: نعم. قال: ونعم أَيضًا! فقال له معن: قتلتُ في قيام دولتكم في يومٍ واحد أربعةَ آلافِ مصلٍّ ولا يُجار لي رجلٌ واحد قد استجار بي! فأطرق المهدي رأسَه ثم رفعها وقال: قد أَجرنا مَن أجرت. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق: فدفعت إليه الألفي دينار.

فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، إن الرجلَ ضعيفُ الحال، قال: قد أمرنا له بثلاثين ألفَ درهم، فقال: إن جنايتَه عظيمة، وصِلاتِ الخلفاء على قَدْر الجناياتِ من الرعايا، قال: قد أَمرنا له بمئة ألفِ درهم، فقال: أهنأُ المعروف أعجلُه، فأمر بها فحُملت إلى دار معن، فجاء إلى داره وقد سبقه المال، فقال للرجل: ادعُ لأمير المُؤْمنين؛ فقد حقن دمَك، وأَجزل صِلتَك، وأَصلح نيَّتك له فيما يستقبل. وقال شبيبُ بن شيبةَ (¬1) المِنْقري (¬2): حججت، فبينا نحن ببعض الطريقِ جلست أتغدَّى، فجاء أعرابيٌّ وبيده جاريةٌ سوداء، فقلت له: تعال تغدَّ، فقال: إنِّي صائم، وكان يومًا شديدَ الحرّ، فقلت له: أتصوم في هذا الحرّ! فقال: أصوم ليومٍ هو أشدُّ حرًّا منه، ثم قال: هل فيكم مَن يكتب لي كتابًا؟ قلت: نعم، فأخرجتُ له صحيفة، فقال: اكتب: هذا ما أَعتق هلالُ بن عبدِ الله جاريتَه لؤلؤةَ لوجه اللهِ تعالى ولجَوَاز العَقَبة، فكتبتُ وأَعتق الجارية، فحدَّثت المهديَّ حديثَه، فقال: اشترِ لي ألفَ رأسٍ وأَعتقهم على ما أَعتق عليه الأعرابيّ، ففعلت. وقال مالكُ بن أنس: لما حجَ المهديُّ دخلتُ عليه، فقال: يَا مالك، ألكَ دار؟ قلت: لا، وأحدِّثك بحديثٍ حدَّثناه ربيعةُ بن عبدِ الرَّحْمَن أنَّ نسبَ الرجلِ دارُه، فأمر لي بثلاثة آلافِ دينار. ولما حجَّ دخل المدينة، فدخل عليه جماعة، فقال: أَنشِدوني، فأنشده عبدُ العزيز الماجِشون: [من الطَّويل] وللناس بدرٌ في السماءِ يرونه ... وأنت لنا بدرٌ على الأرض مُقمِرُ وما البدرُ إلَّا دون وجهِك في الدُّجى ... يغيب فيبدو حين غاب فيُقمر فأعطاه خمسين ألفَ دينار (¬3). وقدم على المهديِّ بِطريقٌ من الرُّوم يقال له: طاراثُ بن الليث بنِ العيزار بن طريف، وكان أبوه ملكَ الروم أيامَ معاوية، فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، ما قدمتُ إلَّا شوقًا ¬

_ (¬1) في (خ): شبة. والمثبت من العقد الفريد 3/ 467، وشعب الإيمان 4/ 69، وتاريخ دمشق 62/ 491. (¬2) في (خ): المقري. والمثبت من تاريخ دمشق. (¬3) في تاريخ بغداد 3/ 388 - 389، وتاريخ دمشق 62/ 496 - 497 أنَّه أجازه بعشرة آلاف دينار.

إليك؛ لأنَّا نجد في كتبنا أن الثالثَ من بني العباسِ يملأ الأرضَ عدلًا كما مُلئت جَورًا، فقال المهدي: قد سرَّني ما قلت، ولك عندنا كلُّ ما تحبَّ، ثم أمر الربيعُ بإنزاله وإِكرامه، فخرج يومًا يتنزَّه، فمر بموضع الأَرحاء التي على نهر عيسى، فقال للربيع: أحبُّ أن أبنيَ ها هنا مستغلًّا يؤدِّي لي في السنة خمسَ مئةِ ألفِ درهم، فأَقرِضني خمسَ مئة ألفِ درهم، فقال: نعم، وأَخبر المهدي، فقال: أَعطِه خمسَ مئة ألفِ دينارٍ (¬1) وخمسَ مئة ألفِ درهم. وبنى الأَرحاء، فكان المهديُّ يبعث إليه في كلِّ سنةٍ مُغَلَّ الأرحاءِ، فأقام مدَّة ثم مات، فضمَّها المهديُّ إلى مستغلَّاته. وقال الرَّبيع: ظهر رجلٌ يدَّعي النبوَّة، وبلغ المهديَّ فأَرسل إليه، فأَحضره في يومه، فقال: أَنْتَ تزعم أنك نبيّ؟ قال: نعم. قال: إلى مَن بُعثت؟ قال: أنتم تركتموني أَذهب إلى مَن بُعثت إليه! وجِّهتُ بالغَداة وأخذتموني بالعَشيِّ فحبستموني. فضحك المهديُّ من قوله وخلَّى سبيله. وقال عليُّ بن صالح: أذنب رجلٌ من القوَّاد، وكان قد عتب عليه المهديُّ غيرَ مرَّة، فقال له: إلى متى تُذنب؟ قال: ما أبقاك اللهُ لنا، منا الذنبُ ومنك العفو. فاستحيى منه ورضي عنه. وخرج المهديُّ يطوف بالبيت، فسمع أعرابيةً من ناحية المسجدِ تقول: قوم معثَّرون، نبت عنهم العيون، وقرحتهم الدُّيون، وعضَّتهم السِّنون، بادت رجالُهم، وذهبت أموالُهم، وكثرت عيالُهم، أبناءُ سبيل، وأنضاءُ طريق، وصيةُ الله ووصيةُ الرسول، فهل امرؤٌ يُجير كلأه اللهُ في سفره وخلفه في أهله؟ فرقَّ لها ووصلها. ولما أَنشده مروانُ بن أبي حفصةَ قصيدته التي منها: [من الكامل] أنَّى يكون وليس ذاك بكائنٍ ... لبني البناتِ ولايةُ (¬2) الأعمامِ (¬3) أعطاه سبعين ألفَ درهم، فقال: [من الطَّويل] بسبعين ألفًا راشني من حِبائه ... وما نالها في النَّاس مِن شاعرٍ قبلي (¬4) ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 1/ 406، وتاريخ دمشق 62/ 483: درهم. (¬2) في الديوان ص 104: وراثة. (¬3) في (خ): للأعمام. (¬4) الديوان ص 93.

وقال المهدي لعُمارةَ بنِ حمزة: مَن أرقُّ النَّاس شِعرًا؟ فقال: والبةُ بن الحُباب الأسدي، وهو الذي يقول: [من مجزوء الكامل] ولها ولا ذَنْبَ لها ... حُبٌّ كأَطراف الرِّماحِ في القلب يقدح والحشا ... فالقلبُ مجروحُ النواحي قال: صدقتَ واللهِ يَا أميرَ المُؤْمنين، فما يمنعك من منادمته وهو عربيٌّ شريف، شاعرٌ شريف، شاعرٌ ظريف؟ ! قال: قولُه: [من السريع] قلتُ لساقينا على خلوةٍ ... أَدنِ كذا رأسَك من راسي وادنُ وضَعْ صدرك لي ساعة (¬1) ... إنِّي امرؤٌ أَنكح جُلَّاسي أفتريد أن أكونَ جليسَه على هذا الشَّرط؟ وقال لحاجبه: قد ولَّيتك سَترَ وجهي وكشفَه، فلا تجعلْ بيني وبين خواصِّي سببًا لضَغَنهم بعبوس وجهِك، وقدِّم أبناءَ الدعوة؛ فإنَّهم أولى بالتَّقدمة، واجعل للعامَّة وقتًا بعد وقت. وبلغ المهديَّ عن أهل الشامِ شيء، فجهَّز إليهم جيشًا، فقال له ابنُ خريم: يَا أميرَ المُؤْمنين، عليك بالعفو عن المذنب والتجاوزِ عن المسيء، فلَأن يطيعَك النَّاسُ طاعةَ محبَّة خيرٌ لك من أن يطيعوك طاعةَ مخافة. قال: صدقت، وردَّ الجيش. وأمر المهديُّ بقتل رجلٍ وعنده ابنُ السَّمَّاك، فقال له: إنَّ هذا لا يجب عليه القتل، قال: فما يجب عليه؟ قال: يسعه عفوُك، فإنْ كان أجرًا كان لك، وإن كان وزرًا فعليَّ. فعفى عنه. وجيء المهديُّ برجل يدَّعي النبوَّة، فقال له: متى نبِّئت؟ قال: وما تصنع بالتاريخ؟ ! قال: ففي أيِّ الأماكنِ أتتك النبوَّة؟ قال: وقعنا معك في صُداع، فإن كنتَ تؤمن بي وإلَّا فدعْني أَذهبْ لعلي أجد مَن يصدِّقني غيرك. ثم قال: أمؤمنٌ أنا عندك أم كافر؟ قال: كافر، قال: فإنَّ الله يقول: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] , فلا تُطِعني ولا تؤذيني، ودعني أذهبْ إلى الضعفاءِ والمساكينِ فهم أَتباعُ ¬

_ (¬1) في الأغاني 18/ 100: ونم على صدرك لي ساعة. والبيتان الأولان في طبقات ابن المعتز ص 208 أَيضًا.

الأنبياء، وأَدعُ الملوكَ والجبابرةَ فما بُعثتُ إليهم. فضحك المهديُّ وأَطلقه. ورأى المهديُّ في المنام كأنه محا اسمَ الوليدِ بن عبد الملك من مسجد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم نسي، فلما حجَّ جلس في المسجد، فرفع رأسَه فرأى اسمَ الوليد، فقال: ذكَّرتَني الطَّعنَ وكنتُ ناسيًا، وأمر أن يُمحى اسمُ الوليد ويكتبَ اسمُ المهدي مكانَه، ففعلوا. ودخل شريكٌ على المهديّ، فقال له: اختر خَصلةً من ثلاث: إما أن تليَ القضاء، وإما أن تعلِّمَ ولدي، وإما أن تأكلَ معي لقمة، فقال: اللقمةُ أهون، فأكل عنده ألوانًا من الطعام، فقال القهرمان: ليس يُفلح هذا الشيخُ بعدها، فولي واللهِ القضاءَ وعلَّم أولادَه، ولقد كتب له رزقَه إلى الجِهبذ فضايقه، فجاء إليه فقال: كم تضايقني؟ ! فقال له الجِهبِذ: كأنك بعتَهم خزًّا، فقال: بعتُهم واللهِ أعزَّ من الخَزّ، قال: وما هو؟ قال: دِيني. ورأى المهديُّ كأنه مقبلٌ على شريكٍ وهو مُعرِض عنه، فسأل المعبِّرَ عن ذلك، فقال: هذا رجلٌ يطأ بساطَك وهو مخالفٌ لك، فاستدعاه، فلما دخل سلَّم عليه، فقال له المهديّ: لا سلَّم الله عليك، فقال: إنَّ الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] , قال: ما تقول في أبي يوسُف؟ فقال: نسأل عنه فإنْ كان عدلًا قبلنا شهادتَه، فاستشاط المهديُّ غضبًا فقال: يَا ابنَ الزانية، فقال: مَهْ مَهْ! واللهِ ما كانت إلَّا صوَّامة قوَّامة، فقال له: يَا فاسقُ يَا زنديق، فقال له شريكٌ وهو يضحك: إنَّ للفسَّاق والزنادقةِ علاماتٍ يُعرفون بها: شربُهم القهوات، واتخاذُهم القَينات، ونومُهم عن العَتَمات. يعرِّض بالمهدي، فقال: رأيتكَ في النَّوم وأنت تُجيبني من قفاك، فواللهِ لأقتلنَّك، فقال: إنَّ رؤياك ليست برؤيا يوسفَ الصِّدّيق، فلا تُباح دماءُ المسلمين بالأَحلام، وقام فخرج، فتبعه ابنُ قَحطبة، فقال له شريك: أرأيت ما قال صاحبُك لنا؟ فقال له ابنُ قحطبة: لله أبوك! فواللهِ ما رأيت مثلَك. وقال عليُّ بن صالح: كنت عند المهديِّ ودخل عليه شريك، فأراد أن يبخِّرَه بعود البَخور، فقال للخادم: هاتِ عودًا للقاضي، فجاء بعود الغناءِ فوضعه في حجر شريك، فقال: ما هذا يَا أميرَ المُؤْمنين! فخجل المهديُّ وقال: هذا أخذه العَسَسُ البارحة، فأحببت أن يكونَ كسرُه على يد القاضي، فقال: جزاك اللهُ خيرًا يَا أميرَ المُؤْمنين،

فكسره. ثم أَفاضوا في حديثٍ آخَرَ حتَّى نُسي حديثُ العود، ثم قال له المهديّ: ما تقول في رجلٍ أمر وكيلًا له أن يأتيَ بشيءٍ بعينه فأتى بغيره فتلف ذلك الشيء؟ فقال شريك: يضمن يَا أميرَ المُؤْمنين، فقال المهديُّ للخادم: اضمن ما أتلفتَ بقيمته أو مثلِه. وقال أبو مَعشر: جلست الخَيزُران يومًا وحولها بناتُ الخلفاءِ على النَّمارق والوسائد، وتحت الخيزران بساطٌ رومي، وعندها زينبُ بنت سليمانَ بنِ علي، وكانت في القُعْدُد (¬1) عند أهلِها مثلَ المنصور، فدخل الخادمُ فقال: على الباب امرأةٌ ذات حُسن وجمالٍ وهَيبة في أطمارٍ رَثَّة تستأذن عليك، فأَذنت لها الخَيزُران، فدخلت امرأةٌ لها أُبَّهة وقَدْرٌ وجَلالة، فسلَّمت بأحسنِ سلام، وتكلَّمت بأَفصح بيان، فقلت لها: مَن أَنْتَ؟ فقالت: مُزنةُ امرأة مروانَ بنِ محمَّد، أصارني الدهرُ إلى ما ترون، وهذه الأطمارُ عليّ عارية، ولَمَّا غلبتمونا على هذا الأمرِ لم نأمنْ أن نخالطَ العامَّة، ولمَا نحن فيه من الضَّرر قصدناكم لنعيشَ تحت ظلِّكم، فاغرورقت عينا الخَيزُران، فنظرت إليها زينبُ وقالت: لا خفَّف اللهُ عنك، أتذكرين يومَ دخلتُ عليك وتحتك هذا البساطُ بعينه -وأَشارت إلى البساط الذي تحت الخَيزُران- ونساءُ فراعنتكم على هذه النَّمارقِ والوسائد، فكلمتُك في جُثَّة إبراهيمَ الإِمام فانتهرتِني وأمرتِ بإخراجي، وقلتِ؟ ما للنساء والدخولِ مع الرجالِ في آرائهم، وواللهِ لقد كان مروانُ أرعى للحقوق منك، دخلتُ عليه فسألته فيه، فقال: واللهِ ما قتلته، ولقد كذب، ثم دفع إليَّ جُثَّته، وأعطاني مالًا فلم أَقبلْه، فقالت مُزنة: واللهِ ما أظنُّ الحال التي أدَّتني إلى ما ترين إلَّا ما كان مني إليك، فلمَ حرَّضتِ هذه السيدةَ على حرماني؟ ! وكان الواجبُ عليك أن تحضِّيها على فعل الخيرِ ومقابلة الشيءِ بضدِّه؛ لتحوزَ نعمتَها وتصونَ دينَها، يا بنتَ عمي، كيف رأيتِ حالنا في العقوق وما صنع اللهُ بنا فأَحببتِ أن تتأسِّي بنا. ثم بكت بكاءً شديدًا وقامت، فأمرت الخيزرانُ الخادمَ فعدل بها إلى مقصورةٍ سرًّا من زينب، ودخل المهديُّ في الحال وأثرُ البكاءِ في وجه الخَيزُران، فسألها, فقصَّت عليه القصَّة، فبكى بكاءً شديدًا وقال: اللهم إنِّي أعوذ بك من زوال نعمتك. ثم قال: وأين المرأة؟ قالت ¬

_ (¬1) القعدد: قريب الآباء من الجد الأكبر. القاموس المحيط (قعد).

الخَيزُران: أمرتُ الخادمَ فعدل بها إلى مقصورة، فقال: واللهِ لو لم تفعلي ذلك ما دخلتُ عليك ولا كلَّمتك أبدًا، ثم أَقبل على زينبَ فوبَّخها وقبَّح فعلَها وأَمضَّها، ثم أَعرض عنها، وقال للخادم: ما قالت مزنةُ عند قيامِها من المجلس؟ قالت: قرأتْ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} الآية [النحل: 112] , فقال المهدي: عليَّ بها، فجاءت، فقرَّبها وأَدناها ورفع منزلتَها فوق منزلةِ زينب، وذاكرها أيامَ النَّاس، فوجدها بارعةً في كلِّ فنٍّ مع حُسن وجمال، فقال لها: يَا بنتَ العمّ، لولا ما تعلمين من أمركم لتزوَّجتك، ولكن لكَّ أَسوة، هؤلاء بناتُ الخلفاء، وأَقطعها ما لمثل واحدةٍ منهن، فأَقامت على أحسن حالٍ حتَّى توفّيت في أيَّام هارون. قِصَّة العَلَوي: انتبه المهديّ ليلةً من منامه فَزِعًا، فاستدعى صاحبَ شُرطته وقال له: صِرْ إلى المُطْبِق واطلب فلانًا العلويَّ الحسيني، وخيِّره بين المُقامِ عندنا والخروجِ إلى أهله، فإن اختار الخروجَ إلى أهله فأَعطِه كذا وكذا من المال، وإن اختار المقامَ عندنا فادفع له كذا وكذا من المال. قال: فجئتُ إلى المطبق، فطلبتُ الفتى وإذا به مثلُ الشَّنِّ البالي، فعرَّفته الحال، قال: لا بل أَخرج إلى أهلي إلى المدينة، فجهَّزته وأعطيته الصِّلَة كما أمرني، فلما عزم على الذَّهاب قلت له: بالذي فرَّج عنك ما كنتَ فيه هل تعلم ما دعا أميرَ المؤمنين إلى إطلاقك؟ قال: نعم، رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الليلةِ في المنام، فقال: يَا بُنَيَّ ظلموك؟ قلت: نعم. قال: قم فصلِّ ركعتين وقيل: يَا سابقَ الفوت، ويا سامعَ الصَّوت، ويا كاسيَ العظامِ بعد الموت، صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمَّد، واجعلْ لي من أمري فَرَجًا ومخرجًا، إنَّك تعلم ولا أَعلم، وتقدر ولا أَقدر، وأنت علَّامُ الغيوب، يَا أرحمَ الراحمين. قال: فقمتُ وفعلت ما أمرني به، ولم أزل أكرِّرها حتَّى دعوتَني. قال: وعدتُ إلى المهديِّ فحدَّثته الحديث، فقال: كنت نائمًا، وإذا بزِنجيٍّ بيده عمودٌ من حديدٍ واقفًا على رأسي وهو يقول: أَطلِق فلانًا العلويَّ وإلَّا قتلتك. وقال صالحُ بن بشيرٍ المُرِّي: دخلتُ على المهديِّ ببغدادَ وهو بالرصافة، فقلت: يَا

أميرَ المُؤْمنين، احتمل ما أكلِّمك به اليومَ لله تعالى؛ فإنَّ أَوْلى الناسِ بالله أحملُهم للنصيحة فيه، وجديرٌ بمن له قرابةٌ من رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يرثَ أخلاقَه ويأتمَّ بهديه، وقد ورَّثك اللهُ من فهم العلمِ وإِنارة الحجَّة ميراثًا قطع به عُذرَك، فمهما ادَّعيتَ من حجَّة أو ركبت من شبهةٍ لم يتَّضح لك فيها برهانٌ من الله تعالى، حلَّ بك من سَخَطه بقدر ما تجاهلتَه من العلم، أو أَقدمتَ عليه من شُبهة الباطل، واعلم أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خصمُ مَن خالفه في أمَّته، ومَن كان محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - خصمَه كان اللهُ خصمَه، فأعدَّ لمخاصمة (¬1) اللهِ ورسولِه حُجَجًا تضمن لك النَّجاة، أو استسلم للهَلَكة، واعلم أنَّ أبطأَ الصَّرعى نهضةً صريعُ هوًى يدَّعيه إلى الله قُربة، وأنَّ أثبتَ الناسِ قَدَمًا يومَ القيامة آخذُهم بكتاب اللهِ وسنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، فانتبهْ فقد تصيَّدت الدنيا نُظراءك، فاعملْ بالأمانة فقد أدَّيتُ إليك النصيحة. فبكى المهديّ. ودخل عليه صالحُ بن عبدِ الجليل فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، لَمَّا سهل علينا ما توغَر على العامَّة من الوصول إليك، قمنا مقامَ الأداء عنهم وعن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بإِظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمرِ والنَّهي بانقطاع عُذرِ الكتمان، ولا سيما حيث اتَّسمتَ بميسَم التواضع، وآثرتَ الحقَّ على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد الحقّ، وفي الأثر: مَن حجب اللهُ عنه العلمَ عذَّبه على الجهل، فأقبل يَا أميرَ المُؤْمنين ما نُهدي إليك من ألسنتنا ونؤدّي به إليك نصيحتَنا. وقدم المهديُّ حاجًّا، فلمَّا أخذ في الطواف نَحَّى النَّاسَ عن البيت، فوثب عبد الله بن مرزوقٍ فلبَّب المهديَّ بردائه، ثم هزَّه وقال: مَن جعلك أحقَّ بهذا البيتِ مِمَّن أتاه من بعيدٍ حتَّى إذا صار عنده حُلْتَ بينه وبينه؟ فقال: مَن هذا؟ فقال: ابنُ مرزوق، وكان مولًى من مواليهم، فكره أن يعاقبَه عقوبةً يُشنِّع بها عليه العامَّة، فأخذه معه إلى بغداد، وحبسه في إصطبلِ الدوابِّ مع فرسٍ شَموس ليدوسَه فيقتلَه، فذلَّل اللهُ له الفرس، فكان يمدُّ عنقَه بين يديه، وأُخبر المهدي، فحبسه في بيتٍ عنده مظلم، وأخذ المفتاحَ فخبأه تحت رأسه، فقيل له: إنَّه في البستان يأكل البَقل، فأَحضره وقال: مَن أطلقك؟ فقال: ¬

_ (¬1) في (خ): لمخاصم. والمثبت من تاريخ بغداد 10/ 417.

الذي حبسني، فأَطلقه فعاد إلى مكَّة. وقال المهديُّ لسفيانَ الثَّوريّ: يَا أَبا عبدِ الله، إنِّي أريد أن أستعينَ بك على أَمانتي، فقال: لا أَصلح، فرمى بخاتَمه إليه وقال: اِعمل في هذه الأمَّة بكتاب اللهِ وسنَّة رسوله، فقال: لو عملتُ (¬1) بذلك لكنت أوَّل ما أبدأ بك، فغضب المهديُّ وقام سفيانُ الثوريُّ فخرج. ودخل عليه محمدُ بن طلحةَ بن مصرِّفٍ وهو جالسٌ في بهوٍ له، فمطرت على النَّاس، فقام مُحَمَّد فقال: أَمن العدلِ يَا أميرَ المُؤْمنين أن تكونَ في الظلِّ ونحن في المطر؟ ! فقال المهدي: مَن هذا؟ قالوا: محمَّد، وهو مغفَّل، فقال له المهدي: إليَّ يَا عمّ إلى ها هنا، وجعل يردِّدها حتَّى صار قريبًا منه في الكِنّ، فقال: يَا عمّ، لِمَ لا تقول (¬2) لأخيك سفيانَ الثوريِّ يأتِنا؟ فقال: إذًا يكون له الحجَّةُ عليّ، قال: فقل أَنْتَ، قال: أرى أن تصعدَ المنبرَ وتسألَ النَّاسَ أن يسوِّغوك (¬3) ما في يدك، ثم تستقبل بهم العدل، فقال: مقبولٌ يَا عم، وخرج، فقال المهدي: هذا الذي زعمتم أنَّه مغفَّل! وكان المهديُّ ممدَّحًا يحبُّ الشعر، ومن شعرائه مروانُ بن أبي حفصة، وهو القائلُ من قصيدة: [من الطَّويل] كفاكم بعبَّاسٍ أبي الفضلِ والدًا ... فما من أبٍ إلَّا أبو الفضلِ (¬4) فاضلُهْ كأنَّ أميرَ المُؤْمنين محمَّدًا ... أبو جعفرٍ في كلِّ أمرٍ يحاوله إليك قَصَرنا النِّصفَ من صلواتنا ... مسيرةَ شهرٍ بعد شهرٍ نواصله وهو سبعون بيتًا، وأوَّلها: صحا بعد جهلٍ واستراحت عواذلُهْ (¬5) فأمر له بسبعين ألفًا، فقال مروان: فقلتُ في نفسي: أنشدتُه هذه الأبياتَ فأمر لي ¬

_ (¬1) في (خ): علمت. وانظر حلية الأولياء 7/ 40 - 41. (¬2) في (خ): تقل. والمثبت من تاريخ دمشق 62/ 485. (¬3) في (خ): يسوغونك. والمثبت من تاريخ دمشق. (¬4) في الديوان ص 95: أبو العباس. ولا يستقيم به الوزن. والمثبت موافق لما في تاريخ دمشق 62/ 507. (¬5) عجزه: وأقصرن عنه حين أقصر باطله.

بشيءٍ نسيئة، فقلت: فلا نحن نخشى أن يَخيبَ مسيرُنا ... إليك ولكنْ أَهنأُ البِرِّ عاجلُهْ فقال المهديّ: عجِّلوها له، فحُملت إليَّ من وقتي. وكان المهديُّ يحتجب أولَ خلافته، فأنشده سَلْمٌ الخاسر: [من مخلع البسيط] مَن راقب النَّاسَ مات غمًّا ... وفاز باللذَّة الجَسورُ (¬1) فظهر لنُدَمائه. وكان يقول بعد ذلك: إنما اللذَّة في مشاهدتها وإدراكِ الحواسِّ إياها، أما مِن وراءَ فليس لها معنى. وكان المهديُّ يشعر، ومن شعره: [من الوافر] أَرى ماءً وبي عطشٌ شديدٌ ... ولكنْ لا سبيلَ إلى الورودِ أَراح اللهُ من جسدي ثيابي ... وعجَّلني إلى دار الخلود أَمَا يكفيكِ أنَّك تملكيني ... وأنَّ النَّاس كلَّهمُ عبيدي وأنكِ لو قَطَعتِ نياطَ قلبي ... لَقلتُ من الهوى أحسنتِ (¬2) زيدي وقيل: إنَّها لابنه هارونَ الرشيد (¬3). وله: [من مجزوء الرمل] أفِّ للدنيا وللزِّيـ ... ـنةِ فيها والأثاثِ إذ حثا التُّربَ على هَيـ ... ـلانَ في الحفرة حاثي فلها تبكي البواكي ... ولها تُشجَى المراثي خلَّفت حزنًا طويلًا ... جعلتْ ذاك تُراثي (¬4) وحجَّت الخَيزُران، فكتب إليها المهديُّ وهي بمكَّة: [من الخفيف] نحن في أكملِ السُّرورِ ولكن ... ليس إلَّا بكمْ يتمُّ السرورُ ¬

_ (¬1) الأغاني 19/ 263. (¬2) في (خ): حسنت. والمثبت من المصادر. (¬3) انظر في نسبة الأبيات تاريخ الطبري 8/ 185، والموشى ص 81، وتاريخ دمشق 39/ 278، و 62/ 511، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 29، والتدوين في أخبار قزوين 1/ 432. (¬4) الأبيات للرشيد، انظر تاريخ بغداد 1/ 414, والوافي 27/ 199.

عيبُ ما نحن فيه يَا أهلَ وُدِّي ... أنكم غُيَّب (¬1) ونحن حضور فأَجِدُّوا في السير بل إنْ قدرتمْ ... أَن تطيروا مع الرِّياح فطيروا فكتبتْ إليه تقول: قد أتانا الذي وصفتمْ (¬2) من الشَّو ... قِ فكدنا من الغَرام نطيرُ ليت أنَّ الرِّياحَ كنَّ يؤدِّيـ ... ـنَ إليكم ما قد يُجِنُّ الضمير لم أزل صبَّةً فإنْ كنتَ بعدي ... في سرورٍ فدام ذاك السُّرور ذِكرُ وفاته: قال عليُّ بن يقطين: بينا نحن مع المهديِّ بقصره بماسَبَذانَ نام نومة، ثم انتبه وهو يبكي، فقمنا إليه فقلنا: ما الخبر؟ فقال: أَتاني الساعةَ آت، فوقف على باب القصرِ وقال: [من الطَّويل] كأنِّي بهذا القصرِ قد باد آهلُهْ ... وأَوحشَ منه رَبْعُه ومنازلُهْ وصار عميدُ القومِ من بعد بهجةٍ ... ومُلكٍ إلى قبرٍ عليه جَنادلُه فلم يبقَ إلَّا ذِكرُه وحديثُه ... تنادي عليه مُعْولاتٍ حلائلُه فلم يلبثْ سوى عشرةِ أيامٍ ومات (¬3). وقال الشافعيُّ رحمه الله: لما فرغ المهديُّ من بناء قصره، تحوَّل إليه ومعه حَشَمُه، فبينا هو ذات ليلةٍ نائم، إذ سمع صوتًا من زاوية القصرِ يهتف: كأنِّي بهذا القصرِ قد باد آهلُهْ ... وأَوحش منه رَبعه ومنازلُهْ (¬4) فأجابه المهديُّ وقال: كذاك أمورُ الناسِ يبلى جديدُها ... وكلُّ فتًى يومًا ستَبلى فعائلُه فأجابه الهاتفُ وقال: تلبَّثْ ثلاثًا بعد عشرين ليلةً ... إلى منتهى شهرٍ وما أَنْتَ كامله ¬

_ (¬1) في بهجة المجالس 2/ 821، وتاريخ دمشق 62/ 510: غبتم. (¬2) في (خ): قد وصفتم، وهو خطأ. (¬3) تاريخ الطبري 8/ 170 - 171، وتاريخ دمشق 62/ 512، والكامل 6/ 81. (¬4) في تاريخ دمشق 62/ 513، والبداية والنهاية 13/ 550: وقد درست أعلامه ومنازله.

فما عاش بعدها إلَّا تسعةً وعشرين يومًا ومات (¬1). وقيل: خرج إلى قريةٍ فنصب الشِّباك على المياه لصيد الغِزلان، فنفرتْ وذهبت، وجاءت في اليوم الثاني وقد أَجهدها العطش، فوقفت عند الشِّباك ورفعت رؤوسَها وعجَّت عجةً واحدةً إلى الله تعالى، وإذا قد ارتفعت سحابةٌ فأَمطرت غُدرانًا، فشربتْ والمهديّ ينظر إليها، فحُمَّ من يومه، فلم يلبثْ أيامًا حتى هلك. وقيل: طردت الكلابُ ظَبيًا وطرد المهديُّ خلفها، فما زال الظَّبْيُ يعدو حتى اقتحم بابَ خَرِبة، فاقتحمت الكلابُ خلفه، واقتحم الفرسُ بالمهدي، فدقَّ بابُ الخربة ظهرَه فوقع ميِّتًا، فنظروا فلم يجدوا ما يحملونه عليه، فقلعوا بابًا من بعض بيوتِ القرية فحملوه عليه إلى معسكره. وقيل: إنَّه مات مسمومًا، فقال الطَّبري (¬2): بعثتْ جاريةٌ من جواري المهديِّ إلى ضَرَّة لها بلِبَأٍ (¬3) فيه سمّ، فمرَّت بالمهديِّ وهو قاعدٌ في بستان، فدعا به فأكل منه، وفَرِقت الجاريةُ أن تقول: إنَّه مسموم. وقيل: إنَّه كان جالسًا في علّيَّة قصره بماسَبَذَان، مشرفٌ من منظرة، وكانت جاريتُه حَسَنةُ قد عمدت إلى كُمَّثرى فجعلته في صِينيَّة وسمَّت منه واحدة، وهي أحسنُه وأنضجه، ووضعتها في أَعلاه، وأرسلت به مع وصيفةٍ لها إلى جارية للمهديِّ كان يتحظَّاها، تريد بذلك قتلَها، وكان المهديُّ يُعجبه الكُمَّثرى، فلمَّا رأى الوصيفةَ دعا بها إليه وأخذ تلك الكُمَّثرى، فأكلها وصرخ: جوفي جوفي، فسمعت حَسَنةُ الصوت، فجاءت تلطِم وتقول: أردتُ أن أنفردَ بك فقتلتُك، وهلك من يومه. وقال ابنُ عبدوس: كان المهديُّ قد بعث إبراهيمَ بن ذكوانَ الحرَّاني الأعورَ مع ابنه موسى إلى جُرجان، فغلب إبراهيمُ على موسى واختصَّ به، وبلغ المهديَّ عنه أشياءُ تزيَّد أعداؤه عليه فيها، فكتب إلى موسى يطلبه، فتعلَّل عليه، فكتب إليه المهديّ: لئن لم تبعثْ به إليَّ لأخلعنَّك من العهد، فلم يجد بدًّا أن بعث به إليه مكرّمًا مع خادم له ¬

_ (¬1) اختصر المؤلف الحكاية، انظرها في تاريخ دمشق والبداية والنهاية. (¬2) في تاريخه 8/ 169. (¬3) اللبأ: أول اللبن في النتاج. مختار الصحاح (لبأ).

وقال: إذا قولتَ منه فقيِّده وألبِسه جبةَ صوف، واحمله على بعيرٍ بغير وطاءٍ ولا غطاء، وكان المهديُّ بماسَبَدْان، فوكب للصيد، وإذا بالخادم وإبراهيم، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا إبراهيمُ ومعه خادمُ موسى، فقال: وما حاجتُنا إلى الصيد؟ ! وهل من صيدٍ أطيبُ من صيد إبراهيم! عليَّ به. قال: فأدنيت منه وهو على فرسه، فقال: إبراهيم؟ قلت: لبَّيك يا أميرَ المؤمنين، فقال: واللهِ لأقتلنَّك، قالها ثلاثًا، ثم قال للخادم: امضِ به إلى المضرب. قال: فيئست من الحياة، فلما صرتُ في المضرب أخذتُ في الصلاة والتضرُّع، وانصرف المهديُّ (¬1) فأكل من اللَّوزِينَج المشهورِ خبرُه، فمات من وقته وتخلَّصتُ. وتوفِّي في المحرَّم، فقيل: لثمانٍ بقينَ منه ليلةَ الخميس، وقيل: ليلةَ الجمعة لسبعٍ بقين منه، وعاش ثلاثًا وأربعين سنة، وقيل: خمسًا وأربعين سنة، ووُلد سنةَ تسعٍ وعشرين ومئة (¬2)، وقيل: سنةَ سبعٍ وعشرين ومئة، وقيل: وخمسةِ أيام، وصلَّى عليه هارون، وكان بجُرجان، ودُفن تحت جَوزة، وكان يجلس عندها. ورثاه جماعةٌ، منهم بكَّار بى رباح، فقال: [من الطويل] أَلا رَحِمَ (¬3) الرحمنُ في كلِّ سماعةٍ ... على رِمَّةٍ رمَّت بماسَبَذانِ لقد غيَّب القبرُ الذي ثُمَّ سؤدَدًا ... وكفَّينِ بالمعروف تبتدران وقال سلم (¬4) الخاسر: [من الوافر] وباكيةٍ على المهديِّ عَبرَى ... كأنَّ بها وما جنَّت جنونا وقد خمشتْ محاسنَها وأَبدت ... غدائرَها وأَظهرت القرونا لئن بليَ الخلافةَ بعد عشرٍ (¬5) ... لقد أبقى مساعيَ ما بَلينا سلامُ الله غُدوةَ كلِّ يومٍ ... على المهديِّ حين ثوى رهينا ¬

_ (¬1) في (خ): الهادي. والمثبت من الفرج بعد الشدة 3/ 328. (¬2) لم أقف على هذا القول. والذي بعده هو الصواب. (¬3) في تاريخ الطبري 8/ 171: رحمة. (¬4) في (خ): سالم، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ الخلفاء ص 273، وسمط النجوم العوالي 3/ 268. (¬5) في تاريخ الخلفاء وسمط النجوم: عز.

تركنا الدِّينَ والدنيا جميعًا ... بحيث ثوى أميرُ المؤمنينا وكانت الخَيزُران قد جاءت إلى ماسَبَذان في مئة قبَّةٍ من الذيباج، فأَقامت عنده أيامًا، فلمَّا عادت إلى بغدادَ أَلبست القِبابَ المُسوح، فقال أبو العتاهية: [من مجزوء الرمل] رُحنَ في الوَشي وأَصبحْـ ... ـنَ عليهنَ المُسُوحُ كلُّ نطَّاحٍ من الدَّ هـ ... ـرِ له يومٌ نَطوح لَتموتنَّ ولو عُمـ ... ـمِرْتَ ما عُمِّر نُوح فعلى نفسك نُحْ ... إنْ كنتَ لا بدَّ تنوح (¬1) ذِكرُ أولاده: كان له من الولد موسى الهادي، وهارونُ الرشيد، وعيسى [و] (¬2) البانوقة، وأمُّهم الخَيزُران، وهي بنتُ عطاء، وقيل: كانت جرشيةً مولاةَ المهدي، وإلى عيسى يُنسب عيسى باذ، وكان له عيسى آخر، وعُبيد الله، وأمُّهما رَيطة بنتُ أبي العباس السفَّاح، ومنصور، وأمُّه بنت الأَصْبَهْبَذ صاحبِ طَبَرِستان، ويقال: إنَّها وَلدت للمهديِّ العاليةَ وسليمةَ والعبَّاسةَ لأمِّ ولد، ويعقوبَ وإسحاقَ لأمِّ ولد، وإبراهيم، وأمُّه شَكلة من سبي دُنْباوَند، ومن أولاد المهديِّ عليٌّ وعبدُ الله، فأما عليٌّ فحجَّ بالناس، وولي البصرة، وتوفِّي ببغداد، وأما عيسى فمات صغيرًا، وأما عبيدُ (¬3) الله فولي إِرمينيةَ والجزيرة، وأما منصورٌ فولي البصرة وفلسطين، وحجَّ بالناس في فتنة الأمين، ولم يدخل مع الأمينِ ولا مع المأمون، وأما العباسةُ فتزوَّجها هارونُ بن محمدِ بن سليمان، فمات عنها، فتزوَّجها إبراهيمُ بن صالحِ بن علي، وأما البانوقةُ فكان أبوها يحبُّها حبًّا شديدًا، وكان لا يصبر عنها لحظةً واحدة، وكان يركب وهي بين يديه عليها قَباءٌ أسودُ وفي وسطها منطقة (¬4)، فتوفِّيت ببغدادَ في سنة خمسٍ وستين ومئة، فجزع عليها المهديُّ جزعًا لم ¬

_ (¬1) رواية الديوان ص 99: نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح (¬2) ما بين حاصرتين من أنساب الأشراف 3/ 315، والمنتظم 8/ 206. (¬3) في (خ): عبد، والمثبت من أنساب الأشراف 3/ 316. (¬4) غير واضحة في (خ)، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 186.

محمد بن عبد الله بن رزين

يجزعْه خليفةٌ على ابنةٍ قطّ، وجلس بنفسه للعزاء، وكتب إلى الآفاق، فقدم إليه المعزُّون الخطباءُ والشعراء، وأَنشدوه وعزَّوه، وقام شبيبُ بن شبةَ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أعطاك اللهُ ما رُزئتَ به أجرًا لها منك، وأحقُّ ما صُبر عليه ما لا سبيلَ إلى ردِّه، فتعزَّى المهدي. ذِكر وزرائه وحُجَّابه وقضاته: كان له من الوزراءِ أبو عبدِ الله معاويةُ بن عبدِ الله الأشعري، ويعقوبُ بن داودَ، والفيضُ بن أبي صالح، وفي الربيع بنِ يونسَ خلاف، وحاجبُه الفضلُ بن الربيع، وحجبه أبو الرَّبيع وسلَّامٌ الأبرش، وقاضيه عافيةُ بن يزيد ومحمدُ بن عبدِ الله بن عُلاثة وشريكُ بن عبدِ الله، ونَقشُ خاتَمه: العزُّ لله. أَسند المهديُّ عن أبيه وجدِّه وشعبةَ وغيرِهم. وقال الواقدي: خرج على المهديِّ خارجي، فخرج راكبًا يستنفر الناسَ ويقول: حدَّثنا شعبةُ بن الحجَّاج، عن زياد بنِ عِلاقة، عن عَرْفَجةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن خرج على أُمَّتي وهم جميعٌ ليفرِّقَ بينهم، فاضرِبوا رأسَعه بالسَّيف كائنًا مَن كان" (¬1). فصل: وفي الرُّواة مَن اسمُه محمدُ بن عبدِ الله جماعة، منهم: محمدُ بن عبدِ الله بن رَزِين أبو الشِّيص الشاعر. من بارع شعرِه يمدح هارونَ الرشيدَ عند ورود الخبرِ بهزيمة نقفور مَلِكِ الروم: [من الطويل] شددتَ أميرَ المؤمنين قُوى المُلك ... صدعتَ بفتح الرُّوم أفئدةَ التُّركِ قريتَ سيوفَ الله هامَ عدوِّه ... وطأطأت بالإِسلام ناصيةَ الشِّرك فأصبحتَ مسرورًا بفتحك ضاحكًا ... وأصبح نقفورٌ على مُلكه يبكي (¬2) ومنهم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1852) من طريق محمد بن جعفر عن شعبة، به. وأخرجه من طرق أخرى أيضًا. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 394 - 395.

محمد بن عبد الله بن شعيب

محمدُ بن عبدِ الله بن شُعيب أبو بكرٍ الشاعر، مولى بني مخزوم، ويُعرف بالأُخيطل. كان ظريفًا مليحَ الشِّعر، فمنه: [من البسيط] رياضُ شِعرٍ إذا ما الفكرُ أَمطرها ... فهمًا تروَّى لبُّ الفتى الفَهِمِ فما اقترابُ الهوى من عاشقٍ دَنِفٍ ... ألذُّ من ماء شِعرٍ جال في كَرَم (¬1) ومنهم محمدُ بن عبدِ الله بن يحيى ابن الخبَّازة الحنبلي. له شِعرٌ في الزهد والرَّقائق، عاصر الإمامَ أحمد بنَ حنبلٍ رحمه الله تعالى، ومدحه ورثاه، وقال عبدُ الله بن الإمامِ أحمدَ رحمةُ الله عليه: كنتُ أَدعو ابنَ الخبازة، وكان أبي ينهى عن الشِّعر، فسمعه يومًا وهو يُنشد: [من الطويل] إذا ما خلوتَ الدَّهرَ يومًا فلا تقلْ ... خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ (¬2) قال عبدُ الله: فخرجتُ لأنظر، فإذا بأبي يترنَّح ذاهبًا وجائيًا، فقال: إذا كان مثلَ هذا فلا بأسَ به. ومنهم محمدُ بن عبدِ الله بن نُمَير البغدادي روى عن الحارث بنِ الحَكَم قال: أَنزل اللهُ في بعض كتبه: أنا اللهُ لا إله إلَّا أنا، قضيتُ السُّوسَ على الطعام، ولولا ذلك لخزنه الملوكُ فغلت الأسعار، ولولا أني قضيت النَّتْنَ على الميِّت لحبسه أهلُه في البيوت، ولولا أني أَسكنت الأملَ القلوبَ لأَخربها الفكر. انتهت سيرةُ المهديِّ رحمه الله. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 426. (¬2) البيت في ديوان أبي نواس ص 103، وأبي العتاهية ص 21، والحماس البصرية 2/ 47 منسوبًا للحسن بن عمرو الإباضي، قال: وتروى لأبي محمد التيمي. والكلام في تاريخ بغداد 3/ 430. دون ذكر البيت.

محمد بن عبد الرحمن بن هشام

محمدُ بن عبدِ الرحمن بنِ هشام أبو خالد، القاضي المكِّي الأَوقص. ولي قضاءَ مكة، كان قصيرًا دميمًا جدًّا، وكان عُنقه داخلًا في بدنه، ومنكباه خارجان كأنهما زُجَّان، فكان الخصمُ إذا جلس بين يديه لا يزال يُرعَد إلى أن يقوم. سمعتْه امرأةٌ يومًا وهو يقول: اللهمَّ أَعتِق رقبتي من النار، فقالت: وأيُّ رقبةٍ لك! وقالت له أمُّه: يا بُني، إنك خُلقت خِلقةً لا تصلح معها معاشرة الفِتيان، فعليك بالدِّين والعلم، فإنهما يتمِّمان النقائص، ويرفعان الخسائس. قال: فنفعني اللهُ بما قالت، فتعلَّمتُ العلمَ حتى وليت القضاء. أَسند عن خالد بنِ سَلَمةَ المخزومي وغيرِه، وروى عنه معنُ بن عيسى (¬1) وغيرُه. نافعُ بن عبدِ الرحمن ابن أبي نُعيم، المَديني القارئ، من الطبقة السادسةِ من أهل المدينة. قال اللَّيث بنُ سعد: قدمت المدينةَ سنةَ عشرٍ ومئة (¬2)، فوجدتُ نافعًا إمامَ الناس في القراءة، لا يُنازَع فيها. * * * ¬

_ (¬1) في (خ): علي، وهو خطأ، والمثبت من المصادر، انظر تاريخ دمشق 63/ 110، وتاريخ الإسلام 4/ 509. (¬2) في تاريخ الإسلام 4/ 529: حججت سنة ثلاث عشرة ومئة.

السنة السبعون بعد المئة

السَّنة السَّبعون بعد المئة فيها توفِّي موسى الهادي وولي هارونُ الرشيد. البابُ الخامسُ في خلافته وكُنيته أبو جعفر، وقيل: أبو موسى، وقيل: أبو محمَّد، وُلد سنةَ خمسٍ وأربعين ومئة، وقيل: سنةَ ثمانٍ وأربعين، وقيل: سنة تسعٍ وأربعين ومئة، وقيل: سنة ستٍّ وأربعين، أو سنةَ خمسين (¬1) ومئة. ووُلد الفضل بنُ يحيى قبله بتسعة أيام أو ثمانيةٍ في ذي الحِجَّة، وولد هارونُ أولَ يوم من المحرَّم، فأَرضعته أمُّ الفضل، وهي زينبُ بنت منير، وفي ذلك يقول سَلْمٌ (¬2) الخاسر: [من الخفيف] أَصبح الفضلُ والخليفةُ هارو ... نُ رضيعَي لِبان خيرِ النساءِ لا يضلُّ الساري بغير دليلٍ ... وبنو بَرْمكٍ نجومُ السماء وأَرضعت الخَيزُران الفضلَ بلِبان هارون، وكان مولدُه بالرَّي، وأمُّه وأمُّ الهادي الخَيزُران، وفيها يقول مروانُ بن أبي حفصة: [من الكامل] يا خَيزُرانُ هَنَاكِ ثم هَنَاكِ ... أَمسى يسوس العالمين ابناكِ (¬3) فنهاه هارونُ وقال: لا تذكرْ أمِّي بخيرٍ ولا بشرّ. وولي هارونُ الخلافةَ وهو ابنُ إحدى وعشرين سنة، وهذا يؤيِّد قولَه: أنَّه ولد في سنة تسعٍ وأربعين في خلافة المنصورِ لثلاثٍ بقين من ذي الحِجَّة، وبويع يومَ الجمعة ببغدادَ صبيحةَ اليومِ الذي توفِّي فيه الهادي، وقيل: ليلةَ الجمعة، وقيل: ليلة السبتِ لأربعَ عشرةَ بقيت من ربيعٍ الأوَّل. ¬

_ (¬1) في (خ): خمس. والمثبت من المنتظم 8/ 318. (¬2) في (خ): سالم، وهو خطأ، والمثبت من الكامل 5/ 586. (¬3) لم نقف عليه في الديوان، والبيت في تاريخ الطبري 8/ 223، ومروج الذهب 6/ 369 منسوبًا لأبي المعافى، وهو في مختصر تاريخ دمشق 27/ 6 دون نسبة.

وقال سليمانُ بن أبي شيخ: لما كانت الليلةُ التي توفِّي فيها الهادي، أخرج هرثمةُ بن أَعيَنَ هارونَ ليلًا فأَقعده في مرتبة الخلافة، ودعا هارونُ بيحيى بنِ خالد، وكان محبوسًا في حبس الهادي، وقد عزم على قتله وقتلِ هارونَ في تلك الليلة، فحضر يحيى، فاستوزره وأمره بإِنشاء الكتبِ بالبَيعة إلى الآفاق. وقال محمدُ بن هشامٍ المخزومي: لَمَّا مات الهادي، جاء يحيى بنُ خالدٍ إلى هارونَ وهو نائمٌ في فراشه في لحافٍ بغير إزار، فقال له: قُم يا أميرَ المؤمنين، فقال له هارون: كم تروِّعني إِعجابًا منك بخلافتي وقد علمتَ حالي عند هذا الرجل! فإنْ بلغه هذا فكيف يكون حالي عنده؟ ! فقال: مات أخوك، وهذا خاتمُه، فقام ولبس ثيابَه وقال: واللهِ لا صليتُ الظهرَ إلا ببغداد، وكان بعيساباذ، فصلَّى على الهادي، وقدَّم أبا عِصمةَ فضرب عنقَه، وكان يؤذيه عند الهادي، ودخل بغدادَ الظهرَ ورأسُ أبي عصمةَ بين يديه على قناة. فمن جملة ما آذاه به أن هارونَ ركب يومًا هو وجعفرُ بن موسى الهادي وأبو عصمةَ معهما، فاجتاز بقنطرةٍ من قناطر عيساباذ، فالتفت أبو عصمةَ إلى هارونَ فقال له: مكانَك حتى يعبرَ وليُّ العهد، فقال هارون: السمعُ والطاعةُ للأمير، ووقف حتى عَبَرَ جعفر. ولما وصل هارونُ إلى كرسيِّ الجسرِ ببغدادَ دعا بالغوَّاصين، وقال: كان المهديُّ قد وهب لي خاتَمًا شراؤه مئةُ ألف دينار يسمَّى الجبل، فدخلتُ على أخي موسى وهو في يدي، فلمَّا خرجتُ من عنده لحقني سليمٌ الأسود عند هذا المكانِ وقال: يأمرك أميرُ المؤمنين أن تعطيَه هذا الخاتَم، فرميتُ به في هذا المكان، ووقف حتى نزل الغوَّاصون فغاصوا ساعةً وأخرجوه، فسُرَّ به سرورًا عظيمًا وقال: هذا أولُ البِشارة. وقال محمدُ بن إسحاقَ الهاشمي: كان الهادي قد خلع الرشيدَ وبايع لابنه جعفر، فلمَّا مات الهادي، هجم خزيمةُ بن خازمٍ في تلك الليلةِ في مواليه وجندِه على جعفر بنِ موسى فأَخرجه من فراشه وقال: واللهِ لئن لم تخلعْ نفسَك لأضربنَّ عنقَك، وشهر عليه السَّيف، ولَمَّا كان من الغد أقدمه في علِّية على باب القصر، فجعل ينادي: أيُّها الناس، مَن كانت له في عنقي بَيعةٌ فقد أَحللتُه منها، والخلافةُ لعمِّي هارون، ولا حقَّ لي فيها.

فحظي خزيمةُ بذلك عند الرشيد، ولَمَّا مات الهادي لم يعلم بموته أحدٌ غيرُ أمِّه الخَيزُران، فأرسلت بخاتمه إلى يحيى بنِ خالد سرًّا وقالت: قد أراح اللهُ من الجبَّار، فجاء إلى هارونَ وهو نائمٌ فأيقظه، وكان هارونُ أبيضَ طُوالًا جسيمًا جميلًا وسيمًا جَعْدًا، لم يمت حتى وخطه الشَّيب، وكان به حَوَلٌ في فردِ عينٍ لا يبين إلَّا لمن تأمَّله. وكان ساخطًا على إبراهيمَ بن ذكوانَ الحرَّاني وسلَّامٍ الأبرش، فأمر بحبسهما وقبضِ أموالهما، فحُبس إبراهيمُ عند يحيى بنِ خالد في داره، فكلَّمه فيه محمدُ بن سليمانَ بن عليٍّ وسأله فيه، وأن ينحدرَ به معه إلى البصرة، فأَجابه إلى ذلك. وفي هذه الليلةِ التي مات فيها الهادي وُلد المأمون. وفي اليوم الذي بويع فيه هارونُ سلَّم عليه بالخلافة جماعةٌ من عمومته، فقال له عبدُ الصمد بنُ علي: هذا مجلسٌ فيه أميرُ المؤمنين وعمُّه وعمُّ أبيه وعمُّ عمِّ عمِّه؛ لأنَّ سليمانَ ابنُ أبي جعفر، والعباسَ بنَ محمدِ بن علي هو عمُّ المهدي، وعبدَ الصمد بنَ على عمُّ المنصور، فسليمانُ عمُّ الرشيد، والعباس عمُّ سليمان، وعبدُ الصمد عمُّ العباس. وفيها عزل الرشيدُ عمرَ بن عبدِ العزيز العُمريَّ عن المدينة وولَّاها إسحاقَ بن سليمانَ بنِ عليّ. وفيها فوَّض الرشيدُ أمورَ الخلافة إلى يحيى بنِ خالد وقال: لقد قلَّدتك أمورَ الرعيَّة وأَخرجتها من عنقي، فولِّ مَن رأيت، واعزل من رأيت، وافعل ما تراه. وسلَّم إليه خاتمَ الخلافة، فقال الشاعر (¬1): [من الطويل] ألم ترَ أنَّ الشمسَ كانت سقيمةً ... فلمَّا ولي هارونُ أَشرق نورُها بيُمْن أمينِ الله هارونَ ذي النَّدى ... فهارونُ واليها ويحيى وزيرها وكان الهادي قد حجر على الخَيرران، فردَّها الرشيدُ إلى ما كانت عليه وزادها، وكان يحيى بنُ خالدٍ يشاورها في الأمور ويَصْدُر عن رأيها. وفيها فرَّق هارونُ في أعمامه وأهلِه أموالًا لم يفرِّقها غيرُه من الخلفاء، وأمر بسهم ذي القُربى أن يقسمَ بين بني هاشمٍ بالسويَّة. ¬

_ (¬1) هو إبراهيم الموصلي كما في تاريخ الطبري 8/ 223، والكامل 6/ 108.

جوهرة العابدة الزاهدة

وفيها خرج من الطالبيين إبراهيمُ بن إسماعيل، ويقال له: طباطَبا، وخرج أيضًا عليُّ بن الحسن بنِ إبراهيمَ بن عبد اللهِ بن حسن. وحجَّ الرشيدُ بالناس ماشيًا يمشي على اللَّبُود، كانت تُبسط له من منزلٍ إلى منزل، وسببُ مشيه أنَّه رأىَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال. يا هارون، إنَّ هذا الأمرَ صائرٌ إليك، فحجَّ ماشيًا، واغزُ، ووسِّع على أهل الحَرَمين، فأَنفق فيهم أموالًا عظيمة. وقيل: كان الهادي قد أَحلفه لابنه جعفرٍ أَيمانًا معظَّمة من الطلاق والعتاقِ والحجِّ ماشيًا، ولم يحجَّ خليفةٌ قبلَه ولا بعده ماشيًا، ولا حجَّ بعده خليفة أبدًا. وغزا في هذه السَّنة، فقال داودُ الواسطي: [من الطويل] بهارونَ لاح النورُ في كلِّ بلدةٍ ... وقام بها في عَدْل سيرتِه النَّهجُ إمامٌ بذات اللهِ أصبح شغلُه ... وأكثرُ ما يُعنَى به الغزوُ والحجُّ فإنَّ أمينَ اللهِ هارونَ ذا (¬1) النَّدى ... يُنيل الذي يرجوه أضعافَ ما يرجو وقيل: إن الحَجَّة التي مشى فيها سنةَ سبعٍ وسبعين ومئة. فصل وفيها توفِّيت جوهرةُ (¬2) العابدةُ الزاهدة زوجةُ أبي عبدِ الله البَرَاثيِّ الزاهد. وكان أبو عبدِ الله منقطعًا بقوية بَرَاثا غربيَّ بغداد، فمَّرت به جوهرةُ وكانت من بنات الملوك، فأَعجبها حُسنُ عبادته، فتركت الدنيا وتزوَّجتْه. قال حكيمُ بن جعفر: كنا نأتي أبا عبدِ الله البَرَاثي ببراثا، وكانت له امرأةٌ متعبِّدة يقال لها: جوهرة، وكان يجلس على جُلَّة خوصٍ وجوهرةُ جالسة حذاءه على مثلها، فأتيناه يومًا وهو جالسٌ على الأر ض، فقلنا: ما فعلت الجُلَّة؟ فقال: إنَّ جوهرةَ أيقظتني البارحةَ فقالت: أليس يُقال في الحديث: إنَّ الأرض تقول لابن آدم: تجعلُ بيني وبينك سِترًا وأَنت غدًا فِي بطني! قلت: فقالت: هذه الجِلَالُ لا حاجةَ لنا فيها، ¬

_ (¬1) في (خ): ذي، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 234. (¬2) كذا في المنتظم 8/ 331، وصفة الصفوة 2/ 521، وفي تاريخ بغداد 16/ 581 - 582 و 623: جوهر.

طريح بن إسماعيل

فأَخرجتها. وقال: رأت جوهرةُ في منامها خيامًا مضروبة، فقالت: لمن ضُربت هذه الخيام؟ فقيل: للمتهجِّدين بالقرآن. فكانت بعد ذلك لا تنام اللَّيل. وقال: قالت لي جوهرة: يا أبا عبدِ الله، أَيُحلَّين نساءُ الجنَّة في الجنة؟ [قلت: نعم] (¬1) فصاحت ووقعت مغشيةً عليها، فلمَّا أفاقت قلتُ: ما أصابك؟ قالت: ذكرتُ حالي تلك وما قد كنت نلتُ، من الدنيا، فخشيت واللهِ حرمانَ الآخرة. طُرَيح بن إسماعيل ابن عُبيد بن عِلَاج (¬2)، أبو الصَّلت الثَّقفي، شاعرٌ مجيد مُكثِر، أَدرك الدولتين، وكان المنصورُ مغرًى بقصيدته الداليةِ التي أوَّلها: [من المنسرح] أَقفر مِمَّن يَحلُّه السَّنَدُ ... فالمنحنى فالعقيقُ فالجَنَدُ (¬3) لم يبقَ فيها من المعارف بعـ ... ـدَ الحيِّ إلَّا الرمادُ والوَتِدُ وعَرْصةٌ نكَّرت معارفَها الر ... ريحُ بها مسجدٌ ومُنتضَد لم أَنس سلمى ولا ليالينا ... بالحَزْن إذ عيشنا به رَغَد قد كنتُ أبكي من الفِراق وحَيـ ... ـيانا جميعٌ ودارُنا صَدَد فكيف صبري وقد تجاورَ (¬4) بالـ ... ـفُرقة فيها الغرابُ والصُّرَد إذ نحن في مَيعة الشبابِ وإذ ... أيامُنا منك غضَّةٌ جُدُد أنت إمامُ الهدى [الذي] (¬5) أَصلح اللَّـ ... ـهُ به الناسَ بعدما فسدوا لَمَّا أتى الناسَ أنَّ مُلكَهمُ ... إليك قد صار أمرُه سجدوا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من صفة الصفوة 2/ 521. (¬2) في المصادر: ابن أسيد بن علاج. انظر الأغاني 4/ 302، ومعجم الأدباء 12/ 22، والأعلام. وفي تاريخ دمشق 8/ 506 (مخطوط): طريح بن إسماعيل بن سعيد بن عبيد بن أسيد بن عمرو بن علاج. وفيه أيضًا 8/ 507: بقي إلى أول الدولة العباسية ومدح السفاح والمنصور. وفي معجم الأدباء: مات في أيام المهدي سنة خمس وستين ومئة. فإيراد ترجمته هنا وهم. وانظر رغبة الآمل 6/ 104، والأعلام. (¬3) في الأغاني 4/ 321: فالجمد، وفي تاريخ دمشق 8/ 509: ما يحمد. وانظر معجم البلدان (جمد) (جند). (¬4) في الأغاني وتاريخ دمشق: تجاوب. (¬5) ما بين حاصرتين من الأغاني.

فتح بن محمد بن وشاح

وعجَّ بالحمد أهلُ أرضِك حتـ ... ـتى كاد يهتزُّ فرحةً أُحُد واستقبل الناسُ عِيشةً رَغَدًا ... إن تبقَ فيها لهم فقد سَعِدوا رُزقتَ من وُدِّهم وطاعتِهمْ ... ما لم يجدْه لوالدٍ وَلَد كنتُ أرى أن ما وجدتُ من الـ ... ـفرحةِ لم يلقَ مثلَه أَحَد حتى رأيتُ العبادَ كلَّهمُ ... قد وجدوا مثلَ ما له أَجِد قد صدَّق اللهُ مادحيك فما ... في قولهمْ مِريةٌ ولا فَنَد من أبيات. فَتْحُ بن محمدِ بن وشاح أبو محمد، الأَزْديُّ الموصلي، الزاهدُ العابد. قال محمدُ بن الوليد: سمعتُ فتحًا الموصلي الأزديَّ يقول في جوف الليل: ربِّ أَجعتَني وأَعريتني، وفي ظُلَم الليل أَحبستني، فبأيِّ وسيلةٍ أتوسَّل إليك حيث أَكرمتَني بهذه الكرامة. فكان يبكي ساعةً ويفرح ساعة (¬1). وقال المعافى بنُ عمرانَ الموصلي: دخلتُ على فَتْح، فرأيتُه قاعدًا في الشمس وصبيَّةٌ له عُريانةٌ وابن له مريض، فقلت: ائذنْ لي حتى أكسوَ هذه الصبيَّة، قال: لا، قلت: ولم؟ قال: دعْها حتى يرى اللهُ ضرَّها وصبريَ عليها فيرحمني. قلت: فدعْني أَستدين ما أُنفقه على هذا المريض، قال: لا، اذهبْ فاجلس عند رأسِه واسمعْ ما يقول. فجلستُ عند رأسِه وقلت: حبيبي، ألا تشتهي شيئًا حتى أَحملَه إليك؟ فرفع رأسَه إلى السماء وقال: منِّي الصبرُ ومنك البلاء. وقال أبو غسَّان المؤذِّن (¬2): خرجنا حجَّاجًا، فأردنا غسلَ ثيابنا بمكَّة، فأُرشدنا إلى رجلٍ من أهل فارسَ له صلاحٌ يغسل ثيابَ الغرباءِ والفقراء بغير أجر، فأتيناه، فقال: ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 4/ 181، وقريب من هذا الكلام مذكور في ترجمة فتح بن سعيد الموصلي أبي نصر، المتوفى سنة 220، وسيذكره المصنف آخر الترجمة، وانظر حلية الأولياء 8/ 292، وتاريخ بغداد 14/ 361، والسير 10/ 484. (¬2) في (خ): المؤدب، والمثبت من كتاب الأولياء ص 26، وصفة الصفوة 4/ 182.

موسى الهادي إلى الله

من أنتم؟ فقلنا: من أهل الموصل، فقال: أتعرفون فَتْحًا؟ قلنا: نعم، قال: ما فعل؟ قلنا: مات. فتوجَّع وبكى وأَظهر الحزنَ عليه. قلنا: من أين تعرفه وأنت من فارسَ وهو من الموصل؟ ! فقال: وُصف لي، ورأيتُ في منامي عدَّة ليال: ائتِ فتحًا فإنَّه من أهل الجنة، فخرجتُ من فارسَ وأتيت الموصل، فسألت عنه فقيل: هو على الشَّطّ، فأتيته، فإذا رجلٌ ملتفٌّ على الشطِّ بكِسائه وقد ألقى شِصًّا (¬1) له في الماء، فسلَّمت عليه، فردَّ عليّ، فقلت له: أتيتك زائرًا، فلفَّ الشصَّ وقام، فدخلنا المسجدَ وغربت الشمس، وصلَّينا، وتفرَّق الناس، فأُتي بطعام، فأكلنا، ثم نودي بالعِشاءِ الآخرة، فصلَّينا وتفرَّق الناس، وقام فَتْحٌ إلى صلاته، ورميتُ بنفسي على الأرض، وإذا برجلٍ قد دخل المسجد فسلَّم وصلَّى ركعتين، وقعد إلى جانب فتحٍ وساءله وقال: متى عهدُك بأبي السَّري؟ قال: ما لي به عهدٌ منذ أيام، فقال: قمْ بنا إليه فإنه معتلّ. قال: فخرجا من المسجد وأنا أَنظر إليهما، فمضيا إلى دِجلةَ يمشيان على الماء، وقعدتُ أنتظر رجوعَهما، فلما كان في آخر الليلِ عاد فتحٌ وحده، فسبقته ودخلت المسجدَ ورميتُ بنفسي على الأرض كأنِّي نائم، فلما أَسفر الفجرُ صلَّينا وتفرَّق الناس، فقمتُ إليه وقلت: يا أبا محمد، قد قضيتُ من زيارتك وَطَرًا، وقد رأيتُ الرجلَ الذي أتاك البارحةَ وما كان منكما، فأخذ يعارضني، فلمَّا علم أني قد علمتُ الخبرَ، أخذ عليَّ العهودَ ألا أُعلِمَ بذلك أحدًا وهو حيّ. قلت: فمَن كان الرجل؟ قال: الخَضِر عليه السلام. قلت: ومَن أبو السَّري؟ قال: حمزةُ الخَولاني، وهو رجلٌ صالح في هذه القرية. وهما فَتْحانِ مَوصليَّان، فصاحبُ هذه الترجمة مات في هذه السَّنة، وفتحُ بن سعيدٍ أبو نصرٍ الكاري هو صاحبُ الحكاياتِ والإشارات، مات في سنة عشرين ومئتين، وسنذكره هناك إن شاءَ اللهُ تعالى. موسى الهادي إلى الله ابنُ محمدٍ المهديِّ بنِ أبي جعفرٍ المنصور. وكان شرسَ الأخلاق، غَيورًا صعبَ ¬

_ (¬1) الشص: حديدة عقفاء يصاد بها السمك. القاموس المحيط (شصص).

المرام، شجاعًا، فيه شهامةٌ شديدة وقلَّة احتمالٍ وسوءُ ظن، مُشربًا حُمرة، في شفته العليا تقلُّص يفتح له فاه، وكان شديدًا، يلبس دِرعَين، ويثب على أعلى فرسٍ يكون ولا يُمسك بيديه شيئًا، ولم يلِ الخلافةَ في سِنِّه أحد، كان حَدَثًا. ذِكرُ طَرَفٍ من أخباره: قال المطَّلب بن عكاشةَ المُزَني: قدمنا على الهادي في شهادةٍ على رجلٍ شتم قرشيًّا وتخطَّى إلى ذِكر رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فجلس مجلسًا أَحضر فيه علماءَ أهلِ زمانه، وأَحضر الرجل، فشهدنا عليه بما سمعنا منه، فتغيَّر وجهُ الهادي ونكس رأسَه، ثم رفعه وقال: سمعتُ المهديَّ يحدِّث عن أبيه المنصور، عن أبيه محمدِ بن علي، عن أبيه عليّ، عن أبيه عبدِ الله بن عباسٍ قال: "مَن أراد هوانَ قريشٍ أهانه اللهُ تعالى"، وأنت يا عدوَّ الله لم ترضَ بأن أردتَ ذلك من قريشٍ حتى تخطَّيتَ (¬1) إلى ذِكر رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - اضربوا عُنقَه، فقتلوه. وغضب الهادي على رجل، فكلِّم (¬2) فيه، فرضي عنه، فأخذ يعتذر، فقال له الهادي: قد كفاك الرِّضا مؤونةَ الاعتذار. ودخل مروانُ بن أبي حفصةَ على الهادي، فأَنشده حتى بلغ إلى قوله: [من الطويل] تشابَه يوما بؤسه ونَوالِه ... فما أحدٌ يدري لأيِّهما الفضلُ (¬3) فقال له الهادي: أيُّما أحبُّ إليك: ثلاثون ألفًا معجَّلةً أو مئةُ ألف تدوَّر في الدواوين؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنك تُحسن أحسنَ من هذا، ولكنك أُنسيتَه، أفتأذن لي أن أذكِّرَك؟ قال: نعم، قال: تعجِّل الثلاثين الألف وتدوِّر المئةَ الألف في الدواوين، فقال: لا، بل نجعل لك الجميعَ معجَّلًا، فحمل إليه المال. وقال السِّندي بنُ شاهك: كنت مع الهادي بجُرجانَ وقد جاءه نعيُ المهدي، فسار على البريد وسرنا معه، فلمَّا فصلنا عن بيوت جرجانَ سمع من بعض تلك البساتينِ رجلًا يتغنَّى، فقال لصاحب شُرطته: عليَّ بالرجل الساعة، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، ما ¬

_ (¬1) في (خ): تخطات. والمثبت من تاريخ بغداد 15/ 9. (¬2) في (خ): فتكلم، والمثبت من تاريخ بغداد 15/ 9. (¬3) الديوان ص 85.

أشبهَ هذا بقصَّة جرت لسليمانَ بنِ عبد الملك، قال: وما هي؟ قلت: كان جالسًا يومًا مع حرمه، فسمع صوتَ إنسان يتغنَّى، فدعاه وقال: ما حملك على الغناءِ وأنت إلى جنبي ومعي حرمي؟ أما علمتَ أن الرِّماك (¬1) إذا سمعت صوتَ الفحلِ استودقت (¬2)؟ ! ثم أمر به فجُبّ، فلمَّا كان في العام القابل، خرج سليمانُ إلى ذلك المكان يتنزَّه، فذكر الرَّجل، فقال: عليَّ به، فلمَّا حضر بين يديه رقَّ له، فقال: إمَّا بعتَ فوفيناك، أو سامحتَ فكافيناك، فقال: يا سليمان، اللهُ بيني وبينك، قطعتَ نسلي، وأَذهبتَ ماءَ وجهي، لا واللهِ لا ذا ولا ذاك، حتى أقفَ أنا وأنت غدًا بين يدي اللهِ تعالى فيقتصَّ لي منك، فوجم سليمانُ نادمًا. فصاح الهادي بصاحب شُرطته: دع الرجلَ لا تُزعجه، لا حاجةَ لنا إليه. وقال عليُّ بن صالح: ركب الهادي يومًا يريد عيادةَ الخَيزُران من مرضٍ كان بها، فاعترضه عمرُ بن بزيعٍ وقال: يا أميرَ المؤمنين، ألا أدلُّك على وجهٍ هو أعودُ عليك من هذا؟ قال: وما هو يا عمر؟ قال: المظالمُ لم تنظرْ فيها منذ ثلاثةِ أيام، فمال إلى ردِّ المظالم، وبعث خادمًا إلى أمِّه يقول: إن عمرَ بن بزيع أَخبرنا من حقِّ اللهِ ما هو أَوجبُ علينا من حقِّك، فمِلْنا إليه، ونحن غدًا عائدون إليكِ إن شاء اللهُ تعالى. ودخل عليه إبراهيمُ الحرانيُّ فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ العامَّة لا تتقارُّ على هذا. قال: وما هو؟ قال: لم تنظرْ في المظالم منذ ثلاث. قال علي بن صالح: وكنتُ قائمًا على رأسه وأنا غلام، فقال: يا عليّ، اخرج فائذن للناس بالدُّخول عليّ، للحَفَلَى لا للنَّقَرَى. فخرجت ولم أفهمْ كلامَه، فقلت: أَرجع إليه فأسأله فيقول: أَتحجبني ولا تفهمُ كلامي؟ فأرسلتُ إلى أعرابيٍّ وفد علينا، فساءلتُه فقال: الحَفَلى حُفالةُ الناس، والنَّقَرى خواصُّهم. فأذنتُ للناس، فدخلوا عن آخرهم، فنظر في المظالم إلى الليل، فلما تقوَّض المجلسُ قال لي: خطر في خاطري كذا وكذا، فأخبرتُه وحدَّثته بحديث الأعرابي، فعجب وقال: مئةُ ألفِ درهمٍ تُحمَل إليه، فقلت: إنه أعرابيٌّ جِلْف، وفي عشرة آلافٍ ما يُغنيه ويكفيه، فقال: أَجود أنا وتبخل أنت؟ ¬

_ (¬1) جمع رَمَكة، وهي الأنثى من البراذين. مختار الصحاح (رمك). (¬2) أي: أرادت الفحل. القاموس المحيط (ودق).

وقال عبدُ الله بن مالك: كنت أتولَّى شرطةَ المهدي، وكان يأمرني بضرب ندماءِ الهادي وحبسِهم صيانةً له عنهم، وكان الهادي يُرسل إليَّ يسألني فيهم فلا أَلتفت إليه، فلما ولي الخلافةَ أَيقنتُ بالتَّلف، فأرسل إليَّ يومًا، فدخلتُ عليه وهو جالس على كرسيٍّ وبيده السَّيف، وبين يديه النِّطع، فسلَّمت عليه، فقال: لا سلَّم اللهُ عليك، أَتذكر يوم شفعتُ إليك في فلانٍ وفلان فلم تلتفتْ في أمري؟ قلت: نعم، أَيسرُّك أن تولِّيَني ما ولَّاني أبوك فيبعث إليَّ بعضُ ولدِك بأمرٍ يخالف أمرَك أن أتبعَه وأعصيَك؟ قال: لا، قلت: فكذا أنا لك، وكذا كنتُ لأبيك، فاستدناني، فقبَّلت يده ومضيتُ إلى منزلي، وأفكرت في أمره فقلت: شابٌّ حَدَث، وفي قلب ندمائه منِّي ما فيه، فكأنِّي بهم إذا غلب عليه الشرابُ قد أَزالوه عن رأيه وحملوه على قتلي، فبينا أنا جالسٌ وبين يديَّ بُنيَّة لي، وعندي كانون وخبز رُقاق وأنا أَشطره بكامَخ (¬1) وأُسخنه وأُطعمه الصَّبية، وإذا بحوافر الخيلِ وكثرةِ الغَوغاء، فقلت: وافاني اللهُ بما كنت أتخوَّفه، وإذا بالباب قد فُتح ودخل الخَدَم والشمعُ بين أيديهم، وإذا بالهادي راكبٌ على حمارٍ بينهم، فقمت وقبَّلت حافرَ الحمارِ ووقعتُ على يديه ورِجليه أقبِّلهما، فنزل وقعد وأَخذ يأكل من الكامَخ والخبز، ثم قال: يا عبدَ الله، فكَّرت في أمرك البارحةَ، وخطر لي ما خطر لك أني إذا أخذ مني الشرابُ وحولي أعداؤك يقولون ما أَوحشك، وها قد أتيتُ إلى منزلك وتحرَّمت بطعامك لترك وحشتِك، فقبَّلت يدَه، فالتفت إلى الخَدَم وقال: هاتمُ الزَّلَّةَ (¬2) التي زللتُها لعبد الله، فأَحضروا أربعةَ أَبغُل موقورةٍ دراهم، وقال: هذه زلَّتك، فاستعنْ بها على أمرك، فدعوتُ له. وقال للفضل بنِ الربيع: لا تحجبْ عني الناس؛ فإنَّ ذلك يُزيل عني التزكية، ولا تُلقِ إليَّ أمرًا إذا كشفته وجدته باطلًا؛ فإن ذلك يوهن الملكَ ويضرُّ بالرَّعية. ومات ابنٌ لإبراهيمَ بن سالمِ بن قتيبة، وكان صاحبَ المرتبة عند الهادي، فجاء إليه يعزِّيه وهو راكبٌ على حمارٍ أَشهب، فنزل في رُواقه وقال: يا إبراهيم، سرَّك وهو عدوٌّ وفتنة، وساءَك وهو صلاةٌ ورحمة. فقال: يا أميرَ المؤمنين، ما بقي مني جزءٌ كان فيه ¬

_ (¬1) الكامخ: الذي يؤتدم به، معرب. مختار الصحاح (كمخ). (¬2) الزلة: الصنيعة. القاموس المحيط (زلل).

حزنٌ إلا وقد امتلأ عزاءً. وقال يقطين بنُ موسى: إني لواقفٌ على رأسه ليلةً وعنده ندماؤه، إذ أتاه خادم فسارَّه بشيء، فنهض سريعًا وقال: لا تبرحوا، ثم عاد ومعه خادمٌ يحمل طبقًا مغطًّى بمنديل، وكشفه فإذا فيه رأسا جاريتَين لم أرَ في الدنيا أحسنَ منهما ولا أطولَ من شعورهما، وعلى رؤوسهما الجوهرُ منظوم، وإذا برائحةٍ طيبة تتوح، فأَعظمَ الحاضرون ذلك، فقال: تدرون ما شأنُهما؟ قالوا: لا، قال: بلغنا أنَّهما تَتَحاببان على المعصية، فوكَّلت بهما هذا الخادمَ يُنهي إليَّ أخبارَهما، فجاء فأخبرني أنَّهما قد اجتمعتا، فجئتُ فوجدتهما في لحافٍ واحد على الفاحشة، يا غلام، اذهب فادفنهما، ثم رجع إلى حديثه كأنه لم يصنعْ شيئًا. وقد مدحه سَلْم الخاسر فقال: [من البسيط] تخفَى الملوكُ لموسى عند طلعتِه ... مثلَ النجومِ لقَرن الشمس إذ طلعا وليس خَلقٌ يرى موسى (¬1) وطلعتَه ... من البريَّة إلا ذلَّ أو خضعا وقال موسى بنُ سعيد: كان أبي يساير الهاديَ وعبدُ الله بنُ مالك الخزاعيُّ صاحبُ شرطته يمشي بين يديه بالحَربة، فكان كلَّما وضعها على الأرض أَثارت ترابًا، فتحمله الريحُ إلى وجه الهادي، فقال لأبي: ما ترى ما نلقى من ابن مالك؟ فقال أبي: واللهِ ما أَخطأ الصواب، ولكنه حُرم التوفيق؛ لأنَّه لم يعلمْ بوصول الترابِ إلى وجه أميرِ المؤمنين، وقال الهادي: [من السريع] لم يُخطِ عبدُ الله في فعله ... لكنَّه فارق توفيقَه قد وضح العُذرُ فأبلغه يا ... خيرَ الورى في دنبه ريقه (¬2) وقال سعيدُ بن مسلم: صلَّى بنا الهادي فأُرتج عليه، فهِبناه أن نفتحَ عليه، فقرأ: {أَلَيسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)} [هود: 78] ففتحنا عليه. وقال محمدُ بن يزيدَ بن عمرَ بن عبدِ العزيز: خرجتُ مع الهادي إلى جُرجان، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 225: يرى بدرًا. (¬2) كذا في (خ)، ولم نقف للبيت على مصدر.

فقال: يا محمد، إمَّا أن تحملَني وإما أن أحملَك، فعلمتُ مرادَه، فأنشدتُه أبياتَ ابنِ صِرمةَ الأنصاري: [من الطويل] فأُوصيكمُ (¬1) بالله أوَّلَ وهلةٍ ... وأَحسابِكمْ والبرّ بالله أوَّلُ فإنْ قومُكمْ سادوا فلا تحسدوهمُ ... وإنْ كنتمُ أهل السعادةِ (¬2) فاعدلوا وإنْ أنتمُ أَعوزتمُ فتعفَّفوا ... وإنْ كان فضلُ المالِ فيكم فأَفضِلوا فأَمر لي بعشرين ألفَ درهم. ودخل على الهادي عُلَيَّان الموسوس وبُهلول، فقال الهادي لعُليان: أَيشٍ معنى عُلَيَّان؟ فقال عُليان: فأَيشٍ معنى موسى؟ فقال: جرُّوا برِجله ابنَ الفاعلة، فالتفت إلى بُهلول وقال: خذْ لك، كنا اثنين صرنا ثلاثة، فضحك الهادي حتى استلقى على ظهره. وكان الهادي يحبُّ العلماءَ وأهلَ الفضل، ويخيِّرهم ويُدني مراتبَهم، استقدم عيسى بن يزيدَ بن بكرِ بن داب، وكُنيته أبو الوليد، وكان عالمًا بأيَّام العربِ وأنسابِهم، صاحبَ فنون، وكان أفضلَ أهلِ الحجاز وأَحلاهم منطقًا، فحظي عنده بحيث أعدَّ له في مجلسه متَّكأ، ولم يفعلْ ذلك بغيره، وكان يقول له: ما استطلتُ بك يومًا وليلةً قطّ، ولا غبتَ عن عيني إلا وتمنَّيتُ أن أراك، ووصله بأموالٍ عظيمة، وكان لا يأكل مع الهادي، فقيل له في ذلك، فقال: ما كنتُ لآكلَ مع مَن لا أغسل يدي عنده، وبلغ الهادي، فأَمر بغسل يدِه دون الناس. ذِكرُ وفاةِ الهادي: واختلفوا فيها على أقوال: أحدها: أن أمَّه كانت سببًا لهلاكه؛ لأنَّها كانت في أوَّل خلافته تفتات عليه وتستبدُّ بالأمر والنَّهي، فأَرسل إليها يقول: لا تخرجي من خَفَر الكفايةِ إلى بذاذة التبذُّل، فإنَّه ليس من قَدْر النساءِ الاعتراضُ في أمر الملك، وعليك بصَلاتك وسُبحتك وتبتُّلك، ولكِ بعد هذا طاعةُ مثلِك فيما يجب لك. ¬

_ (¬1) في (خ): أوصيكم. والمثبت من العقد الفريد 1/ 229. (¬2) في العقد الفريد: السيادة.

وكانت المواكبُ تغدو وتروح إلى بابها، فكلَّمته يومًا في حاجةٍ لعبد اللهِ بن مالك، فاعتلَّ بعِلَّة، فلم تقبلْها وقالت: لا بدَّ منها، فغضب وقال: ومالك وابنِ مالكٍ ابنِ الفاعلة؟ برئتُ من قرابتي من رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لئن بلغني أنَّه وقف ببابك أحدٌ من قوَّادي أو خاصَّتي، لأضربنَّ عنقه، ولأقبضنَّ ماله، ما هذه المواكبُ التي تغدو وتروح إلى بابك في كلِّ يوم؟ أما لكِ مِغزلٌ أو مصحفٌ تشتغلين به، أو بيتٌ يصونك! إياكِ ثم إياك. فانزجرتْ. ثم إنَّه جمع القوَّاد والخواصَّ وقال: أيُّما خيرٌ أنا أو أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أميرَ المؤمنين. قال: فأيُّما خير أمِّي أو أمَّهاتكم؟ قالوا: بل أمُّك. قال: فأيُّكم يحدِّث الرجال بخبر أمِّه فيقولون: ما صنعتْ أمُّ فلان؟ ما قالت أمُّ فلان؟ قالوا: ما نحبُّ ذلك. قال: فما بالُ رجالٍ يأتون أمِّي فيتحدَّثون بحديثها؟ ! فلمَّا سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتَّة، فشقَّ ذلك عليها، فاعتزلته وحلفتْ لا تكلِّمه، فما دخلتْ عليه حتى حضرته الوفاة. وبعث إليها بأَرُزَّة مسمومةٍ وقال: استطبتُها فأرسلتُ إليكِ منها، وكانت عندها جاريةٌ يقال لها: خالصة، فقالت: أَمسكي حتى تنظري؛ فإنِّي أخاف أن يكونَ فيها شيءٌ تكرهينه، فجاءت بكلبٍ فأكل منها، فتساقط لحمُه، فأَرسل إليها بعد ذلك: كيف رأيتِ الأرزَّة؟ فقالت: طيِّبة، فقال: لو أكلتِ منها لاسترحتُ منك، متى أفلح خليفةٌ له أُمّ! والثاني: أن سببَ وفاته قَرحةٌ خرجت في جوفه فقتلته. والثالث: قال سعيدُ بن مسلم: كنتُ بين يدي الهادي بعيساباذَ في بستان، فنظر إلى فرَّاش يعلِّق سِترًا في آخر البستان وهو على سُلَّم، وبين يدي الهادي قوس، فأخذ سهمًا ففوَّقه، وقال: ترى يصل سهمي إلى الفرّاش؟ فقلت له: أَقسمتُ عليك يا أميرَ المؤمنين ألا تفعل، فأبى ورماه، فأَثبت السهمَ بين كتفيه ونشب في الحائط، ومات الفرَّاشُ مكانَه، وأَطرق الهادي وندم، فواللهِ ما برح من مكانه حتى حكَّ ظهرَ قدمه، فطلعتْ في الحال فيه بَثْرة، فتألَّم منها، ففصد فلم يُغنِ عنه الفِصادُ شيئًا، وبقيت مثلَ اللَّوزة، فعاش ثلاثةَ أيامٍ ووقع في الموت، فجاءت الخَيزُران، فأخذت خاتَمَه من يده وهو ينظرُ إليها وليس له حيلة، وقالت: أخوك هارونُ أحقُّ بهذا الأمرِ منك.

والرابع: أنَّه لما جدَّ في خلع هارونَ والبيعةِ لابنه جعفر، خافت الخيزرانُ على هارونَ منه، فدسَّت إليه في جواريها لَمَّا مرض مَن جلس على وجهه وغمَّه حتى مات. ذِكرُ قصَّته مع يحيى بنِ خالد: لما أَفضت الخلافةُ إلى الهادي أقرَّ يحيى على ما كان يلي هارون، فلمَّا أراد خلعَه والبيعةَ لابنه جعفرٍ وتابعه على ذلك جماعةُ القوَّاد ودسُّوا إلى الشيعة، فلم يرضَوا بذلك، وأَعرض الهادي عن أخيه هارون، فاجتنبه الناس، وكان يحيى وأولادُه لا يفارقون الرشيد، ويقومون بأمر جندِه، فسُعي بيحيى إلى الهادي، وقيل له: إنَّه ليس عليك من أخيك خلاف، وإنَّما يُفسده عليك يحيى بنُ خالد، فغضب وقال: عليَّ به، فودَّع يحيى أهلَه وتكفَّن وتحنَّط وأَوصى، ولم يشكَّ أنه يقتله، فلمَّا دخل عليه قال له: يا يحيى، ما لي ولك! فقال: أنا عبدُك، وهل يكون من العبد لمولاه إلَّا الطاعة! فقال: لِمَ تدخل بيني وبين أخي وتُفسده عليّ؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، ومَن أنا حتى أدخلَ بينكما! إنما المهديُّ صيَّرني إليه وأمرني بالقيام بأمره، ثم أمرتَني بذلك، فانتهيتُ إلى أمرك. فطابت نفسُه، وكان هارونُ قد طاب نفسًا بالخَلع، وقال ليحيى: أَستريح وآكل الهناءَ والمريء، وأعيش مع بنت عمِّي، وكان يجد بأمِّ جعفرٍ وجدًا شديدًا، فنهاه يحيى وقال: وأين هذا من الخلافة! لا تفعلْ واصبر. وكان الهادي أَوصى الحاجبَ ألا يدخلَ عليه يحيى إلا آخرَ الناس، فدخل عليه يومًا وعنده عبدُ الصمد بنُ عليٍّ والعباسُ بن محمد وجِلَّة القوَّاد، فأَدناه حتى أجلسه بين يديه وقال: يا يحيى، قد كنت أَظلمك وأَكفرك، فاجعلني في حِلّ، فعجب الناسُ من إِكرامه إياه، وقال له: يا يحيى، مَن القائلُ فيك: [من الخفيف] لو يمسُّ البخيلُ راحةَ يحيى ... لَسختْ نفسُه ببذل النَّوالِ لستُ يومًا مصافحًا كفَّ يحيى ... إنَّني إن فعلتُ أُتلفُ مالي (¬1) فقال: تلك راحتُك يا أميرَ المؤمنين. وكلَّمه الهادي في خلع هارون، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك إن حملتَ الناسَ على ¬

_ (¬1) ذكر الطبري في تاريخه 8/ 209 البيت الأول فقط.

نَكث الأَيمان هانت عليهم أيمانُهم لابنك، وإن تركتَهم على بَيعة أخيك ثم بايعتَ لابنك بعده كان ذلك آكدَ لبيعته. فقال: صدقتَ ونصحت، ولي في هذا تدبير. وقيل: إنَّ الهاديَ حبس يحيى بسبب البَيعة لابنه جعفر، فأَرسل إليه يحيى: عندي نصيحة، فاستدعاه، فقال: يا أميرَ المؤمنين، أتظنُّ أن الناسَ يرضون بجعفرٍ وهو صبيٌّ لم يبلغ الحُلُم؟ ! أو يرضَون به لصلاتهم وحجِّهم وغزوهم؟ ! فقال الهادي: ما أظنُّ ذلك. قال: أفتأمن أن يسموَ إليها كبارُ أهلك وأجلَّتهم مثل فلانٍ وفلان، ويطمعَ فيها غيرُهم فتخرجَ من ولد أبيك؟ فقال: نبَّهتني يا يحيى لأمرٍ لم أتنبَّه إليه. قال يحيى: وقد كان ينبغي لك لو لم يَعقدْ هذا الأمرَ أبوك لأخيك أن تعقدَه أنت؛ لصِغَر سنِّ ابنك، فكيف تَحلُّه وقد عقده أبوك لك؟ ! ولكن تقرُّه على حاله، فإذا بلغ جعفرٌ أنا آتيك بأخيك هارون، فيخلع نفسَه ويبايع لولدك ويعطيه صفقةَ يمينه، فقال: صدقت، وأَطلقَه. وقال إسحاقُ الموصلي: لَمَّا لجَّ الهادي في خلع هارونَ أَشار عليه يحيى بنُ خالد بالصيد، وقال له: إذا خرجتَ فاستدفع الأيامَ وأَبعِد. فاستأذن الهادي فأذن له، فمضى على قصر ابن مقاتل، فأَقام أربعين يومًا، فأَنكر الهادي ذلك وفهم، فكتب إليه يستدعيه، فتعلَّل عليه، فنال الهادي منه في مجالسه، فلمَّا طال على هارونَ رجع إلى بغداد، فخافت الخَيزُران عليه، فبعثت ظئرًا كانت لهارونَ إلى يحيى، فشقَّت ثيابَها ولطمت وجهَها وبكت، وقالت: تقول لك السيِّدة: اللهَ اللهَ في ابني، لا تقتلْه ودعْه يجيب أخاه إلى ما فيه بقاءُ روحه، فهو أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، فصاح يحيى عليها وقال: قولي لها: ما أنتِ وهذا؟ واللهِ لا يصل إليه حتى أُقتلَ أنا وأولادي وأهلي جميعًا. وقيل: إنَّ الهادي جلس مجلسًا خاصًّا وفيه وجوهُ بني العباس ووزيرُه إبراهيمُ الحرَّاني، فدخل هارونُ فسلَّم عليه وجلس عن يمينه بعيدًا عنه، والباقون عن شماله، فأطرق الهادي ساعةً ثم رفع رأسَه وقال لأخيه: يا هارون، كأني بك تحدِّث نفسَك بتمام الرؤيا وتؤمِّل الخلافة، ودون ذلك خَرْطُ القتاد، فبرك هارونُ على رُكبتيه وقال له: يا موسى، إنَّك إن تجبَّرت وُضعت، وإن تواضعت رُفعت، وإن ظلمتَ حملت (¬1)، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 211: ختلت، وفي الكامل 6/ 98: قتلت، وفي بعض نسخه -كما ذكر المحقق-: حكمت.

وإنِّي لأرجو أن يصلَ الأمرُ إليَّ فأُنصف مَن ظلمت، وأَصل مَن قطعت، وأصيِّر أولادَك أعلى من أولادي، وأزوِّجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حقِّ الإمامِ المهدي، فقال له موسى: هكذا الظنُّ بك يا أبا جعفر، ادنُ مني، فقبَّل يده، وأَجلسه معه في فرشته، والتفت إلى الحرَّاني وقال: يا إبراهيم، احملْ إلى أخي ألفَ ألفِ دينار، واعرضْ عليه ما في الخزائن يأخذ منها ما أراد. ولَمَّا قام قال الهادي: قدِّموا دابَّته إلى البساط ليركبَ منه، فلما خرج هارونُ قيل له بعد ذلك: ما كانت الرُّؤيا؟ فقال: قال أبي المهدي: رأيتُ في منامي كأنِّي دفعت إلى موسى قضيبًا وإلى هارونَ قضيبًا، فأَورق من قضيب موسى أعلاه، وأورق قضيبُ هارونَ من أوَّله إلى آخِره، فسأل المعبِّرين فقالوا: يملكان جميعًا، فأما موسى فتقلُّ أيامه، وأما هارونُ فتطول أيامُه، فلم يلبثْ موسى بعد ذلك إلَّا أيامًا ومات، وولي هارونُ فوفى بكلِّ ما قال. وقيل: إنَّ الهاديَ قد خرج إلى حَديثة الموصل، فمرض بها واشتدَّ مرضُه، فعاد إلى بغداد، وكان قد كتب إلى الآفاق بالقدوم عليه من جميع الدُّنيا إلى عمَّاله وغيرِهم ليبايعَ لابنه جعفرٍ مع مَن بايع من خواصِّه، وكان يحيى محبوسًا، فلمَّا ثقل الهادي قال الذين بايعوا لجعفر: إن صار الأمرُ إلى هارونَ أَشار عليه يحيى بقتلنا ولم يستبقِ منَّا أحدًا، والرأيُ أن الهاديَ إذا أفاق نستأذنه في قتل يحيى، فاتَّفق موتُ الهادي ولم يجتمعوا به. وقيل: كانت الخَيزُران حلفت ألا تكلِّمَ ابنَها موسى، فلمَّا ثقل أُخبرت به، فقالت: وما أَصنع به؟ فقالت لها خالصة: قومي إلى ابنك، فليس هذا وقتَ تعتُّب ولا تغضُّب، فقالت: إنا كنا نحدِّث أنَّه يموت في هذه الليلة خليفةٌ ويلي خليفةٌ ويولد خليفة، فمات موسى وولي هارونُ ووُلد المأمون. وفي روايةٍ أن الخيزُران قالت: ما فعل ابني موسى؟ قالوا: مات، فقالت: إنْ كان مات فقد بقي هارون، وكان عندها زينبُ وأمُّ الحسن وعائشةُ وأحرب (¬1)، والكلُّ بناتُ سليمانَ بن علي، فقالت الخيزرانُ لخالصة: أَحضري أربعَ مئةِ ألف دينارٍ لساداتي، ثم قالت: ما فعل ابني هارون؟ وكان بعيساباذ، قالوا: حلف ألا يصليَ الظهرَ إلا ببغداد، ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، وفي تاريخ الطبري 8/ 213: وأختي.

فقالت: قدِّموا الهوادج، ما يُقعدنا هاهنا وقد مضى ابني! فلحقتْه إلى بغداد. وقال هرثمةُ بن أَعيَن: كانت لي من الهادي منزلةٌ رفيعة واختصاصٌ كبير، وكنت شديدَ الحذرِ منه، فأدخلني دارَ الحُرَمِ وأخرج كلَّ مَن كان عنده وقال: قم فأَغلق البابَ وعُدْ إلي، فقلت: يريد أن يقتلَني، فقمت فأغلقت البابَ وعدتُ إليه، فقال: يا هرثمة، إنِّي قد تأذَّيت بهذا (¬1) الملحدِ الكلب يحيى بن خالد، ليست له فكرةٌ إلا في تضريب الرجال عليّ، واجتذابِهم إلى صاحبه هارونَ وسَوقِ الخلافة إليه، فاسمع ما أقول، تمضي إلى أخي هارونَ الساعةَ فتذبحه وتأتيني برأسه. قال: فورد عليَّ أمرٌ عظيم، وقلت: أتأذن لي في الكلام؟ قال: قل، قلت: أخوك وابنُ أمِّك وأبيك، وله عهدٌ كعهدك، وكيف تكون صورتُنا عند اللهِ وعند الناس؟ ! فقال: واللهِ لئن لم تفعل لأضربنَّ عنقَك الساعة، فقلت: سمعًا وطاعة. قال: ثم ترحلُ إلى الكوفة بالعساكر فتضرب أعناقَ آلِ أبي طالبٍ وأعداءنا، وكلُّ آفةٍ ترد علينا من جهتهم، قلت: سمعًا وطاعة. ثم قام فدخل دُورَ النساء، ولم أشكَّ أنه يقتلني ويندب لهذا الأمرِ غيري؛ لِمَا أظهرتُ له من الجَزَع عندما قال عن أخيه، وعزمت أنَّني متى خرجتُ من عنده هربت بن علي وجهي وتركت كلَّ ما أَملكه، وغلبني النُّعاس، فنمتُ على باب المجلسِ موقنًا بالهلاك، فما انتبهتُ إلا بخادمٍ قد أيقظني وقال: أَجِب أميرَ المؤمنين، فقلت: إنَّا لله، عمل عليَّ حجَّة ويقول: دخلتَ دارَ حرمي، ويقتلني، وتشاهدت، وإذا بصوتٍ نشأ في الدِّهليز، فوقفت وقلت: واللهِ ما أدخل حتى أسمعَ كلامَ أميرِ المؤمنين، وإذا بامرأةٍ تقول: ويحك يا هَرثمة، أنا الخَيزُران، قد حدث أمرٌ عظيم استدعيتك له، ادخل، فدخلت وإذا بستارةٍ ممدودة، فقالت: هذا موسى ميِّت وراءها، وقد أراحك اللهُ منه وأراح المسلمين، فقلت: وما كان من أمره؟ قالت: إنَّه لما استدعاك وقال لك ما قال من جهة قتلِ ابني والطالبيِّين وحريقِ الكوفة، كنت واقفةً أسمع، فلمَّا دخل، كشفتُ رأسي بين يديه وسألته ألا يفعل، فصاح عليّ، فكشفتُ ثديي وبكيت وتضرَّعت، فقال: واللهِ لأقتلنَّك، فقمتُ إلى المحراب أَدعو عليه وأسأل اللهَ أن يريحَ المسلمين منه، فألقى نفسَه على الفراش وطلب ماء، فشرب فشَرِقَ فمات، فقم فأَخبِر يحيى بنَ خالدٍ وخذ ¬

_ (¬1) في (خ): هذا، والمثبت من الفرج بعد الشدة 3/ 19.

البيعةَ على الناس. قال: ففعلت، وقرَّبني هارونُ واختصَّ بي. وقيل: إنَّه أَحضر يحيى وقال له: قد أفسدتَ ما بيني وبين أخي، وواللهِ لأقتلنَّك، ودعا بالسيف والنِّطع، وأَقعد يحيى للقتل، فقال إبراهيمُ الحراني: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ ليحيى عندي يدًا، وأحبُّ أن أكافئَه عليها، فأُحبُّ أن تهبَه لي الليلةَ وترى فيه غدًا رأيَك، فقال: وما الفائدةُ في حياة ليلة؟ قال: لعله يحمل صاحبَه على إجابتك، أو يعهد عهدَه إلى مَن يشاء من ولده، فأجابه إلى ذلك. قيل يحيى: فقمت من بين السيفِ والنِّطع وما اكتحلتُ بالغُمض إلى السَّحَر وأنا محبوس، فسمدت صوتَ القفل يُفتح، فلم أشكَّ في القتل، وإذا بخادمٍ يقول: أَجِب السيِّدة، فقمت، فإذا بالخَيزُران، فقالت: قد أراح اللهُ من الجبَّار، فبايع لهارون. وقيل: إنَّ الهاديَ ناظر يحيى في خلع هارون، ويحيى يحلف له والهادي يكذِّبه ويقول: واللهِ لأقتلنَّك، فانصرف يحيى إلى داره، فكلَّم غلامَه في شيء، فردَّ عليه، فلطمه يحيى، فانقطعت حلقةُ خاتمِه وطاح الفَصّ، فتطيَّر يحيى، فدخل عليه يحيى السيَّاري الشاعر، فأَخبره، فأَنشده بديهًا: [من الكامل] أَخلاكَ من كلِّ الهمومِ سقوطُه ... وأتاك بالفَرَج انفراجُ الخاتمِ قد كان ضاق ففكَّ حلقة ضيقه ... فاصبر فما ضيقُ الزمانِ بدائم فما أصبح حتى ارتفعت الواعيةُ بموت الهادي، وولي هارون، فأعطى يحيى السياريَّ مئةَ ألفِ درهم (¬1). ويقال: إنه لمَّا ثقل استدعى الخَيزُران، فجاءت، فقبض على يدِها وقال لها: ما قلتُ لك ما قلت إلا صيانةً لك، والليلةَ أموت. قالت: ومن أين لك ذلك؟ قال: بلى، كذا في مولدي، ومات ويدُه في يدها. ومات بعيساباذَ ليلةَ الجمعةِ النصفَ من ربيع الأوَّل، وقيل: الآخِر، وخلافتُه سَنَةٌ وثلاثةُ أشهر، وقيل: وشهرين وأيامًا، ومات وهو ابنُ ستٍّ وعشرين سنة، وقيل: ابنُ (¬2) ثلاثٍ وعشرين سنة، ودُفن ببستانه بعيساباذَ. ¬

_ (¬1) الفرج بعد الشدة 1/ 282 - 283. (¬2) في (خ): سنة. ولعله سهو.

معاوية بن عبيد الله

وكان له من الولد سبعةُ ذكورٍ وابنتان: جعفر، وهو الذي رشَّحه للخلافة، والعباس، وعبدُ الله، وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى، ولد بعد وفاةِ الهادي أعمى، وكلُّهم لأمَّهات أولاد، وأمُّ عيسى، كانت عند المأمون، وأمُّ العباس، واسمُها فاطمة، تزوَّجها إسماعيلُ بن موسى. ووزر له الربيع، ثم إبراهيمُ الحرَّاني، وحجبه الفضلُ بن الربيع، وكان على قضائه أبو يوسف، وعلى شرطته عبدُ الله بن مالكِ الخُزاعي. معاويةُ بن عُبيد الله (¬1) ابن يسارِ الأشعري. وزيرُ المهدي، من أهل طَبَرِية، وقيل: من أهل دمشق. ولَّاه هشامُ بن عبد الملك صدقاتِ عُذْرة، وكان رجلًا صالحًا عابدًا، وكان المهدي يعظِّمه ولا يخالفه، إلى أن أَبعده عنه، وأقام معزولًا في داره يتعبَّد، وقال لمَّا عزله المهدي -وقيل: ابنه-: [من البسيط] لله دهرٌ أضعنا فيه أنفُسَنا ... بالجهل لو أنَّه لَمَّا مضى عادا (¬2) أفسدتُ دِيني بإِصلاحي خلافتَهمْ ... وإن (¬3) إصلاحَها للدِّين إفسادا ما قرَّبوا أحدًا إلا ونيَّتهمْ ... أن يُعقِبوا قُربَه بالغَدر إبعادا وروى الدَّارَقطنيُّ (¬4) أنه أَبلى ثلاثَ مصلَّياتٍ وشرع في الرابع موضعَ الرُّكبتين والوجهِ واليدين لكثرة صلاته، وكان له في كلِّ يومِ كُرُّ دقيقِ يتصدَّق به (¬5)، فغلا السِّعر، فقال له مولاه: ألا نُنقص منه، فقال: اجعله كُرَّين، فكان له بعد ذلك كلَّ يومِ كرَّان يخبز فيتصدَّق بهما على المساكين، ولمَّا مات امتلأت جسورُ بغداد، فلم يَعْبُر عليها إلا مَن تبع جنازتَه من مواليه واليتامى والأراملِ والمساكين، وصلَّى عليه عليُّ بن ¬

_ (¬1) في (خ): معاوية بن عبد الله بن عبيد الله. وهو خطأ، انظر تاريخ بغداد 15/ 259، وتاريخ دمشق 68/ 351، والمنتظم 8/ 336، والسير 7/ 398. (¬2) في معجم الشعراء ص 315، وتاريخ دمشق 68/ 356: لو أنه بعد النهي عادا. (¬3) في معجم الشعراء وتاريخ دمشق: وكان. (¬4) قال الخطيب في تاريخه 15/ 260: قرأت في كتاب أبي الحسن الدارقطني بخطه. . .، ثم ذكره بسنده. (¬5) قال الذهبي في السير 7/ 398: الكر يشبع خمسة آلاف إنسان.

يزيد بن حاتم الأزدي الطائي

المهدي، ودُفن بمقابر قريشٍ وله سبعون سَنَة. أَسند عن عاصم بنِ رجاء بن حَيوة، وعن الزُّهري وغيرِهما، وحكى عن المنصور والمَهدي، وقدم مع المهديِّ إلى الشام وطَبَرِستان، رحمه الله تعالى. يزيدُ بن حاتِم الأَزديُّ الطائي والي إِفريقية، كان شُجاعًا جوَادًا ممدَّحًا. قال: كنت يومًا واقفًا بباب المنصورِ أنا ويزيدُ بن أسيد السُّلَمي، إذ فُتح بابُ القصر وخرج خادمٌ لأبي جعفر، فنظر إلينا ثم انصرف، فدخل وأخرج رأسَه وقال: [من الطويل] لَشتَّانَ ما بين اليزيدَين في النَّدى ... يزيدُ سُليمٍ والأغرِّ بن حاتمِ فلا يحسب التَّمتامُ أني هجوتُه ... ولكنني فضَّلت أهلَ المكارم فقال له يزيدُ بن أسيد: نعم نعم، على رغم أَنفك وأنفِ مَن أرسلك، فرجع الخادمُ وأبلغها أبا جعفر، فضحك حتى استلقى (¬1). وهذا الشِّعر لربيعةَ بنِ ثابت الرَّقِّي يمدح يزيدَ بن حاتمٍ ويهجو يزيدَ بن أسيد، ومنه: يزيدُ سُليمٍ سالمُ المال والفتى ... فتى الأَزدِ للأموال غير مسالمِ (¬2) فهمُّ الفتى الأزديِّ إتلافُ ماله ... وهمُّ الفتى القيسيِّ جمعُ الدراهم وهمُّ الفتى القيسيِّ دُفٌّ ولعبة ... وهمُّ الفتى الأَزْدي ضربُ الجماجم وفي يزيدَ بن حاتمٍ قال محمدُ بن عبدِ الله بن مسلم -ويقال له: [ابنُ] (¬3) المولى، زعموا أنه مولى [بني] عَمرو (¬4) بنِ عوفٍ الأنصاريين (¬5) -: [من الكامل] وإذا تُباع كريمةٌ أو تُشترَى ... فسواك بائعُها وأنت المشتري وإذا توعَّرت المسالكُ لم يكن ... منها السبيلُ إلى نَداك بأَوعرِ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 18/ 257 - 258 (مخطوط). (¬2) في (خ): مسلم. والمثبت من الأغاني 16/ 254، ووفيات الأعيان 6/ 323. (¬3) ما بين حاصرتين من المصادر، انظر معجم الشعراء ص 342، وشرح المرزوقي 4/ 1761، وتاريخ دمشق 18/ 258، ووفيات الأعيان 6/ 325. والأبيات في زهر الآداب 2/ 1078 منسوبة لابن المبارك. (¬4) في (خ): عمر، والمثبت من معجم الشعراء وتاريخ دمشق، وما بين حاصرتين من معجم الشعراء. (¬5) في (خ): الأنصاري، والمثبت من تاريخ دمشق.

وإذا صنعتَ صنيعةً أتممتَها ... بيدين ليس نَداهما بمكدَّر وإذا هممتَ لمُعْتفيك بنائلٍ ... قال النَّدى -فأَطعتَه- لك أَكثرِ وإذا الفوارسُ عدَّدت أبطالها ... عدُّوك في أبطالهم بالخِنْصِر يا واحدَ العربِ الذي ما إنْ لهمْ ... من مذهبٍ عنه ولا من مَقْصَر (¬1) وقصده ربيعةُ المذكور، فاشتغل عنه، فخرج وهو يقول: [من الطويل] أراني ولا كُفرانَ لله راجعًا ... بخُفَّي حُنينٍ من نَوال ابنِ حاتمِ فبلغ يزيد، فردَّه وملأ خُفَّيه دراهم، فقال قصيدتَه المشهورة: [من الطويل] بكى أهلُ (¬2) مصرَ بالدموع السَّواجمِ ... غداةَ غدا عنها الأغرُّ بن حاتمِ ومات يزيدُ بإفريقيةَ سنةَ سبعين ومئة، واستخلف عليها ولدَه داود، فعزله هارونُ في سنة اثنتين وسبعين وولَّاها عمَّه رَوح بنَ حاتم. * * * ¬

_ (¬1) قال المرزوقي: المقصر: الكف والإمساك. (¬2) في (خ): باهل، والمثبت من العقد الفريد 1/ 287.

السنة الحادية والسبعون بعد المئة

السَّنةُ الحاديةُ والسبعون بعد المئة فيها أخرج هارونُ الطالبيِّين من بغدادَ إلى مدينة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ما خلا العباسَ بن الحسنِ بن عبد اللهِ بن العباس بن عليٍّ - عليه السلام -. وخرجت الخَيزُران من بغدادَ في رمضانَ معتمرة، فأقامت بمكَّة إلى وقت الحجّ. فصل وفيها توفِّي إسماعيلُ بن محمدِ ابن يزيدَ بن ربيعة، أبو هاشم، ويلقَّب بالسيّد الحِمْيَري. شاعر مُجيد. كان بالكوفة قومٌ يذهبون [في] عليٍّ - رضي الله عنه - مذهب النَّصارى في المسيح، وهم أصحابُ عبدِ الله بن سبأ، وقد حرَّق عليٌّ - عليه السلام - بعضَهم، وفيهم يقول السَّيّد: [من البسيط] قومٌ غلَوا في عليٍّ لا أبا لهمُ ... وأَجشموا أَنفُسًا في حبِّه تَعَبا قالوا هو اللهُ جلَّ اللهُ خالقنا ... من أن يكونَ ابنَ شيءٍ أو يكونَ أبا (¬1) وله: [من السريع] يا بائعَ الأُخرى بدنياهُ ... ليس بهذا أَمَرَ اللهُ مِن أين أبغضتَ عليَّ الرِّضا ... وأحمدٌ قد كان يرضاه من الذي أحمدُ مِن بينهمْ ... يومَ غديرِ الخُمِّ ناداه أَقامه من بين أصحابِه ... وهمْ حواليه فسمَّاه هذا عليُّ بنُ أبي طالبٍ ... مولًى لمن قد كنتُ مولاه فوالِ مَن والاه يا ذا العُلى ... وعادِ مَن قد كان عاداه ومِن شعره: [من الوافر] إذا ما المرْءُ شابَ له قَذالٌ ... وعَلَّلهُ المَواشِطُ بالخِضابِ فقد ذهبتْ بَشاشتُه وأودَى ... فَقُم يا باكِ فابكِ على الشباب ¬

_ (¬1) العقد الفريد 2/ 404 - 405، وما بين حاصرتين مستفاد منه.

فليس بعائدٍ ما فاتَ منه ... إلى أَحدٍ إلى يوم المآب إلى يومٍ يؤوب الناسُ فيه ... إلى دُنياهمُ قبل الحساب فإنَّ الله خبَّر عن أُناس ... حَيُوا من بعد دَسٍّ في التُّراب (¬1) وقال يرثي أخاه: [من الخفيف] يا ابن أمِّي فدَتْكَ نفسي ومالي ... كنتَ رُكني ومَفْزعي وجَمالي ولَعَمْري لئن تركتُك مَيتًا ... رَهْنَ رَمْسٍ ضَنْكٍ عليك مُهالِ لَوَشيكًا ألقاك حيًّا صحيحًا ... سامِعًا مُبْصِرًا على خير حال مثلَ سَبْعين وافدًا مع مُوسى ... عاينُوا هائلًا مع الأهوال حين رامُوا من جهلهمْ رؤيةَ اللهِ ... وأنَّى برؤية المتعالي فرَماهمْ بصَعْقةٍ أحرقتْهم ... ثم أحياهمُ شديدُ المِحال وكان يقول بالرَّجعة (¬2)، ويُفرط في سبِّ السلف، وهو القائلُ في عائشةَ رضوانُ الله عليها في قصَّة الجَمَل: [من السريع] جاءت مع الأَشقَين في هودجٍ ... تُزجي على البصرة أَجنادَها كأنَّها في فعلها حيَّةٌ ... تريد أن تأكلَ أولادَها (¬3) ومات بواسط، ولمَّا احتضر أخذه كَرْب، فجعل يقول: اللهمَّ هذا كان جزائي في حبِّ آلِ محمد! ومات فلم يُدفن؛ لكفره وسبِّه للصحابة، وقيل: إنه مات ببغدادَ واسودَّ وجهُه قبل موته، فأفاقَ من سَكرته وقال: يا أميرَ المؤمنين، تفعل هذا بوليَّك؟ ! ومات فدُفن بالجُنَينة (¬4). وقيل: مات سنةَ تسعٍ وسبعين ومئة (¬5). ¬

_ (¬1) العقد الفريد 2/ 407. (¬2) أي: برجعة محمد بن الحنفية كما يقول الكليسانية. انظر طبقات الشعراء ص 33، والمنتظم 9/ 39، وتاريخ الإسلام 4/ 640. (¬3) المنتظم 9/ 40. (¬4) لم تجود في (خ)، والمثبت من الأغاني 7/ 278. والجنينة: موضع ببغداد. (¬5) ترجمه في وفيات سنة 179 ابن الجوزي في المنتظم 9/ 39، وابن كثير في البداية والنهاية 13/ 598، وذكره الذهبي في تاريخ الإسلام 4/ 570 في وفيات سنة 173، وقال في ترجمته 4/ 640: ومات على الصحيح في سنة ثلاث وسبعين ومئة، وقيل: مات سنة ثمان وسبعين ومئة. اهـ. ولم أقف على من ذكر وفاته في هذه السنة.

حبان بن علي العنزي

حِبَّان (¬1) بنُ عليٍّ العَنَزي من الطبقة السادسةِ من أهل الكوفة، توفِّي بها، وكان ضعيفًا في الحديث، وقال ابن مَعين: هو صَدوق. عيسى بنُ يزيدَ ابنِ بكر بن داب، أبو الوليدِ اللَّيثي المدني. كان راويةَ العرب، وافرَ الأدب، عالمًا بالنَّسب. أمر له الهادي بثلاثين ألفَ دينارٍ في بعض الليالي، فلما أصبح وجَّه على الحاجب بالمال، فقال: يحتاج إلى توقيع، فأَمسك ولم يطلبه. فبينا الهادي في مستشرَفٍ له إذ نظر إلى ابن دابٍ قد أقبل وليس معه غلام، فقال لإبراهيمَ الحراني: يا إبراهيم، ألم ترَ إلى ابن داب بررناه بالأمس لنرى عليه أَثرَنا وما غيَّر من حاله! فقال (¬2): هو أعلمُ بأمره. فلما دخل ابنُ داب وتفاوضوا في الحديث، عرض له الهادي فقال: أرى ثوبَك غَسيلًا، وهذا شتاءٌ وتحتاج إلى لُبس الجديد، فقال: يا أميرَ المؤمنين، باعي قصير، ففهم، فأمر بحمل المالِ إليه في الحال، فحُمل (¬3). وكانت وفاتُه ببغداد. المفضَّل بن محمدِ ابن يَعلى الضَّبِّي (¬4). كان أحدَ الأئمَّة الفضلاءِ والثقاتِ الأَثبات، قرأ القراءاتِ على عاصم بنِ أبي النَّجود، وكان علَّامةً في النَّسب وفي أيام العرب. قال جحظة (¬5): اجتمعنا عند الرشيد، فقال للمفضَّل: أَخبِرني بأحسنِ ما قالت ¬

_ (¬1) في (خ): حيان، والمثبت من المصادر. انظر طبقات ابن سعد 8/ 502، وتاريخ بغداد 9/ 166، وتاريخ الإسلام 4/ 598. (¬2) القائل هو الهادي، كما في تاريخ بغداد 12/ 471. (¬3) في تاريخ بغداد: فقال: كيف ذاك وقد صرفنا إليك من برنا ما فيه صلاح شأنك! قال: ما وصل إلي. . . (¬4) ذكر وفاته في هذه السنة ابن الجوزي في المنتظم 8/ 340، ويؤيده ما في تاريخ بغداد 15/ 151 أنه قدم بغداد في أيام هارون. وفي تاريخ الإسلام 4/ 251، وغاية النهاية 2/ 307، والأعلام للزركلي أن وفاته سنة 168، ونقل الزركلي في الحاشية عن الأستاذ عبد السلام هارون في المفضليات الخمس أن وفاته سنة 178. والله أعلم. (¬5) في (خ): جحطلة، والمثبت من تاريخ بغداد 15/ 152، والأنساب 8/ 148.

أبو عبد الله الخريبي البصري الزاهد

العربُ في الذئب ولك هذا الخاتمُ وشراؤه ألفٌ وستُّ مئةِ دينار، فقال: [من الطويل] ينام بإِحدى مُقلتيه ويتَّقي ... بأُخرى المنايا فهو يقظانُ نائمُ (¬1) فقال الرشيد: ما ألقى اللهُ هذا على لسانك إلَّا لذهاب الخاتَم، ورمى به إليه، وبلغ أمَّ جعفر، فبعثتْ إلى المفضَّل بألف وستِّ مئة دينارٍ وأخذته وبعثتْ به إلى الرشيد، وقالت: كنت أراك تُعجب به، فألقاه إلى المفضَّل وقال: خذْه وخذ الدنانير، فما كنت لأهبَ شيئًا وأرجعَ فيه. قال المصنِّف رحمه الله: ورأيتُ في كتاب "الخواصّ" أنَّ العينَ التي (¬2) يفتحها الذئبُ إذا نام، إذا عَلِقت على إنسانٍ لا ينام أبدًا، وأن العينَ التي ينام بها إذا علقت على إنسانٍ لا يزال نائمًا. وعَبَرَ المفضَّل على المهديِّ وهو لا يملك درهمًا وعليه عشرةُ آلافِ درهم، فقال: يا مفضَّل، ما أفخرُ بيتٍ قالته العرب؟ قال: قولُ الخنساء: [من البسيط] وإنَّ صخرًا لَتأتمُّ الهُداةُ به ... كأنَّه عَلَمٌ في رأسه نارُ (¬3) فالتفت إلى إسحاقَ بن بَزيعٍ وقال: فيما قلت لك (¬4)، قال المفضَّل: فقلت: الصوابُ مع أمير المؤمنين، ثم قال: يا مفضَّل، كيف حالُك؟ قلت: كيف حالُ مَن لا معه درهمٌ وعليه عشرةُ آلاف درهم؟ ! فقال: يا إسحاق، أَعطِه عشرةَ آلاف لدَينه، وعشرةَ آلاف يُصلح بها حاله، وعشرةَ آلاف يُعدُّها لدهره. سمع المفضَّلُ سِمَاكًا وغيرَه، واتَّفقوا على صدقه وثقتِه وفضله. أبو عبدِ الله الخُرَيبي البصريُّ الزاهد يُنسب إلى الخُرَيبة محلَّةٍ بالبصرة. كان صيادًا يتقوَّت من صيده، لا يقبل بِرَّ أحد. قال إبراهيمُ بن شبيبِ بن شيبة (¬5): كنا نتجالس في الجُمُعة، فأتى رجلٌ عليه ثوبٌ ¬

_ (¬1) البيت لحميد بن ثور الهلالي، وهو في ديوانه ص 105 برواية: هاجع، بدل: نائم. (¬2) في (خ): الذي. (¬3) الديوان ص 49. (¬4) في الأغاني 16/ 21: قد قلت له ذلك فأباه. ومثله في تاريخ دمشق 62/ 506. (¬5) في (خ): شبة، والمثبت من المنتظم 8/ 341، وصفة الصفوة 4/ 9.

واحد ملتحِفٌ به، فجلس إلينا، فأَلقى مسألة، فما زلنا نتكلَّم في الفقه حتى انصرفنا، ثم جاءني في الجُمُعة المقبلة، فسألنا فأجبنا، وسألناه عن منزله فقال: أَنزل الخُرَيبة، قلنا: فالكُنية؟ قال: أبو عبدِ الله. فكان يجالسنا، وانقطع عنَّا مدة، فوعد بعضُنا بعضًا أن نمضيَ إلى الخريبة ونستوحشَ له، فأتينا فسألنا عنه، فقال لنا صبيانٌ قد انصرفوا من الكتَّاب: لعلكم تريدون أبا عبدِ الله الصيَّاد؟ قلنا: نعم، قال: الساعةَ يأتي، وهذا وقتُه، وإذا به قد أَقبل مؤتزرًا بخِرقة وعلى كتفه خِرْقة، ومعه أطيارٌ مذبَّحة وغيرُ مذبحة، فلمَّا رآنا تبسَّم وقال: ما جاء بكم؟ فقلنا: فقدناك وقد كنت عمرتَ مجلسَنا، فما غيَّبك عنا؟ قال: كان لي جار، فكسْت أَستعير منه ثوبًا في كلِّ جمعة، وهو الثوبُ الذي كنت أتيتكم فيه، فسافر الجارُ إلى وطنه، وكان غريبًا، فلم يكن لي ثوبٌ آتيكم فيه، ثم قال: هلمُّوا إلى المنزل، فدخلنا بيتًا ليس فيه سوى قطعةٍ من بارِّية (¬1)، فقال: اقعدوا، ودفع الأطيارَ المذبَّحة إلى المرأة وقال: أَصلِحيها، وأخذ الأطيارَ الأحياءَ ومضى إلى السوق، فباعها واشترى خبزًا، ثم جاء وقد صنعت المرأة تلك الأَطيار، فقدَّمها إلينا مع الخبز، فأكلنا، وكان يقوم فيأتي بالملح، وتارةً بالماء، فقال بعضُنا لبعض: ألا ترون حال الرجل؟ أما تغيِّرون من حاله وأنتم سادةُ أهل البصرة؟ ! فقال أحدُهم: عليَّ خمسُ مئة، وقال الآخَر: وعليَّ ثلاثُ مئة، وضمن بعضُهم أن يأخذَ له من غيره، فبلغ الذي جمعوه خمسةَ آلافِ درهم، فقالوا: قوموا بنا نذهب فنأتيه بالمال. فخرجنا ومررنا بالمِرْبد، وإذا بمحمد بنِ سليمانَ والي البصرةِ في مَنظَرة له، فقال: يا غلام، ائتني بإبراهيمَ بن شبيبٍ من بين القوم، فجئتُ فدخلت عليه، فقال: من أين أقبلتم؟ فصدقته الحديث، فقال: أنا أسبقكم إلى بِرِّه، يا غلام، ائتني ببَدْرة دراهم، فجاء بها، فقال: احملْ هذه إليه. قال: ففرحت وحملها معي فرَّاش، فأتيتُ إلى بابه فسلَّمت، فأجابني أبو عبدِ الله وخرج، فلمَّا رأى الفراشَ والبَدرةَ على رأسه كأنِّي سففتُ في وجهه الرَّماد، وأقبل عليَّ بغير ذلك الوجهِ الأوَّل وقال: ما لي ولك يا هذا! تريد أن تفتنَني! فقلت له: يا أبا عبدِ الله، إنَّ محمد بنَ سليمانَ من الجبَّارين، فاللهَ اللهَ في نفسك، فازداد غيظًا، وقام فدخل منزلَه وأصفق البابَ في وجهي، فرجعت إلى ¬

_ (¬1) البارية: الحصير المنسوج. القاموس المحيط (بور).

محمدٍ وأخبرته، فقال: حَروريٌّ والله، يا غلام، خذ هذا السيفَ واذهب به مع هذا، فإذا خرج إليك الرجلُ فاضرب عنقَه وائتني برأسه، فقلت: اللهَ اللهَ أيها الأمير، واللهِ قد رأينا رجلًا ما هو من الخوارج، ولكني أنا آتيك به، فضمنته، فأتيت بابَه، فسمعت بكاءَ المرأة، فطرقتُ الباب، فقالت: ادخل، فدخلت وإذا به ميِّت مسجًّى، فقلت: ما حالُه؟ قالت لنا: لما دخل توضأ وصلَّى ودعا، فسمعتُه يقول في دعائه: اللهمَّ اقبضني إليك ولا تفتنِّي، ثم تمدَّد واستقبل القِبلة، وما زال يردِّدها حتى مات. فخرجتُ فأتيت محمدَ بن سليمانَ فأخبرته، فقال: أنا أركب وأصلِّي عليه، وشاع حديثُه في البصرة، فشهده عامَّة أهلها ومحمدُ بن سليمان. * * *

السنة الثانية والسبعون بعد المئة

السَّنة الثانيةُ والسبعونَ بعد المئة فيها خرج الرشيدُ إلى مَرْج القلعةِ يرتاد منزلًا، وكان قد استوخم بغداد، فلمَّا نزل مرجَ القلعة، مرض فعاد إلى بغداد. وفيها ولَّى أخاه عُبيدَ (¬1) الله بنَ المهديِّ بلادَ إرمينية، وعزل عنها يزيدَ بن مزيد، وأغزى الصائفةَ إسحاقَ بن سليمانَ بنِ علي، ووضع عن أهل السَّواد العُشرَ الذي كان يؤخذ منهم بعد مقاسمةِ النِّصف. وفيها زوَّج الرشيدُ العبَّاسةَ بنت المهديِّ من محمد بنِ سليمانَ والي البصرةِ ونقلها إليها، وهي أوَّل بنتِ خليفةٍ من بني العباسِ نُقلت من بلدٍ إلى بلد. وفيها ولَّى الرشيدُ معاذَ بن معاذٍ القضاءَ على البصرة، فلم يحمدْ أهلها أمرَه وكرهوه، فصرفه، فأَظهروا السرورَ بعزله، ونحروا الجُزُرَ وتصدَّقوا، فاختفى خوفًا منهم، وقدم بغدادَ فاعتذر، فقبل الرشيدُ عذرَه وأعطاه ألفَ دينار، وكان من الأَثبات الثقات في الحديث. وحجَّ بالناس يعقوبُ بن المنصور عمُّ الرشيد. عبدُ الرحمن بن معاويةَ ابن هشامِ بن عبد الملك بن مروان، أبو المطرِّف، الداخل. وأمُّه بربرية، اسمُها راح (¬2). ولد بدَير حَنِيناءَ من عمل دمشقَ (¬3) في سنة ثلاثَ عشرةَ ومئة، ولما زال ملكُ بني أميةَ تفرَّقوا في البلاد هربًا من بني العبَّاس، فدخل عبدُ الرحمن المغربَ في سنة ستٍّ وثلاثين ومئة (¬4) في أيَّام أبي جعفر، فبويع بجزيرة الأندلس. وقيل: دخل مصرَ مستخفيًا، ثم خرج ¬

_ (¬1) في (خ): عبد، والمثبت من المصادر. انظر تاريخ الطبري 8/ 236، والمنتظم 8/ 343، والكامل 6/ 118. (¬2) في (خ): واح، والمثبت من جذوة المقتبس ص 8، وتاريخ دمشق 42/ 13. (¬3) قال الذهبي في السير 8/ 245: مولده بأرض تدمر. (¬4) وقيل: سنة 138، وقيل: سنة 139. انظر تاريخ خليفة ص 415، وتاريخ الطبري 7/ 500، وجذوة =

إلى بُرْقة، فأقام بها خمسَ سنين، ثم خرج يريد الأندلس، فنزل ببيرة المراكب، وكانت البلادُ مفتوحة، فيها يمانيةٌ ومُضَرية يقتتلون على العصبية، وكان معه مولاه بدر، فدخل بينهم يتحسَّس الأخبار، فقال للمضرية: لو وجدتم رجلًا من أهل بيتِ الخلافة أَكنتم تقومون معه وتبايعونه؟ قالوا: وكيف لنا بذلك؟ ! فاستحلفهم بدر، فلمَّا استوثق منهم قال: هذا عبدُ الرحمن بن معاويةَ من بيت الخلافة، فأتَوا إليه وبايعوه، فأقام واليًا عليهم ثلاثًا وثلاثين سنةً وأربعة أشهر، وهو أوَّل ملوكِ بني أميةَ بالمغرب. وكان يوسفُ الفِهريُّ يدعو إلى نفسه بالمغرب، فلمَّا دخل عبدُ الرحمن لم يكترثْ له يوسف، ونزل عبدُ الرحمن الأندلس، فأطاعه أهلُها وقالوا: هذا من بيت الخلافة، وفي زمان عمِّه الوليدِ فُتحت الأندلس، واستفحل أمرُه، فقاتله يوسفُ الفهري، وكان أهلُ يوسفَ ومقرُّه بقرطبة، فدخل الفهريُّ طُلَيطلة واستنصر بالفرنج وبملكها، فأَنجدوه على عبد الرحمن، وخرج بالجيوش، فالتقوا على قرطبةَ واقتتلوا، فقال عبدُ الرحمن: مَن أتاني برأس الفهريِّ فله كذا وكذا من المال، فأتاه رجلٌ من أصحابه برأسه، فدخل قرطبةَ وبها عيالُ يوسفَ فلم يَعرِضْ لهم. وكان المنصورُ يثني على عبد الرحمن، قال يومًا لأصحابه: مَن صقرُ قريشٍ الذي قهر الأعداءَ وساس الملكَ وسكَّن الزلازل؟ فقالوا: أنت، فقال: ما قلتم شيئًا، ولكن ذاك الذي قطع الفيافيَ والقفار، والجزائرَ والبحار، وأَوغل في بلاد المغرب، وقد قُتل قومُه وزال ملكُهم، فدخل بلدًا أعجميًّا مُفرَدًا، فمصَّر الأمصار وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، ولم يزل يضرب العدنانيةَ بالقحطانية، والقحطانيةَ بالعدنانية، والمضريةَ باليمانية، حتى أقام مُلكًا داثرًا بعد انقطاعه، بحسن تدبيرِه وشدَّة شكيمته، ذاك عبدُ الرحمن بنُ معاوية. وسأل مالكُ بن أنسٍ رجلًا من أهل الأندلسِ عن سيرة عبدِ الرحمن، فقال: يلبس الصوفَ ويأكل خبزَ الشعير، ويجاهد في سبيل الله، وعدَّد مناقبه، فقال مالك: ليت أنَّ اللهَ زيَّن حَرَمنا بمثله. وبلغ عبدَ الرحمن، فسُرَّ بقوله، وجمع أهلَ الأندلس على مذهب مالك، وكانوا قبل ذلك على مذهب الأَوزاعي، فهذا سببُ اجتماعِ المغاربة على ¬

_ = المقتبس ص 9، والكامل 5/ 489، والسير 8/ 245.

الفضل بن صالح

مذهب مالك. وثار عليه ثائرٌ بالمغرب، فأُخذ وجيءَ به على بغل مكبَّلٌ بالحديد، فنظر إليه وقال: يا بغل، ماذا تحمل من الشِّقاق والنِّفاق؟ ! وأَمر بقتله، فقال الثائر -وأشار إلى فوس عبدِ الرحمن-: يا فرس، ماذا تحملين من العفو والرَّحمة، فعفا عنه وأَحسن إليه. وقال أبو جعفرٍ القَيرواني: مات في سنة اثنتين وسبعين ومئةٍ وهو ابنُ ستين سنة، وكان ملكُه أربعًا وثلاثين سنةً وخمسةَ أشهر، ثم ولي بعده ابنُه هشامٌ لتسعٍ خلونَ من جُمادى الأولى سنةَ اثنتين وسبعين، وهو ابنُ إحدى وعشرين سنة (¬1). وقال الحُميدي (¬2): كان عبدُ الرحمن على سيرةٍ جميلة، وأَثنى عليه، قال: ومن قُضاته معاويةُ بن صالحٍ الحضرمي، كان شاعرًا، ومن شعره: [من الخفيف]: أيها الراكبُ الميمِّم أرضي ... أَقْرِ من بعضيَ السلامَ لبعضي إنَّ جسمي كما علمتَ بأرض ... وفؤادي كما علمتَ بأرض قُدِّر البَينُ بيننا فافترقنا ... وطوى البينُ عن جفونيَ غُمضي قد قضى اللهُ بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي الفضلُ بن صالحِ ابن علي بن عبدِ الله بن عباس، أبو العباسِ الهاشمي. ولي إِمرةَ دمشق، وعمل أبوابَ جامعها والقُبَّةَ التي في الصَّحن، وتُعرف بقبة المال، فتوفِّي وهو ابنُ خمسين سنة، وكان شاعرًا فصيحًا، وهو القائل: [من السريع] عاش الهوى واستُشهد الصبرُ ... وعاث فيَّ الحزنُ والضُّرُّ وسهَّل التوديعُ يومَ النَّوى ... ما كان قد وعَّره الهجر (¬3) * * * ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 42/ 21 عن أبي جعفر القيرواني أحمد بن إبراهيم المعروف بابن الجزار، صاحب "التعريف بصحيح التاريخ". وانظر جذوة المقتبس ص 10، والسير 8/ 253، ففيهما أنه كان في الثلاثين من عمره. (¬2) في جذوة المقتبس ص 9. (¬3) تاريخ دمشق 58/ 65 - 67.

السنة الثالثة والسبعون بعد المئة

السَّنة الثالثةُ والسبعون بعد المئة فيها توفِّيت الخَيزُران، ومحمدُ بن سليمانَ والي البصرة. وفيها حبس هارونُ موسى بنَ جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحسين بن عليٍّ عليه السلام، وحجَّ الرشيدُ في هذه السَّنة، فأَقدمه معه إلى بغداد، فحبسه إلى أن مات. وقال الصُّولي: أَجرى عليه في كلِّ سنةٍ ثلاثَ مئةِ ألف درهم، ولبركةَ في كلِّ شهرٍ عشرين ألفَ درهمٍ إلى أن مات في حبسه. وقال النَّوفلي: وضع هارونُ ابنَه محمدًا في حجر جعفرِ بن محمدٍ الأشعث، فساء ذلك يحيى بنَ خالد، وقال: لو مات هارونُ وأَفضى الأمرُ إلى محمدٍ انتقضت دولتُنا وتحوَّل الأمرُ إلى جعفر بنِ محمدٍ وولده، وقد كان يحيى عرف مذهبَ جعفرٍ في التشيُّع، فأَظهر له أنَّه على مذهبه، فأَنِسَ به جعفرٌ وأَطلعه على أمره وذكر له رأيَه في موسى بنِ جعفر، فسعى به إلى هارون، وكان هارونُ يرعى له موضعَ أبيه من الخلافة، فكان يقدِّم في أمره ويؤخِّر، ويحيى لا يألو جهدًا في جعفر، ثم إن هارونَ أمر لجعفرٍ بعشرين ألفَ دينار، فقال يحيى لهارون: إنَّ خُمس ما يصير لجعفرٍ يدفعه إلى موسى بنِ جعفر، وعلم جعفرٌ بسعاية يحيى به، فاحترز، فأرسل هارونُ إلى جعفرٍ يستدعيه، فاغتسل وتحنَّط، ولبس كفنَه تحت ثيابه، فلمَّا دخل على هارونَ شمَّ منه رائحةَ الطِّيب، فقال: ما هذا؟ فقال: قد علمتُ أنه سُعي بي إليك حسدًا لي فقلت: ما طلبني في هذه الساعةِ إلا ليقتلَني، فتحنَّطت كما ترى، فقال: كلَّا، ولكن أُخبرت أنَّك تبعث إلى موسى بخُمس مالِك، فأحببت أن أعلمَ صحَّة ذلك، فقال: يا أميرَ المؤمنين، ابعث بعضَ خدمِك إلى فلانةَ يطلب منها المال، فأرسل الخادم، فأرسلت الجاريةُ العشرين ألفَ دينار بخواتيمها، فأَحضرها بين يدي هارون، فقال هارون: ارفعها، فواللهِ لا سمعتُ فيك كلامَ أحدٍ بعد اليوم، ثم حجَّ هارونُ في هذه السنةِ وأَحرم من بغداد، ودخل مكة والمدينة، ووصل أهلَ الحرمين بأموالٍ عظيمة، ولَمَّا قفل عن المدينة، صحب معه موسى بنَ جعفر إلى بغدادَ لشيءٍ بلغه عنه فخافه، وقيل له: لا بدَّ له من الخروج عليك.

الخيزران جارية المهدي أم الهادي والرشيد

فصل وفيها توفِّيت الخَيزُران جاريةُ المهدي أمُّ الهادي والرشيد وكانت جُرَشية، اشتراها المهديُّ فأَعتقها وتزوَّجها. وسأل رجلٌ الخيزران حاجةً وبعث إليها بهديَّة، فبعثتْ إليه: إن كان ما بعثتَ به إليَّ من هديَّتك ثمنًا لرأي فيك فقد بخستَني القيمة، وإن كان استزادةً فقد استغششتَني (¬1) في المودَّة. ثم ردَّت عليه الهدية. قال الصُّولي: وصاحبُ الهديةِ محمدُ بن سليمان، أهدى لها مئةَ وصيف، بيد كلِّ وصيفٍ جامٌ من ذهبٍ مملوءٌ مِسكًا. وكانت الخَيزُران عاقلةً لبيبة، صالحةً متصدقة، وغلَّتها في كلِّ سنةٍ ستةُ آلافِ ألفٍ وستَّون ألفَ ألفِ درهم (¬2)، فكانت تُنفقها في الصدقات وأبوابِ البِرّ، وكانت وفاتُها ليلةَ الجمعة لثلاثٍ بقين من جُمادى الآخرة، ومشى هارونُ في جنازتها وعليه طَيلسانٌ أزرقُ قد شدَّ به وسطَه، وأخذ بقائمة السريرِ حافيًا يخوض في الطين حتى أتى مقابرَ قريش، فغسل رِجليه وصلَّى عليها، ودخل قبرَها، ثم خرج فتمثَّل بقول متمِّم (¬3): [من الطويل] وكنَّا كنَدمانَي جَذيمةَ حِقبةً الأبيات: ثم تصدَّق عنها بمالٍ عظيم، ولم يغيِّر على جواريها وحاشيتها شيئًا. وقالت زينبُ بنت سليمانَ بنِ علي: حدَّثتني الخيزرانُ قالت: حدَّثني أميرُ المؤمنين المهديُّ، عن أبيه، عن جدِّه، عن ابن عباسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن اتَّقى اللهَ وقاه اللهُ كل شيء" (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ): استغشيتني. والمثبت من المنتظم 8/ 347، وفي البداية والنهاية 13/ 571: فقد اتهمتني في المودة. (¬2) قال المسعودي في مروج الذهب 6/ 289: مئة ألف ألف وستون ألف ألف درهم، ونقل الذهبي في تاريخ الإسلام 4/ 615 عن المسعودي أن مغلها مئتا ألف وستون ألفًا، وفي المنتظم 8/ 348: ألف ألف وستون ألف درهم، وفي البداية والنهاية 13/ 571: ألف ألف وستون ألفًا. (¬3) هو متمم بن نويرة، كما في المنتظم 8/ 348، والبداية والنهاية 13/ 571 - 572، وعجزه: من الدهر حتى قيل لن يتصدعا (¬4) أخرجه الخطيب في تاريخه 16/ 616.

غادر، جارية الهادي

غادِر، جاريةُ الهادي كانت بارعةَ الجمال، فبينا هي تغنِّيه يومًا، عرض له فكرٌ فغيَّر لونَه، فسأله مَن حضر عن ذلك، فقال: وقع في خاطري أنَّني أموت ويتزوَّجها أخي هارون. ثم أمر بإحضار أخيه واستحلفه بالأَيمان المغلَّظة من الطلاق والعتاقِ والحجِّ ماشيًا أنه لا يتزوَّجها بعده، واستحلفها كذلك، ولبث أقلَّ من شهرٍ ومات، فأرسل إليها هارونُ يخطبها، فقالت له: وكيف بيميني ويمينك؟ ! فقال: أكفِّر عن الكلّ. فتزوَّجته، فزاد حبُّه لها على حبِّ أخيه، حتى إنَّها كانت تنام فتضع رأسَها في حجره فلا يتحرَّك حتى تنتبه، فبينا هي ذاتَ يومٍ نائمةٌ ورأسُها على ركبته، انتبهت فَزِعةً تبكي، فقال: ما الذي بك؟ قالت: رأيتُ الساعةَ أخاك وهو يقول: [من مجزوء الكامل] أَخلفتِ وعدي بعدما ... جاورتُ سكَّانَ المقابرْ ونسيتنِي وحنثتِ (¬1) في ... أَيمانك الكَذِبِ الفواجر ونكحتِ عامدةً (¬2) أخي ... صَدَقَ الذي سمَّاكِ غادر لا يَهْنِكِ الإلفُ الجديـ ... ـدُ ولا تَدُرْ عنكِ الدوائر ولحقتِ بي قبلَ الصَّبا ... حِ فصرتِ حيث غدوتُ صائر ولم تزل تبكي وتضطرب حتى ماتت بين يديه وهو يقول لها: أضغاثُ أحلام، فدفنها، ونغَّصت عليه عيشَه. محمدُ بن سليمانَ ابن عليِّ بن عبد اللهِ بن عباس، أبو عبدِ الله الهاشمي. وأمُّه أمُّ حسنٍ بنتُ جعفر بن حسن بن حسن بن عليٍّ - عليه السلام -. وكان من وجوه بني العباسِ وأشرافهم، وُلد بالحُمَيمة من أرض البَلقاءِ سنة اثنتين وعشرين ومئة، وكان جليلًا نبيلًا جوَادًا ممدَّحًا، عظيمَ بيته وجليلَ أهله. ولَّاه أبو جعفرٍ الكوفةَ والبصرةَ مرتين، ووليها للهادي والرشيد، وقدم على الرشيد ¬

_ (¬1) في (خ): وخنت، والمثبت من المنتظم 8/ 349، والبداية والنهاية 13/ 572. (¬2) في المنتظم والبداية والنهاية: غادرة.

معزِّيًا له في أخيه موسى ومهنِّئًا له بالخلافة، فأنزله الرشيدُ وأكرمه وعظَّمه واحترمه، وفعل في حقِّه ما لم يفعلْه مع غيره، وزاد على ولايته كورَ فارسَ والبحرين وعُمان واليمامةَ والأهوازَ وكور دِجلة، ولم يجمعْ هذا لغيره، ولما أراد الخروجَ إلى البصرة شيَّعه الرشيدُ إلى كَلْواذى. وهو الذي زوَّجه المهديُّ ابنته، ونقلها إلى البصرة إليه، وكان له خاتمٌ من ياقوتٍ أحمرَ لم يُرَ مثله، فسقط ليلةً من يده، فطلبوه فلم يجدوه، فقال: أَطفئوا الشمع، ففعلوا فرأوه. وكان له خمسون ألفَ عبد، منهم عشرون ألفًا عِتاقة، وكانت به رطوبة، فكان يتداوى بالمِسك، يستعمل منه كلَّ يومٍ عشرين مثقالًا ويتركه في عُكَن بطنه، وكانت غلَّته في كلِّ يومٍ مئةَ ألفِ درهم، وكان يصعد المنبرَ في البصرة، وكان له لسانٌ فيأمر بالعدل والإحسانِ مع ظلمه، فيقول أهلُ البصرة: ألا ترون ما نحن فيه مع هذا الظالمِ الجائر وما يأمر به! فاجتمعوا إلى أبي سعيدٍ الضُّبَعي وقالوا: كلِّمه، فلما صعد المنبرَ قام إليه وقال: يا ابنَ سليمان، لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟ يا محمدَ بنَ سليمان، ليس بينك وبين أن تتمنَّى أنك لم تُخلَق إلَّا أن يدخلَ مَلَكُ الموتِ من باب بيتك. فخنقتْ محمدَ بن سمليمانَ العَبرةُ فلم يقدر أن يتكلَّم، فقام أخوه جعفرٌ إلى جانب المنبرِ فتكلَّم عنه، فأحبَّه النسَّاك حين خنقته العَبرةُ وقالوا: مؤمنٌ مذنب. وقدم عليه جماعةٌ من الشعراء (¬1)، فأقاموا ببابه مدَّةً ولم يصلوا إليه، فكتب إليه الخليلُ بن أحمد (¬2): [من الكامل] لا تقبلنَّ الشَّعرَ ثم تَعِيفه (¬3) ... وتنام والشعراءُ غيرُ نيامِ واعلم بأنَّهمُ إذا لم يُنصَفوا ... حكموا لأنفُسهمْ على الحكَّام وجنايةُ الجاني عليهمْ تنقضي ... وهجاؤهمْ باقٍ على الأيَّام فأَجازهم وأحسنَ إليهم. ¬

_ (¬1) في العقد الفريد 5/ 305، ومختصر تاريخ دمشق 6/ 61 أنهم أنشدوا جعفر بن سليمان أخاه. (¬2) قال ابن عساكر: وقد رويت هذه الأبيات لابن الرومي. اهـ. ورويت له أيضًا في زهر الآداب 2/ 646، وهي في ديوانه 6/ 2392 ضمن قصيدة. (¬3) في المصادر: تعقه.

ذِكرُ وفاته: لَمَّا احتضر كان رأسُه في حجر أخيه جعفرِ بن سليمان، فقال جعفر: واانقطاعَ ظهراه! فقال محمد: واانقطاعَ ظهرِ مَن يلقى الجبَّارَ (¬1) غدًا! يا ليت أمَّك لم تلدني، وليتني كنت حمَّالًا وأنِّي لم أكن فيما كنت فيه. وكانت وفاته بالبصرة في اليوم الذي توفِّيت فيه الخَيزُران ببغداد، وهو ابنُ إحدى وخمسين سنةً وأَشهُر. وقال ابنُ جَرير (¬2): بعث الرشيدُ رجلًا يصطفي ما خلَّف من الصامت، ورجلًا يقبض الكسوة والفُرُش، ورجلًا إلى الرقيق والدواب، ورجلًا إلى الطِّيب والجواهر، فأصابُوا له من المال ستِّين ألف ألف درهم، وأخرجوا ما كان يُهدى إليه، حتَّى الدهن والسمك، فوجدوهُ قد تغيَّر، فألقوه في الطرقات، فأنتنت الطُّرقات. وقال الصوليّ: إنَّ الرشيدَ فضَّ ما خلَّفه، فكان من العين ثلاثةَ آلاف ألف دينار، ولم يعترض الضياعَ ولا الدورَ ولا الجواهرَ ولا الفرشَ ولا الكسوةَ. قال الطبريّ: إنهم حملوا ما كان يصلحُ للخلافة، ولم يتركوا إلَّا الذي لم يصلح، فلمَّا وصلت السفن إلى بغداد، أمرَ الرشيدُ أن يُدْخَل ذلك خزانته، إلَّا المال -وكان ستين ألف ألف درهم- فإنَّه أمر بصكاك فكُتبت للندماء والمغنِّين، فأخذوا الجميع من السفن، ولم يدخل إلى بيت ماله منها درهمٌ ولا دينار (¬3). وكان له مئة ألف دابَّة ما بين فرشٍ وبغلٍ وجملٍ وحمار، ولم يَتْرُكْ أحدٌ من الأكاسرة وبني أمية وبني العباس وغيرهم مثلَ ما ترك، وكانت الهدايا تأتيه من الهند والسند والصين وكِرْمان، وفارس والأهواز، وخراسان وما وراء النهر، واليمن واليمامة، والحجاز والشام والمغرب، وغير ذلك. وقيل: إنَّ هارون اصطفى الجميعَ لنفسه، ولم يُعطِ ورثتَه شيئًا. وقيل: إنَّ هارون أخذَ منه عشرة آلاف فرس، وعشرة آلاف بغل، ومن كل صنفٍ ونوعٍ عشرة آلاف. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 62/ 199: الحساب. (¬2) في (خ): ما خلف. ولعله سهو، والكلام في تاريخ الطبري 8/ 237، وانظر المنتظم 8/ 351. (¬3) تاريخ الطبري 8/ 237.

هيلانة جارية الرشيد

ولما دُفن محمد بن سليمان خرجت جاريةٌ من جواريه، فوقفت على قبره وقالت: [من الكامل] أمسى التراب لمن هَوِيتُ مَبِيتا ... الْقَ الترابَ وقل له حُيِّيتَا إنَّا نحبُّك يا ترابُ وما بنا ... إلَّا كرامةُ من عليه حُثِيتَا (¬1) وقد أخرج الخطيبُ له حديثًا قال محمد بن سليمان: حدَّثني أبي، عن جدِّي الأكبر، يعني عبد الله بن عباس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "امسحْ على رأسِ اليتيم هكذا؛ إلى مُقَدَّمِ رأسِه، ومن له أبٌ؛ هكذا إلى مؤخَّر رأسِه" (¬2). هيلانة جاريةُ الرشيد كان شديد الحبِّ لها، وكانت قبلَه ليحيى بن خالد، وكان الرشيد قبل الخلافة يَمضي إلى دار يحيى، فلقيَتْهُ في ممرٍّ، فأخذت بكمِّه وقالت: ما لنا فيك نصيب؟ قال: وكيف السبيل إليك؟ قالت: تأخذُني من هذا الشيخ، فطلبها من يحيى، فوهبَها له، فغلبت عليه، وأقامت عنده ثلاث سنين، ثم ماتت، فوجدَ عليها وجدًا شديدًا، وقال فيها: [من السريع] قد قلت لَمَّا ضمَّنوك الثرى ... وجالت الحسرةُ في صدرِي اذهبْ فلا والله لا سرَّني ... بعدَك شيءٌ آخرَ الدهرِ وقال العباس بن الأحنف يرثيها: [من الكامل] يا مَنْ تباشَرت القبورُ بموتها ... قَصَدَ الزمانُ مَساءتي فرماكِ أبغي الأنيسَ فلا أرى لي مُؤنسًا ... إلَّا التردُّدَ حيث كنتُ أراكِ مَلِكٌ بكاكِ وطال بعدكِ حزنُه ... لو يستطيع بملكِه لفداكِ يحمي الفؤادَ عن النساءِ حفيظةً ... كيلا يحُلَّ حمى الفؤادِ سواكِ فأعطاه الرشيد أربعين ألفًا، وقال: لو زدتَ لزدناك، يعني عن كلِّ بيتٍ عشرةَ آلاف درهم (¬3). ¬

_ (¬1) المنتظم 8/ 352. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 215 - 216، ومحمد بن سليمان ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 4/ 138، ونقل عن العقيلي قوله: ليس يعرف بالنقل، وحديثه هذا غير محفوظ. ثم ذكر الذهبي الحديث وقال: هذا موضوع. (¬3) تاريخ بغداد 1/ 414 - 415، المنتظم 8/ 352 - 353.

السنة الرابعة والسبعون بعد المئة

السنة الرابعة والسبعون بعد المئة فيها وقعت العصبيَّةُ بالشام وثارت الفتن. وولَّى هارونُ إسحاقَ بن سليمان بن علي السند ومُكران، واستقضَى هارون يوسفَ بن أبي يوسف القاضي، وأبوه في الحياة. وفِيها بنى الرشيد قصرًا بقردَى وبازَبْدى، فقال مروان بن أبي حفصة: [من الطويل] بقِردَى وبازَبْدى مصيفٌ ومَرْبَعُ ... وعذبٌ يحاكي السلسبيل بَرُودُ وبغدادُ ما بغدادُ أمَّا ترابُها ... فكحلٌ وأمَّا حرُّها فشديدُ وأغزى هارونُ الصائفةَ عبد الملك بن صالح بن علي. وحجَّ هارون على طريق البصرة، ودخلَها ووسَّعَ في جامعها من ناحية القبلة، وجعل طريقَه إلى المدينة، ففرَّق في أهلها أموالًا كثيرةً، وكان قد وقعَ بمكَة وباءٌ، فلم يدخلْها إلَّا يومَ التروية، وطاف طواف القدوم، وخرجَ إلى عرفات، ودخلها فطاف طواف الزيارة وقفلَ راجعًا، وكان قد أفردَ الحجّ (¬1). روح بن حاتم ابن قَبيصة بن المهلَّب بن أبي صُفْرة كان وأخوه من وجوه دولة بني العباس، ولما مات يزيد (¬2) وليَ إفريقيَّة روح. رآه رجلٌ وهو نائمٌ على باب أبي جعفر في الشمس، فقال: يا روح طال وقوفُك في الشمس، فقال: إنَّما وقفت فيها ليطولَ مقامي في الظل. وبلغ أبا جعفر فولَّاه البصرة (¬3). منصور مولى عيسى بن جعفر بن المنصور، ويلقب بزلزل، كان مغنِّيًا، ويُضرَب به المثل في ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 239، والمنتظم 9/ 3. (¬2) يعني يزيد بن حاتم أخاه. (¬3) انظر ترجمته في تاريخ دمشق 6/ 294 - 296، وتاريخ الإسلام 4/ 620.

الضرب بالعود، وعَمل ببغداد بركةً للسبيل، فقال إبراهيم بن محمد بن عرفة المعروف بنفطويه: [من الطويل] لو أنَّ زهيرًا وامرأ القيسِ أبصرَا ... مَلَاحةَ ما تحويهِ بركةُ زَلْزَلِ لما وَصفا سَلْمى ولا أُمَّ سالمٍ ... ولا أكثرا ذكرَ الدَّخُولِ فحَوْمَلِ (¬1) وقال إبراهيم الموصلي: قال لي زلزل: عندي جاريةٌ قد علَّمتها الغناء، وإنَّ من صفتها كذا وكذا. فكنتُ أشتهي أن أراها وأستحي أن أسألَه، فلمَّا مات عرضوها للبيع، فصرتُ إلى ورثته فطلبتُها، فأخرجوها، وإذا جاريةٌ كاد الغزال يكونها، لولا ما تمَّ منها ونقص منه، فقلت لها: غنِّي، فغنَّت وعيناها تذرفان، ثم تنفست وشهقت، وظننتُ أنَّ نفسَها قد خرجت، فقمتُ فدخلتُ على الرشيد، وذكرتُ له حالها، فأمرَ بإحضارها وقال لها: غنِّي، فغنَّت وجعلَ البكاءُ يغلبُها، وهي تمنعه إجلالًا له، فرقَّ لها وقال: أتحبين أنْ أشتريكِ؟ فقالت: يا أميرَ المؤمنين، لقد (¬2) عرضتَ عليَّ ما تقصرُ الآمالُ عنه، ولَمَّا خيرتَني وجبَ عليَّ نصحُك، والله لا يشتريني أحدٌ بعد زلزل فِينتفعُ بي، وليس من الوفاء أنْ ينتفع بي أحدٌ بعده، فزادَ رقَّةً عليها، وقال غنِّي، فغنَّت: العينُ تُظهِر كتماني وتبديهِ ... والقلبُ يَكتُمُ ما ضَمَّنتُهُ فيهِ وكيف يَنْكَتِمُ المكنونُ بينهما ... والعينُ تظهرهُ والقلبُ يخفيهِ فاشتراها وأعتقَها، وأجرى عليها إلى أن توفيت. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد / 401 - 402. (¬2) في (خ): لو. والمثبت من المنتظم 9/ 6.

السنة الخامسة والسبعون بعد المئة

السنة الخامسة والسبعون بعد المئة فيها عقدَ الرشيدُ البيعةَ لابنه محمد بن زبيدة، وقدَّمه على المأمون، وكانَ المأمونُ أكبرَ منه بأشهر، ولمحمدٍ يومئذٍ خمسُ سنين، وسببه أنَّ جماعة من بني العباس مدُّوا أعناقَهم إلى الخلافةِ بعد هارون؛ لأنَّه لم يكن له وليُّ عهد، فجاء عيسى بن جعفر بن المنصور إلى يحيى بن خالد (¬1)، فقال له: ألا تسعى في البيعةِ لابن أختي؟ فقدْ تطاولت أعناقُ بني هاشم إلى الخلافة، فأشارَ يحيى (¬2) على هارون بذلك، فعقدَ العقدَ من بعده لمحمد، وسمَّاه الأمين، وبايعَ له القوَّادُ والجند ببغداد، فقال سلم الخاسر: [من الكامل] قد وفَّقَ الله الخليفةَ إذْ بَنى ... بيتَ الخلافة بالأغرِّ الأزهرِ فهو الخليفةُ عن أبيه وجدِّه ... شَهِدا عليه بمنظرٍ وبمخبرِ قد بايعَ الثقلانِ للمهدي الهدى (¬3) ... بمحمدِ بن زبيدةَ ابنةِ جعفرِ ولما عقدَ الرشيدُ البيعةَ لمحمد أنكرَ ذلك بنو هاشمٍ لصغرِ سنِّه. وقيل: إنَّ عيسى بن جعفر قال للفضل بن يحيى وقد وليَ خُراسان: أَنشدُكَ الله لما عملت في البيعة لابن أختي، فإنَّه ولدُك، وخلافتُه لك، فوعدَه أن يفعل، وتوجَّه الفضلُ إلى خراسان ففرَّق الأموال في أهلها، وبايعَ لمحمد ولقَّبه الأمين، فقال الشاعر: [من البسيط] قد وكَّدَ الفضلُ عقدًا لا انتقاضَ له ... لمصطفًى من بني العباس مُنتخبِ ببيعةٍ لوليِّ العهدِ أحكَمَها ... بالنصحِ منهُ وبالإشفاقِ والحدَبِ وبلغ الرشيدَ أنَّ أهل خراسانَ والمشرق قد بايعوا محمد، فكتبَ إلى الآفاق بالبيعة له، وأخذَها على أهل بغداد وبني هاشم والخواص والعوام (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في (خ). وفي تاريخ الطبري 8/ 240، والمنتظم 9/ 10: الفضل بن يحيى. بدل: يحيى بن خالد. (¬2) الصواب: الفضل. انظر التعليق السابق. (¬3) كذا، وفي تاريخ الطبري 8/ 240: قد بايع الثقلان في مهد الهدى. (¬4) تاريخ الطبري 8/ 240 - 241.

الليث بن سعد

وكان الرشيد يقول: إني لأتعرف في عبد الله حزمَ المنصور، ونسكَ المهدي، وعزَّةَ نفسِ الهادي، ولو أشاء أن أنسبه إلى الرابعة فيَّ لنسبتُه، والله إنِّي لأرضى سيرتَه، وأحمدُ طريقتَه، وأستحسن سياستَه، وأرى قوَّته وذهنَه، وآمنُ ضعفَه ووهَنَه، وإنِّي لأقدِّمُ محمَّدًا عليه، وأعلمُ أنَّه منقادٌ لهواه، مبذِّرٌ لما حوته يداه، مشاركٌ للنساءِ والإماء في رأيه، ولولا أم جعفر وميل بني هاشم إليه لقَدَّمتُ عبد الله عليه، فقال: [من الطويل] لقد بانَ وجهُ الرأي لي غيرَ أنَّني ... غُلِبْتُ على الأمر الذي كان أحزَما فكيفَ يُردُّ الدَّرُّ في الضرعِ بعد ما ... توزَّعَ حتى صار نهبًا مقسَّمَا أخافُ التواءَ الأمرِ بعد استوائِه ... وأنْ يُنْقَضَ الحبلُ الذي كان أُبرِمَا (¬1) وفيها غزا الصائفة عبدُ الملك بن صالح، فأصابَهم برد شديدٌ سقطَت منه أيديهم وأرجلُهم. وحجَّ بالناس الرشيد. فصل وفيها توفي اللَّيثُ بن سعد ابن عبد الرَّحمن، أبو الحارث الفَهْميُّ المصري، مولى خالد بن ثابت الفهمي، وقيل: مولى قيس. إمامُ أهل مصر وقاضيهم وفقيهُهم وعالمُهم وجوادُهم. من الطبقة الخامسة من أهل مصر، ولد سنة ثلاثٍ أو أربعٍ وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان ثقةً كثيرَ الحديث صحيحَه، وكان قد اشتغلَ بالفتوى في زمانه بمصر، وكان سريًّا من الرجال نبيلًا سخيًّا، له ضيافة. وولد بقريةٍ أسفلَ مصر يقال لها: قَرْقَشَنْدَة، وكان يَفْضُلُ على الإخوان سخاءً، وعقلًا، وشجاعةً، وحلمًا، وجودًا، وفقهًا، وعلمًا بالقرآن والفقه والحديث والشعر وأيَّام العرب (¬2). وقال أبو صالح: كنَّا على باب مالك بن أنس، فامتنعَ علينا، فقلنا: ليسَ يشبهُ هذا صاحبنا، فسمعَ مالك كلامنا، فأذن لنا، فدخلنا عليه، فقال: من صاحبكم؟ فقلنا: ¬

_ (¬1) المنتظم 9/ 10. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 241، والمنتظم 9/ 10 - 11.

الليث بن سعد، فقال: تشبهوني برجلٍ كتبنا إليه في قليل عصفر نصبغُ به ثيابنا، فبعثَ إلينا ما نصبغُ به ثيابنا وثياب صبياننا وثياب جيراننا (¬1)، وبعنا الفضلةَ بألف دينار. وقال شعيبُ بن الليث: خرجتُ مع أبي حاجًّا، فقدمَ المدينة، فبعثَ إليه مالك بن أنس بطبق فيه رطب، فجعلَ في الطبقِ ألفَ دينار وردَّه إليه. وكان الليث يستغلُّ كلَّ سنةٍ عشرينَ ألف دينار -وقيل: ثمانين ألف دينار- وكان يفرِّقُها في العلماء والقُصَّاد، وما وجبَ عليه زكاةٌ قط. وأعطى ابنَ لهيعة ألف دينار، ومنصورَ بن عمار ألفَ دينار، وجاءت إليه امرأةٌ بسُكُرُّجة، فقالت: يا ابا الحارث، إنَّ لي ابنًا عليلًا ويشتهي عسلًا، فقال الليث: يا غلام، أعطِها مرطًا من عسل. والمرطُ مئة وعشرون رطلًا. وأقام الليث عشرين سنة لا يتغدَّى ولا يتعشَّى إلا مع الناس، يطعمهم الهرايسَ والحلوى. وولي القضاءَ بمصر ثلاثينَ سنة، لم يستحلَّ أنْ يغرسَ ريحانةً يشمُّها. وكان يُطعِمُ في كلِّ يوم ثلاثَ مئة مسكين، ويبعثُ إلى مالك بن أنس في كلِّ سنة بخمس مئة دينار (¬2). وقال منصور بن عمار: قدمتُ مصر، فتكلَّمت في جامعها، فإذا رجلانِ قد وَقَفا على الحلقة فقالا: أجب الليث بن سعد، فقمتُ ومضيتُ معهما، فدخلتُ عليه، ولم أكن رأيته، فقال: أنت المتكلِّم في المسجد؟ قلت: نعم، قال: ردَّ عليَّ الكلامَ الذي تكلَّمت به، قال: فأخذت في ذلك المجلسِ بعينه، فرقَّ وبَكى حتَّى رحمتُه، ثم قال: من أنت؟ ومن أين أتيت؟ قلت: من بغداد، وأنا منصور بن عمار. قال: أبو السري؟ ¬

_ (¬1) كذا، وفي تاريخ دمشق 60/ 95 (طبعة مجمع اللغة): نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ إلينا ما صبغنا به ثياب صبياننا وصبيان جيراننا. (¬2) في تاريخ دمشق 60/ 95: كان الليث بن سعد يصل مالك بن أنس بمئة دينار في كل سنة، فكتب إليه أن عليَّ دينًا، فبعث إليه بخمس مئة دينار.

قلت: نعم. قال: الحمدُ لله الذي لم يمتني حتَّى رأيتُك، فدفعَ إليَّ ألفَ دينار، وقال: صنْ هذا الكلام أنْ تقف به على أبوابِ السلاطين، ولا تمدحنَّ أحدًا مَن المخلوقين بعد مدحتك لربِّ العالمين، ولكَ عليَّ في كل سنة مثلها، ولا تعلم ابني شعيبًا فتهونَ عليه، فقلت: يرحمك الله، إن الله قد أحسن إليَّ وأنعم عليَّ، فقال: لا تردَّ عليَّ شيئًا أصلُك به، ثم قال: لا تبطئ علي، فأتيتُه في الجمعة القابلة، فقال: اذكر شيئًا، فذكرت، فبكَى كثيرًا، ودفع إليَّ خمس مئة دينار كانت تحت وسادته، فقلت: أريد الحج فقال: إذا عزمت فعد إلي، فأتيتُه فودعته، وتكلَّمت فبكَى بكاءً كثيرًا، وأعطاني ثلاثَ مئة دينار وأَربعين ثوبًا، وقال: هذه بسبب إحرامِك وأصحابك، ودفعَ إليَّ الجاريةَ التي حملت الثياب، فأخذتُها. قال أبو نعيم: وأعطاه شعيب بن الليث ألفَ دينار إلا عشرة (¬1)؛ لئلَّا يساوي أباه في العطية. وكان الرشيدُ قد حلفَ بطلاقِ زوجته زبيدة أنَّه من أهلِ الجنة، فاستفتَى فقهاءَ العراق فلم يجد عندهم فَرَجًا، فاستقدَم الليث وسألَه بمحضر من الفقهاء قال: يا أمير المؤمنين أخلني، فأخلاه، فقال: هل نهيتَ نفسك عن هواها قط؟ قال: نعم، فقرأ الليث: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬2) [النازعات: 40 - 41]، فقال هارون: أحسنت، ثم أعطاهُ الأموال والتُّحف والخلع، وكان على رأس هارون خادمٌ اسمه لؤلؤ، فقال: وهذا، فأعطاه إيَّاه، وبعثت إليه زبيدة بأضعاف ذلك. وقال سعيد الآدم: قال الليث بن سعد: اكتب لي أسامي من يلازم المسجد وليس له بضاعةٌ ولا غلة، فأخذتُ القُنْدَاق (¬3) وكتبتُ فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قلت: فلان بن فلان، وفلان بن فلان، ولم أكتب شيئًا، ثم نمت، فأتانى آتٍ في منامي فقال: ويحك يا سعيد، تأتى إلى قومٍ عاملُوا الله سرًّا فتكشفهم لآدميّ؟ مات اللَّيث ¬

_ (¬1) في حلية الأولياء 7/ 322. إلا دينارًا. (¬2) في حلية الأولياء 7/ 323 أنه قرأ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]. (¬3) القُنْداق: صحيفة الحساب. لسان العرب (قندق).

وماتَ شعيب، أليس مرجعُهم إلى الذي عاملوه؟ فقمت من منامي وبكيت بكاءً شديدًا، فلما طلعَ الصباح دخلتُ على الليث والقنداق في يدي، فلمَّا رآني تهلَّل وجهُه، فناولتُه القنداق، وليس فيه شيءٌ سوى البسملة فقط، فقال لي: ما الخبر؟ فأخبرته، فصاح صيحةً عظيمةً، بحيثُ اجتمع عليه الخلق، ثم غشي عليه، ثم أفاقَ وهو يبكي ويقول: صدق؛ مات الليث، ومات شعيب، أليس مرجعهم إلى الذي عاملوه (¬1)؛ وكان سعيدٌ من الأبدال. ذكر وفاته: مات في شعبان لأربعَ عشرة خلت منه سنة خمس وسبعين ومئة، وقيل: سنة أربعٍ وسبعين، وبلغ اثنتين وثمانين سنة. أسند عن خلقٍ من التابعين حتى قيل: إنَّه أدرك نيِّفًا وخمسين من التابعين، وروى عنه جمٌّ غفير، وأثنى عليه الأئمة. وقال الشافعيُّ رحمه الله: ما فاتني أحدٌ تأسَّفت عليه مثل ما أسفت على الليث بن سعد وابن أبي ذئب. واتفقوا على صدقِه وأمانتِه وثقته وفضله وزهده وكرمه، حتى قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: كانَ الليثُ كثيرَ العلم، صحيحَ الرواية، ثبتًا ثقةً. وكان يفضِّله على أقرانه من الأئمة. واجتمعَ الليثُ بالمنصور في البيت المقدس، فقال: الحمدُ الله الذي جعلَ في رعيَّتي مثلك، ولقد سرَّني ما رأيت من سداد عقلك، وإني أريدُ أن أقلِّدك مصر، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنِّي من الموالي، وأنا ضعيف، قال: فأشر عليَّ لمن أقلدها؟ فقال: لعثمان بن الحكم الجُذَامي، له صلاحٌ وعشيرة، فبلغ ذلك عثمان، فعاهدَ الله أن لا يكلِّم الليث، فلم يكلِّمه حتى مات رحمة الله تعالى عليه. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 14/ 534، وتاريخ دمشق 60/ 99، وليس فيهما أنه غشي عليه.

السنة السادسة والسبعون بعد المئة

السنة السادسة والسبعون بعد المئة فيها ظهر يحيى بنُ عبد الله بن حسن بن حسن بالدَّيلم، وقويت شوكتُه، واستفحلَ أمره، وجاءه الناس من الأمصار، فاشتدَّ ذلك على هارون، فجهَّز إليه الفضلَ بن يحيى بن خالد، وولَّاه طبرستان وإرمينية وأذْرَبيجان ودنباوند والجبال، فسارَ في خمسين ألفًا من صناديد القوَّاد (¬1)، ومعه الأموال والخزائن، وخرج إليه الشعراء والقصَّادُ، فأعطاهم فأكثر، وسارَ إلى الديلم، وكاتب يحيى ورفق به واستماله وناشدَه الله في نفسه، وحذَّره ما جرى على أهله، ونزلَ الفضل بالطالقان، والرسلُ تتردَّدُ بينه وبين يحيى، وجعل الفضل يكاتبُ صاحبَ الديلم، وجعلَ له ألفَ ألف درهم؛ على أنْ يُسهِّلَ خروجَ يحيى إلى ما قبله، وحُمِلت إليه، فأجابه يحيى إلى الصلح، على أن يكتبَ له هارون كتابًا بخطّه، فكتب [الفضل بن] يحيى إلى هارون، فسُرَّ بذلك وأجابَه، وكتبَ الكتاب بخطه، وأشهدَ عليه القضاةَ والفقهاءَ وجِلَّة بني هاشم وأشرافهم، كعبد الصمد بن عليّ، والعباس بن محمد، [ومحمد] (¬2) بن إبراهيم، وموسى بن عيسى وأشباههم، ووجَّه به مع هدايا وألطاف، وعَظُم موقعُ الفضل عنده، فلمَّا وصل الكتاب إلى الفضل بعثَ به إلى يحيى، فقدمَ عليه يحيى، فقدمَ به إلى بغداد، فلقيهُ الرشيدُ بكلِّ ما أحبّ، وأمرَ له بمالٍ كثيرٍ، وأنزلَه فِي منزل يحيى بن خالد، وأمرَ الناس بالتسليم عليه، وأكرمَه الرشيدُ غايةَ الإكرام، فقال مروان بن أبي حفصة: [من الطويل] ظَفِرتَ فلا شَلَّتْ يدٌ برمكيَّةٌ ... رَتَقْتَ بها الفَتْقَ الذي بين هاشمِ على حينَ [أعيا] الرَّاتقينَ التئامُه ... فكَفُّوا وقالوا ليسَ بالمُتلائمِ فأصبحْتَ قد فازتْ يداكَ بخُطَّةٍ ... من المَجْدِ باقٍ ذكرُها في المواسمِ من أبيات. وقال أبو ثُمامة: [من الكامل] ¬

_ (¬1) كذا في (خ). وفي تاريخ الطبري 8/ 242: في خسين ألف رجل، ومعه صناديد القواد. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 243.

للفضلِ يومُ الطَّالقانِ وقبلَهُ ... يومٌ أناخَ به على خاقانِ ما مثلُ يومَيه اللذينِ تواليا ... في غرزتين تواليا سيَّانِ (¬1) سدَّ الثغورَ وسدَّ (¬2) ألفة هاشمٍ ... بعد الشَّتاتِ فشَعْبُها مُتدانِ عصمَتْ حكومتُه جماعةَ هاشمٍ ... من أن يجرَّدَ بينها سيفانِ تلكَ الحكومةُ لا التي من أجلها ... عظُم المِرَا وتفرَّق الحكمانِ فأعطاه الفضل مئة ألفِ درهم. ولما قُدِم بيحيى من الديلَم قال له عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن: يَا عمّ، أخبرني خبرَك، فقال: يَا ابن أخي، والله إنْ كنتُ إلَّا كما قال حُيي بن أخطب: [من الطَّويل] لعمرُك ما لامَ ابنُ أخطبَ نفسَهُ ... ولكنَه من يخذُلِ الله يُخذَلِ يجاهدُ حتَّى أبلغَ النفسَ عذرَها ... وقلقلَ يبغي العزَّ كلَّ مُقَلقلِ ثم إن الرشيد غضب على يحيى بن عبد الله وقيَّدَه وكبَّله بالحديد بعد الإيمانِ والمواثيق. وفيها هاجت الفتنة بالشَّام بين النزاريَّة واليمانية، ورأسُ النزارية أبو الهيذام، وكان عاملُ الرشيد على الشَّام موسى بن عيسى، وقُتِل من الفريقين جماعةٌ كثيرة، فولَّى الرشيدُ موسى بن يحيى بن خالد، فسار إليها في القوَّاد والعساكر فأصلحَ بينهم، وأقدَمهم بغداد، فردَّ الرشيد الحكم فيهم إلى يحيى بن خالد، فعفا عنهم، فقال إسحاق بن حسان الخُريمي (¬3) من أبيات: [من الكامل] فلكل ثغرٍ حارسٌ من قلبهِ ... وشعاعُ طَرْفٍ ما يُفَتَّرُ سامي حتَّى تَنَخْنَخَ ضاربًا بجِرَانِه ... ورَسَتْ مَراسيهِ بدارِ سلامِي وفيها عزلَ الرشيدُ موسى بن عيسى عن مصر، وولَّاها جعفر بن يحيى بن خالد. وسببُه أنَّ الرشيد بلغه أن موسى بن عيسى يريد أن يخلعه، فقال: والله لا عزلتُه إلَّا ¬

_ (¬1) كذا في (خ). وفي تاريخ الطبري 8/ 243: في غزوتين توالتا يومان. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 243: وردَّ. (¬3) في (خ): الحرمي. وفي تاريخ الطبري 8/ 251: الخزيمي. والمثبت هو الصواب. انظر تبصير المنتبه 2/ 500.

إبراهيم بن صالح

بأخسّ مَن على بابي، فقال لجعفر بن يحيى: ولِّ مصر أحقر من على بابي وأخسّ، فنظر، فإذا عمر بن مِهْران كاتب الخيزران، وكان مشوَّه الخلقة، يلبس ثيابًا خسيسة، ويركبُ بغلًا ويردفُ غلامه خلفه، فقال: أتولَّى مصرَ على أن يكون إذني إذا صلحت البلاد، فقيل له: نعم، فسار، فدخلَها، وخلفَه غلامٌ على بغل الثقل (¬1)، فقصدُوا دار موسى بن عيسى، فجلسَ في أُخرياتِ النَّاس، فلمَّا تقوَّضَ المجلسُ قال له موسى: ألكَ حاجة؟ فرمى إليه بالكتاب. قال: لعن الله فرعون حيثُ قال: أليسَ لي ملك مصر، ثم سلم إليه مصر، فمهَّدهَا ورجعَ إلى بغداد وهو على حاله. وفيها عزل الرشيدُ الغطريفَ بن عطاء عن خُراسان، وولَّاها حمزة بن مالك بن الهيثم الخزاعيّ، وكان حمزةُ يلقَّب بالعروس (¬2). وفيها عقدَ الرشيدُ لابنه عبد الله المأمون العقدَ بعد أخيه الأمين، وولَّاه المشرق، وكتب بينهما كتابًا، وعلَّقه في الكعبة (¬3). وحج بالناسِ سليمان بن المنصور، وحجَّت في هذه السنة زُبيدة، وأمرت ببناءِ المصانع والبرك. فصل وفيها توفِّي إبراهيم بن صالح ابنِ عليّ بنِ عبد الله بن عباس. وليَ دمشق وفلسطين ومصر للمهدي، والجزيرةَ للهادي، وكان من وجوهِ بني العباس، وكان جوادًا ممدحًا، وفدَ عليه عبَّاد بن عبَّاد الخوَّاص، فقال له: عظني، فقال: إنَّ أعمال الأحياءِ تُعْرَضُ على أقاربهم من الموتى، فانظرْ ماذا يعرضُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عملك، فبكَى إبراهيمُ حتَّى سالت دموعُه على لحيته (¬4). ¬

_ (¬1) نص الكلام -كما في تاريخ الطبري 8/ 253 - : فدخل عمر بن مهران مصر على بغل، وغلامه أبو دُرَّة على بغل ثقل. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 252، والمنتظم 9/ 19. (¬3) المنتظم 9/ 20. (¬4) تاريخ دمشق 2/ 447 - 448 (مخطوط).

إبراهيم بن علي

إبراهيم بن علي ابن سَلمة بن عامر بن هَرْمة، أبو إسحاق الفهريّ الشَّاعر. كان الأصمعيّ يقول: خُتِمَ الشعرُ بابن هَرْمة، هو آخر الحُجَج. وقدم رجلٌ من أهل الشَّام المدينة، قال: فأتيتُ منزل ابن هَرْمة، فإذا ببنيةٍ له صغيرة تلعبُ بالطين، فقلت لها: ما فعل أبوك؟ قالت: وقد إلى بعض الأجواد، فما لنا به علم منذ زمن. قال: فقلت: أنا ضيفُك فانحري لي ناقةً، قالت: والله ما عندنا ناقة. قلت: فشاة، قالت: لا والله ما عندنا شاة. قلت: فدجاجة، قالت: والله ولا دجاجة. قلت: فبيضة، قالت: والله ولا بيضة. قلت: فباطل ما قال أبوك: [من المنسرح] كم ناقة قد وجأتُ منحرَها ... بمُستَهل الشؤبوب أو جَمَلِ قالت: فذاك الفِعال من أبي هو الذي أصارنا إلى أن ليسَ عندنا شيء (¬1) صالح بن بشر القارئ أبو بشر، من الطَّبقة الخامسة من أهل البصرة. قال عبد الرَّحْمَن بن مهدي: كنت إذا ذكرتُ صالحًا المُزي لسفيان الثَّوريّ يقول: القَصص القصص، كأنَه يكرهه، وكانت إذا كانت له حاجةٌ بكَّر فيها، فبكَّر يومًا وبكَّرتُ معه، فجعلتُ طريقنا على مسجد صالح، فقلتْ يَا أَبا عبد الله، ندخلُ فنصلِّي في هذا المسجد، فدخلنَا فصلَّينَا، وكان يوم مجلس صالح، فلمَّا صلَّوا ازدحم النَّاس، فبقينا لا نقدرُ أن نقوم، وتكلَّم صالح، فبكَّى سفيان بكاءً شديدًا، فلما فرغَ وقام قلت له: يَا أَبا عبد الله، كيف رأيتَ هذا الرَّجل؟ فقال: ليس هذا بقاصّ، هذا نذير قوم. وقال عفان بن مسلم: كنَّا نأتي مجلسَ صالح وهو يقصّ، وكان إذا أخذ في قَصصه كأنَّه رجلٌ مذعورٌ من كثرة حزنه وبكائه، يفزعكَ أمرُه، كأنَّه ثكلى، وكان شديدَ الخوف من الله تعالى، كثيرَ البكاء. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 46 - 50.

وكان صالح يقول: للبكاء دواعٍ؛ الفكرة في الذنوب، فإن أجابت القلوب، وإلَّا نقلتَها إلى الموقف وتلك الشدائدِ والأهوال، فإن أجابت إلى ذلك، وإلَّا فاعْرِض عليها التقلُّبَ في أطباق النيران، ثم صاح وغُشيَ عليه، وتصايحَ النَّاس من نواحي المجلس. وعزَّى رجلًا على ابنه فقال: لئن كانت مصيبتك (¬1) لم تُحدِث لك موعظةً من نفسك، فمصيبتك في نفسك أعظمُ من مصيبتك في ابنك. وأقدمه المهديُّ إلى بغداد، فدخلَ عليه وهو راكبٌ على حِماره إلى بساط المهدي، فقال لولديه موسى وهارون -وهما وليا العهد-: قوما إلى عمِّكُما فأنزلاه، فلمَّا انتهيَا إليه، أقبلَ صالح على نفسه وقال: ويلك يَا صالح، لقد خبتَ وخسرتَ إنْ كنت عملتَ لهذا اليوم. وقال صالح: جاورتُ بمكَّة، فبينا أنا بالمسعى إذا برجلٍ قابضٍ على يد جارية حبشيَّة، وهو ينادي عليها: هل من زائدٍ على عشرة دنانير، مع البراءة من كل عيب؟ فنظرتُ إلى جاريةٍ مغمضة العينين، وعليها أنوار المعرفة، فقلت: وما عيبُها؟ قال: لا تأنسُ بأحدٍ، وتصومُ النهار، وتقوم الليل، وتبكي دائمًا، فقلتُ في نفسي: ما أحسنَ هذه العيوب، فاشتريتُها، وأتيتُ بها المنزل، فلمَّا استقرَّ بها الجلوس فتحت عينها وقالت: يَا سيدي الصغير, من أثبت؟ قلت: من العراق، قالت: مرحبًا وأهلًا معدن الزهاد والعُبَّاد، قلت: فمن تعرفين منهم؟ قالت: أعرفُ بشرًا الحافي ومعروفًا الكرخي ورابعة العدوية، وعدَّدت جماعةً، قلت لها: وكيف عرفتيهم؟ قالت: ها أولئك هم الأدلَّاء وأطبَّاء القلوب، فكيف لا أعرفهم؟ ثم قالت: فما الاسم؟ قلت: صالح، قالت: أبو بشر القارئ؟ قلت: نعم، قالت: ما كان أشوقني إلى لقائك، أسألك بالله أن تقرأَ عليّ، فأخذتُ في الاستعاذة، فما أتممتُها حتَّى غُشي عليها، ثم أفاقت، فقالت: اقرأ، فقرأتُ البسملَة، فغُشي عليها، فلمَّا أفاقت قالت: هذا على الصفة، فكيف على المعاينة؟ ثم قرأتُ: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} الآيات [غافر: 71 - 72] فقامت قائمة وصاحت: ولم هذا، ¬

_ (¬1) في (خ) مصيبته. والمثبت من صفة الصفوة 3/ 351.

يحيى بن عبد الله

وما قبَّلنا صليبًا ولا شددنا زنارًا، ومن قبل أن يُقْذَف بنا في بطون أمهاتنا وأصلابِ آبائنا اعترفنَا لك بالتوحيد؟ ثم قرأتُ: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} فصاحت: وأين شفيعُ الكلِّ عنهم؟ ثم غُشي عليها، فلمَّا أفاقت قالت: اقرأ، فقرأت: {يَطُوفُ عَلَيهِمْ ولْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)} فقالت: أي وحياتك، تعبُوا قليلا، واستراحوا طويلًا، ثمَّ بكَتْ وقالت: يَا سيدي الصغير, ألكَ حاجةٌ إلى سيِّدي الكبير؟ قلت: لا تفعلي، ودعيني أتلذَّذُ بخدمتك، فقالت: لا بدّ، قد اشتقتُ إليه، ثم مدَّت يديها ورجليها واستقبلَت القبلة وماتت. وتوفِّي صالحٌ سنة ست وسبعين، وقيل: اثنتين وسبعين ومئة. أسند عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، وخلق كثيرٍ من التَّابعين، ورَوى عنه عفَّان بن مسلم، واتفقوا على زهده وورعه وصلاحه. وكان صالح مولًى لامرأةٍ من بني مُرَّة، فأعتقته، وكان حسن الصوت بالقراءة، واسم أم صالح ميمونة، خراسانية (¬1). يحيى بن عبد الله ابن حسن بن حسن بن عليّ - عليه السلام -، من الطبقةِ الخامسة من أهل المدينة. قال محمَّد بن سماعة: بعث الرشيدُ إلى محمَّد بن الحسن والحسن بن زياد، فدخلا عليه، وأتي برجلٍ من آل أبي طالب يقال له: يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن، وأحضرَ السيفَ والنِّطعَ، والطالبيُّ يناشدُه الله ويقول: أينَ أمانُكَ؟ فأمرَ بدفع كتابه إلى محمَّد بن الحسن، فتأمَّله وقال: أمانٌ صحيح -يرفَعُ بها صوته- ودَمُ هذا الرَّجل حرام، فتغيَّر وجهُ هارون وقال: هذا أمانٌ لم أكتبه، وإنما أمرتُ من كتبه، وأنت تقول: إذا أمرَ إنسانٌ إنسانًا أن يَكتبَ كتابًا لم يلزمه حتَّى يكتبَه بنفسه، فقال محمَّد: إذا كان الأمرُ من العامَّة فنعم، وإن كان من الخاصَّة لزمَه ويحنث؛ لأنَّ كتابَ السلطان هو ما كُتِبَ بأمره، فقال له هارون: إنَّما يقوِّي هذا وأمثاله في الخروج علينا أَنْتَ وأمثالُك، ثم رَمى محمدًا ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في حلية الأولياء 6/ 165، وتاريخ بغداد 10/ 415، والمنتظم 9/ 24، وصفة الصفوة 3/ 350، وتهذيب الكمال 13/ 16.

بالدواة فشجَّه، فسال الدمُ على وجهه، فقال محمَّد: دمُه حرام، دمُه حرام، فرمَى بالكتاب إلى الحسن بن زياد، فنظرَ فيه وقال بصوت خَفيّ: أمانٌ صحيح، ودخلَ أبو البختري القاضي، فرمى إليه هارون بالكتاب، فنظرَ فيه، وقال: ليس هذا بأمانٍ صحيح، ودمُ هذا حلال، فاقتله ودمُه في عنقي، فصاح الطالبيُّ: يَا هارون، يقول لك محمَّد والحسن، وهما عالما الدنيا: هذا أمان صحيح، ولا تقبلُ منهما، ويقول لك هذا الفاسق الكذَّاب المدَّعي نسبًا لم يقره أبوه عليه وتسمعُ منه؟ ! وأمر هارون بقتل الطالبيِّ فقتل، وقام محمدٌ فخرج، قال الحسن بن زياد: فجعلَ يبكي في الطريق وينتحب، فقلت: أتبكي من الشجَّة؟ فقال: لا والله، بل على قربي منهم وتقصيري في حقِّ الطالبيّ، وحيث لم أحقق في الحال فيه مع أبي البختري، قال: فقلت: لقد قمتَ مقامًا لم يقم أحدٌ على وجه الأرض أشرفَ منه. وقال ابن سعد: يحيى (¬1) رجعَ إلى المدينة، ومات بها، وأمه قُرَيبة بنت ركيح (¬2) بن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطَّلب بن أسد، فولدَ يحيى محمدًا، وأمُّهُ خديجة بنت إبراهيم بن طلحة بن عمر بن عبيد (¬3) الله بن معمر. * * * ¬

_ (¬1) في (خ): بن يحيى. وانظر طبقات ابن سعد 7/ 541. (¬2) في (خ): رابح. والمثبت من طبقات ابن سعد 7/ 541، ونسب قريش ص 54. (¬3) في (خ): عبد الله. والمثبت من طبقات ابن سعد 7/ 541، ونسب قريش ص 55.

السنة السابعة والسبعون بعد المئة

السنة السابعة والسبعون بعد المئة فيها غزا الصائفة عبدُ الرَّزّاق بن عبد الحميد التغلبي. وولَّى هارون مصرَ إسحاقَ بن سليمان بن عليّ، وعزل عنها جعفر بن يحيى، وعزل حمزة بن مالك عن خراسان وولاها الفضلَ بن يحيى مع سجستان والري. وهبَّت ريحٌ شديدةٌ، وجاءت ظلمة عظيمةٌ فيها حمرة، وذلك ليلةَ الأحد لأربع بقين من المحرم، ثم عادت ليلة الأربعاء لليلتين بقيتا منه، ثم عادتْ لليلة خَلَتْ من صفر (¬1). وتحرَّكت الخوارجُ على هارون بالجزيرة. وحجَّ هارونُ بالنَّاس. شَريك بن عبد الله ابن أبي شريك، أبو عبد الله القاضي النخَعيّ، من الطبقةِ السادسة من أهل الكوفة. قال: كنت أضربُ اللبنَ بالكوفة، وأشتري دفاترَ أكتب فيها العلم. وقال: أُكرِهتُ على القضاء، فقال له بعض أصحابه: أفأُكرِهت على أخذ الرِّزق. وحجَّت الخيزران وهو على الكوفة، فخرجَ يتلقَّاها، فأبطأت عليه، فأقامَ بمكان يقال له شاهي، ويبسَ خبزُه، فجعل يبلُّه بالماء ويأكله، فقال العلاء بن المنهال: [من الوافر] فإن كان الذي قد قلت (¬2) حقًّا ... بأنْ قد أكرهوكَ على القضاءِ فما لك مُوْضِعًا في كلِّ يومٍ ... تلقَّى من يحجُّ من النِّساءِ مقيمًا في قرى شاهي ثلاثًا ... بلا زادٍ سوى كِسَرٍ وماء ولما ولي شريكٌ القضاءَ أُكرِهَ على ذلك، وأُقْعِدَ معه جماعة من الشُّرَط، ثم طابَ الشيخ من نفسه فقعد وحدَه، وبلغَ سفيان الثَّوريّ، فجاءَ فتراءى (¬3) له، فلمَّا رآه قام له ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 255، والمنتظم 9/ 29، والكامل 6/ 140. (¬2) في (خ): كنت. والمثبت من تاريخ بغداد 10/ 391. (¬3) في (خ): فتزايا. والمثبت من تاريخ بغداد 10/ 392، والمنتظم 9/ 31.

وأكرمَه وعظَّمه، وقال: يَا أَبا عبد الله، هل من حاجة؟ قال: نعم مسألة. قال: أو ليسَ عندك من العلم ما يُجزيك؟ قال: أحببت أن أذكرك فيها. قال: قل. قال: ما تقولُ في امرأةٍ جاءت فجلسَت في باب رجل، ففتح الرجلُ البابَ واحتملَها فأدخلها وفجرَ بها، على من يجب الحدُّ منهما؟ فقال: على الرَّجل دونها. قال: ولم؟ قال: لأنها مكرهة. قال: فلمَّا كان من الغد جاءت فتزيَّنت وتطيَّبت وجلست على الباب، ففتحَ الرجلُ الباب واحتملَها ففجرَ بها، على من الحد؟ قال: عليهما جميعًا. قال: ولم؟ قال: لأنها جاءت بنفسها وقد عرفت الخبرَ بالأمس. قال: وأنت كذا، كان عذرُك واضحًا حيث كان الشُّرَط يحفظونَك بالأمس، أيُّ عذرٍ لك اليوم؟ فقال: يَا أَبا عبد الله، أسمع أكلمك، فقال سفيان: ما كان الله ليراني أكلمك أو تتوب، فلم يكلِّمه حتَّى مات. وكان سفيان الثَّوريّ يقول: أي رجل هو لو لم يفسدوه! وكان لا يجلس للقضاء حتَّى يتغدَّى، ثمَّ يأتي المسجد فيصلي ركعتين، ثم يخرج من جيبه رقعةً فينظر فيها، وفيها مكتوب: ويحك يَا شريك، اذكر الصراط ودقَّته، والوقوفَ بين يدي الله تعالى. وقال عمر بن الهيَّاج (¬1): أتت امرأةٌ شريكًا وهو في مجلسِ الحكم، فقالت: أنا باللهِ، ثمَّ بالقاضي، أنا امرأةٌ من ولد جرير بن عبد الله صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وما الذي بك؟ قالت: ظلمَني الأمير موسى بن عيسى، وكان لي بستان على شاطئ الفرات، فيه نخلٌ، ورثتُه عن آبائي، فقاسمتُ إخوتي، وبنيتُ بيني وبينهم حائطًا، وجعلتُ فيه فارسيًّا في بيت يحفظُه، ويقوم بالبستان، فاشترى الأميرُ من إخوتي حصَّتهم، وساومني في حصَّتي فلم أبعه، فلما كان في هذه الليلة بعثَ بخمس مئة فاعل، فقلعوا الحائط، فأصبحت لا أعرفُ من نخلي شيئًا، واختلطَ بنخلِ إخوتي، فقال: يَا غلام، طينة فختم، ثمَّ قال لها: خذي هذه واذهبي إلى بابه حتَّى يحضُر معك، فجاءت المرأةُ إلى بابه بالطينة، فأخذها الحاجبُ ودخلَ بها إليه وقال: أَعْدَى شريكٌ عليك، فدعا بصاحبِ شرطته وقال له: امضِ إلى شريك وقيل له: سبحان الله، ¬

_ (¬1) في (خ): الصباح. والمثبت من تاريخ بغداد 10/ 395.

امرأةٌ ادَّعت بدعوى ولم تصح، أعديتَها عليّ؟ فقال: إدن رأى الأمير أن يعفيني فليفعل، فقال: امضِ إليه ويلك، فقام وأمرَ غلمانَه أن يتقدَّموه إلى الحبس بفراشٍ وما يحتاجُ إليه، ثم جاءَ فوقفَ بين يدي شريك وقال: الأمير يقول لك: يَا سبحان الله، ما رأيتُ أعجبَ من أمرك، وأدَّى الرسالة، فقال: يَا غلام، خذ بيده واحملهُ إلى الحبس، فقال: قد عرفتُ والله أنَّك تفعل بي هذا، فقَدَّمت إلى الحبس ما يصلحني، وبلغَ موسى بن عيسى، فأرسلَ الحاجب إلى شَريك يقول: هذا رسول أيشٍ عليه؟ فلمَّا جاء الحاجب وأدَّى الرسالة قال: ألحقُوه بصاحبِه، فحُبِس، فلما صلى الأمير العصرَ بعث إليه بإسحاق بن الصباح الأشعثي وجماعةٌ من وجوه أهل الكوفة من أصدقاء شَريك، وقال: امضوا إليه فأبلغوه السَّلام، وقولوا له: إنَّ هذا ليس كالعامة، وقد استخفَّيت به، فجاؤوا إليه وأبلغوه السلامَ والرسالةَ. قال: من ها هنا من فتيان الحيِّ، فليأخذ كلُّ واحد بيد واحد إلى الحبس، قالوا: جادٌّ أَنْتَ؟ قال: إي والله؟ لئلَّا تحملُوا رسالةَ ظالم، فحُبِسوا. فركبَ موسى بن عيسى في الليل إلى باب الحبسِ، فأخرجَهم جميعًا، فلمَّا كان من الغد جاء السجَّان إلى شَريك فأخبره، فختم قمطره وقال: يَا غلام الحقني به إلى بغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر منهم، ولقد أكرهونَا عليه، وضمنُوا لنا الإعزازَ فيه، وركبَ بغلتَه ومضى حتَّى بلغ القنطرة، فبلغَ موسى فركبَ في موكبه ولحقَه، وجعلَ يناشده الله؟ يَا أَبا عبد الله، تثبَّت تحبسُ إخوانك! دعهم واحبس أعواني، فقال: إنَّما حبستُهم حيث مشوا في الظلم، والله لا أرجعُ حتَّى تردَّهم جميعًا إلى الحبس، فوقفَ مكانه حتَّى ردَّهم جميعًا إلى الحبس، ثم قال شريكٌ لأعوانه: خذُوا بلجامِ بغلةِ موسى إلى مجلس الحكم، فأخذُوا بلجامِه، وأتى المسجد فدخل وجلس للحكم، وقال: أين المتظلمة؟ فحضرت، فسوَّى بينهما في المجلس وقال: هذا خصمُك قد حضرَ، وهو جالسٌ معها بين يديه، فقال: أولئكَ يخرجونَ من الحبس قبل كلِّ شيء، قال شريك: أمَّا الآن فنعم، ثم قال: ما تقولُ فيما تدَّعيه هذه؟ قال: صَدَقَتْ. قال: فتردُّ عليها بستانها؟ قال: نعم. قال: وتعيدُ حيطانَها كما كان؟ قال: نعم أفعل، فقالت المرأة: وبيتُ الفارسيّ تبنيه، وتردُّ قماشه؟ قال: نعم. فقالت لشريك: جزاك الله من قاضٍ

خيرًا، فقال لها: هل بقي شيء؟ فقالت: لا، فقام شريك من مجلسه، وأخذ بيد موسى، وقال: السلام عليك أيُّها الأمير، وأجلسَه معه، وقال: أتأمرُني بشيء، فضحكَ موسى: وأيّ شيء آمر؟ ! وانصرفَ (¬1). وقال عمر بن الهيَّاج: كنت في صحابة شَريك، فأتيتُه يومًا، فخرج إليَّ في فروٍ وليس تحتَه قميص، وعليه كساء، فقلت له: قد أصبحت (¬2) عن مجلس الحكم! فقال: غسلتُ أمس ثيابي، فلم تجفّ، وأنا أنتظرُ جفافها، اجلس، فجلستُ وجعلنا نتذاكرُ باب العبد يتزوَّجُ بغير إذن مولاه، ما تقول فيه؟ وكانت الخيزران قد وجَّهت على الطِّراز رجلًا نصرانيًّا، وكتبت إلى موسى بن عيسى: لا تعصي له أمرًا، فكان مطاعًا بالكوفة، وإذا بالنصرانيِّ قد خرجَ من زُقاقٍ، وبين يديه أعوانه وعليه جبَّةُ خزٍّ وطيلسان خَزّ، وهو على برذونٍ فاره، وبين يديه رجل مكتوفٌ وهو يصيح: واغوثاه بالله، أنا رجل مسلم، أنا بالله وبالقاضي، وإذا آثارُ السياط في ظهره، فصاحَ شَريك بالنصرانيِّ: دعه، فنزل وجاء، فجلس إلى شريك، فقال شريك للمسلم: ما الذي بك؟ فقال: أنا رجل أعمل الوَشيَ، وكراءُ مثلي في الشهر مئةُ درهم، أخذَني هذا فحبسني أربعةَ أشهر في طراز، وقد ضاعَ عيالي، ولم يعطني شيئًا، وطلبتُ منه اليوم أجرتي، فمدَّني وضربني (¬3)، وكشف عن ظهره، فإذا فيه آثار السياط، فقال شريك للنصراني: قم فاجلس مع خصمك، فقال: يَا أَبا عبد الله، أصلحكَ الله أنا خادم السيدة، مُرْ به إلى الحبس، فقال له: قم ويلك فاجلس مع خصمِك، فقام فجلسَ معه، فقال شريك: ما هذه الآثار التي في ظهره؟ فقال: أنا ضربتُه بيدي، فألقى شريكٌ كساءه فدخل دارَه وأخرج سوطًا ربذيًّا، ثم ضربَ بيده إلى مجامع ثوب النصرانيّ، فألقاه، ثم جعل يضربُه بالسوط ويقول: والله لا ضربتَ بعدها مسلمًا، فهمَّ أعوانُه أن يخلّصوه، فقال شريك: مَنْ ها هنا من صبيان الحي، خذوا هؤلاء إلى الحبس، فهربوا، والنصرانيُّ يبكي ويعصر عينيه، والسوط يأخذه، ويقول: يَا ملعون، والنصرانيُّ يقول: ستعلم، ثم ألقَى السوط ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 395 - 397. (¬2) كذا في (خ)، وفي تاريخ بغداد 10/ 394: أضحت، وفي أخبار القضاه 3/ 169 أضحيت. (¬3) في تاريخ بغداد 10/ 394، وأخبار القضاه 3/ 169: فأفلتُّ اليوم منه، فلحقني ففعل بظهري ما ترى.

من يده في الدهليز وقال: يَا أَبا حفص، خُذْ فيما كنَّا فيه، ما تقول في العبد يتزوج بغير إذن مولاه؟ كأنَّه لم يصنع شيئًا، وقام النصرانيُّ إلى برذونه ليركبَه، فاستعصَى عليه، ولم يكن أحد يأخذ بركابه، فجعلَ يضربُه وشريك يقول له: ويحك ارفق به، فإنَّه أطوعُ لله منك، فقلت له: سيكون لهذا عاقبةٌ مكروهةٌ، فقال: أَعِزَّ أمرَ الله يعزُّكَ الله. ودخل النصرانيُّ على موسى بن عيسى فقال: من فعل بك هذا؟ فقال: شريك، فقال: لا والله ما لي على شَريك اعتراض، ولا أتعرَّض له بشيء، ومضى النصراني من فوره ذلك إلى بغداد فلم يعد. وقال الأصمعيّ: كان الرَّبيع يحملُ المهديَّ على شَريك، ويقول: هو فاطميّ، فدخلَ شريك يومًا على المهدي، فقال له: يَا أَبا عبد الله، أنتَ فاطميّ؟ فقال: يَا أمير المُؤْمنين، أعيذُك بالله أن تكونَ غيرَ فاطميّ، فقال: معاذ الله، والله إنَّني أحبُّ فاطمة بنت محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما تقول فيمن يبغضها؟ قال: لعنه الله، قال: فهذا يبغضها، وأشار إلى الرَّبيع، فقال الرَّبيع: لا والله، فقال شريك: ماجن فلم تذكرُ سيدةَ نساءِ العالمين في مجالس الرجال، فقال المهدي: أَنْتَ والله يَا أَبا عبد الله خيرٌ من الذي حملنِي عليكَ (¬1). وقال المهدي: يَا شريك خنتَ في مال الله، فقال: يَا أمير المُؤْمنين لو خنتُ فيه لأتاكَ سهمك. ودخلَ شريك على المهديّ، فقال: لا ينبغي لمثلك أن يقلَّد الحكم بين المسلمين، قال: ولم؟ قال: لخلافِك الجماعةَ وقولِك بالإمامة، فقال: أما قولك: إنَّني أخالفُ الجماعةَ، فعنهُم أخذتُ ديني، فكيف أخالفُهم؟ وأما قولك: لا ينبغي أن أقلَّدَ الحكم بين المسلمين فهذا أمرٌ ما طلبتُه، أنتم فعلتموه، فإنْ كان خطأً فاستغفرِ الله منه، وإنْ كان صوابًا فأمسكوا عليه. قال: فما تقول في عليّ؟ قال: ما قال فيه جدُّك العباس وابنه عبد الله، قال: فما قالا فيه؟ قال: أما العباس فمات وعليٌّ عنده أفضلُ الصَّحَابَة، وقد كان يرى كبراءَ المهاجرين يسألونَه عن النوازل، وما احتاج إلى أحدٍ قط، وما زالوا ¬

_ (¬1) انظر الخبر بأوضح مما هنا في العقد الفريد 2/ 178 - 179.

محتاجين إليه، حتَّى لحقَ بربِّه، وأما عبد الله فكان يضرب بين يديه بسيفين، وكان في حُروبه كلِّها رأسًا متَّبعًا، وقائدًا مطاعًا، فلو كانت إمامةُ عليٍّ جورًا لكانَ جدُّك أول من بعد عنها؛ لعلمه بدين الله وفقهه في أحكام الله، فأطرقَ المهديُّ ولم يجبه. ذكر سبب عزله: تقدَّم إليه وكيلٌ لمُؤنسة جاريةِ المهدي مع خصمٍ له، فجعلَ الوكيلُ يستطيلُ على خصمه إدلالًا بمكانه من مؤنسة، فقال له شريك: كُفَّ لا أَبا لك، فقال: إليَّ تقول هذا وأنا وكيلُ مؤنسة؟ فأمر به فضرب عشر درر (¬1)، وبلغَ مؤنسة فقالت للمهدي: لا أنا ولا شريك، فعزلَه. ذكر وفاته: توفِّي بالكوفة يوم السبت مستهلَّ ذي القعدة سنة سبعٍ وسبعين ومئة، فشهدَ جنازته موسى بنُ عيسى وصلَّى عليه. أسندَ شريك عن خلقٍ كثيرٍ من التابعين، ورَوى عنه ابن المبارك وغيره، وقد تكلَّموا فيه، فقال ابن سعد: كان شريك ثقةً مأمونًا كثير الحديث، إلَّا أنَّه كانَ كثير الغلط (¬2). وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: كان شريك من كبارِ العلماء الثِّقات، إلَّا أن قومًا قدحُوا في حفظه (¬3). وقال ابن المبارك: شريك أحفظُ بحديث الكوفيين من سفيان الثَّوريّ. وقد أخرجَ عنه البخاريُّ ومسلم (¬4). * * * ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 10/ 397: عشر صفعات. (¬2) طبقات ابن سعد 8/ 500. (¬3) المنتظم 9/ 30. (¬4) قال المزي في تهذيب الكمال 12/ 475: استشهد به البُخَارِيّ في الجامع، وروى له في "رفع اليدين في الصلاة" وغيره، وروى له مسلم في المتابعات، واحتج به الباقون.

السنة الثامنة والسبعون بعد المائة

السنة الثامنة والسبعون بعد المائة فيها سار الفضل بن يحيى بن خالد إلى خراسان عاملًا عليها لهارون، فأحسنَ السيرةَ بها، وبَنى المساجدَ والرِّباطات، وغزا ما وراء النهر، وخرجَ معه جماعةٌ منهم مروان بن أبي حفصة، ومدحَه بمقطَّعاتٍ منها: [من الطَّويل] ألم ترَ أنَّ الجود من عهد آدمٍ ... تحدَّرَ حتى صارَ في راحةِ الفضلِ إذا ما أبو العباسِ راحتْ سماؤُه ... فيا لك من هَطْلٍ ويا لكَ من وَبْلِ (¬1) قال مروان: فاستفدتُ في سفرتي هذه سبع مئة أَلْف درهم (¬2). وخرج معه إبراهيم بن جبريل فولَّاه سِجستان، فجبى من الخراج أربعةَ آلاف أَلْف درهم، وعزلَها إبراهيمُ في ناحيةٍ من داره، وعملَ للفضل دعوةً عظيمة، وقدم له هدايا وألطافًا لم يقدِّمها غيرُه، فقال له الفضل: لم آتك لأسلبك نعمتك، وردَ الجميع، ولم يأخذ غيرَ سوط، وقال: هذا من آلةِ الفرسان، فقال إبراهيم: هذا مالُ الخراج، يأمرُ الأميرُ من يحمله، وكان أربعة آلاف أَلْف درهم, فقال الفضل: أما لكَ بيتٌ يسعُه؟ فأعطاهُ إيّاه. ولما وصل الفضلُ بغداد استقبلَه الرشيد وبنو هاشم، فجعل يصل للرجل بألف أَلْف وأكثر، وبخمس مئة أَلْف (¬3). * * * ¬

_ (¬1) ديوان مروان بن أبي حفصة ص 92. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 257 - 258. (¬3) تاريخ الطبري 8/ 258 - 259.

السنة التاسعة والسبعون بعد المئة

السنة التاسعة والسبعون بعد المئة فيها لَمَّا عاد الفضلُ بن يحيى من خراسان ولَّى هارونُ خراسان منصورَ بن يزيد بن منصور الحميري. وعزل هارون محمدَ بن خالد بن بَرْمك عن حجابته، وقلَّدها الفضل بن الرَّبيع. وفيها رجع الوليد الشاري من إرمينية إلى الجزيرة، واشتدت شوكته، وكَثُر تبعُه، ومال النَّاس إليه، وخافَ هارون منه، وجهَّز إليه الجيوشَ مع يزيد بن مزيد الشيباني، وتقاتلا، فبيَّتهُ يزيد على غرَّةٍ فقتلَه وقتلَ معظم أصحابه، وانهزم الباقون، وكان الوليد من الزهَّاد شجاعًا جوادًا، فقالت أخته الفارعة ترثيه -وقيل اسمها ليلى-: [من الطَّويل] أيا شجرَ الخابور ما لك مُورقًا ... كأنَّك لم تجزعْ على ابنِ طريفِ فتًى لا يحبُّ الزادَ إلَّا من التُّقَى ... ولا المالَ إلَّا من قنًا وسيوفِ خفيفٌ على ظهر الجواد إذا غدا ... وليسَ على أعدائِه بخفيفِ (¬1) وكان هارون قد خاف منه خوفًا شديدًا، ونذرَ إن نجَّاه اللهُ منه أن يعتمرَ في تلك السنة، فاعتمرَ في شهر رمضان شكرًا لله تعالى، فلمَّا قَضى عمرتَه انصرفَ إلى المدينة فأقام بها إلى زمان الحجّ، وفرَّق في الحرمين أموالًا، ثم حجَّ بالناسِ وخرج ماشيًا من مكَّة إلى منى وعرفات، ونسكَ المناسك كلَّها ماشيًا. مالك بن أنس ابن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث (¬2) بن غَيمَان بن خُثَيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح بن حِمير، وعِدادُه في بني تَيم بن مُرَّة من قريش إلى عبد الرَّحْمَن بن عثمان بن عبيد الله التَّيميّ، وكنيتُه أبو عبد الله، إمامُ دار الهجرة، من الطَّبقة السادسة من أهل المدينة. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 261 دون البيت الأخير، وانظر القصيدة بتمامها في العقد الفريد 3/ 269. (¬2) في (خ): بن الحارث بن عمرو. والمثبت من طبقات ابن سعد 7/ 570، وتهذيب الكمال 27/ 91 - 92.

قال محمَّد بن عمر: سمعتُ مالكَ بن أنس يقول: قد يكونُ الحملُ ثلاثَ سنين، وقد حُمِل ببعض النَّاس ثلاثَ سنين، يعني نفسه (¬1). ذكر صفته: كان طويلًا عظيمَ الهامة، أصلع أبيضَ الرأس واللحية، شديد البياض إلى الشُّقرة، وكان لباسُه الثياب العدنيَّة الجياد، وكان يكرهُ حلق الشارب، ويراه من المُثَل، وكان نقش خاتمه: حسبي الله ونعم الوكيل، فقيل له في ذلك، فقال: سمعتُ الله يقول عقيب هذه الآية: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 174]. وكان يتختَّم في يساره، ويحوِّلُه إلى يمينه حين يتوضأ من الغائط والبول، وكان فصُّه حجرًا أسود، ونقشُّه سطران. وكان إذا دخلَ بيتَه أدخل رجلَه وقال: ما شاء الله، فقيل له في ذلك فقال: سمعت الله يقول: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 39] وجنته بيته. وقال: ما أفتيتُ حتَّى شهدَ لي سبعون أنِّي أهلٌ لذلك، منهم ربيعة ويحيى بن سعيد (¬2)، قيل: فلو نهوك، قال: كنتُ أنتهي، لا ينبغي للرجل أنْ يرى نفسَه أهلًا لشيءٍ حتَّى يسألَ من هو أعلم منه. وقال معن بن عيسى: كان مالك إذا أَرادَ أن يحدِّثَ بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اغتسلَ وتبخَّرَ وتطيَّبَ، فإذا رفعَ أحدٌ صوتَه عنده قال: اغضض من صوتك؛ فإنَّ الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] , فمن رفعَ صوتَه عند حديث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فكأنمَّا رفعَ صوتَه فوق صوتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن مهدي: سأل رجلٌ مالكًا عن مسألة، فقال: لا أحسنُها، فقال الرَّجل: قد ضَرَبْتُ إليك من كذا وكذا لأسألكَ عنها، فقال مالك: إذا رجعتَ إلى أهلك ومكانك فأخبرهم أنِّي قد قلتُ لك: ما أحسنُها. وقال عبد الله بن المبارك: ما رأيتُ رجلًا ارتفعَ مثل مالك بن أنس، ليس له كثيرُ صلاةٍ ولا صيام، إلَّا أن يكون له سريرة (¬3) صالحة. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 570. (¬2) في (خ): يحيى وابن سعيد. والمثبت من حلية الأولياء 6/ 316. (¬3) في (خ): شهرة. والمثبت من حلية الأولياء 6/ 330، والمنتظم 9/ 44.

وقال محمَّد بن عمر: لما دُعِيَ مالك بن أنس، وشُوور، وسُمِعَ منه، وقُبلَ قولُه، شَنِفَ النَّاس له، وحسدُوه، وبَغَوْهُ بكلِّ شيء، فلمَّا وَليَ جعفرُ بن سليمان على المدينة سَعَوْا به إليه، وكَثَّروا عليه عنده، وقالوا: إنَّه لا يرى أيمانَ بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذُ بحديثٍ رواه عن ثابت الأحنف في طلاق المكره أنَّه لا يجوز، فدعا جعفر بمالك، وقد غضب، واحتجَّ عليه بما رُقِيَ إليه عنة، ثم جرَّدَه ومدَّه وضربَه بالسياط، ومُدَّت يدُه حتَّى انخلَعَ كتفاه، وارتكِبَ منه أمرٌ عظيم، فوالله ما زال مالك بعد ذاك في رفعةٍ من الناس، وعلوٍّ من قدره، وإعظام النَّاس له، وكأنَّما كانت تلك السِّياطُ التي ضُرِبها حُلِيًّا حُلِّيَ به. وكان مالك يأتي إلى المسجد، ويشهدُ الصلوات والجمعة والجنائزَ، ويعودُ المرضى، ويقضي الحقوقَ، ويجتمعُ إليه أصحابُه في المسجد، ثم تركَ الجلوس في المسجد، وكان يصلِّي ثم ينصرفُ إلى منزله، وترك شهود الجنائز، فكان يأتي أصحابَها فيعزِّيهم، ثم تركَ ذلك كلَّه، فلم يكن يشهدُ الصلوات في المسجد ولا الجمعة، ولا يأتي أحدًا يعزِّيه، ولا يقضي له حقًّا، واحتمل النَّاسُ ذلك كلَّه له، وكانوا أرغبَ ما كانوا فيه وأشدَّه له تعظيمًا حتى مات، وكان إذا تكلَّم في ذلك يقول: ليس كلُّ الناسِ يقدرُ أن يتكلَّم بعذرِه. وكان يجلسُ في منزله على ضجاعٍ له، ونمارق مطروحة يمنةً ويسرةً في سائر البيت لمن يأتيه من قريش والأَنْصار والناس، وكان مجلسُه مجلسَ وَقارٍ وحِلْم، وكان مَهيبًا نبيلًا، ليس في مجلسه شيءٌ من المراءِ واللغَطِ، ولا رفع صوت. وكان له كاتبٌ اسمُه حبيب يقرأ عليه الحديث، وكان قد نَسخَ كتبَه، فكان يقرأُ للجماعة، وليس أحدٌ ممن يحضرُه يدنو ولا ينظر في كتابه ولا يستفهم؛ هيبةً لمالك (¬1). ولَمَّا خرج محمَّد بن عبد الله بن حسن بالمدينة لزمَ مالك منزله، فلم يخرج منه حتَّى قُتِل مُحَمَّد. وقال زيد بن داود: رأيتُ في المنام كأنَّ القبرَ انفرجَ، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 574 - 575.

والناس مُنْقَصِفون (¬1) له، فصاح صائحٌ: أين مالك بن أنس؟ فجاءَ مالك حتَّى انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه شيئًا، فقال: اقسِمْ هذا على النَّاس، فخرجَ مالك يَقْسِمُه على النَّاس، فإذا هو مِسْكٌ يعطيهم إيَّاه. وقيل أنْ سُئِل مالكٌ عن شيءٍ إلَّا قال قبل أن يتكلَّم: ما شاء الله. قالوا: فلو قال هذا في أخفى شيء لهُدِيَ فيه إلى الصواب. وقال مالك: لما حجَّ المنصورُ دعاني فدخلتُ عليه، فحادثتُه، وسألني فأجبتُه، فقال: إنِّي قد عزمتُ أن آمر بكتبِك هذه التي وضعتها -يعني "الموطأ"- فتنسخَ نُسخًا، فأبعثَ إلى كل مصرٍ من أمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها, ولا يتعدونه إلى غيره، ويَدَعُوا ما سوى ذلك من هذا العلم المُحْدَث؛ فإنِّي رأيتُ أصلَ العلم روايةَ أهل المدينة وعلمهم، فقلت: يَا أمير المُؤْمنين لا تفعل هذا؛ فإن النَّاسَ قد سبقتْ إليهم أقاويل، وسمعُوا أحاديثَ ورَووا روايات، وأخذَ كلُّ قومِ ما سبقَ إليهم، وعَمِلُوا به، ودانوا به من اختلافِ النَّاس، وإنَّ ردَّهم عمَّا اعتقدوه شديد، فدعِ النَّاسَ وما هُم عليه، فقال: لو طاوَعْتَني على ذلك لفعلتُه وأمرتُ به. وقال مالك: ليس العلم بكثرة الرواية, ولكنَّه نورٌ يضعُه الله في القلب. ذكر وفاته: قال إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس: اشتكى مالك أيامًا يسيرةً (¬2)، فسألتُ بعضَ أهلنا عما قال عند الموت، فقال: تشهد، ثمَّ قال: لله الأمر من قبلُ ومن بعد، وتوفِّي صبيحة أربع عشرة من شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة، وصلى عليه عبد الله بن محمَّد بن إبراهيم بن محمَّد بن عليّ بن عبد الله بن عباس، وهو ابن زينب بنت سليمان بن عليّ، كان يعرف بأمِّه، ودفنَ بالبقيع، وكان يوم ماتَ ابنَ خمسٍ وثمانين سنة، وقيل: مات في صفر وقال معن بن عيسى: رأيتُ الفسطاط على قبر مالك بن أنس. وقيل: صلَّى عليه ابنُ أبي ذئب، ومات عن ستٍّ وثمانين سنة. ¬

_ (¬1) أي: مزدحمون كأن بعضهم يقصف بعضًا لفرط الزحام. انظر القاموس (قصف). (¬2) في (خ): كثيرة. والمثبت من طبقات ابن سعد 7/ 575، والمنتظم 9/ 45.

أسندَ مالك عن أئمَّة التابعين، منهم الحسن وابن سيرين (¬1) والزهريّ والثوريّ (¬2) وخلقٌ كثير، وروى عنه الأئمَّةُ الشَّافعيُّ وابنُ المبارك وابن وهب وغيرهم، ومعظمُ مذهبِ الشَّافعيِّ وأقواله القديمة عنه. واتَّفقوا على صدقِه وثقته وأمانته، فقال حنبل بن إسحاق: سألت أَبا عبد الله أَحْمد بن حنبل عن مالك، فقال: سيِّدٌ من ساداتِ أهلِ العلم، إمامٌ في الحديث وفي الفقه، ومن مِثْلُ مالك متبعٌ لآثار السلف مع عقلٍ وأدب. وقال ابن سعد: كانَ مالك ثقةً مأمونًا ثبتًا ورعًا فقيهًا عالمًا حجة (¬3). * * * ¬

_ (¬1) لم أقف على رواية مالك عنهما. فالله أعلم. (¬2) ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء 8/ 52 أن الثَّوريّ ممن روى عن مالك من أقرانه، ومات قبله. وانظر تهذيب الكمال 27/ 108. (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 575، وجاء بعدها في (خ): آخر الجزء السابع ولله الحمد والمنة، يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن، أوله: السنة الثمانون بعد المئة، فيها هاجت الفتنة في الشَّام. غفر الله لكاتبه ولمالكه وللناظر فيه، وجمع المسلمين. كتبه علي بن عيسى المرحومي، غفر الله له جميع ذنوبه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [13]

السنة الثمانون بعد المئة

السنة الثمانون بعد المئة فيها هاجت الفتنةُ في الشام بين القيسيةِ واليمانية وتفاقم أمرُها، فعظُم ذلك على هارون، فخاف من انتقاضِ الحبل، فقال لجعفرِ بن يحيى: إمَّا أن تخرجَ أَنْتَ أو أنا (¬1)، فقال: بل أنا يَا أميرَ المُؤْمنين. فتوجَّه إلى الشام بالجنود والقوَّاد، فأطفأ النَّائرة، وسكَّن الفتنة، وأَحسن إليهم، فاتَّفقوا، وصَلَحت الأحوال واستقامت الأمور. فعاد جعفر إلى العراق، وولَّى على البلقاءِ صالحَ بن سليمانَ (¬2) بن عليّ، واستخلف على الشام عيسى بنَ العَكِّي، فلمَّا عاد إلى بغدادَ ارتفعت منزلتُه عند هارون، وقال منصورٌ النَّمَري: [من الطَّويل] لقد أُوقِدت بالشَّام نيرانُ فتنةٍ ... فهذا أوانُ الشأم تُخمَدُ نارُها إذا جاش موجُ البحرِ من آل بَرْمَكٍ ... عليها خبت شُهبانُها (¬3) وشَرارها رماها أميرُ المُؤْمنين بجعفرٍ ... وفيه تلاقى صَدْعُها وانجبارها رماها بميمون النَّقيبة ماجدٍ ... تراضى به قَحطانُها ونِزارها لقد نشأت بالشَّام منه سحابةٌ ... يؤمَّل جَدواها ويُخشى دَمارها فإنْ (¬4) سالموا كانت سحابة نائلٍ ... وغيثٍ وإلَّا فالدماءُ قطارها إذا ما ابنُ يحيى جعفرٌ قَصَدَت له ... مُلِمَّاتُ خطبٍ لم تَرْعْه كبارها غدا بنجوم السَّعد مَن حلَّ رحلُه ... إليك وعزَّت عُصْبةٌ أَنْتَ جارها من أبيات. وفيها قدم هارون سُور المَوصل لئلَّا يغلبَ عليها الخوارج، وكان قد خرج منهم جماعة. وفيها كانت بمصرَ والإِسكندرية زلازلُ عظيمة، ووقع رأس مَنارة سَكندريةَ في البحر. ¬

_ (¬1) في (خ): وأنا، والتصويب من المصادر. (¬2) في (خ): يحيى بن صالح بن سليمان .. وهو خطأ. انظر تاريخ الطبري 8/ 263، والمنتظم / 46. (¬3) في (خ) شبباتها، والمثبت من الديوان ص 92، وتاريخ الطبري 8/ 262، والبداية والنهاية 13/ 603. (¬4) في (خ): قد، والمثبت من المصادر.

حسان بن سنان

وفيها ولَّى هارونُ جعفرَ بن يحيى خراسان وسِجِسْتان، فولَّى عليها جعفرٌ محمَّد (¬1) بن الحسن بن قَحْطَبة، ثم عزل جعفرًا عنها وولَّى عليها عيسى بنَ جعفر، فكانت ولاية جعفرِ بن يحيى عليها عشرين ليلة. وفيها توفّي حسانُ بن سِنان ابن أبي أَوفى (¬2) بن عوف، أبو العلاء التَّنوخي. ولد سنة ستِّين من الهجرة، وكان يكتب بالأَقلام المختلفة، واستكتبه السفَّاح، فكان يَحُلُّ التراجم التي تَرِد عليه. ورأى جماعةً من الصَّحَابَة، ودعا له أنسُ بن مالك، فخرج من أولاده الفقهاءُ والقضاة والرؤساء والصُّلحاء والكتَّاب والزهَّاد. وعاش مئةً وعشرين سنة. سَلمةُ بن صالح أبو إسحاقَ الجُعفيُّ الكُوفيّ القاضي، ويعرف بالأحمر. ولَّاه هارون قضاءَ واسط، فقدم إليه هُشيمُ (¬3) بن بشير المحدِّثُ ومعه خصم له، فتعدَّى هُشيمٌ على الخصم ولَطَمه، فقال سلمة: يا هُشيم أَتظلم خصمَك في مجلس الحكم؟ ! ثم ضرب هُشيمًا (3) عشر دِرَر، فعزَّ ذلك على مشيخة واسط، فحجُّوا ولقُوا هارونَ في الطَّواف، وقالوا: لسنا نطعُن في سلمة، إلَّا أنَّه ضرب شيخنا بالدِّرَّة، وسألوه عزلَه عنهم، فعزله، فقدم بغدادَ فأَقام بها حتَّى مات. وقال المعافَى بن زكريا: لما عُزل شريك عن القضاء، ركب يومًا ببغداد، فتعلَّق به رجلٌ فقال: يَا أَبا عبدِ الله، لي عندك ثلاثُ مئةِ درهم، قال: من أين؟ قال: ثمنُ هذا ¬

_ (¬1) في (خ): جعفر بن مُحَمَّد، وهو خطأ. (¬2) في تاريخ بغداد 9/ 171، والمنتظم 9/ 49: ابن أوفى، وفي البداية والنهاية 10/ 175 (مكتبة المعارف): حسان بن أبي سنان بن أبي أوفى .. (¬3) في (خ): هشام، في المواضع الثلاثة، والمثبت من المصادر، انظر تاريخ بغداد 10/ 189، والمنتظم 9/ 50، وتاريخ الإِسلام 4/ 858.

عافية بن يزيد

البغلِ الذي تحتك. ومشى معه إلى الجسر وعنده الأَعوان، فالتفت شريكٌ إليهم فقال: خذوا هذا فاحبسوه، وإنْ أطلقتموه لأُخبرنَّ صاحب الشُّرطة عبد الله بن مالك، فحبسوه، وقال له رجلٌ منهم: إن هذا تعلَّق بالأمس بالقاضي سلمةَ الأحمر فادَّعى عليه بأربع مئة درهم وأخذها، فقال: احتفظوا به. وأقام في الحبس مدَّة، فأرسل عبد الله صاحبُ الشرطة إلى شريكٍ يقول له: كم تحبس هذا الرَّجل؟ فقال: حتَّى يؤدِّيَ إلى سلمةَ أربع مئةِ درهم. فردَّها على سلمة، فجاء سلمةُ إلى شريكٍ يشكره، فقال له: يَا ضعيف! كلُّ مَن سألك مالك أعطيتَه إيَّاه؟ ! عافيةُ بن يزيد ابن قيس بن عافيةَ بن شدَّاد بن ثُمامة بن سَلَمة بن كعب بن أَوْد بن صَعْب بن سَعد العشيرة، الكوفيُّ، الأَودي (¬1). كان من أصحاب أبي حنيفةَ الذين يجالسونه، وكان الذين يذاكرون أَبا حنيفةَ جماعة، فإذا خاضوا في مسألةٍ وعافيةُ حاضر ووافقهم، أَمضَوها، وإنْ كان غائبًا، يقول أبو حنيفة: لا ترفعوها حتَّى يحضرَ عافية، فإذا حضر فإنْ وافقهم أَثبتوها، وإنْ خالفهم يقول أبو حنيفة: لا تُثبتوها. وقال ابن الأَعرابي: خاصم أبو دُلامَة رجلًا إلى عافيةَ في حكومة، فلم يتَّضح لعافيةَ فيها الحكم، فأقام سنةً يتأنَّى فيها، فقال أبو دُلامة: [من المتقارب] لقد خاصمَتْني دهاةُ الرِّجال ... وخاصمتُها سنةً وافيه فما أدحض اللهُ لي حُجَّة ... وما غيَّب (¬2) اللهُ لي قافيه ومَن خفتُ من جَوره في القضا ... فلستُ أخافك يَا عافيه وبلغ عافيةَ، فقال لأبي دلامة: هجوتَني لأشكونَّك إلى أمير المُؤْمنين، فقال له: لَئن شكوتني لَيعزلنَّك، قال: ولِم؟ قال: لأنَّك لا تعرف الهجوَ من المدح. ¬

_ (¬1) في (خ): الأزدي، والمثبت من طبقات ابن سعد 9/ 333، وتاريخ بغداد 14/ 254، والمنتظم 9/ 51، وتهذيب الكمال، والسير 7/ 398. (¬2) في تاريخ بغداد، والمنتظم، وتهذيب الكمال: خيب.

وقال الأصمعيّ: كنت عند الرَّشيد، فرُفع إليه في عافية، فأُحضر، فجعل الرشيدُ يخاطبه ويوقفه على ما رُفع إليه، وطال المجلس، ثم إنَّ الرَّشيد عطس، فشمَّته مَن كان بالحضرة ممن قرب منه سواه، فقال له: ما بالُك لم تشمِّتني؟ فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، إنَّك لم تحمد الله، وذكر حديثَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه عطس عنده رجلان فشمَّت أحدَهما ولم يشمِّت الآخرَ، فقال: يَا رسولَ الله، ما بالُك شمَّتَّ ذلك ولم تشمِّتني؟ فقال: "إنّه حمد الله فشمَّتناه، وأنت لم تحمدْه فلم أُشمِّتك" (¬1). فقال له الرشيد: اِرجع إلى عملك، فأنت لم تسامِح في عطسةٍ، تسامحُ في غيرها؟ وصرفه مُنصَرفًا جميلًا، وزَبَر القومَ الذي كانوا رفعوا عليه. استعفاؤه من القضاء: كان يتقلَّد القضاء للمهدي، وكان عالمًا زاهدًا، فصار إلى المهدي في وقت الظُّهر وهو خالٍ، فاستأذن عليه، فأذن له، فدخل ومعه قِمَطْره (¬2)، فاستعفاه من القضاءِ واستأذن في تسليم القِمَطر إلى مَن يأمره، فظنَّ المهديُّ أن بعض الأولياء قد غضَّ منه وأَضعف يدَه في الحكم، فسأله, فقال: ما جرى شيءٌ من ذلك، قال: فما سببُ استعفائك؟ فقال: تقدَّم إليَّ خصمان موسِران وجيهان منذ شهرين في قضيَّة مشكلة، وكلٌّ يدَّعي بيِّنةً وشهودًا، ويُدلي بحجَّة تحتاج إلى تأمُّل وتثبُّت، فرددتُ الخصوم رجاءَ أن يصطلحوا أو يعنَّ لي وجهُ فصلِ ما بينهما، فوقف أحدُهما من خبري على أنِّي أحبُّ الرُّطَب بالسكَّر، فعمد في وقتنا -وهو أوَّلُ أوقات الرُّطب- إلى أن جمع لي رُطبًا سكرًا لا يتهيَّأ في وقتنا جمعُ مثلِه، ورشا بوَّابي بجملة دراهمَ على أن يُدخلَ الطبق إليّ، فلمَّا دخل بالطبق ووضعه بين يدي، أنكرتُ وسألت بوَّابي، فصدقني فطردتُه، وأمرت بردِّ الطبق، فلمَّا كان اليومُ تقدَّم إلي مع خصمه، فما تساويا في قلبي ولا في عيني، هذا يَا أميرَ المُؤْمنين ولم أقبل، فكيف يكون حالي لو قبلتُ! وقد فسد النَّاس، ولا آمَن أن يقعَ عليَّ حيلةٌ في ديني فأهلك، فأَقِلْني أَقالك الله، فأَقاله. ومات عافيةُ ببغدادَ، وكان ثِقَة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6221 و 6225) ومسلم (2991) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬2) القمطر والقمطرة: ما يصان فيه الكتب. مختار الصحاح (قمطر).

سيبويه النحوي

سيبويه النَّحويّ واسمه عَمرو بن عثمانَ بن قنبر (¬1)، أبو بِشر البَصْرِيّ. وكانت أمُّه ترقِّصه وهو صغير وتقول: سيب وَيْه، ومعناه: يَا رائحةَ التفاح (¬2)، وكان طيِّب الرائحة. وقيل: سمّي بذلك لأنَّ وَجْنَتَيه كانتا كأنَّهما تفاحتان. وهو مولى بني الحارث بنِ كعب، وقيل: لآل الربيعِ بن زياد الحارثيّ. وكان يصحب المحدّثين والفقهاء ويطلب الآثارَ في أوَّل زمانه، وكان يستملي على حمَّاد بن سلمة، فلحن في حرف، فعابه حماد، فأَنِف ولزم الخليلَ بن أَحْمد. وكان من أهل فارسَ من البيضاء. وقال نَصر بن عليّ: برز من أصحاب الخليلِ أربعة: سيبويه، والنَّضر بن شُمَيل، وعليُّ بن نصر، والمؤرِّج السَّدوسي. وقال ابنُ عائشة: كنَّا نجلس مع سيبويه في المسجد، وكان شابًّا جميلًا نظيفًا، قد تعلق من كلِّ علم بسبب، وضرب في كلِّ أدب بسهم، مع حداثة سِنِّه، وبراعتِه في النحو وغيرِه، فتذاكرنا حديثَ قتادة، فذكر حديثًا غريبًا وقال: لم يروه إلَّا سعيدُ بن أبي العَروبة -بألفٍ ولام- قيل له: ما هذا؟ فقال: مَن قال: عَروبة، فقد أخطأ, لأنَّ العَروبة يومُ الجمعة. قال ابن سلام: فذكرت ذلك ليونُس، فقال: لله درّه فلقد أصاب. وقال السِّيرافي (¬3): أخذ سيبويه اللغاتِ عن أبي الخطَّاب الأخفشِ وغيره، وعمل كتابَه الذي لم يَسبقه أحدٌ إلى مثله ولا يلحق به مَن بعده، وكان كتابُه لشهرته عند النُّحاة عَلَمًا، فكان يقال بالبصرة: قرأ فلانٌ الكتاب، فيُعلم أنَّه كتاب سيبويه. وكان المبرِّد إذا أراد مريدٌ أن يقرأَ عليه كتابَ سيبويه يقول له: هل ركبتَ البحر؟ تعظيمًا له واستصعابًا لما فيه. ¬

_ (¬1) بضم القاف وفتح النُّون وباء ساكنة، كذا قيده الذهبي في المشتبه 535، وابن حجر في تبصير المنتبه 3/ 1138، والزبيدي في تاج العروس (قنبر 13/ 478 طبعة الكويت). (¬2) كذا في (خ)، ولفظة "يَا" هنا مقحمة، وهي ليست في المصادر، انظر تاريخ بغداد 14/ 100، والمنتظم 9/ 54، ومعجم الأدباء 16/ 114، وتاريخ الإسلام 4/ 637، والسير 8/ 352، والبداية والنهاية 13/ 607 (طبعة دار هجر). (¬3) في كتابه أخبار النحويين البصريين ص 39، 37.

مبارك بن سعيد بن مسروق

وقال أبو عبد الله المرزُباني: اجتمع أربعون نَفْسًا حتَّى عملوا كتابَ سيبويه، هو أحدُهم، وهو أصولُ الخليل بن أحمدَ ونُكَته، وإنَّ سيبويه ادَّعاه لنفسه. ولمَّا قدم بغدادَ ناظر الكسائيَّ وأصحابه، فلم يظهرْ عليهم، فسأل: مَن يرغب من الملوك في النَّحو؟ فقيل: طلحةُ بن طاهر، فشخص إلى خراسان، فلما انتهى إلى ساوةَ مرض مرضَ الموت، فتمثَّل: [من المتقارب] يؤمِّل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمِّل قبل الأمَلْ حَثيثًا يروِّي أصولَ الفَسيل ... فعاش [الفَسيل] ومات الرَّجُل وتوفي بساوةَ وعمره اثنتان وثلاثون سنة رحمه اللهُ تعالى. مبارك بن سعيدِ بن مَسْروق أخو سفيانَ الثَّوري، من الطَّبقة السادسةِ من أهل الكوفة، وتوفِّي بها، وكانت عنده أحاديث، وكُنْيته أبو عبد الرَّحْمَن. ولد بالكوفة وسكن بغداد، وذهب بصرُه، فكتب إلى أخيه سفيانَ يشكو ذهابَ بصره، فكتب إليه سفيان: وقفتُ على كتابك، وإذا فيه شكايةُ ربِّك، فاذكر الموتَ يَهُن عليك ذلك، والسَّلام. حدَّث عن أخيه سفيانَ وطبقته، وروى عنه الحسنُ بن عَرَفة وغيرُه، وكان ثِقَة. وحكى عن الشَّعبي أنَّه قال: المودَّة بين كرام الناسِ مثلُ الكوز من الفضَّة، بطيءُ الانكسار سريعُ الانجبار، ومَثَلُ المودَّة بين لئام الناسِ مثلُ الكوز من الفخَّار، سريعُ الانكسار بطيءُ الانجبار (¬1). هشامُ بن عبد الرَّحمن الداخلِ ابن معاويةَ بن هشامِ بن عبد الملكِ بن مروان. واسم أمِّه حَوراء (¬2)، بربرية. وَلِي سنة اثنتين وسبعين ومئةٍ عند وفاة أَبيه، وقام بالأندلس واليًا سبعَ سنين ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 286 - 290، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإِسلام 4/ 731، والسير 8/ 481. (¬2) في (خ): حوار، والمثبت من جذوة المقتبس ص 10، والسير 8/ 253، وتاريخ الإِسلام 4/ 760. وفي نفح الطيب 1/ 334: اسمها حلل.

وتسعةَ أشهر، ومات في صفر بالأندلس وله تسعٌ وثلاثون سنة. وكان من أحسن الناسِ وجهًا وأشرفِهم نفسًا، كاملَ المروءة، عاملًا بكتاب اللهِ وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، متصدِّقًا ظاهرًا وباطنًا، عادلًا في الرعيَّة، رَحومًا حليمًا صالحًا، يعود المرضَى ويشهد الجنائز. ثم ولي بعده ولدُه الحكم بنُ هشام (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر العقد الفريد 4/ 490.

السنة الحادية والثمانون بعد المئة

السنةُ الحاديةُ والثمانون بعد المئة فيها أَمَر هارونُ أن يصدَّرَ في مكاتباته بعد البسملةِ الصلاةُ على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -. وغزا هارونُ بنفسه بلادَ الروم، فنازل حصنًا يقال له: الصَّفصاف، ففتحه عَنوة، وقال مروانُ بن أبي حفصة: [من الرجز] إنَّ أمير المُؤْمنين المصطفى ... قد ترك الصَّفصافَ قاعًا كالصَّفا (¬1) وحجَّ بالنَّاس هارونُ وفي صحبته وزيرُه يحيى بنُ خالد، وقد كان يختل من هارون، وبدت أَمارات تغيُّره عليه، فسأله في الكعبة أن يُعْفيَه من الوزارة وأن يجاورَ بمكَّة، فأَعفاه وأَذن له في المجاورة، وردَّ الخاتمَ إلى هارون، وقفل راجعًا إلى العراق، وأقام يحيى بمكَّة. فصل وفيها تُوفِّي الحسنُ بن قَحْطَبة ابنِ شَبيب الخُرَاسَانِيّ، أخو حُميد، وهما وأبوهما من كبار قوَّاد بني العباس، ومَن اجتهدوا في إِنشاء دولتِهم، وكان لهم عند أبي العباسِ وأخيه قدمُ صدقٍ ومكانةٌ عالية، وولَّوهم الولايات. وكان الحسن شجاعًا جَوَادًا، وتوفِّي في هذه السنةِ وهو ابنُ أربعِ وثمانين سنة (¬2). عبد الله بن المُبارك ابنِ واضِح، أبو عبد الرَّحْمَن، المَرْوَزيُّ، الحَنْظَليّ مولاهم، من أهل مَرو (¬3). ولد سنةَ ثمان عشرة. وقيل: سنة عشير ومئة. وطلب العلم، وروى رواياتٍ كثيرة، ¬

_ (¬1) في (خ): مثل الصفا، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 268، والمنتظم 9/ 57، والبداية والنهاية 13/ 609. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 268، وتاريخ بغداد 8/ 415، والمنتظم 9/ 58، وتاريخ الإِسلام 4/ 833، والبداية والنهاية 13/ 609. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 388، والمنتظم 9/ 58، وتهذيب الكمال 16/ 5، والسير 8/ 378، وتاريخ الإِسلام 4/ 882، والبداية والنهاية 13/ 610، وفي حواشيها مصادر أخرى.

وصنَّف كتبًا كثيرة في أبواب العلم وصنوفه، حملها عنه قومٌ وكتبها النَّاسُ عنه. وقال الشِّعرَ في الزهد والحثّ على الجهاد. وقدم العراقَ والحجاز والشَّام ومصرَ واليمن، وسمع علمًا كثيرًا. وكان ثِقَة سيِّدًا زاهدًا عابدًا ورِعًا شُجاعأا جَوَادًا إمامًا حجَّة كثيرَ الحديث. وكان يَتَّجِر ويُنفق على الفقراء والمجاورين بالحَرَمين وغيرِهم، وأقام طولَ عُمره يحجُّ سنةً ويغزو سنة. وكان أبوه تركيًّا مولًى لرجل تاجرٍ من بني حَنْظَلة، وهم بطنٌ من هَمَذان، وكان عبد الله إذا قدم الكوفةَ يخضع لولده (¬1) ويعظِّمهم، وكانت أمُّه خُوارِزْميَّة، قال: نظر أبو حنيفةَ إليَّ وإلى أبي فقال: أدَّت أُمُّ عبد الله الأمانة. وكان أشبهَ النَّاس بأبيه. سئل عن أوَّل أمره فقال: كنت يومًا في بستان وأنا شابّ مع جماعة من أترابي، فأكلنا وشربنا، وكنت مولَعًا بضرب العود، فأخذت العودَ في الليل لأضربَ به، فنطق العودُ وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] ضربت الأرضَ بالعود فكسرته، وصرفتُ ما كان عندي من الأمور التي تَشغلني عن ذِكر الله وعن الله تعالى، وجاء التوفيقُ من الله. وكانت دارُه بمَرْوَ كبيرة، وكان صحنُها مقدارَ خمسين ذراعًا في مثلها، وكان يأوي إليها أربابُ المروءات والحوائجِ وطلَّابُ العلم، وما دخل حمَّامًا قطّ، ثم قدم الكوفةَ فنزل دارًا صغيرة، فكان لا يأتيه أحد؛ لأنَّهم لم يكونوا يعرفونه، فكان يقول: ما العيشُ إلَّا ها هنا. وكان لا يجالس إلَّا كتبَه، فيقال له: أَلا تستوحش؟ ! فيقول: كيف أستوحشُ وأنا أجالس الله تعالى والملائكةَ والأنبياء والخلفاءَ والعلماء والأولياءَ والشُّهداء وغيرَهم؟ أفتراني أدع مجالسةَ هؤلاء وأجالسكم؟ ! وقال ابن مَعين: كان ابنُ المبارك من الربَّانيين في العلم، الموصوفين بالحفظ، المذكورين بالزُّهد، قدم بغدادَ غير مرة، وأثنى عليه علماءُ الشرق والغرب، كأحمد بن ¬

_ (¬1) أي: لولد ذلك التاجر. انظر تاريخ بغداد 11/ 389.

حنبل وسفيانَ الثوريِّ والفضيلِ بن عياض وبشرٍ الحافي، وربما فضَّلوه على الثَّوريّ، وكان سفيان الثوريُّ يقول: أَشتهي أن أكون مثل ابن المباركِ سنة، لا واللهِ ما أقدر ولا ثلاثةَ أيام، ابنُ المبارك أعلمُ أهل الشرِق والغرب. وقال سفيان بن عُيَينة: نظرت في أمر الصحابةِ وفي أمر ابنِ المبارك، فما رأيتُ لهم عليه فضلًا إلَّا صُحْبَتَهم لرسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والغزوَ معه. وقال ابن مَعين: ابن المبارك في كلِّ فنٍّ أمير المُؤْمنين، في الحديث وغيرِه. وقال إسماعيل بن عيّاش: ما على وجه الأرضِ مثلُ عبد الله بن المبارك، ولا أعلم خصلةً من خصال الخير إلَّا وقد جعلها اللهُ فيه، ولقد حدَّثني أصحابي أنَّهم صحبوه من مصرَ إلى مكةَ، فكان يطعمهم الخبيصَ (¬1) وهو صائمُ الدهر. وقال أشعثُ بن شعبةَ المِصِّيصي: قدم هارونُ أميرُ المُؤْمنين الرَّقَّة، وقدم ابنُ المبارك، فانجفل النَّاسُ خلف ابن المبارك، وتقطَّعت النِّعال وارتفعت الغَبرة، وأشرفت أمُّ ولدٍ لهارونَ من قصر، فلمَّا رأت النَّاسَ قالت: ما هذا؟ قالوا: عالمٌ من أهل خراسانَ يقال له: عبد الله بن المبارك، فقالت: واللهِ هذا المُلك، لا ملك هارونَ الذي لا يجمع النَّاسَ إلَّا بالشُّرَط والأعوان. وكان عبد الله يقول: لولا خمسةٌ لما تاجرت: الفضيلُ بن عياض، وسفيان الثَّوريّ، وابن عُيينة، وابن عُلَيَّة، ومحمَّد بن السمَّاك. وكان ينفق على الفقراء في كلِّ سنةٍ مئةَ ألفِ درهم. وكان الثوريُّ وفُضيلٌ ومشيخةٌ جلوسًا في الحرم، فطلع ابنُ المبارك، فقيل: هذا رجلُ أهل المشرق، فقال الفُضيل: وأهلِ المغرب وما بينهما جميعًا. وقال ابن المبارك: استعرتُ قلمًا بأرض الشَّام، فلمَّا قدمتُ مرو، نظرت فإذا هو في أقلامي، فرجعت إلى أرض الشَّام حتَّى رددتُه على صاحبه. وقال الحسينُ بن الحسن: كنا جلوسًا عند ابنِ المبارك، فجاءه سائل، فقال: يَا غلام، أَعطِه درهمًا، فأعطاه، فلما ولَّى السائل، قال له بعضُ أصحابنا: يَا أَبا عبدِ ¬

_ (¬1) الخبيص: الحلواء المخبوصة من التمر والسمن. المعجم الوسيط (خبص).

الرَّحْمَن، هؤلاء السؤال يتغدَّون بالشِّواء والفالُوذج، كان يكفيه قطعة، فلمَ أَمرتَ له بدرهم؟ فقال: يَا غلام، ردَّه، قد كنتُ أظنُّ أنَّهم يجتزئون بالخلِّ والبقل، فأمَّا إذا كان غداؤهم الشِّواءَ والفالُوذَج، فلا بدَّ من عشرة دراهم، يَا غلام، ادفع له عشرةَ دراهم. وقال الحاكمُ أبو عبد الله: سافر ابنُ المبارك فأطال السفر، فنزل على صاحبٍ له، فقال له: قد طالت علي العُزْبة، فاشترِ لي جاريةً من صفتها كذا وكذا، قال: فاشتريتها له، ودفعتها إلى أَهلي فأَصلحوها، وحملتها إليه، فأَقامت عنده تلك الليلة، ثم ردَها عليَّ وقال: بِعها، وسألها أهلي فقالت: واللهِ ما وضع يده عليّ. قال: فقلت له: طلبتَ الجاريةَ فاشتريتُها وعرضتها عليك، فرضيتَها، وأمرتُ أمَّ بناتي فهيَّأتْها, ولم تضع يدَك عليها؟ قال: إنني محتاجٌ إليها, ولمَّا خلوت بها ذكرت إخواني، فتذمَّمت أن أنال شهوة لا ينالونها, وليس في يدي ما يَسعهم، أَخرجها فبعها. وفي معناه يقول الشَّاعر: [من الطَّويل] وتركي مواساةَ الأخِلَّاءِ بالذي ... تنال يدي ظلمٌ لهمْ وعقوقُ وإنِّي لأستحيي من النَّاس أن أُرى ... بحالِ اتِّساع والصديقُ مُضيق (¬1) وقال أبو نُعيم الأَصْبهانِيّ: كان ابنُ المبارك يَتَّجِر ويَقدَم كل سنةٍ مكةَ، فيبعث بالصُّرر إلى أربابها، كفُضَيل بن عياض، وابن عُيينة، وابن عُلَيَّة، وغيرِهم. فقدم سنةً مكةَ فوجد ابنَ عُلَيَّة قد ولي الصَّدقات لهارون، فبعث بالصُّرر إلى أربابها ولم يبعث إلى ابن عُلَيَّة بشيء، وكان يعطيه في كلِّ سنةٍ خمسَ مئة درهم، فركب ابن عُلَيَّة إليه فسلَّم عليه، فلم يرفعْ به رأسًا ولم يكلّمه، فكتب إليه: أَسعدك اللهُ بطاعته، وتولَّاك بحفظه، وحاطك بحياطته، قد كنتُ منتظرَ البر والصِّلة منك لأتبرَّكَ بها، وجئتك مسلِّمًا فلم تكلِّمني، فأيُّ شيءٍ بدا مني؟ فعرِّفني حتَّى أعتذرَ منه. فلمَّا قرأها ابنُ المبارك قال: يأبى هذا الرَّجل إلَّا أن أَقْشِرَ (¬2) له العصا، وكتب إليه: [من السريع] يا جاعلَ العلم له بازيًا ... يصيد أموال المساكينِ ¬

_ (¬1) المنتظم 9/ 62. (¬2) في (خ): يَا هذا الرَّجل الآن اقشر، وهو تحريف، والمثبت هو الصواب، انظر ميزان الاعتدال 1/ 219، وتهذيب التهذيب 1/ 141.

احتلتَ للدُّنيا ولذَّاتها ... بحيلةٍ تذهب بالدِّين فصرتَ مجنونًا بها بعدما ... كنت دواءً للمجانين أين رواياتُك في سَرْدها ... عن ابن عونٍ وابن سيرين أين أحاديثُك والقول في ... لزوم أبوابِ السَّلاطين إنْ قلتَ أُكرهت فما هوْ كذا ... زلَّ حمارُ العلم في الطِّين (¬1) فلمَّا قرأ الأبياتَ بكى، ودخل على هارونَ فاستعفاه، فقال: لعلك التقيتَ ذاك المجنونَ المرْوَزي، فقال له: اِرحم شيبتي، فأَقاله، فبعث إليه ابنُ المبارك برسمه. وقال عليُّ بن الحسن بن شَقيق: كان ابنُ المبارك إذا جاء العامُ الذي يحجُ فيه، اجتمع إليه إخوانهُ من أهل مرو، فيقولون: الصُّحبةَ، فيقول: هاتوا نفقاتِكم، فيأخذها فيجعلها في صُندوق ويُقفل عليه، ثم يكتري لهم من ماله ويجهِّزهم بكلِّ ما يحتاجون إليه من مروَ إلى مكَّة [و] قال لهم: ما الذي طلب منكم عيالُكم من المتاع؟ فيقولون: كذا وكذا، فيشتري لهم من متاع مكَّة ما سمَّوه، فإذا قدم المدينةَ سألهم، فيذكرون له المتاع، فيشتريه، فإذا عادوا إلى بغداد، سألهم كذلك، فإذا قدموا مروَ وضع لهم طعامًا عظيمًا، وأَحضرهم فأكلوا، وفتح الصُّندوق وأَخرج تلك الصُّررَ وعلى كلِّ صرَّةٍ اسمُ صاحبها، وأخرج لهم هدايا مكةَ والمدينةِ وبغداد، فيدفع الجميعَ إليهم، ويبيِّض أبوابَهم (¬2). وقال الحاكمُ أبو عبد الله: كان عبد الله بن المبارك يحجُ ومعه أحمال وصناديقُ وخدم كثير، فنزلوا منزلًا عن مرو، وكان مع بعض خدمه قَبَجةٌ (¬3)، فماتت، فألقاها الخادمُ على الكُناسة، وشرعوا في الرحيل وتجهيزِ الأثقال، وابنُ المبارك واقفٌ على دابَّة له ينتظر المسير، فنظر إلى جويريةٍ تُخرِج رأسَها من باب صغيرٍ وترجع لعلها ترى فرصةً لكي لا يراها أحد، فتغافل ابنُ المبارك عنها، فخرجت في إِزارٍ ليس عليها ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 4/ 140، والسير 8/ 411 - 412، وتاريخ الإِسلام 4/ 897، وهي في روضة العقلاء لابن حبان ص 36 - 37 باختلاف في بعض الأبيات. (¬2) في تاريخ بغداد 11/ 395: فإذا وصل إلى مرو جصَّص أبوابهم ودورهم. (¬3) القبجة: الحَجَل، تقع على الذكر والأنثى. القاموس (قبج)، وانظر الخبر في المنتظم 9/ 62 - 63.

قميص ولا مِقْنَعة، فحملت القَبجَة ودخلت الدارَ تعدو، فقال عبدُ الله لغلامه: اِذهب إلى هذا البابِ واسأل عن الجارية ولمَ أخذت القبجة، فجاء الغلامُ فطرق الباب، فخرجت الجارية، فسألها, فسكتت، فألحَّ عليها، وجاء ابنُ المبارك فسألها, فقالت: أنا وأخت لي في هذه الدارِ ليس في منزلنا إلَّا إزار واحد إذا لبستُ بَقِيَتْ أختي عُريانة، فهو كسوتُنا وفراشنا، فقال: ليس لكم قيِّم؟ قالت: لا والله، وكان أبونا رجلًا موسِرًا، فظُلمنا وغُصبنا على أموالنا، وبقينا بحالٍ تحل لنا الميتة، فرقَّ لها عبد الله، وقال لغلامه: اِلحق فردَّ الأثقال، وقال لوكيله: ما معك من النَّفقة؟ قال: ألفُ دينار؟ قال: اعزلْ منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مروَ وصُبَّ الباقيَ في إزار هذه الجارية، ففعل الغلام, وعاد إلى مروَ، فقيل له: ما الذي ردَّك؟ فقال: استقبلَنا ما هو أفضلُ من الحجّ. وقد رُويت هذه الحكايةُ على وجه آخرَ، فقال عليُّ بن الحسن بن شَقيق: توجَّه ابن المبارك من مَرْوَ إلى الكوفة للحجّ، فرجع بعد ذلك عن قُرب، فسألتُه عن سبب رجوعِه، فقال: خرجتُ إلى موقف الكوفةِ وفي كمِّي خمسُ مئة دينار لأشتريَ بها جِمالًا، فرأيت امرأةً تسارق النَّاسَ من بعيد، وتتقدَّم إلى مزبلةٍ هناك عليها بطَّة ميِّتة تريد أن تأخذَها، فإذا نظر إليها أحدٌ أمسكت، فغفل النَّاس عنها، فأخَذَتها وأنا أُسارقها بالنظر، فتبعتُها وقلت لها: أَتأكلين الميتة؟ فقالت: يَا عبدَ الله، لا تسألْني (¬1). فوقع كلامُها في قلبي، قال: فأَلححت عليها، فقالت: قد أحوجتَني إلى هتك سِتري وكشف سرِّي، أنا امرأةٌ شريفة، مات زوجي وترك أربعَ بناتٍ يتامى وليس يسترنا إلَّا الحيطان، ولنا أربعةُ أيام ما أكلنا شيئًا، فخرجت أتسبَّب لهنَّ في شيءٍ فلم أجد غيرَ هذه البطَّة، فأخذتها لأُصلحَها وأحملَها إلى بناتي فيأكلْنها. قال: فقلتُ: ويحَكَ يَا ابن المبارك، وأين أَنْتَ عن هذه وبناتِها، فقلت: افتحي حِجْرَك، ففتحته، فصببتُ الدنانير فيه، ونزع اللهُ من قلبي شهوةَ الحجّ في تلك السنة، وعدتُ إلى بلدي وأقمت حتَّى عاد النَّاسُ من الحجّ، فخرجت أتلقَّاهم، فجعلت كلَّ مَن أقول له: قَبِلَ الله حجَّك، يقول: وأنت قبل الله حجَّك، وأكثر عليَّ النَّاس، فبتُ متفكِّرًا، فرأيت رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في المنام ¬

_ (¬1) في (خ): ألا تسألني. ولا يستقيم بها الكلام، وانظر الخبر في ترتيب المدارك 1/ 304.

فقال لي: يَا ابنَ المبارك، لا تعجبْ، فإنَّك أغثت ملهوفةً من ولدي، فسألتُ الله أن يخلق على صورتك مَلَكًا يحجُّ عنك إلى يوم القيامة، فهو يحجُّ عنك، فإن شئتَ أن تحجَّ وإن شئتَ لا تحجّ. وقال عَبْدَةُ (¬1) بن سليمان: كنا في سريةٍ مع ابن المباركِ في بلاد الرُّوم، فصادفنا العدوّ، فلما التقى الصفَّان، خرج رجلٌ من العدوِّ فدعا إلى البِراز، فخرج إليه رجل ملثَّم، فطارده ساعة، فطعنه فقتله، ثم خرج آخَرُ من العدوّ، فطعنه فقتله، ثم خرج آخر وآخرُ وهو يقتلهم، فقتل أربعة، فازدحم عليه النَّاسُ وهو ملثَّم بكمِّه، فأخذتُ بطرف كُمِّه فمددته، فإذا هو عبدُ الله بن المبارك، قال: فقال: يَا أَبا عَمرو، وأنت ممَّن يُشَنِّع علينا؟ وقال ابنُ المبارك: حضرت بعضَ الغزوات، فبارزني عِلجٌ وطال القتالُ بيننا، وحضر وقتُ الصلاة، فقلت له: أريد أن أصلِّي، فقال: صلِّ فأنت آمن، فصلَّيت، فجاء وقتُ صلاته، فقال: أريد أن أصلِّي فأمِّني، فقلت: أَنْتَ آمن (¬2)، فأخذ في صلاته، وحانت لي منه فرصة، فرفعت السيفُ لأضربَه، فسمعت قائلًا من الهواءِ يقول: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] فوقع السيفُ من يدي، فلمَّا فرغ من صلاته قال: رأيتك رفعتَ السيف، فما أردتَ أن تفعلَ بعد الأمان؟ فقلت: أردت أن أقتلَك فسمعتُ قائلًا من الهواء يقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}، فبكى وقال: نِعمَ الربُّ ربٌّ يعاتب وليَّه في عدوِّه، ثم أَسلم وعاد معي إلى العسكر، فاستُشهد في بعض المغازي. وقال: خرجنا في بعض الغزواتِ ومعنا فتًى كثيرُ الصلاة والصيام، ففقدتُهُ مدَّة، ثم حاصرْنا حصنًا، فبرز عِلج من الزِّحام فقتل مسلمًا، ثم برز إليه آخَرُ فقتله، حتَّى قتل عشرة من المسلمين، فبرزتُ إليه، فتأمَّلته فإذا به ذلك الفتى، فقلت: فلان؟ قال: نعم، ¬

_ (¬1) في (خ): عبد الله، والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 406، والمنتظم 9/ 59، والسير 8/ 394، وتاريخ الإِسلام 4/ 889. وعبدة بن سليمان من رجال التهذيب، روى له أبو داود، وهو صاحب ابن المبارك، انظر تهذيب الكمال (4202). (¬2) في (خ): أمين، في الموضعين!

قلتُ: ويحك ما هذا؟ قال: بُليت بعشق امرأةٍ من الروم، ففعلَتْ فيَّ ما ترى، فقلت: ويحك عُدْ إلى الإِسلام، فقال: بَعدَ ما وُلد لي أولادٌ منها، قلت: فالقرآنُ الذي كنت تقرؤه؟ قال: نسيتُهُ كلَّه غيرَ آية واحدة، وهي قولُه تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] ثم انحرف، فطعنتُهُ فقتلته. وقال: جاء أوانُ الحجّ (¬1)، فقلت: أُجاهد في هذا العام، وقَويَ عزمي على الجهاد، فنمتُ، فرأيتُ في المنامِ قائلًا يقول: كم تُلِحّ؟ إن غزوتَ العامَ أُسرت، وإن أُسرتَ تنصَّرت. وقال مُحَمَّد بن عيسى: كان ابنُ المبارك كثيرَ الاختلاف إلى طَرَسُوس، وكان ينزل الرَّقة في خان، وكان يختلف إليه شابّ يقوم بحوائجه ويسمع عليه الحديث، فقدم الرقَّة مرَّةً فلم يره، فسأل عنه، فقيل: هو محبوسٌ بدَين، قال: وكم دَينُه؟ قالوا: عشرة آلافِ درهم، فدعا بصاحب الدَّين ليلًا ودفع إليه المال، وسأله ألا يُعلم الفتى. وسافر ابنُ المبارك، وأَخرج الرجلُ الفتى مَن الحبس ولم يعلم مَن قضى دينه، وقيل للفتى: كان ابنُ المبارك ها هنا والبارحةَ سافر، فخرج خلفه فلحقه على مراحل، فقال له: يا فتى، ما الذي أَبطأ بك؟ فقال: كنتُ محبوسًا بدين فجاء رجلٌ فقضاه عنِّي، قال: مَن الرَّجل؟ قال: لا أعلم، فقال ابنُ المبارك: الحمد الله. ولم يَعلم الفتى أنَّ ابن المبارك قضاه، ولم يُخبر صاحبُ الدَّين أحدًا بشيءٍ حتَّى مات ابنُ المبارك. وكان إذا أقام ببغدادَ يتصدَّق كلَّ يوم بدينار. وقال القاسم بن محمَّد (¬2): قلت في نفسي: بأيِّ شيءٍ فُضّل هذا الرجلُ علينا حتَّى اشتهر بين النَّاس هذه الشُّهرة؟ ! إنْ كنا لَنصلِّي كما يصلي، ونصوم كما يصوم، ونحجُّ كما يحجّ، ونغزو كما يغزو. قال: فدخلتُ عليه في بعض الليالي وإذا به في الظّلمة، فخرجت وأتيتُه بسراج، وإذا وجهُه ولحيتهُ قد امتلآ من البكاء والدُّموع، فلعله ذكر ظُلمةَ القبر، فقلت في نفسي: بهذه الخشيةِ فضِّل علينا. ¬

_ (¬1) في نسخة في هامش (خ): حجي. (¬2) في (خ): محمَّد بن القاسم، والمثبت من صفة الصفوة 4/ 145، وهو الصواب إن شاء الله، فقد ذكره المزي في تهذيب الكمال (3508) في الرواة عن ابن المبارك، وأنه مروزي.

ذكر نُبذةٍ من كلامه: كان يقول: خرج أهل الدُّنيا ولم يذوقوا طيِّبَ ما فيها، قيل: وما هو؟ قال: معرفةُ اللهِ تعالى. وكان يقول: لَأن أَرُدَّ درهمًا من شُبهةٍ أحبُّ إليَّ من أن أتصدَّقَ بمئة ألفِ درهم. وقيل له: ما التواضع؟ قال: التكبُّر على الأغنياء. أخذ هذا المعنى شاعرٌ (¬1) فنظمه فقال: [من البسيط] لم ألقَ مُستَكبِرًا إلَّا تحوَّل لي ... عند اللقاءِ له الكِبرُ الذي فيهِ ولا حَلَا لي من الدُّنيا ولذَّتِها ... إلَّا مقابلتي للتِّيه بالتِّيه وسُئل: مَن النَّاس؟ فقال: العلماء، قيل: فمَن الملوك؟ قال: الزهَّاد، قيل: فمن السَّفِلة؟ قال: الذين يأكلون الدُّنيا بالدِّين. وعطس رجلٌ عنده فلم يقل: الحمدُ الله، فقال له: إذا عطس الرجلُ أَيشٍ يقول؟ فقال: الحمدُ لله، فقال له: يرحمكَ الله، فعجب النَّاسُ من لُطفه. وقال له رجلٌ: كم تكتب؟ ! فقال: لعل الكلمةَ التي أنتفعُ بها وفيها نجاتي لم أسمعْها بعد. وقال مُحَمَّد بن إبراهيمَ البَهراني (¬2): أملى عليَّ ابنُ المبارك وهو بطَرَسوسَ كتابًا إلى الفُضيل بن عياض وهو بمكَّةَ فيه يقول: [من الكامل] يَا عابدَ الحَرَمَين لو أَبصرْتَنا ... لَعلمتَ أنَّك في العبادة تلعبُ مَن كان يَخضِب خدَّه بدموعه ... فنحورُنا بدمائنا تتخضَّب أو كان يُتعِبُ خيلَه في باطلٍ ... فخيولُنا يوم الكَريهةِ (¬3) تتعب ريحُ العَبير لكمْ ونحن عَبيرُنا ... رَهَجُ (¬4) السَّنابك والغبارُ الأطيب ¬

_ (¬1) هو شهاب الدين سعد بن مُحَمَّد الصيفي التَّمِيمِيّ المعروف بـ: حيص بيص، والبيتان في ديوانه ص 417. (¬2) في (خ): الزواني، وهو تحريف، والمثبت من طبقات الشافعية الكبرى 1/ 286، وانظر سير أعلام النبلاء 8/ 412، وتاريخ الإِسلام 4/ 895، والنجوم الزاهرة 2/ 103. (¬3) في (خ): العريكة، والمثبت من طبقات الشافعية 1/ 287. (¬4) في (خ) وهج، والمثبت من المصادر. والرهج: الغبار.

ولقد أتانا في مقال نبيِّنا ... أخبارُ قول صادق لا يكْذب لا يستوي وغبارُ خيلِ الله في ... أنف امرئٍ ودخانُ نارٍ تَلْهَب (¬1) قال: فأتيتُ بالكتاب إلى الفُضيل، فقرأه وبكى، وقال: صدق أبو عبد الرَّحمنِ ونصح. ولابن المبارك أشعارٌ كثيرة في الزُّهد والحِلم وغيرِ ذلك. وقد مدحه عمارُ بن الحسن (¬2) فقال: [من الطَّويل] إذا سار عبدُ الله من مَرْوَ ليلةً ... فقد سار عنها نورُها وجماُلها إذا ذُكر الأخيارُ في كلِّ بلدةٍ ... فهم أنجمٌ فيها وأنت هِلالُها ذكر وفاته: قال سعيد بن نعيم المَصِّيصي: خرج عبد الله بن المبارك من المصّيصة في شعبانَ سنةَ إحدى وثمانين ومئة، فشيّعه أبو إسحاق المزاريّ ومَخلدُ بن الحسين وعلي بن بكَّار مشاةً إلى باب الشَّام يَبْكون، ثم قدم علينا إسماعيلُ الجعفريُّ الكُوفيّ، فقال لأبي إِسحاق: شهدتُ عبدَ الله بن المبارك قد خرج من سفينةٍ بهِيت، فمات بها ليلةَ الثُّلاثاء لثلاثَ عشرةَ مَضَين من شهر رمضان، فبكى أبو إسحاقَ وعزَّاه النَّاس. وقيل: مرض في السَّفينة ومات، وأخفى أصحابُه موتَه ليحملوه إلى مَرْوَ، فلمَّا كان نصفُ الليل، رأى أهلُ هِيتَ عمودًا من نور قد نزل من السَّماء على السفينة، فثار أهل هيت وقالوا: لا يُخرَجُ هذا الرجلُ الصالح من أرضنا، ونحن أحقّ به, لأن الله ساقه إلينا، فأَخرجوه ودفنوه بهِيت، وقبرُه ظاهرٌ يُزار. ولمَّا احتُضر قال لنصرٍ غلامِه: ضعْ رأسي على التُّراب، فبكى، فقال: ما يُبكيك؟ فقال: ذكرتُ ما كنتَ فيه من النَّعيم، وها أَنْتَ تموت غريبًا فقيرًا، فقال: اسكُت، فإنِّي سألت الله أن يُحييَني حياةَ الأغنياءِ السُّعداء ويميتَني موتَةَ الشُّهداء، ثم فتح عينيه وضحك وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61]. ¬

_ (¬1) إشارة إلى قول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم" أخرجه أَحْمد (7480) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) في (خ): الحسين، والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 402، وتهذيب الأسماء واللغات 1/ 285، والسير 8/ 390، والطبقات السنية 4/ 199.

ومات وعُمره ثلاث وستُّون سنة. وقيل: إنَّه مات سنةَ ست وسبعين ومئة. وجاء البريدُ إلى الرَّشيد بوفاته، فقال: مات سيِّد العلماءِ والزهَّاد، ما رأيته قطّ، ولكن أَرعى له بيتًا قاله فينا: [من البسيط] لولا الخلافةُ ما قامت لنا سُبُلٌ ... وكان أضعفُنا نَهبًا لأَقوانا (¬1) يَا غلام، اِئذن للنَّاس يعزُّوني في أبي عبدِ الرَّحمن. وكان ابنُ المبارك قد قدم بغداد، فأتاه هارونُ الرشيد للزيارة، فقعد على باب البيتِ الذي هو فيه فلم يفتحْ له الباب، وقال: أنا عنه في غنىً، فقام هارونُ وانصرف، وبعث إليه يحيى بن خالد يستأذنه في زيارته، فقال له: يَا يحيى، أَمَا يستحيى مثلُك يكون رسولَ مثله؟ ! ولم يأذنْ له. وقال أبو حاتِم الفِرَبْري: رأيت ابنَ المباركِ في منامي واقفًا على باب الجنَّة وبيده مفتاح، فقلت: ما هذا؟ قال: مفتاحُ باب الجنَّة، دفعه إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى أزورَ الربَّ سبحانه وقال: كن أميني في السَّماء كما كنتَ أميني في الأرض (¬2). وقال صخرُ بن راشد: رأيت ابنَ المبارك في المنام، فقلت: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: غفر لي مغفرةً أحاطت بكلِّ ذنب. وقال صخر (¬3) أَيضًا: رأيت النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في المنام، فقلت: يَا رسولَ الله، ما فعل اللهُ بابن المبارك؟ فقال: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] الآية. وكان ابنُ المبارك قد طاف الدُّنيا شرقًا وغربًا، وبُعدًا وقُربًا، وأَسند عن كبار الأئمَّة، منهم: هشامُ بن عروةَ وسعيدُ بن عبد العزيز وغيرُهما، وروى عنه جمٌّ غفير. وقال فَضَالة النَّسوي: كنَّا أصحابَ الحديث إذا اختلفنا في مسألةٍ أو في حديثٍ قلنا: مرُّوا بنا إلى الطَّبيب، يعني ابنَ المبارك، وهو أعلمُ من الثوريِّ وأفضل. ¬

_ (¬1) البيت من قصيدة طويلة، انظر حلية الأولياء 8/ 164، وبهجة المجالس 1/ 232، والسير 8/ 414، وتاريخ الإِسلام 4/ 896، وطبقات الشافعية الكبرى 1/ 287. (¬2) في تاريخ الإِسلام 4/ 899، والسير 8/ 419. دفعه إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وقال: حتى أزور الرب تعالى فكن أميني ... (¬3) في تاريخ بغداد 11/ 409: الفريابي، بدل صخر.

عفيرة العابدة البصرية

وقال سويد بنُ سعيد: رأيت ابنَ المبارك أتى زمزم، فأخذ شربةً من مائها وقال: اللهم إن نبيَّك - صلى الله عليه وسلم - قال: "ماءُ زمزمَ لما شرب له" (¬1) وإنِّي قد شربتُها لعَطَشِ يومِ القيامة. واتَّفقوا على فضل ابنِ المبارك، وأَمانته، وصدقِه، وثقته، وزُهده، وجهادِه، واجتهاده، وحِكمته، وكرمِه، وسَخائه، وفصاحته، ونظمه، ونثره، وبلاغته، وأنَّه من أكابر المسلمين والأئمَّة المخلصين. وله التصانيفُ الكثيرة في فنون العلوم، منها كتاب "الزُّهد" وكتاب "الجهاد" وغيرُ ذلك، رحمه اللهُ تعالى. عُفَيْرة (¬2) العابدة البصريَّة كانت من العابدات الخائفات. قال محمَّد بن عبيد: دخلنا على عُفيرةَ بالبصرة، فسألناها الدُّعاء، فقالت: لو خَرِس الخاطئون ما تكلَّمت عجوزكم، ولكن المُحْسِن أمر المسيءَ بالدُّعاء، جعل اللهُ قِراكم الجنة، والموت منِّي ومنكم على بال. وكان لها ابنُ أخٍ غائب، فبُشِّرت بقدومه، فبكت وقالت: أَذكرني قدومُه القدومَ على الله تعالى، فقيل لها: فهذا يومُ سرور، فقالت: ما أجد للسُّرور في قلبي موضعًا مع ذِكر الآخرة إذا قدمنا على الله تعالى. وكانت لا تنام الليلَ ولا تهدأ، وتقول: قَطَعَ ذِكرُ العَرْضِ على الله أوصال الخائفين. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (3062)، وأَحمد (14849) من حديث جابر - رضي الله عنه -، والخبر في تاريخ بغداد 11/ 405. (¬2) في (خ): عفرة، والمثبت من المنتظم 9/ 56، وصفة الصفوة 4/ 33، والبداية والنهاية 13/ 608. وقد ذكراها في سنة ثمانين ومئة.

السنة الثانية والثمانون بعد المئة

السَّنةُ الثانيةُ والثمانون بعد المئة فيها أخذ هارونُ البيعةَ لابنه المأمونِ بعد الأمين، وأَقطعه خُراسانَ، وضمَّه إلى جعفرِ بن يحيى. وبايعه بنو هاشم: موسى بن عيسى، وجعفرُ بن المنصور، وعبدُ الملكِ بن صالح، وغيرُهم. وقدم الشافعيُّ رحمةُ الله عليه بغداد، فوافق عقدَ الرشيد البيعةَ لابنه المأمونِ بعد الأمين، وجلس النَّاسُ في دار العامَّة ينتظرون الإِذن، وقالوا: كيف ندعو لهما؟ ! إنْ دعونا لهما بالبقاء كان دعاءً على أبيهما، وإن سكتنا كان تقصيرًا، فأُذن للنَّاس، فقام الشافعيُّ رحمةُ الله عليه فقال: [من الكامل] لا قَصَّرا عنها ولا بَلَغَتْهما ... حتَّى يطولَ على يديك طِوالُها (¬1) وغزا الصَّائفةَ عبدُ الرَّحمن بن عبد الملك فبلغ أُفْسوسَ (¬2) مدينةَ دقيانوس ومكانَ الكهف، وكان قُسطنطين بن أليون ملكُ الروم قد بدا منه جَوْرٌ وفساد، فسَمَلَتْه الروم (¬3)، وملَّكت أمَّه، واسمُها رينى (¬4)، وقدم يحيى بنُ خالد من مكةَ إلى الرقَّة. وفيها: حُملت ابنة خاقان ملكِ الخَزَر إلى الفضل بنِ يحيى وهو بخُراسان، فماتت ببَرْذَعَة، وكان على إرْمِينِية سعيدُ بن سَلْم بن قُتيبةَ الباهليّ، وأُخبر ملكُ الخزر أنَّ ابنته قُتلت غِيلة، فاستعدَّ لحرب المسلمين. ¬

_ (¬1) ذِكْر الشَّافعيّ في هذا الخبر وهمٌ تابع فيه المصنفُ جدَّه، إذ أورده في المنتظم 9/ 66 - 67، والأذكياء 102، وقد ذكر خبر أخذ هارون البيعة لابنه: الطبري 8/ 269، وابن الأثير 6/ 161، والذهبي 4/ 780، وابن كثير 13/ 614 ولم يذكروا قدوم الشَّافعيّ، بل إن ابن كثير نصَّ في تاريخه 13/ 620 على أن الشَّافعيّ إنما قدم بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين والبيت الذي نُسب إلى الشَّافعيّ هو لطُريح بن إسماعيل تمثل به عبد الله بن مصعب بن ثابت لما بايع الرشيد لولده، وانظر تاريخ الطبري 8/ 364، والمنتظم 9/ 97. (¬2) في (خ): أقسوس، وفي تاريخ الطبري 8/ 269: دفسوس، والمثبت من معجم البلدان 1/ 231، والمنتظم 9/ 67، والكامل 6/ 161. (¬3) سمل العين: فقأها بحديدة محماة. مختار الصحاح (سمل). (¬4) في (خ): دنيا، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 269، والكامل 6/ 161، والبداية والنهاية 13/ 614.

عامر بن عمارة

وحجَّ بالنَّاس موسى بنُ عيسى بن موسى بنِ محمَّد بن عليّ. فصل وفيها تُوفِّي عامر بن عُمارة ابن خُرَيْم الناعم، أبو الهَيذام، من بني مُرَّة (¬1). كان زعيم قيسٍ في الفتنة التي وقعت بين قيس والحمانيةِ وأطفأها جعفرُ بن يحيى بنِ خالد، وله فيها أشعارٌ كثيرة. قال المَرزُباني: نزل أبو الهيذام الشاميُّ سِجِستان، فقتل عاملٌ لهارونَ بها أخًا لأبي الهَيذام، فحزن عليه حُزنًا كثيرًا، وقال فيه الأَشعار، فمن ذلك: [من الطَّويل] سأبكيكَ بالبِيضِ الرِّقاق وبالقَنا ... فإنَّ بها ما يُدرِكُ الطَّالبُ الوِتْرا ولسنا كمَنْ يبكي أخاه بعَبْرَةٍ ... يُعَصِّرُها من ماء مُقْلَتِه عَصْرا وإنَّا أُناسٌ ما تَفيض دموعُنا ... على هالكٍ منَّا وإنْ قَصَم الظَّهرا ولكنَّنا نشفي الفؤادَ بغارةٍ ... تُلَهِّبُ في قُطْرَي كتائبها جَمْرا (¬2) ثم قوي أمرُ أبي الهيذام، واشتدَّت شوكتُه، وضَرَّب بين القيسية واليمانية، فأَعيت على هارونَ الحيلُ فيه، فاحتال عليه بأخٍ له وأرغبه، فاغتاله وقيَّده، وبعث به إلى هارونَ وهو بالرقَّة، فلمَّا دخل عليه قال: [من الطَّويل] وأَحسِنْ أميرَ المُؤْمنين فإنَّه ... أبى اللهُ إلَّا أن يكونَ لك الفضلُ (¬3) فأطلقه وأَحسن إليه ومَنَّ عليه. وقال المدائنيّ: كان سببُ هذه الفتنة أنَّ رجلًا من بَلْقَين مرَّ على مَبطَخةٍ بالبَلْقاء، فأخذ منها بِطِّيخة، فنهاه صاحبها، فشتمه، وكانت لرجل من جُذام، فقام إليه الجُذاميّ فقتله، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق (عاصم- عائذ) 393، وتاريخ الإِسلام 4/ 1020. (¬2) تاريخ دمشق 394، تاريخ الإِسلام 4/ 1021، الأمالي 1/ 267، زهر الآداب 2/ 1010، الحماسة البصرية 1/ 239، معاهد التنصيص 1/ 251. ونسب المرزباني في معجمه ص 180 الأبيات للفضل بن عبد الصَّمد الرَّقاشيّ. (¬3) في (خ): يكون الفضل، والمثبت من تاريخ دمشق 394، وتاريخ الإِسلام 4/ 1021، وسمط اللآلي 1/ 593، ومعاهد التنصيص 1/ 251.

عبد الله بن عبد العزيز

فهاجَت الحربُ سنين بين القيسية واليمانية، قُتل من الفريقين خلقٌ عظيم، وكانت الحربُ بالبَلقاء والرُّبَّة والبَثَنيَّة (¬1)، وتَعَدَّوا إلى الغوطة، فأحرقوا ضِياعها، منها داريَّا، فكان رأسَ الفتنة أبو الهيذام، ثم اصطلحوا على يد جعفر. ومن شعر أبي الهَيذام: [من البسيط] لمَّا رأيت حُماةَ القوم قد وَكَفوا (¬2) ... وقدَّموا رايتَي عَنْسٍ وخَوْلانا (¬3) وجالت الخيلُ أم كادت تجول بنا ... ناديتُ مُسْتَنْجِدًا يَا قيسَ عَيلانا فبات جَمْعُهمُ حولي كأنهمُ ... غُلْبُ الأُسود التي تعدو بخَفَّانا (¬4) وقلت لا يَغْلِبَنْكمْ مَعْشرٌ قُزُمٌ ... صُفرُ الوجوه بنو الشَّيطان قحطانا فجالِدوهم بأسيافٍ مصفَّحةٍ ... وراثةً عن أبينا الشيخِ عَدنانا ومات أبو الهَيذامِ في هذه السَّنة. عبد الله بن عبد العزيز ابن عبدِ الله بن عبد الله بن عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -، أبو عبد الرَّحمن العُمَرِيّ (¬5). من الطَّبقة السَّابعة من أهل المدينة، وأمُّه أَمَة الحميد بنتُ عبد الله بنِ عياض من الأَوس. كان عبد الله ناسكًا عالمًا عابدًا، تعبَّد وسكن المقابر، وكان لا يُرى إلَّا وفي يده كتابٌ يقرؤه، وترك مجالسةَ النَّاس، فقيل له في ذلك، فقال: لم أرَ أوعظَ من قبر، ولا آنسَ من كتاب، ولا أسلمَ من الوَحْدة، فقيل له: قد جاء في الموحدة ما جاء، فقال: لا ¬

_ (¬1) الرُّبَّة: قرية في طرِف الغور بين أرض الأردن والبلقاء، والبثنية: اسم ناحية من نواحي دمشق، وقيل: هي قرية بين دمشق وأَذْرِعات. معجم البلدان، وقد اختصر المصنف هذا الخبر جدًّا، وانظره بتمامه في تاريخ دمشق 395 - 415. (¬2) في تاريخ دمشق 419: دلفوا. (¬3) في (خ): عبس وذبيانا، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ دمشق. (¬4) خفان، كعفان: مأسدة قرب الكوفة. القاموس المحيط (خفف). (¬5) طبقات ابن سعد 7/ 613، المعارف 186، حلية الأولياء 8/ 283، صفة الصفوة 2/ 181، المنتظم 9/ 98، التبيين 411، تهذيب الكمال (3383)، السير 8/ 373، تاريخ الإِسلام 4/ 877.

تُفسد إلَّا جاهلًا. وكان من الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر؛ قال: إنَّ من غفلتك عن نفسك إِعراضَك عن الله، بأن ترى ما يُسخِطُه فتُجاوزَه، ولا تأمرَ ولا تنهى خوفًا ممَّن لا يملك لك ضرًّا ولا نفعًا، ومَن ترك الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر مخافةَ المخلوقين، نُزعت منه هيبةُ الله، فلو أمر ولدَه أو بعض مواليه بأمرٍ لاستخفَّ به. وقال سعيد بن سليمان: كنت بمكَّة وإلى جانبي عبد الله بن عبد العزيز العُمريّ، وقد حجَّ هارون، فقال له إنسان: هذا أميرُ المُؤْمنين يسعى وقد أُخلي له السَّعْيُ (¬1)، فقال العمريُّ: لا جزاك اللهُ عني خيرًا، كلَّفتَني أمرًا كنت عنه غنيًّا. ثم علَّق نعليه وقام، فتبعتُه، وأقبل هارونُ من المروة يريد الصَّفا، فلمَّا نظر إليه صاح: يَا هارون، فقال: لبَّيك يَا عم، قال: اِرقَ الصفا، فلمَّا رَقِيَه قال: اِرمِ بطَرْفِك إلى البيت، فقال: قد فعلت، قال: كم هم؟ قال: ومَن يُحصيهم؟ قال: فكم في النَّاس مثلُهم؟ قال: خلق لا يُحصيهم إلَّا اللهُ تعالى، فقال: اِعلم أيها الرَّجل أنَّ كلَّ واحد منهم يُسأل عن خاصَّة نفسه، وأنت تُسأل عن كلِّ واحدٍ منهم، هؤلاء كلُّهم خُصماؤك يومَ القيامة، فانظر أيَّ رجل تكون. فبكى هارونُ وجلس، وجعلوا يعطونه منديلًا منديلًا للدُّموع. قال: وأخرى أقولها لك، قال: قل يَا عمِّ، قال: إنَّ الرَّجل لَيُسرع في ماله فيستحقُّ الحَجْرَ عليه، فكيف بمن أَسرع في مال المسلمين؟ وهارونُ يبكي، وهو يقول له: يَا هارون، فعلتَ وفعلت، فقال له: فماذا تريد؟ قال: تفعلُ كذا وكذا، فقال له هارون: نَعَم يَا عمّ، نعم يَا عم. فكان هارونُ يقول: إنِّي لأُحبّ أن أحجَّ في كلّ سنة، ما يمنعني إلَّا رجل من ولد عمر - رضي الله عنه - ثَمَّ يُسمعني ما أكره. وذكر الطبريُّ أنَّ الرشيد أرسل إليه كيسًا فيه ألفُ دينار (¬2) مع الأمينِ والمأمون، فاعترضاه بمكَّة وقالا: يَا عمّ، أميرُ المُؤْمنين يقول لك: خذها وانتفع بها أو فرِّقها (¬3)، فقال: هو أعلمُ بمَن يفرِّقها لهم. ثم أخذ من الكيس دينارًا واحدًا وقال: كرهتُ أن ¬

_ (¬1) في المنتظم 9/ 99، وصفة الصفوة 2/ 182: المسعى، وهو الأشبه. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 358: ألفًا دينار. (¬3) في (خ): وفرقها.

أجمعَ على هارونَ سوءَ القول وسوءَ الفعل. ثم إنَّ العُمريَّ بعد ذلك خرج إلى هارون ليَعِظَه، فلما نزل الكوفةَ رجف العسكر، حتَّى لو كان نزل بهم مئةُ أَلْفٍ من العدوِّ ما زادوا على هَيبته، ثم رجع ولم يَصِل إليه. وقال الطبري: وبلغ الرشيدَ، فجمع العُمَريّين وقال: ما لي ولابن عمِّكم؟ ! احتملتُه بالحجاز فشَخَص إلى دار مُلكي يريد أن يُفسد على أوليائي، ردُّوه عني، قالوا: ما يَقبل. فكتب إلى الكوفة إلى موسى بنِ عيسى أن يردُّوه برفقٍ، فدعا موسى ببُنيٍّ له صغيرٍ عشرِ سنين قد حفظ الخطبَ والمواعظ، فذكر ما لم يسمع العمريُّ بمثله، فأخذ نعلَيه وقام وهو يقول: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} (¬1) [الملك: 11]. وقال الطبريّ: قال الرشيد: واللهِ ما أدري ما آمرُ في أمر هذا العُمَريّ، أكره أن أقدَمَ عليه وله خَلَفٌ أكرههم، وإنِّي لأحبُّ أن أعرفَ طريقته ومذهبه، وما أثق بأحدٍ أبعثه إليه، فقال له عمرُ بن بَزيع والفضل بن الرَّبيع: فنحن، قال: فأنتما. وكانوا بطريق مكة، وكان العمريُّ يسكن بالبادية بخلْص (¬2)، فأتيا إليه في زِيّ الملوك والطِّيبُ يفوح من ثيابهم، وإذا به في مسجد، فدخلا عليه وسلَّما، وقالا: يَا أَبا عبدِ الرَّحمن، نحن رسلُ مَن خلفنا من أهل المشرق، يقولون لك: اتَّقِ الله ربَّك، وإذا شئتَ فقم. فأَقبل عليهما وقال: ويحكما (¬3)، والله ما أحبُّ أن ألقى الله بمَحْجَمَةِ دمِ امرئٍ مسلم وأنَّ لي ما طلعت عليه الشمس. فلمَّا يئسا منه قالا: إنَّ معنا شيئًا تستعين به على دهرك، فقال: لا حاجةَ لي فيه، أنا في غنًى عنه، فقالا: إنَّها عشرون ألفَ دينار، قال: لا حاجةَ لي فيها، قالا (¬4): فأَعطِها مَن رأيت، فقال: اِفعلَا ذلك أنتما، فما أنا بخادمٍ ولا عَوْن. فلمَّا يئسا منه عادا إلى هارونَ فأخبراه، فقال: ما أبالي ما أَصنع بعد هذا. وقال العمريُّ عند موته: بنعمة ربِّي أحدِّث، إنِّي أصبحتُ لا أملك سوى أربعةٍ أو ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 358. (¬2) في (خ): خليص، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 354، وخَلْص: موضع بآرة بين مكة والمدينة، واد فيه قرى ونخل. معجم البلدان. (¬3) في (خ): ويحك. (¬4) في (خ): قال.

مروان بن سليمان

سبعة دراهم من لِحاء شَجَرٍ فَتَلْتُه بيدي، ولو أنَّ الدنيا أصبحت تحت قدمَيَّ لا يمنعني عن أخذها إلَّا أن أُزيل قدميَّ عنها ما أزلتُهما. وقال له رجل: عِظْني، فأخذ حصاة من الأرض وقال: زِنَةُ هذه من الوَرَع تدخل قلبَك خيرٌ لك من صلاة أهل الأرض، قال: زدني، قال: كما تحبُّ أن يكونَ اللهُ لك غدًا فكن له اليوم. وكان يأكل من فتل الشَّريط بيده. ومات في هذه السَّنة، وقيل: مات بالمدينة سنةَ أربعٍ وثمانين ومئةٍ (¬1) وهو ابنُ ستٍّ وستين سنة. أَسند الحديثَ عن أَبيه وإبراهيمَ بن سعد وغيرِهما، وأدرك خلقًا من التابعين، وكان سيِّدًا لم يكن في عصره مثلُه رحمةُ الله عليه. مروانُ بن سليمان ابن يحيى بنِ أبي حَفْصَة، أبو السِّمط، وقيل: أبو الهَيذام, الشَّاعر (¬2). كان أبو حفصةَ مولى مروانَ بن الحكم، أعتقه يومَ الدار لأنَّه أبلى بلاءً حسنًا في ذلك اليوم. ويقال: إنَّ أَبا حفصةَ كان يهوديًّا أسلم على يد مروان، وقيل: على يد عثمان، ويُزْعَم أنَّه من موالي السَّمَوْءَل [بن] عادياء اليهودي، وقيل: إنّه سُبي من إِصْطخر وهو غلام، فاشتراه عثمانُ ووهبه لمروان، فأَعتقه. وُلد مروانُ في سنة خمسٍ ومئة، وفد على الوليد بن يزيدَ ومدحه، وكان شاعرًا مُجيدًا، مدح خلفاءَ بني أمية وغيرهم, ومن مديحه في الوليد بن يزيدَ وأهله: [من الخفيف] إنَّ بالشام بالمُوَقَّر عِزًّا ... وملوكًا مباركينَ شهودا سادةً من بني يزيدَ كرامًا ... سبقوا النَّاس مَكرُماتٍ وجُودا هانَ يَا ناقتي عليَّ فسيري ... أن تموتي إذا لقيتِ الوليدا ¬

_ (¬1) أجمعت مصادر ترجمته على هذا القول، ولم أقف على مَن قال بالأول غير المصنف. (¬2) الشعر والشعراء 2/ 763، والأغاني 10/ 71، ومعجم الشعراء 317، وطبقات الشعراء 42، وتاريخ بغداد 15/ 182، وتاريخ دمشق 66/ 479، والمنتظم 9/ 69، والسير 8/ 479، وتاريخ الإِسلام 4/ 970.

وكان مروانُ قد قدم بغدادَ ومدح المهديَّ وهارون، وكان يتقرَّب إلى هارونَ بهجو العَلَويَّة، وقد مدح مَعْنَ بن زائدةَ ورثاه بقصائد، ودخل على المهديِّ ولم يعرفْه، فمدحه، فقال: مَن أَنْتَ؟ فقال: شاعرُك مروان بن أبي حفصة، فقال: أَلست القائل: أَقمْنا باليمامة بعد مَعْنٍ ... مُقامًا لا نُريد به زِيالا وقلنا أين نذهبُ بعد معنٍ ... وقد ذهب النَّوالُ فلا نَوالا وإذا ذهب النَّوال، فأيَّ شيءٍ جئتَ تطلب عندنا؟ جُرُّوا برجله، فجرُّوا برجله وأُخرج، فلمَّا كان في العام المقبل تلطَّف حتَّى دخل مع الشُّعراء، فلمَّا مَثُل بين يديه أنشده قصيدَته التي يقول في أوَّلها: [من الكامل] طَرَقَتْك زائرةً فحيِّ خَيالها ... بيضاءُ تَخلِطُ بالحَياءِ دَلالها هل تَطْمِسونَ من السماء نجومَها ... بأكفِّكم أو تسْترون هِلالها أو تدفعون مقالة من ربِّكمْ ... جبريلُ أَبلغها الرسولَ فقالها شَهِدَت من الأنفال أولَ (¬1) آيةٍ ... بتراثهمْ فأردتمُ إِبطالها فزحف المهديُّ من مصلَّاه حتَّى صار على البِساط إِعجابًا بما سمع، ثم قال: كم الأبيات؟ قال: مئة، فأمر له بمئة ألفِ درهم، وهي أوَّل مئة أَلْف أُعطيت لشاعر في أيَّام بني العبَّاس، فلمَّا ولي هارونُ الرشيد دخل عليه مروانُ، فقال: ألستَ القائلَ في معن .. ؟ وذكر البيتين، وأَخرجه. ودخل عليه بعد ذلك فأنشده قصيدة، فأمر له بعدد أبياتها ألوفًا، فمنها: [من الطَّويل] لَعَمرُك لا أنسى غداةَ المُحَصَّبِ ... إشارةَ سلمى بالبَنان المُخَضَّبَ وقد صدر الحُجَّاج إلَّا أقلَّهمْ ... مصادرَ شتَّى مَوْكِبًا بعد موكب قال المصنِّف رحمه الله: وأوَّل القصيدةِ التي رثى بها معنَ بن زائدة: [من الوافر] مضى لسبيله مَعْنٌ وأبقى ... محامدَ لن تَبيدَ ولن تُنالا كأنَّ الشمسَ يوم أُصيبَ معنٌ ... من الإِظلام مُلْبَسةٌ جِلالا ¬

_ (¬1) في الأغاني 10/ 87، وتاريخ بغداد 15/ 184، وتاريخ دمشق 66/ 483، والمنتظم 9/ 70، وتاريخ الإِسلام 4/ 971: آخر آية، وهو الصحيح.

هوى الجبلُ (¬1) الذي كانت نزارٌ ... تَهُدُّ من العدوِّ به الجبالا وكان النَّاس كلُّهمُ لمعنٍ ... إلى أن زار حفرتَه عِيالا ولم يكُ طالبُ المعروف ينوي ... إلى غير ابنِ زائدةَ ارتحالا وما نزل الوفودُ بمثل معنٍ ... ولا حَطُّوا بساحته رِحالا مضى لسبيله مَن كنتُ أرجو ... به عَثَرات دَهْري أن تُقالا فلستُ بمالكٍ عَبَراتِ عيني ... أَبتْ بدموعها إلَّا انْهِمالا وفي الأحشاءِ منك عليك (¬2) حُزنٌ ... كحرِّ النَّار يَشتَعِلُ اشتعالا من أبيات. وقال لمَّا ولدت زبيدةُ محمَّدًا الأمين: [من الكامل] لله درُّكِ يَا عَقيلَةَ جعفرٍ ... ماذا وَلَدتِ من النَّدى والسُّؤدَدِ إنَّ الخلافة قد تبيَّن نورُها ... للنَّاظرين على جَبينِ محمَّد إنِّي لَأَعلم أنَّه لَخليفةٌ ... إنْ بَيعةٌ عُقِدت وإنْ لم تُعقَد (¬3) فأعطاه هارونُ مئةَ ألفِ درهم، وحَشَت زبيدةُ فاه جوهرًا قيمتُه مئةُ ألفِ درهم. وقال (¬4): [من الطَّويل] ما بال مَن أسعى لأجْبُرَ عَظْمَه ... حِفاظًا ويَنوي من سَفاهته كَسري أعود على ذي الذَّنب والجهل منهمُ ... بِحلمي ولو عاقبتُ غرَّقهم بَحري أناةً وحِلمًا وانتظارًا بكمْ غدًا ... فما أنا بالواني ولا الضَّرَعِ الغُمْر (¬5) أظنُّ صروفَ الدَّهر والجهل منهمُ ... ستحملهم منِّي على مَرْكبٍ وَعْر ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 15/ 323، وطبقات الشعراء 52، وتاريخ دمشق 66/ 491: هو الجبل. والمثبت موافق لمعجم الشعراء 318. (¬2) كذا في (خ) وثلاث نسخ من تاريخ دمشق 66/ 493 أشارت إليها محققته رحمها الله، وفي تاريخ بغداد 15/ 324، ومطبوع تاريخ دمشق: غليل، وهي الأجود والأعلى، والغليل: الحرارة. (¬3) الأوائل للعسكرى 1/ 287، والعقد الفريد 1/ 314، ووفيات الأعيان 2/ 315. (¬4) الأبيات الآتية رواها مروان وأنشدها عن ابن الذئبة الثَّقَفيّ، وليست لمروان، كما في مجالس ثعلب 144، وتاريخ دمشق 66/ 480، ونسبت إلى غيره، انظر حاشية محقق مجالس ثعلب. (¬5) الضرع: الصغير من كل شيء، أو الصغير السنن الضعيف. والغُمر: الرَّجل الذي لم يجرب الأمور.

هشيم بن بشير

ألم تعلموا أني تُخافُ عَزائمي ... وأنَّ قناتي لا تَلين على القَسْر وإنِّي وإيَّاهم كمَن نبَّه القَطا ... ولو لم تُنتبَّه باتت الطيرُ لا تَسري ولم يكن لمروانَ علمٌ بالعربية، وكان مولَّدًا، وقال الشعرَ وهو ابنُ عشرين سنة، وكان بخيلًا ساقطَ النفس، خرج يومًا من عند المهديِّ ومعه ثمانون ألفَ درهم، فمرَّ بفقير زَمِن، فسأله, فأعطاه ثلثَي درهم، فقيل له: هلَّا أعطيتَه درهمًا؟ ! فقال: لو أُعطيت مئةَ أَلْفٍ لأَتممتُ له درهمًا. وكان لا يأكل اللحمَ بُخْلًا، فإذا قَرِمَ أرسل غلامَه فاشترى له رأسًا فأكله، فقيل له في ذلك، فقال: أعرف سِعْرَه، وليس بلحمٍ يطبخه الغلام فيأكلُ منه، ثم إنَّني آكل منه ألوانًا: عينَيه لونًا، وأُذنيه لونًا، ولحمَ خدَّيه لونًا، ولسانَه لونًا، ودماغَه لونًا، وأُكفى مؤونةَ طبخه، فقد اجتمعت لي فيه مرافق. وخرج يومًا يريد المهديّ، فقالت له امرأتُه: ما لي عليك إنْ رجعتَ بجائزة؟ فقال: إنْ أعطاني مئةَ ألفِ درهم، أعطيتُك درهمًا. فأعطاه ستِّين ألفًا، فدفع إليها أربعةَ دوانق. وكانت وفاة مروانَ ببغداد، ودُفن في مقبرة عبدِ الله بن مالك (¬1). هُشَيم بن بَشير ابن أبي خازم القاسمِ بن دينار، أبو معاويةَ الواسطيّ، مولى بني سُليم، وهو بخاريُّ الأصل. وكان ثِقَة كثير الحديث ثَبْتًا، يُدَلِّس كثيرًا. وكان أبوه سُوقيًّا صاحبَ صَحْناةٍ وكَواميخ (¬2)، فطلب ابنه الحديث، فكان أبوه ينهاه، فجالس أَبا شَيبةَ القاضي، وكان يُناظره في الفقه، ومرض هشيم، فقال أبو شيبةَ: ما فعل ذلك الغلام؟ قالوا: مريض. فجاء القاضي ومعه أهلُ المجلس يعودونه، فقيل لبشير ويدُه في الصَّحناة والكامَخ: اِلحق ابنَك فقد جاء القاضي يَعودُه، فجاء فقال: يا بنيّ، قد كنتُ أمنعك من طلب الحديث، أمَّا إذا جاء القاضي إلى بابي، لا ¬

_ (¬1) في معجم الشعراء ص 318، وتاريخ بغداد 15/ 186، وتاريخ دمشق 66/ 494، والمنتظم 9/ 71، ووفيات الأعيان 5/ 193، والبداية والنهاية 13/ 615: نصر بن مالك. (¬2) الصحناة: إدام يتخذ من السمك الصغار، والكامَخ: نوع من الإدام. القاموس المحيط (صحن) (كمخ).

القاضي أبو يوسف

أمنعك، متى طلبتُ أنَّ القاضي يجيء إلى بابي! ! وقال الإمام أحمدُ رحمه الله: لزمتُ هشيمًا خمسَ سنين، فما سألته عن شيء هيبةً له، إلَّا مرتين، وكان هُشيمٌ يُكثر التسبيحَ بين الحديث ويقول: لا إله إلَّا الله، يمدُّ بها صوتَه. وأقام يصلِّي الفجرَ بوضوء العشاءِ الآخرةِ مدَّة سنين. وتوفِّي ببغدادَ يومَ الأربعاءِ لعشرٍ مَضَين من رمضانَ أو شعبان، سنةَ اثنتين وثمانين ومئة (¬1). وأَسند عن كبار الأئمَّة، كعَمرو بن دينارٍ وغيرِه. وروى عنه مالكُ بن أنسٍ والثوريُّ والإمام أحمدُ بن حنبل وابنُ المبارك وخلقٌ كثير من التّابعين. وكان ثقةً صدوقًا، لم يُعَب بشيء إلَّا بالتدليس. القاضي أبو يوسفَ يعقوبُ بن إبراهيم [بنِ حبيب (¬2)] بن سعد بن بَحير (¬3) بن معاويةَ الجُشَمي (¬4). وسعد بن بَحير من الصّحابة، أُتي به يومَ الخندق إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فدعا له ومسح على رأسه، فتلك المَسْحةُ في أبي يوسفَ وولدهِ إلى الآن. وكان يحضر الحديثَ فيحفظ خمسًا وستِّين حديثًا، ويقوم فيُمليها على النَّاس، ثم لزم أبا حنيفةَ وتفقَّه عليه، وغلب عليه الرأيُ، فجفا أصحابَ الحديث. وكان يحفظ التفاسيرَ والفقهَ والأحاديثَ وأيَّام العرب والسِّيَر. وكان ورده في كلِّ يومٍ وليلة مئتَي ركعة. وهو أوَّل مَن دُعي بقاضي القضاةِ في الإسلام. ¬

_ (¬1) الذي في المصادر أنَّه توفي لعشر مضين من شعبان سنة 183، انظر تاريخ بغداد 16/ 143، والمنتظم 9/ 90، وتاريخ الإسلام 4/ 994، والسير 8/ 287 والمصادر فيه. (¬2) زيادة من المصادر، انظر طبقات ابن سعد 9/ 332، والمنتظم 9/ 71، وتاريخ بغداد 16/ 360، وتاريخ الإسلام 4/ 1021، والسير 8/ 535 والمصادر في هوامشه. (¬3) كذا ضبطه ابن خلكان في الوفيات 6/ 389، والعلامة الكوثري في حسن التقاضي ص 5. (¬4) انظر تلقيح فهوم أهل الأثر ص 197.

وقال أبو يوسُف: مات أبي وأنا صغير، فلمَّا ترعرعت، كنت أحضر حلقةَ أبي حنيفةَ فأسمعُ ما يقول، فكانت أمِّي تأخذ بيدي وتذهب بي إلى قصَّار أَسلمتني إلْيه، وكان أبو حنيفة يُعنَى بي لما يرى من حرصي على التعلُّم، فلمَّا كَثُرَ ذلك على أمِّي، قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبيِّ فسادٌ غيرك، هذا صبيٌّ يتيم لا شيءَ له، وأنا أُطعمه من مِغزل، وآمُل أن يكتسبَ دانقًا يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة: هوذا يتعلَّم أكل الفالُوذجِ بدُهن الفُسْتُق، فانصرفت وقالت: أنت شيخٌ قد ذهب عقلُك. قال: فلزمتُ أبا حنيفة، فنفعني اللهُ بالعلم ورفعني حتَّى تقلَّدت القضاء، كنت أجالس الرشيدَ وآكل معه على مائدته، فلمَّا كان في بعض الأيَّام، قدَّم إليَّ فالوذجةً وقال: كُل يا يعقوبُ منها، فليس كلَّ يوم يُعمل لنا مثلُها، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، وما هذه؟ فقال: فالوذجةٌ بدُهن الفستق، فضحكتُ، فقال: ممَّ ضحكت؟ فقلت: خيرًا، فألحَّ عليَّ، فأخبرته بالقصَّة، فعجب وقال: لَعمري إنَّ العلمَ يرفع وينفع في الدُّنيا والآخرة، يرحم اللهُ أبا حنيفةَ فلقد كان ينظر بعقله ما لا يراه بعين رأسِه. وقال المُحَسِّن التَّنوخي (¬1): كان سببُ اتِّصال أبي يوسفَ بالرشيد أنَّه قدم بغداد، فحَنِث بعض القوَّاد في يميني، فطلب فقيهًا يستفتيه، فجيء بأبي يوسُف، فأفتاه فيها أنَّه لم يَحْنَث، فوهب له دنانير، وأَنزله بالقرب منه، فدخل القائدُ يومًا على الرَّشيد فوجده مغمومًا، فسأله عن سبب غمِّه، فقال: شيءٌ من أمر الدِّين قد أَحزنني، فاطلبْ لي فقيهًا أَستفتيه، فجاءه بأبي يوسف. قال أبو يوسف: فلمَّا دخلت إلى ممرِّ ما بين الدُّور، رأيت فتًى حسنًا عليه آثارُ الملك، وهو في حُجرةٍ محبوس، فأومأ إليَّ بإِصبعه مستغيثًا، فلم أفهم إرادتَه، فأُدخلت إلى الرشيد، فلمَّا مثُلتُ بين يديه سلَّمت عليه، فقال: ما تقول في إمامٍ رأى رجلًا يزني هل يحدُّه؟ قلت: لا يجب ذلك، فحين قلتُها سجد الرَّشيد، فوقع أنَّه رأى بعضَ أهله على ذلك، وأنَّ الذي أشار هو الزَّاني. ثمَّ قال الرشيد: ومن أين قلتَ هذا؟ قلت: من قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "اِدرؤوا الحدود ¬

_ (¬1) في نشوار المحاضرة 1/ 252 - 253، وعنه المنتظم 9/ 73.

بالشُّبهات" (¬1) وهذه شبهةٌ يسقط الحدُّ معها، فقال: وأيُّ شبهةٍ مع المعاينة؟ قلت: ليس توجب المعاينةُ لذلك أكثرَ من العلم بما جرى، والحدودُ لا تكون بالعلم، وليس لأحدٍ أخذُ حقِّه بعلمه، فسجد أُخرى وأمر لي بمالٍ جزيل، فلم أزل أترقَّى حتَّى ولَّاني القضاء. وقال أبو يوسُف: مَن قال: إنَّ القرآنَ مخلوق، فحرامٌ كلامُه، وفرضٌ مباينتُه. وخوصم موسى الهادي أميرُ المؤمنين إلى أبي يوسفَ في بستانٍ له، فكان الحكمُ في الظَّاهر للهادي، وكان الأمرُ على خلاف ذلك، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الخصم سألني أن أحلِّف شهودَ أميرِ المؤمنين أنَّهم شَهدوا على حقّ (¬2)، فقال له: وترى ذلك؟ قال: كان ابنُ أبي ليلى يراه، قال الهادي: فأردُّ البستَانَ إليه. وإنَّما احتال أبو يوسفَ عليه. وقال: ولِّيت هذا الحكمَ وانغمست فيه، وليس في قلبي منه شيءٌ، وأرجو ألا يسألَني اللهُ عزَّ وجلَّ عن جَور ولا ميل منِّي إلى أحد، إلَّا يومًا واحدًا، فإنَّ في قلبي منه بعضَ ما فيه. قيل: وما ذاك؟ قال: جاءني رجلٌ يومًا فقال: لي بستانٌ قد اغتصبني إيَّاه أميرُ المؤمنين. فدخلتُ على أمير المؤمنين فأخبرتُه، فقال: هذا البستانُ اشتراه لي أبي المهدي، فقلت: إن رأيتَ أن تحضرَ بخصمك فأَسمعَ منكما الدَّعوى، قال: نعم. فدخل الرجل فادَّعى، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، ما تقول؟ فقال: البستانُ لي وفي يدي، فقلت للخصم: ما تقول؟ فقال: خذ لي يمينَه، فقلت: أتحلِف؟ قال: لا، فقلت: أَعرض عليك اليمين ثلاثًا، فإن حلفتَ وإلَّا حكمت عليك، فعرضتُها عليه ثلاثًا، فأبى أن يَحلف، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، قد حكمت عليك بردِّ البستان، قال: لا أسلِّمه، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو حنيفة في مسنده ص 149 (316) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وأخرجه التِّرمذيُّ (1424) من حديث عائشة - رضي الله عنهما - بلفظ "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ... " ورجح وقفه ثم قال: وقد روي نحو هذا عن غير واحد من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا مثل ذلك. اهـ. وانظر المقاصد الحسنة ص 74. (¬2) في أخبار القضاة 3/ 254، وتاريخ بغداد 16/ 368، والمنتظم 9/ 76: أن أحلف أمير المؤمنين أن شهوده شهدوا على حق.

وأَمر بالرجل فأُخرج. قال أبو يوسُف: فإني خائفٌ حيث لم أسأله أن يقعدَ مع خصمه، أو يأذنَ لخصمه أن يقعدَ معه على السَّرير. قال: بينا أنا قد أَويتُ إلى فراشي، وإذا بداقٍّ يدقُّ الباب دقًّا عنيفًا، فأزعجني ومَن عندي، فخرجت، فإذا هَرْثَمَةُ بن أَعيَن، فقال: أَجِب أميرَ المؤمنين، فقلت: أَمهِلْني حتَّى أغتسلَ وأتحنَّط وأتكفَّن؛ فما طلبني في هذا الوقتِ لخير. ففعلتُ وخرجت معه، فأتينا دارَ الخليفةِ ومسرور قائم، فقال: اُدخل، فدخلت، وإذا به جالسٌ وعن يمينه عيسى بنُ جعفر، فسلَّمت، فردَّ وقال: أظنَّنا روَّعناك، قلت: إِي والله، ولمَن خلفي، قال: اِجلس، فجلستُ وسكن رَوْعي، ثم قال: أتدري لمَ دعوتك؟ فقلت: لا، قال: هذا -وأشار إلى عيسى بنِ جعفر- عنده جارية، وقد سألته أن يبيعَني إيَّاها أو يهبَها لي، واللهِ لئن لم يفعْل لأَقتلنَّه، فقلت لعيسى: وما قَدرُ جاريةٍ حتَّى تَمنعَها أميرَ المؤمنين؟ فقال: عجلتَ عليَّ بالقول قبل أن تعرفَ ما عندي، إنِّي حلفت بالطلاق والعِتاق وصدقةِ ما أملك ألا أبيعَها ولا أهبَها، فقلت: تهبُ نصفَها وتبيع نصفَها، فتكون لم تبعْها ولم تهبْها، قال: أَوَ يجوز ذلك؟ قلت: نعم، قال: فإنِّي أُشهدك أنِّي قد بعتُه نصفَها بمئة ألفِ دينارٍ ووهبته نصفَها، قلت: فتحضر الجارية، فحضرت وحضر المال، فقبضه عيسى وانصرف. فقال لي الرَّشيد: يا يعقوب، هي مملوكةٌ ولا بُدَّ أن تُستبرأ، وواللهِ لئن لم أَبِت ليلتي معها إنِّي لأظنُّ أنَّ نفْسي ستخرج، فقلت: أَعتقْها وتزوَّجها؟ فإنَّ الحرَّة لا تُستبرأ، قال: فإنِّي عتقتها، فمن يزوِّجني إيَّاها؟ فقلت: أنا. فدعا بمسرورٍ وحسين، وزوَّجته إيَّاها على عشرين ألفِ دينار، ودعا بالمال فدفعه إليها، وقال: انصرفْ، فانصرفت. فبعث في آثاري بمئتَي ألفِ درهمٌ وعشرين تختًا (¬1) من الثِّياب، وبعثَتْ إليَّ الجاريةُ بعشرة آلافِ دينار، وقالت: واللهِ ما عندي غيرُها، والنصفُ الآخَر أصرفه فيما لا بدَّ لي، فقلت: أَخرجتُها من الرِّقِّ وزوَّجتها بأمير المؤمنين وتقابلني بمثل هذا؟ ! فلم تزل تشفع إليَّ حتَّى قبلتُها. ¬

_ (¬1) وعاء تصان فيه الثياب.

وقال يَحْيَى بن مَعين: كنت عند أبي يوسفَ وعنده جماعةٌ من أصحاب الحديثِ وغيرهم، فوافته هديةٌ من أمِّ جعفرٍ احتوت على تُخوت، دَبِيقيٍّ (¬1)، ومُصْمَت (¬2)، وطِيب، وتماثيلَ نِدّ (¬3)، وغيرِ ذلك. فذاكَرَني رجل بحديث النبِّي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أتته هديةٌ وعنده قومٌ جلوس، فهم شركاؤه فيها" (¬4) فسمعه أبو يوسفَ فقال: أَبِي تُعرِّض؟ إنَّما قال النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - ذلك والهدايا الأقِطُ والتمر والزَّبيب، لا ما ترون، ارفعه إلى الخزائن. وقتل مسلمٌ ذمِّيًّا عمدًا، فحبسه أبو يوسفَ ليُقيدَه به، فرُفعت إليه رقعةٌ مختومة فيها: يا قاتلَ المسلمِ بالكافر ... جُرْتَ وما العادلُ كالجائرِ يا مَن لبغدادَ وأقطارِها ... مِن علماء النَّاسِ أو شاعر جَارَ على الدِّين أبو يوسفٍ ... بقتله المسلمَ بالكافر فاسترجِعوا وابكوا جميعًا معًا ... واصطبروا فالحكمُ للصَّابر (¬5) فدخل على هارونَ وأَخبره، فقال: اِذهب فاحتَلْ. فجلس أبو يوسف، وجاء وليُّ الدم وادَّعى وقامت البيِّنة، فقال لوليِّ الدم: أَقِم البينةَ عندي أنَّ صاحبك كان يؤدِّي الجزية، فلم يُقم بيَنة، فامتنع القَوَد. وحجَّ أبو يوسفَ معادلًا لهارون، فلمَّا دخل هارونُ الرشيد مكةَ صلَّى بالنَّاس الظهرَ ركعتين، فلمَّا سلَّم قام أبو يوسفَ فقال: يا أهلَ مكَّة، أتمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سَفْر، أشار إلى الحديث (¬6)، فقال رجلٌ من أهل مكةَ كان معهم في الصَّلاة: نحن أفقهُ من أن نُعلَّم مثلَ هذا، فقال له أبو يوسف: يا ابنَ أخي، لو كنت فقيهًا لما تكلَّمت في صلاتك. ¬

_ (¬1) من دِقِّ ثياب مصر، تنسب إلى دبيق وهي بلد في مصر. انظر اللسان والقاموس (دبق). (¬2) الثوب المصمت: لا يخالط لونه لون. القاموس المحيط (صمت). (¬3) ضرب من الطَّيِّب يدخن به. اللسان (ندد). (¬4) أخرجه الطّبرانيّ في الكبير (2762) من حديث الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 148: فيه يَحْيَى بن سعيد العطار وهو ضعيف. وأخرجه في الأوسط (2450)، والكبير (11183) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقال الهيثمي: فيه مندل بن علي، وهو ضعيف وقد وثق. (¬5) نسب الأبيات صاحب تاريخ بغداد 16/ 373 لأبي المضرحي شاعرٍ ببغداد. (¬6) أخرجه بهذا اللفظ الطَّبرانيُّ في الكبير (517) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -. وهو عند أبي داود (1229) بلفظ: "يا أهل البلد، صلوا أربعًا فإنا قوم سفر".

فطرب هارونُ وقال: ما يسُرُّني بها حُمْرُ النَّعم، ولم يُعِدْ في معادلته للرشيد حكايةً ولا خبرًا، ولا وصل إلى مكانٍ إلَّا وأَخبره باسمه. وصل كتابٌ من بعض الأطرافِ أن قاضيًا اختصمت إليه جاريتان في جرَّتين، استقتا ماءً من تُرعةٍ ثم جلستا تستريحان، فسقطت إحدى الجرَّتين على الأخرى، فانكسرتا، فادَّعت كلُّ واحدةٍ أنَّ جرَّة الأخرى انكسرت، فلم يكن عند القاضي علمٌ من ذلك، فقال للقيِّم: اذهب واشترِ لهما جرَّتين وأَرِحني منهما. ثم قال القاضي لصاحبٍ له بعد أيَّام: ما يقول النَّاس؟ قال: يقولون: إنَّ القاضي لا يُحسن أن يحكمَ في جرَّتين حتَّى غَرِمهما، فقال: سبحانَ الله! أَلَا ترضَون مني أن أحكمَ فيما أُحسن وأَغرمَ فيما لا أحسن. فقال هارونُ لأبي يوسف: ما تقول فيه؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، هذا رجلٌ عاقل، فزِدْه في رِزقه لأجل الغرامات، فزاده في كلِّ شهرٍ ألفَ درهم. وكان يجلس إلى أبي يوسفَ رجلٌ فيطيل الصَّمت، فقال له: ألا تتكلَّم؟ فقال: متى يُفطر الصائم؟ قال أبو يوسُف: إذا غابت الشَّمس، قال: فإن لم تَغِب إلى نصف الليل، فضحك أبو يُوسُف وقال: أصبتَ في صمتك، وأخطأتُ أنا في استدعاءِ نُطْقِك، وأنشد: [من الطَّويل] عجبتُ لإزراء العَييِّ بنفسه ... وصمتِ الذي قد كان بالقول أَعلَما وفي الصَّمت سترٌ للعييِّ وإنَّما ... صحيفةُ لُبِّ المرء أنْ يتكلَّما (¬1) وقال أبو يوسف: ثلاثةٌ لا يَسلَمون من ثلاثة: مَن طلب النجومَ لم يسلمْ من الزَّندقة، ومن طلب غرائبَ الحديثِ لم يسلم من الكذب، ومن طلب الكيمياءَ لم يسلم عن الفقر. وكان يكتب كتابًا وعنده رجل، فتطلَّع فيه، فلمَّا فرغ منه أبو يوسفَ قال للرجل: فيه خطأ؟ قال: لا ولا حرف، قال: كفيتنا مَؤونةَ النظرِ فيه، ثم أنشد: [من السريع] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 366، والبيتان للخطفى جد جرير كما في أخبار القضاة 3/ 264، والتذكرة الحمدونية 1/ 365 و 3/ 348 - 349، ومعجم الأدباء 1/ 90، والتذكرة السعدية ص 251 - 252، ونسبهما صاحب العقد الفريد 2/ 266 للحسن بن جعفر.

كأنَّه من سوءِ تأديبه ... أسلم في كُتَّاب سوءِ الأدبْ (¬1) ووقف على المزنيِّ رجلٌ فقال: ما تقول في أبي حنيفة؟ وفياى، سيِّد أهلِ العراق، قال: فأبو يوسف؟ قال: أَتبعُهم للحديث، قال: فمحمَّد بن الحسن؟ قال: أشدُّهم تفريعًا، قال. فزفَر؟ قال: أحدُّهم قياسًا. ذِكر وفاته: قال أبو يوسف: صحبتُ أبا حنيفةَ سبعَ عشرةَ سنةً، ثم انصبَّت على الدُّنيا سبعَ عشرةَ سنة، فما أظنُّ أجلي إلَّا قد قَرُب. فما كان إلَّا القليلُ حتَّى مات. وقال عند موتِه: يا ليتني لم أَدخلْ في القضاء، حتَّى إنِّي بحمد اللهِ ما تعمَّدت جَورًا، ولا حابيتُ خصمًا على خصم، من سلطانٍ أو سُوقة. اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنِّي لم أَجُرْ في حكمٍ حكمتُ به بين عبادك متعمِّدًا، ولقد اجتهدتُ في الأحكام بما يوافق كتابَك وسنَّةَ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، وما أشكل عليَّ جعلتُ أبا حنيفةَ فيه بينى وبينك، وكان أبو حنيفة ممَّن يعرف أمرَك ولا يخرج عن حكمك، اللَّهم إنَّك تعلم أني لم أطأ فرجًا حرامًا، ولم آكل درهمًا حرامًا. وكان يومُ جنازتِه يومًا مشهودًا لم يتخلَّف عنه من أهل بغدادَ خاصٌّ ولا عامّ، ودُفن يمقابر قريش، وسنُّه تسعٌ وستُون سنة. وقيل: إنَّه مات سنةَ إحدى أو اثنتين وثمانين ومئة. وقال عبَّاد بن العَوَّام: ينبغي لأهل الإِسلام أن يُعَزِّي بعضُهم بعضًا في أبي يوسف. وبعث معروفٌ الكرخيُّ مع عبد الرَّحمن القوَّاس (¬2) يسأل عن مرض أبي يوسف، فوافى جنازتَه وهي خارجة، فمشى معها حتَّى دُفن، ثم عاد فأَخبر معروفًا، فاشتدَّ حزنُه عليه، فسأله عن ذلك، فقال معروف: رأيتُ في المنام كأنِّي دخلت الجنَّة، فإذا بقصرٍ عظيم، ووصف عن حُسنه، فقال: قلت: لمَن هذا؟ فقيل: لأبي يوسفَ القاضي، قلت: وبمَ ذاك؟ قال: بتعليمه النَّاسَ الخيرَ وحرصه عليه، وبأذى النَّاسِ له. وقال محمَّد بن سَمَاعة: شهدت جنازتَه -أي جنازةَ أبي يوسف- فسمع النَّاسُ قائلًا ¬

_ (¬1) أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص 94، ووفيات الأعيان 6/ 383. (¬2) كذا في (خ) وحسن التقاضي ص 90، وفي تاريخ بغداد 16/ 381: عبد الرحيم القواس.

يقول: [من السريع] يا ناعيَ الفقهِ إلى أهله ... أنْ مات يعقوبُ وما تدري لم يمت الفقهُ ولكنَّه ... حُوِّل من صدرٍ إلى صدر ألقاه يعقوب إلى يوسفٍ ... فزال من طُهرٍ (¬1) إلى طهر فهو مقيمٌ فإذا ما ثوى ... حلَّ وحلَّ الفقهُ (¬2) في قبر قال المصنِّف رحمه الله: هذا الشِّعرُ لإسحاقَ بن حسانَ بن قوهي، وأصلُهُ من الشَّاهجان (¬3)، قدم العراق، وكان شاعرًا سهلَ المأخذِ حلوَ المنطق، قيل له: ما بالُ شعرِك لا يسمعه أحدٌ إلَّا استحسنه وقَبِله طَبْعُه؟ فقال: لأنِّي [لا] أجاذِبُ الكلامَ إلَّا أن يُساهِلَني عَفْوًا، فمَن سمعه سَهُل عليه استحسانُه. فمن شِعره في مرثيَّة في ولده (¬4): [من الطَّويل] ولو شئتُ أن أبكي دمًا لبكيتُهُ ... عليه ولكنْ ساحةُ الصَّبرِ أوسعُ وأَعددْتُهُ ذُخرًا لكلِّ عظيمةٍ ... وسهمُ المنايا بالذَّخائر مولَع وإنِّي وإنْ أَظهرتُ منِّي جَلادةً ... وصانعتُ أعدائي عليك لَموجَع وله فيه: [من الطَّويل] أعاذلُ كم من مؤنسٍ (¬5) قد رُزِئْتُه ... وفارقني شخصٌ عليَّ كريمُ أرى الصبرَ منِّي جَمرةً مُسْتكنَّة ... لها لَهَبٌ في القلب ليس يَرِيمُ وآثارُه في البيت حيث توجَّهَتْ ... بيَ العينُ حُزنٌ في الفؤاد مُقيم خططتُ له في التُّرب بيتَ إقامةٍ ... إلى الحشر فيه والنشورِ مقيم ¬

_ (¬1) كذا في (خ) وحسن التقاضي ص 91، وفي باقي المصادر: من طيب، انظر الحاشية التالية (¬2) في (خ): وحل القبر، والمثبت من أخبار القضاة 3/ 257، وأخبار أبي حنيفة وأصحابه ص 101، وتاريخ بغداد 16/ 435، ووفيات الأعيان 6/ 389، وتاريخ دمشق 2/ 750 (مخطوطة دار البشير). (¬3) في تاريخ دمشق 2/ 749 (مخطوط): مرو الشاهجان. (¬4) قال ابن عساكر في تاريخه 2/ 751: هي في مولاه خريم بن عامر بن عمارة لا في ابنه. اهـ. وذكر الأبيات أيضًا أبو هلال العسكري في ديوان المعاني 2/ 175، وابن حمدون في تذكرته 4/ 260. وقال أبو علي القاضي في ذيل الأمالي ص 120: وأنشدنا الزبير لأعرابي ... ثم ذكر الأبيات. (¬5) في تاريخ دمشق 2/ 751 (مخطوط): منفس. والقصيدة فيه أطول مما هنا.

يزيد بن زريع

وكان سرورًا لم يَدُم لي وغبطةً ... وأيُّ سوورٍ في الحياةِ يدوم على حيث فارقتُ الشبابَ وقارَبَتْ ... خُطاي قيودَ الشَّيب حين أقوم وفارقتُ حلوَ العيش إلا صَبابةً ... عليها خطوبُ الحادثاتِ تحوم أَلَا كلُّ عيشٍ بعد فُرقة أحمدٍ ... وكل سرورٍ ما حَيِيتُ ذَميم فهل كان يعقوبُ النبيُّ بحُزنه ... مُليمًا وما يُزري عليه (¬1) حكيم كوى قلبَه حزنٌ كأنَّ لهيبَه ... توقُّد نيرانٍ لهنَّ ضَريم فما عيَّر اللهُ النبيَّ بحزنه ... أبي ذاك ربُّ العالمين رحيم فلولا رجاءُ الأجرِ فيك وأنَّه ... ثوابٌ وإنْ عزَّ المُصاب عظيم وأنَّك قربانٌ لدى اللهِ نافع ... وحظٌّ لنا يومَ الحسابِ جسيم لأضعف حزني يا بُنيَّ وأوشَكَتْ ... عليَّ البواكي بالرَّنين تقوم سمع أبو يوسفَ يَحْيَى بنَ سعيدٍ وسليمانَ الأعمشَ وهشامًا وغيرهم، وروى عنه محمد بن الحسن وبِشر بن الوليد والإمامُ أحمدُ رحمة اللهِ عليه وغيره. وقال طلحةُ بن محمَّد بن جعفر: وأبو يوسفَ مشهورُ الأمرِ ظاهرُ الفضل، وهو صاحبُ أبي حنيفة، وأفقهُ أهلِ عصره، ولم يتقدَّمه أحدٌ في زمانه، وكان النهايةَ في العلم والحُكمِ والرِّئاسة والقَدر، وأوَّل مَن وضع الكتبَ في أصول الفقهِ على مذهب أبي حنيفةَ في أقطار الأرض، وكان صاحبَ سنَّة. يزيد بن زُرَيع أبو معاويةَ العَيشيّ، من بكر بنِ وائل. من الطبقة السادسةِ من أهل البصرة. كان ثقةً، كثير الحديث، عالمًا، فاضلًا، صدوقًا. كان أبوه واليَ البصرة، مات فلم يأخذْ من ميراثه شيئًا؛ قال [أبو (¬2)] سليمانَ الأشقر: تنزَّه يزيدُ بن زُريع عن خمس مئةِ ألف درهمٍ من ميراث أبيه لم يأخذْ منها درهمًا. وكان يتقوَّت من سَفِّ الخُوصِ بيده. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق: علي. (¬2) زيادة من المنتظم 9/ 82.

يعقوب بن داود

وكان الإمام أحمدُ رحمةُ الله عليه يُثني عليه ويقول: تنزَّه عن مال أبيه زُريع، وما أتقنَه وأحفظَه وأصدقَه. سمع من أيوبَ السَّختيانيِّ (¬1) وابنِ أبي العَروبة وغيرِهما. قال ابنُ سعد: توفِّي بالبصرة في شوَّال سنةَ اثنتين وثمانين (¬2). وقيل: سنةَ سبعٍ وسبعين ومئة. يعقوبُ بن داود ابن عمرَ بن طَهْمان، أبو عبدِ الله، مولى عبدِ الله بن خازمٍ السُّلمي. قال: حبسني المهديُّ في بئر، وبُنيت علي قُبَّة، فمكثت فيها خمسَ عشرةَ سنة، وكان يُدلَى إليَّ كلَّ يوم رغيفٌ وكوزُ ماء، وأُوذَن بأوقات الصَّلاة، فلمَّا كان في رأس ثلاثَ عشرةَ حِجَّة، أتاني آتٍ في منامي فقال: [من البسيط] حنا على يوسفٍ ربِّ فأخرجهُ ... من قعرِ جُبٍّ وبيتٍ حوله غُمَمُ (¬3) قال: فحمدت اللهَ وقلت: أتاني الفَرَج، فمكثتُ حولًا لا أرى شيئًا، فلمَّا كان رأسُ الحولِ، أتاني ذلك الآتي فقال: [من الوافر] عسى الهمُّ الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فَرَجٌ قريبُ فيأمنَ خائفٌ ويُفكَّ عانٍ ... ويأتي أهلَه النائيّ الغريب أَلَا ليت الرِّياحَ مُسَخَّراتٌ ... لحاجتنا تُبَكِّر أو تؤوب فتُخبِرَنا الشَّمال إذا أتتنا ... وتُخبِر أهلَنا عنَّا الجَنوب (¬4) فلمَّا أصبحتُ نوديت، فظننت أنِّي أُوذن بالصلاة، فدُلِّيَ (¬5) لي حبلٌ أسود، وقيل لي: اُشدد به وسطَك، ففعلت، فأَخرجوني، فلما تأمَّلت الضوءَ عشا بصري، فانطلقوا بي فأَدخلوني على الخليفة، فقالوا: سلِّم على أميرِ المؤمنين، فقلت: السلامُ عليك يا ¬

_ (¬1) في (خ): السجستاني، وهو خطأ، انظر تهذيب الكمال (7582)، وتاريخ الإسلام 4/ 1005. (¬2) الطبقات 9/ 290. (¬3) الفرج بعد الشدة 2/ 234، وتاريخ بغداد 16/ 385، والمنتظم 9/ 81. (¬4) الأبيات من قصيدة لهدبة بن خشرم في أمالي القالي 1/ 71، والبيتان الأولان في المصادر السابقة. (¬5) في (خ): فدخل، وهو تحريف، والمثبت من المصادر.

أميرَ المؤمنين المهديّ، فقال: لستُ به، فقلت: السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنين الهادي، قال: لستُ به، قلت: الرَّشيد؟ قال: نعم يا يعقوب، إنَّه واللهِ ما شفع فيك إليَّ أحد، غيرَ أني حَملتُ الليلةَ صبيةً لي على عنقي، فذكرتُ حملَك إيَّاي على عنقك، فرثيتُ لك من المحلِّ الذي كنتَ فيه فأخرجتُك. ثم أَكرمني وقرَّب مجلسي. ثم إنَّ يَحْيَى بن خالدٍ تنكَر لي، كأنَّه خاف أن أَغلبَ على الرَّشيد دونه، فخفتُه، فاستأذنتُ في الحجّ، فأذن لي. قال ابنهُ عبد الله بن يعقوب: فلم يزل مقيمًا بمكَّة حتَّى مات سنةَ اثنتين وثمانين ومئة. وقيل: إنَّ المهديَّ سلَّم مفتاحَ البيتِ الذي كان فيه يعقوبُ محبوسًا إلى خادمٍ له، وأَوصاه ألا يُقرَّ لأحدٍ أنَّه في الحياة، فلمَّا ذكره الرَّشيدُ سأل عنه، فدُل على الخادم، فأَحضره وسأله عن يعقوب، فأَنكره، فضربه بالمَقارع، فأَقرّ، فأُخرج من المَطْمورةِ وهو أعمى. ذِكر طرفٍ من أخباره: كان داودُ أبو يعقوبَ وولدُه كتَّابًا لنصر بنِ سيَّار، فلمَّا قُتل يَحْيَى (¬1) وظهر بعد ذلك أبو مسلمٍ الخُراساني، جاءه داودُ مطمئنًا إليه، فأمَّنه أبو مسلمٍ على نفسه، ثم أخذ أموالهَ وعقارَه وما استفاده من نصرِ بن سيار. ثم مات داود، فنظر يعقوبُ وإخوتُه فلم يجدوا لهم عند بشيء العبَّاس مكانة، فالتجؤوا إلى آلِ أبي طالب. فكان يعقوبُ يتقلَّب في الأمصار، تارةً مع إبراهيمَ بن عبدِ الله بن حسن، وتارةً مع محمَّد بن عبدِ الله بن حسنٍ، يأخذ البيعةَ لهما، فلمَّا ظهر محمَّد على المدينة واستولى عليها، كتب عليُّ بن داود -وكان أسنَّ من يعقوب- لإبراهيمَ بن عبد الله، فلمَّا قُتل محمَّد وإبراهيم، جدَّ أبو جعفرٍ في طلب آلِ داود، فأُخذ يعقوبُ وعليٌّ ابنا داودَ فحُمِلا إليه، فحبسهما في المُطْبق أيامَ خلافته، فلمَّا ولي المهديُّ مَنَّ عليهما وأَطلقهما، وكان معهما في الحبس إسحاقُ بن الفضل بنِ عبد الرَّحمن الهاشمي، وكان إسحاقُ يقول: إنَّ الخلافةَ في صالحي بني هاشم، وهي للأكبرِ من ولد عبد المطَّلب، وإنَّه أحقُّ بها من المهديّ، فحبسه. ¬

_ (¬1) هو يَحْيَى بن زيد بن علي بن الحسين - رضي الله عنه -. انظر تاريخ الطبري 8/ 154، وتاريخ الإسلام 4/ 277.

وكان الحسنُ بن إبراهيمَ بنِ عبد الله وعيسى بن زيدٍ قد هربا من المهديّ وبطلبهما، فقال المهديّ: لو وجدتُ كان يدخل بيني وبينهما، فقيلَ له: هذا يعقوبُ بن داود خصيصٌ بآل أبي طالب، فاستدعاه فكلَّمه، فرآه كاملًا، فسأله عن [الحسن] بن (¬1) إبراهيمَ وعيسى، فوعده أن يدخلَ بينهما، وقال: عَدِّ عن ذِكرهما فإنَّهما قد خافاك. فاستوزره المهديُّ وفوَّض إليه أمورَه، وحجَّ المهدي، فتلطَّف يعقوبُ حتَّى جمع بينه وبين الحسنِ بن إبراهيم، فسُرَّ به وأعطاه مالًا وأَقطعه قطائع. وقيل: إنَّه حبسه بعد ذلك، وبعث يعقوبُ إلى الزَّيدية، فجاؤوه كان الأقطار، فولَّاهم الولاياتِ الجليلة، وكان قد غلب على المهديّ بحيث إنَّه خلِّد في الدواوين توقيعٌ باسمه فيه أنَّه أخو أميرِ المؤمنين، فلمَّا استولى يعقوبُ وجمع الزيديةَ وولَّاهم الدّنيا، حسده الموالي وشنَّعوا عليه عند المهديِّ وغيَّروه عليه، وكان لمَّا سلَّم الحسنَ بن إبراهيم إلى المهدي، تغيَّرت عليه الزيدية وقالوا: إنَّما فعل ذلك تقرُّبًا إلى المهديّ، وكثرت عليه الشَّناعات أنَّه يريد أن يولِّي الخلافةَ إسحاقَ بن الفضل الهاشميّ، وقيل للمهدي: لا تأمنْ أن تثورَ النَّاسُ عليك في ساعةٍ واحدة. ودخل يعقوبُ يومًا على المهديّ فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك أمرتني أن ألتمسَ لك رجلًا تولِّيه مصر، وما أرى غيرَ إسحاقَ بن الفضل، فتغيَّر وجهُ المهدي، وقام يعقوبُ فخرج، فأَتبعه المهديُّ بصرَه وقال: قتلني اللهُ إن لم أقتلْك. وما زال الموالي يسعَون به إلى المهديِّ حتى نكبه. وكان المهديُّ قد بنى قصرًا بعيساباذَ أنفق عليه خمسين ألفَ ألفِ درهم، فقال يعقوب: أَتلفَ هذه الجملةَ من بيت المالِ لا لفائدةٍ إلَّا اللَّعب (¬2). وبلغ المهديَّ فازداد حَنَقًا. وقيل: إنَّ يعقوبَ أَنكر على المهدي [، وكان المهدي] لا يشرب النبيذَ لأنَّ مزاجَه لم يكن يقبله، فكان يُحضر النُّدماء فيشربون بين يديه، فقال يعقوب: ما على هذا وَزَرتُ لك، أَبعدَ الصلواتِ الخمسِ في المساجد وقراءةِ القرآن يُشرب النبيذ بين ¬

_ (¬1) زيادة من تاريخ الطبري 8/ 156. (¬2) في الطبري 8/ 157 أن قائل ذلك أحمد بن إسماعيل بن علي، وأن الهدي نسي ذلك وظن القائل يعقوب.

يديك؟ ! فحقد عليه، فقال بعضُ الموالي: [من الطَّويل] فدعْ قولُ يعقوب بن داود جانبًا ... وأَقبِلْ على صَهباءَ طيِّبةِ النَّشرِ (¬1) والأصحُّ أنَّ سببَ نكبته ميلُه إلى آل أبي طالب. وقال أبو اليقظان: إنَّ المهديَّ جلس يومًا في مجلسٍ وفرش فيه الفُرُش والآلاتِ والأواني والجواهر ما لم يُرَ مثلُه، وأحضر جاريةً فائقةَ الجمال، فقال: يا يعقوب، ما تقولُ في هذا المجلس؟ فقال: أَمتعَ اللهُ أميرَ المؤمنين، فقال: هو لك بما فيه. ثم قال له: لي إليك حاجةٌ وأنا أحبُّ أن تقضيَها، قال يعقوب: أنا عبدُ أمير المؤمنين، قال: تقوم تضع يَدك على رأسي وتحلف أنَّك تقضيها. ففعل ما أَمره به المهديُّ واستوثق منه، فأَخرج إليه شابًّا من ولد آلِ أبي طالبٍ وقال: هذا تريحني منه عاجلًا (¬2)، وأمر له بمئة ألفِ درهم. قال يعقوب: فقمتُ وقد حمل معي ما كان في المجلس والمالِ وأتيتُ منزلي، ومن شَغَفي بالجارية تركتها في مِخدعٍ لأفرغَ من العلويُّ: وأعودَ إليها. قال: وجلست على كرسيٍّ وأحضرت السيفَ والنَّطع، فقال لي العلويُّ: يا يعقوب، اللهَ اللهَ في دمي؛ فإنَّ جدِّي رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، وعليٌّ أبي، وفاطمةُ أمِّي، وهما خصماؤك يومَ القيامة. فوقفتُ عليه وبكيت، وقلت: لا تخف، أيُّ الطرق أحبُّ إليك؟ فقال: الطريقُ الفلاني. وأحضرتُ جماعةً ممَّن أثق منهم وأعطيتُهُ من ذلك المال، وواعد أولئك الجماعةَ مكانًا يلتقي بهم فيه. قال: وإذا الجاريةُ تسمع ما أقول ولم أعلم، فبعَثَت خادمًا إلى المهديِّ فأَخبره، فأرسل جماعةً في الليل إلى ذلك المكانِ فأخذ العلويَّ والذين معه والمال، ثم استدعاني في الحال، وقال: ما فعل الرَّجل؟ فقلت: قد أراحك اللهُ منه، فقال: اُنظر ما تقول، فقلت: نعم، فقال: ضع يدَك على رأسي واحلف، ففعلت، وإذا قد فُتح بابٌ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 160، وما بين حاصرتين منه، الكامل 6/ 72 - 73، تاريخ الإسلام 4/ 279، البداية والنهاية 13/ 529 - 530. (¬2) قال ابن كثير في البداية والنهاية 13/ 528: والظاهر أنَّه الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

وأُخرج منه العلويُّ والرِّجال والمال، فأُسقط في يدي، فقال: قد أباح اللهُ لي دمَك، ولكن لا أُريقه، إلَّا أنني أَحبسك حبسَ الأبد، فحفر لي في المُطْبَق بئرًا وأُلقيت فيها، وأقمتُ مدَّة لا أدري ما النَّاسُ فيه، وذهب بصري. وبلغ المهديّ أنَّ إسحاقَ بن الفضل بنِ عبد الرَّحمن الهاشميَّ يقول: أنا أحقُّ بالخلافة من المهديّ، فاستدعاه المهديُّ من المطبق وقال: تزعم أنَّكم الكُبْرُ من ولد عبدِ المطلب لأنَّ أباكم الحارثَ كان أكبرَ ولد عبدِ المطلب، فقال: إنْ صحَّ هذا عنِّي فاقتلني، فقال: حكاه لي عنك يعقوبُ بن داود. قال إسحاق: وقد بلغني أنَّ يعقوبَ قُتل في الحبس، فقلت: إنْ قال يعقوبُ هذا عنِّي فاقتلني، فأُحضر يعقوبُ في الحال، فلمَّا رأيته مقيَّدًا مكبَّلًا بالحديد أَيقنت بالقتل، ولم أشكَّ أن يَبهتني لعله يَخلص. فقال له: يا يعقوب، ألستَ القائلَ عن إسحاق كذا وكذا؟ قال: لا واللهِ ما قلت قطّ، قال: بلى، قال: لا والله، فغضب المهديّ، فقال يعقوب: يا أميرَ المؤمنين، الأمرُ على خلاف هذا، أَتذكر يومَ شاورتَني مَن تولِّي مصرَ فأشرتُ عليك بإسحاقَ فقلتَ: ذاك يزعم أنَّه أَولَى بالخلافة مني. وقد كان مباركٌ التركيُّ حاضرًا، فسأله فتذكَّر المهديُّ ذلك، فقال: صدقت. وأقبل المهديُّ على يعقوبَ يوبِّخه ويعدِّد أفعالهَ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، اُذكر إذ أعطيتَني عهدَ اللهِ وميثاقَه وذمَّةَ الله ورسولهِ وذمةَ آبائك أنَّك لا تؤذيني ولا تحبسني ولو قتلتُ موسى وهارون، فقال: يا يعقوب، قال: لبَّيك يا أمير المؤمنين تلبيةَ مَكروبٍ لمَوْجِدَتِك، [قال: ] أَلم أرفعْ من قَدرك إذ كنتَ وضيعًا؟ وأنوِّه بِذكرك إذ كنت خاملًا؟ فقال: إنْ كانت عقوبتي منك فبذنب مُعْتَرِف، وإن كانت من تخرُّص الوُشاة فالعبدُ عائذٌ بفضل مولاه، فقال: لولا سابقُ خدمتِك لأَلبستُك قميصًا من دمك لا تشدُّ عليه زِرًا. ثم أَمر بإِعادته إلى حبسه، فانصرف وهو يقول: الوفاءُ كرم، والمودَّة رَحِم، وأنتَ يا أميرَ المؤمنين بهما جدير (¬1). وقيل: إنَّه قال له: يا يعقوب، أَلم تُخبرني أنَّ هذا وأهل بيته يزعمون أنَّهم أحقُّ ¬

_ (¬1) العقد الفريد 2/ 147 - 148، وما بين حاصرتين منه.

بالخلافة منا؟ فقال: لا واللهِ ما قلتُه، فقال: أتكذِّبني؟ ! وأمر بضربه فضرب اثني عشر سَوطًا، ثم قال المهديُّ لإِسحاق: ما تقول أنت؟ قال: كيف أقولُ هذا وقد مات جدِّي في الجاهلية كافرًا وأبوك الباقي بعد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو وارثُه، فقال له المهديّ: صدقت. وأَطلقه وردَّ يعقوبَ إلى محبسه. وكان يعقوبُ سَمْحًا جوادًا، كثيرَ البِرِّ والصَّدقة واصطناعِ المعروف؛ جاءت امرأةٌ من اليمامة جَعْديَّةٌ مملوكةٌ لبني جعدةَ يقال لها: وحشية، قد كاتبت على ولدها وأختِها وأهلِ بيتها بألف دينار، فوقَفَت بين يدي يعقوبَ بنِ داود وقالت: [من الوافر] أَمَا ومعلِّمِ التوراةِ موسى ... ومُرسي البيتِ في حَرَم الإلالِ (¬1) وباعثِ أحمدٍ فينا رسولًا ... يعلِّمنا الحرامَ من الحلال لَشهرًا نحو يعقوبٍ سَرَينا ... فأدَّاني له وقتَ الهلال أَغِثْني يا فداك أبي وأمِّي ... وعمِّي لا أُحاشيه وخالي يُبَشِّرني بنُجحي كلُّ طيرٍ ... جَرَتَ لي عن يميني أو شِمالي فقال يعقوب: صَدَقَت طيرُك، وأعطاها ألفَ دينار وقال: اِذهبي فاشتري أهلَك وولدَك وأَقدِميهم عليّ، ففَعَلَت، فما زالت في عيال يعقوبَ هي وأهلُها حتَّى ماتت. وكان يعقوبُ ممدَّحًا، مدحه سَلْمٌ (¬2) الخاسر وأبو الشِّيص وأبو حَنَش وغيرُهم. * * * ¬

_ (¬1) في (خ): الآل، والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 384: الإلال: العهود، واحدها إل. (¬2) في (خ): سالم، وهو خطأ، وانظر تاريخ بغداد 16/ 384، والقاموس المحيط (خسر).

السنة الثالثة والثمانون بعد المئة

السَّنة الثالثةُ والثمانون بعد المئة فيها خرج من الخَزَر خلقٌ عظيمٌ من باب الأبواب، وكانوا مئةَ ألف وملكهم، وكان قد زوَّج ابنتَه من الفضل بنِ يَحْيَى (¬1)، فماتت في طريقها قبلَ وصولها، فقيل لخاقان: إنَّ المسلمين قتلوها غِيلة، فخرج بهذا السَّبب. وقيل: إنَّ سعيد بن سَلْم (¬2) بن قتيبةَ كان على إِرمينية، فقتل المنجِّمَ السُّلمي، فدخل ابنُه إلى الخَزَر فاستنصرهم على سعيد، فخرجوا إلى سور بابِ الأبوابِ فثلموه، ودخلوا إلى بلادِ المسلمين، فأغاروا عليها، وقُتل من المسلمين وأهل الذِّمَّة مئة ألف، ونكحوا المسلماتِ وبقروا بطونَ الحَبَالى، وذبحوا الأطفال في المهود، وسَبَوا خلقًا عظيمًا، وفعلوا فعلًا لم يُسمع في الإِسلام بمثلهِ، وهرب سعيدُ بن سَلْم، وبلغ الرَّشيد، فجهز الجيوشَ مع خزيمةَ بن خازم، وولَّى يزيدَ بن مَزْيَدٍ أرمينيةَ وأَذربيجان، فساروا، فوجدوا العدوَّ قد رجع إلى بلاده بالغنائم والسَّبايا، فسدُّوا الثُّلْم وأَصلحوا ما أفسد القوم، ورجع خزيمةُ فأقام بنصيبين رِدءًا ليزيدَ بن مَزْيَد، وحجَّ بالنَّاس العباسُ بن موسى الهادي. فصل وفيها توفي إبراهيم بن سعد ابن إِبراهيمَ بن عبد الرَّحمنِ بن عوف، أبو إسحاقَ الزُّهريّ. من الطبقة السادسةِ من أهل المدينة. وأمُّه أَمَةُ الرَّحمنِ (¬3) من بني عبد بنِ زَمْعَة، من بني عامر بن لؤيّ. ¬

_ (¬1) كذا، والخبر مفصل موضح في تاريخ الطبري 8/ 270، والكامل 6/ 163، والمنتظم 9/ 83، وتاريخ الإسلام 4/ 781. (¬2) في (خ): سالم حيثما وردت، وفي المنتظم 9/ 83، والبداية والنهاية 13/ 622: مسلم. والمثبت هو الصَّحيح، انظر التاريخ الكبير 4/ 158، وتاريخ الطبري 8/ 270، والثقات 6/ 420، وتاريخ بغداد 10/ 105، والأنساب للسمعاني 2/ 67، والكامل 6/ 163، وبغية الوعاة 1/ 584. (¬3) في (خ): عبد الرحمن، وهو خطأ. انظر طبقات ابن سعد 7/ 582، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 6/ 601، والمنتظم 9/ 84، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإسلام 4/ 796، والسير 8/ 304.

فوَلَدَ إبراهيمُ سعدًا ومحمَّدًا لأمِّ ولد، وإسماعيلَ لأمِّ ولد، ويعقوبَ. وروى عن الزُّهريِّ، وصالحِ بن كَيسانَ، والحارثِ وعبدِ الله ابني عكرمةَ وغيرِهم، وكان ثقةً كثير الحديث، وسكن بغداد، وكان على بيتِ المال. وقال الخطيب (¬1): وُلد سنةَ ثمانٍ ومئة. وقَدِم العراقَ على هارون، فأَكرمه، وسأله عن الغناء، فأَفتاه بتحليله، وكان قد انفرد بأحاديثِ الزُّهري، فأتاه بعضُ أصحاب الحديثِ ليسمعَ منه، فوجده يغنِّي، فدخل عليه فقال: لقد كنتُ حريصًا أن أسمعَ منك، فأمَّا الآنَ فلا أسمعُ منك حديثًا أبدًا، فقال له إِبراهيم: فإذن لا أفقد إلَّا شَخصَك، ثم حلف وقال: عليَّ كذا وكذا إنْ حدَّثتُ ببغدادَ -ما أقمت- حديثًا حتَّى أغنِّيَ قبله. وبلغ الرشيدَ خبرُه، فاستدعاه وسأله عن المخزوميةِ التي قطعها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سرقة الحُلِيّ (¬2)، فقال: عليَّ بعود، فقال هارون: عودُ المِجْمَر؟ قال: لا، عودُ الضَّرب، فتبسَّم الرشيد، فقال: لعلك يا أميرَ المؤمنين بلغك حديثُ السفيهِ الذي أَلجأني إلى اليمين، قال: نعم، ودعا له لعُود، فأَخذه ووضعه، وغنَّى فقال: [من البسيط] يا أمَّ طلحةَ إنَّ البَينَ قد أَزِفا (¬3) ... قلَّ الثَّواءُ لئن كان الرَّحيلُ غدًا فقال له هارون: مَن كان من فقهائكم يكره السَّماع؟ فقال: مَن ربطه اللهُ تعالى، قال: فهل بلغك عن مالكِ بن أنسٍ فيه شيء؟ قال: لا، ولكن حدَّثني أبي أنَّهم اجتمعوا في دعوةٍ لبني يربوع، وهم يومئذٍ جِلَّة وفيهم مالك، فتغنَّى وقال: [من مجزوء الوافر] سُليمى أَجمعت بَيْنا ... فأَين لقاؤها أينا وقد قالت لأَترابٍ ... لها زُهرٍ تلاقَينا تعالينَ فقد طاب ... لنا العيشُ تعالينا (¬4) ¬

_ (¬1) في تاريخه 6/ 603، 606. (¬2) أخرجه البُخاريّ (2648) و (3475)، ومسلم (1688) من حديث عائشة - رضي الله عنهما -. (¬3) كذا في (خ) وتاريخ الإسلام 4/ 797، وفي ديوان عمر بن أبي ربيعة -والبيت له- ص 391، والأغاني 1/ 208، وتاريخ بغداد 6/ 606: أَفِدا، وكلاهما بمعنى، غير أن الأخيرة أصح للتصريع. (¬4) الأبيات لمحمد بن عائشة كما في الأغاني 2/ 234 - 235، 237.

علي بن الفضيل بن عياض

وضحك هارونُ ووصله بمالٍ عظيم. أَسند إبراهيمُ عن أبيه سعد، وكان أبوه قاضيًا على المدينة. وروى عنه شعبةُ بن الحجَّاج (¬1) وغيرُه. وأَجمعوا على أنَّه كان ثقة. ودُفن بباب التِّبْن. عليُّ بن الفُضيل بنِ عياض (¬2) مات في حياة أبيه، وكان عالمًا، ديِّنًا، صالحًا، خائفًا على حداثة سِنِّه لم يبلغ عشرين سنة، وكان يدقِّق في الورع، ويبالغُ في المطعم، وكان يصلِّي حتَّى يزحفَ إلى فراشه زحفًا، ثم يلتفتُ إلى أبيه فيقول: يا أَبة، سبقني العابدون. وبكى يومًا، فقال له أبوه: ما يُبكيك يا بُنيّ؟ فقال: أخاف ألا تجمعَنا القيامةُ غدًا. وقال سفيانُ بن عُيينة: ما رأيت أخوفَ لله من الفضيل وابنهِ عليّ. وكان الفضيلُ إذا علم أنَّ ابنه عليًّا خلفه -يعني في الصَّلاة- مرَّ ولم يَخَف ولم يحزن، وإذا علم أنَّه ليس خلفه تنوَّق في القراءة وحزن وخوَّف. فظنَّ يومًا أنَّه ليس خلفه، فأَتى على هذه الآية: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَينَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] فخرَّ مغشيًّا عليه، وقيل لأمِّه: أَدركيه، فجاءت فرشَّت الماءَ على وجهه، وجاء الفضيلُ فجلس عند رأسِه، فقالت له أُمُّه: قد علمت أنَّك قاتلُ هذا الغلام. فأَفاق، فمكث حينًا، فظنَّ يومًا أنَّه ليس خلفه، فقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2] فخرَّ ميِّتًا. وقال الخطيب: الآيةُ التي مات فيها هي قولُه تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَاليتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: 27] الآيةَ. وفي رواية {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]. وخرج الفُضيل في جنازته وهو متبسِّم، ولم يُرَ متبسمًا إلَّا في ذلك اليوم، فقيل له: يموت عليٌّ وتتبسَّم؟ ! فقال: إنَّ الله تعالى أراد أمرًا فأحببتُه. وكانت وفاتهُ بمكَّة. أَسند عن أبيه وسفيانَ بن عيينةَ وعبدِ العزيز بن أبي روَّادٍ وغيرِهم. ¬

_ (¬1) وهو من شيوخه. (¬2) حلية الأولياء 8/ 297، المنتظم 9/ 85، تهذيب الكمال (4710)، تاريخ الإسلام 4/ 694.

محمد بن صبيح

محمَّد بن صَبيح أبو العباس المُذَكِّر، مولى بني عِجْل، ويعرف بابن السَّمَاك (¬1). من الطبقة السابعةِ من أهل الكوفة. له المقاماتُ عند الخلفاءِ وغيرهم. كان يقول: يا ابنَ آدم، إنَّما تغدو وتروحُ في كَسْب الأَرباح، فاجعل نفسَك ممَّا تكسبه، فإنَّك لن تكسبَ مثلها. وقال المغيرةُ بن شُعيب: حضرتُ يَحْيَى بنَ خالدٍ البرمكيَّ [وهو يقول] لابن السمَّاك: إذا دخلتَ على هارونَ أميرِ المؤمنين، فأَوجِز ولا تكثر عليه. فلمَّا دخل عليه، قام بين يديه وقال: إنَّ لك بين يدي اللهِ مقامًا، وإنَّ لك من مقامك مُنْصَرَفًا، فانظر إلى أين يُنصَرَفُ بك، إلى الجنَّة أم إلى النَّار؟ فبكى هارونُ حتَّى كاد أن يموت. وقال ابن السمَّاك: مَن امتطى الصبرَ قَوِي على العبادة، ومَن أجمع اليأسَ استغنى عن النَّاس، ومَن أهمَّته نفسُهُ لم يولِّ مؤنتَها غيرَه، ومَن أحبَّ الخير وفِّق له، ومَن كره الشرَّ جُنِّبه، ومَن رضي الدُّنيا من الآخرة حظًّا فقد أخطأَ حظَّ نفسه. وكتب إلى أخٍ له: أمَّا بعد، فإنِّي أُوصيك بتقوى اللهِ الذي هو نجيُّك في سريرتك، ورقيبُك في علانيتك، فاجعله من بالك [على (¬2)] حالك، وخَفْه بقدر قُربِه منك وقدرته عليك، وأعلم أنَّك بعينه ليس تَخرج من سلطانه إلى سلطان غيرِه، فلْيَعظُم منه حذرُك، وليكثر منه وَجَلُك، وأعلم أنَّ الذنبَ من العاقل أَعظمُ منه من الأحمق، ومن العالم أَعظمُ منه من الجاهل، وقد أصبحنا بزعمنا أَدِلَّاء، والدَّليلُ لا ينام في المَفازة، وقد كان عيسى - عليه السلام - يقول: إلى متى تصفون الطريقَ للدَّالجين وأنتم تُقيمون في محلَّة المتحيّرين، تُصفُّون البعوضَ من شرابكم وتسترطون (¬3) الجِمال بأحمالها. يا أخي، كم [من] مذكِّرٍ بالله ناسٍ لله، وكم من مخوِّف بالله جريءٌ على الله، وكم من داعٍ إلى الله فارٌّ من الله، وكم [من] تالٍ لكتاب الله مُنْسَلخٌ من آيات الله. والسَّلام. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 8/ 203، وتاريخ بغداد 3/ 347، والمنتظم 9/ 86، والسير 8/ 328، وتاريخ الإسلام 4/ 959. (¬2) زيادة من حلية الأولياء 8/ 206، وصفة الصفوة 3/ 175. (¬3) أي: تبتلعون.

وكان يقول: سَبُعُك بين لَحْيَيك، تأكل به كلَّ مَن مرَّ عليك، قد آذيتَ أهلَ الدُّور في دورهم، وأهلَ القبورِ في قبورهم، ما تَرثي لهم وقد جرى عليهم البِلى وأنت تَنْبُشُهم، إنَّما نرى نبشَهم أخذَ الخِرَق عنهم، إذا ذكرتَ مساوئَهم فقد نبشتَهم، إنَّه ينبغي أن يدلَّك على ترك القولِ في أخيك ثلاثُ خِلال: أمَّا واحدة، فلعلك أن تذكرَه بأمرٍ هو فيك، فما ظنُّك بربِّك إذا ذكرتَ أخاك بأمرٍ هو فيك؟ ولعلَّك تذكره بأمرٍ هو فيك أعظم، فذلك أشدُّ استحكامًا لمقته إيَّاك. ولعلك تذكُره بأمرٍ قد عافاك اللهُ منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك الله؟ ! أما سمعتَ: اِرحم أخاك وأحمد الذي عافاك؟ وكان يقول: مَن أذاقته الدُّنيا حلاوتَها لميله إليها، جرَّعته الآخرةُ مَرارتها لتجافيه عنها. ومات لهارونَ ولد، فحزن عليه حزنًا شديدًا حتَّى كاد أن يموتَ، وامتنع من الطَّعام والشَّراب، فدخل عليه ابنُ السَّماك فقال: [من مجزوء الكامل] أَفنيتَ عُمْرَك باغترارِكْ ... ومُناك فيهِ بانتظاركْ ونسيتَ ما لا بدَّ منـ ... وكنت أَوْلى بادِّكارك لك ساعةٌ تأتيك من ... ساعات ليلِك أو نهارِك فاخترْ لنفسك قبل أن ... تقضي وتُزعَج من قرارك (¬1) ثم قال: يا أميرَ المؤمنين، حدَّثني صديقٌ لي كان يسافر إلى بلاد الصِّين، وكان صديق ملكِ الصين، قال: جمعتُ له هديةً فاخرة وألطافًا كثيرة، ثم دخلت الصِّين، فوافيته قد مات ولدُه، فدخلتُ عليه، فلم أرَه يكترث ولا يُزعَج لموت ولدِه، فلمَّا خرجَت الجنازةُ إلى الصحراء، إذا بعشرة آلافِ وَصيفٍ ووَصيفة، على أيديهم أطباقُ الذهبِ والفضَّة مغطَّاة بالسُّندس، مُمَنْطَقين بمناطق الذهبِ والفضَّة، قد أحدقوا بالجنازة يُزَمْزِمون حولها، وإذا بعشرة آلافٍ من الرُّهبان والزهَّاد عليهم المُسوحُ والشَّعر، بأيديهم الأناجيلُ وهم يقرؤونها، فأَحدقوا بالجنازة، وإذا بعشرة آلافِ فارس، كلُّ واحدٍ يُعَدُّ بألوف، وهم على الخيول السَّوابق، مدرَّعين بأحسنِ العُدَد ¬

_ (¬1) الأبيات الثلاثة الأولى في المدهش ص 522 دون نسبة.

والسِّلاح، فأَحدقوا بالجنازة. وخرج الملكُ يمشي في خواصِّه وأصحابهِ إلى المقابر، فلمَّا دفن رجع الملكُ إلى قصره، فجلس واستدعاني، فقال لي: أرأيت ما رأيت؟ قلت: نعم، فقال: أما الوصائف والوصفاء، فحملوا ما في خزائني من الجواهر واليواقيتِ واللآلئ المثمنةِ التي لا توجد إلَّا في خزائني، فلمَّا أَحدقوا به، زمزموا وقالوا: يا سيِّدَنا، لو أن الذي قبض روحك يقبل رِشوة، لكان فيما معنا من الجواهر واللآلئِ واليواقيت والأموالِ كفاية، ولكن الذي قبض روحَك لا يقبل الرُّشا. أرأيت أصحابَ المُسوحِ والشَّعر؟ أولئك عبَّاد بلادِنا ورهبانُهم وعلماؤنا، قالوا: يا ابنَ الملك، لو كان الذي قبض روحَك يقبل شفاعة، لشفعنا إليه فيك، ولكنّه لا يقبل، أرأيتَ أصحاب الدُّروع والسِّلاح؟ هؤلاء قوَّاد الملكِ وخواصُّهم، ركبوا خيولَهم وحصلوا سلاحَهم وقالوا: لو كان الذي قبض روحَك ممَّن يحارب لَحاربناه، ولكن ممَّن لا يحارب. ثم قال لي: يا مسلم، هل أبقينا بقيَّة؟ قلت: لا. قال ابن السَّماك: فلمَّا فرغت من حديثي، قال هارون: لله درُّه من كافرٍ ما كان أحسنَ يقينَه! ثم بكى هارونُ حتَّى غُشي عليه، فقال بعض خواصِّه لابن السمَّاك: اُرفق بأمير المؤمنين، فقال: دَعه فليمت حتَّى يقال: خليفةُ اللهِ مات من مخافة اللهِ تعالى. ونظر ابنُ السمَّاك إلى أقوامٍ عليهم الصوفُ فقال. لَئن كان لباسُكم موافقًا لسرائركم، لقد أَحببتم أن يطَّلعَ النَّاسُ عليها، ولَئن كان مخالفًا لها، لقد هلكتم. وكان يقول: الذُّباب على العَذِرة أحسنُ منَ القرَّاءِ على أَبواب الملوك. وقال أحمدُ بن أبي الحَوَاري: مرض ابن السمَّاك، فحملنا ماءً إلى طبيب نصرانيِّ بالحِيرة، فبينا نحن بين الكوفةِ والحِيرة، استقبَلَنا رجلٌ حسن الوجهِ طيِّب الرِّيح نقيُّ الثياب، فقال: أين تريدون؟ فأَخبرناه، فقال: سبحان الله! تستعينون بعدوِّ اللهِ على وليِّ الله! اِضربوا به الأرضَ وارجعوا إلى ابن السمَّاك وقولوا له: ضع يدَك على موضع الوجعِ وقل: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] ثم غاب عنَّا. فعدنا إلى ابن السمَّاك فأخبرناه، فوضع يدَه على المكانِ وقرأ الآية، فعوفي من ساعته، فقلنا: مَن ذلك الرَّجل؟ فقال: الخَضِرُ عليه السَّلام.

موسى بن جعفر

ذِكر وفاتِه: قال لمَّا احتُضر: اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنِّي وإنْ كنت أَعصيك فإنِّي أحبُّ مَن يطيعك، اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنِّي لم أجلسْ مجلسًا إلَّا بدأت بالثَّناء عليك وبالصَّلاة على رسولك، وأُحبِّبك إلى خلقك. قَدِم بغداد، فوعظ هارونَ ثم عاد إلى الكوفةِ فمات بها. وسببُ موته أنَّه رأى الحقَّ تعالى في منامه، فقال له: يا مشعث، إلى متى تدعو النَّاسَ إلى بابي ولا تحضُرُ أنت بنفسك؟ ! أَمَا لولا أنَّك جلست يومًا فمرَّ بك وليٌّ من أوليائي فبكى ثم سألني فيك لعذَّبتك. فانصدع قلبهُ فمات. أَسند عن عدَّة من التّابعين، منهم هشامُ بن عروةَ والأعمشُ وغيرُهما، وروى عنه الإِمام أحمدُ بن حنبل -رحمةُ اللهِ عليه- وغيرُه، وكان ثقةً صالحًا. موسى بنُ جعفر (¬1) ابن محمَّد بن عليِّ بن الحسينِ بن علي عليه السَّلام، أبو الحسن، ويلقَّب بالكاظم، والطيِّب، والمأمون، ويُدعى بالعبد الصالح؛ لعبادته واجتهادِه، وأَشهرُ ألقابِه الكاظم؛ لأنَّه كان حليمًا. وأمُّه أمُّ ولدٍ أندلسية، وقيل: بربرية، واسمُها حميدة. وُلد بالمدينة سنةَ ثمانٍ أو تسعٍ وعشرين ومئة، وهو من الطبقة السابعةِ من أهل المدينة. وكان سيِّدًا عَالمًا فاضلًا، مجابَ الدَّعوة، جوادًا، إذا بلغه عن أحدٍ أنَّه يؤذيه بعث إليه بمال، بلغه عن رجلٍ كلامٌ يؤذيه، فبعث إليه بألف دينار. وأَهدى له بعضُ العبيد عَصِيدة (¬2)، فاشترى الضَّيعة التي فيها ذلك العبدُ والعبدَ بألف دينار، وأَعتقه ووهبها له. وكان كثيرَ العبادة والتهجُّد. وقال شَقيقٌ البَلْخي: خرجت حاجًّا في سنة تسعٍ وأربعين ومئة، فنزلتُ القادسية، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 14، والمنتظم 9/ 87، وصفة الصفوة 2/ 184، وتهذيب الكمال 29/ 43، والسير 6/ 270، وتاريخ الإسلام 4/ 984. (¬2) دقيق يضاف إليه ماء يطبخ به، ثم يضاف إليه سمن ولبن محلى بالسكر أو العسل.

فبينا أنا أَنظر إلى النَّاسِ في زينتهم وكثرتِهم، إذ نظرتُ إلى فتًى حسن الوجه، شديدِ السُّمْرَة، فوق ثيابه ثوبٌ من صوف، مُشتَمِلٍ بشَمْلَة، في رجليه نعلان، وقد جلس منفردًا، فقلتُ في نفسي: هذا الفتى من الصُّوفية يريد أن يكون كَلًّا على الناس في طريقهم، والله لأَمضينَّ إليه ولأُوبِّخنَّه، فدنوتُ منه، فلمَّا رآني مُقبلًا قال: يا شقيق {يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] و {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} الآية [الحجرات: 12]، ثم تركني ومضى. فقلتُ في نفسي: قد تكلَّم على ما في نفسي ونطق باسمي، وما هذا إلَّا عبدٌ صالح، لأَلحقنَّه ولأَسألنَّه أن يحالَّني، فأسرعتُ في طلبه، فلم أره، وغاب عن عيني، فلمَّا نزلنا واقِصة (¬1)، إذا به قائمٌ يصلِّي وأعضاؤه تضطرب ودموعُه تجري، فقلت: هذا صاحبي أَمضي إليه وأَستحلُّه، فصبرتُ حتَّى جلس، وأقبلتُ نحوه، فلمَّا رآني مقبلًا قال: يا شقيق، اُتل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82] ثم تركني ومضى. فقلت: إنَّ هذا الفتى لَمن الأَبدال، فقد تكلَّم على سرِّي مرتين. فلمَّا نزلنا زُبَالة، إذا بالفتى قائمٌ على البئر وبيده رَكْوَةٌ يريد أن يستقيَ ماء، فسقطت الرَّكوةُ من يده في البئر وأنا أَنظر إليه، فرأيتُه قد رَمَقَ إلى السَّماء وقال: [من الخفيف] أنت رَبِّي إذا ظَمِئتُ من الما ... ءِ وقوتي إذا أردتُ الطَّعاما (¬2) اللَّهمَّ سيِّديَ ما لي سوها، فلا تَعْدِمْنيها. قال شقيق: فواللهِ لقد رأيتُ ماءَ البئرِ وقد ارتفع، فمدَّ يَده فأخذ الرَّكوة فملأها ماء، وتوضَّأ وصلَّى أربعَ ركعات، ثم مال إلى كَثيبٍ من الرَّمل، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الرَّكوة ويحرِّكه ويشوب، فأَقبلت إليه وسلَّمت عليه (¬3)، فردَّ السَّلام، فقلت: أَطعمني من فضل ما أنعم اللهُ به عليك، فقال: يا شقيق، لم تزل نعمةُ اللهِ علينا ظاهرةً وباطنة، فأَحسِن ظنَّك بربِّك. ثم ناولني الرَّكوة، فشربتُ منها، فإذا سَويقٌ وسُكَّر، فواللهِ ما شربت قطُّ ألذ منه ولا ¬

_ (¬1) منزل بطريق مكّة، وهي دون زبالة -وسيأتي ذكرها- بمرحلتين. معجم البلدان. (¬2) صفة الصفوة 2/ 186، وقد ذكر القصة بتمامها. (¬3) في (خ): إليه.

أطيبَ ريحًا، فشبعتُ ورَويت، وأَقمت أيَّامًا لا أشتهي الطعامَ والشراب. ثم لم أره حتَّى دخلنا مكَّة، فرأيتُه ليلة إلى جنب قُبَّة الشرابِ نصفَ الليل يصلِّي بخشوع وأنينٍ وبكاء، فلم يزل كذلك حتَّى ذهب الليلُ وطلع الفجر، فجلس في مصلَّاه يسبِّح الله، ثم قام فصلَّى الغَداة، وطاف بالبيت أُسبوعًا (¬1) وخرج، فتبعتُه، وإذا حاشيةٌ ومَوَالٍ، وهو على خلاف ما رأيتُه في الطَّريق، ودار به النَّاسُ من حوله يسلِّمون عليه، فقلتُ لبعض مَن رأيته تقرَّب منه: مَن هذا الفتى؟ قال: موسى بنُ جعفرِ بن محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن علي عليه السَّلام، فقلت: قد عجبتُ أن تكونَ هذه العجائبُ إلَّا لمثل هذا السيِّد. وقال عبدُ الرَّحمن بنُ صالح الأَزْدي: حجَّ هارون، فأتى قبرَ النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - زائرًا له وحوله قريشٌ وأفياءُ القبائلِ وموسى بنُ جعفر، فلمَّا انتهى إلى القبر، قال هارون: السلامُ عليك يا رسولَ اللهِ يا ابنَ العمّ. افتخارًا على مَن حوله، فدنا موسى من القبرِ وقال: السلامُ عليك يا أَبَة، فتغيَّر وجهُ هارونَ وقال له: هذا هو الفخرُ يا أبا الحسنِ حقًّا. ثم اعتمر هارونُ في رمضانَ سنة تسعٍ وسبعين ومئة، وحمل موسى معه إلى بغداد، فحبسه بها، فتوفِّي في هذه السَّنة (¬2). وقال الزَّمخشري: كان هارونُ يقول لموسى: خذ فَدَكًا. وهو يمتنع عليه، فلمَّا كثَّر عليه قال: ما آخُذها إلَّا بحدودها، قال: وما حدودُها؟ قال: الحدُّ الأوَّل من فَدَك إلى عَدَن، فتغيَّر وجهُ هارون، قال: والحدُّ الثَّاني؟ قال: سَمَرْقَنْد، فاربدَّ وجهُ هارون، قال: والحدُّ الثالث؟ قال: إِفريقية، فاسودَّ وجهُ هارون، قال: والحدُّ الرابع؟ قال: سِيفُ البحرِ ممَّا يلي الخَزَرَ وإرمينيةَ والشام، قال هارون: فتحوَّلْ إلى مجلسي فلم يبقَ لنا شيء، فقال موسى: قد أَعلمتك بحدودها، فحينئذٍ أخذه وحبسه. ولمَّا طال حبسُه كتب إلى هارون: إنَّه لن ينقضيَ عني يومٌ من البلاء إلَّا انقضى عنك معه يومٌ من الرَّخاء، حتى نُفضيَ جميعًا إلى يومٍ ليس له انقضاءٌ يخسر فيه المبطلون (¬3). ¬

_ (¬1) أي: سبعًا. (¬2) المنتظم 9/ 88. (¬3) في (خ): المطلوب، والمثبت من تاريخ بغداد 15/ 19، والمنتظم 9/ 88.

موسى بن عيسى

ذِكر وفاته: توفِّي لخمسٍ بقين من رجب سنةَ ثلاثٍ وثمانين بالحبس ببغداد، ودُفن بمقابر قريش، وقبرُه ظاهرٌ يزار، وأهلُ العراق يسمُّون قبرَه بابَ الحوائجِ إلى الله تعالى. وقال الحسنُ بن إبراهيم: ما أهمَّني أمرٌ فقصدت قبرَ موسى بنِ جعفرٍ فتوسَّلت به، إلَّا سهَّل اللهُ لي ما أُحبّ. وقيل: مات سنةَ ثمانٍ وثمانين ومئة. والأوَّل أشهر. ذِكر أولادِه: كان له أربعونَ ولدًا (¬1) ما بين ذكرٍ وأنثى: عليُّ بن موسى الرِّضا، والنَّسل له، وزيد، وهو الخارجُ على المأمون، فعفا عنه، وإِبراهيم، وعقيل، وهارون، والحسن، والحسين، وعبدُ الله، وعُبيد الله، وإِسماعيل، وأحمد، وعُمر، وجعفر، ويحيى، وإِسحاق، والعبَّاس، وحمزة، وعبد الرَّحمن، والقاسم، وجعفر الأَصغر، ومحمَّد. ومن البنات: خديجة، وأمُّ فَروة، وأَسماء، وعُلَيّة، والفواطمُ أربع، وأمّ كلثوم، وآمنة، وزينب: كُبرى وصُغرى، وأمُّ عبد الله، وأمُّ القاسم، وحليمة، وأسماءُ الصُّغرى، ومحمودة، وأُمامة. والكلُّ -الذكورُ والإِناث- لأمَّهات أولادٍ شتَّى. مات وسنُّه سبعٌ وخمسون سنة، وقيل: ستُّون، وقيل: إحدى وستُّون سنة، وقيل: ثلاثٌ وخمسون سنة (¬2). أسند الحديثَ عن أبيه وجدِّه (¬3) عن آبائه الطَّاهرين - رضي الله عنهم - أجمعين. موسى بنُ عيسى ابن موسى بن محمَّد بن عليِّ بن عبد اللهِ بن عباس. وَلِيَ الحرمين واليمن ومصرَ والكوفةَ ودمشق. وحجَّ بالنَّاس سنةَ ثمانين أو اثنتين ¬

_ (¬1) سيذكر المصنف أسماء تسعة وثلاثين ولدًا، وانظر السير 8/ 274، وجمهرة أنساب العرب 61. (¬2) هذه الأقوال غير متطابقة مع ما ذكر من ولادته ووفاته، والراجح أنَّه عاش خمسًا وخمسين سنة كما ذكر الذهبي في السير 6/ 274، وانظر تاريخ الإسلام 4/ 986. (¬3) كذا، ولعلها: عن جده؛ لأنَّ موسى بن جعفر لم يدرك جده محمَّدًا الباقر رحمة الله عليهم.

يحيى بن حمزة بن واقد

وثمانين ومئة. ووعظه ابن السمَّاك وقال: لَتواضُعُك في شَرَفك أحبُّ إلينا من شرفك. وكانت وفاته في رجب هذه السنةَ وله خمسٌ وخمسون سنة. وقيل: ما سنةَ اثنتين وثمانين، وقيل: سنةَ تسعٍ (¬1) وثمانين ومئة، رحمه اللهُ تعالى. يَحْيَى بنُ حمزة بنِ واقِد أبو عبد الرَّحمنِ الحَضْرَميّ. قاضي دمشق. أصلُه من بيت لَهْيا (¬2). ولد سنةَ اثنتين أو ثلاثٍ أو ثمانٍ ومئة. وهو من الطبقة الخامسةِ من أهل الشام، وكان كثير الحديث صالحَه، ولمَّا قدم أبو جعفرٍ دمشقَ سنة ثلاثٍ وخمسين، استعمله على القضاءِ، وقال له: يا شابّ، إنِّي أرىَ أهلَ بلدك قد أَجمعوا عليك، فإيَّاك والهديَّة. فلم يزل قاضيًا عليها حتَّى مات. وقيل: تأخَّرت وفاتُه عن هذه السَّنة. أسند عن الأوزاعيِّ والثوريِّ وغيرِهما، وروى عنه الوليدُ بن مسلم وهشامُ بن عمار وغيرُه، واتَّفقوا على صِدقه وثقتِه ووَرعه. * * * ¬

_ (¬1) صوابه: سبع، كما في تاريخ دمشق 17/ 398 (مخطوط)، ومختصره 26/ 7. (¬2) وهي قرية بالقرب من دمشق، وانظر في ترجمته تاريخ دمشق 18/ 57 (مصورة دار البشير)، والسير 8/ 354، وتاريخ الإسلام 4/ 998.

السنة الرابعة والثمانون بعد المئة

السنة الرابعةُ والثمانون بعد المئة فيها قَدِم هارونُ إلى بغدادَ من الرَّقَّة في الفرات في السُّفن وأثقالُه وأصحابُه على البَرّ. وكان سببُ قدومِه خروجَ أبي عَمرٍو الشاري (¬1)؛ فإنَّه نزل شَهْرَزورَ، واستفحل أمرُه، ومال إليه النَّاس، فجهَّز إليه هارونُ زهيرًا القصَّاب (¬2)، فالتقَوا على شَهرزورَ واقتتلوا، فظهر الشاري، ثم كانت الدَّبَرة عليه، فقُتل ومعه جماعةٌ من أصحابه، وانهزم الباقون. وكان عليُّ بن عيسى قد توجَّه لقتال أبي الخَصيب، فطلب من عليِّ بن عيسى (¬3) الأَمان، فأمَّنه، وقدم عليه أبو الخصيبِ وهو بمَرْو، فالتقاه وأَكرمه ووفى له. وحجَّ بالنَّاس إِبراهيمُ بن المهديّ، وهو ابنُ شَكْلة (¬4). فصل وفيها توفي أحمدُ بن هارونَ الرَّشيدِ المعروفُ بالسَّبتي قال عبدُ الله بن الفَرج العابد: احتجتُ إلى صانعٍ يصنع لي شيئًا من أمر الرُّوزْجاريين (¬5)، فأتيتُ السُّوق، فإذا في آخرهم شابٌّ مُصْفَرٌّ بين يديه زِنبيل كبير ومَرّ (¬6)، وعليه جُبَّة صوف ومئزرُ صوف، فقلتُ له: تعمل؟ قال: نعم، قلتُ: بكم؟ قال: بدِرهمٍ ودانِق، قلت له: قُم حتَّى تعمل، فقال: على شريطة، قلتُ: وما هي؟ قال: إذا كان وقتُ الظُّهر وأذَّن المؤذِّن، خرجتُ فتطهَّرت وصلَّيت في المسجد جماعة ثم رجعت، فإذا كان وقتُ العصر فكذلك، قلتُ: نعم. فقام معي، فجئنا المنزل، فوافقتُه على ما ينقله من موضع، فشدَّ وسطَه وجعل يعمل ¬

_ (¬1) في (خ): الشيباني، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 272، والمنتظم 9/ 92، والكامل 6/ 166، وتاريخ الإسلام 4/ 782، والبداية والنهاية 13/ 626. (¬2) في (خ): القصار، والمثبت من المصادر. (¬3) في (خ): موسى، وهو خطأ. وانظر المصادر السابقة. (¬4) هي أمه. (¬5) أي الذين يعملون بأجر يومي. (¬6) المر: الحبل، والمسحاة، والزنبيل: القُفَّة أو الجراب أو الوعاء. المعجم الوسيط (مرر)، القاموس.

ولا يكلِّمني حتَّى أذَّن الظُّهر، فقال: يا عبدَ الله، قد أذَّن المؤذِّن، فقلت: شأنك. فخرج فصلَّى وعاد، فعمل عملًا جيِّدًا إلى العصر، فلما أذَّن المؤذِّن، خرج فصلَّى ثم رجع، فعمل إلى آخر النَّهار، فوزنتُ له أُجرتَه، فانصرف. فلمَّا كان بعدَ أيَّام، احتجنا إلى عمل، فقالت لي زوجتي: اُطلب لنا ذاك الصَّانعَ الشابّ؛ فإنَّه قد نصحنا في عملنا. فجئتُ إلى السُّوق فلم أرَه، فسألتُ عنه، فقالوا: تسأل عن ذاك المصفرِّ المشؤومِ الذي لا نراه إلَّا من سبتٍ إلى سبت، لا يجلس إلَّا وحده في آخِر النَّاس! فانصرفت. فلمَّا كان يومُ السبت، أتيتُ السوقَ فصادفته، فقلت له: تعمل معي؟ فقال: قد عرفتَ الأُجرة والشَّرط، فقلت: استَخِر اللهَ تعالى، فقام فعمل على النَّحو الذي كان يعمل، فلمَّا وزنتُ له الأجرة زِدتُه، فأبى أن يأخذَ الزِّيادة، فأَلحَحْت عليه، فضَجِر وتركني ومضى. فغمَّني ذلك، فاتَّبعته وداريته حتَّى أخذ أُجرتَه فقط. فلمَّا كان بعد مدَّة، احتجنا إلى صانع، فأتيت السوقَ يومَ السبت، فلم أصادفْه، فسألتُ عنه، فقيل لي: هو عَليل. وقال لي مَن يَخبُرُ أمرَه: إنَّما كان يجيءُ إلى السُّوق من سبتٍ إلى سبت، يعمل بدرهمٍ ودانق، يتقوَّت كلَّ يوم بدانق، وقد مرض، فسألتُ عن منزله، فأَتيته وهو في بيت عجوز، فقلت لها: الشابُّ الرُّوزجاري؟ قالت: هو عليلٌ منذ أيَّام. فدخلتُ عليه، فوجدتُه لِمَا به وتحت رأسه لَبِنة، فسلَّمت عليه وقلت: لكَ حاجة؟ قال: نحم إنْ قبلت، قلت: أَقبل إن شاءَ الله، فقال: إذا أنا متُّ، فبعْ هذا المَرَّ، واغسل جبَّتي هذه الصوفَ وهذا المئزرَ وكفِّنِّي بهما، وافتُقْ جيبَ الجبَّة فإنَّ فيها خاتَمًا، وانظر يوم يركب هارونُ الخليفة، فقِف له في موضعٍ يراك، فكلِّمه وأَرِه الخاتم؛ فإنَّه سيدعو بك، فسلِّم إليه الخاتم، ولا يكونُ هذا إلَّا بعد دفني، قلت: نعم. فلمَّا مات: فعلتُ به ما أمرني، ثم نظرتُ اليومَ الذي يركب فيه الخليفة، فجلست له على الطريق، فلمَّا مرَّ ناديتُه: يا أميرَ المؤمنين، لك عندي وديعة، ولوَّحت بالخاتم، فأُخذت وحُملت إلى داره، ثم دعاني ونحَّى جميعَ مَن كان عنده وقال: مَن أنت؟ قلت: عبدُ الله بن الفَرج، قال: مِن أين لك هذا الخاتَم؟ فحدَّثته قصَّة الشاب، فجعل يبكي حتَّى رحمتُه، فلمَّا أَنِس قلت: يا أميرَ المؤمنين، مَن هو منك؟ قال: ابني، قلت:

كيف صار إلى هذه الحال؟ قال: وُلد لي قبل أن أَبتلَى بالخلافة، فنشأَ نشوءًا حسنًا، وتعلَّم القرآنَ والعلم، فلمَّا وليت الخلافة، تركني ولم ينَل من دنياي، فدفعتُ إلى أمِّه هذا الخاتمَ وهو ياقوتٌ يساوي مالًا كثيرًا، فقلت: تدفعينه إلى ابنك -وكان بارًّا بها- وتسألينه أن يكون معه، فلعله أن يحتاجَ إليه يومًا من الأيّام فينتفعَ به، وتوفِّيت أمُّه، فما عرفتُ له خبرًا إلَّا ما أخبرتني به أنت. ثم قال: إذا كان الليلُ فأخرج معي إلى قبره، فلمَّا كان الليلُ خرجت معه وحده، حتَّى أَتينا قبرَه وهو يمشي، فجلس فبكى بكاءً شديدًا، فلمَّا طلع الفجرُ قمنا، فرجع ثم قال: تعاهدْتي في هذه الأيَّامِ حتَّى أزورَ قبرَه. فكنت أَتعاهده في اللَّيل، فيخرج يزوره ثم يرجع. قال عبدُ الله بن الفَرَج: ولم أعلمْ أنَّه ابنُ الرشيد حتَّى أَخبرني الخليفةُ أنَّه ابنُه (¬1). وقيل (¬2): إنَّ عبد اللهِ بنَ الفَرَج نقله إلى منزله، وإنَّه لمَّا احتُضر، دفع إليه الخاتَمَ وقال: إذا متُّ ودفنتني فخذ هذا الخاتَمَ وادفعه إلى أَمير المؤمنين هارون، وقل له: يقول لك صاحبُ هذا الخاتم: احذَر أن تموتَ على سَكرتك؛ فإنَّك إن متَّ عليها ندمتَ. فلمَّا دفنته وقفت لهارونَ وأخرجت الخاتَم، فلمَّا نظر إليه عرفه وقال: مِن أين لك هذا؟ فقلت: دفعه إليَّ رجل طيَّان، فقال: طيَّان طيَّان؟ ! فقرَّبني منه، وقلت: إنَّه أوصاني بوصيَّة وقال: إذا رفعتَ إليه الخاتم قل له: أحذر أن تموتَ على سكرتك هذه؛ فإنَّك إن متَّ عليه, ندمت. فلمَّا سمع لك، قام قائمًا على رجلَيه وضرب بنفسه على البساط، وجعل يتقلَّب ويقول: يا بنيّ، نصحتَ. ثم جلس، وجاؤوا بماءٍ فمسحوا وجهَه، وقال: هيه. فحدَّثته الحديثَ وهو يبكي، فقال: هذا أوَّل مولودٍ ولد لي، بَصُرت بأمِّه فتزوَّجتُ بها سرًّا من أبي، فأَولدتها هذا المولود، وأَحدرتُها إلى البصرة، وأعطيتُها هذا الخاتمَ وأشياء، وقلت: اكتُمي نفسك، فلمَّا وليت الخلافةَ سألت عنهما، فذُكر لي أنَّهما ماتا، ولم أعلم أنَّه باق، فأين دفنتَه؟ ¬

_ (¬1) التوابين 187 - 190، وانظر الغرباء للآجري 69، وصفة الصفوة 2/ 313. (¬2) هذه الرّواية ذكرها ابن الجوزي في المنتظم 9/ 93.

محمد بن يوسف بن معدان

فقلت: في مقابر عبدِ الله بن مالك، فقال: إذا كان وقتُ المغربِ فقف لي على الباب، فوقفتُ، فخرج لي مُتَنكِّرًا، فجئت به إلى قبره، فما زال يبكي ليلَه ويُدير رأسَه ولحيتَه على قبره ويقول: يا بنيّ، نصحتَ أباك؛ حتَّى طلع الفجر، فقلت: أصبحتَ يا أميرَ المؤمنين، فقال: قد أمرتُ لك بعشرة آلافِ درهم، واكتُب عيالك مع عيالي؛ فقد وجب عليَّ حقُّك بدفنك ولدي، وأَخذ بيدي ومشينا إلى القصر، فلمَّا بلغ البابَ قال: انظر ما أُوصيك به، إذا طلعت الشَّمسُ فقِفْ لي حتَّى أدعوَك فتحدِّثَني حديثَه، قلت. إن شاءَ الله. فما عدتُ إليه بعد ذلك. محمَّد بن يوسفَ بنِ مَعْدان (¬1) أبو عبد اللهِ، الأَصفهاني. كان ابنُ المبارك يسمِّيه عروسَ الزُّهَّاد. وقال ابن مَهديٍّ ويحيى بنُ سعيد: ما رأينا مثلَه. وما كان يشتري حاجَته -زادَه وما يحتاج إليه- من خبَّازٍ واحد، ولا من بقَّال واحد، ويقول: لعلَّهم يعرفوني فيُحَابُوني، فأكونُ ممَّن يكون يعيش بدِينه. ولم يكن يضع جَنْبَه إلى الأرض، وإذا نام نام قاعدًا. وكان يسكن السَّواحلَ والمَصِّيصة، وكان عابدًا ورعًا، خرج في جنازة بالمصِّيصة، فنظر إلى قبر أبي إسحاقَ الفَزاريِّ ومَخْلَدِ بن الحسينِ وبينهما موضعُ قبرٍ فقال: لو أنَّ رجلًا مات فدُفن بينهما، فما أتت عليه إلَّا عشرةُ أيامٍ حتَّى توفِّي فدُفن بينهما، ولم يبلغ أربعين سَنَة. أَسند عن الثوريِّ والأَعمش وغيرِهما، وشغلته العبادةُ عن الرِّواية. المُعافى بنُ عِمران أبو مسعودٍ، المَوْصليِّ، الأَزْدي (¬2). رحل إلى البلادِ في طلب الحديث، وجالس العلماءَ، وجمع بين الورعِ والعقل والسَّخاء والزُّهد في الدُّنيا ومحبَّة الصالحين ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 8/ 255، وصفة الصفوة 4/ 81، والمنتظم 9/ 100، وتاريخ الإسلام 4/ 968، والسير 9/ 125. (¬2) تاريخ بغداد 15/ 303، حلية الأولياء 8/ 288، والمنتظم 9/ 101، وصفة الصفوة 4/ 180، وتاريخ الإسلام 4/ 976، والسير 9/ 80.

وزيارتِهم، لزم سفيانَ الثوريَّ وتفقَّه عليه وتأدَّب بآدابه، وكان يقول له: أنت معافًى كاسمك. وكان صاحبَ سُنَّة. وكان بشرٌ الحافي مغرًى به، ويزوره في بلدِه بالموصل ويغشاه. قال رجلٌ لبشر الحافي: أراك عاشقًا للمعافى بنِ عمران! فقال: وما لي لا أَعشقُه وقد كان سفيانُ يسمِّيه ياقوتةَ العلماء؟ ! ولقد قُتل ابناه بالموصل فما رأيتُه حلَّ حَبْوَته، وقال: ظالمَين أو مظلومَين؟ قالوا: مظلومَين، فحلَّ حَبوتَه وخرَّ ساجدًا، وما رُئي عليه أثرُ الحزن، وما سُمع من داره صوت. كان صاحبَ كمدٍ، فجاء إخوانه يُعَزُّونه، فقال لهم: إنْ كنتم جئتم تعزُّونني فلا تعزوني، وإنْ كنتم تهنِّئونني فنَعم. فما برحوا حتَّى غدَّاهم وغلَّفهم بالغالية. وكان ابناه قُتلا في وقعةِ الموصل. وطرق بابَه بِشرٌ، فقالت له ابنةٌ له خماسية: مَن بالباب؟ فقال: بشرٌ الحافي، فقالت: لو اشتريتَ نعلًا بدانقَين لَذهبت عنك هذه الشُّهرة. وكان المعافَى يقول: كتابةُ حديثٍ واحد أحبُّ إليَّ من قيام ليلة. مات سنة أربعٍ وثمانين ومئة بالموصل. وقيل: سنةَ خمسٍ أو ستٍّ وثمانين. وصلَّى عليه عَمرو بن الهيثم. أَسند عن الثوريِّ ومالكِ بن أنس واللَّيث بنِ سعد وخلقٍ كثير، وروى عنه ابنُ المبارك وغيره، وكان يقول: حدَّثني ذاك الرجلُ الصالح. وصنَّف كتبًا في الزُّهد والسُّنن والآداب. واتَّفقوا على صِدقه وثقتِه وووعه. * * *

السنة الخامسة والثمانون بعد المئة

السَّنة الخامسةُ والثمانونَ بعد المئة فيها خرج حمزةُ الشاري بخُراسان، فعاث بنواحي باذَغِيس، فخرج إليه عليُّ بن عيسى بنِ ماهان (¬1)، فقتل من أَصحابه خلقًا كثيرًا، فانهزم حمزةُ حتَّى بلغ كابُل وزابُلِستان. وقد ذكرنا أنَّ أبا الخصيبِ طلب الأمانَ من عليِّ بن عيسى، فأمَّنه، وأنَّه غَدَر في هذه السَّنة، وغلب على طُوسَ ونَيسابورَ ونازل مَرْوَ وأَحدق بها، فخرج إليه عليُّ بن عيسى فهزمه إلى سَرْخَس. وفيها خرج الرشيدُ إلى الرقَّة على طريق المَوْصلِ والجزيرة، وحجَّ بالنَّاس منصورُ بن المهديّ، وكان يَحْيَى بنُ خالد قد استأذن الرشيدَ في العُمرة، فخرج في شعبان، فأقام بمكَّةَ واعتمر في رمضان، وخرج إلى جُدَّة، فأَقام بها على نيَّة الرِّباط إلى زمن الحجِّ، فحجَّ وعاد إلى العراق، ووقعت في المسجد الحرامِ صاعقةٌ فقتلت رجلَين. فصل وفيها توفي عبدُ الصَّمَد بن عليِّ ابن عبدِ الله بن عباس، أبو محمَّد الهاشمي (¬2). ولد بالحُمَيمة سنةَ خمسٍ أو ستٍّ ومئة (¬3). وأمُّه أمُّ ولد، ويقال: أمُّه كَثيرة التي شبَّب بها عُبيد الله بن قيس الرُّقَيات فقال: [من المنسرح] عادَ له من كثيرةَ الطَّربُ ... فعينُهُ بالدُّموع تَنسكبُ كوفيّةٌ نازحٌ مَحَلَّتُها ... لا أَمَمٌ دارُها ولا صَقَب (¬4) ¬

_ (¬1) كذا، والذي في المصادر أن الذي خرج إليه عيسى بن علي بن عيسى، انظر تاريخ الطبري 8/ 273، والمنتظم 9/ 103، والكامل 8/ 163، وتاريخ الإسلام 4/ 782، والبداية والنهاية 13/ 630. (¬2) تاريخ بغداد 12/ 300، تاريخ دمشق 42/ 273، المنتظم 9/ 104، السير 9/ 129، تاريخ الإسلام 4/ 911. (¬3) أو أربع ومئة، كما هو الأشهر. (¬4) الأمم والصقب: القرب، وانظر تاريخ بغداد 12/ 303، وعنه تاريخ دمشق 42/ 286، والديوان ص 1 - 2.

وقيل: هي غيرُ هذه. وولي إِمرةَ دمشقَ والموسمِ والمدينةِ والبصرةِ لأبي جعفرٍ والرشيد، وكان أَقعدَ الهاشميين في النَّسب. وكان فيه خِلالٌ لم تجتمع في غيره: منها: أنَّ يزيدَ بن معاويةَ حجَّ بالنَّاس سنةَ خمسين، وحجَّ عبدُ الصَّمد سنةَ خمسين ومئة، بينهما مئةُ سنة، وهما في القُعْدُد إلى عبد منافٍ (¬1) سواء؛ لأنَّ عبدَ الصَّمد بنُ عليِّ بن عبد اللهِ بن عباس بن عبد المطَّلب بن هاشمِ بن عبد مناف. ومنها: أنَّه أَدرك أبا العباسِ وهو ابنُ أخيه (¬2)، ثم أدرك المهديَّ وهو عمُّ أبيه، ثم أدرك الهاديَ وهو عمُّ جده، ثم أدرك الرشيدَ وهو عمُّ جدِّه. ومنها أنَّه قال للرشيد: يا أميرَ المؤمنين، هذا مجلسٌ فيه أميرُ المؤمنين [وعمُّ أميرِ المؤمنين (¬3)] وعمُّ عمِّه وعمُّ عمِّ عمِّه؛ وذلك لأنَّ سليمانَ بن أبي جعفرٍ عمُّ الرشيد، والعباسَ بن محمَّد عمُّ سليمان، وعبد الصَّمد عمُّ العباس. ومنها: أنَّه استخرج عمَّه حمزةَ - رضي الله عنه - عامَ السَّيل، ووضع رأسَه في حِجْره، ووضع عليه أكفانًا وَأَعاده إلى حُفْرَته. ومنها: أنَّه مات وليس على وجه الأرضِ عباسيةٌ من بيت الخلافةِ إلَّا وهو مَحْرَمٌ لها. ومنها: أنَّه كان هائلَ الخِلْقَة، عظيمَ الجُثَّة، كانت يداه ذراعًا، وأسنانُه وأضراسُه قطعةً واحدة، دخل القبرَ ولم يُثْغَر له سنٌّ قط، بل أُدخل القبرَ بأسنان الصِّبا. ومنها: أنَّ ريشةً طارت إلى عينه فذهب بصرُه. ومنها: أنَّه أعمى ابنُ أعمى ابنِ أعمى ابنِ أعمى ابنِ أعمى، خمسَ مرات؛ لأنَّه عمي هو وأبوه عليٌّ وجدُّه عبد الله والعباسُ وعبدُ المطلب. وقال سيفُ بن محمَّد ابن أختِ سفيانَ الثوري: مرض خالي سفيانُ بمكَّة، فجاء عبدُ ¬

_ (¬1) أي: في الانتساب إليه. (¬2) ثم أدرك أبا جعفر المنصور، وهو ابن أخيه. كذا في المصادر. (¬3) زيادة من تاريخ بغداد 12/ 303، والمنتظم 9/ 105.

الصَّمد يعوده، فقال: لا تأذنوا له، قالوا: كيف يمكن؟ ! فدخل عبدُ الصَّمد، فحرَّك سفيانُ وجهَه إلى الحائط، فسلَّم عبد الصَّمد، فلم يردَّ عليه، فقال عبدُ الصَّمد: يا سيف، أظنُّ أبا عبد اللهِ نائمًا، فقلت: أَحسبُ ذلك، فقال سفيان: لا تكذبْ، لستُ بنائم، فقال عبدُ الصَّمد: يا أبا عبدِ الله، هل من حاجة؟ قال: نعم، لا تَعُدني إذا مرضت، ولا تَشهدْني إذا متّ، وإذا ذُكرت عندك فلا تترحَّم علي، فخجل عبد الصَّمد فقام وخرج. وذكر ابنُ عساكر (¬1) بمعناه، وفيه أنَّ سفيانَ لما استأذن عبدُ الصَّمد، قام فدخل مِخْدَعًا، فدخل عبدُ الصَّمد فقال: أين أبو عبدِ الله؟ قالوا: دخل لحاجة، وخرج سفيان فقعد، فقال عبدُ الصَّمد له: يا أبا عبد الله، بلغني قدومُك، وأنت عالمُ أهل المشرقِ ورَجلُهم، فأتيتُ إليك زائرًا، قال: فقال له: أَلَا أدلُّك على خير مما جئتَ له؟ قال: وما هو؟ قال: تعتزلُ ما أنت فيه، فتغيَّر وجهُ عبدِ الصَّمد وقال: يا أبا عبدِ الله، إن أبا جعفرٍ ما يرضى منِّي بهذا. ثم قام فخرج. ذِكر وفاتِه: حبسه هارونُ في سِرْدابٍ فيه ريش، فطارت ريشةٌ فدخلت في عينيه فذهبتا، ثم ثار به جُدَريّ، فمات وله تسعٌ وسبعون سنة، وقيل: إحدى وثمانونَ سنة، وصلَّى عليه هارونُ ليلًا، ودُفن في مقبرة بابِ البَرَدان. أَسند عن أبيه وغيرِه، وروى عنه المنصورُ وابنُه المهديُّ وغيرهما. ومن مسانيده: قال محمَّد بن إبراهيمَ الإِمام -وكان يجلس لولده وولدِ ولدِه في كلِّ خميسٍ يعظهم ويحدِّثهم- قال: أرسل إليَّ المنصورُ بكرةً واستعجلني الرَّسول، فدخلنا، فإذا الربيعُ واقفٌ عند السِّتر، والمهديُّ وليُّ العهد في الدِّهليز جالس، وإذا عبدُ الصَّمد بن عليٍّ وإسماعيلُ بن علي وجعفرُ بن محمَّد بن عليِّ بن الحسينِ بن عليِّ بن أبي طالبٍ وعبدُ الله بنُ حسنِ بن حسن، والعباسُ بن محمد، فقال الرَّبيع: اجلسوا مع بني عمِّكم، فجلسنا، فدخل الربيعُ وخرج، وقال للمهديّ: اُدخل أَصلحك الله، ¬

_ (¬1) في تاريخه 10/ 341 (مخطوط)، وأخرج أيضًا رواية سيف ابن أخت الثوري السابقة، وقال الذهبي في تاريخ الإسلام 4/ 913 بعد إيرادها: سيف تالف.

فدخل، ثم قال: اُدخلوا جميعًا، فدخلنا فسلَّمنا وأَخذنا مجالسَنا، فقال للربيع: دواةً وما يكتبون فيه، فوضع الربيعُ بين أيدي كل واحدٍ منا دواةً وورقًا، ثم التفت إلى عبد الصَّمد به. عليّ فقال: يا عمّ، حدِّث ولدك وإخوتَك وبني أخيك بحديث "البِرُّ والصِّلة لَيُطيلان الأَعمارَ، وَيعْمُران الدِّيار، ويُثريان الأموال، ولو كان القومُ فجَّارًا" (¬1). ثم قال أبو جعفر: يا عمّ، الحديثَ الآخرَ. فقال عبدُ الصَّمد: حدَّثني أبي، عن جدِّي عبدِ الله بن عباس قال: قال رسولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "البِرُّ والصِّلة لَيخفِّفان سوءَ الحسابِ يومَ القيامة" ثم تلا رسولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 21]. فقال المنصور: يا عمّ، الحديثَ الآخر، فقال عبدُ الصَّمد: حدَّثني أبي، عن جدِّي عبدِ الله بن عبَّاس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان في بني إِسرائيلَ مَلِكان أَخوان على مدينتين، وكان أحدُهما بارًّا برَحِمه عادلًا على رعيَّته، وكان الآخَر عاقًّا برَحِمه جائرًا على رعيَّته، وكان في عصرهما نبيّ، فأَوحى اللهُ إلى ذلك النَّبيُّ أنَّه قد بقي من عُمر هذا البارِّ ثلاثُ سنين، وبقي من عُمر هذا العاقِّ ثلاثون قال: فأَخبر النبيُّ رعيةَ هذا ورعيةَ هذا، فأَحزن ذلك رَعية العادل، وأحزن ذلك رعيةَ الجائر قال: ففرَّقوا بين الأطفالِ والأمَّهات، وتركوا الطعامَ والشراب، وخرجوا إلى الصَّحراء يدعون اللهَ تعالى أن يمتِّعَهم بالعادل ويزيلَ عنهم الجائر، فأَقاموا ثلاثًا، فأَوحى اللهُ إلى ذلك النبيِّ أنْ أَخبِر عبادي أنِّي قد رحمتهم وأَجبتُ دعاءهم، فجعلتُ ما بقي من عُمر البارِّ لذلك الجائرِ، وما بقي من عمر الجائرِ لهذا البارّ قال: فرجعوا إلى بيوتهم، ومات العاقُّ لتمام ثلاثِ سنين، وبقي العادلُ ثلاثين سنةً فيهم" ثم تلا رسولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬2) [فاطر: 11]. ثم التفت المنصورُ إلى جعفرِ بن محمَّد فقال: يا أبا عبدِ الله، حدِّث بني عمِّك وأخوتَك بحديث أميرِ المؤمنين عليٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في البِرِّ والصِّلة، فقال جعفر: ¬

_ (¬1) الكلام هنا مختصر، وفي تاريخ بغداد 2/ 268، وتاريخ دمشق 10/ 337، والمنتظم 9/ 106: فقال عبد الصَّمد بن علي: حدثني أبي، عن جدِّي، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... إلخ. (¬2) عبد الصَّمد راوي هذه الأحاديث قال عنه الذهبي في الميزان 2/ 620: ما عبد الصَّمد بحجة، ولعلَّ الحفَّاظ إنَّما سكتوا عنه مداراة للدولة.

محمد بن إبراهيم الإمام

حدَّثني أبي محمَّد، عن أبيه عليّ، عن أبيه الحسين، عن أبيه عليِّ بن أبي طالب، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ما من مَلِكٍ يصل رَحِمَه وذا قرابتِه ويعدل على رعيَّته، إلَّا شيَّد اللهُ مُلْكَه، وأَجزل له ثوابَه، وأَكرم مآبَه، وخفَّف حسابَه". وكان عمرُ بن حبيبٍ القاضي على قضاء الشَّرْقية، فاستعدى إليه رجلٌ على عبد الصَّمد، فأَرسل إليه رسولًا، فلم يحضرْ إلى مجلس الحكم، فختم عمرُ قِمَطرَه وقعد في بيته، وبلغ هارونَ فقال: واللهِ لا مشى عبدُ الصَّمد إلى مجلس الحكمِ إلَّا حافيًا (¬1)، وكان شيخًا كبيرًا، فبُسطت له اللُّبود ومشى مسافةً بعيدة، وجعل يقول: أَتعبني أميرُ المؤمنين. فلمَّا صار إلى مجلس القاضي، أراد أن يجلسَ إلى جانبه، فصاح عليه عمرُ بن حبيب: اِجلس مع خصمِك، فساواه وحكم عليه لخصمه، فقال عبدُ الصَّمد: لقد حكمتَ عليَّ بحكمٍ لا يجاوز أصلَ أُذنك، فقال له عمر: لقد طوَّقتُك بطوقٍ لا يفكُّه عنك الحدَّادون. ومن مسانيده: عبدُ الصَّمد، عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكرموا الشُّهود؛ فإنَّ اللهَ يستخرج بهم الحقوق، ويدفعُ بهم الظُّلم" (¬2). محمَّد بن إبراهيمَ الإمام ابنِ محمِّد بن عليِّ بنِ عبد اللهِ بن عباس، أبو عبدِ الله الهاشميّ. وَلَيَ إمرةَ دمشقَ للمنصور والمهديّ (¬3)؛ وأقام للنَّاس الحجَّ عدةَ سنين، ووُلد سنةَ اثنتين وعشرين ومئة. وكان عاقلًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، جاءه العَنْبَرِيُّ الشاعر فقال: [من الرمل] اقضِ عنِّي يا ابنَ عمِّ المصطفَى ... أنا بالله من الدَّين وبكْ من غريمٍ فاحشٍ يَرزؤني (¬4) ... أشوَهُ الوجهِ لعِرضي مُنْتَهِكْ ¬

_ (¬1) في (خ): ماشيًا، وهو تحريف، والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 30، وتاريخ دمشق 42/ 285. (¬2) أخرجه ابن عساكر 10/ 336 - 337. وقال الذهبي في الميزان 2/ 620: هذا منكر. (¬3) في تاريخ دمشق 60/ 342، وتاريخ الإسلام 4/ 953، والسير 9/ 88 أنَّه وليها للمهدي والرشيد، وانظر تاريخ بغداد 2/ 266، والمنتظم 9/ 108. (¬4) في تاريخ دمشق 60/ 347: يقدر لي، وفي العقد الثمين 1/ 402: يقذرني.

يزيد بن مزيد

أنا والظلُّ وهو ثالثُنا ... أين ما زِلتُ من الأرض سَلَكْ فقضى دَينَه ووصله. وقال همَّام بن مسلم: مرض سفيانُ الثوريُّ بمكَّة، فجاءه محمد بن إبراهيمَ الإمامِ يَعوده، فما كلَّمه كلمة، فقام ومضى، فلمَّا كان من الغد، أَرسل إلى سفيانَ يقول: كيف تجدُك؟ لولا [أنِّي] أعلم أنَّه ليس بمكَّةَ أحدٌ أَبغضُ إليك منِّي لأَتيتك. توفِّي لإِحدى عشرةَ بقيت من شوَّال هذه السنةَ ببغداد، وكان هارونُ قد توجَّه إلى الرقَّة، فصلَّى عليه الأمينُ وهو وليُّ العهد، ودُفن بمقبرة باب المَيدان، ويعرف بالعَبَّاسية، وله عَقِبٌ ببغداد. أَسند عن عمِّه المنصورِ وجعفرِ بن محمَّد بن عليٍّ وغيرِهما، وروى عنه ابنُه موسى وغيرُه. يزيدُ بن مَزيَد ابن زائدة، أبو خالدٍ الشَّيباني. أحدُ الأمراءِ المشهورين والأجوادِ الممدَّحين، ولي إِمارةَ اليمنِ في أيَّام هارونَ الرشيد، ومدحه الشُّعراء، فقال شاعر (¬1): [من الخفيف] ما مُقامي على الثِّماد (¬2) وقد فا ... ضت بحورُ النَّدى بكفَّي يزيدِ إنَّ لله في البريَّة سيفَيـ ... ـن يزيدًا وخالدَ بنَ الوليد ذاك سيفُ النبيِّ في سالف الدَّهـ ... ـرِ وهذا سيفُ الإِمامِ الرشيد وكانت وفاتُه ببَرْذَعَةَ من أرض أرَّان (¬3). ومدحه أبو الشَّمَقْمَق فقال: [من الكامل] يوماهُ يومٌ (¬4) للمَواهبِ والنَّدى ... خَضِلٌ ويومُ دَمٍ وخطفُ مَنيَّهْ أَعني يزيدًا سيفَ آلِ محمَّد ... فرَّاج كلِّ شديدةٍ مخشيهْ ¬

_ (¬1) هو سَلْم الخاسر كما في تاريخ بغداد 16/ 492، وتاريخ الإسلام 4/ 1008 - 1009، وانظر السير 9/ 71. (¬2) الثِّماد: الماء القليل لا مادة له. القاموس (ثمد). (¬3) في (خ): الزان، وهو خطأ، والمثبت من وفيات الأعيان 6/ 340. (¬4) في (خ): يومًا.

ولقد أتيتُك واثقًا بك عالمًا ... أن لستَ تسمعُ مِدحةً بنسيَّهْ (¬1) فقال: صدقتَ، وأَعطاه ثلاثةَ آلافِ دينار. ورثاه مسلمُ بن الوليدِ فقال: [من الكامل] قبرٌ ببَرْذَعَةَ استَسَرَّ ضَريحُه ... خطرًا تقاصَرُ دونه الأَخطارُ أَبقى الزَّمانُ على مَعَدٍّ بعده ... حُزْنًا لَعَمر الدَّهرِ ليس يُعار نفضَتْ بك الآمالُ أحلاسَ الغِنى ... واسترجَعَتْ نُزَّاعَها الأَمصار فاذهبْ كما ذهبتْ غوادي مُزْنَةٍ ... أَثنى عليها السَّهلُ والأَوعار (¬2) * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 492، ووفيات الأعيان 6/ 336. (¬2) ذيل ديوانه ص 313، والأغاني 19/ 42 - 43، وتاريخ بغداد 16/ 493، ووفيات الأعيان 6/ 339، وتاريخ الإسلام 4/ 108.

السنة السادسة والثمانون بعد المئة

السَّنة السادسة والثمانون بعد المئة فيها التقى عليُّ بن عيسى بنِ ماهانَ أبا الخصيبِ (¬1) على نَسَا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فكانت الدَّبَرة على أبي الخصيب، فقتله عليّ بن عيسى، وسبى نساءه وذراريه، وغَنِمَ أموالهَ وما في عسكره، ومزَّقهم كلَّ مُمَزَّق، واستقامت خراسان. ومات جعفرُ بن أبي جعفر والعباسُ بن محمَّد. وفيها توجَّه الرشيدُ من الرقَّة إلى مكَّة في رمضانَ عازمًا على الحجّ، واستخلف على الرقَّة إبراهيمَ بن عثمانَ بن نَهيك، وأَخرج معه ولدَيه الأمينَ والمأمون، وبدأ بالمدينة فأعطى أهلَها ثلاثةَ أَعطِية، [كانوا يَقدَمون إليه فيعطيهم عطاءً، ثم إلى محمد فيعطيهم عطاءً ثانيًا، ثم إلى المأمون] (¬2)، فيعطيهم عطاءً ثالثًا، ثم سار إلى مكَّةَ فأعطى أهلَها عطاء، فبلغ مقدارُ ما فرَّق في أهل الحَرَمين من العين ألفَ ألفِ دينارٍ وخمسين ألفَ دينار، وقد ذكرنا أنَّه عقد لابنه الأمينِ ولايةَ العهدِ في شعبانَ سنةَ ثلاثٍ وسبعين ومئة، وضمَّ إليه الشامَ والعراق، وبايع المأمونَ بالرقَّة في سنة ثلاثٍ وثمانين ومئة، وأَعطاه منَ هَمَذان إلى المشرق، فقال سَلْمٌ (¬3) الخاسر: [من السريع] بايَعَ هارونُ إِمامُ الهُدى ... لذي الحِجَى والخُلُقِ الفاضلِ المُخْلِفِ المُتلفِ أَمواله ... والضَّامنِ الأثقال للحامل والعالمِ النَّافذ في عِلمه ... والحاكِم الفاضلِ والعادل والرَّاتقِ الفاتقِ حِلفَ الهدى ... والقائلِ الصَّادقِ والفاعل فتمَّ بالمأمون نورُ الهُدى ... وانكشف الجهلُ عن الجاهل من أبيات. ¬

_ (¬1) في (خ): بن ماهان بن أبي الخصيب، وهو خطأ. وانظر تاريخ الطبري 8/ 275، والمنتظم 9/ 110، والكامل 6/ 174 وغير ذلك. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 275. (¬3) في (خ): سالم، وهو خطأ، وستأتي ترجمته قريبًا، وانظر الأبيات في تاريخ الطبري 8/ 276.

وقال الحسنُ (¬1) بن قريش: وكان للرَّشيد ولدٌ اسُمه القاسمُ في حِجْر عبدِ الملك بن صالح، فكتب عبدُ الملك إلى الرَّشيد: [من مجزوء الكامل] يا أيُّها المَلِكُ الذي ... لو كان نجمًا كان سَعْدا اعقِد لقاسم بيعةً ... واقدحْ له في المُلْكِ زَنْدا اللهُ فردٌ واحدٌ ... فاجعل ولاةَ العهدِ فَرْدا (¬2) فبايع هارونُ للقاسم بعد الأمينِ والمأمون، وأعطاه الجزيرةَ والثُّغورَ والعواصم، ولقَّبه المؤتَمن، فقال عبدُ الملك بنُ صالح: [من البسيط] حبُّ الخليفةِ حبٌّ لا يَدين به ... مَن كان لله عاصٍ يعمل الفِتَنا اللهُ قلَّد هارونًا سياستَنا ... لمَّا اصطفاه فأحيى الدِّينَ والسُّنَنا وقلَّد الأمرَ هارون (¬3) لرأفته ... بنا أمينًا ومأمونًا ومؤتَمَنا ولمَّا قلَّد هارونُ الأمرَ لبنيه الثلاثةِ وقسم الأرضَ بينهم، اختلف الناسُ في القول، فقال بعضُهم: قد أَحكم أمرَ المُلك. وقال بعضهم: بل أَلقى بأسَهم بينهم، وعاقبةُ ما صنع مَخُوفة. فكان كما قالوا وأَبلغَ، وفي ذلك يقول الشَّاعر: [من الوافر] أقول لغُمَّةٍ في النَّفس مني ... ودمعُ العينِ يَطَّرد اطِّرادا خُذي للقول عُدَّتَه بحَزْمٍ ... ستلقَي ما سيمنعُكِ الرُّقادا فإنَّك إنْ بقيتِ رأيتِ أمرًا ... يُطيل لك (¬4) الكآبةَ والسُّهادا رأى المَلِكُ المهذَّبُ شرَّ رأيٍ ... بقِسمته الخلافةَ والبلادا برأيٍ لو تعقَّبه بعلمٍ ... لبيَّض مِن مَفارقِه السَّوادا أَراد به ليَقطعَ عن بنيه ... خلافَهمُ ويَبتذلوا الودادا (¬5) فقد غرس العداوةَ غيرَ آلٍ ... وأَورث بينهمْ إِلفًا بَدادا (¬6) ¬

_ (¬1) في (خ): الحسين، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 276. (¬2) تاريخ الطبري، والمنتظم 9/ 111، والبداية والنهاية 13/ 634. (¬3) في (خ): هارونًا. والتصويب من تاريخ الطبري 8/ 276. (¬4) في (خ): له، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 277. (¬5) في (خ): الولادا؟ ! (¬6) كذا في (خ)، وفي تاريخ الطبري: وأورث شملَ ألفتهم.

وأَلقح بينهم حربًا عَوَانًا ... وسلَّس لاجتنابهم القِيادا فويلٌ للرَّعية عن قليلٍ ... لقد أَهدى لها الكُرَبَ الشِّدادا وأَلبسها بلاءً غيرَ فانٍ ... وأَلزمها التَّضعضُعَ والفسادا ستجري من دمائهمُ بحورٌ ... زواخرُ لا يَرون لها نفادا فوِزْرُ بلائهمْ أبدًا عليه ... أغَيًّا كان ذلك أم رَشادا وحجَّ مع هارونَ في السَّنة أولادُه وأهلُه ووزراؤه والأمينُ والمأمون، وأَمر عبدَ الملك بنَ صالحٍ أن ينزلَ الجزيرةَ ومعه القاسم، وبعث معه الجندَ والقوَّاد، فلمَّا قضى هارونُ نُسُكَه، كتب بين محمَّد والمأمونِ كتابَين، أَجهد العلماء والفقهاء والقضاة آراءهم فيهما. ونسخةُ الكتابِ الذي كتبه الأمين: بسم اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم: هذا كتابُ [لعبدِ الله هارون أميرِ المؤمنين] (¬1) كتبه محمَّد بن هارونَ أميرِ المؤمنين في صحَّةٍ من عقله وجوازٍ [من] أمره، طائعًا غيرَ مُكرَه، إنَّ أمير المؤمنين ولَّاني العهدَ من بعده، وولَّى أخي عبدَ الله العهدَ بعدي، وولَّاه خراسانَ وثغورَها وكُورَها وحربَها وجندَها وخراجَها وعشورَها وبيوتَ أموالِها ونحوَ ذلك، وعليَّ لأخي عبدِ الله الوفاءُ بما عقد له أميرُ المؤمنين من العهد والخلافةِ وأمورِ المسلمين بعدي، وما أَقطعه من قَطيعة وضَيعةٍ وحليٍّ ومالٍ وجواهرَ ومتاع ودوابَّ وأثاثٍ وقليلٍ وكثيرٍ فهو لعبد اللهِ بن أميرِ المؤمنين، وليس لمحمَّد أن يعترضَ عليه في شيءٍ من ذلك، ولا يحوِّلَ عنه قائدًا واحدًا ممَّن ضمَّه إليه أميرُ المؤمنين. وذكر ما يتعلَّق بهذا المعنى ثم قال: فإن أراد محمَّدٌ بن أميرِ المؤمنين خلعَ عبد اللهِ عن خراسانَ وأعمالِها، أو صرفَ أحدٍ من قوَّاده الذين ضمَّهم إليه أميرُ المؤمنين، أو تنقُّضَه قليلًا أو كثيرًا (¬2)، فلعبد اللهِ بن أميرِ المؤمنين الخلافةُ بعد أَميرِ المؤمنين، وهو المقدَّم على محمَّد ووليُّ الأمرِ بعد أميرِ المؤمنين، وعلى جميع القوَّاد الطاعةُ له والجهادُ لمن خالفه، وهو في حِلٍّ من البَيعة التي في أَعناقهم لمحمَّد، وليس لمحمَّدٍ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 278. (¬2) أي: إن أراد محمَّد أن ينتقصه قليلًا أو كثيرًا مما جعله أمير المؤمنين له بوجه من الوجوه. انظر تاريخ الطبري 8/ 280.

وعبدِ الله أن يخلعا القاسمَ بن أميرِ المؤمنين، فإن أفضت الخلافةُ إلى عبد اللهِ المأمون، فالأمرُ إليه في ذلك، إنْ شاء أَمضاه وإن شاء جعله فيمن يراه من ولده وإِخوتِه، وعلى المسلمين الطاعةُ بما في هذا الكتاب، فإن خالف أحدٌ أو نكث أو غدر، فبرئت منه ذمَّةُ اللهِ وذمَّةُ رسولهِ والمسلمين، وكلُّ مالٍ هو له أو يستفيده إلى خمسين سَنة، فهو صدقةٌ على المساكين، وعليه المشيُ إلى بيت اللهِ الحرامِ خمسين حِجَّة، وكلُّ مملوكٍ له أو فيما يستقبل إلى خمسين سنةً فهو حُرٌّ، وكلُّ امرأةٍ له فهي طالقٌ ثلاثًا، وكذا كلُّ امرأةٍ يتزوَّجها إلى خمسين سنة (¬1)، لا مثنويَّةَ فيها. واللهُ شهيدٌ على ذلك، وملائكتُه والمؤمنون مِن خلفه، وكفى بالله حسيبًا. ونسخةُ كتابِ المأمونِ كتبه بيده في الكعبة: هذا كتابٌ لعبد اللهِ بن هارونَ الرشيدِ أميرِ المؤمنين، كتبه عبدُ الله ابنُه في صحَّةٍ من عقلٍ وجواز [من] أمر، إنَّ أميرَ المؤمنين ولَّاني العهدَ والخلافةَ بعد أخي محمَّد بن هارون، وولَّاني خراسانَ وأعمالها، وشرط على أخي محمَّد الوفاءَ بما عقد لي من الأمر، وألا يعرضَ لي في خراسانَ وأعمالها، ولا فيما أعطاني أميرُ المؤمنين من الضِّياع والرِّباعِ والأموالِ والجواهرِ والمتاعِ والدوابِّ والأثاثِ والرَّقيقِ وغيرِ ذلك، ولا يعرضَ لأحدٍ من عمَّالي ولا كُتَّابي، ولا [مَن] ضمَّه أميرُ المؤمنين إليَّ. وذكر بمعنى ما ذكر محمَّد الأمين: وإنْ أراد أخي أن يولِّيَ من بعدي العهدَ أحدًا من ولده، فذلك له، وجعلت لمحمَّد عليَّ الوفاءَ بما شرطتُ على نفسي، وعليَّ بذلك عهدُ اللهِ وميثاقُه، وذمَّةُ اللهِ ورسولِه، وذمَّةُ أميرِ المؤمنين، وذِمَمُ المؤمنين، فإن نقصتُ شيئًا ممَّا شرطتُ عليَّ وسمَّيت في كتابي هذا أو غيَّرت أو بدَّلت أو نكثتُ أو غدرت، فبرئتُ من الله ومن دِين الله ودِين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ولقيت اللهَ يومَ القيامةِ كافرًا، وكلُّ امرأةٍ لي اليوم أو أتزوَّجها إلى ثلاثين سَنة، طالقٌ ثلاثًا طلاق الحَرَج، وكلُّ مالٍ لي اليومَ أو أَملكه إلى ثلاثين سَنة صدقة، وكلُّ مملوكٍ لي أو أَملكه إلى ثلاثين سَنة حرٌّ لوجه الله، وعليَّ المشيُ إلى بيت اللهِ الحرام ثلاثين حِجَّة، نذرًا واجبًا، حافيًا راجلًا، وكلُّ مالٍ أَملكه، ¬

_ (¬1) نص الكتاب في تاريخ الطبري 8/ 278 - 281، والمنتظم 9/ 112 - 115، وليس فيهما: وكذا كل امرأة يتزوجها إلى خمسين سنة.

هَدْيٌ بالغُ الكعبة (¬1). وأشهد جماعةً منهم سليمانُ بن هارون، وكفى بالله طَليبًا (¬2) وهو حسبي ونِعمَ الوكيل. وكتب في ذي الحِجَّة سنةَ ستٍّ وثمانين ومئة، وأَشهد هارونُ في الكتابَين مَن شهد الموسمَ من أهله وقوَّاده وصحابتِه وقُضاته وأهلِ مكةَ وحَجَبةِ الكعبة، ومَن حضر من أهل الأَمصار. ولمَّا أَنهى ذلك وهو في داخلِ الكعبة، جمع النَّاسَ بأَسْرهم، وأمر بتعليق الكتابَين في الكعبة، فلمَّا رُفعا ليعلَّقا وَقَعا، فقال النَّاس: هذا أمرٌ لا يتمّ، وينتقض سريعًا قبل إِحكامِه. وتطيَّر هارونُ واسترجع وقال: أردنا أمرًا وأراد اللهُ غيرَه. ثم كتب هارونُ كتابًا إلى الولاة والعمَّال -وغيرِهم- بالأَقطار: أمَّا بعد، فإنَّ أميرَ المؤمنين أَكرمَ اللهُ بخلافته ونسأله إِتمام عوائدِه الجميلة، وقد كان من نِعَم الله عليه وعنده ما تولَّى اللهُ من أمر محمَّد وعبد الله ابنَيه، وتبليغه أحسنَ ما مدَّت إليه الأمَّةُ أعناقَها، وقذف اللهُ محبَّتهما في قلوب العامَّة والخاصَّة ... إلى أن قال: فعزم أميرُ المؤمنين على تفويض الأمرِ إليهما، وأكَّد عليهما العهودَ والمواثيق -نظرًا منه لرعيَّته التي استرعاه اللهُ إيَّاها- والجهادَ لعدوِّ المسلمين. وذكر نحوًا من هذا المعنى. وقال إبراهيمُ الموصليُّ في البَيعة: [من مجزوء الكامل] خيرُ الأمورِ مَغبَّةً ... وأحقُّ أمرٍ بالتَّمامِ أمرٌ قضى إحكامَه الرَّ ... حمنُ في البيتِ الحرام (¬3) وعاد المأمونُ إلى الرَّقَّة. فصل وفيها توفي ¬

_ (¬1) تصرَّف هنا في النقل فأوقع نفسه في التكرار، فقد ذكر المال مرتين. ولم يذكر الطبري وابن الجوزي أن ماله صدقة. (¬2) كذا في (خ)، وقوله: وأشهد جماعة ... إلخ، ليس من نص الكتاب. (¬3) تاريخ الطبري 8/ 286، وتاريخ الإسلام 4/ 784، والبداية والنهاية 13/ 635، والنجوم الزاهرة 2/ 119.

سالم بن حماد

سالم (¬1) بن حمَّاد (¬2) وقيل: سَالم بن عَمرِو بن حماد بن عطاءِ بن ياسر، الخاسر، الشَّاعر، البصري. سمِّي الخاسر لأنَّه وَرِث من أَبيه مُصحفًا؛ فباعه واشترى بثمنه طُنْبورًا، وقيل: شِعرَ امرئ القيس، وقيل: شِعرَ الأعشى. وكان سالم من الشُّعراء المُجيدين من تلامذة بشَّار، وصار يقول أرقَّ من شِعره، وكان بشارٌ قد قال: [من البسيط] مَن راقبَ النَّاسَ لم يَظْفَر بحاجته ... وفاز بالطَّيِّبات الفاتِكُ اللَّهِجُ (¬3) فقال سالم الخاسر: [من مخلع البسيط] مَن راقب النَّاسَ مات غمًّا ... وفاز باللذَّة الجَسورُ فغضب بشارٌ وقال: ذهب إلى بيتي (¬4) وأخذ معانيَّ التي تعبتُ عليها، فيكسوها ألفاظًا أخفَّ من ألفاظي، لا أَرضى عنه. فما زالوا به حتَّى رضي عنه. قدم سَالمٌ بغداد، ومدح المهديَّ والرشيدَ والبرامكة، واكتسب من البرامكةِ عشرين ألفَ دينار، ومن الرَّشيد مثلَها. وقال اليزيديّ: ورث من أبيه مئةَ ألفِ درهم، وأَصاب من مدائح الملوكِ مِثلَها، فأَنفقها كلَّها على الأدب. وهو ابنُ عمِّ الجمَّازِ الشاعر. ومدح المهديَّ: [من الكامل] حضر الرحيلُ وشُدَّت الأَحداجُ ... وحدا بهنَّ مُشَمِّرٌ مِزْعاجُ شَرِبَتْ بمكَّة في ذُرا بَطحائها ... ماءَ النُّبوَّة ليس فيه مِزاج (¬5) ¬

_ (¬1) كذا هو عند المصنف: سالم، ومثله عند ابن خلكان في وفيات الأعيان 2/ 350، وعند غيرهما ممن ترجمه: سَلْم، انظر طبقات ابن المعتز ص 99، والأغاني 19/ 261، وتاريخ بغداد 10/ 198، والمنتظم 9/ 120، ومعجم الأدباء 11/ 236، والسير 8/ 193، وتاريخ الإسلام 4/ 631، والبداية والنهاية 13/ 636. (¬2) كذا؟ ! ولم أقف على من نسبه هكذا، وسيذكر المصنف أنَّه ابن عمرو بن حماد. (¬3) ديوانه 1/ 438. (¬4) كذا في (خ)، والصَّواب: ذهب بيتي، انظر المصادر السالفة في أول ترجمته. (¬5) تاريخ بغداد 10/ 199، والمنتظم 9/ 122، ووفيات الأعيان 2/ 350 - 351، وانظر الأغاني 19/ 282، =

العباس بن محمد

وكان المهديّ (¬1) قد أعطى مروانَ بن أبي حَفْصَةَ على قصيدته التي يقول فيها: طَرَقَتْك زائرةٌ فحَيِّ خيالها (¬2) مئةَ ألفِ درهم، فأراد المهديُّ أن يَنْقُصَ سالمًا من المئةِ ألف، فحلف لا يأخذُ إلَّا مئةَ ألفٍ وألفَ درهم، وقال: تُطرح القصيدتان إلى أهل هذا الفنِّ ليُخْبروه بتقدُّم قصيدتي، فأَعطاه المهديُّ مئةَ ألفِ درهمٍ وألف درهم، فلمَّا عاش إلى زمان الرَّشيد، قال قصيدتَه التي يقول فيها: [من الكامل] قد بايع الثَّقلانِ مَهْديَّ الهُدى ... لمحمَّد بن زُبيدةَ ابنةِ جعفرِ (¬3) فحشت زبيدةُ فاه جوهرًا ودُرًّا، فباعه بعشرة آلافِ دينار. ذكر وفاته: مات وخلَّف مالًا بقيمة ستَّةٍ وثلاثين ألفَ دينار، وقيل: خمسون ألفَ دينار، ولم يكن له وارث، فأَودعها أبا السَّمْراء الغسَّاني، فبقيت عنده، فغنَّى إبراهيمُ الموصليُّ الرشيدَ يومًا، فأَطربه، فقال له: سَلْ ما شئت، فقال: أسألكُ شيئًا لا يَرْزَؤك، قال: وما هو؟ قال: مات سَالمٌ وله عند أبي السمراءِ كذا وكذا دينارًا، أُريدها، فدفعها إليه، وكان الجمَّاز وأبوه يدَّعيان أنَّهما وارثاه، فقدما بعد ذلك يطلبان الميراث. العباسُ بن محمَّد ابن عليِّ بن عبد اللهِ بن عباس، أبو الفضلِ، الهاشمي، أخو السفَّاح [و] المنصور لأبيهما، وأمُّه أمُّ ولد. وُلد سنةَ ثماني عشرة. وقيل: سنةَ إحدى وعشرين، أو اثنتين وعشرين ومئة. ولَّاه أبو جعفرٍ دمشقَ والشَّامَ كلَّه، ووَلي المَوْسِمَ ومكةَ لهارون، وولَّاه الجزيرة، وكان من رجالاتِ بني هاشم. ¬

_ = 285 - 286. والبيت الثاني سيذكره المصنف في ترجمة الأمين ضمن بيتين منسوبين لأبي الهول الحميري. (¬1) في (خ): مروان، ولعلّه سبق قلم. (¬2) سلف في ترجمة مروان في وفيات سنة 182 هـ، ص 30 من هذا الجزء. (¬3) الأغاني 19/ 279، تاريخ بغداد 10/ 200، المنتظم 9/ 123، وفيات الأعيان 2/ 351.

وكان هارونُ يثني عليه ويقول: عمِّي العباسُ يُعدُّ في أَسلافنا، وكان يعظِّمه ويبجِّله، وكان يقول لهارون: إنَّما مالُك ما تزرع به مَن أَصلحتْه نعمتُك، وسيفُك تحصد به مَن كَفرها. وكان أَجودَ النَّاس، وفيه يقول ربيعةُ الرَّقي: [من الكامل] لو قيل للعبَّاس يا ابنَ محمَّد ... قل لا وأنت مخلَّدٌ ما قالها إنَّ السَّماحةَ لم تنزل مَعْقولةً ... حتَّى حلَلْتَ براحتيك عِقالها وإذا الملوكُ تسايرت في بلدةٍ ... كانت كواكبَها وكنتَ هلالها (¬1) وغضب العباسُ على سعيدِ بن سليمانَ المُساحقيّ، فكتب إليه سعيد: [من البسيط] أَبلِغْ أبا الفضلِ يومًا إن عرضْتَ له ... من دائم العهدِ لم يخشَ الذي صَنَعا ما بالُ ذي حرمةٍ صافي الإخاءِ لكمْ ... أمسى بجَفْوَتكمْ (¬2) من ودِّكم فَجِعا من غير نائرةٍ إلَّا الوفاء لكمْ ... ما مثلُ حبلِك من ذي حُرمةٍ قُطِعا ما تمَّ ما كنتُ أَرجو من مَودَّتكمْ ... حتى تبايَنَ شِعْبُ الوُدِّ فانصدعا أَمَا وربِّ مِنًى والعامدين (¬3) لها ... والدَّافِعين بجَمْعٍ يوضِعون معًا لو كان غيرُك يَطوي حبلَ خُلَّته ... دوني ويَلْبَس ثوبَ الهجرِ ما انتفعا (¬4) فرضي عنه. وقال له رجل: أَتيتُك في حُوَيجة، فقال: اُطلب لها رُجَيلًا. وتوفِّي بالعبَّاسية وله خمسٌ وستُّون سنةً وستةُ أشهرٍ وعشرون يومًا (¬5)، وأهلُه يزعمون أنَّ الرشيد سمَّه، فسقى بطنُه فمات. ¬

_ (¬1) الأغاني 16/ 256 - 257، تاريخ بغداد 14/ 6، تاريخ دمشق 32/ 225، معجم الأدباء 11/ 135، وانظر في ترجمته أيضًا المنتظم 9/ 124، وتاريخ الإسلام 4/ 874، والسير 8/ 534. (¬2) في تاريخ دمشق 32/ 226: بحرَّته. (¬3) في تاريخ دمشق: والعامدات. (¬4) في تاريخ دمشق: ما اتبعا. (¬5) في تاريخ بغداد 14/ 5، والمنتظم 9/ 124: وستة عشر يومًا، وفي تاريخ دمشق 32/ 229: وبضعة عشر يومًا.

يزيد بن هارون

يزيدُ بن هارون أبو خالد، مولى بني سُليم. ولد سنةَ ثماني عشرةَ ومئة، وكان من العابدين الخائفين، وإذا صلَّى العَتمةَ لا يزال قائمًا حتَّى يصلِّيَ الغداةَ بذلك الوضوءِ نيِّفًا وأربعين سنة. وقال له رجل: كم جزؤك من اللَّيل؟ فقال: وأنام من اللَّيل شيئًا! إذن لا أَنامَ اللهُ عيني. وقال الحسنُ بن عَرَفة: رأيت يزيدَ بن هارونَ بواسطٍ من أَحسن النَّاسِ عينين، ثم رأيته بعدُ بعينٍ واحدة، ثم رأيتُه وقد ذهبت عيناه، فقلت: يا أبا خالد، ما فعلت تلك العينانِ الجميلتان؟ فقال: ذهب بهما بكاءُ الأَسحار. وقال يزيدُ بن هارون: مَن طلب الرِّئاسة في غير أَوانها، حرمه اللهُ إياها في أوانها. ومات في سنة ستِّ وثمانين. وقيل: سنة سبع، أو ثمانٍ وثمانين ومئة (¬1). أسند عن يَحْيَى بنِ سعيدٍ (¬2) الأنصاريّ وغيره، وروى عنه الإمامُ أحمد - رضي الله عنه - وطبقتهُ. وكان ثبتًا ثقةً صدوقًا، كثير العلمِ والحديث، قال عليُّ بن المَديني: ما رأيت أحفظَ منه. وقال أبو نافعٍ بنُ بنتِ يزيدَ بن هارون: كنت عند الإمامِ أحمدَ بن حنبلٍ وعنده رجلان، فقال أحدُهما: يا أبا عبدِ الله، رأيتُ يزيدَ بن هارونَ في المنام، فقلت: ما فعل اللهُ بك؟ قال: غفر لي وشفَّعني وعاتبني، قلت: بماذا عاتبك؟ قال: قال لي: يا يزيد، أَتحدِّث عن حَرِيز بن عثمان؟ ! قال: قلت: يا ربّ، ما علمتُ إلا خيرًا، فقال: إنَّه كان يُبغض أبا الحسن عليَّ بن أبي طالب، أَبغضه الله. وقال الآخَر: رأيت يزيدَ بن هارونَ في المنام، فقلت: هل أتاك مُنكر ونَكير؟ قال: ¬

_ (¬1) لم يختلف المؤرخون أنَّه توفي سنة ست ومئتين، انظر تاريخ بغداد 16/ 504، والمنتظم 9/ 158، وتهذيب الكمال (7656)، والسير 9/ 371، وتاريخ الإسلام 5/ 230. وفي طبقات ابن سعد 9/ 316، وصفة الصفوة 3/ 20 أنَّه توفي وهو ابن سبع أو ثمان وثمانين سنة. ولعلّه تسرب إليه الوهم من هنا، والله أعلم. (¬2) في (خ): عن سعيد، وهو خطأ.

يقطين بن موسى

إِي والله، وسألاني: مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومَن نبيُّك؟ فقلت: أَلِمثلي يقال هذا وقد كنتُ أعلِّمه النَّاسَ في الدُّنيا؟ ! فقالا: صدقتَ، فنَمْ نومةَ العروس لا بؤسَ عليك. يَقطين بنُ موسى (¬1) أحدُ دعاةِ بني العبَّاس، ومَن قرَّر أمرهم، وكان داهيةً حازمًا شجاعًا. ولمَّا حبس مروانُ بن محمَّد إبراهيمَ الإمام، تحيَّرت الشيعةُ لا يدرون مَن الإِمامُ بعده، فقال لهم: أنا أُخبركم. فغيَّر زِيَّه وأتى حرَّان، فوقف لمروانَ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أنا رجلٌ غريبٌ تاجر، قدمتُ بمَتاع، فبعث إليَّ إبراهيمُ فاشتراه وماطلني بثمنه، وقد حبستَه، فإن رأيتَ أن تجمعَ بيني وبينه وتأخذَ لي بحقِّي منه، فقال مروانُ لبعض خدمِه: اِذهب معه إلى إبراهيمَ وقل له يَخرج من حقِّ هذا الرجل، فمضى معه، فلمَّا دخل عليه قال له: سبحانَ الله! إلى متى تَمْطُلني؟ وإلى مَن أوصيتَ أن يدفعَ إليَّ مالي؟ فقال: إلى ابن الحارثيَّة. فعاد إلى الشِّيعة فأخبرهم أنَّ أبا العباسِ هو الإِمامُ بعده. وكان يقطينُ عظيمًا عند بني العبَّاس، ولَّاه السفَّاح والمنصورُ والمهديُّ الولايات. واطلع المهديُّ (¬2) على ابنه عليِّ بن يقطين بالزَّندقة فقتله. * * * ¬

_ (¬1) المنتظم 9/ 125، والبداية والنهاية 13/ 637. (¬2) وكذا في المطبوع من الكامل 6/ 89، والصَّواب: الهادي، كما في حاشيته، وتاريخ الطبري 8/ 190، والمنتظم 8/ 309، وتاريخ الإسلام 4/ 282، ولسان الميزان 6/ 39. وانظر المعرفة والتاريخ 1/ 173، والفهرست ص 279.

السنة السابعة والثمانون بعد المئة

السَّنة السابعةُ والثَّمانون بعد المئة فيها أَوقع الرشيدُ بالبرامكة، وقتل جعفرَ بن يَحْيَى، وحبس يَحْيَى وأهلَه. واختلفوا في سبب ذلك على أقوال (¬1): قال ثُمامَةُ بن أَشرَس: كتب محمَّد بن اللَّيث إلى هارونَ يَعِظُه ويقول: إنَّ يَحْيَى لا يُغني عنك من اللهِ شيئًا، وقد جعلتَه فيما بينك وبين الله، فكيف بك إذا وقفتَ غدًا بين يدي اللهِ تعالى فسألك عمَّا فعلت في بلاده وعبادِه، فتقول: ياربّ، إنِّي استكفيتُ بيحيى في ذلك. مع كلامٍ كثيرٍ فيه توبيخٌ وتقريع. فدعا الرشيدُ يَحْيَى وقد علم، فقال: أَتعرف محمَّد بن اللَّيث؟ قال: نعم، قال: أيُّ رجل هو؟ قال: متَّهم على الإِسلام. فأمر بمحمَّد فحُبس في المُطْبَق دهرًا، فلمَّا تنكَّر الرشيدُ للبرامكة ذكره، فأمر بإحضاره، وقال له: يا محمَّد، أَتحبُّني؟ قال لا والله، كيف أحبُّك وقد قيَّدتني وكبَّلتني بالحديد! وحُلتَ بيني وبين عيالي من غير ذنبٍ أتيتُ ولا حدثٍ أحدثت! سوى قولِ حاسدٍ يكيد الإسلامَ وأهلَه! فكيف أحبُّك؟ ! فأمر بإِطلاقه، وأعطاه مئةَ ألفِ درهم، وقال له: انتقمَ الله لك ممَّن ظلمك، وأخذ بحقِّك ممَّن حملني عليك. فقال الناسُ في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أولَ ما ظهر من تغيُّر حالهم. والثاني: أنَّه نُقل إلى هارونَ أنَّ البرامكةَ يرون رأيَ المجوس، وأنهم يُبطنون ذلك ويميلون إلى مذاهبهم. والثالث: أنَّ الفضلَ بن الربيعِ كان عدوَّهم يَحْسِدهم ويُكثِّر عليهم عند هارون، دخل الفضلُ يومًا على يَحْيَى بنِ خالدٍ في حاجة، فلم يرفعْ له رأسًا، ولا قضى حاجتَه، مخرج مُغْضَبًا، فقال يَحْيَى لبعض خاصَّته: اِتْبعه واسمعْ ما يقول، فتبعه الرَّجل، فلمَّا استوى على سرجه عضَّ على شفتيه وقال: [من الطَّويل] ¬

_ (¬1) انظر هذه الأقوال في تاريخ الطبري 8/ 287 - 300، والمنتظم 9/ 126 - 137، والكامل 6/ 175 - 180، وتاريخ الإسلام 4/ 784 - 789.

عسى وعسى يَثني الزَّمان عِنانَه ... بعَثْرَةِ دهرٍ والزمانُ عَثورُ فتُدرَك آمالٌ وتُقضى مآربٌ ... ويَحدث من بعد الأمورِ أمورُ (¬1) وأُخبر يَحْيَى بقوله، فردَّه وقضى حاجتَه، فما مضت إلَّا أيامٌ يسيرةٌ حتَّى سَخِط هارونُ على البرامكة واستوزرَ الفضلَ بن الرَّبيع. والرابع: أنَّ هارونَ نُقل إليه أنَّ البرامكةَ يميلون إلى آل أبي طالبٍ، ويبعثون إليهم بخُمس أموالهم، وأنَّهم على عزم نقل الخلافةِ إليهم. وقال جبريلُ المُتَطبِّب: أول ما بدا من أمر هارونَ في حقِّ البرامكةِ: أنَّ يَحْيَى بن خالدٍ كان يدخل على هارونَ ولو كان في فراشه لا يُحجب عنه. قال جبريل: فدخل يَحْيَى يومًا وأنا قاعدٌ عند الرشيد، فسلَّم، فردَّ عليه هارونُ ردًّا ضعيفًا، والتفت إليَّ هارونُ وقال: يا جبريل، أَيدخل عليك أحدٌ بغير إذن؟ قلت: لا، قال: فما بالُنا يُدخَل علينا بغير إِذن؟ ! فقال له يَحْيَى: قد كنت أدخل عليك وأنت متجرِّد في فراشك بغير إِذن، وكنت أظنُّ أنَّ ذلك شيءٌ خصصتَني به، وأمَّا إذا كره أميرُ المؤمنين ذلك، فأكونُ في الطبقة الثانيةِ أو الثالثة، فخجل هارونُ منه وأَطرق ما يرفع إليه طرفَه وقال: ما أَردتُ ما تكره، ولكنَّ النَّاس يقولون. ثم قام يَحْيَى وخرج. وقال محمَّد بنُ الفضل: دخل يَحْيَى بعد ذلك على الرَّشيد، فقام إليه الغِلمان، فقال هارونُ لمسرورٍ الخادم: مُر الغلمانَ إذا دخل يَحْيَى لا يقوموا له. فدخل فلم يَقُمْ إليه أحد، فارْبَدَّ لونُه. وكان الغلمانُ والحجَّاب إذا رأوه بعد ذلك أَعرضوا عنه، وكان إذا عطش يستسقي شربةً من ماءٍ فلا يسقونه، وبالحَرى أن يسقوه بعد أن يدعوَ بها مرارًا. وما زال كذلك حتَّى قَتل هارونُ ولدَه جعفرًا وقبض عليه. وقال موسى بنُ يَحْيَى: طاف أبي بالبيت في السَّنة التي أُصيب فيها وأنا معه دون ولدِه، فتعلَّق بأستارِ الكعبة، وجعل يردِّد الدُّعاء ويقول: اللَّهم إنْ كنتَ تعاقبني بذنوبي فهي جَمَّة لا يُحصيها غيرُك، فاجعل عقوبتي في الدُّنيا وإنْ أحاط ذلك بسمعي وبصري ومالي وولدي، حتَّى يبلغَ رضاك عَنِّي، ولا تجعلْ عقوبتي في الآخرة. ¬

_ (¬1) الفرج بعد الشدة 1/ 308، وفيات الأعيان 4/ 38.

وفيها (¬1) غزا هارونُ بلادَ الرُّوم، فأوغل فيها، وفتح هِرَقْلَة، وولَى ابنَه القاسمَ الصَّائفة، وأَعطاه العواصم، فنازل حصنَ سنان، فبعث إليه قيصر، وسأله أن يرحلَ عنه ويعطيَه ثلاثَ مئةٍ وعشرين أسيرًا من المسلمين، ففعل. وفيها غضب هارونُ على عبد الملكِ بن صالحِ بن عليٍّ وحبسه، وكان قد سعى به كاتبُه وولدُه عبدُ الرَّحمن بنُ عبد الملكِ وقالا: إنَّه يروم الخلافة، فأحضره الرشيدُ وقال له: أكُفرًا للنِّعمة وجُحودًا لجليل المِنَّة؟ ! فقال: يا أميرَ المؤمنين، لقد بُؤتُ بالنَّدم، وتعرَّضتُ لاستحلال النِّقَم، وما ذاك إلا بغيُ حاسد، نافَسَني فيك مودَّة القرابةِ وتقديمَ الولاية، إنَّك يا أميرَ المؤمنين خليفةُ اللهِ وخليفةُ رسولهِ في أمَّته، وأَمينُه على عِتْرَتِه، لك عليها فرضُ الطاعة وأداءُ النصيحة، ولها عليك العدلُ في حكمها، والتثبُّت في حادثها، والغفرانُ لذنوبها. فقال له الرَّشيد: أَتَضَعُ لي من لسانك وترفعُ من جَنانك؟ ! هذا كاتبُك قُمامةُ يُخبر بفعلك (¬2)، فقال: إنَّه أعطاك ما ليس في عَقْده، ولعلَّه لا يقدر أن يبهتَني بما لم يعرفْه مني. فأُحضر قُمامة، وقال له الرَّشيد: تكلَّم غيرَ هائبٍ ولا خائف، فقال: أَقول: إنَّه عازمٌ على الغدر بك والخلافِ لك، فقال: كيف لا يكذب على مِن خلفي وهو يَبهتني في وجهي؟ فقال له الرَّشيد: هذا ابنُك عبدُ الرَّحمن أيضًا، أَخبَرني بفساد نيَّتك، ولو أردتُ أن أحتجَّ عليك لم أجد أعدلَ من هذين، فقال: أمَّا عبدُ الرَّحمن، فهو إمَّا مأمورٌ أو عاقّ، فإن كان مأمورًا فهو مَعْذور، وإنْ كان عاقًّا فهو فاجرٌ كفور، وقد أَخبر اللهُ بعداوته وحذَّر منه بقوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. فنهض الرَّشيدُ وهو يقول: أمَّا أمرُك فقد وَضَحَ، ولكنِّي لا أَعجل حتى أعلمَ الذي يُرضي الله فيك، فإنه الحَكَمُ بيني وبينك، فقال عبدُ الملك: رضيتُ بالله حَكَمًا، وبأمير المؤمنين حاكمًا؛ لعلمي أنَّه يؤثر كتابَ اللهِ على هواه، وأمرَه على رضاه. وجرت لعبد الملكِ مع الرَّشيدِ مُناظرات، منها: أَمر بإِحضاره، فدخل عليه فسلَّم، ¬

_ (¬1) في (خ): وقال، والمثبت من المنتظم 9/ 137. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 303: بغلك.

فما ردَّ هارونُ وفاتَحَه الكلام، فقال عبدُ الملك: هذا يومٌ لا أجاذِبُ فيه منازعًا ولا خصمًا، قال: ولم؟ قال: لأنَّ أولَه جرى على غير السُّنَّة، فأنا أخاف آخرَه، قال: وما ذاك؟ قال: لأنَّك لم تردَّ عليَّ فيه السَّلام، فقال الرشيد: السلامُ عليك، اقتداءً بالسنَّة، وإِيثارًا للعدل، واستعمالًا لردِّ التحيَّة. ثم التفت إلى سليمانَ بنِ أبي جعفرٍ وأَنشد يقول: [من الوافر] أُريد حياتَه ويُريد قَتْلي (¬1) ثم قال: لكأنِّي واللهِ أنظر إلى شُؤبوبها (¬2) قد همَع، وإلى عارِضِها قد لَمَع، وكأنِّي بالوعيد قد أَورى نارًا تَسْطَع، فأَقْلَعَ عن بَراجِمَ بلا مَعاصِم، ورؤوسٍ بلا غَلاصِم، فمهْلًا مهلًا، فبي واللهِ سَهُل لكم الوَعر، وصفا لكم الكَدَرَ، وأَلقت إليكم الأمورُ أَثناءَ (¬3) أزمَّتها، ونَذارِ لكم نذار قبل حلولِ داهيةٍ خَبوطٍ باليد، لَبوطٍ بالرِّجل. فقال له عبدُ الملك: اتَّقِ الله فيما ولَّاك، ولا تجعل الكفرَ موضعَ الشُكر، ولا العِقابَ موضعَ الثَّواب، فقد نَخَلتُ لك النصيحة، ومَحَضْتُ لك الطاعة، وشَدَدتُ أَواخيَ مُلكِك بأثقلَ من ركنِ يَلملَم، وسهَّلت لك الوعور، وذللت لك الأمور، وجمعتُ على طاعتك القلوبَ في الصدور، فكم ليل تَمامٍ فيك كابَدْتُه، ومَقامٍ ضيق لك قُمتُه، كنتُ كما قال أخو بني جعفرِ بن كتاب (¬4): [من الرمل] ومقامٍ ضَيِّقٍ فَرَّجتُه ... ببَيانٍ ولسانٍ وجدلْ لو يقوم الفيلُ أو فائلُهُ ... زلَّ عن مثل مَقامي وزَحَل فالله الله في رِيٍّ أن تقطعَه بعد أن بَلَلْتَه، بسعي سباعٍ تَنْهسُ اللَّحم، وبغيِ باغٍ يبالغ في الذَّمِّ (¬5). فقال الرَّشيد: أَمَا واللهِ لولا الإِبقاءُ على بني هاشم لضربتُ عنقَك. ¬

_ (¬1) عجزه: عَذيرُك من خليلك من مُراد. وهو لعمرو بن معد يكرب، وهو في ديوانه ص 111. (¬2) في (خ): شونها، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 304. والشؤبوب: الدفعة من المطر. (¬3) أثناء الشيء ومثانيه: قواه وطاقاته، واحدها: ثِنْي ومِثناة. القاموس المحيط (ثنى). (¬4) هو لبيد بن ربيعة، والبيتان في ديوانه ص 193 - 194 ضمن قصيدة طويلة. (¬5) في تاريخ الطبري 8/ 304: فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه بظن أفصح الكتاب لي بعضه، أو ببغي باغ ينهس اللحم، ويالغ الدم.

ومنها (¬1). أنه لمَّا حبس الرشيد عبدَ الملك، قال له عبدُ الله بن مالكٍ الخُزاعي -وكان على شرطته: يا أميرَ المؤمنين، ما علمتُ عبدَ الملك إلَّا ناصحًا، فلمَ حبستَه؟ قال: بلغني عنه ما أَوحشني، ولم آمنْه أن يضربَ بين ابنيَّ الأمين والمأمون، فإنْ رأيتَ أن تُطلقَه أَطلقناه، فقال: أمَّا إذ حبستَه، فلستُ أرى إِطلاقة في قريب المدَّة، ولكن تحبسُه مَحْبَسًا كريمًا، يشبه محبسَ مثلِك لمثله، قال: نعم. ودعا الفضلَ بن الربيع (¬2) وقال له: اِمضِ إلى عبدِ الملكِ إلى محبسه، وقل له: انظر ما تحتاجُ إليه في محبسك فأمُرْ به. ومنها: أنَّ هارونَ قال له يومًا في بعض ما كلَّمه به: ما أنت لصالح، قال: فلمَن أنا؟ قال: لمروانَ الجَعديّ، قال: ما أبالي أيُّ الفَحْلَين غلب عليّ، فحبسه الرَّشيد عند الفضلِ بن الرَّبيع، فلم يزل محبوسًا حتى توفِّي الرشيد، فأَطلقه محمَّد وعقد له على الشَّام، فكان مُقيمًا بالرقَّة، وجعل لمحمَّد عهدَ اللهِ وميثاقَه إنْ أصيبَ محمَّد وهو حيّ لا يعطي المأمونَ طاعةً أبدًا، فمات قبل محمَّد، فدُفن في دارٍ من دُور الإِمارة بالرَّقة، فلمَّا خرج المأمونُ يريد الرُّوم، أَرسل إلى ابنٍ له: حوِّل أباك من داري، فنُبشت عظامهُ وحوِّلت. ومنها: أنِّ الرشيد بعث إلى يحيى ينِ خالدٍ وهو محبوس يقول له: إنَّ عبد الملكِ بن صالحٍ أراد الخروجَ عليّ، وأن يُنازعَني في الملك، وقد علمتَ ذلك، فأَخبرني واصدُقْني، فإنْ صدقتَني أُعدتَ إلى حالك، فقال يحيى: واللهِ ما اطَّلعتُ منه على شيءٍ من هذا، وكيف يكون ذلك وملكُك مُلكي وسلطانُك سُلطاني؟ ! وهل كان يفعل بي لو وافقتُه أكثرَ من فعلك؟ ! فأُعيذك بالله من ذلك أن تظنَّ بي هذا الظنّ، ولكنَّه كان رجلًا محتملًا، يسرُّني أن يكونَ في أهلك مثلُه، فولَّيتُه لِمَا حَمدتُ من مذهبه، وملتُ إليه لاحتماله وأدبِه. فلمَّا أتاه الرسولُ بهذا قال له: إن أنت لم تقرَّ عليه قتلتُ ابنَك الفضل، فقال: قل له: أنت مسلَّط علينا فافعل ما بدا لك، فقال الرَّسول: لا بدَّ من إنفاذ [أمر] (¬3) أميرِ ¬

_ (¬1) أي: من أسباب غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح. (¬2) في (خ): المفضل بن يحيى، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 305، وسيأتي على الصواب قريبًا. (¬3) ما بين معكوفين من تاريخ الطبري 8/ 306.

المؤمنين، ولم يشكَّ أنه قاتلُه، فودَّع الفضلُ أباه وقال: ألستَ راضيًا عني؟ قال: بلى. فغاب عنه ثلاثةَ أيام، ثم اعاده إليه لمَّا لم يجد عندهما شيئًا من ذلك. وقيل: إنَّ الرسول كَان مَسْرورًا الخادم. ومنها: أنَّ الرشيدَ بينما هو يسير في مَوْكِبه وعبدُ الملك معه يسايره، هتف به هاتف: يا أميرَ المؤمنين، طأطِئْ من إِشرافه، وقصِّر من عِنانه، واشدُد من شكائمه، وإلَّا فَسَدتْ عليك ناصيتُه. فقال الرشيدُ لعبد الملك: ما يقول هذا؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، مقال باغٍ ودَسيسَ حاسد، فقال هارون: صدقتَ، نَقَصَ القومُ وفَضَلْتَهم، وتخلَّفوا وتقدَّمتَهم، حتى برز شأوُك، وقَصَّر عنه غيرُك، ففي صدورهمِ جَمَراتُ التخلُّف، وحَزازاتُ النَّقص، فقال عبدُ الملك: لا أَطفأها الله (¬1)، وأَضْرَمَها عليهم حتى يورثَهم كَمَدًا دائمًا. وكان عبدُ الملك يسكن مَنْبج، فمرَّ به هارون، فقال له: هذا منزلُك؟ قال: هو لك يا أميرَ المؤمنين، وهو لي بك. فقال: كيف هو؟ قال: دون بناءِ أهلي، وفوق منازلِ مَنْبج، فقال: كيف لينُها؟ فقال: سَحَرٌ كلُّه. وفيها: نقض نقفورُ ملكُ الرومِ الصلحَ الذي كان بينه وبين المسلمين، كانت ملكةُ الرومِ التي يقال لها: ريني قد صالحت المسلمين على ما ذكرنا، وأنَّ الرومَ وثبت عليها فخلعتْها وملَّكت نقفور، والرومُ تزعم أنَّه من أولاد جَفْنَةَ من غسَّان. وماتت ريني بعد خمسةِ أشهرٍ من خلعها. ولمَّا استقام أمرُ نقفورَ واستولى على البلاد، كتب إلى الرَّشيد كتابًا يقول في أوَّله: باسم الأبِ والابنِ ورُوح القُدس (¬2)، من نقفور ملكِ الرُّوم إلى هارونَ ملكِ العرب، أمَّا بعد: فإنَّ الملكةَ التي كانت قبلي أَقامتْك مقامَ الرُّخّ، وأقامت نفسَها مقامَ البَيدَق، فحملَتْ إليك من أموالها ما كنتَ حقيقًا بحمل مثلِه إليها، ولكن ذاك ضعف النساءِ وحُمقُهنّ، فإذا قرأتَ كتابي هذا، فاردُدْ ما حصل قِبَلك من أموالها، وافتدِ نفسَك بما ¬

_ (¬1) في (خ): أطفأ الله، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 306. (¬2) قوله: باسم الأب والابن وروح القدس، لم يذكره من ذكر الخبر والكتاب، انظر تاريخ الطبري 8/ 307، والمنتظم 9/ 138، والكامل 6/ 185، وتاريخ الإسلام 4/ 790، والبداية والنهاية 13/ 649.

تقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك، والسَّلام. فلما قرأ هارونُ الكتاب، استشاط غضبًا بحيث تفرق عنه جلساؤه، فلم يقدر أحدٌ أن يدنوَ منه، وكتب به على رأس الكناب (¬1): "الله الرَّحمن الرحيم: من هارونَ أميرِ المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأتُ كتابك يا ابنَ الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تقرؤه، والسلام. ثم سار من يومه حتى أَناخ بباب هِرَقْلَة، ففتح الحصونَ، وغنم وسَبَى وقتل، فأَرسل إليه نقفورُ يطلب الموادَعَةَ على خراجٍ يؤدِّيه في كلِّ سنة، فصالحه ورجع إلى الرقَّة، فنقض نقفور العهدَ ونزل البَلْخ، فيئس من من جعة هارونَ إليه، ولم يتجاسر أحدٌ أن يخبر هارونَ بما فعل نقفور، فاحتيل له بشاعرٍ من أهل جُدَّة (¬2)، واسمُه عبدُ الله بن يوسف، فأَنشده: [من الكامل] نَقَضَ الذي أَعطاكَه نقفورُ ... وعليه دائرةُ البَوارِ تدورُ أَبشِر أميرَ المؤمنين فإنَّه ... غنْم أَتاك به الإلهُ كبير فلقد تَباشَرَتِ الرَّعيةُ أن أتى ... بالنَّقض عنهُ وافِدٌ وبَشير أَعطاك جِزيتَه وطأطأَ خدَّه ... حَذَرَ الصَّوارمِ والرَّدى مَحذور فأَجرتَه من وَقْعِها وكأنَّها ... بأكفِّنا شعَلُ الضِّرام تَطير فصَرَفْتَ بالطَّول العساكرَ قافلًا ... عنه وجارُك آمن مسرور نقفورُ إنَّك حين تَغدِر إن نأى ... عنك الإِمامُ لَجاهل مغرور أظننتَ حين غَدرتَ أنّك مُفلَتٌ ... هبِلَتْك أمُّك ما ظننتَ غُرور ألقاك حَينُك في زَواخِرِ بحرِه ... فطَمَت عليك من الإِمام بُحور إنَّ الإمام على اقْتِسارك قادرٌ ... قَرُبَت ديارُك أم نأتْ بك دُور ليس الإِمامُ وإنْ غفَلْنا غافلًا ... عمَّا يَسوسُ بحَزْمِه ويُدير ¬

_ (¬1) في المصادر: وتفرق جلساؤه ... واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبدّ برأيه دونه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب. (¬2) كذا في (خ) والمنتظم 9/ 139، وفي مطبوع تاريخ الطبري 8/ 308: خُرّة، وفي نسخة منه أشار إليها المحقق: جنده، وكذا هي في تاريخ ابن الأثير 6/ 185: جنده.

مَلِكٌ تجرَّد للجهاد بنفسه ... فعدوُّه أبدًا به مَقهور نصحُ الإِمامِ على الأَنام (¬1) فريضةٌ ... ولأهلها كفَّارةٌ وطهورِ فلمَّا فرغ من إِنشادها، قال: أَوَ قد فعلها؟ ! فكرَّ راجعًا من فوره، فأناخَ على هِرَقْلَة، فأَرسل إليه نقفورُ وصالحه على ما أَراد هارون. وقال أبو العتاهية: [من الوافر] أَلَا نادَتْ هِرَقْلَةُ بالخَراب ... من المَلِك المُوَفَّق للصَّواب غدا هارونُ يَرعُدُ بالمنايا (¬2) ... وَيبرُقُ بالمُذكَّرة (¬3) القِضاب (¬4) وراياتٍ يَحُلُّ النصرُ فيها ... تمرُّ كأنَّها قِطَعُ السحاب أميرَ المؤمنين ظَفِرتَ فاسْلَم ... وأَبشِر بالغَنيمَةِ والإِياب فصل: وفيها قُتل إبراهيمُ بن عثمانَ بن نَهيك. كان بعد قتل هارونَ لجعفرِ بن يحيى يبكي عليه ويحزن لِمَا جرى على البرامكة، فكان إذا أخذ منه الشرابُ يقول لغلامه: هات سيفي ذا المنيَّة، فيسلُّه ويقوم قائمًا، ويصيح: واجعفراه، واسيِّداه، واللهِ لآخذنَّ ثأرَك ولأقتلنَّ قاتلَك. وكان له ابنٌ اسمُه عثمان، فجاء الفضلَ بن الربيعِ فأَخبره، فأخبر الفضلُ الرَّشيد، فقال الرَّشيد: أَدخله، فدخل، فقال له: ماذا يقول [الفضل بن] الرَّبيع؟ قال: صدق، قال: فهل سمع منه هذا أحدٌ غيرك؟ قال: نعم، خادمُه نوال. فدعا نوالًا فسأله، قال: نعم قد قاله غيرَ مرة، فقال هارون: ما يحل في أن أقتلَ وليًّا من أوليائي بقولهما، ولعلَّهما تواصيا على هذا؛ بمنافسة الابنِ على المرتبة ومعاداةِ الخادمِ لطول الصُّحبة. فترك ذلك أيَّامًا، ثم قال للفضل بنِ الربيع أريد أنْ أمتحنَ إبراهيمَ لأزيل الشكَّ عن خاطري، والوهمَ عن قلبي، فاستدعاه على الشَّراب، وقال للفضل: اِذهب وخلِّني وإياه، فلمَّا أخذ منه الشرابُ قال له: يا إِبراهيم، كيف أنتا وموضعُ السِّرِّ منك، فقال: إنَّما أنا عبدُك، فقال: إنَّ في نفسي أمرًا أريد أن أُودِعَك إيَّاه، وقد ضاق صدري به ¬

_ (¬1) في (خ): الإمام، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 309. (¬2) في (خ): للمنايا، والمثبت من تكملة الديوان ص 492، وتاريخ الطبري 8/ 310. (¬3) في (خ): للمذكرة. والمذكر من السيف: ذو الماء. القاموس المحيط (ذكر). (¬4) جمع قضيب، وهو اللطيف من السيوف، والسيف القطَّاع. القاموس المحيط (قضب).

جعفر بن يحيى

وسهرتُ له ليلي، فقال: إذن أُخفيه عن نفسي، فقال: قد ندمتُ على قتل جعفرِ بن يحيى ندامةً لا أَقدرُ أن أَصفَها، ووددت أنِّي خرجتُ من ملكي وأنَّه بقي، فما وجدت طعمَ النومِ ولا لذَّة العيشِ منذ قتلتُه. فبكى إبراهيمُ وقال: رحم اللهُ أبا الفضلِ وتجاوَزَ عنه، فلقد أخطأتَ واللهِ في قتله، وأين يوجد في الدُّنيا مثلُه، فقال له الرشيد: قم لعنك اللهُ يا ابنَ اللَّخْناء، فقام وهو لا يَعقِل، فدخل على أمِّه فقال: يا أُماه، ذهبَتْ واللهِ نفسي. وأَخبرها الخبرَ وقال: إنَّ الرشيدَ قد امتحنني بمحنةٍ لو كان في ألف نفسٍ لم أَنجُ منها بواحدة، فدخل عليه ابنُه بعد ليالٍ فقتله. جعفرُ بنِ يحيى ابن خالدِ بن بَرْمَك، أبو الفضلِ البرمكي. كان من علوِّ القدر، ونفاذِ الأمرِ، وعِظَم المنزلة، وجَلالةِ المَحَلِّ عند هارونَ بحالةٍ لم يشاركْه فيها أحد، وكان جميلًا وسيمًا، معتدلَ القامة، ذا وَفْرة، طويلَ العُنق جدًّا، وهو أوَّل مَن زاد في زِيقه ليَستُرَ عُنُقَه، فقيل: زيقٌ برمكي. وكان حسنَ الأخلاق، طلقَ الوجه، جودُه وعطاؤه أشهرُ من أن يخفَى، وكان من الفصاحة والبراعةِ والبلاغةِ على حظٍّ وافر. وكان أبوه قد ضمَّه إلى القاضي أبي يوسُف، ففهَّمه وعلَّمه. نظر بحضرة الرشيدِ ليلةً في ألف قصَّة، فوقَّع على جميعها، فعرضت على الحكَّام، فلم يجدوه أخطأ ولا في واحدةٍ منها، ولم يخرجْ عن الفقه. ورُفعت إليه قصة من مُتَظَلِّم من عامل، فكتب عليها: بئس الزادُ ليوم المعادِ ظلمُ العباد. وهو أوَّل ص ضرب الدنانيرَ الجعفرية، ضرب أوَّلًا في كلِّ دينارٍ مئةَ دينارٍ ودينار (¬1)، فكان يُطلق المئةَ منها، وكان على أحد جانبَي كلِّ دينارٍ مكتوب: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) في الكلام هنا وما سيذكره بعد قليل من قوله: ثم ضرب في كل دينار ثلاثة مئة دينار: اضطراب. ففي تاريخ بغداد 8/ 34، ومختصر تاريخ دمشق 6/ 102 وغيرهما: ولا غضب على البرامكة، وجد في خزانة لجعفر بن =

وأَصفرَ من ضَربِ دارِ الملوك ... يلوحُ على وجهه جعفرُ يزيدُ على مئة واحدًا ... إذا ناله مُعْسِرٌ يوسر (¬1) ثم ضرب في كلِّ دينارٍ ثلاثَ مئةِ دينار، وكان يطلق المئة منها. وأراد الركوبَ إلى دار هارونَ من داره على شاطئِ دجلة، فأخذ الأَسطُرلاب، فمرَّ ملَّاحٌ على سفينةٍ وهو يقول: [من الوافر] يدبِّر بالنُّجوم وليس يدري ... وربُّ النَّجم يفعلُ ما يشاءُ (¬2) فضرب بالأَسطرلاب الأرضَ، فكسره وركب. وكان ينظر إلى الكاتب وهو يكتبُ من بعيد، فيعلم ما يجري به قلمُه، وكذا كان أبوه يحيى. قال سليمانُ بن الحارث: كنتُ في موكب جعفرِ بن يحيى، إذ اعترضه بهلولُ هاربًا من صبيان الكرخِ وبيده حجران، فألقاهما وأخذ بلجام بغلةِ جعفرٍ وقال: [من البسيط] يا جعفرَ الجودِ والمعروفِ والكرمِ ... يا كعبةَ الفضلِ والإِفضالِ والنِّعمِ يا مَن إذا السُّحب لم تَسمح بدِرَّتها ... كانت أناملُهُ أَندَى من الدِّيَم ما لي إليك شفيعٌ أَستعين به ... إلَّا العلاءَ وطيبَ الأصلِ والشِّيَم لله دَرُّك من حرٍّ أخي كرمٍ ... مُعطي الكثير بلا منٍّ ولا سأَم فقال له جعفر: تمنَّ، فقال: تردُّ عليَّ عقلي، قال: لا أَقدر على ذلك، قال: فتؤمِّنِّي من الموت، قال: وهذه أَصعب، قال: فتكفيني أولادَ الزِّنى، فقال: هذا مُتَعَذِّر، فقال بُهلول: فما تظن أنَّني أطلب منك؟ ! كسوةً تفنَى وثوبًا يَبلَى، وقد بذلتُ لك ما يبقى؟ ! إنِّي إذن لَقليلُ الخبرةِ بالتِّجارة. ثم ترك لجامَ بغلتِه ومضى وهو يقول: [من السريع] ظنَّ ابنُ يحيى أَنني راغبٌ ... في ماله مالي وللمالِ واللهِ ما أَنصفَ مَدحي له ... مَن لم يُبَلِّغنيَ آمالي ¬

_ = يحيى في جرة ألف دينار في كل دينار مئة دينار ... كان جعفر بن يحيى أمران تضرب له دنانير في كل دينار ثلاث مئة مثقال وتصور عليها صورة وجهه ... إلخ. (¬1) انظر تاريخ بغداد، ومختصر تاريخ دمشق، والمنتظم 9/ 143 والسير 9/ 63. (¬2) التذكرة الحمدونية 9/ 321، وفيات الأعيان 1/ 339 - 340. وانظر نفح الطيب 5/ 297.

يفنَى الذي يُعطي ويبقَى له ... حُسنُ أماديحي وأَقوالي فأتبعه جعفرُ بصرَه وقال: صدقتَ يا أبا محمَّد. ذِكر مقتله: واختلفوا في سببه على أقوال: قال الطَّبري (¬1): كان الرشيدُ لا يصبر عن أخته العبَّاسةِ بنت المهديّ، وكان يُحضرها إذا جلس للشُّرب، فقال لجعفر: أُزوِّجك إياها ليحلَّ لك النظر، فزوَّجها منه، ثم كان يُحضرهما مجلسَ الشراب، ثم يقوم عن مجلسه ويخلِّيها فيه وهما ثَمِلان، فيجامعها جعفر، فحبلت منه وولدت غلامًا، فخافت على نفسِها من الرَّشيد، فبعثت بالغلام إلى مكَّةَ مع الحواضن من جواريها، وأَرسلت معه بالأموالِ والجواهر، ولم يزل الأمرُ مستترًا عن هارونَ حتى وقع بين العباسة وبعضِ جواريها، فوشت بها إلى الرَّشيد ودلَّته على مكان الصبي بمكَّة، فحجَّ هارون، وأَرسل فأَحضر الحواضن، وسألهنَّ فأخبرنَه الخبر، فأراد قتلَ الصَّبي، ثم تخوَّف من ذلك، ولمَّا عاد من حجَّته قتل جعفرًا. وقال أحمدُ بن زهير: إنَّ الرشيدَ لمَّا زوَّج أختَه من جعفر، اجتنبها مدَّةً ومنع نفسَه عنها، وأَحبَّته، فدخلت على أمِّه فشكتة إليها، وحملت إليها الجواهرَ والهدايا، فوعدتها أن تجمعَ بينهما، فاحتالت عليه أمُّه وقالت: قد اشتريتُ لك جارية روميةً من بنات الملوك، ووصفَتْها له. فجاء وهو سكران، فواقعها ولم يعلم، فقالت له: كيف رأيتَ حيلَ بناتِ الملوك؟ وأَخبرته أنَّها العبَّاسة. فأَفاق من سُكره، ودخل على أمِّه وقال لها: لقد بعتيني بثمنٍ بَخسٍ، وحملتيني على المركب الوَغر، وسوف ترين. ووضعت العباسةُ غلامًا فبعثَتْ به إلى مكَّة. وكان يحيى ينهى زُبيدةَ عن صحبة الخدَّام، فشكته إلى الرشيدِ وقالت له: هلَّا غار على حَرَمك، فقال: واللهِ ما أَتَّهمه في حرمي، فقالت: بلى، قد حملَتْ أختُك من جعفرٍ بغلامٍ وبعثت به إلى مكَّة، فقال: اكتُمي هذا، وحجَّ في هذه السَّنة، فقتل الصبيَّ ¬

_ (¬1) في تاريخه 8/ 294.

والحواضن، وكان يحيى وأولادُه معه، فلم يُطْهر لهم شيئًا. القولُ الثاني: قال أبو محمَّد اليزيدي (¬1): دفع الرشيدُ يحيى بنَ عبد الله بنِ حسن بنِ حسنٍ إلى جعفر، فحبسه عنده، ثم دعا به ليلةً فسأله عن شيءٍ من أمره، فأَجابه، إلى أن قال له: اتَّقِ الله في أمري، ولا تتعرَّض لأن يكونَ خصمَك غدًا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فوالله ما أحدثتُ حَدَثًا، ولا آويت مُحدِثًا. فرقَّ له جعفرٌ وقال: اذهب حيث شئتَ من بلادِ الله، فقال: كيف أَذهب ولا آمن أن أؤخذَ بعد قليل، فوجَّه معه مَن أدَّاه إلى مأمنه، وبلغ الخبرُ إلى الفضل بنِ الربيع، فأَخبر الرَّشيد، فزبره فقال: لا أمَّ لك، أين أنت وهذا الأَمر، فانكسر الفضل، وجاء جعفر فدخل على الرشيد فتغدَّى عنده، ثم تفاوضا الحديث، فقال له: ما فعل يحيى بنُ عبدِ الله؟ قال: في الحبس والقيدِ الثَّقيل، قال: بحياتي؟ فأَحجم جعفر وهجس في نفسه أنّه قد علم بشيء، فقال: لا وحياتِك، ولكنِّي أَطلقته وعلمتُ أنَّه لا مكروهَ عنده، فقال: نِعمَ ما فعلت، ما عَدَوتَ ما كان في نفسي، فلمَّا خرج أَتبعه بصرَه وقال: قتلني اللهُ إنْ لم أقتلْك. وقال إدريس بن بدر: فعرض للرَّشيد بعد هذه الواقعةِ رجلٌ وقال: عندي نصيحةٌ لأمير المؤمنين، فأَرسل إليه يقول: ما نصيحتُك؟ فقال: هي سرٌّ من أسرارِ الخلافةِ لا أَذكرها إلَّا له، فقال: عليَّ به، فأُدخل عليه، وقال: أَخلِني، فأُخلي المجلس، فقال: رأيتُ يحيى بنَ عبد الله بنِ حسنٍ بحلوانَ في خان، عليه دُرَّاعة صوفٍ وهو قائم يصلي، ومعه جماعة يُظهرون أنَّهم ليسوا معه، فقال: أَوَ تعرفه؟ قال: نعم، قال: صِفْه لي، قال: مربوع، أسمرُ رقيق السُّمرَة، كبيرُ البطن، قال: صدقت. فأعطاه ألفَ دينارٍ وقال: اكتُم هذا. والثالث: قال الهيثم: كان سببُ قتلِ جعفرٍ أنَّ الرشيدَ أخذ بيده يومًا، ثم اخترق به حُجَرَ نسائه حتَّى انتهى إلى باب مجلس، فأَخرج مفتاحًا من تِكَّته وفتح الباب، وإذا في صدره بابٌ صغير، فنقره، قال جعفر: فسمعتُ غناءً على عود ما سمعتُ أَطيبَ منه، ثم قمنا وأغلق الباب، وقال لي: يا جعفر، أسمعتَ غناءً كذا، قلت: لا والله، قال: هذه ¬

_ (¬1) في (خ): الزيدي، والتصويب من تاريخ الطبري 8/ 289، والمنتظم 9/ 127.

عُلَيَّة أختي بنت المهدي، واللهِ لئن نطقتَ بهذا لأَقتلنَّك، وجاء جعفرٌ فحدَّث أباه، فقال: واللهِ ليقتلنَّك، وكان هارونُ قد حجر على عُلَية، وأظهر أنَّها قد هلكت؛ لأجلَ معاشرتها للخدَّام، فتحدَّث بذلك جعفر، فقتله. والرابع: قال الحسنُ بن عليِّ بنِ عيسى: [الشَّرَه] (¬1) قَتَلَ جعفرًا، فقيل له: الناسُ يقولون: إنَّ ذَنبه أمرُ بعضِ أخوات الرشيد! فقال: هذا من رواية الجهَّال، مَن كان يَجسُر على الرشيدِ بهذا! إنَّما كان جعفرٌ قد حاز ضِياع الدُّنيا لنفسه، وكان الرشيدُ إذا سافر لا يمرُّ بضيعةٍ أو بستانٍ إلَّا قيل: هذا لجعفر، فبقي ذلك في نفسه، ثم جنى على نفسه بأن وجَّه برأس بعض الطالبيين في يوم نوروزَ من غير أن يأمرَه الرشيدُ بقتله، فاستحلَّ بذلك دمَه. الخامس: أنَّ أحدًا لم يعلم ذنبَ جعفر. قالت عُلَية بنت المهدي للرشيد: ما رأيت لك يومَ سرورٍ منذ قتلتَ جعفرًا، فلأيِّ شيءٍ قتلته؟ فقال: لو علمتُ أنَّ قميصي يعلم السببَ الذي قتلتهُ لأجله لأَحرقته، وكان يحيى بنُ خالدٍ يكره مداخلةَ جعفرٍ للرَّشيد وينهاه عن مُنادَمَته، ويقول: يا أمير المؤمنين، إنِّي واللهِ أَكره ذلك، ولست آمن أن ترجعَ العاقبةُ عليَّ فيه منك، فلو أَعفيتَه، واقتصرتَ به على ما يتولَّاه من جسيم أعمالِك، كان ذلك واقعًا بموافقتي، فقال له الرَّشيد: ليس بكَ هذا، وإنَّما تريد إن تقدِّم عليه الفضلَ ابنَك. وكان يحيى يحبُّ الفضلَ حبًّا شديدًا. فحكى الطبريّ (¬2) أنَّ يحيى حجَّ تلك السنة وتعلَّق بأستار الكعبةِ وقال: اللهمَّ إن كان رضاك في أن تْسلبَني أهلي وولدي، فأسلبني إلَّا الفضل. وكان الرشيدُ عاتبًا على الفضلِ لتركه الشُّربَ معه، وكان يقول: لو علمتُ أنَّ الماءَ يَنْقُص من مروءتي لَمَا شربته. وكان جعفر يتوقَّى مخالفةَ الرشيد. واختلفوا في كيفية قتله؛ فقال الفضلُ بن سليمانَ بنِ على: لمَّا رجع الرشيدُ من ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من المنتظم 9/ 132. (¬2) في تاريخه 8/ 292.

الحجِّ نزل العمرَ بناحية الأَنبار، فلمَّا كان ليلةُ السبتِ لانسلاخ المحرَّم، أَرسل مَسْرورًا الخادمَ ومعه أبو عصمةَ وجماعةٌ من الجند، فأَحاطوا به، ودخل مسرورٌ وعنده ابنُ بختيشوع المتطبِّب، وأبو زكَّار الأعمى يغنِّيه، قال: [من الوافر] فلا تَبْعَد فكلُّ فتًى سيأتي ... عليه الموتُ يَطْرُق أو يُغادي (¬1) وقال مسرورٌ: فقلت: يا أبا الفضل، قد طرقك [و] الله الذي جئتُ له، أَجِب أميرَ المؤمنين. قال: فوقع على رِجلَيَّ يقبِّلهما ويقول: حتى أدخلَ أُوصي، فقلمت: أمَّا الدخولُ فلا سبيلَ إليه، ولكن أَوصِ بما شئت. فأوصَى وأعتق مماليكَه، وأتتني رسلُ أميرِ المؤمنين تستحثُّني، فمضيت به إليه، وأَعلمته وهو في فراشه، فقال: ائتني برأسه. فخرجتُ فأَخبرت جعفرًا، فقال: يا أبا هاشم، الله الله في أمري، ما أَمرك إلَّا وهو سكران، فدافِع بي حتى يطلعَ الصَّباح، وآمِرهُ فيّ، فعلتُ إلى الرَّشيد لأُؤامرَه، فقال: يا ماصّ، ائتني برأسه. فخرجتُ إلى جعفرٍ فأخبرته، فقال: عاوده بالله. فعاودتُه، فحذفني بعمودٍ ثم قال: نُفيتُ من المهديِّ لَئن لم تأتِني برأسه، لأُرسلنَّ إليك مَن يأتيني برأسك. فخرجتُ إليه فأتيتُه برأسه. وقال أبو زكَّار: كنتُ [عند] (¬2) جعفرٍ وهو يتغنَّى بهذا الشِّعر: [من الوافر] فلا تَبْعد فكلُّ فتًى سيأتي ... عليه الموتُ يَطْرُقُ أو يُغادي وكلُّ ذَخيرةٍ لا بدَّ يومًا ... وإنْ بَقِيت تصير إلى نَفادِ فلو فُوديتَ من حَدَث الليالي ... فديتُك بالطَّرائف والتِّلاد فقلت له: يا سيِّدي، ممن أخذتَ هذا الشِّعر؟ فقال: من أحسنِ الناسِ شعرًا، مِن حَكَمِ الوادي (¬3). فما قام من موضعه حتى جاءَ مَسْرورٌ غلام الرشيدِ فأخذ برأسه. وقال أبو معشر: لمَّا نزل الرشيدُ بالعُمْر، نزل جعفرٌ عند المأمون، وخرج الرشيدُ في اليوم الذي قتل جعفرًا في ليلته إلى الصيد وجعفرٌ معه، فجاءَ به وغلَّفه بالغالية بيده وعانقه وقال: قد عزمتُ الليلةَ على الجلوس مع النِّساء، فاخلُ أنت الليلةَ مع نسائك ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 295، المنتظم 9/ 133، الكامل 6/ 177 - 178، البداية والنهاية 13/ 642. (¬2) ما بين معكوفين من تاريخ الطبري والمصادر. (¬3) هو الحكم بن ميمون مولى الوليد بن عبد الملك. انظر ترجمته في الأغاني 6/ 280.

ولذَّ واطرب؛ لتكونَ مثلَ حالي. ومضى هارونُ إلى الصَّيد، وعاد إلى المنزل وجعل يبعث بالهدايا والألطافِ إلى جعفرٍ عامَّةَ الليل، ثم بعت إليه مسوورًا في آخر الليلِ فقتله. وقال أبو حسَّان الزِّيادي: إنَّما قتل جعفرًا ياسر الخادم، جلس هارون على كرسيٍّ وقال لياسر: اِذهب فأتِني بجعفر، فجاء وعنده أبو زكَّارٍ الأعمى وهو يغنِّيه: [من مجزوء الرمل] ما يُريد الناس منَّا ... ما ينامُ الناسُ عنَّا إنَّما همُّهم أن ... يُظهروا ما قد دفنَّا (¬1) فهابه ياسر، فرجع إلى هارونَ، فقال: ويحك أَندُبك لأمرٍ ما ندبتُ إليه أعزَّ مَن عندي وتتوقَّف! واللهِ لَئن لم تأتِني برأسه لأقتلنَّك. فرجع إلى جعفر وجاء به إلى باب الدِّهليز، وقال لياسر: هو سكران، فشاوره في حضوري بين يديه. فدخل فشاوره، فقال: إنْ حضر عندي لم أقتلْه، اُخرج فأتِني برأسه، وسمعه جعفر، فأَخرج منديلًا من كمِّه فعصب به عينَيه ومدَّ عنقَه، فضربه ياسر فأبان رأسَه، ودخل به إليه، فقال هارونُ لبعض غلمانه: اِضرب عنقَ ياسر؛ فإنِّي لا أَقدر أن أنظر إلى مَن قتل جعفرًا، فضرب عنقَه. وكان قتلُه ليلة السبتِ أولَ ليلةٍ من صفر سنةَ سبعٍ وثمانين ومئة، هو ابنُ سبع وثلاثين سنة، وكانت وزارتُه سبعَ عشرة سنة. وقال الأصمعيّ: كنت تلك الليلةَ في المعسكر، فاستدعاني هارونُ في تلك الساعةِ، فدحلت عليه وهو مُطرِقٌ واجمٌ قد ذهب نشاطُه، فرفع رأسَه إليَّ وقال: [من الكامل] لو أنَّ جعفرَ خاف أَسبابَ الردى ... لنجا بمهجته طِمِرٌّ (¬2) ملْجَم ¬

_ (¬1) مروج الذهب 6/ 395، ووفيات الأعيان 1/ 338، ومرآة الجنان 1/ 421. (¬2) في (خ): فنجا، والمثبت من مروج الذهب 6/ 399، ووفيات الأعيان 1/ 339، ومختصر تاريخ دمشق 6/ 107، والطمر: الفرس الجواد. القاموس (طمر).

ولَكان مِن حَذَرِ المَنون بحيث لا ... يرجو اللَّحاقَ به الغرابُ الأَعْصَم (¬1) لكنَّه لمَّا تقارب يومُه ... لم يَدفع الحَدَثان عنه مُنَجِّم ثم أمر بكشف الطَّشت، فإذا فيه رأسُ جعفرِ بن يحيى، فقال: انظره، ثم قال: قُم فاخرج. وقال ثُمامَةُ بن أَشْرَس: بتُّ ليلةً عند جعفرِ بن يحيى، فبكى في منامهِ ثم استيقظ، فسألتُه عن بكائه، فقال: أتاني الساعةَ آتٍ في منامي، فأخذ بعَضَادتَي البابِ وقال: [من الطويل] كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصَّفا ... أَنيسٌ ولم يَسمُر بمكَّةَ سامرُ فقال مجيبًا له: بلى نحن كنَّا أهلَها (¬2) فأَبادنا ... صُروفُ الليالي والجُدودُ العَواثرُ (¬3) فما مضت الأيامُ حتى قُتل رحمه الله. ولمَّا قُتل جعفر، أمر هارونُ في تلك الليلةِ أن يُحتاطَ على يحيى بنِ خالدٍ وولدِه ومواليه ومَن يلوذ به، ويحبَسَ هو وولدُه الفضل، وأخذ ما وجد لهم من مالٍ وضِياع ومتاعٍ ودوابَّ وغيرِ ذلك، ووجَّه من ليلته إلى الرقَّة فقبض ما كان لهم. وقال سهلُ بن هارون: كنت قاعدًا أكتب بين يدي يحيى بنِ خالد، وإذا برجلٍ قد دخل فقال: قَتل هارونُ جعفرًا، فما زاد يحيى على أنْ رمى القلَم من يده وقال: هكذا تقوم الساعةُ بَغْتَةً. وضمَّ هارون من وقته يحيى بنَ خالدٍ والفضلَ ومحمَّدًا وخالدًا بني يحيى، وعبدَ الملك ويحيى وخالدًا بني جعفر، والعاص ومزيدًا وخالدًا بني الفضل، وجعفرًا وزيدًا ابنَي محمَّد بن يحيى، وإبراهيمَ ومالكًا وجعفرًا وعُمر بني خالدِ بن يحيى، وبعث بهم إلى الرَّقة. ¬

_ (¬1) في الوفيات ومختصر تاريخ دمشق: القشعم. والأعصم: الأحمر الرجلين والمنقار، أو الذي في جناحه ريشة بيضاء. والقشعم: الضخم. القاموس المحيط (عصم)، (قشعم). (¬2) في (خ): أهلنا، والمثبت من مختصر تاريخ دمشق 6/ 105، والبداية والنهاية 13/ 657. (¬3) في (خ): الغوابر.

قال سهل: واستدعاني هارونُ في الوقت، فدخلت عليه والسيفُ مَشْهُورٌ في يده، فقال: إيه يا سهلُ، مَن كفر نعمتي وجانب موافقتي أَعجلتُه عقوبتي. قال: فلم أُحِر جوابًا، فقال: ليُفرِخ رَوْعُك، ويَسْكُن جأشُك، وتَطِب نفسُك، وتسكن حواسُّك؛ فإنَّ الحاجةَ إليك ماسَّة. فاقتصرَ على الإِشارة دون العبارة، ثم أَشار إلى مَصْرَع جعفرٍ وقال: [من مجزوء الكامل] مَن لم يُؤدِّبْه الجميـ ... ـــــــــل ففي عُقوبته صَلاحُهْ (¬1) وبعث هارونُ بجيفة [جعفر] إلى بغداد مع هرْثَمةَ بنِ أَعيَن، وقُطِّعت جثَّته، فنُصب رأسُه على الجسر الأَوسط، وقطعةٌ منه على الجسر الأعلى، وقطعةٌ منه على الجسر الأَسفل، وكتب هارونُ إلى السِّنْديِّ فتولى ذلك، وأمر بالنِّداء: لا أمانَ لمن آوى البرامكة، إلَّا لمحمَّد بن خالدٍ وولدِه وحَشَمه؛ لأن محمَّدًا لم يدخل فيما دخل فيه غيرُه من البرامكة، وحمل يحيى بنَ خالدٍ وولدَه الفضلَ وبعضَ أهلِه فحبسهم في الدَّير القائمِ بالرَّقة، وجعل عليهم حَفَظَة، وولي أمرَهم هرْثَمَةُ ومسرور. وقتل هارونُ لمَّا قدم الرقَّة أنس بنَ أبي شيخ، وكان أحدَ أصحابِ البرامكة، وكان يُرمى بالزَّندقة، ولما قُتل قال هارون: [من البسيط] تَلَمَّظ السيفُ من شَوقٍ إلى أنسٍ ... فالسيفُ يَلْحَظُ والأقدارُ تَنْتَظِرُ (¬2) ولم يزل جعفرٌ مَصلوبًا حتى عزم هارونُ على الخروجِ إلى خُراسان، فأمر السِّنديَّ بنَ شاهك أن يحرقَ جثته، فجمع حطبًا وشوكًا وأَحرقه. وذكر الصُّولي فقال: اِفْتَصَد جعفرٌ في يوم الثُلاثاء، فخلع على نُدمائه وخواصِّه خِلَعًا بلغت سبعةَ عشرَ ألفَ دينار، فوجد ذلك في دفاتر الحسابِ، وتحته مكتوب: سبعةُ دراهمَ اشترى بها نفطًا لإِحراق جثَّته، فقال الناسُ: إنَّ في ذلك لَعِبرة. وقال سهلُ بن هارون: دخل الرشيدُ بغدادَ بعد قتل جعفرٍ وصلبِه، وأنا عن يمينه ¬

_ (¬1) العقد الفريد 5/ 59 - 60. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 297، والبيت لصريع الغواني مسلم بن الوليد، وهو في ذيل ديوانه ص 314.

وعبدُ الملك بنُ الفضلِ عن يساره وجعفرٌ مصلوب، فاستقبلنا عينَ الشمس وكأنَّها طلعت من وجه جعفرٍ أو من حاجبه، فاربدَّ وجهُ هارون، فقال له عبدُ الملك: لقد عَظُم ذَنْبٌ لم يَسَعه عفوُ أميرِ المؤمنين، فقال هارون: مَن وَرَد غيرَ مائه صدر بدائه، ومَن يعملْ على شاكلته يوشكْ أن يقومَ على راحلته (¬1). ثم أمر بالنِّفط، فأُحرق وهو يقول: لَئن ذهب أَثَرُك لقد بقي خَبَرُك، ولَئن حُطَّ قدرُك لقد علا ذِكرُك. وقال هشام: ودخل أبو الهيثمِ على يحيى بنِ خالدٍ وهو يقرأ في المصحف، فوقف على رأسه وقال: إنَّه قتل ولدك، فقال: يُقتل ولدُه، فقال: قد أمر بخراب دارِك، قال: تُخْرَب دورُه. فهتك أبو الهيثمِ السُّتورُ وجمع المتاع، فقال يحيى: هكذا تقومُ الساعة. فعاد أبو الهيثمِ إلى هارونَ فأَخبره بما قال، فأطرق رأسَه مفكرًا وقال: إنَّا لله، واللهِ ما قال شيئًا إلا ورأيتُه كما قال. وقال أبو حسَّانَ الزيادي: كان هارونُ قد احتاط على آل برمكٍ ليلةَ قتل جعفرًا، وأخذهم أخذةً رابية، وحبسهم بالرقَّة، وبلغ يحيى فقال: أنا بقضاءِ اللهِ راض، وبالخيرة منه عالم، ولا يؤاخذ اللهُ العبادَ إلَّا بذنوبهم، وما ربك بظلَّام للعبيد، وما يعفو عنه أكثرُ ولله الحمد. ذِكر أقوالِ النَّاس في البرامكةِ ومراثيهم: قال سعيدٌ الزُّهريُّ: لمَّا صُلب جعفر وقف الرَّقاشي الشاعر فقال (¬2): [من الوافر] هدَا الخالونَ مِن شَجْوي فناموا ... وعيني ما يَلَذُّ لها المنامُ وهذا جعفرٌ بالجِسْر تَمحو ... مَحاسِنَ وجهِه ريحٌ قَتَامُ ¬

_ (¬1) في العقد الفريد 5/ 61: ومن أراد فهم ذنبه يوشك أن يقوم على مثل راحلته. (¬2) الأغاني 16/ 248 - 249، تاريخ بغداد 8/ 37، المنتظم 9/ 136، الحماسة البصرية 1/ 253، وفيات الأعيان 1/ 340، مرآة الجنان 1/ 422. وقد نسبت الأبيات في تاريخ بغداد 8/ 36 - 37، ومختصر تاريخ دمشق 6/ 104 - 105 لأبي قابوس النصراني، ونسبها الطبري في تاريخه 8/ 301 لأبي عبد الرَّحمن العطوي، ونسبها صاحب العقد الفريد 5/ 70 لسليمان الأعمى. وقال المرزباني في معجمه ص 181: وقد رويت لأبي قابوس الحيري، والصحيح أنها للرقاشي. اهـ.

أقول له (¬1) وقمتُ لديه نَصبًا ... إلى أنْ كاد يَفْضَحُني القِيام أَما واللهِ لولا خوفُ واشٍ ... وعينٌ للخليفة لا تنام لطُفنا حولَ جِذعِك واستلَمنا ... كما للنَّاس بالحَجَر استلام فما أبصرتُ قبلَك يا ابنَ يحيى ... حسامًا فلَّه السَّيف الحُسام أمرُّ به فيغلِبُني بكائي ... ولكنَّ البكاءَ له اكْتتام على اللذَّات والدُّنيا جميعًا ... لدولة آلِ برمكٍ السَّلام وبلغ الرشيد، فأَحضره وقال: ما حَمَلَك على ما صنعت؟ فقال: تحرَّكت نعمتُه في قلبي فلم أَصبر، فقال: كم أعطاك؟ فقال: كان يُعطيني في كل سنة ألفَ دينار، فأَمر له بألفَي دينار. وقال مصعبُ بن عبد الله: لمَّا قُتل جعفر وصُلب بباب الجسر، جاءت امرأة على حمارٍ فارِه، فوقفت عليه وقالت بلسانٍ فصيح: أَمَا واللهِ لَئن صرتَ اليومَ آية، لقد كنتَ في المكارم الغاية، ولَئن زال مُلكُك وخانَك دهرُك، لقد كنتَ المَغْبوطَ حالًا، الناعمَ بالًا، ولقد استعظم الناسُ فَقْدَك، حيث لم يجدوا بعدك مثلكَ، فنسأل الله الصبرَ على عظيم الفجيعة، وجليلِ الرؤَّية، فعليك منِّي السلام، وداعَ غيرِ قالٍ ولا ناسٍ لذكرِك. ثم أنشأتْ تقول: [من الطويل] فلمَا رأيتُ السيفَ خالط جعفرًا ... ونادى مُنادٍ للخليفة في يحيى بكيتُ على الدُّنيا وأيقنتُ أنَّما ... قُصارى الفتى يومًا مَفارقةُ الدنيا وما هي إلَّا دولةٌ بعد دولة ... تُخوِّل ذا نُعمى وتُعقِب ذا بلوى إذا نزلَتْ هذا منازلَ رِفعةٍ ... من المُلك حطَّت ذا إلى الغاية القُصوى (¬2) ثم حرَّكت حمارَها، فكأنَّها كانت ريحًا لم يُعرف لها أثر. وفيه يقول الرَّقَاشيُّ الشاعر: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في (خ): لديه، وهو خطأ. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 38، والمنتظم 9/ 137. والبيتان الأولان لدعبل الخزاعي كما في العقد الفريد 5/ 70، والوافي بالوفيات 11/ 162، وذيل ديوانه ص 194. وقد جعلها كلها له ابن خلكان 1/ 340 - 341.

أيَا (¬1) سبتُ يا شرَّ السُّبوت صَبيحةً ... ويا صَفَرُ المشؤومُ ما جئتَ أشأما أتى السبتُ بالأمر الذي هدَّ رُكْنَنا ... وفي صفرٍ جاء البلاءُ مُصَمِّما وله، ويقال إنَّها لأبي نُواس (¬2): [من الطويل] الانَ (¬3) استَرَحْنا واستراحت رِكابُنا ... وأَمسكَ مَن يُجدي ومَن كان يَجتدي فقل للمطايا قد أَمِنتِ من السُّرى ... وطَيِّ الفَيافي فَدفَدًا بعد فَدفَدِ وقل للعطايا بعد فَضْلٍ تعطَّلي ... وقل للرَّزايا كلَّ يومٍ تَجَدَّدي وقال الرَّقَاشي: [من الكامل] يا آلَ بَرْمَكَ كم لكم من نائلٍ ... وندًى كعَدِّ الرِّمْلِ غيرَ مُصَرَّدِ (¬4) إن الخليفةَ لا يُشَكُّ أخوكمُ ... لكنَّه في برمَك لم يولَدِ نازعتموه رَضاعَ أكرمِ حُرَّةٍ ... مَخْلوقةٍ من جوهرٍ وزَبَرجد كانت يدًا للجود حتى غلَّها ... قَدرٌ فأضحى الجودُ مَغْلولَ اليد (¬5) وقال أبو العتاهِيَة: [من المنسرح] قولا لمَن يرتجي الحياةَ أَمَا ... في جعفرٍ عِبرةٌ ويَحْياهُ كانا وزيرَي خليفةِ اللهِ ها ... رونَ هما ما هما خليلاه فذاكمُ جعفرٌ برُمَّته ... في حالقٍ رأسُه ونصفاه والشيخُ يحيى الوزيرُ أصبح قد ... نحَّاه عن نفسِه وأَقصاه شتَّت بعد التجميعِ (¬6) شلمَهمُ ... فأصبحوا في البلادِ قد تاهوا ¬

_ (¬1) في (خ): يا، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 300. (¬2) كذا في تاريخ الطبري 8/ 300 على التردد، والأبيات ليست في ديوان أبي نواس، وقد نسبها للرقاشي صاحب ديوان المعاني 2/ 179، والتذكرة الحمدونية 4/ 209 - 210، ووفيات الأعيان 1/ 346، ونسبها المسعودي في مروج الذهب 6/ 402 لأشجع السلمي. (¬3) في (خ): لئن، وهو خطأ. (¬4) التصريد: التقليل. القاموس المحيط (صرد). (¬5) تاريخ الطبري 8/ 301. (¬6) في (خ): الجميع، والمثبت من تكملة الديوان ص 667، وتاريخ الطبري 8/ 302.

كذاك (¬1) مَن يُسخط الإلهَ بما ... يُرضي به العبدَ يَجزِه الله سبحانَ مَن دانَتِ الملوكُ له ... أَشهد أن لا إله إلَا هو (¬2) طوبَى لمَن تاب بعد (¬3) غِرَّته ... فتاب قبلَ المماتِ طوباه ووُجد على قصر علي بن عيسى بنِ ماهانَ بخُراسانَ صبيحةَ اليومِ الذي قُتل فيه جعفرٌ مكتوبًا: [من السريع] إنَّ المَساكين بني بَرْمَكٍ ... صُبَّت عليهم غِيَرُ الدَّهرِ إنَّ لنا في أمرهم عِبْرَةً ... فلْيتَّعظْ ساكنُ ذا القصر (¬4) ووُجد مكتوبًا على قصر الفضلِ بن الربيع: [من الخفيف] ما رعى الدَّهرُ آل برمكَ لمَّا ... أنْ رمى مُلْكَهم بأمرٍ فَظيعِ إنَّ دهرًا لم يَرْعَ حقًّا ليحيى ... لم يكن راعيًا لآل الرَّبيع (¬5) وقال أَشْرَسُ بن ثُمامَة: [من الكامل] في آل برمك عِبرةٌ لكم ... لو كان يَعمل فيكم الفِكرُ (¬6) مَنَحَتهم الدُّنيا خزائنَها ... واختصَّهم بصفائه الدَّهر حتى إذا بلغوا السُّها شرَفًا ... عزًّا (¬7) وقصَّر عنهم الفخر عزَّ (¬8) الزمانُ بهم فجعفرُهم ... بعدَ الحِجابِ محلُّه الجِسر وتمزَّقوا من بين مُصطَلَمٍ ... ومُكَبَّل قد ضمَّه الأَسْر ¬

_ (¬1) في (خ): كذا. (¬2) في (خ): إلا الله. (¬3) في (خ): لمن مات قبل، والمثبت من الطبري 8/ 302. (¬4) مروج الذهب 6/ 399 - 400، والتذكرة الحمدونية 9/ 323، ووفيات الأعيان 1/ 340، ومرآة الجنان 1/ 422. (¬5) البيتان لأبي حزرة الأعرابي أو لأبي نواس كما في مروج الذهب 6/ 403 - 404، ووفيات الأعيان 4/ 38، والوافي بالوفيات 24/ 39. وهما في البيان والتبيين 3/ 352 دون نسبة. (¬6) في مختصر تاريخ دمشق 6/ 105: في آل برمك للورى عظة ... لو كان يعمل فيهم الفكر (¬7) في (خ): وعزًّا، وفي مختصر تاريخ دمشق: حقًّا. (¬8) في (خ): غير.

وقال إِسحاقُ الموصلي: خرج هارونُ ليلةً فوقف على الجسر، وأَومأَ إلى جثَّة جعفرٍ وقال: [من المتقارب] تقاضاكَ دهرُك ما أَسْلَفا ... وكُدِّر عيشُك بعد الصَّفا فلا تَعْجَبَنَّ فإنَّ الزَّمانَ ... رَهينٌ بتفريق ما ألَّفا (¬1) قال إِسحاق: فلمَّا نظرتُ إلى جعفرٍ على تلك الحال، حرَّكتني أَياديه، فقلت: لَئن أصبحتَ للناس آية، لقد كنتَ في الجود الغاية. فغضب هارون، ونظر وهو كالجَمَل الصَّؤول وقال: [من السريع] ما يعْجَبُ العالمُ من جعفرٍ ... ما عايَنوه فبنا كانا مَن جعفر أومَن أبوه ومَن ... كانت بنو بَرْمكَ لولانا (¬2) وكان هارونُ إذا ذكر قولَ جعفرٍ: [من الخفيف] فاغتبِقْ واصطَبحْ فقد صانني اللهُ إذ صُنتَني من الحَدَثانِ (¬3) يقول: واللهِ ما صانه من الحَدَثان، ولقد كَمَنتُ له كُمونَ الأُفْعُوانِ في أُصول الرَّيحان، حتى إذا جاءه الشَّمُّ تلقَّاه بالسَّمّ. وقال سهلُ بن هارون: استصفى الرشيدُ أموال البرامكة، وأُحصيت فكانت ثلاثين ألفَ ألفٍ وستَّ مئة وستيِّن ألفًا، غيرَ الجواهرِ والمتاع والحُلي والثيابِ والدوابّ، وصار حَرمُهم يعيشون في صدقات مَن عاش في صدقاتهم. وقال أبو الفضلِ ميمونُ بن هارون: حَدثتني أميةُ البرمكيةُ قالت: الناسُ يُكثرون في قصَّة البرامكة، وأَوكد الأسبابِ فيما نالهم أنَّ جعفرَ بن يحيى اشترى جاريةً مغنيةً يقال لها فنفنة (¬4)، لم يكن لها في الدُّنيا نظيرٌ في الغناء وحُسنِ الخلق وسخاوةِ النَّفس، وكان ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 6/ 106. وقد نسبهما المرزباني في معجمه ص 355 لمحمد بن يحيى اليزيدي، ونقله عنه الصفدي في الوافي 5/ 183 - 184. ونسبهما الصولي في أشعار أولاد الخلفاء من كتاب الأوراق ص 84 لعبد الله بن موسى الهادي. (¬2) مختصر تاريخ دمشق، والبداية والنهاية 13/ 657. (¬3) غرر الخصائص الواضحة ص 4444 والوافي بالوفيات 11/ 164 باختلاف في الرواية. (¬4) في (خ): فتنة، وفي مطبوع المنتظم 9/ 130: فتينة، والمثبت موافق لنسخة الأصل منه، وللبداية والنهاية 13/ 645.

ابنُ جامعٍ إذا سمعها بكى ما دامت تغنِّي، وكان شراؤها على جعفرٍ مئةَ ألفِ دينار، فطلبها الرشيدُ منه، فلم يدفعْها إليه. فلم يكن إلا قليل حتى نزل بهم ما نزل، وأُخذت الجاريةُ في جملة مَن أُخذ وجمع الجواري العوامل. قالت أمية: ثم إنَّ الرشيد جلس لنا، فأُدخلنا عليه وبيد كلِّ واحدةٍ منَّا ما تعمل به، فأَقبلَ يأمر كلَّ واحدةٍ واحدةٍ فتغنِّي، حتى بلغ إلى فنفنة، فقال لها: غنِّي، فامتنعت وقالت: أمَّا بعد السادِة فلا، فقلنا لها ونحن نُرعَد من الخوف: ويحكِ غنِّي، فأسْبَلَتْ دَمعَها، فنظر هارونُ إلى أقبحِ مَن على رأسه -وهو الحارثُ بن سحر (¬1) - وقال: خذها فقد وهبتُها لك، فأخذ بيدها وأَقامها. فلما ولَّى الحارث، دعاه فأسرَّ إليه سرًّا ألا يَقربَها، عَلِمنا بعد ذلك، ومكثنا أيَّامًا، فاستحضرنا وقال للحارث: أين فلانة؟ فأَحضرها، وقال لها: غنِّي، قالت: أمَّا بعد السَّادة فلا. فأمر بإِحضار السيفِ والنِّطع، وقال للسيَّاف: إذا أشرتُ إليك فاقتلها، وقال لها: غنِّي، فبكت وقالت: أمَّا بعد السادةِ فلا، ولم يبقَ إلَّا أن يشيرَ إلى السياف، فقلنا لها: ويحك غنِّي، وناشدناها الله في نفسها، فأَخذت العودَ واندفعت تقول: [من المنسرح] لمَّا رأيتُ الدِّيارَ قد دَرَسَت ... أَيقنتُ أنَّ النَّعيمَ لم يَعُدِ قال: فوثب الرشيدُ قائمًا وأخذ العودَ من يدها، وأَقبل يضرب وجهها ورأسَها حتى تفتَت، وجرت الدِّماءُ على وجهها وثيابِها، وحُملت من بين يديه، فمكثت ثلاثًا ثم ماتت رحمها اللهُ تعالى. وقال محمَّد بن عبد الرَّحمن الهاشمي: دخلتُ على أمِّي في يومِ أَضحى وعندها امرأة بَرْزةٌ في أثوابٍ رَثَّة، فقالت لي: أَتعرف هذه؟ قلت: لا، قالت: هذه عُبادةُ أمُّ جعفرِ بن يحيى. فسلَّمتُ عليها ورحَّبت بها، وقلتُ لها: حدِّثيني ببعض أمرِكم، فقالت: أَذكر لك جملةً كافية [فيها] (¬2) اعتبار لمَن اعتبر، وموعظةٌ لمن فكَّر، لقد هجم على مثلُ هذا العيدِ وعلى رأسي أربعُ مئةِ وصيفةٍ، وأنا أَزعم أنَّ ابني جعفرًا لي عاقّ، وقد أتيتُكم اليومَ أسألكم جِلدَ شاتَين أجعل أَحدَهما شِعارًا والآخَر دِثارًا. ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، وفي المنتظم 9/ 130: بسيحر. (¬2) زيادة من مختصر تاريخ دمشق 6/ 105.

الفضيل بن عياض رحمة الله عليه

وكان جعفرٌ مُحْسِنًا إلى العلماءِ؛ مثلِ سفيانَ بن عيينةَ والفضيلِ بن عياضٍ والأصمعيّ، ولمَّا قُتل جعفر، بكى سفيانُ بن عيينةَ وقال: اللهمَّ كان قد كفاني مؤونةَ الدُّنيا فاكفِه مؤونةَ الآخرة. وقال العُتْبي: قال الرشيدُ بعد البرامكة: وَدِدتُ واللهِ أنِّي شوطرتُ عُمري، وغَرِمت نصفَ مُلكي؛ وأنِّي تركتُ البرامكةَ على أمرهم، لعن اللهُ مَن أغراني بهم؛ فإنِّي واللهِ ما وجدتُ راحةً بعدهم ولا رأيت خيرًا. وكان هارونُ قد ولَّى الفضلَ بن يحيى خراسان، ثم عزله بعليِّ بن عيسى بنِ ماهان، وكان عليٌّ زوجَ ابنةِ يحيى بنِ خالد، وكان عدوًا للفضل بنِ يحيى وإخوتِه، فجمع علي أموال خراسانَ واتَّخذ أكياسًا حُمرًا وصُفرًا وخُضرًا، وجعل في كلِّ كيسٍ ألفَ درهمٍ وأَلقاها في دار العامَّة، وخرج هارونُ فنظر إليها فأَعجبته، فقال ليحيى: يا أبي، أين كان أخي الفضلُ عن هذه الأموال؟ فقال له يحيى: إنَّ الفضل وفَّر هذه الأموال على أَربابها وأعطاهم أمواله زيادةً عليها ليتمسَّكوا بطاعتك، ويكونوا عُدَّةً لك على عدوِّك، وهذه أموالُ قومٍ قد ظلموا وعَدَوا، واللهِ لَتُنفقنَّ مكانَ كلِّ درهمٍ دينارًا، ثم لا يُغنيك ذلك حتى تباشرَ الأمرَ بنفسك، ولا يُغني ذلك. فلمَّا خرج رافعُ بن الليثِ على هارونَ بعدما نكب البرامكة، بعث إليه الجيوشَ ورافعٌ يهزمها، وأَنفق مكانَ كلِّ درهمٍ دنانيرَ ولم يُفِده ذلك شيئًا، حتى خرج بنفسِه إلى خراسان، فمات في تلك اللَّيلة، فكان يتأسَّف على البرامكةِ ويقول: لعن اللهُ مَن أَغراني بهم. الفُضَيل بن عِياضِ رحمةُ الله عليه أبو عليٍّ، التَّميميُّ، اليَربوعيّ (¬1). من الطبقة الخامسةِ من أهل مكَّة. وُلد بخراسان بكُورة أَبِيوَرْد، وقدم الكوفةَ وهو كبير، فسمع بها الحديثَ من منصور بنِ المعتمر وغيرِه، ثم انتقل إلى مكَّة، فأقام يتعبَّد بها إلى أن مات في أوَّل سنةِ سبعٍ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 8/ 61، طبقات الصوفية 6، حلية الأولياء 8/ 84، تاريخ دمشق 58/ 119، المنتظم 9/ 148، صفة الصفوة 2/ 237، مناقب الأبرار 1/ 41، تاريخ الإسلام 4/ 942، السير 8/ 421.

وثمانين ومئة. وكان ثقةً ثبتًا فاضلًا عابدًا وَرِعًا كثيرَ الحديث، وهو أحدُ العلماءِ الزهَّاد والفتيان. ويقال: إنَّه وُلد بسَمَزقَند، ورأيتُ (¬1) فيها عشرةَ آلافِ جَوزةٍ بدرهم. ويقال: نهرُ عياض منسوبٌ إلى أبيه عياضِ بن مسعودِ بن بِشر، وبينه وبين مَرْوَ نصفُ فَرْسَخ. وكان الفضيلُ شاطرًا يقطع الطريقَ بين أَبِيوَردَ وسَرخَس. ذِكر توبتِه: قال ابنُ خميس (¬2): كان يَهوَى جارية، فبينا هو ذاتَ ليلةٍ يرتقي إليها الجُدران، إذ سمع قارئًا يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] فقال: بلى قد آن. ورجع، فآواه الليلُ إلى خَرِبة، فإذا فيها رُفْقَةٌ يقولون: إنَّ أمامَكم رجلًا يقطع الطريقَ يقال له: الفُضيل، فسمع الفُضيل، فأُرعِد وقال: يا قوم، أنا الفُضيل، جُوزوا، وواللهِ لأَجهدنَّ ألا أعصيَ الله أبدًا. ورجع عمَّا كان عليه. وقيل: إنَّه سمع امرأةً تقول لابنها في القافلةِ وهو يبكي: اُسكت، لا يسمعك الفضيل، فقال: ويلي! وبلغ من أمري أنَّ النساءَ يعيِّرن أولادهنَّ بي. فتاب ونَسَكَ. ذِكرُ طَرَفٍ من أخبار الفضيل: قال إبراهيمُ بن الأَشعث: سمعت الفضيلَ ليلةً يقرأ سورةَ محمَّد، ويبكي ويردِّد هذه الآية: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31] ويقول: إنْ بلوتَ أخبارَنا فضحْتَنا وهتَكْتَ أستارَنا، إنْ بلوتَ أخبارَنا أهلكتنا وعذَّبتنا. وسمعته يقول: تزيَّنتَ للنالس وتصنَّعتَ لهم وتهيَّأت، ولم تزل تُرائي حتى عرفوك، فقالوا: رجلٌ صالح، فقضَوا لك الحوائج، ووسَّعوا لك المجالس، وعظَموك، سَوءةً لك ما أسوأَ حالك إنْ كان هذا شأنَك. وسمعته يقول: إنْ قدرتَ ألا تُعرفَ فافعل، وما عليك ألا تُعرف، وما عليك إنْ لم ¬

_ (¬1) القائل هو الفضيل. انظر طبقات السلمي ص 8، وتاريخ دمشق 58/ 125. (¬2) في مناقب الأبرار 1/ 41.

يُثنَ عليك، وما عليك أن تكونَ مَذمومًا عند الناسِ إذا كنت عند اللهِ محمودًا. وقال الفيضُ بن إِسحاق: سمعتُ الفضيلَ يقول: لو قيل لك: يا مُرائي، لغضبتَ وشقَّ عليك، وعساه قال حقًّا، تزيَّنتَ للدنيا من حبِّك لها، وتصنَّعتَ حتى عرفوك الناسُ فأَكرموك، وإنَّما عرفوك بالئه، ولولا ذلك لَهُنتَ عليهم، تَزَيَّنْتَ لهم بالصوف فلم ترهم يرفعون بك رأسًا، فتزيَّنت لهم بالقرآنِ فلم ترهم يرفعون بك رأسًا، فتزيَّنت بشيءٍ بعد شيءٍ، كلُّ ذلك إنَّما لحبِّ الدنيا. وقال منصورُ بن عمار: تكلّمتُ في المسجد الحرامِ فذكرتُ شيئًا من صفة النَّار، فصاح الفضيلُ بن عياضٍ ووقع مغشيًّا عليه. وكان الفضيلُ يقول: لو خُيِّرتُ بين أن أعيشَ كلبًا وأموتَ كلبًا لاخترتُه. وقال مِهران بن عمر (¬1) الأَسدي: سمعتُ الفضيلَ عشيةَ عرفةَ بالمَوْقف يقول وقد حال البكاءُ بينه وبين الدُّعاء: واسوأَتاه منكَ وإنْ عفوتَ أو غَفرتَ. وقال سعدُ بن زنبور (¬2): كنَّا على باب الفضيلِ بن عياضٍ، فاستأذنَّا عليه، فلم يؤذنْ لنا، فقيل لنا: إَّنه لا يخرج إليكم أو يسمعَ القرآن، وكان معنا رجلٌ مؤذِّن، وكان صبيًّا، فقلنا له: اقرأ، فقرأ: {ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} ورفع صوتَه، فأَشرف علينا الفضيلُ وقد بكى حتى بلَّ لحيتَه بدموعه، فقال: [من المتقارب] بلغتُ الثَّمانينَ أو جُزْتُها ... فماذا أُؤمِّل أو أَنتظر أَتَى في ثمانونَ من مولدي ... وبعدَ الثمانين ما يُنْتَظر عَلَتْني السِّنون فأبْلَينني ثم خنقته العَبْرة، وكان معنا عليُّ بن خَشْرَم، فأتمَّه لنا فقال: فرقَّتْ عظامي وكلَّ البَصرْ وأخذ الفضيلُ بيد سفيانَ بنِ عُيينةَ وقال: إنْ كنتَ تظنُّ أنَّه قد بقي على وجه الأرضِ شرّ مني ومنك، فبئس ما تظنّ. ¬

_ (¬1) في صفة الصفوة 2/ 239: عمرو. (¬2) في (خ): سعيد بن زهور، والمثبت من تاريخ دمشق 58/ 186، وصفة الصفوة 2/ 239.

وكان يقول: إني لأَعصي الله فأَعرف ذلك في خُلُق حماري وخادمي. ذِكرُ عبادته رحمةُ اللهِ عليه: كان يُلقَى له حَصيرٌ باللَّيل في مسجد، فيصلِّي ويغلبه النَّوم، فينام ساعة، ثم يقوم فيتوضَّا ويصلِّي، فيغلبه النّوم، فيتوضَّأ ويصلِّي، فلا يزال كذلك حتى يُصبح. وكان يختم القرآنَ في كل ليلة. ذِكر قصَته مع هارونَ الرشيد (¬1): قال الفضلُ بن الرَّبيع: حجَّ أميرُ المؤمنين، فأتاني، فخرجتُ إليه مُسْرعًا وقلت: يا أميرَ المؤمنين، لو أرسلتَ إليَّ لأَتيتُك، فقال: ويحَك يا عبَّاسي، قد دخل في نفسي شيءٌ لا يُخرجه من قلبي إلَّا عالمٌ بالله، فالتمسْ في رجلًا أسأله، فقلت: ها هنا سفيانُ بن عُيينة، فقال: امضِ بنا إليه، فأتيناه، فقرعتُ بابه، فقال: مَن ذا؟ قلت: أَجِب أميرَ المؤمنين، فخرج مُسْرعًا فقال: يا أميرَ المؤمنين، لو أرسلتَ إليَّ لأَتيتك، فقال له: خُذْ لِمَا جئناك له رحمك الله. فحدَّثه ساعةً ثم قال له: عليك دَين؟ قال: نعم، فقال لي: يا عباسيُّ اقضِ دَينَه. فلمَّا خرجنا قال: ما أَغنى عني صاحبُك شيئًا، ولم يُزِل عن قلبي مما حلَّ فيه قليلًا ولا كثيرًا، فانظر لي رجلًا أسألُه، فقلت: هاهنا الفضيلُ بن عياض، فقال: امضِ بنا إليه، فأتيناه فإذا به قائمٌ يصلَي في غرفةٍ له، يتلو آيةً من كتاب اللهِ يردِّدها ويبكي، فقرعتُ الباب، فقال: مَن هذا؟ قلت: أَجِب أميرَ المؤمنين؟ ! فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ ! فقلت: سبحان الله! أَمَا عليك طاعة؟ ! فنزل ففتح الباب، ثمَّ ارتقَى إلى الغرفة فأَطفأَ المصباح، ثم التجأَ إلى زاوبةٍ من زوايا الببت، فدخلنا، فجعلنا نجولُ عليه بأيدينا، فسبَقَتْ يدُ هارونَ إليه قبل كفِّي، فقال: ما أَلينَها من كفٍّ إنْ نجت غدًا من عذابِ الله! فقلتُ في نفسي: لَيكلِّمنَّه الليلةَ بكلامٍ نقيٍّ من قلبٍ نقيّ. فقال له: خذ لِمَا جئناك له يرحمك الله، فقال الفضيل: إنَّ عمر بنَ عبدِ العزيز لمَّا ولي الخلافةَ، دعا سالمَ بن عبدِ الله بن عمرَ ومحمَّد بن كعب القُرَظيَّ ورَجاءَ بن حَيوةَ ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 8/ 105، وتاريخ دمشق 58/ 173، والمنتظم 9/ 149، وصفة الصفوة 2/ 242.

فقال لهم: إنِّي ابتُليت بهذا البلاءِ فأَشيروا عليّ، فعدَّ الخلافةَ بلاءً، وعَدَدتَها أنت وأصحابُك نعمة، فقال له سالم: إنْ أردتَ النجاةَ من عذاب الله، فليكن كبيرُ المسلمين عندك أبًا وأوسطُهم أخًا وأصغرهم ولدًا، فوقِّر أباك وأَكرِم أخاك وتحنَّن على ولدك (¬1)، وقال له رجاء: إنْ أردتَ النجاةَ من عذاب الله، فأحبَّ للمسلمين ما تحبُّ لنفسك، ثم مُتْ إذا شئت، وإنِّي أخاف عليك أشدَّ الخوفِ يومًا تَزِلُّ فيه الأقدام، فهل معك رحمك اللهُ ممَّن يشير عليك بمثلِ هذا (¬2)؟ فبكى هارونُ بكاءً شديدًا حتى غُشي عليه. قال الفضل: فقلت: يا أبا عليّ، اُرفُق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابنَ الربيع، تقتلُه أنت وأصحابُك وأَرفُقُ به أنا؟ ثمَّ أفاق وقال له: زِدني رحمك الله، فقال: بلغني أنَّ عاملًا لعمرَ بنِ عبد العزيزِ شكي إليه منه، فكتب إليه عمرُ يقول: أمَّا بعد، فإني أذكِّرك طولَ سهرِ أهل النارِ مع خلودِ الأبد، وإيَّاك أن يُنصرفَ بك غدًا من بين يدي اللهِ تعالى، فيكون آخرَ العهدِ وانقطاعَ الرجاء، والسلام. فلمَّا قرأ عاملُه الكتابه، طوى البلادَ حتى قدم على عُمر، فقال له: ما الذي أَقدمك؟ فقال: خلعتَ قلبي بكتابك، لا عُدتُ إلى ولايةٍ حتى ألقَى الله تعالى. فبكى هارونُ بكاءً شديدًا ثم قال: زدني رحمك الله، فقال: إنَّ العباسَ عمَّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سأل رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أمِّرني على إِمارة، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "إنَّ الإمارةَ حَسْرةٌ ونَدامةٌ يومَ القيامة، فإن استطعتَ ألا تكونَ أميرًا فافعل" (¬3). فبكى هارونُ بكاءً شديدًا، ثم قال: زدني، فقال: يا حسنَ الوجه، أنت الذي يسألك اللهُ غدًا عن هذا الخَلقِ يومَ القيامة، فإن استطعتَ أن تقيَ هذا الوجه من النار فافعل، وإيَّاك أن تُمسيَ وتصبحَ وفي قلبك غشٌّ لأحدٍ من رعيَّتك؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أصبح لهم غاشًّا لم يَرَحْ رائحةَ الجنة" (¬4). فبكى هارونُ وقال له: زدني، فقال: لو سألتَ جميع مَن معك أن يحملوا ¬

_ (¬1) في المصادر أن هذا كلام محمد بن كعب، وقد جعله المصنف من كلام سالم؟ ! (¬2) في (خ): بمثل هارون، والتصويب من المصادر. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (33211) والبيهقي 10/ 96 عن محمَّد بن المنكدر مرسلًا بلفظ: "يا عباس، يا عم رسول الله، نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها" وأخرجه البيهقي أيضًا موصولًا عن ابن المنكدر عن جابر - رضي الله عنه -، وصحح المرسل. (¬4) أخرجه البخاري (7150) و (7151) ومسلم (142) من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه -.

عنك خطيئة من خطاياك لم يفعلوا، وإنَّ أشدَّهم لك حبًّا أشدُّهم منك هربًا، فقال له: زدني، فقال: إنَّ في حكمة آلِ داودَ - عليه السلام -: وعلى العاقل ألا يغفُلَ عن ثلاثِ ساعات: ساعة يُناجي فيها ربَّه، وساعة يُحاسب فيها نفسَه، وسماعة يخلو فيها بإخوانه الذين يَصدقونه فيها عن عيوبه. فقال له: هل عليك دَيْن؟ قال: نعم، لربِّي لم يحاسبني عليه، فالويلُ لي إنْ سألني، والويلُ لي إنْ ناقشني، والويلُ لي إن لم أُلهم حجَّتي، فقال هارون: إنَّما أَعني دَينَ العباد، فقال: إنَّ ربّي لم يأمرني بهذا، وأمرني أن أوحِّدَه وأُطيعَ أمره، فقال عزَّ وجلّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] فقال: هذه ألفُ دينار، خذها فأَنفِقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادتك، فقال: سبحانَ الله! أنا أدلُّك على طريق النَّجاةِ وأنت تُقابلُني بمثلِ هذا، سلَّمك الله ووفَقك. ثم صمت ولم يكلِّمنا، وخرجنا من عنده، فلمَّا صرنا على البابِ قال هارون: يا عبَّاسي، إذا دللتَني على رجلٍ فدلَّني على مثلِ هذا، هذا سيّد المسلمين. قال: فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: يا أبا عليّ، قد ترى ما نحن فيه من ضيقِ الحال، فلو قبلتَ عطيةَ هذا المال فتفرِّجنا به، فقال: مَثَلي ومثلُكم كمثل قومٍ لهم بعيرٌ يأكلون من كَسْبه، فلمَّا كبر نحروه وأَكلوا لحمَه. فلما سمع هارونُ هذا قال: ندخل فعسى أن يقبلَ المال، فدخل، وخرج الفضيلُ فجلس في السَّطح على باب الغرفة، وجاء هارونُ فجلس إلى جنبه، وجعل يكلِّمه وهو لا يُجيبه، فبينما نحن كذلك، إذ خرتجا جارية سوداءُ فقالت: يا هذا، قد آَذيتَ الشيخَ منذ الليلةِ فانصرف، قال: فانصرفنا. وقال سفيانُ بن عُيينة: حجَّ هارونُ فقال لي: أريد أن أَلقَى الفضيلَ لعل الله أن يُحدِثَ في عظةً أنتفعُ بها، فقلت: واللهِ إن ذلك لَحبيب إليّ، ولكنه رجل قد أخذ نفسَه بخدمة الله، فما لأحدٍ فيه حظّ، وأكرهُ أن تراه مشغولًا بنفسه فتتوهَّمَ فيه جفاء، وواللهِ إنه الرجلُ الكريمُ العِشرةِ الحسنُ الخلُق، فقال: واللهِ ما عزمتُ على لقائه حتى وطَّنت نفسي على احتمال أخلاقِه، ويحك يا سفيان، إنَّ شرفَ التقوى شرفٌ لا يُزاحَم عليه بإمرةٍ ولا خلافة.

قال سفيان: فأتينا الفُضيل، فأَبلغته ما قال، فقال: إنَّه يُحسن العقلَ لولا ما مُني نه من فتنة هذه العاجلة، وإني لَيسرُّني أن ألقاه ويسوءُني أيضًا، أمَّا ما يسرني من لقائه؛ فلِمَا أرجو أن يكونَ فيه بعض [فائدة] (¬1) كنجاته عن غَيِّه، وأمَّا ما يسوءُني، فإنِّي لم أرَ مثلَه يرفلُ في سوابغ النعم وهو عُريان من الشُّكر، ثم قطَّب بين عينيه وقال: وما قَدرُ مَن كان عاصيًا لله حتى أراه، لا حاجةَ لي في لقائه. قال: فلم أزل أَرفُق به حتى أَذِن، فأخبرتُ هارون، فجاءَ ومعه مسرور، فدخلنا ووقف مسرور بالباب، وسلَّم هارون، فوجد منه رائحةَ المسك، فقال: اللهمَّ إنَي أسألك رائحةَ الخلدِ التي أَعددتَها لأوليائك المتَّقين في جنَّات النَّعيم، ثم تَبادَرَت دموعُه على لحيته وهارونُ واقف، فقلت: يا أبا عليّ، هذا أميرُ المؤمنين واقفٌ يسلِّم عليك، فرفع رأسَه وقال: وإنَّك لَهُوَ يا حسنَ الوجه؟ قال: نعم، قال: اِعلم أنَّ الأحكامَ قد سُلبت فضيلةَ العدل، وظهر في المِلَّة عدوان الأميرين، والكلُّ في صحيفتك يُدْرَج معك في كَفَنك إلى يوم النّشور. ثم نهض واستقبل القِبلةَ وقال: اللهُ أَكبر، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، أمَّا إذا دخل في الصَّلاة، فليس فيه لأحدٍ مَطْمَع. وخرجنا، فقال لي هارون: لولا خَجَلي منك لقبَّلتُ ما بين عينَيه، فقلت: لَوددت واللهِ أنَّك فعلت ذلك. وقيل: إنَّ هارونَ لمَّا دخل على الفضيل، قال لابن عُيينة: مَن هذا؟ قال: هو من بني هاشم، وكان ابنُ عيينةَ قد قال لهارون: إنْ علم بك لم يأذنْ لك في الدُّخول عليه، فلمَّا وجد منه رائحةَ الطِّيب عرفه، ثم قال الفضيل: حدَّثني عُبيدٌ المُكْتِب عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، قال: هي القراباتُ والمَودَّات التي كانت بينهم في الدّنيا، فبكى هارون. ولمَّا امتنع الفضيلُ من قَبول المال، قال له هارون: يا أبا عليّ، ما أَزهدك! قال: أعرف مَن هو أزهدُ مني، قال: ومَن هو؟ قال: أنت، قال: ولِم؟ قال: لأنِّي أنا زهدتُ في دنيا فانية، وأنت زهدتَ في الأُخرى الباقية. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق، وانظر مناقب الأبرار 1/ 47.

ذِكر نُبذةٍ من كلامه - رضي الله عنه -: كان يقول: لو عُرِضت عليَّ الدُّنيا بحَذافيرها على ألا أُحاسَبَ عليها، لَتقذَّرتُها كما يتقذَّر أحدُكم الجيفةَ إذا مرَّ بها أن تصيب ثوبَه. وقال: لو حلفتُ أنِّي مُراءٍ أحبُّ إليَّ من أن أحلفَ أنِّي لست بمراء. وقال: تركُ العملِ لأجل الناسِ هو الرّياء، والعملُ لأجلهم هو الشِّرك. وقال: مَن جلس مع صاحبِ بِدعة، لم يؤتَ الحكمة. وقال: أحقُّ الناس بالرِّضا عن الله أهلُ المعرفةِ به. وقال: لا ينبغي لحامل القرآنِ أن يكونَ له حاجةٌ إلى أحدٍ من الناس؛ الخلفاءِ فَمن دونَهم، بل ينبغي أن تكونَ حوائجُ الناسِ كلّهم إليه. وقال: ما أدرك عندنا مَن أدرك بكثرة صلاةٍ ولا بصيام، ولكن بسخاء النَّفْس، وسلامةِ الصدر والنُّصح للأمَّة. وقال: مَن عرف الناسَ استراح. وقال: أَشتهي مرضًا بلا عُوَّاد. وقال: تباعَدْ من الناس، فإنَّهم إن أحبُّوك مدحوك بما ليس فيك، وإنْ مقتوك شهدوا عليك بما ليس عندك. وقال: مَن كان بطاعته من اللهِ قريبًا، كان بين الخلقِ غريبًا، ومَن كان لنفسه في صحَّته طبيبًا، كان في مرضه لطبيب الأطبَّاءِ حبيبًا. وقال: جعل الله الشرَّ كلَّه في بيت، وجعل مفتاحهَ حبَّ الدنيا؛ وجعل الخيرَ كلَّه في بيت، وجعل مفتاحَه الزُّهدَ في الدنيا، لأنَّ الراضي لا يتمنَّى فوق منزلتِه منزلة، والزاهد أخير. وقال: الفُتوَّة: الصَّفحُ عن عَثَرات الإِخوان. وقال: إذا أراد اللهُ أن يُتحفَ عبدًا، سلَّط عليه مَن يَظلمه. وقال: لو أنَّ العبدَ أحسن كلَّ الإحسانِ وعنده دجاجةٌ لم يُحسن إليها، لم يُكتَب من المحسنين.

وقال: لَأَن يصحبَني فاجرٌ حسن الخُلقِ أحبُّ إليَ من أن يصحبَني عابدٌ سيِّئُ الخلق. وقال: ليست الدُّنيا دارَ إقامة، وإنَّما أُهبط آدمُ إليها عقوبةً له، أَلَا ترى إلى ما جرى عليه وعلى ذرِّيته إلى يوم القيامة، تارةً بالعُري، وتارةً بالجوع، وتارة بالحاجة إلى الناس، فاللهُ سبحانه مرمرها عليهم، وجعلها دارَ نَصَب، واللهُ سيصنع بذرِّية آدمَ ما يشاء، كما تصنع الوالدةُ بولدها، تارةً تَسقيه صَبِرًا (¬1)، وتارةً دواءً غير مُرّ، وإنَّما تريد بذلك ما هو الأنفعُ له. وقال: مَن استحوذت عليه الشَّهوات، انقطعت عنه موادُّ التوفيق. وجلس إليه رجل، فقال: ما الذي أَجلسك إليّ؟ قال: رأيتُك وحدك فجئت لأُؤانسَك، فقال له الفضيل: أنا منذ أربعين سنةً أَستأنس بالوحدة، فإمَّا أن تقومَ عني أو أقومَ عنك، فقال له الرجل: أَوصِني، فقال: أَخفِ مكانَك واحفظ لسانَك. وقيل له: ما لنا لا نرى خائفًا؟ ! فقال للسَّائل: لو كنتَ خائفًا لرأيتَ الخائفين، إنَّ الثَّكلى هي التي تحبُّ أن ترى الثَّكالى. وقال أبو العباسِ خادمُه: احتبس بولُ الفضيل، فرفع يديه وقال: بحبِّي لك إلَّا أَطلقتَه عني، فما بَرِحنا حتى شُفي. وقال الفضيل: أَقمتُ ثلاثًا لم أَطْعَم، فدخلتُ مسجدًا من مساجدِ الكوفة، فإذا مجنونٌ قد دخل وفي عنقه سلسلةٌ وبيده حَجَرٌ، فقصدني، فخفتُ منه، فقال: [من الطويل] محلُّ بيانِ الصَّبر منك غريزةٌ (¬2) ... فيا ليت شِعري هل لصَبْرك من أَجرِ قال: فقلت: لولا الرجاءُ لم أصبر، فقال: أين محُّل الصبرِ ومستقرُّ الرجاءِ منك؟ فقلت: موضعُ مستقرِّ همومِ العارفين، فصاحَ وقال: صدقت، ثم قال: أَلَا تسألني عن حالي؟ قلت: بلى، فقال: عرفتُه فاستأنستُ به، وأحببته فارتحلتُ إليه، ثم قال: أَمَا ¬

_ (¬1) الصبر: الدواء المر، وانظر أقواله في مناقب الأبرار 1/ 42 - 45. (¬2) في (خ) ومناقب الأبرار 1/ 48: عزيزة، وفي طبقات الأولياء لابن الملقن ص 269: عزيز، والمثبت من تاريخ دمشق 58/ 136.

علمتَ أنَّ لله عبادًا قطعهم الجَزَعُ عن كَلَف الأَلسُن، فكَلَّت من غير عِيٍّ عن مجالس الوصفِ خوفًا من العقاب، وإنَّ حاجةَ أحدِهم لَتتردَّد في صدره لا يذكرها مخافةَ شرِّ نفسِه، فأصبحوا في الدُّنيا محزونين، وإلى حبيبهم مشتاقين، عقولٌ صحيحة، وأَلسُنٌ ذاكرة، وقلوبٌ بالحبيب متعلِّقة، وأرواحٌ في المَلَكوت الأعلى سارحة، ثم ولَّى وهو يقول: [من البسيط] أَحسنتَ ظنَّك بالأيَّام إذ حَسُنت ... ولم تَخَف شرَّ ما يأتي به الحَذَرُ (¬1) وسالمَتْكَ الليالي فاغتَررتَ بها ... وعند صفو الليالي يحدُث الكَدَرُ وقال الفضيل: رأيتُ شابًّا بعرفةَ والناسُ يبكون ويتضرَّعون وهو ساكت، فقلت له: أهذا مَوضعُ السكوت؟ ! فقال: يا شيخ، وَحْشَة، فقلت: هذا موضعُ العفو عن الذُّنوب، فبسط يَده ووقع ميِّتًا. ومات لبعض العلماءِ ولد، فعزَّاه الناس، فلم يقبل عزاءً، فجاءه الفضيلُ فقال له: ما تقول في رجلٍ كان له ولدٌ محبوسٌ فأُخرج من السجن، أَيفرح أبوه (¬2) أم يحزن؟ قال: بل يفرح، قال: فإنَّ ولدَك كان محبوسَّا، وقد أُخرج من السِّجن، وأنت محبوس، فقال: الرجل: تعزَّيتُ واللهِ يا أبا عليّ. ذِكرُ وفْاتِه رحمه الله: مات في أوَّل سنةِ سبعٍ وثمانين ومئة. وقيل: سنةَ ثمان وثمانين (¬3). وقال سفيانُ بن عُيينة: اليومَ مات الحُزنُ من الأرض، ودفن بالمعلَّى، وقبرُه ظاهرٌ يزار. أسند عن جماعةٍ من التابعين، منهم سفيانُ الثوريُّ، وابن عُيينةَ، والإِمام الشافعيُّ، وبِشْرٌ الحافي، وغيرُهم (¬4). ¬

_ (¬1) في مناقب الأبرار وطبقات الأولياء: سوء ما يأتي به القدر. والقصة في تاريخ دمشق، إلا أنه روى بيتين آخرين هنا. (¬2) في (خ): أباه. (¬3) لم أقف على هذا القول، وانظر تاريخ دمشق 58/ 188، والوافي بالوفيات 24/ 80. (¬4) هؤلاء ليسوا بتابعين، وليسوا من شيوخه، بل هم رواة عنه، إلا سفيان الثوري فقد روى عنه وهو من شيوخه، وانظر تهذيب الكمال (5352)، ومصادر ترجمته.

وقال ابنُ المباركْ: رأيتُ أعبدَ الناس وأَورعَ الناس، وأعلمَ الناس، وأَفقهَ الناس، أمَّا أعبدُ الناس فعبدُ العزيز بنُ أبي روَّاد، وأما أورعُ الناس فالفضيلُ بن عياض، وأمَّا أعلم الناس فسفيانُ الثوري، وأما أفقهُ الناسِ فأبو حنيفة. وكان سفيانُ بن عيينةَ يقبِّل يدَ الفضيلِ بن عياض. واتَّفقوا على صِدقه وثقتِه وأَمانته وزَهادته وعبادته. وقال محمَّد بن حسَّان: شهدتُ الفضيلَ بن عياضٍ وقد جلس إليه سفيانُ بن عُيينة، فتكلَّم الفضيل فقال: كنتم معاشرَ العلماءِ سُرُجَ البلادِ يُستضاء بكم، فصرتم ظُلمة، وكنتم نجومًا يُهتدَى بكم فصرتم حَيرة، ثم لا يستحي أحدُكم أن يأخذَ مال هؤلاء الظَّلمةِ ثم يُسندَ ظهرَه ويقول: حدَّثني فلانٌ عن فلان، فقال سفيان: هاه هاه، واللهِ لَئن كنا لسنا بصالحين فإنَّا نحبُّهم. ثم طلب منه سفيانُ الحديث، فأملى عليه ثلاثين حديثًا. وكان للفضيل من الولد عليّ، اشتهر بالزُّهد ومات في حياةِ أبيه. ومحمَّد، وعمر، وأبو عبيدةَ بنُ الفضيل، كوفيٌّ سكن مكَّة وقدم مصرَ وحدَّث بها، ورجع إلى مكَّة فتوفِّي بها في صَفَرٍ سنةَ ستٍّ وثلاثين ومئتين، رحمةُ اللهِ عليه ونفعنا به في الدُّنيا والآخرة.

السنة الثامنة والثمانون بعد المئة

السنة الثامنة والثمانونَ بعد المئة فيها أغزى الرشيدُ إبراهيمَ بن جبريلَ الصائفة، فدخل الدَّربَ من ناحية الصَّفْصاف، وخرج إلى لقائه نقفورُ على قوم، فورد على نقفورَ من ورائه أمرٌ صرفه عن لقاءِ إبراهيم، ومرَّ نقفور على قومٍ من المسلمين فقاتلوه، فجُرح ثلاثَ جراحاتٍ وانهزم، وقُتل من الرُّوم -على ما قيل- أربعون ألفًا وسبعُ مئةِ رجل، وأَخذ المسلمون منهم أربعةَ آلافِ دابَّة. ورابط القاسمُ بن هارونَ بدابِق. وقال أبو الشِّيص: [من الطويل] شددتَ أميرَ المؤمنين عُرَى المُلكِ ... صَدعتَ بفتح الرومِ أفئدةَ التُّركِ قريْتَ بسيف (¬1) اللهِ هامَ عدوِّه ... وطأطأتَ بالإِسلام ناصيةَ الشِّرك فأصبحتَ مسرورًا ولا زلتَ (1) ضاحكًا ... وأصبح نقفورٌ على مُلكه يبكي وفيها حجَّ الرشيدُ بالناس، وهي آخر حجَّةٍ حجَّها، وكان الفضيلُ بن عياضٍ قال له: استكثِر من زيارة هذا البيت، فإنَّه لا يحجُّه خليفةٌ بعدك. وقال أبو بكر بن عياش: لمَّا مرَّ عليه الرشيد بالكوفة مُنْصَرفًا من الحجِّ قال: لا يحجُّ الرشيدُ بعد هذه الحجَّة، ولا يحجُّ بعده خليفةٌ أبدًا، نجد ذلك في بعض الكتبِ القديمة. وفي هذه وعظه بهلول؛ قال الفضلُ بن الرَّبيع: حججتُ مع هارون، فمرَّ بالكوفة، فإذا بهلولٌ المجنون يَهذي، فقلت: اُسكت فقد أقبل أميرُ المؤمنين، فسكت، فلمَّا حاذاه الهوْدَجُ قال: يا أميرَ المؤمنين، حدَّثني أَيمن بنُ نابل، حدثنا قدامةُ بن عبدِ الله العامريِّ قال: رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -[بِمنَى] (¬2) على جملٍ وتحته رَحْلٌ رثّ، ولم يكن ثَمَّ طَردٌ ولا ضَربٌ، ولا إليك إليك. قال الفضل: فقلت: يا أميرَ المؤمنين، إنَّه بهلول المجنون، فقال: قد عرفتُه، قل يا بهلول، فقال: يا أميرَ المؤمنين ¬

_ (¬1) في المنتظم 9/ 154: ولا تَعيَ، وتصحفت في تاريخ بغداد 3/ 395 إلى: ولا يغى. (¬2) زيادة من تاريخ دمشق 2/ 195 (مخطوط)، والمنتظم 9/ 155، والبداية والنهاية 13/ 665.

أبو إسحاق إبراهيم بن محمد

هبَ انَّك قد ملكتَ [الأرض] (¬1) طُرًّا ... ودان لك العبادُ فكان ماذا أليس غدًا مصيرُك جوفَ قبرٍ ... ويحثو التُّربَ (¬2) هذا ثم هذا فقال: أَجدتَ يا بهلول، أَفغيره؟ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين، مَن رزقه اللهُ جَمالًا ومالا وسلطانًا، فعفَّ في جماله، وواسى في ماله، وعدل في سلطانه، كُتب في ديوان المقرَّبين الأَبرار. فظنَّ الرشيدُ أنَّه يريد شيئًا فقال: قد أمرنا بقضاءِ دَينك، فقال: لا تفعلْ يا أميرَ المؤمنين، لا يُقضَ دَين بدَين؛ فإنَّ الذي أعطاك لا ينساني، أَجرى عليَّ الذي أَجرى عليك، لا حاجةَ لي في جرايتك. ثم ولَّى وهو يقول: اُردد الحق إلى أهله واقضِ دَينَ نفسك، ثم قال: توكَّلت على الله، وما أَرجو سوى الله، وما الرِّزقُ من الناس، بل الرِّزقُ من الله. فصل وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيمُ بن محمد ابن الحارث بن أسماءَ بن خارجةَ بن حِصْنِ بن حُذَيفةَ بن بدرٍ الفَزاري (¬3). كان عالمًا، صاحب سنَّة وغَزْو، عظيمَ الشأن، صاحبَ حالٍ ولسان، وآياتٍ وكرامات وغزوات، ثقةً فاضلًا. وقال الفضيلُ بن عياض: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وإلى جانبه فُرجَة، فذهبتُ لأجلسَ فيها، فقال: هذا مجلسُ أبي إسحاقَ الفَزاري. وكان الفضيلُ يقول: إنِّي لأَشتاق إلى المِصِّيصة، وما بي فضلُ الغزو ولا الرِّباط، ولكن لأرى أبا إسحاقَ الفَزاري. وكان إبراهيمُ بن أدهمَ وسفيانُ الثوريُّ وابنُ المبارك وغيرُهم يسافرون إلى المِصِّيصة لأجل زيارته، وكان يقول: إنَّ من الناس مَن يحسُن الثناءُ عليه وما يساوي عند اللهِ جناح بعوضة. ¬

_ (¬1) زيادة من المصادر. (¬2) في (خ): التراب. وهو خطأ. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 494، وتاريخ دمشق 2/ 498 (مخطوطة دار البشير)، والمنتظم 9/ 156، والسير 8/ 539، وتاريخ الإسلام 4/ 798.

أبو إسحاق إبراهيم بن ماهان

وتوفَّي بالمَصِّيصة في هذه السَّنة. وقيل: في سنة خمسٍ وثمانين ومئة. فلمَّا خرجوا بجنازته، خرج اليهودُ والنَّصاوى وراء جنازته يَحثُون الترابَ على رؤوسهم ويصرخون ممَّا نالهم عليه. أَسند عن الأعمش وهشام وغيرِهما، وروى عنه الثوريّ وغيره. وروى الأوزاعيُّ حديثًا، فقيل له: من حدَّثك بهذا؟ فقال: الصادقُ المَصدوقُ أبو إسحاق الفَزاري. وقال إسماعيلُ بن إبراهيم: أخذ هارونُ زنديقًا ليقتلَه، فقال له: لِمَ تقتلني؟ فقال لأُريحَ العبادَ منك، فقال له: فأين أنت من ألف حديثٍ وضعتُها على نبيِّك؟ فقال له: أين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاقَ الفَزاريّ وابن المبارك؟ فإنهما يتصفَّحانها فيُخرجانها حرفًا حرفًا. واتفق العلماءُ على صِدقه وثقتِه وأمانته وفضلِه وزَهادته. أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن ماهانَ ابن بَهْمَنَ الأرَجاني، المعروفُ بالمَوْصِلي، ويعرف بالنَّديم (¬1). أصلُه من الفرس، وهو مولى الحَنْظَليِّين، وإنَّما سمِّي الموصليَّ لأن أباه سافر بأمِّه من أرَّجانَ وهي حاملٌ به في سنة خمس وعشرين ومئة، فقدم الكوفة، فوَلَدته، فنشأ بها، وطلب صنعةَ الغِناء، فبرع فيها بالعربية والعجميَّة، وسافر إلى الموصلِ في طلب الغِناء، ثم عاد إلى الكوفة، فقال له أخوالهُ: مرحبًا بالفتى المَوصليّ. وكان فاضلًا أديبًا شاعرًا، وبرع في فنِّه. وصحب الخلفاءَ والملوك، واكتسب مالًا عظيمًا، فيقال: إنَّه وُجد له لمَّا مات من المال أربعةٌ وعشرون ألفَ ألفِ درهم. ولمَّا مرض مَرَضَ الموتِ قال: [من مجزوء الرمل] مَلَّ والله طبيبي ... من مقاساةِ الذكر بي سوف أُنعَى عن قريب ... لعدوٍّ وحبيب ومات في هذه السَّنة. وقيل: في سنة ثلاثَ عشرةَ ومئتين. ¬

_ (¬1) الأغاني 5/ 253، وتاريخ بغداد 7/ 116، والمنتظم 9/ 158، والسير 9/ 79، وتاريخ الإسلام 4/ 802، والبداية والنهاية 13/ 667.

السنة التاسعة والثمانون بعد المئة

السَّنة التاسعةُ والثمانونَ بعد المئة فيها توجَّه الرشيدُ إلى الرَّيِّ بسبب علي بن عيسى بنِ ماهان، وكان الرشيدُ قد استشار يحيى بنَ خالدٍ في توليته خُراسان، فأشار ألا يفعل، فخالفه وولاه، فعَسَف الناسَ، وظَلَم وفتَك، وجمع أموالًا عظيمةً وبعث بها إلى هارون، وكان فيها الخيلُ العِتاقُ والرَّقيق والطِّيب والمَتاع، فلم يُرَ هدية أعظم منها، فعُرضت على هارونَ فاستعظمها، وكان يحيى جالسًا عنده، فقال: هذا الذي أشرتَ ألا نولِّيَه، فقال له يحيى: ما أَحسنَ هذا لو لم يكن وراءَه ما تكره، قال: وما هو؟ قال: إنَّ هذه الهدايا ما اجتمعت له حتى ظلم الناسَ، وأخذ أموال الأشرافِ وغيرِهم، وأنا قادرٌ أن أجمعَ لك في هذه الساعةِ من الأموال أكثرَ من هذا، عند فلانٍ سَفَطٌ فيه جوهرٌ يساوي سبعةَ آلافِ ألف، خذه ولا تعطِه شيئًا، وعند فلانٍ كذا وكذا، وعدَّد أشياء، قال: وسترى غِبَّ هذا. وعاث عليُّ بن عيسى بخُراسان، واستخفَّ بأشرافهم وأخذ أموالهم، فكتب إلى الرَّشيد وجوهُ خُراسانَ يشكون سوءَ عِشرته، ورداءةَ مذهبه، ويسألونه الاستبدال به، فاستشار يحيى بنَ خالدٍ مَن يوليه خراسان، فأشار عليه بيزيد بن مَزْيَد، فلم يقبل مشورتَه. وقيل للرَّشيد: إنَّ عليَّ بن عيسى على عزمِ الخلاف، فسار يُريد الرَّي، وعسكر بالنَّهْرَوَان ومعه ابناه المأمونُ والقاسم، ولمَّا وصل إلى قَرمِيسِين استدعى القُضاةَ والشُّهود، وأَشهدهم أنَّ جميعَ ما في عسكره من الأموال والسلاحِ والكُراع وغيرِه لعبد الله المأمون، وبعث هَرْثَمَةَ بن أَعيَن إلى بغداد، فجدَّد البَيعةَ على الأمين لأخيه المأمونِ والقاسمِ بعده على ما تقرَّر بمكَة. وسار الرشيدُ فنزل الرَّي، فأَقام أربعةَ أشهر، حتى قدم عليه ابنُ ماهانَ بالأموال والطُّرَف، والتُّحَف، والهدايا، والجواهرِ وأواني الذهبِ والفضَّة، والخيلِ والسلاح، وغيرِ ذلك، وأَهدى إلى جميع مَن كان معه من ولده، وأهلِ بيته، وكتَّابه، وخدَّامه،

وقوَّاده على قَدْر طبقاتهم، فرضي عنه هارون، وظنَّ به غيرَ ما كان يظنُّ ممَّا نْقل إليه عنه، فأعاده إلى خراسانَ واليًا، وخرج معه فشيَّعه. وقدم عليه خُزَيمةُ بن خازم -وقيل: سعيد الحَرَشِي- بأربع مئةِ رجلٍ من الكفَّار من أهل طَبرستان، فأسلموا على يد هارون. وولَّى الرشيد وهو بالرَّي عبد الله بنَ مالك طبرستان والرَّيَّ ودُنْباونْد وقُومس وهمَذَان، وولَّى عيسى بنَ جعفرِ بن سليمانَ عُمان، فغزا في البحر، ففتح حصونَ الكفار. وقيل: إئَّه قطع البحرَ من ناحية جزيرةِ ابنِ كاوان (¬1)، ففتح حصنًا وحاصر آخَر، وعقل عن نفسه وما احترز، فهجم عليه ابنُ مَخلَد الأزديُّ وهو غارّ، فأسره وحمله إلى عُمان. حديث نَخْلَتَي حُلْوان: قال إِسحاق بن إِبراهيمَ المَوْصِليّ: لمَا خرج هارونُ إلى خراسان في سنة تسعٍ وثمانين ومئة، وهي أوَّل خرجاتِه إليها، نزل بحُلْوان، ومرض بطرح الدَّم، وكان على عَقَبة حُلوانَ نخلتان من أَحسن النخيل، فوصف له الأطباءُ الجُمَّار (¬2)، فقطعوا إِحداهما، وكانتا توأمَتَين، وأَطعموه من جُمَّارها، فبرئ، فلمَّا عاد من الرَّي، مرَّ على التي لم تقْطَع، فوجد عليها مكتوبًا وهي قائمة وحدها: [من الخفيف] أَسعِداني يا نخلَتَي حُلْوانِ ... وفِيَا لي إن كنتما تَفِيَانِ (¬3) أسعِداني وأَيقِنا أنَّ نَحْسًا ... سوف يأتيكما فتَفْترقانِ فبكى الرشيدُ وقال: واللهِ لو علمتُ أنِّي نَخسُهما لَمَا قطعتُهما ولو مُتُّ. والشِّعر لمطيعِ بن إياسٍ في جاريةٍ فارَقَها، وهو: قال: أسعداني يا نخلتَي حُلْوانِ ... وابكيا لي من ريبِ هذا الزمانِ أَسعِداني وأَيقِنا أنَّ نحسًا ... سوف يأتيكما فتفترقان ¬

_ (¬1) في (خ): واكان، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 317. (¬2) هو شحم النخل. (¬3) الشطر الثاني في المصادر -وكذا سيذكره بعد قليل-: وابكيالي من ريب هذا الزمان. انظر المضاف والمنسوب للثعالبي ص 589، والأغاني 13/ 331 - 332، ومعجم الشعراء ص 455، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 37، ومعجم البلدان (حلوان)، والوافي بالوفيات 25/ 647.

فلعمري لو ذُقْتُما حُرقَةَ الفُر ... قةِ أَبكاكُما الذي أَبكاني كم رَمَتنْي صروفُ هذي الليالي ... بفِراق الأَحبابِ والخُلَّان وهذا الشعر قديم؛ فإنَّ المهديَّ مرَّ بهما ونزل عندهما، وقال لجاريته حَسَنة: غني، فغنَّت: [من الطويل] أَيَا نخلتَي وادي بُوَانةَ حبَّذا ... إذا نام حرَّاسُ النخيلِ جَناكُما (¬1) فقال المهديّ: أُريد أن أقطعَ هاتين النَّخْلَتين، فقالت له حَسَنة: أُعيذك بالله أن تكونَ الذي أَشار إليه مُطيع، وأَنشدت البيتين، فقال: لله درك، واللهِ لا تعرَّضت. ووكَّل بهما مَن يَحفظهما ويقوم بأَمرهما. وقد أكثر الشعراءُ في نخلَتي حُلوانَ، قال حمَّاد بنُ إِسحاق: [من الخفيف] أيُّها العاذِلانِ لا تَعْذُلاني ... ودَعَاني من المَلامِ دعاني وابكيا لي فإنَّني مُسْتَحِقٌّ ... منكما بالبكاءِأن تُسعِداني وأنا منكما بذلك أوْلى ... من مُطيعٍ بنخلَتَي حُلْوانِ فهما تجهلانِ ما كان يشكو ... من جَواه وأنتما تعلمان (¬2) وقال آخر (¬3): [من الخفيف] جَعل الله سِدْرَتَي قصرِ شِيريـ ... ــــــــــن فداءً لنخلتَي حُلْوانِ جئتُ مُسْتَسعِدًا (¬4) فلم يسعداني ... ومُطيعٌ بكَتْ له النَّخلتان وفيها رجع الرشيدُ إلى بغدادَ من الرَّيِّ بعد أن أَحسنَ إلى أهلها؛ لأنه وُلد بالرَّيّ. وقال أبو العَتاهِية: [من السريع] إنَّ أمينَ اللهِ في أرضه ... حنَّ به البِرُّ إلى مولدِهْ ليُصلحَ الرَّيَّ وأَقطارَها ... ويُمطرَ الخير بها من يدهْ (¬5) ¬

_ (¬1) الأغاني 13/ 333، ومعجم البلدان (حلوان). (¬2) المضاف والمنسوب ص 589 - 590، والأغاني 13/ 334، ومعجم البلدان (حلوان). (¬3) هو حماد عجرد، انظر المصادر السابقة. (¬4) في (خ): مستعديًا، والمثبت من المصادر. (¬5) تاريخ الطبري 8/ 317.

إسحاق بن عبد الرحمن

ولمَّا انصرف الرشيدُ من الرَّي، أَدركه الأَضحى بقصر اللُّصوص، فضحَّى به، ثم دخل بغدادَ لليلتين بقيتا من ذي الحِجَّة، فلمَّا مرَّ بالجِسْر أَمر بإِحراق جثَّةِ جعفر -وقيل: إنَّه كان أَمر بذلك عند توجُّهه إلى خُراسان- ولم ينزل بغداد، وسار يطلب الرقَّة، فنزل بالسَّيلَحِين، فقيل له: يا أميرَ المؤمنين، طويتَ بغدادَ فلم تنزلْها! فقال: والله إِنِّي لأَعلم أنَّ ما في الشَّرق والغربِ مدينةً مثلَها، وإنَّها لَوطني ودارُ ملكِ بني العباس، وما قال أَحدًا من آبائي بها سوء، لَنِعم الدارُ هي، ولكن لا بدَّ من المُناخ على ناحية أهلِ النِّفاق والشِّقاقِ خوفًا منهم، ولولا ذلك ما خرجتُ منها أبدًا. وفي ذلك يقول العباسُ بن الأَحنف: [من الخفيف] ما أَنخْنا حتَّى ارتحَلْنا فما نَفْـ ... ـرُقُ بين المناخِ والارتحالِ ساءَلونا عن حالنا إذ قَدِمنا ... فَقَرَنَّا وداعَهم بالسُّؤال (¬1) وفي هذه السَّنةِ بعث نقفورُ إلى الرَّشيد يطلب الصُّلحَ والفداء، فأَجابه، فلم يبقَ بأرض الرُّومِ من الأُسارى مسلمٌ إلَّا فُودي به، وقيل: إنَّهم بلغوا أربعةَ آلافِ مسلم، فقال مروانُ بن أبي حَفْصَة: [من الطويل] وفُكَّت بك الأَسرى التي شُيِّدت لها ... مَحابسُ ما فيها حَميمٌ يزورُها على حينَ أعيا المسلمين فِكاكُها ... وقالوا سجونُ المشركين قبورُها (¬2) وحجَّ بالناس العباسُ [بن موسى] (¬3) ... بنِ عيسى بن موسى بنِ محمَّد بن عليِّ بن عبدِ الله بنِ عباس. إسحاق بنُ عبدِ الرَّحمن ابنِ المغيرةِ بن حُميد بن عبدِ الرَّحمن بنِ عَوفٍ الزّهري (¬4). من الطبقة الخامسةِ من أهل المدينة، وأبوه عبدُ الرَّحمن هو الذي يقال له: غُرَير. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 317، والكامل 6/ 192، والبداية والنهاية 13/ 668. (¬2) وقع في (خ): عدة تحريفات في البيتين، أصلحتها من الديوان ص 40، وتاريخ الطبري 8/ 318، والمنتظم 9/ 163. (¬3) زيادة من تاريخ الطبري والمنتظم. (¬4) تاريخ بغداد 7/ 321، والمنتظم 9/ 163، وتاريخ الإسلام 4/ 807.

سكن بغداد، وكان في صحابة المهديِّ والهادي والرشيد، وكان جوادًا ممدَّحًا، وفيه يقول الشاعرُ (¬1) وفي أخيه يعقوب: [من الطويل] نفى الجوعَ عن بغدادَ إِسحاقُ ذو النَّدى ... كما [قد] نفى جوعَ الحجازِ أَخوهُ وما يكُ من خيرٍ أَتَوه فإنَّما ... فِعالُ غُرَيرٍ قبلَهم وَرِثوه فأُقسمُ لو ضاف الغُرَيريَّ بَغْتَةً ... جميعُ بني حوَّاءَ ما حَفَلوه هو البحرُ بل لو حلَّ بالبحر رِفدُه ... ومَن يَجتديه ساعةً نَزَفوه وكان إسحاق مُعجَبًا بعَبَّادة جاريةِ المُهلبية، وكانت مُنْقَطِعةً إلى الخَيزُران (¬2)، ذاتَ منزلةٍ عندها، فركب عبدُ الله بنُ مُصعبِ بن الزبير وإسحاق إلى المهديّ، وكانا يأتيانه في كلِّ عشيةٍ فيقيمان عنده حتى ينقضيَ سَمَرُه، فلقيا في طريقهما عبَّادة، فساق إسحاق دابَّته ومضى فنظر إليها ثم عاد، ودخلا على المهديّ، فأخبره مصعبٌ بخبر إسحاق وما كان منه، فقال المهديّ: أنا أَشتريها لك. وقام من وقتِه فدخل على الخَيزُران، فقال: أين المُهَلَّبية؟ فجاءت، فقال: تبيعيني عَبَّادةَ بخمسين ألف درهم؟ فقالت: إنْ كنتَ تريدها لنفسك، فبها فداكَ الله، فقال: إنَّما أُريدها لإِسحاق بن غُرير، فبكت الجارية، وقالت الخيزران: ما يُبكيك؟ ! واللهِ لا يقدر عليكِ ابنُ غُرير أبدًا، وصار ابنُ غريرٍ يتعشَّق جواريَ الناس؟ ! فخرج المهديّ فأَخبر إِسحاق، وأَمر له بخمسين ألف درهم، فأَخذها، وقال أبو العتاهية: [من المنسرح] حبُّك المال لا كحبِّك (¬3) عَبَّا ... دةَ يا فاضحَ المُحبِّينا لو كنتَ أَخلصتَها الوفاءَ كما ... قلت لمَا بعتَها بخمسينا وكانت وفاة إسحاق ببغدادَ في هذه السنة، ورثاه مِكْنَفٌ من ولد زهيرِ بن أبي سُلمى فقال: [من الكامل] ¬

_ (¬1) هو الصهيبي كما في نشوار المحاضرة 6/ 26، وتاريخ بغداد 7/ 322، والمنتظم 9/ 164 (على تحريف فيه)، والتبيين 298. وما يأتي بين حاصرتين منها. (¬2) يعني أن المهلبية منقطعة إلى الخيزران، كما في المصادر. (¬3) في (خ): كحب، والمثبت من ذيل الديوان ص 648، ونشوار المحاضرة 6/ 29، وتاريخ بغداد 7/ 323، والمنتظم 9/ 165.

سعيد بن سليمان

فلَئن بَكَت (¬1) جَزَعًا عليه لقد بكت ... جَزَعًا عليه مكارمُ الأخلاقِ يا خيرَ مَن بكت المكارمُ فَقْدَه ... لم يبقَ بعدَك للمكارم باقِ لو طاف في شرق البلادِ وغربها ... لم يَلْقَ إلَّا حامدًا للَّاقي ما بِتَّ من كرم الطبائعِ ليلةً ... إلَّا لِعرضِك من نَوالِك واقي بَخِلَت بما حوت الأَكفُّ وإنَّما ... [خَلَقَ] (¬2) الإلهُ يديك للإِنفاق سعيدُ بن سليمانَ ابن نوفلِ بن مُساحِق (¬3). ولي قضاءَ المدينةِ للمهديِّ، ووفد على الرَّشيد. قال نَوْفلُ بن مَيمون: جاء سعيدُ بن سليمانَ إلى عبد اللهِ بن محمَّد بن عمرانَ القاضي، فشهد عنده في شيء، فردَّ شهادته، فلمَّا عُزل عبدُ الله عن القضاءِ وولي سعيد، جاء عبدُ اللهِ فشهد عنده بشهادة، فأخذ شهادتَه، فنظر فيها ساعةً، ثم رفع رأسَه وقال: المؤمنُ لا يَشفي غيظَه، ثم وقع على شهادته. وكانت وفاتهُ بالمدينة. سليمان (¬4) بن حَيَّان أبو خالدٍ الأَزْدي، ويعرف بالأحمر. وُلد سنةَ أربعَ عشرةَ ومئة. وكان صديقًا لسفيانَ الثوري، وكان سفيانُ يثني عليه، فلمَّا خرج محمَّد بن عبدِ الله بنِ حسن، خرج معه (¬5)، فهجره سفيان. وكان رجلًا صالحًا. قال عثمانُ بن أبي شيبة: دخلتُ على الأَحمر عند موتهِ وليس في بيته إلَّا مِخَدَّةٌ تحت رأسهِ، وهو يقول: اُخرجي يا نفس، اُخرجي، فواللهِ لَخروجُك أَحبُّ من بقائك في بَدَني. ¬

_ (¬1) أي العيون كما في البيت الذي قبل هذا في تاريخ بغداد 7/ 324، والمنتظم 9/ 166. (¬2) زيادة من تاريخ بغداد، والمنتظم. (¬3) تاريخ بغداد 10/ 94، والمنتظم 9/ 167. (¬4) في (خ): سليم، وهو خطأ. صوابه من تاريخ بغداد 10/ 28، والمنتظم 9/ 167، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإسلام 4/ 859، والسير 9/ 19. (¬5) كذا، والذي في المصادر أنه خرج مع إبراهيم بن عبد الله.

العباس بن الأحنف

سمع يحيى بنَ سعيدٍ القطَّان (¬1)، وامرأتَه (¬2)، وروى عنه الإمامُ أحمدُ بن حنبلٍ رحمةُ اللهِ عليه وغيرُه، وكان ثقة. العبَّاس بن الأَحْنَف ابنِ الأَسود بن طَلْحة، أبو الفضلِ الشاعر (¬3). من ولد الدِّيل من عَرب خُراسان، ومنشؤه بغداد. كان حُلوًا، ظريفًا، مقبولًا، حسنَ العِشْرة، ومعظمُ شعرِه في الغزل والمديح. وله أخبارٌ مع الخلفاء، قال: حُملْتُ إلى دار الخلافةِ وإذا بيحيى بنِ خالدٍ جالس، فقال: يا عباس، إنَّ ماردةَ الغالبةَ على أمير المؤمنين قد تجنَّت عليه، فهي بدالَّة المعشوقِ تأبى أن تعتذرَ إليه، وهو بعزة الخلافةِ يأبى أن يبتدئَها، فقُلْ شعرًا يسهِّل الأمرَ بينهما، فأخذتُ الدَّواةَ وكتبت: [من الكامل] العاشقانِ كلاهما مُتَعَنِّت ... وكلاهما متوجِّد متغضِّبُ صدَّت مُغاضبةً وصدَّ مُغاضبًا ... وكلاهما ممَّا يُعَالِجُ مُتْعَب راجع أحبَّتك الذين هجرتَهم ... إنَّ المتيَّم قلَّ ما يتجنَّبُ إنَّ التجنُّب إنْ تطاول منكما ... دبَّ السُّلوُّ له فعزَّ المَطْلَب (¬4) ودفعت الرُّقعة إلى يحيى، فأخذها ودخل على الرشيد، فلمَّا قرأها قال: واللهِ ما رأيت شعرًا أَشبه بما نحن فيه من هذا. ثم أَمَرَ لي بمالٍ عظيم، وبَعَثَت إليَّ ماردةُ بمثله. وقال عبدُ اللهِ بن الربيع: قال هارونُ بيتًا ورام يَشْفَعه بآخَرَ، فامتنع القولُ عليه، فقال: عليَّ بالعبَّاس بنِ الأحنف، فلمَّا طُرق فزع وذُعِر أهلُه، فلمَّا وقف بين يديه قال: وجَّهتُ إليك لبيتٍ قلتُه ورُمت أن أشفعَه بمثله فامتنع القولُ عليّ، فقال: يا أميرَ ¬

_ (¬1) كذا، والصواب: الأنصاري. (¬2) كذا وردت هذه الكلمة، ولم أتبينها. (¬3) انظر ترجمته في الشعر والشعراء 2/ 728، طبقات الشعراء 254، الأغاني 8/ 352، تاريخ بغداد 14/ 8، المنتظم 9/ 206، معجم الأدباء 12/ 40، تاريخ الإسلام 4/ 1134، السير 9/ 98. (¬4) العقد الفريد 6/ 386، والوافي بالوقيات 16/ 642، وطبقات ابن المعتز ص 256 إلا أنه لم يذكر البيت الثالث.

المؤمنين، دعني حتى ترجعَ إليَّ نفسي، فقد طرقني وعيالي حالٌ اللهُ أعلمُ بها، فانتظر هُنيَّةً ثم أَنشد هارون: [من مجزوء الوافر] جنانٌ قد رأيناها ... فلم نرَ مثلَها بشرا فقال العبَّاس: يزيدُك وجهُها حُسنًا ... إذا ما زدتَه نظرا فقال هارونُ: زدني، فقال: إذا ما الليلُ مال عليـ ... ك بالإِظلام واعتكرا ودَجَّ فلم ترى قمرًا ... فأَبرِزْها ترى قمرا (¬1) فقال له هارون: قد ذعرناك وأَفزعنا عبالك، وأقل الواجبِ أن نعطيَك دِيَتَك، فأمر له بعشرة آلافِ درهم. ومن شِعر العبَّاس: [من البسيط] قد سَحَّب الناسُ أذيال الظُّنون بنا ... وفرَّق الناسُ فينا قولَهم فِرَقا مكاذب قد رمى بالظنِّ غيرَكمُ ... وصادقٌ ليس يدري أنَّه صَدَقا (¬2) أخذه من قول العُقيلي: [من الطويل] أَلَا يا سرورَ النَّفسِ ليس بعالمٍ ... بك الناسُ حتى يعالموا ليلةَ القدرِ سوى رجمِهم بالظنِّ والظنُّ مخطئٌ ... مِرارًا ومنهم مَن يصيب ولا يدري (¬3) وقال (¬4): [من البسيط] أَفدي (¬5) الذين أَذاقوني مودَّتَهم ... حتى إذا أَيقظوني في الهوى رَقَدوا ¬

_ (¬1) الأبيات مع القصة في تاريخ بغداد 14/ 11 - 12، والمنتظم 9/ 206 - 207. (¬2) الأغاني 8/ 367، وتاريخ بغداد 14/ 9، والمنتظم 9/ 206. (¬3) تاريخ بغداد 14/ 10. (¬4) نسبت الأبيات أيضًا لبشار بن برد، انظر ديوانه 2/ 228، وعيون الأخبار 3/ 78، وطبقات ابن المعتز ص 255، والأغاني 8/ 365، ووفيات الأعيان 3/ 20، والوافي 16/ 638. (¬5) في المصادر: أبكي، وفي بعضها: أشكو.

واستنهضوني فلمَّا قمتُ نحوهمُ (¬1) ... بثِقْلِ ما حمَّلوني منهمُ (¬2) قعدوا لأَخرجنَّ من الدنيا وحبُّهمُ ... بين الجوانحِ لم يَشْعُرْ به أحدُ وقال (¬3): [من المنسرح] إنْ تَشْقَ عيني بهم فقد سَعِدت ... عينُ رسولي وفزتُ بالنَّظرِ (¬4) وكلَّما جاءني الرسولُ لهم ... رددتُ شوقًا في طرفه بصري تظهرُ في وجهه محاسنهم ... قد أثَّرت فيه أحسنَ الأَثر خذ مُقْلَتي يا رسولُ عارِيةً ... فانظر بها واحتكم على بصري ذِكر وفاتِه: قال عمر بن شَبَّة: مات العباسُ بن الأحنفِ في اليوم الذي مات فيه محمَّد بن الحسن والكسائيُّ سنةَ تسعٍ وثمانين (¬5) ومئة، وقيل: سنةَ ثمانٍ وثمانين، وقيل: إنَّ وفاتَه تأخرت بعد وفاة الرشيد. وقال محمَّد بن يزيَدَ الثُّمالي: مات العباسُ وإِبراهيم الموصليُّ في يومٍ واحد، فرُفع خبرُهم إلى الرشيد، فأمر المأمونَ بالصَّلاة عليهم، فوافاهم في موضعِ الجنائز، فقال: مَن قدَّمتم؟ قالوا: إِبراهيم، قال: أَخِّروه وقدِّموا العباس، وصلَّى عليهما. فلمَّا فرغ اعترضه بعضُ الطاهريةِ (¬6) فقال: أيها الأميرُ، لمَ قَدَّمت عباسًا؟ فقال: يا فضوليُّ؛ لقوله: [من الكامل] ¬

_ (¬1) في المصادر: منتصبًا. (¬2) في (خ): من حبهم، ولا يستقيم به الوزن، وفي الديوان: ودهم. (¬3) نسب الأبيات للعباس بن الأحنف الطبري 8/ 658، وتابعه ابن الأثير 6/ 437، ونسبها صاحب الوفيات 3/ 22 للرشيد، وصاحب محاضرات الأدباء 3/ 209 لمحمَّد بن أمية، وهي في المدهش ص 105 دون نسبة، وهي أيضًا في ديوان أبي نواس ص 286. (¬4) في المدهش: وفاز بالنظر، وفي بقية المصادر: وفزت بالخبر. (¬5) الذي في تاريخ بغداد 14/ 14، ووفيات الأعيان 3/ 25 عن عمر بن شبة: مات إبراهيم الموصلي في سنة ثمان وثمانين ومئة، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي وعباس الأحنف. فإقحام محمد بن الحسن في هذا الخبر وهم، والله أعلم. وانظر المنتظم 9/ 208. (¬6) في وفيات الأعيان 3/ 25، والوافي بالوفيات 16/ 639 أنه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي.

أَسماكِ لي قومٌ وقالوا إنَّها ... لَهي التي تشقى بها وتكابدُ فجَحَدتُهم ليكونَ غيرَك ظنُّهم ... إنِّي ليعجبني المحِبُّ الجاحدَ (¬1) قلت: والبيتان من أبياتٍ أوَّلُها: قالت مرِضْتُ فعُنتُها فتبَرَّمَت ... فهي الصَّحيحة والمريض العائدُ تاللهِ لو أن القلوبَ كقلبها ... ما رقَّ للولد الضعيف الوالد كتبت بأن لا تأتِنا فهجرتُها ... لتذوقَ طعمَ الهجْرِ ثم أُعاود ماذا عليها أن يُلِمَّ برَبْعها ... ذو حلَّةٍ بسَلامةٍ مُتعاهد إنْ كان ذَنْبي في الزِّيارة فاعلمي ... أنِّي على كسب الذُّنوب لَجاهد أَسماكِ لي قومٌ وقالوا إنَّها ... لَهي التي تَشقى بها وتُكابِدُ فجَحَدتُهم ليكونَ غيرَكِ ظنُّهم ... إنِّي لَيُعجبني المُحِبُّ الجاحد إنَّ النساءَ حَسَدنَ وجهكِ حُسنَه ... حُسنُ النساءِ لحُسن وجهِك ساجد جال الوِشاحُ على قضيبٍ زانَه ... رُمَّان صدرٍ ليس يُقطَفُ ناهِدُ لمَّا رأيتُ الليلَ سدَّ طريقه ... عنِّي ولازمني الظلامُ الراكد والنجمُ في كَبِد السماءِ كأنَّه ... أعمى تَحَيَّر ما لديهِ قائد ناديتُ مَن طَرَد الرُّقادَ بنَومه ... عمَّا أكابِدُ وهو خِلوٌ هاجد يا ذا الذي صَدَع الفؤادَ بصَدِّه ... أنت البلاءُ طريفُه والتَّالد ألقيتَ بين جفونِ عيني فُرْقَةً ... فإلى متى أنا ساهرٌ يا راقد اردد فؤادي ثم نَم في غِبطةٍ ... إنِّي امرؤٌ سهري لنَوْمِكَ حاسد (¬2) قلت: وفي هذا نظر؛ لأنَّ وفاةَ العباسِ كانت بالبصرة (¬3)، قال الأَصمعي: بينا أنا ذاتَ يومٍ قاعدٌ في مجلسٍ بالبصرة، إذا بغلامٍ من أحسن الناسِ وجهًا، وأنظفِهم ثوبًا، واقفٌ على رأسي، فقال: إنَّ مولاي يريد أن يوصيَ إليك، فقمتُ معه، فأخذ بيدي ¬

_ (¬1) قال الخطيب في تاريخه 14/ 13: في هذا الخبر نظر، لأن وفاة العباس كانت بالبصرة، واختلف في الوقت الذي مات فيه. (¬2) انظر بعض هذه الأبيات في زهر الآداب 2/ 947، والقعد الفريد 2/ 453، وتاريخ بغداد 14/ 10 - 11، ومحاضرات الأدباء 2/ 145. (¬3) هذا القول للخطيب لا للمصنف أو المختصر، انظر تاريخ بغداد 14/ 13.

علي بن حمزة

وأَخرجني إلى الصَّحراء، فإذا بالعبَّاس بنِ الأخنَف مُلْقًى على فراشه وهو يجودُ بنفسه ويقول: [من المديد] يا بعيدَ الدارِ (¬1) عن وَطَنِهْ ... مُفرَدًا يبكي على شَجَنهْ كلَّما جدَّ النَّحيبُ بهِ ... زات الأَسقام في بَدَنِهْ ثم أُغمي عليه وانتبه بصوت طائرٍ يغرِّد على شجرة، فقال: ولقد زاد الفؤاد جَوًى ... طائرٌ يبكي على فَنَنهْ شاقَه ما شاقني فبكى ... كلُّنا يبكي على سَكَنهْ ثم أُغمي عليه، فظننتُها مثلَ الأولى، فحرَّكته فإذا هو ميِّت. وقال هاشمُ (¬2) بن عبدِ الله الخزاعي: كنَّا بالرقَّة مع هارون، فكتب إليه صاحبُ الخبرِ بموت الكسائيِّ وإبراهيمَ الموصليِّ والعباسِ بن الأحنفِ في يومٍ واحد، فقال لابنه المأمون: اُخرج فصلِّ عليهم. فخرج في وجوه أهلِه وخاصَّته وقوَّاده وقد صفُّوا له، فقالوا للمأمون: مَن ترى أن نقدِّم؟ قال: الذي يقول: يا بعيدَ الدارِ عن وطنهْ ... مُفرَدًا يبكي على شَجَنهْ وأَشار إلى العبَّاس، فقدَّموه، فصلَّى عليه. قلت: وهذا خَلَل؛ لاجتماع أَربابِ السِّير على أنَّ الكسائيَّ ومحمَّدَ بن الحسن ماتا بالرَّيِّ في هذه السَّنة، والعباس مات بالبصرة في قولِ الخطيب، ثم كان الكسائيُّ إمامًا وفيه من كلِّ فن، وكان يعلِّم المأمونَ والأمين، فكيف يقدَّم عليه شاعر؟ ! واللهُ أعلم. عليُّ بن حَمزةَ ابنِ عبد اللهِ بن بَهْمَن بنِ فَيروز، مولى بني أسد، أبو الحسن، المعروفُ بالكِسائي (¬3)؛ لأنه أَحرم بكِساء. وقيل: إنَّه دخل مسجدَ السَّبيعِ بالكوفة وهو ملتف بكساء، فسمِّي من ¬

_ (¬1) في (خ): الديار، والمثبت من تاريخ بغداد 14/ 13، والمنتظم 9/ 207، والوفيات 3/ 26. (¬2) في (خ): هشام، وهو خطأ، والمثبت من وفيات الأعيان 3/ 25، والوافي 16/ 639. (¬3) تاريخ بغداد 13/ 345، والمنتظم 9/ 168، وتاريخ الإسلام 4/ 927، والسير 9/ 131 وفيه مصادر أخرى.

ذلك اليوم. وكان أحدَ الأئمَّة في القراءة والنحو والعربية، واستوطن بغداد، وكان يعلِّم الرشيد، وبعده الأمينَ والمأمون، وكان إمامًا في كلِّ فنّ. وقال أبو حاتم السِّجستاني: قدم علينا عامل من أهل الكوفةِ لم أرَ في عمَّال السلطانِ بالبصرة أَبَرعَ منه، فدخلتُ مسلِّمًا عليه، فقال: يا سِجِستاني، مَن علماؤكم بالبصرة؟ قلت: الزِّيادي أعلمُنا بعلم الأَصمعي، والمازنيُّ أعلمنا بالنَّحو، وهلالٌ أفقهنا، والشَّاذَكوني أعلمُنا بالحديث، وأنا (¬1) -رحمك الله- أُنسَب إلى علم القرآن، وابن الكلبي من أكْتَبنا للشروط. فقال لكاتبه: إذا كان غدٌ (¬2) فاجمعهم لي، فجمعنا، فقال: أيُّكم المازني؟ قال أبو عثمان: ها أنا ذا يرحمكَ الله، قال: هل يُجزئُ في كفَّارة الظِّهار عتقُ عبدٍ أَعور؟ فقال المازنيّ: لست بصاحب فقهٍ أنا صاحبُ عربية، فقال: يا زياديّ، كيف تكتب بين رجل وامرأةٍ خالعها زوجُها على الثُّلث من صَداقها؟ فقال: ليس هذا من علمي، هذا من علم هلال، فقال: يا هلال، كم أسند ابن عَون عن الحسن؟ قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم الشاذكوني، قال: يا شاذكوني، مَن قرأ: {ألا إنهم تَثْنَوْني صدورهم} (¬3)؟ [هود: 5]. قال: ليس هذا من علمي، هذا من علمِ أبي حاتم، قال: يا أبا حاتم، كيف تكتب كتابًا إلى أميرِ المؤمنين تصف فيه خَصاصةَ أهلِ البصرة وما أَصابهم في الثَّمرة من الجَوائح، وتسأله النَّظِرةَ لهم؟ فقال: لستُ صاحبَ بلاغةٍ وكتابة، أنا صاحبُ قرآن، قال: وما أقبحَ بالرَّجل يتعاطى العلمَ خمسين سنةً لا يعرف إلَّا فنًّا واحدًا، حتى إذا سئل عن غيرِه لم يَجُلْ فيه ولم يَحر، لكنَّ عالمنا الكسائيَّ بالكوفة لو سُئل عن كلِّ هذا لَأَجاب. وقال الفرَّاء: لقيت الكسائيَّ يومًا، فرأيتُه كالباكي، فقلت: ما الذي بك؟ فقال: ¬

_ (¬1) في (خ): وأنت، والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 350، وعنه المنتظم 9/ 171. (¬2) في (خ): غدًا. (¬3) قرأ بها ابن عباس -بخلاف- ومجاهد ونصر بن عاصم وغيرهم. انظر القراءات الشاذة ص 59، والمحتسب 1/ 318.

محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني

هذا يحيى بنُ خالدٍ يسألني عن الشيء، فإن أبطأت عيَّبَ عليّ، وإنْ بادرتُ لم آمَن الزَّلل، فقلت ممتحنًا له: يا أبا الحسن، مَن يَعترض عليك! قل ما شئتَ فأنت الكسائيّ. فأخذ لسانَه بيده وقال: قطعه اللهُ إذن إن قلتُ ما لا أعلم. ذكر وفاته: مات بالرَّيِّ في قريةٍ يقال لها رَنْبَويه سنةَ تسعٍ وثمانين ومئة، ومات في ذلك اليومِ محمَّد بن الحسن، فقال هارون: دفنتُ الفقة والعربيةَ بالرَّي. وبلغ الكسائيُّ سبعين سنة. وقال أبو مِسْحَل: رأيت الكسائي بعد موتِه في النوم وكأنَّ وجهه البَدر، فقلت: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: غفر لي بالقرآن، فقلت: فما فعل حمزةُ الزيَّات؟ قال: ذاك في عِليين، وما نراه إلَّا كما يُرى الكوكب الدُّرِّي. قال أبو مسحل: فلم يدع قراءتَه حيًّا وميِّتًا. أَسند الكسائيُّ عن أبي بكر بنِ عيَّاش وسليمانَ بنِ أرقمَ وغيرِهم، وروى عنه القاسمُ بن سلام وغيرُه. محمَّد بن الحسنِ بن فرقَدٍ الشَّيباني صاحبُ أبي حنيفة، ويُكنى أبا عبدِ الله، مولى بني شَيبان (¬1). والحسنُ من حَرَسْتا قريةٍ بغوطة دمشق، ثم انتقل إلى العراق وسكن واسِطًا، فولد محمَّد بها، وكان أبوه موسِرًا جُنديًّا. قال محمَّد: ترك أبي ثلاثين ألفًا، فأنفقتُ خمسةَ عشرَ ألفًا على النَّحو والشعر، وخمسةَ عشر ألفًا على الفقهِ والحديث. وكان محمَّدٌ إمامًا في جميع العلوم. ولمَّا وُلد حمله أبوه تلك الليلةَ فأَسمعه الحديث، وتفقَّه على أبي حنيفة، وتوفي أبو حنيفةَ وهو ابنُ ثماني عشرةَ سنة. كان أبو حنيفةَ يتكلَّم في مسألة الصبيِّ إذا صلَّى العشاءَ الآخرةَ ثم بلغ قبل طلوعِ الفجر، ومحمَّد قائمٌ في الحلقة وهو صبيّ، فقال أبو حنيفة: يجب الإِعادةُ عليه؛ لبقاءِ الوقت في حقِّه، فمضى محمَّد واغتسل، وعاد فوقف مكانَه، فاستدعاه أبو حنيفةَ ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 338، تاريخ بغداد 2/ 561، المنتظم 9/ 173، السير 9/ 134، تاريخ الإسلام 4/ 954.

وقال: اِلزمنا فيوشك أن يكونَ لك شأن، فلَزِمه. وكان لمحمَّد في مسجد الكوفةِ حلقةٌ وهو ابنُ عشرين سنة. وكان حسنَ الصلاةِ كثيرَ الخشوع، يقرأ القرآنَ في ثلاثة أيَّام، مشغولًا بنفسه عن مخالطة الناس، حافظًا لوقته، مستغرقَ الزمانِ في تصانيف الكتبِ وشرحها. وكان الإمام الشافعي رحمه الله يُثني على محمَّد بنِ الحسن ويقول: ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بالحلال والحرامِ والناسخِ والمنسوخِ من محمَّد، ولولاه ما انفتق لي من العلمِ ما انفتق، وما رأيتُ أعقلَ منه. وكان محمَّدٌ إذا ذُكر عنده الشافعيُّ يقول: مرحبًا بمَن يملأ الأُذن سَمعًا، والقلبَ فَهْمًا، والعينَ رَوْنقًا، وقال الشافعيُّ رحمه الله: أخذتُ عن محمَّد بن الحسن حِملَ بعيرٍ ذَكَر، وما رأيتُ سمينًا أخفَّ روحًا منه ولا أفصحَ منه. وقال رجلٌ للشافعي: خالفك الفقهاءُ في المسألة الفلانية، فقال: ومَن الفقهاء؟ وهل رأيت فقيهًا قطّ؟ اللهمَّ إلا أن يكون محمَّد بن الحسن، فإنَّه كان يملأ العينَ والقلب. وكان محمَّد يقول لأهله: لا تسألوني حاجةً من حوائج الدُّنيا فتشغلوا قلبي، وخذوا ما تحتاجون إليه من وكيلي، فإنَّه أقلُّ لهمِّي وأفرغُ لقلبي. قال إبراهيمُ الحَرْبي قلت لأحمدَ بن حنبل: من أين لك هذه المسائل الدِّقاق؟ فقال: من كتب محمَّد بن الحسن. وقال هارون لمحمَّد: إنَّ عمرَ بن الخطَّاب صالح بني تَعلِبَ على ألا ينصِّروا أولادَهم، وقد نصَّروا أولادَهم [وحلَّت بذلك دماؤهم، فما ترى؟ قال: قلت: إنَّ عمرَ أمرهم بذلك وقد نصَّروا أولادَهم] (¬1) بعد عمرَ في أيَّام عثمان، واحتمل لهم ذلك، وهو مذهب ابن عمِّك عليِّ بنِ أبي طالب، وكان من العلم بمكانٍ لا يخفى، ورأيُك أَعلى. فقال: إنَّ الله أمر رسولَه بالمشورة فقال: {وَشَاورْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. ونحن نُجريهم على ما كانوا عليه، ولا نتعرَّض لهم. وكان محمَّد لا يرى صحبةَ السُّلطان وينهى عنها، وكان هارونُ يعترف بفضله ويُثني ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 2/ 564.

محمد بن الحسن

عليه، ويقول: هو أجدرُ بالقضاءِ من غيره، وولَّاه قضاءَ الرقَّة مُكْرَهًا برأي أبي يوسف، فقال لأبي يوسف: إنَّما أشرتَ عليه بذلك حَسَدًا لي، فقال: إنِّي نظرت، فإذا اللهُ قد بثَّ علمَنا في الدنيا إلَّا الجزيرةَ والشامات، فأحببتُ أن تكونَ بها حتى ينشرَ اللهُ بك العلم. ذِكر وفاتِه: خرج مع هارونَ إلى الرَّيِّ في سنة تسعٍ وثمانين ومئة، فتوفِّي هو والكسائى في يومٍ واحدٍ ومحمَّدٌ ابن ثمانٍ وخمسين سنة، فقال هارون: دفنتُ الفقهَ والعربيةَ بالرَّي. وقال هلالٌ الرَّازي: دخلتُ على محمَّدٍ وهو يبكي، فقلت: أَتبكي مع العلم! قال: لا، وإنَّما أبكي على صُحبة هذا الرَّجل، أرأيتَ لو أوقفني اللهُ بين يديه وقال لي: ما الذي أَقدمك إلى الرَّي، الجهادُ في سبيلي وابتغاءُ مرضاتي؟ فما الذي كنتُ أقول له. أَسند عن أبي حنيفَة وغيرِه، وحدَّث عنه الإمام الشافعيُّ وغيرُه. وكان محمَّد إذا قيل له: إنَّ أناسًا يَقَعون فيك، ينشد يقول: [من البسيط] مُحَسَّدون وشرُّ الناسِ منزلةً ... مَن عاش في الناسِ يومًا غيرَ محسودِ (¬1) وقال محمَدُ بن حمُّويه -وكان من الأَبدال- رأيت محمَّد بن الحسنِ بعد موتِه في منامي، فقلتُ له: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: غفر لي وقال لي: لم أجعلْك وعاءً للعلم وأنا أريد أن أعذِّبَك، فقلت: فما فعل أبو يوسُف؟ قال: فوقي بدرجات، قلت: فأبو حنيفة؟ قال: فوقي وفوقَ أبي يوسفَ بطبقات. وممَّن اسمُه محمَّد بن الحسنِ: محمَّد بن الحسنِ ابن الحسين أبو عبدِ الله الدِّمشقي. ومن شِعره: [من الطويل] فإنْ عَزم (¬2) العُذَّال يومَ لقائنا ... وما لهمُ عندي وعندك من ثارِ ¬

_ (¬1) انظر أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص 56، وتاريخ بغداد 15/ 503. (¬2) كذا في (خ)، والمحمَّدون من الشعراء ص 318، والوافي 2/ 356. وفي تاريخ دمشق 61/ 305: مخرم. بالغين المعجمة والراء المهملة.

محمد بن الحسن بن شعبة الحسيني

وشنُّوا على أَسماعنا وتكاثروا ... وقلَّ جنودي عند ذاك وأَنصاري لقيناهمُ من ناظرَيك ومُهجتي ... وأَدْمُعِنا بالسيف والسيل والنار محمَد بن الحسن بن شعبة (¬1) الحُسَيني (¬2) شاعر فصيح، سكن طرابلسَ الشام، ارتجل في صديقٍ له ركب البحرَ إلى الإسكندرية في طرابلسَ فقال: [من الخفيف] شرعوا في دمي بتشريع شُرْعٍ (¬3) ... تركوني من شَدِّها في وَثاقِ قربوا للنَّوى القواربَ كيما ... يقتلوني ببينِهم والفِراق قَلَعوا حين أَقلعوا بفؤادي ... ثم لم يَلْبَثوا كقَدْر الفُوَاق (¬4) ليتهم حين ودَّعوني وساروا ... رَحموا عَبرتي وطولَ اشتياقي هذه وِقفةُ الفراقِ فهل أَحـ ... ـيا ليومٍ يكون فيه التَّلاقي محمدُ بن الحسنِ بن الكَفَرْطابي الأديب خلَّف له أبوه عشرةَ آلافِ دينار، فأَنفقها في الأصدقاءِ والصِّلات. وكان من أولاد الشُّهود، وقيل: القُضاة، ومن شعره: [من البسيط] قد عبَّرَتْ عَبرتي عن سرِّ أَجفاني ... وحاوَرَتْ حَيرتي من قبل إِعلاني لا تسألوا كيف حالي بعدَ بُعدِكمُ ... قد خبَّرَتْكمْ شؤونُ العينِ عن شاني (¬5) وتوفِّي بدمشقَ سنةَ ثمان وتسعين وأربعِ مئة. * * * ¬

_ (¬1) كذا في (خ) والوافي 2/ 356. وفي تاريخ دمشق 61/ 342: معية. (¬2) في تاريخ دمشق والوافي: الحسني. (¬3) في تاريخ دمشق 61/ 343: بتشديد شرع. والشرع جمع شراع. والأبيات أيضًا في الوافي بالوفيات. (¬4) الفواق: ما بين الحلبتين من الوقت. القاموس المحيط (فوق). (¬5) تاريخ دمشق 61/ 344، والمحمدون من الشعراء ص 371، والوافي 2/ 356.

السنة التسعون بعد المئة

السَّنة التّسعون بعد المئة فيها خلع رافعُ بن الليثِ بنِ نصرِ بن سيَّار هارونَ بسَمَرْقَنْدَ وخرج عن الطَّاعة. وسببُه: أنَّ يحيى بنَ الأشعث الطائي كان قد تزوَّج ابنةَ عمٍّ له بسمرقند، ثم قدم بغدادَ فأَقام بها مدَّة، وبلغها أنَّه قد تسرَّى ببغداد، فطلبت الخلاصَ منه، وكان رافعُ بن الليثِ مقيمًا بسمرقند، فطمع في مالها وجمالِها، فدس إليها من قال لها: لا سبيلَ لك إلي الخلاص منه حتى ترتدِّي عن الإِسلام، فتَبِينينَ منه ثم تحلِّين للأَزواج، فارتدَّت ثم أسلمت، فتزوَّجها رافع، وبلغ يحيى بنَ الأشعث، فأَخبر الرشيد، فكتب إلى علي بن عيسى بنِ ماهانَ بأن يفرِّقَ بينهما، وأن يطافَ برافعٍ على حمارٍ مقيدًا في سمرقند؛ ليكونَ نكالًا لغيره، ففعل ذلك عليُّ بن عيسى وحبس رافعًا، فهرب من الحَبْس، وتبعه جماعةٌ ممن صادرهم علي بن عيسى، فسار إليه علي بن عيسى من مَرْو (¬1)، فالتقيا على سمرقند، فهزمه رافع، فعاد إلى مروَ وأقام يجمع العساكر. وفيها أَسلم الفضلُ بن سَهْل على يد المأمون. وفيها دخل الرشيدُ بلادَ الرُّوم في مئةٍ وخمسة وثلاثين ألفًا من الجند ممَّن يأكل الدِّيوان سوى المطَّوِّعة، وبثَّ العساكرَ في الرُّوم، ونازل هِرَقْلَة، فافتتحها في شوَّال، فهدمها وقتل أهلها، وافتتح شَراحيلُ بن معنِ بن زائدةَ حصنَ الصَّقالِبَة ودَبْسَة (¬2)، وافتتح يزيدُ بن مَخْلَد الصَّفصاف، وسَبَوا خلقًا عظيمًا من الروم ومن جزيرة قُبْرُص، فبلغ عددُهم ستَّةَ عشر ألفًا، فقدم بهم الرقَّة (¬3)، وتولَّى بيعَهم القاضي أبو البَختري، فبلغ أُسْقُف قبرصَ ألفَي دينار. ¬

_ (¬1) الذي سار إليه ابنه عيسى بن علي. انظر تاريخ الطبري 8/ 320، والمنتظم 9/ 178، والكامل 6/ 195، وتاريخ الإسلام 4/ 793. (¬2) في (خ): دليسة، والمثبت من الطبري 8/ 320، والمنتظم 9/ 182، ونسخة من الكامل 6/ 196 أشار إليها محققه. (¬3) في المصادر عدا تاريخ الإسلام 4/ 793: الرافقة. والرافقة بلد متصل البناء بالرقة، كما في معجم البلدان (الرافقة).

واتَّخذ هارونُ في هذه الغَزاةِ القَلَنسوة، وكتب عليها: حاجٌّ غازٍ، فكان يَلبَسها، وقال أبو المعلَّى (¬1) الكلابي: [من الوافر] فمَن يَطلبْ لقاءَك أو يُرِدْهُ ... فبالحَرمَين أو أَقصى الثُّغورِ ففي أرض العدوِّ على طِمِرٍّ ... وفي أرض البَرِيَّة (¬2) فوقَ كُورِ ولمَّا عاد الرشيدُ من الرُّوم، بعث إليه نقفورُ بالجزية عن رأسه ورؤس أهله وبَطارِقَتِه وسائرِ أهله وبلدِه خمسين ألفَ دينار، عن رأسه أربعةَ دنانير، وعن ابنه إستبراقَ (¬3) دينارين، وعن كلِّ رأسٍ من بطارقته دينارًا (¬4). وكانت جارية من أهل هِرَقْلَةَ قد سُبيت، فكتب نقفورُ إلى الرَّشيد: أمَّا بعد: أيُّها الملك، فإن لي إليك حاجة لا تضرُّك في دِينك ودُنياك، هيِّنةً يسيرة، أن تهبَ لي جاريةً من بنات هرقلةَ كنتُ خطبتُها على ابني، فإن رأيتَ أن تُسعِفَني بحاجتي فعلتَ. واستهداه سُرادقًا وطيبا ودِرياقًا (¬5). فجهَّز الرشيد الجاريةَ في سُرادق كان نازلا فيه، وأعطاها الحُلِي والحُلَلَ والجواهر والفُرش والطّيب والدّرياق، وبعث إليه هدايا وألطافًا، وشرط عليه ألا يَعْمُرَ هِرَقْلَة، وأن يبعثَ إلى الرشيد في كلِّ سنة ثلاثَ مئة ألفِ دينار. وقال الهيثم: نازل هرَقلةَ فاستصعب أمرُها، فقال في نفسه: الحربُ خَدْعَة، فنادى في الناس: اِقطعوا الصخورَ وابنُوا فهذه دارُ مُقام، فشرعوا في ذلك، فلمَّا رأى أهلُ هرقلةَ ذلك، جعلوا ينزلون من السُّور في الليلِ في الجبال، فلما قلَّ أهلُها، نصب عليها المَجانيق، وجدَّ في القتال، ففتحها عَنوة، ووجد بها جارية فائقةَ الجمال، فاتَّخذها لنفسه، فلمَّا عاد إلى الرَّافِقَةِ، بنى لها حِصْنًا بين الرافقةِ وبالِس (¬6)، وسماه هرقلة، ¬

_ (¬1) كذا في تاريخ الإسلام 4/ 793، والبداية والنهاية 13/ 674، وفي تاريخ الطبري 8/ 321: أبو المعالي. وفي تاريخ بغداد 9/ 16: أبو السعلى، وفي مختصر تاريخ دمشق 27/ 6: أبو السعلي. (¬2) كذا في تاريخ الإسلام وبعض النسخ الخطية لتاريخ الطبري كما بهامشه وفي مطبوع تاريخ الطبري والبداية والنهاية: الترفه، وفي الوافي 27/ 198: الثنية، والصواب: البنية، كما في تاريخ بغداد ومختصر تاريخ دمشق. والبنية الكعبة. (¬3) في (خ): استبراب، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 321. (¬4) في الكامل 6/ 196: وعن بطارقته كذلك. اهـ. أي: دينارين. (¬5) الدرياق والترياق: دواء مركب. القاموس المحيط (ترق، درق). (¬6) بلدة بالشام بين حلب والرقة. معجم البلدان.

سعدون المجنون

يحاكي به هرقلة، وقد دَثَر. ولمَّا بعث نقفورُ يطلبها، جهَّزها إليه، فبعث نقفورُ بجزيته وجزيةِ أهلِ بلده، وقال أبو العتاهية: [من الطويل] إِمامَ الهُدى أصبحتَ بالدِّين مَعْنيّا ... وأصبحتَ تَسقي كلَّ مُسْتَمْطِرٍ رِيّا إذا ما سَخِطتَ الشيءَ كان مُسخَّطًا ... وإِن ترضَ شيئًا كان في الناس مَرضيّا لك اسمانِ شُقّا من رشادٍ ومن هُدى ... فأنت الذي تُدعى رشيدًا ومَهدِيّا بَسَطتَ لنا شرقًا وغربًا يدَ العُلا ... فأوسعتَ شرقيًّا وأَوسعتَ غربيّا ووشَّيتَ وجهَ الأرضِ بالجود والنَّدى ... فأصبح وجهُ الأرضِ بالجود مَوشيّا وأنت أميرُ المؤمنين فتى التُّقى ... نَشَرتَ من الإِحسان ما كان مَطويّا قضى اللهُ أنْ صفَّى لهارونَ مُلكَه ... وكان قضاءُ اللهِ في الخلق مَقضيّا فأصبحت الدنيا مقرًّا لمُلكه ... وأصبح نقفورٌ لهارونَ ذِمِّيّا (¬1) [وفيها حج بالناس عيسى بنُ موسى الهادي. وفيها توفي] (¬2) سَعْدون المَجنون [من عُقَلاء المجانين ببغداد. روى أبو نُعيمٍ الحافظُ بإِسناده عن] الفَتْح بنِ شَخْرَف [قال] (¬3): كان سعدون صاحبَ محبَّة لله تعالى، صام ستين سنةً حتى خف (¬4) دماغُه، فسمَّاه الناسُ مجنونًا لتردد قولِه في المحبة، فغاب عنَّا زمانًا، فبينا أنا قائم على حلقة ذي النُون المصريِّ، وإذا به عليه جبَّةُ صوف مكتوب عليها: لا تُباع ولا تُشترى، فسمع كلامَ ذي النُّون، فصرخ وقال: [من الطويل] ولا خيرَ في شكوى إلى غيرِ مُشْتَكًى ... ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبرُ [وحدَّثنا غيرُ واحدٍ عن محمَّد بنِ أبي منصور بإِسناده إلى يحيى بنِ أيوب قال: ] ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 309، والمنتظم 9/ 184، وتكملة الديوان ص 674 - 675 باختلاف يسير. (¬2) من بداية هذه السنة بدأت النسخة (ب)، وأحداث هذه السنة فيها مقتصرة على ما بين حاصرتين. (¬3) في (خ): قال الفتح بن شخرف. (¬4) في (خ): جف. والمثبت من (ب) وهو الموافق لحلية الأولياء 9/ 371، والمنتظم 9/ 185، والبداية والنهاية 13/ 675.

خرجتُ يومًا إلى مقابر [باب] (¬1) خراسانَ، فإذا رجلٌ قد دخل المقابرَ وهو مُقَنَّع، فجعل كلما رأى قبرًا مُنْخَسِفًا وقف عليه، فتأمَّلته، فإذا به سعدون، كلَّما وقف على قبر بكى، وكان يكون في كوخٍ في مقابر عبدِ الله بنِ مالك، فقلت له: يا سعدون، ما تصنع ها هنا؟ ! فقال: يا يحيي، هل لك أن تجلسَ فتبكيَ على هذه الأبدانِ قبل أن تبلَى فلا يبكي عليها باك. ثم قال: يا يحيى البكاءُ على القدومِ على الله أَولى من البكاءِ عليها، ثم قال: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير: 10]. ثم صاح صيحةً عظيمة وقال: واغوثاهُ مما يقابلني في الصُّحف. قال يحيي: فغُشي عليّ، وأَفقتُ وهو جالسٌ يمسح وجهي بكمه ويقول: يا يحيي، مَن أشرفُ منك لو مُتَّ في هذا المقام؟ [وروى ابنُ باكويه الشيرازيُّ عن ذي النون المصريِّ قال: ] (¬2) خرج الناسُ يَستسقون بالبصرة، فكنت ممَّن خرج، فبينا أنا مع الناس، إذا بيدَين قد قبضتا على رِجلي، فقلت: مَن أنت؟ خلّ عنِّي، فقال: أنا سعدون، أين تريد يا أبا الفَيض؟ قلت: أريد المُصَلَّى أَدعو الله، فقال: بقلب سماوي أو بقلب خاوٍ، قلت: بقلبٍ سماوي، قال: اُنظر ما تقول، لا تُبهْرِجْ؛ فإنَّ النَّاقدَ بَصير. ثم قال: تدعَّوَ وأؤمِّن على دعائك، أو أدعو وتؤمِّن على دعائي؟ قلت: بل تدعو وأؤمِّن على دعائك، فصفَّ قدمَيه ثم قال: إلهي بحقِّ البارحة إلا أَمطرتَنا. قال ذو النُّون: فواللهِ لقد رأيت الغيومَ قد ارتفعت عن اليمين والشّمال حتى التقت، وجاء المطرُ كأفواه العَزَالي (¬3)، فقلت له: بحقِّ مَعبودِك، أيُّ شيء كان بينك وبين محبوبِك البارحة؟ قال: لا تدخل بيني وبين قُرَّة عيني، فقلت: لا بدَّ أن تُخبرَني، فأنشأ يقول: [من الوافر] أَنِستُ به فلا أَبغي سواه ... مخافةَ أن أَضِلَّ فلا أَراهُ فحسبُك حَسْرةً وضنىً وسُقمًا ... بطَرْدِك عن مجالسِ أولياهُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): وقال ذي النون المصري، والمثبت من (ب)، وأخبار سعدون في صفة الصفوة 2/ 512 - 516. (¬3) جمع عزلاء، وهو مصب الماء من الراوية ونحوها. القاموس المحيط (عزل).

[حدَّثنا جدِّي عن عمرَ بنِ ظفرٍ بإِسناده إلى] ذي النُّون [قال] (¬1): رأيت سعدونَ في المَقبُرة في يومٍ حارّ، وهو يُناجي ربَّه بصوتٍ عالٍ ويقول: أَحَدٌ أَحد، فسلَّمت عليه وقلت: بحقّ مَن تناجيه إلَّا ما وقفتَ لي، فوقف وقال: قل وأَوجز، قلت: أَوصِني بوصيَّة [أَحفظها عنك، أو تدعو لي بدعوة] فقال: [من المنسرح] يا طالبَ العلمِ من هنا وهنا ... ومَعدِنُ العلمِ بين جنْبَيكا إنْ كنت تبغي الجِنانَ تسكنُها ... فاذْرِفِ الدَّمعَ فوق خدَّيكا وقمْ إذا قام كلُّ مُجْتَهِدٍ ... وادعُ لكيما يقولَ لبَّيكا (¬2) ثم مضى وقال: يا غياثَ المستغيثين أَغِثني، فقلت له: اُرفقْ بنفسك، فلعلَّه يَلْحَظُك لَحْظةً فيغفر لك، فنفض يدَه من يدي وقال: أَنِست به فلا أَبغي سواه [وذكر البيتين وقال: أواه. وروى الخطيبُ عن] الأصمعيِّ [قال] (¬3): مررتُ بسعدون، وإذا هو جالسٌ عند رأس شيخٍ سكرانَ يَذُبُّ عنه، فقلت: ما لي أراك جالسًا عند رأسِ هذا؟ ! فقال: إنَّه مجنون، فقلت: أنت أو هو؟ قال: بل هو، قلت: ولم؟ قال: لأنّي صلَّيت الظهرَ والعصرَ جماعة، وهذا ما صلَّى جماعةً ولا فُرادى، قلت: فهل قلتَ في هذا شيئًا؟ قال: نعم، ثم قال: [من المتقارب] تركتُ النبيذَ لأهل النَّبيذ ... وأصبحتُ أشرب ماءً قَراحا فإنَّ النبيذَ يُذلُّ العَزيزَ ... ويكسو الوجوه النّضار الصباحا (¬4) فإنْ كان ذا جائزًا للشَّباب ... فما العُذرُ فيه إذا الشَّيب لاحا فقلت: صدقت. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال ذي النون. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) صفة الصفوة 2/ 514. (¬3) في (خ): وقال الأصمعي. (¬4) كذا في صفة الصفوة 2/ 515، ولعل الصواب: ويكسو بذاك الوجوه الصِّباحا، كما في المنتظم والبداية والنهاية 13/ 676، أو: ويكسو السواد الوجوهَ الصباحا، كما في نسخة من البداية والنهاية (طبعة مكتبة المعارف) 10/ 204. ووقع في مطبوع المنتظم 9/ 186: ويكسو سواد الوجوه الصباحا، وهو خطأ.

يحيى بن خالد بن برمك

[وروى الخطيبُ عن] صالح المُرِّي [قال]: قرأتُ بين يدي سعدون: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} [الرحمن: 58] فصفَّق وقال: مِلاحٌ والله، ثم قال: [من مجزوء الخفيف] إنَّ في الخُلْد جاريه ... هي حُسْنٌ كما هيه لو تراها على النَّما ... رِقِ بالغُنْج ماشيه لتمنَّيت أَنها ... لك ما عشتَ باقيه كَتَبَتْ في شقائق الـ ... ـخدِّ سطرًا بغاليه أنا للزَّاهد الذي ... عينُه الدهرَ باكيه (¬1) [وذكر جدي في "المنتظم" أنه مات في هذه السنة، ولم أقف على تاريخ وفاته في غير "المنتظم". وفيها توفِّي] يحيى بنُ خالد بنِ بَرمَك أبو جعفر، وقيل: أبو الفضل، وقيل: أبو عليّ (¬2) [وقد ذكرنا ترجمةَ أبيه خالدٍ وجدِّه برمك وبدايةَ يحيى. وذكره الخطيبُ فقال: ] كان المهدي قد ضمَّ إليه هارونَ وجعله في حِجْره، ومات المهديُّ ولقي من الهادي ما ذكرنا، فلمَّا استخلف هارون، فوَّض إليه الأمور، وكان يسمِّيه أبي، ثم نكبه، وقتل ابنَه جعفرًا، وحبس يحيى وأهلَه حتى مات في حبسه. [ذكر طرفٍ من أخباره: قال علماءُ السِّيَر: ] كان [يحيى] من عقلاءِ الرِّجال، الموصوفين بالجُود والنَّوال، والإِحسان والإِفضال، معدودًا في الأَجواد المُمَدَّحين، والوزراءِ المُحْسنين، حسنَ التأتِّي، ميمونَ النَّقيبة، فصيحَ الكلام، حليمًا متجاوزًا سيّدًا، عديمَ النظيرِ في الدنيا. [وحكى الصوليُّ أنه] لم يُطلِق أحدٌ وهو راكبٌ على دابته ألفَي ألفِ في رهمٍ سوه [أركب يومًا إلى دار الخليفة إلى منزله وقد اجتمع ببابه أربابُ الرواتبِ والقُصَّاد، ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 2/ 515 - 516. (¬2) (ب): أبو يحيى. وهو تحريف، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 16/ 195، والمنتظم 9/ 188، والسير 9/ 89، وتاريخ الإسلام 4/ 999.

فقاموا إليه، فقال. مَن هؤلاء؟ فقا لوا: أربابُ الرواتب، تأخَّرت الرواتب، قال: ومَن أخَّرها؟ قيل: البوَّاب، فاسترجع، قال: تُطلَق] وتسمَّى إطلاقَ الهُويّ؛ لأنَّه أَطلقها وهو يَهوي من دابَّته للنزول [فكانت ألفَي ألفِ درهم] (¬1). [وحكى الصوليُّ أيضًا قال: مدح شاعرٌ يحيى بنَ خالد] فقال (¬2): [من الطويل] سألتُ النَّدى هل أنت حرٌّ فقال لا ... ولكنني عبدٌ ليحيى بنِ خالدِ فقلت شراءً قال لا بل وراثةً ... توارثني من والدٍ بعدَ والد (¬3) فأعطاه مئةَ ألفِ درهم، وكان كلَّما مرت بخاطره أعطاه مئةَ ألفٍ حتى نُكب. [وحكى الخطيبُ (¬4) عن إسحاقَ بنِ إبراهيمَ قال: كانت صلةُ يحيى بنِ خالد] إذا ركب (¬5) لمن يتعرَّض له مئتي درهم، فركب ذاتَ يوم، فتعرض له [أديب] شاعرٌ فقال: يا سَمِيَّ الحَصورِ يحيى أُتيحت ... لك من فضل ربِّنا جنَّتانِ كلُّ من مرَّ في الطريق عليكمْ ... فله من نوالكمْ مئتان مئتا درهمٍ لمثلي قليلٌ ... هي منكمْ للقابس العَجْلان فقال له يحيى: صدقت، وأَمر بحمله إلى داره، فلمَّا رجع من دار الخليفةِ سأله عن حاله، فقال: تزوَّجتُ امرأة، وقد خيِّرت بين أن أؤدِّيَ مهرَها وهو أربعةُ آلافِ درهم، وإما أن أطلِّق، وإمَّا أن أقيمَ بالمرأة حتى يتهيَّأ نقلُها إلى منزل، وليس لي منزل. فأَمر له يحيى بأربعة آلافٍ للمهر، وأربعة آلافٍ لشراء منزل، وأربعةِ آلافٍ لما يحتاج إليه المنزل، وأربعةِ آلافٍ للدُّخول بها، وأربعةِ آلافٍ يستظهر بها، فانصرف وقد أعطاه عشرين ألفًا. وقال إِسحاقُ الموصليّ: أضقتُ إضاقةً شديدة، فأتيتُ يحيى بنَ خالد، فذكرتُ له ذلك، فقال: ما حضر عندي في هذا الوقتِ شيء، ولكن قد جاءني خليفةُ صاحبِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): ومدحه شاعر فقال. (¬3) العقد الفريد 1/ 268، والبداية والنهاية 13/ 680 دون نسبة. (¬4) في تاريخه 16/ 196. (¬5) في (خ): وكانت صلته إذا ركب، وما بين معكوفين من (ب).

مصرَ يسألني أن أستهديَ صاحبَه شيئًا، وأَبيتُ عليه، وقد لحّ، وقد جاءك يطلب منك جاريتَك، فلا تَنقصها من ثلاثين ألفَ دينار، فإنِّي سأستهديه إيَّاها. قال: فخرجتُ من عنده، فما شعرت إلَّا بالرَّجل قد جاءني وساومني الجارية، فقلت: لا أَنقصها عن ثلاثين ألفَ دينار، فاشتراها بعشرين ألفَ دينار، وكانت تساوي ألفَ دينار. ثم حملها إلى يحيى، فاستدعاني وقال: كم دفع لك في الجارية؟ قلت: بعتُها بعشرين ألفَ دينار، فقال: إنَّك لَخسيس، خذ جاريتَك، فهذا خليفةُ صاحبِ فارسَ قد جاء [في] مثل هذا، فلا تنقصْها من خمسين ألفَ دينار. فأخذتُها وخرجت، وإذا خليفةُ صاحبِ فارسَ قد جاء فساومني إيَّاها، فبعتها منه بثلاثين ألفَ دينار، ثم أتيتُ يحيى فأخبرته، وقال: ويحك، ألم تؤدِّبك الأولى عن الثانية! خذ جاريتَك، فقلت: جارية أَفادتني خمسين ألفَ دينارٍ ثم أملكها! لا والله، أُشهدك أنها حرَّة وقد تزوَّجتُها. ولما تنكَّر الرشيدُ للبرامكة، بعث صالحًا صاحبَ الموصلِ (¬1) إلى منصور بنِ زيادٍ يقول له: قد وجب عليك عشرةُ آلافِ ألفِ درهم، فاحملها إليَّ اليوم، فإنْ فعل إلى قبلَ غروبِ الشَّمس وإلَّا فأتِني برأسه من غيرِ مراجعة. قال صالح: فخرجتُ إلى منصورٍ فعرَّفته، فقال: ذَهَبتْ واللهِ نفسي، واللهِ ما أَملك ثلاثَ مئةِ ألفِ درهم فضلًا عن عشرة آلافِ ألف درهم. ثم قال: يا صالح، اِحملني إلى أهلي حتى أُوصي، فلمَّا دخل على الحَرَم، أَوصى، وارتفع صُراخ الحرمِ والجوار. ثم قال منصورٌ لصالح: امضِ بنا إلى يحيى بن خالدٍ لعل اللهَ أن يأتي بالفَرَج على يده، فدخلا على يحيى، فبكى منصور، فقال: ما لَك؟ ! فقصَّ عليه القصَّة، فأطرق مفكِّرًا، ثم دعا جاريتَه فقال: كم عندكِ من المال؟ فقالت: خمسةُ آلافِ ألفِ درهم، فقال: أعديها (¬2)، ثم بعث إلى ابنه الفضلِ قال: يا بُنيّ، كنتَ أَخبرتني أنَّك تريد أن تشتريَ ضيعةً بألفَي ألفِ درهم، وقد وجدتُ لك ضيعةً تُغِلّ الشُّكر، وتبقى على ممرِّ الدهر، فابعث إليَّ بالمال، فبعث به إليه، وبعث إلى جعفرٍ فقال: يا بنيّ، ابعث لي ¬

_ (¬1) في المنتظم 9/ 190، والتذكرة الحمدونية 2/ 191: صاحب المصلى. (¬2) كذا، ولعلها: أعيريها. والله أعلم.

بألفِ ألفِ درهمٍ (¬1) لحقٍّ قد لزمني، فبعث به إليه، ثم فكَّر ساعة، ثم قال لخادمٍ على رأسه: اُدخل إلى دنانيرَ فقل لها: هاتِ العِقدَ الذي وهبه لك أميرُ المؤمنين، فجاءَ به فقال: هذا عقدٌ ابتعتُه لأمير المؤمنين بمئة ألفِ دينارٍ وعشرين ألفِ دينار، فوهبه لدنانير، وقد قومناه عليك بألفَي ألفِ درهمٍ ليتم المال، فخلِّ عن صاحبنا. قال صالح: فأخذتُ المال ورددتُ منصورًا معي، فلما صرنا إلى الباب تمثَّل منصور وقال: [من الوافر] فما بُقْيا عليَّ تركتماني ... ولكن خِفْتُما صَرَدَ النِّبالِ قال صالح: فقلتُ في نفسي: ما أحدٌ أكرمَ من يحيى، ولا أحدٌ أردأَ من هذا النَّبَطي؛ إذ لم يشكرْ مَن أَحيا نفسَه، وصرتُ إلى الرشيد، فعرفته ما جرى إلَّا إِنشادَ البيت؛ خوفًا على منصورٍ أن يقتلَه، فقال الرشيد: قد علمتُ أنَّه لا يَسلم إلا بأهل هذا البيت، فاقبض المال وردَّ العِقد، فما كنت لأهبَ هبةً ثم أرتجعها. قال صالح: وحملني غيظي من منصورٍ أنَّني عرَّفت يحيى ما أَنشد، فأَقبل يحيى يتحمَّل له العُذرَ ويقول: إنَّ الخائفَ لا يبقَى له لُب، وربَّما نطق بما لا يعتقد. فقلت: واللهِ ما أدري من أيِّ فعلَيك أَعجب، من فعلك معه أو من اعتذارِك عنه؟ لكني أعلم أنَّ الزمانَ لا يأتي بمثلك أبدًا. وقال بعضُ عمومةِ الرشيدِ ليحيى قبل نكبتِه: إنَّ هارونَ قد أحبَّ جمعَ المالِ لولده، وقد كثروا عليك وعلى أولادك وأصحابِك عنده، فلو نظرتَ إلى ضِياع أصحابِك وأموالهِم فتقرَّبت بها إلى ولده أَمِنت غائلَتَه، فقال: هيهاتَ هيهات، والله لَأَن تزولَ نعمتي عني أحبُّ إليَّ من أن أُزيلَها عن قومٍ كنتُ سببًا في إِيصالها إليهم، وكلُّ كائنٍ مَقضيّ. وفيه يقول أبو قابوس الحِميَري: [من البسيط] رأيتُ يحيى أتمَّ اللهُ نعمتَه ... عليه يأتي الذي لم يأتِه أَحدُ يَنسى الذي كان مِن معروفهِ أبدًا ... إلى الرّجال ولا ينسى الذي يَعِدُ (¬2) ¬

_ (¬1) في (خ): بألف ألف ألف درهم. والمثبت من المنتظم 9/ 191، والتذكرة الحمدونية، والبداية والنهاية 13/ 679. (¬2) تاريخ بغداد 16/ 197، ووفيات الأعيان 6/ 225.

وقال العُتْبي: مرض يحيى، فكان إسماعيل بن صبيحٍ إذا عاده جلس عند رأسِه، ودعا له، ثم يخرج فيسأل الخادمَ عن نومه وأكلِه وشرابِه ولا يسأل يحيى، فلمَّا بريء قال: ما عادني (¬1) إلَّا إسماعيلُ بن صبيح. [وحكى الخطيبُ (¬2) عن محمَّد بنِ يحيى النَّديمِ قال: ] قال يحيى: ثلاثةُ أشياءَ تدلُّ على عقول أربابِها: الهديَّة، والكتاب، والرسول. [قال: ] وقال لولده: اكتبوا أحسنَ ما تسمعون، واحفظوا أحسنَ ما تكتبون، وتحدَّثوا بأحسنِ ما تحفظون. و[قال عليُّ بن عيسى: ] كان يقول: إذا أَقبلت الدنيا فأَنفق؛ فإنَّها لا تفنى، وإذا أَدبرت فأَنفِق، فإنَّها لا تبقى. وقال: حاجبُ الرجلِ عاملُه على عِرضه. ومَن بلغ رتبةً فتاهَ بها، كان محلُّه دونها. وقال: يدلُّ على حِلم الرجلِ سوءُ أدبِ غلمانه. وقال لابنه: خذ من كلِّ شيءٍ طرفًا؛ فإنَّ مَن جهل شيئًا عاداه. وقال [الأصمعيّ: كان يحيى يقول] (¬3): الدنيا دُوَل، والمالُ عارية، ولنا بمَن كان قبلَنا أُسوة، وبمن بعدنا عِبرة. واختطَّ جعفرٌ دارًا، فقال له أبوه: يا بُنيّ، هي قميصُك، فإن شئتَ فضيِّق، وإن شئت فوسِّع. وكتب إلى هارونَ من الحبس رُقْعةً يقول فيها: لأمير المؤمنين وخليفة ربِّ العالمين، من عبد أَسلمتْه ذنوبُه، وأَوْبَقتْه عيوبُه، وخذله شقيقُه، ورفضه صاحبُه ورفيقه، فعَثَر به الزمان، ونزل به الحَدَثان، فحلَّ في الضِّيق بعد السَّعة، والبؤسِ بعد الدَّعة، ولبس البلاءَ بعد الرَّخاء، وافترش السخط بعد الرِّضا، واكتحل السُّهادَ وعَدِمَ الرُّقاد، فساعتُه شهر، وشهرُه دهر (¬4)، جَزَعًا يا أميرَ المؤمنين -قدَّمني اللهُ قَبلَك- على ما فات من قُربك، لا على شيءٍ من المواهب؛ لأنَّ الأهلَ والمال كانا عارية، والعارِيةُ ¬

_ (¬1) في (خ): ما دعاني. والكلام ليس في (ب). (¬2) في تاريخه 16/ 195. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في العقد الفريد 5/ 68، والمحاسن والمساوئ للبيهقي ص 535: وليلته دهر.

مردودة، وأمَّا ولدي فأُصيب بذنبه وحقِّه، وما أخشى عليك الخطأ في أمره، ولا أنَّك جاوزتَ به فوق حدِّه، فتفكَّر في أمري، واذكرْ حالي، واعفُ عن ذنبٍ مِن صاحبه الزَّللُ ومنك الإِقالة، وإنَّما أعتذر إليك حتى ترضى، فإذا رضيتَ، لم يتعاظمْ ذنبي عندك غفرانُه. ثم كتب في أَسفلها: [من مجزوء الكامل] قلْ للخليفة ذي الصَّنا ... ئعِ والأيادي العاليهْ وابنِ الخلائفِ من قُريـ ... شٍ والملوكِ الهاديه مَلِكَ الملوكِ وخير مَن ... ساسَ البرايا الماضيه إنَّ البرامكةَ الذيـ ... ن رُموا لديك بداهيه عمَّتهمُ لك سَخطةٌ ... لم تُبقِ منهمْ باقيه فكانَّهمْ في حالهم ... أَعجازُ نخلٍ خاويه صُفْرُ الوجوه عليهمُ ... خِلَعُ المذلَّة باديه بَعدَ الوزارة والإِما ... رةِ والأمورِ الساميه أضْحَوا وجُلُّ رضاهمُ (¬1) ... منك الرِّضا والعافيه يا لهْفَ نفسي حَسْرةً ... ما للزَّمان ومالِيه يا عطفةَ المَلِكِ الرِّضا ... عُودي علينا ثانيه فلمَّا وقف هارونُ عليها، وقَّع على رأسها: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} الآية [النحل: 112]، وكتب في أسفلها: يا آلَ برمكَ إنَّكمْ ... كنتمْ ملوكًا عاتيهْ فطَغَيتمُ وبَغَيتمُ ... وكفرتمُ نَعمائيَه أَجرى القضاءُ عليكمُ .. ما خنتموه علانيه مِن تركِ نصح إِمامكمْ ... عند الأمورِ الباديه هذي عقوبةُ مَن عصى ... مَعبودَهُ (¬2) وعصانيه ¬

_ (¬1) في العقد الفريد 5/ 69، والمحاسن والمساوئ ص 536: مناهم. (¬2) في المحاسن والمساوئ ص 538: من فوقه.

وقال الفضلُ لأبيه (¬1): يا أَبَة، بعد الأمرِ والنَّهي والأموالِ العظيمةِ أَصارنا الدهرُ إلى القيود ولُبسِ الصوفِ والحبوس! فقال له: يا بُني، دعوةُ مظلوم، سَرَت بليل، غَفَلْنا عنها ولم يغفُل اللهُ عنها، ثم قال يُنشد: [من الرمل] ربَّ قومٍ قد غدَوا في نعمةٍ ... زَمَنًا والدَّهرُ ريَّانُ غَدَقْ سكت الدهرُ زمانًا عنهمُ ... ثم أَبكاهم دمًا حينَ نَطَقْ [ذكر دخول زوجة يحيى على هارون: حكى العُتبيُّ والهيثمُ بن عَدي عن] الفضلِ بن الرَّبيع [قال] (¬2): كانت أمُّ جعفرِ بن يحيى، وهي فاطمةُ بنت محمَّد بن الحسين بن قَحْطَبة، وقيل: اسمُها عُبادة، وليست أمَّ الفضل [التي أَرضعت الرشيدَ بلِبانها] وكان هارونُ يُكرمها كما يفعل بأمِّه الخَيزُران، ويتبرَّك برأيها ولا يحجبها عنه، ويسمّيها: أمِّي، فلمَّا نكب البرامكةَ حجبها عنه، فطلبت الإذنَ عليه، فحُجِزَت عنه، فلمَّا طال ذلك عليها، خرجت كاشفة وجهَها، حاسرة حافية، واضعةً لِثامها، فوقفت ببابه، فأعظم الناسُ ذلك، فدخل الحاجبُ فقال: أمُّ أميرِ المؤمنين في حالٍ تَسرُّ الشامتَ وتسوء الصَّديق، فأَذن لها، فدخلت، فلمَّا رآها على تلك الحال، قام حافيًا فتلقَّاها من باب المجلس، وأكبَّ يقبِّل رأسَها ومواضعَ يديها، وأَقعدها معه في فراشه، فبكت وقالت: يا أميرَ المؤمنين، أَيعدو علينا الزَّمان، ويخوِّفنا الأَعوان (¬3)، ونجرُّ ذيل الهوان، وقد ربَّيتك في حِجري، وأخذتُ بذلك الأمانَ من دهري! ؟ فقال: وما ذاك يا أماه؟ قالت: ظِئرُك يحيى وأبوك بعد أبيك، فقال لها: أمرٌ سبق وقضاءٌ نفذ، فقالت: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39] قال: فهذا أمرٌ لم يمحُه، فقالت: الغيب محجوبٌ عن النبيِّين، فكيف عنك يا أميرَ المؤمنين. فأَطرق ساعةً ثم رفع رأسَه وقال: [من الكامل] ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 16/ 198، والمنتظم 9/ 191 أن القائل جعفر بن يحيى. وفي حاشية الأصل من المنتظم أنه الفضل. وأبهمه الذهبي في تاريخ الإسلام 4/ 1000، وابن كثير في البداية والنهاية 13/ 679. ونسب القول الذهبي في السير 9/ 90 لأولاده. (¬2) في (خ): قال الفضل بن الربيع، وما بين معكوفين من (ب). (¬3) في العقد الفريد 5/ 63: ويجفونا خوفًا لك الأعوان.

وإذا المنيَّةُ أَنشبت مِخلابَها ... أَلفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تَنفعُ (¬1) فقالت: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيظَ} [آل عمران: 134] الآية، [فأطرق هارونُ مليًّا، ثم] (¬2) أَنشد: [من الطويل] إذا انصرَفَت نفسي عن الشيءِ لم تَكَدْ ... إليه بوجهٍ آخِرَ الدهرِ تُقْبِلُ فقالت: وهو القائل: ستُقطَع في الدُّنيا إذا ما قطعتَني ... يمينُك فانظر أيَّ كفٍّ تبدَّلُ (¬3) فقال: قد رضيت. فلم تزل تُرَقِّقه (¬4)، وأَنشدت: [من الكامل] وإذا افتَقَرْتَ إلى الذَّخائر لم تجدْ ... ذُخْرًا يكون كَصالح الأَعمالِ (¬5) فقال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] فلما آيسها، أخرجت حُقًّا (¬6) من زمرُّد أخضر، فوضعته بين يديه وفتحت عنه قُفلًا من ذهب، فأخرجت منه ثناياه وذؤابتَه وخَفْضَتَه، وقد غَمَست الجميعَ في المِسك، وقالت: هذه ثناياك وذؤابتُك، وأنا أتشفَّع بها إليك في يحيى، فلثمه هارونُ واستعبر باكيًا، وبكى أهلُ المجلس، ولا يُظنُّ ذلك البكاءُ إلا رحمةً ليحيى، وسبق البشيرُ إلى يحيى، ثم أعاد هارونُ الجميعَ إلى الحُقِّ وقال لها: بحسن ما حفظتِ الوديعة، فقالت: وأنت أهلٌ للخير والمكافأة، فأَعاد إليها الحُقَّ ثم قال: أَشتريه منك؟ قالت: نعم، قال: بكم؟ قالت: بعفوك عمَّن لم يُسخطْك قطّ، فقال: أما لي عليك من الحَقِّ مثلُ الذي لهم، قالت: بلى، لكن أنت أعزُّ عليَّ منهم وهم أحبُّ إليَّ منك، قال: فتسلِّي بثمن الحُقِّ مهما أردتِ عنهم، فوَجَمَتْ، ورَمَت الحُقَّ بين يديه وقالت: قد وهبتُه لك، وقامت فخرجت، وبقي مبهوتًا لا يُحير جوابًا. ¬

_ (¬1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، وهو في ديوان الهذليين ص 3، وروايته: أنشبت أظفارها. (¬2) ما بين معكوفين من العقد 5/ 63. (¬3) البيتان من قصيدة لمعن بن أوس. انظر معجم الشعراء ص 323، والخزانة 8/ 292. (¬4) من قوله: وأنشد: إذا انصرفت، إلى هنا ليس في (ب). (¬5) البيت للأخطل، وهو في ديوانه ص 158. (¬6) الحقة: الوعاء من خشب. القاموس المحيط (حقق).

قال: فواللهِ ما عادت إليه، ولا سُمعت لها أنَّة، ولا رُئيت لها عَبرة. و[قال سهلُ بن هارون: ] (¬1) كتب يحيى إلى هارونَ ورقةً وأرسلها إلى زبيدة، فناولَتْه إيَّاها وقتَ لذَته، فكتب في أسفلها: عِظَمُ ذنبِك أَمات خواطرَ العفو عنك. فلمَّا قرأها يئس منه. ذِكر وفاتِه: [قال الخطيب: ] (¬2) توفِّي [يحيى بنُ خالد] في حبس هارونَ بالرَّافقة لثلاثٍ خَلَون من المحرَّم سنة تسعين ومئة، وهو ابنُ سبعين سَنَة، وصلَّى عليه ابنُه الفضل، ودُفن على شاطئ الفراتِ في رَبَض هَرْثَمَة. ووجدوا في جُبَّته رقعة فيها مكتوبٌ بخطِّه: قد تقدَّم الخصمُ، والمدَّعى عليه على الأَثر، والقاضي هو الحاكمُ العَدْلُ الذي لا يَجور ولا يحتاج إلى بيِّنة (¬3)، فحُملت الرُّقعة إلى الرَّشيد، فقرأها، فلم يزل يبكي يومه، وبقي أيامًا يتبيَّن الأَسى في وجهه [وفي رواية: وفي آخرها: وستعلم فتندم]. و[يقال: إنَّ الرشيد] لمَّا قرأ الرقعةَ قال [وكتب]: الحاكمُ الذي رضيتَ به في الآخرة هو الذي أَعدى عليك الخصمَ في الدنيا، وهو ممَّن لا يُتَّهم في قضائه. [قالوا: وليس هذا بجوابٍ ليحيى، لعدم التَّساوي في الدنيا] (¬4). وكان ليحيى من الولد الفضلُ وجعفرٌ وموسى ومحمَّد وغيرُهم، فولَّى المأمونُ موسى بنَ يحيى المدينة، وهو شقيقُ جعفر، وولَّى الفضلَ دمشق. وكان المأمونُ محسنًا إلى أَولاد يحيى [وسنذكر ذلك، ] ويثني عليهم وعليه ويقول: أهلُ بيتٍ خُصُّوا بالفضل والجودِ ومكارمِ الأخلاق ما لم يوجدْ ذلك في غيرهم، وينشد: [من الطويل] إذا قَدِموا بطحاءَ مكَّةَ أَشرقت ... بيحيي وبالفضل بنِ يحيى وجعفرِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخه 16/ 199. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) بعدها في (خ): وستعلم فتندم، وستأتي قريبًا. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

فما خُلقتْ إلَّا لجودٍ أكفُّهمْ ... وأَقدامُهمْ إلَّا لأَعوادِ منبر (¬1) و[حكى القاضي يحيى بنُ أكثمَ قال] كان [المأمون] (¬2) يقول: لم يكن كيحيى وولدِه في الكفاية والجودِ والبلاغة والشَّجاعة نظير، ولقد صدق القائل: [من مجزوء الرجز] أولادُ يحيي أربعٌ ... كالأَربع الطبائعِ فهم إذا اختبرتهم ... طبائع الصَّنائع فقال له ابن أكثم: الكفايةُ والجودُ والبلاغة [نعرفها]، ففيمن (¬3) الشَّجاعة؟ فقال: هي واللهِ في الكلّ، خصوصًا في موسى، وقد عزمتُ على أن أولِّيَه ثَغْرَ السِّند. وكان يحيى يُجري على سفيانَ بنِ عيينةَ في كلِّ شهرٍ ألفَ درهم، فسُمع سفيان يقول في سجوده: اللهمَّ إنَّ يحيى قد كفاني أمرَ دنياي فاكفِه أمرَ آخرته. فلمَّا مات يحيى، رآه بعضُ إِخوانه في المنام، فقال: ما صنع اللهُ بك؟ فقال: غفر لي بدعوة سفيان. [وقد ذكرناه بمعناه في ترجمة جعفرِ بن يحيى، إلَّا أنَّه ليس فيه ذِكرُ المنام] (¬4). حكاية جرت في أيَّام المأمون [تتعلق بالبرامكة: حدَّثنا غيرُ واحدٍ عن محمَّد بنِ عبد الباقي البزَّاز بإِسناده عن] مَسْرورٍ الخادم قال (¬5): استدعاني المأمونُ فقال لي: قد أَكثر عليَّ أصحابُ [أخبار] السِّرِّ أنَّ شيخًا يأتي خرابَ البرامكة، فيبكي وينتحبُ طويلًا، ثم يُنشد شعرًا يَرثيهم وينصرف، فاركب أنت ودينارُ بن عبد اللهِ واستترْ بالجدران، فإذا جاء وشاهدتماه وسمعتما ما يقول، فأتياني به. فركبنا مُغَلِّسين، وأتينا المكان فاختفينا، فلمَّا طلع الفجر، جاء خادمٌ أسودُ وبيده كرسيٌّ من حديد، فطرحه، وجاء على أَثَره كَهْل، فجلس عليه وتلفَّت فلم يَر أحدًا، فبكى وانتحب، حتى قلتُ: فارق الدُّنيا، وأَنشد: [من الطويل] ¬

_ (¬1) البيتان لمحمد بن مناذر، انظر طبقات الشعراء ص 152، والأغاني 18/ 201، ووفيات الأعيان 6/ 224. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): ففيم، والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 197 وما بين معكوفين منه، ووفيات الأعيان 6/ 222. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ): قال مسرور الخادم.

ولما رأيتُ السيفَ خالطَ جعفرًا الأبيات المتقدمة (¬1). فلمَّا قام قبضنا عليه، فقال: ما تريدان منِّي؟ قلنا: أميرُ المؤمنين يستدعيك، وهذا دينارُ بن عبدِ الله وأنا مسرور، فأَبلس وقال: إنِّي لا آمنه على نفسي، فأَمهِلني حتى أُوصي، قلت: شأنك. فسرنا معه، فوقف على دُكَّان رجلٍ واستدعى دواةً وبيضاء، وكتب فيها وصيَّته ودفعها إلى خادمه، وسرنا به، فلمَّا مَثُل بين يدي الخليفة زَبَره وقال: مَن أنت؟ وبم استحقَّ الرامكةُ منك ما تصنع؟ فقال غيرَ هائبٍ ولا مُحْتَشِم: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ للبرامكة عندي أياديَ خَضِرة، فإنْ أمر أميرُ المؤمنين حدثتُه ببعضها، فقال: هات، فقال: أنا المنذرُ بن المغيرةِ الدِّمشقي، نشأتُ في نعمة، فزالت عني حتى أَفضيتُ إلى بيع داري، وأمْلَقتُ إلى الغاية، فأُشير عليَّ بقصد البرامكة، فخرجتُ إلى بغدادَ ومعي نيِّفٌ وعشرون امرأةً وصبيًّا، فدخلتُ بهم إلى مسجد ببغداد، ثم خرجت وتركتهم جِياعًا لا نفقةَ لهم، فمررتُ بمسجدٍ فيه جماعة عليهم أحسنُ زِيّ، فجلست معهم أُردِّد في صدري ما إخاطبهم به، فتجد نفسي عنده ذلَّ السؤال (¬2)، وإذا خادم قد أزعج القوم، فقاموا وقمت معهْم، فدخلوا دارًا كبيرةً ودخلت، فإذا بيحيى بن خالدٍ جالسٌ على دَكَّةٍ وسطَ بستان، فجلسنا، وكنا مئةَ رجلٍ ورجل، فخرج مئةُ خادمٍ وخادم، في يد كلِّ واحدٍ مِجْمَرةٌ من ذهبٍ فيها قطعةُ عَنْبَر، فسَجَروا العود، وأقبل [يحيي] على القاضي وقال: زوِّج ابنَ عمِّي هذا بابنتي عائشة، فخطب وعقد النّكاح، وأخذ بالنُّثار من فُتات المسكِ وبنادقِ العنبر وتماثيلِ النَّدّ، والتقط الناسُ ولقطت، ثم جاءنا الخدمُ في يد كلِّ واحدٍ صينيةٌ فيها ألفُ دينارٍ مخلوطة بالمسك، فوضع بين يدي كلِّ واحدٍ صينية، فأَقبل كلُّ واحدٍ يأخذ الدنانيرَ في كمِّه والصينيةَ تحت إِبطه ويخرج، وبقيتُ أنا وحدي لا أَجسر أَفعلُ ذلك، فغمزني بعضُ الخدمِ وقال: خذها وقم، فأَخذتها وقمت، وجعلت أمشي وأَلتفت خوفًا من أن تؤخَذَ مني، ويحيى يلاحظني من حيث لا أَفطُن. ¬

_ (¬1) ص 99، وانظر الخبر في المنتظم 9/ 146. (¬2) في المنتظم 9/ 146: فتحيد نفسي عن ذل السؤال.

فلما قاربت السِّتر، رُددتُ، فيئستُ من الصينية، فجئت، فأمرني بالجلوس وسألني عن حالي، فحدَّثته بقصَّتي، فبكى ثم قال: عليَّ بموسى، فجاءه، فقال: يا بُنيّ، هذا رجلٌ من أولاد النِّعم قد رمته الأيامُ بصرفها، فخذه واخلطْه بنفسك، فأخذني فخلع عليّ، وأمرني بحفظ الصِّينية، فكنتُ في العيش يومي وليلتي، ثم استدعى أخاه العباسَ وقال: إنَّ الوزير سلَّم إليَّ هذا وأريد الرُّكوبَ إلى دارِ أميرِ المؤمنين، فلْيكن عندك اليوم، فكان يومي مثلَ أمسي، وأَقبلوا يتداولوني وأنا قَلِقٌ بأمر عيالي، ولا أتجاسر أن أذكرَهم، فلمَّا كان اليومُ العاشر، أُدخلت على الفضل، فأقمتُ عنده يومي وليلتي، فلمَّا أصبحت جاءني خادمُه فقال: قم إلى عيالك وصبيانك، فقلت: إنا لله، ذَهَبَت الصينية وما فيها، فليت هذا كان من أوَّل يوم، وقمت مع الخادمِ أمشي، فأخرجني من الدار، فازداد يأسي، ثم أَدخلني إلى دارٍ كأنَّ الشمسَ قد طلعت من جوانبها، وفيها من صنوف الآلاتِ والفُرُش، فلما توسَّطتها، رأيت عيالي يرتعون في الدِّيباج والحريرِ وفنونِ الأَطعمة، وقد حملت إليهم مئة ألفِ درهمٍ وعشرة آلافِ دينار، وسلَّم إليَّ الخادمُ صكًّا بضيعتَين جليلتين وقال: هذه الدارُ وما فيها والضَّيعتان لك. فأقمتُ مع البرامكة في أَخفضِ عيشٍ إلى الآن، ثم قصدني عَمرو بنُ مَسعدةَ في الضَّيعتين، وأَلزمني من خَراجهما ما لا يفي [به] دخلُهما، فكلَّما لحقتني نائبة، قصدتُ دورَهم فبكيتُهم، فاستدعى المأمونُ عَمرَو بن مسعدةَ وأمره أن يردَّ عليه ما استخرج منه، ويقرِّرَ خراجه على ما كان عليه في أيَّام البرامكة، فبكى الرجلُ بكاءً شديدًا، فقال له المأمون: أَلم أستأنفْ بك جميلًا! قال: بلى، ولكن هذا من بركةِ البرامكة، فقال (¬1): امضِ مصاحَبًا؛ فإن الوفاءَ مبارك، وحسن العهدِ من الإِيمان [انتهت ترجمته واللهُ أعلم، والحمدُ لله وحده، وصلَّى اللهُ على محمَّد]. * * * ¬

_ (¬1) في (خ): وأنشد.

السنة الحادية والتسعون بعد المئة

السَّنة الحادية والتِّسعون بعد المئة فيها استفحل أمرُ رافعِ بن اللَّيثِ بسَمَرْقَند، فكتب إليه أهلُ نَسَفَ يعطونه الطاعةَ، ويسألونه أن يبعث إليهم مَن يُعينهم على عيسى بنِ علي، فوجَّه صاحب الشاش في عسكره، فقُتل عيسى بنُ عليِّ بن ماهان، وكان واليًا عليهم. ولمَّا بلغ الرشيدَ قتلُ عيسى وتفريطُ عليٍّ في أمر خراسان، عزله وولَّى هَرْثَمةَ بن أَعْيَن، وكان علي بن عيسى لما قُتل ابنُه عيسى ببَلْخَ خرج (¬1) منها، فأتى مَرْوَ خوفًا أن يقصدَه رافعُ بن الليث، وكان عيسى بنُ عليٍّ قد دَفن ببلخ في بستان دارِه أموالًا عظيمة، قيل: مبلغُها ثلاثون ألفَ ألفِ درهم، ولم يُعلِم بها عيسى سوى جاريةٍ كانت له، فلمَّا شخص عليٌّ عن بلخ، أَطلعت الجاريةُ بعص الخدم، وتحدَّث به الناس وشاع الخبر، فاجتمع أهلُ بلخ ودخلوا البستانَ واستخرجوا الأَموال، ونهبها العامَّة، وبلغ الرشيدَ الخبر، فقال: خرج عليٌّ من بلخ بغير أمري وبها هذه الأموالُ، وهو يزعم أنه باع حُلِيَّ نسائه وأَنفقه في محاربة رافع! فعزله وولَّى هرثمة، فاستصفى أموال عليِّ بن عيسى، فبلغت ثمانين ألفَ ألفِ درهم. وحكى بعضُ موالي الرشيدِ فقال: كنَّا بجُرْجان مع الرشيدِ وهو يريد خُراسان، فوصلت خزائن عليِّ بن عيسى على ألفٍ وخمس مئةِ بعير. ولما عزم الرشيدُ على عزل علي بن عيسى، دعا هَرْثمةَ مُسْتَخليًا فقال: إنِّي لم أشاورْ فيك أحدًا ولم أُطلعه على سِرِّي فيك، وقد اضطرب عليَّ ثَغْرُ المشرق، وإنَّ عليَّ بن عيسى أمرهُ مختلف، وقد نبذ عهدي وراءَ ظهره، وقد خالف أمري، وقد كتب إلي يستمدّ، وأنا كاتبٌ إليه، أخبره بأنِّي قد بعثتك مَددًا له، وأنِّي قد بعثت معك منَ الأموال والسِّلاح والعددِ ما يطيب به قلبُه ويطمئنُّ إليه، وقد كتبت كتابًا بخطِّ يدي، فلا تَفُضَّه حتى تصلَ إلى نَيْسابور، فإذا نزلتَها فاعمل بما فيه ولا تجاوزْه، وإنِّي موجِّه معك رجاءً الخادمَ بكتابٍ أكتبه إلى علي بن عيسى بخطِّي ليتعرَّفَ ما يكون منك ومنه، فتأهَّبْ ¬

_ (¬1) في (خ): فخرج، والكلام غير موجود في (ب). وانظر تاريخ الطبري 8/ 324.

عيسى بن يونس

للمسير، وأَظهِر أنَّك إنَّما وجَّهتُك مددًا لعلي بن عيسى. ثم كتب كتابًا بخطِّه إلى عليِّ بن عيسى يشتمه ويقذف أمَّه ويقول: رفعتُ من قدرك، ونوَّهت باسمك، وأوطأتُك سادةَ العرب، وجعلت أبناءَ الملوكِ العجم خَوَلك وأَتباعَك، فكان جزائي أن خالفتَ عهدي، ونبذتَ وراءَ ظهوك أمري، حتى عِثْتَ في الأرض وظلمتَ الرَّعية، وقد ولَّيتُ هَرْثَمةَ بن أَعيَنَ مولاي ثغرَ خراسان، وأمرتُه أن يشدَّ وطأتَه عليك وعلى ولدك وكتَّابك وعمَّالك، ولا يتركَ وراء ظهرِكم درهمًا واحدًا، ولا حقًّا لمسلمٍ ولا معاهدٍ إلَّا أخذكم به، حتى يردَّ الحق إلى أهله. وذكر كلامًا هذا معناه. وكان أهلُ خراسان قد كتبوا إلى هارونَ أنَّ رافعًا لم يَخلع ولا خرج عن الطاعة، وإنَّما السببُ الموجبُ لخروجه وخروجِ أهل خراسانَ معه ظلمُ عليِّ بن عيسى، فإنَّه قد سامهم العَسف. ولما سار هرثمة، شيَّعه هارونُ إلى النَّهروان وأَوصاه بما يعتمد عليه. وفيها وقع الثلجُ بمدينة السلامِ [وحكاه جدِّي في "المنتظم" (¬1) وزاد بأن قال: فكان] مقدارَ أربعِ أصابعَ مفرَّجة. [قلت: وإنَّما يُستعظم هذا ببغدادَ لأنَّ الثلجَ قليلُ الوقوعِ بها، وإلا فهو في غيرها قامات. وحجَّ بالناس الفضلُ بن العباسِ بنِ محمَّد بنِ علي وهو أمير على مكَّة] (¬2). فصل وفيها توفي عيسى بنُ يونسَ ابنِ أبي إسحاقَ السَّبيعي، أبو عَمرٍو الكوفي (¬3). من الطبقة السابعةِ من أَهل الكوفة. انتقل إلى الشَّام ونزل ثَغرَ الحَدَث، فأَقام به ¬

_ (¬1) 9/ 194. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) بعدها في (ب): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. اهـ. وتنتهي السنة بها. (¬3) تاريخ بغداد 12/ 473، المنتظم 9/ 195، تاريخ الإسلام 4/ 939، السير 8/ 473، تهذيب الكمال (5262).

مرابطًا. وكان زاهدًا عابدًا، تُعرض عليه الأموالُ فلا يقبل شيئًا. حجَّ الرشيد ومعه الأمينُ والمأمون، فلمَّا نزل الكوفة قال لأبي يوسفَ القاضي: قل للمحدِّثين يحدِّثونا. فجاؤوا، فلم يتخلَّف من شيوخ الكوفةِ إلَّا اثنان: عبدُ الله بنُ إِدريس، وعيسى بنُ يونس. فركب الأمين والمأمونُ إلى ابن إِدريس، فحدَّثهما بمئة حديث، فقال له المأمون: يا عمّ، أتأذنُ لي أن أُعيدَها عليك من حفظي؟ قال: نعم، فأَعادها كما سمعها، فعجب ابنُ إدريسَ من حفظه، فقال له المأمون: يا عم، إنَّ إلى جانب مسجدِك دارًا، أتأذن لي أن نشتريَها وتوسِّع بها مسجدَك؟ قال: لا، قد أَجزأَ هذا مَن كان قبلي، وهو يُجزئني. فنظر المأمون إلى قَرحٍ في ذراع ابنِ إدريس فقال: يا عمّ، أتأذن لي أن أبعثَ إليك مَن يداويك؟ قال: لا، قد ظهر بي مثلُ هذا وبرئ، فأمر له بمالٍ فلم يقبلْه. ثم صارا إلى عيسى، فحدَّثهما، فأمر له المأمونُ بعشرة آلافِ درهم، فردَّها، فظنَّ أنَّه استقلَّها، فأَمر له بعشرين ألفًا، فقال: لا واللهِ ولا لشربة ماء على حديث النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال جعفرُ بن يحيى بنِ خالد (¬1): ما رأينا مثلَ عيسى بنِ يونس، أَرسلنا إليه، فأتانا بالرقَّة، فاعتلَّ قبل أن يرجع، فقلت: يا أبا عَمرو، قد أُمر لك بخمسين ألفًا، فقال: لا حاجةَ لي فيها، فقلت: هي مئةُ ألف، فقال: لا واللهِ لا يتحدث أهل العلمِ أنِّي أكلت للسُّنَّة ثمنًا، أَلَا (¬2) كان ذا قبل أن تُرسلوا إليّ، فأمَّا على الحديث فلا واللهِ ولا لشربة ماءٍ ولا إهلِيلَجة (¬3). ومات بالحَدَث في هذه السنة، وقيل: مات سنةَ تسعٍ (¬4) وثمانين، وقيل: سنةَ إِحدى وثمانين، وقيل: سنةَ ثمانٍ وثمانين ومئة. وغزا خمسًا وأربعين غَزاة، وحجَّ خمسًا ¬

_ (¬1) وهو البرمكي: انظر النجوم الزاهرة 2/ 136. (¬2) في (خ): لا، والمثبت من تاريخ بغداد 12/ 475، وتاريخ دمشق 14/ 122 (مخطوط). (¬3) في (خ): هليلجة. والإهليلج: شجر ينبت في الهند وكابل والصين، ثمره على هيئة حب الصنوبر الكبار. المعجم الوسيط (الإهليلج). (¬4) لعلها: سبع، كما في المصادر، ولم يذكر هذا التاريخ أحد.

مخلد بن الحسين

وأربعين حجَّة. أَسند عن هشام بنِ عروةَ وغيره، وروى عنه الإمامُ أحمدُ - صلى الله عليه وسلم - وغيرُه. وكان ثقةً ثبتًا صَدوقًا حجَّة، أخرج عنه البخاريّ ومسلم وغيرهما. مَخلَد بنُ الحسين (¬1) أبو محمَّد البصريّ. تحوَّل من البصرة فنزل المَصِّيصة، فأَقام بها مرابطًا. وكان عالمًا، زاهدًا، وَرِعًا، خائفًا، حافظًا للسانه، لا يتكلَّم فيما لا يَعنيه، قال: منذ خمسين سنةً ما تكلَّمت بكلمةٍ أريد أن أعتذرَ منها. أَسند عن هشام بنِ حسَّان وغيرِه. * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 495، حلية الأولياء 8/ 266، المنتظم 9/ 196، تاريخ الإسلام 4/ 1203، السير 9/ 236.

السنة الثانية والتسعون بعد المئة

السَّنة الثانيةُ والتِّسعون بعد المئة فيها نزل هَرْثَمَةُ بن أَعيَن نيسابورَ ومعه الأموالُ والسِّلاح والخِلَع، وأَظهر أنَّه إنَّما جاء مُوِدًّا لابن ماهان، وكتب عهودَ جماعةٍ على كُوَر خراسانَ ونَسَا وسَرْخَسَ وجُرْجان وغيرِها، واستكتمهم الحال إلى يومٍ معلوم، وسار إلى مَرو، فلمَّا بقي بينه وبينها مرحلة، كتب أساميَ أولادِ علي وأهلِه وأصحابِه وخواصِّه وعمَّاله في رِقاع، ودفع إلى كلِّ رجلٍ من ثقاته رقعةً وقال: احتفظ بمَن اسمُه معك، خوفًا أن يهربوا. فلمَّا صار على ميلَين من مروَ، تلقَّاه (¬1) عليُّ بن عيسى في ولده وأهلِ بيته وقوَّاده وخواصّه، فلمَّا وقعت عينُ هرثمةَ عليه، أَومأ إلى النُّزول خدمةً لعليِّ بن عيسى، فصاح به عليّ: واللهِ لَئن نزلتَ لأَنزلنّ، فاعتنقا وقَبَّل كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه، وسارا يتحدَّثان حتى وصلا إلى قنطرةٍ لا يجاوزها إلَّا فارس، فتأخَّر هرثمةُ وقال لعليّ: سر على بركة الله، فامتنع، فأَقسم عليه هرثمة، فسار، ودخلا مروَ ونزلا منزلَ عليّ، ورجاءٌ الخادمُ مع هرثمةَ لا يفارقه، وقُدِّم لهم الطعام، فأكلوا، ثم دفع رجاءٌ الخادمُ كتابَ الرشيدِ إلى عليِّ بن عيسى، فلمَّا قرأ أوَّله سُقِط في يده، وتيقَّن أنَّه قد حلَّ به ما كان يتوقعه، ثم أمر هرثمةُ بتقييده وتقييدِ ولده وكتَّابه وعمَّاله، فلمَّا استوثق منهم، صعد المنبرَ في جامع مروَ، وأخبر الناسَ بإنكار أميرِ المؤمنين لِمَا بدا من عليِّ بن عيسى، وأنَّه لم يأمرْه بالظُّلم بل بالعدل، وقرأ عليهم عهدَه وطيَّب قلوبَهم، فعلت أصواتُهم بالتكبير والدعاءِ للرَّشيد. ثم نزل ونادى في المسلمين وأهلِ الذِّمَّة: مَن كانت له مطالبة أو وديعةٌ فلْيَحْضُر، فحضر الناسُ وأَحضروا الودائع، إلَّا رجلًا من أبناء مجوسِ مروَ يقال له: العلاءُ بن ماهيار (¬2)، وكان لعليٍّ عنده مال، فأَرسل إليه سرًّا يقول: لكَ عندي مال، فإن أمرتَني بحمله حملتُه، وإلَّا صبرتُ للقتل فيك؛ إيثارًا للوفاء، وطلبًا لجميل الثَّناء، فقال: لو ¬

_ (¬1) في (خ): وتلقاه. وانظر تاريخ الطبري 8/ 334. وقد ذكر هذه الأحداث سنة 191 خلافًا لغيره. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 331: ماهان.

اصطنعتُ مثلَك ألفَ رجل ما طمع فيَّ السُّلطان، ثم قال: احفظْه عندك، فإنْ هلكتُ فهو لك، وإن بقيتُ رأيتُ فيه رأيي، وكان مالًا عظيمًا، فيه جواهرُ وطيب كثير، فاستصفى هَرْثمةُ جميعَ أموالِ عليّ، حتى نسائهم وسقوف منازلهم، وكان الرجالُ يفتِّشون بواطنَ النساء، ويجعلون ذلك وسيلةً إلى أغراضهم. ولمَّا فرغ هرثمةُ من استصفاءِ الأموال، أقام عليًّا وولدَه وكتَّابه لمظالمِ الناس، فكل مَن ادَّعى عليه بمالٍ أو بحقّ يقول له هرثمة: اُخرج من حقِّه، ثم يقول لصاحب الحق: ترى أن تؤجِّلَه؟ فيقول: نعم. ولم يَسلَم لعليٍّ من المال سوى ما كان عند المجوسيّ، فكان المجوسيّ يجتمع بصاحب الحق ويُرضيه من ذلك المال، وزعم رجل أنَّ عليًّا أخذ منه دَرَقةً قيمتها ثلاثةُ آلافِ درهمٍ ومَطَلَه، فوقف له يومًا يطلب ثمنَها، فقذف أمَّه وشتمه، فطلب قَذْفَ أمِّه وثمنَ دَرَقته، فقال له هرثمة: ألك بيِّنة؟ قال: نعم، وأَحضر شهودًا، فقال هرثمةُ لعليّ: وجب عليك الحدّ، فقال له عليّ: هذا من فهمك وعلمِك! أَشهد أنَّ أمير المؤمنين قذفك غيرَ مرَّة، وأَشهد أنَّك قذفت أولادَك غيرَ مرة، فمَن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك! ومَن يأخذ من مولاك! فقال هرثمةُ لصاحب الدَّرقة: اُطلب ثمنَ دَرَقتِك الآن، ودعْ قذفَ أمِّك. وكتب هرثمةُ إلى هارونَ يُخبره بما صنع، فكتب إليه يشكره ويصوِّب آراءه فيما فعل. وفيها قدم الرشيدُ من الرقَّة إلى بغدادَ في السُّفن لخمسٍ بقين من ربيعٍ الأول، واستخلف ابنَه القاسمَ على الرَّافقة، وضم إليه خُزَيْمةَ بن خازم، وسار من بغدادَ لخمسٍ خلونَ من شعبان، فنزل النَّهروان، واستخلف على بغدادَ محمدًا الأمين. وقال ذو الرِّياستين: قلتُ للمأمون لمَّا عزم هارونُ على المسير إلى خراسانَ لحرب رافعِ بن الليث: لستَ تدري ما يحدث بأبيك، فإنْ أقمت ببغداد، فأَحسنُ ما يُصنع بك أن تُخلعَ من العهد؛ لأنَّ محمَّدًا ابنُ زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وقد عرفتَ زبيدةَ وأموالها. فسأله أن يكونَ معه، فأذن له بعد امتناع منه (¬1). وقال ابنُ الصباح الطبريُّ مولى عيسى بنِ جعفر الهاشمي: شيَّع أبي هارونَ حتى ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 338.

إسماعيل بن جامع

خرج إلى خراسانَ، ومضى معه إلى النَّهروان، فجعل يحادثه في الطَّريق، إلى أن قال له: يا صباح، لا أَحسبك تراني بعدها أبدًا، قال: فقلت: بل ردك الله سالمًا قد فتح اللهُ عليك، وأَراك في عدوِّك ما تحبّ، فقال: يا صباح، لعلك لا تدري ما أَجد، قلت: لا والله، قال: تعال حتى أُريَك، فعدل عن الطريق قدرَ مئةِ ذراعٍ واستظلَّ بشجرة، وأَومأَ إلى خدم الخاصَّة فتنحَّوا، ثم قال: بأمانة اللهِ يا صباحُ أن تكتمَ علي، فقلت: أنا عبدُك، فكشف عن بطنه، فإذا عِصابةٌ من حريرٍ حوالي بطنِه وظهرِه قد عَصَبها، وكلُّ بَدَنه نِقاباتٌ وقروحٌ عليها المَراهم، فقال. هذه حالي الباطنةُ منذ سنةِ تسع وثمانين، واللهِ ما علم بها إلَّا ابنُ بختيشوع عينٌ عليَّ لمحمَّد، ومسرورٌ عين علي لعبد الله، وقد بلغني أنَّهما أَخبراهما بمرضي، وليس فيهم إلَّا مَن يُحصي أنفاسي، ويعدُّ أيَّامي، ويستطيل دَهري، فإن أردتَ أن تعرفَ ذلك فالساعةَ أدعو بدابَّة فيجيؤونني ببِرذونٍ أَعجفَ قَطُوف (¬1)؛ ليزيدَ في عِلَّتي. ودعا ببِرذون، فجاؤوه ببرذونٍ كما وصف، فركب ونظر إليَّ وقال: أَلمْ أقلْ لك؟ فدعوتُ له، فقال: اِرجع إلى أشغالك غيرَ مودع، فنزلت فقبَّلت رِكابه، فكان آخرَ العهدِ به. وفيها توفي إسماعيلُ بن جامعِ ابن إسماعيلَ بن عبدِ الله بن المطَّلب بنِ وَداعة، أبو القاسم المكّي. كان قد قرأ القرآنَ وسمع الحديث، فترك ذلك وتعلم الغناءَ. [وقد ذكره أبو الفَرَجِ الأصبهانيُّ وذَكَرَ من أخباره] قال: لحقتني ضائقةٌ شديدةٌ بمكَّة، فانتقلت إلى المدينة، فخرجتُ ذاتَ يومٍ وما أملك إلَّا ثلاثةَ دراهم، وإذا بجاريةٍ على رقبتها جرَّةٌ تريد الرَّكِي (¬2) وهي تقول: [من الطويل] شَكَونا إلى أَحبابِنا طولَ ليلِنا (¬3) ... فقالوا لنا ما أَقصرَ الليلَ عندنا ¬

_ (¬1) القطوف: التي ضاق مشيها. القاموس المحيط (قطف). (¬2) الركية: البئر. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): ليلتنا، والمثبت من الأغاني 6/ 311، والمنتظم 9/ 199، والبداية والنهاية 14/ 12.

وذاك لأنَّ النومَ يَغشى عيونَهمْ ... سِراعًا ولا يَغشى لنا النومُ أَعيُنا إذا ما دنا الليلُ المُضِرُّ بذي الهوى ... جَزِعنا وهم يستبشرون إذا دنا فلو أنَّهمْ كانوا يُلاقون مِثلَما ... نلاقي لَكانوا في المَضاجع مِثلَنا [قال]: فأخذ الغناءُ بقلبي، فلم يَدُرْ لي منه حرف، فقلت: يا جارية، ما أدري أوجهُك أحسنُ أم غناؤك! فلو شئتِ أَعدتِ، فقالت: مرحبًا وكرامة، ثم أَسندتْ ظهرَها إلى جدارٍ، وابتعثت تغنِّيه، فما دارَ لي منه حرف، فقلت: لو تفضَّلتِ مرَّةً أخرى، فَقطَّبت وكَلَحت، وقالت: ما أعجبَ أمرَكم! يجيءُ الواحدُ منكمِ إلى الجارية عليها الضريبةُ فيشغلها عن ضريبتها، فرميتُ إليها بالثَّلاثة الدراهم، فأخَذتْها وقالت: أَحسبك تأخذ بهذا الصوتِ ألفَ دينارٍ وألفَ دينارٍ وألفَ دينار، [ثم افترقنا وقد حفظتهُ، وعنَّ لي الخروجُ إلى بغداد، فدخلتها ولا أدري أين آخُذ، فدخلتُ مسجدًا قريبًا من دار الفضلِ بن الربيع، وإذا رجل يصلِّي آخرَ الناس والخدمُ ينتظرونه، فلمَّا فرغ من صلاته، نظر إليَّ وقال: أَحسبك غريبًا، قلت: نعم، قدمتُ الساعةَ ولا أعرف أحدًا، ولا صناعتي ممَّا يرغب فيها أهلُ الخير، فقال: وما صناعتُك؟ قلت: مغني، فوثب ووكَّل بي رجلًا ومضى، فقلت للرجل: مَن هذا؟ قال: سَلَّام الأبرش. ثم حُملت إلى دار الضيافة وأُحضر لي طعام، فأكلت، وخِلعةٌ فلبست، وجيء بي إلى دار فيها أسِرَّة، فأجلسوني على سريرٍ منها، وهناك جَوارٍ في حجورهنَّ العيدان، وستارةٌ مضروبة، ورجل جالس بين الجوراي في حجره عود، فخرج خادم، فقال الرَّجل للجواري: غنِّين، فغنَّين بصوت لي، فغيَّرنه، فقال لي الخادم: غنِّ، فغنَّيت بصوت لي: [من الكامل] عوجِي عليَّ فسلِّمي جَبْرُ ... فيم الوقوفُ وأنتمُ سَفْرُ ما نلتقي إلَّا ثلاثَ مِنًى ... حتى يفرِّقَ بيننا الدهرُ فتزلزلت الدار، وخرج الخادمُ وقال: ويحك لمن هذا الصَّوت؟ ! قلت: لي. فدخل ثم خرج فقال: كذبتَ، هذا لابن جامع، فقلت: أنا ابنُ جامع، فما أحسستُ إلَّا بالرشيد وقد خرج من وراء السِّتارة ومعه جعفرُ بن يحيى وقال: ابنُ جامع؟ فقلت: نعم، قال: ومتى قدمتَ؟ فحدَّثته الحديث، فعجب وأمر لي بدار، وقال: أَبشِر وابسُط أَمَلَك، غنِّ،

بهلول المجنون

فغنَّيته بأبيات الجارية، فدعا بكيسٍ فيه ألفُ دينار فأعطاني إياه، ثم قال: أَعِدْه، فأَعدته، فأعطاني ألفَ دينار، ثم قال أَعِده، فأعدته، فأَعَّطَاني ألفًا أخرى، فتبسَّمت، فقال: ممَّ تتبسَّم؟ فحدَّثته الحديث، فعجب، وأمر لي بدارٍ وفرس وخيلٍ وخدم وأثاثٍ ووصائف، فأصبحت أغنى الناس. قلت: حكايةٌ طويلة اختصرتُها] (¬1). بُهلول المجنون (¬2) من أهل بغداد، كان يأوي إلى المقابر [ووعظ الرشيدَ في سنة ثمانٍ وثمانين وهو يريد الحجّ، وقد ذكرناه. وكان له كلامٌ حسن وإشاراتٌ عجيبة. حدثنا جدِّي رحمه الله بإِسناده عن] سريٍّ السَّقطي قال (¬3): خرجتُ يومًا إلى المقابر، فرأيتُ بُهلولًا قد دلَّى رجلَيه في قبرٍ وهو يلعب بالتُّراب، فقلت له: أيَّ شيءٍ تصنع هاهنا؟ فقال: أنا عند قومٍ لا يؤذونني، وإن غبتُ عنهم لا يغتابونني، فقلت له: لا تكون جائعًا؟ فقال: [من الطويل] تجوَّع فإنَّ الجوع من عَلَم التُّقى ... وإنَّ طويل الجوعِ يومًا سيشبعُ فقلت له: إنَّ الخبز قد غلا، فقال: واللهِ ما أبالي ولو بلغَتْ كلُّ حبةٍ مثقالًا، علينا أن نعبدَه كما أَمر، وعليه أن يرزقَنا كما وعد، ثم ولَّى وهو يقول: [من الرمل] أُفٍّ للدنيا فليست لي بدارٍ ... إنما الراحة في دار القرارِ أبَتِ الساعات إلا سرعةً ... في بِلَى جسمي بليكٍ أو نهار وفي رواية: أَنشد (¬4): [من البسيط] يا مَن تمتَّع بالدنيا وزينتِها ... ولا تنام عن اللذَّات عيناهُ أَفنيتَ عمْرك فيما ليس تدركهُ ... تقول لله ماذا حين تلقاه [فيها توفي ¬

_ (¬1) وهي مختصرة جدًّا في (خ)، والمثبت من (ب)، وانظرها بطولها في الأغاني 6/ 311 فما بعد، والفرج بعد الشدة 3/ 5 فما بعد. (¬2) المنتظم 9/ 202، صفة الصفوة 2/ 516، تاريخ الإسلام 4/ 816. (¬3) في (خ): قال سري السقطي. (¬4) في (خ): وقال. وكلا الروايتين في صفة الصفوة 2/ 516 - 517.

صعصعة بن سلام

صَعصَعَةُ بن سلَّام (ويقال: ) (¬1) ابنُ عبدِ الله، أبو عبدِ الله الدِّمشقي. ذكره أبو عبد الله الحُميديُّ في تاريخ الأندلس (¬2) وقال: هو أندلسي. والأصح أنَّه دمشقي. دخل الأندلس، وهو أوَّل مَن دخلها من الفقهاء أصحابِ الأوزاعي، وهو أوَّل مَن غرس الشجرَ بجامع قُرْطُبة، وكان في زمان هشامِ بن عبد الرحمن الداخلِ مقيمًا بها إلى أن مات بها في هذه السَّنة. وقال الحُميديُّ: مات في سنة اثنتين وتسعين ومئة. وذكره أبو سعيد بنُ يونسَ فيمن قدم مصر، قال: وتوفِّي في سنة ثمانين ومئة (¬3)، ودُفن بجزيرة الأندلسِ في ولاية الحكمِ بن هشام بنِ عبد الرحمن]. عبدُ الله بن إدريسَ ابنِ يزيدَ بن عبدِ الرَّحمن، أبو محمَّد الأَوْدي (¬4). من الطبقة السابعةِ من أهل الكوفة. ولد سنةَ خمسَ عشرةَ ومئة، وقيل: سنةَ عشرين. وتوفِّي بالكوفة في عشر ذي الحِجَّة. وكان ثقةً إمامًا عالمًا زاهدًا عابدًا وَرِعًا مأمونًا حجَّة، كثيرَ الحديث، صاحبَ سنَّة وجماعة، لا يستقضي أحدًا يسمع عليه الحديثَ حاجة. قال الحسنُ بن ربيع: كنت عند عبد الله بنِ إدريس، فلمَّا قمت قال لي: سل عن سعر الأُشنان (¬5)، فلمَّا مشيت ردَّني وقال: لا تسأل؛ فإنَّك تكتب مني الحديث، وأنا أكره أن أسألَ من سمع مني الحديث. وكان الإمام أحمدُ رحمة اللهِ عليه يقول: عبد الله بن إدريس نَسيجُ وَحْدِه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 8/ 303 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 4/ 1130، والبداية والنهاية 14/ 15. والترجمة غير موجودة في (خ). (¬2) المسمى بجذوة المقتبس، والكلام في ص 244. (¬3) في (ب): ثمان وثمانين ومئة. والتصويب من المصادر، والتراجم الآتية ليست في (ب). (¬4) في (خ): الأزدي، والتصويب من المصادر. انظر طبقات ابن سعد 8/ 511، وتاريخ بغداد 11/ 69، والمنتظم 9/ 202، وغير ذلك. (¬5) نوع من الشجر يستعمل في غسل الثياب والأيدي.

وأقدمه هارونُ إلى بغدادَ ليولِّيه القضاء، فامتنع وعاد إلى الكوفة، فأَقام بها حتى توفِّي. وقال فلان (¬1): سألت وكيعًا عن مَقدَمه هو وابنُ إدريس وحَفْصُ بن غياث على الرشيد، فقال: ما سألني عن هذا أحدٌ قبلك، قَدِمنا على هارونَ فأَقعدنا بين السَّريرين، وكان أوَّل مَن دعا به أنا، فقال: يا وكيع، قلت: لبَّيك يا أميرَ المؤمنين، قال: إن أهل بلدِك طلبوا مني قاضيًا وَسمَّوك لي فيمن سمَّوه، وقد رأيت أن أشركَك في أمانتي وصالحِ ما أَدخل فيه من أمر هذه الأمَّة، فخذ عهدَك وامض، فقلت: أنا شيخٌ كبير، وإِحدى عينَيَّ ذاهبة والأخرى ضعيفة، فقال هارون: اللهم غُفرًا، خذ عهدَك أيها الرجلُ وامضى، فقلت: واللهِ لئن كنتُ صادقًا إنه لينبغي أن تقبلَ مني، ولئن كنتُ كاذبًا فما ينبغي لك أن تولِّي القضاءَ كاذبًا، فقال: اخرج، فخرجت ودخل ابنُ إدريس، وكان قد وُسِمَ له منه وَسْم، أي: خُشونة، فسمعنا صوتَ رُكبتَيه على الأرض حين بَرَك، وما سمعناه يسلّم إلّا سلامًا خَفيفًا، فقال له هارون: أتدري لمَ دعوتك؟ قال: لا، قال: إنَّ أهل بلدِك طلبوا مني قاضيًا، فقال ابنُ إدريس: لا أَصلح للقضاء، فنكت هارونُ بإصبعه وقال: وددت أنِّي لم أكن رأيتك، فقال له ابنُ إدريس: وأنا واللهِ وددت أنِّي لم أكن رأيتك، فقام وخرج، ودخل حفصُ بن غياث، فقال له كما قال لنا، فقبل عهدَه وخرج، وأتانا خادمٌ ومعه ثلاثةُ أكياسٍ في كلِّ كيس خمسةُ آلافِ درهم، فقال: أميرُ المؤمنين يُقرئكم السلام ويقول: قد لزمتكم مؤنةٌ في شخوصكم، فاستعينوا بهذه على سفركم. قال وكيع: فقلت له: أَقرِئ أميرَ المؤمنين السلامَ وقل له: قد وَقَعَتْ مني بحيث يحبُّ أمير المؤمنين، وأنا عنها مُسْتَغنٍ، وفي رعيَّة أميرِ المؤمنين مَن هو أحوجُ مني إليها، فإنْ رأى أميرُ المؤمنين أن يصرفَها إلى مَن أحبّ. وأمَّا ابن إدريس، فصاح به: مُرَّ من ها هنا. وأمَّا حفص، فقبلها. وخرجت الرقعةُ لابن إدريسَ من بيننا: عافانا اللهُ وإياك، سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل، ووصلناك من أموالنا فلم تقبل، فإذا ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 11/ 70، والمنتظم 9/ 303، وصفة الصفوة 3/ 167: شيخ على باب بعض المحدثين.

علي بن ظبيان

أتاك ابني المأمونُ فحدِّثه إن شاء الله. فقال للرسول: إذا جاءنا مع الجماعةِ حدَّثناه إن شاءَ الله. ثم مضينا، فلمَّا سِرنا إلى الياسرية (¬1) حَضَرَت الصلاة، فنزلنا نتوضأ. قال وكيع: فنزل إليَّ شرطيٌّ محمومٌ نائم في الشمس عليه سوادُه، فطرحت كسائي عليه وقلت: يدفأ إلى أن أتوضأ، فجاء ابنُ إدريس فاستلبه ثم قال لي: رَحِمتَه لا رحمك الله! في الدنيا أحدٌ يرحم مثلَ هذا! ثم التفت إلى حفصٍ فقال: يا حفص، قد علمتُ حين دخلتَ إلى سوق أَسَدٍ، وتهيَّأتَ، ودخلت الحمام، وخَضَبتَ لِحيتك؛ أنَّك ستلي القضاء، واللهِ لا أكلِّمك حتى تموت، فما كلَّمه حتى مات. وقال الإمام أحمدُ - رضي الله عنه -: رأيتُ على عبد اللهِ بن إدريس جُبَّةَ لُبُودٍ وقد أتت عليها الدُّهور والسِّنون. وكان ابنُ إدريس يقول: لو انقطع رجلٌ إلى رجل لَعرف له ذلك، فكيف بمَن له السماواتُ والأرض. ولمَّا نزل الموتُ به بكت ابنتُه، فقال: لا تبكي، فقد ختمتُ القرآنَ في هذا البيتِ أربعةَ آلاف ختمة. أَسند عن أبيه وعن الأعمش وغيرِهما، وجمع بين العلم والزهد، وروى عنه مالكُ بن أنس (¬2) وغيرُه، وأثنَوا عليه الأئمَّة. وقال له ولدُه (¬3): إنَّ هذا البقَّال الذي في المَحَلَّة يُغلي علينا الحوائج، أَفلا نشتري لك (¬4) من السوق؟ قال: لا، إنَّما جاوَرَنا ليربحَ علينا، رحمةُ الله عليه. عليُّ بن ظَبْيان أبو الحسن العَبْسيُّ الكوفي. كان عالمًا، متواضعًا، جليلا، نبيلا، زاهدًا، عابدًا، ¬

_ (¬1) قرية كبيرة على ضفة نهر عيسى بينها وبين بغداد ميلان. معجم البلدان. (¬2) وهو من شيوخه. (¬3) في (خ): والده، والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 71. (¬4) في (خ): له.

الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي

عارفًا بالفقه على مذهب أبي حنيفة. وكان حَسَنًا في الحكم، تقلَّد الشرقية (¬1)، ثم تقلَّد قضاءَ القضاة عن الرشيد، وكان يجلس على باريَّة (¬2)، فقيل له: قد كان مَن قبلك من القضاة يجلسون على الوطاء ويتَّكئون، فقال: إني لأَستحيى من الله أن يجلسَ بين يدَيَّ حُرَّان مسلمان على باريَّة وأجلسَ أنا على وطء، واللهِ لا جلست إلَّا على ما يجلس عليه الخصوم. وكان الرشيد إذا سافر يُخرجه معه، فلما خرج إلى خراسان في هذه السنة، أخرجه معه، فتوفِّي بقَرْمِيسين. حدَّث عن عُبيد الله (¬3) بن عمر العُمري وغيره، وروى عنه داودُ بن رُشَيد وغيره، وكان ثقة، وضعَّفه بعضهم (¬4). الفضلُ بن يحيى بنِ خالد البَرمَكيّ كان متكبِّرًا جدًّا، عَسِرَ الخُلق، وكان أجودَ من جعفرٍ وأندى راحة، ومولدُه في ذي الحِجَّة سنَة سبع وأربعين ومئة، ومولد هارونَ أوَّل يوم من المحرَّم سنةَ ثمانٍ وأربعين، فأَرضعت الخَيزُرانُ الفضلَ، وأرضعت أمُّ الفضل هارونَ أيامًا، وأمّ الفضل زُبيدةُ بنت منين (¬5)، بربريةٌ من مولَّدات المدينة. وفي الرَّضاع يقول مروانُ بن أبي حَفْصَةَ يمدح الفضلَ من قصيدة: [من الطويل] كفى لك فضلًا أنَّ أفضلَ حُرَّةٍ ... غَذَتْك بثديٍ والخليفةَ واحدِ لقد زان (¬6) يحيى في المشاهد كلِّها ... كما زان يحيى خالدًا في المشاهد ¬

_ (¬1) في (خ): الشريعة، والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 404، والمنتظم 9/ 205. (¬2) البارية: الحصير المنسوج. القاموس المحيط (بور). (¬3) في (خ): عبد الله، والتصويب من المصادر. (¬4) هو ضعيف باتفاق المحدثين، ولم أرَ من وثقه، انظر تهذيب الكمال (4681)، وتاريخ الإسلام 4/ 1169. (¬5) اضطرب هذا الاسم في (خ) والمصادر. انظر تاريخ بغداد 14/ 292 (طبعة الدكتور بشار معروف) وطبعة دار الكتاب العربي 12/ 334، والمنتظم 9/ 208، والبداية والنهاية 14/ 19، وتاريخ الإسلام 4/ 1182، والسير 9/ 91. (¬6) في تاريخ بغداد 14/ 292، والمنتظم 9/ 208، والوفيات 4/ 27، والبداية والنهاية 14/ 20: زنت.

ووهب الفضلُ لطبَّاخه مئةَ ألف درهم، فعوتب في ذلك، فقال: إنَّ هذا صَحبني ولم يكن لي شيء، واجتهد في خدمتي ونُصحي، وقد قال الشاعر: [من البسيط] إنَّ الكرامَ إذا ما أَيسروا ذَكَروا ... مَن كان يَعتادهم في المنزل الخَشِنِ (¬1) ووهب لبعض الأدباءِ عشرة آلاف دينار، فبكى الأديب، فقال: أَتبكي استقلالًا لها؟ فقال: لا والله، ولكن أبكي كيف تواري الأرضُ مثلَك. وقال الجَهْم: أضَقْتُ إضاقةً شديدة، فأصبحتُ ذات يوم وليس عندي ما آكل، لا أنا ولا غلامي ولا دابَّتي، فقلت للغلام: أَسرِج لي الدابَّة، فأَسرجها وركبت، فلمَّا صرت بسوق يحيى، إذا بالفضل في مَوكبٍ عظيم، فسرت معه، فبينا نحن كذلك، إذا بغلامٍ على رأسه طَبَق، فوقف على بابٍ وصاح: يا فلانة، باسم جارية، فوقف الفضلُ طويلًا يرتاح إلى صوت الغلام، ثم سار وقال: تدري ما سببُ وقفتي؟ قلت: لا، قال: كانت لأُختي جارية، وكنت أحبها حبًّا شديدًا، وأستحيي من أختي أن أطلبَها منها، فلمَّا كان في هذا اليوم، زيَّنتْها أختي، وألبستها أحسنَ الثياب والحُلِي، وبَعَثَتْ بها إلي، فكنتُ معها في ساعة ما مرَّ من عمري ألذُّ منها، فجاءني رسولُ أمير المؤمنين يطلبني، فقطع عليَّ لذَّتي، فركبت، ولمَّا صرت إلى هذا المكان، دعا هذا الغلامُ باسم تلك الجارية، فارتحتُ لندائه. فقلتُ: أصابك ما أصاب أخا بني عامرٍ (¬2) حيث يقول: [من الطويل] وداعٍ دعا إذ نحن بالخَيف من مِنى ... فهيَّج أشجانَ الفؤادِ وما يدري دعا باسم ليلى غيرَها فكأنما ... أَطار بليلى طائرًا كان في صدري فقال: اكتب لي هذين البيتَين، ولم يكن معي ورق، فعدلتُ إلى بعض البقَّالين، فرهنتُ خاتَمي عنده على ورقةٍ وكتبت له البيتين ولحقتُه بهما، فقال: اِرجع إلى منزلك، فرجعت، فقال لي غلاميِ: هاتِ الخاتمَ حتى أَرهَنَه على ما نأكل، فقلت: قد رهنته. فما أمسيتُ حتى بعث إليَّ الفضلُ بثلاثين ألفَ درهمٍ جائزةً، وعشرةِ آلاف سلفًا من رزقٍ رُزقته في كلّ شهر أَجراه لي. ¬

_ (¬1) نسب البيت لدعبل وأبي تمام وإبراهيم الصولي. انظر ديوان دعبل ص 192، والشعر والشعراء 2/ 852، والعقد الفريد 2/ 168، وبهجة المجالس 2/ 716، ومعجم الأدباء 1/ 192. (¬2) هو مجنون ليلى، والبيتان في ديوانه ص 163، وهما أيضًا في ديوان نصيب بن رباح ص 94.

وقال عبدُ الله بن الحسن (¬1) العلوي: أتيتُ الفصْلَ بن يحيى، فكلمته في دَين علي ليكلم لي أميرَ المؤمنين، فقال: كم دَينك؟ قلت: ثلاثُ مئة ألفِ درهم، فقال: نعم. فخرجتُ من عنده وأنا مغموم لضعف رده، فمررت ببعض إِخواني مستريحًا له، فما وصلتُ إلي منزلي إلا والمالُ قد سبقني. ومرَّ الفضل بعَمرو بنِ جَميلٍ (¬2) التَّميميِّ وهو في مضربه يُطعم الناس، فقال: ينبغي لنا أن نُعينَ عَمرًا على مروءته، فبعث إليه بألف ألفِ درهم. وكان أبانُ بن عبد الحميدِ كاتبُ الفضل فيه تِيهٌ شديد، فكتب إلى الفضل: [من الخفيف] أنا من نعمة (¬3) الأميرِ وكنزٌ ... من كنوز الأميرِ ذو أَرباحِ كاتبٌ حاسب أديب خطيب ... ناصحٌ زائد على النُّصَّاح شاعر مُفلِق أخفُّ من الرِّيـ ... شةِ ممَّا يكون تحت الجَناح ليَ في النَّحو فطنة وذكاء (¬4) ... أنا فيهِ قلادة لِوشاح لو رمى بي الأميرُ أصلحه اللـ ... ـه رماحًا صَدَمتُ حدَّ الرِّماح ثم أَروي من ابن سيرينَ في الفِقـ ... ـه (¬5) بقولٍ منوَّرِ الإيضاح (¬6) كم وكم [قد] خَبَأتُ عندي حديثًا ... هو عند الأمير كالتُّفَّاح لو دعاني الأميرُ عايَن منِّي ... شَمَّرِيًّا كالجُلْجُل الصياح (¬7) من أبيات. ¬

_ (¬1) في المنتظم 9/ 210: الحسين. (¬2) في تاريخ بغداد 14/ 294: جمل، وهو الصواب، انظر الإكمال لابن ماكولا 2/ 121. (¬3) في المصادر: بغية. (¬4) في العقد الفريد 4/ 204، وتاريخ بغداد 14/ 296: ونفاذ. وقد ذكر صاحب الأغاني 23/ 160، والخزانة 8/ 175 أربعة أبيات من القصيدة. (¬5) في (خ): للفقه. (¬6) في العقد الفريد: الإفصاح. (¬7) الشَّمَّري والشِّمِّري والشُّمُّري والشِّمَّري والشِّمِّير والمشمِّر: الماضي في الأمور المجرب. والجلجل: الجرس الصغير. القاموس المحيط (شمر) (جلل).

فأعطاه الفضلُ مالًا عظيمًا، ففرَّقه في الشعراء، وبعث منه إلى أبي نُواسٍ بدرهم واحدٍ ناقص، فقيل له في ذلك، فقال: أعطيت كلَّ واحد على قَدْر شعره، وبلغ أبا نُواس فهجاه، وكان قصيرًا طويلَ اللحية كبيرَ الأنف: [من الخفيف] كان أَوْلى بقلَّة الحظِّ مني ... المسمَّى بالجُلْجُل الصيَّاحِ لِحيةٌ جَعْدة وأنفٌ طويل ... وسوى ذاك ذاهبٌ في الرّياح باردُ القولِ مظلمُ القلبِ تيَّا ... هٌ معيدُ الحديثِ (¬1) سَمجُ المُزاح فبعث إليه أَبانٌ بألف درهمٍ وقال: لا تُظهرْها، فقال: واللهِ لو أعطاني مئةَ ألف درهمٍ ما أخفيتُها، ولا بدَّ من إِظهارها، وبلغ الفضلَ فقال: أعطيناه ألفَ ألفِ درهم، فكان حظُّ أبي نُواسٍ منها أقلَّ من درهمٍ مع طول لسانه! فقيل له: كذب عليه، فقال: أليس قد قيل؟ ! وقد رماه بخمسٍ لا يتَّصف بواحدةٍ منها إلا جاهل، يعني البيتَ الأخير، وأَبعده عنه. ذِكر وفاته: لمَّا عزم الرشيدُ على خراسان، أَحضر الفضلَ بالرقَّة من الحبس وقال له: ويحك يا فضل، لقد كسبتْ يداك شرًّا طويلًا، وجنى عليك جهلُك (¬2) عذابًا وبيلًا، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] فقال له: قتلتَ أخي، ومات أبي في حبسك، وأنا على الأَثر، مع تعزيزِنا لسلطانك، وتشييدِنا لملكك، وبراءةِ ساحتنا، وسترد فتَعلم، وتندم حيث لا ينفعك النَّدم. فردَّه إلى الحبس، فمات في رمضان قبل موتِ هارونَ بشهور. وقيل: مات سنةَ ثلاثٍ وتسعين في المحرَّم قبل موتِ الرشيد بيسير، أصابه ثِقَلٌ في لسانه وشفتِه، وقلَّ نظره. وكان يقول: ما أحبُّ أن يموتَ هارون؛ فإنَّ أمري يَقربُ من أمره (¬3). وكانت وفاتُه يومَ السبت، فأُخرجت جنازتُه، فكان يومًا عظيمًا، بكى الناسُ ¬

_ (¬1) في (خ): تيهًا يقبل الحديث. ولا يستقيم به الوزن. والمثبت من العقد الفريد وطبقات ابن المعتز ص 204. (¬2) في (خ): جهلًا، ولعله سبق قلم. (¬3) كذا في تاريخ الطبري 8/ 341، وابن الأثير 6/ 210، وفي وفيات الأعيان 4/ 36 أن القائل هو الرشيد، قاله عندما بلغه موته.

عليه وحزنوا وصلَّوا عليه. وكان يعطي السجَّانين في كلِّ شهرٍ عشرةَ آلاف درهم. قال صالح (¬1) في بني بَرمَك: [من الرمل] يا بني بَرمَكَ واهًا لكمُ ... ولأيامكم المقتَبَله كانت الدُّنيا عَروسًا بكم ... وهي اليوم ثَكولٌ أَرمَلَه * * * ¬

_ (¬1) هو صالح بن طريف، كما في ثمار القلوب ص 202، ووفيات الأعيان 1/ 341.

السنة الثالثة والتسعون بعد المئة

السَّنة الثالثة والتِّسعون بعد المئة فيها وصل الرشيدُ إلى جُرْجان في صفر، وحُملت إليه أموالُ علي بن عيسى بنِ ماهانَ على ألف وخمسِ مئة جمل، وكان قد مرَّ في طريقه على شِعب بَوّان، وهو من عجائب الدُّنيا [وكان قد رأى بدمشقَ ديرَ مُرَّان، وكان] (¬1) على تل وحوله رياضُ الزَّعْفَران، والمياهُ تخترق البساتين، فأعجبه وقال: أربعة منازلَ ليس في الدنيا مثلُهن: دير مُرّان بدمشق، والرقَّة، وشِعبُ بَوّان، وسَمَرْقَند، وقد رأيتُ ثلاثة وبقي الرابع، وهي سمرقند، فلم يصلْ إليها. ولمَّا نزل بطُوْس، بدأ به المرض، وكان قد اتَّهم هَرْثَمة برافع بن الليث، فوجَّه ابنَه المأمونَ قبل وفاتِه إلى مروَ بثلاثٍ وعشرين ليلة، ومعه جماعةٌ من القواد: عبدُ الله بن مالك، ويحيى بنُ معاذ، وأَسَد بن يزيدَ بنِ مزيدَ، والعباسُ بن جعفرِ بن محمد بن الأشعث، والسِّندي، وغيرُهم. وكان هارونُ ضعيفًا عن المسير، فساروا مع هرثمة، وقطعوا النَّهر، وجرت بينهم وبين رافع وقَعاتٌ ظهروا عليه فيها، وافتتحوا بخارى، وأَسروا بشيرَ بن الليث أخا رافع، وعاد رافعٌ إلى سمرقند، وبعث هرثمةُ ببشيرٍ إلى طوسَ وقد ثقل هارونُ في مرضه، فدخلوا به على هارونَ وهو على سريرٍ ينظر في المرآة ويقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ثم قال لأخي رافع: يا ابنَ اللَّخْناء، إنّي لَأرجو ألا يفوتَني خامل -يعني رافعًا- كما لم تفتْني أنت، فقال: يا أميرَ المؤمنين، قد كنتُ لك حربًا، وقد أظفرك الله، فافعل ما يحب اللهُ أكن لك سِلمًا، ولعل اللهَ أن يلينَ لك قلبَ رافعٍ إذا علم أنَّك قد مننتَ عليَّ، فغضب هارونُ وقال: واللهِ لو لم يبقَ من أجلي إلَّا أن أحرِّكَ شفتي بكلمةٍ لَقلت: اقتلوه. ثم دعا بقصَّاب فقال: لا تشحذْ مُدَاك، دعها على حالها، وفصِّل هذا الفاسقَ بنَ الفاسقِ أخا الفاسق، وعجِّل لا يحضرني أجلي وعضوٌ (¬2) من أعضائه في جسمه، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخ الطبري: وعضوان.

ففصَّله حتى جعله أَشلاء، فقال: عُدَّ أعضاءه، فعدَّها، فإذا هي أربعةَ عشرَ عضوًا، فرفع يديه وقال: اللهمَّ كما مكَّنتني من هذا فمكِّني من أخيه، وغُشي عليه، فتفرَّق مَن كان حوله. وقيل: إنَّه فعل ذلك بابن عمٍّ رافعٍ أيضًا، فقال القاضي التَّنوخي (¬1): لمَّا سار هارونُ إلى طوسَ واشتدَّت علَّته وبلغ خبره إلى ولده الأمين، استدعى بَكْرَ بن المُعْتَمر، ودفع إليه كتابًا ظاهرًا إلى هارونَ يتضمَّن عيادته والسؤال عنه، وكتبًا باطنةً إلي الفضل بنِ الربيع وإسماعيلَ بن صَبيح وغيرِهما من القوَّاد، يأمرهما إنْ حَدَث بأبيه حدثٌ أن يقفُلوا إلى بغدادَ بما في العسكر من الأموال وغيرِها، وكان هارونُ قد أَشهد عليهم أنَّ الجميع لابنه المأمون، فلمَّا دخل بكر بنُ المعتمر على هارونَ ودفع إليه الكتاب، وقف عليه وقال: وأين الكتبُ التي معك؟ فأنكر، فحبسه، ثم جلس في مَضرب خزٍّ أسود استدارتُه أربعُ مئةِ ذراع، في أركانه قِبابٌ مغشَّاة بخزٍّ أسودَ والحبال من الإِبرِيسَم الأسود، والأوتادُ سود، وهو جالس في مرتبةٍ سوداء، وخادمٌ من خلفه يمسكه، وعليه قَباء خزٍّ أسود، وقد أذن للناس عليه، والفضلُ بن الربيع جالسٌ بين يديه، فقال: علي ببكر بنِ المعتمر، قال: فحضرت، فقال: واللهِ لئن لم تُحضر الكتبَ التي جاءت معك لأقتلنَّك، فقلت: ما جاء معي غيرُ كتابِ أمير المؤمنين. وأَحضر هارونُ أخا رافعِ بن الليث ومعه قرابتُه، فقال هارون: أيتوهَّم رافعٌ أن يغلبَني، فواللهِ لو كان معه عدد نجوم السماءِ لقتلتهم، فقال له أخو رافع: اللهَ اللهَ فيَّ يا أمير المؤمنين؟ فإنَّ الله يعلم وأهلَ خراسان أنَّني بريءٌ من أخي منذ عشرين سنة، ملازمٌ لمسجدي ومنزلي، فاتَّقِ اللهَ فيَّ وفي هذا الرجل، فقال له قرابتُه: قطع اللهُ لسانك، أنا واللهِ منذ كذا وكذا أسأل اللهَ الشهادة، فلما رُزقتُها على يد شرِّ خلقِه أخذتَ في الاعتذار، فاغتاظ هارونُ وأمر بتفصيلهما، ففُصِّلا والرجلُ يقول: يا هارون، نحن قد رُزقنا الشَّهادة، وأنت بين يدي اللهِ في آخر مدَّة، وستعلم. قال: فواللهِ ما فرغ منهما حتى كأنَّه ذُبالةٌ طفئت. ¬

_ (¬1) في الفرج بعد الشدة 3/ 358 فما بعد.

الباب السادس في خلافة محمد بن هارون

قال بكر: ورُددت إلى الحبس، ولم أعلمْ بموته، وأقمت أتوقَّع القتل، فبينا أنا كذلك، إذ بعث إليَّ أبو العتاهيةِ غلامَه وقد كتب في راحته: [من مجزوء الوافر] هي الأيامُ والعِبَرُ ... وأمرُ الله ينتظرِ أَتيأسُ أنْ ترى فَرَجًا ... فأين اللهُ والقَدَر فلا تجزع وإنْ عَظُم الـ ... بلاءْ ومسَّك الضَّرر (¬1) قال: فوثقتُ بالله وقَوِيَت نفسي، ثم سمعت واعية، وإذا بالفضل بنِ الربيع قد دخل عليَّ وقال: قم، فقمتُ معه، فأَدخلني على هارونَ وهو مسجًّى، فكشف عن وجهه، فإذا هو ميِّت، فقال: هاتِ الكتب، فأخرجتها من صناديقِ المطبخ، وخلع عليّ، وعدتُ إلى بغدادَ بالأَجوبة. الباب السادس في خلافة محمَّد بن هارونَ ابن [محمَّد بن عبد اللهِ بن محمَّد بن] (¬2) علي بن عبد الله بن عباس. ويلقَّب بالأمين على دِين الله، ويُكنى أبا موسى، وقيل: أبا عبدِ الله. وليس في الخلفاء مَن اسمُه محمَّد (¬3) بن هارون سوى ثلاثة: هذا، وأخوه المعتصم، والمهتدي. وليس في الخلفاء مَن أبوه وأمه هاشميان سوى عليّ بن أبي طالبٍ رضوانُ الله عليه والأمين. [وقال الصولي: ] (¬4) وفيه يقول أبو الهول الحِميَري: [من الكامل] مَلِكٌ أبوه وأمُّه من نبعةٍ ... منها سراجُ الأمَّةِ الوهَّاجُ شربوا بمكَّةَ في ذُرى بطحائها ... ماءَ النبوَّة ليس فيهِ مِزاج (¬5) وأمُّه زُبيدة، وكُنيتها أمُّ جعفر، وهي بنتُ جعفر بن أبي جعفر المنصور، ولقِّبت ¬

_ (¬1) لم يذكر التنوخي البيت الثالث، ولا هو في الديوان ص 538. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) لفظة: محمد، ليست في (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) الأوائل للعسكري 1/ 285، والوافي بالوفيات 5/ 139.

زبيدة لأنَّ المنصورَ كان يرقِّصها لمَّا كانت صغيرةً، وكانت سمينة، فكان يقول: ما أنت إلَّا زبيدة. [ذِكر مولده وصفتِه: قال الصوليُّ في كتاب الأوراق: ] (¬1) وُلد محمَّد الأمينُ سنةَ إحدى وسبعين ومئةٍ برُصافة بغداد، وكان أبيضَ بضًّا سمينًا سَبطًا، صغيرَ العينين، عظيمَ الكراديس، ولم يكن في زمانه أحسن وجهًا مثه، ولا أَحلى شمائل، ولا أشجعُ ولا أقوى، هجم عليه يومًا أسد وهو في بستانٍ وليس عنده سلاح، فوثب على الأسد من خلفه ورَكِبَه وعصر فخذَيه، فأقعى وانقطع ظهرُه فمات. [قال الصولي: ] إلا أنه كان سيِّئ السيرة، سفَّاكًا للدماء، ضعيفَ الرأي، مشغولًا بلذَّاته عن النظر في أمور الرَّعيَّة، حتى إنَّه كان يقول: لا أعرف الإِيرادَ والإِصدار، ولكن أشرب الكاسَ، وأَشَمُّ الآس، وأَستلقي من غير نعاس، وذلك أحبُّ إلي من مداراة الناس. [قال: ] وكان فصيحًا بليغًا، حتى إنَّ الرشيدَ كان يقول للمأمون: وددتُ أنَّ لك بلاغة محمَّد وأنَّ عليَّ من الغُرم كذا وكذا. ذِكر بَيعته: [قال الصولي وغيره: ] (¬2) بويع بالخلافة في عسكر أبيه بطوسَ صبيحةَ الليلةِ التي توفِّي فيها أبوه، وذلك يومَ السبت لأربع خلونَ من جُمادى الأولى (¬3) سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومئة، وهو ابنُ ثلاثٍ وعشرين سنة، أو اثنتين وعشرين، والمأمون يومئذٍ بمرو، ولم يكن مع هارونَ من ولده إلَّا أبو عيسى وصالح، فتولَّى صالح بيعةَ الأمين، وكتب حمُّويه مولى المهديّ -وكان صاحبَ الخبر- إلى سلام مولاه ببغدادَ يخبره بوفاة هارون، فدخل على الأمين فعزَّاه وهنَّأه، وهو أوَّل مَن فعل ذلك، ثم قدم بعد ذلك رجاء الخادمُ يومَ الأربعاء لأربعَ عشرةَ ليلةً خلت من جُمادى الآخرة من عند صالح بنِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) وكذا في المنتظم 9/ 218، وفي تاريخ الطبري 8/ 345 و 365، وتاريخ ابن الأثير 6/ 211 و 221، والبداية والنهاية 14/ 102: الآخرة.

الرشيد إلى الأمين، فوافاه بالخُلْد قصرِ أبي جعفر، فأخبره، فتحوَّل إلى قصر أبي جعفرٍ بالمدينة، وأمر الناس يومَ الجمعة بالحضور إلى جامع المنصور، وصعد المنبرَ فنعى هارونَ، وخطب فقال: أيُّها الناس، إنَّ المَنون تراصد ذوي الأنفاسِ حتمًا من الله تعالى، لا يُدفع حلولُها، ولا يُنكر نزولُها، فاسترجِعوا قلوبَكم عن الجَزَع على الماضي إلى النَّهج الباقي، تُعطَوا أجورَ الصابرين وجزاءَ الشاكرين. ووعد الناسَ خيرًا وقال: إنَما ولِّينا لنُفَرِّجَ عن المَكْروبين، ونزيلَ هموم المَهمومين، ونُحسنَ إلى المحسنين، ونتجاوزَ عن المسيئين. وبايعه الخاصَّة والعامَّة، وأعطى الجندَ رزق سنتين، واستوزر الفضلَ بن الربيع، وجعل العباسَ بن الفضلِ على حجابته. وأول مَن أنشده أبو نُواسٍ فقال (¬1): [من المنسرح] جَرَت جوارٍ بالسَّعد والنَّحس ... فالناسُ في وَحْشةٍ وفي أُنْسِ العينُ تبكي والسِّنُّ ضاحكةٌ ... فنحن في مَأتَم وفي عُرْس يُضحكها القائمُ الأمين ويُبـ ... كيها وفاةُ الرشيدِ في أَمس بدرانِ بدرٌ أَضحى ببغدادَ في الـ ... خُلْد وبدرٌ بطوسَ في الرَّمْسِ وولَّى إسماعيلَ بن صَبيحٍ على ديوان الرَّسائل والتوقيعات، وولَّى عيسى بنَ علي بنِ ماهانَ على شرطته، وقيل: عبدُ الله بن خازم، وأوَّل ما بدأ به الأمينُ أنَّه أطلق عبدَ الملك بنَ صالح بن علي من الحبس، وكان حَبَسه هارونُ على ما تقدَّم. ذِكر بدءِ الخلاف بين الأمينِ والمأمون: كان الأمينُ شديدَ البغضِ للمأمون، وقد ذكرنا إِنفاذَه بكرَ بن المعتمرِ وما جرى له، فلمَّا كانت الليلةُ التي مات فيها هارون، قال للفضل بنِ الربيع: قرِّرْ بكرَ بن المعتمر، فإن أقرَّ وإلَّا فاضرب عنقه، فقرَّره الفضل، فلم يُقرَّ بشيء، وغُشي على هارون، ¬

_ (¬1) كذا قال الطبري 8/ 364، وأحمد بن يوسف فيما أخرجه عنه ابن الجوزي في المنتظم 9/ 219، والأبيات لأبي الشيص الخزاعي كما في الشعر والشعراء 2/ 843، وطبقات ابن المعتز ص 75، والعقد الفريد 3/ 297.

فأمسك الفضلُ عن قتله، ثم أَفاق هارونُ وقد شُغل بنفسه عن بكرٍ وغيرِه، وعاد الفضل إلى هارونَ ليخبرَه، وإذا بالصياح قد ارتفع، فكتب ابنُ المعتمر إلى الفضل يقول: لا تعجلوا بأمر؛ فإنَّ معي أشياءَ تحتاجون إلى علمها، وكان بكر محبوسًا عند حسينٍ الخادم، فاجتمع الفضلُ وحسينٌ به، فأَخبرهم بالكتب، وأخرجها من قوائم الصناديقِ وسلَّم إلى كلِّ واحد كتابه، وكان فيها كتابٌ إلى المأمون، وكتابٌ إلى صالح بنِ الرشيد، وكتابٌ إلى الفضل بنِ الربيع، وكتابٌ إلى حسين الخادم، وغيرِهم. فأمَّا كتاب المأمون، ففيه: من محمد بن هارونَ إلى أخيه عبدِ الله المأمون، سلامٌ عليك، أمَّا بعد؛ فإذا ورد عليك كتابُ أخيك -أعاذه اللهُ من فقدك عند حلولِ ما لا مردَّ له ولا مدفع، مما نُعِيَتْ عليه الأممُ (¬1) الماضيةُ والقرونُ الخالية- فعزِّ نفسك بما عزَّاك الله به، واعلم أنَّ الله قد اختار لأمير المؤمنين أفضلَ الدَّارين، وأجزلَ الحَظَّين، فقبضه اللهُ طاهرًا زكيًّا، قد شكر سعيَه وغفر ذنبَهُ إن شاء الله، فقم في أمرك قيامَ ذي العزمِ والحزم، والناظرِ لأخيه وسلطانهِ ونفسه وعامَّة المسلمين، وإيَّاك أن يغلبَكَ الجزع؛ فإنَّه يُحبط الأجر، ويُعقِب الوزر، وصلواتُ الله على أمير المؤمنين حيّا وميِّتًا، وإنَا إليه راجعون، فخذ البيعةَ على مَن قِبَلك من القوَّاد والجندِ والخاصَّة والعامَّة، لأخيك ثم لنفسك ثم للقاسم ابنِ أمير المؤمنين، على الشَّرائط التي جعلها لك (¬2) أميرُ المؤمنين، فإنك مقلَّد من ذلك ما قلَّدك الله وأميرُ المؤمنين، ومَن أنكرتَ طاعتَه واتَّهمته، فابعث إليَّ برأسه، واكتب بذلك إلى عمَّالك وولاةِ ثغورك. وذكر كلامًا طويلًا في معناه، وذكر في آخره: فإنَّ أخاك يعرف حُسنَ اختيارك، وصحَّة رأيك، ودقَّةَ نظرك، وهو يسأل اللهَ أن يشدَّ بك عَضُدَه، ويجمعَ بك أمرَه إن شاءَ الله. وكتب إلى صالح: إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوعِ ما قد سبق من علم الله، ونفذ من قضائه في خَلقه (¬3) وأوليائه، وجَرَت به السُّنَّة في الأنبياءِ والمرسلين والملائكةِ ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 367: مما قد أخلف وتناسخ في الأمم ... (¬2) في (خ): جعلها الله لك. وهو خطأ. (¬3) في تاريخ الطبري 8/ 368: خلفائه.

المقربين فقال: {كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]. فاحمد اللهَ على ما صار إليه أميرُ المؤمنين من عظيم ثوابِه ومرافقةِ أنبيائه، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فشمِّر في أمرك، وإيَّاك أن تلقيَ بيديك؛ فإنَّ أخاك قد اختارك لما استنهضك له، فحقِّق ظنَّه فيك، وخذ البيعةَ على مَن قِبَلك من ولد أميرِ المؤمنين وأهلِ بيته ومواليه وخواصِّه وعامَّته لأخيك محمَّد بن أميرِ المؤمنين (¬1)، ثم لعبد الله بنِ أمير المؤمنين، ثم للقاسم بنِ أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها أميرُ المؤمنين؛ فإنَّ السعادة واليُمنَ في الأخذ بعهده، والمضيِّ على منهاجه، واعلم أنَّ مَن قِبَلك من الخاصَّة والعامَّة قد رأى (¬2) في استصلاحهم، ورد مظالِمهم، وإدرار رزقهم، واضممْ إلى الفضل بنِ الربيع ولدَ أميرِ المؤمنين وخدمَه وأهله، ومُرْه بالمسير معهم، وصيِّر إلى عبد اللهِ بن مالكٍ أمرَ العسكر؛ فإنَّه ثقة على ما يلي، مقبولٌ عند العامَّة والخاصة، وأقِرَّ حاتم بنَ هرثمةَ على ما هو عليه، وتوجَّه إليَّ بما في العسكر من الأموال والأثاثِ وغيره. وذكر كلامًا بمعناه، وكتب إلى الفضل بنِ الربيع وحُسينٍ الخادمِ بمثل ذلك. وكان المأمونُ قد خرج من مروَ إلى قصر خالدِ بن حمَّادٍ على فرسخٍ من مروَ يريد سَمَرْقَند، فقدم عليه إسحاقُ الخادم بنَعْي الرشيد، فرجع إلى مرو، ودخل دارَ الإِمارة دارَ أبي مسلم، وصعد المنبر، ونعى الرشيدَ وشقَّ ثوبَه وبكى، وعزَّى نفسه والناسَ واسترجع، وبايع لمحمَّد ولنفسه، وأعطى الجندَ رزقَ سنة. وأما الفضلُ ومَن كان في عسكر الرشيد، فإنَّهم لمَّا قرؤوا كتبَ الأمين تشاوروا في اللَّحاق بالمأمون أو بمحمَّد، فقال الفضلُ بن الربيع: لا أدع ملكًا حاضرًا لآخَرَ لا ندري ما يكون منه. وأمر الناس بالرَّحيل إلى بغداد، وأَنفق فيهم الأموال، وكانوا قد اشتاقوا إلى أهليهم ببغدادَ ومنازلِهم، فساروا، ونسوا العهودَ التي كانت أُخذت عليهم، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري: محمد أمير المؤمنين. (¬2) كذا في (خ)، وليس في (ب) لاختصار شديد، وفي تاريخ الطبري 8/ 368، والمنتظم 9/ 222: وأعلم مَن قبلك من الخاصة والعامة رأيي.

وكان ذلك أوَّلَ ما بدا من الأمينِ من الغدر بأخيه المأمون. ولمَّا رحلت العساكر عن طوس قال قائل: [من السريع] منازلُ العسكرِ مَعْمورةٌ ... والمنزلُ الأعظم مهجورُ خليفةُ الله بدار البِلَى ... تَسفي على أجداثه المُور (¬1) أَقبلت العِيرُ تُباهي بهِ ... وانصرفت تَندبه العِير ولمَّا بلغ المأمونَ رحيلُ العسكرِ إلى بغدادَ بالأموال أُسقِط في يده، وجمع خواصَّه وقوَّاد أبيه: يحيى بنَ معاذ، وشبيبَ بن حُمَيدِ بن قَحْطَبة، والعلاءَ مولى هارون وكان على حِجابته، والعباس بن المسيَّب بنِ زهير وهو على شُرطته، وأيوبَ بن [أبي] (¬2) سمير، وهو على كتابته، وغيرَهم، وفيهم ذو الرِّياستين، وكان عظيمَ القدرِ عنده، فاستشارهم، فأَشاروا (¬3) عليه أن يتجهَّزَ بنفسه خلفهم في ألفَي فارس جريدةٍ (¬4) يردُّهم، فقال له ذو الرِّياستين: إن فعلتَ ما أشاروا عليك، جعلوك طُعمةً وهديةً لمحمَّد، قال: فما الرأي؟ قال: أن تكتب إليهم كتابًا وتبعثَ رسولًا يذكِّرهم البَيعة، ويسألهم الوفاءَ بالعهد، ويحذِّرهم الحِنْثَ وما يَلزمهم من ذلك في الدِّين والدنيا، فكتب إليهم كتابًا مع سَهْل بنِ صاعد ونَوفلٍ الخادم، وبعث معهما جماعةً من أهل الرأيِ والعقل، فلحقوهم على ثلاث مراحلَ من نَيسابور. قال سهلُ بن صاعد: فأوصلتُ كتابَ المأمون إلى الفضل بنِ الربيع، فقرأه وقال: إنَّما أنا واحد من القوم. قال سهل: وشدَّ عليَّ عبدُ الرحمن بنُ جَبَلَةَ الأنباريُّ بالرمح فأمرَّه على جنبي، ثم قال: قل لصاحبك: واللهِ لو كنت حاضرًا لوضعتُ هذا الرمحَ في فيك، هذا جوابي. ونال من المأمون، فرجعوا إليه وأَخبروه، فقال له ذو الرِّياستين: اِحمدْ ربَّك، فقد أراحك اللهُ من أَعدائك، والرأيُ عندي ما أذكره لك، فافهمه واعملْ به، وأنا زعيمٌ لك بالخلافة، قال: وما هو؟ قال: قرأتَ القرآن، وسمعتَ الحديث، ¬

_ (¬1) المور: الغبار المتردد، والتراب تثيره الريح. القاموس المحيط (مور). والأبيات في مختصر تاريخ دمشق 27/ 38، والبداية والنهاية 47/ 14، إلا أنها في رثاء الرشيد. (¬2) زيادة من تاريخ الطبري وابن الأثير 6/ 223. (¬3) في (خ): فاستشاروا. (¬4) الجريدة: خيل لا رجَّالة فيها. القاموس المحيط (جرد).

وفقهت في الدِّين، والرأيُ أن تبعثَ إلى من بالحضرة من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحقّ والعملِ به وإحياءِ السنَّة، وتقعدَ على اللبود، وترد المظالم، وتكرمَ القوَّاد وأبناءَ الملوك، وتحطَّ عن خراسانَ رُبعَ الخراج، فقال: أَفعل ذلك، ففعله، فحسنت حالُه، وسُرَّ به الناس، وقالوا ابنُ أُختنا وابن عمِّ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، نفوسُنا دونه. ومعنى ابن أُختِنا أنَّ أمَّه مراجل كانت تركية من أهل خراسان. وقيل: إنَّ رسلَ المأمون لمَّا عادوا من عسكر هارونَ آيسين، قال له الفضلُ بن سهل: اصبر واثبُت لتنال ما تحب، ثم خلا بالقواد الذين كانوا عند المأمون، مثل يحيى بنِ معاذ ومَن سمَّينا، وعرض عليهم البيعةَ للمأمون، وقال: قد غدر به محمد وأخذ ما كان أَوصى له به الرشيد، فبايعوا له، فأغلظوا له في الكلام، وقالوا: مَن يدخل بين الخليفةِ وأخيه؟ فدخل الفضلُ على المأمون وقال له: إذا كان هؤلاء كذا، فكيف لو رجع الفضلُ بمن معه! قال: فما الحيلة؟ قال: أَظهِر النُّسك، والزم المسجد، وافرش اللُّبود، وصلِّ الصلواتِ الخمس، ودُم على قراءة القرآنِ والصَّدقة على الفقراءِ والمساكين، وأَزِل المنكر، ومُر بالمعروف، وأحْيِ معالمَ الشريعة. ففعل، فمالت قلوبُ الناس إليه، وأشار عليه ألا يقطعَ مكاتباتِ محمَّد، فكتب إليه، وبعث بالهدايا النفيسة، من الطِّيب والرقيقِ والأَمتعة الجليلةِ وطُرَف السند والهند. وكان هارونُ بفراسته يعلم ما يريد أن يجريَ بينهما، فكان يقول: [من الطويل] محمد لا تُبغِضْ أخاك فإنَّه ... يعود عليك البغيُ إن كنتَ باغيا فلا تعْجَلَنْ فالدهرُ فيه كفايةٌ ... إذا مال بالأقوام لم يُبْقِ باقيا (¬1) ولم يجاهر المأمونُ أخاه، بل أَقام على طاعته والأمرُ بينهما مستور. وأمَّا الأمين، فلمَّا أَفضت إليه الخلافة، تشاغل باللَّهو واللعب، وأمر ببناء مَيدانٍ حول قصرِ أبي جعفرٍ في المدينة للَّعب بالصَّوالجة، وأمر بعمل خمس حَرَّاقات (¬2) في دجلة، واحدة على خِلقة الأسد، والثانيةُ على خلقة الفيل، والثالثة على خلقة العُقاب، والرابعةُ على خلقة الفرس، والخامسة على خلقة الحيَّة، وأمر الشعراءَ فمدحوها، ¬

_ (¬1) الوافي بالوفيات 5/ 138 - 139. (¬2) الحراقات: ضرب من السفن فيها مرامي نيران يرمى بها العدو في البحر. المعجم الوسيط (حرق).

صالح بن محمد

وأطلق لهم خمسَ مئة ألفِ دينار، وأمر بشاعرٍ أنشده قصيدًا بثلاث مئةِ ألف دينار، وأسرف إسرافًا كبيرًا. وفيها جهَّز المأمونُ الجيوشَ إلى رافع بنِ اللَّيث مع هَرْثَمة، فنازله بسَمَرْقَند، وأخرب سورَها الظاهر، ولجأ رافعٌ إلى المدينة الداخلة، وراسمل رافعٌ التُّرك، فوافَوه، وبقي المأمونُ بين رافعٍ والتُّرك يقاتل الفريقين، ثم انصرف التركُ إلى بلادهم، وبقي رافع محصورًا، فضعف أمرُه. وفيها قُتل نقفورُ ملك الرومِ في حرب بُرْجان (¬1)، وكان ملكُ نقفورَ تسعَ (¬2) سنين، وملك بعده ولدُه إستبراقُ بن نقفور، وكان قد خرج مع أبيه، فمات بعده بشهرين، وملك ميخائيل بن جُرجس، وكان خَتَنَه على أخته. وأقرَّ الأمينُ أخاه القاسمَ في هذه السَّنة على ما كان عليه من أعمال الجزيرةِ وقِنَّسرين والعواصم، ثم صرفه عن الجزيرة وولَّى عليها خُزَيمَةَ بن خازم، وأقرَّ القاسمَ على الثُّغور والعواصم. وهذا ثاني أمرٍ خالف فيه الأمينُ وصيةَ أبيه، عزلُه لأخيه عن الجزيرة. وفي شعبانَ قدمت زُبيدة [أمُّ الأمين] (¬3) من الرقَّة بجميع ما كان فيها من الأموال والخزائن، فخرج الأمينُ لاستقبالها في وجوه الناسِ والأَشراف والعلماء، فلَقِيها من الأنبار. وحجَّ بالناس داودُ بن عيسى بنِ [موسى بن] محمَّد بن عليِّ بن عبد الله بنِ عباس، وهو والي مكَّة، فمات بعد الموسم. فصل وفيها توفي صالحُ بن محمد ابنِ عَمرو بن حَبيب بن حسَّان، أبو على البغدادي، مولى أسدِ بن خُزَيمَةَ، ولقِّب ¬

_ (¬1) بعدها في (خ): الرومي. (¬2) كذا في (ب) و (خ) وتاريخ الإسلام 4/ 1032، ونسخة من الطبري 8/ 373، ونسخ من البداية والنهاية 14/ 52. وفي مطبوع الطبري والبداية والنهاية والمنتظم 9/ 224، والكامل 6/ 226: سبع. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

جَزَرَة -بجيم وزايٍ معجمة وراءٍ مهمَلة- لأنَّه قرأ يومًا على شيخٍ من شيوخ الشام أنه كان لأبي أُمامَة خَرَزةٌ يرقي بها المرضى، فصحَّف. وُلد سنةَ عشرٍ ومئة (¬1) بالكوفة، وكان أحدَ أئمَّة العلمِ والحفَّاظ، وممن يُرجَع إليه في علم النَّقل، سافر إلى الأمصار، فسافر وسمع بخُراسانَ والعراقَين والشامِ ومصرَ والحجاز، واستوطن بُخارى، وكان يحدِّث من حفظه، ولم يستصحبْ معه كتابًا، وكان ثقةً صدوقًا حافظًا عارفًا، وكان فيه دُعابة. اجتاز يومًا ببغدادَ شاعران، أحدُهما صاحب حديثٍ والآخَر مُعْتَزليّ، فقال له المعتزليّ: كم تكتب! يذهب بصرُك، ويَحْدَودب ظهرُك، ويزداد فكرك، ثم أخذ كتابًا من يده وكتب عليه: [من مجزوء الكامل] إنَّ القراءةَ والتفقُّه ... والتشاغلَ بالعلومِ أصلُ المذلَّة والإِضا ... قةِ والمهانةِ والهمومِ ثم ذهب وجاء الآخَر، فقرأ البيتَين وقال: كذب عدو الله، بل يُرفع ذِكرُك، ويُنشر علمُك، ويبقى اسمُك مع اسم رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، وكتب على ظهرِ الكتاب: إنَّ التشاغلَ بالدَّفا ... ترِ والكتابةِ والدِّراسهْ أصلُ التَّفَقُّه والتزهُّدِ ... والرِّئاسةِ والسِّياسه (¬2) توفِّي صالحٌ سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومئة ببخارى، وقيل: سنَة أربعٍ وتسعين (¬3). أَسند عن عليِّ بن الجَعْد وغيرِه، وروى عنه الجَمُّ الغَفير، واتَّفقوا على صدقه وثقتِه. [فصل وفيها توفي] ¬

_ (¬1) كذا؟ ! وهذا وهم من المصنف رحمه الله، فقد ولد صالح سنة عشر ومئتين، أو خمس ومئتين، وتوفي سنة 293، أو 294، فإيراده في وفيات هذه السنة وهم، لم أجد من تابع فيه المصنف، انظر تاريخ بغداد 10/ 445، والمنتظم 13/ 52، وتاريخ دمشق 8/ 222 (مخطوطة دار البشير)، وتاريخ الإسلام 6/ 953، والسير 14/ 24 وفي حواشيه مصادر أخرى، ولم ترد هذه الترجمة في (ب). (¬2) تاريخ بغداد 10/ 441. (¬3) انظر التعليق أول الترجمة.

غندر

غُنْدَر واسمه محمَّد بن جعفر، مولى هُذيل، بصري، أبو عبدِ الله [صاحب سعيدِ بن أبي العَروبة] (¬1)، من الطبقة السادسة أمن أهل البصرة. سمع غندرٌ الكثير، وسافر إلى الأمصار. وقال البخاريّ: توفِّي سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومئة (¬2). و] سمع يحيى بنَ سعيدٍ والثوريَّ وحُميدًا الطويلَ وغيرهم (¬3). [وقال الخطيب: جالس شعبةَ نحوًا من عشرين سنة] وروى عنه الجَمُّ الغَفير، وكان إمامًا ثقةً سليمَ الصدر. [وروى محمَّد بن المَرْزُبان قال: قيل لغندر: ] (¬4) إنَّ الناس يُعَظِّمون أمرَ السلامة التي فيك، قال: يَكذِبون، فقيل له: حدثنا منها بشيء، قال: صمتُ يومًا، فأكلت ثلاثَ مرَّات ناسيًا، ثم أَتممت صومي. وقال ابن مَعين: اشترى غندرٌ يومًا سَمَكًا، وقال لأهله: أَصلِحوه، فأَصلحوه وهو نائمٌ وأكلوه، ولطَّخوا يدَه وفمَه منه، فلمَّا انتبه قال: قدِّموا السمك، فقالوا: قد أكلتَ منه، قال: لا، قالوا: فشمَّ يدك، ففعل، فقال: صدقتم ولكن ما شبعت. [واختلفوا في وفاته، فروينا عن البخاريِّ أنَّه] مات سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومئة، وقيل: سنةَ أربعٍ وتسعين بالبصرة، وكان ثقةً إن شاءَ الله. [وفيها توفِّي] هارونُ بن محمَّد ابن عبد الله بن محمَّد بن عليِّ بن عبد اللهِ بن عباس، أميرُ المؤمنين الرشيد (¬5). [وقد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 9/ 297، والمنتظم 9/ 227، وتهذيب الكمال (5120)، وتاريخ الإسلام 4/ 1188، والسير 9/ 98 وفي حواشيه مصادر أخرى. (¬2) التاريخ الكبير 1/ 57. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) الذي روى عن يحيى بن سعيد وحميد الطويل هو محمد بن جعفر الزرقي، لا غندر. (¬4) في (خ): وقيل له. (¬5) تاريخ الطبري 8/ 347، مروج الذهب 6/ 287، تاريخ بغداد 16/ 9، المنتظم 8/ 318 و 9/ 230، تاريخ الإسلام 4/ 1223، السير 9/ 286.

ذكرنا اختلافَ العلماءِ في مولده، فقال الطبريّ (¬1): سنةَ خمسٍ وأربعين ومئة، وقال ابنُ أبي الدنيا: سنةَ تسعٍ وأربعين ومئة. ذِكر طرَف من أخباره: قد ذكرنا منها جملةً متفرِّقة في الكتاب، رُوي عن الجاحظ أنّه كان يقول: ] اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الخلفاء [من جدٍّ وهزل]: وزراؤه البرامكة لم يُرَ مثلُهم شَرَفًا وسخاء، وقاضيه أبو يوسفَ وحفصُ بن غياثٍ ونوحُ بن درَّاج، وشاعرُه مروان بن أبي حَفْصة [كان في عصره مثلَ جَرير]، ونديمُه عم أبيه العباسُ بن محمد [صاحبُ العبَّاسية] وكان عظيمًا، وحاجبُه الفضل بنُ الربيع، أشدّ الناس حزمَّا، ومغنيه إبراهيمُ الموصلي، أوحدُ زمانه في صناعته، وزوجتُه زُبيدة بنت جعفر، أرغبُ الناس في خير وأسرعُهم إلى كل بِرّ، وواعظه محمَّد بن السمَّاك ومنصورُ بن عمار، وأولادُه: الأمين، والمأمون، والمؤتَمَن، والمعتصم. وقال إبراهيمُ بن محمد [بن عَرَفة] (¬2): كان هارونُ يصلي كل يوم وليلةٍ مئةَ ركعةٍ نافلة، ويتصدَّق من صُلب ماله كل يومٍ بألف درهم، وكان إذا حج حج معه بثلاث مئةٍ من العلماء والأَعيان، وفي العام الذي لا يحجُّ فيه يحجُّ أيضًا بثلاث مئة، ولم يَفُتْه الحجُّ إلَّا أعوامًا يسيرة. [ذِكر حجَّاته: قال خليفة: ] حجَّ [هارونُ في] سنة سبعين، وسنةِ ثلاث وسبعين، وأربعٍ وسبعين، وخمس وسبعين، وتسعٍ وسبعين، وسنةِ ثمانين (¬3)، وسنة ستّ وثمانين ومئة. وحُفظ عنه مِن بعض حجَّابه أنَّه دخل البيتَ، وقام على أصابعه وقال: يا مَن يملك حوائجَ السائلين، ويعلم ضمائرَ الصامتين، لكلِّ سائل منك ردٌّ حاضر أو إِجابة، ولكلِّ صامت منك علمٌ محيط بباطن حالِه، يا ذا المواعيدِ الصادقة، والأَيادي الفاضلة، والرحمةِ الواسعة، صلِّ على سيِّدنا محمَّد وعلى آل محمَّد، واغفر لنا ذنوبَنا، وكفِّر عنا ¬

_ (¬1) في تاريخه 8/ 230. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر تاريخ بغداد 16/ 10. (¬3) كذا في (ب) و (خ)، والصواب: إحدى وثمانين، كما في تاريخ خليفة ص 456.

سيئاتِنا، يا مَن لا تَضرُّه الذنوب، ولا تخفي عنه الغيوب، اللهمَّ خِر لي في جميع أمري، يا مَن خشعت له الأصواتُ بفنون اللغات، يسألونك الحاجات، إنَّ من حاجتي عندك أن تغفرَ لي إذا توفَّيتني وصرت في لحدي، وتفرَّق عني أهلي وولدي، اللهمَّ أحينا سعداءَ مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياءَ محرومين. وقال الفضل بنُ الربيع: حججنا مع هارون، فقيل له: في جبال تهامة عابد مجاب الدعوة قد اعتزل الناس، فقال: اِعدل بنا إليه، فجئناه، وإذا به جالس على الأرض، فسلَّم عليه، وجلس بين يديه، وقال له: أَوصِني، فواللِه لا عصيتُك أبدًا. فلم يردَّ عليه جوابًا، فلمَّا انصرف هارون، قيل للعابد: ما منعك أن تأمرَه بتقوى اللهِ وقد قال لك: أوصِني بمهما شئت، وحلف لك. فخطَّ في الرمل خطًّا، فإذا هو: إنِّي أعظمت اللهَ أن يأمُره لأمرٍ فيعصيَه ويطيعَني. وغزا بلادَ الروم فأَوغل فيها، فكتب إليه ملك الروم: لآتينَّك بكل صليبٍ في مملكتي، فكتب على رأس كتابه: وسيعلم الكافرُ لمن عقبَى الدار. ودخل بلادَ الروم غيرَ مرَّة، وغزا عدَّةَ غزوات، وأَناخ على خليج القُسطنطينية. وكان جَوَادًا سمْحًا، يحبُّ أهلَ العلم والأدب والفقه، ويُجيز بمئة ألف وألفِ ألف، وكان يتقفَّى آثارَ المنصور إلَّا في العطاء؛ فإنه لم يكن خليفةٌ قبله ولا بعده أكرمَ منه، ثم المأمونُ بعده. وقال منصورُ بن عمار: ما رأيتُ أسرعَ دمعةً من هارونَ عند الذِّكر (¬1). [وروى الخطيبُ (¬2) بإسناده عن عليِّ بن المَديني قال: ] قال أبو معاويةَ الضرير: أكلتُ مع هارونَ يومًا طعامًا، فصبَّ على يدي رجلٌ لا أعرفه، فلمَّا فرغ قال لي: يا أبا معاوية، هل تدري مَن صبَّ على يدك؟ قلت: لا، قال: أنا، فاسترجعت، فقال: لا بأسَ عليك، إنَّما فعلته إِجلالًا للعلم. ¬

_ (¬1) عبارته في تاريخ بغداد 16/ 13، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 19: ما رأيت أغزر دمعًا عند الذكر من ثلاثة: فضيل بن عياض، وأبو عبد الرحمن الزاهد، وهارون الرشيد. (¬2) في تاريخه 16/ 12، وما بين حاصرتين من (ب).

قال: وما حدَّثتُه بحديثٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلَّا وقال: صلى اللهُ على سيدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. وحدثته يومًا بحديث أبي هريرةَ، وأنَّ موسى لقي آدمَ فقال له موسى: أنت الذي أخرجتَنا من الجنة، وعنده بعضُ عمومته، فقال: أين التقيا؟ فأمر هارونُ بقتله، ثم حبسه، [قال: ] فدخلتُ عليه الحبسَ ولُمْته، فقال: واللهِ ما سمعتُه من أحد، وإنَّما هو شيءٌ جرى على لساني، قال: فأخبرت هارون، فقال: خفت أن يكونَ بعضُ الزنادقةِ ألقى إليه هذا الكلام، وإلا فأنا أعلم أنَّ القرشيَّ لا يتَزَنْدَق، وأطلقه. [قلت: وأيُّ إشكالٍ في هذا السؤال، أليس قد ثبت أنَّ الله تعالى أخرج ذرية آدمَ مثل الذَّرِّ بأرض نَعمانَ وقال لهم: "ألست بربكم" قالوا: بلى. وأخذ ميثاقَ الأنبياءِ على تصديق نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وقد كان موسى في الجملة، فقد عاتبه موسى على اعتبار (¬1)، ويحتمل أنَّ روحَ موسى وآدمَ اجتمعا بعد المماتِ فعاتبه موسى، وليس في سؤال عمِّ هارونَ ما يُنكَر عليه، وإنَما عظَم القصة سدًّا لهذا الباب على مَن لم يفهم الجواب.] وقال [أبو معاويةَ الضرير: ] (¬2) قال لي هارونُ يومًا: ما أجلُّ المراتب؟ فقلت: ما أنت فيه، قال: أجلُّ مني رجلٌ في حلقةٍ يقول: حدَّثنا فلانٌ عن فلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. [وكان هارونُ كثيرَ الخوفِ من الله والبكاء] وقال ابنُ المبارك: عشق هارونُ جارية، فراودها عن نفسها، فقالت: إنَّ أباك ألمَّ بي، فتركها، وشُغف بها حتى قال: [من الوافر] أرى ماءً وبي عَطَشٌ شديدٌ ... ولكن لا سبيلَ إلى الورودِ (¬3) وأخبر أبا يوسفَ القاضيَ بشدَّة شغفه بها، فقال: أَوكلَّما قالت جاريةٌ كذا تصدِّق! فقال هارون: ما فوق الخلافةِ مرتبة. ثم قال ابنُ المبارك: ما أدري مم أعجب، من عِفَّة الجارية ورغبتِها عن الخلافة، أو من امتناع هارونَ عنها مع شدَّة الشغفِ والعشق والقدرةِ والشَّباب والملك، أو من جرأة أبي يوسفَ حيث أمره بالهجوم عليها؟ ! ¬

_ (¬1) حديث المعاتبة المذكور أخرجه البخاري (3409)، ومسلم (2652). (¬2) في مختصر تاريخ دمشق 27/ 13 أن القائل يحيى بن أكثم. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) هي ثلاثة أبيات في مختصر تاريخ دمشق 27/ 29. وانظر تاريخ بغداد 16/ 17.

وقال الأصمعيّ: عارضه بعض الزهَّاد فقال له (¬1) في الطريق: يا هارون، اتقِ الله، فوقف عليه وقال: ما أنصفتَني، قال الزاهد: ولِم؟ قال: لأنِّ فرعونَ كان أخبثَ مني حيث قال: ؟ {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرِي} [القصص: 38] ولا أنت خيرٌ من موسى، ولمَّا بعثه اللهُ إلى فرعونَ قال له: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] أي: كنِّياه، قال: صدقت، قال: فلمَ عرَّضتَ نفسَك للهوان فخاطبتَني بأغلظِ الألفاظِ، أأمِنْتَ عقوبتي؟ ! فقال الزاهد: أخطأتُ وأستغفرُ الله، وحلمُك يسعني، فقال هارون: غفر اللهُ لك، وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يقبلَها وقال: مالي واللهِ إليها من حاجة، وانصرف ولم يقبلْها. و[قال الأصمعيّ: ] (¬2) اجتاز هارونُ بالبادية، وإذا بكوخٍ فيه عجوز، فسلَّم عليها وقال: ممَّن العجوز؟ فقالت: من طيِّئ، فقال: ما منع طيِّئًا أن يكونَ فيهم مثلُ حاتم، فقالت: الذي منع الخلفاءَ أن يكونَ فيهم مثلُك، فأعطاها مالًا عظيمًا كان معه، فاستكثره بعضُ مَن حضر، فقال: واللهِ لو أعطيتُها الخلافةَ ما أوفيتُها. وقال الأصمعيّ: دخلتُ عليه يومًا فقال لي: كيف بتَّ؟ فقلت: بليل النَّابغة، فقال: لعلك تريد قولَه: [من الطويل] فبتُّ كأنِّي ساوَرَتْني ضَئيلةٌ ... من الرُّقْش في أنيابها السُّمُّ ناقعُ (¬3) قلت: نعم. وقال إسحاقُ الموصلي: كان الخلفاءُ إذا عطسوا شُمِّتوا، فعطس هارونُ يومًا، فشمَّته جلساؤه، فقال لهم الفضلُ بن يحيى: لا تكلِّفوا أميرَ المؤمنين بعدها جوابًا. فمُحيت هذه السُّنَّة. وكان الخلفاءُ إذا مَرِضوا دخل عليهم جلساؤهم فسألوهم عن حالهما، فقال الفضلُ بن يحيى: اِرفعو هذا عن أمير المؤمنين، واجعلوا سؤالكم عنه دعاءً له. ¬

_ (¬1) في (خ): لي، والقصة غير مذكورة في (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) المنتظم 8/ 323، والبيت في ديوان النابغة الذبياني ص 80.

وقال الأصمعي: خاطبتُ هارونَ يومًا مخاطبةَ مُدِلّ، فقال لي: يا عبدَ الملك، الدالَّة تُفسد الحُرمة، وتُسقط المنزلة. وقال المُفَضَّل الضَّبِّي: استدعاني هارونُ يومًا، فدخلتُ عليه، والأمينُ جالس عن يمينه والمأمونُ عن شماله والكسائيُّ عنده، فقال: يا مفضَّل، كم في قوله تعالى: {فَسَيَكفِيكَهُمُ اللهُ} [البقرة: 137] اسم؟ فقلت: ثلاثةُ أسام: الكافُ لرسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والهاءُ والميمُ للكفار، والياء، وهي لله تعالى. فقال: صدقتَ يا مفضَّل، هكذا أفادنا هذا الشيخ، يعني الكِسائي. ثم قال: يا مفضَّل سَلْ، فقلت: ما معنى قولِ الفرزدق: أَخَذْنا بآفاق السَّماءِ عليكمُ ... لنا قَمراها والنُّجومُ الطَّوالِعُ (¬1) فقال: أراد بقوله: لنا قمراها، أي: الشمس والقمر، كما قالوا: سنَّة العُمَرَين [: سُنَّةَ أبي بكر وعمر] (¬2). قال المفضَّل: فلمَ استحسنوا هذا؟ يعني قولَهم: سنَّة العُمَرين، فقال: لأنَّه متى اجتمع شيئان من جنسٍ واحد وكان أحدُهما أخفَّ على اللسان، غلَّبوه وسمَّوا الثانيَ باسمه، ولمَّا كانت أيامُ عمرَ أكثرَ من أيام أبي بكرٍ، وفتوحُه أكثَر، واسمُه أخفَّ، غلَّبوه وسمَّوا أبا بكرٍ باسمه. وقال: وأمر لي بمئتَي ألفِ درهم. وقد اختلفوا في قولهم: سيرةُ العمرين، قال معاذٌ الهَرَّاء: لقد قيل: سيرةُ العمرين قبل عمرَ بن عبدِ العزيز؛ لأنَّهم قالوا لعثمانَ يومَ الدار: نسألك سيرةَ العمرين. وسُئل قتادةُ عن عتق أمَّهات الأولاد [فقال: أَعتق العُمَرَان فما بينهما من الخلفاءِ أمهاتِ الأولاد] (¬3). ففي قول قتادةَ أنَّه عمر بن الخطاب وعمرُ بن عبد العزيز؛ لأنَّه لم يكن بين أبي بكرٍ وعمرَ رضوانُ الله عليهما خليفة. وقال الفضلُ بن الربيع: أحضر هارونُ رجلًا ليولِّيَه القضاء، فقال له: ما أنا فقيه، فقال: فيك ثلاثُ خصال: شرف، والشرفُ يمنع صاحبَه من الدَّناءة، ولك حِلم، وهو يمنعك من العَجَلَة والسَّفَه، ومَن لم يعجل ولم يَسفَه قلَّ خطؤه، وأنت رجلٌ تشاور في ¬

_ (¬1) الديوان 1/ 419. (¬2) ما بين معكوفين من تاريخ الطبري 8/ 361. (¬3) ما بين حاصرتين من إصلاح المنطق ص 445.

أمرك، ومَن شاور كثر صوابه، وأمَّا الفقه؛ فسنضمُّ إليك رجلًا تتفقَّه به. ثم ولَّاه، فلم يجدْ فيه مَطْعَنًا. وجاء رجلٌ يومًا يطلب من الرشيد حاجة، فوافاه وهو يصلِّي ويتضرَّع ويدعو اللهَ تعالى، فخرج الرجلُ وكان قد لَمَحه، فلما سلَّم قال: عليَّ بالرجل، فجيء به، فقال: ما الَّذي أتى بك، وما الَّذي أَعجَلَك؟ قال: جئتُك في حاجة، فوجدتك تسأل غيرَك وتتضرَّع إليه، فقلت: كلُّنا في هذا سواء، وما لي لا أسأل مَن يسأله هذا! فانصرفت لأسألَ الَّذي سألتَه. فبكى هارونُ وسأله عن حاجته، فامتنع الرجلُ من ذِكرها، فقال: لا بدّ، فأَخبره، فقضاها له. ودخل عليه ابنُ السمَّاك يومًا وهو يأكل بملعقة فضَّة فقال: أُخبرنا عن جدِّك عبدِ الله بن عباسٍ في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]. أنَّه أكلُ الرجلِ بيده. فرمى هارونُ بالملعقة وأكل بيده. [وقال إسحاقُ الموصلي: ما رأى أحدٌ هارونَ يشرب النَّبيذ، وإنما كان يجلس من وراء السِّتارة. وهو أوَّل مَن رتَّب المغنِّين والندماءَ طبقاتٍ ومنازل. ذِكر قصَّته مع الشيخ الأموي: ذكرها القاضي التنوخيُّ شيخ الخطيبِ في كتاب "الفرج بعد الشدَّة" (¬1) مطوَّلةً، وقد اختصرتُها، فقال التَّنوخي: ] رُفع إلى هارونَ أنَّ رجلًا بدمشقَ من بقايا أولادِ الخلفاءِ بني أمية، رفيعَ القدر، عظيمَ الجاه، كثيرَ المال والأولادِ والغلمان، يركبون الخيل، ويحملون السَّلاح، ويغزون الروم، وهو في حالٍ يضاهي بها الخلفاءَ والأمراء، جَوَادًا سخيًّا، كثيرَ الصنائع، وافرَ العطاء، [وكتب أصحاب الأخبار إلى هارون أنَّه] لا يؤمَن منه فَتْقٌ يتعذَّر رَتْقُه، وهارونُ يومئذٍ بالكوفة. قال منارةُ صاحبُ الخلفاء: فدعاني [هارون] وقال لي. يا منارة، قد كثَّر عليَّ أصحابُ الأخبار أنَّ بدمشقَ رجلًا من صفته كذا وكذا، وقد أهمَّني أمره، وقد نَدَبْتُك إليه، فانظر كيف تكون، فإنِّي قد مُنعت النوم، فاخرج الساعةَ على البريد، وخذ هذه القيود، فإذا نزلتَ بالرَّجل، فقيِّده واحمله إليّ، وإنْ أبى، فهذا كتابٌ إلى عامل دمشقَ ¬

_ (¬1) 2/ 34. وما بين حاصرتين من (ب).

بقبضه، واجعله في شِقِّ مَحْمِلٍ وأنت في الشقِّ الآخَر، وقد أجَّلتك ثلاثةَ عشرَ يومًا: ستَّةً لرَواحك، وستَّةً لعودك، ويومًا لمقامك. واحفظ ما يقول حرفًا حرفًا، وما يصنع، إلى أن تَقدمَ به عليّ. قال منارة: فخرجتُ على البريد أَسير ليلًا ونهارًا، حتَّى قدمت دمشقَ في اليوم السابعِ، فسألتُ عن داره، فدُللت عليها، فأتيتها، وإذا بحاشية عظيمة، وغاشيةٍ كثيرة، وحِشْمةٍ مثل حشمةِ الملوك، فدخلتها بغير إِذن، فقال أصحابهُ لبعض مَن معي: مَن هذا؟ قالوا: منارة رسولُ أمير المؤمنين إلى صاحبكم، فكفوا، فلمَّا صرت في صحن الدار، رأيتُ مجلسًا بَهْوًا فيه قوم جلوس، فقاموا إليَّ ورحَّبوا بي وأَكرموني، فقلت: أفيكم فلان؟ قالوا: نحن أولادُه وهو في الحمَّام، فقلت: استعجلوه، فمضى بعضُهم فأخبره، وجعلت أتفقَّد أحوالَ الدار والحاشيةِ وهي تموج بأهلها، وإذا بالشيخ قد أَقبل بعد أن أطال وارتبت به وقلت: ربَّما توارى، هاذا حوله كهولٌ وصبيان، وهم أولادُه، وغلمانٌ كثيرة، فجاء فسلَّم سلامًا خفيًّا (¬1)، وسألني عن أمير المؤمنين، فأخبرتُه بما يجب، وجاؤوا بأَطباق الفاكهة، فقال لي: تَقدَّم يا منارةُ فكل، فقلت: ما لي إلى الأكلِ من حاجة، فلم يعاودْني، وأقبل هو يأكل والحاضرون، ثم غسل يدَه، وجاؤوا بالموائد التي لم أرَ مثلَها إلَّا للخلفاء، فقال: تقدَّم يا منارةُ فكل، فقلت: ما لي إلى الأكل، فتأمَّلتُه، وإذا به يأكل أكلَ الخلفاء، ولا يُرفع من بين يديه شيءٌ إلَّا وُهب (¬2)، فقلت في نفسي: هذا جبَّار عنيد، لا يدعوني إلَّا باسمي كما يدعوني الخلفاء، وقد تهاون بي، وربَّما امتنع من الشُّخوص معي، وكيف أَصنع وأنا في منزله! ثم غسل يدَه، وجاؤوا بالبَخُور، فتبخر وقام إلى الصلاة، فأَطال، ودعا واستغفر وابتهل، وصلَّى صلاةً حسنة، ثم انفتل من محرابه وقال: يا منارة، ما الَّذي أَقدمك؟ فأخرجت إليه كتابَ أمير المؤمنين، فلمَّا قرأه، دعا أولادَه وأهله وخَدَمه وحاشيته، فلم أشكَّ أنَّه يريد أن يوقعَ بي، فلمَّا تكاملوا، حلف بالأَيمان المغلَّظة ألا يجتمعَ منهم اثنان في موضع، وأن ينصرفوا إلى منازلهم، ثم قال لهم: هذا كتابُ أمير المؤمنين ¬

_ (¬1) في الفرج بعد الشدة: خفيفًا. (¬2) في (خ) ونسخة من الفرج بعد الشدة: نهب. وفي هذا الموضع سقط في (ب).

يدعوني بالمَصير إليه، ولست أُقيم بعد نظري فيه لحظةً واحدة، فاستوصُوا بالحُرَم خيرًا، ولا يتبعْني منكم أحد، هاتِ يا منارة قيودَك، فدعوت بها، فمدَّ رجليه، فقيَّدته، ثم أمرتُ أصحابي فحملوه فألقَوه في شِقِّ محمل، وركبت في الشقِّ الآخر، وسرنا وليس معه أحدٌ من غلمانه، فشرع يحدِّثني بانبساط، وكلَّما مررنا على بستانٍ يقول: هذا لي وفيه من غرائب الأشجارِ والثِّمار كذا وكذا، فاغتظتُ منه وقلت: قد اشتدَّ تعجُّبي منك، ألستَ تعلم أنَّ أمير المؤمنين قد أهمَّه أمرُك حتَّى أرسلَ إليك مَن انتزعك من بين أهلِك وولدك وحَشَمك ومالِك ومن جميع ما كنتَ فيه، وقد بقيتَ فردًا وحيدًا مقيَّدًا ما تدري ماذا تصير إليه، وأنت فارغُ القلب تصف بساتينَك وضِياعك، لقد كنتَ عندي شيخًا فاضلًا! فاسترجع وقال: لقد أخطأتْ فِراستي فيك، ظننتك رجلًا كاملَ العقل، وأنَّك ما حللت من الخلفاء هذا المحلَّ إلَّا بعد أن عرفوك بذلك، وكلامُك يشبه كلامَ العوامّ، وعقلُك يشبه عقولَهم، واللهِ إنِّي على ثقةٍ من الَّذي ناصيةُ أمير المؤمنين بيده، وأنَّه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ولا لغيره إلَّا بإذن الله، ولا ذنبَ لي عنده أخافه، وإذا عرف سلامتي وطاعتي، وأنَّ الحسَّاد سَعوا بي إليه بالأباطيل، لم يستحلَّ دمي، وردَّني إلى أهلي مكرَّمًا، وإنْ كان قد سبق في علم اللهِ تعالى أن تبدرَ منه إليَّ بادرة وقد حضر أجلي، فلو اجتهد أهلُ السماءِ والأرض أن يصرفوا ذلك عنِّي ما استطاعوا، فلمَ أتعجَّل الهمَّ وأتسلَّف الفكرَ فيما قد فُرغ منه، وإنِّي حسن الظنِّ بالله، وأين الرِّضا والتسليمُ والتفويض لأوامر الله الخالق الرازقِ الضارِّ النافع. ثم صمت فلم يكلِّمني بعدها كلمة، وأقبل على العبادة وقراءةِ القرآن والذِّكر والتسبيح، حتَّى وصلنا الكوفةَ في اليوم الثالثَ عشر، وإذا النُّجب قد استقبلتني على فراسخَ يتحسَّسون خَبري، فتقدَّمتُه ووصلت إلى أمير المؤمنين، فقال: هيه، حدِّثني حديث الرجلِ كأني حاضر، فحدَّثته الحديثَ، وما خاطبني به لمَّا خرجنا من دمشقَ، وسكوتَه عني وعدمَ اكتراثه، ووجهُه يتربَّد والغضبُ يلوح عليه، حتَّى حدَّثته بمخاطبتي له وما أجابني به واشتغالِه بالعبادة، فرقَّ وقال: صدق والله، هذا رجلٌ محسود على النِّعمة مكذوبٌ عليه، لقد آذيناه وأزعجناه وروَّعناه وأهلَه، بادر فحُلَّ قيودَه وأتني به مسرعًا.

قال: فخرجتُ فنزعت قيودَه وأدخلتُه، فسلَّم عليه بالخلافة، فما هو إلا أن رآه حتَّى رأيت ماءَ الحياة يجول في وجه أميرِ المؤمنين، وردَّ عليه ردًّا حميلًا، ورحِّب به وأَدناه وأمره بالجلوس، وسأله عن حاله وقال: بلغنا عنك فضلٌ وهيبة، وأمورٌ أحببنا معها أن نراك ونسمعَ كلامَك ونُحسنَ إليك، فاذكر حاجتَك، فأجاب جوابًا جميلًا، وشكر شكرًا كثيرًا، وقال: حاجتي أن تردَّني إلى أهلي وولدي وبلدي، فقال: نفعل ذلك، ولكن سَلْ ما تحتاج إليه من مصالح جاهِك ومعاشك، فقال: عمَّال أمير المؤمنين عادلون منصفون، وقد استغنيت بعدله عن سؤالي غيرَ ذلك، وأموري منتظمة، وأحوالي مستقيمة، وأنا وأهلي وولدي إنما نعيش في ظلِّ أميرِ المؤمنين، فأمر له بمال، فقال: أَوَ يعفيني أميرُ المؤمنين؛ فإنِّي عنه في غنًى، فقال: يا منارة، سِرْ به مكرَّمًا إلى بلده كما أتيتَ به، فإذا أوصلتَه إلى المجلس الَّذي أخذتَه منه، فدعْه وارجع، فقلت: سمعًا وطاعة، وفعلت ذلك. ذِكر مقامات العلماءِ بين يديه: [قد ذكرنا اجتماعَه بالفُضَيل بن عياض، وكان الفضيلُ يدعو له ويقول: لو كانت لي دعوةٌ مستجابة لادَّخرتها له أو للإِمام] (¬1). وقال عبدُ الرَّزاق بن همَّامٍ الصَّنْعاني (¬2): كنا يومًا عند الفضيل، فمرَّ هارونُ في الطَّواف، فقال الفضيل: الناسُ يكرهون هذا وما في الدنيا أعزُّ عليَّ منه، وددتُ أنَّ اللهَ زاد من عُمري في عمره، فشقَّ ذلك على أصحاب الفضيل؛ لم يتجاسروا أن ينطقوا بكلمة، فلمَّا مات هارونُ، وظهرت الفتنُ بعده، والقولُ بخلق القرآنِ، وحملُ المأمون الناسَ على ذلك، قالوا: كان الفضيلُ أعلمَ بما يَحدُث بعده. [مقام لمنصور بن عمار: حكى الفضْل بن الربيع قال: دخل عليه منصور فأدناه، حتَّى ألزق رُكبتيه بركبتيه، فقال له منصور: لَتَواضُعك في شَرَفك أحبُّ إلينا وأحسن من شرفك، فقال: يا أبا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب): وروى ابن عن عبد الرزاق الصنعاني، والمثبت من (خ)، والخبر أخرجه الخطيب في تاريخه 16/ 17 عن ابن الفضل بإسناده إلى عبد الرزاق، وجمع المصنف أو المختصر هنا بين خبرين ذكرهما الخطيب متتابعين.

السَّريّ، عِظني وأوجز، فقال: مَن عَفَّ في حاله، وواسى من ماله، وعدل في سُلطانه؛ كتبه الله من الأبرار، فبكى هارون وقال: زدني، فقال: يا أمير المؤمنين، لو طلبتَ شَربة ماء فلم توجد إلا بنصف الدنيا أكنتَ تشتريها؟ قال: نعم، قال: فلو تعذّرت أكنت تشتري خروجها بالنصف الآخر، قال: نعم، فقال: قبَّح الله دنيا تُباع وتشترى بشربةٍ من ماء وبَوْلة، فبكى هارون. وقيل: إن ابن السَّمَّاك هو الَّذي قال له هذا.] وقال الفضل بنُ الربيع: دخل ابن السمَّاك على الرشيد فقال له: اتَّقِ الله، واعلم أنَّك موقوفٌ غدًا بين يدي الله، ثم مَصروفٌ إلى إحدى منزلَتَين لا ثالثةَ لهما، وهما جنَّة أو نار. فبكى هارونُ حتَّى اخضلَّت لحيتُه. قال الفضل: فقلت له: سبحانَ الله! وهل يتخالج في سرِّ أحدٍ أنَّ أمير المؤمنين مَصروفٌ إلَّا إلى الجنَّة إن شاءَ الله؛ لقيامه بحقِّ الله، وعدلِه في عباده! قال: فلم يحفِل ابن السمَّاك بقولي وقال: إن هذا -وأشار إليّ- ليس معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتَّقِ اللهَ وانظر لنفسك. فبكى هارونُ حتَّى أَشفقوا عليه، وأُنكست فلم أنطقْ بكلمة. واستسقى الرشيدُ ماء، فأُتي بشربةٍ من ماء، فأهوى إليها ليَشْرَبَها، فقال له ابنُ السمَّاك: على رِسلك، بقرابتك من رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لو مُنعت من هذه الشَّرْبةِ بكم كنتَ تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، فقال: اشرب، فلمَّا شربها قال: لقرابتك من رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لو مُنعت خروجَها من بَدَنك بماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي، فقال: إنَّ مُلكًا قيمتُه شربة ماءٍ لَجدير ألا يُنافَس فيه، فبكى هارون (¬1)، [مقام لمالك بن أنس الفقيه: ] وقال إِبراهيمُ النَّهاوندي (¬2): قدم هارونُ المدينة حاجًّا، فأرسل إلى مالك بن أنسٍ مع البرمكيِّ يقول: احمل "الموطَّأَ" لنسمعَه عليك، فقال مالكٌ للبرمكي: قل له: العلمُ يؤتَى ولا يأتي. فجاء البرمكيُّ فأخبره وعنده القاضي أبو يوسف، فقال له: يا أميرَ ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 8/ 359، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 11، وما بين معكوفين من (ب). (¬2) في (ب) وما بين معكوفين منها: روى إبراهيم النهاوندي قال؟

المؤمنين، يبلغ أهلَ العراق أنَّك بعثت إلى مالكٍ في أمرٍ فخالفك فيه! اعزم عليه. فبينما هم على ذلك، إذ جاء مالكٌ فدخل وسلَّم وجلس، فقال هارون: يا ابنَ أبي عامر، أَبعث إليك في أمرٍ فتخالفني فيه! فقال مالك: أَخبرَني الزُّهري، عن خارجةَ بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال: كنت أكتب الوحيَ بين يدي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزل قولُه تعالى: {لَا يَسْتَوي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] وابنُ أمِّ مكتوم حاضر، فقال: يا رسولَ الله، إنِّي رجلٌ ضريرٌ لا أقدر على الجهاد، وقد أنزل اللهُ هذه الآية، قال زيد: وقلمي رَطْبٌ ما جفّ، فأخذ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يأخذه عند نزولِ الوحي، فلمَّا سُرِّي عنه قال: يا زيد، اكتب: {غَيرُ أُولِي الضَّرَرِ} (¬1)، يا أميرَ المؤمنين، فمن أجل حرفٍ واحدٍ بعث إليه جبريلَ من مسيرة خمسين ألفَ عامٍ أو خمسةِ آلاف عام، أفلا أُجِلُّ أنا العلمَ وأرفعه وقد رفعك اللهُ بحديث ابن عمِّك [رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا تكن أوَّل مَن وضعه. فقام هارونُ وأتى بيتَ مالك] (¬2) فلمَّا دخل جلس في مَرْتَبة مالك، فقال مالك: أدركنا الخلفاءَ يُعزُّون العلم، فنزل هارونُ وقعد بين يديه وسمع منه الموطَّأ. [وفي رواية عبدِ الله بن عبدِ الحكم قال: حجَّ هارون، فدخل عليه مالك، فقال له: ينبغي أن تختلفَ إلينا حتَّى تَسمعَ صبيانُنا منك الموطَّأ، قال: فقال له مالك: إنَّ هذا العلمَ منكم خرج، فإن أعزَزْتُموه عزّ، وإن أذللتموه ذلَّ، قال: قال: فاخرج إلى المسجد ليسمعوه منك أو عليك، قال: فخرج مالكٌ، وجاؤوا إليه فسمعوه عليه] (¬3). وقال الأصمعي: حجَّ هارون، فأتى مالكًا ليسمعَ منه الموطَّأ، فحجبه ساعة، فغضب هارون، فلمَّا دخل عليه قال: يا أميرَ المؤمنين، عاهدت الله ألا أحدِّث إلَّا على وضوء، وإني كنت أتوضَّأ، فسُرِّي عن هارون. وقال مالك: لو أرسلتَ إليَّ لأتيتك، فقال هارون: العلمُ يؤتَى ولا يأتي. فأحضر مالكٌ الموطَّأ، فقرأه ابنُ أبي وهب، فأراد هارونُ أن يحملَ الناسَ عليه، فقال له مالك: إنَّ السلطان إذا حمل الناسَ على مذهبٍ تجافاه العوامّ، فسكت هارون. ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه البخاري (2832) ومسلم (1898). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، والخبر في تاريخ دمشق 42/ 343. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

[مقام الشافعي عنده: حكى الفضل بنُ الربيع قال: ] (¬1) رُفع إلى هارونَ أن الشافعيَّ يمنِّي نفسَه الخلافة، فاستدعاه وأراد أن يمتحنَه، فقال له: ما علمُك بكتاب الله؟ قال: عن أبيِّ علمٍ يسأل أميرُ المؤمنين؟ عن تأويله أم عن تفسيره؟ أم عن علم مكِّيِّه أو مدنيِّه؟ أم علمِ ناسخِه أو منسوخه؟ ونحو ذلك. فقال له: ما علمُك بالأحكام؟ فقال: عن أيِّ الأحكامِ تسأل؟ عن الطَّهارة، أو الصلاة، أو الصوم، أو الزَّكاة، أو الحجّ، أو النِّكاح، أو الطلاق، أو البيوع، أو الجنايات، أو الوصايا؟ وعدَّد الأحكام. فقال: ما علمُك بالعربية؟ فقال: تسأل عن فروعها أو أصولِها؟ أو مذاهب العربِ فيها؟ قال: ما علمك بالطِّب؟ فقال: طبِّ الرُّوم أو اليونانِ أو العرب؟ فعجب هارونُ منه وقال: قد ادَّعيتَ دعاوى عريضةً فعِظني، فقال: على شرط رفعِ الحِشْمة، وتركِ الهَيبة، وقَبول النصيحة، قال: نعم، قال: اعلم أنَّ مَن أطال عِنانَ الأمل في الغِرَّة، طوى عِنان الحَذَر في المُهلة، ومَن لم يعوِّل على طريق النَّجاة، خسر يومَ القيامة، إذا امتدَّت إليه يدُ الندامة. فبكى هارون ووصله بمال. وقال الأصمعي: سُعي بالشافعيِّ إلى هارونَ أنَّه لا يرى إمامته، وأنَّه يرى إمامةَ آل أبي طالب، وكان الشافعيُّ بمكَّة، فأرسل إليه فاستدعاه، فلمَّا دخل عليه قال: بلغني كذا وكذا، فقال: يا أميرَ المؤمنين، واللهِ لأَن أكونَ مع قومٍ يظنُّون أني من أنْفُسهم، أحبُّ إليَّ من أَن أكونَ مع قومٍ يرون أني عبدٌ لهم. فاستحسن كلامَه وولَّاه القضاءَ على اليمن، فلبث هناك مدَّة، ثم قدم مكَّة ومعه عشرةُ آلافِ دينار، فضرب خيمةً بذي طُوى خارجَ مكةَ ففرَّقها في فقراء الحرم، فقام ولم يبقَ معه دينارٌ. ولا درهم [وسنذكر معنى قول الشافعيِّ: أحبُّ إليَّ من أن أكونَ مع قومٍ يرون أني عبدٌ لهم، في ترجمة الشافعي. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال الفضل بن الربيع، والمثبت من (ب)، واخبر في تاريخ دمشق 60/ 406 و 440 مطولًا من طريق ليس فيه ذكر الفضل.

مقام رجل من الأبدال: حكى الفضلُ بن الربيع قال: ] (¬1) خرج خادمٌ من دار سليمانَ بنِ أبي جعفرٍ المنصورِ وبيده عودٌ ليدخلَ به دار هارونَ لجاريةٍ لسليمان، فمرَّ على شيخ يلقط النَّوى، فكسر العود، وتعلَّق به الخادم، وبلغ هارونَ فقال: اقتلوه، فقال له سليمان: ألَا تسمع كلامه (¬2)؟ فقال: أَحضِروه، فدخل وفي يده كيسٌ فيه نوًى يلتقطه ويتقوَّت بثمنه (¬3)، فقال له هارون: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: رأيتُ منكرًا فغيَّرته، وأنت وآباؤك تقولون على المنابر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] الآية، وقد قال - عليه السلام -: "مَن رأى منكرًا فليُزِلْه .. " (¬4) الحديثَ، فهابه هارونُ ولم يكلِّمه، فقام الرجلُ وخرج، فقال هارون للخادم: الحقه بِبَدرة (¬5)، فلحقه بها، فقال: قل له يردُّها على من أخذها منه، ثم ولَّى وهو يقول: [من الوافر] أرى الدُّنيا لمن هي في يديهِ ... بلاءً كلَّما كَثُرت لديهِ تُهين المُكرِمين لها بصُغرٍ ... وتُكرم كلَّ مَن هانت عليه إذا استغنيتَ عن شيءٍ فدعْهُ ... وخذ ما أنت محتاجٌ إليه (¬6) ذِكر مقامات الشُّعراء بين يديه: قال أحمد بن سيَّار الجُرْجاني: دخلت أنا وأبو محمَّد التيميُّ (¬7) وابن رَزين الخُزاعي (¬8) وأشجعُ بن عمرٍو السُّلَميّ (¬9) على الرشيد بالرقَّة وهو في القصر الأبيض، وقد ضرب أعناقَ قومٍ في تلك الساعة، فتخلَّلنا الدمَ حتَّى صرنا إليه، فأنشده أشجع: ¬

_ (¬1) في (خ): وقال الفضل بن الربيع، والمثبت من (ب). (¬2) في إحياء علوم الدين 2/ 316 أن هارون هو الَّذي تمهل بأمره وطلب مناظرته. (¬3) في (خ): به وبثمنه، والمثبت من (ب)، وانظر الإحياء. (¬4) أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بلفظ: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ... " ولم نقف عليه بلفظ: فليزله. (¬5) البدرة: عشرة آلاف درهم. مختار الصحاح (بدر). (¬6) الأبيات لأبي العتاهية، وهي في ديوانه ص 410 - 411، ومن هنا إلى ص 204 ليس في (ب). (¬7) في (خ): التميمي، والمثبت من مجالس ثعلب ص 379، والأغاني 18/ 214. (¬8) كذا في (خ) ونسخة من الأغاني، وفي مطبوعه: الخراساني، وفي مجالس ثعلب: الحراني. (¬9) في (خ): الأسلمي. وهو خطأ.

قصرٌ عليه تحيةٌ وسلامُ ... نَشَرَت عليه رداءها الأيامُ قصرٌ سُقوفُ المُزن دون سُقوفه ... فيه لأَعلام الهُدى أعلام يُثني على أيَّامك الإسلامُ ... والشاهدان الحِلُّ والإحرام فلما بلغ إلى قوله: وعلى عدوِّك يا ابنَ عمِّ محمَّد ... رَصَدان ضوءُ الصُّبحِ والإظلامُ فإذا تنبَّه رُعْتَهُ وإذا هذا ... سلَّت عليه سيوفَك الأحلام وكان هارونُ متَّكئًا فجلس وقال: أحسنت واللهِ، هكذا تُمدَح الملوك، وكان عنده سعيدُ بن سالم (¬1) الباهليُّ حاضرًا، فأومأ إلى أشجعَ أن اقطع؛ لعلمه أنَّه لا يأتي بمثل هذين البيتَين، فلم يقطع وأَنشد ما بعدهما، ففتر هارونُ وبَطَل طَرَبُه، وأومأ إلى النَّمَري فأنشده، فقال سعيد بنُ سالم: يا أميرَ المؤمنين، لو خَرِس بعدهما لَكان أشعرَ الناس، وأمر له بمئتي ألفِ درهم. وقال أشجع: لمَّا فتح الرشيدُ هرقلةَ وذلك في عيد رمضان، أنشدتُه وقلت: [من البسيط] لا زلتَ تَنْشُر أعيادًا وتَطويها ... تمضي بها لك أيامٌ وتَثنيها العيدُ والعيد والأيامُ بينهما ... موصولةٌ لك لا تَفنى وتُفنيها (¬2) ولْيَهْنِكَ الفتحُ والأيام مُقْبِلَةٌ ... إليك بالنَّصر مَعْقودٌ نَواصيهما أمستْ هِرَقْلَهُ تَهوي من جوانبها ... وناصرُ اللهِ والأيامِ (¬3) يرميها مَلَكْتَها وملكتَ الناكبين بها (¬4) ... بنصرِ مَن ملك الدنيا ومَن فيها ما روعي الدِّين والدُّنيا على قَدَم (¬5) ... بمثل هارونَ راعيه وراعيها ¬

_ (¬1) في (خ): سلمة. وسيأتي بعد قليل على الجادة. (¬2) في (خ): ولا تفنيها. وهو خطأ. والقصيدة في الأغاني 18/ 246، وليس في مطبوعه هذا البيت، وهو في نسخة منه كما أشار محققه. وانظر الشعر والشعراء 2/ 884، وطبقات ابن المعتز ص 253، وديوان المعاني ص 92، والتذكرة الحمدونية 4/ 140. (¬3) في المصادر: والإسلام. (¬4) في الأغاني والتذكرة الحمدونية: ملكتها وقتلت الناكثين بها. وهو غير موجود في باقي المصادر. (¬5) كذا في الأغاني، وفي التذكرة الحمدونية: قدر. وفي ديوان المعاني: ما قارع الدين والدنيا عدوهما.

وكان أبو نُواس يَحْسُد أشجَع ويدَّعي أنَّه دَعيّ، وهو القائلُ فيه: [من الخفيف] قل لمن يَدَّعي سُليمًا سَفَاهًا ... لستَ منها ولا قُلامةَ ظُفْرِ إنَّما أنت مُلْصقٌ مثل واوٍ ... أُلصِقتْ في الهجاءِ ظُلمًا بعَمرو (¬1) ومن شعر أشجع: [من المتقارب] أتَصبرُ يا قلبُ أم تَجزَعُ ... فإنَّ الديارَ غدًا بَلْقَعُ غدًا يتفرَّق أهلُ الهوى ... ويصنع ذو الشَّوق ما يصنع فها أنت تبكي وهم جِيرةٌ ... فكيف يكون إذا وَدَّعوا أتطمَعُ في العيش بعد الفراقِ ... مُحالٌ لَعَمرُك ما تطمع لَعَمْري لقد قلتَ يومَ الفراق ... فأسمعتَ صوتَك مَن يسمع فما عرَّجوا حين ناديتَهم ... وقد قتلوك وما ودَّعوا ألا إنَّ بالغَور لي حاجةً ... تؤرِّق عيني فما تَهْجَع إذا الليلُ ألبَسَني ثوبَه ... تقلَّب فيهِ فتًى مُوجَع لقد زادني طَرَبًا بالعراقِ ... بوارقُ غوريَّةٌ تلمع إلى جعفرٍ بلغت هِمَّتي ... فأيّ فتًى نحوه تَنْزعُ وما لامرئٍ دونه مَطلَبٌ ... وما لامرئٍ دونه مَقْنَعُ يريد الملوكُ مدى جعفرٍ ... وهم يَجمعون ولا يَجمع وكيف ينالون غاياتِهِ ... وما يَصنعون كما يَصنع وليس بأوسعِهِم في الغنى ... ولكنَّ معروفَه أوسع يَلوذُ الملوكُ بأبوابه ... إذا نابَها الحَدَثُ المُفْظِعُ إذا همَّ بالأمر لم يَثْنِهِ ... هُجوعٌ (¬2) ولا شادِنٌ أَفرع ¬

_ (¬1) في الديوان ص 335: إنما أنت من سليم ... كواو ألحقت ... (¬2) في (خ): هجون، والمثبت من الأوراق 83 (أخبار الشعراء المحدثين)، وتاريخ دمشق 3/ 31 (مخطوط دار البشير)، ومختصره 4/ 405، والشعر والشعراء 2/ 883. والقصيدة طويلة ذكر بعضها ابن قتيبة في الشعر والشعراء، والأصبهاني في الأغاني 18/ 224 - 225، والبغدادي في الخزانة 1/ 296 - 297.

وللجود في كفِّه مَطْلَبٌ ... وللسِّرِّ في صدره مَوْضِع كأن أبا الفضلِ بدرُ الدُّجى ... لعَشْرٍ خلَتْ بعدها أربَعُ من أبيات. ومنهم منصور بن سلمة [بن] (¬1) الزِّبْرِقان النَّمَري. قدم بغدادَ ومدح هارون، فلم يمدح من الخلفاء غيرَه، فمن مدحه له: [من البسيط] أيُّ امرئٍ بات من هارونَ في سَخَطٍ ... فليس بالصَّلوات الخمسِ يَنتفعُ إنَّ المكارم والمعروفَ أوديةٌ ... أحلَّك اللهُ منها حيث تجتمع إذا رَفعتَ امرأً فاللهُ يرفعه ... ومَن وَضعتَ من الأقوام يَتَّضِع نفسي فداؤك والأبطالُ مُعْلِمةٌ ... يومَ الوغى والمنايا بينهمْ شُرَع (¬2) من أبيات. وقد أجاز العتَّابيُّ هذه الأبياتَ بأبياتٍ يمدح فيها هارون، منها: إنْ أَخلف الغيثُ لم تُخلِف مخائلُه ... أو ضاق أمر ذكرناهُ فيَتَّسعُ ثم التقى النَّمريُّ العتابيَّ وهو قَلِق، فقال: ما الَّذي بك؟ فقال: تركتُ امرأتي تُطْلَق وقد تعسَّرت الولادةُ عليها، فقال له: أخطأتَ الطريق، قال: وكيف؟ قال: اكتب على فَرْجها: هارون، وقد وضعت، ألست القائلَ: أو ضاق أمرٌ ذكرناه فيتَّسع؟ وبلغ هارون، فأَمر بقتله، فمات قبل ذلك (¬3). ومنهم: مسلمُ بن الوليد، أبو الوليد الأنصاريّ، مولى سعدِ بن عبادة. أوَّل ما لقي هارونَ أنشده: [من الطويل] أديرا عليَّ الكأسَ لا تشربا قبلي ... ولا تطلُبا من عند قاتلتي ذَحْلي (¬4) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من الأغاني 13/ 140، وتاريخ بغداد 15/ 73. (¬2) في الأغاني 13/ 147، وتاريخ بغداد 15/ 76: قرع. (¬3) القصة في الأغاني 13/ 148، وتاريخ بغداد 15/ 77 أطول مما هنا. (¬4) الذحل: طلب الدم. شرح ديوان صريع الغواني ص 33.

فما حَزَني أنِّي (¬1) أموت صَبابَةً ... ولكن على مَن لا يحلُّ له قتلي فَدَيتُ التي صدَّت وقالت لتِرْبها ... دعيه الثُّريَّا منه أقربُ من وَصْلي إلى أن قال: هل العيشُ إلَّا أن تَروحَ مع الصِّبا ... وتغدو صَريعَ الكأسِ والأعيُن النُّجْلِ فاستحسنها هارونُ وأعطاه لكلِّ بيت ألفَ دينار، وقال: أنت صَريعُ الغَواني. وقد عارض صاحبُ "العِقد" (¬2) هذه الأبياتَ فقال: أتقتُلُني ظُلمًا وتَجْحَدني قتلي ... وقد قام من عينيك لي شاهدا عَدْلِ أغارَ على قلبي فلمَّا أتيتُه ... أُطالبُه فيه أَغارَ على عقلي بنفسي التي ضنَّت بردِّ سَلامها ... ولو سألتْ روحي أَبَحْتُ لها قَتْلي إذا جئتها صَدَّت حَياءً بوَجْهها ... وتَهْجُرني هَجْرًا ألذَّ من الوَصْل وإن حَكَمَتْ جارت عليَّ بحُكْمها ... ولكنَّ ذاك الجَورَ أحلى (¬3) من العَدْل كتمت الهوى جُهدي فأَظهره الأسى ... بماء البُكا هذا يَخُطُّ وذا يُملي وأحببتُ فيها العَذْلَ حبًّا لذِكرها ... فلا شيءَ أشهى في فؤادي من العَذْلِ أقول لقلبي كلَّما ضامَه الهوى ... إذا ما أبيتَ العزَّ فاصبر على الذُّلِّ وجدتُ الهوى نَصْلًا من الموت مُغْمَدًا ... فجرَّدتُه ثم اتكأتُ على النَّصل فإن كُنْتُ مقتولًا على غير ريبةٍ ... فإنِّي الَّذي عَرَّضتُ نفسي إلى القتل (¬4) وقال أبو بكرٍ محمَّد بن الأنباري: ثلاثةُ أبياتٍ لصَريع الغَواني أَحسنَ فيها وزاد، وهي أمدحُ بيت، وأهجى بيت، وأرثَى بيت، فالمدح: [من البسيط] يجود بالنفْس إذ ضَنَّ البخيلُ بها ... والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجودِ والهجاء: [من الكامل] قَبُحَت مَناظرُه فحين خَبَرتُه ... حَسُنت مَناظِرُه لقُبْحِ المَخْبَرِ ¬

_ (¬1) في (خ): أن، ولا يستقيم بها الوزن. (¬2) 5/ 398. (¬3) في العقد الفريد: أشهى. (¬4) في العقد الفريد: فأنت التي عرضت نفسي للقتل.

والرِّثاء: [من الطويل] أرادوا (¬1) ليُخفوا قبرَه عن عدوِّه ... فطِيبُ ترابِ القبر دلَّ على القبرِ أوَّل ما بدأ الشَّيب بالمأمون كان يتمثَّل بقول صريعِ الغواني، وهو قولُه: [من البسيط] نام العواذلُ واستَكفَيْنَ لائمتي ... وقد كَفاهنَّ نهضُ البيض في السُّودِ أمَّا الشبابُ فمَفْقودٌ له خَلَفٌ ... والشيبُ يذهب موجودًا بمفقود (¬2) وقال الفضل بنُ الربيع: دخل على الرشيد أعرابيٌّ والأمين عن يمينه والمأمونُ عن يساره، فأنشده شعرًا حَسَنًا، فكأنَّه أنكره أن يكونَ نظمَه، فقال: هذان ولداي، فأَنشدَ فيهما بديهةً البيتين: [من الطويل] بنيتَ بعبد اللهِ بعد محمَّد ... ذُرى قُبَّة الإِسلامِ فاخضرَّ عودُها هما ظُنُباها بارك اللهُ فيهما ... وأنت أميرَ المؤمنين عمودُها فقال له: احتكم، فقال: الهُنَيدة (¬3)، قال: هي لك، وزاده مئةَ ألفِ درهم. وقال أبو محمَّد اليزيدي (¬4): دخلتُ على الرشيد، وإذا به ينظر في ورقةٍ فيها مكتوبٌ بالذهب، فلمَّا رآني تبسَّم، فقلت: أصلح اللهُ أميرَ المؤمنين، فائدة؟ قال: نعم، وجدت هذين البيتين في بعض خزائنِ بني أمية، فاستحسنتهما، وأضفتُ إليهما بيتًا ثالثًا، وأنشدني يقول: [من الطويل] إذا سُدَّ بابٌ عنك من دون حاجةٍ ... فدعْهُ (¬5) لأخرى ينفتحْ لك بابُها فإنَّ قُراب البَطْن يكفيك مَلؤه ... ويكفيك سَوءاتِ الأمور اجتنابُها فلا تكُ مِبذالًا لعِرضك واجتنبْ ... ركوبَ المعاصي يجتنبْك عقابها (¬6) ¬

_ (¬1) في (خ): أراد، والمثبت من الديوان ص 320، والبيتان الآخران في ص 321، 164. (¬2) في الديوان ص 311: مفقودًا بمفقود. (¬3) الهنيدة: اسم للمئة من الإبل. القاموس المحيط (هند). والقصة في طبقات الشعراء لابن المعتز ص 149، وتاريخ الطبري 8/ 363، والعقد الفريد 1/ 310. وقد سماه ابن المعتز أبا الغول. (¬4) كذا في بهجة المجالس 3/ 310، وفي مختصر تاريخ دمشق 27/ 25: الزيدي. (¬5) في (خ): فدع. وهو خطأ. (¬6) اضطربت المصادر في نسبة البيتين الأولين، انظر إضافة إلى المرجعين السابقين كتاب الحيوان 1/ 382 - 383، وعيون الأخبار 2/ 183 - 184، وحماسة البحتري ص 375.

ومدحه داود بنُ رَزين فقال: [من الطويل] بهارونَ لاح البدرُ في كلِّ بلدة ... وقام به في عَدْل سيرته النَهْجُ إمامٌ بذات اللهِ أصبح شُغْلُه ... وأكثرُ ما يُعنَى به الغزوُ والحجُّ وإنَّ أميرَ المؤمنين بفضله (¬1) ... يُنيل الَّذي يرجوه أضعافَ ما يرجو وغنِّي بين يدي أميرِ المؤمنين يومًا بهذا الشِّعر: [من الطويل] ألا هل إلى شمِّ الخُزَامى (¬2) ونظرةٍ ... إلى قَرْقَرى (¬3) قبل المماتِ سبيلُ ويا أَثَلاتِ (¬4) القاع من بَطْن تُوضِحٍ (¬5) ... حَنيني إلى أَطلالِكُنَّ طويل ويا أَثلات القاعِ قد ملَّ صُحبتي ... رفيقي (¬6) فهل في ظِلِّكنَّ مَقيل أريد رجوعًا نحوكم فيصدُّني ... إذا رُمتُه دَينٌ عليَّ ثَقيلُ أُحدِّث نفسي عندكمْ فيَصُدُّني ... غَرامٌ وحُزْنٌ في الفؤاد دَخيل (¬7) فبكى هارونُ بكاء شديدًا، وقال: لمن هذا الشِّعر؟ فقيل: ليحيى بنِ طالب (¬8) الحنفيِّ اليَماميِّ (¬9)، فقال: وأين هو؟ أحيٌّ أم ميِّت؟ فقال بعض الحاضرين: هو حيٌّ كميِّت، هرب من اليمامة لدَينٍ عليه إلى الرَّي، فهو فيها بأسوأ حال، فكتب الرشيدُ إلى عامل اليمامةِ بقضاء دَينه كائنًا ما كان، وإلى عامل الرَّيِّ أن يدفعَ إليه عشرةَ آلاف درهمٍ، ويحملَه على البريد إلى اليمامة، فلمَّا عاد إلى اليمامة، قال هارون لجلسائه: قد ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 234، والمنتظم 8/ 325، والبداية والنهاية 13/ 563: وإن أمين الله هارون بالندى. (¬2) الخزامى: نبت زهره أطيب الأزهار نفحة. القاموس المحيط (خزم). (¬3) أرض باليمامة. معجم البلدان. (¬4) جمع أثلة، وهو شجر. (¬5) من قرى قرقرى. معجم البلدان. (¬6) كذا في (خ)، وفي الأغاني 24/ 135: وقوفي، وفي الأمالي 1/ 123، ومصارع العشاق 1/ 294، ومعجم البلدان 4/ 327: مسيري، وفي الفرج بعد الشدة 4/ 269: صحابي، وفي الأزمنة والأمكنة 2/ 326: ثوائي. (¬7) روايته في المصادر: أحدث عنك النفس أن لست راجعًا ... إليك فحزني في الفؤاد دخيل (¬8) في (خ): أبي طالب، والمثبت من المصادر. (¬9) في (خ): اليماني، والمثبت من المصادر.

قضينا دَينَ اليمامي، ووصلناه وأَعدناه إلى وطنه من غير سعيٍ منه في ذلك (¬1)، وقال صَدقة بنُ أبي صَدقة: دعانا الرشيدُ يومًا، فدخلنا، [فأشار] إلى [بن] (¬2) جامعٍ وقال: غنِّ، فغنَّى: [من الكامل] قفْ بالمنازل ساعةً فتأمَّلِ ... هل بالدِّيار لرائدٍ من منزلِ أم لا ففيمَ توقُّفي وتحَيُّري ... وَسْطَ الدِّيار كأنَّني لم أعقل ما بالدِّيار من البِلى ولقد أرى ... أنْ سوف يَحْمِلُني البِلى (¬3) في مَحْمِل وأحقُّ مَن يبكي بكلِّ محلَّةٍ ... عَرَضَت له في منزلٍ للمُعْول (¬4) عانٍ بكلِّ حمامةٍ سجعت له ... وغَمامةٍ بَرَقت بنَوء الأعْزَلِ يبكي فتفضحه الدُّموع وعينُه ... ما عاش دافقةٌ كفَيصْ الجَدْوَل فلم يطرب الرشيد، فقال خادم السِّتارة للمغنِّين: غنُّوه، فغنَّوه، فلم يطرب، فقال لي الخادم: غنِّ، فغنَّيته، فطرب. ثم أمر بإِدخالي عليه في السِّتارة، فأُدخلت عليه، وكلَّما غنَّيت طرب، ويقول: أحسنتَ يا صدقة، فلمَّا رأيت ما منحني اللهُ تعالى من استحسانه، قلت: يا أميرَ المؤمنين، لهذا الصوتِ خبرٌ عجيب، ألا أحدِّثك به؟ قال: بلى، فقال: كنت عبدًا لآل الزُّبير، خيَّاطًا أخيط القميصَ بدرهمين والسَّراويلَ بدرهم، وكان لسيِّدي عليَّ كلَّ يومٍ درهمان، فكنت أؤدِّيهما وأخرج إلى العَقيق، إذا بجارية سوداءَ، على رقبتها جرَّةٌ تريد أن تملأَها من العقيق، وهي تغنِّي بهذا الصوتِ أحسنَ غناء، فأخذني من الطَّرب ما لا أقدر أن أصفَه، وقلت لها: جُعلتُ فِداك، ألقي عليَّ هذا الصوت، فقالت: وصاحبِ القبر لا أُلقيه إلَّا بدرهمين، قلت: هذان درهمان، ودفعتهما إليها، فحَدَرت الجرَّةَ عن كتفها ووضعتْها على الأرض، واندفعت تغنِّي وتوقع [على] الجرَّة حتَّى أخذته منها، وقامت وملأت الجرَّةَ وانصرفت. ¬

_ (¬1) كذا في الفرج بعد الشدة، وفي سائر المصادر أنَّه توفي قبل قضاء دينه. (¬2) ما بين حاصرتين من الفرج بعد الشدة 2/ 397، والقصة فيه بسياقة أخرى. (¬3) في الفرج بعد الشدة: الهوى. (¬4) في (خ): للمعزل. والعول: من يرفع صوته بالعويل والصياح.

فحين غابت أُنسيته كأن لم أكن أسمعه قطّ، فبقيت كئيبًا حزينًا وعُدت إلى المدينة. فقال لي سيِّدي: هاتِ ضَريبتك، فتلَجْلَج لساني، فقلت: أَصدُقُك الحديث، كان من خبري كذا وكذا، فبَطَحني وضربني مئةَ مِقرَعة، وحلق رأسي ولحيتي، ومنعني القُوت، ولم يكن ذلك عليَّ أشدَّ من ذهاب الصوتِ عني، فلقَا أصبحتُ خرجتُ في طَلَبها، وإذا بها قد أَقبلت، فلمَّا رأت ما بي من الوَلَه قالت: مالك، أنسيتَ الصوت؟ قلت: نعم وضُربت مئةَ مقرعة، وحُلق رأسي ولحيتي، ومُنعت القوت. فقالت: دعْ عنك هذا، فواللهِ لا سمَّعتُه لك إلَّا بدرهمين، فرَهَنْتُ مِقَصِّي على درهمين ودفعتهما إليها، فأَخَذَتهما ووضعتهما في فيها واندفعت تغنِّي، فذكرتُه، فقلت: قد ذكرتُه رُدِّي علي الدِّرهمين، فقالت: أي أحمق، واللهِ لئن لم أُعِدْه عليك مئةَ مرة لا حفظتَه أيدًا، فردَّدته عليَّ مئة مرة، فحفظتُه وأتيت إلى دار سيِّدي، فقال: هاتِ الضَّريبة، فتوقَّفت، فقال: ما كفاك ما جرى عليك أمس، فاندفعت أغنِّي بالصوت، فقال: ويحك وأنت تُحسن مثلَ هذا، قد أسقطتُ عنك ضريبتَك، ورددتُ عليك قوتَك، وأَحسنَ إليَّ. فعجب هارونُ من ذلك، وأطلق للمغنِّين لكلِّ واحد ألفَ دينار، وكان فيهم إبراهيمُ وابنه إسحاقُ المَوْصِلي وإسماعيلُ بن جامع وسليمانُ بن سلام (¬1)، وأعطاني ألفَي دينار، وقال: ألفٌ واسيتك بها، والألفُ الأخرى لضربك مئةَ مقرعة، لكلِّ مقرعة عشرةُ دنانير. جفا الرشيدُ العَتَّابيَّ، فكتب إليه: [من الطويل] أَخِضْني المقامَ الغَمْرَ إن كان غرَّني ... سَنا خُلَّبٍ أو زَلَّتِ القَدَمانِ أتَتْرُكُني جَدْبَ المَعيشَةِ مُقْفِرًا (¬2) ... وكفَّاك من ماء النَّدى تَكِفَان وتَجْعَلُني سَهْمَ المَطامعِ بعدما ... بَلَلْت يديَّ بالنَّدى وبَناني فرضي عنه. ودخل ابنُ أبي حَفص الشِّطْرنجي -واسمهُ عمر بن عبدِ العزيز (¬3) - على هارون ¬

_ (¬1) في الفرج بعد الشدة: مسلم بن سلام. (¬2) في الأغاني 13/ 113، والفرج بعد الشدة 1/ 381: مقترًا. (¬3) هو اسم أبيه أبي حفص. انظر الأغاني 22/ 44.

وعنده جماعةٌ من الشعراء، فقال: مَن أتى ببيتٍ في خاطري فله عشرةُ آلاف درهم، فقال ابنُ أبي حفصٍ: [من الخفيف] مَجْلسٌ يألَفُ المَسَرَّة والشَّو ... قَ مُحُبٌّ رَيحانُه ذِكراكِ (¬1) فقال: أحسنتَ والله، يا فضلُ أَعطه عشرةَ آلاف درهم، فقال ابنُ أبي حفص: قد حضر بيتٌ آخَر، قال: قل، فقلت: كلَّما دارت الزُّجاجة زادَتْـ ... ـه حَنينًا ولَوْعَةً فبَكاكِ فقال: أحسنتَ والله، يا فضلُ أَعطِه عشرة آلافِ درهمٍ أخوى، فقال ابنُ أبي حفص: قد حضر بيتٌ آخر، فقال له: قل، فقلت: لم يَنَلْكِ المُنى بأنْ تَحْضُريني ... وتَجافَتْ أُمنيَّتي عن سواكِ فقال: أَعطِه عشرةَ آلاف أخرى، ثم قال هارون: قد حضر بيتٌ رابع، فأنشد: فتمنَّيت أن يُغشِّيَني اللهُ ... نعاسًا لعلَّ عَيني تراكِ فقال ابنُ أبي حفص: يا أميرَ المؤمنين، أنت واللهِ أشعرُ مني، فخذ الجائزة، فقال: خذ جائزتك. وغنَّى بين يدي الرشيدِ إسحاقُ بن إبراهيمَ الموصليُّ وهو يقول (¬2): [من الطويل] ألم ترَ أنَّ الشَّمسَ كانت مَريضةً ... فلمَّا أتى هارونُ أشرق نُورُها تلبَّست الدنيا جَمالًا بمُلْكه ... فهارونُ واليها ويحيى وزيرها فأعطاه مئَة ألف درهم، وأعطاه يحيى بنُ خالدٍ خمسين ألفَ درهم. وقال الأصمعيّ: قال الرشيدُ لإسحاق: أَنشِدني من شعرك، فأَنشده: [من الطويل] وآمِرَةٍ بالبُخل قلت لها اقصُري ... فذلك شيءٌ ما إليه سبيلُ أرى الناسَ خُلَّانَ الجَوَاد ولا أرى ... بخيلًا له في العالمين خليل ¬

_ (¬1) روايته في تاريخ بغداد 16/ 14، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 32: السرور إليه لمحب ريحانه ذكراك ولم يذكر البيت صاحب الأغاني. (¬2) في الأغاني 5/ 242 أن المغني والقائل هو إبراهيم الموصلي. ونسب البيتين له أيضًا الطبري 8/ 233، وابن الأثير 6/ 108. وتردد ابن خلكان في وفيات الأعيان 6/ 221 في نسبتهما له أو لابنه إسحاق.

عطائي عطاءُ المكثِرين تجمُّلًا ... وما لي كما قد تعلمين قليل وكيف أخاف الفقرَ أو أُحرَمُ الغنى ... ورأيُ أميرِ المؤمنين جميل (¬1) فطرب الرشيدُ وقال له: لله درُّ هذه الأبياتِ ما أحسنَ أصولَها، وأوقعَ نصولَها، وأجوَد فصولَها، وأقلَّ فضولها. وأمر له بعشرين ألفِ درهم، فقال له: يا أميرَ المؤمنين، كلامُك واللهِ أحسنُ من شعري. فأمر له بمئة ألفِ درهم، قال الأصمعي: فعلمت أنَّه أَصيدُ لدراهمهم مني. ودخل على الرشيد العباسُ بن الأَحْنَف، فقال له: أَنشدني أرقَّ بيتٍ قالت العرب، فقال: قد أكثر الناسُ في بيت جَميلٍ حيث قال: [من الطويل] أَلَا ليتني أعمى أصمُّ تَقودُني ... بُثينةُ لا يَخفى عليَّ كلامُها (¬2) فقال له هارون: أنت والله أرقُّ حيث تقول: [من البسيط] [طاف الهوى في عباد اللهِ كلِّهمِ ... حتَّى إذا مرَّ بي من بينهمْ وَقَفا قال العباس: أنت يا أميرَ المؤمنين أرقُّ قولًا منِّي ومنه حيث تقول، : [من الوافر] أما يَكفيكِ أنك تَملكيني ... وأنَّ الناس كلَّهمُ عَبيدي وأنَّكِ لو قطعتِ يدي ورجلي ... لَقلتُ من الهوى أحسنتِ زيدي فأمر له بمئة ألفِ درهم (¬3). وكانت عِنانُ جاريةُ النَّاطِفيِّ أديبةً شاعرة حاذقة ظريفة، عارفةً بأصوات الغناء، استعرضها الرشيدُ ثم لها عن شرائها، ثم جلس ليلةً معنا، فغنَّاه بعضُ مَن حضر أبياتَ جرير: [من الكامل] إنَّ الذين غَدَوا بلُبِّك غادروا ... وَشَلًا بعينِكَ لا يزال مَعينا غيَّضن (¬4) من عَبَراتهنَّ وقلْنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولَقِينا ¬

_ (¬1) الأغاني 5/ 322، وتاريخ بغداد 16/ 5، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 27. (¬2) ديوانه ص 196. (¬3) في تاريخ بغداد 16/ 17، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 29: فأعجب بقوله وضحك، وليس فيهما: فأمر له ... وما بين حاصرتين منهما. (¬4) في (خ): قبضن، والمثبت من الديوان 1/ 386، والعقد الفريد 6/ 34. والوشل: الماء السائل شيئًا بعد شيء، والمعين: الظاهر. قاله شارح الديوان.

فطرب وقال: أيُّكم يُجيزه بمثله وله عشرةُ آلاف درهم؟ فما أَجازه أحد، وكان على رأسه خادمٌ واقف، فدخل على عنانَ فأخبرها، فقالت في الحال: هيَّجتَ بالقول الذي قد قلتَه ... داءً بقلبي لا يزال دَفينا قد أَينَعَتْ ثَمرَاتُه وتضاعفَتْ ... وسُقينَ من ماء الهوى فرَوينا كذَبَ الذين تقوَّلوا يا سيِّدي ... إنَّ القلوبَ إذا هَوينَ هوينا فقال: قد أجازه شخص، وأَنشده الأبيات، فقال: وَيحَك لمن هذا؟ قال: لعِنان، فبعث فاشتراها في الحال بمئة ألفِ درهم (¬1). وكان الرشيدُ قد هجر عنان، فكتبت إليه تقول: [من الخفيف] كُنْتُ في ظلِّ نعمةٍ بهواكا ... آمِنًا منك ما أخاف جَفاكا فسعى بيننا الوُشاةُ فأقْرَرْ ... تَ عيون الوشاةِ بي فهَناكا ولَعَمري بغير ما كان أولى ... بك في الحقِّ ما جُعلتُ فداكا فرضي عنها. ومن شِعر الرشيد: [من السريع] ملكتُ مَن أصبح لي مالكًا ... لكنَّه في مُلْكه ظالمُ لو شئت لاجتاحَتْه (¬2) لي قُدرةٌ ... لكن حكمَ الحبِّ لي لازم أحببتُه من بين هذا الورى ... وهو بحبِّي عارفٌ عالم ودخل أبو العَتاهِية على الرشيد، فقال له: يا أبا العتاهية، أنشِدني، فأنشده: [من البسيط] لا تأمَنِ الموتَ في طرفٍ وفي نَفَسِ ... ولو تستَّرتَ (¬3) بالحجَّاب والحَرَسِ واعلمْ بأنَّ سهام الموت قاصِدَةٌ ... لكلِّ مُدَّرع منَّا ومُتَّرِس ترجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ مسالكَها ... إنَّ السفينة لا تجري على اليَبَس ¬

_ (¬1) في العقد الفريد 6/ 58: فاشتراها منه بثلاثين ألفًا. (¬2) الديارات للشابشتي ص 226: لاستاقته. وهي أنسب في المعنى. (¬3) في الديوان ص 194: تمنعت.

فبكى هارونُ وأدخل رأسَه في قميصه. ودخل عليه يومًا فأَنشده: [من البسيط] أفنيتَ عُمْرك إدبارًا وإِقبالًا ... تَبغي البَنين وتبغي الأهلَ والمالا لِلموت أنت فكن ما عشتَ مُلْتَمِسًا ... من حيلةٍ يا أخي إنْ كنت محتالا (¬1) ولستَ حقًّا بهَوْل الموتِ مُنْقَلبًا ... حتَّى تُعاينَ بعد الموتِ أهوالا [وقد ذكر له الطبري صاحب التاريخ حكايات وواقعات، منها ما حكاه (¬2) أن العباس بن محمد أهدى له غالية وكان عنده ابن أبي مريم الَّذي قال له لما قرأ الرشيد: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، فقال ابن مريم: ما أدري والله! وكان خَصيصًا به، فلما قدّم العباس بن محمد الغالية -وكانت في بَرْنِيَّة من فضَّة- فقال ابن أبي مريم: يا أمير المؤمنين هَبْها لي، فقال: خذها، فاغتاظ العباس وقال: ويلك، عَمَدتَ إلى شيء منعتُه نفسي، وخَصَصْتُ به أمير المؤمنين فأخذتَه؟ ! فقال ابن أبي مريم: أمُّه فاعلة إن دَهَن به إلا استَه، ثم وثب فألقى قميصه على رأسه، وأدخل يده في البَرْنيَّة، وجعل يُخرج منها ويطلي استَه وأرفاغه ومثانته ويُسوِّد بها وجهه، والرشيد يضحك، ثم قال لغلامه: اذهب بهذه البرنية إلى فلانة امرأته، وقل لها: ادهني بها حِرَك إلى أن آتي فأفعل وأصنع، وذكر النون. ثم ذكر في آخر هذه الحكاية أن الرشيد وصل ابن أبي مريم بمئة ألف درهم. ومنها ما حكاه ابن أبي مريم هذا قال: أراد الرشيد أن يشرب دواء فقلتُ: هل لك أن تجعلني غدًا حاجبك وكل شيء أكسبه بيني وبينك؟ قال: نعم. فأرسل هارون إلى الحاجب: الزم غدًا منزلك فإني وَلَّيتُ حجابتي اليوم ابن أبي مريم، وشرب الدواء، وجلس ابن أبي مريم على الباب، وجاء رسول أم جعفر ورسول يحيى بن خالد ورسول جعفر والفضل بن يحيى، فأخبرهم أن هارون ولّاه حاجبًا، فأرسلوا إليه بأموال وصِلات بلغت ستين ألف دينار، فلما فرغ الرشيد من شرب الدواء استدعاه وقال: ما ¬

_ (¬1) روايته في الديوان ص 302: للموت غول فكن ما عشت ملتمسًا ... من غوله حيلة إن كنت محتالًا (¬2) في تاريخه 8/ 349 - 350.

صنعتَ في يومك؟ [قال: يا سيدي] حصل لي ستون ألف دينار، فقال: وأين حاصلي؟ قال: مَعْزول، قال: قد سوَّغناك الجميع (¬1). ومنها أن الرشيد] مرض مرضًا شديدًا، فعالجه الأطبَّاء، فلم يُفِق من علَّته، فوُصف له رجلٌ بالهند يقال له: مَنْكه، وكان من أحذق الأطبَّاء، مع دينٍ وعبادة وفلسفة، فبعث الرشيدُ من جاء به إليه، فعالجه فبرئ، فأقام عنده مدَّة، وأجرى عليه رزقًا واسعًا وأموالًا كثيرة، فخرج يمشي يومًا في بغداد، وإذا برجلٍ قد بسط كساءه على الأرض وألقى عليه عقاقيرَ كثيرة، وقام يصف دواءً عنده مَعْجونًا ويقول: هذا دواءٌ للحمَّى الدائمة والرِّبْع والغِبِّ والمُثَلَّثة (¬2)، ولوَجَع الظَّهر والرُّكَب والمفاصل، والبواسير، ووجعِ العينين والبطن، والصُّداع، وقطرِ البول، والفالج، والارتعاش. فلم يدعْ علَّة في البدن إلَّا ذكر أنَّ في ذلك الدواءِ شفاءً منها، فقال مَنكَه لتَرجُمانه: ما يقول هذا؟ فترجم له ما سمع، فتبسَّم مَنْكَه وقال: على [كل] (¬3) حال ملكُ العرب جاهل؛ وذاك لأنَّه إن كان الأمرُ على ما قال هذا، فلمَ حَمَلني من بلادي، وقطعني عن أهلي، وتكلَّف لي مؤنةً، وهو يجد هذا نُصبَ عينيه؟ ! فإنْ كان الأمرُ بخلاف هذا، فلمَ لا يقتله؟ ! لأنَّ الشريعة قد أباحت دمه ودمَ مَن أشبهه، لأنَّه إذا قتله، فإنَّما هي نفسٌ يحيا بقتلها خلقٌ كثير، فإنَّه إن تُرك بهذا الجهل قتل كلَّ يومٍ نفسًا أو اثنين أو ثلاثةً أو أربعة، وهذا فسادٌ في التدبير ووَهْنٌ في المملكة. وسأل الرشيدُ عبدَ الله بن مصعبٍ الزُّبيريَّ (¬4) عن الذين طعنوا على عثمانَ رضوان الله عليه، فقال له: طعن عليه ناسٌ وكان معه ناس، فأمَّا الذين طعنوا عليه فتفرَّقوا، فمنهم أنواعُ الشِّيع والخوارج، وأما الذين كانوا معه، فأهلُ الجماعةِ إلى اليوم، فقال له: ما أحتاج أن أسألَ عنها أحدًا بعدك. وسأله عن منزلة أبي بكرٍ وعمرَ رضوانُ الله عليهما كيف كانت من رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كانت منزلتُهما في حياته مثلَ منزلتهما في مماته (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 8/ 350 - 351 وما بين حاصرتين منه، والقصة الآتية فيه 352. (¬2) الحمى الربع: أن يُحَمَّ يومًا ويتركَ يومين لا يحم ويحم في اليوم الرابع. الغب: أن تأخذ يومًا وتدع آخر. والمثلثة: التي تقلع يومين وتعود في الثالث. لسان العرب (ربع) (غبب) ومعجم متن اللغة (ثلث). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، والخبر في تاريخ الطبري 8/ 352. (¬4) في (خ): اليزيدي، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 353. (¬5) فقال: كفيتني ما أحتاج إليه. كذا في تاريخ الطبري.

وقال العباسُ بن الحسن بنِ عبد الله بن العبَّاس بن [عليِّ بن] أبي طالب: قال لي الرشيد: أراك تُكثر من ذِكر يَنْبُع، فصِفْها لي وأَوجِزْ، فقلت: [بكلامٍ أو بشعر؟ فقال: ] (¬1) بكلامٍ وبشعر، فقلت: جِدَتُها (¬2) في أصل عِذْقِها، وعِذْقُها مُسَرَّح بانِها (¬3)، فتبسَّم، فقلت: [من البسيط] يا واديَ القصر نِعْمَ [القصر] (¬4) والوادي ... في منزل حاضرٍ إن شئتَ أو بادي تُرفَى (¬5) قَراقيرُه (¬6) والعِيسُ واقِفَةٌ ... والضَّبُّ والنُون والملَّاح والحادي [حديث الرجل الَّذي ادَّعى النبوة: حكى محمَّد بنُ غياث قال: ، (¬7) رأيت بالرقَّة رجلًا يدَّعي النبوَّة، فأُحضر إلى هارون، فقال له: أنت نبيّ؟ قال: نعم، فقال الفضل بنُ الربيع: ما علامة نُبوَّتك؟ قال: أنَّك ولد زِنى، فضربه الفضلُ بقائم سيفِه فشجَّه، فرفع رأسَه إلى السماء وقال: ما فعلتَ معي خيرًا حيث أرسلتَني إلى أولاد الزِّنى. فضحك هارونُ واستتابه وأَطلقه. [حكايةٌ ذكرها القاضي التنوخيُّ في كتاب "الفرج بعد الشدَّة" (¬8) وقال: أمر هارونُ بعضَ خَدَمه وقال: إذا كان الليل فصِر إلى الحُجْرَة الفلانية، فافتحها وخذ مَن فيها فأتِ به موضعَ كذا وكذا من الصحراء، فإنَّ ثَمَّ قَليبًا مَحفورًا، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 356/ 357، وهذا الخبر والذي قبله ليس في (ب). (¬2) في (خ): حوتها. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬3) في تاريخ الطبري: شأنها. والبان ضرب من الشجر. (¬4) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬5) رفأ السفينة: أدناها من الشط. القاموس المحيط (رفأ). (¬6) في (خ): جواريه، والمثبت من تاريخ الطبري، والأغاني 20/ 91، وديوان المعاني 2/ 138، ومعجم البلدان (قصر عيسى)، والقراقير: السفن الطويلة، وفي كتاب الحيوان 6/ 99: ترى به السفن كالظلمان واقفة، وفي عيون الأخبار 1/ 217: ترفا به السفن والظلمان واقفة، وفي الأزمنة والأمكنة 2/ 374: يرفى بها السفن والظمآن واقفة. والظُّلمان: جمع ظليم، وهو الذكر من النعام. واختلفت المصادر في نسبة البيتين بين الخليل بن أحمد وأبي المنهال بن أبي عيينة. (¬7) في (خ): وقال محمد بن عتاب، والمثبت من (ب). (¬8) 1/ 270. وهذه الحكاية والتي بعدها ليستا في (خ).

فارمِ به فيه وطُمَّه بالتراب، وليكن معك فلانٌ الحاجب، فجاء الخادمُ ففتح الحُجرة، وإذا فيها غلامٌ كأنه الشمسُ الطالعة، فجذَبَه جَذْبًا عَنيفًا، فقال له: اتَّقِ اللهَ في دمي؛ فإني ابنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاللهَ اللهَ أن تلقى الله بدمي. فلم يلتفت إليه، فأخرجه إلى الصَّحراء ومعه الحاجب، وجاء به إلى القَليب المحفور، فلمَّا أيقن الغلامُ بالتلف قال: دعْني أصلِّ ركعتين، قال: صلِّ، فصلَّى ومجَّد وقال: يا خفيَّ اللُّطف، أَغثني في وقتي هذا والْطُف بي بلُطفك الخَفيّ. قال الخادم: فواللهِ ما استتمَّ حتَّى هبَّت ريحٌ عاصف أَلقتنا على وجوهنا، وكدنا نَتْلَف، واشتَغَلْنا بحالنا عن الغلام، ثم سكنت الريحُ وظهرت الكواكب، وطلبنا الغلامَ فلم نجده، ورأينا قيودَه مُلْقاة، فقال الحاجب: هلكنا، سيقع له أنَّا أطلقناه، وإنْ حَلَفنا له لم يصدِّقنا، ولكنَّ الصدقَ أَنجى، فجاء الخادمُ والحاجب فدخلا على هارون، فقال: فعلتما ما أمرتكما؟ فحدَّثاه الحديث، فقال: لقد تداركه اللُّطفُ الخَفيّ، لأَجعلنَّها في مُقدِّمات دعائي. حديث الحكماء: قال إسحاقُ المَوْصِليّ: اجتمع عند هارونَ أربعةٌ من الحكماء: عراقي، ورومي، وهندي، ويوناني. فقال لهم: ما الدواءُ الَّذي لا داءَ معه؟ فقال العراقي: حَبُّ الرَّشاد الأشقر، وقال الرومي: الماء الحارّ، وقال الهندي: الإهلِيلَج (¬1) الأسود. فقال اليوناني -وكان أطبَّهم-. حَبُّ الرشاد يولِّد الرطوبَة في المَعدة، والماء الحارُّ يُرخيها، والإِهلِيلَج الأسود يُرِقُّها، ولكن الدواءَ الَّذي لا داء معه أن تقعدَ على الطعام وأنت تشتهيه]. ذِكر وفاة الرشيد: [واختلفوا فيها] (¬2) فقال الفضلُ بن الربيع: نَغِلَ (¬3) جسمُه من النِّقابات (¬4) التي كانت ¬

_ (¬1) في (ب): الهليلج. وتقدم في الصفحة 153. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) أي: فسد. مختار الصحاح (نغل). (¬4) النَّقْب: قرحة تخرج وفي الجنب، والجَرَب، أو القطع المتفرقة منه. القاموس المحيط (نقب).

فيه، فتقطَّع ومات. وقال الأصمعي: كان حارَّ المِزاج، وكان يُكثر الحركةَ في الصيف، ويُكثر من الجِماع، فنحَل جسمُه وتَلِفَ. وقال ابن بَخْتِيشوع: كنت مع الرشيد بالرقَّة، وكنت أوَّل مَن يدخل عليه في كلِّ غَداة، فأتعرَّف حاله في ليلته، فإن كان أنكر شيئًا وَصَفَه، ويحدِّثني بحديث جواريه وما كان في ليلته، فدخلتُ عليه ذات يوم فسلَّمت عليه، فلم يكد يرفع طرفَه، ورأيته عابسًا مفكِّرًا مَهمومًا، فوقفت بين يديه مليًّا من النَّهار وهو على تلك الحال، فلمَّا طال عليَّ [أقدمتُ عليه و] (¬1) قلت: يا سيِّدي، جعلني اللهُ فداك، أَخبرْني بحالك، فإن كانت علَّةً فلعل يكون عندي دواؤها، أو من حادثٍ في بعض مَن تُحبّ، فذلك لا مَدْفَعَ له إلا بالرِّضا والتَّسليم، وإن كان من فَتْقٍ وَرَد عليك في مُلكك، فلم تَخْلُ الملوكُ من هذا، فقال: وَيْحك يا جبريل، ليس غمِّي من شيء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتُها في ليلتي قد أفزعَتْني، وملأَتْ صدري رُعْبًا، وأَقرَحَتْ قلبي، قلت: أَوكلُّ هذا الفكرِ لرؤيا لعلها من بخاراتٍ رديئة أو من تهاويل السَّوداء، وإنَّما هي أضغاثُ أحلام، قال: رأيت كأنِّي جالسٌ على سريري هذا في بستان، إذ بدت من تحتي ذراعٌ وكفٌّ أعرِفُهما، إلَّا أنِّي لا أفهم اسمَ صاحبهما، وفي الكفِّ تربةٌ حمراء، وقائلٌ أسمع صوته ولا أرى شخصَه يقول: هذه التُّربة التي تُدفن فيها، قلت: وأين هي؟ فقال: بطُوْس، وغابت اليدُ وانقطع الكلامُ وانتبهت. قال: فقلت له: لعلك بتَّ مفكِّرًا في خراسانَ وحروبِها وانتقاضِ أمرها، فولَّد لك الخَلْطُ هذه الرؤيا. وما زلت أُسَكِّنه وأُسَلِّيه حتَّى سكن وانبسط، ومرَّت الأيام ونسي ونسينا [وما خطرت تلك الرؤيا لأحدٍ منا على بال]. ثم قُدِّر خروجُه إلى خراسانَ لمَّا تحرَّك رافع، فلمَّا صِرنا في بعض الطريق، ابتدأت به العلَّة، فلم تزل تتزايد حتَّى دخلنا طوس، فنزل في منزلٍ لحميد بن عبد الحميد (¬2) في ضيعةٍ له تعرف بسَنَاباذ، فبينا هو يُمَرَّض في بستانٍ في ذلك القصر، إذ ذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملًا يقوم ويسقط، فقلت: يا سيِّدي مالك؟ قال: يا جبريل، تذكر رؤياي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب) وتاريخ الطبري 8/ 343. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 343 - 344: الجنيد بن عبد الرحمن.

بالرقَّة؟ ثم رفع رأسه إلى مَسرورٍ وقال: جئني من تُربة هذا البستان، فمضى [مسرورٌ] وأتى بالتُّربة في كفِّه حاسرًا عن ذراعه، فلمَّا نظر إليه قال: هذه واللهِ الذراعُ التي رأيتها في منامي، وهذه الكفُّ بعينها، وهذه التُّربة الحمراء، ما خَرَمَت شيئًا، ثم أقبل على البكاء والنَّحيب، ثم مات واللهِ بعد ثلاثةٍ ودُفن في ذلك البستان. [وروي أنَّه رأى في المنام امرأةً وقفت عليه، وأخذت كفًّا من ترابٍ وقالت: هذه تربتُك عن قليل، فأصبح فَزِعًا، فقصَّ رؤياه على أصحابه، فهوَّنوا عليه. فبينما هو يسير يومًا، إذ نظر إلى امرأةٍ قائمة تنظر إليه، فقال: هذه واللهِ المرأةُ التي رأيت، ولو رأيتها من بين ألف امرأةٍ ما خَفِيَتْ علي، ثم أمرها أن تأخذَ كفًّا من تراب فتُناولَه (¬1)، فضربت بيدها الأرضَ وناولته، فقال: هذه واللهِ التربةُ التي رأيتها، وهذه المرأةُ بعينها. ومات هناك]. وقيل: إنَّ جبريلَ بن بختيشوع غلط عليه [في عِلَّته] في علاجٍ كان سبب منيَّته، فهمَّ الرشيد أن يفصِّلَه كما فصَّل أخا رافع، فقال له جبريل: يا أميرَ المؤمنين، أَنظرني إلى غد؛ فإنَّك ستصبح في عافية، وسقاه دواءً في الليل، فمات من ليلته [وخلص منه جبريل. وقال الصُّولي: حدَّثني الحسين بنُ يحيى، قال. سمعت هبةَ الله بنِ إبراهيمَ بن المهدي يحدِّث عن أبيه قال: ] (¬2) أحبَّ الرشيد أن يعلمَ حقيقةَ علَّته، وعلم أنَّ [ابن] بختيشوع يكتمه، فواطأَ إنسانًا من أهل طوس، وسأله أن يلاطفَ ابنَ بختيشوع، ففعل، ثم أعطى الرجلَ ماءه وقال: اذهب به إلى ابن بختيشوعَ وقل له: هذا ماءُ مريضٍ عندي، فلما رآه، قال [ابن بختيشوع] لبعض من معه: كأنه واللهِ ماءُ الرجل، ففطن الذي جاء بالماء (¬3)، وقال لابن يختيشوع: اتَّقِ الله، فإنَّ بيني وبين هذا الرجلِ معاملات، فإن كان يعيش لم أستقصِ عليه، وإن كان يموت فرغت ممَّا بيني وبينه، فقال: تريد أن أَصدُقَك؟ قال: نعم، قال: صاحب هذا الماءِ لا يعيش إلا أيامًا. فرجع الرسولُ فأخبر هارون، وعلم ابن بختيشوع بالأمر بعد ذلك، فاختفى إلى أن مات الرَّشيد. ¬

_ (¬1) في (ب): فأخذت كفًّا من تراب فناولته إياه. والمثبت من المنتظم 9/ 230. (¬2) في (خ): وقال إبراهيم بن المهدي. وانظر المنتظم 9/ 231. (¬3) في البداية والنهاية 14/ 46: هذا مثل ماء ذلك الرجل، ففهم صاحب القارورة من عنى به.

وقال مسرور: لمَّا سار هارونُ إلى خُراسان، مرَّ في طريقه على قصرٍ خَراب، فنزل يَستظِلُّ به، فإذا على حائطه مكتوبٌ [هذه الأبيات] (¬1): [من الكامل] هل أنت مُعْتَبِرٌ بمَن خَابَتْ ... منه غَداةَ مضى دَساكِرُهُ (¬2) وبمَن خَلَت منه أَسِرَّته ... وبمَن خَلَت منه مَنابره وبمَن أذلَّ الدَّهرَ مَصْرَعُه ... فتَبرَّأت منه عَساكره يا مؤثِرَ الدُّنيا للَذَّتِه ... والمُسْتَعِدَّ لمَن يُفاخِرُه أين الملوكُ وأين جُندُهمُ ... صاروا مَصيرًا أنت صائره نَلْ ما بدا لك أن تَنال ... من الدُّنيا فإنَّ الموتَ آخِرُه فبكى وانكسر وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] فمات بعد أيَّام. [وقال الهيثم: ] (¬3) لمَّا احتُضِرَ قال للعبَّاس بنِ موسى بنِ عيسى: يا عباس، إنِّي أجد في علمنا المُنْدَرِس: [من المجتث] إنِّي بطُوسٍ مُقيمُ ... ما لي بطوسٍ حَميمُ أرجو إلهي لِمَا بي ... فإنَّه بي رَحيم لقد أتى بيَ طوسًا ... قضاؤه المَحْتوم وليس إلَّا رضائي ... والصَّبرُ والتَّسليم (¬4) ثم قال: اِحفروا لي قبرًا قبل أن أموت، فحفروا له في البستان وحملوه في مِحَفَّة (¬5)، فجلس على شفيره، ونظر في قعره وقال: ويحك يا ابنَ آدمَ تصير إلى هذا! ثم أمر قومًا فختموا فيه القرآن. [وفي رواية: ] أَلبِسوني المُسوح، فألبسوه، فقال: يا مَن لا يزول مُلْكُه، ارحم مَن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). والأبيات لأبي العتاهية، وهي في ديوانه ص 180 - 181. (¬2) الدَّسكرة: بناء كالقصر حوله بيوت، وبيوت الأعاجم يكون فيه الشراب والملاهي. القاموس المحيط (دسكر). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) المنتظم 9/ 231، والبداية والنهاية 14/ 46 - 47 دون نسبة. (¬5) مركب للنساء كالهودج. القاموس المحيط (حفف).

قد زال ملكه. ثم جعل يبكي ويقول. واسوءتاه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل يقبِّل أكفانَه ويبكي ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29] اللهمَّ ارحم غُربتي، وأَعنِّي على صَرعتي، وأنشد يقول: [من الخفيف] أنا مَيْتٌ وعزَّ مَن لا يموتُ ... قد تيقَّنتُ أنَّني سأموتُ ليس مُلْكٌ يُزيلُه الموتُ مُلْكًا ... إنَّما المُلك مُلكُ مَن لا يموت (¬1) وقال سَهْلُ بن صاعد: كنت عند الرشيدِ وهو يَجود بنفسه ويقاسمي ما يقاسي، فنهضت، فقال: اقعُدْ يا سهل، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، ما يتَّسع قلبي أن أرى أميرَ المؤمنين يعاني ما يعاني، فقال: إنِّي لأَذكر في هذا الحالِ قولَ الشاعر: [من الطويل] وإنِّي لمن قومٍ كرامٍ يَزيدهم ... شِماسًا وصَبْرًا شِدَّةُ الحَدَثانِ (¬2) وحضر وفاتَه الفَضْلُ بن الربيع وإسماعيلُ بن صَبِيح، ومِن خدمه مَسرورٌ وحسينٌ ورشيد، وصلَّى عليه ابنُه صالح، ودُفن في بستان حميد (¬3)، ويقال للمكان: المثقَّب. [واختلفوا في وفاته، فقال الواقدي: ] (¬4) ليلةَ السبت لثلاثٍ خَلَون من جُمادى الآخرةِ سنة ثلاثٍ وتسعين ومئة. [وقال هشام: ] (¬5) ليلةَ الأحد غُرَّةَ جُمادى الآخرة. وقيل: غُرَّةَ جمادى الأولى. [واختلفوا في سِنِّه على أقوال: أحدُها: أنَّه] عاش سبعًا وأربعين سنة [وخمسةَ أشهرٍ وخمسة أيام. والثاني خمسًا وأربعين سنة. والثالث: ستةً وأربعين سنة. والرابع: تسعًا وأربعين سنة] والاعتماد في هذه الأقوالِ على تصححيح مولِده. [وقد ذكرناه عند ولايتِه الخلافة. ¬

_ (¬1) المنتظم 9/ 231، والبيتان لعمر بن عبد العزيز كما في الداية والنهاية 12/ 707. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 345، وابن الأثير 6/ 213، والبيت لعبد الرحمن بن حسان كما في شرح المرزوقي 2/ 685. (¬3) في (ب): بستان بن حميد بن غانم، والمثبت من (خ). وهو حميد بن أبي غانم كما في تاريخ الطبري 8/ 345، والبداية والنهاية 14/ 27. (¬4) في (خ): وكانت وفاته. (¬5) في (خ): وقيل. وما سيأتي بين حاصرتين من (ب).

واختلفوا في مدَّة خلافته على أقوال: أحدها: أنَّه أقام خليفة ثلاثة وعشرين سنةً وستة أشهر وثمانيةَ عشرَ يومًا. والثاني: ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين وستةَ عشر يومًا. والثالث: ثلاثًا وعشرين سنة وستةَ أشهر] (¬1). ورثاه أبو الشِّيص فقال: [من مجزوء الرمل] غَرَبت في الشَّرق شمسٌ ... فلها العينانِ تَدْمعْ ما رأينا قطُّ شمسًا ... غَرَبت من حيث تَطْلُعْ (¬2) [قلت: واسمُ أبي الشِّيص محمَّد بن رَزين (¬3)، وكُنيته أبو سليمان (¬4)، وله ديوانٌ مشهور، وذهب بصرُه قبل موته، وكانت وفاتُه في سنة ست وتسعين ومئة. وقال الجوهري (¬5): الشِّيص: التَّمر الَّذي لم يشتدَّ نواه]. ذِكر ما خلَّف من المال: مات (¬6) وفي بيت المالِ تسعُ مئة ألفِ ألف دينار، ومن الدراهم أضعافُها، ومن الجواهر واليواقيتِ مئةُ حِمْل لا تُقَوَّم، ومن الدوابِّ ثلاثون ألفَ رأس (¬7)، ومن الموالي والجواري عشرون ألفًا. وقال هشام: خلَّف من العَين والجواهرِ والدوابِّ والأثاثِ ما قيمتُه -سوى الضِّياع- مئةُ ألفِ ألف دينارٍ وخمسةٌ وثلاثون ألفَ ألف دينار. ¬

_ (¬1) في (خ): وأقام خليفة ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يومًا، وقيل: وشهرًا ستة عشر يومًا، وقيل: وستة أشهر. وكل هذه الأقوال مقول بها، وانظر تاريخ الطبري 8/ 345، وتاريخ بغداد 16/ 18، والمنتظم 9/ 232، والكامل 6/ 214. (¬2) الشعر والشعراء 2/ 848، وطبقات ابن المعتز ص 80، وتاريخ الطبري 8/ 364، والمنتظم 9/ 232. (¬3) في (ب): زريق، وليست في (خ)، والمثبت من المصادر، ورزين جده، وهو محمد بن عبد الله بن رزين. انظر الشعر والشعراء، وطبقات ابن المعتز، والأغاني 16/ 400، وتاريخ بغداد 3/ 394. (¬4) في الأغاني، وتاريخ بغداد: كنيته أبو جعفر. (¬5) في الصحاح: (شيص). (¬6) في (ب): ذكر ما خلف من الأولاد وغيرها، قال علماء السير: لم يخلف أحد من الخلفاء مثل هارون مات. والمثبت من (خ). (¬7) في (خ): فرس.

وحكى [الحافظُ ابن عساكر في تاريخه عن أبي زُرعَة الدمشقيِّ] (¬1) عن أبيه قال: كفي بالرقَّة وبيوتُ الأموال تُنقل إلى هارون، فعددناها أربعةَ آلاف حِملٍ، وستَّ مئة حمل، منها ألف وستُّ مئة حمل ذهبٍ وثلاثةُ آلاف وَرِق. ذِكر أزواجه: [قال علماء السِّيَر: ] تزوَّج هارونُ سبعًا من الحرائر: زُبيدة، وهي أمُّ جعفرٍ بنتُ جعفرِ بن المنصور، دخل بها في زمن المهديِّ سنةَ خمسٍ وستِّين [ومئة]، وقيل: سنةَ ستٍّ وستين ومئة (¬2)، في دار محمَّد بن سليمانَ ببغداد، [وهذه الدارُ انتقلت إلى العبَّاسة (¬3) ثم إلى المعتصم بالله]، وتزوَّج أَمَةَ العزيز أمَّ ولد موسى الهادي بعد الهادي. وتزوَّج أمَّ محمَّد بنتَ صالحٍ المسكين (¬4)، ودخل بها بالرقَّة في ذي الحجَّة سنة تسعٍ (¬5) وثمانين ومئة، وأمُّها أمُّ عبد الله بنتُ عيسى بنِ علي، وكانت قد تزوَّجت إبراهيمَ بن المهدي، فاختلعت منه قبلَ أن يدخلَ بها، فتزوَّجها هارون. وتزوج العبَّاسة بنت سليمانَ بنِ أبي جعفرٍ المنصور، ودخل بها في ذي الحِجَّة سنةَ سبع وثمانين ومئةٍ بالرقة. وتزوَّج عزيزةَ بنت الغطريف، وكانت قبله عند سليمانَ بنِ أبي جعفر، فطلَّقها، فخلف عليها هارون، وهي ابنةُ أخي الخَيزُران (¬6). وتزوَّج العثمانيةَ، وهي ابنةُ عبدِ الله بن محمَّد بن عبد الله بن [عَمرو بن] (¬7) عثمانَ بن عفانَ - رضي الله عنه -، وتسمَّى الجُرَشية، لأنَّها ولدت بجُرَش اليمن، وجدَّة أبيها فاطمةُ بنت الحسين بنِ علي، وعمُّ أبيها عبدُ الله بن حسنِ بن حسن، وجدُّها محمَّد بن عبد الله الدِّيباج. فتوفِّي هارونُ عن أربعٍ من الحرائر: زبيدة، وأمُّ محمَّد بنتُ صالح، وعبَّاسة بنت ¬

_ (¬1) في (خ): وحكى ابن زرعة الدمشقي. (¬2) في (ب): سنة ستين ومئة. (¬3) في (ب): العباسية، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 359. (¬4) في (خ): المسلمين، والتصويب من تاريخ الطبري، والكلام غير موجود في (ب). (¬5) في تاريخ الطبري: سبع. (¬6) في (خ): والغطريف هو ابن أخي الخيزران، وهو خطأ لأن الغطريف أخو الخيزران والمثبت من تاريخ الطبري، وابن الأثير 6/ 216، وابن كثير 14/ 49. (¬7) ما بين حاصرتين من المصادر.

سليمان، والعثمانيَّة. وأمَّا من الإِماء، فقد تسرَّى -على ما قيل- بألوف، والمشهوراتُ منهن: هيلانة، وعِنان جارية الناطفي، وضياء. وهنَّ مشهوراتٌ بالأدب والغناء. وماتت ضياء، فخرج هارونُ في جنازتها، فدنا منه إسماعيلُ بن الأزرق المَديني، وكان [ماجنًا] مِضحاكًا، فقال لهارون: يا سيَّدي، لمَ تجزعُ هذا الجزع؟ فقال له: ويحك ما ترى ما ابتُليتُ به، ما أحببتُ أحدًا إلَّا ومات، فقال له: يا سيِّدي، فأحبِبْني، فقال: إن الحبَّ ليس بشيء يُصنع، ولكن تهيِّجه الأسباب، فقال: قل: إني أحبُّك، فقالها، ومضى إسماعيل فحُمَّ ومات. ذِكر أولاده: [قال علماء السير: ] كان له من الولد ثمانية وعشرون: أربعةَ عشرَ ذَكَرًا، وأربعَ عشرةَ أنثى، فالذُّكور: محمَّد الأمين، ومحمَّد المعتصم، ومحمَّد، وكُنْيته أبو عيسى، وأمُّه أم ولدٍ يقال لها: عرابة، والرابع محمَّد، وكُنيته أبو يعقوب، وأمُّه شذرة أمُّ ولد، والخامس محمَّد، وكنيته أبو العبَّاس، وأمُّه خُبْث أم ولد، والسابع محمَّد، وكُنيته أبو علي، وأمُّه سِدر (¬1) أمُّ ولد، فهؤلاء المحمَّدون (¬2)، وكان الرشيد لحبِّه هذا الاسمَ يسمِّي أولاده به. وعبدُ الله المأمون، والقاسم المؤتَمَن، وأمُّه قصف أمُّ ولد، مات في سنة ثمانٍ ومئتين (¬3)، قال له الرشيد: قد أوصيتُ بك محمَّدًا وعبدَ الله، فقال: أمَّا أنت يا أميرَ المؤمنين، فقد تولَّيت النظر لهما، ووكَّلت النظر إليَّ غيرَك. وعليّ، وأمُّه أَمَة العزيز أمُّ ولد الهادي، وصالح، وأمُّه رثم أمُّ ولد، وأحمد، وهو السَّبتي، مات في حياة أبيه، وقد ذكرناه آنفًا، وأبو محمَّد، هو اسمُه وكنيته، ويلقَّب بكريب، وأمه سَحَرُ أمُّ ولد، وأبو أحمد (¬4)، وأمُّه كتمان أمُّ ولد. وأما البنات، فكلُّهن لأمهات أولاد شتى: فسُكينة، أمُّها قصف، وهي شقيقةُ القاسم، وأمُّ حبيب، أمُّها ماردة، وهي شقيقةُ المعتصم، وأروى، أمُّها حَلوب، وأم ¬

_ (¬1) في الطبري 8/ 360: ومحمد أبو علي وأمه أم ولد يقال لها: دواج. (¬2) أسقط المختصر اسم السادس، وهو: محمد أبو سليمان وأمه أم ولد يقال لها: رواح. (¬3) في (خ): وثمانين، ولعله سبق قلم، أو هو من الناسخ، وليس في (ب) أسماء أولاده. (¬4) واسمه محمد كما في تاريخ الطبري.

أبو بكر بن عياش بن سالم القارئ

الحسن، أمُّها عرابة، شقيقةُ أبي عيسى، وأمُّ محمَّد، يقال لها: حَمْدونة، فاطمة، أمُّها غُصَص، وأمُّ أبيها [وأمها] سكر (¬1)، وأمُّ سلمة، أمُّها رحيق، وخديجة، أمها سَحر (¬2)، وهي شقيقةُ كُريب، وأمَّ القاسم، أمُّها خرق، ورَملة، وتُكنى أمَّ جعفر، أمُّها حلي، وأمُّ علي [أمها] أنيق، و [أمُّ] الغالية، أمُّها سمندل، وريطة، أمُّها زينة (¬3). أَسند هارونُ الحديثَ عن أبيه المهديِّ والمباركِ بن فضالة، وروى عن مالك بن أنسٍ الموطَّأ، وعن إبراهيمَ بنِ سعد الزهري، وغيرِهما، وروى عنه ولداه الأمينُ والمأمون وغيرهما. أبو بكر بن عيَّاش بنِ سالمٍ القارئ [واختلفوا في اسمه على أقوال: أحدُها: شعبة، ذكره سفيانُ الثوري. والثاني: محمَّد، ذكره النَّسائي. والثالث: سالم، ذكره أبو بكر الجَوْزَقي. والرابع: مطرِّف، ذكره الهيثم بن عَدي. والخامس: رؤبة، ذكره دُحَيم. والسادس: عَتيق، ذكره سفيانُ بن عُيينة (¬4). وقال الخطيب عن عمرَ بنِ هارون: سألتُه عن اسمه فقال: لا أدري، الغالبُ على اسمي كنيتي. وقد نصَّ أبو داودَ على أنَّ اسمه كنيتُه. وقال البخاري: أبو بكر بن عيَّاش] مولى واصلِ بن حَيَّان الأَسَدي (¬5). [وذكر ابن سعدٍ (¬6) أبا بكر بن عيَّاش] في الطبقة السابعة من أهل الكوفة [في أوَّلها وقال: وهو من الطبقة التي قبلها -يعني السادسة- ولكنَّه بقي حتَّى عُمِّر وكتب عنه ¬

_ (¬1) في (خ): وأم ابنها سكن؟ ! والمثبت من الطبري 8/ 360. (¬2) في تاريخ الطبري: شجر. (¬3) في (خ): دنيا، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 360 وما بين معكوفين منه. (¬4) في تاريخ بغداد 16/ 544: سفيان بن بشير. وانظر هذه الأقوال فيه، وانظر المنتظم 9/ 232، وتهذيب الكمال (7847)، وتاريخ الإسلام 4/ 1261 والسير 8/ 495. (¬5) في التاريخ الكبير 9/ 14، والصغير 2/ 273: مولى بني كاهل من أسد، الكوفي الحناط، وقال بعضهم: اسمه شعبة ولا يصح. (¬6) في طبقاته 8/ 508.

الأحداث، و] كان من العبَّاد [قال: و] نظر إليه وكيعٌ يصلِّي يومَ الجمعةِ فقال: أعرفُ هذا الشيخَ بهذه الصلاةِ منذ أربعين سنة. [واختلفوا في مولده على أقوال: أحدُها] سنة سبعٍ وتسعين، وقيل: سنةَ أربع وتسعين، وقيل: سنةَ خمسٍ وتسعين، وقيل: سنةَ ستٍّ وتسعين [في أيام سليمانَ بنِ عبد الملك]. [وذكر الخطيب (¬1) بإسناده عن] يزيدَ بنِ هارون [وذُكر عنده أبو بكر بن عياشٍ فقال]: كان أبو بكرٍ خيِّرًا فاضلًا، لم يضع جنبَه على الأرض منذ أربعين سنة. [وروى الخطيبُ (¬2) بإسناده عن أبي هاشمٍ الرفاعيِّ قال: سمعتُ أبا بكر بنَ عياش يقول: ] لي غرفةٌ قد عجزت عن الصُّعود إليها، وما يمنعني من النُّزول منها إلا أني أختم فيها القرآنَ كل يومٍ وليلةٍ منذ ستين سنة. [وروى الخطيبُ أيضًا وقال: ] نزل الماءُ في عينيه، فمكث عشرين (¬3) لم يعلمْ به أهله. [قال: ] وصام ثمانين رمضانًا. [قال: ] ولمَّا كبر، كان يأخذ إفطارَه، فَيغْمِسه في جَرَّة في بيت مُظلمٍ ويقول: يا مَلاكَيَّ، قد طالت صُحبتي لكما، فاشفعا لي إنْ كانت لكما عند اللهِ شفاعة. [قال: ] وكان له عُكَّاز ينحني عليه إلى الصَّباح. [وقال أبو جعفر بنُ أبي شيبةَ عن أبيه قال: استقدم هارونُ أبا بكر بنَ عيَّاش] من الكوفة (¬4) إلى بغداد، وكان قد ضعف بصرُه، فدخل عليه ووكيعٌ يقوده، فرحَّب به وأَدناه، وقال له: يا أبا بكر، قد أدركتَ أيامَ بني أميةَ وأيامنا، فأيُّنا كان أَخيَر؟ قال وكيع: فقلتُ في نفسي: اللهمَّ ثبِّت الشيخ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، أولئك كانوا أنفعَ للناس، وأنتم أقومُ بالصلاة. ثم خرجا، فبعث إلى ابن عيَّاش بستَّة آلاف درهم، وإلى وكيعٍ بثلاثة آلافِ درهم، ورجعا إلى الكوفة. ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 16/ 552. (¬2) في تاريخ بغداد 16/ 555. (¬3) أي: عشرين سنة، كما في تاريخ بغداد 16/ 553. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): واستقدمه هارون من الكوفة ...

ودخل ابن عياشٍ على موسى بنِ عيسى وهو عاملُ الكوفة وعنده عبدُ الله بن مصعب الزبيري، فأدناه موسى وقرَّبه، وأَتكأَه متَّكأ، [فاتَّكأ] وبسط رجلَيه، فقال الزبيريُّ لموسى: مَن هذا؟ ! [قال: هذا فقيه الفقهاءِ والمرأَس عند أهل المصر أبو بكر بنُ عياش، قال الزبيري: فلا كثيرٌ ولا طيِّب، ولا مستحقٌّ لكلِّ ما فعلتَه به، فقال أبو بكر: يا أيها الأمير، مَن هذا الَّذي سأل عني بجهل، ثم تتابع في جهله بسوء قولٍ وفعل؟ فنسبه له] (¬1) فقال له ابنُ عياش: اُسكت يا زبيري لا سكتَّ، فبأبيك غُدِرَ ببيعتنا، وبقول الزُّبير خرجت أمُّنا، وبابنه هُدمت كعبتُنا واستُحلَّ حَرَمُنا وقُتلت كُماتنا، وبك أَحرى أن يخرجَ الدجَّال فينا، فضحك موسى حتَّى فَحَص برجلَيه الأرض. [وحكى الخطيبُ (¬2) عن] ابن عياشٍ [قال: ] (¬3) أتيتُ زمزمَ ليلةً، فاستقيتُ منها دَلْوًا لَبنًا وعَسَلًا. [وروى أبو نُعيم (¬4) عنه أنَّه قال: ] قال لي رجل: [خلِّص] رقبتَك (¬5) ما استطعتَ في الدنيا من رِقِّ الآخرة؛ فإنَّ أسير الآخرةِ غيرُ مفكوك أبدًا. فواللهِ ما نسيتها. ذكر وفاته: [حكى الخطيبُ عن ابنه] إبراهيمَ بنِ أبي بكر بن عيَّاش [قال: ] (¬6) شهدتُ أبي عند الموت، فبكيت، فقال: يا بُنيّ، ما يُبكيك؟ فواللهِ ما أتى أبوك فاحشةً قطّ (¬7)، [وفي رواية: ] صمتُ ثمانين رمضانًا، وختمت القرآنَ ثمانين سنة، ولم أُفطر في نهارها. و[قال ابنُ سعد: ] (¬8) توفِّي في جُمادى الأولى [سنةَ ثلاثٍ وتسعين] في الشَّهر الَّذي مات فيه هارون. وقيل: توفِّي سنة اثنتين وتسعين ومئة بالكوفة وقد جاوز تسعين سنة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 6/ 546 - 547. (¬2) في تاريخه 16/ 552. (¬3) في (خ): وقال ابن عياش. (¬4) في حلية الأولياء 8/ 304. (¬5) في (خ): وقال: قال لي رجل رقبتك. (¬6) في (خ): وقال إبراهيم بن أبي بكر. (¬7) تاريخ بغداد 16/ 555. (¬8) في طبقاته 8/ 508. وما بين حاصرتين من (ب).

و [روى أبو نُعيم (¬1) الحافظ عن] الهيثم بن خارجةَ [قال: ] (¬2) رأيت ابن عيَّاش في منامي بعد موتِه وبين يديه طَبَقٌ [فيه] رُطَب وسكَّر، فقلت: ألا تدعونا إليه وقد كنتَ سخيًّا على الطعام! فقال: هذا طعامُ أهل الجنَّةِ لا يأكله أهلُ الدنيا، فقلت: فبمَ نلتَ هذا؟ فقال: تسألني عن هذا وقد مضت عليَّ ستٌّ وثمانون سنةً أختم فيها القرآنَ كلَّ ليلة! أَسند عن خلقٍ كثير من التابعين، منهم الأعمش، وهشامُ بن عروة، وغيرُهما، وروى عنه ابنُ المبارك، والإمام أحمدُ رحمه الله، وغيرُه. [وأجمعوا على ثقته ودينه وعبادته وورعه واجتهاده، وإنما تكلَّم بعضُهم في حفظه، فقال ابنُ سعد (¬3): كان ثقةً صدوقًا عارفًا بالحديث والعلم، إلَّا أنَّه كان كثيرَ الغَلَط. وكذا قال أحمد بنُ حنبل: إنه كثيرَ الخطأ. وقال بِشرٌ الحافي: كان شيخًا قديمًا صاحب قرآنٍ وسنَّة، إلا أنَّ في حديثه اضطرابًا. وقال أبو بكرٍ البيهقيّ: لا خلافَ في عدالته وثقته، وإنَّما لمَّا كبر سنُّه كثر خطؤه، لا أنَّه كان متَّهمًا. وهذا القول أصحّ. وفي الرُّواة مَن يُكنَى بأبي بكر بن عيَّاش ثلاثة: أحدُهم هذا، والثاني حِمصيّ، والثالث سُلَميّ، حدَّث عن جعفر بن بُرْقان.] (¬4) * * * ¬

_ (¬1) في الحلية 8/ 303. (¬2) في (خ): وقال الهيثم بن خارجة. (¬3) في طبقاته 8/ 508. (¬4) ما بين معكوفين من (ب).

السنة الرابعة والتسعون بعد المئة

السَّنة الرابعةُ والتِّسعون بعد المئة فيها عزل الأمينُ أخاه القاسمَ عن الثُّغور والعواصم [وما ولَّاه أبوه من الشام] وولَّى مكانه خُزيمةَ بن خازم، واستدعاه إلى بغدادَ وأمره بالمُقام عنده. وفيها عصا أهلُ حمص، وكان العاملَ عليهم إسحاقُ بن سليمان، فخرج عنهم فأقام بسلَمْيَة، فاستضعفه الأمينُ، وولَّى عليهم عبدَ الله بن سعيدٍ الحَرَشي، فسار إليهم فحصرهم، وضربها بالنِّيران من جوانبها، فسألوه الأمان فأمَّنهم. وفيها أمر الأمين بالدُّعاء لابنه موسى على المنابر. وفيها ظهر الفسادُ بين الأمينِ والمأمون (¬1)، وكان السببُ في ذلك أنَّ الفضل بن الربيع لما ردَّ المال والمتاع الَّذي أَوصى به هارونُ للمأمون إلى بغداد، قال في نفسه: متى أفضى الأمرُ إلى المأمون لم يُبقِ عليّ، فسعى في الوقيعة بين الأمينِ والمأمون، وأَغرى الأمين، وأشار عليه بصرفه عن ولاية العهدِ إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك رأيَ الأمين، واتفق معه عليُّ بن عيسى بنِ ماهان والسِّنديُّ وغيرُهما موافقةً للفضل، فأزال محمَّدًا عن رأيه الأوَّل، وأجاب الفضلَ إلى خلع المأمونِ والدُّعاءِ لابنه موسى، ثم توقَّف، فحمله الفضل، فكتب إلى الأمصار، فدعا له وبعد المأمونِ لموسى، وأسقط القاسم، ولما بلغ المأمون ذلك، قطع البريد عن محمَّد، وأسقط اسمه من دار الضَّرْب والطِّراز (¬2). وكان رافعُ بن الليث -لمَّا انتهت إليه أخبارُ المأمون وحسنُ سيرته- رغب في طاعته، وبعث إلى هَرْثَمَةَ وهو محاصرُه بسَمَرْقَنْدَ يطلب الأمان، فكتب هرثمةُ إلى المأمون يُخبره، فكتب له أمانَّا، وسار رافعٌ من سمرقندَ إلى مَرْو، فقدمها على المأمون، فأكرمه وأدناه وأحسنَ إليه، وأعطاه الأموال وغيرها، فأقام عنده بمرو، وأقام هرثمةُ بسمرقندَ على حاله، ومعه في عسكره طاهرُ بن الحسين، ثم استأذن هرثمةُ ¬

_ (¬1) بعدها في (ب): وحج بالناس داود بن عيسى. واختصر بهذا الأحداث الآتية كلها. (¬2) الطراز: الموضع الَّذي تنسج فيه الثياب الجيدة. القاموس المحيط (طرز).

المأمونَ في القدوم عليه، فأذن له، فسار إلى جَيحون، فوجده جامدًا، فعبر عليه بعسكره، ووصل إلى مرو، فتلقَّاه الناس، وأَكرمه المأمون وولَّاه حَرَسه، وكتب عيونُ محمَّد إليه بذلك فأنكره، وشرع في التدبير على المأمون، وكتب كتابًا إلى العباس بنِ عبد الله بنِ مالك عاملِ الرَّيِّ من قِبَل المأمون يأمره أن يبعثَ إليه بغرائب غَرْسِ الريِّ على اختلاف أنواعه، وكان قصدُه امتحانَه، فأرسل إليه العباسُ بما طلب، وكتم ذلك عن المأمون وذي الرياستَين، وبلغ المأمون فعزل العباسَ عن الرَّيِّ، وولَّى الحسنَ بن عليِّ المأموني. ثم إنَّ محمَّدًا أرسل إلى أخيه المأمونِ رسلًا ثلاثة: أحدُهم العباس بنُ موسى بنِ عيسى، وصالحٌ صاحب المُصَلَّى، ومحمَّد بنُ عيسى بن نَهيك. وكتب معهم كتابًا يسأله تقديمَ (¬1) موسى عليه، ويخبره أنَّه سمَّاه الناطقَ بالحقِّ، وما نطق حينئذٍ قطُّ لا بحقٍّ ولا بباطل، وكان ذلك برأي الفضلِ وابن ماهانَ والسِّندي. ولمَّا بلغ ذا الرياستين مسيرُهم، كتب إلى العمَّال بالرَّي وقُومِسَ ونَيسابورَ وسَرْخَسَ وغيرِها أن يتلقَّوهم بالعُدَد والفرسان، والسلاحِ التامّ، وإظهارِ الزِّينة، ففعلوا، ثم قدموا مَرْو، فدخلوا على المأمون، فناولوه كتابَ أخيه، وأبلغوه الرِّسالة، فردَّ ذلك المأمون، فقال العباسُ بن موسى للمأمون: وما عليك أيها الأميرُ من ذلك؟ ! فهذا جدِّي عيسى بنُ موسى قد خُلع وما ضرَّه، فصاح به ذو الرياستين: اُسكت؛ فإن جدَّك كان في أيديهم أسيرًا، وهذا بين أخوالِهِ وشيعته ورجالِه وأمواله وبلاده، فقاموا، وأَنزل ذو الرياستين كلَّ واحدٍ منهم منزلًا، ثم جاء إلى العبَّاس ليلًا وخلا به، وأَرغبه في طاعة المأمون، وقال: أين ذُهب بك في نسبك وفضلِك عن المأمون؟ ! وأعطاه ولايةَ الموسم، وأقطعه بمصرَ وغيرِها أموالًا، فاجاب وبايع المأمون، فكان بعدُ يطالعهم بأخبار محمَّد، ويشير عليهم بما يعتمدونه. ولمَّا عاد الرسلُ إلى محمَّد وأخبروه بجواب المأمون، ألحَّ عليه الفضلُ وابن ماهان بالبَيعة لابنه موسى وخلعِ المأمون، ففعل، وأَحضنَ ابنَه موسى عليَّ بن عيسى بن ماهان ¬

_ (¬1) في (خ): بقدوم، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 376، والمنتظم 10/ 4، وانظر الكامل 6/ 229.

بالبيعة وولَّاه العراق، وكان الأمين يشاور قوَّاده وخواصَّه في خلع المأمونِ فيأبون عليه، وقال له خُزيمةُ بن خازم: لا تجرِّئ القوَّادَ على الخَلْع فيخلعوك، ولا تَحْمِلهم على الغَدْر ونَقْص العهود فينقضوا عهدَك ويغدروا بك. فلم يقبل، وخلع أخاه، وبعث إلى الأمصارِ بذلك، وبعث إلى الكعبة وأخذ الكتابَين فمزَّقهما، وأجاز بني شيبةَ بمال كثير، فقال الناس: مُرِّق ملكُه. وكان محمَّد قد كتب إلى المأمون قبل مكاشفتِه يسأله أن ينزلَ له عن كُوَرٍ من خُراسانَ سمَّاها له، وأن يكونَ بها بريد من قِبَله يكتب إليه بأخباره، فشقَّ ذلك على المأمون، واستشار الفضلَ والحسن ابنَي سهل، فأما الفضلُ فقال: الأمر خَطِر، ولك من شيعتك وأهلِ ولايتك بِطانةٌ لهم أُنسٌ بالمشاورة، وفي قطع الأمر دونهم وَحشة، وظهورُ قلَّةِ ثقة، فَرَ رأَيك في ذلك. وقال الحسن: شاورْ في رأيك مَن تثق بنصيحته، وتألَّف العدوَّ فيما لا اكتتامَ له بمشاورته. فأحضر المأمونُ خاصَّته، وشيعته، وأهلَ مودَّته، وأخبرهم الخبر، فقالوا: أيها الأمير، قد سألتَ عن أمرٍ خطير، فاجعل لبديهتنا حظًّا من الرَّويَّة والنَّظَر، فقال: هذا هو الحَزْم، وأجَّلهم ثلاثًا، فتروَّوا، ثم اجتمعوا عند المأمونِ والفضلُ بن سهل حاضر، فكلُّهم أشار بأن يعطيَ للأمين ما سأل، إلَّا أن عباراتِهم اختلفت، فقال بعضُهم: كان يقال: إذا كان الأمرُ خطرًا، فإعطاؤك مَن نازعك طرفًا من بُغيته مع قدرته أمثلُ من أن تصيرَ (¬1) بالمنع إلى مُكاشفته. وقال آخر: لا تأمن أن يكونَ فسادُ يومِك راجعًا بفساد غدِك. وقال آخَر: لا أرى مفارقةَ منزلة سَلامة، لعل أن تُعطى منها العافية. فقال لهم ذو الرِّياستين: قد اجتهدتم في النصيحة والرأي، غير أنَّ رأيي مخالفٌ لرأيكم، قالوا: ولِم؟ قال: ألستم تعلمون أنَّ محمَّدًا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحقّ؟ قالوا: نعم، قال: فهل أنتم على بيِّنة وثقةٍ أنَّه لا يتجاوز إلى طلب شيءٍ آخر؟ قالوا: لا. ثم قال للمأمون: هل تأمن أن يكونَ أخوك طلب ما طلب ليستظهرَ به غدًا عليك ¬

_ (¬1) في (خ): يضر، والمثبت من تاريخ الطبري.

ويتقوَّى على مخالفتك؟ قال: لا، قال: فانظر ماذا ترى، فقال: يا فضل، اُكتب إليه: وَرَدَ كتابُ أمير المؤمنين يسألني التجافيَ عن مواضعَ سمَّاها الرشيدُ في عَقده وعَهده، وجعل أمرَها إليّ، ولو لم يكن ذلك مبيَّنًا في عهوده، وأنا على الحال التي أنا عليها من مجاورة الأعداءِ، وجندٍ لا يطيعون إلَّا بالمال؛ لقد كان يجب على أمير المؤمنين أن يقسمَ لي حظًّا من عنايته، ويقطعَ لي طَرفًا من ماله، وإنِّي أعلم أنَّ أمير المؤمنين لو علم ما أنا فيه [لما] (¬1) كتب إليَّ بما كتب، والسلام. وذكر كلامًا بمعناه. ثم إنَّ المأمون احترز على الطُّرق، وأقام الطَّلائع والبُرُد، وبثَّ الحَرسَ في الأماكن بحيث لا يصل إلى أحدٍ من خراسانَ كتابٌ ولا جواب، فأمن ناحيتَهم، وحَصَرهم من أن يُستمالوا برغبةٍ أو رهبة، وبعث محمَّد جماعةً ليناظروا المأمونَ في منعه ما كان سأله، فلما وصلوا إلى الريِّ وجدوا الحرسَ والطلائع، ومُنعوا من المسير إلى مَرْو، وكتب عاملُ الرَّي إلى المأمون يخبره بهم، فجاء كتابٌ بحملهم إليه، فحُملوا وقد أُحيط بهم واحتُرز عليهم، فلا يصل إليهم خبرٌ ولا يخرج من عندهم خبر، وكان في نيَّتهم بَذْلُ الأموال والولايات للفارقين، فوجدوا ذلك ممنوعًا، فحُملوا إلى المأمون ومعهم كتابُ الأمين، وفيه: أما بعد، فإنَّ الرشيد وإن كان أَفردك بما ضمَّ إليك من كُور الجبال (¬2) تأييدًا لأمرك، فإنَّ ذلك لا يوجب لك فَضْلةَ المالِ عن كفايتك، وقد ضمَّ إليك كورًا لا حاجةَ لك إليها، والواجب أن تكونَ مردودةً فَي أهلها. فكتب إليه المأمون: لا تبعثني يا ابنَ أبي على مُخالفتك وقطيعتِك، وأنا مُذْعِنٌ بطاعتك، وعلى ما كُنْتُ من صِلَتك، وارضَ بما حكم به الحقُّ في أمرك، أكُن في المكان الَّذي أنزلني الحقُّ فيما بيني وبينك، والسلام. ثم قال للرسل: أَبلِغوه أنِّي لا أزال على طاعته، إلَّا أن يضطرَّني بترك الحقِّ الواجب إلى مخالفته. فذهبوا يقولون، فقال: أَحسنوا تأديةَ ما سمعتم، ففي مكاتبتي إليه كفاية، ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها المعنى، وانظر تاريخ الطبري. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 380: الجبل.

فرجعوا خائبين ما أمَّلوه، ولقُوا جدًّا غيرَ مَشُوبٍ بهَزل. وقيل: إنَّ المأمون قال لذي الرياستين: إنَّ ولدي وأهلي ومالي بحضرة محمَّد، وكان [مئة] (¬1) ألفِ ألفِ درهم (¬2)، وأنا مُحْتاجٌ إلى ذلك، فما ترى؟ فقال: إنْ أنت كتبت إليه فمنعك، صار إلى خلع عهدِه، فاضطرَّك إلى محاربته، وإنِّي أكره لك أن تكون المُفْتَتِحَ بابَ الفُرقة، ولكن اكتب إليه بتوجيه أهلِك، ومطالبته بحقِّك على وجهٍ لا يتطرَّق إليه المَنْع، فإنْ أجاب فهو العافية، وإن أبي لم يكُنْ سببًا للحرب. فقال: اكتب إليه، فكتب: أمَّا بعد، فإنَّ نظرَ أمير المؤمنين للعامَّة نظرُ مَن لا يقتصر على إعطاءِ النَّصفة من نفسه حتَّى يتجاوزَها إليهم ببرِّه وصِلَته، وإن كان ذلك رأيه في عامته، فأَحرى أن يكونَ في خاصَّيتِه، وقد علم أميرُ المؤمنين ما أنا عليه من ثغور حَللت بين لَهَواتها، وعساكرَ لا تزال مُوقنةً بنَشْر غَيِّها، وبنكْث آرائها، وقلَّةِ الخراج قِبَلي، والأهل والولد والمال قِبَل أمير المؤمنين، والأهل وإن كانوا في كفاية من برِّه وهو لهم كالوالد، غير أنِّي محتاجٌ إلى وصولهم إليَّ؛ لأؤدِّيَ حقَّ الله فيهم، ورأيُ أمير المؤمنين مستخرجٌ في المساعدة على حَمل ذلك إليَّ على يد فلان -رجل سمَّاه- غيرُ مُحرجٍ له إلى ضيقٍ يقع بمخالفته، أو حاملٍ برأي (¬3) يكون على غير موافقته، والسلام. وكان للمأمون بالرقَّة مئةُ ألف دينار، وأهلُه وولده وعياله بالرقَّة، فكتب إليه محمَّد: أما بعد، فقد بلغني كتابُك يذكر كذا وكذا، فأمَّا المال، فالأَولى ردُّه في مواضعِ حقِّه، فإنَّ الواجبَ على أمير المؤمنين أن يَستظهرَ لدينه، وهذا مال المسلمين، وأما الأهلُ والولد، فأسيِّرهم إليك مع الثِّقة من رُسُلي. وذكر كلامًا حاصلُه أنه ما أجابه إلى شيءٍ من ذلك. ولمَّا قرأ المأمون كتابَه قال: لَأَظَ (¬4) دون حقِّنا، فقال له الفضل: الرأي التمسُّك ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 381. (¬2) لفظة: درهم، ليست في تاريخ الطبري. (¬3) في تاريخ الطبري 8/ 382: حامل له على رأي. (¬4) اللَّأْظُ كالمَنْع، أي: مَنعَنا حقَّنا. تاج العروس: (لأظ).

بعُرْوَة الثِّقة، وحَسْمُ مَوادِّ الفُرقة، وعدم المكاشفة، والثباتُ إلى حين. وعلم المأمونُ أنَّه سيحدث بعد هذا أمور، وأنَّه لا بدَّ من مكاتبة الخاصَّة، وأهلِ القَدْر والنَّباهة من الشِّيعة الذين ببغداد، فكتب إليهم كتبًا سرَّا وكتابًا ظاهرًا إلى محمَّد، وانتدب لذلك رسولًا، وقال له: إنْ خَلَعني محمَّد فأوصِل هذه الكتبَ إلى أربابها، وإن لم يفعل فأَمسِك عن إيصالها. وكان في كتاب المأمونِ إلى محمَّد: أما بعد: فإنَّ أَمْرَ المؤمنين كأعضاء البَدَنِ، تحدث العلَّة في بعضها فيكون ذلك سببًا مؤلمًا لجميعها، وكذلك الحَدَثُ في بعض المسلمين يسري إلى الكلِّ، وما اختلف مختلفان وكان أحدُهما مع الله والحقِّ إلَّا تولَّى اللهُ معونته والمسلمون، وأنت -يرحمك الله- من الأمر بمَرأى ومَسْمَع، وبمكانٍ إن قلتَ استُمع لقولك، وقد أوجب اللهُ علينا طاعتَك والإحسان، ولن يضيِّعَ الله ذلك، والسلام. وقدم الرسولُ بغداد، فوافق قدومُه قطعَ الدعاءِ للمأمون على المنابر، فأوصل الكتبَ إلى أربابها، فمنهم مَن أجاب ومنهم مَن سكت، فكتب رسولُ المأمون إليه: أما بعد: فإنِّي قدمت البلدةَ وقد أعلن خَليطُك بتنكُّره، وأمسك عما يجب ذِكرُه بحضرته، ودفعتُ كتبك إلى أربابها، فوجدت أكثرَهم [وُلاةَ السَّريرة] بُغاة العَلانية، [ووجدت المُشرِفين بالرعيَّة] ما يبالون ما احتملوا [فيها] (¬1)، والقوم على ما وصفت، فلا تجعل للتَّواني في أمرك نصيبًا، والسلام. وكان الأمينُ قد استشار يحيى بنَ سليم الكاتبَ في خلع المأمون، فقال له: كيف بذلك مع ما قد وكَّد له الرشيدُ من البَيعة، وتوثَّق له بالعهود والأيمانِ والشرائط في الكتاب المعلَّق في الكعبة؟ ! فقال له محمَّد: كان رأيُ الرشيد فيه خطأ، حمله عليه جعفرُ بن يحيى بسحره، واستماله برُقاه، فغَرس لنا غَرْسًا مَكروهًا، لا يُنتفع بما نحن فيه إلَّا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمورُ إلَّا باجتثاثه. فقال له يحيى: أما إذا كان هذا في عَزْمك، فلا تجاهرْه بذلك، فيستنكره الناسُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 384.

ويستشنعه العامَّة، ولكن استدعِ القائدَ بعد القائد، وآنِسه بالأَلطاف والهدايا، وأَرغبهم ومَن معهم بالأموال، فإذا استملتَهم وَهَنَت قُوَّته، وضَعُف حالُه، وأجابك رجاله، فمُرْه بالقدوم عليك، فإن قدم كان الَّذي تريد منه [وإن أبى، كنتَ قد تناولتَه] (¬1) وقد كلَّ حَدُّه، وضَعُف رُكنُه، وانقطع عِزُّه. فقال محمَّد: أنت خطيب مِهذار، ولستَ بذي رأيٍ مُصيب، فعدِّ عن هذا الرأيِ إلى الشيخ المُوَفَّق والوزيرِ الناصح -يعني الفضلَ بن الربيع- قم فالحقْ بمِدادك وأقلامك. فقام وهو يقول: ستعلم. ودسَّ الفضلُ بن سهل إلى بغدادَ أقوامًا يطالعونه بالأخبار يومًا بيوم، وقد بعث طاهرَ بن الحسين إلى الرَّيِّ في جُنْد، وبعث محمَّد عصمةَ بن سالم (¬2) إلى هَمَذان في جُند، وولَّاه حربَ الجبال والرَّي، فأقام بهمذان، وحفظ طاهر الطُّرق، وأقام مَن يُفتِّش النساءَ خوفًا من غائلة الكتب، وبعث طلائعَه واحترز، فقال بعضُ شعراء خراسانَ في طاهر: [من الوافر] رمى أهلَ العراق ومَن عليها ... إمامُ العَدْل والمَلِكُ الرَّشيدُ بأحْزَمِ مَن مَشَى رأيًا وحَزْمًا ... وكَيدًا نافِذًا فيما يَكيد وعَزْمٍ ثاقِبٍ وعظيمِ بأسٍ (¬3) ... يَشيبُ لهَوْل صَولَته الوَليدُ واستشار المأمونُ الفضلَ بن سهل وأخاه الحسنَ فيما يفعل، فقالا له: أمسِكْ مَوضعَك، فقال: كيف أقدر على ذلك ومع محمَّد الدنيا والأموالُ والرجال والسِّلاح، وليس معي شيءٌ من ذلك، وحولي الأعداءُ من كلِّ جانب؟ ! فقالا: الصَّبرَ الصَّبر، فإنَّه عُدَّة في النوائب، وقد غَدَر بك وسلَّ سيف البَغْي، وسوف يُقتَل به، فاثبت. وحجَّ بالناس داودُ بن عيسى بنِ موسى بن محمَّد بن علي، وكان واليًا على المدينة ومكَّة. وقيل: حجَّ بهم عليُّ بن الرشيد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 385. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 387: عصمة بن حماد بن سالم. (¬3) في تاريخ الطبري، والكامل 6/ 235: بداهية نآد خَنْفَقيق.

حفص بن غياث

فصل وفيها توفي حَفصُ بن غياث ابنِ طَلْق، أبو عبد الله (¬1) القاضي النَّخَعي [الكوفي. ذكره ابنُ سعد] في الطبقة السابعةِ من أهل الكوفة [وروى أنَّ حفصًا] ولد سنةَ سبعَ عشرةَ ومئةٍ [في خلافة هشامِ بن عبد الملك، وكان يُكَنى أبا عمر] (¬2)، وولَّاه هارون القضاءَ ببغداد بالشَّرقية، ثم ولَّاه قضاءَ الكوفة، فلم يزل قاضيًا عليها إلى أن مرض مرضًا شديدًا، ومات بها في عشر ذي الحِجَّة [سنة أربع وتسعين ومئة في خلافة محمَّد بن هارون] وكان ثقةً مأمونًا ثبتًا، إلَّا أنَّه كان يُدَلِّس. [وروى الخطيبُ عن] حُميد بنِ الربيع [قال] (¬3): لمَّا جيء بعبد اللهِ بن إدريسَ وحفصِ بن غياث ووكيع بن الجرَّاح إلى هارونَ ليولِّيهم القضاء، دخلوا عليه، فأمَّا [بن] إدريس فإنَّه قال: السلامُ عليكم، وطرح نفسَه كأنه مفلوج، فقال هارون: خذوا بيد الشيخ؛ فإنَّه لا فضلَ فيه. وأما وكيع، فوضع إِصبعَه على عينه وقال: واللهِ ما أبصرتُ بها منذ سنين (¬4)، وعنى إصبعَه، فأعفاه. وأما حفصٌ فقال: واللهِ لولا الدَّين والعيالُ لَما وليت. فلما ولي كان يقول بعد ذلك: لَأَن يُدخِلَ الرجل إصبعَه في عينه فيقلعَها ثم يرميَ بها خيرٌ له من أن يكونَ قاضيًا. و[قال أحمد بنُ كامل: ] (¬5) طلب هارونُ يومًا حفصَ بن غياث وهو في مجلس الحكم، فقال: أنا أجيرُ المسلمين، إذا فرغت من أمورهم جئت. فلم يقم حتَّى تفرَّق الخصوم. ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ)، والصواب: أبو عمر، وانظر التعليق الآتي. (¬2) في (ب): عمرو، والتصويب من طبقات ابن سعد 8/ 512، وانظر تاريخ بغداد 9/ 68، والمنتظم 10/ 29، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإسلام 4/ 1094. (¬3) في (خ): وقال حميد بن الربيع. والخبر في تاريخ بغداد 9/ 69. (¬4) في تاريخ بغداد: سنة. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

وقال غنَّام بن حَفْص: مرض أبي خمسةَ عشرَ يومًا، فدفع إليَّ مئةَ درهم وقال: امضِ بها إلى العامل وقل له: هذه رزقُ خمسة عشر يومًا لم أحكمْ فيها بين المسلمين، فدفعتها إليه. وقال يحيى بنُ الليث: باع رجلٌ من مَرْزُبان المجوسيِّ وكيلِ زُبيدةَ جِمالًا بثلاثين ألفِ درهم، فمَطَله ولم يُعطِه شيئًا، فجاء الرجلُ إلى بعض أصحابِ حفصٍ فأخبره الخبر، فقال: اِذهب إليه وقل له: أَعطِني ألفَ درهم وأُحيل عليك بالباقي، فأعطاه ألفَ درهم، وأتى الرجلَ فأخبره، فقال له: اذهب إليه وقل له: اِجعل طريقَك غدًا على القاضي حتَّى أوكِّلَ بقبض (¬1) المال. فمضى إلى المجوسيِّ وقال: أَفعل، وحضر مجلسَ حفص، فادَّعى عليه الرجلُ بتسعةٍ وعشرين ألفَ درهم، فاعترف، فقال له حفص: أدِّ المال، فقال: هو على السيِّدة، فقال: وأنت أحمق! تُقِرُّ ثم تقول: على السَّيدِّة! فأمر بحبسه، وبلغ أمَّ جعفر، فأرسلت إلى السِّندي فأَخرج المجوسي، وبلغ حفصًا فقال: أَحبس أنا ويُطلِق السِّندي! [لا جلستُ مجلسي هذا أو يردَّ مرزبانُ إلى الحبس] فأرسل إلى (¬2) زبيدةَ يقول: اللهَ اللهَ فيَّ؛ فإنَّه حفص بن غياث، وأخاف أميرَ المؤمنين. فردَّته إلى الحبس، ودخلت على هارونَ فقالت: قاضيك أحمق، فعل بوكيلي كذا وكذا، مُرْه لا ينظر في الحكم، وتولِّي أمرَه أبا يوسف، فكتب لها كتابًا بذلك، وبلغ حفصًا، فقال للرجل: أَحضِر لي شهودًا لأسجِّلَ على المجوسيِّ بالمال، ففعل، وجاء الخادمُ بالكتاب فقال: هذا كتابُ أمير المؤمنين، فقال له حفص: مكانَك، نحن في شيءٍ حتَّى نفرغَ منه، ولم يأخذ الكتابَ حتَّى سجَّل بالمال، ثم أخذ الكتابَ ووقف عليه وقال له: قل لأمير المؤمنين: قد أَنفذت الحكم، فقال الخادم: قد علمتُ واللهِ ما صنعتَ، أَبيتَ أن تأخذَ الكتاب حتَّى تفرغَ مما أردت، واللهِ لأُخبرنَّ أمير المؤمنين، ¬

_ (¬1) في (خ): ببعض، والمثبت من تاريخ بغداد 9/ 71. (¬2) في تاريخ بغداد: فجاء السندي إلى ... ، وما بين حاصرتين منه، وهذا الخبر ليس في (ب).

فقال: أخبره، فجاء الخادمُ فأخبر هارون، فضحك وقال: احملْ إلى حفصٍ ثلاثين ألفَ درهم، وبلغ أمَّ جعفر، فقالت: لا أنا ولا أنت حتَّى تعزلَ حفصًا، فقال: لا أَعزلُه، فألحَّت عليه، فعزله عن الشَّرقية وولَّاه قضاءَ الكوفة، فأقام ثلاثَ عشرةَ [سنة] قاضيًا عليها، وعلى بغدادَ سنتين. [وكان حفصٌ يقوم الليل] (¬1) ومات وعليه سبعُ مئة درهمٍ دَين، وكان يقول: واللهِ [الذي لا إله إلَّا هو] ما وليت القضاءَ حتَّى حلَّت لي المَيتة. ولمَّا ولي القضاءَ قال أبو يوسفَ لأصحابه: اكسروا دفترًا واكتبوا فيه نوادرَ (¬2) حفص، فمرَّت قضاياه في أحكامه مثل القِدح (¬3)، فقيل لأبي يوسفَ في ذلك، فقال: ما أصنع بقيام الليل، إنَّ حفصًا أراده اللهُ فوفقه. يعني أنَّ حفصًا كان يقوم الليل. [ذِكر وفاته: قد حكينا عن ابن سعدٍ أنَّه مات في سنة أربعٍ وتسعين ومئة (¬4). وصلَّى عليه الفضلُ بن العباس وهو يومئذٍ على الكوفة. وروى الخطيب (¬5) عن عمرَ بنِ حفص بن غياثٍ قال: ، لمَّا حضرت أبي الوفاةُ أُغمي عليه، فبكيت عند رأسه، فأفاق فقال: ما يُبكيك؟ قلت: أبكي على فراقك ولمَا دخلتَ فيه من هذا الأمر، يعني القضاء، فقال: لا تبكِ؛ فإنِّي ما حَلَلْتُ سَراويلي على حرامٍ قطّ، وما جلس بين يديَّ خصمان فباليتُ على مَن توجَّه الحقُّ بينهما. [وقال خليفة (¬6): مات حفصٌ سنةَ أربعٍ وتسعين ومئة. وقيل: سنةَ خمسن وتسعين ومئة] أسند حفصٌ عن عبيد الله بن عمرَ العُمريِّ وغيره، وروى عنه الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه وغيرُه، واتَّفقوا على صدقه وأمانتِه وورعه رحمةُ الله عليه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): نوال، والمثبت من تاريخ بغداد 9/ 74. (¬3) القدح: السهم قبل أن يراش وينصل. القاموس المحيط (قدح). (¬4) في (خ): وقيل: إنه مات سنة خمس أو ست أو تسع وستين ومئة، والمثبت من (ب). (¬5) في تاريخه 9/ 70. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في طبقاته ص 170. وما بين حاصرتين من (ب).

سلم بن سالم

[سَلم بن سالم أبو محمَد، وقيل: أبو عبدِ الله (¬1)، البَلْخي. قال الخطيب: قدم بغدادَ وحدَّث بها، وكان مذكورًا بالعبادة والزُّهد، مكث أربعين سنةً يُفرَش له فراش، ولم يُرَ مفطرًا إلا يومَ فطر أو أضحى، ولم يرفع رأسَه إلى السماء حياءً من الله أكثرَ من أربعين سنة، وحجَّ مرارًا فلم يستند إلى مَحمِل ولا غيرِه. وحكى الخطيب (¬2) أيضًا عن أبي مُقاتلٍ السَّمَرْقَنْديِّ أنه قال: سلمٌ عينٌ من عيون الله تعالى في الأرض، وهو في زماننا كعمرَ بن الخطابِ في زمانه. وكان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، صارمًا في ذلك، قدم بغدادَ فرأى فيها المُنكَرات، فشنَّع على هارون، فأخذه وحبسه، وقيَّده باثني عشرَ قيدًا، فكلَّمه فيه أبو معاوية الضَّرير، وقال: تقيِّد مثل هذا الرجلِ باثني عشرَ قيدًا! فقال هارون: أليس هو القائلَ في المسجد الحرامِ: لو شئتُ لضربت هارونَ بمئة ألفِ سيف؟ فخفَّف عنه وبقي أربعةُ قيود. وكان مجابَ الدَّعوة، وكان يدعو ويقول: اللهمَّ لا تُمتني في حبس هارونُ. فمات هارون فأخرجه محمَّد، وقيل: زبيدة، وكانت وفاته في سنة أربعٍ وتسعين ومئةٍ عند أهله. قال الخطيب: قال ابن خراش: كان أسلمُ ظاهرَ الخُشوع، يلْبَس الصوفَ، ويركب الحمار، ويَعِظ ويحدِّث (¬3)، فكان يقول في حبسه: اللهمَّ لا تُمتني في حبس هارون، واجمع بيني وبين أهلي، فلمَّا مات هارون أُخرج، فأتى مكةَ فوافى أهلَه بها قد حجُّوا، فمرض، فاشتهى الجَمَدَ أبو البَرَد، فمطرت السماءُ بَرَدًا، فأكل، ومات في ذي الحِجَّة بين أهله. ¬

_ (¬1) كذا في (ب)، وفي تاريخ بغداد 10/ 202، والمنتظم 10/ 8: أبو عبد الرحمن، وانظر تاريخ الإسلام 4/ 1120، والسير 9/ 321. والترجمة غير موجودة في (خ) وكذا التي بعدها. (¬2) في تاريخه 10/ 204. (¬3) أخرجه في تاريخه 10/ 208 بنحوه عن كتاب أحمد بن أبي علي، وأخرج عن ابن خراش قوله: سلم بن سالم ليس بشيء.

شقيق بن إبراهيم البلخي

شَقيق بن إبراهيمَ البَلْخي أبو عليٍّ الأزديّ (¬1). أحد مشايخ الصُّوفيةِ بخُراسان. كان له لسانٌ في التوكُّل، وهو أول من تكلَّم في علوم الأحوالِ بخراسان، صحب إبراهيمَ بن أدهمَ وأخذ الطريقةَ عنه، ولقي سفيانَ الثوريَّ وعبَّاد بن كثيرٍ وغيرَهم، وهو أستاذ حاتمٍ الأصمّ. ذِكر سببِ توبة شقيق: روى أبو نُعيم الحافظُ بإسناده (¬2) إلى عليِّ بن محمَّد بن شَقيق قال: خرج جدِّي شقيقٌ إلى بلاد الترك في تجارةٍ وهو حَدَث، فدخل بيتَ الأصنام، فقال لعالِمِهم: إنَّ هذا الَّذي أنتم فيه باطل، ولهذا الخلقِ خالقٌ ليس كمثله شيء، وهو رازقُ كل شيءٍ. فقال له العالم: ليس يوافق قولَك فعلُك، قال: ولم؟ قال: زعمتَ أنَّ لك خالقًا رازقًا وقد تَعَنَّيتَ إلى هاهنا لطلب الرِّزق! قال شقيق: فوقع في قلبي كلامُه، فرجعت فتصدَّقت بجميع ما أملك وطلبت العلم. قال عليُّ بن محمَّد: وكان لجدِّي شقيقٍ ثلاثُ مئة قرية، ولم يكن له يومَ مات كفن، قدَّم ذلك كلَّه بين يديه، وسيفُه إلى الساعة معلَّق يتباركون به. وذكر ابنُ خميسٍ في "مناقب الأبرار" معنى هذه الحكايةِ وقال: كان شقيقٌ من أبناء الأغنياء، خرج إلى بلاد التُّرك في تجارة، فدخل بيتَ الأصنام، فرأى خادمَها قد حلق رأسَه ولحيته، ولبس ثيابًا أُرجوانية، فقال له: ما هذا! وذكر الحكايةَ وقال: قال شقيق: فنفعني اللهُ بكلام التُّركي. فكان سبب تزهُّده (¬3). ذكر طرف من أخباره: حكى أبو نُعيمٍ (¬4) عنه أنَّه قال: خرجت عن ثلاث مئةِ ألف درهم، وكنت مرابيًا، ولبست الصوفَ عشرين سنة وأنا لا أعلم، فلقيت عبدَ العزيز بن أبي رَوَّاد، فقال لي: يا ¬

_ (¬1) تفردت نسخة (ب) بهذه الترجمة كما سلف التنبيه على ذلك في ترجمة سلم، وقد تقدمت ترجمته مطولة في سنة (153 هـ) مثبتة عن نسخة (خ) فقط، وذكرنا هناك أنَّه تابع في إثباتها جدِّه، وانظر طبقات الصوفية 61، حلية الأولياء 8/ 58، تاريخ دمشق 8/ 94 (مصورة دار البشير)، المنتظم 8/ 170، صفة الصفوة 4/ 159، مناقب الأبرار 1/ 179، تاريخ الإسلام 4/ 1127، السير 9/ 313. (¬2) في حلية الأولياء 8/ 59، وعنه التوابين 179. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 179. (¬4) في الحلية 8/ 59.

شقيق، ليس الشأنُ في أكل الشعير، ولا في لُبس الصوف، إنما الشأنُ في المعرفة، وأن تعبدَ الله خالصًا، ثم قرأ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] الآية. وفي رواية: يا شقيق، إنَّما الشأن في معرفة الله، فاعبده ولا تشركْ به شيئًا، ثم كن راضيًا عنه، ثم كن أوثقَ بما في يديه من يد المخلوقين. وقال السُّلمي: قال شقيق: لقيت سفيانَ الثوريَّ وأخذت لباس الدُّون منه، كان عليه إزارٌ قدرَ أربعة أذرع، ثمنه أربعةُ دراهم، إذا جلس جلس متربعًا (¬1) مخافةَ أن تبدوَ عورته، وأخذت الخشوعَ من إسرائيلَ بنِ يونس، كان لا يعرف يمينَه من شِماله، ولا تُذكَر الدنيا بين يديه، وأخذت التقلُّل من ورقاءَ بنِ عمرَ المدائني، كان يسمع عليه تفسير القرآن، فيتغدَّى بخبز الشعيرِ والخلِّ والزيت، وأخذت الزهدَ من عبَّاد بن كثير، كان يدخل بيته وفيه القدور تغلي بالحامِض والحلو، فأنكرت ذلك، فقال لي خادمٌ له: واللهِ إنَّه منذ سبعِ سنين لم يأكل لحمًا، وإنما يُطعم هذه القدورَ الفقراءَ والمساكين والزَّمنى ومَن لا حيلة له، وأخذت التوكُّل من إبراهيمَ بن أدهم، كان يُهدَى إليه الشيءُ فيتصدَّق به، فيقال له: هلَّا ادَّخرت منه شيئًا لإفطارنا، فيقول: أَمَا تخافون من عقوبة المولى، لطول آمالكم وسوء ظنِّكم بربِّكم؟ ! فثقوا به وأَحسِنوا الظنّ، فما عندكم يَنفَد وما عند اللهِ باق، وأخذت الفقهَ من زُفرَ (¬2) بن الهُذَيل، ما ناظره أحدٌ إلا رحمناه. وحكى أبو نُعيمٍ (¬3) عن حاتم الأصمِّ قال: كنَّا مع شقيقٍ في مصافِّ الترك، في يومٍ لا أرى فيه إلَّا رؤوسًا تَندُر (¬4) وسيوفًا تقطع، فقال لي ونحن بين الصفَّين: يا حاتم، كيف ترى نفسَك في هذا اليوم؟ مثلَ الليلة التي زُفَّت فيها إليك امرأتُك؟ فقلت: لا والله، فقال: ولكني واللهِ أرى نفسي مثلَ تلك الليلة، ثم ألقى دَرَقَتَه (¬5) تحت رأسه ونام حتَّى سمعتُ غطيطَه. ¬

_ (¬1) في (خ): مربعًا، والمثبت من تاريخ دمشق 8/ 97 (مخطوط)، وقد أخرجه من غير طريق السلمي. (¬2) تحرف في (خ) إلى: زين، وانظر سير أعلام النبلاء 9/ 315. (¬3) في الحلية 8/ 64. (¬4) أي: تسقط. (¬5) الدرقة: الترس من جلد ليس فيه خشب ولا عقب. المعجم الوسيط (درق).

وحكى ابنُ خميسٍ في "المناقب" أنَّه كان يعاشر الفتيان، وكان عليُّ بن عيسى بنِ ماهان أميرًا على خراسان، وكان يومئذٍ ببَلْخ، وله كلابُ صيد، وكان مغرًى بهنّ، ففقد كلبًا من كلابه وفي عنقه قِلادةٌ من ذهب، فسُعي برجل من جيران شقيقٍ أنَّه عنده، فطُلب الرجل، فدخل دارَ شقيقٍ مستجيرًا به، فمضى شقيقٌ إلى الوالي وقال: [خلُّوا] (¬1) عن الرجل، إنَّ الكلب في ضماني، أردُّه إليكم بعد ثلاثة أيام، فلمَّا ذهب يومان من الثلاثة، قدم رجلٌ من تجَّار بلخ من سفر، فرأى الكلبَ في البرية وفي عنقة القِلادة، وكان صديقًا لشقيق، فبعثه إليه، فسُرَّ به وبعث به إلى الوالي، فبرئ الرجل، فانتبه شقيقٌ وسلك طريقَ الزهد. وحكى عنه أبو نُعيمٍ أنَّه قال: بلغني عن رجلٍ من المنقطعين بالبصرة، قال: فدخلت عليه، فقال: مَن أنت؟ قلت: شقيقٌ البلخي، قال: مؤدِّب أهلِ خراسان المتوكِّل في التوكُّل؟ قلت: كذا يقال، قال: فما بلغ من توكُّلك؟ قال: استوى عندي العِمران والخراب، فنظر إليَّ كالمُنكِر عليَّ وقال: إنَّما يَشكُّ في الرِّزق مَن يشك في الخالق، فلو كُنْتُ طيرًا لمَا (¬2) استحللتُ أن أطيرَ فوق دارٍ أنت ساكنها. وحكى السُّلمي عنه قال: حججت، فبتُّ ليلةً في المسجد الحرام حيال الكعبة، ونزل مَلَكان من السماء فوقفا عليّ، فقال أحدُهما للآخر: كم حجَّ العام، فقال له الآخَر: ثلاثة أنفس، فقال: هذا فيهم؟ وأشار إليّ، قال: لا، قال: ولم؟ قال: له ثوبان. قال: فلمَّا كان العامُ المقبل، حججت في عَباءٍ ونمت في ذلك المكان، وإذا بهما قد نزلا، فقال أحدهما للآخَر مثلما قال في العام الماضي، فقال له: وشقيقٌ فيهم؟ قال: نعم، وقد شفَّعه اللهُ في جميع مَن حجَّ (¬3). ذِكر نُبذةٍ من كلامه: حكاه عنه أبو نُعيم والسُّلمي وابن خميسٍ في "المناقب" (¬4) وغيرُهم، روى عنه حاتمٌ ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها المعنى، وفي تاريخ دمشق 8/ 96، ومناقب الأبرار 1/ 181: خلوا سبيله. (¬2) في (ب): لم. (¬3) هذا الخبر وسابقه في مناقب الأبرار 1/ 184، 185. (¬4) انظر حلية الأولياء 8/ 58 فما بعد، وطبقات الصوفية ص 61 فما بعد، ومناقب الأبرار 1/ 184 وما قبلها وبعدها.

الأصمُّ قال: قال شقيق: قرأت أربعةً وعشرين كتابًا في التوحيد، فوجدت معانيهَا في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. وقال حاتم: حجَّ شقيق، فقدم الكوفة، فلقيه سفيانُ الثوريُّ فقال له: أنت الذي تدعو إلى التوكُّل وتمنع من المكاسب؟ فقال شقيق: ما قلت، قال: فقال له: فكيف قلت؟ قال: قلت: حلالٌ وحرام [و] فيما بين ذلك، وإنَّما دخلت الآفةُ من الخاصَّة على العامة، وهم خمسُ طبقات: العلماء، والزهَّاد، والغزاة، والتجَّار، والملوك. فأما العلماءُ، فهم ورثة الأنبياء، والأنبياءُ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنَّما ورَّثوا العلم، فإذا كان العالِمُ طامعًا جامعًا، فالجاهل بمَن يقتدي! وأما الغُزاة، فهم الذين يَذبُّون عن الدِّين، فإذا كان الغازي يقعد عن الجهاد ويحبُّ الراحة، فمن يغزو! وأمَّا التجار، فهم أمناءُ الله في أرضه، فإذا كان الأمينُ خائنًا، فبمن يقتدي المودع (¬1)! وأمَّا الملوك، فهم الرُّعاة، فإذا كان الراعي هو الذئبُ، فالذئب كلُّ ما وجده يأكله، فقد فسدت المكاسبُ وانسدَّت طرقها. فقال له سفيان: صدقت. وقال حاتم: دخل شقيقٌ الرَّي، فأتاه فيها محمَّد بن مقاتل الرازي، فقال له: إن رأيتَ أن تجعلَ مقامك عندي أنت وأصحابُك إلى أن ترحلَ فافعل، فقال شقيق: أخاف أن تظهرَ مني على عيبٍ فتبعدني، ثم أرجع إليك فلا تقبلني، فدعني مع مَن أنا معه على العيوب، وهو يرزقني، وإذا اطَّلع مني على زلَّة سترني. وقال حاتم: سأل شقيقٌ جعفرَ بن محمَّد الصادقَ عن التوكُّل، فقال: ما تقول أنت يا شقيق؟ فقال: إن أُعطينا شكرنا، وإن مُنعنا صبرنا، فقال جعفر: وكلابُ المدينةِ عندنا عنه لك، فقال: فما تقول أنت يا ابنَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إن مُنعنا صبرنا، شأن وجدنا آثرنا. وقال شقيق: قرأت القرآن عشرين سنةً أميِّز بين الدنيا والآخرة، فوجدته في حرفين: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (¬2) [النحل: 96]. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 8/ 99: فالخائن بمن يقتدي. (¬2) في طبقات الصوفية ص 64، والحلية 8/ 65، ومناقب الأبرار 1/ 180 مكانَ هذه الآية قولُه تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60].

وقال: احذر الأغنياء؛ فإنَّك إن ملتَ إليهم بقلبك فقد اتَّخذتهم أربابًا من دون اللهِ تعالي. وقال: ليس شيءٌ أحبَّ إليَّ من الضيف؛ فإنَّ رزقَه على الله، وأجره لي. وقال: طهِّر قلبَك من أعراض الدنيا ليدخلَ فيه حبُّ الآخرة. وقال: إذا شئت أن تكونَ في راحة، فكُلْ ما أصبت، والبَس ما وجدت، وارضَ بما قضى اللهُ عليك. وقال: جعل اللهُ أهلَ طاعته أحياءً في مماتهم، وأهلَ معصيته أمواتًا في حياتهم. وقال: لو أنَّ رجلًا عاش ألفَ سنةٍ ولم يعرف هذه الأربعةَ أشياء استحقَّ إعراضَ الله عنه: معرفةُ الله، ومعرفة نفسِه، ومعرفة علمِ الله، ومعرفة عدوِّه، فأمَّا معرفة الله، فإنَّه يعرفه في السِّر والعلانية، وأنَّه لا مانعَ ولا معطيَ سواه، وأما معرفةُ نفسه، فإنَّه يعرفها في ضعفه وعجزِه، وأنَّه لا يستطيع أن يردَّ عنها شيئًا قضاه اللهُ تعالى، وأما معرفة علمِ الله، فأن يعرفَ أنَّ اللهَ لا يقبل من الأعمال إلَّا ما كان خالصًا لوجهه، وعلامة الإخلاص ألا يطمعَ في أحدٍ من الناس، ولا يريدَ محمدتَهم، وأما معرفة عدوِّه، فهو إبليس، فيخالفه في جميع ما يأمره لينصرَه اللهُ عليه. وقال: الفقر يقارنه ثلاثةُ أشياء: تعب النفْس، وشغلُ القلب، وشدَّة الحساب. والزُّهد يقارنه ثلاثة: فراغ القلب، وخفَّة الحساب، وراحةُ النفس. وقال: العبادة عشرةُ أشياء، تسعة منها في الهرب من الناس، وواحدةٌ في السكوت. وحكى أبو نُعيم (¬1) عن حاتمٍ قال: قال لي شقيق: اصحب الناسَ كما تصحب النار، خذ منفعتَها واحذر أن تحرقَك. ذِكر وفاتِه: قال السُّلمي: استُشهد شقيقٌ في غَزاة كُولان (¬2) في سنة أربعٍ وتسعين ومئة. وحكى عن إبراهيمَ بن أدهم، وقد ذكرناه في ترجمته، وعن سفيان الثوريِّ وغيره]. ¬

_ (¬1) في الحلية 8/ 77. (¬2) في (ب): كولاب، والمثبت من تاريخ دمشق 8/ 102، والسير 9/ 316. وكولان: بليدة طيبة في حدود بلاد الترك من ناحية بما وراء النهر. معجم البلدان، وانظر التعليق أول الترجمة.

أبو نصر الجهيني المصاب

أبو نَصْرٍ الجُهَيني المُصاب من أهل المدينة. [ذكر له الخطيبُ حكايةً عن] محمَّد بن إسماعيلَ بنِ أبي فُدَيك المدني [قال] (¬1): كان [عندنا بالمدينة رجلٌ مُصاب من جُهينةَ يقال له: أبو نصر] يجلس مكانَ أهل الصُّفَّة من مسجد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكلِّم أحدًا، فإذا سئل عن شيءٍ أجاب بجوابٍ حسن، [قال: ] فقلت له يومًا: يا أبا نصر، ما الشَّرَف؟ فقال: حملُ ما ناب العشيرة، أدناها وأقصاها، والقبولُ من محسنها، والتجاوزُ عن مسيئها، قلت: فما المروءة؟ فقال: إِطعام الطعام، وإِفشاء السلام، وتوقِّي الأدناس، قلت: فما السَّخاء؟ قال: جهد المُقِلّ، قلت: فما البخل؟ فقال: أفّ، وحوَّل وجهه عني، فقلت: أما تجيبني؟ فقال: قد أجبتك. قال: وقدم علينا هارون حاجًّا، فأُخلي له المسجد، فوقف على قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى منبره وفي موقف جبريل، واعتنق أُسطوانة التوبة (¬2) ثم قال: قِفوا بي على أهل الصُّفَّة، فأتاهم، فحرِّك أبو نصر وقيل له: هذا أميرُ المؤمنين، فرفع رأسَه إليه وقال: أيها الرجل، إنَّه ليس بين عبادِ الله وأمَّة نبيِّه وخلقِه غيرُك، وإنَّ اللهَ سائلك، فأعدَّ للمسألة جوابًا، وقد قال عمرُ بن الخطاب: لو ضاعت سَمخْلةٌ (¬3) بشاطئ الفرات لَخفت أن أُسألَ عنها، [قال: ] وهارون واقفٌ يبكي، ثم قال: يا أبا نصر، إن رعيَّتي ودهري غيرُ رعيةِ عمر ودهرِه، فقال له: هذا واللهِ غير مُغْنٍ عنك، فانظر لنفسك، فإنَّك وعمرَ تُسألان عمَّا خوَّلكما الله فيه. فدعا هارونُ بثلاث مئةِ دينار وقال: ادفعوها إلى أبي نصر، فقال: لا أريدها، فقال: فرِّقها في أهل الصُّفَّة، فقال: ادفعها إلى غيري يفرِّقْها، وإنما أنا رجلٌ منهم. وكان أبو نصر يمشي (¬4) كلَّ يوم في أزقَّة المدينةِ ويَعِظُ الناس، ثم يُلازم المسجدَ إلى الليل. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال محمَّد بن إسماعيل، والمثبت من (ب)، والحكاية أخرجها ابن الجوزي في المنتظم 10/ 9 - 10 من طريق الخطيب، وذكرها في صفة الصفوة 2/ 199 أيضًا. (¬2) تحرفت في المنتظم إلى: النبوة. (¬3) السخلة: ولد الغنم من الضأن والمعز ساعة وضعه ذكرًا كان أو أنثى. مختار الصحاح (سخل). (¬4) في (ب): وذكر الحكاية وأنه كان يمشي.

السنة الخامسة والتسعون بعد المئة

السنة الخامسة والتِّسعون بعد المئة فيها أمر محمَّد بإبطال الدراهمِ والدنانيرِ التي ضربها المأمونُ بخراسان (¬1)، وأَظهر خَلعَ المأمون والوقيعةَ فيه، وكان ذلك عن رأي الفضلِ وبكر بنِ المُعْتَمر، فقال شاعر (¬2): [من المتقارب] أَضاعَ الخلافةَ غِشُّ الوزير ... ولَعْب (¬3) الأميرِ وجهلُ المُشير ففضلٌ وزير وبَكرٌ مُشير ... يُريدان ما فيه قَصْمُ الظُّهور (¬4) وما ذاك إلَّا طريقُ (¬5) غرورٍ ... وشرُّ المَسالك طُرْقُ الغُرور وأَعجب من ذا وذا أنَّنا ... نُبايع للطِّفل فينا الصَّغير وما ذاك إلَّا انقلابُ الزَّمان ... أفي العِير هذا [ن] أم في النَّفير من أبيات ولمَّا بلغ المأمونَ أنَّ الأمين سمَّى موسى الناطقَ بالحق, تسمَّى بإمام المؤمنين (¬6)، وخُطب له بذلك. وكان الأمينُ قد كتب إلى المأمون كتابًا قبل ذلك وأردفه بكتب مترددةٍ يحذِّره الخلاف، ويتوعَّده على ذلك، فكتب إليه المأمون: أما بعد: فإنَّك أردتني على خلاف ¬

_ (¬1) بعدها في (ب): لأن المأمون كان أسقط اسم محمَّد منها. وفيها قتل علي بن عيسى بن ماهان، وفيها ظهر السفياني بدمشق. وسيأتي خبر السفياني بعد تسع صفحات. (¬2) هكذا ذكره مبهمًا الطبري في تاريخه 8/ 389، 396 وابن الأثير في الكامل 6/ 245، والذهبي في تاريخه 4/ 1034، وسماه صاحب مروج الذهب 6/ 438 علي بن أبي طالب رجلًا أعمى، وسماه صاحب الوافي بالوفيات 24/ 41 يوسف بن محمَّد الحربي شاعر طاهر بن الحسين. (¬3) في تاريخ الطبري وابن الأثير والمسعودي: وفسق، وفي الوافي: وحمق. (¬4) في المصادر: حتف الأمير. (¬5) في (خ): طريقا، والمثبت من المصادر. (¬6) كذا في المنتظم 10/ 11، وتاريخ الإِسلام 4/ 1034، والبداية والنهاية 14/ 61، وفي تاريخ الطبري 8/ 389: إمام الهدى.

ما تعلم من الحقّ، ولَعمري لو أنصفتَ لانبسطتْ بالحجَّة مطالعُ مقالتك، ولكنتُ مَحْجوجًا بمُفارقتك وما يجب من طاعتك، وأنا مُذْعِنٌ بها، فأَولى بك أن تأخذَ بالحقِّ في أمري، وإن أَبيت، قام الحقُّ بمَعْذِرَتي، وهل أحدٌ فارق الحقَّ فأبقى فعلُه مَوضعَ ثقةٍ لقوله. وكتب إلى ابن ماهان: من عبد الله المأمونِ إلى عليِّ بن عيسى: أما بعد: فإنَّك في ظلِّ دعوةٍ لم تزل أنت وسلَفُك بمكان ذَبٍّ عن حريمها، والعنايةِ بحفظها ورعاية حقِّها، توجبون ذلك لأئمَّتكم، وتعتصمون بحبل جماعتِكم، وتُعطون الطاعةَ من أنفسكم، وتكونون يدًا على مَن خالفكم، وسِلمًا لمَن وافقكم، لا ترون شيئًا أبلغَ في صلاحكم من الأمر الجامعِ لأُلفتكم، ولا أحرَى لبوَاركم ممَّا دعا إلى شَتات كلمتِكم، ترون مَن رغب [عن] (¬1) ذلك جائرًا عن القَصْد، ومَن أمَّه على منهاج الحقّ، ولقد كانت الأئمةُ تُنزلكم من ذلك حيث أنزلتم أنفسَكم بقُربكم، حتى بلغ اللهُ بك من نفسك أنَّك كنت قَريعَ أهلِ دعوتك، والعَلَمَ القائمَ بمعظم أمر أئمَّتك، حتى حَلَلْتَ بالمَحَلِّ الأعلى، والمقامِ الأسنى، وإنَّ الله لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفُسهم، وقد علمتَ ما أخذه أميرُ المؤمنين على الخاصَّة والعامَّة من العهود والمواثيق. وذكر كلامًا طويلًا. وكان الفضلُ بن سهل قد دَسَّ دَسيسًا إلى الفضل بنِ الربيع، فكان يثق به ويشاوره في أمره، وكان الدَّسيسُ يُطالع الفضلَ بن سهل بما يتجدَّد كلَّ وقت، فلما تيقَّن الفضلُ بن سهل أنه لا بدَّ للأمين من الحرب، بعث إلى الدَّسيس يقول: تلطَّف للفضل بنِ الربيع وأَشِر عليه أن يكون المتولِّيَ لحرب المأمونِ عليُّ بن عيسى بنِ ماهان. وإنما خصَّ ابنَ ماهان لسوء برِّه (¬2) في أهل خراسان، وظلمِه لهم، وبغضِهم له. فشاور الفضلُ الدسيسَ في ذلك فقال: وأين أنت عن عليِّ بن عيسى في طول ولايتِه على خراسانَ، وسخائه وصنائعِه فيهم! ثم هو شيخُ الدعوة وبقية الشِّيعة (¬3). فاتفق الفضلُ ومحمَّد وبكرٌ وغيرهم على توجيهه، فدعاه الأمين، فعقد له خمسين ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 397. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 399: أثره. (¬3) في تاريخ الطبري: المشايعة.

ألفَ فارس وراجلٍ من أهل بغداد، ومكَّنه من الأموال والخزائن، فأعطاه لنفسه مئتي ألفِ دينار، ولابنه خمسين ألفًا، وأعطاه لأجل الإنفاقِ في الجند ألف ألفِ دينار، ومن السيوف المُحَلَّاة ألفي سيف، ومن الثياب ستةَ آلاف ثوبٍ للخلع، وسلاحًا كثيرًا وخِيَمًا وخيلًا، وغيرَ ذلك، وعقد له على كُور الجباب وهَمَذانَ والرَّيِّ ونَهاوَنْدَ وقُمَّ وقاشانَ وأصبهانَ وجميعِ خراسان. فخرج من بغدادَ ليلةَ الجمعةِ لأربعَ عشرةَ خلت من جُمادى الآخرة، وأعطاه الأمينُ قيدًا من ذهب وقَيدًا من فضَّة ليقيِّدَ بهما المأمون. وقيل: خرج لسبع ليالٍ خلون من شعبان، فعسكر بالنَّهْرَوان، ولمَّا أراد الخروج، جاء إلى باب أمِّ جعفرٍ يودِّعها، فقالت له: يا علي، إنَّ أمير المؤمنين وإن كان ولدي، إليه تناهت شَفَقتي، وعليه تكامل حَذَري، فإنَّي على عبد الله مُنْعَطفةٌ مُشْفِقة؛ لما يحدث عليه من مكروهٍ وأذى، وإنما ابني مَلِكٌ نافس أخاه في سلطانه، وزاحمه على ما في يده، فاعرف لعبد اللهِ حقَّ والدِه (¬1) وإخوته، وإن قَدَرْتَ عليه فلا تَجْبَهْهُ بالكلام فإنَّك لست بنظيره، ولا تقتسرْه اقتسارَ العبيد، ولا توهنه بقيدٍ ولا غُلّ، ولا تمنع منه جاريةً ولا خادمًا، ولا تعنِّف عليه في السَّير، ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، وإن خسّ (¬2) عليك فلا ترادَّه. فقال: أَفعل جميعَ ما أردتِ به. ثم جلس محمَّد يومَ الجمعة في المقصورة، وجمع القوَّاد وبني هاشمٍ وأَظهر خلعَ المأمون. وقال الفضل بنُ الربيع: إنَّ عبد الله خالف الإمامَ وقطع عنه البريد، وأَزال اسمَه من الدراهم والدنانيرِ والطُّرُز، وليس لأحدٍ في الخلافة حقٌّ مع أمير المؤمنين، لا لعبد اللهِ ولا لغيره، فبايِعوا لموسى ابنِ أمير المؤمنين، فبايَعوا، فقسم فيهم أموالًا كثيرة، ولمَّا خرج ابنُ ماهان، خرج معه الأمين يشيِّعه، وحشد معه الصنَّاع والفَعَلة وآلاتِ الحرب، فكان عسكرُه فراسخ (¬3)، ولم يرَ أهلُ بغدادَ مثل ذلك العسكر. ولمَّا سار عليُّ بن عيسى عن النَّهْرَوان، ودَّع الأمين، وترجَّل وقبَّل رِكابه، فترجَّل له ¬

_ (¬1) في (خ): ولادته، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 406. (¬2) في تاريخ الطبري: سفه. (¬3) في تاريخ الطبري: فرسخًا.

الأمين، ثم أوصاه بوصايا، منها أنَّه قال له: امنع جندَك من العَبَث والفسادِ بالرعية، والغارةِ على أهل القرى، وقطعِ الشجر وفسادِ الثمر، والتعرُّض للحريم، ومَن جاءك من أهل خُراسانَ فأَكرِم مثواه، وأحسن جائزتَه، ولا تعاقب الأخَ بأخيه، وضع عنهم رُبعَ الخراج، ولا تؤمِّن أحدًا رماك بسهمٍ أو طعنَ في أصحابك برمح، ولا تأذن لعبد اللهِ في المقام أكثرَ من ثلاثةٍ من اليوم الذي تظفر به فيه، وإن قاتلك فناجزْه، وإن هرب إلى خراسانَ فاتبَعْه بنفسك. ولما أراد عليٌّ المسير قال له منجِّمه: لو انتظرتَ بمَسيرك صلاحَ القَمَر! فقال: أنا لا أدرى ما ذلك، ومَن حاربَنا حاربناه، ومَن سالمَنا سالمناه. وسار، فلمَّا جاوز حُلْوان، لقيته قوافلُ من خراسان، فقال: ما الخبر؟ فقالوا: إنَّ طاهر بنَ الحسين مقيمٌ بالرَّيِّ، يَعرض أصحابه ويتهيَّأ للقائك، فضحك عليٌّ وقال: وما طاهر! واللهِ ما هو إلَّا شوكةٌ من أغصاني، أو شَرارةٌ من ناري، وما مثلُ طاهرٍ من يتولَّى الحروب، وإنَّ السِّخال لا تقوى على النِّطاح للكِباش، وإنَّ الثعالب لا صبرَ لها على لقاء الأُسد. ثم كتب كتابًا إلى ملوك الدَّيلم وجبالِ طَبَرِستان وما والاها من الملوك، يَعِدُهم بالصِّلات والجوائز، وأَهدى إليهم التيجانَ والأساورَ والسيوف المحلَّاة وغيرَها، وأمرهم أن يقطعوا طريقَ خُراسان، وأن يمنعوا المَدد أن يصلَ إلى طاهر، فأجابوه. وكتب الأمين إلى أبي دُلَف العِجليِّ يأمره أن ينضمَّ بمن مَعه إلى عليّ، فأجابه، واجتمع مع عليٍّ خلقٌ عظيم، ولمَّا قَرُب من الرَّيِّ على يومين أو ثلاثة، قال له صاحب مقدَّمته: الرأي التحفُّظ وإذكاءُ العيون (¬1) والطلائع، وضربُ الخنادق؛ خوفًا من تبييت طاهر؛ فإنَّ ذلك أبلغُ في الرأي، وآنَسُ لقلوب الجند، فقال له عليّ: اسكت، فليس مثلُ طاهرٍ مَن يُستعَدُّ له بالمكايد، بل إنَّ حال طاهرٍ يؤول إلى أحد أمرين: إما أن يتحصَّن بالرَّي، فيبيِّته أهلها، فيكفونا مؤونتَه، أو يُدْبرَ راجعًا وقد قَرُبنا منه، فنأتي عليه. فقال له: إنَّ العساكر والحروبَ لا تُدَبَّر بالاغترار، والثقةُ الاحتراز، ولا تقل: المحاربُ لي طاهر؛ فإنَّ الشرارةَ الخفيةَ قد تفسير ضِرامًا، والبَلَّة (¬2) من السَّيل ربَّما ¬

_ (¬1) إذكاء العيون: إرسالها. المعجم الوسيط (ذكر). (¬2) في تاريخ الطبري: الثلمة.

صارت بحرًا، وقد قربنا من طاهر، فلو كان همُّه الهرب، لم يتأخَّر إلى يومه هذا. فقال ابنُ ماهان: إنما تتحفَّظ الرجال إذا لقيت أقرانَها، وتستعدُّ إذا كان المناوئُ لها أكفاءَها ونظراءها. ثم سار حتى صار بينه وبين الرَّيِّ عشرةُ فراسخ، فسدَّ طاهرٌ أبواب الرَّي، وأَذكى العيون، واستعدَّ لمحاربته، واستشار أصحابه فقالوا: الرأيُ مقامنا بالرَّي، وندافع بالقتال إلى أن يأتيَنا المَددُ من خُراسان، فإنَّ مقامنا بالري أرفقُ بنا. فقال طاهر: ليس هذا برأي؛ فإنَّ أهل الريِّ (¬1) لابن ماهانَ هائبون، ومن سَطوته مُشفقون، ومعه مَن قد علمتم من أعراب البوادي، وصعاليكِ الجبل، ولفيفِ القُرى، ولست آمَن أن يهجمَ الريَّ فيُعينه أهلُها علينا خوفًا منه، مع أنَّه لم يكن قومٌ قطُّ زوحموا في ديارهم إلا ذلُّوا ووهنوا، وذهب عزُّهم (¬2) واجترأ عليهم عدوُّهم، والرأي أن نخرجَ من الريِّ ونجعلَها وراءَ ظهورنا، فإن أعطانا اللهُ الظَّفَر، وإلَّا دخلنا فتحصَّنَّا بها إلى أن يأتيَنا المددُ من خراسان. فقالوا: الرأيُ ما رأيت. فخرج بأصحابه، فعسكر على خمسة فراسخَ من الرَّيِّ بقرية يقال لها: كلوص (¬3)، وقال عليُّ بن عيسى لأصحابه: بادروا القوم؛ فإنَّ عددهم قليل، ولو قد زحفتم إليهم لم يكن لهم صبرٌ على طعن الرِّماح وحرارة السيوف. ثم عبَّأ جنده ميمنةً وميسرةً وقلبًا، وصيَّر في كلِّ ناحيةٍ من النواحي جمعًا عظيمًا، وتقابل الفريقان، وقد رتَّب عليُّ بن عيسى أصحابه كراديسَ كراديس، وقدَّم بين يديه عشرَ رايات، في كلِّ راية رجالٌ (¬4) من أهل النَّجدة، راية خلف راية، وجعل أبا دُلَفٍ العجليَّ في الميمنة، وقائدًا كبيرًا في الميسرة، ووقف هو في القلب. وجعل طاهرٌ على ميمنته المأموني، وعلى ميسرته الرُّسْتُمي، ووقف هو في القلب، وكان جميعُ عسكرِ طاهر أربعةَ آلاف، وعسكرُ ابنِ ماهان يقارب ثمانين ألفًا، وجعل ¬

_ (¬1) في (خ): الرأي. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 409. (¬2) في (خ): غيرهم. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬3) في تاريخ الطبري: كلواص، وفي نسخة منه: كلوص، كما هنا. (¬4) في تاريخ الطبري 8/ 410: ألف رجل، وفي الكامل 6/ 243: مئة رجل.

طاهرٌ يمرُّ (¬1) بين الصفوف والكَراديسِ ويقول: يا أهلَ الوفاءِ والشكر، إنَّكم لستم كهؤلاء أهلِ الغَدْر والنَّكْث، إنَّ هؤلاء ضيَّعوا ما حفظتم، وصغَّروا ما عظَّمتم، ونكثوا الأَيمان التي (¬2) رعيتم، وإنَّما يقاتلون على الباطل والجهل، أصحابُ نهب وسلب، فجاهِدوا طواغيتَ الفتن، ويعاسيبَ النار، وادفعوا بحقِّكم باطلَهم، وإنَّما هي ساعةٌ حتى يحكمَ اللهُ بيننا وهو خيرُ الحاكمين. فبينما هم كذلك، وَثَب أهل الرَّي فأغلقوا أبوابَ المدينة، فنادى طاهر: يا أولياءَ الله، اشتغلوا بمن أمامَكم عمَّن وراءكم؛ فإنَّه لا ينُجيكم إلا الصدقُ والصبر. ثم اقتتلوا قتالًا شديدًا، وصبر الفريقان، فقال أحمدُ بن هشامٍ لطاهر: دعني أذكِّر ابنَ ماهانَ العهودَ والمواثيق التي أخذها علينا المأمون، يعني أهلَ خراسان، فقال: افعل، فجعل الورقةَ التي فيها البيَعة والأَيمان على رأس رمح، ووقف بين الصفَّين ونادى: يا ابنَ ماهانَ، ألا تتَّقي الله! أما هذه العهود التي أخذتَها علينا للمأمون، خَفِ الله، فقد بلغت بابَ قبرك. وكان ابنُ ماهانَ قد ضربه ألفَ سَوط (¬3)، فقال: مَن جاء به فله ثلاثةُ آلافِ درهم، فرجع إلى عسكر طاهر، وبرز رجلٌ من عسكر ابنِ ماهان يقال له: حاتم الطائي، من أشدِّ الناس، فشدَّ عليه طاهرُ بن الحسين وقد أمسك سيفَه بيديه، فضربه فقدَّه نصفين، فكان الفتحُ في تلك الضَّربة، وفي ذلك اليومِ لقِّب طاهرٌ ذا اليمينين؛ لأنَّه أخذ السيفَ بكلتا يديه جميعًا. وحمَلت ميمنةُ ابنِ ماهان على ميسرة طاهرٍ ففضَّتها، وميسرتُه على ميمنة طاهرٍ فأزالتها عن مواضعها، فقال طاهر: هذا ما لا قِبَلَ لنا به، فاقصدوا القلبَ بأجمعنا، واحملوا على أصحاب الرَّايات، وجعل بين يديه ألفين من الرّماة الخُوارِزْميَّة، فحملوا، فرجعت أوائلُ الراياتِ على أواخرها، وانهزموا وكَثُرَ فيهم القتل. ورجعت الرايات إلى عليٍّ وهو في القلب، فجعل ينادي: أين أصحابُ الحفاظ، ¬

_ (¬1) في (خ): يميز، والمثبت من تاريخ الطبري. (¬2) في (خ): الذي. (¬3) في تاريخ الطبري 8/ 393: أربع مئة سوط.

أين أصحاب الأساور [و] الأكاليل؟ ! يا معاشرَ الأبناء، الكَرَّةَ بعد الفَرَّة. فما عرَّجوا عليه، وأخذتهم السيوفُ والرماح، وهبَّت ريحٌ شديدة، فكانت الدَّبْرة على ابن ماهان، وكان على فرسٍ أَرحَل (¬1) -حمله عليه محمَّد، وذلك يُكره في الحرب ويدلُّ على الهزيمة- فحمل عليه رجلٌ يقال له: داود سياه وهو لا يعرفه، فضربه بالسيف فصرعه، ورآه طاهرُ بن التاجيّ -ويسمَّى طاهرًا الصغير- فعرفه، فقال: أنت عليُّ بنِ عيسى؟ قال: نعم، ظنًّا منه أنَّه يهابه، فنزل فذبحه وجاء برأسه إلى طاهر بنِ الحسين، فلما رآه نزل فسجد وأعتق كلَّ مملوكٍ له ممَّن كان بحضرته، وتبعهم عسكرُ طاهرٍ فرسخين، واستولى طاهرٌ على الأموال والسلاحِ والخزائن والرَّقيق والدوابِّ وغيره، وأخذ جُثَّةَ ابن ماهان، فلفَّها في لِبْدٍ وألقاها في بئر، وكتب إلى المأمون بالفتح، وبعث برأس ابن ماهانَ وخاتمِه إليه، وكانت الوقعةُ بمكان يقال له: مُشكُويه، بينه وبين الرَّيّ سبعُ فراسخ، فسار البريد من الرَّيِّ إلى مروَ في أربعة أيام (¬2)، وبينهما [خمسون] ومئتا فرسخ، ورجع طاهرٌ إلى الريِّ بعد أن نادى: مَن طرح سلاحَه فهو آمن، ففعلوا ونزلوا عن دوابِّهم، وكان عبدُ الله بن عليِّ بنِ عيسى قد ألقى نفسَه بين القتلى، فلمَّا جاء الليل، قام من بينهم، وتبع (¬3) جماعةً فلحق، وكان أكبرَ أولادِ علي (¬4). وقيل: إنَّ طاهرَ بن الحسين إنَّما كتب بالفتح إلى ذي الرِّياستين: أطال اللهُ بقاءك، وكبت أعدائك، وجعل مَن شَناك فِداك، كتبت إليك ورأسُ عليِّ بن عيسى بين يدَيّ، وخاتمُه في إصبعي (¬5)، والحمدُ لله ربِّ العالمين. فدخل على المأمون فبشَّره، فأيَّد طاهرًا بالرجال، وسمَّاه ذا اليمينين، وأمر بإِحضار أهلِ بيته وقوَّاده ووجوهِ الناس، فدخلوا وسلَّموا عليه بالخلافة، وأعلن يومئذٍ بخلع محمَّد، وردَّ عليه رأسَ ابن ماهان، ¬

_ (¬1) فرس أرحل: أبيض الظهر فقط. القاموس المحيط (رحل). (¬2) في الكامل 6/ 245: ثلاثة أيام. وما سيأتي بين حاصرتين منه، وانظر تاريخ الطبري 8/ 394. (¬3) في (خ): وتبعه، وهو خطأ، وفي تاريخ الطبري 8/ 411: فانضم إلى جماعة من فل العسكر ومضى إلى بغداد. (¬4) في تاريخ الطبري: وكان من أكابر ولده. (¬5) في (خ): إصبعه، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 394 والمنتظم 10/ 13.

فطيف به في كُوَرخُراسان، فقال [شاعرٌ من أهل خراسان] (¬1): [من السريع] أصبحت الأمَّة في غِبطةٍ ... من أمر دنياها ومن دينها إذ حفظت عهدَ إمامِ الهدى ... خيرِ بني حوَّاءَ مأمونِها من أبيات، ولقَّب الفضلَ بن سهل ذا الرِّياستين، وفوَّض إليه أمورَه. وقال جبريلُ بن بختيشوع: سمعت المأمونَ يقول: كان لي بخُراسان يومٌ عجيب، فأَولاني اللهُ فيه جميلًا؛ وذلك لأنَّه لَمَّا توجَّه طاهر بن الحسين للقاء عليِّ بن عيسى بن ماهان، على ما عرفتم من ضعف طاهرٍ وقوَّة ابن ماهان، فوقع في نفس عسكري أنَّ طاهرًا ذاهب، وأنَّ ابن ماهانَ هو الغالب، ولحق عسكري إضاقةٌ شديدة، ونفذ ما كان بيدي، فلم يبق معي قليل ولا كثير، ولم أدرِ إلى أين أهرب، ولا إلى أين أجدّ، وكنت نازلًا في دار أبوابُها من حديد، ولي فيها مُسْتَشْرَفٌ أقعد فيه، وعددُ غلماني ستةٌ (¬2) لا أملك غيرهم، فشَغَب الجندُ والقوَّاد، وطلبوا أرزاقهم، ووافَوا باب الدارِ يشتموني شتمًا قبيحًا، وكان الفضلُ بن سهل جالسًا عندي، فأمر بإغلاق الأبواب، وقال لي: قم واصعد إلى المستشرف، فقلت: وما ينفعني وهم يهجمون عليّ؟ ! فقال: قم واصعد، هو الله ما تنزل إلَّا خليفة، فجعلت أهزأ به، وطلبت أهرب من بعض الأبواب، فلم أجد سبيلًا، فقال: قم فاصعد، فصعدت، فلما علم الجندُ بصعودي ازدادوا شتمًا وسبًّا، فقلت للفضل: أنت الذي غَرَرْتَني بالصعود ولم تدعْني أعمل برأي، فقال: واللهِ ما تنزل إلَّا خليفة، فازداد غيظي. ونقبوا الجندُ الجدار، وجاؤوا بالشوك وأَحرقوا بعضَ الدار، ووصلت النارُ إلي، وخفت من الحريق، وهممت أن أُلقيَ نفسي بينهم لعل إذا رأوني يستحيون مني، وجعل الفضل يقبِّل يدي ورِجلي ويقول: واللهِ ما تنزل إلَّا خليفة، والاسطرلابُ بيده، فلما اشتدَّ الأمر واستحكم الناس، قال لي: أتاك الفَرَج، أرى في الصحراء شيئًا قد أقبل ومعه فَرَجُنا فازددت غيظًا، وإذا بذلك الشيءِ قد قرب وهو يصيح: البشارة لي، قُتل عليُّ بن عيسى، وهذا رأسُه معي في المِخْلاة، فلمَّا رأى الجندُ ذلك سكنوا وخجلوا، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 411. (¬2) في الفرج بعد الشدة 2/ 351: ستة عشر غلامًا.

وأقبلوا على الدعاءِ والسرورِ بالفتح، وكان أوَّل من دخل عليَّ من القواد عليُّ بن عبد اللهِ الخُزاعي (¬1)، فقبَّل يدي وسلَّم عليَّ بالخلافة، وفعل الجميعُ كذلك، وأطفأ اللهُ النائرة، ووهب السلامةَ والعافية، وجاءتني الخلافة، وظَفِرت من أموال عليِّ بن عيسى ما أصلحت به الجندَ وغيرهم. ذِكر وصولِ الخبر إلى بغداد: ووصلت الفلولُ إلى بغدادَ في شوَّال، وندم محمَّد على ما كان من غدره بأخيه. وقال محمَّد بنُ يحيى النَّيسابوري: لما جاء نعيُ ابنِ ماهان إلى بغداد، كان محمَّد جالسًا على جانب دجلةَ يصيد السمكَ هو وكوثرٌ خادمه، فأخبره بعضُ الخدم، فقال: دعني الساعة؛ فإنَّ كوثرًا قد صاد سمكتين وأنا ما صدت شيئًا بعد (¬2). وأرسل الفضلُ بن الربيع إلى نوفل خادمِ المأمون ووكيلِه على ولده وعيالِه وأهله فحبسه، وأخذ منه مئةَ ألفِ دينار، وقيل: ألفَ ألفِ درهم، وقبض ضياعَه وغلَّاتِه بالسَّواد وغيره، وولَّى عليها من قِبَله يُمْن الخادم، ودخل خُزَيمَة بن خازم على الأمين وهو واجم، فقال له: ألم أنهَك عن خلع أخيك والبغي عليه ونقضِ العهود، وأن تجرِّئَ القوَّاد عليك وعلى مَن بعدك، وتحملَهم على النَّكثَ في الأَيمان؟ ! فإنَّ الناكث مغلول، والغادرَ مجدول، وما نصحك مَن كذبك، ولا غشَّك مَن صدقك. ثم خرج وهو يقول: [من البسيط] قد ضيَّع اللهُ ذَودًا أنت راعيها (¬3) ولما قُتل ابن ماهان قال القوَّاد: لا نشكُّ أنَّ محمَّدًا سيحتاج الرجال، فلْيأمر كلُّ واحد منكم جندَه بالشَّغب وطلبِ الأرزاق والجوائز، فأصبحوا كلُّهم بباب الجسر، وشغبوا وطلبوا الأرزاقَ والجوائز، فركب خزيمةُ بن خازمٍ (¬4) في عسكره ونهاهم، فلم ينتهوا، واقتتلوا بالآجُرِّ والنُّشَّاب، وسمع محمَّد التكبيرَ والضجيج، فأخبر الخبر، فأمر ¬

_ (¬1) في الفرج بعد الشدة 2/ 353: عبد الله بن مالك الخزاعي. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 395. (¬3) تاريخ الطبري 8/ 395. (¬4) كذا، والذي في المصادر: عبد الله بن خازم، انظر الحاشية التالية.

لهم بأرزاق أربعةِ أشهر، وأمر للقوَّاد والخواصِّ بالجوائز والصِّلات، فسكنوا وانصرفوا. ثم وجَّه الأمينُ عبدَ الرَّحمن بن جَبَلةَ الأنباريَّ (¬1) لحرب طاهرٍ في عشرين ألفًا من الأنبار، وقوَّاه بالأموال والسلاح، وولَّاه ما بين حُلوانَ إلى ما غلب عليه من أراضي خراسان، وندب معه أهل التدبير والنَّجدة، فسار حتى سبق طاهرًا إلى هَمَذان، فنزل بها وخندق عليها، وحصَّنها وسدَّ ثُلَمها، واستعدَّ للقاء طاهر, وجاء طاهرٌ فحصره، فكان يخرج ويقاتله، وأقام أيَّامًا على القتال، وقطع عنهم المادَّة، وتأذَّى أهل همذانَ بالحصار، وخاف عبدُ الرَّحمن أن يثبوا به، فأرسل إلى طاهرٍ فطلب الأمانَ له ولمن معه، فأمَّنهم، فخرجوا من همذان، واستولى طاهرٌ عليها. وفي رواية: قال عبدُ الرَّحمن لأصحابه: واللهِ إنَّ القتل أهونُ عليَّ من أمان طاهرٍ أو الهزيمة، ولكن اخرجوا بنا فلْنقاتل، فإنْ مِتنا متنا كرامًا، فخرج بخواصِّه فاقتتلوا، فترجَّل هو وأصحابُه [وكسروا] (¬2) جفونَ سيوفهم وقاتلوا، فقُتل عبدُ الرَّحمن، وكان شجاعًا، وقال بعض أصحابه يرثيه: [من الطويل] ألَا إنَّما تبكي العيون لفارسٍ ... نفى العارَ عنه بالمَناصِل والقَنَا تجلَّى غبارُ الموت عن حُرِّ وجهه ... وقد أحرز العَلْياءَ والمَجدَ واقْتَنى فتًى لا يبالي إنْ دنا من مُروءَةٍ (¬3) ... أصاب مَصونَ النَّفس أو ضَيَّع الغِنى يقيم لأطراف الذَّوابل (¬4) سُوقَها ... ولا يَرْهَبُ الموتَ المُتاحَ إذا دنا وقال الطبري: إنما قُتل عبد الرَّحمن بحُلوان، تبعه عسكرُ طاهرٍ فقاتل حتى قُتل، ورجع عسكرُه إلى بغداد، واستولى طاهرٌ على همذان، وطرد عمَّال محمَّد عن الجبال وتلك النواحي، ولم يبقَ لمحمَّد إلَّا من بغدادَ إلى حُلوان (¬5). ¬

_ (¬1) كذا في الكامل 6/ 246، ونسخة من تاريخ الطبري 8/ 395، والمنتظم 10/ 14، وفي مطبوع الطبري 8/ 395 و 412، وتاريخ الإِسلام 4/ 1036، والبداية والنهاية 14/ 62: الأبناوي. (¬2) ما بين معكوفين زيادة يقتضيها السياق، وانظر تاريخ الطبري 8/ 416. (¬3) في (خ): لا يبالي إذن من مروءة، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 417. (¬4) الذابل من القَنا: الرقيق. اللسان (ذبل). (¬5) الذي في تاريخ الطبري 8/ 412، 416: أن محمدًا الأمين لما انتهى إليه قتل علي بن عيسى وجه عبد الرحمن =

إسحاق بن يوسف

وفيها ظهر السُّفياني بدمشقَ والشام -واسمُه عليُّ بن عبد اللهِ بن خالدِ بن يزيدَ بن معاويةَ بنِ أبي سفيان، [وكنيته] (¬1) أبو الحسن- في ذي الحِجَّة، وطرد عاملَ محمد عنها -وهو سليمانُ بن أبي جعفر- بعد أن حصره بدمشقَ ثم أفلت منه. وقال ابنُ عساكر: بويع له بالخلافة بدمشقَ في ذي الحجَّة [من هذه السَّنة] وكانت دارُه بدمشقَ غربيَّ الرَّحبة (¬2)، ويُعرف بأبي العَمَيطَر، وأمُّه نفيسةُ بنت عبيدِ الله بن العبَّاس بن عليِّ بنِ أبي طالب، وكان يقول: أنا السُّفياني، أنا ابن العِير والنَّفير، وابن شيخَي صِفِّين (¬3) [وسنذكره في سنة ثمانٍ وتسعين ومئة] فبعث إليه محمَّد الحسينَ بن عليِّ بنِ عيسى بن ماهان، فخاف منه، فأقام بالرقَّة ولم يقطع الفرات. وحجَّ بالناس داودُ بن عيسى بنِ موسى بن محمد بن عليِّ بن عبد الله بنِ العباسِ، وكان واليًا على مكةَ والمدينة، وكان العاملَ على الكوفة العباسُ بن موسى الهادي، وعلى البصرة منصورُ بن المهدي، والمأمونُ بخراسان. فصل وفيها توفي إسحاقُ بن يوسفَ ابنِ محمَّد، أبو محمَّد، الأزرقُ الواسِطيُّ (¬4). كان من الثِّقات الصالحين، الفقهاءِ المحدِّثين، أقام عشرين سنةً لم يرفع رأسَه إلى السماء حياءً من الله تعالى. وكانت وفاتُه بواسط. وكان ثقة، سئل عنه الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه: أثقةٌ هو؟ فقال: إي واللهِ ثقة. قالت له أمُّه: يا بُني، قد عزمت على الحجّ، وقد بلغني أنَّ بالكوفة رجلًا يستخفُّ ¬

_ = في عشرين ألف رجل، وولاه حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، فالتقى طاهرًا بهمذان، ثم طلب منه الأمان فأمنه، ثم نكث وقاتل طاهرًا، فقتل وهربت فلول جيشه إلى بغداد. (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) رحبة الزبيب، كما في تاريخ دمشق 51/ 23. (¬3) يعني عليا ومعاوية - رضي الله عنهما -. وانظر تاريخ دمشق. (¬4) تاريخ بغداد 7/ 324، المنتظم 10/ 15، تاريخ الإِسلام 4/ 1069، السير 9/ 171، وهذه الترجمة والتي تليها ليستا في (ب).

بكار بن عبد الله

بأصحاب الحديث، فأسألك بحقِّي عليك ألا تسمعَ منها شيئًا، قال إسحاق: فدخلتُ الكوفة، فإذا الأعمشُ قاعدٌ وحده، فوقفت على باب المسجدِ وقلت: أمّي والأعمش، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "طلبُ العلم فريضةٌ على كل مسلم" (¬1) فدخلت المسجد، فسلَّمت وقلت: يا أبا محمَّد، حدِّثني فإني رجلٌ غريب، قال: من أين أنت؟ قلت: أنا من واسط، قال: وما اسمُك؟ قلت: إسحاقُ بن يوسفَ الأزرق، قال: فلا حُيِّيتَ ولا حُيِّيَت أمُّك، أليس حرَّجت عليك ألا تسمعَ مني شيئًا؟ ! قلت: يا أبا محمَّد، ليس كلُّ ما بلغك يكون حقًّا، قال: لأُحدثنَّك بحديثٍ ما حدَّثت به أحدًا قبلك. فحدَّثني عن ابن أبي أَوفَى قال: سمعت رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الخوارجُ كِلابُ أهلِ النار" (¬2). أسند إسحاق عن الأعمش والثوريِّ وخلقٍ كثير، وروى عنه الإمامُ أحمدُ رحمه الله وابنُ مَعين في آخَرين. بكَّار بن عبدِ الله ابن مصعبِ بن ثابت بن عبد الله بن الزُّبير، وأمُّه عبيدة (¬3)، وهي أمُّ عبد الله بنتُ طلحهَّ بنِ عبد الله بن عبد الرَّحمن بن أبي بكرٍ الصِّدِّيق. وكان بكَّار مِدْرَهَ قريش، شرفًا وبيانًا وجاهًا ولسانًا. وكان عظيمًا عند الوشيد، ولَّاه المدينة، فأَقام عليها واليًا اثنتي عشرةَ سنةً وشهورًا، وكان الرشيد من إِعجابه به يكتب إليه: من عبد الله هارونَ أميرِ المؤمنين إلى أبي بكرِ (¬4) بن عبد الله. وكان جوادًا مُمَدَّحًا، وكان عمَّاله على المدينة وجوه أهلها، فقهًا وعلمًا ومروءةً وشرفًا، وكان متفضِّلًا على أهل المدينة، أخرج لهم ثلاثَ أُعطيات مقدارُها ألفُ ألفِ دينار ومئتا ألفِ دينار، كلُّ عطاء أربعُ مئة ألفِ دينار، وكلُّ ذلك على يده، ولم يكن بالمدينة بيتٌ إلا وقد دخله منه صَنيعُه. وكانت وفاتُه في ربيعٍ الآخِر (¬5) رحمةُ الله عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (224) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه أحمد (19130)، وابن ماجه (173). (¬3) في (خ): عبدة، والمثبت من جمهرة نسب قريش 1/ 156. (¬4) في (خ): بكار، والمثبت من الجمهرة 1/ 164، والمنتظم 10/ 16، وتاريخ الإِسلام 4/ 1086. (¬5) في المنتظم 10/ 16: الأول، وهو خطأ، فقد حدده الزبير بن بكار في جمهرته 1/ 187 فقال: توفي أبو بكر. ابن عبد الله بن مصعب ليلة الاثنين لعشر بقين من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وتسعين ومئة.

السنة السادسة والتسعون بعد المئة

السنة السادسة والتسعون بعد المئة فيها سار طاهرٌ يطوي البلاد، فنزل حُلوانَ بقريةٍ يقال لها: شلاشان (¬1)، فخندق بها (¬2). وفيها جهَّز الأمينُ أحمدَ بن مَزْيَدٍ وعبدَ الله بنَ حُمَيد بنِ قَحْطَبة. قال أسدُ بن يزيدَ بن مزيد الشَّيباني: دخلت على الفضل بنِ الربيع بعد ما قُتل عبدُ الرَّحمن الأنباريُّ وبيده رُقعةٌ قد قرأها، واحمرَّت عيناه واشتدَّ غضبه، وهو يقول: ينام نومَ الظَّرِبَان (¬3)، وينتبه انتباهَ الذئب، همُّه بطنه، يُخاتل الرِّعاء والكلابُ تَرْصُده، لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروِّي في إمضاء رأيٍ ولا مكيدة، قد ألهاه كأسُه، وشَغَله قَدَحُه، فهو يجري في لهوه، والأيام تُوضِع في هلاكه، قد شمَّر له عبدُ الله عن ساقه، وفوَّق له أصوبَ (¬4) أسهُمه، يرميه على (¬5) بعد الدِّيار بالحتف النافذ، والموتِ الناقع، قد عبأ له المنايا على متون الخيل، وناط له البلايا في أسِنَّة الرماح وشِفار السيوف، ثم استرجع وتمثَّل بشعر البَعيث (¬6) من أبيات: [من الطويل] طوَاه طِرادُ الخيل في كلِّ غارةِ ... لها عارضٌ فيه الأسنَّة تُرزِمُ (¬7) يُقارع أبطال (¬8) ابنِ خاقانَ ليلةً ... إلى أن دنا الإصباحُ ما يَتَلَعْثَمُ فيُصبح من طُول الطِّراد مُسَهَّدًا ... وأُضحي في طيب النَّعيمِ أُصَمِّمُ (¬9) ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): شاسلان، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 417 و 432، وابن الأثير 6/ 262. (¬2) من هنا إلى قوله بعد صفحات: وفيها ولى الأمين عبد الملك بن صالح الجزيرة، ليس في (ب). (¬3) دويبة كالهرة منتنة. القاموس المحيط (ظرب). (¬4) في (خ): أصيب، والمثبت من تاريخ الطبري وابن الأثير 6/ 252. (¬5) في (خ): عن. (¬6) في (خ): العتب، والمثبت من تاريخ الطبري وابن الأثير. (¬7) في (خ): تردم، والمثبت من الطبري وابن الأثير. أرزم الرعد: اشتد صوته. القاموس المحيط (رزم). (¬8) في تاريخ الطبري وابن الأثير: أتراك. (¬9) في تاريخ الطبري 8/ 419: =

أُباكِرُها صَهْباءَ كالمِسْك ريحُها ... لها أَرَجٌ في دَنِّها حين تَرْشُمُ (¬1) فشَتَان ما بيني وبين ابن خالدٍ ... أُميَّةَ في الرِّزق الذي اللهُ يَقسم ثم قال: يا أبا الحارث، إنا وإياك نجري إلى غايةٍ، إن قصَّرنا عنها ذُمِمْنا، وإن اجتهدنا [في] بلوغها قصَّرنا وانقطعنا، وإنما نحن شِعْبٌ من أصل، إنْ قوي قوينا، وإن ضَعُفَ ضَعُفْنا، وإنَّ هذا الرجلَ قد ألقى بيده إلقاء الأَمَة الوَكْعاء (¬2)، يُشاور النِّساءَ في أمره، قد أمكن مَسامعَه من أهل اللهو والجَسارة واللَّعب، فهم يَعِدونه الظَّفرَ، ويمنُّونه النَّصر، والهلاكُ أسرعُ إليه من السَّيل إلى قِيعان الرَّمْل، وقد خشيتُ أن نهلكَ بهلاكه، ونَعْطَبَ بعطَبَه، وأنت فارسُ العرب وابنُ فارسها، وقد فزع إليك هذا الرجل، وأطمعه (¬3) فيما قِبَلك أمران، أحدهما: صدقُ طاعتك وفَضْلُ نصيحتك، والثاني: شدَّة بأسِك وشَرَفُ نفسك، وقد أمرني بتجهيزك، وإزالة عِلَّتك، وبسطِ يدك فيما أحببت، غير أنَّ الاقتصاد رأسُ النصيحة، ومفتاح اليُمن والبركة، فأَنجِزْ حوائجك، وعجِّل المُبادرةَ إلى عدوِّك، فإني أرجو أن يوليَك اللهُ شرفَ هذا الفتح، وَيلُمَّ بك شعثَ الخلافةِ والدولة. قال أسد: فقلت: أنا لطاعة أميرِ المؤمنين وطاعتك مُقَدِّم، وعلى ما أدخل الوهنَ والذُلَّ على عدوِّه وعدوِّك حريص، غير أنَّ المحارِبَ لا يعمل بالغرور [ولا يفتتح] أمرَه بالتقصير والخَلَل، وإنما مِلاكُ المحارب الجنود، وملاكُ الجنودِ المال، وقد ملأ أميرُ المؤمنين أيديَ مَن شهد العسكر من جنوده، وتابع لهم الأرزاقَ الدارَّةَ، والصِّلاتِ الجَزيلةَ، والفوائدَ التامَّة، فإن سرتُ بأصحابي وقلوبُهم متطلِّعة إلى مَن خلفهم من إِخوانهم، لم أنتفعْ بهم في لقاء مَن أمامي، والذي أسأله أَن يؤمرَ لأصحابي برزق سَنة، ويحملَ معهم مثل ذلك، ولا أُسأل عمَّ افتتحتُ من البلاد والكُوَر. فقال: قد أَشْطَطْتَ، ¬

_ = فيصبح من طول الطراد وجسمه ... نحيل وأضحي في النعيم أصمصم وانظر الكامل 6/ 253. (¬1) في (خ): بوسم، وفي الكامل: يرسم، والمثبت من تاريخ الطبري. وترشم: تختم. مختار الصحاح (رشم). (¬2) في (خ): الكوعاء، والمثبت من تاريخ الطبري وابن الأثير. والوكعاء: الحمقاء الوجعاء. القاموس المحيط (وكع). (¬3) في (خ): وأطعمه، والمثبت من تاريخ الطبري وابن الأثير.

ولا بدَّ من مُطالعته بما قلت. ثم ركب وركبتُ معه، فدخل قبلي على محمَّد ودخلتُ بعده، فما دار بيني وبين محمَّد سوى كلمتين حتى غضب وأمر بحبسي. وقيل: إنَّ أسدًا قال لمحمَّد: ادفع إليَّ ولدَي المأمون [حتى] يكونا أسيرَين في يدي، فإن أطاعني وألقى إليَّ بيده، وإلَّا عملتُ فيهما بحُكمي، وأنفذتُ فيهما أمري. فقال له محمَّد: أنت أعرابيٌّ مجنون، أدعوك إلى ولاية أعِنَّة العرب والعجم، وأُطعمك خراجَ كُوَر خُراسانَ والجبال، وأرفع منزلتَك على نُظَرائك من أبَناء القوَّاد والملوك، وتدعوني إلى قتل ولدي، وسفكِ دماءِ أهل بيتي، إنَّ هذا لَخُرْقٌ وتخليط. وأمر بحبسه. وكان للمأمون ابنان مع أمِّهما أمَّ عيسى بنتِ موسى الهادي. ولما غضب محمَّد على أسدٍ وحبسه، سأل: هل في أهل بيته مَن يقوم مَقَامَه؟ وقال محمَّد: أكره أن أستفسدَهم مع سابقتهم وما تقدَّم من نُصحهم وطاعتهم، فقالوا: نعم فيهم أحمدُ بن مزيد، وهو أحسنُهم طريقة، وأصلحُهم نية، وله بأسٌ ونَجْدة في الحروب، وبَصَرٌ بسياسة الجنود، وكان قد خرج إلى ضَيعة له، فبعث خلفه بَريدًا ولم يصل بعدُ إلى ضيعته، فرُدّ. قال أحمد: فلمَّا دخلت بغدادَ بدأتُ بالفضل بنِ الربيع، فإذا عنده عبدُ الله بنُ حُمَيد بنِ قَحْطَبة، وهو يريده إلى المسير إلى طاهر، وعبد الله يشتطُّ عليه في طلب المالِ والرجال، فلما رآني، رحَّب بي، وأخذ بيدي حتى رفعني معه إلى صدر المجلس، وأنشد: [من البسيط] إنَّا وَجَدْنا [لكم] إذ رَثَّ حَبْلُكمُ ... من آل شَيبانَ أُمًّا دونكمْ وأبا الأكثرون إذا عَدُّوا الحَصَى (¬1) عَدَدًا ... والأقربون إلينا منكمُ نَسَبا فقال عبد الله: إنَّهم لكذلك، وإنَّ فيهم لسدَّ الخَلَل، ونكايةً في العدوّ، ودفعَ معرَّة (¬2) أهلِ المعصية عن أهل الطاعة. قال أحمد: فأقبل عليَّ الفضلُ وقال: إنَّ أمير المؤمنين أَجرى ذِكرك، فوصفتُك له ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 421، وابن الأثير 6/ 255: عدد الحصى. وما بين حاصرتين منهما. (¬2) في (خ): معيرة.

بحُسن الطاعة، وفضلِ النصيحة، والشدَّة على أهل المعصية، والتقدُّم بالرأي، فأحبَّ اصطناعك، والتَّنويهَ باسمك، وأن يرفعَك إلى منزلة لم يبلغْها أحدٌ من أهل بيتك. ثم قام وقمتُ معه، فأدخلني على محمَّد وهو في صحن دارِه على سريرٍ له، فأدناني حتى كدت أن أُلاصقَه، وقال: قد أكثر عليَّ (¬1) تخليطُ ابنِ أخيك وتنكُّره وخلافه، حتى أوحشني ذلك منه، وولَّد في قلبي التُّهَمة له، فأصاره التأديبُ على ذلك إلى الحبس، فلم أكن أحبُّ ذلك، وقد وُصفتَ لي بخير، ونُسِبت إلى جميل، وقد أحببتُ أن أرفعَ قَدْرَك، وأقدِّمَك على أهل بيتك، وأولِّيك جهادَ هذه الفئةِ الباغية النَّاكِثة، وأعرِّضَك للأجر والثوابِ في قتالهم، فانظر كيف تكون، وصحِّح نيَّتك، وأَعِن أميرَ المؤمنين، وسُرَّه في عدوِّه، ليعمَّ سرورُك وتشريفك. قال أحمد: فقلت له: سوف أبذُل في طاعة أميرِ المؤمنين -أعزَّه الله- مُهْجَتي، وأبلغ من جهاد عدوِّه أفضلَ ما أمَّله عندي، ورجاه من نهضتي وكفايتي إن شاء اللهُ تعالى. ثم قال: يا فضل، جهِّزه، فقال: سمعًا وطاعة. فعرض الرجال، وأزال الشكاوى، فكانوا عشرين ألفًا. قال أحمد: ولمَّا ودَّعتُه قلت: أَوصِني يا أميرَ المؤمنين، فقال: إياك والبغيَ؛ فإنَّه عِقالُ النصر، ولا تقدِّم قَدَمًا إلَّا بالاستخارة، ولا تَشهَر سيفًا إلَّا بعد الإعذار، ومهما قدرتَ عليه باللِّين فلا تتعدَّه إلى الخُرْق والشدَّة، وأحسن صَحابةَ مَن معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كلِّ يوم، ولا تخاطرْ بنفسك في طلب الزُّلفى عندي، ولا تستَبْقها فيما تتخوَّف رجوعَه عليّ، وكن لعبد اللهِ أخًا مُصافيًا، وقرينًا بَرًّا، وأَحسِن صحبتَه ومعاشرته، ولا تخذلْه إن استنصرك، ولا تُبطئ عليه إن استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة، وكلمتُكما متَّفقة، ثم قال: سلْ حوائجك، وعجِّل السَّراحَ إلى عدوِّك. فقال أحمد: يا أميرَ المؤمنين، حاجتي أن تُكثرَ لي من الدُّعاء، ولا تقبل فيَّ قولَ باغٍ ولا حاسد، ومُنَّ عليَّ بالصفح عن ابن أخي. قال: قد فعلت ثم أرسل إلى أسد، فحلَّ قيودَه وأطلقه. وسار أحمدُ بن مزيد في عشرين أَلفًا من العرب، وسار عبدُ الله بن حُمَيد بنِ قَحْطَبةَ ¬

_ (¬1) في (خ): عليك، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 422.

في عشرين ألفًا من الأنبار (¬1)، وأمرهما أن ينزلا حُلْوانَ ويدفعا طاهرًا عنها، وأوصاهما بالتودُّد والتَّحابُب واجتماعِ الكلمة، فسارا حتى نزلا خانِقِين، وأقام طاهرٌ بحُلْوانَ وخندق عليه، ودسَّ الجواسيسَ إلى عسكرهما، فكانوا يأتونهم بالأراجيف، ويُخبرونهم أنَّ محمَّدًا قد وضع العطاءَ لأصحابه، ولم يزل يحتال في وقوع الخلافِ بين أحمدَ وعبدِ الله حتى أَوقع بينهما، فقاتل بعضُهم بعضًا، ووقع السيفُ بينهم، فانتقض أمرُهم، ورجعوا من خانِقين إلى بغداد، ولم يلقَوا طاهرًا، وأقام طاهرٌ بحلوان، فبينما هو كذلك، إذ قدم هَرْثَمةُ بن أَعْينَ من خُراسانَ بكتاب المأمون وذي الرِّياستين يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكُوَرِ إليه، وأن يتوجَّه طاهرٌ إلى الأهواز، ففعل، وأقام هرثمةُ بحُلْوان. وفيها رفع المامونُ منزلةَ الفضلِ بن سهل، وعقد له على المَشْرق طولًا وعرضًا، وجعل مَغَلَّه ثلاثةَ آلاف ألفِ درهم، وكتب على سيفه ذا الرِّياستين، من جانب: رياسةُ الحرب، ومن جانب: رياسةُ العلم والتدبير (¬2)، فقام بأمور المأمونِ كما يحبّ، وولَّى المأمونُ أخاه الحسنَ بن سهل دواوينَ الخراج. وفيها ولَّى الأمين عبدَ الملك (¬3) بنَ صالح الجزيرةَ والشام (¬4). وسببه: لمَّا قوي طاهرٌ واستفحل أمرُه وهزم مَن هزم، قال عبدُ الملك للأمين: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك قد أحسنت إليّ، وإنِّي أرى الناسَ قد طمعوا فيك، وقد عوَّدتَ العساكرَ جودَك وسماحتك، فإن استمرَّيتَ على عادتك، أفسدتهم وأَبطرتهم, وإن منعتهم العطاء، أسخطتَهم وأغضبتهم، وليس تُملَك الجنودُ بالمنع من العطاء، ولا تبقى الأموالُ مع البذل والإنفاق، ومع هذا فجندُك قد أَرعبتْهم الهزائم، وأضعفتهم الوقائع، ونَهَكَتْهُم الحروب، وملأت قلوبَهم الهَيبة، فنكلوا عن لقاء عدوِّهم، وكلَّما سيرتهم إلى طاهرٍ ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 423: الأبناء. (¬2) في المنتظم 10/ 23: وسماه ذا الرئاستين، وكان على سيفه مكتوب من جانب: رئاسة الحرب، ومن جانب: رئاسة التدبير. وانظر تاريخ الطبري 8/ 424، وابن الأثير 6/ 257. (¬3) في (خ): عبد الله، والمثبت من (ب) والمصادر. (¬4) بعدها في (ب): وفيها خلع الأمين وبويع للمأمون ببغداد، ثم أعيد الأمين، وحج بالناس العباس بن موسى بن عيسى، وكان المأمون قد أعيد إلى الخلافة بمكة والمدينة. اهـ. واختصرت بذلك أحداث هذه السنة.

غلب بقليل ما معه كثير ما معك، وأهلُ الشام قومٌ قد ضَرَسَتْهم الحرب، وأدَّبتهم الشدائد، وكلُّهم مُسارعٌ إلى طاعتي، فإن اتخذتَ منهم جندًا، كان أعظمَ في النِّكاية في العدوّ. فقال محمَّد: ولَّيتك ذلك، فعجِّل الخروج، واعمل برأيك. وكتب عهده على الجزيرة والشام، فسار إليها، فنزل الرقَّة، وكتب إلى أمراء الأجنادِ والعربِ ووجوهِ الناس، فأَقبلوا عليه من كلِّ وجه، فأَحسن إليهم، ووصلهم بالأموال والخِلَع، فبينا رجلٌ من الأبناء من أهل خراسانَ يمشي، إذ نظر إلى دابَّة كانت له أُخذت في بعض وقائع أبي العَمَيطَر تحت رجلٍ من أعراب الناس، فتعلَّق به، واجتمع جماعةٌ من الأبناء وجماعةٌ من أهل الشام، وتَلاحَوا وتنادَوا، فنَشِبَت الحربُ بينهم، وعلى (¬1) الأبناء الحسينُ بن عليِّ بنِ عيسى بن ماهان، وعلى أوباش الشام جماعةٌ منهم العباسُ بن زُفَر، واقتتلوا قتالًا عظيمًا، فقُتل من الفريقين خلقٌ عظيم، وانهزم أهلُ الشام وتفرَّقوا في كلِّ وجه، وانتقض ما كان عبد الملك دبَّره، وقال: أردنا أمرًا وأراد اللهُ غيرَه، ومات عبدُ الملك بعد الوقعةِ بأيام. وفيها خُلع الأمينُ وبويع للمأمون ببغداد، ثم أُعيد الأمين. وسبب ذلك أنَّ عبد الملكِ لمَّا مات بالرقَّة، كان في جنده الحسينُ بن عليِّ بن عيسى بنِ ماهان، فجمع الأبناءَ واستقلَّ بالأمر، وأنفق فيهم الأموال، وسار بهم نحوَ بغداد، فقدمها، فاستقبله الأشرافُ والقوَّاد ووجوهُ الناس، وضُربت له القِباب، ونزل في داره على أكملِ هيبة, وذلك في رجب, وكان يومًا مَشهودًا، فلمَّا كان في الليل، بعث الأمينُ بطلبه، فأَغلظ لرسوله، وقال: ما أنا مغنٍّ ولا مُسامرٌ ولا مُضحك حتى يطلبني في هذه الساعة، [انصرف] (¬2) حتى إذا أصبحت غَدوت عليه. فلما طلع الفجر، ركب في الموالي, وجاء حتى وقف يباب الجسر، واجتمع إليه الناس، فقال: يا معشرَ الأبناء، إنَّ خلافة اللهِ لا تُجاور بالبَطَر (¬3)، ونِعَمَه لا تُسْتَصْحَب ¬

_ (¬1) في (خ): ونعلهم على؟ ! وفي المصادر: وقام بأمر الأبناء، انظر تاريخ الطبري 8/ 426، والكامل 6/ 258، وتاريخ الإسلام 4/ 1040. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 428، وابن الأثير 6/ 259. (¬3) في (خ): إن في خلافة الله تجاوز بالبطر، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 428، والمنتظم 10/ 24، وتاريخ الإسلام 4/ 1041.

بالتكبُّر، وإنَّ محمَّدًا يريد أن يَنْكُثَ بَيعتكم، ويفرِّقَ جمعكم، وينقلَ عزَّكم إلى غيركم، وقد رأيتم فِعلَه مع أهل الشامِ بالأمس، وإن وجد قوَّةً من أمره ليرجعنَّ وبالُ ذلك عليكم، فاقطعوا أثرَه قبل أن يقطعَ آثاركم، وضعوا عزَّه قبل أن يضعَ عزَّكم، فواللهِ لا ينصره ناصرٌ إلا خُذل، ولا يمنعه مانعٌ إلا قُتل، ولقد علمتم نقضَه للعهود ونكثَه، وما عند اللهِ لأحدٍ هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف [بعهوده والحنث بأيمانه]. ثم عبر الجسرَ واجتمع إليه أهلُ الأرباض، وجاءت خيلٌ من عند محمد، فقاتلوه، فهزمهم حتى تفرَّقوا عن باب الخُلدِ ومحمَّد فيه، فخلع الحسينُ محمَّدًا يوم الأحدِ لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من رجب، وأخذ البيعةَ للمأمون، وأخرج محمَّدًا من قصر الخلدِ فحبسه في قصر أمِّ جعفر، وقال العباسُ بن موسى بنِ عيسى لأمِّ جعفرٍ زبيدة: اُخرجي من هذا القصر، فأبت، فقنَّعها بالسَّوط وسبَّها سبًّا قبيحًا، وحمُلت إلى مدينة أبي جعفر. ثم أصبح الناسُ قد ماج بعضُهم في بعض، واجتمعوا إلى محمَّد بنِ أبي خالد، فقال لهم: أيها الناس، والله ما أدري بأيِّ سببٍ يتأمَّر علينا الحسينُ بن ماهانَ ويتولَّى هذا الأمرَ دوننا, وليس هذا بأكبرنا سِنًّا ولا أكرمنا (¬1) حَسَبًا، ولا أعظمنا منزلة. وقال أسدٌ الحربي: يا معاشرَ الحربية، هذا يومٌ له ما بعده، إنَّكم قد نمتم وطال نومُكم، وتأخَّرتم فقدم عليكم عدوُّكم، ومحمَّد قد خُلع وأُسر، فاحملوا في إِطلاقه. وقال لهم بعضُ الشيوخ: هل تعلمون أنَّ محمَّدًا قطع أرزاقكم؟ قالوا: لا، قال: فهل قصَّر في حقِّ أحدٍ من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: لا، قال: فما بالُكم خذلتموه وأعنتم عدوَّه حتى خُلع وأُسر؟ ! أما واللهِ ما قتل قومٌ خليفتهم إلَّا سلَّط الله عليهم السيفَ القاتل والحَتْفَ الزاحف، انهضوا إلى قصر خليفتِكم. فنهضوا ونهض معهم أهلُ الأرض، فقاتلوا الحسينَ بن علي، فقتلوا من أصحابه مَقتلةً كبيرة، وأسروا الحسين، ودخلوا على محمَّد، ففكُّوا قيودَه وأَعادوه إلى مجلس الخلافة، وأُتي بالحسين أسيرًا إلى بين يديه، فعاتبه وقال له: ألم أقدِّم أباك على ¬

_ (¬1) في (خ): أكبر منا، والمثبت من الطبري 8/ 429، وما بين حاصرتين منه.

الناس، وولَّيته أعِنَّةَ الخيل، وملأت يدَه من الأموال ورفعتُ أقدارَكم ومنازلَكم على غيركم؟ ! قال: بلى، قال: فما الذي استحققتُ به منك أن تخلعَ طاعتي وتندب الناسَ إلى قتالي؟ قال: الثقةُ بعفوك، وحسنُ الظنِّ بصَفْحك، قال: قد عفوت عنك، وولَّيتك الطلبَ بثأر أبيك. ثم خلع عليه وحمله على مركبٍ من مراكبه، وولَّاه ما وراء بابِه، وأمره بالمسير إلى حُلوانَ لقتال طاهر، فعبر على جسر بغدادَ إلى الجانب الشرقي، فلمَّا جاوز الجسر قطعه وهرب، فنادى محمَّد في الناس، فركبوا في طلبه، وكان في نَفَرٍ من خدمه ومواليه، ولحقه الناس، فجعل يحمل عليهم، فيهزمهم ويقتل فيهم، فعثر فرسُه فسقط، وحمل عليه الناسُ فقتلوه، وجاؤوا برأسه إلى محمَّد، فقال عليُّ بن جَبَلةَ الحَوْبي (¬1): ألا قاتل اللهُ الأُلى كفروا به ... وفازوا برأس الهَرْثَميِّ حسينِ لقد أورَدُوا منه قَناةً صَليبةً ... بشِطْب (¬2) يَمانيٍّ ورمح رُدَيني رجا في خلاف الحقِّ عزًّا وإمرةً ... فأَلبسه التَّأميلُ خُفَّ حُنين وكان قتل الحسينِ في النِّصف من رجبٍ في مسجد كَوْثر الخادم، وهو على فرسخ من بغدادَ في طريق النَّهرين. واختفى الفضلُ بن الربيع في تلك الليلة. وجُدِّدت البَيعة لمحمَّد يوم الجمعة لستَّ عشرةَ خلت من رجب، وكان حبسُه في قصر أبي جعفرٍ يومين. وفيها توجَّه طاهرٌ إلى الأهواز من حُلوانَ لما نزلها هَرْثَمة، وكان بالأهواز محمَّد بْنِ يزيدَ بنِ حاتمٍ المُهَلَّبي عاملُ محمَّد، فتوجَّه في جمعٍ عظيم، فنزل قريبًا من جُنْدَيسابور، وهي حدُّ ما بين الأهوار والجبل، وجهَّز إليه طاهرٌ القوَّاد ومعهم الجيوش، فلمَّا أشرفوا عليه قال محمَّد لأصحابه: ما ترون؟ فقالوا: الرأي ألا نلاقاهم، ونرجعَ إلى الأهواز فنقيمَ بها، ونستمدَّ العساكرَ من البصرة وغيرِها. وبلغ طاهرًا، فأمر جماعةً من أصحابه أن يسبقوه إلى الأهواز، فسبقه قريشُ بن ¬

_ (¬1) نسبة إلى الحربية محلة كبيرة ببغداد. انظر الأغاني 20/ 14. والأبيات في تاريخ الطبري 8/ 431، وذيل الديوان ص 122 منسوبة له أو للخريمي. (¬2) الشطب: السيف. القاموس المحيط (شطب).

شبل، فبادره محمَّد ودخل المدينة، ودعا بالأموال فصُبَّت بين يديه، وجاء قريش، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وظهر قريشُ بن شبل عليهم، وتراجع الناس، فقال محمَّد بن يزيد لمواليه ونفرٍ كانوا معه: ما رأيكم؛ فإنِّي لستُ آمَن خذلانَ مَن معي، وقد عزمت على القتال بنفسي حتى يقضيَ اللهُ ما أحبّ، فمَن أراد منكم الانصرافَ فلينصرف، فوالله العظيم لأَن تبقَوا أحبُّ إليَّ من أن تموتوا. فقالوا: لا والله ما أنصفناك إذ قد أعتقتَنا من الرِّقِّ، ورفعتَنا بعد الضَّعَة، وأغنيتَنا بعد الفقرِ ثم نَخذلك، لا واللهِ بل نتقدَّم أمامك، ونموت تحت رِكابك، فقبَّح اللهُ الدنيا والعيشَ بعدك. ثم نزلوا فعَرْقَبوا دوابَّهم، وحملوا على أصحاب قريشٍ حملةً مُنْكَرة، فأكثروا فيهم القتل، وانتهى بعضُ أصحاب طاهرٍ إلى محمَّد بنِ يزيد، فطعنه وصرعه، وتبادروه فقتلوه، وكان محمَّد بنُ يزيدَ جوادًا ممدَّحًا شجاعًا، فقال بعض أهل البصرةِ يَرثيه: [من المنسرح] مَن ذاق طعمَ الرُّقاد من فَرَحٍ ... فإنَّني قد أضَرَّني سَهَري ولَّى فتى الرُّشْدِ فافتقدتُ به ... قلبي وسمعي وغَرَّني بصري كان غِياثًا لدى المُحولِ فقد ... ولَّى غَمامُ الرَّبيع بالمَطَرِ (¬1) وقال بعضُ المَهالبة في تلك الواقعةِ وكان قد جُرح وقُطعت يده: [من الطويل] فما لُمتُ نفسي غيرَ أنِّيَ لم أُطِق ... حَرَاكًا وأنِّي كنتُ بالضَّرب مُثْخَنا ولو سَلِمت كفَّايَ قاتلتُ دونه ... وضاربتُ عنه الطَّاهريَّ (¬2) المُلَعَّنا فتًى لا يرى أن يَخْذِلَ السيفَ في الوَغى ... إذا ادَّرَع الهَيجاءَ في النَّقْعِ واكتنى ودخل عُيينة (¬3) المُهَلَّبي على طاهرٍ فأنشده: [من المنسرح] مَن آنسَتْه البلادُ لم يَرِمِ ... منها ومَن أوحشَتْه لم يُقِمِ إلى قوله: ¬

_ (¬1) الأبيات في تاريخ الطبري 8/ 434، وابن الأثير 6/ 263. (¬2) في (خ): الطاهر بن الملعنا. (¬3) كذا في (خ)، وفي تاريخ الطبري وابن الأثير: ابن أبي عيينة، وفي الشعر والشعراء 2/ 872: عبد الله بن محمَّد بن أبي عيينة، وفي الأغاني 20/ 75: محمَّد بن أبي عيينة.

ما ساء ظنِّي إلَّا لواحدةٍ ... في الصَّدر مَحْصورةٍ عن الكَلِمِ يشير إلى قتل محمَّد، فقال طاهر (¬1): واللهِ لقد ساءني ما ساءك، وآلَمَني ما آلمك، ولقد كنت كارهًا لما كان، غير أنَّ الحتفَ واقع، والمنايا نازلة، ولا بدَّ من القيام للخلافة بحُسن الطاعة. ثم أقام طاهرٌ بالأهواز وبعث عمَّاله إلى كُوَرِها، وولَّى على اليَمامة والبحرين وعُمان، ثم توجَّه إلى واسِط وبها السِّنديُّ بن يحيى الحَرَشي والهيثمُ خليفةُ خُزَيمةَ بنِ خازم، فلمَّا رأيا عساكرَ طاهر -وكانا على عزم القتال- خافا فهربا، ودخل طاهرٌ واسطًا، وبعث أحمدَ بن المُهَلَّب أحدَ قوَّاده إلى الكوفة، وعليها يومئذٍ العباسُ بن موسى الهادي، فخلع العباسُ محمَّدًا، وكتب إلى طاهرٍ بالبيعة للمأمون، وقيل: إنَّ الذي كان على الكوفة من قِبَل محمَّد الفضلُ بن موسى بنِ عيسى، وكان منصورُ بن المهديِّ عاملَ محمَّد على البصرة، فكتب إلى طاهرٍ بالبيعة للمأمون، وخلع الجميع محمَّدًا في هذه السَّنة في رجب. وسار طاهرٌ من واسطٍ يطوي المنازلَ حتى نزل جَرْجَرايا، وولَّى طاهرٌ داودَ بن عيسى بنِ موسى بن محمَّد بن عليِّ بن عبد الله بن عباسٍ مكةَ والمدينة -وقيل: إنما ولَّاه محمَّد فأقرَّه طاهرٌ على ولايته، وهو الصحيح، لما نذكر- ويزيدَ بن جرير (¬2) القَسْريَّ اليمن، وبعث الحارثَ بن هشامٍ وداودَ بن موسى إلى قصر ابنِ هُبَيرَة، وسار من جَرجرايا فنزل المَدائن، فهرب عمَّال محمَّد، ثم صار منها إلى صَرْصَر، فعقد بها جسرًا. وفيها خلع داودُ بن عيسى الأمينَ، والسببُ في ذلك أنَّ الأمين لمَّا ولي الخلافة ولَّى مكةَ والمدينةَ لداود بنِ عيسى، وعزل محمَّد بن عبد الرَّحمن المَخْزومي عاملَ الرشيد على مكَّةَ، وأقرَّه على القضاء، فأقام داود الحجَّ للناس سنةَ ثلاثٍ وتسعين، وسنةَ خمس وتسعين، فلمَّا دخلت سنةُ ستٍّ وتسعين، بلغه خلعُ عبدِ الله المأمونِ أخاه وقتلُ ابنِ ماهان. وكان محمَّد قد كتب إلى داودَ يأمره بخلع المأمونِ والبيعة لابنه موسى بنِ محمَّد، ¬

_ (¬1) في (خ): محمَّد، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 434. (¬2) في (خ): حرب، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 436، وابن الأثير 6/ 264، وتاريخ الإِسلام 4/ 1043.

وبعث محمَّد فأخذ الكتابين اللذين كانا في الكعبة ومزَّقهما، فجمع داودُ أشرافَ مكة من قريشٍ، وحَجَبة البيتِ، ومَن كان بها من العلماءِ، ومَن في الكتابين -وكان داودُ أحدَ الشهود- فقال لهم: قد علمتم ما أخذ هارونُ علينا وعليكم من العهود والمواثيقِ عند بيت اللهِ الحرام حين بايعنا لابنَيه: لنكوننَّ مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغيِّ عليه على الباغي، ومع المَغْدورِ به على الغادر، وقد بدأ محمَّد بهذه الأشياء كلِّها على أخويه المأمونِ والقاسم، وخلعهما وبايع لابنه طفلٍ صغيرٍ رضيعٍ لم يُفطم، واستخرج الكتابين من الكعبة غاصبًا ظالمًا، فحرقهما بالنار، وقد وجب خلعُه والبيعةُ لأخيه المأمون، فأجابه القومُ وقالوا: رأيُنا رأيك، ونحن لك تَبَع. فوعدهم صلاةَ الظهر، وأرسل إلى حُجَّاج (¬1) مكةَ صائحًا يصيح: الصلاةُ جامعة، فاجتمعوا، وذلك يومَ الخميس لسبعٍ وعشرين ليلةً خلت من رجب. فخرج داودُ وصلَّى بالناس الظهر، ووُضع المنبرُ بين الرُّكن والمقام، وصعده -وكان خطيبًا- فقال: الحمدُ لله {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] الآية، وصلَّى على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: أما بعد، يا أهلَ مكة، فأنتم الأصلُ والفرع، والعِشرةُ والأُسرة، والشركاءُ في النعمة، إلى بلدكم يَفدُ وفدُ الله، وبقِبلتكم يأتمُّ المسلمون، وقد علمتم ما أخذ هارون رحمه الله حين بايع لابنَيه محمَّد وعبدِ الله علينا وعليكم من العهود والمواثيق. وذكر بمعنى ما تقدَّم ثم قال: وقد غدر محمَّد ونكث وظلم وبغا، وخالف الشروطَ التي أعطاها من نفسه في جوف بيتِ الله الحرام، وقد حلَّ لنا ولكم خلعُه [من الخلافة] (¬2) وتصييرُها إلى المظلوم، ألا وإني قد خلعت محمَّد بن هارون كما خلعت قَلَنْسُوتي هذه من رأسي، وخلع قلنسوتَه ورمى بها إلى بعض الخدَّام، وكانت من بُرد حِبَرة (¬3)، وأتى بقَلَنسوة سوداءَ هاشميةٍ فلبسها، ثم قال: وقد بايعتُ عبدَ الله المأمونَ فبايعوه. وكان ابنُه سليمانُ على المدينة، فكتب إليه ففعل كذلك. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 439: فجاج، وفي تاريخ ابن الأثير 6/ 266: شعاب. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري. (¬3) الحبرة: ضرب من برود اليمن. القاموس المحيط (حبر).

ثم دخل داودُ من مكةَ إلى البصرةِ ومعه جماعةٌ من ولده، فقدم البصرة، ثم سلك على فارسَ وكَرْمانَ فقدم على المأمون بمرو، فأكرمه ووصله وأحسنَ إليه، وتيمَّن ببَيعته له بمكةَ والمدينة، وأقام داودُ عنده حتى قرب موسمُ الحج، فكتب معه كتابًا إلى أهل المدينة ومكةَ يَشكرهم وَيعِدهم الخير، وأضاف إلى داودَ ولاياتٍ أخر، وكتب له إلى الرَّيِّ بخمس مئةِ ألف درهمٍ معونة، وخرج داودُ مسرعًا ومعه ابنُ أخيه العباسُ بن موسى بنِ عيسى، وعقد المأمونُ للعباس على الموسم، فسارا حتى نزلا بغدادَ وطاهرٌ يحاصرها، فأَكرمهما وأحسن معونتَهما، وجهَّز معهما يزيدَ بن جريرِ (¬1) بن خالد القَسري، وسارا جميعًا فشهدوا الموسم. وحجَّ بالناس العباسُ بن موسى، ودعا للمأمون، وهو أوَّل موسمٍ دُعي له فيه بالخلافة بمكَّة والمدينة، فلما صدروا من الحجّ، انصرف العباسُ بن موسى إلى بغدادَ وطاهرٌ يحاصرها، وأقام داودُ على عمله، ومضى يزيدُ إلى اليمن، فأخذ البيعةَ للمأمون، وسار فيهم بأحسنِ سيرة. وفيها عقد محمَّد نحوًا من أربع مئة لواءٍ لقوَّادٍ شتى، وأمَّر عليهم عليَّ بن محمَّد بنِ عيسى بن نَهيك، فالتقَوا بهَرْثَمةَ على النَّهْرَوان، فهزمهم، وأسر ابن نَهيكٍ، وبعث به إلى المأمون، وذلك في رمضان، ونزل هرثمةُ النهروان. وفيها استأمن إلى محمَّد جماعةٌ من جند طاهر، فأعطاهم أموالًا عظيمة، وغلَّف لِحاهم بالغالية، وكانوا خمسةَ آلافٍ من جند خراسان، فسُرَّ بهم محمَّد، وجهَّزهم مع جندٍ من عسكره إلى قتال طاهر، فالتقاهم طاهر، فهزمهم وغنم ما في عسكرهم، وبلغ محمَّدًا، فأخرج ما في خزائنه وذخائرِه، وفرَّق الصِّلات، وجمع أهلَ الأرباض، فأعطاهم ووصلهم، وأعطى كلَّ واحدٍ منهم خمسَ مئةِ درهمٍ وقارورةَ غالية، ولم يُعطِ أصحابه شيئًا، وبلغ طاهرًا، فكتب إليهم فاستمالهم، فشَغَبوا على محمَّد، وذلك في ذي الحِجَّة، فقال شاعرٌ من أهل بغداد: [من السريع] قل لأمين اللهِ في نفْسه ... ما شَتَّت الجُندَ سوى الغاليهْ ¬

_ (¬1) في (خ): حرب، والمثبت من تاريخ الطبري وابن الأثير.

عبد الله بن مرزوق

وطاهرٌ (¬1) نفسي تقي طاهرًا ... برُسْله والعُدَّةِ الكافيه أضحى زِمامُ المُلْكِ في كفِّه ... مُقاتلًا للفئة الباغيه يا ناكِثًا أسلَمَه نَكثُه ... عيوبُه من خُبثه فاشيه قد جاءك اللَّيثُ بشَدَّاته ... مُسْتَكْلِبًا في أُمَّةٍ ضاريه فاهربْ ولا مَهْرَبَ مِن مثله ... إلَّا إلى النارِ أو الهاويه فلمَّا شغب الجندُ على محمَّد، قال له خواصُّه وقوَّاده: تدارك أمرَك؛ فإنَّ بهم قِوامَ مُلكك، وهم أزالوه في أيَّام الحسين، وهم ردُّوه (¬2) عليك، وهم مَن قد عرفتَ نجدتَهم وبأسهم، فلم يلتفت ولجَّ في أمرهم، وبعث إليهم الجندَ ومَن استأمن إليه من أصحاب طاهر، فقاتلوهم، فبعثوا إلى طاهرٍ وأعطَوه رهائنَهم على طاعته وقتالِ محمَّد، فبعث إليهم بالأموال. ثم رحل من صَرْصَر، فنزل البستانَ الذي على باب الأنبارِ يومَ الثُّلاثاء لاثنتي عشرةَ ليلةً خلت من ذي الحِجَّة بجيوشه وقوَّاده، وخرج إليه من أصحاب محمد مَن استأمن إليه، فأكرمهم وأعطاهم الأموال، وضاعف للقوَّاد وأولادِهم العطاء، ونقب أهلُ السجن السجونَ وخرجوا منها، وفُتن الناس، ووثب الدُّعَّار وأهل الفساد والشُّطَّار على أهل الصَّلاح، وعزَّ الفجَّار، وذلَّ المؤمنون، وساءت أحوالُ الناس إلَّا مَن كان في عسكر طاهر؛ لتفقُّده أمرهم، وأخذِه على أيدي سفهائهم، وخَرِبَت بغداد، ونُهبت الأموال، وهُتك الحَريم، وقتل الأخُ أخاه والابنُ أباه، وجرت أحوال لا توصف. وحجَّ بالناس العباسُ بن موسى، وقد ذكرناه. فصل وفيها توفي عبدُ الله بن مَرزوق أبو محمَّد، الزاهدُ البغدادي. [قال أبو عبد الرَّحمن السُّلَمي: ] (¬3) كان وزيرَ الرشيد، فخرج من ذلك وتخلَّى عن ¬

_ (¬1) في (خ): وطاهرًا، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 443، والبداية والنهاية 14/ 91. (¬2) في (خ): يردوه، والمثبت من تاريخ الطبري. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، ونقله عن السُّلمي ابن الجوزي في المنتظم 10/ 32، وليس في طبقاته.

عبد الملك بن صالح

ماله وتزهَّد، وكان كثيرَ البكاءِ والحؤن. [وقال الخطيب: ] (¬1) سبب تزهُّده وتخلِّيه عن الدنيا: أنّه نام يومًا عن صلاة الظُّهر، وكانت له جاريةٌ صالحة، فعَمَدت إلى جَمْرةٍ من نارٍ فوضعتها على قدمه، فانتبه فَزِعًا وقال: ما هذا؟ ! فقالت: هذه نارُ الدنيا، فكيف بنار الآخرة! فقام ودخل على هارونَ فاستعفاه، فأعفاه. [وروى ابنُ أبي الدنيا عن محمَّد بن إدريسَ، عن عبد الله بن السَّري، عن] سلامةَ (¬2) قال: [قال] عبدُ الله في مرضه الذي مات فيه: يا سلامة، إنَّ لي إليك حاجة، قلت: وما هي؟ قال: تحملني فتطرحني على تلك المَزْبَلة، لعلي أموت عليها فيرى ذلِّي ومكاني فيرحمني. فلم أفعل. وكانت وفاتُه ببغداد [في هذه السَّنة]. عبدُ الملك بنُ صالح ابنِ عليِّ بن عبد الله بنِ عباس، أبو عبد الرَّحمن الهاشمي (¬3). كان شريفًا في بني هاشم، رئيسًا نبيلًا، وأمُّه أمُّ ولد لمروانَ بنِ محمَّد، فتَسَرَّاها صالحُ أبوه، فحملت به، ويقال: إنَّها حملت بعبد الملكِ من مروان؛ ولهذا قال له الوشيدُ لمَّا نقم عليه: ما أنت لصالح، قال: فلمن أنا؟ قال: لمروان، قال: ما أبالي أيّ الفحلَين غلب عليّ. وولَّاه هارونُ دمشقَ سنة سبعٍ وسبعين، ولما ودَّعه قال له هارون: هل من حاجة؟ قال: نعم، بيني وبينك بيتُ ابن الدَّثِنَة (¬4) حيث يقول: [من الطويل] فكوني على الواشين لدَّاءَ شَغْبةً ... كما أنا للواشي ألدُّ شَغوبُ فنُقل إلى هارونَ أنَّه يُطمع نفسَه في الخلافة، فعزله عن دمشقَ في سنة ثمانٍ وسبعين، فكانت إقامتُه عليها أقلَّ من سنة، ثم أَقدمه بغداد، وكان قد كتَب إلى هارونَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، ولم نقف على كلام الخطيب، والقصة في الوافي بالوفيات 17/ 601. (¬2) في (خ): وقال سلامة، والخبر في المنتظم 10/ 32 - 33. (¬3) تاريخ دمشق 43/ 153، وتاريخ الإِسلام 4/ 1159، والسير 9/ 221. وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬4) في (خ): ابن الدنية، والمثبت من تاريخ دمشق 43/ 155، والبيت في قصيدة ابن الدمينة الطويلة، انظر ديوانه 112.

قبل أن يُشخِصَه إلى العراق: [من الطويل] أخِلَّايَ بي شَجْوٌ وليس بكم شجو ... وكلُّ امرئٍ من شجو صاحبه خِلْوُ مِنَ ايِّ نواحي الأرضِ أبغي رضاكمُ ... وأنتم أناسٌ ما لمَرْضاتكمْ نحوُ فلا حَسَنٌ نأتي به تَقبلونَه ... ولا إن أسأنا كان عندكمُ عفوُ (¬1) من أبيات، فقال هارون: واللهِ لئن كان أنشأها لقد أحسن، ولئن كان رواها لقد أحسن. وَلِيَ عبدُ الملك الجزيرةَ مرتين، وأقام بالصائفة سنةَ ثلاثٍ وسبعين ومئة، وغزا الرومَ سنةَ خمسٍ وسبعين ومئة، فأخذ سبعةَ عشرَ ألفَ رأسٍ من الروم، وقال: أميرُ السرية كالمضارِب الكيِّس، إن رأى ربحًا تاجر، وإلَّا حفظ رأسَ ماله، ولا يطلب الغنيمةَ حتى يحوزَ السلامة. ومات لهارونَ ولدٌ وولد له ولدٌ في ليلة، فدخل عليه عبدُ الملك فقال: يا أميرَ المؤمنين، آجرك اللهُ فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرَّك، وجعل هذه بتلك جزاءً للشاكرين وثوابًا للصابرين. وكان لعبد الملكِ لسانٌ وبيان على فأفأةٍ فيه (¬2). وقال إسحاق الموصلي: كان لجعفرِ بن يحيى يومٌ يخلو فيه بنفسه مع خواصِّه، ويَلبَس الثيابَ المُعَصْفَرات، وبلبَس ندماؤه كذلك، فجلس يومًا على مسرَّته، وقال للبوَّاب: اِحفظ البابَ إلَّا من عبد الملك بن بحران، فوقع في أذن البوابِ عبدُ الملك فقط، وبلغ عبدَ الملك بن صالحٍ جلوسُ جعفرٍ في منزله، ولم يعلم على أيِّ حال، فجاء إلى الباب، فلم يمنعْه البوَّاب ظنًّا منه أنَّه المطلوب، فدخل فرأى جعفرًا على تلك الحال، فاسودَّ وجهُ جعفر، وكان عبدُ الملك لا يشرب، وكان ذلك سببَ مَوجِدة هارونَ عليه، فلمَّا رآهم على تلك الحال، قام فخلع سَوادَه وقال: افعلوا بنا مثلَ ما فعلتم بأنفسكم، فقام جعفرٌ وأخرج له ثيابًا معصفرة، فلبسها، وقدَّم إليه رطلًا من ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 43/ 155، والوافي بالوفيات 19/ 169. والبيت الأول مطلع قصيدة لأبي العتاهية، وهي في ديوانه ص 672. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 302: وكان لابنه عبد الرحمن، ومن طريقه في تاريخ دمشق 43/ 161.

النبيذ، فشربه وقال: واللهِ ما شربته قطّ، فلمَّا أراد الانصراف، قال له جعفر: ما حاجتُك؟ فقال: في قلب أميرِ المؤمنين مني هَنَة، فسلْه الرِّضى عني، فقال: قد رضي عنك، قال: وعليَّ أربعةُ آلاف ألفِ درهم دَين، فسله أن يقضيها عني، قال: قد قضاها عنك، قال: وابني إبراهيمُ أُحِبُّ أن يشتدَّ ظهرُه بمُصاهَرة أميرِ المؤمنين، قال: قد زوَّجه ابنتَه الغالية (¬1)، قال: وأحبُّ أن يخفقَ اللواءُ على رأسه، قال: وقد ولَّاه أميرُ المؤمنين مصر، فأخذ يدعو لجعفر، فقال له: هذا الذي أحاطت به مَقدرتي مكافأةً لك على صَنيعك. قال إسحاق: وانصرف عبد الملك ونحن نعجب من إِقدام جعفرٍ على قضاء حوائجِه من غير إذنِ هارون، وقلنا: هَبْ أنه يقضي حوائجَه، فكيف بالتزويج؟ ! فلمَّا كان من الغد، وقفنا بباب هارون، ودخل جعفر، فلم يلبث أن دُعي بأبي يوسفَ القاضي ومحمَّد بن الحسن وإبراهيمَ بن عبد الملك، فدخل وخرج وقد خلع عليه، وعلى رأسه لواءٌ عقده هارونُ بيده على مصر، وزوَّجه ابنته، وخرجت البِدَرُ (¬2) إلى عبد الملك. قال: وخرج جعفر، فمَشَينا معه، فلمَّا خَلَونا به قال: لمَّا دخلت على أمير المؤمنين أخبرتُه بما فعل عبدُ الملك، قال: أَحسنَ والله، فما صنعتَ أنت؟ فأخبرته بما ضَمِنْتُ، فقال: أحسنت، ثم دعا بإبراهيمَ فزوَّجه ابنتَه، وولَّاه مصرَ، وقضى دَين عبدِ الملك. وكان عبد الملك محبوسًا عند الفضل بنِ الربيع حتى مات هارون، فأطلقه محمَّد، فحلف له إنْ مات محمَّد وهو حيٌّ لا يعطي المأمون طاعةً أبدًا. وكان يقول: واللهِ إنَّ الملك لشيءٌ ما نَويتُه قطّ, ولو أردتُه لكان أسرعَ إليَّ من الماء إلى الجذور، ومن النار إلى يَبِس العَرْفَج (¬3)، وإني مأخوذٌ بما لم أَجنِ، ومسؤولٌ عما لم أعرف، ولكن لمَّا رآني هارونُ بالمُلك جديرًا، وللخلافة خطيرًا، ورأى لي يدًا تنالها إذا مُدَّت، وكفًّا تبلغها إذا انبسطت، ونفسًا تكمل بخصالها (¬4)، وتستحقُّها ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، وفي تاريخ دمشق 43/ 159، ووفيات الأعيان 1/ 331: العالية. بالمهملة، وقد سلف في ترجمة الرشيد أن من بناته: أمَّ الغالية. والله أعلم. (¬2) جمع: بَدرة: وهي عشرة آلاف درهم. مختار الصحاح (بدر). (¬3) شجر سهلي. القاموس المحيط (عرفج). (¬4) في (خ): بخلاصها، والمثبت من تاريخ دمشق 43/ 164.

أبو معاوية

بفعالها، واللهِ ما ترشَّحت لها في السِّرّ، ولا أشرتُ إليها في الجهر، فإن كان إنَّما حبسني لأنِّي أصلح لها، فليس ذلك بذنبٍ جنيتُه فأتوبَ منه، ولا تطاولتُ له فأحطَّ نفسي عنه، وإن كان قصد أن أخرجَ له من حدِّ العلم إلى الجهل، أو من الدِّين إلى ضدِّه، فذلك أمر لا يقتضيه العقلُ والحزم، وإن كان عاقبني على نسبي وحسبي ومحبَّة الناسِ لي، فذلك أمرٌ لا أقدر على زواله، واللهِ لو أردتُها لأَعجلته عن التفكير، ولَشغلته عن التدبير. وتوفِّي عبدُ الملك بالرقَّة. أبو معاوية محمَّد بن خازم الضرير، مولى بني عَمرو بنِ سعد بن زيد مناة التَّميمي [الكوفي السَّعدي، وذكره ابنُ سعد] (¬1) في الطبقة السابعةِ من أهل الكوفة. [وقال الخطيب: ] وُلد سنةَ ثلاثَ عشرةَ ومئة، وذهب بصرُه وله أربعُ سنين، فأقام أهلُه عليه مأتمًا (¬2). و[حكى عنه أيضًا] (¬3) قال: حَجَجْتُ مع جدِّي لأمِّي وأنا غلام، فرآني أعرابيّ، فقال لجدِّي: ما يكون هذا الغلامُ منك؟ فقال: ابني، فقال: ليس بابنك، فقال: ابنُ بنتي، فقال: صدقت، ولَيكوننَّ له شأنٌ من الشأن، وليطأنَّ بقدميه هاتين بساطَ الملوك. [قال: ] فلمَّا قدم هارونُ بعث إلي، فلمَّا دخلت عليه، ذكرت قولَ الأعرابي، فأقبلت ألتمس برجلي البساط، فقال هارون: لم تفعلِ هذا؟ فحدَّثته الحديث، فأُعجب به. قال: وحرَّكني شيء، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، أحتاج إلى الخلاء، فقال للأمين والمأمون: خذا بيد عمّكما فأرياه الموضع، فأخذا بيدي فأَدخلاني الخلاء، فشممت رائحةً طيِّبة، فقالا: يا أبا معاوية، هذا الموضعُ فشأنك، فقضيت حاجتي [وكان ¬

_ (¬1) في طبقاته 8/ 515، وما بين حاصرتين من (ب)، وانظر في ترجمته: تاريخ بغداد 3/ 134، وتهذيب الكمال، والمنتظم 10/ 21، وتاريخ الإِسلام 4/ 1267، والسير 9/ 73. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 134 - 135. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) 3/ 135.

هارونُ يصبُّ على يديه الماء، وقد ذكرناه] (¬1). وقال هارون: لا يُثبت أحدٌ خلافةَ علي بنِ أبي طالبٍ إلا قتلتُه، قال أبو معاوية: فقلت: فلمَ يا أميرَ المؤمنين؟ قالت تَيم: منا خليفة، وقالت عَدِي: منا خليفة، وقال بنو أمية: منا خليفة، فأين حظُّكم يا بني هاشمٍ من الخلافة إلا عليَّ بن أبي طالب؟ ! فقال: صدقت، لا ينفي أحدٌ عليًّا من الخلافة إلَّا قتلته. [واختلفوا في وفاته، قال الواقديُّ وابن المَديني: سنةَ ستٍّ وتسعين ومئة (¬2). وقال ابنُ سعد (¬3): سنةَ خمسٍ وتسعين ومئة، وكذا قال الخطيب (¬4): في آخر صفرٍ أو أوَّل (¬5) ربيعٍ الأول. وقيل: مات في سنة أربعٍ وتسعين ومئة] (¬6) وقدم بغداد، وحدَّث بها عن الأعمش، وكان قد لزمه عشرين سنة، وكان أثبتَ أصحابه، وروى عن هشام بنِ عروةَ وليثِ بن أبي سُليم في آخَرين، وروى عنه الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه وابن مَعين والحسنُ بن عَرَفةَ في آخرين. وكان يحفظ القرآن، وهو ثقة. قال ابنُ سعد: [كان ثقةً إلَّا أنه] كان يدلِّس، وكان مُرجئًا، فلم يشهد وكيعٌ جنازته (¬7). قال المصنِّف رحمه الله (¬8): وقد ظنَّ قومٌ أن أبا معاويةَ الضريرَ هو أبو معاويةُ الأسود، وليس كذلك، فإنَّ [أبا معاوية] الأسودَ اسمُه اليمان [وقيل: اسمُه كنيته] نزل طَرَسوس، وصحب سفيانَ الثوريَّ وابن أدْهَمَ والفُضيل، وكان عظيمًا في الزُّهد والوَرَع، وكان أسودَ اللون من موالي بني أمية، وكان ابنُ مَعين يقول: إنْ كان بقي أحدٌ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) لم نقف على هذا القول لأحد، والمنقول عن ابن المديني أنه توفي سنة 195 كما هو مذهب الجمهور. وعبارة (خ): وتوفي في هذه السنة، وقيل: سنة خمس وتسعين ومئة. وانظر تاريخ خليفة ص 466, والمنتظم 10/ 21 - 22، وتهذيب الكمال، والسير 9/ 77، وتاريخ الإِسلام 4/ 1269. (¬3) في طبقاته 8/ 515. (¬4) في تاريخه 3/ 146، وأسنده عن محمَّد بن فضيل. (¬5) في (ب): وأول، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬6) هو قول محمَّد بن عبد الله بن نمير، كما في تاريخ بغداد وغيره. (¬7) طبقات ابن سعد 8/ 515، وما بين حاصرتين من (ب). (¬8) في (ب): قلت.

أبو الشيص

من الأبدال فأبو معاويةَ الأسود (¬1). وذهب بصرُه [أيضًا] (¬2) في آخر عمره، فكان إذا أراد أن يقرأَ في المصحف، ردَّ اللهُ عليه بصره، فإذا ترك القراءةَ ذهب بصره. [وحكى عنه ابن ماكويه الشِّيرازيُّ أنه كان] يلقط الخِرَق من المَزابل وَيرقع بها ثوبَه. وسنذكره في سنة ثمانٍ ومئتين [وقد حكى عنه أحمد بن أبي الحَوَاري وأقرانه.] أبو الشِّيص [الشاعر، واسمُه] محمَّد بن رَزِين (¬3). شاعرٌ فصيح [كان يقول: قول الشعر أهونُ عليَّ من شرب الماء]. قال أبو بكر بنُ الأنباري (¬4): اجتمع أبو الشِّيص ودِعْبِلٌ وأبو نُوَاس ومسلمُ بن الوليد [الملقَّبُ بصَريع الغَواني] في مجلس، فقالوا ليُنْشِدْ كلُّ واحد منا أحسنَ ما قال من الشعر، وهناك رجلٌ فقال: أنا أُخبركم بما ينشد كلُّ رجلٍ منكم، قالوا: هات، فقال لصريع الغواني مسلمِ بن الوليد: كأنِّي بك تُنشد: [من الطويل] إذا ما عَلَت منا ذُؤابةُ واحدٍ ... وما كان (¬5) ذا حِلْمٍ دَعَتْه إلى الجَهْلِ هل العَيشُ إلَّا أن تَروحَ مع الصِّبا ... وتغدو صَريعَ الكأس والأَعيُنِ النُّجْل [وقد ذكرنا أنَّ الرشيد سمَّاه صريعَ الغواني بهذا البيت] فقال: صدقت، ثم أقبل على أبي نُواسٍ وقال: كأنِّي بك وقد أنشدت: [من البسيط] لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هند ... واشربْ على الوَرْد من حمراءَ كالوردِ تَسقيك من عَينها خَمْرًا ومن يدها ... خمرًا فمالك من سُكرَين من بُدِّ (¬6) ¬

_ (¬1) قائله يحيى بن يحيى النيسابوري، كما في تاريخ دمشق 19/ 180، وتاريخ الإِسلام 4/ 1269، والعبارة فيهما: فحسين الجعفي وأبو معاوية الأسود. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ويقال: محمَّد بن عبد الله بن رزين، انظر الشعر والشعراء 2/ 843، والأغاني 16/ 400، وتاريخ بغداد 3/ 394، والمنتظم 10/ 33، وتاريخ الإِسلام 4/ 1197. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ب): وحكى أبو بكر بن الأنباري قال، والمثبت من (خ)، والخبر في المنتظم. (¬5) في الأغاني 16/ 402: وإن كان، ورواية الديوان ص 42: إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت به مشي المقيد في الوحل (¬6) ديوانه ص 180.

وكيع بن الجراح

فقال له: صدقت، ثم أقبل على دِعْبلٍ فقال: كأنِّي بك تنشد: [من الكامل] أين الشَّبابُ وأيَّةً سَلَكا ... لا أينَ يُطلَب ضَلَّ بل هَلَكا لا تَعجَبي يا سَلْمُ من رجلٍ ... ضَحك المَشيبُ برأسه فبكى (¬1) فقال: صدقت، ثم أقبل على أبي الشِّيص وقال: كأنِّي بك تنشد: [من الكامل] لا تُنكري صَدِّي ولا إعراضي ... ليس المُقِلُّ عن الزمان براضي (¬2) فقال أبو الشِّيص: لا، ما أردتُ هذا, ولا هذا أجود شعرٍ قلت، قالوا: فأنشدنا ما بدا لك، فأنشدهم: [من الكامل] وقف الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي ... مُتأخَّرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ أجِدُ المَلامةَ في هَواكِ لَذيذةً ... حُبًّا لذِكرك فلْيَلُمْني اللُّوَّم أشبَهْتِ أعدائي فصرتُ أُحبُّهمْ ... إذ كان حظِّي منكِ حظِّي منهمُ وأهَنْتِني فأهَنْتُ نفسي صاغِرًا ... ما مَن يَهونُ عليكِ ممَّن يُكرَم فقال الجماعة: أحسنتَ واللهِ وأجدْتَ، وتوفِّي وقد ذهب بصرُه رحمةُ الله عليه. وَكيع بن الجَرَّاح ابن مَليح بن عَدي، أبو سفيان الرُّؤاسي (¬3). [ذكره ابنُ سعد] في الطبقة السابعة من أهل الكوفة [ونسبه فقال: وكيع بن الجراح بن مَليح بن عديِّ بن الفرس بن سفيانَ بنِ الحارث بنِ عَمرو بن عُبيد الله (¬4) بن رُؤاس بن كِلاب بن ربيعةَ بن عامر بن صَعْصَعَة]. حجَّ سنةَ ستٍّ وتسعين، ثم انصرف من الحجِّ، فمات بفَيْد في المحرَّم سنةَ سبعٍ وتسعين ومئة [في خلافة محمَّد بن هارون] وكان ثقةً مأمونًا عالمًا رفيعًا كثيرَ الحديث حُجَّة. ¬

_ (¬1) ديوانه ص 203 - 204. (¬2) في (ب) و (خ): ليس الزمان عن المقل براضي. والمثبت من الشعر والشعراء 2/ 845، والأغاني 16/ 402، والمنتظم 10/ 34، والوافي بالوفيات 3/ 303. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 647، وتاريخ دمشق 17/ 783 (مصورة دار البشير)، والمنتظم 10/ 42، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإِسلام 4/ 1230، والسير 9/ 140. (¬4) في طبقات ابن سعد 8/ 517: عبيد. وما بين حاصرتين من (ب).

[هذا قولُ ابن سعد، وقال غيرُه: كان أبوه الجرَّاحُ على بيت مالِ الكوفة] ومولدُ وكيعٍ في سنة تسعٍ وعشرين ومئة. وقيل: إنه وُلد في سنة ثمانٍ وعشرين ومئة [قال ابنُ عساكر: كان يُفتي على مذهب أبي حنيفةَ، وأخذ عن أبي حنيفة شيئًا كثيرًا (¬1). وقد ذكرنا أنَّ هارونَ أقدمه إلى بغدادَ وعرض عليه القضاء فامتنع. وحكى الخطيبُ عن أبي نُعيم أنه قال: ولد وكيعٌ سنةَ ثلاثين ومئة] (¬2). وكان جوادًا حليمًا، جاءه رجلٌ فقال: إني أَمُتُّ إليك بحُرمة، قال: وما حرمتُك؟ قال: كتبتَ من مِحبَرتي في مجلس الأعمش، فقام وكيعٌ ودخل منزله فأخرج صُرَّة فيها دنانيرُ وقال: اُعذرني فما أملك غيرَها. [وقال الخطيب: جاء رجلٌ إلى وكيع] فأغلظ (¬3) له، فدخل بيتًا، وعفَّر وجهَه في التراب، ثم خرج فقال للرَّجل: زِدْ وكيعًا، فلولا ذنبُه ما سُلِّطت عليه. [وروى أبو نُعيم عن] سالم بنِ جُنادة [قال] (¬4): جالست وكيعًا سبعَ سنين، فما رأيته بَصَق، ولا مسَّ بيده حَصاة، وما رأيته إلَّا مستقبلَ القبلة، وما سمعتُه يحلف بالله (¬5). وكان يصوم الدهرَ ويختم القرآن كلَّ ليلة. وقال الإِمام أحمدُ رحمه الله (¬6): حجَّ وكيعٌ سبعين حجَّة، فما اتكأ، ولا نام في مَحْمِل. وقال: مَن قال: إنَّ القرآنَ مخلوق، فهو كافرٌ بالله العظيم. وكان يقول: زكاة الفطرِ لشهر رمضانَ كسجدتي السَّهو للصلاة، تَجْبُر نقصانَ الصوم كما تجبر سجدتا السهو نقصانَ الصلاة. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 17/ 792. (¬2) كذا في (ب)، وفي (خ): ولد سنة تسع وعشرين، وقيل: سنة ثمان وعشرين ومئة، وقيل: سنة ثلاثين. والذي في تاريخ بغداد 15/ 666: قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل: وكيع كان بينه وبين أبي نعيم سنة ... ولد وكيع سنة تسع وعشرين، وأبو نعيم سنة ثلاثين. (¬3) في (خ): وجاءه رجل إليه فأغلظ، والخبر في تاريخ بغداد 15/ 656. (¬4) في (خ): وقال سالم بن جنادة. (¬5) حلية الأولياء 8/ 369. (¬6) في (ب): وحكى الحافظ ابن عساكر عن أحمد بن حنبل قال، والمثبت من (خ).

و [قال هشام بنُ عمار: ] (¬1) قدَّم رجلٌ رجلًا إلى شريكٍ القاضي، فادَّعى عليه بمئة ألفِ دينار، فأقرّ، فقال شريك: لو أنكر لم أقبلْ عليه إلَّا شهادةَ وكيعٍ وعبدِ الله بن نُمَير. وقال وكيع: أتيت الأعمشَ فقلت: حدِّثني، فقال: ما اسمُك؟ قلت: وكيع، قال: اسم نبيل، وما أظنُّك إلَّا سيكون لك نبأ، أين تنزل من الكوفة؟ قلت: في بني رُؤاس، قال: أين من منزل الجرَّاح بنِ مَليح؟ قلت: ذاك أبي -وكان أبي على بيت المال- فقال: اذهب وجئني بعطائي وتعالَ حتى أحدِّثَك بخمسة أحاديث، فجئت أبي وأخبرته، فقال: خذ نصفَ العطاءِ واذهب به، فإذا حدَّثك بالخمسة فخذ النصفَ الآخرَ فاذهب به حتى تكونَ عشرة، قال: فأتيتُه بنصف عطائه، فأخذه فوضعه في كفِّه ثم سكت، فقلت: حدِّثني، فأملى عليَّ حديثين، فقلت: وعدتني بخمسة، قال: فأين عطائي كلُّه؟ أَحسِبُ أنَّ أباك أمرك بهذا ولم يعلم أنَّ الأعمشَ مدرَّب قد شهد الوقائع، اذهب فجئْ بتمامه، وتعال حتى أحدِّثَك بخمسة أحاديث، فجئتُه بعطائه، فحدَّثني بخمسة أحاديث، فكنت إذا كان أوَّل كلِّ شهر آتيه بعطائه فيحدِّثني بخمسة أحاديث. أسند وكيعٌ عن أبيه، وعن سفيانَ الثوريِّ وغيرِهما، وروى عنه الإِمام أحمدُ رحمه اللهُ وغيره. واتَّفقوا على صدقه وثقته، وكان الإِمام أحمدُ يقول: عليكم بوكيع؛ فإنه حافظ حافظ، وعليكم بمصنَّفاته. وقال الإِمام أحمدُ رحمةُ الله عليه لعباس الدُّوري: لو رأيتَ وكيعًا لعلمتَ أنَّك لم ترَ مثله، وما رأت عيناي مثلَ وكيعٍ قطّ، يحفظ الحديثَ جيّدًا، ويذاكر بالفقه فيُحسن، مع ورعٍ واجتهاد، ولا يقع في أحد. وقيل للإمام أحمدَ رحمه الله: أيُّما أحبُّ إليك، وكيعُ بن الجرَّاح أو عبد الرَّحمن بن مَهْدي؟ فقال: أما وكيع، فصديقُه حفص بنُ غياث، ولي القضاءَ فما كلَّمه وكيع حتى مات، وأما ابنُ المهدي، فصديقه معاذُ بن معاذٍ العَنْبَري، ولي القضاءَ فما فارقه حتى مات (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بعد هذا إلى نهاية الترجمة من (ب).

[واختلفوا في وفاته، فحكينا عن ابن سعد: في سنة سبعٍ وتسعين ومئة، وقال الواقدي: في سنة ستٍّ وتسعين ومئة، وقال إبراهيمُ الحربي: حجَّ فأخذه البطن، فما زال به إلى فَيْد، فكان ينزل في كلِّ ميلٍ مرارًا، فمات بفَيد، ودُفن في الجبل آخرَ القبور في سنة ثمانٍ وتسعين ومئةٍ في المحرَّم (¬1) وله ستٌّ وستون سنة. وقال الخطيب (¬2): حدَّث وكيع وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين. قلت: وقد أخرج له جدِّي في "المنتظم" (¬3) أثرًا فقال: حدَّثنا أبو منصور بنُ خَيرون بإسناده عن إسماعيلَ بنِ أبي خالد (¬4)، عن عبد الله، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا مات لم يُدفن حتى ربا بطنُه وانثنت خِنْصِراه. قال قتيبة (¬5): حدَّث بهذا الحديثِ وكيعٌ وهو بمكة، وكانت سنة حجَّ فيها هارونُ الرشيد، فقدَّموه إليه، فدعا هارونُ سفيانَ بن عيينةَ وعبدَ المجيد بنَ عبد العزيز بن أبي رَوَّاد فقال: ما تقولون في هذا؟ فأما عبدُ المجيد فقال: يجب أن يُقتلَ هذا؛ لأنَّه ما رواه إلا وفي قلبه غشٌّ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما ابنُ عيينة فقال: لا يجب عليه القتل؛ لأنه رجلٌ سمع شيئًا فرواه، إنَّ المدينة شديدة الحرّ، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إنما توفِّي يومَ الإثنين ونزل في قبره ليلةَ الأربعاء؛ لأن القومَ كانوا في إصلاح أمرِ الأمَّة، واختلفت قريشٌ والأنصار؛ فلذلك تغيَّر. قلت: اعتذار سفيانَ أكبرُ من ذنب وكيع؛ لأنَّا قد روينا في صدر الكتابِ في آخر سيرةِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حديثَ أوس بنِ أوسٍ الثقفي، أخرجه أحمدُ في "المسند" (¬6) قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ يومَ الجمعة خَلَقَ الله آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصَّعقة، فأكثروا عليَّ، من الصلاة فيه، وإنَّ صلاتكم معروضةٌ عليّ، قالوا: يا رسولَ الله، ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 15/ 666: في آخرها. وليس فيه قوله بعده: وله ست وستون سنة، بل خرجه 15/ 667 من قول الإِمام أحمد رحمه الله تعالى. (¬2) خرجه عن إبراهيم الحربي 15/ 649. (¬3) 10/ 43 - 44، وأخرجه ابن عساكر 17/ 805، وانظر السير 9/ 160، وتاريخ الإِسلام 4/ 1237 وكلامه فيهما. (¬4) وهو شيخ وكيع في هذا الأثر. (¬5) هو الراوي عن وكيع هذا الأثر. (¬6) برقم (16162).

وكيف تُعرَض عليك صلاتُنا وقد أَرَمْتَ! -أي بليت- فقال: إنَّ الله حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجسادَ الأنبياء". وأخرجه أبو داودَ في "السُّنن" (¬1) فكيف يتصوَّر أنه يتغيّر؟ ! وقد روينا عن أحمدَ في "المسند" (¬2) من حديث أبي هريرةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ما من أحدٍ يسلِّم عليَّ إلَّا ردَّ اللهُ إليَّ روحي حتى أردَّ عليه". وإذا كان البدن قد بلي واضمحلّ، فما بقي شيءٌ ترجع الروحُ إليه، وقد كان الواجبُ الإعراضَ عن رواية مثلِ هذه الآثار, التي لها في القلب آثار، ومذهبُ جماعةٍ من العلماء أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ في قبره، والواجب الإقْرارُ (¬3) بمثل هذا لرسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمًا لقدره. قلت: ووقفت بعد هذا التاريخِ على كتابٍ من تصنيف الحافظِ أبي بكر أحمدَ بن الحسين بن عليٍّ البيهقيِّ سمَّاه كتابَ "حياة الأنبياءِ في قبورهم" بعث به إلى أبي سليمانَ خالدِ بن يوسفَ النابُلُسي المحدِّث، وهو سماعُه من ... (¬4) وفيه أخبار، من جُملتها ما رواه أنسٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "الأنبياءُ أحياءٌ في قبورهم يصلُّون" (¬5) وفي روايةٍ (¬6) عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الأنبياءَ لا يُترَكون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون في قبورهم بين يدي الله تعالى حتى يُنفَخ في الصُّور" ومعناه: لا يُتركون ولا يصلُّون إلى هذا المقدار. ورَوَى عن سفيانَ الثوريّ قال: قال سعيدُ بن المسيَّب (¬7): ما مكث نبيٌّ في قبره أكثرَ من أربعين ليلةً حتى يُرفع. وذَكَرَ حديث المعراجِ وأن نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بموسى وهو قائمٌ يصلِّي في قبره، وهو في الصحيح] (¬8). ¬

_ (¬1) برقم (1047) و (1531)، والنسائي 3/ 91، وابن ماجه (1085) و (1636). (¬2) برقم (10815)، وأخرجه أبو داود (2041). (¬3) غير واضحة في (خ)، ولعل المثبت هو الصواب. (¬4) كلمة غير واضحة. (¬5) حياة الأنبياء بعد وفاتهم (1). (¬6) برقم (4). (¬7) في حياة الأنبياء (5): قال شيخ لنا عن سعيد بن المسيب. (¬8) صحيح مسلم (2375) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

السنة السابعة والتسعون بعد المئة

السَّنة السابعة والتِّسعون بعد المئة فيها لحق القاسمُ بن هارونَ بالمأمون من بغداد، ومنصورُ بن المهديِّ من البصرة، فبعث المأمونُ أخاه القاسمَ إلى جرجان، وأقام منصورٌ عنده. وفيها حاصر طاهرٌ وهَرْثَمةُ وزهير بنُ المُسَيَّب الضَّبي بغداد من كلِّ جانب، ونزل زهيرٌ بكَلْواذَى، وهرثمةُ بالنَّهْرُبِين، وطاهرٌ بباب الأنبار، وحفر الخنادق، ونصب زهيرٌ المجانيق والعرَّادات (¬1) ورمى بها، وبلغ من الناس كل مبلغ، وهرثمة يمدُّه بالعساكر، وجعل يَعشُر التجَّارَ (¬2) في السفن ويبالغ في الفساد، [فقال شاعر من أهل الجانب الشرقيِّ في كَلْواذى في زهيرٍ وقتلِه الناسَ بالمجانيق (¬3): [من المنسرح] لا تَقرَبِ المَنْجَنيقَ والحَجَرا ... فقد رأيتَ القتيلَ إذ قُبرا يا صاحبَ المنجنيقِ ما فعلَتْ ... كفَّاك لم تُبقيا ولاتذرا] ونزل عبيدُ الله (¬4) بن الوضَّاح الشَّمَّاسِيَّة، وضايقوا بغدادَ من كلِّ جانب، وأُسقط في يدي الأمين، وتفرَّق ما كان بيده من الأموال، وضاق ذَرْعًا، وضرب ما كان في الخزائن من آنية الذهبِ والفضَّة دنانيرَ ودارهمَ وأنفقها في الجند، ورمى مَحلَّة الحَرْبيةِ بالمجانيق والنيران؛ لأنَّهم صاروا مع العدو، فقتل جماعةً من أهلها، وخرج النساءُ من الخُدور حَاسرات، فقال عَمرو بن عبد الملك: [من مجزوء الرمل] يا رُماةَ المَنْجَنيقِ ... كلُّكم غيرُ شَفيقِ ما تُبالون صَديقًا ... كان أو غيرَ صديق وَيْحَكم تَدرون مَن تَرْ ... مون مُرَّارَ الطَّريق رُبَّ خَودٍ ذاتِ دَلِّ ... وهْي كالغُصْن الوَريق ¬

_ (¬1) العرادة: شيء أصغر من المنجنيق. القاموس المحيط (عرد). (¬2) أي: يأخذ عشر أموالهم. (¬3) في (ب): بالمناجيق، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 445. (¬4) في (خ)، والمنتظم 10/ 36 عبد الله، وليس في (ب)، والمثبت من تاريخ الطبري، وابن الأثير 6/ 271، وتاريخ الإِسلام 4/ 1046.

لم تكن تَعرفُ باب الدَّ ... ارِ من خَوفِ الشَّقيق أُخرِجَتْ من قَعْر خِدرَيـ ... ـها (¬1) ومن عَيشٍ أنيق لم تجد من ذاك بُدًّا ... أُحْرِجَت (¬2) يومَ الحَريق واشتدَّت شوكة طاهرٍ على محمَّد، وتفرَّقت عنه عساكره وقوَّاده، واستولى الخرابُ والهدم والحريقُ على بغداد، ودَرَست مَحاسنُها، وكان الناسُ يبكون عليها، وأصبح ما حولَها بَلابلَ وخرابًا، وأكثر الشعراءُ فيما أصابها [فقال عَمرو بن عبد الملكِ هذه الأبيات: [من البسيط] مَن ذا أصابَكِ يا بَغدادُ بالعَيْن ... ألم تكوني زَمانًا قُرَّةَ العَينِ ألم يكن فيكِ أقوامٌ لهم شَرَفٌ ... بالصَّالحات وبالمَعروف يَلْقَوني ألم يكن فيكِ قومٌ كان مَسْكَنُهمْ ... وكان قُربُهمْ زَينًا من الزَّين صاح الزَّمانُ (¬3) بهمْ بالبَين فافترقوا ... ماذا لَقِينا به من لَوْعَة البَين أستودِعُ اللهَ قومًا ما ذكرتُهمُ ... إلَّا تَحَدَّر ماءُ العَين من عَيني كانوا ففرَّقهمْ دَهْرٌ وصَدَّعهمْ ... والدَّهرُ يَصدَعُ ما بين الفريقَين يا مَن يُخرِّب بغدادًا ليَعمُرَها ... أهلكت نفسَك ما بين الطَّريقَين لمَّا أتيتَهمُ فرَّقتهمْ فِرَقًا ... والناس طُرًّا جميعًا بين قَلْبَين ورثاها جماعةٌ من الشعراء]. (¬4) ولمَّا ضايق طاهرٌ بغداد، أرسل إلى أهل الأرْباضِ من باب الأنبارِ وباب الكوفةِ وغيرِها، فمَن أجابه أحسن إليه، ومن خالفه أحرق منزلَه، وسمَّى طاهر الأرباضَ التي خالفه أهلُها ومدينةَ أبي جعفرٍ والكَرْخَ وما حولها والمدينةَ الشَّرقية دارَ النّكث، وقبض ضياعَ بني هاشمٍ وغلَّاتهم، وأموال الذين في مدينة المنصور، فذَلُّوا وخَضَعوا، وتقاعدوا عن القتال، فانتدب الشُّطَّار وأهلُ السجون والأوباشُ والرَّعاع لقتال طاهرٍ ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري: أخرجت من جوف دنياها. (¬2) في تاريخ الطبري: أبرزت. (¬3) في تاريخ الطبري 8/ 447، والبداية والنهاية 14/ 95: الغراب. (¬4) ما بين معكوفين من (ب)، وبعدها: فصل وحج بالناس، واختصرت فيها الأحداث الآتية.

في كلِّ يوم، وهو يحرق ويخرب ويهدم ما قدر عليه من القناطر وغيرِها. وفيها كانت على طاهرٍ وقعةٌ عظيمة بقصر صالح، لمَّا ضايق طاهرٌ بغداد، صابرها حتى ملَّ أهلُها من قتاله، وكان الأمينُ قد وكَّل بالجسور من ناحية قصر صالحٍ عليَّ بن فراهمرد، وعلى الجسور المجانيق والعرَّادات، فاستأمن عليٌّ إلى طاهر، وسلَّم إليه الجسورَ وما عليها، وبعث إليه الجندَ من أصحابه، وذلك ليلةَ السبت النصفَ من جُمادى الآخرة، ثم استأمن إلى طاهرٍ محمَّد بن عيسى صاحبُ شرطة محمد، وكان قد استظهر على طاهرٍ بأهل السُّجونِ والشُّطَّار، فلمَّا استأمن هذان أيقن محمَّد بالهلاك واستسلم، وجاء فوقف على باب قصرِ أمّ جعفر، وجاء طاهرٌ وأصحابه، وغضب لمحمَّد الشطارُ والعيَّارون (¬1)، فقاتلوا عنه داخل قصرِ صالح إلى ارتفاع النهار، فقتلوا أعيانَ أصحابِ طاهر، منهم الباذَغِيسيُّ وجماعةٌ من القواد، ورجع طاهرٌ بمن بقي معه مُنهزمين، ولم يكن على طاهرٍ وَقْعةٌ أشدُّ منها، قُتل معظم أصحابِه وجُرح البعض، وسُرَّ محمَّد، وفرَّق في الشطَّار أموالًا، فقال الخَليع: [من مجزوء الوافر] أمينَ الله ثِقْ باللـ ... ــــه تُعْطَ الصَّبرَ والنُّصْرَهْ كِلِ الأمرَ إلى الله ... كَلاكَ اللهُ ذو القُدره لنا النَّصرُ بعَوْن اللـ ... ــــهِ (¬2) والكَرَّةُ لا الفَرَّه وللمُرَّاق أعدائـ ... ك يومُ السَّوء والدَّبْره وكأسٌ تَلْفِظُ المَوتَ ... كَريهٌ طَعْمُها مُرَّه سُقينا وسَقيناهمْ ... ولكنْ بهم الحَرَّه كذاك الحربُ أحيانًا ... علينا ولنا مرَّه ولما تمَّ على طاهرٍ ما تمّ، كاتب القوَّاد والهاشميين، فلحق به جماعة، منهم عبدُ الله بن حُمَيد بن قَحْطَبة الطائي وإخوتُه، وولد الحسنِ بن قحطبة، ويحيى بنُ عليِّ بن ¬

_ (¬1) العيار: الكثير المجيء والذهاب، والذكي الكثير التطواف. وقال ابن الأعرابي. والعرب تمدح بالعيار وتذم به، يقال: غلام عيار: نشيط في المعاصي، وغلام عيار: نشيط في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ. القاموس والتاج (عير). (¬2) في (خ): لنا العون بنصر الله، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 455، ومروج الذهب 6/ 458، وفي الأغاني 7/ 207: لنا النصر بإذن الله.

ماهان، وغيرهم. وأقبل محمَّد بعد وقعة طاهرٍ على اللهو والشرب، وفوَّض أموره إلى محمَّد بن عيسى بن نَهيك وإلى الهِرْش (¬1)، يحفظا الأبواب والفُرَض (¬2) والأرباضِ وسوق الكَوْخ وما والاها. وفيها كانت وقعةُ الشمَّاسِيَّة، كان هَرْثَمَةُ كارهًا لحرب محمَّد، وكان يأتي أحيانًا فيقف بباب خُراسانَ، فيَشتُمه الجُندُ وأهل العسكر، وكان الأمينُ قد قدَّم على العُراة والشطَّار حاتمَ بن الصَّقْر، فبيَّت عُبيد الله بن الوضَّاح ليلًا، فانهزم وترك خيلَه وسلاحَه ومتاعه، فنهبه حاتمٌ والعُراة، فأقبل هَرْثَمَةُ في نُصرته، ونشبت الحرب، فأسمر رجلٌ من العراة هَرْثَمَةَ ولم يعرفه، فحمل بعضُ أصحاب هَرْثَمَةَ على الرجل، فقطع يدَه وخلَّصه منه، فانهزم هَرْثَمَة، ومضى أصحابُه إلى طريق حُلوانَ مُنْهَزمين، وحال بين هَرْثَمَةَ وأصحابِ محمَّد الليلُ عن الطلب، ولم يرجع إلى هَرْثَمَةَ أصحابُه إلَّا بعد يومين. وقوي الشطَّار بما أصابوا من مال هَرْثَمَةَ وابنِ الوضَّاح، وبلغ طاهرًا، فاشتدَّ ذلك عليه، وعقد جسرًا فوق الشمَّاسية على دجلة، وكان قد استولى على بغدادَ، وقطع القَنْطَرَتين اللتين على الصَّراة بباب البصرة، ثم وجَّه أصحابه فعبروا إلى الشماسية على الجسر، وقاتلوا أصحابَ محمَّد قتالًا شديدًا، فأزالوهم عن الشماسية، وعاد إليها جندُ هَرْثَمَة، وأحرقوا لمحمَّد بالشماسية قُصورًا غَرِم عليها عشرين ألفَ ألفِ درهم، وبلغ محمَّدًا فشقَّ عليه، وقال أو قيل على لسانه: [من الوافر] مُنيتُ بأشْجَعِ الثَّقَلَينِ قَلْبًا ... تزول له الجبالُ ولا يزولُ (¬3) فليس بمُغْفِلٍ أمرًا عَناه ... إذا ما الأمرُ ضَيَّعه الغَفول له مع كلِّ ذي بَدَنٍ رَقيبٌ ... يُشاهدُه ويَعلَمُ ما يقول إذا ما الرَّأيُ قَصَّر عن أُناسٍ ... فرأيُ الأعورِ الباغي يَطولُ يعني طاهرًا. ¬

_ (¬1) في (خ): الهراس، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 456، وابن الأثير 6/ 273، وتاريخ الإِسلام 4/ 1046. (¬2) في تاريخ الطبري: فرض دجلة. وفرضة النهر: ثلمته التي يستقي منها. مختار الصحاح (فرض). (¬3) في زهر الآداب 1/ 541: تزول الراسيات وما يزول، وفي تاريخ الطبري 8/ 467، والبداية والنهاية 14/ 97: إذا ما طال ليس كما يطول.

بقية بن الوليد

وضَعُف أمر محمَّد، وفَرَغَت خزائنُه، وأيقن بالهلاك، وهرب عبد الله بنُ خازم بنِ خُزَيمةَ (¬1) إلى المَدائن؛ لأن محمَّدًا اتَّهمه وسلَّط عليه الغَوْغاء، فأقام بالمدائن حتى انقضى أمرُ بغداد. وقيل: إنَّ طاهرًا كتب إليه وخوَّفه. وبينما محمد يومًا جالسٌ في قصره، إذ سمع ضَجَّة على باب القصرِ وضجَّةً في عسكر طاهر، فقال: ما هذا؟ قالوا: الجندُ على بابك يطلبون أرزاقَهم وأصحابُ طاهرٍ قد ظفروا، فقال: قاتل اللهُ الفريقين معًا، أمَّا الذين معي فيريدون مالي، وأمَّا الذين عليَّ فيريدون دمي. ودخلت عليه أمُّه زبيدةُ باكية، فقال: يا أمَّاه، ليس بجَزَع النساءِ تُشفى الصُّدورُ وتُساس الأمور، وللخلافة سياسةٌ تلين مرةً وتَخْشُن أخرى، لا تَسَعُها القلوبُ، ولا تُحْفَظ بالإضاعة. وأيقن محمَّد بالهلاك وطاهرٌ بالظَّفَر. وحجَّ بالناس العباسُ بن موسى بنِ عيسى، بعثه طاهرٌ بأمر المأمون، وكان على مكةَ والمدينةَ داود بنُ عيسى. فصل وفيها توفي بَقيَّة بنُ الوليد ابن صائد بنِ كعب، أبو محمَّد، وقيل: أبو يُحْمِد -بضمِّ الياء- الكَلاعي. [ذكره ابن سعدٍ (¬2) في] الطبقة السادسةِ من أهل الشام، وكان ثقةً في روايته عن الثقات، ضعيفًا عن غيرهم [، ومات في سنة سبع وتسعين ومئة. وهذا قول ابن سعد، وقال غيره: ] وُلد سنةَ عشر ومئة. [وقال البخاري كنيته أبو يُحْمِد. (¬3) وقال الخطيب: ] وقدم بغدادَ وحدَّث بها (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ): عبد الله بن خزيمة بن خازم، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 467، وابن الأثير 6/ 276، والمنتظم 10/ 38، وتاربخ الإِسلام 4/ 1047. (¬2) في طبقاته 9/ 474. وما بين حاصرتين من (ب)، وانظر في ترجمته تاريخ بغداد 7/ 623، وتاريخ دمشق 3/ 391 (مخطوط)، والمنتظم 10/ 29، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإسلام 4/ 1082، والسير 8/ 518. (¬3) التاريخ الكبير 2/ 150، وعنه تاريخ دمشق 3/ 394. (¬4) تاريخ بغداد 7/ 623.

شعيب بن حرب

ودخل على شعبةَ فلم يلتفت إليه، فسئل شعبةُ عن رجلٍ ضُرب في رأسه، فادَّعى المضروبُ أنه ذهب شَمُّه، فلم يكن عند شعبةَ ولا أصحابِه جواب، فقال بقية: يُدَقُّ الخَرْدَلُ وَيشَمُّه، فإن دمعت عيناه فهو كاذب، وإن لم تدمعْ أُعطي الدِّيَة. فقرَّبه شعبةُ وأسمعه الحديث (¬1). ومات بقيةُ بحمصَ في هذه السَّنة، وقيل: في سنة ثمانٍ أو تسعٍ وتسعين (¬2). أسند عن خلقٍ كثير، منهم إبراهيمُ بن أدهمَ والأوزاعيُّ ومالك بنُ أنس وغيرهم، وروى عنه سفيانُ بن عيينةَ (¬3) وغيره، وأخرج له مسلمٌ حديثًا واحدًا، وقد تكلَّموا فيه. [وقال الحافظ ابن عساكر: كان له ابن اسمه عطية قال: ] (¬4) دخل أبي يومًا على هارون، فقال له: يا بقية، إنِّي أحبُّك فحدِّثني، لقال: حدَّثني محمَّد بنُ قلادٍ الأَلْهاني، عن أبي أُمامةَ الباهِليِّ قال. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وعدني ربِّي أن يُدخلَ الجنةَ من أمَّتي سبعين ألفًا، مع كلِّ واحدٍ سبعين ألفًا، وثلاثَ حَثَيات من حثيات ربِّي" (¬5) فامتلأ هارونُ فرحًا وقال: يا غلام، ناولني الدواةَ لأكتبها، وكان الفضلُ بن الربيع بعيبهًا عن هارون، فقال له الفضل: يا بقية، ناول أميرَ المؤمنين الدواة، فقال: ناوله أنت يا هامان، فقال الفضل: أسمعت يا أميرَ المؤمنين ما قال: ! فقال له: اسكت، فما كنتَ عنده هامانَ حتى كنت أنا فرعون. وقال قوم: الحاصلُ أن بقيةَ كان ثقة صدوقًا، وإنَّما كان يُدَلِّس بقَصْد ترويجِ حديثه لعلوِّ الإسناد. شُعَيب بن حَرْب أبو صالحٍ المدائنيُّ الزَّاهد (¬6). كان من أبناء خُراسان، وكان يُعَدُّ من أهل بغداد، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 396. (¬2) في (ب): واختلفوا في وفاته؛ فحكينا عن ابن سعد أنه مات في هذه السنة، وقيل: في سنة سبع أو ثمان أو تسع وتسعين ومئة بحمص. والمثبت من (خ). (¬3) وهو أكبر منه. (¬4) في (خ): وقال عطية بن بقية، والمثبت من (ب)، والخبر في تاريخ دمشق 3/ 402 - 403 (مخطوط). (¬5) وأخرجه أيضًا الترمذي (2437) وابن ماجه (4286). وله شواهد. (¬6) تاريخ بغداد 10/ 330، المنتظم 10/ 39، تاريخ الإِسلام 4/ 1126، السير 9/ 188، وهذه الترجمة ليست في (ب).

فتحوَّل إلى المدائن فنزلها واعتزل بها، وكان ثقة له فضل، ثم خرج إلى مكةَ فنزلها إلى أن مات بها. وقال طيِّب بن إسماعيل: ذهبنا إلى المدائن إلى شُعيب بنِ حَرْب، وكان قاعدًا على شطِّ دِجلةَ قد بنى كوخًا وله خبزٌ مُعَلَّق، وإنما كان جِلْدًا وعَظْمًا، فقال: أرى ها هنا بعدُ لحمًا، واللهِ لأعملنَّ في ذَوَبانه حتى أدخلَ القبر وأنا عظامٌ تَتَقَعْقَع، أريد السِّمنَ للدود والحيَّات؟ ! فبلغ الإمامَ أحمد رحمه الله قولُه فقال: شعيب بنُ حرب حمل على نفسِه في الوَرَع. وجاء رجلٌ إليه وهو بمكَّة، فقال: ما جاء بك؟ فقال: جئت أؤنسك، قال: جئتَ تؤنسني وأنا أُعالج الوَحْدةَ منذ أربعين سنة؟ ! . قال شعيب: لا تجلس إلَّا إلى أحد رجلَين: رجل يعلِّمك خيرًا فتقبل منه، أو رجل تعلِّمه خيرًا فيقبل منك، والثالثُ اهرب منه. وقال ابنُ ناصر (¬1): خرج قومٌ من بغداد إلى المدائن لزيارة شعيب، فأقاموا عنده يستقون الماء، فلم يرجعوا إلى دُورهم، فكان شعيبٌ يقول لبعضهم: لو رآك سفيان الثوريُّ لقرَّت عينه. وخرج إلى مكَّة، وحجَّ في تلك السُّنةِ هارون، فإذا به في الطريق، فناداه شعيب: يا هارون، أتعبتَ الناسَ والبهائم، فقال: خذوه، فلمَّا نزل دعاه وقال: ما الذي أقدمك عليَّ؟ قال: حقٌّ وجب عليَّ لله تعالى، قال: فلمَ دعوتني [باسمي] (¬2)؟ قال ما أنت خيرٌ من محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وقد سمَّاه اللهُ باسمه، وكنى عدوَّه أبا لهب. وقال: مَن أراد الدُّنيا فلْيَتَهيَّأ للذُّلِّ. وأراد أن يتزوَّج امرأة، فقال لها: أنا سيِّئ الخُلق، فقالت: أسوأُ خُلُقًا منك مَن أحوجك إلى أن تكونَ سيِّئَ الخلق، فقال: أنتِ إذن امرأتي. وقال: مَن طلب الرِّئاسةَ ناطَحَتْه الكِباش، ومَن رضي أن يكونَ ذَنَبًا أبي اللهُ إلَّا أن يجعلَه رأسًا. ¬

_ (¬1) هو شيخ ابن الجوزي في هذه الرواية كما في المنتظم 10/ 40، ساقها من طريقه إلى عبد الوهَّاب، ثم ذكر القصة. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 10/ 331.

عبد الله بن وهب

وقال سَرِيٌّ السَّقَطي: أربعةٌ طلبوا الحلال وجَدُّوا فيه: وهَيب بن الوَرْد، وشُعَيبُ بن حَرْب، ويوسُفُ كان أسباط، وسالمٌ (¬1) الخوَّاص. أسند شعيبٌ عن شعبةَ والثوريِّ وزهير بنِ معاوية، وروى عنه الإمام أحمدُ رحمه الله وابن مَعين وابنُ المديني (¬2)، وكان من الثِّقات العلماءِ، الآمرين بالمعروف، المُدَقِّقين في طلب الحلال. عبدُ الله بن وَهْب ابنِ مسلم أبو محمَّد، مولى قريش (¬3). [ذكره ابنُ سعد] في الطبقة السادسةِ من أهل مصر [وقال: ] كان كثيرَ العلم، ثقةً فيما قال [: حدثنا] (¬4) وكان يُدَلِّس. [وهذا قول ابن سعد، وقال غيره: ] وُلد سنةَ خمس وعشرين ومئة في ذي القَعدة، وطلب العلمَ وهو ابن سبعَ عشرةَ سنة، وكان إمامًا عالمًا زاهدًا وَرِعًا. [قال أبو نُعيم الأصفهانيُّ (¬5) بإسناده إلى أحمدَ بن سعيدٍ الهَمْدانيِّ قال: ] دخل [ابنُ وهب] الحمَّام، فسمع قارئًا يقرأ: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر: 47] فسقط مغشيًّا عليه، فغُسلت عنه النُّوْرَة وهو لا يَعْقِل. [قلت: وقولُه: وغُسلت عنه النُّورة، يعني الكلس والزرنيخ؛ لأنَّ السلف كانوا يستعملونها ويقصدون السُّنَّة؛ فإنَّ في حديث عائشةَ - رضي الله عنها - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان تَنَوَّرَ (¬6). وقال أبو عبد الله الحاكم: سمعتُ أبا إسحاقَ المُزَكِّي (¬7) يقول: سمعت محمَّدَ بن ¬

_ (¬1) في المصادر: سليمان. انظر تاريخ بغداد 10/ 333، وصفة الصفوة 3/ 7، ووفيات الأعيان 2/ 471، وتهذيب الكمال، وسير أعلام النبلاء 9/ 189 - 190. (¬2) لم تذكر المصادر يحيى بن معين وعلي بن المديني، المذكور فيها يحيى بن أيوب المقابري ومحمد بن عيسي بن حيان الدائني. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 526، تهذيب الكمال، المنتظم 10/ 40، السير 9/ 223، تاريخ الإِسلام 4/ 1143. (¬4) قوله: حدثنا، من طبقات ابن سعد 9/ 526 (¬5) في حلية الأولياء 8/ 324، وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) لم نقف عليه من حديث عائشة -رضي الله عنها-، وأخرجه ابن ماجه (3751) من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-، وفيه انقطاع. (¬7) في (ب): المزني، وهو خطأ، وليس في (خ)، وأبو إسحاق التركي شيخ الحاكم هو إبراهيم بن محمَّد بن يحيى النيسابوري، انظر ترجمته في السير 16/ 163، والخبر في المنتظم 10/ 41، وتهذيب الكمال.

قاضي جبل

المسيب يقول: سمعت يونسَ بن عبدِ الأعلى يقول: كتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب] في ولايته القضاء على مصر، فجنَّن نفسه ولزم البيت، فاطَّلع عليه رِشدين بنُ سعدٍ من السطح (¬1) فقال: يا أبا محمَّد، ألا تخرج إلى الناس فتحكم بينهم كما أمر الله ورسوله؟ ! فقال له: ويحك إلى ها هنا انتهى عقلُك! أما علمت أنَّ القضاةَ يُحشَرون يوم القيامة مع السلاطين، والعلماءَ مع الأنبياء؟ ! [وفي رواية: مع النبيين.] وكانت وفاته بمصر في شعبان. [وروى أبو نُعيمٍ قال: ] قُرئ [على عبد الله بنِ وهب] (¬2) كتاب فيه أهوالُ القيامة، فخرَّ مَغْشيًّا عليه، فأقام أيامًا لا يتكلَّم بكلمةٍ حتى مات. أسند عن الثوريِّ ومالك بنِ أنس وشعبةَ وغيرهم. قاضي جَبُّل واسمُه عبد الرَّحمن بن مُسْهِر بنِ عمرو، أبو الهيثم الكوفي (¬3). قال: ولَّاني أبو يوسفَ القضاءَ على جَبُّلَ -وهي قريةٌ بين بغدادَ وواسِط- وبلغني أن الرشيدَ منحدرٌ إلى البصرة، فسألت أهل جَبُّل أن يُثنوا عليَّ عند أميرِ المؤمنين، فوعدوني أن يفعلوا ذلك إذا انحدر، فلمَّا قَرُب منا سألتهم الحُضور، فلم يفعلوا وتفرَّقوا، فلمَّا آيسوني من أنفسهم سرَّحتُ لحيتي، وخرجت فوقفت له، فوافى وأبو يوسفَ معه في الحَرَّاقة، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، نِعمَ القاضي قاضي جَبُّل، قد عدل فينا، وفعل وصنع، وجعلت أُثني على نفسي، ورآني أبو يوسف، فطأطأ رأسَه وضحك، فقال له الرشيد: ممَّ ضحكت؟ فقال: إنَّ المُثني على القاضي هو القاضي، فضحك هارونُ حتى فَحَص برجليه، وقال: شيخٌ سخيف سَفِلة فاعزله. فعزلني، فلمَّا رجع جعلت أختلف إليه وأسأله أن يولِّيني قضاءَ ناحيةٍ أخرى، فلم يفعل، فحدَّثت ¬

_ (¬1) في (ب): رشيد بن سعيد بن السطح، وهذا تخليط من الناسخ، وفي (خ): رشد، والمثبت من تهذيب الكمال والمنتظم. (¬2) في حلية الأولياء 8/ 324: قرأ عبد الله بن وهب. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ بغداد 11/ 509، والمنتظم 10/ 41، وتاريخ الإِسلام 4/ 907، وهذه الترجمة وتاليتها ليست في (ب).

ورش المقرئ

الناس عن مُجالدِ، عن الشَّعبيِّ أن كُنية الدجَّال أبو يوسف، وبلغه ذلك فقال: هذه بتلك فحسبُك، وصِرْ إليَّ حتى أولِّيَك ناحية أخرى، وفعل، فأمسكتُ عنه. حدَّث عن هشام بنِ عروةَ وغيرِه، وقد تكلَّموا فيه. وَرْش المُقرئ أبو سعيد، عثمانُ (¬1) بن سعيد. أخذ القراءةَ عن نافع، وهو أحد الأئمَّة في القراءة، واختياراتُه مشهورة، ووفاتُه بمصر، وهو من الأئمَّة الأبدال. * * * ¬

_ (¬1) في (خ): عمار، وهو خطأ، والمثبت من المنتظم 10/ 42، وتاريخ الإِسلام 4/ 1229، والسير 9/ 295، والبداية والنهاية 14/ 98.

السنة الثامنة والتسعون بعد المئة

السَّنة الثامنة والتِّسعون بعد المئة فيها استأمن خُزَيمةُ بن خازم إلى طاهر، وملك هَرْثَمَةَ جانب بغدادَ الشرقي، واستأمن إلى طاهرٍ محمَّد بن عليِّ بن عيسى بن ماهانَ وقوَّادُ محمَّد، وكان طاهرٌ قد كاتبهم ورغَّبهم، وخوَّفهم وهدَّدهم، وعلموا أنَّ محمَّدًا قد ضعف، وأنه لم يبقَ له حيلة. فلمَّا كانت ليلةُ الأربعاءِ لثمانٍ بقين من المحرم، قطع خُزَيمةُ ومحمَّد بن عليٍّ الجسر، وخلعا محمَّدًا، ودعَوَا للمأمون، وغدا طاهرٌ إلى بغدادَ بعساكره، فضايقها وباشر القتال بنفسه، وأحاط بمدينة أبي جعفر، وأخلَوا قصر الخُلْد وقصرَ زُبَيدة، ونصب طاهرٌ المجانيق على السُّور، فكانت الحجارةُ تصل إلى محمَّد، وتفرَّق عنه أصحابه، وخرج نساؤه وجواريه سارحاتٍ في الأزقَّة والسِّكك، وتفرَّق الغَوْغاء والسَّفِلة، وأمر محمَّد ببُسطه وآلاته فأُحرقت، وغرق في الصَّراة (¬1) خلقٌ كثير من أصحاب محمَّد، وتحصَّن بمدينة أبي جعفر، وثبت معه على قتال طاهرٍ حاتمُ بن الصَّقْر والهِرْش (¬2)، وأخذ طاهرٌ عليه الأبواب، وقطع عنه الخبزَ والماء. قال طارقٌ الخادم: جاع محمَّد يومًا وهو مَحْصور، فسألني أن أُطعمه شيئًا، فدخلت المطبخ فلم أجد شيئًا، فجئت إلى جَمْرةَ وكانت جاريةَ الجوهر، فقلت لها: إن أميرَ المؤمنين جائع، فهل عندكِ شيء؟ فقالت لجاريةٍ لها: أَيش عندك؟ فقالت: دجاجةٌ ورغيف، فأتيته بهما، فأكل منهما وطلب ماءً يشربه فلم يجد في الخزانة ماء، فصبر وخرج في تلك الليلةِ إلى هَرْثَمَة، فقُتل ولم يشرب. وقال إبراهيم بنُ المهدي: لما نزل طاهرٌ على بغداد، اشتغل محمَّد بما هو فيه عن الشُّرب وغيره، وكان قبل ذلك يجلس للنُّدماء، ويسمع الغناءَ، ويُطلق الجوائز. وقال أبو الحسن المدائني: ولمَّا كان ليلة الجمعة لسبعٍ بقين من المحرَّم سنة ثمانٍ وتسعين ومئة، دخل محمَّد مدينةَ السلام هاربًا من قصر الخُلد ممَّا كان يصل إليه من ¬

_ (¬1) الصَّراة: نهر بالعراق. القاموس المحيط (صرو). (¬2) في (خ): الهراس، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 474، وابن الأثير 6/ 279.

الباب السابع في خلافة المأمون

حجارة المجانيق، وأمر بمَجالِسِه وبُسُطه أن تُحْرقَ فأحرقت. وفيها (¬1) قُتل محمَّد الأمين وولي المأمون. الباب السابع في خلافة المأمون هو عبدُ الله بن هارونَ الرشيد، المأمونُ على دِين الله، وكنَّاه أبوه أبا العباس، فلمَّا ولي الخلافةَ اكتنى بأبي جعفر، لِعظَم المنصور عندهم تفاؤلًا بطول عمره، وأمُّه أمُّ ولد يقال لها مراجل، تركية، وقيل: رومية، وقيل: باذَغيسية، ومولدُه بقصر الخُلْدِ ببغداد، وقيل: بالياسِريَّة، منتصفَ ربيع الأوَّل سنةَ سبعين ومئة، وماتت أمُّه في نِفاسها، وقيل: بعد ولادتِه بأيام، فضمَّه هارون إلى سعيدٍ الجوهريِّ مولاهم، فأرضعته امرأته حيةُ بلِبان ابنها يحيى بنِ سعيد، ثم ترعرع، فجمع له أبوه العلماءَ من الآفاق، وأدَّبه أبو محمَّد اليزيدي، وبرع في العلوم، وحفظ القرآنَ والحديثَ والفقه والعربيةَ والطبَّ والنجوم وعلومَ الأوئل، فأُعجب به أبوه، واستخلفه على الرقَّة لما غزا الرومَ سنةَ إحدى وثمانين ومئةٍ وهو ابن إحدى عشرة سنة، ثم غزا معه هِرَقْلةَ سنة إحدى وتسعين أو سنة تسعين ومئة. [وحكى الخطيب (¬2) عن القاسم بنِ محمَّد بن عبادٍ قال: سمعت أبي يقول: ] لم يحفظ القرآنَ من الخلفاء سوى اثنين: عثمان بن عفان، والمأمون (¬3). [ذكر صفة المأمون: روى ابنُ أبي الدنيا أنَّه كان] رَبعَة (¬4) أبيضَ طويلَ اللحية، في عينيه كسرة، تعلوه صُفرة، على خدِّه خالٌ أسود، قد وَخَطَهُ الشيب. وقيل: كانت ساقاه من دون جسده صفراوين كأنَّهما طُليا بزَعْفَران. و[قال الهيثم: ] كان أحول، وسمِّي المحدود، وسببُه أنَّه دخل يومًا (¬5) على أبيه ¬

_ (¬1) من بداية السنة إلى هنا ليس في (ب). (¬2) في تاريخه 11/ 440، وعنه تاريخ دمشق 39/ 229، والمنتظم 10/ 52، وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) تعقب هذا القول ابن كثير في البداية والنهاية 14/ 218، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 26. (¬4) في (خ): وكان المأمون ربعة، والمثبت من (ب)، والخبر في تاريخ بغداد 10/ 432. (¬5) في (ب): ويسمى بسبب حده قال الصولي: دخل يومًا ...

وعنده جاريةٌ تغني، فلَحَنت، فكسر المأمونُ عينه، فظنَّ أبوه أنَّه قد غَمزها، فتغير وجه هارونَ وضربه عشرين سَوطًا. وقيل: إنَّ الجارية كانت تصبُّ على يد هارونَ الماء، فنظر إليها المأمون، فظنَّ أبوه أنَّه يغمزها فضربه (¬1). ذِكر بيعته: [ذكر عليّ بن الجَعْد قال: ] كانت له بَيعة في حياة أخيه بخُراسانَ عند مقتل ابنِ ماهان، وبيعة بعد مقتل أخيه في ذي الحجة (¬2) سنة ثمانٍ وتسعين ومئة. ولمَّا بويع كان له تسعٌ وعشرون سنة (¬3). وكان (¬4) غزيرَ العقل، كبيرَ الفضل، وافرَ العفو، حسنَ التدبير، [كان] يختم القرآنَ في شهر رمضان ستين ختمة (¬5) [أما سمعتم في صوته بُحَّة؛ لأنَّ اليزيديَّ كان في أذنه صَمَم، فكان يرفع صوتَه ليسمعَه، وكان يقرأ عليه]. ولما قُتل أخوه محمَّد استقامت له الدنيا [وسنذكر تمامَ ترجمة المأمونِ فيما بعد] (¬6). ولمَّا بويع بالخلافة ولَى الحسن بنَ سَهْل جميع ما افتتحه طاهرٌ من فارسَ والبصرةِ والكوفة والأهواز والحجازِ واليمن وبغداد، وكتب إلى طاهرٍ أن يسلِّمَ ذلك الحسنَ، ويتوجَّهَ إلى الرقة لحرب نصرِ بن شَبَث (¬7)، وولى طاهرًا الجزيرةَ والشامَ والمغرب. ولما ولَّى المأمونُ الحسنَ بن سهلٍ الأماكن التي ذكرناها, لم يَقدَم من خُراسان، بل ¬

_ (¬1) انظر تاريخ بغداد 11/ 431. (¬2) في المصادر: المحرم. انظر تاريخ الطبري 8/ 651، وتاريخ بغداد 11/ 431، وتاريخ دمشق 39/ 227، والمنتظم 10/ 51 - 52، والكامل 6/ 288 - 289. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق: وهو ابن سبع وعشرين سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام. (¬4) قبلها في (ب): وقال ذو الرئاستين. وكلام ذي الرئاستين يبدأ من قوله: كان يختم القرآن ... ، كذا في تاريخ بغداد 11/ 440، وتاريخ دمشق 39/ 234. (¬5) في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق: ختم في شهر رمضان ثلاثًا وثلاثين ختمة، وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) عند وفاته في سنة 218. وما بين حاصرتين من (ب)، وليس فيها ما بعدها إلى ترجمة سفيان بن عيينة. (¬7) في (خ): سبيب، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 527، وابن الأثير 6/ 297، وقال ابن الأثير: بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة والتاء المثلثة.

سفيان بن عيينة

وجَّه عليَّ بن سعيدٍ الوَرَّاق (¬1) نائبًا عنه، فدافع طاهرٌ بتسليم الخراجِ إليه حتى وفَّى الجُنْدَ أرزاقَهم، ثم سلَّم إليه العمل، وكتب المأمونُ إلى هَرْثَمَةَ أن يلحقَ به بخُراسان. ولما قُتل الأمين خرج خارجيٌّ يقال له: الهِرْش (¬2)، وانضمَّ إليه خلقٌ كثير، فجبى العراقَ وأخذ أموال التجار وغيرَها، وأقام بالنِّيل من أرض العراقِ فقُتل. وحجَّ بالناس العباسُ بن موسى بنِ عيسى بن موسى بن محمَّد بن علي. فصل وفيها توفي سفيانُ بن عُيَيْنة ابنِ أبي عِمْران، أبو محمَّد الهِلالي. [ذكره ابنُ سعد] (¬3) في الطبقة الخامسةِ من أهل مكَّة، وهو مولى بني عبدِ الله بن رُوَيبة من بني هلال بنِ عامر بن صَعْصَعة. [وقال غيرُ ابن سعد: ] (¬4) هو مولًى لبني هاشم. وقيل: مولى للضحَّاك بن مزاحم. وقيل: مولى مِسعَر بن كِدَام. [وحكى ابنُ سعد عن الواقدي قال: أخبرني سفيانُ بن عيينةَ أنه، وُلد سنةَ سبعٍ ومئة بالكوفة، ثم نقله أبوه إلى مكَّة، وكان أصلُه من الكوفة، وأبوه من عمَّال خالد [بنِ عبس الله] القَسرِي، فلما عُزل خالد عن العراق وولي يوسفُ بن عمرَ الثقَفي هرب منه، فلحق بمكَّة فنزلها. وكان سفيانُ إمامًا مقدَمًا على الأئمَّة، حافظًا متْقِنًا. قال: لمَّا بلغتُ (¬5) خمسَ عشرةَ ¬

_ (¬1) كذا في (خ) والمنتظم 10/ 52، وفي تاريخ الطبري: علي بن أبي سعيد، وفي الكامل: علي بن أبي طاهر سعيد. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 527، وابن الأثير 6/ 301: الحسن الهرش، وفي تاريخ الإسلام 4/ 1055: الحسن الهرج. (¬3) في طبقاته 8/ 59، وما بين حاصرتين من (ب)، وانظر في ترجمته تاريخ بغداد 10/ 244، والمنتظم 10/ 66، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإِسلام 4/ 1110، والسير 8/ 454. (¬4) في (خ): وقيل ... (¬5) في (خ): بعث، والمثبت من المنتظم 10/ 67.

سنةً دعاني أبي فقال: يا سفيان، قد انقطعت عنك شرائعُ الصّبا، فاحتفظ بالخير تكن من أهله، ولا يَغُرَّنك من اغترَّ بالله فمدحك بما تعلم خلافَه منك؛ فإنَّه ما من أحدٍ يقول في أحدٍ من الخير إذا رضي إلَّا وهو يقول فيه من الشرِّ مثل ذلك إذا سَخط، فاستأنس بالوحدة من جلساءِ السوء، ولن يسعدَ بالعلماء إلَّا مَن أطاعهم. قال: فجعلتُ وصيةَ أبي نُصبَ عيني. وقال النَّضر الهِلاليّ: كنت (¬1) في مجلس ابنِ عيينة، فدخل صبيٌّ إلى المسجد، فتهاونوا به لصغر سِنِّه، فقال سفيان: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيكُمْ} [النساء: 94]. ثم قال لي: يا نضر، لو رأيتني ولي عشرُ سنين، طولي خمسةُ أشبار، ووجهي كالدِّينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صِغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلاي كآذان الفار، اختلف إلى علماءِ الأمصار، مثل الزُّهريِّ وعَمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، مِحبرتي كالجوزة، ومقلَمتي كالموزة، وقلمي كاللَّوزة، فإذا دخلت المجلسَ قالوا: وسِّعوا للشيخ الصغير. ثم تبسم ابن عيينةَ وضحك. وقال بِشْر بن مَطَر (¬2): كنَّا على باب سفيانَ بن عُيينة، فجاءت طائفةٌ فدخلوا، وطائفة فدخلوا، فصحنا وقلنا: يدخل أصحابُ الدنانير والدراهمِ ونُمنع ونحن الفقراءُ وأبناء السبيل؟ ! فخرج إلينا سفيانُ وهو يبكي وقال: قد أصبتم مقالًا، هل رأيتم صاحبَ عيالٍ أفلح؟ ثم أُعلمكم أني كنت أُوتيت فهمَ القرآن، فلما أخذت مال أبي جعفرٍ مُنعت. [وروى الخطيب (¬3) عن سفيانَ أنَّه قال: ] رأيت (¬4) كأنَّ أسناني كلَّها سقطت، فذكرت ذلك للزُّهري، فقال: تموت أسنانُك وتبقى أنت، فكان كما قال. ¬

_ (¬1) في (ب): وروي عن عمار بن علي اللوري يقول: سمعت أحمد بن النضر الهلالي يقول: سمعت أبي يقول: كنت، والمثبت من (خ)، والخبر في المنتظم 10/ 67، والسير 8/ 459. (¬2) في (خ): مطير، والمثبت من المنتظم 10/ 67. (¬3) في تاريخه 10/ 249. (¬4) في (خ): وقال سفيان: رأيت.

[وروى ابنُ سعد عنه أنه قال: ] (¬1) أوَّل ما جالست من الناس، عبدُ الكريم أبو أميةَ وأنا ابنُ خمس عشرةَ سنة، ومات في سنة ستٍّ وعشرين ومئة، وحججت سنةَ ستَ عشرةَ ومئة، ثم سنةَ عشرين ومئة، وذهبت إلى اليمن سنةَ خمسين ومئة، وسنةَ اثنتين وخمسين، ومَعْمر حيّ، وذهب الثوريُّ قبلي بعام، وجاءنا الزهريُّ إلى مكةَ مع ابن هشامِ بن عبد الملك سنةَ ثلاثٍ وعشرين ومئة، وسألته وسعدُ بن إبراهيمَ عنده فلم يُجبني في الحديث، فقال له سعد: أَجب الغلامَ عمَّا سألك، فقال: أما أنا سأعطيه حقَّه، قال سفيان: وأنا يومئذ ابنُ ستّ عشرةَ سنة. وقال: مَن زيد في عقله نَقَص من رزقه بقَدْر ذلك. وقال: أرفعُ الناس منزلةً مَن كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياءُ ثم العلماء. وقال حَرمَلَة بنُ يحيى: أخذ سفيانُ بيدي فأتى مني ناحية، وأخرج من كُمِّه رغيفَ شعير وقال: هذا قُوتي منذ ستِّين سنة، فدعْ ما يقول الناس. [وحكى أبو نعيم (¬2) عن] منصور بنِ عمارٍ [قال (¬3)]: تكلَّمت في مجلسٍ فيه سفيانُ بن عيينة وابنُ المبارك وفُضيل بن عياض، فأما ابن المبارك فسالت دموعه، وأما الفضيل فانتحب، وأما ابن عيينةَ فتغرغرت عيناه، ثم نشف دموعَه بكمه (¬4). فلما انقضى المجلسُ قلت لابن عيينة: يا أبا محمَّد، ما منعك أن يجيءَ منك مثل ما جاء من صاحبك؟ ! فقال: هذا أَكمَدُ للحزن, إنَّ الدمعَ إذا خرج استراح القلب. وكان سفيان يتمثَّل لما أسنّ: [من الوافر] يُعَمَّر واحدٌ فيَغرُّ قومًا ... ويُنسى من يموت من الصغارِ (¬5) و[قال أبو نعيم: ] (¬6) كان [سفيانُ] يقول: إذا كان نهاري نهارَ سفيهٍ وليلي ليلَ ¬

_ (¬1) في (خ): وقال سفيان، والمثبت من (ب)، والخبر في طبقات ابن سعد 8/ 59. (¬2) في الحلية 7/ 302. (¬3) في (خ): وقال منصور بن عمار. (¬4) في حلية الأولياء: ثم نشفتا من الدموع. (¬5) حلية الأولياء: 7/ 277، وصفة الصفوة 2/ 234. (¬6) في الحلية 7/ 271. وما بين حاصرتين من (ب).

جاهل، فما أصنعُ بالعلم الذي كتبت؟ ! [قال: ] (¬1) وكان يقول: مَن رأى نفسَه خيرًا من غيره فقد استكبر؛ لأنَّ إبليسَ ما منعه من السجود لآدمَ إلا استكبارُه. و[روى أبو نُعيمٍ أيضًا عن سفيانَ أنه] قال: أوحى اللهُ إلى موسى: إنَّ أوَّل مَن مات إبليس، فقال: يا ربّ، كيف وهو حيّ؟ ! فقال: لأنَّه أوَّلُ مَن عصاني، وإنما أَعدّ مَن عصاني مع الموتى. وقال (¬2): بلغني أن الناسَ يخرجون من قبورهم وهم يصيحون: الماءَ الماء؛ العَطَش العطش. وقال (¬3): أصابني ذاتَ يوم رِقَّة، فبكيت، فقلت في نفسي: لو كان فلانٌ ها هنا لرقّ، ثم نمت، فأتاني آتٍ في منامي فرَفَسني وقال: سفيان، اذهب فخذ أجرَك ممَّن أحببتَ أن يَراك. وكان يقول: جعل اللهُ كلَّ عدوّ لي محدِّثًا. وقال: أشدُّ الناس حَسْرة يومَ القيامة رجلٌ كان له عبدٌ فجاء يومَ القيامة أفضلَ عملًا منه، ورجلٌ له مالٌ فلم يتصدَّق منه، فمات فورثه غيرُه فتصدَّق منه، ورجل عالمٌ لم ينتفع بعلمه، فعلَّم غيرَه فانتفع به. وقال عبد الله بنُ ثعلبةَ لسفيان: يا أبا محمَّد، واحُزناه على الحُزْن، فقال سفيان: يا عبدَ الله، هل حزنت قطُّ لعلم اللهِ فيك؟ فقال عبدُ الله: تركتَني لا أفرح أبدًا. وقال سفيان: كنت إذا خرجتُ إلى المسجد أتصفَّح وجوهَ الخلق، فإذا رأيتُ مشيخةً وكُهولًا جلست إليهم، وإني اليومَ قد اكتنفني هؤلاء الصِّبيان، ثم أنشد: [من الكامل] خَلَت الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّد ... ومن العَناءِ تَفَرُّدي بالسُّؤدَدِ (¬4) ¬

_ (¬1) في الحلية 7/ 304. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب): وروى أبو نعيم عنه أنه قال، ولم أقف عليه في ترجمته في حلية الأولياء. (¬3) في (ب): وروى الخطيب عن سفيان قال، ولم أقف عليه في تاريخ بغداد في ترجمته. (¬4) حلية الأولياء 7/ 290، وتاريخ بغداد 10/ 249، ووفيات الأعيان 2/ 392.

ويقول: دخلتُ الكوفةَ (¬1) في يومٍ مَطير، وإذا بكَنَّاس قد فتح كَنيفًا وهو يكنُسه ويقول: وأُكرم نفسي إنَّني [إنْ] (¬2) أهنتُها وفي رواية: [من الخفيف] جَنِّباني ديارَ ليلى وهندٍ ... ليس مثلي يَحُلُّ دارَ هَوانِ فاطَّلعتُ في البئر وقلت: أيُّ هوانٍ أعظمُ ممَّا أنت فيه؟ ! فرفع رأسَه وقال: الحاجةُ إلى مثلك، وأنشد: [من الخفيف] [بلدٌ طيِّب ورب غَفور (¬3) ... هذه رَوْضةٌ وهذا غَدير وأنشد أيضًا: ] [من الخفيف] لا تلُمْني فإنَّني نَشْوانُ ... أنا في المُلْكِ ما سَقَتْني الدِّنانُ [قال: ] فاستحييتُ وانصرفت. ذِكر وفاته: [حكى أبو نُعيم (¬4) عنه أنَّه] قال: شهدتُ ثمانين موقفًا بعرفات. [وقال ابنُ سعد: أخبرني الحسنُ (¬5) بن عمرانَ بنِ عيينة بن أبي عمرانَ ابن أخي سفيانَ قال: ] حججتُ (¬6) مع عمِّي سفيان آخر حجَّة حجَّها سنةَ سبع وتسعين ومئة، فلمَّا كنا بجمْع، استلقى على فراشه ثم قال: قد وافيتُ هذا الموضعَ سبعين عامًا، أقول في كلِّ عام: اللهمَّ لا تجعله آخرَ العَهْد من هذا المكان، وإنِّي قد استحييتُ من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتوفي في [السنة الداخلة في] (¬7) رجب سنة ثمان وتسعين ومئة، ¬

_ (¬1) في (ب): وحكى الباهلي قال دخلت الكوفة، والمثبت من (خ). (¬2) ما بين حاصرتين من الأغاني 1/ 415. وفي (ب): لا أهينها. وهو خطأ. وعجز البيت: وحقك لم تكرم على حد بعدي. (¬3) في العقد الفريد 6/ 449: ويوم مطير. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في حلية الأولياء 7/ 289. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (ب) و (خ): الحسين، والمثبت من طبقات ابن سعد 8/ 59، وتاريخ بغداد 10/ 256. (¬6) في (خ): وقال الحسين بن عمران بن عيينة: حججت ... (¬7) ما بين حاصرتين من (ب) والمصادر.

عبد الرحمن بن مهدي

ودُفن بالحجون وهو ابنُ إحدى وتسعين سنة. وقيل. توفِّي يومَ السبت أوَّلَ يوم من رجب. وقيل: مات في جمادى الأُولى (¬1). وأدرك ستةً وثمانين من أعلام التابعين، وأسند عن جمهورهم، كعَمرو بن دينارٍ والثوريِّ، والزهري، وحدَّث في مجلس الأعمشِ وهو ابنُ ثلاثين سنة، وروى عنه الأعمشُ والثوريُّ وشعبةُ وابن المباركِ ووكيعٌ وابن مهديّ والشافعيُّ والإمام أحمدُ وابن مَعين رحمةُ الله عليهم أجمعين. وقال الإِمام أحمدُ بن حنبل: كنت أشتهي لقاءَ الثوري، فعوَّضني اللهُ بابن عيينة، وما رأينا مثلَه. و[قال الخطيب: ] (¬2) كان هارونُ يقول: سيِّد الناس اليومَ ابنُ عيينة. وقال الشافعي: لولا سفيانُ بن عيينةَ ومالكُ بن أنسٍ لذهب علمُ الحجاز. واتَّفقوا على صدقه وثقتِه وأَمانته وعدالته وزَهادته، وكان ثَبْتًا كثيرَ الحديث حجَّة، وكان له تسعةُ إخوة، حدَّث منهم أربعة: محمَّد، وآدم (¬3)، وعمران، وإبراهيم. عبدُ الرِّحمن بن مَهديِّ ابن حسَّان، أبو سعيدٍ (¬4)، العَنْبَريُّ [البَصري. ذكره ابنُ سعدٍ (¬5) في أوَّل، الطبقة السابعةِ من أهل البصرة [وقال: ] كان ثقةً كثيرَ الحديث، وُلد سنةَ خمسٍ وثلاثين ومئة، وتوفِّي بالبصرة في جمادى الآخرة [سنةَ ثمانٍ وتسعين ومئة] وهو ابنُ ثلاث وستَين سنة. [وهذا قولُ ابنِ سعد. وكان] من كبار العلماءِ وأحد المذكورين بالحفظ والثِّقة. ¬

_ (¬1) في (ب): وقال الهيثم: توفي يوم السبت ... وقال الحميدي: مات في جمادى الأولى. (¬2) في تاريخه 10/ 250 - 251 وما بين حاصرتين من (ت). (¬3) في (ب) و (خ): ودارم، والمثبت من تاريخ بغداد 10/ 245، والمنتظم 10/ 66، وتهذيب الكمال. (¬4) في (خ): ابن سعيد، والمثبت من (ب)، وانظر تاريخ بغداد 11/ 512، والمنتظم 10/ 69، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإِسلام 4/ 1152، والسير 9/ 192. (¬5) في طبقاته 9/ 299، وما بين حاصرتين من (ب).

[وروى الخطيبُ (¬1) أنه] قيل له: أيُّما أحبّ إليك، يغفر اللهُ لك ذنبًا أو تحفظ حديثًا؟ [فقال: أحفظ حديثًا. وكان شديدَ الحب لحفظ الحديث]. وقال القَواريري: أملى عليَّ عبدُ الرَّحمن بن مَهدي عشرين ألفَ حديثٍ من حفظه. وقال محمَّد بنُ يحيى: ما رأيت في يد عبدِ الرَّحمن كتابَّا قَطّ، وكلُّ ما سمعتُه (¬2) منه سمعته حفظًا. و[روى الخطيبُ (¬3) أنه] كان يختم القرآنَ في كلِّ ليلتين، وكان وردُه في كلِّ ليلة نصفَ القرآن. وقال ابن المَديني: كان ابنُ مهديّ أعلمَ الناس، ولو حلفتُ بين الرُّكن والمقامِ بالله أني لم أرَ أحدًا قطُّ أحفط منه للحديث، لكنت بارًّا (¬4). وقال الإِمام أحمدُ رحمة اللهِ عليه: إذا حدَّث ابنُ مهدي عن رجلٍ فهو حجَّة. [وحكى أبو نُعيم عنه أنَّه قال: ] (¬5) لولا أنِّي أكره أن يُعصى اللهُ بسببي، لتمنَّيت ألا يَبقى في المِصْر أحدٌ إلَّا اغتابني، فأيُّ شيءٍ أهنأُ من حسنة يجدها الرجلُ في صحيفته يومَ القيامة لم يعملْها ولم يَهُمَّ بها؟ وأراد أن يبيعَ أرضًا له، فقال له الدلَّال: قد أعطيت في الجَرِيب خمسين (¬6) ومئتي دينار، وهي أرضٌ خراب، أسمِّدها لأبيعَ الجريبَ (¬7) بفضل خمسين دينارًا، فتصير تساوي أربعةَ آلافِ دينار؟ فغضب وقال: {لَا يَسْتَوي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] الآية، ثم قال: واللهِ لو بيعت بمئة ألفِ دينارٍ ما سمَّدتها. ¬

_ (¬1) في تاريخه 11/ 515. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): ولا سمعته، والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 521. (¬3) في تاريخه 11/ 522. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) العبارة في المصادر: لو أخذت فحلفت بين الركن والمقام، لحلفت بالله أني لم أرَ أحدًا قط أعلم بالحديث من عبد الرَّحمن بن مهدي. انظر الجرح والتعديل 1/ 252، وتاريخ بغداد 11/ 519، والمنتظم 10/ 69، والسير 9/ 197 - 198، وشرح العلل لابن رجب 1/ 197. (¬5) حلية الأولياء 9/ 11. وفي (خ): وقال عبد الرحمن، والمثبت من (ب). (¬6) في (خ): خمسون، والمثبت من حلية الأولياء 9/ 11، وصفة الصفوة 4/ 6. (¬7) في (خ): أشهرها لأبيع الجريد. وانظر الحلية وصفة الصفوة.

علي بن عبد الله

أسند عن الثوريِّ وغيره، وروى عنه الإِمام أحمدُ بن حنبلٍ رحمةُ الله عليه وغيرُه، وقال الإمامُ رحمةُ الله عليه: كان حافظًا يتوقَّى كثيرًا، وكان يحبُّ أن يتحدثَ باللفظ، وما رأيت بالبصرة مثلَه. وكان يعرف الرجال كما يعرف الطبيبُ الأمراض، وما رُئي في يده كتاب قطُّ، وإنما كان حفظَه. واتفَّقوا على صدقه وأمانتِه وثقته، حتى قال الخطيب (¬1): كان من الربَّانيين في العلم، وممَّن بَرَع في معرفة الأثَر، وطُرُقِ الروايات، وأحوالِ الشيوخ. [وفيها توفي] عليُّ بن عبدِ الله ابن خالد بن يزيدَ بن معاويةَ بن أبي سفيان، أبو الحسن السفياني (¬2). وأمُّه نَفيسة بنت عُبيد (¬3) الله بنِ العباس بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -، [وقد ذكرنا استيلاءه على دمشقَ في سنة خمسٍ وتسعين ومئة] (¬4). ويلقَّب بأبي العَمَيطَر؛ لأنَّه قال لأصحابه يومًا: أَيش كنيةُ الحِرْذَون؟ فقالوا: لا ندري، فقال: أبو العَمَيْطَر، فلقَّبوه به [فكان يغضب. وقال ابنُ عساكر: ] (¬5) وكانت داره بالمِزَّة، وله دارٌ أخرى برَحْبَة البَصَلِ بدمشق، [قال: ] ولمَّا خرج بدمشقَ ودعا إلى نفسه، كان ابنَ تسعين سنة، وبويع بالخلافة في سنة خمس وتسعين ومئة، وأقام متغلِّبًا على دمشق. واشتغل عنه محمَّد بحرب أخيه، وطرد عمَّال محمَّد. [قال: ] وكان الوليدُ بن مسلم يقول: والله لَيخرجنَّ السفيانيُّ في سنة خمس وتسعين ومئة. فكان كما قال. ¬

_ (¬1) في تاريخه 11/ 513. (¬2) في (ب): بن أبي سفيان بن [صوابه أبو] العَمَيطر، وكنيته أبو الحسن، والمثبت من (خ). (¬3) في (خ): عبد الله، والمثبت من (ب) وهو الموافق لما في تاريخ دمشق 51/ 24، والكامل 6/ 249، والسير 9/ 285، وتاريخ الإِسلام 4/ 1265. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في تاريخه 51/ 25، 23. وما بين حاصرتين من (ب).

[وحكى الحافظ ابنُ عساكرٍ (¬1) أيضًا عن أحمدَ بن حنبلٍ أنه سأل] الهيثمَ بن خارجةَ: كيف كان مخرجُه، فوصفه الهيثم بهيئة جميلة واعتزال للشرّ قبل خروجه، ثم وصفه بالظُلم بعد خروجه. قال: وأرادوه على الخروج [مِرارًا] فأبى، فحفر له خطابٌ الدمشقيُّ (¬2) -ويُعرف بابن وَجْه الفلس مولى الوليدِ بن عبد الملك بنِ مروان- وأصحابُه سَرَبا تحت بيته، ودخلوه في الليل ثم نادَوه: اخرج، فقد آنَ لك أن تخرج، فقال: هذا شيطان، ثم أتَوه في الليلة الثانيةِ والثالثة فنادَوه كذلك، فوقع في نفسه، فخرج لما أصبح. فقال الإِمام أحمدُ رحمه الله: أفسدوه. [وحكى ابنُ عساكر عن] عبد الحميدِ المَيموني [قال] (¬3): ولَّى محمَّد بن زبيدةَ سليمانَ بن أبي جعفرٍ حمصَ ودمشق، فوثب به الخطَّابُ، فخلع سليمانَ وبايع السُّفياني، وبايعه أهلُ الشام وحمصَ وقِنَّسرين والسواحلِ إلَّا القيسية، فنهب دورَهم وأحرقها وقاتلهم، وكانت مضرُ معه عليهم، وكان أصحابه ينادون في أسواق دمشق: قوموا فبايعوا المهديَّ المختار، الذي اختاره اللهُ علي بني هاشمٍ الأشرار. ولما صعد منبرَ دمشق، قام إليه مجنونٌ كان في الجامع فقال: أسخن اللهُ عينَك يا أبا العَميطَر، لقد ألقيتَ نفسَك وألقيتنا معك في حُفْرةِ سَوء. وكان محمَّد بنُ صالح بنِ بَيهَس الكِلابي من وجوه قيس، فاجتمعت قيسٌ إليه، وقاتل أبا العَميطر والمُضَريةَ بين سَكَّاء وقَرَحْتا، وكانت بينهم وقائعُ كثيرة، ومرض ابنُ بيهس، فأمر القيسية أن يبايعوا مَسْلمةَ بن يعقوبَ بنِ عليِّ بن محمَّد بنِ سعيد بن مسلمةَ بنِ عبد الملك بنِ مروان، فبايعوه، فقاتل مسلمةُ أبا العميطر، فهزمه وقتل أصحابهَ، ودخل دمشق فأخذ أبا العميطر فأوثقه، وعوفي ابنُ بيهس، فأراد الحكم على مسلمة، فعصى عليه، فأرسل ابنُ بيهس إلى القيسية، فخامروا على مسلمة وفتحوا له بابَ كَيسان، فدخل ابنُ بيهس إلى البلد، وخرج مسلمةُ وأبو العميطر إلى المزَّة في زِيِّ النساء، وذلك في سنة ثمانٍ وتسعين ومئة، فأقاما بها أيامًا، ومات أبو العَميطَر، فصلى ¬

_ (¬1) في تاريخه 51/ 25. (¬2) في (خ): فحفر له خطاب بن وجه الفلس الدمشقي ... ، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في تاريخ دمشق. (¬3) تاريخ دمشق 51/ 26، وفي (خ): وقال عبد الحميد الميموني، والمثبت من (ب).

محمد بن مناذر

عليه مسلمةُ وقال: يرحمك الله، لقد ظلمتني وظلمتَ نفسك، ثم مات مسلمةُ بعده (¬1)، وأقام ابنُ بيهس متغلِّبًا على دمشقَ عشرَ سنين [من سنة ثمانٍ وتسعين ومئة] (¬2) إلى سنة ثمانٍ ومئتين، فقدم عبدُ الله بن طاهرٍ واليا على الشام ومصرَ، ومضى إلى مصرَ وعاد في سنة عشرٍ ومئتين، فحمل معه محمَّد بنَ بيهس إلى العراق، فكان آخرَ العهد به. وحكى ابنُ عساكر أنَّ أبا العميطر صحب محمدًا المهديّ بن المنصور (¬3)، وقال: سأل المهديّ ابنَ عُلاثةَ وأنا حاضر: بمَ رددتَ شهادةَ محمَّد بن إسحاقَ بن يسار؟ قال: لأنَّه ما كان يرى الجمعة، قال: وكان أصحابُ ابنِ إسحاق يعتذرون عنه ويقولون: قد روى عن عليّ - عليه السلام - أنَّه قال: لا جمعةَ ولا تشريقَ ولا فطرَ ولا أضحى إلَّا في مصرٍ جامع وإمامٍ عادل (¬4). [وفيها توفّي] محمد بنُ مُناذِر أبو ذَريح، وقيل: أبو عبد الله، الشاعرُ البصري، مولى سليمانَ القَهْرَماني، والقهرمانُّي مولى عُبيد اللهِ (¬5) بن أبي بَكْرة. مدح المهديَّ وغيره، وكان فصيحًا. قدم بغدادَ وتنسَّك [ولازم المسجد] (¬6)، ثم عاد إلى البصرة، فابتُلي بمحبة عبد المجيدِ بن عبد الوهَّابِ الثَّقَفي (¬7)، فسقط عبد المجيد فمات، فرثاه ابنُ مناذرٍ [بهذه الأبيات] فقال: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) الذي في تاريخ دمشق 67/ 195 أن المتوفى أولًا مسلمة وصل عليه أبو العميطر وقال ما قال، ثم مات بعده بقليل أبو العميطر، ودفنه أهل المرة في حانوت. وانظر 62/ 325. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): وكان السفياني قد صحب المهدي، والمثبت من (ب)، والخبر في تاريخ دمشق 51/ 23. (¬4) نص الحديث في تاريخ دمشق: لا جمعة إلا في مصر مع إمام عادل. والحديث أخرجه أيضًا عبد الرزاق (5175)، وابن أبي شيبة (5098) و (5099) و (5106)، والبيهقي 3/ 179، دون قوله: مع إمام عادل. (¬5) في (خ): عبد الله، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في الأغاني 18/ 169، والمنتظم 10/ 71، ومعجم الأدباء 19/ 58، وبغية الوعاة 1/ 250. (¬6) في (ب) وما بين معكوفين منها: قال الخطيب: قدم بغداد وتنسك، ولم أقف عليه في تاريخ بغداد، ولم أجد أحدًا نقله عنه. (¬7) في (ب): بمحبة عبد المجيد بن المنصور، والمثبت من (خ).

محمد الأمين

إن عبد المجيد يوم تولَّى ... هدَّ ركنًا ما كان بالمهدود ما درى نَعْشُه ولا حاملوه ... ما على النَّعش من عفافٍ وجود ثم مات بعده بيسير. وقال الثوري (¬1): سألت أبا عُبيدةَ مَعْمرًا عن اليوم الثاني من أيام النَّحر: ما كانت العرب تُسمِّيه؟ فقال: لا أعلم، فلقيت ابن مناذرٍ فأخبرته، فقال أَخَفي هذا على أبي عبيدة! هذه أيامٌ متواليات كلُّها على حرف الراء، فالأول يومُ النحر، والثاني يوم القَرّ، والثالث يوم النَّفْر، والرابع يوم الصَّدر. قال: فلقيت أبا عبيدةَ فأخبرته، فكتبه عني عن محمَّد بنِ مناذر. أسند ابنُ مناذر عن شعبةَ وابنِ عيينة وغيرِهما، وقد أسقط يحيى بنُ معين روايتَه وقال: كان صاحبَ شعر لا صاحبَ حديث، كان يتعشَّق عبدَ المجيد ويقول فيه الشِّعر، ويُشبِّب بنساء ثَقيف، فطردوه من إلبصرة، فخرج إلى مكَّة، فكان يرسل العقاربَ في المسجد الحرامِ يَلْسَعْنَ الناس، ويَصُبُّ المِدادَ بالليل في الأماكن التي يتوضأ الناسُ منها حتى تَسْوَدَّ وجوهُهم, لا يروي عنه رجلٌ فيه خير. [قلت: ولابن مناذر قصة نذكرها في ترجمة أبي نواس في سنة مئتين.] محمَّد الأمينُ ابن هارونَ الرشيدِ بن محمَّد المهديِّ بن أبي جعفر المنصورِ بن محمَّد بن عليّ بن عبدِ الله بن عباس (¬2). قد ذكرنا طَرَفًا من أخباره [وسنذكر الباقي، قد تقدَّم تاريخُ مولده في سنة سبعين ومئة، وقيل: سنة إحدى وسبعين ومئة، وبويع في سنة ثلاثٍ وتسعين ومئة. و] كان أصغر من المأمون بستَّة أشهر و [قد ذكرنا وقائعَه مع أخيه إلى أن قُتل في هذه السنة. وحكى الهيثم بن عَدِيِّ عن الأصمعيِّ قال: ] (¬3) كان فيه خِلال لم تكن في غيره، كان ¬

_ (¬1) كذا في (ب خ) والمنتظم 10/ 71، وهو تصحيف، صوابه التوَّزي كما في الأغاني 18/ 206. (¬2) انظر في ترجمة الأمين: تاريخ الطبري 8/ 498، ومروج الذهب 6/ 415، وتاريخ بغداد 4/ 541، والمنتظم 9/ 218 و 10/ 70، وتاريخ الإِسلام 4/ 1201، والسير 9/ 334. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

أحسنَ الناس وجهًا، وأسخاهم نَفْسًا، وأشرفَهم أبًا وأمًّا، أديبًا فصيحًا، عارفًا بأيَّام الناس والشعر والعلوم، لكنه هان عليه القبيحُ فلَجِجَ في بحر هواه وبغيه وغدرِه بأخيه، وكان سخيًّا بالدينار والدرهمِ بخيلًا بالطعام (¬1). [وحكى الخطيبُ عن الصوليِّ قال: ] (¬2) كان له خادمٌ اسمه كوثر، وكان يحبُّه حبًّا شديدًا، فلَها به عن الرَّعية، فتوقَّفت أحواله وأحوالُهم [وقال فيه الشّعر] ومن شعره فيه: [من مجزوء الرمل] ما يُريد الناسُ من صَبْـ ... ـبٍّ بمَن يَهوى كئيبِ كوثرٌ ديني ودنيايَ ... وسُقمي وطَبيبي أعجز الناسِ الذي يَلـ ... حَى مُحبًّا في حَبيب ليس إنْ قيس خليًّا ... قلبُه مثل القلوب و[حكى الخطيب (¬3) أيضًا عن الصُّولي قال: ] خرج كوثرٌ يومًا في حرب طاهر، فأُصيب في وجهه، فرجع والدمُ يسيل عليه، فجعل محمَّد يمسح الدمَ عنه ويقول: [من مجزوء الرمل] ضربوا قُرَّةَ عيني ... ومنَ أجلي ضربوهُ أخذ اللهُ لقلبي ... من أُناسٍ أحرقوه وأراد زيادةً فلم يؤاتِه طبعُه، فقال: مَن بالباب من الشعراء؟ قالوا: عبدُ الله بن أيوبَ التَّيمي، فلمَّا دخل من الباب قال له: قل عليها، فقال: مَن رأى الناسُ له الفَضـ ... لَ عليهم حَسَدوهُ مثلَما قد حسَدَ القا ... ثمَ بالملك أخوه فأَوقر له ثلاثةَ أَبغُلٍ دراهم. ¬

_ (¬1) بعدها في (ب): وله في البخل على الطعام حكايات ذكرها الطبري وليس فيها ما يستظرف. ولم نقف عليها في تاريخ الطبري. (¬2) انظر تاريخ بغداد 4/ 543 - 544 و 547. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخه 4/ 543 - 544.

وقال عبدُ الله المذكور: أنشدتُ الأمينَ أوَّل [ما] (¬1) ولي الخلافة: [من المنسرح] لا بدَّ من سَكرةٍ على طَرَبٍ ... لعلَّ روحًا تُدال من كُرَبِ فعاطنيها صَهباءَ صافيةً ... تضحك من لؤلؤ على ذَهَب خليفةَ الله أنت مُنتَخَبٌ ... لخير أمٍّ من هاشمٍ وأب فأمر لي (¬2) بمئتي ألفِ درهم، فصالحوني على مئة ألفِ درهم. وغنَّى إبراهيم بنُ المهديّ (¬3) ليلةً بين يدي محمَّد وكانا في حرَّاقة: [من الطويل] هجرتُكِ حتى قيل لا يعرف الرِّضا ... وزرتُكِ حتى قيل ليس له صبرُ (¬4) فملأ له الحرَّاقةَ ذهبًا. ومرَّ (¬5) محمد ليلةً بجاريةٍ له سكرى، فراودها، قالت: لا أفعل على هذه الحال إلى غد. فلمَّا كان من الغد أتاها، فامتنعت عليه، فقال لها: هذا الميعاد، فقالت: أما سمعتَ المَثل السائر: كلامُ الليل يمحوه النهار؟ [فقال: مَن ببابي من الشعراء؟ فقال: أبو نُواس والرَّقاش ومصعب (¬6)، فأَمر بهم فأُدخلوا عليه، فقال: قولوا شعرًا في معنى: كلامُ الليل يمحوه النهار، (¬7) فقال الرَّقاشي: [من الوافر] متى تصحو وقلبُك مستطارٌ ... وقد مُنع القَرارُ فلا قَرارُ وقد تركَتْكَ صَبًّا مُستهامًا ... فتاةٌ لا تَزور ولا تُزار إذا استَنْجَزْتَ منها الوَعْدَ قالت ... كلامُ الليلِ يمحوه النهار وقال مصعب: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 4/ 543. (¬2) في (خ): له، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬3) في (ب): وقال الصوفي: غنى علي بن المهدي، والمثبت من (خ)، وهو الموافق لما في تاريخ الطبري 8/ 520. (¬4) هو في أمالي القالي 1/ 150، والبيت في ديوان الهذليين 2/ 957 ضمن قصيدة لأبي صخر، وروايته: وصلتك حتى قلت لا يعرف القلى ... وزرتك حتى قلت ليس له صبر (¬5) قبلها في (ب): وقال الصولي أيضًا، وفي العقد الفريد 6/ 409: حدث أبو جعفر قال ... ثم ذكر القصة، وفي مرآة الجنان 1/ 454 أن صاحب القصة هارون الرشيد. (¬6) في مرآة الجنان: أبو مصعب. (¬7) في العقد الفريد ومرآة الجنان: يكون آخره: كلام الليل يمحوه النهار، وما بين حاصرتين من (ب).

أَتعذلني وقلبك مُستطارٌ ... كئيبٌ ما يَقِرُّ له قرارُ بحبِّ مَليحةٍ صادت فؤادي ... بألحاظٍ يخالطها (¬1) احْورار ولمَّا أن مَددتُ يدي إليها ... لألمسَها بدا منها نِفار فقلتُ لها عديني منكِ وَعْدًا ... فقالت في غدٍ منك المَزار فلمَّا جئتُ مُقْتَضيًا أجابت ... كلامُ الليل يمحوه النَّهار وقال أبو نُواس: وليلةَ (¬2) أقبلَتْ في القصر سَكرَى ... ولكن زيَّن السُّكرَ الوَقارُ وهزَّ السُّكرُ أردافًا ثِقالًا ... وغُصْنًا فيه رُمَّان صِغار وقد سَقط الرِّدا عن مَنْكِبَيها ... من التَّجْمِيش (¬3) وانْحَلَّ الإِزار فقلت الوعدَ سيِّدتي فقالت ... كلامُ الليل يمحوه النهار فقال له الأمين: أخزاك الله، أكنت مُطَّلعا علينا! فقال: عرفتُ ما في نفسك فأعربتُ عمَّا في ضميرك. فأمر لكلِّ واحدٍ على كلّ بيت بألف دينار (¬4). [وحكى أبو الفرج الأصفهانيُّ قال: ] (¬5) جرى بين محمَّد وإبراهيمَ بنِ المهديّ كلامٌ على مجلس الشراب، فوجد محمَّد عليه وصرفه، وأمر أن يُحجبَ عنه، فبعث إليه إبراهيمُ بهدية وألطاف، فلم يقبلْها، فبعث إليه بوَصيفة بارعةِ الجمال، وبعث معها عود الغناء من العود القماري مُكَلَّلًا بالجواهر، وألبسها حُلَّةً مَنسوجة بالذهب، وعلمها أبياتًا وقال: غني بها عنده. فلما دخلت عليه غنت: [من المتقارب] تمادى بي الأمرُ حتى ظَنَنْتُ ... وكشّفَ هَجْرُك لي فانكشفْ فإنْ كنتَ تُنكر شيئًا جرى ... فهبْ للقرابة ما قد سَلَفْ وجُدْ ليَ بالعفو عن زلَّتي ... فبالفضل يؤخَذ أهلُ الشرف فقال: أحسنت، فما اسمُك؟ قالت: هدية، فقال: أنت كاسمك أم عارَّية؟ فقالت: ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): يلاحظها، والمثبت من العقد الفريد. (¬2) في العقد الفريد: وخود. (¬3) التجميش: المغازلة والملاعبة. القاموس المحيط (جمش). (¬4) في العقد الفريد: بأربعة آلاف درهم. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

بل كاسمي، قال: فلمَن هذا الشِّعر؟ قالت: لعبدك وعمِّك إبراهيمَ بنِ المهدي، فرضي عنه وأمر له بخمسين ألف دينار، وردَّه إلى منزلته. ونقم الناسُ على محمَّد تقريبه الخِصْيانَ، والمغالاةَ في أثمانهم، وسمَّى طائفةً منهم الجَرادية (¬1)، وطائفةً الغُرابية، حتى رُمي بهم، وقال الناسُ فيه الأشعار، فمن ذلك قولُ ابنِ مطير (¬2): [من الوافر] فأمَّا نوفلٌ فالشأنُ فيه ... وفي بدرٍ فيا لَك من جَليسِ وما للغانيات لديه حظٌّ ... سوى التَّقطيبِ بالوَجْه العَبوس إذا كان الرئيس كذا سَقيمًا ... فكيف صلاحُنا بعد الرئيس فلو علم المُقيمُ بدار طوسٍ ... لعَزَّ على المُقيم بدار طُوس ثم هجر النساءَ الحرائرَ والإماء، واستُهتر بالخدَّام، واحتجب عن خواصِّه وقوَّاده وإخوتِه وأهل بيته، واستخفَّ بهم، وقسم ما في بيوت الأموالِ والجواهر في خِصيانه وحُبْشانه، وأمر ببناء القصورِ على دجلةَ وغيرها، وأنفق عليها الأموال، وجمع عنده الوحوشَ والسِّباع والطيور، وغرق في لهوه، فضجَّ الناس منه. وكان العباسُ بن عبد اللهِ بن جعفر بن أبي جعفرٍ المنصورِ من رجالات بني هاشمٍ عقلًا وفضلًا وجُودًا، وكان له خادمٌ يقال له: منصور، من آثر خدمِه عنده، وجد عليه يومًا، فهرب إلى محمَّد، فقَبِله وحَظي عنده، فركب يومًا في جماعةٍ من خدم محمَّد، وقصد أن يعبرَ على باب أستاذِه العباسِ ليُريَ خدم العباسِ ما هو فيه، وبلغ العباس، فخرج فجذبه فألقاه وأخذ بشَعره، فحامى عنه الخدم، فضربهم، فانهزموا إلى محمَّد فأخبروه، فقال: احرقوا دارَ العباسِ واسحبوه راجلًا إلى بابي، وأمر بقتله، وبلغ زُبَيدةَ، فدخلت على محمد، ونشرت شعرَها بين يديه، وبكت، فأمر بحبسه، ثم خَلَص بعد ذلك. وعمل حَرَّاقات على صورة الأسد، وعلى صورة الفيل، وعلى صورة الفَرَس، وعلى صورة الحية، وأنفق عليها أموالًا عظيمة، وقال أبو نواس: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) في (خ): الجوادمة، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 508، وابن الأثير 6/ 293. (¬2) الأبيات في تاريخ الطبري وابن الأثير دون ذكر القائل.

سخَّر اللهُ للأمين مَطايا ... لم تُسخَّر لصاحب المحرابِ فإذا ما رِكابُه سِرْنَ بَرًّا ... سار في الماء راكبًا ليثَ غاب أسدًا باسطًا ذراعَيه يَهوي ... أهْرَتَ (¬1) الشِّدْقِ كالحَ الأنياب لا يُعانيه باللِّجام ولا السَّوطِ ... ولا غَمْزِ رِجله في الرِّكاب من أبيات. وكان محمد إذا بلغه لَومُ الناس له على شُربه ولَهوه يقول: ما ضرَّ يزيدَ بن معاويةَ لعبُه ولهوه، ولا نفع عبدَ الله بنَ الزبير خيرُه ودينه، وما قضى اللهُ فهو كائن. وبلغ المأمونَ فقال: تبًّا للمخلوع، وأيُّ ضرر أبلغُ من ذمِّ الناس ليزيد؟ ! وأيُّ فخر أعظمُ من فخر ابنِ الزبير وقد أقام تسع سنين عائذًا بحرم اللهِ تعالى، مشغولًا بعبادته، حتى قُتل شهيدًا؟ ! ! وأمّا يزيد، فأقام ثلاثَ سنينَ فعل فيها ما فعل من استهتاره بالدين، وإصرارِه على فسقه، وأيُّ مناسبة بين الرَّجلين؟ ! وقرأ المأمون: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]. [وقال محمَّد بن سلام: ] جلس الأمينُ يومًا مع ندمائه، فتنفَس نَفَسًا عاليًا، فقالوا: يا أميرَ المؤمنين، ما هذا التنفُس؟ ! فقال: ذكرت قولَ ابنِ بُقَيلة (¬2): [من البسيط] إنْ كان دهرُ بني ساسانَ خانَهُمُ ... فإنَّما الدَّهرُ أطوارًا دَهاريرُ وربَّما أصبحوا يومًا بمَنْزلةٍ ... يَهابُ صَولَتَها الأُسْدُ المَهاصير فقُتل بعد أيام. ذِكر مقتله: لما انتقل محمد من قصر الخُلْد إلى مدينة أبي جعفر، ولم يبقَ عنده مالٌ ولا عُدَّة للحصار، دخل عليه قوَّاده، منهم حاتم بنُ الصَّقْر و [محمَّد بن] (¬3) إبراهيمَ بنِ الأغْلَب الإِفريقي، فقالوا: لقد رأيت ما آل فيه حالُك وحالنا، وقد رأينا رأيًا نَعرضه عليك، فانظر ¬

_ (¬1) في (خ): أهدب، والمثبت من الديوان ص 83، وتاريخ الطبري 8/ 509. وأهرت الشدق: واسعه. اللسان (هرت). (¬2) في (خ) والعقد الفريد 6/ 406: نفيلة، وفي (ب): ابن أبي مقيلة، وكل ذلك خطأ، وهو عبد المسيح بن بقيلة الغساني. انظر العقد الفريد 2/ 29 - 30، والتذكرة الحمدونية 8/ 11. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 478، والمنتظم 10/ 46، والكامل 6/ 282، وتاريخ الإِسلام 4/ 1050.

فيه واعتزمْ عليه؛ فإنَّا نرجو أن يكونَ صوابًا ويجعلَ الله فيه الخِيرَة، فقال: وما هو؟ قالوا: قد تفرَّق عنك الناس، وأحاط بك عدوُّك من كل جانب، وقد بقي عندك من خيلك ألفُ فرسٍ كان خيارها وجيادها، فنحمل عليها مَن قد عرفناه بمحبَّتك ومُناصَحتك من الأبناء، ونخرج من بعض الأبواب ليلًا، فنلحقُ بالجزيرة والشام ونصير في مملكةٍ واسعة، ويقضي اللهُ ما يشاء، فقال لهم: نِعْمَ ما رأيتم. وعزم على ذلك. وكتب إلى طاهرٍ عيونُه بذلك، فكتب إلى سليمانَ بن أبي جعفرٍ ومحمَّد بن عيسى بن نَهيك والسِّندي بنِ شاهك يقول: واللهِ ليِّن لم تَصدِفوه عن هذا الرأيِ لأفعلنَّ بكم ولأصْنَعَن، وتهدَّدهم بأخذ الضِّياع وقتلِ النفوس، فدخلوا على محمد وقالوا: تذكَر الله في نفسك، فإنَّ الذين أشاروا عليك بهذا قد انتشر عنهم أنَّهم باشروا الحربَ وجدُّوا في قتال طاهر، ولا أمانَ لهم عنده، ولسنا نأمن أنَّك إذا حصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيرًا فيتقرَّبوا بك إلى عدوِّك، فقال: ما أخرج. وكان حاتم بنُ الصقر والإفريقيُّ ومَن أشار على محمَّد بالخروج في الرِّواق يسمعون ما يقول سليمانُ وأصحابه لمحمَّد، وهم معه في بيت، فقال حاتمٌ والإِفريقي: ادخلوا بنا نقتل سليمان وأصحابه؛ فإنَّهم مع طاهرٍ في الباطن، فقال بعضهم: ما هذا مصلحة، نحن في حربٍ من خارجٍ ونعمل لنا حربًا من داخل؟ ! فكفُّوا. ووقع في قلب محمَّد ما قالوه، فرجع عمَّا كان قد عزم عليه، وأشار عليه سليمانُ وأصحابه بطلب الأمانِ والخروجِ إلى هَرْثَمَة، وقالوا: إنَّما قُصارى ذلك السَّلامة، وأن يُنزلَك أخوك في مكانٍ تراه، ويجعلَ لك كل ما يُصلحك، وليس عليك منه بأس. فعزم على الخروج إلى هَرْثَمَة، وأشار عليه بعضُهم بالخروج إلى طاهر، فقال محمَّد: إنِّي أكره الخروج إلى طاهر، ونفسي تأبى ذلك؛ لأنَي رأيت في منامي كأنِّي قائم على حائطٍ من آجُرّ، وهو شاهقٌ في السماء وعريضُ الأساس وَثيق، لم أرَ في الدنيا شيئًا يُشبهه في طوله وعرضه، وعليَّ سَوادي ومِنْطَقَتي وسيفي وقَلَنسُوَتي، وطاهر قائمٌ في أصل الحائطِ وبيده مِعوَل، فما زال يضرب أصلَ الحائط حتى سقط وسقطت، ونَدَرَتْ قَلنسوتي عن رأسي، وأنا أتطيَّر من طاهرٍ وأَستوحش منه لذلك، وأما هَرْثَمَةُ فهو مولانا وبمنزلة الوالدِ عندي، فأنا به أشدُّ أنسًا وأوثقُ نفسًا من طاهر.

ولما اشتدَّ الحصار على محمد، فارقه سليمانُ بن أبي جعفر وإبراهيم بنُ المهديّ ومحمَّد بنُ عيسى بن نَهيك، ولحقوا بعسكر المأمون، ولمَّا عزم محمَّد على الخروج إلى هَرْثَمَةَ، وأجابه هَرْثَمَةُ إلى ما أراد، اشتدَّ ذلك على طاهر، وأبي أن ينامَ عنه ويدعَه يخرج إلى هَرْثَمَة، وقال: هو في جِيرتي وجانبي، ولا أرضى أن يخرجَ إلى هَرْثَمَةَ فيكونَ الاسمُ والفتح له. ولما رأى هَرْثَمَةُ ذلك، اجتمع هو والقوَّاد في منزل خُزَيمةَ بن خازم، وجاء طاهرٌ، وسليمان بنُ أبي جعفرٍ، والسنديُّ بن شاهكَ، ومحمَّد بنُ عيسى بنِ نهيك، وأداروا الرَّأيَ بينهم، وقالوا لطاهر: إنَّه لا يخرج إليك أبدًا، فدعْه يخرج بنفسه إلى هَرْثَمَةَ إذا كان يأنس به ويثق بناحيته، وهو مُسْتَوحشٌ منك، ويدفع إليك الخاتمَ والبُردة والقضيب، فهو عبارةٌ عن الخلافة، ولا تُفسد هذا الأمر، واغتنمه إذ يسَّره الله. فأجاب طاهرٌ إلى ذلك ورضي به، ثم كتب الهِرْشُ إلى طاهرٍ يُخبره أنَّ الذي جرى بينهم مَكْر، وأنَّ البردة والقضيبَ والخاتَم تخرج مع محمد إلى هَرْثَمَة، فقبل ذلك طاهر، وكَمَنَ حول قصرِ أمِّ جعفرٍ والخُلدِ ومعه أصحابُه بالسلاح، وذلك ليلةَ الأحد لخمسٍ بقين من المحرَّم في خمسٍ وعشرين من أيلول. ولما اشتدَّ الأمرُ بمحمَّد، كتب إلى طاهرٍ يقول: إنَّ الأمر قد خرج بيني وبين أخي إلى كشف السُّتورِ وهَتْك الحَريم، ولست آمَنُ أن يطمعَ في هذا الأمرِ البعيدُ السَّحيق، فإن رأيتَ أن تؤمنِّي لأخرجَ إلى أخي، فإن تفضَّل عليَّ فهو أهل لذلك، وإن قتلني فصَمْصَامة كسَرتْ صَمصامة، ولَأن تفتَرِسَني السِّباعُ أحبُّ إلى من أن يَنْبَحَني الكلاب. وبعث به مع خادم، فقال طاهر للخادم: الآن حين أَسلمه فُسَّاقه، وخذله سُرَّاقه، وبقي مَخْذولًا مَغْلولًا يَلوذ بالأمان، لا والله أو يجعلَ في عُنقه ساجورًا (¬1) ويقول: قد نزلت على حكمك. فلما بلَّغ الخادمُ محمَّدًا ما قاله: قال: كذب عبدُ السُّوء العاضُّ لَهازِمَه (¬2)، واللهِ ما أبالي أَوَقَعَ عليَّ الموتُ أو وقعتُ عليه، ما شاء الله كان. ¬

_ (¬1) الساجور: خشبة تجعل في عنق الكلب. مختار الصحاح (سجر). (¬2) في (خ): لهزامه، ولعل الصواب ما أثبته، واللهازم: جمع لِهْزِمة: وهو الناتئ تحت الأذن. القاموس المحيط (لهزم).

وقال طارقٌ الخادم: لما همَّ محمَّد بالخروج إلى هَرْثَمَةَ عطش، فطلبت له ماء فلم أجده، ولمَّا أمسى ركب يريد هَرْثَمَة وبين يديه شَمْعَة، فقال: اسقني من جِباب الحَرَس، فناولتُه كُوزًا، فعافه لزُهومَته ولم يشرب، وصار إلى هَرْثَمَة، فوثب به طاهر، فلمَّا صار في الحَرَّاقة، رمَوه بالسِّهام والحجارة، فانكفأت الحرَّاقة، فغرق محمَّد وهَرْثَمَة، فسبَح محمَّد حتى عبر إلى بستان موسى، وظنَّ أن غرقَه كان حيلةً عليه، ولما صار إلى قرب الصَّراة (¬1)، وكان على مَسْلَحة طاهرٍ إبراهيمُ بن [جعفر] (¬2) البَلْخيّ، ومحمَّد بن حُمَيد ابنُ أخي شَكلة، فعرفه، فنزل هو وأصحابه فأخذوه، وحملوه على بِرذَونٍ، وألقَوا عليه إزارًا، وأردفوا خلفه رجلًا يُمسكه، وصاروا به إلى منزل إبراهيمَ البلخي. قال خطاب بنُ زياد: وبادر طاهرٌ إلى بستان مؤنسة بإزاء بابِ الأنبار موضع عسكره؛ لئلَّا يُتَّهم بغرق هَرْثَمَة، فلحقه محمَّد بنُ حميد، فدنا من طاهرٍ وأخبره أنَّه أسر محمَّدًا، وأنه في منزل إبراهيمَ البلخي، فدعا طاهرٌ مولًى له يقال له: قُريش الدَّنْداني، فأمره بقتل محمَّد. وقال محمَّد بنُ عيسى الجُلوديّ: لما عزم محمَّد على الخروج إلى هَرْثَمَةَ، تهيَّأ بعد العشاءِ الآخرة ليلةَ الأحد، فجلس في صَحْن القصرِ على كرسي، وعليه ثياب بَيَاض وطَيلَسانٌ أسود، وبين يديه جماعةٌ بالأعمدة، فجاء كتلةُ الخادم فقال: أبو حاتم يُقرئك السلام -يعني هَرْثَمَة- ويقول: قد وافيتُ لميعادك إلى المكان، ولكنِّي أرى ألا تخرجَ الليلة، فإنِّي قد رأيت في دجلةَ على الشطِّ أمرًا قد رابني، ولكن أقم الليلةَ مكانَك حتى أرجعَ، فأستعدَّ ثم آتيك القابلةَ ومعي رجالي، فإن حوربتُ دونك حاربت ومعي رجالٌ وعُدَّتي. فقال له محمَّد: ارجعْ إليه وقيل له: لا تَبْرَحْ، فإني خارجٌ الساعةَ لا مَحالة، ولست أقيم إلى غدٍ وقد تفرَّق عني أصحابي. ودعا بفرسٍ أدْهَمَ أغرَّ (¬3) مُحَجَّل كان يُسمِّيه الزُّهيري (¬4)، ثم دعا بابنيه، فضمَّهما ¬

_ (¬1) في (خ): قرن الغراة، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 482. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 482، والمنتظم 10/ 47. (¬3) في (خ): وادعى ... مغر، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 483. (¬4) كذا في مروج الذهب 6/ 476، وتاريخ الإِسلام 4/ 1051، وفي تاريخ الطبري: الزهريّ.

إليه وشمَّهما وقبَّلهما وبكى، وقال: أستودعكما الله، ثم ركب وخرج بين يديه شمعة، فنزل إلى الشطِّ، وركب في الحرَّاقة مع هَرْثَمَة. قال أحمد بنُ سلام صاحبُ المظالم: كنت مع هَرْثَمَةَ فيمن كان معه من القوَّاد في الحرَّاقة، فلما دخل محمَّد الحراقةَ قمنا إعظامًا له، وجثا هَرْثَمَةُ على ركبتيه وقال له: يا سيِّدي، لا أقدر على القيام؟ للنِّقْرِس (¬1) الذي بي، فاحتضنه وصيَّره في حجره، وجعل يقبِّل يديه ورِجليه وعينيه ويقول: يا سيِّدي ومولاي وابن مولاي. وأمر هَرْثَمَةُ بالحراقة أن تُدفع، فبينا نحن على ذلك، إذ شدَّ علينا أصحابُ طاهرٍ في الزَّواريق والسّفن، ورمَوا بالنّشَّاب والحجارة، فانكفأت الحرَّاقة، فغرق هَرْثَمَةُ وغرق محمَّد، فأما هَرْثَمَةُ فإنَّ الملَّاح تعلَّق بشَعره فأخرجه، وأما محمَّد فشق ثيابه وسبح. قال أحمد بنُ سلام: وتعلق بي رجلٌ من أصحاب طاهر، فمضى بي إلى رجلٍ قاعد على شاطئ دجلةَ على كرسيٍّ من حديدٍ وبين يديه نارٌ توقد، فقال الذي أخذني: هذا كان في الحرَّاقة فيمن غرقَ فأخذته، فقال لي الرجل: من أنت؟ قلت: من أصحاب هَرْثَمَة، أنا أحمد بنُ سلامٍ مولى أميرِ المؤمنين صاحبُ المظالم، فقال: كذبتَ فاصدقني، فقلت: قد صدقتك، قال: فما فعل المخلوع؟ قلت: رأيته شقَّ ثيابَه ورمى بنفسه في الماء، قال: فركب دابَّته، وجعل في عُنقي حَبْلًا، وجنبوني إلى جانب رجل، ومضى وأنا أعدو، فتعبتُ من العَدْو، فقمت، فقال الذي يجنبني: قد قام الرجلُ وليس فيه ما يَعْدو (¬2)، فقال: أنزل حُزَّ رأسه، فقلت: لمَ تقتلني وأنا رجل من الله في نعمةٍ ولا أقدر على العَدْو؟ ! وأنا أفدي نفسي بعشرة آلاف درهم، قال: وكيف لي بها؟ قلت: تحبسني عندك حتى أُرسلَ إلى وكيلي في عسكر المهديِّ في منزلي يحملها إليك، وإن لم آتِك فاضرب عنقي، فقال: قد أنصفت. ثم مضى بي [إلى] دار أبي صالح الكاتب، فأدخلني الدار، وأمر غلمانه أن يحتفظوا بي، وتفهَّم مني خبرَ محمَّد ووقوعَه في الماء، ومضى إلى طاهرٍ يُخبره خبرَه، فإذا هو إبراهيمُ البلخي. ¬

_ (¬1) النقرس: ورم ووجع في مفاصل الكعبين وأصابع الرجلين. القاموس المحيط (نقرس). (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 485: قد قام هذا الرجل وليس يعدو.

قال: وحبسني غِلمانُه في بيت من بيوت الدارِ فيه بوارٍ ووسائد، وفي زاويته (¬1) حُصُرٌ مُدرجة، وأوقدوا عليَّ سراجًا، فلمَّا ذهب من الليل ساعة، إذا بحركة الخيلِ ودقِّ الباب، ففُتح، فدخلوا وهم يقولون: بِسَر (¬2) زُبَيدة، فأُدخل محمَّد وهو عُريانُ عليه سراويلٌ وعمامة مُتَلثِّم بها، وعلى كتفيه خرقةٌ خَلَقة صغيرة، وخرجوا، فنظر إلي، فبكيت، فقال: مَن أنت؟ قلت: مولاك، قال: وأيّ الموالي؟ قلت: أحمد بنُ سلام صاحبُ المظالم، فقال: أعرفك، قد كنتَ تأتيني بالرقَّة ثم تُلطفني، وقال: لستَ مولاي، بل أنت أخي ومني، ثم قال: يا أحمد، أدنُ مني وضمَّني إليك، فإني أجد وَحْشةً شديدة، قال: فضممته إلى، فإذا قلبه يخفق خفقانًا شديدًا، فلم أزل أضُمّه حتى سكن. ثم قال: ما فعل أخي عبدُ الله؟ أحيٌّ هو؟ قلت: نعم، قال: قبَّح الله صاحبَ البريد ما أكذبَه، كان يقول: إنه مات، شِبهَ المُعْتَذِر من مُحاربته، قال: فقلت: بل قبَّح اللهُ وزراءك؛ فإنَّهم هم الذين أوردوك هذا المَوْرِد، فقال: يا أخي، لا تقل في وزرائي إلَّا خيرًا، ما لهم ذنب، ولستُ أوَّلَ مَن طلب أمرًا ففاته، وليس هذا بمَوْضع عِتاب، ثم قال: يا أحمد، ما تراهم يصنعون بي؟ أيقتلوني أم يَفون لي بأمانهم؟ قلت: بل يَفون لك يا سيِّدي، قال: وعليه خِرقةٌ لا تُواريه، وجعل يضمّها بيديه لئلَّا تقعَ عن كتفه، وعليَّ مبطنة، فنزعتها وقلت: اِلبسها يا مولاي، فقال: لا أفعل، مَن كانت هذه حالتَه فهذه الخِرقة له كثير، وبكى وبكيت، وجعل يستغفر ويتوب وبذكر الله. فبينا نحن على ذلك، إذا بداقٍّ يدقُّ الباب، فدخل، فإذا به محمَّد بن حُمَيد الطَّاهري، فنظر في وجهه وخرج، فعلمت أنه مقتولٌ لا محالة، فلمَّا كان بعد ساعةٍ وقد قمت لأُوترَ وهو يقول: يا أحمد، لا تبعد عني، وصلّ قريبًا مني، فإنِّي أجد وحشة، وإذا بحركة الخيل ودقِّ الباب، ففتح ودخل أصحابُ طاهرٍ من المعجم وبأيديهم السيوف مُسْلَلة، فلما رآهم محمد قام قائمًا، وجعل يسترجع ويقول: ذهبتْ نفسي في سبيل الله، أمَّا من حيلة! أما من مُغيث! أما من مُجير؟ ! وجاؤوا حتى قاموا على باب ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 485: فيه بوار ووسادتان أو ثلاث، وفي رواية. (¬2) أي: ابن، بالفارسية. المعجم الذهبي ص 157.

البيتِ الذي نحن فيه، وأحجموا عنه، وقمت خلف الحُصُر التي (¬1) في البيتِ، وأخذ محمَّد بيده وسادة وجعل يقول: ويحكم أنا ابنُ عمِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون، الله الله في دمي. فدخل عليه رجلٌ يقال له: خُمارويه، غلامٌ لقريشٍ الدنداني مولى طاهر، فضربه على رأسه بالسيف، وضربه محمَّد بالوسادة في وجهه، واتَّكأ عليه ليأخذَ السيف منه، فصاح خُمارويه (¬2) بالفارسية: قتلني قتلني، فدخل عليه جماعة، فنخسه واحدٌ منهم بالسيف في خاصرته فوقع، وركبوه فذبحوه ذبحًا من قفاه، وأخذوا جُثَّته وتركوها في جلٍّ (¬3) وحملوها، فلما طلع الفجرُ قالوا: هاتِ العشرةَ آلاف درهم، فأخذوها وخلَّوا سبيلي. قال أحمد: وبعث هَرْثَمَةُ إلى طاهرٍ عبدَ السَّلام بنَ العلاء صاحبَ حرسه يقول له: ما خبرُك؟ فقال طاهر: يا غلام، هات الطَّست، فجاء به وفيه رأسُ محمَّد فقال: هذا خبري، فأَعلِمْه. فلما عاد الرسولُ إلى هَرْثَمَةَ وأخبره بكى وقال: لعن اللهُ الأعور، فعلها. وأقام أيامًا حزينًا باكيًا، ثم أصبح طاهرٌ فنصب رأس محمَّد على البستان الذي يلي بابَ الأنبار، وفتحَ الباب، وخرج أهل بغدادَ ينظرون إليه وطاهرٌ يقول: هذا رأسُ المَخْلوع، وفي وجهه ضربةٌ وفي رأسه ضربة. وبعث طاهر بالرأس والقضيبِ والبُردة والخاتَم والمصلَّى -وكان من سَعَفٍ مُبَطَّن- إلى المأمون مع محمَّد بنِ مصعب (¬4) ابنِ عمِّ طاهر، فأَدخل الحسنُ بن الفضل الرأسَ على تُرْس إلى بين يدي المأمون، فلمَّا رآه سجد، وأمر للذي جاء به بألف دينار (¬5). وقال رجلٌ (¬6) من أهل خراسان: مَن قتله؟ قالوا: قُريش الدَّنداني، فقال: سبحانَ ¬

_ (¬1) في (خ): الذي. (¬2) في (خ): حمرويه، وفي المنتظم 10/ 47: حميرويه، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 487، وتاريخ الإِسلام 4/ 1052. (¬3) الجل: ما تلبسه الدابة لتصان به، يضم ويفتح. القاموس المحيط (جلل). (¬4) كذا في تاريخ الإِسلام 4/ 1053، والوافي بالوفيات 5/ 138، وفي تاريخ الطبري 8/ 488: محمَّد بن لحسن بن مصعب، وفي الكامل 6/ 287: محمَّد بن الحسين بن مصعب. (¬5) في تاريخ الطبري وتاريخ الإِسلام والوافي: ألف ألف درهم. (¬6) في (خ): لرجل، وما أثبتناه الصواب، وانظر تاريخ الطبري وابن الأثير.

الله! كنَّا نرى أنَّ قريشًا تقتله، فكنَّا نذهب إلى القبيلة، فوافق الاسمُ الاسمَ. ولمَّا وصل الرأس إلى مَروَ ورآه الفضلُ بن سهل، بكى وقال: لعن اللهُ الأعور، لقد سلَّ إلينا ألْسُنَ الناس وسيوفَهم، أمرناه أن يبعثَ به إلينا أسيرًا، فبعث به إلينا عَقيرًا، فقال له المأمون: قد كان ما كان، فاحتلْ في الاعتذار منه. وذكر الصُّولي أنَّ الرأس لما حضر عند المأمون، بكى وتحسَّر وتلهَّف، فقال له الفضل بنُ سهل: اِحْمَد الله الذي أراك عدوَّك في حالة يودُّ لو رآك في مثلها، فقال: أنا ومحمَّد كنا كما قال زهير (¬1): [من الوافر] شفيتُ النَّفْسَ من حَمَل بن بدرٍ ... وسيفي من حُذَيفَة قد شفاني فإنْ أكُ قد بَرَدْتُ بهم غليلي ... فلم أقطعْ بهم إلَّا بَناني ثم قال المأمون: إنِّي تذكَرت قليلَ محمد مع كثرة عُقوقه لي، أمر لي الرشيدُ يومًا بمئة ألفِ دينار وله بمئتي ألف دينار، فأتيته فبشَّرته، فقال: يا أخي لعل في نفسك من تفضيلي عليك ما تتأثَّر به، وقد وهبتَ لك الجميع، فأعطاني إياها. فقال له الفضل: كيف تَحْمَد على بَذْلِ المال مَن شَّح على بقاءِ النفْس؟ فقال: فذاك الذي يُسلِّيني عنه. وأمر بالرأس فطِيف بها في خُراسان. وكتب طاهرٌ إلى المأمون: أما بعد: فالحمد لله الكبيرِ المتعال، ذي العزَّة والجلال، الذي إذا أراد أمرًا فإنَّما يقول له: كن فيكون، وكان مما قدَّر [اللهُ] (¬2) وأحكم ودبَّر انتكاثُ المخلوع ببيعته، وارتكاسُه (¬3) في فتنته، وقضاؤه عليه بالقتل بما كسبت يداه، وأنَّ الله ليس بظَلَّام للعبيد، وقد كتبتُ إلى أمير المؤمنين أُخبره بإحاطة جند الله ببغداد، وإحداقِهم بطُرقها ومَسالكها، وسفنِها ومَعابرها ومَسالحِها، وحَدْري السفنَ والزَّواريق والمجانيقَ والمقاتلة إلى ما واجه الخُلدَ وبابَ خُراسان، تحفظًا بالمخلوع، وتخوُّفًا من أن يروغَ مَراغًا، أو يَسلكَ مَسلكًا يجد به السبيل إلى إقامة الفتنِ ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، والصواب: قيس بن زهير العبسي. انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 203، والتذكرة السعدية ص 63. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 489. (¬3) في (خ): ارتكابه، والمثبت من تاريخ الطبريّ.

وسفك الدِّماء، بعد أن خذله اللهُ وحصره، وبمتابعة (¬1) الرسلِ لي بما يعرض عليه هَرْثَمَةُ بن أعين، ويسألني من تخلية الطريقِ له في الخروج إليه، وكراهيتي ما أحدث وزراؤه في أمره بعد أن قطع الله رجاءه من كلِّ حيلة، وانقطاعِ المنافع عنه، وحيل بينهم وبين ما يشتهون من الماءِ وغيره، حتى همَّ به خدمه وأشياعُه من أهل المدينة، وعزموا على الوثوب به للدِّفاع عن أنفسهم. ثم إنِّي فكَّرت وروَّيت الفكر فيما دبَّره هَرْثَمَةُ في أمر المخلوع، وما عرض عليه وأجابه إليه، فوجدت الفتنةَ قائمة في تخلُّصه من موضعه الذي أنزله فيه الذل والصَّغار، وصيَّره فيه الضيقُ والحصار، لا يزيد ذلك أهلَ التربُّص في الأطراف إلا طمعًا وعتوًّا وانتشارًا، فأنكرت على هَرْثَمَةَ ما أطمعه فيه وأجابه إليه، فقال: لا سبيلَ إلى الرجوع عمَّا أعطيته. ثم اتَّفقوا على أن يسلِّمَ إلي رداءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وسيفَه وبُرْدَه والقَضيبَ والخاتم قبل خروجه، وأُخَلِّيَ له طريقَ الخروج إلى هَرْثَمَة، كراهيةَ أن يكون بيني وبينه اختلافٌ نصير منه إلى أمر يُطمع الأعداءَ فينا، واتفقنا على أن نجتمعَ عشيةَ السبت. فتوجَّهت في خاصَّة ثقاتي الذين أعتمد عليهم وأثق بهم إلى باب خُراسان، وكنت قد أعددت حرَّاقاتٍ لأركبَها بنفسي لوقت الميعادِ الذي بيني وبين هَرْثَمَة، فركبت فيها، وركبت معي خاصَّتي، وجعلت بين باب خُراسانَ والمَشْرعةِ فرسانًا ورجالة، وأقبل هَرْثَمَةُ حتى سار بقرب مشرعةِ باب خُراسانَ مُعِدّا مُسْتَعدًّا، وقد خاتلني بالرِّسالة إلى المخلوع؛ ليخرجَ إليه ويحملَ معه البردةَ والقضيب والخاتمَ فيسلِّم الجَميع إلى هَرْثَمَة، فلمَّا وافى المخلوعُ باب خُراسان، مرَّ بالذين وكَّلتهم بحفظ المشرعة، وكنت قد تقدَّمت إليهم ألا يمكِّنوا أحدًا من العبور إلَّا بأمري، فبادرهم نحوَ المشرعة، وقرَّب هَرْثَمَةُ إليه الحرَّاقة، فسبق الناكثُ أصحابي إليها، وتأخَّر كوثرٌ عنه ومعه رداءُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسيفُ والبُردة والقضيب والخاتَم، فظفر بكوثرٍ بعضُ أصحابي، وهو قريشٌ مولاي، فأخذه وأخذ ما معه. ¬

_ (¬1) معطوف على قوله: أخبره بإحاطة جند ...

فنفر بعضُ أصحاب المخلوعِ عندما رأوا من إرادة أصحابي منعَ المخلوع من الخروج، فبادر بعضُهم حراقةَ هَرْثَمَة، فتكفَّأت بهم، فغرق بعضُهم، ورمى المخلوعُ بنفسه من الحرَّاقة في دجلةَ متخلِّصًا إلى الشطّ، نادمًا على ما كان من خروجه، ناقضًا للعهد، داعيًا بشعاره، فابتدره عدَّة من أوليائي عَنوةً وقهرًا، بلا عقدٍ ولا عهد، فعرض عليهم مئةَ حَبَّة، ذُكر أنَّ قيمة كلِّ حبةٍ ألفُ درهم (¬1)، فأبوا إلا الوفاءَ لخليفتهم، وصيانةً لدينهم، وإيثارًا للحقِّ الواجب عليهم، فتعلَّقوا به كلٌّ يريد الحُظْوةَ عندي، وازدحمت عليه أسيافُهم، فأُتيح له مُتَغَيِّظ لله ودينه ورسولهِ وخليفته، فأتى عليه، وأصبح الناسُ بين مكذب ومصدِّق، فأزلتُ الشبهةَ بأن نصبتُ رأسه، فنظروا إليه ليَصِحَّ يَقينُهم (¬2)، وتنقطعَ أطماع نَغَل القلوب، فلْيهنِ أميرَ المؤمنين هذا الفتحُ العظيم، وأسأل الله العظيم أن يجمعَ له خيرَي الدنيا والآخرة. وبلغ إبراهيمَ بن المهديِّ كتابُه فقال: كذب الأعور، واللهِ ما قتله إلَّا عنادًا لله ولرسوله، وما ارتكب محمَّد ما يُستباح به دمُه، وإنَّ الأعور لتحدِّثه نفسه بأمورٍ سوف يُظهرها، وإنَّ في رأسه لغَدرة، أليس هو القائل مُفْتَخرًا: [من الوافر] مَلَكتُ الناسَ قَهْرًا واقتِسارًا ... وأذْلَلْتُ (¬3) الجَبابرةَ الكِبارا ووَجَّهْتُ الخلافةَ نحو مَرْوٍ ... إلى المأمون تَبتَدِرُ ابتدارا حَصَرْتُ المُتْرَفَ المَخلوعَ حتى ... نَسَجْتُ من الدِّماء له إزارا فتَكْتُ به برَغْم أُنوفِ قومٍ ... ولو نَطَقوا لصاروا حيث صارا وهو القائل: [من المتقارب] قتلتُ الخليفةَ في داره ... وأنْهَبْتُ بالسَّيف أمواله (¬4) وقال الصُّولي: تواترت على محمَّد أسبابٌ قبل قتله تدلُّ على إدبار أمره، جلس ليلةً وعنده إبراهيمُ بن المهديِّ في مَنْظَرةٍ بالخُلد، وكانت ليلةً مُقْمِرة، فاستدعى جاريةً له ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 491: مئة ألف درهم. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 492: بعينهم. (¬3) في تاريخ الطبري 8/ 499: قسرًا واقتدار وقتَّلت. (¬4) تاريخ الطبري 8/ 499.

اسمُها ضَعْف، قال إبراهيم: فتطيَّرتُ من اسمها، فقال لها: غنِّي، فغنَّت بأبيات النابغة (¬1): [من الطويل] كُلَيبٌ لَعَمْري كان أكثرَ ناصرًا ... وأيسَرَ ذنبًا منك ضُرِّج بالدَّمِ فتطيَّر وقال: غنِّي غيرَ هذا، فغنَّت: [من البسيط] أبكى فراقُهمُ عيني فأرَّقها ... إنَّ التفرُّق للأحباب بكَّاءُ ما زال يعدو عليهمْ ريبُ دهْرِهمُ ... حتى تفانَوا وريبُ الدهر عدَّاءُ (¬2) فقال لها: لعنكِ الله، أما تعرفين غيرَ هذا! فقالت: ما تغنَّيت إلَّا بما ظننت أنَك تحبه، فقال: غنِّي، فغنَّت: [من المنسرح] أما وربِّ السُّكون والحَرَكِ ... إنَّ المنايا كثيرةُ الشَّرَكِ (¬3) ما اختلف الليلُ والنهارُ ولا ... دارت نجومُ السَّماءِ في فَلَكِ إلا بنَقْل السلطانِ من مَلِكٍ ... عانٍ بحبِّ الدُّنا إلى مَلِك (¬4) ومُلكُ ذي العرشِ دائمًا أبدًا ... ليس بفانٍ ولا بمشتَرَك فلعنها وأقامها، وبين يديه قدحُ بلَّور طويلٌ من عجائب الأقداحِ صنعةً كان يسمِّيه زُبَّ رُبَّاح (¬5)، فعثرت الجاريةُ به فانكسر، فقال: يا إبراهيم، أما ترى؟ ! ما أظن أمري إلا قد قرب، وإذا بصوتٍ من دجلة يُسمع ولا يُرى له شخص: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] فقُتل بعد يومين. وقال السندي: جلس محمَّد ليلةً على بِساطٍ مُرَصَّع بالجواهر، وبين يديه عدَّةُ مُغَنِّيات، فغنَّت واحد وقالت: [من الطويل] ¬

_ (¬1) هو النابغة الجعدي، والبيت في ديوانه ص 143، وتاريخ الطبري 8/ 476 و 513. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 477، والأغاني 1/ 52، ومصارع العشاق 1/ 144، وتاريخ دمشق 65/ 243 دون نسبة. (¬3) كذا في تاريخ الخلفاء ص 300، وفي تاريخ دمشق 65/ 242: سريعة الدرك. (¬4) في المصادر اختلاف في رواية الشطر الثاني: انظر إضافة إلى المصدرين السابقين ديوان أبي العتاهية ص 274، وعيون الأخبار 2/ 307، والأغاني 4/ 105. (¬5) وهو ضرب من تمور البصرة. تاج العروس (ربح).

همُّ قتلوه كي يكونوا مكانَه ... كما غَدَرتْ يومًا بكسرى مَرازبُه (¬1) فتطيَّر منها وسبَّها، وقال لأخرى: غنِّي, فغنَّت: [من الكامل] مَن كان مَسرورًا بمَقْتَل مالك ... فليَأتِ نسوَتنا بوَسط نهارِ يَجِد النِّساءَ حَواسرًا يَنْدُبْنه ... قد قُمْنَ قبل تبَلُّج الأسحار (¬2) فبكى وقام، ورمى البِساطَ في دجلةَ وقال: [من مجزوء الكامل] يا نَفْسُ قد حَقَّ الحَذَر ... أين المَفَرُّ من القَدَرْ كلُّ امرئٍ ممَّا يخافُ ... ويَرْتَجيه على خَطَر مَن يَرتَشفْ صَفْوَ الزَّما ... نِ يَغَصُّ يومًا بالكَدَرْ وقال السِّندي: ومع هذا فما كان يصرف زمانَه إلَّا في اللهو واللعب، ولقد جلس يومًا على بِركةٍ فيها سَمَك، ورمى الشِّصَّ (¬3) ليصيدَ، وحجارةُ المجانيق تقع بين يديه، فقيل له: قم من ها هنا، فقال: حتى أتمِّمَ صيدي. واشتدَّ القتالُ يومًا على باب قصرِ الخُلد، وجاءت حجارةُ المنجنيق والشطَّارُ بين يديه يقاتلون، فقال لهم: تنحَّوا من ها هنا لئلَّا تُصيبَكم الحجارة؛ شفقةً عليهم. فقالوا له: إذا لم نقاتلْ نحن فقل لزبيدةَ تخرج تقاتل، فتمثَّل بقول الأفْوَهِ الأَوْدي وقال: [من البسيط] لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سراةَ لهم ... ولا سَراةَ إذا جُهَّالهمْ سادوا تُهدَى الأمورُ بأهل الرأي ما صَلَحَت ... فإنْ تَوَلَّت فبالأشرار تَنقاد (¬4) وقال المأمونُ للفضل بنِ سهل: قد كان لأخي رأيٌ لو عَمل به لظَفِر، قال: وما هو؟ قال: لو كتب إلى البلاد التي تحت أيدينا: خُراسانَ وطَبَرِسْتان والرَّيِّ وغيرِها بوضع ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 8/ 513، والبيت في أنساب الأشراف 5/ 248، والكامل 2/ 916، والأغاني 5/ 120 ضمن قصيدة للوليد بن عقبة بن أبي معيط في عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. والمرازب: جمع مَرْزُبان: وهو رئيس الفرس، أو الفارس الشجاع المقدم على القوم، وهو دون الملك في الرتبة. المعجم الوسط (رزب). (¬2) البيتان للربيع بن زياد العبسي، وهما في ديوان الحماسة 2/ 995 (بشرح المرزوقي)، وتاريخ الطبري 8/ 512 - 513، والأغاني 17/ 178، والخزانة 8/ 369. (¬3) الشص: حديدة عقفاء يصاد بها السمك. القاموس المحيط (شصص). (¬4) الديوان ص 10 (الطرائف الأدبية)، والشعر والشعراء 1/ 223، والأمالي 2/ 225، والحماسة البصرية 2/ 69.

الخراجِ سنة؛ لأنَّا كانا بين أمرين، إنْ طلبناه منهم قاتلونا، وإن لم نطلبه ضَعُفنا فتفرَّق الجندُ عنا، فقال الفضل: الحمدُ لله الذي ستر عنه هذا الرأي (¬1). وقُتل محمد في المُحَرَّم لست بقينَ منه سنةَ ثمانٍ وتسعين ومئة. [قال الصُّولي: ] وبويع في جُمادى الأولى سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومئة، فكانت خلافتُه أربعَ سنينَ وثمانيةَ أشهرٍ وأيامًا. [وقال الخطيب: ] (¬2) وسبعةَ أشهرٍ وثمانيةَ أيام. و [قال الصُّولي: ] خُلع لعشرٍ خلون من رجبٍ سنةَ ستٍّ وتسعين [ومئة] , وذلك بعد ثلاث سنينَ وخمسةٍ وعشرين (¬3) يومًا من خلافته، وحُبس يومين بالقبة الخضراء، فلم يجدوا مَن يرضون به، فأعادوه إلى الخلافة ببيعةٍ ثانية، ولم يزل في حربٍ وحصار سنةً وثلاثةَ عشرَ يومًا، ولم يُعلم خليفة قبل محمَّد خلع وحُبس (¬4) سواه. [قال: وطلب ماءً يشربه وكان قد عطش، فلم يجدوا ماء يسقونه به إلا في مَطْهرة.] (¬5) وقُتل وله ثمان وعشرون سنة. وكان على قضائه إسماعيلُ بن حمَّاد بنِ أبي حَنيفة، ثم أبو البَخْتَريّ وَهْبُ بن وهب، ومحمَّد بن سَمَاعة. وكتب المأمونُ إلى طاهر: اكتب إليَّ سيرةَ محمَّد، فكتب إليه: كان واسعَ الطَّرَب، ضَيِّقَ الأدب، تبيح (¬6) نفسُه ما تَعافُه هِمَمُ ذَوي الأقدار، يجمع الكتائبَ بالتَّبذير، ثم يُفرِّقها بسوء التدبير (¬7)، وكنَّا في وجهه أسودًا ضاريه، تُمسي وفي أشداقها خَلوقُ النَّاكثين، وتُصبح وتحت صدورِها صدورُ المارقين، وإنَّ الله يأخذ بدمه يومَ القيامة ¬

_ (¬1) من قوله: ذكر مقتله ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) في (خ): وقيل. وكلام الخطيب في تاريخ بغداد 4/ 542. (¬3) في (خ): وسبعين، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد 4/ 541. (¬4) بعدها في (ب): يومين أو ثلاثة. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ): تعب، والمثبت من زهر الآداب 1/ 539. (¬7) في (خ): يجمع الكتائب بالتدبير ثم يفرقها بالتدبير، والمثبت من زهر الآداب.

ثلاثة، لا أنا ولا أنت منهم، الفضلُ بن الربيع، وعليُّ بن عيسى بن ماهان، وبكرُ بن المُعْتَمِر. ذِكر مراثيه: [قد رثى محمَّدًا جماعة، قال عمر بن شَبَّة: ] تزوَّج الأمينُ لُبابةَ بنت عليِّ بن المهدي، فقُتل قبل أن يدخلَ بها، فقالت -وقيل: إنَّهما لابنة عيسى بنِ جعفر، و [الأصحُّ أن البيتين لها؛ لأنَّها] (¬1) كانت مُمْلَكة عليه ولم يدخلْ بها-: [من المنسرح] أبكيكَ لا للنَّعيم والأنسِ ... بل للمَعالي والرُّمح والفَرَسِ (¬2) أبكي على هالكٍ فُجِعْتُ به ... أَرْمَلَني قبل ليلةِ العُرس وقيل للُبابة: ألا ترين توانيَ محمَّد واشتغاله عن عَدوِّه بلَهْوه ولَعِبه؟ ! فقالت: مَن ستر عينيه جريانُ القدر عن طريق الحَذَر، ألهاه الأمَلُ عن الفكر في الأجل، وللخلق غايةٌ هم بالغوها، عن نعيمٍ أو بؤس، كلُّ ذلك بتقدير العزيزِ العلم، في لوحٍ محفوظ، تتنزَّل به أقضيتُه على مَن يشاء من خلقه. وقال الحسين بن الضحَّاك مولى باهلة [وكان من ندمائه هذه الأبيات] (¬3): يا خيرَ أُسرتِه وإن زعموا ... إني عليك لَمُشْفِقٌ أسفُ اللهُ يعلم أنَّ لي كَبِدًا ... حرَّى عليك ومُقْلَةً تَكِف هلَّا بقيتَ لسَدِّ فاقتِنا ... أبدًا وكان لغيرك التَّلَف فلقد خَلفتَ خلائفًا سلفوا ... ولسوف يُعوزُ بعدك الخَلَف هَتَكوا بحُرْمَتك التي هُتِكَت ... حُرَمَ الرَّسول ودونها السُّجُف هيهات بعدك أن يدومَ لنا ... عِزٌّ وأن يَبقى لنا شَرَف قد كنتَ لي أملًا غَنِيتُ به ... فمضى وحل مَحَلَّه الأَسَف ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 501، ومروج الذهب 6/ 485: والترس. والمثبت موافق لما في البيان والتبيين 3/ 202، والحيوان 3/ 90، والكامل 3/ 1464، والعقد الفريد 3/ 277، والمنتظم 10/ 70. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر الأبيات في تاريخ الطبري 8/ 501 - 502، وابن الأثير 6/ 289. والبيت الثالث والرابع في الأغاني 7/ 148 أيضًا.

من أبيات. وقال أيضًا: [من الطويل] أطِل حَزنًا وابكِ الأمينَ محمَّدا ... إنْ خِفْتَ أن تلقى حُسامًا مُهَنَّدا لحا اللهُ قومًا أسلموك وظاهروا ... عليك لَعينًا فاسِقًا مُتَمَرِّدا فلا وَجدوا للعَيْش بعدك لَذَّةً ... ولا بَرِحوا من حُرمَةِ الخَوف والرَّدى فقد كنتَ خيرَ الناس غيرَ مُدافَعٍ ... وأشرفَهم نَفْسًا وأزكاه مَحْتِدا وأكرمَه عَفْوًا وأعلاه همَّةً ... وأسبقَه جُودًا وأجودَه يدا ولا تمَّت الأشياءُ بعد محمَّد ... ولا زال شَمْلُ المُلك فيه مُبدَّدا ولا فرح المأمونُ بالمُلك بعده ... ولا زال في الدنيا طَريدًا مُشَرَّدا (¬1) وقال أبو نُواس: [من الطويل] طَوى الموتُ ما بيني وبين محمَّد ... وليس لما تطوي المَنيةُ ناشرُ وكنتُ عليه أحْذَرُ [الموتَ] (¬2) وَحْدَه ... فلم يَبقَ لي شيءٌ عليه أُحاذِرُ لَئن عَمَرتْ دورٌ بمَن إلَّا أُحبُّه ... لقد عَمَرت ممَّن أحبُّ المقابر وهذا المعنى أخذه أبو نُواسٍ من امرأة، فإنَّه اجتاز بمَقبُرة، فرأى امرأةً تبكي عند قبرٍ قد مات ولدُها وهي تقول: إنَّ فقدي إياك أنساني فقدَ سواك، وإنَّ مُصيبتي بك هَوَّنت عليَّ المصائب، ثم قالت: [من مجزوء الكامل] كنتَ السَّوادَ لمُقْلَةٍ ... فبكى عليك النّاظِرُ (¬3) مَن شاء بعدك فليَمُتْ ... فعليك كنت أُحاذِز وقال إبراهيم بنُ المهدي وكتب بها إلى المأمون يُخبره أنَّهم ذبحوه من خلفِ قفاه، ولفُّوا جُثَّته في [جُل وألقَوه] في دِجلة (¬4): [من السريع] ¬

_ (¬1) انظر بعض هذه الأبيات في الأغاني 7/ 150 و 165 - 166، والتذكرة الحمدونية 2/ 131، وتاريخ الإِسلام 5/ 356. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو الموافق للديوان ص 342. (¬3) في (ب) و (خ): تبكي عليك وناظر, والمثبت من ديوان إبراهيم الصولي ص 169 (الطرائف الأدبية)، والعقد الفريد 3/ 254، والبصائر والذخائر 8/ 142، والتذكرة الحمدونية، ووفيات الأعيان 1/ 47. (¬4) في (خ): وألقوا جثته في دجلة.

لم يَكفِهِ أن حَزَّ أوداجَه ... نحْرَ الهدايا بمُدى الجازِرِ حتى انْبَرى يسْحَبُ أوصاله ... في شَطَنٍ يُفني مَدَى السَّائر فأَبلِغا المأمونَ عنِّي فقد ... زيد على المأمورِ والآمر (¬1) قولًا له يا ابنَ سَليلِ الهُدى (¬2) ... طَهِّرْ بلادَ اللهِ من طاهر من أبيات. فلمَّا قرأها المأمونُ اشتدَّ عليه. وقالت زُبيدة [أمُّ الأمين] (¬3) -وقيل: إنَّ خُزَيمة بنَ الحسن قالها على لسانها: [من المديد] قد رأيتُ الخُلْدَ يُنْتَهَبُ ... وأَجيجُ النَّارِ تلتَهبُ [وبه الأبكارُ صارخةٌ ... ضجَّ منها الوَيلُ والحَرَب] وأميرُ المؤمنين على التُّرْبِ ... والأوداجُ تَنْشَخِبُ (¬4) ضربوه فوق مَفْرِقه ... وَيحهم يَدرون مَن ضربوا لو يكن بالرُّوم مَقتَلُه ... لَبَكَتْه الرومُ والصُّلُب أبصرتْ عيناي ويحهما ... عَجَبًا ما مثلُه عَجَب جسمَ روحٍ صَريخَ له ... رأسه للناس قد نَصَبوا [فأتى ما لا أقَدِّره ... وحُتوف المرء تُجْتَلب فصَبَرْتُ النَّفْسَ كارهةً ... ودموعي الدَّهرَ تَنْسَكِبُ] (¬5) فحَياتي ما حَييتُ كُدًى ... أو توراي وَجْهيَ التُّرُبُ فعليه ما بدا فَلَقٌ ... رَحْمةُ الرَّحمن تُرْتَقَبُ وقال عن لسانها -وكتبت بها إلى المأمونِ أخي الأمين (¬6): [من الطويل] ¬

_ (¬1) رواية الطبري 8/ 489، وابن الأثير 6/ 288: وأبلغا عني مقالًا إلى الـ ... ـمولى على المأمور والآمر (¬2) في تاريخ الطبري: ولي الهدى، وفي تاريخ ابن الأثير: أبي الناصر. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) أي: تنفجر. مختار الصحاح (شخب). (¬5) الأبيات التي بين حاصرتين من (ب). ولم نقف على القصيدة. (¬6) نسبت القصيدة لخزيمة بن الحسن في تاريخ الطبري 8/ 506، وابن الأثير 6/ 290، ونسبت في العقد الفريد 3 / =

لِخيرِ إمامٍ قام من خير عُنْصُرٍ ... وأفضلِ سامٍ فوق أعوادِ مِنْبَرِ لِوارث علمِ الأوَّلين ومَلْكِهم ... إلى المَلِك المأمون من أمِّ جعفرِ كتبتُ وعيني تَسْتَهِلُّ دُموعُها ... إليك بحُزني (¬1) من جُفوني ومَحْجِري وقد مَسَّني ضُرٌّ وذُلٌّ ونَكْبَةٌ (¬2) ... وأرَّق عَيني حَسْرَتي وتَذَكُّري (¬3) سأشكو الذي لاقيتُ من بعد فَقْدِه ... إليك شَكاةَ المُسْتَضامِ (¬4) المُقَهَّر أُصِبْتُ بأدنى الناس منكَ قَرابةً ... ومَن هو لي رُوحٌ فعِيلَ تَصَبُّري (¬5) أتى طاهرٌ لا طهَّر اللهُ طاهرًا ... فما طاهرٌ فيما أتى بمُطهَّر فأبْرَزَني مَكشوفةَ الوجهِ حاسِرًا ... وأنْهَبَ أموالي وأحرق آدُري (¬6) وعزَّ على هارونَ ما قد لقيتُه ... وما مرَّ بي من ناقِصِ الخَلْقِ أعور فإنْ كان ما أسدى (¬7) بأمرٍ أمَرْتَه ... صَبَرْتُ لأمرٍ من قديرٍ مُقَدِّر وإنْ تكن الأخرى فغيرُ مُدافَعٍ ... إليك أميرَ المؤمنين فغيِّرِ تذكَر أميرَ المؤمنين قَرابتي ... فدَيتُك من ذي حُرْمَةٍ مُتَذَكِّر فلمَّا قرأها المأمونُ بكى وتلهَّف. ذِكرُ أزواجه وأولاده: كان له من الولد موسى وعبدُ الله وعيسى وإبراهيم. وأمَّا نساؤه، فقد ذكرنا اثنتين لم يدخلْ بهما، وكان له عدَّة سراري. وأسند الحديثَ عن أبيه عن جده. [قال علماء السير: ] لما قُتل محمَّد، أعطى طاهرٌ الأمان للناس عامة، ودخل يومَ الجمعة مدينةَ المنصور، فخطب بالناس وصلَّى بهم، فكان من خطبته -وقد حضرها بنو ¬

_ = 261، والأغاني 20/ 304 - ولم يذكر إلا البيت الأول- لأبي العتاهية، وهي في تكملة ديوانه ص 549 - 550. (¬1) في المصادر: ابن عمي، وفي العقد الفريد: ابن يعلى. (¬2) في تاريخ الطبري وابن الأثير: ذل كآبة. والبيت غير موجود في باقي المصادر. (¬3) في تاريخ الطبري وابن الأثير: يابن عمي تفكري. (¬4) في تاريخ ابن الأثير: المستضيم، وفي بعض نسخه وتاريخ الطبري: المستهام. (¬5) هذا البيت ليس في تاريخ الطبري وابن الأثير، وفي باقي المصادر اختلاف عما هنا. (¬6) كذا في تاريخ الطبري، وفي باقي المصادر: أدوري. وكلاهما جمع دار. (¬7) في (خ): يأتي، وفي تاريخ ابن الأثير: أبدى، والمثبت من تكملة الديوان وتاريخ الطبري ومروج الذهب 6/ 486.

[يحيى بن سعيد

هاشمٍ والقوَّاد وغيرهم: الحمدُ لله {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] الآية. وحضَّ على الطاعة، ونهى عن الفتنة. ثم قال: إنَّ الله لا يُصلح عملَ المفسدين، ولا يَهدي كيدَ الخائنين، إنَّ ظهورَنا لم يكن عن أبيدٍ منا، بل اختيار اللهِ عزَّ وجلّ، ونُصرتُه لخلافته التي جعلها عمادًا لعباده، وقوامًا لبلاده، وضبطًا لأطراف الثُّغور، وسدَّها، وجمعَ الفيءِ والغنائم، وإنفاذَ الأحكام، وإقامةَ العدل، وإحياءَ السنَّة، بعد جرِّ أذيال الفتنةِ والبطالة، والتلذُّذِ بالشهوات، وغمز محمَّدًا، وحثَّ على طاعة المأمون، ثم نزل. ولمَّا كان بعد مقتل محمَّد بخمسة أيام، وثب الجندُ بطاهرٍ وشغبوا عليه، ولم يكن في يده مال، فانهزم من البستان، ونهبوا متاعَه، فهرب إلى عَقْرَقُوف، وكان قد أمر بحفظ أبوابِ بغدادَ، والاحتياطِ على أمِّ جعفر وموسى وعبدِ الله ابني محمَّد، ثم بعث بهما بعد ذلك إلى المأمون. ولما وثب الجندُ بطاهر، أحرقوا بابَ الأنبار وبابَ البستان وشهروا السلاح، ونادَوا موسى بنَ محمَّد: يا منصور، ورجع طاهرٌ من عقرقوف لقتالهم، وعلموا أنَّ موسى وعبدَ الله قد بعث بهما طاهر إلى خُراسان، فيئسوا، فعادوا إلى صلح طاهر، فعفا عنهم وشرط عليهم ألا يخرجوا عليه. [يحيى بنُ سعيد ابن فَرُّوخٍ القَطَّان. ذكره ابنُ سعد في الطبقة السادسةِ من أهل البصرة، قال: ويُكنى أبا سعيد، وكان ثقةً مأمونًا رفيعًا، وتوفي يحيى بنُ سعيد بالبصرة في صفرٍ سنةَ ثمانٍ وتسعين ومئة في خلافة عبد الله بن هارون. هذا صورةُ ما ذكر ابنُ سعد (¬1)، وذكره الخطيبُ (¬2) فقال: هو مولى بني تميم، ولد سنةَ عشرين ومئة، وكان عالمًا فاضلًا عابدًا. ¬

_ (¬1) في طبقاته 9/ 294. وهذه الترجمة ليست في (خ)، وانظر المنتظم 10/ 72، وتاريخ الإِسلام 4/ 1244. (¬2) في تاريخه 16/ 203.

وحكى الخطيب (¬1) [عن] ابن مَعينٍ قال: أقام يحيى يختم القرآنَ كلَّ ليلة عشرين سنة، ولم يَفُته الزَّوالُ في المسجد أربعين سنة، وما رُئي يطلب جماعة قط. ولم يدخل حمَّامًا، ولا ادَّهن ولا اكتحل، ولا ضحك إلَّا متبسِّما، وكان يتواجد إذا سمع القرآن. قال أبو نعيم بإسناده إلى علي بن عبد الله قال: كنا عند يحيى بن سعيد، فقال لرجل: اقرأ، فقرأ: حم الدخان، فتغير وجه يحيى، فلما وصل: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)} [الدخان: 40] صَعِقَ يحيى وغُشي عليه، وارتفع صدرُه من الأرض، تقوَّس وانقلب، فأصاب الباب فَقار ظهره (¬2)، وسال الدم، وصرخ الناس، فما زالت به تلك القَرحةُ حتى مات. وسئل الإمامُ أحمد بن حنبلٍ فقيل له: إنَّ أناسًا يُغشى عليهم ويَصعَقون عند سماع القرآنِ والوعظ؟ فقال: لا بأسَ به، قد فعله يحيى بنُ سعيد القطان، ولو كان به بأسٌ ما فعله. وقال أبو نُعيم (¬3): قيل ليحيى في مرضه: يعافيك الله، فقال: أَحبُّه إليَّ أَحبُّه إليه. واتَّفقوا على أنَّه مات في هذه السَّنة بالبصرة. وروى الخطيب عن [عبد الله بنِ] (¬4) سَوَّار بن عبد الله قال: رأيت في المنام كتابًا متعلَّقًا بين السماء والأرض، فقرأته، فإذا فيه: هذا كتابُ براءةٍ من الله تعالى ليحيى بنِ سعيدٍ القطَّان الأحول، قال الخطيب: وكان أحول. واتَّفقوا على صدقه وورعه وثقته.] * * * ¬

_ (¬1) في تاريخه 16/ 212. (¬2) في الحلية 8/ 382: فغار صدره، والمثبت موافق لما في السير 9/ 184. (¬3) في الحلية 8/ 381. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 16/ 213.

السنة التاسعة والتسعون بعد المئة

السَّنة التاسعة والتِّسعون بعد المئة فيها قدم الحسن بن سَهْلٍ من عند المأمونِ إلى بغدادَ مُستَقلًّا بالولايات. وشخص طاهرٌ إلى الرقَّة في جُمادى الأولى، وشخص هَرْثَمَةُ إلى خُراسان. وفيها خرج بالكوفة محمَّدُ بن إبراهيمَ [ابنِ إسماعيلَ بن إبراهيم] (¬1) بن الحسن بنِ الحسن بن عليِّ بن أبي طالب يوم الخميس لعشرٍ خَلَون من جمادى الآخرة، يدعو إلى الرضا من آل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - والعملِ بالكتاب والسنَّة. ومحمَّد هذا يقال له: ابن طَبَاطَبَا، وكان القيَمَ بأمره في الحرب وغيرِها أبو السَّرايا [واسمه] السريُّ بن منصور، ويزعم أنَّه من ولد هانئ بن قَبيصةَ [بن هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي رَبيعة بن ذهْل بن شَيبان] الشيباني. و[اختلفوا في] سبب خروجه [يعني خروج ابن طباطبا، فقال بعضُهم: سببه] (¬2) صَرفُ المأمون طاهرًا عن العراق، وتوليةُ الحسن بن سهل [أخي الفضل بن سهل] العراق، وأنَّ الفضل بنَ سهل قد غلب على المأمون، وأنَّه أنزله قصرًا حجبه فيه عن أهل بيته وقوَّاده وخاصَّه، وتحدَّث الناس بذلك في العراق [فيما بينهم] , وأنَّ الفضل يُبرم الأمور دون المأمون، فغضب مَن بالعراق من بني هاشمٍ ووجوهِ الناس، وأَنِفوا من غلبة الفضلِ على المأمون، ووقع الخلف، وهاجت الفتن في الأمصار، فكان ابن طبَاطبا أول خارج بالكوفة، عليها وعلى سوادها, وأجابه الأعراب من كلِّ مكان. وقيل (¬3): كان أبو السَّرايا من أصحاب هرثمة، طلب منه رزقَه فمَطَله، فغضب ومضى إلى الكوفة، فبايع ابنَ طباطَبا، وأطاعه أهل الكوفة [وبلغ الخبرُ إلى الحسن بنِ سهل] وكان على الكوفة سليمان بن أبي جعفر المنصور من قبل الحسن [بن سهل] فعنف الحسن [سليمان] على وتخلُّفه، وضعْفه, [الحسن]، زُهَير بن المسيب في ¬

_ (¬1) مما بين حاصرتين من (ب)، وهو الموافق لما في المصادر، انظر الطبري 8/ 528، والمنتظم 10/ 73، وتاريخ الإِسلام 4/ 1056. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب): وقال آخرون.

عشرة آلافٍ إلى الكوفة، فخرج إليه أبو السَّرايا، فالتقاه على القَنْطرة يومَ الخميس لليلةٍ خلت من رجب، فهزمه أبو السرايا، واستباح عسكرَه، وأخذ ما فيه [من مال وسلاح] وهرب زهير، وأصبح محمَّد بن طباطَبا ميِّتًا ثانيَ يوم الوقعة، فيقال: إنَّ أبا السرايا أخذ الأموال، فطلبها منه محمَّد فمنعه إياها، وعلم أنَّه لا أمرَ له معه، فسمَّه وأقام مكانَه صبيًّا أمردَ حَدَثًا يقال له: محمد بنُ محمَّد بنِ زيد بن عليِّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فكان أبو السرايا هو الذي يتولَّى الأمور، ومحمَّد بن محمَّد معه صورةً، ورجع زهيرٌ من يومه الذي هُزم فيه فأقام بقصر ابن هُبَيرة. وكان الحسن بن سهل قد جهَّز عَبْدوسَ بن محمَّد بنِ أبي خالدٍ المَرْوَرُّوذي (¬1) إلى النِّيل، فلما بلغه هزيمةُ زهيرٍ قصد الكوفةَ في أربعة آلاف، فلقيه أبو السرايا يومَ الأحد لثلاثَ عشرةَ بقيت من رجب، فقتله، وأسر هارونَ ابن أبي خالد، واستباح عسكره، ولم يُفلت من الأربعة آلافٍ أحد، كانوا بين قَتيلٍ وجَريح وأَسير، وبلغ زهيرًا قتلُ عَبْدوس، فانحاز بمن معه إلى نهر الملك، وضربِ أبو السَّرايا الدراهمَ ونقش حولها: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4] وانتشر الطالبيون في البلاد. ثم خرج أبو السرايا من الكوفة، فنزل قصرَ ابن هبيرة، وكانت طلائعُه تصل إلى كُوْثَى ونهرِ الملك، وبعث [أبو السرايا] (¬2) جيوشًا إلى واسط والبصرة، وكان بواسطٍ عبدُ الله بن سعيدٍ الحَرَشيّ واليًا عليها من قِبَل الحسن [بنِ سهل] فخرج إليهم، فهزموه، فهرب إلى بغدادَ وقد قُتل من أصحابه جماعة وأُسر آخرون، فلمَّا رأى الحسن أنَّ أبا السرايا ومَن معه لا يَلقَون له جيشًا إلَّا هزموه، وليس معه من القوَّاد مَن يقوم بحربه، اضطرَّ إلى هَرْثَمَة. وكان هَرثَمَةُ لما قدم الحسنُ بغدادَ بيده أعمال، فسلَّمها إلى الحسن، ومضى مُغاضِبًا له إلى خُراسان، فأرسل الحسنُ خلفه صالحًا صاحبَ المصلَّى، والسنديَّ (¬3) وجماعةً من القوَّاد ليردُّوه إلى العراق، فصادفوه بحُلوان، وسألوه الرجوعَ إلى بغداد ¬

_ (¬1) في (خ): المروزي، وفي (ب): البروري، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 530، وابن الأثير 6/ 305، وتاريخ الإِسلام 4/ 1056، وانظر المنتظم 10/ 74. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): صاحب المصلى السندي، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 530، والمنتظم 10/ 75.

فامتنع، فلاطفه السِّندي، فعاد إلى بغدادَ في شعبانَ وتهيَّأ للخروج إلى أبي السرايا، وبعث الحسنُ عليَّ بن أبي سعيدٍ إلى المدائن وواسط، وبلغ أبا السَّرايا أنَّهم على عزم ذلك وهو بقصر ابنِ هُبَيرة، فوجَّه بعض أصحابه إلى المدائن فدخلوها، وجاء بنفسه فنزل نهرَ صَرْصَرَ مما يلي طريقَ الكوفة في شهر رمضان. وكان الحسن لما تأخرَّ قدومُ هَرْثَمَةَ عليه أمر منصور بنَ المهديّ أن يخرجَ فيعسكرَ بالياسرية (¬1) إلى حين قدومِ هَرْثَمَة، فخرج فعسكر بها، فلمَّا قدم هَرْثَمَة خرج فعسكر بين يدي منصور، ثم مضى حتى عسكر بنهر صَرْصَرَ بإزاء أبي السرايا والنهرُ بينهما، وكان عليُّ بن أبي سعيدٍ قد عسكر بكَلْواذى، فشخص على يوم الثلاثاء بعد الفطرِ بيوم، ووجَّه مقدِّمتَه نحو المدائن، فقاتلوا أصحابَ أبي السرايا غداةَ الخميس إلى الليل قتالًا شديدًا، فانكشف أصحابُ أبي السرايا، وأخذ عليٌّ المدائن، وبلغ أبا السرايا أَخْذُ على المدائن، فرجع يومَ السبت لخمسٍ خلون من شوَّالٍ إلى قصر ابنِ هبيرة فنزل به، ورحل هَرْثَمَةُ من صرصرَ طالبًا له، فلقي في طريقه جماعة كبيرة من أصحاب أبي السرايا، فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحسن بنِ سهل، فلمَّا صار هَرْثَمَةُ إلى قصر ابنِ هبيرة، كانت بينه وبين أبي السرايا [وقعةٌ قُتل فيها من أصحاب أبي السرايا] (¬2) خلقٌ كثير. وانحاز أبو السرايا إلى الكوفة، ووثب محمَّد بن محمد ومَن معه من الطالبيين على دورِ مَن بالكوفة من بني العباس، ودورِ مَواليهم وأَتباعهم، فأنهبوها وهدموها وحرقوها، وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا أعمالًا قبيحة، واستخرجوا الودائعَ التي كانت لهم عند الناسِ فأخذوها، وكان هَرْثَمَةُ يذكر أنَّه يريد الحجَ في هذه السنة، فحبس حاجَّ خُراسانَ والجبالِ والعراق والجزيرة وبغداد، فلم يدعْ أحدًا يخرج؛ رجاءَ أن يأخذَ الكوفة فيكونَ هو صاحبَ الموسم (¬3). وبعث أبو السرايا إلى مكةَ حسينَ بن حسن بن علي [بن علي] (¬4) بن حسين (¬5) بن ¬

_ (¬1) في (خ): بالناس به، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 531. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 531، وابن الأثير 6/ 306، وانظر المنتظم 10/ 75. (¬3) من قوله: فلما رأى الحسن أن أبا السرايا ومن معه ... إلى هنا ليس في (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من الكامل 6/ 306، وتاريخ الإِسلام 4/ 1057، ومطبوع البداية والنهاية 14/ 111. (¬5) في (خ) و (ب): حسن، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 532، والمنتظم 10/ 76، والكامل، وتاريخ الإِسلام، والبداية والنهاية.

عليِّ بن أبي طالب، ويقال له: الأفطس (¬1)، وبعث إلى المدينة محمد بن سليمانَ بنِ داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان على مكةَ والمدينةِ داودُ بن عيسى بنِ موسى بن محمَّد بن عليّ. فأما محمَّد بنُ سليمان، فدخل المدينةَ ولم يقاتلْه أحد، وأما حسين بنُ حسن، فإنَه لمَّا قرب من مكةَ توقَّف عن الدخول، لأجل داودَ بن عيسى ومَن فيها من الأشراف والجند، وكان داودُ لما بلغه وصولُ حسين بنِ حسن، جمع العبيدَ ومواليَ بني العباس، وكان مَسرورٌ (¬2) الكبير قد حجَّ في هذه السنة ومعه مئتا فارسٍ من أصحابه، فقال مسرورٌ لداود: قف لأرى شخصَك، أو أَقِم بعضَ ولدك وأنا أكفيك قتالهم، فقال داود: لا أستحلُّ القتال في حَرَم الله، ولئن دخلوا من هذا الفجِّ لأخرجنَّ من الفجِّ الآخرَ، فقال مسرور: تسلِّم سلطانَك وملكك إلى عدوِّك؟ ! فقال: وأيُّ ملك إليّ، واللهِ لقد أقمتُ معهم حتى شِخت، فما ولَّوني ولايةً حتى كبرت سنِّي وفني عمري، فولَّوني الحجازَ وليس فيه قُوت، وإنَّما هذا الملكُ لك ولأمثالك، فقاتِلْ إن شئت أو دَعْ. وانحاز داودُ من مكةَ إلى ناحية المُشاش، وشدَّ أثقاله على الإبل واستقبل بها طريقَ العراق، وافتعل كتابًا من المأمون بتولية ابنه محمَّد بن داودَ على صَلاة الموسم، وقال له: اخرج فصلِّ بالناس الظهرَ والعصر والمغربَ والعشاء بمِنى، وبِتْ بها، وصلِّ بالناس الفجر، ثم انطلق إلى طريق عَرَفة، وخذ على يسارك في شعب عَمرٍو (¬3) حتى تأخذَ على طريق المُشاش، والحقني ببستان بني عامر، ففعل محمَّد ذلك ولم يقف بعرفة. وافترق الجمعُ الذين كان داودُ قد جمعهم من الموالي والعبيد، وخشي مسرورٌ إنْ قاتل الطالبيين أن يميلَ معهم أكثرُ الناس، فلحق بداودَ إلى بستان بني عامر ولم يقف بعرفة، فلمَّا زالت الشمس تدافع قومٌ من أهل مكةَ الصلاة، وقال الناسُ لمحمَّد بنِ عبد الرَّحمن المخزوميِّ قاضي مكة: تقدَّم فاخطب وصلِّ بالناس الظهرَ والعصر، فإنَّك قاضي البلد، فقال: قد هرب الإِمام، فلمن أدعو والطالبيُّون قد أطلوا علينا؟ ! وقالوا: ¬

_ (¬1) الأفطس لقب والده الحسن، كما في المصادر، وما بعدها إلى الترجمة التالية ليس في (ب). (¬2) في (خ): مسور في الموضعين، والمثبت من المصادر. (¬3) في (خ): عمر، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 532، وتاريخ الإِسلام 4/ 1058.

سليمان بن أبي جعفر المنصور

لا تدعُ لأحد. فأبى، فقدَّموا رجلًا من أهل مكَّة، فصلَّى بالناس الصلاتين بغير خُطبة. ثم وقف الناس بعرفةَ بغير إمام، وحسينُ بن حسن واقف بسَرِف، فخاف أن يدخلَ مكة، فخرج إليه قومٌ من الطالبيين فأخبروه أنَّ البلد ليس فيه أحد، وأنهم قد خرجوا متوجهين إلى العراق، فدخل حسينٌ مكة يومَ عرفةَ قبل المغرب، ومعه أناسٌ دون العشرة، فطافوا بالبيت، وسعَوا بين الصَّفا المروة، ثم توجَّهوا إلى عرفةَ في الليل فوقفوا بها، ثم رجعوا إلى مزدلفة، فصلَّى حسين بالناس الفجرَ بعد أن وقف على قُزَحَ (¬1) ساعة من الليل، ثم أقام بمِنى أيامَ الحج، ثم دخل مكَّة، فأقام بها حتى انقضت هذه السَّنة، وأقام محمَّد بن سليمانَ بالمدينة، وانصرف الناس من مكةَ وقد أفاضوا بغير إمام. وأما هَرْثَمَة، فواقع أبا السَّرايا في المكان الذي واقع به أبو السرايا زهيرًا، وقيل: عند قريةٍ يقال لها: شاهي، فكانت الهزيمة في أوَّل النهارِ على هَرْثَمَة، وفي آخره على أبي السرايا، وكان هَرْثَمَةُ حريصًا على الحج، فلمَّا رأى أنَّه لا يقدر عليه، خاف على الحاجِّ من أبي السرايا، فردَّهم إلى بغداد، وتفرَّقوا في كلِّ وجه، وشرع هَرْثَمَةُ فكاتب وجوهَ الكوفة وأشرافَها. فصل وفيها توفي سليمانُ بن أبي جعفرٍ المنصور وكُنيته أبو أيوب. ولي دمشقَ وغيرها، وكان جَوادًا. [قال الخطيب (¬2): وإليه يُنسب دربُ سليمانَ ببغداد. وروى أبو الفضل بنُ ناصرٍ له حكايةً فقال: حدَّثنا المبارك بنُ عبد الجبَّار بإسناده إلى محمَّد بنِ الحسن، عن أمِّ إبراهيمَ بنتِ جميل، عن] عُبيد اللهِ الشَّرَوي (¬3) قَهرَمانِ [سليمانَ بن أبي جعفر] (¬4): مرض سليمان، فعاده الرشيد، فرأى عنده جاريةً فائقة ¬

_ (¬1) جبل بالمزدلفة. القاموس المحيط (قزح). (¬2) في تاريخه 10/ 31، وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب): السروري، والمثبت من (خ)، وهو الموافق لما في المنتظم 10/ 78. (¬4) في (خ): قال عبيد الله الشروي قهرمانه ...

أبو الحسن البصري

الجمالِ يقال لها: ضعيفة، فوقعت في قلبه، فطلبها منه، فدفعها إليه، واشتدَّ مرضُه لفراقها، فقال: [من مجزوء الكامل] أشكو إلى ذي العرشِ ما ... لاقَيتُ من أمر الخليفهْ (¬1) يَسَع البَريَّةَ عَدلُه ... ويُريد ظُلمي في ضَعيفه (¬2) عَلِقَ الفؤادُ بحبِّها ... كالحِبر يَعْلَق في الصَّحيفه وبلغ هارونَ فردَّها عليه. [حدَّث سليمانُ عن أبيه] وكانت وفاتُه في صفرٍ وهو ابنُ خمسين سنة. وفيها توفي أبو الحسن البَصري [علي بن بَكَّار] (¬3) كان عالمًا زاهدًا متعبدًا، انتقل من البصرة فنزل المِصيصة، فأقام بها، وكان صاحبَ كرامات. [قال أبو نُعيم بإسناده عن موسى بنِ طريف (¬4) قال: ] كانت الجاريةُ تفرش له الفراش، فيلمسه بيده ويقول: واللهِ إنك لطيِّب، واللهِ إنك لبارد، واللهِ لا عَلوتُك الليلة. فكان يصلِّي الغداةَ بوضوء العَتَمة. [وحدَّثنا جدِّي عن سعد اللهِ بن علي البزاز ومحمَّد بن عبد الباقي قال: حدَثنا أحمدُ بن محمد بنِ حَسْنون بإسناده إلى أحمدَ بن مَرْزوق قال: ] (¬5) خرج أبو إسحاقَ الفَزاريُّ وعليُّ ان بكَّارٍ وأنا معهم إلى ظاهر المِصِّيصة نحتطب، فغاب عنَّا علي، فخفنا عليه، فجعلنا نطوف، وإذا به جالسٌ وفي حجْره رأسُ السَّبع، والسَّبُع نائم وهو يذبُّ عنه، فقال له أبو ¬

_ (¬1) في أشعار أولاد الخلفاء ص 12، والوافي 15/ 394: ربي إليك المشتكى ... ماذا لقيت من الخليفة وفيهما أن القصة جرت مع المهدي لا مع الرشيد. (¬2) في أشعار أولاد الخلفاء والوافي: ويضيق عني في ضعيفه. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في حلية الأولياء 9/ 318: طرفة. والمثبت موافق لما في صفة الصفوة 4/ 266، وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ): وقال أحمد بن مرزوق ...

عمارة بن حمزة

إسحاق (¬1): ما قعودُك ها هنا؟ ! فقال: لجأ إليَّ هذا فرحمته، وأنا أنتظره حتى ينتبه. وحكى أبو نُعيم قال: جاءه رجل فقال له (¬2): حُذَيفةُ المَرْعَشيُّ يسلِّم عليك، قال: و - عليه السلام -، واللهِ إنِّي لأعرفه يأكل الحلال منذ ثلاثين سنة، ولا أحبُّ لقاءه، قال: ولمَ؟ ! قال: أخاف أن أتزيَّنَ له فأسقطَ من عين اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وقال الخطيب (¬3): بكى عليُّ بن بكَّار حتى عمي، وكانت الدموع قد أثَّرت في خدَّيه، وطُعن في بعض مغازيه، فخرجت أمعاؤه على السَّرج، فشدَّها بعمامته وردَّها إلى بطنه، وقتل ثلاثةَ عشرَ عِلْجًا. ومات بالمِصِّيصة [في هذه السَّنة]. أسند عن هشام بنِ حسَّان وأبي إسحاقَ الفَزاري وغيرِهما، وصحب إبراهيمَ بن أدهمَ وتأدَّب به. عُمارة بن حَمْزةَ (¬4) ابن مالك بن يزيدَ بن عبدِ الله، مولى العباسِ بن عبد المطَّلب. أحدُ الكتَّاب البُلَغاءِ الأجواد. ويقال: هو من ولد عكرمةَ مولى بني العباس. ولاه أبو جعفرٍ خراجَ البصرة. وكان فاضلًا، إلَّا أنه كان فيه تيهٌ شديد، وبه يُضرب المثل، فيقال: أَتْيَهُ من عُمارة. وقال إبراهيمُ بن داود: استأذن قوم عليه ليشفعوا إليه في برِّ قومٍ أصابتهم جائحة، فأمر لهم بمئة ألفِ درهم، فاجتمعوا ليدخلوا عليه في الشُّكر له، فقال لحاجبه: أَقرئهم سلامي وقيل لهم: إنِّي قد رفعت عنهم ذلَّ المسألة، فلا أُحمِّلهم مؤونةَ الشكر. وقال عبدُ الله بن أيوب: بعث أبو أيوبَ المكِّي بعضَ ولده إلى عُمارة، فأدخله الحاجبُ وعمارةُ مضطجع قد حول وجهه إلى الحائط، فقال الحاجب: سلِّم، قال: ¬

_ (¬1) في (خ): يا أبو إسحاق، وهو خطأ، والمثبت من (ب)، وانظر القصة في صفة الصفوة 4/ 267. (¬2) في (خ): وقال له رجل ... ، والكلام في الحلية 9/ 318 - 319. (¬3) لم نقف لعلي بن بكار على ترجمة في تاريخ بغداد. (¬4) سماه ابن الجوزي في المنتظم 10/ 79 عامر بن حمزة، وانظر تاريخ بغداد 14/ 216، والسير 8/ 275. وهذه الترجمة ليست في (ب).

يوسف بن أسباط

فسلمت فلم يردّ، فقال الحاجب: سَلْ حاجتَك، فقلت: لعله نائم، قال: لا، اذكر حاجتك، فقلت: جعلني اللهُ فداءك، أخوك يُقرئك السلامَ ويذكر دَينًا منعه من لقائك، ويسألك أن تكلِّم أميرَ المؤمنين في قضائه عنه، فقال: وكم دَين أبيك؟ قلت: ثلاثُ مئة ألفِ درهم، قال: وفي مثل هذا أكلِّمُ أمير المؤمنين! يا غلام، احمل معه ثلاثَ مئةِ ألف درهم، قال: وما التفت إليَّ ولا كلمني بغير هذا. وقال الفضلُ بن الربيع: كان أبي يأمرني بملازمة عُمارة، وكان المهدي سيئ الرأي فيه، فمرض عمارة، فقال أبي للمهدي: يا أميرَ المؤمنين، مولاك عُمارة عَليل، وقد أفضى الأمرُ به إلى بيع فراشه وكِسوته، فقال المهدي: غَفُلْنا عنه، ما كنت أظنُّ أن الأمر يبلغ به إلى هذا، يا ربيع، احمل إليه خمس مئةِ ألف درهم، وأَعلِمْه أنَّ له عندي بعدها ما يحب. فحملها أبي من ساعته وقال: اذهبْ بها إلى عمك وأَقرئه عني السلام، وأخبره أنني عرَّفت أميرَ المؤمنين حالك، فقال كذا وكذا، وأمر لك بهذه الدارهم. قال: فأتيته وهو مُضْطَجعٌ ووجهُه إلى الحائط، فسلَّمت عليه، فقال: مَن أنت؟ قلت: ابن أخيك الفضلُ بن الربيع، قال: مرحبًا بك، ما الذي جاء بك؟ قلت: أخوك أبي يقرئك السَّلام، ويقول: ذكرتُ لأمير المؤمنين أمرَك وما أنت فيه، فاعتذر من غفلته عنك، وأمر لك بخمس مئةِ ألف درهم، وقال: لك عندي ما تحبّ، وها هي على البغال واقفةٌ على الباب، فقال: قد كان طال لزومُك لنا، وكنا نحبُّ أن نكافئك على ذلك، ولم يمكِنَّا قبل هذا الوقت، انصرف بها فهي لك، قال: فهبته أن أردَّ عليه، فتركت البغال على بابه، وانصرفت إلى أن جئتُ إلى أبي فأَعلمته الخبر، فقال: يا بُني، خذها بارك اللهُ لك فيها، فإنَّ عمارةَ ليس ممن يُرادّ. فأخذتها فكانت أولَ مالٍ ملكته. [يوسُفُ بن أسباط أبو محمَّد الشِّيحي (¬1). من قريةٍ من قرى أنطاكية. يقال: كان زاهدًا عابدًا، يسكن الثُّغور والعواصم. وقال الحافظ ابنُ عساكر: كان أبوه أسباطُ بن واصلٍ الشَّيباني شاعرًا، مدح يزيدَ ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 8/ 238، والمنتظم 10/ 81، والسير 9/ 169، وتاريخ الإِسلام 4/ 1255.

ابن الوليد النَّاقص، وكان قَدْرُ ما خلف أسباط مئةَ ألف درهم، لم يأخذْ منها يوسفُ درهمًا, وكان يقوله: أهل مِلَّتين لا يتوارثان. وكان يوسفُ يَطْحَن الشعير بيده فيأكل منه، ويَسُفُّ الخوصَ ويبيعه، ويفطر على ثمنه، فإذا نَفِد الشعير والخُوص استفَّ التراب. وكان يغزو ولا يأخذ من المَغْنَم شيئًا، ولم يأخذ من تَرِكة أبيه، ويقال: إنَّه أخدْ مصحفًا، وكان يقول: في قلبي منه شيء. وصحب سفيانَ الثوريَّ وانتفع بصحبته. وحكى أبو نُعيم (¬1) عنه أنَّه قال: لي أربعون سنةً ما ملكت قميصين. قال: وخرجت من شيحَ راجلًا إلى المِصِّيصة وجِرابي في عنقي، فدخلتها، فقام هذا من حانوته وقام هذا، فجعلوا يُسلِّمون علي، ودخلت المسجد، فأحدقوا بي، فقلت في نفسي: وكم بقاءُ قلبي على هذا، فرجعت إلى شيحَ، فما عاد قلبي إليَّ سنتين. وحكى أبو نعيمٍ عنه أنَّه قال: عجبتُ كيف تنام عينٌ مع المخافة أو تغفل (¬2). وقال: خلق اللهُ القلوبَ مساكنَ الذِّكر، فصارت للشَّهوات، ولا يمحو الشهواتِ عنها إلا خوفٌ مزعج، أو شوقٌ مُقلق. وقال: الزُّهد (¬3) في الرئاسة أشدُّ من الزهد في الدنيا, ولي أربعون سنةً ما حكَّ صدريَ شيءٌ إلا تركته. وقال: أخاف أن يعذِّبَ اللهُ الناسَ بذنوب العلماء. وقال: قد رُفع الصدق من الأرض. وقال أبو نُعيم (¬4): استأذن عبدُ الله بن المبارك على يوسفَ بنِ أسباطَ فلم يأذن له، وقال: أخاف ألا أقومَ بحقِّه ولا أفي بذلك، فآثم. وقال يوسف: إذا رأيتَ الرجلَ قد أَشِر وبَطِر فلا تَعِظْه؛ فليس فيه للوعظ مَطْمَع. وقال: إنَّ الدنيا لم تُخلَق لينظرَ إليها، بل ليُنْظَرَ بها إلى الآخرة. وقال: وكان الفضيلُ بن عياضٍ يقول: ما بقي شيءٌ أتمنَّاه على ربِّي إلا خروجي إلى ¬

_ (¬1) في حلية الأولياء 8/ 244. (¬2) انظر الأثر في حلية الأولياء 8/ 238. (¬3) في (ب): الزاهد، والتصويب من الحلية 8/ 238. (¬4) في الحلية 8/ 239.

الثغر، لا لأجل الجهاد، بل لأجل النَّظرِ إلى وجه يوسفَ بن أسباط. وقال أبو نُعيم: صحب يوسفَ بن أسباطَ فتًى من أهل الجزيرة، فلم يكلِّمه الفتى عشر سنين، وكان مشغولًا بالخوف والبكاءِ والعبادة، فقال له يوسف: ما حالك؟ فقال: كنت نبَّاشًا، فكنت أرى الوجوهَ قد حولت إلى غير القِبلة، فاختلط يوسفُ من ساعته. وكان يوسفُ يقول: أشتهي أن أموتَ ولا أتركَ درهمًا، وكان معه بضع دراهمَ من سفِّ الخوص، فمات ولم يخلِّف سواها، فكفَّنوه منها، وكان قد أوصى بها لكفنه. وقيل: كان معه عشرةُ دراهم، فأنفق تسعة في مرضه وبقي درهم واحد، فمات، فاشتروا له به حَنُوطًا. وكانت وفاته بالمِصِّيصة في هذه السنة، وقيل: في سنة خمسٍ وتسعين ومئة. أسند عن هشام بن عروةَ والثوريّ وغيرهما، ثم اشتغل بالعبادة عن الرواية (¬1). وفي الرواة ثلاثة اسمُ كلِّ واحدٍ يوسفُ بن أسباط: أحدُهم هذا، والثاني روى عنه يحيى بنُ عبد الملك، والثالث مَوْصِليّ، روى عنه أبو الفَتْح الأزْديُ المَوْصلي. والحمدُ لله وحده، وصلى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وسلَّم.] * * * ¬

_ (¬1) انظر التاريخ الكبير 8/ 385، ومشاهير علماء الأمصار ص 186، وحلية الأولياء، وصفة الصفوة 4/ 261، والسير 9/ 169، وهذه الترجمة ليست في (خ).

السنة المئتان

السنة المئتان فيها في أوَّل يوم من المحرَّم من السنة لمَّا انصرف الحاجُّ من مكة، أتى حسينُ بن حسنٍ الأفطس إلى الكعبة، فجرَّدها مما عليها من الكسوة، فلم يُبقِ عليها شيئًا، وكساها ثوبَين رقيقين من قَزّ، كان أبو السرايا بعث بهما إليه، وعليهما مكتوب: هذا ممَّا أمر به الأصفرُ بن الأصفر أبو السرايا داعيةُ آلِ محمَّد لكسوة بيت اللهِ الحرام، وأن يُطرحَ عنه كسوة الظَّلَمة من ولد العباس؛ ليُطَهِّرَه من كسوتهم، وكتب في سنة تسعٍ وتسعين ومئة. ثم أمر حسينُ بن حسن بالكسوة التي كانت على الكعبة فقُسمت بين أصحابه من العلويِّين وغيرِهم على قدر منازلهم عنده، وأخذ ما كان في خزانة الكعبة من المال، ولم يسمع بأحدٍ عنده وديعةٌ لأحد من ولد العباس وأتباعِهم إلَّا هجم عليه داره، فإنْ وجد عنده شيئًا أخذه وعاقب الرجل، وإنْ لم يجد عنده شيئًا، حبسه وعذَّبه حتى يفتديَ نفسَه على قَدْر حاله، ويشهد عليه أنَّ ما أخذه كان وَديعةً عنده لبعض بني العباس. وكان المتولِّي لعذاب الناس محمَّد بن مَسْلَمةَ الكوفي، كان ينزل في دارٍ خالصة عند الخيَّاطين (¬1)، ويقال لها: دارُ العذاب. وعمَّ البلاءُ أهل مكة، فهرب منهم خلقٌ كثير لهم مال، فكان يهدم دورَهم، ويتعدَّى إلى حريم الناسِ وأبنائهم، وكانوا يحكُّون الذهبَ المنقوش في رؤوس أساطين المسجدِ الحرام، فيخرج من رأس الأسطوانة بعد التعبِ الشديد [مثقالُ] (¬2) ذهبٍ أو نحوه، وقلعوا الحديدَ الذي على شبابيك كُوى المسجدِ الحرام، وقلعوا شباكَ زمزم، وكان من خشب السَّاج، فبيع بأخسِّ ثمن. وتغيَّر الناس على حسين بنِ حسن والطالبيِّين، وبينا هم على ذلك إذ وصل الخبرُ من الكوفة بأنَّ أبا السرايا قد انحلَّ أمره، وطُرد عن الكوفة والبصرةِ والعراق، وعاد الأمرُ ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 537: الحناطين. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

إلى بني العباس، فاجتمعوا إلى محمَّد بنِ جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، وكان شيخَا وادعًا محبَّبًا في الناس، مُفارقًا لما عليه كثير من أهل بيته من قُبح السيرة، وكان يروي العلمَ عن أبيه، وكان الناسُ يأخذون عنه، وكان له سَمت وزهد (¬1)، فقالوا: قد تعلمُ حالك في الناس، فأبرِزْ لنا شخصَك نبايعْك بالخلافة، فإنَّه لا يختلف عليك اثنان، فأبى عليهم، فلم يزل به ابنُه عليٌّ وحسين الأفطس حتى غلباه على رأيه، فأقاموه بعد صلاة الجمعةِ لثلاثٍ (¬2) خلونَ من شهر ربيع الأوَّل أو الآخِر، فبايعوه، وحشروا إليه الناسَ من أهل مكةَ والمجاورين فبايعوه طوعًا وكرهًا، وسمَّوه أميرَ المؤمنين، وأقام شهورًا ليس له سوى الاسم، والأمرُ لابنه عليٍّ وحسين الأفطس، أقاما على أقبح سيرةٍ مما كانا عليه، فوثب حسينُ الأفطس على امرأةٍ من قريش فِهْرية، وزوجُها من مَخْزوم، وكانت جميلة، فأرسل إليها، فامتنعت عليه، فأرسل غِلمانه، فكسروا بابَها وأخذوها قهرًا وحملوها إلى حسين، وهرب زوجُها، وأقامت عند حسينٍ إلى حين خروجه من مكَّة، فهربت منه، ووثب عليُّ بن محمَّد على ابن قاضي مكَّة، وهو إسحاقُ بن محمد القُرَشي، وكان بارعَ الجمال، فاقتحم عليّ بنفسه عليه جهارًا في داره، وكانت بالصَّفا مُشْرفةً على المَسْعى، فحمله على فرسه في السَّرج، وركب عليّ على عَجُز الفرس، وخرج يشقُّ السوقَ حتى أتى به بئرَ ميمون، وكان ينزل في دار داودَ بنِ عيسى في طريق مِنى. فلمَّا رأى أهل مكةَ ذلك اجتمعوا في المسجد الحرام، واجتمع إليهم المجاورون والطائفون بالكعبة، وأتَوا باب محمَّد بنِ جعفرٍ فقالوا: إما أن تردَّ علينا الغلام، أو لنَخْلَعَنَّك، أو لنقتلنَّك، فكلَّمهم من الشبَّاك وقال: واللهِ ما علمت، وكان في دارٍ يقال لها: دار العجلة، وشبابيكُها إلى المسجد، ودعا حسينًا الأفطس وقال: اذهب إلى عليٍّ فاستنقذ منه الغلام، فقال: واللهِ ما لي بابنك طاقة، لو جئتُه لقاتلني، فقال محمَّد لأهل مكة: أمِّنوني حتى أركبَ بنفسي، وأمضيَ إليه، وأستنقذَ الغلامَ منه، فأمَّنوه، ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله: وفيها خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر؛ ليس في (ب). (¬2) كذا في المنتظم 10/ 84، وفي تاريخ الطبري 8/ 538: لستٍّ.

فركب ومضى إلى ابنه، فأخذ الغلامَ منه وسلَّمه إلى أهله، فلم يلبثوا إلَّا يسيرًا حتى أقبل إسحاق بن موسى العباسي من اليمن فنزل المُشَاش، فاجتمع الطالبيُّون إلى محمَّد بن جعفر وقالوا: الرأي أن نُخَنْدقَ على أعلى مكةَ خندقًا ونقاتل، وتُبرزَ لنا شخصك ليراك الناس، ففعل. [ثم إنَّ إسحاق كره القتال والحرب وخرج] (¬1) يريد العراق، فلقيه وَرْقاءُ بن جَميل في أصحابه واليًا على مكَّة، فقالوا له: ارجع معنا ونحن نكفيك القتال، فرجع، فنزلوا المُشاش، واجتمع إلى محمَّد بنِ جعفر غَوْغاءُ مكةَ وسُودانُ أهلِ المياه والأعراب، فعبَّأهم ببئر مَيمون، ووقعت بينهم جراحات وقُتل جماعة، ورجع إسحاقُ وورقاءُ إلى منزلهم، ثم عاودهم اليومَ الثاني فقاتلوهم، فهزموا أهل مكَّة، ودخل محمَّد بنُ جعفرٍ مكة، وأرسل إليهم محمَّد قاضيَ مكةَ يطلب لهم الأمانَ حتى يخرجوا من مكَةَ ويذهبوا حيث شاؤوا، فأجابوهم إلى ذلك، وخرجوا من مكةَ بعد ثلاثٍ وتفَّرقوا. فأما محمَّد بنُ جعفر، فأخذ ناحية جُدَّة، ثم خرج يريد الجُحفة، فلحقه محمَّد بنِ حكيم بنِ مروانَ من موالي بني العباس، وكان الطالبيُّون قد انتهبوا دارَه بمكة وعذَّبوه عذابًا شديدًا، وكان معه جماعةٌ من عبيد بني العباس، فلحق محمَّدًا بعُسْفان، فأخذ ما كان خرج به من مكَّةَ، وجرَّده حتى أبقاه في السراويل، وهمَّ بقتله، ثم مَنَّ عليه وأعطاه ثوبًا وعمامةً ودُرَيهمات، فخرج حتى أتى بلادَ جُهَينةَ على الساحل، فلم يزل مُقيمًا بها وهو يجمع الجموعَ ويُجَيِّش الجيوش. وكان بالمدينة هارونُ بن المسيِّب عاملُ المأمون، فجمع له وخرج إليه، فكانت بينهم وقعاتٌ عند الشجرةِ وغيرها، فقَتل من أصحاب محمَّد خلقًا كثيرًا، وفقئت عينُ محمَّد بنُشَّابة، وأقام ينتظر مَن كان وعده من الأعراب أن يوافيَه بالموسم، فلم يوافهِ أحد، فطلب الأمانَ من ورقاءَ ورجاءَ ابنِ عمِّ الفضل، فأمَّناه، ودخل مكةَ لعشرٍ بقين من ذي الحِجَّة، فأُتي بالمنبر فنُصب بين الرُّكن والمقامِ في المكان الذي بويع فيه، وصَعِد المِنْبَر، وخلع نفسَه، وبايع المأمون، وكان من جملة كلامه: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 538، وانظر المنتظم 10/ 84، وتاريخ الإِسلام 4/ 1060.

أيها الناس: مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا محمَّد بن جعفرِ بن محمَّد بن عليِّ بن حسين بن عليِّ بن أبي طالب، وإنَّه كان لأمير المؤمنين عبدِ الله المأمونِ في رقبتي بيعة، وكنت أحدَ الشهودِ الذين شهدوا في الكعبة الشَّرْطَين لهارونَ على ابنيه محمَّد وعبد الله، ألا وقد كانت فتنةٌ (¬1) غَشِيت الأرضَ منَّا ومن غيرنا، وكان قد نُمي إلينا أنَّ المأمون توفِّي، فدعاني الناسُ إلى أن يبايعوني بإمرة المؤمنين، فأجبتُهم إلى ذلك، وقد صحَّ عندي الآن أنَّه حيّ، وأنا أستغفر الله مما دعوتكم إليه من البَيعة، وقد خلعتُ نفسي كما خلعت خاتَمي هذا من إِصبعي، ولا بيعةَ لي في رقابكم. ثم نزل، فخرج به عيسى بنُ يزيدَ الجُلوديُّ عامل مكةَ إلى العراق، واستخلف على مكةَ ابنَه محمَّد بنَ عيسى، فسلَّمه عيسى إلى الحسن بنِ سهل، فبعث به الحسنُ إلى المأمون مع رجاءَ بن أبي الضحَّاك، فقدم به خُراسانَ سنة إحدى ومئتين. وفيها خرج إبراهيمُ بن موسى بنِ جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن عليِّ بن أبي طالبٍ باليمن، وكان بمكَّة حين خرج أبو السرايا بالكوفة، فلما قُتل [أبو] السرايا وانحلَّ نظام الطالبيين بالعراق، خرج إبراهيمُ من مكةَ بأهل بيتِه يريد اليمن، ووالي اليمن يومئذٍ إسحاقُ بن موسى بنِ عيسى، فلما سمع بإقبال إبراهيمَ إلى قريبٍ من صَنْعاء، خرج من اليمن مُنْصرفًا في خيله ورَجله، فسلك النَّجْدِيَّة، وخلَّى اليمنَ لإبراهيم، وكره قتاله، ونزل المُشاش، وأراد دخولَ مكة، فمنعه مَن كان بها من العلويِّين، وكانت أمُّ إسحاق متواريةً بمكَّة، فتلطف بعض أهلِ مكَّة فأخرجها، وصعد بها على رؤوس الجبال، فأوصلها إلى إسحاق. وكان يقال لإبراهيم: الجزَّار؛ لكثرة مَن قتل باليمن من الناس وسبى وأخذ الأموال. وحجَّ بالناس أبو إسحاقَ بنُ الرشيد ومعه جندٌ كثيف، فيهم حمدويه بن علي بنِ عيسى بن ماهان، وكان الحسنُ بن سهل قد ولَّاه اليمن. وبعث إبراهيمُ [بن موسى بنِ جعفر] (¬2) العلويُّ من اليمن رجلًا من ولد عَقيل بنِ أبي طالب في جندٍ كثير، وأمره أن يقيمَ الحجَّ للناس، فلما صار العَقيليُّ إلى بستان بني عامر، بلغه أنَّ أبا إسحاقَ قد ولي الموسم، وأنَّ معه [من] القوَّاد والعساكر ما لا قِبَلَ لأحدٍ به، فأقام ببستان بني عامر، ¬

_ (¬1) في (خ): فيه، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 540. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

فمرَّت به قافلةٌ من الحافي والتجَّار، وفيها كسوةُ الكعبة وطيبُها، فأخذ الجميع، ووصل الحاجُّ إلى مكةَ عُراة مَسلوبين. وكان أبو إسحاقَ بنُ الرشيد بمكةَ نازلًا في دار القوارير، وذلك قبل يومِ التروية بيوم (¬1)، فقال الجلوديّ: أنا لهم. فخرج في مئة فارس، فصبَّح العَقيليَّ وأصحابَه ببستان بني عامر، فأَسر أكثرَهم، وهرب مَن هرب، وردَّ أموال التجار والكسوةَ والطِّيب إلى مكَّة، وأحضر مَن أُسر من أصحاب العَقيلي، وقنَّع كل واحدٍ على رأسه عشرةَ أسواط، وقال: يا كلابَ النار، اُغربوا، فواللهِ ما في قتلكم عزّ (¬2)، ولا في أسركم شَرَف. فرجعوا إلى اليمن يستطعمون [في الطريق] (¬3) فمات أكثرُهم جوعًا وعطشًا وعُرْيًا. وفيها وقع شَغْبٌ ببغدادَ بين الحَرْبيَّة والحسنِ بن سَهْل، وجاء الخبرُ بأنَّ زيد بن موسى بنِ جعفرٍ الخارجَ بالبصرة، وكان يُعرف بزيد النار من كثرة ما حرق من دُور الناس، وأنَّه أفلت من حبس عليِّ بن [أبي] (¬4) سعيد، فهرب وخرج بناحية الأنبارِ ومعه أخو أبي السرايا في ذي القَعدة، فبعثوا إليه، فأُخذ وأُتي به عليَّ بن هشام. وفيها أُحصي ولدُ العباس، فكانوا ثلاثةً وثلاثين ألفًا ما بين ذَكَرٍ وأنثى. وفيها بعث المأمونُ رجاءَ بن أبي الضحَّاك وفرناسَ الخادم ليُحضرا عليَّ بن موسى الرِّضا إلى خُراسان. وفيها قتلت الرومُ ملكَها أليون، وملَّكوا عليهم ميخائيل [بنَ] (¬5) جورجس ثانية، وكان ملك أليونُ عليهم سبعَ سنين وستَّة أشهر. وفيها دخل يحيى بنُ عامر بنِ إسماعيلَ على المأمون، فأغلظ له وقال: يا أميرَ الكافرين، فقتله بين يديه. [فصل] وفيها توفِّي ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 541: بيومين أو ثلاثة. (¬2) في تاريخ الطبري 8/ 541: ما قتلكم وعر. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري. وانظر الكامل 6/ 314. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 544، والمنتظم 10/ 86، وتاريخ الإسلام 4/ 1059. (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 545، وابن الأثير 6/ 319.

أبان بن عبد الحميد

أَبانُ بن عبد الحميد ابنِ لاحق [بن عُفَير، مولى بني رَقاش، البصري] وكان فاضلًا شاعرًا (¬1). [قال الخطيب: ] (¬2) قدم بغدادَ، واتصل بالبرامكة، وانقطع إليهم، وله فيهم مدائح [وفي الرشيد أيضًا]، وهو الذي عمل للبرامكة كليلةَ ودمنة [شعرًا] (¬3). [قال الخطيب: قرأتُ على الجَوْهَريّ، عن أبي عُبيد الله المَرْزُباني بإسناده عن ابنٍ لعبد الحميد اللاحقي قال: أحبَّ] يحيى بنُ خالد (¬4) أن يحفظَ كتابَ "كليلة ودمنة"، فاشتدَّ عليه ذلك، فقال له أبان: أنا أجعله شعرًا ليخفَّ على الوزير حفظُه، فنقله إلى قصيدةِ مزدوجة عددُ أبياتها أربعةَ عشرَ ألفَ بيتٍ في ثلاثة أشهر، فأعطاه يحيى عشرةَ آلافِ دينار، وأعطاه الفضلُ خمسةَ آلاف دينار، وقال له جعفر [بنُ يحيى: ] ألا ترضى أن أكونَ راويتَك لها؟ ولم يُعطِه شيئًا. فتصدَّق بثُلث المال الذي أعطاه يحيى والفضل. وأوَّل القصيدة: [من الرجز] هذا كتابُ أدبٍ ومِحْنهْ ... وهو الذي يُدعَى كليلَه دِمنهْ ويقال: كلُّ كلامٍ نُقل إلى شعرٍ فالكلامُ أفصح منه، إلَّا هذا الكتاب. [قال الخطيب: ] (¬5) وكان أبان حافظًا للقرآن عالمًا بالفقه حسنَ السيرة، وكان يقول: أنا أرجو اللهَ وأسأله رحمتَه، واللهِ ما مضت عليَّ ليلةٌ قطُّ لم أصلِّ فيها تطوُّعًا. [وقيل: قال ذلك عند وفاتِه]. أبو نُوَاس الشاعر واسمه الحسنُ بن هانئ بن صَبَّاح (¬6) بن الجرَّاح بنِ (¬7) عبد الله الحَكَمي البصري. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 510، والمنتظم 10/ 87، وتاريخ الإسلام 4/ 1065. (¬2) في تاريخه 7/ 510، وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من المنتظم 10/ 87، وانظر تاريخ الإسلام 4/ 1065. (¬4) في (خ): وكان يحيى بن خالد أحب ... ، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد 7/ 511. (¬5) في تاريخه 7/ 511، وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (ب) و (خ): جناح، وكذا في مطبوع المنتظم 10/ 16، والمثبت من تاريخ بغداد 8/ 475، وتاريخ دمشق 4/ 606 (مخطوط)، ومختصره 7/ 77، والبداية والنهاية 14/ 64، وانظر تاريخ الإسلام 4/ 1270، والسير 9/ 279 والمصادر في حواشيه. (¬7) في (خ): أبو، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في المصادر.

و [اختلفوا في] معنى الحَكَمي [على قولين: أحدُهما أنه] نسبتُه إلى جدِّه [الأعلى، وهو] الجَرَّاحُ بن عبد اللهِ الحَكَمي والي خُراسان الذي استشهد، وقد ذكَرناه [والحكم بنُ سعدِ العشيرة. والثاني] أنَّه (¬1) كان مولى الجرَّاح. [ذكره الحافظ ابن عساكر. وأبو نُواس لقبٌ (¬2) له؛ لأن الحكمَ من ملوك اليمن، ومن ألقابهم: ذو نُواس وذو المَنار وذو نَفْر وذو يَزَن، وقد ذكرناهم في هذا الكتاب، قالوا: ولهذا أبو نواسٍ شديدُ العصبيَّة لليمن (¬3). قلت: وفي هذا القول نظر، لأنَّه لو كان كما قالوا، لقيل: ذو نواس، وإنِّما قيل: إنَّه كان له ذُؤابتان، فكُني بهما (¬4). والصحيح أنَّ كنيتَه أبو عبد الله (¬5)، وقيل: أبو علي. ونَسَبَه الخطيب (¬6) فقال: الحسن بنُ هانئ بنِ صَبَّاح بن عبد الله بن الجرَّاح بن هِنْب بن ذوة بن غَنْم بن سِلْهِم بن حَكَم بن سَعْد العَشيرة بن مالك بن عَمرو بن الغَوْث بن طَيِّئ بن أُدَد بن شَبيب بن عمرو بن سبيع بن الحارث بن زيد بن عَدي بن عوف بن زيد بن الهَمَيْسَع بن عمرو بن يَشْجُب بن عَريب بن زيد بن كَهْلان بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان. قال: ويقال: هو مولى الجرَّاح الحَكَمي.] ووُلد بالأهواز بالقرب من الجبل المقطوعِ سنةَ ثلاثٍ وثلاثين (¬7)، وقيل: سنةَ خمس وثلاثين ومئة (¬8)، [وقيل: سنةَ ستٍّ وثلاثين ومئة] (¬9)، وقيل: سنةَ خمس وأربعين. ¬

_ (¬1) في (خ): وقيل: إنه ... ، والمثبت من (ب)، وما بين حاصرتين منه. (¬2) انظر تاريخ ابن عساكر 4/ 606. (¬3) في (خ): وكان شديد العصبية لليمن. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) كذا في وفيات الأعيان 2/ 103، وتاريخ الإسلام 4/ 1270، وخزانة الأدب 1/ 347. (¬5) لم نقف على هذا القول أصلًا حتى يكون هو الصحيح. (¬6) في تاريخه 8/ 475 - 476. (¬7) هذا القول ليس في (ب)، ولم نقف عليه في المصادر. (¬8) نسبه في (ب) للخطيب، ولم نقف عليه في تاريخه، ولا في غيره من المصادر. (¬9) ما بين حاصرتين من (ب)، وهذا القول ذكره الخطيب عن غير واحد، وعلى هذا القول وما بعده اقتصرت غالب المصادر، وزاد ابن عساكر: سنة 145، واقتصر ابن المعتز في طبقاته ص 194 على سنة 139. والله أعلم.

[وحكى الخطيب وابنُ عساكرٍ عن القاضي أحمدَ بنِ كامل قال: ] كان (¬1) أبوه من أهل دمشقَ من جند مروانَ بنِ محمَّد، فصار إلى الأهواز، فتزوَّج امرأة من أهلها [يقال لها: جلبان، وقيل: صباح] (¬2) فولدت له أبا نواسٍ وأخاه [أبا] معاذ (¬3)، ثم صار أبو نواس إلى البصرة، فنشأ بها، وقرأ القرآنَ على يعقوبَ الحضرمي، واختلف إلى أبي زيدٍ النحوي، وكتب عنه الغريبَ والألفاظ، ولزم خَلَفًا الأحمر، وصحب يونُسَ النحوي، ونظر في نحو سيبويه، وحفظ عن أبي عبيدةَ أيامَ الناس، ثم قدم بغدادَ والشامَ ومصر، ومدح الخلفاءَ والأمراءَ والأعيان، وأرحل إلى بغداد، فأقام بها. قال الحافظ ابنُ عساكر (¬4): ما رأيتُ أحدًا أعلمَ باللغة من أبي نُواس، ولا أفصحَ لهجة منه، مع حلاوةٍ وطيب سمعةٍ (¬5) من الأعيان. وحكى الخطيبُ (¬6) عن أبي عبيدةَ قال: ] كان [أبو نُواس] في المُحْدَثين كامرئ القيسِ في المتقدِّمين. وقال أبو عَمرو بنُ العلاء (¬7): لولا أنه أفسد شِعرَه بهذه الأقذارِ لا حتَجَجْنا به في كتبنا. وقال أبو نُواس: ما قلت الشَعرَ حتى رويت لستِّين امرأةً من العرب، منهن الخنساءُ وليلى، فما ظنُّك بالرجال؟ . وقال [كُلثوم بن عمرو] العَتَّابي: لو أدرك الخبيثُ الجاهليةَ ما فُضِّل عليه أحد. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال الخطيب: كان، والمثبت من (ب)، ولم نقف عليه في ترجمته من تاريخ بغداد، وانظر تاريخ دمشق 4/ 638. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وقوله: وقيل: صباح، ليس في تاريخ دمشق. (¬3) في (ب) و (خ): وأخاه معاذًا، والمثبت من تاريخ دمشق. وانظر طبقات ابن المعتز ص 194، ووفيات الأعيان 2/ 95. (¬4) أخرجه في تاريخه 4/ 609 من طريق الخطيب عن الجاحظ، وهو في تاريخ بغداد 8/ 476، والمنتظم 10/ 16. (¬5) في (ب): وسمعة، وفي تاريخ دمشق: مع حلاوة ومجانبه الاستكراه. (¬6) في تاريخه 8/ 476. (¬7) في تاريخ دمشق 4/ 608 أنه أبو عمرو الشيباني.

ذِكر طَرَفٍ من أخباره: قال ابن مُناذر: دخل سليمانُ بن المنصورِ على الأمين، فرفع إليه أن أبا نُواس هجاه وأنَّه زنديق، وأنشده من أشعاره المنكرة، فقال: يا عمّ، أَقتلُه بعد قوله: [من الكامل] أُهدي الثناءَ إلى الأمين محمَّد ... ما بعده بتجارةٍ مُتَرَبِّصُ صَدَقَ الثناءُ على الأمين محمَّد ... ومن الثناء تَكذُّب وتَخَرُّص قد يَنْقُص القمرُ المُنيرُ إذا استوى ... هذا ونورُ محمَّد لا يَنْقُص وإذا بنو المنصورِ عُدَّ حَصَاهمُ ... فمحمَّد ياقوتُها المُتَخَلَّص (¬1) فغضب سليمانُ وقال: واللهِ لو (¬2) شكوتُ من عبد الله -يعني [ابن] الأمين (¬3) - ما شكوتُ من هذا الكافر، لوجب أن تعاقبَه، فكيف منه! [فقال: ] يا عمّ [فكيف] أعملُ بقوله: قد أصبح المُلْكُ بالمُنى ظَفِرا ... كأنَّما كان عاشقًا قَدِرا حسبُك وجهُ الأمين من قمرٍ ... إذا طوى الليلُ دُوْنَك القمرا خليفةٌ يَعتني بأمَّته ... وإنْ أتَتْهُ ذُنُوبُها غَفَرا حتى لو اسْطَاع من تَحَنُّنه ... دافع عنها القضاءَ والقَدَرا فازداد سليمانُ غيظًا، فقال: يا عمّ، كيف أَصنعُ بقوله: [من المديد] يا كَثيرَ النَّوْحِ في الدِّمَنِ ... لا عليها بل على السَّكَنِ سُنَّة العُشَّاق واحدةٌ ... فإذا أحبَبْتَ فاسْتَنِنِ ظنَّ بي مَن قد كَلِفتُ به ... فهو يَجْفوني على الظِّنَن تَضْحك الدُّنيا إلى مَلِكٍ ... قام بالآثار والسُّنن سنَّ للناس النَّدى فنَدُوا ... فكانَّ البخلَ لم يكن يا أمينَ الله عِشْ أبدًا ... دُمْ على الأيَّام والزَّمن أنت تبقى والفَناءُ لنا ... فإذا أفنيتَنا فكن ¬

_ (¬1) ديوان أبي نواس ص 398، وتاريخ بغداد 4/ 545، والمنتظم 10/ 17. (¬2) في (خ): لقد، والمثبت من الصادر. (¬3) ما بين معكوفين من تاريخ بغداد.

فانقطع سليمانُ عن الرُّكوب، فأمر الأمينُ بحبس أبي نُواس، فلمَّا طال حبسُه كتب إليه: [من الطويل] تَذَكَّر أمينَ الله والعَهْدُ يُذكَر ... مَقامي وإنشادِيكَ والناسُ حُضَّرُ ونَثْري عليك الدُّرَّ يا دُرَّ هاشمٍ ... فيا مَن رأى دُرًّا على الدرِّ يُنْثَر أبوك الذي لم يَمْلك الأرضَ مثلُه ... وعمُّك موسى عَدْلُه المُتَخَيَّر وجدُّك مَهديُّ الهُدى وشقيقُه ... أبو أُمِّك الأدنى أبوالفَضْلِ جعفر وما مثلُ منصورَ يك منصورُ هاشمٍ ... ومنصور قَحْطانٍ إذا عُدَّ مَفْخَر ومَن ذا الذي يَرمي بسَهْمَيك في العُلا ... وعبدُ مَنافٍ والداك وحِمْيَر تحسَّنت الدنيا بُحسن خليفةٍ ... هو الصُّبحُ إلَّا أنه الدَّهرَ مُسْفِر يُشير إليه الجودُ من وَجَناته ... ويَنظر من أعطافه حين يَنْظُر مَضَتْ لي شهورٌ مذ حُبِسْتُ ثلاثةٌ ... كأنيَ قد أذنَبْتُ ما ليس يُغْفَر فإنْ أكُ لم أُذنب ففيمَ عقوبتي ... وإن كنتُ ذا ذَنْبٍ فعَفْوُك أكبر فلمَّا قرأ محمَّد الأبياتِ قال: أَخرجوه وأَجيزه ولو غضب ولدُ المنصور كلُّهم. [منها ما رواه الطبري (¬1)، عن أحمد بن إبراهيم الفارسي قال: شرب أبو نواس الخمر، فرفع ذلك إلى محمد، فحبسه ثلاثة أشهر، ثم ذكره، فدعا به وعنده بنو هاشم، ودعا بالسيف والنِّطْع ليقتله، فأنشده: تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حضر ونثري عليك الدريا در هاشم ... فيا من رأى درًا على الدر ينثر من أبيات، وزاد فيها شيئًا: إمامٌ يَسوسُ النَّاس سبعين حِجَّةً ... عليه له منها لِباسٌ ومئْزَرُ أيا خَير مَن يُرْجى نَداه أنا امرؤ ... رَهينٌ أسيرٌ في سُجونك مُقْفِرُ ¬

_ (¬1) في تاريخه 8/ 516، وهذا الخبر زيادة من (ب) في (خ)، وكأن المصنف على عادته في حشد الأخبار في كتابه أورد أكثر من خبر، فأثبت مختصر (خ) الرواية الأولى عن الخطيب وابن الجوزي، وأثبت مختصر (ب) الرواية الثانية عن الطبري، فلذلك أثبتناهما.

فقال له محمد: فإن شربتها بعدها؟ فقال: دمي لك حَلال، فأطلقه، فكان أبو نواس يَشَمُّها ولا يَشْربها. وفي رواية الطبري أيضًا: رفع إلى محمد أن أبا نواس يشرب الخمر، فطبق به محمد المُطْبِق، فأقام مدةً، وكان الفضل بن الربيع يَستعرض أهلَ السُّجون وَيتَفَقَّدُهم (¬1)، فدخل صاحبه حَبْس الزَّنادقة، فرأى أبا نواس ولم يكن يعرفه، فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة؟ فقال: مَعاذ الله، قال: فلعلك ممَّن يَعبد الكَبْش؟ فقال: أنا آكل الكبش بصوفه، فقال: لعلك ممَّن يَعبد الشمس؟ قال: لا، إني لأتجنَّب القُعود فيها بُغضًا لها، قال: فبأيِّ جُرْمٍ حُبستَ؟ قال: في تهمة أنا منها بريء، قال: ليس إلا هذا؟ قال: نعم، فأخبر الفضل، فأمر بإحضاره، واستتابه عن شرب الخمر والذكران (¬2) فبعث إليه فِتيان من قريش، فحضر عندهم، فعَزموا عليه الشُّرب، فقال: لا والله، فلما دارت الكأس بينهم جعل يَشَمُّها ويقول: أيُّها الرَّائحانِ باللَّوم لوما ... لا أذوقُ المُدامَ إلا شَميما نالني بالمَلام فيه إمام ... لا أرى لي خلافه مُسْتَقيمًا فاصرفاها إلى سواي فإني ... لستُ إلا على الحَديثِ نَديما من أبيات. [وحكى أيضًا] عن أبي الوَرْدِ السبعي أنَّه قال: كنت عند الفضلِ بن سَهْل (¬3)، فذكر الأمينَ وقال: كيف لا يُستحل قتالُ [محمَّد] وشاعره أبو نُواسٍ يقول في مجلسه: [من الطويل] ألا فاسْقِني خَمْرًا وقُلْ لي هي الخمرُ ... ولا تسقني سرًّا إذا أمكن الجَهْرُ ولا تسقِيَنْ منها المُرائين قَطْرةً ... فإنَّ رياءَ الناس عندي هو الكفر (¬4) ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 516 أن الذي كان يستعرض السجون خال الفضل بن الربيع. (¬2) في الطبري: عن شرب الخمر والسكر. (¬3) في (ب): عن ابن أبي الزراد الشيعي أنه قال: كنا عند الفضل بن سهل، وفي (خ): وقال ابن أبي الزراد كنا عند الشعبي كنا عند الفضل بن سهل، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 517. (¬4) هذا البيت ليس في الديوان، ولم نقف عليه في الصادر، وفي تاريخ الطبري البيت الأول فقط.

وبُحْ باسم مَن تهوى ودَعْني من الكُنى ... فلا خيرَ في اللَّذَّات مِن دونها سِتْر الأبيات [وهي من ديوانه] (¬1) وبلغ محمَّدًا قولُ الفضل [بنِ سهل]، فأمر بحبس أبي نُواس. وقال أبو نواسٍ: [من الطويل] وقد زادني تِيهًا على الناس أنَّني ... أُراني أغناهُم إذا كنتُ ذا عُسْرِ فلو لم أنَلْ فَخْرًا لكان صِيانَتي ... فَمي عن جميع الناسِ حَسْبي من الفَخْر ولا يطْمَعَنْ في ذاك منِّي طامعٌ ... ولا صاحبُ التَّاجِ المُحَجَّبُ في القصر (¬2) وبلغ الأمينَ قولُه، فدعاه وعنده سليمانُ بن المنصور، فقال له: يا ابن اللَّخْناء، أنت تكتسب بشِعرك أوساخَ أيدي الناس اللئامِ ثم تقول: ولا صاحبُ التاج المحجَّبُ في القصر! واللهِ لا نلتَ مني شيئًا أبدًا. ولما دخل المأمونُ بغدادَ، اجتمع عنده الشُّعراء، فقال لهم: أيُّكم القائل: [من الطويل] إذا نزلت دون اللَّهاةِ من الفتى ... دعا هَمُّه مِن صدره برحيلِ قالوا: أبو نُواس، قال: فأيُّكم القائل: [من المديد] وتَمَشَّت في مَفاصِلهم ... كتَمَشِّي البُرْء في السَّقَمِ (¬3) قالوا: أبو نواس، قال: فأيُّكم القائل: [من الطويل] وما الناسُ إلا هالكٌ وابنُ هالكٍ ... وذو نَسَبٍ في الهالكين عَريقِ إذا امتَحَنَ الدُّنيا لَبيبٌ تَكَشَّفتْ ... له عن عدوٍّ في ثيابِ صَديق فقالوا: أبو نواس، فقال: هو أشعرُكم إذن. وقال ابن عُيَينة لابن مُناذِر: أشعرُ الناس ظَريفُكم هذا، فقال ابنُ منادر: كأنك عنيتَ أبا نُواس؟ قال: نعم، فقال: لِم؟ فقال سفيان: بقوله: [من السريع] يا قَمَرًا أبْصَرتُ في مأتَمٍ ... يَنْدُب شَجْوًا بين أترابِ ¬

_ (¬1) ص 242، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) تاريخ الطبري 8/ 518، وانظر الديوان ص 343. (¬3) انظر الخبر في تاريخ بغداد 8/ 487، وتاريخ دمشق 4/ 609.

أبرز [هـ] (¬1) المأتمُ لي كارهًا ... برَغْم داياتٍ وحُجَّاب يَبكي فيَذْري الدُّرَّ من عينه ... وَيلْطُم الوَرْدَ بعُنَّاب لا زال مَوتًا دأبُ أحبابِه ... ولا تزل رؤيتُه دابي وقال يزيد: لقيت أبا العتاهيةِ فقلت: مَن أشعرُ الناس؟ فقال: الشابُّ العاهر أبو نُواس حيث يقول: [من الوافر] أزور محمَّدًا فإذا التقينا ... تعاتَبت الضَّمائرُ في الصُّدورِ فأرجعُ لم ألُمْه ولم يَلُمْني ... وقد قَبِل الضَّميرُ عن الضَّمير فلقيتُ أبا نواسٍ فقلت: مَن أشعرُ الناس؟ فقال: الشيخُ الطاهر أبو العتاهيةِ حيث يقول: [من مجزوء الكامل] الناسُ في غَفَلاتهمْ ... ورحى المَنيَّة تَطْحَنُ فقلت: من أين أخذه؟ قال: من قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)} (¬2) [الأنبياء: 1]. وقال أبو العتاهية: لقيت أبا نُواسٍ في المسجد، فعَذَلْتُه وقلت له: أَمَا آنَ لك أن ترعوي! فقال: [من مجزوء الرمل] أتُراني يا عَتاهي ... تاركًا تلك المَلاهي أتُراني مُفْسِدًا بالنُّسْكِ ... عند القومِ جاهي فلمَّا ألْحَحْتُ عليه بالعَذْل قال: لن ترجعَ الأنفُسُ عن غَيِّها ... ما لم يكن منها لها زاجرُ قال أبو العتاهية: فوددتُ أنِّي قلت هذا البيتَ بكلِّ ما قلتُه (¬3). وقال أبو العَتاهِيَة: قد قلتُ عشرين ألفَ بيتٍ في الُّزهد، ووَدِدْتُ لو أنَّ لي مكانَها أبياتَ أبي نُواس: [من مجزوء الرمل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 8/ 477. (¬2) تاريخ دمشق 4/ 611. (¬3) انظر تاريخ بغداد 8/ 487، وتاريخ دمشق 4/ 623، والمنتظم 10/ 19، ووفيات الأعيان 2/ 102.

يا نُواسيُّ توقَّرْ ... وتَعَزَّ وتَصَبَّرْ إنْ يكن ساءك دَهْرٌ ... فلَمَا سَرَّك أكثر يا كبيرَ الذَّنْبِ عَفوُ ... اللهِ عن ذنبك أكبر ليس لإنسان إلَّا ... ما قضى اللهُ وقدَّر (¬1) [وحكى ابنُ عساكرٍ عن عليِّ] بن الأعرابي قال (¬2): أشعرُ الناسِ أبو نُواس حيث يقول: [من الطويل] تَغَطَّيتُ من دَهْري بظِلِّ جَناحِه ... فعَيني ترى دَهْري وليس يراني فلو تسألِ الأيامَ ما اسمي لَمَا دَرَتْ ... وأين مكاني ما عَرَفْنَ مكاني (¬3) وقال أبو العتاهِية: أشعرُ الناس أبو نواسٍ حيث يقول في المديح: [من الطويل] إذا نحن أثْنَينا عليك بصالحٍ ... فأنت كما نُثني (¬4) وفوق الذي نُثني وإنْ جَرَت الألفاظُ يومًا بمِدْحَةٍ ... لغيرك إنسانًا فأنت الذي نعني وقال ابنُ عائشة: كنا عند عبدِ الواحد بن زيادٍ (¬5) ومعنا أبو نواس، فقال: [من مجزوء الرمل] ولقد كنَّا رَوَينا ... عن سعيدٍ عن قَتادهْ ورَوَيناه قَديمًا ... أنَّ سعدَ بنَ عُباده قال من مات مُحِبًّا ... فله أجْرُ الشَّهاده فقال عبدُ الواحد: اُغربْ يا خبيث، واللهِ لا حدَّثتك بعد اليومِ بحديثٍ واحد. قال المصنِّف رحمه الله: لا وجهَ لإنكار عبدِ الواحد؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى هذا المعنى، فروى ابنُ عباس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن عَشِق فعَفَّ فمات فهو شهيد" (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 488. (¬2) في (خ): وقال ابن الأعرابي. والكلام في تاريخ دمشق 4/ 610. (¬3) الديوان ص 650 - 651. (¬4) في (خ): فأنت الذي تثني، والمثبت من تاريخ دمشق 4/ 610، والديوان ص 647. (¬5) في (خ): زيد، والمثبت من تاريخ بغداد 8/ 478، وتاريخ دمشق 4/ 622، والبداية والنهاية 14/ 70. (¬6) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 3/ 165 - 166 وغيره، وانظر الكلام عليه في التلخيص الحبير 2/ 142، =

وقال ابنُ عائشة: داخلت على إسحاقَ الأزرق، فقال: الساعةَ كان عندي أبو نُواس، ثم أخرج إليَّ رُقْعَة، وإذا فيها: [من المنسر] يا ساحرَ المُقلتَين والجِيدِ ... وقاتلي منه بالمواعيدِ تُوعِدُني الوَصْلَ ثم تُخْلِفُني ... فوا بَلائي من خْلْفِ موعودي حدَّثني الأزرقُ المُحَدِّثُ عن ... عَمرو بن شَمْرٍ عن ابن مسعود (¬1) لا يُخْلفُ الوَعْدَ غيرُ كافرةٍ ... وكافرٍ في الجَحيم مَصْمودِ (¬2) ثم قال الأزرق: واللهِ كذب عليَّ وعلى التابعين وعلى أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ما حدَّثتُه بهذا قطّ. ولقي شعبةُ أبا نواس، فقال: أَنشدني من طُرَفك، فقال: [من السريع] حدَّثني الخَفَّاف عن وائلٍ ... وخالدِ الحَذَّاء عن جابرِ ومِسْعَرٌ عن بعض أشياخِه ... يرفعه الشيخُ إلى عامر قالوا جميعًا أيُّما طَفْلَةٍ ... عُلِّقها ذو خُلُقٍ طاهر فواصلَتْه ثم دامت له ... على وصال الحافظِ الذَّاكر كانت لها الجنةُ مَفْتوحةً ... تَرتَع في مَرْتَعِها الزَّاهر وأيُّ مَعْشوقٍ جَفا عاشقًا ... بعد وصالٍ دائمٍ ناضر ففي عذاب اللهِ مَثْوًى له ... بُعدًا له من ظالمٍ غادر فقال له شعبة: إنَّك لَجميلُ الأخلاق، وإنِّي لأرجو لك (¬3). قال المصنِّف رحمه الله: خاف شعبةُ من لسانه، وإلَّا فشعبةُ أشدُّ حالًا من الأزرق. ودخل أبو نواسٍ يومًا على الأمين، فأنشده: [من الكامل] ¬

_ = والمقاصد الحسنة ص 658. (¬1) في البداية والنهاية 14/ 72: شمر وعوف عن ابن مسعود، وما هنا موافق لما في تاريخ دمشق 4/ 625. والأبيات ليست في الديوان. (¬2) في تاريخ دمشق والبداية والنهاية: مصفود. (¬3) تاريخ بغداد 8/ 478 - 479، والبداية والنهاية 14/ 71، باختلاف في البيت الأخير، والأبيات ليست في الديوان.

يا دارُ ما فَعَلت بكِ الأيَّامُ ... لم تُبْقِ فيكِ بَشاشَةً تُستامُ (¬1) قال: فتَطيَّر الأمين وقال: ويحك ما هذا! فقال: عَرَمَ الزَّمانُ على الذين عَهِدْتُهمْ ... بكِ قاطِنينَ وللزَّمان عُرامُ فلعنه الأمين، فلمَّا قال: وإذا المَطيُّ بنا بَلَغْنَ محمَّدًا ... فظُهوُرهنَّ على الرِّجال حَرامُ قَرَّبْنَنا من خير مَن وَطئ الحَصى ... فلها علينا حُرْمَةٌ وذِمام سُرِّي عنه وقال: ذاك رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: وبَلَغتُ ما بلغ امرؤٌ بشَبابه ... فإذا عُصارَةُ كلِّ ذاك أَثامُ وتَجَشَّمتْ بي هولَ كلِّ تَنوفةٍ (¬2) ... هَوْ جاءُ فيها جُرْأةٌ إقدام تَذَرُ المَطيَّ وراءها فكأنها ... صَفٌ تَقَدَّمُهُنَّ وهي إمام وإذا المَطيُّ بنا بَلَغْنَ محمَّدًا ... فظُهورُهنَّ على الرِّجال حَرام قرَّبْنَنا من خَيرِ مَن وَطئَ الحَصى ... فلها علينا حُرْمَةٌ وذِمام رُفِعَ الحِجابُ لنا فلاح لناظري ... قَمَرٌ تَقَطَّعُ دونه الأوهام داوى به اللهُ القلوبَ من الجَوى ... حتى بَرِئْنَ وما بهنَّ سَقام فسَلِمْتَ للعِلم الذي تُهدى به ... وتقاعَسَتْ عن يومك الأيام ومن شِعره: [من السريع] أيَّةُ نارٍ قَدَح القادحُ ... وأيّ جدٍّ مَزح المازحُ (¬3) لله درُّ الشيب من ناصِح ... وواعِظٍ لو قُبل النَّاصِح يأبى الفتى إلَّا اتِّباعَ الهَوى ... ومَنْهَجُ الحَقِّ له واضح فاعْمَد بعَينَيك إلى نِسوةٍ ... مُهورُهُنَّ العملُ الصالح لا يَجْتَلي العَذْراءَ من خِدْرِها ... إلَّا امرؤٌ ميزانُه راجح مَن يَتَّقِ اللهَ فذاك الذي ... سِيقَ إليه المَتْجَرُ الرَّابح ¬

_ (¬1) انظر طبقات الشعراء لابن المعتز 211. (¬2) في (خ): في هول كل أنوفة، والمثبت من الديوان 575، وطبقات ابن المعتز، والتنوفة: المفازة. (¬3) في تاريخ بغداد 8/ 482، ودمشق 4/ 624: بلغ المازح.

فاغْدُ فما في الدِّين أُغْلُوطةٌ ... ورُح بما أنت له رائح وقال مَسْعود بن بِشْر: لقيتُ ابنَ مُناذرٍ بمكة، فقلت: مَن أشعرُ الناس؟ فقال: مَن إذا شَبَّب كَعَب -يعني ذَكَرَ الكواعب- وإذا أخذ فيما قصد له جَدّ، قلت: مثلُ مَن؟ قال: جريرٌ حيث يقول: [من الكامل] إنَّ الذين غَدَوا بلُبِّك غادروا ... وَشَلًا بعَينك لا يَزال مَعينا غَيَّضْن من عَبراتهنَّ وقُلْن لي ... ماذا لَقِيتَ من الهوى ولقينا ثم قال حين جدَّ: إنَّ الذي حَرَمَ الخلافةَ (¬1) تغلبًا ... جعل الخلافةَ والنُّبَّوة فينا مُضَرٌ أبي وأبو الملوك فهل لكمْ ... يا خُزْرَ (¬2) تَغْلِبَ من أبٍ كأبينا هذا ابن عمِّي في دمشقَ خَليفةٌ ... لو شئتُ ساقَكُمُ إليَّ قَطينا ثم قال: ومِن هؤلاء المُحْدَثين هذا الخبيث -يعني أبا العَتاهِيَة- الذي يتناول الشِّعر مِن كُمِّه، حيث يقول: [من المنسرح] اللهُ بيني وبين مَولاتي ... أبْدَتْ ليَ الصَّدَّ والمَلالاتِ مَنَحْتُها مُهْجَتي وخالِصَتي ... فكان هِجْرانُها مُكافاتي أقلقني (¬3) حبُّها وصيَّرني ... أُحدوثةً في جميع حالاتي ثم جدَّ فقال: ومَهْمَهٍ قد قطعتُ طامِسَه ... قَفْرٍ على الهول والمَخافات ببَكْرةٍ جَسْرةٍ عُذافِرةٍ ... خَوْصاءَ عَيرانَةٍ عَلَنْداة (¬4) تُبادر الشمسَ كلَّما طَلعت ... بالسَّير تبغي بذاك مَرضاتي يا ناقُ سيري بنا ولا تَعِدي ... نفسَك ممَّا تَرَينَ راحات ¬

_ (¬1) في ديوان جرير 1/ 387: المكارم. (¬2) جمع أخزر: وهو الذي في عينيه ضيق وصغر، وهذا وصف العجم، فكأنه نسبه إلى العجم وأخرجه عن العرب، وهو عند العرب من النقائص الشنيعة. قاله محقق الديوان. (¬3) في (خ): أقلني، والمثبت من تاريخ بغداد 8/ 485، وفي تكملة الديوان ص 506: هيمني. (¬4) هذا البيت وصف للناقة، فالعذافرة: العظيمة الشديدة، ومثله العلنداة، والخوصاء: غائرة العينين في ضيق وصغر، والعيرانة: الناجية: في نشاط.

حتى تُناخي بنا إلى مَلِكٍ ... توَّجه اللهُ بالمَهابات عليه تاجانِ فوق مَفْرِقه ... تاجُ جَلال وتاجُ إخبات يقول للرِّيح كلَّما نَسَمَت ... هل لك يا ريحُ في مُباراتي مَن مِثل مَن عمُّه الرسولُ ومَن ... أخوالُه أكرمُ الخُؤولات قال مسعودُ بن بشر (¬1): فقلت: أنا أُنشدك أحسنَ ممَّا أنشدتني، فقال: هات، فقلت: [من الطويل] ذكرتُم من التَّرحال أمرًا فغمَّنا ... فلو قد فعلتُمْ صبَّح الموتُ بعضَنا زعمْتُم بأنَّ البَين يُحزِنُكم نَعَمْ ... سيُحزنكم حُزْنًا ولا مثلَ حُزْنِنا أطال قصيرُ الليل يا رَحمَ عندكمْ ... فإن قصيرَ الليلِ قد طال عندنا خَليُّون من أوجاعنا يَعْذِلوننا ... يقولون لِمْ لم تَهوَ قلتا تديُّنا (¬2) فلو شاء ربيِّ لابْتَلاهم بمثل ما ابـ ... تلانا فصاروا لا علينا ولا لنا سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالدٍ ... هواكمْ لعلَّ الفضلَ يَجْمع بيننا إليك أبا العبَّاس مِن بين مَن مشى ... عليها امتَطَينا الحَضْرَميَّ المُلَسَّنا (¬3) قَلائصَ لم تَحْمل جَنينًا على طَلًا (¬4) ... ولم تَدْرِ ما قَرْعُ الفَنيقِ ولا الهِنا (¬5) فقال ابن مُناذر: أحسنَ والله صاحبُك في التَّشْبيب، وأغْرَبَ علينا في النِّعال وتصييرِه إياها مَطايا، ثم قال: لمن هذا؟ قلت: لأبي نُواس، فقال: لعنه الله، وندم على تحسين الأبيات. وقال وقد حَجَبه مالك بن طَوْق (¬6): [من البسيط] ¬

_ (¬1) في (خ): قال ابن مسعود، ولعله سبق قلم. (¬2) كذا في (خ)، وفي ديوان أبي نواس ص 652: يقودون لِمْ تهوون قلنا لذنبنا. (¬3) قال محقق الديوان: الحضرمي الملسن: النعل التي فيها طول كهيئة اللسان، استعاره للمطايا. (¬4) الطلا: ولد ذوات الظِّلف. وهذه رواية العمدة 1/ 228، وتاريخ بغداد 8/ 486، ورواية الديوان: لم تسقط جنينًا من الوجى. (¬5) الفَنيق: الفحل المكرَم لا يؤذى لكرامته على أهله ولا يركب، والهِناء: القطران. القاموس المحيط (فنق)، (هنأ). (¬6) البيتان لأبي تمام لا كما ذكر المصنف، وهما في ديوانه 3/ 48.

ما لي أرى القُبَّة البيضاءَ (¬1) مُقْفَلَةً ... دوني وقد طالما استَفْتَحْتُ مُقْفَلَها أظنُّها (¬2) جنَّةَ الفِردوس مُعرضةً ... وليس لي عملٌ زاكٍ فأدخُلَها [وروى الخطيبُ (¬3) أن أبا نواسٍ دخل على الأمين، فقال له: يا حسن، بلغني أنَّك زنديق، فقال: يا أميرَ المؤمنين، كيف أكون زنديقًا وأنا القائل: [من الطويل] أصلِّي الصلاةَ الخمسَ في حينِ [وقتها] (¬4) ... وأشهدُ بالتوحيد لله خاضعا وأُحسِنُ غُسْلًا إن ركبتُ جَنابةً ... وإن جاءني المسكين لم أكُ مانعا من أبيات، قال: صدقت، وأمر له بجائزة. وقال محمَّد بن عُبيد الله العُتْبي: وقد نظم أبو نواسٍ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الأرواحُ جنودٌ مجنَّدة ... " الحديث (¬5)، فقال: [من البسيط] إنَّ القلوبَ لَأجنادٌ مُجَنَدة ... لله في الأرض بالآلاء (¬6) تَعْتَرفُ فما تَناكَر منها فهو مُخْتلفٌ ... وما تعارف منها فهو مؤتَلِف وقيل: لعليِّ - عليه السلام -. وأبو نُواسٍ فقد كان له لَهْوٌ ولَعِب أولَ زمانه، ثم تاب في آخر عُمره، وخصوصًا عند موته؛ لِمَا نذكر. [وقال الخطيبُ (¬7) بإسناده إلى أبي جعفرٍ الصَّائع قال: لمَّا احتُضر أبو نواسٍ قال: اكتبوا هذه الأبياتَ على قبري: ] (¬8) [من مجزوء الكامل] وعَظَتْك أجْداثٌ صُمُتْ ... ونَعَتْك أزْمِنَةٌ خُفُتْ ¬

_ (¬1) في الديوان: الحجرة الفيحاء. (¬2) في الديوان: كأنها. (¬3) في تاريخه 8/ 480، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد. والبيتان ليسا في الديوان. (¬5) أخرجه البخاري (3336) من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وأخرجه مسلم (2638) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬6) في الديوان ص 423: بالأهواء، والمثبت موافق لما في تاريخ دمشق 4/ 621، وهذا الخبر ليس في (خ). (¬7) في تاريخه 8/ 490، وما بين حاصرتين من (ب). (¬8) في (خ): وقال وأوصى أن يكتب على قبره، والمثبت من (ب).

وتَكَلَّمت عن أوجُهٍ ... تَبلى وعن صُوَرٍ سُبُت وأرتْك قبرَك في القبو ... رِ وأنت حيٌّ لم تَمُت يا ذا المُنى يا ذا المُنى ... عِشْ ما بدا لك ثم مُت [وحكى المُعافَى بنُ زكريا عن] أبي العباس [قال: ] (¬1) أنشدتُ الإمامَ أحمد بنَ حنبلٍ رحمه الله قولَ أبي نُواس: [من الطويل] إذا ما خَلوتَ الدهرَ يومًا فلا تَقُلْ ... خلوتُ ولكن قلْ عليَّ رقيبُ ولا تَحْسبنَّ الله يَغْفُل ساعةً ... ولا أنَّ ما يَخْفى عليه يغيبُ لَهَونا لَعَمْرُ اللهِ حتى تتابَعَتْ (¬2) ... ذُنوبٌ على آثارهنَّ ذنوب فيا ليت أنَّ اللهَ يَغفرُ ما مضى ... ويأذنُ في توباتنا فنتوب فبكى الإمام أحمدُ رحمةُ الله عليه وجعل يُرَدِّدها (¬3). وقال [الخطيبُ (¬4) بإسناده عن] علي بن محمَّد بنِ زكريا [قال: ] دخلتُ على أبي نواسٍ وهو يَكِيدُ (¬5) بنفسه [فقال لي: أتكتب؟ قلت: نعم، فأنشأ يقول: [من الخفيف] دَبَّ فيَّ الفَناءُ سُفْلًا وعُلْوا ... وأراني أموت عُضوًا فعضوا ذهبتْ شِرَّتي بجِدَّة نفسي (¬6) ... وتذكَّرتُ طاعةَ اللهِ نِضْوا ليس من ساعةٍ مَضَت بيَ إلَّا ... نَقَصَتْني بمَرِّها بيَ جُزْوا لَهْفَ نفسي على لَيالٍ وأيَّا ... مٍ تَمَلَّيتُهنَّ لَعْبًا ولَهوا قد أسأنَا كلَّ الإساءة يا ربّ ... فصَفحًا عنا إلهي وعفوا و[روى ابنُ عساكرٍ (¬7) عن محمَّد بنِ أبي عُمير قال: ] قال أبو نُواسٍ عند الموت: واللهِ ما خَلَعْتُ سراويلي على حرامٍ قطّ. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال أبو العباس. (¬2) رواية الديوان ص 103: لهونا بعمر طال حتى ترادفت، والمثبت موافق لما في تاريخ دمشق 4/ 633. (¬3) بعدها في (ب): ذكر وفاته. (¬4) في تاريخه 8/ 489 - 490، وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ): يجود. وهما بمعنى. (¬6) في الديوان ص 691: ذهبت جدتي بطاعة نفسي. (¬7) في تاريخه 4/ 619، وما بين حاصرتين من (ب).

[روى الخطيبُ (¬1) عن الربيع بنِ سليمانَ، عن] الإمام الشافعيِّ رحمةُ الله عليه [قال: ] دخلتُ على أبي نُواسٍ وهو يجود بنفسه، فقلت له: ما أعددتَ لهذا اليوم؟ فقال يُنشد (¬2): ولمَّا قَسا قلبي وضاقَتْ مَذاهبي ... جَعلْتُ رَجائي نحو عَفْوكِ سُلَّما تَعاظَمَني ذَنْبي فلمَّا قَرَنْتُه ... بعَفْوك ربِّي كان عَفْوُك أعْظَمَا وما زلتُ ذا ذنبٍ عظيمٍ ولم تزل ... تجود وتعفو مِنَّةً وتَكَرُّما فلولاك لم يقوى لإبليسَ عابدٌ (¬3) ... فكيف وقد أغوى صَفِيَّك آدما [وسنذكر الأبياتَ في ترجمة الشافعي]. واختلفوا في وفاته، فقيل: مات سنةَ ثمانٍ وتسعين، وقيل: سنةَ خمسٍ وتسعين، وقيل: سنة ستٍّ وتسعين ومئة. والأوَّل أصحّ، أنه مات سنةَ مئتين هو ومَعْروفٌ الكَرْخيُّ في يومٍ واحد (¬4). قال أحمد بن هارون: مات أبو نُواس في اليوم الذي مات فيه معروف، فأخرجت جَنازة معروف، فغُلِّقت الأسواق ببغداد، ولم يبق بِكرٌ ولا عانس، فحُزر الجميعُ ثلاثَ مئةِ ألف، وأُخرجت جنازةُ أبي نُواس، فلم يتبعْها سوى رجلٍ واحد، فلما رجع الناسُ من جنازة معروف، قال قائل: أليس قد جَمَعَنا وإياه الإسلام؟ فرجع الناس فصلَّوا عليه، فرُئي تلك الليلةَ في المنام وهو يقول: غُفر لي بصلاة الذين صلَّوا على معروف وعليّ. ¬

_ (¬1) في تاريخه 8/ 489. وفي (خ): وقال الإمام الشافعي رحمة الله عليه ... (¬2) في (ب): فأنشأ وجعل يقول. (¬3) في (ب): فلولاك لم أهوي لإبليس عامدًا، وفي تاريخ بغداد: فلولاك لم يقو بإبليس عابد. (¬4) في (ب): واختلفوا في وفاته، فذكر الخطيب قولين أحدهما أنه سنة ثمان وتسعين ومئة، والثاني سنة تسع وتسعين ومئة، وحكاهما جدي في المنتظم، وزاد قولًا هو سنة ست وتسعين ومئة، والأصح أنه مات في هذه السنة وهي سنة مئتين هو ومعروف الكرخي في يوم واحد. اهـ. قلت: وهذا النقل عن الخطيب وابن الجوزي لا يسلم، فالذي في تاريخ بغداد 8/ 490 عن ابن أبي سعد أنه توفي سنة 198، وعن آخرين أنه توفي سنة 196، أو 195، والذي في المنتظم 10/ 20: توفي سنة خمس وتسعين ومئة -وأورده في وفياتها- وقيل سنة ست، وقيل سنة ثمان. ولذلك أثبت سياق (خ).

[وقد أخرجه جدِّي في "فضائل معروف" فقال: حدَّثنا أبو الحسن محمَّد بن أحمدَ الصَّائغ وغيُره، عن أبي عبد اللهِ أحمدَ بن هارون ... وذكره، وفيه: رجع الناسُ من جنازة معروفٍ، فرأوا جنازةَ أبي نواس، فما التفتوا إليها، فقال قائل: أليس قد جمعنا وإيَّاه الإسلام؟ ! ولعل باطنَه كان أجملَ من ظاهره، فلا تُؤيسوه من رحمة اللهِ تعالى، فرجع الناس كلُّهم فصلَّوا عليه. ولم يذكر في هذه الرواية حديثَ المنام، وقد علَّق بعضُهم فقال: الذي مات يوم مات معروفٌ الكَرْخي رجلٌ يقال له الحسن بن هانئ، وكنيتُه أبو نواس. وليس كما ذكر؛ لأنَّ ما في الشعراء مَن اسمُه الحسن بنُ هانئ وكنيتُه أبو نواس غيره. وذى ابنُ الهَبَّارية في "فلك المعاني" عن الطائيِّ قال: ] (¬1) دخلتُ على أبي نُواس وهو مريض، فقلت: كيف تَجِدُك؟ فقال: [من الخفيف] كلُّ يومٍ يَمُرُّ يأخذُ بعضي ... يُورث القلبَ حَسْرةً ثم يَمضي نفسِ كُفِّي عن المعاصي وتوبي ... ما الخطايا على العباد بفَرْض (¬2) [وذكر ابنُ الهَبَّارية أيضًا عن الطائي قال: ] (¬3) جاءتني رُقْعةٌ من أبي نواسٍ مع رسوله يوم مماتِه، وقال: أَدرِكْه وإلَّا فاقرأ هذه على إخوانه. [قال: ] فخرجتُ وإذا بجنازته، فقرأت الوُّقعة، فإذا فيها: [من الخفيف] شِعْرُ مَيْتٍ أتاك من لَفْظ حيٍّ ... صار بين الحياةِ والموتِ وَقْفا أَنحَلَتْه يَدُ الحَوادث حتى ... كاد عن أَعيُن الحوادث يَخْفى لو تأمَّلْتَني لتَنْظُرَ حالي ... لم تَجدْ من سُطور وَجْهيَ حَرْفا ولَرَددْتَ طَرفَ عَينك فيمن ... دَرَسَتْه الأسقامُ حتى تعفَّا (¬4) ¬

_ (¬1) في (خ): وقال الطائي، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) البيتان ليسا في الديوان، وهما -باختلاف في الرواية- في الأمالي 3/ 222، والبيت الأول في الرسالة القشيرية 1/ 25، دون نسبة عندهما. (¬3) في (خ): وقال الطائي أيضًا. (¬4) الديوان ص 433 باختلاف في الألفاظ.

وقال [الخطيبُ (¬1) بإسناده عن] محمَّد بنِ نافع [قال]: كان أبو نواسٍ صديقًا لي، فوقعت بيني وبينه هجرةٌ في آخر عمره، ثم بلغتني وفاتهُ، فتضاعف عليّ الحُزْن، فبينا أنا بين النائمِ واليقظان، إذا أنا به، فقلت: أبو نُواس؟ قال: لاتَ حينَ كُنية، قلت: الحسنُ بن هانئ؟ قال: نعم، قلت: ما فعل اللهُ بك؟ مال: غفر لي بأبياتٍ قلتُها، وهي تحت وسادتي، قال: فأتيت أهلَه، فلما أَحسُّوا بي أجْهَشوا بالبكاء، فقلت لهم: هل قال أخي شعرًا قبل موته؟ قالوا: لا نعلم، إلَّا أنَّه دعا بدَواةٍ وقِرْطاسٍ وكتب شيئًا لا ندري ما هو [قال: ] فرفعتُ وسادتَهَ، فإذا برُقعةٍ فيها مكتوب: [من الكامل] يا ربِّ إن عَظُمَت ذنوبي كَثرةً ... فلقد علمتُ بأنَّ عَفْوَك أعظمُ إنْ كان لا يَرجوك إلَّا مُحْسنٌ ... فمَن الذي يَدعو ويَرجو المُجْرم أدعوك ربِّ كما أمَرْتَ تَضَرُّعًا ... فإذا رَدَدْتَ يدي فمَن ذا يَرْحَم ما لي إليك وَسيلَةٌ إلا الرَّجا ... وجَميلُ عَفوك ثم أَنِّي مُسْلِم (¬2) وقال أحمد بنُ هارون: رُئي أبو نواسٍ في المنام، فقيل له: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: غفر لي بأبيات، وهي [من الوافر] تأمَّل في نبات الأرضِ وانظرْ ... إلى آثار ما صَنَع المَليكُ عيونٍ من لُجَيْنٍ ناظِراتٍ ... بأحداقٍ لها الذَّهبُ السَّبيك على قُضُبِ الزُّمُرُد شاهداتٍ ... بأنَّ اللهَ ليس له شريك (¬3) أسند أبو نُواس الحديثَ عن حَمَّاد بنِ زيد [ومعتمر بن سليمانَ وعبدِ الواحد بن زيادٍ (¬4) ويحيى بن سعيد القطَّان] وغيرهم (¬5)، غيرَ إنه ضيَّع ذلك بهنَاته. [وحدَّثنا غيرُ واحدٍ عن أبي القاسم إسماعيلَ بن أحمدَ السَّمَرْقَنْدي بإسناده عن] محمَّد بنِ إبرإهيمَ بنِ كثير [قال: ] (¬6) دخلنا على أبي نُواسٍ في مرض موته، فقلنا له: ¬

_ (¬1) في تاريخه 8/ 491 - 492، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) الديوان ص 5/ 587. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 639. (¬4) في (ب): زيد، والمثبت من تاريخ بغداد 8/ 475. (¬5) في (خ): حماد بن زيد وغيره. (¬6) في (خ): وقال محمد بن إبراهيم بن كثير، والخبر في تاريخ بغداد 2/ 283، 284، والمنتظم 10/ 17.

معروف الكرخي

هذا آخرُ أيامك من الدنيا، وبينك وبين اللهِ هَنَات، فتُبْ منها، فقال: إيَّاي تُخَوِّفون بالله، أَسنِدوني، فأسندوه، فقال: حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، عن يزيدَ الرَّقَاشي (¬1)، عن أنس بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ادَّخرتُ شفاعتي لأهل الكبائرِ من أُمَّتي" أَفتراني لا أكون منهم! [قلت: وقد ضعَّفه الخطيبُ فقال: لم يروه عن محمَّد بنِ إبراهيمَ غيُر إسماعيلَ بن عليٍّ الخزاعي، وكان غيَر ثقة (¬2). قال الخطيب: ] ودُفن بمقابر الشُّونيزية [غربي بغداد بتلِّ اليهود] (¬3). وسنُّه أربعٌ وستُّون سنة، وقيل: تسع وخمسون سنة، رحمة الله عليه (¬4). مَعْروف الكرْخيّ (¬5) اختلفوا في نسبه فقال الخطيبُ: هو معروف بن الفَيرُزان. وقيل: فَيْروز. وقيل: عليّ. وقال ابنُ خَميس في "مناقب الأبرار": هو معروف بنُ فيروز. وقيل: ابن مرزان (¬6). وقيل: ابن علي. وينسب إلى كَرْخ بغداد، وقبره معروفٌ يُزار إلى اليوم، ويقال له: كرخ باجَدَّا. ¬

_ (¬1) الصواب: ثابت البناني، كما في تاريخ بغداد 2/ 284، والمنتظم 10/ 17، ويزيد الرقاشي راوي الحديث الذي قبله في المصدرين، وهو بالإسناد ذاته. (¬2) والحديث صحيح من طرق أخرى عن أنس - رضي الله عنه -، كما في سنن أبي داود (4739) والترمذي (2435) ومسند أحمد (12376) و (13222)، وله شواهد. (¬3) تاريخ بغداد 8/ 491، والمنتظم 10/ 20. (¬4) في (ب): واختلفوا في سنه، فقال الخطيب: أربعة وستون سنة لأنه ولد سنة ست وثلاثين ومئة. قال جدي رحمه الله في المنتظم: وكان عمره تسعًا وخمسين سنة، هذا على تصحيح مولده، وقد ذكرناه. اهـ. قلت: هذا الذي نقله عن الخطيب يخالفه ما في تاريخه 8/ 491 فإنه قال: وكان عمره تسعًا وخمسين سنة، فجعله قولًا لابن الجوزي، وابن الجوزي إنما ينقل جُلّ تراجمه عن الخطيب، وانظر المنتظم 10/ 20. وهذا ما جعلني أثبت سياق (خ)، وإن كان في (ب) زيادات مفيدة إلا أن الأوهام فيها كثيرة هذا أحدها. (¬5) طبقات الصوفية 83، حلية الأولياء 8/ 360، تاريخ بغداد 15/ 263، المنتظم 10/ 88، صفة الصفوة 2/ 318، مناقب الأبرار 1/ 120، تاريخ الإسلام 4/ 1210، السير 9/ 339. (¬6) كذا في (ب)، وفي مناقب الأبرار 1/ 120: الفيرزان، وهو الصحيح.

وحكى الخطيبُ (¬1) عن محمَّد بن رِزْقٍ قال: سمعت أبا بكرٍ محمَّد بن الحسن النقَّاش المُقرئ، وسئل عن معروفٍ الكرخي فقال: سمعت إدريس بن عبد الكريمِ يقول: هو معروف بن الفَيرُزان، وبيني وبينه قرابة، وكان أبوه صابئًا من أهل نهربان من قرى واسط، وكان في صغره يصلِّي بالصِّبيان ويعرض على أبيه الإسلامَ فيصيح عليه. واختلفوا في كُنية معروفٍ على قولين: أحدهما: أبو مَحْفوظ، حكى بعضُ الأشياخ قال: خطر لي يومًا اسمُ معروف وكُنيته، فأخذني الطَّربُ وقلت: زِه (¬2)، أبو محفوظ معروف، جُمع له بينهما. والثاني: كُنيته أبو الحسن، ذكره الخطيب] (¬3) [ذكر طرف من أخباره: حكى عبدُ الكريم بن هَوازن القُشَيريُّ عن أبيه (¬4)، عن أبي [عليٍّ] (¬5) الدَّقَّاق قال: كان معروفٌ أبواه نصرانيان، فسلَّما معروفًا إلى المؤدِّب وهو صبي، فكان يقول له: قل: ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو واحد، فضربه المعلِّم يومًا ضربًا مُبَرّحًا، فهرب معروف، فكان أبواه يقولان: ليته يرجع إلينا على أيِّ دِينٍ شاء فنوافقَه عليه. ثم إنَّه أسلم على يد عليِّ بن موسى الرِّضا، ورجع إلى منزله، فدقَّ الباب، فقيل: مَن بالباب؟ فقال: معروف، فقالوا: على أيِّ دين؟ فقال على الدين الحَنيفي، فأسلم أبواه. وحكى عليُّ بن عبدِ الله ابن جَهْضَمٍ الصُّوفيُّ، عن أحمد بنِ عطاء، عن أبي صالح] عبد الله بن صالح قال (¬6): كان أبو محفوظٍ معروف قد باداه اللهُ بالاجتباءِ في حال ¬

_ (¬1) في تاريخه 15/ 264 - 265. (¬2) كلمة فارسية تستعمل للاستحسان. المعجم الذهبي ص 318. (¬3) في (خ): معروف بن الفيرواني الكرخي، ينسب إلى كرخ بغداد، وكنيته أبو محفوظ، وقيل أبو الحسن، وقال بعض الأشياخ ... جمع له بينهما. والمثبت من (ب). (¬4) كذا في (ب)، وهو وهم، فالقشيري يحدث عن أبي علي الدقاق شيخه مباشرة، لا عن أبيه. انظر الرسالة القشيرية 1/ 80. (¬5) ما بين حاصرتين من الرسالة القشيرية. (¬6) في (خ): وقال عبد الله بن صالح، والمثبت من (ب).

الصِّبا. يُذكر أنَّ عيسى أخاه قال: كنت أنا وأخي معروفٌ في الكُتَّاب، وكنَّا نصارى، وكان المعلِّم يعلم الصِّبيان: أب وابن، فيصيح أخي معروف: أَحَدٌ أحد، فيضربه المعلِّم على ذلك ضَرْبًا شديدًا، فهرب على وجهه، فكانت أمُّه تبكي وتقول: لئن ردَّ اللهُ عليَّ ابني معروفًا لأتبعنَّه على أيِّ دين كان، فقدم عليها معروفٌ بعد سنينَ كثيرة، فقالت: يا بُني، على أيّ دينٍ أنت؟ قال: دينِ الإسلام، فقالت: وأنا أشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وأشهد أنَّ محمَّدًا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمت أمِّي وأسلمنا كلنا (¬1). [وقال ابنُ خميس في "المناقب": كان معروفٌ، من جِلَّة (¬2) مشايخهم وقدمائهم، والمشهورين بالزُّهد والورعِ والفتوَّة، مجابَ الدَّعوة، يُستسقى بقبره، ويقول البغداديون: قبرُه الدِّرْياق المُجَرَّب (¬3) [قال: وهو من موالي عليِّ بن موسى الرضا، وذكر إسلامَه وأنَّ المعلِّم ضربه فهرب إلى علي بن موسى الرِّضا فأسلم على يديه. وقال السُّلمي: ] (¬4) كان من العارفين بالله، المحبّين له [وكان] صاحبَ كرامات وآيات، ذُكر عنده القرآنُ فقال: واغوثاه بالله [العظيم] القرانُ كلام اللهِ غير مخلوق. [ذِكر ثناءِ العلماءِ عليه: روى الخطيبُ بإسناده عن] إسماعيلَ بن شدَّاد قال (¬5): قال لنا سفيان بن عُيينة: من أين أنتم؟ قلنا: من بغداد، قال: ما فعل ذلك الحَبْرُ الذي فيكم؟ قلنا: مَن هو؟ قال: أبو محفوظٍ معروف، قلنا: بخير، [قال: ] لا يزال أهلُ تلك المدينةِ بخير ما بقي فيهم. [وروى ابنُ باكُويه الشيرازيُّ قال: ] (¬6) ذُكر معروفٌ عند الإمام أحمدَ رحمه الله، ¬

_ (¬1) بعدها في (خ): وكان أسلم على يد علي بن موسى الرضا. وقد مر ذكر ذلك من (ب) في الخبر السابق. (¬2) في (خ): وكان من جلة، وانظر مناقب الأبرار 1/ 120. (¬3) الدرياق والترياق واحد. وقد علق الذهبي رحمه الله على هذا في السير 9/ 343 - 344 فقال: يريد -أي إبراهيم الحرب المنقول عنه هذا الكلام- إجابة دعاء المضطر عنده، لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء، كما أن الدعاء في السَّحر مرجو، ودبر المكتوبات، وفي المساجد، بل دعاء المضطر مجاب في أي مكان اتفق، اللهم إني مضطر إلى العفو فاعفُ عني. اهـ. وانظر تاريخ الإسلام 4/ 1213. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، ولم نقف على كلام السلمي في طبقاته. (¬5) تاريخ بغداد 15/ 266، وفي (خ): وقال إسماعيل بن شداد ... (¬6) ما بين حاصرتين من (ب).

فقال واحدٌ من الجماعة: هو قصيرُ العلم [قال عبدُ الله بن أحمدَ بنِ حنبل: فقال له والدي: ] (¬1) أَمسِك عافاك اللهُ، وهل يراد بالعلم إلَّا ما وصل إليه معروف! [ورواه الخطيب (¬2) عن عبد اللهِ بن الإمام أحمدَ رحمه الله قال: قلت لأبي: هل كان مع معروفٍ شيءٌ من العلم؟ فقال: كان معه رأسُ العلم، خشيةُ الله تعالى. [وروى أبو الحسين بن عمرَ القزوينيُّ قال: ] (¬3) قيل لبِشر: إنَّ معروفًا يحضر الولائمَ ويأكل الطيِّباتِ ويقول: أنا ضيف، من أيِّ شيءٍ أطعمني أكلت، فقال بِشر: أعرف رجلًا يشتهي باذنجانةً من كذا وكذا سنة، ثم قال: أخي معروفٌ يأكل ببسط المعرفة، وأنا أترك بقبض الورع. [وروى الخطيبُ بإسناده عن عبد الوهاب الورَّاق وقيل له: ] (¬4) إنَّ معروفًا يمشي على الماء، فقال: لو قيل لي: إنَّه يمشي في الهواء لصدَّقت. وقال زيد الحِمْيَري (¬5): قال لي ثوبانُ الراهب: أَرِني معروفَكم هذا الذي تذكرون من فضله، فذهبنا إلى معروف، فلقيناه قد نزل من مسجده، فسلَّمت عليه وقلت: إنَّ ثوبانَ جاء ليسلِّمَ عليك، فقال له معروف: كيف تجدون الإسلامَ عندكم؟ قال: عظيمًا، قال معروف: أيّها الراهب، هو عند اللهِ أعظم، ثم قرأ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] الآيةَ، ثم قال: أيُّها الراهب، أَسلم، فإنَّ لك حقًّا، نقلتَ قدميك إلينا، فبكى الراهب ثم قال: قد وقع كلامُك في قلبي، ثم سلَّم وانصرفنا، ثم قال لي الراهبُ: يا زيد، ما أرى أنَّ في الدنيا مثلَ هذا، لو دعاني بكلمةٍ أخرى لأسلمت. [ذِكر زيارة الأئمَّة له والتبرُّكِ بدعائه: قد كان جماعةٌ من الأئمة والزهَّاد يتباركون بزيارته، منهم أحمد بنُ حنبلٍ ويحيى بن ¬

_ (¬1) في (خ): فقال الإمام أحمد رحمه الله ... (¬2) ذكره في تاريخه 1/ 266 دون إسناد. وفي (خ): وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله ... (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): وقيل لعبد الوهاب ... ، والخبر في تاريخ بغداد 15/ 272 - 273. (¬5) في (ب): وروى الخطيب عن زيد الحميري قال، والمثبت من (خ)، ولم أقف عليه في ترجمته من تاريخ بغداد.

مَعين وبِشر الحافي وغيرُهم، وروى الخطيبُ (¬1) بإسناده إلى إدريس بنِ عبد الكريم قال: ] جاء الإمام أحمدُ بن حنبلٍ رحمةُ الله عليه ويحيى بنُ معين يكتبان عنه، فقال ابن معينٍ للإمام أحمد: أريد أن أسألَه عن مسألة، فقال له أحمد: دَعْه، فسأله عن سجدتي السَّهو، فقال له معروف: عقوبةٌ للقلب، لِمَ اشتغل وغفل عن الصلاة؟ فقال له الإمامُ أحمد: خذها في كيسك، فإنَّه ليس من علمك ولا علمِ أصحابك. [وفي رواية: ] (¬2) قال له ابنُ معين: ما تقول فيمن نسي سجدتي السَّهو في الصلاة؟ قال: يعيد الصلاة، قال: ولم؟ قال: لأنه قلبٌ غفل عن الله، فقال ابنُ معينٍ للإمام أحمد: أكذا؟ قال: نعم، لقد أجابك بجواب الجواب (¬3). [ذكر نبذة من زهده وإيثاره: روى ابن باكُويه الشيرازيُّ عن] ابن أختِ معروفٍ قال (¬4): قلت لخالي معروف: أراك تجيب كلَّ مَن دعاك! فقال: يا بُنيّ، إنما خالُك ضيفٌ ينزل حيث نزل. [وروى أبو نُعيم عنه أنَّه قال: ] (¬5) ما أبالي امرأةً لقيت أم حائطًا. وكان يؤْثِر بما يفتح به عليه ولا يدَّخر شيئًا. و [كان] يقول: أعوذ بالله من طول الأمل. [قال: ] (¬6) وأراق الماءَ يومًا وَهو قريبٌ من دجلةَ فاستجمر (¬7)، فقيل له: الماءُ قريبٌ منك! فقال: لَعلِّي لا أعيش حتى أصلَ إلى الماء. [وروى أبو نُعيم أنَّه (¬8)] كان يعاتب نفسَه ويقول: يا مسكين، كم تبكي! أَخلِصْ وتَخلص. [وفي رواية: وكان يضرب نفسَه ويقول: يا نفس، كم تبكين! أَخلِصي ¬

_ (¬1) في تاريخه 15/ 264 - 265. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) رواية القصة في (ب): ... قال: يعيد الصلاة، ولو سها في سجود السهو لا سهو عليه. لأن تكرار السهو في صلاة واحدة غير مشروع. وروى عن الكسائي أنه سأل محمدًا عن هذا فقال له محمدًا: معك [من] العربية مثله، قال: في أي مكان؟ ! قال: في باب الصغير لا يصغر. اهـ. (¬4) في (خ): وقال ابن أخت معروف. (¬5) في (خ): وقال معروف. والكلام في حلية الأولياء 8/ 366. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) في حلية الأولياء 8/ 364، قصد معروف الكرخي على شط الدجلة فتيمم. (¬8) في الحلية 8/ 367، وما بين حاصرتين من (ب).

وتخلَّصي (¬1). وروى الخطيبُ (¬2) عن عيسى أخي معروفٍ قال: ] سأل رجلٌ معروفًا فقال: كيف تصوم؟ فقال: كان عيسى - عليه السلام - يصوم كذا وكذا، [قال: أَخبِرني عن صومك، قال. كان داودُ - عليه السلام - يصوم كذا وكذا، (¬3) قال: أَخبِرني عن صومك، قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصوم كذا وكذا، قال: أَخبِرني عن صومك، قال: أمَّا أنا، فأصبح الدهرَ كلَّه صائمًا، فإن دُعيتُ إلى طعامٍ أَكلت ولم أقل: إنِّي صائم. [وقال أبو نُعيم (¬4): كان الحجَّام يأخذ شارب معروفٍ وهو يسبِّح، فقال له الحجَّام: لا يتهيَّأ الأخذُ من شاربك وأنت تسبِّح، فقال معروف: أتعمل أنت وأبطل أنا؟ ! ذِكر جملةٍ من كلامه ومواعظه وما أَنشد من الشِّعر: روى ابنُ أبي الدنيا [عن] عمرو (¬5) بن موسى: قال: سمعت معروفًا] وذُكر عنده رجلٌ فجعل رجلٌ يغتابه، فقال له معروف: اذكر القطنَ إذا وضعوه على عينيك. وجعل يردِّده. [وقال عليُّ بن الموفَّق: سمعت معروفًا يقول: ] (¬6) إنَّ الله لَيبتلي العبد، فيجتمع إليه القوم، فيشكو إليهم، فيقول اللهُ تعالى: عبدي ما ابتليتُك إلا لأغسلَك من الخطايا، فلا تشكوني. [قال: ] (¬7) وقال: إنَّ لله عبادًا إذا أقبلت الدنيا عليهم قالوا: ذنب عُجِّلت عقوبته، وإذا أدبرت قالوا: مرحبًا بشعار الصالحين. و[قال السُّلمي: ] قال [معروف: ] احفظ لسانَك من المدح كما تحفظه من الذَّمّ. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخه 15/ 267 - 268، وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) وهو الموافق لما في تاريخ بغداد. (¬4) في الحلية 8/ 362. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (ب): عمر، والمثبت من صفة الصفوة 2/ 320. ورواه أبو نعيم 8/ 364 عن موسى بن إبراهيم. ولفظة: عن، ساقطة من (ب). (¬6) في (خ): وقال معروف. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب).

و [قال الخطيب: ] قال [معروف: ] النظرُ إلى المصحف وإلى الوالدين والقعودُ في المسجد عبادة. و [قال أبو نُعيم]: قال [معروف] ما أكثرَ الصالحين وأقلَّ الصادقين فيهم! و[قال السُّلمي: ] (¬1) قال [معروف: ] قلوبُ الصالحين تُزهر بالتقوى وتُسرج بالبِر، وقلوب الفجَّار تُظلم بالفجور وتَعمى بسوء النيَّة. [وقال ابنُ جَهضَم: قيل لمعروف: ] (¬2) بأيِّ شيءٍ قدر القومُ على الطاعة لله تعالى؟ فقال: بخروج الدنيا من قلوبهم، ولو كانت في قلوبهم لَمَا صحَّت لهم سجدة. وقال [السَّري: سمعت معروفًا يقول] (¬3): مَن كابر اللهَ صرعه، ومَن نازعه قمعه، ومَن ماكره خدعه، ومَن توكَّل عليه منعه، ومن تواضع له رفعه. [وروى أبو نُعيم (¬4) عن يعقوبَ بنِ أخي معروف قال: سمعت عمِّي معروفًا يقول: ] (¬5) كلامُ العبد فيما لا يعنيه خِذلانٌ من الله (¬6)، ورجاؤك لمن لا يطيعه خذلان وحُمق. وقال: إذا أراد اللهُ بعبدٍ خيرًا استعمله في الطاعة وأَسكنه بين الفقراء، وإذا أراد به غيرَ ذلك منعه العمل، وابتلاه بالجدال، وأَسكنه بين الأغنياء. وقيل له: ما يُخرج الدنيا من القلب؟ فقال: صفاءُ الودِّ وحُسن المعاملة. وجاءه رجلٌ فقال: قد بنيتُ دارًا، وأحبُّ أن تدخلَها وتدعوَ لي بالبركة، فجاء فدخلها وقال: يا أخي، ما أحسنَها! ولكن ما يَدَعونك فيها. [وروى ابنُ باكويه عن] القاسم بنِ محمد البغداديِّ قال (¬7): كنت جارَ معروف، فسمعته ليلةً في السَّحَر يَنوح ويبكي وينشد: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) في طبقاته ص 90، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): وقيل له. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في الحلية 8/ 361. (¬5) في (خ): وقال ... (¬6) هنا ينتهي كلام معروف في الحلية، وفي طبقات الحنابلة 1/ 383، والسير 9/ 341 أيضًا. (¬7) في (خ): وقال القاسم بن محمد البغدادي.

أيَّ شيءٍ تُريد مني الذُّنوبُ ... عَلِقت بي فليس عني تغيبُ ما يَضُرُّ الذنوبَ لو أعتَقَتْني ... رحمةً لي فقد عَلاني المَشيب (¬1) وكان يتمثل دائمًا ويقول: [من الخفيف] ليس مَن مات فاستراح بميْتٍ ... إنَّما المَيْت ميِّت الأحياءِ وهذا البيت لعَديِّ بن الرَّعلاءِ المازني، من أبيات، منها: إنَّما المَيْت من يعيش ذليلًا ... كاسفًا بالُه قليل الرَّجاءِ فأُناسٌ يمصِّصون ثِمارًا ... وأُناس حلوقُهم في الماء (¬2) ودخل عليه رجلٌ وهو يدور حول ساريةِ المسجد ويقول: [من مجزوء الرمل] يا حبيبي يا حبيبي ... من حبيبي أنت تدري (¬3) فقال له: علِّمني المحبَّة [فقال: هذا ما يجيءُ بالتعليم. وفي رواية] (¬4) فقال له: المحبَّة ليست من تعليم الخلق، وإنَّما هي من مواهب الحقِّ. وقال له رجل: أَوصِني، فقال: توكَّل على الله حتى يكونَ هو معلِّمَك ومؤنسَك وموضعَ شكواك؛ فإنَّ الناس لا ينفعونك ولا يضرُّونك. وقال معروف: وجدتُ في بعض الكتب: يقول اللهُ تبارك وتعالى: يا ابن آدم، ما أجسَرك! تسألني فأمنعك، لعلمي بما يُصلحك، ثم تُلحُّ عليَّ في السؤال، فأجود عليك بكرمي، وأعطيك ما سألتني، فتستعين به على معصيتي، فأَهُمُّ بهتك سِترك [فتسألني] فأستر عليك، فكم سترٍ جميلٍ أصنعه معك، وكم من قبيحٍ تعمله معي! يوشك أن ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 2/ 321، وطبقات الأولياء ص 283. (¬2) الأصمعيات ص 152، ومعجم المرزباني ص 86، والخزانة 9/ 583، 585. ولم يذكر الأصمعي البيت الأخير. (¬3) لم نقف عليه، وفي صفة الصفوة 4/ 417: عن ذي النون المصري قال: كنت في الطواف، فسمعت صوتًا حزينًا، وإذا أنا بجارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول: أنت تدري يا حبيبي ... من حبيبي أنت تدري ونحول الجسم والدم ... ـــع يبوحان بسري يا عزيزي قد كتمت الـ ... ــحب حتى ضاق صدري (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

أغضبَ عليك غضبةً لا أرضى عليك بعدها أبدًا. [والله أعلم. ذِكر بعضِ كراماته: روى الخطيبُ (¬1) عن] ابن شيرويه قال: كنت أجالس معروفًا كثيرًا، فلمَّا كان ذات يومٍ قلت له: يا أبا محفوظ، بلغني أنَّك تمشي على الماء! فقال: ما فعلته قطّ، ولكن إذا هممت بالعبور، يُجمع لي طرفاها فأتخطَّاها. يعني دِجلة. وقيل له: إنَّك تمشي على الماء! فقال: هذا الماءُ وها أنا. وإنَّما أراد المعاريض. وقال [الخطيبُ (¬2) عن] محمد بنِ منصور [قال]: كنت عند معروفٍ يومًا، وجئته من الغد وإذا في وجهه أَثَر، فقلت: يا أبا محفوظ، كنت عندك أمسِ وما بك هذا الأثر، فما هذا؟ ! فقال: سَلْ عما يعنيك، فقلت له: بالله ما سببُه؟ ! فقال: ويحك، ما دعاك على أن تُقسمَ عليَّ بالله، وتغيَّر وجهه، ثم قال: صلَّيت البارحةَ ها هنا وأردت أن أطوفَ بالبيت، فمضيت إلى مكَّة، فطُفت، ثم مِلت إلى زمزمَ لأشربَ من مائها، فزلقت على الباب، فأصاب وجهي هذا. [وروى الخطيبُ عن] الفضل بنِ محمد الرَّقاشي [قال] (¬3): دخلتُ يومًا على معروفٍ وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ ! قال: ذهب الإخوان، وشحَّ الناس على الدنيا ونسُوا الآخرة. ثم قام ومشى، ومشيت معه إلى دكَّان أخيه، فسلَّم عليه وقعد، وكان أخوه دقَّاقًا، فقال له أخوه: اِجلس ساعة؛ فإنَّ لي شغلًا، وقام أخوه وذهب في حاجته، فرأى معروفٌ الصبيانَ والأرامل والضعفاءَ جلوسًا، فأخذ يفرِّق عليهم الدقيقَ إلى أن نظَّف الدكان، وجاء أخوه فصاح وقال: أَفقرتَني، فقام معروف ورجع إلى مسجده، ففتح أخوه الصُّندوق، فإذا هو مملوءٌ دراهم، فوزنها وإذا هو قد ربح لكلِّ درهمٍ سبعين، فقام يعدو إلى معروف، فقال: يا أخي، تجيءُ غدًا إلى دكاني ساعة؟ فقال: هذا لا يجيء على التجربة (¬4). ¬

_ (¬1) في تاريخه 15/ 272. وفي (خ): وقال ابن شيرويه. (¬2) في تاريخه 15/ 267. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): وقال الفضل بن محمد الرقاشي. ولم نقف على الكلام في تاريخ الخطيب البغدادي. (¬4) بعدها في (ب): ولا كرامة.

[وروي أنه استأذن أخاه في الدقيق وأن يتصدق به، ولما قال له: أريد أن أذهب في حاجة، اقعد مكاني. قال: على شرط ألا أمنع سائلًا، وأن أخاه اغتم، فقال له معروف: لا تغتم، فإن ثمن دقيقك في صندوق. وروى الخطيبُ (¬1) عن] أبي العباس المؤدِّب قال: حدَّثني جارٌ لي هاشميٌّ بسوق يحيى، وكانت حالُه رقيقة، فقال: وُلد لي مولودٌ وليس عندنا شيء، فقالت زوجتي: لا بدَّ من قيام الصورة (¬2)، ومن شيءٍ أتغذَّى به، ولا صبرَ لي على هذا. فخرجت بعد العشاءِ إلى بقَّال كنت أعامله، فعرَّفته حالي، وكان له عليَّ دَين، فلم يعطني شيئًا، ثم صِرت إلى آخَر، فلم يعطني شيئًا، فبقيت متحيِّرًا لا أدري أين أتوجَّه، فصرت إلى دِجلة، وإذا بملَّاح ينادي: فُرضة عثمان، قصر عيسى. فصحت به، فقرب إلي الشطّ، فنزلت معه، فقال: أين تريد؟ فقلت: لا أدري، وقصصتُ عليه قصتي، فقال: لا تغتمّ، أنا أحملك إلى بُغيتك إن شاء اللهُ تعالى. فوصلنا إلى مسجد معروف، فقال: ادخل وقصَّ عليه حالك وسله أن يدعوَ لك، قال: فدخلنا المسجد، وإذا معروفٌ يصلي، فسلَّمت وصليت ركعتين، فسلَّم وقال: مَن أنت يرحمك الله؟ قلت: من سوق يحيى، وقصصت عليه قصَّتي، فسمع ذلك وقام يصلِّي، ومطرت السماءُ مطرًا كثيرًا، فاغتممت وقلت: كيف جئتُ إلى هاهنا ومنزلي بعيد! واشتغل قلبي. قال: فبينا أنا كذلك، إذ سمعت وَقْعَ حافرِ دابة، فقلت: في هذا الوقتِ من الليل! فدخل المسجدَ رجل وسلَّم على معروف، فقال: مَن أنت؟ فقال: يسلِّم عليك فلان، ويقول: إني بتُّ الليلةَ أتقلَّب في نعم الله، فشكرتُ [الله] (¬3) وقد بعثت إليك بخمس مئةِ دينارٍ تدفعها إلى مستحقِّها، فقال: ادفعها إلى ذاك الرجل، فقال: إنها خمسُ مئةِ دينار! فقال: هكذا طلبنا له، فدفعها إليّ، فأخذتها ومضيت بها إلى سوق يحيى، فطرقت على البقَّال، فخرج إليّ، فقلت: هذه خمسُ مئة دينار، قد فتح اللهُ لي بها. وأوفيتُه ما كان له عندي، فأخذت عسلًا ودقيقًا وشَيرجًا وما أحتاج ¬

_ (¬1) في تاريخه 15/ 268 - 269. وفي (خ): وقال أبو العباس المؤدب. (¬2) في تاريخ بغداد: هو ذا ترى حالي وصورتي. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

إليه، وجئت إلى منزلي والبابُ مفتوح، وزوجتي قد كادت تتلف من الضَّعف، فقلت: هذا عسلٌ وما تحتاجين إليه، ولم أُعلمها بالدنانير، واشترينا بها عقارًا، فنحن نستغلُّه إلى اليوم، ونعيش فيه ببركة معروف [وفي رواية: فبكت المرأةُ وقالت: اللهمَّ لا تنس لمعروفٍ هذا. وفي رواية الخطيبِ أيضًا] (¬1) جاء رجلٌ إلى معروفٍ فقال له: وُلد لي البارحةَ مولود، وليس عندي شيء، فقال: اقعدْ وقلْ مئةَ مرة: ما شاء اللهُ كان، فقالها الرجل، فقال له: قل مرةً أخرى، فقالها، ففعل ذلك خمسَ مرات، فلمَّا استوفاها، إذا بخادم زبيدةَ أمِّ جعفرٍ قد دخل ومعه صُرَّة، فقال: ستُّنا تسلِّم عليك وتقول: ادفع هذه الصُّرَّةَ إلى قومٍ مساكين، فقال: ادفعها إلى ذاك الرجل، فقال يا أبا محفوظ، إنَّها خمسُ مئة دينار! فقال: قد قال خمسَ مئة مرة: ما شاء اللهُ كان، ثم قال للرجل: لو زدتنا لزدناك. [وروى الخطيب (¬2) عن] خليلٍ الصياد قال (¬3): غاب ابني إلى الأنبار، فوَجَدَتْ أمُّه وَجْدًا شديدًا، فأتيتُ معروفًا فأخبرته، فقال: فما تريد؟ فقلت؟ ادعُ اللهَ أن يردَّه عليها، فقال: اللهم إنَّ السماءَ سماؤك، وإنَّ الأرضَ أرضك، وما بينهما لك، فأتِ به. قال خليل: فأتيت بابَ الشام، وإذا بابني قائمٌ مُنْبَهِر، فقلت: محمد! قال: نعم، قلت: ما لك؟ ! قال: الساعةَ كنت بالأنبار. [وروى أبو نُعيم (¬4) عن] يعقوبَ بنِ أخي معروف قال (¬5): قال لي عمِّي معروف: إذا كانت لك إلى الله حاجةٌ فأَقسِم عليه بي. [وكذا روى سَرِيٌّ السَّقَطي عنه (¬6). وروى ابن ناصرٍ بإسناده إلى] رَوح المُقرئ قال (¬7): نزل معروفٌ الماءَ ليتوضأ، ووضع ثوبَه ومصحفه، فجاءت امرأةٌ فأخذتهما، فتبعها يقول: يا أختي، تُحسنين ¬

_ (¬1) في (خ): وقال الخطيب. (¬2) في تاريخه 15/ 273. (¬3) في (خ): وقال خليل الصياد. (¬4) في الحلية 8/ 364. (¬5) في (خ): وقال يعقوب بن أخي معروف. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) في (خ): وقال روح المقرئ.

تقرئي؟ ! خذي الثوبَ وردِّي المصحف [فلمَّا رآها لا تجيبه، سعى إليها فأخذ المصحف] (¬1) وترك الثوب. و[روى أبو نُعيم (¬2) عنه أنه] اجتاز بسقَّاء يقول: رَحِمَ اللهُ مَن شرب، فشرب معروف، فقيل له: ألست صائمًا؟ ! قال: بلى، ولكن رجوت دعاءه. [وروى ابنُ جَهضمٍ عنه قال: رأيت في البادية شابًّا حسنَ الوجه، له ذؤابتان، على رأسه رداءُ قصب، وعليه قميص كتَّان، وفي رجلَيه نعلان طاق، قال معروف: فعجبت منه ومن زِيِّه في ذلك المكان، فسلَّمت عليه، فرد، فقلت: من أين؟ قال: يا عمّ، من مدينة دمشق، فقلت: متى خرجتَ منها؟ قال: ضحوةَ النهار (¬3)، قال معروف: فازددت تعجُّبًا، وكان بينه وبين الشامِ مراحلُ كثيرة، قلت: وأين المَقْصِد؟ قال: مكَّة، فعلمت أنَّه محمول، فودَّعته ومضى، ولم أره إلَّا بعد ثلاثِ سنين، فلما كان ذلك اليومُ وأنا في منزلي أتفكَّر في أمره، إذا بداقٍّ يدقُّ الباب، فخرجت إليه، وإذا بصاحبي، فسلَّمت عليه ورحَّبت به وأدخلته المنزل، فرأيته والهًا تالفًا، عليه زُرْمانِقة (¬4)، حافيًا حاسرًا، فقلت له: ما الخبر؟ فقال: يا أستاذ، لاطَفَني حتى أدخلني الشبكةَ فرماني، فمرةً يلاطفني ومرةً يتهدَّدني، ومرة يُجيعني ومرة يُكرمني، فليته أَوقفني على بعض أسرارِ أوليائه، ثم لْيفعل ما شاء. قال معروف: فأبكاني كلامُه، فقلت: حدِّثني بالذي فعل بك منذ فارقتني، فبكى وقال: جوَّعني ثلاثين يومًا، ثم جئت إلى قرية فيها مِقْثَأة، وقد نبذوا منها المُدَوِّد وطرحوه، فأقعد فآكل منه، فبصر بي صاحبُ المِقثأة، فأتى إليَّ يضربني ويقول: يا لصّ، ما خرَّب مقثأتي غيرُك، كم أنا أُبصرك (¬5) حتى وقعتُ بك! فبينما هو يضربني، إذا بفارسٍ أقبل مسرعًا، فقصده وقلب السَّوطَ في رأسه وجعل يضربه ويقول: يا عدوَّ الله، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في الحلية 8/ 365. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب): نهار، والمثبت من تاريخ دمشق 19/ 365 (مخطوط)، والتوابين ص 289. (¬4) جبة صوف. مختار الصحاح (زرمق). (¬5) في المصدرين: أرصدك.

تعمد إلى وليٍّ من أولياء الله فتقول له: يا لصّ! فأخذ صاحبُ المقثأة بيدي وذهب بي إلى منزله، فما أبقى من الكرامة شيئًا إلَّا عمله معي، واستحلَّني، وجعل مِقثأتَه لله ولأصحاب معروف، قال: فقلت له: صِفْ لي معروفًا، فوصفك لي، فعرفتك بما كنتُ قد شاهدته من صفتك، قال معروف: فما استتمَّ كلامه حتى دقَّ صاحبُ المقثأة البابَ ودخل علي، وكان موسِرًا، فأخرج جميعَ ما كان له من المال فأنفقه على الفقراء، وصحب الشابَّ سنة، ثم خرجا إلى الحجّ، فماتا بالرَّبَذة]. ذكر وفاته: [حكى أبو نُعيمِ (¬1) عنه أنه] قال: إذا مُتُّ فتصدَّقوا بقميصي هذا، لأخرجَ من الدنيا عُريانًا كما دخلت إليها عُريانًا. [واختلفوا في سنة وفاتِه على أقوال: أحدُها: مات سنةَ مئتين. حكاه الخطيبُ. والثاني: سنةَ إحدى ومئتين. حكاه الخطيب أيضًا، وابن خميسٍ في "مناقب الأبرار". والثالث: سنةَ أربعٍ ومئتين. حكاه الخطيب (¬2)، ثم قال الخطيب: وسنة مئتين أصحّ. قال: ومات هو وأبو نُواس في يومٍ واحد] وصلَّى عليه ثلاثُ مئةِ ألف إنسان، فاطَّلع عليه راهبٌ من الدَّير الذي دُفن إلى جانبه [ويقال لها: مَقبرة الدَّير] فرأى كثرةَ الخلق، فقال: يا ويحَ هؤلاء، لو أنَّ أحدهم فعل ما فعله لكان مثلَه. [وحدَّثنا غيرُ واحدٍ عن يحيى بن عليٍّ المدير بإسناده إلى] أبي بكر الخيَّاط قال (¬3): رأيت كأنِّي دخلت المقابر، فإذا أهلُ القبور جلوسٌ على قبورهم بين أيديهم الرَّيحان، وإذا معروفٌ قائم بينهم يذهب ويجيء، فقلت: يا أبا محفوظ، أو ليس قد مُتَّ! قال: بلى، قلت: فما صنع بك ربُّك؟ قال: [من البسيط] موت التَّقيِّ حياةٌ لا نَفادَ لها ... قد مات قومٌ وهم في الناس أحياءُ [وقد رواه الخطيب (¬4)]. ¬

_ (¬1) في الحلية 8/ 362. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخه 15/ 274، وانظر مناقب الأبرار 1/ 120، والكلام مختصر في (خ)، وقد أثبت ما في (ب). (¬3) في (خ): وقال أبو بكر الخياط. (¬4) في تاريخه 15/ 272 مختصرًا.

وقال ابن باكُويه: رُئي معروفٌ وهو تحت العرش، والحقُّ جلَّت قدرته وعظمتُه يقول: يا ملائكتي، مَن هذا؟ قالوا: أنت أعلمُ يا ربَّنا، فقال: هذا معروف الكرخي، سكر من حبِّي، فما يُفيق إلَّا بلقائي. و[روى الخطيب (¬1) عن معروفٍ أنه] رُئي في النوم فقيل له: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: أباحني الجنَّة، غيرَ أنَّ في نفسي حسرة، حيث خرجت من الدنيا ولم أتزوَّج، ووددت أنِّي كنت فعلت ذلك. [حدَّثنا غيرُ واحدٍ عن يحيى بنِ عليٍّ المدير بإسناده إلى محمد بن أحمدَ السراج قال: سمعت] أحمدَ بن الفتح يقول (¬2): رأيت بِشرَ بن الحارث الحافي في منامي وهو قاعدٌ في بستان، وبين يديه مائدةٌ وهو يأكل منها، فقلت: يا أبا نصر، ما فعل اللهُ بك؟ قال: رحمني وغفر لي، وأباحني الجنةَ بأسرها، وقال لي: كل من جميع ثمارِها، واشرب من أنهارها، وتمتَّع بجميع ما فيها، كما كنت تحرم نفسَك من الشَّهوات في دار الدنيا، فقلت: فأين أخوك أحمدُ بن حنبل؟ فقال: هو قائمٌ على باب الجنةِ يشفع لأهل السنَّةِ ممن يقول: القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق، فقلت: فما فعل معروفٌ الكرخي؟ قال: هيهات هيهات، حالت الحجبُ بيننا وبينه، إنَّ معروفًا لم يعبد اللهَ شوقًا إلى جنَّته، ولا خوفًا من ناره، وإنَّما عبده شوقًا إلى لقائه، فرفعه إلى الرَّفيع الأعلى، ورفع الحجبَ بينه وبينه، ذاك التِّرياق المجرَّب، فمن كانت له إلى الله حاجةٌ فليأتِ قبرَه وليدْع، فإنَّه يستجاب له إن شاء اللهُ تعالى. [وروى أبو نُعيم (¬3) عن] رجلٍ من أهل الشام أنه رأى (¬4) في المنام قائلًا يقول له: اذهب إلى معروف، فسلِّم عليه وقل له: أنت معروفٌ في أهل السماءِ معروفٌ في أهل الأرض. ¬

_ (¬1) في تاريخه 15/ 272. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): وقال أحمد بن الفتح. (¬3) في الحلية 8/ 365. (¬4) في (خ): ورأى رجل من أهل الشام.

[وروى أبو عبد الرحمن السُّلمي عن] أحمدَ بن العباس قال (¬1): خرجت من بغدادَ أريد الحجّ، فاستقبلني رجلٌ عليه أثرُ العبادة، فقال: من أين؟ قلت: من بغداد، خرجت منها لِمَا رأيت فيها من الفساد، خفت أن يُخسفَ باهلها، فقال: ارجع ولا تخف، فإنَّ فيها قبورَ أربعةٍ من الأولياء، هم حصنٌ لهم من جميع البلاء، قلت: مَن هم؟ قال: أحمدُ بن حنبل، ومعروفٌ الكرخي، وبِشر بنُ الحارث، ومنصور بن عمار، فرجعت وزُرت تلك القبورَ، ولم أحجَّ في تلك السَّنة. و[ذكر ابنُ خميس في "المناقب" والقشيريُّ] عن محمد بن الحسين (¬2)، عن أبيه قال: رأيت معروفًا في المنام، فقلت: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: غفر لي، فقلت: بزهدك وورعِك؟ قال: لا، قلت: بماذا؟ قال: بقبول موعظةِ ابن السمَّاك ولزومي الفقرَ ومحبَّتي للفقراء، كنت يومً مارًّا بالكوفة، فوقفت على ابن السمَّاك وهو يعظ الناس، فقال في خلال كلامه: مَن أقبل بقلبه على الله أقبل الله إليه برحمته، وأقبل بجميع وجوهِ الخلق إليه، ومَن أعرض عن الله بكلِّيته أعرض اللهُ عنه جملة، ومن كان مرة ومرة، فالله يرحمه. فوقع كلامه في قلبي، وأقبلت على الله وتركت جميع ما كنت عليه. أسند معروفٌ الحديثَ عن بكر بن خُنَيس (¬3) وابنِ السمَّاك وعبدِ الله بن موسى وغيرهم، وصحب داودَ الطائيَّ (¬4) وعليَّ بن موسى الرِّضا، واشتغل بالعبادة عن الرواية. وقبرُه ببغدادَ ظاهرٌ يزار، وإلى جانبه قبرُ أخيه الحسن، وإلى جانبه الآخَرِ قبرُ ابنِ أخيه محمدِ بن الحسن. * * * ¬

_ (¬1) في (خ): وقال أحمد بن العباس. (¬2) في (ب) و (خ) ومناقب الأبرار 1/ 122: الحسن، والمثبت من الرسالة القشيرية 1/ 82، ووفيات الأعيان 5/ 232، ومرآة الجنان 1/ 463. (¬3) بعدها في (خ): العمي، وهي غير موجودة في المصادر. وفي (ب): أسند معروف الحديث عن جماعة. (¬4) قال الذهبي في السير 9/ 339، وتاريخ الإسلام 4/ 1211: وذكر السلمي أنه صحب داود الطائي، ولم يصح.

السنة الحادية بعد المئتين

السَّنة الحاديةُ بعد المئتين (¬1) فيها سأل أهلُ بغدادَ منصورَ بن المهدي أن يليَ الخلافةَ عليهم، فأبى، فقالوا: تكون أميرًا علينا وتدعو بالخلافة للمأمون، فقال: نعم، فولَّوه عليهم. وسببُ ذلك سوءُ سيرة الحسنِ بن سَهْل، ومعاملته الناسَ بالكبر والجَبروت وقطعِ الأرزاق، وكان الحسنُ مقيمًا بَالمَدائن لا يتجاسر أن يدخلَ بغداد، وأخرجوا نائبَه عليَّ بن هشامٍ من بغداد، وهرب الحسنُ إلى واسط، وكان قد ضرب عبدَ الله بن عليِّ بن عيسى بنِ ماهان حدًّا، فغضب الأبناءُ وقالوا: لا نرضى أن يكونَ المجوسيُّ علينا، يعنون الحسن، وكان الفضلُ بن الربيع مُسْتَخفيًا ببغداد. وفيها استطال الفُسَّاق والدُّعَّار من أهل بغدادَ، ونهبوا المال والحَريم، ولم يمكن منصورَ بن المهدي الإنكارُ عليهم؛ لأنه كان يعتزُّ بهم، فتجرَّد له خالدٌ الدريوش من المطَّوِّعة وسهلُ بن سلامة، وقام معهما أهلُ الصلاح، وأمروا بالمعروف، وطلبوا من السلطان العملَ بكتاب الله وسُنَّة رسوله، وبايعهم الناس، فسكنت الفتن. وفيها جعل المأمونُ عليَّ بن موسى الرِّضا وليَّ عهده بعد وفاته بإشارة الفضلِ بن سهل، وطَرح السَّوادَ ولبس الخُضْرة، وأمر جندَه بذلك، وكتب إلى الآفاق، وذلك يومَ الاثنين لليلتين خلتا من رمضان. ولمَّا وصل عليُّ بن موسى من المدينة إلى بغدادَ تلقَّاه أهلها، فأقام أيامًا، ثم توجَّه إلى مَرْو، فلمَّا وصل نَيسابور، خرج إليه يحيى بنُ يحيى وإسحاق بن راهُويه ومحمد بن رافعٍ وغيرُهم لطلب الحديثِ منه، والروايةِ عنه والتبرُّك به، فأقام عندهم أيامًا يحدِّثهم، ثم سار إلى المأمون، فتلقَّاه بنفسه وأَعظمه واحترمه، وعهد إليه، وضرب اسمَه على الدنانير والدراهم، وزوَّجه ابنته أمَّ حبيب، وزوَّج ولدَه محمد بن عليٍّ ابنتَه أمَّ الفضل، وعُمرُ محمدٍ يومئذ سبعُ سنين، وتزوَّج المأمونُ بوران بنتَ الحسن بنِ ¬

_ (¬1) ليس في (ب) من أحداث هذه السنة غير حج إسحاق بن موسى.

سهل (¬1)، الجميعُ في وقت واحد، وكان الوليَّ في تزويج بُورانَ عمُّها الفضل بنُ سهل، ولم يدخل بها المأمونُ إلى سنة عشرٍ ومئتين، وقال ليحى بن أكثم: تكلَّم، قال يحيى: فأجللته أن أقول: أنكحتُ ابنتَك، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، أنت الحاكمُ الأكبر، فأنت أولى بالكلام، فقال: الحمدُ لله الذي تصاغرت الأمورُ لمشيئته، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، إقرارًا بربوبيَّته، وصلى اللهُ على سيدنا محمدٍ وآله وعِترته، صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم حشرِه وجزائه، أما بعد: فإنَّ الله سبحانه جعل النكاحَ سببًا للمناسبة بين عباده، فقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تناكحوا تناسلوا، تكثُروا، أباهي (¬2) بكم الأممَ يومَ القيامة" وإنِّي قد زوَّجت ابنتي أمَّ حبيبٍ من عليِّ بن موسى، وأمَّ الفضل من ولد محمد، وأصدقت كلَّ واحدة منهما أربعَ مئة درهم، استنانًا بالسنَّة الطاهرة، وهو حسبي ونعمَ الوكيل. ولمَّا عهد إلى علي بن موسى كتب كتابَ العهد بخطِّه وإنشائه، وهو طويل، فمنه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا كتابٌ كتبه عبد الله بنُ هارونَ أميرُ المؤمنين لأبي الحسن عليِّ بن موسى بنِ جعفر بن محمد بن علي زينِ العابدين، الرِّضا، من آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وليِّ عهده من بعده، أما بعد: فإنَّ الله سبحانه اصطفى الإسلامَ دينًا، واختار له من عباده رسلًا دالِّين عليه وهادين إليه، يبشِّر أولُهم بآخرهم، ويصدِّق تاليهم ماضيَهم، حتى انتهت الدعوةُ إلى سيِّد المرسلين وخاتَم النبيين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك على فترةٍ من الرسل، ودروسٍ من العلم، واقترابٍ من الساعة، وانقطاعٍ من الوحي والحجَّة، فختم الله به النبيِّين، وجعله شاهدًا لهم على الأمم، وأنزل عليه كتابًا عزيزًا لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد، وإني لم أزل منذ أَفْضَتْ إليَّ الخلافةُ ¬

_ (¬1) في المصادر أن ذلك كان في سنة اثنتين ومئتين، انظر تاريخ الطبري 8/ 606، وابن الأثير 6/ 350، والمنتظم 10/ 109. (¬2) في (خ): تباهي، والمثبت من المصادر، والحديث أخرجه عبد الرزاق (10391) عن سعيد بن أبي هلال مرسلًا، وفيه انقطاع أيضًا. وذكر العراقي في تخريج الإحياء 2/ 22 أن ابن مردويه أخرجه في تفسيره من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف. ويغني عنه حديث: "تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم" أخرجه أبو داود (2050)، والنسائي 6/ 65 - 66.

أنظر مَن أقلِّده أمرَها، وأجتهد فيمن أولِّيه عهدها، فلم أجد في العالم مَن يصلح لها وينهض بأعبائها إلَّا أبا الحسن عليَّ بن موسى الرِّضا، لِمَا رأيت من فضله البارع، وعلمِه النافع، وورعه الباطنِ والظاهر، وتخلِّيه عن الدنيا وأهلها، وميلِه إلى الآخرة وإيثاره لها، وقد تحقَّق عندي وتيقَّنت ما الأخبارُ عليه متواطئة، والأَلسنُ عليه متَّفقة من فضائله، فعقدتُ له على العقد بعدي، واثقًا بِخيرَة اللهِ تعالى في ذلك، نظرًا للمسلمين، وإيثارًا لإقامة شعائرِ الدِّين، وطلبًا للنجاة يومَ يقوم الناسُ لربِّ العالمين. وكتب عبدُ الله بخطِّه في شهر رمضانَ سنة إحدى ومئتين، وقد بايعه أهلُ بيتي وولدي وخاصَّتي وعبيدي وغيرُهم، والسلام. وكتب عليُّ بن موسى الرِّضا خلف الكتاب: أما بعد: فإنَّ أمير المؤمنين مَن عضده اللهُ بالسَّداد، ووفَّقه للعصمة والرَّشاد، عرف من حقِّنا ما جهله غيرُه، فوصل أرحامًا قُطعت، وأمَّن نفوسًا ارتاعت، بل أحياها بعدما ماتت، متَّبعًا بذلك رضي ربِّ العالمين، وسيجزي اللهُ الشاكرين، ولا يضيع أجرَ المحسنين، وإنه أيَّده الله جعل إليَّ عهدَه، والأمرَ بعده، وقد أوجب الله عليَّ طاعتَه، وجنَّبني مخالفتَه، ولله عليَّ ألا أسفِكَ دمًا حرامًا، ولا أُبيحَ فرجًا ولا مالًا، وأن أتخيَّر الكفاءةَ جهدي وطاقتي، ولا أنال من الدنيا إلَّا ما تدعو إليه الضرورة، وقد جعلتُ اللهَ كفيلًا، فإن أحدثتُ أو غيَّرت أو بدَّلت كنت للعَزْل مُسْتَحقًّا، وللنَّكال مُعَرَّضًا، وأعوذ بالله من سَخَطه، والعاقبةُ للمتقين. وشهَّد في الكتاب الفضلَ بن سَهل وعبدَ الله بن طاهر وبشرَ بن المُعْتَمر وحمَّاد بن أبي حَنيفةَ ويحيى بن أكْثَمَ والصُّوليَّ وغيرهم، وجلس المأمون مجلسًا عامًّا، وأجلس عليَّ بن موسى عن يمينه، فقام العبَّاسي الخطيبُ فخطب وأنشد: [من البسيط] لا بدَّ للناس من شمسٍ ومن قمر ... فأنت شمسٌ وهذا ذلك القمرُ وأجرى المأمونُ على عليِّ بن موسى في كلِّ سنةٍ ألفَ درهم، وبعث المأمونُ بكتابه إلى المدينة ومكَّة، فقُرئ في الكعبة الشريفة، وبين القبرِ الشريف والمنبرِ الشريف على صاحبهما أفضلُ الصلاة والسلام، وقُرئ في جميع الآفاق. قال عمر بن شبَّة: وكان عيسى بنُ محمد بنِ أبي خالد ببغدادَ نائبًا عن الحسن بنِ سهل، والحسن بواسط، فكتب إلى عيسى يخبره أنَّ المأمون قد عهد إلى عليِّ بن

موسى بعده، وأنَّه نظر بين بني العباسِ وبين بني على فلم يرَ أحدًا أحقَّ من عليِّ بن موسى، ولا أعلمَ ولا أورعَ منه، فمُر الناسَ برمي السوادِ ولُبس الخضرة، وأخذ البيعة علي بني هاشمٍ والقوَّاد والجند. فقرأ عيسى الكتابَ على أهل بغداد، فقال بعضُهم: لا نُبايع ولا نَلْبَس الخُضرة، ولا نُخرج هذا الأمرَ من بني العباس، وغضبوا واجتمعوا، وقالوا: نخلع المأمونَ ونولِّي بعضَنا، فبايعوا إبراهيمَ بن المهديِّ لخمسٍ بقين من ذي الحِجَّة، وأصعدوه المنبرَ بجامع المنصور، وسمَّوه المبارك، وعليه السواد، وكذا جميع بني هاشم، وجعلوا وليَّ عهده إسحاقَ بن موسى بنِ المهدي، وكثر الشَّغب في الجامع، فصلَّى الناس أربعَ ركعات، ولم يصلُّوا الجمعة، وبايعه منصور بن المهديِّ والسِّندي وصالحٌ المَوْصِلي (¬1) والمطَّلب بنُ عبد الله بنِ مالك -وهو الذي تولَّى إمرة البيعة- ونُصير الوصيف، والأعيانُ من الدولة، وقالوا: ما فعلنا هذا الأمرَ إلَّا حيث أخرج المأمونُ الأمرَ عن بني العباس. وولَّى إبراهيمُ بن المهدي الجانبَ الشرقيَّ من بغدادَ العباسَ بن موسى الهادي، والجانبَ الغربيَّ إسحاقَ بن موسى الهادي، وقال إبراهيمُ بن المهدي: [من الطويل] ألم تعلموا يا آلَ فِهرٍ بأنني ... شَريتُ بنفسي (¬2) دونكمْ في المهالكِ وفيها تحرَّك بابَكُ الخُرَّمي في الجاويذانية أصحابِ جاويذان بنِ سهل صاحبِ البَذّ، وادَّعى أن روح جاويذانَ انتقلت إليه، وشرع في الفساد، وهذا أوَّلُ بداية أمره. وفيها افتتح عبدُ الله بن خُرداذبه والي طَبَرِسْتان بلادَ الدَّيلَم من نواحي طبرستان، وأَنزل عن (¬3) قلاعها شهريار بن شروين (¬4)، فقال سَلْمٌ الخاسر يخاطب المأمون: [من البسيط] ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 557، وابن الأثير 6/ 341: صالح صاحب المصلى. (¬2) في (خ): نفسي، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 557. (¬3) في (خ): على، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 556، وابن الأثير 6/ 327 - 328. (¬4) في (خ): شهروين، والمثبت من تاريخ الطبري وابن الأثير.

داود بن عيسى

إنَّا لَنَأمُل فتحَ الروم والصِّينِ ... بمَن أذلَّ لنا مُلك ابنِ شَرْوينِ فاشدُدْ يديك بعبد اللهِ إنَّ له ... مع الأمانة رأيٌ غيرُ مَغْبون (¬1) وأسر عبدُ الله مازيارَ بن قارن وأبا ليلى وجماعةً من ملوك الدَّيلَم، وبعث بهم إلى المأمون. وحجَّ بالناس إسحاقُ بن موسى بنِ عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. [داود بن عيسى ابن علي بن عبد الله بن عباس، الهاشمي] كان (¬2) من نُبلاءِ بني العباس، وَلي الحَرَمين، فكان يقيم بمكةَ مدة وبالمدينة مدة، فأقام بمكةَ مرةً عشرين شهرًا، فكتب إليه أهلُ المدينة بأبياتٍ ليحيى بنِ مسكين بن أيوبَ بن مِخْراق: [من المتقارب] دوادُ قد فُزتَ بالمَكْرُمات ... وبالعَدْل في بلد المُصْطفى ومكةُ ليست بدار المُقام ... فهاجِرْ كهِجْرَة مَن قد مَضى مَقامُك عشرين شهرًا بها ... كثيرٌ لهم عند أهل الحِجَى فقبر النَّبي وآثارُه ... أحقُّ بقُربك من ذي طُوى من أبيات. فأجابه عيسى بنُ عبد العزيز المكِّي: أداودُ أنت الإمامُ الرِّضا ... وأنت ابنُ عمِّ نبيِّ الهُدى أتاك كتابُ حَسود جَحودٍ ... أَسَا في مَقالته واعتدى فإن كان يَصدق فيما يقول ... فلا يَسْجُدنَّ إلى ما هنا وأيُّ بلادٍ تفوق امَّها ... ومكَّةُ مكةُ أمُّ القُرى وربِّي دحا الأرضَ من تحتها ... ويثربُ لا شك ممَّا دحا ¬

_ (¬1) كذا؟ ! وفي تاريخ الطبري: موهون. (¬2) ما بين معكوفين من تاريخ دمشق 6/ 32 (مصورة دار البشير)، وانظر أخبار مكة 2/ 293، وأشعار أولاد الخلفاء ص 312، ومعجم المرزباني ص 489 - 490، وتاريخ الإسلام 5/ 71.

عبد الله بن الفرج

ومَسجدُها بيِّنٌ فَضلُه ... على غيره ليس في ذا مِرَا ولولا زيارةُ قبر النبيِّ ... لكنتم كسائر مَن قد يُرى وليس النبيُّ بها ثاويًا ... ولكنَّه في الجِنان العُلا وحكى داودُ عن أبيه عيسى، عن أخيه محمدِ بن عليٍّ قال: دخلتُ يومًا على عمرَ بن عبد العزيز وعنده شيخٌ من النصارى، فقال له عمر: مَن تجدون الخليفةَ بعد سليمان؟ فقال: أنت، فالتفت عمرُ إلى محمد وقال: يا أبا عبدِ الله، دمي في ثيابك. قال محمد: فلمَّا كان بعد ذلك، لقيت النصرانيَّ في الطريق، فذهبت به إلى منزلي، وحادثته حتى أنِسَ بي، فسألتُه عمَّا يكون من خلفاءِ بني أميةَ واحدًا بعد واحدٍ إلى مروان، فأخبرني (¬1) ثم قال: ومن بعد مروانَ ابنُك ابن الحارثية. قال داود: فأخبرتني مولاةٌ لنا قالت: وأبو العباس يومئذٍ حَمْل (¬2). وتوفِّي داودُ في هذه السَّنة، وقيل: تأخَّر عنها. أسند عن أبيه وغيرِه، وروى عنه ابنُ ابنه محمدُ بن عيسى بنِ داود. [وفيها توفِّي] عبدُ الله بنُ الفَرَج أبو محمدٍ القَنْطري، العابدُ الزاهد. كان من [العابدين، المجتهدين، وكان بِشرٌ الحافي يزوره ويحبُّه. [قال الخطيب: مات في هذه السَّنة، فـ] (¬3) رآه بعضُ إخوانه في المنام -وكان قد شهد جنازتَه- وهو جالسٌ في قبره وبيده صحيفةٌ ينظر فيها، قال: فقلت: ما فعل اللهُ بك؟ قال: غفر لي ولكلِّ مَن شيَّع جنازتي، قال: فقلت: فأنا شيَّعت جنازتَك، فقال: قف حتى أنظر، فنظر في الصَّحيفة فقال: هو ذا اسمُك فيها. روى عنه علي بن الموفَّق وغيرُه. [وفيها توفي] ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 6/ 33: وتجاوز عن مروان بن محمد. (¬2) في تاريخ دمشق: فأخبرتني مولاة لنا هي أثبت للحديث مني أنه قال: هو الآن حمل. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وقد أخرج الحكاية الخطيب في تاريخه 11/ 229، وعنه ابن الجوزي في المنتظم 10/ 102.

علي بن عاصم

عليُّ بن عاصم ابن صُهيب، [وكنيته] أبو الحسن، مولى قَرِيبة بنتِ محمد بن أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -، من أهل واسط (¬1). وُلد سنةَ ثمانٍ أو خمسٍ ومئة، وسافر إلى البلاد، [فحكي عنه] قال: دفع إليَّ أبي مئةَ ألف درهمٍ وقال: اِذهب فلا أرى وجهَك إلَّا بمئة ألف حديث. [قال الخطيب: ] (¬2) قدم بغداد، فكان يجلس على سطحٍ ويجمع إليه أكثر من ثلاثين ألفًا يطلبون الحديث، وكان له ثلاثةُ مُسْتَملين. [قال: ] (¬3) وصام ثمانين رمضانًا، ومات وهو ابنُ أربعٍ وتسعين سنة. سكن بغدادَ وحدَّث بها عن داودَ بنِ أبي هند [وإسماعيلَ بن أبي خالد، وحُميدٍ الطويل، وابن جُرَيج، ومحمدِ بن سُوقةَ وغيرهم (¬4)]. وروى عنه الإمامُ أحمد وطبقتُه، إلَّا أنهم قالوا: كان يخطئ، فضعَّفوه. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 13/ 407، والمنتظم 10/ 103، والسير 9/ 249، وتاريخ الإسلام 5/ 125، وتهذيب الكمال. (¬2) في تاريخه 13/ 416، وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخه 13/ 420، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): وغيره.

السنة الثانية بعد المئتين

السَّنة الثانيةُ بعد المئتين (¬1) فيها شغب الجندُ على إبراهيمَ بن المهدي، وكان وعدهم لمَّا بايعوه برزق ستَّة أشهر، فلمَّا شغبوا أعطاهم رزقَ شهر، وقيل: أعطى كلَّ واحدٍ مئتي درهم، وكتب لهم إلى السَّواد بقيمة مالهم حِنطَةً وشعيرًا، فخرجوا فنهبوا الحاصلَين (¬2) وأموال الناس، واستولى إِبراهيمُ على بغداد وسَوادِ العراق كلِّه والكوفة، وخرج فعسكر بالمَدائن. وقال الخطيب (¬3): فيها بايع أهلُ بغدادَ إبراهيمَ في داره المَنْسوبةِ إليه في سوق العَطَش، وسمَّوه المبارك، وقيل: الرَّضي (¬4)، وقيل: المرتضى، وذلك يومَ الجمعة لخمسٍ خلونَ من المحرَّم، فلم يزل كذلك إلى سنة ثلاثين ومئتين. وفيها شغبت العامَّة بسبب بِشر المَرِيسي، فأمر إبراهيمُ أن يستتاب، فأُقيم يومَ الجمعة بجامع المهديِّ على صندوقٍ من صناديق الجامع، وكان قُتيبةُ بن زياب القاضي حاضرًا، واجتمع الناس، وقام أبو مُسلمٍ عبدُ الرحمن بن يونسَ مُسْتملي ابنِ عيينةَ، وهارونُ بن موسى مُستملي يزيدَ بن هارون، وقالا: قد أمر أميرُ المؤمنين إبراهيمُ بن المهدي قاضيطَه قتيبةَ بن زيادٍ أن يستتيبَ بشرَ بن غياثٍ المريسي عن أشياء، وذكراها، منها القولُ بخلق القرآن، وأنَّه تائب، فرفع بِشرٌ صوتَه وقال: معاذَ الله! إني لست بتائب. فكثَّر الناسُ عليه حتى كادوا يقتلونه، فأُدخل من باب الخدمِ الذي عنده الصناديق وتفرَّق الناس. وفيها خرج مَهْديُّ بن عُلْوانَ (¬5) الحَروريُّ بناحية الرَّاذانِ وطريق خُراسان، فغلب ¬

_ (¬1) ليس في (ب) من أحداث هذه السنة سوى قوله: وفيها حج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن موسى ... وسيأتي في آخر الأحداث. (¬2) أي: حاصل الفلاح والسلطان، كما في تاريخ الطبري 8/ 557، والمنتظم 10/ 106، والكامل 6/ 341، والبداية والنهاية 14/ 122. (¬3) في تاريخه 7/ 68 - 69. (¬4) في تاريخ بغداد: المرضي، ولم يذكر القول الثالث، وعنه في المنتظم 10/ 107. (¬5) في (خ): علوي، والمثبت من المصادر. انظر تاريخ الطبري 8/ 558، والمنتظم 10/ 107، وابن الأثير 6/ 341.

على ما هنالك، فبعث إليه إبراهيمُ بن المهديِّ أبا إسحاقَ بنَ الرشيد جماعةٍ من الموالي، فهزموه إلى حَوْلايا. وفيها وثب أخو أبي السَّريا بالكوفة، فبيَّض (¬1)، واجتمع إليد جماعة، فلقيه غَسَّانُ بن الفَرَج، فقتله وبعث برأسه إلى إبراهيمَ بن المهديِّ في رجب. وفيها أخذ سَهْلُ بن سلامةَ المطَّوِّعي. فاجتمع إليه جماعةٌ، وقاتلوا معه أصحابَ إبراهيم، ثم تخلَّى عنه العَوامّ، فأخذه أصحابُ إسحاقَ بن الهادي، فقال له إسحاق: حرَّضت علينا الناسَ وعِبتَ أمرنا، فقم فقل: إنَّ الذي كنت أدعو إليه باطل، فقام فقال: أيها الناس، إنَّما كنت أدعو إلى الكتاب والسُّنَّة وأنا على الحقّ، فضربوه وقيَّدوه وحبسوه، وخَفِي أمره. وفيها شَخَص المأمونُ من مَرْوَ يريد العراق، وكانت الحربُ قائمةً بين الحسن بن سهلٍ وإبراهيمَ بنِ المهدي. قال علماءُ السِّيرَ: اجتمع عليُّ بن موسى الرِّضا بالمأمون، وأخبره بما فيه الناسُ من الفتن والقتالِ منذ قُتل الأمين، وبما كان الفضلُ بن سهلٍ يستره عنه من أخبار الناس، وأنَّ أهل بيتِه والناسَ يقولون: إِنَّه مَسْحور مَسْجون، وأنهم بايعوا إبراهيمَ بن المهديِّ بالخلافة. فقال المأمون: لم يبايعوه بالخلافة، وإنما صيَّروه أميرًا يقوم بأمرهم. فقال: كذَبك الفضلُ وغشَّك، والحربُ قائم بين الحسنِ وإبراهيم، والناسُ يناقمون عليك مكانَه ومكانَ أخيه ومكاني، وبيعتَك لي من بعدك. فقال له: ومَن يعلم هذا من عسكري؟ قال: وجوه أصحابك: يحيى بنُ معاذ، وعبد العزيز بن عمران، وعليُّ بن أبي سعيد -وهو ابن أختِ الفضل- وعدَّد جماعة. فقال المأمون: أَدخِلهم عليَّ لأسألَهم عمَّا ذكرت، فأدخلهم عليه، فسألهم، فأبَوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمانَ من الفضل بن سهلٍ لا يتعرّض لهم، فأعطاهم، وكتب لكلِّ واحدٍ منهم أمانًا بخطِّه، فأخبروه بما فيه الناسُ من الفتن، وبيَّنوا له ذلك، وأخبروه بغضب أهلِ بيته وقوَّاده ومواليه، وبما موَّه عليه الفضلُ من أمر هَرثمة، وإنَّما جاء هَرْثَمَةُ لينصحَه ويبيِّن له ما ¬

_ (¬1) أي: لبس البياض، انظر تاريخ الإسلام 5/ 8، والطبري 8/ 558، والمنتظم 10/ 107.

يعملُ الفضلُ عليه، وأنه [إن] (¬1) لم يتدارك أمرَه، خرجت الخلافةُ من أهل بيتِه ومنه، وأنَّ الفضل دسَّ إلى هَرْثَمَةَ مَن قتله، وأنَّ طاهر بنَ الحسين قد أَبلى في طاعته، وافتتح له ما افتتح، وقاد إليه الخلافةَ وهو بمَرْو، وأنَّ الفضل صيَّره في زاويةٍ من الأرض بالرَّقة، وقلَّ عليه المال، وضَعُف أمرُه، وشَغَب عليه جندُه، ولو كان مقيمًا ببغدادَ لَما اجترأ أحدٌ على الخلافة، وأنَّ الدنيا قد تفتَّقت من أقطارها، فلو خرجتَ إلى بغدادَ لم يختلف عليك اثنان. فلما تحقَّق ذلك، أمر بالرحيل إلى بغداد، وعلم الفضلُ بما جرى، فتعنَّتهم حتى ضرب بعضَهم بالسِّياط، وحبس بعضًا وعاقب بعضًا، فأَخبر عليُّ بن موسى الرِّضا المأمونَ وقال: إنما هم في أمانك، وخطُّك معهم، فاعتذر بأنَّه يداري ما هو فيه، ثم ارتحل من مَرْو، فلمَّا أتى سَرَخْس، دخل الفضلُ بن سهل الحمَّام، فدخل عليه قومٌ فضربوه بالسُّيوف حتى قتلوه، فقتلهم المأمون، لِمَا نذكر في ترجمة الفضل. وفيها قدم المُطَّلبُ بن عبدِ الله من المدائن إلى بغداد، فجعل المطلبُ يدعو في السرِّ إلى المأمون، وأنَّ منصور بنَ المهديِّ خليفةُ المأمون، فأجابه منصور وخُزَيمة بن خازم وأعيان القوَّاد، وعلم إبراهيم، فسار من المدائن، فنزل بغدادَ من الجانب الغربيِّ في منتصف صفر، وكان المطلبُ ومَن سمَّينا بالجانب الشرقي، فأرسل إليهم إبراهيمُ يطلبهم، فتعلَّلوا عليه، فبعث إليهم عيسى بنَ [محمد بنِ] (¬2) أبي خالدٍ وإخوتَه، فأما منصورٌ وخُزَيمةُ فأعطوا بأيديهم، وأما المطَّلب فقاتلهم بمواليه وأصحابه، وأمر إبراهيم: مَن أراد النَهْبَ فعليه بدار المطلب، فجاءت الغَوْغاء فانتهبوها ودورَ أهله، وخرج المطلبُ على حامية، فلم يظفرْ به إبراهيم، وبلغ عليَّ بن هشام وحُميدًا القائد -وكانا من أصحاب الحسنِ بن سهل- وهما بقصر ابن هُبَيرةَ قد قطعا المادَّةَ عن إبراهيم، فساقا فأخذا المَدائنَ وقطعا الجسر، وندم إبراهيمُ على ما صنع وضعف أمرُه. وحجَّ بالناس إبراهيمُ بن موسى بنِ جعفر بنِ محمد بن عليِّ، أخو [عليِّ بن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 564، وابن الأثير 6/ 347. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 566، وابن الأثير 6/ 342.

الحسين بن الحسن

موسى] (¬1) الرِّضا، ودعا للمأمون ولأخيه بعده بولاية العهد، ومضى إبراهيمُ بن موسى إلى اليمن، وكان قد غلب عليها حَمْدُويه بن علي بن عيسى بنِ ماهان. وفيها توفِّي الحسينُ بن الحسنِ ابن عَطيَّةَ بن سعد بن جُنادة، أبو عبد الله، القاضي، العَوْفي، الكوفيُّ، الحَنَفي. [قال الخطيب: ] (¬2) ولي قضاءَ الشَّرقية ببغدادَ بعد حَفْصِ بن غياث، ثم نُقل إلى قضاء عَسْكرِ المهدي. [قال (¬3): وكانت لحيةُ العوفيِّ طويلة جدًّا إلى ركبتيه. قال: وجاءته امرأةٌ فقالت: أيها القاضي، عَظُمَت لحيتُك فأفسدت عقلَك، وما رأيت ميِّتًا يحكم بين الأحياءِ قبلك، وكان ضعيفًا في الحكم، فقال لها: فتريدين ماذا؟ قالت: وتَدَعُك لحيتُك تكلمني؟ ! فقال بلحيته بيده كذا وقال: تكلمي. وحكى (¬4) عن السَّاجيِّ قال: اشترى بعضُ أصحابه جاريةً فامتنعت عليه، فشكاها إلى العَوفي، فقال: أرسِلْها إلي، فأرسلها إليه، فقال لها العوفي: يا عَروب يا لَعوب، يا ذاتَ الجِلْباب، ما هذا التَّمانعُ المُجاوزُ للخيرات، والاختيارُ للأخلاق المَشْنوآت؟ ! فقالت: أيُّها القاضي، ليس لي فيه حاجة، فأْمُره يبيعني. فقال لها: يا هَنَة، أَمَا علمتِ أن فَرْطَ الاعتياصاتِ من المَوْمُوقات على طالبي المَوَدَّات مؤدِّياتٌ إلى عدم المَفْهومات؟ ! فأشارت الجاريةُ إلى لحيته وقالت: ليس في الدُّنيا أصْلَحُ لهذه العُثْنُوناتِ المُنْتَشِئات، على صَدْر أهل الرَّكاكاتِ، من المَواسي الحالقات، وضحكت وضحك العوفي. وحكى الخطيبُ (¬5) عن الحارث بنِ أبي أسامةَ قال: حدَّثنا بعضُ أصحابنا قال: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخه 8/ 552، وانظر ترجمته في المنتظم 10/ 101، والسير 9/ 395، وتاريخ الإسلام 5/ 51. (¬3) في تاريخه 8/ 555. (¬4) في تاريخه 8/ 555 - 556. (¬5) في تاريخه 8/ 554.

الحسين بن علي

جاءت امرأةٌ إلى العوفيِّ ومعها رجلٌ وصَبي، فقالت: أعز اللهُ القاضي، هذا زوجي وهذا ولدي منه، فقال له القاضي: هذه امرأتُك؟ قال: نعم، قال: وهذا ولدُك؟ قال: لا، أنا رجل خَصِيّ. فألزَمَه الولد، فأخذه فوضعه على عُنقه، فلقيه رجلٌ فقال: ما هذا الصَّبيُّ منك؟ قال: القاضي يُفرِّق أولادَ الزِّنى على الخِصيان. وحكى الخطيبُ (¬1) عن طلحةَ بنِ محمد قال: كان العوفيُّ جليلَ القدر، من أصحاب أبي حنيفة، وكان سليمًا مُغَفَّلًا، وكان يجتمع في مجلسه قومٌ يتناظرون وبين يديه كتابٌ ينظر فيه، ثم يُلقي منه المسائلَ ويقول لمن يلقي عليه: أخطأتَ وأصبت، من الكتاب]. وكان المهديُّ قد جعله على المَظالم، فحضر ليلةً عند المهدي، فصلَّى المغرب وقام يتنفَّل، فجذب العوفيُّ بثوبه، فقال: ما الذي بك؟ ! قال: أمرٌ أولى من النافلة، قال: وما هو؟ قال: سلامٌ مولاك، وكان سلامٌ واقفًا على رأسه، قال: ما الذي بك؟ قال: غصب بني فلانٍ ضَيعتهم، مُرْه بردّها، فقال: حتى نصبح، فقال: لا واللهِ إلَّا الساعة، فقال المهديُّ لبعض قوَّاده: اذهب فأَخرج مَن فيها من أصحاب سلامٍ وسلِّمها إلى أصحابها، فما أصبحوا حتى رُدَّت عليهم. [ذِكر وفاته: ذكر خليفةُ أنه مات في سنة إحدى ومئتين (¬2). وقال ابنُ سعد: سنةَ اثنتين ومئتين (¬3)] حدَّث العوفيُّ عن الأعمش ومِسْعرَ بن كِدَامٍ وغيرهما، وقد تكلَّموا فيه. [وفيها توفي] الحسينُ بن عليّ أبو عبدِ الله الجُعْفي (¬4). من الطبقة السابعةِ من أهل الكوفة، الزاهدُ العابد. كان سفيانُ الثوريُّ والإمام أحمدُ رحمةُ الله عليهما إذا رأياه قاما إليه واعتنقاه وقالا: مرحبًا بالعابد. ¬

_ (¬1) في تاريخه 8/ 556. (¬2) طبقات خليفة ص 328، وكذا أورده ابن الجوزي في وفيات سنة (201 هـ). (¬3) ذكر ابن سعد في طبقاته 9/ 333 القولين على الشك. (¬4) طبقات ابن سعد 8/ 519، المنتظم 10/ 117، تهذيب الكمال، السير 9/ 397، تاريخ الإسلام 5/ 53.

وقال الإمام أحمدُ بن حنبلٍ رحمةُ الله عليه: ما رأيت بالكوفة أفضلَ من حسين الجُعفي، وكان يُشَبَّه بالرُّهبان. [وكان هارونُ الرشيد إذا رآه قبَّل يديه. وحدَّثنا غيرُ واحد عن محمد بنِ أبي منصورٍ بإسناده عن أبي] بكر بنِ سَماعةَ قال (¬1): كنا بمكَّة، فقدم الرشيدُ ومعه جعفر بنُ يحيى، فقال للخادم: سَلْ عن حسينٍ الجُعْفي، فسأل عنه، فقال رجل: الساعةَ يَطلع من الثَّنيَّة، وإذا بحسينٍ قد طلع على حمارٍ أسود، فلمَّا حاذى هارون، قال الخادم: هذا هو يا أميرَ المؤمنين، فجاءه هارون فقبَّل يده ورجله، فلم يلتفتْ إليه، فقال له جعفر: يا شيخ، أتدري من يسلِّم عليك؟ ! هذا أميرُ المؤمنين، فالتفت حسين إلى هارونَ وقال: وأنت هو يا حسنَ الوجه؟ ! إنَّ اللهَ سائلك غدًا عن هذا الخَلقِ كلِّهم، فقعد هارونُ يبكي، ومضى حسين. وقيل لسفيان بن عُيينةَ والفُضَيلِ بن عياض: قد قدم حسينٌ الجُعفي، فخرجا للقائه، فلمَّا رأياه قبَّلا يديه ورِجليه، وجعل الفضيلُ يبكي ويقول: بأبي وأمِّي، رجل علَّمني اللهُ القرآنَ علي يديه. ثم دخل المسجدَ فطاف بالبيت وصلَّى ركعتين، وأكبَّ الناسُ عليه. وقيل: مات بمكَّة (¬2) في ذي القَعدة سنةَ ثلاثٍ ومئتين (¬3)، ودُفن بالمُعَلَّى. حدَّث عن القاسم بنِ الوليد وغيرِه، وكان وَرِعًا صالحًا ثقة. [قال ابنُ سعد: ] (¬4) أقام مؤذِّنًا بمسجد جُعفي بالكوفة ستِّين سنة، يؤذِّن ويُقرئ القرآن. أسند عن لَيث بنِ أبي سُليم، والأعمش، وهشامِ بن عروةَ وغيرهم. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال بكر بن سماعة، والمثبت من (ب). (¬2) في طبقات ابن سعد 8/ 519: بالكوفة. (¬3) وهو قول الأكثر، ومنهم من قال سنة 204. انظر طبقات خليفة ص 171، وتاريخه ص 471، والتاريخ الكبير 2/ 381، والمعرفة والتاريخ 1/ 195، والمنتظم 10/ 118، وتهذيب الكمال. والسير 9/ 400، وغير ذلك. (¬4) في طبقاته، وما بين حاصرتين من (ب).

الحسين بن الوليد

الحسين بن الوليد أبو على النَّيسابوري، وقيل: أبو عبد الله، القُرَشيّ. من الطبقة الخامسةِ من أهل خُراسان، قدم بغدادَ وحدَّث بها، وكان يُطعم أهل الحديث الفالُوذج، وقرأ القرآنَ على الكِسائي، وكان له مالٌ يطعمه للعلماء، ويغزو الترك، ويحجّ في كلِّ عام (¬1). سمع إبراهيمَ بن أدهمَ، ومالكَ بن أنس، والثوريَّ وغيرهم، وروى عنه الإمام أحمدُ رحمةُ الله عليه، وابنُ مَعين (¬2) وابن راهُويه في آخَرين، واتَّفقوا على صدقه وأمانته، حتى قال الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه: هو أوثقُ أهل زمانه. الفَضلُ بن سَهل (¬3) ابنِ عبد الله، أبو العباس، الملقَّب بذي الرِّياسَتَين. كان أبوه سهلٌ من أولاد ملوكِ المجوس، أسلم في أيام الرشيد، واتصل بيحيى بن خالدٍ البرمكي، واتصل ابناه الفضلُ والحسن بالفضل وجعفبر ابنَي يحيى بنِ خالد، فضمَّ جعفرُ بن يحيى الفضلَ بن سهل إلى المأمون وهو وليُّ عهد، فغلب عليه بخِلاله الجميلة، من الكرم والوفاءِ والبلاغة والبراعةِ والكتابة، وقد ذكرنا تدبيرَه لأمور المأمونِ إلى أن ولي الخلافة، ففوَّض إليه أمورَه كلَّها، ولقَّبه ذا الرِّياستين؛ لتدبيره أمرَ السيفِ والقلم. واختلفوا في إسلامه، فقال الهيثم: أسلم على يد المأمون. وقيل (¬4): لمَّا أراد أن يُسلم، أَنِفَ أن يسلمَ على يد الرشيدِ أو المأمون، فدخل الجامع يومَ الجمعة وحده وقد اغتسل، فأسلم وعاد إلى داره مسلمًا. ¬

_ (¬1) في المصادر أنه كان يغزو الترك في كل ثلاث سنين ويحج في كل خمس سنين. انظر تاريخ بغداد 8/ 725، والمنتظم 10/ 118، والسير 9/ 520، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإسلام 5/ 55. (¬2) كذا قال، وهو وهم، فقد صرح يحيى بن معين -كما في تاريخ بغداد 8/ 726 - 727 وتهذيب الكمال- أنه لم يكتب عنه شيئًا. ولعل المصنف أراد يحيى بن يحيى النيسابوري فكتبها يحيى بن معين، والله أعلم. (¬3) تاريخ بغداد 14/ 298، والمنتظم 10/ 110، والسير 10/ 99. (¬4) في (ب): وقال آخرون.

ذِكر طَرَفٍ من أخباره: قال له رجل: أَسكتَني عن وصفك تساوي أفعالِك في السُّؤدَد، وحيَّرني فيها كثرةُ عددها، فليس إلى ذِكر جميعها سبيل؛ لأني كلَّما اردت وَصفَ واحدةٍ اعترضت أختُها، إذ كانت الأولى ليست بأحقَّ بالذِّكر، فلست أصفها إلَّا بإظهار العجزِ عن وصفها. فحشا الفضلُ فاه دُرًّا وقال: هذا الكلامُ أحسنُ من الدُّرِّ. وقال إبراهيمُ بن العباس الصُّولي: [من مجزوء المتقارب] لِفَضْل بنِ سَهْلٍ يدٌ ... تقاصَرَ عنها المَثَلْ فبَسْطَتُها للغنى ... وسَطْوَتُها للأجل وباطِنُها للنَّدى ... وظاهرُها للقُبَل (¬1) أخذه ابنُ الروميِّ (¬2) فقال في القاسم بنِ عبيد اللهِ الوزير: [من الكامل] أصبَحْتُ بين خَصَاصةٍ وتَجَمُّلٍ ... والحُرُ بينهما يموت هَزيلا فامدُدْ إليَّ يدًا تَعوَّد بَطْنُها ... بَذْلَ النَّوال وظَهْرُها التَّقْبيلا [روى الخطيب (¬3) بإسناده عن] إبراهيم بن العباس الصُّولي قال (¬4): اعتلَّ ذو الرِّياستين بخُراسانَ ثم برئ، فجلس للناس، فهنَّؤوه بالعافية، وتصرَّفوا في الكلام، فلمَّا فرغوا أقبل عليهم وقال: إنَّ في العِلل لَنعمًا ينبغي للعقلاءِ أن يعرفوها: تمحيصُ الذنوب، والتعرُّض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغَفلة، وادِّكار النِّعمة في حال الصِّحَّة، واستدعاءٌ للتوبة، وحضٌّ على المحدقة. قال: فنسي الناسُ ما تكلَّموا به وانصرفوا بكلام الفضل. و[وقال الصُّولي: ] مرض الفضلُ، فكتب إليه المأمونُ -وهي له- هذه الأبيات (¬5): [من الخفيف] كيف أصبحتَ بالكرامة صُبِّحـ ... ــتَ وبالخير ربُّنا مَسَّاكا ¬

_ (¬1) ديوانه ص 136 (الطرائف الأدبية)، وتاريخ بغداد 14/ 301، وعنه المنتظم 10/ 111. (¬2) في (خ): ابن الوزير الرومي، وهو وهم، والبيتان لابن الرومي، وهما في ديوانه 5/ 1901. (¬3) في تاريخه 14/ 302. (¬4) في (خ): وقال إبراهيم بن العباس الصولي، والمثبت من (ب). (¬5) في (خ): فكتب إليه المأمون يقول. وما بين حاصرتين من (ب)، والأبيات في تهذيب الرياسة 263.

لا أَراني الإلهُ فَقْدَك يا فضـ ... ــلُ وعافاك عاجلًا وشَفاكا قد أردتُ المجيء إذ غلب الشَّو ... قُ وقلبي لو يستطيع أتاكا فتذكَّرتُ إذ تهيَّأتُ أني ... لست أسطيعُ أن أراك كذاكا فأَبِنْ لي وُقيت فيك حِذاري ... كيف أنت الغداةَ من شكواكا و[قال الصُّولي: ] قال الفضل: رأيت البخلَ سوءَ الظنِّ بالله، والسخاءَ حُسنَ الظنِّ بالله، قال الله تعالى: {الشَّيطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، وقال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] الآية. ولإبراهيمَ بنِ العباس الصوليِّ فيه مدائح، منها (¬1): [من الطويل] لَعمرُك ما الأشرافُ في كلِّ بلدة ... وإن عَظُموا للفضل إلَّا صنائعُ ترى عُظَماءَ الناس للفضل خُشَّعًا ... إذا ما بدا والفضلُ لله خاشع تواضعَ لمَّا زاده اللهُ رِفْعَةً ... وكلُّ عزيزٍ عنده متواضع ذكر مقتله: [قد ذكرنا أنه قتل يوم الحمام بسَرَخْس، وقد حكاه الخطيبُ (¬2) عن] أبي حسَّان الزِّياديِّ [قال (¬3): في سنة اثنتين ومئتين] قُتل [ذو الرِّياستين] يومَ الخميس (¬4) لليلتين خلتا من شعبان، بسَرَخْس في الحَمَّام، اغتاله نَفَر، فدخلوا عليه فقتلوه، فقتل به المأمونُ عبدَ العزيز الطائيَّ، ومؤنسَ بن عمرانَ البصريَّ، وخلف بن عمرَ المصريَّ (¬5) وعليَّ بن أبي سعيدٍ، وسراجًا الخادم. وقال الطبري (¬6): كانوا أربعةً من حَشَم المأمون، وهم: غالبٌ المسعودي الأسود، وقُسطنطين الرُّومي، وفَرَج الدَّيلَمي، ومُوَفَّق الصَّقْلَبي [قال: ] (¬7) قتلوه وهو ابنُ ستِّين ¬

_ (¬1) كذا قال المصنف رحمه الله تعالى، والصواب أن الأبيات لعبد الله بن أيوب التيمي، انظر الأغاني 20/ 53، وتاريخ بغداد 14/ 300، وزهر الآداب 1/ 301، ووفيات الأعيان 4/ 43. (¬2) في تاريخه 14/ 302. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): وقال أبو حسان الزيادي. (¬4) في (خ): الجمعة، وكذا هو عند الطبري 8/ 565، والمثبت من (ب)، وهو موافق لما في تاريخ بغداد. (¬5) في (ب) و (خ): البصري، والمثبت من تاريخ بغداد وتاريخ الطبري. (¬6) في تاريخه 8/ 565. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب).

محمد بن جعفر

سنة -وقال الجاحظ (¬1): كان عمرُه إحدى وأربعين سنة وخمسةَ أشهر- وهربوا، فبعث المأمونُ في طلبهم، وجعل لمن جاء بهم عشرة آلافِ دينار، فجاء بهم العباسُ بن الهيثمِ الدِّينوري، فأمر بقتلهم، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحسن بنِ سهل إلى واسط، وأعلمهُ بما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيَّره مكانه، ووصل الكتابُ إلى الحسن في رمضان. [وفيها توفي] محمدُ بن جعفر [ابنِ محمد] (¬2) بن عليِّ بن الحسين بن عليٍّ - عليه السلام -. الخارجُ بالحجاز [ومكَّة. قال الخطيب: وكان] يلقَّب بالدِّيباج لحسن وجهه [وهو أخو إسحاقَ وموسى وعليٍّ بني جعفر. قال: وكان] يصوم يومًا ويُفطر يومًا. وقد ذكرناه، وأنَّ المعتصم حجَّ وأخذه، فبعث به إلى المأمون، فعفا عنه. وكان عابدًا جَوادًا مُمَدَّحًا، ما خرج من منزله وعليه ثوبٌ فرجع وهو عليه. وقيل (¬3): إنَّه مات سنةَ أربعٍ ومئتين، فخرج المأمونُ في جنازته حافيًا ماشيًا، وحمل سريرَه على عاتقه مسافة كبيرة إلى قبره، فقيل له. لو صلَّيت عليه ورجعت، فقال: [هذه] (¬4) رَحِمٌ قُطعت منذ مئتي سنة، وصلتاها اليوم. وقال الصُّولي: لمَّا خرجوا بجنازته كان المأمون راكبًا، فلما رآه ترجَّل ودخل بين العمودين وحصله، وذلك بخُرسان. وقيل: إنَّه جامع وافتصد ودخل الحمَّام في يومٍ واحد، فكان سببَ موته. حدَّث عن أبيه، وروى عنه جماعة. ¬

_ (¬1) انظر كلامه في تاريخ بغداد 14/ 303. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 2/ 475، والمنتظم 10/ 120، وتاريخ الإسلام 5/ 175، والسير 10/ 104. (¬3) قبلها في (ب): وقال الخطيب. ولم نجده في تاريخه، ولا في غيره من المصادر، بل لم نجد من ذكر وفاته في هذه السنة أصلًا، وذكروا وفاته في سنة 203. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

أبو محمد اليزيدي النحوي

أبو محمدٍ اليَزيدي النَّحْوي وقيل: أبو عبد الله (¬1)، العَدَوي، البَصْري، مولى بني عَديِّ بن عبد مَناة، واسمه يحيى بنُ المبارك بنِ المغيرة، وقيل: محمد بنُ أبي محمدٍ يحيى (¬2)، وسمِّي اليزيدي لأنَّه كان مُنقطعًا إلى يزيد بن منصورٍ الحِمْيَري خال المهدي، يؤدِّب ولده. وكان صاحبَ أبي عَمرو بنِ العلاء، أخذ عنه اللغةَ، وعن الخليل وغيرهما، وسكن بغداد، واتصل بهارونَ وأدَّبه وأولادَه، وكان أحد القرَّاءِ الفُصحاء، عالمًا باللغات، وله ديوان شعرٍ وكُتُبٌ حِسان، وأخذ عنه المأمونُ حرفَ أبي عمرو. وحج اليزيديُّ مُعادلًا لهارونَ مرارًا، فلم يكلِّمه إلا جوابًا. ودخل اليزيديُّ على الخليل، فأجلسه إلى جانبه، فقال له: أَحسبني قد ضيَّقت عليك، فقال الخليل: ما ضاق مكانٌ على صاحِبَين، والدنيا لا تَسَع مُتباغضَين. أنشد اليزيدي: [من الطويل] إذا نَكَباتُ الدَّهرِ لم تَعِظِ الفَتى ... ويَحْذرُ منها (¬3) لم تَعِظْه عواذِلُهْ ومَن لم يُؤدِّبه أبوه وأمُّه ... تؤدِّبْه رَوْعاتُ الرَّدى وزَلازلُهْ فدعْ عنك ما لا تستطيع ولا تُطِع ... هواك ولا يُغلَبْ بحقِّك باطلُهْ وسأل المأمونُ اليزيديَّ عن شيء، فقال: لا، وجعلني اللهُ فداءك، فقال المأمون: لله دَرُّك، ما وُضعت الواوُ في موضع أحسنَ من موضعها ها هنا. ووصله بمال. وقال اليزيدي: التَّمْتَمَةُ في المَنْطق: التردُّد في التاء، والفأفأة: التردُّد في الفاء، والحُبسة: احتباس اللسانِ عن إرادة الكلام بشبه كلامِ العجم، واللُّكْنَة: أن يَعرضَ في اللغة العربية الأعجمية، واللُّثغة: أن يعدلَ بحرفٍ إلى حرف، وأما كَشكَشةُ تميم، فإنَّ بني عَمرِو بن تميمٍ إذا ذكرتْ كافَ المؤنَّث أبدلوا منها شينًا، كقول القائل: [من الطويل] ¬

_ (¬1) لم نقف على هذا القول، انظر تاريخ بغداد 16/ 220، والمنتظم 10/ 112، ومعجم الأدباء 20/ 30، والأغاني 19/ 216، وتاريخ الإسلام 5/ 226، والسير 9/ 562. ولليزيدي ابن اسمه محمد وكنيته أبو عبد الله، فلعله اختلط على المصنف أو المختصر. وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬2) هو ابن المترجم، ولعل في الكلام سقطًا، والله أعلم. (¬3) في تاريخ بغداد 16/ 222: وتقرع منه، وفي المنتظم 10/ 113: وتفرغ منه، وفي معجم الأدباء 20/ 32: وأفزع منها.

أبو إسحاق الدولابي

فعيناشِ عيناها وجيدُشِ جيدُها ... ولكنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنشِ دَقيقُ (¬1) وأما الطُّمْطُمانية، فكقول عنترة (¬2): [من الكامل] تَبري له حُولُ النَّعام كأنها (¬3) ... حِزَقٌ يَمَانِيَةٌ لأعْجَمَ طِمْطِمِ (¬4) أسند اليزيديُّ عن أبي عَمرٍو وابن جُرَيجٍ، والخليل بنِ أحمد، وروى عنه ابنُه محمد، والقاسمُ بن سلَّام، والدُّوري (¬5)، في آخرين. ومن شعره (¬6): [من الرمل] الهوى أمرٌ عَجيبٌ شأنُه ... تارةً يأسٌ وأحيانًا رَجَا ليس فيمن مات منه عَجَبٌ ... إنَّما يُعْجَب ممَّن قد نجا [أبو إسحاقَ الدُّولابي من أهل الرَّي، كان من الأبدال، صاحبَ كرامات. قال الخطيبُ (¬7) بإسناده عن محمد بنِ منصورٍ الطُّوسي قال: جئت مرَّة إلى مَعْروفٍ الكَرْخيِّ لأزورَه، فعضَّ أناملَه وقال: هاه، لو لحقتَ أبا إسحاقَ (¬8) الدولابي، كان هاهنا الساعةَ، جاء يسلِّم عليَّ، قال: فذهبتُ أقوم، فقال: اجلس لعله قد بلغ الساعةَ منزلَه بالرَّيّ.] * * * ¬

_ (¬1) البيت لمجنون ليلى قيس بن الملوح، وهو في ديوانه ص 207، والكامل 2/ 1038، وسر صناعة الإعراب 1/ 206، ودرة الغواص ص 251، والخزانة 11/ 464. (¬2) الطمطمانية: أن يكون الكلام مشبهًا لكلام العجم. وقول عنترة ليس شاهدًا عليها، وإنما هو ذِكر للرجل الطمطماني. انظر الكامل 2/ 762، 767. (¬3) الحول: التي لا بيض لها، ورواية الديوان ص 20: تأوي له قلص النعام كما أوت. (¬4) الحزق: الجماعات، شبه اجتماعهن إلى الظليم [ذَكَر النعام] بقوم من أهل اليمن قد اجتمعوا إلى رجل من العجم لا يدرون ما يقول. شرح القصائد التسع المشهورات 2/ 483. (¬5) هو أبو عمر حفص بن عمر الدوري. (¬6) الشعر لابنه محمد في تاريخ بغداد 4/ 652، وذم الهوى 318. (¬7) في تاريخه 16/ 602، وعنه في المنتظم 10/ 114، والترجمة ليست في (خ). (¬8) في (ب): أبا الحسن، وهو خطأ.

السنة الثالثة بعد المئتين

السَّنة الثالثةُ بعد المئتين فيها توفِّي عليُّ بن موسى الرِّضا. [قال علماء السِّيَر: ] لمَّا سار المأمونُ من سَرَخْسَ إلى طُوس، نزل عند قبرِ أبيه، فأقام أيامًا، ثم إنَّ علي بن موسى أكل عِنَبًا فأكثر منه، فمات فَجأةً في آخر صفر، فصلَّى عليه المأمون، ودفنه عند قبرِ الرشيد، وكتب إلى الحسن بنِ سهل يخبره بموته، وكتب إلى بني العبَّاس والموالي وأهلِ بغدادَ يُعلمهم بموت عليِّ بن موسى، وأنهم إنَّما نَقَموا عليه بيعتَه له من بعده، ويسألهم الدخولَ في طاعته، فأجابوه بأقبحِ الأجوبة، فرحل إلى الرَّي، فلمَّا صار بها، أَسقط من خراجها عن أهلها ألفي ألفِ درهم. وفيها غلبت السَّوداء على الحسن بنِ سهل، وتغيَّر عقله بالمرض، فكُبِّل بالحديد وقيِّد، وحُبس في بيتٍ بواسط، وكتب قوَّاده إلى المأمون يُخبرونه خبرَه، فكتب إليهم بأن يكونَ على عسكره دينارُ بن عبد الله، ويعلمهم أنَّه واصلٌ على إِثْر كتابه. وفيها ضرب إبراهيمُ بن المهديِّ عيسى بنَ محمد بن [أبي] (¬1) خالدٍ وحبسه. وسببُه: أنه كان يكاتب الحسنَ بن سهل وحُمَيدًا، وكانا بواسطَ على حرب إبراهيم، وكان إبراهيمُ يقول لعيسى: اُخرج فقاتل الحسنَ وحميدًا، فيتعلَّل عليه تارةً بالنَّفَقة في الجند، وتارةً بإدراك الغِلال. ثم اتفق مع الحسن وحُميدٍ أن يُسلمَ إبراهيمَ إليهما يومَ الجمعة لانسلاخ شوال، وبلغ إبراهيمَ، فلمَّا كان يومُ الخميس، جاء عيسى إلى باب الجسر، وأمر بحفر الخنادقِ بباب الجسر وبابِ الشام، وعزم على أخذ إبراهيم، فأرسل إليه إبراهيم يطلبه، فامتنع، فأرسل إليه ثانيًا، فجاء، فعاتبه وحبسه وضربه، فثار إخوةُ عيسى ومواليه وشَغَبوا، وقطعوا الجسرَ بينهم وبين إبراهيم، وكان إبراهيمُ بقصر الرُّصافة، وكاتبوا حُميدًا ليقدَمَ عليهم، فجاء فنزلَ صَرْصَر، ثم اجتمع القوَّاد وخلعوا إبراهيمَ بن المهدي، فاختفى ليلةَ الأربعاء لثلاثَ عشرةَ بقيت من ذي الحِجَّة، ويقال: إنه صلَّى الجمعةَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 569، والمنتظم 10/ 115.

خزيمة بن خازم

بجامع المهديِّ، ثم مضى إلى قصره واختفى في الليل، فكانت أيّامه سنةً وأحدَ عشرَ شهرًا وأيامًا. وقال أبو معشر: لم يزل يُخطب لإبراهيمَ على المنابر حتى قارب المأمونُ بغداد، فضعف أمرُه وتفرَّق عنه الناس. وفيها كُسفت الشمسُ ليلةَ الأحد لليلتين بقيتا من ذي الحِجَّة [حتى ذهب ضوءُها، وغاب أكثرُ من ثُلثيها، فأظلمت الدنبا إلى الظهر، ثم انْجَلَت، وكان انكسارُها في] (¬1) أوَّل النهار. [وذكر جدِّي في "التلقيح" (¬2) وقال: وفي سنة ثلاثٍ ومئتين] زُلزلت (¬3) مَرْوُ حتى سقطت مَنارةُ الجامع، وسقط المسجدُ الجامع ببَلْخَ، ونحوٌ من رُبع المدينة. وحجَّ بالناس سليمانُ بن عبدِ الله بنِ سليمانَ بن عليّ. [وفيها توفِّي خُزَيمةُ بن خازم القائدُ النَّهْشَلي، وقد ذكرنا تقدُّمَه عند بني العباس، وتوليةَ الخلفاء له الولايات، وهو الذي ولَّاه الأمينُ الجزيرةَ ونزح عنها القاسمَ بن هارون، وهو الذي عاب على الأمين غدرَه بالمأمون، وقال: سوف ترى. وكان خُزَيمةُ شجاعًا جَوَادًا، وكان ببغدادَ دربٌ يُعرف بدرب خُزَيمة. وكانت وفاتُه في شعبانَ ببغداد، وكان قد ذهب بصره. وله روايةٌ في الحديث عن مالك بن أنسٍ (¬4) وابن أبي ذئب وغيرِهما.] وفيها توفِّي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ص 88. (¬3) في (خ): وفيها زلزلت ... (¬4) لم تذكر الكتب التي بين يدي رواية له عن مالك رحمه الله تعالى. انظر تاريخ بغداد 9/ 301، والأنساب 10/ 34، والمنتظم 10/ 118، وتاربخ الإسلام 5/ 68. والترجمة غير موجودة في (خ).

علي بن موسى

عليُّ بن موسى ابنِ جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن، وهو الرِّضا، ويلقَّب بالوليِّ والوفي، وأمُّه الخَيزُران (¬1) أمُّ ولد، وهو من الطبقة الثامنةِ (¬2) من أهل المدينة، وكان يفتي بمسجد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن نيّف وعشرين سنة. وقد ذكرنا إشخاصَ المأمونِ له من المدينة [إلى مَرْو مع فرناس الخادم وابن أبي الضحاك، وأنه ولَّاه العَهْدَ [وشغب بني العباسِ ببغداد، وأنه] (¬3) سار معه من مروَ يريد العراق، فلمَّا وصل إلى طُوسَ مرض أيامًا، فتأخَر رحيلُ المأمون بسببه. وقيل: لم يمرض، وإنّما دخل الحمَّام وخرج، فقُدِّم إليه طَبَقٌ فيه عِنَب مسمومٌ سمًّا لم يظهر فيه، فيقال: إنَّهم أدخلوا فيه الإبرَ المسمومة، فأكله فمات. وقال جدِّي رحمه اللهُ تعالى في "المنتظَم" (¬4): لمَّا رأوا أن الخلافةَ قد خرجت إلى أولاد عليِّ بن أبي طالب، سقَوا عليَّ بن موسى الرِّضا السمّ، فتوفِّي بقريةٍ من قرى طوسَ يقال لها: سَنَاباذ في رمضان. قال المصنِّف رحمه الله: وقد زعم قوم أن المأمونَ سمَّه، وليس كما ذكروا؛ فإنَّ المأمون حزن عليه لمَّا مات حُزْنًا لم يحزنْه على أحد، وكتب إلى الآفاق يعزُّونه فيه [ولو أنه سُمَّ مَن يوثق به؟ فإن الطبريَّ قال (¬5): مات فجأةً، أكل عِنَبًا فأكثر منه]. وكان على الرِّضا -كما سمِّي- رضًا، جوادًا، زاهدًا، عابدًا، مُعرِضًا عن الدنيا، ولولا خوفُه من المأمون ما أجاب إلى ولاية العهد. وقيل لأبي نُواس: ألا تمدحه؟ فقال: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) كذا قال رحمه الله تعالى، وفي السير 9/ 387 أن اسمها سكينة، وانظر الوافي 22/ 248، والمنتظم 10/ 119، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإسلام 5/ 128. (¬2) في (ب): وقد ذكره خليفة في الطبقة الثامنة. اهـ. ولم أقف عليه في طبقات خليفة، وذكره في تاريخه 471 في وفيات سنة (203 هـ). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) 10/ 120، وفي (خ): وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله، والمثبت من (ب). (¬5) في تاريخه 8/ 568. وما بين حاصرتين من (ب).

قيل لي أنت أوحدُ الناس في ... كلِّ كلامٍ من المَقال بَديهِ لك في جَوْهر الكلامِ فنونٌ ... تَنْثُر الدُّرَّ من يَدَي مُجْتَنيه (¬1) فعَلامَ تركتَ مدحَ ابنِ موسى ... والخصال التي تجمَّعن فيه قلت لا أهتدي لمدح إمامٍ ... كان جبريلُ خادمًا لأبيه وكان سنُّ عليٍّ خمسًا وخمسين سنة، وقيل: تسعٌ وأربعون سنة. وكان أخوه زيدُ بن موسى قد خرج على المأمون، فظَفِر به، فأرسله إلى عليٍّ وعفا عنه، فعاتبه أخوه ووبَّخه، وقال له: سَوءةً لك يا زيد، ما أنت قائلٌ غدًا لرسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذ سفكتَ الدماءَ وأخفت السبيلَ وأخذت المال من غير حِلِّه؟ ! غرَّك حمقى أهلِ الكوفة وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ فاطمةَ أحْصَنَت فَرْجَهَا، فحرَّم اللهُ ذُرِّيَّتها على النار" (¬2) وهذا لمن خرج من بطنها، مثلِ الحسنِ والحسين، لا لمثلي ومثلِك، وما نالوا ذلك إلَّا بطاعة الله، فإن أردتَ أن تنال بمعصية اللهِ ما نالوه بطاعته، فحينئذٍ أنت أكرمُ على الله منهم؟ ! سوءةً لك! ذِكر أولاده: كان له محمدٌ الإمام، والنسلُ له، وأبو جعفرٍ الثاني، وجعفر، والحسن، وإبراهيم، وابنةٌ واحدة (¬3). أسند الحديثَ عن أبيه وجدِّه وعمومتِه وغيرهم. وذكر شيخنا موفَّق الدِّين رحمه اللهُ حديثًا عن محمد بن عليّ بن موسى، عن أبي (¬4) ¬

_ (¬1) في المصادر اختلاف في رواية هذا البيت. انظر المنتظم 10/ 120، ووفيات الأعيان 3/ 270، والسير 9/ 389، وتاريخ الإسلام 5/ 129، والوافي 22/ 249. (¬2) أخرجه البزار (1829)، والطبراني في الكبير 22/ 406 (1018)، والحاكم 3/ 152 من حديث عبد الله بن مسعود وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: بل ضعيف، تفرد به معاوية بن هشام، وفيه ضعف، عن ابن غياث، وهو واه بمرَّة. انظر الكلام عليه في موضوعات ابن الجوزي (576) و (577)، ولسان الميزان 6/ 131، وتنزيه الشريعة 1/ 417 - 418. (¬3) واسمها عائشة. (¬4) في (خ): أبيه، والتصويب من حلية الأولياء 3/ 203، وقد أخرجه من هذا الطريق وقال: هذا حديث صحيح ثابت، روته العترة الطيبة. وقال ابن حجر في اللسان 1/ 517: أخرجه أبو نعيم في الحلية بسند له فيه =

عمر بن سعد

جعفر، عن أبيه محمد، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهَه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: هذا إسنادٌ لو قرئ على مجنونٍ لبرئ. (¬1) والحديثُ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "شاربُ الخمرِ كعابد وَثَن". [وفيها توفِّي عمرُ بن سعد أبو داودَ، الحَفَري، الكوفي. وذكره ابنُ سعد (¬2) في الطبقة الثامنةِ من أهل الكوفة. وحَفَر موضعٌ. وكان عالمًا زاهدًا ورعًا. وروى أبو الفضل بنُ ناصرٍ بإسناده إلى المَرْوَزيِّ قال: سمعت أحمدَ بن حنبلٍ يقول: رأيت أبا داودَ الحَفَريَّ الكوفي وعليه جُبَّةٌ مُخَرَّقة قد خرج القُطنُ منها، يصلِّي ما بين المغربِ والعشاءِ وهو يَتَرجَّح من الجوع. قال: وبلغني عن عباسٍ (¬3) الدُّوري: لو رأيتَ أبا داودَ رأيت رجلًا كأنه اطَّلع في النار فرأى ما فيها. وما كان يقبل برَّ أحد. وكانت وفاتُه في هذه السَّنة. أسند عن الثوريِّ وأقرانه، وكان صدوقًا ثقة. قال ابنُ سعد (¬4): كان ناسكًا له فضلٌ وتواضع وزهد، وكان من أصحاب سفيانَ الثوري. والحمدُ لله وحده، وصلَّى اللهُ على أشرفِ خلقه محمدٍ وآله وصحبِه وسلَّم]. * * * ¬

_ = من لا يعرف حاله، والمتن أورده ابن حبان في صحيحه [5347] من حديث ابن عباس، وفي سنده مقال. اهـ. قلت: وأورده أحمد (2453) من وجه آخر عن ابن عباس، وفي سنده انقطاع. وفي الباب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند ابن ماجه (3375)، والبخاري في التاريخ الكبير 1/ 129، قال البخاري: ولا يصح حديث أبي هريرة في هذا. (¬1) انظر التبيين 133. (¬2) في طبقاته 8/ 527، وانظر ترجمته في تهذيب الكمال، والمنتظم 10/ 119، على تحريف وتصحيف فيه، والسير 9/ 415، وتاريخ الإسلام 5/ 134. (¬3) في (ب): ابن عباس، والتصويب من المنتظم 10/ 119، وصفة الصفوة 3/ 178. (¬4) في طبقاته 8/ 527.

السنة الرابعة بعد المئتين

السَّنة الرابعةُ بعد المئتين فيها دخل المأمونُ بغدادَ لأربعَ عشرةَ خلت من صفرٍ يومَ السبت، وكان قد نزل النهروانَ يوم السبت، فأقام به ثمانيةَ أيام، وكان قد كتب إلى طاهر بن الحسين ليوافيَه بالنَّهروان، فوافاه. وقال أحمد بنُ أبي خالدٍ الأحول كاتبُ المأمون: لمَّا قربنا من بغداد، قلت له: يا أميرَ المؤمنين، كيف يكون حالُنا إن هاج هائجٌ أو تحرَّك متحرِّك علينا والفتنُ قائمة ببغداد؟ ! فقال لي: صدقت، قلت: ما معنا سوى خمسين ألفَ درهم، فقال: الناسُ في بغدادَ على ثلاث طبقات، ظالم، ومظلوم، ولا ظالمٌ ولا مظلوم، فأما الظالم فيتوقَّع عفوَنا (¬1) وسكوتَنا عنه، والمظلوم يتوقَّع منا الإنصاف، وأما القسم الآخَر فيسعه بيتُه. فكان كما قال. ودخل المأمون بغدادَ ولباسُه ولباس أصحابِه [وأقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم] الخُضرة، فنزل [المأمون] قصرَ الرصافة، وأمر طاهرًا فنزل الخيزُرانية، وأمر القوَّاد فنزلوا في عساكرهم، وكانوا يختلفون إلى قصره كلَّ يوم، وتحوَّل فنزل شاطئَ دجلةَ في قصره، ووافقه بنو هاشم وأهلُ بغدادَ بأسرهم فِي لباس الخُضرة، وكان أصحابه يخرقون كلَّ شيء يوونه من السَّواد على الناس. ذِكر رمي المأمونِ الخضرةَ ولُبسِه السَّواد: واختلفوا في سببه على أقوال: أحدُها: أنَّ المأمونَ قال لطاهر: سَلْ حوائجك، فقال: يا أميرَ المؤمنين، أهمُّ حوائجي حفظُ هذا البيت، قال: نعم، وبمَ ذا؟ قال: بخلع هذه الخضرةِ وعودِك إلى شعار آبائك وأهلك، فقال: نعم. والثاني أنَّ بني [هاشم من بني] العباسِ قالوا له: يا أميرَ المؤمنين، تركتَ لباسَ أهل بيتِك وزِيَّهم ولبست الخُضرة، ارجع إلى لباس أهلك. ¬

_ (¬1) في (خ): عقوبتنا، والمثبت من المصادر، انظر تاريخ الطبري 8/ 575، والمنتظم 10/ 127، والكامل 6/ 358.

والثالث [حكاه الصُّولي] (¬1): أن المأمون لمَّا دخل بغدادَ وعليه الخضرة، عزَّ على بني العباس، فاجتمع وجوهُهم إلى بنت سليمانَ بن علي بن عبد اللهِ بن عباس، وكانت في القُعْدُد (¬2) مثلَ المنصور، وسألوها أن تدخلَ على المأمون وتسألَه الإضرابَ عن لبس الخُضرة، وعزل من ولَّاه مَن ولد عليٍّ - عليه السلام -، وأن يعودَ إلى لُبس السواد، وكان قد عزم على تولية العهدِ لمحمد بن عليِّ بن موسى بعد أبيه، وإنما شغله شغبُ بني العباسِ عليه وولايةُ إبراهيمَ بن المهدي، وأقام ينتظر الفرصةَ في البَيعة لمحمد بنِ علي، فدخلت عليه زينبُ بنت سليمان، فقام لها وأَكرمها واحترمها، فقالت له: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك على بِرِّ أهلك من آل أبي طالبٍ والأمرُ في يدك أَقدرُ منك على برِّهم والأمرُ في يد غيرك، فعُدْ إلى شعار آبائك ولا تُطمعنَّ أحدًا فيما كان منك. فعجب المأمونُ من كلامها وقال: يا عمَّة، ما كلَّمني أحدٌ بكلام هو أوقعُ من كلامكِ في قلبي، ولا أقصد لِمَا أردت، ولكن أنا أحاكم أهلَ بيتي إليك، قالت: وما ذاك؟ قال: ألست تعلمين أن أبا بكرٍ - رضي الله عنه - لمَّا ولي الخلافةَ لم يولِّ الخلافةَ أحدًا من بني هاشم؟ قالت: بلى، قال: ثم وَلِي عمرُ رضي الله عنه فكان على ذلك، ثم ولي عثمانُ فأقبل على أهله من بني عبد شمسٍ فولَّاهم الأمصارَ ولم يولِّ أحدًا من بني هاشم، ثم ولي أميرُ المؤمنين عليٌّ كرَّم الله وجهه فأقبل علي بني هاشم، فولَّى عبدَ الله بنَ عباس البصرة، وعبيدَ الله بنِ عباس اليمن، ومعبدًا مكَّة، وقُثَمًا البحرين، ولم يتركْ أحدًا من بني العباسِ إلا ولَّاه ولاية؟ فكانت [له] هذه في أعناقنا، فكافأتُه في ولده على ما فعل [معنا]. [قال الصولي: ] وأنشد المأمونُ لنفسه: [من الطويل] أُلام على شكر الوصيِّ أبي الحسنِ ... وذلك عندي من عجائب ذا الزَّمنْ ولولاه ما عُدَّت لهاشم إمرةٌ ... وكانت على الأيام تُقضى وتُمتهن فولَّى بني العباسِ ما اختصَّ غيرهمْ ... ومَن منه أَولى بالتكرُّم والمِنَن فأوضح عبدُ الله بالبَصرة الهدى ... وفاض عبيدُ الله جُودًا على اليمن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب) و (خ): التعدد، والقعدد: القريب الآباء من الجد الأكبر، والبعيد أيضًا، ضد. القاموس المحيط (قعد).

وقسَّم أعمال الخلافةِ بينهمْ ... وها أنا مربوطٌ (¬1) بذا الشُّكر مرتهن فقالت له زينب: فلله دَرُّك يا بُنيَّ ممَّا فعلتَ! ولكن المصلحةَ لبني عمِّك من ولد أبي طالبٍ ما ذكرته لك، قال: ما يكون إلَّا ما تحبيِّن ويحبُّون. ثم فكَّر في عاقبة الأمر، فرأى أن القواعدَ تنخرم عليه، وربَّما خرج الأمرُ من يد بني العباسِ وآل أبي طالب؛ لاختلافهم، وفي الأرض بقايا من بني أميَّة، فربما وجدوا الفرصةَ في تفريق الكلمة [وإثارةِ الفتن وسفكِ الدماء] (¬2) فجلس للناس جلوسًا عاما، ودعا وجوهَ بني هاشم (¬3)، واستحضر حُلَّةً سوداء، فلبسها ورمى الخُضرة، وخلع على طاهرٍ مثلَها، وعلى وجوه بني هاشم، ورمى الناسُ الخضرةَ ولبسوا السواد، وطابت قلوبُهم. وأقام المأمونُ ببغدادَ وعليه الخضرةُ تسعةً وعشرين يومًا، وقيل: ثمانيةَ أيام. و[قال الصولي: ] (¬4) لمَّا رأى المأمون كراهيةَ الناس الخضرةَ قال: واللهِ ما دخلت بغدادَ وهي عليَّ إلا ليعلمَ بنو العباسِ أنني ما انزعجت لقولهم، ولولا سؤالُ زينبَ لما خلعتها. ولما دخل المأمونُ بغدادَ تلقَّاه أهلها، فقال له رجلٌ من الموالي: يا أميرَ المؤمنين، بارك اللهُ لك في مَقدَمك، وزاد في نعمك، وشكرك عن رعيَّتك، فقد فُقتَ مَن قبلك، وأتعبتَ من بعدك، وآيستَ أن يُعتاضَ عنك؛ لأنه لم يكن مثلُك، ولا عُلِم شَبَهك، أمَّا فيمن مضى فلا يعرفونه، وأمَّا فيمن بقي فلا يرجونه، فهم بين دعاءٍ لك، وثناءٍ عليك، وتمسُّك بك، أخصب جنابُك، واحْلَولَى لهم ثوابُك، وكَرُمت مقدرتُك، وحسنت أَثرتُك (¬5)، فجبرتَ الفقير، وفككتَ الأسير، فأنت كما قيل: [من المنسرح] ما زلتَ في البذل والنَّوالِ وإِطـ ... ـلاقٍ لِعانٍ بجُرمه غَلِقِ (¬6) ¬

_ (¬1) في المنتظم 10/ 128: فلا زلت مربوطًا. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): بني العباس. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ): أثرك، والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 435، والمنتظم 10/ 129. (¬6) الغلق: المتروك لا يفك. شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 4/ 1620.

حتى تمنَّى البِراءُ (¬1) أنَّهمُ ... عندك أمسَوا في القيد (¬2) والغَلَقِ (¬3) فقال له المأمون: مِثلُك يَعيب مَن لا يصطنعه، ويعتب (¬4) مَن يجهل قدرَه، فاعذِرني في سالفك؛ فإنَّك ستجدني في مستأنَفك. ذِكر اجتماعه بزُبيدة: [اختلفوا في كيفية اجتماعِها به، فروى أبو الفضل بنُ ناصرٍ عن] المعافى بنِ زكريا قال (¬5): لمَّا دخل المأمونُ بغداد، دخلت عليه أمُّ جعفرٍ فقالت: أهنئك الخلافة، قد هنَّأتُ بها نفسي [عنك] قبل لقائك، ولَئن كنتُ فقدت ابنًا خليفةً ولدته، فقد عوَّضني اللهُ خليفةً لم ألده، وما خسر مَن اعتاض مثلَك، ولا ثكلت أمٌّ ملأت راحتيها منك، وأنا أسأل اللهَ أجرًا على ما أخذ، وإمتاعًا بما عوَّض. فقال المأمون: ما تلد النساءُ مثلَ هذه، ما أبقت بعد هذا الكلامِ لبلغاء الرِّجال؟ [وفي رواية]: فحشا فاها بالدُّرّ. قال الصُّولي: لمَّا قدم من خُراسان [إلى بغداد] (¬6) لم تدخلْ عليه [زبيدة] وكتبت إليه بشعرٍ عمله بعضُ شعرائها، وهو: [من الطويل] لِخَيرِ إمامٍ قام من خير عنصرٍ ... وأفضلِ راقٍ كان أعوادَ منبرِ الأبياتِ المتقدِّمة [عند مقتلِ الأمين] (¬7) فلمَّا قرأها [المأمون] بكى وقال: أنا واللهِ طالبٌ ثأرَ أخي، قتل اللهُ قَتَلَتَه، وكتب إليها في ظهرها يقول: [من الوافر] يَعزُّ عليَّ ما لاقيتُ فيه ... وأنتِ الأمُّ خيرُ الأمَّهاتِ ولم أرضَ الذي فعلوا بتِرْبي ... من القتل المبرِّحِ والشَّتات أمرتُ بأخذ هذا الأمرِ منهُ ... وقبضِ يديه عن تلك الهَنَات ¬

_ (¬1) في (خ): البرايا، والمثبت من المصادر. انظر العقد الفريد 2/ 135، وشرح ديوان الحماسة، وتاريخ بغداد 11/ 435، والتذكرة الحمدونية 4/ 114، والوافي 7/ 253. والبيتان لأبي دَهْبَل الجمحي كما في الحماسة والتذكرة الحمدونية. (¬2) في (خ): القدر، والمثبت من المنتظم، وفي باقي المصادر: القد. (¬3) في المصادر: والحلق. (¬4) في تاريخ بغداد: وَيعُرُّ، وفي المنتظم: ويعز. (¬5) في (خ): وقال المعافى بن زكريا. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) انظر الصفحة 316.

وإني مِثلُه لك فاعلميهِ ... على ما كان ما بَقِيَت حياتي وثأرٌ (¬1) بعد ثأر الله فيهِ ... سيذهب بالجبابرة العُتاةِ بنى لكِ جعفرٌ بيتًا رفيعًا ... وشيَّده بأعلى المَكرُمات أميرَ المؤمنين ورثتُ حقًّا ... وأنتِ أميرةٌ للمؤمنات [وقام المأمون] فدخل عليها فعزَّاها وأكثر البكاءَ معها، وسألته أن يتغدَّى معها، ففعل [وأخرجتْ] (¬2) له جاريةً من جَواري الأمين تغنيِّه، فغنَت بشعر الوليدِ بن عقبةَ في عثمان [بنِ عفان]- رضي الله عنه -: [من الطويل] همُ قتلوه كي يكونوا مكانَه ... كما غَدَرت يومًا بكسرى مَرازِبُهْ فإلَّا تكونوا قاتليه فإنَّه ... سواءٌ علينا ماسكوه (¬3) وضاربه فتغيَّر وجهُ المأمون وقام مغضَبًا، فقالت زبيدة: يا أميرَ المؤمنين، حرمني اللهُ أجرَه إن كنتُ علمتها أو دسست إليها، فصدَّقها [وعجب من هذا الاتِّفاق] (¬4). وقال الهيثم [بن عَدِي]: لما قرب المأمونُ من [باب] بغداد، خرجت زبيدةُ حاسرةً ناشرة شعرَها بين جواريها، فلما وقعت عينُها على المأمون صاحت: واوجداه! واولداه! واقتيلاه! فبكى المأمونُ وجميع مَن حضر، وكان يومًا عظيمًا، وترجَّل المأمون ومشى إليها وقبَّل رأسها، وقال: لعن اللهُ قاتله، واللهِ ما أمرتُه ولا رضيت به، ولأقتلنَّ قاتلَه. فقالت: يا أميرَ المؤمنين، لي حاجة، فقال: حوائجُك مقضيَّة عندي، قالت: لا ينزل أحدٌ في قصور ابني، وتأذنُ لي في خرابها، فقال: قد فعلت. وكان محمدٌ لما ولي الخلافةَ بنى قصورًا على شاطئ دِجلة، منها عند الخلد وعند الحريم، ومقابلُها في الشمَّاسية، وغيو ذلك. فكانت زبيدةُ تخرج في كلِّ يوم ومعها النوائح، فينُحنَ في قصرٍ وتهدمه، حتى أتت على الجميع، فقال السنديُّ بن شاهك: رحم ¬

_ (¬1) في المنتظم 10/ 130: وثأري. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في أنساب الأشراف 5/ 248: ممسكاه. والبيت الأول سلف في مقتل الأمين. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

أبو داود الطيالسي

اللهُ يحيى بن خالدٍ البرمكي، فلقد أخبر بهذا يومَ قتل هارونُ ولدَه جعفرًا، فإنَّه قيل له: قد أمر بقتل ولدِك، فقال: يُقتل ولده، فقيل له: قد أمر بهتك حريمه، فقال: يُهتك حريمُه، فهُتكت زبيدة، فقيل له: قد أمر بخراب دورِك، فقال: تخرب دورُه. فكان كما قال. ولما دخل المأمونُ بغداد، أمر بمقاسمة أهلِ السَّواد على الخُمسَين، وكانوا يقاسمون على النِّصف. وولَّى المأمونُ أبا عيسى بنَ الرشيد الكوفة، وصالحَ بن الرشيد البصرة، وعبيدَ الله بنَ الحسن بنِ عبيد الله بن العباس بن عليِّ بن أبي طالبٍ الحرمين، فحجَّ بالناس في هذه السَّنة. أبو داودَ الطَّيالسي واسمه سليمانُ بن داود [بنِ] (¬1) الجارود، مولى قريش، من الطبقة السابعةِ من أهل البصرة. كان كثيرَ الحديث، ثقةً إمامًا حافظًا متقنًا، وله التصانيفُ الكثيرة، وربَّما غلط. وقدم بغدادَ وحدَّث بها، وكان يجتمع في مجلسه ستةُ آلاف مِحبرة، وحدَّث بأصبهانَ أربعين ألفَ حديثٍ من حفظه، وكان قد شرب البلاذُرَ (¬2) هو وعبدُ الرحمن بن مهدي، فجُذِمَ أبو داودَ وبَرِصَ عبدُ الرحمن. ومات أبو داودَ في صفر، وقيل: في ربيعٍ الأول، بالبصرة، وهو ابنُ اثنتين وسبعين سنة. أسند عن خلق، منهم شعبةُ والثوريُّ وهمَّام بن يحيى، وروى عنه الإمامُ أحمد رحمه الله وابنُ المدينيِّ وغيره، واتَّفقوا على صدقه وثقتِه وورعه، وكان الإمام أحمدُ يثني عليه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 10/ 32، والمنتظم 1/ 133، وغيرهما، ولم ترد هذه الترجمة في (ب). (¬2) ثمر شجر في داخله شيء شبيه بالدم، نافع لجودة الحفظ. المعتمد في الأدوية المفردة ص 31.

السندي بن شاهك

السِّنديُّ بن شاهك مولى [أبي جعفرٍ] المنصور [وقد ذكرناه في عدَّة مواضع. وقال ابنُ ماكولا: ] (¬1) كان رجلًا دَميمَ الخلق من السِّند، وكان أميرًا على دمشق، فأخرب سورَها في فتنة أبي الهَيذامِ سنة ستٍّ وسبعين ومئة [في خلافة هارون. حكى عنه الصوليُّ أنه] قال: كنت بخُراسانَ واليًا عليها، فبعث إليَّ المأمونُ فطلبني على البريد، فطويت المراحلَ حتى قدمت بغدادَ على آخر نفَس، فأتيت بابَه، فوجدته نائمًا، وهاج بي الدم، فقلت: أَحتجم وأعود، فمضيت إلى داري وطلبت حجَّامًا لا يكون فضوليًّا، فأُتيت بحجَّام، فشرع يحجمني وقال: هذا وجهٌ ما رأيته قطّ، فمن أنت؟ قلت: السِّندي بن شاهك، قال: ومن يكون السِّندي؟ قلت: قائد من قوَّاد أميرِ المؤمنين، قال: وأين كنت؟ قلت: بخُراسان، قال: وما الذي كنت تعمل؟ قلت: واليًا عليها، قال: ففي أيِّ شيءٍ قدمت؟ قلت: على البريد، قال: وفي كم جئت؟ قلت: في عشرة أيام، قال: وما الذي يريد منك؟ قلت: إذا فرغت من الحجامة عرَّفتك. فلمَّا فرغ من الحجامة قلت للغلمان: مدُّوه، فمدُّوه، فضربته عشرةَ أسواط، فقال: ما هذا؟ قلت: هذا عن سؤالك عن اسمي، ثم ضربته أخرى، فقال: ما هذا؟ قلت: عن قولك: أين كنت؟ ولم أزل أضربه وأعدُّ عليه وأقول: خرجت من خُراسانَ في يومِ كذا على طريق كذا والسياطُ تأخذه، فقال الحجَّام: [فإلى] كم تضربني؟ قتلتني! فقلت: حتى أصلَ إلى بغدادَ وأجتمعَ بأمير المؤمنين وأقولَ لك ما أراد مني، قال: فأموت أنا بعدُ وأنت في الطريق، فقلت: تتوب، لا تسأل أحدًا بعد اليومِ وأدعك؟ فقال: واللهِ لا سألتُ أحدًا بعد اليوم، فأطلقته وأعطيته دنانير، ودخلت على المأمون فأخبرته خبرَه، فقال: وددت واللهِ أنك بلغت به بغدادَ ورجحت إلى خُراسانَ حتى تأتيَ على نفْسه. وقال الخطيب (¬2): ولي السِّندي القضاءَ ببغداد، وكان لا يستحلف المُكاريَ ولا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وينظر الخبر في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور، عند ترجمته. (¬2) لعل الصواب: الجاحظ، كما في تاريخ الإسلام 5/ 87، والوافي 15/ 487.

الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس [الشافعي - رضي الله عنه -

الملَّاح ولا الحائك، ويجعل القولَ قولَ المدَّعي، ويقول: اللهمَّ إنِّي أستخيرك في معلِّم الكُتَّاب. وكانت وفاتُه ببغداد. حكى عن المنصور والمهديِّ وهارونَ وغيرهم. الإمام أبو عبدِ الله محمدُ بن إدريسَ [الشافعي - رضي الله عنه - ونسبه المشهور أنه محمد بن إدريس، ابنِ العباس بن عثمانَ بن شافعِ بن السائب بن عُبيد بن عبد يزيدَ بن هاشم بن المطَّلب بن عبد مَناف بن قُصَيِّ بن كِلاب بن مُرَّةَ [أبو عبد الله] المطَّلبي. وكناه مسلمٌ أبا عبد الرحمن (¬1). [وقال عبد الرحمن بن حازم] هو مكيُّ الأصل، مصريُّ الدار. [وقال الخطيب (¬2): سمعتُ القاضي أبا الطَّيب الطبريَّ يقول: ] (¬3) شافعُ بن السائب [الذي ينسب إليه الشافعي] لَقِيَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو مُتَرعْرعٌ، وأسلم أبوه السائبُ يومَ بدر، فإنَّه كان صاحبَ رايةِ بني هاشم، فأُسر وفدى نفسَه، ثم أسلم، فقيل له: لمَ لمْ تُسلم قبل أن تفديَ نفسك؟ فقال: ما كنت لأحرمَ المسلمين طمعًا لهم فيّ. قال المصنِّف رحمه الله: وقد زعم بعضُهم أنَّ الشافعيَّ كان عبدًا، واحتجَّ بأن جدَّه أُسر يومَ بدر، وليس هذا بشيء؛ لأنه قد شرى نفسَه، ولما نُقل إلى هارونَ أن الشافعيَّ يميل إلى [آل] أبي طالب، قال له: يا أمير المؤمنين، لَأَن أعيشَ مع قومٍ يرون أني منهم أحبُّ إليَّ من أن أعيشَ مع قومٍ يرون أني عبدُهم. وكان السائب يُشبَّه برسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. [قال الخطيب (¬4): وقال أبو الطيِّب الطبري: ] وقد وصف بعضُ أهل العلم بالنَّسب الشافعيَّ رحمه اللهُ فقال: هو شقيقُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في نسبه، وشريكُه في حَسَبه، لم تَنَلْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - طهارةٌ في مولده، وفضيلةٌ في آبائه، إلَّا وهو قسيمُه فيها، إلى أن افترقا في عبد مَناف، فإن المطَّلب زوَّج ابنَه هاشمًا الشِّفاءَ بنت هاشمِ بن عبد مناف، فوَلدت له عبدَ يزيد، وكان يقال له: المَحْضُ لا قذًى فيه، فقد وَلَدَ الشافعيَّ الهاشمان: هاشمُ ¬

_ (¬1) كذا قال، ولم نقف على من ذكره، بل في الكنى والأسماء لمسلم 1/ 503: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي. . . إلخ. (¬2) في تاريخه 2/ 395. (¬3) في (خ): قال أبو الطيب الطبري. (¬4) في تاريخه 2/ 395. وما بين حاصرتين من (ب).

ابن المطَّلب (¬1)، وهاشم بن عبدِ مناف. والشافعيُّ ابن عمِّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وابنُ عمَّته؛ لأن المطَّلب عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والشفاءَ [بنت هاشم] أختُ عبد المطلبِ عمَّةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. [قال: ] (¬2) و [أما] أمُّ الشافعيِّ رحمةُ الله عليه [فهي] أَزْدية، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأَزدُ جُرثومةُ العرب" (¬3). [قلت: وقد اختلفوا في أمِّ الشافعيّ، فقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: هي] أَسدية (¬4)، وقيل: أَسْديةٌ وأَزْدية سواء. ذكره الخطيب (¬5). وقال محمد بن إسحاقَ بن خُزيمة (¬6): أمُّ الشافعيِّ فاطمةُ بنت عُبيد اللهِ بنِ الحسن بنِ الحسن بن عليِّ بن أبي طالب. وهو وهم، والأصحُّ أنَّها أزدية، قال يونُس بن عبدِ الأعلى: لا نعلم هاشميًّا ولدته أزديةٌ غيرَ الشافعي (¬7). وقال ابنُ عبد الحكم: لما حملت أمُّ الشافعيِّ به، رأت في منامها كأنَّ المشتريَ خرج من فرجها حتى انقضَّ بمصر، ثم وقع في كلِّ بلدة منه شظيَّة، فأخبرت المعبِّرين، فقالوا: يخرج منها عالمٌ يتفرَّق علمُه في البلاد ويخصُّ أهلَ مصرَ ويُقبر عندهم. ¬

_ (¬1) في (خ): عبد المطلب. وهو خطأ. (¬2) في تاريخه 2/ 395، وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) الجرثومة: الأصل، والحديث لم نقف عليه بهذا اللفظ مسندًا، وأخرج الترمذي (3937) عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأزد أسد الله في الأرض، يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم، وليأتين على الناس زمان يقول الرجل: يا ليت أبي كان أزديًّا، ياليت أمي كانت أزدية" قال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وروي هذا الحديث بهذا الإسناد عن أنس، موقوف، وهو عندنا أصح. اهـ. (¬4) في (خ): وقيل: أسدية. (¬5) لم نقف عليه في تاريخه، وانظر تاريخ دمشق 60/ 393، وطبقات الشافعية للسبكي 2/ 178. (¬6) نقله ابن خزيمة عن يونس بن عبد الأعلى، كما في تاريخ دمشق. (¬7) في تاريخ دمشق: لا أعلم هاشميًّا ولدته هاشمية إلا علي بن أبي طالب، ثم الشافعي. اهـ. وهذا الكلام جزء من كلام يونس السابق الذي نسبه المصنف لابن خريمة، ففيه تأكيد على أن أمه هاشمية، لا كما توهم المصنف. ثم إن الحافظ ابن عساكر بعد أن أورد كلامه تعقبه بقوله: كذا حكي عن يونس، وأغفل الحسن والحسين، وعقيلًا وجعفرًا؛ فإن أميهما هاشميتان: فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفاطمة بنت أسد.

وقد أثنى الأئمة على الشافعي رحمه الله، قال الخطيب (¬1): الإمامُ الشافعي زينُ الفقهاءِ وتاجُ العلماء، ولد بغزَّةَ سنةَ خمسين ومئة. وقيل: بعسقلان. وقيل: باليمن، ثم حُمل إلى مكَّة، فنشأ بها، وكتب العلمَ بمدينة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقدم بغدادَ مرتين، وحدَّث بها، وسمَّوه فيها ناصرَ الحديث [وفي رواية أنَّه حُمل إلى مكَّة وهو ابن ستِّ سنين، ولم يكن له مال]. ذِكر بدايته لطلب العلم: [قال الخطيب (¬2) بإسناده عن محمد بنِ عبد الله بن عبد الحكم قال: قال لي محمدُ بن إدريس الشافعي: ] وُلدت (¬3) بغزَّة، وحُملت إلى مكةَ وأنا ابنُ سنتين، [قال: ] ولم يكن لي مال (¬4)، فكنت أذهب إلى الدِّيوان أستوهب الظهورَ أكتب فيها. [وفي رواية عن الشافعيِّ قال: ] حفظت القرآنَ وأنا ابن سبعِ سنين، وحفظت "الموطَّأ" وأنا ابن عشرِ سنين، وما أفتيت حتى حفظت عشرةَ آلافِ حديث. [وحكى أبو نُعيم (¬5) عن حسين الكرابيسيِّ عن الشافعيِّ قال: ] كنت (¬6) امرأً أكتب الشِّعر، فآتي البواديَ فأسمع منهم، فقدمت مكَّةَ مرة وأنا أتمثَّل بشعر لبيد، فضربني رجلٌ من الحَجَبة من ورائي وقال: رجلٌ من قريشٍ ثم من بني المطَّلب يطلب الشعرَ ويرضى من دِينه ودنياه أن يكونَ معلِّمًا! ما الشِّعر! الشعر إذا استحكمتَ فيه قعدتَ معلمًا، تفقَّهْ لعلَّ اللهَ أن ينفعَك وينفعَ بك. فانتفعت بكلامه، فجالست ابنَ عُيينة ما شاء الله، وكتبت عنه وعن مسلم بن خالدٍ الزَّنجي، ثم قدمت المدينةَ على مالك بنِ أنس، فكتبت موطَّأه، وقلت: يا أبا عبدِ الله، أقرؤه عليك؟ فقال: يا ابنَ أخي، نأتي برجلٍ يقرؤه [عليك] وأنت تسمع، فقلت: ألا أقرؤه عليك؟ فقال: اقرأ، فقرأتُ حتى بلغت كتاب السِّيَر، فقال [لي]: تفقَّه تَعْلُ. ¬

_ (¬1) في تاريخه 2/ 392 - 393. (¬2) في تاريخه 2/ 396. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): وقال: ولدت. . . (¬4) في تاريخ بغداد: قال: وأخبرني غيره عن الشافعي قال: لم يكن لي مال. . . (¬5) في الحلية 9/ 70. (¬6) في (خ): وقال مما روي عنه: كنت. . .

وروى أبو نُعيمِ [أيضًا] عنه قال (¬1): كنت أُكثر الخروجَ إلى البادية في طلب الشِّعر، فلقيني أعرابيٌّ فقال: ما تقول في امرأةٍ تحيض يومًا وتطهر يومًا؟ فقلت: لا أدري، فقال: يا ابنَ أخي، ارجع فاطلب الفريضةَ وَدَعِ النافلة، فهو أَولى بك. فخرجت إلى مالك بنِ أنس، فقرأت عليه "الموطَّأ" حفظًا، فقال لي: قد آن لك أن تُفتيَ الناس. [وحكى أبو نُعيم عن الرَّبيع عن الشافعي] (¬2) قال: كنت في الكتَّاب أسمع المعلمَ يلقِّن الصبيَّ الآية، فأحفظها، فإلى أن يفرغَ المعلِّم من الإملاء عليهم قد حفظت كلَّ ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحلُّ لي أن آخذَ منك شيئًا. ثم خرجت إلى بادية مكَّة، فلزمت هُذيلًا، فكنت أتعلَّم لغتَها وآخذ من طبعها، وكانوا أفصحَ العرب، فبقيت عندهم سبعةَ عشرَ سنة، أرتحل لرحيلهم وأنزل لنزولهم، ثم رجعت إلى مكَّة، فكنت أُنشد الأشعارَ وأذكر أيامَ العرب وفنونَ الأدب، فمرَّ بي رجلٌ من آل الزُّبير فقال لي: يا أبا عبدِ الله، عزَّ عليَّ ألا يكونَ مع هذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدتَ أهل زمانك، قلت: ومَن بقي يُقصد؟ قال: مالكُ بن أنس سيِّد المسلمين اليوم، فوقع كلامُه في قلبي، فعمدت إلى "الموطَّأ" فحفظته في تسع ليال، ثم أخذت كتابَ والي مكةَ إلى والي المدينةِ وإلى مالك بنِ أنس، فقدمت المدينة، فناولت واليَها الكتاب، فقرأه وقال: واللهِ إنَّ مشيتي من المدينة إلى مكةَ راجلًا أهونُ عليَّ من المشي إلى باب مالك، فإني لست أرى الذُّلَّ حتى أقفَ ببابه. ثم قام معي إلى باب مالكِ وطلبنا الإذنَ عليه، فخرجت جاريةٌ سوداءُ فقالت: إنَّ مولاي يقرأ عليك السلامَ ويقول: إنْ كانت مسألة فارفعوها في رقعةٍ ليخرجَ إليكم الجواب، وإن كنتم قد جئتم للحديث فقد عرفتم يومَ الخميس، [قال: ] فقلنا لها: قولي له: معنا كتابٌ من والي مكةَ في حاجة مهمَّة، فدخلت ثم خرجت وبيدها كُرسيّ، فوضعته، ثم خرج مالكٌ وعليه المهابةُ والوقار، شيخٌ طويل مستوي اللحيةِ عليه طَيلسان، فدفع الوالي إليه كتابَ والي مكَّة، فقرأه حتى بلغ إلى قوله: هذا رجلٌ حاله كذا وكذا فتحدِّثه، فرمى الكتابَ من يده وقال: سبحانَ الله! وصار علمُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) لم نقف عليه في الحلية، وأورده ابن عساكر في تاريخ دمشق 60/ 409. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، ولم نقف على الكلام في الحلية، وأورده ابن عساكر في تاريخ دمشق 60/ 403.

يؤخذ بالرسائل! قال: فتهيَّبه الوالي أن يكلِّمَه، فقلت: رحمك الله، إني رجل مطَّلبي، ومن حالي ومن قصَّتي، فنظر إليَّ ساعةً -وكانتا له فراسة- وقال: ما اسمُك؟ قلت: محمد، فقال: يا محمد، اتَّقِ اللهَ تعالى واجتنب المعاصي؛ فإنَّه سيكون لك شأنٌ من الشأن. فقرأت عليه "الموطَّأَ" في أيامٍ يسيرة، وأقمت عنده بالمدينة حتى توفِّي، ثم خرجت إلى اليمن. وروى ابنُ عساكرٍ (¬1) عنه أنَّه قال: كنت ألتقط العظامَ من مكةَ والأكتافَ فأكتب فيها، ولم يكن لأمِّي ما تعطي المعلِّم، وكان قد رضي مني أن أخلفَه في الصِّبيان وأقومَ عليهم. [وحكى المُزَنيُّ عن] الشافعيِّ رحمه الله قال (¬2): رأيتُ أميرَ المؤمنين عليًّا عليه السلامُ في المنام، فسلَّم عليَّ وصافحني، وخلع خاتَمَه فجعله في إصبعي، فعبرها عمي وقال: أما مصافحتُه إياك فأمانٌ من العذاب، وأما جعلُ خاتمِه في إصبعك، فسيبلغ اسمُك ما بلغ اسمُه في المشرق والمغرب. ذكر صفته: اتَّفقوا على أنَّه كان نحيفًا خفيفَ العارضَين يخضب بالحنَّاء. ذِكر طرفٍ من أخباره [وذِكرُ عبادته وفقهِه وفهمه: حكى الربيعُ أنه] (¬3) كان يختم القرآنَ في كل ليلة ويختم في رمضانَ ستِّين ختمة، وكان حسنَ الصوت، كلُّ مَن يسمعه يقرأ يبكي، وكان ينام ثلثَ الليل، ويصلِّي ثلث الليل، ويكتب العلمَ ثلث الليل، وصار بعد ذلك يحيى الليلَ كلَّه إلى أن مات، وكان يصوم الدهر، ولا يصلِّي التراويحَ في المسجد مع الناس ويصلِّي في بيته، وكان كثيرَ العبادة. [وذكر أبو بكر بنُ بدران المعروفُ بخالويه في كتاب "فضائل الشافعي" عن] الربيع ¬

_ (¬1) في تاريخه 60/ 400. (¬2) في (خ): وقال الشافعي رحمه الله. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

أنَّ الشافعيَّ كان (¬1) عند مالكٍ وعنده سفيانُ بن عُيينة والزَّنجي، فأقبل رجلان، فقال أحدهما: أنا رجلٌ أبيع القَمَاري، وقد بعتُ هذا قُمْريًّا (¬2) وحلفت له بالطلاق أنَّه لا يهدأ من الصِّياح، فلمَّا كان بعد ساعة، أتاني وقال: قد سكت فرُدَّ عليَّ دراهمي، وقد حنثت، فقال مالك: بانت منك امرأتُك، فمرَّا بالشافعي رحمةُ الله عليه فشرحا له القصَّة، فقال للبائع: أردتَ لا يهدأ أبدًا أو أنَّ كلامه أكثرُ من سكوته؟ فقال: بل أردتُ أن كلامَه أكثرُ من سكوته، لأنِّي أعلم أنَّه يأكل ويشرب وينام، فقال الشافعي: رُدَّ عليك امرأتكَ فإنَّها حلال، وبلغ مالكًا، فقال للشافعي: من أين لك هذا؟ ! قال: من حديث فاطمةَ بنتِ قيس؛ فإنها قالت: يا رسولَ الله، إنَّ معاويةَ وأبا جهمٍ خطباني، فقال لها: "إنَّ معاويةَ رجل صُعلوك، وإنَّ أبا جهمٍ لا يضع عصاه عن عاتقه" (¬3) وقد كان أبوجهم ينام ويستريح، وإنَّما خرج كلامهُ على الغالب، فعجب مالك، وقال الزَّنجي: أَفتِ، فقد آن لك أن تُفتي، فأفتى وهو ابنُ خمسَ عشرةَ سنة. [وقال أبو عبدِ الرحمن: ] (¬4) قال الشافعيُّ رحمةُ الله عليه بمكَّة: سلوني عمَّا شئتم أُخبركم من كتاب اللهِ وسنَّة رسوله، فقال له رجل: ما تقول في مُحرِم قتل زُنْبورًا؟ فقال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وحدَّثنا سفيان بن عُيينةَ، عن عبد الملك بن عُمير، عن رِبعي، عن حذيفةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اِقتدوا باللَّذَين من بعدي: أبي بكرٍ وعمر" (¬5)، وحدثنا سفيانُ عن مسعر بن كِدام، عن قيس بنِ مسلم، عن طارق (¬6) بنِ شهاب، عن عمرَ - رضي الله عنه - أنَّه أمر المُحرمَ بقتل الزُّنبور. [وروى الخطيب عن المُزَني، عن] الشافعيِّ رحمه الله قال (¬7): خرجتُ إلى اليمن ¬

_ (¬1) في (خ): وقال الربيع: كان الشافعي. . .، وانظر المنتظم 10/ 136. (¬2) ضرب من الحمام، جمعه: قَماري وقُمر. القاموس المحيط (قمر) (¬3) أخرجه مسلم (1480). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) أخرجه الترمذي (3662) من طريق الحسن بن الصباح البزار، عن سفيان بن عيينة، به. (¬6) في (خ): روق، وكذا في المنتظم 10/ 137، والتصويب من سنن البيهقي 5/ 212، وتاريخ دمشق 60/ 389. (¬7) في (خ): وقال الشافعي رحمه الله.

وكان بها والٍ غَشومٌ من قِبَل هارون، فكنت أمنعه من الظُّلم وآخذ على يده، وكان باليمن سبعة -فتحرَّكوا- من العلوية، فكتب إلى هارونَ يقول: عندنا رجلٌ من ولد شافع، وإنه قد اتَّفق مع العلوية، ولا أمرَ لي معه ولا نهي، فكتب هارونُ إليه بحملنا جميعًا، فحملنا، فضرب رقابَ العلوية، ونظر إليَّ فوعظته، فبكى وقال: مَن أنت؟ فقلت: المطَّلبي، فأَعجبه كلامي وأعطاني خمسين ألفًا، ففرَّقتها في حُجَّابه وأصحابِه ومَن على بابه، وقال لي: الزم بابي ومجلسي. وكان محمدُ بن الحسن صاحبُ أبي حنيفةَ جيِّدَ المنزلة عنده، فجالسته وعرفت قولَه، ووقعت منه موقعًا، فكان إذا قام ناظرتُ أصحابه، فقال لي يومًا: ناظِرني، قلت: أُجلُّك عن المناظرة، قال: لا: [قل]، قلت: ما تقول في رجلٍ غصب ساحةً فبنى عليها [بيتًا] (¬1) قيمتُه ألفُ دينار، فجاء صاحبُها فأقام البيِّنة أنها ساحتُه؟ قال: له قيمتُها ولا تُقلع، قلت: ولم؟ قال: لقوله عليه الصلاة السلام: "لا ضررَ ولا إضرارَ في الدِّين" (¬2) قلت: الغاصبُ أَدخلَ الضررَ على نفسه. ثم قال محمد: ما تقول فيمن غصب خيطَ إبريسَمَ فخاط به بطنَ نفسِه، فجاء إنسانٌ فأقام البيِّنة أنَّ هذا الخيطَ له؟ أَيُنزع من بطنه؟ قلت: لا، قال: ناقضتَ أصلَك وتركت قولَك، فقلت: لا تعجلْ، هاهنا الضررُ أعظم، وأوردتُ عليه لوحَ السفينةِ ومسائلَ من هذا الجنس. [وهي مناظرةٌ طويلة. وروى أبو نُعيم الأصفهانيّ عن الرَّبيع قال: ] (¬3) قال الشافعيُّ رحمةُ الله عليه: وددت أنَّ الخلق يتعلَّمون مني ولا يُنسب إليَّ منه شيء، وما ناظرتُ أحدًا فأحببتُ أن يُخطئ، بل أحبُّ أن يوفَّق ويسدَّدَ، وما أبالي بيَّن اللهُ الحقَّ على لساني أو على لسانه. [وروى الخطيبُ عن المُزَني عن الشافعي] قال: مَن تعلَّم القرآنَ عظمت قيمتُه، ومن نظر في الفقه نَبُلَ قدرُه، ومن تعلَّم اللغة رقَّ طبعُه، ومن تعلَّم الحساب جزل رأيُه، ومن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) أخرجه ابن ماجه (2341) وأحمد (2865) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - وأخرجه ابن ماجه (2340) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وليس فيهما: في الدين. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

كتب الحديثَ قويت حجَّته، ومن لم يَصُن نفسَه لم ينفعْه علمُه. [وحكى الربيعُ عنه أنه] قال: ما أوردتُ الحجَّة على أحدٍ فقبلها مني إلَّا هبتُه، ولا دفع الحجَّةَ وكابرني إلَّا سقط من عيني، وما ناظرت أحدًا فأحببتُ أن يخطئ، إلا صاحبَ بدعة؛ فإني أحبُّ أن ينكشفَ أمرُه إلى الناس. [ذِكرُ شدَّته على أهل البدع واعتقادِه: ذكر الكرابيسيُّ عن الشافعيِّ أنه] ناظر حفصًا الفردَ فقال له: ما تقول في القرآن؟ فقال حفص: مخلوق، فقال له الشافعيّ: كذبتَ وكفرتَ بالله العظيم. [قال]: وكان الشافعيُّ يقول. واللهِ لقد سمعت من حفص -قاتلَه الله- كلامًا ما سمعتُه من أحدٍ قطّ، ولا أفلح صاحبُ كلامٍ قطّ، ورأيي في أهل الكلامِ والبدعِ أن يركبوا على الجِمال ويُضربوا بالجريد، ويطافَ بهم في القبائل ويقال: هذا جزاءُ مَن عدل عن كتاب اللهِ وسنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - إلى علم الكلام. وقال [أبو إسحاقَ الثعلبيُّ بإسناده إلى] (¬1) الربيع بنِ سليمان: كنت ذاتَ يوم عند الشافعيِّ وجاءه كتابٌ من الصعيد يسألونه عن قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]. فكتب فيه: لمَّا حجب عنه أقوامًا بالسَّخط، دلَّ على أنَّ أقوامًا يَرَوْنَهُ بالرِّضا، فقلت: أَتدين بهذا أو توقن به لا سيِّدي؟ فقال: واللهِ لو لم يوقنْ (¬2) محمد بنُ إدريسَ أنه يرى ربَّه في المعاد لَمَا عبده في الدنيا. قال المصنِّف رحمه الله: والشافعيُّ إنَّما أخذ هذا المعنى من مالك بنِ أنس؛ فإنَّه قال في تفسير هذه الآية: لمَّا حجب أعداءَه فلم يَرَوْهُ، تجلَّى لأوليائه حتى رَأَوْهُ. [وقد حكاه الثعلبيُّ أيضًا، إلا أنَّ قول الشافعيِّ وقولَ مالكٍ أوجز. وحكى الثعلبيُّ عن] الحسين بنِ الفضل البَجَليِّ أنه قال (¬3): لمَّا حجبهم في الدنيا عن توحيده، حجبهم في الآخرة عن رؤيته. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): يؤمن. (¬3) في (خ): وقال الحسين بن الفضل البجلي، وما سلف نقله عن الثعلبي هو في تفسيره 6/ 403 - 404.

[ذِكر جُودِه وسماحته: ذكرنا أنَّ هارونَ أعطاه خمسين ألفًا ففرَّقها على أصحابه] (¬1). وقال الحُميدي: قدم الشافعيُّ من اليمن إلى مكةَ ومعه عشرون ألفَ دينار، فضرب خيمةً ظاهرَ مكةَ وفرَّق الجميع. [وحكى الحُميديُّ أيضًا عن] محمد ابنِ بنت الشافعيِّ قال (¬2): باع جدِّي الشافعيُّ ضيعةً بعشرة آلافِ دينار، ففرَّقها في الأشراف والعلماء، بَسَطَ نِطْعًا (¬3) وقسمها عليه، فبقيت منها بقيَّة، فجاء أعرابيٌّ فقال: يا ابنَ أخي، لي عندك يدٌ فكافئني عليها، قال: وما هي؟ قال: حضرت الموسمَ مع عمومتك وهم يشترون أُضحية، فضربتَ بيدك إلى شاةٍ وقلتَ لي: يا عمّ، اشترِ لي هذه الشاة، فقلتُ لصاحبها: أَحسِنْ إلى الفتى في الثمن، فأحسنَ إليك بقولي، فقال الشافعي: يدٌ جليلة، خذ النِّطعَ وما عليه. [ذِكر نُبذةٍ من كلامه: حكى الحُميديُّ عن محمد ابنِ بنت الشافعيِّ قال: قال جدِّي رحمه الله: ] (¬4) العلمُ علمان: علمُ الأبدان، وعلمُ الأديان، فعلم الأبدانِ الطِّبّ، وعلمُ الأديان الفقه. [قال: ] (¬5) وكان يتطيَّر من الأعور والأحولِ والأعرج والأحدبِ والأشقر جدًّا. [وقال الحُميدي: ومن أحسنِ ما نُقل عنه أنه] قال: كلَّما طالت اللحيةُ تكوسجَ (¬6) العقل. [وروى ابن ناصرٍ بإسناده إلى الربيع قال] قال [الشافعي]: إياكم وأصحابَ العاهات، فإنَّ معاملتهم عَسِرة. وأشدُّ الأعمال ثلاثة: الجودُ من قلَّة، والورعُ في ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): وقال محمد ابن بنت الشافعي. (¬3) النِّطع: بساط من الأديم. القاموس (نطع). (¬4) في (خ): وقال الشافعي رحمه الله. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) أي: قَصُرَ أو خَفَّ. المعجم الوسيط (كسج).

خلوة، وكلمة حقٍّ عند مَن يُخاف ويُرجى. وقال: من طلب الرئاسةَ فرَّت منه، ومَن هرب منفي تَبِعَتْه. وقال: ليس من المروءة أن يُخبرَ الرجلُ بسنِّه [أو بمولده] لأنَّه إن كان صغيرًا احتقروه، وإن كان كبيرًا استهرموه. [قلت: وقد نُقل مثلُه عن مالك بن أنس، سأله سائل، فقال له: أَقبِلْ على شأنك، وذكره]. وقال: لو أنَّ الماء الباردَ ينقص من مروءتي ما شربتُه. وقال: قَبول السِّعاية أقبحُ منها، لأن السعايةَ دلالة، والقبولَ إجازة، وليس من دلَّ على شيءٍ كمَن قَبِلَ وأجاز. وقال الربيع: ذَكَرَ رجلٌ عنده محمدَ بن الحسن بكلمة سَفَه، فقال له: مَهْ، لقد تلمَّظت بمضغةٍ طالما لفَظَها الكرام. [وكان يحبُّ محمدًا ويثني عليه، وقد ذكرناه في ترجمة محمد] (¬1). وقال الربيع: ما دخل الشافعيُّ بغدادَ إلَّا ومشى إلى قبر أبي حنيفةَ وزاره، ودعا عنده فتُقضى حاجتُه. [وروى الخطيبُ عن] أبي نُعيم قال (¬2): دخل الشافعيُّ يومًا دارَ هارون، فأَقعده سراجٌ الخادمُ ليستأذنَ له، وكان هناك [أبو (¬3)] عبد الصمد مؤدِّب أولادِ الرشيد، فقال سراجٌ الخادم: هؤلاء أولادُ أميرِ المؤمنين، وهذا مؤدِّبهم، فلو أوصيتَه بهم. فأقبل الشافعيُّ على المؤدِّب وقال: إن أوَّلَ ما تبدأ به صلاح نفسك، فإنَّ أَعيُنَهم ممدودةٌ إليك، فالحَسَنُ عندهم ما تستحسنه، والقبيحُ ما تكرهه، علِّمهم كتابَ الله، ولا تُكرهْهم عليه فيملُّوه، ولا تَتْرُكْهم عنه فيهجروه، ثم روِّهم من الشِّعر أعفَّه، ومن الحديث أشرفَه، ولا تُخرجهم من علمٍ إلى غيره حتى يُحكموه، فإنَّ ازدحامَ الكلام في ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): وقال أبو نعيم. (¬3) ما بين حاصرتين لم يرد في النسخ، واستدرك من المنتظم 10/ 139، وحلية الأولياء 9/ 147، وتاريخ بغداد 4/ 306.

السمع مَظلمةٌ (¬1) للفهم. قال المصنِّف رحمه الله: قولُه: سراجٌ الخادم، وَهَم؛ فإنَّ المأمونَ قتله لمَّا قتل الفضلَ بنَ سهل، وإنَّما الواقعةُ مع حسين الخادم. قلت: لا وجهَ لهذا الانتقاد؛ فإنَّ الفضلَ بن سهلٍ إنما قُتل في السَّنة الثانيةِ بعد المئتين، وقُتل سراجٌ بعده كما تقدَّم، وقولُ سراجٍ للشافعيِّ رحمه الله ما قال واستئذانُه له كان على هارون، وهارونُ مات سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومئة، فبين استئذانِ سراجٍ للشافعيِّ رحمه اللهُ وقتلِه سنونَ كثيرة (¬2). [ذِكرُ ما نُسب إليه من الشِّعر: ذكر الحافظُ ابن عساكرٍ في تاريخه (¬3) عن] الربيع بنِ سليمانَ قال (¬4): خرجنا مع الشافعيِّ من مكةَ نريد مِنى، فلم ينزل واديًا ولم يصعد شِعبًا إلَّا وسمعتُه يقول: [من الكامل] يا راكبًا قفْ بالمحصَّب من مِنًى ... واهتِفْ بقاعدِ خَيفها والناهضِ سَحَرًا إذا سار الحجيجُ إلى مِنًى ... فيضًا كملتطِم الفراتِ الفائض إنْ كان رفضًا حبُّ آلِ محمَّدٍ ... فلْيشهد الثَّقَلانِ أنِّي رافضي وقال المُزَني: كان الشافعيُّ يتشيَّع (¬5). وقال المزني: كان للشافعيِّ صديقٌ بمصرَ يتولَّى مكانًا يقال له: السِّيبَين (¬6)، واسمُ الرجل حصين، فطلب من الشافعيِّ رجل شفاعةً إليه، فكتب الشافعيُّ إليه: [من الكامل] ¬

_ (¬1) في (ب): مصلحة. والمثبت من (خ)، وفي المنتظم: مصدّ. وفي تاريخ بغداد والحلية: مضلة. (¬2) من قوله: قلت: لا وجه لهذا الانتقاد. . . إلى هنا، لم يرد في (ب). (¬3) 60/ 438. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): وقال الربيع بن سليمان. (¬5) لم نقف على كلام الزني، ونسبه الذهبي في تاريخه 5/ 169 للعجلي وقال: معنى هذا التشيع هو حبّ علي - رضي الله عنه - وبغض النواصب، أما من تعرض إلى أحد من الصحابة بسبّ فهو شيعي غالٍ نبرأ منه. . . الخ، وقال في السير 10/ 58: من زعم أن الشافعي يتشيع فهو مفتر لا يدري ما يقول. (¬6) السيب: كورة من سواد الكوفة، وهما سيبان: الأعلى والأسفل. معجم البلدان.

اِذهبْ فإنَّك من وِدادي طالقٌ ... منِّي وليس طلاقَ ذاتِ البَينِ فإن ارعويتَ فإنَّها تطليقةٌ ... وتُقيم وُدَّك لي على ثِنتين وإذا أبيتَ شفَعْتُها بمثالها ... فيكون تطليقَينِ (¬1) في حيضَين (¬2) وإذا الثلاثُ أتتكَ منِّي بتَّةً ... لم تُغنِ عنك شفاعةُ الثَّقلَين (¬3) وله: [من المتقارب] إذا (¬4) المشكلاتُ تصدَّينَ لي ... كشفتُ حقائقَها بالنَّظرْ ولست بإمَّعةٍ في الرِّجال ... أُسائل هذا وذا ما الخبر ولكنَّني مِدْرَهُ الأصغرَين (¬5) ... أَقيس بما قد مضى ما غبر (¬6) [قال: وقال الثعلبيُّ في تفسيره عن] المزنيِّ قال (¬7): سمعته رحمةُ اللهِ عليه ينشد: [من المتقارب] فما شئتَ كان وإن لم أشأ ... وما شئتُ إنْ لم تشأْ لم يكنْ خلقتَ العبادَ على ما أردتَ ... ففي العلم يجري الفتى والمُسِنّ على ذا مننتَ وهذا خذلتَ ... وهذا أعنتَ وذا لم تُعِن فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيدٌّ ... ومنهم قبيحٌّ ومنهم حَسَن وأنبأنا غيرُ واحدٍ عن محمد بنِ أبي منصورٍ قال: قرأتُ في كتاب طاهرِ بن محمدٍ النيسابوريِّ للشافعيّ بخطِّه (¬8): [من الكامل] إنَّ امرأ وجد اليسارَ ولم ينلْ ... حمدًا ولا شكرًا لَغيرُ موفَّقِ ¬

_ (¬1) في (خ): تطليقتين، والمثبت من تاريخ بغداد 6/ 129، وتاريخ دمشق 49/ 49. (¬2) في (خ): حيضتين، والمثبت من العقد الفريد 5/ 297، وتاريخ دمشق. وفي تاريخ بغداد: قرئين. (¬3) في تاريخ دمشق: ولايةُ السِّيبَين. (¬4) في (خ): وإذا، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ دمشق 60/ 499، ومعجم الأدباء 17/ 309، والسير 10/ 50. (¬5) المِدْرَه: زعيم القوم والمتكلِّم. الصحاح (دره)، والأصغران: القلب واللسان. (¬6) من قوله: وقال المزني: كان الشافعي يتشيَّع. . . إلى هنا، لم يرد في (ب). (¬7) في (خ): وقال المزني. والكلام في تاريخ دمشق 60/ 436، وليس فيه ذكر للثعلبي. (¬8) في (ب) و (خ): النيسابوري الشافعي بخطه، والمثبت من صفة الصفوة 2/ 257، وفيه: محمد بن طاهر، بدل: طاهر بن محمد.

الجِدُّ يدني كلَّ شيءٍ شاسعٍ ... والحظُّ (¬1) يفتح كلَّ باب مُغْلَق وأحقُّ خَلقِ الله بالهمِّ امرؤٌ ... ذو هِمَّة ببلاءِ عيشٍ ضيِّق وإذا سمعتَ بأنَّ مجدودًا أتى ... عودًا فأَورقَ في يديه فصدِّق وإذا سمعتَ بأنَّ محرومًا أتى ... ماءً ليشربَه فغاض فحقِّق ومن الدليل على القضاءِ وكونه ... بؤسُ اللبيبِ وطيبُ عيشِ الأحمق وممَّا يُعزَى إلى الشافعيّ: يقولون لي فيك انقباضٌ وإنَّما ... رأوا رجلًا عن موقف الذُّلِّ أحجما وليست له، وإنَّما هي للقاضي الجُرجاني (¬2) [وسنذكرها في سنة اثنتين وتسعين وثلاثِ مئة. وروى الخطيبُ عن] أبي سعيدٍ المكِّيِّ (¬3) قال (¬4): سمعتُ الشافعيَّ يُنشد: [من الطويل] رأيتُ مُنى نفسي تتوق إلى مِصر ... ومِن دونها عَرْضُ المهامهِ والقَفرِ ووالله ما أدري أَلِلعزِّ والغنى ... أُقاد إليها أم أُقاد إلى قبري وقال يونُس بنُ عبد الأعلى: كان الشافعيُّ يتمثَّل دائمًا بقول ابنِ حازم: [من الوافر] إذا أصبحتُ عندي قوتُ يومٍ ... فخلِّ الهمَّ عنِّي يا سعيدُ ولم تخطُرْ همومُ غدٍ ببالي ... لأنَّ غدًا له رزقٌ جديد أُسلِّم أَنْ أراد اللهُ أمرًا ... وأترك ما أُريد لما يريد (¬5) وكان يقول: قد أَنِستُ بالفقر حتى ما أستوحشُ منه، وأَنشد: [من البسيط] ¬

_ (¬1) في المصادر: والجد، انظر العمدة في محاسن الشعر ص 40، وتاريخ دمشق 60/ 540، وصفة الصفوة، والوفيات 4/ 166، والوافي 2/ 178، وطبقات الشافعية الكبرى 1/ 304، وتوالي التأسيس ص 142. (¬2) وهو: علي بن عبد العزيز بن الحسن، والبيت في التمثيل والمحاضرة ص 124، ومعجم الأدباء 14/ 17، ووفيات الأعيان 3/ 278، منسوب إليه. (¬3) رواه في تاريخ بغداد 2/ 410 عن الربيع بن سليمان. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): وقال أبو سعيد المكي. (¬5) الأبيات في تاريخ دمشق 60/ 518 ضمن قصة رواها إبراهيم بن خالد الكلبي، وهي في محاضرات اليوسي ص 196 كما هنا، وأورد البيتين الأول والثاني ابنُ عبد ربّه في العقد الفريد 3/ 205 ونسبهما للبحتري.

يا لهفَ نفسي على مالٍ أُفرِّقه ... على المقلِّين من أهل المروءاتِ إنَّ اعتذاري إلى مَن جاء يسألني ... ما ليس عندي لَمِن إحدى المصيبات (¬1) [ذِكر قصَّته مع الشيخ التَّيمي: حكى الحافظ ابنُ عساكرٍ في تاريخه (¬2) عن] الربيع بنِ سليمان، عن الشافعيِّ قال (¬3): ذهبتُ إلى صنعاءِ اليمن لأسمعَ على عبد الرزاق، فمررتُ بباب دار، وإذا بشيخٍ كبير جالسٍ على الباب يدقُّ خبزًا يابسًا في هاوَن (¬4)، فقلت له: ما تصنع؟ قال: أدقُّ قُوتًا لزوجتي، فقلت: إنَّ حقَّها عليك لَواجب، فقال: إي وأبيك، أَقِم عندي ترَ العجب. قال: وإذا بخمسة مشايخَ بيضِ الرؤوس واللِّحى في صورةٍ واحدة، كأنَّما مسح على رؤوسهم بيدٍ واحدة، وقد أقبلوا فقبَّلوا رأسَ الشيخ وسلَّموا عليه، فقال: اُدخلوا فسلِّموا على أمِّكم، فدخلوا الدار، فقلت: هؤلاء أَولادُك منها؟ قال: نعم، فقلت: بارك اللهُ لك، فلقد رأيتَ قرَّة عين، ثم نهضتُ لأقوم، فقال: أَقم ترَ العجب، فلم يكن بأسرعَ من أن أقبل خمسةُ كهولٍ على صورةٍ واحدة [كأنَّما مسح على رؤوسهم بيدٍ واحدة] (¬5) فسلَّموا عليه وقبَّلوا رأسَّه، فقال: اُدخلوا فسلِّموا على أمِّكم، فدخلوا، ثم أقبل خمسةُ رجالٍ سودُ الرؤوس واللِّحى، ففعلوا كذلك، ثم أقبل خمسةٌ مُرْدٌ خُضرُ الشوارب، ففعلوا كذلك، ثم أقبل خمسة صغارٌ على صدورهم المِداد، ففعلوا كذلك. قال [الربيع بنُ سليمان: ] (¬6) فهؤلاء خمسةٌ وعشرون ذَكَرًا، ولولا أن الشافعيَّ أخبرنا بهذا ما قبلناه [وصدقناه]. وفي [غير] رواية [ابنِ عساكر] أنَّ الشيخَ أرى الشافعيَّ خمسة في المهود [فصاروا ¬

_ (¬1) البيتان في تاريخ دمشق 60/ 526، وطبقات الشافعية 1/ 301. (¬2) 2/ 95 (مخطوط) ترجمة إسحاق بن يعقوب الكفرسوسي. (¬3) في (خ): وقال الربيع بن سليمان: قال الشافعي. (¬4) الهاون والهاوُون: الذي يُدق فيه الدواء وغيره، فارسيته: هاون. معجم الألفاظ الفارسية المعرَّبة ص 159، وينظر المصباح المنير (هون)، والمعرَّب للجواليقي ص 394. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو موافق لما في تاريخ دمشق. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، ووقع في هذا الموضع اضطراب في (خ)، فأثبت ما في (ب).

ثلاثين ذَكَرًا [وقال [الشافعي، : وَلَدت كلَّ خمسةٍ في بطنٍ واحد. قال المصنِّف رحمه الله: [وبهذه الواقعةِ أخذ الشافعيُّ] في مسألة الحمل، وهو إذا مات رجلٌ وامرأتُه [حامل] يوقَف أمرُ الحاملِ حتى تضع؛ فإنَّه يجوز أن تلدَ أكثرَ من أربعة (¬1). [واختلفت الفقهاءُ في المسألة: فقال أبو حنيفةَ: ومَن مات وترك حملًا وُقف مالُه حتى تضعَ امرأتُه، على رواية القُدُوري (¬2). وروى ابنُ المبارك عن أبي حنيفةَ أنَّه يوقَف للحمل ميراثُ أربعِ بنين؛ لأنه يُتصوَّر، ولأنَّ أربعةً في بطن واحدٍ يُوقِف نصيبَ أربعة، وبه قال ابنُ المبارك وشريكُ بن عبد اللهِ النَّخَعي (¬3) ومالك، وقال شريك: رأيتُ بالكوفة امرأةً وَلَدت أربعةً في بطن واحد. وروى هشامٌ عن أبي يوسفَ ومحمدٍ أنَّه يوقف للحمل ميراثُ اثنين؛ لأنَّه هو المعتادُ غالبًا. وذكر الخصَّاف عن أبي يوسفَ أنَّه يوقَف ميراثُ واحد، قال: وعليه الفتوى؛ لأنَّه المعتادُ، إلَّا أنه يؤخذ من الورثة ضمين؛ لأنَّها ربَّما تلد أكثرَ من ذلك. وذكر العالِمُ في "المختلف" (¬4) هذه المسألة، فذكر أنَّه يوقف ميراثُ أربعِ بنينَ عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسفَ ميراثُ واحد، وعند محمد بنِ الحسن نصيبُ اثنين، وهذا كلُّه إذا طلب الورثةُ القسمة، فإن لم يطلبوه، فيجب التوقُّف حتى تضعَ الحمل؛ لتقعَ القِسمةُ على اليقين، فلو مات الرجلُ وترك امرأةً حاملًا وابنًا، فعلى رواية ابن المبارك عند أبي حنيفةَ يُدفع إلى الابن خُمسُ المال، ويُجعل كأنَّ الحملَ أربعُ بنين [وعلى رواية هشام] (¬5) يُدفع إلى الابن ثُلثُ المال، ويُجعل كأنَّ الحملَ اثنان، وعلى رواية الخصَّاف يُدفع للابن نصفُ [المال]، ويُجعل كأنَّ الحمل ابن واحد. وتمامُه في الفرائض. ¬

_ (¬1) وفي المسألة خلاف عند الشافعية، راجعه في كتبهم. وما سيأتي بين حاصرتين من (ب). (¬2) في الكتاب (اللباب شرح الكتاب 3/ 242). (¬3) في (ب): والنخعي. وهو نفسه شريك. (¬4) مختلف الرواية؛ للشيخ علاء الدين محمد بن عبد الحميد المعروف بالعلاء العالم، المتوفى سنة (552 هـ). كشف الظنون 2/ 1636. (¬5) وقع في (ب) هنا خلل واضطراب، قوّمته من المبسوط 30/ 52، وما بين حاصرتين منه.

خروجه إلى مصرَ المرَّة الثانية: قد ذكرنا أنَّه قدم بغدادَ وخرج عنها إلى مصرَ واليمن، ثم قدم بغدادَ ثم خرج. وقال الحافظ ابنُ عساكر: سببُ خروجه إلى مصرَ ما رواه الحافظُ عبد الرحمن بنُ أبي حاتمٍ عن الشافعيِّ قال: كنت مع محمد بنِ الحسن بالرقَّة، فمرضتُ، فعادني [العوّاد] فلمَّا انتبهت (¬1) أخذتُ كتابًا لمالك بنِ أنس، فنظرتُ في صلاة الكسوف، ثم خرجتُ إلى المسجد وإذا بمحمد بنِ الحسن جالس، فجلست إليه، وكان محمدٌ حديدًا قَلِقًا فقلت: جئتك لأُناظرَك في صلاة الكسوف، فقال له: قد عرفتَ قولَنا فيه، فقلت له: على ألا تقلقَ ولا تحتدَّ، واجتمع الناسُ علينا، فقلت: هذا هشامُ بن عروةَ عن أبيه عن عائشة، وزيدُ بن أسلمَ عن عطاء بنِ يسارٍ عن ابن عباس، فقال: هل زدتَني على أن جئتني بصبيٍّ وامرأة، فقلت: لو غيرُكْ قال هذا، فقصت مغضَبًا وقلت لغلامي: اشدُدْ رواحلَك، وأجعل الليلَ لنا جَمَلًا. قال: وخرجتُ إلى مصر. قلت: كذا حكى ابنُ عساكر، ولم يبيِّن معنى الكلام، وأما حكايتُه عن محمد: جئتَني بصبيٍّ وامرأة، فمن تحريف الرُّواة، لأنَّ محمدًا رحمه اللهُ كان يعظِّم الصحابة، خصوصًا عائشةَ - رضي الله عنها -. وقال ابنُ عساكر: وهذه الروايةُ تدل على أن الشافعيَّ دخل مصرَ مرَّتين: مرةً من الشام، ومرةً من اليمن ومكَّة] (¬2). ذِكر مصنَّفاته: ومصنَّفاته كثيرة، منها: الأُمّ، وكتابُه في الفروع، رواه عنه الزَّعفراني في نيِّف وعشرين جزءًا. وقال [أبو محمد الحسنُ بن إبراهيم] ابنِ زُولاق المصريُّ: صنَّف [الشافعيُّ] (¬3) بمصرَ نحوًا من مئتي جزء، ومنها الأمالي الكبيرُ ثلاثون جزءًا، والأمالي الصغيرُ أثنا عشرَ جزءًا، وكتاب السُّنن ثلاثون جزءًا، وغيرُ ذلك. ذكر مرضه ووفاتِه - رضي الله عنه -: [حكى أبو نُعيم عن] الرَّبيع بنِ سليمان قال (¬4): كان بالشافعي عِلَّةُ البواسير، ولا ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 60/ 387: نقهت. (¬2) لم يذكر ابن عساكر اليمن. وهذه الفقرة كلها ليست في (خ). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): قال الربيع بن سليمان.

يبرح الطَّست تحته، وفيه لِبْدة محشوَّة، وما لقي أحدٌ من السُّقم ما لقي. [وقال أبو نُعيم: حدَّثنا محمدُ بن إبراهيم (¬1) قال: سمعت محمدَ بن عبدِ الرحيم يحكي عن] المُزَني قال (¬2): دخلتُ على الشافعيِّ في عِلَّته التي مات فيها، فقلت له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحتُ من الدنيا راحلًا، ولإخواني مفارقًا، ولكأس المنيَّة [ذائقًا أو] شاربًا، ولسوء أعمالي ملاقيًا، وعلى اللهِ واردًا، فلا أدري رُوحي تصير إلى الجنَّة فأهنِّيها، أم إلى النَّار فأعزِّيها، ثم بكى وقال: [من الطويل] ولمَّا قسا قلبي وضاقَتْ مذاهبي ... جعلتُ رجائي نحو عفوك سُلَّما تعاظَمَني ذنبي فلمَّا قرنتُه ... بعفوك ربِّي كان عفوُك أعظما وما زلتَ ذا عفوٍ عن الذَّنْب لم تزل ... تجود وتعفو مِنَّةً وتكرُّما [وقد تقدَّمت الأبياتُ في ترجمة أبي نُواس] (¬3). وقال البخاريّ: توفِّي الشافعيُّ ليلةَ الجمعةِ أو ليلةَ الخميس بمصرَ في آخر يومٍ من رجبٍ سنةَ أربعٍ ومئتين (¬4). قال الربيع: لمَّا دفنَّاه رأينا هلال شعبان. وعاش أربعًا وخمسين سنة. أسند عن إبراهيمَ بن سعد، ومالكِ بن أنس، وعليه تفقَّه، وأقوالُه القديمة مذهبُ مالك، وأَسند عن سفيانَ بنِ عُيينة [وعبدِ العزيز بن محمد الدَّراورديِّ، وعبدِ العزيز المكِّي، ومسلم بن خالد الزَّنجي، وعمِّه محمدِ بن علي بن شافع، وإسماعيلِ بن عُلَيَّة] وخلقٍ كثير. وروى عنه الإمامُ أحمد بنُ حنبل، وأبو ثور -و [اسمُه] (¬5) إبراهيم بنُ خالد- و [الحسنُ بن محمدٍ الزعفراني، وأبو عُبيد] القاسمُ بن سلَّام [والحسين بنُ عليٍّ ¬

_ (¬1) هنا كلمة غير مقروءة في (ب)، واستدركت من المنتظم 10/ 138. (¬2) في (خ): وقال المزني. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في التاريخ الكبير 2/ 42: محمد بن إدريس أبو عبد الله الشافعي القرشي. سكن مصر، مات سنة أربع ومئتين، سمع مالك بن أنس، حجازي. اهـ. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

الكرابيسي، وأبو إبراهيمَ إسماعيلُ بن يحيى المُزَني، والرَّبيع بنُ سليمانَ الجِيزي (¬1)، وأبو يعقوبَ يوسفُ بن يحيى البُوَيطي، وإبراهيمُ بن المنذر الحِزامي، ويونُسُ بن عبدِ الأعلى، وعبد الله بن الزبير الحُمَيدي] في آخَرين. [قلت: ] ولم يُخرج عنه البخاريُّ ولا مسلم، ولا أبو داودَ ولا التِّرمذي ولا أربابُ السُّنن المشهورة، ولعلهم وقع لهم أعلى روايةً منه (¬2). و[روى الخطيبُ عن الشافعيِّ أنه] (¬3) قال: إذا رويتُ لكم حديثًا صحيحًا عن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولم آخذْ به، فاعلموا أنَّ عقلي قد زال، ومتى قلتُ قولًا وخالفه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنا أوَّلُ راجعٍ إلى الحديث، واضربوا بقولي عُرضَ الحائط. [قلت: وقد أخذ جماعة من أصحابه بقوله في هذا المعنى، منهم الماورديُّ صاحب "الحاوي"، وغيرُه]. ذِكر ثناءِ العلماءِ عليه: [حكى أبو نُعيمٍ (¬4) عن] إسحاقَ بنِ راهُويَه قال (¬5): كنت مع أحمدَ بنِ حنبل بمكَّة، فقال لي: تعال أُريك رجلًا لم ترَ عيناك مثلَه، فأراني الشافعيّ. [وقال عبدُ الله بن أحمدَ بنِ حنبل: قال لي أبي: ستَّةٌ أدعو لهم عند السَّحَر -أو في السَّحر- منهم الشافعي. وحكى الخطيب (¬6) عن] عبدِ الله بنِ الإمام أحمدَ رحمهما الله قال (¬7): قلت لأبي: يا أَبَة، أيَّ رجل كان الشافعي؟ فقال: كالشَّمس للدنيا والعافيةِ للناس، فانظر هل لأحدٍ من هذين خَلَفٌ أَو عِوَض. وقال [عبد الله بن أحمد]: قال أبي: إنِّي لأَدعو للشافعيِّ في ¬

_ (¬1) وهو غير الربيع بن سليمان المرادي راويته الشهير. (¬2) في هذا نظر، فقد روى له أبو داود والترمذي وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد. انظر تهذيب الكمال، وتقريب التهذيب، والسير 10/ 96، وغير ذلك. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في الحلية 9/ 97. (¬5) في (خ): قال إسحاق بن راهويه. (¬6) في تاريخه 2/ 406. وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) في (خ): وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى.

السَّحَر منذ أربعين سنة. وحكى البيهقيُّ عن عبد اللهِ بن أحمدَ [عن أبيه] (¬1) قال: قال لي الشافعيّ: يا أبا عبدِ الله، أنتم أعلمُ بالأخبار منَّا، فإذا كان خبرٌ صحيح، فأخبِرني به حتى أذهبَ إليه. قال البيهقيّ: إنَّما أراد الشافعيُّ أحاديثَ أهلِ العراق، أما أحاديثُ أهلِ الحجاز، فالشافعيُّ أعرفُ بها من غيره؛ لأنَّها بلدُه ومنشؤه. [وقال عبدُ الله بن أحمدَ بنِ حنبل: قال أبي: ] (¬2) قد روى أبو هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "يبعث اللهُ لهذه الأمَّةِ على رأس كلِّ مئةِ سنةٍ مَن يجدِّد لها دينَها" (¬3). قال أحمد: فنظرنا في رأس المئةِ الأول، فإذا هو عمرُ بن عبدِ العزيز، ونظرنا في الثانية فإذا هو الشافعيّ. [وروى الخطيبُ بإسناده عن] الرَّبيع قال (¬4): كنَّا جلوسًا في حَلْقة الشافعيِّ بعد موته بيسير، فوقف علينا أَعرابيّ، فسلَّم علينا وقال: أين قمرُ هذه الحلقةِ وشمسُها؟ قلنا: توفِّي. فبكى بكاءً شديدًا وقال: رحمه اللهُ وغفر له، فلقد كان يفتح ببيانه مُغْلَقَ الحجَّة، ويسدُّ على خصمه واضحَ المحجَّة، ويغسل من العارِ وجوهًا مسودَّة، ويوسع بالرأي أبوابًا منسدَّة. ثم انصرف. [وذكر الخطيبُ (¬5) عن] الرَّبيع بنِ سليمانَ قال (¬6): رأيتُ الشافعيَّ بعد موتِه في المنام، فقلت: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: أَجلسني على كرسيٍّ من ذهب، ونثر عليَّ اللؤلؤَ الرَّطب. وقال الخطيب (¬7): كان للشافعيِّ ولدٌ اسمه محمدُ بن محمدِ الشافعي، وكُنْيته أبو عثمان، سمع أباه وسفيانَ بن عُيينة، [قال الخطيب: ] وذَكَرَ لي الحسنُ بن أبي طالبٍ أنَّه ولي القضاءَ ببغداد، وليس بصحيح، وإنَّما ولي القضاءَ بالجزيرة وأعمالِها. وهو ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في (خ): وقال الإمام أحمد. (¬3) أخرجه أبو داود (4291). (¬4) في (خ): وقال الربيع. (¬5) في تاريخه 2/ 411. (¬6) في (خ): وقال الربيع بن سليمان. (¬7) في تاريخه 4/ 323. وما بين حاصرتين من (ب).

الذي قال له الإمامُ أحمد بنُ حنبل: أبوك من الستَّة الذين أدعو لهم وقتَ السَّحر. [قال: ] (¬1) وكان الإمامُ أحمد إذا سئل عن مسألةٍ يقول لمحمد: هذا ممَّا علَّمنا أبو عبدِ الله. يعني الشافعيِّ رحمه الله. [قال الخطيب] ولمحمَّد بن [إدريس] (¬2) الشافعيِّ ولدٌ [آخَر] اسمُه محمد أيضًا، [وهذا ذكره أبو سعيد بنُ يونسَ في "تاريخ مصرَ" وقال: ] (¬3) قدم مصر مع أبيه وهو صغير، فتوفِّي [بعد] (¬4) سنة أربعين ومئتين. قال المصنِّف رحمه الله: سمعت جدِّي رحمه اللهُ يُنشد في مجالس وعظِه: [من الخفيف] مَن أراد الهُدى بقول ابنِ إدريـ ... ـسَ هداهُ وأين كالشَّافعي وشفاءُ العَيِّ السؤالُ وأنَّى ... بإمامٍ سواه كشَّاف عِيّ (¬5) [فصل: وفي الرُّواة جماعةٌ كلُّ واحدٍ منهم اسمُه محمد بنُ إدريس، منهم: محمدُ بن إدريس بنِ إبراهيمَ الأصفهاني، وكُنْيته أبو الحسن (¬6). والثاني: محمدُ بن إدريس بنِ المنذر، أبو حاتمٍ الرازي. توفّي سنةَ سبعٍ وسبعين ومئتين (¬7). والثالث: محمدُ بن إدريس أبو بكرٍ الشعراني، حدَّث عن أبي نصرٍ التمَّار (¬8) وغيرِه. ¬

_ (¬1) في تاريخه 4/ 325. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد. وهذا تاريخ وفاة أبي عثمان الذي ذكره أولًا، وأما محمد الآخر فتوفي سنة (231 هـ)، كما في تاريخ بغداد 4/ 325. (¬5) وأوردهما عنه أيضًا الصفدي في الوافي بالوفيات 2/ 180. (¬6) ترجمته في تاريخ ابن عساكر 60/ 382. (¬7) ترجمته في السير 13/ 247. (¬8) في (ب): النزار، والمثبت من تاريخ بغداد 2/ 422، وقد ترجم له ولمحمد بن إدريس بن المنذر، ولمحمد بن =

محمد بن عبيد

والرابع: محمدُ بن إدريس بنِ الحجَّاج الأنطاكي، قدم دمشقَ وحدَّث بها عن المسيَّب بنِ واضح وغيرِه، وروى عنه ابنُ أبي العقب وغيرُه. والخامس: محمدُ بن إدريس الصُّوري، حدَّث عن هشام بنِ عمار، وحدَّث عنه أبو طالبٍ محمدُ بن زكريا المقدسي. والسادس: محمدُ بن إدريس، أبو بكرٍ الحافظ، سمع بدمشقَ محمدَ بن أحمد الجلَّاب، وروى عنه عبدُ الصمد بن أبي صالحٍ البخاري. انتهت ترجمةُ محمدِ بن إدريس الشافعيّ. فصل وفيها توفي] (¬1) محمدُ بن عُبيد ابن أبي أميةَ عبدِ الرحمن، أبو عبدِ الله الطَّنافسي الإياديُّ الكوفي. من الطبقة السابعةِ من أهل الكوفة، ولد سنةَ سبعٍ وعشرين ومئة، وكان قد نزل بغداد، ثم رجع إلى الكوفة، فمات بها في هذه السَّنة، وقيل: تأخَّرت وفاتُه إلى سنة تسعٍ ومئتين (¬2). وكان ثقةً عُثمانيًّا (¬3) أسند عن هشام بنِ عروةَ [ومحمدِ بن إسحاقَ والأعمش] وغيرهِم (¬4). ¬

_ = إدريس بن وهب الأعور، وهذا الأخير لم يذكره المصنف هنا، وقد ترجم ابن عساكر في تاريخه 60/ 382 - 383، 61/ 1 - 14 لهؤلاء الذين ذكرهم المصنف عدا محمد بن إدريس أبا بكر الشعراني. (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) الذي توفي سنة (209 هـ) أخوه يعلى بن عبيد، أما المترجم فقد اختلف في وفاته، فقيل: (203)، وقيل: (204)، وقيل: (205 هـ). انظر طبقات ابن سعد 8/ 520، وتاريخ خليفة ص 472، والتاريخ الكبير 1/ 173، وتاريخ بغداد 3/ 643، وتهذيب الكمال، والسير 9/ 436 - 438. (¬3) في (خ): عمانيًّا، وفي (ب): وكان صاحب سنة وجماعة. والمثبت من المصادر، ومعنى عثمانيًّا: تقديم عثمان على علي - رضي الله عنه -، وهو معنى كونه صاحب سنة وجماعة، وإنما ذكر ذلك لأنه كوفي، والغالب على أهل الكوفة تقديم علي - رضي الله عنه -. انظر السير. (¬4) في (خ): أسند عن هشام بن عروة وغيره.

هشام بن محمد

[وحكى الخطيبُ عن الدارَقُطنيِّ قال: يَعلى ومحمدٌ وعمرُ وإدريس وإبراهيم (¬1) بنو عُبيد كلُّهم ثقات، وأبوهم ثقة]. ومن شعره: [من مجزوء الكامل] أَقلِلْ زيارتَك الصَّديـ ... ـقَ يراك كالثَّوب استجدَّهْ إنَّ الصديق يُمِلُّهُ ... ألا يزال يراك عندهْ (¬2) [وفيها توفي] هشامُ بن محمد ابن السائب بن بِشر بن عَمرو بن الحارث بن عبد الحارث بن عبد العُزَّى بن امرئ القيس بن عامر بن النُّعمان بن عامر بن عبد وُدِّ بن كِنانةَ بن عوف بن عُذْرة بن زيد اللات بن رُفَيدة (¬3) بن ثَور بن كَلْب [، الكلبيُّ الكوفي، صاحبُ التفسير (¬4) والنَّسب والمغازي وأيامِ العرب. وقال الجوهري: ] (¬5) كلبٌ: حيٌّ من قُضاعة [وروى الخطيبُ عن محمد بنِ أَبي السَّري (¬6)، قال [لي] هشام: حفظتُ ما لم يحفظْه أحد، ونسيتُ ما لم ينسه أحد، كان لي عمٌّ يعاتبني على حِفظ القرآن، فدخلتُ بيتًا وحلفت ألا أَخرجَ منه حتى أحفظَ القرآن، فحفظتُه في ثلاثة أيام، ونظرت يومًا في المرآة، فقبضتُ على لحيتي لآخذَ ما دون القبضةِ فأخذت ما فوقَها (¬7). ¬

_ (¬1) في (ب): وغيرهم، والمثبت من تاريخ بغداد 3/ 638. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 640، وعيون الأخبار 3/ 27، وروضة العقلاء ص 117، ودلائل الإعجاز ص 498، ولم يرد البيتان في (ب). (¬3) في (خ): زفيرة، والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 69. (¬4) صاحب التفسير أبوه محمد بن السائب، ينظر السير 10/ 102. (¬5) في الصحاح (كلب)، وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (ب): السير، والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 69. وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) قال الذهبي في السير 10/ 102: اتُّهم في قوله هذا.

قال الخطيب: وكان مع فضله فيه غفلة (¬1). و[اختلفوا في وفاته، فقيل: ] (¬2) توفِّي في هذه السَّنة. وقيل: سنةَ ستٍّ ومئتين. حدَّث [هشام] عن أبيه فأَكثرَ [ومعظمُ رواياته عنه] وحدَّث أيضًا عن جماعة، وروى عنه ابنُه العباس، [وخليفةُ بن خيَّاط ومحمدُ بن سعد كاتبُ الواقديِّ وغيرُهم]. وقد تكلَّموا فيه، وقال الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه: ليس هشامُ [بن محمد الكلبي] مَن يحدَّث عنه، إنَّما هو صاحبُ سَمَر ونَسَب، وما ظننت أنَّ أحدًا يحدِّث عنه. [قلت: ] قد حدَّث عنه جماعة من الأئمة [فأكثروا، وإنَّما كان الغالبَ عليه الأسماءُ والأنساب. وفي الرُّواة رجلٌ آخَرُ اسمُه هشام بن محمدِ بن أحمد، أبو محمد التَّيمُلي (¬3)، كوفيٌّ أيضًا. قدم بغدادَ وتوفي بها سنةَ اثنتين وثلاثين وأربعِ مئة. تكلَّموا فيه لأنَّه روى عن عمَّار بنِ ياسرٍ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ حافظَي عليِّ بنِ أبي طالبٍ لَيفخرانِ على سائر الحَفَظة؛ لكونهما مع عليّ، ولم يَصْعدَا لله بعملٍ يُسخطه" (¬4) فلمَّا روى هذا الحديثَ أنكروا عليه]. * * * ¬

_ (¬1) لم نقف على هذا الكلام للخطيب، ولم نقف على من ذكر المترجم بتعديل. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب): البنكي، وهو تحريف. وهو في بعض المصادر: التيمي، وفي بعضها: التميمي. انظر تاريخ بغداد 16/ 73، والأنساب 3/ 114 - 115، والموضوعات 2/ 495، والميزان 4/ 305، والمغني 2/ 712، ولسان الميزان 8/ 339، وتنزيه الشريعة 1/ 123. (¬4) أخرجه الخطيب في تاريخه، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الخطيب: هو حديث لا أصل له.

السنة الخامسة بعد المئتين

السَّنة الخامسةُ بعد المئتين فيها ولَّى المأمونُ طاهرَ بن الحسينِ من مدينة السلامِ إلى أقصى عملِ المشرق، خُراسانَ وغيرِها، وكان إليه قبل ذلك الجزيرةُ وشُرطةُ المأمونِ وجانبا بغدادَ والسَّواد (¬1). وسببُ توليتِه ما حكاه بِشرٌ المَرِيسيُّ قال: حضرتُ عند المأمونِ أنا وثُمامةُ ومحمدُ بن أبي العباسِ وعليُّ بن الهيثم، فتناظروا في التشيُّع، فنصر محمدٌ الإمامِيَّة، ونصر عليٌّ الزَّيدية، وجرى الكلامُ بينهما إلى أن قال محمدٌ لعلي: يا نَبَطي، ما أنت والكلامُ في هذا! وكان المأمون متَّكئًا، فجلس وقال: الشَّتم عِيّ، والبذاءُ لؤم، وإنَّا قد أبحنا الكلام، وأظهرنا المقالات، فمَن قال الحقَّ حمدناه، ومَن جهله وقفناه، ومَن جهل الأمرَين حكمنا فيه بما يجب، فاجعلا بينكما أصولًا وفروعًا. فناظره محمدٌ فعاد إلى مقالته الأولى، قال له عليّ: واللهِ لولا جلالةُ مجلسِ أميرِ المؤمنين وما وهب اللهُ له من الرَّأفة، ولولا ما نهى عنه لأَعرقتُ جبينَك، وبحسبك من جهلك غسلُ منبر رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة (¬2). فقال المأمون: وما غسلُ المنبر! ألتقصيرٍ منِّي في أمرك، أو التقصيرُ من المنصور في أمر بيتِك (¬3)؟ ولولا أنَّ الخليفةَ إذا وهب شيئًا استحى أن يرجعَ فيه، لَكان أقربَ شيءٍ بيني وبينك [إلى] الأرض [رأسُك] قُمْ وإياك أن تعود. فخرج ومضى إلى طاهر، وكان زوجَ أخته، فأخبره، فركب طاهرٌ إلى دار المأمون، فلمَّا دخل عليه قال: اجلس، فجلس، فقال له: يا أميرَ المؤمنين، ليس لصاحب الشُّرطةِ أن يجلسَ بين يدي سيِّده، فقال له المأمون: ذاك في مجلس العامَّة، وأمَّا مجلسُ الخاصَّة فلا، وكان المأمونُ على حال، ثم بكى وتغرغرت عيناه بالدُّموع، فقال ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 577، والكامل 6/ 360: ومعاون السواد. (¬2) في (خ): لا عرفت جبينك من عقلك غسل منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. والتصويب من تاريخ الطبري 8/ 577. (¬3) كذا في (خ)، ولم يرد الخبر في (ب)، والذي في تاريخ الطبري: أمر أبيك. وكذا وردت في تجارب الأمم لمسكويه، أحداث سنة (205 هـ).

له طاهر: لم تَبكِ؟ لا أبكى اللهُ لك عينًا، واللهِ لقد دانت لك البلاد، وأَذعنَ لك العباد، وصرتَ إلى ما تحبُّ في كلِّ أمرك، فقال: أبكي لأمرٍ ذِكرُه ذُلّ، وسَتره الحزن، ولن يخلو أحدٌ من شجو، فتكلَّم بحاجةٍ إن كان لك، فقال: يا أميرَ المؤمنين، محمدُ بن أبي العباسِ أخطأ، فأَقِلْه عَثْرَته وارضَ عنه، فقال: قد رضيتُ عنه وأمرتُ بصلته ورددتُه إلى مرتبته، ولو كان من أهل الأُنس لأحضرتُه. وانصرف طاهر. وكان حسينٌ الخادمُ صاحبَ شراب المأمون، فأرسل إليه طاهرٌ مئتي ألف درهم، وإلى كاتبه محمدِ بن هارونَ مئةَ ألفَ درهم، وقال: سَلِ المأمونَ لمَ بكى لمَّا دخلتُ عليه. فلما تغدَّى المأمونُ قال للحسين: اسقني، قال: لا أفعلُ حتى تُخبرَني لمَ بكيتَ لمَّا دخل طاهر، فقال له: ما لك ولهذا! قال: غممتني بذلك، فقال: واللهِ لئن خرج من رأسك لأَقتلنَّك، فقال: يا سيِّدي، ومتى أذعتُ لك سرًّا! فقال المأمون: لمَّا دخل طاهرٌ ذكرتُ ما نال أخي محمدًا من الذُّلِّ والهوان، فخنقتني العَبرة، ولن يفوتَ طاهرًا منِّي ما يكره. فأخبر حسينٌ طاهرًا، فاجتمع طاهرٌ بأحمدَ بنِ أبي خالدٍ كاتب المأمون فقال له: إنَّ المعروفَ عندي ليس بضائع، والثناءَ مني ليس برخيص، فغيِّبْني عن عينه، فقال: سأفعل. فأَصبح ابنُ أبي خالدٍ إلى المأمون فقال له: ما نمتُ البارحة، قال: ولم؟ قال: ولَّيتَ غسانَ بن عبادٍ (¬1) خُراسان، و [هو و] (¬2) مَنْ معه أَكَلةُ رأس، وأخاف أن تخرجَ عليه خارجةٌ من التُّرك فتصطلمَه (¬3) ومَن معه، قال: لمن ترى بخُراسان؟ قال: طاهر، فقال: ويحك، إنَّه واللهِ خالع، وفي رأسه غَدرة. فقال: أنا ضامنٌ له، فقال: ولِّه، فولاه، وبعث طاهر إلى ابن أبي خالدٍ بمئة ألف دينار (¬4)، وسار إلى خُراسانَ من بغدادَ يومَ الجمعةِ لليلةٍ بقيت من ذي القَعدة. وغسانُ بن عباب (¬5) هو ابن عمِّ الفضلِ بن سهل. ¬

_ (¬1) في (خ): بن أبي خالد، وهو خطأ، والمثبت من المصادر. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 579. (¬3) في (خ): فيستطلمه، والمثبت من تاريخ الطبري، وتحرفت في المنتظم 10/ 142 إلى: فتصطلحه. وفي الكامل 6/ 361: فتهلكه. (¬4) في تاريخ الطبري 8/ 579: فحمل إليه في كل يوم ما أقام فيه مئة ألف، فأقام شهرًا، فحمل إليه عشرة آلاف ألف التي تحمل إلى صاحب خراسان. (¬5) في (خ): وغسان بن أبي خالد. وهو خطأ.

بشر بن بكر

وفيها قدم عبدُ الله بنُ طاهرٍ بغدادَ منصرفًا من الرقَّة، وكان أبوه قد استخلفه عليها لقتال نصر بن شَبَث، وكان طاهرٌ يكره قتاله لحقارته، وكان الحسنُ بن سهلٍ لمَّا قدم بغدادَ جهَّز طاهرًا لقتال نصر، فقال طاهر: حاربتُ خليفةً وسُقت الخلافةَ إلى خليفةٍ وأُومَر بمثل هذا! وإنَّما كان ينبغي أن يوجِّهَ إليه قائدًا من قوَّادي، وصارم طاهرٌ الحسنَ على هذا، فلمَّا ولي خُراسانَ قيل له: تخرج إليها وأنت مصارم الحسن؟ ! فقال: ما كنت لأَحُلَّ عقدةً عقدها الحسنُ لي في مصارمته. وفيها ولَّى المأمونُ عيسى [بنَ محمد] (¬1) بنِ أبي خالدٍ إرمينيةَ وأَذْرَبِيجانَ ومحاربةَ بابك (¬2). وفيها مات داودُ بن يزيدَ عاملُ السِّند، فولَّاها المأمونُ بِشرَ بن داودَ على أن يحملَ إليه في كلِّ سنةٍ ألفَ ألفِ درهم (¬3). وحجَّ بالناس عُبيد اللهِ بنُ الحسن، وهو والي الحرمين. وفيها توفِّي بشرُ بن بكرٍ الدمشقيُّ بدمياط. ولد سنةَ أربعٍ وعشرين ومئة [وكان أكثرُ مُقامه] (¬4) بتنيِّس ودِمياط، وتوفِّي بدمياط مرابطًا مجاهدًا، وكان صالحًا فاضلًا. أسند عن الأوزاعيِّ وغيره، وروى عنه الشافعيُّ، وعبدُ الله بنُ وهب، وهما أقدمُ [وفاةً] (¬5) منه. وكان ثقة. [فصل] وفيها توفِّي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬2) من قوله وسبب توليته. . . إلى هنا لم يرد في (ب). (¬3) في (خ): ستة آلاف ألف درهم، والمثبت من (ب) وهو الموافق للمصادر. (¬4) ما بين حاصرتين من المصادر. انظر تاريخ دمشق 3/ 309 (مخطوط)، وتهذيب الكمال، والسير 9/ 508. والترجمة كلها ليست في (خ). (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق.

أبو سليمان الداراني

أبو سليمان الدَّاراني [واسمهُ] (¬1) عبدُ الرحمن [واختلفوا في اسم أبيه، والمشهورُ أنه عبدُ الرحمن] بنُ أحمدَ بنِ عطية [وقيل: عبدُ الرحمن بن عطية]، وقيل: عبدُ الرحمن بنُ عسكرٍ العَنْسي. ويقال: أصلُه من واسط، وانتقل إلى الشام فنزل دارَيَّا، قرية غربيَّ دمشقَ معروفة. وهو من الطبقة السادسة من أهل الشام، [وكان] كبيرَ الشأنِ في علوم الحقائقِ والورع، وأثنى عليه الأئمَّة [فقال أبو عبدِ الرحمن السُّلَمي: ] (¬2) كان له الكلامُ المتين والأحوالُ السَّنية والرِّياضاتُ والسِّياحات [وهو أستاذُ أحمدَ بن أبي الحواري. وقال الخطيب (¬3): كان أبو سليمانَ أحدَ] عبادِ الله الصالحين (¬4) والزُّهَّاد والمتعبِّدين، ورد بغداد، فأقام بها مدَّة، ثم عاد إلى الشام، فأقام بداريَّا حتى توفِّي بها (¬5). ذِكر طَرَفٍ من أخباره [وما لقي في سياحاته: قال الخطيبُ (¬6) بإسناده إلى إسحاقَ بنِ إبراهيمَ بنِ أبي حسَّان الأنماطيِّ قال: حدَّثنا أحمدُ بن أبي الحَوَاري قال: سمعت أبا سليمانَ يقول: ] سمعتُ [أبا جعفر] المنصورَ (¬7) يبكي في خُطبته يومَ الجمعة، فغضبتُ، فقلت: أقوم فأَعظه بما أعرف من فعله، فتفكَّرت أن أقومَ إلى خليفةٍ فأعظَه والناسُ جلوسٌ يرمقوني بأبصارهم فيعرضَ لي تزيُّن (¬8)، فيأمرَ بي فأُقتلَ على غير تصحيح، فسكتُّ. وقال: لولا الليلُ ما أحببتُ البقاءَ في الدنيا، واللهِ ما بقائي فيها لشَقِّ الأنهار وغرسِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). ولم نقف على كلامه في طبقاته. (¬3) في تاريخه 11/ 523، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): وهو من عباد الله الصالحين. (¬5) بعدها في (خ): في هذه السنة، وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة خمس وثلاثين، والأول أصح، وقبره ظاهر يزار. اهـ. وسيأتي مفصلًا من (ب) في آخر الترجمة. وقوله هنا: سنة خمسين، لم أجد من ذكره. (¬6) في تاريخه 11/ 524، وينظر صفة الصفوة 4/ 223، وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) في (خ): قال: سمعت المنصور، والمثبت من (ب). (¬8) في تاريخ بغداد وصفة الصفوة: تزنن.

الأشجار. و[وروى أبو نُعيمٍ (¬1) عن أحمدَ بن أبي الحواريِّ قال] قال [أبو سليمان: ] كنتُ في ليلةٍ باردةٍ في المحراب، فخبأت إحدى يديَّ من البود، وبقيمت الأخرى ممدودة (¬2)، فغلبتني عيني، فهتف بي هاتف: قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى مكشوفةً لَوضعنا فيها ما أصاب هذه، فآليت ألا أُخبئَ يدي أبدًا. و[روى أبو نُعيمٍ (¬3) أيضًا عن أحمدَ بنِ أبي الحَوَاري عن أبي سليمانَ] قال: نمتُ ليلةً عن ورِدي، فإذا بحوراءَ تنبِّهني وتقول: أتنام وأنا أُربَّى لك في الخدور منذ خمسِ مئةِ عام! [وقد رواه الإسماعيليُّ، وفيه: بينما أنا ساجدٌ وذهب بي النوم، وإذا بحوراءَ قد ركضتني وقالت: حبيبي، أترقد عيناك والمَلِكُ يقظانُ ينظر إلى المتهجِّدين! بؤسًا لعينٍ آثرتْ نومَة على مناجاةِ العزيز، قُمْ فقد دنا الفراغ، ولقي المحبُّون بعضَهم بعضًا. قال: فانتبهتُ وحلاوةُ منطِقها لَفي سمعي وقلبي (¬4). وروى أبو نُعيمٍ عن] أحمدَ بنِ أبي الحواريِّ قال (¬5): قام أبو سليمانَ ليلةً إلى الوضوء، فأدخل يدَه في الإناء، وبقي على حاله حتى طلع الفجر، وخشيتُ أن تفوتَني الصلاة، فقلت: [رحمك اللهُ] ما هذا! الصلاةَ رحمك الله! فاسترجع وقال: يا أحمد، أدخلتُ يدي في الإِناء، فعارضني عارضٌ من سرِّي: هَبْ أنك غسلتَ بالماء ما ظهر، فبمَ تغسل قلبَك؟ فبقيت مفكِّرًا (¬6). [وحكى أبو نُعيم (¬7) أيضًا عن] أحمدَ بن أبي الحواريِّ قال (¬8): حججتُ مع أبي سليمان، فلمَّا أراد أن يلبِّيَ غُشي عليه، فلمَّا أفاق قلت: ما هذا؟ ! قال: بلغني أنَّ ¬

_ (¬1) في الحلية 9/ 259، وينظر صفة الصفوة 4/ 226 وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) وهذا أثناء الدعاء، كما في الحلية. (¬3) في الحلية 9/ 259. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ينظر صفة الصفوة 4/ 224 - 225. (¬5) في (خ): وقال أحمد بن أبي الحواري. ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) ينظر صفة الصفوة 4/ 226 - 227. (¬7) في الحلية 9/ 263 - 264، وينظر صفة الصفوة 4/ 228. (¬8) في (خ): وقال أحمد بن أبي الحواري.

الرجل إذا حجَّ من غير حلِّه فقال: لبَّيك، قال له الله: لا لبَّيكَ ولا سعدَيك، هذا حجُّك مردودٌ عليك إنْ لم تردَّ ما في يديك، فما الذي يؤمنني أن يقال كذلك. فلمَّا (¬1) دخلنا مكَّة، قيل له: إنَّ هاهنا فتًى متعبِّدًا لا يشرب إلَّا من زمزم، فجاء إليه أبو سليمانَ وقال: يا فتى، بلغني عنك كذا وكذا! قال: نعم، قال: أرأيتَ لو غارت زمزمُ فمن أين كنت تشرب؟ فقام الفتى وقبَّل رأسَ أبي سليمانَ وقال: جزاك اللهُ خيرًا، فلقد أرشدتني، فإنِّي إنَّما كنت أعبد زمزمَ ولا أعلم. [وحكى عنه أحمدُ بن أبي الحَوَاريِّ قال: ] (¬2) بينا أنا في طريق بيتِ المقدس، إذا بامرأةٍ عليها جبَّةُ صوفٍ ورأسُها بين ركبتيها وهي تبكي، فسلَّمت عليها فردَّت، فقلت: ممَّ تبكين؟ قالت: وكيف لا أبكي وأنا أحبُّ لقاءه! قلت: لقاءَ مَن؟ قالت: وهل يحبُّ المحبُّ إلا لقاءَ حبيبه؟ ! فقلت: مَن محبوبُك؟ فصاحت صيحةً عظيمة وقالت: يا فارغَ القلب، وهل ثَمَّ محبوبٌ على الحقيقة إلا علَّامُ الغيوب! ثم بكت وقالت: إنك إذا صفَّيت قلبَك من العيوب، جال في رياض المَلَكوت، فعند ذلك تصل إلى [محبَّة] (¬3) المحبوب، فقلت: فكيف يكون أهلُ المحبَّة في محبَّتهم؟ فقالت: أبدانُهم نحيلة، وألوانهم متغيِّرة، وعيونُهم هاطلة، وقلوبُهم واجفة، وأرواحهم ذائبة، وألسنتهم بذكر محبوبِهم لَهِجة (¬4)، فقلت: من أين هذه الحكمةُ التي تنطقين بها؟ فقالت: إنَّ الحكمة لا تجيءُ بطول العُمر، بل بصفاء الوُدِّ وحسنِ المعاملة، ثم صاحت: آه آه، ودَخَلت بين الجبالِ وهي تقول وقد غابت عنِّي: [من الخفيف] قد كتمتُ الهوى فبُحْنَ (¬5) بسرِّي ... عَبَراتٌ من الجفون تسيلُ كتب الدمعُ فوق خدِّي سطورًا ... كلُّ وجدٍ بمَن هويتَ قليل ¬

_ (¬1) تتمة الحكاية ليست في الحلية، وأوردها ابن خميس في مناقب الأبرار 1/ 226. (¬2) في (خ): وقال أبو سليمان. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو الموافق لما في مناقب الأبرار 1/ 230، وطبقات الأولياء لابن الملقن ص 391. (¬4) في (خ): رطبة، والمثبت من (ب). (¬5) في طبقات الأولياء: فباح.

فاعذِروني إذا بكيتُ (¬1) من الوجـ ... ـد فما لي إلى العزاءِ سبيل إنَّ دمعي لَشاهدٌ لي على الحـ ... ـبِّ دليلٌ بأنَّ حزني طويل [وحكى عنه أحمدُ بن أبي الحواريِّ قال] (¬2): دخلت جبلَ اللُّكَّام، فسمعت صوتَ حزينٍ في ظلام الليلِ يقول: يا أَمَلي ويا مؤمَّلي، ومَن برضاه تمامُ عملي، أعوذ بك من بدنٍ لا ينتصب (¬3) بين يديك، ومن قلبٍ لا يشتاق إليك، ومن عينٍ لا تبكي عليك. فعلمت أنَّه كلامُ عارف، فدنوت منه، وإذا بفتًى تُشرق أنوارُه في ظلمة الليل، فسلَّمت عليه فردَّ، فقلت: إنَّ للعارفين مقامات، وإنَّ للمشتاقين علامات. فقال: ويحك يا دارانيّ! وما هي؟ قلت: كتمانُ المصائب، وصيانةُ الكرامات، فقال: أحسنتَ زدني، فقلت: لا تُرِدْ غيرَه، ولا ترجُ سواه، وإيَّاك والدنيا، واتخذ الفقرَ غنى، والبلاءَ شفاء، والتوكُّلَ عليه معاشًا، والحبيبَ عدَّة. فقال: أحسنت، ثم حُجب عنِّي (¬4). [وقال أحمد: خرجتُ مع أبي سليمانَ إلى بيت المقدس، فبينما نحن بجُبِّ يوسفَ - عليه السلام -، إذا أنا بشابٍّ نحيلِ الجسم كثيرِ الهمّ، فسلَّم على أبي سليمانَ وقال: أنت المذكورُ بالمعرفة، فهل لك أن تكسبَ أجري؟ قال: اسأل، قال: ما علامةُ المريد؟ فقال: إقبالُه على ما يريد وتركُه كل خليطٍ لا يريد، قال: فصاح وغُشي عليه، فرقَّ له أبو سليمانَ وقعد عند رأسِه، فلمَّا أفاق قال له: أنا ميِّت القلب قليلُ الفهم، فارفقْ بي، قال: قل، قال: متى يعلم المريدُ أنَّه مريد؟ وفي رواية: مراد، فقال: [إذا] (¬5) أنزل نفسَه منزلةَ راكبِ البحر، فهو يتوقَّع موجًا يُغرقه أو ريحًا تُعطبه. ثم غُشي عليه وفاته صلوات، فلمَّا أفاق قال له: أَعِد ما فاتك من الصَّلوات، قال: كلِّي فائت، ثم أخذ في البكاء، فقمنا وتركناه]. وقال أحمد: اشتهى أبو سليمانَ رغيفًا حارًّا بملح، فجئت به إليه، فعضَّ منه ثم ¬

_ (¬1) في طبقات الأولياء: بليت. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب): ينصب. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 230. (¬5) ما بين حاصرتين يقتضيه سياق الكلام، والحكاية ليست في (خ).

قال: إلهي عجلتَ لي بشهوتي، لقد أطلتَ شِقوتي. ثم بكى بكاءً شديدًا وقال: واللهِ لا ذقتُ مِلحًا أبدًا حتى ألقاك (¬1). [ذِكر نُبذةٍ من كلامه: روى الخطيبُ (¬2) عن أحمدَ بنِ أبي الحواريِّ قال: سمعت أبا سليمانَ يقول (¬3): ] مفتاحُ الدنيا الشِّبع، ومفتاحُ الآخرة الجوع، وأصلُ كل خيرٍ في الدنيا والآخرةِ الخوفُ من الله تعالى، وإنَّ اللهَ تعالى يعطي الدنيا من يحبُّ ومَن لا يحب، ولا يعطي الآخرةَ إلا مَن يحبّ. لَأَن أتركَ من عَشائي لقمةً أحبُّ إليَّ من قيام ليلة. و[حكى الخطيبُ (¬4) عنه أنَّه] قال: كلُّ ما شغلك عن الله من مالِ وولدٍ وأهلٍ فهو عليك مشؤوم. و[حكى عنه أبو نُعيم (¬5) أنَّه] قال: كلَّما ارتفعت منزلةُ القلبِ كانت العقوبةُ إليه أسرع. وقال [أبو سليمان]: ربما مثَّلت رأسي بين جبلَين من نارٍ وأنا أهوي فيها حتى أبلغَ قعرَها، فكيف يتهنَّأ بالعيش مَن هذه حالُه! [وحكى أبو نعيمٍ (¬6) أيضًا عن أحمدَ بن أبي الحَوَاري قال لأبي سليمان: لقد غبطتُ بني إسرائيل، يبقى أحدُهم في الدنيا سنين كثيرةً يتعبَّد حتى يصيرَ مثل الشَّنِّ البالي، فقال: ظننتُ أنك جئتنا بشيء، إنَّ اللهَ لا يريد منا أن تيبسَ جلودُنا على عظامنا، وإنما يريد منا الصِّدق، قال: أحدٌ منَّا إذا صدق عشرةَ أيامٍ لله تعالى نال ما نال أولئك في سنينَ كثيرة.] وقال: الهالكُ مَن هلك في آخر سفرِه وقد قارب المنزل. ¬

_ (¬1) الخبران في مناقب الأبرار 1/ 229، 231. (¬2) في تاريخه 11/ 525. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): وقال أبو سليمان. (¬4) في تاريخه 11/ 525. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في الحلية 9/ 257، 261. (¬6) في الحلية 9/ 263.

[وروى أبو نُعيم (¬1) أنَّ رجلًا سأله فقال: ] (¬2) ما أقربُ ما يتقرَّب به العبدُ إلى الله تعالى؟ فبكى وقال: مِثلي يُسأل عن هذا! أقربُ ما يَتقرَّبُ به العبدُ إلى الله تعالى أن يطَّلعَ على قلبه فيرى أنَّه لا يريد من الدنيا والآخرةِ سواه. و[حكى عنه أيضًا أنَّه] (¬3) قال: إذا اعتادت النفوسُ تركَ الآثام، رتعت في عالم المَلَكوت ورجعتْ بطرائف الحكمة. و[روى ابنُ أبي الدنيا أنَّه] قال: إذا كانت الدُّنيا في قلبٍ لم تزحمها الآخرة، وإذا كانت الآخرةُ في قلب زَحَمَتْها الدنيا؛ لأنَّ الدنيا لئيمة، والآخرةَ كريمة. وسئل عن الرِّضا فقال: أمَّا نحن، فقد انتهى قدمُنا إلى مكانٍ لو أمر بنا إلى النار لَمشينا إليها على رؤوسنا، فإذا قال [لنا]: لِمَ فعلتم هذا؟ [قلنا]: لأنَّه منتهى إرادتِك فينا. و [في رواية] قال: لو أسكنني النارَ لكنتُ أرضى ممَّن هو في الفِردوس الأعلى. و[حكى عنه ابنُ باكويه الشيرازيُّ أنه] قال: يوحي اللهُ إلى جبريل: اسلُبْ عبدي حلاوةَ مناجاتي، فإن تضَّرَع إليَّ فردَّها إليه، وإلَّا فلا. وقال: [وكان يقول: ] وعزَّتِك لَئن طالبتني بذنوبي طالبتُك بعفوك، ولئن أسكنتَني النارَ بين أعدائك لأحدثنَّهم أنِّي أحبُّك (¬4). [قال: ] وقال: الصادقُ مَن تعظك رؤيتُه قبل كلامه. [قال: ] وقال: ما يسرُّني أن تكونَ لي الدنيا حلالًا وأنا أُسأل عنها يومَ القيامة. [وحكى أيضًا ابن باكُويه عن] أحمدَ بنِ أبي الحواريِّ قال (¬5): دخلتُ على أبي سليمانَ وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: كيف لا أبكي وإذا جنَّ الليلُ ونامت العيون، وخلا كلُّ حبيب بحبيبه، وافترش أهلُ المحبَّة جباهَهم، و [نصبوا] أقدامَهم، ¬

_ (¬1) في الحلية 9/ 256. (¬2) في (خ): وسأله رجل فقال. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) أخرجه عنه أبو نعيم في الحلية 9/ 255، والبيهقي في شعب الإيمان (1040). (¬5) في (خ): وقال أحمد بن أبي الحواري.

وجرت دموعُهم (¬1) على خدودهم، وقطرتْ في محاريبهم، أشرف الجليلُ سبحانه وتعالى عليهم فيقول: يا جبريل، بعيني مَن تلذَّذ بكلامي، واستراح إلى مناجاتي، نادِ فيهم: ما هذا البكاء؟ ! هل رأيتم حبيبًا يعذِّب أحبابَه، أم كيف يَحسُن بي أن أعذِّبَ أقوامًا إذا جنَّهم الليلُ تملَّقوا لي! فَبِي حلفت، لَأكشفنَّ لهم عن وجهي إذا وردوا إليّ، فأَنظر إليهم وينظرون إليّ. وكان يقول: إذا ذكرتُ ذنوبي لم أحبَّ الموت، وأقول: لعلِّي أن أبقى حتى أتوب. [وهذه رواياتُ ابنِ أبي الدنيا وابنِ باكُويه وأبي نُعيم والخطيب. وقد حكى أبو عبدِ الرحمن وابنُ خميسٍ في كتاب "مناقب الأبرار" وغيرُهم جملة من كلامه، فمن ذلك أنَّه] (¬2) قال: ربَّما يقع في قلبي النكتةُ من نُكَت القومِ أيامًا، فلا أقبلها إلَّا بشاهدين عَدْلَين من الكتاب والسُّنَّة. وقال: إذا غلب الرجاءُ على الخوف فسد القلب، ومَن صارع الدنيا صرعتْه، ومَن أحسن في ليله كوفئ (¬3) في نهاره، ومَن أحسنَ في نهاره كوفئ في ليله، ومَن صدق في ترك شهوة، أذهبها اللهُ عن قلبه. وقال: إنَّ اللهَ يفتح للعارف على فراشه ما لا يفتح له وهو قائمٌ يصلِّي. وقال: الصوتُ الحسن لا يدخل القلب، ولكن يحرِّك ما فيه. وقال أحمدُ بن أبي الحَوَاري: سألت أبا سليمانَ فقلت: كيف تقوى قلوبُهم على ما يَرِد عليهم من الواردات الإلهية؟ فقال: هو أكرمُ من أن يبلِّغَهم منزلًا لا تقوى عليه قلوبُهم. وقال: الاحتلامُ عقوبةٌ من الله تعالى، ألا ترى أن أنبياءَ الله عُصموا منه؟ وقال: ليت قلبي في القلوب مثلُ ثوبي في الثِّياب. وقال: القلبُ إذا جاع وعطش صفا ورقّ، وإذا شبع قسا وعَمِي. ¬

_ (¬1) في (خ): عيونهم، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في مناقب الأبرار 1/ 223، وصفة الصفوة 4/ 229، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر طبقات السلمي ص 77 - 78، ومناقب الأبرار 1/ 221 وما بعدها. (¬3) في (خ): عوفي، في الموضعين والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في طبقات السلمي ص 77، ومناقب الأبرار 1/ 221 وما بعدها.

وقال: من أحسن المعاريضِ قولُه تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] هدَّد بلطف. وقال: مَن أراد واعظًا فصيحًا، فلْينظر إلى اختلاف الليلِ والنهار. وقال: علِّموا النفوسَ الرِّضا بمجاري الأقدار، فلَنِعْمَ الوسيلةُ هو إلى درجات المعرفة. وقال: مَن أظهر الانقطاعَ إلى الله تعالى وجب عليه خلعُ ما دونه، ومَن كان الصدقُ وسيلتَه، كان الرِّضا من الله جائزتَه، ولو بكى باكٍ أو محزونٌ في أمَّة، لَرحم اللهُ تلك الأمَّةَ ببكائه. وقال: لا يأتي الوسواسُ إلا إلى كلِّ قلبٍ عامر، أرأيتَ لصًّا يأتي خربةً فينقبها! إنَّما ينقب بيتًا فيه رُزَم. وقال: يلبَس أحدُكم عباءةً قيمتُها ثلاثةُ دراهمَ وفي قلبه شهوةٌ بأربعة دراهم! أفما يستحي أن تجاوزَ شهوتُه لباسَه! ولو ستر حالَه بثوبين أبيضَين كان أسلمَ له، وإذا لم يبقَ [في] (¬1) قلبه شيءٌ من الشهوات، جاز أن يتدرَّعَ عباءة، فإنَّ العباءةَ عَلَمٌ من أعلام الزُّهد. [وقال أحمدُ بن أبي الحَوَاري: قال لي: كن كوكبًا، فإن لم تكن فكن قمرًا، فإن لم تكن فكن شمسًا. قال: فقلت: بيِّن لي ما تقول، فقال: قم من أوَّل الليلِ إلى آخره، فإن لم تقوَ على قيام الليل كلِّه فكن كالقمر، يطلع في بعضه ويغيبُ في بعضه، فنم بعضَ الليل وقم بعضَه، فإن لم تقدرْ على قيام بعضِ الليل فلا تعصِ اللهَ في النهار (¬2). وقال: لو نُقشت المعرفةُ على بناء، لكان كلُّ مَن رآها مات من حُسنها وجمالها] (¬3). وقال يومًا: الناسُ في الدنيا رجلان: رجلٌ أحبَّ اللهَ فأحبَّ الموتَ شوقًا إلى لقائه، ورجلٌ أحبَّ البقاءَ لإقامة حقِّ الله. فقام فتًى فقال: يا أبا سليمان، ورجلٌ ثالث، قال: مَن هو؟ قال: من لا يختار هذا ولا هذا بل يختار ما اختار اللهُ له، فقال: احتفظوا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر مناقب الأبرار 1/ 224، وتاريخ دمشق 9/ 837 (مخطوط). (¬2) حلية الأولياء 9/ 261، ومناقب الأبرار 1/ 224 - 225. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر مناقب الأبرار 1/ 225.

بالغلام (¬1) فإنَّه صِدِّيق. وقال: الزهَّاد بخُراسان، والفقهاءُ بالعراق، والأبدالُ بالشام. [وقال: لما كلَّم اللهُ موسى، جاءه إبليسُ فوسوس له وقال: إنَّ الذي يكلِّمك شيطان، فأوحى اللهُ إليه: يا موسى، ارفع رأسَك، فرفع رأسَه، فإذا بالسماء قد كُشطت، والعرشِ قد برز، والملائكةِ قيامٌ في الهواء. ذِكر وفاته: اختلفوا -فيما ذكر الخطيبُ- على ثلاثة أقوال (¬2): أحدها في هذه السَّنة. والثاني: في سنة خمسَ عشرةَ (¬3) ومئتين، وذكره السلمي وابن خَميس في "المناقب" (¬4). والثالث: في سنة خمسٍ وثلاثين ومئتين (¬5). ثم قال الخطيب: والقول الأوَّل أصحّ، يعني سنةَ خمس ومئتين؛ لأنَّه قول أهلِ الشام، وهم أعرفُ بهذا من غيرهم. وقال جدِّي في "المنتظم" (¬6): وقد قيل: إنَّه مات في سنة خمسَ عشرةَ ومئتين، ولا يصحُّ، والأصحُّ أنه في سنة خمسٍ ومئتين (¬7). ودُفن بداريا وقبرُه بها ظاهرٌ يزار. وحكى الحافظُ ابن عساكرٍ (¬8) عن] أحمد بن أبي الحَوَاري قال (¬9): رأيت أبا سليمانَ في المنام بعد وفاته بسنة، فقلت: يا معلِّم الخير، ما فعل اللهُ بك؟ فقال: لي سنةٌ في ¬

_ (¬1) في (ب): احفظوا نبذ الغلام. (¬2) القول الثالث لم يذكره الخطيب، انظر تاريخه 11/ 525 - 526. (¬3) في (ب): خمس وثلاثين. ولعله سهو، وهو القول الثالث كما سيذكر. وانظر ما سلف أول الترجمة. (¬4) طبقات الصوفية ص 57، ومناقب الأبرار 1/ 221 .. (¬5) كذا في معجم البلدان 2/ 431، رقمًا لا كتابة، وفي تاريخ دمشق 9/ 842 عن أحمد بن أبي الحواري: مات أبو سليمان سنة خمس ومئتين وثلاثين (كذا)، ثم قال ابن عساكر: كذا قال، وقوله: وثلاثين، وهم، والله أعلم. اهـ. قلت: ويؤيد كونه وهمًا أن الخطيب أخرجه عن أحمد بن أبي الحواري ولم يذكر فيه: وثلاثين. (¬6) 10/ 146. (¬7) وقال ابن عساكر في تاريخه 9/ 841 - 842: بلغني عن محمد بن يوسف الهروي أن أبا سليمان مات سنة أربع ومئتين. وفي فوات الوفيات 2/ 266: مات سنة خمس وعشرين ومئتين. وهذا القولان لم يذكرهما المصنف. (¬8) في تاريخه 9/ 842. وما بين حاصرتين من (ب). (¬9) في (خ): وقال أحمد بن أبي الحواري.

نمير الكوفي المصاب

الحساب، قلت: ولم؟ قال: خرجتُ يومًا من دارنا أريد دمشق، فلمَّا قربت من الباب الصغير، إذا بحِملِ شِيح، فأخذت منه عودًا، فلا أدري أتخلَّلته أم رميتُه، فأنا منذ متُّ أُحاسَب عليه. أسند عن عبد الواحد بن زيد [وصالحِ بن عبد الجليل وعليّ بن الحسنِ بن أبي الربيع] وغيرِه [وجالس سفيانَ الثوريَّ بمكَّة. وروى عنه أحمدُ بن أبي الحواري، وكان خصيصًا به، وهو الَّذي دوَّن كلامه، وإسحاقُ بن عبد المؤمن الدِّمشقي، وعبدُ الرحيم (¬1) بن صالحٍ وحميدُ بن هاشم الدارانيَّان، وذكر الحافظ ابن عساكر (¬2) جماعةً آخرين. وقال الخطيب (¬3): لم يُسنِد أبو سليمانَ، إلَّا حديثًا واحدًا. وقد ذكره الخطيب، وقد أخرج له جدِّي في "الصَّفوة" (¬4) أحاديث]. وكان له ولدٌ اسمه سليمان، به كان يُكنى، وكان على منهاج أبيه في الزُّهد والورع، توفِّي بعد أبيه بيسير. [فصل وفيها توفي] نُمير الكوفي المصاب [حدَّثنا غيرُ واحد عن أبي الفضل بنِ ناصرٍ بإسناده إلى العباس بنِ محمد بنِ عبد الرحمن الأشهلي: حدَّثني أبي عن] ابن نُميرٍ قال (¬5): كان لي ابنُ أخت سمَّتْه أختي باسم أبي نمير، وكان من نسَّاك أهل الكوفة [قد سمع سَماعًا حسنًا وكان حسن الطهور للصلاة، يراعي الشمس للزوال] (¬6) فعرض له عارضٌ فذهب عقله، فكان لا يُؤويه سقفُ بيت، إذا كان النهارُ فهو في الجَبَّانة، وإذا كان الليلُ ففي السطح قائمًا على رِجلَيه في البرد والمطرِ والريح، فنزل يومًا بُكرةً يريد المقابر، فقلت: يا نمير، ألا تنام؟ ! قال: لا، قلت: أي شيءٍ يمنعك [من النوم]؟ فقال: هذا البلاءُ الَّذي تراه، ¬

_ (¬1) في (ب): عبد الرحمن، والتصويب من المصادر. والكلام ليس في (خ). (¬2) في تاريخه 9/ 823. (¬3) في تاريخه 11/ 523. (¬4) 4/ 234 - 232. (¬5) في (ج): قال ابن نمير. وانظر المنتظم 10/ 146، وصفة الصفوة 3/ 186، وعقلاء المجانين ص 103 - 104. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو الموافق للمنتظم وصفة الصفوة.

[قال] فقلت: [يا نمير] ألا تخاف الله؟ قال: بلى، ثم قال: أليس يقال: "أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثل" (¬1)؛ قلت: أنت أعلمُ منِّي. قال: وصعدت إليه ليلةً باردة وهو قائم في السطح وأمُّه تبكي وهي قائمة، فقلت: يا نمير، بقي منك شيءٌ لم تنكرْه؟ قال: نعم [قلت: وما هو؟ قال]: حبُّ الله ورسولِه. قال: وصعدت إليه ليلةً في رمضان، فقلت له: لو أفطرتَ معنا (¬2)، قال: ولم؟ قال: أحبُّ أن تراك أختي تأكل معنا، فقال: نعم، فلمَّا فرغنا [من الأكل] (¬3) رحمتُه [من أن يراني مولِّيًا وهو في الظُّلمة والريح فبكيتُ] (¬4) فغضب فقال: إنَّ لي ربًّا. هو أرحمُ بي منك، وأعلمُ بما يصلحني، فدعْه يتصرَّف فيَّ كيف شاء، فإني لا أتَّهمه في قضائه، فقلت: لَئن كنتَ في ظلمة [الليلِ إنَّ جدَّك في ظلمة] اللَّحد، أريد أن أعزِّيه وأطيِّبَ نفسه، فقال: ما جعل روحِ رجلٍ [صالح] مثلَ روحِ رجل متلوِّث (¬5)، ثم قال: أتاني البارحةَ أبي وأبوك عبدُ الله بن نمير [فأشار إلى موضعٍ كان يصلِّي فيه أبي، قال: ] (¬6) فقال لي: يا نمير، أما إنِّك ستأتينا يومَ الجمعة شهيدًا. قال: فأخبرت أمَّه، فقالت: واللهِ ما جرَّبت عليه كذبًا قطّ، وما قال إلَّا حقًّا، وكانت هذه المقالةُ عشيةَ الأربعاء، فجعلنا نتعجَّب ونقول: غدًا الخميس [وبعد غدٍ الجمعة، فهبْه مرض غدًا ومات بعدَ غد، فأين الشَّهادة]، فلمَّا كان ليلة الجمعة، سمعنا هدَّةً وسطَ الليل، فإذا هو قد هاج به ما كان يهيج، فبادر الدَّرجة، فزلَّت قدمُه فسقط فاندقَّت عُنقه، فحفرتُ له إلى جانب أبي ودفنته [وانكببتُ على قبر أبي وقلت: يا أبي، قد أتاك نميرٌ وجاورك] وانصرفت. فلمَّا كان من الليل نمتُ، فرأيتُ أبي في النوم قد دخل من باب البيتِ وقال [لي]: يا بُني، جزاك اللهُ خيرًا [لقد] آنستَني بنمير، إنَّه منذ أتيتمونا به إلى أن جئتُك يزوَّج بالحور العِين. ¬

_ (¬1) هو حديث أخرجه الترمذي (2398)، وابن ماجة (4023) عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مرفوعًا. (¬2) في المصدرين: يا نمير لم أفطر. (¬3) زيادة من المصدرين يقتضيها السياق. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو موافق للمصدرين. (¬5) في (ب): منكوب. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو الموافق للمصدرين.

السنة السادسة بعد المئتين

السَّنة السادسةُ بعد المئتين فيها مدَّت الفراتُ ودجلة، وغرق السوادُ ومعظمُ بغداد، وفسدت الزروع، وظهر اليَرَقانُ (¬1) على الناس، وجاء الجراد. وفيها ولَّى المأمونُ عبدَ الله بنَ طاهر الجزيرةَ والشام ومصر، وقتال نصرِ بن شبث، وكان قد ولَّى يحيى بنَ معاذ الجزيرة، فمات في هذه السَّنةِ، واستخلف ابنَه أحمد على الجزيرة، فقال المأمونُ لعبد الله بنِ طاهر: إني منذ شهرٍ أستخير اللهَ وأرجو أن يخيرَ اللهُ لي، ورأيت الرجلَ يصف ولدَه ليُطريَه؛ لرأيه فيه، وليرفعَه، ولقد رأيتك فوق ما يصف أبوك لي فيك، وقد مات يحيى واستخلف ابنَه أحمد، وليس بشيء، وقد رأيت توليتَك الجزيرةَ والشام ومحاربةَ نصحر بنِ شبث، فقال: السمعُ والطاعة لله ولأمير المؤمنين، وأرجو أن يجعلَ اللهُ لأمير المؤمنين الخِيرةَ وللمسلمين. فعقد له لواءً وكتب عليه: يا منصور، وكان في طريقه حِبالُ القصَّارين، فأمر المأمونُ بأن تُقطعَ لأجل اللواء، وذلك في رمضانَ هذه السَّنة، وقيل: سنةَ سبعٍ ومئتين، وكان طاهرٌ لما ولي ابنه عبدُ الله ديارَ ربيعةَ كتب إليه كتابًا طويلًا يتضمَّن الوصية، فمنه - بعد الحمد لله والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: أما بعد، فإني أُوصيك بتقوى اللهِ وطاعتِه وخشيته ومراقبته، والذِّكرِ لمعادك وما أنت صائرٌ إليه ومسؤولٌ عنه؛ فإنَّ اللهَ قد أحسن إليك، فأَوجب عليك الرأفةَ والرحمةَ لمن استرعاك من عباده، وألزمك العدلَ فيهم، والقيامَ بحقِّهم، والذَّبَّ عنهم، والكفَّ عن حريمهم، وحقنَ دمائهم، وأمنَ سبيلهم، ولْيكن أولَ ما تُلزم به نفسَك المواظبةُ على ما افترض اللهُ عليك من الصلواتِ الخمس في مواقيتها، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، والأخذُ بما أنزل اللهُ في كتابه من أمره ونهيه وحلالِه وحرامه، واتِّباعُ سنَّة رسوله، واقتفاءُ آثاره وآثارِ أصحابه من بعده، وعليك بإجلال أهلِ القرآن وحَمَلةِ العلم، وعليك بالعلم والفقه؛ فإنَّهما أحسنُ ما تزيَّن بهما المرء، وعليك بالأعمال ¬

_ (¬1) اليرقان: آفة تصيب الزرع، وداء يصيب الإنسان. مختار الصحاح (يرق).

الصالحةِ وطلبِ الآخرة؛ لتحظى بمرافقة أولياءِ الله في دار كرامته، وأَحْسِن الظنَ بالله، والْتَمِس الوسيلةَ إليه في الأمور كلِّها، وعليك بإقامة الحدودِ ومجانبةِ البدع؛ ليسلمَ لك دينُك، وإذا عاهدتَ عهدًا فعليك بالوفاء به، وإذا وعدت وعدًا في الخير فأَنجِزْه، وإذا وعدت بالشرِّ فأخِّره، واقبل الحسنةَ وتجاوز عن السيِّئة، وغمِّض عينيك عن كلِّ عيب من رعيَّتك، وأحسن لسانَك عن الكذب (¬1) وأَبْغض أهلَه، وأَقصِ أهلَ النميمة؛ فإنَّ أوَّل ما يُفسد أمرَك تقريبُ الكذب، وإنه رأسُ المآثم، وعليك بالحِلم والوقارِ والتردُّد في الأمور، واجتنب العجلةَ فإنَّها من الشيطان، وإياك والغضبَ والغرورَ ونحوه، وذكر ألفاظًا كثيرة. ولمَّا شاع الكتابُ طلبه المأمون، فلمَّا وقف عليه قال: ما ترك أبو الطيِّب من أمور الدِّين والدنيا والتدبيرِ والسياسة والرأي وإصلاح الملكِ والرعيَّة وتقويم الأمور إلَّا وقد ذكره وأَحكمه. ولما شخص عبدُ الله إلى الجزيرة والشام، جعل الخليفةَ ببغدادَ على الشُّرطة إسحاقَ ابن إبراهيم (¬2). ولمَّا فتح عبدُ الله مصر، سوَّغه المأمونُ خراجَها سنةً، وأجاز به كلِّه، وهو ثلاثةُ آلاف دينار، وكان قد سخط على معلَّى الطائي، وكنيتُه أبو السمراء، فجاء معلَّى فأنشده في ملأٍ من الناس: [من البسيط] يا أعظمَ الناسِ عفوًا عند مقدرةٍ ... وأظلمَ الناس عند الجُود بالحالِ لو يصبح النيلُ يجري ماؤه ذهبًا ... لَما أشرْتَ إلى خَزْنٍ بمثقال تفكُّ باليُسر كفَّ العُسر من زَمَنٍ ... إن استطال على قومٍ بإِقلال إنْ كُنْتُ منك على بالٍ مننتَ به ... فإنَّ شكرك من حمدي على بال فقال: يا أبا السمراء، ما بقي من خراج مصر شيء، فأقرِضْني عشرةَ آلافِ دينار، ¬

_ (¬1) كذا، وفي تاريخ الطبري 8/ 585، وابن الأثير 6/ 368: واشدد لسانك ... (¬2) في (خ): الحسن بن إسحاق بن إبراهيم، والتصويب من المصادر. انظر تاريخ الطبري 8/ 592، وابن الأثير 6/ 363، وتاريخ الإسلام 5/ 16.

بهيم العجلي

فأقرضه إياها، فقال: خذها لك، ودفعها إليه (¬1). وحجَّ بالناس عُبيدُ الله (¬2) بنُ الحسن وهو والي الحرمين. وفيها توفي بهيمٌ العِجلي [وكنيته] أبو بكر، الزاهدُ، العابد. [قال ابن أبي الدنيا بإسناده إلى معاذ بن زياد قال: لما اتّخذت عبَّادان سكنها قومٌ نُسَّاك، فيهم رجل يقال له: بهيم]، وكان رجلًا حزينًا يزفر الزَّفرةَ فيُسمع زفيرُه. وقال [محمد: وحدَّثني] مِخول [قال: ]: جاءني بهيمٌ يومًا فقال لي: تَعْلَمُ رجلًا من إخوانك [أو جيرانك] يريد الحجَّ، ترضاه يرافقني؟ قلت: نعم. فذهبت به إلى رجلٍ من الحيِّ له صلاحٌ ودين، فجمعت بينهما، وتواطأا على المرافقة، [ثم انطلق بهيم إلى أهله] فلمَّا كان بعد [أيام]، أتاني الرجلُ فقال: يا هذا، أُحبُّ أن تزويَ عني صاحبَك وتطلبَ له رفيقًا غيري، فقلت: ويحك ولِم؟ ! فواللهِ ما أعلم بالكوفة له نظيرًا في حسن الخُلق والاحتمال (¬3)، ولقد ركبتُ معه البحرَ فلم أرَ منه إلَّا خيرًا، فقال: قد حُدَّثتُ أنَّه طويلُ البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغِّص عليَّ العيش [سفرَنَا كلَّه]، فقلت: وأنت ما تبكي أحيانًا؟ قال: بلى، ولكن بلغني عنه أمرٌ عظيم من كثرة بكائه، فقلت: اصحبْه لعلَّك تنتفع به، فقال: أَستخير الله. فلما كان اليومُ الَّذي أرادا أن يخرجا فيه، جيء بالإبل ووُطئ لهما، فجلس بهيمٌ في ظلِّ حائط، ووضع يَده تحت لحيته و [جعلت] دموعُه تسيل على خدَّيه ثم نزلت إلى الأرض، فقال صاحبي: يا مخول، قد ابتدأ صاحبُك، واللهِ ليس هذا لي برفيق، فقلت له: ارفقْ لعلَّه ذَكَر عياله وفراقه إياهم [فرقَّ]، وسَمِعَنا بهيم فقال: يا أخي، واللهِ ما هو ذاك، وإنما ذكرتُ بها الرحلةَ إلى الآخرة، وعلا صوته بالنَّحيب، [وقال: يقول لي ¬

_ (¬1) الأغاني 12/ 102، والمنتظم 10/ 150، والوافي بالوفيات 17/ 221. (¬2) في (ب) و (خ): عبد الله، والمثبت من المصادر. (¬3) في (خ): الإجمال، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في المنتظم 10/ 152، وصفة الصفوة 3/ 180، وتنظر ترجمته أيضًا في تاريخ الإسلام 5/ 42 - 43.

أبو حذيفة البخاري

صاحبي: والله ما هي بأول عداوتك لي وبغضك إيايّ، فقال الرجل: أنا ما لي ولبهيم، إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين داودَ الطائيِّ وسلَّامٍ أبي الأحوص، يبكي بعضُهم إلى بعض، حتَّى يَشتفوا أو يموتون جميعًا. فلم أزل أرفقُ به، وقلت: ويحك لعلَّها خيرُ سفرةٍ سافرتَها، [قال: وكلُّ هذا الكلام] وبهيمٌ لا يعلم بشيءٍ، ولو علم بشيءٍ لَما صاحبه، قال: فخرجا إلى الحجّ، فلمَّا عادا، أتيت إلى جاري أسلِّم عليه، فقال [لي: يا أخي] جزاك اللهُ عني خيرًا، ما ظننتُ أنَّ في الدنيا [أو في هذا الخَلْق] مثلَ أبي بكر، كان واللهِ يتفضَّل عليَّ في النفقة وهو مُعدم وأنا موسِر، ويخدمني وأنا شابٌّ قوي وهو شيخ ضعيف، ويطبخ لي وأنا مفطرٌ وهو صائم، فقلت: كيف كان أمرُك معه في الَّذي كنت تكره من طول بكائه؟ فقال: أَلِفتُ واللهِ ذلك [البكاء]، حتَّى كنت أساعده، حتَّى كان يتأذَّى الرفقةُ بنا، ثم أَلِفوا ذلك، فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكَوا معنا، ويقول بعضُهم لبعض: ما الَّذي جعل هؤلاء أَولى بالبكاء منَّا والمصيرُ واحد؟ ! فكانوا يبكون ونبكي. قال: وخرجت من عنده فأتيتُ بهيمًا، فسلَّمت عليه وقلت: كيف رأيت صاحبَك؟ فقال: خير صاحب، كثير الذِّكر لله تعالى، طويل التلاوة للقرآن (¬1)، سريع الدَّمعة، محتمل لهَفَوات الرفيق، جزاك اللهُ عنِّي خيرًا. [فصل وفيها توفِّي أبو حُذيفةَ (¬2) البُخاري صاحبُ كتاب "المبتدأ" و"الفتوح" وغيرهما. واسمه إسحاقُ بن بشرِ بن محمد، مولى بني هاشم. قال الخطيب: وُلد ببلخَ واستوطن بخارى، فنُسب إليها، وتوفِّي بها في هذه السَّنة في رجب. ¬

_ (¬1) في (ج): طويل القراءة. وكلّ ما ورد بين حاصرتين من (ب)، وهو موافق للمنتظم. (¬2) في (ب): عبيدة البخاري، والمثبت من تاريخ بغداد 7/ 336، وتاريخ دمشق 2/ 745 (مخطوط)، والمنتظم 10/ 151، والسير 9/ 477 - 479 وغيرها. وهذه الترجمة ليست في (خ).

الحكم بن هشام

أسند عن الثوريِّ، والأوزاعيِّ، والأعمشِ، ومالك بنِ أنس، ومقاتلِ بن سليمانَ، ومحمد بن إسحاقَ صاحب "المغازي"، وابنِ عُيينة، والفضيلِ بن عياض، وشعبة، وابن جُرَيج، وابن أبي العَروبة، وغيرهم]. الحكمُ بن هشام ابن عبد الرحمن الداخل الأُموي، والي الأندلس، وكنيتُه أبو العاص. بويع له يومَ مات أبوه هشامٌ في صفرٍ سنةَ ثمانين ومئة وعُمرُه اثنتان وعشرون سنة [وكانت وفاته في ذي الحِجَّة، فأقام واليًا سبعًا وعشرين سنة] (¬1) وشهرًا وأيامًا، ولقَّب نفسَه بالمُرتَضى، وأمُّه أُمُّ ولد اسمها زُخرف، وكان له يومَ مات اثنتانِ وخمسون سنة، وقيل: تسعٌ وأربعون سنة (¬2)، والرجوعُ في ذلك إلى مولده. وكان شجاعًا فاتكًا [وكان قد] (¬3) ربط ألفَ فرس على باب قصرِه، عليها عشرةٌ من العُرفاء، تحت يد كلِّ عَرِيفٍ مئةُ فرس، فإذا أثار عليه خارجيٌّ في طرفٍ من الأطراف عاجله قبل استحكامِ أمره، فلا يشعر حتَّى يُحيطَ به. [وذكره عليُّ بن أحمدَ بن حَزْمٍ في "تاريخ الأندلس" وقال: ] (¬4) كان الحَكَمُ من المجاهرين بالمعاصي، السفَّاكين للدماء، وله آثارٌ قبيحة، كان إذا بلغه عن حَدَثٍ مشهورٍ بالجمال في مملكته أرسل إليه فأخذه من بين أهلِه، وخصاه وجعله في قصره. قال: ويقال له: الرَّبَضي؛ لأنَّه أوقع بأهل الرَّبَضِ الوقعةَ المشهورة، وكانت الربض محلَّةً كبيرة متصلةً بقصره، فهدمها وقتل أهلَها وأحرق مساجدَها، وصلب من أهلها خَلْقًا كثيرًا، وكان قد بلغه أنَّهم عزموا على الإِيقاع به في قصره [لفساده] ففرَّقهم تفرُّقَ أيدي سَبَا [فسمِّي الحكم الرَّبَضي]. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتيين من (ب)، وانظر تاريخ الإسلام 5/ 60، والسير 9/ 522. (¬2) بعدها في (ب): وقيل: تسع وثلاثون سنة. ولم أقف على هذا القول، ولا الَّذي قبله، والمذكور في المصادر: (50 أو 52 أو 53). انظر العقد الفريد 4/ 490، والكامل لابن الأثير 6/ 377، والسير 8/ 260 و 9/ 522، وتاريخ الإسلام 5/ 60 - 61، والوافي 13/ 118. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): وقال ابن حزم. وانظر نقط العروس في تواريخ الخلفاء 2/ 75 (ضمن رسائل ابن حزم)، وجمهرة أنساب العرب ص 95، وجذوة القتبس 10، وبغية الملتمس 14.

محمد بن المستنير

ثم إنَّ اللهَ بعد هذه الوقعةِ امتحنه بأمراضٍ صعبة باطنةٍ وظاهرة، من البواسير ووجعِ القلب والكَبِدِ ونَتْن الأطراف، وطالت به أربعةَ أعوام، فندم على ما بدا منه، وأخذ في قراءة القرآن والذِّكر، فبعضُهم [كان] يرجو له خيرًا [وبعضُهم كان يَحكم عليه بالنار، لما فعل واستحلَّ من الفروج والدِّماء]. وكان له قاضٍ يقال له: سعيد بن بشير، كان عادلًا منصفًا، وكان الحَكَم في الميدان يومًا يلعب بالصَّوالجة، فجاءه الخبرُ أن جابرَ بن لبيدٍ يحاصر جَيَّان، فركب في [ألف فرسٍ من] الخيل التي أعدَّها [على باب قصرِه، ] فلم يشعر به جابر إلَّا وقد غشيه، فهرب. والحَكَمُ له أشعار، منها: [من الطويل] وما زلتُ للعِلَّات بالسيف راقعًا (¬1) ... وقدمًا لَأَمتُ الشِّعْب مُذْ كُنْتُ يافعا فسائلْ ثُغوري هل بها اليومَ ثَغْرةٌ ... أُبادرُها مُسْتَنْضيَ السيفِ دارعا ولمَّا تَساقَينا سِجال حروبِنا (¬2) ... سقيتُهمُ سُمًّا من الموت ناقعا ولما مات قام بعده ولده عبد الرحمن [بن الحكم بن هشام]. محمدُ بن المُسْتَنير أبو عليٍّ البصري، ويلقَّب بقُطْرب -النَّحوي- لقَّبه سيبويه؛ سمِّي بذلك لمباكرته إياه (¬3). نزل بغدادَ، وأقرأ بها العربيةَ والنحو، وكان مُوَثَّقًا فيما يرويه، وهو صاحب "المُثلَّث". يزيدُ بن هارونَ ابنِ زاذي بن ثابت، أبو خالدٍ الواسطي، مولى بني سُليم. ¬

_ (¬1) في المصادر: رأيت صدوع الأرض بالسيف راقعًا. انظر العقد الفريد 4/ 492، والمغرب في حلى المغرب 1/ 44، والوافي 13/ 119، ونفح الطيب 1/ 342، ولم ترد الأبيات في (ب). (¬2) في (ج): حربنا، والمثبت من العقد الفريد والمغرب. (¬3) القطرب: دويبة تدبّ ولا تفتر، كما في تاريخ بغداد 4/ 480، وتنظر ترجمته أيضًا في معجم الأدباء 19/ 52، وإنباه الرواة 3/ 219، وبغية الوعاة 1/ 242، وهذه الترجمة ليست في (ب).

كان عالمًا فاضلًا زاهدًا وَرِعًا عابدًا خائفًا. [وذكره ابنُ سعد (¬1) فيمن كان بواسطَ من الفقهاء والمحدِّثين بعد الصحابة، وقال: ] وُلد سنةَ ثماني عشرةَ ومئة [وقال الخطيب: وُلد] سنةَ ستَّ عشرةَ [ومئة] (¬2)، وأصلُه من بُخارى، حدَّث ببغداد، وكان يُحْزَرُ مجلسُه تسعين ألفًا. [وقال عليُّ بن المَديني: لم أرَ أحفظَ من يزيدَ بن هارون. وروى الخطيبُ (¬3) عن] أحمدَ بنِ سنانَ قال (¬4): ما رأيتُ عالمًا قطُّ أحسنَ صلاةً من يزيدَ بن هارون، يقوم كأنَّه أسطوانة، وكان يصلِّي بين الظُّهر والعصرِ والمغرب والعشاءِ، لا يفتُر من الصلاة ليلًا ولا نهارًا. وقال الخطيب (¬5): صلَّى يزيدُ الغداةَ بوضوء العَتَمة أربعين سنة. وقال له رجل: كم جزؤكَ من الليل؟ فقال: أَوَ أنام منه شيئًا؟ لا أنام اللهُ عيني. [وروى الخطيبُ (¬6) عن] الحسنِ بن عَرَفةَ [العَبْديِّ قال: ] (¬7) رأيتُ يزيدَ بن هارونَ بواسطَ من أحسن الناسِ عينين، ثم رأيتُه بعد ذلك وقد ذهبت عيناه، فقلت: يا أبا خالد، ما فعلتْ تلك العينان الجميلتان؟ ! قال: ذهب بهما بكاءُ الأسحار. وقال ابنُ المَديني: كان يزيدُ يقول: أحفظ ثلاثين ألفَ حديث. وفي رواية: خمسةً وعشرين ألفَ إسنادٍ، ولا فخر. وكان يصلِّي الضُّحى ستَّ عشرةَ ركعة. [وروى بإسناده (¬8) إلى] يحيى بنِ أكثمَ قال (¬9): قال لي المأمون: لولا مكانُ يزيدَ بن ¬

_ (¬1) في طبقاته 9/ 316. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ذكر في تاريخه 16/ 494، 504 قولين في ولادته: 118 و 117، "ما ذكره المصنف لم أجده في تاريخه. وفي (خ): وقيل: سنة ست عشرة، وتنظر ترجمته أيضًا في السير 9/ 358 وبقية مصادر ترجمته ثمَّة. (¬3) في تاريخه 16/ 497. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ج): وقال أحمد بن سنان. (¬5) في تاريخه 16/ 498. (¬6) في تاريخه 16/ 499. وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) في (ج): وقال الحسن بن عرفة. (¬8) تاريخ بغداد 16/ 499. (¬9) في (ج): وقال يحيى بن أكثم.

هارون لَأظهرتُ القولَ بخلق القرآان، فقال بعضُ جلسائه: يا أميرَ المؤمنين، ومَن يزيدُ بن هارون حتَّى يُتَّقى؟ ! فقال: أخاف إن يردَّ عليّ، فيختلف الناسُ وشكون فتنة، وأنا أكره الفتن. فقال له رجل: فأنا أختبر ذلك منه، قال: فافعل. فخرج إلى واسط، ودخل على يزيدَ فقال له: يا أبا خالد، إنَّ أمير المؤمنين يُقرئك السلامَ ويقول: إنِّي أريد أن أُظهرَ القولَ بخلق القرآن، فقال له: إذا اجتمع الناسُ فأَعِد قولك إن كنتَ صادقًا. فلمَّا كان من الغد واجتمع النالس، قام الرجلُ فأعاد كلامَه، فقال له يزيد: كذبتَ على أمير المؤمنين، إنَّ أميرَ المؤمنين لا يحمل الناسَ على ما لا يعرفونه وما لم يقلْ به أحد. قال: فقدم الرجلُ على المأمون فقال: يا أميرَ المؤمنين، أنت أعلم. وقصَّ عليه القِصَّة، فقال: ويحك، إنَّه تلاعب بك، ألم أقلْ لك؟ و[قال الخطيب: ] (¬1) كان يزيدُ يقول: لعن اللهُ جَهْمًا ومَن يقول بقوله، ولعن اللهُ مَن يقول: إنَّ القرآن مخلوق. [قال: ] وسأله قومٌ عن شيءٍ وهو ساكت، فأنشد: [من الوافر] تركتَ عيادتي ونَسيتَ بِرِّي ... وقِدْمًا كنتَ بي بَرًّا حَفِيّا فما هذا التَّغافُلُ يا ابنَ عيسى ... أظنُّك صرتَ بعدي واسِطيّا (¬2) يريد المثلَ السائر: تغافل كأنَّه واسطي. و[قال الخطيب: ] (¬3) قدم يزيدُ بغداد، فحدَّث بها، ورجع إلى واسط فتوفِّي بها [في هذه السَّنة] وهو ابنُ ثمانٍ وثمانين سنة في غُرَّة ربيعٍ الآخر، وكان يَخْضب بالحِنَّاء. أسند عن [يحيى بنِ سعيد الأنصاري، وسليمانَ التَّيمي، وعاصمٍ الأحول، وحُمَيد الطويل، وداودَ بن أبي هند، وعبدِ الله بن عَوْن، وحسين المُعلِّم، وشعبة، والحمَّادَين، و] خلقٍ كثير. ¬

_ (¬1) في تاريخه 16/ 499 - 500. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) اضطرب المؤلف في النقل هنا، فليس في تاريخ بغداد 16/ 502 - 503 أن يزيد بن هارون أنشد البيتين، بل أوردهما الخطيب في حكاية أخرى ليبين بهما معنى المثل: تغافل كأنك واسطي؛ لأن جواب يزيد كان: إنا واسطيون. والبيتان أوردهما صاحب الخزانة 11/ 137 وقال: وأنشد التنوخي لفضل الرقاشي ... ثم ذكرهما. (¬3) في تاريخه 16/ 494. وما بين حاصرتين من (ب).

وروى عنه الإمامُ أحمد بن حنبلٍ رحمةُ الله عليه [وعليُّ بن المَديني، والحسن بن عَرَفة، والحارثُ بن أبي أسامة] (¬1). واتَّفقوا على صدقه ودينِه وأمانته وفضله، وكان الإمامُ أحمد يصفه ويقول: ما كان أفطنَه وأذكاه، جمع بين الدِّين والصلاةِ وحفظِ الحديث وحُسن المذهب، وكان بعدما ذهب بصرُه إذا سئل عن حديث، أمر الجاريةَ فتقرؤه من كتاب، فيتدبَّره احترازًا من الغلط. [وروى الخطيبُ (¬2) عن] أيوبَ (¬3) ابنِ بنت يزيدَ بن هارونَ قال (¬4): كنت عند أحمدَ بن حنبل وعنده رجلان، فقال أحدُهما: يا أبا عبدَ الله، رأيت يزيدَ بن هارونَ في المنام، فقلت له: ما فعل اللهُ بك؟ قال: غفر لي وشفَّعني وعاتبني، وقال لي: يا يزيد، أتحدِّث عن حَرِيز بنِ عثمان! قال: قلت: يا ربّ، ما علمتُ إلَّا خيرًا، قال: يا يزيد، إنَّه كان يتنقص أبا الحسنِ عليَّ بن أبي طالب. وقال الآخَر: وأنا واللهِ رأيت يزيدَ بن هارونَ في المنام، فقلت له: هل أتاك مُنكر ونكير؟ قال: إي والله، وسألاني: مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟ فقلت لهما: أَلِمثلي يقال هذا، وأنا أعلم الناس بهذا في دار الدُّنيا منذ ثمانين سنة (¬5)! ؟ فقالا: صدقت، نَمْ نَوْمَةَ العروس، ولا بأسَ عليك بعد اليوم. [وليس في الرُّواة مَن اسمُه يزيدُ بن هارون سوى رجلين: أحدُهما هذا، والثاني: يزيدُ بن هارون، أبو خالدٍ المدائني. حدَّث عن مُعاذٍ العَنْبري، وروى عنه عبدُ الله بن رَوح المدائني.] (¬6) * * * ¬

_ (¬1) في (خ): وغيره، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخه 16/ 504. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخ بغداد: أبو نافع. (¬4) في (ج): وقال أيوب ... (¬5) قوله: منذ ثمانين سنة، ليس في تاريخ بغداد. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، والترجمة في تاريخ بغداد 16/ 505.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [14]

السنة السابعة بعد المئتين

السَّنة السابعةُ بعد المئتين * فيها خرج عبدُ الرحمن [بن أحمدَ] (¬1) بن عبد الله أبنِ محمد، بن عُمرَ بن علي بن أبي طالب - عليه السلام - ببلاد عَكَّ من اليمن [يدعو إلى الرِّضى من آل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وسببُ خروجه أنَّه كان باليمن] عمَّال أساؤوا السيرةَ وظلموا، فضجَّت الرعيَّةُ منهم، فاجتمع الناسُ إلى عبد الرحمنِ فبايعوه، فبعث إليه المأمونُ دينارَ بن عبدِ الله في عسكرٍ كثيف، وكتب له أمانًا بخطِّه، فحضر دينارٌ الموسمَ وحجّ، ثم سار إلى اليمن، فبعث إلى عبد الرحمنِ بأمان المأمون، فقَبِله ووضع يدَه في يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فأكرمه، ومنع المأمونُ الطالبيِّين من الدخول عليه، وأَخَذَهم بلُبس السَّواد. وفيها توفي طاهرُ بن الحسين. وفيها ولَّى المأمونُ موسى بنَ حفص طَبَرِستان [والرُّويان ودُنْباوَنْد وأعمالها] (¬2). وحجَّ بالناس أبو عيسى بنُ هارونَ الوشيد. [فصل] (¬3) وفيها توفي حذيفةُ بن قتادةَ المَرْعَشي (¬4) ومَرْعَش موضعٌ بالشام معروف. كان من كبار مشايخِ الشام، اشتَهر بحُسن الكلام، [وروى أبو نُعيم عنه] قال: لو وجدتُ أحدًا يُبغضني في الله، لَأوجبتُ على نفسي حبَّه. و [روى أبو نعيم (¬5) عنه أيضًا أنَّه] قال لعبد الله بن خُبيق: إن لم تخش أن يعذِّبَك اللهُ على أحسنِ عملك، وإلَّا فأنت هالك. ¬

_ * عمل في هذا الجزء رضوان مامو ومعتز كريم الدين إلى سنة (219 هـ)، وفادي المغربي من سنة (220 هـ) إلى نهايته. (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وهو الموافق لما في تاريخ الطبري 8/ 593. (¬2) في (ج): وغيرها. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) حلية الأولياء 8/ 267 - 271، وصفة الصفوة 4/ 268 - 270، والمنتظم 10/ 162 - 165، وتاريخ الإسلام 5/ 47. (¬5) في حلية الأولياء 8/ 268، وأخرجه أيضًا البيهقي في شعب الإيمان (8980). وما بين حاصرتين من (ب).

قال: وقال لي حذيفة: [إنَّما هي أربعة] (¬1) عيناك، ولسانُك، وبطنك، وفَرْجك (¬2)، فانظر إلى عينيك أن تنظرَ بهما إلى ما لا يحلُّ لك، وانظر إلى لسانك أن تتحدَّثَ به شيئًا يعلم اللهُ خلافَه، وانظر إلى بطنك أن تضعَ فيه ما لا يحلُّ لك، وانظر إلى فَرْجك أن تأتي به ما نهاك اللهُ عنه. و[في رواية: إنما هي ستَّة، وذكر قلبَه وهواه وقال: ] (¬3): انظر إلى قلبك أن يكون فيه غِلٌّ للمسلمين، وانظر إلى هواك لا تميلُ به إلى ما يكون سببًا لهلاكك، فإذا لم يكن فيك هذه الخِصال، وإلَّا فاجعل الرَّمادَ على رأسك، فقد شقيت. وقال: إياكم وهدايا الفجَّار والسفهاء؛ فإنكم إن قبلتموها، ظنُّوا أنكم قد رضيتم بفعلهم. و[روى ابن باكُويه الشيرازيُّ عن حذيفةَ] قال: ركبت البحر، فانكسر بنا المركب، فبقيت أنا وامرأةٌ على لوحٍ بين الأمواج (¬4) سبعةَ أيام، فقالت المرأة: قد عطشت، غسل اللهَ أن يسقينا. [قال] فدعوت الله، فإذا بسلسلةٍ قد نزلت من السماءِ وفيها كوزٌ معلَّق [فشربنا] (¬5) ماءً أبردَ من الثلج وأحلى من العسل، فرفعتُ رأسي انظر إلى السلسلة، فإذا برجلٍ جالس في الهواء متربِّعًا؟ قلت: مَن أنت؟ قال: من الإنس، قلت: فما الَّذي بلَّغك هذه المنزلة؟ فقال: آثرتُ مرادَ اللهِ على هواي، فأجلسني في الهواء. وقال بِشرٌ الحافي: كتب حذيفةُ إلى يوسفَ بنِ أسباط: أما بعد: فإنِّي أخاف أن تكونَ محاسنُنا أضرَّ علينا يومَ القيامة من مساوئنا. وتوفِّي حذيفةُ في هذه السَّنة، وجالس سفيانَ الثوريَّ وغيرَه، واشتغل بالعبادة عن الرواية، رحمةُ اللهِ عليه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وبدلها في (خ) كلمة غير واضحة، ولعلها: ست، وقد ذكر في (خ) ستة. وسيأتي بعد قليل. (¬2) بعدها في (خ): وقلبك وهواك. وانظر صفة الصفوة 4/ 268، وذمّ الهوى 21 - 22. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ب): الألواح، وانظر صفة الصفوة 4/ 270. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

زيد بن يحيى

[وفيها توفِّي زيدُ بن يحيى ابنِ عُبيد الله (¬1) أبو عبدِ الله الخُزاعيُّ الدمشقي. ودُفن بالباب (¬2)، وكان من أرباب الفتوى بدمشقَ، توفِّي بدمشق في هذه السَّنة. أسند عن الأوزاعيِّ والليثِ بن سعدٍ ومالك بن أنسٍ وغيرهم. وروى عنه أحمدُ بن حنبلٍ وزهيرُ بن حربٍ وعبدُ الله بن عبد الرحمن الدارميُّ في آخرين. قدم بغدادَ وحدَّث بها، ثم رجع إلى دمشقَ فتوفِّي بها. وكان صدوقًا ثقة]. طاهرُ بن الحسين ابنِ مصعب بن رُزَيق بن أسعد. و[اختلفوا فيه، فقال ابنُ ماكولا: ] (¬3) أسعد مولى سعدِ بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. و[قال ابنُ قتيبة: ] طاهرٌ مولى عبد الله بن خلف الخُزاعي والدِ طلحةَ الطَّلْحات (¬4). وقيل: رُزيق بن أسعدَ مولى عبدِ الله بن خلف. وهو الظاهر (¬5). وأسعدُ ابنُ زاذان. وطاهر كان يُكنى أبا طلحة، فكناه المأمونُ أبا الطيِّب. ولم يكن طاهرٌ من بيت الملك، وإنَّما كان صاحبَ همَّة. [ذِكر طَرَفٍ من أخباره: قد ذكرنا أنَّ المأمونَ بعثه فقتل الأمينَ، وولَّاه الجزيرةَ والمغربَ، ثم ولَّاه خُراسان] وكان جوادًا ممدَّحًا. وقَّع يومًا بصلات، فأُحصيت فكانت ألفَ ألفٍ وسبعَ مئةِ ألف [درهم] (¬6). ¬

_ (¬1) في المصادر: ابن عبيد. انظر تاريخ بغداد 9/ 450، والمنتظم 10/ 162، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإسلام 5/ 77. والترجمة ليست في (خ). (¬2) أي: باب الصغير بدمشق. (¬3) في الإكمال 4/ 51. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) الَّذي قاله ابن قتيبة في المعارف ص 419 أنَّ رزيقًا جدَّ طاهر بن الحسين هو مولى عبد الله بن خلف، لا ما نسبه إليه المصنف وَهَمًا. (¬5) ينظر التعليق السابق. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب).

و [روى أبو الفضلِ بنُ ناصر قال: ] بينا طاهرٌ في حرَّاقته يومًا وقد عزم على الخروج منها [إلى الشطِّ] إذ عرض له [الخَلُوقيُّ] الشاعر (¬1) فقال: [من المتقارب] عجبتُ لحرَّاقة ابنِ الحسينِ ... كيف تعوم ولا تغرقُ وبحرانِ مِن تحتها واحدٌ ... وآخَرُ من فوقها مُطبِق وأَعجبُ من ذاك عِيدانُها ... وقد مسَّها كيف لا تورِق فقال: أعطُوه ثلاثةَ آلافِ دينار، وقال: زِدنا حتَّى نَزيدَك، فقال: حَسْبي حسبي. [وحكى الخطيبُ (¬2) أنَّ] رجلًا من خُراسانَ وقف له (¬3) فأنشده: [من الكامل] أصبحتُ بين خَصاصةٍ وتجمُّلٍ ... والحرُّ بينهما يموت هزيلا فامدُد إليَّ يدًا تعوَّد بطنُها ... بذلَ النَّوال وظهرُها التَّقبيلا فأعطاه عشرين ألفًا. وقال أحمدُ بن يزيدَ السُّلَمي: كان طاهرٌ من رجالات خُراسان، جوادًا ممدَّحًا، كنت معه بالرقَّة وأنا أحد قوَّاده، فركب يومًا إلى ظاهر الرقَّة فتمثَّل (¬4): [من الطويل] عليكم بداري فاهدموها فإنَّها ... تراثُ كريمٍ لا يخاف العواقبا إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمَه ... ونكَّب عن طرْق الحوادثِ جانبا ولم يستشرْ في رأيه غيرَ نفْسِه ... ولم يرضَ إلَّا قائمَ السيفِ صاحبا ثم دار حول الرافقةِ (¬5) وجاء فنزل في القصر، ثم نظر في رِقاعٍ فوقَّع عليها بألف ألفِ درهم وسبعِ مئة ألفِ درهم، فقال قائل: ما رأينا مثلَ هذا المجلس، لكنه سَرَف، فقال ¬

_ (¬1) في (خ): عرض له شاعر. اهـ. وهو مُقَدَّس بن صيفي الخلوقي، انظر وفيات الأعيان 2/ 519، وتاريخ بغداد 10/ 484، والمنتظم 10/ 165 - 166، وتاريح الإسلام 5/ 94، والسير 10/ 108 - 109، والحَرَّاقة: ضربٌ من السفن فيها مرامي النيران يرمى بها العدو في البحر. الصحاح (حرق). (¬2) في تاريخه 10/ 485. (¬3) في (خ): ووقف له رجل من خراسان. (¬4) ستأتي الأبيات بعد قليل ضمن قصيدة في ثمانية أبيات، وباختلاف في الرواية. وانظر الشعر والشعراء 2/ 696، وديوان الحماسة 1/ 35 (بشرح التبريزي) و 1/ 67 (بشرح المرزوقي)، وتاريخ بغداد 10/ 484، والخزانة 8/ 141. (¬5) بلد متصل البناء بالرقة. معجم البلدان.

طاهر: السَّرف من الشَّرف. قال المصنِّف رحمه الله: والأبياتُ التي تمثَّل بها لسعد بن ناشبٍ المازني، أصاب دمًا، فهدم بلالُ بن أبي بُردةَ داره، فقال الأبيات، وهي في "الحماسة" وأوَّلها: سأغسل عني العارَ بالسيف جالبا ... عليَّ قضاءَ اللهِ ما كان جالبا وأَذهَل عن داري وأجعل هدمَها ... لعِرضيَ من باقي المذمَّة حاجبا ويصغر في عيني تِلادي إذا انْثَنَتْ ... يميني بإدراك الَّذي كُنْتُ طالبا فإنْ تهدموا بالغدر داري فإنَّها ... تراثُ كريمٍ لا يخاف العواقبا أخو غَمَراتٍ لا يريد على الَّذي ... يهُمُّ به من مُفظِع الأمرِ صاحبا إذا همَّ لم تُردَعْ عزيمةُ همِّه ... ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا فيا لَرِزامٍ (¬1) رشِّحوا بي مقدّمًا ... إلى الموت خوَّاضًا إليه الكتائبا إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمَه ... ولم يستشرْ في رأيه غيرَ صاحبا (¬2) وقال أحمدُ بن يزيد: كتب إلى طاهرٍ رجلٌ سفيهٌ برجل، فكتب على قصَّته: {قَال سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27]. وكتب طاهرٌ إلى إبراهيمَ بن المهديِّ وهو يحاصر بغداد: أما بعد: فإنَّه عزيزٌ عليَّ أن أكتبَ إلى أحدٍ من أهل بيتِ الخلافة بغير الإمرة، غيرَ أنَّني بلغني ميلُك إلى المخلوع الغادرِ الناكث، فإنْ كان كما بلغني، فكثيرٌ ما كتبت به إليك، وإن كان غيرَ ذلك، فالسلامُ عليك ورحمةُ الله وبركاتُه أيها الأمير. وقال القاضي التَّنوخي (¬3): لمَّا خرج طاهرٌ إلى محاربة عليِّ بن عيسى بنِ ماهان، ترك في كُمِّه دراهم ليفرقها في الفقراء والمساكين، ثم ركب وأسبل كُمَّه ناسيًا، فوقعت الدراهم وتبدَّدت، فتطيَّر واغتمَّ، وكان عنده شاعر، فأنشده: [من الكامل] هذا تفرُّق جمعِهم لا غيرهُ ... وذهابُها منه ذهاب الهمِّ ¬

_ (¬1) اللام لام الاستغاثة، ورزام ينجرُّ به، وهم المدعوون. شرح المرزوقي. (¬2) كذا؟ وقد سلف هذا الشطر قبل قليل صدرَ بيت، وجعله هنا في العجز لم أجده لغيره. (¬3) في الفرج بعد الشدة 1/ 281.

شيءٌ يكون الهمُّ بعضَ حروفه (¬1) ... لا خير في إمساكه في الكُمِّ فأمر له بثلاثين ألفَ درهم. ذِكر تنكُّره على المأمون ووفاتِه: وقد ذكرنا سببَ ذلك وإفضاءَه إلى العصيان من غير مجاهرة، وخاف المأمونُ أن يجاهرهَ فينفتقَ عليه من خُراسان فتق عظيم، وربَّما أقام طاهر من آل أبي طاهبر من يولِّيه الأمر، فشرع في ملاطفته [فحكى الخطيبُ عن كُلثوم بن ثابتٍ قال: لمَّا انقبض طاهرٌ عن المأمون واحترز منه] (¬2) أهدى له [المأمونُ] وَصِيفًا أديبًا عالمًا بفنون العلم، وبعث معه بالهدايا وأعطاه سمَّ ساعة، وأمره أن يسمَّه [وضمن له الأموال والرِّئاسة والتَّقدمة] فلمَّا وصل إلى طاهر، قبل الهديةَ وأنزل الوصيفَ في دار، وأجرى عليه ما يحتاج إليه، فأقام شهرًا لا يراه، فكتب الوصيفُ إليه [لما تبرَّم بالمقام: ] إن كنتَ قبلتني وإلَّا فردَّني إلى مولاي، فاستدعاه طاهرٌ وقد جلس على لِبْد أبيضَ وبين يديه سيفٌ مسلول ومصحفٌ منشور وقد حلق رأسَه، ولما دخل عليه قال: قد قبلنا هديةَ أميرِ المؤمنين غيرَك، فأَخْبِره بالحال التي أنا عليها، وليس له جوابٌ عندي غير ما تراه، وجهَّزه أحسنَ جَهَاز، فلمَّا قدم على المأمون وأخبره بالخبر، جمع جلساءه وقال: ما تقولون؟ فلم يفهموا فعلَ طاهر. فقال المأمون: أما جلوسُه على اللِّبد وحلقُ رأسه، فقد أخبرنا أنَّه عبدٌ ذليل، وأما المصحف، فهو يذكِّرنا العهودَ التي بيننا وبينه، وأما السيف، فإنَّه يقول: إن وفيت بالمواثيق وإلا فالسيفُ بيننا، ثم قال: لا تذكروه بعد اليوم، فاتفق موتُ طاهر. وكان يتمثل بقول دِعْبِل: [من الكامل] أيسومني المأمونُ خُطَّةَ عاجزٍ ... أَوَما رأى (¬3) بالأمس رأسَ محمَّدِ إنِّي من القوم الذين همُ وهمْ ... قتلوا أخاك وشرَّفوك بمَقْعدِ (¬4) ¬

_ (¬1) أي: الهاء والميم، وهما: همّ، بعضُ حروف كلمة الدرهم. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، والخبر في العقد الفريد 2/ 204 أوضح مما هنا وأتم. (¬3) في (ج): أوما ولي، والمثبت من الديوان ص 122. (¬4) في الديوان: =

وقال كُلثوم بن ثابت -وكان على بريد المأمونِ بخُراسان-: لمَّا انقضت من ولاية طاهرٍ [بخُراسان] سنتان ودخلت عليه [سنة] (¬1) سبعٍ ومئتين، حضرتُ يومَ الجمعة، فصعد المنبرَ وخطب، فلمَّا بلغ إلى ذِكر الخليفة، أمسك عن الدعاءِ له وقال: اللهم أَصلحْ أمَّةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بما أصلحتَ به أولياءك، واكفِها مؤنةَ مَن بغى عليها، واحقِنْ دماءها، وأَصلح ذاتَ البين [فلمَّا نزل] قلت له: ما هذا! أين الدعاءُ لأمير المؤمنين؟ ! قال: سهوت. فلما كان في الجُمُعة الأخرى فَعَلَ ذلك، فكتبت إلى المأمون [بذلك] فلمَّا كان بعد العصرِ من ذلك اليوم، دعاني طاهرٌ وقد حدث حادثٌ في جفن عينه، فخرجتُ من عنده، فدعاني ابنُه طلحةُ فقال: هل كتبتَ إلى المأمون بما كان؟ قلت: نعم، قال: فإنَّه قد مات، خذ هذه خممس مئة ألفِ درهم واكتب إلى المأمون بوفاته [وبقيامي بأمر الجيش] فكتبت، فوردت الخريطةُ على المأمون غُدوة بخلعه، فدعا ابنَ أبي خالدٍ وصاح عليه وقال: أنت الَّذي أفلتَّه من يدي، والله لئن لم تأتني به لَأَسوءنَّ عُقباك، فخرج من يومه، ثم جاء الخبر بوفاته ليلًا، فدعا ابنَ أبي خالد وقال: مَن ترى نولِّي مكانَه؟ قال: ابنُه طلحة. ولمَّا وقف المأمونُ على وفاته قال: لليدين والفم (¬2)، الحمدُ لله الَّذي قدَّمه وأخَّرنا. واختلفوا في سبب وفاتِه، فقيل: خرج في جَفنه بَثرةٌ فمات. وقيل: أصابته حمًّى شديدة فأحرقته. وقيل: وُجد ملفوفًا في دُواج (¬3) ميِّتًا ورأسُه مشدود -وكذا رِجلاه- على الدُّواج. وكانت وفاته بمروَ في جُمادى الأولَى، وقيل: الآخرة. و[اختلفوا فيمن] (¬4) ولَّى المأمونُ [بعده على قولين أحدهما: ] ابنُه طلحة، فأقام واليًا على خُراسانَ سبعَ سنين، وكان يتولَّى حربَ بَابَك، فأقام بالدِّينَور وجهَّز إليه الجيوش، ولمَّا مات طلحة، بعث المأمونُ بيحيى بنِ أكثمَ إلى عبد الله بنِ طاهرٍ يعزِّيه على أخيه ويهنِّئه بولاية خُراسان. ¬

_ = إني من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرفتك بمقعد (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) يقال هذا عند الشماتة بسقوط إنسان، أي: أسقطه اللهُ عليهما. مجمع الأمثال للميداني 2/ 207 - 208. (¬3) الدُّوَّاج والدُّوَاج: اللحاف الَّذي يلبس. القاموس المحيط (دوج). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

[والثاني: ] (¬1) أنَّه لمَّا مات طاهر، وثب الجندُ فانْتَهَبوا بعضَ خزائنه، فقام بأمرهم سلامٌ الأبرش الخصيّ، وأعطاهم رزقَ ستَّة أشهر، فصيَّر المأمونُ عملَ طاهرٍ إلى طلحةَ خليفةً عن أخيه عبدِ الله بن طاهر، وكان عبدُ الله مقيمًا بالرقَّة، فولَّاه المأمون عملَ طاهر كلَّه، وجمع له ذلك مع الشام، وكان يحارب نصرَ بن شبث، فبعث إليه بعهده [على خُراسان] (¬2) فوجَّه عبد الله أخاه طلحةَ إلى خُراسان، وبعث المأمونُ أحمدَ بن أبي خالدٍ إلى خُراسانَ للقيام بأمر طلحة، فشخص أحمدُ إلى خُراسان، فالتقاه طلحة، فقال له أحمد: غيِّب وجهَك عني؛ فإنَّ أباك عرَّضني للعطب، ولولا أميرُ المؤمنين ما خرجت إليك، ثم سار أحمدُ ومعه طلحةُ فعبروا النهر، وقرَّر أحمدُ أمورَ طلحةَ وعاد إلى العراق، فأعطاه طلحةُ ثلاثةَ آلافِ ألف درهم، وعروضًا بمئتي ألفِ (¬3) درهم، وأعطى كاتبَه إبراهيمَ بن العباس خمسَ مئة ألفِ درهم، ووصل أصحابَه وخواصَّه بأموال عظيمة، وأقام طلحة واليًا على عمل طاهرٍ سبعَ سنين في أيام المأمون، ومات طلحة، فاستقلَّ عبدُ الله بن طاهرٍ بالأعمال. وذكر الحاكمُ في "تاريخ نَيسابور" أنَّ المأمونَ لما ولَّى عبدَ الله بنَ طاهر خُراسانَ وأقام بها، كتب إلى المأمون: أمَّا بعد: فقد بَعُدَت داري عن ظلِّ أميرِ المؤمنين، وقد اشتدَّ شوقي إلى حضرته؛ لأتشرَّف بخدمته وأتجمَّلَ بمجلسه وأتزيَّن بخطابه، وإن كُنْتُ في سعةٍ من العيش، لكن لا شيءَ عندي أبرُّ من قُربه، فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يأذنَ لي في ورود حضرتِه لأجدِّدَ عهدًا بالمنعِم عليَّ وأتهنَّأَ بنِعَمٍ أسداها إليّ، فَعَلَ محسنًا إن شاء اللهُ تعالى. فلمَّا قرأ المأمونُ كتابه، وقَّع فيه: قُربك يا أبا العباسِ حبيب، وأنت مني حيث كنتَ قريب، وإنما بعدت دارُك نظرًا لك، وسموًّا بك، ورغبةً فيك، فاتَّبع قولَ الشاعر (¬4): [من الطويل] رأيتُ دُنوَّ الدارِ ليس بنافعٍ ... إذا كان ما بين القلوبِ بعيدُ ¬

_ (¬1) في (خ): وقيل. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخ الطبري 8/ 595، وابن الأثير 6/ 383: بألفي ألف. (¬4) هو أبو نواس، والبيت في ديوانه 4/ 52.

ومن شِعر طاهرٍ لمَّا تغيَّر على المأمون: [من الطويل] غضبتُ على الدنيا فجفَّت ضُروعُها ... وما الناسُ إلَّا بين راجٍ وخائفِ قتلتُ (¬1) أميرَ المؤمنين وما أرى ... بقائي كذا إلَّا لقتل الخلائف وقد بقيتْ في أُمِّ رأسي بقيَّةٌ ... فإذَا لحزمٍ أو لأمرٍ مخالف ومُنِّيتُ في دهر كثيرٍ صروفُه ... كأنيَ فيه من ملوك الطَّوائف وبلغ المأمونَ، فقامت قيامتُه، وقال: مَن يجيبه؟ فقال محمدُ بن يزيدَ (¬2) بنِ مَسلمة: أنا، فأجابه: عتبتَ على الدنيا فلا كنتَ راضيًا ... ولا أعتَبَتْ إلَّا بإحدى المتالفِ فمن أنتَ أَو ما أنت يا فَقْعَ قَرقَرٍ (¬3) ... إذا أنتَ منَّا لم تُعلَّقْ بكانف ستعلم ما تجني عليك وما جَنَتْ ... يداك فلا (¬4) تفخرْ بقتل الخلائف وقد بقيت في أُمِّ رأسِكَ فتكةٌ ... سنخرجها منه بأَسمرَ راعف وبعث بها إليه، فمات قبلَ وصولها. ورثاه جماعة [قال الخطيب: أخبرني عُبيد اللهِ بن أبي الفتحِ بإسناده إلى أبي القاسمِ السَّكوني قال: أنشد جعفرُ بن الحسن (¬5) لبعض المحدَثين يرثي طاهرًا] (¬6): [من الخفيف] فلئن كان للمنيَّة رهنًا ... إنَّ أفعاله لَرهنُ الحياةِ ولقد أوجب الزكاةَ على قومٍ ... وقد كان عيشُهم بالزَّكاة وكان له من الولد طلحةُ وعبدُ الله [وسنذكرهما في تراجمهما]. ¬

_ (¬1) في (خ) والوافي 16/ 399: فقلت، والمثبت من العقد الفريد 2/ 197، وجمهرة الأمثال 1/ 75. (¬2) في (خ): شريك، والمثبت من العقد الفريد. (¬3) في (خ): قنع قرقرا، والمثبت من العقد الفريد. والفقع: البيضاء الرخوة من الكمأة، ويقال للذليل: أذل من فقع بقرقرة، وهي الأرض المطمئنة اللينة. القاموس المحيط (فقع)، (قرر). (¬4) في (خ): وما. والمثبت من العقد الفريد. (¬5) في (ب): محمد، والمثبت من تاريخ بغداد 10/ 486. (¬6) في (خ): فقال بعض المحدثين.

عمر بن حبيب

حدَّث [طاهر] عن عبد اللهِ (¬1) بن المبارك وعن عمِّه عليٍّ [بنِ مصعب]. وروى عنه ابناه طلحةُ وعبدُ الله. عمرُ (¬2) بن حبيب العدويُّ، القاضي، الحنفيُّ، البصري، من بني عَديٍّ بن عبدِ مَنَاة. قدم بغداد، وولي بها قضاءَ الشرقيةِ وقضاء البصرة. [ذكر له الخطيبُ (¬3) حكايةً رواها عن الأزهريِّ بإسناده إلى عمرَ بنِ حبيب] قال: حضرتُ مجلسَ الرشيد، فجرت مسألة، فتنازعها الخصومُ وارتفعت أصواتُهم، واحتجَّ بعضهم بحديثٍ رواه أبو هريرة، فردَّ بعضهم الحديثَ وقال: أبو هريرة متَّهم في روايته، وصرَّحوا بتكذيبه، ومال هارونُ إلى قولهم ونصره، فقلت أنا: الحديثُ صحيحٌ عن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأبو هريرةَ صدوقٌ فيما يرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنظر إليَّ الرشيد نظرَ مغضَب، وقمت، فما بلغت بابَ المنزل إلَّا وصاحبُ البريد بالباب، فقال: أَجِب أميرَ المؤمنين إجابةَ مقتول، فقلت: اللهمَّ إنك تعلم أني دافعتُ عن نبيّك - صلى الله عليه وسلم -، وأَجللته أن يُطعنَ على صاحبه، فسلِّمنى منه. وتحنَّطت وتكفَّنت. ثم أُدخلت عليه وهو جالسٌ حاسر عن ذراعيه، وبيده السيفُ وبين يديه النِّطع، فلمَّا رآني قال: يا عمرَ بنَ حبيب، ما تلقَّاني أحدٌ من الردِّ والدفعِ مثلما لقيتَني به، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الَّذي قلتَه وجادلت عليه فيه إزراءٌ على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابُه كذَّابين، فالشريعةُ باطلة، والأحكامُ والحدود مردودة. قال: فرجع إلى نفسه وفكَّر ثم قال: أحييتَني [يا عمر بن حبيب] (¬4) أحياك الله، يردِّدها ثلاثًا. وأمر لي بعشرة آلافِ درهم. وكانت وفاةُ عمرَ [في هذه السَّنة] بالبصرة. وقيل: ببغداد. أسند عن [داودَ بنِ أبي هندٍ وخالدٍ الحذَّاء و] هشامِ بن عروة [وسليمانَ التَّيمي] ¬

_ (¬1) في (ج): عن مصعب عن عبد الله ... ، وهو خطأ. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ج): عمرو، في كل المواضع، وهو خطأ. (¬3) في تاريخه 13/ 28. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

محمد بن عبد الله

وغيرِهم (¬1). وروى عنه [محمدُ بن عُبيد الله] بنِ المنادي وغيرُه. وكان صدوقًا ثقة (¬2)، حاكمًا بالعدل، لا تأخذه في الله لومةُ لائم. [وقال الخطيب: ] (¬3) ولَّاه هارونُ قضاءَ البصرة -وكان عليها محمدُ بن سليمان (¬4) - فقال عمرُ ليحيى بن خالد: تبعثوني إلى جبَّار لا آمَنُه، يعني محمدَ بن سليمان، فبعث معه مئةَ فارس، فكان إذا جلس للقضاءِ قام خمسون عن يمينه وخمسون عن يساره [سِماطَين] (¬5) فلم يكن قاضٍ أهيبَ منه، وكان لا يكلِّمه في الطريق أحدٌ، رحمةُ الله عليه. وهو الَّذي استعدى إليه رجلٌ على عبد الصمدِ (¬6) بن عليِّ بن عبدِ الله بن عباسِ عمِّ المنصور، فلم يحضر مجلسَ الحكم، وبلغ هارونَ الرشيد، فقال: واللهِ لا يمشي إلى مجلس الحكمِ إلَّا ماشيًا، وكان شيخًا كبيرًا، فبُسطت له اللُّبود وحضر، فحكم عليه عمرُ بن حبيب [وقد ذكرناه فيما مرّ (¬7). وتكلَّموا في عمرَ بن حبيب، فقال الساجي: تركوه؛ لموضع الرأي، وكان صَدوقًا، وذكره النَّسائيُّ في "الضُّعفاء والمتروكين" (¬8)]. محمدُ بن عبد الله ابن عبد الأعلى، أبو يحيى الأسَديُّ الكوفي. ويُعرف بابن كُناسة، وهو لقبُ أبيه عبدِ الله، ومحمدٌ هو ابن أختِ إبراهيمَ بن أدهمَ رحمه الله (¬9). ¬

_ (¬1) في (ج): وغيره. (¬2) كذا قال، وهو مخالف لما سيأتي آخر الترجمة وما في المصادر. انظر تاريخ بغداد، وتهذيب الكمال، والسير 9/ 490. (¬3) في تاريخه 13/ 28. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين معترضتين ليس في تاريخ بغداد. (¬5) يعني صفين، سماط القوم: صفهم. القاموس (سمط)، وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ): عبد الرحمن. وهو خطأ. وانظر تاريخ بغداد 13/ 29. (¬7) 13/ 68. وما بين حاصرتين من (ب). (¬8) ص 84. (¬9) تاريخ بغداد 3/ 399 - 404، والأنساب للسمعاني 10/ 474، وتهذيب الكمال، والسير 9/ 508، وغيرها.

كان عالمًا بالعربية والشِّعر وأيامِ الناس [وذكره الخطيب (¬1) فقال: ] وُلد سنةَ ثلاثٍ وعشرين ومئة [وقدم بغدادَ وحدَّث بها. قال (¬2): ] ورآه رجلٌ يحمل بطنَ شاةٍ [بيده] فقال: أنا أحمله عنك، فقال: [من الرجز] لا ينقص الكامل من كمالهِ ... ما جرَّ من نفعٍ إلى عيالهِ [روى الخطيبُ (¬3) بإسناده إلى] إسحاقَ بن إبراهيمَ قال (¬4): أتيتُ محمدَ بن كُناسةَ لأكتبَ عنه، فكثر عليه أصحابُ الحديث، فتضجَّر منهم وتجهَّمهم، فلمَّا انصرفوا عنه دنوتُ منه، فهشَّ إليَّ واستبشر [بي] وبسط وجهَه، فقلت له: لقد تعجَّبت من تفاوت حالتَيك، فقال: أَضجرني هؤلاء بسوء أدبهم، فلمَّا جئتَني انبسطتُ إليك، وقد حضرني في هذا المعنى بيتان، وهما: [من المنسرح] فيَّ انقباضٌ وحِشمةٌ فإذا ... صادفتُ أهلَ الوفاءِ والكرمِ أرسلتُ نفسي على سجيَّتها ... وقلتُ ما قلتُ غيرَ مُحْتَشِم فقلت: وددتُ أنَّ هذين البيتَين لي بنصف ما أَملك، فقال: قد وفَّر الله عليك مالك، ما سمعهما أحدٌ ولا قلتُهما إلَّا الساعة، فقلت له: فكيف لي بعلم نفسي أنَّهما ليسا لي! [قال الخطيب: ] (¬5) ومن شِعره [أيضًا: ] [من الطويل] ضعفتُ عن الإِخوان حتَّى جفوتُهمْ ... على غير زهدٍ في الإخاءِ وفي الوُدِّ ولكنَّ أيامي تخرَّمنَ قوَّتي ... فما أبلغُ الحاجاتِ إلَّا على جهد [واختلفوا في وفاته، فقال الخطيب (¬6): في سنة سبعٍ ومئتين هذه السَّنة] وكانت وفاتُه بالكوفة لثلاثِ ليالٍ خلونَ من شوَّال [قال: وقال ابنُ قانع: في سنة تسعٍ ومئتين]. ¬

_ (¬1) في تاريخه 3/ 399، 404. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) 3/ 402. (¬3) في تاريخه 3/ 402. (¬4) (خ): وقال إسحاق بن إبراهيم. (¬5) في تاريخه 3/ 403. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في تاريخه 3/ 404 - 405. وما بين حاصرتين من (ب).

محمد بن عمر

حدَّث عن هشام بنِ عروةَ [والأعمش] وغيرِهما (¬1). وروى عنه الإمامُ أحمدُ رحمةُ الله عليه وغيرُه، واتفقوا على صدقه وثقتِه [وأمانتِه وديانته]. محمد بن عُمر ابنِ واقد، [أبو] (¬2) عبد الله الواقديُّ الأسلميُّ، مولاهم. صاحبُ المغازي والسِّير وأيامِ الناس (¬3). ذكره ابنُ سعد في الطبقة السابعةِ من أهل المدينة (¬4) [قال (¬5): وهو مولًى لبني سهمٍ من أسلم. قال ابنُ سعد: أخبرني أنَّه] ولد [في أوَّل] سنةِ ثلاثين ومئة، وقدم بغدادَ سنةَ ثمانين، ولحقه دَين، ثم خرج إلى الشام والرقَّة، ورجع إلى بغداد، فلم يزل بها حتَّى قدم المأمونُ من خُراسان، فولَّاه القضاءَ بعسكر المهديِّ، فلم يزل بها قاضيًا حتَّى مات، وكان عالمًا بالسِّير والمغازي [والفتوحات، وصنَّف فيها الكتبَ] واختلافِ الناس في الحديث والأحكامِ والفقه، واجتماعِهم على ما اجتمعوا عليه [وقد فسَّر ذلك في كتبٍ استخرجها وحدَّث بها]. وكان جوادًا سخيًّا. [وقال الخطيب (¬6) عن ابن سعد (¬7): ولي الواقديُّ لعبد الله بنِ هارون أميرِ المؤمنين أربعَ سنين بعسكر المهدي.] ذِكر طَرَفٍ من أخباره: [قد اختلفت الروايةُ في أوَّل معرفته بيحيى بنِ خالد، فقال الخطيبُ (¬8) بإسناده إلى ¬

_ (¬1) في (ج): وغيره. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) طبقات ابن سعد 7/ 603 - 611 و 9/ 336 - 337، وتاريخ بغداد 4/ 5 - 32، والسير 9/ 454 - 469، وتاريخ الإسلام 5/ 182 - 187، وغيرها. (¬4) طبقات ابن سعد 7/ 603، وأعاده فيمن نزل ببغداد ومات بها 9/ 336 - 337، وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في طبقاته 3/ 607 - 611، 9/ 336 - 337. (¬6) انظر تاريخ بغداد 4/ 6. وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) الطبقات 7/ 603. (¬8) في تاريخه 4/ 6 - 7. وما بين حاصرتين من (ب).

يحيى بن محمدٍ العَنْبَريِّ قال: ، قال [الواقدي: ] كنت حنَّاطًا (¬1) بالمدينة وفي يدي مئةُ ألفِ درهم للناس أُضارب بها، فتَلِفت، فشخصت إلى العراق وقصدتُ يحيى بنَ خالد، فجلست في دِهليزه وأَنِست بالخدم والحجَّاب، وسألتهم أن يوصلوني إليه، فقالوا: إذا قدِّم إليه الطعامُ لم يُحجَب عنه أحد، ونحن نُدخلك إليه ذلك الوقت، فلما حضر الطعام، أَدخلوني وأَجلسوني على المائدة، فسألني: مَن أنت؟ وما قصَّتك؟ فأَخبرته بخبري. فلما رُفعت المائدة، دنوتُ منه لأقبِّلَ رأسه، فاشمأزَّ مني، وخرجتُ، فلحقني خادمٌ ومعه كيسٌ فيه ألفُ دينارٍ وقال لي: الوزير يُقرئك السلامَ ويقول لك: استعنْ بهذا على أمرك وعُدْ إلينا في غد، فأخذته وعدتُ إليه في غد، فحضرتُ على مائدته، فسألني كما سألني في اليوم الأوَّل، فأجبته. فلما رُفع الطعام، قمت لأقبِّلَ رأسه، فاشمأزَّ مني [فخرجت] (¬2) ولحقني خادمٌ بكيسٍ فيه ألفُ دينار، وقال لي كما قال بالأمس، وحضرتُ في اليوم الثالثِ وأردت تقبيلَ رأسه، فاشمأزَّ مني، ولحقني الخادمُ بكيسٍ فيه ألفُ دينار، فلمَّا كان في اليوم الرابع، لحقني الخادمُ بكيسٍ فيه ألفُ دينار وتركني أقبِّلُ رأسَه، فقال: إنَّما منعتُك ذلك في أوَّل الأمر لأنَّه لم يكن وَصَلَ إليك من معروفنا ما يوجب هذا، والآن قد لحقك بعضُ النفع [مني] أَعطِه يا غلامُ الدارَ الفلانيةَ وافرُشها بالفرش الفلاني [يا غلام] أَعطِه مئتَي ألفِ درهم، يقضي دَينَه بمئة ألف ويُصلح شأنَه بمئة ألف، ثم قال: الزمني وكن في داري، فقلت: أعزَّ اللهُ الوزير، لو أذنتَ لي بالشُّخوص إلى المدينة لأقضيَ الناسَ أموالهم ثم أعودَ إلى حضرتك كان ذلك أرفقَ بي، فأذن لي وأمر بتجهيزي، فشَخَصت إلى المدينة، فقضيت دَيني ثم رجعت إليه، فلم أزل في ناحيته. [قلت: قولُ يحيى لمَّا قبَّل رأسَه: الآن قد وصلك بعضُ النفع، ليس من أخلاق الكرام؛ لما فيه من الذُّلِّ والصَّغار، وقد كان العظماءُ يمنعون من تقبيل أيديهم لئلا يكونَ ذلك مقابلة. وهذه روايةُ الخطيب. ¬

_ (¬1) أي: بائعًا للحنطة. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

وأما ابنُ سعد، فإنَّه حكى عن الواقديِّ قال (¬1): حجَّ أميرُ المؤمنين هارون، فورد المدينةَ فقال ليحيى بنِ خالد: ارْتَدْ (¬2) لي رجلًا عاقلًا عارفًا بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزولُ جبريلَ - عليه السلام - على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومن أيِّ وجهٍ كان يأتيه، وقبورِ الشهداء، فقال يحيى: فكلٌّ دلَّه عليه (¬3). فبعث إليَّ فأتيته، وذلك بعد العصر، فقال: يا شيخ، إنَّ أميرَ المؤمنين - أعزَّه الله - يريد أن يصلِّيَ العشاءَ الآخرةَ في المسجد، فتحضر فتمضي معنا إلى هذه المشاهدِ فتوقفنا عليها، والموضعِ الَّذي كان جبريلُ - عليه السلام - يأتي منه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكن عنده. فلمَّا صلَّينا العشاءَ الآخرة، وإذا الشموعُ قد خرجت، وإذا برجلين على حمارَين، فقال يحيى: أين الرجل؟ فقلت: ها أنذا، فأتيتُ به إلى أدوُر المسجد، فقلت: هذا الموضعُ الَّذي كان جبريلُ يأتيه، فنزلا عن حمارَيهما فصلَّيا ركعتين ودعوَا اللهَ ساعة، ثم ركبا وأنا بين أيديهما، فلم أدعْ موضعًا من المواضع ولا مشهدًا من المشاهد إلَّا مررتُ بهما عليه وهما يصلِّيان ويجتهدان في الدُّعاء، فلم نزل كذلك حتَّى وافينا وقد أذَن المؤذِّن وطلع الفجر. فلمَّا دخلا القصر، قال لي يحيى بنُ خالد: أيها الشيخ، لا تبرح. فصلَّينا الغداةَ في المسجد وهو على الرِّحلة إلى مكة، فأذن لي يحيى بنُ خالد عليه، فدخلت، فأدنى مجلسي وقال لي: إنَّ أميرَ المؤمنين لم يزل باكيًا، وقد أعجبه ما دللتَه عليه، وقد أمر لك بعشرة آلافِ درهم، فخذها، ونحن على الرِّحلة اليوم، ولا عليك أن تلقانا حيث كنَّا واستقرَّت بنا الدارُ إن شاء الله. ورحلوا، فأتيتُ منزلي وقضيت دَيني وزوَّجت بعضَ الولد، واتَّسعنا، ثم إنَّ الدهر عضَّنا، ثم قالت أمُّ عبد الله: يا أبا عبدِ الله، ما قعودُك وهذا وزيرُ الخليفة قد عرفك وسألك أن تصيرَ إليه حيث استقرَّت به الدار! قال: فخرجتُ من المدينة إلى العراق وأنا ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 7/ 603 في بعد. وما بين حاصرتين كله من (ب). (¬2) في (ب): أريد. والمثبت من طبقات ابن سعد 7/ 604، وسير أعلام النبلاء 9/ 464. (¬3) الَّذي في المصادر: فسأل يحيى، فكلٌّ دلَّه عليَّ.

أظنُّ أن أميرَ المؤمنين ببغداد، فلمَّا قدمت بغدادَ قيل لي: إنه بالرقَّة، فأردت الرجوعَ إلى المدينة، فثقل عليّ، فخرجت إلى الرقَّة، ورافقني فِتيان من الجند، فقالوا: أين تريد؟ فأخبرتُهم خبري. ونزلنا في السُّفن، فأكرموني وخدموني، فلمَّا وصلنا الرقَّة نزلنا في خان، وطلبتُ الوصولَ إلى يحيى بنِ خالد، فصعب عليّ، فأتيت أبا البَختريِّ القاضي وهو عارفٌ بي، فأخبرتُه خبري، فقال: غرَّرتَ بنفسك وأخطأت، ولكن سوف أذكرك له، ومَطَلَ بي أيامًا، ونفدتْ نفقتي، وتقطَّعت ثيابي، وأَيِست من أبي البَختري، وإذا هارونُ قد ولَّى بكَّارَ الزُّبيريَّ على قضاء المدينة، فقصدته وعرَّفته خبري مع أبي البختري، فقال: أخطأت، أما علمتَ أنَّ أبا البختريِّ لا يذكرك لأحدٍ ولا يفوه باسمك؟ ثم دخل على يحيى بنِ خالدٍ وأخبره خبري، فاستدعاني، فلمَّا رآني في تلك الحالةِ الخسيسة، ظهر أثرُ الغمِّ في وجهه، واستدناني ورحَّب بي، وجعل يسألني عن الحديث، فأجبتُ بغير الصواب، وكان في رمضان، فقال: تُفطر الليلةَ عندي، فأفطرت، فلمَّا خرجت، بعث إليَّ بكيسٍ فيه خمسُ مئةِ دينار، وأفطرت عنده الليلةَ الثانيةَ والثالثة، فكان يعطيني في كلِّ ليلةٍ خمسَ مئة دينار، وجاءت ليلةُ العيد وقد حَسُنَ حالي واشتريت ثيابًا ودابَّةً وغلامًا، وعرضتُ ما حصل لي على أصحابي الفتيان، فأبَوا أن يأخذوا منه دِرهمًا ولا دينارًا، وقال لي يحيى: اُحضر غدًا العيد مع أمير المؤمنين في الموكب، فحضرت، فأمر لي هارونُ بثلاثين ألفًا، فقلت: أيّها الوزير، لا بدَّ من المسير إلى العيال، فجهَّزني بأحسن جهاز، وبعث معي بهدايا الشام وطُرَفِها، ووصلت المدينةَ فأوسعت على عيالي. وهذه حكايةٌ طويلة الألفاظ جميلةُ المعاني، اختصرتها وذكرت المقصودَ منها. وروى الخطيبُ (¬1) بإسناده إلى أبي عكرمةَ الضَّبِّي، عن سليمانَ بنِ أبي شيخ قال: حدَّثني] الواقديُّ قال (¬2): أضقت إضاقةً شديدة وأنا مع يحيى بنِ خالد، وجاء العيد، ¬

_ (¬1) في تاريخه 4/ 30. (¬2) في (ج): وقال الواقدي.

فقالت الجارية: قد حضر العيدُ وليس عندنا شيءٌ من آلته، فشَخَصْتُ إلى صديقٍ لي من التجار، فعرَّفته حاجتي وسألته القرض، فأخرج إليَّ كيسًا مختومًا فيه ألفٌ ومئتا درهم، فأخذتُه وأتيت منزلي، فما استقررت فيه حتَّى جاءني صديقٌ لي هاشمي، فشكا إليَّ الحاجة وَسألنى القرض، فدخلت إلى زوجتي فأخبرتها، فقالت: على أيِّ شيءٍ عزمت؟ قلت: أُقاسمه ما في الكيس، قالت: بئسَ ما تصنع، أتيتَ رجلًا سوقيًّا فأعطاك ألفًا ومئتي درهمٍ وجاءك رجلٌ هاشميٌّ له برسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَحِمٌ ماسَّة تعطيه نصفَ ما أعطاك! أَعطِه الكيس كلَّه، فأخرجتُه إليه، فأخذه ومضى إلى منزله، فجاءه التاجرُ صاحب الكيس، فشكا إليه حاجتَه وسأله القرض، فأخرج إليه الكيسَ وعليه خاتَمه، فعرفه، وجاء التاجرُ إليَّ وعرَّفني، فركبتُ إلى يحيى بنِ خالد وقد جاءني رسولُه، فلما دخلتُ عليه أخبرته، فعجب وقال: يا غلام، عشرةَ آلافِ دينار، فأحضرها، فقال: خذ أنت ألفَي دينار؛ وصديقُك التاجر ألفَي دينار، والهاشميُّ ألفي دينار، وادفع إلى زوجتك أربعة آلافِ دينار، فإنها أكرمُكم. فكان الواقديُّ يبكي ويقول: أُلام على حبِّ يحيى بنِ خالدٍ والبرامكة! وقال الواقدي: صار إليَّ من السلطان ستُّ مئة ألفِ درهمٍ ما وجب فيها زكاة. [قال عبَّاس (¬1) الدُّوري: مات الواقديُّ وليس له كفن، فبعث المأمونُ بأكفانه. وكان سخيًّا جوادًا. وكان هارونُ يعطيه في كلِّ سنةٍ ثلاثين ألفَ درهم، ويحيى بنُ خالد مثلَها. وقال الخطيب (¬2): كان الواقديّ مع فضله لا يحفظ القرآن، قال له المأمون: أريدك غدًا أن تصلِّيَ بالناس الجمعة، فامتنع وقال: واللهِ يا أميرَ المؤمنين ما أحفظ سورةَ الجمعة، قال: أنا أحفِّظك، قال: افعل، فأقبل عليه يعلِّمه ويلقِّنه حتَّى بلغ النصفَ من سورة الجمعة، فلمَّا شرع في النِّصف الثاني نسي النصفَ الأولى، وشرع في النصف الأولِ فنسي الثاني، وأُتعبَ المأمون ونَعِس، فقال لعليِّ بن صالح: يا علي، حفِّظه أنت، ونام. قال: فجعلت أحفِّظه النصفَ الأولى [فيحفظه، فإذا حفَّظته النصف الثاني ¬

_ (¬1) في (ب): ابن عباس، وهو خطأ، والتصويب من تاريخ بغداد 4/ 31. (¬2) في تاريخه 4/ 11 - 12. وما بين حاصرتين كله من (ب).

نسي الأول، وإذا حفَّظته النصف الأول نسي الثاني] (¬1)، فاستيقظ المأمونُ فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، فقال: هذا رجلٌ يحفظ التأويلَ ولا يحفظ التنزيل، اذهب فصلِّ بهم واقرأ بأيِّ سورةٍ شئتَ. وحكى الخطيبُ (¬2) أيضًا أنَّ الواقديَّ كان يقول: حفظت أكثرَ من كتبي. وقال بإسناده (¬3) إلى هارونَ بن عبدِ الله الزُّهريِّ القاضي قال: كتب الواقديُّ إلى المأمون رقعةً يذكر فيها غَلَبة الدَّين وغمَّه بذلك، فوقَّع على ظهرها: فيك خَلَّتان: السَّخاء والحياء؛ فأما السَّخاء، فهو الَّذي أطلق ما ملكتَ، وأمَّا الحياء، فهو الَّذي منعك من إطلاعنا عليك فيما أنت عليه، وقد أمرنا لك بكذا وكذا، فإن كنَّا أصبنا (¬4) إرادتَك في بسط يدك، فإنَّ خزائن اللهِ مفتوحة، وأنت كنت حدَّثتني وأنت على قضاءِ الرشيد عن محمد بنِ إسحاقَ، عن الزُّهريِّ، عن أنس بن مالك، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال للزّبير: "يا زبير، بابُ الرزق مفتوحٌ بإزاء العرش، يُنزِل اللهُ للعباد أرزاقَهم على قَدْر نفقاتهم، فمن قلَّل قلّل له، ومن أكثر كثِّر له" (¬5). قال الواقدي: وقد كنت أُنسيت هذا الحديث، فكان تَذْكِرَتُهُ إياي أحبَّ إليَّ من جائزته، وكانت الجائزة مئة ألف درهم. وقد حكى الواقعةَ] الحارثُ بن أبي أسامةَ قال (¬6): كتب الواقديّ إلى المأمون رقعةً يذكر فيها غَلَبة الدَّين وغمَّه بذلك، فكتب المأمونُ على رقعته: أنت رجلٌ فيك خَلَّتان: السخاءُ والحياء، فالسَّخاء يُطلق ما في يديك، والحياءُ يمنعك من إبلاغنا حاجتَك، وقد أمرتُ لك بمئة ألفِ درهم، فإن كُنْتُ أصبت، فازددْ في بسط يدِك، وإن كنت لم أُصِب، فأنت الجاني على نفسك؛ فإنك حدَّثتني عن محمد بنِ إسحاق، عن الزُّهري، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين هنا ليست في (ب) واستدرك من المصدر. (¬2) في تاريخه 4/ 9. (¬3) في تاريخه 4/ 29. (¬4) في (ب): أرصدنا، والتصويب من تاريخ بغداد. (¬5) وأخرجه بنحوه ابن عدي في الكامل 4/ 1501، وأبو نعيم في الحلية 10/ 73، وابن الجوزي في لموضوعات (925) من حديث الزبير - رضي الله عنه -. (¬6) في (ج): وقال الحرر [كذا] بن أبي أسامة.

عن أنس بنِ مالك، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مفاتيحَ أرزاقِ العباد بإزاءِ العرش، يبعثه اللهُ تعالى إلى عباده على قَدْر نفقتهم، فمن قلَّل قُلِّل له: ومن كثَّر كُثِّر له". قال الواقدي: فروايةُ أميرِ المؤمنين عنِّي ومذاكرتُه إياي أحبُّ إليَّ من الجائزة. [وهذه الروايةُ أحسنُ من رواية الخطيب. وحكى الخطيبُ (¬1) عن] الواقديِّ أنَّه كان يقول (¬2): ما أدركتُ رجلًا من أبناء الصحابةِ وأبناءِ الشهداء ولا مولًى لهم إلَّا سألته: هل سمعتَ أحدًا من أهلك يُخبرك عن مشهده وأين قُتل؟ فإذا أخبرني مضيتُ إلى الموضع حتَّى أعاينَه، ولقد مضيت إلى المُرَيسِيع فنظرت إليها، وما علمت مكانَ غزاةٍ إلَّا مضيتُ إلى الموضع حتَّى أُعاينَه. ذِكرُ وفاته: [قال ابنُ سعد: ] (¬3) توفِّي [الواقديُّ] وهو على القضاءِ في ذي الحِجَّة ببغدادَ هذه السَّنة، وصلَّى عليه محمدُ بن سماعةَ التميمي، ومحمدٌ يومئذ على القضاء ببغدادَ في الجانب الغربي، وأوصى الواقديُّ إلى المأمون، فقَبِلَ المأمون وصيَّته وقضى دَينه [وكان له يومَ مات ثمانٍ وسبعون سنة. وكذا قال البخاريُّ في هذه السَّنة (¬4). وقاله (¬5) الخطيب]. وقيل: [إنه مات في] سنة ستٍّ ومئتين، أو سنة تسعٍ ومئتين، والأوَّل أصحّ (¬6). [قال: ودُفن في مقابر الخَيزُران] وهو ابنُ ثمانٍ وسبعين سنة (¬7). ولم يوجد له كفن، فكفَّنه المأمون. ¬

_ (¬1) في تاريخه 4/ 9. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ج): وكان الواقدي يقول. (¬3) في طبقاته 7/ 611. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) أو بعدها بقليل. كذا في التاريح الكبير 1/ 178. (¬5) في (ب): وقال. والمثبت هو الصواب، وكلام الخطيب في تاريخ بغداد 4/ 6. (¬6) لم أقف في تاريخه على ذكر سنة ست ومئتين، بل ذكر سنة سبع ومئتين وتسع ومئتين، ورجَّح الأول. انظر تاريخه 4/ 31. (¬7) في (ب) -وما بين حاصرتين منه-: وهو ابن سبع وسبعين سنة. وفي (ج): وهو ابن ثماني وتسعون سنة، وقيل: سبع وسبعين سنة. والمثبت من طبقات ابن سعد 9/ 336، وتاريخ بغداد 4/ 6.

أَسند عن كبار الأئمَّة [فسمع بالشام والحجازِ والعراق من خلقٍ كثير، منهم: سفيانُ الثوري، ومَعمرُ بن راشد، وابنُ أبي ذئب، وبمكَّة ابنُ جُريج، وبالمدينة مالكُ بن أنس وأبو مَعشر نَجيح السِّندي، وسمع بدمشقَ سعيدَ بن عبد العزيز، والأوزاعيّ، وهشامَ بن الغاز، وبحمصَ ثورَ بن يزيد. وروى عنه الجمُّ الغفير، وروى الأئمَّة] محمدُ بن سعدٍ صاحب"الطبقات" -وكان كاتبَه وبه يعرف-[وأبو بكر بنُ أبي شيبة، ومحمدُ بن إسحاقَ الصاغاني (¬1)، ومحمدُ بن شجاعٍ الثَّلجي (¬2)، والحارثُ بن أبي أسامةَ التميمي، في آخرين]. قال المصنِّف رحمه الله: وقد انقسموا فيه قسمين: فقسمٌ أثنَوا (¬3) عليه ووثَّقوه، وقسم تكلَّموا فيه وضعَّفوه: فأما القسمُ الأول، فقال الخطيب: الواقديُّ ممن طبَّق علمُه الأرضَ شرقًا وغربًا، [ولم يَخْفَ على أحدٍ عرف أيامَ الناس] (¬4)، وسارت الركبانُ بكتبه في فنون العلوم، من المغازي، والسِّيَر، والطبقات، وأخبارِ الناس، وأخبارِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والأحداثِ التي كانت في زمانه [والفقه، واختلافِ الناس] وغيرِ ذلك، وكان جَوَادًا كريمًا مشهورًا بذلك. وقال محمد بن سلَّامٍ الجُمحي: الواقدي عالِم دهره. وقال يعقوبُ بن شيبة: انتقل الواقديّ [من الجانب الغربيِّ إلى الجانب الشرقي. يعني من بغداد] (¬5) فحمل كتبَه على عشرين ومئةِ وقْرٍ (¬6). وقال غيرُه: كان له ستُّ مئة قِمَطر كتب. [وقد روينا عنه أنَّه كان يقول: حفظتُ أكثرَ من كتبي. ¬

_ (¬1) في (ب) -وما بين حاصرتين منه-: الشاذكوني، والمثبت من المصادر، والشاذكوني اسمه: سليمان بن داود، وكلاهما يروي عن الواقدي. انظر تاريخ بغداد 4/ 5، والسير 9/ 455، وتهذيب الكمال. (¬2) في (ب): البلخي، والتصويب من المصادر. (¬3) في (ب): اتفقوا. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد 4/ 5 - 6. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) الوقْر: الحمل الثقيل. القاموس (وقر).

وقال الدَّراوردي: الواقديُّ أميرُ المؤمنين في الحديث] (¬1) وقال مصعبٌ الزُّبيري: هو ثقةٌ مأمون، واللهِ ما رأينا مثلَه قطّ. وقال يزيد بنُ هارونَ وأبو عُبيدٍ القاسم: الواقديُّ ثقة. [وقال عبَّاس العنبري: الواقديّ أحبُّ إليَّ من عبد الرزاق. وكان إبراهيم الحربيُّ معجبًا به ويقول: الواقديُّ أمنُّ الناس على أهل الإسلام، وأعلمُ الناس بأمر الإسلام، ومَن قال: إنَّ مسائلَ مالكٍ وابنِ أبي ذئب تؤخذ عمَّن هو أوثقُ من الواقديِّ لم يَصْدُق. وقال مصعبٌ الزبيري: حدَّثني مَن سمع عبدَ الله بن المباركِ يقول: كنت أَقدَم المدينةَ فما يفيدني ويدلُّني على الشيوخ سواه. وقال يعقوبُ بن شيبة: سئل مالكٌ عن قتل الساحرة، فقال: اسألوا الواقدي، فسألوه: فقال: نعم، عن الضحَّاك بنِ عثمان، فتبع مالكٌ قوله]. وقال محمد بنُ صالح: سئل مالكُ بن أنس عن المرأة التي سمَّت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، ما فعل بها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال مالك: لا أعلم، وسأل أهلَ العلم، فلقي الواقديَّ فسأله، فقال: نعم، عندنا أنَّه قتلها، فقال مالك: قد سألت العلماءَ فقالوا: قتلها. [وقال إبراهيم بنُ جابر: حدَّثني عبدُ الله بن أحمدَ بنِ حنبل قال: كان أكثرُ نظرِ أبي في كتب الواقدي، قال: وكتب عن أبي يوسفَ ومحمدٍ ثلاثَ قماطر. وكان إبراهيمُ بن جابر الصَّغَانيُّ (¬2) يقول: لولا أن الواقديَّ ثقةٌ ما حدَّثتُ عنه، وقد حدَّث عنه أربعةٌ من الأئَمَّة: أبو بكر بنُ أبي شيبة، وأبو خَيثمة، وأبو عُبيد القاسم، ورجلٌ آخر. وقال إبراهيمُ الحربي: سئل معنُ بن عيسى عن الواقديِّ فقال: أنا أُسأل عن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب): الصنعاني. وهو خطأ. ثم إن المصنف وهم هنا؛ فالصغاني أو الصاغاني هو محمد بن إسحاق، وإبراهيم بن جابر -البغدادي- يروي كلامه. انظر تاريخ بغداد 4/ 13 - 14، وفيه: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن جابر الفقيه قال: سمعت الصاغاني ... الخبر.

الواقديّ إنما يُسأل الواقديُّ عنِّي، قال إبراهيمُ الحربي: وأما فقهُ أبي عُبيدٍ فمن كتب الواقدي] (¬1). وأما الذين تكلَّموا فيه وضعَّفوه، فالإمامُ أحمدُ بن حنبل، والبخاريّ، ومسلم، والنَّسائي، وابن المَديني، والشافعي، وغيرُهم. فقال أحمدُ رحمةُ الله عليه: الواقديُّ كذاب، جعلتُ كتبَه ظهائرَ الكتب منذ حين، وقد روى الواقديُّ عن مَعمر، عن الزهري، عن نَبهان مكاتَبِ أمِّ سلمة، عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأعمى: ["أَفعمياوانِ أنتما"] قال الإمامُ أحمد: لم يروه عن الزهري غيرُ يونس، وليس من حديث مَعمر (¬2). [وقال عبدُ الله بن أحمدَ بن حنبل: قال أبي: لست أُنكر على الواقديِّ إلَّا كونَه يأتي بمتنٍ واحد على سياقٍ واحد عن جماعةٍ ربما اختلفوا]. وأمَّا البخاريُّ فقال: ليس له عندي حرفٌ واحد من حديثه. وقال مسلم: هو متروكُ الحديث. وقال الإمام الشافعيُّ رحمةُ الله عليه: الواقديُّ ضعيف. وقال النَّسائي: الكذَّابون المعروفون بالكذب أربعة: ابنُ أبي يحيى بالمدينة، والواقديُّ ببغداد، ومقاتلُ بن سليمان بخُراسان، ومحمدُ بن سعيدٍ المصلوبُ بالشام. وقال إسحاقُ بن راهُويه: كان الواقديُّ يضع الحديث. [قلت: انتصر للواقديِّ جماعةٌ فقالوا: قد كان الواقديُّ يَعيب على أحمدَ جَرحَه العلماء (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) الحديث بالإسناد الأول أخرجه ابن سعد في الطبقات 10/ 170، وعنه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 4/ 27، وبالإسناد الثاني أخرجه أبو داود (4112) والترمذي (2778)، وهو عند أحمد (26537) من طريق عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد، به، وينظر الكلام حول الحديث في تاريخ بغداد ثمَّة. والظهائرُ جمع ظِهارة، خلاف البطانة، ومن البساط: وجهه الَّذي لا يلي الأرض. (¬3) ولا يعاب الإمام أحمد رحمه الله تعالى على ذلك، ولا غيره من أئمَّة الجرح والتعديل؛ فإنهم كانوا يجرحون ويعدلون الرواة؛ حفظًا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل فيه ما ليس منه، ونصرةً لدين الله سبحانه وتعالى.

وأمَّا قولُ البخاري: ما كتبت من حديثه حرفًا، فقد أثنى عليه في مواضعَ وقال: محمدُ بن عمرَ الواقدي قاضي بغداد، حدَّث عن مالكٍ ومَعمر، سكتوا عنه (¬1). وأما النَّسائي، فقد ثلب جماعةً في كتابه الَّذي سمَّاه كتاب "الضعفاءِ والمتروكين"، فإنَّه طعن في أبي حنيفةَ وقال (¬2): ليس بالقويِّ في الحديث، وكذا تكلَّم في محمد بنِ الحسن (¬3) وغيره، وللواقديِّ بأبي حنيفةَ ومحمدٍ وغيرِهما أُسوة] (¬4). وقال المصنِّف رحمه الله: ومَن طلب الترجيحَ بين هذه الأقوال، علم أن الأوْلى ذكر المحاسن [واللهُ تعالى مطَّلع على الضمائر والبواطن] وهؤلاء قومٌ حطُّوا رحالهم عند اللهِ تعالى منذ سنين، وهم أعلامُ الإسلام [وأئمَّة الدِّين، وخصوصًا الواقدي، فإنَّ أقواله في رواية تفاسيرِ القرآن مقبولةٌ مشهورة]. ذِكر ولدِه: [قال الخطيب: ] (¬5) كان للواقديِّ ولدٌ اسمه محمدُ [بن محمد] (¬6) بنِ عمر، وكُنيته أبو عبدِ الله. حدَّث عن أبيه بكتاب"التاريخ" وغيرِه [وحدَّث عن موسى بنِ داود، وحدَّث عنه [عباسٌ] (¬7) التَّرْقُفي وغيرُه. وهو الَّذي روى عن ابن عباسٍ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتى الصيفُ خرج من البيت ليلةَ الجمعة، وإذا كان الشتاءُ دخل ليلةَ الجمعة. قال الخطيب: وهذا الحديثُ غريب جدًّا (¬8). ¬

_ (¬1) تتمة كلام البخاري في التاريخ الكبير 1/ 178: تركه أحمد وابن نمير. وقال في الضعفاء الصغير ص 104: متروك الحديث. وهذا معنى: سكتوا عنه، لا كما توهم المصنف رحمه الله. (¬2) ص 100. (¬3) لم أجد له ذِكرًا في الضعفاء والمتروكين، وقد ذكر فيه محمد بن الحسن بن زَبَالة، ومحمد بن الحسن بن أبي يزيد ص 93 - 94 وقال عنهما: متروك الحديث. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في تاريخه 4/ 322. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). (¬8) تاريخ بغداد 5/ 322، وأخرجه أيضًا ابن الجوزي في العلل المتناهية (1163) و (1164) وقال: هذا حديث لا يصح. اهـ. وينظر طرقه ثمَّة.

محمد بن عمر بن الحسين

فصل [وفي الرُّواة جماعةٌ كلُّ واحد اسمُه: محمد بن عمر، أحدُهم الواقدي، ونذكر بعضَ أعيانهم: فمنهم محمدُ بن عمرَ بنِ الحسين ابن الخطَّاب بن الريَّان، أبو العباس، الفقيهُ الحنفي الزَّنْدَوَرْدي. قال الخطيب: وهو الَّذي روى أنَّ أبا حنيفةَ حجَّ مع أبيه في سنة خمسٍ وتسعين (¬1)، وروى [عن] (¬2) عبدِ الله بن جَزْءٍ وسمعه يقول [سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ] "مَن تفقَّه في دِين الله، رَزَقَه من حيث لا يحتسبُ وكفاه همَّه" (¬3). قال الخطيب: وأنشد عن أبي حنيفةَ أنَّه أنشد من قوله: [من مخلَّع البسيط] مَن طلب العلمَ للمَعادِ ... فاز بفضلٍ من الرَّشادِ ويالَخُسرانِ مَن أتاه ... لنيل فضلٍ من العِبَاد وكانت وفاتُه بمصرَ في سنة [اثنتين و] (¬4) ستِّين وثلاثِ مئة. ومنهم محمدُ بن عمر بنِ عيسى أبو الحسن (¬5)، الَّذي صاهر أبا الحسين بنَ بشران على ابنته. وكان يختم القرآنَ (¬6). ومات في جُمادى الآخرة سنةَ عشرٍ وأربعِ مئة، ودفن بباب حرب. ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 4/ 51: ست وتسعين. وهذه الترجمة والتي بعدها ليستا في (ج). (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد. (¬3) وأخرجه أيضًا ابن الجوزي في العلل المتناهية (196) وقال: هذا حديث لا يصح. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 4/ 52. (¬5) في (ب): أبو الحسين، والمثبت من تاريخ بغداد 4/ 58. (¬6) يعني في كل يوم. تاريخ بغداد 4/ 59.

محمد بن عمر

حدَّث عن أبي العباس أحمدَ بن إبراهيمَ البَلَدي صاحبِ عليِّ بن حرب. قال الخطيب: كتبتُ عنه، وكان ثقة (¬1) كثيرَ الدرس للقرآان]. ومنهم محمدُ بن عمر أبو بكرٍ العنبريُّ الشاعر. [قال الخطيب (¬2): كان أديبًا ظريفًا حسنَ العِشرة مليحَ الشِّعر. قال: وأنشدني من شعره أبو منصور محمدُ بن محمدٍ العُكْبَري، قال: أنشدني أبو بكرٍ العَنْبريُّ فقال: ] (¬3) إنِّي نظرتُ إلى الزمانِ ... وأهله نظرًا كفاني فعرفتُه وعرفتهمْ ... وعرفت عِزِّي من هَوَاني فلذاك أَجتنبُ الصَّديقَ ... فلا أراه ولا يراني وزهدتُ فيما في يدَيه ... ودونه نيلُ الأماني وانسلَّ من بين الزِّحامِ ... فما له في الخَلق ثاني وله: [من الخفيف] ما أُبالي إذا حَمَلْتُ عن الإخوانِ ... فعلي (¬4) ودِنتُ بالتخفيفِ ورفضتُ الكثيرَ من كلِّ شيءٍ ... وتقنَّعتُ بالقليل الضعيف (¬5) ورآني الأنامُ طُرًّا بعيني ... زاهدٍ في وضيعهم والشريف أنا عبدُ الصديقِ ما صدق الوُدْدَ ... [و] (¬6) بعضُ الأنامِ عبدُ الرغيف توفي العنبريُّ سنةَ اثنتي عشرةَ وأربعِ مئة. [ومنهم ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 4/ 59: وكان شيخًا صدوقًا فاضلًا. (¬2) في تاريخه 4/ 59. وما بين حاصرتين من (ب)، (¬3) في (ج): فمن شعره. (¬4) في تاريخ بغداد، والصداقة والصديق ص 460: ثقلي. (¬5) في تاريخ بغداد، والصداقة والصديق: الطفيف. (¬6) ما بين حاصرتين من الصداقة والصديق.

محمد بن عمر بن زكار

محمدُ بن عمرَ بن زكَّار أبو الحسن البغدادي. كان يسكن ببغدادَ بدرب الفُرس من ناحية نهر طابَق. وولد في المحرَّم سنةَ تسعٍ وأربعين وثلاثِ مثة، ومات في المحرَّم سنةَ ثمانِ وعشرين وأربعِ مئة، ودُفن بمقبرة باب الدَّير قربَ معروفٍ الكرخي. وروى عن عبد الله بن أحمدَ الوزَّان، وكتب عنه الخطيب، وكان ثقة (¬1). ومنهم مَن لم يُعرف له تاريخُ وفاته (¬2): فمنهم محمدُ بن عمرَ أبو عبدِ الله المُعَيطِي البغدادي. سمع شريكَ بن عبدِ الله وغيرَه. وروى عنه زكريا بنُ عبدِ الله الناقد (¬3). قال الخطيب: وهو الَّذي روى عن مجاهدِ في تفسير قولِه تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال: يُقعده معه في العرش. ومنهم محمدُ بن عمرَ بنِ حفص أبو بكر الثَّغري (¬4)، ويعرف بالقَبَلي (¬5). قدم بغداد، وحدَّث بها عن محمد بنِ عبد العزيز بنِ المبارك وغيرِه، وروى عنه أبو بكرٍ الشافعيُّ وغيره، وضعَّفه الدارَقُطني (¬6)، وقال: وهو الَّذي روى عن أنسٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 4/ 61: وكان صدوقًا. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) كذا قال، لكن الَّذي سيذكره المصنِّف الآن هو في تاريخ بغداد 4/ 35 ووفاته سنة (222 هـ). (¬3) وهو: زكريا بن يحيى بن عبد الملك بن مروان بن عبد الله، أبو يحيى الناقد، وترجمته في تاريخ بغداد 9/ 477، والأنساب 11/ 414، وتاريخ الإسلام 6/ 752. (¬4) في (ب): البغوي، والمثبت من تاريخ بغداد 4/ 38، وتاريخ الإسلام 7/ 397. (¬5) في (ب): بالتبلي، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬6) علل الدارقطني 6/ 273 السؤال (1132).

أبو عبيدة

قال: "تزوَّج الكسلُ بالتَّواني فوُلد بينهما الفاقة" قال: ولا يصحُّ هذا عن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قلت: وقد نُقل مثلُ هذا عن الحسن أنَّه قال: تزوَّج الكسلُ بالتَّواني فولد بينهما الخسران. فصل] أبو عُبيدةَ مَعْمَر بن المثنَّى، التَّيمي، البصري، النحوي، العلَّامة. [قال الخطيب (¬2): وُلد سنةَ عشرٍ ومئة في السَّنة التي مات فيها الحسنُ البصري. وقال السِّيرافي: هو] مولى تَيْمِ قريش [لا من تَيمِ الرِّباب، مولاهم]. كان من أعلم الناسِ بأنساب العربِ وأيامهم، وله مصنَّفات مشهورة، منها "مَقَاتِلُ الفرسان" وكتاب "المجاز" و"غريب الحديث" [وكان الأصمعيُّ قد قرأ كثيرًا، وكانا يتقارضان، ويقع كلُّ واحدٍ منهما في الآخر؛ لما نذكر. وكان سببُ تصنيف أبي عبيدةَ كتابَ "المجاز" ما ذكره الصوليُّ عن محمد بن الفضلِ بن الأسود، عن عليِّ بن محمد النوفلي، عن] أبي عبيدةَ قال (¬3): أرسل إليَّ الفضلُ بن الربيع إلى البصرة، فقدمتُ عليه، فَلمَّا دخلت، قرَّبني وأدناني واستنشدني من أشعار العربِ وغيرها، فأنشدته، فطَرِبَ، ثم دخل عليه رجل في زِيِّ الكتَّاب، له هيئة، فأجلسه إلى جانبي وقال: أَتعرف هذا؟ قال (¬4). لا، قال: هذا أبو عُبيدة، علَّامة أهلِ البصرة، أقدمناه لنستفيدَ منه، فدعا له الرجلُ، وقال لي: كُنْتُ مشتاقًا إلى لقائك، وقد سُئلت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرِّفَك إياها؟ قلت: نعم، قال: قال الله تعالى: ¬

_ (¬1) وأخرجه الخطيب 4/ 38 - 39، والقزويني في أخبار قزوين 4/ 111 - 112، وابن الجوزي في الموضوعات (1502). (¬2) في تاريخه 15/ 338، وتنظر ترجمته أيضًا في إنباه الرواة 3/ 276، ووفيات الأعيان 5/ 235، والسير 9/ 445، وتاريح الإسلام 5/ 201، وتهذيب الكمال، وغيرها. (¬3) في (ج): قال أبو عبيدة. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ب) و (خ): قلت، والمثبت من المنتظم 10/ 207، وثمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي ص 77 - 78، ووفيات الأعيان 5/ 236، ومعجم الأدباء 19/ 158 - 159.

{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الْشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] وإنَّما يقع الوعيدُ بما قد عُرف مثلُه، وهذا لم يُعرف؟ [قال: ] فقلت: إنما خاطب اللهُ تعالى العرب على قدر كلامهم، أَمَا سمعتَ قولَ امرئِ القيس: [من الطويل] أَيقتلني والمَشْرَفيُّ مضاجِعي ... ومسنونةٌ زُرْقٌ كأنياب أَغوالِ (¬1) ولم يرَوا الغُول، ولكن لمَّا كان أمرُ الغول يَهولهم أَوعدوا به، فاستحسن ذلك الفضلُ والرجلُ السائل [أيضًا] (¬2) فاعتقدتُ (¬3) من ذلك اليومِ أن أضعَ كتابًا في القرآن لمثل هذا، فلما رجعتُ إلى البصرة، عملتُ كتابي الَّذي سمَّيته كتابَ "المجاز". [قلت: وقولُ أبي عبيدة: إنَّهم لم يَرَوُا الغُول قطُّ، ليس بصحيح، بل رآه جماعة من العرب، وقد ذكرناه في صدر الكتاب، وأنَّ جماعةً من بني آدمَ نكحوا الغِيلانَ وأَولدوهم. وأما قولُه تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الْشَّيَاطِينِ} فقد اختلف المفسِّرون في معناه، فقال الفرَّاء: إنَّه شبَّه طَلعَها برؤوس الشياطين لقُبحه؛ فإن رؤوسَ الشياطين موصوفةٌ بالقبح (¬4). وقال غيرُ الفرَّاء: إنها رؤوسُ الحيَّات؛ فإنَّ جنسًا من العرب يسمِّي جنسًا من الحيَّات شيطانًا، وهو ذو العُرْف قبيحُ المنظر. ذكر القولَين الجوهريُّ في "الصحاح" (¬5). وأما الرجلُ الَّذي سأل أبا عبيدة، فإبراهيمُ بن إسماعيلَ بنِ داود كاتبُ الفضلِ بن الربيع. وحكى الخطيبُ (¬6) أن] الأصمعيَّ كان يَعيب (¬7) على أبي عبيدةَ [تصنيفَه كتابَ ¬

_ (¬1) الديوان ص 33. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ج): فاعتقد. وفي الثمار: فعزمت، وفي الوفيات: وأزمعت. (¬4) ذكر الفراء في معاني القرآن 2/ 387 ثلاثة أوجه في الآية، أحدها هذا، والثاني ما سيذكره المصنف الآن عن غير الفراء، والثالث: أنَّه نبت قبيح يسمى برؤوس الشياطين، ثم قال: والأوجه الثلاثة تذهب إلى معنى واحد في القبح. (¬5) مادة (شطن) ونقل فيه عن الفراء الأوجه الثلاثة التي ذكرتها. (¬6) في تاريخه 15/ 342. وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) في (ج): وكان الأصمعي يعيب ...

"المجاز" في القرآن، وأنَّه قال: (¬1)] يفسِّر كتابَ الله برأيه. فركب أبو عبيدةَ حمارَه وجاء إلى مجلس الأصمعيّ، وجلس عنده وحادثه، ثم قال له: يا أبا سعيد، ما تقول في الخبز أيُّ شيءٍ هو؟ فقال: هو الَّذي نأكله ونَخبِزه. فقال له أبو عبيدة: فقد فسَّرتَ كتابَ الله برأيك [فإنَّ الله تعالى قال: {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا}] (¬2) [يوسف: 36]. فقال الأصمعيّ: هذا شيءٌ بأن لي [فقلته] لم أفسِّره برأي، فقال أبو عبيدة: والذي تَعيب عليَّ شيءٌ بأن لي فقلتُه، ولم أفسِّره برأي. ثم قام وخرج. [وحكى الخطيبُ (¬3) أيضًا عن المازنيّ، عن أبي عبيدةَ قال: دخلتُ على الرشيد فقال لي: يا مَعمر، بلغني أنَّ عندك كتابًا حسنًا في صفة الخيل، أحبُّ أن أسمعه منك، وكان الأصمعيُّ حاضرًا، فقال: وما تصنع بالكتب؟ يُحْضَرُ فرسٌ ونضع أيديَنا على عضوٍ عضو ونسمِّيه ونذكر ما فيه (¬4)، فقال الرشيد: يا غلام، فرس، فحضر، فقام الأصمعيُّ فوضع يدَه على عضوٍ عضو منه، وجعل يقول كذا وكذا، وقال الشاعرُ كذا وكذا، حتَّى بلغ إلى حافره. قال أبو عبيدة: فقال لي الرشيد: ما تقول فيما قال: فقلت: أصاب في البعض (¬5) وأخطأ في البعض، والذي أصابه منِّي تعلَّمه، والذي أخطأ فيه لا أدري من أين أتى به]. وبلغ (¬6) أبا عبيدةَ أنَّ الأصمعيَّ قال إنَّ أباه كان يساير سَلْمَ (¬7) بن قتيبةَ على فرسٍ له، فقال [أبو عبيدة: ] (¬8) سبحانَ الله، واللهِ ما مَلَكَ أبو الأصمعيِّ دابَّةً قطُّ إلَّا في ثوبه. يريد القَمْل. ¬

_ (¬1) في (خ): يعيب على أبي عبيدة ذلك ويقول. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخه 15/ 343. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ب): قيل، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬5) في تاريخ بغداد: بعض. (¬6) في (ب): وقال الخطيب: بلغ، ولم نقف على كلام الخطيب في تاريخه، فالزيادة غير واردة هنا. (¬7) في (ب): سالم، وفي (خ): سلام، والمثبت من الفهرست ص 61، ومحاضرات الأدباء 1/ 660، والتذكرة الحمدونية 3/ 450. (¬8) ما بين حاصرتين من (ب).

[واختلفوا في وفاته على أقوال: أحدُها] في هذه السَّنة (¬1) [ذكره الصُّولي وحكاه الخطيب (¬2). والثاني] (¬3) سنَة ثمانٍ (¬4) ومئتين [ذكره محمدُ بن المثنَّى. والثالث] سنةَ تسع. [والرابع: سنةَ] عشر. [والخامس: سنةَ] إحدى عشرة. [والسادس: سنةَ، ثلاثَ عشرةَ ومئتين. والأوَّل أشهر. و [قال الصُّولي: ] عاش سبعًا وتسعين سنة، وقيل: ثلاثًا وتسعين سنة. [وحكى الخطيبُ (¬5) أن] محمدَ بن القاسم (¬6) النُّوشْجانيُّ أطعمه مَوزًا فكان سببَ موته، وأتاه أبو العتاهِيَة، فقدَّم إليه موزًا، فقال: أطعمتَ أبا عبيدةَ موزًا فقتلتَه، وتريد أن تقتلَني أيضًا! لقد استحللتَ قتلَ العلماء. أسند الحديثَ عن هشام بنِ عروةَ وغيره، وروى العربيةَ عن أبي عَمرو بنِ العلاء، ويونسَ بن حَبيب، ورؤبة [بن العجَّاج] وغيرِهم، وروى عنه [أبو عُبيد] القاسمُ بن سلَّام، و [أبو عثمانَ] المازني [وأبو حاتِم] والأصمعيّ [والتَّوَّزي، واسمُه: عبد الله بنُ محمد، مولى قريش. وكان التَّوَّزي فاضلًا، اختصَّ بأبي عبيدةَ وأخذ عنه علمًا كثيرًا] (¬7). وكان أبو عبيدةَ يُنشد (¬8): [من المجتث] لي صاحبٌ ليس يخلو ... لسانُه من جِراحي ¬

_ (¬1) في (خ): مات أبو عبيدة في هذه السنة. وهذا القول لم أجده لغير المصنف. (¬2) في تاريخ بغداد 15/ 345 عن الصولي أنَّه توفي سنة تسع ومئتين. (¬3) في (خ): وقيل. (¬4) في (ب) و (خ): ثمان وثمانين ومئتين. ولعله سبق قلم. انظر تاريخ بغداد. (¬5) في تاريخه 15/ 345. (¬6) في (خ): وكان محمد بن القاسم. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). (¬8) في (ب): وقال التوزي: سمعت أبا حنيفة ينشد ويقول. والبيتان في الجليس الصالح 1/ 327 عن ابن دريد: أنشدني أبو حاتم عن أبي عبيدة. وهما في بهجة المجالس 2/ 570 - 571، وغرر الخصائص الواضحة ص 185 منسوبين لأبي جعفر الطبري.

الهيثم بن عدي

يُجيد تمزيقَ عِرْضِي ... على سبيل المُزاحِ واتَّفقوا على صدقه وثقته [وقال ابنُ المَديني: كان صحيحَ الرواية، ما يحكي عن العرب إلَّا الشيءَ الصحيح] (¬1). الهيثم (¬2) بن عَدِيِّ ابن عبد الرحمنِ بن زيد (¬3) بن أسيد بن جابر بن عَدِي، الكوفي، صاحبُ التواريخِ والأشعارِ والأسماء. [قال الخطيب: ] (¬4) كان أبوه واسطيًّا، وأمُّه من [سَبْي] مَنْبج، ولد بالكوفة ونشأ بها، ثم انتقل إلى بغدادَ فأقام بها. وكان من أحسن الناسِ وجهًا، وأنظفِهم ثوبًا، وأطيبهم رِيحًا، وأظهرِهم سرورًا. قال (¬5): كنت واقفًا بالكُنَاسة بالكوفة، وإذا برجلٍ قد وقف على نخَّاس الدوابِّ فقال له: اِبغني حمارًا ليس بالصغير المحتقَر ولا بالكبير المشتهر، ولا بالطويل الشاهق، ولا بالقصير اللاحق، إنْ أقللتُ عنه علفَه صبر، وإن كثَّرته شكر، وإن ركبتُه هام، وإنْ ركبه غيري نام، وإن بال لم يَرْشش، وإن مشى لم يَطْشش (¬6)، لا يقدَم بي على السَّواري، ولا يقتحم بي البواري (¬7). فقال له النخَّاس: يا هذا اصبر، فإن مسخ اللهُ القاضيَ حمارًا اشتريتُه لك. ومات في هذه السَّنة في المحرَّم. وقيل: إنَّه مات بفم الصِّلح من أرض بغدادَ سنةَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب): القاسم. وهو خطأ. والمثبت من (خ) والمصادر. (¬3) في (ب) و (خ): يزيد، والمثبت من المصادر. (¬4) في تاريخه 16/ 77، وما بين حاصرتين من (ب)، وتنظر ترجمته في السير 10/ 103، وتاريخ الإسلام 5/ 212. (¬5) في (ب): وحكى عنه الخطيب قال. ولم نقف عليه في تاريخه وخبر الهيثم في أمالي القالي 2/ 140، والتذكرة الحمدونية 5/ 445، وفيهما أن الرجل كان أعمى. وأورد الخبر أيضًا ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين. (¬6) الطَّشاش: الرَّشاش. القاموس المحيط (طشش). (¬7) أي الحصير المعمول بالقصب. معجم متن اللغة (بور).

ستٍّ ومئتين وقد بلغ ثلاثًا وتسعين سنة. [وقال جدِّي في "المنتظَم": ] (¬1) ووجد له مئتا قميص، ومئةُ طَيلسان، ومئةُ [رداء] (¬2) وخمسون عِمامة، ومئة سراويل. أسند عن هشام بنِ عروة [وابنِ إسحاق، وشعبة، ومحمد بنِ عبد الرحمن بنِ أبي ليلى، ومجالدِ بن سعيدٍ صاحبِ المغازي، وسعيد بن أبي عَروبة، والأعمش، وزكريا بنِ أبي زائدة] وغيرهم (¬3). وروى عنه محمدُ بن سعدٍ [كاتبُ الواقدي، والعلاء بنُ موسى الباهلي، وعليُّ بن عَمرٍو الأنصاري، وداود بن رُشَيد الخوارزمي، وخلقٌ كثير]. وتكلَّموا فيه [فقال جدِّي (¬4): لم يكن عند المحدِّثين بثقة. هذا صورةُ ما ذكر جدِّي رحمه الله. وحكى الحافظُ ابنُ عساكرٍ عن البخاري أنَّه قال: سكتوا عنه (¬5). قال: وقال عليُّ بن المَديني: هو أوثقُ عندي من الواقديّ، ولا أرضاه في الحديث ولا في الأنساب ولا في شيء. وقال إبراهيمُ بن يعقوبَ الجُوزجاني (¬6): الهيثمُ ساقط، وقد كشف قناعه. وقال النَّسائي: الهيثمُ ضعيف. وكذا قال ابن مَعين. ولمَّا روى الهيثمُ عن [مجالدِ بن سعيد عن] الشعبيِّ، عن ابن عباسٍ قال: أوَّلُ الناس إسلامًا أبو بكر (¬7)، قال ابنُ مَعين: مَن روى هذا؟ قال: الهيثم، قال: كذب. ¬

_ (¬1) 10/ 177. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) زيادة من المنتظم. (¬3) في (خ): وغيره، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في المنتظم 10/ 177. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) التاريخ الكبير 8/ 218. (¬6) في (ب): الجرجاني. وليست في (خ)، والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 79 هو الصواب، وكلام الجوزجاني في كتابه أحوال الرجال ص 200. (¬7) أخرجه الخطيب في تاريخه 16/ 77. وما بين حاصرتين منه.

يحيى بن حسان

قمت: ووهم ابن مَعين؛ فإنَّ أوَّلَ مَن أسلم من الرِّجال أبو بكر (¬1)، وقد ذكرناه في صدر الكتاب. وقال أبو نُعيم الأصفهاني. الهيثمُ في فضله وجلالة قدرِه يوجد في أحاديثه مناكيرُ عن الثِّقات. وحكى الخطيبُ (¬2) أن] أبا نُوَاس هجاه [لأن أبا نواسٍ دخل عليه فلم يعرفه، فقام أبو نُواس مغضَبًا، وبلغ الهيثم، فجاء إلى أبي نُواسٍ واعتذر إليه وقال له: لا تهجوني، فقال له: أمَّا ما مضى فلا كلامَ فيه، وأما في المستقبل فلا] فقال (¬3): [من البسيط] إذا نسبتَ عَدِيًّا في بني ثُعَلٍ (¬4) ... فقدِّم الدالَ قبل العينِ في النَّسَبِ يعني: دَعيّ. له لسانٌ يواتيهِ بجوهره ... كأنَّه لم يَزَلْ يَغْدُو (¬5) على قَتَبِ [ويقال: إنَّ الهيثمَ جاءه قبل أن يهجوَه، فسأله ألا يهجوه، فقال: ألم تسمعْ إلى قوله تعالى: {وَأَنَّهُم يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)} [الشعراء: 226]؟ . واللهُ أعلم بالصواب. وفيها توفِّي] (¬6) يحيى بنُ حسان أبو زكريا الكوفي (¬7). نزل تِنِّيس. [وقال أبو حاتم بنُ حِبَّان] (¬8) أصلُه دمشقي. ومولدُه ¬

_ (¬1) لم يتكلم ابن معين في أولية إسلام أبي بكر - رضي الله عنه - حتى ينسب إليه الوهم، وإنما طعن في هذه الرواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - خاصة. ثم إن هذه الرواية مطلقة ليس فيها تقييد بالرجال كما لا يخفى. (¬2) في تاريخه 16/ 80. (¬3) في (خ): وهجاه أبو نواس فقال. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): ثعلب، والمثبت من الديوان ص 92، وتاريخ بغداد 16/ 81. والبيتان ليسا في (ب). (¬5) في (خ): يعزا، والمثبت من تاريخ بغداد ومعجم الأدباء 19/ 307، وورد فيهما أيضًا: يُزَجِّيه، بدل: يواتيه. والبيت ليس في الديوان. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) كذا قال، والذي في المصادر: البصري. انظر تاريخ دمشق 18/ 50 (مخطوط)، وتهذيب الكمال، والسير 10/ 127، وينظر باقي مصادر ترجمته ثمَّة. (¬8) في كتاب الثقات 9/ 252. وما بين حاصرتين من (ب).

يحيى بن زياد

سنةَ أربعٍ وأربعين ومئة. [وذكره أبو سعيدِ بن يونسَ في "تاريخ مصر" وقال: ، قدم مصرَ وحدَّث بها (¬1)، وصنَّف كتبًا كثيرة. وكان الإمامُ الشافعيُّ رحمةُ اللهِ عليه خَصِيصًا به، ومتى قال: حدَّثنا [الثقة] (¬2)، فإنما يريد به يحيى [بنَ حسان]. وكان من المياسير، وكان الإمام الشافعيُّ ينزل عليه، فأوصى طبَّاخَه ألا يعيدَ اللونَ في الأسبوع إلَّا مرَّة، فاستطاب الشافعيُّ رحمة الله عليه لونًا، فأمر الطباخَ بإعادته، فلمَّا رآه يحيى على المائدة تغيَّر لونه، فقال له الشافعي: أنا أمرتُه، فسُرِّي عنه؛ وكان الطباخُ عبدًا ليحيى، فقال: أنت حرٌّ لوجه الله؛ شكرًا لانبساط أبي عبدِ الله في رَحلنا. [وقال أبو سعيد بنُ يونس: ] (¬3) مات يحيى في سنة سبعٍ أو ثمانٍ ومئتين، وله أربعٌ وستُّون سنة. أسند عن الليث بنِ سعد [وحمادِ بن سلمة، وهُشيم، وعيسى بنِ يونس، ومحمدِ بن مهاجر] وغيرِهم (¬4). وروى عنه [يونسُ بن عبدِ الأعلى، و] الرَّبيع بن سليمانَ [المرادي] وخلق كثير واتَّفقوا على صدقه وثقته، وزهدِه وورعه، وكان الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه يُثني عليه [بكلِّ خير] (¬5). يحيى بنُ زياد ابنِ عبد اللهِ بن منظور، أبو زكريا، الملقَّب بالفرَّاء (¬6)، النَّحوي الكوفي، الإمامُ العلَّامة، مولى بني أسَد. ¬

_ (¬1) في تهذيب الكمال والسير: وصنف كتبًا وحدث بها. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): وغيره، وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) طبقات الزبيدي 143، وتاريخ بغداد 16/ 224، وإنباه الرواة 4/ 1، والسير 10/ 118، وغيرها.

كان ثعلبٌ يقول: لولا الفرَّاءُ ما كانت العربية؛ لأنَّه خلَّصها وضبطها. مات الفراءُ ببغدادَ، وقيل: بطريق مكَّة، وقد بلغ ثلاثًا وستِّين سنة. حدَّث عن ابن عُيينةَ وغيره، وروى عنه الأئمَّة وغيرهم، وكان المأمونُ يثني عليه ويباحثه ويعظِّمه. واتفقوا على صدقه وثقتِه. * * *

السنة الثامنة بعد المئتين

السَّنة الثامنةُ بعد المئتين فيها عصى الحسنُ بن الحسينِ بن مصعبٍ على المأمون، ومضى من خُراسانَ إلى كرمانَ فامتنع بها، فبعث إليه المأمونُ أحمدَ بن أبي خالد فحاربه، فأخذه أسيرًا وقدم به على المأمون، فعفا عنه وأَحسنَ إليه. وفي أوَّل السَّنة ولَّى المأمونُ محمدَ بن عبدِ الرَّحْمَن المخزوميَّ القضاءَ على الجانب الشرقيّ من بغداد، ثم عزله في غُرَّة ربيعٍ الأوَّل وولَّى مكانَه بشرَ بن الوليدِ الكِندي. وفيها استعفى محمدُ بن سماعةَ من القضاء، فأعفاه المأمونُ وأقرَّه في صَحَابته، وولَّى مكانَه إسماعيلَ بن حمَّادِ بن أبي حنيفة. وفيها تُوفِّي الفضلُ بن الرَّبيع، وموسى بنُ محمَّد الأمين. وحجَّ بالنَّاس صالحُ بن الرشيد. وجاء سيلٌ بمكَّة (¬1)، فوصل الماءُ إلى الحَجَر الأسودِ وهدم نحوَ ألفِ دار، وكان الطائفون بالبيت يَسْبَحونَ حوله، ومات بالغَرق والهَدْمِ ألفُ إنسان. وفيها تُوفِّي: صالحُ بن عبدِ الكريم البغدادي، العابدُ الورع. [حكى الخطيبُ (¬2) عنه أنَّه] كان يقول: يَا أصحابَ الحديث، ما ينبغي أن يكونَ أحدٌ أزهَدَ منكم، إنما تُقلِّبون دواوينَ الموتى ليس بينكم وبين رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ إلَّا وقد مات. و[حكى (¬3) عنه أنَّه] قال: رأيتُ غلامًا أسودَ بطريق مكَّةَ يصلِّي عند كلِّ مِيل، قلت: أعبدٌ أَنْتَ؟ قال: نعم، قلت: أكلِّم مولاك حتَّى ينقصَ من ضريبتك؟ فقال: وما قدرُ ¬

_ (¬1) ينظر خبر السيل وغيره من السيول بمكة في شفاء الغرام للفاسي 2/ 260 - 269. (¬2) في تاريخه 10/ 425. وما بين حاصرتين من (ب)، وتنظر ترجمته أَيضًا في تاريخ الإِسلام 5/ 91. (¬3) في تاريخه 10/ 424 - 425. وما بين حاصرتين من (ب).

عمر بن عبد العزيز

الدنيا بأَسْرها حتَّى تذلَّ فيها لغير الله! فاشتريتُه وأعتقته، فجعل يبكى ويقول: أَعْتَقَكَ اللهُ من نار جهنَّم. وكانت وفاة صالحٍ ببغدادَ [في هذه السَّنة] (¬1). أَسند عن سفيانَ الثَّوريّ [وابنِ عُيينة (¬2) والفضيلِ بن عياض] (¬3). روى عنه عليُّ بن الموفَّق العابد وغيره. وقال: قال لنا الفضيلُ يومًا: أتدرون لم حَسُنت الجنَّة؟ لأنَّ عَرْشَ الرحمنِ سقفُها. عمر بن عبدِ العزيز أبو حفص، مولى المنصور، ويُعرف بالشِّطْرَنْجيّ. نشأ في دار المهديِّ مع أولاده، وتأدَّب بآدابه، وانقطع إلى عُلَيَّةَ بنتِ المهدي، وكان لبيبًا لطيفًا، غضب الرشيدُ على عُلَيَّة، فأمرتْ عمرَ أن يقولَ شعرًا يسترضي الرشيدَ به، فقال: [من البسيط] لو كان يمنع حُسنُ العقلِ صاحبَه ... من أن يكونَ له ذَنْبٌ إلى أحدِ كانت عُلَيَّةُ أَوْلى النَّاس كلِّهمِ ... ألا تُكافى بسوءٍ آخرَ الأبد ما لي إذا غبتُ لم أُذكرْ بواحدةٍ ... وإن سقمْتُ وطال السُّقمُ لم أُعَدِ ما أعجبَ الشيءَ أرجوه فأُحرَمُه ... قد كنت أحسب أنِّي قد ملأتُ يدي فغُنِّي به بين يدي الرشيد، فأَعجبه ورضي عنها (¬4). وقال [عبدُ الله بن] (¬5) الفضلِ بن الرَّبيع: دخلتُ على عمرَ أبي حفصٍ أعوده في مرض موته، فأَنشدني لنفسه (¬6): [من المتقارب] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) جاء بدلها في (خ): وغيره. (¬3) بعدها في (ب): والله أعلم بالصواب، وفيها تُوفِّي كما ذكرنا الفضل بن الرَّبيع. ولم ترد فيها ترجمة: عمر بن عبد العزيز، الآتي. (¬4) المنتظم 10/ 184، والأغاني 22/ 48، وفوات الوفيات 3/ 137. (¬5) ما بين حاصرتين من المنتظم 10/ 184، والأغاني 22/ 50. (¬6) نسبت الأبيات في عيون الأخبار 2/ 327، والعقد الفريد 3/ 190 لأبي العتاهية، وهي ليست في ديوانه.

الفضل بن الربيع

نعى لك ظلَّ الشبابِ المشيبُ ... ونادتك باسم المماتِ (¬1) الخطوبُ فكن مستعدًّا لداعي الفناءِ ... فكلُّ الذي هو آتٍ قريبُ ألسنا نرى شهواتِ النُّفو ... سِ تفنى وتبقى علينا الذُّنوب وقبلَك داوى المريضَ الطبيبُ ... فعاش المريضُ ومات الطبيب يخاف على نفسه مَن يتوبُ ... فكيف ترى حال مَن لا يتوب [وفيها توفِّي كما ذكرنا] (¬2) الفضلُ بن الربيعِ ابن يونسَ الحاجب، وكنيتُه أبو الفضل (¬3). ولد سنةَ أربعين ومئة، وحجب للرشيد، واستوزره، ولمَّا مات كان معه بطوس، فاستولى على الخزائن وقدم بها بغدادَ على الأمين، ومعه البُردةُ والقضيبُ والخاتَم، فأكرمه الأمينُ وفوَّض إليه أمورَه، فغلب عليه، فكان يولِّي ويعزل، ويأمر وينهى، والأمينُ في لهوه، فقال أبو نُواس: [من الطَّويل] لَعَمرُك ما غاب الأمينُ مُحَمَّدٌ ... عن الأمر يَعنيه إذا شهد الفضلُ ولولا مواريثُ الخلافةِ أنها ... له دونَه ما كان بينهما فضل وإن كانت الأخبارُ (¬4) فيها تباينت ... فقولُهما قولٌ وفعلُهما فعل أتى (¬5) الفضلُ للدنيا وللدِّين جامعًا ... كما السهمُ فيه الفُوقُ والرِّيشُ والنَّصل ولم يزل الفضلُ يُغْرِي بين الأمينِ والمأمون حتَّى خلع الأمينُ المأمونَ وجرى ما ذكرناه، فلما ضعف أمرُ الأمينِ استخفى الفضل، فدخل المأمونُ بغدادَ مجدًّا في طلبه، وجعل لمن جاء به الأموال الجليلة، فخرج الفضلُ يومًا وقد هانت عليه نفسُه، فلقي ¬

_ (¬1) في المصادر: باسم سواك. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) كذا في (ب) و (خ)، وأبو الفضل كنية أَبيه الرَّبيع بن يونس، وأما كنية الفضل فهي أبو العباس، ينظر تاريخ بغداد 14/ 303، ووفيات الأعيان 4/ 37، وطبقات الشافعية 2/ 150، وينظر أيضًا السير 10/ 109. (¬4) في الديوان ص 519: الأجسام، وما هنا موافق لتاريخ بغداد 14/ 304. (¬5) في الديوان وتاريخ بغداد: أرى، والأبيات لم ترد في (ب).

طاهرَ [بنَ الحسين] (¬1) فثنى عِنانَ دابَّته معه وقال له: أيها الأمير، هذا عِنانٌ ما ثُني قطُّ إلَّا لخليفة، فقال له طاهر: صدقتَ فقل ما شئت، فقال: تكلِّمُ لي أميرَ المُؤْمنين، فقد عضَّ الغاربَ القَتَبُ (¬2)، وأنا مستجيرٌ بالله وبك. وكان المأمونُ لا يردُّ طاهرًا في حاجة، فشفع في الفضل، فشفَّعه فيه، وأقام عند المأمون على منزلة، والمأمونُ يحترمه ويُحسن إليه حتَّى توفِّي. [واختلفوا في وفاته على قولَين حكاهما الخَطيب (¬3): أحدهما: حكاه عن أبي حسَّان الزياديِّ قال: مات] في سَلخ ذي القَعدة [سنةَ ثمانٍ ومئتين. والثاني: عن إبراهيمَ بنِ عرفةَ قال: ] (¬4) مات سنةَ سبعٍ ومئتين. وقيل: إنَّ المأمونَ ظفر به وعفا عنه. [واللهُ أعلم. ذكر قصَّة جرت للفضل في اختفائه: حكاها أبو القاسم عليُّ بن المحسِّن التَّنوخيُّ عن أَبيه بإسناده إلى] الفضل بن الرَّبيع قال (¬5): لما استترتُ عن المأمون، أخفيتُ نفسي عن عيالي وولدي، فلمَّا قرب المأمونُ من بغدادَ ازداد خوفي على نفسي، فاحتطتُ في التَّواري، وشدَّد المأمونُ في طلبي، فلم يعرفْ لي خبرًا، فذكرني يومًا، فاغتاظ وأغلظ لإسحاقَ بنِ إبراهيم، فخرج من عنده ونادى مَن في الجانبين: مَن جاء به فله عشرةُ آلافِ درهم، وأقطاعٌ بثلاثة آلافِ دينارٍ كلَّ سنة، ومَن وجد عنده بعد النداءِ ضُرب خمسَ مئة سَوط، وهُدمت دارُه وأُخذ ماله وحُبس طولَ عُمره. وكنت بباب الطاقِ في منزل صاحب لي، فدخل عليَّ وأخبرني بخبر النداءِ وقال: واللهِ ما أقدر بعد هذا على سَترك، ولا آمنُ على نفسي، وأخاف أن تشرَهَ زوجتي أو غلامي إلى المال فيدلُّون عليك، فأهلكَ بهلاكك، فإن صفح المأمونُ عنك لم آمن أن تتَّهمَني أَنْتَ أني دللتُ عليك، فيكون ذلك أقبح. قال: فورد عليَّ أمرٌ عظيم، وقلت: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) الغارب: الكاهل، أو ما بين السَّنام والعنق. والقتب: الإكاف. القاموس المحيط (غرب)، (قتب). (¬3) في تاريخه 14/ 305. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): وقيل ... (¬5) في (خ): وقال الحسن التنوخي: قال الفضل بن الرَّبيع. والقصة في الفرج بعد الشدة 4/ 293.

اصبرْ عليَّ إلى الليل، فقال: وكيف آمن؟ فتنكَّرْ واخْرُج. [قال: ] (¬1) فأخذتُ من لحيتي وغطَّيت رأسي، وخرجت قبيلَ العصرِ ومضيت في الشارع إلى الجسر، فوجدته خاليًا، فلما توسَّطته إذا بفارسٍ من الجند الذين كانوا يتناوبون في داري أيامَ وزارتي، فعرفني وقال: هذا طَلِبة أميرِ المُؤْمنين، وعدل إليَّ ليقبضَ عليَّ، فمن حلاوة الرُّوحِ دفعته ودابَّتَه، فوقع في بعض سفنِ الجسر، وأسرع النَّاسُ لتخليصه، وظنَّوه قد زَلقَ بنفسه، ومشيت أنا من غير عَدْوٍ؛ لئلَّا ينكرَ عليَّ أحد، فدخلت دربَ سليمان، وإذا باب مفتوحٍ وفيه امرأة، فقلت لها: أنا خائفٌ من القتل، فأَجيريني واحقُني دمي، فقالت: ادخل، وأومأتْ إلى غرفة، فصعدتُها، فما استقرَّ بي المنزلُ حتَّى دقَّ الباب، ففتحتْ، وإذا بأناسٍ يحملون رجلًا، فدخلوا به، وإذا هو الجنديُّ صاحبي، وهو مشدودُ الرأس من شجَّة فيه وهو يتأوَّه، فقالت له المرأة: ما لَك؟ فأخبرها خبري، وقال: فاتني الغنى الأكبر، وعطبتْ فرسي فما تُباع إلَّا لحمًا، وجعل يشتمِني ولا يعلم أنّي في الدار، فقالت له المرأة: احمدْ ربَّك؛ فقد حفظك ولم يجعلك سببًا في سفك دمِه. فلمَّا جاء الليل، صعدت المرأةُ إليَّ وقالت: أظنُّك صاحبَ القصَّة مع هذا الرَّجل، فقلت: نعم، قالت: قد سمعتَ ما عنده، فاتَّقِ الله في نفسك واخْرُج [قال: ] (¬2) فدعوتُ لها وخرجت، ومشيتُ ساعة، وإذا برجلٍ يفتح بابًا، فدنوتُ منه وقلت: استرني ستركَ الله، فقال: ادخل، فدخلت وأقمتُ ليلتي، فخرج من الغد وعاد معه حمَّالان، على رأس أحدِهما حصيرٌ ومِخَدَّة وجِرارٌ وكيزانٌ وغضائر [جُدُد] وقِدْرٌ جديدة، وعلى رأس الآخر فاكهةٌ ولحم وثلج، فوضع الجميعَ في الدار، فنزلتُ [وعَذَلْته] وقلت: لمَ تكلَّفتَ هذا؟ فقال: أنا رجل مزيِّن، وأخاف أن تستقذرَني، وقد أتيتُك بهذا فاطبخْ كما تريد. فأقمتُ عنده ثلاثًا، وقلت في الليلة الرابعة: الضيافةُ ثلاثة، وقد أحسنت، وإني أُريد أن أَخرج، فقال: لا تفعلْ، فأنا وحيد، ولست ممَّن يطرق بيتَه أحد، ولا تَخَفْ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

أن يفشوَ خبرُك من عندي أبدًا، فأقم حتَّى يفرِّجَ اللهُ عنك، فأَبَيتُ، وخرجتُ إلى باب التِّبن إلى منزل عجوزٍ من موالينا، فطرقتُ بابها، فخرجت، فلمَّا رأتْني بكت وحمدت الله على سلامتي، وقالت: ادخل. ثم بكَّرتْ وَسَعَت (¬1) بي، فما شعرتُ إلَّا بإسحاقَ وخيلِه ورَجِله قد أحاط بالدار، فأخرجوني إلى بين يدي المأمون، فلمَّا رآني سجد طويلًا، فلما رفع رأسَه قال: يَا فضل، أتدري لمَ سجدت؟ قلت: شكرًا لله حيث أظفرك بعدوِّك والمُغري بينك وبين أخيك، فقال: ما أردتُ هذا, ولكن سجدتُ شكرًا لله على ما أظفرني بك وألهمني العفوَ عنك، حدِّثْني بخبرك. [قال: ] (¬2) فحدَّثتُه بأمري كلِّه، فقال: عليَّ بالجنديِّ وزوجتِه والمزيِّن والعجوز، فحضروا، فقال للجندي: ما السببُ الذي حملك على ما فعلت؟ قال: الرغبةُ في المال، قال: أَنْتَ أَولى أن تكون حجَّامًا، وأمر باستخدام زوجتِه قهرمانةً على حَرَمه وقال: هذه امرأةٌ عاقلة لها مروءة، وأمر بتسليم دارِ الجنديّ وقماشِه (¬3) إلى المزيِّن، ويجعلَ جنديًّا مكانَه. وقال للعجوز: ما الذي حملكِ على ما صنعتِ بمولاك؟ وكانت تنتظر الجائزة، فقالت: رغبتُ في المال، قال: وهل لك من ولدٍ أو زوجٍ أو أخ؟ قالت: لا، قال: فنسيتِ إنعامَه عليك؟ وأَمَرَ بها فضُربت مئتَي سَوطٍ وخُلِّدت في الحبس، وأَمَرَ لامرأة الجنديِّ بثلاثين ألفًا، فقالت: يَا أميرَ المُؤْمنين، لستُ آخذ عليه شيئًا، ما فعلتُه إلَّا لله. وردَّت المال، فازداد المأمونُ إعجابًا بها وجعلها من خاصَّته. أسند الفضلُ عن أَبيه [و] عن المهديّ والرشيد (¬4). ¬

_ (¬1) من السِّعاية، وهي أن تسعى بصاحبك إلى والٍ أو من فوقه. معجم العين 2/ 202. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) قماش البيت: متاعه. الصحاح (قمش). (¬4) بعدها في (ب): والحمد لله رب العالمين. وبعدها في (خ): وتوفي ببغداد في هذه السنة وله خمس وثلاثون سنة فحضره المأمون وصلى عليه. اهـ. قلت: وسيأتي هذا الكلام في ترجمة القاسم بن هارون الآتية، ولعل في (خ) سقطًا، والله أعلم. وانظر تاريخ بغداد 14/ 305، ووفيات الأعيان 4/ 40، والسير 10/ 109، والبداية والنهاية 14/ 173.

القاسم بن هارون الرشيد

[القاسمُ بن هارونَ الرشيد أخو الأمينِ والمأمون، ولقبه المؤتمَن، فخلعه (¬1) المأمون. وقال إسماعيلُ بن عليّ الخُطَبي: كان هارونُ لمَّا عهد إلى أخيهما القاسمِ بعد أخيه المأمون، شرط أنَّ الأمر إذا صار إلى المأمون إنْ شاء أقرَّه وإن شاء خلعه، فخلعه، من سنة ثمانٍ وتسعين ومئة، وأقام عند المأمونِ ببغدادَ حتَّى توفِّي في هذه السَّنةِ وله خمسٌ وثلاثون سنة، فحضره المأمونُ فصلَّى عليه". العَتَّابي واسمُه كُلثومُ بن عَمرو بنِ أَيُّوب، الشاعرُ الفصيحُ البليغ [الخطيب] (¬2) من أهل قِنَّسْرِين. قدم بغدادَ ومدح الرشيدَ والأمينَ والمأمون [وله رسائلُ وخطب] وكان منقطعًا إلى البرامكة [ومُدح للرشيد فتقدَّم عنده] وكان يتجنَّب غِشْيانُ الملوك، ويتزهَّد ويلبَس الصوف، ويتعبَّد ويتواضع، ويلقى النَّاسَ بالبِشر [قال الخطيبُ: ] (¬3) فقيل له: إنك تلقى العامَّةَ ببِشْرٍ وتقريب، فقال: رفعُ ضغينةٍ بأيسرِ مؤنة، واكتسابُ أجرٍ (¬4) بأهونِ مبذول. [قال الخَطيب: ] (¬5) ومن شِعره: [من الهزج] أَلَا قد نُكِّس الدَّهرُ ... فأضحى حُلوُه مرّا وقد جرَّبتُ مَن فيه ... فلم أَحمدْ همُ طُرّا فألزِمْ نفْسك اليأسَ ... من الناسِ تعشْ حُرّا [وقال الخَطيب: ] وكتب إليه طَوقُ بنُ مالك (¬6) يستزيره ويدعوه إلى أن يصلَ قرابةً ¬

_ (¬1) في (ب): فجعله، في الموضعين، والمثبت من تاريخ بغداد 14/ 390 - 391، وتاريخ الإِسلام 5/ 144. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخه 14/ 517. وما بين حاصرتين من (ب)، وتنظر ترجمته أَيضًا في وفيات الأعيان 4/ 123، وتاريخ الإِسلام 5/ 431. (¬4) في تاريخ بغداد: واكتساب إخوان. (¬5) في تاريخه 14/ 519. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (ب) و (خ): مالك بن طوق. وكذا في ديوان المعاني للعسكري 2/ 253، والمثبت من تاريخ بغداد 14 / =

بينه وبينه، فكتب إليه العتَّابي: إنَّ قريبَك من قرب منك خيرُه، وإنَّ عمَّك مَن عمَّك نفعُه، وإنَّ عشيرتَك مَن أحسن عِشرتك، وإنَّ أحبَّ الناسِ إليك أجداهم بالمنفعة عليك؛ ولذلك أقول (¬1): [من الكامل] ولقد بلوتُ النَّاس ثم سَبَرْتُهمْ ... وخبرتُ مَن وصلوا من الأسبابِ فإذا القرابةُ لا تقرِّب قاطعًا ... وإذا المودَّة أكبرُ الإنسابِ ومن شِعره [السائر المشهور] (¬2): [من البسيط] إنَّ الكريم ليخفي عنك عُسرَتَهُ ... حتَّى تراه غنيًّا وهو مجهودُ وللبخيل على أمواله عِلَلٌ ... زُرقُ العيونِ عليها أوجهٌ سودُ إذا تكرَّهتَ أن تعطي القليلَ ولا ... تكون ذا سعةٍ لم يَظهر الجُودُ بُثَّ النَّوال ولا يمنعْك قلَّتُه ... فكلُّ ما سدَّ فقرًا فهْو محمودُ [وذكر الخطيبُ (¬3) أنَّ] المأمون كتب (¬4) في إِشْخَاص العتَّابي، فلَّما دخل عليه قال له: يَا كُلثوم، بلغني وفاتُك فساءني، ثم بلغتني زيارتُك فسرَّتني، فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، لو قُسمت هاتان الكلمتان على أهل الأرضِ لَوسعتْهم فضلًا وإِنعامًا، وقد خَصَصْتَني منهما بما لا أستطيع له أُمنية، ولا يَنْبسط لسواه أَمَل، فإنَّه لا دينَ إلَّا بك، ولا دنيا إلَّا معك. فقال المأمون: سَلْني، فقال: يدُك بالعطاء أطلقُ من لساني بالمسألة. فوصله بصِلات سَنِيَّة، وبلغ به من التقديم والإكرامِ أعلى محلّ. وقال العتَّابي: قدمت مرَّةً على أبي بحمارٍ موقَرٍ كتبًا، فقال: ما عليه؟ فقلت: كتب، فقال: ما ظننته إلَّا مالًا، فعدلت إلى يعقوبَ بنِ صالح، فدخلتُ عليه وأنشدته (¬5): [من الخفيف] ¬

_ = 516، والمنتظم 10/ 189، ووفيات الأعيان 4/ 123. (¬1) في (خ): يقولن. والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد 14/ 516. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). والأبيات في تاريخ بغداد 14/ 519، والوفيات 4/ 124. (¬3) في تاريخه 14/ 518. (¬4) في (خ): وكتب المأمون ... (¬5) المنتظم 10/ 190 - 191، ومختصر تاريخ دمشق 4/ 327، والأبيات في ديوان دعبل ص 376 - 377، وعيون الأخبار 3/ 133 منسوبة لبعض المحدثين، والعقد الفريد 1/ 244 منسوبة للطائي.

حسنُ ظنِّي إليك أصلحك اللهُ ... دعاني فلا عَدِمْتَ الصَّلاحا ودعاني إليك قولُ رسولٍ ... إذا قال (¬1) مفصحًا إِفصاحا إنْ أردتمْ حوائجًا من أُناسٍ ... فتنقُّوا لها الوجوهَ الصِّباحا فلَعَمري لقد تنقَّيتُ وجهًا ... ما به خاب مَن أراد النَّجاحا فقال: ما حاجتُك يَا كلثوم؟ قلت: بَدْرتان (¬2)، فقال: أعطُوه إياهما، فانصرفتُ بهما إلى أبي وقلت: يَا أبي، هذا بالكتب التي (¬3) أنكرتَ (¬4). وقال مالكُ بن طوقٍ للعتَّابي: رأيتك كلَّمتَ فلانًا فأقللتَ كلامك، فقال: نعم، كان معي حَيرةُ الداخل، وفكرةُ صاحبِ الحاجة، وذلُّ المسألة، وخوفُ الردِّ مع شَرَه الطمع (¬5). [وروى الخطيبُ (¬6) بإسناده إلى] محمدِ بن إبراهيمَ السَّيَّاري قال (¬7): لمَّا قدم العتَّابي مدينةَ السلام على المأمون، دخل عليه وعنده إسحاقُ بن إبراهيمَ المَوْصليّ، وكان العتَّابي شيخًا جليلًا، فسلَّم على المأمون، فردَّ وأدناه، فقبَّل يدَ المأمون، فأمره بالجلوس، فجلس، وأقبل عليه يسائله عن حالة وهو يجيب بلسانٍ طَلْق، فاستظرف المأمونُ كلامَه، وأقبل عليه بالمداعبة والمزح، فظنَّ الشيخُ أنَّه قد استخفَّ به، فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، الإِيناسُ قبل الإِبساس (¬8)، فاشتبه على المأمون قولُه، فنظر إلى إسحاقَ مستفهمًا، فأومأ إليه بعينه وغمزه على معناه حتَّى فهمه، فقال: يَا غلام، ألفَ دينار، فأتى بها فوضعها بين يديه. ¬

_ (¬1) في المصادر: رسول الله إذ قال. (¬2) البدرة: كيس فيه أَلْف أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف درهم. القاموس المحيط (بدر). (¬3) في (خ): الذي، والمثبت من المصادر. (¬4) من قوله: وقال العتابي: قدمت مرَّة ... إلى هنا، ليست في (ب). (¬5) المنتظم 10/ 191، وتاريخ بغداد 14/ 519، ووفيات الأعيان 4/ 124. (¬6) في تاريخه 14/ 517. (¬7) في (خ): وقال محمَّد بن إبراهيم السياري. (¬8) في (ب): الإبساس قبل الإيناس، وفي (خ): الإنسان قبل الإيناس، والمثبت من تاريخ بغداد 14/ 517، والوفيات 4/ 123، وسيأتي شرحه.

ثم أخذ في الحديث، وغمز المأمونُ إسحاق، فجعل العتابيُّ لا يأخذ في شيءٍ إلَّا وعارضه فيه إسحاق، فبقي العتَابي متعجِّبًا، وقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، أتأذن لي في مسألة هذا الشيخ؟ قال: نعم، فقال لإسحاق: يَا شيخ، مَن أَنْتَ؟ وما اسمُك؟ فقال: أنا من النَّاس، واسمي: كُلْ بَصَل، فتبسَّم العتابيُّ وقال: أما النَّسَبُ فمعروف، وأما الاسم فمُنكَر، فقال له إسحاق: [ما أقلَّ إنصافَك، أتُنكر أن يكونَ اسمي: كُلْ بَصَل] (¬1) وما تُنكر اسمك كُلْ ثوم! وما كلثومُ في الأسماء! أو ليس البَصَلُ أطيبَ من الثوم! فقال العتَّابي: لله دَرُّك ما أفصحَك وأرجحك (¬2)، أتأذن لي يَا أميرَ المُؤْمنين أن أصلَه بما وصلتَني به؟ فقال له المأمون: بل ذلك موفَّرٌ عليك، ونأمرُ له بمثله، فقال له إسحاق: أما إذا أقررتَ بهذه، فتوهَّمني تجدْني، فقال: ما أظنُّك إلَّا إسحاقَ الموصليَّ الذي يتناهى إلينا خبرُه، فقال: أنا حيث ظننتَ، وأقبل عليه بالتحيَّة والسلام. فقال المأمون: أمَّا إذا اتفقتما على المودَّة فانصرفا، فانصرف العتابيُّ إلى منزل إسحاقَ فأقام عنده. [قلت: قولُه: الإيناس قبلَ الإبساس، مأخوذٌ من قولهم عند الحلبِ للناقة: بَس بَس، فكان عرَّض تعريضًا بما يروي: الإيناسُ قبل الإبساس، وأين قولُ إسحاق: كُلْ بَصَل، من كلثوم؛ لأنَّ كلثومَ في اللغة هو الواسع الخدَّين، وقد كان العتَّابي بهذه [الصِّفة] (¬3)، وإنما قصد إسحاقُ أن يضعَ من العتَّابي بسوء أخلاقه، فعاد عليه العتابيُّ بطيب أعراقه]. ودخل العتَّابيُّ على عبد الله بنِ طاهر، فأنشده: [من الخفيف] حسن ظنِّي وحسنُ ما عوَّد اللهُ ... قديمًا منك الغداةَ أتى بي أيُّ شيءٍ يكون أحسنَ من حسـ ... ـنِ يقينٍ حدا إليك رِكابي فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه من الغدِ فأنشده: [من السريع] ودُّك يكفيني في حاجتي ... ورؤيتي كافيةٌ عن سؤالْ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخ بغداد: لله درُّك ما أحجَّك. (¬3) ما بين حاصرتين ليس في (ب)، والكلام ليس في (خ).

محمد بن صالح

وكيف أخشى الفقرَ ما عشتَ لي ... وإنَّما كفاك [لي] رأسُ (¬1) مالْ فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه في اليوم الثالثِ فأنشده: [من الخفيف] بَهِجاتُ الثياب (¬2) يُخلِقها الدَّهـ ... ـرُ وثوبُ الثَّناءِ غضٌّ جديدُ فاكسُني ما يَبيد أَصلحك اللهُ ... فإنِّي أَكسوك ما لا يبيد فأَجازه وخلع عليه. [وكان قد سُعي للرشيد بالعتَّابي، فذكر ابنُ عبدوس في كتاب "الوزراء" أنَّه كان قد نُقل إلى هارونَ أن العتابيَّ يقول بالاعتزال، فطلبه، فهرب إلى اليمن، فأقام بها زمانًا على وَجَل، فأراد يحيى بنُ خالدٍ أن يشفعه، فاحتال على الرشيد فأَسمعه شيئًا من خُطبه ورسائله، فاستحسن ذلك وقال: لمن هذا؟ فقال يحيى: للعتَّابي، قال: قد أمَّنَّاه فلْيحضر. وقيل: إنَّ] الرشيدَ طلبه (¬3)، فأخفاه يحيى بنُ خالد، ولم يزل يستصلح له قلبَ الرشيدِ حتَّى أمَّنه، فقال: [من البسيط] ما زلت في غَمَرات الموتِ مطَّرحًا ... قد ضاق عني فسيحُ الأرض من حِيَلي فلم تزل دائبًا تسعى بلطفك لي ... حتَّى اختلست حياتي من يدَي أجلي (¬4) وقيل: إنَّ الذي فعل ذلك معه جعفرُ بن يحيى [بنِ خالد] (¬5). محمدُ بن صالحِ ابن بَيْهَسَ بنِ زُمَيل. المتغلِّبُ على دمشقَ أيام أبي العَمَيطَر، وأقام إلى أن قدم ابنُ طاهرٍ دمشقَ وبعث به إلى المأمون، فمات ببغداد. وقيل: إنَّه مات سنةَ عشرٍ ومئتين، وهو الأصحّ. ¬

_ (¬1) في الأغاني 13/ 117، والوافي بالوفيات 24/ 358: بيت مال. وما بين حاصرتين منهما، والخبر بتمامه فيهما. (¬2) في (خ): الشباب، والمثبت من الأغاني وتاريخ بغداد. (¬3) في (خ): وكان الرشيد طلبه .... (¬4) الأغاني 13/ 119، والوفيات 4/ 122 - 123، والوافي 24/ 356. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

مسلم بن الوليد الأنصاري

وله أشعارٌ كثيرة منها: [من الوافر] منعْتُ بني أُمَيَّةَ ما أرادت ... وقد كانت تسمَّت بالخلافهْ أَبَرْتُهمُ من الشامات قتلًا ... ولم يكُ لي بهمْ في ذاك رافه أُناضلهمْ (¬1) عن المأمون إنِّي ... على مَن خالف المأمون آفه مسلم بنُ الوليد الأَنْصَارِيّ مولى أسعدَ بن زُرارةَ الخزرجي (¬2). دخل أعرابي على ثعلب فقال له: أَنْتَ الذي تزعم أنك أعلمُ الناسِ بالأدب؟ قال: كذا يزعمون، قال: أَنشِدني أرقَّ بيتٍ قالت العرب، قال: قولُ جَرير: [من البسيط] إنَّ العيونَ التي في طَرْفها مرضٌ ... قتلْننا ثم لم يُحْيِينَ قَتلانا يَصْرعْنَ ذا اللُّبِّ حتَّى لا حَرَاكَ (¬3) به ... وهنَّ أضعفُ خَلْقِ اللهِ أَركانا فقال: هذا شِعرٌ رثّ، قد لاكه السفهاءُ بألسنتها، هاتِ غيرَه. فقال ثعلب: أَفِدنا من عندك، فقال: قولُ صريعِ الغواني مسلم: [من الطَّويل] نبارزُ أبطال الوغى فنُبيدهمْ ... وتقتلنا في السِّلم لحظُ الكواعبِ وليست سهامُ الحربِ (¬4) تُفني نفوسَنا ... ولكنْ سهامٌ فوِّقت في الحواجب فقال ثعلب: اكتبوها على الحناجر (¬5) ولو بالخناجر. ولمسلمٍ في "الحماسة" (¬6): [من الطَّويل] حنينٌ ويأسٌ كيف يجتمعانِ ... مَقيلاهما في القلب مختلفانِ غدتْ والثَّرى أَولى بها من وليِّها ... إلى منزلٍ ناءٍ لعينك دانِ ¬

_ (¬1) في (خ): أفاضلهم، والمثبت من تاريخ دمشق 62/ 324، والوافي بالوفيات 3/ 156، وتنظر ترجمته أَيضًا في تاريخ الإِسلام 5/ 177. (¬2) تاريخ بغداد 15/ 116 - 118، والمنتظم 10/ 195، وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 235، ومعجم الشعراء ص 727، والسير 8/ 365، ويعرف بصريع الغواني. (¬3) رواية الديوان 1/ 163: لا صراع به. (¬4) رواية الديوان ص 306: سيوف الهند. (¬5) في المنتظم 10/ 195: المحاجر. ومَحجِر العين: ما يبدو من النقاب. مختار الصحاح (حجر). (¬6) في (خ): الحاشية، وهو تحريف، والأبيات في الحماسة 2/ 942 (بشرح المرزوقي)، والديوان ص 341.

موسى بن محمد الأمين

فلا وَجْدَ حتى تَنزفَ العينُ ماءها ... وتعترفَ الأحشاءُ بالخَفَقان موسى بنُ محمدٍ الأمين (¬1) الذي ولَّاه العهدَ وسمَّاه الناطق بالحق (¬2). أبو معاويةَ الأسود واسمُه اليَمَان، وكان من الأَبدال. [حدَّثنا غيرُ واحدٍ عن أبي الفضل بنِ ناصرٍ بإسناده إلى أبي الحسينِ بن الفهمِ قال: سمعتُ] يحيى بنَ معين يقول (¬3): رأيتُ أَبا معاويةَ الأسودَ وهو يلتقط الخِرَقَ من المزابل، فيلفِّقها ويغسلها ويلبَسها، فقيل له في ذلك، فقال: ما ضرَّهم ما أصابهم في الدُّنيا، جبر اللهُ لهم بالجنة كلَّ مصيبة. وكان قد ذهب بصرُه، فكان إذا أراد أن يقرأَ في المصحف، عاد إليه بصرُه، فإذا أطبق المصحف، ذهب بصرُه [وقد ذكرناه في سنة ستٍّ وتسعين في ترجمة أبي معاويةَ الضَّرير. واللهُ أعلم بالصواب] (¬4). * * * ¬

_ (¬1) سلف ذكره في السنة الرابعة والتسعين والمئة، وينظر تاريخ الطبري 8/ 387، والمنتظم 10/ 7 - 8، والكامل 6/ 239، وتاريخ الإِسلام 5/ 205. (¬2) التراجم الثلاثة الأخيرة ليست في (ب). (¬3) في (خ): وقال يحيى بن معين، وما بين حاصرتين من (ب)، وهذا سند ابن الجوزي في المنتظم 10/ 196. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

السنة التاسعة بعد المئتين

السَّنة التاسعة بعد المئتين فيها حصر عبدُ الله بنُ طاهرٍ نصرَ بن شَبَث حتَّى طلب الأمان. ذِكر قصَّته: قال جعفرُ بن محمدٍ العامري: قال المأمون لثُمامةَ بنِ أشرس: ألا تدلُّني على رجلٍ من أهل الجزيرةِ له عقل وبيان ومعرفة يؤدِّي عني رسالةً إلى نصر بنِ شبث؟ قال: بلى يَا أميرَ المُؤْمنين، فدلَّه عليَّ. قال جعفر: فدخلت عليه، فحمَّلني رسالةً إلى نصر بنِ شبث، فأبلغته [رسالتَه، فأجاب، إلَّا أنَّه قال: لا أطأُ بساطَه أبدًا، قال: فعدت إلى المأمون فأبلغتُه] (¬1) ما قال، فقال: لا أُجيبه إلى هذا أبدًا، وما باله ينفِر مني! قلت: لذنبه وما تقدَّم منه، فقال: أَفتراه أعظمَ جُرمًا عندي من الفضل بنِ الرَّبيع وعيسى بنِ أبي خالد! أما الفضل، فإنَّه أخذ قوَّادي وأموالي وجنودي وسلاحي وجميعَ ما أوصَى به أبي، فذهب به إلى محمدٍ وتركني بمروَ وحيدًا فريدًا، وأَسلمني، وأفسد عليَّ أخي، حتَّى كان من أمره ما كان، [وكان أشدَّ على من كلِّ شيء]. وأما ابنُ أبي خالد، فطرد خليفتي عن مدينتي (¬2) ومدينةِ آبائي, وذهب بخَراجي، وأَخرب دياري، وأقعد إبراهيمَ ابن المهديِّ خليفةً دوني، ودعاه باسمي. فقلت: الفضل [بن الرَّبيع] (¬3) رضيعُكم ومولاكم, وله سلفٌ صالح في خدمتكم، حالُهم يرجع إليه بضروبٍ كلها تردُّك إليه. وأما عيسى بنُ أبي خالد، فرجلٌ من أهل دولتك، وسابقتُه وسابقة مَن مضى مِن سَلَفه [ترجع عليه بذلك، وابنُ شبث لم تكن له يد قطُّ فيُحمل عليها, ولا لمن مضى من سلفه] إنما كانوا جندَ بني أمية. فقال: إنَّ [كان] ذلك كما تقول، فكيف بالحَنَق والغيظ [ولكني لست أقلعُ عنه حتَّى يطأَ بساطي. قال] (¬4): فعدت إلى ابن شبث فأخبرته، فقال: لا أطأُ بساطَه أبدًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). والخبر في تاريخ الطبري 8/ 598 - 601، وينظر الكامل 6/ 388 - 390، وتاريخ الإِسلام 5/ 18 - 19. (¬2) في (خ) مذهبي، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في تاريخ الطبري وابن الأثير 6/ 389. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري وابن الأثير.

ثم إن عبدَ الله بنَ طاهر جادَّه القتال، وهزم جيوشَه، وكان المأمونُ قد كتب إليه كتابًا يدعوه إلى طاعته، وفيه: أنها بعد: يَا نصرَ بن شَبث، قد عرفتَ الطاعة وعزَّها (¬1)، وبَرْدَ ظلِّها، وطِيبَ مرتعها، وما في خلافها من الندم والخسار، وإن طالت مدةُ العصيان بك، فإنَّ الله تعالى إنما يُملي لمن يلتمس مظاهرةَ الحجَّة عليه ليعاقبَه على قدر الاستحقاق، وقد رأيتُ إذكارَك وتبصيرك، فإن الصدقَ صدقٌ والباطلَ باطل، ولم يعاملْك أحدٌ من عمَّال أميرِ المُؤْمنين بتعرُّض في مالٍ ودِين ونفْس وأهل، فبأيِّ طريقٍ تأخذ أموال أمير المُؤْمنين وتتولَّى بلادَه وما أَولاه اللهُ تعالى! وتريد أن تبيتَ آمنًا مطمئنًا وادعًا ساكنًا! فوَعالمِ الغيبِ والجهر لَئن لم تكن للطاعة مُراجعًا وبها خانعًا (¬2)، لتُسربَلَنَّ (¬3) وَخَمَ العاقبة (¬4)؛ فإنَّ قرون الشيطانِ إذا لم تُقطع، كانت في الأرض فتنةً وفسادًا كبيرًا، ولأطأنَّ بمن معي من أنصار الدولةِ كواهلَ رَعاعِ أصحابك، ومَن تأشَّبَ (¬5) إليك من أداني البلادِ وأقاصيها وطَغَامها وأَوباشها، ومَن ضوى إليك منهم، وقد أَعذر من أَنذر، والسلام. وكان الكتابُ بخطِّ عَمرو بنِ مَسعدة، فأرسل ابنُ شبث إلى ابن طاهرٍ وطلب منه الأمان، وكان مقامُ ابن طاهرٍ على محاربته خمسَ سنين، وكتب ابنُ طاهرٍ إلى المأمون يُخبره أنَّه حصره وضيَّق عليه، وقتل رؤساءه وأعيانَ أصحابه، وأنه قد عاذ بالأمان بعد أن قطع الفرات وتحصَّن بحصن كَيْسوم (¬6) من بلد حلب، وكان قد استولى على الجزيرة والشَّام، فقطع ابنُ طاهرٍ خلفه الفرات، فحصره في كَيسوم. ولما ورد كتابُ ابن طاهرٍ إلى المأمون، كتب له كتابَ أمان، نسختُه: أما بعد: فإنَّ الإعذار بالحقِّ حجَّة اللهِ المقرونُ (¬7) بها النصر، والاحتجاجَ بالحق دعوةُ [الله] (¬8) ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): وغيرها، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 599. (¬2) في (خ): ناجعًا، والمثبت من تاريخ الطبري. (¬3) في تاريخ الطبري: لتستوبلن. (¬4) من قوله: فوعالم الغيب ... إلى هنا، ليست في (ب). (¬5) في (خ): تناسب، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في تاريخ الطبري. ومعناه: التفَّ. (¬6) في (ب) و (خ): كيسون، وهو خطأ، وانظر تاريخ الطبري 8/ 601. (¬7) في (خ): المعروف، والمثبت من تاريخ الطبري. (¬8) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري.

الموصولُ بها العزّ، ولا يزال المعذِر بالحقِّ يحتجُّ بالعدل في استفتاح أبوابِ التأييد، واستدعاءِ أسباب التمكين، حتَّى يفتحَ اللهُ وهو خيرُ الفاتحين، ويمكِّن له وهو خير الممكِّنين، ولستَ تعدو مما ألهجتَ إحدى ثلاث: إما طالبُ دِين، أو ملتمسُ دنيا، أو متهورًا بطلب الغَلَبة ظلمًا، فإن كنتَ للدِّين تسعى بما تصنع، فأَوضِح لأمير المُؤْمنين ذلك، يغتنمْ قبولَه إن كان حقًّا، فلعَمري (¬1) ما همَّته الكبرى ولا غايتُه القصوى إلَّا الميلُ مع الحقِّ حيث مال، والزوالُ مع العدل حيث زال، وإن كنتَ إنما تقصد الدنيا، فأَعِلم أميرَ المُؤْمنين غايتَك فيها، والأمرَ الذي تستحقُّها [به] (¬2)، فإن استحققتَها وأمكنه ذلك، فعلَه بك، ولَعمري إنه ما يستجيز منعَ أحدٍ ما يستحقُّه وإن عَظُمَ، وإن كنت متهوِّرًا بطلب الغَلَبة، فسيكفي اللهُ أميرَ المُؤْمنين مؤنتَك، ويعجِّل في ذلك كما عجَّل كفايتَه مؤَنَ قومٍ سلكوا طريقَك، كانوا أقوى يدًا، وأكثفَ جندًا، وأكثرَ عددًا وجمعًا، اختارهم اللهُ إلى مصارع الخاسرين، وأَنزل بهم من جوائح الظالمين، وأميرُ المُؤْمنين يختم كتابَه بشهادة أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه - صلى الله عليه وسلم -، وضمانُه لك في دِينه وذمَّته الصفحُ (¬3) عن سوالف جرائمِك ومتقدِّمات جرائرك، وإنزالُك ما تستحقُّ من منازل العزِّ والرِّفعة إن أَنبتَ وراجعتَ إن شاء اللهُ تعالى، والسلام. فنزل من حصن كَيْسوم (¬4)، فهدمه ابنُ طاهر، وبعث بنصر بنِ شبث إلى بغداد، فقدمها أولَ السَّنة العاشرةِ والمئتين. وفيها ولَّى المأمونُ صدقةَ بن عليّ ويُعرف بزريق إرْمِينِيَةَ وأَذْربِيجانَ ومحاربةَ بابك، وندب للقيام بأمره أحمدَ بن الجنيدِ الإسكافي، فقرَّر أمره، ورجع أحمدُ إلى بغداد، وحارب صدقةُ بابك، فأَسره، فولَّى المأمونُ مكانَه إبراهيمَ بن الليث (¬5) بنِ الفضل (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ): إنما، والمثبت من تاريخ الطبري. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري. (¬3) في (ب) و (خ): والصفح. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬4) في (ب) و (خ): كيسون. وهو خطأ. (¬5) في (خ): المهدي، والمثبت من المصادر. (¬6) تاريخ الطبري 8/ 601، والمنتظم 10/ 198، وعند الطبري: ثم رجع أَحْمد إلى بغداد، ثم رجع إلى الخُرّميّة، فأسره بابك ....

أحمد بن الرشيد، وليس بالسبتي

وحجَّ بالنَّاس صالحُ بن العباسِ بن محمَّد بن عليّ عاملُ مكَّة. [فصل] (¬1) وفيها تُوفِّي أحمدُ بن الرشيد، وليس بالسَّبْتي و[اختلفوا فيه، فـ] قيل: اسمُه صالح (¬2)، وكُنيته أبو عيسى، وقيل: كُنيته أبو أَحْمد [والأصحّ أن كنيتَه أبو أَحْمد وهي اسمُه] (¬3). وكان من أحسن الناسِ وجهًا، وأجملِهم ظَرْفًا، وكان إذا ركب جلس النَّاسُ لرؤيته أكثرَ ما يجلسون (¬4) لرؤية الخلفاء، وكان فَطِنًا، قال له الرشيدُ [يومًا وهو صبي] (¬5): ليت حُسنَك لعبد الله، يعني المأمون، فقال له: على أنَّ حظَّه منك لي، فعجب الرشيدُ من جوابه على صِباه. وكان المأمونُ يحبُّه محبةً شديدةً بحيث لا يصبر عنه لحظة، وكان قد أعدَّه للخلافة، ومن حبِّه له كان يقول: إنني لَيسهل عليَّ الموتُ وفقدُ الخلافة لمحبَّتي أن يليَ أبو عيسى. فمات في هذه السَّنة. و[اختلفوا في] (¬6) سببِ موته [على قولين: أحدهما] أنَّه خرج إلى الصيد، فركض دابَّتَه، فوقع على رأسه، فاختلَّ دماغهُ، فكان يُصرع في اليوم مرَّات حتَّى مات. [والثاني: ] (¬7) أنَّه قال وقد رأى هلال رمضان: [من الطَّويل] دعاني شهرُ الصومِ لا كان من شهر ... ولا صمتُ شهرًا بعدَه آخرَ الدَّهرِ فلو كان يُعْديني الإمامُ بقدرة ... على الشهر لاستعديتُ جهدي على الشهر (¬8) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في أشعار أولاد الخلفاء ص 88: واسمه أَحْمد، وقيل: محمَّد. وانظر المنتظم 10/ 199، والأغاني 10/ 187 - 193، والوافي بالوفيات 16/ 273 - 274، وتاريخ الإِسلام 5/ 237 - 239. (¬3) في (خ): وقيل: هي اسمه. (¬4) في (خ) و (ب): يحتبسون، والمثبت من المصادر. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) في (خ): وقيل. (¬8) أشعار أولاد الخلفاء، والأغاني 10/ 188، والمنتظم 10/ 200.

فأصابه عقيبَ هذا القولِ صرع، فكان يُصرع في اليوم مراتٍ إلى أن مات، ولم يبلغْ شهرًا مثلَه. ولمّا مات، حزن عليه المأمونُ حزنًا كاد يَذهب بعقله، وخرج في جنازته حافيًا، وصلى عليه ونزل في قبره، وامتنع من الطعام أيامًا، وقدم عليه المعزُّون من الآفاق، وقال أحمدُ بن أبي دؤاد: دخلتُ على المأمون [يومًا] وهو يبكي ويقول: [من الطَّويل] سأبكيك ما فاضت دموعي فانْ تَغِضْ ... فحسبُك منِّي ما تُجِنُّ الجوانحُ كأنْ لم يمت حيٌّ سواك ولم تَقُم ... على أحدٍ إلَّا عليك النّوائح (¬1) ثم التفت إليَّ وقال: هيه يَا أَحْمد، فتمثَّلتُ بقول عبدة بنِ الطبيب: [من الطَّويل] عليك سلامُ اللهِ قيسَ بنَ عاصمٍ ... ورحمتُه ما شاء أن يترحَّما تحيَّةَ مَن أوليتَه منك نعمةً ... إذا زار عن شَحْطٍ (¬2) بلادَك سَلَّما فما كان قيسٌ هُلْكُه هُلكَ واحدٍ ... ولكنه بُنيانُ قومٍ تهدَّما فبكى بكاءً شديدًا، وكان عنده عَمرو بنُ مَسعدةَ كاتبُه، فقال: هيه يَا عَمرو، فأنشد: [من الكامل] بكُّوا حذيفةَ لن تُبَكُّوا مثلَه ... حتَّى تعودَ قبائلٌ لم تُخْلَقِ (¬3) وإذا بعَرِيبَ قد دخلت، فقال لها: نُوحي، فناحت ومعها جواريها، فقالت: ] من الطَّويل] كذا فلْيَجِلَّ الخطبُ ولْيَفدح الأمرُ ... فليس لعينٍ لم يَفض ماؤها عُذرُ كأنَّ بني العبَّاسِ يومَ فراقِه ... نجومُ سماءٍ خرَّ من بينها البدرُ فبكى المأمونُ حتَّى قلت: ذَهَبَتْ نفْسُه. [ولأبي عيسى واقعةٌ نذكرها في ترجمة ابنِ ¬

_ (¬1) البيتان من قصيدة لأشجع السلمي، وهما في ديوان الحماسة 2/ 856 (شرح المرزوقي)، والخزانة 1/ 295. والقصة التي أوردها المصنف هنا في الأغاني 10/ 191، والمنتظم 10/ 199 - 200، وتاريخ الإِسلام 5/ 238 - 239. (¬2) الشحط: البعد. مختار الصحاح (شحط). (¬3) انظر التعازي والمراثي ص 26، 149.

بشر بن منصور

أيوبَ التَّيمي الشَّاعر] (¬1). بِشرُ بن منصور أبو محمدٍ السَّلِيمي (¬2). كان من العبَّاد المجتهدين. قال [أبو نعيم (¬3) بإسناده إلى] العباسِ بن الوليد [قال: ] أتيناه نزوره بعدَ العصر، فوقفنا ببابه، فخرج إلينا وقد تغيَّر لونه، فقلنا: أَبا محمَّد، لعلنا شغلناك عن شيء؟ فقال: إي والله، كنتُ أقرأ في المصحف، فمنعتموني وشغلتموني، ثم قال: ما أكاد أَلقى أحدًا فأَربحَ عليه شيئًا (¬4). أسند عن الثَّوريّ وغيرِه، وروى عنه الإمامُ أَحْمد (¬5) رحمةُ الله عليه وغيرُه، وكان ثِقَة [واللهُ أعلم. وفيها تُوفِّي] (¬6) جامعُ بن بكَّار ابنِ بلال، أبو عبدِ الرَّحْمَن، العاملي. ذكره الحافظُ ابن عساكرٍ وقال: كان هو وأخوه محمَّد بن بكارٍ من أهل الفتوى بدمشق، وكانت وفاتُه بدمشقَ في هذه السَّنة وهو ابنُ تسعٍ وستِّين سنة. أسند عن سعيد بنِ عبد العزيز وغيره، وروى عنه محمدُ بن راشدٍ المكحولي (¬7) وغيره. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): السلمي، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في المصادر، ثم إن المصنِّف تابَعَ جده في المنتظم 10/ 201 وترجمه هنا، وإلا فهو من وفيات (180 هـ). انظر التاريخ الكبير 2/ 84، والأنساب 7/ 124، وتهذيب الكمال، وتاريخ الإِسلام 4/ 586 - 587، وتقريب التهذيب. (¬3) في الحلية 6/ 239، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) بعدها في (ب): وكانت وفاته في هذه السنة. وهو وهم كما ذكرنا. (¬5) لم أجد من ذكره، وذكر في تهذيب الكمال أنَّ ممن روى عنه أَحْمد بن عبيد الله الغُداني وغيره، ونَقَل عن أَحْمد أنَّه قال عنه: ثِقَة ثِقَة وزيادة. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) كذا قال، ومحمَّد بن راشد من شيوخه، انظر تهذيب الكمال. وهذه الترجمة ليست في (خ).

الحسن بن موسى

وكان جامعٌ هو الذي روى أنَّ أميرَ المُؤْمنين عليًّا - عليه السلام - لما قُتل أرادوا أن يحملوه فيدفنوه عند النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثم دفنوه بالكوفة] (¬1). الحسنُ بن موسى أبو علي، الأشيبُ الحنفيُّ الخُرَاسَانِيّ (¬2). ولي القضاءَ بالموصل وحمصَ في أيام الرَّشيد، ثم قدم بغدادَ [في خلافة المأمون] فولَّاه المأمونُ طَبَرِسْتان قاضيًا، فتوجَّه إليها، فمات بالرَّي في هذه السَّنة، وقيل: سنة عشرٍ ومئتين. وقال [الخطيبُ (¬3) بإسناده إلى] محمدِ بن عبد اللهِ بن عمَّار الموصلي [قال: ] كان بالموصلِ بِيعةٌ للنصارى، فخربت، فاجتمع النَّصارى إلى الحسن [بن موسى الأشيب] , وجمعوا [له] مئةَ [أَلْف] درهمٍ على أن يحكمَ بها حتَّى تُبنى، فقال: ادفعوا المال إلى بعض الشُّهود، فلمَّا حضروا في الجامع قال للشُّهود: اشهدوا [عليَّ] أنني قد حكمتُ بأَنْ لا تُبنى هذه البِيعة، فانصرف النَّصارى، وردَّ عليهم أموالهم ولم يقبلْ منه درهمًا واحدًا [والبِيعة خراب. قال الخَطيب: ] إنَّما فعل ذلك لثبوت البيِّنةِ عنده أن البِيعةَ محدَثة بُنيت في الإِسلام [إذ لو كانت قديمةً لما جاز له منعُهم من بنائها، وإنما أَشهد على المال ليُعلمَ عفافُه وورعُه، وأنَّه لم يقبل مثل هذه الرِّشوة. وقيل: إنَّ هذه الواقعةَ كانت بحمص] (¬4). أسند [الأشيبُ] عن حماد بنِ سَلَمة [وابنِ لَهيعة وشعبةَ بن الحجَّاج] وغيرِهم، وروى عنه الإِمام أحمدُ رحمةُ الله عليه [وعباسٌ الدُّوريّ وأبو خيثمةَ زهيرُ بن حَرب] وغيرُهم (¬5)، وكان ثقةً صَدوقًا ورعًا. ¬

_ (¬1) كذا قال، وفي مختصر تاريخ دمشق 5/ 367 أن الجمل الذي حملوه عليه ندَّ، فلم يدروا أين ذهب، ولم يُقدر عليه، قال: فلذلك يقول أهل العراق: هو في السحاب. (¬2) تنظر ترجمته في المنتظم 10/ 201 - 202، وتاريخ بغداد 8/ 456 - 460، والوافي 12/ 280، والسير 9/ 559، وما سيرد بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخه 8/ 457. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) هنا ينتهي كلام الخَطيب، وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ): وغيره، وما بين حاصرتين من (ب).

سعيد بن سلم بن قتيبة

سعيدُ بن سَلْم بنِ قتيبة أبو محمَّد (¬1)، الباهليُّ البَصْرِيّ. ولي بعضَ أعمالِ خُراسان، ثم قدم بغدادَ وحدَّث بها، وكان عالمًا بالحديث والعربية، إلَّا أنَّه كان لا يبذل نفسَه للنَّاس. وقال: خرجت إلى مكةَ ومعي قِبَاب، فدخلنا البادية، فمررت بأعرابيٍّ محتَبٍ على باب خيمةٍ له وهو يرمقُ القباب، فسلّمت عليه، فقال: لمن هذه القِباب؟ قلت: لرجلٍ من باهلة، فقال: ما أظنُّ الله يعطي باهليًّا هذا كله. فلما رأيتُ إزراءَه (¬2) على باهلةَ قلت له: يَا أعرابي، أتحبُّ أن تكونَ لك هذه القبابُ وأنت من باهلة؟ قال: لا ها اللهِ ذا، فقلت: أتحبُّ أن تكونَ أميرَ المُؤْمنين وأنت رجلٌ من باهلة؟ فقال: لا ها اللهِ ذا، فقلت: أتحبُّ أن تكونَ من أهل الجنة [وأنت رجل من باهلة؟ فقال: بشرط، قلت: وما ذاك الشرط؟ قال: لا يعلم أهلُ الجنة] (¬3) أني باهلي؟ فرميتُ إليه بصُرَّة فيها دراهم، فأخذها وقال: لقد وافقتْ مني حاجةً إن لم تكن من رجلٍ من باهلة، فقلت: أنا من باهلة، فرمى بها إليَّ وقال: لا حاجةَ لي فيها، فقلت: قد ذكرتَ من نفسك حاجةً تجدها، فقلت: لا أحبُّ أن ألقى اللهَ ولباهليٍّ عندي يَدٌ. فانصرفت، فلمَّا قدمتُ على المأمون حدَّثته، فضحك حتَّى استلقى على قفاه، وقال: يَا أَبا محمَّد، ما أَصبرَك. وأمر لي بمئة ألفِ درهم. تُوفِّي سعيدٌ ببغداد، وسمع عبدَ الله بنَ عونٍ وطبقتَه، ومن روايته: أنَّ القاسم بن محمدِ بن أبي بكرٍ الصَّدِّيق - رضي الله عنه - كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لأبي محمدٍ ذنبَه في عثمانَ بن عفان. وباهلةُ قبيلة من قَيس عَيلان (¬4)، وهو في الأصل اسمُ امرأةٍ من هَمْدان، كانت تحت ¬

_ (¬1) في (خ): أبو علي، والمثبت من المصادر. انظر تاريخ بغداد 10/ 105 - 106، والأنساب 2/ 67، والمنتظم 10/ 203، وتاريخ الإِسلام 5/ 80. (¬2) في (خ): إزاره، والمثبت من تاريخ بغداد 10/ 106، والمنتظم 10/ 204. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد. (¬4) في (خ): عبدان، وهو خطأ.

سعيد بن وهب

معنِ بن أعصر (¬1) بن [سعدِ] (¬2) بن قيس بن عَيلان، فنُسب ولدُه إليها. سعيدُ بن وهب أبو عثمانَ البَصْرِيّ، مولى بني سامةَ (¬3) بنِ لؤي. كان شاعرًا [من أهل البصرة] (¬4) فأكثر القولَ في الغَزَل والمُجُون، وقدم على البرامكة، وتصرَّف معهم وتقدَّم عندهم، ومدحهم. دخل يومًا على الفضل بنِ يحيى والشعراءُ يُنشدونه ويُطلق لهم الجوائز، فلما لم يبقَ منهم أحد، التَفَتَ الفضلُ إليه كالمستنطق له، فقال: أيها الوزير، إنِّي لم أستعدَّ لهذا المقام، ولكن قد حضر بيتان أرجو أن ينوبا عن أبياتٍ كثيرة، فقال: قل، فربَّ قليلٍ أنفعُ من كثير، فقال: [من الخفيف] مدح الفضلُ نفسَه بالفِعال ... فعَلَا عن مديحنا بالمقالِ أمروني بمدحه قلت كلَّا ... كَبُرَ الفضلُ عن مديح الرِّجال فطرب الفضلُ وقال. أحسنتَ واللهِ [و] (¬5) أجدت، ولئن قلَّ القولُ ونزر، لقد اتسع المعنى وكثر. ثم أعطاه بمقدار ما أعطى الجميع. وتاب سعيدٌ وتنسَّك، وغسل كل ما كان عنده من أشعار اللهو والغزل، وأكثر من الصومِ والصلاة، وحجَّ ماشيًا، فبلغ منه الجهدُ فقال: [من الرمل] ربِّ يومٍ رحتما (¬6) فيه على ... زهرةِ الدنيا وفي عيشٍ خَصيبِ ¬

_ (¬1) كذا في لسان العرب وتاج العروس (بهل)، وفي تاريخ بغداد في سرد نسبه: معن بن مالك بن أعصر. وفي الأنساب: باهلة بن أعصر. وينظر أَيضًا معجم قبائل العرب للكحالة 1/ 60. (¬2) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬3) في (ب) و (خ): أسامة، وكذا في المنتظم 10/ 202، والمثبت من تاريخ بغداد 10/ 105، وتاريخ الإِسلام 5/ 82، والوافي 15/ 272، ومعظم الترجمة لم ترد في (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من المنتظم 10/ 202، وانظر البيتين أَيضًا في تاريخ بغداد 10/ 105. (¬6) الضمير لقدميه المذكورين في البيت قبله كما في تاريخ بغداد والمنتظم. وهو: قدمَيَّ اعتورا رمل الكثيب ... واطرقا الآجن من ماء القليب

عبد الله بن أيوب

وسماعٍ (¬1) حَسَنٍ من حَسَنٍ ... صَخِبِ المُزهر كالظَّبْي الرَّبيب فاحسبا ذاك بهذا واصبرا ... وخذا من كلِّ فنٍّ بنصيب إنَّما أمشي لأني مذنبٌ ... فلعل الله يعفو عن ذنوبي وكانت وفاتُه في هذه السَّنة، وله عشرة بنينَ وعشرُ بنات. عبد الله بنُ أَيُّوب أبو محمدٍ التَّيميّ، من تَيم اللاتِ ابنِ ثعلبة. أحدُ شعراءِ الدولة العباسية، مدح الأمينَ والمأمونَ وغيرهما، وأجازه الأمينُ بمئتي ألفِ درهم. وعشق جاريةً عند بعض النخَّاسين، فكتب إلى أبي عيسى بنِ الرشيد يقول: [من الرمل] يَا أَبا عيسى إليك المشتكى ... وأخو الصبرِ إذا عيلَ بكى (¬2) ليس لي صبرٌ على هِجرانها ... وأَعافُ المشربَ المشترَكا فعرض على المأمون ورقَّ له، فقال: اِشترها له، فأمر له بثلاثين ألفَ درهمٍ واشتراها. وقال إبراهيمُ بن الحسن بنِ سهل: كان المأمونُ يتعصَّب للأوائل من الشعراء ويقول: انقضى الشِّعرُ مع ملك بني أمية، وكان عمِّي الفضلُ بن سهل يتعصَّب للمحدَثين ويقول: شعرُ الأوائلِ حجَّة، وشعرُ المتأخِّرين أحسنُ وأملح، فأنشده التَّيمي يومًا شعرًا مدحه فيه فقال: [من الطويل] ترى ظاهرَ المأمونِ أحسنَ ظاهر ... وأحسن منه ما أسرَّ وأَضمرا يناجي له نفْسًا تتوق (¬3) بهمَّةٍ ... إلى كلِّ معروف وقلبًا مطهَّرا ¬

_ (¬1) في (خ): سماع من. وهو خطأ. (¬2) كذا في المنتظم 10/ 205، وفي تاريخ بغداد 11/ 65: اشتكى، وتنظر ترجمته أَيضًا في الوافي 17/ 79 - 80، وتاريخ الإِسلام 5/ 337 - 338. (¬3) في تاريخ بغداد والمنتظم: تريع.

ويخشع إكبارًا له كلُّ ناظرٍ ... ويأبى لخوف اللهِ أن يتكبَّرا طويلُ نِجادِ السيف مُضطَمِرُ [الحشا] (¬1) ... طواه طِرادُ الخيل حتَّى تحسَّرا رِفَلٌّ (¬2) إذا ما السِّلم رفَّلَ ذيلَه ... وإنْ شمَّرتْ يومًا له (¬3) الحربُ شمَّرا فقال المأمون: ما بعد هذا مدحٌ أبدًا. * * * ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد والمنتظم. (¬2) في (خ): ترفل، والمثبت من تاريخ بغداد والمنتظم. (¬3) في (خ): إلى، والمثبت من تاريخ بغداد والمنتظم.

السنة العاشرة بعد المئتين

السَّنة العاشرةُ بعد المئتين فيها بعث عبد الله بن طاهر بنصر بنِ شَبَث إلى المأمون، فدخل بغدادَ يوم الاثنين لسبعٍ خلود من صفر، فأنزله مدينةَ المنصور ووكَّل به مَن يحفظه. وفيها اتفق جماعةٌ من القوَّاد -منهم: محمدُ بن إبراهيمَ الإفريقي، ومالكُ بن شاهي، وفَرَجٌ البغواري (¬1)، وآخرون- مع ابنِ عائشة، وبايعوه بالخلافة سرًّا. وهذا ابنُ عائشةَ اسمُه: إبراهيمُ بن محمَّد بنِ عبد الوهَّاب بن إبراهيمَ الإِمام بن محمَّد بن عليِّ بن عبدِ الله بن عباس، ويعرف بابن عائشةَ لأنَّ عائشة بنتَ سليمانَ بنِ على (¬2) جدَّتُه أمُّ أَبيه، فوَلَدُ عبد الوهَّاب يُنسبون إليها. وفي روايةٍ للطبريِّ (¬3) أنَّ ابنَ عائشةَ ومَن سمَّينا كانوا يسعَون في البَيعة لإبراهيمَ بن المهدي، ويُفسدون الجندَ على المأمون، وبلغ المأمونَ ذلك من عمرانَ القُطْرَبُّليّ، فقضى عليهم يومَ السبت لخمسٍ خلونَ من صَفَر، وكانوا قد اتَّعدوا أن يقطعوا الجسرَ إذا خرج القوَّاد والجندُ يتلقَّون نصرَ بن شَبَث، ودخل وحده ولم يتوجَّه إليه أحدٌ من الجند، فأنزله المأمونُ عند إسحاقَ بن إبراهيمَ صاحبِ الشرطة، ثم نقله إلى مدينة المنصور، وأُقيم ابنُ عائشةَ على باب دارِ المأمون في الشَّمس ثلاثةَ أيام، ثم ضُرب بالسِّياط بعد ذلك ومَن وافقه ضربًا مبرِّحًا، وحُبسوا في المُطبق، فنقبوا السجنَ ليلًا وشغبوا، فركب المأمون بنفسه ودعاهم فضرب أعناقَهم، وصُلبوا على الجسر الأسفل. ثم أُنزل ابنُ عائشة، فكُفن وصلِّي عليه ودُفن في مقابر قريش، وهو أوّل هاشميٍّ صُلب من ولد العباس، وشتم المأمونَ شتمًا قبيحًا عندما أراد قتلَه، وأُنزل ابنُ الإفريقيِّ فدُفن في مقابر الخَيزُران، ونزل المأمونُ فوجد لابن عائشةَ صناديقَ فيها كتب القوَّاد ¬

_ (¬1) في (خ): البعودرى، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 602، وتاريخ الإِسلام 5/ 19، وانظر المنتظم 10/ 211. (¬2) ابن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -. انظر الوافي 6/ 106. (¬3) في تاريخه 8/ 602.

وغيرُها (¬1)، فلم يرَ المأمونُ أن يعرضَ لأحد، ولم يأمنْ أن يكونوا قدَّموا قومًا بُرَآء، فجلس في المسجد وأَحضر الصناديق، وجمع النَّاسَ وقال: أنا أَعلمُ أنَّ فيكم البريءَ والسقيم، وأسماؤهم (¬2) في هذه الصناديق، وإن نظرتُ فيها لم أصفُ (¬3) لهم ولم يصفُوا لي، فمَن كان له فيها اسمٌ فلْيستغفر الله وليتب إليه، والماضي فقد فات، ثم أمر بإحراق الصناديق. وفيها ظفر المأمونُ بإبراهيمَ بن المهديّ [وقد اختلفت الروايات، فروينا أن المأمونَ لمَّا قرب من بغدادَ اختفى ابنُ المهدي، و] (¬4) لمَّا دخل المأمونُ بغداد جدَّ في طلبه، وكان إبراهيمُ ينتقل [من مَحلَّة إلى محلَّة، و] من مكانٍ إلى مكان، فلما كانت ليلةُ الأحدِ لثلاث عشرةَ من ربيعٍ الآخر [من هذه السَّنة] خرج وهو متنقِّبٌ مع امرأتين في زِيِّ امرأة، فرآهنَ حارسٌ أسود، فأنكرهن وقال: أين تُرِدنَ في هذا الوقت؟ ! فأعطاه إبراهيمُ خاتمًا من ياقوت [كان في يده] له قَدْرٌ عظيم، فاستراب منهنَّ وقال: هذا خاتمُ [رجل] (¬5) له شأن، فرفعهنَّ إلى صاحب المسلحة [فأمرهنَّ أن يُسفِرن، فتمنَّع إبراهيم، فجبذه صاحبُ المسلحة] فبدت لحيةُ إبراهيم، فرفعه إلى صاحب الجسر [فعرفه] فذهب به إلى المأمون، فأمر أن يُحبسَ في الدار. فلمَّا كان صبيحةُ يومِ الأحد، جلس المأمونُ وأَحضر بني هاشمٍ والقوادَ والجندَ والخلائق، فصيَّروا المِقنعةَ التي كان متنقِّبًا بها في عُنقه، والملحفةَ التي كان ملتحفًا بها في صدره؛ ليرى النَّاسُ كيف أُخذ. فلما كان يومُ الخميس، حوَّله المأمونُ إلى منزل أحمدَ بن أبي خالد، فحبسه عنده ثم أخرجه المأمونُ معه لمَّا خرج إلى الحسن بنِ سهلٍ (¬6) بواسط، فـ[قال النَّاس: إنَّ الحسن] كلَّمه فيه، فرضي عنه وخلَّى سبيلَه، وصيَّره عند أحمدَ بن أبي خالد، ¬

_ (¬1) في المنتظم 10/ 211: كتب القواد وغيرهم إليه. (¬2) في (خ): وأسمائه، وفي المنتظم: أن فيكم البريء الذي لا اسم له في الصناديق، ومنكم الغائب والمستزيد. (¬3) في (خ): وما لم أصف. والمثبت من المنتظم. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 603، والمنتظم 10/ 212، والكامل 6/ 392. (¬6) في (خ): الحسن بن عليّ. وهو خطأ.

و [صيَّر] (¬1) معه يحيى بنَ معاذ (¬2) وخالدَ بن يزيد [بنِ مزيد] (¬3) يحفظانه، إلَّا أنَّه موسَّع عليه، عنده أمُّه (¬4) وعيالُه، وإذا ركب إلى دار المأمونِ كانا معه [ليحفظاه] (¬5). [قال الطبري (¬6): وفي روايةٍ أنَّه] لما أُخذ صيرَ به إلى دار أبي إسحاقَ بنِ الرشيد، وأبو إسحاقَ عند المأمون، فحُمل رديفًا لفَرَج التُّركي، فلمَّا دخل على المأمون، قال له: [هيهِ] (¬7) يَا إبراهيم، فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، وليُّ الثأر محكَّم في القصاص، والعفوُ أقرب إلى التقوى، ومَن تناوله الاغترارُ (¬8) بما مُدَّ له من أسباب الشَّقاء، مكَّن عاديةَ الدهرِ من نفْسه، وقد جعلك اللهُ فوق كل شيء عفوًا، كما جعل كل ذي ذنبٍ دون عفوك، فإن تعاقِبْ فبحقِّك، وإن تعفُ فبفضلك، فقال: القدرة تُذهب الحفيظة، والندمُ توبة، وبينهما عفوُ الله. فكبَّر إبراهيمُ ثم خرَّ ساجدًا (¬9)، ثم قال: [من الخفيف] إنْ أكن مذنبًا فحظِّيَ أخطأْ ... تُ فدعْ عنك كثرةَ التأنيبْ قلْ كما قال يوسفٌ لبني يعـ ... قوبَ لما أتوهُ لا تثريبْ فقال: لا تثريب. وأنشده (¬10): [من المجتث] ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظمُ منهُ فخذ بحقك أَوْ لا ... فاصفح بحِلمك عنهُ إنْ لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنْهُ وأنشد أَيضًا (¬11): [من المجتث] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) المنتظم 15/ 212، وفي تاريخ الطبري 8/ 603: أَحْمد بن يحيى بن معاذ. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ب): عند أمه، وفي (خ): عند أَبيه، والمثبت من تاريخ الطبري والمنتظم. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في تاريخه 8/ 604 وفي (خ): وقيل. (¬7) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري. (¬8) في (خ): الاقتدار، والمثبت من تاريخ الطبري. (¬9) هنا انتهى الخبر عند الطبري، وما بعده من تاريخ بغداد 7/ 72. وانظر المنتظم 10/ 213. (¬10) في المنتظم: وفي رواية: دخل عليه فأنشده. وهو ليس في تاريخ بغداد. (¬11) في المنتظم: ثم قال.

أذنبتُ ذنبًا عظيمًا ... وأنت للعفو أهلُ فإنْ عفوت فمنٌّ ... وإنْ جَزيتَ فعدلُ فرقَّ له المأمون، وأقبل على أخيه أبي إسحاقَ وابنِه العباس والقوَّاد فقال: ما ترون في أمره؟ فقال بعضهم: ضَرْبَ عنقه، وقال آخرون: تُقطع أطرافهُ وتُقصص، فقال المأمون لأحمدَ بنِ أبي خالد: ما تقول أَنْتَ؟ فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، إن قتلتَه وجدت مثلَك قد قتل مثلَه كثيرًا، وإن عفوتَ عنه لم تجد مثلَك عفا عن مثله، فأيُّما أحبُّ إليك: أن تفعلَ فعلًا تجد لك فيه شريكًا، أو تنفردَ بالفضل؟ فأطرق المأمونُ طويلًا، ثم رفع رأسَه وقال: يَا أَحْمد، أَعِد ما قلت، فأعاده، فقال: بل ننفرد بالفضل، ولا رأيَ لنا بالشركة. فكشف إبراهيمُ القناعَ عن رأسه وكبَّر تكبيرةً عالية وقال: عفا أميرُ المُؤْمنين واللهِ تعالى، فقال أميرُ المُؤْمنين: لا بأسَ عليك يَا عمّ. وأمر بحبسه عند أحمدَ بنِ أبي خالد، فلمَّا كان بعد شهر، أحضره وقال: اعتذرْ من ذنبك، فقال: ذنبي أجلُّ من أن أتفوَّه فيه بعذر، وعفوُك أعظم من أن أنطقَ معه بشكر، ولكني أقول: [من الكامل] يَا خيرَ مَن ذَمَلَت (¬1) يمانيَةٌ به ... بعبد الرسولِ لآيسٍ ولطامعِ وأبرَّ مَن عبد الإلهَ على التُّقى ... عينًا وأقولَه بحقٍّ صادع متيقِّظًا حَذِرًا وما يخشى العِدَى ... نبهانَ من وَسَناتِ (¬2) ليلٍ هاجع مُلئت قلوبُ الناسِ منك مهابةً ... وتبيت تكلؤهمْ بقلبٍ خاشع ما أكبرَ (¬3) الكَنَفَ الذي بوَّأتَني ... وطنًا وأمرعَ رتعه للراتع للصالحات أخًا جُعِلتَ وللتُّقى ... وأبًا رَؤوفًا للفقير القانع نفسي فداؤك إذ تضلُّ معاذري ... وأَلوذ منك بفضلِ حلمٍ (¬4) واسع ¬

_ (¬1) في المنتظم 10/ 214: حملت، وما هنا موافق لما في تاريخ الطبري 8/ 604، وأشعار أولاد الخلفاء ص 19، والأغاني 10/ 117، والكامل 6/ 393. والذَّميل: السير الليِّن ما كان، ذمل يذمِل ويذمُل. القاموس المحيط (ذمل). (¬2) في (خ): وسنان، والمثبت من المصادر. (¬3) في تاريخ الطبري وابن الآثير: ما ألين. والبيت غير موجود في باقي المصادر. (¬4) في (خ): حكم.

أَمَلًا لفضلك والفواضلُ شِيمةٌ ... رَفَعَتْ بناءك للمحلِّ الرافع إلَّا العلوَّ عن العقوبة بعدما ... ظفرتْ يداك بمستكينٍ خاضع (¬1) ورحمتَ أطفالًا كأفراخ القَطا ... وعويلَ عانسةٍ كقوس النازع (¬2) اللهُ يعلم ما أقول فإنَّها ... جَهدُ الأَليَّة من حَنيفٍ راكع ما إنْ عصيتُك والغواةُ (¬3) تقودني ... أسبابُها إلَّا بنيَّةِ طائع حتَّى إذا علقتْ حبائلُ شِقوتي ... بردًى إلى حُفَر المهالكِ هائع (¬4) لم أدرِ أنَّ لمثل جُرمي غافرًا ... فوقفتُ أنظر أيُّ حتفٍ صارعي ردَّ الحياةَ عليَّ بعد ذهابها ... وَرَعُ الإمامِ القادرِ المتواضع أَحياك مَن ولَّاك أطولَ مدَّة ... ورمى عدوَّك في الوَتين بقاطع (¬5) كم من يدٍ لك لم تحدِّثْني بها ... نفسي إذا آلت إليَّ مطامعي (¬6) أَسديتَها عفوًا إليَّ هنيئةً ... فشكرتُ مصطنعًا لأكرمِ صانع إنْ أَنْتَ جُدتَ بها عليَّ تكن لها ... أهلًا وإن تمنع (¬7) فاعدلُ مانع إنَّ الذي قَسَمَ الخلافةَ حازها ... في صُلب آدمَ للإمام السابع فقال المأمون: قد عفوتُ عنك، فاستأنف الطاعةَ متجرِّدًا عن الظِّنَّة، يَصْفُ عيشُك. وأمر بإطلاقه ورد ضِياعه عليه، فقال: [من البسيط] رددتَ مالي ولم تبخل عليَّ به ... وقبل ردِّك مالي قد حقنتَ دمي وأُبتُ عنك وقد خوَّلتَني نِعَمًا ... هما الحياتانِ من موتٍ ومن عدمِ فلو بذلتُ دمي أَبغي رضاك به ... والمال حتَّى أَسُلَّ النعلَ من قدمي ¬

_ (¬1) البيت الذي قبله في المصادر: وعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع (¬2) في (خ): نازع. (¬3) في (خ): والغزاة. (¬4) الهيعة والهائعة: الصوت تفزع منه وتخافه من عدو، وليل هائع: مظلم. القاموس المحيط (هيع). (¬5) في (خ): الكوبن القاطع. (¬6) في (خ): هبني إذا آلت إلي مطالع. (¬7) في (خ): تخشع.

ما [كان] (¬1) ذاك سوى عاريةٍ رجعتْ ... إليك (¬2) لو لم تُعِرها كنتَ لم تُلَمِ وقام علمُك بي (¬3) واحتجَّ عندك لي ... مقامَ شاهدِ عدلٍ غيرِ متَّهم فقال المأمون: إنَّ من الكلام ما يُشبه الدُّرّ، وهذا منه. وأمر له بخِلعة من ثيابه، ومركبٍ من مراكبه، وقال له: يَا عمّ، إنَّ أَبا إسحاقَ والعباسَ أشارا عليَّ بقتلك، قال: يَا أميرَ المؤمنين، فما قلتَ لهما؟ قال. قلت: إنَّ له قرابةً قريبة، ورَحِمًا ماسَّة، وقد ابتدأناه بأمير ينبغي أن نتمَّه، فإن نكث فاللهُ مغيِّر ما به. قال إبراهيم: أمَّا أن يكونا نصحاك، فقد -لَعَمرو الله- فعلَا, ولكن أبيتَ إلَّا ما أَنْتَ أهلُه، فقال المأمون: مات حقدي بحياة عذرك، وأعظمُ من عفوي أني لم أجرِّعك مرارةَ امتنانِ الشافعين. وقال الفضلُ بن مروان: لما دخل إبراهيمُ على المأمون، كلَّمه بكلامٍ كان سعيدُ بن العاص كلَّم به معاويةَ بن أبي سفيانَ في سَخطةٍ سخطها عليه فاستعطفه به، وكان المأمونُ يحفظ الكلام، فقال: يَا إبراهيم، هيهات، سبقك بهذا الكلامِ فحلُ بني العاص (¬4) وفارسُهم (¬5) سعيد يخاطب به معاوية، قال إبراهيم: يَا أميرَ المؤمنين، وأنت أَيضًا إن عفوتَ فقد سبقك فحلُ بني حربٍ وقارحُهم إلى العفو، فلا يكن حالي عندك في ذاك أبعدَ من حال سعيدٍ عند معاوية، فأنت أشرفُ منه، وأنا (¬6) أشرفُ من سعيد، وأقربُ إليك من سعيدٍ عند معاوية، وإنَّ من أعظم الهُجنة أن تسبقَ أميةُ هاشميًّا (¬7) إلى مَكرمة. فقال: صدقتَ يَا عمّ، فقد عفوتُ عنك. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): إلى، والمثبت من المنتظم 10/ 215. (¬3) في (خ): لي. والمثبت من المنتظم 10/ 215. وبعض الأبيات في أشعار أولاد الخلفاء ص 19، والأغاني 10/ 119. (¬4) في (خ): العباس، وهو خطأ، والمثبت من الأغاني 10/ 124، والمنتظم 10/ 216. (¬5) في الأغاني والمنتظم، وقارحهم. والقارح: الأسد، والقارح من ذي الحافر بمنزلة البازل من الإبل. القاموس المحيط (قرح). (¬6) في (خ): وأنت. (¬7) في الأغاني والمنتظم: هامش.

وقال محمَّد بنُ عبدوس (¬1): لما ظفر المأمونُ بإبراهيم، حبسه عند أحمدَ بن أبي خالد، فلم يزل عنده في أَزَج (¬2)، فقال إبراهيم: الحمدُ لله الذي منَ عليَّ بحبسي في دارك ولم يبتلِني بغيرك، فكشر أحمدُ في وجهه وقال: يَا إبراهيم، أتظنُّ أن أميرَ المُؤْمنين لو أمرني بضرب عُنقِك أكان يسعني مخالفتُه؟ ! وكان عند أحمدَ وجوهُ أهلِ خُراسان، فعظم قولُه على الحاضرين، وتغيَّرت وجوهُهم إنكارًا على أَحْمد، فبكى إبراهيمُ وقال: يَا ابنَ أبي خالد، إن قتلني المأمونُ كان غيرَ ملوم، وإني لم أَحمد ربِّي لحُسن ظنِّي بك، ولكن لعلمي أنَّ للمأمون خزنةَ سيوفٍ وخزنةَ أقلام، فحمدت ربِّي على ما منَّ به عليَّ من إِحلالي عند مَن يسائلني لا عندَ مَن يعاجلني. فأشرقتْ وجوهُ القوم وأُعجبوا بما كان من إبراهيم، وقال أَحْمد: النَّاس يتكلَّمون على قدر نفوسِهم وأمانهم، وكلامُك على قدرك وقدرِ المهديّ، وكلامي على قدري وقدرِ جدِّي يزيدَ الأحول، وأنا أستقيلك ممَّا بدا مني، فأقِلْني أقال اللهُ عثرتَك، وسقَل أمرك، وأَحسن خَلاصَك. فدعا له إبراهيمُ وأقاله. قال إبراهيم: فلمَّا مضى لي في داره خمسٌ وخمسون ليلة، أخرجني نصفَ الليل على دابَّة وجاء بي إلى ما بين الجسرِ والخُلد (¬3)، فأوقفني هناك، وعاد وهو يركض وقال: يَا [إبراهيم] (¬4) أميرُ المُؤْمنين يقول لك: أما كفاك توثُّبك عليَّ وفعلُك السابقُ حتَّى وثب عليَّ ابنُ عائشةَ والإفريقي، وأحوجتَني إلى قتلهما وقتلِ مَن قتلتُ معهما في هذه الليلةِ بالمُطبق! وأنا لاحقُك بهما إن لم تحتجَّ بحجَّة. فعلمت أنَّه قد غلب عليه السُّكر، وأني أَحتاج إلى مداراته، فقلت: يَا أَبا العباس، الله الله في دمي، فإنَّه في عنقك، فاتقِ اللهَ في حقنه، فإنَّه أن تؤدِّيَ ما تسمعه مني. فقال: عليَّ عهدُ الله وميثاقُه أن أؤديَ إليه ما تقول، قلت: تقول له: استترتُ عنك وأنت خارجَ البلد ومعي عالمٌ من النَّاس، وأنا اليومَ أسير في سرداب أَحْمد! كيف أُوثب عليك! ¬

_ (¬1) قاله في كتابه "الوزراء" كما في الفرج بعد الشِّدَّة 3/ 329 - 332. (¬2) ضرب من الأبنية. القاموس المحيط (أزج). (¬3) قَصْرٌ بناه المنصور ببغداد بعد فراغه من مدينته على شاطئ دجلة. معجم البلدان. (¬4) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق.

أيفعل هذا عاقل! فمضى إليه وأَخبره بما قلت، فقال: صدق، رُدَّه إلى موضعه. فرجع أحمدُ وهو يقول: السلامة السلامة، فردَّني إلى سِردابه حتَّى خرج المأمونُ إلى فم الصِّلح إلى بُوران بنتِ الحسن، فسألَتْه فيّ، فرضي عني. وقال أبو الفَرَج الأَصبهاني: لما حصل إبراهيمُ في يد المأمونِ لم يشكَّ أحدٌ في قتله، فأقام محبوسًا في مطمورةٍ على أقبح حال، قال إبراهيم: فيئستُ من الحياة وتعرَّيت عنها، وتمنَّيت الموتَ لما أنا فيه، وإذا بأحمدَ بنِ أبي خالدٍ قد دخل عليَّ وقال: اكتبْ وصيَّتك؛ فقد أمرني بضرب عُنقك. فكتبتُ وصيَّتي، وأسندتُها إلى المأمون وشَكلَةَ والدتي، وصلَّيت ركعات، وقعدتُ أنتظر القتل، وإذا بأحمدَ بنِ أبي خالدٍ قد دخل عليَّ وقال: أميرُ المُؤْمنين يسلِّم عليك ويقول لك: اِحمد اللهَ الذي وفَّقني لصِلة رَحِمك والعفو عنك، وانصرفْ إلى دارك، وقد رددتُ عليك أموالك وضِياعك، فغلبني البكاء، فقال أَحْمد: لقد رأيتُ منك عجبًا، أخبرتُك أنَّه قد أمر بضرب عنقِك فلم تبكِ ولم تَجزَع، ثم أخبرتك بعفوه عنك وتفضُّله عليك فبكيت! فقلت: أما الأوَّل؛ فلأني كنت موطِّنًا نفسي عليه غيرَ شاكٍّ فيه، فلم أَجزَع، وأمَّا بكائي الآن، فواللهِ ما هو من سروري بالحياة ورجوعِ النِّعمة، وإنما هو لِمَا كان مني من قطيعة رحمِ مَن فعل معي مثلَ هذا العفو الذي لم يُسمع بمثله في جاهليةٍ ولا في إسلام، فقد حاز الثوابَ من الله في صِلَة الرَّحم، وثناءَ النَّاس عليه، وحزتُ المأثمَ في قطيعة الرَّحم، وذمَّ النَّاس لي. فرجع إلى المأمون وأَخبره، فاستحسن قولي، وبعث إليَّ بالخِلَع والمراكب والأموال، فانصرفتُ إلى داري ونعمتي. وقال التَّنوخي (¬1): لمَّا أطلق المأمونُ إبراهيم، أمر محمدَ بن يزدادَ (¬2) بمنعه من دار الخاصَّة والعامَّة، ويوكّلَ به رجلًا من قِبَله يطالعه بأخباره، فكتب إلى المأمون الرجلُ ¬

_ (¬1) في الفرج بعد الشدة 3/ 351. (¬2) في (خ): برادان، وهو خطأ. انظر الفرج بعد الشدة 1/ 384 و 2/ 127، والأغاني 10/ 118.

أنَّ إبراهيمَ لما مُنع من دار الخاصَّة والعامة تمثَّل: [من البسيط] يَا سرحةَ الماءِ قد سُدَّت مواردُهْ ... أَمَا إليك طريقٌ غيرُ مسدودِ لحائمٍ (¬1) حامَ حتَّى لا وصولَ له (¬2) ... مُحلَّأٍ عن طريق الماءِ مطرود فبكى المأمونُ وأمر بإحضاره، فقبَّل بساطَه وقال: البِرُّ بي منك وطَّا العُذْرَ عندك لي ... دون اعتذاري فلم تَعذُلْ ولم تَلُمِ تعفو بعدلٍ وتسطو إن سطوتَ به ... فلا عَدِمناك من عافٍ ومنتقم [وحكى الأصمعيُّ أن المأمون لما جيءَ إليه وإبراهيم، جمع بني هاشمٍ وغيرهم، وأَقدمه في المِلحفة، ودعا بعودٍ ومنبر وقال: اصعدْ واضرب به، ففعل، ولمَّا نزل من المنبر أَمر بحبسه. وقال الصُّولي: ] (¬3) لما عفا المأمون عن عمِّه، حَسُنَ ذلك من قلوب النَّاس، فازدادوا محبَّةً له، ولمَّا شفعت فيه بُوران صار نديمًا له. وقال إبراهيم: واللهِ ما طمعتُ في الخلافة، وإنَّما وليتها حفظًا لها؛ لئلا تخرجَ من البيت ويتسلَّطَ عليها الغير لمَّا ولَّى المأمونُ علي بن موسى الرِّضى. [وسنذكر إبراهيمَ في سنة أربعٍ وعشرين ومئتين عند وفاته]. وفيها مضى المأمونُ إلى فم الصِّلح وبنى ببُورانَ بنتِ الحسنِ بن سهل. [وقد ذكر القصَّةَ الطبريُّ والصُّولي والخطيب وغيرُهم، فأمَّا الطَّبرِيُّ فإنَّه ذكر كلامًا طويلًا اختصرته] فقال (¬4): خرج المأمونُ من بغدادَ في رمضانَ ومعه إبراهيمُ بن المهديِّ محتاطًا عليه، وتقدَّم العباسُ بن المأمون أباه، فالتقاه الحسن، وأراد أن يترجَّلَ له، فأَقسم عليه العباسُ بحياة أَبيه، فامتنع، ووافى المأمونُ وقتَ العشاءِ في رمضان، فأَفطر في منزل الحسنِ بن سهل، ومعه ولدُه العباس، ودينارُ بن عبدِ الله قائمٌ على رأس المأمون، فلمَّا فرغوا من الأكل دعا المأمونُ بشراب، فأُتي بجامٍ من ذهب، فصبَّ فيه ¬

_ (¬1) في (خ): بحائم. (¬2) في الأغاني والفرج بعد الشدة: حيام له. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في التاريخ 8/ 606 هما بعد، وما بين حاصرتين من (ب).

وشربه، ومدَّ يده بجامٍ فيه شرابٌ إلى الحسن بنِ سهل، فتَباطأَ عنه؛ لأنَّ الحسن لم يكن يشرب النبيذَ قبل ذلك، فغمز دينار [بن عبد الله] الحسنَ أن اشربه، فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، أَشربه بإذنك وأمرِك؟ فقال [المأمون] (¬1): لولا أمري لم أَمددْ يدي إليك، فأخذ الجامَ فشربه. [قلت: لقد جنى الطبريُّ على المأمون جنايتَين إحداهما: شربُ النبيذ في رمضان، وهو أنَّه وإن كان مذهبَ أهل العراق، غيرَ أنَّه حرامٌ عند مالك والشافعي وأحمدَ ومحمدِ بن الحسن، وأنه مثلُ الخمر عند البعض، ولو كان مباحًا كان ينبغي أن ينزِّهَ رمضانَ عنه. والثاني: قولُه: إن المأمونَ شرب في جام ذهب، وهل يُستباح استعمال الذهبِ والفضة لأهل العامَّة؟ ! فكيف بالخليفة! قال: ] ولمَّا كانت الليلةُ الثالثة دخل المأمونُ بِبُوران، وكان عندها حمدونةُ وجدَّتها وأمُّ جعفر، فلمَّا جلس المأمونُ معها، نثرت عليها جدَّتُها ألفَ دُرَّة، وكانت في صِينية ذهب، فأمر المأمونُ أن تُجمع، وسألها عن عددها، فقالت: ألفُ حبَّة، فأمر بعدِّها، فنقصت عشرة، فقال: مَن أخذها؟ قالوا: حسينٌ الخادم، فأمر بردِّها، فقال الخادم: إنما نُثرت لنأخذَها، فقال: رُدَّها وعليَّ الخَلَف، فردَّها، فجمع المأمونُ الجميعَ ووضعه في حجرها وقال: هذه نِحلتُك وسلي حوائجَك، فقالت لها جدَّتها: كلِّمي سيِّدَك، فقد أمركِ أن تسأليه حوائجَك، فسألتْه الرِّضا عن إبراهيمَ بنِ المهدي، وسألته الإذنَ لزُبيدةَ في الحجّ، فأجابها إلى ذلك، وألبستها أمُّ جعفر البَدَنةَ (¬2) اللؤلؤيةَ الأُموية، وبنى بها من ليلته، وأُوقِد في تلك الليلة شمعةُ عنبر، فيها أربعون مَنًّا في تورٍ (¬3) من ذهب، فأنكر المأمونُ ذلك عليهم وقال: هذا سَرَف. فلمَّا كان من الغد دعا بإبراهيم [بن المهدي] (¬4) فلمَّا دخل عليه رمى بنفسه، فصاح المأمون: يَا عمّ، لا بأسَ عليك. ودعا بالخِلَع والمراكب، فخلع عليه وقلَّده سيفًا، وخرج فسلَّم على النَّاس ورُدّ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) الدرع القصيرة. القاموس المحيط (بدن). (¬3) المن: رطلان، والتور: إناء يشرب فيه. مختار الصحاح (منن، تور). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

إلى موضعه. [قال: ] وأقام المأمونُ عند الحسنِ سبعةَ عشرَ يومًا يقوم به وبجميع مَن معه، وخلع على القوَّاد على قَدْر مراتبهم ووصلهم، فكان مبلغُ نفقته عليهم خمسين ألفَ ألفِ درهم، وأمر المأمونُ أن يُقطَعَ الحسنُ فمَ الصِّلح ويُحملَ إليه عشرةُ آلافِ ألفِ درهم، فحُملت إليه، ففرَّقها في قوَّاد المأمونِ وخدمه، وانصرف المأمونُ ببُورانَ إلى بغداد. وكتب الحسنُ رِقاعًا فيها أسماءُ ضِياعه ونثرها على القوَّاد وبني هاشم، فمَن وقعت بيده رقعة فيها اسمُ ضَيعة، أقرَ له بها وسلَّمها إليه. [وفي رواية الطَّبريِّ أن الحسنَ بن سهلٍ كان] يصف (¬1) رجاحةَ عقلِ أم جعفر زبيدةَ وفهمَها، فقال: سألها المأمونُ وسأل حمدونةَ بنت غضيض بفم الصِّلح: كم أنفقتما على بُوران؟ فأما حمدونةُ فقالت: أنفقتُ خمسة وعشرين ألفَ ألفِ درهم، وأما أمُّ جعفر فقالت: ما أنفقت شيئًا، وكانت قد أنفقت ما بين خمسةٍ وثلاثين ألفَ ألفِ درهمٍ إلى سبعةٍ وثلاثين ألفَ ألفِ درهم، ونحلتها أمُّ جعفرٍ في ذلك اليومِ فمَ الصِّلح، وكانت له قبل ذلك. [قال الصُّولي: ] ولما بنى المأمونُ ببوران، فرش له الحسنُ [بن سهلٍ يومَ البناء] (¬2) حصيرًا (¬3) من ذهب مسفوف، ونُثر عليه جوهرٌ كثير، فجعل بياضُ الدُّرِّ يُشرق على صُفرة الذهب، وبعث الحسنُ إلى المأمون: هذا نِثارٌ اسأل أن يُلتقط، وكان حول المأمون بناتُ الخلفاء، فلم يمدَّ أحدٌ يدَه إليه، فقال المأمون: شرِّفْن أَبا محمَّد، فمدَّت كلُّ واحدةٍ منهن يدَها فأخذت دُرَّة، وبقي الباقي يلوح على الحصير، فقال المأمون: قاتل اللهُ أَبا نُواس، فقد شبَّه بشيء ما رآه قطّ، حيث وصف الخمرَ والحَبَابَ (¬4) الذي فوقها فقال (¬5): [من البسيط] ¬

_ (¬1) في (خ): وكان الحسن يصف. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): حصرًا، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد 8/ 285، والمنتظم 10/ 217. (¬4) حبَاب الماء: فقاقيعه التي تطفو كأنها القوارير. القاموس المحيط (حبب). (¬5) الديوان ص 40.

كأنَّ صغرى وكُبرى من فواقعها ... حصباءُ دُرٍّ على أرضٍ من الذَّهبِ فكيف لو رآه معاينة. وكان أبو نُواسٍ قد مات. و[قال أبو حسَّان الزِّيادي: ] (¬1) كان مقامُ المأمونِ عند الحسن [بنِ سهل] وذهابُه ومجيئُه أربعين يومًا، وعاد إلى بغدادَ يومَ الخميس لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من شوَّال. وقيل: إنَّه خرج من بغدادَ لثمانٍ خلونَ من رمضان، وعاد إليها لتسعٍ بقين من شوال. قال الخَطيب (¬2): [بلغنا أنَّ الحسن بنَ سهلٍ نثر على المأمون ألفَ حبّةِ جوهر، وأشعل بين يديه شمعةَ عنبر وزنُها مئةُ رَطل، ونثر على القوَّاد رِقاعًا فيها أسامي ضِياعه، فمن وقعت بيده رقعةٌ أشهد له الحسنُ بها]. وكان الحسن يُجري مدةَ إقامةِ المأمون [عنده على ستَّة وثلاثين ألفَ ملَّاح، فلمَّا أراد المأمون] أن يصاعدَ إلى بغداد، أمر له بألف ألفِ دينار، وأقطعه مدينةَ الصِّلح. [وقد ذكرنا أن المأمون تزوَّج بُورانَ في السَّنة الحادية بعد المئتين لمَّا زوَج ابنتَه من عليِّ بن موسى الرضى، ولم يدخلْ بها إلَّا في هذه السَّنة، سنةِ عشرٍ ومئتين. قلت: وقد ذكر ابنُ عبد ربِّه في كتاب "العِقد" (¬3) حكايةً طويلة، حاصلها أنَّ إسحاقَ بن إبراهيمَ الموصليَّ خرج ليلة في بغداد، فدخل زُقاقًا، فرأى فيه زِنبيلًا معلَّقًا بحبالٍ من الإبرِيسَم، والزنبيل مجلد، وأنه قعد في الزنبيل، فاستاقُوه إلى دارٍ فيها أنواعُ الفرش، وفيها جوارٍ كالدُّمى، وأنه رأى مجامرَ العُود والنَّدِّ (¬4) والمتاعِ ما لم يشاهدْه في دار الخلفاء، وأنه رأى امرأةً على سريرٍ من الذهب لم يشاهِدْ في الدنيا مثلَها حسنًا وجمالًا، وأنه جالسها وشرب معها ونادمها وغنَّى لها, ولمَّا طلع الفجر، حملوه وألقَوه في الزنبيل ودلَّوه إلى الزُّقاق، وأنه طلع إليها مِرارًا، وأنه حكى للمأمون صورةَ الحال وقال للجارية: لي صديق، وأريد أن أُحضرَه عندك، وأنَّها أجابته، وأنَّ المأمونَ صعد إليها في الزنبيل وشرب عندها, ولما ثمل وأخذ منه الشرابُ عرَّفها نفسَه، وأن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر تاريخ الطبري 8/ 609. (¬2) في تاريخه 8/ 286، وما سيرد بين حاصرتين من (ب). (¬3) 6/ 456 فما بعد. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) الزنبيل: الجِراب، وقيل: الوعاء يُحمل فيه. والنَّدُّ: الطِّيْب أو العَنْبَر. القاموس (زبل، ندد).

المرأةَ هربت واختبأت منه، وهرب الجواري، وأنَّ المأمون لما طلع الفجرُ أحضر الحسنَ بن سهل وتزوَّجها منه (¬1). والحكاية مذكورةٌ على حالها في "العِقد" وقد نزَّهت كتابي عن مثل هذه الخرافات، التي ما تُسمع إلَّا من العُميان في الطُّرقات، والله أعلم]. وفيها فتح عبد الله بن طاهرٍ مصر، لمَّا فرغ من أمر نصر بن شَبَث كتب إليه المأمونُ بالمسير إليها، وكان قد تغلَّب عليها عبيدُ الله بن السَّري بنِ الحكم، فلمَّا قرب منها، خندق ابنُ السريِّ عليه، وبعث ابنُ طاهر قائدًا من قوَّاده يرتاد له منزلًا، فالتقى بابن السريِّ فهزمه، وتساقط عامَّةُ أصحابِه في الخندق، وأقام ابنُ السري في الفُسطاط محصورًا. وبعث إلى ابن طاهرٍ بألف وصيفٍ ووصيفة، مع كلِّ وصيفٍ ألفُ دينارٍ في كيس حرير، وبعث بهم ليلًا، فردَّ ابنُ طاهر ذلك عليه، وكتب إليه: لو قبلتُ هديَّتك نهارًا قبلتها ليلًا {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} الآية [النمل: 36 - 37] فحينئذٍ طلب ابنُ السري الأمانَ منه، فأمَّنه. وكتب إلى المأمون فأمضى أمانَه. وكتب المأمونُ إلى ابن طاهرٍ أبياتًا لمَّا فتح مصر: [من الهزج] أخي أنتَ ومولايَ ... ومَن أَشكر نُعماهُ فما أحببتَ من شيءٍ ... فإنِّي الدَّهرَ أهواه وما تكره من شيءٍ ... فإنِّي لست أرضاه لك اللهُ على ذاكَ ... لك اللهُ لك اللهُ (¬2) ذِكرُ واقعةٍ جرت: قال أبو السَّمراء: خرجنا مع عبدِ الله بن طاهرٍ متوجِّهين إلى مصر، حتَّى إذا كنا بين الرَّملة ودمشق، إذا بأعرابيٍّ قد اعترض على بعيرٍ أَورَق، وكان شيخًا، فسلّم علينا، ¬

_ (¬1) وهي بوران بنت الحسن بن سهل. (¬2) تاريخ الطبري 8/ 615، سنة إحدى عشرة ومئتين، والأبيات أوردها أَيضًا أبو حيان التوحيدي في الصداقة والصديق ص 126.

فرددنا - عليه السلام -، وكنت أنا وإسحاقُ بن إبراهيمَ الرافقيُّ وإسحاقُ بن أبي ربعي، ونحن نساير عبدَ الله بن طاهر، وكانت كِسوتنا أحسنَ من كسوة ابنِ طاهر، ودوابُّنا أَفرهَ من دابَّته، فجعل الأعرابيُّ ينظر في وجوهنا، فقلنا: يَا شيخ، قد ألححتَ في النظر إلينا، عرفتَ شيئًا أم أنكرتَه؟ فقال: لا واللهِ ما عرفتكم قبل يومي هذا, ولا أنكرتكم لسوءٍ أراه فيكم، ولكني رجلٌ حسن الفراسةِ في النَّاس، جيِّدُ المعرفة بهم، فأشرتُ إلى إسحاقَ بن أبي ربعي وقلت: ما تقول في هذا؟ فقال: [من الطَّويل] أرى كاتبًا جاهُ (¬1) الكتابة بيِّنٌ ... عليه وتأديبُ العراقِ منيرُ له حركاتٌ قد يشاهِدنَ أنَّه ... عليمٌ بتقسيط الخَراجِ بصيرُ ونظر إلى إسحاقَ بن إبراهيمَ الرافقيّ وقال: ومُظهِر نُسْكٍ ما عليه ضميرُه ... يحبُّ الهدايا بالرِّجال نكيرُ (¬2) إِخالُ به جُبنٌ وبخلٌ وشيمةٌ (¬3) ... تخبِّر عنه أنَّه لوزيرُ ثم نظر إليَّ وقال: وهذا نديمٌ للأمير ومؤنسٌ ... يكون له بالقُرب منه سرورُ أخا أدبٍ للشِّعر والعلمِ راويًا ... فبعضُ نديمٍ مرَّةً وسميرُ ثم نظر إلى الأمير وقال: وهذا الأميرُ المرتجَى سَيبُ كفِّه ... فما إنْ له فيمن رأيتُ نظيرُ عليه رداءٌ من جَمالٍ وهيبةٍ ... ووجهٌ بإتيان النَّجاحِ بشير لقد عَظُمَ الإِسلامُ [منه] (¬4) بذي يدٍ ... به عاش معروفٌ ومات نكير أَلَا إنَّما عبدُ الإله ابنُ طاهرٍ ... لنا والدٌ بَرٌّ بنا وأمير فوقع ذلك من عبد اللهِ بن طاهرٍ أحسنَ موقع، وأَعجبه ما قال الشيخ، وأمر له بخمس مئةِ دينار، وجعله في صَحَابته. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 8/ 611، وابن الأثير 6/ 397: داهي. (¬2) في تاريخ الطبري وابن الأثير: مكور. (¬3) في تاريخ الطبري وابن الأثير: إخال به جبنًا وبخلًا وشيمةً. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري وابن الأثير.

ذِكرُ واقعةٍ أخرى: قال الحسنُ بن يحيى الفِهري: بينا نحن مع عبدِ الله بن طاهرٍ مما بين سَلَمْيةَ وحمصَ ونحن يزيد دمشق، إذ عارضنا البُطين الشَّاعر، فلما رأى عبدَ الله قال ينشد: [من الخفيف] مرحبًا مرحبًا وأهلًا وسهلًا ... بابن ذي الجُودِ طاهرِ بن الحسينِ مرحبًا مرحبًا وأهلًا وسهلًا ... بابن ذي الغُرَّتين في الدَّعوتين مرحبًا مرحبًا بمَن كفُّه البحـ ... ـرُ إذا فاض مُزبدَ الرَّجَوَين (¬1) ما يبالي المأمونُ أيَّده ... اللهُ إذا كنتما له باقيَين أَنْتَ غربٌ وذاك شرقٌ مقيمًا ... أيُّ فتقٍ أتى من الجانبَين وحقيقٌ إذ كنتما في قديمٍ ... لِزُريقٍ ومصعبٍ وحسين أنْ تنالا ما نلتماه من المجـ ... دِ وأَن تعلوَا على الثَّقلينِ فأمر له عن كلِّ بيتٍ بألف دينار، وسار معه إلى مصرَ والإسكندرية، فبينا هو راكبٌ على فرسه بالإسكندرية، انخسف به مخرج، فوقع فيه فمات (¬2). وفيها فتح عبد الله بنُ طاهر الإسكندرية، وكان قد تغلَّب عليها رجلٌ من أهل الأندلسِ يقال له أبو حفص، وكان قد قصدها في مراكبَ كثيرة، وكانت الحربُ قائمةً بينه وبين ابنِ السري [وحكى القصَّةَ يونسُ بن عبدِ الأعلى: قال ولمَّا ملك ابنُ طاهرٍ مصر، سار إليها ونزل عليها، فعلموا أنَّه لا طاقةَ لهم به، فطلبوا منه الأمانَ على أن يرتحلوا من الإسكندرية وينزلوا بعضَ الجزائر، فأمَّنهم، فرحلوا عنها ونزلوا جزيرةً [من جزائر البحر يقال لها] (¬3) أَقْرِيطِش، فاستوطنوها فيقال: إنَّ عَقِبهم بها إلى هلمَّ جرًّا. ¬

_ (¬1) الرجوان: ناحيتا البئر وحافتاها، وكل ناحية رجا. مختار الصحاح (رجو). (¬2) تاريخ الطبري 8/ 612 وفيه أنَّه أمر له عن كل بيت أَلْف درهم أو مئة دينار، والبطين شاعر حمصي، كان طوله اثني عشر شبرًا، وكان جيد الشعر، تنظر أخباره في طبقات الشعراء لابن المعتز ص 248 - 215. ومن قوله: ذكر واقعة جرت ... إلى هنا، لم ترد في (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

أبو عمرو الشيباني

وفيها خلع أهلُ قُمَّ المأمونَ وعصَوا عليه، وسببه أن خَراجَهم كان أَلفَي ألفِ درهم، فاستكثروه، وكان المأمونُ قد حطَّ عن أهل الرَّي لمَّا اجتازهم ألفَ ألفِ درهم، فسأله أهلُ قُمّ أن يفعل بهم كذلك [فقيل له: هذا مالٌ عظيم، فلم يُجبهم إلى ذلك] فمنعوه الخراجَ أصلًا، فبعث إليهم عليَّ بن هشام، فقاتلهم وظهر عليهم وهدم سورَهم، وجباها سبعةَ آلافِ أَلْف درهم [بعدما كانوا يتظلَّمون من أَلفَي ألفِ درهم] وقيل: [إنَّما جباهم] أربعةَ آلافِ أَلْف درهم (¬1)، ضعفَي ما كانوا يتظلَّمون منه. وحجَّ بالنَّاس [في هذه السنة] صالحُ بن العباس [وهو] عاملُ [المأمونِ على] مكَّة. [فصل] وفيها تُوفِّي أبو عمرٍو الشَّيبانِيّ صاحبُ العربية، واسمه إسحاقُ بن مِرار (¬2) الكُوفيّ، نزل بغدادَ وحدَّث بها، وكان عالمًا متقنًا خيِّرًا فاضلًا، وأقوالُه مدوَّنة في كتب النحو واللغةِ وتفاسيرِ القرآن، وجمع أشعارَ العرب ودوَّنها [وكتب بيده ثمانين مصحفًا، وجاوز تسعين سنة، وقال الخَطيب: ] (¬3) كان أعلمَ النَّاس باللغة، موثَّقًا فيما يحكيه. [وحكى الخطيبُ (¬4) عن ثعلبٍ قال: دخل أبو عَمرو الباديةَ ومعه دَسْتيِجتان (¬5) حِبرًا، ما خرج منها حتَّى أفناهما] ودوَّن أشعارَ ثمانين قبيلة، وكان كلَّما فرغ من قبيلةٍ كتب مصحفًا. [قال: ] وقال ثعلب: كان مع أبي عَمرٍو الشَّيبانِيّ من العلم والسَّماع عشرةُ أضعافِ ما كان مع أبي عُبيدة مَعْمر، ولم يكن بالبصرة مثلُ أبي عبيدةَ في السَّماع والعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (ب) و (خ) والمنتظم 10/ 218، وفي تاريخ الطبري: وجباها سبعة آلاف أَلْف درهم. (¬2) في (ب) و (خ): مراد، والمثبت من المصادر، انظر طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص 194 - 195، وتاريخ بغداد 7/ 340، والمنتظم 10/ 219، والوفيات 1/ 201، وتاريخ الإِسلام 5/ 30، والوافي 8/ 425. (¬3) في تاريخه 7/ 341. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في تاريخه 7/ 343 - 344. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) الدستيج: آنية تحوَّل باليد، معرَّب: دستي. القاموس المحيط (دستج).

وقال عَمرو (¬1) بن أبي عَمرٍو الشَّيبانِيّ: كان أبي يُكثر من إنشاد هذا البيت: [من الرمل] لا تُهِنِّي بعد إكرامِك لي ... فشديدٌ عادةٌ منتزَعهْ (¬2) فقلت له: يَا أَبَة، إنك تُكثر إنشادَ هذا البيت، فقال: يَا بُنيّ، واللهِ أنا أدعو به في صلاتي وقتَ السَّحَر. [قال الخَطيب: ] (¬3) تُوفِّي أبو عَمرٍو [في سنة عشرٍ ومئتين في] يوم السَّعانين -بسين مهمَلة- وهو عيدٌ من أعياد النَّصارى، وقد أناف على تسعين سنة. وأَسند عن أئمَّة اللغة، وروى الحديثَ عن رُكنٍ الشَّاميّ [وركنٌ روى عن مكحول]. وروى عن أبي عمرٍو الإمامُ (¬4) أَحْمد رحمةُ الله عليه وغيرُه. [قال الخَطيب: ] وكان الإِمام أحمدُ يثني عليه ويلازم مجلسَه ويسأله ويكتب أماليَه. [قال (¬5): وقال أَحْمد: سألت أَبا عمرٍو الشيبانيَّ عن معنى قولِه - عليه السلام -: "أَخنعُ الأسامي عند اللهِ يومَ القيامةِ رجلٌ تسمَّى بمَلِك الأَملاك" (¬6) فقال: معنى "أخنع" أَوضع. وقد أشار إليه الجوهريُّ (¬7) فقال: الخنوع كالخضوع والذُّلّ، والخانع: المُريبُ الفاجر]. وقال الخرائطي (¬8): لقي عالمٌ من العلماء راهبًا من الرُّهبان، فقال له: كيف ترى الدَّهر؟ فقال: يُخلق الأبدانَ ويجدِّد الآمال، ويُبعد الأمنية ويقرِّب المَنيَّة. قال: فأيُّ الأصحاب أَبَرّ؟ قال: العملُ الصالح، قال: فأيُّ شيءٍ أضرُّ على المرء (¬9)؟ قال: اتِّباع النفسِ والهوى. ¬

_ (¬1) في (خ): عمر، والمثبت من المنتظم 10/ 219. وانظر ترجمته في طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص 204، ومعجم الأدباء 16/ 73، وإنباه الرواة 2/ 360. (¬2) اختلف في نسبة هذا البيت، انظر الشعر والشعراء 2/ 729، وحماسة البحتري 2/ 271، والأغاني 8/ 392، والحماسة البصرية 2/ 10، والخزانة 6/ 471. (¬3) في تاريخه 7/ 344. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): والإمام. ولعله سهو. (¬5) في تاريخه 7/ 342. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) أخرجه البُخَارِيّ (6205، 6206)، ومسلم (2143) من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-عنه. (¬7) في الصحاح (خنغ). (¬8) في اعتلال القلوب ص 68 بإسناده عن أبي عمرو الشَّيبانِيّ. (¬9) في (خ): البر، والمثبت من (ب).

حميد بن عبد الحميد الطوسي

واتفقوا على صِدق أبي عمرٍو ونُبله وفضله، وقد غمزه الخطيبُ [فقال (¬1): كان مشهورًا] بشُرب النبيذ [فقصَّر به ذلك عند أهلِ العلم، قلت: شربُ النبيذ] (¬2) مذهبُ أهل العراق [ولو عابه ذلك لما روى أحمدُ بن حنبل عنه أماليَه، ولا لازم مجلسَه، ولا أثنى عليه، واللهُ أعلم. وفيها تُوفِّي] حُميدُ بن عبد الحميد الطُّوسيّ من قوَّاد المأمون. [ذكره الصوليُّ فقال: ] (¬3) كان جبَّارًا، قال له رجل: رأيتُ في المنام قصورًا في بساتين، فقلت: ما هذه؟ قالوا: الجنةُ أُعدَّت لحُميد الطوسي، فقال له حميد: إنْ صدقتْ رؤياك، فالجَوْرُ ثَمَّ أشدُّ من ها هنا بكثير. [وروى ابنُ ناصرٍ بإسناده إلى] أبي الحسنِ بن البراءِ قال (¬4): مات حميدٌ [الطوسيُّ في سنة عشرٍ ومئتين] (¬5) فإنَّا لَجلوسٌ ننتظر إخراجه، إذ أشرفت [علينا] جاريةٌ من القصر، فأنشأتٍ تقول (¬6): [من البسيط] مَن كان أصبح هذا اليومَ مغتبطًا ... فما غبطنا به واللهُ محمودُ أو كان منتظرًا في الفطر سيِّدهُ ... فإنَّ سيَّدنا في اللَّحد ملحود فأقلقتْنا واللهِ وأحزنتنا (¬7). ¬

_ (¬1) في تاريخه 7/ 344. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): وهو مذهب أهل العراق. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر المنتظم 10/ 220. (¬4) في (خ): وقال أبو الحسن بن البراء. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) واسمها: عذل، كذا في تاريخ الطبري 8/ 609. (¬7) المنتظم 10/ 220.

شهريار بن شروين

[قلت: وإنَّما قالت كذا؛ لأن حُميدًا مات يومَ الفطر (¬1). وقد ذكره أبو جعفرٍ الطبري (¬2). وفيها تُوفِّي] شَهريار بن شروين صاحبُ الديلم. وملك بعده ابنُه سابور بن شهريار، فنازعه مازيار بنُ قارن، فأسره وقتله، واستولى مازيار على الجبال والدَّيلم (¬3) [وهزمَ أصحابه]. [وفيها تُوفِّي] الأصمعي أبو سعيد الباهليُّ البَصْرِيّ. [وقد نسبه أبو حاتمٍ السِّجستانيُّ فقال: ] (¬4) عبدُ الملك (¬5) بن قُرَيب بن عبدِ الملك بن عليِّ بن أَصْمَعَ بن مظهِّر (¬6) بن رِياح بن عَمرو بن عبد شمس ابن أَعْيا بن سعد بن عبد [بن] (¬7) غَنْم بن قُتيبة بن مَعْن بن مالك بن أَعْصُر بن سعد بن قَيس عَيلان. [وباهلة قبيلة من قيس عَيلان، وقد ذكرناه, وهي في الأصل اسمُ امرأةٍ من هَمْدان. وقال أبو عُبيد: وقريب الأصمعيّ، بقاف وراءٍ مهمَلة وبالنقطتين من تحتُ وباءٍ منقوطة واحدةٍ من تحت] (¬8). وقيل: اسمُ قُريب عاصم، وإنَّما قيل له الأصمعيّ؛ لأنه نُسب إلى جدِّه أصمع [بن مظهر]. ¬

_ (¬1) في (خ): ومات حميد يوم العيد. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخه 8/ 609. (¬3) تاريخ الطبري 8/ 614. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر تاريخ بغداد 12/ 157. (¬5) في (خ): واسمه عبد الملك ... (¬6) كذا ضُبط في الإكمال 7/ 262، والأنساب 1/ 293، وجمهرة أنساب العرب ص 245، وضُبط بالقاموس (ظهر) بتشديد الهاء المفتوحة، وفي تبصير المنتبه 4/ 1296 بظاء معجمة ساكنة وكسر الهاء. (¬7) ما بين حاصرتين من المصادر. انظر تاريخ بغداد، وتاريخ دمشق 43/ 185، ونزهة الألباء ص 112 - 124، ووفيات الأعيان 3/ 170، وتهذيب الكمال، والسير 10/ 175. (¬8) ما بين حاصرتين من (ب).

[وقال الجوهريّ (¬1): يقال: هو أصمعُ القلب، إذا كان متيقِّظا ذكيًّا، والأَصْمَعَان: القلب الذَّكي، والرأيُ الجازم (¬2)، والأصمع: الصغيرُ الأُذن، والأنثى صَمْعاء. ولم يذكر الجوهريّ غيرَ هذا.] وذكر ابن الجواليقي في "المعرَّب" (¬3): كان عليُّ بن أبي طالبٍ رضوان الله عليه قطع عليَّ بن أصمعَ [جدَّ الأصمعيّ] (¬4) في سرقة، فقطع أصابِعَه من أصولها، فلمَّا ولي الحجَّاج [بنُ يوسف] (¬5) جاء عليٌّ إليه فقال: إنَّ أهلي عقُّوني، قال: بماذا؟ قال: بتسميتهم إياي عليًّا، فاقْلِب اسمي، قال: قد سمَّيتك سعيدًا، وولَّيتك البَارْجَاه، وأجريتُ عليك في كلِّ يومٍ دانِقَين وطَسُّوجًا (¬6)، وبالله أُقسم لئِن زدتَ عليه لأقطعنَّ ما أبقى أبو ترابٍ من جُذْمُورها، أي: من أصلها. [قال ابنُ الجَوَاليقي: ] (¬7) البَارْجَاه: كلمة أعجميَّة، وهي موضع الإِذْن [وقد تكلَّم بها الحَجَّاج ورُوي أنَّ مالكًا يقول: عبدُ الملك بن قُرَير (¬8)، براءٍ مهملة، وقد أخذوا عليه ذلك، وسنذكره في آخر ترجمته]. ذِكرُ طَرَف من أخباره: [قال علماءُ السِّير: ] (¬9) هو صاحبُ العربية، والنَّحو، والغرائب والمُلَح، وأيامِ النَّاس، والأخبار، وسمع من الأعراب بالبوادي، وقدم بغداد، وصحب [هارون] الرَّشيد، واستفاد منه أموالًا [جمَّة] واختصَّ بالبرامكة. ¬

_ (¬1) في الصحاح (صمع). وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في الصحاح: العازم. (¬3) جاء مكانها في (خ): وقال أبو إسحاق المتقي. وكلام الجواليقي في المعرَّب ص 123 - 124. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) الطسوج: ربع دانق، والدانق: سدس الدرهم. القاموس المحيط (طسج) و (دنق). (¬7) في المعرب ص 123. (¬8) في (ب): قريب. وهو سهو. وينظر قول مالك في طبقات النحويين واللغويين ص 167. (¬9) ما بين حاصرتين من (ب).

[ذِكر قصَّته مع جاره البقَّال: وحكى القاضي التَّنوخي في كتاب "الفرج بعد الشدَّة" (¬1) عن الأصمعيّ قال: كنت أطلب العلمَ بالبصرة وإنما أنا مُقِلّ، وكان على باب زُقاقنا بقَّال، إذا خرجت بُكرةً يقول: إلى أين؟ أقول: إلى فلان المحدِّث، فإذا عُدتُ آخرَ النهار قال: من أين؟ فأقول: من عند فلانٍ اللغوي، فيقول: اِقبل وصيَّتي، فأنت شابّ، [فلا تضيِّع نفسك] (¬2) واطلب معاشًا ينفعُك ويعود [عليك نفعُه] (¬3) أعطني جميعَ ما عندك من الكتب لأطرَحه في دَنٍّ وأَصبَّ عليه من الماء عشرةَ أرطال (¬4) [وأنبِّذَه] وأنظرَ ما يكون منه، واللهِ لو طلبتَ مني بجميع ما عندك جُرْزةَ بَقلٍ ما أعطيتك. قال: فكان يخاطبني بهذا دائمًا، فيضيِّق صدري، وبلغ بي حتَّى بعت آجُرَّ داري وسقوفَها، وأشرفت على الهلاك. قال: فبينما أنا كذلك، إذ جاءني رسولُ محمدِ بن سليمانَ والي البصرة، فرأى قبيحَ حالي وسوءَ منظري، فعاد إلى الأمير وأخبره، فبعث إليَّ بألف دينارٍ وطِيب وتخت ثياب، وقال: قد أمرني الأميرُ أن أُدخلَك الحمَّام وأُلبسَك من هذه الثياب، فأدخلَني الحمام، وحملني إلى الأمير، فدخلت، فقرَّبني وأدناني، وقال لي: يَا عبدَ الملك، قد اخترتك لتأديب ابنِ أميرِ المُؤْمنين، فارحل إليه. قال: فدعوت له، وجهَّزني من وقتي، فأخذتُ ما أحتاج إليه من كتبي، وتركت الباقي في بيت وطيَّنت بابَه، وأَقعدتُ في الدار عجوزًا من أهلي تحفظ البيت، وأصعدت إلى بغداد، فدخلت على الرشيد، فقرَّبني ورفعني، وقال: أعلم أنَّ ولدَ الرَّجل ثمرةُ قلبه ومُهجته، وأنا مسلِّم إليك ولدي محمدًا -يعني الأمين- بأمانة الله، لا تعلِّمه ما يُفسد عليه دِينَه، فلعلَّه يكون للمسلمين إمامًا. فقلت: سمعًا وطاعة. ثم حوِّلت إلى دارٍ لتأديب محمَّد، ورُتِّبت الموائد، وأُجري عليَّ في كل شهر عشرة ¬

_ (¬1) 3/ 161. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من الفرج بعد الشدة. (¬3) ما بين حاصرتين من الفرج بعد الشدة. (¬4) في الفرج بعد الشدة: للعشرة أربعة. وما بين حاصرتين منه.

آلاف درهم، وكنت أقضي حوائج الناسِ عنده، فحصل لي مالٌ عظيم, وكان كلَّما حصل لي شيءٌ أنفذته إلى البصرة أوّلًا فأوَّلًا، فيشترى لي به الدُّورُ والضِّياع والبساتين، وأقمت مع محمدٍ حتَّى تعلَّم القرآنَ وتفقَّه في الدّين، وروى الشعرَ وفهم العربيةَ واللغة، وبرع في النَّحو وأيامِ النَّاس، فاستدعاه هارونُ الرشيد، فاستنطقه، فأُعجب به وقال. يَا عبدَ الملك، أريد أن يصلِّيَ بالنَّاس، فاختر له خطبة، ففعلت، وخطب وصلَّى بالنَّاس الجُمُعة، ونُثرت عليه الدراهمُ والدنانير، ووصلني هارونُ وزبيدةُ بأموالٍ لا تُحصى ولا تُعدّ. قال: فاستأذنته في عَودي إلى البصرة ومشارفةِ أهلي ومالي وأصحابي، فأذن لي، وكتب لي كتابًا إلى العامل بها بوصيَّته، فلمَّا دخلت البصرة، لم يبقَ بهما إلَّا مَن تلقاني. فلما كان في اليومِ الثالث، جاء البقَّال وعليه ثوبٌ وسخ وعِمامةٌ وسخة، فقال لي: كيف أَنْتَ يَا عبدَ الملك؟ وخاطبني بما يخاطبني به الرشيد، فقلت: بخير، وقد قبلتُ وصيَّتك، وجمعت ما عندي من الكتب وجعلته في دَنّ، وصببتُ عليه من الماء عشرةَ أرطال (¬1)، فخرج كما ترى، فقال: جيدًا عملت، ثم أَحسنتُ عليه وجعلته وكيلي، ثم استقدمه (¬2) هارونُ فأعطاه مئةَ أَلْفٍ أخرى. واجتمع الأصمعيُّ بهارونَ الرشيد] قال الأصمعيّ: أمر الرشيدُ بحملي إليه، فأدخلني عليه الفضلُ بن الربيعِ وهو منفرد، فأمرني بالجلوس، فجلست، فقال: يَا عبدَ الملك، وجَّهت إليك بسبب جاريتَين قد أخذتا طَرفًا من الأدب، فأحببت أن تتعرَّف ما عندهما، فأحضر جاريتين لم أرَ مثلهما حُسنًا وجمالًا، فقلت لإحداهما: ما عندكِ من العلم، قالت: ما أمر اللهُ به في كتابه، ثم ما تنظر النَّاسُ فيه من الأشعار والآدابِ والأخبار، فسألتها عن حروفٍ من القرآن، فأجابتني كأنَّها تقرأ الجواب من كتاب، وسألتُها عن النحو والعَروضِ فما قصَّرت، فقلت لها: هل قرضتِ الشِّعر؟ قالت: نعم، ثم أنشدت تقول: [من الخفيف] يَا غياثَ البلادِ في كلِّ مَحْلٍ ... ما يريد العبادُ إلَّا رضاكا ¬

_ (¬1) في الفرج بعد الشدة: للعشرة أربعة. (¬2) قوله: ثم استقدمه ... ، ليس في الفرج بعد الشدة.

لا ومَن شرَّف الأنامَ (¬1) وأعلى ... ما أطاعَ الإلَهَ عبدٌ عصاكا من أبيات. فقلت: يَا أميرَ المُؤْمنين، ما رأيت امرأةً في مَسْك رجلٍ مثلَها، ثم سأَلتُ الأخرى، فوجدتُها دونها، فأَمر عاتكةَ القيِّمة على النساء أن تزيِّنَ الأولى وتحملهَا إليه في تلك الليلة. ثم قال: حَدَّثني حديثًا أرتاح له، فقلت: يَا أميرَ المُؤْمنين، كان لي صاحبٌ بدور بني فلان (¬2)، وكنت أغشاه وأتحدَّث إليه، وكان أصحَّ النَّاس ذِهنًا، وأجودَهم خاطرًا، وأقواهم نفسًا، وكان قد أتت عليه ستٌّ وتسعون سنة، فغبتُ عنه زمانًا ثم جئته، فإذا هو متغيِّر الحال، كاسفُ البال، فقلت: اعتراك المرض؟ قال: لا، قلت: فما الذي بك؟ قال: اجتزتُ بحيِّ بني فلان، فرأيت جارية كأنها غُصن بانٍ وفي عُنقها طَبْل، وهي تنشد: [من الوافر] محاسنُها سِهامٌ للمنايا ... مُرَيَّشةٌ بأنواع الخُطوبِ يرى رَيبُ الزمانِ لهنَ سهمًا ... تصيب بنَصْله مُهَجَ القلوب قال: فقلت: [من الطَّويل] دعي شَفَتي في موضع الطبلِ ترتقي ... كما قد أبحتِ الطبلَ في جِيدكِ الحسنْ هبينيَ عُودًا أجوفًا تحت شَنَّةٍ ... تمتَّع فيما بين نَحرِك والذَّقَنْ قال: فرمت الطبلَ من عُنقها ودخلت الخِباء فوقفتُ إلى أن حميت الشمسُ على رأسي، لا تخرج إليَّ ولا تُرجع جوابًا، فكنت معها كما قال الشَّاعر: [من الطَّويل] فواللهِ يَا سلمى لطالت (¬3) إِقامتي ... على غير شيءٍ يَا سُليمى أُراقبهْ فضحك الرشيدُ حتَّى استلقى، وقال: ويحك، وهل بعد ستٍّ وتسعين سنةً عشق! فقلت: قد كان هذا، فأمر لي بمئة ألفِ درهم، وبعث إلى الجارية الحاذقِة بألف دينارٍ وطيب (¬4). ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 12/ 159، وتاريخ دمشق 43/ 202، والمنتظم 120/ 222: الإمام، وفي إنباه الرواة 2/ 200: البلاد. (¬2) كذا في (خ)، والذي في المصادر: صاحب لنا في بَدْوِ بني فلان. (¬3) في المصادر: لطال. (¬4) من قوله: قال الأصمعيّ: أمر الرشيد ... إلى هنا، لم يرد في (ب).

[ذِكرُ ما نُقل عنه من مُلَح الأعراب: حكى المدائنيُّ عنه] (¬1) قال: نزلتُ بحيٍّ من كلبٍ مُجْدِبِين، قد توالت عليهم سِنونَ موَّتت الماشية وأَيبست النبات، ومنعت السماءُ قطرَها، فارتفعت سحابة سوداء، فطبَّقت السماء، فاستشرفوا لها ورفعوا أصواتَهم، فمالت عنهم، ثم جاءت سحابةٌ أخرى، فعدلها اللهُ عنهم، فلمَّا كثر ذلك، خرجت عجوز فَعَلَت شَرَفًا ثم نادت بأعلى صوتِها: يَا ذا العرشِ افعلْ ما شئت؛ فإنَّ أرزاقَنا عليك. فوالله ما نزلت من الشَّرف حتَّى مُطروا مطرًا كاد أن يغرقَهم، وأنا حاضر. و[حكى الرِّياشي عنه] قال: مررتُ بصنعاءِ اليمن على مزرعةٍ إلى جانبها عَين، وإذا بغلامٍ قد ملأ قِربةً وقد عجز عنها، فتعلِّق بعُراها (¬2) وصاح: يَا أَبة، أدرك فاها، فلم يُجبه أبوه، وقال: يَا أَبة، غلبني فوها، فلم يُجبه، وقال: يَا أَبة، لا طاقةَ لي بفيها. فجمع العربيةَ في ثلاث كلمات. وقال: قدم جماعةٌ من الأَعراب على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وفيهم غلام، فسمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} السورة، فبُهت، ورجع إلى أَبيه فقال: با أَبة، سمعتُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يُقسم على ربِّه بخيلٍ تصيح من خواصرها، بقُدوح الحصى من سنابكها، تغار على الأحياء في الغَلَس، توسَّط بفارسها الجمع، وسمعته يقول في غُضون كلامه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} فقال: يَا بُني، هذا اللفظُ بعينه سمعتَه منه؟ ! فقال: يَا أبة، كلامُه لفظٌ شريف، هذا معناه. وقال: دخلتُ الباديةَ فنزلت على بعض الأَعراب، فقلت له: أَفِدني، فقال: إذا شئت أن تعرف وفاءَ الرَّجل وحُسنَ عهده وكرمَ أخلاقه وطهارةَ مولده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وشوقِه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه. وقال: قام أعرابيٌّ بجامع البصرةِ فقال: أيها النَّاس، الحاضرُ يحثُّ على سؤالكم، والحياءُ الزاجر يصدُّ عن التعريض لكم، فرحم اللهُ امرأً ساعد بنَيل، أو دعا بخير؛ فإنَّ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب): بعزلتها، وفي (خ): بعزلها. والمثبت من تاريخ دمشق 43/ 213.

الدعاءَ إحدى الصَّدقتين. فقلت: مَن الرَّجل؟ فقال: سوءُ الاكتساب يمنع من الانتساب، وكان معي أربعُ مئةِ درهمٍ فدفعتها إليه. وقال: رأيتُ بعرفاتٍ أعرابيًّا يقول ويتضرَّع قائمًا: اللهم إنَّ لك على حقوقًا فتصدَّق بها عليّ، وإنَّ قِبَلي للنَّاس [تَبِعات] فتحمَّلها عني، وقد أوجبتَ لكلِّ ضيف قِرَى، وأنا الليلةَ ضيفُك، فاجعل قِراي المغفرة [أو الجنة]. وقال: رأيتُ أعرابيًّا قد أخذ بأستار الكعبةِ وهو يقول: سائلُك ببابك، ذهبت أيَّامه، وبقيت آثامُه، وانقضت شهوتُه، وبقيت تَبِعته، فارضَ عنه، فإن لم ترضَ عنه فاعفُ عنه؛ فإنَّ المولى [قد] يعفو عن عبده وهو غيرُ راضٍ عنه. وقال: رأيت آخَرَ قد وقف عند البيتِ وقال: اللهم إن أقوامًا آمنوا بك بألسنتهم ليَحقنوا دماءَهم، فأدركوا ما أفَلوا، وقد آمنَّا بك بألسنتنا وقلوبنا، فأَجِرنا من عذابك، وأَنِلنا ما أمَّلنا من عفوك. قال: وسمعت أعرابيًّا يطوف بالبيت ويقول: إلهي، إليك عجَّت الأصواتُ بصنوف اللُّغات، يسألونك الحاجات، وحاجتي أن تذكرني في البلاءِ إذا نسيني أهلي. وقال: حجَّت أعرابية فقطعت عليها الطريق، فقالت: ربِّ أنعمتَ ثم سلبت، وكلُّ ذلك منك فضلٌ وعدل، وعزَّتِك لا بسطتُ لساني بمسألة غيرِك، ولا بذلتُ رغبتي إلَّا إليك، يَا قُرَّة عيونِ الطالبين، أَغِثني بجُودٍ منك أَتبحبح به في فراديس نعمتِك، وأرتفع به في غياض فضلِك، احملني بكَرَمك بغير راحلة، وأَوصِلني بغير مطيَّة، وأَسبغ عليَّ سِترك الذي لا تحرِّكه الرياح، ولا تخرِّقه الرِّماح. وقال: سمعتُ أعرابيًّا ذكر قومًا تغيَّرت حالُهم فقال: كانوا واللهِ في عيشٍ رقيق الحواشي، فطواه الدهرُ بعد سَعة، ولم أرَ صاحبًا أغرَّ من الدنيا, ولا ظالمًا أغشمَ من الموت، ومَن عصف عليه الليلُ والنهار أدَّباه، ومن وُكِّل به الموتُ أفناه. قال: وسمعتُ آخَرَ يصف منزلًا باد أهلُه فقال: رحل عنه واللهِ ربَّات الخدور، وأقامت فيه رواجلُ (¬1) القُدور، وكان أهلُه يعفون آثارَ الرياح، فأصبحت الرياحُ تعفو ¬

_ (¬1) كذا، وفي نفح الطيب 1/ 500: أثافي.

آثارَهم، فالعهدُ قريب، والملتقَى بعيد. وقال: سمعت أعرابيًّا يقول: إنَّ الدنيا تنطق بغير لسان، فتُخبر عمَّا يكون بما قد كان. وقال: قلت لأعرابيّ: حدِّثني عن ليلتك مع فلانة، فقال: نعم، خلوتُ بها والقمرُ يُرينيها، فلمَّا غاب أَرتْنيه، قلت: فما كان بينكما؟ فقال: الإشارةُ لغير ما باس، والدنوُّ بغيرِ إِمساس، ولَعمري إن كانت الأيامُ طالت (¬1) بعدها, لقد كانت قصيرةً (¬2) معها. أَنشدني عليُّ بن الحسن الإسكافيُّ في المعنى وقال: [من المنسرح] ما إنْ دعاني الهوى لفاحشةٍ ... إلَّا نهاني (¬3) الحياءُ والكرمُ فلا إلى ريبةٍ مددتُ يدي ... ولا مشتْ لي بزلَّةٍ قَدَمُ و[حكى الخرائطيُّ عن الأصمعيّ] (¬4) قال: خلا رجلٌ من الأعراب بامرأةٍ وقعد بين رجليها، ثم قام سالمًا منها، فقالت له: ما لك؟ ! فقال: إن امرأً باع جنَّةً عرضُها السماواتُ والأرضُ بعَرْضِ ما بين (¬5) رِجلَيكِ لَقليلُ الخبرةِ بالمساحة. وقال: قيل لأعرابيّ -وقد تزوَّج بنت عمٍّ له-: أَيسرُّك أن تظفرَ بها الليلة؟ فقال: نعم والذي منعني عنها وأَشقاني بطلبها، قيل له: فإن ظفرتَ بها ما كنت صانعًا؟ فقال: أُطيع الحبَّ في لثمها، وأعصي الشيطانَ في إِثمها, ولا أُفسد عشقَ سنينَ بما يَبْقى ذميمُ عاره، ويُنشْر قبيحُ آثاره، في لحظةٍ تَنْفَد لذَّتها، وتبقى تَبِعتها، إنِّي إذن لَلئيم، لم يَغذُني أصلٌ كريم. وقال: قلت لأعرابيَّة: ما تعدُّون العشقَ فيكم؟ فقالت: القُبلة والضمَّة والغَمزة، ثم قالت: [من مجزوء الرجز] ما الحبُّ إلَّا قُبلةٌ ... وغمزُ كفٍّ وعضدْ ¬

_ (¬1) في (خ): أطالت، والمثبت من تاريخ بغداد 7/ 269. (¬2) في (خ): قصيرها، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬3) في (خ): ونهاني، وهو خطأ، والمثبت من المستطرف 2/ 351، وفي مصارع العشاق 2/ 263: إلَّا عصاه ... (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (ب): بفتر بين. والفِتْر: ما بين طرف الإبهام والسبّابة إذا فتحتهما. مختار الصحاح (فتر).

ما الحبُّ إلا هكذا ... إنْ نكح الحبّ فسدْ (¬1) قلت: أما نحن، فالعشقُ عندنا أن يقعدَ بين رجلَيها ويُجهدَ نفسَه، فقالت: ما هذا عاشق، هذا طالبُ وَلَد. وقال: رأيت جاريةً بالطواف كأنَّها مَهاةُ رَمْلٍ، فجعلتُ أَنظر إليها وأملأ عيني من محاسنها، فقالت: [من الطويل] وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَك رائدًا ... لقلبك يومًا أَتعبتْك المناظرُ رأيتَ الذي لا كلُّه أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر (¬2) وقال: رأيتُ بالرَّبَذة جاريةً متبرقعة وهي تقول: يا معاشرَ الحجيج، نفرٌ من هُذَيل، ذهب بنعمتهم السَّيل، وضرمت بهم الأيام، حتى ما بهم نُجعة (¬3)، ولا لهم قعدة، فمن يراقب منهم الدارَ الآخرة، ويعرف لهم حقَّ الآصرة؟ فقلنا: هل قلتِ في ذلك شيئًا؟ قالت؟ نعم: [من الكامل] كفُّ الزمانِ توسَّدتْنا عَنوةً ... شلَّت أناملُها عن الأعرابِ قومٌ إذا حلَّ العُفاةُ ببابهمْ ... أَلقَوا نوافلَهم بغير حساب فقلنا: لو مَتَّعتينا بالنظر إلى وجهك، فكشفَت البُرقعَ عن وجهٍ لا تهتدي العقولُ بوصفه، فبُهتنا، فقالت: [من الكامل] الدَّهرُ أبدى صفحةً قد صانها ... أَبوايَ قبل تمرُّسِ الأيام فتمتَّعوا بعيونكم في حُسنها ... وانهَوا جوارحَكم عن الآثام (¬4) وقال: سمعت أعرابيةً تودِّع ابنها وتقول: كان اللهُ صاحبَك في سفرك، وخليفتَك في أهلك، وتولَّى نُجحَ طِلْبتك، امضِ مصاحَبًا مكلوءًا، لا شمَّت اللهُ بك عدوًّا، ولا أراني فيك سوءًا. وقال: مات لأعرابيٍّ ولد، فقال: اللهمَّ إني وهبتُ له ما قصَّر فيه من بِرِّي، فهَبْ له ¬

_ (¬1) أشعار أولاد الخلفاء ص 326، والأغاني 3/ 199 دون نسبة. (¬2) انظر ديوان الحماسة 3/ 1238 (بشرح المرزوقي)، ومصارع العشاق 2/ 194، ومحاضرات الأدباء 3/ 216. (¬3) النجعة: طلب الكلأ في موضعه. مختار الصحاح (نجع). (¬4) انظر روضة المحبين ص 229، وطبقات الشافعية الكبرى 1/ 262.

ما قصَّر فيه من طاعتك، فأنت أجودُ وأكرم. وقال: سمعتُ أعرابيةً تقول -وقد ذكرتْ مصيبة-: تركتْ واللهِ سودَ الرؤوس بيضًا، وبيضَ الوجوه سُودًا، وهوَّنت المصائبَ بعدها، فنظر شاعرٌ فقال (¬1): [من الوافر] رمى الحدَثانُ نِسوةَ آلِ (¬2) حربٍ ... بأقدارٍ سَمدْنَ لها سُمُودا فردَّ شعورهنَ السُّودَ بيضًا ... وردَّ وجوههنَّ البيضَ سُودا فإنَّك لو سمعتَ بكاء هندٍ ... ورَملةَ إذ تَصُكَّان الخُدودا بكيتَ بكاءَ موجعةٍ بحزنٍ ... أصاب الدَّهرُ واحدَها الفريدا (¬3) وقال: خاصم أعرابيٌّ امرأتَه إلى زيادٍ فقال: أصلح اللهُ الأمير، خيرُ عُمرِ الرجل آخرُه، يذهب جهله، ويثوب حِلْمُه، ويجتمع رأيُه، وإنَّ شرَّ عُمرِ المرأة آخرُه، يسوء خُلُقها، ويشتدُّ لسانها، ويَعقمُ رَحِمُها، فقال له: زياد: صدقت، خذ بيد امرأتِك. وقلت لأعرابيّ: أَتهمز إسراييل؟ فقال: إنِّي إذن لَرجل سَوء، قلت: أتجرُّ فلسطين؟ فقال: إني إذن لَقويّ. [قال: وخطب أعرابيٌّ امرأةً وكان طُوالًا قبيحًا، فقيل له: بأيّ ضربٍ تريدها؟ فقال: قصيرة جميلة؛ ليأتيَ ولدُها في جَمالها وطولي. وتزوَّجها على تلك الصِّفة فجاء ولدُها على قصرها وقُبح أبيه. قال: وغزا أعرابيٌّ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا عاد إلى أهله سألوه: ما رأيتَ في غَزاتك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: وضح عنَّا شطرَ الصلاة] (¬4). وقال: وَلِيَ اليمامةَ أعرابيّ [يقال له: أبو مهديَّة]، وكان بها يهودٌ لهم مال، فجمعهم وقال: ما تقولون في المسيح؟ قالوا: نحن قتلناه وصلبناه، فقال: فهل غَرِمْتم دِيَته؟ ¬

_ (¬1) اختلف في قائل الأبيات، انظر ديوان الحماسة 2/ 941 (بشرح المرزوقي)، 3/ 4 (بشرح التبريزي)، وعيون الأخبار 3/ 67، وذيل الأمالي ص 115، وزهر الآداب 1/ 405. (¬2) في (خ): إلى. والمثبت من المصادر. (¬3) كذا في العقد الفريد 3/ 425، وفي سائر المصادر: الفقيدا. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

قالوا: لا، فقال: واللهِ ما تبرحون حتى تؤدُّوا دِيَته، فأرضَوه بمالٍ فأطلقهم (¬1). وقال: مررتُ بالبادية على بئرٍ عليها جَوارٍ، وبينهنَّ جاريةٌ كأنها البدر، فوقعتْ عليَّ رِعدة، وقلت: [من البسيطٍ يا أحسنَ الناسِ إنسانًا وأملَحَهم ... هل باشتكائي إليك الحبَّ من باسِ فَبَيِّني لي بقولٍ غير ذي خُلُفٍ ... أبالصَّريمة نمضي عنكِ أم ياسِ فقالت: اِخسأ. فوقع في قلبي مثلَ جَمرِ الغَضَا، ثم قالت: [من البسيط] هلمَّ نمحُ الذي قد كان أوَّلُه ... ونظهر الآن إِقبالًا من الراسِ حتى نكونَ سواءً في مودَّتنا ... مِثلَ الذي يحتذي نَعلًا بمقياس فسألت عن أبيها، فدُللت عليه، فخطبتها منه، فزوَّجني إياها، فهي أمُّ ابني (¬2). [قال: وقلت: لأعرابي: لمَ لا تتزوَّج؟ فقال: لو قدرتُ على طلاق نفسي لطلَّقتها. قال: وقلتُ لآخَر: ما عندكم في البادية (طبيب)؟ فقال: حُمر الوحش لا تحتاج إلى بَيطار] (¬3). وقال: قلت لأعرابيّ: ما تعدُّون البلاغةَ فيكم؟ فقال: قلَّة الكلام، وإصابةُ الصواب، والقصدُ في المعنى. وقال: سمعتُ أعرابيًّا يقول: اللهمَّ إنَّ استغفاري إياك مع كثرة ذنوبي لؤم، وإنَّ تركي الاستغفارَ مع علمي بسَعة قدرتِك لَعجز، إلهي كم تتحبَّب إليَّ بنعمتك وكم أتبغَّض إليك بذنوبي وأنا فقيرٌ إليكَ! اللهم أَعِذني من سَطَواتك، وأَجِرني من نَقِماتك، فإني أتوسَّل إليك بك، وأفرُّ منك إليك. وقال: كنت أتردَّد إلى أعرابيّ، فكنت أسمعه يذكر أُمامة، ثم ترك ذِكرَها، فقلت له: لمَ تركت ذِكرَها؟ فقال: [من مجزوء الكامل] ¬

_ (¬1) العقد الفريد 3/ 489. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 175 - 176، وتاريخ دمشق 43/ 214 - 215، وينظر مصارع العشاق للسراج 2/ 221. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وما بين قوسين من العقد الفريد.

ذهبتْ (¬1) أُمامةُ بالطلاقِ ... ونجوتُ من حبل الوَثاقِ بانت فلم يألمْ لها ... قلبي ولم تبكِ المآقي ودواءُ مَن لا تشتهيـ ... ــهِ النفسُ تعجيلُ الفراقِ والعيشُ ليس بطيِّب ... إنَّ كان من غير اتِّفاق وقال: سمعت أعرابيًّا يقول: خَفِ الشرَّ من موضع الخير، وارجُ الخيرَ من موضع الشرّ، فربَّ حياةٍ سببُها طلبُ الموت، وربَّ موتٍ سببُه طلب الحياة، وأكثرُ ما يأتي الآمنَ الخوفُ من مأمنه. وقال: مررت بالمِربَد، إذا بأعرابيةٍ تبكي عند قبرٍ وتقول: [من مخلع البسيط] هل أخبر القبرُ سائليه ... أم قرَّ عينًا بزائريهِ أم هل تراه أَحاط علمًا ... بالحَسَن (¬2) المستكِنِّ فيه لو يعلم القبرُ مَن يواري ... تاه على كلِّ مَن يليه (¬3) يا جبلًا كان لامتناعٍ (¬4) ... ورُكنَ عِزٍّ لآمليه ونخلةً طلعها نضيدٌ ... يَقرُب مِن كفِّ مُجتنيه ويا مريضًا على فراشٍ ... تؤذيه أيدي ممرِّضيه ويا صَبورًا على بلاءٍ ... كان [به] (¬5) اللهُ يَبتليه يا موتُ لو تقبل افتداءً ... كنتُ بنفسي سأفتديه يا موتُ ماذا أردتَ مني ... حقَّقتَ ما كنتُ أَتَّقيه موتٌ (¬6) رماني بفقد إِلفي ... أَذُمُّ دهري وأشتكيه آمنك اللهُ كلَّ رَوعٍ ... وكلَّ ما كنتَ تتَّقيه (¬7) ¬

_ (¬1) في العقد الفريد 3/ 471: ظعنت. (¬2) في الأمالي 2/ 321، والمنتظم 10/ 228، والحماسة البصرية 1/ 259: بالجسد. (¬3) في (خ): يتيه، والمثبت من الأمالي 2/ 321، والمنتظم 10/ 228، والحماسة البصرية 1/ 259: بالجسد. (¬4) في الأمالي والحماسة: ذا امتناع. (¬5) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬6) في الأمالي والحماسة: دهر. (¬7) في (خ): أتقيه، والمثبت من المصادر.

فقلت لها: يا جارية، أَعيدي عليَّ شِعرَك، فقالت: أسمعتَ ذلك مني؟ فأعدتُ (¬1) شِعرها عن آخره، فقامت تنفض ثيابَها وتقول: إنْ كان حقًّا في عبادك أصمعيٌّ فهو هذا. ومررتُ بأعرابيَّة عند قبرٍ وهي تقول: [من الطويل] فإن تسألاني فيمَ حُزْني فإنَّني ... رهينةُ هذا القبر يا فتيانِ عزيز عليَّ أن أراه كما ترى ... عزيزٌ عليه بعضُ ما تريان وإني لأستحييه والتُّرب بيننا ... كما كنتُ أستحييه وهو يراني (¬2) وقال الأصمعيّ: وقع طاعونٌ بالبصرة، فخرج رجلٌ من أهلها على حمارٍ ومعه أهلُه وولدُه، وخلفه عبدٌ حبشيٌّ يمشي ويسوق الحمارَ ويرتجز: لن يُسبقَ اللهُ على حمارِ ... ولا على ذي مَيعةٍ مُطَارِ (¬3) قد يصبح اللهُ أمامَ الساري فلما سمع الرجل قولَ العبد، رجع بأهله وولدِه. وركب الأصمعيُّ يومًا حمارًا دميمًا، فقيل له: بعد مراكبِ الخلفاءِ تركب هذا! فقال متمثِّلًا: [من الطويل] ولمّا أبتْ إلَّا انصرافًا (¬4) بودِّها (¬5) ... وتكديرِها الشِّربَ الذي كان صافيا (¬6) شَرِبنا برَنْقٍ (¬7) من هواها مكدَّرٍ ... وليس يَعاف الرَّنْقَ من كان صاديا ثم قال: ركوبُ هذا مع سلامة ديني أحبُّ إليَّ من ركوب تلك وتذهب آخرتي. ¬

_ (¬1) في (خ): فأعادت. وهو خطأ، والتصويب من المنتظم. (¬2) البيت الأول والثالث في العقد الفريد 3/ 278، ومصارع العشاق 2/ 88. (¬3) ماع الفرس: جرى. وفرس مُطار وطيار: حديد الفؤاد ماض. القاموس المحيط (ميع) (طير). والأبيات في البيان والتبيين 3/ 278، وعيون الأخبار 1/ 144، ومحاضرات الأدباء 4/ 324، وزهر الآداب 2/ 995. (¬4) في تاريخ دمشق 43/ 217، والوفيات 3/ 174: انصرامًا. وفي تاريخ بغداد 12/ 166، ونزهة الألباء ص 122: طراقًا. (¬5) في نزهة الألباء: بِورْدِها. (¬6) في (خ): عافيا، والمثبت من المصادر. (¬7) الرَّنْق: الماء الكَدِر.

[حديث الأصمعيِّ مع يحيى بنِ خالدٍ والجارية: ذكر الخطيبُ (¬1) بإسناده الواقعةَ إلى محمد بنِ القاسم بن خلّاد قال: كان الأصمعيُّ دميمًا قصيرًا، كريه المنظر، استحضره يحيى بنُ خالدٍ وقال له: هل لك زوجة؟ [قال: لا، قال: فجارية؟ قال: جاريةٌ للمِهنة، قال: هل لك أن أهبَ لك جارية] (¬2) حسناء؟ قال: نعم، فأخرج له جاريةً لم يرَ مثلَ حسنها، فقال: خذها، فجزعت الجاريةُ وبكت، وقالت: يا سيِّدي، تدفعني إلى هذا الشيخِ القبيح! فقال له يحيى: هل لك في ألف دينارٍ وتدعها؟ قال: نعم، فأعطاه ألفَ دينار، ثم قال: يا أصمعيُّ، تظنُّ أني سمحتُ لك بها! وإنما كان بيني وبينها أمرٌ فأنكرتُه عليها فأردتُ أن أعاقبَها بك ثم رَحمتها، قال الأصمعي: فكنتَ أخبرتَني قبل ذلك حتى كنت أسرِّح لحيتي وأسوِّي عمامتي، فلو رأتَنْي كذلك لَما كرهتني، فضحك يحيى (¬3). ذِكر دخولِ الغاضريِّ عليه: حكى عنه ابنُ الأعرابيِّ قال: قال لي الأصمعي: دخل عليَّ الغاضريُّ وكان أحمق، فقال لي: يا أصمعيّ، مَن حفر البحر؟ وأين ترابُه؟ يقدر الخليفةُ يحفر مثلَه في ثلاثة أيام؟ قلت: لا. ذِكرُ حديثه مع الأحمقَين: ] وقال: كان لي صديقان أحمقانِ ولهما عبد، فقام أحدُهما يضربه، فقال له شريكُه: تضربُ عبدي! فقال له: ما عليك أنا أضربُ في حصَّتي! فقام الآخر يضرب في الجانب الآخَر، فسلح (¬4) العبدُ عليهما وقال: اقتسما هذه بينكما بالحِصَص. [ذِكرُ حديثِه مع أحمقٍ آخرَ قال: مرَّ أحمق على امرأةٍ تبكي عند قبر، فقال لها: ما هذا الميتُ منك؟ قالت: ¬

_ (¬1) في تاريخه 12/ 161. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد. (¬3) كذا، والذي في تاريخ بغداد: أيها الأمير، فهلا أعلمتني قبل ذلك، فإني لم آتك حتى سرحت لحيتي وأصلحت عمتي، ولو عرفتُ الخبرَ لصرتُ على هيئة خِلْقتي، فوالله لو رأتني كذلك لما عاودت شيئًا تنكره منها أبدًا ما بقيت. (¬4) أي: بَال.

زوجي، قال: فما كان يصنع؟ قالت: كان يحفر القبور، قال: ويحه، أمَّا علم أنَّ مَن حفر لأخيه المؤمنِ قَليبًا أوقعه اللهُ فيها قريبًا! حديثُ الأصمعيِّ مع المرأة الطائفةِ بالبيت: حكى الأصمعيُّ عن المازنيِّ قال: بينما أنا أطوف بالبيت إذ جاء رجلٌ على قفاه كارةٌ (¬1) وهو يطوف، فقلت له: ما هذه الكارةُ التي على عُنقك؟ فقال: هذه والدتي أريد أن أؤدِّيَ حقَّها، فقلت: ألا أدلّك على ما تؤدِّي به حقَّها قال: وما هو؟ قلت: تزوّجها، فقال: يا عدوَّ الله، تستقبلني في أمِّي بمثل هذا! قال: فرفعت أمُّه يدها وصفعت ابنَها في قفاه وقالت: إذا قيل لك الحقُّ تغضب؟ ! ذِكر نُبذة من كلامه: حكى المازنيُّ عنه أنَّه] (¬2) قال: الفرس لا طِحال له، والبعيرُ لا مَرَارةَ له، والظَّليم (¬3) لا مُخَّ لساقه، والسمكة لا رئةَ لها، وكلُّ ذي رئةٍ يتنفَّس. [قال] (¬4) وقال: البصرة عُثمانيّة، والكوفة عَلَويَّة، والشامُ أمويّ، والجزيرة خارجيَّة، وإنما صارت البصرةُ عثمانيةً من يوم الجَمَل، وإنما صارت الكوفةُ علويةً من يومِ استوطنها أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه -، والشام لمّا سكنها معاويةُ بن أبي سفيان، وإنما صارت الجزيرةُ خارجيةً لأنَّها مسكن ربيعة، وهي رأسُ كلِّ فتنة. ولما سأل الرشيدُ [يزيدَ] بن مَزْيَد قال: ما أكثرَ الخلفاءَ في ربيعة! قال: نعم ومنا برُهم الجذوع. يعني الخوارج (¬5). وقال الأصمعيّ: مَن دخل أرضًا وَبِيئَةً فأخذ من ترابها وجعله في ماءٍ وشربه، فإنَّه يَسلم من وبائها. وقال: بين بغدادَ وإفريقيةَ ألفُ فرسخ، وبين الكوفةِ والبصرة ثمانونَ فرسخًا، ¬

_ (¬1) الكارة: الحال الذي يحمله الرجل على ظهره. تاج العروس (كور). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) الظليم: الذّكر من النعام. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في وفيات الأعيان 6/ 329: يعني الجذوع التي يصلبون عليها إذا قتلوا.

وواسطُ في الوسط. وقال: سمعت الحسنَ بن سهلٍ في وزارته يتمثَّل ويقول: [من الوافر] وما بقيت من اللذَّات إلَّا ... محادثةُ الرِّجال ذوي العقولِ وقد كانوا إذا ذُكروا قليلًا ... وقد صاروا أقلَّ من القليل (¬1) ذِكرُ وفاته. [اختلفوا فيها، فقال ابنُ الأعرابي: توفِّي الأصمعيُّ بالبصرة سنةَ ثلاثَ عشرةَ (¬2) ومئتين وقد بلغ ثمانيةً وثمانين، وقيل: ستَّةً وثمانين. وحكى السِّيرافي (¬3) عن أبي العَيناءِ قال: مات الأصمعيُّ بالبصرة سنةَ ثلاثَ عشرةَ ومئتين. وقد حكى معظمَ هذه الأقوالِ الخطيب] (¬4). أسند [الأصمعيُّ] عن الأئمَّة: عبد الله بن عون، والحمَّادَين، وشعبةَ [بن الحجَّاج، ومِسعرِ (¬5) بن كِدام الهلالي، والمباركِ بن سعيدٍ الثوري، ونافعِ بن أبي نعيم] (¬6) وأبي عَمرو بنِ العلاء [وسليمانَ التَّيمي، وقُرَّة بن خالد، وهشامِ بن سعد] وسفيانَ بن عُيينة [وعبد العزيز بن أبي حازم] وخلقٍ كثير. وروى عنه الإمامُ أحمد [بن حنبل]، وابن مَعين، وابن المَديني (¬7)، ومالكُ بن أنس، [وأبو عُبيد] القاسم بن سلَّام [وأحمدُ الدَّورقي، وأبو حاتم السِّجِستاني، واسمه ¬

_ (¬1) العقد الفريد 2/ 242. (¬2) لعل الصواب: سنة خمس عشرة، أو: سبع عشرة، أو ست عشرة؛ لأن هذا القول سيذكره قريبًا، فيكون تكرارًا، وما بين حاصرتين من (ب)، والذي في (خ): توفي سنة عشر ومئتين وقد بلغ ثمانيًا وثمانين سنة، وقيل: ستًّا وثمانين سنة بالبصرة، وقيل: ثلاث عشرة ومئتين. اهـ. وقد وقع اضطراب شديد في وفاته، انظر التاريخ الكبير 5/ 428، وأخبار النحويين البصريين ص 52، والفهرست ص 61؛ وتاريخ بغداد 12/ 168 - 169، وتاريخ دمثسق 43/ 218 - 219، والمنتظم 10/ 229 - 230، وإنباه الرواة 2/ 202، والوفيات 3/ 175، وتاريخ الإسلام 5/ 386 - 387. (¬3) في أخبار النحويين البصريين ص 52. (¬4) في تاريخه 12/ 168. (¬5) في (ب): مسعود، وهو خطأ، والمثبت من المصادر. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) لم تذكر المصادر أحمد وابن المديني رحمهما الله تعالى.

سهلُ بن محمد، ومحمدُ بن مسلم بنِ وَارَة] وأبو حاتِمٍ الرازي [وأبو الفضل الرِّياشي، واسمه: العباسُ بن الفرج (وأحمدُ) (¬1) بن محمد اليزيدي] في آخرين. وكان [الأصمعيُّ] يقول: لقيتُ من العلماء والفقهاءِ ورُواة الحديثِ والفصحاءِ خلقًا لا أُحصيهم، ولقيتُ من الشعراء رُؤبة، وبلالًا ونوحًا ابنَي جرير، ولَبْطة بنَ الفرزدق [ومحمدَ بن علقمةَ التيمي، وأبا نائل إهابَ بن عُمَير، وابنَ ميَّادة] (¬2) والحسينَ بن مُطير، وابن هَرْمَة، وابن أُذينة، وابن الدُّمَينة، وابن الطَّثْرِية. و[سبقني] (¬3) زيادٌ الأعجم ونَهارُ بن تَوسِعة، وذكر غيرَهم. و[روى الخطيب (¬4) عن عمرَ بن شبَّة قال: ] قال [الأصمعيّ]: أَحفظ ستَّةَ عشرَ ألفَ أُورجوزة. وكان الإمامُ أحمد رحمه الله يُثني عليه. وقال الإمام الشافعيُّ رحمة اللهِ عليه: ما رأيتُ بذلك العسكر أصدقَ لهجةً منه، ولا عبَّر أحدٌ عن العرب بمثل ما عبَّر. ولقد كان يتَّقي أن يفسِّرَ حديث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كما يتَّقي أن يفسِّر القرآن. وقال ابن مَعين وابن مَهديٍّ وغيرهما: كان ثقةً صدوقًا، أمينًا فيما يرويه. [وقال ابن مَعين: وقد وهم مالكٌ في اسم أبيه فقال: حدَّثنا عبدُ الملك بن قُرَير بالراء، وإنما هو: قُريب، بالباء. قلت: وقد ذكر الدارَقُطنيُّ في "المؤتلِف والمختلِف" (¬5) وقال: الذي روى عنه مالكٌ إنما هو عبدُ الملك بن قُرير أخو عبدِ العزيز بن قرير، روى عن ابن سِيرينَ وعطاء (¬6). فعلى هذا القولِ الوهمُ من ابن معينٍ لا من مالك. ¬

_ (¬1) ما بين قوسين من تاريخ دمشق 43/ 189، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 43/ 191. (¬4) في تاريخه 12/ 158. (¬5) 4/ 1895 - 1896. وما بين حاصرتين من (ب)، وينظر الاستذكار 13/ 275 - 276، وتاريخ دمشق 43/ 193. (¬6) الراوي عن ابن سيرين وعطاء هو عبد العزيز، وينظر التعليق السابق.

قلت: ] ولم يتكلَّموا في الأصمعيِّ إلَّا من حيث البخلُ وسقوطُ الهمّة [وخساسةُ النفس. حكى ابنُ دُريد عن] أبي عبيدةَ [معَمر] قال (¬1): كان الأصمعيُّ ساقطًا خسيسًا، يجمع أخبارَ البخلاءِ ويحدِّث بها أهلَه وأولادَه، ويأمرهم بالعمل بها. [قال: ] وارتفعت يومًا في داره ضجَّة، فقيل: إنما يفعلون هذا عند تفرقةِ الخبز. وقال المبرِّد: كان الأصمعيُّ ينشد لنفسه: [من السريع] يا أُمَّةَ اللهِ أَلَم تَسْمَعِي (¬2) ... ما قال عبدُ الملكِ الأصمعي واحدةٌ أثقلني حملُها ... فكيف لو قمتُ على أربعِ يريد أربع نسوة. وهجا يحيى بنُ المبارك اليزيديُّ الأصمعيَّ فقال: [من المتقارب] أَبِنْ لي دَعِيَّ بني أَصمعٍ ... أَقَفرٌ رباعُك أم (¬3) آهلهْ ومَن أنت هل أنت إلَّا امرؤٌ ... إذا صحَّ أنَّك (¬4) من باهله يشير إلى خساسة باهلةَ في العرب. وقال أبو العَيناء: لما رُفعت جنازةُ الأصمعيِّ حدَّثني أبو قِلابةَ الجَرمي، ثم قال وأشار إلى الجنازة: [من الخفيف] قبَّح (¬5) اللهُ أَعظُمًا حملوها ... نحو دارِ البِلى على خشباتِ أعظُمًا تُبغض النبيَّ وأهلَ الـ ... بيتِ والطَّيِّبين والطيبات [فقال أبو العيناء: ] ثم حدَّثني أبو العَتَاهيةِ (¬6) وقال: [من البسيط] لا دَرُّ دَرِّ بناتِ الأرضِ إذ فُجعت ... بالأصمعيِّ لقد أَبقتْ لنا أسفا ¬

_ (¬1) في (خ): قال أبو عبيدة. (¬2) في (خ): إن لم تسمعي. هو خطأ. (¬3) في (خ): أمر، والمثبت من تاريخ دمشق 43/ 192. (¬4) في تاريخ دمشق: أصلك. (¬5) في تاريخ بغداد 12/ 168، وتاريخ دمشق 43/ 219: لعن. (¬6) كذا في (ب) و (خ)، والصواب: أبو العالية الشامي، كما في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق. وما بين حاصرتين من (ب).

عِشْ ما بدا لك في الدنيا فلستَ ترى ... في الناس منه ولا من عِلمه خَلَفا قال أبو العَيناء: فعجبتُ من اختلافهما فيه. وقال [الخطيب (¬1): لمّا مات الأصمعيُّ جزع عليه] أبو العَتَاهية [ورثاه بأبياتٍ وقال] (¬2): [من الطويل] لَهفي (¬3) لِفَقد الأصمعيِّ لقد مضى ... حميدًا له في كلِّ صالحةٍ سهمُ تقضَّت بَشاشاتُ المجالسِ بعده ... وودَّعنا إذ ودّع الأُنس والعِلم وقد كان نجمَ العلمِ فينا حياتَه ... فلمَّا انقضت أيامُه أَفَلَ النَّجم [قلت: وقد ذكر صاحبُ "بيت مال العلوم" حكايةً تدلُّ على خَساسة نفسِ الأصمعيِّ وسقوطِ همَّته، فقال: روى السِّندي بنُ شاهك قال: ركب جعفرُ بن يحيى بنِ خالد يومًا بعيرَه، فاجتاز بباب الأصمعيِّ وقال لغلامه: إذا أشرتُ إليك فأعطِه ألفَ دينار، فلما نزل دارَ الأصمعيِّ فرأى زِيًّا عجيبًا، رأى منزلَه أوسخ المنازل وأقذرَها، تحته مصلَّى عتيق (¬4)، وتحته بُردٌ خَلَق، وعمامةٌ عتيقة وسخة، وإلى جانبه حُبٌّ مكسور، وقصعة مُشعَّبة، وحصيرٌ قد اسودَّ من طول اللَّبث (¬5)، ومنارةٌ من خشب قد اسودَّت من الزيت، فوجم جعفر، وأخذ الأصمعيُّ يحادثه ويمازحه ويباسطه، فلم يدعْ مضحكةً ولا نادرةً إلَّا وأتى بها، وجعفرٌ واجم، وأشار لغلامه أن لا، ثم قام وخرج فلمَّا ركبا، قال السِّندي: [قام] (¬6) جعفرٌ إليَّ وقال: يا سِندي، مَن استرعى الذئبَ ظلم ووضع النِّعمةَ في غير موضعها، ولقد نفخنا نحن وأميرُ المؤمنين في غير ضَرَم، إنَّ هذا يأخذ من مال اللهِ في كلِّ سنةٍ ما يبني به قصورًا، ويشتري به سراريَّ وغِلمانًا وأثاثًا، ودوابَّ كثيرة، ¬

_ (¬1) في تاريخه 12/ 168 - 169. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): يرثيه. (¬3) كذا في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق 43/ 219. وفي ذيل الديوان ص 635، ونزهة الألباء ص 124: أسفت، وبها يصح الوزن. (¬4) رسمت في (ب) هكذا: مصليًا عتيقًا! والكلام ليس في (خ)، وينظر الخبر في عيون الأخبار 1/ 299، وديوان المعاني للعسكري 1/ 129، وتاريخ دمشق 43/ 217. (¬5) في (ب): اللبس. (¬6) ما بين حاصرتين ليس في (ب)، وانظر تاريخ دمشق 43/ 217.

عفان بن مسلم

وقُرى، وهمَّته كما ترى، واللهِ لو عَلِمْنا أنه يكتم المعروفَ بفعله ما قبلنا قولَه. فصل وفيها توفي] (¬1) عفان بن مُسلم أبو عثمانَ الصفَّار [البَصْري]. من الطبقة السابعةِ من أهل البصرة، مولى عَزرةَ (¬2) بن ثابتٍ الأنصاري.، ولد سنةَ أربعٍ وثلاثين ومئة. وكان قد جمع بين العلمِ والزهد والسُّنة [فروى الخطيبُ (¬3) بإسناده إلى حنبلِ بن إسحاقَ قال: ] كتب المأمونُ إلى إسحاقَ بن إبراهيم عامِله بالبصرة أن ادعُ عفانَ بن مسلمٍ إلى القول بخلق القرآن، فإن أجاب وإلَّا فاقطع عنه ما يجري عليه، وكان له في كلِّ شهرٍ] خمسَ مئةِ درهم، وقيل: في [كلِّ شهر] ألفَ درهم. فدعاه إسحاقُ وعرض عليه الكتاب، فقال له [عفَّان: ] ما تقول في: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أهذا مخلوق؟ فقال: ما أدري إلَّا أنَّه قد أمر بقطع ما يجري عليك، فقرأ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] واللهِ لا قلتُ هذا أبدًا. وكان في داره أربعون نَفْسًا، فقال: اصبروا، فدقَّ [البابَ] داقّ، فأذن له، فدخل رجلٌ كأنه زيَّات أو سمَّان ومعه كيسٌ فيه ألفُ درهم، فقال له: يا أبا عثمان، ثبَّتك اللهُ كما ثبَّتَّ الدِّين، وهذا لك عندي في كلِّ شهر. وقال الخطيب أيضًا عن عفَّان بن مسلم أنَّه أُعطي عشرةَ آلاف دينار على أن يسكتَ عن رجلٍ من أهل البصرة، فلا يقول: إنَّه عدلٌ، ولا: غيرُ عدل، فامتنع وقال: لا أضيِّع حقًّا من حقوق اللهِ تعالى (¬4). و[اختلفوا في وفاته: فقال ابنُ سعد: ] (¬5) توفِّي ببغداد، وصلَّى عليه عاصم [بنُ عليِّ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وذكر وفاته هنا وهم، وسيأتي الكلام عليه. (¬2) في (ب) و (خ): عروة، وهو تحريف. انظر طبقات ابن سعد 9/ 300، وتاريخ بغداد 14/ 201، والمنتظم 11/ 60، وتهذيب الكمال، والسير 10/ 242. (¬3) في تاريخه 14/ 203 - 204 وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) انظر تاريخه 14/ 202 - 203 ففيه قصة مشابهة. (¬5) في طبقاته 9/ 300، وما بين حاصرتين من (ب).

علية بنت المهدي

ابن عاصم، وكان ثقة ثبتًا حجَّة، كثيرَ الحديث [ولم يذكر ابنُ سعد تاريخَ وفاته (¬1)، وحكى الخطيبُ عن الزِّيادي قال: مات في سنة عشرٍ ومئتين] (¬2). وقال ابنُ سعد (¬3): سمعته يقول سنةَ عشرٍ ومئتين: أنا في ستٍّ وسبعين سنة [وقيل: مات في سنة تسعَ عشرة، أو في سنة عشرين ومئتين، والأولُ أشهر]. أسند عن شعبةَ والحمَّادَين وخلقٍ كثير. وروى عنه الإمام أحمدُ بن حنبل وابن مَعين وابنُ المديني (¬4) [ومحمد بنُ سعدٍ صاحبُ "الطبقات"] (¬5) وأخرج عنه البخاريُّ في "صحيحه"، واتَّفقوا على صدقه وثقتِه وورعه. [وفيها توفِّيت] (¬6) عُلَيَّة بنتُ المَهدي [أختُ هارونَ الرشيد] وأمُّها أمُّ ولد اسمُها مكنونة، واشتُريت للمهدي بمئة ألفِ درهم، فغلبت عليه، وكانت الخَيزُران تقول: ما ملك أَمَةً هي عليَّ أشدُّ منها، فولدت عُلَية سنةَ ستِّين ومئة. وكانت عُلَية من أجمل النساءِ وأظرفهنَّ، وأكملِهنَّ عقلًا وأدبًا، ونزاهةً وصيانة، وكان في جبهتها سَعةٌ تَشين وجهها، فاتَّخذت العصابةَ المكلَّلة بالجوهر لتسترَ جبينَها، فهي أول من اتخذها. [قال جَدِّي رحمه اللهُ في "المنتظم": ] (¬7) كانت [عُلَية] لا تشرب النَّبيذ، وتقول: ما حرَّم اللهُ شيئًا إلَّا وجعل فيما أحلَّ عوضًا عنه، فبماذا يحتج العاصي؟ ! ¬

_ (¬1) بل ذكر وفاته في سنة عشرين ومئتين. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) لم نقف عليه في تاريخه، والذي فيه - بأسانيده - أنه توفي سنة تسع عشرة أو عشرين ومئتين، ثم صحح الثاني، ولعل المصنِّف تابع جده ابن الجوزي في المنتظم 10/ 229 - 230. (¬3) في طبقاته 9/ 300. (¬4) في (خ): المهدي، والمثبت من (ب)، وهو الصواب. (¬5) في (خ): وغيرهم. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) 10/ 230، وما بين حاصرتين من (ب).

[قال: ] وكانت تقول: اللهمَّ لا تغفرْ لي حرامًا أتيتُه قطّ، ولا عزمًا على حرامٍ إن كنتُ عزمته، ولا استفزعني لهوٌ إلا ذكرتُ نسبي من رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقصَّرت عنه، ولا أقول ما أقول في شِعري إلَّا عبثًا. وكانت تدخل على الرشيدِ فيُكرمها ويأمرها بالحلوس معه على سريره فتأبى. وكانت تحبُّ المراسلةَ بالأشعار لمن تختصُّه [قال: ] فاختصَّت خادمًا للرشيد يقال له: طَلّ، فلم تره أيامًا، فمشت على ميزابٍ حتى أبصرتْه وقالت. [من مجزوء الكامل] قد كان ما كُلِّفتُه زمنًا ... يا طلُّ من وَجدٍ بكمْ يكفي حتى أتيتُك زائرًا عَجلًا ... أَمشي على حَتْفي إلى حَتْفي (¬1) فحلف عليها الرشيدُ ألا تكلِّم طلًّا ولا تسمِّيه باسمه، فضمنتْ له ذلك، فاستمع عليها يومًا وهي تقرأ: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265] [فقالت: فإن لم يصبها وابل، وإلّا] فالذي نهاني عنه أميرُ المؤمنين، فدخل الرشيد، فقبَّل رأسها ووهب لها طلًّا. وتزوَّجها موسى بنُ عيسى بن موسى بن محمدِ بن عليِّ بن عبدِ الله بن عباس (¬2). قال: وسببُ وفاتها أنَّ المأمونَ دخل عليها يومًا، فضمَّها إليه وقبَّل رأسها ووجهُها مغطًّى، فتأذَّت بذلك وشَرِقت وسَعَلت، ثم حُمَّت أيامًا وماتت [في هذه السَّنة عن خمسين سنة. وهذا الذي ذكره جدِّي في "المنتظم" (¬3). قلت: ] ولها ديوانٌ مشهورٌ، فمن ذلك: [من مجزوء الكامل] أَوقعتِ في قلبي الهوى ... ونجوتِ منه سالمهْ وبدأتِني بالوصل ثمَّ ... قطعتِ وَصْلِي ظَالِمَه (¬4) وقالت أيضًا: [من الكامل] اليأسُ (¬5) بين جوانحي يتردَّد ... ودموعُ عيني تستهل وتَنفَدُ ¬

_ (¬1) أشعار أولاد الخلفاء ص 56، والأغاني 10/ 163، والمنتظم 10/ 231. (¬2) كذا في (ب) و (خ) والمصادر، والذي في المنتظم 10/ 231 دون ذِكْر: ابن موسى. ينظر السير 10/ 187 - 188، ومصادر الترجمة ثمَّة. (¬3) 10/ 233 - 232. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) أشعار أولاد الخلفاء ص 64، والمنتظم 10/ 231. (¬5) في أشعار أولاد الخلفاء ص 75: الشوق، وما هنا موافق لما في المنتظم 10/ 231.

إنِّي لَأطمع ثم أَنهض بالمُنى ... واليأسُ يجذبني إليه فأَقعدُ وقالت أيضًا: [من السريع] أصابني بعدَك ضُرُّ الهوى ... واعتادني شوقٌ وإِقلاقُ قد يعلم اللهُ وحسْبي به ... أنِّي إلى وجهك مشتاقُ (¬1) وقالت أيضًا: [من الوافر] كتمتُ اسمَ الحبيبِ من العباد (¬2) ... وردَّدتُ الصَّبابةَ في فؤادي فيا شوقي إلى بلدٍ خَلِيٍّ ... لعلِّي باسمِ مَن أهوى أُنادي [وكان لها وكيلٌ يقال له: سباع، فكان يخونها في مالها ويتصدَّق به، فكتبت إليه تقول: [من الطويل] أَتسلبني مالي ولو جاء سائلٌ ... رققتَ له إن حطه نحوَك الفقرُ كشافِيَةِ المرضى بعائدة الزِّنى ... تؤمِّل أجرًا حيث ليس (¬3) لها أجر] وكتبت إلى بعض الرؤساءِ شفاعة: سألني -أعزَّك الله- فلانٌ أن أكتبَ إليك في حقِّه، ورأيت حقَّه عليك شامله كحقِّه عليَّ بقصده لي، ولستُ برعاية حرمتِه أولى منك بإسعاف طِلْبته، إذ كان ما يَمتُّ به إليَّ من جهة القصدِ يوازي ما يمتُّ به إليك من الثقة بالقَبول، وهو في نفسه من رجال الشُّكر، ومعادن الحمدِ والأجر، فإن حَسُنَ في رأيك أن تقضيَ حقِّي عليك بقضاء حقِّه، وتحققَ آماله بتحقيق رجائه، فإنَّه كالواصل إليّ، والمحسوبِ عليّ، وأن تهنِّئَني وإياه في إيصال معروفِك وتعجيله وتضاعف موقعه بتسهيله، فعلتَ موفَّقًا إن شاء الله تعالى (¬4). ولها (¬5) قصصٌ وأخبار [خشينا التطويل، والحمد لله وحده، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم]. ¬

_ (¬1) المنتظم 10/ 232. (¬2) كذا في (ب) و (خ)، والذي في المصادر: عن العباد. (¬3) في (ب): لا، وهو خطأ، والمثبت من أشعار أولاد الخلفاء ص 63، والأغاني 10/ 183. (¬4) من قوله: وكتبت إلى بعض الرؤساء شفاعة .. إلى هنا، لم يرد في (ب). (¬5) في (خ): ولعُليَّة. وما سيرد بين حاصرتين من (ب).

ميخائيل بن جرجس

ميخائيل بن جُرجُس ملكُ الروم. كان ملكُه تسعَ سنين، ولمَّا مات، ملك بعده ابنُه توفيل. وقيل: كان ذلك في سنة تسعٍ ومئتين (¬1). [وفيها توفي هَوْذة بن خليفة ابن عبد الله بن أبي بكرة، أبو الأشهب الثقفي البصري الحنفي. وأمه الزُّهرة بنت عبد الوحمن بن يزيد بن أبي بكرة. قال الخطيب: ولد هوذة سنة خمس وعشرين ومئة، وكان أطروشًا، وطلب الحديث وسمع الشيوخ، وكانت وفاته ببغداد في شوال في هذه السنة، ودفن خارج باب خراسان. أسند عن ابن عون وأبي حنيفة النعمان وابن جريج وسليمان التيمي، وكانت كتبه قد ذهبت، فلم يرو عنه إلَّا القليل، وروى عنه محمد بن سعد كتب الواقدي] (¬2). * * * ¬

_ (¬1) وهو الذي ذكرته المصادر دون غيره. انظر تاريخ الطبري 8/ 601، والمنتظم 10/ 209، والكامل 6/ 390، وتاريخ الإسلام 5/ 19، والبداية والنهاية 14/ 174. (¬2) قلت: إيراد ترجمته هنا خطأ، فوفاته في سنة ست عشرة ومئتين، وقيل: خمس عشرة. انظر طبقات ابن سعد 9/ 341، وتاريخ بغداد 16/ 146، وتهذيب الكمال، والسير 10/ 123.

السنة الحادية عشرة بعد المئتين

السَّنة الحاديةَ عشرة بعدَ المئتين فيها قدم السَّري بغدادَ لسبعٍ بقين من رجب، وأُنزل مدينةَ أبي جعفر، وأقام عبدُ الله بن طاهرٍ بمصرَ واليًا عليها وعلى الشام والجزيرة. [وقال طاهرٌ الغسَّاني: وفيها كتب المأمونُ إلى ابن طاهر: [من الهزج] أخي أنتَ ومولايَ ... ومَن أَشْكُرُ نُعْمَاهُ وقد ذكرنا الأبيات (¬1)]. وفيها قال رجلٌ من إِخوة المأمون: إنَّ عبدَ الله بن طاهرٍ يميل إلى آل أبي طالب، وكذا كان أبوه من قبله، فدسَّ المأمونُ رجلًا وقال: اذهب في زِيِّ النُّسَّاك إلى مصر، وادعُ [جماعة] (¬2) من كبرائها إلى القاسم بنِ إبراهيمَ بن طباطبا العَلَوي، واذكر ما فيه من الزُّهد والفضل، ثم صِر إلى ابن طاهرٍ فادعُه إليه ورغِّبه فيه، وائتني بما تسمع منه. ففعل الرجلُ ما أمره به، ثم جاء فقعد على باب عبدِ الله بن طاهر, فلمَّا خرج دفع إليه رُقعة، فدخل دارَه وقرأها واستدعى الرجل، فدخل عليه، فقال له: هاتِ ما عندك، قال: ولي أمانُك وذمَّة اللهِ معك؟ قال: لك ذلك. فدعاه إلى القاسم، وأخبره بزُهده وفضله، قال له عبدُ الله: أَتنصفني؟ قال: نعم، قال: هل يجب شكرُ اللهِ على العباد؟ قال: نعم، قال: هل يجب شكرُ بعضِهم لبعض عند الإحسانِ والتفضُّل؟ قال: نعم، قال: فتجيءُ إليَّ وأنا في هذه الحالِ التي (¬3) ترى, لي خاتَمٌ في المشرق وخاتَمٌ في المغرب، وفيما بينهما أمري مطاعٌ وقولي مقبول، ثم ما التفتُّ يمينًا ولا شِمالًا، ولا وراءً ولا قُدَّامًا، إلَّا أرى نعمةً لرجل أنعمها عليّ، ومنَّةً ختم بها رقبتي، ويدًا لائحة بيضاءَ ابتدأني بها تفضُّلًا وتكرُّمًا، تدعوني إلى الكفر بهذه النعمةِ لَهُذا الإحسان، وتقول لي: اغدُرْ بمن كان أوَّلًا لهذا الأمرِ وآخرِه، وَاسْعَ في سفك دمِه! أتراك لو ¬

_ (¬1) في أحداث سنة 210. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 615. (¬3) في (خ): الذي، والمثبت من تاريخ الطبري.

دعوتَني إلى الجنَّة عِيانًا فعلتُ ذلك، وكيف أكفر إحسانَه ومنَّته؟ ! فسكت الرجل، فقال له عبدُ الله: أما إنِّي قد بلغني خبرُك، وتاللهِ إنَّ أخوفَ ما أخاف عليك نفسُك، فارحل من هذا البلد. فخرج الرجلُ وأتى المأمونَ فأخبره، فاستبشر وقال: ذاك غَرس يدي، وإِلفُ أدبي. ولم يعلم ابنُ طاهرٍ بذلك إلَّا بعد موتِ المأمون. وأقام ابنُ طاهرٍ ظاهرَ مصرَ ولم يدخلْها، فقيل له في ذلك، فقال: قبَّح اللهُ همَّة فرعون، أيفتخر بقريةٍ من قرى الدنيا ويقول: أليس لي ملكُ مصر! واللهِ لا دخلتُها أَنفةً منه. ثم فرَّق في أهلها أربعةَ آلاف ألفِ دينار. وفيها كتب المأمونُ إلى ابن طاهرٍ بالقدوم عليه إلى بغداد، فقدم عليه ومعه المتغلِّبون على الشام؛ كابن أبي الصفر (¬1) وابنِ أبي الجمل وغيرِهما، وتلقَّاه الناس، فلم يتخلَّف عنه سوى المأمون. قال إسحاقُ بن إبراهيمَ الموصلي: لما ولَّى المأمونُ عبدَ الله بن طاهرٍ الجزيرةَ والشامَ ومصر، خرج بنفسه معه يودِّعهُ, وقد حلَّ من قلبه محلًّا عظيمًا, وقال له: قد حكَّمتك في الأموال والرجالِ والأمصار, فقال. يا أميرَ المؤمنين، حسبي منها حُسنُ رأيك بي، واعلم أنَّ نصر اللهِ لمن أنت وليُّه، فقبَّل المأمونُ ما بين عينيه وقال: لا يقرب مكانَك من قلبي أخٌ أَثير، ولا ابنُ عمٍّ خطير، فنزل ابنُ طاهرٍ وقبَّل ركابَه ثم ودَّعه، وسار ابنُ طاهر إلى الجزيرة، فأباد ألخوارجَ الذين كانوا بها، وجمع أموالها، وفتح الشامَ ومصر، ثم عاد إلى بغداد، فلمَّا قرب منها قال المأمون: لا يبقى أحدٌ من الأقارب ولا من غيرهم إلّا ويخرج لاستقبال عبدِ الله وتقبيلِ ركابه، وكان في الجماعة المعتصم والعباس بنُ المأمون، وبقي ذلك في قلب المعتصم، ولما ولي الخلافةَ قال لي: يا إسحاق، لقد غرس المأمونُ في قلب ابنِ طاهر شجرًا إن لم يُجتثَّ من أصله وإلَّا طالت فروعُه في الخلافة، فقلت: فما يمنعك؟ فتنفَّس الصعداء وقال. هيهاتَ هيهات! نَيلُ السماءِ أهونُ من ذلك، إنَّ معه من الأولياءِ مَن قد شاهد فعلَ المأمون معه, فلم تَخرج تلك الهيبةُ من قلوبهم، ثم تمثَّل: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في (ب): كأبي الصفر، وفي (خ): كأبي الشقر. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 618.

أبو العتاهية الشاعر

فإنْ تُمكن الأيامُ من حِيلتي به ... ترى ضيغمًا قد هرَّه بابُ ضيغمِ وإلَّا فهذا في الحشا غيرُ زائلٍ ... تذوب له نفسُ الشجاع المصمِّمِ ثم قال: إياك أن يشردَ عنك هذا الكلام، فإنَّه ينفعك. وفيها أمر المأمونُ مناديًا يناديَ: برئت الذمَّة ممَّن ذكر معاويةَ بن أبي سفيانَ بخير أو فضَّله على أحدٍ من الصحابة. وكتب إلى الآفاق بذلك، وأن أفضلَ العالمِ بعد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عليُّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -. [وحجَّ بالناس صالحُ بن العباسِ بن محمد بن عليّ، وكان على مكَّة. فصل] (¬1) وفيها توفي أبو العَتَاهِيَة الشاعر واسمه إسماعيلُ بن القاسم بن سُويد بن كَيسان، أبو إسحاقَ العَنَزي (¬2). أصله من عَين التَّمر، ونشأ بالكوفة، وسكن بغداد، وكان يقوك في الغَزَل والمدحِ والهجاء، ثم تنسَّك وصار يقول في الزُّهد والوعظ. [وأبو العتاهية لقب له واختلفوا لمَ سمِّي بأبي العتاهية، فقال أبو زكريا يحيى بنُ عليٍّ التَّبريزي (¬3): العتاهية من التعتُّه، وهو التحسُّن والتزيُّن، وقد كان يتحسَّن في شبابه ويتزيَّن. وقيل: إنما لقِّب بذلك لاضطرابٍ فيه، قال الجوهري (¬4): المعتوه: الناقص، والتعتُّه: التجنُّن والرُّعونة. وقال أبو عُبيد: وأبو العتاهية كُنيته. وأبو العتاهية شاعرٌ مشهور، انتشر شعرُه وسار ذِكره، وكان يحبُّ الخلاعة، ثم عدل إلى الحِكَم والرَّقائق. وذكر الخطيب (¬5) سببَ عدوله إلى المواعظ والزُّهدِ فقال: حدَّثنا أبو حنيفةَ المؤدِّبُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب) و (خ): العنبري، والمثبت من المصادر. انظر الشعر والشعراء 2/ 791، والأغاني 4/ 1، وتاريخ بغداد 7/ 226، والمنتظم 10/ 236، والوفيات 1/ 219، والسير 10/ 195. (¬3) في شرح ديوان الحماسة 4/ 54. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في الصحاح (عته). (¬5) في تاريخه 7/ 235.

بإسناده إلى] أبي سلمةَ الغَنَويِّ (¬1) قال (¬2): قلت لأبي العتاهِيَة: ما الذي صرفك عن الغزل إلى الزُّهد؟ فقال: إذن واللهِ أُخبرك، إني لمَّا قلت: [من المنسرح] اللهُ بيني وبين مولاتي ... أهدت (¬3) لي الصَّدَّ والمَلَالاتِ هيَّمني حبُّها وصيَّرني ... أُحدوثةً في جميع جاراتي رأيتُ في المنام تلك الليلةَ كأنَّ آتيًا أتاني فقال: يا إسماعيل، ما وجدتَ أحدًا يدخل بينك وبين عتبةَ يحكم لك عليها بالمعصية إلَّا اللهُ تعالى! تبًّا لك. قال: فانتبهت مذعورًا، وتبتُ إلى الله تعالى من ساعتي من قولي الغزل. [قلت: ] (¬4) وهذه عُتبةُ جارية المَهدي، كانت تخرج من دار المهدي مع الخدم فتشتري الدُّرَّ (¬5) والمصاغَ وغيرَه، فرآها أبو العتاهية، فهَويها وشبَّب فيها في شِعره. [وقد ذكرها الخطيبُ فقال (¬6): أخبرني ابنُ أيوبَ القُمِّي [بإسناده] (¬7) عن أبي شعيب أحمدَ بن يزيدَ قال: قلتُ لأبي العتاهية: يا أبا إسحاق، حدِّثْني بقصَّتك مع عتبة، فقال: نعم، قدمنا من الكوفة ثلاثة فتيانٍ شباب، وليس لنا ببغدادَ من نقصده، فنزلنا بالقُرب من الجسر في غرفة، وكنا نبكِّر في مسجدٍ بباب الجسر كلَّ غداة، فمرَّت بنا امرأةٌ راكبة ومعها خدَّام سودان، فقلنا: مَن هذه؟ فقالوا: خالصة، فقال أحدُنا: قد عشقتُها، وعمل فيها شعرًا، وأَعنَّاه. ثم لم يلبث إذ مرَّت امرأةٌ أخرى راكبة ومعها خدمٌ بيض، فقلنا: مَن هذه؟ فقالوا: عُتبة، فقلت: قد عشقتها، ولم أعملْ فيها شعرًا. فلم نزل كذلك كلَّ يومٍ إلى أن التأمت لنا أشعارٌ كثيرة، فدفع صاحبي شِعرَه إلى خالصة، ودفعت أنا شعري إلى عُتبة، وألححنا إلحاحًا شديدًا، فمرَّةً تُقبل أشعارُنا ومرَّة تُطرد، إلى أن أخذوا في طردنا. ¬

_ (¬1) في (ب) و (خ): العنبري، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬2) في (ج): قال أبو سلمة. (¬3) في تكملة الديوان ص 505: أبدت. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ): البر، والمثبت من (ب). (¬6) في تاريخ بغداد 7/ 230. وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) ما بين حاصرتين ليس في (ب)، وانظر تمام الإسناد في تاريخ بغداد.

فجلست عتبةُ يومًا في سوق الجوهر، فلبستُ ثيابَ راهبٍ وجلست إلى شيخٍ صائغ، وقلت له: قد رغبتُ في الإسلام على يد هذه المرأة، فقام معي ومعه جماعة، فقالوا: إنَّ الله قد ساق إليكِ أجرَ هذا الراهب، ويريد أن يسلمَ على يديك، فقالت: هاتوه، فدنوت منها وأسلمت، وقطعت الزُّنَّار وقبَّلت يديها، فعرفتني، فقالت: نحُّوه لعنه الله، فقالوا: قد أَسلمَ فلا تلعنيه، فقالت: إنَّما لعنته لقذره. فعرضوا عليَّ كسوة، فأبيت وقلت: إنَّما كان قصدي أن أتشرَّفَ بولائها. ثم انصرفتْ فشكت إلى خالصة، وقالت: ليس يخلو إمَّا أن يكونا مستأكِلَين أو عاشقين، فنحن نمتحنهما بمال، فإنْ قبلاه كانا مستأكلين، وإلَّا فهما عاشقان. فلمَّا كان من الغد، مرَّت خالصة، فتعرَّض لها صاحبي، فقالت له الخدم: اِتْبعنا، فتبعهم، فمرَّت عتبة، فقال لي الخدم: اتبعنا، فتبعتُهم، فمضت إلى منزل، ثم دعت بي وقالت: يا هذا، إنك شابٌّ وأرى بك أدبًا، وأنا حُرمةُ الخليفة، فإن أنت كففتَ وإلا أنهيتُ حالك إليه، ولا آمن عليك. قال: فقلت: أسألك بالله إلَّا فعلت (¬1)؛ فإنَّ سفكَ دمي أهونُ عليَّ مما أُقاسي في حبِّك، فقالت: لا تفعل، واتَّقِ الله في نفسك، وخذ هذه الخمسَ مئة دينارٍ واخرج عن هذا البلد. فلما سمعتُ ذِكرَ المال ولَّيت هاربًا، فقالت: ردُّوه، فردُّوني، وقلت: جُعلت [فداكِ] ما أصنع بعرضٍ من الدنيا وأنا [لا] (¬2) أراك! فقالت: خذ ألفَ دينار واخرج، فقلت: لو أعطيتيني جميعَ مالِ الخليفة ما كانت لي فيه حاجةٌ بعد أن لا أراك. ثم قمتُ وخرجت، وأتيت الغرفَة التي نزلنا بها، وإذا صاحبي مورَّمُ الأُذنين، وقد امتُحن بمثل ما امتُحِنْتُ به، فلما مدَّ يده إلى المال، أمرت خالصةُ بصفعه وضربه، وحلفتْ إن وقف لها بعد ذلك لَتودعنَّه الحبس، ثم التقتا فأخبرتها عتبةُ الخبر، فصحَّ عندها أني محبٌّ محقٌ. فلمَّا كان بعد أيام، دعتني عتبةُ فقالت: بحياتي عليك، إن كنتَ تحبُّني فخذ ما ¬

_ (¬1) في (ب): تفعلي. والمثبت من تاريخ بغداد. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد.

يعطيك الخادمُ فأَصلح به من شأنك، فقد غمَّني سوءُ حالك، فامتنعتُ، فقالت: ليس هذا مما تظنّ، ولكن لا أحبُّ أن أراك في هذا الزِّيّ، قال: فأخذت الصُّرَّةَ -وفيها خمسُ مئة دينار (¬1) - فغيَّرت من حالي. وهذا حديثٌ مختصر. وروى الخطيبُ بإسناده إلى] أشجعَ السُّلميِّ (¬2) قال (¬3): أذن [لنا] المهديُّ [و] للشُّعراء في الدُّخول عليه، فدخلنا، فأمرنا بالجلوس، فاتَّفق أن جلس إلى جانبي بشارُ بن برد، فقال: يا أشجع، مَن هاهنا؟ قلت: أبو العَتَاهية، قال: أَتراه يُنشد في هذا المحفل؟ قلت: ما أعلم، فقال له المهديّ: أنشِدْ، فأَنشد: [من المتقارب] ألا ما لسيِّدتي مالها فقال بشار: ويحك، رأيتَ أَجسرَ (¬4) من هذا يُنشد مثلَ هذا في هذا الموضع؟ ! فلمَّا بلغ إلى قوله: أتته الخلافةُ منقادةً ... إليه تجرِّر أَذيالها ولم تَكُ تصلح إلَّا له ... ولم يَكُ يَصلح إلَّا لها ولو رامها أحدٌ غيرُه ... لَزُلزلت الأرضُ زِلزالها ولو لم تُطعْه سَخًا بالنُّفوس (¬5) ... لَما قبل اللهُ أعمالها فقال له بشَّار: ويحك يا أشجع، هل طار الخليفةُ من الفُرُش؟ ! قال أشجع: فما انصرف أحدٌ من ذلك المجلسِ بجائزة غيرُ أبي العتاهية. و[حكى الخطيبُ (¬6) عن] العُتبيِّ قال (¬7): رُئي مروانُ بن أبي حفصةَ واقفًا بباب الجسر كئيبًا حزينًا أسفًا، ينكت بسَوطه في مَعْرَفة (¬8) دابَّته، فقيل له: يا أبا السِّمط، ما الذي بك؟ ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد: ثلاث مئة دينار. (¬2) في (ب) و (خ): الأسلمي، والمثبت من تاريخ بغداد 7/ 233. (¬3) في (خ): وقال أشجع ... ، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ب) و (خ): أحسن، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬5) في تاريخ بغداد: بنات النفوس، وفي تكملة الديوان ص 613: بنات القلوب. (¬6) في تاريخه 7/ 234 - 235. (¬7) في (ج): وقال العتبي. (¬8) الموضع الذي ينبت عليه العُرف. مختار الصحاح (عرف).

فقال: أُخبركم بالعَجَب، مدحتُ أميرَ المؤمنين، ووصفت له [ناقتي من خِطامها إلى خُفَّيها، ووصفت له الفيافي من اليمامة إلى بابه] (¬1) أرضًا أرضًا ورَمْلةً رَمْلة، حتى إذا أَشفيتُ منه على غنى الدَّهر، جاء ابنُ بيَّاعة الفخاخير -يعني أبا العَتاهية- فأنشده بيتين، فضعضع بهما شِعري وسوَّاه في الجائزة بي، قيل: وما البيتان؟ فأنشد: [من الكامل] إنَّ المطايا تشتكيك لأنَّها ... قطعتْ إليك سَبَاسِبًا ورِمالا فإذا رَحَلْنَ بنا رَحَلْنَ مُخِفَّةً ... وإذا رجعْن بنا رجعن ثِقالا (¬2) [وحدَّثنا غيرُ واحد: حدَّثنا إسماعيلُ بن أحمدَ السمرقنديُّ بإسناده إلى أبي الحسين بنِ المنادي قال: أنشدني يوسفُ بن يعقوبَ لأبي العَتَاهية] (¬3) [من الخفيف] كم يكون الشتاءُ ثم المَصِيفُ ... وربيعٌ يمضي ويأتي خريفُ وانتقالٌ من الحَرور إلى الظِّلِّ ... وسيفُ الرَّدى عليك مُنيف يا قليلَ البقاءِ في هذه الدا ... رِ إلى كم يَغرُّك التسويفُ عجبًا لامرئٍ يذلُّ لذي دُنـ ... ــــيا (¬4) ويكفيه كلَّ يومٍ رغيفُ و[روى ابنُ ناصرٍ بإسناده إلى أبي بكرٍ الأُموي قال: ] (¬5) قال الرشيدُ لأبي العتاهية: الناسُ يزعمون أنك زِنديق، فقال: يا أمير المؤمنين كيف أكون زنديقًا وأنا الذي أقول: [من الخفيف] أيا عَجَبًا كيف يُعصى الإلـ ... ـــــــهُ أم كيف يجحده الجاحدُ ولله في كلِّ تسكينةٍ ... وفي كل تحريكةٍ شاهد (¬6) وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ... تدلُّ على أنَّه واحد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وورد فيها: يافة، بدل: بابه. والمثبت من المصادر. (¬2) تكملة الديوان ص 606. (¬3) في (خ): ومن شعره، وانظر المنتظم 10/ 241. (¬4) في تكملة الديوان ص 580: لمخلوق. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر المنتظم 10/ 241. (¬6) رواية الديوان ص 104. ولله في كل تحريكة ... علينا وتسكينة شاهد

و [روى الصُّولي عن] هارونَ بن سعدٍ قال (¬1): كنتُ جالسًا مع أبي نُواس في بعض طرقِ بغداد، وبنو هاشمٍ والأشرافُ يمرُّون به ورِجلُه ممدودة، فيسلِّمون عليه، وما يلتفت وما يكفُّ رِجلَه، إذ أقبل شيخُ على حمارٍ وعليه رداء، فقام إليه أبو نُواس وعانقه وجعل يحادثه، وأطال الوقوف، وجعل يرفع إحدى رِجلَيه ويضع الأخرى من الإِعياء، فلما انصرف الشيخُ قلت لأبي نُواس: مَن هذا الشيخُ الذي عظَّمتَه هذا التعظيمَ وأجللتَه هذا الإِجلال؟ ! فقال: هذا أبو العَتَاهية، فقلت: فأنت عند الناسِ أكبرُ منه! فقال: مَهْ، فواللهِ ما رأيته قطُّ إلَّا وتوهَّمتُ أنه سماويٌّ وأنا أرضيّ. وقال أبو تمَّام الطائي: قد قال أبو العَتَاهية شِعرًا لم يَشركْه أحدٌ فيه، منه [قولُه في موسى الهادي: ] [من المتقارب] ولمَّا استقلُّوا بأثقالهمْ ... وقد أَزمعوا بالذي (¬2) أَزمعوا قرنتُ التفاتي بآثارهمْ ... وأَتْبعتهمْ مُقلةً تدمعُ ومنه: [من الوافر] هَبِ الدُّنيا تُساق إليكَ عفوًا ... أليس مصيرُ ذاك إلى زوالِ (¬3) ومنه: [من مجزوء الكامل] الناسُ في غَفَلاتهمْ ... ورحى المنيَّة تَطحنُ (¬4) ومنه: [من الطويل] ألم ترَ أنَّ الفقرَ يُرجَى له الغِنى ... وأنَّ الغنى يُخشى عليه من الفقرِ (¬5) ومنه: [من الطويل] وإنِّي لَمشتاقٌ إلى ظِلِّ صاحبٍ ... يروقُ ويصفو إنْ كَدَرتُ عليهِ (¬6) [وهذا البيتُ له قصَّة نذكرها في ترجمة المأمون. ¬

_ (¬1) في (ج): وقال هارون بن سعد. (¬2) في تكملة الديوان ص 574: للذي. (¬3) الديوان ص 297. (¬4) الديوان ص 381. (¬5) وينسب أيضًا لدعبل. انظر ديوانه ص 449 - 450، وديوان أبي العتاهية ص 145. (¬6) الأغاني 11/ 346، والتذكرة الحمدونية 9/ 40.

وقال الصُّولي] (¬1): وقف أبو العتاهيةِ بباب رجل، فحجبه، فقال: [من الطويل] لَئن عدتُ بعد اليومِ إني لَظالمٌ ... سأصرفُ وجهي حيث تُبغَى المكارمُ متى يظفرُ الغادي إليك بحاجةٍ ... ونصفُك محجوبٌ ونصفُك نائم (¬2) وقال: [من البسيط] يا مَن تشرَّف بالدنيا وزينتِها ... ليس التشرُّفُ رفعَ الشِّيدِ والطينِ (¬3) إذا أردتَ شريفَ الناسِ كلِّهمِ ... فانظرْ إلى مَلِكٍ في زِيِّ مسكين ذاك الذي عَظُمَت في الله نعمتُه ... وذاك يصلح للدُّنيا وللدِّين وكان أبو العَتَاهية مع فضلِه إذا سمع شعرًا رائقًا ولفظًا فائقًا يعترف بفضل قائِله، ويبكي بكاءَ مَن أُصيبت مقاتلُه. ذكرُ وفاته: [روى الخطيبُ عن] (¬4) أحمدَ بن عليِّ بن مرزوقٍ قال (¬5): دخلتُ عليه وهو يجود بنفسه ويقول: [من مجزوء الكامل] يا نفسُ قد مثَّلتُ حا ... لي هذه لكِ منذ حينِ وشككتِ أنِّي ناصحٌ ... لكِ فاشتملتِ على الظُّنونِ (¬6) فتأمَّلي ضعفَ الحَرا ... كِ وكَلَّه بعدَ السُّكونِ وتيقَّني أنَّ الذي ... بكِ من علامات المنونِ و[اختلفوا في وفاته، فقال الخطيب: ] (¬7) مات سنة إحدى عشرةَ ومئتين ببغداد يومَ الخميس لتسعٍ (¬8) خلونَ من جُمادى الآخرة، ودُفن على جانب نهرِ عيسى قُبالةَ قنطرة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) تكملة الديوان ص 633. (¬3) في الديوان ص 392: رفع الطين بالطين. (¬4) في تاريخه 7/ 236 - 237. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ): قال أحمد بن علي بن مرزوق. (¬6) في تكملة الديوان ص 657، وتاريخ بغداد: فاستلمت إلى الظنون. (¬7) في تاريخه 7/ 237. وما بين حاصرتين من (ب). (¬8) في تاريخ بغداد: يوم الاثنين لثمان ليال ...

عبد الرزاق بن همام بن نافع

الزيَّاتين. وقيل: مات سنةَ اثنتي عشرة (¬1). وقيل: ثلاثَ عشرةَ ومئتين وله تسعون سنة (¬2). وقال [الخطيب (¬3): حدَّثني عبدُ العزيز بن عليّ الورَّاق قال: سمعتُ عُبيد الله (¬4) بنَ أحمد المقرئَ يقول: سمعت محمدَ بن مَخلدٍ العطارَ يقول: سمعت] إسحاقَ بن إبراهيمَ البغويَّ [يقول: ] قرأتُ على قبر أبي العتاهية: [من مجزوء الخفيف] أُذْنَ حيٍّ تسمَّعي ... اسمعي ثم عِي وعِي أنا رهنٌ بمصرعي ... فاحذري مثلَ مَضجحي (¬5) عشتُ تسعين حِجَّةً ... ثم فارقتُ مَجمعي ليس زادٌ سوى التُّقى ... فخُذي منه أو دَعي [وفيها توفي] (¬6) عبدُ الرزاق بن همَّام بنِ نافع أبو بكرٍ الصَّنعاني الحِميَري، مولًى لحمير [ذكره ابنُ سعد] (¬7) في الطبقة الرابعةِ من أهل اليمن. وقيل: مات باليمن في النِّصف من شوال سنةَ إحدى عشرةَ ومئتين. [هذا صورةُ ما قاله ابنُ سعد، وقال غيره: ] ولد في سنةِ ستٍّ وعشرين ومئة، وهو من الأبناء من اليمن. [ذِكر طَرفٍ من أخباره: ] (¬8) حكى عبدُ الله بنُ الإمام أحمدَ بن حنبل عن أبيه حديثَ رحلته إلى عبد الرزاق فقال: حدَّثني أبي فقال: قدمتُ صنعاءَ أنا ويحيى بنُ مَعين وأبو خيثمةَ زهيرُ بن حرب، وكنَّا ¬

_ (¬1) لم نقف على هذا القول، وفي الأغاني 4/ 111 قولان آخران: سنة تسع ومئتين، وسنة عشر ومئتين. (¬2) في السير 10/ 197: وله ثلاث وثمانون سنة أو نحوها. (¬3) في تاريخه 7/ 237 - 238. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ب): محمد بن عبد الله. والمثبت من تاريخ بغداد. (¬5) في تاريخ بغداد: أنا رهنٌ بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) في طبقاته 8/ 108. وما بين حاصرتين من (ب). (¬8) ما بين حاصرتين من (ب).

قد حججنا في ذلك العام، فلما أتينا منزلَ عبدِ الرزاق وكان بقريةٍ يقال لها: الرَّمادة، وتخلَّف يحيى بنُ معين، فلما جئت منزلَه ذهبت لأدقَّ الباب، فقال لي رجل: لا تدقّ؛ فإنَّ الشيخ مَهيب. فجلستُ من العصر إلى المغرب، فخرج، فقمتُ إليه وفي يدي أحاديثُ قد انتقيتُها، فسلَّمت عليه وقلت له: حدِّثني بهذه الأحاديثِ فأنا رجلٌ غريب، فقال: مَن أنت؟ قلت: أحمدُ بن حنبل، قال: أبو عبدِ الله؟ قلت: نعم، فضمَّني إلى صدره، وصلَّى المغرب، وقرأتُ عليه الأحاديث، فسلَّم إليَّ مفتاحَ البيت الذي فيه كتبُه وقال: أنت أمينُ اللهِ على هذه الكتب، فهذا بيتٌ ما دخله غيري منذ ثمانين سنة. قال الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه: فكتبتُ عنه ثلثي العلم، وجاء ابنُ معينٍ وأبو خيثمة، فأنزلنا وأكرمنا، وخصَّني من دونهم ببيته الذي فيه الكتب، وكان قد كتب إليه أصحابُه من مكَّة: قد قدم عليك الحفَّاظ، فانظر كيف تكون. وكان عبدُ الرزاق يقول: كتب عني ثلاثةٌ لا أبالي مَن لا يكتب عني غيرَهم: أحمدُ بن حنبل، وابنُ معين، والشاذَكُوني، فأحمد أزهدُ الناس، وابن مَعينٍ أَعرفُهم بالرجال، والشاذكونيُّ أحفظُ الناس. [وروى الحافظ ابنُ عساكر عن] (¬1) فيَّاض بن زهيرٍ النَّسائي قال (¬2): قدمنا على عبد الرزَّاق، فامتنع علينا، فتشفَّعنا إليه بامرأته، فلمَّا دخلنا عليه قال: تشفَّعتم إليَّ بمن يبيت معي في فراشي! ثم أنشد: [من البسيط] ليس الشفيعُ الذي يأتيك متَّزرًا ... مثلَ الشفيعِ الذي يأتيك عُريانا (¬3) [وفي روايةٍ (¬4) أنَّه قال لهم: أما سمعتم قولَ عمرو بن معدي كَرِب: [من الوافر] إذا لم تستطعْ أمرًا فدعْهُ ... وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ وحدَّثنا غيرُ واحدٍ عن إسماعيلَ بن أحمدَ بإسناده إلى إبراهيمَ بن عبدِ الله بن همامٍ ¬

_ (¬1) في تاريخه 42/ 213. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ج): وقال فياض بن زهير النسائي. (¬3) البيت للفرزدق، انظر الشعر والشعراء 1/ 477، والأغاني 21/ 287. (¬4) انظر تاريخ دمشق 42/ 213. وما بين حاصرتين من (ب).

قال: سمعتُ] عبدَ الرزاق يقول (¬1): حججتُ فقدمت المدينة، الدخولَ على مالك بنِ أنس، فحجبني ثلاثةَ أيام، ثم أذن للنَّاس, فدخلت معهم, وإذا به جالسٌ على الخزِّ يتقلب في فُرُش الحرير، فقلت: حدَّثني مَعمر، عن الزُّهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ في جهنَّمَ رحًى تطحن جبابرةَ العلماءِ طحنًا" فقال مالك: مَنْ هذا الذي يروي عن معمر؟ ! فقلت: أنا عبدُ الرزاق بن همَّام، فقال: با أبا بكر، وإنَّك لَهُو! واللهِ ما علمتُ بقدومك، ولو علمت لتلقَّيتك. ثم أخرج إليَّ كتبَه فكتبت منها. [وقد أخرج ابنُ عساكرٍ الحافظُ هذا الحديثَ في تاريخه (¬2) وقال: هذا الحديثُ في إسناده إبراهيمُ بن عبد اللهِ بن همَّام، كان كذَّابًا. قلت: هذا الحديث وإن كان ضعيفًا فمعناه صحيح، ودلَّت عليه الأخبار] (¬3). وقال عبدُ الرزاق: كان أحمدُ بن حنبلٍ يكتب مني الحديث، وابنُ مَعين يكتب الحديثَ والشِّعر، فأنشدتُ يومًا: [من السريع] كنْ موسِرًا إن شئتَ أو معسِرًا ... لا بدَّ في الدنيا من الهمِّ وكلَّما زادك من نعمةٍ ... زاد الذي زادك من غَمِّ (¬4) فكتبهما أحمدُ بن حنبل عنِّي. [ذِكر وفاته: حكينا عنَ ابن سعدٍ أنَّه قال: مات عبدُ الرزاق في نصف شوَّال من هذه السَّنة. قال (¬5): ولأبيه همَّام بن نافعٍ رواية، روى عن سالم بنِ عبد الله وغيرهِ. وقال أحمدُ بن حنبل: مات عبدُ الرزاق وله ستٌّ وثمانون سنة]. أسند عبدُ الرزاق عن الأوزاعيّ [وسعيدِ بن عبد العزيز، ومحمد بن راشدٍ المكحولي، وإسماعيلَ بن عيَّاش، ومالك بن أنس، وسفيانَ الثوري، وثورِ بن يزيد، ¬

_ (¬1) في (ج): وقال عبد الرزاق. (¬2) 42/ 214 - 215. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) إلَّا أن ما نسب فيه إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى من التقلب على فرش الحرير, مُنكَر ليس بصحيح. (¬4) تاريخ دمشق 42/ 211. (¬5) في طبقاته 8/ 108. وما بين حاصرتين من (ب).

ومَعْمر بن راشد، وابن جُرَيج وعبد الرحمن بن زيدِ بن أسلم، وقيسِ بن الربيع، وابن عُيينة، وأيمن بن نابِل] (¬1) وخَلقٍ كثير. وروى عنه الإمامُ أحمد بنُ حنبل، وابن مَعين [وأبو خَيثمة] وابن راهُويه [والشاذَكوني، ومحمدُ بن يحيى الذُّهْلي، وابنُ المَديني وغيرُهم في آخرين. قلت: ] (¬2) وقد تكَّلموا فيه بعلَّة ذهابِ بصره [روى الحافظ ابنُ عساكرٍ (¬3) عن أحمدَ بن حنبل قال: أتيناه قبل المئتين وهو صحيحُ البصر، ثم ذهب بصرُه بعد ذلك، فمن سمع منه قبلَ ذهابِ بصره فهو صحيح، أما بعدَ ذهابِ بصره فضعيفُ السَّماع. وقال ابنُ عساكر: كان عبدُ الرزاق أحدَ الثِّقات المشهورين، قدم الشامَ، وسمع من زكريا (¬4). وضعَّفه النَّسائي بعلَّة ذهابِ بصره (¬5). وقال أحمدُ العِجلي: كان عبدُ الرزاق ثقةً] وكان يتشيَّع فلا يرى تقديمَ عثمانَ على عليٍّ - رضي الله عنهما - (¬6). [وذكروا يومًا عنده معاوية، فقال: لا تقذِّروا مجلسَنا بِذكره. قال [عبدُ الله بن] (¬7) أحمدَ بن حنبل: وسألتُ أبي عن هذا فقال: أمَّا أنا فلم أسمعْ منه هذا، ولم أسمعْ منه شيئًا من هذا]. وقال أبو زكريا غلامُ أحمدَ بنِ أبي خيثمة: كنتُ جالسًا في مسجد الرُّصافة وفيه ابنُ معين، فجاءه رسولُ أحمدَ بن حنبلٍ فقال له: أخوك أحمدُ يسلِّم عليك ويقول: إنك تُكثر الحديثَ عن عُبيد الله بنِ موسى العَبْسي، وأنت وأنا سمعناه يتناول معاويةَ بن أبي سفيان، وقد تركتُ الحديثَ عنه. فقال ابنُ معين: سلِّم على أبي عبدِ الله وقل له: أنا وأنت سمعنا عبدَ الرزاقِ يتناول عثمان، فاترك الحديثَ عنه؛ فإنَّ عثمانَ أفضلُ من معاوية. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخه 42/ 206. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) كذا في (ب)، وفي تاريخ دمشق 42/ 197: قدم الشام تاجرًا وسمع بها الأوزاعي وسعيد بن بشير، وذكر أخَرين، ولم يرد فيهم ذِكْر لزكريا، ولعلَّه زكريا بن إسحاق المكي، كما في تهذيب الكمال. (¬5) انظر كتاب الضعفاء والمتروكين ص 70. (¬6) ينظر الثقات للعجلي ص 302. (¬7) ما بين حاصرتين ساقط من (ب)، وانظر تاريخ دمشق 42/ 222.

معلى بن منصور

ثم قال ابن مَعين: واللهِ لقد سمعتُ من عبد الرزاق أنا وأحمدُ بن حنبلٍ أعظمَ مما سمعتُ من العبسي، ولكن خاف أَحمدُ أن تذهبَ رحلتُه إلى عبد الرزاق. قال المصنِّف رحمه الله: ولم يرجع ابنُ مَعينٍ عن الرِّواية عن عبد الرزاق؛ لأجل الرِّحلة، وقال: ولو ارتدَّ ما تركنا حديثَه. وقال أبو أحمدَ بنُ عَدِي: كان عبدُ الرزاق ثقةً كثيرَ الحديث، رحل إليه الأئمَّة، إلَّا أنهم نسبوه إلى التشيُّع، وروى أحاديث في الفضائل أَنكرها عليهُ الحفَّاظ, فهذا أعظمُ ما رمَوه به (¬1). وكان (¬2) عبدُ الرزاق يقول: أخزى اللهُ سِلْعَةً لا تَنفق [إلَّا] (¬3) في آخر العُمر بعد الكِبَر والضَّعف، حتى إذا بلغ الرجلُ مئةَ سنةٍ كتبوا عنه, فإما أن يقال: كذَّاب، فيُبطلون حديثَه، وإما أن يقال: مبتدع, فيبطلون عِلمَه، وما أقلَّ مَنْ ينجو من ذلك. [وفيها توفي] مُعلَّى (¬4) بنُ منصور أبو يعلى الرازيُّ الحنفي [صاحبُ أبي يوسفَ ومحمد, وذكره ابنُ سعدٍ (¬5) فيمن نزل بغدادَ من الفقهاء، قال: وطلب الحديث. وقال الخطيب (¬6): نزل قطيعةَ الربيعِ بالكَرخ, وأثنى عليه. أخذ الفقهَ عن أبي يوسف] سُئل عن القرآن فقال: مَنْ قال: إنَّه مخلوق فهو كافر، وطُلب للقضاء [مِرارًا] فامتنع. [وقال الخطيبُ بإسناده إلى إبراهيمَ بن سعيدٍ قال: أحضر المأمونُ موسى بنَ ¬

_ (¬1) الكامل 5/ 1952. وليس فيه: كان عبد الرزاق ثقة. (¬2) في (ب): وقال النسائي: كان عبد الرزاق ... ولم نقف على الخبر عن النسائي بل أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 42/ 215 - 216 عن سلمة بن شبيب، عن عبد الرزاق, بهُ. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) وتاريخ دمشق 42/ 215، وتنظر ترجمته أيضًا في السير 10/ 365، وتهذيب الكمال. (¬4) في (خ): يعلى، والمثبت من (ب)، وما بين حاصرتين منه. (¬5) في طبقاته 9/ 344. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في تاريخه 15/ 249.

سليمان (¬1) الجُوزجاني ومعلَّى الرازي، فعرض على موسى القضاءَ فامتنع، فأقبل على معلَّى فقال له مثلَ ذلك، فقال: لا أصلح، قال: ولمَ؟ قال: لأني رجلٌ أُداين، فأنا بين مطلوبٍ وطالب، قال: نأمر بقضاء ديونِك وتتقاضى ديونَك، فمن أعطاك قبلنا منه، ومن لم يُعطِك عوَّضناك بمالك عليه، قال: ففيَّ شكوكٌ في الحكم، وفي ذلك تلفُ أموالِ الناس، قال: يحضر مجلسَك أهلُ الدِّين إخوانُك، فما شككتَ فيه سألتهم عنه، وما صحَّ عندك أمضيتَه، فقال: يا سبحانَ الله! فأنا أرتاد منذ أربعين سنةً رجلًا أُوصي إليه فما أقدر عليه، فمن أين أجد مَن يُعينني على قضاء حقوقِ الله الواجبةِ حتى أأتمنَه! أعفني. فأعفاه. وروى الخطيبُ (¬2) عن ابن مَعينٍ قال: ] كان معلى يومًا يصلِّي، فوقع على رأسه كُورُ الزَّنابير، فما التفَتَ ولا انفتلَ حتى أتمَّ صلاته، فنظر، فإذا رأسُه قد صار هكذا من شدَّة الانتفاخ. و[قال خليفةُ (¬3) والخطيب (¬4): ] مات [المعلَّى] ببغدادَ سنةَ إحدى عشرةَ أو اثنتي عشرةَ ومئتين. [وقال الخطيب] (¬5): حدَّث [ببغدادَ] عن مالك بنِ أنس [والليثِ بن سعد، وأبي عَوَانة، وشريكٍ القاضي، وابن لَهِيعة، وموسى بن أَعْيَن، ويحيى بنِ زكريا بنِ أبي زائدة، وأبي بكرٍ بن عياش، وهُشَيم] وغيرهم (¬6). وروى عنه ابنُ المديني وغيرُه، ولم يسمع منه الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه، وكان في قلبه غُصَص من أحاديثَ ظهرت على الملأ كان يحتاج إليها، وإنَّما لم يسمع منه لأنَّه كان يكتب الشُّروط، وكاتبُها لا يخلو من التزيُّد في الكلام، فتورَّع الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه عنه على عادته، فإنَّه كان ينظر في باب الورع. ¬

_ (¬1) في (ب): سعيد، والمثبت من تاريخ بغداد 15/ 27. (¬2) في تاريخه 15/ 248. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في طبقاته ص 329. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في تاريخه 15/ 249. (¬5) في تاريخه 15/ 246. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ): وغيره.

موسى بن سليمان الجوزجاني

واتَّفقوا على أنَّه كان ثقةً صدوقًا، صاحبَ فقهٍ وسنَّة، نبيلًا جليلًا، كثيرَ الحديث صحيح السَّماع [كتب عنه الأئمَّة والحفَّاظ، وذكره الحافظُ ابن عساكرٍ فقال (¬1): قدم دمشقَ وسمع يحيى بنَ حمزة، وصَدَقة بنَ خالد، وأبا عَوَانة، وأبا يوسفَ القاضي. وذكر بعضَ مَن ذكرنا، قال: وقال البخاريّ: دخلنا عليه سنةَ عشرٍ ومئتين، كذا ذكر في "التاريخ الصغير" (¬2) ولم يُخرِّج عنه في "الصحيح"، وإنَّما خرَّج عن رجلٍ عنه]. موسى بنُ سليمانَ الجُوزجانيّ أبو سليمان، الفقيهُ الحنفي. [كان] (¬3) فقيهًا بصيرًا بالرأي، ويذهب مذهبَ أهل السنَّة، وكان صدوقًا. عرض عليه المأمونُ القضاء، فقال: يا أميرَ المؤمنين، احفظ حقوقَ اللهِ في القضاء، ولا تولِّ على أمانتك مثلي؛ فإني واللهِ غيرُ مأمون الغضب، ولا أرضى نفسي لله أن أحكمَ في عباده. فقال: صدقتَ وقد أعفيناك. وكانت وفاتُه ببغداد. أسند عن ابن المباركِ وغيره، واتَّفقوا على دينه وورعِه وثقته وصدقِه رحمةُ الله عليه. * * * ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 17/ 21 (مخطوط). وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ذكره في تاريخه الصغير والكبير، ولم نقف فيهما على هذا الكلام. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 15/ 26، والمنتظم 10/ 246، وتنظر ترجمته أيضًا في السير 10/ 194، وتاريخ الإسلام 5/ 468 - 469.

السنة الثانية عشرة بعد المئتين

السَّنةُ الثانيةَ عشرةَ بعد المئتين فيها أَظهر المأمونُ القولَ بخلق القرآن، ولم يسبقْه إلى هذا أحد، وثارت الفتنُ في الدنيا، واشمأزَّت قلوبُ الخواصِّ والعوامِّ منه، وامتحن العلماءَ، وآذاهم وضربهم وسجنهم ونفاهم. وقويت شوكةُ الخوارج. وخلعه أحمدُ بن محمدِ العمريُّ باليمن، ويعرف بالأحمر العين، فبعث إليه محمدَ بن عبدِ الحميد [ويعرف بأبي (¬1) الرازي]. واشتدَّت شوكةُ بابك، فأغار على البلاد، فبعث إليه المأمونُ محمدَ بن حُميد (¬2) الطوسيَّ لمحاربته. وفيها في ربيعٍ الأوَّل كتب المأمونُ إلى الآفاق بتفضيل علي بن أبي طالبٍ رضوانُ الله عليه على جميع الصحابة، وقال: هو أفضلُ الناسِ بعد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيها توجَّه المأمونُ إلى دمشقَ فصام بها رمضان. وصلَّى بالناس عيدَ الفطر عبدُ الله بن عُبيد الله بنِ العباس بن محمد بن علي بن عبد اللهِ بن عباس، ثم توجَّه فحجَّ بالناس. وفيها توفي أحمدُ بن أبي خالدٍ أبو العباس، وزيرُ المأمون (¬3)، كان أبوه كاتبًا لأبي عبدِ الله وزيرِ المهدي. وكان أحمدُ فاضلًا مدبِّرًا جَوَادًا، ذا رأيٍ وفطنة، إلَّا أنه كانت له أخلاق وفَظَاظة، قال له رجلٌ يومًا: واللهِ لقد أُعطيتَ ما لم يُعطَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: واللهِ لئن لم تخرجْ ممَّا قلتَ لأعاقبنَّك، فقال: قال اللهُ تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وأنت فظٌّ غليظُ القلب وما ننفضُّ من حولك. ¬

_ (¬1) في (ب): بابن، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 619، وابن الأثير 6/ 408. (¬2) في (خ): حسين، والمثبت من (ب)، وهو الموافق للمصادر. (¬3) تنظر ترجمته في مختصر تاريخ دمشق 3/ 326 - 327، والمنتظم 10/ 243 - 244، والسير 10/ 255 - 256، والوافي 8/ 272 - 274.

إسماعيل بن حماد

ومازح أحمدُ يومًا ثُمامةَ بن أشرسَ في دار المأمونِ بمحضرٍ من الناس فقال: يا ثُمامة، كلُّ مَن ها هنا له معنًى إلَّا أنت، فإنَّك لا معنى لك، فقال ثُمامة: بلى، معناي أنَّني أُشاوَر في مثلك هل يصلح للوزارة أم لا. وكان المأمونُ قد سأل ثمامةَ أن يليَ له الوزارةَ فأبى، فقال: أَشِر عليّ، فقال: أحمدُ بن أبي خالد، يقوم بالأمر حتى ينظرَ أميرُ المؤمنين فيمن يصلح. وقال إبراهيمُ بن العباس: دخلتُ على أحمدَ وقد ألحَّ عليَّ الهمّ، فترنَّمت وقلت: [من الهزج] أرى الموتَ لمن أَمسى ... على الذُّلِّ له أصلحْ أَلَا [يا] (¬1) أيُّها القلبُ الـ ... ــذي بالهمِّ قد يَطفحْ إذا ضاق بك الأمرُ ... ففكِّر في ألم نَشرَحْ فإنَّ العُسرَ مقرونٌ ... بيُسرَينِ فلا تَبْرَحْ قال: فزال همِّي فسُورت. ومات يومَ الاثنين لعشرٍ خلونَ من ذي الحِجَّة سنةَ إحدى عشرةَ ومئتين، وقيل: سنةَ اثنتي عشْرة، وصلَّى عليه المأمون، فلما دُلِّي في قبره ترحَّم عليه وقال: يا أحمد، كنتَ واللهِ كما قال الشاعر: [من الطويل] أخو الجِدِّ إن جَدَّ الرِّجال وشَمَّروا ... وذو باطلٍ إن كان في القوم باطلُ (¬2) [وفيها توفي] إسماعيلُ بن حمَّاد (¬3) ابنِ أبي حنيفةَ النعمانِ بن ثابت [وكُنيته] أبو عبدِ الله، وقيل: أبو حيَّان. كان عالمًا زاهدًا عابدًا وَرِعًا، وكان المأمونُ يثني عليه [وسنذكره في ترجمته]. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين لضرورة الوزن، وانظر الفرج بعد الشدة 1/ 107، وبهجة المجالس 1/ 183. (¬2) المنتظم 10/ 244، والوافي 8/ 274. (¬3) تنظر ترجمته في تاريخ بغداد 7/ 216 - 218، والجواهر المضية 1/ 400 - 403، وباقي مصادر ترجمته ثمَّة.

وقال [الخطيبُ (¬1) بإسناده إلى] محمدِ بن عبد اللهِ الأنصاريِّ [أنه قال: ] ما وَلِيَ القضاءَ من لَدُنْ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى اليوم مثلُ إسماعيل [بن حمادِ بن أبي حنيفة] فقيل له: ولا الحسن [البصريّ؟ ! فقال: لا واللهِ، ولا الحسن. وقال الخطيب (¬2): كان إسماعيلُ بن حمَّاد أحدَ الفقهاء على مذهب جدِّه أبي حنيفة] وكان ولي القضاءَ بالجانب الشرقيِّ من بغدادَ سنةَ أربعٍ وتسعين ومئةٍ بعد محمدِ بن عبد اللهِ الأنصاري، فأقام مدَّة، ثم صُرف وولِّي قضاءَ البصرة [في سنة عشرٍ ومئتين] لمَّا عُزل يحيى بنُ أكثمَ عنها، ثم عُزل عنها بعد سنةٍ بعيسى بنِ أَبَان. [قال الخطيب: ولما عُزل إسماعيلُ عن البصرة [شيَّعه (¬3) أهلُها ودعَوا له، وقالوا: عففتَ عن أموالنا ودمائنا، فقال: وعن أبنائكم. يعرِّض بيحيى بنِ أكثم (¬4). وفي رواية ابنِ يحيى: لما عُزل عن البصرة وخرج عنها، التقى إسماعيلَ بن حماد وهو داخل، فوقف ابنُ أكثمَ يُثني عليه ويقول: واللهِ يا أهلَ البصرة ما وليكم مثل إسماعيلَ العفيفِ عن أموالكم ودمائكم، فقال إسماعيل: وعن أولادهم. فوجم يحيى. وقيل: كانت الواقعةُ بالكوفة. [وحكى الخطيب (¬5) عن] إسماعيلَ قال (¬6): ما ورد عليَّ مثلُ امرأةٍ تقدَّمت إليَّ فقالت: أعزَّ اللهُ القاضي، إنَّ ابن عمِّي زوَّجني من هذا ولم أعلم، فلما علمتُ رددتُ، فقلت لها: متى رددتِ؟ فقالت: وقتَ ما علمت. قلت: ومتى علمت؟ قالت: وقتَ ما رددت. فما رأيتُ مثلَها. و[قال أبو العَيناء: ] (¬7) لما ولي إسماعيل القضاء، دسَّ إليه محمدُ بن عبد الله الأنصاريُّ رجلًا يسأله عن مسألة، فقال له: ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت. ¬

_ (¬1) في تاريخه 7/ 217. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخه 7/ 216. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): فشيعه. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) أي: في اللواط. كذا في تاريخ بغداد 7/ 218. (¬5) في تاريخه 7/ 217. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ): فقال إسماعيل. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر تاريخ بغداد 7/ 217.

فقطع إسماعيلُ الكلامَ عليه وقال: قل للذي بعثك إنَّ القاضيَ لا يفتي. أسند إسماعيلُ عن أبيه [عن جدِّه (¬1)، وعن مالك بن مِغوَل، وعمر بن ذَرّ، ومحمدِ بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، والقاسمِ بن مَعن، وأبي شهابٍ الحنَّاط] وغيرِهم (¬2). وروى عنه غسانُ بن المفضَّل [الغَلَابي، وعمرُ بن إبراهيمَ الثَّقفي، وسهلُ بن عثمان العسكري، وعبدُ المؤمق بن عليٍّ الرازي، في آخرين]. وكان ثقةً صدوقًا [أمينًا فاضلً] لم يغمزْه سوى الخطيب، فإنه روى عن سعيد بنِ سالم (¬3) الباهليَّ قال: سمعتُ إسماعيلَ في دار المأمونِ يقول: القرآن مخلوق، وهو دِيني ودين أبي وجدِّي. قال المصنِّف رحمه الله: لو صحَّ أنه قال ذلك؛ فإنَّما قال تقيَّة؛ لأن المأمونَ ما أبقى في الإكراه على هذا القولِ بقيةً لنا. والحمد [لله] وحده وصلى الله على سيّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلّم. * * * ¬

_ (¬1) في (ب): وعن جده. ولم يدرك جده كما في الفوائد البهية ص 81. (¬2) في (خ): وغيره. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): سلام، والمثبت من تاريخ بغداد 7/ 218.

السنة الثالثة عشرة بعد المئتين

السنةُ الثالثة عشرةَ بعد المئتين فيها عصى بِشر بنُ داودَ بنِ يزيدَ على المأمون بالسِّند، وجبى الخَراجَ لنفسه ولم يحملْ منه [إلى المأمون (¬1)] شيئًا، فعزله وولَّى غسانَ بن عباد، وكان استشار أصحابَه، فتكلَّم مَن حضر وأَطنبوا في ذِكره وفي مدحه، فنظر المأمون إلى أحمدَ بن يوسفَ بن القاسمِ الكاتب، وكان سيِّئ الرأي في غسان، فقال: ما تقول أنت يا أحمد؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، ذاك رجلٌ محاسنه أكثرُ من مساوئه، لا تصرفه إلى طبقةٍ إلَّا انتصف منهم، فمهما تخوَّفتَ عليه فإنه لن يأتيَ أمرًا يعتذر منه؛ لأنه قد قسم أيامَه بين أهلِ (¬2) الفضل، فجعل لكلِّ خلقٍ نَوبة، فإذا نظرتَ في أمره لم تدرِ أيُّ حالاته أعجب، ما هداه إليه عقلُه، أو ما اكتسبه بالأدب. فقال المأمون: لقد مدحتَه على سوء رأيك فيه، فقال: لأنَّه كما قال الشاعر: [من الوافر] كفى شكرًا بما أَسديتَ أنِّي ... مدحتك في الصَّديق وفي عِداتي فأعجب المأمونَ كلامُه واسترجح أدبه، وولَّى غسانًا السِّند. وفيها خلع عبدُ السلام وابنُ جَليسٍ (¬3) المأمونَ بمصر، وساعدتهما القَيسيةُ واليمانية وبيوتُها (¬4)، فولَّى المأمونُ أخاه المعتصمَ الشامَ ومصر، وولَّى ابنَه العباسَ الجزيرةَ والعواصم، وأمر لكلِّ واحدٍ منهما [ولعبد اللهِ بن طاهر] بخمس مئةِ ألف دينار، فيقال: إنَّه لم يفرَّق في يومٍ من المال مثلُ ذلك اليوم. وحجَّ بالناس عبدُ الله [بنُ عبيد الله] (¬5) بنِ العباس بن محمد بن عليّ. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر تاريخ الطبري 8/ 620. (¬2) في تاريخ الطبري: أيام. (¬3) في تاريخ الإسلام 5/ 244: حَلْبَس. وما هنا موافق لتاريخ الطبري 8/ 620، والكامل 6/ 409، والبداية والنهاية 14/ 188. (¬4) كذا في (ب) و (خ)، وعبارة الطبري: همن ذلك ما كان من خلع عبد السلام وابن جليس بمصر في القيسية اليمانية ووثوبهما بها. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

أحمد بن يوسف

[فصل] (¬1) وفيها توفي أحمدُ بن يوسفَ ابنِ القاسم بن صبيح، أبو جعفر، الكاتبُ الكوفي، مولى بني عِجْل. [قال الخطيب (¬2): كان] كاتبَ المأمونِ على ديوان الرسائل، وكان من أفاضل الكتَّاب وأذكاهم وأجمعِهم للمحاسن، فصيحَ اللسان، مليحَ الخطّ، يقول الشِّعر في الغَزَل والمديح، [له أخبارٌ مع إبراهيمَ بن المَهدي وأبي العتاهية وغيرِهما، وكتب للمأمون بعد أحمدَ بن أبي خالد]. وقال له رجلٌ يومًا: ما أدري ممَّ أعجب: مما وَليَه اللهُ من حُسْنِ خَلقك، أو ممَّا وليتَه من تحسين خُلقك، فوَصَله. ومن شِعره: [من الطويل] إذا قلتَ في شيء نَعَمْ فأتِمَّه ... فإنَّ نَعَمْ دَينٌ على الحرِّ واجبُ وإلَّا فقل لا واسترحْ وأَرح بها ... لكيلا يقولَ الناس إنَّك كاذب (¬3) ومنه: [من الطويل] إذا المرءُ أَفشَى سِرَّه بلسانه ... ولام عليه غيرَه فهو أحمقُ إذا ضاق صدرُ المرءِ عن سِرِّ نفِسِه ... فصدرُ الذي يُستودَع السِّرَّ أَضيق (¬4) و[قال الصُّولي: ] وماتت لبعض إخوانِه الكتَّاب بَبْغاء، وكان للكاتب أخٌ اسمه عبدُ الحميد وكانت فيه غفلة [وتضعُّف (¬5)، فحزن عليها أخوه (¬6)] فكتب إليه أحمدُ [بنُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) انظر تاريخ بغداد 6/ 463. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ دمشق 2/ 288 (مخطوط)، والبداية والنهاية 14/ 196. ونسبهما صاحب العقد الفريد 1/ 245 لابن أبي حازم. (¬4) تاريخ دمشق والبداية والنهاية. (¬5) في تاريخ بغداد 6/ 464، وتاريخ دمشق 2/ 289 (مخطوط)، ومعجم الأدباء 5/ 164: وكان له أخ يضعف. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (ب): أبوها. والمثبت مستفادٌ من المصادر.

يوسف: ] [من الخفيف] أنت تبقى ونحن طُرًّا فِداكا ... أحسنَ اللهُ ذو الجلالِ عَزَاكا فلقد جلَّ خطبُ [دهرٍ] أتانا ... بمقاديرَ أَتلفتْ ببَّغاكا عَجَبًا للمَنون كيف أتتْها ... وتخطَّت عبدَ الحميد أخاكا كان عبدُ الحميد أصلحَ للمو ... تِ من الببَّغاءِ وأَولى بذاكا شَمِلتنا المصيبتانِ جميعًا ... فَقدُنا هذه ورؤيةُ ذاكا وقد أخذ هذا المعنى أبو الحارثِ النَّوفلي، فإنَّه قال: كنت أكرهُ القاسمَ بن عُبيد اللهِ لمكروهٍ نالني منه، فلما مات ابنُه وبقي أخوه الحسنُ (¬1) وكان يضعف، قلتُ على لسان ابنِ بسَّام: [من مخلع البسيط] قلْ لأبي القاسمِ المرجَّى ... قابلكَ الدهرُ بالعجائبْ مات ابنُك وكان زَينًا ... وعاش ذو الشَّينِ والمعايب حياةُ هذا كموتِ (¬2) هذا ... فلستَ تخلو من المصائب وكان المأمونُ قد سخط على أحمد، فمات في سَخَطه سنةَ ثلاثَ عشْرة، وقيل: سنةَ أربعَ عشرةَ ومئتين. وقال [ابنُ أبي الدُّنيا: حدَّثنا] الحسينُ بن عبدِ الرحمن [قال]: أشرف أحمدُ بن يوسفَ بن عليٍّ على بستانٍ له بشاطئ دِجلة -وهو يموت- فجعل [يتأمَّله و] (¬3) يتأمَّل دِجلة، ثم تنفَّس وقال متمثِّلًا: [من البسيط] ما أطيبَ العيشَ لولا موتُ صاحبِه ... ففيه ما شئتَ من عيبٍ لعائبه فما أنزلناه حتى مات. و[قال الصُّولي: ] (¬4): رثتْه جاريةٌ له مُغَنِّيَةٌ شاعرةٌ فقالت: [من البسيط] نفسي فداؤك لو بالناس كلِّهمِ ... ما بي عليك تمنَّوا أنَّهمْ ماتوا ¬

_ (¬1) قوله: ابنه وبقي، ساقط في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق ومعجم الأدباء. (¬2) في (خ): هناك موت. والمثبت من المصادر. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) وانظر تاريخ بغداد 6/ 465، وتاريخ دمشق 2/ 290. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

أسود بن سالم

وللورى موتةٌ في الدَّهر واحدةٌ ... ولي من الهمِّ والأحزانِ موتاتُ (¬1) [قال الخطيب (¬2): كان لأحمدَ بن يوسفَ أخٌ يقال له: القاسم بن يوسف، كان كاتبًا شاعرًا أديبًا، وهما وأولادُهما جميعًا من أهل الأدبِ والبلاغة. قال: وحكى أحمدُ بن يوسفَ عن المأمون وعق عبد الحميدِ بن يحيى الكاتب وقدم الشامَ صحبةَ المأمون. وقال أحمد بن كامل القاضي]: وأهدى أحمدُ بن يوسفَ إلى المأمون هديةً في يوم نَيروز [أو يومِ مهرجان] (¬3) وكتب إليه [هذه الأبيات]: [من الطويل] على العبد حقٌّ فهْو لا بدَّ فاعلُه ... وإن عَظُمَ المَولى وجلَّت فواضلُه أَلَمْ تَرنَا نُهدي إلى الله ما لَه ... وإنْ كان عنه ذا غنًى فهْو قابله ولو كان يُهدَى للمليك بقَدرهِ ... لقصَّر عافي (¬4) البحرِ عنه وناهله ولكنَّنا نُهدي إلى مَن نُجِلُّهُ ... وإنْ لم يكن في وُسعنا ما يُشاكله انتهت ترجمته. [وفيها توفي] أسودُ بن سالم أبو محمدٍ البغدادي، الزاهدُ الورع. كان بينه وبين معروفٍ الكرخيِّ مودَّة ومحبةٌ ومصافاة. قال [الخطيبُ (¬5) بإسناده إلى] عليِّ بن محمدٍ الصفار: أنشدتُ للأسود [بن سالم] ليلةً [هذه الأبيات]: [من الوافر] أمامي موقفٌ قدَّامَ ربِّي ... يسائلني وينكشف الغطاءُ وحسْبي أنْ أَمُرَّ على صراطٍ ... كحدِّ السَّيف أسفلُه لَظاءُ [قال: ] فصرخ أسودُ [صرخة] وغُشي عليه، فما أَفاقَ حتى طلع الفجر. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 290، ومعجم الأدباء 5/ 179. (¬2) كذا في (ب)، والصواب: ابن عساكر، والكلام في تاريخه 2/ 287 (مخطوط). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر تاريخ دمشق 2/ 288، ومعجم الأدباء 5/ 172. (¬4) في (خ) وتاريخ دمشق: على، والمثبت من (ب). وفي معجم الأدباء: لقصر فضل المال عنه ونائله. (¬5) في تاريخه 7/ 500. وما بين حاصرتين من (ب)، وتنظر ترجمته في الوافي بالوفيات 9/ 251، وتاريخ الإسلام 5/ 280.

و [حكى الخطيب قال: ] (¬1) جاء رجلٌ إلى ابن حميدٍ فقال: اغتبتُ الأسود، فأُتيتُ في منامي فقيل لي: أتغتاب وليًّا من أولياء الله تعالى لو ركب حائطًا ثم قال له: سِرْ، لَسَارَ به! ! . [وروى ابنُ باكويه الشيرازيُّ عن أسودَ أنَّه قال: ] (¬2) رَكعتان أصلِّيهما أحبُّ إليَّ من الجنَّة، فقيل له في ذلك، فقال: دعونا من كلامكم، فإنَّ الرَّكعتين رضا ربِّي، والجنَّة رضا نفسي، ورضا ربِّي أحبُّ إليَّ من رضا نفسي. [قال الخطيب: ] (¬3) وكان يُسرف في الوضوء ثم ترك، فقيل له في ذلك، فقال: أسرفتُ (¬4) ليلة، فهتف بي هاتف: يا أسود، ما تصنع! حدَّثنا يحيى بنُ سعيد الأنصاريُّ عن سعيد بنِ المسيَّب قال: إذا جاوز الوضوءُ ثلاثًا لم يُرفَعْ إلى السماء، فقلت: أجِنِّيٌّ أم إِنْسي؟ ! فقال: هو ما تسمع، قال: فقلت: فأنا تائبٌ، فأنا اليومَ يكفيني كفٌّ من ماء. وكانت وفاتُه ببغدادَ في هذه السَّنة، وقيل: في سنة أربعَ عشرةَ ومئتين، وقيل: في سنة عشرٍ ومئتين (¬5). أسند عن [حمَّاد بنِ زيد, و] سفيانَ بن عُيينة [وإسماعيل بن عُلَيَّة، ومعتمرِ بن سليمان، وغيرِهم. وروى عنه حاتِمُ بن الليث [الجوهري، وعبدُ الوهاب بن عبدِ الحكم الورَّاق] وغيرُهما (¬6). وكان صدوقًا ثقة. [وقال الخطيب] (¬7): غسل وجهَه يومًا من بُكرة إلى نصف النَّهار، فقيل له في ذلك، فقال: رأيتُ مبتدعًا، وقد غسلتُ وجهي إلى الساعة وما أظنُّه ينقى. ¬

_ (¬1) في تاريخه 7/ 500. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): وقال أسود. (¬3) في تاريخه 7/ 499. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): أرقت. (¬5) لم أقف على هذا الأخير. (¬6) في (خ): وغيره. وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) في تاريخه 7/ 500. وما بين حاصرتين من (ب).

بشر بن أبي الأزهر يزيد

[وفيها توفي] بِشْر بن أبي الأزهر يزيد [وكُنية بشر] أبو سهل, القاضي، الحنفي، الكوفي. كان من أعيان أهلِ الكوفة وزهَّادهم [أخذ الفقه والحديث عن القاضي أبي يوسف. وذكر الحاكمُ أبو عبد الله النيسابوريُّ قال: ] (¬1) سأله رجلٌ عن مسألةٍ فأخطأ فيها، فعزم أن يقصدَ عبدَ الله بن طاهرٍ ليناديَ في البلد أنَّ بِشرًا قد أخطأ في مسألةٍ في النِّكاح، فقال له رجل: أنا أعرف الرجلَ الذي سألك، فأتاه به، فقال: أخطأتُ، وقد رجعتُ عن قولي، والجوابُ فيها كذا وكذا. وكانت وفاتُه في رمضانَ [في هذه السَّنة] أسند عن ابن المباركِ وابن عُيَينةَ وأبي معاوية [الضَّرير] وغيرِهم [انتهت ترجمته. وفيها توفي] ثُمامة بن أَشْرَسَ أبو مَعْنٍ النُّميري البَصْري [رئيس المعتزلة] الماجِن. [ذكره الصوليُّ والخطيبُ وغيرهما] كان له نوادر [قال الخطيب (¬2): كان أحدَ معتزلةِ البصرة] ورد بغدادَ واتَّصل بالرَّشيد والمأمون [والأكابر، وحكى عنه الجاحظُ وغيره. وروى الصوليُّ عن المقدَّمي عن الحارث بن أبي أسامةَ قال: حدثني] الوليدُ بن عباس قال (¬3): خرج ثمامةُ [بنُ أشرس] من منزله بعد المغربِ وهو سكران، فإذا هو بالمأمون قد ركب في نفر، فلمَّا رآه ثمامةُ عدل عن طريقه، وبَصُرَ به المأمون، فساق إليه وحاذاه، فوقف ثمامة، فقال له المأمون: ثُمامة؟ قال: إي والله، قال: أسكرانُ أنت؟ ! ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر المنتظم 10/ 253 - 254، وتنظر ترجمته أيضًا في تاريخ الإسلام 5/ 282، والنجوم الزاهرة 2/ 206. (¬2) في تاريخه 8/ 20. وما بين حاصرتين من (ب)، وتنظر ترجمته في الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي ص 157 - 159، والسير 10/ 203 - 206، وبقية مصادر ترجمته ثمَّة. (¬3) في (خ): قال الوليد بن عباس، والكلام من المنتظم 10/ 254 - 255.

قال: لا والله، قال: أَفتعرفني؟ قال: إي والله، قال: فمن أنا؟ قال: لا أدري والله، فضحك المأمونُ حتى انثنى عن دابَّته وقال: عليك لعائنُ الله، قال: تَتْرى إن شاء الله، فضحك المأمونُ حتى كاد يقع من دابَّته، وأمر له بخمسين ألفًا. وقال [الصُّولي: قال الجاحظ: قال] ثُمامة: دخلتُ على صديقٍ لي أعوده وتركتُ حماري على الباب، فخرجتُ وإذا فوقه صبيّ، فقلت: ما هذا؟ قال: حفظتُه لك، قلت: لو ذهب كان أعجبَ إليَّ، قال: فاحْسبه قد ذَهَبَ وهَبْه لي وارْبَح شكري، قال: فلم أدرِ ما أقول. [وحكى الصوليُّ عن سَلَّام الأبرش قال: ] (¬1) غضب الرشيدُ على ثمامةَ، وأمرني أن أَحبسَه في بيتٍ فيه ثقب، [وأنزل فيه هنا، ففعلت، قال: ] (¬2) فجلس سلامٌ ليلةً يقرأ في المصحف، فقرأ: {وَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)} [بفتح الذال، فقال ثُمامة: {لِلْمُكَذِّبِينَ}] بكسر الذال، وهم الذين كذَّبوا الرُّسل، والمكذَّبون هم الرسل، وجعل يشرحه، فقال له سلَّام: قد قيل لي إنَّك زنديقٌ، ولم أقبل. ثم ضيَّق عليه أشدَّ الضيق وسدَّ الطاقة، ثم رضي الرشيدُ عن ثمامةَ وجالسه، ثم قال [الرشيدُ] ليلة: مَن أسوأُ الناسِ حالًا؟ فقال كلُّ واحدٍ شيئًا، فقال ثمامة: أسوأُ الناسِ حالًا عاقلٌ يجري عليه حكمُ جاهل، فغضب الرشيدُ وتغيَّر وجهه، فقال ثمامة: يا أميرَ المؤمنين، ما أظنُّك وقفتَ على ما أردت، قال: فاشرح لي، قال. يا أمير المؤمنين، قصَّتي مع سلَّامٍ كذا وكذا، فجعل يضحك حتى استلقى، وقال: واللهِ لقد صدقت. و[حكى عنه محمدُ بن يزيدَ النحويُّ] (¬3) قال: خرجتُ من البصرة أُريد المأمون، فلمَّا وصلت إلى دَير هِرَقْل دخلتُه، فإذا مجنونٌ مشدودٌ بسلسلة، فقال: ما اسمُك؟ قلت: ثُمامة، قال: المتكلِّم؟ قلت: نعم، قال: أَخبِرني متى يجد القائمُ لذَّةَ النوم، إن قلتَ: قبل أن ينام، أَحلتَ؛ لأنَّه يقظان، وإن قلت: في حالة النَّوم، أَبطلت؛ لأنَّه لا يعقل، وإن قلت: بعد يقظته، أخطأت؛ لأنَّه لا يوجد الشيءُ بعد فقده [قال: ] فواللهِ ما ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر تاريخ بغداد 8/ 22 - 23. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وليست في تاريخ بغداد. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

دريتا ما أقول. قال: ودخلتُ على المأمون وعنده أبو العَتَاهِيَة، فقال: أتأذن لي يا أميرَ المؤمنين بمناظرته؟ قال: نعم، فأخرج أبو العتاهيةِ يدَه من كُمِّه وحرَّكها، ثم قال. يا ثُمامة، مَن حرَّك يدي؟ فقال: مَن أمُّه زانية، فقال أبو العتاهية: تشتمني يا ثمامة، فقال ثمامة: ناقضتَ أصلَك، فقال المأمون: قد أجابك، فسكت أبو العتاهِيَة (¬1). و[حكى عنه الجاحظُ] قال: مررتُ ببغداد، فإذا برجلٍ قد قدَّم رجلًا إلى الوالي وقال: أصلح اللهُ الأمير، هذا خصمي، ناصبيٌّ رافضيٌّ جَهمي مشبِّهي، يلعن معاويةَ بن أبي طالبٍ (¬2) ويحبُّ [عليَّ] بن أبي سفيان، فقال له الوالي: ثَكِلتك أمُّك، ما أدري من أيِّ شيءٍ أعجب، من علمك بالمقالات أو من معرفتك بالأَنساب! فقال الرجل: ما خرجت من الكتَّاب حتى تعلَّمتُ هذا كلَّه، فقال الوالي: لا جَرَم. وقال [ثُمامة: ] مررت بجامع المهديّ، وإذا بقاصٍّ يقصُّ على الناس، فذكر حديثَ غَزاةِ أُحد، وأنَّ هِنْدًا بقرت بطنَ حمزةَ رضوانُ الله عليه وأَخرجت كبده، فلاكَتْها فلم تُسِغْها، فبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لو ازدردتْها لم تمسَّهُا النار" (¬3) ثم رفع القاصُّ يديه وقال: أَطعِمنا من كَبِد حمزة. وقال: خطب بعضُ الأمراء بخُراسان فقال: إن الله خلق السماواتِ والأرضَ في ستَّة أشهر، فقيل له: في ستَّة أيام، فقال: قد سمعتُ هذا ولكني استقللتُها. وقال: دخلتُ مروَ فرأيت الديكَ يأكل وحده، فعلمت أنَّ لؤم أهلِ مروَ وبخلَهم علَّم الديكَ ذلك. وقال: من رؤساء البخلاءِ محمدُ بن الجهم، لم يسألْه أحدٌ شيئًا من ماله إلَّا شغله بالطَّمع في غيره، ولا شفع لصديقٍ في حاجة إلَّا لقَّن المسؤولَ المنع؛ وفتح على السائل بابَ الحرمان. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 21، وهما خبران عن ابن النديم وعن الجاحظ. (¬2) في (خ): العاص، والمثبت من (ب)، وما بين حاصرتين منه. وانظر تاريخ بغداد. (¬3) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وذكره ابن عبد البرّ في الاستيعاب ص 136 بسند فيه مقال، ولفظه عنده: "لو دخل بطنها لم تدخل النار".

أبو عاصم النبيل

قال: وقال له أصحابه: اجعلْ لنا علامةً في القيام عنك لئلا نُثقلَ عليك بقعودنا، فقال: علامةُ ذلك إذا قلت: يا غلام هاتِ الغَداء. ذكر وفاته: [ذكر أبو منصورٍ عبدُ القاهر بن طاهرٍ التَّيميُّ قال: قُتل ثمامةُ بين الصَّفا والمروةِ في سنة ثلاثَ عشرةَ ومئتين] قتلته خُزاعةُ من أجل سعيه على أبي أحمد (¬1) الخُزاعي (¬2). [وفيها توفي] أبو عاصمٍ النَّبيل واسمُه الضحَّاك بن مَخْلَدِ بن الضحَّاك بن مسلمٍ الشَّيباني البَصري. [ذكره ابنُ سعد] (¬3) في الطبقة السادسة [من أهل البصرة، قال: و] كان ثقةً فقيهًا، مات بالبصرة ليلةَ الخميس لأربعَ عشرةَ ليلةً خلت من ذي الحِجَّة سنةَ اثنتي عشرة [ومئتين في خلافة عبدِ الله بن هارون. هذا صورةُ ما ذكر ابنُ سعد. وذكره خليفةُ وقال: ] ولد في سنة اثنتين وعشرين ومئة (¬4). [وقد ذكرنا في ترجمة زُفَرَ بن الهُذَيلِ في سنة ثمانٍ وخمسين ومئة لمَ سمِّي النبيل؛ لأنه كان يتجمَّل في ملبوسه (¬5). قال: ] وكان كبيرَ الأنف [قال: أُخبركم عن شيء؟ تزوَّجت امرأة، فلمَّا أردت أن أقبِّلها منعني أنفي، فقالت: نَحِّ ركبتكَ عن وجهي، فقلت: ما هذه رُكبتي، هذا أنفي. قال: ] ولم يُرَ في يد أبي عاصم كتابٌ ينظر فيه، وكذا سفيانُ الثوري وشُعبة وابن عُيينة. ¬

_ (¬1) في الفَرق بين الفِرق ص 159: أحمد بن فهر. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) بعدها في (خ): بين الصفا والمروة. (¬3) في طبقاته 9/ 296. وما بين حاصرتين من (ب)، وتنظر ترجمته في السير 9/ 480 - 485، وبقية مصادر ترجمته ثمَّة. (¬4) الذي في تاريخ خليفة بن خياط ص 352 أنَّ ولادته كانت في سنة إحدى وعشرين ومئة، وينظر تاريخ وفاته ص 474، وكذا في طبقاته ص 226. (¬5) في (خ): وقيل له: لم سميت النبيل؟ فقال: لتجملي بثيابي. وما بين حاصرتين من (ب).

وقال أبو عاصم: رأيت أبا حنيفةَ في المسجد الحرامِ يُفتي وقد اجتمع عليه الناسُ فآذَوه، فقال: ما ها هنا أحدٌ يأتينا بشُرْطيٍّ يفرِّق هؤلاء عنا؟ فدنوتُ منه وقلت: تريد شرطيًّا؟ قال: نعم، قلت: اقرأْ عليَّ هذه الأحاديثَ التي معي، فقوأها، فقمتُ عنه ووقفت بإزائه، فقال: وأين الشُّرطي؟ فقلت: لا أدري، قال: فأين ذهب قولُك؟ فقلت: أنا قلت لك: تريد شُرطيًّا؟ ولم أقل: إني أَجيبه، فقال: اُنظروا، أنا أحتال منذ كذا وكذا وقد احتال عليَّ هذا الصبيّ. [واختلفوا في وفاته، فحكينا عن ابن سعدٍ أنَّه مات في سنة اثنتي عشرةَ ومئتين، وكذا قال خليفة. قال: وهو ابنُ تسعين سنةً وأربعةِ أشهر (¬1). وقال غيرُه: سنةَ ثلاثَ عشرةَ ومئتين، أو أربعَ عشرةَ ومئتين] (¬2). أسند عن [خلقٍ كثير؛ لأنه طاف الدنيا، فسمع بالحجاز] جعفرَ بن محمدٍ الصادق، ومالكَ بن أنس [وابن جُرَيج] وسليمان (¬3) [وغيرَهم، وبالعراق] الثوريَّ (¬4) [وشُعبة، وسعيدَ بن أبي العروبة، في آخرَين، وسمع بالشام الأوزاعيَّ وأقرانَه، وبمصرَ حَيوَةَ بن شُرَيح وطبقتَه]. وروى عنه [جَرير بن حازمٍ الجَهضمي، وعبدُ الله بن داودَ الخُرَيبي، وهما أكبرُ منه (¬5)، و] الإمامُ أحمد بن حنبلٍ رحمةُ الله عليه، وابن المَديني [والأصمعي] (¬6) ومحمد بن إسماعيل البخاري، وخلقٌ كثير. واتفقوا على صدقه وثقتِه وأَمانته وديانته. و [روى ابنُ عساكرٍ (¬7) عنه أنه] كان يقول: ¬

_ (¬1) لم يصرِّح في الطبقات والتاريخ بهذا القول، بل ذكر ولادته سنة (121 هـ) ووفاته سنة 212، فيكون عمره إحدى وتسعين عامًا تقريبًا. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) هو سليمان التيمي. ووقع في (خ): سليمان الثوري، وفوقها: كذا. ولم يذكر في (ب). (¬4) في (خ): وخلق كثير لأنه طاف الدنيا. (¬5) عبد الله بن داود من أقرانه، وستأتي ترجمته قريبًا. وانظر تهذيب الكمال. (¬6) وهو من أقرانه. (¬7) في تاريخه 8/ 453 (مخطوط)، وكذا نقل عنه البخاري في التاريخ الكبير 4/ 336. وما بين حاصرتين من (ب).

طلحة بن طاهر بن الحسين

ما اغتبتُ أحدًا مذ علمتُ [تحريمه]. وكان الإمام أحمدُ رحمه الله يعظِّمه. [وروى الخطيبُ عن] حمدانَ بن عليٍّ الوارقِ قال (¬1): ذهبنا إلى أحمدَ بن حنبل سنةَ ثلاثَ عشرةَ ومئتين نسأله أن يحدِّثَنا، فقال: تسمعون مني ومثلُ أبي عاصمٍ في الحياة! اُخرجوا إليه. طلحةُ بن طاهرِ بن الحسين والي خُراسان. كان جَوَادًا سَمْحًا شجاعًا، أقام على خُراسانَ سبعَ سنين واليًا عليها نيابةً عن أخيه عبدِ الله، ومات بمَرْو (¬2). عبدُ الله بن داودَ ابن عامرِ بن الربيع أبو عبد الرحمنِ الهَمْداني الخُرَيبي. أصلُه من الكوفة، وسكن محلَّة بالبصرة يقال لها: الخُرَيبَة، فنُسب إليها. وكان عالمًا ناسكًا من الطبقة السادسةِ من أهل البصرة، وُلد سنةَ ستٍّ وعشرين ومئة. مضى إليه جماعةٌ من أهل الحديثِ يسمعون عليه، فقال لهم: إني مشغولٌ عن هذا ببُسَيتينةٍ لي فيها معاش، وتحتاج إلى سَقي، وليس لي مَن يسقيها، فقال: إنْ حضرتكم نيَّةٌ فافعلوا، فأداروا الدولابَ وسقَوها، وقالوا له: حدِّثْنا الآن، فقال: ليس لي نيَّةٌ في أن أحدِّثَكم، وأنتم لكم نيَّةٌ تؤجَرون (¬3) عليها. فانصرَفوا وهم يذمُّونه. وقال بِشر بنُ الحارث: كنت عند الخُريبي، فجاءه قومٌ [فقالوا له: ما تقول] (¬4) فيمن يقول: القرآنُ مخلوق؟ فقرأ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إلا هُوَ عَالِمُ الْغَيبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22] ثم قال: أمخلوقٌ هذا؟ ! ¬

_ (¬1) في (خ): وقال حمدان بن علي الوراق. ولم نقف على ترجمة أبي عاصم في تاريخ بغداد، والخبر ذكره الذهبي في السير 9/ 484 وعزاه لابن المقرئ، عن أبي طلحة التمَّار، عن حمدان بن علي الوراق. (¬2) ينظر تاريخ اليعقوبي 2/ 457، وتجارب الأمم لمسكويه أحداث سنة (213 هـ)، والمنتظم 10/ 251، والكامل 6/ 409، وتاريخ الإسلام 5/ 17. (¬3) في (خ): تؤجروني. والمثبت من تاريخ دمشق 9/ 171 (مخطوط)، والمنتظم 10/ 256، وتهذيب الكمال، والسير 9/ 350، وبقية مصادر ترجمته ثمَّة. (¬4) في (خ): فقال. والمثبت من تاريخ دمشق 9/ 168.

علي بن جبلة بن مسلم

ودخل عليه يحيى بنُ أكثم، فرأى مِشيتَه فأنكرها، فقال له يحيى: حدِّثْني، فقال: لا أحدِّث مَن يمشي هذه المِشية. وبلغه أنَّ يحيى جلس بين يديه خصمان, فتربَّع أحدُهما، فأمر به أن يقامَ ويجلسَ جالسًا، فجاء إليه يحيى ليحدِّثَه، فقال له الخُرَيبي: [لو أنَّ رجلًا صلَّى متربعًا؟ قال: فقال له يحيى: لا بأسَ بذلك، فقال له عبدُ الله بن داود: ] (¬1) فحالٌ يكون عليها بين يدي اللهِ لا يكرهها تَكرهها أنت! ثم ولَّاه ظهرَه. فقام يحيى وخرج. وجاءه أبو العيناءِ محمدُ بن القاسم، فقال له الخُريبي: ما جاء بك؟ قال: فقلت له: طلبُ الحديث، فقال: اذهب فاحفظ القرآن، فقلت: قد حفظتُه، فقال: اِقرأ: {وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس: 71] فقرأتُها، فقال: اذهب فتعلَّم الفرائض، قلت: قد حفظتُها، فقال: أيُّما أقرب إليك ابنُ أخيك أو ابن عمِّك؟ قلت: ابنُ أخي؛ لأنَّ أخي من أبي، وعمِّي من جدِّي، قال: اذهب فتعلَّم العربية، فقلت: قد تعلَّمتها، قال: فلمَ قال عمرُ - رضي الله عنه - لمَّا طُعن: يا لَله يا لِلمسلمين، بفتح الهمزةِ الأولى وكسرِ الثانية؟ قلت: فتح الأولى بالدُّعاء، وكسر الثانيةَ للاستنصار، فقال: اذهبْ فلو حدَّثتُ أحدًا لَحدَّثتك. وقال الخريبي: كلُّ صديقٍ ليس له عقلٌ فهو أشدُّ عليك من عدوِّك. أسند عن هشام بنِ عروةَ وغيرهِ، وروى عنه سفيانُ بن عُيينةَ وخلقٌ كثير، واتَّفقوا على صدقه وثقتِه وورعه. [وفيها توفي] (¬2) عليُّ بن جَبَلَةً بن مُسْلم أبو الحسن، الشاعرُ البغدادي [ويقال له: ]: العَكَوَّك (¬3). ولد سنةَ ستِّين ومئة، وذهب بصرُه بالجُدَريِّ وله سبعُ سنين. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 9/ 170. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) العَكوَّك: القصير السمين. تنظر ترجمته في تاريخ بغداد 13/ 280 - 281، ووفيات الأعيان 3/ 350، والسير 10/ 192 - 194، وبقية مصادر ترجمته ثمَّة.

مدح الخلفاءَ وأبا دُلَفٍ العِجْلي، فأَفرط في قوله، ومن ذلك قولُه: [من البسيط] أنت الذي تُنْزل (¬1) الأيامَ منزلَها ... وتَنقُل الدهرَ من حالٍ إلى حالِ وما مددتَ مَدَى طَرْفٍ إلى أَحدٍ ... إلَّا قضيتَ بأرزاقٍ وآجال فأعطاه [أبو دُلَف] مئة ألفِ درهمٍ وقال: واللهِ لو أعطيتُه مئةَ ألف دينارٍ ما وفيتُ له، ولا كنتُ قاضيًا حقَّه. ولما بلغ المأمونَ قولُه دعاه وقال له: فضَّلتَ أبا دُلَفٍ على العرب كلِّها في أَشعارك، وأدخلتَ في ذلك قريشًا وآلَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وعِترتَه، وأنا لا أستحلُّ دمَك بهذا، بل أكفِّرك بقولك: أنت الذي تُنْزل الأيامَ منزلَها وذكر البيتَين وقال: ما يَقْدر على ذلك إلَّا اللهُ تعالى. فيقال: إنَّه أَمر به فسُلَّ لسانُه من قَفاه, والصحيحُ أنَّه هرب من المأمون فمات ببغدادَ في هذه السَّنةِ ولم يُقْدر عليه. [وقال الخطيب: مدح ابن جبلة حميد بن عبد الحميد الطوسي فبالغ، فقيل له: بالغت فِي مدحه، فقال: لا أمدح من كنت عنده في يوم سرور فأنشدته قصيدة فأمر أن يحمل إلي كل ما حمل إليه، مئة ألف درهم! (¬2) وفي حُميدٍ يقول: لولا حُميدٌ لم يكن ... حَسَبٌ يُعَدُّ (¬3) ولا نَسَبْ وروى الخطيبُ جملةً من أشعاره فقال (¬4): أخبرني عليُّ بن أيوبَ الكاتب: حدَّثنا محمدُ بن عمرانَ المَرْزُباني: حدَّثني عليُّ بن هارونَ عن أبيه قال] ومن [مختار] شعرِه: لو أنَّ لي صبرَها أو عندها جَزَعي ... لكنتُ أَعلمُ ما آتي وما أَدَعُ لا أَحملُ اللَّومَ فيها والغرامَ بها ... ما حمَّل اللهُ نَفْسًا غيرَ ما تَسَعُ ¬

_ (¬1) في (خ): نزل، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في الديوان ص 95. (¬2) لم نقف عليه في تاريخه، والخبر في المنتظم 10/ 258، وفيه: يوم نيروز، بدل: يوم سرور .. (¬3) لفظة: يعد، ساقطة من (ب)، وأثبتها من الديوان ص 31. (¬4) في تاريخه 13/ 280. وما بين حاصرتين من (ب).

إذا دعا باسمها داعٍ فأَسمَعَني ... كادت له شُعبةٌ من مُهجتي تَقَعُ (¬1) وقال: كنتُ لا أدخل على أبي دُلَفٍ إلَّا تلقَّاني ببرٍّ، فلما أَفرط انقطعتُ عنه، فبعث إليَّ أخاه يقول: لمَ هجرتنا؟ فكتبتُ إليهُ [هذه الأبيات]: [من الطويل] هجرتُك لم أَهجرْك من كُفرِ نعمةٍ ... وهل يُرتجَى نيلُ الزيادةِ بالكفرِ ولكنَّني لمَّا أتيتُك زائرًا ... فأَفرطتَ في بِرِّي عجزتُ عن الشُّكر فَمِ الآنَ (¬2) لا آتيك إلَّا مسلِّمًا ... أَزورك في شهرين يومًا وفي شهر فإنْ زدتَني بِرًّا تزايدتُ جَفوةً ... ولم تَلقَني طولَ الحياةِ إلى الحشر [قال: فلمَّا قرأها أبو دُلَفٍ كتب إليه هذه الأبيات: ] (¬3) أَلَا رُبَّ ضيفٍ طارق قد بسطتُه ... وآنستُه قبل الضيافةِ بالبِشْرِ أتاني يرجِّيني فما حال دونه ... ودون القِرى من نائلي عندهُ سِتري وجدتُ له فَضْلًا عليَّ بقصدهُ ... إليَّ وبِرًّا يستحقُّ به شكري فلم يعدُ (¬4) أنْ أدنيتُه وابتدأته ... ببِشرٍ وإِكرامٍ وبِرٍّ على بِرِّ وزوَّدته مالًا قليلًا بقاؤه ... وزوَّدني مدحًا يدوم على الدَّهر وبعث بالأبيات مع الوصيفِ يحمل كيسًا فيه ألفُ دينار. قال المصنِّف رحمه اللهُ تعالى: لله دَرُّ أبي دُلَفٍ هو كما قال الشاعر: تأخذ من ماله ومن أَدبه كم بين شِعره وشعر ابنِ جَبَلة؟ ! فسبحانَ مَن على الجود والفضلِ جَبَلَه. وابنُ جَبَلةَ هو القائلُ في أبي دُلَفٍ قصيدةً منها: [من المديد] إنَّما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين ناديه (¬5) ومُحْتَضَرِهْ ¬

_ (¬1) الديوان ص 78. (¬2) في الأغاني 20/ 24: فها أنا، وفي المنتظم 10/ 258: من الآن، والمثبت موافق لما في الديوان ص 120. وقد نسبت الأبيات لدعبل أيضًا. (¬3) في (ج): فأجابه. (¬4) في الأغاني: أعدُ. (¬5) في الديوان ص 68: مغزاه.

محمد بن يوسف بن واقد

فأعطاه مئةَ ألفِ درهم. [وفيها توفي] محمدُ بن يوسفَ بن واقد أبو عبد اللهِ الفِرْيَابي. [قال ابنُ ماكولا (¬1): هو منسوبٌ إلى فيرياب (¬2). ونزل قَيسارِيَّة]. ولد سنةَ عشرين ومئة. وكان عالمًا زاهدًا ورعًا [ذكره ابنُ سُمَيع] في الطبقة السادسة. [حكى عنه محمد بن مسلم بن وارة قال: قال الفريابيُّ: ] رأيتُ في المنام كأني دخلتُ كَرْمًا فيه عِنَب، فأكلتُ من عنبه كلِّه إلا الأبيض، فقصصتُ رؤياي على سفيانَ الثوري، فقال: تُصيب من العلوم كلِّها إلَّا الفرائض؛ فإنها جوهرُ العلم، كما أنَّ العِنَبَ الأبيضَ جوهرُ العنب. فكان كما قال. وكانت وفاتُه في هذه السَّنة (¬3). وقيل: سنة اثنتي عشرةَ ومئتين. [أسند عن الأوزاعيِّ ببيروت، و] روى عن الثوريِّ [وابنِ عُيينة، وابنِ أبي عَبلةَ، وأبي بكرِ بن عيَّاش] وغيرهم (¬4). وروى عنه الإمامُ أحمد بن حنبل رحمةُ الله عليه [والبخاري، ومحمدُ بن مسلمِ بن وارَة، وابنُ أبي الحَوَاري، ودُحَيم، والقاسم الجُوعي، وأحمدُ بن عبد الرحيم البَرقي] في آخرين. [وقال أحمدُ بن حنبل: كتبتُ عن الفريابي بمكَّة]. وقال البخاريّ: كان الفِريابيُّ من أفضل أهلِ زمانه. وكان ثقةً صدوقًا مُجابَ الدَّعوة. ¬

_ (¬1) في الإكمال 7/ 90. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب): فرياب. والمثبت من الإكمال وتاريخ دمشق 65/ 348. (¬3) كذا في المنتظم 10/ 260، وفي سائر المصادر: سنة اثنتي عشرة ومئتين. انظر تاريخ دمشق، وتهذيب الكمال، والسير 10/ 118، وبقية مصادر ترجمته ثمَّة، والبداية والنهاية 14/ 187. (¬4) في (خ): وغيره. وما بين حاصرتين من (ب).

[وجرت له مع عبدِ الله بن طاهرٍ حكايةٌ عجيبة، رواها] السَّريُّ بن معاذٍ أميرُ الرَّي قال (¬1): كنتُ مع أبي، وكان قائدًا من قوَّاد عبدِ الله بنِ طاهر [وأنا غلام، فخرج عبدُ الله بن طاهرٍ إلى الشام ونحن معه، وكان قريبًا من شهر رمضان، فقال عبدُ الله بن طاهر: ها هنا أحدٌ من العلماء نسأله عن الإِفطار وعن الصيام؟ فإنَّا على ظهر سَفَر] فقيل له: ها هنا بالقُرب منك محمدُ بن يوسفَ الفِريابي صاحبُ سفيانَ الثوري. فضرب بعسكره إلى باب دارِه، وكان له حاجبان، أحدُهما يقال له: عُزَير، والآخر: ميكال، وكانا على مقدِّمته، فتقدَّما على بابه، فأومأ إليهما عبدُ الله بن طاهرٍ أن ترفَّقا في قَرع الباب، فقرعاه ثمَّ وقفا مليًّا، فخرجت جاريةٌ تخدُم الفِريابي، فقالت: مَن أنتما؟ فقالا: قولي للشيخ: الأميرُ عبد اللهِ بنُ طاهرٍ بالباب. [قال: ] فمضت الجاريةُ فأطالت، ثمَّ عادت فقالت: يقول لكما الشيخ: ما حاجتُه؟ فتذمَّرا، فأومأَ إليهما ابنُ طاهرٍ أن اسكتا، وتقدَّم ابنُ طاهرٍ إلى الباب فقال لها: قولي للشيخ: يقول لك عبدُ الله بنُ طاهر: إنَّنا على سفر، وقد أظلَّنا رمضان، أفنصوم أم نُفطر؟ ما ترى في ذلك؟ [قال: ] (¬2) فمضت الجاريةُ ورجعت بعد هُنيَّة، فقالت: يقول لكم الشيخ: إنْ كنتم على سفرٍ في طاعة اللهِ فأنتم مخيَّرون بين الصومِ والإفطار، وإن كنتم على سفرٍ في معصية الله، فلا تجمعوا بين العصيانِ والإفطار. فانصرف ابنُ طاهر، ثمَّ التفتَ إلى عُزير وميكال، وقال: هذا واللهِ العزّ، لا الذي نحن عليه. * * * ¬

_ (¬1) في (خ): وقال السري بن معاذ بن البري، والمثبت من (ب)، وهو موافق لما في المنتظم 10/ 260. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

السنة الرابعة عشرة بعد المئتين

السَّنةُ الرابعةَ عشرةَ بعد المئتين فيها التقى بابكُ الخُرَّمي بمحمد بنِ حُميد الطُّوسي، فقتله بابَك يومَ الخميس لخمسِ ليالٍ بقين من ربيعٍ الأوَّل، وقتل عامَّةَ عسكرِه قتلًا ذريعًا، وغنم غنائمَ كثيرة. وفيها التقى عبدُ السلام وابنُ جَلِيس الخارجان بمصرَ بعُمير بنِ الوليد الباذَغيسي عاملِ المعتصمِ بالحَوْف، فقتلا عُميرًا، فسار المعتصمُ بنفسه إليهما، والتقاهما، فقتلهما وفتح مصر. وفيها خرج بلالٌ الضَّبابيّ، فبعث إليه المأمونُ العباسَ ابنَه ومعه جماعةٌ من القوَّاد، منهم هارونُ بن أبي خالد، فقتل هارونُ بلالًا وفضَّ جمعَه. وفيها خرج عبدُ الله بن طاهرٍ إلى الدِّينَور، فبعث إليه المأمونُ يحيى بنَ أكثمَ وإسحاقَ بن إبراهيمَ يخيِّرانه بين ولايةِ خُراسان، وبين ولاية إِرْمِينِيةَ وأَذْرَبيجانَ والجبالِ، ومحاربةِ بابَك، فاختار ولايةَ خُراسانَ وسار إليها. وحجَّ بالناس إسحاقُ بن العباسِ بن محمدِ بن علي. وعُزل القاضي عِكرمةُ (¬1) بن طارقٍ عن قضاءِ الشرقيَّة ببغداد، وولَّى المأمونُ عليَّ بن هشامٍ إِرمِينيَةَ وأَذْرَبيجانَ والجبال وقتال بابَك. وفيها توفي إسحاقُ بن حسَّان أبو يعقوب، الشاعرُ المعروف بالخُرَيمي. أصلُه من خُراسان من أبناء السُّغد (¬2)، واتصل بخُريم بنِ عامر المُرِّي فنُسب إليه. وقيل: لاتِّصاله بعثمانَ بن خُرَيمٍ [الموصوف بـ] الناعم. وكان إسحاقُ من أكابر الشعراءِ الفصحاء، وكان يتديَّن. و [قال أبو حاتِم ¬

_ (¬1) في (خ): علي، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في المنتظم 10/ 262. (¬2) كذا في (خ) والمنتظم 10/ 263، وفي هامش المنتظم و (ب): الشعراء.

السِّجِستاني: ] (¬1) هو أَشعرُ المُحْدَثين. [وذكر الخطيبُ (¬2) أبياتًا من شعره فقال: حدثنا عليُّ بن أيوبَ القُمِّي: حدَّثنا محمدُ بن عمرانَ الكاتب: حدثنا الصُّولي قال: أَنشدني عَونٌ لأبي يعقوبَ الخُرَيميِّ الأبيات: ] باحَتْ ببلواه جفونُهْ ... وجرتْ بأَدمُعه شؤونهْ لمّا رأى شَيبًا علا ... هُ ولم يَحِنْ في الوقت حينه فعَلَا على فقد الشَّبا ... بِ وفَقدِ مَن يهوى أَنينُه ما كان أَنجحَ سعيَهُ ... وشبابهُ فيه مُعينُه واللَّهو يَحسُن بالفتى ... ما لم يكن شَيبٌ يشينه [وكانت وفاته في هذه السَّنة] (¬3). * * * ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخه 7/ 336. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر المنتظم 10/ 263، ومختصر تاريخ دمشق 4/ 290، والوافي بالوفيات 8/ 409.

السنة الخامسة عشرة بعد المئتين

السنة الخامسة عشرة بعد المئتين فيها سار المأمونُ من بغدادَ طالبًا الغزوَ لبلاد الرومِ لثلاثٍ بقينَ من المحرَّم، واستخلف على بغدادَ إسحاقَ بن إبراهيمَ بنِ مصعب، وولَّاه مع ذلك السَّوادَ وحُلوانَ وكُوَرَ دِجلة. [ولمَّا لبس درعَه بكت جاريةٌ له، وقد ذكر قصَّتَها جعفرٌ السرَّاج في "مصارع العُشَّاق" (¬1)، حدَّثنا أبو محمدٍ عبدُ العزيز بن دُلَفٍ القارئ قال: أَخبرتنا شُهْدة الكاتبةُ بإسنادها (¬2) إلى يحيى بن أبي حمَّاد، عن أبيه قال: ] وُصفت للمأمون (¬3) جاريةٌ بكلِّ ما توصَف به امرأةٌ من الكمال والجمال، فبعث لشرائها، فأُتي بها في وقت خروجِه [إلى بلاد الروم] فلمَّا همَّ ليلبَسَ دِرعَه خطرت بباله فأمر فأُخرجت إليه، فلمَّا نظر إليها أُعجب بها وأُعجبت به، وقالت: ما هذا؟ ! فقال: أريد الخروجَ إلى بلاد الروم، فقالت: قتلتَني [يا سيِّدي] وحدرت دموعَها [على خدِّها كنظام اللؤلؤ، وأنشأتْ تقول] (¬4): [من الوافر] سأدعو دعوةَ المضطرِّ رَبًّا ... يُثيب على الدُّعاءِ ويستجيبُ لعلَّ اللهَ أنْ يكفيكَ حربًا ... ويَجمعَنا كما تهوى القلوب فضمَّها المأمونُ إلى صدره وأنشأ [متمثِّلًا] يقول: [من الطويل] فيا حُسنَها إذ يغسل الدمعُ كُحلَها ... وإذ هي تُذرِي الدمعَ منها الأناملُ صبيحةَ قالت في العِتاب قتلتَني ... وقَتْلي بما قالت هناك تحاول (¬5) ثمَّ قال لخادمه مسرور: احتفظْ بها وأَكرِم مَحَلَّها، وأصلحْ لها كلَّ ما تحتاج إليه من ¬

_ (¬1) 2/ 175. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) شيخها في هذه القصة جعفر السراج صاحب مصارع العشاق. انظر المنتظم 10/ 266. (¬3) في (خ): وكان قد وصف للمأمون. (¬4) في (خ): وقالت. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) البيتان لجميل بثينة، وهما في ديوانه ص 158 - 159.

المقاصير والخَدَمِ والجواري إلى وقتِ أن أَرجع [فلولا ما قال الأخطلُ لأقمت] (¬1): قومٌ إذا حاربوا شدُّوا مآزِرَهم ... دون النساءِ ولو باتتْ بأَطهارِ ثمَّ خرج. فأصلح مسرورٌ حالها، فاعتلَّت الجارية علَّةً شديدة، أَشفق مسرورٌ عليها منها، وورد نَعْيُ المأمونِ بعد ذلك، فلمَّا علمت تنفَّست الصُّعَداء وماتت. [قال علماءُ السِّير: ] (¬2) ولما وصل المأمونُ إلى تَكريت، قدم عليه محمدُ بن عليِّ بن موسى الرِّضا (¬3) في صَفَر (¬4)، فأجازه وأمره أن يدخلَ بابنة المأمونِ أمِّ الفضل، وكان زوَّجها منه، فقدم إلى بغداد، فدخل بها في دار أحمدَ بن يوسفَ التي على شاطئ دِجلة، وأقام بها [حتى جاء أوانُ الحجّ، فخرج بأهله وعياله، فشهد الموسم، وقدم المدينةَ وأَقام بها] وأمَّا المأمون، فإنَّه أتى الموصلَ وسار إلى حلبَ فنزل مَرجَ دابِق، ثم خرج إلى أَنطاكِيةَ، ثم إلى المَصِّيصة، ثم إلى طَرَسُوس، وكان دخولُه الدَّربَ في جُمادى الأولى، ودخل العباسُ بن المأمونِ من ناحية مَلَطْيَة، ونزل المأمونُ على حصنٍ [يقال له] (¬5): قُرَّة، فحصره وفتحه عَنوة، وهدمه، وذلك في جُمادى الأولى، وكان قد افتتح قبلَه حِصنًا [يقال له: ] ماجدة (¬6)، فمنَّ على أهله. وقدم أبو إسحاق المعتصمُ من مصرَ فوافى المأمونَ بالروم، وقيل: بالموصل. وبثَّ المأمونُ عساكرَه في بلاد الروم، ففتحوا وغَنِموا، وخاف نزولَ الثلج، فعاد إلى حلب، ثمَّ سار إلى دمشقَ فأَقام بها. وفيها ظهر قومٌ من الزُّطِّ بالبطائح التي عند واسط، وهي مغيضُ دجلةَ والفرات، وكانوا ثلاثين ألفًا (¬7)، فقطعوا الطرقَ وسفكوا الدماءَ ما بين البصرةِ وواسط، فأرسل إليهم المأمونُ عيسى بنَ يزيدَ في جيشٍ كثيف، فالتقوه فهزموه، ولم يظفرْ منهم بطائل، ¬

_ (¬1) في (خ): ثم قال. والبيت في ديوان الأخطل ص 120. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) الرضا وصف لعلي بن موسى. (¬4) في (ب): سفره، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 623. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر تاريخ الطبري 8/ 623. (¬6) في (خ): حصن ماجدة. (¬7) في المنتظم 10/ 266: سبعة وعشرين ألفًا ومئتين.

أحمد بن جعفر

فداموا على الفساد وقطعِ الطُّرقات. وحجَّ بالناس عبدُ الله بنُ عُبيد اللهِ بن العباس بن محمدِ بن عليِّ. فصل وفيها توفي أحمدُ بن جعفر أبو عبدِ الرحمن الضريرُ الوكيعيُّ البغدادي. وسُمِّي الوكيعيِّ؛ لملازمته لوكيع. قال إِبراهيمُ الحَرْبي: كان الوكيعيُّ يحفظ مئةَ ألفِ حديث، ما أَحسَبه سمع حديثًا قطُّ إلَّا وحفظه. وروى عن وكيعٍ وغيره، وروى عنه إبراهيمُ الحربيُّ وطبقتُه. وكان ثقة (¬1). أبو زيدٍ النَّحويُّ البصري واسمه سعيدُ بن أَوس بنِ ثابت بن بَشير بن أبي زيدٍ الأنصاري. وقيل: ثابت بنُ زيد (¬2). وأبو زيدٍ من الستَّة الذين جمعوا القرآن على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. كان أبو زيدٍ إمامًا في النَّحو واللغةِ والأَشعار ومذاهبِ العربِ وأيامهم. وقال المازِني (¬3): كنا عند أبي زيد، فجاء الأصمعيُّ فأكبَّ على رأسه وجلس، وقال: هذا عالمُنا ومعلِّمنا منذ ثلاثين سنة، وجاء خَلَفٌ الأحمر ففعل مثلَ ذلك، وقال: هذا عالمنا ومعلِّمنا منذ عشرين سنة (¬4). وقال رَوحُ بن عُبادة: كنا عند شعبةَ بن الحجَّاج، فضَجِرَ من الحديث، فرمى بطَرْفه فرأى أبا زيدٍ في أُخرَيات الناس، فقال: إليَّ إليَّ يا أبا زيد، فجعلا يتناشدان الأَشعار، فقال بعضُ أصحاب الحديثِ لشعبة: يا أبا بِسطام، نقطعُ إليك ظهورَ الإبل لنسمعَ منك ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 95، وتاريخ الإِسلام 5/ 258. (¬2) كما في تاريخ بغداد 10/ 109 عن ابن القداح، والأول ذكره ابن سعد في طبقاته 9/ 26، وصوبه الخطيب البغدادي. قلت: ثابت بن زيد هو أبو زيد الأنصاري الصحابي جَدُّ جدِّه، فانتقل بصر بن القداح من الجد إلى جد الجد ثمَّ تابع سرد النسب على الجادة. (¬3) في (خ): المازري، والمثبت من المصادر. انظر تاريخ بغداد 10/ 110، ونزهة الألباء ص 126، وإنباه الرواة 2/ 32، ووفيات الأعيان 2/ 379، وتاريخ الإِسلام 5/ 319، والبداية والنهاية 14/ 198 - 199. (¬4) في المصادر: منذ عشر سنين.

قبيصة بن عقبة

حديثَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَتَدعنا وتُقْبِل على الأشعار! فغضب شعبةُ غضبًا شديدًا وقال: يا هؤلاء، أنا أعلمُ بالأصلحِ لي، أنا واللهِ الذي لا إله إلَّا هو في هذا أَسلَمُ منِّي في ذاك. توفِّي أبو زيدٍ بالبصرة سنةَ خمسَ عشْرةَ ومئتين. وقيل: سنة أربعَ عشرة، وله ثلاثٌ وتسعون سنة. حدَّث عن شعبةَ وغيرِه، وروى عنه القاسمُ بن سلَّامٍ وغيرُه. واتَّفقوا على صدقه وثقتِه وبصحَّة روايته (¬1). [وفيها توفي] قَبِيصةُ بن عُقبةِ أبو عامر السُّوائيُّ، من بني عامرِ بن صَعْصَعة. كان زاهدًا قنوعًا. [حكى الخطيبُ (¬2) عن] جعفرِ بن حَمْدويهْ (¬3) قال (¬4): كنا على باب قَبيصةَ ومعنا دُلَف بن [أبي دُلَفٍ أبو] (¬5) عبدِ العزيز ومعه الخدم، فأبطأ قَبيصةُ في الخروج، وعاوده الخَدَمُ وطرقوا عليه الباب، وقالوا: ابنُ مَلِك الجبالِ (¬6) على بابك وأنتَ لا تخرج إليه! [قال: ] (¬7) فخرج قَبيصةُ وفي طَرَف إزاره كِسرٌ من الخبز، فقال لهم: رجلٌ قد رضي من الدنيا بمثل هذا ما يصنع بابن مَلِكِ الجبال! اذهبوا فواللهِ لا حدَّثتُه. ولم يحدِّثه. وكانت وفاته في هذه السنة. وقيل: سنة ثلاث وعشرين (¬8) ومئتين، والأول أصحُّ. أسند عن الثوري والحمَّادَين (¬9) وغيرهم. وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمة ¬

_ (¬1) كذا في (خ). والترجمة ليست في (ب)، وكذا التي قبلها. (¬2) في تاريخه 14/ 496. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب) و (خ): حمويه. والمثبت من تاريخ بغداد. (¬4) في (خ): قال جعفر بن حمويه. (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد. (¬6) في تاريخ بغداد: الجبل. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). (¬8) الصواب: ثلاث عشرة. وعزاه الذهبي في السير 10/ 135 لمعاوية بن صالح، ووهَّمه فيه، وانظر تاريخ بغداد وتهذيب الكمال. (¬9) لم تذكر المصادر سوى حماد بن سلمة.

محمد بن عبد الله

الله عليه وابن معين وغيرهما، واتفقوا على صلاحه (¬1) وثقته [وبعضُهم قال: سمع من سفيانَ الثوريِّ وكان صغيرًا] (¬2). محمدُ بن عبدِ الله ابن المثنَّى بن أنسِ بن مالكٍ الأنصاريُّ البصري، أبو عبدِ الله. وُلد سنةَ ثمانِ عشرةَ ومئة، ووَلِي قضاءَ البصرة للرشيد، ومات بالبصرة وله نيِّفٌ وتسعون سنة. وجَّه المأمونُ إليه خمسين ألفَ درهمٍ، وأمره أن يقسمَها بين الفقهاءِ بالبصرة، وكان هلالُ بن مسلمٍ يتكلَّم على أصحابه، والأنصاريُّ يتكلَّم على (¬3) أصحابه، فقال هلال: هي لي ولأصحابي، قال الأنصاريُّ كذلك، واختلفا، فقال الأنصاريُّ لهلال: كيف تتشهَّد؟ فقال: أَوَ مِثلي يُسأل عن التشهُّد! فتشهَّدَ على حديث ابنِ مسعود، فقال له الأنصاريّ: مَن حدَّثك به؟ من أين ثبت عندك؟ فبقي هلالٌ ساكتًا لا يدري ما يقول، فقال له الأنصاري: أنت تصلِّي كلَّ يومٍ وليلة خمسَ صَلَوات منذ سنين وتردِّد فيها هذا الكلامَ وأنت لا تدري مَن رواه عن نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - قد باعد اللهُ بينك وبين الفقه. فقسمها الأنصاريُّ في أصحابه. أَسندَ عن أبيه وغيرِه، وروى عنه الإمام أحمدُ رحمة اللهِ عليه وغيرُه، وكان صدوقًا ثقة. [وفيها توفِّي] مكِّيُّ بن إبراهيمَ ابنِ بشير بن فَرقد، أبو السَّكَن، التميمي البُرْجُمي البَلخي الحنظلي. أحدُ الرحَّالين ¬

_ (¬1) في (ب): صدقه. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر تاريخ بغداد 14/ 494 - 495، وقال هارون الحمال: سمعته يقول: جالست الثوري وأنا ابن ست عشرة سنة ثلاث سنين. تهذيب الكمال، وتاريخ الإِسلام 5/ 428. (¬3) كذا في (خ)، والمنتظم 10/ 272، والوافي 3/ 303، وفي تاريخ بغداد 3/ 406، وتهذيب الكمال، والسير 9/ 536: عن (في الموضعين) ولم ترد هذه الترجمة في (ب).

في طلب العلم. [وذكره خليفةُ (¬1)] في الطبقة الخامسةِ من أهل خُراسان (¬2) [وذكره ابنُ سعدٍ (¬3) فيمن كان في خُراسانَ من الفقهاء والمحدِّثين بعد الصحابة. وقال: توفِّي ببلخَ سنةَ خمسَ عشرةَ ومئتين، وكان ثقة. قال: وقدم بغدادَ يريد الحجّ، فحجَّ ورجع، وحدَّث الناسَ في ذهابه ورجوعِه، وكتبوا عنه] وكان ثَبْتًا في الحديث [هذا صورةُ ما قال ابنُ سعد. وقال الخطيب: ] (¬4) وُلد سنةَ ستٍّ وعشرين ومئة. وقال [مكي بن إبراهيم]: رأيت بالرَّملة كُرومًا، فقيل لي: هذه غرسها إبراهيمُ بن أدهمَ بيده، يُعرف بها البركةُ إلى اليوم. وقال [الخطيبُ (¬5) بإسناده إلى عبد الصمدِ بن الفضلِ يقول: سمعت مكِّيَّ بن إبراهيمَ يقول: ] حججتُ ستِّين حَجَّة، وتزوَّجت ستِّين امرأة، وجاورتُ بمكَّةَ عشْرَ سنين، وكتبت عن سبعةَ عشرَ نَفْسًا من التابعين، ولو علمتُ أن الناسَ يحتاجون إليَّ ما كتبتُ دون التابعين عن أحد. وفي رواية: وقطعتُ الباديةَ من بلخَ خمسين مرَّةً حاجًّا، ودفعت في كِراء بيوتِ مكةَ ألفَ دينار ومئتي دينارٍ ونيِّفًا. وكانت وفاته [ببلخَ في هذه السَّنة] ليلةَ نصف شَعبانَ وقد قارب مئةَ سنة. أَسند عن بَهْز بنِ حَكيم [وابن جُرَيج، ومالكِ بن أنس، وهشام بن حسَّان] وغيرِهم (¬6)، وروى عنه الإمامُ أحمد ابن حنبل رحمه الله [وعُبيدُ الله (¬7) القواريري، والعبَّاس الدُّوري، والحسنُ بن عَرَفة] وأَخرج عنه البخاريُّ في صحيحه، واتَّفقوا على ¬

_ (¬1) في طبقاته ص 323، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) بعدها في (ب): قال: قدم الشام. وليست في طبقات خليفة. (¬3) في طبقاته 9/ 377، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) لم أقف على كلامه في تاريخه، والخبر -وما بعده- ذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق 25/ 235. (¬5) في تاريخه 15/ 144. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ): وغيره، وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) في (ب): عبد الله. والمثبت من تاريخ بغداد 15/ 143، وتهذيب الكمال.

الوليد بن أبان الكرابيسي

أنَّه محلُّ الصِّدق رحمه الله. الوليدُ بن أَبَان الكرابيسي (¬1) من أكابر المعتزلةِ بالبصرة، وله مقالاتٌ معروفة يقرِّر فيها مذاهبَ المعتزلة (¬2). وقد رُوي رجوعُه عن علم الكلام؛ فقال أحمدُ بن سنان: كان الوليدُ خالي، فلمَّا حضرته الوفاةُ قال لبنيه: هل تعلمون أحدًا أعلمَ مني بعلم الكلام؟ قالوا: لا، قال: فتتَّموني؟ قالوا: لا، قال: فأُوصيكم أَتقبلون مني؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحابُ الحديث، فإني رأيت الحقَّ معهم، ولست أعني الرؤساء، ولكن هؤلاء الممزّقين، ألم ترَ أحدَهم يأتي إلى الرئيس منهم فيخطِّئه ويهجِّنه! [وفيها توفِّي] يَسَرةُ بن صفوانَ ابن جميل أبو صفوانَ الدِّمشقي. أصلُه من البَلَاط قريةٍ بغوطة دمشق [كان يسكنها واثلةُ بن الأسقع. وحكى الحافظُ ابن عساكرٍ عن أبي زُرعةَ الدمشقيِّ أنَّه ذكره في "أهل الفتوى من أهل دمشق" (¬3) قال: وقال الكلاباذي: ] وُلد سنةَ عشرٍ ومئة، وأنشد له (¬4): [من الكامل] ولَربَّما ابتسم الكريمُ من الأذى ... وضميرُه من حرّه يتأوَّهُ ولربَّما خَزَنَ التَّقيُّ لسانَه ... حَذَرَ الجوابِ وإنَّه لَمفوَّه و[اختلفوا في وفاته، فقال الكلاباذي: ] مات في سنة عشرٍ ومئتين، [وقال أبو ¬

_ (¬1) هذه النسبة إلى بيع الثياب. الأنساب 10/ 371. (¬2) كذا قال، وكذا نقل عنه ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة 2/ 210، وفي الكلام نظر. انظر تاريخ بغداد 15/ 612، والمنتظم 10/ 273، وتاريخ الإِسلام 5/ 722، والسير 10/ 548. وانظر ما سيأتي. (¬3) في (خ): كان من أهل الفتوى. وتنظر ترجمته في مختصر تاريخ دمشق 28/ 36، وتاريخ الإِسلام 5/ 483، وتهذيب الكمال، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): ومن شعره. وفي تاريخ الإِسلام 5/ 483: ومن شعره فيما قيل، وفي العقد الفريد 2/ 283: للأحنف أو غيره.

زُرْعة: ] (¬1) سنة خمسَ عشرةَ ومئتين. أسند عن إبراهيمَ بن سعدٍ الزُّهريِّ [وهشيم بن بشير، وشريك بن عبد الله القاضي] وغيرِهم (¬2)، وروى عنه [ابنهُ صفوانُ بن يَسَرة، ودُحَيم، و] أبو زُرْعَة الدمشقي [وأبو حاتِمٍ الرازي، في آخرين. قال الكلاباذي: وأخرج عنه البخاريُّ في تفسير سورة الحُجُرات، وغَزَاة أُحد، والتوحيد، ووفاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -]. وكان صالحًا صدوقًا ثقة. * * * ¬

_ (¬1) في تاريخه 2/ 707. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): وغيره. وما بين حاصرتين من (ب).

السنة السادسة عشرة بعد المئتين

السنة السادسةَ عشْرةَ بعد المئتين فيها عاد المأمونُ من دمشقَ إلى بلاد الروم [واختلفوا في سبب عودِه إليها على قولَين: أحدهما أنَّه بلغه] أنَّ ملكَ الروم (¬1) قَتَلَ من أهل طَرَسوسَ ألفًا وستَّ مئة رجلٍ ومن أهل المَصِّيصة، فقطع المأمونُ الدربَ [وذلك] في [شهر] جُمادى الأولى، فلم يزل مقيمًا إلى نصف شعبان. والثاني (¬2): أنَّ توفيل كتب إلى المأمون كتابًا بدأ فيه بنفسه، فعزَّ على المأمون ولم يقرأْه، وسار يقصده، فوافته رسلُ ملكِ الرُّوم بأَذَنَة، وبعث معهم بخمس مئةِ أسيرٍ من المسلمين، ونزل المأمونُ على الهِرَقْلة، فخرج إليه أهلُها على صُلح، وبعث أخاه أبا إسحاقَ [بن الرشيد] ففتح ثلاثين حصنًا، ووجَّه يحيى بنَ أكثمَ من طُوَانة، فقتل وسبى وعاد إلى العسكر، وعاد المأمونُ إلى الشام وجعل طريقَه على كَيسُوم (¬3)، فأقام يومين [أو ثلاثة] (¬4) ثمَّ سار إلى حلبَ وعاد إلى الشام. و[روى الحافظُ ابن عساكرٍ (¬5) بإسناده إلى أبي القاسمِ العَبديِّ أنَّ] في هذه الغَزَاةِ (¬6) وجد المأمونُ قصرًا عاديًّا مبنيًّا بالرُّخام الأبيض [ببلاد الروم وكأنَّ الصابغ قد خرج منه الآن، وعليه مِصراعان مردومان، عليهما كتابةٌ بالحِميَرية، فنُقل إلى العربية، وإذا هي: باسمك اللَّهم (¬7): [من المنسرح] ما اختلف الليلُ والنهارُ ولا ... دارت نجومُ السماءِ في فَلَكِ وقد ذكرنا الأبياتَ في ترجمة الأمينِ في السَّنة الثامنةِ والتسعين ومئة. فأمر بفتح ¬

_ (¬1) في (خ): وذلك لأنَّ ملك الروم. وما بين حاصرتين من (ب). وانظر تاريخ الطبري 8/ 625. (¬2) في (خ): وقيل. (¬3) في (ب) و (خ): كيسون. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 625، وابن الأثير 6/ 419. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في تاريخه 2/ 706 (مخطوط)، وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (ب): السنة. وفي تاريخ دمشق: عن أبي القاسم العبدي قال: قال المأمون: بينما أدور في بلاد الروم وقفت على قصر عادي. . . الخبر. (¬7) في تاريخ دمشق: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

المصراعَين، وإذا بقُبَّة من الرُّخام] مكتوبٌ عليها (¬1) بالحِمْيَرية: [من مجزوء الرجز] لَهْفي على مختلَسِ ... في قبرِه محتَبَسِ قد عاش دهرًا مَلِكًا ... منعَّمًا بالأُنْس لم ينتفعْ لمَّا أتى ... بجنده والحَرَس وفي القُبَّة قبر، فأمر بفتحه، ففُتح، وإذا بميِّت على سريرٍ من الذهب، وعند رأسه لوحٌ من الذهب مكتوبٌ عليه بالحِمْيَرية: [من البسيط] الموتُ أَخرجني من دار مملكتي ... فالتُّربُ مُضطَجَعي من بعد تَتْريفِ للهِ عبدٌ رأى قبري فأَحزنه ... وخاف من دهره رَيبَ التصاريف أستغفرُ اللهَ من ذنبي ومن زَلَلي ... وأسأل اللهَ عفوًا يوم توقيفي [وقيل: إنَّ هذا القصرَ وُجد باليمن، وإنَّ الميِّتَ هو تُبَّعٌ المؤمن. والله أعلم] (¬2) وفيها وثب عبدُ القُدُّوس (¬3) الفِهري بمصرَ وقتل عمَّال المعتصم، وذلك في شعبان، فسار المأمونُ إلى مصرَ في ذي الحِجَّة. وفيها قدم الأَفشينُ من بَرْقَة منصرفًا عنها، فأقام بمصر. وفيها كتب المأمونُ إلى إسحاقَ بن إبراهيمَ ببغداد [يأمره] أن يأخذَ الجندَ بالتكبير إذا صلَّوا الجُمُعة، وبعد الصَّلوات الخمسِ إذا قضَوا الصلواتِ أن يقوموا قيامًا ويكبِّروا ثلاثَ تكبيرات، ففعل ذلك في شهر رمضان [جانبَي بغداد] في جامع المنصورِ وجامع الرُّصافة [فكانوا يفعلون ذلك عقيبَ كلِّ صلاة] (¬4) فقال الناس: هذه بدعةٌ ثانية. وفيها أباح المأمونُ المُتعةَ، فقال الناس: بدعةٌ ثالثة [وسنذكر القصَّة في ترجمة ابنِ أكثم] (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): عليه. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في المصادر: عبدوس. انظر تاريخ الطبري 8/ 625، والمنتظم 10/ 274، والكامل 6/ 419، والبداية والنهاية 14/ 200. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

إسماعيل بن جعفر

وفيها غضب المأمونُ على عليِّ بنِ هشام، وبعث إليه عُجيفًا وأحمدَ بن هشامٍ لقبض أموالِه وأسبابه. وفيها قدم غسانُ بن عبَّادٍ من السِّند وقد استأمن إليه بِشرُ بن داودَ المهلَّبي، وأصلح غسانٌ السِّند، واستعمل عليها عمرانَ بن موسى البرمكي، فقال شاعرٌ من الشعراء: سيفُ غسان رونقُ الحزمِ فيهِ ... وسهامُ الحتوفِ في ظُبَتَيهِ فإذا جرَّه (¬1) إلى بلد السِّنـ ... ـــدِ فأَلقى المقادَ بِشرٌ لديه ظالمًا لا يعود ما حجَّ لله ... مصلٍّ وما رمى جَمْرتَيه غادرًا يخلع الملوكَ (¬2) ويقتا ... دُجنودًا تأوي إلى ذِرْوَتَيه ثمَّ لحق غسانٌ بالمأمون. و[اختلفوا فيمن] حجَّ بالناس [على قولين: أحدهما]: سليمانُ بن عبدِ الله بن سليمانَ بن عليِّ بن عبدِ الله بن عباس. [الثاني: ] (¬3) عبدُ الله بن عُبيد اللهِ بن العباس بن محمَّد بن عليِّ بن عبد اللهِ بن عباس، وكان المأمونُ قد ولَّاه اليمن [وجعل إليه ولايةَ كلِّ بلدٍ يدخله حتى يصلَ إلى اليمن] فخرج من دمشقَ فوصل إلى بغداد، فصلَّى بالناس يومَ الفطر، ثمَّ شخص إلى الحجِّ يومَ الاثنين لليلةٍ خَلَتْ من ذي القَعدة، فأقام الحجَّ للناس. وفيها توفِّي إسماعيلُ بن جعفر ابن سليمانَ بن عليِّ بن عبدِ الله بن عباس، أبو الحسن. كان من رِجالات بني هاشمٍ وأفاضلِهم، طُوالًا مَهيبًا، جَوَادًا، محترمًا بين أهلِه، ذا مروءةٍ ظاهرة، عاقلًا، لم يلِ له ولاية (¬4)، ولم يدخلْ في أمرٍ من أمور الدنيا. ¬

_ (¬1) في (خ): قاد حرارة. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 626، وفيه أيضًا: الحرب، بدل الحزم، وسمام، بدل: سهام. والظُّبَة: حدُّ السيف. القاموس (ظبي). (¬2) في (خ): عاد الخلع للملوك. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬3) في (خ): وقيل. (¬4) كذا في (خ)، وفي تاريخ الإِسلام 5/ 277: لم يل لبني عمه ولاية. وفي الوافي بالوفيات 9/ 104: لم يَلِ ولاية. وتنظر ترجمته أيضًا في تاريخ بغداد 7/ 238.

زبيدة

وكانت وفاتُه ببغدادَ والمأمونُ في بلاد الروم، فصلَّى عليه إسحاقُ بن إبراهيم، ودُفن بمقابر قريش، وروى عن أبيه وجدِّه (¬1). [وفيها توفِّيت] زُبيدةُ أَمَةُ العَزيز بنتُ جعفرِ بن أبي جعفرٍ المنصور وتُكنى أمَّ جعفر. وُلدت في زمن المنصور [وكان يرقّصها ويقول: أنت زُبدة وزُبَيدة، فغلب ذلك الاسمُ عليها، وقد ذكرناها] وهي زوجةُ الرشيد وأمُّ الأَمين. وكان هارونُ قد شكا لعبد اللهِ بن مصعبٍ الزُّبيري أن زبيدة لا تَحمل [منه]، فقال [له]: أَغِرها؛ فإنَّ إبراهيمَ الخليلَ - عليه السلام - كانت عنده سارةُ فلم تَحملْ منه، فحملت هاجرَ، فغارت سارةُ فحملت بإسحاق، فأَغار هارونُ زبيدةَ بمَرَاجل، فولدت زبيدةُ الأمين، وولدت مراجلُ المأمونَ في سنةٍ واحدة. [قلت: وقد أخطأَ الزُّبيريّ؛ فإنَّ حَمْلَ سارةَ ما كان باعتبار الغَيرة، وقد ذكرناه في صَدر الكتاب. ذكرُ طَرَفٍ من أخبارها: قال علماءُ السِّيَر: ] (¬2) كانت زُبيدةُ صاحبةَ المعروفِ والصَّدقات، وأبوابِ البرِّ على الفقراء والعلماءِ والمساكين وأَربابِ البيوت، ولها الآثارُ الجميلة بأرض الحجازِ ومكَّةَ والمدينة، وحفر الآبارِ والمصانع، وإنفاق الأموالِ الجزيلة في أهل الحَرَمين، وأُحصي ما أنفقت في الحجاز فكان ألفَي ألفِ دينار، وبلغت نفقتُها في حَجَّتها ألفَ ألفِ دينار. [وروى الخطيبُ (¬3) عن] إسماعيلَ بن جعفرِ بن سليمانَ قال (¬4): حجَّت أمُّ جعفرٍ ¬

_ (¬1) وكذا في الوافي بالوفيات، وفي تاريخ الإِسلام: عن أبيه عن جده. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وتنظر ترجمتها في تاريخ بغداد 16/ 619، والمنتظم 10/ 276، والسير 10/ 214، وبقية مصادر ترجمتها ثمَّة. (¬3) في تاريخه 16/ 620. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): وقال إسماعيل بن جعفر بن سليمان.

فبلغت نفقتُها في ستِّين يومًا أربعةً وخمسين ألفَ ألفِ درهم، فرفع إليها وكيلُها (¬1) حسابَ النفقة، فنهته عن ذلك وقالت: ثوابُ اللهِ بغير حساب. وحبس وكيلُها رجلًا كان ينظر في ضِياعها، قد أَخذ من مُغَلِّها مئتَي ألفِ درهم، فشفع فيه الفيضُ بن أبي صالح، فلم تشفِّعْه وقالت: لا بدَّ من المال، وكان الفيضُ قد أتى إلى بابها، فلما مَنعتْ، أخذ الدَّواة وكتب إلى وكيله يحمل ما على الرَّجل إلى ديوانه (¬2)، وكتب إليها صاحبُ الخبرِ بذلك، فقالت: نحن أَوْلى من الفيض بهذه المَكْرُمة، أَطلِقوا له الرَّجل، ولم تأخذْ منه شيئًا. [وقد ذكرنا اجتماعَ المأمونِ بزبيدةَ وما جرى له معها لمَّا دخل بغداد] (¬3). و[قال الصُّولي: ] دخل المأمونُ يومًا على أمِّ جعفرٍ وعلى رأسها جاريةٌ من جواري الأمينِ مُغنِّية، فعرفها [المأمون] فقال: غنِّي، فقالت: أَبعدَ مولاي! فأشارت إليها زُبيدة: غنِّي، فغنَّت: [من الطويل] همُ قتلوه كي يكونوا مكانَه ... كما غدرتْ يومًا بِكسرى مَرَازِبُهْ فإلَّا تكونوا قاتِلِيه فإنَّه ... سواءٌ عليه ما سِكُوه وضارِبُهْ فتغيَّر وجهُ المأمون، فقالت زُبيدة: واللهِ ما علمتُ ما في ضميرها، فصدَّقها، وعجب من هذا الاتِّفاق، فتطيَّر وأَيقن بالموت وقُربِ الأجل، فخرج إلى بلاد الرومِ ولم يعُدْ إلى بغداد. [وهذا الشِّعر للوليد بن عُقبة في عثمان - رضي الله عنه -، وقد ذكرناه فيما تقدَّم، إلَّا أنَّ فيه زيادةً ذكرها الصُّولي، وهي أنَّ المأمون لم يَعُدْ إلى بغداد] (¬4). وكانت وفاة زبيدة في جمادى الأولى هذه السنة، ودفنت بمقابر قريش. ¬

_ (¬1) قوله: فرفع إليها وكيلها ... ، ليس في تاريخ بغداد، وهو في المنتظم 10/ 277. (¬2) في (ب) و (خ): ديوانها. ولعله سهو. وانظر المنتظم 10/ 277. (¬3) انظر فصل: ذِكر مقتله، من ترجمة محمَّد الأمين في السنة الثامنة والتسعين ومئة. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

محمد بن بكار

[وروى الخطيبُ (¬1) عن] عبد الله بن المبارك الزَّمِنِ قال (¬2): رأيتُ زبيدةَ في المنام وفي وجهها صُفْرة، فقلت: ما فعل اللهُ بكِ؟ قالت: غفر لي في أوَّل مِعْوَلٍ ضُرب بطريق مكَّة، قلت فما هذه الصُّفرةُ في وجهك؟ قالت: دُفن بين أَظهُونا رجلٌ يقال له: بِشْرٌ المَرِيسي، زفرت عليه جهنمُ زفرةً فاقشعرَّ لها جِلدي [أو جسدي]، فهذه الصُّفرةُ من تلك الزَّفرة، [وفي رواية: فرأيتُ في وجهها سُفْعة] (¬3)، وأصاب مَن حولي من ذلك. وقال القاضي التَّنوخي: إنَّ زبيدةَ لمَّا ماتت رُئيت في المنام، فقيل لها: ما فعل اللهُ بك؟ قالت: غفر لي، قيل: بحفرك الآبارَ والمصانع وفعلِك بطريق مكَّة ما فعلت؟ قالت: لا، تلك أموالٌ كانت مغصوبة، رجع ثوابُها إلى أَربابها. قيل: فبماذا؟ قالت: جلستُ يومًا وبين يديَّ جواريّ، فأخذن العيدانَ وشرعنَ يغنِّين، وإذا بصوت المؤذِّن، فقلت: ضعْن عيدانكنّ، وقلنَ كما قال المؤذِّن، فلما متُّ أَوقفني الحقُّ بين يديه وقال: يا ملائكتي، هذه زبيدةُ التي ذكرتْني في وقت لذَّتِها، أُشهدكم أنِّي قد غفرتُ لها. [انتهت ترجمة زبيدة، والحمد لله. فصل: وفيها توفِّي محمدُ بن بكَّار ابنِ بلال أبو عبدِ الله، قاضى دمشق. ذكره أبو زُرعةَ الدمشقيُّ في "أهل الفتوى بدمشق" وأَثنى عليه. قال: (¬4) وشهدت جنازتَه عند منصرِفه من الحجِّ في المحرَّم سنةَ ستَّ عشرةَ ومئتين. وكان ثقةً صدوقًا، أخذ عن اللَّيث بنِ سعد وغيره، وروى عنه ابناه هارونُ والحسن، وابنُ ابنه أبو عليٍّ الحسنُ [بن أحمدَ] (¬5) بن محمَّد بن بكار، وأحمدُ بن أبي الحَوَاري، وأبو زُرعةَ الدمشقي، وأبو حاتِمٍ الرازي، وغيرُهم. ¬

_ (¬1) في تاريخه 16/ 620. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): وقال عبد الله بن المبارك الزمن. (¬3) السُّفْعَة: سوادٌ في خَدَّي المرأة الشاحبة. الصحاح (سفع). وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في تاريخه 1/ 282 - 283، 2/ 708. والترجمة ليست في (خ). (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 61/ 157، وتهذيب الكمال.

محمد بن عباد

ومات وهو ابن أربعٍ وسبعين]. محمدُ بن عبَّاد [ابنِ عبَّاد] (¬1) بن حَبيب بن المهلَّب بن أبي صُفْرةَ ظالمِ بن سرَّاق. ولي إِمرةَ البصرة والصلاةَ بها، وكان جَوادًا ممدَّحًا. قدم على المأمون، فقال له: يا محمَّد، لقد أردتُ أن أولِّيَك، فمنعني إسرافُك في المال، فقال: يا أميرَ المؤمنين، مَنْعُ الموجودِ سوءُ ظنٍّ (¬2) بالمعبود. فقال له المأمون: لو شئتَ أبقيتَ على نفسك؛ فإنَّ الذي تنفقه بعيدُ الرجوع، فقال محمَّد: مَن له مولَى غنيٌّ لا يفتقر. فاستحسن ذلك منه، وقال للناس: مَن أراد أن يُكرِمَني فلْيكرمْ ضيفي محمدَ بن عباد، فجاءت الأموالُ من كلِّ ناحية، فما برح وعنده منها درهمٌ واحد، وقال: إنَّ الكريمَ [لا] (¬3) تحنِّكه التجارب. ووصله المأمونُ بستَّة آلافِ ألف درهم، ومات وعليه خمسون ألفَ دينار. وقال له المأمون: يا محمَّد، بلغني أنَّه لا يَقدَم أحدٌ البصرةَ إلَّا دخل دارَ ضيافتِك قبل أن ينصرفَ في حاجاته، فكيف تَسَعُ لهذا! وكتب إليه منصورُ بن المَهديِّ يسأله دَينًا عليه، فبعث إليه بعشرة آلافِ دينار. وقال له المأمون: ما أكثرَ الطاعنين في آل المهلَّب! فقال: [من البسيط] إنَّ العرانينَ (¬4) تلقاها مُحسَّدةً ... ولا ترى لِلِئامِ الناسِ حُسَّادا وهذا البيتُ لعُمرَ بنِ لجأَ (¬5) في يزيدَ بنِ المهلَّب من أبيات، منها: ¬

_ (¬1) في (خ): عبادة، وهو خطأ، وما بين حاصرتين من المصادر. انظر تاريخ بغداد 3/ 646، والمنتظم 10/ 279، والسير 10/ 189. والترجمة ليست في (ب). (¬2) في (خ): الظن. والمثبت من المصادر. (¬3) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬4) في (خ)، وتاريخ بغداد 3/ 648، والمنتظم 10/ 280: الغرانيق، والمثبت من سائر المصادر، انظر العقد الفريد 2/ 324، والحماسة البصرية 1/ 142، ووفيات الأعيان 6/ 283. وعَرانين القوم: سادتهم. الصحاح (عرن). (¬5) في (خ): نجا، وهو خطأ.

آلُ المهلَّب قومٌ إنْ نسبتَهمُ ... كانوا الأكارمَ (¬1) آباءً وأجدادا كم حاسدٍ لهمُ يَعْيَا (¬2) لفضلهمُ ... ولا دنا من مساعيهمْ ولا كادا وقال إبراهيمُ بن عبدِ الرحمن: لمَّا احتضر محمدُ بن عبَّاد، دخل عليه نفرٌ من قومه كانوا يحسُدونه، فلمَّا خرجوا قال متمثِّلًا: [من الطويل] تمنَّى رجالٌ أن أموتَ فإنْ أَمُت ... فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأَوحدِ فما عيشُ مَن يبقى خلافي بضائري ... ولا موتُ مَن يَمضي أمامي بمُخْلِدي (¬3) فقل (¬4) للذي يبقى خلافَ الذي مضى ... تهيَّأ لأُخرى مِثلها فكأنْ قدِ وكانت وفاتُه بالبصرة. وقيل: للعُتْبي: مات محمدُ بن عبَّاد، فقال: [من مجزوء الخفيف] نحن متْنا بفَقْدِهِ ... وهو حيٌّ بمجْدِهِ قدم محمدٌ بغداد، وحدَّث بها عن أبيه وعن صالح المُرِّي وهُشَيم، وروى عنه إبراهيمُ الحَرْبي والكُدَيمي وأبو العَيناءِ وغيرُهم. * * * ¬

_ (¬1) في (خ): المكارم. والمثبت من المصادر. (¬2) في (خ): بغيًا. والمثبت من ديوانه، والوافي بالوفيات. (¬3) في (خ) مخلدي. والمثبت من تاريخ بغداد 3/ 648، والمنتظم 10/ 281. (¬4) في (خ): قل.

السنة السابعة عشرة بعد المئتين

السنةُ السابعةَ عشْرةَ بعد المئتين فيها ورد المأمونُ مصرَ في المحرَّم، فأُتي بعبدوس الفِهري، فضرب عُنقَه وعاد إلى دمشق. وفيها قتل المأمونُ عليًّا وحُسينًا ابنَي هشامٍ بأَذَنَةَ في جُمادى الأولى. وفيها دخل المأمونُ أرضَ الروم، فنزل على لؤلؤة، فأقام عليها ثلاثةَ أشهرٍ وعشرةَ أيام، ورحل عنها وخلَّف عليها عُجَيفًا، فخدعه أهلُها وأَسَروه، فأقام في أيديهم ثمانيةَ أيام، ثمَّ أَطلقوه، وسار توفيل ملكُ الرومِ إلى لؤلؤة، فأحاط بعُجَيف، وبلغ المأمونَ، فصرف الجنودَ إليه، فارتحل قبل موافاتهم، ورجع أهلُ لؤلؤةَ إلى عُجَيف بأمان. وفيها كتب توفيل ملكُ الرومِ إلى عبد اللهِ ملكِ المسلمين: أما بعد، فإنَّ اجتماع المختلفَين على حظِّهما أَولى بهما من الدأْب فيما يعود بالضَّرر عليهما، ولستَ حَرِيًّا أن تدعَ لحظٍّ يصل إلى غيرك حظًّا تجرُّه إلى نفسك، وفي علمك كافٍ عن إخبارك، وقد كتبتُ إليك داعيًا إلى المسالمة، راغبًا في فضيلة المهادَنة، لنضعَ أوزارَ الحرب عنَّا، وتكونَ الموادعة، وتتصلَ بيننا المرافقُ بأمن السُّبل، فإن أجبتَ حصل المراد، وإن أبيتَ خضت إليك همًّا وغمًّا، وملأت بلادَك بخَيل الروم ورَجِلها، وقدَّمتُ المعذرةَ إليك، وأقمت الحجَّةَ عليك، والسلام. وبعث بالكتاب مع وزيرٍ يقال له: الصقيل (¬1)، فلما قرأه المأمونُ استشاط غضبًا، وكتب إليه: من عبد اللهِ المأمونِ أميرِ المؤمنين إلى كُليب الروم، أما بعد: فقد بلغني كتابُك فيما سألتَ من الهُدنة، ودعوتَ إليه من الموادعة، وخلطتَ فيه من اللِّينَ بالشدَّة. . . وذكر كلامًا في هذا المعنى، وقال في آخره: وأنا أدعوك للمِلَّة الحنيفية، والشريعةِ الإِسلامية، أو جزيةٍ تَحقن بها دمَك، فإن أَبيت، ففي المعاينة ما يُغني عن الإغراق في ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، وفي تاريخ الطبري 8/ 629: الفضل.

علي بن هشام بن فرخسرو

الصِّفة، ولا ينال عهدي الظالمين. ثمَّ تقدَّم فنزل على سَلَغُوس، وعزم يُنيخ على خليج القُسْطنطينية، فخاف هجوم الشتاء. وفيها وقع حريقٌ بالبصرة، فأَتى على أكثرها، فصاح رجل: قد علمتم أنَّ لي في نهر كذا وكذا كذا وكذا جَرِيبًا، فمن خلَّص ابنتي أخذ منها عشرة، قبلَّ رجلٌ كساءَه ودخل النار، وغاب ساعةً ثمَّ خرج ومعه بنتُ الرَّجل، فوقع مغشيًّا عليه من حرِّ النار، فلمَّا أفاق قال له أبوها: اذهب فخذْ ما شئت، فقال: لا واللهِ لا آخذ شيئًا، قال: ولم؟ قال: لو دخلتُ النارَ على طمعٍ لَمَا خَلَصتُ لا أنا ولا هي، ما دخلتها إلَّا على غير طمع، بل لله تعالى. ولم يأخذْ منه شيئًا. وحجَّ بالناس سليمانُ بن عبدِ الله بن سليمانَ بن عليّ. وفيها توفِّي عليُّ بن هشامِ بن فَرَّخُسْرو (¬1) أبو الحسن، القائدُ المَرْوَزي. أحد قوَّاد المأمونِ وندمائه، وكان قريبًا منه، فرُفع إلى المأمون سوءُ سيرته في رعيَّته، وكان قد ولّاه كُوَر الجبال، فقتل الرِّجال وأخذ الأموال، فوجَّه إليه المأمونُ عُجَيفَ بن عَنْبسة، فأراد أن يفتكَ به ويلحقَ ببابَك الخُرَّمي، فظفر به عُجيفٌ وقدم به على المأمون، فأمر بضرب عُنقِه، فقتله عليُّ بن الخليل ابنُ أخيه، وأمر بضرب عُنقِ أخيه الحسينِ (¬2) محمدَ بنَ يوسف ابنَ أخيه، فقتله، وذلك يومَ الأربعاء، بأَذَنَة، في جُمادى الأولى. وبعث المأمونُ برأس عليِّ إلى بغدادَ وخُراسانَ والجزيرةِ والشام ومصر، وطيف به، وأُلقي في البحر. وكتب المأمونُ على الرأس رُقعة، وفيها: ¬

_ (¬1) في (خ): موخسرو. والمثبت من تاريخ دمشق 52/ 18، والوافي 22/ 288، وبقية مصادر ترجمته ثمَّة، والترجمة غير موجودة في (ب). (¬2) في (خ): بن محمَّد. وهو خطأ، انظر تاريخ الطبري 8/ 627.

أما بعد، فإنَّ أميرَ المؤمنين دعا عليَّ بن هشامٍ فيمن كان دعا أيامَ المخلوعِ (¬1) من أهل خُراسانَ إلى معاونته، فأجاب، فرعى له ذلك، وولَّاه الأعمال السَّنيَّة، ووصله بالصّلات الجزيلة، فبلغت أكثرَ من خمسين ألفَ ألفِ درهم، فمدَّ يده إلى الخيانة، والتضييعِ لما استرعاه من الأمانة، فباعده عنه وأَقصاه، ثمَّ استقال أميرَ المؤمنين، فأَقاله عَثْرتَه، وولَّاه الجبال وإِرْمِينيَةَ وأَذْرَبيجان، ومحاربةَ أعداءِ الله الخُرَّميَّة، على ألا يعودَ إلى ما كان، فأَساء السِّيرة، وعَسَفَ الرَّعية، وسفك الدماءَ المحرَّمة، فوجَّه أميرُ المؤمنين عُجيفَ بن عنبسةَ مباشرًا لأمره، وداعيًا إلى تلافي ما كان منه، فوثب بعجيفٍ يريد قتلَه، فظفر به عجيفٌ ودفعه عن نفسه، ولو تمَّ ما أراد [لَكان في ذلك ما لا يُستدرك ولا يستقال، ولكنَّ الله إذا أرادَ] (¬2) أمرًا كان مفعولًا، فلما أَمضى أميرُ المؤمنين من حكم اللهِ في عليِّ بن هشام، رأى ألا يؤاخذَ مَن خلفه بذنبه، وأَجرى على مَن ترك من ولده وعيالِه ومَن اتصل بهم في حال حياتِه ما كان جاريًا عليهم بعد مماتِه، والسلام. وكان عليُّ بن هشامٍ فاضلًا شاعرًا، وكان المأمونُ يزوره في بيته، ومن شِعره: [من البسيط] يا موقِدَ النارِ يُذْكيها فيُخمدُها ... قُرُّ الشتاءِ بأرياحٍ وأمطارِ قم فاصطلِ من فؤادي النار مُضْرَمَةً (¬3) ... بالشوق تَغْنَ بها يا موقدَ النار ويا أخا الذّودِ قد طال الظَّماءُ بها ... ما تعرف الرِّيَّ من جَدْبٍ وإِقتار رُدَّ العِطاش على عيني ومَحْجِرِها ... تُروَ العِطاشُ بدمعٍ واكفٍ جاري إنْ غاب شخصُك عن عيني فلم تره ... فإنَّ ذِكرَك مقرونٌ بإضماري ومرَّت جاريةٌ له بعد قتلِه على قصره، فبكت وقالت: [من السريع] يا مَنْزلًا لم تَبْلَ أطلالُهُ ... حاشا لأطلالك أن تَبلَى ¬

_ (¬1) في (خ): إمامًا مخلوع. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري. (¬3) في تاريخ دمشق 52/ 18: النارَ من قلبي مُضَرَّمةً، وفي الوافي 22/ 289: من أحشاي.

عمرو بن مسعدة

لم أَبْكِ أطلالكَ لكنَّني ... بكيتُ عيشًا فيك إذ ولَّى قد كان لي فيك هوىً مرَّةً ... غيَّبه التُّربُ وما مُلَّا والعيشُ أَوْلى ما بكاه الفتى ... لا بدَّ للمحزون أن يَسْلَى (¬1) واسمُ هذه الجاريةِ مُراد، وكانت شاعرةً فصيحةً رئيسة، فقالت: [من المجتث] هل مُسْعِدٌ لبكائي ... بعَبرةٍ (¬2) أو دماءِ وذاك منِّي قليلٌ ... لسيِّد النُّجبَاء أبكيتهمْ (¬3) في صباحي ... بلَوعتي ومسائي [وفيها توفِّي] عَمرُو بن مَسعدةَ ابنِ سعيد بن صُوْل أبو الفضل الصُّولي. أحدُ كتَّاب المأمون وخاصَّتِه. [وقال الخطيب: ] (¬4) كان له ببغدادَ فوق الجسرِ ساباطٌ يُعرف به، وكان جوادًا ممدَّحًا فاضلًا رئيسًا نبيلًا جليلًا، ذا مروءةٍ ظاهرةٍ، وفيه يقول الشاعر (¬5): [من الطويل] لَشتَّانَ بين المدَّعين وزارةً ... وبين الوزيرِ الحقِّ عَمرِو بن مَسعَدهْ فهمُّهمُ في الناس أن يَجبَهوهمُ ... وهمُّ أبي الفضلِ اصطناعٌ ومَحمدَه قال عَمرو بن مَسعدة: كنت مُصعدًا من واسط إلى بغدادَ في حرٍّ شديد، فبينا أنا في الزلَّال (¬6)، إذا برجلٍ ينادي: يا صاحبَ الزلَّال، بنعمة اللهِ عليك إلَّا نظرتَ إليّ، ¬

_ (¬1) الأغاني 7/ 302 - 303، وتاريخ دمشق 52/ 23 وليس فيه البيت الأخير. (¬2) في (خ): بعبر: والمثبت من الأغاني 7/ 303، وتاريخ دمشق 52/ 23، وتحرفت في مطبوع الإماء الشواعر للأصفهاني ص 88 إلى: بعرة! ! . (¬3) في الأغاني وتاريخ دمشق والإماء: أبكيهم. (¬4) في تاريخه 14/ 112. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) هو عمرو بن أبي بكر العدوي القرشي، كما في معجم الشعراء للمرزباني ص 34 - 35. (¬6) في (خ): الزلازل، في المواضع كلها والمثبت من الفرج بعد الشدة 3/ 314، والمنتظم 11/ 10، والزلَّال: ضرب من السفن الصغيرة والسريعة، كانت معروفة بنهاية العصر العباسي، ورد ذكرها في بعض المصادر بلفظ: زلّالة. معجم المصطلحات والألقاب التاريخية لمصطفى الخطيب ص 223.

فكشفتُ [سَجْفَ] (¬1) الزلَّالِ، وإذا بشيخٍ ضعيفٍ حاسر، فقال: قد ترى ما أنا فيه، ولستُ أجد من يحملني، فابتغِ الأجرَ فيَّ، فأدركتني له رِقَّة، وأمرتُ بحمله، وكسوته ثوبًا ونقدًا معي، فقلت: حدِّثني حديثَك. فقال: حديثي طويل: أنا رجلٌ كانت لله عليَّ نعمة، وكنت صَيرفيًّا، فابتعتُ جاريةً بخمس مئةِ دينار، فشُغفتُ بها، وكنت لا أقدر أن أُفارقَها ساعة، فتعطَّل مكسبي، وأنفقتُ رأسَ المال، ولم يبقَ لي قليلٌ ولا كثير، وحَمَلَت الجارية، فأقبلتُ أَنقض داري وأبيع الأنقاضَ حتى فرغت من ذلك، ولم يبقَ لي حيلة، فأَخذها الطَّلْق، فقالت: إنني أموت، فاحتلْ في دقيقٍ وعسل وشَيْرَج (¬2) وحاجتي، قال: فبكيت، وخرجتُ على وجهي وجئت إلى دِجلة، وهممتُ أن أُغرق نفسي فيها، فخفتُ من الله عزَّ وجلَّ، فخرجت على وجهي في البرِّيَّة من قريةٍ إلى قرية، حتى بلغت خُراسان، فصادفتُ مَن عرفني، واكتسبتُ مالًا عظيمًا، وكتبتُ إلى بغدادَ كتبًا كثيرةً نحو ستِّين كتابًا، إلى الجارية، فلم يَصِلني جواب، فلم أشكَّ إلا أنَّها ماتت. وتراخت فيَّ الأيامُ والسِّنون، وحصل معي ما قيمتُه عشرون ألفَ دينار، فقلت: أَعود إلى وطني، فاشتريتُ متاعًا من خُراسانَ وخرجت، فقطع عليَّ اللصوصُ الطريق، فأخذوا ما معي وما كان في القافلة، وعُدْتُ فقيرًا كما خرجتُ من بغداد، ولي منذ فارقت بغدادَ ثمانيةٌ وعشرون سنة. قال عَمرو: فقلت: إذا صرتَ إلى بغدادَ فَصِرْ إليَّ حتى أُصرِّفَك فيما يصلح لمثلك، ووهبتُ له دراهم، ودخلنا بغداد، ومضت مدَّةٌ ونسيته، فبينا أنا يومًا في موكبي أريد دارَ الخلافة، وإذا بالشيخ راكبًا على بغلٍ بمركب ثقيلٍ وعليه ثيابٌ رفيعة، وبين يديه غلامٌ أسودُ وهو واقفٌ على بابي، فسلَّم علي، فرحَّبتُ به وقلت: ما الخبر؟ قال: حديثي طويل، فقلت: عُدْ غدًا إليّ، فلما كان من الغد جاءني، فقلت: قد سُرِرت بحالك فحدِّثْني. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من الفرج والمنتظم، والسَّجْف: السِّتْر. القاموس (سجف). (¬2) الشيرج: دهن السمسم.

قال: لمَّا صعدتُ من زَلَّالك قصدت داري، فرأيت حائطَها كما تركته، إلا أنَّ الباب قد غُيِّر بباب مَجلوٍّ نظيف، وعليه بوَّاب، فقلت: إنَّا لله، ماتت جاريتي وملك الدارَ بعضُ الجيران فباعها على رجلٍ من أصحاب السلطان، ثمَّ تقدَّمتُ إلى دكَّان بقَّالٍ كنت أعرفه في المحلَّة، وإذا فيها غلامٌ حَدَث، فقلت: مَن تكون من فلانٍ البقَّال؟ فقال: ابنُه، قلت: ومتى مات أبوك؟ قال: منذ عشرين سنة، قلت: ولمن هذه الدار؟ قال: لابن دايةِ أمير المؤمنين، وهو الآن جِهْبِذُه (¬1) وصاحبُ بيت ماله، قلت: فبمن يُعرف؟ قال: بابن فلانٍ الصَّيرفي، فذكر اسمي، قلت: فهل يعيش أبوه؟ فقال: كان رجلًا جليلًا فافتقر، وإنَّ أمَّ هذا الصبيِّ ضربها الطَّلق، فخرج أبوه يطلب لها شيئًا، ففُقد وهلك. قال لي أبي: فجاءني رسولُ هذه المرأةِ يستغيث بي، فقمت لها بحوائج الولادة، ودفعت إليها عشرةَ دراهم، فأنفقتها، فقيل: وُلد لأمير المؤمنين الرشيدِ وَلَدٌ ذَكَر، وقد عرض عليه الداياتِ فلم يقبل ثديَ امرأة، قال أبي: فأرشدتُ الذي كان يطلب الداياتِ إلى أمِّ هذا، فحُملت إلى دار أميرِ المؤمنين الرشيد، فحين وُضع فمُ الصبيِّ على ثديها قَبِلَه، فأَرضعته، وكان الصبيُّ المأمون، ونشأ الصبيُّ وصار عندهم في حالةٍ جليلة، ووصل إليه منهم أموالٌ عظيمة. ثمَّ خرج المأمونُ إلى خُراسان، فخرجت هذه المرأةُ وابنُها معها، ولم نعرفْ من أخبارهم شيئًا إلا منذ قريبٍ، لمَّا عاد المأمونُ من خُراسانَ وعادت حاشيتُه معه، رأينا هذا قد صار رجلًا، ولم أكن رأيته قطّ، فقيل: هذا ابنُ كان الصيرفيِّ وابنُ دايةِ أميرِ المؤمنين، فبنى هذه الدارَ وسوَّاها. قلت: فهل عندك علمٌ من أمّه أَحيَّةٌ هي أم ميِّتة؟ قال: حيَّة، تمضي إلى دار الخليفةِ فتكون عندهم أيامًا، وتأتي إلى ابنها فتكون عنده أيامًا، قال: فحمدتُ اللهَ على هذه الحالة، وجئت فدخلت مع الناس إلى الدار وقد تغيَّرت عمارتها، وفيها مجلسٌ كبير مفروش، وفي صدره شابّ، وبين يديه كتَّابٌ وجهابذةٌ وأموال وشواهين (¬2)، وهم يَقبَضُون ويُقبِضُون، ورأيت شَبَهي في الغلام، فعلمت أنَّه ابني، فجلست في غِمار ¬

_ (¬1) الجهبذ: النقاد الخبير. (¬2) الشاهين: عمود الميزان. القاموس (الشاهين).

الناسِ إلى أن لم يبقَ في المجلس غيري، فأَقبل عليَّ وقال: يا شيخ، هل من حاجة؟ قلت: نعم، ولكنها أمرٌ لا يجوز أن يسمعَها غيرك، فأشار إلى الغِلمان فتأخَّروا، فقلت: أنا أبوك، فلمَّا سمع ذلك تغيَّر وجهه، ولم ينطقْ بحركة ولا بحرفٍ واحد، وقام مسرعًا وتركني في مكان، فلم أَشعرْ إلا بخادمٍ قد جاء وقال: قم يا سيِّدي، فقمت أمشي، فبلغت إلى سِتارة ممدودةٍ في دارٍ لطيفة، وكرسيٌّ بين يديها والفتى جالسٌ عليه، وكرسيٌّ آخَر، فقال: اجلسْ أيها الشيخ، فجلست وقلت: أظنُّك تريد أن تعتبرَ (¬1) صدقَ قولي من جهة فلانة، وذكرتُ اسمَ جاريتي، وإذا بالسِّتارة قد هُتكت وخرجت الجاريةُ فأَلقت نفسَها عليّ، وجعلت تبكي وتقول: مولاي والله، وقام الفتى وخرج، والجاريةُ تبكي وتقول: حدِّثْني حديثَك، فحدَّثتها حديثي من يومِ فارقتُها إلى ذلك اليوم، وجاء خادمٌ فقال: يا مولاي، ولدُك يسألك أن تخرج إليه، فخرجت إليه، فلمَّا رآني من بعيدٍ قام قائمًا وقال: العذرُ إلى الله وإليك يا أَبَهْ من تقصيري في حقِّك، فإنَّه قد جاءني ما لم أظنَّ أن يكونَ مثلُه، والآن فهذه النعمةُ لك، وأنا ولدُك، وأميرُ المؤمنين يجتهد لي منذ دهرٍ طويل أن أدعَ الجِهبذةَ وأتوفَّرَ على خدمته، فلا أفعلُ طمعًا للتمسُّك بصَنعتي، والآن فأنا أسأله أن يردَّ إليك عملي، وأخدمه أنا في غيره، قم عاجلًا فأَصلِحْ أمرَك. فدخلت الحمَّام وتنظَّفت، وجاؤوني بخِلعة فلبستها، ثمَّ أَدخلني على أمير المؤمنين وحدَّثه بحديثي، فأمر لي بخِلعة، فهي هذه، وردَّ إليَّ العملَ الذي كان إلى ابني، وأمر لي من الرِّزق بكذا وكذا، وقلَّد ابني أعمالًا هي أجلُّ من عمله، فجئت أشكرك على ما عاملتَني به من الجميل، وأعرِّفك تجدُّدَ النعمة. قال عَمرو: فلما سمَّى لي الفتى عرفته، وعلمت أنَّه ابن دايةِ أمير المؤمنين. واستبطأ المأمونُ عَمرَو بنَ مسعدةَ في أشياء، وكان أحمدُ بن أبي خالدٍ حاضرًا، فأخبر عَمرًا بذلك، فدخل على المأمون ورمى سيفَه وقال: أنا عائذٌ بالله من سخط أميرِ المؤمنين، فقال له: وما ذاك؟ ! فأخبره بما قال أحمد، فاستحيى منه، فلما خرج دخل أحمد، فقال له المأمون: أما لمجلسي حرمة! أشكو إليك خادمي سرًّا فترفعه إليه، ¬

_ (¬1) في المنتظم والفرج: تختبر.

فقال يا أمير المؤمنين، مثل عمرو مناصحته لا يوجد، فأخبرته بتفريط ليستدرك ما مضى، فقال له المأمون: أحسنت. [ولعَمرو بن مَسعدةَ حكاياتٌ مستطرَفة، منها ما ذكره القاضي التَّنوخي في كتاب "الفَرج بعد الشدَّة" (¬1) وحكاه جدِّي رحمه الله في "المنتظم" (¬2) فقال: حدَّثنا محمَّد بنُ عبدِ الباقي: حدَّثنا عليُّ بن المحسِّن التنوخيُّ، عن أبيه] قال: قال عَمرو بن مَسعدة (¬3): كنتُ مع المأمون عند قدومِه من بلاد الروم، حتى إذا نزل الرَّقَّةَ قال: يا عَمرو، ما ترى الرُّخَّجيَّ (¬4) قد احتوى على [أموال] الأهواز وجمعها وطمع فيها؟ ! وكتبي متصلةٌ في حملها، وهو يتعلَّل [ويتربَّص بي الدوائر! ] (¬5) فقلت: أنا أكفي أميرَ المؤمنين بأمره، قال: تخرجُ إليه بنفسك حتى تصفِّدَه بالحديد وتحملَه إلى بغداد، وتقبضَ على جميعِ ما في يده من أموالنا، وتنظرَ في العمل وترتِّب فيه عمَّالًا، فقلت: السمع والطاعة. فلمَّا كان من غدٍ دخلتُ عليه [فاستعجلني] فانحدرتُ (¬6) في زلَّال أُريد البصرة، واستكثرت من الثلج لشدَّة الحرِّ، فلما صرت بين جَرْجَرَايا وجَبُّل سمعت صائحًا من الشاطئِ يصيح: يا ملَّاح، فرفعت سُجُفَ الزلَّال، فإذا بشيخٍ كبير السِّنّ، حاسر، حافي القدمين، خَلَقِ القميص، فقلت للغلام: أَجِبه، فأجابه، فقال: يا غلام، أنا شيخٌ كبير ¬

_ (¬1) 3/ 306. والحكاية مذكورة أيضًا في العقد الفريد 4/ 175 - 179، وصبح الأعشى 1/ 142 - 145 وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) 11/ 7. (¬3) في (خ): قال: قلت للقاضي أبو علي الحسن بن علي التنوخي ذكر للقاضي أبو الحكماء كتابه قال: وقال عمرو بن مسعدة. . . (¬4) هو: عمر بن الفرج، كما في صبح الأعشى 1/ 142. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ): دخلت عليه فقال: ما فعلت فيما أمرتك؟ قلت: أنا على ذلك، قال: أريد أن تجيئني في غد مودعًا، فلما كان من الغد جئته مودعًا، قال: أريد أن تحلف لي أنك لا تقيم إلا يومًا واحدًا ببغداد، فاضطربت في ذلك، فاستحلفني ألا أقيم فيها أكثر من ثلاثة أيام، فخرجت حتى قدمت بغداد ولم أقم إلا ثلاثة أيام، وانحدرت في زلازل. . . إلخ. وكذلك هو في الفرج بعد الشدة، إلا أني أثبت ما في (ب)؛ لأنه يوافق ما في المنتظم، وقد قال كما سيأتي: هذا صورة ما حكى جدي عن التنوخي.

السِّنِّ على هذه الصورةِ التي ترى، وقد أحرقتني الشمسُ وكادت تُتلفني، وأريد جَبُّل، فاحملوني معكم، فإنَّ اللهَ يُحسن أَجرَ صاحبكم، فشتمه الملَّاح وانتهره، فأدركتني رِقَّة عليه، فقلت للغلام: خذوه معنا، فحملناه، فتقدَّمت بأن يُدفَعَ إليه قميصٌ ومنديل، وغسل وجهَه واستراح، وحضر وقتُ الغداء، فقلت للغلام: هاتِه يأكلْ معنا، فجاء فأكل أكلَ أديب، غير أنَّ الجوع بيَّن عليه، فلمَّا أكلنا قلت: يا شيخ، أيُّ شيءٍ صناعتُك؟ قال: حائك، فتناومتُ عليه ومددتُ رِجلي، فقال: وأنت أعزَّك اللهُ أيُّ شيءٍ صناعتُك؟ فأَكبرت ذلك وقلت: أنا جَنَيتُ على نفسي، أَتُراه لا يرى زلَّالي وغِلماني ونعمتي وأنَّ مثلي لا يقال له هذا! [قلت: ] ليس إلَّا الهَزْلُ (¬1) بهذا، فقلت: كاتب، فقال: أصلحك الله، إنَّ الكُتَّاب خمسة، فأيُّهم أنت؟ فسمعت كلمةً أكبرتها، وكنت متّكئًا فجلست، ثمَّ قلت: فصِّل الخمسة، قال: نعم، كاتبُ خَراج: يحتاج أن يكونَ عالمًا بالشُّروط والطُّسوق (¬2) والحسابِ والمساحة والبُثوق والفُتوق والرُّتوق، وكاتبُ أحكامٍ: يحتاج أن يكونَ عالمًا بالحلال والحرامِ والاختلاف والأُصول والفروع، وكاتب معونةٍ: يحتاج أن يكونَ عالمًا بالقصاص والحدودِ والجِراحات، وكاتبُ جيشٍ: يحتاج أن يكونَ عالمًا بحُلي الرِّجال وسِمات الدوابِّ ومداراةِ الأولياءِ وشيءٍ من العلم بالنَّسب والحساب، وكاتبُ رسائلَ: يحتاج أن يكونَ عالمًا بالصُّدور والفصول والإِطالة والإيجاز وحُسنِ الخطِّ والبلاغة [فما أنت من هؤلاء؟ ! ]. فقلت له: فإني كاتبُ رسائل، فقال: أَصلحك الله، لو أنَّ رجلًا من إخوانك تزوَّجتْ أمُّه فأردتَ أن تكاتبَه مهنِّئًا، كيف كنت تكاتبه؟ ففكَّرت في الحال، فلم يخطرْ ببالي شيء، فقلت: ما أرى للتهنئة وجهًا، قال: فكيف تكتب إليه تعزِّيه؟ ففكرت فلم يخطرْ ببالي شيء، فقلت: أَعفِني، قال: قد فعلت، ولكنك لستَ بكاتب رسائل، قلت: فأنا كاتبُ خَرَاج، قال: لو أنَّ أميرَ المؤمنين ولَّاك ناحيةً وأمرك فيها بالعدل واستيفاءِ حقِّ السلطان، فتظلَّم إليك بعضُهم من مسَّاحك، وأحضرتَهم للنظر بينهم وبين ¬

_ (¬1) في (ب): الزهد، وما بين حاصرتين منها، والمثبت من (خ). (¬2) الطسق: مكيال، وما يوضع من الخراج على الجريب. معجم متن اللغة (طسق).

رعيَّتك، فحلف المسَّاح بالله لقد أنصفوا، وحلفت الرعيةُ لقد ظُلموا، فقالت الرعية: قفْ معنا على ما مسحوه، فخرجتَ لتقف، فوقفوا بك على قَرَاحٍ (¬1) شكلُه: قاتل [قثا] (¬2) كيف كنتَ تمسحه؟ قلت: كنت آخذ طولَه على انعواجه وآخذ عرضَه ثمَّ أَضربه في مثله، قال: إنَّ شكل: قاتل قثا، يكون (¬3) رأساه محدَّدان، وفي تحديده تقويس، قلت: فآخذ الوسَطَ فأَضربه في العرض (¬4)، قال: إذن ينثني عليك العمود، قال: ولستَ كاتبَ خراج. قلت: فأنا كاتب قاضٍ، قال: أرأيتَ لو أنَّ رجالًا توفِّي وخلَّف امرأتين حاملتين، إحداهما حُرَّة والأخرى سُرِّيَّة، فولدت السُّرِّيةُ غلامًا، والحرَّة جاريةً، فعمدت الحرةُ إلى ولد السُّرية فجعلته في مهدها، ووضعت ابنتَها في مهد السُّرية، واختصمتا في ذلك، كيف يكون الحكمُ بينهما؟ قلت: لا أدري، قال: ولست بكاتب قاض. قلت: فأنا كاتبُ جيش، قال: أرأيت لو أنَّ رجلين جاءا إليك لتحلِّيَهما، وكلُّ واحدٍ منهما اسمُه واسم أبيه كاسم الآخَر واسمِ أبيه، إلَّا أنَّ أحدهما مشقوقُ الشَّفة العليا، والآخر مشقوقُ الشَّفةِ السفلى، كيف كنت تحلِّيهما؟ قال: أكتب: فلانٌ الأَعلم وفلانٌ الأَعلم، قال: إنَّ رزقَيهما مختلفان، فيجيءُ كلُّ واحد منهما في دعوى الآخَر، قلت: لا أدري، قال: فلست كاتبَ جيش. قلت: أنا كاتبُ معونة، قال: لو أنَّ رجلَين رُفعا إليك، قد شجَّ أحدُهما صاحبَه شجَّةً واضحة، وشجَّ الآخَرُ صاحبَه شجَّة مَأْمُومة (¬5)، كيف تفصل بينهما؟ قلت: لا أدري، قال: ولست إذن كاتبَ معونة، اُطلب لنفسك أيها الرجلُ شغلًا. ¬

_ (¬1) بعدها في (ب): قال: وما زال يذكر في حق كل كاتب حالة لا أعلمها إلى أن قلت: فاشرح أنت فشرح الكل فقلت: أليس زعمت أنك حائك. . . إلخ. وفي المنتظم: فوقفوك على قراح كذا كذا، لشيء وصفه، كيف تكتب؟ قلت: لا أدري، قال: فلست بكاتب خراج، فما زال يذكر في حق كل كاتب حالة. . . إلخ. والمثبت من (خ)، وهو موافق لما في الفرج بعد الشدة. وينظر العقد والصبح، والقراح: المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر. مختار الصحاح (قرح). (¬2) ما بين حاصرتين من الفرج بعد الشدة، ووردت في صبح الأعشى 1/ 144: قابل قسيا. (¬3) في (خ): شكل قاتل أن يقول. والمثبت من الفرج بعد الشدة. (¬4) في الفرج بعد الشدة: في العمود. (¬5) الشَّجَّة: الجراحة. والواضحة والمُوضِحَة: الشَّجَّة التي بالرأس تكشف العظم. والمأمومة: الشَّجَّة التي تصل إلى أمِّ الدِّماغ. المصباح المنير (شجَّ) و (وضح) و (أمم).

فقَصُرت نفسي إليَّ، وغاظني، فقلت: سألتَ عن هذه الأمورِ، ويجوز ألا يكونَ عندك جوابُها كما لم يكن عندي، فإنْ كنتَ عالمًا بالجواب فقل؟ ! قال: نعم، أما الذي تزوَّجَتْ أمُّه، فتكتب إليه: أمَّا بعد، فإنَّ الأمور تجري من عند اللهِ من غير محبَّة عباده ولا اختيارهم، بل هو تعالى يختار لهم ما أَحبّ، وقد بلغني تزويجُ الوالدة، خار اللهُ لك في قبضها؛ فإنَّ القبورَ أكرمُ الأزواج، وأسترُ للعيوب، والسلام. وأما قَراح: قاتل [قثا] فتمسح العمود، حتى إذا صار عددًا في يدك ضربتَه في مثله ومثلِ ثُلثه، فما خرج فهو مساحتُه. وأمَّا الجاريةُ والغلام، فيوزن اللَّبنان، فأيُّهما كان أخفّ، الجاريةُ له. وأمَّا المرتزقان والمتوافقا الاسمَين، فإنَّه إذا كان الشَّقُّ في الشَّفة العليا كتبتَ: فلانٌ الأعلم، وإذا كان في الشَّفة السُّفلى كتبت: فلانٌ الأَفلح. وأما صاحبا الشَّجَّتين، فلصاحب المُوْضِحة ثُلث الدِّيَة، ولصاحب المأمومةِ نصفُ الديَة. فقلت: يا شيخ، ألست زعمتَ أنَّك حائك؟ ! قال: أنا - أصلحك الله - حائكُ كلام، ولست بحائك نسَّاجة، ثمَّ أنشأ يقول: [من مجزوء البسيط] ما مرَّ بؤسٌ ولا نعيمٌ ... إلَّا ولي فيهما نصيبُ نوائبُ الدَّهرِ أدَّبتني ... وإنَّما يوعَظ اللَّبيب قد ذُقتُ حُلْوًا وذقتُ مُرًّا ... كذاك عيشُ الفتى ضُروب قلت: فما الذي أرى بك من سوءِ الحال؟ فقال: أنا رجلٌ دامت عطلتي، وكثرت عَيلتي، وتواصلت مِحنتي، فخرجت أطلب التصرُّف، فقُطع عليَّ الطريق، فتُركت كما تراني، فمشيت على وجهي، فلمَّا لاح لي الزلَّال استغثتُ بك. قلت: فإني قد خرجتُ إلى تصرُّف جليل، أَحتاج فيه إلى جماعةٍ مثلِك، وقد أمرتُ لك عاجلًا بخِلعة حسنةٍ وخمسةِ آلاف درهمٍ تُصلح بها أَمرَك، وتُنفِذ منها إلى عِيالك، وتصير معي إلى عملي، فأولِّيك أجلَّه. فقال: أحسن اللهُ جزاءك، إذن تجدني بحيث يسرُّك، فانحدر معي، فجعلتُه المناظرَ

للرُّخَّجي، والمحاسبَ له، فقام بذلك أحسنَ قيام، فحسنت حالُه معي وعادت نعمتُه. [قلت: هذا صورةُ ما حكى جدِّي عن التَّنوخي]. وكانت وفاةُ عَمروٍ [بن مسعدة] في هذه السَّنة بأَذَنَة. [قال الخطيب: ] (¬1) رُفع إلى المأمون أنَّه خلَّف ثمانين ألفَ ألفِ درهم [قال] فوقَّع [المأمون: ] هذا قليلٌ لمن اتصل بنا، وطالت خدمتُه لنا، فبارك اللهُ لوَرَثته فيه. [وكان عَمرو من أكابر أصحابِ المأمون، وله قصصٌ نذكرها في ترجمة المأمونِ إن شاء اللهُ تعالى.] * * * ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في تاريخه، وهو في المنتظم 11/ 7. وما بين حاصرتين من (ب).

السنة الثامنة عشرة بعد المئتين

السَّنةُ الثامنةَ عشرةَ بعد المئتين فيها شدَّد المأمونُ على الناس في القول بخلق القرآن، وذلك في [شهر] ربيعٍ الأوَّل [فمات المأمونُ في رجبٍ في هذه السَّنة، ومات بِشرٌ المَرِيسيُّ بعده، وقد اختلفت الرواياتُ في ذلك، فروي أن المأمونَ لمَّا عاد من بلاد الرُّوم] (¬1) نزل الرقَّة وأمر بتفريغ الرافقةِ لينزلَ بها حشمُه وخواصُّه، فاستغاث أهلُها وضجُّوا، فخاف من الشَّناعة، فكفَّ عنهم ونزل الرقَّة، وهي الخرابُ اليوم، والرافقة هي القائمةُ اليوم، فلما نزل الرقةَ بعث ابنَه العباسَ إلى الطُّوَانة وأمر ببنائها، فشرع فيها، وبناها مِيلًا في ميلٍ، وجعل دورَ سورها ثلاثةَ فراسخ، وجعل لها أربعةَ أبواب، وبنى على كلِّ بابٍ حصنًا منيعًا، وكتب إلى المعتصم أن يضربَ البعوثَ على أهل الشامِ ومصرَ والجزيرة، ويسيرَ بنفسه فينزلَ الطُّوانةَ مع العباس، ففرض على جند مصرَ أربعةَ آلافِ رجل، وعلى الأُرْدُنِّ والسواحل ثلاثةَ آلاف، وعلى حِمْصَ ودمشقَ وقِنَّسرينَ والعواصم [أربعةَ آلاف] (¬2) وعلى الجزيرة وبغداد كذلك، وجعل للفارس في كلِّ شهرٍ مئةَ درهم، وللراجل أربعين درهمًا، ونزل الجميعُ الطُّوانة مع المعتصم والعباسِ بن المأمون. وفي شهر ربيعٍ الأوَّل كتب المأمونُ إلى بغدادَ إلى إسحاقَ بن إبراهيمَ بامتحان القضاةِ والمحدِّثين وإِشخاصِ جماعةٍ منهم إلى الرَّقة، وكان في الكتاب: أمَّا بعد: فإن حقَّ اللهِ على أئمَّة المسلمين وخلفائهم الاجتهادُ في إقامة دينِ الله تعالى الذي استحفظهم، ومواريثِ النبوَّة التي ورَّثهم، وأثرِ العلمِ الذي استودعهم، والعمل بالحقِّ في رعيَّتهم، والتشمير لطاعة اللهِ فيهم، واللهَ يسأل أميرُ المؤمنين أن يوفِّقَه لعزيمة الرشد، والنظرِ فيما ولَّاه اللهُ من رعيَّته ومِنَّته، وقد عرف أميرُ المؤمنين أنَّ الجمهورَ الأعظم والسوادَ الأكبر من حَشْو الرعيَّة وسَفِلة العامَّة، ممَّن لا نظرَ له ولا رويَّة، ولا استدلال له بدلالة اللهِ تعالى وهدايته، والاستضاءةِ بنور العلمِ وبرهانه، في ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) و (ف). وانظر تاريخ الطبري 8/ 631.

جميع الأقطارِ والآفاق، أهلُ جهالة بالله وعمًى عنه، وضلالةٍ عن حقيقة دينِه وتوحيده والإيمانِ به، وما قَدَروا اللهَ حقَّ قَدْرِه، ولا عرفوه كُنْهَ معرفته، ولا فرَّقوا بينه وبين خلقِه؛ لضعفِ آرائهم ونقصِ عقولهم، فإنهم ساوَوا بين اللهِ تعالى وبين ما أَنزل من القرآن، أَطبقوا أجمعين، واتَّفقوا غيرَ متعاجمين، على أنَّه أوَّلٌ قديمٌ لم يخلقه اللهُ ولم يُحدثه ولم يخترعْه، وقد قال اللهُ تعالى في كتابه الذي جعله شفاءً لما في الصدور، وهدىً ورحمةً للمؤمنين: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] وكلُّ ما جعله فقد خلقه، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وقال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: 99] فأخبر أنَّه قَصَّ لأمورٍ أَحدثه بعدها وتلا به متقدِّمها، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] وكلُّ مُحْكَم مفصَّل [فله مُحكم مفصِّل] (¬1) واللهُ تعالى مُحكمٌ كتابَه ومفصِّلُه، وخالقُه ومبتدعُه، ثمَّ هم الذين جادلوا بالباطل ودعَوا إلى قولهم، ونسبوا نفوسَهم إلى السُّنَّة، ثمَّ زعموا أنهم أهلُ السُّنة والجماعة، وأنَّ مَن سواهم على الباطل، فاستطالوا بذلك على الناس، وغرُّوا به الجهَّال، فمال قومٌ من أهل السَّمْتِ الكاذبِ والتخشُّع الباطل والتقشُّفِ لغير الدِّين إلى موافقتهم، ومواطأتِهم على سيِّئ آرائهم، تزيينًا (¬2) بذلك عندهم وتصنُّعًا للرِّئاسة. وذكر كلامًا طويلًا في هذا المعنى. قال المصنِّف رحمه الله تعالى: لم تُعرف هذه المقالةُ قبل المأمون، وقد كان اجتماعُ الصحابةِ والتابعين والسَّلفِ الماضين على أنَّ كلامَ اللهِ تعالى قديمٌ أَزَليٌّ غيرُ مخلوق ولا مُحدَث، حتى نبغ ابنُ أبي دُؤاد، فجسَر المأمونُ على هذه المقالة، وتبعته المعتزلةُ من أهل البصرة وبغدادَ وبِشرٌ المَرِيسي، فقالوا: إنَّه مخلوق، وحملوا الخواصَّ والعوامَّ على ذلك، فعرض إسحاقُ بن إبراهيمَ كتابَ المأمونِ على العلماء ببغداد، فمنهم مَن أجاب ومنهم مَن توقَّف، فكتب إلى المأمون يعرِّفه، فكتب إليه: اِبعث إليَّ نَفَرًا منهم، وذكر سبعةً (¬3) من العلماء: محمدَ بن سعدٍ كاتبَ الواقدي، وأبا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 632. (¬2) في تاريخ الطبري: تزينًا. (¬3) في (ف): تسعة. وهو خطأ. انظر تاريخ الطبري، والمنتظم 11/ 18، والكامل 6/ 423.

مسلمٍ مستلميَ يزيدَ بنِ هارون (¬1)، ويحيى بنَ مَعين، وزهيرَ بن حَرْبٍ أبا (¬2) خَيثمة، وإسماعيلَ بن داود، وأحمدَ بن الدَّورقي (¬3)، وإسماعيل بن [أبي] مسعود. فلمَّا قدموا الرقَّة، أحضرهم المأمونُ وامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوا جميعًا: إنَّ القرآنَ مخلوق، فأعادهم إلى بغداد، وكتب إلى إسحاقَ بن إبراهيمَ بأن يُحضرَ الفقهاءَ ومشايخَ الحديث ويُخبرَهم بما أجاب به هؤلاء، ففعل فأجاب البعضُ وتوقَّف البعض. قال المصنِّف رحمه الله: وكان محمدُ بن سعدٍ وابنُ معينٍ وأبو خيثمةَ وأبو مسلمٍ يقولون: إنَّا أجبنا خوفًا من السيف. ثمَّ كتب المأمون إلى إسحاقَ كتابًا آخرَ من جنس الأوَّل، وأمره بإحضار مَن امتنع، وأن يقرأَ عليه، فأحضر جماعة، منهم الإمامُ أحمد بن حنبل، وأبو حسَّان الزِّيادي، وبِشرُ بن الوليد الكِندي، وعليُّ بن أبي مقاتل، وسجَّادة، والقواريري، والفضلُ بن غانم، والذَّيَّال بن الهيثم، وقتيبةُ بن سعيد (¬4)، وسَعدويه الواسطي، وعليُّ بن الجعد، وإسحاقُ بن أبي إسرائيل، وابنُ عُليَّة الأكبرُ، ومحمدُ بن نوح، وغيرُهم، وقرئ عليهم كتابُ المأمون، فورَّوا، ولم يجيبوا ولم يُنكروا، فكان ممَّا قال إسحاقُ لبشر بنِ الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلامُ الله، فقال: أمخلوقٌ هو؟ قال: اللهُ خالق كلِّ شيء، قال: فالقرآن؟ فقال: كلامُ اللهِ شيء، قال: هو شيء، فمخلوقٌ هو؟ قال: ليس بخالق، قال: ما أسألك عن هذا، فمخلوقٌ هو؟ قال: فما أُحسن غيرَ ما قلتُ لك. ثمَّ قال لعليِّ بن أبي مقاتل: ما تقول أنت؟ فقال: القرآنُ كلام الله، وإنْ أَمَرَنا أميرُ المؤمنين بشيءٍ سمعنا وأَطعنا. وسأل أبا حسَّان الزِّيادي، فأجاب بنحو ذلك. ثمَّ قال للإمام أحمدَ بن حنبلٍ رحمه الله: ما تقول؟ فقال: القرآن كلامُ الله، قال: أمخلوقٌ هو؟ قال: القرآنُ كلام الله، ما أَزيدُ على هذا. ¬

_ (¬1) في (ف): وأبا مسلم المستملي ويزيد بن يزيد بن هارون. (¬2) في (خ) و (ف): وأبا. وهو خطأ. (¬3) في (خ) و (ف): الزورقي. والمثبت من المصادر، وما بين حاصرتين منها. (¬4) في (خ) و (ف): سعد، والمثبت من تاريخ الإِسلام 5/ 249.

الباب الثامن في ولايته

ثمَّ امتحن الباقين وكتب بجواباتهم إلى المأمون، فجاء جوابه يقول: [قد عرف] (¬1) أميرُ المؤمنين ما ذهب إليه مُتَصَنِّعة أهل القِبْلة، وملتمسو الرِّئاسة، فمن لم يقلْ منهم: إنَّ القرآنَ مخلوق، فمُرْهُ بالإمساك عن الحديث والفتوى، وأما بشرُ بن الوليد، فإن أجاب إلى خلق القرآنِ، وإلَّا فاضرب عُنقَه وابعث برأسه إليّ، وأما عليُّ بن أبي مقاتل، فقل له: ألست المكلِّمَ (¬2) لأمير المؤمنين بما كلَّمته به من قولك: إنك تحلِّل وتحرِّم؟ وأما الذَّيَّال، فأَعلِمْه أن أميرَ المؤمنين قد عرف مقالتَه، واستدلَّ على آفته وجهله، وأما الفضلُ بن غانم، فأَعلِمه أنَّه لم يخفَ على أمير المؤمنينَ ما خان فيه من الأموال بمصر. ثمَّ ذكر لكلِّ واحدٍ منهم عيبًا، وقال في كتابه: ومَن لم يرجعْ منهم عن شِركه، فاحمِلْهم جميعًا موثَقين إلى عسكر أميرِ المؤمنين ليَعرِضَهم على السيف. فعرض عليهم إسحاقُ ما قال المأمون، فأجاب الكلُّ إلا أربعة: الإمامُ أحمد بن حنبل، وسَجَّادة، والقواريري، ومحمدُ بن نوح. فأمر بهم إسحاقُ فشُدُّوا في الحديد، فلمَّا كان من الغد، دعاهم فأعاد عليهم المِحنة، فأجاب سَجَّادةُ وخلَّى سبيلَه، ثمَّ أعاد القول، فأجاب القواريريُّ فأَطلقه، وأصرَّ الإمام أحمدُ ومحمدُ بن نوح، فشُدُّوا في الحديد وبُعث بهما إلى طَرَسُوس، فلمَّا وصلا إلى الرقَّة بلغتهم وفاةُ المأمون، فرُدُّوا إلى بغداد، فأمرهم إسحاقُ بلزوم منازلِهم، ورخَّص لهم بعد ذلك في الخروج. وتوفِّي المأمونُ في هذه السَّنة، ووَلِي أخوه أبو إسحاقَ بنُ الرشيد. الباب الثامنُ في ولايته واسمُه محمَّد، ولقبه المعتصمُ بالله، وأمُّه ماردةُ بنت شبيب، من مولَّدات الكوفة، لم تُدرك خلافته، وكانت حَظيَّة عند الرشيد، أولدها أبا إسحاقَ وأبا إسماعيل وأمَّ حبيب. [واختلفوا في مولد المعتصم، فحكى الصوليُّ أنَّه] (¬3) وُلد بالرافقة في شعبانَ سنةَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف). (¬2) في (خ) و (ف): الكلام. والمثبت من المنتظم 11/ 23. وفي تاريخ الطبري 8/ 641: ألست القائل. . . (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). ولم نقف على قول الصولي هذا.

ثمانٍ وسبعين ومئة. [وقال الطَّبري: ] (¬1) ولد ببغدادَ بالخُلْد قصرِ المنصور سنةَ ثمانين ومئة. وقيل: ولد بالقاطول، فكانت نفسُه تشتاق إلى تلك النواحي؛ ولهذا بني سُرَّ مَن رأى. قال: وكان هارونُ يومَ لا يصل إلى ماردةَ يبعث إليها بألف دينار. [ذكر صفته: ] وكان المعتصمُ أبيضَ مربوعًا، طويلَ اللحية، حَسَنَ الوجه، وقيل: كان أصهب (¬2) [قال الصُّولي: ] وكان المأمونُ قد أمر ابنَه العباسَ وإسحاقَ بن إبراهيم إن حدث به حَدَثُ الموتِ أن الخليفةَ بعده أبو إسحاق بنُ الرشيد. [ذكر بيعته: ] (¬3) فلما احتضر ببلاد الرُّوم مال الجندُ إلى العباس [بن المأمون]، وأرادوه على البَيعة، فأبى، فشَغَبوا، فخرج إليهم وقال: ما هذا الحبُّ البارد! قد بايعتُ عمِّي وسلَّمت إليه الأمر، فسكن الجندُ وبايع الناس. ولم يَعهد الرشيدُ إلى ابنه المعتصمِ مع شدَّة محبَّته له ولأمِّه، فساق اللهُ إليه الخلافة، وكان المأمونُ قد بني الطُّوانة، فهدمها المعتصمُ وحمل ما كان فيها من السلاح وغيرِه، وأحرق ما لم يَقدرْ على حمله، وأمر الناسَ الذين أسكنهم المأمونُ بها فانصرفوا إلى بلادهم، وسار مُجدًّا فدخل بغدادَ يومَ السبت غُرَّةَ رمضان، وكان إسحاقُ بن إبراهيمَ قد أَخذ له البيعةَ ببغداد، ومدَّ الفضلُ بن مروانَ يَدَه فبايع وقال: [من الكامل] بايعتُ منبسطًا ولو لم تنبسطْ ... كفِّي لبيعته قطعتُ بَنانَها (¬4) مَن ذا إليها لا يَمدُّ يمينَه ... قطع الإلهُ يمينه فأَبانها [قال الخطيب (¬5): كان من أولاد هارونَ جماعةٌ اسمُ كلِّ واحدٍ منهم محمَّد: الأمين، وأبو إسحاق، وأبو العبَّاس، وأبو أحمد، وأبو عيسى، وأبو أيُّوب، وأبو ¬

_ (¬1) في تاريخه 9/ 119. وفي (خ) و (ف): وقيل. . . (¬2) الصُّهْبة: الشُقْرَة في شعر الرأس. الصحاح (صهب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) البيت الأول لمروان بن أبي حفصة ضمن ثلاثة أبيات في مدح المهدي، وهي في ديوانه ص 111. (¬5) في تاريخه 4/ 553. وما بين حاصرتين من (ب).

يعقوب. وقد ذكرناهم في أولاد هارون]. وكان المعتصمُ أمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ [إلا كتابةً ضعيفة وقراءةً غيرَ جيِّدة. قال الخطيب: ] (¬1) وسببُه أنَّ المعتصم كان معه غلامٌ في الكُتَّاب يتعلَّم معه [فمات الغلام] (¬2) فقال الرشيد: يا محمَّد مات غلامُك. قال: نعم [يا سيِّدي] (¬3) واستراح من الكتَّاب، فقال له الرشيد: وإنَّ الكُتَّاب لَيبلُغ منكَ هذا المبلغ؟ ! دَعُوه إلى حيث انتهى ولا تعلِّموه شيئًا. فكان يكتب ضعيفًا ويقرأ قراءةً ضعيفة. وكان المعتصمُ في فتنة الأمينِ يتردَّد إلى عليِّ بن الجنيد بمكانٍ يقال له: إِسْكاف، فيُقيم عنده فيخدمه بنفسه ومالِه، فغاظ (¬4) المعتصمُ يومًا عليًّا، فقال له على وجه المِزاح: واللهِ لا أفلحتَ أبدًا، فأخذها المعتصمُ في نفسه، فلما قدم بغدادَ أَحضر عليًّا وقال له: زعمتَ أنني لا أُفلح، فأيُّ فلاحٍ بعد هذا! وكان عليٌّ عدوَّ الفضلِ بن مروان، فقال له: الذي أفلح الفضلُ بن مروان، فضحك المعتصم، وحدَّث نفسه بالإيقاع بالفضل. وكان إبراهيمُ بن المهديِّ لما دخل المعتصمُ بغدادَ ترجَّل وقبَّل يدَ المعتصم، فقال المعتصم لعليِّ بن الجنيد: أَتذكر حين وقفتُ لإبراهيمَ بالمربعة، فلما مرَّ بي نزلتُ فقبَّلت يده وأَدنيتُ منه ابني هارونَ وقلت: عبدُك ابني هارون، فقبَّل يد إبراهيم، فأمر لي بعشرة آلافِ درهم؟ قال علي: نعم، قال: فإنَّ ابن المهديِّ ترجَّل اليومَ لي في ذلك الموضعِ بعينه وقبَّل يدي وقال لي: عبدُك هبةُ الله ولدي، وأَدناه فقبَّل يدي، فقال له عليّ: فكم أعطيتَه؟ قال: عشرة آلافِ درهم، لم تَطِب نفسي بغيرها، فقال له علي: بئس ما فعلت، قال: وكيف؟ ! قال: لأنَّ ابن المهديِّ أمر لولدك بعشرة آلافِ درهمٍ وليس في يده غيرُ بغدادَ وحدها، وأنت في يدك المشرقُ والمغربُ تقابله بمثلها! فقال: صدقت، اجعلوها عشرةَ آلافِ دينار. وقال الصُّولي: ولا يُعرف خليفةٌ قبَّل يدَ خليفةٍ إلَّا إبراهيم بن المهديِّ ¬

_ (¬1) في تاريخه 4/ 548، وما بين حاصرتين من (ف). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) و (ف). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): فغاض. والخبر غير موجود في (ب).

إبراهيم بن إسماعيل

[والمعتصم] (¬1). وفيها دخل جماعةٌ من أهل أصبهانَ وهَمَذانَ وتلك النواحي في دين بابَكَ الخُرَّمي، فاستباحوا الحُرُمات، فبعث إليهم المعتصمُ إسحاقَ بن إبراهيمَ واليَ بغدادَ في جندٍ كثيف، فأَوقع بهم في ذي الحِجَّة، فقتل منهم ستِّين ألفًا، وهرب الباقون إلى البلاد. وحجَّ بالناس صالحُ بن العباسِ بن محمدِ بن علي. [فصل] (¬2) وفيها توفِّي إبراهيمُ بن إسماعيل [ابنِ إبراهيم] (¬3) بن مِقْسَم، أبو إسحاق، البصريُّ الأَسَدي المعتزلي، ويُعرف بابن عُلَيَّة. كان أحدَ المتكلِّمين القائلين بخلق القرآن، وله مع الإمام الشافعيِّ رحمه اللهُ مناظراتٌ بمصر، ومع غيره ببغداد [فذكر الخطيبُ (¬4) أنَّه اجتمع بأحمدَ بن حنبلٍ والشافعيُّ حاضرٌ ببغداد] فقال له الشافعي رحمة الله عليه: أَخبِرني عن خبر الواحدِ العَدْل، بإجماعٍ دفعتَه أو بغير إجماع؟ فلم يَدْرِ ما يقول. و[كان ابنُ عُلَيَّةَ من أصحاب الأصمّ] (¬5) قدم مصرَ فنزل بمكانٍ يقال له: باب الضَّوال، فقال الإمامُ الشافعيّ رحمةُ الله عليه: قد نزل بباب الضوالِّ ليُضِلَّ الناس. و[ذكر الخطيبُ (¬6) عن يعقوبَ بن سفيانَ قال: ] خرج [ابن عليةَ] ليلةً من مسجد مصر وقد صلَّى العَتَمةَ في زُقاق القناديلِ ومعه رجل، فقال له الرجل: إنِّي قرأت البارحةَ سورةَ الأنعامِ فرأيت ينقض بعضُها بعضًا، فقال ابن عُلَية: وما لم ترَ أكثر. وكان الإمامُ أحمد رحمةُ الله عليه يقول: ابنُ عُلَيَّة ضالٌّ مُضِلّ. وكانت وفاتُه بمصرَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) و (ف). (¬3) ما بين حاصرتين من المصادر. انظر تاريخ بغداد 6/ 512، والمنتظم 11/ 30، وتاريخ الإِسلام 5/ 264. (¬4) في تاريخه 6/ 512. وما بين حاصرتين ليس في (خ). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في تاريخه 6/ 514. وما بين حاصرتين من (ب).

بشر بن غياث

ليلةَ عَرَفةَ وله سبعٌ وستُّون سنة. [وقال الحافظ ابن عساكر: حدث عنه بحر بن نصر الخولاني وياسين بن أبي زرارة وغيرهما. (¬1) وفيها توفِّي] بِشْرُ بن غياثِ ابن أبي كَريمةَ، أبو عبدِ الرحمن المَرِيسي. [ذكره الخطيبُ (¬2) وقال: ] مولى زيدِ بن الخطَّاب، كان أبوه يهوديًّا، وكان يسكن ببغدادَ في الدَّرب المعروفِ ببشر المريسي، بين نهر الدَّجاج (¬3) ونهرِ البزَّازين. [قال: ] سمع الفقهَ من أبي يوسُف، إلا أنَّه اشتغل بالكلام، وجرَّد القولَ بخَلق القرآن. [وقد روى من الحديث شيئًا يسيرًا عن حمَّاد بنِ سَلَمةَ وسفيانِ بن عُيينة] (¬4). وكان أبو زُرعةَ الرازيُّ يقول: بِشر بن غياثٍ زنديق. وقال يزيدُ بن هارون: هو كافرٌ حلالُ الدم. [وروى الخطيبُ (¬5) أن] الرشيدَ [كان] يقول (¬6): بلغني أنَّ بِشْرًا المَرِيسيَّ يزعم أنَّ القرآنَ مخلوق، عليَّ إن أظفرني اللهُ به لأقتلنَّه قِتلةً ما قتلتُها أحدًا قطّ، فهرب منه. وروى الخطيب (¬7) عن حُميدٍ أنَّه قال: يا أميرَ المؤمنين، هذا سيِّد الفقهاء، قد رفع ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وينظر تاريخ بغداد 6/ 514. (¬2) في تاريخه 7/ 531. وتنظر ترجمته أيضًا في السير 10/ 199، وبقية مصادر ترجمته ثمَّة، وما بين حاصرتين من (ب)، والمَرِيسي: بفتح الميم وكسر الراء وسكون المثناة التحتية. هكذا ضُبطت في معظم المصادر، في حين ضبطها ياقوت الحموي في معجم البلدان: بالكسر والتشديد، وياء ساكنة. (¬3) في النسخ: الزجاج. والمثبت من تاريخ بغداد. وانظر معجم البلدان. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في تاريخه 7/ 541. (¬6) في (خ) و (ف): وكان الرشيد يقول. (¬7) في تاريخه 7/ 537.

عذابَ القبر ومساءلةَ مُنْكَرٍ ونكيرٍ والميزانَ والصِّراط، ثمَّ نظر إلى بِشرٍ وقال: لو رفعتَ الموتَ كنت سيدَ العلماءِ حقًّا. [وحكى الخطيبُ (¬1) عن] محمَّد بن عليِّ بن ظَبيان القاضي قال (¬2): قال لي بِشرٌ المريسي: القولُ في القرآن قولُ مَن خالفني أنَّه غيرُ مخلوق [قال: ] فقلت له: فارجعْ عنه، فقال: كيف أرجع وقد قلته منذ أربعين سنةً ووضعتُ فيه الكتبَ واحتججت فيه بالحُجَج! و[حكى الخطيبُ (¬3) أيضًا عن الحسين بن عليٍّ الكرابيسيِّ قال: ] جاءت أمُّ بِشرٍ [المريسي] إلى الشافعيِّ رحمةُ اللهِ عليه فقالت: يا أبا عبدِ الله، أرى ابني يهابك ويحبُّك، وإذا ذُكرتَ عنده أجلَّك، فلو نهيتَه عن هذا الرأيِ الذي هو فيه، فقد عاداه الناسُ عليه، ويتكلَّم في شيءٍ يواليه الناسُ عليه ويحبُّونه، فقال الشافعيُّ رحمة اللهِ عليه: نعم، ودخل عليه بِشْر، فقال له: أَخبِرني عمَّا تدعو إليه، فيه كتابٌ ناطق، أو فرض مفترَض، أو سنَّة قائمة، أو وجوب عن السلف البحث فيه والسؤال عنه؟ فقال بِشْر: ليس فيه شيءٌ من ذلك، إلا أنَّه لا يسعنا خلافُه، فقال له الشافعي: فقد أَقررتَ على نفسك بالخطأ، فأين أنت عن الكلام في الفقه والأخبارِ، يواليك الناسُ عليه وتترك هذا! فقال: لنا نَهْمَةٌ فيه. ثمَّ قام [بشر] وخرج، فقال الشافعيّ: لا يُفلح هذا أبدًا. وقال الخطيب (¬4): حُكي عنه أقوالٌ شنيعة ومذاهبُ مستنكَرة، كفَّره أهلُ العلم بها. [وحكى أيضًا (¬5) عن] يحيى بنِ عليٍّ بن عاصمٍ قال (¬6): استأذن بِشْرٌ المَرِيسي على أبي، فأذن له، فقلت له: أَتُدخل عليك مثلَ هذا وهو يقول: القرآنُ مخلوق، وإنَّ اللهَ معه في الأرض، وإن الجنةَ والنارَ لم يُخلقا، وإن مُنكَرًا ونَكيرًا باطل، وكذا الصِّراطُ ¬

_ (¬1) في تاريخه 8/ 542. (¬2) في (خ) و (ف): وقال محمَّد بن علي. (¬3) في تاريخه 7/ 535. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في تاريخه 7/ 532. (¬5) في تاريخه 7/ 534. (¬6) في (خ) و (ف): وقال يحيى.

والشفاعةُ والميزان! فقال: أَدخِله، فلمَّا دخل قال له: ويحك مَن تعبد؟ ! وأين ربُّك؟ ! وما تقول فيما نُقل عنك؟ فقال: ما جئتك لهذا، إنَّما جئتك في كتابٍ أَقرؤه عليك، قال: لا، ولا كرامة، حتى أعلمَ ما أنت عليه، قال: أَوَ تُعفيني؟ فقال: لا أُعفيك، قال: أمَّا إذا أبيتَ، فإنَّ ربِّي نورٌ في نور، فصاح أبي: اقتلوه، فإنَّه واللهِ زنديق. وقال الإمامُ الشافعيُّ (¬1) رحمة اللهِ عليه: قلت لبِشر: ما تقول في رجلٍ قُتل وله أولياءُ صغارٌ وكبارٌ، فهل للكبار أن يقتلوا القاتلَ دون الصِّغار؟ قال: لا، قلت: فقد قَتَلَ الحسنُ بن عليٍّ - رضي الله عنهما - ابنَ مُلْجِمٍ ولعليٍّ رضوانُ الله عليه أولادٌ صغار، فقال: أخطأَ الحسن، فقلت: أما عندك جوابٌ أحسنُ من هذا؟ ! قال الشافعي: فهجرتُه من يومئذ (¬2). [قلت: إنَّما قتله الحسنُ سياسة، وللإمام هذه الولاية، وهذا جوابُ أبي حنيفةَ في المسألة. قال الخطيب: ] (¬3) قال الشافعيّ: قلت لبِشر: أَدخلك اللهُ جهنمَ في أسفلِ سافلينَ مع فرعونَ وهامانَ وقارون، فقال لي بِشر: أسكنك اللهُ أعلى عِلِّيين مع إبراهيمَ ومحمدٍ وعيسى وموسى. يعني أنَّه يستهزئ؛ لأنَّه ما كان يعتقد جنَّةً ولا نارًا. قال: وكان إذا دعا قَلَبَ يديه إلى الأرض، وجعل باطنَهما إلى الأرض، ويقول: إنَّ اللهَ تعالى في الأرض تحتها كما هو فوق السماء. [وحكى الخطيبُ (¬4) عن] إسحاقَ بن إبراهيم [أنه] مرَّ (¬5) ببغدادَ في طريقٍ والناسُ مجتمعون على بِشر، فمرَّ يهوديٌّ فقال: أيها الناس، احذروه لا يُفسِدْ عليكم دِينَكم وكتابَكم كما أفسد علينا أبوه نبيَّنا (¬6) وكتابَنا. يعني التوارة، وكان أبوه غياثٌ يهوديًّا. ¬

_ (¬1) كما في تاريخ بغداد 7/ 536. (¬2) بعدها في (ف): وعلمت أنَّه فاسد الحال. وليس هو في تاريخ بغداد. وتنظر المسألة في الأم 7/ 136، ووسائل الأسلاف إلى مسائل الخلاف للمصنِّف ص 648 - 651. (¬3) في تاريخه 7/ 536 - 537. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في تاريخه 7/ 537. (¬5) في (خ) و (ف): ومر إسحاق بن إبراهيم. (¬6) في (ب): ديننا.

[وحكى الخطيبُ أيضًا عن] صالحٍ العِجْلي (¬1) قال (¬2): رأيتُ بِشْرًا شيخًا قصيرًا دميمًا، قبيحَ المنظر، وَسِخَ الثياب، أشبَه شيءٍ باليهود، وكان أبوه يهوديًّا بالكوفة، صبَّاغًا في سوق المراضع. و[قال يزيدُ بن خالد: ] (¬3) دخل بِشرٌ على المأمون فقال: إنَّ ها هنا رجلًا قد هجانا فيما أَحدثناه من القول بخلق القرآن، فعاقِبْه، فقال: إن كان شاعرًا لم أُقدِم عليه، فقال: إنه يدَّعي الشِّعرَ وليس بشاعر، فقال المأمون: حتى أَختبرَه، فكتب إليه: [من المنسرح] قد قال مأمونُنا وسيِّدنا ... قولًا له في الكتاب تصديقُ إنَّ عَليًّا أعني أبا حَسَنٍ ... أفضلُ مَن أَرقلتْ (¬4) به النُّوقُ بعد نبيِّ الهدى وإنَّ لنا ... أعمالنا والقرآنُ مخلوق فلمَّا وقف الرجلُ على الأبيات كتب: [من البسيط] يا أيها الناسُ لا قولٌ ولا عملٌ ... لمن يقول كلامُ اللهِ مخلوقُ ما قال ذاك أبو بكرٍ ولا عُمرٌ ... ولا الرسولُ ولم يذكرْه صِدِّيق ولم يقل ذاك إلَّا كلُّ مبتدعٍ ... عند العبادِ وعند اللهِ زنديق فلمَّا وقف عليه المأمونُ قال لبِشْر: يا ماصّ، ألستَ زعمتَ (¬5) أنَّه ليس بشاعر! ثمَّ أَغلظ له في القول. ذِكرُ وفاتِه: [واختلفوا فيها، فقال الخطيب: ] (¬6) مات في ذي الحِجَّة سنةَ ثمانِ عشرةَ ومئتين [هو والمأمونُ في سَنَةٍ واحدة]. وقيل: في سنة تسعَ عشرة. [والأوَّل أصحّ. ¬

_ (¬1) هو في تاريخ بغداد 7/ 537 عن صالح بن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي، عن أبيه. (¬2) في (خ) و (ف): وقال صالح العجلي. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). والخبر في تاريخ دمشق 39/ 281 - 282. (¬4) في (ب): قلّت. وأرقل: أسرع. القاموس المحيط (رقل). (¬5) العبارة في (ب) هكذا: يا ماصّ الاست، زعمت. . . . (¬6) في تاريخه 7/ 545. وما بين حاصرتين من (ب).

قال الخطيب: ] (¬1) وكان الصبيانُ يتعادَون في جنازته بين يديها ويقولون: مَن يكتب إلى مالكٍ خازنِ النار كتابًا؟ [قال (¬2): ولما مات بِشرٌ] لم يشهد جنازتَه [أحدٌ] من أهل العلمِ والسُّنَّة إلَّا عُبيدٌ الشُّونيزي [فلمَّا رجع من جنازته] لامَهُ (¬3) الناس، فقال: أَنظروني حتى أُخبرَكم، ما شهدت جنازةً رجوتُ فيها من الأجر ما رجوتُ في هذه، قمت في الصفِّ فقلت: اللهم إنَّ هذا كان لا يؤمن برؤيتك في الآخرة فاحجبْه عن النظر إليك، وإنَّه كان لا يؤمن بعذاب القبرِ فعذِّبه في قبره عذابًا لم تعذِّبه أحدًا من العالمين، اللهم إنَّه كان ينكر الميزانَ فخفِّف ميزانه، اللهم إنه كان يُنكر الشفاعةَ فلا تشفِّع فيه أحدًا من خَلْقك. فضحك الناسُ وأَمسكوا عنه. [وحكى الخطيبُ (¬4) عن] يحيى بنِ يوسفَ الزَّمِّي قال (¬5): رأيتُ إبليسَ في المنام مشوَّهَ الخَلق، وهو مُلبَسٌ بالشَّعر، ورأسُه إلى أسفلَ، ورجلاه إلى فوق، وفي بدنه عيونٌ مثل النار، فقال: ما من مدينةٍ إلَّا ولي فيها خليفة، قلت: ومَن خليفتُك بالعراق؟ قال: بِشرٌ المَرِيسي، دعا الناسَ إلى ما عجزتُ عنه، قال: القرآنُ مخلوق. [وحكى (¬6) عن] سفيانَ بن عُيينةَ قال لمَّا بلغه قولُ بِشرٍ (¬7): إنَّ اللهَ لا يُرى يومَ القيامة، قال: قاتله الله، ألم يسمع قولَه تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فجعل احتجابَه عنهم عقوبةً لهم، فإذا احتجب عن الأعداءِ والأولياء، فأيُّ فضلٍ للأولياء على الأعداء؟ ! [انتهت ترجمة بشر المريسي] (¬8). ¬

_ (¬1) في تاريخه 7/ 541. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخه 7/ 543 - 544. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): فلامه. (¬4) في تاريخه 7/ 541. (¬5) في (خ) و (ف): وقال يحيى. . . (¬6) يعني: الخطيب في تاريخه 7/ 543. (¬7) في (خ) و (ف): ولما بلغ سفيان بن عيينة. . . (¬8) ما بين حاصرتين من (ب).

ذكر عبد الله المأمون بن هارون الرشيد

ذِكر عبدِ الله المأمونِ بن هارونَ الرَّشيد (¬1) ولد سنةَ سبعين ومئة. و [قال علماءُ السِّيَر: ] كان المأمون إمامًا في كلِّ فنٍّ من العلوم العربيةِ والنَّحو والشِّعر والحديثِ والطِّبِّ وعلومِ الأوائل والنجومِ والأَرصاد، وعمل الزِّيجَ المأموني، واستخرج كتبَ الحكماءِ واليونانِ من جزيرة قُبرس، فنقلها له أبو مَعشرٍ المنجِّمُ إلى العربية [وله معه قِصص. وقد وصفه الحسنُ بن وَهْبٍ فقال: ] كان محمودَ السيرة، عفيفَ الطبيعة، كريم الشِّيمة، مباركَ الرأي، ميمون النَّقيبة، مؤدِّيًا حقَّ الله، مقرًّا له بالشكر على نِعمه، لا يأمر إلَّا بالعدل، ولا ينطِق إلَّا بالفضل، عاملًا بكتاب الله، مراعيًا لدينه وأَمانته، كافًّا للسانه ويدِه عن رعيَّته، وإنَّما شان الكلَّ بما أَحدث من المقالة القبيحة بخلق القرآن، ولم يكن له فيه رأي، وإنَّما حمله عليه أحمدُ بن أبي دُؤاد، فقال له: هذا من [باب] الدِّين ومعالمِ الإِسلام [وإنَّه لا يصحُّ الدينُ إلَّا به، فقَبِله. وكان هارونُ يقول: إني لَأعرف في عبد اللهِ حزمَ المنصور، ونُسكَ المهدي، وعزَّة نفسِ الهادي، ولو أشاء أن أنسُبَه إلى الرابع لنسبتُه، واللهِ إني لأَحمدُ سيرتَه، وأرضى طريقتَه، وأَستحسن سياستَه، وأرى قوَّته وذهنه، وآمَن ضعفَه ووهنه، وقد قدَّمت محمدًا عليه، وإنِّي لأعلم أنَّه منقادٌ إلى هواه، منصرفٌ مع طربه، مبذِّر لما حوته يده، مشارك الإماءِ والنساءِ في رأيه، ولولا أمُّ جعفرٍ وميلُ بني هاشمٍ لقدَّمت عبدَ الله عليه. قِصَّة المأمونِ مع اليهوديّ: روى الحسينُ بن فَهمٍ عن يحيى بنِ أكثمَ قال: كان المأمونُ قبل الخلافةِ يَجلس للفطر، فدخل عليه رجلٌ حَسَن الوجه طيِّب الرائحةِ نقيُّ الثوب، فتكلَّم فأحسن الكلام، فلمَّا تقوَّض المجلسُ دعاه، قال له: يهوديٌّ أنت؟ قال: نعم، قال: أَسِلمْ حتى أفعلَ معك كذا وكذا، فقال: ديني ودينُ آبائي لا أَتركه. فلما كان بعد سنةٍ دخل على المأمون وقد أَسلم، فتكلَّم في الفقه فأَحسن، فلما ¬

_ (¬1) تنظر ترجمته في السير 10/ 272 وما بعدها، وبقية مصادر ترجمته ثمَّة.

تقوَّض المجلسُ دعاه المأمون فقال: ألستَ صاحبَنا بالأمس؟ قال: بلى، قال: ما الذي دعاك للإسلام وقد عرضتُه عليك بالأمس فأَبيت؟ ! فقال: أُخبرك، إني أُحسن الخطَّ، كتبتُ ثلاثَ نسخٍ من التوراة، فزدتُ فيها ونقصت، ثمَّ أَدخلتها الكنيسةَ فبعتها، فاشتُريتْ بأَوفى ثمن، ثمَّ كتبت ثلاث نُسخٍ من الإنجيل، فزدتُ فيها ونقصتُ منها، وأدخلتها البيعةَ فبعتها بأَوفى ثمن، وعمدتُ إلى القرآن فكتبت منه ثلاثَ نسخ، فزدت فيها، ونقصتُ منها، وأدخلتها إلى الورَّاقين فعرضتها عليهم، فتصفَّحوها، فرأوا الزيادةَ والنقصانَ، فرَموا بها، فعلمت أنَّ هذا الكتابَ محفوظٌ فأسلمت. وقال يحيى بنُ أكثم: فحججت، فلقيني سفيانُ بن عُيينة، فحدَّثته بهذا الحديث، فقال: مِصداق ذلك من كتاب الله، قلت: وأين؟ فقال: في قول اللهِ تعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44] فجعل حِفظَه إليهم فضاع، وقال اللهُ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فحفظه اللهُ تعالى فلم يضيَّع. ذِكر نُبذةٍ من كلامه وتواضعِه وعَفوه: حكى الصُّولي عن] المأمون أنَّه كان يقول (¬1): لو عرف الناسُ حُسنَ العفو لتقرَّبوا إليَّ بالجرائم، وودت أنَّ أهلَ الجرائم عرفوا رأيي فيه؛ ليذهبَ الخوفُ عن قلوبهم، وأخاف ألَّا أُوجرَ على العفو. يعني أنَّه صار له اختيارًا [وطبعًا] (¬2). وقال يحيى بن أكثم: بِتُّ ليلةً عند المأمون، فعطشت، فقمتُ لأشربَ ماء، فرآني فقال: عُدْ إلى موضعك، فعُدت، فقام وأتاني بكُوزٍ من ماءٍ وقال: اشرب، وهو قائمٌ على رأسي، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، يشقُّ عليَّ قيامُك وتأتيني بالكوز! فقال: حدَّثني أبي، عن أبيه المَهديّ، عن أبيه المنصور، عن أبيه محمدِ بن علي، عن أبيه عليّ (¬3)، عن أبيه عبدِ الله بن عباس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4) أنَّه قال: "سيِّدُ القومِ خادمُهم" [وفي روايةٍ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وكان المأمون يقول. وما بين حاصرتين كله من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ف). (¬3) في تاريخ بغداد 11/ 436، وتاريخ دمشق 39/ 261: عن عكرمة. (¬4) في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق: عن ابن عباس عن جرير بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه ابن عساكر أيضًا عن المأمون، عن أبيه، عن جده، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - مرفوعًا.

أنَّ الذي عطش المأمون. قال يحيى: ] وكان لا يَدَعُني أَسقيه ويقول: استخدامُ الرجل ضيفه لؤم، ويقوم هو فيشرب، فأقول له: أَلَا أُوقظ الخدم؟ فيقول: لا، هم نيام، وقد تعبوا في الخدمة، وإنِّي لَأكون في المتوضَّأ فأَسمعهم يشتموني فأَعفو عنهم. قال [يحيى: ] (¬1) وَبِتُّ عنده ليلة، فأخذه سعال، فجعل يسدُّ فاهُ بكمِّه لئلا أنتبه. وقال: كنت معه في بستانٍ ونحن نتساير، وأنا في الشمس وهو في الظِّلّ، فلمَّا رجعنا، تحوَّل إلى الشمس وقال: سِرْ في الظِّل، فقلت: أميرُ المؤمنين أَوْلى بذلك منِّي؛ لأنك ظلُّ اللهِ في الأرض، فقال: الواجبُ على الملك العدلُ في بِطانته أوَّلًا، ثمَّ في الذين يلونهم، ثمَّ في الذين يلونهم، حتى بلغ إلى الطَّبقة السُّفلى. وقال [يحيى]: كان المأمونُ يَحلُم حتى يَغيظَنا، جلس يومًا على جانب دجلةَ يتسوَّك عند دخولِه إلى بغداد، وعنده جماعةٌ من العلماء والقوّاد والأَشراف، وإذا بملَّاح في سفينة عتيقةٍ يدخل الماءُ من جوانبها، وعليه ثوبٌ خَلَق، وهو يصيح بأعلى صوتِه: أتظنُّون أنَّ هذا [المأمون] يَنبُل في عيني وقد قتل أخاه الأمين! قال: فسمعه المأمون، فتبسَّم والتفتَ إلينا وقال: ما الحيلةُ عندكم حتى أَنبُلَ في عين هذا السَّيِّد الجليل؟ و[قال إبراهيمُ بن سعيدٍ الجوهري: ] وقف رجلٌ بين يدي المأمونِ وقد جنى جناية، فقال له: واللهِ لأَقتلنَّك، فقال: يا أميرَ المؤمنين، تأنَّ عليّ؛ فإنَّ التأنِّيَ نصفُ العفو. فقال: وكيف وقد حلفتُ، فقال: لَأَن تلقى اللهَ حانثًا خيرٌ لك من أن تلقاه قاتلًا، فعفا عنه. وقال لإسحاقَ بن العباس: لا تحسبني أغفلتُ إِجلابَك مع ابن المهديِّ وتأييدَك لرأيه وإِيقادَك لناره، فقال: يا أميرَ المؤمنين، لَإجرامُ قريشٍ إلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَعظمُ من إجرامي إليك، ولَرَحِمي أمسُّ من أرحامهم، وقد قال لهم يومَ الفتح: لا تثريبَ عليكم اليوم (¬2)، وأنت وارثُ ابنِ عمِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنت أحقُّ بهذه المِنَّة، فقال: هيهات، تلك أجرامٌ جاهلية عفا الإِسلامُ عنها، فقال إسحاق: واللهِ، المسلمُ بإِقالة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) أخرجه النسائي في الكبرى (11234) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مطولًا.

العَثْرةِ أَوْلى من الكافر، وقد أمر اللهُ بالعفو عن المسلم والكافر، فقال: صدقتَ [وَرِيَتْ بك زِنادي] (¬1) وعفا عنه. و[قال إبراهيمُ بن سعيدٍ الجوهري: ] سخط [المأمونُ] على نعيم بن حازم، فقال له الحسنُ بن سهل: يا أميرَ المؤمنين، قد تقدَّمَت لنعيمٍ طاعة، وتأخَّرت له توبة، وليس للذَّنب بينهما موضع، ولو وُجد فما ذنبُه بأعظمَ من عفوك، فعفا عنه. وأذنب رجلٌ من بني هاشمٍ إلى المأمون، فعاتبه، فقال: يا أميرَ المؤمنين، مَن حمل مِثلَ دالَّتي، ولبس ثوبَ حُرمتي، وَمَتَّ بمثل قرابتي، غُفر له فوق زلَّتي، فقال: صدقتَ يا ابنَ عمّ، وعفا عنه. و[قال الصُّولي: ] (¬2) وغضب [المأمونُ] على رجل، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ قديمَ الحُرمة وحديثَ التوبةِ يمحوان ما بينهما من الإساءة، فرضي عنه. و[قال أيضًا: ] أساء رجلٌ إليه مرارًا، فلمَّا حضر بين يديه قال له المأمون: إنما هو عُذرٌ أو يمين، وقد وهبتهما لك، ولا تزال تُسيء وأُحسن، وتُذنب وأَعفو، حتى يكونَ العفوُ هو الذي يُصلحك. [قال: ] وجاءه الحسنُ بن سهلٍ برجلٍ قد أذنب، فقال [له الحسن]: هَبْه لي، فقال المأمون: وكيف لا أَهبه لمن به قَدرتُ عليه! [ذِكر طَرَف من جود المأمون وكرمِ أخلاقه: حكى الحسنُ بن عبدوسٍ الصفَّارُ قال: ] لمَّا بني [المأمون] (¬3) على بُوران، كان رجلٌ من أهل الأدبِ يحضر مجلسَ الحسنِ بن سهل، وكان فقيرًا، فعمد إلى مِزْودَين، فملأ أحدَهما ملحًا والآخرَ أُشنانًا، وبعث بهما إلى الحسن، وكتب معهما رُقعةً يقول فيها: خِفَّة البضاعةِ قصرتْ يدَ (¬4) الهِمَّة، وكرهتُ أن تُطوَى صحيفةُ أهل البِرِّ وليس لي فيها ذِكْر، فوجَّهت إلى سيِّدي بالمبتدأ به ليُمنه وبركتِه، وبالمختَتَم به لطِيبه ونظافتهِ. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في تاريخ دمشق 39/ 267: ببعد.

وكتب في أسفلها: [من السريع] بضاعتي تَقْصُر عن هِمَّتي ... وهمَّتي تَقْصُر عن مالي فالملحُ والأُشنان يا سيِّدي ... أَحسنُ ما يُهديه أَمثالي فأخذ الحسنُ المِزْوَدَين والرقعةَ ودخل على المأمون وأَوقفه على الرُّقعة، فاستحسن ذلك، وملأ المِزْودين دنانيرَ بعد أن أَفرغهما. وقال هُدْبةُ بن خالد: حضرتُ مجلسَ المأمون، فلمَّا رُفعت الموائد، جعلتُ أَلتقط ما على وجه الأرض، فرآني المأمونُ فقال: يا شيخ، أَمَا شبعت؟ ! فقلت: بلى، ولكن حدَّثني حمَّاد بن سَلَمة عن ثابتٍ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أكل ما سقط على المائدة (¬1) أَمِنَ الفقر" (¬2) فأمر لي بألف دينار، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، وهذا مِصداقُ الحديث [وفي رواية: وهذا من ذاك] (¬3). وأمر المأمونُ محمدَ بن أبي خالدٍ ومحمدَ بن يَزدادَ أن يناظرا عَمرَو بن مَسعدةَ في مال الأهواز، فناظراه، فظهر عليه ستَّةَ عشرَ ألفَ ألفِ درهم، فقال المأمونُ لابن يَزداد: انظر كلَّ ما تعلَّق به عَمروٌ فيما يدَّعيه فأَمضِه، فتعلَّق بأشياءَ لا أصلَ لها، فسقط من المال عشرةُ آلافِ ألفِ درهم، وبقي ستَّةُ آلافِ ألفِ درهمٍ لا حجَّةَ له فيها، فأُخذ خطُّه بها وأنها واجبةٌ للمأمون في ذمَّته، فلما خرج محمدٌ أَحضر المأمونُ عَمرًا وقال: هذا خطُّك؟ قال: نعم، قال: خذْه فقد وهبتُه لك، فقال: يا أميرَ المؤمنين، قد وهبته لأحمدَ بنِ عروةَ عاملِ الأهواز؛ فإنَّه يطالب به وهو فقير، فغضب المأمون، وعلم عَمرو أنَّه قد أخطأ، فقام وخرج، فدخل على أحمدَ بن أبي خالدٍ فأخبره، فقال: لا بأسَ عليك، ودخل على المأمون، فقال له: يا أحمد، أَلا تعجبُ من عَمروٍ وهبته ستةَ آلافِ ألف درهمٍ بعد أن تجافيتُ له عن أَضعافها فوهبها بين يديَّ لأحمدَ بنِ عروة! كأنه ¬

_ (¬1) في (ب): من أكل مما تحت المائدة. . . . (¬2) أخرجه أبو الشيخ في الثواب، والدارقطني في الغرائب، والخطيب في المؤتلف، قال ابن حجر في أطراف المختارة: سنده من هدبة على شرط مسلم، والمتن منكر، فلينظر فيمن دون هدبة. تخريج أحاديث الإحياء، وتنزيه الشريعة المرفوعة 2/ 262، وكنز العمال 15/ 252. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

أراد أن يضاهيَني ويصغِّرَ معروفي عنده! فقال أحمد: يا أميرَ المؤمنين، لو لم يفعلْ هذا لكان ينبغي أن يسقطَ حالُه عندك، قال: وكيف؟ ! قال: أراد أن ينتشرَ في ملوك الأممِ أنَّ بعضَ خدمك اتَّسع قلبُه لهبة هذا المالِ الذي هو من جُملة إِحسانك، فيزيدَ ذلك في جلال الدَّولة، فيذلَّ أعداؤك الذي يكاثرونك (¬1)، قال: صدقتَ، ورضي عنه. وقال يحيى بنُ خاقان: أَلزمني المأمونُ بخمسة آلافِ ألفِ درهم، فأخبرته أنِّي لا أملك إلا سبعَ مئةِ ألفِ درهم، وحلفت له على ذلك بالأَيمان المغلَّظة، فلم يصدِّقني، وحبسني عند أحمدَ بنِ هشام، وكان بيني وبينه شرٌّ قد اشتهر، وكان على الحرس، فقال أحمدُ للموكَّلين بي: احفظوه لا يَسمَّ نفسَه، وبلغ المأمونَ ففطن لمراده، فقال: يا أحمد، لا يأكلْ يحيى بنُ خاقانَ ولا يشرب إلَّا ما يؤتَى به من منزله، قال يحيى: فأرسلتُ إلى جماعة، فبعث إليَّ الحسنُ بن سهل وفَرَجٌ الرُّخَّجي وحُميد الطوسيٌّ بثلاثة آلافِ ألفِ درهم، كلُّ واحدٍ بألف ألفِ درهم، فأضفتُ ذلك إلى ما عندي، فكَمُلت خمسةَ آلافِ ألفِ درهم، وكتبت إلى المأمون أعرِّفه، وكان عنده أحمدُ بن أبي خالدٍ وعَمرو بن مَسعدةَ وعليُّ بن هشام، فأَحضرني وقال: ألست الحالفَ لي أنَّك لا تقدر إلَّا على سبع مئةِ ألفِ درهم؟ ! فمن أين لك هذا المال؟ ! فقصصتُ عليه القصَّة، فأطرق طويلًا ثمَّ رفع رأسه وقال: قد وهبتُ لك المال، فقال له مَن حضر: أَتهب له هذا المال وليس في خزائنك درهم! قال: نعم، قالوا: خذْ منه قرضًا، وإذا جاءك مالٌ رددتَ عوضه، فقال: أنا أَقدَرُ على المال من يحيى، ولا أرجعُ فيما وهبت. قال يحيى: فقمتُ فرددت على القوم أموالهم وفرَّج اللهُ عني. وسعى إليه محمدُ بن يَزداد بعَمرو بنِ بهبوبا (¬2) أنَّه أخذ الأموال، فقال المأمونُ للفضل بنِ مروان: خُذ عَمرًا إليك فقيِّده وضيِّق عليه ليؤدِّي ما اختانه من المال، قال ¬

_ (¬1) اختصر المؤلف هنا كلام أحمد بن أبي خالد اختصارًا مخلًّا، والقصة في الفرج بعد الشدة 1/ 384 - 386، وفيها أنَّه قال له: لو استأثر به على أحمد بن عروة وأخذ أحمد بأداء هذا المال، لكان قد أخرجه من معروفك صفرًا، ولما كانت نعمتك على عمرو نعمة على أحمد وهما خادماك، فكان الأجمل أن يتضاعف معروفك عندهما. . ." إلخ. (¬2) في الفرج بعد الشدة 2/ 127: بهنوى.

الفضل: فأخذتُ عَمرًا إلى داري، وأفردتُ له حُجرة، وأَقمتُ له ما يُصلحه، وأقام ثلاثةَ أيام، ثم أرسل إليَّ يسألني الاجتماعَ به، فأَذنتُ له، فدخل عليَّ وأخرج رقعةً قد أَثبت فيها ما يملكه، من مالٍ وجوهرٍ وعقار وأثاثٍ ودوابَّ وعبيدٍ وإمامٍ ونحو ذلك، ما مبلغُه عشرون ألفَ ألفِ درهم، وسألني أن أُوصلَ رقعتَه إلى المأمون، وأنه قد جعله في حِلٍّ وسَعَة من جميع ذلك، فقلت له: مهلًا، إنَّ أميرَ المؤمنين أجلُّ قَدْرًا أن يسلُبَك نعمتك كلَّها عن آخرها، فقال: هو كما وصفت، ولكنَّ الساعيَ لا ينام عنِّي ولا عنك، وقد بلغني أنَّه أمرك بالغِلظة عليَّ، وقد عاملتَنِي بضدِّ ذلك، وقد طابت نفسي أن أشتريَ خلاصي وخلاصَك بجميع مالي، فلم أَزل أرفقُ به حتَّى وافقته على شطر مالِه، وهو عشرةُ آلافِ ألفِ درهم، وأخذت خطَّه بها وصرتُ إلى المأمون، وإذا بمحمد بنِ يزدادَ قد سبقني إليه، فلما دخلتُ خرج محمد، فقال لي المأمون: يا فضل، ما هذه الجرأةُ عليَّ! أمرتُك بالتضييق على عَمرو بن بهبوبا فقابلتَ أمري بالضدِّ ووسَّعت عليه وأقمت له الأَنزال (¬1)! فقلت: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ عَمرًا يطالب بمالٍ عظيم، ولم آمن أن أحبسَه في بعض الدواوين فيبذلَ مالًا يُرغَب في مثله فيخلُص، فجعلت حبسَه في داري، وأشرفتُ على طعامه وشرابِه لأَحرسَ نفسه؛ فإنَّ كثيرًا من الناس اختانوا الأموال وأَودعوها، فاحتيل عليهم بإِتلاف نفوسهم، فذهبت الأموالُ التي كانت لهم عند الناس، فتلفوا وفاز بها غيرُهم. قال: فسكن غضبُه، ولم أُخرج الرُّقعة، قال: سلِّم عَمرًا إلى محمد بنِ يزداد، فسلَّمته إليه، فعذَّبه بأنواع العذاب، فلم يقرَّ بدرهم، فلمَّا رأى أصحابُه ذلك، جمعوا له ثلاثةَ آلافِ ألفِ درهمِ وبذلوها لمحمد بنِ يزداد، فصار إلى المأمون متبجِّحًا بها، وأخبره وأنا واقف، فرفع المأمونُ رأسَه وقال لي: يا فضل، ألم تعلمْ أنَّ غيرَك أقومُ بأمرنا منك وأَطوعُ لما نأمر! هذا محمدٌ قد أخذ خطَّ عَمروٍ بثلاثة آلافٍ ألفِ درهم، فقلت له -وما اجترأتُ عليه مثلَها قطّ-: أرجو أن أكونَ في حال استبطانك لي أبلغَ من إسراع غيري. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): الأموال. والمثبت من الفرج بعد الشدة.

ثم أَوقفته على الرُّقعة التي كتبها عَمرو، وحدَّثته الحديثَ عن آخره، فقال: واللهِ ما أدري أيُّكما أعجب، أَعمرٌو حيث شكر بِرَّك فطاب نفسًا بالخروج من جميع ما يملكه بهذا السَّبب! أم أنت ومحافظتُك على أهل النِّعم وسَترك عليهم في ذلك الوقت! واللهِ لا كنتما يا نَبَطِيَّان أكرمَ مني، قد وهبتُ له الكلّ، ومزَّق الرُّقعتين اللتين بخطِّ عَمرٍو بعشرة آلاف ألفِ درهم، والتي بثلاثة آلافِ ألفِ درهم، وبعث بعَمرٍو إلى داره مكرَّمًا. وقال عيسى بنُ عبَّاد (¬1): دعاني المأمونُ يومًا فدفع إليَّ كتابًا مختومًا وقال: اذهب إلى عَمرو بنِ مَسعدةَ وناظرْه على ما في هذ الكتاب بابًا بَابًا، وخذ خطَّه على كلِّ باب بحجَّة، واختمه بخاتَمي وخاتَمه، ويبقى عندك إلى أن أقولَ لك، ولا تبتدئْني فيها بشيءٍ حتَّى أسألَك. قال: وكنت شاركت عَمرًا في تلك الأموالِ التي رُفعت علينا، فخفت من ذِكرها في السِّعاية، وأن تكونَ مذكورة في الكتاب، فصرت إلى عَمرٍو وهو جالسٌ يلعب بالشِّطرَنج في بستان، فقلت: لي حديثٌ فأَخْلِني، فقال: دعني أُتمِّم دَسْتي، فغاظني، فبدَّدتُ الرقعةَ وقلت: قد سأل بنا السَّيلُ وأنت لا تدري، ثم ناولتُه الكتاب، فضحك وقال: ويحك! قد خدمتَ رجلًا مدَّة وأنت لا تعرف أخلاقَه ومذهبَه! أتريد أن أُطلعَك على ما هو أشدُّ من هذا؟ قلت: نعم، فأخرجَ إليَّ رقعةً فيها مثلُ ما في تلك، وقال: هذه لها عندي منذ سنة، كتب إليَّ بأن أفعلَ مثلَ هذا ولم أُخبرك. قال: فجعلت أُرعَد من الخوف وعَمرٌو يضحك، وأنا أقول: عند اللهِ أحتسب نفسي ونعمتي، فقال عَمرو: أنت مجنون، إنَّ صاحبنا ليس بشَرِه ولا بخيل، ولكنه أراد أن يعرِّفَنا أنَّه قد علم ما صار إلينا من إِنفاق، فقلت: لا بدَّ من الكتابة، فكتب رُقعة، فوجد ما نُسب إليه أربعين ألفَ ألفِ درهم، وما نُسب إليَّ سبعةً وعشرين ألفَ ألفِ درهم، وكَتب في أسفلها: لو قصرت بنا هِمَمُنا عن هذا المقدارِ وسعتنا (¬2) منازلنا، ونرجو أن يُطيل الله بقاءَ أميرِ المؤمنين ليصلَ إليا أضعافُ ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف)، وفي الفرج بعد الشدة 3/ 43: أبو عباد. وقال محقِّقه: هو ثابت بن يحيى بن يسار، كاتب المأمون ووزيره. (¬2) في (خ): ما وسعتنا، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في الفرج بعد الشدة.

قال: وأخذتُ أنا الرُّقعة، فأقامت معي وأنا أَذوب وأَنحَل، ولا أَشكُّ في زوال نعمتي وهلاكي، فكتبت وصيَّتي وهجرتُ طعامي وشرابي ولذَّاتي، حتَّى بَليت، فنظر المأمونُ إليَّ يومًا فقال: يا عيسى، هل تشكو عِلَّة؟ فقلت: يا أميرَ المؤمنين، لي سنة حيٌّ كميِّت بسبب الكتابِ الَّذي دفعتَه إليَّ لأُناظرَ عليه عَمرو بنَ مَسعدة، فقال: أَمسِك حتَّى أُعيدَ عليك ما جرى بينكما، فأَعاده حرفًا حرفًا وقال: عمرٌو أَعرفُ بنا منَّا، وأوسمعُ صدرًا، وأبعد همَّة، وما أردتُ إلَّا أن أعرِّفكما أني قد علمتُ بما صار إليكما وأنتما تتوقَّيان إظهارَه، وأحببتُ أن أُزيلَ عنكما غَمَّ المساتَرَة وثقلَ المراقبة، وإني خَجِلٌ منكما من ضعف أمري (¬1) عندكما، فدعوتُ له وقلت: ما أَصنعُ بهذا الكتاب؟ فقال: ترميه في لعنة الله، وامضِ مصاحَبًا في سِتر الله. فدعوتُ له وانصرفت كأنما أُطلقت من عِقال (¬2). و[قال الصُّولي: ] (¬3) كان بعضُ خدمٍ المأمون [واسمُه رشيد] بلغه عنه أنَّه يسرق، فقال له يومًا: يا رشيد، إذا سرقتَ شيئًا فبِعْنيه، قال: نعم [قال: ] وكان يصبُّ على يديه من إِبريق في طَسْت، فقال: يا أمير المؤمنين، بكم تشتري منِّي هذا الطَّسْتَ والإبريق؟ قال: بكم تريدني أَشتريه، قال: بعشَرة دنانير، فأمر له بها، فقال الرشيد: بقي هذان ما بقي الليلُ والنهار. فضحك المأمونُ [حتى استلقى]. [قال: ] (¬4) وأهدى مَلِكُ الرومِ إلى المأمون هديَّةً سَنيَّة، فيها مئةُ رطلٍ من المِسك، ومئةُ حُلَّة من سَمُّور (¬5)، فقال: أَضعِفوها له ليعلمَ عزَّ الإسلام وذُلَّ الكفر. وقال العَيشي (¬6): كنت مع المأمونِ بدمشق، فضاق ما بيده، فشكا ذلك إلى أخيه أبي إِسحاقَ المعتصم، فقال له: يا أميرَ المؤمنين، كانَّك بالمال وقد وافاك بعد جُمُعة، وقدم بالمال وكان ثلاثين ألفَ ألفِ درهمٍ من خَراج كان يتولَّاه المعتصم، فقال لابن ¬

_ (¬1) في الفرج بعد الشدة: أثري. (¬2) من قوله: وأمر المأمون محمدَ بن أبي خالد ومحمد بن يزداد أن يناظرا ... إلى هنا، لم يرد في (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) دابة يتخذ من جلدها فِراء مثمنة. القاموس المحيط (سمر). (¬6) في (خ) و (ف): العبسي. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 652، وابن الأثير 6/ 433. وانظر تاريخ دمشق 2/ 7265 - 726 (مخطوط).

أَكثم: اُخرج بنا ننظرْ إلى المال، فخرجا وقد هُيِّئَ بأحسن هيئته، وزُّيِّنت الجِمالُ بالأَحلاس الموشَّاة، واستشرف الناسُ إلى البِدَر (¬1) ينظرون إليها، فقال المأمونُ ليحيى: يا أبا محمد، أَننصرف بهذه الأموالِ وينصرف أصحابُنا هؤلاء الذين شاهدوها إلى منازلهم خائبين! إنَّا إذًا لَلِئام. ثم دعا محمدَ بن يَزدادَ فقال: وقِّع لفلانٍ بألف ألف، ولفلانٍ بمثلها، ولفلانٍ بكذا وكذا. فواللهِ ما زال كذلك حتَّى فرَّق أربعةً وعشرين ألفَ أَلفِ درهم ورِجْلُه في الرِّكاب، ثم قال: ارفع الباقيَ لجندنا. قال العيشي: فجئتا فقمت نُصبَ عينه، فقال: يا محمد، وقِّع لهذا بخمسين ألفَ درهمٍ من الستَّة آلافِ درهم لا يختلسْ ناظري، فأخذتُها. وقال محمدُ بن أيوبَ بن جعفرِ بن سليمانَ والي البصرة: كان عندنا بالبصرة شاعرٌ يقال له: ابنُ تميم، ظريف، وكنت آنَس به، فقلت له يومًا: أين أنت من المأمون، فإنَّه أَجودُ من الرِّيح العاصفِ والسَّحاب الحافلَ، فقال: أنا ضعيف، فأعطيتُه نجيبًا فارهًا ونفقة، وعَمِلَ أُرجوزة أثنى عليَّ فيها (¬2)، وخرج إلى الشام، فوافي المأمونَ في بلاد الرُّوم. قال الرجل: فبينا أنا ذاتَ غداةٍ على نجيبي وأنا أردِّد أُرجوزتي، وإذا بكهلٍ على بغلٍ فارِه، فسلَّم عليّ، فرددتُ عليه، فقال: مَن الرجل؟ قلت: من مُضَر، قال: ونحن من مُضَر، قال: ثم ماذا؟ قلت: من بني تميم، ثم من بني سَعد، فقال ورائحةُ المسكِ تفوح منه: ومِن أين وإلى أين؟ قلت: من البصرة إلى هذا المَلكِ العظيمِ الَّذي ما سمعتُ بأندى رائحةً ولا أوسعَ صدرًا وراحةً منه [وقد عملتُ فيه رَجَزًا يَحسُن في مِثله] (¬3) وتقتفيه الرُّواة، ويحلو في آذان المستمعين، قال: فأنشدنيه، فغضبتُ وقلت: يا رَكيك (¬4)، كيف أفعل هذا وأنا قاصدٌ الخليفة! فتغافل عنها وأَلغى جوابَها ثم قال: وما الذي تروم منه؟ قلت: ألف دينار، قال: إنْ رأيتُ شِعرك جيِّدًا وكلامَك عذبًا ¬

_ (¬1) جمع بَدْرة، وهي كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار. القاموس المحيط (بدو). (¬2) اختصر المصنف في الكلام على عادته، فإن شئت فراجعه في تاريخ الطبري 8/ 653، وابن الأثير 6/ 434. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف). (¬4) الركيك: الضعيف في عقله ورأيه. انظر القاموس والمعجم الوسيط (ركك).

أعطيتُك ألفَ دينارٍ وأَرحتك من التعب، ومتى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرةُ آلافِ رامحٍ ونابل! فقلت: واللهِ عليك أن تعطيَني ألفَ دينار؟ ! قال: نعم، قلت: ومن أين لك ألفُ دينار؟ ! قال: هذا بغلي خيرٌ من ألف دينار، قال: فغضبت وقلت: ما يساوي هذا البغلُ هذا النَّجيب؟ ! قال: فدع عنك التعلُّل، ولله عليَّ أن أعطيَك الساعةَ ألفَ دينار، فأنشدته: مأمون يا ذا المِنَن الشريفهْ ... وصاحبَ المراتبِ المُنيفهْ وقائدَ الكتيبةِ الكثيفه ... هل لك في أُرجوزةٍ ظريفه أظرفَ من فِقه أبي حنيفه ... لا والذي أنت له خليفه ما ظُلِمت في أرضنا ضعيفه ... أَميرُنا مُؤنتهُ خفيفه وما اجتبى [شيئًا] (¬1) سوى الوظيفه (¬2) ... فالذئبُ والنَّعجةُ في سَقيفه واللِّصُّ والتاجرُ في قَطيفه قال: فما فرغتُ من إنشادها إلَّا وقد أحدق بنا زُهاء على عشرة آلافِ فارس، فأخذني أَفْكَل (¬3)، وإذا به المأمون، فقال: أَي أخي لا باسَ عليك، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، أَتعرف لغاتِ العرب؟ قال: إِي لَعَمرُ الله، قلت: مَن جعل الكافَ منهم مكانَ القاف؟ قال: حِمْيَر. فقلت: لعنها اللهُ ولعن مَن استعمل هذه اللَّفظة (¬4) بعد اليوم. فضحك المأمونُ وعلم ما أردت. يعني: يا ركيك، ثم أعطاني ثلاثةَ آلافِ دينارٍ وقال: سلامٌ عليكم، ومضى، فكان آخرَ العهدِ به (¬5). [وحكى الصُّولي عن يحيى بنِ أكثمَ حديثَ المرأة، قال يحيى: لما دخل المأمونُ بغدادَ جلس لردِّ المظالم، فقعد إلى الظُّهر] فلمَّا أراد القيام (¬6)، تقدَّمت إليه امرأةٌ غريبة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 8/ 655، وابن الأثير 6/ 435. وفي تاريخ دمشق 39/ 272: فضلًا. (¬2) في (خ) و (ف): الوضيفه. والمثبت من المصادر. (¬3) في (خ): فاخذ به النكل، وفي (ف): فأخذني النكل. والمثبت من تاريخ الطبري. والأَفكل: الرعدة. القاموس المحيط (فكل). (¬4) في تاريخ الطبري وابن الأثير: اللغة. (¬5) من قوله: وقال العيشي: كنت مع المأمون بدمشق ... ، إلى هنا. لم يرد في (ب). (¬6) في (خ): جلس يومًا للناس، فلما أراد القيام. وفي (ف): وخرج يومًا في موكبه ثم جلس للخصوم، وكان =

في ثيابٍ رثَّة تتعثَّر بذيلها، ووقفت بين يديه، فقال: ما حاجتُكِ؟ فقالت: امرأةٌ غريبة، وأنشدت: [من البسيط] يا خيرَ منتصفٍ يُهدَى به الرَّشَدُ ... ويا إمامًا به قد أَشرق البلدُ تشكو إليك عميدَ المُلكِ أَرملةٌ ... عَدَا عليها فما يَقوَى به (¬1) الأَسَد فابتزَّ منِّي ضِياعي بعد مَنعَتها ... لمَّا تفرَّق عنِّي الأهلُ والوَلَد فأَطرق المأمونُ ساعةً [مفكَرًا] (¬2) ثم رفع رأسَه وقال (¬3): مِن دون ما قلت عِيلَ الصبرُ والجَلَدُ ... فأَحضِروا خصمَها اليومَ الذيَ أَعِدُ (¬4) والمجلسُ السَّبت إنْ يُقضَ الجلوسُ لنا ... أُنْصِفْكِ منه وإلَّا المجلسُ الأَحَد وقام، فلمَّا كان يومُ الأحدِ حضرت المرأة، فقال لها: وأين الخصم؟ فأشارت إلى العباس بنِ المأمون، وكان قائمًا على رأسِ أبيه وهو غلام، فقالت: غصبني ضَيعتي، فسأله الحجَّة، فسكت، والمرأةُ ترفع عليه صوتَها وهو لا ينطِق، فقال لها بعضُ الحاضرين: أَترفعين صوتَك على ابن أميرِ المؤمنين! فقال له المأمون: اُسكت؛ فإنَّ الحقَّ أَنطقها والباطل أَخرسه، ثم ردَّ عليها ضَيعتَها وأعطاها عشرةَ آلافِ درهمٍ وردَّها إلى أهلها. وقال إسحاقُ بن إبراهيمَ المَوصلي: كان المأمونُ قد سخط على الخَليع (¬5) لأنَّه هجاه ومدح الأَمين. قال إسحاق: فبينا أنا ذاتَ يومٍ عند المأمون، إذ دخل ابنُ البوَّاب الحاجبُ وبيده رُقعة، فاستأذن في إِنشادها، فأذن له، فقال: [من الطويل] أَجِرني فإنِّي قد ظمئتُ إلى الوعد ... متى تُنجز الوعدَ المؤكَّدَ بالعهدِ أُعيذك من خُلْف الملوكِ فقد ترى ... تقطُّعَ أنفاسي عليك من الوَجْد ¬

_ = يجلس للخصوم من الغداة إلى بعيد الظهر، فلما أراد القيام. والمثبت من (ب). (¬1) في (ب): بها، وفي (خ) و (ف): يد، والمثبت من المحاسن والمساوئ ص 497، وتاريخ دمشق 39/ 257. وفي العقد الفريد 1/ 28: عدي عليها فلم يُترَك لها سَبَدُ. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) بعدها في (ف): هذا الشعر مصنوع عليه. وليست في المصادر. (¬4) دمج المصنف هنا بيتين في بيت، واختلفت المصادر في رواية عجز هذا النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) هو الحسين بن الضحاك الشاعر.

أَيبخل فَرْدُ الحُسْنِ عني بنائلٍ ... قليلٍ وقد أَفردتُه بهوًى فَرْدِ رأى اللهُ عبدَ اللهِ خيرَ عبادِه ... فملَّكه واللهُ أعلمُ بالعبد أَلَا إنَّما المأمونُ [للناس] (¬1) عصمةٌ ... مميِّزة بين الضَّلالة والرُّشد فقال له: أَحسنت، فقال: يا أميرَ المؤمنين، أَحسن قائلُها، قال: ومَن هو؟ قال: عُبيدك الحسينُ بن الضحَّاك، فقال: لا حيَّاه الله ولا بيَّاه ولا قرَّبه، أليس هو القائل: [من الطويل] أَعينيَّ جُودا وابكيا لي محمَّدا ... ولا تَذْخَرا دمعًا عليه وأَسعِدا فلا تمَّت الأشياءُ بعد محمدٍ ... ولا زال شَملُ المُلكِ فيها مبدَّدا ولا فرح المأمونُ بالمُلك بعده ... ولا زال في الدُّنيا طريدًا مشرَّدا هذه بتلك، ولا شيء له عندنا، فقال ابنُ البواب: فأين عادةُ عفو أمير المؤمنين؟ قال: أما هذه فنعم، إئذنوا له، فدخل (¬2)، فقال المأمون: هل عرفتَ يوم قُتل أخي هاشميةً هُتكت؟ قال: لا، قال: فما معنى قولِك: [من الطويل] وممَّا شجا قلبي وكفكفَ عَبرتي ... محارمُ من آل النبيِّ استُحِلَّتِ ومهتوكةٌ بالخُلْد عنها سجوفُها ... كَعابٌ كقَرن الشمسِ حين تبدَّت فلا بات ليلُ الشامِتِين بغِبطةٍ ... ولا بُلِّغت آمالُهم ما تمنَّت فقال: يا أميرَ المؤمنين، لوعةٌ غلبتني، وروعةٌ فاجأتني، ونعمةٌ سُلبتُها بعد أن غمرتْني، وإحسان عمَّني سَيبُه فأَنطقني، وسيِّد فقدتُه فأوجعني، فإن عاقبتَ فبحقِّك، وإن عفوتَ فبفضلك، فدمعت عينا المأمونِ وأمر بإدرار رزقِه. قال المصنِّف رحمه الله: والذي ذكر الخليعُ هو الصحيح، أيُّ هتكَةٍ أعظمُ من خروج هاشميةٍ حاسرةً مكشوفةَ الرأس ناشرةً شعرَها، ومعها بناتُ الخلفاءِ عليهنَّ المُسوح، يَلْطِمنَ في شوارع مدينةِ أبي جعفرٍ ويَحثين على رؤوسهنَّ الرَّماد، حتَّى بكى عليهنَّ كل صديقٍ وكلُّ عدو، وإنما الخليعُ خاف من المأمون فاعتذر بما ذكر. وبلغ المأمونَ أن دِعْبِلًا هجاه فقال: [من الكامل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المصادر: الأغاني 7/ 165، والفرج بعد الشدة 1/ 329، وتاريخ الإسلام 5/ 356. (¬2) في (خ): نوله فدخل. وفوقها: كذا، والمثبت من تاريخ الإسلام 5/ 356، والنجوم الزاهرة 2/ 226.

أَيسومني المأمونُ خِطَّةَ عارفٍ (¬1) ... أَوَما رأى بالأمس رأسَ محمَّدِ إنَّ التِّراتِ مسهَّدٌ طُلَّابها ... فاكفُفْ لُعابَك عن (¬2) لُعاب الأسود إنِّي من القوم الذين سيوفُهمْ ... قتلتْ أخاك وشرَّفتْك بمَقْعد شادوا بذِكرك بعد طول خُمودِه ... واستنقذوك من الحضيض الأَوْهَد فقال المأمون: قاتله الله، ومتى كنت خاملًا وقد نشأتُ في حجر الخلفاء! ولكن هو يهجو أبا عبَّادٍ لا يهجوني، وكان في [أبي] (¬3) عَبَّاد حِدَّة. قال يحيى بنُ أكثم: قال المأمون: وددتُ لو أنَّ لي رجلًا مثلَ الأصمعيِّ يعرف أيامَ العرب وأشعارَها حتَّى ينادمَني كما نادم الأصمعيُّ أبي، فقلت: ها هنا عَتَّاب بنُ ورقاءَ الشَّيباني، فهو مِثلُ الأصمعي، فقال: عليَّ به، فلما حضر قلت له: إنَّ أميرَ المؤمنين -أطال اللهُ بقاءه- يرغب في مؤانستك ومحادثتِك، فقال: إني شيخٌ كبير عاجزٌ عن ذلك، وقد ذهب مني الأَطْيَبان (¬4)، فقال المأمون: لا بدَّ من ذلك، فقال عَتَّاب: [من المجتث] أبعد سِتِّين أَصبو ... والشَّيبُ للمرء حربُ شيبٌ وعيبٌ وخمر (¬5) ... هذا لَعَمرُك صعب فابنَ الإمام فهلَّا ... أيام عوديَ رَطْب وإذ شِفاءُ الغَوَاني (¬6) ... مني حديثٌ وقُرب وإذ مَشيبي قليلٌ ... ومنهلُ العيش عذْب [فالآن لمَّا رأى بي ... عواذلي ما أحبُّوا] (¬7) آليتُ أَشربُ راحًا ... ما حجَّ لله رَكب ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): عارب. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 660، وفي الديوان ص 122: عاجز. (¬2) في (خ) و (ف): في. (¬3) ما بين حاصرتين ساقط من (خ) و (ف). (¬4) هما: الأكل والنِّكَاح. أساس البلاغة (طيب). (¬5) في (خ): وأمر، وفي تاريخ دمشق 39/ 270: وإثم، والمثبت من (ف). (¬6) في (خ) و (ف): الأغاني. (¬7) ما بين حاصرتين من (ف).

فقال المأمون: ينبغي أن يُكتبَ هذا الشِّعر بماء الذَّهب، وأَجازه وأعفاه. ولمَّا دخل المأمونُ دمشقَ غنَّاه عَلُّويه بأبيات، وهي: ] من الطويل] برئتُ من الإِسلام إن كان ذا الَّذي ... أَتاك به الواشون عنِّي كما قالوا ولكنَّهم لمَّا رأوكِ غَرِيَّةً ... بهجري تواصَوا بالنَّميمة واحتالوا فقد صرتِ أُذْنًا للوُشاة سميعةً ... ينالون من عِرضي ولو شئتِ ما نالوا فقال المأمون: لمن هذا الشِّعر؟ فقال علُّويه: للقاضي الخَلنْجِي (¬1) -وكان على قضاء دمشق- فقال: عليَّ به، فقال: أَنشدني قولَك: برئتُ من الإِسلام، فخاف وقال: هذه قلتُها منذ أربعين سنة وأنا صبيّ، وواللهِ ما قلتُ شعرًا منذ عشرين سنةً إلَّا في زُهدٍ أو عتابِ صديق، فناوله كأسًا من نبيذ، فأُرعد وقال: واللهِ ما شربته قطّ، فقال المأمون: لو شربتَه لَضربتُ عُنقَك، وواللهِ لا أولِّي القضاءَ على المسلمين رجلًا بدأ في هَزله (¬2) بالبراءة من الإسلام، وقال لعلُّويه: قل: حُرِمتُ مُنايَ منكِ إنْ كان ذا الَّذي. فغيَّره بأَرشقِ عبارة. وقال حُميد بنُ عبدِ الحميد الطُّوسي: قال لي عليُّ بن جَبلة: امتدحتُ المأمونَ بأبيات، فأَحضرها، فدخلتُ بها على المأمون، فتأمَّلها وقال: خيِّره، إن شاءَ عفونا عنه وجعلنا ذلك ثوابًا لمديحه، وإنْ شاء جمعنا بين هذه وبين شِعره فيك وفي أبي دُلَف، فإنْ كان ما قال فيك وفيه أَجود، ضربناه ظهرًا لبطني وأَطلنا حبسَه، وإن كان ما قال فينا أَجود، أعطيناه عن كلِّ بيتٍ من مديحه ألفَ درهم، وإن شاء أَقلناه، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، ومَن أنا ومَن أبو دُلَفٍ حتَّى يمدحَنا باجودَ من مدحك، فقال: ليس هذا الجواب، واعْرض عليه ما قلت، فأَعرضتُ (¬3) عليه، فقال: الإِقالةُ أسلمُ لي، فاخبرت المأمون، فقال: هو أعلم. ثم قلت لعليّ: [إلى] أيِّ شيءٍ ذَهَبَ (¬4) في مدحك إياي ومدحِ أبي دُلَف؟ فقال: أمَّا ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن محمد، ابن أخت علويه المغني. انظر الأغاني 11/ 338 - 340، والوافي بالوفيات 17/ 443 - 444. والبيتان الأولان في تاريخ الطبري 8/ 656 أيضًا. (¬2) في (خ): هواه. (¬3) كذا في (خ) و (ف). والصواب: فعرضت. (¬4) في (خ) و (ف): ذهبت، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 659، وما بين حاصرتين منه.

مدحي إياك فقَولي: [من مجزوء الكامل] لولاُ حُميدٌ لم يكن ... حَسَبٌ يُعَدُّ ولا نَسَبْ يا واحدَ الزَّمنِ (¬1) الَّذي ... عزَّت بعِزَّته العَرَبْ وأمَّا مدحي لأبي دُلَفٍ فقولي: [من المديد] إنَّما الدُّنيا أبو دُلَفِ ... بين باديها (¬2) ومُحتَضَرِهْ فإذا ولَّى أبو دُلَفٍ ... ولَّت الدُّنيا على أَثَرِه فأعطاه حُميدٌ عشرةَ آلافِ درهم [وخِلْعة] (¬3) وكذا أبو دُلَف، وقال: اكتم علينا. وقال أبو نزار (¬4): ظننتُ أنَّ المأمونَ انتقد عليه (¬5) قولَه في أبي دُلَف: [من الطويل] تحدَّر ماءُ الجُود من صُلب آدَمٍ ... فأَثبته الرحمنُ في صُلب قاسمِ (¬6) وقال عُمارةُ بن عَقيل: قال لي عبدُ الله بنُ أبي السِّمط (¬7)، وفي رواية (¬8): مروانُ بن أبي حفصة: أَعلمتَ أنَّ المأمونَ لا ينتقد (¬9) الشِّعر؟ ! قلت: ومَن يكون أعلمَ به منه! واللهِ إنا لنُنشده أوَّلَ البيتِ فيسبقنا إلى آخره، قال: فإنِّي قد أَنشدته بيتًا لم يتحرَّك له، قلت: وما هو؟ قال: [من البسيط] أَضحى إمامُ الهدى المأمونُ مشتغلًا ... بالدِّين والناسُ بالدنيا مشاغيلُ فقلت: ما يُلام، وهل زدتَ على أن جعلته عجوزًا في محرابٍ وبيده سُبحة! فمَن يقوم بأمر الدُّنيا! هلَّا قلتَ كما قال عمُّك جَريرٌ في عبد العزيزِ بن الوليد: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في الديوان ص 31، وتاريخ الطبري: العرب. (¬2) في الديوان ص 68، وتاريخ الطبري: بين مغزاه. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف). وفي تاريخ الطبري: وحُملان وخلعة وخادم. (¬4) يعني: الضرير الشاعر. (¬5) في تاريخ الطبري: تعقد عليه. (¬6) الديوان ص 103. (¬7) في (خ) و (ف): السمت. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 662، وابن الأثير 6/ 438. (¬8) رواها الخطيب في تاريخه 11/ 439، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 39/ 238. وانظر ديوانه ص 117. وهذه الرواية بعيدة عن الصواب؛ لأن مروان توفي سنة 182 هـ. (¬9) في المصادر: لا يبصر.

فلا هو في (¬1) الدُّنيا مُضِيعٌ نصيبَه ... ولا عَرَضُ الدنيا عن الدِّين شاغلُهْ وكتب العباسُ الهَمْداني إلى المأمون في يوم نَيروزَ وقد أهدى الناسُ فنونَ الطُّرَفِ واللَّطائف: [من مجزوء الكامل] أهدى لك الناسُ المرا ... كبَ والوصائفَ والذَّهبْ وهديَّتي جَزْلُ القصا ... ئدِ والمدائحِ والخُطَب فاسلمْ سلمتَ على الزَّما ... نِ من الحوادث والعَطَب (¬2) فأمر المأمونُ بأن يُحملَ إليه جميعُ ما أُهدي إليه في ذلك اليوم، وقال: نِعْمَ ما أَهدى إلينا. وخرج المأمونُ في يوم عيدٍ إلى الصلاة وإلى جانبه يحيى بنُ أكثم، فإذا بغلامٍ مستحسَن يَخطِر في ثوبٍ موشًّى، فقال له: يا يحيى ما تقول في هذه البِضاعة؟ فغضب يحيى وقال: يَقبحُ بإمام مثلِك يقول هذا لفقيهٍ مثلي، فقال المأمون: فمن الَّذي يقول: [من المنسرح] قاضٍ يرى الحدَّ في الزِّناء ولا ... يرى على مَن يَلوط من باسِ فقال يحيى: الفاجرُ أحمدُ بن أبي نُعيمٍ (¬3) الَّذي يقول: لا أَحسَبُ الجَورَ ينقضي وعلى الـ ... أُمَّةِ والٍ من آل عبَّاسِ فأطرق المأمونُ خَجَلًا وقال: يُنْفى ابنُ أبي نُعيمٍ إلى السِّند. قال المصنِّف رحمه الله: هذان البيتان من جُملة أبيات، أوَّلها: أَنطقني الدهرُ بعد إِخراسِ ... لنائباتٍ أَطَلنَ وسواسي يا بؤسَ للدَّهر لا يزال كما ... يرفع ناسًا يحطُّ من ناسِ لا أَفلحت أمَّةٌ وحُقَّ لها ... بطول نَكسٍ وعُظْمِ (¬4) إِتعاس ¬

_ (¬1) في ديوان جرير 2/ 703: من. (¬2) العقد الفريد 6/ 289. (¬3) في العقد الفريد 4/ 35: أحمد بن نعيم، وما هنا يوافق ما في تاريخ بغداد 16/ 288، وتاريخ دمشق 18/ 35 (مخطوط)، ووفيات الأعيان 6/ 153. (¬4) في المصادر: وطول.

ترضى بيحيى يكون سائسَها ... وليس يحيى لها بسوَّاس قاضٍ يرى الحدَّ في الزِّناء ولا ... يرى على مَن يلوطُ من باس يحكم للأَمرد الغَريرِ على ... مثل جَريرٍ ومثلِ عبَّاس فالحمدُ لله كيف قد ذهب الـ ... ـعدلُ وقلَّ الوفاءُ في الناس أَميرُنا يرتشي وحاكمُنا ... يَلوط والرأسُ شرَّ ما راسِ لا أَحسبُ الجَورَ ينقضي وعلى الـ ... أُمَّةِ والٍ من آل عبَّاس وقيل: إنَّها لأبي صخرةَ الرِّياشي (¬1). وقال المأمونُ في ذلك الغلامِ الأَمرد: [من مجزوء الرمل] أيُّها الراكبُ ثوبا ... هُ حريرٌ وحديدُ (¬2) جئتَ للعيد وفي وجـ ... ـهك للأَعيُنِ عيد أنت جنديٌّ ولكنْ ... فيك للحُسْن جنودُ (¬3) [حديثُ اليزيديِّ مع المأمون: ] وجاء اليزيديّ إلى باب المأمون، فقال الحاجب: إنَّه قد شرب دواء [وأمرني أَن أَحجُبَ الناسَ عنه] (¬4) فكتب إليه اليزيدي: [من الوافر] هديَّتيَ التحيَّةُ للإِمام ... إمامِ العدل والمَلكِ الهُمَامِ أراك من الدَّواء اللهُ نفعًا ... وعافيةً تكون إلى تَمام وأَعقبك السلامةَ منه ربٌّ ... يريك سلامةً في كلِّ عام أَتأذن في الدُّخول بلا كلامٍ ... سوى تقبيلِ كفِّك والسلامِ [فلمَّا وقف على الرُّقعة خرج الخادم] فقال: اُدخل (¬5)، فدخلتُ فسلَّمت وخرجت، فبعث إليَّ بأربعة آلافِ دينار (¬6). ¬

_ (¬1) قال الخطيب: ليست هذه الأبيات للرياشي، وإنما هي لأحمد بن أبي نعيم. (¬2) في (خ) و (ف): وجد. والمثبت من العقد الفريد 6/ 419. (¬3) في (خ) و (ف): الحسن فيك جنود. والمثبت من العقد الفريد. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ) و (ف): يدخل، والمثبت من (ب)، وما بين حاصرتين منه. (¬6) في (ب): درهم. وفي الأغاني 20/ 244: ألفا درهم، وفي تاريخ بغداد 4/ 652: ألف درهم.

وقال محمدُ بن الجَهم: قال لي المأمون: أَنشِدني ثلاثةَ أبياتٍ في المدح والهجو والمراثي، فأنشدتُه في المدح: [من البسيط] تجود بالنَّفْس إذ ضمنَّ الجَوَادُ بها ... والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجُودِ (¬1) وأنشدتُه في الهَجو: [من الكامل] قَبُحَت مناظرُهمْ فحين خَبَرْتُهمْ ... حَسُنَت مناظرهمْ لقُبح المخْبَرِ (¬2) وأنشدتُه في المراثي: [من الطويل] أرادوا ليُخفوا قبرَه عن عدوِّه ... وطِيبُ ترابِ القبر دلَّ على القبرِ (¬3) فأمر لي بثلاثة آلافِ درهم. وقال محمدُ بن زياب الأعرابي: بعث إليَّ المأمونُ، فجئتُ إليه وهو في بستانٍ يتمشَّى ومعه يحيى بنُ أكثم، ورأيتهما مولِّيين، فوقفتُ حتَّى أَقبلا، فسلَّمت، فقال: يا محمد، أَخبِرني عن أحسنِ ما قيل في الشَّراب، فقلت: قولُ القائل: [من الطويل] تُريك القَذى مِن دونها وهْي دونه ... إذا ذاقَها مَن ذاقها يتمطَّقُ (¬4) فقال: أَشعرُ منه أبو نُوَاسٍ حيث يقول: [من المديد] وتمشَّت في مفاصلهمْ ... كتمشِّي البُرءِ في السَّقَمِ واهتدى ساري الظَّلامِ بها ... كاهتداء السَّفْر بالعَلَم (¬5) ثم دحا إليَّ بعنبرةٍ (¬6) فبعتُها بخمسة آلافِ درهم. [حديثُ المأمون مع الحارس: قال يحيى بنُ أكثم: ] أشرف المأمونُ ليلةً على الحرس وقال: مَن يُنشدنا قولَ أبي نُواس، فأنشده غلامٌ منهم [هذه الأبيات] (¬7): [من البسيط] ¬

_ (¬1) قائله مسلم بن الوليد، وهو في ديوانه ص 164، وروايته: إذ أنت الضنين بها. (¬2) قائله مسلم بن الوليد، وهو في ذيل الديوان ص 321. (¬3) قائله مسلم بن الوليد، وهو في ذيل الديوان ص 320. (¬4) في (خ) و (ف): يتمنطق. والمثبت من ديوان الأعشى ص 269، والبيت له. ومعنى يتمطق: يتذوق ويصوِّت بلسانه. (¬5) الديوان ص 537. (¬6) في (خ) و (ف): عبادة. والمثبت من تاريخ بغداد 3/ 205، وتاريخ دمشق 39/ 246. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب).

لا تَبكِ ليلى ولا تَطربْ إلى هندِ ... واشربْ على الورد من حمراءَ كالوردِ كأسًا إذا انحدرتْ في حَلْق شارِبها ... أَجْدَته حُمْرتَها في العين والخدِّ فالخمر ياقوتةٌ والكأسُ لؤلؤةٌ ... في كفِّ جاريةٍ ممشوقةِ القَدِّ تَسقيك من طَرْفها خمرًا ومن يدها ... خَمرًا فما لك من سُكرَينِ من بُدِّ لي سَكرتانِ (¬1) وللنَّدمان واحدٌ ... شيءٌ خُصصتُ به من بينهمْ وحدي فصاح المأمون: هذا واللهِ هو السِّحرُ الحلال، لا قولُ عَمرِو بن كُلثوم: [من الوافر] [أَلَا هُبِّي بصَحنك فاصبَحِينا] (¬2) وأعطى الغلامَ خمسةَ آلافِ درهم. [حديث المأمون مع الأعرابي: حكى أبو العيناء قال: وقف أعرابي بباب المأمون، وصاح: نصيحة. فأمر به، فدخل عليه، فقال: ما نصيحتك؟ فقال: [من الكامل] إني رأيتكَ في منامي سيدي ... يا ابنَ الإمام على الجوادِ اللاحقِ فكسوتني حُلَلًا طرائف حسنها ... تَزهو على حُسْنِ الكُمَيت السابقِ فقال المأمون: أعطوه خلعة وفرسًا كميتًا فقال: وأَجَزْتَني بخَريطة مملوءةٍ ... ذهبًا وأخرى باللُّجين الفائق فقال: أعطوه ألف دينار وألف درهمٍ، فقبض الربطتين فقال: وأجزتني بخريدة روميَّةٍ ... حسناء تُشْفَعُ بالغلام الفائق فقال المأمون: أعطوه ذلك، ثم قال: يا أعراب، إياك أن ترى مثل هذا المنام فربما لم نجد من يفسِّره لك] (¬3). وخرج المأمونُ إلى ظاهر دمشق، فصعد جبلَ الثلج، وإذا ببِركة عظيمةٍ من بِرَك بني أُميَّة، وعليها أَربعُ سَرَوات، والماءُ يدخل فيها (¬4) ويخرج منها، فاستحسنها وقال لعَلُّويه: غنِّ، فقال -وكان عَلُّويه من موالي بني أُميَّة-: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في الديوان ص 180: نشوتان. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) و (ف). وعجزه: ولا تبقي خمور الأندرينا. وهو البيت الأول من معلقته الشهيرة. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وأصابها تشويش وطمس فاستدركته من المنتظم 10/ 57 - 58. (¬4) في تاريخ الطبري 8/ 657: يدخل سيحًا.

أولئك قومي بعد عزٍّ وثروةٍ ... تفانَوا فإلَّا أَذرف الدمع (¬1) أَكْمَدِ فقار له المأمون: يا ابنَ الفاعلة، لم تجدْ وقتًا تذكر فيه مواليك إلَّا هذا الوقت! وسخط عليه [أيامًا] (¬2) ثم رضي عنه (¬3). فأحضره ومعه مُخارق، فقال لمخارق: غَنِّ، فقال -والأبياتُ لجرير-: [من البسيط] لمَّا تذكَّرتُ بالدَّيرينِ أَرَّقني ... صوتُ الدَّجاجِ وقَرعٌ بالنَّواقيسِ فقلتُ للرَّكب إذ جدُّوا الرحيلَ بنا ... يا بُعدَ يَبْرِينَ من باب الفَراديس (¬4) فقال لعلُّويه: غَنِّ، فقال: [من الكامل] الحَينُ ساق إلى دمشقَ وما ... كانتْ دمشقُ لأَهلنا وطنا (¬5) فضرب [المأمونُ] (¬6) الأرضَ بالقَدَح فكسره، وقال: هذا واللهِ آخرُ عهدي بالعراق (¬7)، لا عُدْتُ إليه أبدًا، فكان كما قال. وقال محمدُ بن حامد: حضرتُ مجلسَ المأمون، [فغنَّت عَرِيب: كحاشية البُرد اليماني المسهَّمِ (¬8) فأنكر المأمونُ كونَها لم تذكر أوَّل البيت، وهو للنابغة: رمى ضَرْعَ نابٍ فاستمرَّ بطعنةٍ ... كحاشيةِ البُرد ............. ] فقال المأمون: مَن أشار منكم إلى عَرِيبٍ بشيء؟ فسكتوا، فقال: برئتُ من هارونَ لئن لم أُصدَق عن هذا الأمر، لأُعاقبنَّ عليه بالضرب الوجيع، ولئن صَدَقني لأُبلغنَّه أَملَه، فقلت: أنا أشرتُ إليها بقُبلة، فقالط: الآن جاء الحقّ، أَتحبُّ أن أزوِّجَك إياها؟ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): النفع، والمثبت من (ب)، وفي تاريخ الطبري والأغاني 4/ 353: العين. والبيت لأبي سعيد مولى فائد، المعروف بابن أبي سنة، كما في الأغاني. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) بعدها في (ب): وحكي عن العتبي أنَّه قال: كان الأمون يقول الشعر، وهو من أدنى فضائله. (¬4) الديوان ص 249 - 250 (دار صادر). (¬5) في تاريخ الطبري 8/ 666، والأغاني 11/ 358، وديوان عمر بن أبي ربيعة ص 328: بلدا. (¬6) ما بين حاصرتين من (ف). (¬7) كذا في (خ) و (ف)، والصواب: بالشام. (¬8) هو النابغة الجعدي، والبيت في ديوانه ص 143، وما بين حاصرتين من (ف). وكلام المصنف هنا يخالف ما في الأغاني 21/ 70 - 71 حيث ذكر أن الأمون أنكر عليها ابتداءها الغناء من تلقاء نفسها.

قلت: نعم، فخطب وزوَّجني إياها على أربع مئةِ درهم. ودخل مروانُ بن أبي حفصةَ على المأمونِ فأنشده: [من البسيط] قل للإمام الَّذي تُرجَى فواضلُه ... رأسِ الملوكِ وما الأَذنابُ كالرَّاسِ إنِّي أَعوذُ بهارونَ وعِترتِه ... وقبرِ عمِّ (¬1) رسولِ الله عبَّاس من أن تُشَدَّ رِحالُ العِيسِ راجعةً ... إلى اليمامة من بغدادَ بالياس لا تحرِمَنِّي عطاءً جئتُ آمُله ... مِن بينِ مَن جاء يَبغيه من الناس فقال المأمون: لا والله، وأَعطاه أربعةَ آلافِ دينار. وقال إسحاقُ المَوصلي: جفاني المأمونُ مدَّة، فعملتُ بيتَين وقلتُ لعلّويه: غنِّ بهما في مجلسه وهما: [من البسيط] يا سَرحةَ الماءِ قد سُدَّت مواردُه ... أَمَا إليكِ سبيلٌ غيرُ مسدودِ لحائمٍ (¬2) حامَ حتَّى لا حياةَ (¬3) به ... مُحلَّأٍ عن طريق الماءِ مطرود فقال المأمون: لمن هذا؟ فقال علُّويه: لعبدٍ من عبيدك جفوتَه واطَّرحته، فقال: ومَن هو؟ قال: إسحاقُ الموصلي، فأَحضرني ورضي عني ووصلني. وغنى علُّويه بين يديه: [من الطويل] وإنِّي لَمشتاقٌ إلى ظلِّ صاحبٍ ... يَروق ويصفو إنْ كَدَرتُ عليهِ فقال المأمون: أَعطوني هذا الصاحبَ وخذوا مني نصفَ الخلافة. وله بيتٌ ثانٍ: عَذيري من الإنسان لا إنْ جفوتُه ... صفا لي ولا إنْ كُنْتُ طَوعَ يديهِ وهو لا يوافق البيتَ الأوَّل، وهما لأبي العتاهِيَة (¬4). قال المصنِّف رحمه الله: قلت أنا بعد الأوَّل: ¬

_ (¬1) في العقد الفريد 3/ 436: وبابن عم. ونسب الأبيات لأعرابي، وهي ليست في ديوان مروان بن أبي حفصة. (¬2) في (خ) و (ف): بحائم، والمثبت من الأغاني 5/ 383، ولسان العرب (حلأ) وقد تقدم ص 72. (¬3) في الأغاني: صيام، وفي اللسان وبعض نسخ الأغاني: حوام. (¬4) انظر ديوانه ص 418.

يوافقني في كلِّ أمرٍ أَرومه ... ويغفر ذنبي إنْ أسأتُ إليه ولمَّا خرج المأمونُ يريد الغزو، دخل عليه أحمدُ بن يحيى (¬1) النَّحْويُّ اليزيديُّ وكان من ندمائه، وقد نزل بقَارَا من أعمال حِمْص، فأَنشده: [من الكامل] يا قصرَ ذي (¬2) النَّخَلات من بارا ... إنِّي حَلَلتُ (¬3) إليك من قارا أَبصرتُ أشجارًا على نَهَرٍ ... فذكرتُ أنهارًا وأَشجارا لله أيَّامٌ نعمتُ بها ... في القُفْص (¬4) أحيانًا وأطورًا إذ لا أزال أَرومُ غانيةً ... أَلهو بها وأَزور خمَّارا أَعصي النَّصيحَ وكلَّ عاذلةٍ ... وأُطيع أَوتارًا ومِزْمارا فغضب المأمونُ وقال: أنا في وجه العدوِّ وأنت تذكِّرهم نُزَهَ بغداد! فقال له: يا أميرَ المؤمنين، الشيءُ بتمامه (¬5)، ثم قال: فصحوتُ بالمأمون من سُكري ... ورأيتُ خيرَ الأمرِ ما اختارا ورأيتُ طاعتَه مؤدِّيةً ... للفَرْض إِعلانًا وإسرارا فخلعتُ ثوبَ اللهوِ من عُنقي ... ورضيتُ دارَ الشامِ (¬6) لي دارا وظَلِلتُ معتصمًا بطاعته ... وجِوارِه وكفى به جارا إنْ حلَّ أرضًا فهْي لي وطنٌ ... وأَسير عنها حيثما سارا فرضي عنه وأَجازه. وللمأمون: [من الكامل] قل للذين ترفَّهوا وتنعَّموا ... سَفَهًا جهلتم موضعَ اللذّاتِ إنَّ النعيمَ إذا أردتمْ غيرُما ... أصبحتمُ فيه من الشُّبُهات ¬

_ (¬1) هو أحمد بن محمد بن يحيى أبي محمد. انظر الأغاني 20/ 257، 260. (¬2) في الأغاني: ذا. (¬3) لم تجود في (خ) و (ف)، والمثبت من الأغاني. (¬4) جبل بكرمان. (¬5) في (خ): اسمع تمامه. (¬6) في الأغاني: دار الجد.

وتركتم النَّفْسَ النَّفيسةَ ضَلَّةً ... حَيرى من الآثام والغَفَلات ونعيمُها طلبُ الخلاصِ لها من الـ ... جسمِ المحيطِ بها عن الدَّرجات سكنتْه مُكرَهةً [و] (¬1) قُلِّد حُرْمةً ... مِن صِرْفها ما ساغ في اللَّهَوات وله: [من الكامل] العقلُ أنفعُ للفتى من مالهِ ... في الفرق بين رشادِه وضلالهِ قلبُ الفتى ولسانُه أَولى به ... في فخره من عمِّه أو خاله وتمنَّعت عليه (¬2) جاريةٌ له، وكان كَلِفًا (¬3) بها، فبعث إليها رسولًا، فأَبطأَ عليه، فلمَّا عاد قال المأمون: [من الطويل] بعثتُك [مشتاقًا] ففُزتَ بنظرةٍ ... وأَخلفتَني (¬4) حتَّى أسأتُ بك الظَّنَّا وناجيتَ مَن أهوى وكنتُ مباعَدًا ... فيا ليتَ شِعري عن دُنوِّك ما أَغنى ونزَّهتَ طَرْفًا في محاسن وجهها ... ومتَّعتَ باسْتِسْمتاعِ نغمتِها الأُذْنا أَرى أَثَرًا منها بعينك لم يكن ... لقد سرقتْ عيناك من حُسْنها حُسْنا فيا ليتني كُنْتُ الرسولَ [وكنتَني] (¬5) ... وكنتَ الَّذي يُقصَى وكنتُ الَّذي يُدْنَى وله (¬6): [من الوافر] عَرِيتُ من الهوى وبرئتُ (¬7) منه ... لَئن أنا لم أُعاقبْ (¬8) مُقلتَيكا بعثتُك رائدًا فسرقتَ منه (¬9) ... محاسنَه بلحظةِ ناظرَيكا لَئن كنتَ الغداةَ كتمتَنيها ... لقد ظهرتْ محاسنُها عليكا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين ليستقيم الوزن، ولم نقف على الأبيات. (¬2) في (خ): وغنيت علي، وفي (ف): وغنت علي. وانظر تاريخ الطبري 8/ 658، وتاريخ دمشق 39/ 279، والبداية والنهاية 14/ 227. (¬3) الكَلِف: الرجل العاشق. القاموس (كلف). (¬4) في الصادر: وأغفلتني. وما بين حاصرتين منها. (¬5) ما بين حاصرتين من الوافي بالوفيات 17/ 660. (¬6) الأبيات في ديوان أبي تمام 4/ 251. (¬7) في (خ) و (ف): وريب. والمثبت من الديوان. (¬8) في (خ) و (ف): أعاف. (¬9) في (خ) و (ف): منها.

وغُنِّي بين يدي المأمونِ بشعرِ بشَّار: [من البسيط] يا عبدَ قُثْمَ وما حاولتُ صَرْمَكمُ ... يومًا من الدَّهر إقصائي وهجراني هل تعلمين وراءَ الحبِّ منزلةً ... تدني إليكِ فإنَّ الحُبَّ أَقصاني (¬1) فزاد فيه: قالت علمتُ وخيرُ القولِ أَصدقُه ... بَذْلُ الدَّراهمِ يُدني كلَّ إنسانِ مَن زاد في النَّقد زِدنا في مودَّته ... ما يطلب الناسُ إلا كلَّ رُجْحاني (¬2) وأمر المأمونُ حِمْيرَ (¬3) بن نعيمٍ بأمر، فقصَّر فيه، وكان عظيمَ اللحيةِ والجسم، فقال: [من الطويل] خليلَيَّ ما الفتْيانُ أن تَكبُرَ اللِّحى ... وتعظُمَ أبدانُ الرِّجالِ من الأكلِ ولكنَّما الفتْيانُ كلُّ سَمَيدَع ... صَبورٍ على الآفات في الخِصْب والأَزْل (¬4) خَروج عن الغمَّا نَهوضٍ إلى العُلا ... ضَروبٍ بِنَصل السيفِ مجتَمِعِ العقل رأيتُ رجالًا يمنعون نَوالهمْ ... وليس يُصان العِرضُ إلَّا مع البَذْل وله (¬5): [من السريع] أُقسم بالله وآلائه ... والمرءُ عفَا قال مسؤولُ أنَّ عليَّ بن أبي طالبٍ ... على التُّقى والبِرِّ مجبول وأنَّه كان الإمامَ الَّذي ... له على الأُمَّة تفضيل يقول بالحقِّ ويختاره ... ولا يعانيه الأَباطيلُ كان إذا الحربُ براها القَنا ... وقصَّرت عنها البَهاليل يمشي إلى القِرْن وفي كفِّه ... أبيضُ ماضي الحدِّ مصقول ¬

_ (¬1) البيت الأول لم أقف عليه، والبيت الثاني هو الأول من أربعة أبيات في ديوان بشار 2/ 541، وانظر العقد الفريد 6/ 63. (¬2) في محاضرات الأدباء 3/ 480 أن البيتين لامرأة أجابت بهما بشارًا على قوله: هل تعلمين ... ، وانظر ديوان بشار. (¬3) في (ف): حمور. ولم أقف على مصدر الخبر. (¬4) الأزل: الضيق والشدة. القاموس المحيط (أزل). (¬5) الأبيات للسيد الحميري، انظر الأغاني 7/ 247.

مَشيَ العَفَرْنَى (¬1) بين أشبالِه ... أَسلمه للقانص الغيلُ وله: [من السريع] لا تُقبلُ التوبةُ من تائب ... إلَّا بحبِّ ابنِ أبي طالبِ حبُّ عليٍّ لازمٌ واجبٌ ... في عُنق الشاهدِ والغائب أخي رسولِ اللهِ حِلف الهدى ... والأخُ فوق الخِلِّ والصاحبِ وحُبُّ أولادِ نبيِّ الهدف ... فرضٌ على الطارق والسَّارب فإنَّهمْ واللهِ أهلُ العَبَا ... فوق مقالِ المارقِ الناصِبي إنْ مال ذو النَّصب إلى جانبٍ ... مِلتُ مع الشِّيعيِّ في جانبِ وقال ابنُ أكثم: عُرِضت على المأمون جارية فاستحسنها، فأراد أن يَختبرَها فقال: [من البسيط] ماذا تقولين فيمن شفَّه سقَمٌ ... من جَهد حبِّك حتَّى صار حيرانا فقالت: إذا وجدنا مُحِبًّا قد أَضرَّ بهِ ... داءُ الصَّبَابةِ أَوليناه إِحسانا (¬2) فاشتراها فحَظِيت عنده. وممَّا يُنسب إلى المأمون: [من الخفيف] إنَّما مجلسُ النّدامى بساطٌ ... للمودَّات (¬3) بينهمْ وضعوهُ فإذا ما انتهَوا إلى ما أَرادوا ... من حديثٍ ولذَّة رفعوه وقال العُتبي: كان المأمونُ إذا جاء آخِرُ شعبانَ اشتغل بلهوه وقال: [من مجزوء المتدارك] جاءكِ الصَّومُ فاجلسي ... وخذي في التنجُّسِ بادري الصومَ بادريـ ... ـه براحٍ وأكؤُس ¬

_ (¬1) العفرني: الشديد، ولَبُؤة عفرنا: . القاموس المحيط (عفر). (¬2) تاريخ ابن عساكر 39/ 278 - 279. (¬3) في (خ) و (ف): بساط المروآت. والمثبت من تاريخ بغداد 7/ 170.

وادفني مُغرَمَ الهوى ... بين آسٍ ونَرْجِسِ كلَّما مرَّ مجلسٌ ... أتْبِعيه بمجلس أَطلِقي ألسُنَ السُّرو ... رِ فإنْ جاءَ فاحبِسي [حديثُ الشِّطرنج: ] وقال الصُّولي: كان المأمونُ قد اقترح في الشطرنج أشياء، وكان يحبُّ اللَّعِبَ بها، وينهى مَن يقول: تَعال [حتى] نلعب، ويقول: حتَّى نتناقل. [قال الصُّولي: ] (¬1) ولم يكن حاذقًا بها، وكان يقول: أنا أدبِّر أمرَ الدنيا وأَتَّسع لها وأَضيق عن تدبير شِبرَين! يعني رُقعةَ الشِّطرنج. وله فيها أشعار، منها: [من البسيط] أرضٌ مربَّعة حمراءُ من أَدَمٍ ... ما بين إِلْفَينِ معروفَين بالكَرَمِ تذاكرا الحربَ فاحتالا لها حِيَلًا ... من غير أنْ يأثما فيها بسَفك دمِ هذا يُغير على هذا وذاك على ... هذا يُغير وعينُ الحَزْم لم تَنَمِ فانظرْ إلى فِطَنٍ جالت بمعرفةٍ ... في عسكرَين بلا طَبْل ولا عَلَمِ (¬2) وقيل: [إنَّ الأبيات] (¬3) لعليِّ بن الجَهم. دخل أحمدُ بن أبي دؤادَ ويحيى بنُ أكثمَ على المأمون، فأُتي بقَدَح فيه مطبوخ، فعرضه عليهما، فأَبياه، وكان ابنُ أكثمَ يُبيح شُربَه ولا يشربه، ودخل عَمرو بنُ مَسعدة، فدفعه المأمونُ إليه، فقال: واللهِ ما شربتُه قطّ، فأَطرق المأمونُ رأسَه طويلًا ثم رفعها وقال: [من الكامل] رُدَّا عليَّ الكأسَ ويحكما ... لا تدريان الكأسَ ما تُجْدي لو ذُقتما ما ذقتُ ما مُزِجت ... إلَّا بدمعكما من الوَجْدِ خوَّفتماني اللهَ ربَّكما ... وكخيفتَيه رجاؤه عندي إنْ كنتما لا تشربانِ (¬4) معي ... خوفَ العقابِ شربتُها وحدي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) مروج الذهب 8/ 316، وتاريخ الإسلام 5/ 357. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): تريان. والمثبت من ديوان أبي نواس ص 193، والأبيات له.

وقال: [من الوافر] سأَشربها وأَزعمها حرامًا ... وأَرجو عفوَ ربٍّ ذي امتنانِ ويَشربها ويزعُمها حلالًا ... وتلك على الشَّقِيِّ خطيئتان (¬1) و[قال الصُّولي: ] (¬2) دخل إبراهيمُ بت المهديِّ على المأمون، وكان جسيمًا، فقال له المأمون: ما أظنُّك عشقت قطّ، قال: ولمَ؟ قال: لتمام جسمِك، وصفاءِ لونك، وخلوِّ قلبك، وهذه غيرُ صفةِ العاشق، وأَنشد المأمون: [من السريع] وجهُ الَّذي يعشقُ معروفُ ... لأنَّه أَصفرُ مَنحوفُ ليس كمن يأتيك ذا جُثَّةٍ ... كأنَّه للذَّبح مَعلوف فأَنشد إبراهيم: [من المنسرح] وقائلٍ لستَ بالمحبِّ ولو ... كنتَ محبًّا هزلْتَ من زَمَنِ (¬3) فقلتُ قلبي مكاتمٌ بدني ... حبَّه والحبُّ فيه مُختزَنُ وعبث أبو عليٍّ بنُ الرشيد بأخيه أبي إسحاقَ في مجلس المأمون، فاحتمله، فأَنشد المأمونُ بعدما قاما: [من الكامل] يلقى الفتى بلسانه إِخوانَهُ ... في بعض منطقِه بما لا يُغفَرُ ويقول كُنْتُ مداعبًا وممازحًا ... هيهاتَ نارُك في الحشا تتسعَّر أَوَ ما علمتَ وما أَظنُّك جاهلًا ... أنَّ المزاحَ هو السِّبابُ الأَصغَر (¬4) [ذِكْرُ ما نُقل من كلام المأمونِ وجواباته ونحوهِ: حكى الصوليُّ قال: حضر عند المأمونِ ثنَوِيّ، قال المأمون: أسألُك عن حرفَين لا أَزيدك عليهما، قال: اِسأل، قال: هل ندم مسيءٌ على إساءته؟ قال: نعم، قال: فالندمُ على الإساءة إساءةٌ أم إحسان؟ قال الثَّنوي: إحسان، قال: فالذي ندم هو الَّذي أَساءَ أم ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): بلسان. والمثبت من مروج الذهب 8/ 342. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) (ف): منذ زمن، والمثبت من الوشى ص 78. (¬4) الأبيات لمحمود الوراق، كما في الموشى ص 22، وزهر الآداب 1/ 476، وجمع الجواهر ص 35. وانظر تكملة ديوان أبي العتاهية ص 539.

غيرُه؟ قال: هو الَّذي أَساء، قال له المأمون: فندم على شيءٍ كان منه أو من غيره؟ فانتقطع الثَّنوي؟ قلت: والعجبُ من المأمون حيث سمع دعوى الثَّنويِّ، ثم قال له المأمون: أَخبِرني عن قولك: اثنين، هل يستطيع أحدُهما أن يخلقَ خلقًا لا يستعين فيه بصاحبه؟ قال: نعم، قال: فلمَ تعبد اثنين يخالف كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه، وواحدٌ يخلق كلَّ شيءٍ خيرٌ لك من اثنين مختلفين؟ ! . وقال الصُّولي: ] (¬1) العقلُ أَنفسُ مِنحة، وأَربحُ صفقة، وأبهى حُلَّة، وأفضلُ خلَّة، وأكرمُ صاحب، يؤنسك إذا استوحشتَ من الجهَّال، ويوحشك إذا استأنستَ بالأَغمار، ويريك ما غاب عن عينيك، ويكشف لك ما خَفِيَ عن نظرك، فلله دَرُّ العقلِ من جوهرٍ ما أنفسَه في قلوب الحكماء، وأجلَّه في صدور العلماء، لو تجسَّم حتَّى يُتوسَّم، لكان أحسنَ منظرًا من المعشوق في عين العاشق، وأَحلى من المودَّة في قلب الوامقِ الصادق. وقال: روِّحوا الأفهامَ كما تروِّحوا الأجسام، فإنَّ العقل المكدودَ ليس لرؤيته لَقاح، ولا لرأيه نَجاح. وقال: العقلُ غريزة، وكما لُه التَّجربة. وقيل له: بمَ نلتَ ما نلتَ؟ فقال: بطاعة العقلِ وعصيان الهوى. وقيل له: ما بال الميت يثقل على حامليه؟ ! فقال: لأنَّه مركَّب من ثِقَل وخِفَّة، فالثقيلُ هو البدن، والخفيفُ هو الرُّوح، فإذا مات بقي الثقيلُ وذهب الخفيف. أخذ هذا المعنى أبو علي بن لاسد (¬2) فقال: [من الكامل] ثَقُلَت زجاجاتٌ أَتتنا فُرَّغًا ... حتَّى إذا مُلئت بصِرف الرَّاحِ خفَّت فكادت أن تطيرَ صَبَابةً ... وكذا الجسومُ تَخِفُّ بالأَرواح ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) كذا في (خ) و (ف)، والبيتان في جذوة المقتبس ص 170، والوافي 8/ 328 منسوبين لأبي علي إدريس بن اليمان العبدري الشبيني الأندلسي، وهما في معجم الأدباء 10/ 37 - 38 لأبي علي الحسين بن عبد الله البغدادي.

[وكان المأمونُ يقول: إياكم والشُّونيزَ لأي كتبكم. يعني النَّقطَ والشَّكلْ. قال المصنِّف رحمه الله: كان يعتمد على فِطنته، والأماكن التي فيها الإشكالُ لا بدَّ من ذلك فيها] (¬1). وقال [ابنُ أَكثم: سمعت] المأمونَ [يقول: ] لا نُزهةَ أَطيبُ من النظر في عقول الرِّجال. وقال: علَبة الحجَّة أحبُّ إليَّ من غَلَبة القدرة؛ لأنَّ غلبةَ القدرةِ تزول بزوالها، وغَلَبةَ الحجَّةِ لا تزول أبدًا. وقال: إنَّ رجلًا ليس بينه وبين اللهِ أحدٌ أن يخشاه لَحقيقٌ أن يتَّقيَ الله. و[قال الصُّولي: ] كتب إليه رجلٌ يتظلَّم من عليِّ بن هشامٍ وإنَّه لا يدفع إليه ماله، فوقَّع إلى علي: ليس من المروءة أن تكونَ آنيةُ بيتك ذهبًا وفضةٌ ويكونَ غريمُك عاريًا وجارُك طاويًا. [وقال اليزيدي: جلس المأمونُ يومًا في مجلس الخلافةِ ومجلسهُ معمورٌ بالعلماء والخلفاء، فتقدَّمت إليه امرأةٌ فقالت: يا أمير المؤمنين، مات أخي وخلَّف ستَّ مئةِ دينار، فأعطَوني دينارًا واحدًا وقالوا. هذا نصيبُك. فأَطرق المأمونُ ساعةً ورفع رأسَه فقال: صدقوا، فقيل له: يا أمير المؤمنين، من أين علمت؟ ! فقال: هذا رجلٌ مات وترك أربعَ بنات، لهنَّ الثُّلثان أربعُ مئة، وترك والدة، لها السُّدس مئةُ دينار، وزوجةً، لها الثُمن خمسةٌ وسبعون، وخلَّف اثني عشرَ أخًا وأختًا واحدة، لكلِّ أخٍ ديناران والأخت دينارٌ واحد. قالت المرأة: صدقتَ يا أميرَ المؤمنين. فعجب الحاضرون من فِطنته] (¬2). وخرج إلى الصَّيد، فاجتاز ببيوت بعضِ العرب، فرأى غلامًا وَضيئًا، فقال: يا غلام، ممَّن أنت؟ قال: من قُضاعة، قال: من أيِّها؟ قال: من كَلْب، قال: وإنَّك لَمن الكلاب؟ ! قال: لسنا منهم، وإنَّما نحن من قبيلةٍ تُدْعى كلبًا. ثم قال للمأمون: يا عمّ، فممَّن أنت؟ قال: ممَّن تُبغضه العرب كلُّها، قال: فأنس من نِزار؟ قال: فأنا ممَّن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف)، وينظر الخبر في العقد الفريد 4/ 173. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

تُبغضه النِّزار، قال: فأنت من مُضر؟ قال: فأنا ممَّن تُبغضه المُضَر، قال: فأنت من قُريش؟ قال: لا، قال: فأنت من بني هاشم؟ قال: فأنا ممَّن تَحسُده بنو هاشم. فقام الغلامُ قائمًا وقال: فإذن أنت أميرُ المؤمنين، وسلَّم عليه، فوَصَله. واعترضه ابنُ زُرعةَ الجُذَامي وقال له: يا أميرَ المؤمنين، انظر لعرب الشام كما تنظر لعَجَم خُراسان، وأَكثر عليه، فقال: قد كثَّرت عليّ، واللهِ ما أنزلتُ قيسًا عن ظهور الخيلِ إلا وأرى أنَّه لم يبقَ في بيت مالي درهمٌ ولا دينار، وأما اليمن، فواللهِ ما تحبُّني ولا أحبُّها قطّ، وأما قُضَاعة، فسادتُها ينتظرون خروجَ السُّفيانيِّ لتكونَ من أَشياعه، وأَمَّا رَبيعة، فساخطةٌ على الله تعالى منذ بُعث محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من مُضَر؛ ولهذا لم يَخرجْ من الخوارج أحدٌ إلَّا وكانوا معه، فكيف لا أَنظر لعجم خُراسان! وقال: الواجبُ على مَن خدم الملوكَ ألا يغترَّ بهم عند الرِّضا، ولا ينزعجَ عند السَّخَط، ولا يُلحفَ عليهم في السؤال؛ فإنَّ السلطانَ كالبحر تضطرب أمواجُه تارةً وتارة. وقال: مَن صحب الملوكَ بالنصيحة لهم والأَمانة، كان أكثرَ عدوًّا ممَّن صحبهم بالخيانة؛ لأنَّ الَّذي ينصحه يتَّفق عليه صديقُ السلطان وعدوُّه، فصديقُ السلطانِ يَغبِطه على منزلته، وعدوُّه يكاشره لمناصحته. وقال لبعض حُجَّابه: لا أراك على بابي ولك خصمٌ أبدًا. و[قال أبو العَيناء: ] (¬1) تظلَّم إليه رجلٌ من عَمرو بنِ مَسعدةَ، فوقَّع إليه: يا عَمرو، اُعمر نعمتَك بالعدل، وإلَّا هدمها الجَور؛ فليس بين الحقِّ والباطلِ نَسَب. ورَفع إليه متظلِّم رُقعةً يقول: يا أميرَ المؤمنين، ظلمني أخوك أبو عيسى، فكتب على رأسها: {فَلَا أَنْسَابَ بَينَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]. ورفع إليه رجلٌ قصَّةً يتظلَّم من محمد بنِ الفضل الطُّوسي، فوقَّع على رأسها: قد احتملنا شراسةَ خُلقِك يا محمد، أما ظلمُك للرعيَّة فلا. و[قال الصُّولي: ] (¬2) خرجتْ [يومًا] رقعةٌ من المأمون وفيها: يُعطى غسانُ بن عبَّادٍ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

ثلاثةَ آلافِ دينار؛ لتَركه ما لا يعنيه، واليزيديُّ خمسين ألفًا؛ لصمته، وثُمامةُ بن أَشرسَ ثلاثَ مئةِ ألف؛ لحُسن جَدَله، وأحمدُ بن أبي خالدٍ ألفَ ألفِ درهم، لإِفراط شهوته. وقال عليُّ بن صالح: قال لي المأمونُ لمَّا قدم الشام. أَبغِني رجلًا من أهل الشامِ له أدبٌ يجالسني ويُقِلُّ كلامَه، فدخلت على رجلٍ فقلت: إنِّي مدخلُك على المأمون، فلا تسألْه عن شيءٍ حتَّى يبتدئَك، فأَدخلتُه عليه، فاستدناه وقال: إنِّي أريدك لمحادثتي، فقال الشامي: إنَّ الجليسَ إذا كانت ثيابُه دون ثيابِ جليسه دخلته غَضَاضة، فأمر له المأمونُ بدَستٍ من ثيابه، ثم قال: يا أميرَ المؤمنين، إذا كان قلبي متعلِّقًا بعيالي لم يُنتفعْ بمجالستي، فاقال: خمسون ألفًا تُحمَل إلى منزله، ثم قال: يا أميرَ المؤمنين، وثالثة، قال: ما هي؟ قال: دعوتَني إلى شيءٍ يحول بين المرءِ وعقله، يعني الشَّراب، فإنْ كانت منِّي هَنةٌ تغتفرها، قال: لك. وقال عُمارةُ بن عَقيل: أَنشدتُ المأمونَ قصيدةً فيها مديح، وهي مئةُ بيت، فلمَّا بدأتُ بصدر البيتِ سبقني إلى قافيته، فقلت: واللهِ ما سمعها منِّي أحد، قال: هكذا ينبغي أن تكون، ثم أَقبل عليَّ وقال: أَمَا بلغك أنَّ عُمرَ (¬1) بنَ أبي ربيعةَ أَنشد ابنَ عباسٍ عبدَ اللهِ قصيدتَه التي يقول فيها: [من المتقارب] تَشُطُّ غدًا دارُ جيرانِنا فقال ابنُ عباس: ولَلدَّارُ بَعدَ غدٍ أَبعدُ فأَنشد ابنُ عباسٍ القصيدة، فأنا من ذاك. وقال عُمارة: قال لي المأمونُ يومًا ونحن على الشَّراب: يا أَعرابيّ، حلفتُ ما أخبثَك! قلت: وما ذاك؟ ! فقال: ألستَ القائل: [من البسيط] قالت مُفدَّاةُ لمَّا أنْ رأتْ أَرَقي ... والهمُّ يعتادني من طَيفه لَمَمُ أَنهبتَ مالك في الأَدْنَينَ أَوَّلَه ... [و] في الأَباعد حتَّى مسَّك العَدَم فقلتُ عَذْلَكِ قد أكثرتِ لائمتي ... ولم يمتْ (¬2) حاتِمٌ هُزْلًا ولا هَرِم ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): عمرو، وهو خطأ، والبيت المذكور في ديوانه ص 308. (¬2) في (خ): لا يمت، وفي (ف): ولا يمت. والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 665، وما بين حاصرتين منه.

أين رميت نفسَك! إلى هَرِم بن سنانَ وحاتِمٍ الطائيِّ وهما سيِّدا العربِ وقد فعلا وفعلا! وأخذ يعدِّد أفعالهما، فقلت: أنا خيرٌ منهما، أنا رجل من العرب مسلم، وهما كانا كافرين. فسكت. ودخل المأمونُ يومًا بيتَ الدِّيوان، فرأى غلامًا جميلًا، فقال: مَن أنت يا غلام؟ فقال: أنا الناشئُ في دونتك، المتقلِّب في نعمتك، المؤمِّل لخدمتك، الحسنُ بن رجاء. فقال المأمون: بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول، ارفعوا هذا الغلامَ فوق مرتبته. وقال سعيدُ بن سَلْم (¬1) بنِ قُتيبةَ له: يا أميرَ المؤمنين، لو لم أَشكر اللهَ إلَّا على حُسن ما أبلاني من قصدك إليَّ بحديثك وإشاريك إليَّ بطَرْفك، لَكان ذلك من أعظمِ ما توجبه النِّعمة، فقال له: واللهِ إنِّي لَأجد عندك من حُسْن الإِفهام إذا حدَّثت وحسن الاستماع إذا حُدِّثت ما لا أَجده عند غيرِك. [وقال ابنُ أَكثم: كان رجلٌ يسبق الحاجَّ ليرتادَ لهم منزلًا، فخرج مرَّةً فأبطأ، فسبقه غيرُه وجاء في الأخير] فلمَّا عاد إلى بغداد، كتب رُقعةً إلى المأمون يسأله شيئًا وكتب فيها: العبدُ سابقُ الحاجّ، فنقط المأمونُ [نقطةً] أخرى إلى جانب الباء، فصار سايقًا؛ لأنَّه جاء في الأخير. وقال ثُمامةُ [بنُ أشرس: ] (¬2) لما وَلي المأمونُ الخلافةَ قلتُ له: قد كان لي فيك أَملان، فبلغت أَحَدهما، فقال: ونبلِّغك الآخَر. فأما الأوَّل فأَشار [ثُمامة] إلى المال، و [أمَّا] الثاني [فأشار] إلى مُنادمة (¬3) [المأمون] فرفعه المأمونُ وجعله من خواصِّه وسُمّاره. وقال العُتْبي: دخل أبو علي المِنْقَريُّ على المأمون، وكان أُميًّا لُحَنة، فقال له: يا أبا عليّ، بلغني أنك لُحَنة، وأنَّك لا تقيم الشِّعر، وأنك أمِّيّ، فقال: أما اللَّحن فيسبقني لساني إليه، وأما الشِّعر والأمِّيَّةُ فقد كان سيِّدُ الأوَّلين والآخِرين كذلك، فقال له ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): سلام، وهو خطأ، والمثبت من العقد الفريد 2/ 132. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): المنادمة، والمثبت من (ب)، وما بين حاصرتين منه.

المأمون: سألتك عن عيوبٍ ثلاثةٍ فزدتَني عيبًا رابعًا، وهو الجهل، فإنَّ ذلك كان في رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فضيلة، وهو فيك وفي أمثالك نقيصةٌ ورذيلة، وإنَّما مُنع من ذلك لنفي الظِّنَّةِ عنه، لا لعيبٍ في الشِّعر والكتابة. وقال ثُمامة: كُنْتُ جالسًا عند المأمونِ إذ دخل النَّوشَجان، وكان على بيت المال، فقال: يا أميرَ المؤمنين، قد كَثُرت أسماءُ الغارمين، وليس في بيت مالِ الصَّدقات درهمٌ واحد، فقال له المأمون: وكيف لا تَكثُر وموسِرُ الناس لا يفتقد مُعْسِرَهم، وقويُّهم لا يراعي ضعيفَهم، وغنيُّهم لا يَحنو على فقيرهم! واللهِ لقد أدركتُ أيامَ أبي والمالُ فيها أقلُّ من هذه الأيَّام، وإنَّ فيها لمئةَ ألفِ يدٍ طويلةٍ في الخيرات، باذلةٍ للمعروف، مُراعيةِ الإخوان، واللهِ إني لأَحسب أنَّه خرج من يد أخي محمدٍ وأمِّه أمِّ جعفرٍ لمن قصدهما ما يزيد على ثلاث مئةِ ألفِ ألفِ دينار، ومنهم البرامكة، وأين مِثلُهم! كان معروفُهم يُشرق [تارةً] ويُغرِب أخرى، لا يَقصدون إلا تثميرَه وتوفيرَه، وكان لمن ذكرتُ بِطانة [ولكل بطانة] (¬1) بطانة، يقصد كلُّ واحدٍ منهم ما يفعله المتبوعُ من الصِّلات والعطايا، أَليس من انقلاب هذا الدَّهرِ وبوارِ هذا العالمِ أنْ ليس في سلطاني مَن يجود بدرهمٍ إلا مالكُ بن شاهي وعبدُ الله بنُ بشير! كيف بنا إذا جمع اللهُ الأوَّلين والآخِرين وحضر كلُّ إمامٍ وزُمرتُه في الموقف وتفاخر الأئمَّة بعضُهم على بعضٍ في الأفعال التي فعلوها! فبمن أُباهي! بابن شاهي أم بابن بشير! ثم قال: أَحضِروا أساميَ الغارمين، فأَحضروها، فوقَع عليها بثلاث مئةِ ألف دينار، وقال: لا يتجاوز الضعفاءُ البصرةَ والموصل، وقال: أرجو أن أكونَ قد أدَّيتُ بعضَ ما أَوجبه اللهُ عليّ. قال ثُمامة: هذا وقد أحصيت عطايا مالِك بن شاهي وعبدِ الله بن بشيرٍ فكانت ستَّ مئةِ [ألفِ] (¬2) دينار. وقال المأمون: مَن أراد أن يكتبَ إلى رجلٍ كتابًا ولا يقفَ عليه سوى ذلك الرَّجل، فلْيكتبْه بلبن حليبٍ من ساعته ويبعثه إليه، فيحرق المكتوبُ إليه قِرطاسًا وَيذُرُّ عليه من رَماده، فيقرأ ما كتب به إليه، وهذه من الخواصّ. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ف).

وقال [بنُ أكثم: قال لي] المأمون: الملوكُ تحتمل كلَّ شيء إلَّا القدحَ في المُلك، وإفشاء السِّرِّ، والتعرُّض للحَريم. [وقد ذكرنا طرفًا من كلام المأمون للعتابي سنة ثمانٍ ومئتين. حديثُ المأمون مع الحسن بنِ زيادٍ اللؤلؤي: ] وقال رشيدٌ الخادم: كان الحسنُ بن زيادٍ اللؤلؤيُّ يساهر المأمونَ ويسامره، فَنَعَس المأمونُ ليلة، فقال الحسن: أنَعَستَ يا أميرَ المؤمنين، ففتح المأمونُ عينَه وقال: لستَ تصلح أن تكونَ من سُمَّار الملوك، وإنما تصلحُ أن تُفتيَ في مُحْرِمٍ صاد ظبيًا، ونحن ظلمناك إذ كلَّفناك ما ليس لك بخُلُق، ثم أنشد: [من الطويل] ظلمتُ امرأً كلَّفتُه فوق خُلْقه ... وهل كانت الأخلاقُ إلَّا غرائزا يا غلام، خذ بيده فأَقمه. ولم يسامرْه بعد ذلك. [حديثُ الخارجيّ: حكى العَتَّابيُّ قال: ] أُتي المأمونُ بخارجي، فقال له: ما حَمَلك على الخروج علينا؟ قال: قولُه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فقال له المأمون: وتشهد أنَّ اللهَ أَنزل هذه الآية؟ قال: نعم، قال: من أين علمتَ ذلك؟ قال: من إِجماع الأمَّة، قال: كيف رضيتَ بإجماعهم في التنزيل ولم ترضَ بإِجماعهم في التأويل؟ ! ففهم الرجلُ، فقال: السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمةُ اللهِ وبركاتُه. ومعنى كلامِ المأمون أنَّها نزلت في المستحلِّين [فهذا معنى التأويل (¬1). حديثُ المأمون مع الذين ادَّعَوا النُّبوَّة: حكى العتَّابي] أنَّ رجلًا في زمن المأمون ادَّعى النبوَّة (¬2)، فقال [المأمون] ليحيى بنِ أكثم: قُمْ بنا إليه، فخرجا متنكِّرَين، فدخلا عليه، فجلس المأمونُ عن يمينه ويحيى عن يساره، فقال له المأمون: مَن يأتيك من الملائكة؟ قال: جبريل، قال: ومتى كان عندك؟ قال: الساعةَ، قال: وما الَّذي قال لك؟ قال: يدخل عليك رجلان يقعد أحدُهما عن يمينك والآخَرُ عن يسارك، والذي عن يسارك أَلْوطُ خَلقِ الله، فقال ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): وادعى رجل في زمن المأمون النبوة. وما بين حاصرتين من (ب).

المأمون: أَشهد أنَّك رسولُ الله. ثم قاما وهما يتضاحكان. [قال: ] وأُتي بآخَر [يدَّعي النبوَّة] فقال: [له المأمون: ] ما علامةُ نبوَّتك؟ قال: أَعلمُ ما في نفسك، قال: وما في نفسي؟ قال: تقول إنَّني كاذب. فحبسه [المأمون] أيامًا، ثم أَحضره فقال: أُوحي إليك بشيء؟ قال: لا، قال: ولِم؟ قال: لأنَّ الملائكةَ لا يدخلون الحبس، فضحك وأَطلقه. [وادّعى آخَرُ النبوَّة، فأَحضر ثُمامةَ وقال له: ناظِرْه، فقال له ثُمامة بنُ أَشرس: يا أميرَ المؤمنين، ما أكثرَ الأنبياءَ في زمانك! ثم قال له ثمامة: ما علامةُ نبوَّتك؟ قال: أَنكِحُ امرأتَك في حضرتك فتلد غلامًا يَنطِق في المهد أنَّني نبيّ، فقال ثُمامة: أَشهد أنَّك نبيٌّ مُرسَل، فقال المأمون: ما أَسرعَ ما آمنتَ به! فقال: ما أَهون عليك! يفعلُ بامرأتي وأنا أُبصر! فضحك المأمونُ وأَطلقه]. وقال ابنُ أكثم: بِتُّ ليلة عند المأمون، فانتبه نصفَ الليل وقد طفئ المصباح، فصاح: يا غلام، شَمعة، فجاء الفرَّاشُ بها، فقال: اكشفوا فراشي، فكشفوه، فإذا حيَّة بطوله، فقتلها، [قال يحيى: ] (¬1) يا أميرَ المؤمنين، قد انضاف إلى كمالك عِلمُ الغيب، فقال: معاذَ الله، وإنَّما هتف بي هاتفٌ الساعةَ يقول: [من مجزوء الكامل] يا راقدَ الليلِ انتبهْ ... إنَّ الخُطوبَ لها سُرَى ثِقةُ الفتى مِن دهره (¬2) ... ثقةٌ محلَّلَةُ العُرى فعلمتُ أنَّه حدث أَمر. [حديثُ المأمون مع القُضاة ومدحُ إسمماعيلَ بن حمادِ بن أبي حنيفة: حكى بشرُ بن الوليدِ القاضي قال: قال المأمون: صِفْ لي أبا يوسُفَ القاضي؛ فإنِّي لم أرَه، فذكرتُ له بعضَ محاسنه، فقال: وددتُ واللهِ كان زين مجلسنا به، ثم قال لي: يا بِشر، ما من شيءٍ من أمر الخلافةِ إلَّا وأنا قادرٌ على تدبيره، إلَّا ما كان من أمر القُضاة؛ فإنَّه قد أَعياني، هذا فلانٌ ولَّيناه قضاءَ الأُبُلَّة وأَجرينا عليه في كلِّ يومٍ (¬3) ألفَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في تاريخ دمشق 39/ 238: بزمانه. (¬3) في المحاسن والمساوئ ص 151: في الشهر، والمنتظم المنتظم 10/ 60 - 61، وفي المصدرين بعض خلاف عما هنا.

درهمٍ وليس له صَنعةٌ ولا مات، فرفع إليَّ صاحبُ الخبرِ أنَّ نفقتَه في كلِّ شهرٍ أربعةُ آلاف درهم، من أين الثلاثةُ آلاف! وهذا محمدُ بن سماعةَ ولَّيناه قضاءَ دمشق ورزقناه في كلِّ شهرٍ ألفَ درهم، وقد رُفع إلينا أنَّه يملك من العقار والعبيدِ والإِماء والدوابِّ ما قيمتُه مئةُ ألفِ دينار، وأشار علي عليُّ بن هشامٍ في فلان، فولَّيته القضاء، فمضى إلى ابن هشامٍ وقبَّل رأسَه وشكره حيث أَشار بولايته، فعلمتُ أنَّه لا خيرَ عنده، إذ لو كان عنده خيرٌ لعَدَّ الَّذي صار إليه مصيبة، ولكن إذا أردتَ العفيفَ النظيف الطاهرَ التَّقي، فعليك بإسماعيلَ بن حمادِ بن أبي حنيفة؛ فإنَّه على الحالة التي عرفناه عليها، ما بدَّل ولا غيَّر. قال: فقلت: جزاك اللهُ خيرًا عن أَمانتك، ما لك من الخلفاء نظيرٌ إلا عمرُ بن الخطاب؛ فإنَّه كان يفحص عن عمَّاله وقُضاته، فقال: يا بِشر، إنَّ أهمَّ الأمور أمرُ القضاة؛ إذ حكَّمناهم في الأموال والفُروجِ والدِّماء، واللهِ لَوددتُ أن يتأتَّى رجلٌ مَرضيٌّ (¬1) وأَني أجوع يومًا وأَشبع يومًا]. وقال إبراهيمُ بن عيسى بن بُريهةَ بن المنصور: لمَّا أراد المأمونُ المسيرَ إلى الشام، أَقمتُ يومَين وبعضَ الثالث أُهيِّئُ له كلامًا، فدخلتُ عليه فقلت: أطال اللهُ بقاءَ أميرِ المؤمنين في أَدوم العزِّ وأَسبغِ الكرامة، وجعلني من كلِّ سوءٍ فداه، إنَّ مَن أمسى وأصبح يتعرَّف من نعمة اللهِ عزَّ وجلَّ -وله الحمدُ كثيرًا عليه- برأي (¬2) أميرِ المؤمنين -أيَّده الله- وحُسْنِ (¬3) تأييده له، حَسُنَ أن يستديمَ هذه النِّعمة، ويلتمسَ الزيادةَ فيها بشكر اللهِ وشكرِ أمير المؤمنين [وقد أحبَّ أن يَعدمَ أميرُ المؤمنين] (¬4) أنِّي لا أرغب بنفسي عن خدمتِه بشيءٍ من الخَفض والدَّعة، إذ كان هو يتجشَّم خُشونةَ السَّفرِ ونَصَبَ الطريق، وأنا أوْلى الناسِ بمواساته، وبذلِ نفسي في خدمته، فإنْ رأى -أَكرمه الله- أن يُكرمَني بلزوم خدمتِه والكينونةِ معه، فعل. ¬

_ (¬1) في (ب): رجلًا مرضيًّا. والكلام ليس في (خ) و (ف). (¬2) في (خ) و (ف): أن يتعرف برأي، .. ، والمثبت من تاريخ الطبري 8/ 651. (¬3) في (خ) و (ف): وأحسن. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف).

فقال لي مبتدئًا من غير تَروية: لم يَعزمْ أميرُ المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحدًا من أهل بيتك بدأَ بك، وكنتَ المقدَّمَ عنده، ولا سيَّما إذا أَنزلتَ نفسَك بحيث أَنزلك أميرُ المؤمنين من نفسه، [فإنْ] (¬1) ترك ذلك فمن غير قِلىً لمكانك، ولكن بالحاجة إليك. فكان ابتداؤه أَحسنَ من رَويَّتي. وقال سعيدُ بن زياد: لمَّا قدم المأمونُ دمشقَ دخلتُ عليه، وكان عندي خاتَمُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه عِقدٌ [معقودٌ] (¬2) على كتابٍ كتبه لنا، فأخذه المأمونُ فوضعه على عينه، وبكى وقال: أَشتهي أدْرِي ما تحت هذا الغشاءِ على هذا الخاتَم [فقال له أخوه أبو إسحاق: حُلَّ العَقد] فقال: ما كنت لِأَحُل عِقدًا عَقَده رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: خذه فضعْه على عينك، لعلَّ اللهَ أنْ يشفيَك. ذِكْرُ وفاةِ المأمون (¬3): قال سعيدٌ العلَّاف القارئ: كنت في صَحَابة المأمونِ في بلاد الرُّوم، فدعاني يومًا، فوجدتُه جالسًا على شاطئ نهرِ البَذَنْدون، وأخوه المعتصمُ جالسٌ عن يمينه وقد دلَّيا أرجلَهما في النَّهر، فقال: يا سعيد، دلِّ رِجلَيك معنا، وانظر هل رأيت ماءً قطُّ أشدَّ بردًا ولا أعذبَ ولا أَصفى منه، قلت: نعم (¬4)، قال: فأيُّ شيءٍ يطيب أن يؤكَلَ ويُشربَ على هذا الماء؟ فقلت: أميرُ المؤمنين أعلم، قال: رُطَب الأَزَاد. فبينا هو يقول هذا إذ سمعنا وَقعَ لِجامِ البريد، وإذا البغالُ عليها حقائبُ فيها الظرف فيها رُطَب أَزاد، كأنه قد جُني في تلك الساعة، فقال: ادنُ فكل. فأكلنا جميعًا وشربنا من ذلك الماء، فو اللهِ ما قام منا أحدٌ إلَّا وهو محموم، وكانت منيَّةُ المأمون في تلك العِلَّة، ولم يزل المعتصمُ مريصًا حتَّى دخل العراق. [وقال العُتْبي: ] (¬5) إنَّما جلسوا على عينٍ يقال لها القشيرة (¬6). وقال قوم: أقام مريضًا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) و (ف). (¬3) في (خ) و (ف): ذكر وفاته. (¬4) أي: نعم ما رأيت مثل هذا قط. انظر تاريخ الطبري 8/ 647. (¬5) في (خ) و (ف): وقيل. (¬6) في (ب): العصرة بالعربية، وبالرومية الرقة. وانظر مروج الذهب 7/ 1 - 2.

أيَّامًا، وحدثت له مادَّةٌ في حَلْقه، فبطَّت (¬1) قبل أن تبلغَ وقتَ تمامها، فمات. [ذِكرُ وصيَّته: قال علماءُ السِّيَر: ] (¬2) ولما اشتدَّ به المرض، بعث إلى ابنه العباسِ وهو يظنُّ أنَّه لا يأتيه، فأتاه وقد تغيَّر عقله، فأَقام عند أبيه، وكان قد أَوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاقَ المعتصم، ونفذت الكتبُ إلى البلاد بأنَّه الخليفةُ من بعده، ثم أَحضر القضاةَ والعلماءَ والقوَّاد، وكتب كتابَ الوصيَّة بمحضرٍ من المعتصم والعباس، ومضمونُه (¬3): هذا ما أَشهد عليه عبدُ الله بن هارونَ أميرُ المؤمنين أنَّه يشهد أنْ لا إلهَ إلَّا الله، وأنَّه واحدٌ لا شريكَ له في ملكه، ولا مدبِّرَ غيرُه، وأنَّه خالقٌ، وما سواه مخلوق، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأن الموتَ حقّ، والبعثَ حقّ، والحسابَ حقّ، والجنَّةَ والنار حقّ، وأنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد بلَّغ عن ربِّه شرائعَ دينه، وأدَّى النصيحةَ إلى أمَّته حتى قبضه اللهُ إليه، فصلَّى اللهُ عليه أفضلَ صلاةٍ صلَّاها على أحدٍ من ملائكته المقرَّبين وأنبيائه المرسَلين، وأنِّي مُقِرٌّ مذنب، أَرجو وأخاف، إلَّا أني إذا ذكرتُ عفوَ الله رجوت، فإذا أنا متُّ فوجِّهوني وغمِّضوني، وأَسبغوا وُضوئي، [وذكر الكفن والصلاة، فقال: ] وأَجيدوا كفني، ولْيصلِّ عليَّ أقربُكم منّي نَسَبًا، وأكبرُكم سِنًّا، ولْيكبِّر خمسًا، ثم لينزلْ في حفرتي أَقربُكم قرابة، وضعوني في لَحدي، وسدُّوا عليَّ باللَّبِن، ثم احثُوا الترابَ عليّ، وخلُّوني وعملي، فكلكم لا يُغني عني شيئًا، ولا يدفعُ عني مكروهًا، ثم قِفوا بأَجمعكم، فقولوا خيرًا إنْ علمتم، وأَمسكوا عن ذِكر سيِّئَ إنْ عرفتم. ونهى عن البكاءِ عليه والنَّوح، وقال: يا ليت عبدَ الله بنَ هارونَ لم يكن شيئًا، يا ليته لم يُخلَق. ثم قال لأخيه المعتصم: يا أبا إسحاق، ادنُ منِّي واتَّعظْ بما ترى، وخُذْ بسيرة: أَخيك في القرآن وغيره، واعمل في الخلافة إذ طوَّقكها اللهُ [بعنقك] عملَ المريدِ لله، الخائفِ من عقابه، ولا تغترَّ بالله وإمهاله، فكأنْ وقد نزل بك الموت، ولا تغفل عن أمر الرعيَّة، ¬

_ (¬1) بطَّ القرحة: شقَّها. مختار الصحاح (بطط). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب): وكانت وصيته.

اللهَ اللهَ فيهم، وانظرْ في أمر العامَّة، فإنَّ المُلْكَ إنما يقوم بهم، ولا ينتهينَّ إليك أمرٌ فيه صلاحُ المسلمين إلَّا وقدَّمتَه على غيره وإنْ خالف هواك، وخذ من قويِّهم لضعيفهم، وعجِّل الرِّحلةَ إلى العراق، إلى مَقرِّ ملكِك وسلطانك، وانظرْ هؤلاء القومَ الذين أنست بساحتهم فلا تغفل عن أمرهم، وقوِّهم على الغزو بالعُدَّة والسِّلاح والرِّجال، واتقِ اللهَ في أمرك كلِّه، والسلام. ولما اشتدَّ به الموت، أَوصاه وصيةً بالغةً ثم قال: وعليك بأبي عبدِ الله أحمدَ بن أبي دُؤاد، لا تفارقْه وأَشركه في المشورة في أمورك؛ فإنَّه موضعٌ لذلك، ولا تتَّخذنَّ بعدي وزيرًا تُلقي إليه شيئًا، فقد علمتَ ما نكبني به يحيى بنُ أكثمَ في معاملة الناسِ وخُبْثِ سيرته، حتَّى أبان اللهُ لي ذلك منه في صحَّة منِّي، فصرتُ إلى مفارقته، فأنا له غير راضٍ بما صنع في أموال اللهِ عزَّ وجلَّ وصدقاتِه، فلا جزاه اللهُ عن الإِسلام خيرًا، وهؤلاء بنو عمِّك من ولد أميرِ المؤمنين عليِّ بن أبي طالب، فأَحسِن صُحبتَهم، وتجاوزْ عن مسيئهم، واقْبَل من محسنهم، ولا تغفُل عن صِلاتهم؛ فإنها واجبةٌ عليك، ثم تلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} الآيات [آل عمران: 152 وما بعدها]. وكان قريبًا من مدينة طَرَسُوس [قال الصُّولي: ] عهد [المأمونُ] إلى أخيه (¬1): وعبدُ الله بن طاهرٍ فأقِرَّه على عمله، وكذا إسحاقُ بن إبراهيمَ بنِ مصعب، وكان على بغداد. [وحكى العُتْبيُّ عن] أحمدَ بن مرزوقٍ قال (¬2)؛ لما دخل المأمونُ بلادَ الروم آخرَ مرَّة، وقف قريبًا من طَرَسوسَ على تلٍّ عالٍ وأنشأ يقول: [من البسيط] حتَّى متى أنا في شَدٍّ (¬3) وتَرْحال ... وطولِ سَعيٍ وإدبارٍ وإقبالِ ونازحُ الدارِ لا أنفكُّ مغتربًا ... عن الأَحبَّة لا يدرون ما حالي بمَشرِق الأرض طَورًا أو بمغربها ... لا يخطرُ الموت من حرصٍ على بالي ولو قعدتُ أَتاني الرزقُ في دَعَةٍ ... إنَّ القُنوعَ الغِنى لا كثرةُ المال ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وكان فيما عهد إلى أخيه ... (¬2) في (خ) و (ف): وقال أحمد بن مرزوق. (¬3) في تاريخ دمشق 39/ 283: حط.

وكان يقول: لا أَرجع من هذه السَّفرة، وتوفِّي على نهر البَذَنْدُون يومَ الخميس وقتَ الظُّهر لاثنتي عشرةَ ليلةً بقيت من رجب، وصلَّى عليه المعتصم، وحمله ابنُه العباسُ إلى طَرَسوسَ فدفنه بها، ووكَّل بقبره مئةً من الحرس، وأَجرى على كل رجلٍ منهم في كلِّ شهرٍ تسعين درهمًا، ودُفن بدار الإمارة، وتُعرف بدار خاقانَ مولى الرشيد، وهي اليومَ كنيسة، وقبرُه بها، والروم تعظِّمه وتوقد عليه القناديل. [وقال المسعودي: ] (¬1) دُفن عن يسار المسجد. و[اختلفوا في سِنِّه على قولَين: أحدهما: أنَّه] عاش ثمانيةً وأربعين سنة. والثاني (¬2): خمسين سَنَة، والأوَّل أصحّ؛ لأنه وُلد سنةَ سبعين ومئة [على ما ذكرنا]. و[اختلفوا في خلافته على قولَين: أحدهما: أنَّها] كانت (¬3) عشرين سنةً وخمسةَ أشهرٍ وثلاثةَ عشَرَ يومًا سوى سَنتَين وخمسةِ أَشهر [كان دُعي له فيها بمكَّةَ وأخوه الأمينُ ببغداد (¬4). والثاني: أنَّها كانت إحدى وعشرين سنة (¬5). وقد رثاه جماعةٌ منهم أبو سعيدٍ المخزومي، وهي من أحسن الشعر وأَجودِه، فقال: ] (¬6) [من الخفيف] أيُّها الجاهلُ المفكِّرُ في الشَّمـ ... سِ المعنَّى بها اعتناءَ المجوسِ تاركًا حظه (¬7) المسير من السَّبـ ... ـتِ يروم المسيرَ يومَ الخميس ما رأينا النُّجوم أَغنت عن المأ ... مونِ في عزِّ مُلكِه المأسوس خلَّفوه بعَرْصَتَي طَرَسوسٍ ... مِثلَما خلَّفوا أباه بطُوس (¬8) ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 7/ 2. وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬2) في (خ) و (ف): وقيل. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): وكانت خلافته. (¬4) في (خ) و (ف): في محاربة أخيه. (¬5) وقع في (ب) تكرار حيث قال: واختلفوا في خلافته على قولين. أحدهما: أنها كانت إحدى وعشرين سنة. فأثبته كما ترى. وفي (خ) و (ف): وقيل: عشرين سنة وشهورًا. وانظر تاريخ الطبري 8/ 650، ومروج الذهب 7/ 2، وتاريخ بغداد 11/ 442، وتاريخ دمشق 39/ 288 - 293، والكامل 6/ 432، وغير ذلك. (¬6) في (خ) و (ف): وقال أبو سعيد المخزومي. (¬7) في (ب): خطة. (¬8) ذكرت المصادر البيتين الأخيرين. انظر تاريخ الطبري 8/ 655، ومروج الذهب 7/ 101 - 102، وتاريخ =

وقال الرَّيحاني (¬1): [من الخفيف] ما أقلَّ الدُّموعَ للمأمون ... لستُ أَرضى إلَّا دمًا من جُفوني من أبيات. وقالت حَظِيَّة [كانت للمأمون اسمُها] (¬2) تزيف: [من السريع] يا مَلِكًا لستُ بناسيهِ ... نعى إليَّ الموتَ ناعيهِ واللهِ لو كنتُ (¬3) أرى أنني ... أَقوم في الباكين أَبكيه واللهِ لو يُقبل فيه الفدا ... لَكنتُ بالمُهجة أَفديه عاذلتي من جَزَعٍ أَقصري ... قد غَلِقَ الرَّهنُ بما فيه ذِكْرُ أَولادِه: [قال الصُّولي وغيره: ] كان له تسعةَ عشَرَ ذَكَرًا وتسعُ بنات، فالذُّكور: العبَّاس، وعبدُ الله الأكبر، وعبد اللهِ الأَصغر، ومحمدٌ الأكبر، ومحمدٌ الأصغر، والحسن، وسليمان، وجعفر، وإِسحاق، وعيسى، وهارون، وأحمد، والحُسين، والفضل، وإِسماعيل، وموسى، وإبراهيم، ويعقوب، وعليّ. ولم يشتهر [بالذِّكْر] سوى [اثنين: ] (¬4) العباسِ، وعليٍّ وكنيته أبو الحسن. فأمَّا العباس، فكان مُغْزًى بشراء الضِّياع والعقار، وكان المعتصم مغرًى بجمع المالِ واقتناءِ الغِلمان والعُدَّة والرِّجال، فكان المأمونُ إذا رآهما تمثَّل: [من الكامل] ¬

_ = بغداد 11/ 442، وتاريخ دمشق 39/ 292، وغير ذلك، والأبيات الأربعة جميعًا ذكرها ابنُ النجار في ذيل تاريخ بغداد 3/ 63 مع بيت خامس، وجاءت عنده الأبيات الأولى هكذا: أيها الجالس المفكر في الـ ... أمر المعنى به اعتناء المجوس باركٌ يوم الأربعاء عن السَّـ ... ـير يروم المسير يوم الخميس لا تعادِ الأيام وامضِ إذا ... شئت فإن السعود مثل النحوس ثم أورد البيتين الأخيرين كما هنا. (¬1) هو علي بن عبيدة الريحاني، كما في تاريخ الطبري 8/ 655. (¬2) ما بين حاصرتين من المنتظم 11/ 36. (¬3) في المنتظم: ما كنت. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

قَلِقٌ بكثرة مالِه وجيادِه (¬1) ... حتَّى يفرِّقها على الأبطالِ يبني الرِّجال وغيرُه يبني القُرى ... شتَانَ بين قرًى وبين رِجال وجرت للعباس مع المعتصمِ قِصصٌ نذكرها [في مواضعها] (¬2) إن شاء اللهُ تعالى. وأمّا عليّ [بن المأمون]، فإنَّه تزهَّد وترك الدنيا (¬3)، وسنذكره آنفًا إن شاءَ الله تعالى. ولم يشتهرْ من بنات المأمون سوى اثنتين: أمِّ حَبيب زوجةِ علي بن موسى الرِّضا، مات عنها، وأعادها المأمونُ إلى قصره. وأختِها أمِّ الفضل زوجةِ محمد بنِ عليٍّ الرضا، حملها إلى المدينة ثم قدم بها بغدادَ فمات عنها [وسنذكرها] (¬4). قِصَّةُ علي بنِ المأمون: [قرأتُ على شيخنا الموفَّق المقدسيِّ رحمه الله من كتاب "التَّوابين" قال: ذكر إبراهيمُ بن الجنيدِ في كتاب "الرَّوضة في زهَّاد الملوك" (¬5) بإسناده عن] عبد الحميدِ بن محمدٍ أنَّ المأمونَ كان (¬6) يَجِدُ بابنه عليٍّ وَجْدًا شديدًا، ويقدِّمه على أولاده، وكان عليٌّ من أحسن الناسِ وأَجملهم، مع حياءٍ وبَشَاشة وتواضع، يلاطف جلساءه، ولا يشرب شيئًا من الأَنبذة، وكان أسخى الناسِ وأَحسنَهم خُلقًا. وكان سببُ تزهّده ما أخبرني به شاكرٌ مولاه قال: جلس يومًا في مستشرَفٍ له على دِجلة، وإذا بحمَّال قد أقبل عند الزوال وعليه دُرَّاعة صوفٍ بيضاءُ بالية، بغير قميصٍ تحتها ولا سراويل، وقد شدَّ على رِجلَيه خِرَقًا من الحرِّ، وفي رِجلَيه نعلان متخرِّقان، وعلى رأسه خِرقة، وفي عُنُقه كَرْزَنُه (¬7) وطَبَقُه، فأَتى دجلةَ فوضع الطبقَ والكَرْزَنَ على الأرض، وحلَّ الخِرَقَ عن رجليه، وتوضَّأ وغسل أَعضاءه، وصلَّى ركعتين، وفتح ¬

_ (¬1) في المحاسن والمساوئ ص 174: وضياعه. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) بعدها في (ب): وفعل البستي بن هارون. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) سماه موفق الدين المقدسي في التوابين ص 190: زهد الملوك. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ) و (ف): قال عبد الحميد بن محمد: كان المأمون ... (¬7) الكرزن: الفأس. القاموس المحيط (كرزن).

جِرابًا وأخرج منه كِسَرًا يابسةً مختلفةَ الألوان، فتركها في قصعةٍ وذرَّ عليها ملحًا، وصبَّ عليها من الماء، وأكل أكلَ جائعٍ وهو يشكر اللهَ ويَحمده، ثم قام فشرب من الماء بكفَّيه وقال: لك الحمدُ يا سيِّدي على هذه النِّعمةِ التي تفضَّلتَ بها عليّ، ثم نام سماعة، وقعد فتوضَّأْ، ثم صلَّى الظُّهر، وعليٌّ يشاهد ذلك، فقال لبعض الغِلمان: اُخرج إلى ذلك الإنسانِ فأَحضره، فجاء إليه فقال: أَجِب الأمير، فقال: ما لي وللأمير! فأغلظ له [فقام] (¬1) وهو يقرأ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] ثم دخل فسلَّم، فردَّ عليه وأَمره بالقعود، فقال له جلساؤه: ومَن هذا حتَّى تأمرَه بالقعود! فزجرهم، ثم أَقبل عليه الأميرُ وقال: أَمِن أهلها أنت؟ قال: نعم، قال: ما صناعتُك؟ قال: الحملُ كما ترى، قال: وكم عيالُك؟ قال: نحن عيالُ الله، لي والدةٌ عجوزٌ مُقعدة وأختٌ عمياء، قال: فإلى متى تَحمك من النهار؟ قال: إلى الظُّهر، وأُجِمُّ نفسي (¬2) باقيَ النهارِ إلى الليل، قال: أولستَ تكون جمَّامًا بالليل؟ ! قال: إنْ أَجممتُ نفسي [بالليل] (¬3) تركني فقيرًا يومَ القيامة، قال: فإنِّي رأيتك تأكل وحدك! قال: إنَّ أمِّي وأختي تصومان، فأَجعلُ عَشائي معهما إذا أَفطرتا، فقال: يا شاكر، ادفع إليه خمسةَ آلافِ درهمٍ ليُصلحَ بها حاله، فقال: أنا في غِنًى عنها، فاجتهدَ به فلم يقبلْها، فقام عليٌّ وأخذ بيده وخلا به وقال: لي إليك حاجة، قال: وما حاجةُ مثلِك إلى مِثلي وأنت ابنُ الخليفة! فقال: بلى، قد ترى حالي وما أنا فيه من المُلك والنعيمِ وأمرِ الدنيا، فادعُ اللهَ تعالى أن يزهِّدَني في الدنيا ويرغِّبني في الآخرة، فقال الحمَّال: يا حبيبي، ما لي عند اللهِ من القَدْر أن أدعوَه، فقال: لا بدّ، فرفع الحمَّالُ يديه وطأطأ رأسَه ودمعت عيناه وقال: اللهم أَخرِج حبَّ الدنيا من قلب عبدِك عليّ، وحبِّب إليه طاعتَك وجنِّبه معصيتَك. ثم قام وخرج، وعاد عليٌّ إلى موضعه وقد ذهب نشاطُه، ثم قال لجلسائه: انصرفوا فاشهدوا طعامَ أميرِ المؤمنين، وجعل يصف طعامَ أبيه، ثم قال لمُنيبٍ خازنِ الكتب: أَخرِج إليَّ سيرةَ عمرَ بن الخطابِ - رضي الله عنه -، فأخْرَجها، فجعل يقرؤها ويبكي، ثم قال: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) أي: أُريحها. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) و (ف).

اسمعوا ما كان طعامُ أمير المؤمنين عمرَ بن الخطابِ - صلى الله عليه وسلم -، عُراقُ (¬1) لحمِ الإِبل مطبوخٌ بماءٍ وملح، وأقراصٌ من شعيرٍ غيرِ منخول، فقيل له: لو أكلتَ غيرَ هذا الطعام، فقد وسَّع اللهُ عليك، فقال: إنَّ اللهَ عيَّر أقوامًا بأكلهم فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية [الأحقاف: 20]. ثم قال: عليَّ بسيرة عمرَ بن عبدِ العزيز رحمةُ الله عليه، فجعل يقرؤها ويصف عيشَه ويبكي، ثم أخرجَ ساعدًا مثلَ الفضَّة فقال: هذا الساعدُ يَبلى غدًا في التُّراب كما يبلَى ساعدُ الحمَّال، ثم صرف النُّدماءَ والغلمانَ وبقي وحده مفكِّرًا، فلما ذهب بعضُ الليل ناداني: يا شاكر، دونك والخزائنَ فاحفظها، فإني ذاهبٌ إلى سيِّدي، وأنا أظنُّ أنَّه يعني بسيِّده المأمون. ثم خرج وعلى رأسه إِزار، وفي رِجله نعلان طاقان، وخلفه خادمٌ صغير، فلما ارتفع النهارُ عاد الخادمُ وحده، فقلت: أين الأمير؟ فقال: نزل في سفينةٍ مع ملَّاح وقال: احملني إلى واسط فلي حاجةٌ مهمَّة، وأَعطاه دنانير. قال: ولمَّا علم به المأمونُ ضاقت عليه الدنيا، وكتب إلى جميع الآفاقِ والعمَّال أن يطلبَ وتوضعَ عليه العيون، فما وقف أحدٌ له على خَبَر. قال: وأما علي، فإنَّه لما وصل إلى واسط، نزل البصرةَ وتنكَّر واشترى ثيابًا وطبقًا كهيئة الحمَّال، وجعل يحمل على عُنقه بالأُجرة بمقدار قُوته، ويظلُّ النهارَ صائمًا والليلَ قائمًا، يمشي حافيًا حتَّى تقطَّعت رِجلاه، يبيت في المساجد يتخلَّلها لئلَّا يُفطنَ به، فمرض، فاكترى غرفةً في بعض الخانات، وألقى نفسَه على بارِيَّة (¬2)، فلما أَيِسَ من نفسه، دعا صاحبَ الخانِ وناوله رقعةً مختومةً وخاتَمًا وقال: إذا قضيتُ فادفع هذه الرُّقعة والخاتَمَ إلى والي البلد، ثم مات. فجاء الرجلُ إلى دار الوالي وصاح: نصيحة، فأُدخل على الوالي فقال: ما نصيحتُك؟ فأراه الخاتَم، فعرفه، فقال: وأين صاحبُه؟ فقال: في الخان، في غرفةٍ ¬

_ (¬1) العراق: العظم أُكل لحمه. القاموس المحيط (عرق). (¬2) البارية: الحصير المنسوج. القاموس المحيط (بور).

ميِّت. فقام الوالي فجاءَ إلى الخان، فرآه على تلك الحال، فبكى بكاءً شديدًا، وحوَّله إلى القصر، فغسَّله وطلاه بالكافور والمِسك والصَّبِر، ولفَّه في قَبَاطي مِصْر، وحمله في تابوتٍ إلى بغداد، وبعث بالخاتم والرُّقعة وعليها مكتوب: لا يفتحها إلَّا المأمون، وكتب إلى المأمون يُخبره بحاله ويقول: يا أميرَ المؤمنين، إنِّي وجدته في بعض الخاناتِ في غرفةٍ على بارِيَّة، ليس تحته فراشٌ ولا عنده نائحةٌ ولا باكية، مُغمضَ العينين، طيِّبَ الرائحة، مستنيرَ الوجه. فلمَّا وصل تابوتُه إلى بغداد، خرج إليه المأمونُ والحاشيةُ والأشرافُ والخَدَم، فلما رأى التابوتَ قام قائمًا وكشف عن وجهه، وجعل يقبِّله ويبكي، وارتفعت الضَّجَّة، ثم فكَّ الرُّقعة، فإذا فيها بخطِّه: يا أميرَ المؤمنين، اقرأ سورةَ الفجرِ إلى أربعَ عشْرةَ آيةً منها واعتبرْ بها؛ فإنَّ اللهَ مع الذين اتَّقوا والذين هم مُحْسِنون. وصلَّى عليه المأمون ومشى إلى قبره، فلمَّا وُضع فيه اطَّلع المأمونُ قيه فقال: رحمك اللهُ يا بُنَيّ، وأعطاك أمنيتَك ورجاءك، إنِّي لأرجو أن يكونَ اللهُ قد أسعدك ونفعني بك، فنعمَ الولدُ كنت، جمع اللهُ بيني وبينك، ورزقني الصَّبرَ عليك، وأَنالكَ شفاعةَ ابنِ عمِّك سيِّدنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - قال: والغبارُ قد علاه، والخدمُ حوله بالمناديل ينحُّون الغبارَ عنه، فقال: إليكم، تنحُّون الغبار عنِّي وعليٌّ يَبلَى في التراب! ثم دعا بمن قرأ سورةَ الفجرِ حتَّى بلغ إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] وهو يبكي ويقول: رحمك اللهُ يا بُنَيّ، فلقد نصحتَ أباك. وتصدَّقَ عنه بألف ألفِ درهم، وأَطلق المحبوسين، وكتب إلى العمَّال بردِّ المظالم وإنصافِ الرَّعية، وما زال منغَّصَ العيش، والعلماءُ ينتابونه ويعزُّونه، وهو لا يقبل عزاءً، ويُصبِّرونه وهو لا يستطيع الصَّبر، وهو متكسرُ النفس، حزينُ القلب، قليلُ النشاط. فلم يزل على حاله تلك حتَّى توفِّي رحمه اللهُ تعالى. ذِكرُ وزراءِ المأمون وحُجَّابِه وقُضاته: أوَّل ما وَزَرَ له بخُراسانَ الفضلُ بن سهل، ثم أخوه الحسنُ بن سهل، ثم أحمدُ بن أبي خالد، وعَمرو بن مَسعدة.

عبد الملك بن هشام بن أيوب

وقضى له الواقديّ، ويحيى بنُ أكثم، وإسماعيلُ بن حمَّادِ بن (¬1) أبي حنيفة، والحسنُ بن زيادٍ اللؤلؤي، ومحمدُ بن سَمَاعة. وحَجَبه عبدُ الحميد بن شَبَث، ومحمدٌ وعليٌّ ابنا صالحٍ مولى (¬2) المنصور، وغيرُهم. أَسند المأمونُ الحديثَ عن أبيه هارون، ومالكِ بن أنس، وهُشَيم بنِ بشير، وحمَّاد بنِ زيد، وأبي معاوية الضَّرير، وعبَّادِ بن العوَّام، وإسماعيلَ بن عُلَيَّة، وغيرِهم. [وقال الحافظُ ابن عساكر (¬3): ] وروى عنه أبو حذيفةَ إسحاقُ بن بِشْر، وهو أسنُّ منه، والقاضي يحيى بنُ أكثم، واليزيدي، وعَمرو بن مَسعدة، وعبدُ الله بن طاهر؛ ودِعْبِلٌ الشاعر، في آخَرين. و[قال ابنُ أكثم: ] كان [المأمونُ] يقول: إنَّما الحلاوةُ لأصحاب الخُلْقان [والمحابر] يقال لأحدهم: حدِّثني رحمك الله. انتهت ترجمةُ المأمونِ رحمه الله. عبدُ الملك بنُ هشام بنِ أَيُّوب أبو محمدٍ الذُّهْلي البصري النَّحوي. سمع مغازيَ ابنِ إسحاقَ من (¬4) زياد بنِ عبد اللهِ البكَّاء؛ وكان ثقة، وتوفِّي بمصرَ في ربيعٍ الأوَّل. عبدُ الأعلي بنُ مُسْهِرِ ابن عبد الأعلى، أبو (¬5) مُسْهرٍ الغسَّاني الدمشقي، ويعرف بابن أبي دُرَامة. كان سيِّدًا عالمًا فاضلًا زاهدًا عابدًا [وأثنى عليه الأئمَّة، قال الحافظُ ابن عساكر: كان] شيخَ الشامِ في وقته (¬6)، وفقيهَهم ومفتيهم وزاهدَهم، لم يكن في زمانه في الشام ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وابن. وهو خطأ. (¬2) في النسخ: ابن. والمثبت من نهاية الأرب، ترجمة المأمون. (¬3) في تاريخه 39/ 222. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): ابن، وهو خطأ، والمثبت من المصادر. انظر إنباه الرواة 2/ 211، والسير 10/ 429، والبداية والنهاية 14/ 235 - 236، وغير ذلك، ولم ترد هذه الترجمة في (ب). (¬5) في (ب): ابن. وهو صواب أيضًا، كما ورد في تاريخ دمشق 39/ 380. (¬6) تاريخ دمشق 39/ 380. وما بين حاصرتين من (ب).

مِثلُه، ومولدُه في صفرٍ سنةَ أربعين ومئة. [ذكره ابنُ سعد] (¬1) في الطبقة السابعةِ (¬2) من أهل دمشقَ [وقال: كان راويةً لسعيد بنِ عبد العزيز التَّنوخي وغيرِه من الشاميين] وكان أُشخص من دمشقَ إلى عبد اللهِ بن هارونَ وهو بالرقَّة، فسأله عن القرآن، فقال: هو كلامُ الله، وأَبى أن يقول: هو مخلوق، فدعا له بالسَّيف والنِّطع ليضربَ عُنقَه، فلما رأى ذلك أَجاب، فتركه وقال: أَمَا إنَّك لو قلتَ ذاك قبل السَّيف قبلتُ منك، ورددتُك إلى أهلكَ وبلادِك، ولكنك الآنَ تخرج فتقول: قلتُ ذلك فَرَقًا من القتل، فأشخِصوه إلى بغدادَ فاحبسوه بها حتَّى يموت، فحملوه إلى بغدادَ في شهر ربيعٍ الآخِر سنةَ ثمان عشرةَ ومئتين، فحُبس عند إسحاقَ بن إبراهيم، فلم يلبث في الحبس إلَّا يسيرًا حتَّى مات فيه غُرَّةَ رجب [هذه السنة]، فأخرج ليُدفنَ فشهده قومٌ كثيرٌ من أهل بغداد. وقال أبو الحسينِ الرازي: لمَّا دخل على المأمون بالرَّقة قال له -والسيفُ مشهور- ما تقول في القرآن؟ قال: أَقول كما قال اللهُ تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فقال المأمون: هو مخلوق، فقال: عمَّن تنقل هذا؟ عن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أم عن الخلفاءِ الراشدين أم عن الصَّحابة والتابعين؟ قال: بالنَّظر، فقال: نحن مع الكتابِ والسُّنَّة والإجماعِ أو مع النظر؟ فقال: أنت عملتَ للسُّفياني، فقال: كلامُ الله قديمٌ غيرُ مخلوق. فأَشخصه إلى بغدادَ وكتب إلى إسحاقَ بن إبراهيمَ أن يمتحنَه على رؤوس الناس، فأَقامه كذلك وقال: إن لم تُجِب وإلَّا فقد أمرني أميرُ المؤمنين بقتلك، فقال: أيها الناس، أَلَا إنَّ أميرَ المؤمنين قال لي: قل: القرآنُ مخلوق، وإلا ضربتُ عنقَك، أَلَا فهو مخلوق. فعجب الناسُ من توريته، وازداد عندهم فضلًا. قال الرازيّ: ومرض في حبسه، فتوفِّي لليلتَين مضتا من رجب [في هذه السَّنة] (¬3) وهو ابنُ تسعٍ وسبعين سنة، وأُخرج فلم يبقَ ببغدادَ إلا مَن شهد جنازتَه، ودُفن بمقبرة ¬

_ (¬1) في طبقاته 9/ 477. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): وهو من الطبقة السادسة. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

بابِ التِّبْن [ومات المأمونُ بعده بعشرة أيَّام. وقال ابنُ عساكر (¬1): قرأ أبو مُسْهرٍ القرآنَ على أيوبَ بنِ تميم ويحيى بنِ الحارث، وقرأ يحيى على عبد اللهِ بن عامر. قال: و] أَسند عن مالك بنِ أنس [وسعيدِ بن عبد العزيز التَّنوخي، وعبدِ الله بن العلاءِ بن زَبْر، وإسماعيلَ بن عيَّاش، وسفيانَ بن عُيينة، وسلمةَ بن العيَّار] وخلق كثير. وروى عنه [مروانُ بن محمد، ويحيى بنُ مَعين، و] أبو زُرعة الدِّمشقي [وأبو حاتِم الرازي، وأحمدُ بن أبي الحَوَاري، والأئمّة] (¬2). واتَّفقوا على صدقه وأمانتِه وورعه، قال أبو داودَ رحمه الله: لقد كان من الإسلام بمكانٍ جميل، حُمل على السيف، فمدَّ رأسَه وأبي أن يُجيب، [وكان أحمدُ بن حنبلٍ يقول: رحم اللهُ أبا مسهرٍ ما كان أثبتَه! وكان أحمدُ يوادُّه ويكاتبه. وحكى ابنُ عساكرٍ عن يزيدَ بنِ عبد الصمدِ قال: ] (¬3) كنا عند أبي مُسهرٍ وهو يُملي علينا من كتاب، فمرَّ بحرفٍ قد اندرس، فلم يعرفْه، فنظر إليه يحيى بنُ مَعينٍ وقال: [يا أبا مسهر، ] هو كذا وكذا، فقال: اضربوا على هذا الحديثِ فإني لا أَروي بتلقينٍ ولا آخذ به. قال ابن مَعين: فأردتُ أن أقومَ فأقبِّل رأسَه. وقال يحيى: لا أحدِّث في بلدٍ فيه أبو مُسْهر. وقال ابنُ أبي حاتم: ما رأينا مَن كتبنا عنه أفصحَ منه، وما رأيتُ أهلَ كُورةٍ يعظِّمون عالمهم مثلَ [أهل] كُورته، وإنَّه عندهم لَجليلُ القَدْر. قال المصنِّف رحمه الله: ولم يحبسْه المأمونُ لأجل القرآنِ لا غير، وإنَّما كان قد أَنكر عليه أشياء، منها أنَّ أبا العَمَيطَرِ عليَّ بنَ عبدِ الله بن خالِد بن يزيد بن معاوية [بنِ أبي سفيان] (¬4) لمَّا استولى على دمشقَ أَكره أبا مُسْهِرٍ على القضاء، فلمَّا زالت أيامُ أبي العَميطَر ¬

_ (¬1) في تاريخه 39/ 380. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): غيره. (¬3) تاريخ دمشق 39/ 389. وما بين حاصرتين من (ب). ووقع في (خ) و (ف): وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

عزل أبو مُسهرٍ نفسَه، فلما دخل المأمونُ دمشقَ لم يلتفت إليه أبو مُسْهر، فحقد عليه. ومنها ما حكاه (¬1) [الحافظُ ابن عساكرٍ في تاريخه] (¬2) عن علي بن عثمانَ الحَرَّانيِّ قال: مرض أبو مُسهرٍ بدمشق، فدخلنا عليه نعوده، وكنا جماعةً من أهل الحديث، فقلنا: كيف تجدك؟ قال: راضيًا عن الله ساخطًا عن الإِسكندر (¬3)، قيل له: ولم؟ فقال: حيث لم يجعلْ بيننا وبين العراقِ سدًّا كما جعل بين أهل خُراسانَ ويأجوجَ ومأجوج. [قال: ] (¬4) فما كان بعد هذا بيسيرٍ حتَّى قدم المأمونُ دمشقَ ونزل بسفح جبلِ دَير مُرَّان، وبنى القُبيبةَ التي على الجبل، فكان في الليالي المظلمةِ يأمر [المأمون] بجمرٍ عظيم، فيوقد في الليل ويُجعل في طُسُوت كبارٍ وتُدلَّى بسلاسلَ من فوق الجبلِ عند القُبيبة، حتَّى تضيءَ الغوطةُ فيُبصرَها في الليل، وكان لأبي مُسهر حلقةٌ بجامع دمشقَ بين العشاءين عند الحائطِ الشَّرقي، فبينا هو جالسٌ في حلقته ليلة، إذ دخل ضوءٌ عظيم، فقال: ما هذا؟ ! فقالوا: النارُ تدلَّى لأمير المؤمنين من الجبل حتَّى تضيءَ له الغوطة، فقال أبو مُسهر: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ ... } الآيات [الشعراء: 128 - 129] وكان في حلقته صاحبُ خبرٍ للمأمون، فرفع إليه ذلك، فلما صار [المأمونُ] إلى الرقَّة استقدمه وفَعَل به ما ذكرنا. وكان على خاتَم أبي مُسهرٍ مكتوب: أَبرمتَ فقُم، فإذا جاءه ثقيلٌ يقول له: اقرأْ ما على هذا. وقيل: إنَّما كان ذلك على خاتم جدِّه (¬5). [وذكر ابنُ عساكرٍ شيئًا من شِعره فقال: حدَّثنا أبو القاسمِ الشحَّامي بإسناده إلى محمد بنِ يحيى قال: سمعتُ أبا مُسهرٍ يُنشد لنفسه: ] (¬6) ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف) حكي. (¬2) 39/ 395 - 396. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخ دمشق: على ذي القرنين. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) وهو الذي ذكره بن عساكر في تاريخه 39/ 379، وأَبْرَمَهُ فَبرِم وتبرَّم: أملَّه فملّ. (¬6) تاريخ دمشق 39/ 399. وفي (خ) و (ف): ومن شعر أبي مسهر.

علي الجرجرائي الزاهد

ولا خيرَ في الدُّنيا لمن لم يكن له ... من اللهِ في دار البقاء نصيبُ فإنْ تعجب الدنيا رجالًا فإنَّها ... متاعٌ قليل والزَّوالُ قريب وله: [من الطويل] أَلَا قِفْ بدار المُترَفين فقل لها ... إذا جئتَها أين المساكنُ والقُرى وأين الملوكُ الناعمون بغِبطةٍ ... ومَن عانقَ البيضَ الرَّعابيبَ كالدُّمى فلو نطقتْ دار لقالت لأَهلها ... لك العِلْم (¬1) صاروا في التُّراب وفي البِلى عليُّ الجَرْجَرائيُّ (¬2) الزاهد كان ينزل بجبل لبنانَ يتعبَّد فيه [ورُوي عن عبد الواحدِ بن عليٍّ بإسناده إلى] بِشْرٍ الحافي قال (¬3): لقيتُ عليًّا الجَرْجَرائيَّ بجبل لبنانَ على عين ماء، فلمَّا أَبصرني هرب وقال: بذنبٍ منِّي رأيت اليومَ إِنسيًّا، فعدوتُ خلفه وقلت: أوصني، فالتفت إليَّ وقال: عانقِ الفقر، وعاشِر الصَّبر، وعادِ الهوى، وعَفِ الشَّهوات، واجعل بيتَك أَخلى من لَحْدك، فعلى هذا طاب المسيرُ إلى الله عزَّ وجلّ. [والله أعلم بالصواب]. محمدُ بن مصعبِ (¬4) بن صَدَقةَ القَرْقَساني كان من أهل الخيرِ والصَّلاح، وإنما كان كثيرَ الغلط؛ لأنَّه كان يحدِّث من حفظه. أَسند عن الأوزاعيِّ وغيرِه، وروى عنه الإمامُ أحمد رحمةُ اللهِ عليه وغيرُه. وقال البخاري: كان ابنُ مَعين سيِّئَ الرأيِ فيه (¬5)، جاء إليه فقال له: يا أبا الحسن، ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق: لك الويل. (¬2) في النسخ: الجرجاني. والمثبت من المنتظم 11/ 38، وتاريخ دمشق 52/ 47، وصفة الصفوة 4/ 346، والجرجرائي: نسبة إلى جَرْجرايا، وهي بلدة قريبة من الدجلة بين بغداد وواسط. الأنساب 3/ 233. (¬3) في (خ) و (ف): قال بشر الحاقي. والحكاية رواها ابن الجوزي في المنتظم وصفة الصفوة. (¬4) في (خ): صدقة، وفي (ف): منصور، وكلاهما خطأ، والمثبت من المصادر. ولم ترد هذه الترجمة في (ب)، وهو الصواب، فإن المترجَم من وفيات سنة (208 هـ)، وقد وهم فيه صاحب الوافي بالوفيات حيث ترجمه في (محمد بن مصعب 5/ 32 وقال: توفي سنة ثمانٍ ومئتين) ثم تابع المصنف فترجمه في محمد بن منصور مرة أخرى 5/ 68 وقال: توفي سنة ثماني عشرة ومئتين. وانظر التاريخ الكبير 1/ 239، وتاريخ بغداد 4/ 447، وتهذيب الكمال، وميزان الاعتدال 4/ 270 - 271، وتاريخ الإسلام 5/ 189. (¬5) التاريخ الكبير 1/ 239.

محمد بن نوح

أَخرِج إلينا كتابًا من كتبك، فقال: عليك بأَفلحَ الصَّيدلاني. لأنَّه كان احتقر ابنَ مَعين، فقام ابن مَعينٍ مُغْضَبًا وهو يقول: لا ارتفعتْ لك معي رايةٌ أبدًا، فقال له ابنُ مصعب: إذا لم ترتفع إلَّا بكَ فلا رفعها اللهُ تعالى أبدًا. محمد بن نوح ابن ميمون بن عبد الحميد (¬1) بن أبي الرِّجال العِجْلي. صاحب الإمام أحمد رحمة الله عليه، ويعرف والده بالمضروب. كان محمد عالمًا زاهدًا ورعًا، مشهورًا بالسنة والدين والثقة، امتحن بالقول بخلق القرآن فثبت على السنة. وقال الخطيب (¬2): كتب المأمونُ إلى إسحاقَ بن إبراهيمَ -والمأمونُ بالرَّقَّة- أن يَحملَ إليه الإمامَ أحمدَ بن حنبلٍ رحمه اللهُ وصاحبَه محمدَ بن نوح، وكان جارَه، فحُملا إلى الرقَّة على بعيرٍ متزاملَين، فمرض محمدُ بن نوح في الطريق، وقال للإمام أحمد: أبا عبدِ الله، اللهَ الله؛ فإنَّك لستَ مثلي، أنت رجلٌ يُقتدى بك، وقد مدَّ هذا الخَلْقُ أعناقَهم إليك، ولِمَا يكون منك، فاتَّقِ اللهَ فاثبتْ لأمره. قال الإمامُ رحمه الله: فمات بعانة، فدفنتُه بها، وإني لأرجو أن يكونَ اللهُ قد رحمه وختم له بالخير، فما رأيتُ أحدًا على حَدَاثة سِنِّه وقِلَّة علمِه أقومَ بأمر اللهِ منه رحمه الله. * * * ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): عبد المجيد. والمثبت من تاريخ بغداد 4/ 517، والأنساب 11/ 356، ولم ترد هذه الترجمة في (ب). (¬2) في تاريخه 4/ 518.

السنة التاسعة عشرة بعد المئتين

السَّنةُ التاسعةَ عشْرةَ بعد المئتين فيها ظهر محمدُ بن القاسمِ بن عُمرَ بن علي بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالبٍ بالطَّالقَانِ يدعو إلى الرِّضا من آل سيِّدنِا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، واجتمع إليه خلقٌ كثير، فبعث إليه عبدُ الله بن طاهرٍ من خُراسانَ جيوشًا، فكانت بينهم وقعات، ثم هزمه قوَّادُ ابنِ طاهر، فمضى يريد بعضَ كُوَر خُراسان، وكان قد كاتبه أهلُها، فلما كان بنَيسابورَ (¬1) دخلها رجلٌ ممن كان معه، وكان من أهل نَسَا [فأَخبرهم بأمره] (¬2) وأنَّه قاصدٌ إلى كُورة كذا وكذا، فمضى أبو الرِّجال (¬3) إلى والي نَسَا فاخبره، فخرج والي نسا وأخذ ابنَ القاسم وأَوثقه وبعث به إلى ابن طاهر، فبعث به ابنُ طاهرٍ إلى المعتصم، فقدم بغدادَ في ربيعٍ الآخر، فحُبس مضيَّقًا عليه، ثم وسِّع عليه، فلمَّا كانت ليلةُ عيد الفطرِ اشتغل الموكَّلون به عنه، فدُلِّي إليه حبلٌ من كوة الحبس، فهرب، فلمَّا افتقدوه لم يجدوه، فنادَى منادي المعتصم: مَن جاء به فله مئةُ ألفِ درهم، فلم يُعرَف له خَبَر. وقال الطبري (¬4): حُبس عند مسرورٍ الكبيرِ في مكانٍ مقدارَ ثلاثةِ أَذْرُعٍ في ذراعَين، فمكث فيه ثلاثةَ أيام، ثم حوِّل إلى مكانٍ أَوسع [منه]، وأُجري عليه طعام، ووكِّل به مَن يحفظه. وفيها قدم إسحاقُ بن إبراهيمَ إلى بغدادَ من الجبل يوم الأحد لإحدى عشْرةَ ليلةً خلت من جُمادى الأُولى، ومعه الأَسرى من الخُرَّميَّة وغيرِهم ممَّن استأمن، بعد أن قتل منهم مئةَ ألفٍ سوى النساءِ والصبيان. وفيها غلب الزُّطُّ بأرض البصرة، واحتملوا الغلَّاتِ من كَسْكَرَ وما يليها من ناحية البصرة، وأَخافوا السبيل، وقتلوا وأَخذوا المال، فبعث إليهم المعتصمُ عُجيفَ بن عَنْبسةَ في جيشٍ كثيف، فخرج من بغدادَ في جمادى الآخرة، ورتَّب بريدًا على ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 7، وابن الأثير 6/ 443: بنسا. ولعلَّه الصواب. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين ساقط من النسخ، وانظر تاريخ الطبري. (¬3) في تاريخ الطبري: فمضى أبو ذلك الرجل. وفي تاريخ ابن الأثير: فمضى الأب. (¬4) في تاريخه 9/ 7.

الطُّرقات بحيث يصل الخبرُ من البصرة إلى بغدادَ في يومٍ واحد، وسار عُجيفٌ حتَّى نزل الصافية، وهي قريةٌ أسفلَ وأَسط، وكان في خمسة آلاف، فسدَّ عليهم الأنهارَ وأخذ عليهم الطُّرق، وقاتلهم، وأَسر منهم خمسَ مئةٍ وقتل ثلاثَ مئة، وضرب أعناقَ الأَسرى، وبعث برؤوسهم ورؤوس القتلَى إلى المعتصم، وأَقام عُجيفٌ يقاتلهم سبعةَ أشهر، وكان رئيسَ الزُّطِّ رجلٌ يقال له: محمدُ بن عثمان، وكان صاحبَ أمرِه والقائمَ بالحرب رجلٌ يقال له: سملق، وخرجت هذه السَّنة [وعُجيفٌ] (¬1) محاربٌ لهم، وخرج إليه خلق كثيرٌ بالأمان، وكان الزُّطُّ خمسةَ عشَرَ ألفًا، وبعث بالمستأمنة إلى بغداد، وقيل: أَقام يحاربهم خمسةَ عشَرَ شهرًا، وقيل: تسعةَ أشهُر (¬2). وفيها كانت ظُلمة شديدةٌ بين الظُّهر والعصرِ وزلازلُ هائلة. وفيها امتحن المعتصمُ الإمامَ أبا عبد اللهِ أحمدَ بن حنبلٍ رحمه الله [وهل ضربه بين يديه أم لا؟ ففيه قولان: أحدُهما: أنَّه ضربه بين يديه، فحكى، الصُّولي أنَّ المعتصمَ أَحضره (¬3) وعنده ابنُ أبي دؤاد، فقال له: ما تقول في القرآن؟ قال: يسعني فيه ما وسع أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إنَّه كلامُ اللهِ قديمٌ منزَّل غيرُ مخلوق، فقال له: ما تقول في قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ} [الزمر: 62]؟ فقال: خصَّ القرآنَ عن هذا بقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] ففرَّق بينهما، أَلَا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى جلَّت عظمتُه وتقدَّست أَسماؤه: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيءٍ} [الأحقاف: 25] وما دمَّرت السَّماواتِ والأرض، فقال المعتصمُ لابن أبي دُؤاد: زعمتَ أنَّه حَدَث، وما أُراه إلَّا كهلًا، وزعمتَ أنه عامِّيٌّ وما أُراه إلا مُغْرِبًا. [واختلفوا في السِّياط التي ضُربها على أقوال: أحدها: أنَّها كانت] (¬4) ثمانيةَ عشرَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في المنتظم 11/ 42: وأقام بإزاء الزط خمسة عشر شهرًا فقاتلهم منها تسعة أشهر. وفي تاريخ الطبري 8/ 9: أقام عجيف بإزاء الزط خمسة عشر يومًا ... ومكث عجيف يقاتلهم فيما قيل تسعة أشهر. وانظر الكامل 6/ 444، والبداية والنهاية 14/ 238. (¬3) في (خ) و (ف): قال الصولي: أحضره المعتصم. (¬4) في (خ) و (ف): وضرب.

سَوطًا. [والثاني: ] (¬1) ثمانين سَوطًا. [والثالث: ] تسعةً وعشرين. ثم ندم المعتصمُ على ضربه وعفا عنه. [قال الصُّولي: والذي حمله على ضربه أحمدُ بن أبي دؤاد بعد أن حبسه. قال الصُّولي: وكان ذلك في سنة عشرين ومئتين. والثاني: أنَّ المعتصمَ أمر بضربه ولم يَحضره، حدَّثنا عبدُ الوهاب بإسناده إلى] ميمونِ بن الأَصبغِ قال (¬2): كنت ببغداد، فسمعتُ صيحة، فقلت: ما هذا؟ ! قالوا: أحمدُ بن حنبلٍ يُمتحن. فدخلتُ عليهم وقد مُدَّ أحمدُ بين العُقَابين، فلما ضُرب سَوطًا قال: بسم الله، فلمَّا ضُرب الثاني قال: لا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله، فلما ضُرب الثالثَ قال: القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوق، فلما ضُرب الرابعَ قال: لن يُصيبَنا إلَّا ما كتب اللهُ لنا. وكان تِكَّتُه حاشيةَ ثَوب، فانقطعت، فنزل السَّراويل [إلى عانته، فرمى أحمدُ طَرْفَه إلى السماء وحرَّك شفتَيه، فبقي السراويل] ولم ينزل. وقال ميمون [بنُ الأَصبغ: ] فدخلتُ عليه بعد سبعة أيامٍ فقلت له: رأيتك تحرِّك شفتيك، فأيَّ شيءٍ قلت؟ قال: قلت: اللهمَّ إني أسألك باسمك الَّذي ملأتَ به عرشَك، إنْ كنتَ تعلم أنِّي على الصواب فلا تَهتِكْ لي سِترًا. ولمَّا بالغوا في ضربه ولم يُجِب أَظهروا أنَّه قد عُفي عنه وتُرك. وقال إبراهيمُ الحَرْبي: أحلَّ الإمام أحمدُ رحمه اللهُ مَن حضر ضربَه وكلَّ مَن شايع فيه والمعتصمَ، وقال: لولا أنَّ ابنَ أبي دؤاد داعيةٌ لأَحللته. وقال الصُّولي: الَّذي ضربه اسمُه شاباص، كان يقول: لقد ضربتُه ثمانين سَوطًا، لو ضربتُ بها فيلًا لهدَّتْه. وقال عبدُ الله بن الإمامِ أحمدَ: كان أبي قد وطَّن نفسَه على القتل، قيل له: لو عُرضتَ على القتل تُجيب؟ قال: لا. [قال: ] (¬3) وكان يقول: رحم اللهُ خالدًا الحدادَ وأبا الهيثم، فأما خالدٌ فكان ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وقيل. (¬2) في (خ) و (ف): قال ميمون بن الأصبغ. والخبر رواه ابن الجوزي في المنتظم 11/ 43. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

علي بن عبيدة

شاطرًا، لما أُخذ الإمامُ أحمدُ اعترضه وقال له: إني ضُربت في [غير] (¬1) اللهِ عشرةَ آلاف سَوط، فاصبِرْ أنت في الله. وكان يُضرب المثلُ بصبر خالد، قيل له: ما بلغ من صبرك؟ قال: ملؤوا جِرابًا عقاربَ وأَدخلوا رأسي فيه، قال: ولو جُعلت في فمي خِرقةٌ وقتَ الضرب لاحترقتْ من حرارة جوفي، فقيل له: مع هذا الصبرِ والعقلِ وأنت في الباطل (¬2)! فقال: نعمْ أُحبُّ الرِّئاسة. وكانت أَليتاه ولحمُ أفخاذِه قد انمحق من الضَّرب. وأما أبو الهيثمِ العيَّار، فقال الإمام أحمدُ رحمة اللهِ عليه: لما مدُّوني للضَّرب جذب بثوبي من ورائي، فالتفتُّ وإذا بشابٍّ، فقال: أَتعرفني؟ فقلت: لا، قال: أنا أبو الهيثمِ الشاطر، اسمي مكتوبٌ عندهم في الدِّيوان أني ضُربت ثمانيةَ عشرَ ألفَ سَوط فما أَقررت، وصبرتُ لأجل الدُّنيا في طاعة الشيطان، فاصبرْ أنت لأجل الدِّين في طاعة الرَّحمن. وقال عبدُ الله بن أحمدَ رحمةُ اللهِ عليه: كتب أهلُ المطاميرِ والسُّجون إلى أبي يقولون: إنْ رجعتَ عن مقالتك ارتددنا عن الإِسلام. وقال أبو بكرٍ النَّجاحي: في الوقت الَّذي ضُرب فيه الإمامُ أحمد رحمه اللهُ أَظلمت الدنيا وزُلزلت. وفيها امتحن ابنُ أبي دؤاد الحارثَ بن مسكين، فقال: قل: القرآنُ مخلوق. فبسط أصابعَه [وقال: أشهد أنَّ هذه مخلوقة، أشار إلى أصابعه] ثم قال: القرآنُ والتَّوراة والإِنجيل والزَّبور. وحجَّ بالناس صالحُ بن العباسِ بن محمد بن عليّ. وفيها توفِّي عليُّ بن عبيدة أبو (¬3) الحسنِ الكاتب، ويعرف بالرَّيحاني. كان أديبًا فصيحًا بليغًا، صنَّف الكتبَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب) و (ف). (¬2) في (خ) و (ف): الباطن. (¬3) في (خ) و (ف): بن أبو. والمثبت من المصادر، انظر تاريخ بغداد 13/ 464، والمنتظم 11/ 45، وتاريخ الإسلام 5/ 405، ولم ترد هذه الترجمة في (ب).

محمد بن عبد الله

في الحِكَم والأمثال، واختصَّ به المأمون. وقال عليّ: التقى أَخوان متوادَّان، فقال أحدُهما لصاحبه: كيف وُدُّك لي؟ فقال: متوشِّح [بفؤادي] وذِكرُك سميرُ سُهادي (¬1)، فقال الآخَر: وأمَّا أنا فأُوجز في وصفي، ما أُحبُّ أن يقعَ على سواك طَرْفي. [وفيها توفِّي] محمدُ بن عبدِ الله ابن محمدِ بن عبدِ الملك [البصري] أبو عبدِ الله الرَّقاشي، الزاهدُ العابد. كان يصلِّي في كلِّ يومٍ وليلة أربعَ مئةِ ركعة، وهو من شيوخ [محمدِ بن إسماعيلَ] (¬2) البخاري، سمع مالك بن أنس [وحمادَ بن زيدٍ وابنَ سلمة] (¬3) وغيرَهم (¬4)، وروى عنه ابنُه أبو قِلابة [وأبو حاتِمٍ الرازي]. وكان [مُتقنًا] ثقةً رحمةُ الله عليه [وهو والدُ أبي قِلابةَ الزاهد. وحكى الخطيبُ عن أبي حاتمٍ الرازيِّ (¬5) أنَّه كان يقول: الرَّقَاشي ثقة]. محمُد بن عليِّ ابنِ موسى بن جعفرِ بن محمد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، أبو جعفر، وقيل: أبو محمَّد، وقيل: أبو عبدِ الله. ويلقَّب بالجَوَاد، والمرتضَى، والقانع [وأَشهرُ ألقابِه الجواد] (¬6). وُلد سنةَ خمسٍ وتسعين ومئة، وكان على منهاج أبيه في العلم [والجود] والتُّقى والسُّؤدَد والكرم، وهو الذي ذُكر أن المأمون زوَّجه ابنتَه أمَّ الفضل، وكان يعطيه في كلِّ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فؤداي. والمثبت من تاريخ بغداد والمنتظم، وما بين حاصرتين منهما. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) هو رافع بن سلمة الأشجعي، كما في تهذيب الكمال. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): وغيره. (¬5) في (ب): أحمد بن أحمد الرازي. والتصويب من تاريخ بغداد 3/ 413. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب).

سنةٍ (¬1) ألفَ ألفِ درهمٍ وزيادة، وقدم من المدينة وافدًا على المعتصم ومعه امرأتُه أمُّ الفضل بنتُ المأمون، فأَكرمه المعتصمُ ووصله، ولما زوَّجه المأمون ابنتَه كان عُمُرُه سبعَ سنين. وقال العُتْبي: إنما سُمِّي الجَوَادَ لما حكى بعضُ العَلَويين قال: كنتُ أهوى جاريةً بالمدينة ويدي تَقصُر عن ثمنها، فشكوتُ ذلك إلى محمد بنِ عليِّ [بن موسى الرِّضا] (¬2) فقال: ولمن هي؟ فأخبرتُه، فلمَّا كان بعد أيامٍ سألتُ عن الجارية، فقيل لي: بيعت، قلت: ومَن اشتراها؟ قالوا: لا ندري -وكان محمدٌ قد اشتراها سِرًّا- قال: فزاد قلقي، فأتيتُ إليه فقلت له: بيعت فلانة، فقال: ومَن اشتراها؟ قلت: لا أدري، قال: هل لك في الفَرْجة؟ قلت: نعم. فخرجنا إلى ظاهر المدينةِ إلى قصرٍ له عند ضَيعةٍ فيها نخْلٌ وشجر، وقد قدم من الطَّعام ما شاء، فلمَّا صرنا إلى القصر، دخل وأَخذ بيدي وأخذ يقول: بيعت فلانةُ وما تدري مَن اشتراها؟ وأنا أبكي وأَقول: نعم، حتى انتهى بي إلى بيتٍ على بابه سِترٌ وفيه جاريةٌ جالسة على فُرُشٍ لها قيمة، فرجعتُ، فقال: واللهِ لَتدخلَنّ، فدخلت، وإذا بالجارية التي كنت أُحبُّها، فبُهِتُّ وتحيَّرت، فقال: أتعرفها؟ قلت: نعم، هي فلانة، فقال: هي لك والقصرُ والضَّيعة والغَلَّة وجميعُ ما في القصر، فأَقِم معها بحياتي اليوم، وكلْ هذا الطعامَ واقضِ من الجارية وَطَرَك، ثم خرج فقال لأصحابه: أما طعامُنا فقد صار إلى غيرنا، فجدِّدوا لنا طعامًا، ثم دعا الأَكَّارَ (¬3) فعوَّضه عن حقِّه من الغَلَّة حتى صارت لي تامَّة، وتركني ومضى إلى المدينة، فقبضتُ الجاريةَ والجميع. ذِكْرُ وفاتِه: [قال الخطيب: ] توفِّي يومَ الثُّلاثاء لخمسِ (¬4) ليالٍ بقين من ذي الحِجَّة سنةَ تسعَ ¬

_ (¬1) بعدها في (ب): ما كان يعطيه لأبيه الرضا. وفي المنتظم 11/ 62 أن الرشيد كان يجري على علي بن موسى بن جعفر في كل سنة ثلاث مئة ألف درهم، ولنزله عشرين ألف درهم في كل شهر، فقال المأمون لمحمد بن علي بن موسى: لأزيدنك على مرتبة أبيك وجدك، فأجرى له ذلك ووصله بألف ألف درهم. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر المنتظم. (¬3) الأكار: الحرَّاث. (¬4) وفي رواية ثانية عنده 4/ 90: لستّ. وما بين حاصرتين من (ب).

عشْرةَ ومئتين (¬1). وقيل: سنةَ عشرين ومئتين. وصلَّى عليه هارونُ بن المعتصم، ودُفن في مقابر قريشٍ عند جدِّه موسى بنِ جعفرٍ وهو ابنُ خمسٍ وعشرين سنةً وثلاثةِ أَشهرٍ واثني عشَرَ يومًا. وحُملت امرأتُه [أمُّ الفضلِ بنتُ المأمون] (¬2) إلى قصر عمِّها المعتصم فكانت مع الحُرُم. [وقال الخطيب (¬3): صلَّى عليه هارونُ عند منزلِه في رحبة سوارِ بن ميمونٍ ناحيةَ قنطرةِ البَرَدان]. وكان له أولاد، منهم عليٌّ أبو الحسنِ العسكري. [وسنذكره في أيام المتوكِّل]. أَسند محمدٌ الحديثَ عن آبائه الطَّاهرين - رضي الله عنهم -. * * * ¬

_ (¬1) في تاريخ الخطيب: عشرين ومئتين. وانظر تاريخ الإسلام 5/ 447 حيث قال: وقيل: توفي في آخر سنة تسع عشرة رحمه الله ورضي عنه. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخه 4/ 90. وما بين حاصرتين من (ب).

السنة العشرون بعد المئتين

السنة العشرون بعد المئتين فيها بنى المعتصم سُرَّ من رأى، و [سببه ما حكى الصوليُّ قال: ] (¬1) سبب بنائها أنَّ غلمانه الأتراك كَثُروا ببغداد وتولَّعوا بحُرَم الناس وأولادهم، فاجتمع أهل بغداد إلى المعتصم، وتقدَّم أشرافهم وقالوا: يا أمير المؤمنين، والله ما أحدٌ أحبَّ إلينا من مُجاورتك، وقد آذانَا غلمانُك، فانظر في حالنا، فقال: نعم، وازداد فسادُ الأتراك، فعاودوه مرَّةً ثانية وثالثةً، فقالوا: أنصفنا وتحوَّل (¬2) عنا وإلَّا قاتلناك، فقال: كيف تقاتلوني وفي عسكري ثمانون ألف دارع (¬3)، قالوا: نقاتلُك بسهام الليل، فقال: والله ما لي بها طاقة، فخرج عنهم فاختار مكان سُرَّ من رأى، فبناها، واتَّخذها دارًا. [وفي روايةٍ أنَّهم لمَّا قالوا له: تحوَّل عنَّا، قال: سمعًا وطاعةً، ورأى الفتن واقعةً، فتحوَّل. قالوا: وكان قد ولد بالقاطول، فكانت نفسه تتوق إلى تلك الأماكن.] (¬4) وقال اليزيديُّ (¬5): وكان المعتصم قد بنى قصرًا ببغداد [بالميدان] (¬6)، فجلس فيه جلوسًا عامًّا لم يجلسه خليفة؛ جلس على سريرٍ من ذهبٍ مرصَّعٍ بالجواهر، وعلى رأسه التاجُ الذي فيه الدُّرَّة اليتيمة، وعن يمينه وشماله أسرَّة الأبَنوس بالذهب، ومماليكُه قيام على رأسه، وهم عن يمينه وشماله، وعليهم أقبيةُ الدِّيباج، وفي أوساطهم مناطقُ الذهب والفضَّة، فأنشده إسحاقُ بن إبراهيم المَوْصليّ شعرًا في صفة المجلس، إلَّا أنَّه افتتحه بقوله: [من الكامل] يا دارُ غيَّركِ البِلى ومحاكي ... يا ليتَ شِعْرِي ما الذي أبلاكي (¬7) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب): وإلا تحول. (¬3) في (ب) و (خ) و (ف): دراع. وهو تصحيف. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (ب): الترمذي. وهو خطأ. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) انظر كتاب الصناعتين للعسكري ص 452.

فتطيَّر (¬1) المعتصم، وتغامزَ الناس وعجبوا، كيف خفي هذا عن إسحاق، مع ذكائه وفطنته وفضله ومعرفته بمجالس الخلفاء وأغراضهم! قال اليزيديُّ: وانصرفنا، فوالله ما عاد أحدٌ منَّا إلى ذلك القصر [والمجلس] (¬2)، وانتقل المعتصم إلى سُرَّ من رأى، وخَرِب القصر. [واختلفوا في سَامرَّا، فذكرها الجوهريُّ فقال: وسَامَرَّا: المدينةُ التي بناها المعتصم، وفيها لغات؛ سامَرّا، وسُرَّ من رأى بضمِّ السين. (¬3) قلت: وقولهم: ساء من رأى (¬4) -من السُّوء- غلظٌ ظاهرٌ منهم، بعكس اللفظ والمعنى، فإنَّ هشامَ بن الكلبيّ رَوى عن أبيه قال: لمَّا خرج نوح من السفينة وتفرَّق أولادُه، جاء سام إلى هذه البقعة فأعجبته، فبنى بها مدينة، وقال: هذه وسط الدنيا. فقيل: سام رأى، أي: رآها فاختارَها، فلمَّا بناها المعتصم شقَّ على عسكره النقلةُ من بغداد، فلمَّا انتقلوا إليها أعجبتهم، فقالوا: سُرَّ من رأى. وقد اضطُرَّ البحتريُّ فقال في صَلْب بابك: [من الكامل] ونصبتَهُ علمًا بسامرَّاء (¬5) فهذه.] (¬6) وفيها قدم عُجيف بالزُّطِّ إلى بغداد في ذي الحجَّة، وكانوا قد طلبوا منه الأمان على أموالهم وأهاليهم فأعطاهم، وكانت عدَّتهم سبعةً وعشرين ألفًا؛ المقاتلة منهم اثنا عشر ألفًا، وجعلهم عُجيف في السفن، ثمَّ دخل بهم بغداد، وعليهم آلة الحرب والزينة والدبادب (¬7) والبوقات، فكان أولهم في القُفْص وآخرهم في الشَّمَّاسيَّة، فأقاموا في سفنهم ثلاثة أيَّام، ثم أرسلَهم المعتصمُ إلى خانقين، ثم نقلَهم إلى [الثغور إلى] (¬8) عين ¬

_ (¬1) في (ب) و (ف): فنظر. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) الصحاح (رأى). وفيها لغاتٌ أخرى. (¬4) قوله: ساء من رأى. إحدى اللغات التي ذكرها الجوهري، وحذفها المختصر. (¬5) ديوان البحتري 1/ 9. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) الدبادب جمع دبدبة، وهو شبه الطبل. المصباح المنير (دبب). (¬8) ما بين حاصرتين من (ب).

زَرْبَة، [فأقاموا بها]، فأغارت عليهم الروم، فاجتاحتهم، فلم يفلت منهم أحد. وقال الطبريُّ: دخل بهم عُجيف بغداد يوم عاشوراء سنة عشرين ومئتين، وكانت الزُّطُّ قد استولوا على طريق واسط وبغداد والبصرة، ومَنعوا التمر عن بغداد، حتى قال شاعرهم: [من البسيط] يا أهلَ بغدادَ موتوا دام غَيظكمُ ... شوقًا إلى تمرِ بَرْنيٍّ وشُهريزِ نحن الذين ضربناكم مجاهرةً ... قَسرًا وسُقناكم لمَوت المعاجيزِ لم تشكروا اللهَ نُعماهُ التي سلفت (¬1) ... ولم تحوطوا أياديه بتعزيزِ فاستنصروا الغيد (¬2) من أبناء دولتكم ... مِنَ العراق ومن بلخٍ وتوزيزِ (¬3) ومن شناسَ وأقسيمٍ ومن فرحٍ (¬4) ... المُعْلِمين بديباجٍ وإبريزِ يفري ببِيضٍ من الهنديِّ هامتَهم ... بنو بهيلة (¬5) من أبناء فيروزِ فوارسٌ حيلُها دُهْمٌ مودَّعةٌ (¬6) ... على الخراطيمِ منها والقراقيزِ (¬7) نحن الذين سقينا الحربَ دِرَّتَها ... وثقفتنا (¬8) مقاساة الكواكيزِ (¬9) ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): سلبت. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 10. (¬2) في (ف) وتاريخ الطبري: العبد، والمثبت من (خ). (¬3) في تاريخ الطبري: من يا زمان ومن بلجٍ ومن توز. وبلج حمّام بالبصرة، وتوز: بين مكة والكوفة. انظر معجم ما استعجم 1/ 324، ومعجم البلدان 5/ 479. (¬4) في تاريخ الطبري: ومن شناس وأفشين ومن فرج وشناس: بليدة من بلاد لكزان على طرف جبك شاهق جدًّا. لا طريق إليها إلا من أعلى الجبل. آثار البلاد وأخبار العباد ص 602. (¬5) في تاريخ الطبري: بهلة. (¬6) يقال ودّع زيد كلبه؛ إذا قلده الوَدَع، وفرسَهُ إذا رفّهَه، فكأنه أراد أن الخيل رُفِّهت بوضع الودع على خراطيمها. وانظر لسان العرب (ودع). (¬7) في تاريخ الطبري: والفراريز. (¬8) في (خ) و (ف): وتقفتنا. وفي تاريخ الطبري: ونقنقنا. ولعل المثبت هو الصواب. (¬9) كذا في (خ) و (ف): وفي تاريخ الطبري: الكواليز. والكواليز -كما في القاموس (كلز) - قومٌ يخرجون بالسلاح للماء، إذا تشاحوا عليه.

لنَسفعنَّكمُ سفعًا يَذِلُّ له ... ربُّ السرير ويشجا (¬1) صاحب الشيزِ (¬2) فابكوا على التمر أبكَى اللهُ عينكُم ... في كل أضحى وفي فطرٍ ونيروزِ من أبيات وفيها وجَّه المعتصمُ الأفشين -واسمه حيدر (¬3) بن كاوس- إلى البذِّ، وعقد له على الجبال وحربِ بابك الخُرَّمي، ووصله بألف درهم (¬4)، ويوم لا يركب خمسة آلاف درهم، وكان بابك من مدينة البذّ، فسار الأفشين إلى قتاله، فنزل بَرْزَند وبنى الحصون التي خرَّبها بابك فيما بين أردبيل وبَرْزَند، وخندق على نفسه، وبثَّ العساكرَ بينه وبين بابك. ذكر واقعةٍ كانت بينهما وسببه أنَّ المعتصم بعثَ بمالٍ مع بغا الكبير إلى الأفشين ليفرِّقه في الجند، فوصل إلى أَرْدَبيل، وبلغ بابك، فخرج ليقطعَ عليه الطريق، وبلغ الأفشين، فكتب إلى بغا بأنْ يُقيم بأردبيل حتى يأتيه أمره، وقال: أظهر أنَّك خارجٌ إلى بَرْزَند، وهيِّئ المال على الإبل، وسِرْ عن أردبيل عن فرسخين، ثمَّ ارجع في الليل إلى أردبيل. وكان مقصود الأفشين أنْ يَعلمَ بابك بخروج بغا فيقصدَه، وبلغ بابك خروجُ بغا من أردَبيل فقصدَه، وسار الأفشين في ذلك اليوم يريدُ أردبيل، ولم يعلم بابك بمسيره، وقد فاتَه المال، فنازل حصنًا للمسلمين، ووضِعَ له كرسيٌّ، وقعدَ يشرب الخمَر على عادته، وكان الهيثم -من أصحاب الأفشين- قد التجأ إلى هذا الحصن في أربع مئة فارس وست مئة راجل، وخندقَ عليه، فأرسل إليه بابك: خلِّ الحصن واخرج حتى أهدمَه، فلم يفعل، وكان الأفشين على أقل من فرسخٍ من الحصن، ولم يعلم به بابك، وبلغ الأفشين الخبرُ، فسار من ساعته، فرأى بابك على الحصن جالسًا على الكرسيِّ يشربُ الخمر، ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): ويسخا. (¬2) في تاريخ الطبري: التيز والشيز: هو خشب الأبَنُوس. (¬3) كذا ذكره المصنف، وفي تاريخ الطبري 9/ 11: خيذر. قال ابن خلكان في وفيات الأعيان 5/ 123: الأفشين بكسر الهمزة وفتحها، واسمه: خَيذَر، بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الذال المعجمة، وبعدها راء؛ وإنما قيدته لأنه يتصحف على كثير من الناس بـ: حيدر، بالحاء المهملة. انتهى. (¬4) كذا في (خ) و (ف) والصواب: بعشرة آلاف درهم في كلِّ يومٍ يركبُ فيه. انظر المنتظم 11/ 53.

وبين يديه الطبولُ والزمور والبغايا، فلم يتحرك بابك، واقتتلوا، وحمل الأفشين بنفسه، فقتل رجال بابك، وأفلت بابك وحده في نفرٍ يسير إلى مُوقان ثم عاد إلى البذِّ (¬1)، وبعث الأفشين بالرؤوس والأسارى إلى المعتصم (¬2). وفيها خرج المعتصم إلى القاطول -على ما قيل- وانتقل إلى سُرَّ من رأى [في سنة إحدى وعشرين ومئتين. وقيل: سنة اثنتين وعشرين ومئتين، ويقال: إنه اشترى مكان سُرَّ من رأى] بخمس مئة (¬3) درهم، وكان ديرًا فبناها. وسبب خروجه ما ذكرنا أنَّ مماليكه الأتراك آذَوا أهل بغداد وشوارعَها بإفساد حريمهم وتطرُّقهم إلى الدور والأموال، وكانوا جفاةً عجمًا يركبونَ الخيل ويركضون الدوابَّ في طرق بغداد وشوارعها، فيصدمون الرجال والنساء، فكان شطار بغداد يقتلونَهم غيلةً وينكسُونهم عن الدوابّ، وثارت بهم العامَّة، فصلى المعتصمُ يوم الفطر بالمصلَّى ورجع، فالتقاه شيخٌ فناداه: [يا أبا] إسحاق، فابتدره الجند ليضربوه، فأشار إليهم؛ كفُّوا، ثُمَّ قال للشيخ: ما لك؟ فقال: لا جزاك الله عن جوارنا خيرًا، أتيتنا بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا، فأيتمتَ لهم صبياننا، وقتلتَ رجالنا، وأرملتَ نساءنا، فوجمَ المعتصمُ ودخلَ داره، فلم يُرَ خارجًا (¬4) إلى مثل ذلك اليوم بعد سنة، فصلَّى بالناس العيد، وخرجَ من بغداد إلى القاطول ولم يعد إليها. وفيها غضبَ المعتصمُ على وزيره الفضل بن مروان، وأخذ منه عشرة آلاف ألف دينار، وأصل الفضل من البَرَدان، كان متَّصلًا برجلٍ من العمَّال، يكتب (¬5) له، ثم ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 7/ 16 والمنتظم 11/ 54 والكامل 6/ 451: أنَّ بابك بعث إلى البذّ فجاءَه في الليل عسكرٌ فيه رجَّالة. (¬2) خبر بعث الأفشين الرؤوس والأسارى لم أقف عليه، وفي هذا الخبر اختصارٌ مخِلٌّ، فانظره بتمامه في تاريخ الطبري 9/ 14 - 16. ومن قوله: والبصرة ومنعوا التمر عن بغداد ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) في (خ) و (ف): بخمس مئة ألف. وهو خطأ. والمثبت من (ب) وما بين معكوفين منها، وانظر تاريخ الطبري 9/ 17، والمنتظم 11/ 54. (¬4) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري 9/ 18، والكامل 6/ 452 - وما سلف بين حاصرتين منهما-: راكبًا. وهي الجادة. (¬5) في (خ) و (ف): فكتب. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 18، والمنتظم 11/ 55.

آدم بن أبي إياس

اتصل بيحيى الجُرْمقاني كاتب المعتصم، فكان يكتب بين يديه، فلما مات الجُرْمقاني صار الفضل موضعَه، فاستولى على المعتصم، وصار يكتبُ على لسانه ما أراد، والدواوينُ كلُّها إليه، وكان المعتصم يطلق للمغنِّي والملهي عطاءً، فلا ينفذُه الفضل، فأطلق يومًا لرجل يقال له إبراهيم الهَفْتيُّ عطاءً، فمطلَه شهرين، فداعب المعتصمُ الهَفْتيَّ يومًا وقال: كيف ترى ملكي وخلافتي، فقال: ما أنتَ خليفة، الخليفةُ الفضل بن مروان، أطلقتَ لي شيئًا فما أعطاني، وكذا يفعل بإطلاقاتك! فغضب المعتصم على الفضل واستأصله وأهلَ بيته، ثَمّ نفاه إلى السن -قريةٍ في طريق الموصل- وولَّى مكانه محمد بن عبد الملك الزيَّات، وكان بينهما عداوةٌ، وكان المعتصم يقول: الفضلُ عصى الله وأطاعني، فسلَّطني الله عليه. وفيها ظهر إبراهيم بن سيّار (¬1) النظَّام، فقرَّر مذهبَ الفلاسفة، وتكلَّم في القدر، وتبعه النَّظَام وجماعةٌ منهم أحمد بن حائط الأسواريّ وغيرهما، وكان قد طالعَ الفلاسفة (¬2)، فخلطها بكلام المعتزلة، وانفردَ عنهم بمسائل. وحجَّ بالناس صالح بن العبَّاس بن محمَّد بن عليّ. [فصل] وفيها توفي آدمُ بن أبي إياس [واسم أبي إياس] ناهية، [وقال البخاريُّ: هو آدم بن] (¬3) عبد الرحمن بن محمد، أبو الحسن العسقلانيّ، مولى أصله من خراسان (¬4)، ونشأ ببغداد، وطلبَ العلم، ورحل إلى البلاد؛ [الكوفة، والبصرة، والحجاز، والشام]، واستوطن عسقلان [فسمي العسقلاني]، وكان صالحًا، متمسِّكًا بالسنَّة، فاضلًا، من الأبدال الثقات. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): يسار. والمثبت من تاريخ بغداد 6/ 623، وتاريخ الإسلام 5/ 736 وغيرها، وسيُذكر قريبًا على الصواب في وفيات السنة الحادية والعشرين بعد المئتين. (¬2) كذا في (خ) و (ف). وفي العبارة خلط وتحريف، ولعلَّ صوابها: ... وتكلم في القدر، وتبعه جماعة منهم أحمد بن حائط والأسواري وغيرهما، وكان قد طالع كلام الفلاسفة. اهـ. وانظر تاريخ الإسلام 5/ 735 - 736. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬4) التاريخ الكبير 2/ 39، والتاريخ الصغير 2/ 342.

[ذكر الخطيب عن أبي علي المقدمي (¬1) قال: ] لما احتضر [آدم بن أبي إياس] ختم القرآن وهو مسجًّى، ثُمَّ قال: بحبِّي لك إلَّا رَفقتَ بي في هذا المصرَع، فلهذا اليوم كنتُ أؤمِّلُك، ثم قال: لا إله إلَّا الله، ثمَّ قضى [رحمه الله]. أسند الحديث عن خلقٍ كثير (¬2)، [منهم شعبة، والليثُ بن سعد، وحمَّاد بن سَلَمة، وإسماعيل بن عيَّاش]، وروى عنه البخاريُّ، [وأبو حاتم الرازيّ، ويعقوب بن سفيان الفسويّ، وأبو زرعة الدمشقيّ، وغيرهم]، وكان [يقرأ القرآنَ ويُقرِئه] (¬3)، ويستملي في مجلس شعبة ببغداد وهو قائم. [وروى الخطيب عن أبي بكر الأعْيَن قال (¬4): ] أتيتُ آدمَ بعسقلان فقلت له: عبدُ الله بن صالح كاتبُ الليث يُقرِئك السلام، فقال: لا سلَّم الله عليه، قلت: ولم؟ قال: لأنَّه قال: القرآن مخلوق، فقلت [له: أشهد عليه أنا وجماعةٌ] أنَّه قد ندم ورجع وأخبر الناس برجوعه، فقال: [إن كان الأمر كما تقول] فأقرئه مني السلام، فقلت: إنِّي استخرتُ الله أن أقصد بغداد (¬5)، فهل [لك] من حاجة؟ فقال: نعم، اقرأ على أحمد بن حنبل السلام وقل له: يقول لك آدم بن أبي إياس: اتَّقِ الله، ولا يستفزَّنك أحدٌ عن أمرك، فإنَّك مشرفٌ على الجنَّة، وقد عرفتَ حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "من أرادكم على معصيةٍ فلا تطيعوه" الحديث. [قال: ] فأتيتُ الإمامَ أحمد بن حنبل، فأعدتُ عليه ما قال، فقال: رحمه الله حيًّا وميتًا، فلقد أحسن النصيحة (¬6). [قلت: ] واتَّفقوا على صدق آدمَ وثقته وزهده وورعه، [وإنَّما رُكْن الذي حدَّث عنه آدم ضعيف، ضعَّفهُ النسائي (¬7)]، وكانت وفاته بعسقلان في جمادى الآخرة، [تمت ¬

_ (¬1) كذا في (ب) والمنتظم 11/ 57، وفي تاريخ بغداد 7/ 489، وصفة الصفوة 4/ 308، وتهذيب الكمال 2/ 305: المقدسي. (¬2) في (خ) و (ف): عن شعبة وخلق كثير. والمثبت من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): وكان يقرئ القرآن. والمثبت من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): وقال أبو بكر بن الأعين. والمثبت من (ب). (¬5) في (خ) و (ف): إني أريد بغداد. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) تاريخ بغداد 7/ 488، والحديث المذكور أخرج نحوه أحمد (11639)، وابن ماجه (2863)، وابن حبان (1552) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا بلفظ: "من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه". (¬7) الضعفاء والمتروكين ص 42. واسمه رُكْن بن عبد الله، وانظر ترجمته في "لسان الميزان" 3/ 475.

خلف بن أيوب

ترجمة آدم بن أبي إياس، والحمد لله وحده] (¬1). خلف بن أيوب أبو سعيد العامريُّ البلخيُّ (¬2). الفقيه الحنفي، مفتي أهل بلخ وخُراسان وزاهدهم. أخذ الفقهَ عن أبي يوسف وابن أبي ليلى، والزهدَ عن إبراهيم بن الأدهم، وانتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة، وكان إمامًا فاضلًا ورعًا عابدًا. قال أبو عمرو محمد بن علي البيكندي (¬3): سمعتُ مشايخنا يذكرون أنَّ السبب (¬4) لثبات ملك آل سامان أنَّ (¬5) أسدَ بن نوح خرج إلى المعتصم، وكان حسنَ المنظر شجاعًا عاقلًا فصيحًا، فعجبَ المعتصمُ من حسنه وجماله وشجاعته، فقال له: هل في أهل بيتك أشجعُ منك؟ قال: لا، قال: ولا أعقل؟ قال: لا، قال: فلم يعجب المعتصم ذلك منه، فأعاد عليه الكلام وهو يجيبه بهذا الجواب، فغضب المعتصم وقال: ولم؟ قال أسد: لأنَّه لم يطأ أحدٌ من أهل بيتي بساطَ أمير المؤمنين ولا شاهد طلعتَه، فاستحسنَ المعتصمُ ذلك منه، وخيَّره الأعمال بكور خراسان، فاختار ولايةَ بلخ، فكتب له عهده عليها، فلمَّا قدمها سألَ عن أعلم أهلها وأزهدِهم، فدُلَّ على خلف بن أيوب، قالوا: وإنَّه يتجنَّبُ السلطان، ولا يخرج إلَّا يوم الجمعة، فرصدَه أسد، وإذا به قد خرج إلى الجامع، فلمَّا رآه أسد ترجَّل عن دابَّته ومشى إليه، فلمَّا رآه خلف قعدَ مكانه، وغطَّى وجهَه بردائه، فسلَّم عليه أسد، فردَّ ردًّا ضعيفًا ولم يرفع رأسه، فرفع أسد رأسَه إلى السماء وقال: اللهمَّ إنَّ هذا العبد الصالح يُبغِضنا فيك، ونحن نحبُّه فيك. ثم ركب ¬

_ (¬1) ما سلف بين حاصرتين في ترجمة آدم من (ب). وانظر ترجمته أيضًا في "المنتظم"11/ 57، وتهذيب الكمال 2/ 301، وتاريخ الإسلام 5/ 269. (¬2) تابع المصنف جده في إيراده في هذه السنة، وذكر الذهبي في السير 9/ 543، وتاريخ الإسلام 5/ 70 أنَّ وفاته كانت سنة خمس ومئتين، وروى الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب 1/ 545 أنه توفي سنة 215، ثم نقل قول القرّاب: مات سنة 205 هـ. ولم ترد ترجمته في (ب). (¬3) كذا في (خ) ومطبوع المنتظم 11/ 58 وفي (ف): الكندري. وفي سير أعلام النبلاء 9/ 542، وتاريخ الإسلام 5/ 69: البيكندي. ولعله الصواب. (¬4) في (خ) و (ف): الثبت وهو تحريف. (¬5) في (خ) و (ف): بن. والتصويب من المصادر.

سليمان بن داود

ومضى، ومرض بعد ذلك خلف، فاستأذنَ عليه أسد، فلمَّا دخل جلس عند رأسه، وقال: هل من حاجة؟ قال: نعم، لا تعودني، وإذا متُّ لا تصلي عليَّ [وعليك السَّواد] (¬1)، فلمَّا توفي خلف جاء أسد يمشي راجلًا في جنازته، ونزع السَّواد عنه، وصلى عليه، فلمَّا كان في الليل سمع صوتًا -وفي رواية أنَّه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا أسد، ثبَّت الله ملككَ وملكَ بنيك بإجلالك وتواضعك لخلف بن أيوب (¬2). سليمان بن داود ابن علي بن عبد الله بن العباس، أبو أيوب الهاشميُّ. مات أبوه وأمُّه حاملٌ به (¬3). وكان جوادًا صالحًا عاقلًا زاهدًا عفيفًا ورعًا. قال الشافعيُّ: ما رأيتُ أعقل من رجلين؛ أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشميّ. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: لو قيل: اختر للأمَّة رجلًا فيستخلف عليهم، لاخترتُ سليمان بن داود. وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل: في سنة تسع عشرة ومئتين. سمع سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره، واتَّفقوا على صدقه وثقته. [وفيها توفي] فتح بن سعيد المَوْصلي أبو نصر الكاري، [وكان من قريةٍ شرقي دجلة من أعمال الموصل، وكان] من أقران ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "المنتظم" 11/ 58، و"سير أعلام النبلاء" 9/ 543، و"تاريخ الإسلام" 5/ 70. (¬2) قال الذهبي في السير 9/ 543: هذه حكاية غريبة، فإن صحَّت فلعل وفادة أسدٍ على المأمون، حتى يستقيم ذلك؛ فإن خلفًا مات في أول شهر رمضان، سنة خمس ومئتين. اهـ. وانظر تاريخ الإسلام 5/ 70. وانظر ترجمته في المصادر المذكورة، وفي تهذيب الكمال 8/ 273. (¬3) كذا في (خ) و (ف). وفيه اختصار مخلّ. فاسم المترجم: سليمان بن داود بن داود بن علي ... فسقط من نسبه جده داود، وهو الذي توفي وابنه حمل. انظر تاريخ بغداد 10/ 41، والمنتظم 11/ 59. ولم ترد ترجمته في (ب).

بشر [بن الحارث] الحافي وسريّ السقطي، كبير الشأن في علم المعاملات والورع، [ويُحكى عنه من الحكايات من جنس ما حكينا عن فتح الموصلي الذي ذكرناه في سنة سبعين ومئة. وأنبأنا جدِّي رحمه الله عن محمَّد بن أبي منصور بإسناده إلى] إبراهيم (¬1) بن موسى يقول: سمعت فتحًا في يوم عيد، [وقد] رأى على الناس الطيالسَ والعمائم، فقال: يا إبراهيم إنَّما ترى ثوبًا يبلى، وجسدًا يأكله الدود غدًا، هؤلاء قومٌ أنفقوا خزائنهم على بطونهم، ويَقْدُمون (¬2) غدًا على ربهم مفاليس (¬3). [وروى أبو نعيم الأصفهاني عن] عمران بن موسى الطَّرَسُوسيّ قال: مرَّ فتحٌ بصبيين، مع أحدهما كِسرةٌ عليها كامَخٌ، ومع الآخر كِسرةٌ عليها عسل، فقال صاحب الكامخ لصاحب العسل: أطعمني من عسلك، فقال: إن صرتَ لي كلبًا أطعمتكُ، فقال: نعم، فجعل في عنقه حبلًا وجعل يقوده [ويضربه] ويقول [له]: انبح انبح. فقال له فتح [الموصلي]: لو قنعتَ بكامَخك ما صرتَ كلبًا له، ثم قال: هكذا الدنيا (¬4). [وذكر ابنُ أبي الدنيا أنَّ فتحًا جاء] (¬5) إلى بيت صديقٍ له يقال له: عيسى التمَّار، فقال لجاريته: أخرجي لي كيس أخي، فأخرجَتْهُ، فأخذ منه درهمين ومضى، وجاء عيسى، قال: فأخبرته، فقال: إنْ كنتِ صادقةً فأنت حرَّةٌ لوجه الله، فعَتَقت (¬6). [وأنبأنا مشايخنا عن شَهدة بنت أحمد الكاتبة بإسنادها إلى عبد الله بن الفرج العابد قال: ] (¬7) كان بالمَوْصل رجلٌ نصرانيٌّ يقال له: أبو إسماعيل، مرَّ ليلةً برجلٍ يقرأ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال إبراهيم ... (¬2) في (ب): وقد يقدمون. (¬3) المنتظم 2/ 116. (¬4) حلية الأولياء 8/ 293. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وجاء فتح. (¬6) الإخوان لابن أبي الدنيا (162). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال عبد الله بن الفرج العابد.

فأسلم [النصرانيُّ] بعد أن صرخ وغُشِيَ عليه، وصحبَ فتحًا الموصليَّ، وبكى حتى ذهبت إحدى عينيه وعَشِيَ من الأخرى، فقيل له ذات يوم: حدَّثنا عن فتح، فبكى وقال: كان والله كهيئة الروحانيين، قلبه معلَّقٌ بما هنالك، لقد خرجَ ذات يومٍ في عيد ثم رجع، فرأى الدخان يخرج من نواحي المدينة، وشمَّ روائح القُتَار (¬1)، فبكى وقال: تقرَّب إليك المتقرِّبون بقرابينهم، وأنا أتقرَّبُ إليك بحزني (¬2) أيهُّا المحبوب، فليت شعري ما أنت فاعلٌ بي، ثمَّ غشي عليه فأفاق، فأقام أيَّامًا ومات (¬3). [وروى الخطيب بإسناده إلى بشر الحافي قال: ] (¬4) بلغني أنَّ بنتًا لفتح الموصليِّ عريت، فقيل له: ألا تطلبُ من يكسوها؟ ! فقال: أدعها (¬5) لعلَّ الله [أن] يَرى عُريها وصبري عليها، قال: وكان الشتاء إذا جاء جمع عياله، ومدَّ عليهم كساءه ثم قال: اللهمَّ إنَّك أفقرتني وأفقرتَ عيالي، وجوَّعْتَني وجوَّعتَ عيالي، وأعريتَني وأعريتَ عيالي، فبأيِّ وسيلةٍ توسَّلتُ إليك؟ وإنَّما تفعلُ هذا بأوليائك وأحبائك، فهل أنا منهم فأفرح (¬6)؟ [وروى ابن جهضم بإسناده إلى إبراهيم بن نوح قال: ] (¬7) رجع فتحٌ إلى أهله بعد العتمة، وكان صائمًا، فقال: عشُّوني، قالوا. ما عندنا شيء، قال: فما بالكم جلوسٌ في الظلمة، قالوا: ما عندنا زيتٌ، فجلس يبكي من الفرح ويقول: إلهي مثلي يُترَك بغير عَشاء ولا سراج، بأيِّ يدٍ كانت مني؟ فما زال يبكي إلى الصباح (¬8). وقال بشر الحافي: كان فتحٌ يتجزَّأ بفَلْسٍ في اليوم، يشتري به نخالةً فيتقوَّتُ بها (¬9). وروى أبو نعيم عنه أنَّه صُدِع، فقال: يا ربّ، ابتليتَني ببلاء الأنبياء، فشُكْرُ هذا أن ¬

_ (¬1) القتار: ريحُ الشواء. انظر اللسان (قتر). (¬2) في (ب): بحرقي. (¬3) صفة الصفوة 4/ 187، وكتاب التوابين (150). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال بشر الحافي. (¬5) في (خ) و (ف): دعها. والمثبت من (ب). (¬6) تاريخ بغداد 14/ 361. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال إبراهيم بن نوح. (¬8) شعب الإيمان للبيهقي (9646)، وصفة الصفوة 4/ 184. (¬9) صفة الصفوة 4/ 184، وقوله: يتجزأ، يعني: يكتفي. مختار الصحاح (جزأ).

أصلِّيَ الليلةَ أربع مئة ركعة (¬1). وكان فتحٌ يزور بشرًا من الموصل، [وروى الخطيب عن أبي جعفر (¬2) ابن أخت بشر قال: ] (¬3) كنت يومًا واقفًا بباب خالي بشر، وإذا بشيخٍ ثائر الرأس ملتفٍّ بعَباء، فقال لي: بشرٌ هاهنا؟ قلت: نعم، قال: ادخل فاستأذن لي عليه، فدخلت فقلت: يا خالي، بالباب شيخ [من] صفته كذا وكذا، فخرج بشرٌ مسرعًا، فصافحه واعتنقَه، فقال له الشيخ: يا أبا نصر، ذكرتُك البارحة فاشتقتُ إلى لقائك. قال: فدفع إليَّ خالي درهمًا وقال: خذ بأربعة دوانيق خبزًا وبدانقين تمرًا، [فقال الشيخ: يكون سهريزًا (¬4)، فجئته به]، فقال الشيخ: قل له يأكل معنا، فقال: كل [معنا، ، فأكلتُ معهم، فلمَّا أكل أخذ ما فضل في طرف العباء وقام، فخرج معه خالي يودِّعه [أو يشيِّعه، إلى باب حَرْب، فلمَّا رجع قال: يا بنيَّ، تدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا فتح المَوْصليّ، جاءني من الموصل الساعة. [وفي روايةٍ قال بشر: ] (¬5) أتدري لم حمل باقي الطعام؟ قلت: لا، قال: فإذا صحَّ التوكلُ لم يضرَّ الحملُ. وذكر ابن خميس [في "المناقب"] (¬6) أن فتحًا بكى الدم، [وكذا روى أبو الحسن عليُّ بن جهضم، عن بعض أصحاب فتح قال: ] (¬7) دخلت عليه يومًا [وهو يبكي]، وقد خالط دموعَه صفرةٌ، فقلت له: بالله عليك، بكيت الدم؟ فقال: لولا أنَّك حلفتني بالله العظيم ما أخبرتك، نعم بكيتُ الدم، قلت: فعلى ماذا [بكيت الدموع؟ وعلى ماذا] بكيت الدم؟ فقال: بكيتُ الدموع على تخلُّفي عن واجب حقِّ الله تعالى، وبكيت الدَّم خوفًا أن تكون الدموع ما صحَّت لي. قال الرجل: فرأيت فتحًا في المنام بعد موته، ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 5/ 292. (¬2) كذا وقعت كنيته في (خ) و (ف) و (ب)، وصفة الصفوة 4/ 184، ووقع في "حلية الأولياء" 8/ 294: أبو حفص. والصواب -كما في تاريخ بغداد 14/ 360، 16/ 603 (الكنى)، والمنتظم 11/ 61 - : أبو نصر. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال أبو جعفر ابن أخت بشر. (¬4) تمر سهريز، بالضم والكسر، نوع من التمر. القاموس. (سهرز). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ثم قال. (¬6) اسمه مناقب الأبرار ومحاسن الأخيار، وهو على طرز الرسالة القشيرية. انظر كشف الظنون 2/ 1835، والأعلام 2/ 261. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال بعض أصحاب فتح.

أبو نعيم الفضل بن دكين

فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: فما صنع ربُّك في دموعك؟ فقال: قال لي: يا فتح، ماذا أردت ببكائك الدمع والدم؟ فوعزتي لقد صعد إليَّ حافظاك أربعينَ سنة بصحيفتك (¬1) ما فيها خطيئة (¬2). [ذكر طرف من كلامه: حكى عنه في "المناقب" وغيرها أنَّه قال: ] (¬3) صحبتُ ثلاثينَ شيخًا كانوا يُعدُّون من الأبدال، وكلُّهم أوصاني عند فراقي له: إيَّاك ومعاشرةَ الأحداث. وقال: من اشتاق إلى المحبوب زهدَ فيما سواه. وقال: أليس الإنسان إذا امتنع من الطعام والشراب يموت؟ قالوا: بلى، قال: وكذلك القلب إذا امتنعَ من الذِّكر مات. وقال: أليس الله تعالى يقول: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]؟ فأيُّ قلب يطمئن إليها بعد هذا؟ ! [وحكى في "المناقب" عن سالم الحداد -وكان من الأبدال- قال: ] (¬4) جاءني فتحٌ يومًا ومعه مِسْحَاةٌ، فقال لي: يا سالم بعها (¬5) فليس عند الصبيان شيءٌ، فنظرت إليه نظرةً منكرةً وقلت: يا فتح، أتدري من شكوت (¬6)؟ فمرَّ باكيًا ولم يَعد إليَّ ولا ذكر المسحاة. أسند فتحٌ عن عيسى بن يونس وأقرانه، واشتغلَ بالعبادة عن الرواية. [انتهت ترجمة فتح]. أبو نُعَيم الفضل بن دُكَين ودُكَين اسمه عمرو بن حماد بن زهير بن درهم، مولى آل (¬7) طلحة بن عبد الله التيميّ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وصحيفتك. والمثبت من (ب) وما سلف بين حاصرتين منها. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 234، وصفة الصفوة 4/ 189. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وجاء مكانها في (خ) و (ف): وقال فتح. وانظر مناقب الأبرار 1/ 234. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال سالم الحداد وكان من الأبدال. (¬5) في (خ) و (ف): دعها، والمثبت من (ب)، ومناقب الأبرار 1/ 236. (¬6) في (ف): شكرت، وفي (ب): سكون. (¬7) في (خ) و (ف): أبي. والتصويب من المصادر. ولم ترد ترجمة الفضل بن دكين في (ب).

- رضي الله عنه -، الكوفيُّ الإمام الحافظ، من الطبقة السابعة. ولد سنة ثلاثين ومئة، وقيل: سنة تسع وعشرين. وبرع في العلم، وسمع الأئمَّة، وهو أحد العلماء المشهورين بعلم الحديث والمتقدِّمين فيه. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: قام أبو نعيم لله بأمرٍ لم يقم به أحد. وكان قد امتحن بالكوفة على أنْ يقولَ: القرآنُ مخلوق، فقال: أدركتُ بالكوفة سبع مئة شيخ منهم الأعمش فمن (¬1) دونه يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، والله إنَّ عنقي عليَّ أهونُ من زرِّي هذا، ثم قطع زرَّه فألقاه. وقال عبد الصَّمد بن المهتدي (¬2): لمَّا دخل المأمون بغداد، نادى بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأنَّ الشيوخَ كانوا يَضْرِبون ويَحْبِسون ببغداد، فنظر إلى جنديِّ قد أدخل يديه بين فَخِذي امرأة، فزجره أبو نعيم، فحمله إلى صاحب الشرطة، فأخبر المأمونَ، فأحضره عنده، قال أبو نُعيم: فدخلتُ عليه وقد صلَّى الغداة، وهو جالسٌ يسبِّح، فسلَّمتُ عليه، فردَّ ردّا خفيًّا شبه الواجد، ودعا بَطسْتٍ وإبريقٍ، وقال: توضَّأ، فتوضأت على ما روى عبدُ خير عن عليٍّ - عليه السلام -يعني ثلاثًا ثلاثًا- ثمَّ دعا بحصير، فصلَّيت ركعتين، فقال: اقعد، فقعدت، فقال: ما تقول في رجلٍ مات وخلَّف أبوين؟ قلت: لأمِّه الثلث، وما بقي لأبيه، قال: فإن خلَّف [أبويه وأخاه؟ قلت: المسألة بحالها، وسقط الأخُ. قال: فإن خلَّف] (¬3) أبوين وأخوين؟ قلت: المسألة بحالها ويسقط الأخوان، قال: في قول الناس كلِّهم؟ قلت: لا؛ فإنَّ جدَّك ابن عباس ما حَجب الأمَّ عن الثلث إلَّا بثلاثة إخوة، فقال: يا هذا من نهى مثلك أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إنَّما نهينا أقوامًا يجعلونَ المعروفَ منكرًا. ثم خرجت. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فما. والمثبت من تاريخ بغداد 14/ 310، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 481، والمنتظم 11/ 47. (¬2) في (خ) و (ف): المهدي. والتصويب من تاريخ بغداد 14/ 311، وسير أعلام النبلاء 10/ 150، وتاريخ الإسلام 5/ 423. (¬3) ما بين حاصرتين من سير أعلام النبلاء 10/ 150، وتاريخ الإسلام 5/ 424. ونقل الذهبي فيهما عن "مرآة الزمان". وأخرج القصة الخطيب في تاريخ بغداد 14/ 311.

قال عبد الله بن الصلت: كنت عند أبي نُعيم فجاءه ابنه يبكي، فقال له: ما لك؟ فقال: الناس يقولون: إنَّك متشيِّع فأنشدَه: [من الطويل] وما زال بي حبَّيْكِ (¬1) حتى كأنَّني ... بِرَجْعِ جواب السَّائلي عنه (¬2) أعجمُ لأسلَمَ من قولِ الوشاة وتسلمي ... سلمتِ وهل حيٌّ من (¬3) الناس يسلمُ (¬4) وقال: سمعتُ الحسنَ بن صالح يقول: سمعتُ جعفرَ بن محمد يقول: حُبُّ عليٍّ عبادة، وأفضلُ العبادة ما كُتِم. وقال أبو نعيم: كثر تعجُّبي من استشهاد عائشة - رضي الله عنها - بقول لبيد: [من الكامل] ذهب الذين يُعَاشُ في أكنافهم (¬5) ولكنَّ أبا نعيم يقول: [من الخفيف] ذهبَ النَّاسُ فاستقلُّوا وصرنَا ... خلفًا في أراذلِ النسناسِ في أُناسٍ نعدُّهم من عَديدٍ ... فإذا فُتِّشُوا فليسوا بناسِ كلَّما جئتُ أبتغي النيلَ منهم ... بَادروني قبل السؤال بياسِ وبَكَوا لي حتى تمنَّيت أنِّي ... مفلتًا منهم فرأسًا براسِ وتوفي في هذه السنة. وقيل: سنةَ ثمانية عشرة (¬6)، وقيل: سنة تسع عشرة، ليلة الثلاثاء لانسلاخ شعبان بالكوفة، طُعِن في عنقه ويده وظهر به وَرْشكين (¬7)، وقيل: سنة ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): حبك. بدل: حبيك. ووقع في تاريخ بغداد 14/ 312، والمنتظم 11/ 47: وما زال كتمانيك. وذكره الخطيب بلفظ: بي حبيك. في سياق قصة أخرى، وفيها أنه تمثل بقول مطيع بن أبي إياس. والكلام الذي سيذكره المصنف عقب الأبيات في سياق تلك القصة أيضًا. (¬2) في المصادر: عنك. (¬3) في المصادر: على. (¬4) البيتان في الأغاني 15/ 172، 177 منسوبان لنصيب بن رباح. (¬5) صدر بيت للبيد، وهو في ديوانه ص 153 وعجزه: وبقيت في خلف كجلد الأجرب (¬6) هو قول محمد بن المثنى. وغلَّطه الذهبي في تاريخ الإسلام 5/ 424. وقال: إنه مخالفٌ للجمهور. (¬7) هو حمو وورم في الجلد. تكملة المعاجم العربية لدوزي 11/ 125 (ورشكين).

سبع عشرة ومئتين. وحكى الخطيب عنه أنَّه خرجَ على أصحابه فقال لابن المحاضر بن المُوَرِّع: رأيتُ أباك في النوم، فأعطاني درهمين ونصفًا، فأوِّلوها، فقال: خيرًا إن شاء الله ما رأيت، فقال: أمَّا أنا فقد أولتُهما أنِّي أعيشُ يومين ونصفًا، أو سنتين ونصفًا، ثم ألحقُ به، فعاش سنتين ونصفًا (¬1). أسند عن خلقٍ كثير منهم الأعمش والثوريُّ، وعنده من حديثه أربعةُ آلاف حديث. وروى عنه الأئمَّة، والإمام أحمد بن حنبل، وابنُ المبارك، وابنُ معين، وإسحاقُ بن راهويه، والبخاريُّ، وخلق كثير، واتَّفقوا على صدقه وثقته وورعه، فكان الإمامُ أحمد رحمه الله يقول: أبو نعيمٍ يُزاحمُ به ابن عيينة، وهو عندنا أثبتُ من وكيع، ويعرفُ الصدق في حديثه (¬2). وكان وكيعٌ يقول: إذا وافقني ذاك الأحولُ في الحديث -يعني أبا نعيم- ما أبالي من خالفني (¬3). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 14/ 319. (¬2) انظر تاريخ بغداد 14/ 309، وتهذيب الكمال 23/ 205، وسير أعلام النبلاء 10/ 155. (¬3) تاريخ بغداد 14/ 313، 314.

السنة الحادية والعشرون بعد المئتين

السنة الحادية والعشرون بعد المئتين فيها كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين بابك وبغا الكبير، وذلك لأنَّ بغا لمَّا قدم بالمال على الأفشين خرجَ بغير أمره يقصد البذَّ قرية بابك، والأفشين على حاله ببرزند (¬1)، وبابك غائب عن البذ فدخله بغا وأقام به يومًا، فرجعَ عليه عسكرُ بابك فقتلوا معظمَ أصحابه وهزموه واستباحوا عسكره، فأقام ببعض الأماكن، وأرسل إلى الأفشين يستمدُّه، فقال: خالفَ أمري، ولم يخبرك بخروجه (¬2)، فجهَّز إليه جيشًا مع أخيه الفضل بن كاوس وواعدَه وقتًا بعينه يلتقيه فيه، وسار الفضْل إلى بغا، وخرج الأفشين بعده، والتقَوا في الوقت الذي عيَّنه، وجاءهم بابك فالتقوا، فظهر عليه الأفشين، فهزمه وغنمَ عسكره وخيامه، وانهزم بابك. وقيل: إنَّ بغا لم يحضر هذه الوقعة، اختلفَ مع الأفشين في الوقت والمكان (¬3). [قال الطبريُّ: وفي هذه السنة انتقل المعتصم إلى سُرَّ من رأى (¬4). وقد حكينا عن الصُّوليّ أنَّه قال: كان ذلك في سنة عشرين ومئتين (¬5).] (¬6) وحجَّ بالناس محمَّدُ بن داود بن عيسى بن موسى بن محمَّد بن علي، وهو أميرُ مكَّة. [فصل] وفيها توفي إبراهيمُ بن شمَّاس أبو إسحاق السمرقنديّ، كان عالمًا زاهدًا ورعًا ثبتًا ثقةً شجاعًا بطلًا مبارزًا عظيم الهامة. [حكى الخطيب عن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه أنه قال: ] (¬7) كتب إليَّ ¬

_ (¬1) في (خ): برزند، وفي (ف): بوريد. ولعلَّ المثبت هو الصواب. وانظر تاريخ الطبري 9/ 23 - 24. وبَرْزَند بلد من نواحي إرمينية، أول من عمرها الأَفشين وجعلها معسكرًا له، وكانت من قبله خرابة. معجم البلدان 1/ 382. (¬2) كذا في (خ) و (ف)! . (¬3) تاريخ الطبري 9/ 23، والمنتظم 11/ 64، والكامل لابن الأثير 6/ 456. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 17 لكن في أحداث سنة عشرين ومئتين. (¬5) ص 243 من هذا الجزء. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، ولم تذكر فيها تفاصيل وقعة بابك وبغا الكبير. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): قال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه.

إبراهيم بن سيار

[بعض، أصحابنا أنَّه أوصى بمئة ألف يُشتَرى بها أُسارى من الكفار، فاشتُري مئتي أسيرٍ من المسلمين، ثمَّ قتله الترك، فانظر (¬1) بماذا خُتِم له. وكان يغزو التركَ من وراء النهر، و [اختلفوا في مقتلِه، فقيل: إنَّه] خرج من سمرقند غازيًا، فالتقاه الترك فقتلوه في المحرَّم من هذه السنة. وقيل: قتلوه وهو خارجٌ من ضيعةٍ له، ولم يشعر بهم، ولم يعرفوه، وذلك [خارج سمرقند. وقال الدارمي: كان ذلك] في سنة عشرين ومئتين. [وقال الخطيب: ورد بغداد و] حدَّث [بها] عن [إسماعيل بن عيَّاش، ومسلم بن خالد الزَّنجيّ، و] أبي إسحاق الفزاري، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، [وسفيان بن عيينة، ] وغيرهم، ورَوى عنه الإمامُ أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، [وأبو خيثمة، وعباس الدوريُّ، وداود بن رُشَيد، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأحمد بن علي البَرْبَهاريّ، في آخرين.] (¬2) إبراهيم بن سيَّار أبو إسحاق البصري، المعروف بالنَّظَّام، قال: العلمُ شيءٌ لا يعطيكَ بعضَه حتى تعطيه كلَّك، فأنت من إعطائِه لك البعضَ على خطر. ومن شعره: [من السريع] وشادنٌ ينطق بالطَّرفِ ... يقصر عنه مُنتهى الوصفِ رقَّ فلو بزَّت سرابيلُه ... علقه الجوُّ من اللُّطفِ يجرحه اللحْظُ بتكراره ... ويشتكي الإيماء بالطَّرفِ أفديه من مُغرىً بما سَاءني ... كأنَّه يَعلمُ ما أخفي (¬3) أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي الحداد. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فانظروا. والمثبت من (ب) وهو الموافق لما في تاريخ بغداد 7/ 7. (¬2) في (خ) و (ف): وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وغيره. والمثبت من (ب) وما سلف بين حاصرتين منها. وانظر ترجمته في المنتظم 11/ 66، وتاريخ الإسلام 5/ 518. (¬3) تاريخ بغداد 6/ 623، والمنتظم 11/ 66 وهذه الترجمة لم ترد في (ب).

عيسى بن أبان

[نزل بغداد، و] حدَّث [بها] عن حماد بن زيد وغيره. وأسندَ الخطيبُ إليه إلى أنس بن مالك أنَّ غلامًا مَن اليهود كان يخدمُ (¬1) النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فمرض، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودُه وهو في الموت، فدعاه إلى الإسلام، وأبوه عند رأسه، فنظر الغلامُ إلى أبيه، فقال له أبوه: أطعْ أبا القاسم، فأسلمَ ومات، فخرجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "الحمدُ لله الذي أنقذه بي من النار" (¬2). وكان أحمدُ صدوقًا ثقةً. عيسى بن أبان ابن صَدَقة، أبو موسى القاضي الحنفي، كان سخيًّا جدًّا، وكان يقول: والله لو أُتيتُ برجلٍ يفعل في ماله كفعلي لحجرتُ عليه. وعن محمد بن الخليل عن أبيه صاحب سفيان الثوري قال: كنتُ بالبصرة، فاختصم رجلٌ مسلمٌ ويهوديٌّ عند القاضي عيسى بن أبان، وكان يرى رأي القوم، فوجبت اليمينُ على المسلم، فقال له القاضي: قل: والله الذي لا إله إلا هو، فقال اليهودي: حلِّفه بالخالق، لا تحلِّفه بالمخلوق؛ لأنَّ "الله الذي لا إله إلا هو" في القرآن، وأنتم تَزعمون أنَّه مخلوق. فتحيَّر عيسى عند ذلك، وقال: قومَا حتى أنظرَ في أمركما. أسند عن هُشيم وغيره، وروى عنه الحسنُ بن سلَّام وغيره، وكان صدوقًا ثقةً (¬3). عاصم بن عليّ ابن عاصم بن صهيب، مولى قَريبة بنت محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، أبو الحسن الواسطيّ. ¬

_ (¬1) نص العبارة في (ب): وهو الذي روى حديث اليهود الذي كان يخدم ... (¬2) تاريخ بغداد 5/ 228 من طريق أحمد بن داود (صاحب الترجمة) عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس - رضي الله عنه -. والحديث أخرجه أيضًا البخاري (1356) عن سليمان بن حرب عن حماد به، وأحمد (12796) عن مؤمَّل عن حماد به. (¬3) تاريخ بغداد 12/ 479، والمنتظم 11/ 67، وسير أعلام النبلاء 10/ 440، وتاريخ الإسلام 5/ 651. ولم ترد ترجمته في (ب).

محمود بن الحسن الوراق

قدم بغداد وحدَّث بها، وكان يحضرُ مجلسَه خلقٌ كثيرٌ لا يُحصَون. وقال محمد بن سويد الطحَّان: كنَّا عند عاصم، ومعنا القاسمُ بن سَلّام وإبراهيم بن أبي الليث، والإمامُ أحمد بن حنبل يُضرَبُ في ذلك اليوم، فجعل عاصمٌ يقول: [ألا رجلٌ يقوم معي فنأتي هذا الرجل فنكلِّمه؟ قال: فما يجيبه أحدٌ، قال: فقال إبراهيم بن أبي الليث: ] (¬1) يا أبا الحسين، أنا أقومُ معك، فصاح عاصم: يا غلام خُفِّي، فقال إبراهيم: امهل حتى أبلُغَ إلى بناتي فأوصيهنَّ، فظننَّا أنَّه ذهبَ يتحنَّط ويتكفَّن، ثم جاء فقال عاصم: يا غلام خُفِّي، فقال له إبراهيم: يا أبا الحسين إني ذهبت إلى بناتي فبكين. قال الخطيب: وجاء كتابُ ابنتَي عاصم من واسط إليه يقولان: يا أبانا بَلَغنا أنَّ هذا الرجل أَخذ أحمدَ بن حنبل وضربَه بالسياط على أن يقول: القرآن مخلوق، فاتَّقِ الله في نفسك، ولا تجبه إن سألك، فوالله لأن يأتينا نعيُك أحبُّ إلينا من أن يأتينا أنَّك أجبتَه إلى ذلك. توفي عاصم بواسط يوم الاثنين منتصف رجب، وصلَّى عليه المُطَّلبُ بن فَهْم. روى عاصم عن شعبة وغيره، وروى عنه الإمام أحمد رحمة الله عليه والبخاريُّ في "صحيحه" وغيرهما، وكان ثقةً صدوقًا، وقال ابنُ معين: عاصمٌ سيِّد المسلمين (¬2)، ورُويَ أنَّه ضعَّفه؛ لأنَّه كان يحدِّثُ من حفظه، فوقعَ الخطأ في حديثه (¬3). [وفيها توفي] محمود بن الحسن الورَّاق كان نخَّاسًا يبيع الجواري والغلمان، وكان شاعرًا فصيحًا، [وأكثر شعره في الزهد والأدب والمعاني اللطيفة، ورَوى ابن أبي الدنيا مقطَّعاتٍ من شعره، فقال الخطيب بإسناده إلى أحمد بن جعفر الجَوْزيّ (¬4) قال: قال: أبو بكر بن أبي الدنيا (¬5): أنشد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 14/ 172. (¬2) في (خ) و (ف): سيد المرسلين، وهو تحريف قبيح. (¬3) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 9/ 318، وتاريخ بغداد 14/ 170، وتهذيب الكمال 13/ 508، وسير أعلام النبلاء 9/ 262، وتاريخ الإسلام 5/ 590. ولم ترد ترجمته في (ب). (¬4) كذا في (ب) وتمام اسمه: أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 15/ 397، وانظر توضيح المشتبه 2/ 521. (¬5) في الحلم (27).

محمود الورّاق لنفسه: ] (¬1) [من الوافر] رجعتُ إلى السفيه بفضل حلمي (¬2) ... فكان الحِلمُ لي عنه لجَاما فظنَّ بي السفاهَ (¬3) فلم يجدني ... أسافهُه وقلتُ له سلامَا فقام يجرُّ رجليه ذليلًا ... وقد كَسب المذلَّة والملاما وفضلُ الحِلم أبلغُ في سفيهٍ ... وأحرى أن تَنَال به انتقامَا وكانت له جارية يقال لها: نشو، أعطي فيها ألوفًا من الدنانير، فماتت، [وروى الخطيب] (¬4) عن أبي بكر الطالقاني عن أبيه قال: كنت عنده والناس يعزُّونه [في جاريته]، فشرع بعض النَّاس يكرِّرُ فضائلَها ليحزنه، ففطن محمود فقال: [من الوافر] ومنتصحٍ يكرر ذكرَ نشو ... ليحدثَ لي بذكراها اكتئابَا أقول -وَعَدَّ ما كانت تساوي- ... سيُخلفها الذي خلقَ السحابَا عطيَّتُه إذا أعطى سُرورًا ... وإن أخذَ الذي أعطى أثابَا فأيُّ النعمتين أعمُّ فضلًا ... وأكرمُ من عواقبها الإيابَا (¬5) أَنِعْمَتُه التي أهدت سُرورًا ... أم الأخرى التي أهدَتْ ثوابَا بل الأخرى وإن نزَلت بكُرهٍ ... أحقُّ بصبر من صَبرَ احتسابَا (¬6) وله: [من المتقارب] يمثِّلُ ذو اللبِّ في نفسه ... مصائبَه قبل أنْ تنزلَا فإن نَزلت بغتةً لم تَرُعْهُ ... لما كان في نفسه مَثَّلَا رأى الهمَّ يفضي إلى آخر ... فصيَّرَ آخرَه أوَّلَا وذو الجهل يأمنُ أيَّامه ... وينسى مصارعَ من قد خَلَا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فمن شعره. (¬2) في (خ) و (ف): علمي. والمثبت من (ب). (¬3) في (خ) و (ف) و (ب): السفيه. والمثبت من ديوان محمود الوراق ص 178 وتاريخ بغداد 15/ 102. (¬4) في (خ) و (ف): فروي. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬5) كذا في (ب) و (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد 15/ 103 والمنتظم 11/ 70 وديوان محمود الوراق ص 71: وأكرم في عواقبها إيابا (¬6) ديوان محمود الوراق ص 71، وفيه اختلاف يسير.

فإن بَدَهَتْهُ صروفُ الزمان ... ببعض مصَائبه أعولَا ولو (¬1) قَدَّم الحزمَ في نفسه ... لعلَّمه الصبرُ حسنَ البلَا (¬2) وله: [من البسيط] بقَّيتَ مالكَ ميراثًا لوارثه ... فليتَ شعري ما بقَّى لك المالُ القومُ بعدك في حالٍ يسرُّهم ... فكيف بعدهمُ دارتْ بك الحالُ مالت إذا عنك دُنيا أقبلتْ بهم ... وأدبرتْ عنك والأيَّام أحوالُ ملُّوا البكاءَ فما يَبكيك من أحدٍ ... واستحكَم القيلُ في الميراث والقالُ (¬3) [وقال العتبي: ] استعرض المعتصمُ جاريةً لمحمود الورَّاق (¬4)، وكانت رقَّاصة، فقال لها: ما صنعتك؟ فقالت: صنعتي في رجلي، فقال: وكم ثمنك؟ قالت: خمس مئة دينار، فقال: كثير، ولكن نصبرُ حتى يموتَ محمود الوراق، ونأخذك بغيرِ شيء، فقالت: ما سمعنا خليفةً ينتظرُ بشهواته المواريثَ إلَّا أنت، [قال: ] فخجل المعتصم. [وقد روى هذه الحكاية الخطيب بإسناده إلى الجاحظ وقال: ثمنُ الجارية سبعة آلاف دينار، فلمَّا مات محمود اشتُرِيت للمعتصم بسبع مئة دينار، فلمَّا دخلت عليه قال: كيف رأيت منَ بركتك من سبعة آلاف (¬5) إلى سبع مئة، فقالت: أجل، إذا كان الخليفة ينتظر بشهواته المواريث، فإن سبعين دينارًا كَثيرةٌ في ثمني، فضلًا عن سبع مئة. فأخجلته. وكانت وفاة محمود في هذه السنة ببغداد، وقد رَوى عنه من شعره جماعةٌ من الأعيان، منهم ابنُ أبي الدنيا وابنُ مسروق وغيرهما.] (¬6) ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف). وقد. وهذه الأبيات ليست في (ب). (¬2) المنتظم 11/ 71، وديوان محمود الوراق ص 228 (في ما ينسب إليه). (¬3) ديوان محمود الوراق ص 230 (في ما ينسب إليه) وفيه اختلاف يسير، والمنتظم ص 72. (¬4) في (خ) و (ف): له. والمثبت من (ب). (¬5) في تاريخ بغداد 15/ 103: كيف رأيت، تركتك حتى اشتريتك من سبعة آلاف ... (¬6) انظر ترجمته -بالإضافة إلى المصادر السابقة- في سير أعلام النبلاء 11/ 461، وتاريخ الإسلام 5/ 699.

أبو جعفر المحولي

أبو جعفر المُحَوَّلي (¬1) الزاهدُ العابد، كان يسكن بباب محوَّل [-محلة غربي (¬2) بغداد- فنُسبَ إليها، وقد ذكره الخطيب، وأثنى عليه، قال: ] وكان [أبو جعفر المحوليُّ] يقول: حرامٌ على قلبٍ مأسورٍ بحبِّ الدنيا أن يسكنَه الورع، وحرامٌ على نفسٍ مَغْرَمةٍ برياء الناس (¬3) أن تذوقَ حلاوة الآخرة، وحرامٌ على كلِّ عالمٍ لم يعمل بعلمه أن يتَّخذه المتقون إمامًا. وأقام أبو جعفر ستين سنةً يصومُ النهارَ ويقومُ الليل ويتقوَّتُ كلَّ ليلةٍ برغيفٍ من الشعير وملحٍ جريش، وكان لا يقبلُ برَّ أحدٍ، وتوفي بباب محوَّل رحمة الله عليه [في هذه السنة، والحمد لله وحده.] (¬4) * * * ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): المخول. والمثبت من (ب). والمُحوَّلي، بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الواو المفتوحة، هذه النسبة إلى المحوَّل، وهي قرية على فرسخين من بغداد، وهي إحدى متنزهاتها، وباب المحول باب يخرج القاصد منه إلى المحوَّل. انظر الأنساب 11/ 175 - 176. (¬2) رسمها في (ب): عر من. ولعل المثبت هو الصواب. (¬3) في النسخ: مضرمة، وفي تاريخ بغداد 16/ 592: وحرام على نفس عليها ربانية الناس. وفي المنتظم 11/ 72: عليها زبانية الناس، وفي صفة الصفوة 2/ 390: عليها رئاسة الناس. والمثبت من النجوم الزاهرة 2/ 236. (¬4) ما سلف بين حاصرتين من (ب).

السنة الثانية والعشرون بعد المئتين

السنة الثانية والعشرون بعد المئتين فيها أمدَّ المعتصمُ الأفشين بالأموال؛ سيَّر إليه مع إيتاخ وجعفر بن دينار بثلاثين ألف ألف درهم نفقات الجند، وبلغَ بابك، فأرسل قائدًا من قوَّاده إلى أصحاب الأفشين، فواقعهم، واسم القائد آذين، وكان شجاعًا، لمَّا عزم على المسير إلى لقاء أصحاب الأفشين ترك عياله وأهله وأمواله على رأس جبلٍ حصين، فقال له بابك: أَدْخِلْهُم الحصنَ، فقال: لا أكونُ مثل هؤلاء اليهود -يعني المسلمين- يقاتلونَ من وراء الحصون والخنادق. وسار أصحاب الأفشين إلى كَلان رُوذ (¬1) ومقدَّمهم أبو سعيد، وأردفه الأفشين بجماعة، فبعث أبو سعيد جماعةً من وراء الجبل الذي عليه عيال آذين من مضيقٍ هناك، فأخذ بعض العيال وعطف عليهم آذين، فقاتلَهم فظهرُوا عليه، فأخذوا بعضَ العيال، ورجعوا إلى الأفشين (¬2). وفيها فتحت البذُّ مدينة بابك في يوم الجمعة لعشرٍ بقين من شهر رمضان، وسياق الحديث أنَّ الأفشين كان يدنو منها قليلًا قليلًا، فضجَّ الناس من التعب وقالوا: كم نقعد هاهنا، وبيننا وبين العدوِّ مسافةٌ يسيرةٌ؟ وكان بينهم أربعة فراسخ، وقالوا للأفشين: قد استحينا من الناس، فأقدم بنا، فإمَّا لنا وإمَّا علينا. فسار إلى الجبال التي فيها البذّ، فأحدقَ بها، ورتَّب العساكر والرجَّالة، وأنفق الأموال، وفرَّق العُدد، وصيَّر العساكر كراديس كراديس، وأتاه رسولُ بابك ومعه قثاء وبطيخ وخيار، يخبره أنَّه في خفض عيش، وأنَّ الأفشين وأصحابه في أضيق (¬3) عيش، فقال للرسول: قد عرفتُ قصدَه، ولكن (¬4) الأفشين قد حفر ثلاثَ خنادق، وأقامَ عليها الرجال بالعُدَد خوفًا من البيات، فدارَ الرسول على العساكر فشاهدَ شيئًا لم ير مثلَه قط، فعاد فأخبر بابك. ¬

_ (¬1) معناه: النهر الكبير، وهو بأذربيجان قريب من البذّ. معجم البلدان 4/ 475. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 29 - 30. (¬3) في (ف): ضيق. (¬4) كذا، ولعلها: وكان.

ثُمَّ إنَّ الأفشين سار بجنوده والرَّجَّالة فأحدقوا بمدينة بابك، فأرسلَ يطلبُ الأمان من المعتصم على نفسه وعياله، فأرسلَ الأفشين إلى المعتصم بخبره، والقتال يعملُ بينهم إلى عاشر رمضان، فهجمَ المسلمون مدينةَ بابك، فأحرقوا وقتلوا وسبوا، وأفلت بابك في نفرٍ يسيرٍ إلى غيضةٍ هناك، فاختفى بها، وجاء كتاب المعتصم بأمانه، وكان قد أسر الأفشين ولدَ بابك وأصحابه، فقال لهم: هذا ما لم أكن أرجوه من أمير المؤمنين لبابك، فليذهب بالأمان منكم رجلان، وكتب معهما ولد بابك يقول له: صِرْ إلى الأمان فهو خير لك، فلمَّا وصلا إلى بابك قتل أحدهما، وقال للآخر: اذهب إلى ابن الفاعلة -يعني ابنه- وقل له: لو كنت ابني للحقتَ بي. ثمَّ خرق الأمان، وخرج من ذلك المكان، وطلع إلى الجبل يطلب طريقًا يعرفها ليهرب، وقد أقام له الأفشين الكمناء، فأفلتَ إلى جبال إرمينية، فالتقاه رجلٌ أرمنيٌّ، يقال له: سهل البطريق (¬1)، فقال له: الطلبُ وراءك، فانزل حتى يسكنَ الطلب، فنزل عنده، وبعثَ الأرمنيُّ إلى الأفشين فأعلمه، وقال: أبكروا علينا، وقال لبابك: هذا مكانٌ معمورٌ، فاركب بنا غداة غدٍ نتنزَّهُ في هذا الوادي، فركب وجاء أصحاب الأفشين فأخذوه -وكان المعتصم قد جعل لمن جاء به حيًّا ألفي ألف درهم، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم- وأُخِذ بابك وأخوه أسيرين، فأتي بهما إلى الأفشين، فطيفا في البذّ حتى رأيا القتلى والحريق والهدم، وقد مثلوا بقصورهم. وفي روايةٍ أنَّ بابك لمَّا رأى عسكر الأفشين قد ظهر على البذّ، خرج في جماعةٍ من أصحابه يسأل عن الأفشين، وأُخبر الأفشين، فركب ودنا منه، فقال له بابك: أريدُ الأمان من أمير المؤمنين، فقال له الأفشين: قد عرضتُ هذا عليك غيرَ مرَّة، وهو لك منِّي متى شئت، فقال: قد شئت الآن، على أن تُأجِّلني أجلًا أحمل فيه عيالي وأتجهز، فقال له الأفشين: قد نصحتُك غير مرَّة، وخروجك اليوم خيرٌ من خروجك في غد، فقال: قد قبلت ذلك أيُّها الأمير، وأنا على ذلك، فقال له الأفشين: فابعث بالرهائن الذين كنت سألتك، قال: نعم، أمَّا فلانٌ وفلانٌ فإنَّهم على ذلك الجبل، فمرْ أصحابَك بأن يوقفوا. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فقال له: سهل الطريق، وهو تحريف. والتصويب من المنتظم 11/ 74.

فجاء رسول الأفشين ليردَّ الناس، فوجد أعلام المسلمين (¬1) قد دخلت البلد وصعدتْ على قصورِ البلد، وكانت أربعة قصورٍ فيها ستُّ مئة رجل، فخرجُوا فقاتلوا أصحابَ الأفشين، واشتغل أصحاب الأفشين بالحرب، ومرَّ بابك حتى دخل واديًا في مضيق، وقاتل أصحاب الأفشين، ونصب السلالم على القصور وأحرقوها، وقتلوا ستَّ مئةٍ عن آخرهم، وأخذ الأفشين إلى خندقه، وصعد أصحابُ بابك من الواديَ في الليل، وأخذوا من الزاد ما أمكنهم حملُه ومن الأموال، وعادَ الأفشين من الغد إلى البذّ، تمَّم خرابَه وحريقَه ونهبَه، وأفلت بابك إلى إرمينية، فكتبَ الأفشين إلى ملوكها يأمرُهم بحفظ الطرقات والحوطة على بابك، فإنَّه اختفى في وادٍ كثير الشجر، وأطاف العسكر به ووقفوا على المضائق، وورد في تلك الحال كتابُ المعتصم، مكتوب بالذهب، وفيه أمان بابك، وبعث به الأفشين إليه، فقتل أحد الرجلين، وشتم ابنه على ما ذكرنا، وقال للرسول الآخر (¬2): يا ابن الفاعلة، ما أنت بابني، لو كنت ابني لعشتَ يومًا واحدًا رئيسًا خير من أن تعيش أربعين سنةً عبدًا ذليلًا. ثم ارتحل عن طريقٍ لا تعرف، فصار إلى جبال إرمينية ومعه نفرٌ يسيرٌ، فجاع وكان ملوك إرمينية قد أنذروا به، فبينما هو يسير إذا بحرَّاث يحرث في بعض الأودية، فقال لغلامه: خذ دراهم ودنانير وانزل إلى هذا المكان، فإن كان عنده خبزٌ فاشترِ منه، فنزل الغلام إليه، وأعطاه الدنانير، وطلب منه خبزًا، وكان للحرَّاث شريكٌ واقفٌ من بعيد ينظر ما يجري بينهما، وكان على المسلحة في تلك الطريق رجلٌ أرمنيٌّ يقال له: سهل بن سنباط، فجاء شريكُ الحرَّاث فأخبره بالخبر، فجاء سهلٌ إلى الغلام فقال: ما أنت، فأخبره، فقال: وأين مولاك؟ فأشار إليه فصعد سهلٌ إلى الجبل، فرأى بابك فعرفه، فنزل وقبَّل يده، وقال: يا مولاي إلى أين تريد؟ فسمَّى مكانًا، فقال: انزل عندي في صحبي حتى ترى رأيك، فأنا عبدُك ولا بأس عليك، وكلُّ من هاهنا من البطارقة عبيدُك، وقد صار لك منهم أولاد. وكان بابك إذا عَلِم أنَّ عند بعض البطارقة ابنةً جميلةً أو أختًا بعثَ إليه وطلبها منه، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 44: أعلام الفراغنة. (¬2) يعني أمره بابك أن يقول لابنه.

أحمد بن الحجاج

فإن بعث بها إليه وإلَّا قتله وأخذَها. (¬1) وكان قد أضرَّ ببابك الجهد والجوع، فأقام، وأرسل سهل إلى الأفشين، فأرسلَ جماعةً، فأخذوا بابك من الوادي كما ذكرنا، فحبسه وأخاه، وكتب إلى المعتصم بخبره، فأمره أن يقدم به إلى بغداد. وحجَّ بالناس محمد بن داود. ووَصل المعتصمُ سهلَ بن سنباط النصرانيّ بألفي ألف درهمٍ، ووهب له جوهرًا كثيرًا، وأطلق له خراجَ عشرين سنة. (¬2) وفيها توفي أحمد بن الحجاج الشيبانيّ، ثم الذهليّ، كان عالمًا فاضلًا، قدم بغداد وحدَّث بها عن عبد الله بن المبارك وغيره، ورَوى عنه البخاريُّ، وكان الإمامُ أحمد رحمه الله يثني عليه (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 48: بيته وأخذها. (¬2) أحداث هذه السنة في (ب) مختصرةٌ جدًّا، وهذا نصها السنة الثانية والعشرون بعد المئتين وفيها فتحت البذُّ مدينة بابك يوم الجمعة لعشر مضين (كذا) من شهر رمضان. وحج بالناس محمَّد بن داود. فصل: وقال الصوليُّ: وصلَ العتصمُ لسهل بن سنباط النصراني بألفي ألف درهم، ووهب له جوهرًا كثيرًا وطلق (كذا) له خراج عشرين سنة. (¬3) تاريخ بغداد 5/ 187، وتهذيب الكمال 1/ 287، وتاريخ الإسلام 5/ 506. ولم ترد هذه الترجمة في (ب).

السنة الثالثة والعشرون بعد المئتين

السنة الثالثة والعشرون بعد المئتين وفيها قدم الأفشين ببابك وأخيه سرَّ من رأى على المعتصم في ليلة الخميس لثلاثٍ خلون من صفر، وكان المعتصمُ يبعث إلى الأفشين منذ فصلَ عن برزند إلى سامراء كلَّ يومٍ بفرسٍ وخلعةٍ، ولعناية المعتصم بأمرِ بابك رتَّب البريد من سُرَّ من رأى إلى الأفشين، فكان الخبرُ يصلُ إليه في كل (¬1) أربعة أيامٍ وأقلّ، وكانت خيلُ البريد تركض ركضًا، ولما وصل الأفشين إلى سُرَّ من رأى ببابك أنزله في قصره بالمَطِيرة، فلمَّا كان في جوف الليل جاء ابن أبي دؤاد متنكِّرًا فأبصره، ثمَّ رجع إلى المعتصم فأخبره، فلم يصبر المعتصم حتى ركب في الليل ودخل عليه متنكِّرًا، فرآه وتأمَّله، وبابك لا يعرفه، وسنذكر مقتله في موضعه. (¬2) وفيها غزا المعتصمُ بلاد الروم وفَتَحَ عَمُّورِية، وسببه (¬3) أن الأفشين لمَّا ضيَّق على بابك كتب إلى ملك الروم توفيل بن ميخائيل بن جورجس يقول له: ما يقعدكَ عن ملك العرب وعن البلاد؟ وقد وجَّه إلى جميع عساكره ومقاتلته ومواليه وخواصِّه، حتى قد بعث إليَّ بخيَّاطه جعفر بن دينار، وطبَّاخِه يعني إيتاخ، ولم يُبْقِ على بابه أحدًا، فاخرجْ، فليس في وجهك من يمنعك. وكان مقصود بابك أن يتحرَّك ملكُ الروم فينكشف عنه بعضُ ما هو فيه برجوع بعضِ العساكر عنه. فخرج توفيل في مئة ألف من المقاتلة وغيرهم، فأناخ على زِبَطْرة، فأوقع على أهلها فأسرهم وخرَّبها، ومضَى إلى مَلَطْية، فأغار على أهلها وعلى الحصون، وسبَى من المسلمات أكثرَ من ألف امرأة، ومثَّل بمن صار في يده من المسلمين، وسمل أعينهم وقطَّع آذانهم وآنافهم، وبلغ النفيرُ إلى سامرَّاء، ونفرَ أهلُ الجزيرة والشام، وَبلغ الخبرُ ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) و (ف): يوم. وهي مقحمة، انظر تاريخ الطبري 9/ 52، والمنتظم 11/ 76. (¬2) من قوله: وفيها قدم الأفشين ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬3) من هنا إلى قوله: جاء المعتصم فدار حولها. ليس في (ب).

إلى المعتصم وهو في قصره بسامرَّاء، فقام من وقته، فركبَ فرسه، وسمَّط خلفه خُرْجه وسكَّة حديد، ولم يستقم له أن يخرج إلا بعد التعبئة (¬1)، فجلسَ في قصره واستدعى القضاةَ والعدول من أهل بغداد، فجاؤوا، وكان القاضي عبد الرَّحمن إسحاق وشعيب ابني سهل (¬2)، ومعهما ثلاث مئة وثلاثة وعشرون (¬3) رجلَّا مَن أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضِّياع، فجعل ثلثًا لولده، وثلثًا لمواليه، وثلثًا في سبيل الله. ثمَّ عسكر بغربي دجلة، وبعث في مقدمته عُجيف بن عنبسة، وعمرًا الفرغاني، ومحمَّد كوتة، وجماعةً من القواد، فساروا إلى زِبَطْرة، فوجدوا توفيل قد رجع إلى القسطنطينية، فقال المعتصم: أيُّ بلاد الروم أمنع وأحصن؟ قالوا: عَمُّورية، ولم يعرض لها أحدٌ من المسلمين من أول الإسلام، وهي عينُ النصرانيَّة، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية، فسار المعتصم في العساكر إليها في هذه السنة بعدما قتل بابك، وقيل: في سنة أربع وعشرين ومئتين، فيقال: إنَّه تجهَّز جهازًا لم يتجهزهُ خليفةٌ قبلَه من السلاح والعدَّة والآلة والخيل والدوابّ والقِرَب والحديد والنِّفط وغيره، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمَّد بن إبراهيم، وعلى ميمنته إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله، وعلى القلب عُجيف، وقدَّم الأفشينَ بين يديه بالدخول من درب الحَدَث، وسمَّى له يومًا بعينه أن يكون دخوله فيه، وكذا أشار إلى أشناس، وأمر المعتصمُ أشناس أن يدخل من درب طرسوس، ويوافيه بالصفصاف. وكان شخوصُ أشناس يوم الأربعاء لثمانٍ بقينَ من رجب، وبعث المعتصم وصيفًا في إثر أشناس على مقدماته، ورحل (¬4) المعتصم يوم الجمعة لستٍّ بقين من رجب، ثمَّ كتب إلى أشناس بمرج الأُسْقُف على (¬5) الأثقال والزاد والمجانيق، وأخبره أن توفيل ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): البيعة. وهو تصحيف. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 56 والكامل لابن الأثير 6/ 480. (¬2) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري 9/ 56: عبد الرَّحمن بن إسحاق وشعيب بن سهل. وفي الكامل 6/ 480 وشعبة بن سهل. (¬3) في تاريخ الطبري والكامل: وثمانية وعشرون. (¬4) في (خ) و (ف): ودخل. والتصويب من تاريخ الطبري 9/ 58، والمنتظم 11/ 80. (¬5) كذا وقعت العبارة في (خ) و (ف)، ووضع فوقها في (خ): كذا. وتمامها: ثم كتب إلى أشناس بمرج الأسقف أن ينتظر موافاة الساقة لأن فيها الأثقال ... انظر تاريخ الطبري 9/ 58.

يريدُه، فأقام أشناس بمرج الأُسقُف، وبعثَ عمرو الفرغانيّ بين يديه يكشفُ له خبر ملك الروم، فكشفه، فأخبروه (¬1) أنَّ الملك مقيم ينتظر عبورَ المعتصم أو مواقعةَ الأفشين، يعرِّفه أنَّ ملك الروم يريده، ودفع للرسول عشرةَ آلاف درهم، وبعث رسلًا عدَّة، فلم يلحق الأفشينَ أحدٌ منهم (¬2)، وكان قد أوغلَ في بلاد الروم، وسار المعتصمُ إلى أشناس، فلحق الأثقال، وأمر أشناس أن يتقدَّمه بمرحلةٍ، ولم يقف المعتصمُ للأفشين على خبرٍ حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل، فضاقَ عسكرُ المعتصم ضيقًا شديدًا من الماء والعلف. وكان أشناس قد أَسَرَ في طريقه عدَّة، فأمر بهم فضُرِبَت أعناقهم، وفيهم شيخٌ كبيرٌ، فأمر بقتله، فقال: ما تنتفع بقتلي وأنتم في هذا الضيق من قلَّة الماء والزاد؟ ! وهاهنا قومٌ من أنقرة بالقرب منَّا قد هربوا خوفًا منكم، ومعهم من الزاد والميرة شيءٌ كثيرٌ، فوجِّه معي قومًا لأدفعهم إليهم، وخلِّ سبيلي (¬3)، وجهَّز معه خمس مئة فارس، وقال للقائد: متى أوقعَكُم على القوم فأطلِق سبيلَه، فسار بهم الشيخ إلى أوَّل الليل، فأوردَهم واديًا كثيرَ الماء والحشيش، فنزلُوا، ورعوا دوابّهم، وسقوا وشربوا، وسار بهم حتى أوقعهم على أهل أنقرة، فقاتلوهم وأسروا منهم عدَّةً بهم جراحات، فقالوا: ما هذه؟ قالوا: كنا في وقعة الملك مع الأفشين، فقالوا: حدِّثونا بالقصة، فقالوا: كان الملك معسكرًا على أربعة فراسخ من مكانٍ يقال له: اللامِس، وأُخبِر أنَّ عسكرًا قد دخل من ناحية الأرمنياق، فاستخلفَ الملك على عسكره رجلًا من أهل بيته، وأمره بالمقام في موضعه، فإن وَردت عليه مقدمةُ ملك العرب واقعَهم إلى أنْ يذهب الملك فيواقع العسكرُ العسكرَ الذي دخل من ناحية الأرمنياق -يعني عسكر الأفشين- فقال أميرهم: نعم، وكنت ممَّن سارَ مع الملك، فواقعناهم صلاةَ الغداة، فهزمناهم وقتلنا رجَّالهم، وتقطَّعت عساكرنا في طلبهم، فلمَّا كان الظهر رجعَ فرسانُهم فقاتلُوا قتالًا عظيمًا حتى خرقوا عسكرنا واختلطنا بهم، فلم ندرِ في أيِّ كردوسٍ الملك، فلم نزل كذلك إلى وقت ¬

_ (¬1) أي: أخبره الأسرى الذين قبض عليهم. (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 58 - 59 فسياق الخبر فيه أتمُّ وأوضح. (¬3) في (خ): فخلى سبيله. وفي (ف): فخلي سبيلي. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 60، والكامل 6/ 482.

العصر، ثُمَّ رجعنا إلى موضع العسكر الذي كان على اللامِس مع الذي خلَّفه الملكُ على عسكره، فوجدنا العسكرَ قد انتقض عنه وانصرفوا وتركوه، فأقمنا ليلتنا، فلمَّا كان من الغد وافانا الملكُ دي جماعةٍ يسيرةٍ، فوجَد عسكره قد اختلَّ، فضربَ عُنق الذي استخلفه، وقال: أسأتَ التدبير، وكتبَ إلى المدن والحصون يأمرهم أن يردُّوا الناسَ إلى عسكره، ووجَّه خصيًّا (¬1) إلى أنقرة يقيمُ بها، ويحفظُ أهلها إن نزلَ بهم ملكُ العرب. قال: فأطلقوا الشيخَ الأسير، ورجعوا بالغنائم والعلوفات والأسارى إلى أشناس، فأخبروه الخبر، ولحقَه المعتصمُ من الغد، فأخبرَه خبرَ الأفشين، فسُرَّ بذلك، وجاءت البشائرُ من الأفشين بعد ثلاثة أيام يخبره بذلك، وأنَّه يوافي المعتصم في أنقرة (¬2)، وساروا يقتلُون ويأسرون حتى توافت العساكرُ بعموريَّة، فكان أول من وردها أشناس يوم الخميس ضحًى، فدارَ حولها، ثم نزل على ميلينِ منها. ثم جاء (¬3) المعتصم فدارَ حولها، وكذا الأفشين، ثمَّ قسَّم المعتصمُ أبراجها على القواد على مقدار رجالهم، وتحصَّن أهل عَمُّورية (¬4)، ونزل إلى المعتصم رجلٌ أسيرٌ كان قد تنصَّر، وأقام عندهم أيامًا، فدلَّه (¬5) على عورة البلد، وأنَّ المكان الفلانيَّ مبنيٌّ بالحجارة من خارج ومن داخل حشو، فنقل المعتصم مضربه إلى قبالته، ونصب عليه المجانيق، وألقى عليه أهلُ عمورية البراذع والخشب، وألحَّت عليه المجانيق فانصدع السور، وطمَّ الخنادقَ، وزحف بالدبابات والسلالم، وقاتلها أيَّامًا، ففتحها عَنْوة، وأقبلَ الناس بالأسرى والغنائم من كل وجهٍ حتى امتلأ العسكر، [وبيعت الغنائم في خمسة أيام، وأحرق الباقي] (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): جيشًا. وهو تصحيف. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 62. والعبارة فيه: ووجَّه خادمًا له خصيًّا. وانظر الكامل 6/ 483. (¬2) في (خ) و (ف): القلب. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 62، والكامل 6/ 484. (¬3) من قوله: وسببه أن الأفشين لما ضيَّق ... إلى هنا ليس في (ب). (¬4) في (خ) و (ف): وتحصين أهلها، والمثبت من (ب). (¬5) في (ب): فدلهم. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب).

وانصرفَ المعتصم يريد الثغور؛ لأنَّه بلغه أنَّ ملك الروم يريده، وأنه (¬1) جمع جمعًا عظيمًا، فخرج المعتصمُ على الجادَّة، وعطش القوم، فقتل ستة آلاف أسير (¬2) بمكان يقال له وادي الحور (¬3). ووصل [المعتصم] إلى طرسوس، وكان [المعتصم] قد أناخ على عَمُّورية يوم الخميس لستٍ خلون من رمضان، وقفل عنها بعد خمسة وخمسين يومًا. [وكان من القواد قد اتفقوا على الوثوب بالمعتصم في هذه السفرة، ويولون العباس بن المأمون، وسنذكره.] وقال الصوليُّ: قتل المعتصم ثلاثين ألفًا من الروم، وسبَى مثلهم، وكان في سبيه ستون بطريقًا، وطرَحَ النار في جوانب عَمُّورية فأحرقها، وجاء ببابين إلى العراق في الفرات، فغرقَ واحدٌ، ووصلَ الآخرُ إلى بغداد، وهو الباب الذي على دار الخليفة بالرحبة المجاور للجامع، ويسمى باب العامَّة، [وقد أشار إلى هذا الخطيب أيضًا (¬4)، وذكر البابين. وقال الصوليُّ: حدثنا الغلابي، حدثني] يعقوب بن جعفر بن سليمان قال (¬5): غزوتُ مع المعتصم عموريَّة، فاحتاج الناس إلى الماء، فمدَّ لهم (¬6) المعتصم حياضًا من أَدَمٍ عشرة أميال، وساق الماء فيها إلى سور عموريَّة، وكان رجل من الروم يقوم كلَّ يومٍ على السور ويشتمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالعربيَّة باسمه ونسبه، فاشتدَّ ذلك على المسلمين، ولم يكن يصل إليه النشاب، [قال يعقوب: ] (¬7) وكنت أرمي رميًا جيدًا، فاعتمدته بنشابة، فأصابت نحره، فهوى (¬8)، وكبَّر المسلمون، وسُرَّ المعتصم وقال: عليَّ بالذي رماه، ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وقد. والمثبت من (ب). (¬2) انظر خبر الأسرى وأسباب قتلهم في تاريخ الطبري 9/ 69 - 70. (¬3) في (ب): الحرور. وفي تاريخ الطبري 9/ 69: الجور. (¬4) تاريخ بغداد 4/ 550. (¬5) في (خ) و (ف): وقال يعقوب بن جعفر بن سليمان. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ) و (ف): فمدهم. والمثبت من (ب). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). (¬8) بعدها في (خ) فلا شلت يَدَيْ المذكور في الكلب الملعون.

فأُدخلت عليه، [فقال: من أنت؟ فانتسبت] (¬1) له، فقال: الحمد لله الذي جعلَ ثوابَ هذا السهم لرجلٍ من أهلي، ثم قال: بعني هذا الثواب، فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس الثَّوابُ ممَّا يُباع، قال: فإنِّي أرغبُك، فأعطاني مئة ألف درهم، فقلت: لا أبيعُ ثوابي، فبلغها إلى خمس مئة ألف درهم، فقلت: [ما أبيعه] (¬2) بالدنيا وما فيها، ولكن قد جعلتُ لك نصفَ ثوابه، والله يشهد عليَّ بذلك، فقال: جزاك الله خيرًا، قد رضيت [بهذا]، ثمَّ قال: فأين تعلَّمتَ الرمي؟ قلت: بالبصرة في داري، فقال: بِعْنِيهَا، فقلت: [هي] وقف على من يتعلَّم الرمي، فوصلني بمئة ألف درهم (¬3). وقال الصوليّ: لمَّا فعل توفيل بالمسلمين ما فعل شقَّ [ذلك] على المعتصم، فوقف أمواله وعقاره على ولده والفقراء والمساكين، وأقسم أنَّه لا يرجع عن الروم حتى يفعلَ ما لم يفعله خليفةٌ، وسار في جيوشٍ لم يقدر أحدٌ على جمعها، ويقال: إنَّه كان في خيله ثمانونَ ألف أبلق وثمانونَ ألف أدهم، فلمَّا فتح عَمُّورية قتل من أهلها ستين ألفًا. [قال: وسببُ فتوحها أنَّ برجًا كان قد انهدمَ منها، فبنوه على غير أساس، ونزلَ إليه أسيرٌ فتدلَّى بحبل، فأخبره خبره، فهدمَه بالمجانيق. وقال الخطيب: عن يحيى بن أكثم قال: ] (¬4) كنتُ مع المعتصم (¬5) في بلاد الروم، فمررنا براهبٍ في صومعته، فقلت: يا راهب، أترى هذا الملك يدخلُ عمورية، قال: لا، إنَّما يدخلها ملكٌ أكثر أصحابه أولاد زنا، فلمَّا دخل المعتصمُ الروم أخبرتُه، فقال: أنا والله صاحبها، لأنَّ أكثر جندي أتراك وأعاجم، ففتحَها. حديث العلويَّة: [روى لنا أشياخنا أنَّه] كان في السبايا التي سباها توفيل من زِبَطْرة امرأةٌ شريفةٌ، فأخذها بطريقٌ [من] أهل عَمُّورية فعذَّبها (¬6) حتى تتنصر، فصاحت: وامعتصماه، فقال ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وانتسبت. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): لا أبيع ثوابي. والمثبت من (ب). (¬3) المنتظم 11/ 83. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال يحيى بن أكثم. (¬5) في (خ) و (ف) و (ب): المأمون. وهو خطأ. والتصويب من تاريخ بغداد 4/ 550. (¬6) في (ب) -وما سلف بين حاصرتين منه-: يعذبها.

لها البطريق: إيش يعمل بي، يقفز عليَّ بالأبلق. وبلغ المعتصم، فلمَّا فتح عَمُّورية لم يكن له همٌّ سواها، وطلبها فحضرت، وأحضرَ البطريق، وقال لها. نادي كما ناديت، فقالت: وامعتصماه، فقال: لبيكاه، ومدَّ البطريق وقفزَ عليه بسبعين ألف أبلق. [وقال الخطيب: لمَّا تجهَّز المعتصمُ] (¬1) لفتح عَمُّورية حكم المنجِّمون أنَّه لا يعود من غَزاته، وإن عاد كان معلولًا (¬2) خائبًا، فكان من ذلك الفتح العظيم ما لم يكن في الحساب، فقال أبو تمام: [من البسيط] السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتب ... في حدِّه الحدُّ بين الصدق والكذبِ (¬3) [ومعناه: السيف أصدق أخبارًا من كتب المنجمين وكذبهم.] (¬4) بيضُ الصفائح لا سودُ الصحائفِ في ... مُتونهنَّ جلاءُ الشكِّ والريبِ والعلمُ في شُهُبِ الأرماح لامعةً ... بين الخميسين لا في السبعة (¬5) الشهب أين الروايةُ أم أين النجوم وما ... صاغُوه من زخرفٍ فيها ومن كَذِبِ تخرُّصًا وأحاديثًا مُلفَّقةً ... ليستْ بنبعٍ إذا عُدَّت ولا غربِ عجائبًا زعموا الأيام مجفلةً (¬6) ... عنهنَّ في صفرِ الأصفارِ أو رجبِ وخاوفوا (¬7) الناس من دَهياء مظلمةٍ ... إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذنبِ وصيَّروا الأبرجَ العليا مُرتِّبةً ... ما كان منقلِبًا أو غيرَ منقلِبِ يَقضون بالأمر عنها وهي غافلةٌ (¬8) ... ما كان في فلكٍ منها وفي قُطُبِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وكان المعتصم لما تجهَّز. (¬2) في (ف): مغلوبًا. (¬3) في ديوان أبي تمام: بين الجدِّ واللعب. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وليس فيها من القصيدة إلا بيتها الأول. (¬5) في (خ) و (ف): جامعة. بدل: لامعة، و: الحبيسين بدل: الخميسين. و: التسعة. بدل: السبعة. وكله تصحيف، والتصويب من الديوان. (¬6) في (خ) و (ف): تجعله. وهو تصحيف. قال التبريزي في شرحه على الديوان 1/ 43: ويروى: مجفلة ومجليةً، والأصلان مختلفان ولكن المعنيين يتقاربان، تقول: أجفلت الحمر والنعام إذا أحسَّت بأمرٍ يَذعرها، فهربت منه بعجلة ورعب، ويقال: أجلى القومُ عن القتيل إذا انكشفوا عنه ... (¬7) في الديوان: وخوفوا. (¬8) في (خ) و (ف): فاعلة. وهو خطأ، والصواب من الديوان.

لو بَيَّنت قطُّ أمرًا قبل موقعِهِ ... لم تخفِ ما حلَّ بالأوثان والصُّلُبِ يا يومَ وقعةِ عَمُّوريةَ انصرفَتْ ... عنك المُنَى حُفَّلًا معسولة الحَلَبِ فتحَ الفتوحِ تعالى أنْ يحيط به ... نَظْمٌ من الشِّعرِ أو نَثْرٌ من الخُطَب من أبيات، وهي نيفٌ وسبعون بيتًا (¬1) وقال محمد بن عبد الملك الزيات: [من المتقارب] أقام الإمامُ منارَ الهُدى ... وأخرسَ ناقوسَ عَمُّوريه فقد أصبحَ الدينُ مستوثقًا ... وأضحت (¬2) زنادُ الهدى موريهْ وقال يحيى بن أكثم: لمَّا التقى الأفشين وقتل بطارقته فقال له ابن عم توفيل: يا أفشين، بالأمس قتلت بابك واليوم تأخذُ ملكَ الروم، أما تعرف نفاسةَ بني هاشم، والله لا تركوك بعدها، فأطلقه (¬3). وقيل: لم يأخذه، وإنَّما كان قادرًا على أخذه، فلمَّا قال له ابن عمه ما قال: أعرض عنه. وفي وقعة الأفشين مع توفيل يقول الحسين بن الضحاك (¬4) أبيات: [من الرمل] إنَّما الأفشينُ سيفٌ قاطعٌ ... سلَّه الله بكفِّ المعتصمْ كلُّ مجدٍ دون ما أثَّله ... لبني كاوسَ أملاكِ العجمْ لم يدع بالبذِّ من ساكنةٍ ... غير أمثالي لعادٍ وإرمْ (¬5) وقَرَا تَوْفيل طعنًا صادقًا ... فضَّ جمعته (¬6) جميعًا وهَزَمْ قَتَلَ الأكثرَ منهم ونجا ... من نجا منهم على ظهر وخمْ (¬7) ¬

_ (¬1) انظر ديوان أبي تمام بشرح التبريزي 1/ 40 - 46، وقوله: فتحُ الفتوح يصح الفتح والضم. (¬2) في (خ) و (ف): وأصبح. والمثبت من المنتظم 11/ 84، والبدء والتاريخ 6/ 119، والبيتان في الأخير دون نسبة. (¬3) كذا، ولم أقف على هذا الخبر. (¬4) في (خ) و (ف): النحال. وهو تصحيف. (¬5) في تاريخ الطبري -والأبيات فيه 9/ 70 - 71: غير أمثال كأمثال إرم. (¬6) في تاريخ الطبري: جمعيه. (¬7) في تاريخ الطبري: وضم.

وفي هذه الغزاة اتَّفقَ العباسُ بن المأمون مع جماعةٍ على الفتك بالمعتصم، وكان السبب في ذلك أن المعتصمَ لمَّا بعث عُجيف بن عنبسة ومحمد بن كوتة وعمرو الفرغاني إلى زِبَطْرة ليدفعوا ملك الروم عنها، لم يطلق يدَ عُجيف في النفقات كما أطلقَ يد الأفشين، واستقصرَ المعتصمُ أمر عُجيف، وعرف عُجيف ذلك، فخَلا بالعباس بن المأمون ولامَه على ما فعل عند موت أبيه من ردِّ الخلافة إلى المعتصم، وقال له: استدرك ما كان منك، فقبل العباس ذلك منه، وطمع في الخلافة، ودسَّ رجلًا يُقال له الحارث السَّمرقنديّ، وكان عالمًا، فمَشى في القُوَّاد حتى يتابعه جماعةٌ منهم على الفتك بالمعتصم، ووكَّلوا جماعةً من خواصِّ الأفشين بالأفشين، ومن خواصِّ أشناس بأشناس، ومن خاصَّة المعتصم بالمعتصم؛ أنَّهم يبيتونهم فيقتلونهم. فلمَّا دخل المعتصم الدرب يريد أنقرة وعَمُّورية، ودخل الأفشينُ من ناحية عَمُّورية (¬1)، أشار عُجيف على العباس أن يثبَ بالمعتصم في الدرب، وهو في قلَّةٍ من الناس، وقد تفرَّقت عنه العساكر، ويرجع إلى بغداد، وأنَّ الناس يفرحون بالانصراف، فأبى العباس عليه، وقال: لا أفسدُ هذه الغزاة. فلمَّا فتحت عَمُّورية، قال عُجيف للعباس: يا نائم، كم تنام، انتبه، فقد فُتِحت، والناس قد اشتغلوا بها، والرجل وحده، فمُرْ بنهب المتاع، فإذا نُهِبَ خرج، فتأمر بقتله، فأبى العباسُ عليه وقال: حتى نصيرَ إلى الدرب. وكان عجيف قد أمر من ينهب بعض المتاع، فركب المعتصم وجاء يركض، فسكن الناس، ولم يطلق العباس أحدًا من أولئك الرجال الذي كان واعدهم، فلم يُحدِثوا شيئًا بغير أمره. وكان الخبر قد بلغ عمرًا الفرغاني في ذلك اليوم، وله قرابةٌ غلامٌ أمردٌ في خاصَّة المعتصم، فقال الغلام (¬2) لعمرو: إنَّ أمير المؤمنين اليوم ركب مستعجلًا، وأمرني أن أسلَّ سيفي، ومن استقبلني ضربتُه، فقال له عمرو: أنت غِرٌّ، فإن سمعتَ صيحةً أو ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري 9/ 72: ودخل الأفشين من ناحية ملطية. (¬2) في (ف) و (خ): المعتصم. وفوقها في (خ): كذا، وفي هامشها: لعله: الغلام. وانظر تاريخ الطبري 9/ 71.

سعيًا لا تخرج من خيمتك (¬1)، فعرف الغلام مقالة عمرو. وارتحل المعتصمُ من عَمُّورية يريد الثغر، وجاء إلى المضيق، فوقف حتى يدخل الناس، ومرض أشناس، دعاده المعتصم، وجاء الأفشين، والتقى بالمعتصم يعود أشناس (¬2)، ثمَّ خرج، وجاء عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل إلى عسكر الأفشين، وبلغ أشناس، فأرسل إليهما وقال: ما الذي أتى بكما إلى عسكر غيركما، قالا: نشتري من السبي، فقال: الزما عسكركما ولا تخرجا منه، فاغتمَّا وصارا إلى صاحب الخبر، وقالا: إنَّ أشناس في كل وقتٍ يشتمنا ويتوعدنا، ولا طاقة لنا به، ونحن نسأل أن يضمَّنا أمير المؤمنين إلى من أحبَّ. وكتب صاحبُ الخبر إلى المعتصم بذلك، فأمر بحبسهما، وبلغه الحديث من أشناس. ووشى بهم أحمد بن الخليل، فلمَّا جاوزَ المعتصمُ الدربَ دعا بالعباس، فسقاه النبيذ، فسكر، وسأله عن القصَّة واستحلفه أن لا يكتمَه شيئًا، فحكى له القصَّة على وجهها، وسمَّاهم واحدًا واحدًا، وأنَّ الحارثَ السمرقنديَّ كان يَختلفُ إلى القواد، فطيَّب قلب العباس ومنَّاه، وأوهمَه أنَّه قد صفحَ عنه، وتغدَّى معه، وصرفَه إلى مضربه، ثمَّ دعا الحارثَ السمرقنديَّ فسأله عن الأسباب، فقصَّ عليه القصَّة كما أخبر العباس، فقال له المعتصم: قد رُضْتُكَ على أن تكذب، فأجد السبيلَ إلى سفك دمك، فلم تفعل، فقال: يا أمير المؤمنين، لست بصاحب كذبٍ، فأَطلَقَهُ وقال: نجَّاك صدقُك. ثمَّ قيَّد العباس ودفعه إلى الأفشين، وتتبع أولئك القواد، فأُخذوا جميعًا، وكان فيهم الشاه بن سهل (¬3) السجستانيّ، فأحضره المعتصم -وكان محسنًا إليه- والعباس حاضر، فقال له المعتصم: يا ابن الزانية، قد أحسنتُ إليك، فلم تشكر إحساني! فقال له: ابن الزانية هذا الذي بين يديك -يعني العباس بن المأمون- لو مكَّنني منك ما كنت قاعدًا في هذا المجلس، فأَمر به المعتصمُ، فضُرِبت عنقه. ¬

_ (¬1) تحرفت في (خ) و (ف) إلى: همتك. (¬2) في تاريخ الطبري 9/ 73 أن الأفشين التقى بالمعتصم بعد انصرافه من عيادة أشناس. (¬3) في (خ) و (ف): المشاة بين السهل!

ودفع عُجيف بن عنبسة إلى إيتَّاخ، فثقَّله بالحديد، وحمله على بغل في محملٍ بغير وطاء. فأمَّا العباس فكان في يد الأفشين، فلمَّا نزل المعتصم منبج، وكان العباس جائعًا، فقُدِّم إليه طعامٌ كثير، فلمَّا طلب الماء مُنع منه، وأُدرج في مِسْحٍ، فمات بمنبج. ولمَّا نزل المعتصم نصيبين نزل ببستانٍ، ودعا صاحبه فقال: احفر لي بئرًا قدرَ قامة، ودعا بالفرغانيّ، والمعتصمُ قد شرب أقداحًا، فقال: جَرِّدوه، فجَرَّدوه، وضربه بالسياط حتى مات، وألقاه في البئر، وطمَّ عليه التراب. وأمَّا عُجيف فإنَّ المعتصم سأل محمَّد بن إبراهيم بن مصعب، وكان في يده، فقال: ما فعل عُجيف؟ فقال: اليوم يموت، فدعاه محمد وقال له: ما تشتهي يا أبا صالح، فقال: أسفيداج وحلواء، فأطعمَه ذلك، وطلبَ الماءَ، فلم يسقه، فمات ودفن بباعَيناثا. وقيل: إنه لمَّا مات بباعَيناثا مات (¬1) في محملٍ، فطُرِح عند صاحب المسلحة، وأمروه بدفنه، فجاء به إلى جانب حائطٍ خربٍ، فطرحه عليه، فقبره هناك (¬2). [ومن العجائب ما حكاه القاضي التنوخيُّ في كتاب "الفرج بعد الشدَّة" عن كاتب كان لعُجيف يتولّى ضياعَه، قال: فرفع] (¬3) إليه أنَّني قد خنته، فبعثَ إليَّ مَن قيَّدني، وحُمِلتُ إليه، فأمر بالسياط فأُحضِرَت، وقال: أخربتَ ضياعي وأخذتَ مالي، والله لأقتلنَّك، فبلتُ في ثيابي وعلى ساقي، وقال له بعضُ كتَّابه: أيُّها الأمير، أنتَ مشغولٌ في هذا الوقت بالغزاة (¬4)، وضَربُ هذا ما يفوت، والمصلحةُ حبسه حتى تتيقن ما قيل عنه، فحبسني ومضَى مع المعتصم إلى عَمُّورية، وبلغَه أنَّه يريد الفتك به (¬5)، فقتلَه بالجزيرة، ثمَّ قدم المعتصمُ بغداد، فأطلقني، وولَّاني ديارَ ربيعة والجزيرة، فخَرجتُ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): كان. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 77. (¬2) من قوله: وقال محمد بن عبد الملك الزيات ... إلى هنا ليس وفي (ب). (¬3) في (خ) و (ف): وقال محمد بن الفضل الجرجاني كاتب عجيف: رفع ... والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬4) في الفرج بعد الشدة 2/ 27، والمنتظم 11/ 85: أنت مشغول القلب بهذا البناء. (¬5) لفظة: به. ليست في (ف). وفي (خ): بي. والمثبت من (ب).

إليها، فنزلتُ بقريةٍ يقال لها باعيناثا أو كراثا، فأخلي لي بها بيتٌ، فخرجتُ وقت السحر أطلب الكنيف، فرأيته ضيِّقًا، فخرجتُ إلى ظاهر القرية، وإذا بتلٍّ فبُلتُ عليه، فقال لي صاحب البيت: هل تدري على أيِّ شيء بُلْتَ؟ قلت: بُلْتُ على تلِّ تراب، فضحك وقال: هذا قبرُ قائدٍ من قوَّاد المعتصم يقال له عُجيف، سخط عليه وحمله مقيَّدًا، فلمَّا صار هاهنا قتلَه، وطرحه تحت الحائط، فلمَّا انصرف العسكرُ ألقينا عليه الحائطَ خوفًا أن يأكله الكلاب، قال محمد الكاتب: فعجبتُ من بولي خوفًا منه ومن بولي فوق قبره. [واسم هذا الكاتب محمَّد بن الفضل الجرجاني، ووزر بعد ذلك للمعتصم] (¬1). ثم تتبَّعَ المعتصمُ باقي القواد والفراغنة من الأتراك فقتلَهم، ورُدَّ سالمًا غانمًا، وسمِّي العباسُ يومئذٍ اللعين. [وقال الصوليُّ: كان العباسُ فاجرًا، حدَّه أبوه المأمون] (¬2) في الخمر مرارًا، وفيه يقولُ جعفر بن القاسم: [من الكامل] أبت الخلافةُ أن ينال بها ... من حُدَّ في خمارة البردانِ وقال يحيى بن مروان في العباس وعُجيف: [من الوافر] ألا يا دولةَ المعصوم (¬3) دومي ... فإنَّك قلتِ للدنيا استقيمي هو العباسُ حين أراد غَدْرًا ... فوافى إذْ هَوى قَعرَ الجحيمِ كذاك هَوى كمهواه عُجيفٌ ... فأصبحَ في سواء لظى (¬4) السموم (¬5) وفيها دفعَ المعتصمُ خاتمه إلى ابنه هارون، وأقامه مُقام نفسه، واستكتب له سليمان ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): وكان المأمون حدَّ ابنه العباس ... والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): المعتصم. والمثبت من الأغاني. (¬4) في (خ) و (ف): لظى سواء. والمثبت من الأغاني. (¬5) من قوله: وقال يحيى. إلى آخر الأبيات ليس في (ب). والخبر ذكره الأصبهاني في الأغاني 12/ 84 عن محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا الحسين بن يحيى قال: حدثني إبراهيم بن الحسن قال: لما كان من أمر العباس بن المأمون وعُجَيف ما كان، أنشد مروان بن أبي الجنوب المعتصمَ قصيدة ... فذكر الأبيات.

بابك الخرمي

ابن محمَّد بن عبد الملك الزيَّات. وفي شوال زُلزِلَتْ فرغانة، فمات تحت الهدم خمسة عشر ألف (¬1). وحجَّ بالناس محمَّد بن داود. [فصل] وفيها قتل بابك الخُرَّمي [ذكر طرف من أخباره: قال علماء السير: ] كان [بابك] من الثنويَّة (¬2) على مذهب ماني ومزدك وروسا الباطنيَّة، ويقول بالتناسخ، ويرى تحليل البنات والأمَّهات والأخوات، وليس له أصل يرجع إليه. [وحكى الطبريُّ] أنَّه (¬3) كان ولد زنا، وكانت أمُّه عوراء تعرف برومية العلجة، [ذكر علي بن مرّ عن رجلٍ من الصعاليك أنه كان يقول: ] (¬4) بابك ابني، فقلت له: وكيف، قال: نزلت على أمِّه يومًا وقد طالت غربتي (¬5) فواقعتُها، ثُمَّ غبتُ عنها، وعدتُ إليها فقالت: حين ملأتَ بطني تركتني، وأذاعت (¬6) أنَّه منِّي، فقلت: والله لئن ذكرتيني لأقتلنَّك، [فسكنت] (¬7). [وفي روايةٍ عن بعض المؤرخين أنَّ أمَّ بابك] (¬8) كانت علجةً (¬9) فقيرةً من قرى ¬

_ (¬1) كذا ذكرها في أحداث هذه السنة (223 هـ) صاحب النجوم الزاهرة 2/ 238، وذكرها ابن الجوزي في المنتظم 11/ 88 - 89 في أحداث سنة 224 هـ وانظر المدهش ص 71، وتلقيح فهوم الأثر ص 89. (¬2) في (خ) و (ف): وكان من الثنوية. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): وقيل إنه ... (¬4) في (خ) و (ف): ... العلجة، قال: كان رجلٌ من الصعاليك يقول. والمثبت بين حاصرتين من (ب). وفيها تقديم وتأخير في سياق القصة، والزيادات الآتية منها. (¬5) في (ب): عزبتي. (¬6) في (ف): وادَّعت، ولم تظهر في مصورة (خ). (¬7) تاريخ الطبري 9/ 54. (¬8) في (خ) و (ف): وقيل إن أمه ... والمثبت من (ب). (¬9) في مطبوع المنتظم 11/ 51: عجوزًا، وهو تحريف. وفي نسخة كما بهامشه: عوزا.

أذربيجان، فشغفَ بها رجلٌ من النبط من أهل السواد (¬1)، فواقعها، فحملت به، [وكان اسمُ الرجل عبد الله، فقتلَ وبابك حملٌ، فوضعته، وجعلت] (¬2) تكتسب له إلى أن بلغ، فاستأجره أهلُ قريته بطعامه وكسوته على رعي أغنامهم، وكان بتلك الجبال قومٌ من الخرَّمية، وعليهم رئيسان، يقال لأحدهما: جاوندان، والآخر: عمران، [وكانا] يتكافحان، فمرَّ جاوندان بقرية بابك، فتفرَّس فيه الجلادة، فاستأجره من أمِّه، وحملَه إلى ناحيته، فعشقته امرأةُ جاوندان، فأفشت إليه أسرارَ زوجها، وأطلعته على دفائنه، فلم يلبث إلَّا قليلًا حتى وقع بين جاوندان و [بين] عمران حربٌ، فأصابت جاوندان جراحةٌ فمات، فزعمتِ امرأتُه أنَّه قد استخلف بابك [على أمره، فصدَّقوها، فجمع] أصحابه، وأمرَهم أن يقتلوا بالليل من لقوا من رجلٍ أو صبيٍّ (¬3)، فأصبح الناس قتلى لا يُدرى من قتلهم، ثُمَّ انضوى إليه الذُّغَّار (¬4) وقطاع الطريق، حتى صار عنده عشرون ألف فارس، وأظهر مذهبَ الباطنيَّة، واحتوى على مدنٍ وحصونٍ، فأخرب الحصون. ولمَّا ولي المعتصم بعثَ أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل، وأمره أن يبني الحصونَ التي أخربها بابك، فبناها، ثم بعثَ إليه الأفشين، فحصره وقاتله وأسره على ما ذكرنا [وقدم به إلى سُرَّ من رأى، فأتى المعتصم وابن أبي دؤاد إليه ليلًا، فأبصره، ] فلمَّا كان [يوم الإثنين أو الخميس] في صفر قعد المعتصم، [واصطف النَّاس من قصر الأفشين في المطيرة إلى باب المطيرة، ] (¬5) وأراد [المعتصم] أن يشهرَه لتراه الناس، فأركبه فيلًا، وألبسه قَباءً من ديباجٍ وقلنسوة سمّور، وهو وحده، وقد خضب الفيل بالحناء، فقال محمَّد بن عبد الملك الزيَّات: [من السريع] ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) و (ف): اسمه عبد الله. (¬2) في (خ) و (ف): فلما وضعته جعلت ... (¬3) في (ب) -وما سلف بين حاصرتين منه-: من امرأة أو صبي. وفي البدء والتاريخ 6/ 116: فلا يدعون رجلًا ولا امرأة ولا صبيًّا ولا طفلًا. (¬4) في (خ) و (ف): الزراع. وفي (ب): الذراع. والمثبت من البدء والتاريخ 6/ 116. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي تاريخ الطبري 9/ 52، والكامل 6/ 477: واصطف الناس من باب العامَّة إلى المطيرة.

قد خُضِبَ الفيلُ لعاداته (¬1) ... يحملُ شيطانَ خراسانِ والفيلُ لا تخضبُ أعضاؤه ... إلَّا لذي شأنٍ من الشانِ وقال المعتصم: [من مجزوء الرمل] لم يزل بابكُ حتى ... صارَ للعالم عبرَهْ ركبَ الفيلَ ومن ير ... كبُ فيلًا فهو شهرَهْ (¬2) وأمر المعتصم جزارًا أن يقطع يديه ورجليه، فقطعت، [ثم قال المعتصم: أحضروا السيَّاف]، وأمر بذبحه وشقِّ بطنه، وبعثَ برأسه إلى خراسان، وصُلِبَ بدنه بسُرَّ من رأى عند العقبة، وموضع خشبته مشهور، وأمر بحمل أخيه عبد الله إلى بغداد مع ابن شروين الطبري (¬3) إلى إسحاق بن إبراهيم [خليفة المعتصم على بغداد، وأمره أن يفعل به كما فعل بأخيه]، فلما صار به الطبري إلى البردان، نزل به في قصر البردان، فقال عبد الله للطبري (¬4): من أنت؟ فقال: ابن شروين ملك طبرستان، فقال: الحمدُ لله الذي وفَّق لي رجلًا من الدهاقين يتولَّى (¬5) قتلي، فأشار الطبري إلى عبد يقال له: نود نود (¬6)، وهو الذي قتل بابك، فقال: إنَّما يتولَّى قتلك هذا، فقال له: أنت صاحبي، وهذا عِلْجٌ. ثمَّ وافى به مدينةَ السلام، ففعلَ به إسحاق كما فعلَ بأخيه، وصُلِب بالجانب الشرقيِّ بين الجسرَين من (¬7) بغداد. وكان عبدُ الله أخو بابك أشجعَ منه، فرَوى القاضي عليُّ بن المحسَّن التنوخيُّ عن أبيه أنَّ أخا بابك قال له لما أدخلا على المعتصم: يا بابك، إنَّك قد عملتَ ما لم يعمله ¬

_ (¬1) في (ب)، وتاريخ الطبري 9/ 53، والكامل 6/ 477: كعاداته، والمثبت من (خ) و (ف)، والوافي بالوفيات 10/ 63. (¬2) معجم الشعراء ص 365، والوافي بالوفيات 10/ 63. (¬3) في (خ) و (ف): البطري. وفي الوافي بالوفيات 10/ 63: ابن سروين البطريق. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 53. (¬4) في (خ) و (ف) و (ب): الطبري -وما سلف بين حاصرتين من (ب) - وانظر تاريخ الطبري 9/ 53. (¬5) في (خ) و (ف): متولى. والمثبت من (ب). (¬6) في (خ) و (ف): بود، وفي (ب): بود يود. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 53. (¬7) في (خ) و (ف) و (ب): وبين. والتصويب من تاريخ بغداد 9/ 54.

أحدٌ، فاصبر صبرًا لم يصبره أحدٌ، قال: سترى صبري، فبُدِئ ببابك قبل أخيه، فلمَّا قُطِعت يد بابك مسحَ بها وجهه، فقال المعتصم: سلُوه لم فعل هذا؟ فسألوه، فقال: قولوا للخليفة: إنَّك أمرتَ بقطع يديَّ ورجليَّ، وفي نفسك أنَّك لا تكويها، وتدع دمي ينزف إلى أن أموت أو تضرب عنقي، فخشيتُ إذا خرجَ الدم من جسدي أن يصفرَّ وجهي، فيرى من حضرني أنِّي قد جزعتُ (¬1) من الموت، فغطَّيتُ وجهي بالدم لهذا، فقال المعتصم: لولا أنَّ أفعاله لا توجب الصنيعة (¬2) له والعفو عنه، [لكان] حقيقًا بالاستبقاء (¬3)، ثم ضرب عنقه، وجمع الجميع (¬4) على بطنه، وصبَّ عليه النفط، وضرب بالنار، وفعل بأخيه مثل ذلك، فما منهما (¬5) من صاح [ولا تألَّم]. وقال المصنف رحمه الله (¬6): قد وهم القاضي التنوخيُّ في ثلاثة مواضع: أحدها في قوله: إنَّ أخا بابك فعل به المعتصمُ كذلك بحضرته؛ لأنَّ أخا بابك قُتِلَ ببغداد على ما ذكرنا. والثاني أنَّه قال: أحرِقَا بالنفط، وليس كما قال؛ لأنَّ بابك صُلِب زمانًا، وصُلِب الأفشين إلى جانبه، [وغيره لما نذكر]. والثالث أنَّه ذكر هذه الحكاية في كتاب "الفرج بعد الشدَّة"، وليس فيها ما يدل على ذلك (¬7). وكان ظهورُ بابك في سنة إحدى ومئتين بناحية أذربيجان، وتبعه خلقٌ عظيمٌ ممَّن هو على رأيه، فأقام عشرين سنةً يهزم جيوشَ المأمون والمعتصم، فيقال: إنه قتل مئة ¬

_ (¬1) في (ب): حزنت. وفي نشوار المحاضرة 1/ 148، والمنتظم 11/ 77: فزعت. (¬2) في (خ) و (ف) و (ب): الضيعة. والتصويب من تاريخ الإسلام 6/ 496، وسير أعلام النبلاء 10/ 297، والوافي بالوفيات 10/ 64. (¬3) في (خ) و (ف): بالاستيفاء. والمثبت من (ب)، وما بين حاصرتين منها. (¬4) أي: جميع أعضاءه. ووقع في مطبوع المنتظم 11/ 78: الحطب! (¬5) في (ب): فيهما. (¬6) في (ب): قلت. (¬7) لم أقف عليها في كتاب الفرج بعد الشدة، وإنما ذكرها التنوخيُّ رحمه الله في نشوار المحاضرة 1/ 147 - 148. وذكرها بإسنادها إلى التنوخيِّ ابن الجوزي في المنتظم 11/ 77 - 78.

فاطمة النيسابورية

ألف (¬1) وخمسة وخمسين ألفًا وخمس مئة إنسان (¬2)، ولمَّا أسره الأفشين وفتح مدينته، وجد فيها سبعة آلاف وست مئة امرأة مسلمات. ثُمَّ إنَّ المعتصم توَّج الأفشين بتاجٍ من ذهب، وألبسَه وشاحين بالجوهر، ووصلَه بعشرين ألف ألف درهم، وعقد له على السند، ومدحه الشعراء (¬3)، فقال أبو تمام: [من الكامل] بذَّ الجِلادُ البذَّ فهو دفينُ ... ما إن بها إلا الوحوشَ قطينُ لم يُقْرَ هذا السيفُ هذا الصبرَ في ... هيجاء إلَّا عزَّ هذا الدينُ قد كان عُذْرَة سؤددٍ فافتضَّها ... بالسيفِ فحل المشرقِ الأفشين من أبيات (¬4) [قلت]: ثم إنَّ المعتصمَ سخط على الأفشين، وصلبه إلى جانب بابك؛ لما نذكر إن شاء الله. [وفيها توفيت] فاطمة النيسابوريَّةُ الزاهدة، جاورت بمكَّة مدَّةً، وكانت تتكلَّم في معاني القرآن، [حكى أبو عبد الرَّحمن السلمي عن ذي النون المصري قال: ] (¬5) فاطمةُ وليَّة لله تعالى، وهي أستاذتي، سمعتُها تقول: من لم يكن الله تعالى منه على بال، فإنَّه يتخطَّى (¬6) في كل ميدان، وينطلقُ بكلِّ لسان، ومن كان الله منه على بال، أخرسه إلَّا عن الصدق، وألزمَه الحياء منه والإخلاص. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 54، والكامل 6/ 478: مئتي ألف. (¬2) قال الذهبي في تاريخ الإسلام 6/ 496: وليس ببعيد. ثم قال: ووجدت بخط رفيقنا ابن جماعة الكناني أنه وجد بخطِّ ابن الصلاح رحمه الله قال: اجتمع قوم من الأدباء ... وأحصوا أن قتلى بابك بلغوا ألف ألف وخمس مئة ألف. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 55. (¬4) ديوان أبي تمام 3/ 316 (بشرح التبريزي)، والأبيات ليست في (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال ذو النون المصري. (¬6) في طبقات الشعراني ص 56، والدر المنثور في طبقات ربَّات الخدور ص 367: ينحدر.

وقال السلميُّ: كانت فاطمة النيسابوريَّة من قدماء نساء خراسان، أتى إليها ذو النون المصري وأبو يزيد البسطاميّ وسألها (¬1) عن مسائل (¬2)، وكانت ترحلُ من مكَّة، فتزورُ البيت المقدس، ثمَّ ترجعُ إلى مكة. وقال أبو يزيد البسطامي: ما رأيت في عمري إلَّا رجلًا وامرأةً، والمرأةُ فاطمة النيسابوريَّة، ما سألتها عن مقامٍ من المقامات إلَّا وكان عندها منه علمٌ، كأنَّها تشاهدهُ عيانًا. وكانت وفاتُها في مكَّة في طريق العمرة. * * * ¬

_ (¬1) في (ب): وسألاها. (¬2) كذا جاءت العبارة في النسخ، ووقع في ذكر النسوة المتعبدات للسلمي ص 61: أثنى عليها أبو يزيد البسطامي، وسألها ذو النون عن مسائل. وفي صفة الصفوة 4/ 124: أتى إليها أبو يزيد البسطامي، وسألها ذو النون عن مسائل.

السنة الرابعة والعشرون بعد المئتين

السنة الرابعة والعشرون بعد المئتين [وفيها أظهرَ] (¬1) مازيار بن قارن الخلافَ بطبرستان، وخلعَ المعتصم، وحاربَ أهل تلك البلاد، وسببه أنَّ المازيار كان مباينًا لآل طاهر، وكان المعتصمُ يكتب إليه: احمل الخراج إلى عبد الله بن طاهر، فيقول: لا أحملُه إلَّا إلى أمير المؤمنين، فكان إذا حمل [المازياز إليه الخراج]، وبلغ همذان ردَّه المعتصمُ إلى عبد الله بن طاهر، وأقام على هذا مدَّةً. وكان الأفشين يَسمعُ من المعتصم أحيانًا كلامًا يدلُّ على أنَّه يريد عزلَ عبد الله بن طاهر عن خراسان، فلمَّا ظفر الأفشينُ ببابك، ونزل من المعتصم المنزلةَ التي لم يبلغها منه أحدٌ، [طمع] (¬2) في ولاية خراسان، وبلغه منافرةُ المازيار لابن طاهر، فرجَا أن يكون ذلك سببًا لعزل ابن طاهر عن خراسان. وواتر ابنُ طاهر الكتبَ إلى المعتصم في المازيار حتى أغضبه، وتفاقم الأمر فخالف المازيار، وضبطَ جبال طبرستان. فكان ذلك مما يسرُّ الأفشين ويطمعُه في الولاية، وكتبَ المعتصم إلى ابن طاهر بمحاربة المازيار، وكتبَ الأفشين إلى المازيار يقوِّي قلبه ويشدُّ منه في محاربة ابن طاهر؛ طمعًا في أنَّ المازيار يقوى، فيبعثُ المعتصم الأفشينَ وغيره إليه. ولمَّا خالف المازيار دعا الناس إلى البيعة، فبايعوه كرهًا، فأخذ منهم ما أراد حتى خراجَ سنةٍ في شهرين، واستولى على البلاد، وأخذ رهائن أهل آمُل وغيرها، وأخربَ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فيها خرج. والمثبت بين حاصرتين من (ب). وأحداث السنة فيها مختصرة جدًّا، وهذا نصها: السنة الرابعة والعشرون ومئتين وفيها أظهر المازيار بن قارن الخلاف بطبرستان، وخلع المعتصم، وحارب أهل تلك البلاد. وفيها تزوج الحسن بن الأفشين أترجة بنت أشناس، ودخل بها في قصر المعتصم في جمادى الأولى، وحضر المعتصم عرسها، وكانوا يغلفون الناس بالغالية من تغار من فضة. وحجَّ بالناس محمد بن داود. انتهى مصححًا ما فيه من تحريف. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 80، وانظر الكامل 6/ 495.

أسوار آمُل والريّ وسارية وبلاد جرجان. وهرب الناس إلى نيسابور، فبعث عبد الله بن طاهر عمَّه الحسنَ بن الحسين بن مصعب في جيشٍ كثيفٍ إلى جُرجان، وبعثَ حيَّان بن جبلة في أربعة آلاف إلى قُومِس، وجهَّز المعتصم الجيوش إلى المازيار، فبعث محمد بن إسحاق بن مصعب (¬1) في جمع كثيفٍ، وضمَّ إليه الحسن بن قارن الطبريّ ومن كان بالباب من الطبريّة، ووجَّه منصورَ بنَ الحسن هار صاحب دُنْباوند إلى الريّ ليدخل إلى طبرستان من ناحية الرقي، ووجَّه أبا الساج إلى اللارز، وأحدق الجيوشُ بالمازيار من كلِّ مكانٍ، فبعث إلى المدن والرهائن الذين أخذهم يقول: أدُّوا إليَّ خراج سنتين وأطلقكم، فأجابَ بعضهم، وامتنع البعض وقالوا: ما حبسنا المازيار وعندنا درهمٌ واحد، وقتل بعضهم واستبقى البعض. وكاتب حيَّان بن جبلة مولى عبد الله بن طاهر قارنًا (¬2) من قواد المازيار، وسلَّم قارن إلى حيَّان مدينة سارية بجرجان فدخلها، وكان بها قوهيار أخو المازيار فهرب (¬3)، وبعث إلى حيَّان ليأخذ له الأمان فأمَّنه، وجرت بين المازيار وابن طاهر حروبٌ كثيرةٌ، إلى أن قُتِل المازيار في سنة خمس وعشرين، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها تزوَّج الحسن بن الأفشين أترجَّة ابنة أشناس، ودخل بها في قصر المعتصم في جمادى الأولى، وحضر المعتصمُ عرسها، وكانوا يغلِّفون الناس بالغالية (¬4) من تغارٍ (¬5) من فضة (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). والصواب كما في تاريخ الطبري 9/ 85، والكامل 6/ 496: محمد بن إبراهيم بن مصعب، وهو أخو إسحاق بن إبراهيم. (¬2) في (خ) و (ف): وكان خيار .... قائدًا. وهو تحريف. (¬3) كذا في (خ) و (ف) والذي في المصادر أن الذي هرب هو عامل المازيار على سارية ويقال له: مهريستاني بن شهرين، ولمَّا بلغ قوهيار موافاة حيان سارية أرسل إليه يطلب الأمان. انظر تاريخ الطبري 9/ 90، والكامل 6/ 499. (¬4) التغليف بالغالية وسائر الطيب: التلطيخ. انظر اللسان (غلف). (¬5) في الكامل 6/ 508: تيغار. والتيغار: الإجّانة. والعامة تقول: تغار، بحذف الياء. تاج العروس (تغر). والإجَّانة: إناء يغسل فيه الثياب. المصباح المنير (أجن). (¬6) تاريخ الطبري 9/ 101.

إبراهيم بن المهدي

وفيها خالفَ منكجور الأشروسنيّ قرابةُ الأفشين بأذرَبيجان، وسببه أنَّ الأفشين لمَّا فرغ من أمر بابك ولَّى منكجور أَذْرَبيجان والجبال، فأصاب في قرية بابك في بعض المنازل أموالًا عظيمةً، واحتجزها لنفسه، ولم يعلم بها الأفشين ولا المعتصم، وكان على البريد بأذْرَبيجان رجلٌ من الشيعة يقال له: عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، فكتب إلى المعتصم بخبره، فكتب المعتصم إلى منكجور يحمل المال، فأنكر، وقابله عبد الله، فأراد منكجور قتله، فاستغاثَ بأهل أردبيل (¬1)، فمنعوه منه، فقاتلهم، فأمر المعتصمُ الأفشينَ بعزله، فبعثَ إليه قائدًا من قوَّاده في جيشٍ ضخمٍ، فلمَّا بلغ منكجور خلعَ الطاعة، وجمع إليه النَّاس، وخرجَ للقاء القائد، والتقوا، فهزمَه القائد، فصار إلى حصنٍ من حصون أذْرَبيجان، فأقامَ بها، فوثبَ به أصحابُه الذين كانوا معه، فقيَّدوه ودفعوه إلى القائد، فبعث به القائدُ إلى المعتصم فحبسه، واتُّهم الأفشين في أمره (¬2). وحجَّ بالنَّاس محمدُ بن داود. [فصل] وفيها تُوفِّي إبراهيمُ بن المهدي ابن أبي جعفر المنصور، [وكنيته] أبو إسحاق، [واختلفوا في مولده، فقال ابن ماكولا: ] ولد [في] سنة اثنتين وستين، وقيل: سنة ستِّ وستين ومئة، وأمُّه أمّ ولدٍ يقال لها: شَكْلَة (¬3)، كانت سوداء جدًّا فنزع إليها، وكان أسودَ حالكًا شديد السواد عظيم الجثة، [قال ابن ماكولا: ] يلقب بالتنين لغلظه (¬4). و[قال الخَطيب: ] لم يكن في أولاد الخلفاء أفصح ولا أشعر منه (¬5). وكان جوادًا حاذقًا بمحنعة الغناء، وفيه يقول دعبل: [من الكامل] ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): أكردويل. والتصويب من تاريخ الطبري 9/ 102، والكامل 6/ 505. (¬2) من قوله: وفيها خالف منكجور ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬3) قال ابن خلكان في وفيات الأعيان 1/ 39: شكلة، بفتح الشين المعجمة وكسرها، وسكون الكاف، وبعد اللام هاء. (¬4) الإكمال 1/ 518. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬5) تاريخ بغداد 7/ 68.

إن كان إبراهيم مُضْطَلعًا بها ... فلتصلُحَنْ من بعده لمُخَارقِ (¬1) وبويعَ بالخلافة سنة اثنتين ومئتين، فلمَّا قدم المأمون من خراسان استتر، فأقام في استتاره ستَّ سنين وأربعة أشهر وعشرة أيام، وكان ينتقلُ في المواضع حتَّى ظفر به المأمون وعفا عنه، [وقد ذكرنا تفاصيل ذلك,] ولم يزل على الإكرام عند المأمون والمعتصم حتَّى تُوفِّي [في هذه السنة، والله أعلم. ذكر طرف من أخباره: ] ولي [إبراهيم] إمرةَ الحجِّ [في] سنة أربعٍ وثمانين ومئة، و [قال الحافظ ابن عساكر: ] ولَّاه أخوه هارون دمشق، وكان قد تنكَّر له، فرأى إبراهيم أباه المهديَّ في المنام، فشكا أخاه هارون إليه، فقال له أبوه: إنَّه قاضٍ عنك دَينَكَ وموليك دمشق، ورأى هارونُ أباه في تلك الليلة وهو يعاتبه فيه، فأصبح فقضَى دَينَه وولَّاه دمشق، فساس اليمانية والمضرية، وأحسنَ إلى الفريقين، فأحبَّوه (¬2)، وأقام واليًا على دمشق سنتين، ثمَّ بلغه عنه أنَّه قد احتجبَ وأنَّه اصطبح، فعزله وهجره سنةً، ثمَّ رضي عنه (¬3). وقال محمَّد بن القاسم بن مهرويه: قلَّ ما عند إبراهيم وهو خليفة، فاجتمع الغوغاء الأعرابُ على بابه، فخرج الحاجب [وصرَّح لهم أنَّه لا مال عنده، ] (¬4)، فقال بعضهم: إذا لم يكن عنده شيءٌ، فقل له: فليخرج فليغنِّ [لأهل هذا الجانب] (¬5) ثلاثةَ أصوات، ولأهل ذلك الجانب ثلاثة أصوات، وقد رضينا، فقال دعبل: [من السريع] يَا معشرَ الأعرابِ لا تسخطُوا ... خُذُوا عطاياكم ولا تقنطُوا فسوف يعطيكم حنينيةً ... لا تدخل الكيسَ ولا تُرْبَطُ والمعبديَّات لقُوَّادكم ... وما بهذا أحدٌ يُغْبَطُ فهكذا يَرزقُ أجنادَه ... خليفةٌ مصحفه البَرْبَطُ (¬6) ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 70 - 71، والبيت في ديوان دعبل ص 198. والبيت ليس في (ب). (¬2) من قوله: وكان قد تنكر له ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) تاريخ دمشق 2/ 514، 515 - 519 (مخطوط). (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 7/ 71، وتاريخ دمشق 2/ 522. (¬5) في (خ) و (ف): فيلعن له؟ ! والمثبت وما بين حاصرتين من المصدرين السابقين. (¬6) تاريخ بغداد 7/ 71، وتاريخ دمشق 2/ 522، والأغاني 20/ 149 - 150، وديوان دعبل ص 175.

وقال منصور بن المهدي: كان أخي إبراهيم إذا تنحنحَ طرِبَ من يسمعُه، فهذا غنَّى أصغت الوحوشُ ومدَّت أعناقَها إليه حتَّى تضعَ رؤوسها في حِجْره، فإذا سكتَ نفرت وهربت في البريَّة، وكان إذا غنَّى لم يبقَ أحدٌ إلَّا ذَهَل، ويتركُ ما في يده حتَّى يفرغ، [من الخدم والحاشية والخاصِّ والعام]. و[حكى محمَّد بن مهرويه عن إبراهيم] , قال إبراهيم: حججت مع هارون وهو خليفة، فدخلنا المدينة، فخرجت أدور في عَرَصاتها (¬1)، فعطشت، وإذا بجارية تستقي من بئرٍ، فقلت: اسقيني، فقالت: أنا مشغولةٌ عنك بضريبةٍ عليَّ لمولاي، [قال: ] فنقرت بسوطي على قربوس سرجي وغنيت بشعر الأحوص (¬2): [من الخفيف] كفناني إن متُّ في دِرْعِ أَروَى ... وامْتَحا لي من بئرِ عروةَ مائي إنَّني والذي تحجُّ قريشٌ ... بيتَه سالكينَ نَقْبَ كداءِ لَمُلِمٌّ بها وإن أُبْتُ منها ... صادرًا كالذي وردت بداءِ ولها مَرْبَعٌ ببُرقَة خاخٍ ... ومَصِيفٌ بالقصرِ قصرِ قُبَاءِ قَلَبَتْ لي ظهرَ المجنِّ فأضحت ... قد أطالتْ مقالةَ الأعداءِ فرفعت الجاريةُ طرفها إليَّ وقالت: أتعرفُ بئر عروة؟ قلت: لا، قالت: هي والله هذه، ثم سقتني حتَّى رَويتُ وقالت: هل لك أن تعيدَه، قلت: نعم، فأعدتُه، فطربَتْ وقالت: والله لأحملنَّ لك قربَة ماءٍ إلى رحلِك، فحملَتْهَا معي، فلمَّا رأتِ الخدمَ والجيشَ فزعت (¬3)، فقلت: لا بأسَ عليك، فكسوتُها وأعطيتُها دنانير، وأمسكتُها في الرحل، ثم صرتُ إلى هارون فحدَّثته حديثها، فأمر بابتياعِها، وأعتقَها ووصلَها. [وحدثنا غير واحدٍ عن شَهْدَة الكاتبة بنت أَحْمد بإسنادها إلى أَحْمد بن عليّ بن ¬

_ = وفيها اختلاف في الأبيات. قال جامع الديوان: حنينية، نسبة إلى حنين الحيري المغني، والمعبديات نسبة إلى معبد اليقطني المغني. وقوله: البَرْبَط: أي العود. القاموس (بربط). والخبر مع الشعر ليس في (ب). (¬1) في (خ) و (ف): أعراضها. وفي (ب): عراضها. والمثبت من الأغاني 10/ 122. (¬2) في ديوانه ص 71 - 72. (¬3) في (ب) فرقت.

حرب قال: ] (¬1) اختفى إبراهيمُ [بن المهدي] عند أخته عُليَّة بنت المهدي خوفًا من المأمون، فكانت تكرمُه غايةَ الكرامة، ووكَّلت به جاريةً قد أدَّبتها وأنفقت عليها الأموال، وكانت حاذقةً راويةً للشعر، [وكانت] قد طُلِبت منها بمئةٍ وخمسين أَلْف درهم فأبت، وكانت الجاريةُ تتولَّى خدمةَ إبراهيم وتقوم على رأسه، فهويَها، وكرهَ أن يطلبَها من أخته، فلمَّا اشتدَّ وجدُه بها أخذ عودًا وغنَّى بشعرٍ له فيها، وهي واقفةٌ على رأسه: [من مجزوء الرمل] يا غزالًا لي إليه ... شافعٌ من مقلتيهِ والذي أجللتُ خدَّيـ ... ـه فقبَّلتُ يديه بأبي وجهُك ما أكـ ... ثر حُسَّادي عليهِ أنا ضيفٌ وجزاءُ الـ ... ضَيف إحسانٌ إليهِ فَفَطِنَت الجارية لشعره، وكانت مولاتُها تسائلها كلَّ يومٍ عن حاله، فأخبرتهَا بالشعر فقالت: اذهبي فقد وهبتُك له، فعادت إليه، فلما رآها أعاد الصوت (¬2)، فقبَّلت رأسه، فقال لها: كفِّي، فقال: [قد] وهبتني مولاتي لك، وأنا الرسول، فقال: أمَّا الآن فنعم (¬3). [والبيت الأخير، وهو: أنا ضيفٌ ... مكتوبٌ على قبر جدِّي رحمه الله مع بيتين آخرين ضمْنهُما هذا البيت، وسنذكره في ترجمة جدِّي رحمه الله. قال الخَطيب: حدَّثنا الجوهريُّ، حَدَّثَنَا محمَّد بن العباس قال: أَنشدني عبيد الله بن أَحْمد المروروذي قال: أنشدني إبراهيم بن المهدي لنفسه هذه الأبيات: ] (¬4) [من البسيط] قد شابَ رأسي ورأسُ الحرص لم يشبِ ... إنَّ الحريصَ على الدُّنيا لفي تعبِ قد ينبغي ليَ مع ما حُزْتُ من أدبٍ ... أنْ لا أُخوِّضَ في أمرٍ يُنقِّصُ بي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال أَحْمد بن عليّ بن حرب. (¬2) في (ب) - وما بين حاصرتين منها -: فلما عادت إليه أعاد الصوت. (¬3) المنتظم 11/ 89 - 90. (¬4) في (خ): ومن شعره. وفي (ف): ومن شعر ابن المهدي. والمثبت بين حاصرتين من (ب).

لو كان يَصْدُقني دهري (¬1) بفكرته ... ما اشتدَّ غَمِّي على الدُّنيا ولا نَصَبي أسعى وأجهدُ فيما لست أدركه ... والموتُ يقدحُ في زندي وفي عصبي بالله ربِّك كم بيتٍ مررتَ به ... قد كان يَعْمر باللذاتِ والطربِ طارت عُقابُ المنايا في جوانبه ... فصارَ من بعدها للويل والخَربِ فامسك عِنانكَ لا يجمح به طُلَعٌ ... فلا وعيشك ما الأرزاقُ بالطلبِ قد يُرزقُ العبد لم تتعب رواحلُهُ ... ويحرمُ الرزقَ من لم يؤتَ من طلبِ مع أنني واجدٌ في النَّاس واحدةً ... الرزقُ والنَّوكُ مقرونان في سببِ وخَصْلَةٍ ليس فيها مَن ينازعُني ... الرزق أروغُ شيءٍ عن ذوي الأدب يَا ثاقبَ الفهمِ كم أبصرت ذا حُمُقٍ ... الرزقُ أغرى به من لازم الجَرَبِ (¬2) [وقال الصوليّ: ] وكان لإبراهيم ولدٌ اسمه [أَحْمد بن] إبراهيم (¬3) فمات، فقال يرثيه: [من الطَّويل] نأى آخرَ الأيَّامِ عنكَ حبيبُ ... فللعين سَحٌّ دائمٌ وغُرُوبُ دعته نَوًى لا يُرتجَى ثوبةٌ (¬4) لها ... فقلبُك مسلوبٌ وأنت كَئيبُ يؤوبُ إلى أوطانِهِ كلُّ غائبٍ ... وأحمدُ في الغُيَّابِ ليس يَؤوبُ تبدَّل دارًا غيرَ داري وجِيرةً ... سوايَ وأحداثُ الزمان تَنوبُ أقام بها مُستوطِنًا غيرَ أنَّه ... على طُولِ أيَّام المُقَامِ غريبُ تولَّى وأَبقى بيننا طيبَ ذكره ... كباقي ضياء الشّمس حين تَغيبُ وكان نصيبَ العيِن في كلِّ لحظةٍ (¬5) ... فأضحى وما للعينِ منه نَصيبُ وكان وقد زان الرجال بفعله ... فإن قال قولًا قال وهو مصيبُ وكانت يدي ملأى به ثمّ أصبحت ... بعدلِ إلهي وَهْيَ منه سليبُ ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق ونسخة كما في هامش المنتظم: ذهني. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 74، وتاريخ دمشق 2/ 531 - 532 (مخطوط). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) وأشار فيها إلى الأبيات ولم يذكرها. (¬4) في المصادر: أوبة. (¬5) في المصادر: من كل لذة.

جَمعتُ أطبّاءُ البلادِ فلم يُصِبْ ... شفاءكَ منهم يا حبيبُ طبيبُ ولم يملك الآسونَ دفعًا لمهجةٍ ... عليها لأشراك المَنونِ رقيبُ فما لي إلَّا الموتُ (¬1) بعدك راحةٌ ... وليس لنا في العيشِ بعدك طِيبُ وإنّي وإن قُدِّمتَ قبلي لَعالِمٌ ... بأنّي وإن أبطأتُ عنك قريبُ وإنَّ صباحًا نلتقي في مسائه ... صباحٌ إلى قلبي الغداةَ حبيبُ (¬2) [وكان موتُ ابنه في البصرة. وحكى الخَطيب عن خالد بن يزيد الكاتب قال: أضقتُ إضاقةً شديدةً حتَّى عَدِمتُ القوتَ، فلمَّا كان بعض الليالي إذا الباب يدقُّ، فخرجت فإذا رجلٌ راكبٌ على حمار، وعليه طيلسانٌ أسود، ومعه خادمٌ، فقال: أَنْتَ القائل [من المنسرح]: أقولُ للسُّقم عُدْ إلى بدني (¬3) ... حبًّا لشيءٍ يكون من سببك قلت: نعم، فقال: أحبُّ أن تنزل عنه، فقال: وهل ينزل الإنسان عن ولده؟ ! فتبسَّم وقال: يَا غلام، أعطِهِ ما معك، فدفعَ إليه صرَّةً مختومةً، فقلت: لا أقبل عطاءَ مَن لا أعرفه، قال: خذها، فأنا إبراهيمُ بن المهدي، فقبَّلتُ ركابه وأخذتُها (¬4)، وإذا فيها ثلاث مئة دينار. وسنذكر خالد بن يزيد في سنة اثنتين وستين ومئتين.] وقال إبراهيم العتبيّ: تنازع إبراهيم بن المهديّ وابن بختيشوع الطبيب بين يدي أَحْمد بن أبي دؤاد في عقارٍ بالسَّواد، فاستطال عليه إبراهيمُ بالكلام، فقال له أَحْمد: يَا إبراهيم إذا نازعتَ أحدًا في مجلس الحكم فلا ترفعنَّ عليه صوتًا، ولا تشيرنَّ إليه بيدٍ، وليكن قَصدُك أَممًا، وطريقُك نهجًا، ووفِّ بمجلس الحكم حقَّه من التوقير والتعظيم؛ فإنّه أشبه بمذهب الحق، [ولا تعجل] (¬5) فرب عجلةٍ أورثت رَيثًا، والله يعصمُك من ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): الحزن. والمثبت من المصادر. (¬2) أشعار أولاد الخلفاء من كتاب الأوراق للصولي ص 44 - 45، والتعازي والمراثي ص 153 - 156، والكامل للمبرد 3/ 1383 - 1385، وتاريخ دمشق 2/ 532 - 533 (مخطوط). وفيها زيادة ونقص واختلاف يسير. (¬3) لفظة: بدني. ليست في (ب) وأضفتها من المصادر. (¬4) تاريخ بغداد 9/ 255 - 256، وتاريخ دمشق 6/ 525 (مخطوط)، وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من العقد الفريد 1/ 85، وزهر الآداب 1/ 205.

الزلل، ويوفقُك في القول والعمل، ويتمُّ نعمتَه عليكَ كما أتمَّها على أبويك من قبل. فقال له إبراهيم: أيُّها القاضي، أصلحَك الله، أمرتَ بسَداد، وحَرَصْتَ على رشاد، ولستُ بعائدٍ إلى ما يَثلِمُ مروءتي عندك، ويسقطني من عينك، ويحوجُني إلى الاعتذار إليك، وقد وهبتُ لابن بختيشوع حقِّي من العقار، وليس ذلك يقومُ بأمر الجناية (¬1)، ولن يتلفَ مالٌ أفاد موعظةً، وأيقظ من سِنَةٍ، وحسبي الله ونعم الوكيل. قال أَحْمد بن يوسف الكاتب: كنت أنادمُ المأمون قبل وزارتي، وكان يحضر معنا إسحاقُ بن إبراهيم الموصلي واليزيديّ، فلما رضيَ المأمونُ عن إبراهيم بن المهدي نادمَه، ولم يكن ينادمُ غيره، فغنَّى إبراهيم ذات يوم عنده وهو يقول: [من البسيط] صونوا جيادكُمُ واجلُوا سلاحكُمُ ... وشمِّروا إنَّها أيَّامُ من غَلَبا فغضب المأمون وقام، ولم يفطن إبراهيم، فلمَّا كان ساعة جلس المأمون في مجلس الخلافة وأحضر القوَّاد، فوقفوا على رأسه، واستدعى إبراهيمَ في ثياب المنادمة؛ ليفضحه بذلك، فلمَّا وقف بين يديه قال له: يَا إبراهيم، ما حملك على الخروج عليَّ، والخطبة لنفسك بالخلافة. فقال له إبراهيم بقلبٍ ثابتٍ وجَنانٍ قويِّ: لستُ أخلو من أن أكونَ عندك إمَّا عاقلًا وإمَّا جاهلًا، فإن كنتُ جاهلًا، فقد سقط اللوم عنِّي، وإن كنت عاقلًا، فيجب (¬2) أن تعلمَ أنَّ أخاكَ محمدًا مع أمواله، وأموال أَبيه وأمِّه، وجواهره وذخائره، وعبيده وعسكره، وخيله ورَجِله، ومحبَّة بني هاشمٍ له، لم يثبت لك، وهو خليفةٌ وأنت أميرٌ من أمرائه، فكيف كنت أثبتُ لك وأنا في قومٍ أكثرُهم له في الشهر ثلاثون درهمًا؟ ! وقد غلبني على بغداد ابن أبي خالد العيار، وأصحابه يحبسون ويقطعون الطريق ويطلقون، وليس معي دينارٌ ولا درهمٌ، وليس لي حكمٌ ينفذ في بغداد، ومعظمُ أهلها ما كانوا معك (¬3)، ووالله -وإلَّا بريتُ من نسبي من العباس- إن كنتُ دخلتُ في هذا الأمر إلَّا لأبقي الخلافة عليك وعلى أهل بيتك؛ لمَّا رأيتُ الفضلَ بن سهل قد حملهُ الرفض والبطرُ على أنْ أَخْرَجَ الخلافَةَ إلى غيرك من أعدائك، ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي المصادر: وليتَ ذلك يقومُ بأرش الجناية. والخبر بطوله ليس في (ب). (¬2) في الفرج بعد الشدة 3/ 349: فيحسن. (¬3) كذا في (خ) و (ف).

وكان يعمِّي عليك الأخبارَ، وشغبَ ببغداد أهلُ بيتك، فأردتُ ضبطَ هذا الأمر إلى أن تقدم، فأسلمها لك. فأسفر وجهُ المأمون، وقال: عليَّ بنافذ الخادم، فحضرَه، فقال: ورقةٌ دفعتها إليك بمروٍ قبل رحيليِ عنها، وأمرتُك بحفظها وقت أريدها، فمضى وعاد وهي معه بخطِّ المأمون يقول: لئن أظفرني الله بإبراهيم بن المهدي لأسالنَّه بحضرة الأولياء والخاصَّة من أهل بيتي وقوَّادي عن السبب الذي دَعاه إلى الخروج عليّ، فإنْ ذكر أنَّ هذا الأمر عليَّ وعلى أهل بيتي لما جرى في أمر علي بن موسى الرضا، لأخلينَّ سبيلَه ولأحسننَّ إليه، وإن ذكر غير ذلك ضربتُ عنقه. ثمَّ ناولَ إبراهيمَ الرقعةَ فقرأها، فقال له: يَا عم، عد إلى المجلس الذي خلفتك فيه، وقام المأمون، وعُدنا إلى مجلسنا، وإذا بالمأمون قد عَادَ بثياب المنادمة، فقال: ارجعوا إلى ما كنّا فيه (¬1). ذكر وفاته: قال الصوليّ: بويع بالخلافة ببغداد يوم الجمعة لخمسٍ خلون من المحرَّم سنة إحدى أو اثنتين ومئتين في داره المنسوبة [إليه] بسوق العطش، وسموه المبارك، وقيل: المرتضى (¬2)، فكانت خلافته إلى أن استتر سنةً واحد عشر شهرًا، [وأقام مستترًا ستَّ سنين وأربعة أشهر وأيَّامًا,] وظفر به المأمون في سنة عشرين ومئتين، وبقيَ حيًّا إلى هذه السنة، فتوفي يوم الجمعة لسبعٍ خلونَ من رمضان بعلَّة العطش. [قال الصولي: ] وكانَ يشربُ الماء ولا يَروى، فماتَ وهو عطشان، وله ثمان وخمسون سنة، وصلَّى عليه المعتصم، ثم قال لولده الواثق [هارون]: قف عند قبره حتَّى تواريه، فوقفَ ودلَّاه في قبره، فلمَّا فرغ منه سأل أهله وابنه هبة الله: هل أوصى بشيء؟ قالوا: نعم، أوصى أن يفرَّق مالٌ عظيم في أولاد الصَّحَابَة إلَّا أولاد عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، [فإنَّه أوصى أن لا يفرَّق فيهم شيء,] قال: ولم؟ فقال بعض ¬

_ (¬1) الفرج بعد الشدة 3/ 347 - 350. والخبر بطوله ليس في (ب). (¬2) كذا، وفي تاريخ بغداد 7/ 69، وتاريخ دمشق 2/ 521 (مخطوط)، والمنتظم 10/ 107: المرضي.

سليمان بن حرب

الحاضرين: كان يبغضُ عليًّا، فغضبَ الواثق فقال: [لعنه الله، والله لقد دلَّيتُه في قبره كافرًا، فلا رحمه الله] ويحه! ينحرف عن شرفه وخير أهله، [والله لولا أميرُ المُؤْمنين ما وقفت على قبره] , ثمَّ أمر ففرّقَ من المال في أولاد عليٍّ رضوان الله عليه أضعاف [أضعاف] ما فُرِّق [في غيرهم (¬1)، وقد استوفى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب "الأغاني" أخبار إبراهيم بن المهدي وما كان يغني به من الأصوات]. قلت: يحتمل أنَّ إبراهيم أوصى بذلك من زكاةٍ وجبت عليه، واستثنى بأولاد عليٍّ رضوان الله عليه، فإنَّه يحرم عليهم ذلك (¬2). [وفيها تُوفِّي] سليمانُ بن حَرْب [ابن بجيل] , أبو أَيُّوب الأَزدِيّ الواشحيّ البصريّ، ولد في صفر سنة أربعين ومئة، وكان إمامًا فاضلًا. [ذكر الخَطيب عن يحيى بن أكثم قال: ] (¬3) لمَّا عدتُ من البصرة إلى بغداد، قال لي المأمون: مَنْ تركتَ بالبصرة من مشايخهم، قلت: سليمان بن حرب، حافظ الحديث، ثِقَة عاقل في نهاية السِّتر والصيانة. [قال: ] فأمر بحمله إليه، فكتبتُ إليه، فقدم فاتفق أنَّه كانَ في مجلس المأمون أحمدُ ابن أبي دؤاد وثُمامةُ وأشباههما، فكرهتُ أن يدخُل مثلُه في حضرتهم (¬4)، فلمَّا دخل سلم على المأمون فردَّ عليه [السَّلام] ورفع مجلسه. قال ابن أبي دؤاد: يَا أميرَ المُؤْمنين، نسألُ الشيخ عن مسألةٍ، فنظر المأمون إلى ¬

_ (¬1) ذَكَرَ خبر وصية إبراهيم بن المهدي الصوليُّ في أشعار أولاد الخلفاء من كتاب "الأوراق" للصولي ص 48 - 49 لكن بغير هذا السياق، وفيه أن إبراهيم أشهد جماعة من بني العباس على وصيته، فقرأها الواثق قبل موت إبراهيم، ثم إنه توليَّ تدليته في قبره كارهًا بسبب تلك الوصية. (¬2) من قوله: قلت إلى هنا ليس في (ب)، وما سلف بين حاصرتين منها. وانظر ترجمته في أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم من كتاب "الأوراق" للصولي ص 17 - 49، والأغاني 10/ 95 - 149، وتاريخ بغداد 7/ 68 - 75، وتاريخ دمشق 2/ 514 - 534 (مخطوط)، والمنتظم 11/ 89 - 91. (¬3) في (خ) و (ف): قال يحيى بن أكثم. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ب): عندهم ويحضرهم. بدل: في حضرتهم.

سليمان نَظَرَ تخييرٍ (¬1) له، فقال سليمان: حدَّثنا حمادُ بن زيد، قال: قال رجلٌ لابن شُبْرُمة: إنِّي أريدُ أن أسألك مسألةً، فقال له: إن كانت مسألتك لا تُضحِك الجليس ولا تُزري بالمسؤول فسل، وإلَّا فلا. قال يحيى: فهابَه القوم، فما نطق أحدٌ منهم بكلمة. [وحكى الخَطيب عن أبي حاتم الرَّازيّ قال: ] (¬2) حضرتُ مجلسَ سليمان بن حرب ببغداد، فَحُزِرَ الجمعُ، فكانوا أربعين ألفًا، وكان مجلسه عند قصر المأمون، والمأمون جالسٌ فوق القصر، وبينه وبين النَّاس سترٌ رقيق، وهو خلفه يكتب ما يملي سليمان، وسليمانُ على منبر، وبابُ القصر مفتوح (¬3). وجاءه (¬4) رجلٌ فقال: قد ماتَ مولاك فلان، وخَلَّفَ عشرين أَلْف درهم، فقال: فلانٌ -لقريبٍ له- أقربُ إليه منِّي. ولم يأخذ منه درهمًا، وهو محتاجٌ إلى درهم. وقال [الخطيب: قال أبو حاتم: ] كان سليمان يُحدِّث بالمعنى (¬5) ولا يدلِّس، وظهرَ من حديثه نحو من عشرة آلاف حديث، وما رأيت في يده كتابًا قطّ، وكان فقيهًا (¬6). وولي قضاء مكَّة فخرج إليها في سنة أربع عشرة ومئتين، فأقام إلى سنة تسع عشرة [ومئتين] , ثمَّ عُزِلَ عنها، فرجع إلى البصرة، فمات بها في ربيع الآخر [سنة أربعٍ وعشرين ومئتين]. سمع خلقًا كثيرًا منهم شعبة، [وجرير بن حازم، والحمادان، ] (¬7) وروى عنه الإِمام ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف) و (ب): مختبر، والتصويب من تاريخ بغداد 10/ 48، وتهذيب الكمال 11/ 389، وسير أعلام النبلاء 10/ 332. (¬2) في (خ) و (ف): وقال أبو حاتم الرَّازيّ. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ بغداد 10/ 45، وكلام أبي حاتم في الجرح والتعديل 4/ 108. (¬4) قبلها في (ب): قال: وقال أبو حاتم. ولم أر الخبر في الجرح والتعديل في ترجمة سليمان بن حرب. وذكره الخَطيب البغدادي في تاريخ بغداد 10/ 47 بإسناده إلى المسعريّ. (¬5) قوله: كان سليمان يحدث بالمعنى. ليس من كلام أبي حاتم، بل هو قول الخَطيب البغدادي انظر تاريخ بغداد 10/ 48. (¬6) تاريخ بغداد 10/ 44، والجرح والتعديل 4/ 108. (¬7) في (خ) و (ف): وغيره. والمثبت بين حاصرتين من (ب).

أبو عبيد القاسم بن سلام

أَحْمد، والبخاريُّ، [ويحيى بن سعيد القطَّان، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزُّبير شيخ البُخَارِيّ، وهو الحميديّ,] وأبو زرعة، [وأبو حاتم الرَّازيّ، ومحمَّد بن سعد كاتب الواقدي، وإبراهيم الحربيّ] وغيرهم. واتَّفقوا على صدقه وورعه [وثقته] (¬1). [وفيها تُوفِّي] أبو عبيد القاسم بن سلَّام كان أبوه عبدًا روميًّا لرجلٍ من أهل هَرَاة من الأزد. ولد أبو عبيد بهراة، [وذكره الخَطيب فقال: ] (¬2) القاسم بن سلَّام التركيّ، صاحب الكتب المصنَّفة، منها: "غريب الحديث"، و"الغريب المصنف"، و"كتاب الأموال"، و"الأمثال"، و"المجاز" (¬3)، و"القراءات"، و"الناسخ والمنسوخ"، وكان مؤدِّبًا لآل هَرْثمة، صاحب فقهٍ وعربيَّة، وليَ القضاء بطَرَسوس أيَّام ثابت بن نصر بن مالك، ولم يزل معه ومع ولده، وقدمَ بغداد يصنِّف الكتب، وصحب عبدَ الله بن طاهر، وكان [عبد الله] يحبُّه ويثني عليه (¬4). وقال عبد الله بن جعفر، ابنُ دُرُسْتُويه النَّحويّ: كان أبو عبيد ذا فضلٍ ودينٍ ومذهبٍ حسن، وكان إذا ألَّف كتابًا بعثَ به إلى عبد الله بن طاهر، فيحمل إليه مالًا جليلًا استحسانًا لذلك (¬5). وقال أَحْمد بن يوسف: سمعت كتاب "غريب الحديث" من أبي عبيد ورويتُه عنه، ¬

_ (¬1) انظر بالإضافة إلى المصادر المذكورة طبقات ابن سعد 9/ 301، والمنتظم 11/ 91 - 92، وتهذيب الكمال 11/ 384 - 393، وسير أعلام النبلاء 10/ 330 - 334. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): وقال الخَطيب. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) نسبة كتاب المجاز لأبي عبيد القاسم بن سلام خطأ، فلم يذكره أحدٌ ممن ترجم له، والصواب أن "مجاز القرآن" لأبي عبيدة معمر بن المثنَّى، كما هو معلوم. (¬4) تاريخ بغداد 14/ 392 - 393، وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) انظر تاريخ بغداد 14/ 393.

ولمَّا عمله عرضه على (¬1) عبد الله بن طاهر، فاستحسنَهُ وقال: إنَّ عقلًا بعث (¬2) صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب لحقيقٌ أن لا يُحوَجَ (¬3) إلى طلب المعاش، فأجرى له عشرةَ آلاف درهم في كلِّ شهر (¬4). وأوَّل من سمع هذا الكتاب منه يحيى بنُ معين وابنُ المدينيّ. وكان الأصمعيّ يقول: لن يضيعَ النَّاس ما بقي أبو عبيد (¬5). وكان إبراهيم الحربيّ يقول: ما شبَّهت أَبا عبيدٍ إلَّا بجبلٍ نُفِخَ فيه روح (¬6). وقال الفسطاطيّ: وجَّه أبو دلف العجليُّ يستهدي أَبا عبيد مدَّة شهرين من ابن طاهر، فبعثَ إليه به، فأقامَ عنده شهرين، فلمَّا أراد الانصرافَ وصلَه بثلاثين أَلْف درهم، فلم يقبلها وقال: أنا في ظلِّ رجلٍ ما يحوجني إلى صلة أحد، وبلغ ابنَ طاهر، فلمَّا عاد إليه وصلَه بثلاثين أَلْف دينار، فقال: أيُّها الأمير قد قبلتُها, ولكن قد أغنيتني بمعروفِك وبرِّك عنها، فقال: لا بدَّ من قبولها، فقال: قد قبلتُها وجعلتُها في سبيل الله، فاشترِ بها سلاحًا وخيلًا وابعث بها إلى الثغور؛ ليكونَ الثواب متوفِّرًا للأمير، فاستحسنَ ابنُ طاهر فعلَهُ، واشترى بها ما قال (¬7). وكان عبد الله بن طاهر ببغداد يطمعُ أن يأتيَه القاسم، يجيءُ إلى منزله فيسمع منه، فلم يفعل، [حتى كان هذا يأتيه] (¬8)، فقدمَ ابن المدينيّ وعبَّاس (¬9) العنبريّ، فأرادا أن ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). والذي في تاريخ بغداد 14/ 395، وتاريخ دمشق 58/ 266 (طبعة مجمع اللغة)، والمنتظم 11/ 97، وسير أعلام النبلاء 10/ 495: قال عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن السكري قال أَحْمد بن يوسف -إما سمعته منه، أو حُدِّثت به عنه- قال: لما عمل أبو عبيد كتاب "غريب الحديث" عرض على ... (¬2) في (خ) و (ف): تعب. والمثبت من المصادر. (¬3) في (خ) و (ف): يخرج. والمثبت من المصادر. (¬4) انظر طبقات الحنابلة 1/ 261. (¬5) تاريخ بغداد 14/ 405. (¬6) تاريخ بغداد 14/ 404. (¬7) تاريخ بغداد 14/ 395. (¬8) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 14/ 397، وفي إنباه الرواة 3/ 17: فلم يفعل إجلالًا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان هو يأتيه. (¬9) في (خ) و (ف): وعياش. تصحيف.

يسمعَا منه الغريب، وكان أبو عبيد يحملُ "غريب الحديث" كلَّ يومٍ إليهما في منزلهما فيحدِّثهما به (¬1). [وكان أبو عبيد قد صحبَ طاهرَ بن الحسين. قال: وقال أبو عبيد: أقمتُ في تصنيف "غريب الحديث" أربعين سنة. قال الخَطيب: ] ولما وقفَ الإمامُ أَحْمد بن حنبل رحمة الله عليه قال: جزاه الله خيرًا. وقال عبد الله بن أَحْمد بن حنبل: أولُ من كتب "غريب الحديث" أبي وسمعه (¬2) منه. [قال: وقال أبو عبيد: كنت أسمعُ الفائدةَ من أفواه الرجال، فأضعُها مواضعَها منه، وأَبيتُ الليلَ ساهرًا؛ فرحًا مني بتلك الفائدة، وأحدكم يجيئني فيقيمُ عندي أربعةَ أشهرٍ أو خمسة، فيقول: قد أقمتُ الكثير (¬3). وقال الخَطيب: ] قال أبو عبيد: الألفاظ الشريفة والمعاني اللطيفة مثلَ القلائد اللائحة في الترائب الواضحة (¬4). [قال: وكان عبد الله بن طاهر يقول: النَّاسُ أربعة؛ ابن عباس في زمانه، والشعبيُّ في زمانه، والقاسمُ بن معن، وأبو عبيد في زمانه (¬5). قال]: وقال هلال بن العلاء الرقيّ: منَّ الله على هذه الأمَّة بأربعة؛ بالشافعيِّ؛ فَقِهَ أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبابن معين؛ نَفَى الكذبَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأحمدَ بن حنبل؛ ثبتَ في دين الله، وبأبي عبيد؛ فَسَّر أحاديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6). [قال: وقال إبراهيم الحربيّ: وَلي أبو عبيد القضاءَ بطَرَسوس في سنة ثمان عشرة ¬

_ (¬1) بعدها في إنباه الرواة 3/ 17: إجلالًا لعلمهما. وهذه شيمة شريفة، رحم الله أَبا عبيد. ومن قوله: وقال عبد الله بن جعفر بن درستويه ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) في (ف): وسمعته منه. وقول عبد الله ليس في (ب). وانظر تاريخ بغداد 14/ 396 - 397. (¬3) تاريخ بغداد 14/ 396. (¬4) تاريخ بغداد 14/ 399 - 400. (¬5) تاريخ بغداد 14/ 402. (¬6) تاريخ بغداد 14/ 400.

ومئتين في ولاية ثابت بن نصر الخُزَاعِيّ، كان يؤدِّبُ ولده.] (¬1) وقال الخطيب: كان أبو عبيد يَقسِم الليل ثلاث أثلاث؛ يصلِّي ثُلثَه، وينام ثُلثَه ويصنِّف الكتبَ في ثلثه (¬2). وقال: ما أتيتُ عالمًا قطُّ فاستأذنت عليه، إنَّما كنت أقعدُ على بابه حتَّى يخرج، كنت أتأوَّل قولَه تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيهِمْ لَكَانَ خَيرًا لَهُمْ} [الحجرات: 5]. [قال: وقال أبو عبيد: وقد رأيتُ القَلوطَ وهو نهرٌ قذرٌ إلَّا أنَّه جاري (¬3). قلت: قَلوط هو النهرُ الخارج من دمشق من ناحية القبلة بالأوساخ والأقذار، فلا يجوزُ الوضوءُ به، وإن كان جاريًا، ونجاستُه لتغيُّر أوصافه، فأما إذا بَعُد وامتدَّ فقد أفتى بعضُ الفقهاء بجواز الوضوء منه، والاعتماد على الظنِّ بطهارته، مع زوال الأوصاف المانعة، وكون الطباع السليمة لا تستقذره ولا تستحسنه، وغيرُه خيرٌ منه. وقال ابن المنادي: كان أبو عبيد يَنزلُ بغداد في درب الريحان، وخرج إلى مكَّة في سنة أربعٍ وعشرين ومئتين (¬4). وكتاب "الأموال" من أحسن ما صُنِّفَ في الفقه.] ذكر وفاته: [واختلفوا فيها، فقال الخَطيب: ] خرجَ إلى مكَّة سنةَ تسع عشرة ومئتين (¬5)، [وكذا قال البُخَارِيّ] (¬6) وقيل: سنة اثنتين أو ثلاث وعشرين [ومئتين] (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر تاريخ دمشق 14/ 322 (مخطوط) وعنه نقل. لكن وقع في تاريخ بغداد 14/ 403، ومطبوع تاريخ دمشق 58/ 262 - 263 (طبعة مجمع اللغة)، وإنباه الرواة 3/ 19، وسير أعلام النبلاء 10/ 501: ولي ثابت طرسوس ثماني عشرة سنة، فولي أبو عبيد القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة. (¬2) تاريخ بغداد 14/ 398. (¬3) تاريخ دمشق 58/ 251 (طبعة مجمع اللغة)، وليس في تاريخ بغداد، ولا هو عند ابن عساكر من طريقه. (¬4) تاريخ بغداد 14/ 393. (¬5) تاريخ بغداد 14/ 406. (¬6) لم يذكر البُخَارِيّ في التاريخ الكبير 7/ 172 خروجه إلى مكة بل ذكر أنَّه مات سنة أربع وعشرين ومئتين. (¬7) أي: تُوفِّي بمكة سنة ثنتين أو ثلاث وعشرين ومئتين. انظر تاريخ بغداد 14/ 406.

محمد بن عثمان

أسند عن خلقٍ كثيرٍ؛ منهم هشام بن عمار، [وهشيم بن بشير] , وحفص بن غياث، وابن عيينة، [وأبو معاوية الضَّرير، وابنُ مهدي، ويحيى بنُ سعيد القطَّان، ووَكيع، وابن عُلَيَّة، وأبو بكر وإسماعيل ابنا عياش، ويزيد بن هارون، وشريك القاضي] وغيرهم. [وكان قد رحل إلى الآفاق، ولقي الأئمّة البصريين والكوفيين، فروى عن أبي زيد، وأبي عبيدة معمر، والأصمعيّ، واليزيديّ، وأبي عمرو الشيبانيّ، والكسائيّ، والفرَّاء، وابن الأعرابيّ، وأبي زياد الكلابيّ، والأمويّ، وغيرهم. ورَوى عنه الأئمة: سعيدُ بن الحكم بن أبي مريم، وهو من شيوخه، وأحمدُ بن حنبل، ومن سمَّينا وغيرهم (¬1). وليس في الرجال من اسمُه القاسم بن سلَّام غير اثنين، أحدهما هذا، والثاني القاسمُ بن سلَّام بن مسكين البصريّ، وكنيته أبو محمَّد، حدَّث عن أَبيه (¬2).] (¬3) واتفقوا على صدقِه وورعه وثقته. وسئل ابنُ معين عنه فقال: مثلي يُسأل عن أبي عبيد؟ ! [أبو عبيد] (¬4) يُسأل عن النَّاس. وقال الإِمام أحمدُ رحمه الله: أبو عبيد عندنا أستاذٌ، ويزداد كل يومٍ خيرًا (¬5). [وفيها تُوفِّي محمَّد بن عثمان ابن أبي الجُمَاهِر (¬6)، أبو عبد الرَّحْمَن التنوخي الدِّمشقيّ من أهل كفرسوسة (¬7) قرية ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 14/ 392 - 393، وتهذيب الكمال 23/ 356 - 357. (¬2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 622، وانظر تهذيب الكمال 23/ 370. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). ومكانها في (خ) و (ف): وروى عنه الإِمام أَحْمد رحمة الله عليه وغيره. (¬4) ما بين حاصرتين ليس في (خ) و (ف)، واستدركته من تاريخ بغداد 14/ 405، وتهذيب الكمال 23/ 358. (¬5) من قوله: واتفقوا على صدقه وورعه ... إلى هنا ليس في (ب). (¬6) كذا في (ب). وفي تاريخ دمشق 63/ 222 (طبعة مجمع اللغة العربية)، وسير أعلام النبلاء 10/ 448 أنَّه عُرِف بأبي الجماهر. (¬7) كذا في (ب). واسمها كما في معجم البلدان 4/ 469: كفر سوسيَّة.

غربي دمشق. ولد سنة إحدى وأربعين ومئة. قال الحافظ ابن عساكر: تُوفِّي في هذه السنة (¬1). أسندَ عن إسماعيل بن عياش، وبقية بن الوليد، والدراورديّ، وغيرهم. وروى عنه أَحْمد بن أبي الحَواري، وأبو زُرعة وأبو حاتم الرازيّان، وأبو زُرعة الدِّمشقيّ، وأبو داود في "سننه"، وخلقٌ كثير. واتَّفقوا على صدقة وثقته وصلاحه.] (¬2) * * * ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 63/ 227. (¬2) لم ترد الترجمة في (خ) و (ف). وما بين حاصرتين من (ب).

السنة الخامسة والعشرون بعد المئتين

السنة الخامسة والعشرون بعد المئتين فيها استوزرَ المعتصمُ محمَّد بن عبد الملك الزَّيات، وخَلَعَ عليه خِلَعَ الوزارة، ورفعَ منزلته (¬1). وفيها أُسِرَ المازيار وقتل بسامرّاء. وفيها حَبَسَ المعتصمُ الأفشين، ونقم عليه، وسببُه عداوةُ ابن طاهر وابن أبي دؤاد للأفشين، فأوقعَا في قلب المعتصم أنَّه يريدُ قتلَه وزوال الخلافة عنه. [فحكى الصوليّ أن أحمدَ بن أبي دؤاد نقل] إلى (¬2) المعتصم أنَّ الأفشين كان يكاتب المازيار، فقال له [المعتصم: ] ومن أين أعلمُ حقيقةَ ذلك؟ قال: تبعث إلى كاتِبه فتهدّده وتواعده بالقتل، فأرسلَ إلى كاتبه ليلًا، فسألَه، فأنكر، فتوعَّده فأقرَّ، وقال: كتبتُ كتابًا إليه بخطّي؛ إنَّه لم يبق في العصر غير بابك وأنت وأنا، وقد مَضى بابك، وجيوشُ المعتصم عند ابن طاهر، فلم يبقَ عنده غيري، فإنْ هزمتَ ابنَ طاهر كفيتُك أنا المعتصم، ويخلصُ لنا الدين الأبيض -يعني المجوسيَّة لأنَّه كان يُتَّهمُ بها- فقال المعتصم للكاتب: إنْ ظهر أنَّكَ اجتمعتَ بي قتلتُك. ووهبَ له مالًا. قال أَحْمد بن أبي دؤاد: فدخلتُ على المعتصم وهو يبكي ويقلق، فقلتُ: لا أبكى الله عينيك، ما الذي بك؟ فقال: يَا أَبا عبد الله، رجلٌ أنفقتُ عليه ألفَ أَلْف دينار، ووهبت له مثلها، يريدُ قتلي، قد تصدَّقتُ لله تعالى بعشرة آلاف درهم، فخذها ففرِّقها. وكانت الكرخُ قد احترقت، فقلت: أرى أن يُفرَّقَ نصفُ هذا المال في أهل الكرخ، ونصفُها في أهل الحرمين (¬3)، فقال: افعل (¬4). ولمَّا كان الأفشينُ يحارب بابك كان لا يأتيه هديَّةٌ ولا مالٌ من أهل إرمينية إلَّا بعث بها إلى مدينته أشروسنة، ويجتازُ بعبد الله بن طاهر، فيخبرُ المعتصمَ بها، فكتب إليه ¬

_ (¬1) المنتظم 1/ 98. (¬2) في (خ): فنقل ابن أبي دؤاد إلى. وفي (ف): فنقل إلى. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب): الحرتين. ومن هنا إلى قوله: وفي هذه السنة رجفت الأهواز. ليس في (ب). (¬4) انظر المنتظم 11/ 99.

المعتصم أن يكاتبه بذلك، وبلغَ الأفشين، وكان يشدُّ الهمايين فيها الدنانير في أوساطِ أصحابه بقدر ما يحملُ الرَّجل، ويبعثُ بهم إلى أشروسنة، وعلم ابن طاهر فاجتاز يومًا جماعةٌ من أصحاب الأفشين، ففتَّشهم ابنُ طاهر، فوجدَ معهم الأموال، فقال: من أين لكم هذه الأموال؟ فقالوا: هذه للأفشين، فقال: كذبتم، لو أَرادَ أخي الأفشين أن يُرسِل بهذه الأموال لكتب إليَّ يخبرُني بها؟ لآمر ببذْرَقتها (¬1) إلى أشروسنة، وإنَّما أنتم لصوص، وأخذَ منهم المال، ففرَّقه في جنده، وكتبَ إلى الأفشين يذكرُ له ما قال القوم، ويقول: إنْ كان هذا المال ليس لك فقد أعطيتُه لجند أمير المُؤْمنين، وإن كان لك فأمير المُؤْمنين يعوِّضُك، فكتب إليه الأفشين: الأموال كلُّها لأمير المُؤْمنين، أطلق القومَ يمضوا في سبيلهم. واستوحش كلُّ واحدٍ منهما من صاحبه، وبلغ ابنَ طاهر أنَّ الأفشين يطمعُ في ولاية خراسان، فازدادت الوحشة، ووقع ابن طاهر بكتبِ الأفشين إلى المازيار، فبعثَ بها إلى المعتصم، وكان من عصيان منكجور بأذربيجان ما كان، فحقَّق المعتصم الأمر، وتيقَّن الأفشين ذلك، فعزم على الهرب إلى الزاب على أطواف (¬2)، ويمضي من هناك إلى إرمينية وإلى الخزر، ثم إلى أشروسنة، فتعسَّر عليه، فهيَّأ طعامًا كثيرًا، وجعل فيه سمًّا، وعزم على أن يدعو المعتصمَ وقوَّاده، ويسمَّهم، فإن لم يجبه المعتصمُ دعا الأتراك مثل إيتاخ وأشناس وغيرهما فسمَّهم، وخرجَ أوَّل الليل بالأطواف على الدوابّ إلى الزاب، فيعبر عليها إلى إرمينية، وكانت ولايتها إليه، فإذا وصل إليها صارَ إلى بلاد الخزر، ثمَّ يدور منها إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى أشروسنة، ويحمل الخزر والتركَ على أهل الإسلام يشغلهم عنه. وطال به الأمرُ، ولم يتهيَّأ له ذلك، وكان بعضُ خواصِّه قد اطَّلع على أمره، فجاء ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): لامر يبدر فيها. ولعل المثبت هو الصواب. وعبارة الطبري في تاريخه 9/ 104: لآمر بحراسته وبذرقته ... والبذرقة: الخفارة. القاموس المحيط (بذرق). (¬2) الطَّوف: قِرَبٌ يُنفخ فيها، ويُشدُّ بعضها إلى بعض، كهيئة السطح، يُركب عليها في الماء، ويحمل عليها، وتجمع على أطواف. انظر القاموس والمعجم الوسيط (طوف).

ذكر مناظرة أحمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيات

الجوسق (¬1)، وبنى له حبسًا مرتفعًا (¬2) وسماه لؤلؤة، وكتبَ المعتصمُ إلى عبد الله بن طاهر بأنْ يحتال (¬3) على الحسن بن الأفشين وزوجته أُتْرُجَّة بنت أشناس في يومٍ عيَّنه له، وكان الحسنُ قد كثرت شكاويه من نوح بن أسد وأنَّه يتحاملُ على ناحيته وضياعِه، فكتبَ إليه ابنُ طاهر بولاية نوح، وكتبَ إلى نوح يأمُره إذا وصل إليه الحسن بقبضه وشدِّه وإيثاقه، فسارَ الحسنُ، ولا يشكّ أنَّه والي الناحية، فخرج إليه نوح، فأخذه وشدَّه وثاقًا، وبعث به إلى ابنِ طاهر، فبعثَ به ابنُ طاهر إلى المعتصم. ذكرُ مناظرة أَحْمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمَّد بن عبد الملك الزَّيات وابن أبي دؤاد هو القاضي، وإسحاق صاحبُ الشرطة، وابنُ الزيَّات الوزير، فأتي بالأفشين وبالمازيار صاحب طبرستان، وموبذ موبذان، وهو أحد ملوك السُّغد، والمرزبان، وأحضروا رجلين، فكشفوا الثياب عن ظهورهما، فإذا هي عاريةٌ من اللحم، فقال له ابن الزَّيات: يَا حيدر (¬4)، هل تعرف هذين؟ قال: نعم، هذا مؤذنٌ، وهذا إمامٌ، بنيا مسجدًا بأشروسنة، فضربتُ كلَّ واحدٍ منهما ألفَ سوط، قال: ولم؟ قال: بيني وبين ملوك السُّغد عهدٌ أن أترك كلَّ قومٍ على دينهم، فوثبَ هذان على بيتٍ كانت فيه أصنامهم -يعني أهل أشروسنة- فأخرجَا الأصنام واتَّخذاه مسجدًا، فضربتُهما على تعدِّيهما. فقال له ابن الزَّيات: فما عندك كتابٌ قد زينته بالجواهر والذهب وجعلته في الديباج، فيه الكفر بالله تعالى؟ فقال: كتابٌ ورثتُه عن أبي، فيه آدابٌ وحكمٌ من آداب الأكاسرة، فأنا آخذُ منه الأدب، وأدفعُ ما سواه؛ ما ذكرت أنَّه كفر، مثلُ كتاب "كليلة ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وهذا اختصار مخلٌّ جدًّا. ومضمون الخبر أنَّ من اطَّلع على أمر الأفشين جرى بينه وبين أحد القواد حديث فأطلعه على أمر الأفشين، فأخبره القائد أن هذا الأمر لا يمكن ولا يتم، فذكر ذلك للأفشين، وخاف القائد على نفسه، فركب من ساعته إلى أمير المُؤْمنين حتى أعلمه، فوجَّه المعتصم يدعو الأفشين، فجاء الأفشين، وحبسه المعتصم في الجوسق. وانظر الخبر بتمامه في تاريخ الطبري 9/ 106. (¬2) في (خ) و (ف): مربعًا. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬3) في (خ) و (ف): يحتاط. (¬4) كذا، وهو تحريف. وصوابه: خيذر. انظر ما سلف ص 246 من هذا الجزء.

ودمنة"، وما ظننتُ أن هذا يخرجني من الإِسلام. فقال ابن الزيَّات للموبذ: ما تقول؟ فقال: إنَّ هذا كان يأكلُ المخنوقة ويحملني على [أكلها، ويزعمُ أنَّ لحمها [أرطب] (¬1) لحمًا من المذبوحة، وقال لي: إنِّي قد دخلتُ لهؤلاء القوم في كلِّ ما أكره، حتَّى أكلتُ الزيت، وركبتُ الجمل، ولبست النعل، غير أنِّي إلى هذه الغاية لم يسقط عنِّي شعرة، يعني: لمَ يَطَّلِ بالكلس ولم يختتن. وكان الموبذ إذ ذاك مجوسيًّا، وإنَّما أسلمَ بعد ذلك على يد المتوكل. فقال الأفشين: خبِّروني عن هذا الذي تكلَّم بهذا الكلام أثقةٌ هو في دينه؟ قالوا: لا، قال: فما معنى قَبولكم شهادةَ من لا تثقون به ولا تعدِّلونه! ؟ ثم أقبلَ على الموبذ وقال له: هل كان بيني وبينك باب أو كوَّةِّ تطَّلعُ عليَّ منها وتعرف أخباري؟ قال: لا، قال: أفليس كنتُ أدخلكَ منزلي، فأبثُّك سرِّي وميلي إلى الأعجميَّة وأهلها، قال: نعم، قال: لستَ بالثِّقة في دينك، ولا الكريمِ في عهدك، إذ أفشيتَ عليَّ سرًّا أسررتُه إليك. ثمَّ تقدَّم المرزبان فقال: يَا أفشين، كيف يكتبُ إليكَ أهلُ ملَّتك (¬2)؟ قال: كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدِّي، فقال ابن الزيَّات: وما كانوا يكتبون إليه؟ قال: يكتبون بالفارسية: إلى الإله من عبده، فقال ابن الزيَّات: أكذا هو؟ قال: نعم، قال: فما أبقيتَ لفرعون حين قال لقومه: "أنا ربكم الأعلى"، فقال: خفتُ أن يَفسُدوا عليَّ بتغيير ما يعهدونه، فقال له إسحاق: ويحَكَ يَا حيدر، كيف تحلفُ لنا بالله فنصدِّقك وأنت تدَّعي ما ادَّعى فرعون! فقال له الأفشين: يَا إسحاق، هذه سورةٌ قرأها عُجيف على عليِّ بن هشام، وأنت تقرؤها عليَّ، فانظر غدًا من يقرؤها عليك. ثم تقدَّم المازيار، فقالوا له (¬3): أتعرف هذا؟ قال: نعم، قالوا: هل كاتبته؟ قال: لا، فقالوا للمازيار: هل كتب إليك؟ قال: كتبَ إلي أخوه على لسانه أنَّه لم يكن ينصر ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 108. (¬2) في تاريخ الطبري: مملكتك. (¬3) أي: للأفشين.

هذا الدين الأبيض غيري وغيرك وغير بابك، فأمَّا بابك فإنّه بحمقه قتلَ نفسَه، ولقد اجتهدتُ في صرف الموت عنه، فأبى حمقُه إلى (¬1) أن دلَّاه فيما وقع فيه، فإن خالفتَ لم يكن للقوم منَ يؤمَرُ بقتالك غيري، ومعي الفرسان وأهل النجدة والباس، فإن وجِّهتُ إليكَ لم يبقَ أحدٌ يحاربنا إلَّا ثلاثة؛ العربُ والمغاربةُ والأتراك، وأمَّا العربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرةً، ثمَّ اضرب رأسه بالدّبوس، وهؤلاء الذئاب -يعني المغاربة- فإنَّما هم أَكَلَةُ رأس، وأما أولادُ الشياطين -يعني الأتراك- فإنَما هي ساعةٌ حتَّى تنفد سهامُهم، ثم تجولُ عليهم الخيلُ جولةَ (¬2) فتأتي على آخرهم، ويعود الدينُ إلى ما لم يزل عليه أيَّام العجم. فقال الأفشين: هذا يدَّعى على أخي دعوى لا تسمع عليه، ولو كنتُ كتبت إليه بهذا الكتاب لأستميله (¬3) إليَّ حتَّى يثق بي كان غيرَ مستنكرٍ؛ لأني إذا نصرتُ الخليفةَ بيدي، كنتُ أنْ أنصرَه بالحيلة أحرى؛ لآخذه بقفاه، وآتي به الخليفةَ فأحظى عنده كما حظي عنده عبد الله بن طاهر. فزجر أحمدُ بن أبي دؤاد الأفشينَ لما قالوا له ما قالوا، فقال له الأفشين: أَنْتَ يَا [أَبا] (¬4) عبد الله ترفعُ طيلسانك بيدك، فلا تضعُه على عاتقك حتَّى تقتلَ به جماعة، فقال له ابن أبي دؤاد: أمطهَّرٌ أَنْتَ؟ قال: لا، قال: فما منعَك من ذلك، وبه تمامُ الإِسلام والطهور من النجاسة؟ قال: أوليس في الإِسلام استعمال التقيَّة؟ قال: بلى، قال: خفت أن أقطع ذلك العضو مني فأموت، فقال أَحْمد: أَنْتَ تطعن بالرمح وتضربُ بالسيف، فما يمنعُك ذلك من أن تكونَ في الحرب، وتخافُ من قطع (¬5) قلفة؟ ! قال: تلك ضرورةٌ أصبرُ عليها، وأمَّا القلفة فلا وأبي أخرج بها من الإِسلام! (¬6) ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 109: إلَّا. (¬2) في (خ) و (ف): جولي. (¬3) في (خ) و (ف): لاستمليته. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 109 وغيره. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 110، والكامل 6/ 515. (¬5) في (خط) و (ف): قطعة. (¬6) كذا، ونص العبارة في تاريخ الطبري 9/ 110: ولم أعلم أن في تركها الخروج من الإسلام.

سعدويه

فقال ابن أبي دؤاد: وقد بانَ لكم أمره، ثم التفتَ ابن أبي دؤاد إلى بغا الكبير فقال: عليك به، فضربَ بغا على منطقته بيده، فجذبَها، فقال: قد كنتُ أتوقَّع منكم هذا قبلَ اليوم، فقلب بغا ذَيل القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامعه، ورَدَّه إلى حبسه (¬1). [وفي هذه السنة] (¬2) رجفتِ الأهوازُ وتصدَّعت الجبالُ، وخصوصًا الجبل المطلُّ على الأهواز، وسقط معظمُ البلد ونصف الجامع، وهرب أهلها إلى البرِّ والسفن، ودَامت أيَّامًا. وحجَّ بالنَّاس محمَّد بن داود (¬3). [فصل] وفيها تُوفِّي سَعْدُويَه واسمه سعيدُ بن سليمان، وكنيته أبو عثمان، الواسطيّ الواعظ البزَّاز. سكن بغداد. [قال الخَطيب: ] امتُحنَ في القرآن فأجاب، فقيل له بعد ذلك: ما فعلت؟ فقال: كفرنا ورجعنا (¬4). وكانت وفاته في ذي الحجَّة ببغداد، وله مئة سنة. حدَّث عن [الليث بن سعد، وزهير بن معاوية، وحمَّاد بن سَلَمة، وغيرهم,] (¬5) وروى عنه يحيى بن معين، [وأبو زُرعة، وأبو حاتم في آخرين. قال الخَطيب: ] وكان ثقةً مأمونًا (¬6). حجَّ ستينَ حجَّةً (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 107 - 110، والكامل 6/ 513 - 516. (¬2) في (خ) و (ف): وفيها. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) المنتظم 11/ 99. (¬4) تاريخ بغداد 10/ 121. (¬5) في (خ) و (ف): حدث عنه المسيّب وغيره؟ ! والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬6) تاريخ بغداد 10/ 120 نقلًا عن أبي حاتم. (¬7) تاريخ بغداد 10/ 119 - 123، والمنتظم 11/ 101، وتهذيب الكمال 10/ 483، وسير أعلام النبلاء 10/ 481.

أبو عمر صالح بن إسحاق

أبو عمر (¬1) صالح بن إسحاق النَّحويّ الجَرْميّ؛ وإنَّما سُمّي الجَرْميّ؛ لأنَّه نزل في قبيلةٍ من جَرْم، فنُسِبَ إليها. وقيل: كان مولاهم. وقيل: مولى بَجيلة (¬2). وكان إمامًا عالمًا فاضلًا، يعرف العربيَّة والنحو وأيَّام النَّاس وأشعار العرب، وله اختيارات وأقوالٌ وتصانيف ومقدِّمةٌ في النحو مشهورة، وكان ممن اجتمع له مع العلم صحَةُ الاعتقاد وحسنُ المذهب، وقَدِم بغداد، وناظرَ يحيى بن زياد الفرَّاء، وظهر عليه. وحَكى ثعلب عن ابن قادم قال: قدم الجرميُّ بغداد، فقال الفراء: إنِّي أحبُّ لقاءه، فجمعتُ بينهما، فغلبه الجرميُّ وأفحمه، فندمتُ على جمعي بينهما، قال ثعلب: فقلت لابن قادم: لم ندمتَ؟ قال: لأنَّ علمي علمُ الفراء، فلمَّا رأيتُه مقهورًا قلَّ في عيني، ونقص علمُه عندي. أسندَ الحديث عن يزيد بن زُريع وغيره، ورَوى عنه أَحْمد بن مُلاعب المُخَرِّمي (¬3) وغيره، وكان ذا ورعٍ ودين (¬4). عبد الله بن عَمرو ابن أبي الحجاج، أبو مَعْمَر المِنْقَرِيُّ البصريُّ، كان فاضلًا. قال: روى لنا شعبةُ يومًا قول كعبِ بن مالك الأَنْصاريّ من أبيات: [من الوافر] قَضينَا من تهامةَ كُلَّ ريبٍ ... وخيبرَ ثمَّ أجمعنا (¬5) السيوفَا نسائِلُها ولو نطقتْ لقالت ... قواطعُهنّ دَوْسًا أو ثقيفَا فلستُ لمالكٍ (¬6) إن لم نزركُمْ ... بساحةِ دارِكم منّا الضيوفَا (¬7) ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): أبو عمرو. والمثبت من المصادر. ومن هذه الترجمة إلى بداية ترجمة علي بن رزين ليس في (ب). (¬2) هو بجيلة بن أنمار بن أراش بن الغوث بن خثعم، تاريخ بغداد 10/ 426. (¬3) في (خ) و (ف): المخزومي. وهو تحريف. (¬4) تاريخ بغداد 10/ 426، والمنتظم 11/ 101، وتاريخ الإِسلام 5/ 588، وسير أعلام النبلاء 10/ 561. (¬5) كذا في (خ) و (ف) وتاريخ بغداد 11/ 202، وفي ديوان كعب ص 188: أجممنا. (¬6) في (خ) و (ف): بمالك، والمثبت من تاريخ بغداد. ووقع في ديوان كعب: لحاضن. (¬7) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ بغداد، وديوان كعب: ألوفا. بدل: الضيوفا.

علي بن رزين

وننتزعُ العروسَ عروسَ وجٍّ ... وتصبح دارُكم منا (¬1) خُلُوفا فصحَّفَ شعبةُ، ورواها عروس بسين مهملة، فقلت له: وأيُّ عروسٍ كانت؟ قال: فما هي؟ قلت: عروش، بشين معجمة، فكان بعد ذلك يكرمني ويرفع منزلتي. سمع شعبةَ وعبد الوارث بن سعيد -وبه يعرف، يقال: صاحب عبد الوارث- وغيرهما. ورَوى عنه البُخَارِيّ وغيره، وكان تقيًّا ثقةً، وأُقعِدَ في آخر زمانه (¬2). [وفيها توفي] علي بن رَزِين أبو الحسن الخراسانيّ الترمذيّ، ويقال: الهرويّ، أستاذ أبي عبد الله المغربي. كان صاحبَ آياتٍ وكرامات، [روى أبو جهضم أنَّه] شاعَ في النَّاس أنَّه يشربُ في كلِّ أربعة أيَّام (¬3) شربةً من ماء، فسأله رجلٌ من أهل قَرْميسين عن ذلك، فقال: وأيُّ شيء في ذلك، سأَلتُ الله أن يكفيني مؤنةَ بطني، ففعل. وله سياحاتٌ مشهورةٌ، وقال السلميّ: ماتَ ابن رَزين في هذه السنة، ودُفن على جبل الطُّور، وعمره عشرونَ ومئة سنة. [وقال إبراهيم بن شيبان: كان يقال إن ابن رَزين صَحِب الحسن البَصْرِيّ.] (¬4) أبو دُلَف العِجْليّ واسمه القاسمُ بن عيسى بن إدريس بن مَعْقِل بن سيّار (¬5) بن شمخ، وقيل: [بن] شيخ الخزاعيّ (¬6)، من ولد عِجْل بن لُجَيم، [وذكره الخطيب فقال: أبو دُلَف العجليّ] أمير الكرج. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف): وفي تاريخ بغداد، وديوان كعب: منكم. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 201 - 204، وتهذيب الكمال 15/ 353 - 357، وسير أعلام النبلاء 10/ 622، وتاريخ الإِسلام 5/ 606 - 607. (¬3) كذا في (خ) و (ف). وليست في (ب). وفي صفة الصفوة 4/ 167، والمنتظم 11/ 102: أربعة أشهر. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ) و (ف): سنان، وفي (ب): هلال. والمثبت من تاريخ دمشق 58/ 319 (طبعة مجمع اللغة العربية). (¬6) تاريخ بغداد 14/ 407. وما بين حاصرتين من (ب).

كان شجاعًا جوادًا شاعرًا أديبًا فصيحًا سخيًّا، ورد بغداد عدَّة دُفعات، و [قال أبو نُعيم]: كان من الأجواد الممدَّحين، تولى محاربة الخرَّمية، فأفناهم (¬1). [ذكرُ طرفٍ من أخباره: قد ذكره أربابُ السير، كالقاضي التنوخيّ في كتاب "الفرج بعد الشدَّة"، وكالخطيبِ وابن عساكر وغيرهم، فروي عن إبراهيم بن الحسن بن سَهْل قال: ] (¬2) كنَّا في موكب المأمون، فجاء أبو دُلَفٍ فترجَّل، فقال له المأمون: ما أخَّرك عني؟ فقال: يَا أمير المُؤْمنين، [مرضٌ عرضَ لي، فقال له المأمون: ] شفاك الله وعافاك، اركب، فوثبَ من الأرض إلى الفرس من غير أنْ يمسَّ بيده قَرَبُوس سرجه، فقال له المأمون: ما هذه وثبةُ مريض! فقال: بدعاءِ أمير المُؤْمنين شُفيت (¬3). وقال أبو الفرج الأَصْبهانِيّ: كان أبو دُلَف في جملة من كان مع الأفشين يحاربُ بابك، ثم تنكَّر له، وأخذه لمَّا قدمَ إلى سرَّ من رأى ليقتلَه، فقال المعتصم لابن أبي دؤاد: أدركه، ما أراك تلحقُه، وتلطَّف في خلاصه كيف شئت. قال ابن أبي دؤاد: فركضتُ إلى داره ركضًا، فدخلت وإذا بأبي دُلَف قائمٌ بين يديه، وقد أخذ بيده غلامان تركيَّان، وهو يريد قتلَه، فرميتُ بنفسي على البساط، وكان من عادته أن يفرش لي مُصَلى، فقال: سبحان الله! ما حملك على هذا؟ قلت: أَنْتَ حملتني عليه، وكلَّمته في القاسم وخضعت له، وهو لا يزدادُ إلَّا غِلْظةً، فقلت في نفسي: هذا عبد، وقد خضعتُ له ولم ينفع، وليس يؤخذُ إلَّا بالرهبة، فقمت قائمًا وقلتُ له: كم تقتلُ أولياءَ أمير المؤمنين واحدًا بعد واحد، وتخالفُ أمرَه في قائدٍ بعد قائد؟ ! إنَّ أمير المُؤْمنين يقولُ لك: إن قتلته قتلَك، فذلَّ ولَصِقَ بالأرض واضطرب، فأخذتُ بيد أبي دُلَفٍ وخرجت، وهو يقول: لا تفعل، فقلت: قد فعلتُ بأمر أمير المُؤْمنين (¬4). وفي رواية القاضي التنوخيّ أنَّ أَبا دُلَف كان مع الأفشين في حرب بابك، فحسدَه ¬

_ (¬1) انظر أخبار أَصبهان 2/ 160. (¬2) في (خ) و (ف): وقال إبراهيم بن الحسن بن سهل، وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ بغداد 14/ 412، وتاريخ دمشق 58/ 323. (¬4) الأغاني 8/ 250 - 251.

الأفشين لشجاعته وكرمه، فلمَّا عاد من حرب بابك سألَ المعتصمَ أنْ يطلق [يدَه على] (¬1) أبي دُلَف، وما كان يخالفُه في شيء، وكان يَدخلُ على المعتصم بغير إذن، فأطلقَه، فأخذه فقيَّده، وبلغ ابنَ أبي دؤاد، فدخلَ على الأفشين وقال: أبو دُلفٍ فارسُ العرب وشريفُها وملكها، وقد علمتَ ما كان من كسرى إلى النُّعمان حيث ملَّكَه على العرب، وأنتَ اليوم بقيَّةُ كسرى، فكن شريفَ العجم، كما أنَّ القاسم شريفُ العرب، فلم يجب، فقلت: أميرُ المُؤْمنين قد أطلقَه، وأخذت بيده وخرجت (¬2)، ودخلتُ على المعتصم فأخبرتُه، فقال: قتلني الله إن لم أقتله، وإذا بالأفشين قد جاء، فقال: يَا أمير المُؤْمنين، أطلقتَ يدي في رجلٍ سعى في دمي، وفعل ما فعل، ثم بعثت إليَّ مع أَحْمد تلك الرسالة، فقال: نعم، لا تعترضْ للقاسم، فقام الأفشينُ متذمّمًا، واتبعتُه لأتلافاه، فصاح بي المعتصم: ارجعْ أَبا عبد الله، وأطلق أَبا دُلَف من القتل. وبعث الأفشين إلى ابن أبي دؤاد يقول له: لا تقربني، فقال لرسوله: قل له: إنما أَنْتَ رجلٌ رفعتكَ دولة، فإن جئتكَ فلها، وإن قعدتُ فعنك، وما أتيتك من قلَّة، ولا اعتززت بك من ذلَّة (¬3). وقال أبو عبد الرَّحمن التَّوَّزي: استهدى المعتصم من أبي دُلَف كلبًا للصيد، فجعل في عنقه قلادةً وكتب عليها: [من المنسرح] أوصيكَ خيرًا به فإنَّ له ... خلائقًا لا أزالُ أحمدُها يدلُّ ضيفي علي في ظُلَم الليـ ... ـل إذا النارُ نامَ موقدُها (¬4) [وروى الخَطيب عن العتَّابي قال: ] (¬5) اجتمعنا على باب أبي دُلَف جماعة، وكان يعدنا بأموالٍ تأتيه من الكَرَج وغيره، فجاءته الأموال، فبسَط [الأنطاع] , وجلسنا حوله، فقام قائمًا، واتكأ على قائم سيفه وقال: [من الطَّويل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. انظر الفرج بعد الشدة 2/ 70 وما بعدها. (¬2) في الفرج بعد الشدة 2/ 73: ونفضت في وجهه يدي ونهضت. (¬3) انظر الفرج بعد الشدة 2/ 67 - 75. (¬4) تاريخ دمشق 58/ 334. ومن قوله: وقال أبو الفرج الأَصْبهانِيّ ... إلى هنا ليس في (ب). (¬5) في (خ) و (ف): وقال العتابي. والمثبت بين حاصرتين من (ب).

ألا أيُّها الزوَّارُ لا يدَ عندكم ... أياديكم عندي أجلُّ وأكبرُ فإن كنتمُ أفردتُمونيَ للرَّجا ... فشُكري لكم من شكركم ليَ أكثرُ كفاني من مالي دِلاصٌ وسابحٌ ... وأبيضُ من صافي الحديد ومِغْفَرُ (¬1) ثم أمر بنهب تلك الأموال، فأخذَ كلُّ واحدٍ على قدر قوَّته. وقال الفضلُ بن محمَّد بن أبي محمَّد اليزيديّ: كان لرجلٍ حجازيٍّ جاريةٌ حسناء، وكانت شاعرةً حاذقةً بالغناء، فأملقَ، فقدم بغداد، فلم يَحْظَ بطائل، وكان شاعرًا، فقيل له: عليك بأبي دُلَف، فخرج إليه إلى الكَرَج فامتدحه، وباعَه الجاريةَ بثلاثة آلاف دينار، ووصلَه، ورجعَ إلى بغداد حزينًا باكيًا على فقد الجارية، فسلماها إليه، فسألها عن حالها (¬2)، فقالت: لما فارقتُك استوحشتُ وامتنعتُ من الطعام والشراب والنوم، فدعاني أبو دُلَف وقال: غنِّي، فخنقتني العبرةُ، ولم أستطع الكلام، فجفاني واطَّرحني، وجعلني في حجرةٍ، وأقام عندي امرأة تخدمني، فقلتُ أبياتًا وكتبتها في ورقة، وكنت أتسلَّى بها وهي: [من البسيط] لو يَعلمُ القاسمُ العِجْليّ ما فعلَا ... لعاد معتذرًا ومطرقًا خجلَا ماذا دعاه إلى هجرِ المروءة في ... تفريقِ إلفينِ كانَا في الهوى مَثَلَا فإنَّ مولاي أصمتهُ الخطوبُ بما ... لو مرَّ بالطفلِ عاد الطفلُ مكتهلَا فباعني بيع مضطرٍّ وصيَّرهُ ... فرطُ الندامةِ بعد البين مختبِلَا وبتُّ عادمةً للصبر باكيةً ... كأنَّني مُدْنَفٌ قد شارفَ الأجلَا بين الضرائرِ أُدعى بالغريبةِ إن ... هفوتُ لم ألقَ (¬3) لي في النَّاس محتمِلَا فما تبدَّلتُ إلفًا بعد فُرقَته ... ولا تَعوَّضَ مني عابرٌ (¬4) بدلَا ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 14/ 410. وما سلف بين حاصرتين من (ب). والدِّلاص من الدروع اللينة، والفرس السابح الذي يسبح بيديه في سيره أي يجري. انظر اللسان (دلص)، (سبح). (¬2) كذا في (خ) و (ف). وفيه اختصار مخل أو سقط، وخلاصة الخبر أن الحجازي عاد إلى منزله فوجد الجارية، وقد أهداها له أبو دلف. انظر المنتظم 11/ 106. (¬3) في (ف): أَلْف. (¬4) في المنتظم 11/ 107: غادر.

قالت: واتَّفق أنَّ أَبا دُلَف اجتازَ بباب الحجرة، فدخل لينظرَ هل خفَّ ما أجد، فجلس يعاتبني ويرفقُ بي، فوجدني على حالي والرقعةُ بين يدي، فأخذَها ونظر فيها وقال: الآن يئستُ منك، وإن رددتُك على مولاك، فمن يردُّ علي المال؟ فقلت: الذي قبضَه منك، أو ما بقيَ منه وهو الأكثر، والله تعالى يخلفُ عليك ما ذهبَ منه، فأطرقَ ساعةً، ثم قال: بل يخلفُ الله الأصلَ، وقد رددتُكِ على مولاك، ووهبتُ لك ما أعطيتُك من الحلي والجواهر والمتاع، لحسن عهدك ورعايتك حقَّ الصحبة، فاستتري منِّي، فقد خرجتِ من ملكي، ثمَّ جهَّزني مع خادمٍ وامرأة وأعطاني كسوة وكراعًا وثيابًا، فقلت له: يَا مولاي، قد حضرَ بيتان، فقال: قُولي، فقلت: [من البسيط] لم يخلق الله خلقًا صيغَ من كرمٍ ... إلَّا أمير الندى المكنى أَبا دُلَفِ رَثى لمحزونةٍ بالبين مُدْنفَةٍ ... فردَّها طالبًا أجرًا على دنفِ فدمعت عيناه، وأمر لي بخلعة ومئةِ دينار، وردَّني إلى مولاي. قال اليزيديُّ: فسمرتُ ليلةً عند المأمون، وحدَّثتهُ الحديثَ، فاستحسنه وقال: ما قصَّرتِ الجاريةُ في حفظِ عهد مَن ربَّاها، وما قصَّر القاسمُ في فعله، ونحتاجُ إلى أن نقوِّيَ نيَّته (¬1) في مثل هذا الفعل الجميل الذي هو معدودٌ من مفاخرِ أيَّامِنا، فقل لأحمد بن أبي خالد (¬2) يبعث إلينا مالًا، ونكتب إليه نعرفه انتهاءَ الحالِ إلينا، واستحسنا ما فعلَه (¬3)، ليزدادَ حرصًا على انتهازِ الفرص في مثل هذه المكارم. وقال الصوليُّ: تذاكرنَا يومًا عندَ المُبَرِّد في الحظوظ والأرزاق، وأنَّ الإنسان يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، قال: [هذا يقع كثيرًا, فمنه قول] (¬4) ابن أبي فنن قال أبياتًا اتِّفاقيةً لمعنى أراده وهي: [من البسيط] مالي ومالكِ قد كلَّفتِني شططًا ... حَمْلَ السلاح وقولَ الدَّارعين قفِ أمِنْ رجالِ المنايا خِلْتِني رجلًا ... أُمسي وأُصبِح مشتاقًا إلى التَّلَفِ ¬

_ (¬1) في المنتظم 11/ 108: نقوي عزمه. (¬2) في المنتظم 11/ 108: لأحمد بن أبي طاهر. (¬3) كذا، وفي المنتظم 11/ 108: وإحمادنا لما اعتمد. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 14/ 411، وتاريخ دمشق 58/ 326، والمنتظم 11/ 105.

تمشي المنونُ إلى غيري فأكرهها ... فكيف أسعَى إليها بارزَ الكتفِ أم هل حسبتِ سوادَ الليل شجَّعني ... أو أنَّ قلبيَ في جَنْبَي أبي دُلَفِ فبلغ أَبا دُلَفٍ هذا الشعرُ فبعثَ إليه بأربعة آلاف دينار، جاءته على بغتة. وقال الأصمعيُّ: دخلَ أبو دُلَفٍ يومًا على المأمون وقد نَصَلَ خصْابُه، وعنده جاريةٌ، فغمزَها عليه، فقالت له: شبتَ يَا أَبا دُلَف، واسترتجعَت، فأعرض عنها، فقال له المأمون: ألا تجيبُها، فأطرقَ ساعةً ثم رفعَ رأسه وقال: [من البسيط] تَهزَّأت أن رأتْ شيبي فقلتُ لها ... لا تهزئي من يَطُل عمرٌ به يَشبِ شيبُ الرجال لهم زينٌ ومكرُمةٌ ... وشيبكُنَّ لكنَّ العارُ فاكتئبِي فينا لَكُنَّ وإن شيبٌ بدأ أربٌ (¬1) ... وليس فيكنَّ بعد الشيبِ من أربِ (¬2) واجتمعَ الشعراءُ بباب أبي دُلَف، ولم يكن عنده مالٌ، فحجبَهم حياءً منهم، واعتذر إليهم، فكتبوا: [من الخفيف] أيُّهذا العزيزُ قد مسَّنا الدَّهـ ... ـر بضُرٍّ وأهلُنا أشتاتُ (¬3) وأبونا شيخٌ كبيرٌ فقيرٌ ... ولدينا بضاعةٌ مُزجَاةُ قلَّ طُلَّابها فبارَتْ علينا ... وبضاعتُنا بها التُرَّهاتُ فاغتنم شكرنَا وأوفِ لنا الكَيـ ... ـلَ صدِّق (¬4) فإنَّنا أمواتُ فقال: أبوا أنْ يضربوا وجهي إلَّا بسورة يوسف، فدعا بهم وقال: والله ما معي درهم، وأنا معكم كما قيل: [من الوافر] لقد أُخبرتُ أن عليك دينًا ... فزد في رقم دينك واقضِ ديني يَا غلام، اقترض لهم عشرين ألفًا بأربعين ألفًا، فأخذوها وانصرفوا (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وإن شبنا بذا الكرب. وهو تحريف. (¬2) العقد الفريد 3/ 52. (¬3) وقع في هذا البيت تصحيف في (خ) و (ف) ونصُّه: أيها العزيز قد مسنا الضـ ... ـر نحن جمع وأهلنا أشتات. (¬4) في (خ) و (ف): وتصدق. والمثبت من تاريخ دمشق 58/ 329. وصدَّق عليه كتصدَّق. لسان العرب (صدق). (¬5) تاريخ بغداد 14/ 413، وتاريخ دمشق 58/ 329.

ودخل أبو دُلَف على المأمون، وكان قد تنكَّر له، فنظر إليه شَزرًا، وقال له: أَنْتَ الذي يقول فيك عليُّ بن جبلة: [من الطَّويل] له راحةٌ لو أنَّ معشارَ عشرها ... على البَرِّ كان البَرُّ أندى من البحرِ له هِمَمٌ لا منتهى لكبارها ... وهمَّتُه الصغرى أجلُّ من الدَّهرِ أَبا دُلَفٍ بُوركت في كلِّ وجهةٍ ... كما بوركَتْ في شهرِها ليلةُ القدرِ فقال: ما أعرفُ من هذا حرفًا، فقال: بلى، وفيك يقول أَيضًا: [من البسيط] ما قال لا قطُّ من جودٍ أبو دُلَفٍ ... إلَّا التشهد لكن قولُه نعمُ فقال: ما أعرفه، قال: بلى، وفيك يقول أَيضًا: [من البسيط] اللهُ أجرَى من الأرزاقِ أكثرها ... على العبادِ على أيدي أبي دُلَفِ (¬1) ما خطَّ لا كاتباهُ في صحيفتِه ... كما تُخطَّطُ لا في سائرِ الصحفِ أعطى أبو دُلَفٍ والريحُ جاريةٌ ... حتَّى إذا وقفتْ أَعطى ولم يقفِ قال: ما أعرفه، قال: بلى، وهو القائلُ فيك أَيضًا: [من المديد] إنَّما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين باديهِ (¬2) ومحتضرِهْ فإذا ولَّى أبو دُلَفٍ ... ولَّتِ الدنيا على أَثَرِهْ (¬3) (¬4) فقال: ما أعرفه، قال: بلى، وأعطيتَه عليهما ثلاثينَ ألفًا، فقال: مكذوبًا علي، وأصدقُ منه قول القائل: [من الطَّويل] دَعيني أجوبُ الأرضَ ألتمسُ الغنى ... فلا الكَرَجُ الدُّنيا ولا النَّاسُ قاسمُ إذا كانت الأرزاقُ في كفِّ قاسمٍ ... فلا كانت الدُّنيا ولا كانَ قاسمُ فضحكَ المأمون وسكنَ غضبُه (¬5). ¬

_ (¬1) هذا البيت لم يذكره ابن عساكر. تاريخ دمشق 58/ 322 - 323. (¬2) في تاريخ بغداد، وتاريخ دمشق: عند مغزاه ... وذكره بمثل رواية المصنف ابن الجوزي في المنتظم 11/ 104. (¬3) من قوله: وقال: الفضل بن محمَّد بن أبي محمَّد اليزيدي ... إلى هنا ليس في (ب). (¬4) البيتان لم يذكرهما ابن عساكر في تاريخه في سياق هذه القصة، وإنما أوردهما من طريق الخَطيب البغدادي في رواية أخرى للخبر مختصرة. انظر تاريخ بغداد 14/ 413 وتاريخ دمشق 58/ 322 - 323. وانظر التعليق التالي. (¬5) وقع في (ب) ذكر الخبر المختصر الذي أشرف إليه في التعليق السابق، وهاك نصه: وحكى الخَطيب عن الرَّبَعي قال: قال المأمون وهو مقطِّبٌ: أنتَ الذي يقول فيك الشَّاعر: =

وقال الأصمعيُّ: كتبَ إليه رجلٌ يقول: إنِّي مديون، فكتب أبو دُلَف: وأنا والله مديون، فكتب إليه الرَّجل: [من الوافر] وقد خُبِّرتُ أنَّ عليك دينًا ... فزدْ في رقمِ دينِك واقْضِ ديني فقال: نعم، فاستدان، وقضى دينه (¬1). [وذكر] (¬2) العتبيّ أنَّ جارًا لأبي دُلَف ركبه دينٌ، فأرادَ بيع داره فساومَهم فيها أَلْف دينار، فقالوا: قيمتُها خمسُ مئة، فقال: نعم، أبيعُكم إيَّاها بخمس مئة [دينار] , وجوارُ أبي دُلَف بخمس مئة دينارٍ أخرى، وبلغَ أَبا دُلَفٍ فأرسلَ إليه بألف دينار، وقال: لا تبعْ دارك، ولا تنتقل من جوارنا، وقضَى دينه (¬3). و[قال العتبيُّ: ] وقف ببابه شاعرٌ مدَّةً، فلم يصل إليه، فكتب إليه: [من الوافر] إذا كان الكريمُ له حجابٌ (¬4) ... فما فضلُ الكريم على اللئيمِ [فكتب عليها: جواب ذلك (¬5)]: [من الوافر] إذا كان الكريمُ قليلَ مالٍ ... ولم يُعذَر تعلَّلَ بالحجابِ (¬6) ووقف ببابه رجلٌ فلم يصل إليه، فكتب إليه: والله إنِّي لأعرفُ أقوامًا لو علموا أنَّ ¬

_ = إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين باديها (كذا) ومحتضره فإذا ولَّى أبو دُلَف ... ولَّت الدنيا على أثره فقال: يَا أمير المُؤْمنين، شهادة زور، وقول غرور، وأصدق منه قول القائل: [من الطَّويل] دعوني أجوب الأرض ألتمسُ الغنى ... فلا الكَرَجُ الدنيا ولا النَّاسُ قاسمُ إذا كانت الأرزاقُ في كفِّ قاسمٍ ... فلا كانت الدنيا ولا كان قاسمُ فضحك المأمون وسكن غضبه. انتهى مصححًا ما فيه من تحريف. وانظر تاريخ بغداد 14/ 413، وتاريخ دمشق 58/ 322. (¬1) انظر وفيات الأعيان 4/ 75 - 76. (¬2) في (خ) و (ف): وقال والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) انظر العقد الفريد 1/ 256، وفيه أنَّه ساومهم على داره بألفي درهم، وجعل لجوار أبي دلف ألفًا وخمس مئة دينار. وفيه أن أَبا دلف قضى دينه. (¬4) في (خ) و (ف). عجاف. والمثبت من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): فكتب إليه. (¬6) انظر العقد الفريد 1/ 74.

سفَّ الترابِ يقيمُ أصلابَهم لجعلوه مُسْكَة لأرماقهم؛ إيثارًا للتنزُّه عن عيشٍ رقيق الحواشي، فتحبَّب إلى النَّاس بتسهيلِ الحجاب، فإنَّ حيَّا عبادِ الله موصولٌ بحبِّ الله تعالى، وكذا بغضهم؛ لأنَّهم شهداء الله في أرضه، ورقباؤه على من اعوجَّ عن سبيله، فاعتذرَ عليه ووصله (¬1). وقال محمَّد بن حامد: كان العمريُّ الشاعرُ عند المأمون، فأنشدَ بعضُ الحاضرين: [من الطَّويل] إذا لم تَصُنْ عِرْضًا ولم تخشَ خالقًا ... وتستحي مخلوقًا فما أنتَ صانعُ فقال العمريُّ: لمن هذا؟ قال المأمون: لأبي دُلَف، فقال العمريُّ: والله لئن لقيتُه لأبولنَّ عليه. فما استتمَّ كلامَه حتَّى دخل الحاجبُ فقال: القاسمُ على الباب، جاء من عند ابن طاهر، فأذِنَ له، فدخلَ فسلَّم عليه بالخلافة، فأحسنَ الردَّ، وقرَّبه، ورحَّبَ به، وقال: كيف خلَّفتَ أَبا العباس -يعني عبد الله بن طاهر- فقال: خلَّفتُه أمينَ غيبة، نقي الجيب، يتَّقي الرِّماح بصدره، والسهام بنحره في طاعة أمير المُؤْمنين، قامَ (¬2) في الأمور على ساق التسهير (¬3)، يردعُها بكيده، ويفلُّها بحدِّه، فهو في شجاعته كما قاد العباس بن مرداس: [من الوافر] أَشُدُّ على الكتيبة لا أُبالي ... أفيهَا كان حتفي أم سِوَاهَا وفي سخائه كما قال زهير: [من الطَّويل] تراه إذا ما جئتَه متهلِّلًا ... كأنَّك تعطيه الذي أَنْتَ سائلُه (¬4) وفي عفَّته كما قال الأسود: [من الكامل] وأغضُّ طرفيَ ما بدت لي جارتي ... حتَّى يواري جارتي مأواهَا (¬5) ¬

_ (¬1) هذا الخبر أورده الجاحظ في البيان والتبيين 2/ 201، وابن عبد ربه في العقد الفريد 1/ 72، وابن خلكان في وفيات الأعيان 4/ 89، وفيها أن الموعوظ هو سعيد بن سلم والي إرمينية. (¬2) في (ف): فأقام. (¬3) في (ف): ساقي التشهير. (¬4) ديوان زهير ص 142. (¬5) ديوان عنترة ص 308 (طبعة المكتب الإِسلامي).

فقال العمريّ: من هذا؟ قال: الذي آليتَ أن تبولَ عليه، فقال: أَنْتَ أبو دُلَف؟ قال: أنا القاسم. ولم يتكنَّ بحضرة أمير المُؤْمنين، فقال: قلْ بيتًا على هذه القافية والوزن: [من الرمل] خذ يا قاسم كأسًا مرَّةً ... مرَّةً كأسًا يا (¬1) قاسمُ خذْ فأطرقَ أبو دُلَف ساعةً، فقال العمري: إنَّ أهل الجبال بأكلهم الحشرات أحذقُ منهم بقول الشِّعر، فرفع أبو دُلَفٍ رأسَه وقال: والله ما عجزتُ عنه، ولقد أجزتُه من حين سمعتُه، وإنما أُطرقُ تعجبًا منك، كيف هجوتَني من غير معرفةٍ ولا سبب، وقد سمعت بذكري على لسان الركبان؟ ! بل الحسد، ثمَّ قال: [من الرمل] لذَّ شربُ الكاسِ يَا صاحِ لنا ... ولنا يَا صاحِ شربُ الكاس لذ من يغنيِّني ببيتٍ بعده ... شذَّ عنه مسلكٌ للخير شذ وأيور الزنج من حِر امِّهِ ... مذ برا الله أيورَ الزنج مذْ فقال له المأمون: مه، فإنَّه العمري، فقال العمري: ما ظننتُ أنَّ الجبال تُخْرِجُ مثله، فقال المأمون: إنَّ بالجبال قومًا يعطون السيف حدَّه، والشعر حظَّه، والمال حقَّه، وإنَّ القاسم وأهله منهم (¬2). وقال العتبي: كان أبو دُلَف مع جلالة قدره وعلوّ منزلته وفضله مولعًا بالغناء، حسنَ الضرب بالعود. قال المعتصم يومًا لأحمد بن أبي دؤاد: تريدُ أن أسمعكَ غناء صديقك، فقال أَحْمد: القاسم في شجاعته وبراعته وكرمه أعظمُ من هذا، فضرب بستارة، وجعل أبو دُلَفٍ خلف (¬3) منها، وقال: غنِّي، فغنَّى، فقال المعتصم لابن أبي دؤاد: ما تقول في هذا؟ ولم يعلم أنَّه القاسم، فقال: أسمعُ غناءً حسنًا، وأميرُ المُؤْمنين أعلمُ منِّي بهذا، فأشار المعتصم إلى من هتكَ الستارة، وإذا بأبي دُلَف، فتحيَّر أَحْمد، وقال: ويحكَ يَا ماجن، ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). ولعلها: أيا. في الموضعين. (¬2) من قوله: ووقف ببابه رجل فلم يصل إليه ... إلى هنا، ليس في (ب). (¬3) كذا في (خ) و (ف).

منصور بن عمار بن كثير

ما هذا؟ فقال: أُجبرت، قال: فهب أنَّك أُجبرت، من أجبرك على أن تحسن الغناء (¬1)؟ [ذكر وفاته: قال الصوليُّ: مات أبو دُلف ببغداد في هذه السنة. وقال الخَطيب: ] (¬2) حدَّث عن هُشيم بن بشير، وروى عنه الهيثمُ بن زياد. [وروى الخَطيب بإسناده إلى] دُلَف ابن أبي دُلَف [العجليِّ قال: ] لمَّا مات أبي رأيتُ في المنام [كأنَّ] آتيًا أتاني فقال: أحب الأمير، فقمتُ معه، فأدخلني دارًا وَحْشَةً وعرةً، حيطانها سود، فصعد بي إلى غرفةٍ، فأدخلني إيَّاها، وإذا في حيطانها أثرُ النيران، وفي أرضها رماد، وإذا بأبي عريان، واضع رأسَه بين ركبتيه، فقال [لي] كالمستفهم: دُلَف؟ قلتُ: نعم، أصلح الله الأمير، فقال: [من الخفيف] أَبْلِغَنْ أهلَنا ولا تخفِ عنهم ... ما لَقينا في البرزخ الخَنَّاقِ قد سُئلنا عن كلِّ ما قد فَعَلنَا ... فارحموا وحدَتي (¬3) وما قد ألاقِي أفهمت؟ قلت: نعم، فقال: [من الوافر] ولو أنَّا إذا مِتْنَا تُرِكنا ... لكانَ الموتُ راحةَ كلِّ حيِّ ولكنَّا إذا مَتْنَا بُعِثنا ... ونُسألُ بعده عن كلّ شيِّ [ثم قال: ] انصرف، قال: فانتبهت. [وفيها تُوفِّي] منصور بن عمَّار بن كثير أبو السريِّ، الواعظُ الخراسانيّ، وقيل: البصريّ، [وقال أبو عبد الرَّحمن السُّلمي: ] (¬4) هو من أهل مرو، من قريةٍ يقال لها: دَنْدانَقان، وقيل: هو من أَبِيوَرْد، ¬

_ (¬1) من قوله: قال المتعصم يومًا لأحمد ... إلى هنا. ليس في (ب). وانظر الخبر في تاريخ بغداد 14/ 414 - 415، وتاريخ دمشق 58/ 338 - 339. (¬2) في (خ) و (ف): وكانت وفاته ببغداد، والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخ بغداد 14/ 415، وتاريخ دمشق 58/ 340: وحشتي. (¬4) في (خ) و (ف): وقيل. وما بين حاصرتين من (ب).

وقيل: من بُوْشَنج. رحل إلى العراق [وحدَّث بها] وأوتي الحكم، ولم يقصّ أحدٌ في زمانه مثله. [وذكره ابنُ خميس في "المناقب" وقال: كان من أحسن الواعظين كلامًا، ومن حكماء المشايخ,] (¬1) كبيرَ الشأن في علم الورع والتقلُّل. [قال: ] وسبب توبته أنَّه وجدَ في الطريق رقعةً فيها مكتوب: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فرفعها، فلم يجد لها موضعًا، فأكلها فرأى في المنام قائلًا يقول: قد فتحَ الله عليك أبوابَ الحكمة لاحترامك لتلك الكَاغِدَة (¬2). وروي أنَّه رأى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فتَفلَ في فيه، فتكلَّم بالحكمة (¬3). و[قال أبو سعيد بن يونس: ] قدم [منصور] مصرَ فجلس يقصُّ على النَّاس، وبلغ الليثَ بن سعد، فأرسلَ إليه وقال: أَسْمِعني شيئًا من كلامك، فأسمعَهُ، فاستحسنه وبكى وقال: ما الذي أقدمك [إلى] بلادنا؟ فقال: دَيْن، فقال: صُنِ الحكمةَ التي آتاك الله ولا تبذلها للعوام، وأعطاه أَلْف دينار. [وقد ذكرنا بمعنى هذا عن الليث بن سعد في ترجمته سنة خمسٍ وسبعين ومئة. وذكره الحافظ ابن عساكر وقال: ] (¬4) لما قدمَ مصر أحضرهُ الليث [بن سعد] وقال: ما حملكَ على أن تكلَّمتَ في بلدنا بغير أمرنا؟ فقال: أنا أعرضُ عليك ما قلت، فإنْ كان مكروهًا نهيتني فانتهيت، وإلا لم ينلني مكروه، فقال له: تكلَّم، فتكلَّم، فقال له: قم فتكلَّم على النَّاس، فلا يحلُّ لي أن أسمعَ هذا الكلام وحدي (¬5). وأقام في ضيافة الليث بمصر وجرايته إلى أنْ عادَ إلى بغداد، ودفع إليه بنو الليث مثلَ ما دفع إليه الليث. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): وكان من حكماء المشايخ ومن أحسن الوُعَّاظ كلامًا. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 298. (¬3) انظر تاريخ بغداد 15/ 84. (¬4) في (خ) و (ف): وقال ابن عساكر. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬5) تاريخ دمشق 17/ 226 (مخطوط) من طريق الخَطيب البغدادي، وهو في تاريخ بغداد 15/ 83.

[ذكر طرف من أخباره: حكى ابن باكويه الشيرازيّ وابنُ خميس في "مناقب الأبرار" عن منصور بن عمار قال: ] (¬1) خرجتُ ليلةً من الليالي المقمرة أظنُّ أنَّ الصبحَ قد طلع، فإذا عليَّ ليلٌ، فجلست على بعض الأبواب أنتظر الصبح، وإذا بصوت رجلٍ يبكي ويقول: إلهي، [وعزَّتك] ما أردتُ بمعصيتك حين عصيتك مخالفتَك، ولكن سوَّلت لي نفسي، وغلبتْ عليَّ شقوتي، وغرَّني ستركَ المرخى عليّ، فالآن مِن عذابك مَن يُنقذني؟ ومن أيدي زبانيتك من يخلِّصني؟ وبحبل من أتَّصل إن قطعت حبلَك عنِّي؟ واسوأتاه (¬2) إذا قيل للمخِفِّين جوزوا, وللمثقلِين حطُّوا، يَا ليتَ شعري مع المثقلين أحطُّ، أم مع المخفِّين أجوز؟ كلَّما كَبرت سنِّي كثرت خطاياي، كم أتوبُ وأعود وما أستحي من ربّي، قال: فاستعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، وقرأتُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} الآيات، فاضطرب الفتى اضطرابًا شديدًا، ثم هذا الصوتُ، فعلَّمت البابَ بعلامة، ومضيتُ في حاجتي، وعدتُ بعد ارتفاع النهار، وإذا بجنازةٍ موضوعةٍ عند الباب، وعجوزٌ تذهبُ وتجيء كئيبةً باكية، فقلت لها: [يا] أمةَ الله، ما هذا الميت منك؟ فقالت: [إليك عني، لا تجدِّد عليَّ أحزاني، فقلت: أنا غريب، فقالت: لولا غربتك ما أخبرتك، هذا] ولدي [ومن نزل عن كبدي] , وكنت أرجو أن يواريني، وهو من موالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يَسُفُّ الخُوصَ (¬3)، ويقسم ثَمَنه ثلاثةَ أثلاث، يُطعمني ثلثه، ويَتصدَّق بثلثه، ويُفطر على ثلثه، وكان من العبَّاد الخائفين، فمرَّ به البارحة رجلٌ -لا جزاه الله خيرًا- فقرأَ آيةً فيها ذكر النَّار، فسمعها، فما زال يضطربُ حتَّى مات، [فبكى منصور وقال: ويحكَ يَا ابن عمار، هذه صفةُ الخائفين. وقيل: إنَّ هذه الواقعة كانت في سنة إحدى وثمانين ومئة، واسمُ الشابّ يعقوب، من قوَّاد الكوفة (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وقال منصور بن عمار. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): واغوثاه. والمثبت من (ب)، ومناقب الأبرار 1/ 300، وحلية الأولياء 9/ 328. (¬3) سف الخوص: نسجه. القاموس (سفف). (¬4) المنتظم 9/ 64 - 65.

وحكى في "المناقب" عن منصور بن عمار قال: ، (¬1) كان رجلٌ يشربُ الخمر، فجمعَ يومًا ندماءه، ودفع إلى غلامٍ له أربعةَ دراهم يشتري له بها فاكهة، فمر الغلامُ بمجلسي، وأنا أسألُ لفقيرٍ ثوبًا، وأقول: من أعطاهُ أربعةَ دراهم دعوتُ له أربعَ دعوات، فدفعَ الغلامُ الدراهمَ إلى الفقير، [قال: ] فقلت: ما الذي تريد أن أدعوَ لك به؟ فقال: الأولى أن يخلِّصني اللهُ من الرق، فدعوت له، قلت: والثانية؟ قال: أن يُخْلف الله عليَّ دراهمي، فدعوتُ له، قلت: فالثالثة؟ قال: يتوبُ الله على سيدي، فدعوتُ له، قلت: والرابعة؟ قال: أن يغفرَ الله لسيِّدي ولي ولك وللحاضرين، فدعوتُ له، فرجعَ الغلامُ إلى مولاه، فقال: ما الذي أبطأَ بك، فقصَّ عليه القصَّة، فبكى مولاه وقال: أمَّا الأولى فأنتَ حرٌّ لوجه الله، وأمَّا الثَّانية فلي في صندوقي أربعة آلاف درهم (¬2) [فهي لك] (¬3)، وأمَّا الثالثة فأنا تائبٌ إلى الله تعالى، فهذه ثلاثة قد فعلتُها، وأمَّا الرابعة فليست إليّ، هي إلى الله تعالى، فلمَّا جاء الليلُ نام الرجلُ، فرأى الحق تبارك وتعالى في المنام، فقال: يَا فلان، قد فعلت ما كانَ إليك، وهي الثلاث، أترانا ما نفعلُ ما كان إلينا، وهي واحدة؟ قد غفرتُ (¬4) لك وللغلام ولمنصور وللحاضرين. [وذكر في "المناقب" أَيضًا عن سليم بن منصور قال: ] (¬5) كنتُ في مجلس أبي [منصور] وإذا برقعةٍ قد رُفعت إليه وفيها: يَا أَبا السريّ، أنا رجل ممن تابَ على يديك، وأنا اشتريتُ من الله حوراء على صَداقٍ مبلغه ثلاثينَ خَتْمَةً، فختمت تسعةً وعشرين، فبينا أنا في الثلاثين نمتُ، فرأيت حوراء قد خرجت من المحراب، وأنشدت تقول: [من المتقارب] أتخطبُ مثلي بعينٍ (¬6) تنام ... ونومُ المحبِّين عنِّي حرامْ فقلت: لمن أَنْتَ؟ فقالت: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال ابن عمار. (¬2) في (ب): فلي صندوق فيه أَلْف دينار. وانظر مناقب الأبرار 1/ 301. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ): قد فعلت وغفرت .. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال: سليم بن منصور. (¬6) في مناقب الأبرار 1/ 300، وحلية الأولياء 9/ 326: وعني، بدل: بعين.

لأنَّا خلقنا لكلِّ امرئٍ ... كثيرِ الصلاة بَرَاهُ الصيامْ ذكر نبذة من كلامه: [حكى في "المناقب" عنه أنَّه] قال: سروركَ بالمعصية إذا أظهرتَها شرٌّ من مباشرتِك لها. [قال: ] وقال: سبحانَ من جعل قلوبَ العارفين أوعيةً للذكر، وقلوبَ الغافلين أوعيةً للطمع، وقلوبَ الزاهدين أوعيةً للتوكل، وقلوبَ الفقراء أوعيةً للقناعة، وقلوبَ المتوكِّلين أوعية للرضا. وقال: اترك الدنيا تسترح من الهمّ (¬1)، واحفظ لسانك تسترح من المعذرة. [قال: ] وقال لرجلٍ تاب ثم رجع: ما أراك رجعتَ عن طريق الآخرة إلَّا من الوَحشة لقلَّة سالكيها. وقال: النَّاسُ رجلان، رجلٌ عارفٌ بنفسه، فشُغْلُه المجاهدةُ والرياضة، ورجلٌ عارفٌ بربِّه، فَشُغْلُه الخدمة والعبادة (¬2). [وقال الخَطيب: ] تُوفِّي منصور [بن عمار في هذه السنة] ببغداد، ودُفن بباب حَرْب قريبًا من قبر بشر الحافي، وإلى جانبه ابنُه سُليم [بن منصور. والله أعلم (¬3). ذكر ما رُؤي له من المنامات: ذكر الخَطيب بإسناده إلى سُليم بن منصور بن عمار يقول: ] (¬4) رأيتُ أبي [منصور] في المنام، فقلت له: ما فَعَل الله بك، قال: قَرَّبني وأدناني وقال: يَا شيخَ السوء، تدري لم غفرتُ لك؟ فقلت: لا يَا إلهي، قال: إنَّك جلستَ للنَّاس مجلسًا فبكَّيتَهم، فبكى فيهم عبدٌ من عبادي لم يَبكِ من خشيتي قطّ، فغفرتُ له، ووهبتُ أهلَ المجلس كلَّهم، ووهبتُكَ فيمن وهبتُ له (¬5). ¬

_ (¬1) في مناقب الأبرار 1/ 298، وطبقات الصوفية للسلمي ص 130: الغم. (¬2) انظر مناقب الأبرار 1/ 298 - 299. (¬3) انظر تاريخ بغداد 15/ 89. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال سليم بن منصور. (¬5) تاريخ بغداد 15/ 89.

[قلت: وسبب قول الحقِّ سبحانه لمنصور: يَا شيخ السوء؛ لأنَّه كان يزهِّدُ النَّاس في الدنيا ويأخذُها، كما فعل مع الليث بن سعد، فإنَّه أخذ منه ألوفًا من الدنانير والمتاع وغيره، وقد ذكرناه في ترجمة الليث، ثمَّ إن الله عفا عنه بعد ذلك. وحَدَّثنا غيرُ واحد عن محمَّد بن أبي القاسم بإسناده إلى أبي العباس القاضي يقول: سمعتُ أَبا الحسين السعداني (¬1) يقول: ] (¬2) رأيت منصور بن عمار في المنام فقلت له: ما فعلَ الله بك؟ فقال: أُوقفت بين يديه فقال: أَنْتَ الذي كنتَ تُزَهِّدُ النَّاسَ في الدنيا وتَرغَبُ فيها؟ ! فقلت: قد كان ذلك يَا إلهي، ولكن ما اتَّخذتُ مجلسًا إلَّا وبدأتُ بالثناء عليك، وبالصلاة على نبيك محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وثلَّثتُ بالنصيحة لعبادك، فقال: يَا ملائكتي، صدقَ، اصنعُوا له كرسيًّا في سمائي، فيمجِّدني بينكم كما كان يمجِّدُني بين عبادي. أسندَ عن جماعةٍ من العلماء منهم أبو الخطَّاب معروف الخياط، صَاحِب واثلةَ (¬3) بن الأسقع، وروى عن الليثِ بن سعد وابنِ لهيعة وغيرهم. وروى عنه ابنُه سُليم، وعليّ بن خَشْرم، وجنادة بن محمَّد وغيرهم، وقد تكلَّموا فيه (¬4). ومن روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَن أعيتهُ المكاسبُ فعليه بمصر، وعليه بالجانب الغربي منها" (¬5). وهو حديثٌ ضعيف. * * * ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 17/ 231 (مخطوط): أَبا الحسن الشعراني. (¬2) في (خ) و (ف): وقال أبو الحسن السعداني. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): صاحب كذا وأبو بكر بن الأسقع؟ ! والتصويب من تاريخ بغداد 15/ 80، وصفة الصفوة 2/ 309. (¬4) من قوله: أسند عن جماعة ... إلى هنا، ليس في (ب). (¬5) أخرجه ابن عساكر في تاريخه 17/ 222 (مخطوط).

السنة السادسة والعشرون بعد المئتين

السنة السادسة والعشرون بعد المئتين فيها هلك [الأفشين، والمازيار، و] محمَّد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، فصلَّى عليه المعتصم في داره. وقال ابن حبيب الهاشميّ في "تاريخه": و [في سنة ستِّ وعشرين ومئتين] في ليلة الاثنين النصف من جمادى الآخرة مُطِر أهل تيماء مطرًا وبَرَدًا كالبيض، قَتل ثلاثَ مئةٍ وسبعين إنسانًا، وهَدمَ دورًا كثيرةً، وسُمِع في ذلك صوتٌ يقول: أرحم عبادك، اعفُ عن عبادك، ونَظروا إلى أثر قدمٍ طولُها ذراعٌ، وعرضُها شبرٌ، وليس لها أصابع، ومن الخطوة إلى الخطوة ستةُ أو خمسةُ أذرع، فاتَّبعوا الصوتَ يسمعونه ولا يرونَ الشخص (¬1). [فصل] وحجَّ بالنَّاس محمَّد بن داود [بن عيسى بن موسى] بأمر أشناس التركي، وكان أشناس قد حجَّ في هذه السنة، ودُعي له على المنابر بالكوفة ومكَّة والمدينة، وولَّاه المعتصمُ إمرةَ كلِّ بلدٍ يمر فيها حتَّى رجعَ إلى سامرَّاء (¬2). وفيها توفِّي الأفشينُ حيدر بن كاوس، من أولاد الأكاسرة، والأفشين لقبٌ لمن ملك أشروسنة [كما يُقال لكسرى ملك الفرس، ولقيصر ملك الروم، وللنجاشيّ ملك الحبشة] , وقد ذكرنَا أخبارَه، وأنه كاتبَ المازيار، واتَّفق معه على الفتكِ بالمعتصم، ونقل الملكِ إلى الفرس، وأنَّ المعتصمَ حبسَه في بيتٍ مربَّعٍ ضيِّق. وقال حمدون بن إسماعيل: بعثَ الأفشينُ معي رسالة إلى المعتصم يترفَّق له فيها، ويعتذرُ له، ويحلفُ ويتنصَّل مما قيل عنه، ويقول: مَثَلي ومَثَلُكَ كمثل رَجُلٍ ربَّى عجلًا حتَّى سمن وحسنت حالة، وكان له أصحابٌ، فاشتهوا أن يأكلُوا لحمَه، فعرَّضوا له بذبح العجل، فلم يجبهم، فاتَّفقوا فيما بينهم على أمرٍ، فقالوا له: لم تربِّي هذا الأسد، ¬

_ (¬1) المنتظم 11/ 111، وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 114 - 115، والكامل 6/ 521.

عنان

والأسد إذا كبر رجعَ إلى جنسه، وربَّما افترسَكَ؟ ! فقال لهم: ويحكم، هذا عجلٌ، وليس بأسد، وأنا ربَّيتُه، وأمُّه عندي، فقالوا: سل من شئت عنه، وقد تقدَّموا إلى جميع أصحابه أنَّه إذا سألهم قالوا: أسد، فسألَ الجميع، فقالوا: أسد، فقال: اذبحوه، فذبحوه وأكلوه، وأنا ذلك العجلُ، فكيف أكون أسدًا، فاللهَ اللهَ في أمري، اصطنعتني ورفعتني، فكيف أقابلُ إحسانَك بالإساءة، ولا تسمعْ فيَّ قولَ الأعادي، فإنَّما أنا عبدُك وأنت مولاي. ودعا به أحمدُ بن أبي دؤاد إلى دارِ العامَّة، وقال له: يَا حيدر أنتَ أقلف، وأراد أن يفضحَه بين الخاصَّة والقوَّاد إن يكشف، ويكذِّبه إذا امتنع، ثمَّ رُدَّ إلى حسبه (¬1). [واختلفوا في سبب وفاته، قال قومٌ: منعوه] (¬2) الطعامَ والماءَ فمات. [وقال آخرون: ] (¬3) قتلَه المعتصم وصُلِب إلى جانب بابك، [وذلك] في شعبان [في هذه السنة] وقيل: في شوال. وقال الصوفي: ماتَ في الحبس، وأخرج فصلبَ بباب العامَّة في شعبان، وأُحضرت أصنامٌ كانت في داره حُمِلت [إليه] من أشروسنة، فأُحرقت بالنار، وطُرِحَ الأفشين فيها، فأحرق بالنار وذري. وقيل: إنَّه أقام مصلوبًا إلى جانب بابك مدَّةً. (¬4) [وفيها توفيت] عِنَان جارية الناطفيّ، من مولَّدات المدينة، كانت جميلةً فصيحةً شاعرةً سريعةَ الجواب، بلغ الرشيد خبرُها، فاستعرضَها، فقال مولاها: ما أبيعُها إلَّا بمئة أَلْف درهم، فردَّها [على مولاها] فتصدَّق الناطفيُّ بثلاثين أَلْف درهم، فلما ماتَ مولاها نُودي عليها، فقال مسرور الكبير: عليَّ بمئة أَلْف درهم، فزاد رجلٌ عليه خمسين ألفًا، وخرَج بها إلى خراسان، فماتت هناك. ¬

_ (¬1) من قوله: ونقل الملك إلى الفرس ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬2) في (خ) و (ف): وسبب وفاته أنَّه منع من. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): وقيل. والمثبت من (ب). (¬4) انظر تاريخ الطبري 9/ 112 - 114، والكامل 6/ 517 - 518، والمنتظم 11/ 112.

المازيار

[وقال الصوليّ: قال] لها بعضُ الشعراء: أجيزي قَولي: وما زال يشكو الحبَّ حتَّى رأيتُه ... تنفَّس من أحشائِه وتكلَّما فقالت: ويبكي فأبكي رحمةً لبكائه ... إذا ما بكى دمعًا بَكَيتُ له دمًا (¬1) [فصل: وفيها تُوفِّي المازيار صاحبُ طبرستان واسمُه محمَّد بن قارن,] (¬2) كان مباينًا لعبد الله بن طاهر، وكان الأفشين [يدسُّ] إليه ويشجعه، ويحملُه على خلاف المعتصم، فخالف وصادر النَّاس بطبرستان وأذلَّهم، وجعل السلاسلَ في أعناقهم، وهدم أسوارَ المدن، فهرب النَّاس منه إلى خراسان [إلى عبد الله بن طاهر] وكتبَ المعتصم إلى عبد الله بن طاهر، فأمره بقتاله، فبعثَ إليه عمَّه الحسن بن الحسين بن مصعب، فحاربَه وأحاط به في سنة خمس وعشرين ومئتين، [وقد ذكرناه] وأخذه [الحسنُ] أسيرًا، وقتل أخاه قوهيار، وجاء به إلى عبد الله بن طاهر، فوعَده إن هو أظهرَه على كُتب الأفشين إليه أن يشفع فيه عندَ المعتصم، فأقرَّ له المازيار بالكتب، فأخذَها ابنُ طاهر منه، وبعثَ بها وبالمازيار إلى المعتصم، فسألَ المعتصمُ المازيار عن الكتب فلم يقرّ بها، فأمر بضربه حتَّى مات، وصلِبَ إلى جنب بابك (¬3)، [كما ذكرنا أنَّه وافقه على أشياء.] (¬4) وقال الصوليُّ: أدخل المازيار سُرَّ من رأى في شوال، وكان المعتصمُ قد أمر أن يركب على الفيل، فامتنع، فأُدخِل على بغلٍ بإكاف، وقيل: كان ذلك في ذي القعدة. وكان الأفشين قد حُبِسَ قبله بيوم، وجلس المعتصم [في مجلس الخلافة، وأمرَ أنْ يُجمعَ بين المازيار والأفشين] , فجمع بينهما، فأقرَّ المازيار أنَّ الأفشين كان يكاتبُه ¬

_ (¬1) المنتظم 11/ 112 - 113، وانظر الأغاني 23/ 87، والعقد الفريد 6/ 59. (¬2) في (خ) و (ف): محمَّد بن قارن المازيار صاحب طبرستان. والمثبت من (ب). (¬3) تاريخ الطبري 9/ 99 - 100. (¬4) ما سلف بين حاصرتين من (ب).

محمد بن الهذيل

ويحمله على الخلاف، فأمر بردِّ الأفشين إلى محبسه، وضُرِبَ المازيار أربعَ مئة وخمسينَ سوطًا، وطلبَ الماء فلم يُسق، فماتَ من ساعته عطشًا. و[قال الصوليُّ: ] قيل للمعتصم: لا تعجلْ بقتله، فعنده أموالُ الدنيا, وله ودائعُ بطبرستان وغيرها ممَّا لا يحصى، فاستدرِجْهُ وخذ منه، فإذا حصل الكلُّ عندك فاقتله، فأنشد: [من البسيط] إنَّ الأسودَ أسودُ الغاب همَّتُها ... يومَ الكريهة في المسلوبِ لا السَّلبِ (¬1) وكان عند المازيار خزائنُ الدنيا (¬2)، وكان عظيمًا عند المأمون، يكتبُ إليه من عبد الله المأمون إلى أصبهبذ (¬3) أَصبهان وصاحب طبرستان (¬4) محمَّد بن قارن مولى أمير المُؤْمنين. محمدُ بن الهذيل ابن عبد الله (¬5) بن مكحول، أبو الهذيل العلَّاف البَصْرِيّ، مولى عبد القيس، شيخ المعتزلة، مصنِّف الكتب في مذهبهم. ولد سنة خمسٍ وثلاثين ومئة، وقدم بغداد وناظر على مذهب القوم، وكان خبيثَ اللسان، يردُّ نصَّ كتاب الله تعالى، وفارق الإجماع، وزعمَ أنَّ أهلَ الجنَّة تنقطعُ حركاتهم وسكناتهم فيها، حتَّى لا يتكلموا كلمةً، ولزمَ القولَ بانقطاع نعيمِ أهل الجنة. وجَحَد صفات الله، وقال: علمُ الله هو الله، وقدرةُ الله هي الله، فجعل الله عِلمًا وقدرةً، فتعالى الله العظيمُ جلَّ شأنُه وتقدَّسَ أسماؤه عمَّا وصفَه به علوًّا كبيرًا. وكنت (¬6) أختلفُ إلى عثمان الطَّويل صاحبِ واصل بن عطاء، فبلغني أنَّ يهوديًّا قَدِم ¬

_ (¬1) هو لأبي تمام. والبيت في ديوانه 1/ 66. (¬2) انظر وفيات الأعيان 2/ 22. (¬3) الأصبهبذ: الأمير، وهو اسم أعجمي، صادُه في الأصل سين، وهي رتبة عسكرية تعادل الفريق، كانت في لقديم رتبة قائد لفرقة عسكرية كبيرة. نظر تاج العروس (صبهبذ)، والمعجم الذهبي ص 65. (¬4) من هنا إلى بداية السنة السابعة والعشرون بعد المئتين ليس في (ب)، وما سلف بين حاصرتين منها. (¬5) في تاريخ بغداد 4/ 582: عبيد الله. (¬6) القائل أبو الهذيل، صاحب الترجمة.

البصرة، فقطع عامَّةَ متكلِّميها، فمضيتُ إليه، فوجدته يقرِّرُ نبوَّة موسى - عليه السلام -، ويجحدُ نبوَّة نبيِّنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: قد تساعدنا على نبوَّة موسى، وأنا لا أوافقكم على نبوَّة غيره، وقد بشَّر نبيُّكم به. ولم يكن عند أحدٍ جوابٌ. فقلت له: إنْ كان موسى الذي تشيرُ إليه هو الذي أخبر عن (¬1) نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وأمرنا باتِّباعه، فنحن نؤمنُ به، وإن كان موسى الذي أشرفَ إليه لا يقرُّ بنبوَّة نبيِّنا ويجحدُه، فلسنا نعرفُه، فتحيَّر وقال: ما تقول في التوراة؟ فقلت: الجوابُ واحد، إن كانت أُنزِلت على موسى الذي أقرَّ بنبيِّنا فهي حق، وإلَّا فهي باطل، فتقدَّم إلى وسارَّني وشتمني أقبحَ شتم، وظنَّ أنِّي أثبُ به، فيقول: ضربوني، فتأخَّرتُ عنه وقلت للحاضرين: قد سمعتم جوابي وظهر عجزه وانقطاعه، وإنه سارَّني وشتمني شتمًا يجب به الحدُّ عليه، فأخذَتْه النعالُ، وخرجَ هاربًا من البصرة. وقال المأمون لحاجبه: أخرج فانظر مَنْ بالباب من المتكلمين، فخرج وقال: أبو الهذيل المعتزليّ، وعبد الله بن إباض الخارجيّ، وهشام بن الكلبي الرافضيّ، فقال المأمون: ما بقيَ من رؤساء جهنَّم أحدٌ إلَّا وقد حضر. وقال الخَطيب: شربَ أبو الهذيل عند ابنٍ (¬2) لعثمان بن عبد الوهَّاب، فراود غلامًا في الكنيف، فضربَهُ الغلامُ بتورٍ سفاذرويه (¬3) في رأسه، فدخلَ في رقبته، وصار مثل الطوق، فبعثوا إلى حدَّادٍ ففكَّه عن رقبته. وقال: إنَّه تُوفِّي في سُرَّ مَنْ رأى في هذه السنة، وقد أتت عليه مئة وأربع سنين (¬4). ووهم الخَطيب. وقال أبو الفرج الجوزي رحمه الله: إنَّه مات سنة خمسٍ وثلاثين ومئتين (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): عنه. انظر تاريخ بغداد 4/ 584 والخبر فيه. (¬2) في (خ) و (ف): ابنا. والمثبت من تاريخ بغداد 4/ 586. (¬3) في (خ) و (ف): اسيادروه. والمثبت من تاريخ بغداد 4/ 586، قال محققه: سفاذرويه: كلمة فارسية تشير إلى نوع هذا الإناء. (¬4) تاريخ بغداد 4/ 586. (¬5) المنتظم 11/ 236. وانظر أَيضًا ترجمته في وفيات الأعيان 4/ 265، ولسان الميزان 7/ 561، وسير أعلام =

يحيى بن يحيى

يحيى بن يحيى ابن بَكْر (¬1) بن عبد الرَّحمن، أبو زكريا التميميُّ المِنْقَرِيُّ الحَنظليُّ النَّيسابوريُّ، الزاهدُ العابدُ الورعُ، إمامُ أهل نيسابور، وهو من ولد قيس بن عاصم المِنْقريّ، ويقال: إنَّه مولى بني مِنْقَر. وقد أثنى عليه الأئمَّة، فقال عبد الله بنُ الإِمام أَحْمد بن حنبل رحمه الله: رأى أبي يقول: يحيى بن يحيى ريحانةُ خراسان (¬2). وقال إسحاقُ بن راهويه: ما رأيتُ مثلَ يحيى، ولا هو رأى مثلَ نفسه. وقال أبو علي الحسن بن عليّ بن بُنْدار الزَّنْجَاني: كان يحيى بن يحيى يحضر مجلس مالك بن أنس، وكان المأمونُ يحضره، فانكسرَ قلمُ يحيى، فناولَهُ المأمون قلمًا من ذهب، فامتنع من قبوله، فقال له المأمون: ما اسمُك؟ فقال: يحيى بن يحيى النَّيسابوريّ، قال: تعرفني؟ قال: نعم، ابنُ أمير المُؤْمنين، فكتب المأمون على ظهرِ جزئه: ناولتُ يحيى بن يحيى النيسابوريَّ قلمًا في مجلس مالك، فلم يقبله. فلما أفضت الخلافةُ إليه كتبَ إلى عاملِه بنيسابور يأمُره أن يولِّيه القضاءَ، فبعث إليه الوالي يستدعيه، فقال بعض من حضر: ليتَه يأذن للرسول فضلًا عن أن يجيء إليك، فبعث إليه بكتاب المأمون، فقُرِيء عليه، فامتنعَ، فردَّ ثانيًا وقال: أميرُ المُؤْمنين يأمرك بشيءٍ وأنت من رعيَّتِه وتأبى عليه، فقال: قل لأمير المُؤْمنين: ناولتني قلمًا وأنا شابّ فلم أقبله، أفتجبرني الآن على القضاء وأنا شيخ، فرُفِع الخبرُ إلى المأمون، فقال: قد علمتُ امتناعَه ولكن ولِّ رجلًا يختاره، فبعث إليه العامل، فاختار رجلًا فولَّاه القضاءَ، فدخل على يحيى وعليه سواده، فضمَّ يحيى فراشَه كراهةَ أن يجمعه وإيَّاه، فقال: أيُّها الشيخ، ألم تخترني؟ فقال: إنَّما قلت: اختاروه، وما قلتُ لك: تتقلَّد القضاء (¬3). ¬

_ = النبلاء 10/ 542، وتاريخ الإِسلام 5/ 737، 933، والوافي بالوفيات 5/ 161. (¬1) في (خ) و (ف): بن أبي بكر. وهو خطأ. (¬2) كذا في (خ) و (ف)؟ ! ووقع في تلقيح فهوم أهل الأثر ص 627: وكان أحمد إذا ذكره قال: ذاك ريحانة خراسان. (¬3) المنتظم 13/ 111 - 114، وصفة الصفوة 4/ 115 - 116.

وقالت فاطمة امرأة يحيى: قام يحيى ليلةً لورْدِه، فلمَّا فرغ منه قعد يقرأ، إذ سمعتُ جلبةً، فإذا العسكرُ والمشاعل، وهم يقولون: الأميرُ عبد الله بن طاهر يريدُ زيارةَ أبي زكريا، فاستأذنوا، ففتحنا الباب، فدخل عبد الله بن طاهر وحدَه، فسلَّم وقام يحيى والمصحف في يده، ثمَّ رجع إلى قراءته حتَّى ختمَ السورة التي كان افتتحها، ثم اعتذر إلى عبد الله وقال: لم أشتغلْ تهاونًا، وإنَّما كنتُ قد افتتحتُ سورةً، فكرهتُ أنْ لا أختمها، وحادَثه ساعةً، ثم قال له: ارفع حوائجك، فقال: لي حاجة، قال: هي مقضيَّةٌ مهما كانت، قال: قد كنت أسمعُ محاسنَ وجه الأمير، ولم أعاينها إلَّا في ساعتي هذه، وحاجتي إليكَ أن لا ترتكبَ ما يحرقُ هذه المحاسن بالنار، فأخذ ابنُ طاهر بالبكاء، ثمَّ قام وهو يبكي (¬1). وشرب يحيى دواءً، فقالت له زوجتُه: قم فتمشَّ في الدار، فقال: أنا أحاسبُ نفسي منذ أربعينَ سنة على خُطاي، فما أعلم ما هذه المِشْية (¬2). وكان إسحاقُ بن راهويه قد ركبه دَينٌ، فدخلَ على يحيى بالعلماء إلى أن يكتب إلى ابن طاهر ورقةً، فامتنعَ، فألحُّوا عليه، فكتب من يحيى بن يحيى إلى عبد الله بن طاهر ... فدخل إسحاق على عبد الله بالورقة، فقام له واحترمه وقال له: كم دَينُك؟ قال: ثلاثون ألفًا، فقضاها عنه، وجعلَهُ من خواصِّه. تُوفِّي يحيى بنيسابور يوم الأربعاء سَلْخَ صفر، وهو ابن أربعٍ وثمانين سنة، فقال محمَّد بن الحسن السرَّاج الزَّاهد -وكان من العبَّاد-: رأيتُ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في النَّوم، فكأنه قد أقبلَ إلى أن وقف على قبرِ يحيى، فتقدَّم، وصفَّ خلفَه جماعةٌ من أصحابه، فصلَّى عليه، ثمَّ التفتَ إلى أصحابه وقال: هذا القبرُ أمانٌ لأهل هذه المدينة. وقال الحاكم: روى عن يحيى بن يحيى خمس طبقات (¬3) من كبار الأئمَّة والعلماء، ورَوى عنه أئمَّة البلدان، وأخرجَ عنه البخاريُّ في مواضع، واتَّفقوا على صدقِه وثقتِه ودينِه وأمانتِه وورعِه. ¬

_ (¬1) المنتظم 11/ 114. (¬2) صفة الصفوة 4/ 115. (¬3) في (خ) و (ف): روى يحيى بن يحيى عن خمس طبقات. والتصويب من المنتظم 11/ 115، وتهذيب التهذيب 4/ 398.

السنة السابعة والعشرون بعد المئتين

السنة السابعة والعشرون بعد المئتين فيها خرجَ أبو حرب المُبَرْقَع اليماني بفلسطين على المعتصم، وسببُ خروجه أنَّ بعض الأجناد أراد أن ينزلَ بداره وهو غائبٌ [عنها] , فمانعته زوجته، [وقيل: زوجته أو أخته,] فقنَّعها بسوطٍ، فاتَّقته بذراعها، فأثَّر السوط فيه، فلما رجعَ أبو حرب [إلى منزله بكت وأخبرته بما فعل بها] (¬1)، فأتى [أبو حرب] إلى الجنديِّ وهو غارّ، فقتله، وخرجَ إلى جبل من جبال الأردن، فأقامَ فيه وتبرقع؛ لئلَّا يعرف، وكان في النهار يجلس [متبرقعًا على الجبل] , فيراه الرائي فيأتيه فيذكِّره ويحرِّضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعيبُ السلطانَ [وأعوانه] ونوَّابَه، ويذكرُ ظلمَهم، [فما زال حتَّى استجاب له] (¬2) خلقٌ من الحرَّاثين وأهل القرى، وكان زعم أنَّه أمويّ، [فقال الذين استجابوا له: ] (¬3) هذا هو السفيانيّ، فلما كثُرت غاشيتهُ وأتباعه من هذه الطَّبقة دعا أهلَ البيوتات من أهلِ تلك الناحية، فاستجابَ له جماعةٌ من رؤساء اليمانية، منهم] رجلٌ يقال له] ابن بَيهس وكان مُطَاعًا في اليمن، ورجلان من أهل دمشق، فيقال: إنَّه صار في مئة أَلْفٍ، وقيل: في خمسين ألفًا. وبلغَ المعتصمَ خبرُه، وهو مريضٌ مرضَ الموت، فبعثَ إليه رجاء بن أَيُّوب الحِضاريَّ (¬4) في ألفِ رجلٍ من الجند، فلمَّا صار إليه [رجاء] وجدَه في عالمٍ عظيم، فكره مواقعته [وهو في مئة أَلْف] فعسكر بحذائه، وطاوَلَه حتَّى جاء أوانُ الزراعة، فانصرفَ الحرَّاثونَ إلى الحرث، وأصحابُ الأراضي إلى أراضيهم، وبقي [أبو حرب] في [نفرٍ زُهاءَ] أَلْفٍ أو ألفين، فناجَزه رجاءٌ، واقتتلوا، فأخذَه رجاء أسيرًا، وقدمَ به على المعتصم، فلامَه لتأخُّر مناجزته، فقال: بعثتني في أَلْفٍ إلى من معه مئةُ أَلْف، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): أخرجته. وفوقها في (خ): كذا. (¬2) في (خ) و (ف): فمال إليه. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): فقالوا. (¬4) قال ابن الأثير في الكامل 6/ 460: الحضاري بكسر الحاء المهملة وبالضاد المعجمة وبعد الألف راء وياء.

الباب التاسع في خلافة الواثق بالله

فتمهَّلتُ حتَّى لاحت [لي] الفرصة، فناهضته، فأمرَ بحبسِه في المطبق (¬1). [وفي روايةٍ أن خروجه كان في سنة ستٍّ وعشرين ومئتين، وأنَّه خرج بالرملة وأرض فلسطين، وقال النَّاس: هذا السفيانيّ، وأنَّ ابن بيهس قاتلَ معه، وقُتِل من أصحابه نحو من خمسة آلاف -وقيل: عشرين ألفًا - وأنَّ ابنَ حرب وابنَ بيهس أُخِذَا أسيرين، وقَدِمَ بهما رجاء الحِضاريُّ إلى سُرَّ من رأى، فحُبسَا في المطبق.] (¬2) وفيها كانت وفاةُ المعتصم، وولي ولدُه هارون. البابُ التاسع في خلافة الواثق بالله وكنيتُه أبو جعفر، وقيل: أبو القاسم، ولدَ بطريق مكَّة سنة تسعين ومئة، وأمه قراطيس، أمُّ ولدٍ روميَّة. وكان أبيضَ تعلوه صفرةٌ، وقيل: كان مشربًا حمرة، ربعةً حسنَ الوجه، والوجهُ قائم العين (¬3) اليسرى، و [كان] بها نكتة بياض، [وقيل: ] كالكوكب الخفيِّ لا يكادُ يبين. [ذكر بيعته بويع بسُرَّ من رأى يومَ مات أبوه بعهدٍ منه، وكان له يوم بُويع سبعٌ وثلاثون سنة، وبويع ببغداد، وكتب ببيعته إلى الآفاق. قال الخَطيب (¬4): وكان ذلك في يوم الأربعاء لثمانٍ خلونَ من ربيع الأول في هذه السنة. وحُكي عن الخَطيب بإسناده إلى ابن أبي الدنيا قال: كان له يوم بُويع تسعٌ وعشرون سنة (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 116 - 118، والكامل 6/ 522 - 523، والمنتظم 11/ 117 - 118. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 118. وما بين حاصرتين من (ب) ووقع نص الرواية الأخيرة في (خ) و (ف) مختصرًا، ونصه فيهما: وقيل: كان خروجه بالرماسة وأرض فلسطين سنة ستٍّ وعشرين، وقاتل معه ابن بيهس، وقتل من أصحابه نحو من خمسة آلاف، وقيل: عشرين ألفًا. اهـ. (¬3) العين القائمة التي ذهب بصرها، والحدقة صحيحة. القاموس (قوم). (¬4) لم أقف عليه في تاريخ بغداد، وانظر المنتظم 11/ 119. (¬5) تاريخ بغداد 16/ 22، والمنتظم 11/ 119.

قلت: وقد حكى جدِّي في "المنتظم" (¬1) أنَّه ولدَ سنةَ تسعين ومئة، وهذه سنة سبعٍ وعشرين ومئتين، فكيف يكون له يوم بويع تسع وعشرون سنة؟ ! وقد وَهمَ الطَّبرِيُّ أَيضًا في هذا فقال: كان له يومَ بويع إحدى وثلاثون سنة وتسعة أشهر وثلاثة عشر يومًا. (¬2) وكيف يستقيمُ هذا مع أنَّ المشهورَ أنّه ولدَ في سنة تسعين ومئة.] (¬3) وقال عليُّ بن الجهم في ذلك: [من السريع] قد فازَ ذو الدُّنيا وذو الدِّينِ ... بدولةِ الواثقِ هارونِ أفاضَ من عدلٍ ومن نائل ... ما أحسنَ الدنيا مع الدِّينِ قد عمَّ بالإحسان من فِعْلِهِ (¬4) ... فالناسُ في خفضٍ وفي لينِ ما أكثر الداعي له بالبقا ... وأكثرَ التالي بآمينِ (¬5) وقال أَيضًا: [من مجزوء الرمل] وَثقَتْ بالملكِ الوا ... ثِقِ بالله النفوسُ ملكٌ يَشقَى به الما ... لُ ولا يَشقى الجليسُ أَنِسَ السيفُ به واسـ ... توحشَ العِلْقُ النفيسُ أسدٌ يضحك (¬6) عن شدْ ... دَاته الحرب العبوسُ ¬

_ (¬1) 11/ 119. (¬2) لم أقف عليه في تاريخ الطبري. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). ووقع مكانها في (خ) و (ف) ما نصه: وبويع بسُرَّ من رأى يوم مات أبوه بعهدٍ منه، وله سبع وثلاثون سنة، وقيل: تسع وعشرون سنة. وقال الطبري: إحدى وثلاثون سنة وتسعة أشهر وثلاثة عشر يومًا. وبويع له ببغداد، وكتب ببيعته إلى الآفاق، وكان ذلك في يوم الأربعاء لثمان خلون من ربيع الأول. (¬4) في تاريخ الطبري 11/ 152: في فضله. (¬5) ديوان علي بن الجهم ص 188 (التكملة). (¬6) في تاريخ الطبري: تضحك. ورواية البيت في ديوان علي بن الجهم ص 13: ملك تفزع من صو ... لته الحربُ الضروس

يا بني العباسِ يأبى الـ ... ـلَّه إلَّا أنْ تروسُوا (¬1) ولما بُويع أنشدَه أبو تمام قصيدتَه التي يقول في أوَّلها: [من الكامل] ما للدُّموعِ ترومُ كُلَّ مَرَامِ ... [والجفنُ ثاكلُ هَجعةٍ ومنامِ يَا حفرةَ المعصوم تربُكِ مودعٌ] ... (¬2) ماءَ الحياة وقاتل الإعدامِ ما دام هارونُ الخليفه فالهدَى ... في غِبْطةٍ موصولةٍ بدوامِ لمَّا دعوتهم لأجل عهودها (¬3) ... طار السرورُ بمعرقٍ وشآمِ لو يقدرونَ مَشَوا على وَجَناتهم ... وعُيونِهم فضلًا عن الأقدامِ هي بيعةُ الرضوانِ يُشْرَعُ وَسْطَها ... بابُ السلامةِ فادخُلوا بسلامِ (¬4) وأولُ مجلسٍ جلس فيه الندماء أُنشِدَ بين يديه: [من الخفيف] فليقلْ فيك باكياتُكَ ماشِئـ ... نَ صباحًا ووقتَ كلِّ مساءِ فبكى الواثقُ والحاضرونَ، ثم غنَّى بعضُ المغنِّين: [من البسيط] وَدِّع هريرةَ إن الركبَ مرتحلُ ... وهل تطيقُ وداعًا أيُّها الرجلُ (¬5) فقال الواثقُ: والله ما سمعتُ تعزيةً ولا نعيَ نفسٍ هكذا، ثم قام من مجلسه باكيًا. (¬6) وقال العتبيّ (¬7): كتب دعبل الخُزَاعِيّ أبياتًا، وبعثَ بها في رقعةٍ مختومةٍ إلى الواثق، وهي [هذه الأبيات: ] [من البسيط] الحمدُ لله لا صبرٌ ولا جَلَدُ ... ولا رقادٌ (¬8) إذا أهلُ الهوى رَقدُوا خليفةٌ مات لم يَحزنْ له أحدٌ ... وآخرٌ قامَ لم يَفرح به أحدُ ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري وديوان علي بن الجهم ص 14: تسوسوا. (¬2) ما بين حاصرتين من ديوان أبي تمام. (¬3) كذا في (خ) و (ف). ورواية الديوان: لما دعوتهم لأخذ عهودهم. (¬4) ديوان أبي تمام 3/ 203 - 207. (¬5) هو للأعشى، ديوانه ص 105. (¬6) تاريخ الطبري 9/ 152. (¬7) من قوله: وقال عليُّ بن الجهم إلى هنا ليس في (ب)، ووقع فيها: وقال الصوليّ: ولما بويع دخل عليه الشعراء. وقال العتبي. (¬8) في ديوان دعبل ص 115: ولا عزاء. والمثبت موافق لتاريخ بغداد 16/ 23 والخبر فيه.

بشر بن الحارث

فمرَّ هذا ومرَّ الشؤمُ يتبعه ... وقامَ هذا فقامَ الويلُ والنَّكَدُ فطلبه فلم يقدر عليه. [وسنذكر القصة في سنة اثنتين وثلاثين ومئتين. واختلفوا مَن] حجَّ بالناس [في هذه السنة على قولين، أحدهما: ] جعفر بن المعتصم، [والثاني: ] (¬1) محمَّد بن داود (¬2). وكانت أم الواثق قد خرجت تريدُ الحجَّ، فتوفيت بالكوفة لأربعِ خلونَ من ذي القعدة، فدُفِنت في دار داود بن عيسى بالكوفة. [فصل: ] وفيها توفي بشرُ بنُ الحارث ابن عبد الرَّحمن بنِ عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، أبو نصر [المروزي] المعروف بالحافي، وجدُّه عبد الله الذي انتهى إليه نسبُه أسلمَ على يد علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، و [عليٌّ] سمَّاه عبدَ الله. ولد بشر بمرو سنةَ خمسين ومئة، وسكن بغداد، وفاقَ أهلَ عصره في الزهد والورع وحُسنِ الطريقة والعقل والسَّداد، وقد ذكرهُ العلماء وأثنَوا عليه، [فذكره ابنُ سعد فيمن نزل بغداد من المحدِّثين والفقهاء والزهَّاد، فقال: بشر بن الحارث، ويكنى أبا نصر، وكان من أبناء أهل خراسان من أهل مرو، نَزَل بغداد] وطلبَ الحديث، وسمع من حمَّاد بن زيد وشَريك بن عبد الله وابن المبارك وهُشيم وغيرهم سماعًا كثيرًا، ثم أقبلَ على العبادةِ، واعتزلَ الناس فلم يحدِّث، ومات ببغداد يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول [سنة سبع وعشرين ومئتين]، وشهده خلق كثيرٌ من أهل بغداد وغيرها، ودفن بباب حرب، وهو [يومئذٍ] ابن ست وسبعين سنة. [هذه صورة ما ذكر ابن سعد (¬3). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وقيل. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬2) لم أقف على من ذكر أن محمد بن داود حجَّ بالناس في هذا العام. انظر تاريخ الطبري 9/ 123، والكامل 6/ 528، والمنتظم 11/ 122، وانظر التحفة اللطيفة 3/ 565. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 344.

وذكره أبو عبد الرَّحمن السُّلميّ وأثنى عليه، وقيل: كان خال ابن خَشْرَم، وقيل: بل كان عليُّ بن خَشْرم خاله، وقيل: ابن عمِّه. قال السلميّ: ] كان [بشر] من أبناء الرؤساء بخراسان [وقال] وصار أوحد (¬1) الزهَّاد والأئمَّة في زمانه، وصحبه الجُنَيد والفُضَيل بن عِياض وأقرانهما (¬2). [وذكره الخطيب وأثنى عليه وقال: ابنُ عمّ علي بن خشرم، ] وكان عظيم الشأن، فإنْ أهل عصره في الزهد والورع، وتفرَّد بوفور العقل، وأنواع الفضل، وحسن الطريقة، واستقامة المذهب، وعزوف النفس، [وإسقاط الفضول، وسمع الحديث الكثير]، ودَفَنَ كتبَه في آخر الأمر، وكانت ثمانية عشر قِمَطْرًا وقَوْصوةً من كتب الحديث (¬3). [وسنتكلم على هذا في آخر ترجمة بشر إن شاء الله تعالى. وذكره صاحبُ "الرسالة" القشيريُّ وأثنى عليه وقال: هو ابن أخت [علي بن] (¬4) خَشْرم، وذكر بعض مناقبه، وسنذكرها. وذكره أبو نعيم الحافظ في "الحلية" وقال: أصله من قرية يقال لها: مَابَرْسام وهو ابن أخت علي بن خَشْرم (¬5). وأثنى عليه. وقال: صحب الفُضيلَ بن عياض، وكان عظيم الشأن. قال: ] وقال أبو بكر بن أبي دواد: دخلتُ قريَة بشر، وهي على ستَّة [أميالٍ] من مرو، وأقمتُ فيها مدَّةً أكتبُ عن عليِّ بن خَشْرَم. [وقال لي: هذه دار عبد الرَّحمن جدِّي، وجد بشر بن الحارث، أبو علي بن خشرم بن عبد الرَّحمن وبشر بن الحارث بن عبد الرحمن، وَجَّهتُ إليه بثمن حصَّة أبيه منها قال: وأخرج إليَّ كتابًا، وقال: هذه رسالة بشر. وقد ذكرها في "المناقب" (¬6) وهي تتضمن الموعظة.] ¬

_ (¬1) في (ب) -وما سلف بين حاصرتين منها-: أحد. (¬2) تاريخ دمشق 3/ 311 (غطوط). (¬3) تاريخ بغداد 7/ 545، 551. (¬4) قوله: علي بن. ساقط من (ب) واستدركته من الرسالة القشيرية ص 64، وتاريخ دمشق 3/ 312. (¬5) لم أقف على هذا الكلام في ترجمة بشر في الحلية. (¬6) مناقب الأبرار 1/ 146 - 148.

ذكر طرف من أخباره: [سبب توبتُه: قرأتُ على شيخنا الموفق المقدسيّ رحمه الله من كتاب "التوابين" قال: حدَّثنا محمدُ بن عبد الباقي بإسناده إلى محمد بن عبد الله بن داود الدِّينَوَريّ قال: ] سمعتُ بشر بن الحارث [الحافي] وقد سئل: ما كان بدء أمرك؛ [لأن اسمك بين الناس، كأنه اسم نبيّ؟ ! ] قال: [هذا من فضل الله، وما أقول لكم. إني] (¬1) كنت رجلًا عيَّارًا صاحب عصبية، فجزتُ يومًا، وإذا بقرطاس في الطريق، فرفعته، فإذا فيه: "بسم الله الرَّحمن الرحيم"، فمسحتُه وجعلتُه في جيبي، وكان عندي درهمان لا أملكُ غيرهما، فاشتريتُ بهما غاليةً، ومسحتُ القرطاس بها، فنمت تلك الليلة، فرأيتُ في المنام [كأنَّ] قائلًا يقول: يا بشر، رفعتَ اسمنَا عن الطريق وطيبته؛ لأطيبن اسمك في الدنيا و [في] الآخرة (¬2). [وقد روى ابن جهضم بمعناها وقال: لم يكن عندي سوى درهم فيه خمسة دوانيق، فاشتريت بأربعة دوانيق مسكًا، وبدانق ماء ورد، وجعلت أتتبعُ اسمَ الله وأطيِّبُه، ثم رجعتُ إلى منزلي فنمتُ، فأتاني آتٍ في منامي فقال: يا بشر، كما طيَّبت اسمي لأطيبنَّ اسمك، وكما طهَّرته لأطهرنَّ قلبك (¬3). وذكره ابن خميس في "مناقب الأبرار" بمعناه وقال: أصاب كاغِدة في الطريق قد وطئتها الأقدام فيها اسمُ الله تعالى، فأخذها وقبَّلها وطيَّبَها، وجعلها في شقِّ حائط، وذكره (¬4). وروي لنا في سبب توبة بشر حكايةٌ أخرى قرأتُها على شيخنا الموفق أيضًا من كتاب "التوابين" قال: ] (¬5) حكي أنَّ بشرًا كان في زمن لهوه في داره وعنده رفقاءُ يشربون ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): قال محمد بن عبد الله بن داود الدينوري. (¬2) كتاب التوابين (103)، وأخرجها أيضًا أبو نعيم في الحلية 8/ 336. (¬3) تاريخ دمشق 3/ 312 - 313. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 129. (¬5) في (خ) و (ف): وقال شيخنا موفق الدين رحمه الله في كتاب التوابين. والمثبت من (ب).

ويطيبون (¬1)، فاجتازَ بهم رجلٌ من الصالحين، فَدقَّ الباب، فخرجت إليه جاريةٌ، فقال لها: صاحب هذه الدار حرٌّ أم عبد؟ فقالت: بل حرّ، فقال: صدقت، لو كان عبدًا لاستعملَ أدبَ العبودية، وتركَ اللهو والطرب، فسمعَ بشرٌ محاورتهما، فسارع إلى الباب حافيًا [حاسرًا]، وقد ولَّى الوجل، فقال للجارية: ويحك، من كلَّمك (¬2) فأخبرته، [فقال: أيَّ ناحيةٍ أخذ الرجل؟ فقالت: ناحية كذا]، فتبعَه [بشر] حتى لحقَه، فقال له: يا سيدي، أنتَ الذي وقفتَ على الباب وخاطبتَ الجارية؟ قال: نعم، قال: أَعِدْ عليَّ ما قلت لها، فأعاد عليه، فجعلَ بشر يمرِّغُ خدَّيه على الأرض ويقول: بل عبدٌ، عبدٌ، عبدٌ، ثمَّ هامَ على وجهه حافيًا [حاسرًا] حتى عُرِفَ بالحفاء، فقيلَ له: لم لا تلبس نعلًا؟ ! فقال: لأني ما صالحني مولاي إلَّا وأنا حافٍ، فلا أزولُ عن هذه الحالة حتى الممات (¬3). [وقد ذكرنا عن بنت المعافى بن عمران أنَّ بشرًا طرقَ الباب عليها يطلبُ أباها، فقالت: مَنْ بالباب؟ قلت: بشر الحافي، فقالت: لو اشتريتَ نعلًا بدانقين لذهبت عنك هذه الشهرة (¬4). وكان لها ستُّ سنين. ذكره زهده وورعه وعبادته وخوفه ونحو ذلك: حكى عنه أبو عبد الرَّحمن السُّلميّ أنَّه قال: ] (¬5) ما شبعتُ منذ ثلاثين سنة، وفي روايةٍ: منذُ خمسينَ سنة. وقال أبو بكر المروزيّ: قدم بشر من عَبَّادان وهو متَّزرٌ بحصيرٍ بال. [قال: ] وكان يقول: إنِّي لأشتهي الشواءَ منذ أربعين سنة، ما صفا لي درهمه، وإنِّي لأشتهي الباذنجان منذ ثلاثينَ سنةً، ما صفت لي حبَّة (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في النسخ والأصل المخطوط لكتاب التوابين، وقال محققه الأستاذ محمد رضوان عرقسوسي: ولعلَّ الصواب: ويَطْبُنون، يعني أنهم يضربون بالطُّبن، وهو الطنبور. كتاب التوابين (104). (¬2) في (ب): يكلمك. (¬3) كتاب التوابين (104). وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬4) تاريخ بغداد 7/ 548. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال بشر. (¬6) انظر صفة الصفوة 2/ 328 - 329.

[وحكى الفتح بن شَخْرف عن عمرَ ابن أخت بشر قال: ] (¬1) سمعتُ خالي بشرًا يقول لأمي: جوفي وجعٌ، وخواصري تضربُ علي من الجوع، فقالت: ائذن لي أن أصلح لك حساءً من دقيق تتحسَّاهُ يَرُمُّ جوفَك، فقال: ويحك، أخافُ أن يقول لي: من أين لك هذا الدقيق؟ فلا أدري ما أقول، [قال: ] فبكت أمِّي وبكى معها وبكيتُ معهما. قال: ورأت أمِّي ليلةً ما به من شدَّةِ الجوع، وجعل يتنقسُ نفسًا ضعيفًا، فقالت له أمي: يا أخي، ليتَ أقَكَ لم تلدني، فقد والله تقطَّع كبدي ممَّا أرى بك، فقال لها: وأنا فليتَ أمَّكِ لم تلدني، وإذ قد ولدتني لم يَدِرَّ لها عليَّ ثدي. [قال عمر: ] وكانت أمي تبكي عليه الليلَ والنهار (¬2). [وحكى الخطيب عن زُبدة أختِ بشر قالت: ] (¬3) دخل على بشرٌ ليلةً، فوضعَ إحدى رجليه داخل الدار والأخرى من خارج، فلم يزل كذلك إلى الصبح، فقلت له في ذلك، فقال: تفكَّرت في بشرٍ النصرانيّ، وبشر اليهوديّ، وبشر المجوسيّ، وفي اسمي، فقلت: ويحك! ما الذي سبق لكَ حتى خصَّك الله [بالإسلام]، فتفكَّرتُ في هذه السابقة والخاتمة، فحمدتُ الله حيث جعلني من خاصَّته، وألبسني لباس أحبائه (¬4). قال الخطيب: وكان يبكي حتى ذهبت أشفارُ عينيه من البكاء، ويقول: ليتَ لا يكون حظِّي من الله قول الناس: بشر بشر (¬5). [وحَكى في "المناقب" قال: ] مرَّ يومًا على بعض الناس فقال: هذا رجلٌ لا ينامُ الليل، ولا يفطرُ إلَّا في كلِّ ثلاثة أيَّام مرَّة، فبكى بشر وقال: إنِّي لا أذكرُ أنِّي سهرتُ ليلةً كاملة، ولا صمتُ يومًا لم أفطر في ليلته، ولكنَّ الله يلقي في القلوب أكثرَ ممَّا يفعلُه العبدُ لطفًا منه وكرمًا (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال عمر ابن أخت بشر ... (¬2) صفة الصفوة 9/ 322 - 330 وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): وقالت زبدة أخت بشر. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬4) تاريخ بغداد 16/ 625، وتاريخ دمشق 3/ 324 (مخطوط). (¬5) لم أقف عليه في تاريخ بغداد، وأورده ابن الجوزي في صفة الصفوة 2/ 331 من رواية أحمد بن نصر عن بشر. (¬6) مناقب الأبرار 1/ 129 - 130.

[قال: ] وقال ابن أخته: دخلتُ عليه يومًا وهو عُريَانٌ، والبردُ شديد وهو ينتفض، فقلت له: الناسُ يزيدونَ اليوم في الثياب وأنت قد خلعتَ ثوبك، فقال: ذكرتُ الفقراء وما هم فيه، ولم أقدر على مواساتهم، فآسيتُهم بنفسي (¬1). قال: ودعا رجلٌ يومًا خالي إلى طعام، فامتنع، فألحَّ عليه فحضر، فلمَّا قُدِّمَ الطعام، اجتهدَ بشرٌ أنْ يمدَّ يَده إليه، فما قدر، فقال رجلٌ: ما أغنى صاحبَ الدعوة أن يدعوه. يعني أنَّ يده ما كانت تمتدُّ إلى طعامٍ فيه شبهةٌ (¬2)، [والله أعلم. ذكر اجتماعه بالخضر - عليه السلام -: حكى عنه في "المناقب" قال: ] (¬3) دخلتُ يومًا إلى الدار، وكانت لي فيها حُجْرةٌ لا يدخلها غيري، ومفتاحها معي، وإذا برجل طُوالٍ قائم يصلِّي، فقلت: من أين دخل هذا؟ ! فسلَّم ثمَّ قال: يا بشر لا تُرَع، فأنا أخوك الخضر، [فقلتُ: علِّمني شيئًا أنتفع به، فقال: استغفر الله من كلِّ ذنب (¬4) تبت منه ثم عدت فيه، واستغفر الله من كلِّ عقد عقدْتَه معه ثم فسختَه، واستغفر الله من كلِّ نعمةٍ أنعم بها عليك فما استغنيت بها عن معصيته (¬5). ذكر قصته مع السائل: حكى الخطيب عن إبراهيم الحربي قال: ] (¬6) حملني أبي إلى بشر، وقال له: يا أبا نصر إن ابني لمشتغلٌ بكتابة الحديث والعلم، فادعُ له، فقال [لي] بشر: يا بنيّ، ينبغي ¬

_ (¬1) ذكره في مناقب الأبرار 1/ 140 عن بعضهم. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 139. (¬3) في (خ) و (ف): وقال بشر. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ب): سبب. والمثبت من مناقب الأبرار 1/ 143 وبنحو هذا السياق أورده الحافظ ابن حجر في الإصابة 3/ 143 - 144 عن أبي الحسن بن جهضم بإسناده إلى بشر بن الحارث، ثم قال ابن حجر بعد ذكر عدة أخبار: ابن جهضم معروف بالكذب. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): فقلت: ادع الله لي، فقال: هوَّن الله عليك طاعتَه، قلت: زدني، قال: ويسَّرها عليك. وانظر الرواية الأخيرة في مناقب الأبرار 1/ 133، والطبقات الكبرى ص 62. ولعل مصنف الكتاب ذكر روايتين للخبر، فأخلَّ الاختصار بهما. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال إبراهيم الحربي.

أنْ تعمل بالعلم، وإنْ لم تعمل بكلِّه (¬1)، فمن كل مئتين خمسة، مثل زكاة الورِق، فقال له أبي: ادع له، فقال: دعاؤك أبلغُ، فإنَّ دعاءَ الوالد لولده كدعاء النَّبيِّ لأمَّته، [قال: ] فاستحسنتُ كلامَه، فدخلتُ الجامعَ يوم الجمعة، فإذا بشرٌ يصلِّي [في قبة الشعراء]، فقمتُ خلفَه أركعُ إلى أن نودي بالأذان، فقام رجل رث الهيئة، فقال: يا قوم (¬2)، احذروا أن أكون صادقًا، فليس مع الاضطرار اختيار، ولا يحسن السكوت مع العلم، ولا السؤالُ مع الوجد (¬3)، وثَمَّ فاقة، فأعطاه بشر قطعةً قدر دانق، [قال إبراهيم: ] فقمتُ فأعطيتُه درهمًا، وطلبتُ الدانق منه، فأبى حتى أعطيتُه عشرةَ دراهم، فقال لي: يا هذا وما رغبتك في دانق تبذلُ فيه عشرةَ دراهم، فقلت: هذا رجلٌ صالحٌ، قال: فأنا في معروفه أرغبُ منك، [ولستُ أستبدل النعم نقمًا، وإلى أن آكل هذه] (¬4) القطعة فرجٌ عاجل، أو أجلٌ [آجل، وفي لفظ: أو منيَّةٌ قاضية]، فقلت: انظروا معروفَ من عند من (¬5)؟ ثم قلت: يا شيخ دعوة، فقال: أحيا الله قلبكَ ولا أماتَه حتى يميت جسمك، وجَعَلَك ممَّن يشتري نفسَه بكلِّ شيء، ولا يبيعُها بشيء (¬6). [قصة البطيخة: قرأت على شيخنا الموفق رحمه الله بإسناده إلى فاطمة بنت أحمد أخت أبي علي الرُّوْذَباري قالت] (¬7): كان ببغداد عشرةُ فتيان معهم عشرةُ أحداث، فوجَّهوا حَدَثًا منهم في حاجةٍ لهم، فأبطأ، وجاء وهو يضحك، وفي يده بطيخة، فحردوا عليه وقالوا: تبطئ وتجيء وأنت تضحك؟ ! فقال: جئتُكم بأعجوبةٍ، قالوا: وما هي؟ قال: وضع ¬

_ (¬1) في (ف) و (ب): بكلمة. (¬2) في (خ) و (ف): يا بشر. (¬3) في (ب) وحلية الأولياء ومناقب الأبرار: الوجود. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): وإن لهذه. (¬5) كذا في (خ) و (ف). وفي حلية الأولياء: انظروا معروف من آخذ؟ ، وفي مناقب الأبرار: انظروا معروف من بيد من؟ والجملة ساقطة من (ب). (¬6) لم أقف عليها في تاريخ بغداد، وأخرجها أبو نعيم في الحلية 8/ 347 - 348، وأوردها ابن خميس في مناقب الأبرار 1/ 134 - 135. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): وقالت فاطمة بنت أحمد أخت أبي علي الروذباري.

بشرٌ يدَه على هذه البطيخة، فاشتريتُها بعشرين درهمًا، فأخذَ كل واحدٍ يقبِّلُها ويضعها على عينيه، فقال واحدٌ منهم: بأيِّ شيءٍ بلغَ بشرٌ هذه المرتبة؟ ! فقالوا: بالتقوى، قال: أشهدكم على أنِّي تائبٌ إلى الله تعالى، فقال القوم [كلُّهم: ] ونحن تائبون، ثمَّ خرجوا إلى طَرَسُوس، فاستُشْهدوا كلُّهم (¬1). [قصة المرأة التي تعلَّق بها الرجل: قرأت على شيخنا الموفق رحمه الله قال بإسناده إلى الفتح بن شَخْرف قال: ] (¬2) تعلَّق رجلٌ بباب الشام بامرأةٍ وبيده سكين، لا يدنو منه أحدٌ إلَّا عقرَه، وكان [الرجل] شديدَ البدن، فبينا الناسُ كذلك، والمرأةُ تصيح في يده، إذ مرَّ بشرٌ، فدنا منه، وحكَّ كتفَه بكتف الرجل، فوَقَعَ الرجلُ إلى الأرض، ومضى بشرٌ والمرأة. قال الفتح: فدنوتُ من الرجل وهو يرشحُ عرقًا، فسألته عن حاله، فقال: ما أدري، ولكنه حاكَّني رجلٌ شيخ، وقال: إنَّ الله ناظرٌ إليك وإلى ما تعمل، فضعفتْ لقوله قدماي، وهبتُه هيبة شديدة، لا أدري من هو، فقلت: بشر الحافي، فقال: واسوأتاه، كيف ينظرُ إليَّ بعد اليوم؟ ! ثم حُمَّ من يومه، ومات من اليوم السابع (¬3). [قصة الرجل الذي كان يقع في الصوفيَّة: رواها أبو نعيم، وقرأتُها على الموفق أيضًا بإسناده إلى أبي عبد الله القاضي عن أبيه كان يقول] (¬4): كان ببغداد رجل من التجَّار يقعُ في الصوفيَّة، ثمَّ رأيتُه بعد ذلك يصحبهم، وأنفق عليهم جميعَ ما ملك، [قال: ] فقلت له: أليس كنتَ تبغصهم؟ فقال ليس الأمرُ على ما (¬5) توهمت، قلت: فحدِّثني، قال: صليتُ الجمعةَ يومًا [من الأيام] وخرجت، وإذا ببشرٍ الحافي قد خرجَ من المسجد مسرعًا، فقلت في نفسي: لأنظرنَّ إلى هذا الرجل الموصوفِ بالزهد ما يصنع، فتقدَّمَ إلى الخبَّاز فاشترى خبزًا بدرهم، ¬

_ (¬1) كتاب التوابين (105). (¬2) في (خ) و (ف): قال أبو الفتح بن شخرف، والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) كتاب التوابين (106). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وعن أبي عبد الله القاضي عن أبيه قال. (¬5) في (خ) و (ف): كما.

وتقدَّم إلى الشوَّاء، فأخذَ منه شواءً بدرهم، [فزادني غيظًا]، ثمَّ تقدَّم إلى الحلاوي، وأخذ منه بدرهم فالوذجًا، فقلت: والله لأنغصنَّ عليه إذا أراد الأكل، [قال: ] فخرج إلى الصحراء، وأنا أقول يريدُ الخضرةَ والماء، فما زال يمشي إلى العصر، وأنا خلفه، حتى أتى قريةً فدخل مسجدَها، وإذا فيه رجلٌ مريضٌ، فجلسَ عند رأسه وجعلَ يلقِّمُه، [قال: ] فخرجت [من المسجد] لأنظر في القرية، ثمَّ عدتُ إلى المسجد، فلم أره، فقلت للمريض: أين بشر؟ فقال: ذاك الساعة ببغداد، [قال: فقلت: كم بيني وبين بغداد]؟ فقال: أربعون فرسخًا، فقلت: إنَا لله، أيشٍ عملتُ بنفسي، ما معي ما أكتري به، ولا أقدرُ على المشي! فقال: اقعد حتى يرجع، فقعدتُ إلى الجمعة القابلة، وإذا ببشرٍ قد أقبلَ ومعه شيءٌ، فجلس عند رأس المريض يطعمُه، [قال: فقمت فقلت، أوَ قال له المريض (¬1): ] يا أبا نصر، هذا رجلٌ صحبكَ من بغداد، وهو عندي منذ جمعة، [قال: ] فنظرَ إليَّ كالمغضب وقال: لم صحبتني؟ فقلت: أخطأت، فقال: قم، فمشينا إلى المغرب، فلمَّا وصلنا إلى بغداد قال: اذهب إلى محلَّتك، ولا تعد، [قال: وقال في: ] ولا تحدِّث به في حياتي، فقلت: نعم، [قال: ] وتبتُ إلى الله تعالى ممَّا كنت أعتقده فيهم، وخرجتُ عن مالي، وصحبتُهم (¬2) [والحمد لله وحده. ذكرُ زيارته معروفًا الكرخيّ: روى ابن باكويه عن أحمد بن الهيثم قال: ] (¬3) قال لي بشر: قل لمعروف الكرخيّ: إنني أريدُ أن أزورَه، فقلت لمعروف، قال: نعم، فجاء بشرٌ بعد هوي من الليل، وعلى رأسه سجادة، فمشى على دجلة وأنا أنظر [إليه]، وقام معروف، فسلَّم كلُّ واحد منهما على صاحبه، واعتنقا، وجلسا فتحادثا إلى السحر، ثم ودَّع معروفًا، وخرج معه معروفٌ إلى دِجْلة، وكان معروفٌ في مسجده على دِجْلة، ثمَّ مَشى بشرٌ على الماء حتى عبرَ على دجلة إلى الجانبِ الشرقي، ثم التفتَ [إليَّ] وقال: إيَّاك إيَّاك والحديث، اكتم عليَّ ما رأيت، فما حدَّثتُ به أحدًا حتى مات. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): فقال المريض. (¬2) حلية الأولياء 8/ 352 - 353، وكتاب التوابين (107). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال أحمد بن الهيثم.

[ذكر قصَّته مع منصور الصياد: وروى ابن جهضم عن منصور الصياد قال: ] (¬1) صلَّيت صلاة العيد، وأخذتُ الشبكة وخرجتُ، فلقيني بشرٌ، فقال: في مثل هذا اليوم؟ ! فقلت: ما عندَ العيالِ شيءٌ، فجاء معي إلى الخندق، وقال: ارم وقل: بسم الله، ففعلت ثمَّ جذبتُها فإذا فيها شيءٌ ثقيل، فقلت: يا أبا نصر أعنِّي، فجذبَ معي، وإذا بسمكةٍ كبيرة، فقال: بعها واشتر لعيالك في هذا اليوم ما يأكلون. [قال: ] فلقيني راكبٌ على دابَّةٍ، فقال: بكم هذه السمكة؟ فقلت: بعشرة دراهم [فدفع إليَّ عشرةً وأخذها]، فاشتريتُ ما أحتاج إليه، ثمَّ أخذت حلوى فجعلتها على رقاقتين، وأتيت بها إلى بشر، فطرقتُ الباب، فقال لي مِنْ داخلِ الباب: يا منصور، لو أطعمتُ نفسي ما أشرتَ إليه ما خرجت (¬2) السمكة، اذهب وكل الذي معك أنت وعيالُك. [حديث السكران: ذكر أبو عبد الرَّحمن السلمي قال: ] (¬3) لقي بشر بن الحارث سكران، فجعل يقبِّلُ بشرًا، وهو يقول: يا سيِّدي يا أبا نصر، يا سيدي، ويبكي، وبشر لا يدفعُه عن نفسه، [فجعلَ بشر] (¬4) يبكي ويقول: رجلٌ أحبَّ رجلًا في الله على خيرٍ توهمه فيه، ولعلَّ المحبَّ قد نجا، والمحبوبُ لا يدري ما حالُه (¬5). [حديث الرطب. حكى] ابنُ باكويه (¬6) أنَّ رجلًا أهدى لبشرٍ رُطبًا، فجعلَ [بشرٌ] يقلِّبُه [ويلمسه بيده]، ثم ضربَ بيده إلى لحيته وقال: ينبغي لشيخٍ مثلي أنْ يستحيي من الله، إنِّي [عند ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال منصور الصياد. (¬2) في (ت): لو ألهمت إلى ما أشرت إليه ما خرجت. وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 9/ 270: لو ألهمنا هذا ما خرجت. (¬3) في (خ) و (ب): وقال أبو عبد الرَّحمن السلمي. والمثبت بين حاصرتين من (ب) (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ب): بل. (¬5) تاريخ دمشق 3/ 325 (مخطوط). (¬6) في (خ) و (ف): وقال ابن باكويه. والمثبت بين حاصرتين من (ب).

الناس] (¬1) تارك لهذا في العلانية، وآكله في السّر! [ذكر نبذٍ من كلامه: حكى أبو نعيم عنه أنه] كان يقول (¬2): ما اتَّقى الله عبدٌ أحبَّ الشهرة (¬3). و[حكى ابن باكويه عنه أنه] قال: إنا لله، عشت [إلى] زمانِ إن لم أعمل فيه بالخفاء (¬4) لم يسلم في ديني. [قال: ] وقال: إلهي قد شهرتني في الدنيا، فلا تفضحني يومَ القيامة، ولا تسلُبني ما أعطيتني، ما أقبحَ بي أن يظنَّ بي ظنًّا (¬5) وأنا على خلافه، إنَّما ينبغي أن أكون أكثرَ ممّا يُظَنُّ بي، إنِّي أكره الموت، وما يكرههُ إلَّا مريب، وإلا لأي شيءٍ أكره الموت (¬6)؟ ! [قال ابن باكويه: ] وقال له رجل: ما لي أراك مغمومًا؟ ! فقال: وما لي لا أغتم، وأنا رجل مطلوب. [وقال: ] وقال: ربما رفعت يديّ في الدعاء، فأردُّها وأقول: إنما يفعلُ هذا من له عند الله جاه وقدر [أو وجه] (¬7). وحكى السلميُّ عن الحسن الفلَّاس قال: ] (¬8) طلبتُ بشرًا يومًا، فقيل: هو في المقابر: فقصدتُه، وإذا به في قبة قد صلّى أربعَ ركعاتٍ، لا أحسن أن أصلِّي مثلها، فسمعته يقول: اللهمَّ إنَّك تعلمُ أنَّ الذل أحب إليَّ من العزّ، وأنَّ الفقرَ أحب إلي من الغنى، وأنَّ الموتَ أحبُّ إليَّ من الحياة، [قال: ] فبكيت، فالتفتَ فرآني، فقال: وإنَّك ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): وكان يقول. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف) و (ب): الشهوة. والمثبت من حلية الأولياء 8/ 346، وصفة الصفوة 2/ 325، وسير أعلام النبلاء 10/ 476. (¬4) في (خ) وصفة الصفوة 2/ 325: بالجفاء، ولم تنقط في (ف)، والمثبت من (ب) ونسخة كما في هامش صفة الصفوة. (¬5) في (ب): خيرًا. (¬6) صفة الصفوة 2/ 326. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). (¬8) في (خ) و (ف): وقال الحسن القلانسي. والمثبت من (ب).

تعلمُ لو أنِّي أعلم أن هذا هاهنا لما تكلَّمت. قال السلميُّ: فرجعَ الحسنُ [الفلَّاس] لا يأكلُ إلا من قمام المزابل، فأقام أيامًا ثمّ احتضر، فدخلَ عليه بشر وهو مضطجع، وتحتَ رأسه لَبنة، فقال: يا حسن، كيف حالك؟ ففتحَ عينه وقال: لقد أعطاني ما يتنافس فيه الكلّ. و[قال أبو نعيم: ] قال بشر: الموتى داخلَ السُّور أكثرُ منهم خارج السور (¬1). [قال: ] وقال: ليس من المروءة أنْ تحبَّ ما يبغضُ حبيبك (¬2). [وحكى الخطيب عن إبراهيم الحربي قال: سمعت بشرًا يقول] (¬3): حسبك أن [أقوامًا] موتى تحيى بذكرهم القلوب، وأنَّ أقوامًا أحياء تعمى برؤيتهم العيون (¬4). [قال: ] وقال [بشر: ] قد يكون الرجلُ مرائيًا في حياته وبعد مماته قيل [له: أمَّا] في حياته نعم، وأمَّا بعد مماته قكيف؟ قال: يحبُّ أن يكثرَ الناسُ في جنازته (¬5). وقال [بشر: ] الصدقةُ أفضلُ من الجهاد والحجّ، بهاك يركبُ ويجيء فيراه الناس، وهذا يتصدَّق سرًّا، ولا يعلم به إلَّا اللهُ تعالى. وقال: ما أقبحَ أن يقال: أين فلان العالم أو الفقير؟ فيقال: على باب الأمير. وقال: الحلالُ لا يحتمل السرف. وقال: يأتي على النَّاس زمان تكون الدولة فيه للحمقى على الأكياس. وقال: النظرُ إلى البخيل يقسِّي القلب، وإلى الأحمق يُسخِنُ العين. وقال: الصبرُ الجميل: الذي ليس فيه شكوى إلى الناس. وقال: لا تجدُ حلاوةَ العبادة حتى تجعلَ بينك وبين الشهوات سدًّا من حديد. وقال: هب أنَّك ما تخاف [من النار]، أمَّا تشتاق [إلى الجنة]. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 8/ 348. (¬2) لم أقف عليه عن بشر بن الحارث، وأورده بنحوه أبو نعيم في الحلية 8/ 300 في ترجمة بشر بن السريّ منسوبًا له ولفظه: نيس من أعلام اطب أن تحب ما يبغض حبيبك. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): وقال. (¬4) لم أقف عليه في تاريخ بغداد، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 3/ 330 (مخطوط) من غير طريق الخطيب. (¬5) صفة الصفوة 2/ 333.

وقال: المتقلِّبُ في جوعه كالمتشحِّطِ في دمه في سبيل الله. وقال: شاطرٌ سخيٌّ أحبُّ إلى الله تعالى من قارئٍ بخيل. وقال: إذا لم تطع مولاك فلا تعصِه. وقال له رجل: يا بشر انقبضتَ عن أخذ البرِّ من أيدي الناس؛ لإقامة الجاه، فإن كنت متحقِّقًا بالزهد، فخذ من أيديهم حتى تمحي جاهَك عندهم، وفرّق ما يعطونَك في الفقراء، وخذ بعقد التوكل قُوْتَك من الغيب (¬1). فقال له بشر: الفقراءُ ثلاثة؛ فقيرٌ لا يَسْأل، وإن أعطيَ لا يأخذ، فذلك من الروحانيين، إذا سألَ الله أعطاه، كان أقسمَ عليه أبرَّ قسمَه، وفقيرٌ لا يَسْأَل، وإن أعطي أخذ، فذلك من أوسطِ القوم، عقدُه التوكُّل والسكونُ إلى الله تعالى، وهو ممن تُوْضَعُ (¬2) له الموائدُ في حضرة (¬3) القدس، وفقير اعتقدَ الصبر ومدافعة الوقت، فإذا طرقته الحاجةُ خرجَ إلى عباد الله بالسؤال، وقلبُه مع الله، فكفارةُ مسألتِه صدقُه في السؤال. فقال الرجل: رضيتُ، رضي الله عنك. وقال بشر: من سألَ الله الدنيا، فإنَّما يسألُه طولَ الوقوف للحساب بين يديه. وقيل له: لم لا تخوِّف السلطان بالله؟ فقال: إنّي أُجِلُّ الله تعالى أنْ أَذكرَه عند من لا يعرفهُ. وقال: أردتُ مرَّة أنْ أكتبَ كتابًا، فعرضَ في كلامٌ؛ إن كتبتُه في الكتاب حَسُن وكان كذبًا، كان تركتُه سَمُج وكان صدقًا، فعزمتُ على تركه، فناداني منادٍ من جانب البيت: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية (¬4) [27 من سورة إبراهيم]. وقال: أمس قد مات، واليوم في النزع، وغدًا لم يولد. وقال: من أرادَ أن يكون عزيزًا في الدنيا سالمًا في الآخرة، فلا يحدِّث، ولا ¬

_ (¬1) من قوله: وقال له رجل ... إلى هنا. ليس في (ب)، وما سلف بين حاصرتين منها. (¬2) في (خ) و (ف): يوسع. والمثبت من (ب) وطبقات الصوفية ص 47. (¬3) في (ب): حظيرة. (¬4) من قوله: وقال: أردت مرة ... إلى هنا. ليس في (ب).

يشهد، ولا يؤمَّ بقومٍ، ولا يقبل لأحدٍ هديَّةً. وقال: لا تؤثرنَّ على قطع العلائق شيئًا، فإنِّي لو كُلِّفتُ علفَ دجاجةٍ، لخفتُ أن أكون عشَّارًا. وقال: لا يفلحُ من أَلِفَ أفخاذَ النساء. وقال: التوكُّل. اضطرابٌ بغير سكون، وسكونٌ بغير اضطراب، فقيل له: فسِّره لنا، فقال: أمَّا اضطرابٌ بلا سكون، فرجلٌ تضطربُ جوارحُه وقلبُه ساكن إلى الله تعالى لا إلى عمله، وأمَّا سكونٌ بلا اضطراب، فرجلٌ ساكنٌ إلى الله بلا حركة، وهذا من صفاتِ الأبدال (¬1). وقال: إذا ختمَ الرجلُ القرآن قبَّل المَلَكُ ما بين عينيه. وقال: إذا أعجبكَ الكلامُ فاصمُت، وإذا أعجبكَ الصمتُ فتكلَّم. وقال: إلهي رفعتَني في الدنيا فوقَ قدري، ونوَّهت (¬2) باسمي، فأسألُك بوجهك الكريم أن لا تفضحَني غدًا على رؤوس الأشهادِ يوم القيامة. وجاء إليه رجلٌ فقال: رأيتُ ربَّ العزَّة في المنام، فقال لي: اذهب إلى بشر، وقل له: لو سجدتَ لي على الجمرِ ما أدَّيتَ شكري ممَّا قد بثثتُ (¬3) لك في قلوب الناس، فجعلَ يبكي ويقول: إلهي إن كنتَ شهرتني في الدنيا، فلا تفضحني يومَ القيامة. وضحكَ رجلٌ عنده فقال [له: ] (¬4) احذر [أن] يأخذكَ الله على هذا الحال. وقال: فِرَّ من الناس ولا تأنس بهم. وقال: صحبةُ الأشرارِ تورثُ سوءَ الظن بالأخيار. وقال: لا أفلحَ من قال: بأيِّ شيءٍ آكلُ خبزي؟ ¬

_ (¬1) من قوله: وقال: التوكل ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬2) في (خ) و (ف): وفوهت. والمثبت من (ب)، وانظر تاريخ بغداد 7/ 559، وتاريخ دمشق 3/ 333 (مخطوط). (¬3) في (خ) و (ف): ثبت. والمثبت من تاريخ دمشق، وفي تاريخ بغداد 7/ 559: فيما قد بثثت لك، أو نشرت لك اهـ والخبر ليس في النسخة (ب). (¬4) في (خ) و (ف): لي. والمثبت وما سيأتي بين حاصرتين من (ب).

وقال: سكونُ النَّفسِ إلى المدح أشدُّ عليها من المعاصي. وقال: كان العلماء يعتبرونَ بثلاثة أشياء؛ صدق اللسان، وطيب المطعم، والمسكن الصالح، ولا أعرف اليوم من فيه من هذه الخلال واحدةٌ، يعبأُ الله بهم، وهم يتغايرون على الدنيا، ويتحاسدون، ويسعون إلى أهلها، ويغتابُ بعضهم بعضًا، يقول أحدهم لصاحب الدنيا: أدخلني وأخرج فلانًا، ويحَكُم، إنَّ الأنبياءَ لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنَّما ورَّثوا العلم، وأنتم حملتموه وما نفعكم، وما على أحدكم أن لا يستكثر من الدنيا، وإنَّما هو عابرُ سبيل، وكأني والله برسول رربه وقد أتاه، فأخذَ روحَه، وأُحضِرَ يومَ الحساب، يوم الحسرة والندامة، فما ظنُّكم بملك الموت، والدُّنيا بين يديه كالطبق، يمدُّ يدَه من المشرق إلى المغرب، فيتناول الأرواحَ، فليطلب أحدكُم من الدنيا معاشًا يبلِّغه (¬1). وقال: مثلُ الذي يأكلُ الدنيا بالدين، كالذي يغسلُ [بدنه من الزهومةِ بالسَّمك] (¬2)، ويطفئُ النارَ بالحَلْفَاء. وقال: لو تفكَّر الناسُ في عظمِة الله لما عصوه. [وذكر أبو عبد الرحمن السُّلمي قال: وقف بشرٌ] على (¬3) أصحابِ الفاكهة، فجعلَ ينظرُ إليها، فقيل له: لعلك [تشتهي من هذا شيئًا] (¬4)؟ فقال: لا والله، ولكن أفكر (¬5) فيها، فقلت: إذا كان الله سبحانه وتعالى يطعم هذه من يعصيه، فكيف من (¬6) يطيعه! و[قال ابن مسروق: ] سئل [بشرٌ]، عن القناعة فقال: لو لم يكن فيها إلا التمتع بعزِّ الغنى لكفى، ثم أنشد: [من الوافر] ¬

_ (¬1) من قوله: وقال: كان العلماء يعتبرون ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): يديه بالزهومة من السمك. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): ووقف على ... (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): تشتهيها. (¬5) في (خ) و (ف): أفكرت، وفي تاريخ دمشق 3/ 327 (مخطوط): ولكن نظرت، والمثبت من (ب). (¬6) في (ب): بمن، وما بين حاصرتين منها.

أفادتني القناعةُ أيَّ عزٍّ ... ولا عزٌّ أعزُّ من القناعهْ فخُذْ منها لنفسك رأسَ مالٍ ... وصيِّر بعدَها التقوى بضاعهْ [تَحُزْ حالين تَغنَى عن بخيلٍ ... وتحظَى بالجنانِ بصبر ساعهْ] (¬1) وكان (¬2) ينشد: [من السريع] أُقسمُ بالله لرضخُ النَّوى ... وشُربُ ماءِ القُلُبِ المالحهْ أعزُّ للإنسانِ من حرصه .. ومن سؤالِ الأوجهِ الكالحهْ فاستغنِ بالله تكنْ ذا غنى ... مغتبطًا بالصفقةِ الرابحهْ فاليأسُ عزٌّ والتُّقى سُؤدُدٌ ... ورغبةُ النفس لها فاضحهْ من كانت الدنيا له برَّةً ... فإنَّها يومًا له ذابحهْ (¬3) وكان ينشد: [من البسيط] قطع الليالي مع (¬4) الأيام في حُرَقٍ ... والنومُ تحت رِوَاقِ الهمِّ والأرقِ أحرى وأجدرُ بي من أن يُقَال غدًا ... إنِّي التمستُ الغنَى من كفِّ ممتلقِ قالوا رضيتَ بذا قلت القنوعُ غنى ... ليسَ الغنى كثرةُ الأموال والورقِ رضيتُ بالله في عسري وفي يسري ... فلستُ أسلكُ إلَّا واضحَ الطرقِ (¬5) وقال عمر ابن أخت بشر: دخلت [على خالي] (¬6) وبين يديه بطيخة وهو يقلِّبُها بيده، فقلت له: ما هذه؟ ! فقال لي: مدَّةَ ستين سنة (¬7) أشتهيها، فلمَّا كان اليوم غلبتني نفسي، فأحضرتُها، وقلت: ويحك يا نفس، بعد كذا وكذا أدافعُ هذه الشهوة، وتريدين أنْ تغلبيني اليوم، ثم دحى بها وقال: [من مخلع البسيط] وإنَّ كدِّي لشبع بطني ... ببيعِ ديني من المحالِ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 332 (مخطوط)، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) من هنا ... إلى قوله: وقال عمر ابن أخت بشر .... ليس في (ب). (¬3) حيه الأولياء 8/ 345 - 346، وتاريخ دمشق 3/ 330 (مخطوط) باختلاف يسير. (¬4) في (خ) و (ف): والأيام. والمثبت من مناقب الأبرار 1/ 132، وتاريخ دمشق 3/ 332 (مخطوط). (¬5) حلية الأولياء 8/ 354، وتاريخ بغداد 7/ 557، وتاريخ دمشق 3/ 332 باختلافٍ يسير. (¬6) في (خ) و (ف): عليه. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬7) في (ب): سنين، بدل: ستين سنة.

من نال دنيا بغيرِ دينٍ ... نال وبالًا على وبالِ (¬1) [قال عمر: ] وكان ينشد [دائمًا: ] [من الطويل] صبرتُ على الأيَّام حتى تولَتِ ... وألزمتُ نفسي صبرَها فاستمرَّتِ وما النفسُ إلا حيثُ يجعلُها الفتى ... فإن أُطمعتْ تاقت وإلَّا تسلَّتِ وقال أحمدُ بن مِسْكين: خرجتُ يومًا أطلبُ بشرًا، وإذا به في مقابرِ باب حرب جالسٌ وحدَه، فخطَّ بيده على الأرض شيئًا، فقام ومضى، فقرأته، وإذا به: [من المنسرح] الحمدُ لله لا شريكَ له ... في صُبحهِ دائمًا وفي غَلَسِهْ لم يبقَ لي مؤنسٌ فيؤنسني ... إلا أنيسٌ أخافُ من أُنسِهْ فاعتزل الناسَ يا أُخيَّ ولا ... تَرْكَن إلى من تخافُ من دنَسِهْ (¬2) وقال: رأيت [أمير المؤمنين] علي [بن أبي طالب] رضوان الله عليه في المنام فقلت: [تقول شيئًا لعل الله أنْ ينفعني به يا] أمير المؤمنين، فقال: يا بشر، ما أحسنَ [عطفَ الأغنياء على الفقراء] طلبًا لثواب الله، وأحسنُ منه [تيهُ الفقراء] على الأغنياء ثقةً بالله، فقلت: يا أمير المؤمنين [تزيدنا، فولى] (¬3)، فقال: [من مخلع البسيط] قد كنتَ ميتًا فصرتَ حيًّا ... وعن قليلٍ تصيرُ ميتًا عزٌّ بدار الفنا بنيتَ ... فابنِ بدارِ البقاء بيتًا (¬4) [وحكى في "المناقب" عن بشر أن رجلًا قال له: ] (¬5) أوصني، فقال: عليك بلزوم بيتك وترك ملاقاة الناس (¬6) فقال له رجل: بلغني عن الحسن أنَّه قال: لولا الليل وملاقاة الإخوان ما أحببت البقاءَ في الدنيا، فقال بشر: يرحمُ الله الحسن، لقد كان ¬

_ (¬1) ذكر نحوها ابن الجوزي في التبصرة 1/ 200، وكذا البيتان الآتيان عنده. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 557، وتاريخ دمشق 3/ 331 (مخطوط). (¬3) الكلام الذي بين حاصرتين مكانه في (خ) و (ف) بياض، وعليه إشارة الانقطاع، واستدركته من التدوين في أخبار قزوين 1/ 303، والقصة رويت عن غير بشر، فذكرها الخطيب في تاريخ بغداد 14/ 366 عن الفتح ابن شخرف، وذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق 5/ 8 عن أبي يزيد طيفور البسطامي. فالله أعلم. (¬4) من قوله: وقال أحمد بن مسكين ... إلى هنا ليس في (ب) وانظر الخبر في مناقب الأبرار 1/ 140 - 141. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): وقال له رجل. (¬6) في (خ) و (ف): الإخوان. والمثبت من (ب) ومناقب الأبرار.

الظنُّ به خلاف هذا، ثم أنشد: [من الكامل] يا من يُسرُّ برؤية الإخوان ... مهلًا أمنتَ مكائدَ الشيطانِ خَلَتِ القلوبُ من المعاد وذكره ... وتشاغلوا بالحرص والخسرَانِ صارت مجالسُ من ترى وحديثهم ... في هتكِ مستورٍ وخلق قرانِ (¬1) ذكر وفاته: [وقد حكينا عن ابن سعد أنه قال: مات بشرٌ في سنة سبعٍ وعشرين ومئتين (¬2)]. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمة الله عليه: مات بشرٌ قبل المعتصم بسبعةِ أيام (¬3). [وحكى الخطيب عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال] (¬4) رأيتُ أبا نصرٍ التمَّار وعليّ بن المديني في جنازة بشر [يصيحان]: هذا والله شرفُ الدنيا قبل شرفِ الآخرة، [وذلك أنَّ بشرًا] (¬5) خرجت جنازتُه [بعد] (¬6) صلاة الصبح، ولم يحصل [في قبره] إلَّا في الليل، وكان نهارًا صائفًا [فلم يستقرَّ في قبره إلى العتَمة] (¬7). وقال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمة الله عليه: لما ماتَ بشرٌ [وكان يسكنُ معنا في قطيفة الربيع، وفي رواية: في قطيفة أم جعفر] دخلتُ على أبي فقلت: يا أبه، مات بشر [ابن الحارث]، فقال: رحمه الله، كان لي به أنس، وما رأيتُه قط، ثم قام [فخرج]، فصلَّى عليه (¬8). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 130، وذكر ابن عساكر في تاريخه 3/ 330 الأبيات فقط، لكنه ذكر الخبر في تاريخه 2/ 406 بنحوه مختصرًا في ترجمة إبراهيم بن الأدهم من كلامه. (¬2) طبقات ابن سعد 9/ 344. (¬3) كذا في (خ) و (ف) و (ب)، وما سلف بين حاصرتين من (ب). والذي في تاريخ بغداد 7/ 560، وتاريخ دمشق 3/ 334 (مخطوط)، وسير أعلام النبلاء 10/ 476: بستة أيام. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال يحيى بن عبد الحميد الحماني. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، ووقع في (خ) و (ف) بياض وفوقه إشارة انقطاع، واستدركته من (ب). (¬6) في (خ) و (ف): قبل. والمثبت من (ب). (¬7) تاريخ بغداد 7/ 560. (¬8) انظر تاريخ بغداد 7/ 560، وما سلف بين حاصرتين من (ب).

كذا وقعت هذه الرواية، قالوا: كانا يخافان من التصنُّع، والمشهورُ أنَّهما اجتمعا وكانا جارين. [وقال عمر ابن أخته: ناحت الجنُّ في البيت الذي يتعبَّدُ فيه (¬1). ذكر ما رؤيَ له من المنامات في حال حياته وبعد مماته: قد ذكرنا الرجلَ الذي رأى الحق في منامه، وذكر عنه ابن خميس في "المناقب" قال: ] (¬2) رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: يا بشر، أتدري لم رفعك الله من بين أقرانك؟ فقلت: لا، فقال: باتباعك لسنتي، واحترامكَ الصالحين، ونصيحتكَ لإخوانك، ومحبتكَ لأهل بيتي وأصحابي؛ هو الذي أبلغك منازلَ الأبرار (¬3). [وحكى في "المناقب" أيضًا أنَّ رجلًا جاءه] (¬4) في ليلة فطرٍ أو أضحى، فقال له: يا أبا نصر، رأيتُ الليلةَ في المنام كانَ القيامةَ قد قامت، والناسُ في كربٍ شديد ودموعهم تتحادرُ دمًا، إذ خرجَ منادٍ (¬5) ينادي: أين بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل؟ وإذا بكما قد حضرتما، فأدخلَكُما على الله تعالى، فقال أهل الموقف: إنْ حُوسِب هذان هلكنا، وإذا بملَك قد خرج من عند الله، فقلنا: ما فعلَ بِشرٌ وأحمدُ بن حنبل؟ فقال: إنهما يحاسبان بقيام الشكر بما منَّ الله عليهما من سترهما. فقال بشر: أمَّا أحدُ الرجلين، فالتقصيرُ قرينه، وأمَّا الآخرُ فتشهدُ له الحقائق [بقيام الشكر، أو: ] (¬6) بقيامه بالشكر، ثمَّ بكى بشرٌ، وقال: ويحكَ يا بشر، شُدَّ حزاميك للموت، فإنَّك مطلوب. [وأما ما روي له بعد مماته: فحكى الخطيب عن القاسم بن منبه قال: ] (¬7) رأيتُ بشرَ بن الحارث في المنام - ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 561. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال بشر. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 130، وتاريخ دمشق 3/ 319 (مخطوط). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب) وفي (خ) و (ف): وجاءه رجل. (¬5) في (خ) و (ف): إذ خرج مناديًا، وفي (ب): إذ خرج مناديًا يناديًا ينادي؟ ! والمثبت من مناقب الأبرار 1/ 130. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال القاسم بن منبه.

يعني بعد موته- فقلت: ما فعلَ الله بك؟ فقال: غفر لي، وقال: غفرت لك ولكلِّ من شيَّع جنازتك، فقلت: يا ربِّ، ولكلِّ من أحبني، قال: نعم إلى يوم القيامة (¬1). [وحكى الخطيب عن الكندي قال: رأيث بشرًا في منامي فقال: ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال: غفرَ لي، وحطَّني في لؤلؤةٍ بيضاء (¬2)، وقال: سر في ملكي (¬3). وحكى أيضًا عن ابن خزيمة قال: لما مات] أحمدُ بن حنبل [رأيته] في منامي (¬4)، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وتوَّجني، وألبسني نعلين من ذهب، وقال: يا أحمد، هذا بقولك: القرآنُ كلامي غيرُ مخلوق، فقلت: ما فعل الله ببشر الحافي؟ قال: بخٍ بخٍ، مَن مثلُ بِشر! تركته بين يدي الجليل على مائدة، والجليل يقول -سبحانه وتعالى- له، وهو مقبل عليه: كُل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم يتنعَّم. (¬5) [وحكى ابن خميس في "المناقب" عن بعض الصالحين قال: ] (¬6) رأيت بشرًا في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: قال لي: يا بشر، أما استحييت منّي، كنت تخافني ذاك الخوف؟ ثم قال: مرحبًا [بك]، قد توفيتُك [يوم توفيتك] وما على وجه الأرض أحب إليَّ منك (¬7). [ذكر ثناءِ العلماء عليه: حكى الخطيب عن الإمامِ أحمد بن حنبل رحمة الله عليه أنّه سئل] عن مسألةٍ (¬8) في الورع، فقال: لا يحلُّ لي أن أتكلَّم في الورع، وأنا آكل من غلَّة بغداد، [لو كان بشر بن ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 561. (¬2) في صفة الصفوة: وأقعدني على طيار من لؤلؤة بيضاء. (¬3) لم أقف عليه في تاريخ بغداد للخطيب، وأورده ابن الجوزي في صفة الصفوة 2/ 335. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال الكندي: رأيت أحمد بن حنبل في منامي. (¬5) أخرجها ابن عساكر في تاريخه 3/ 338 (مخطوط). (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال بعض الصالحين. (¬7) مناقب الأبرار 1/ 141. (¬8) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وسئل الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه عن مسألة ...

الحارث صلح أن يجيبك عنه، فإنَّه كان لا يأكل من غلَّة بغداد] (¬1)، ولا من طعامٍ يُجلبُ من السَّواد، [يصلحُ لبشرٍ أنْ يتكلمَّ في الورع (¬2)]. [وحكى أيضًا عن الإمام أحمد رحمه الله أنَّه قال: ] (¬3) إنَّ بين أظهركم رجلًا ما هو عندي بدون عامر بن عبد قيس، [يعني بشرًا (¬4). وذكر الحافظُ ابنُ عساكر في "تاريخه" عن أحمد بن حنبل، وقد قيل له: مات بشرٌ، فقال رحمه الله: ماتَ وما له نظيرٌ في الأمّة إلا عامر بن عبد قيس، ] فإن عامرًا مات ولم يترك شيئًا، ولو تزوَّجَ تَم أمرُه (¬5). [وحكى الخطيب عن أحمد بن المثنى (¬6) قال: ] (¬7) قلت للإمام أحمد: ما تقول في بشر [الحافي]؟ فقال: سَأَلْتَنِي عن رابع سبعةٍ من الأبدال، ما مَثَلُه عندي إلا مثل رجل جلس على رأس السِّنان، فهل أبقى لأحدٍ معه موضعًا؟ [وحكى الخطيب عن إبراهيم الحربي قال: ] (¬8) ما أخرجَت بغدادُ أتمَّ عقلًا من بشر، ولا أحفظ للسانه منه. [قال: ] وأقام بعَبَّادان يشرب من ماء البحر المالح، ولا يشرب من حياض السلاطين حتى وتَد له ماءُ البحر القولنج (¬9). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 1/ 295. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال الإمام أحمد رحمه الله. (¬4) لم أقف عليه في تاريخ بغداد، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 3/ 317 (مخطوط) من غير طريق الخطيب. (¬5) تاريخ دمشق 3/ 318 من طريق الخطيب البغدادي، وهو في تاريخ بغداد 7/ 552 - 533. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) كذا في (خ) و (ف) و (ب): أحمد بن المثنى. وفي تاريخ بغداد 7/ 552، وتاريخ دمشق 3/ 319 (مخطوط): محمد بن المثنى. واسمه كما في طبقات الحنابلة 1/ 263: محمد بن أحمد بن المثنى. (¬7) في (خ) و (ف): وقال أحمد بن المثنى. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬8) ما بين حاصرتين من (ب) وفي (خ) و (ف): وقال إبراهيم. (¬9) تاريخ دمشق 3/ 323 (مخطوط) من قول علي بن غنام.

[قال: ] وما كان يمشي في ظل دار [من حلّ] (¬1) من أصحاب السلاطين. [وحكى عن يحيى بن أكثم قال: ] (¬2) قال لي المأمون: ما بقي في هذه الكورة (¬3) من يستحيى منه إلَّا هذا الشيخ، يعني بشرًا. [وحكى ابن خميس في "المناقب" عن بلال الخواص قال: ] (¬4) كنت في تيه بني إسرائيل، فإذا برجلٍ يماشيني، فأُلهمت أنَّه الخضر [- عليه السلام -]، فقلت: بحقِّ الحقِّ من أنت؟ قال: أخوك الخضر، فقلت: أريد أن أسألكَ، فقال: سل، فقلت: ما تقول في الشافعيّ؟ قال: وتدٌ من الأوتاد، فقلت: فأحمد بن حنبل؟ قال: صدِّيق، قلت: فبشر الحافي؟ قال: لم يخلِّف بعدَه مثله، قلت: فبأيِّ شيءٍ رأيتك؟ قال: ببرِّك لأمِّك (¬5). [وحكى في "المناقب" أيضًا عن أبي عبد الله بن الجلَّاء قال: ] (¬6) رأيت ذا النون، وكانت له العبارة، ورأيت سهل بن عبد الله، وكانت له الإشارة، ورأيتُ بشرًا، وكَان له الورع، قيل له: فإلى أيِّهم تميل؟ قال: بشر أستاذُنا (¬7). [وحكى الخطيب عن أيوب العطار قال: ] (¬8) انصرفتُ مع بشرٍ يومَ الجمعة من الجامع، وإذا بصبيان يلعبون بالجوز، فلمَّا رأوه قالوا: بشر بشر، [ومرُّوا يحضرون]، فالتفتَ إليَّ [بشر] وقال: أيُّ قلبٍ يَقوى على هذا؟ لا مررتُ بهذا الدوب حتى ألقى الله تعالى (¬9). أسند بشر عن [إبراهيم بن سعد، و] مالك بن أنس، [وابن المبارك]، والفضيل بن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بن حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال يحيى بن أكثم. (¬3) في (خ) و (ف): السنة، وفي (ب): الكوفة، وفي تاريخ بغداد 7/ 552: الكُوَر، والمثبت من تاريخ دمشق 3/ 317. (¬4) في (خ) و (ف): وقال بلال الخواص. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ) و (ف): بترك الأمل. والمثبت وما سلف بين حاصرتين من (ب)، والخبر في مناقب الأبرار 1/ 130 - 131، وتاريخ دمشق 3/ 317 (مخطوط). (¬6) في (خ) و (ف): وقال أبو عبد الله بن الجلاء. والمثبت من (ب). (¬7) مناقب الأبرار 1/ 131، والخبر أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 7/ 554 وقال بعده: هكذا قال في هذه الحكاية، وأحمد بن يحيى الجلاء لم ير بشرًا ولم يدركه، وإنما أبوه يحيى أدركه. (¬8) في (خ) و (ف): وقال أيوب العطار. والمثبت من (ب). (¬9) تاريخ بغداد 7/ 558، وما سلف بين حاصرتين من (ب).

عياض، وحمَّاد بن زيد، وغيرهم، [وسمع منهم] و [كان قد] سافرَ إلى الأقطار؛ مكَّة، والمدينة، واليمن، ومصر، والشام، والبصرة، والكوفة، وصعد جبلَ لبنان، وساحَ في الدنيا، واشتغلَ بالعبادة والورع عن الرواية. [قال الخطيب: ومن مسانيده أنَّ عَوج بن عُنُق كان يأتي البحر، فيخوضُه برجله، وكان يأخذُ حوتًا من قرار البحر بيده، ويرفعُه إلى عين الشمس، فيشويه، ويأكله، ويدَّخر له التجار في البحر كُرًّا أو كُرَّين فيحضرهما ويأكلهما في يوم واحد. قال بشر: فهذا -والله- كافرٌ يرزقه الله، وأنت تعبد الله وتوحِّده، ويكفيك رغيف أو رغيفان (¬1). وقد ذكرنا عوجًا في صدر الكتاب في قصة أريحا] (¬2). وقد رَوى عنه الأعيانُ أحمد بن إبراهيم الدَّورقِيّ، وعليُّ بن خَشْرم، وسريّ السقطي، وخلقٌ كثير (¬3). [وحكى أيضًا عن أبي الحسن المروزيّ قال: ] (¬4) كنت عند بشر، فأتاه أصحابُ الحديث، فقال لهم: ما أنتم؟ قالوا: نطلبُ العلم، فقال: أليسَ إذا ملكَ أحدكم مئتي درهم تجب عليه الزكاة خمسةَ دراهم؟ قالوا: بلى، قال: فكذا يجب عليكم إذا سمعتم مئتي حديث أن تعملوا منها بخمسة أحاديث. [وقيل لبشر: لم] لا تحدِّث؟ قال: أنا أشتهي أن أحدِّث، [وإذا اشتهيت] (¬5) شيئًا تركتُه. وقال: الحديث له يوم طريق من طريق الدنيا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر حلية الأولياء 8/ 351، ومناقب الأبرار 1/ 136. (¬2) انظر الجزء الثاني، فصل في ذكر مقتل عوج بن عناق. (¬3) من قوله: وقد روى عنه الأعيان ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال أبو الحسن المروزي. وفي تاريخ بغداد 7/ 548: أبو الحسين الحسن بن عمرو الشيعي المروزي. (¬5) ما بين حاصرتين زدته من تاريخ بغداد 7/ 549، ومكانه في (خ) و (ف) بياض فوقه علامة الانقطاع، والخبر ليس في (ب). (¬6) كذا في (خ) و (ف)، وليس في (ب). وقريب منه ما أخرجه أبو نعيم في الحلية 8/ 339 أن بشرًا قال: بلغني أن حدثنا فلان عن فلان باب من أبواب الدنيا.

[وقد ذكرنا أنَّه دَفن بشرٌ ثمانية عشر قمطرًا أو قوصرة، واشتغل بالتعبُّد، فلم يضبط من حديثٍ إلَّا اليسير. قلت: فالواجبُ دفن الكتب إذا كان فيها باطل، وإذا لم يكن، فيكون مخالفًا للشرع. ذكر أخوات بشر: حكى الخطيب عن أبي عبد الرَّحمن السُّلميّ قال: ] (¬1) وكان لبشر ثلاث أخوات مُخَّة وزُبْدَة ومُضْغَة [وكانت زُبدة تكنى أمَّ علي، وكانت مضغةُ أكبرَ من بشر، وماتت قبله، وكذا قال أحمد بن حنبل: كانت زُبدة تكنى أمَّ عليّ، إلَّا أنَّه قال: كانت زبدة أكبر من بشر، وماتت قبله، وهي التي توجَّع عليها لما ماتت] (¬2) وقال: قرأت في بعض الكتب أنَّ العبدَ إذا قصَّر في خدمة ربِّه سلبَه أنيسَه، وهذه كانت أنيسي من الدنيا (¬3). [وروي أنَّ التي ماتت قبل بشر هي مخَّة، وقد ذكرها الخطيب بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: ] (¬4) جاءت مخَّة [أخت بشر الحافي] إلى أبي، فقالت: إتي امرأةٌ رأس مالي دانقان، أشتري بهما القطنَ فأغزلُه وأبيعُه بنصف درهم، وأتقوَّتُ بدانقٍ من الجمعة إلى الجمعة، فمرَّ طائف ابن طاهر ومعه مشعل، فوقف يكلِّمُ أصحاب المسالح، فاغتنمتُ ضوءَ المشعل، فغزلتُ طاقات، ثمَّ غاب عني المشعل، فعلمتُ أنَّ لله فيَّ مطالبة، فخلِّصني خلَّصك الله، فقال لها: تُخرجين الدانقين، ثمَّ تبقين بلا رأس مال حتى يعوِّضكِ الله خيرًا منه، [فقال عبد الله: ] ققلت لأبي: لو قلتَ لها: أخرجي المغزل الذي فيه الطاقات (¬5)، فقال: يا بنيّ، سؤالُها لا يحتملُ التأويل، ثم قال: مَن هذه، قلت: مخَّة أختُ بشرٍ الحافي، فقال: من ها هنا أُتيت. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وماتت زبدة -وقيل مضغة- قبله فتوجع. (¬3) تاريخ بغداد 16/ 632 - 624. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمة الله عليه. (¬5) كذا في (خ) و (ف)، وفي (ب): أخرجي الطاقات. وفي تاريخ بغداد 16/ 625: لو أخرجت الغزل الذي أدركت فيه الطاقات.

[وقد ذكرها جَدِّي في "المنتظم" وقال: كانت مخَّة تذكر بالورع، قال: وماتت في سنة خمس وعشرينَ ومئتين (¬1). قلت: فالمشهورُ عن السُلميِّ (¬2) وغيره أنَّ الزاهدةَ الورعةَ من أخوات بشر هي زبدة أم عليّ، وهي التي ماتت قبله وحزن عليها، وقد نصَّ عليه أحمد بن حنبل، فإنه قال ما حكينا عنه. وقيل إنَّ الزاهدةَ كانت مضغة، ولا تنافي بين الكل، فإنَّهنَّ كلهنَّ زاهداتٌ ورعات، والدليلُ عليه ما حكى الخطيب عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال] (¬3): دقَّ علينا الباب داقٌّ، [فقال: اخرج فانظر، قال: ] فخرجت، فإذا بامرأةٍ، فقالت: استأذن على أبي عبد الله، فاستأذنتُ لها، فدخلَتْ وسلَّمت فردَّ عليها، فقالت: أنا امرأةٌ أغزلُ [بالليل في السِّراج، فربمَّا طُفئ السراج فأغزل] (¬4) في القمر، فهل عليَّ أن أبيِّنَ غزلَ القمر من غزل السراج (¬5)، فقال لها: [إن كان] عندك بينهما فرقٌ فبيِّني، فقالت: يا أبا عبد الله، أنينُ المريض شكوى؟ قال: أرجو أن لا يكون شكوى، ولكنَّه اشتكاءٌ إلى الله سبحانه وتعالى. ثمَّ ودَّعته وخرجت، فقال [لي: ، يا بني، ما سمعت قط إنسانًا يسأل عن [هذا، أو] مثل هذا! اتبع المرأة وانظر أين تدخل، [قال: ] فتبعتُها، فدخلَتْ بيتَ وبشرٍ [الحافي]، وإذا هي أختُه، [قال: ] فرجعتُ وأخبرته، فقال: [محالٌ أن] تكون مثلُ هذه إلَّا أخت بشر. [ولم يذكر في هذه الرواية اسم المرأة، قال: وكانت مخَّة من بينَ أخوات بشر، تقصد أحمد، وتسأله عن الورع، وكان أحمد يعجبه مسائلها. وقال أبو عبد الرَّحمن السُّلمي: كان بشرٌ يقول: ] (¬6) تعلمت الورع من أختي زبدة، وما كانت تأكلُ شيئًا لمخلوقٍ فيه تصنع (¬7). ¬

_ (¬1) المنتظم 11/ 110. (¬2) انظر ذكر النسوة المتعبدات للسلمي ص 88، وذكر فيه زبدة ومضغة. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): والثلاث كن زاهدات ورعات، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 16/ 624. (¬5) بعدها في (ب): ربما يطفئ! ؟ (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال بشر. (¬7) في تاريخ بغداد 16/ 625: صنع.

ذكر] ترجمة أبي عبيدة [الخواص]

[قال: ] وقالت زبدة: أثقلُ شيءٍ على العبد الذنوب، وأخفُّ شيءٍ عليه التوبة، فما له لا يدفعُ أثقلَ شيءٍ بأخفّ شيء. [ذكر قصة بشر مع أبي عبيدة الخوّاص: حكى عنه في "المناقب" قال (¬1): ] رأيتُ رجلًا على جبال عرفات قد ولع به الوله وهو يقول: [من البسيط] سبحانَ من لو سجدنا بالعيونِ له ... على شبا (¬2) الشوك والمُخمَى من الإبرِ لم نبلغِ العُشْر من معشارِ نعمتِه ... ولا العشيرَ ولا عُشرًا من العشرِ هو الرفيعُ فلا الأبصارُ تدركُه ... هو العليُّ على العلياء بالقدرِ سبحان من هو أنسي إذ خلوتُ به ... في جَوف ليل وفي الظَّلماء والسَّحَرِ أنت الحبيبُ وأنت الحبُّ يا أملي ... من لي سواكَ ومن أرجوهُ يا ذخري وقال: [من البسيط] كم قد زَلَلتُ فلم أذكرك في زَللي ... وأنت يا واحدي في الغيب تذكُرُنِي كم أكشفُ السترَ جهلًا عند معصيتي ... وأنت تلطفُ بي جُودًا وتستُرني لأبكينَّ بدمع العين من أسفٍ ... لأبكينَّ بكاء الوالهِ الحزنِ [قال: ] ثم غاص في خلال الناس فلم أره، فسألتُ عنه، فقالوا: هذا أبو عبيدة الخوَّاص، منذ سبعين سنة لم يرفع رأسهُ إلى السماء حياءً من الله تعالى. [هذا ما قد ذكر في "المناقب" (¬3). ذكر] ترجمة أبي عبيدة [الخواص] (¬4) ذكر البخاريُّ أنَّ كنيتَه أبا عتبة، واسمه عباد بن عباد (¬5)، وإنَّما اشتهر بأبي عبيدة، وكان من الخائفين المشتاقين إلى الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال بشر. (¬2) الشبا: حدُّ كل شيء. القاموس (شبا). (¬3) مناقب الأبرار 1/ 142 - 143. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) التاريخ الكبير 6/ 41.

أوذكره الخطيب وغيره، وقال ابن باكويه الشيرازي: ] رُئي [أبو عبيدة] وعلى كتفِه خُرَيقة، وعلى سوأته مثلُها في طريق البصرة، وهو يقول: واشوقاه إلى من يراني ولا أراه (¬1). [وذكره أبو نعيم الحافظ فقال: دخلَ على أميرِ فلسطين، وهو إبراهيم بن صالح] (¬2) فقال له: عظني، فقال: بلغني أنَّ أعمال الأحياء تعرضُ على أقاربهم من الموتى، فانظر ما يعرضُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عملك، فبكى إبراهيم حتى سالت دموعه على لحيته (¬3). [وقال ابن أبي الدنيا: ] لمَّا كبر أبو عبيدة كان يأخذ بلحيته ويقول: إلهي قد كبرتُ فأعتقني (¬4). أسند [أبو عبيدة] عن الأوزاعيّ، [وأبي بكر بن أبي مريم وغيرهما] (¬5)، ولم نقف على تاريخ وفاته (¬6). ومن المحدِّثين من يقول: اسمُ أبي عبيدة سلم بن ميمون، وهو وهم؛ لأنَّ سلمًا من أهل طبريَّة، وبها مات، كان كبيرَ الشأن، قال إسماعيل بن مسلمة: رأيتُ في المنام كأنَّ القيامةَ قد قامت، وكأنَّ مناديًا ينادي: ألا ليقم السابقون، فقام سفيان الثوري، ثمَّ نادى ثانيًا، فقام سلم، ثم نادى ثالثًا، فقام إبراهيمُ بن أدهم (¬7). فأمَّا سليمانُ الخوَّاص فكان من العُبَّاد وأهل الثغور، دخلَ عليه رجلٌ وهو في الظلمة، فقال له: ما هذا؟ فقال: ظلمةُ القبرِ أشدّ. ومرَّ بإبراهيمَ بن أدهم، وهو عندَ قومٍ قد أضافوه وأكرموه، فقال له: يا إبراهيم، نعمَ ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 4/ 275. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): ودخل على إبراهيم بن صالح أمير فلسطين. (¬3) حلية الأولياء 10/ 21. (¬4) الرقة والبكاء (282). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): أسند عن الأوزاعي وغيره. (¬6) وذكره ابن الجوزي في المنتظم 8/ 259 في وفيات سنة 162 هـ. (¬7) انظر ترجمة سلم بن ميمون في حلية الأولياء 8/ 277، وصفة الصفوة 4/ 274، وسير أعلام النبلاء 8/ 179.

توفيل ملك الروم

الشيءُ هذا إنْ لم تكن تكرمةً على دين (¬1). [فصل: وفيها توفي] توفيل ملك الروم مَلَكَ [الروم]، اثنتي عشرةَ سنة، [وقد ذكرنا وقائعه مع المأمون والمعتصم، ] وماتَ [في هذه السنة]، فملكَتْ بعده امرأتُه أم ميخائيل بن توفيل، واسمها بدور (¬2)، وكان ابنها صبيًّا. فاطمة وتدعى عَرِيب (¬3)، جاريةُ المعتصم (¬4). كانت شاعرةً حاذقةً بالغناء والخطّ، في غاية الجمال والظرف، ولدت سنة إحدى وثمانين ومئة (¬5) وكانت أمها يتيمةً، فتزوَّجها جعفرُ بن يحيى بنِ خالد فقال له أبوه: أتتزوَّجُ من لا يعرف لها أبٌ ولا أمٌّ، فأخرجَها من داره، وأسكنها ناحية عنه (¬6)، وكان يتردَّدُ إليها، فولدت فاطمةَ المدعاةَ بعَرِيب (¬7)، وماتت أمُّها، فاسترضع لها جعفر، ¬

_ (¬1) انظر ترجمة سليمان الخوَّاص في حلية الأولياء 8/ 276، وصفة الصفوة 4/ 273، وسير أعلام النبلاء 8/ 178. ومن قوله: ومن المحدثين إلى هنا ليس في (ب). ووقع مكانها: وفي الشيوخ جماعة يقال لهم الخواص، منهم ما ذكرنا، ومنهم إبراهيم الخواص، وسنذكره في ترجمته. (¬2) كذا في (خ) و (ف) و (ب) والمنتظم 11/ 126: بدور. وفي الكامل 6/ 528، والبداية والنهاية 14/ 289: تدورة، وفي تاريخ الطبري 9/ 123، والمنتظم 11/ 284: تذورة. (¬3) الصواب أن اسمها عَريب، وفاطمة اسم أمها. انظر الأغاني 21/ 59، والمنتظم 11/ 126. واختُلف في ضبط اسمها فنقل الصفديُّ في الوافي بالوفيات 19/ 553 أنه وجده بخطِّ بعض الفضلاء المحررين عَريب بفتح العين، ورآه بخط بعض الفضلاء عُرَيب بضم العين، ثم رجح الأول. (¬4) ذكرها المصنف في وفيات هذه السنة تبعًا لجده ابن الجوزي في المنتظم 11/ 126، والصواب أنها توفيت سنة سبع وسبعين ومئتين، ولها ست وتسعون سنة. انظر الأغاني 21/ 60، والكامل 7/ 440، وتاريخ دمشق (تراجم النساء، طبعة مجمع اللغة) ص 239، والبداية والنهاية 14/ 634. (¬5) في مطبوع المنتظم 11/ 126 أنها ولدت سنة إحدى وثلاثين ومئة. وهو خطأ أو تحريف. (¬6) كذا في (خ) و (ف). وفي الأغاني 21/ 59، والمنتظم 11/ 126: وأسكنها دارًا في ناحية باب الأنبار سرًّا من أبيه. (¬7) انظر التعليق رقم (3).

محمد بن هارون [المعتصم

وسلَّمها إلى امرأةٍ نصرانية، وجعلها داية لها، فلما نُكِبَ البرامكة، باعتها النصرانيَّةُ، فاشتراها محمد الأمين من رجل يقالُ له: سِنْبِس، ولم يوفِّ ثمنها، فلما قُتِل الأمين عادت إلى سيِّدها، فلما قدم المأمون بغداد وُصِفَت له، فاشتراها من سنبس كرهًا، وكان سِنْبِس عاشقًا لها (¬1)، فمات من عِشقها، ومات المأمونُ، فاشتراها المعتصمُ بمئة ألف درهم، فأعتقَها، فهي مولاته، وكانوا إذا نظروا إلى قدميها علموا أنَّها من جعفر؛ لشبهها به، ولها أصواتٌ وأشعارٌ معروفة (¬2). [فصل وفيها توفي] محمد بن هارون [المعتصم وقد ذكرنا بعض أخباره، وأنه ولد بالقاطول (¬3) سنة ثمانين ومئة. وقال بعض علماء السير: ] (¬4) كان يُدعى بالثمانيني؛ لأنه ولد سنة ثمانين ومئة في شهر رمضان، وهو الثامن من السنة (¬5)، ومات لثماني عشرة ليلةً خلت منه، وهو ثامنُ الخلفاء من ولد العباس، وفتح ثمانيةَ فتوح؛ البذّ مدينة بابك، وعَمُّورية، ومدينة الزط، وقلعةَ الأجراف، ومصر (¬6)، وديار ربيعة، وأَذْرَبيجان، وإرمينية (¬7)، ووقف ببابه ثمانية ¬

_ (¬1) كذا وهو وهم. والصواب أن سِنْبس باعها من عبد الله بن إسماعيل المراكي، ومنه اشتراها الأمين، وإليه عادت بعد قتل الأمين، ومنه اشتراها المأمون. انظر الأغاني 21/ 60، والمنتظم 11/ 126. (¬2) ترجمة عريب لم ترد في (ب). (¬3) كذا قال المصنف، ولعله وهم، فالمعتصم كان مولده بالخُلد كما في تاريخ الطبري 9/ 119، والذي ولد بالقاطول هو محمد المهتدي بالله بن هارون الواثق بالله بن أبي إسحاق المعتصم بالله. انظر تاريخ بغداد 4/ 553. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) رمضان هو الشهر التاسع من السنة، وكانت ولادة المعتصم في شعبان. انظر تاريخ الطبري 9/ 119، وتاريخ بغداد 4/ 547. (¬6) قال الذهبي في السير 10/ 302: يعني قهر أهلها، قبل خلافته. (¬7) انظر العبر في خبر من غبر 1/ 401، ووقع في تاريخ بغداد 4/ 548، وسير أعلام النبلاء 10/ 302، وتاريخ الإسلام 5/ 693: بحر البصرة والشاري. بدل: إرمينية وأذربيجان، وفي البداية والنهاية 14/ 283: بكر البصرة والشارك. والشارك: بليدة من نواحي بلخ. معجم البلدان 3/ 307.

ملوك؛ الأفشين ملك أشروسنة، والمازيار ملك طبرستان، وبابك ملك أذربيجان، وباطس (¬1) ملك عَمُورية، وعُجَيف ملك أستاجيح (¬2)، وصول أرتكين ملك أستيجاب (¬3)، وهاشم ناحور ملك طخارستان، وكناسة ملك السُّغد، وقتلَ ثمانيةَ أعداء؛ بابك، والمازيار، والأفشين، وعجيفًا، وباطس، وقارن، وكناسة ملك السُّغد (¬4)، والسير ملك منان (¬5)، وكان عمرُه ثمانيًا وأربعين سنة، وكانت خلافتُه ثماني سنين، وثمانية أشهر، وثمانية أيام، وخلَّفَ من الولد ثمانية بنين، وثمان بنات، وخلَّف من العين ثمانية آلاف ألف دينار، ومثلُها دراهم، وقيل: ثمان مئة ألف ألف درهم، وقيل: ثمانية عشر ألفًا، ومن الخيول ثمانين ألف فرس، وثمانين ألف جملٍ وبغلٍ ودابَّةٍ، وثمانين ألف خيمة، وثمانية آلاف عبدٍ، وثمانية آلاف جارية، وبنى ثمانية قصور، وكان نقشُ خاتمه: الحمد لله، ثمانية أحرف. وقيل: كان عددُ غلمانه الأتراك ثمانيةَ عشر ألفًا، فكان طالعه الثمانية في كلِّ شيءٍ، ويدعى أيضًا بالمثمَّن، [ولما جاءه الموتُ ما نفعه شيءٌ من ذلك، ولا ردَّ عنه مكروهًا.] (¬6). وقال (¬7) إسحاق بن إبراهيم (¬8): قال لي المعتصم يومًا بعد ما باسطني: في نفسي شيءٌ أريدُ أن أسألك عنه، قلت: اسأل، أمير المؤمنين، فقال: إنَّ أخي أمير المؤمنين اصطنعَ قومًا فأنجبوا، وإنِّي اصطنعتُ قومًا فلم يَنْجُبوا، فقلت: يا أمير المؤمنين من هم؟ فقال: اصطنعَ طاهرًا، وابنه عبد الله بن طاهر، والفضل بن سهل وأخاه ¬

_ (¬1) في تاريخ اليعقوبي 2/ 476، وتاريخ الطبري 9/ 102: ياطس. واختلفت المصادر في ضبط اسمه. (¬2) كذا في (خ) و (ف) و (ب)، وفي العبر للذهبي 1/ 401: اسباخنج، وفي شذرات الذهب 3/ 128: أشياحيج. وفي البلدان لليعقوبي ص 60: أشتاخنج، وهي مدينة جليلة لها حصون ورساتيق، وكانت مملكة منفردة، وكان المعتصم قد جعلها إلى عُجيف. (¬3) في العبر 1/ 401: أسبيجاب. (¬4) في العبر 1/ 401، وشذرات الذهب 3/ 128: ملك السند. (¬5) كذا في (خ) و (ف)، ولم أتبينها. وهن قوله: بابك إلى هنا ليس في (ب). (¬6) ما بين حاصرتين هن (ب). (¬7) من هنا إلى قوله: ذكر وفاته ... ليس في (ب). (¬8) في (خ) و (ف): إبراهيم بن إسحاق. والتصويب من تاريخ الطبري.

الحسن (¬1)، وقد رأيتَ ما ظهر من نجابتهم، واصطنعتُ الأفشين، وقد رأيت ما صار إليه من أمره، وأشناس وإيتاخ ووصيفًا، ولم أجد فيهم نجابةً، فقلت: نظر أخوك إلى الأصول، فأنجبت فروعها، واستعملتَ أنت فروعًا لا أصولَ لها، فلم تنجب. فقال: يا إسحاق، لَمُقاساةُ ما مرَّ بي في هذه المدَّة أهونُ عليَّ من سماعي لهذا الجواب (¬2). وقال أحمد بن أبي دؤاد: قال لي المعتصم ونحن بعَمُّورية: يا أبا عبد الله، أتحبُّ البُسْر؟ قلت: وأنَّى به وهو في العراق؟ ! فقال لإيتاخ: هات تلك الكِبَاسة، فأحضرها، فمدَّ المعتصمُ يده، وجعل الكِبَاسَة على ذراعه، وقال: كل، قلت: ضعها على الأرض، فقال: لا والله، ما تأكلُ إلا وهي على يدي، فما زلت آكل وذراعه ممدودةٌ حتى ما بقي في العرقِ شيء. قال: وأتينا واديًا قد مد (¬3)، وأنا على جملٍ، وهو على بغل، فقال: قف حتى أدخل قبلَك، فدخل، وقال: اتبعْ أثري، وجعلَ يقولُ بيده: تعال كذا، تعال كذا، حتى قطعنَا الوادي. وقال أحمد بن أبي دؤاد: تصدَّق المعتصمُ على يدي بألف ألف درهم وأكثر (¬4). وقال إسحاق بن إبراهيم: لما تغيَّر المعتصم على الحسن بن سهل، أقطعَ ضياعَه أشناس التركي، وعلمَ الحسن، فبعث بكتبها إلى أشناس وكتب إليه: لما عَرَفتُ رأيَ أمير المؤمنين فيك، أحببتُ أن لا يتعرَّض عقبي لعقبك، فأرسلتُ إليك قِبالات الضياع معتدًّا في ذلك سبوغ النعمة عليّ، وادخارَ الشكر عندي، ومتقرِّبًا إلى أمير المؤمنين بذلك، ورأيُك في الامتنان بقبولها أعلى. فلما قرأ أشناس رقعتَه بعثَ بها إلى المعتصم، فلما وقف عليها قال: ضِيمَ فصبر، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري: إسحاق بن إبراهيم وأخوه محمد بن إبراهيم بدل الفضل بن سهل وأخيه الحسن. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 121 - 122. (¬3) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ الطبري 9/ 121، وتاريخ بغداد 4/ 551، والمنتظم 11/ 28: وادٍ لم نعرف غور مائه. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 123.

وسُلِب فعذَر، فليقابل بالشكر على صبره، وبالإحسان على عذرِه، ويترك له ضياعه، ويسقط له خراجها، ويعوَّض أشناس عنها، ولا يعاود في ذلك، والسلام (¬1). وقال المعلَّى بن أيوب الكاتب: عنَّتني الفضل بن مروان ... (¬2) المعتصم، وطلبَ مني حسابًا طويلًا، حتى خفتُ من المعتصم يتغيَّرُ عليَّ، فجلست ليلةً، وأوقدتُ بين يديَّ نفَّاطةً، وشرعت في عمل الحساب إلى نصفِ الليل، فغلبتني عيناي، فرأيتُ في المنام شخصًا يقرأ: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} الآيات [الأنعام: 63 - 65]، فانتبهتُ فزِعًا، وكنّا في الخيام، وإذا بمشعلِ صاحب الحرس قد أنكر نفَّاطتي في ذلك الوقت، فجاء، فوقف عليَّ وقال: ما الذي تصنع؟ فأخبرتُه، فمضى إلى المعتصم، فأخبره، وإذا الرسل (¬3) قد جاءت يطلبوني، فدخلتُ عليه وهو قاعد، ولم يبق من الشمع إلَّا أسافله، فسألني عن حالي، فأخبرته، فقال: ويلي على النبطيّ، امتهنك، وأيُّ يدٍ له عليك؟ ! أنتَ كاتبي، وهو كاتبي، ثم قال: اصبر ترى ما تحب، فانصرفتُ، وقد سُرَيَ عنّي، وقبضَ على الفضل بعد أيامٍ، واستأصلَه. وقال ابن أبي دؤاد: استخرجتُ من المعتصم ألفي ألف درهم لأجل الشاش في حفر نهرٍ كان قد أضرَّ بهم اندراسه، فقال لي: يا أبا عبد الله مالي ومالك، تأخذ مالي فتعطيه لأهل الشاش وفرغانة! فقلت: المالُ لله، وهم رعيَّتُك، ولا فرق بين الأقصى والأدنى في حسن نظر الإمام، فسكت (¬4). ولمَّا وصف ابن أبي دؤاد ... (¬5) المعتصم وحسن عشرته وتواضعه ولين جانبه (¬6) كلامه غير أن سلطان الغضب استولى عليه، فكان إذا غضب لم يبالِ من قتل وما فعل. وقال الفضلُ بن مروان: لم يكن للمعتصم لذَّةٌ في تزيين الدنيا والبناء وكانت غايته ¬

_ (¬1) انظر التذكرة الحمدونية 1/ 437. (¬2) في (خ) و (ف) بياض بمقدار كلمة، ولعلها: وزير. (¬3) في (خ): الرجال، وفي (ف): الرجل. والتصويب من الفرج بعد الشدة للتنوخي 1/ 105. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 121. (¬5) في (خ) و (ف) بياض بمقدار كلمتين. (¬6) في (خ) و (ف) بياض بمقدار كلمتين.

الإحكام، ولم يكن على شيء أسمح (¬1) منه بالنفقة على الحرب. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دخلتُ على المعتصم وعنده قَينة، وهي تغنِّي، فقال لي: يا إسحاق، كيف تراها؟ فقلت: تقهر الغناء بحذف، وتختله (¬2) [برفق]، ولا تخرج من شيءٍ إلَّا إلى أحسن منَّه، وفي صوتها شجًى وشذورٌ أحسن من نظم الدرِّ على النحور. فقال: يا إسحاق، لصفتُك لها أحسنُ منها ومن غنائها، خذها فهي لك، فامتنعتُ لعلمي بمحبته لها، فوصلني بمقدارِ قيمتِها. وقال أحمد بن أبي دؤاد: ما رأيتُ رجلًا نزلَ به الموت فما أشغله ولا أذهله عمَّا هو فيه غير تميم بن جميل، كان قد تغلَّب على شاطئ الفرات، فأخذ خذ وجيء به إلى بين يدي المعتصم، فدعا بالنطع والسيف بمشهدٍ من الخلائق، وكان وسيمًا جسيمًا، فأراد المعتصمُ أن يستنطقه؛ ليعلم أين جنانه ولسانه من منظره، فقال له: يا تميم، إن كان لك عذرٌ فتكلَّم، أو لك حجَّةٌ فأتِ بها، فقال: الحمد لله {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 7]، ثمَّ قال: جبرَ الله بك يا أمير المؤمنين صدعَ الدين، و [لمَّ] (¬3) شعث الأمة، وأخمدَ بك شهاب الباطل، وأوقد بك سراجَ الحقّ، إنَّ الموتَ (¬4) يُخرسُ الألسن الفصيحة، ويَصدَعُ الأفئدة الصحيحة، ولقد عَظُمت الجريرة، وكَبُر الذنب، وساء الظنّ، ولم يبقَ إلَّا العفو أو الانتقام، وأرجو أن يكون العفوُ أقربهما منك، وأشبههما بأخلاقك، ثم نظرَ إلى السيفِ والنطع وقال: [من الطويل] أرى الموتَ بين السيف والنطع كامنًا ... يلاحظني من حيثما (¬5) أتلفَّتُ وأكبرُ ظنِّي أنَّك اليوم قاتلي ... وأيُّ امرئٍ ممَّا قضى اللهُ يُفْلِتُ ومن ذا الذي يُدلي بعذرٍ وحُجَّةٍ ... وسيفُ المنايا بين عينيه يصْلَتُ (¬6) وما جَزَعي من أنْ أموتَ وإنَّني ... لأعلمُ أنَّ الموتَ شيءٌ موقَّتُ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): أشح. وهو تحريف. والتصويب من تاريخ الطبري 9/ 121. (¬2) في (خ) و (ف): وبحيلة. والتصويب وما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 122. (¬3) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬4) كذا في (خ) و (ف)، وفي هامش (خ): لعله: إن الذنب اهـ. ووقع في المصادر: إن الذنوب .. (¬5) في (خ) و (ف): حيث لا. والتصويب من المصادر. (¬6) في المصادر: مصلت.

ولكنَّ خلفي صبيةً قد تركتُهم ... وأكبادُهم من حسرةٍ تتفتَّتُ كأنِّي أراهم حين أُنعى إليهمُ ... وقد خَمشوا تلكَ الوجوهَ وصوَّتُوا فإن عشت عاشوا خافضين بغبطةٍ ... أذودُ الردَى عنهم وإنْ متُّ مَوتُوا فمن قائلٍ لا يُبعِد الله روحَه ... وآخر جذلانٌ بسرُّ ويَشمَتُ يعِزُّ على الأوسِ بن تغلبَ موقفٌ ... يهزُّ عليه السيفُ فيه ويسكتُ فرقَّ له المعتصمُ وقال: كاد واللهِ أن يسبقَ السيف العَذَل، اذهب فقد وهبتك للصبية، وعفوتُ لك عنْ الصَّبوة (¬1). وغضبَ المعتصُم على الحسين بن الضحاك، لأنَّه مدحَ العباس بن المأمون (¬2)، فاستتر وكتب إليه: [من الكامن] غضبُ الإمامِ أشدُّ من أدبه ... وقد استجرتُ وعُذتُ من غضبِه أصبحتُ معتصمًا بمعتصمٍ ... أثنى الإلهُ عليه في كتبِه لا والذي لم يُبْقِ لي سببًا ... أرجو النجاةَ به سوى سببِه ما لي شفيعٌ غيرُ (¬3) رحمته ... ولكل من أَشْفَى على عَطبِه فلما قرأها التفتَ إلى ولده الواثق وقال: بمثل هذا الكلام يستعطَف الكرام، فقال: هو حقيقٌ بأن يُتجَاوز عنه، فرضيَ عنه وأعاده إلى مكانه. ومن شعره: [من المتقارب] وداعُك مني وداعُ الربيع ... وفقدُكَ مثلُ افتقادِ النديم عليكَ السلامُ فكم من نَدى ... فقدناه منكَ وكم مِنْ كريم (¬4) وقيل: إنَّه يَرثي بهما. ¬

_ (¬1) انظر الخبر في العقد الفريد 2/ 158 - 159، وزهر الآداب للقيرواني 2/ 784 - 785، وكتاب التوابين (141). (¬2) في الأغاني 7/ 167، والفرج بعد الشدة 1/ 331، ومعجم الأدباء 10/ 22: أن المعتصم غضب على الحسين بن الضحاك شيء جرى على النبيذ. (¬3) في (خ) و (ف): سوى. والتصويب من المصادر. (¬4) لم أقف على من نسبها للمعتصم، وهي لدعبل، ديوانه ص 248 وروايتها فيه وفي غيره من المصادر: =

ذكر وفاته: [اختلفوا فيها، فحكى الطبريُّ قولين؛ أحدهما] (¬1) في هذه السنة (¬2)، [والثاني في] (¬3) سنة ثمانٍ وعشرين ومئتين، [واختلفوا في أيِّ شهرِ مات، فقيل: ] في شهر رمضان، وقيل: في ربيع الأول لثماني عشرة ليلة مضت منه، [وقيل: ] لساعتين [مضتا] من نهار [يوم] الخميس. وقيل: إنَّ بدوَّ علَّته أنَّه احتجمَ أوَّل يومٍ من المحرم، فمرضَ ودام مرضُه إلى أن مات [في ربيع الأول] (¬4). [وروى الخطيب بإسناده إلى علي بن يحيى المنجِّم قال: ] (¬5) لمّا استتمَّ المعتصمُ عدَّةَ غلمانه الأتراك بضعة عشرَ ألفًا، وعُلِّق له خمسون ألف مخلاة على فرس وبغل [وبرذون]، وذلَّلَ العدوَّ [بكل النواحي]، أتته المنيَّة على غفلة، [قال: ] فقيل: إنَّه قال في حُمَّاه التي ماتَ فيها: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (¬6) [الأنعام: 44]. [وحكى الطبريّ عن زنام الزامر قال: ] (¬7) وجدَ المعتصم في علَّته [التي ماتَ فيها خفَّةً وإفاقةً، فقال: هيِّئوا لي الزُّلال، فهيَّؤه له، وركب] (¬8)، وركبت معه فقال: [يا زنام] ازمر لي: [من مجزوء البسيط] ¬

_ = وداعُك مثلُ وداع الربيع ... وفقدُكَ مثلُ افتقاد الديم عليك السلام فكم من وفاء ... نفارقُهُ منك أو من كَرَم انظر عيون الأخبار 3/ 32، والعقد الفريد 5/ 413، ومحاضرات الأدباء 3/ 119، وزهر الآداب 2/ 967. (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): توفي. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 118. ولم أقف على القول الثاني عنده. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 118. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال علي بن يحيى المنجم. (¬6) تاريخ بغداد 4/ 552. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال زنام الزامر. (¬8) في (خ) و (ف): وجد المعتصم خفة في علته فركب في الزلازل (كذا). والمثبت بين حاصرتين من (ب). وانظر تاريخ الطبريّ 9/ 118 - 119.

يا منزلًا لم قبل أطلالُه ... حاشا لأطلالكَ إنْ تبلَى لم أبكِ أطلالكَ لكنَّني ... بكيتُ عيشًا فيكَ إذْ ولَّى والعيشُ أولى ما بكاهُ الفتى ... لا بدَّ للمحزون أن يَسْلَى [ثم دعا برطلية، فشربها] وما زال يبكي، وأنا أزمر، حتى رجع إلى قصره، [قال: ] وعاشَ بعد ذلك خمسة أيام. [قلت: قد أفحشَ الطبريُّ في لفظ زنام وملفوظ المعتصم، فإن الخلافاء ينبغي أن يُصانوا عمَّا يشين ويصم.] (¬1) وقال علي بن الجعد: لما احتضر جعل يقول: [ذهبت] الحِيَلُ فلا حيلة، إنِّي أُخذت من بين هذا الخلق، لو عَلمت أنَّ عمري يكون هكذا قصيرًا لما فعلت ما فعلت، ودُفن بسُرَّ من رأى. [وقد ذكرنا أنَّ خلافته كانت ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وقيل: ويومين. واختلفوا في سنِّه، فإن كان قد ولد سنة ثمانين ومئة، فإنَّه قد عاش ثمان وأربعين سنة (¬2). وقال الصوليُّ: ودفن] (¬3) بقصره المعروف بالخاقاني، وصلَّى عليه ابنه الواثق. وقال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه: [من المنسرح] قد قلتُ إذ غيَّبوك واصطفقَتْ ... عليكَ أيدٍ بالتُّربِ والطِّينِ اذهبْ فنعمَ الحفيظُ كنتَ على الد ... دنيا ونعمَ الظهيرُ للدينِ لا جَبَرَ اللهُ أمَّةً فَقدتْ ... مثلكَ إلَّا بمثلِ هارونِ (¬4) وقال مروان بن أبي الجنوب: [من الوافر] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) كذا في (ب)، وفي الكلام -على ما يظهر- سقط، فإنه إن كان المعتصم قد ولد سنة ثمانين ومئة فإن عمره كان ستًّا وأربعين سنة وسبعة أشهر وثمانية عشر يومًا، وإن كان مولده سنة تسع وسبعين ومئة فإن عمره كان سبعًا وأربعين سنة وشهرين وثمانية عشر يومًا. انظر تاريخ الطبري 9/ 119. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) تاريخ الطبري 9/ 119.

أبو إسحاقَ ماتَ ضحىً فمتنا ... وأمسينَا بهارون حَيينَا لئن جاءَ الخميسُ بما كَرهنا ... لقد جاءَ الخميسُ بما هوينَا (¬1) ذكر أولاده ونحو ذلك: قد ذكرنا أنَّه خلَّف ثماني بنين وثمان بنات، والمشهورُ من أولاده هارون الواثق، وجعفر المتوكِّل، وأحمد المستعين، وكلُّهم وليَ الخلافة. قلت: في المستعين نظرٌ، فإنَّ كتبَ المؤرِّخين تنطقُ بأنه ابنُ ابنه. والله أعلم. وقضاته: أحمد بن أبي دؤاد، ومحمد بن سماعة. ووزيره: الفضل بن مروان، ثم محمد بن عبد الملك الزيات. وحاجبه: وصيف مولاه (¬2). أسندَ المعتصم الحديثَ، قال الصوليُّ: حدثنا المعتصم عن أبيه هارون عن جده أبي جعفر عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي عن (¬3) عبد الله بن عباس قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومٍ من بني أمية يتبختَرون في مشيهم، فعُرِفَ الغضبُ في وجهه، فقرأ: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] فقيل: يا رسول الله، أيُّ الشجر حتى نجتنبها (¬4)؟ قال: "ليست بشجر نبات، إنَّما هم بنو أمية، إذا مَلكوا جارُوا، وإذا ائتمنوا خانوا"، وضربَ بيده على ظهر العباس، وقال: "يا عمّ، يخرجُ من ظهرك" أو: "فيُخرِجُ الله من ظهرك رجلًا يكونُ هلاكهم على يديه" (¬5). [وقد رُوي حديثٌ في حياته، رَواه إسحاقُ بن يحيى الخَتْليّ (¬6) من ختلان بلدٍ عند سَمَرقند، وكان فاضلًا، مات إسحاق سنة خمس وثلاثين ومئتين وسنذكره، قال: ] (¬7) ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 120. ومن قوله: وقال محمد بن عبد الملك. إلى هنا جاء مكانه في (ب): ورثاه محمد بن عبد الملك الزيات. (¬2) من قوله: ذكر أولاده ... إلى هنا جاء مكانه في (ب): وقد ذكرنا أنه خلف ثمان بنين وثمان بنات. (¬3) في (خ): بن. (¬4) في تاريخ بغداد 4/ 549 - والحديث مخرج فيه من غير طريق الصولي-: نجتثها. (¬5) قال ابن القيم في المنار المنيف ص 117: كل حديث في ذمِّ بني أمية فهو كذب. ومن قوله: أسندَ المعتصم الحديث ... إلى هنا ليس في (ب). (¬6) انظر ترجمته في تاريخ دمشق 2/ 793 (مخطوط). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال إسحاق بن يحيى الختلي.

أبو حرب المبرقع اليماني

دخلتُ على المعتصم وهو مريض، فقلت: يا أميرَ المؤمنين أنت في عافية، قال: كيف تقول هذا، وقد سمعت أبي الرشيد يحدِّث عن أبيه المهدي، عن أبيه المنصور، عن جدَّه عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من احتجم يوم الخميس فحُمَّ فيه، مات فيه" (¬1). وقيل: هو موقوف على ابن عباس. [انتهت سيرة المعتصم والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم]. أبو حرب المبرقع اليماني قد ذكرنَا خروجه في أوَّل هذه السنة بفلسطين، وأنَّ المعتصم جهَّزَ إليه رجاء بن أيوب الحِضاريّ، فهزم أصحابَه، وأسرَه، وقدمَ به على المعتصم، وأنه حبسَه في المطبق، فمات فيه في آخر هذه السنة. وقيل: إنَّه خُنِق. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 2/ 793، وأخرجه الخطيب في تاريخه 4/ 549، لكن من غير طريق إسحاق بن يحيى. قال ابن كثير في البداية والنهاية 14/ 284 في الحديثين المذكورين: أسند الخطيب البغدادي من طريقه (أي: من طريق المعتصم) حديثين منكرين.

السنة الثامنة والعشرون بعد المئتين

السنة الثامنة والعشرون بعد المئتين فيها خَلَعَ الواثقُ على أشناس، وتوَّجه، وطوَّقه، وألبسَه وشاحين مجوهرين في شهر رمضان (¬1). وفيها حَبسَ الواثقُ سليمان بن وهب (¬2)، وكنيته أبو أيوب، فكتب إليه [أخوه الحسني (¬3) بن وهب رقعةً فيها: [من الكامل] اصبر أبا أيوب صبرًا يُرتَضَى ... فإذا جزعتَ من الخُطوبِ فمن لها إن الذي عقدَ الذي عُقِدت به ... عُقَدُ المكارِه فيكَ يُحسِنُ حلَّها فاصبر فإنَّ الصبرَ يفرجُ كربَها ... ولعلَّها أنْ تنجلِي ولعلَّها فوقعت الرقعة بيد الواثق فقال: والله لا تركتُ أحدًا يرجو الفرج بموتي، ثم أطلقه (¬4). وكان سليمان من الأجواد، كتب إليه رجلٌ يستمنحه، ولم يكن عنده شيء، فكتب إليه سليمان: [من البسيط] الجودُ طبعي ولكن ليس لي مال ... فكيفُ يحتالُ من بالرهن يحتالُ فهاك خطِّي فزرني حيثُ لي نَشَبٌ ... وحيثُ يمكنُ إحسانٌ وإفضالُ إلى دمشقَ ففيها إن قصدتَ غنى ... وثَمَّ يا صاحبيّ الجاهُ والمالُ (¬5) ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 124. (¬2) انظر ترجمته في الأغاني 23/ 143، ووفيات الأعيان 2/ 415. (¬3) في (ف) بياض بمقدار كلمتين. وما بين حاصرتين زدته من المصادر. (¬4) انظر الخبر في الفرج بعد الشدة 1/ 186 - 187، والوافي بالوفيات 12/ 298، وفوات الوفيات 1/ 367. (¬5) لم أقف على من نسبها لسليمان بن وهب، وهي في تاريخ دمشق 4/ 604 (مخطوط) منسوبة لأخيه الحسن بن وهب، وكذا نسبها الأصبهاني أيضًا في الأغاني 23/ 99، وعنده البيت الأول فقط. وأورد الصفدي في الوافي بالوفيات 12/ 226، وابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات 1/ 356 البيتين الأولين باختلاف عما هاهنا، ونسباهما للحسن بن محمد بن عبد الله بن هارون، الوزير المهلبي. والبيتان الأولان أيضًا في معجم الأدباء 9/ 204 - 205 ونسبهما لابن خالويه. ومن قوله: وفيها حبس الواثق ... إلى هنا ليس في (ب).

عبد الله بن محمد بن عبد الله

و [فيها] حج بالناس محمدُ بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن عباس. وعطش الناس بطريق مكَّة فبلغت الراويةُ أربعين درهمًا، وبيع الخبز كلُّ (¬1) رطلٍ بالبغداديِّ بدرهم، وأصاب الناسَ (¬2) في الموقف بعرفة حرُّ شديدٌ، وذهبَ من ساعتِه، وجاءَ بردٌ شديدٌ، فأضرَّ بهم الحرُّ والبردُ في ساعة، ومَطَرت بمنى مطرًا عظيمًا يوم النَّحْر، لم يروا مثلَه، وكان الناسُ وقوفًا عند جمرة العقبة يرمونها، فوقعت قطعةٌ من الجبل الذي عندها، فقَتَلت عدَّةً من الحُجَّاج. وكان في الحج سليمان بن طاهر بن حسين (¬3). وفيها توفي عبدُ الله بنُ محمد بنِ عبد الله أبو جعفر البخاريُّ المُسْنَدِيُّ، وقيل له: المُسْنَدِيّ؛ لأنَّه كان يطلبُ الأحاديثَ المُسْنَدَة، وهو مولى محمد بن إسماعيل البخاري من فوق، وكان حافظًا متقنًا. سمع سفيان بن عيينة، وعبد الرِّزاق، والفُضيل بن عِياض، وغيرهم. وروى عنه البخاريُّ في "صحيحه". وقال البخاريُّ: قال لي الحسنُ بن شجاع: من أين يفوتُك الحديث، وقد وقعتَ في هذا الكنز؟ يعني: المُسْنَديّ. واتَّفقوا على صدقه وزهده وثقته وفضله (¬4). عبيدُ الله بنُ محمد ابنِ حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمَر، أبو عبد الرَّحمن التيميُّ، ¬

_ (¬1) في (ب) -وما سلف بين حاصرتين منها-: وغلا الحبز وبيع كل ..... (¬2) في (خ): وحصل للناس. (¬3) في تاريخ الطبري 9/ 124: سليمان بن عبد الله بن طاهر. (¬4) تاريخ بغداد 11/ 256، وتهذيب الكمال 16/ 59. وهذه الترجمة مع ما بعدها إلى بداية ترجمة مسدد بن مسرهد ليست في (ب).

ويعرف بابن عائشة؛ لأنَّه من ولد عائشةَ بنت طلحة - رضي الله عنهم -. قدم بغداد فحدَّثَ بها، ثمَّ عاد إلى البصرة، وكان فصيحًا، أديبًا، سخيًّا، حسن الخُلُق، ورعًا عارفًا بأيام الناس، صدوقًا، أمينًا، ثقةً. قال إبراهيم الحربي: ما رأت عيناي مثل ابن عائشة، فقيل له: قد رأيتَ الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وتقول هذا! فقال: نعم، بُلِّغَ الرشيدُ شيئًا من أخلاقه (¬1)، فأحضرَه، وعدَّد عليه جميعَ ما سمع منه، وهو يقول: بفضل الله وفضل أمير المؤمنين، فلمَّا سكتَ قال له: يا أميرَ المؤمنين، وأحسن من هذا المعرفةُ بقدري، والقصدُ في أمري، فقال: أحسنت يا عم. وقال محمد بن زكريا الغَلابي: كنت عند ابن عائشة، فجاءه رجل فسأله أن يهبَ له شيئًا، فنزع جُبَّةً كانت عليه تساوي ستة أو سبعة دنانير، فدفعَها إليه، فقال له وكيله: ما أخوفني عليك أن تموتَ فقيرًا، قال: وكيف؟ قال: كانت لك ستُّ جبات (¬2)، فوهبتَها، وبقيت لك هذه فوهبْتَها، وهذا الشتاءُ يقبل، فقال: إليك عني، فإني أريدُ أن أكون كما قال الأول: [من مجزوء الكامل] وفتًى خلا من مالهِ ... ومن المُروءةِ غيرُ خالي أعطاكَ قبل سُؤاله ... فكفاكَ مكروة السؤالِ وإذا وَعى (¬3) لكَ موعدًا ... كان الفعالُ مع المَقالِ لله درُّكَ من فتًى ... ما فيكَ من كَرَمِ الخلالِ وقال أبو بكر بن أبي شيبة (¬4): قال جدِّي: أنفقَ ابنُ عائشة على إخوانه (¬5) أربع مئة ألف دينار في الله تعالى، حتى باعَ سقفَ بيته. وكان مع هذه الفضائلِ الكاملة شديدَ القوى، كان يُمسكُ بيمينه ويساره شاتين إلى ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي المصادر: بلغ الرشيد سناءُ أخلاقه. (¬2) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد 12/ 19: جباب. (¬3) في تاريخ بغداد: رأى. (¬4) كذا في (خ) و (ف). والصواب: أبو بكر بن شيبة. انظر تاريخ بغداد 12/ 20، وتهذيب الكمال 19/ 151. (¬5) في (خ) و (ف): أخواله، والتصويب من المصادر.

عبد الملك بن عبد العزيز

أنْ تسلخا. وقال جعفر بن [القاسم بن جعفر بن] (¬1) سليمان الهاشمي له: ها هنا آية نزلت فينا بني هاشم خاصَّة، قال: ما هي؟ قال: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] فقال: ونحن معكم فيها، فقال جعفر: بل هي لنا خاصَّة، قال: فخذ معها: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]، فسكت ولم يحر جوابًا. توفي بالبصرة في شهر رمضان. ورآه رجلٌ في المنام، فقال له: ما فعلَ الله بك؟ قال: غفرَ لي بحبِّي إياه. سمع حمَّادَ بن سَلَمة، وكان عنده تسعة آلاف حديث، وسمع أيضًا سفيان بن عيينة، وصالح المُرِّيّ، وخلقًا كثيرًا. ورَوى عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وإبراهيم الحربيّ، والبغويّ وغيرهم. واتَّفقوا على فضله وثقته وصدقه، وكان من سادات أهل البصرة غيرَ مُدَافع. وقال أبو يحيى السَّاجي: حدَّث بوَاسِط، فدخل إلى البصرة (¬2)، وكان قد فاتَ بعضَ أهل واسط شيءٌ من حديثه، فأخذ جرَّةً جده يدة، وملأها ماءً وغطاها، وتبعه، فلحقه بالبطائح، وقد عدم الماءَ العذبَ، فسُرَّ به، وأخذ الجرَّةَ فوزعها بين أصحابه، وقال: ما حاجتُك؟ قال: فاتني شيءٌ من حديثك، فقال: اقرأ، فقرأه عليه، فأعطاه خمسين دينارًا، ثم أعطاه دراهم، وقال: أنفق هذه في طريقك؛ لتسلم لك الخمسون. عبدُ الملك بن عبد العزيز أبو نصر التمَّار، كان عالمًا فاضلًا صدوقًا ثقة زاهدًا، يعدُّ من الأبدال، إلَّا أنه كان ممَّن أجابَ في المحنة، فنهى الإمامُ أحمد رحمة الله عليه عن الكتابة عنه، ولم يُصَلِّ عليه لذلك، وكان جاوز التسعين سنة، وذهب بصره، ومات أولَ يوم من المحرَّم. سمع مالكَ بن أنس وخلقًا كثيرًا، وأخرج عنه مسلم في "صحيحه" وغيره (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 12/ 21. (¬2) في المنتظم 11/ 139: وشخص إلى البصرة. (¬3) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 9/ 342، وتاريخ بغداد 12/ 169، والمنتظم 11/ 139، وتهذيب =

علي بن عثام بن علي

علي بن عثَّام بن علي أبو الحسن العامريُّ الكوفيُّ، الزاهد الفاضل، سكن نيسابور، فقدمها عندُ الله بن طاهر، فبعث إليه يسأله حضورَ مجلسه، فامتنع، وخرج من نيسابور، وحجَّ، وسكن طَرَسُوس فتوفيَ بها، وكان لا يحدِّث إلَّا عن جهدٍ جهيد. ومن كلامه: اتّقوا سوال الليل، يعني أهلَ التعفُّف والستر. وقال: العلمُ خشية الله، وأمَّا الحديثُ فمعينٌ فيه (¬1). وقال: لا أحدِّثُ إلَّا رجلًا يهتمُّ بأمر دينه، أمَّا غيره فلا. سمع مالك بن أنس وغيره، ورَوى عنه الأئمَّة، وكان ثقةً (¬2). محمد بنُ عبيد الله ابن عَمرو بنِ معاوية بن عمرو بن عُتبة بن أبي سفيان بن حرب، العتبيُّ البصريُّ، صاحب الآدابِ والأخبارِ والطرائفِ والمُلَح. قال أحمد بن عبد الصَّمد أنشدنا: [من البسيط] لا خيرَ في عِدَةٍ إنْ كنت ماطِلَها ... وللوفاءِ على الإخلاف تفضيلُ الخيرُ أنفعُه للناسِ أعجلُه ... وليس ينفعُ خيرٌ فيه تطويلُ (¬3) وقال: حدَّثني بعضُ الأعراب قال: خرجتُ في بعض الليالي المظلمة، فإذا بجاريةٍ كأنَّها علمٌ، فأردُتها على نفسها، فقالت: ويحك! أمَّا لك زاجرٌ من عقلٍ إذا لم يكن لك ناهٍ من دين؟ ! فقلت: ما يرانَا إلَّا الكواكب، قالت: فأين مُكَوْكِبُها؟ (¬4). قال العتبيّ: خرجتُ إلى البريَّة بالبصرة، فإذا أنا بأعرابيٍّ غَزِل، فملتُ إليه، فذكرتُ ¬

_ = الكمال 18/ 354، وسير أعلام النبلاء 10/ 571، وتاريخ الإسلام 5/ 624. (¬1) نص العبارة كما في المنتظم: العلم الخشية، فأما معرفة الحديث فإنما هي معرفة. (¬2) انظر ترجمته في المنتظم 11/ 145، وتهذيب الكمال 21/ 57، وسير أعلام النبلاء 10/ 569، وتاريخ الإسلام 5/ 636. (¬3) تاريخ بغداد 3/ 562. (¬4) العقد الفريد 3/ 461.

عنده النساء، فتنفَّسَ الصعداء، ثمَّ قال: يا ابن أخي، وإنَّ من كلامهنَّ ما يقومُ مقام الماء فيشفي من الظمأ، فقلت: صف في النساء، فقال: [من الكامل] رُجْحٌ وليس من اللواتي بالضُّحى ... لذيولهنَّ على الطريقِ غبارُ يأنسن عند بعولهنَّ إذا خَلَوا ... وإذا هُمُ خَرجُوا فهنَّ خِفَارُ فذكرتُ ذلك لأبي فقال: أخذَ قوله: من كلامهنَّ ما يقومُ مقامَ الماء فيشفي من الظمأ، من قول القطاميّ: [من البسيط] يَقْتُلننا بحديثٍ ليس يعلمُهُ ... من يتَّقينَ ولا مكنونُهُ بادِي فهنَّ يبدينَ (¬1) من قولٍ يُصِبْنَ به ... مواقعَ الماء من ذي الغُلَّةِ الصادي (¬2) وقال العتبي: [من الطويل] رأينَ الغواني الشيبَ لاح بمَفْرقي ... فأعرضنَ عني بالخدودِ النواضرِ وكنَّ إذا أبصرنَني أو سمعنَ بي ... سعينَ فرفعنَ الكُوى بالمحاجرِ (¬3) وفي نسخةٍ أخرى: فصرنَ إذا أبصرنني أو سمعنَني ... نهضنَ فرقَّعنَ الكُوى بالمعَاجرِ (¬4) وقال العتبيُّ: خرجتُ إلى المربَد وإذا بأعرابي، فملتُ إليه لأقتبسَ من علمه، فقلت: يا أعرابيّ، حَدَّثني بأعجبِ ما رأيتَ، فقال: نعم، ضلَّت إبلي من أرنب خرجَ في وجهها ليلًا، فركبتُ قَعودًا لي، وخرجتُ في طلبها، فأتعبتني، فصرتُ إلى بلاد عَذَرة، فإذا ببيتٍ منتبذٍ عن الأخبية، ليس بقُرْبهِ أنيسٌ، وإذا على بابه جويرية، كأنَّ وجهها سيفٌ صقيل، فلمَّا رأتني متأمِّلًا لها أرخت البرقع وقالت: يا عم، انزل على بركة الله، وإن أحببتَ قرًى كان لبنًا أو ماءً، فنزلتُ، فقالت: ما تشاء؟ فقلت: لبنًا، فقامت كأنها قضيبٌ يتثنَّى، فأخرجَت علبةً مملوءةً لبنًا، فشربتُ حتى رَويتُ، ثمَّ ¬

_ (¬1) في ديوان القطامي ص 81، وتاريخ دمشق: ينبذن. (¬2) تاريخ دمشق 13/ 485 (مخطوط). (¬3) معجم الشعراء ص 357، ووفيات الأعيان 4/ 399. (¬4) من قوله: وفي نسخة أخرى ... إلى هنا ليس في (ف)، وهذا البيت الأخير أورده ابن حمدون في التذكرة الحمدونية 6/ 20 تتمة للبيتين السابقين.

استلقيتُ وأنيت، فقالت: يا عمّ، أراك تعبًا؟ قلت: نعم، ضلَّت إبلي منذ ثلاث، فخرجتُ في طلبها، فقالت: هل لك في أن أدلَّك على من يعلمُ علمها؟ فقلت: إي والله، وتتَّخذي عندي [يدًا]، (¬1) فقالت: سل الذي أعطاك سؤال يقين، لا سؤال اختبار، فقلت: يا حبيبة، هل لك من بعل؟ فقالت: قد كان، فدُعي إلى ما منه خُلِق، قلت لها: فهل لك في بعلٍ لا تذمُّ خلائقه، ويأمنُ إلفُه بوائقَه، فاستعبرت باكيةً، ثم قالت: [من البسيط] كنّا كغصنين في عودٍ غذاؤهما ... ماءُ الجداول في روضاتِ جنَّاتِ فاجتثَّ خيرَهما من دونِ صاحبه ... دهرٌ يَكُرُّ بروعاتٍ وترحاتِ (¬2) وكنتُ عاهدتُه (¬3) إن خانني زمني ... ألا يضاجعَ أنثى بعد مثواتي وكانَ عاهدَني (¬4) أيضًا فعاجَلَهُ ... ريبُ المنون قريبًا مذ سُنَيَّاتِ فاصرفْ عِنَانك عمَّن ليس يصرفُها ... عن الوفاء خلافٌ (¬5) في التحيَّاتِ إنِّي حلفتُ يمينًا غيرَ كاذبةٍ ... والكِذْبُ يُزْرِي بأصحابِ المروآتِ أنْ لا يضاجعني من بعدِه أحدٌ ... حتى يغيَّب رمسِي بين أمواتِ وسكتت، فاجتهدت بها أن تكلِّمني أو تريني الطريق، فأبت (¬6). وقال العتبي: [من الطويل] إذا ما تقضَّى الودُّ إلَّا تكاشرًا ... فهجرٌ جميلٌ للفريقين صالحُ تَلَوَّنْتَ ألوانًا عليَّ كثيرةً ... ومازجَ عذبًا من إخائِك مالحُ فلي عنك مستغنىً وفي الأرض مذهبٌ ... فسيحٌ ورزق الله غادٍ ورائحُ لتعلمَ أنِّي حيث رُمتَ قطيعة ... وعرَّضتَ لي بالهجرِ عنك مسامحُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من اعتلال القلوب للخرائطي. (¬2) في اعتلال القلوب: وفرحات. (¬3) في اعتلال القلوب: وكان عاهدني. (¬4) في اعتلال القلوب: وكنت عاهدته. (¬5) في اعتلال القلوب: خلاب. (¬6) اعتلال القلوب ص 182، والبيتان الأخيران ليسا فيه، ولم أقف عليهما.

محمد بن مصعب

على أنَّني لا مائلٌ بعداوةٍ ... عليكَ ولا صَبٌّ إلى الودِّ جانحُ نعانيَ ناعٍ حين يطمعُ صاحبي ... يرى الشرَّ (¬1) في وجهي له وهو كالحُ حَدَّث العتبيّ عن سفيانَ بن عيينة وغيره، وروى عنه أبو حاتم السجستاني وغيره، وكان ثقة (¬2). محمد بن مصعب أبو جعفر البغدادي (¬3)، كان أحد العبَّاد المذكورين، والقرَّاء المعروفين، أثنى عليه الإمام أحمد رحمة الله عليه، ووصفَهُ بالسُّنَة، وقال: كان رجلًا صالحًا، يقصُّ في المسجد ويدعو، وربما كان ابن عُلَيَّة يجلسُ إليه فيسمعُ دعاءَه، جاءني وكتب عني أحاديث، ثمَّ كان يقول: يا رب أخبئني [تحت] (¬4) عرشك. وقال: ويحكِ يا نفس ابنِ مصعب، من أين لك في النار برَّادة (¬5)؟ ثم رفعَ صوته وقرأ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29]. وكان مجاب الدعوة، بلغَ المأمونَ عنه شيءٌ فأمرَ بحبسِه، فلمَّا دخله رفعَ رأسه إلى السماء وقال: أقسمتُ عليكَ إنْ حبستَني عندهم الليلة. فأُخْرجَ في جوف الليل، فصلَّى الغداةَ في منزله. وتوفي ببغداد. أسندَ عن ابن المبارك وغيره. ورَوى عنه ابن سام (¬6) وغيره، واتَّفقوا على صدقه وثقته. ¬

_ (¬1) في اعتلال القلوب ص 322 - والأبيات فيه-: البشر. (¬2) لم أقف على من وثَّقه، بل ذكروا عنه أنه كان مستهترًا بالشراب. انظر وفيات الأعيان 4/ 398، والوافي بالوفيات 4/ 5. فلعل المصنف أراد أنه ثقة في الأخبار والأدب. (¬3) اشتهر بأبي جعفر الدَّعَاء. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 4/ 452. (¬5) قال محمد بن مصعب ذلك عندما وضعت برَّادة سمع صوتها، فشهق وصاح وقال ... والبرَّادةُ: إناءٌ يبرِّدُ الماء. القاموس (برد). (¬6) في (خ) و (ف): ابن بسام. والتصويب من تاريخ بغداد 4/ 451 وانظر الترجمة فيه.

مسدد بن مسرهد

[وفيها توفي] مُسَدَّد بن مُسَرْهد ابن مُسَربل بن مُغَربل بن مُرَغبَل بن أرندل بن سَرَندل بن عَرَندل بن ماسك بن المستورد الأسدي [كذا نسبه ابن ماكولا (¬1). وأمَّا ابنُ سعد فذكره في أوائل الطبقة الثامنة من أهل البصرة وقال: ] (¬2) مسدَّد بن مسرهد بن مسربل بن شريك، أبو الحسن [الأسديّ]، توفي بالبصرة في رمضان [من هذه السنة] (¬3). وقال أحمد بن يونس الرقيّ: جئتُ إلى أبي النعيم الفضل بن دُكَين فقال [لي: ] من محدِّث البصرة؟ قلت: مُسدَّد [بن مسرهد]، وذكرت أسامي أجداده، فقال أبو نعيم: هذه تسمية لو كان فيها "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" لكانت رُقيةً للعقرب. أسند مُسَدَّدٌ عن خلقٍ كثيرٍ منهم حمَّاد بن زيد [وأبو عوانة وغيرهم] (¬4)، وكان ثقةً مرضيًّا (¬5). نُعيم بن حمَّاد ابن معاوية بن الحارث بن همَام الخُزاعيُّ المروزيُّ، صاحب عبد الله بن المبارك، كان أعلمَ الناس بالفرائض، وهو من الطبقة السادسة. من أهل مصر، كان من أهل مرو، طلب الحديث طلبًا كثيرًا بالعراق وخراسان (¬6)، ثمَّ نزل مصر، فلم يزل بها حتى أشخِص منها في ¬

_ (¬1) ذكره ابن ماكولا في الإكمال 7/ 249 من رواية أبي علي منصور بن عبد الله الخالدي عن أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن مسدد. وقال بعد ذكره: ولم يكن الخالدي من الأثبات، وانظر السير 10/ 594. وقدم ابن ماكولا في أول ذكر مسدَّد أن اسمه: مسدَّد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل الأسدي البصري، ونسبه للبخاري، وانظر التاريخ الكبير 8/ 72. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال ابن سعد. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 309. (¬4) في (خ) و (ف): وغيره، وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) انظر ترجمته في المصادر التي ذكرتها وفي المنتظم 11/ 142، وتهذيب الكمال 27/ 443، وسير أعلام النبلاء 10/ 591، وتاريخ الإسلام 5/ 700. (¬6) في طبقات ابن سعد 9/ 527 - والكلام منه-: بالعراق والحجاز.

يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن

خلافة المعتصم، فسُئِل عن القرآن، فأبى أن يجيب فيه بشيء ممَّا أرادوه، فحبس بسامراء، فلم يزل محبوسًا بها حتى مات في السجن، لامتناعه من القول (¬1). وقال الخطيب: مات سنة تسع وعشرين، وكان مقيَّدًا محبوسًا لامتناعه من القول بخلق القرآن، فأوصى أن يُدفَن في قيوده، فقال: ادفنوني في قيودي، فإنِّي مخاصِمٌ، فجُرَّ بها حتى ألقي في حفرته، ولم يكفَّن ولم يصل عليه، فعل ذلك به صاحب ابن أبي دؤاد (¬2). وقيل: إنَّه حُمِل من مصر في سنة ثلاث وعشرين. أسند عن ابن المبارك، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، وخلقٍ كثير. وروى عنه يحيى بن معين والبخاريُّ (¬3) ومحمد بن يحيى الذُّهلي. وقال أبو سعيد بن يونس: أقام بمصر مدَّةً، وصَنَّفَ كتابًا في الردَّ على أبي حنيفة، وحُمل هو والبويطيُّ إلى بغدادَ مكبَّلَين بالحديد. وقد تكلَّموا فيه، وأثنى عليه قومٌ، وضعَّفه قوم (¬4). يحيى بنُ عبد الحميد بنِ عبد الرَّحمن أبو زكريا الكوفي، أحدُ الحفاظ الرحَّالين، كان يحفظُ عشرةَ آلاف حديث يسردُها سردًا. توفي بسامرّاء في رمضان. حدَّث عن سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه البغويُّ وغيره. وتكلَّموا فيه (¬5) ¬

_ (¬1) قوله: لامتناعه من القول. ليس في (خ). (¬2) تاريخ بغداد 15/ 430. وذكر في وفاته أقوالًا أخرى، وذكره ابن الجوزي في المنتظم 11/ 149 في وفيات سنة تسع وعشرين ومئتين، ورجَّح الذهبي القول بأن وفاته كانت في سنة ثمان وعشرين ومئتين. انظر تاريخ الإسلام 5/ 715. (¬3) روى له البخاري مقرونًا بآخر. (¬4) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 9/ 527، وتاريخ بغداد 15/ 419، وتهذيب الكمال 29/ 466، وسير أعلام النبلاء 10/ 595، وتاريخ الإسلام 5/ 710، ولم ترد ترجمته في (ب). (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 335، وتاريخ بغداد 16/ 251، والمنتظم 11/ 143، وتهذيب الكمال 31/ 491، وسير أعلام النبلاء 10/ 526، وتاريخ الإسلام 5/ 726. ولم ترد ترجمته في (ب).

السنة التاسعة والعشرون بعد المئتين

السنة التاسعة والعشرون بعد المئتين فيها حبسَ الواثقُ الكُتَّاب، وأخذ منهم أموالًا عظيمة، وسلَّمهم إلى إسحاق بن يحيى صاحبِ حرسه، فضربَ أحمدَ بن إسرائيل ألف سوط، وأخذ منه ثمانين ألف دينار، وأخذَ من سليمان بن وهب كاتب إيتاخ أربع مئة ألف دينار، ومن أحمد بن الخصيب وكاتبه (¬1) ألف ألف دينار، ومن نجاح ستينَ ألف دينار، ومن صالح بن أبي الوزير (¬2) مئةَ ألفٍ وأربعين ألف دينار، سوى ما أخذَ من العمّال، فيقال: إنَّه أخذَ منهم ثلاثة آلاف ألف دينار. وسببُ ذلك أنَّ الواثقَ جلسَ ليلةً مع ندمائه، فسأل عن السبب الذي به وَثب الرشيدُ على البرامكة، فقال: لم يكن له بيتُ مال، وكانت البرامكة قد استولَت على الأموال، فاستعرضَ الرشيدُ جاريةً، فأعجبته، فطلبَ صاحبُها فيها مئةَ ألف دينار، فأرسل إلى يحيى بن خالد، فأمرَه أن يبعثَ إليه بالمال، فقال يحيى: هذا مفتاحُ سوء، إذا بذل في جاريةٍ هذا المال، كان أحرى أن يَطلبَ المال على قدر ذلك، [فأرسل يخبرُه أنه لا يقدرُ على ذلك، فغضبَ الرشيد] (¬3)، فأرسلَ إلى يحيى ثانيًا يقول: لا بدَّ من المال، وكيف يَعجِزُ بيتُ مالي عن مئة ألف دينار، فقال يحيى: اجعلوها دراهم؛ لعلَه يستكثرها فيردها، فأرسلَ بها دراهم، وجعلَها في طريق الرشيد (¬4)، فخرجَ فرآها مثل الجبل، فاستكثرَها، وردَّ الجارية، ودعا خادمًا له، وقال: اضمُم هذه إليك، واجعل لنا بيتَ مال، وأخذ في التفتيش على المال، فوجد البرامكة قد استهلكوه، وكان يحضرُ مجلسَه رجلٌ فاضلٌ، فأعجبَه ليلةً حديثُه، فأطلقَ له ثلاثينَ ألف درهم، فمطلَه يحيى ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف) وتاريخ الإسلام 5/ 503، ووقع في تاريخ الطبري 9/ 125، والكامل 7/ 10، والمنتظم 11/ 144: وكتَابه. (¬2) كذا في (خ) و (ف)، وفي المنتظم 11/ 144: ومن أبي الوزير صالح، وفي تاريخ الطبري 9/ 125: ومن أبي الوزير صلحًا. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. انظر تاريخ الطبري 9/ 126. (¬4) في تاريخ الطبري: في رواق الرشيد.

مدَّةً، فتحيَّل حتى أنشد الرشيد: [من الرمل] وَعَدَتْ هندٌ وما كانت تَعِدْ ... ليتَ هندًا أنْجَزَتنا ما تعدُ واستبدَّتْ مرَّةً وإحدة ... إنَّما العاجزُ من لا يستبِدّ (¬1) فقال الرشيد: أجل والله، إنَّما العاجزُ من لا يستبد، وكان على رأس الرشيد خادم، فنقلَ الحديثَ إلى يحيى، فبعثَ إلى الرجل بثلاثين ألف درهم من بيت المال، ومن عنده بأربعين ألفًا (¬2)، واعتذرَ إليه. وجدَّ الرشيدُ في البرامكة، حتى فعلَ بهم ما فعل، فقال الواثق: صدق الرشيد، فما مضى أسبوعٌ حتى وثبَ على الكُتَّاب، وأخذَ منهم الأموال. وفيها وَلَّى الواثق إيتاخ اليمن، فبعثَ إليها نوابه، وولَّى محمد بن صالح المدينة، وولى محمد بن يزيد (¬3) الخَلَنجي الحنفيّ على قضاء الشرقية ببغداد، وكان من أصحاب ابن أبي دؤاد، وكان عفيفًا في قضائه، تلطَّف فيه محمد بن الجهم وبعثَ إليه بمالٍ عظيم فلم يقبله، وكان المعتصم كتبَ إليه من سامرَّاء ليمتحنَ الناس بخلقِ القرآن، [وكان يضبط نفسه، فتقدمت إليه امرأة فقالت: إن زوجي لا يقول يقول أمير المؤمنين في القرآن] (¬4) ففرِّق بيني وبينه، فصاحَ عليها. فلمَّا كان سنة سبع وثلاثين عزله المتوكل، وأمر بأن يُكشَف عليه بسبب ما امتحنَ به الناسَ، فأُقِيم للناس، فما ظهرَ أنَّه أخذ لأحدٍ حبَّةً (¬5). و[فيها] حجَّ بالناس محمد بن داود بن عيسى. [فصل: ] وفيها توفي ¬

_ (¬1) البيتان لعمر بن أبي ربيعة، وهما في ديوانه ص 320 - 321 ورواية البيت الأول فيه: ليت هندًا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد (¬2) الذي في تاريخ الطبري 9/ 127 والكامل 7/ 11 أن يحيى وصله بعشرين ألف دينار، وأمر ولديه أن يصلاه، فوصله كل واحدٍ منهما بعشرين ألف. (¬3) كذا في (خ) و (ف) والنجوم الزاهرة 2/ 256، وهو خطأ. والصواب عبد الله بن محمد بن يزيد، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 11/ 269. إلا أن فيه أنه وليها سنة ثمان وعشرين ومئتين. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 11/ 270. (¬5) من قوله في أول أخبار هذه السنة: فيها حبس الواثق الكُتَّاب ... إلى هنا ليس في (ب).

خلف بن هشام

خلفُ بن هشام ابن ثعلب، [وقيل: ابن طالب، ] أبو محمد البزَّار [المقرئ]، قرأ القرآن بالروايات حتَّى فاق أهل عصره. [وحكى عنه الخطيبُ أنَّه قال: قرأتُ القرآن على حمزةَ بن حبيب الزَّيات عشر مرات (¬1)، قال: وكان خلفٌ صالحًا]، وكان يشربُ النبيذَ على مذهب أهل العراق [على التأويل]، ثمَّ تركه، وسببُ تركِه أنَّ ابن أخته قرأ عليه سورة الأنفال حتَّى بلغ قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الآية: 37] فقال له: يا خال، إذا ميَّز الله الخبيثَ من الطيِّب، أين يكون النبيذ، [أو الشراب]؟ فنكس رأسه طويلًا ثم قال: مع الخبيث، فقال: أفترضى أن تكون مع [أصحاب] الخبيث؟ فقال: يا بني اذهب إلى المنزل، فاصبُبْ كل شيءٍ فيه، [وتركه]، فأعقبَه الله الصومَ، فصام الدهر إلى أن مات (¬2). وقيل: إنَّه صام أربعين سنةً، وأعاد صلاة مدَّة شربه النبيذ. [وقد ذكره ابن سعد وأثنى عليه، قال: وكان صاحب قرآن وحروف، وقرأ على سُليم صاحب حمزة، ] وتوفي يوم السبت لتسع خلون من جمادى الآخرة [سنة تسعٍ وعشرين ومئتين، ودفن بمقابر الكُنَاسة] ببغداد (¬3). [قلت: لا نعرف اليوم مقابر الكُنَاسة، وإنَّما الكُنَاسة بالكوفة. وحَكى الخطيبُ عن عبد الله بن محمد البغويّ أنَّه قال: مات خلف في هذه السنة (¬4)، كما قال ابن سعد]. قيل: مات [في] سنة ثمانٍ وعشرين [ومئتين]. ورآه بعض أصحابه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، وقال: اقرأ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 9/ 274. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 275. (¬3) طبقات ابن سعد 9/ 351. (¬4) تاريخ بغداد 9/ 277.

علي بن صالح بن سليمان

عليَّ القرآنَ، فقرأتُه عليه. أسندَ عن مالك بن أنس [وحماد بن زيد] وخلقٍ كثير [وسمع منهم]، وروى عنه إبراهيمُ الحربيُّ وغيره، واتَّفقوا على صدقه وعدالته وثقته في حال شربه النبيذَ وتركه، [فحكى الخطيبُ عن أحمد بن حنبل أنَّه قيل له: ] (¬1) إنَّ خلفًا يشربُ النبيذ، فقال: قد انتهى إلينا علم هذا، ولكنَّه والله عندنا الثقةُ الأمين العدل شرب أو لم يشرب (¬2). [وقال الدارقطني: كان عابدًا فاضلًا، أعاد الصلاة التي شرب فيها النبيذ أربعين سنة (¬3). وفيها توفي] عليُّ بن صالح بن سليمان (¬4) [وقال الخطيب: وإنما سمِّي جده] صاحب المصلى -[وهو] سليمان (¬5) -[لأنَّه كان] مع أبي مسلم الخراساني، وكان من أولادِ الملوك بخراسان، فاستخضَّه أبو جعفر، فلما جرت قصَّة عبد الله بن عليّ (¬6)، فرَّق أبو جعفر خزائنَ عبد الله (¬7) على ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): قيل للإمام أحمد رحمة الله عليه. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 276. (¬3) انظر ترجمته بالإضافة إلى المصادر السالفة في المنتظم 11/ 145، وتهذيب الكمال 8/ 299، وسير أعلام النبلاء 10/ 576، وتاريخ الإسلام 5/ 564. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) كذا في (خ) و (ف) و (ب)، ولم أقف على من ذكر أن جده سليمان، وإنما سليمان حفيده. وانظر التعليق التالي. (¬5) كذا في النسخ. والصواب: صالح؛ لأن الخطيب روى القصة عن التنوخي قال: سمعت أبا الفرج محمد بن جعفر بن الحسن بن سليمان بن علي بن صالح صاحب المصلى، وسأله أبي عن سبب تسمية جده بصاحب المصلى، فقال: إن صالحًا جدنا .... وذكر القصة، فصاحب المصلى هو صالح. انظر تاريخ بغداد 13/ 395 - 396، والمنتظم 11/ 148، وتهذيب الكمال 20/ 470 وذكر المزي علي بن صالح تمييزًا. ووقع في الوافي بالوفيات 15/ 446 أنَّ هذه القصة وقعت مع سليمان. وهو وهم أيضًا، لعله تابع فيه المصنف. والله أعلم. (¬6) في (ب): علي بن عبد الله بن عباس. وهو خطأ. (¬7) في (ب): علي بن عبد الله.

سليمان وغيره من القوَّاد، فأخذَ كلُّ واحدٍ شيئًا جليلًا، فاختار [سليمان حصير] (¬1) الصلاة من عَمَل مِصْر، ذُكِرَ أنَّه كان في خزائن بني أميَّة، وأنَّهم ذكروا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى عليه، فقال له المنصور: إنَّ هذا لا يصلحُ [أن يكون] إلَّا في خزائن الخلفاء، فقال: يا أمير المؤمنين، قد حكمتَ كلَّ واحدٍ في الخزائن، فأخذَ كل واحدٍ ما أراد، وما مقصودي إلَّا البركة [بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، فقال: خذه على شرطٍ؛ وهو أن تحملَه في الأعياد والجمع فتفرشَه حتَّى أصلي عليه، قال: نعم، وكان يفرشُه في كل عيدِ وجمعةٍ للمنصور، وبقيَ عند ذريَّة سليمان يتوارثونَه حتَّى أخذَه منهم المعتصم، فجعلَه في خزائنه (¬2). [وقيل: إنَّ صاحبَ هذه الترجمة اسمه عليّ بن صالح بن سليمان بن صالح، وصاحبُ الواقعة مع المنصور هو صالح الأعلى. حدث علي بن صالح (¬3) عن القاسم بن معن المسعوديّ، وروى عنه يعقوب بن إبراهيم (¬4). والله أعلم] (¬5). * * * ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف) بياض، والصواب: فاختار صالح حصير ... (¬2) في تاريخ بغداد: فلم يزل الحصير عندنا إلى أن انتهى إلى سليمان جدي، وكان يخرجه كما كان أبوه وجده يخرجانه للخلفاء، فلما مات سليمان في أيام المعتصم، ارتجع المعتصم الحصير وأخذه إلى خزائنه. أهـ. وسليمان هذا هو ابن علي بن صالح صاحب المصلى. (¬3) في (ب): حدث عن ابن صالح. والتصويب من تاريخ بغداد. (¬4) هو ابن أخيه يعقوب بن إبراهيم بن صالح. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

السنة الثلاثون بعد المئتين

السنة الثلاثون بعد المئتين فيها غارت (¬1) الأعراب حول مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعثَ إليهم الواثقُ بغا التركيّ في جيشٍ كثيف، فقَتَل منهم جماعةً، وأسرَ آخرين. ذكر (¬2) السبب كانت بنو سُليم نازلين حولَ المدينة يفسدون ويعبثون، وإذا قامت سوقٌ أخذوا منها ما أرادوا، وكان رأسهم عُزيزةُ بن قطَّاب السُلَميّ، وكان بالمدينة محمد بن صالح الهاسميّ واليًا عليها، وكان الواثق قد بعثَ إليه حمّاد بنَ جرير الطبريّ؛ لئلا يطرقَ المدينة طارقٌ، وكان في مئتي فارسٍ، فبعثَ محمدُ بن صالح حمَّادَ بن جرير في جماعةٍ، من الجند وسودان المدينة [ومن تطوَّع للخروج من] (¬3) قريشٍ والأنصار ومواليهم، فسار إلى بني سُليم وهم كارهون (¬4)، فالتقاهم على الرُّوَيثة على ثلاث مراحل من المدينة، وهم في ستِّ مئةٍ وخمسين، ثم جاءتهم الأمدادُ قبل القتال، فحولَ عليهم حمَّاد، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وانهزمت سودان المدينة بالناس، وثبتَ حمَّاد وأصحابه وبعض قريش والأنصار، فقُتِل حمَّاد وعامَّةُ أصحابه، وحازت بنو سليم الكراعَ والسلاح والثياب وغيرها، وقويت شوكتُهم، واستباحوا القرى والمنازل والمناهل فيما بين مكَّة والمدينة، وانقطعت الطرق، فبعثَ إليهم الواثقُ بغا الكبير في الشاكريَّة والأتراك والمغاربة، فقدمَ المدينة في شعبان، وشخص إلى حرَّة بني سُلَيم، وعلى مقدمته كردوس (¬5) التركي، فلقيَهم وراء السُّوارقيَّة، وكانوا يَأْوون إليها، وبها حصونٌ يتحصَّنون بها، فَقتَل منهم بغا خمسين رجلًا، وأَسَر مثلهم، وانهزمَ الباقون، ثم ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف)، وفي (ب)؛ عابت. ولعلها: عاثت. انظر تاريخ الطبري 9/ 129، والكامل 7/ 12، والمنتظم 11/ 150. (¬2) من هنا إلى ترجمة عبد الله بن طاهر ليس في (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 129، ومكانها في (خ) و (ف) بياض. (¬4) يعني أن بني سليم كانوا كارهين للقتال. (¬5) في تاريخ الطبري 9/ 130 طردوش.

عبد الله بن طاهر

دعاهم بُغا إلى [الأمان، وأقام] بالسُّوارقيَّة، فدخلوا تحت أمانه، [فاحتَبسَ عنده من] (¬1) عُرِفَ بالشرِّ والفساد، نحو ألف رجل، فقدمَ بهم المدينةَ في ذي القعدة، فحبَسهم في الدار المعروفة بيزيد بن معاوية (¬2)، ثم مضى إلى مكَّة حاجًّا، فشهدَ الموسم، وكان على الموسم محمد بن داود. وفيها توفي عبدُ الله بنُ طاهر ابنِ الحسين بن مصعب بن رُزَيق، أبو العباس الخزاعي. [ذكره العلماء في تواريخهم، واتَّفقوا عليه، و] كان بارع الأدبِ حسنَ الشعر، مأمونًا، نبيهًا في نفسه، جوادًا، عاقلًا ممدَّحًا سمحًا، تنقَّل في الأعمالِ الجليلةِ شرقًا وغربًا. قلَّده المأمونُ الجزيرةَ والشام ومصرَ والمغربَ حربًا وخراجًا، ثمَّ نقلَه إلى ولاية خراسان بعد وفاةِ أبيه. ومولده [في] سنة ثلاث وثمانين ومئة. وقال إسحاقُ بن راهويه: سألني عبد الله بن طاهر فقال: متى توفي عبدُ الله بن المبارك؟ فقلت: في سنة اثنين وثمانين ومئة، فقال: ذلك مولدي. [وكان إليه خراسان] وما وراء النهر، وطبرستان، والمشرق كله، والشرطتان ببغداد وبسُرَّ من رأى، وخليفتُه عليهما إسحاقُ بن إبراهيم المصعبيّ (¬3). [وقال الخطيب: كان عبد الله من الأجواد الممدَّحين والسُّمحاء المذكورين] (¬4). ذكر طرف من أخباره: [حكى الخطيبُ أنَّ المأمونَ سوَّغه خراج مصر، فلمَّا فتحها لم يدخلها] (¬5) وصعد ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف) بياض، والمثبت بين حاصرتين من تاريخ الطبري. (¬2) في (خ) و (ف): بين يدي معاوية. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 131. (¬3) من قوله: وما وراء النهر ... إلى هنا ليس في (ب). (¬4) تاريخ بغداد 11/ 162، وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): لما فتح مصر سوغه المأمون خراجها فلم يدخلها ...

المنبر، فما نزلَ حتَّى فرَّق خراجها، وهو ثلاثة آلاف دينار. [وذكره الحاكم في "تاريخ نيسابور"، وأثنى عليه، وحكى عنه حكايات كثيرة فقال: جاءه] (¬1) رجلٌ من أهل هَراة، فقال: إنِّي مظلوم، قال: ومن ظلمَك؟ قال: أبوك، ثمَّ أنت، قال: وكيف؟ قال: أخذَ أبوكَ ضيعتي، وهي اليومَ في يد نوَّابك، فقال: ألكَ بيِّنة؟ فقال: إنَّما تكونُ البيِّنةُ بعد المرافعَة إلى الحاكم، فصرْ معي إلى الحاكم؛ ليحكمَ بيني وبينك بحكم الإسلام. فدعا ابن طاهر نصرَ بن زياد القاضي، فجلس، وابن طاهر [جالسٌ] في مجلسه، فادَّعى الرجل، فلم يسمع القاضي الدعوى، ففهمَ ابنُ طاهر أنَّه إنَّما امتنعَ من سماع الدعوى حيثُ إنَّه لم يساوِ خصمَه في الجلوس، فقام ابنُ طاهر من مجلسِه، وجلس مع خصمه بين يديه، فقال الرجل: أَدَّعي أيُّها القاضي أنَّ لي ضيعةً من ضياع هراة، وذكر حدودَها، وأنَّها في يد الأمير، فقال ابن طاهر: غيَّرتَ الدعوى؛ لأنَّك إنَّما ادَّعيتَ على أبي، فقال الرجلُ: ما رأيتُ أنْ أفضحَ أباك في مجلس الحاكم، وأنَّه غصب، فقامَ ابنُ طاهر [من بين يدي القاضي]، وعادَ إلى مجلسه، وأمرَ الكاتبَ يكتبُ بردِّها عليه. [وفي رواية: طلبَ الرجلُ يمينَه، فقام ابنُ طاهر من مجلسه، وذكره.] (¬2) وقال أحمد بن سعيد الموصلي (¬3): قال لي عبد الله بن طاهر: يا أحمد، إنَّكم تبغضُون المرجئةَ تقليدًا، وأنا أبغضهم عن معرفة، إنَّ أوَّل أمرهم أنَّهم لا يرون للسلطان طاعةً، ويقولون: إيمانُنا كإيمانِ جبريل وميكائيل، وإني لا أستجيزُ أن أقول: إيماني كإيمان يحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل. وقال أحمد بن أبي طاهر: لمَّا خرج عبد الله بن طاهر إلى المغرب، كان معه كاتبه أحمد بن نَهيك، فلمَّا نزلَ دمشق أُهديت لأحمد هدايا كثيرة في طريقه وبدمشق، فكان يُثبِّتُ كلَّما يُهدَى له في قرطاس، ويدفعه إلى خازنه، فأمرَ عبدُ الله بن طاهر (¬4) أحمدَ بن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ): وجاء له، وموضعها في (ف) بياض. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، والرواية الأخيرة ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق 9/ 443 - 444 (مخطوط). (¬3) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ دمشق 9/ 442: الرباطي. وهو الصواب. (¬4) في (خ) و (ف): أحمد بن طاهر. وهو خطأ. والتصويب من تاريخ بغداد.

نَهيك أن يغدو عليه لعمل كان يعمله، وأمره أن يثبته، ووضع ورقة العمل مع الورقةِ التي فيها الهدايا، فغلط الخازن، فأحضرَ ورقةَ الهدايا، وتركَ الورقة التي فيها العمل، ودخل على عبد الله بن طاهر فسأله عما كان تقدَّم من العمل، فقال: عملته، وأخرج الورقة من خفِّه، فناوله إيَّاها، وكان دَرجًا كبيرًا، فتأمَّله ابنُ طاهر من أوَّله إلى آخره، ثم طواه، وقال لابن نَهيك: خذ ورقتَك، فليس هذا أردت، فلمَّا نظر أحمد فيها أُسقِط في يده، فلما انصرفَ إلى مضربه وجَّه إليه عبدُ الله يقول: قد وقفتُ على ما في الورقة، فوجدتُه سبعينَ ألف دينار، وقد علمتُ أنَّه قد لزمتكَ غرامةٌ ومؤنةٌ عظيمةٌ في سفرك، ومعك جماعةٌ وزُوَّارٌ تحتاجُ إلى برِّهم، وليس مقدارُ ما يصلُ إليك يفي بمؤنتك وقد وجَّهت إليك بمئة ألف دينار؛ لتصرفَها في الوجوه التي ذكرتها (¬1). [وقال الخطيب بإسناده إلى سهل بن ميسرة (¬2) قال: ] (¬3) لمَّا رجعَ عبد الله بن طاهر من الشام إلى بغداد صعد فوق سطح [قصره]، فنظر إلى دخانٍ يرتفع من جواره، فقال: ما هذا الدخان؟ فقيل: لعلَّ القوم يخبزون، فقال: أو تحتاج جيراننا إلى ذلك، [أو أن يتكلَّفوا ذلك]؟ ! ثم دعا حاجبَه، وقال: امض ومعكَ كاتبٌ، وأحصِ جيراننا ممَّن لا يقطعُهم عنَّا شارعٌ، فمضَى فأحصاهم، فبلغَ (¬4) عددهم [أربعة آلاف] نفس (¬5) فأمر لكلِّ بيتٍ بالخبز واللحم، وما يحتاجون إليه، وبكُسوة الشتاء والصيف، والدراهم، [فما زال ذلك دأبه] (¬6) حتَّى خرج من بغداد، فانقطعَ ذلك، وكان يبعثُ من خراسان إليهم بالكُسوة مدَّة حياته (¬7). [وحكى الخطيب أيضًا بإسناده إلى أبي الفضل الربعيّ عن أبيه أنَّه قال: ] قال المأمون لعبد الله بن طاهر: أيُّما أطيب [مجلسي أو مجلسك، وفي رواية: ] منزلي أو منزلك؟ قال: يا أمير المؤمنين منزلي، قال: ولم؟ قال: لأنِّي فيه مالك، وأنا في ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 163 - 164. ومن قوله: وقال أحمد بن سعيد ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) في (ب) و (ف): مبشر، وفي (خ): ميسر. والتصويب من تاريخ بغداد. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال سهل بن ... (¬4) في (ب): فرفع. (¬5) في (خ) و (ف): ألف نفس، والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ) و (ف): فما زالوا كذلك. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬7) تاريخ بغداد 11/ 164 - 165.

منزلك مملوك (¬1). و[قال الحسين بن الفهم: ] كان ابن طاهر لا يُدخل دارَه خصيًّا، ويقول: هم مع النساء رجال، ومع الرجال نساء (¬2). وقال (¬3) أحمد بن يزيد السُّلميّ: كنت مع طاهر بن الحسين بالرقة، فرُفعت إليه قِصَصٌ فوقع عليها بصلاتٍ، فبلغت ألفي ألف (¬4) درهم وسبع مئة ألف درهم، ثمَّ كنت (¬5) بعد ذلك مع ولده بالرقة فوقع عليها، وزاد على أبيه بألفي ألف (¬6) درهم. وقال محمد بن يزيد الأمويّ الحصنيُّ (¬7) من ولد مَسْلَمة بن عبد الملك، وكان قد اعتزل الناس في حصنٍ له: لمَّا بلغني خروجُ عبد الله بن طاهر من بغداد يريد قتال نصر بن شبث بالجزيرة أيقنتُ الهلاكَ، لِمَا بلغه من رَدِّي عليه قصيدتَه التي يقول في أوّلها: [من المديد] مدمنُ الإغضاءِ موصولُ ... ومديمُ العتب مملولُ وأخو الوجهينِ حيث رَمى ... بهواهُ فَهْوَ مدخولُ فاتّئد تلقَ النجاحَ به ... فاعتسافُ الأمر تضليلُ واعمَ عن عيب أخيك يدمْ ... لك حبلٌ منه موصولُ من يَرِد حوض الردى صردًا ... لا يسعهُ الريُّ تعليلُ أنا من يعرف بنسبته (¬8) ... سَلَفِي الغُرُّ البهاليلُ مصعبٌ جدِّي نقيبُ بني ... هاشمٍ والأمرُ مجهول ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 162. (¬2) المنتظم 11/ 159. (¬3) من هنا إلى قوله: حذرًا من تعذر الإمكان ... ليس في (ب). (¬4) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ بغداد 10/ 484 (ترجمة طاهر بن الحسين)، وتاريخ دمشق 9/ 448 (مخطوط): ألف ألف. (¬5) في (خ) و (ف): ثم كتب. وانظر تاريخ دمشق 9/ 449. (¬6) في تاريخ دمشق: بألف ألف. (¬7) في (خ) و (ف): الحمصي. والتصويب من الفرج بعد الشدة 1/ 339. (¬8) في الفرج بعد الشدة 1/ 342: تعرفن نسبته.

وحسينٌ رأسُ دعوتِهم ... ودعاءُ الحقِّ مقبولُ وأبي من لا كِفَاءَ له ... من يُسامي مجدَهُ قولوا سَلْ به والخيلُ ساهمةٌ ... حولَهُ جردٌ أبابيلُ أَبْطَنَ (¬1) المخلوعَ كلكُلهُ ... وحواليه المقاويلُ (¬2) فثَوى والتربُ مضجعُه ... غال عنه ملكَه غولُ قادَ جيشًا نحو عرصته ... ضاقَ عنه العرضُ والطُّولُ ملكٌ تجتاحُ صولتُه ... ونداه الدَّهرَ مبذولُ قُطِعَتْ عنه تمائمُه ... فهو مرهوبٌ ومأمولُ من أبياتٍ. فإنِّي لمَّا بلغتني هذه القصيدة امتعضتُ للعربيّة، وأنفت المنافية أن يفتخرَ عليها رجلٌ من العجم قتلَ ملكًا من ملوك العرب بسيفِ أخيه لا بسيفِ نفسه، فيفخر عليها ويضع منها، فرددتُ عليه قصيدتَه، ولم أعلم أنَّ الأقدار تُظْفِره بي، فقلت: [من المديد] لا يَرُعْكَ القالُ والقيلُ ... كلَّما بُلِّغتَ تهويلُ قاتلُ المخلوعِ مقتولٌ ... ودمُ القاتل مطلولُ لا تنجِّيه مذاهبُه ... نهرُ بُوْشَنجٍ ولا النِّيلُ بيد (¬3) المخلوع طُلْتَ يدًا ... لم يكن في باعِها طولُ وبنعماه التي سَلَفَتْ ... فعلت تلك الأفاعيلُ يا ابن بيت النَّار موقدُها ... ما لحاديهِ سراويلُ من حسينٌ من أبوك ومن ... مصعبٌ غالتهُمُ الغولُ أسرةٌ ليست مباركةً ... غيرُها الشمُّ البهاليلُ من أبياتٍ طويلةٍ. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): أبطل، وفي طبقات الشعراء ص 300: طحن. والمثبت من العقد الفريد 2/ 199، والفرج بعد الشدة 1/ 343. (¬2) في (خ) و (ف): المقاليل. وفي الفرج بعد الشدة: المغاويل. (¬3) في طبقات الشعراء ص 300، والعقد الفريد 2/ 200، والفرج بعد الشدة 1/ 346، ومعجم الشعراء ص 356: بأخي.

فلمَّا قرب عبد الله (¬1) بن طاهر استوحشتُ من المقام خوفًا على نفسي، ورأيتُ تسليم نفسي عارًا عليّ، فأقمتُ مستسلمًا للأقدار، وأقمتُ جاريةً سوداء في أعلى الحصن، فلم ترعني إلَّا وهي تشهرُ بيدها، وإذا بباب الحصن يدقّ، فخرجتُ وإذا بعبد الله بن طاهر واقفٌ وحدَه، قد انفردَ عن أصحابه، فسلَّمت عليه سلامَ خائفٍ، فردَّ عليَّ ردًّا جميلًا، فأومأتُ لأقبِّل ركابَه، فمنعني بألطف منع، ثم ثنى رجلَه وجلسَ على دكَّةٍ على باب الحصن، ثمَّ قال: سكِّن روعَك، فقد أسأتَ بنا الظنَّ، وما علمنا أنَّ زيارتنا لك تروِّعك، ثمَّ سألني عن مقامي في البَرِّ، وإيثاري له على الحضر، وباسطَني، فلمَّا زال رَوعي قال: أنشدني قصيدتَك التي تقولُ فيها: يا ابن بيت النارِ موقدُها فقلت: لا تنغِّص إحسانَك، فقال: ما قصدي إلَّا زيادة الإنسِ بك، فامتنعت، فقال: والله لا بدّ، فأنشدتُه القصيدة إلى قوله: ما لحاديه سراويل فقال: والله لقد أحصينَا ما في خزائن ذي اليمينين بعدَ موته، فكان فيها ثلاثة آلاف سراويل (¬2) من أصناف الثياب، ما في واحدٍ منها تِكَّةٌ، فما حملك على هذا؟ قلت: أنتَ حملتني بقولك: وأبي من لا كِفَاءَ له ... من يساوي مجدهُ قولوا لما فَخَرْتَ على العرب فَخَرْنا على العجم، فقبل العذرَ، وأظهر العفو، ثمَّ قال: هل لك في الصحبة إلى قتال نصر بن شبث؟ فاعتذرتُ بالعجز عن الحركة ولزومِ المنزل، فأمر بإحضار خمسة مراكب من مراكبه بسروجها ولُجُمِها، محلاةً بالذهب، وثلاثة دوابّ من دوابِّ الشاكريَّة، وخمسة أبغل من بغال الثقل، وثلاث تخوتٍ من الثياب الفاخرة، وخمس بِدَر من الدراهم، ووضع الجميعَ على باب الحصن، واعتذرَ بالسفر فمددتُ يدي لأقبِّل يدَه، فامتنعَ، وسار، فودَّعتُه، وكان ما أعطاهُ يساوي مئة ألف درهم. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): يحيى. وهو خطأ. (¬2) في الفرج بعد الشدة 1/ 349: ألفين وثلاث مئة سراويل.

وقال القاضي التنوخي: حَبَسَ عبدُ الله بن طاهر محمدَ بن أسلم، فكتبَ إليه بعضُ إخوانه يسلِّيه ويهون عليه، فأجابه محمد وقال: كتبت إليَّ تعزِّيني، وإنَّما ينبغي لك أن تهنِّيني، رأيتُ العجائب، وعُرضت عليَّ المصائب، إنِّي رأيتُ الله تعالى يتحبَّبُ إلى من يؤذيه، فكيف بمن يُؤذَى فيه، إنِّي دخلتُ بيتًا سقطتْ عني فيه فروضٌ وحقوق، منها الجمعة، والجماعات، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، وعيادةُ المرضى، وحضورُ الجنائز، وما نزلتُ بيتًا خيرًا لي في ديني منه. وبلغ ابن طاهر، فقال: نحن في حاجةِ ابن أسلم، أطلقوه (¬1). وقال عليُّ بن الحسين الإسكافيّ: كُنْتُ أكتبُ لبُغا الكبير، فنكبَني واستأصلني، وحبسني وتهدَّدني، فأقمتُ أنتظرُ منه المكروه، فبينا أنا كذلك إذ دخل إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ صاحبُ الشرطة، فأيقنتُ بالعذاب، فقال: لا بأسَ عليك، فإنَّ عبدَ الله بن طاهر قد كاتب بغا فيك، وقد ردَّ عليك ضياعَك وأموالك، فانصرِفْ إلى منزلك، فلمَّا كان بعد ذلك سألتُه عن السبب فقال: كتبَ إليَّ عبدُ الله بنُ طاهر كتابًا يقول فيه: قد كانت كتبُ أخي أبي موسى بغا تَرِدُ عليَّ بمخاطباتٍ توجبُ المؤانسة، وتلزم الشكرَ والمنَّةَ، ثمَّ تغيَّرت، فخطر لي أنَّ ذلك الكاتبَ صُرِفَ ونكب، وحقٌّ لمن أحسنَ عشرتنا، وأكَّدَ المودَّةَ بيننا وبين إخواننا أن يُراعى حقُّه، فصر إلى أخي بغا، وسله في كاتبه أن يردَّه ويردَّ ما أخذَ منه، وإن طالبَه بمالٍ فاحمله من مالنا كائنًا ما كان، وقد أمر لكَ الأميرُ عبد الله بن طاهر بمالٍ فاقبضه، قال: فقبضته، وردَّني إلى مكاني (¬2). وقال أبو الفضل الربعيّ: لمَّا توجَّه ابنُ طاهر إلى خراسان قصدَه دعبل، وكان ينادمُه في الشهر خمسة عشرَ يومًا، فكان يصلُه في الشهر مئة ألف درهم، وخمسين ألف درهم، في كلِّ يومٍ ينادمه عشرة آلاف درهم، فلمَّا كثرت صلَاتُه توارى عنه حياءً منه، فنزلَ بعضَ الخانات، وطلبَه فلم يقدِر عليه، فكتب إليه: [من الطويل] هجرتُك لم أهجرك من كُفر نعمةٍ ... وهل يُرْتَجى نيلُ الزيادةِ بالكفرِ ¬

_ (¬1) الفرج بعد الشدة 2/ 158. (¬2) الفرج بعد الشدة 2/ 162 - 163.

ولكنَّني لمَّا أتيتُكَ زائرًا ... فأفرطتَ في بِرِّي عَجَزْتُ عن الشكرِ فمِلآنَ لا آتيكَ إلا معذّرًا ... أزوركَ في شهرين يومًا وفي شهرِ فإنْ زدتَ في بِرِّي تَزايدتُ جفوةٍ ... ولم تلقني حتَّى القيامةِ في حشري ثم كتبَ دعبل: حدَّثني المأمونُ، عن الرشيد، عن المهديّ، عن المنصور، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي، عن عبد الله بن عباس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لا يشكر اللهَ لا يشكر النَّاس (¬1)، ومن لا يشكرُ القليل لا يشكر الكثير". فوصله عبد الله بثلاث مئة ألف وانصرف (¬2). وقال معافى بن زكريا: أول ما قصد دعبل عبدَ الله أقامَ مدَّةً لم يجتمع به، وضاق ما بيده، فكتب إليه يقول: [من المنسرح] جئتكَ مستشفعًا بلا سبب ... إليكَ إلَّا بحرمةِ الأدبِ فاقضِ ذمامي فإنَّني رجلٌ ... غيرُ مُلِحٍّ عليك في الطلبِ (¬3) فبعثَ إليه بعشرة آلاف درهم، وكتب إليه: [من الكامل] أعجلتنا فأتاكَ عاجلُ برِّنا ... ولو انتظرتَ كثيرَه لم يقللِ فخُذ القليلَ وكن كأنَّك لم تسلْ ... ونكونُ نحن كأنَّنا لم نفعلِ ثم نادمه بعد ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف) والنجوم الزاهرة 2/ 198. وفي تاريخ بغداد وتاريخ دمشق: "ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله"، والخبر بهذا الإسناد ضعيف لضعف دعبل، لكن أخرج الترمذي هذه القطعة في سننه (1954) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) أخرج هذا الخبر البغدادي في تاريخه 11/ 166 - 167 لكن راوي الخبر عنده أحمد بن أبي دؤاد، وأخرجه من طريق الخطيب ابنُ عساكر في تاريخه 9/ 444 (مخطوط). وانظر النجوم الزاهرة 2/ 198. (¬3) ديوان دعبل ص 65. (¬4) أورد هذا الخبر الخطيب في تاريخ بغداد 9/ 362، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 9/ 445 (مخطوط) والخبر عندهما من رواية العباس بن أحمد بن مجاشع. وهو في الأغاني 20/ 184 عن أبي حفص النحوي مؤدب آل طاهر. وفي المصادر المذكورة أن دعبل اعترض عبد الله بن طاهر وقال له الأبيات. وذكره عن المعافى بن زكريا صاحب النجوم الزاهرة 2/ 198 - 199 بمثل ما ذكر المصنف.

وقال أبو مُحلِّم عوف بن محلِّم الشاعر: لما خرجَ عبد الله بن طاهر إلى خراسان من بغداد، خرجتُ معه، فكنت أعادله وأسامره، فلمَّا صرنا إلى الرَّيّ، مررنا سحرًا، فسمعنا صوتَ الأطيار، فقال عبد الله: لله درُّ أبي كبيرٍ الهُذَليّ حيث يقول: [من الطويل] ألا يا حمامَ الأيكِ إلفُكَ حاضرٌ ... وغُصنُكَ ميَّادٌ ففيمَ تنوحُ ثم قال: يا عوف، أجز، فقلت: [من الطويل] أفي كلِّ يومٍ غدوةٌ ونزوحُ ... أما للنوى من وَنْيةٍ فتريحُ لقد طَلَحَ البينُ المُشتُّ ركائبي ... فهل أرينَّ البينَ وهو طَلِيحُ (¬1) وذكَّرني بالرَّيِّ نوحُ حمامةٍ ... فنحتُ وذو الشجن الحزينِ ينوحُ على أنَّها ناحت ولم تُذْرِ دمعةً ... ونحتُ وأسرابُ الدموع سفوحُ وناحَتْ وفرخاها بحيثُ تراهما ... ومن دون أفراخي مَهامِهُ فيحُ عسى جُود عبد الله أن يعكسَ النَّوى ... فيلقي عصا التَّطوَافِ وهي طريحُ فإنَّ الغنى يُدني الفتى من صديقِه ... وبُعدُ الغنى للمُقْتِرينَ طَروحُ فلمَّا سمعَ عبدُ الله هذا قال: أنخ، فوالله لا جاوزتَ هذا المكان حتَّى ترجعَ إلى أفراخك، كم الأبيات؟ قلت: سبعة، فقال: يا غلام، أعطِه سبعينَ ألف درهم، وقيل: مئة ألف درهم، وقيل: مئة ألف، ومركبًا، وكسوة، فأخذتُها وودَّعتُه ورجعتُ (¬2). وقال الخطيب: دخل عوف بن محلِّم الشيباني (¬3) على عبد الله، فسلَّم، فردَّ عبدُ الله، وكان في أذن عوف ثقلٌ فلم يسمع، فأخبر فارتجل في الحال: [من السريع] يا ابن الَّذي دانت له المشرقان ... طرًّا وقد دانتْ له المغربانْ إنَّ الثمانين وبُلِّغتَها ... قد أحوجتْ سمعي إلى تَرجُمانْ وبدَّلتني بالشَّطاط الحَنَى ... وكنتُ كالصَّعدة تحت السِّنانْ ولم تدع فيَّ لمستمتعٍ ... إلَّا لسانًا وبحسبي لسانْ (¬4) ¬

_ (¬1) طلح أي: أتعب. القاموس (طلح). (¬2) تاريخ بغداد 11/ 165 - 166، تاريخ دمشق 9/ 447 (مخطوط) والرواية هنا جمع فيها بين أكثر من خبر. (¬3) في تاريخ دمشق: الخزاعي. وانظر معجم الأدباء 16/ 139. (¬4) تاريخ دمشق 9/ 446 (مخطوط) من طريق الخطيب البغدادي.

وقال أحمد بن يزيد السلمي: كان عبد الله بن طاهر بالرقَّة، فبعثَ إليه عبد الصَّمد بن الصمت بن مروان بن أبي حفصة بأبياتٍ، فأرسَلَ إليه ابنُ طاهر بعشرينَ ألف درهم، فقال: [من الطويل] لعمري لنعمَ الغيثُ غيثٌ أصابنَا ... ببغدادَ من أرضِ الجزيرةِ وابلُهْ ونعمَ الفتى والبيدُ دونَ مزارِه ... بعشرينَ ألفًا صبَّحتنَا رسائلُهْ وكنَّا كحيٍّ صَبَّحَ الغيثُ أهلَهُ ... ولم ينتجع أظعانهُ وحمائلُهْ أتى جودُ عبدِ الله حتَّى كَفَتْ به ... رواحلَنا سير الفلاة رواحلُه وأحسن من هذا قول القائل: [من الطويل] جَزَى الله خيرًا والجزاءُ بكفِّه ... بني السمطِ إخوانَ السماحةِ والحمدِ أتاني وأهلي بالعراق حباؤهم ... كما انقضَّ غيثٌ في تهامةَ من نجدِ (¬1) ولما وصلَ ابنُ طاهر إلى مرو جلس في قصر الإمارة، فدخل عليه أبو يزيد الشاعر فقال: [من البسيط] اشربْ هنيئًا عليك التاجُ مُرتفِقًا ... في قصر مروٍ ودَعْ غُمدَان لليمنِ فأنت أولى بتاجِ الملكِ تلبسُه ... من هَوْذة بن عليٍّ وابن ذي يَزَنِ (¬2) فأعطاه عشرين ألفًا. ويقال: إنَّه أنشده: [من الطويل] يقول رجالٌ إنَّ مروَ بعيدةٌ ... وما بَعدَتْ مروٌ وفيها ابنُ طاهرِ (¬3) ومما يُنسَبُ إلى ابن طاهر من الشعر أنَّه كتب إلى المعتصم وهو يريد عَمُّوريَّة هذه الأبيات: [من البسيط] إنَّ التي أمطرت بالبَذِّ صوت ردى (¬4) ... باتت تألَّقُ بالقاطولِ للرومِ إنَّ الفتوحَ على قدرِ الملوك وهِمـ ... ـمات الولاة وإقدام المقاديمِ (¬5) ¬

_ (¬1) انظر تاريخ دمشق 9/ 449 - 450 (مخطوط). (¬2) الكامل للمبرد 2/ 537، والعقد الفريد 1/ 322، والأغاني 17/ 317. (¬3) تاريخ دمشق 9/ 451 (مخطوط). (¬4) في (خ) و (ف): إن التي أمطرت بالبيد صوت ندى. (¬5) تاريخ دمشق 9/ 441 (مخطوط).

وممَّا يُنسبُ إليه قولُهُ: [من الطويل] يبيتُ ضجيعي السيفُ طورًا وتارةً ... يعضُّ بهاماتِ الرجالِ مضاربُهْ أخو ثقةٍ أرضاه في الروعِ صاحبًا ... وفوقَ رضاه أنَّني أنا صاحبُهْ وليسَ أخو العلياء إلَّا فتًى له ... بها كَلَفٌ ما تستقرُّ ركائبُه إذا ما دعا داعي السلاحِ وجدتني ... منيعًا به كالحتف يخرم جانبه (¬1) وقال: [من الخفيف] ليس في كلِّ ساعةٍ وأوان ... تتهيَّا صنائعُ الإحسانِ فإذا أمْكَنَتْ فبادرْ إليها ... حذرًا من تعذُّرِ الإمكانِ (¬2) قال ابن عساكر: وقال أيضًا (¬3): [من البسيط] نبَّهتُه وظلامُ الليل منسدِلٌ ... بين الرياض دفينًا في الرياحينِ فقلت خُذ قال كفِّي لا يطاوعني ... فقلتُ قم قال رِجلي لا تواتيني إنِّي غَفَلْتُ عن الساقي فصيَّرني ... كما تراني سليبَ العقلِ والدين (¬4) وقال (¬5): [من الطويل] إذا كنتم للناس أهل سياسةٍ ... فسوسوا كرامَ الناس بالبرِّ والفضلِ وسُوسوا لئامَ الناسِ بالذُّلِّ (¬6) يصلُحوا ... على الذلِّ إنَّ الذلَّ يَصْلُحُ للنذلِ وقال (¬7): [من الطويل] إلى كم يكونُ العتب في كلِّ ساعةٍ ... وكم لا تملِّين القطيعةَ والهَجْرَا رويدكِ إنَّ الدهرَ فيه كفايةٌ ... لتفريقِ ذاتِ البين فانتظري الدهرَا (¬8) ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ دمشق 9/ 442 (مخطوط) -والأبيات فيه-: يحرم خائنه. (¬2) تاريخ دمشق 9/ 452 (مخطوط). (¬3) في (ب): وحكى الحافظ ابن عساكر عن أبي عبد الرَّحمن السلمي قال: ومن شعره. (¬4) في (خ) و (ف): لا الدين. والمثبت من (ب)، وتاريخ دمشق 9/ 452 (مخطوط). (¬5) في (ب) وقال الحافظ ابن عساكر: ومن شعره. (¬6) في تاريخ دمشق 9/ 452: بالنبل. (¬7) في (ب): قال: ومن شعره أيضًا. (¬8) تاريخ دمشق 9/ 451 (مخطوط).

وكتب (¬1) إلى ابنِ الزيَّات يقول: [من المنسرح] أَحُلْتَ عمَّا عهدتُ من أدبكْ ... أم نِلْتَ ملكًا فتهتَ في كُتبكْ أم قد ترى أنَّ في ملاطفة الـ ... إخوانِ نقصًا عليك في أدبِكْ وإن جفاني كتابُ ذي مِقَةٍ ... يكون في صدره وأمتَعَ بكْ أتعبت كفَّيك في مكاتبتي ... حسبُك ما لقيتَ في تعبك فكتب إليه ابنُ الزيَّات: [من المنسرح] كيفَ أَخونُ الإخاءَ يا أملي ... وكلُّ شيءٍ أنالُ من سببكْ إن يك جهلٌ أتاكَ من قبلي ... فعُدْ بفضلٍ عليَّ من حَسبكْ أنكرتَ شيئًا ولستُ فاعلَه ... وإن تَراه يُخَطُّ في كُتبكْ فاعفُ فدتكَ النفوسُ عن رجلٍ ... يعيشُ حتَّى المماتِ في أدبكْ (¬2) ذكر وفاته [اختلفوا فيها على قولين؛ أحدُهما في سنة تسعٍ وعشرين ومئتين، والثاني في سنة ثلاثين ومئتين] (¬3) لإحدى عشرة ليلة خلَت من ربيع الأول (¬4). [واختلفوا في أيِّ مكان توفي، فقال أبو حسان الزيادي: ] مات بمرو، [وقال ابن خزيمة والطبريُّ والحاكم والخطيب والمَرْزُبانيُّ: مات: ] (¬5) بنيسابور بمرض الحلق، ودُفن بها (¬6). وقال محمد بن منصور البغدادي: دخلت عليه في مرض وفاته، فقلت: السلامُ عليك أيُّها الأمير، فقال: لا تقل كذا، ولكن قل: أيُّها الأسير (¬7). ¬

_ (¬1) من هنا إلى ذكر وفاته ليس في (ب). (¬2) العقد الفريد 4/ 182. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): توفي. (¬4) بعدها في (خ) و (ف): هذه السنة، وقيل في سنة تسع وعشرين. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬6) تاريخ الطبري 9/ 131، وتاريخ بغداد 9/ 168. (¬7) تاريخ دمشق 9/ 453 (مخطوط).

وكان قد تابَ قبل موته، وكسرَ الملاهي، وعمَّر الرُّبُط بخراسان، ووقفَ الأوقافَ، وتصدَّقَ بالأموال الجليلة، وبعث إلى الحرمين بمالٍ عظيم واستفكَّ أُسارى بألفي ألف درهم. ومرضَ ثلاثة أيام، وزعمَ قومٌ أنَّه مات بالشام، وهو وهمٌ، فإنَّ الرِّواياتِ مجمعةٌ على أنَّه ماتَ بنيسابور ليلةَ الجمعة بعد أشناس بسبعةِ أيَّام، وعمرهُ سبع أو ثمان وأربعون سنة، وكان خراجُ المواضع التي تحت يده يومَ مات ثمانيةٌ وأربعونَ ألفَ ألف درهم، وكان ينفقُ أضعافَ هذه على أبواب البرِّ والعلماءِ والقُصَّاد والشعراء. وكان ولده محمد من الأجواد، توفي ببغداد (¬1) سنةَ سبعٍ وعشرينَ ومئتين، وصلَّى عليه المعتصم [في دار محمد] (¬2). وكان خليفة عبد الله ببغداد وسُرَّ من رأى وكور دجلة إسحاقُ بن إبراهيم المصعبي. ورثاهُ جماعةٌ منهمُ الحسنُ بن وهب، ومحمد بن عبد الملك الزيات، وهو القائل: [من الكامل] هيهاتَ أن يأتي الزمان بمثله ... إنَّ الزمانَ بمثله لبخيلُ (¬3) أسند عبدُ الله عن أخيه وأبيه (¬4)، وجعفر بن يحيى بن خالد، والمأمون، ووكيع بن الجرَّاح، وغيرهم، وروى عنه يحيى بن خلَّاد (¬5)، وإسحاق بن إبراهيم الحنظليّ، ونصر بن زياد القاضي في آخرين. وفي الرواة جماعةٌ منهم ¬

_ (¬1) في (ب): وكان له ولدٌ ببغداد، اسمه محمد بن عبد الله بن طاهر توفي ببغداد .... (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وبعدها فيها: وكان من الأجواد. انتهت ترجمة عبد الله بن طاهر، والحمد لله رب العالمين، السنة الحادية والثلاثون بعد المئتين. (¬3) في تاريخ دمشق 9/ 445 (مخطوط) أن الَّذي قال هذا البيت لما بلغه موت عبد الله هو محمد بن عبد الله بن منصور. والبيت لأبي تمام. انظر ديوانه 4/ 102. (¬4) في تاريخ دمشق 9/ 441: وحدَّث عن ابنه. (¬5) في (خ) و (ف): حماد. والمثبت من تاريخ دمشق.

عبد الله بن طاهر بن يحيى العلوي

عبد الله بن طاهر بن يحيى العلوي قال التنوخي: كان يحجُّ في كل عامٍ رجلٌ خراسانيٌّ، فيدفع إليه مئتي دينار، فجاءه رجلٌ من أعداء ابنِ طاهر في بعض السنين، وقال: أنت تعطيه مالك، وهو ينفقُه فيما لا يرضي الله، فتصدَّقَ الخراسانيُّ بالدنانير، وجعل في العام الثاني والثالث كذلك، فرأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم يقول له: ويحكَ، سمعتَ في ابني عبد الله بن طاهر كلامَ عدوِّه، اذهب فأوصل إليه ما قطعتَه عنه، قال الخراسانيُّ: فانتبهتُ فزعًا، وأخذت ستّ مئة دينار، وأتيت ابنَ طاهر، وهو بمسجد المدينة في حلقة، فسلَّمتُ عليه، فقال: رأيتَ جدِّي في المنام، وعاتَبك، هات الست مئة دينار التي أمرك بحملها عوضًا عما فاتني، وأدخل يده في كمِّي، فأخذها، وقال: رأيتُ جدي في المنام وهو يقول لي: قد عتبت على الخراساني، وهو يأتيك الآن، وفي كمِّه الدنانير، فخذها (¬1). ومنهم عبدُ الله بن طاهر ابن محمد بن كاكو الواعظ، ولد بصور، أنشدَ عن أبي إسحاق الشيرازيّ: عزيزٌ على مهجتي غرَّني ... وسلَّم لي الوصلَ واستسلَما (¬2) فلمَّا تملَّكني واحتوى ... على مهجتي سلَّ ما سلَّما ولمَّا مات ابنُ طاهر بن الحسين نظرَ الواثقُ من يولِّي مكانَه بخراسان، فقال له ابن أبي دؤاد: ولِّ طاهرًا ابنه، واربح إنفاق الأموال وإنفاذَ الجيوش، ويتحدَّثُ الناسُ بوفائِكَ، فولَّاه (¬3). عليّ بن الجعد بن عبيد أبو الحسن الجوهريُّ، مولى أم سلمة امرأة السفاح، وقيل: مولى بني هاشم (¬4). ¬

_ (¬1) الفرج بعد الشدة 2/ 279 - 281، والقصة فيه عن طاهر بن يحيى العلوي! ؟ . (¬2) في تاريخ دمشق 9/ 445 (مخطوط) -وفيه ترجمته-: وألبسني الهجر إذ سلما. (¬3) المنتظم 11/ 151. (¬4) انظر طبقات ابن سعد 9/ 340.

ولد سنة أربع وثلاثين ومئة، وقال إبراهيم بن محمد بن عرفة: كان عليُّ بن الجعد أكبرَ من بغداد (¬1) بعشر سنين. ولمَّا أَحضرَ المأمونُ أصحابَ الجوهر ناظرهم (¬2) على متاعٍ كان معهم، ثمَّ نهضَ المأمونُ لحاجته وعاد، فقامَ له كلُّ من في المجلس إلَّا ابن الجعد، فنظر إليه المأمون كهيئة المُغْضب، ثم استخلاه وقال له: يا شيخ، ما منعكَ أنْ تقومَ لي كما قام أصحابُك؟ قال: أجللتُ أميرَ المؤمنين للحديث الَّذي نأثره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال وما هو؟ قال عليّ: سمعت المباركَ بن فَضَالة يقول: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحبَّ أن يتمثَّل له الناسُ قيامًا فليتبوَّأ مقعدَه من النار". فأطرقَ المأمونُ ساعةً وقال: لا يُشترى لنا إلَّا من هذا الشيخ، فاشترى منه بقيمة ثلاثين ألف دينار (¬3). وقال الخطيب: كان عليٌّ يصومُ يومًا ويفطر يومًا، أقام على ذلك سبعين سنة. وتوفي في رمضان، وقيل: في رجب، ودفن بباب حرب، وله ستٌّ وتسعونَ سنة. سمع سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وشعبة، وغيرهم. وكتب عنه الإمامُ أحمد، وابنُ معين، والبخاريُّ، ومسلم (¬4)، وغيرهم، واختلفوا فيه فقال ابن معين: هو ثقةٌ صدوقٌ، وروي عن الإمام أحمد رحمة الله عليه أنَّه نَهى أنْ يُسمَع عنه؛ لأنَّه بلغه عنه أنَّه يتناولُ بعضَ أصحابه، ويقول: من قال: إنَّ القرآنَ مخلوق، لم أعنفه. وقال الخطيب: ذُكر عنده قولُ عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: كنَّا نُفاضلُ بين الصحابة، ونقول: خيرُ هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر وعمر وعثمان، ويبلغُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا ينكره، قال ابن الجعد: انظروا إلى هذا الصبي الَّذي لا يحسنُ أن يطلِّق امرأتَه، كيف يقول: كنَّا نفاضل. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): أكبر من في بغداد. وهو خطأ. والتصويب من تاريخ بغداد 13/ 282. (¬2) في (خ) و (ف): شاطرهم. والتصويب من تاريخ بغداد 13/ 282، وتهذيب الكمال 20/ 350. (¬3) تاريخ بغداد 13/ 282، والحديث مرسل. لكن أخرجه الإمام أحمد (16830)، (16845)، وأبو داود (5229)، والترمذي (2755) من حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وإسناده صحيح. (¬4) لم يذكروا لمسلم روايةً عنه. انظر تاريخ بغداد 13/ 281، وتهذيب الكمال 20/ 340.

محمد بن سعد

وقد اعتذر عنه إبراهيم الحربيُّ قال: إنَّما حَكى قولَ عمر بن الخطاب عن ابنه عبد الله، وإلَّا فالرجلُ لا يُشَكُّ في فضلِه وثقته وصدقه. محمد بن سعد ابن مَنيع بن عبد الله (¬1)، أبو عبد الله، مولى بني هاشم، كاتب الواقديّ، صاحبُ الطبقات والمغازي والسير وأيام الناس. وقيل: هو مولى الحسين بن عبد الله [بن عبيد الله] (¬2) بن العباس بن عبد المطلب. كان إمامًا عالمًا فاضلًا، حسن التصانيف، من أهل الفضل، صنَّفَ كتابًا كبيرًا في طبقات الصحابة والتابعين والعلماء إلى وقته، فأجادَ فيه وأحسن. وقال إبراهيم الحربيّ: كان أحمد بن حنبل يوجِّه في كل جمعة بحنبل بن إسحاق إلى محمد بن سعد، يأخذُ منه جزأين من حديث الواقدي، ينظرُ فيها إلى الجمعة الأخرى، ثم يردهما ويأخذ غيرهما. توفي محمدُ بن سعد ببغداد يوم الأحدى لأربعٍ خلونَ من جمادى الآخرة، وهو ابنُ اثنتين وسبعين (¬3) سنة، ودفن بمقبرة باب الشام. أسند عن سفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، ووكيع بن الجراح، وخلقٍ من الأئمة، وروى عنه جمٌّ غفير. واتَّفقوا على صدقه وثقته وفضله، إلا ابن معين لأنَّه تكلَّم فيه، والله تعالى أعلم (¬4). محمد بن يَزدَاد بن سُويد المروزيّ أحدُ كتَّاب المأمون ووزرائه، كان فاضلًا أديبًا، توفي بسُرَّ من رأى في ربيع الأول. ¬

_ (¬1) قوله: بن عبد الله. لم أقف عليه في مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من طبقات ابن سعد 9/ 368. (¬3) كذا في (خ) و (ف). وفي طبقات ابن سعد 9/ 368، وتاريخ بغداد 3/ 268 وغيرها: وهو ابن اثنتين وستين. (¬4) انظر ترجمته -إضافة إلى المصادر السابقة- في المنتظم 11/ 161 - 162، وتهذيب الكمال 25/ 255 - 258، وسير أعلام النبلاء 10/ 664.

قال: دخلتُ على المأمون وبيده قرطاس، فقال لي: يا محمد، هل تعلم ما في هذا القرطاس؟ قلت: كيف أعلمُه وهو في يد أمير المؤمنين؟ ! فقال: خذه، فأخذته، فماذا فيه: [من السريع] إنَّك في دارٍ لها مدَّةٌ ... يُقْبَلُ فيها عملُ العاملِ أما تَرى الموتَ محيطًا بها ... يَقْطَعُ فيها أملَ الآملِ تعجَّلُ الذنب لِما تشتهي ... وتأملُ التوبةَ في قابلِ والموتُ يأتي بعد ذا بغتةً ... ماذا بفعل الحازم العاقلِ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 65/ 252 - 253 (طبعة مجمع اللغة). ومن قوله ص 406: وكان خليفة عبد الله ببغداد وسرَّ من رأى ... إلى هنا ليس في (ب).

السنة الحادية والثلاثون بعد المئتين

السنة الحادية والثلاثون بعد المئتين فيها كانت وقعةُ أهل المدينة مع بني سليم (¬1)، وقد ذكرنا أنَّ بُغا التركيّ لمَّا ظهر على بني سُلَيم حملهم إلى المدينة، وحبسَهم في دار يزيد بن معاوية، وكانوا نحو ألف رجل، وقيل: ألف وست مئة، أو ثلاث مئة، فأقاموا مقيَّدين، موكَّلٌ بهم حفظة، فنقبوا الدارَ ليخرجوا منها، فرأتهم امرأةٌ، فصاحت، فجاءَ أهلُ المدينة، فوجدوهم قد وثَبوا على الموكَّلِين، فقتلوا منهم رجلًا أو رجلين، وأخذوا سلاحهم، واجتمعَ عليهم أهل المدينة -وكان عليها يومئذٍ عبد الله بن أحمد بن داود الهاشمي- وكانوا وَثبوا عشيَّة الجمعة، فباتُوا محصورين، فلمَّا كان يوم السبت باكروا للقتال، وكان عُزيزة بن قطَّاب يحمل ويقول: [من الرجز] لا بدَّ من زحمٍ وإنْ ضاقَ البابْ ... إنِّي أنا عُزيزة بن قطَّابْ الموتُ خيرٌ للفتى من العابْ (¬2) وكان قد فكَّ قيدَه من رجله، فقتل، وقُتِل بنو سليم بأسرهم، وقَتَلَ السودانُ من لقوا من الأعراب بأزقَّة المدينة ممَّن جاء يمتار ويزور. وكان بغا لمَّا حجَّ في السنة الماضية خرجَ فأم بذي عرق، وأخذَ جماعةً من بني هلال من المفسدين، ورجع إلى مكَّة فاعتمرَ أول المحرم، ثمَّ انصرفَ إلى المدينة، فلمَّا قدمَها ووجدَ أهلَها قد قتلوا بني سليم شَقَّ عليه ووجد وجدًا عظيمًا، وكان البوَّابُ قد أخذَ منهم ألفَ دينار ليفتحَ لهم الباب، فعجَّلوا قبل ميعاده، وكانوا يرتجزون: الموتُ خيرٌ للفتى من العار ... قد أخذَ البوَّابُ ألفَ دينار وقيل: إنَّ عزيزةَ لم يقتلْ في المعركة، وإنما اختبأ في بئر، فدخلَ عليه رجلٌ من أهل المدينة فقتلَه فيها (¬3). ¬

_ (¬1) لم يذكر في (ب) تفصيل الخبر، وذكر بعدها: وفيها قتل الواثق أحمد بن نصر الخزاعي، وسنذكره في موضعه. (¬2) في (خ) و (ف): العذاب. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 133، والعيب والعاب بمعنى. وبعدها في تاريخ الطبري: هذا وربي عملٌ للبوَّاب. (¬3) من قوله: وقد ذكرنا أن بغا التركي ... إلى هنا ليس في (ب).

وفيها عزم الواثق على الحجِّ، وبعث عمر بن فرج الرُّخَّجيّ لإصلاح المناهل، فرجع وأخبرَه أنَّ الطريق قليلُ الماء، فتركه (¬1). وفيها ولَّى الواثقُ جعفَر بن دينار اليمن، فخرجَ إليها في شعبان في أربعة آلاف فارس، وقيل: في ستة آلاف فارس (¬2). وفيها ولَّى الواثق إسحاقَ بن إبراهيم بن أبي حفصة (¬3) مولى بني قُشَير على اليمامة والبحرين وطريق مكة ممَّا يلي البصرة، وعقدَ له محمدُ بن عبد الملك الزيَّات في دارِ الخلافة، ولم يعقدْ لأحدٍ سواه فيها (¬4). وفيها رَأى الواثقُ في المنام بأنَّه قد فُتِحَ سدُّ يأجوج ومأجوج، فانتبهَ فزِعًا، وبعثَ إلى السدِّ سلام الترجمان [وقد ذكرنا القصة في صدر الكتاب في قصة ذي القرنين.] (¬5) وفيها فَادَى (¬6) الواثقُ أسارى المسلمين على يدِ خاقان خادم الرشيد، وكانوا أربعةَ آلاف وثلاثة (¬7) وستين مسلمًا، فكان الفداءُ على نهر في بلاد الروم يقال له: اللامس، قريب من سَلُوقِيَة، وسَلُوقِيَة من طَرَسُوس على يومين، فاجتمَع الروم والمسلمون عليه يوم عاشوراء، فقال أحمد بن أبي دؤاد: امتحنوا الأسارى، فمن قال: إنَّ القرآن مخلوق، فخلِّصوه وأعطوه دينارين، ومن أبى دعوه بحاله في الأسر، فأجابَ معظمُ القوم للقول بخلق القرآن خوفًا من إعادتهم إلى الأسر، ورجع البعض، وكان ابنُ أبي دؤاد قد بعث من أصحابه يحيى بن آدم الكَرْخيّ وجعفر بن الحذاء (¬8)، وأمرَهما ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 140، والكامل 7/ 23، والمنتظم 11/ 163: فبدا له. (¬2) في تاريخ الطبري 9/ 140، والكامل 7/ 23 أنَّه كان معه أربعة آلاف فارس وألفي راجل. (¬3) كذا في (خ) و (ف) والنجوم الزاهرة 2/ 258. وفي تاريخ الطبري 9/ 140، والمنتظم 11/ 164: بن أبي خميصة. وهو الصواب. (¬4) من قوله: وفيها ولى الواثق جعفر ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). ووقع فيها بعدها: وفيها حج بالناس سليمان (كذا) بن داود. السنة الثانية والثلاثون بعد المئتين. (¬6) في (خ) و (ف): قاد. (¬7) كذا في (خ) و (ف)، ولعلها: وثلاث مئة. انظر تاريخ الطبري 9/ 132، وفيه: أربعة آلاف وثلاث مئة واثنتين وستين. (¬8) في (خ) و (ف): يحيى بن آدم الكردي ورجع بن الحداد. والتصويب من تاريخ الطبري 9/ 142.

أحمد بن نصر

بامتحان الأسارى، وكان ملكُ الروم ميخائيل بن توفيل بن ميخائيل بن اليون بن جرجس، وهو الَّذي بعثَ يطلبُ الفداء من الواثق، وعقد الواثق لأحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهليّ على الثغور والعواصم، وأمره أن يَحضُرَ الفداء، فحضره، وقالت الروم: لا نأخذُ امرأةً ولا شيخًا ولا صبيًّا، ثمَّ رضوا بعد ذلك بفداء نفسٍ بنفس، ولم يقع فداء بين المسلمين والروم من (¬1) زمن محمد الأمين في سنة أربعٍ وتسعين ومئة إلَّا هذا. وحجَّ بالناس محمد بن داود. وفيها توفي أحمدُ بن نصر ابن مالك بن الهيثم بن عَوف بن وَهْب بن عَمِيرة، أبو عبد الله الخُزاعي، من ولد عمرو بن لحيّ أول من بحرَ البحيرة، وسيَّب السائبة. ومالك بن الهيثم أحد نُقباء بني العباس في ابتداء دولتهم، وسُوَيقةُ نصرٍ ببغداد تنسب إلى نصر بن مالك. وكان أحمد من كبار العلماء والزهَّاد، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، قوَّالًا بالحقِّ، قتله الواثق في هذه السنة، واختلفوا في سبب قتله، قال الصوليّ: كان أحمد بن نصر وسَهْل بن سلامة حين كان المأمونُ بخراسان بايعا النَّاسَ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن دخلَ المأمونُ بغداد، فترفَّقَ بسهل حتَّى لبس السواد وأخذ الأرزاق، ولزم أحمد بيتَه، ثمَّ اجتمع إليه في آخرِ أيَّام الواثق خلقٌ كثيرٌ يأمرون بالمعروف إلى أن ملكوا بغداد، وتعدَّى رجلانِ من أصحابه يقال لأحدهما: طالب في الجانب الغربي، والآخر أبو هارون في الجانب الشرقي، وكانا موسرين، فبذَلا الأموال، وعزمَا على الوثوب ببغداد في شعبان من هذه السنة، فنمَّ عليهما قوم إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فأَخذَ أحمد بن نصر وأصحابه طالبًا وأبا هارون، ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): في. وهو خطأ. انظر تاريخ الطبري 9/ 142.

فقيدهم (¬1)، ووجد في [منزل أحدهما (¬2)] أعلامًا، وضَربَ خادمًا لأحمد بن نصر، [فأقرَّ أنَّ] (¬3) الرجلين كانا يأتيان أحمد بن نصر في منزله ليلًا فيعرِّفانه ما فعلا، وكان يصوِّبُ ذلك، فبعثَ بهم إلى الواثق مقيَّدين إلى سُرَّ من رأى فحبسَهم. وقال الطبريُّ: كان أحمدُ بن نصر يغشاه أصحابُ الحديث، كيحيى بن معين وأصحابه، وأبي خيثمة وغيرهما، وكان يظهرُ المباينةَ لمن يقول بخلق القرآن، مع منزلةِ أبيه في دولة بني العباس، ولما شاع عن الواثق القولُ بخلق القرآن كان أحمد يقول عن الواثق: قال هذا الخنزير، وفعل الخنزير، وقال الكافر، ونحو ذلك، وكان يغشاهُ رجلٌ يعرف بأبي هارون السرَّاج، وآخر يقال له: طالب، وآخر من أهل خراسان، واجتمع أصحاب الحديث وغيرهم إليه، وحملوه على إظهارِ الإنكار بخلق القرآن، وتواعدوا على الوثوب ببغداد، طالبٌ في الجانب الغربي وأبو هارون في الجانب الشرقيّ، وفرَّقوا الأموال في الناس، وتواعدوا على الخروج ليلة الخميس لثلاث خلون من شعبان، فلمَّ كان عشية الثلاثاء، جلس جماعةٌ يشربونَ الخمر فثملوا، وظنُّوها ليلة الخميس، فضربوا الطبل، فلم يجبهُم أحد، وكان إسحاق بن إبراهيم غائبًا عن بغداد، وخليقتُه بها أخوه محمد بن إبراهيم، فبعثَ إليهم من سألهم عن القصَّة، فأكثروا، فنمَّ عليهم رجل يقال له: عيسى الأعور، فأخذَهم محمد وقيَّدهم بقيودٍ ثقال، وبعثَ بهم إلى الواثق، وكانوا ستةً (¬4)، أحمدُ بن نصر، وأبو هارون، وطالب، والخراساني، وخصيين، فحُمِلوا إلى سامرَّاء على بغال بغير أُكُف، وكان خروجُهم من بغداد يوم الخميس لليلةٍ بقيت من شعبان هذه السنة. ذكر مقتله: قال الصولي: جلس لهم الواثق، وقال لأحمد: دعْ عنك ما أحدثت من الخروج ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 6/ 401: فقيدهما. وهو الصواب، يريد أنَّه قيد طالبًا وأبا هارون. (¬2) في (خ): مزلهما. وفي (ف) بياضٌ يتسع لكلمتين. والمثبت بين حاصرتين من تاريخ بغداد 6/ 401. (¬3) في (خ) و (ف): بياض والمثبت من تاريخ بغداد. (¬4) الستة كما في تاريخ الطبري 9/ 137 هم: أحمد بن نصر، وخصيين وابنين له ورجل ممن كان يغشاه يقال له: إسماعيل بن معاوية بن بكر الباهلي.

على السلطان، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله غير مخلوق، قال: أفترَى ربَّك يوم القيامة؟ قال: نعم، كذا وردت الأخبارُ ونطق القرآن، فقال: ويحك يرى كما يُرى الجسمُ المحدود، ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ ! أنا أكفرُ بربٍّ هذه صفته، ثم قال للحاضرين: ما تقولون فيه؟ قال عبد الرَّحمن بن إسحاق -وكان قاضيًا على الجانب الغربي من بغداد ثم عزل-: [هو حلالُ الدَّم] (¬1)، ووافقه جماعةُ الفقهاء، فأظهر أحمد بن أبي دؤاد الكراهيةَ لقتله، وقال: شيخٌ كبيرٌ مختلٌّ، لعلَّ به عاهة، ويؤخَّر أمره ويستتاب. فقال الواثق: ما أُراه إلا مؤذنًا بالكفر، قائمًا بما يعتقده منه، ودعا بالصَّمصامة، وقال: إذا قمت إليه لا يقومنَّ أحد معي، فإنِّي أحتسبُ خطايَ إلى هذا الكافر، ثم أمرَ بالنِّطع، فجلسَ عليه وهو مقيَّد، وأمرهم بشدِّ رأسِه بحبل، وأمرَهم أن يشدوه (¬2)، ومشى إليه فضربَ عنقَه، وأمر بحمل رأسِه إلى بغداد، فنُصِب في الجانب الشرقيِّ أيَّامًا وفي الجانبِ الغربيِّ أيَّامًا، ثم تتبَّع أصحابَه فحبسوا. وقال الطبريُّ: لما حُمِل أحمد وأصحابه إلى سُرَّ من رأى، جلسَ لهم الواثقُ جلوسًا عامًّا، فلما دَخلوا عليه قال له: يا أحمد، ما تقولُ في القرآن؟ قال: كلام الله، قال: أفترى ربَّك يومَ القيامة؟ قال: نعم كذا جاءت الآثارُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إنَّكم لترونَ ربَّكم يوم القيامة" (¬3) الحديث، وذكر له أحاديث، فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويلك، انظر ما تقول، قال: أنت أمرتني بهذا، فخاف إسحاق وقال: أنا أمرتك، قال: نعم، أمرتَني أن أنصحَ لأمير المؤمنين، ومن نصحي له ألا يخالفَ حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الواثق: ما تقولونَ فيه؟ فقال عبد الرَّحمن بن إسحاق: هو حلالُ الدم، وقال الأرمنيُّ صاحب ابن أبي دؤاد: اسقني دمه، فقال ابن أبي دؤاد: يحبسُ ويستتاب، وأحمد قد استقتل (¬4) وتنوَّر، فدعَا الواثق بالصَّمصامة التي كانت لعمرو بن معد يكرب، وقام ومشى إليه، وضرب على رأسه، ثم ثنى على حبل العاتق، وانتضى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 6/ 401. (¬2) في تاريخ بغداد 6/ 401 - والخبر فيه من طريق الصولي-: يمدوه. (¬3) أخرجه بهذا اللفظ اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (824) من حديث أبي هريرة، وأخرجه البخاري (554)، ومسلم (633) وغيرهم من حديث جرير بنحوه. (¬4) في (خ) و (ف): استقبل. انظر تاريخ الطبري 9/ 137.

سيما الدمشقيُّ سيفَه، فضربَ عنقه. وقيل: إنَّ بغا الشرابي ضربَه ضربةً أخرى، وحمل إلى حظيرة بابك، فصلب (¬1) بها، وقيداه في رجليه، ثم بُعِثَ رأسُه إلى بغداد، فنُصب، وفي أذنه ورقةٌ بخطِّ محمد بن عبد الملك الزيات مضمونها: هذا رأسُ المشرك الضالِّ أحمد بن نصر، قتله الله على يدي هارون الإمام الواثقِ بالله، أمير المؤمنين، بعدَ أن أقام الحجَّة عليه في خلقِ القرآن و [نفي] (¬2) التشبيه، وعرض عليه التوبة، فأبى إلَّا المعاندةَ والتصريح بالكفر، والحمدُ لله الَّذي عجَّله إلى ناره وأليم عقابه، وإنَّما قتله أمير المؤمنين لما أصرَّ على كفره. وقال إسماعيل بن خلف: لمَّا قال الواثق لأحمد بن نصر: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله تعالى، قال: كذبت، قال: لا، بل كذبت أنت، فعلقت بعنقه، فقال: جُرُّوه، فجرُّوه، فقطَعوا رأسَه. والمشهورُ أنَّ الواثق قتله بيده، وساعده سيما الدمشقيّ، وهرثمة، وصلبَه إلى جانب بابك، وبعثَ برأسه إلى بغداد، فنصبَه، فأقام ستَّ سنين، ثم حُطَّ، وجمعوا بين رأسه وجسده، ودفن بالجانب الشرقي من بغداد في المقبرة المعروفة بالمالكية، يوم الثلاثاء لثلاثٍ خلونَ من شوال سنة سبع وثلاثين ومئتين (¬3). وقال إبراهيم بن إسماعيل بن خلف: كان أحمد بن نصر خِلِّي، فلمَّا قتل في المحنة وصُلِبَ رأسُه أخبرتُ أنَّ الرأسَ يقرأُ القرآن، فمضيتُ فبتُّ بقرب الرأس، وعنده رجَّالةٌ وحرسٌ يحفظونَه، فلمَّا هدأتِ العيون سمعت الرأس تقرأ: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 1 - 2]، فاقشعرَّ جلدي، ثم رأيتُه بعد ذلك في المنام وعليه السندسُ الأخضر والإستبرق، وعلى رأسه تاج، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وأدخلني الجنَّة، إلَّا أنِّي كُنْتُ مغمومًا منذ ثلاثة أيام، قلت: ولم؟ قال: مرَّ بي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا وصلَ إلى خشبتي حوَّل وجهَه عنِّي، فقلت: يا رسولَ الله. قُتِلْتُ على حقٍّ أم على باطل؟ قال: على الحق، قلت: فلم حَوَّلتَ وجهَك عنِّي؟ قال: قتلكَ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): حصيرة بابك، فطلب ... وهو تحريف. وانظر تاريخ الطبري 9/ 138. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 139. (¬3) تاريخ بغداد 6/ 405.

رجلٌ من أهل بيتي، فلمَّا بلغتُ إليك استحييتُ منك (¬1). وقال أبو بكر المطوعيّ: لما جيء برأس أحمدَ بن نصر إلى بغداد صَلبوه على الجسر، فكانت الريحُ تديره قِبَلَ القبلة، فأقعدوا رجلًا معه رمحٌ يردُّه به إلى غير القبلة (¬2). وكان قتله يوم السبت غُرَّة رمضان، وله ثمانون سنة، وقيل: نيف وسبعون سنة. وقال الخطيب: رُؤي في المنام، فقيل له: ما فَعلَ الله بك؟ فقال: ما كانت إلا غفوةٌ حتَّى لقيتُ الله ينظرُ إليَّ (¬3). وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: رحمَ اللهُ أحمدَ بن نصر، ما كان أسخاه، لقد جادَ بنفسه. وقال ابنُ معين: نَادى الواثقُ بعد مقتل أحمد بن نصر: من قال بأنَّ القرآنَ مخلوقٌ، وأنَّ الله لا يرى، فله ديناران. وقال أحمد بن نصر: رأيت مجنونًا قد صُرِعَ، فقرأتُ في أذنه، فنادتني جنيَّته من جوفه: يا أبا عبد الله، دعني أخنقُه، فإنَّه يقول: إنَّ القرآنَ مخلوق (¬4). وقال أبو العباس بن سعيد المروزي: لمَّا ولي المتوكِّلُ الخلافةَ جلسَ ودخلَ عليه عبدُ العزيز بن يحيى المكيّ فقال: يا أمير المؤمنين، ما رُؤي أعجب من أمر الواثق، قتلَ أحمد بن نصر، وكان لسانُه يقرأ القرآن إلى أن دُفِن، فوجدَ المتوكِّل من ذلك، وساءَه ما سمعَه في أخيه، إذ دخلَ عليه محمد بن عبد الملك الزَّيَّات، فقال له: يا ابنَ عبد الملك، في قلبي من قتلِ أحمد بن نصر، فقال: يا أمير المؤمنين، أحرقني الله بالنَّار إن كان قتلَهُ الواثقُ إلَّا كافرًا. ودخل هرثمة، فقال له المتوكل مثلَ ذلك، فقال: قطَّعني اللهُ إربًا إربًا إنْ كان قتلَهُ الواثقُ إلَّا كافرًا، ودخل عليه أحمدُ بن أبي دؤاد، فقال له المتوكل مثلَ ذلك، فقال: ضَرَبني الله بالفالج إنْ كان قتلَه الواثقُ إلَّا كافرًا، قال ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 404. (¬2) تاريخ بغداد 6/ 404. (¬3) في تاريخ بغداد 6/ 404: فضحك إليَّ. (¬4) تاريخ بغداد 6/ 399.

أحمد بن حاتم أبو نصر النحوي

المتوكِّل: فأمَّا ابنُ الزيَّات، فأنا أحرقتُه بالنار، وأما هرثمةُ فإنَّه هربَ فاجتازَ بقبيلة من خزاعة، فقطَّعوه إربًا إربًا، وأما ابنُ أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده (¬1). أسند أحمدُ بن نصر عن مالك بن أنس وحمَّاد بن زيد وهُشَيم بن بَشير وغيرهم، وروى عنه ابنُ معين ويعقوب وأحمد ابنا إبراهيم الدورقيّ في آخرين. أحمد بن حاتم أبو نصر النحوي كان عالمًا فاضلًا أديبًا، صنَّف كتبًا كثيرة، منها كتاب "الشجر" و "الزرع والنخل" و "الإبل" و "الخيل" و"ما يَلْحَنُ فيه العامة" وغير ذلك. وكان الأصمعيُّ يقول: لا يصدق عليَّ أحدٌ إلا أحمدُ بن حاتم. حدَّث عن أبي عمرو بن العلاء وغيره، وروى عنه إبراهيم الحربيُّ وغيره، وتوفي ببغداد، وكان صدوقًا ثقةً (¬2). علي بن محمد بن عبد الله ابن أبي سيف المدائني، أبو الحسن، صاحب [التصانيف، مولى] (¬3) عبد الرحمن بن سمرة، البصريُّ، العالمُ الفاضل، الصدوقُ الثقة، وكتابُه أحسنُ الكتب، ومنه أَخذ الناسُ تواريخَهم. وقال الخطيب: كان من الثقات وأهل الخير، سَرَدَ الصوم قبل موته ثلاثين سنة (¬4). وقال أحمد بن يحيى النحويّ: من أرادَ أخبارَ الجاهلية، فعليه بكتب [أبي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام، فعليه بكتب] (¬5) المدائني. وقال القاضي التنوخيُّ: صنَّف المدائنيُّ كتابًا سماه كتاب المتيَّمين، وحكى فيه أن رجلًا من بني أسد علق امرأة من همدان بالكوفة، وشاع أمرهما، فوضعَ أهلُ المرأة ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 403. (¬2) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 5/ 183، ومعجم الأدباء 2/ 283، وإنباه الرواة 1/ 36، 4/ 180. (¬3) في (خ) و (ف) بياض بمقدار كلمتين. والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 516. (¬4) انظر تاريخ بغداد 13/ 517 - 518. (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 13/ 517.

العيونَ عليها، فلمَّا دخلَ منزلها أحاطوا به، وكانت المرأة بادنةً، فأدخلته بين ثوبها وظهرها، ولصق بها، وهي قاعدة، فلم يروه، ودخلوا البيت، فطافوا، فلم يجدوا شيئًا، وهي تعنِّفُهم حتَّى انصرفوا، والرجل يقول: [من الطويل] مكانكِ حتَّى تنظري عمَّ تنجلي ... غمامةُ هذا البارق المتألِّقِ (¬1) وهذا البيت من الحماسة وأول الأبيات: أقولُ لنفسي حين خَوَّدَ رَأْلُها ... مكانَكِ لمَّا تُشفقِي غير مشفقِ (¬2) وكوني مع التالي سبيلَ محمدٍ ... وإنْ كَذَبَتْ نفسُ المقصِّر فاصدُقي لعمرُك ما أهلُ الأقيداع (¬3) بعدما ... بلغنا ديارَ العِرْضِ عنَّا (¬4) بمخلقِ نقاتلُ عن (¬5) أبناء بكر بن وائل ... كتائبَ تَرْدِي في حديدٍ وَيلْمَقِ إذا قال سيفُ الله كُرُّوا عليهم ... كررنا ولم نحفلْ بقولِ المُعَوِّقِ (¬6) وقال المدائني: هوي بعضُ المسلمين جاريةً بمكَّة، فراودها عن نفسها، فامتنعت عليه، فأنشدها: [من الطويل] سألتُ عطا (¬7) المكيَّ هل في تعانق (¬8) ... وقبلةِ مشتاق الفؤادِ جناحُ فقال معاذَ الله أن يُذهبَ التُّقى ... تلاصقُ أكبادٍ بهن جراحُ ¬

_ (¬1) الفرج بعد الشدة 4/ 422. ورواية البيت فيه رويدك حتَّى تنظري عمَّ تنجلي ... عمايةُ هذا العارض المتألِّق (¬2) يقال: خوَّد رأله: للمذعور المرتاع، والرَّأل فرخ النعام، والتخويد ضرب من السير سريع. ومعنى البيت: إني أثبت نفسي عندما يبده من ذعر الحرب ويفجأ من روعة القتال، فأخاطب نفسي إذا همَّت بالإحجام: الزمي مكانك. انظر شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 365. (¬3) الأقيداع: موضع في ديار بني أسد. وهذا البيت والذي بعده ليسا في الحماسة، وأوردهما البكري في معجم ما استعجم 1/ 181 ونسبهما لضرار بن الأزور. (¬4) في معجم ما استعجم: مني. بدل: عنا (¬5) كذا في (خ) و (ف)، وفي معجم ما استعجم: من. بدل: عن. (¬6) انظر الحماسة 1/ 190 (شرح التبريزي)، ونسب الأبيات فيها لرجل من بني أسد، وكذا نسبهما ابن عساكر في تاريخه 5/ 565 (مخطوط) وعنده البيتان الثالث والخامس. (¬7) في أخيار النساء ص 34: الفتى. (¬8) في أخبار النساء: تزاور.

محمد بن سلام بن عبيد الله بن سالم

فقالت: أنتَ سمعته يقول هذا؟ قال: نعم، قالت: إياك أنْ تتعدى ما أمرك به عطاء. مات المدائنيُّ ببغداد في منزل إسحاق الموصلي في هذه السنة، وقيل: ماتَ في سنة أربعٍ أو خمسٍ وعشرين ومئتين، والأوَّل أشهر، وأتت عليه ثلاثٌ وتسعون سنة (¬1). محمد بن سلَّام بن عبيد الله بن سالم أبو عبد الله البصريُّ، مولى قدامة بن مظعون، صنَّفَ كتاب "طبقات الشعراء"، وهو أخو عبد الرَّحمن بن سلام، وكانا من أهل الفضل والأدب. وقال الحسين بن الفهم: قدمَ علينا محمدُ بن سلَّام بغداد سنة اثنتين وعشرين (¬2)، فاعتلَّ علَّةً شديدةً، فما تخلَّف عنه أحد، وأهَدى إليه الأجلَّاءُ أطباءَهم، وكان ابنُ ماسويه ممَّن أُهدِيَ إليه، فلمَّا جسَّ نبضَه قال: ما أرى بك من العلَّة مثل ما أرى بك من الجزع! فقال: والله ما ذاك لحرصٍ على الدنيا مع اثنتين وثمانين سنة، ولكنَّ الإنسان في غفلة حتَّى يُوقظ بعلَّةٍ، ولو وقفتُ وَقْفَةً بعرفات، وزُرت قبرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زورةً، وقَضيتُ أشياءَ في نفسي، أسهل عليَّ ما اشتدَّ من هذا، فقال له ابنُ ماسويه: لا تجزع، فقد رأيت في عروقك من الحرارة الغريزية وقوَّتها (¬3) ما إن سلَّمكَ الله من العوارض بلَّغك عشر سنين أخرى. فوافق كلامُه قَدَرًا، فعاش محمدٌ بعدَ ذلك عشرَ سنين. ومات في سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين. وقال الفضل بن الحُباب: ابيضَّت لحيةُ محمد بن سَلَّام ورأسُه وله سبعٌ وعشرون سنة، وسمعتُه يقول: أفنيتُ ثلاثةَ أهلين، تزوَّجتُ وأطفلتُ فماتوا، ثم فعلتُ مثلَ ذلك فماتوا، ثمَّ فعلتُ الثالثة فماتوا، وها أنا ذا في الرابعة ولي (¬4) أولاد، وكانت وفاته ببغداد. أسندَ عن حماد بن سَلَمة وغيره، وروى عنه عبد الله بن الإمام أحمد وغيره، وهو ¬

_ (¬1) انظر ترجمته -بالإضافة إلى ما ذكر- في معجم الأدباء 14/ 124، وسير أعلام النبلاء 10/ 400 (¬2) يعني: ومئتين. (¬3) في (خ) و (ف): قوتك. والمثبت من تاريخ بغداد 3/ 279. (¬4) في تاريخ بغداد 3/ 280: ولا.

محمد بن يحيى بن حمزة

الَّذي رَوَى أنَّ إسلامَ جرير كان بعد نزولِ المائدة، وعامَّةُ المحدِّثين على صدقِه وثقتِه، إلَّا أنَّ أبا خيثمةَ قال: كان يُرْمَى بالقدر (¬1). محمد بن يحيى بن حمزة قاضي دمشق وابن قاضيها، وليَ قضاءَها مدَّة المأمون وبعضَ خلافة المعتصم. وهو كان سببَ الفتنة بين القيسية واليمانية، كانت لمحمد بن بيهس بنتٌ، فخطَبها جماعةٌ من أكفائها، فامتنعَ أبوها من تزويجها، فأرسلت إلى القاضي تشكو أباها، فزوَّجَها القاضي على كرهٍ من أبيها، وكان القاضي يسكنُ بيت لِهْيا، فجمعَ محمد بن بيهس القيسيَّة لهدمِ بيت لِهْيا، وجمع القاضي اليمانية، وامتنعَ بهم، فنشبت الحربُ بينهم خمسَ عشرة سنة، حتَّى وصل عبدُ الله بن طاهر إلى دمشق، ولما عادَ من مصر أخذَ ابنَ بيهس معه إلى بغداد، فسكنت الفتنة (¬2). مخارق المطرب أبو المهنَّا، قدمَ دمشق مع المأمون، وحكى عنه وعن الرشيد والمعتصم وغيرهم، وقال: خدمتُ إبراهيمَ المَوْصليَّ مدَّةً، وقلت له يومًا: ألا توصلني إلى الرشيد، قال: بلى، فأوصلني إليه، وكان الرشيدُ يضربُ بينه وبين المغنيِّن ستارةً، فغنَّى ابنُ جامع وغيره، فما طرب (¬3)، فغنَّيتُ فقطعَ الستارة وخرج، فقال: يا غلام إلى هاهنا فأقعدني معه على السرير (¬4) وأعطاني ثلاثينَ ألف درهم، ثمَّ أضعفَها لي المأمون. وقال: خرجَ المأمونُ يومًا وأنا عنده، فقال: يا مخارق غَنِّ بهذين البيتين، فغنيت بهما، وهما: [من الطويل] ¬

_ (¬1) انظر ترجمته أيضًا في المنتظم 11/ 172، وسير أعلام النبلاء 10/ 651. (¬2) ترجم لمحمد بن يحيى بن حمزة الحافظُ بن عساكر في تاريخ دمشق، كما في مختصره لابن منظور، ووقع في تاريخ دمشق خرمٌ في هذا الموضع، أشارت إليه محققته السيدة سكينة الشهابي رحمها الله في مقدمة الجزء الخامس والستين من طبعة مجمع اللغة العربية، وانظر تاريخ الإسلام 5/ 934. (¬3) في تاريخ دمشق 66/ 310 (طبعة مجمع اللغة)، والأغاني 18/ 339 أن غناء ابن جامع أعجب الرشيد إعجابًا شديدًا. (¬4) في تاريخ دمشق أنَّه أقعده تحت السرير.

يوسف بن يحيى

وما اسطعتُ توديعًا لها بسوى البُكا ... وذلك جهدُ المستهامِ المعذَّبِ سلامٌ على من لم يُطِق عند بينه ... سلامًا فأومى بالبنان المخضَّبِ فجعلَ يبكي بكاءً شديدًا، فلما هدأ قلت: يا أمير المؤمنين، لا أبكى الله عينيك، يا أمير المؤمنين، ما لك؟ قال: دخلتُ إلى بعض المقاصير، فرأيتُ جاريةً كُنْتُ أحبُّها حبًّا شديدًا وهي تموت، فسلَّمتُ عليها، فلم تطقْ ردَّ السلام، فأشارت بإصبعها. توفي مخارق بسُرَّ من رأى. يوسف بن يحيى أبو يعقوب، البُوَيطيُّ، وبويط قرية [كان لأبي يعقوب من الشافعيِّ منزلة] (¬1)، وربما سأله رجل مسألة فيقول: سَلْ أبا يعقوب. وقال الشافعيُّ: ما رأيت أحدًا أَنْزَعَ (¬2) بحجَّةٍ من كتاب الله مثل البويطيّ، والبويطيُّ لساني. ولمَّا مات الشافعيُّ (¬3) تنازعَ محمدُ بن الحكم والبويطيُّ في الجلوس موضعَه، حتَّى شهد الحميديُّ على الشافعي أنَّه قال: البويطيُّ أحقُّ بمجلسي من غيره، فأجلسوه مكانه. وأخبره الشافعيُّ أنَّه يُمتَحن ويموتُ في الحديد، وكان كما قال، وكان فقيهًا زاهدًا عابدًا، ما كان تأتي عليه ساعةٌ من ليلٍ أو نهار إلَّا يقرأ أو يصلِّي، وكان أبدًا يحرك شفتيه بذكر الله تعالى. وقال الربيع بن سليمان: رأيتُ البويطيَّ على بغلٍ، وفي رقبته غُلٌّ، وفي رجليه قيدٌ، وبين الغُلِّ والقيد سلسلةُ حديدٍ فيها طوبة وزنها (¬4) أربعون رطلًا، وهو يقول: إنَّما خلقَ الله الخلق بـ: "كن"، فإذا كانت "كن" مخلوقة كأنَّ مخلوقًا [خلق مخلوقًا]، ووالله ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 16/ 440. (¬2) في (خ) و (ف): أبرع. والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 440، وسير أعلام النبلاء 12/ 59. (¬3) في تاريخ بغداد 16/ 441: لما مرض الشافعي مرضه الَّذي توفي فيه. (¬4) في (خ) و (ف): فيها. والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 442. وما سيأتي بين حاصرتين منه.

لأموتنَّ في حديدي هذا حتَّى يأتيَ من بعدي قومٌ يرونَ أنَّه قد ماتَ في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أُدخِلتُ إليه لأصدقنَّه، يعني الواثق. فأودع السجن بسرَّ من رأى (¬1)، وكان قد حُمِلَ من مصر، فماتَ في الحبس في رجب، ودُفِن بحديده. وقيل: تأخرت وفاته إلى سنة اثنتين وثلاثين (¬2)، وهو وهم. أخذ العلمَ عن الشافعيِّ رحمة الله عليه وغيره، وجمعَ بين العلم والتقوى، والسُّنَّةِ والعبادة، وروى عنه الأئمَّة. وقال الربيع بن سليمان: كتبَ إليَّ من السجن: إنَّه ليأتي عليَّ أوقاتٌ لا أحسُّ بالحديد حتَّى تمسَّه يدي، فأحسن خُلُقَكَ مع أهلك (¬3)، واستوصِ بالغرباء خيرًا؛ فكثيرًا ما كُنْتُ أسمعُ الشافعيَّ رحمه الله يقول (¬4): [من الطويل] أهينُ لهم نفسي لكي يكرمونَها ... ولا تُكْرَمُ النفس التي لا تُهينُها (¬5) * * * ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 16/ 444، وتهذيب الكمال 32/ 473، 475 وغيرها أنَّه سجن ببغداد. (¬2) في (خ) و (ف): اثنين وثمانين. وهو تحريف. انظر تاريخ بغداد 16/ 444. (¬3) في تاريخ بغداد 16/ 443: مع أهل حلقتك. (¬4) يعني متمثِّلًا، كما في تاريخ بغداد 16/ 443. (¬5) من قوله: وفيها فادى الواثقُ أسارى المسلمين ... إلى هنا. ليس في (ب).

السنة الثانية والثلاثون بعد المئتين

السنة الثانية والثلاثون بعد المئتين فيها (¬1) كتبَ الواثقُ إلى بُغا الكبير وهو بالحجاز أنْ يسيرَ إلى بني نمير فيوقِعَ بهم. وسببُ ذلك أنَّ عُمارة بن عُقَيل بن بلال بن جرير بن الخطفى الشاعر قدم على الواثق، وامتدحَه بقصيد امتدحَه فيها، فأمر له بثلاثين ألف درهم، فقال له عمارة: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ بني نمير قد أفسدُوا أرضَ الحجاز وتهامة بالغارات، فكتبَ إلى بغا يأمرُه بقتالهم، فخرجَ من المدينة ومعه محمد بن يوسف الجعفري يدلُّه على الطريق، فقصدَ اليمامةَ، فصادفَ جماعةً منهم، فحاربوه وحاربهم، فقَتَلَ منهم نيِّفًا وخمسين رجلًا، وأَسَرَ منهم نحوًا من أربعين رجلًا، ثمَّ سَارَ إلى اليمامة، فنزلَ بقريةٍ من أعمالها، وبعث إليهم يعرضُ عليهم الأمانَ، وهم يشتمون رسله، وآخر من بعث إليهم رجلين؛ أحدهما من بني تميم، والآخر من بني نمير، فقتلوا التميميَّ وأثبتوا النميريَّ جراحًا، فسار إليهم غُرَّةَ صفر، ثمَّ أرسلَ إليهم أن ائتوني، فامتنعوا، وصعدوا جبال اليمامة، فبعثَ إليهم سرايا، فأسرَتْ منهم، ثمَّ إنَّه أتبعَهم بألف رجل، فالتقوا بمكان يقال له روضة الأبار (¬2)، وقد حشدوا له في ثلاثة آلاف، فاقتتلوا. وقيل: إنَّما اقتتلوا في بطن السن (¬3)، وهو على مرحلتين من القرنين (¬4)، فهزموا أصحابَ بُغا، وقتلوا منهم نحوًا من مئة، وعقروا من إبل العسكر نحوًا من سبع مئة بعير ومئة دابة، وانتهبوا الأثقال، وجاء بُغَا إليهم، وحال بينهم الليل، فجعل يناشدُهم الله والرجوع إلى الله، وجعلَ محمد بن يوسف الجعفريّ يكلمُهم بذلك، فقالوا: يا محمد، قد والله ولدناك، فما راعيتَ حرمةَ الرحم، ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلُوج تقلقنا (¬5) بهم، والله لنرينَّك بهم العبر. ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله: وفيها حجَّ الناس .. ليس في (ب). (¬2) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ الطبري 9/ 147: روضة الأبان. وفي الكامل 7/ 27: روضة الأمان. (¬3) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ الطبري: بطن السر. قال صاحب معجم البلدان 1/ 449: بطن السر: واد بين هجر ونجد. (¬4) في (خ) و (ف): القريتين. (¬5) في تاريخ الطبري 9/ 147: تقاتلنا.

فلمَّا دنا الصبحُ قال محمدٌ لبُغَا: ناجزهم قبكَ أن يضيء الصبح فيروا قلَّة عددنا، فيتجبروا (¬1) علينا، فأبى عليه بغا، فلمَّا طلعَ الصبحُ ورأوا قلَّة الَّذي جاء مع بغا حملُوا عليهم، فهزموهم، فأيقنَ بغا بالهلاك، [وكان بغا] قد بعث من أصحابه نحوًا من مئتي فارس إلى [خيلٍ] (¬2) لبني نمير، فبينا هو على الهلكة، إذا بهم قد عادوا، فوجدوه في تلك الحال، فضربوا البوقات، وحَملوا على بني نمير، فظنوهم كمينًا، فانهزموا، ولم يفلت من رجَّالتهم أحد، وأمَّا فرسانُهم فهربوا إلى الجبال. وقيل: إنَّ الهزيمةَ لم تزل على بُغا منذ غدوة إلى انتصاف النهار، وذلك في جمادى الآخرة، ثم تشاغلوا بالنهب، فكرُّوا عليهم فهزموهم، وقتلوا منهم منذ زوال الشمس إلى وقت العصر زهاء ألف وخمس مئة رجل، ثمَّ أقامَ بغا بموضع الوقعة ثلاثةَ أيَّام، حتَّى جُمعت له رؤوسُ بني نمير، وأرسل من هرب من فرسانهم يطلبونَ الآبيان، فأمَّنهم، وجاؤوا فقيَّدهم وأشخصهم معه، فبينا هم في الطريق إذ حاولوا كسرَ قيودهم ليهربوا، فأحضروا واحدًا واحدًا، وضربه أربع مئة سوط إلى خمس مئة، ثمَّ أقام بحصن الأبار (¬3) يرسلُ إلى القبائل ويستصلحهم، وبثَّ سراياه خمسةَ أشهر، وأخذ منهم ثمان مئة رجل من البطون، فأوثقهم بالحديد، وحملَهم إلى البصرة، فدخلها في ذي القعدة هذه السنة، وكتب إلى صالح العباسيّ والي المدينة أن يسير بمن [سُجن في] (¬4) الحبسين في المدينة من بني كِلَاب وغيرهم، وأن يلحق بهم، فوافاه بهم ببغداد، ثمَّ ساروا جميعًا إلى سرَّ من رأى، فكانت عدَّةُ من قَدِمَ به بُغا وصالح من الأعراب سوى من مات وقتل زُهاء ألفي رجلٍ ومئتي رجل من جميع القبائل والبطون. و[فيها] (¬5) حَجَّ بالناس محمد بن داود. وأصابَ الحاجَّ في رجوعهم عطشٌ شديدٌ، وبلغت الشربةُ دنانير (¬6)، ومات خلقٌ كثير. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري: فيجترؤوا علينا. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 147، ومكانها في (خ) بياض. (¬3) في تاريخ الطبري 9/ 149: حصن باهلة. (¬4) في (خ) و (ف) بياض، والمثبت بين حاصرتين استفدت معناه من تاريخ الطبري 9/ 491 - 150. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). ومن هنا ابتدأت أحداث السنة الثانية والثلاثين فيها، وليس فيها خبر بني نمير. (¬6) في (خ) و (ف): دينارًا. والمثبت من (ب)، وانظر تاريخ الطبري 9/ 150، والكامل 7/ 34، والمنتظم =

الباب العاشر في خلافته

وفيها ولَّى الواثق محمدَ بن إبراهيم بن مصعب بلاد فارس. وفيها كثرت الزلازل في الدنيا، خصوصًا المغرب والشام، وانهدمت حيطانُ دمشق، ومات خلقٌ كثيرٌ، وكذا بحمص وأنطاكية، وكان أشدُّها في أنطاكية والعواصم، ثمَّ امتدَّت إلى الجزيرة، وأخربت بلادها والمَوْصل ودامت أيامًا. وفيها مات الواثقُ وبويع المتوكِّلُ. الباب العاشر في خلافته (¬1) واسمه جعفر بن محمد المعتصم (¬2) بن الرشيد، وهو أخو الواثق لأبيه، وكنيته أبو الفضل، وأمّهُ شُجاع أم ولد خُوَارِزميَّة، وقيل: تركية، ولد بفم الصّلح سنة سبع، وقيل: سنة خمس ومئتين، وكان أسمر نحيفًا، خفيف العارضين، مليح العينين، ربعة [وقال ابن أبي دؤاد: رأيت المتوكل وهذه صفته]، ولا يعرفُ خليفةٌ صار جدًّا قبل أن يبلغَ ثلاثين [سنةً] إلا المتوكِّل، ولا تُعْرَفُ امرأةٌ ولدتْ خليفةً وصار جدًّا وله ثلاثةُ أولادٍ ولاةُ العهود إلَّا شجاع [الخوارزمية، وهي أمه كما ذكرنا]، وكانت [قد] (¬3) عُرِضَت على المعتصم في زيِّ غلامٍ عليه قَبَاءٌ وقَلَنْسُوة، فأعجبته ظنًّا منه أنَّها غلام فقيل له: إنَّها جارية، فقال: ذاك أعجبُ إليَّ فاشتراها. ولمَّا مات (¬4) الواثقُ اجتمعَ وصيفٌ التركيّ، وأحمدُ بن أبي دؤاد، ومحمد بن عبد الملك الزيَّات، وأحمد بن خالد المعروف بأبي الوزير، وعمر بن فرج، فعزمَ أكثرُهم على توليةِ محمد بن الواثق، وكان ابن الزيَّات أميلَهم إليه؛ كراهة للمتوكل، فأحضروه وهو غلامٌ أمرد قصير، فقال ابن أبي دؤاد: ما تتقونَ الله، تولون مثل هذا الخلافة على المسلمين؟ ! فأرسلوا بغا الشرابيَّ إلى المتوكل فأحضره، فقام ابنُ أبي دؤاد فألبسه الطَّويلة والدرَّاعة، وعمَّمه، وقبَّل ما بين عينيه، وقال: السلامُ عليك يا أمير المؤمنين ¬

_ = 11/ 177. (¬1) في (ب): ذكر خلافة المتوكل على الله. (¬2) في (خ) و (ف) و (ب): بن المعتصم. وهو خطأ. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) من هنا إلى قوله: وروى الخطيب عن عليِّ بن الجهم. ليس في (ب).

ورحمةُ الله وبركاته، ثم غُسِّلَ الواثق، وصلَّى عليه المتوكل ودُفِن (¬1). وقال سعيد الصغير (¬2): رأى المتوكِّلُ في منامه كأن سكَّرًا سليمانيًّا يسقطُ عليه من السماء، مكتوبٌ عليه: جعفر المتوكل على الله، فلمَّا صلَّى على الوائق، قال محمد بن عبد الملك الزيات: نسمِّيه المنتصر، وخاضَ الناسُ في ذلك، فحدَّثَ المتوكلُ أحمدَ بن أبي دؤاد ما رأى في منامه، فوجده موافقًا، فأُمضي، وكتب إلى الآفاق. وقيل: إنَّهم بعد ذلك صاروا إلى دار العامة، فبايعوه حتَّى زالت الشمس حينئذ، وذلك يوم الأربعاءِ لستٍّ بقينَ من ذي الحجة، وسنُّه يومئذٍ ستٌّ وعشرون سنة، وكتب له بالبيعة محمدُ بن عبد الملكِ، وهو يومئذٍ على ديوان الرسائل (¬3). قال الصوليّ: لمَّا جاءه بُغَا الشرابيّ احترزَ ابنُ أبي دؤاد لدنياه، فلم يبق مجهودًا، فجاءه من الله ما لم يكن في حسابه، مات عدوُّه ابنُ الزيَّات في صفر سنة ثلاث وثلاثين، وحكم على الخلافة. [وروى الخطيبُ عن عليِّ بن الجهم قال: ] (¬4) وَجَّه إليَّ المتوكِّلُ فأتيتُه، فقال: يا عليّ، رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقمتُ إليه فقال: تقومُ إليَّ وأنت خليفة؟ فقلت له: أبشر، أمَّا قيامُك إليه فقيامك بالسنَّة، وقد عدَّك من الخلفاء. فسرَّ بذلك (¬5). وفيه يقول فضل الشاعر (¬6): [من السريع] استقبل المُلكَ إمامُ الهدى ... عامَ ثلاثٍ وثلاثينا خلافةٌ أفضتْ إلى جعفر ... وهو ابنُ ستٍّ (¬7) بعد عشرينا إنَّا لنرجو يا إمامَ الهدى ... أن تملكَ الناسَ ثمانينا ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 46. (¬2) في (خ) و (ف): القصير. والمثبت من تاريخ بغداد 8/ 46، وتاريخ الطبري 9/ 155، والمنتظم 11/ 179. (¬3) المنتظم 11/ 179. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف). وقال: علي بن الجهم. (¬5) تاريخ بغداد 8/ 52. وهنا انتهت ترجمة المتوكل في (ب)، وبعدها: فصل في ذكر الواثق وسيأتي. (¬6) كذا في (خ) و (ف). وفي المصادر: فضل الشاعرة. (¬7) في الأغاني 19/ 302 والمنتظم 12/ 134: سبع. وهو الصواب.

حبيب بن أوس

لا قدَّسَ الله امرءًا لم يَقل ... عند دُعَائي لكَ آمينا فأمر له بأربعين ألفًا (¬1). ومن العجائب أنَّه سلَّم على المتوكِّلِ بالخلافة ثمانيةٌ كلُّهم ابنُ خليفة؛ منصور بن المهدي، والعباس بن الهادي، وأبو أحمد بن الرشيد، وعبد الله بن الأمين، وموسى بن المأمون، وأحمد بن المعتصم بن الرشيد، ومحمد بن الواثق، والمنتصرُ بن المتوكِّل (¬2). وفيها توفي حبيبُ بن أوس ابن الحارث بن قيس، أبو تمَّام الطائيّ، وأصله من قرية جَاسِم بحَوْرَان، وهي التي يقول عديُّ بن الرقاع فيها: [من الكامل] وكأنَّها وسط النساء أعارها (¬3) ... عينيه أحورُ من جَآذِر جاسمِ وسنَانُ أقصدَهُ النعاسُ فرنَّقت ... في عينه سِنَةٌ وليسَ بنائمِ (¬4) ولد سنة ثمانٍ وثمانين ومئة، وقيل: سنة تسعين ومئة بناحية مَنْبج، وبها نشأ، ومدح الخلفاء والوزراء، وكان أسمر طوالًا، حلو الكلام فصيحًا، فيه تمتمةٌ يسيرةٌ، وعقلُه أوفرُ من شعوه، وكان أبوه نصرانيًّا خمَّارًا بدمشق، واسمه تدوس فغُيِّرَ بأوس (¬5). وكان بمصر في حداثة سنِّه يسقي الماءَ في المسجد الجامع، ثمَّ جالسَ الأدباء، وأخذ عنهم وتعلَّم منهم، وكان فَطِنًا يحبُّ الشعر، فلم يزل يُعانيه حتَّى قاله فأجاد فيه، وبلغ المعتصم خبرُه فطلبَه، فحُمِل إليه وهو بسُرَّ من رأى، فمدحه بقصائد، فأجازَه وقدَّمه على شعراء زمانه، وقدم بغداد، فجالسَ بها العلماء، وكان ظريفًا حسن ¬

_ (¬1) في المنتظم والأغاني: فاستحسن الأبيات وأمر لها بخمسة آلاف درهم. (¬2) المنتظم 11/ 178. (¬3) في (خ) و (ف): بين الظباء عقارها. والمثبت من المصادر. (¬4) الشعر والشعراء 2/ 620، والكامل 1/ 193، والأغاني 9/ 311. (¬5) تاريخ بغداد 9/ 159.

الأخلاق كريم النفس (¬1)، فأقرَّ له الشعراءُ بالفضل والتقدُّم. وقال عليُّ بن الجهم: كان الشعراءُ يجتمعون في كل جمعة في القبَّة المعروفة بهم بجامع المنصور ببغداد، فيتناشدون الأشعار، ويعرض كلُّ واحدٍ ما أحدثَ من القول، فبينا أنا في بعض الجُمَع، ودِعبل وأبو الشيص وابن أبي فَنَن، والناسُ يسمعونَ إنشادَ بعضنا لبعض، أبصرتُ شابًّا في أُخريات الناس جالسًا في زيِّ الأعراب، فلمَّا قطعنا الإنشاد قال لنا: قد سمعتُ إنشادكم منذ اليوم، فاسمعوا إنشادي، وأنشد قصيدة يقول في أوَّلها: [من البسيط] فَحْواك عينٌ على نَجواك يا مَذِلُ ... حتَّام لا ينقضي من قولك الخَطِلُ (¬2) ما أقبلَتْ أوجُهُ اللذَّات سافرةً ... مُذْ أدبرَت باللِّوى أيامُنَا الأُوَلُ إنْ شئتَ أن لا ترى صبرًا لمصطبرٍ ... فانْظُر على أيِّ حالٍ أصبحَ الطَّلَلُ كأنَّما جادَ مغناهُ فغيَّره ... دموعُنا يومَ بانُوا وَهْيَ تنهملُ ولو ترانا وإيَّاهم وموقِفَنا ... في مأتم البين لاستِهلالنا زَجَلُ من حُرْقَةٍ أطلقتها فُرقَةٌ أسرَتْ ... قلبًا ومن عذله في إثره عَذَلُ (¬3) ثم مرَّ فيها حتَّى بلغ قولَهُ: تغايرَ الشِّعر فيه إذ سهرتُ له ... حتَّى ظَننتُ قوافيه ستَقتتلُ وأنشدَها (¬4)، فقلنا: زدنا، فأنشد: [من الكامل] دمنٌ ألمَّ بها فقال سلامُ ... كم حَلَّ عقدةَ صبرِه الإلمامُ (¬5) فأنشدها إلى آخرها، فقلنا: لمن هذا الشعر؟ فقال: لمن أنشدَكُموه، فقلنا: ومن أنت؟ قال: أبو تمام حبيب بن أوسٍ الطائيّ، فقال له أبو الشِّيص: تزعمُ أنَّ هذا الشعر ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 9/ 158. (¬2) فحواك: من قولهم: عرفت ذلك في فحوى كلامه، أي: في معناه، والمذلُ: الَّذي لا يكتم سرَّه، والخطل: المضطرب. وفي ديوان أبي تمام 3/ 7، وتاريخ بغداد 9/ 159: يتقضى قولُك. (¬3) كذا في (خ) و (ف). وفي الديوان 3/ 7: ومن غزلٍ في نحره عذل، وفي تاريخ بغداد 9/ 159: ومن عذل في نحره عذلُ. (¬4) القصيدة في ديوان أبي تمام 3/ 5 - 20 في سبع وأربعين بيتًا. (¬5) ديوان أبي تمام 3/ 150.

لك وأنت تقول: تغايرَ الشعرُ فيه إذ سهرتُ له فقال: نعم لأنِّي سهرتُ في مدحِ ملك، ولم أسهر في مدح سُوقة، فعرفناه ولم نزل نتهادَاه بيننا، وجعلناه كأحدنا، واشتدَّ إعجابُنا به لظرفه وكرمه، وحسن عشرته، وجودة شعره (¬1). وقال الحسين بن إسحاق، قلت للبحتريِّ: الناسُ يَزعُمون أنَّك أشعرُ من أبي تمَّام، فقال: والله ما ينفعني هذا القول، ولا يضرُّ أبا تمَّام، والله ما أكلتُ الخبزَ إلَّا به (¬2). وقال سَوّار بن أبي شُرَاعة (¬3) للبحتريّ: أنتَ أشعرُ أم أبو تمام؟ فقال: لا والله، ذاك الرئيسُ المقدَّم الأستاذ، والله ما أكلنَا الخبز إلَّا به، وكان المبرِّدُ حاضرًا، فقال له: يا أبا عبيدة تأبى إلَّا شرفًا من جميع الوجوه. فقال له البحتريُّ: كان أبو تمام يجلسُ بحمص فيجتمع إليه الشعراء فيعرضونَ عليه قصائدَهم، فقدمت إليه وعرضت عليه قصيدًا، فأصغى إليَّ دونَهم، فلمَّا انصرفوا قال: أنت أشعرُ مَنْ (¬4) أنشدني، كيف حالك؟ فشكوتُ إليه قلَّةً وحاجة، فكتب لي كتابًا إلى أولاد المعرَّة (¬5) فأكرموني ودفعوا إليَّ أربعةَ آلاف درهم (¬6). وقال سعيدُ بن جابر الكَرْخِيّ: [حدثني أبي قال: ] (¬7) حضرنا يومًا عند أبي دُلَفْ القاسم بن عيسى ومعنا أبو تمام، فأنشده قصيدته التي يقولُ في أولها: [من الطويل] على مثلها من أَرْبُعٍ وملاعبِ ... أُذيلَتْ مصُوناتُ الدموعِ السَّوَاكبِ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 9/ 159 - 160. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 160. (¬3) في (خ) و (ف): سوار بن سراعة. والتصويب من المصادر. (¬4) في (خ) و (ف): من كلهم أنشدني. والمثبت من أخبار أبي تمام. (¬5) في (خ) و (ف): المغيرة. وهو تصحيف. (¬6) هذا الخبر هو مجموع من خبرين ذكرهما الصولي في أخبار أبي تمام، فخبر السؤال للبحتريّ: أنت أشعر أم أبو تمام؟ في أخبار أبي تمام ص 67، لكن السائل عنده: أبو عبد الله الحسين بن علي. وخبر عرض البحتري شعره على أبي تمام في أخبار أبي تمام ص 66، والأخير من طريق سَوَّار بن أبي شُرَاعة. وانظر أيضًا الأغاني 21/ 40. (¬7) ما بين حاصرتين من أخبار أبي تمام ص 121، وانظر الأغاني 16/ 389.

فلمَا بلغ قوله: إذا افتخرتْ يومًا تميمٌ بقوسِها ... فخارًا على ما نلت من مناقبِ (¬1) فأنتم بذي قارٍ أمالتْ سيوفُكُم ... عروشَ الذين استرهَنُوا قوسَ حاجبِ محاسنُ من مجدٍ متى يَقْرِنُوا بها ... محاسنَ أقوامٍ تَكُنْ كالمعايبِ مكارمُ لجَّت في العيون (¬2) كأنَّما ... تحاولُ ثأرًا عند بعض الكواكبِ قال أبو دلف: يا معاشر ربيعة، والله ما مُدِحتم بمثل هذا قط، فما عندكم لقائله؟ فبادروه مطارفَهُم يرمونَ بها إليه، فقال أبو دُلَف: قد قَبِلها وأعاركم إيَّاها فالبسوها، وسأنوبُ عنكم في ثوابه، وأمر له بخمسين ألفًا، وقال: والله ما هي بإزاء استحقاقك وقدرك، فاعذر، فقام أبو تمام ليقبِّلَ يده، فأقسمَ عليه أبو دُلَفٍ بأن لا يفعل، ثمَّ قال له: أنشدني قولك في محمد بن حميد فأنشد: [من الطويل] كذا فليجلَّ الخطب وليفدحِ الأمرُ ... فليس لعينٍ لم يَفِضْ ماؤُها عُذْرُ تُوفِّيتِ الآمالُ بعد محمَّدٍ ... وأصبحَ في شُغْل عن السَّفر السَّفْرُ وما كان إلَّا مال من قلَّ مالُه ... وذخرًا لمن أمسى وليس لهُ ذُخْرُ فأَثْبَتَ في مستنقعِ الموت رِجْلَهُ ... وقال لها من تحتِ أَخْمصِكِ الحشرُ تردَّى ثيابَ الموتِ حُمْرًا فما أتى ... لها الليلُ إلَّا وهي من سُنْدُسٍ خُضْرُ وقد كانت البيضُ المآثيرُ في الوغى ... بواترَ وهي الآن من بعده بُتْرُ أَمِنْ بعد طيِّ الحادثاتِ محمَّدًا ... يكونُ لأثوابِ الندى أبدًا نَشْرُ سقى الغيثُ غيثًا وارت الأرضُ شخصَه ... وإن لم يكنْ فيه سحابٌ ولا قَطْرُ وكيف احتمالي للسَّحاب صنيعةً ... بإسقائها قبرًا وفي لحدِه البحرُ مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَ بقعةٌ ... غداةَ ثَوى إلَّا اشتهت أنَّها قبرُ ثَوى في الثَّرى من كان يحيى به الثَّرى ... وَيغْمُرُ صَرْفَ الدهرِ نائلُه الغَمْرُ ¬

_ (¬1) في ديوان أبي تمام 1/ 257، وأخبار أبي تمام ص 123، والأغاني 16/ 390: وزادت على ما وطدت من نوائب وفي هامش الديوان أنَّه وقع في رواية: فخارًا. بدل: وزادت. (¬2) في المصادر: لجت في علوٍّ.

عليكَ سلامُ الله وَقْفًا فإنَّني ... رأيت الكريمَ الحرَّ ليس له عُمْرُ وما ماتَ حتَّى ماتَ مَضْرِبُ سيفه ... من الضَّرب واعتلَّتْ عليه القَنا السُّمْرُ وقد كان فوتُ الموتِ سهلًا فردَّهُ ... إليه الحِفاظُ المُرُّ والخُلُقُ الوَعْرُ غدا غدوةً الموت (¬1) نسجُ ردائه ... فلم ينصرفْ إلَّا وأكفانُه الأَجرُ كأنَّ بني نبهانَ يومَ وفاته ... نجومُ سماءٍ خَرَّ من بينها البَدْرُ يُعَزَّوْنَ عن ثاوٍ يُعزَّى به العُلى ... ويبكي عليه الجود والبأس والشِّعرُ (¬2) فقال أبو دلف: والله لودِدْتُ أنَّها قيلت فيَّ، فقال أبو تمَّام: لا بل أفدي بنفسي الأمير، وأكونُ المقدَّم قبلَه، فقال أبو دُلَف: إنَّه لم يمتْ من رُثِي بمثل هذا الشعر. ودخل أبو تمَّام على الحسن بن رجاء مادحًا له فأنشده: [من الكامل] عادتْ له أيَّامُه مُسوَدَّةً ... حتَّى توهَّم أنَّهنَ ليالي أضحى سَمِيُّ أبيكَ فيه مُصَدَّقًا ... بأجلِّ فائدةٍ وأيمنِ فالِ ورأيتَني فسألتَ نفسَك سَيبَها ... لي ثُمَّ جُدْتَ وما انتظرتَ سؤالي كالغيثِ ليس له أُريدَ غمامُه ... أو لم يُرَدْ بدٌّ من التَّهطالِ لا تُنْكِري عَطَلَ الكريمِ من الغِنَى ... فالسيلُ حَربٌ للمكانِ العالي وترقَّبي (¬3) خَبَبَ الرِّكابِ يَنُصُّها ... محيي القريضِ إلى مميتِ المالِ بسطَ الرجاءَ لنا برغمِ نوائبٍ ... كَثُرتْ بهنَّ مَصَارعُ الآمالِ فقام الحسن قائمًا وقال: واللهِ لا أتممتَها إلَّا وأنا قائمٌ، فأتمَّها وهو قائم، فقال له الحسن: ما أحسن ما جَلوتَ هذه العروس، فقال أبو تمام: لو كانتْ من الحورِ العين لكان قيامُك لها أوفى مَهرها، فأعطاهُ الحسنُ عشرينَ ألفًا، على بخلٍ كان فيه. وقال يحيى بن أبي عبَّاد: شهدتُ أبا تمام وهو ينشدُ إبراهيم بن المعتصم (¬4) قصيدتَه ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي الديوان 4/ 81، وأخبار أبي تمام ص 125، والأغاني 16/ 390: والحمد. بدل: الموت. (¬2) ديوان أبي تمام 4/ 79 - 85 بتقديم وتأخير، والقصيدة فيه في ثلاثين بيتًا. (¬3) في ديوان أبي تمام 3/ 77، وأخبار أبي تمام ص 168، والأغاني 16/ 392: وتنظَّري. (¬4) كذا في (خ) و (ف). والصواب -كما في أخبار أبي تمام ص 230، وديوان أبي تمام 2/ 242 - : أحمد بن المعتصم.

التي يقول في أولها: [من الكامل] ما في وقوفِكَ ساعةً من بَاسِ ... يقضي ذِمَامَ الأربعِ الأدراسِ فلعلَّ عينَك أن تُعينَ بمائها ... والدمعُ فيه خاذلٌ ومواسِي إقدامُ عمرٍو في سماحة حاتمٍ ... في حلمِ أحنفَ في ذكاءِ إياسِ فقال محمد بن يوسف الكنديّ: قدرُ الأمير فوقَ ما وصفت، فأطرقَ أبو تمَّام ساعةً ورفع رأسه وقال: لا تُنكرُوا ضربي له من دونَه ... مثلًا شرودًا في النَّدى والباسِ فاللهُ قد ضربَ الأقلَّ لنورِه ... مثلًا من المشكاةِ والنبراسِ ويقال: كان تحته طِنْفِسَةٌ، فحفرها بأصابع رجليه. وقال المبرِّد: بلغ موسى بن إبراهيم أن أبا تمَّام هجاه، وكان محسنًا إليه، فعتب عليه، فقال أبو تمَّام معتذرًا -وكنية موسى أبو المغيث الرافقيّ-: [من الطويل] شهدتُ لقد أقوَت مغانيكُم بعدي ... ومحَّتْ كما محَّت وشائعُ من بُرْدِ وأنجدتُمُ من بعد إتهامِ دارِكُم ... فيا دمعُ أنجدْني على ساكِني نَجْدِ لعمري قد أخلقتم جِدَّة البُكا ... عليّ وجَدَّدْتُم به خَلَقَ الوَجْدِ كريمٌ متى أمدحْهُ أمدحْهُ والورى ... معي ومتى ما لمتُه لمتُه وَحْدِي من أبيات (¬1). وقال أبو الفرج الأصفهاني: قدم أبو تمَّام على ابن طاهر بخراسان، فأنشَده قصيدته التي يقولُ فيها: [من الطويل] وركبٍ كأطرافِ الأَسِنَّة عرَّسُوا ... على مِثْلِهَا والليلُ تَسطُو غَياهبُهْ لأمرٍ عليهم أنْ تتِمَّ صدورُه ... وليس عليهم أنْ تَتِمَّ عَواقِبُهْ (¬2) فصاح الشعراء وقالوا: والله ما يستحقُّ [مثل هذا الشعر] (¬3) غيرُ الأمير ابن طاهر، ¬

_ (¬1) انظر أخبار أبي تمام ص 202 - 203، والأبيات في ديوانه 2/ 109 - 110، 116. (¬2) ديوان أبي تمام 1/ 221. (¬3) ما بين حاصرتين من الأغاني 16/ 389، وأخبار أبي تمام ص 117.

فلمَّا فرغ من القصيدة نثر عليه ألفَ دينار، فلم يمدَّ يده إليها، فالتقطَها غلمانُ بن طاهر، ولم يحيى أن يشاركَهم لشرف نفسِه. فسعى به الحُسَّادُ إلى ابن طاهر، وقالوا: ترفَّعَ على عطائِك، فأعرضَ عنه، فدخل أبو تمَّام على أبي العميثل شاعرِ الطاهرية، فشكا إليه، فقال أبو العمثيل لابن طاهر: أيُّها الأمير من حمل إليك أملَه من العراق، وكدَّ جسمَه فيك، وأتعَب فكره وخاطرَه، ومدحك، تُعْرضُ عنه. واختصّ به وحمل إليه ألوفًا (¬1). والأصح أن أبا تمَّام خرج من خراسان مراغمًا لابن طاهر؛ كان لا يجيز شاعرًا حتَّى يرضاه أبو العميثل وأبو سعيد الضرير فلما قدم أبو تمَّام خراسان دخل عليهما وامتدحهما قصيدته التي أولها: [من الطويل] هُنَّ عوادي يوسفٍ وصواحبُه ... فعزمًا [فقِدْمًا] أدركَ السؤلَ طالبُهْ (¬2) فلم يلتفت إليه أبو العميثل والضرير فلمَّا مر فيها قال: إلى سالب الجبَّارِ بيضةَ مُلْكِه ... وآمِلُهُ غادٍ إليه فسالبُهْ إلى ملكٍ لم يُلْقِ كَلْكَلَ باسِه ... على ملكٍ إلَّا وذُلِّلَ جانبُهْ (¬3) إذا ما امرؤٌ ألقَى بربعِكَ رحْلَهُ ... فقد طالبته بالنَّجَاح مطالبُهْ إذا المرءُ لم يستخْلِص الحزمُ نفسَهُ ... فَذِرْوَتُهُ للحادثاتِ وغاربُهْ أعاذلتي ما أخشنَ الليلَ مَرْكَبًا ... وأخشنُ منه في الملمَّاتِ راكبُهْ فاستحسناها ودخلا على ابنِ طاهر فاثنيا عليه، فاستحضَره وأنشده إيَّاها، فنثر عليه ألف دينار، فلم يرضه، وخرج من عنده يطلبُ العراق فقال: [من الكامل] يا أيُّها الملكُ المقيمُ ببلدةٍ ... لا تأمننَّ حوادثَ الأزمانِ صاح الزمانُ بآل بَرْمَكَ (¬4) صيحةً ... خَرُّوا لشدَّتِها على الأذقانِ ¬

_ (¬1) انظر أخبار أبي تمام ص 212 - 213. (¬2) ديوان أبي تمام 1/ 216، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬3) في الديوان: إلا وللذلِّ جانبه. (¬4) في تاريخ دمشق 4/ 161 (مخطوط): بآل قومك.

وثنى بأخرى مثلِها فأبادَهُم ... وأتى الزمانُ علي بني نبهانِ (¬1) وغدا يصيحُ بآل طاهر صيحةً ... غضبٌ يحلُّ بهم من الرحمنِ فلمَّا وصلَ إلى همذان اغتنمَه أبو الوفاء رئيس همذان، فأبرَّه وأكرمَه، فأصبح ذاتَ يوم وقد وقع الثلجُ وقطع الطرق، فقال له أبو الوفاء: قد ترى وقوعَ الثلج، فأقمْ عندنا حتَّى يذهبَ الشتاء، فأقام بهَمَذَان، وأحضر إليه خزائنَ الكتب يطالعُها، وصنَّف فيها كتاب، "الحماسة" و"الوحشيات"، وغير ذلك -وكان العلماءُ يرون أنَّ اختيارهُ الحماسة أحسنُ من شعره- فلمَّا ارتفعَ الثلجُ سأله المُقَام فأبى، وتوجَّه إلى سرَّ من رأى، وبقي كتابُ "الحماسة" في خزائن أبي الوفاء، وكانوا لا يظهرونَه لأحدٍ ضنًّا به، حتَّى تغيَّرت أحوالُهم، فوردَ همذان رجلٌ من الدينور يعرف بأبي العواذل فظفرَ به، فحملَه إلى أصبهان، فاشتهر وشاعَ ذكرُه (¬2). وديوانه مشهورٌ منه: [من البسيط] ستصبحُ العيسُ بي يا صاحِ عندَ فتى ... كثيرِ ذكر الرِّضَا في ساعة الغضبِ صدفتُ عنه فلم تَصْدِفْ مَودَّتُهُ ... عنِّي وعاودَهُ ظنِّي فلم يخِب كالغيثِ إنْ جئتَهُ وافاكَ صيِّبه ... وإن تحمَّلتَ عنهُ كان في الطَّلَبِ (¬3) وقال: [من الخفيف] رُبَّ خفضٍ تَحْتَ السُّرى وغَنَاءٍ ... من عَنَاءٍ ونَضْرةٍ من شُحُوبِ لستُ أُدلي بحُرْمةٍ مستزيدًا ... في وِدادٍ منكم ولا في نَصيبِ غيرَ أنَّ العليلَ ليسَ بمذمو ... مٍ على شرحِ حالهِ للطبيب لو رأينَا التوكيدَ خُطَّةَ عجزٍ ... ما شَفَعْنَا الأذانَ بالتثويبِ (¬4) وقال: [من الكامل] فكأنَّ قُسًّا في عُكَاظٍ يخطُب ... وكأنَّ ليلى الأخيليَّة تَندُبُ ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق: ماهان. (¬2) انظر مقدمة شرح الحماسة للتبريزي 1/ 5. (¬3) ديوان أبي تمام 1/ 121 - 113. (¬4) ديوان أبي تمام 1/ 119، 125 - 126.

وكَثيرَ عزَّةَ بين قومٍ ينسُبُ ... وابنَ المقفَّع في المدائحُ يُسهِبُ (¬1) وقال: [من الكامل] يا طالبًا مسعاتَهُم لينالها ... هيهاتَ منك غُبارُ ذاكَ الموكبِ بحرٌ يَطِمُّ على العُفَاة وإنْ تَهِج ... ريحُ السُّؤالِ بموجه (¬2) يَغْلَولِبِ أولى المديحِ بأنْ يكونَ مهذَّبًا ... ما كانَ منه في أغرَّ مهذَّبِ غَرَبَتْ خلائقُهُ وأغربَ شاعرٌ ... فيه فأحسنَ مُغربٌ في مُغربِ (¬3) وقال: [من الطويل] وطولُ مقامِ المرءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ ... لديباجتَيه فاغتربْ تَتجدَّدِ فإنِّي رأيتُ الشمسَ زيدت محبَّةً ... على الناس إذا ليستْ عليهم بسرمدِ محاسنُ أوصاف المغنِّينَ جَمَّةٌ ... وما قصباتُ السَّبقِ إلَّا لمعبدِ (¬4) وقال: [من الطويل] أرى ألفاتٍ قد خُططنَ على راسي ... بأقلامِ شيبٍ في مفارق قرطاسِي (¬5) فإن تسأليني من يَخُطُّ حروفَها ... فكفُّ الليالي تستمدُّ بأنفاسِي جَرَتْ في قلوبِ الغانياتِ لعيتي (¬6) ... قُشَعْرِيرةٌ من بعد لينٍ وإيناسِ وقد كنت أَجرِي في حشاهنَّ مرَّةً ... مجارِيَ جاري الماءِ في غصنِ الآسِ فإنْ أُمْسِ لم أَصِلِ الكواعبَ آيسًا ... فآخرُ آمالِ العباد إلى الياسِ (¬7) وقال: [من البسيط] ¬

_ (¬1) ديوان أبي تمام 1/ 134 باختلاف يسير. (¬2) في (خ) و (ف): بمدحه. والمثبت من الديوان. (¬3) ديوان أبي تمام 1/ 98، 104، 106 - 107. (¬4) ديوان أبي تمام 2/ 23، 29. (¬5) في الديوان: مهارق أنقاس. والمهارق: جميع مُهْرَق، وهو القرطاس، والأنقاس: جمع نقس، وهو المداد. (¬6) في الديوان: لشيبتي. وفي إحدى نسخ شرح الصولي على الديوان -كما في هامش الديوان-: لهيبتي. (¬7) ديوان أبي تمام 4/ 597 - 598.

ذاك السؤالُ (¬1) شجىً وفي الحَلقِ معترضٌ ... من دُونه شَرَقٌ من خلفِه جَرضُ (¬2) ما ماءُ كفِّكَ إن جَادتْ وإن بَخِلَتْ ... من ماءِ وَجهي إذا أَفنيته عِوَضُ مروءةٌ أُذهبت أَثمار لذَّتِهما (¬3) ... وهمةٌ جوهرٌ معروفُها عَرَضُ وقال: [من الكامل] كم منزلٍ في الأرضِ يألفُه الفتى ... وحنينُه أبدًا لأوَّلِ منزلِ نَقِّل فؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلَّا للحبيبِ الأوَّل (¬4) وقال: [من الطويل] هو البحرُ من أيِّ النواحي أتيتَه ... فلجَّتُهُ المعروفُ والجودُ سَاحِلُهْ تعوَّدَ بسطَ الكفِّ حتَّى لو أنَّه ... أرادَ انقباضًا (¬5) لم تطعْهُ أناملُهْ ولو لم يكن في كفِّه غيرُ نفسه ... لجَاد بها فليتَّقِ الله سائلُهْ إذا آملٌ رجَّاه قَرْطسَ في المنى ... بأسهمِه حتَّى يؤمِّلَ آملُهْ وقال: [من الكامل] نَظَرَتْ إليَّ بعينِ من لم يَعْدِلِ ... لمَّا تمكَّن حبُّها من مقتلي لمَّا رأت وَضَح المشيبِ بلِمَّتي ... صَدَّت صدودَ مُجانبٍ متحمِّلِ فجعلتُ أطلبُ وصلَها بتأمُّلٍ ... والشيبُ يغمزُها بأنْ لا تفعلي (¬6) وقال: [من الطويل] سأتركُ هذا الباب ما دام إذنُه ... على ما أرى حتَّى يخفَّ قليلا فما خابَ من لم يأتِهِ متعمِّدًا ... ولا فازَ من قد نال منه وصولَا إذا لم أجد للإذن عندك موضعًا ... وجدتُ إلى ترك المجيء سبيلَا (¬7) ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي الديوان 4/ 465: ذل السؤال. (¬2) الجرض: الريق. القاموس (جرض). (¬3) في الديوان 4/ 466: مودة ذهبت أثمارها شُبَهٌ. (¬4) ديوان أبي تمام 4/ 253. (¬5) في الديوان 3/ 29: ثناها لقبض. بدل: أراد انقباضًا. (¬6) العقد الفريد 3/ 43. (¬7) العقد الفريد 1/ 74، والتذكرة الحمدونية 8/ 202. ونسبت لغير أبي تمام، فنسبها ابن عبد البر في بهجة =

وقال: [من الرمل] أنتَ في حلٍّ فزدني سَقَما ... أفنِ صبري واجعلِ الدمعَ دمَا ليس منَّا من شكا علَّتَه ... من شكا ظُلْمَ حبيبٍ ظَلمَا (¬1) وقال: [من الكامل] ما إنْ رَأى الأقوامُ شمسًا قَبلَها ... أَفَلَتْ فلم تُعْقِبْهُمُ بظَلامِ لو يقدرون مَشَوا على وَجَنَاتِهم ... وعيونهِم فضلًا عن الأقدامِ (¬2) وذكر عبد الله بن المعتز إخوته فقال: أنا معهم كما قال أبو تمام: [من البسيط] ذو الودِّ مني وذُو القربى بمنزلةٍ ... وإخوتي أسوةٌ عندي وإخواني عصابةٌ جاورَتْ آدابُهم أدبي ... فهم وإن فُرِّقوا في الأرض جيراني أرواحُنا في مكانٍ واحدٍ وغَدَت ... أجسامنا بشآم أو خراسانِ ورُبَّ نائي المغاني روحُه أبدًا ... لصيقُ روحي ودانٍ ليس بالدَّاني (¬3) وقال: [من البسيط] لا يمنعنك خفضُ العيش في دَعَةٍ ... من أن تَبدَّل أوطانًا بأوطانِ (¬4) تَلقَى بكلِّ بلادٍ إن حَلَلْتَ بها ... أهلًا بأهلٍ وإخوانًا بإخوانِ (¬5) وقال يرثي ولده: [من البسيط] إنِّي أَظنُّ البِلى لو كان يعرفُه ... صَدَّ البِلى عن بَقايا وجهِه الحسنِ ¬

_ = المجالس 1/ 271 لمحمود الوراق، وأورد ابن المعتز في طبقات الشعراء ص 287، وابن خلكان في وفيات الأعيان 3/ 89 - 90 البيتين الأول والأخير ونسبهما لأبي العميثل، ونسبهما الراغب في محاضرات الأدباء 1/ 426 لمحمد بن عمران. (¬1) ديوان أبي تمام 4/ 275. (¬2) ديوان أبي تمام 3/ 206. (¬3) ديوان أبي تمام 3/ 335. (¬4) في المصادر: نزوع نفس إلى أهل وأوطان. (¬5) بهجة المجالس 1/ 244. وليسا في ديوانه، وهما في حماسته 1/ 147 (شرح التبريزي) دون نسبة. ونسبهما ياقوت في معجم الأدباء 1/ 192، وابن خلكان في وفيات الأعيان 1/ 46 لإبراهيم بن العباس الصولي، ونسبهما الكتبي في فوات الوفيات 4/ 142 لصريع الغواني. وهما في ديوانه ص 341.

يا موتةً لم تَدعْ ظَرْفًا ولا أَدبًا ... إلَّا حَكَمْتِ به للحدِ والكفنِ لله ألحاظُهُ والموتُ يكسرُها (¬1) ... كأَنَّ أجفانَه سكرى من الوَسَنِ يردُّ أَنفاسَه كَرْهًا وتعطفهما ... يدُ المنية عَطْفَ الريحِ للغُصُنٍ يا هولَ ما أبصرتْ عيني وما سمعتْ ... أُذني فلا بقيت عَيني ولا أُذني لم يبق في بدني جزءٌ (¬2) علمتُ به ... إلَّا وقد حلَّه جزءٌ من الحَزَنِ كانَ اللحاقُ به أَوْلَى وأحسنَ بي ... من أنْ أَعيشَ سقيمَ الروحِ والبَدَنِ (¬3) وقال: [من الطويل] ألم تَرني خَلَّيتُ نفسِي وشانها ... فلم أَحْفل الدُّنيا ولا حدثانَها لقد خَوَّفتني الحادثاتُ صُروفَها ... ولو أمَّنتني ما قبلتُ أمانَها يقولون هل يَبكي الفتى لخَريدةٍ ... متى ما أرادَ اعتاضَ عشرًا مكانَها وهل يستعيضُ المرءُ من عشر كفِّه ... ولو صاغَ من حُرِّ اللُّجَينِ بنانَها وكيف على علم الليالي معرَّس (¬4) ... إذا كان شيبُ العارضينِ دخانَها وقال: [من البسيط] إنَّ الليالي لم تحسنْ إلى أحدٍ ... إلَّا أساءتْ إليه بعدَ إحسانِ العيشُ حلوٌ ولكنْ لا بقاءَ له ... جميعُ ما الناس فيه ذاهبٌ فاني (¬5) ذكر وفاته: توفي سنةَ عشرين ومئتين (¬6). وقيل: لمَّا عادَ من خراسان عني به الحسنُ بن وَهْب، فولَّاه بريدَ الموصل، فأقامَ بها أقلَّ من سنتين، وتوفي في جمادى الآخرة (¬7) سنة إحدى ¬

_ (¬1) في (ف): يكسوها. (¬2) بعدها في (خ) و (ف): وقد. وهي مقحمة. (¬3) ديوان أبي تمام 4/ 146. (¬4) في ديوان أبي تمام 4/ 142: وكيف على نار الليالي معرَّسي. (¬5) تاريخ دمشق 4/ 581 - 159 (مخطوط). (¬6) كذا في (خ) و (ف). ولعلها: سنة ثمان وعشرين ومئتين. انظر أخبار أبي تمام ص 272 - 273، وتاريخ بغداد 9/ 162، وسير أعلام النبلاء 11/ 67. (¬7) كذا في (خ) و (ف)، وفي المصادر: جمادى الأولى.

وثلاثين. وقيل: في المحرم سنة اثنتين وثلاثين. ودفن بالموصل وله نيفٌ وأربعونَ سنة. ورثاه العلماءُ والوزراءُ والشعراءُ، فقال محمدُ بن عبد الملك الزيَّات: [من الوافر] ألَا لله ما جَنَتِ الخطوبُ ... تُخُرِّمَ من أحبَّتنا حبيبُ وماتَ الشعر من بعدِ ابن أوسٍ ... فلا أدبٌ يُحَسُّ ولا أديبُ (¬1) وقال الحسن بن وهب: [من الوافر] نبأٌ أتى من أعظمِ الأنباء ... لمَّا ألَمَّ مُقلقلُ الأحشاءِ فُجِعَ القريضُ بخاتَم الشعراءِ ... وغديرِ روضتها حبيبِ الطائي ماتَا معًا فتجاورَا في حفرةٍ ... وكذاك كانا قبلُ في الأحياءِ قالوا حبيبٌ قد ثَوى فأجبتُهم ... نَاشدتُكم لا تجعلُوه الطائي (¬2) وقال عليُّ بن الجهم: [من الكامل] غاضتْ بدائعُ فطنةِ الأوهام ... وعَدَتْ عليها نكبةُ الأيامِ وغدا القريضُ ضئيلَ شخصٍ باكيًا ... يَشكو رزيَّتَه إلى الأقلامِ وتأوَّهتْ غُرَرُ القوافي بعدَه ... ورَمى الزمانُ صحيحَها بسقام أَوْدَى مثقَّفُها ورائضُ صعبِها ... وغديرُ روضتها أبو تمام (¬3) وقال أبو الفرج الأصبهاني: [كان دعبل] (¬4) يثلبُ أبا تمام ويقول: سرقَ قصائدَ الناس، فدخل يومًا على الحسن بن وهب، فقال: بلغني أنَّك [قلت في أبي تمام كيت وكيت، فهبه سرق هذه القصيدة (¬5) كلَّها، وقبلنَا قولك فيه، أسرق شعره كلَّه؟ أتحسن أنت أن] تقول كما قال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) أخبار أبي تمام ص 277 - 278. (¬2) البيت الأول والأخير لمحمد بن عبد الملك الزيات، كما في أخبار أبي تمام ص 277 - 278، وتاريخ بغداد 9/ 163 - 164، وتاريخ دمشق 4/ 162 - 163، والبيتان الثاني والثالث للحسن بن وهب، كما ذكر المصنف، فتداخلت القطعتان. (¬3) أخبار أبي تمام ص 276، وتاريخ بغداد 9/ 163. (¬4) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬5) يشير إلى قصيدة مكنف ولد زهير بن أبي سلمى، وانظر تمام الخبر في الأغاني 23/ 115، وما بين حاصرتين منه.

شهدتُ لقد أَقوت مغانيكُم بعدِي ... الأبيات فخجل دعبل، فقال له الحسن: قد مات الآن، وقد كنتَ تعادِيه حسدًا له على حظِّه من الدنيا، فتبِ الآن من ذكره، [فقال: أصدقك يا أبا عليّ، ] (¬1) ما كان بيني وبينه إلَّا أنَّني سألتُهُ أن ينزل عن شيءٍ من شعره، فاستحسنَه فبخلَ (¬2) به عليَّ. فعجب ابنُ وَهْب من اعترافه. وقال المهلبيُّ: ما كان أحدٌ يقدرُ في زمن أبي تمَّام أنْ يأخذَ درهمًا على الشعر، فلمَّا مات اقتسمَ الشعراءُ ما كان يأخذه (¬3). حدث أبو تمَّام عن صهيب (¬4) بن أبي الصهباء وغيره، وروى عنه خالد بن يزيد الشاعر وغيره. وقال خالد بن يزيد الكاتب: بينا أنا مارٌّ بباب الطَّاق، وإذا براكبٍ خلفي على بغلةٍ، فلمَّا لحقني نخسني بسوطه، وقال: يا خويلد أنت القائل: [من المتقارب] رقدتَ فلم ترثِ للساهر ... وليلُ المحبِّ بلا آخر فقلت: نعم، فقال: لله درُّك، وصفَ امرؤ القيس في ثلاثة أبيات الليلَ الطويل، وكذا النابغةُ وبشار بن برد، وبَرَّزْتَ عليهم أنتَ بشطر كلمة؟ ! فقلت: بيِّن ما تقول، قال: أمَّا امرؤ القيس فقال: [من الطويل] وليلٍ كموجِ البحرِ أَرْخَى سُدُولَه ... عليَّ بأنواعِ الهموم ليبتلي فقلتُ له لمَّا تمطَّى بصدره ... وأردفَ أعجازًا وناءَ بكَلْكَلِ ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألَا انجلي ... بصُبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ (¬5) وأمَّا النابغةُ فقال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من الأغاني 23/ 116، ومكانها في (خ) و (ف): فكان. (¬2) في الأغاني: إلا أني سألته عن شيءٍ استحسنته من شعره فبخل ... (¬3) الأغاني 16/ 388. (¬4) تحرفت في (خ) و (ف) إلى مهلب. والتصويب من تاريخ دمشق 4/ 152 (مخطوط)، وانظر تاريخ بغداد 4/ 165 - 166. (¬5) ديوان امرئ القيس ص 18.

علي بن المغيرة

كليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصبِ ... وليلٍ أُقاسيهِ بطيءِ الكواكبِ وصدرٍ أراحَ الليلُ عازبَ هَمِّه ... تضاعفَ فيه الهمُّ من كلِّ جانب تقاعسَ حتى قلتُ ليس بمنقضٍ ... وليسَ الذي يَهدي النجومَ بآيبِ (¬1) وأما بشار بن برد فقال: [من الطويل] خليليَّ ما بال الدُّجى لا يزحزحُ ... وما بَالُ ضوء الصُّبح لا يتوضَّحُ أظنُّ الدُّجى طالتْ وما طالتِ الدُّجى ... ولكنْ أطال الليل سُقْمٌ مبرحُ أضلَّ النهارُ المستنيرُ طريقَه ... أمِ الدهرُ ليلٌ كلُّه ليسَ يبرحُ (¬2) فقلت له: قد قلتُ في معنى لم أسبَق إليه، فقال: قل، فقلت: [من مجزوء الرمل] كلمَا اشتدَّ خضوعي ... بجوىً (¬3) بينَ ضلوعِي ركضتْ في حلبتَي (¬4) خد ... يَّ خيلٌ من دُموعِي فثنى رجلَهُ عن البغلة، ونزل، وقال: خذها، فأنتَ أحقُّ بها مني، ومضى، فسألتُ عنه، فقيل: هذا أبو تمَّام الطائي. علي بن المُغِيَرة أبو الحسن الأثرم، البغداديُّ، صاحبُ اللغة والنحو وغيره. قدم الشام، ثمَّ رجعَ إلى بغداد، فتوفيَ بها. سمعَ الأصمعيَّ وغيَره، وكان ثقةً (¬5). محمدُ بن زياد أبو عبد الله، ابن الأعرابيّ، مولى بني هاشم، كان أحدَ العالمين باللغة، والمشار إليه (¬6) في معرفتها، كثير الحفظ لها، وكان يزعم أن الأصمعيَّ وأبا عبيدة لا يعرفان ¬

_ (¬1) ديوان النابغة ص 40 - 41 (دار المعارف). (¬2) ديوان بشار بن برد 1/ 462. (¬3) في المصادر: لجوى. (¬4) في (خ) و (ف): جانب. والتصويب من تاريخ بغداد 9/ 255، وتاريخ دمشق 3/ 102 (مخطوط)، والمنتظم 12/ 179. (¬5) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 13/ 594، وتاريخ دمشق 51/ 243 (طبعة مجمع اللغة). (¬6) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد 3/ 201: إليهم.

محمد بن عائذ

منها قليلًا ولا كثيرًا، وما رُؤي في يده كتابٌ قط. قال الخطيب: وسألَه ابنُ أبي دؤاد، أتعرف [في اللغة "استوى"] (¬1) بمعنى استولى؟ قال: لا (¬2)، ولا تعرفُه العرب؛ لأنَّها لا تقولُ: استولى فلانٌ على الشيء حتى يكونَ له فيه مُضَادٌّ أو منازع، فأيُّهما غلبَ استولى عليه، والله تعالى لا ضدَّ له. وأنشد النابغة: [من البسيط] إلَّا لمثلكَ أو مَنْ أنتَ سابقُه ... سبقَ الجوادِ إذا استولَى على الأمَدِ (¬3) وكان خصيصًا بالمأمون، وهو الذي سألَه المأمون عن أحسنِ ما قيل في الشراب، فقال (¬4): [من الطويل] تريكَ القَذَى مِنْ دونها وهيَ دونَه ... إذا ذاقَها من ذاقَها يتمطَّقُ (¬5) فقال المأمون: أشعرُ منه من قال: [من المديد] وتمشَّت في مفاصِلهم ... كتمشِّي البُرْءِ في السَّقمِ يريد أبا نواس (¬6). مات ابنُ الأعرابي بسرَّ من رأى في هذه السنة، وقيل: في سنة إحدى وثلاثين ومئتين، وصلَّى عليه أحمدُ بن أبي دؤاد، وحدَّثَ عن أبي معاوية الضرير وطبقته، ورَوى عنه إبراهيم الحربيّ وغيره، وكان أوثقَ الناسِ، وهو الذي رَوى حديث أمِّ زرع، وتوفي في شعبان وهو ابنُ ثمانين سنة. محمَّدُ بن عَائذ صاحب المغازي والفتوح، أبو عبد الله، الكاتبُ الدمشقيُّ، صنَّف "الصوائف" ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 3/ 204. (¬2) ها هنا انتهى جواب ابن الأعرابي لابن أبي دؤاد، وما بعده هو من جوابه لرجل آخر. وانظر تاريخ بغداد 3/ 204. (¬3) ديوان النابغة ص 21. (¬4) قائله الأعشى. والبيت في ديوانه ص 269. (¬5) في (خ) و (ف): يتمنطق. والمثبت من ديوان الأعشى، وتاريخ بغداد 3/ 204. (¬6) ديوانه ص 537.

هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد

و "السير" وغيرها، ولدَ سنة خمسين ومئة، ووليَ خراج غوطة دمشق للمأمون، وكان ثقةً. مات بدمشق في هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاثٍ، أو أربع وثلاثين ومئتين. أسند عن الوليد بن مسلم، وخلقٍ كثير، ورَوى عنه أبو زُرعة الدمشقي -وذكره في أهل الفتوح (¬1) - وأحمد بن أبي الحَوَاري، وغيرهما، وأَجْمعوا على عدالتِه وديانتِه (¬2). هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد ولد سنة تسعين ومئة -وقيل: سنة أربع وتسعين (¬3) - بطريق مكَّة، وأمه قراطيس أم ولد، كان حسنَ السيرة، وإنَّما استولَى عليه أحمدُ بن أبي دؤاد، كما استولَى على أبيه، وحملَه على أن حملَ الناس على القولِ بخلق القرآن، وشدَّد عليهم في ذلك، فكرهوا أيَّامه. وقال أحمد بن حمدون: دخلَ هارون بن زياد مؤدِّبُ الواثق على الواثق، فأكرمَه وأظهرَ من برِّه ما شُهِر به، فقيل له: من هذا الذي فعلتَ به ما فعلت؟ فقال: هذا أوَّلُ من فَتَقَ لساني بذكرِ الله، وأَدْنَاني من رحمة الله تعالى (¬4). وقال يحيى بن أكثم: ما أحسن أحدٌ من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثقُ، ما ماتَ وفيهم فقير (¬5). وقال محمد بن المهتدي: كنتُ أَمشي مع الواثقِ في صحن داره، فقال: يا محمد، ادعُ بدواةٍ وقِرْطاس، فدعوتُ له بهما، فقال: اكتب: [من الوافر] تنحَّ عن القبيح ولا تُرِدهُ ... ومَنْ أوليتَ إحسانًا فزِدْهُ ستُكْفَى من عدوِّكَ كلَّ كيدٍ ... إذا كادَ العدوُّ ولم تَكِدْهُ ¬

_ (¬1) تاريخ أبي زرعة 1/ 288. (¬2) انظر ترجمته في تاريخ دمشق 62/ 350، وسير أعلام النبلاء 11/ 104، وغيرهما. (¬3) لم أقف على هذا القول. بل روي أن ولادته كانت سنة ست وتسعين. انظر تاريخ الطبري 9/ 151، وتاريخ بغداد 16/ 23. (¬4) تاريخ بغداد 16/ 25، والمنتظم 11/ 120. (¬5) تاريخ بغداد 16/ 26.

ثم قال لي: اكتب: [من البسيط] هي المقاديرُ تَجري في أعنَّتها ... فاصبرْ فليسَ لها صبرٌ على حالِ ثم نظرَ طويلًا، فلم يحضره شيءٌ آخر، فقال: حسبك (¬1). وقال أحمد بن حمدون: كان بين الواثق وبعض جواريه شرٌّ، فخرج كسلان، فلم أزلْ أنا والفتح بن خاقان نحتالُ في نشاطه، فلم ينشط، ورآني أضاحكُ الفتح، فقال: قاتلَ اللهُ العباسَ بن أحنف حيث يقول: [من البسيط] عَدْلٌ من الله أبكاني وأضحككم ... فالحمدُ لله عدلٌ كلُّ ما صنعَا (¬2) للحُبِّ في كلِّ عضوٍ لي [على] حِدَةٍ ... نوعٌ تفرَّقَ عنه الصبر (¬3) واجتمعَا فقال له الفتح: أنتَ والله يا أميرَ المؤمنين في وضع (¬4) التمثيل في موضعه أشعرُ منه وأظرف. وقال يحيى بن أكثم: كان أحمدُ بن أبي دؤاد قد استولَى على الواثق؛ دخلَ عليه يومًا وعنده محمدُ بن عبد الملك وجماعةٌ، وقد نالوا من ابنِ أبي دؤاد، فلمَّا رآه الواثق تمثل بقول الحطيئة، وأومأ إليهم: [من البسيط] مَلُّوا قِرَاهُ وهَرَّتْهُ كلابُهم ... وجرَّحُوه بأنيابٍ وأضراسِ (¬5) ففهم ابن أبي دؤاد، فأشارَ إلى ابن الزيَّات، وقال: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]، ثم قال ابن أبي دُؤاد: فما قال لهم أمير المؤمنين؟ قال: ما قاله كثيِّرُ عزَّة: [من الكامل] ومَشى إليَّ بعيب عزَّة عصبةٌ ... جعلَ الإلهُ خُدودَهنَّ نِعالَها (¬6) ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 25 - 26، والمنتظم 11/ 120 - 121. (¬2) بعده في تاريخ بغداد 16/ 26، والأغاني 8/ 357 - 358، والمنتظم 11/ 121: اليوم أبكي على قلبي وأندبُهُ ... قلبٌ ألحَّ عليه الحبُّ فانصدعا (¬3) في (خ) و (ف): الصد، والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 26، والمنتظم 11/ 121، وما بين حاصرتين منهما. ولم يُذكر هذا البيت في الأغاني. (¬4) في (خ) و (ف): موضع. والمثبت من تاريخ بغداد والمنتظم والأغاني 8/ 357 - 358. (¬5) ديوان الحطيئة ص 284. (¬6) ديوان كثير ص 235 بألفاظ قريبة.

وقال حماد الموصلي: مرضَ الواثقُ فعادَه أبي وأنشد: [من البسيط] ليتَ الشكاةَ التي كدنَا لها جَزعًا ... نموتُ لو أنَّ شيئًا يسبقُ الأجلَا كانت بنا دونَ مولانا وسيِّدنا ... وأنه جُنِّبَ الأوصابَ والعِلَلَا فالحمدُ لله إذ صحَّت سلامتُه ... وأذهبَ الله عنه الخوفَ والوجلَا يا أيُّها الواثقُ المأمولُ أنتَ لنا ... عزٌّ نلوذُ به إذ نازلٌ نزلَا لا نتَّقي ريبَ دهرٍ ما بقيتَ لنا ... ولا نبالي إذا وُلِّيتَ ما فعلَا نَهوى الحياة إذا ما كنتَ راعيَنا ... وإن بقينا ليومٍ غيرِ ذاك فلَا فأعطاه ستة آلاف دينار. وقال أبو عثمان المازني: كان سبب طلب الواثق لي أن جاريةً غنَّت بين يديه: [من الكامل] أظلومُ إنَّ مصابَكم رَجلًا ... أهدى السلامَ تحيَّة ظلمُ فأنكرَ عليها الواثق، فقالت: قرأتُهُ على المازني، فأرسلَ في طلبي، فلمَّا دخلتُ عليه قال: ممَّن الرجل؟ قلت: من مازن، فقال: مازن اليمن، أو ربيعة، أو تميم، أو شيبان؟ فقلت: من مازن ربيعة، فقال: ما اسبك -بالباء، وهي لغةُ قومنا-؟ قلت: مكر، أي: بكر، فضحك وقال: اقعد، فقعدت، فقال: كيف تنشدُ هذا البيت: أظلوم إنَّ مصابكم؟ فقلت: رجلًا، فقال أين خبر إنَّ؟ قلت: ظلم، الذي في آخر البيت، فقال: ولم؟ قلتُ: لأنَّ البيتَ معلَّق به، ولا معنَى تحته حتى يتمَّ به، فأعطاني ألفَ دينار، وأمرني بملازمة مجلسه (¬1). وقال الصوليُّ: جلسَ الواثقُ يومًا وعنده ندماؤه، فطربَ، فقال: من ينشدُنا؟ فقال الحسين بن الضحَّاك: أنا، فأنشدَه قصيده التي أولها: [من الطويل] سَقَى الله بالقاطولِ مسرحَ طرفكا ... وخصَّ بسُقياهُ مناكبَ قصركَا (¬2) ¬

_ (¬1) انظر القصة في نزهة الألباء ص 183 - 185، ووفيات الأعيان 1/ 284، وإنباه الرواة 1/ 249، والأغاني 9/ 234 - 235، وفي نزهة الألباء وإنباه الرواة أنه انتسب إلى مازن شيبان. وانظر ما سيأتي في ترجمة المازني من هذا الجزء. (¬2) في (خ): مرابع طرفكا. والمثبت من الأغاني 7/ 158، وما سيأتي بين حاصرتين منه.

خلقتَ أمينَ الله للخلقِ عصمةً ... وأمْنًا وكلٌّ في ذراكَ وظَلِّكَا وثقْتَ بمن سمَّاك في الغيب واثقًا ... وثبَّتَ بالتأييد أركانَ مُلكِكَا وأعطاكَ مُعطيكَ الخلافةَ شكرَها ... وأشعر بالتَّقوى سريرةَ قلبِكَا وزادكَ من أعمارنا غيرَ مِنَّةٍ ... عليكَ بها أضعافَ [أضعافِ] عمرِكَا ولا زالتِ الأقدارُ في كلِّ حالةٍ ... عدوًّا لمن عاداكَ سلمًا لسلمكَا إذا كنتُ من جدواك في كلِّ نعمةٍ ... فلا كنتُ إنْ لم أُفْنِ عمري بشكركَا من أبيات، فأعطاه خمسينَ ألفًا. وقال الواثق: ما مدحني أحدٌ كما مدحني إدريس بن سليمان بن أبي حفصة، والأبيات: [من البسيط] قل للخليفة هارونَ الذي خضعتْ ... له رقابُ ملوك السهلِ والجبلِ أصبحتَ مالك بعد الله من مثل ... والله ليسَ له في العزِّ من مثلِ ورثتَ عن خلفاءٍ أنتَ تاسعُهم ... خلافة ورثوها خاتمَ الرسلِ منكم رشيدٌ ومهديٌّ ومعتصمٌ ... وواثقٌ عن سبيل الحقِّ لم يملِ لو لم يُقِم قبَّةَ الإسلامِ عدلكُم ... لأصبحَ الملكُ منها غيرَ معتدلِ وحوَّلَ الواثقُ الدُّنيا فجادَ بها ... وسدَّ بالعدلِ باب الجورِ والنحلِ أحييتَ بعدَ رسولِ الله سنَّتَه ... فأصبحَ الحق فيها واضحَ السبلِ وكان الواثق مريضًا، فأمرَ أحمدَ بن أبي دُؤاد أن يصلِّي بالناسِ يومَ العيد، فلمَّا انصرف قال: كيف كان عيدكم؟ قال: كنَّا في نهارٍ لا شمسَ فيه، فقال: أنا مؤيَّدٌ بك (¬1). وقال إسحاق بن إبراهيم: حججتُ ثم عدت إلى سامراء، فدخلت على الواثق فقال: أطرفني بأحاديثِ الحجاز والأعراب، فقلت نزلتُ في بعض المنازل، فجلس إليَّ فتىً من الأعراب، فرأيتُ منه أدبًا وحديثًا حسنًا، فقلت: أنشدني فقال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 25، ومختصر تاريخ دمشق 27/ 42.

سَقَى العلمُ الفردُ الذي في ظلاله ... غزالانِ مكِّيَّانِ (¬1) مؤتَلِفَانِ إذا أَمِنَا التفّا بجيدَي تواصلٍ ... فطرفَاهما للغيبِ (¬2) مسترقانِ ثم تنفَّس فظننتُ نَفْسَه تخرج، فقلت: ما الرأي بك (¬3)؟ فقال: من وراء هذين الجبلين شجنٌ قد حيل بيني وبينه، ونذروا دمي، فأنا أتمتعُ بالنظر إلى هذين تعلُّلًا بهما، فقلت: زدني، فقال: [من الطويل] إذا ما وَرَدْتَ الماءَ في بعضِ أهله ... حَضورُ فعرِّضْ بي كأنَّك مازحُ فإنْ سَأَلَتْ عنِّي حَضورُ فقل لها ... به غِيَرٌ مِنْ دائِه وهو صالحُ فعجبَ الواثق وأمرني أن ألحِّن الأبيات (¬4)، فغنَّيتُ بها بين يديه، فأمر لي بستين ألفًا، ثم قال: قد قضيتُ حوائجك وما أفكرتَ في السبب! قلت: وما هو؟ قال: الأعرابيُّ، ولم تسألني معونته، وقد كتبتُ إلى والي الحجاز بأنْ يزوِّجَهُ المرأة، ويسوق إليها صداقَها، وأمرتُ له بمالٍ، فقبَّلت يدَه وقلتُ: من يسبقكَ إلى المكارم وأنت سيِّدُها ومولاها. وقال الخطيبُ: كان الواثقُ مغرى بأكلِ الباذنجان، فكانَ يأكلُ في ساعةٍ منه أربعين باذنجانة، فقال له أبوه: يا بني مَنْ رأيتَ خليفةً أعمى؟ ففهم فقال: يا أميرَ المؤمنين قد تصدَّقتُ بعيني على الباذنجان (¬5). وقال الصوليُّ: أهدي إلى الواثق غلامٌ، فأغضَبَه الواثقُ يومًا، فسمعه يقولُ لبعض الخدم: والله إنَّ أمير المؤمنين ليروم منذ أمس أنْ أكلِّمَه، فلم أفعل، قال الواثق: [من البسيط] يا ذا الذي بعذابي ظلَّ مفتخرا ... ما أنتَ إلا مليكٌ جارَ إذ قَدَرَا لولَا الهوى لتجارينَا على قدرٍ ... وإنْ أَفِقْ منه يومًا ما فسوفَ ترَى (¬6) ¬

_ (¬1) في الأغاني 9/ 286، والتذكرة الحمدونية 6/ 203: مكحولان. وفي الفرج بعد الشدة 4/ 399: مكتنان. (¬2) في الفرج بعد الشدة والتذكرة الحمدونية: للريب. ولم يذكر صاحب الأغاني هذا البيت. (¬3) في الفرج بعد الشدة والتذكرة الحمدونية: ما لك بأبي أنت. وفي الأغاني: ما بالك. (¬4) في الفرج بعد الشدة أن الذي لحن الشعر بعض عجائز الدار، وأثنى إسحاق على اللحن. (¬5) لم أقف عليه في تاريخ بغداد، وانظر وفيات الأعيان 2/ 267. (¬6) مختصر تاريخ دمشق 27/ 42.

ذكر وفاته: قيل: إنَّه رَجَع عن القولِ بخلق القرآن، وتابَ قبل موته. وقال إبراهيم بن أسباط: أُبْلِغَ ابنُ أبي دؤاد أنَّ رجلًا من أهل أَذَنَة يناظرُ في القرآن، ويقيمُ الأدلَّة على قِدَمِه فقال: يا أميرَ المؤمنين إنَّ رجلًا بأَذَنَة يقال له: عبد الله بن محمد الأَذْرَميّ يناظرُ في القرآن، فبعثَ به إليه، فجلس الواثقُ مجلسًا عامًّا، وحضرَ ابنُ أبي دؤاد والعلماءُ والأشراف، ودَخلَ الرجل فقال: سلامٌ عليكم، فقال الواثق: لا سلَّم الله عليك، فقال الرجل: ما أحسن ما أدَّبك مؤدِّبُك! قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فوالله ما حييتني بها ولا بأحسنَ منها، فخجلَ الواثقُ، ثم قال الواثق لابن أبي دؤاد (¬1): يا أحمد، هذا الذي تدعو الناس إليه أشيءٌ علمَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لم يعلمه؟ فإن كان علمه، فهلَّا دَعَا الناسَ إليه، وإن قلت: ما علمَه، فقد نسبتَه إلى الجهل، وكذا الخلفاء بعدَه، فقال ابنُ أبي دؤاد: عَلِمُوه، ولم يدعوا الناس إليه، فقال الرجل: أفلَا يسعُكم ما وسِعَهم؟ فانقطعَ ابنُ أبي دؤاد، وقام الواثقُ ودخل مجلسَه واستلقَى على ظهره، ثم جعل يردِّدُ كلامَ الشيخ، ثم استدعَى به، فحلَّ عنه قيوده، وأعطاهُ أربعَ مئة دينار، وردَّهُ إلى أهلِه مكرمًا، فاستدلَّ الناس بذلك على رجوع الواثق (¬2). وقال صالح بن [علي بن] (¬3) يعقوب الهاشميّ: حضرتُ مجلسَ المهتدي بالله، وقد جلسَ للمظالم في دار العامَّة، فقرأَ القصَص ووقَّع عليهم بأسرها، فسرَّني ذلك منه، وجعلت أنظرُ إليه، ففطنَ وقام، ثم استدعاني وقال لي: يا صالح، حَدِّثني ما دارَ في خَلَدِك، أو أحدثك، فقلت: أمير المؤمنين يرى، فقال: إنك (¬4) استحسنت ما رأيتَ منِّي، وقلت في نفسك: أيُّ خليفةٍ خليفتُنا، لو لم يقل بخلق القرآن. فقلت: الصدقُ أنجَى، هو ذاك. فقال: قد كنتُ أقولُ ذلك صدرًا من أيام الواثق حتى قدم على أحمد ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف) فلعله وقع سقط أو تحريف، فالقائل هو الشيخ. (¬2) انظر القصة مختصرة في فوات الوفيات 4/ 229 - 230، وسير أعلام النبلاء 10/ 308، وتاريخ الخلفاء ص 341 - 342. وفيها أنه أعطاه ثلاث مئة دينار. (¬3) ما بين حاصرتين من مختصر تاريخ دمشق 27/ 42. (¬4) في (خ) و (ف): إن. والمثبت من مختصر تاريخ دمشق 27/ 43، وانظر سير أعلام النبلاء 10/ 309.

ابن أبي دؤاد شيخٌ من الشام من أهل أذنة، فَأُدْخِلَ على الواثق مقيَّدًا فإذا هو جميلُ الوجهِ، حسنُ الشيبة، فرأيتُ الواثقَ قد رقَّ له، وما زال يدنيه حتى قَرُبَ منه فسلَّم فأحسن، ودَعَا فأبلغَ وأوجزَ، فأمَره بالجلوس وقال له: ناظر ابن أبي دؤاد، فقال: إنَّه يصبو (¬1) أو يضعفُ عن المناظرة، فغضبَ الواثقُ، ثمَّ قال الشيخُ لابن أبي دؤاد: يا أحمد، أخبرني عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ بعثه الله إلى الخلائق، هل ستَر شيئًا ممَّا أمره به؟ قال: لا، قال: علم بمقالتك هذه أو جهلها؟ قال: بل علمها، قال: فهل دعا الناس إليها. [فسكت] (¬2)، قال: وكذا علمها الخلفاءُ الراشدون؟ قال: نعم، قال: فهل دعي الناسُ إليها؟ فسكت، فقال الشيخ: إنْ لم يسعنا في هذه المقالة ما وسعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعدَه، فلا وَسَّع الله علينا، فأمرَ بفكِّ قيده فأراد الحدادُ ليأخذه، فقال الشيخ: لا والله، أنا أحق به، فقال له الواثق: فما تصنعُ به؟ قال: أجعلُه في كفني لأخاصمَ به هذا الظالم يوم القيامة، وأشار إلى ابن أبي دؤاد، [أقول: يا رب، سل عبدك هذا، لم] (¬3) روعني وأزعجني وأزعج أولادي وإخواني بغير حق؟ ثمَّ بكى، وبكى الواثق وقال له: اجعلني في حلٍّ فقال: والله جعلتُك في حلٍّ من أوَّل يوم إكرامًا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ كنتَ من أهله، قال: ألكَ حاجة؟ قال: نعم، تجعل سراحي إلى أهلي وولدي، فقال له: إنْ رأيتَ أن تقيمَ عندنا ننتفع بك وتنتفع بنا، فقال: لا، بل أروحُ إلى أهلي، قال: فتقبلُ منا صِلَةً تستعينُ بها، قال: أنَا عنها في غنى، ثمَّ قام، وخرج إلى السفر، فقال المهتدي: فرجعتُ عن هذه المقالة، وأظنُّ أن الواثقَ رجعَ عنها من ذلك اليوم. وقال (¬4) ابن أكثم: دخل عبَّادة المؤنَّث (¬5) على الواثق، وكان عبَّادة ظريفًا ينادمُ الخلفاء، وله نوادر [مضحكة]، فقال: يا أمير المؤمنين أحسنَ الله عزاءك، قال: فيمن؟ قال: في "قل هو الله أحد" (¬6)، فقال: ويحكَ، وكيف تموت؟ ! قال: لأنَّه مخلوق، ¬

_ (¬1) في مختصر تاريخ دمشق 27/ 43: يضوى ويضعف. (¬2) ما بين حاصرتين من مختصر تاريخ دمشق. (¬3) في (خ) و (ف) بياض، واستدركته من مختصر تاريخ دمشق 27/ 44. (¬4) من هنا رجعت النسخة (ب) وفيها: فصل في ذكر الواثق. (¬5) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وفي المصادر: عبَّادة المخنث. (¬6) في (ب): في القرآن. بدل: في قل هو الله أحد.

وكلُّ مخلوقٍ يموت، [وإذا مات في شعبان، فمن يصلِّي بالناس في رمضان]، فوجم الواثق وقال: خذها من غير فقيه، ورجع عن قوله (¬1). [وعاش عبَّادة إلى أيام المتوكِّل] (¬2). واختلفوا في سببِ وفاة الواثق، فقال قومٌ: كانَ كثيرَ الأكل على غير نقاء، ففسدت معدتُه، وكان يُحملُ إليه من بطيخ مَرْو فيكثر الأكل [منه]، فاستحال في جوفه، فكان سببَ وفاته. وقال الطبري: [حكى لي جماعةٌ من أصحابنا أنَّ علَّتَه التي توفيَ فيها كانت علَّةَ الاستسقاء، ] (¬3) فعولجَ في تَنُّورٍ مسخَّنٍ، فوجدَ لذلك راحةً [وخفَّةً]، فأمرهمْ من غير (¬4) ذلك اليومِ بالزيادةِ في إسخان التنُّور، ففعلُوا، وقعد فيه أكثرَ من [قعوده في] اليوم الذي قبله، فحمِيَ عليه، فأخرِجَ منه، وصُيِّرَ في محفَّةٍ، وحضرهُ الفضلُ بن إسحاق الهاشميّ وعمر بن فرج الرُّخَّجيّ وابنُ الزيَّات وابنُ أبي دؤاد، فلم يعلمُوا بموتِه حتى ضَربَ بوجهه المحفَّة، [فعلمُوا أنَّه قد مات. هذا صورةُ ما ذكره الطبريُّ (¬5). قلت: وقد ذكر أبو المتوكل (¬6) بما هو أتم من هذا، حدثنا غيرُ واحدٍ عن عبد الملك بن القاسم الكروخي بإسناده إلى أبي المتوكل قال: ] كان الواثقُ يحبُّ النساءَ وكثرةَ الجماع، بعثَ [يومًا] إلى ميخائيل الطبيب، فدخلَ عليه وهو نائمٌ في فرشه (¬7) وعليه قطيفة خزّ، فقال: يا ميخائيل، أريدُ دواءً للباه، فقال [له: ] يا أميرَ المؤمنين، اتَّقِ الله في نفسك [وبدنك]، فإنَّ الجماعَ يهدُّ البدنَ ويضعف النفس، [و] لا سيما إذا تكلَّفَه الرجل، فقال له: لا بدّ، ثم رفعَ القطيفة وإذا بينَ فخذيه وصيفةٌ قد ضمَّها [إلى نفسه، ¬

_ (¬1) انظر القصة بنحوها في عقلاء المجانين ص 41، وتاريخ دمشق 32/ 50 - 51 (طبعة المجمع). (¬2) ما سلف بين حاصرتين من (ب) (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): كانت علته (بياض بمقدر كلمة) ... (¬4) كذا في (خ) و (ف). وليست في (ب)، وفي تاريخ الطبري: غَدِ. (¬5) في تاريخه 9/ 150. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬6) كذا في (ب). والصواب: المتوكل. كما في المنتظم 11/ 186. وفي (خ) و (ف): وقال المتوكل. (¬7) في المنتظم 11/ 186: وهو نائم في مشرفة له.

وذكر من حسنها وجمالها أمرًا عجيبًا]، (¬1)، وقال: من يصبرُ عن مثل هذه، فقال: إنْ كان ولا بد، فعليك بلحم (¬2) السبع [يُغْلَى منه رطلٌ سبعَ غليات] (¬3) بخلِّ خمرٍ عتيق، فإذا جلستَ على شرابك تناول منه مقدارَ ثلاثة دراهم ثلاثَ ليال، فإنَّك تجدُ ما يغنيك، ولا تجاوز ما قلت لك، [فأخذ سَبُعًا وذبحَه، وتناول من لحمه على الوجه الذي ذكره ميخائيل، فأكثر منه على الشراب] (¬4) فَسُقِيَ بطنُه، فأجمعَ الأطبَّاءُ على أنَّه لا دواءَ له إلا أن يسجَر تنورٌ بحطبِ الزيتون، ويسخَّنَ حتى يمتلئ جمرًا [فإذا امتلأ كُسِحَ] (¬5) ما في جوفه، [ويلقى على ظهره، ويجعل تحته وفوقه الرطبة] ويقعد فيه ثلاث ساعات، فإذا استسقَى ماءً لم يُسْقَ، ثم يخرج [من التنور]، فإذا وجدَ الراحةَ أعادوه، ففعلوا [به] ذلك، فجعلَ يصيحُ ويستغيث، ويقول: أخرجوني فقد احترقت، اسقوني ماءً وقد وكَّلُوا به من يمنعهُ الماء، ولا يدعه أن يقوم من موضعه، فتنفَّطَ بدنه كلُّه، وصار فيه نفاخات أكبرُ من البطيخ، واشتد به الألمُ والوجع، فصاح: ردُّوني إلى التنُّور، وكان قد وجدَ خِفَّةً، فردُّوه، فصاح، وانفجرت النفاخات، وصاحَ أهله وجواريه، فما أُخرِجَ من التنور إلَّا [وقد صار] أسودَ مثل الفحمة، فما مضت عليه ساعةٌ حتى مات (¬6). ورَوَى الخطيبُ أنَّه لما احتُضِرَ جعلَ ينشد: [من البسيط] الموتُ فيه جميعُ الخلقِ مُشترِكُ ... لا سُوقةٌ منهم يبقَى ولا ملكُ ما ضَرَّ أهلَ قليلٍ في تفاقرهم ... وليس يُغني عن الأملاكِ ما مَلكُوا قال: ثم أمر بالبُسُطِ فطويت، وألصقَ خدَّه بالأرض، وجعلَ يقول: يا من لا يزولُ ملكُه، ارحمْ من قد زال ملكُه (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ضمها إليه، في نهاية الجمال والحسن. (¬2) في (ب): بشحم. (¬3) في (خ) و (ف): يطلى منه رطل. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): وتناول منه فأكثر. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ) و (ف): ثم يكسح. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬6) انظر الخبر بتمامه في المنتظم 11/ 186 - 188. (¬7) تاريخ بغداد 16/ 26 - 27.

وروي أنَّه أحضرَ المنجِّمينَ فنظرُوا في مولده، واتفقُوا [على] (¬1) أنَّه يعيشُ خمسين سنةً مستقبلةً، فماتَ بعد خمسة أيام. [ومن العجائب ما رواه الخطيب عن القاضي التنوخي عن أبيه قال: حدثني الحسين أحمد بن محمد، عن أبيه (¬2)، عن] أحمد بن محمد (¬3) أمير البصرة [قال: حدثني أبي قال: ] كنتُ لحقته مرَّضَ الواثقَ، فكنت قائمًا بين يديه أنا وجماعةٌ من الأولياء والموالي والخدم، إِذْ لَحِقَتْهُ غشيةٌ، فما شككنَا أنَّه قد مات، فقال بعضُنا لبعض: تقدَّموا فاعرفوا خبره، فما جَسَرَ أحد [منا] يتقدَّم إليه، فتقدَّمت أنا، فلمَّا أردتُ أنْ أضعَ يدي على أنفه، لحقته إفاقةٌ، ففتحَ عينيه، فكدتُ أنْ أموتَ فرقًا من أن يراني قد مشيتُ في مجلسه إلى غير رتبتي، فتراجعتُ إلى خلف، وتعلَّقت قبيعةُ سيفي بعتبة المجلس، وعثرتُ به، فاتَّكأت عليه فاندقَّ سيفي، وكاد يدخل في لحمي ويجرحني، فسلَّمتُ وخرجتُ، فاستدعيتُ سيفًا ومِنْطقةً أخرى فلبستها، وجئتُ فوقفتُ في مرتبتي ساعةً، وماتَ الواثق، وجاء الفرَّاشون، فأخذوا ما تحته [في المجلس] من الفرش؛ ليردُّوهُ إلى الخزائن؛ لأنها [كانت] مثبتةً عليهم، وتُرِكَ وحدَه في البيت، فشددتُ لحيته (¬4)، وغمَّضتهُ، وسجَّيتُه، ووجَّهتُه إلى القبلة، فقال لي ابن أبي دؤاد: نريدُ أنْ نتشاغلَ بعقدِ البيعة، ولا بدَّ أن يكونَ أحدٌ يحفظُ الميتَ إلى أنْ يُدفنَ، وقد كنتَ من أخصِّ الناسِ به في حياته، فاحفظْهُ بعد مماته، فقلت: نعم، ومضَوا، فرددتُ عليه باب المجلس، وجلست [عند الباب أحفظُه]، وكان المجلس في بستانٍ كبير، فبينا أنا كذلك إذ سمعت في البيت حركة [أفزعتني]، فدخلتُ أنظر [ما هي]؟ وإذا بجرذون من دواب البُستان قد جاء فاستلَّ عين الواثق فأكلَها، [فتعجبت] وقلت: لا إله إلا الله، هذه العينُ التي فَتَحَهَا منذُ ساعةٍ فاندقَّ سيفي لها هيبة [له] صارتْ طعمةً لدابَّةٍ ضعيفةٍ، ثمَّ جاؤوا فغسَّلوه، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) كذا في (ب)، وفي تاريخ بغداد: حدثني الحسين بن الحسن بن أحمد بن محمد الواثقي، قال حدثني أبي، قال: حدثني أبي أحمد بن محمد. (¬3) في (خ) و (ف): وقال أحمد بن محمد أمير البصرة، والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬4) كذا في (خ) و (ف) و (ب)، وفي تاريخ بغداد: لحييه.

وسألني ابنُ أبي دؤاد عن عينه، فأخبرتُه. [قال: والجرذون دابَّةٌ أكبر] (من اليربوع قليلًا) (¬1). وقيل: إنَّ هذه الواقعةَ كانت مع إيتاخ (¬2) [مملوك الواثق، وأنَّه أكلَ عينه جرذون ... (¬3). وكذا جرى لمروان بن محمد الجعدي آخر ملوك بني أمية لما قُتِلَ ببُوصير بعث برأسه عبدُ الصَّمد بن علي إلى أخيه عبد الله بن علي بالشام؛ ترك الرأس بين يديهم، وغفلوا عنه ساعة، فجاءت هرَّة فأكلت لسانه، وقد ذكرناه] (¬4). وتوفي الواثق بسُرَّ من رأى لأربعِ ساعاتٍ من نهار الأربعاء لست بقينَ من ذي الحجَّة [سنة اثنتين وثلاثين ومئتين]، ودفنَ بقصره المعروفِ بالهارونيّ، وقيل: مع أبيه بالجَوْسَق، وكان المتولِّي لغسله وتكفينه ونزوله في قبره أحمد بن أبي دؤاد، وصلَّى عليه أخوه المتوكل، ودفن وهو ابن سبع [وثلاثين سنة، وقيل: ابن] (¬5) ثمان أو تسع وثلاثين سنة. و [كانت] خلافتُه خمسَ سنين وتسعةَ أشهر وأيَّامًا، وقيل: خمس سنين وشهرين وأحد وعشرين (¬6) يومًا. [وأما أولادُه، فمحمد وهو المهتدي] (¬7)، وليَ الخلافة، وأمُّة قُرب أمُّ ولدٍ روميَّة، وعبد الله، وكنيتُه أبو القاسم، وأحمد، وإبراهيم، وعائشة. ووزيره محمد بن عبد الملك الزيَّات، وقاضيه أحمدُ بن أبي دؤاد، وحاجبه إيتاخ ووصيف. [وقال الخطيب: ] حدث عن أبيه المعتصم، وقَدِم معه دمشق في خلافةِ المأمون (¬8). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 72 - 28. وما بين قوسين منه. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) بعدها في (خ) و (ف): وأن عينه أكلها جرذ. والمثبت بين حاصرتين من (ب) (¬3) بعدها في (ب) كلمة مشوشة بسبب التصوير، ولم أتبينها. وانظر التذكرة الحمدونية 9/ 209. (¬4) خبر عين مروان بن محمد سلف نحوه في خبر وفاته سنة 132 هـ. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف) مكانها: أو. (¬6) في (خ) و (ف): وأحد عشر. والمثبت من (ب)، وتاريخ بغداد 16/ 28، والمنتظم 11/ 188. (¬7) في (خ) و (ف): وكان له من الولد محمد المهدي. (كذا) والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬8) انظر مختصر تاريخ دمشق 27/ 39. ووقع بعدها في (ب): انتهت سيرة الواثق، والحمد لله وحده، وأزكى =

وقال أحمد بن مدبر: حبسني محمدُ بن الزيَّات، وحبس سليمان بن وَهْب وأحمد بن إسرائيل على ما قال، فقال لي سليمان يومًا: يا أحمد، رأيت البارحة في منامي قائلًا يقول: يموت الواثقُ بعد ثلاثين ليلةً، فعجبتُ، فلمَّا كان يوم الثلاثين قال لي: يا أحمد جاء الأجل، فلمَّا كان في الليل، إذا الباب يُدَقُّ دقًّا شديدًا وقائلًا يقول: ماتَ الواثقُ، فقال أحمد بن إسرائيل: قوموا بنا إلى منازلنا، فقال سليمان بن وهب: كيف نمشي مع بعد المنازل، ولكن نبعثُ من يأتينا بدوابنا، فاغتاظ أحمد بن إسرائيل وقال: نعم، حتى يأتي خليفةٌ آخر، قم بنا عافاك الله، فكاني بالخليفة الذي يأتي يقول: في الحبس جماعةٌ من الكتاب يبقوا حتى يُنْظَرَ في أمرهم، فأسرعنا المشي، وقصدنَا غيرَ منازلنا، واستترنا، فقيل: استوزرَ الخليفة محمد بن عبد الملك، فكتبنَا إليه ورقةً نعرِّفهُ بحالنا، ونستأذنه ما نفعل، فكتب على ظهرها: استخفيتم، وليس فيكم إلا من تخصُّه عنايتي، ورأي فيه جميل، فاظهروا جميعًا، فظهرنا، وقصدناه فطيَّبَ قلوبَنا، وخلع على سليمان بن وهب دوننا (¬1). * * * ¬

_ = صلواته وسلامه على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم. (¬1) الفرج بعد الشدة 2/ 259 - 261.

السنة الثالثة والثلاثون بعد المئتين

السنة الثالثة والثلاثون بعد المئتين [وفيها غضب المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات، وعذَّبه حتى مات، وسنذكر قصته في موضعها. و] فيها كانت زلزلةٌ عظيمةٌ، [ذكر الحافظُ ابن عساكر في كتاب "الزلازل" وقال: زلزلت دمشق يوم الخميس ضحًى، ] (¬1) لإحدى عشرة ليلة خَلَت من ربيع [الآخر (¬2) سنة ثلاثٍ وثلاثين ومئتين في خلافة المتوكِّل، ذكرها أحمد بن أبي طاهر قال: ] جاءت الناس وهم غارُّون، فقطعتْ ربعًا من الجامع بدمشق، وتزايلتِ الحجارةُ العظامُ عن تركيبها، وسقطت شرفُ الجامع، وانصدع طَاقُ القبَّة ممَّا يلي المحراب، ووقعت منارةٌ من المسجد، وسقطت القناطرُ والمنازلُ، فهلكَ خلق عظيم، وامتدَّت في الغوطة، فأتت على داريَّا والمزَّة وبيت لِهْيا وغيرها، وخرجَ الناسُ إلى المصلَّى، واشتغلُوا بالبكاء والدعاء والتضرُّع والاستغفار إلى قريب نصف النهار، فسكنتِ الدُّنيا. [قال ابن عساكر: وذكر] القاضي (¬3) أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة [الرُّهاوي (¬4) هذه الزلزلة] في "تاريخه" [وقال: ] إنَّ بعضَ أهل دير مُرَّان رأى دمشق ترتفعُ وتنخفضُ مرارًا، فماتَ تحت الهدم معظمُ أهلها، و [قال ابن كامل: ] وهرب النساء والصبيان ومن بقيَ من الرجال [والنساء وأهل الأسواق] إلى مصلَّى العيد؛ يبكُون ويتضرَّعُون إلى وقت المغرب [والعشاء]، فسكنت الدُّنيا، فعادوا يُخرِجونَ موتاهم من تحت الهدم، ويدفنونهم، وانكفأت قريةٌ بالغوطة فلم ينجُ من أهلها إلَّا رجلٌ واحدٌ. [قال: ] وأصابَ أهل البَلْقاء [مثل ما أصاب أهل دمشق] (¬5)، وكانت الحيطانُ تنفصلُ حجارتُها [عن البعض]، وعَرْضُ الحائط سبعةُ أذرع، ثم امتدَّت إلى أنطاكية، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): بدمشق ضحى يوم الخميس. (¬2) في (خ) و (ف): الأول. والمثبت من (ب) والمنتظم 11/ 189. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال القاضي ... (¬4) كذا في (ب) -وما بين حاصرتين منها- ولم أقف على من نسبه: الرهاوي. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): كذلك.

فهدمتها وخربتها، وامتدَّت إلى بلاد الجزيرة والموصل، وأخربتها، فيقال: [إنَّه] هلكَ من أهلها خمسون ألفًا، ومن أهل أنطاكية عشرون ألفًا (¬1). [فصل وفيها مرض ابن أبي دؤاد]، في جمادى الآخرة، [أصابه] (¬2) فالجٌ عظيمٌ ألقاه كالحجر [الملقى]. وفي رمضان ولَّى المتوكلُ ابنَه المنتصر الحرمين والطائف يومَ الخميس لإحدى عشرة ليلةً خلتْ منه. وفي رمضان عزلَ المتوكِّلُ الفضلَ بن مروان عن ديوان الخراج، وولَّاه ليحيى بن خاقان. و[في رمضان] (¬3) غضبَ المتوكِّلُ على عمر بن الفرج الرُّخَّجيّ واستصفاه (¬4). قال الطبريُّ: دُفِعَ إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فحبس في منزله، واستولى على ضياعه، وصار نجاحُ بن سَلَمة (¬5) إلى منزله، فلم يجد فيه إلَّا خمسةَ عشر ألف درهم، وقبض مسرورٌ جواريه وفرسه، وقُيِّدَ عمر بثلاثين رطلًا من الحديد، وأُحضِر مولاه نصر من بغداد، فحمل ثلاثين ألف دينار، وكان لعمر بالأهوازِ أربعون ألف دينار، ولأخيه محمد بن الفرج مئة وخمسونَ ألف دينار، وحُمِل من داره من المتاع ستةَ عشر بعيرًا، ومن الجواهر ما قيمته أربعون ألف دينار، [وأُلْبسَ] (¬6) جبَّةَ صوف وقُيِّدَ، فأقام سبعةَ أيَّام [وأخذ عياله ففتِّشُوا، وكنَّ مئة جارية] (¬7)، ثمَّ صُولِح على أخذ عشرة ¬

_ (¬1) انظر المنتظم 1/ 189 - 190. (¬2) في (خ) و (ف): أصاب ابن أبي دؤاد. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): وفيه. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬4) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وفي النجوم الزاهرة 2/ 271: وصادره. وبعدها في (ب): والله أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. السنة الرابعة والثلاثون بعد المئتين. (¬5) تحرقت في (خ) و (ف) إلى: مسلمة. والمثبت من المصادر. (¬6) في (خ) و (ف): بياض، واستدركته من نسخة في هامش تاريخ الطبري 9/ 161، ومن المنتظم 11/ 191. وفي تاريخ الطبري: وألبس فَرَجيَّة صوف ... (¬7) في (خ) و (ف) بياض، استدركته من تاريخ الطبري.

آلاف ألف درهم، على أن يُرَدَّ ضياعهُ عليه بالأهواز، وأطلقَ، فقال عليُّ بن الجهم: [من البسيط] أبلغ نَجَاحًا فتى الكتَّاب مألُكَةً ... تمضي بها الريحُ إصدارًا وإيرادا لا يَخرجُ المال عفوًا من يَدَي عمر ... ويغمدُ السيفُ في فوديه إغْمادَا الرُّخَّجيُّون لا يُوفون ما وعدوا ... والرُّخَّجيَّات لا يُخلِفْنَ ميعادَا (¬1) وقال علي بن الجهم أيضًا: [من البسيط] جمعتَ أمرينِ ضاعَ الحزمُ بينهما ... تيهَ الملوكِ وأفعال المماليك أردتَ شكرًا بلا برٍّ ومَرزِئةٍ ... لقد سَلَكْتَ طريقًا غيرَ مسلوكِ (¬2) وقال القاضي التنوخيُّ: كان محمد بن منصور يتقلَّد القضاءَ بكور الأهواز، وعمر الرُّخَّجيُّ على الأموال والولايات، وكانا يتنافسان (¬3) في المرتبة، فلا يركبُ القاضي إلى الرُّخَجي حتى يأتيه، ويتشاحنان (¬4) على التعظيم، فولدت بينهما عداوة، وكان الرُّخَّجيّ يكتبُ إلى المتوكِّل في القاضي، فلا يلتفتُ إليه، ويبلغُ ذلك القاضي فلا يحتفلُ به، [ويظهر الزيادة في التعاظم عليه. فلمَّا] كان في بعض الأوقات وردَ كتابُ المتوكِّل [على الرُّخَّجيّ يأمره] (¬5) بأمرٍ في معنى الخراج، وأن يجتمع بمحمد بن منصور القاضي، ولا ينفرد به دونه. وقَدِم بالكتاب خادمٌ من خدم السلطان، فأنفذ الرُّخَّجيّ إلى القاضي فأخبره الخبر، وقال: نصير إلى ديوان الخراج لنجتمع فيه على امتثال الأمر، فقال القاضي: لا، ولكن تحضرُ أنتَ إلى الجامع، فنجتمع فيه، فأبى الرُّخَّجيُّ، وتردَّدَ الكلام بينهما، إلى أن قال الرُّخَّجيُّ للخادم: ارجع إلى أمير المؤمنين وأخبره بأنَّ قاضيه يريدُ إيقاف الأمر. فبلغه الخبر، فركب ومعه الشهود إلى الديوان والرُّخَّجيُّ قاعدٌ في الدست، وكتابُه ¬

_ (¬1) ديوان علي بن الجهم ص 124 (تكملة). (¬2) تاريخ الطبري 9/ 161 - 162، والأبيات في ديوان علي بن الجهم ص 161 (تكملة). (¬3) في نشوار المحاضرة 2/ 12، والمنتظم 11/ 192: يتوازيان. (¬4) كذا في (خ) و (ف)، وفي نشوار المحاضرة والمنتظم: ويتشاحان. (¬5) في (خ) بياض. واستدركته من نشوار المحاضرة.

بين يديه، فقام الكلُّ إلا الرُّخَّجيّ، فعدل القاضي إلى آخر البساط، وطواه وجلس على بارية (¬1)، وحفَّ به شهوده، وجاء الخادمُ فجلسَ عند القاضي وأراه الكتاب، فلم يزل (¬2) الرُّخَّجيّ يخاطبُ القاضي، وبينهما مسافة حتى بلغا الأمر (¬3)، فقال الرُّخَّجيّ للقاضي: يا أبا جعفر، ما هذه الجبريَّة، ما تزال تتولَّع بي وتُقَدِّر أنَّك عند الخليفة مثلي، أو أنَّ محلَّك يوازي محلي، والخليفة لا يضربُ على يدي في أمواله التي بها قوام دولته، ولقد أخذتُ من أمواله ألفَ ألف دينار، وألفَ ألف دينار، وألف ألف دينار (¬4)، فما سألني عنها، وإنَّما أنت إليك أن تُحَلِّفَ مُنْكِرًا على حقّ، وأن تفرضَ لامرأةٍ على زوجِها، أو تحبسَ من أداء حقٍّ. وأبو جعفر يعدِّد ما ذكرَه الرُّخَّجيّ بيده، ويكشفُها ليراها الناس، فلمَّا سكتَ الرُّخَّجيّ قال القاضي لبعض الوكلاء: وقد سمعت ما جرى، وقد وكَّلتُك لأميرِ المؤمنين على هذا في مطالبته بما أقرَّ على نفسِه. فقال الوكيل: إن رأى القاضي أن يحكم بهذا المال ويكتب به سجلًا. قال: نعم، عليَّ بدواةٍ، وكتبَ السجلّ، وأثبتَه بشهادةِ الشهود، وحكم به عليه. ونهض القاضي والكتابُ بيده، والرُّخَّجيّ يهزأُ به، والقاضي يقول: سوف ترى. وكتب صاحبُ الخبر إلى المتوكِّل بما جرى، فأحضر وزيرَه وقال: أنا منذُ زمانٍ أقول لك حاسب هذا الخائن الرُّخَّجيَّ، وأنت تدافعُ، حتى حفظ الله علينا أموالنا بقاضينا محمد بن منصور، ورَمى إليه بكتابِ صاحب الخبر، ثمَّ قال له: اكتب الساعةَ بالقبضِ على الرُخَّجيّ. فخرج الوزير وهو قلقٌ، لعنايته بالرُّخَّجيّ، وقال لكاتبه: اكتب إليه، وقل له: يا مشؤوم، ما الذي دعاك إلى معاداة القضاة؟ وأنت مقتول إن لم تتلافَ أمرك مع القاضي. ¬

_ (¬1) الباريُّ والبارياء: الحصير المنسوج. لسان العرب (برى). وقال محقق نشوار المحاضرة: البارية: الحصير المنسوج من القصب، ولم يزل هذا اسمها في بغداد. (¬2) ليست في (ف). وفي (خ): يكن. والمثبت من المصادر. (¬3) في نشوار المحاضرة والمنتظم: حتى فرغا من الأمر. (¬4) بعدها في نشوار المحاضرة 2/ 14: وألف ألف دينار. أي مرة رابعة.

بهلول بن صالح

فجاء الرُّخَّجيُّ إلى القاضي، فحجبه، فرجعَ خجلًا، فاحتال حتى دخل بالليل مع بعض خواصِّ القاضي عليه، فصاح عليه القاضي: اخرج من داري، فأكبَّ على رأس القاضي فقبَّله وبكى، فقام إليه القاضي فاعتنقه، وبكى وقال: عزيزٌ علي، ولا حيلة لي، فقد نفذ الحكمُ، فنهضَ الرُّخَّجيّ، فنفذ القاضي [بمن قبض عليه] (¬1)، فكتب عليه، ونصبَ وكيلًا، فباع أمواله وأملاكه، وحملَ ثمنها إلى بيت المال (¬2). وفيها قَدِمَ يحيى بنُ هَرْثمة -وكان والي طريق مكة- بعليِّ بن محمد بن عليّ الرضا من المدينة، وكان قد بلغَ المتوكِّلَ عنه شيء. وفيها وثبَ ميخائيلُ بن توفيل على أمِّه بدور (¬3)، فأدخلَها الدير، وشمَّسها، وقتل رجلًا اتَّهمهُ بها، واسمه الغيثط (¬4)، وكانت مملكتها ستَّ سنين. وحجَّ بالناس محمدُ بن دواد. وفيها توفِّي بُهْلُولُ بن صالح (¬5) أبو الحسن التُّجِيبِيُّ، قدم بغداد، وحَدَّث بها. ومن رواياته عن ابن عباس رسالة (¬6) زياد بن أَنْعُم، [عن أبيه] (¬7) قال: يا معاشر قريش، أخبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونَه قبل أن يُبعثَ محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال ابنُ عباس: نعم، قلتُ: وعمَّن أخذتموه؟ قال: من حربِ بن أميَّة، قلت: ومن أينَ أخذه ابنُ أميَّة؟ قال: من عبد الله بن جُدْعان، قلت: ومن أين أخذه ابنُ جُدْعان؟ قال: من أهل الأنبار، قلت: ومن أين أخذَه أهلُ الأنبار؟ قال: من طارئٍ طرأَ عليهم ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المنتظم 11/ 194. (¬2) نشوار المحاضرة 2/ 12 - 17. (¬3) في تاريخ الطبري 9/ 163: تذورة، وفي الكامل 7/ 40: تدورة. (¬4) كذا في (خ) و (ف) وفي تاريخ الطبري 9/ 163: اللُّغُثيط، وفي الكامل 7/ 40: اللقط. (¬5) رجح ابن ماكولا أن اسمه: بهلول بن عمر بن صالح. انظر بيان الوهم في اسمه في الإكمال 6/ 53 - 54. (¬6) كذا في (خ) و (ف) والنجوم الزاهرة 2/ 271. (¬7) ما بين حاصرتين زيادة من المنتظم 11/ 196.

محمد بن سماعة

من اليمن من كندة، قلت: وممَن أخذَهُ ذلك الطارئ؟ قال: من خلجان كاتبِ الوحي لهود - عليه السلام - وهو القائل: [من الطويل] أفي كلِّ عامٍ سنَّةٌ تُحدِثونَها ... ورأيٌ على غير الطريقِ يغيَّرُ ولَلْمَوْتُ خيرٌ من حياة يسبُّنا ... بهم جرهم فيمن يَسبُّ وحميرُ محمد بن سَمَاعة ابن عبيد الله بن هلال بن وكيع بن بشر، أبو عبد الله القاضي الحنفي التميميّ. ولد سنة ثلاثين ومئة. وكان إمامًا فاضلًا صاحبَ اختياراتٍ في المذهب وروايات، وله المصنَّفاتُ الحسان، وهو من الحفَّاظ الثقات. وولي القضاء ببغداد، فلم يزل إلى أن ضعُفَ نظره فاستعفَى. وكان يصلِّي كلَّ يومٍ مئتي ركعةٍ، وقال: مكثتُ أربعين سنة لم تَفُتني التكبيرة الأولى في جماعةٍ إلَّا يومًا واحدًا، ماتت فيه أمي، ففاتتني صلاةٌ واحدة، فصلَّيت خمسًا وعشرين صلاةً، ولكن كيفَ لي بتأمين الملائكة (¬1)؟ ! . وكانت وفاته في شعبان عن مئةٍ وثلاث سنين، وهو صحيحُ العقلِ والسمع والبصر، لم يتغيَّر عليه حال (¬2). حَدَّث عن الليثِ بن سعد وغيره، ورَوى عنه الوشَّاء (¬3) وغيره، واتَّفقوا على صدقِه وديانته. محمد بن عبد الملك ابن أبان بن أبي حمزة الزيَّات، أبو يعقوب (¬4)، وقيل: أبو جعفر، الوزير، من ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 3/ 301، والمنتظم 11/ 198، وتهذيب الكمال 25/ 319 وغيرها أنه غلبته عينه فأتاه آتٍ فقال له: يا محمد قد صليت خمسًا وعشرين صلاة، ولكن كيف لك بتأمين الملائكة؟ ! (¬2) انظر الجواهر المضية 3/ 169. (¬3) هو الحسن بن محمد بن عَنْبر الوشاء. (¬4) لم أقف على من كناه بأبي يعقوب سوى ابن الجوزي في المنتظم 11/ 198، وفي هامشه: في نسخة: أبو جعفر.

جَبُّل (¬1)، قريةٍ تحتَ بغداد، وكانَ أبوه تاجرًا من تجَّار الكرخ المياسير، ويحثُّه على التجارة، فيأبى إلَّا الكتابة، وطلبَها فبرع فيها، ثم شخص إلى الحسن بن سهل، فمدحه فأعطاه عشرةَ آلاف درهم (¬2)، ثمَّ اتصلَ بالمعتصمِ فرفَع قدرَه ووسَمه بالوزارة، ثم استوزَره الواثق (¬3). وكان أديبًا فاضلًا شاعرًا، عالمًا بالنحو واللغة، جوادًا ممدَّحًا، وله أشعارٌ حِسان، ومن بارع قول البحتريِّ يصفُ بلاغته: [من الخفيف] بعضَ هذا العتاب والتفنيدِ ... ليسَ ذمُّ الوفاءِ بالمحمودِ في نظامٍ من البلاغة ما شـ ... كَّ امرؤٌ أنَّه نظامُ فريدِ ومعانٍ لو فصَّلَتْهَا القوافي ... لهجَتْ (¬4) شعرَ جَرْولٍ ولبيدِ حُزْنَ مستعملَ الكلامِ اختيارًا ... وتجنَّبنَ ظلمةَ التعقيدِ وركبنَ اللفظَ القريبَ فأدركـ ... ـــن به غايةَ المرام البعيدِ وترى الخلق مجمعين [على فضـ ... ــلك (¬5)] مِنْ بين سيِّدٍ ومَسُودِ عَرفَ العالمونَ فضلكَ [بالعلـ ... ــم] (¬6) وقال الجهَّالُ بالتقليدِ صارمَ العزم حاضر (¬7) [الحزم ساري (¬8)] الـ ... ــفكر ثبتَ المقام [صُلبَ (¬9)] العودِ دقَّ فهمًا وجلَّ علمًا فأرضَى اللـ ... ــه] فينا والواثقَ بنَ الرَّشيدِ لا يميلُ الهوى به حيثُ يُمْضِي الـ ... أمرَ بين المَقْلِيِّ والمودودِ ¬

_ (¬1) انظر معجم البلدان 2/ 455، والأغاني 23/ 46، ووفيات الأعيان 5/ 94، لكن وقع في النجوم الزاهرة 2/ 271: جِيل، ثم قال: قلت: ومنها كان أصل الشيخ عبد القادر الكيلاني! . (¬2) الأغاني 23/ 46، والمنتظم 11/ 198. (¬3) تاريخ بغداد 3/ 593. (¬4) في ديوان البحتري، وتاريخ بغداد 3/ 594، وتاريخ دمشق 63/ 147 (طبعة مجمع اللغة): هَجَّنت. بدل: لهجت. (¬5) في (خ) و (ف) بياض، استدركته بين حاصرتين من المصادر. (¬6) في (خ) و (ف) بياض، استدركته بين حاصرتين من المصادر. (¬7) في (خ) و (ف): ظاهرًا. والمثبت من المصادر. (¬8) في (خ) و (ف) بياض، استدركته بين حاصرتين من المصادر. (¬9) ما بين حاصرتين من المصادر.

سؤددٌ يُصْطَفى ونَيلٌ يُرَجَّى ... وثناءٌ يحيى (¬1) ومالٌ يُودِي قد تلقَّيتَ كلَّ يومٍ جديدٍ ... يا أبا جعفر بمجدٍ جديدِ وإذا استطرفَتْ سيادةُ قومٍ ... نلت (¬2) بالسؤددِ الطريفِ التليدِ (¬3) وكان ابن الزيات يتعشَّق جارية من جواري القيان، فبيعت من رجل خراسانيٍّ، فسافر بها، فكاد عقل ابن الزيّات يذهب، وقال: [من البسيط] يا طولَ ساعاتِ ليلِ العاشقِ الدَّنِفِ ... وطول رَعْيتِه للنَّجم في السَّدَفِ ماذا تُواري ثيابي من أخي حُرَقٍ ... كأنَّما الجسمُ منه دِقَّةُ الألفِ ما قال يا أسفا يعقوبُ من كمدٍ ... إلَّا لطولِ الذي لاقَى من الأسفِ (¬4) ذكر وفاته: اتَّفَقَ [لغضب] (¬5) المتوكل عليه أسبابٌ أقواها (¬6) أن الواثقَ استوزَرَه، وغضبَ الواثقُ على أخيه المتوكِّل لشيءٍ بلغَه عنه، ووكل به عمر بن فرج الرُّخَّجِي ومحمد بن العلاء، فكانا يحفظانه، ويكتبان بأخباره في كل وقت، فصار جعفر إلى ابن الزيات يسألُه أن يكلِّم الواثقَ ليرضى عنه، فلمَّا دخلَ عليه مكثَ قائمًا بين يديه مليًّا لا يكلِّمه، ثم أمره بالقعود، وكان ينظرُ في الكتب، فلَّما فرغَ التفت إليه وقال: ما الذي جاء بك؟ كالمتهدد، فقال: لتسألَ أميرَ المؤمنين أن يرضى عنِّي، فقال لمن حوله: انظروا إلى هذا، يُغضِبُ أخاه، ويسألني أنْ أسترضيَه له، اذهب، فإنَّك إذا أصلحتَ حالك رضيَ عنك، فقام المتوكِّلُ كئيبًا حزينًا لما لقي منه من قبيح اللقاء والخيبة. فأتى إلى عمر بن فرج ليسأله أنْ يختمَ له صكَّه ليقبض أرزاقه، فلقيه بالخيبة، فأخذ الصكَّ فرمى به، وكان أبو الوزير أحمد بن خالد حاضرًا، فقام جعفر لينصرف وقام أبو الوزير، فقال له جعفر: يا أبا الوزير، أما ترى صنع عمر؟ ! فقال له: جعلت فداءك، أنا ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 63/ 148: يجنى. (¬2) في المصادر: بِنْتَ. (¬3) انظر القصيدة في ديوان البحتري 1/ 632 - 638، وتاريخ بغداد 3/ 594، والمنتظم 11/ 198 - 199. (¬4) تاريخ بغداد 3/ 594 - 595، والمنتظم 11/ 199، وتاريخ دمشق 63/ 151، ووفيات الأعيان 5/ 96. (¬5) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق، ومكانها في (خ) بياض. (¬6) في (خ): أحدها. والمثبت من (ف).

زِمَام عليك، وليس يختمُ على أرزاقي إلَّا بالطلب، فابعث إليَّ بوكيلك، فبعث جعفر وكيلَه، فدفعَ إليه عشرين ألف درهم، وقال: أنفق هذه إلى أن يهيِّئَ الله أمرك، فأخذَها، ثم بعث بعد ذلك جعفر إلى أبي الوزير يسألُه إعانتَه فبعثَ إليه بعشرة آلاف درهم. وبلغ الواثق فنكبَ أبا الوزير، واستأصلَه، وأخذَ أمواله. وكان جعفر لمَّا خرجَ من عند عمر الرُّخَّجِي صار إلى أحمد بن أبي دؤاد، قام واستقبلَه وقبَّل ما بين عينيه، وقال: حاجتُك، جعلتُ فداءك؟ فقال: استرضِ أميرَ المؤمنين لي، فقال: أفعلُ حبًّا وكرامةً. وأما ابنُ الزيَّات فإنَّه كتبَ إلى الواثق يقول: أتاني جعفر بن المعتصم يسألُني أن أكلِّم فيه أميرَ المؤمنين، وهو في زيِّ المخنثين، له شعرٌ على قفاه، فكتبَ إليه الواثق: ابعث إليه من يحضره، وجزَّ شعره، واضربْ به وجهَه، فدعا به، وأمر الحجَّام، فجزَّ شعره، وضرب به قفاه ووجهه (¬1). قال المتوكل: وكنتُ قد لبستُ سوادًا جديدًا لمَّا جئتُ إليه طمعًا في الرضا عنِّي، فما دخل علي شيءٌ مثلُ ما دخلَ حين أخذَ شعري على السواد الجديد. وأما ابنُ أبي دؤاد فكلَّم الواثقَ في جعفر، فلم يرض عنه، فقال: يا أمير المؤمنين المعتصم عندي معروف، وجعفر ابنه، فبحقِّ المعتصم إلَّا رضيتَ عنه، فرضيَ عنه وكساه، فحظيَ عند المتوكل لمَّا وليَ الخلافة، ورفعَ منزلته. ولمَّا اجتمعوا ليولُّوا خليفةً أشار ابنُ الزيات بمحمد بن الواثق، على ما ذكرنا، وتيقَّن المتوكِّلُ أنَّه أراد صرفَ الأمرِ عنه، فكان ذلك سببًا لهلاكه، فاستوزره، ولم يظهر له شيئًا حتى إذا كان يوم الأربعاء لتسع (¬2) خلون من صفر أمرَ إيتاخ بالقبض عليه، فأرسلَ إليه إيتاخ رسولًا، فظنَّ أنَّ المتوكِّلَ طلبَه على عادته، فركب، فلمّا حاذى دارَ إيتاخ أُنزِلَ بها، ثمَّ أُدخِلَ حجرةً، وأُخِذَ سيفُه ومِنْطَقتُه وقَلَنْسُوته ودرَّاعته، فدُفعَتْ إلى ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 157: فأخذه شعره وشعر قفاه وضرب به وجهه. (¬2) في تاريخ الطبري 9/ 158، 161: لسبعٍ.

غلمانه وانصرفوا، ثم بعثَ إيتاخ إلى داره فنهبها، وأخذَ جميع ما فيها من المتاع والأثاث والدوابّ والجواري والغلمان، وبعثَ إلى داره ببغداد، فأخذَ ما فيها من مالٍ وخدم، وقبض ضياعَه وضياعَ أهل بيته وقيَّده، فامتنعَ من الطعام، وكان كثيرَ البكاء في حبسه، ثمَّ سُوهِر ومنعَ من النوم، وكان يُنْخَسُ بمسلَّة لئلَّا ينام، فأقامَ كذلك أيَّامًا، ثمَّ أَمرَ المتوكِّل بتنُّور من خشب، فيه مساميرُ من حديد، فأُدْخِل فيه، وابنُ الزيَّاتِ أوَّلُ من عملَ التنُّور وعذَّب به ابنَ أسباط المصري، حتَّى استخرجَ منه جميع ما كان عندَه، ثمَّ عُذِّبَ بالتنُّور أيَّامًا، وكان في وسط التنور خشبةٌ يجلسُ عليها المعذّبُ ليستريح، فمنعُوه من القعودِ عليها. واختلفوا في كيفية قتلهِ، فقيل: إنه أُخْرِجَ من التنُّور فبُطِح وضُرِبَ على بطنه خمسينَ مِقْرَعة، ثم قُلِب فضربَ على أليتيه مثلَها، فماتَ وهو يضرب، ونتفوا لحيته، وعذَّبوه أشدَّ العذاب، وما أكلَ في حبسه سوى رغيفٍ أو رغيفين. وكان يقول لنفسه: ويحك يا محمد، لم تقنعكَ الدوابُّ الفارهة، والدارُ النظيفة، والعافيةُ، حتَّى طلبتَ الوزارة، فذق وبال أمرك وما فعلت بنفسك، ثمَّ أخذ بعد ذلك بالتوبةِ والاستغفَارِ والذِّكر. والأصحُّ أنَّه مات في التنُّور، ثم طُرِح على بابٍ من خشب، وسُلِّم إلى أهله فغسَّلُوه وحفروا له فلم يعمِّقوا، فذكروا أنَّ الكلاب نبشَتْهُ وأكلَته. وقيل: إنَّ الذي تولَّى دفنَه ابناهُ عبيدُ الله وسليمان، وكانا محبوسين فأُخرِجَا فتولَّياه. وكان قيمةُ ما قُبِضَ له تسعينَ ألف دينار (¬1). وكان حبسُ المتوكِّل إيَّاه في تاسع (¬2) صفر، ومات في الحبس لإحدى عشرة بقيت من ربيع الأوَّل. ¬

_ (¬1) انظر خبر مقتل ابن الزيات في تاريخ الطبري 9/ 156 - 161، والمنتظم 11/ 199 - 202، والكامل 7/ 36 - 38. (¬2) في تاريخ الطبري 9/ 158، 161، والكامل 7/ 38: في سابع صفر.

وكان يقول: الرحمةُ خورٌ في الطبيعة، وما رحمتُ أحدًا قطّ، فلما وُضِعَ في التنُّور كان يقول: ارحموني، فيقال له: الرحمةُ خورٌ في الطبيعة، أنسيت قولكَ: ما رحمت أحدًا قط (¬1). وقال أحمد بن الأحول (¬2): لمَّا قُبِضَ على ابن الزيَّات تلطَّفتُ حتى دخلتُ عليه، فرأيتُه في حديدٍ ثقيل، فقلت له: يعزُّ علي ما أرى، فقال: [من الرمل] سلْ ديارَ الحيِّ ما غيَّرها ... وعفاها ومحا منظرَها وهي الدُّنيا إذا ما انقلبتْ ... صيَّرت معروفَها منكرَها إنما الدُّنيا كظلٍّ زائلٍ ... نحمدُ الله كذا قدَّرَها (¬3) ولما أُلقي في التنُّور كتبَ بفحمة: [من مجزوء الرمل] مَنْ له عهدٌ بنومٍ ... يرشدُ الضَبَّ إليهِ رحمَ الله رحيمًا ... دلَّ عينيَّ عليهِ سهرتْ عيني ونامتْ ... عينُ من هُنْتُ عليهِ (¬4) وحكى المسعوديُّ أنَّه طلبَ دواةَ وورقةً بيضاء، فاستأذنَ الموكَّلون فيه المتوكل، فقال: اعطوه، فأتوه بهما فكتب: [من البسيط] هو السبيل فمن يومٍ إلى يوم ... كأنَّه ما تُرِيكَ العينُ في النومِ لا تجزعنَّ رويدًا إنَّها دولٌ ... دنيا تنقَّل من قومٍ إلى قومِ وبعثَ بها إلى المتوكل، فأمر بإطلاقِه، فوجدوه قد مات (¬5). وابنُ الزيَّات هو الذي كتبَ إليه الحسنُ بن وهب وقَد دام المطرُ أيَّامًا: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) انظر المنتظم 11/ 201، ووفيات الأعيان 5/ 100، والوافي بالوفيات 4/ 32 - 33. (¬2) كذا في (خ) و (ف). وفي المصادر: أحمد الأحول. (¬3) تاريخ بغداد 3/ 595، وتاريخ دمشق 63/ 154، ووفيات الأعيان 5/ 101. (¬4) تاريخ بغداد 3/ 595 - 596، وتاريخ دمشق 63/ 154، ووفيات الأعيان 5/ 100 - 101. (¬5) مروج الذهب 7/ 195.

يحيى بن معين

أوجَب العُذْرَ في تراخي اللقاء ... ما أتانا من هذه الأنواءِ لستُ أدري ماذا أقولُ فأشكو ... من سماءٍ تعيقُني عن سماءِ غير أنِّي أدعو لهاتيك بالصَّحـ ... ــو (¬1) وأدعو لهذه بالبقاءِ فسلامُ الإله أهديهِ منِّي ... كلَّ يومٍ لسيِّدِ الوزراءِ يحيى بن معين ابن عون بن زياد بن بِسْطام. وقيل: معين بن غياث بن زياد بن عون (¬2) بن بِسطام، أبو زكريا، الحافظُ البغداديُّ، مولى الجنيدِ بن عبد الرحمن بن المُرِّي الغطفاني، وأصلُه من الأنبار، من قريةٍ يقال لها: نِقْيَا، بينها وبين بغداد اثني عشر فرسخًا، وقيل: أصله من المري (¬3)، فمات أبوه، وخلَّف لابنهِ يحيى ألفَ ألف درهم وخمس مئة ألف درهم (¬4)، فأنفقَ الكلَّ على أصحاب الحديث، حتى لم يبقَ له نعلٌ يلبسُه. وكان عالمًا متقنًا عارفًا بالجرح والتعديل، كتبَ ألف ألف حديث، وكانت كتبُه مئة قمطر وعشرين حُبًّا. وكان الإمامُ أحمد يعظِّمُ شأنَه، وما سمَّاه قطُّ باسمِه، بل بكنيته (¬5)، ويقول: كلُّ حديثٍ لا يعرفُه أبو زكريا، فليس بحديث. ¬

_ (¬1) في العقد الفريد 3/ 194، 4/ 227: بالثكل. (¬2) في (خ) و (ف): عمرو. والتصويب من تاريخ بغداد 16/ 263، والمنتظم 11/ 202، وتهذيب الكمال 31/ 544، وسير أعلام النبلاء 11/ 71 وغيرها. (¬3) كذا في (خ) و (ف). ولم أقف على هذا القول. لكن وقع في تاريخ بغداد 16/ 265، والمنتظم 11/ 203: كان مَعين على خراج الرَّي، فمات فخلف لابنه .... (¬4) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ بغداد 16/ 265، والمنتظم 11/ 203 وغيرها: وخمسين ألف درهم. (¬5) في تاريخ بغداد 16/ 267 من قول عباس الدوري: قلَّما سمعت أحمد بن حنبل يسمِّي يحيى بن معين باسمه، إنما كان يقول: قال أبو زكريا، قال أبو زكريا. وقيل نحوها في حق عليّ بن المديني، قال أبو حاتم الرازي: وكان أحمد لا يسميه إنما يكنيه تبجيلًا له، وما سمعت أحمد سماه قط. الجرح والتعديل 6/ 194، وسيأتي في ترجمة علي بن المديني.

وقال عبدُ الله ابن الإمام أحمد (¬1): حجَّ ابنُ معين، فزار قبرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ خرجَ فبات بظاهر المدينة، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يقول: يا أبا زكريا، أرغبت عن جواري (¬2)؟ فقال لرفقائه: اذهبوا فإنِّي راجعٌ إلى المدينة. وقال محمد بن إسماعيل البخاري (¬3): كنتُ معه في تلك السفرة، فدخلَ المدينة فأقامَ بها ثلاثًا (¬4)، فمرض وماتَ ليلة الجمعة في ذي القعدة، فاجتمعَ الناس، فقال بنو هاشم: لا نغسِّله إلَّا على الأعواد التي غُسِّل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه نفى الكذب عنه، وأخرجوه إلى البقيع، ونادى منادٍ بين يديه: هذا الذي نَفى الكذبَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى أنْ وصلَ إلى قبره، وكان قد بلغ سبعًا وسبعين سنةً. ورَثَاهُ بعضُ المحدثين فقال: [من الكامل] ذهبَ العليمُ بعيبِ كلِّ محدِّثٍ ... وبكلِّ مختلفٍ من الإسنادِ وبكلِّ وَهْمٍ في الحديث ومشكلٍ ... يعني به علماءُ كلِّ بلادِ (¬5) وقال بعضُ المحدثين: رأى رجلٌ من أهل المدينة في منامه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه وهم مجتمعين في الروضة، فقال: ما بالكم؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: جئنَا نحضرُ جنازةَ هذا الرجل الذي كان ينفي الكذبَ عنِّي. وقال حُبيش بن مبشِّر: رأيتُ يحيى بن معين تلكَ الليلة في النوم، وعلى رأسهِ تاجٌ، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: أدخلني عليه في داره، وزوَّجني ثلاثَ مئة حورية؛ ثم ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا الخبر عن عبد الله بن الإمام أحمد، وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 16/ 274 من قول حبش بن مبشر، فقال الخطيب بعده: الصحيح أن يحيى توفي في ذهابه قبل أن يحجّ. (¬2) في (خ) و (ف): في. والمثبت من المصادر. (¬3) كذا في (خ) و (ت). وهو خطأ. والصواب -كما في تاريخ دمشق 18/ 204، وتهذيب الكمال 31/ 566، وسير أعلام النبلاء 11/ 90 - : محمد بن يوسف البخاري والد أبي ذر. (¬4) في المصادر المذكورة أنه دخل المدينة ليلة الجمعة ومات من ليلته، لكن وقع في رواية حبيش بن مبشر -ستأتي- أنه أقام بها ثلاثًا ثم مات. (¬5) تاريخ بغداد 16/ 275.

قال: انظروا إلى عبدي، كيف تطرَّى وحَسُن (¬1). سافر ابنُ معين إلى الآفاق، ودخل الأمصار، وسمع خلقًا لا يحصون، منهم ابنُ عيينة، وابن المبارك، ويحيى بن سعيد القطَّان، وغيرهم. وروى عنه زهيرُ بن حرب، والبخاريُّ، ومسلم في آخرين. واتَّفقوا على صدقه وثقته، إلَّا [ما روى] إبراهيم بن هانئ [قال: رأيت أبا داود] (¬2) يقعُ في ابنِ معين، فقلتُ له: في مثلِ ابن معين؟ ! فقال: نعم، من جرَّ ذيولَ الناس جرُّوا ذيله. يعني أنَّه جرحَ الشيوخ. * * * ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): نظر فأحسن. والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 276. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. انظر تهذيب الكمال 31/ 564.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [15]

السنة الرابعة والثلاثون بعد المئتين

السنة الرابعة والثلاثون بعد المئتين فيها أظهر المتوكِّل رحمه الله السنَّة، وتُكُلِّمَ بها في مجلسه، ورَفَعَ القولَ بخلق القرآن والمحنةَ، وكتب به إلى الآفاق، ونصرَ أصحابَ الحديث، واستقدمَ العلماء والفقهاء والمحدِّثين إلى سرَّ من رأى، فكان فيهم مُصعب الزبيريّ، وإسحاق بنُ أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله (¬1) الهرويّ، وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة، ومحمدُ بن عبد الملك بن أبي الشوارب، فقُسِّمت فيهم الجوائز، وأُجرِي عليهم الأرزاق، وأمرهُم أن يجلسوا للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الردُّ على المعتزلة والجهمية وأحاديثِ الرؤية، فجلسَ عثمانُ بن أبي شيبة في مدينة المنصور على منبر، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألفًا، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة بجامع الرُّصَافة، فاجتمع إليه مثل ذلك. وقال ابنُ أبي الشوارب: استأذنتُ المتوكِّلَ في الرجوع إلى البصرة، ووددِتُ أنِّي لم أكن استأذنتُه؛ كنتُ أكونُ في جواره، فقيل: ولم؟ قال: اشهدوا عليَّ أنَّني قد جعلتُ دعائي في المشاهد كلِّها للمتوكِّل، وذلك أنَّ صاحبَنا عمر بن عبد العزيز جاءَ اللهُ أبه، فرَدَّ المظالمَ، وجاء الله بالمتوكِّل فردَّ الدين (¬2). وقال الصوليّ: لمَّا رَفَعَ المتوكِّلُ القولَ بخلق القرآن، وأَحيى السنَّة، قال الناس (¬3): الخلفاءُ ثلاثة؛ أبو بكر - رضي الله عنه - قاتلَ أهلَ الردَّة حتى أذعنوا، وعمرُ بن عبد العزيز حين ردَّ المظالمَ التي أخذها بنو أميَّة، والمتوكِّلُ فإنَّه أَحيى السنَّة وأماتَ البدعة. وفيها (¬4) جرت قصَّةُ محمد بن البعيث بسرَّ من رأى، فهربَ إلى أَذْرَبيجان، ومقرُّه ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): عبدك، ولم أقف على من لقبه عبدك، فلعله تحريف، والمثبت: من تاريخ بغداد 11/ 261 (ترجمة ابن أبي شيبة)، والمنتظم 11/ 207. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 597، وما بين حاصرتين منه. (¬3) قبلها في (ب): السنة الرابعة والثلاثون بعد المئتين وفيها قال الناس ... وأحداث هذه السنة فيها مختصرة وسأشير إلى مواضعها، ولم يُذكر فيها شيءٌ في الوفيات. (¬4) من هنا إلى قوله ص 7: وفيها هبت سموم .. ليس في (ب).

بمَرَنْد، وكانت له قلعتان حصينتان؛ إحداهما بكدر (¬1) خارجَ البحيرة، والأخرى شاهي، وهي في البحيرة، والبحيرة قدر عشرين (¬2) فرسخًا في جدار إرمينية ومراغة، وهي لا سمك فيها ولا خير (¬3). وقيل: إنَّ ابن البعيث كان محبوسًا عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فتكلَّم فيه بُغَا الشرابيّ، وأخذَ منه ثلاثين كفيلًا، وأقام يتردَّدُ إلى سامرَّاء (¬4)، فلمَّا مرض المتوكِّلُ هربَ إلى مَرَند، واجتمع إليه الناس، فصار في ألفين من الفرسان. فبعث إليه المتوكِّلُ حمدويه السعديّ، فحصره في مَرَنْد، وهي مدينة كبير استدارتها فرسخان، وفي داخلها بساتين كثيرة، فلم يقدر عليه حمدويه؛ لأنه احترز واحتاط، فبعث إليه المتوكِّلُ بغا الشرابي (¬5) في أربعةِ آلاف مقاتل، فقطعوا ما حولَها من الأشجار، فبلغ ذلك مئتي ألف شجرة (¬6)، ونصبوا عليها عشرين منجنيقًا، وفعلَ ابنُ البعيث كذلك، وكان عنده علوجٌ رُستاقية يرمونَ بالمقاليع، ولا يكادون يخطئون، فَقتلوا من عسكر المتوكِّل نحوًا من [مئة رجل، وجُرِح نحو من] (¬7) أربع مئة رجل. وطالَ الحصار عليه، فأرسلَ (¬8) بُغَا الأمان له ولمن معه، وأن ينزلُوا على حكم أمير المؤمنين، فخاف إن ظفر بهم لم يبق منهم أحد (¬9)، وخافَ أصحابه فنزلوا بالحبال ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف)، ونسخة كما في هامش تاريخ الطبري 9/ 164، ووقع في مطبوعه وفي الكامل 7/ 41: يكدر. (¬2) في تاريخ الطبري 9/ 164: خمسين فرسخًا. (¬3) كذا في (خ) و (ف) وفيه تحريف وخلل في الاختصار، وأنا أذكر لك العبارة كما أوردها الطبريُّ في تاريخه: والبحيرة قدر خمسين فرسخًا من حدِّ أرْمِية إلى رُسْتاق داخرقان بلاد محمد بن الرواد، وشاهي قلعة ابن البعيث حصينة يحيط بها ماءٌ قائمٌ ثَمَّ، يركب الناس من أطراف المراغة إلى أَرْمِية، وهي بحيرة لا سمك فيها ولا خير. (¬4) في تاريخ الطبري: فأقام يتردد بسامراء. (¬5) وبعث المتوكل قبله زيرك التركي؛ في مئتي ألف فارس، ثم عمرو بن سيسل في تسع مئة من الشاكرية، فلم يغنيا شيئًا. (¬6) في تاريخ الطبري: مئة ألف شجرة. (¬7) ما بين حاصرتين زيادة من تاريخ الطبري 9/ 165. (¬8) بعدها في (خ) و (ف): إلى. وهي مقحمة؛ لأن بغا هو الذي أرسل الأمان لبعيث ومن معه. (¬9) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ الطبري: وإلا قاتلهم، فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدًا.

مستأمنين إلى بُغَا، وفتحوا بابَ المدينة، وهرب ابن البعيث، فأُدرِكَ وأُخِذ أسيرًا، وانتهبتْ منازلُه ومنازل أصحابه، وحُمِل إلى سامراء، فحبس بالمطبق، فيقال: إنه هلك فيه. وفي روايةٍ أنَّ المتوكِّلَ بعث إلى ابن البعيث حمدويه وزيرك التركيّ (¬1)، فأقام هو وحمدويه يحاصرانه، ثم بعث المتوكل بغا، فنزل قريبًا من مَرَنْد في أربعة آلاف، وأرسلَ إلى ابن البعيث وأصحابه فأمَّنهم، وأن ينزلوا على حكم المتوكِّل، وإلَّا سار إليهم وقاتلَهم ولم يُبْقِ منهم أحدًا، فأجابُوه، وكتبَ إلى المتوكِّل أنَّ الفتحَ كان على يده. وفيها خلعَ المتوكِّلُ على إسحاق بن إبراهيم بن مصعب والي بغداد، وعقدَ له لواءً عظيمًا، وخرجَ في موكبٍ عظيم، فقال قائلٌ: من هذا؟ فقالت امرأة كانت واقفةً: هذا سقطَ من عينِ الله فابتلاه بما ترون، فسأل عنها، فقيل: إنَّها أختُ بشر الحافي، أو من أهله (¬2). وفيها هبت سموم لم يعهد مثلها بأرض العراق، فأحرقت زرعَ أهل الكوفة والبصرة والأهواز وبغداد، وقتلت المسافرين في الطُّرق، ودامتْ نيِّفًا وخمسين يومًا، ثمَّ مضت إلى هَمَذَان، فأحرقت الزرع والمواشي وبني آدم، ثم جاءت إلى الموصل، وخرجت من (¬3) برية (¬4) سِنْجَار، فأقامتْ بالمَوْصل، فمنعت الناس من المعاشِ في الأسواق، والمشي في الأزقة، وأهلكتْ خلقًا عظيمًا (¬5). وفيها ضجَّ أهلُ بغداد من أصحابِ ابن أبي دؤاد، وقالوا: لا نرضَى بأحدٍ منهم، وكان القاضي عبيد الله بن أحمد من أصحابه، فعزله المتوكِّل، وولَّى عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر الوَابصي، من ولد وَابصةَ بن معبد، وكان قبل ذلك على قضاءِ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): ابن حمدويه زيرك. وانظر تاريخ الطبري 9/ 165. (¬2) المنتظم 11/ 209. (¬3) في (خ) و (ف): إلى. والمثبت من (ب) والمنتظم 11/ 209. (¬4) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وفي المنتظم: قرية. (¬5) بعدها في (ب): وحج بالناس محمد بن داود بن عيسى. السنة الخامسة والثلاثون بعد المئتين.

الرقَّة، فسكن الناس (¬1). وفيها فوض إلى إيتاخ الحجاز والكوفة وتهامة ومكَّة والمدينة، ودُعِيَ له على المنابر. وسببُ حجِّه في هذه السنة تغيُّر المتوكِّل عليه، وكان إيتاخ في بدايته غلامًا من الخزر طباخًا لسلام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم سنة تسع وتسعين ومئة، وكان له رُجلَةٌ وباس، فرفعَه المعتصم، وولاه الواثق من بعده، وكان (¬2) من أرادَ الواثقُ والمعتصمُ والمتوكل قتلَه سلَّمه إليه مثل عجيف (¬3) والعباس بن المأمون وابن الزيَّات وغيرهم، وكانت ولايتُه لمَّا ولي المتوكل الخلافة ولايةَ الأموال والبريد والجيوش والحجابة ودار الخلافة وغيرها، فخرجَ المتوكِّلُ بعدما استقرَّت له الخلافةُ متنزِّهًا إلى القاطول، فشرب ليلة وعربد على إيتاخ، وهمَّ بقتله (¬4)، فلمَّا أصبحَ قيل له، فاعتذرَ إليه، وقال: أنتَ أبي وصاحب دولتي ومقدَّمُها ورئيسُها. وقيل: إنَّ إيتاخ عربد عليه. فلمَّا صارَ المتوكِّلُ إلى سامراء دسَّ إليه من يشيرُ عليه بالاسئذان للحجّ، فاستأذنَه، فأذنَ له وصيَّرهُ أميرَ كلِّ بلدةٍ يدخلُ إليها، وخلع عليه، وركب جميع القوَّاد معه لوداعه، فلمَّا خرجَ صيَّر المتوكِّلُ الحجابةَ إلى وصيف في ذي القعدة. وقيل: إن هذه القصة كانت في السنة الماضية (¬5). ولمَّا رجعَ من الحجِّ استصفى المتوكِّلُ ماله، وحُبِسَ وضُرِبَ، فماتَ في الحبسِ، كما سنذكرُه إن شاء الله. وحجَّ بالناسِ محمدُ بن داود بن عيسى. وفيها توفي ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 12/ 323، والمنتظم 11/ 208. (¬2) في (خ) و (ف): وقال. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 166. (¬3) في تاريخ الطبري 9/ 167: صالح بن عجيف. (¬4) يعني: همَّ إيتاخ بقتله. (¬5) تاريخ الطبري 9/ 166 - 167.

أحمد بن حرب

أحمدُ بن حرب ابن عبد الله بن سهل بن فيروز، أبو عبد الله، الزاهد النيسابوريّ، وقيل: المروزيّ. كان حسنَ (¬1) الطريقة، ظاهر النُّسك، عابدًا مجتهدًا. والكرَّاميةُ تنتحلُه. وردَ بغداد حاجًّا في أيام الإمام أحمد رحمة الله عليه، وحدَّث بها. وكان يحيى بن يحيى يقول: إن لم يكن أحمد بن حرب من الأبدال، فلا أدري من هم. وقال إسماعيل: دَخلتُ على الإمام أحمد، وقد قَدِمَ أحمدُ بن حرب من مكَّة، فقال لي: من هذا الخراسانيُّ الذي قَدم؟ قلت من زُهده كذا وكذا، فقال: لا ينبغي لمن يدَّعي ما يدَّعيه أنْ يُدْخِلَ نفسَه في الفتيا. وقال أحمد بن حرب: المنازلُ أربعة، فثلاثةٌ منها [مجاز] (¬2)، وواحدٌ حقيقة، عمرنا في الدنيا، ومكثُنا في القبور، ومقامنا في الحشر، ومنصرفُنا إلى الأبد الذي خلقنا له، فَمَثَلُ عمرنا في الدنيا كالمُتَعَشِّي للحاجِّ، لا يطمئنُّ ولا يَحلُّون الأثقال عن الدوابِّ لسرعة الارتحال، ومثل مكثنا في القبور مثلُ أحد منازل الحاجّ، يضعونَ الأثقال ويستريحونَ يومًا وليلة، ثمَّ يرتحلون، ومَثَلُ مقامنا في الحشر كمَقْدِمِهم مكَّةَ، يقضونَ النُّسك ويوفون النذور، ثم يفترقون، وكذا القيامة يفترقون (¬3)، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير، والرابعُ هو الحقيقة. وتوفِّي في رجب، وهو ابنُ ثمانٍ وخمسين سنةً وأشهر. وقال ابن دلويه: رأيتُ أحمد بن حرب في منامي بعدَ وفاته بشهر، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غَفَرَ لي وفوق المغفرة، قلت: وما فوق المغفرة؟ قال: أكرمني بأنْ يستجيبَ دعواتِ المسلمين إذا توسَّلُوا بقبري (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد 5/ 190: خشن. (¬2) في (خ) بياض، وما بين حاصرتين استدركته من المنتظم 11/ 210. (¬3) قوله: وكذا القيامة يفترقون. ليس في (ف). وانظر المنتظم 11/ 211. (¬4) المنتظم 11/ 211.

إيتاخ بن عبد الله التركي

سمع سفيان بن عيينة وخلقًا كثيرًا، وروى عنه أحمد بن الأزهر وغيره، وأجمعوا على صدقه وثقته (¬1). إيتاخ بن عبد الله التركيّ كان سيفَ النقمة للخلفاء، وكان المتوكِّلُ قد خافَه، فجلسَ معه ليلةً بالقاطول، فعربدَ على المتوكل، فقال له: أتريدُ أن تلعَب بي كما لعبتَ بالخلفاء، فهمَّ به، ثم افترقَا على ضَغِينَةٍ، فدسَّ إليه المتوكل من يشيرُ عليه بالحجِّ، كما سبق. فلما بلغَ الكوفة ولَّى مكانه. ولمَّا عاد من الحجّ، أرادَ أن يسلكَ طريق الفرات إلى سامراء، ولو فعل لقدر على المتوكل. وكان المتوكِّل قد كتبَ إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب -وهو ببغداد- ما يعتمدُه، فلمَّا وصلَ إيتاخ الكوفة، كتبَ إليه إسحاق: إنَّ أمير المؤمنين قد رسم أن تدخل بغداد ليتلقَّاك وجوهُ بني هاشم، وتطلقَ الجوائز، وتنزل دار خزيمة بن خازم، فجاء إلى بغداد، فتلقاه وجوهُ بني هاشم، وفرق إسحاقُ بينه وبين غلمانه، وأَنزَلهُ دارَ خزيمة، ثم قبضَ عليه وقيَّده وكبَّله بالحديد ثمانين رطلًا، فتوفي ليلةَ الخميس عاشر جمادى الأولى -وقيل: في المحرم- فأحضر إسحاقُ القضاةَ والشهود، فشهدُوا أنَّه ماتَ حتفَ أنفه ولا أثرَ به. وقيل: إنَّه طلبَ الماءَ فلم يُسْقَ، فماتَ عطشًا. وقيل: مات سنة خمس وثلاثين (¬2). فاستصفى المتوكِّلُ أمواله، فبلغت ألف ألف دينار، وحُبِسَ ابناه، حتى أطلقهما المنتصر لمَّا ولي الخلافة. وفي روايةٍ أن إسحاق التقاه من الياسرية، فلمَّا نظر إليه إسحاق أهوى لينزل، فحلفَ عليه إيتاخ أنْ لا يفعل. وكان إيتاخ في ثلاث مئة من غلمانه وأصحابه، فلمَّا وصلَ بغداد ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 5/ 190 - 192، والمنتظم 11/ 210 - 211. (¬2) في تاريخ الطبري 9/ 169، والمنتظم 11/ 222، والكامل 7/ 47 أنه ماتَ ليلة الأربعاء لخمسٍ خلون من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومئتين.

زهير بن حرب

تقدَّمه إسحاقُ فعبرَ الجسر، ووقف على باب دار خزيمة، وقال لإيتاخ: ينزلُ الأمير، فنزل، وتأخَّر إسحاق، وأمر أن لا يدخلَ الدار من غلمانه إلَّا ثلاثةٌ أو أربعة، وأخذت عليهم الأبواب، وقطعت الدرج، ففطن فقال: أو قد فعلوها! ؟ ثمَّ أَخَذَ ولديه منصورًا ومظفرًا وكاتبَه سليمان بن وهب، فقيَّدهُم وحبسهم، ونقلَهم جميعًا إلى داره (¬1). ثمَّ إنَّ إيتاخ قال لبعض غلمان إسحاق: أقرئه عنِّي السلام وقل له: قد علمتَ ما كان المعتصمُ والواثقُ يأمراني به، فكنتُ أدفع عنكَ ما أمكنني، فلينفعني ذلك عندك اليوم، أما أنا فقد مرَّت بي شدائدُ ورخاء، فما أبالي ما أكلتُ وما شربت، وأمَّا هذان الغلامان فإنَّهما عاشا في رخاءٍ ونعمة، لم يعرفا البؤس، فصيِّر لهما ما يأكلان من اللحم وغيرهِ، فأعاد الرجل على إسحاق ما قاله إيتاخ، وكانت وظيفةُ إيتاخ في كلِّ يومٍ رغيفٌ وكوزٌ من ماء، وجعل لابنيه سبعة أرغفةٍ ولحمًا (¬2). زهير بن حَرْب ابن شداد، أبو خيثمة النَّسائيّ، ولدَ سنةَ ستين ومئة، وكان رفيقَ الإمام أحمد رحمة الله عليه في بعض أسفاره، وكان عالمًا فاضلًا ورعًا. سافرَ إلى البلاد وسمعَ الكثير، وتوفي ببغداد في شعبان. أسندَ عن خلقٍ كثير منهم سفيان بن عُيينة وغيره، وصنَّفَ المسنَد والكتب، وأخرج عنه البخاريُّ ومسلم وغيرهما، وأجمعوا على صدقه وثقتِه وديانته (¬3). سليمان بن داود ابن بشر بن زياد، أبو أيوب البصري المِنْقَريُّ، يعرف بالشَّاذَكونيّ. قدِمَ بغداد، فجالس الحفاظ وذاكرهم، ثم خرجَ إلى أصبهان فسكنَها، وانتشر حديثُه [بها] (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 168 - 169. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 169. (¬3) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 9/ 509، والمنتظم 11/ 211، وتهذيب الكمال 9/ 402، وسير أعلام النبلاء 11/ 489. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 10/ 55. والكلام منه.

سليمان بن عبد الله

وقال عمرو الناقد: ما كان في أصحابنا أسرد للحديث من الشاذكوني (¬1). ولما قدم بغداد قال لي الإمام أحمد: اذهب بنا إليه نتعلَّمْ منه نقدَ الرجال (¬2). وتوفي في جمادى الآخرة (¬3) بأصبهان. حدَّثَ عن خلقٍ كثير، وكان حافظًا متقنًا، وقد تكلَّموا فيه. وقال الخطيب: هو الذي روى عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّهم سائلُوك عن المجرَّة، فقل لهم: إنَّها من عَرَقِ الأفعى الذي تحتَ العرش" (¬4). فأنكرَ الناسُ عليه هذا وأشباهَه. وقال إسماعيل بن طاهر البلخيّ (¬5): رأيتُ الشاذكونيّ في النوم، فقلت له: ما فعلَ الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: بماذا؟ قال: كنتُ في طريق أصبهان، فأخذني المطرُ، وكانت معي كتبٌ، ولم أكن تحت سقف ولا عندي شيء يكنُّني، فانكببتُ على كتبي حتى أصبحتُ، وهدأ المطر، فغفر الله لي بذلك (¬6). سليمان بن عبد الله ابن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، قَدِمَ دمشق صحبةَ المأمون، وولاه المدينة، ثمَّ عزله المعتصم، وولَّاه المأمون اليمن، فقدمَ بغداد، فوافق يوم الفطر، وصلَّى بهم العيد، وكان ولَّاه أمرَ كلِّ بلد يدخل إليه، حتى يصل إلى اليمن، وذلك سنة ست عشرة ومئتين (¬7). ¬

_ (¬1) في (خ): ما كان في أصحابنا مثل الشاذكوني كان أسرد للحديث. والمثبت من (ف)، وانظر تاريخ بغداد 10/ 56. (¬2) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 10/ 679: كفى بها مصيبة أن يكون رأسًا في نقد الرجال، ولا ينقد نفسه. (¬3) في تاريخ بغداد 10/ 64: جمادى الأولى. (¬4) تاريخ بغداد 10/ 60. (¬5) كذا في (خ) و (ف) والمنتظم 11/ 214، وفي تاريخ بغداد 10/ 64: إسماعيل بن الفضل بن طاهر. (¬6) انظر ترجمة سليمان وأقوال العلماء فيه في المصادر السالفة، وسير أعلام النبلاء 10/ 671، وميزان الاعتدال 2/ 191. (¬7) تاريخ دمشق 7/ 620 - 621 (مخطوط).

علي بن عبد الله

عليُّ بنُ عبد الله ابن جعفر بنُ يحيى بن بكر بن سعيد (¬1). وقيل: جعفر بن نَجِيح بن بكر بن سعد (¬2)، أبو الحسن السعدي مولاهم، ويعرف بابن المَدِينيّ، البصريُّ الدار، وأحد أئمَّة الحديث في عصره، والمقدَّم على حفَّاظه، وأبوه محدِّثٌ مشهور (¬3). ولد على سنة إحدى وستين ومئة. وكان سفيان بن عُيينة يقول: إنِّي لأتعلَّم من ابن المدينيّ أكثرَ ممَّا يتعلَّم منِّي (¬4)، ولولاه ما جلست (¬5). وكذا كان يحيى بن سعيد القطَّان يقول: الناسُ يلوموني في قعودي مع عليّ، وأنا أتعلَّم منه أكثر مما يتعلَّم منِّي (¬6). وكان الإمام أحمد رحمةُ الله عليه لا يسمِّيه باسمه، إنَّما يكنيه تبجيلًا له (¬7). وقال البخاريُّ: ما استصغرتُ نفسي مع أحدٍ إلَّا مع عليِّ بن المديني (¬8). وقال عباس العنبري: كان ابن المديني قد بلغ مبلغًا، لو قضي له أن يَتمَّ على ذلك، لعلَّه كان يقدَّمُ على الحسن البصريّ، كان الناسُ يكتبونَ قيامَه وقعودَه ولباسه، وكلَّ شيءٍ يقول ويفعل، ونحو هذا (¬9). ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف) والنجوم الزاهرة 2/ 276. وفي المنتظم 11/ 241: بن سعد. (¬2) وهذا المذكور بصيغة "قيل" هو الذي أجمعت عليه المصادر. انظر التاريخ الكبير 6/ 284، والجرح والتعديل 6/ 193 - 194، وتاريخ بغداد 13/ 421، وسير أعلام النبلاء 11/ 42، وتاريخ الإسلام 5/ 887، وتهذيب الكمال 5/ 21 وغيرها. (¬3) تاريخ بغداد 13/ 421. وضعف عليُّ بنُ المديني أباه عبدَ الله بن جعفر ديانة. انظر تهذيب التهذيب 2/ 316. (¬4) تاريخ بغداد 13/ 422. (¬5) قوله: ولولاه ما جلست، قطعة من قولِ آخر لسفيان، وتمامه كما في تاريخ بغداد 13/ 423: إني لأرغب بنفسي عن مجالستكم منذ ستين سنة، ولولا علي بن المديني ما جلست. (¬6) تاريخ بغداد 13/ 424. (¬7) تاريخ بغداد 13/ 422. (¬8) تاريخ بغداد 13/ 428. (¬9) تاريخ بغداد 13/ 426.

وقال أبو حاتم الرازي: كان عليٌّ عَلَمًا في الحديث ومعرفة الرجال والتعليل (¬1). وقال (¬2): قال ابن المديني: رأيتُ في المنام، كأنَّ الثُّريَّا قد نزلت (¬3) حتى تناولتُها، قال أبو قدامة: صدقَ (¬4)، لقد بلغَ في الحديث مبلغًا لم يبلُغه أحد. وقيل للبخاريِّ: ما تشتهي؟ قال: أقدمُ العراق وابنُ المديني حيٌّ فأجالسه (¬5). توفي في ذي القعدة بسامراء، وقيل: بالبصرة (¬6). أسند عن خلق كثيرٍ، سفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطَّان، وعبد الرزاق، وغيرهم. وقَدِم بغداد وحدَّث بها، فروى عنه محمد بن يحيى الذُّهْلي، والبخاريّ، وأبو حاتم الرازي، وخلقٌ كثير، إلَّا أنَّه لمَّا مال إلى ابن أبي دؤاد، وصَحِبَهُ، وقال بقوله، رجعَ الناس عن روايته (¬7). قال ابن أبي دؤاد للمعتصم: يا أمير المؤمنين هذا يزعم -يعني الإمام أحمد بن حنبل ¬

_ (¬1) الجرح والتعديل 6/ 194. (¬2) القائل هو أبو قدامة السرخسي. (¬3) في المصادر: تدلَّت. (¬4) في تاريخ بغداد 13/ 425: فصدَّق الله رؤياه. (¬5) تاريخ بغداد 13/ 428. (¬6) قال الخطيب البغدادي في تاريخه 13/ 440: بسرُّ من رأى مات لا بالبصرة. اهـ. ثم نقل الخطيبُ القولَ بذلك عن البغوي وغيره. انظر سير أعلام النبلاء 11/ 59. (¬7) لم يكن من ابن المديني رحمه الله ميل إلى ابن أبي دؤاد ولا إلى القول بخلق القرآن، وإنما أجاب خوفًا من السيف كما سيأتي. قال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 2/ 147: وكان علي بن المديني ممن أجاب إلى القول بخلق القرآن في المحنة، فنقم ذلك عليه، وزيد عليه في القول. والصحيح عندنا أنه إنما أجاب خشية السيف. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب 3/ 179: تكلم فيه أحمد ومن تابعه لأجل ما تقدم من إجابته في المحنة، وقد اعتذر الرجل عن ذلك وتاب وأناب. وقد ترك الإمام أحمد الرواية عنه بعد المحنة. قال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، قال: حدثنا علي بن عبد الله، وذلك قبل المحنة. قال عبد الله: ولم يحدث أبي عنه بعد المحنة بشيء. سير أعلام النبلاء 11/ 81، ومسند أحمد (24009/ 28). وترك أبو زرعة أيضًا الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة، الجرح والتعديل 6/ 194.

رحمة الله عليه- أنَّ الله تعالى يُرَى في الآخرة، والعينُ لا تقعُ إلَّا على محدود، والله تعالى لا يُحَد، فقال له المعتصم: ما عندكَ في هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عندي ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وما قال؟ قال: حدثنا غُندر، عن شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البَجَلِيّ قال: كنّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ليلة أربع عشرة من الشهر، فنظر إلى البدر، فقال: "أما إنَّكم سترونَ ربَّكم كما تَرون هذا البدر، لا تُضامُّون في رؤيته (¬1) "، قال المعتصم: ما عندك في هذا؟ قال: أنظرُ في إسناد هذا الحديث، ثم قام ابن أبي دؤاد وخرج، فاستدعى بالمدينيّ -وهو لا يقدرُ على درهم- فأحضَره، فما كلَّمَه بشيء حتَّى وصلَه بعشرة آلاف درهم، وقال: هذه وَصَلَكَ بها أميرُ المؤمنين، وأمرَ أنْ يدفعَ إليك جميعُ ما يُستَحَقُّ من رزقك، وكان فاتَهُ رزقُ سنتين، ثمَّ قال: يا أبا الحسن، حديثُ جرير بن عبد الله في الرؤية؟ قال: نعم، صحيح، قال: فهل عندكَ فيه شيءٌ؟ قال: يعفيني القاضي من هذا، قال: يا أبا الحسن، هو حاجة الدهر، ثمَّ أمرَ له بثيابٍ، ومركبٍ بسَرْجِه ولجامه، وبطيب، ولم يزل به حتى قال: في إسناده من لا يُعتَمد عليه، وهو قيس بنُ أبي حازم، إنَّما كان أعرابيًّا بوَّالًا على عقبيه، فقام إليه فاعتنقه وقبَّل ما بين عينيه، ثمَّ دخل على المعتصم فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يحتجُّ في الرؤية بحديث جرير، وإنما يرويه قيسُ بن أبي حازم، وكان أعرابيًّا بوَّالًا على عقبيه، قال الإمام أحمد رحمه الله: فعلمتُ أنَّه من عمل ابن المديني، وكان آكدَ في ضرب الإمام أحمد (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (19190) وانظر تتمة تخريجه ثمة. (¬2) تعقب الخطيب البغدادي رحمه الله هذه الرواية في تاريخه 13/ 433 فقال: أما ما حُكي عن عليِّ بن المديني في هذا الخبر من أن قيس بن أبي حازم لا يُعمل على ما يرويه لكونه أعرابيًّا بوَّالًا على عقبيه، فهو باطل، وقد نزَّه الله عليًّا عن قول ذلك، لأن أهل الأثر، وفيهم علي مجمعون على الاحتجاج برواية قيس بن أبي حازم وتصحيحها، إذ كان من كبراء تابعي أهل الكوفة، وليس في التابعين من أدرك العشرة المقدمين وروى عنهم غير قيس، مع روايته عن خلق من الصحابة سوى العشرة، ولم يحك أحدٌ ممن ساق خبر محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل أنه نوظر في حديث الرؤية، فإن كان هذا الخبر المحكي عن ابن فهم محفوظًا، فأحسب أنَّ ابن أبي دؤاد تكلَّم في قيس بن أبي حازم بما ذكر في الخبر وعزا ذلك إلى علي بن المديني، والله أعلم. اهـ. وانظر ما قاله علي بن المديني في "العلل" ص 53 - 54 في ذكر قيس بن أبي حازم، وانظر سير أعلام النبلاء 11/ 53.

فلمَّا قال ابنُ المدينيِّ ذلكَ هجرَه الناس، وأسقطوا روايتَه، ونسبوهُ إلى النفاق والميل إلى الدنيا (¬1)، وقد أجمعَ العلماءُ على تصحيحِ رواية قيس وعدالته، وأنَّه رَوى عن تسعةٍ من العشرة -رضي الله عنهم-، وكان من (¬2) الثقاتِ، ليس لأحدٍ فيه مطعن، وليس في التابعين من أدركَ تسعة من العشرة غيره، وهذا الحديثُ رواه عشرةٌ من الصحابة (¬3)، وأخرجه البخاريُّ ومسلم (¬4). وكان ابنُ المديني إذا جاءهُ حديثٌ قد رواه الإمامُ أحمد يقول: اضرب على هذا؛ ليرضي ابن أبي دؤاد، وقد سمعَ ابنُ المديني من الإمامِ أحمد وهو شيخه. وقال زكريا بن يحيى الساجيّ: قَدم ابنُ المدينيِّ البصرةَ، فسار إليه بُندار، فجعل يقول: قال أبو عبد الله، فقال على رؤوس الملأ: مَنْ أبو عبد الله، أحمد بن حنبل؟ قال: لا، أحمد بن أبي دؤاد، فقال له بُندار: عند الله أحتسب خطايَ إليك، ثمَّ قام مغضبًا (¬5). وكان عند إبراهيم الحربيّ قِمَطْرٌ من حديث عليِّ بن المديني، فتركه، فقيل له: لم لا تحدث عنه؟ قال: لقيتُه يومًا وبيده نعلُه وثيابه في فمه، فقلت: إلى أين؟ فقال: الصلاة خلف أبي عبد الله، فظننت (¬6) أنَّه يعني أحمد بن حنبل، فقلت: من، أبو عبد الله؟ فقال: ابنُ أبي دؤاد، فقلت: والله لا حَدَّثتُ عنك بحرفٍ أبدًا. ودخلَ ابنُ المديني على ابن أبي دؤاد بعد محنة الإمام أحمد بن حنبل ومعه رقعة، فناولَه إيَّاها وقال: هذه وجدتُها في داري، وفيها: [من الكامل] ¬

_ (¬1) في هذا الكلام جرأة عجيبة على إمام المحدثين، ومن وصفه البخاري بأنه أعلم أهل عصره (تهذيب التهذيب 3/ 179) وقد بناه المصنف على أقوال ضعيفة وروايات تالفة، سيأتي الكلام على بعضها، وانظر ما قاله الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال في الذبِّ عن ابن المديني. (¬2) لفظة: من، ليست في (ف). (¬3) انظر مسند أحمد (11120)، وانظر كتاب الرؤية للدارقطني. (¬4) أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633): (211) من حديث جرير بن عبد الله. وأخرجه البخاري (4581)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرجه البخاري (6573)، ومسلم (182) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) تاريخ بغداد 13/ 437. (¬6) في (خ) و (ف): ففطنت. والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 437.

يا ابنَ المدينيِّ الذي لاحتْ له ... دنيا (¬1) فجادَ بدينه لينالهَا ماذا دعاكَ إلى اعتقادِ مقالةٍ ... قد كان عندكَ كافرًا من قالها أمرٌ بَدَا لك رشدُه فقبلتَه ... أم زهرةُ الدنيا أردتَ نوالها (¬2) ولقد عَهِدتُكَ لا أبا لي مرَّةً ... صعبَ المقادة للتي تُدْعَى لها (¬3) إنَّ الحريب لَمَن يُصابُ بدينه ... لا من يُرَزَّى ناقةً وفِصالهَا فقال ابن أبي دؤاد: قد هجا (¬4) خيارَ الناس، ولا هدمَ الهجو حقًّا، ولا بَنَى باطلًا، وقد قمتَ وقمنَا من حق الله بما يَصغرُ قدرُ الدنيا عند كثير (¬5) ثوابه، ثمَّ أعطاه خمسة الآف درهم وقال: اصرفْها في شأنك. وقال العباس بن عبد العظيم: دخلتُ على ابن المدينيِّ فرأيتُه مغمومًا، فقلت: ما لك؟ قال: رأيتُ في المنام كأنِّي أخطُبُ على منبر داود - عليه السلام -، فقلت: خيرًا رأيتَ كأنَّك تخطبُ على منبر نبيّ، فقال: لو رأيتُ أنِّي أخطبُ على منبر أيوب كان خيرًا؛ لأن أيوب ابتلي في بدنِه، وداود في دينه، وأخشى أني أفتتن في ديني (¬6). وكان منه القولُ بخلق القرآن ما كان. وقال ابن مَعين: كان ابن المدينيّ إذا حضرَ عندنا أظهَر السُّنَّة، وإذا مضى إلى البصرة أظهر التشيُّع (¬7). وقد روي رجوعه، فحكَى الخطيبُ عنه أنَّه قال: إنما أجبتُ تقيَّةً، وخفت السيف، حُبِستُ في بيتٍ مظلمٍ ثمانيةَ أشهر، وفي رجلي قيدٌ ثمانيةُ أَمْنَاء، حتَّى خفتُ على ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): الدنيا. والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 436. (¬2) في (خ) و (ف): نزالها. (¬3) في (خ) و (ف): صعب المقالة التي تدعى لها. (¬4) يعني: ابن الزيات. (¬5) في (ف) وتاريخ بغداد 13/ 436: كبير. (¬6) تاريخ بغداد 13/ 431 من رواية أبي عبد الله غلام الخليل. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 11/ 52: غلام خليل غير ثقة. (¬7) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 11/ 47: كان إظهاره لمناقب الإمام علي بالبصرة؛ لمكان أنهم عثمانية، فيهم انحراف عن علي.

يحيى بن أيوب

بصري (¬1). وإنَّ أحمد بن حنبل قويَ على ضربِ السِّياط، وأنا ضَعفتُ عنها (¬2). لو ضربت سوطًا واحدًا لمتُّ (¬3). وقيل له: مع علمك كيفَ أَجبتَ؟ فقال: ما أهونَ عليكم السيف (¬4)! وقال عمار بن أبي شيبة (¬5): سمعتُ ابن المديني يقول قبل موته بشهرين: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق، ومن زعم أنَّه مخلوق، وأنَّ الله لا يُرى في القيامة، فهو كافر. يحيى بن أيوب البغداديُّ العابد، ويعرف بالمَقَابري؛ لأنه كان يتعبَّدُ في المقابِر، ولد سنة سبع وخمسين ومئة. رَوى العباس بن محمد عن أبيه قال: مررتُ بالمقابر، فسمعتُ همهمةً، فاتَّبعتُ الأثر، وإذا بيحيى بن أيوب في حفرةٍ وهو يبكي ويدعو، ويقول: يا قرَّة عين المطيعين، ويا قرَّة عين العاصين، ولم لا تكون قرَّة عين المطيعين وأنت مَنَنْتَ عليهم بالطَّاعة، ولم لا تكون قرَّة عين العاصين وأنت سترتَ عليهم الذُّنوب، وهو يعاودُ البكاء، قال: فغلبني البكاء، ففطن بي، فقال لي: تعال، لعلَّ الله إنَّما بعثَ بك لخير. وتوفي في ربيع الأول. سمع إسماعيلَ بن عُلَيَّة وغيره، وروى عنه الإمام أحمد رحمة الله عليه، ومسلم بن الحجَّاج، وغيرهما، وكان ثقةً صالحًا (¬6). * * * ¬

_ (¬1) انظر تاريخ بغداد 13/ 438. قال الذهبي في السير 11/ 58: إسنادها منقطع. وأمناء جمع مَنَا، وهو كيلٌ أو ميزان. القاموس المحيط (منا). (¬2) تاريخ بغداد 13/ 436. (¬3) تاريخ بغداد 13/ 438. (¬4) تاريخ بغداد 13/ 439. (¬5) كذا في (خ) و (ف)، وهو خطأ. والصواب -كما في تاريخ بغداد 13/ 439 - : محمد بن عثمان بن أبي شيبة. (¬6) تاريخ بغداد 16/ 277 - 279، والمنتظم 11/ 219 - 220.

السنة الخامسة والثلاثون بعد المئتين

السنة الخامسة والثلاثون بعد المئتين فيها عزل المتوكل عبيد الله بن [أحمد بن] (¬1) غالب القاضي، مولى الربيع الحاجب. [قال الخطيب: ] وكان الواثقُ قلَّده القضاءَ في عسكر المهدي شرقي بغداد، [وإليه تنسب سُوَيْقَةُ غالب] (¬2)، وكان فقيهًا على مذهب أهل العراق، متكبِّرًا، قبيح السيرة، سيِّءَ الطريقة، وثبَ على المساجد التي تُقَام فيها الصَّلاة، فجعلَها حوانيت يستغلُّها (¬3)، فكتب إليه [عتاهية بن أبي] (¬4) العتاهية: [من الطويل] متى تَتَّقِ الله الذي لا تخافه ... إذا كنت يومًا تستغلُّ المساجدا فقدت الذي لم يَرْعَ عمًّا ووالدا ... وإنْ كان مفقودًا إذا كان شاهدا وفيه يقول أيضًا: [من الكامل] أبكي وأندبُ بهجةَ الإسلام ... إذ صِرْتَ تقعُد مقعَد الحُكَّامِ إنَّ الحوادثَ ما علمتُ كثيرةٌ ... وأراكَ بعضَ حوادثِ الأيَّامِ وقال فيه أيضًا: [من الكامل] لم تأتِ أرملةٌ لتحرزَ مالها ... إلَّا وأنتَ لمالِها محتالُ تقضي وَفُوْكَ من المدامةِ ناصعٌ (¬5) ... ويُمِيلُ رأسَكَ عطفُكَ الميَّالُ آلَ الربيعِ العبدُ عبدُكم طَغَى (¬6) ... ما كانَ يفعلُ فعلَهُ الدَّجَّالُ (¬7) وقيل: فيها قَدِمَ بُغَا الشرابيّ بمحمد بن البعيث في شوَّال وأصحابه، فجلسَ المتوكِّلُ لهم، فلمَّا حضَر محمدٌ عندَه أمرَ بضربِ عنقه، وجاؤوا بالنطع والسيف، فرقَّ له ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 12/ 23. وفيه أن عزله كان سنة (234 هـ)، وانظر المنتظم 11/ 208. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تاريخ بغداد: وثب على مسجد يصلي فيه طائفة من المسلمين فجعله حانوتًا يستغله للتطفيف. (¬4) في (خ) و (ف): أبو العتاهية. والمثبت من تاريخ بغداد. ولم يذكر الشعر في (ب). (¬5) في تاريخ بغداد: ساطع. (¬6) في تاريخ بغداد: بنيُّ عبدكم طغى. (¬7) تاريخ بغداد 12/ 23 - 24.

المتوكل وقال: يا محمد (¬1)، ما الذي دعاك إلى ما صنعت؟ قال: يا أمير المؤمنين الشقوة، وأنتَ الحبلُ الممدودُ بين الله وبين خلقه، وإنَّ لي فيك لظنَّين، أسبقُهما إلى قلبي أولاهُما بك، وهو العفو، ثم اندفع وقال: [من الطويل] أبى الناس إلَّا أنَّك اليومَ قاتلي ... إمامَ الهدى والصفحُ في الله أجملُ وهل أنا إلا جُبلةٌ من خطيَّةٍ ... وعفوكَ من نورِ النبوَّةِ يُجبلُ وإنَّك خيرُ السابقين إلى العلا ... ولا شكَّ أَنْ خيرَ الفعَالين تفعلُ وكان عليُّ بن الجهم حاضرًا، فقال يا أمير المؤمنين إنَّ معه أدبًا (¬2)، فليفعلْ أميرُ المؤمنين خيرَهما، ويمنّ عليه، فقال: قد عفوتُ عنك، فأطلقه. وقيل: إنَّ المعتز شَفِعَ فيه، فوهبَه له، وكان ابنُ البعيث حين هرب قال: [من البسيط] كم [قد] قضيتُ أمورًا كان أهملَها ... غيري وقد أخذَ الإفلاسُ بالكَظَمِ لا تعذلينيَ ممَّا ليس ينفعُني ... إليكِ عنِّي جَرى المقدورُ بالقلمِ سأُتلِفُ المال في عسرٍ وفي يسر ... إنَّ الجوادَ الذي يعطي على العَدَمِ وقيل: لما أُخِذَ جُعِلَ في عنقهِ مئةُ رطلٍ من الحديد، فلم يزلْ مكبوبًا على وجههِ حتى مات (¬3). والأوَّلُ أشهر (¬4). وفيها أمرَ المتوكِّلُ بأخذ أهل الذمَّةِ من النصارى واليهود بلبس الطيالسة العسليَّة، والزنانير، وركوب السروج بركب الخشب، وتكون السروجُ كهيئة الأُكُف، وعلى رؤوسهم القلانسُ المختلفة الألوان، وأن تخيَّطَ الرقاعُ على صدورهم وظهورهم [وكلٌّ منهم في صدره رقعة وفي ظهره رقعة]، كلُّ رقعة قدرُ أربعة أصابع، ولونُها عسلي، وكذا عمائمُهم، وأُزُرُ نسائهم عسلية، [ليعرفن، ] وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وأخذ العشر من منازلهم، وإن كانت واسعةً صُيِّر ذلك مسجدًا، وأمر أن يجعلَ على أبواب ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): يا أحمد. والتصويب من تاريخ الطبري 9/ 170. (¬2) قوله: إن معه أدبًا. هو من كلام المتوكل، لا من كلام علي بن الجهم. انظر تاريخ الطبري 9/ 170. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 171. (¬4) من بداية شعر ابن أبي العتاهية ... إلى هنا ليس في (ب).

ديارهم صور شياطين مسمَّرة؛ [ليظهر الفرق بينها وبين منازل المسلمين، ] ونهى أن يُستعانَ بهم في الدواوين، وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم [فيها] على المسلمين، ونهى أن يتعلَّم أولادُهم [في] كتاتيب المسلمين، وأن لا يعلِّمَهم مسلم، ونهى أنْ يُظهروا في أعيادهم وشعانينهم صليبًا، وأنْ تسوَّى قبورُهم با لأرض؛ لئلَّا تُشَبَّه بقبورِ المسلمين، وكتب [الكتب] إلى [عماله في] الآفاق بذلك [وكان نسخة كتابه. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أمَّا بعد: فإن الله اصطفى الإسلامَ لنفسه، وارتضاه وأيَّده بأنبيائه، وجعلَهُ مبرَّءًا من الشبهات، معصومًا من الآفات، وأكرمَ أهله بما أحلَّ لهم من حلاله، وحرَّم عليهم من حرامه، وقال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي} الآية [المائدة: 3] ثمَّ حباهم بأحسنِ الأخلاق، وفضَّلَهم بالفضائلِ والكرامات، وأنعمَ عليهم بالإيمان والأمانة، والفضلِ والتراحم، واليقين والصدق ... وهو كتابٌ طويلٌ، إلى أنْ قال: وقد رأى أميرُ المؤمنين أنْ تُحمَل أهلُ الذمَّة قاطبةً على كذا وكذا. وذكر معنى ما ذكرناه.] (¬1) فقال علي بن الجهم: [من السريع] العَسليَّاتُ التي فرَّقت ... بين ذوي الرِّشْدَة والغَيِّ وما على العاقلِ أنْ يكثُروا ... فإنَّه أكثرُ للفيِّ (¬2) وفيها ظهر بسامرَّاء رجلٌ يقال له: محمودُ بن الفرج النيسابوريّ، يَزعمُ أنَّه ذو القرنين، ومعه سبعة عشر رجلًا (¬3) عند خشبة بابك، وكان معه رجل شيخٌ، فشهد [له] أنَّه نبيٌّ يُوحَى إليه، وكان معه كتاب كالمصحف يقرؤونه، فضُرِبَ محمودٌ ضربًا مبرِّحًا، وكذا الشيخ وأصحابه، ومات محمود بعد أيَّامٍ من الضرب وتفرَّقوا (¬4). وفيها عقدَ المتوكِّلُ البيعةَ لبنيه الثلاثة يوم السبت لثلاثٍ بقين من ذي الحجة، وقسم ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). ولم يذكر فيها ما سيأتي من شعر علي بن الجهم. (¬2) ديوان علي بن الجهم ص 192 (تكملة)، وانظر الخبر في تاريخ الطبري 9/ 171 - 175. (¬3) المنتظم 11/ 223، وفي تاريخ الطبري 9/ 175، والكامل 7/ 50: سبعة وعشرون رجلًا. (¬4) بعدها في (ب): وحج بالناس محمد بن داود. فصل: وفيها توفى شريح (كذا) بن يونس. وستأتي ترجمة سُرَيج ص 31.

الدنيا بينهم، وكتبَ كتابًا كما فعل الرشيد، وأشهدَ فيه شهودًا، فولّى ابنه محمَّد المنتصر إفريقية والمغرب كلَّه من عريش مصر إلى حيث بلغَ سلطانهُ من المغرب، وأضافَ إليه جندَ قِنَّسرين، والعواصم، والثغور الشامية والجزرَّية (¬1)، وديار ربيعة، والمَوْصل، والفرات، وهِيت، وعَانات، والخابور، ودِجْلة، والحرمين، واليمن، واليمامة، وحضرموت، والبحرين، والسِّند، ومُكران (¬2)، وقَنْدابيل، وفرج بيت الذهب، وكور الأهواز، ومَا سَبَذَان، ومِهْرِجان، وشهرزور، وقُمْ، وقاشان، وقَزوين، والجبال. وأعطى المعتزَّ بالله الزبير -وقيل: محمَّد وكنيته أبو عبد الله- خراسان، وطبرستان، وما وراء النهر، والمشرقَ كلَّه، وإرمينية، وأذْرَبيجان، وضمَّ إليه [في سنة أربعين خزن بيوت الأموال في جميع الآفاق، ودور الضرب، وأمرَ بضرب اسمه على الدراهم. وكان ما ضمَّ إلى ابنه] المؤيَّد بالله إبراهيم جندَ دمشق وحمص والأردن وفلسطين، فقال أبو الغصن: [من الرجز] إنَّ ولاةَ المسلمينَ الجلَّه ... محمدٌ ثم أبو عبدِ الله ثمَّت إبراهيم آبي الذلَّه ... بُورِك في بني خليفةِ الله (¬3) وقال إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول: [من الكامل] أضحَتْ عُرى الإسلام وَهْيَ مَنُوطةٌ ... بالنصر والإعزازِ والتأييدِ بخليفةٍ من هاشمٍ وثلاثةٍ ... كَنفوا الخلافةَ من ولاة عهودِ قمرٌ توالتْ حوله أقمارُه ... يكنُفنَ مطلعَ سعدهِ بسعودِ (¬4) وقال: [من مجزوء الكامل] الله أظهرَ دينَه ... وأعزَّهُ بمحمَّدِ واللهُ أكرمَ بالخلا ... فةِ جعفرَ بن محمَّدِ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): والجزيرة. والتصويب من تاريخ الطبري 9/ 176، والكامل 7/ 49. (¬2) في (خ) و (ف): وكرمان. والتصويب من تاريخ الطبري 9/ 176، والكامل 7/ 49. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 176، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬4) ديوان إبراهيم بن العباس الصولي ص 131 (الطرائف الأدبية).

والله أيَّدَ عهدَه ... بمحمَّدٍ ومؤيَّدِ (¬1) وقال مروان بن أبي الجنوب: [من الطويل] سَقَى اللهُ نجدًا والسلامُ على نجدِ ... ويا حبَّذا نجدٌ على القربِ والبعدِ ونجدٌ بها قومٌ هواهم زيارتي ... ولا شيءَ أحلى من زيارتهم عندِي لقد قلَّدَ العهدَ الإمامُ ثلاثةً ... هُمُ أصبحوا أولى البريَّة بالعهدِ تخيَّر خيرَ الناسِ للنَّاس بعدَه ... وقال لهم كونوا الأئمَّة من بعدِي ولو لم يكن عقدٌ لكانوا ولاتَها ... كما قبلَهُم جاءتْ أباهم بلا عقدِ لقد بايعَتْهُم قبلَ ذاك قلوبُنا ... ولكنَّنا كنَّا نُسِرُّ ولا نبدِي عقدتَ لهم بالحزمِ أوثقَ بيعةٍ ... على الطائرِ الميمونِ والكوكبِ السعدِ لقد سُرَّتِ الأقوامُ لمَّا دُعوا لها ... سرورَ الَّذي يُدْعَى إلى جنَّةِ الخلدِ لقد حُمِد الإسلامُ إذ قمتَ دونَه ... وبَيعتُهم زادتُه حمدًا على حمدِ لعمري لقد حصَّنتَها بثلاثةٍ ... ولاةِ عهودٍ كالبحورِ وكالأُسدِ ثلاثة أملاكٍ فأمَّا محمَّدٌ ... فنورُ هدًى يهدي به الله من يهدِي وأما أبو عبد الإله فإنَّه ... شبيهُك في التقوى ومُجْدٍ كما تُجْدي وذو الفضل إبراهيمُ للناس عِصْمَةٌ ... تقيٌّ وفيٌّ بالمآثِر والمجدِ (¬2) فأعطاهُ المتوكِّلُ خمسين ألفًا، وقيل: مئة وثلاثين ألفًا (¬3)، وخمسين ثوبًا، وثلاثة أفراس، وبغلة، وحمارًا، قال مروان: فقلت بديهةً: تخيَّر ربُّ الناس للناس جعفرا ... فملَّكه أمر العباد تخيُّرَا فأمسكْ ندى كفيك عنِّي ولا تزدْ ... فقد خفتُ أنْ أطغَى وأنْ أتجبَّرَا فقال المتوكِّل: لا والله ما أمسكُ حتَّى يغرقَك جودي، ثم ولَّاه اليمامة. وفيها خرجَ يحيى بنُ عمر بن يحيى (¬4) بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي ¬

_ (¬1) في ديوان الصولي ص 132، وتاريخ الطبري 9/ 181: بمحمدٍ ومحمد. (¬2) في مروج الذهب 7/ 306 - وفيه الأبيات الثلاثة الأخيرة-: نقيٌّ وفيٌّ بالوعيد وبالوعد. (¬3) في تاريخ الطبري 9/ 232، والأغاني 12/ 81: مئة وعشرين ألف درهم ... (¬4) في تاريخ الطبري 9/ 182: حسين، وفي المنتظم 11/ 225: يحيى بن محمد بن يحيى. وانظر الكامل 7/ 53.

إسحاق بن [إبراهيم بن] ميمون

طالب - عليه السلام -، فاجتمع إليه قوم، فأتي به إلى المتوكِّل، فضربَه ثم حبسه في المطبق ببغداد، بعد أن ضربَه عمر بن فرج ثمانيةَ عشرَ سوطًا. وحجَّ بالناس محمد بن داود (¬1). وفيها توفي إسحاق بن [إبراهيم بن] (¬2) ميمون أبو محمد التميميّ، ويعرف والدُه بالمَوْصليّ النديم، وكان الرشيدُ يكنيه أبا صفوان، يولعُ به. ولد سنة خمسين ومئة، فكتب الحديثَ عن سفيان بن عيينة، وهُشيم بن [بشير، و] (¬3) أبي معاوية الضرير، وغيرهم، وأخذ الأدب عن الأصمعي، وأبي عبيدة، وبَرعَ في علم الغناء، فغلب عليه، ونُسب إليه. وكان مليحَ المحاضرة، حلوَ النادرة، جيد الشعر، مذكورًا بالسخاء، معظَّمًا عند الخلفاء، وصنَّف كتاب "الأغاني"، وذكره أبو الفرج الأصفهاني، وأنكرَ أنْ يكونَ هذا الكتاب منسوبًا إلى إسحاق، وقال: هو أجلُّ من هذا؛ لأنَّ معرفتَه أتمُّ ممَّا في الكتاب المنسوب إليه، وكان ابنه ينكره أيضًا. وكان إسحاق يكرهُ أن ينسبَ إلى الغناء، ويقول: لأن أضرب على رأسي بالمقارع أحب إليَّ من أنْ يقال لي: غنِّي. وقال المأمون: لولا شهرتُه بالغناء لولَّيتُه القضاء، فإنَّه أعفُّ وأصدقُ وأكثرُ دينًا ومروءةً وأمانةً من هؤلاء القضاة. وقال محمد بن عطيَّة: اجتمعَ الناس عند القاضي يحيى بن أكثم، وجاءَ إسحاق، وجرت مناظرات، فتكلم في الفقه فأحسن، وفي علم الأصول واللغة والعربيَّة، فأفحمَ الحاضرين، ثمَّ قال للقاضي: أعزَّك الله، أفي شيءٍ ممَّا ناظرتُ عليه نقصٌ أو مطعنٌ؟ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 182، والمنتظم 11/ 225، والكامل 7/ 53. (¬2) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬3) في النسخ: لي: غني. كذا، والمثبت من السير 11/ 120.

فقال: لا، قال: فما بالي (¬1) أقومُ بسائر العلوم قيام أهلِها، وأنسب إلى فنٍّ واحد قد اقتصر الناس عليه؟ ! يعني الغناء. فالتفتَ ابنُ أكثم إلى العَطَوي، فقال: جوابُه عليك، فقال العطوي: يا أبا محمد، أنت في النحو كالفرَّاء والأخفش؟ قال: لا، [قال: ]: ففي اللغة والشعر كالأصمعي وأبي عبيدة؟ قال: لا، قال: ففي الأنساب كالكلبي وأبي اليقظان (¬2)؟ قال: لا، قال: ففي الشعر كأبي نواس وأبي العتاهية؟ قال: لا، قال: ففي الفقه كالقاضي؟ قال: لا، قال: فمن هاهنا نُسِبت إلى ما نسبتَ إليه؛ لأنَّه لا نظيرَ لك فيه، وأنت في غيره دون أهله. فضحكَ وقام، وقال ابن أكثم للعطوي: أحسنت. وقال الصوليُّ: كان لإسحاق غلامٌ اسمه فتح يستقي الماء لأهلِ داره على بغلٍ دائمًا، فقال له يومًا: يا فتح أَيشٍ خبرُك، فقال: ما في هذه الدار أشقَى مني ومنك، أنت تطعمهم الخبز، وأنا أسقيهم الماء، فضحك إسحاق، وعتقه ووهبه البغل. وقال إسحاق: أنشدتُ هارون الرشيد: [من الطويل] وآمرةٍ بالبخل قلتُ لها اقْصِري ... فذلكَ شيءٌ ما إليه سبيلُ الأبيات فأعطاني مئة ألف درهم (¬3). وكان ابن الأعرابيِّ يصفُ إسحاق ويقول: هل سمعتم أحسنَ من ابتدائه في قوله: [من الخفيف] هل إلى أن تنامَ عيني سبيلُ ... إنَّ عهدي بالنوم عهدٌ طويلُ هل تعرفون من شكا نومه بمثل هذا اللفظ الحسن؟ (¬4) وقال أبو الفرج الأصفهاني: كان إسحاق سأل الله أن لا يميتَه بعلَّة القُوْلَنْج لِمَا رأى ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): أبالي. والمثبت من تاريخ بغداد 7/ 359. (¬2) في (خ) و (ف): وابن القطان. وهو تصحيف. والتصويب من تاريخ بغداد. وأبو اليقظان هو عامر بن حفص، يلقب بسُحيم، عالمٌ بالإنساب، له كتبٌ منها: أخبار تميم، وكتاب النسب الكبير، توفي سنة 190 هـ. الأعلام 3/ 250. (¬3) انظر الأغاني 5/ 322. (¬4) تاريخ بغداد 7/ 360.

ما لاقى منه أبوه إبراهيم؛ لأنه مات به، فرأى في منامه: قد أجيبت دعوتُك، ولستَ تموتُ بالقولنج، بل بضدِّه، فأخذه ذرَبٌ في رمضان هذه السنة، فمات به. وكان يتصدَّقُ في كل يومٍ يعجز فيه عن الصيام بمئة درهم (¬1). قال الخطيب: وفيه يقول ابن سيَّابة: [من الوافر] تولَّى المَوْصليُّ فقد تولَّت ... بشاشاتُ المعازفِ والقِيانِ ستبكيه المعازفُ والملاهي ... وتُسعدهنَّ أغطيةُ الدِّنانِ (¬2) وتبكيه الغواني (¬3) يومَ ولَّى ... ولا تبكيهِ تاليةُ القُرانِ قلت: كانَ تركُ هذا الرثاء أجمل. رَوى إسحاق عن مالك بن أنس، وبقية بن الوليد، وروح بن عبادة، وغيرهم، وروى عنه الأصمعيُّ -وهو من شيوخه- وميمون الكاتب، وغيرهما (¬4). وأثنى عليه الأئمَّة، وشهدوا له بالعدالة. قال إبراهيم الحربي: كان إسحاق ثقة صدوقًا عالمًا. ورثاه مصعب بن الزبيري فقال: [من الطويل] تجهز إسحاق إلى الله غاديًا ... فللَّه ما ضُمَّت عليه اللفائفُ وما حملَ النعشَ المزجَّى عشيةً ... إلى القبر إلَّا دامعُ العينِ لاهِفُ جُزِيتَ جزاءَ المحسنينَ مُضاعفًا ... كما أنَّ جدواكَ الندى المتضاعفُ (¬5) فقال حماد بن إسحاق: سأل أبي يحيى لسفيان: يا أبا محمد (¬6)، إنَّ أبا إسحاق من ¬

_ (¬1) الأغاني 5/ 430. (¬2) في تاريخ بغداد 7/ 362: عاتقهُ الدِّنانِ. (¬3) في تاريخ بغداد: الغويَّة. (¬4) انظر تاريخ دمشق 2/ 724 (مخطوط). (¬5) الأغاني 5/ 432. (¬6) كذا في (خ) و (ف). وهذا اختصار مخل. وتمام الكلام كما في تاريخ بغداد 7/ 355 عن حماد بن إسحاق قال: قال لي أبي: قلت ليحيى بن خالد: أريد أن تكلِّم لي سفيان بن عيينة ليحدثني بأحاديث، فقال نعم ... فجاءه سفيان ... فقال له: يا أبا محمد ....

إسحاق بن إبراهيم

أهل الفضل والأدب، وهو مكرهٌ على ما يفعله، وأريدُ أن تحدثه (¬1)، فكره سفيان ذلك، فقال: لا بد، فسمح له بخمسة أحاديث، فما زال به حتَّى جعلَها عشرة، ثم قال سفيان لأبي: بكِّر إليَّ، قال أبي: فبكَّرت إليه وجلستُ بين يديه، فأملى عليَّ عشرةَ أحاديث، فقلت له: يا [أبا] (¬2) محمد، إنَّ المحدِّثَ يسهو ويغفُل، وكذا المحدَّث، فإن رأيتَ أن أقرأَها عليك مثلَ ما سمعتُها منك، فقال: اقرأ فديتك، [فقرأت عليه و] قلت: فإنَّ القارئَ ربما أغفل غَفِلَ -أغفل الحرفَ- والمقروءَ عليه ربَّما ذهبَ عنه الحرف، فأنا في حلٍّ أن أروي جميعَ ما سمعتُه منك، قال: نعم فديتك، فقرأتُها عليه مثلَ ما حدَّثني بها (¬3)، فقال: أنتَ والله فوق أن يُشْفَع لك، فتعال كلَّ يوم، فوددتُ والله أنَّ سائرَ أصحاب الحديث كانوا مثلك. وقال إسحاق: أتيتُ يومًا إلى [أبي] معاوية الضرير ومعي مئةُ حديث أريدُ أنْ أقرأَها عليه، فوجدتُ في دهليزه رجلًا ضريرًا، فقال لي: إنَّ أبا معاوية قد جعلَ الإذنَ عليه اليوم إليَّ لينفعَني، وأنتَ رجلٌ جليلٌ، فقلت: معي مئة حديث، وأنا أهبُ لك عنها مئةَ درهم، قال: رضيتُ، واستأذنَ لي، فأذنَ أبو معاوية، فدخلتُ فقرأت عليه المئة، فقال لي أبو معاوية: الَّذي ضمنت لهذا يأخذُه من أذناب الناس، وأنت من رؤسائِهم، وهو ضعيف مُعيل، وأنا أحبُّ منفعتَه، فقلت: قد جعلتُها مئة دينار، فقال: أحسن الله جزاءك، فدفعتُها إليه (¬4). إسحاق بن إبراهيم ابن مصعب المُصْعَبيّ، كان متولِّي الشرطة، ويسمَّى صاحبَ الجسر، وله وقائع منها أنَّه قال: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم وهو يقول: يا إسحاق أطلق القاتل، فانتبهتُ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): أحدثه. وانظر تاريخ بغداد. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد. (¬3) قوله: فقرأتها عليه مثل ما حدثني بها. مقحمة، وربما كان موضعها، بعد قوله: اقرأ فديتك، وما سلف بين حاصرتين من تاريخ بغداد. (¬4) تاريخ بغداد 7/ 354.

فزعًا، وإذا قد أُتيتُ بشخصٍ في يده سكِّين (¬1)، وقد قتلَ رجلًا، فقلت: اصدقني، ما خبرُك؟ فقال: نحن عشرةٌ من الفتيان نجتمع على الشراب واللهو، ولنا عجوزٌ تحمل إلينا النساء، فبينا نحن البارحةَ جلوسٌ، وإذ قد دخلت إلينا عجوز ومعها صبيَّةٌ بارعةُ الجمال، فلمَّا توسَّطَتِ الدَّارَ ورأت ما نحن عليه صرخت وغشي عليها، ثم أفاقت فقالت: يا فتيان، اتقوا الله في أمري، فإنِّي امرأةٌ علويَّةٌ، أبي عليٌّ، وأمِّي فاطمة، وجدِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا من ولد الحسين بن علي، وهذه العجوز خدعتني وقالت: تعالي فعندي جوهرٌ له قيمةٌ، فأبصريه، فوثقتُ بقولها، فهجَمتْ بي عليكم، قال: فأدركني لها رقة، وقمتُ قائمًا، وقلتُ: والله لا يصلُ إليها منكم أحدٌ إلا قتلته، فقام هذا المقتول، فتعلَّق بها، وقال: لا بدَّ منها، أتريدُ أن تنفردَ بها دوننا، فزجرتُه وخوَّفتهُ، فما انتهى، وقصدني ليقتلَني فقتلته، ثم أخرجتُها من الدار، فقالت: سترك الله كما سترتني، وسمع الجيرانُ الصيحةَ، فرأوا الرجل متشحِّطًا في دمه، فأخذوني، وحملوني إليك على حالي، فقلت له: أبشر، فقد أطلقَكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرته بالمنام فقال: فأنا تائبٌ إلى الله تعالى، لا عدتُ بعدَ اليوم إلى معصية، وحسُنَت توبته. وقال القاضي مكرم (¬2): كان لي جارٌ أديبٌ فاضلٌ يكنَى أبا عبيدة، يعاشر إسحاق المصعبيّ، فحدثني قال: استدعاني إسحاق ليلة نصفَ الليل، فدخلتُ عليه وإذا به جالسٌ على كرسيّ وبيده سيفٌ مسلول، وسمعتُ بكاءَ امرأة من بعض الحُجَر، فأيقنتُ بالقتل، فقال لي: اجلس أبا عبيدة، فسكن رَوعي، فرمَى إليَّ برقاع أصحاب الأرباع، يخبرونَه بما تجدَّد في ليلتهم، وذكروا فيها نساءً من بنات الوزراء الأشراف الذين ماتوا، وأنَّهم وجدوهنَّ على حالةٍ غير مرضية، فقلت: وما المقصود؟ فقال: إنَّ آباءهن كانوا أجلَّ مني، أو مثلي، وقد خطرَ لي أن بناتي ربما أفضَى بهنَّ الحالُ إلى مثل هذا، وقد جمعتهنَّ في هذه الحجرة لأقتلهنَّ وأستريحَ منهنّ، ثمَّ أدركتني الرقَّة والخوف من ¬

_ (¬1) كذا، وفي مروج الذهب 7/ 211 - 212، والتذكرة الحمدونية 8/ 52، وتاريخ الإسلام 5/ 789 أن إسحاق نظر في الكتب الواردة لأصحاب السجون فلم ير كتابًا فيه ذكر قاتل، ثم سأل هل رفع أحد ادُّعيَ عليه بالقتل، ثم أحضر .... (¬2) في الفرج بعد الشدة 4/ 5: عن أبي يحيى بن مكرم القاضي البغدادي، عن أبيه.

الله تعالى، فأرسلتُ إليكَ لتشاركني في الرأي، فماذا ترى؟ قال: فقلت: إنَّ الَّذي ذكروا أسماءهنَّ في هذه الرقاع أساءَ أهلهنَّ التدبير فيهنّ؛ لأنَّهنَّ خلَّفوا لهنَّ النعم، ولم يحفظوهنَّ بالأزواج، فخلونَ بأنفسهنَّ ففسدنَ، ولو كانوا جعلوهنَّ في أعناق الأكفاء ما جرى عليهنَّ هذا، والرأيُ عندي أن تستدعيَ فلانًا القائد، فإنَّ له خمسةً من الذكور حسانًا، فتزوِّجَ كلَّ واحدةٍ بواحدٍ منهم، فتُكفى العارَ والنار، وتكون قد أخذتَ في أمرهنَّ بالحزمِ، فقال: جزاك الله خيرًا، فامضِ الساعةَ إلى القائد، وافصل هذا الأمر. قال: فخرجتُ إلى القائد فأخبرتُه، فسرَّ بذلك، وأحضرَ القاضي والشهود، وزَوَّج الخمس بالخمسة في خطبةٍ واحدة، وحمل إسحاق إلى كلِّ واحدٍ خمسةَ آلاف دينار، وطيبًا، وثيابًا، وأعطاني خمسةَ آلاف دينار (¬1)، وبعثتْ إليَّ أمُّ البنات بمالٍ كثير وثيابٍ وطيب (¬2)، وانقلبَ ذلك الهمُّ فرحًا. وقال الصولي: دخل إسحاق يومًا على المتوكِّل، وعنده الفتح بن خاقان، وهما يتناظران في أخلاط الكيمياء، لم يخض معهما، فقال المتوكِّل: يا إسحاق، مالك لا تتكلم معنا في هذا الباب؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الكيمياء شيءٌ لم يتعرض له الملوكُ قبلكم، ولا نظرَ فيه آباؤك، ولكن أدلُّكَ على كيمياء هو الحقُّ الصحيح، قال: نعم، قال: تسلفني خمسينَ ألف دينار من بيت المال أنفقُها على مصالح السَّواد، ثم تنظر ما يرتفعُ لك من الزيادة. فأمرَ له بخمسين ألف دينار من بيت المال، فحُمِلَتْ إليه، فانصرفَ إسحاق إلى بغداد، وكتبَ إلى وجوه أهل السواد، فحضروا، فقلَّدهم النفقةَ على كري الأنهار والعمارة، واستحلفهم على استعمالِ العدل في الرعيَّة، فلمَّا كان العامُ القابل عملَ الحساب فحصل من السَّواد ثلاث مئة ألف كرّ وأربعة آلاف كرّ، واثنا عشر ألف ألف ¬

_ (¬1) في الفرج بعد الشدة 4/ 7: خمس مئة دينار. وفيه أن كل واحد من الأزواج أعطاه مالًا مما دفع له. وفي آخر الخبر: فعدت إلى داري ومعي ما قيمته ثلاثة آلاف دينار وأكثر. (¬2) في الفرج بعد الشدة: وأنفذ إلى أمهات البنات هدايا وأموالًا جليلة.

إسحاق بن يحيى بن معاذ

درهم، فنظروا، فإذا قد ردَّ كلّ دينارٍ اثنين وثلاثين دينارًا، وردَّ باقي الخمسين ألف دينار، فكتبَ إسحاق إلى المتوكِّل بذلك، وقال: هذا الكيمياءُ الَّذي يجب على الخلفاء النظرُ فيه (¬1). وكان إسحاق حازمًا عاقلًا جوادًا، ولمَّا انتهى خبر مرضِه إلى المتوكِّل بعث إليه ابنَه المعتزّ مع بُغَا الشرابي وجماعةٍ من القوَّاد والخاصَّة لعيادته من سامرَّاء. وكانت وفاته يوم الثلاثاء لستٍّ بقينَ من ذي الحجَّة، وصَيَّر ابنه محمدًا مكانه، وخُلِعَ عليه وقُلِّدَ سيفًا (¬2). وقال الطبريُّ: إنَّه ماتَ هو والحسنُ بن سهل في يومٍ واحد سنة ستٍّ وثلاثين ومئتين (¬3). إسحاق بن يحيى بن معاذ ابن مسلم الخَتْلِيّ، من خَتْلَان، بلدٍ عند سمرقند. وليَ دمشق في أيام المعتصم وفي أيَّام المأمون (¬4)، ثمَّ وليَها مرَّةً أخرى في أيَّام الواثق، وولي مصر من قبل المنتصر في أيَّام المتوكِّل، وماتَ بها. وكان جوادًا ممدَّحًا شجاعًا عاقلًا، ورثاه بعض البصريين فقال: [من الطويل] سقى اللهُ ما بين المقطَّمِ والصَّفا ... صفَا النيل صوبَ المُزنِ حيثُ يصوبُ ¬

_ (¬1) المنتظم 11/ 225 - 226. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 181. (¬3) انظر الكامل 7/ 52 - 53، ونقل الطبري في تاريخه 9/ 184 عن بعضهم أن وفاة الحسن بن سهل كانت في أول ذي الحجة، ثم قال: وقال قائل هذه المقالة: مات محمد بن إسحاق بن إبراهيم في هذا الشهر لأربع بقين منه. ثم نقل الطبري عن القاسم بن أحمد الكوفي قوله: إن وفاة الحسن بن سهل يوم الخميس لخمس ليال بقين من ذي القعدة من سنة خمس وثلاثين ومئتين، ثم ورد كتاب صاحب البريد بوفاة محمد بن إسحاق بن إبراهيم يوم الخميس لخمس خلون من ذي الحجة، فجزع المتوكل، وقال: تبارك الله! كيف توافت منية الحسن ومحمد بن إسحاق في وقت واحد. أهـ. فالمذكور في الخبر عند الطبري محمد بن إسحاق بن إبراهيم، بدل إسحاق بن إبراهيم. (¬4) في تاريخ دمشق 2 / (مخطوط)، ومختصره 4/ 317: ولي دمشق من قبل المعتصم في خلافة المأمون.

سريج

وما بي أنْ تُسقَى البلادُ وإنَّما ... مراديَ أنْ يُسْقَى هناك حبيبُ ماتَ في ربيع الأول سنة سبع وثلاثين (¬1). [فصل وفيها توفي] سُريج (¬2) بسين مهملة وجيم (¬3)، ابن يونس بن إبراهيم بن الحارث المروذيُّ (¬4)، الزاهد العابد، [صاحب الكرامات، و] كانَ قد جعل على نفسه أنْ لا يغضبَ ولا يشبعَ ولا يسألَ أحدًا حاجةً. ورأى الحقَّ سبحانه وتعالى في منامه قال: [قال الخطيب بإسناده إلى إسحاق بن إبراهيم الخُتّلي (¬5) قال: سمعتُ الشيخ الصالحَ الصدوقَ سريج بن يونس يقول: ] رأيتُ فيما يَرى النائمُ كأنَّ الناسَ وقوفٌ بين يدي الله تعالى، وأنا في أوَّل صفٍّ، ونحن ننظرُ إلى ربِّ العالمين، فقال سبحانه وتعالى: أيَّ شيءٍ تريدونَ [أن] أصنعَ بكم؟ فسكَتَ الناس، [قال سريج: ] فقلت في نفسي: ويحهم لقد أعطاهم كلَّ ذا من نفسه، وهم سكوت، فقنَّعتُ رأسي بملحفتي، وأبرزت عيناي (¬6)، وجعلتُ أمشي، وجُزتُ الصفَّ الأوَّل بخطَى، فقال: [يا سُريج] أيَّ شيءٍ تريد، فقلت: رحمن سَر بسَر (¬7)، إن أردت أن تعذِّبنَا فلم خلقتنَا، فقال: [قد] خلقتُكم ولا أعذِّبُكم أبدًا، ثم غاب في السماء. [وهو منامٌ طويلٌ، وفيه أنَّه قال بعد قوله: فذهبَ في السماء: قال: ] ثم رأيتُه بعد ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق ومختصره: مستهلّ ربيع الآخر. سنة سبع وثلاثين ومئتين. وقيل: مات في آخر سنة خمس وثلاثين ومئتين. (¬2) في (ب): شريح. (¬3) قوله: بسين مهملة وجيم. ليس في (ب)، وما سلف وسيأتي بين حاصرتين منها. (¬4) في (خ) و (ف) و (ب): المروزي. وانظر الأنساب 11/ 253، 255. (¬5) ضبطه بعض العلماء بضم التاء، وبعضهم بفتحها، وأطلقها بعضهم. قال شيخنا محمد نعيم عرقسوسي في تعليقه على توضيح المشتبه 2/ 201: فالظاهر جواز الوجهين. (¬6) في تاريخ بغداد 10/ 305، والمنتظم 11/ 228: عينًا. (¬7) في (خ) و (ف): سر، وفي (ب): رحمة سر. والمثبت من تاريخ بغداد 10/ 305. وقوله: سر بسر، يعني: دعنا رأسًا برأس.

ذلك وقد نزلَ إلى الأرض في رمضان (¬1). [وروى الخطيب عن بقَّال سريج بن يونس: قد] (¬2) جاءني سريجٌ ليلًا وقال: وُلدَ لي مولود، وأعطاني ثلاثةَ دراهم. وقال: أعطني بدرهم عسلًا، وبدرهمٍ سمنًا، وبدرهمٍ سَويقًا، ولم يكن عندي شيء، وقد فرغت الظُّروف وعزلتُها لأبكِّر فأشتري فيها، فقلت: ما عندي شيء، قال: فانظر، ولو كان مهما كان، امسح البَرَاني، قال: فجئتُ إلى البَرَاني فوجدتُها ملأى، فأعطيته منها، قال: أليس قلت: ما عندي شيء؟ فقلت: خُذ واسكت، فقلت: ما آخذ أو تصدقُني، فحدثته الحديث، فقال: لا تحدِّث به أحدًا ما دمتُ حيًّا (¬3). [روى محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي قال: سمعت] سريج بن يونس [يقول: ] مكثتُ أيَّامًا (¬4) لم آكل أنا ولا صبياني شيئًا، وكنتُ [يومًا] قاعدًا في الدهليز، فخرج [إليَّ] الصبيانُ يشكون إليَّ، فمرَّ جارٌ لي، فسمعَ كلامهم، فرمَى إليَّ بكيس، فقلت: يا فلان متى كانت عادتُك هذه؟ ! خذ كيسَك عافاك الله، فأخذ كيسه. فقال الصبيان: هذه كُبَّة غزل فبعها، [فخرجت] فبعتُها واشتريتُ خبزًا، وعلمتُ أنَّه لا يكفيهم، فلم آكل معهم، ثمَّ وضعتُ رأسي فنمت، وإذا بملكٍ قد أتاني بصحفةٍ (¬5) من ذهب، فيها خبز وشهدٌ وزبد، فلم أرَ في الدنيا مثله، وقال لي: كلُ، فأكلتُ، ومكثتُ أيَّامًا لا أشتهي الطعام. وحكى عنه أبو حاتم الرازي قال: رأيت ضفدعة في فم حيَّة، فقلت للحيَّة: أقسمتُ عليك بالله إلَّا خلَّيتها، فخلَّتها (¬6). ¬

_ (¬1) من قوله: ثم رأيته بعد ذلك. ليس في تاريخ بغداد والمنتظم، وهو في صفة الصفوة 2/ 362. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ت): وقال بقالٌ كان يعامله. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ بغداد 10/ 305. (¬4) في (خ) و (ت): وقال سريج بن يونس: مكثت يومًا. والمثبت من (ب). (¬5) في (خ) و (ت): بصحيفة. وفي (ب): بصحة! والمثبت من المنتظم 11/ 229. والصحفة تشبع الخمسة، أما الصُّحَيفة فتشبع الرجل الواحد. مختار الصحاح (صحف). (¬6) الخبر أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 10/ 113 عن محمد بن إبراهيم عن حامد بن شعيب يقول سمعت سريجًا، ومن طريقه الخطيب في تاريخ بغداد 10/ 304.

الطيب بن إسماعيل بن إبراهيم

توفي سُرَيج في ربيع الأول ببغداد. وحدَّثَ عن سفيان بن عُيينة، وغيره، ورَوى عنه الإمام أحمد رحمة الله عليه وغيره (¬1)، واتَّفقوا على صدقه وعدالته. [وفيها توفي] الطيبُ بن إسماعيل بن إبراهيم أبو محمد الذُّهليُّ. [قال الخطيب: ] كان (¬2) يقصد الأماكن التي ليس فيها أحد، ويلتقطُ المنبوذ (¬3)، فيتقوَّت به لئلَّا يعرف. [قال الخطيب: ويعرف بأبي (¬4) حمدون، ] وكان يبيعُ اللآلئ والجواهر، وهو أحد القرَّاء المشهورين، وعبادِ الله الصالحين. قال: صلَّيتُ ليلةً، فقرأتُ، فأدغمت حرفًا، ونمت، فرأيتُ نورًا قد تَلبَّبَ (¬5) بي وهو يقول: بيني وبينك الله، فقلت: من أنت؟ قال: أنا الحرف الَّذي أدغمتني، [قال: ] فانتبهتُ، وآليتُ على نفسي أنْ لا أدغمَ حرفًا. وقال الخطيب: كان قد ذهبَ بصرُه، فقادَهُ قائدٌ يومًا إلى المسجد، فقال له قائده: امسح (¬6) نعليك، قال: ولم؟ قال: فيهما قَذَرٌ، [قال: ] فرفع يديه ودعا بدعوات، ومسحَ وجهه بيديه، فردَّ الله عليه بصرَه. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). ومن قوله: وحدَّث عن سفيان إلى هنا ليس في (ب). ولم أقف على من ذكر أن أحمد بن حنبل روى عن سريج، بلى ذكروا لعبد الله بن أحمد بن حنبل عنه رواية. انظر تاريخ بغداد 10/ 303، وتهذيب الكمال 10/ 222. (¬2) بعدها في (خ) و (ف): سيدًا، وليست في (ب) ولا في تاريخ بغداد. (¬3) في تاريخ بغداد 10/ 495: كان يقصد المواضع التي ليس فيها أحدٌ يقرئ الناس، فيقرئهم، حتَّى إذا حفظوا انتقل إلى قوم آخرين بهذا النعت، وكان يلتقط المنبوذ كثيرًا. (¬4) في (ب): بابن أبي حمدون. والتصويب من تاريخ بغداد 10/ 493. (¬5) في (خ) و (ف): تشبث. وفي (ب): تلبث. والمثبت من تاريخ بغداد 10/ 494. والأنساب 3/ 132. (¬6) في تاريخ بغداد 10/ 494، والأنساب 3/ 133: اخلع نعلك.

عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان

توفي ببغداد (¬1)، أسندَ عن سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه البغويُّ وغيره. كان صدوقًا ثقة ورعًا رحمةُ الله عليه. عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان (¬2) أبو بكر العبسيّ، ويعرف بابن أبي شيبة الكوفي. ولد سنة تسعٍ وخمسين ومئة، وكان حافظًا متقنًا ورعًا فاضلًا، صنَّف "المسند" و"التفسير" و"الأحكام" وغيرها، وقدم بغداد وحدَّثَ بها. قال محمد بن إبراهيم: قدم علينا أبو بكر بن أبي شيبة، فانقلَبَتْ به بغداد، ونُصِبَ له المنبرُ في مسجد الرُّصافة، فجلس عليه، وقال من حفظه: حدثنا شَرِيك، ثم قال: هي بغداد، وأخافُ أن تَزِلَّ قدمٌ بعد ثبوتها، يا أبا شيبة، هات الكتاب. وأبو شيبة ابنه، واسمه إبراهيم (¬3). وقال أبو عبيد القاسم بن سلَّام: انتهى علم الحديث إلى أربعة؛ أحمد بن حنبل، وأبي بكر بن أبي شيبة، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، فأحمدُ أفقهُهم فيه، وأبو بكر أسردُهم، ويحيى أجمعُ له، وابنُ المديني أعلمهُم به (¬4). توفي عبدُ الله في المحرم، سمع ابنَ المبارك وغيره، وروى عنه الإمامُ أحمد رحمة الله عليه وغيره. وأجمَعوا على صدقِه وثقته ودينه (¬5). عبيد الله بن عمر بن ميسرة أبو سعيد الجُشَميُّ، مولاهم، ويعرفُ بالقَواريريّ، بصريٌّ سكنَ بغداد، وحدَّث بها. ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في المنتظم 11/ 300 في وفيات سنة 242 هـ، ولم يذكر الخطيب سنة وفاته. وقال الذهبي في معرفة القراء الكبار 1/ 426: لعله بقي إلى قريب الأربعين ومئتين. وقال الصفدي في الوافي بالوفيات 16/ 510: توفي بعد العشرين ومئتين. (¬2) هذه الترجمة وما بعدها إلى بداية السنة السادسة والثلاثون بعد المثتين ليس في (ب). (¬3) تاريخ بغداد 11/ 262. (¬4) تاريخ بغداد 11/ 264. (¬5) انظر ترجمته في المنتظم 11/ 229، وتهذيب الكمال 16/ 34، وسير أعلام النبلاء 11/ 122.

محمد بن حاتم بن ميمون

وقال: لم تكن تفوتُني صلاةُ العتَمَة في جماعة، فنزل بي ضيفٌ، فشُغِلْتُ عنها، وخرجتُ أطلبُ الصلاة، فإذا الناس قد صَلَّوا، فقلت في نفسي: قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "صلاةُ الجَمْع تفضُلُ على صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين صلاة، أو بخمسٍ وعشرين" فانقلبتُ إلى منزلي فصلَّيتُ سبعًا وعشرين صلاةً، ثم رقدتُ، فرأيت كأنِّي مع أقوامٍ ركابٍ على أفراس، وأنا راكبُ فرس كأفراسهم، ونحن نتجارى، وأفراسُهم تسبقُ فرسي، فجعلتُ أضربه لألحقَهَم، فالتفتَ إليَّ أحدُهم (¬1) وقال: لا تُجهِد نفسك، فلست بلاحقنا، فقلت: ولم ذلك؟ قال: لأنَّا صلَّينا العشاءَ في جماعة. توفِّي القَواريريُّ بعسكر المهدي ببغداد في ذي الحجَّة، وله أربعُ وثمانون سنة. وقال حفص بن عمرو: رأيتُ القواريريَّ في النوم بعدَ موته، فقلت: ما صنع الله بك؟ فقال: غفر لي وعاتبني، وقال: يا عبيد الله، أخذتَ من هؤلاءِ القوم، قلت: يا رب، أنتَ أحوجتَني إلى الأخذِ منهم، ولو لم تحوجْني لما أخذت، فقال لي: قَدِمُوا علينا، وكافيناهُم عنك (¬2)، ثم قال لي: أمَّا ترضى أنْ كتبتُك في أم الكتاب سعيدًا. أسند عن أبي عَوَانة وغيره، وكان ثقةً ديِّنًا. وهو الَّذي رَوى أنَّ عكرمَة بن أبي جهل كان يأخذُ المصحفَ فيضعُه على وجهه ويقول: كلامُ ربِّي. وقال: كتب عنِّي هذا الحديثَ أبو عبد الله أحمدُ بن حنبل في الحبس (¬3). محمد بن حاتم بن ميمون أبو عبد الله، السمين البغداديّ، كان صاحب غزو. وقال: كُنْتُ أعملُ على الشوق، فخرجنَا في غزاةٍ، فالتقينَا بالروم، فأخذني رَوْعٌ، فقلت لنفسي: أي كذَّابة، أين ما كنت تدَّعين؟ ! ثم نزلتُ إلى النهر فاغتسلتُ، وأخذتُ سلاحي وأتيتُ من وراء الروم، وكبَّرتُ تكبيرة عظيمةً -وكان النصر للروم على المسلمين- فلمَّا سُمِعَت التكبيرةُ ظنُّوا أنَّ كمينًا وراءَهم، فانهزموا ومنح اللهُ المسلمين ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 12/ 26: آخرهم. (¬2) في تاريخ بغداد 12/ 28، والمنتظم 11/ 232: إذا قدموا علينا كأفأناهم عنك. (¬3) تاريخ بغداد 12/ 25.

أكتافَهم قتلًا وأسرًا، وكانت تلكَ التكبيرةُ بتلك العزيمة سببًا للفتح والنصر (¬1). توفي في ذي الحجة، وقيل: تأخرت وفاتُه إلى سنة إحدى وستين ومئتين (¬2) روى عن سفيان بن عيينة وغيره. واختلفوا فيه على أقوال (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر حلية الأولياء 10/ 336 - 337، وصفة الصفوة 2/ 399. (¬2) انظر الوافي بالوفيات 2/ 315. (¬3) انظر تاريخ بغداد 3/ 71، وتهذيب الكمال 25/ 23، وتهذيب التهذيب 3/ 534. وقال ابن حجر في التقريب: صدوق ربما وهم، وكان فاضلًا.

السنة السادسة والثلاثون بعد المئتين

السنة السادسة والثلاثون بعد المئتين [قال الطبري: و] فيها أمر المتوكِّلُ بهدمِ قبرِ الحسين بن علي [بن أبي طالب] رضي الله عنه و [هدم] ما حوله من المنازل والدُّور، وأن يُبْذر ويُسْقى موضعُ قبره، و [أن] يُمنع الناسُ من إتيانه، ونادى عاملُ تلك الناحية: من وجدناه [عند قبره] بعد ثلاثة (¬1) بعثنا به إلى المطبق، فهربَ الناس، وامتنعوا من زيارته وحُرِثَ المكانُ وزُرع ما حوله (¬2). [قال الصوليُّ: ] ونَفوا من كان عنده [من العلويين والمجاورين]، وبقي صحراء (¬3)، فكتبَ أهلُ بغداد سَبَّ المتوكِّل على الحيطان وفي المساجد والجوامع، ودَعَوا عليه عقب الصلوات، وهجاهُ الشعراء، فقال يعقوب بن السكيت [صاحب "إصلاح المنطق": ] [من الكامل] بالله إن كانت أميَّةُ قد أتت ... قَتْلَ ابن بنت نبيِّها مظلومَا فلقد رماه بنو أبيه بمثلها ... أضحى حسينٌ قبرُه مهدومَا أَسِفُوا على أنْ لا يكونوا شاركُوا ... في قتله فتتبَّعوهُ رميمَا (¬4) [وبلغَ المتوكِّل فطلبَه، فاختفى منه، ثم قتلَه بعد ذلك لما نذكر في ترجمة يعقوب]. وقيل: كان ذلك في سنة ثمانٍ وثلاثين [ومئتين] (¬5). وفيها غزا عليُّ بنُ يحيى [الأرمنيّ] الصائفةَ في ثلاثة آلاف فارس، فالتقاه ملكُ الروم [في ثلاثين]، فهزمه، وقتل من الروم أكثرَ من عشرين (¬6) ألفًا، وانهزمَ ملكُ الروم في نفرٍ يسيرٍ إلى القُسْطنطينية، وسار عليٌّ فأناخَ على عَمُّورية (¬7)، فقاتل أهلها وفتحَها ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): إتيانه، بدل: ثلاثة. والمثبت وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) تاريخ الطبري 9/ 185. (¬3) في (ب): ونفي صخر. (¬4) انظر الأبيات في وفيات الأعيان 3/ 365، وتاريخ الإسلام 5/ 748، وطبقات الشافعية الكبرى 2/ 54، ونسبت أيضًا للبسامي. (¬5) ما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ) و (ف): ثلاثين. والمثبت من (ب) والمنتظم 11/ 237. (¬7) في (خ) و (ف): عمرويه. والمثبت من (ب) والمنتظم 11/ 237، وتاريخ الإسلام 5/ 748.

إبراهيم بن المنذر

عُنْوةً، وقتل خلقًا من أهلها، واستنقذَ من أُسارى المسلمين خلقًا كثيرًا، وهدمَ كنائسها، وفتح حصنًا يقال له: الفطس، فأخرجَ منه عشرين ألف فارس من السبي، وعاد سالمًا قد غنمَ من المتاعِ والمال سوى الأسارى ما يساوي مئة [ألف دينار] وعشرين ألف دينار. وفيها استكتب المتوكِّلُ الفتحَ (¬1) بن خاقان. وحجَّ بالناس المنتصر محمدُ بن المتوكِّل، وحجَّتْ معه شُجَاع أمُّ المتوكِّل، وشيَّعَها المتوكِّلُ إلى النجف (¬2). وفيها (¬3) توفي إبراهيم بن المُنْذِر من ولدِ خالد بن حِزام بن خُوَيلد بن أسَد بن عبد العُزَّى. قدم بغداد من المدينة إلى أحمد بن أبي دؤاد، ثمَّ جاء إلى الإمام أحمد، فاستأذنَ عليه فلم يأذن (¬4) له، فجلسَ على بابه حتَّى خرج، فسلَّم عليه فلم يردَ - عليه السلام -؛ لأنه خلَّط في القرآن. وحجَّ سنة خمسٍ وثلاثين، فلمَّا صدرَ إلى المدينة توفي بها في المحرَّم. سمعَ مالك بن أنس وغيره، ورَوى عنه البخاريُّ في آخرين، واختلفوا فيه (¬5). [وفيها توفي] إسماعيل بن إبراهيم بن بسام أبو إبراهيم التَّرْجُمانيّ، كان عالمًا فاضلًا. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وفي تاريخ الطبري 9/ 185، والمنتظم 11/ 237، والكامل 7/ 56: عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وهو الصواب. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 185، والمنتظم 11/ 238، والكامل 7/ 56. (¬3) من هنا إلى نهاية الترجمة ليس في (ب). (¬4) في (خ): يُؤذن. (¬5) انظر تاريخ بغداد 7/ 122 - 125، وتهذيب الكمال 2/ 207.

إسماعيل بن إبراهيم بن معمر

[ذكره ابن سعد وقال: كان] صاحبَ سُنَّة، وشهدَ جَنازته خلقٌ كثير. وتوفي ببغداد في المحرَّم (¬1). [وحكى الخطيب عن] عبد الله بن الإمام أحمد [قال: ] جاء التَّرْجُمانيُّ يومًا إلى أبي فسلَّم عليه، فقال له أبي: أيشٍ تحدِّث، فقال: حدثنا شعيب (¬2) بن صفوان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43 - 44] إنَّ الأثيمَ هو أبو جهل. [وفي روايةٍ أنَّ أحمدَ بن حنبل مشى إلى الترجمانيّ، وكتب عنه أحاديث، ] (¬3) وقال: ما أحسنَ هذه. أسند عن هُشَيم بن بشير وغيره، ورَوى عنه محمدُ بن سعد وغيره، وكان ثقةً (¬4). إسماعيل بن إبراهيم بن مَعْمَر (¬5) أبو مَعْمَر الهُذَلي، هرويُّ الأصل، قَدِم بغداد وحدَّث، وكان من تشدُّده في السنَّة يقول: لو نطقتْ بغلتي لقالت: أنا سُنِّيَّة، وأُخِذ في المحنة فأجابَ، فلمَّا خرجَ قال: كفرنَا وخرجنا (¬6). وتوفي ببغداد في جمادى الأولى. سمع عبدَ الله بن الإمام أحمد وغيره، وروى عنه البخاريُّ ومسلم. وقال ابنُ معين: هو ثقة مأمون. وسمع هو من ابنِ المبارك وغيره (¬7). الحسن بن سَهْل بن عبد الله أبو محمد، كان جوادًا ذا مروءةٍ، محترمًا عند الخلفاء، جاءه الحسنُ بن وَهب، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 9/ 361. وظاهر أنَّ وفاة إسماعيل بن إبراهيم متأخرة عن وفاة ابن سعد (مرت ترجمته في وفيات 230 هـ) فيكون ذكر وفاته طبقات ابن سعد من زيادة ابن فهم راوية كتابه. والله أعلم. (¬2) كذا، وفي تاريخ بغداد 7/ 244: فقال لي أبي: أيش يحدث، فقلت: يحدث عن شعيب. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): كتب الإمام أحمد عنه أحاديث. (¬4) انظر تاريخ بغداد 7/ 244 - 246، وتهذيب الكمال 3/ 13 - 16. (¬5) هذه الترجمة والتي بعدها ليست في (ب). (¬6) تاريخ بغداد 7/ 253. (¬7) تاريخ بغداد 7/ 247 - 254، والمنتظم 11/ 239، وتهذيب الكمال 3/ 19 - 23.

فشكا إليه ضائقةً، فأرسل إليه بمئة ألفِ درهم (¬1). وجاء رجلٌ يستشفعُ به في حاجةٍ، فقضاها، فأقبلَ يشكره، فقال: علام تشكرُنا؟ ! ونحن نرى للجاه زكاةً كما للمال، ثم أنشد: [من الكامل] فُرِضتْ عليَّ زكاةُ ما ملكتْ يدي ... وزكاةُ جاهي أنْ أُعين وأشْفَعا فإذا مَلَكْتَ فجُد وإنْ لم تستطعْ ... فاجهد بوسعك كُلِّه أنْ تنفعَا (¬2) وكان للحسن سقَّاءٌ يسقي له الماء، فرآه يومًا يمرُّ في داره، فسأله عن حاله، فشكا إليه ضائقة، وذكرَ أنَّ له بنتًا يريد أن يزوِّجها، فأخذ يوقع له بألفِ درهم، فوقَّع له بألفِ ألف درهم (¬3)، فأتى بها السقاء إلى وكيله، فوقفَ عليها، فاستعظم ذلك، وقال له: ويحك تدري بكم وقع لك؟ ! قال: بألف درهم، قال: ويحك إنَّها ألف ألف درهم، فخاف السقاء وقال: أعاوده، فكتب إليه وكيلُه: {إن الله لا يحب المسرفين}، فكتب إليه: جَرى القلم بما فيه، وليس في الخير إسراف، ولا أرجعُ عن شيءٍ كتبتهُ بيدي، فصالحَ الوكيلُ السقَّاء على مئة ألف درهم، ولم يعلم الحسن (¬4). توفي الحسن يوم الخميس لخمسٍ خلون من ذي القعدة، وكان سبب موته أنَّه شرب دواءً فأفرط عمله، فمات وقت الظهر، وله ستون سنة -وقيل: سبعون- بسامراء، فأمرَ المتوكِّل بتجهيزه من خزانته، فلمَّا وضِعَ على سريره تعلَّق به جماعةٌ من التجَّار غرماء الحسن، ومنعوا من دفنه، فتوسَّط أمرهم يحيى بن خاقان وإبراهيم بن عتَّاب وبرغوث، فقطعوا أمرهم، فدفن، فلمَّا كان من الغد وردَ كتاب من بغداد على البريد بوفاة إسحاق بن إبراهيم (¬5) المصعبي بعد الظهر من يوم الخميس لخمسٍ خلونَ من ذي القعدة، فجزع عليه المتوكل جزعًا شديدًا، وقال: سبحان الله، كيف توافت منيَّةُ إسحاق ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 286. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 287. (¬3) بعدها في (خ) و (ف): قال: ويحك إنها ألف ألف درهم. (¬4) القصة بنحوها في تاريخ بغداد 8/ 288، والمنتظم 11/ 240 - 241. (¬5) في تاريخ الطبري: محمد بن إسحاق بن إبراهيم. في الموضعين، وانظر ما سلف ص 30.

الحسن بن عليل بن الحسين

والحسن في وقتٍ واحد؟ ! . ولمَّا دُفن الحسن قام أبو العيناء على قبره وقال: أما والله لئن أتعبتَ المادحين لقد أطلتَ بكاءَ الباكين، ولقد أصيبتْ بموتك الأيَّام، وخرست بفقدك الأقلام، ولقد كنت في البأس تقيَّةً، وفي الناسِ بقيَّةً (¬1). [وفيها توفي] (¬2) الحسن بن عُلَيل بن الحسين (¬3) أبو علي العَنَزي، [اسم أبيه عليّ، وإنما قالوا: عُلَيل، فغلب عليه هذا اللقب، و] كان أديبًا فاضلًا شاعرًا (¬4)، [وذكر الخطيب من أشعاره هذه الأبيات: ] (¬5) [من البسيط] كلُّ المحبين قد ذَمُّوا السُّهادَ وقد ... قالوا بأجمعهم طُوبى لمن رقَدَا [فقلت يا رب لا أبغي الرقاد ولا ... ألهو بشيءٍ سوى ذكري له أبدا] إن نمتُ نامَ فؤادي عن تذكُّره ... وإنْ سهرتُ شَكا قلبي الَّذي وَجَدَا (¬6) توفي بسامرّاء. حدَّثَ عن ابن مَعين وغيره، ورَوى عنه أحمد بن نصر [الذَّارع] (¬7)، وكان ثقةً. عبد السلام بن صالح ابن سُليمان بن أيوب، أبو الصَّلت الهَرَويُّ، الحافظ. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 287، وفيه: ولقد كان بقية وفي الناس بقية، فكيف اليوم وقد بادت البرية؟ (¬2) كذا ذكره ابن الجوزي في المنتظم في وفيات (236 هـ)، وذكر الخطيب في تاريخ بغداد 8/ 407، والذهبي في تاريخ الإسلام 6/ 738 أنَّه توفي سنة تسعين ومئتين. (¬3) في (خ) و (ف) و (ب): الحسن. والمثبت من تاريخ بغداد 8/ 405، والمنتظم 11/ 241، وتاريخ الإسلام 6/ 737. (¬4) في (خ) و (ف): ثقة بدل: شاعرًا. والمثبت من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): ومن شعره. (¬6) تاريخ بغداد 8/ 407. (¬7) في (خ) و (ف) و (ب): أحمد بن منصور. والتصويب من المصادر. وما بين حاصرتين من (ب).

مصعب بن عبد الله

رحلَ في طلبِ الحديث إلى الكوفة والبصرة والحجاز والشام (¬1) واليمن وخراسان، وقدم بغداد وحدَّثَ بها، ولما قدمَ مرو دخلَ على المأمون، وتحدَّثَ بين يديه فأعجبه، وناظر بشرًا المريسيّ غيرَ مرَّة بين يدي المأمون، وهو يَظهر على بشر، فانحرفَ المأمون عنه، فلم يلتفت، وكان من أهل السنَّة. وخرجَ إلى الثغر بالشام (1)، فتوفي به في شوال، وقيل: عادَ إلى بغداد، فمات بها. أسند عن مالك بن أنس وغيره، وروى عنه عباس الدوري وطبقته. وكان صدوقًا غير أنَّهم نسبوه إلى التشيُّع، قال: وهو رَوى: "أنا مدينةُ العلم، وعليٌّ بابُها" وضعَّفوا هذا الحديث (¬2). مصعب بن عبد الله ابن [مصعب بن] (¬3) ثابت بن عبد الله بن الزُّبير بن العوَّام، أبو عبد الله، وأمُّه أمة الجبَّار بنت إبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير. وكان عالمًا بالأنساب، وأيَّام الناس، ووقائع العرب، فاضلًا جوادًا ممدَّحًا، ومن شعره يفتخر: [من الكامل] إنِّي امرؤٌ عَرَفَتْ (¬4) قريشٌ مولدي ... فحللتُ بين سِمَاكِها والفرقدِ أولت (¬5) عليَّ لهم قرابةُ بيننا ... حُسْنَ الثناءِ عليهمُ في المشهدِ بيتٌ تقدَّمهُ النبيُّ ورهطُه ... متعطِّفينَ على النبيِّ محمَّدِ وصفيَّةُ الغرَّاء عمَّة أحمد ... وعقيلة النِّسوانِ بنت خويلدِ من أبيات، وهي نيفٌ وأربعونَ بيتًا. وكان مصعبٌ جوادًا، وفيه يقولُ ابن [أبي] صُبْح المُزَنيّ: ¬

_ (¬1) لم أقف على من ذكر رحلته إلى الشام، ولم أقف على ترجمته في تاريخ دمشق. (¬2) انظر تاريخ بغداد 12/ 315 - 322، والمنتظم 11/ 242 - 243، وتهذيب الكمال 18/ 73 - 82، وسير أعلام النبلاء 11/ 447، ولم ترد ترجمته في (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬4) في جمهرة نسب قريش 1/ 203، وتاريخ دمشق 17/ 384 (مخطوط): خلصت. (¬5) في الجمهرة وتاريخ دمشق: ضمنت.

منصور بن محمد المهدي

إذا شئتَ يومًا أنْ ترى وجهَ سابقٍ ... بعيدِ المدى فانظُر إلى وجهِ مُصعبِ ترى وجهَ بسَّامٍ أَغرَّ كأنَّما ... تفرَّج تاجُ الملكِ عن ضوءِ كوكبِ فتًى همُّه أنْ يشتري الحمدَ بالندى ... فقد ذهبت أخبارُه كلَّ مذهبِ مفيدٌ ومِتْلَافٌ كأنَّ نواله ... علينا نِجَاءُ العارضِ المُتنَصِّبِ (¬1) توفي مصعب ببغداد في شوال، وله ثمانون سنة، وكان واقفيًّا؛ إذا سُئِل عن القرآن وقَفَ، ويعتِبُ من لم يقف (¬2). حدَّثَ عن مالك بن أنس وغيره، وكتب عنه يحيى بن معين في آخرين، واتَّفقوا على أنَّه كان صدوقًا مأمونًا على ما يرويه. [وفيها توفي] منصور بن محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور، وليَ إمرةَ دمشق للأمين سنة ثلاث وتسعين ومئة (¬3). [وقال الحافظ ابن عساكر: كان الأمين يعجبه البللور، ] وكان في محراب (¬4) دمشق بلورةٌ كبيرةٌ، يقال لها: القُلَّة، فدس [منصور] من سرقها، وبعث بها إلى الأمين (¬5)، فثارَ عليه أهلُ دمشق، ووقعت الفتنة، وبلغ الأمين فعزله. ولما قُتِلَ الأمينُ، ودخل المأمونُ بغداد وجدَ القُلَّة في خزائن الأمين، فلمَّا بعث المأمونُ عبدَ الله بن طاهر إلى دمشق ومصر، دفعَ إليه القُلَّة، وأمره أن يعيدها إلى محراب جامع دمشق في ملأ من الناس، ففعل [ابن طاهر] ذلك، وقصد [المأمون] الشناعةَ على أخيه. ¬

_ (¬1) جمهرة نسب قريش 1/ 213، وتاريخ بغداد 15/ 139 - 140، وما سلف بين حاصرتين منهما، ولم ترد ترجمته في (ب). (¬2) كذا، وفي طبقات ابن سعد 9/ 347، وتاريخ بغداد 15/ 141، وسير أعلام النبلاء 11/ 31: ويَعيبُ من لا يقف. (¬3) في (ب): وقال في سنة ثلاث وتسعين ومئة في أيام ابن أخيه محمد الأمين. (¬4) في (ب) -وما سلف بين حاصرتين منها-: جامع. (¬5) بعدها في (خ) و (ف): وكان الأمين يعجبه البلور.

نصر بن زياد بن نهيك

[وقال خليفة: ] أقام منصور الحج في الناس سنة خمس وثمانين (¬1) ومئة (¬2)، ولما ولَّى المأمونُ العهدَ عليَّ بن موسى الرضا، اجتمع بنو هاشم إلى منصور، وقلَّدوه الخلافةَ، وسلَّموا عليه بها، فطلبوه (¬3) والمأمونُ بخراسان فامتنع، وقال: أنا نائبُ أميرِ المؤمنين المأمون، فعدلُوا عنه إلى إبراهيم. وقد ولَّوا منصورَ أعمالًا كثيرةً؛ البصرة، والمدينة، والشام، ومصر. وأمُّه أم ولد يقال لها: بحريَّة. وكان يحب (¬4) العلمَ وأهلَ الحديث ويبرُّهم، ويبعثُ إلى يزيد بن هارون أموالًا يفرِّقُها في المحدِّثين، ودخلَ يومًا على المأمون وعندهُ جماعةٌ يتكلَّمون في الفقه، فقال له المأمون: ما عندك في هذا؟ فقال: أغفلونا في الحداثة، وشَغَلنا الكبرُ عن اكتساب الأدب، فقال له: فاطلب، فقال: مع الكبر؟ ! فقال: والله لئن تعيش طالبًا للعلم خيرٌ من أنْ تعيشَ في الجهل (¬5)، يا عم، إنَّ الجهلَ يقصِّرُ بك في المجالس، ويصغِّرُكَ في أعين الناس. وكانت وفاتُه في المحرَّم، ورَوى عن أبيه وأعمامه، وسمعَ الوليدَ بن مسلم وغيره (¬6). نصر بن زياد بن نَهِيك أبو محمد النَّيسابوري، سمع الحديث، وتفقَّه على محمد بن الحسن، وأخذَ الأدبَ عن النضرِ بن شُميل. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): سنة خمس وثلاثين. والتصويب من (ب)، وتاريخ خليفة ص 456، وتاريخ دمشق 17/ 236 (مخطوط). (¬2) بعدها في (ب): والله أعلم، والحمد لله وحده. السنة السابعة والثلاثون بعد المئتين ... (¬3) بعدها في (ف): المرتضى. وليست في (خ). وفي تاريخ دمشق 17/ 238: وقد كانوا سموه المرتضى. (¬4) في (خ) و (ف): وكانت تحب ... وهو تحريف. انظر تاريخ بغداد 15/ 94، والمنتظم 11/ 246، وتاريخ دمشق 17/ 238. (¬5) في تاريخ دمشق 17/ 236: والله لأن يموت طالبًا للعلم خيرٌ من أن يعيش قانعًا بالجهل. (¬6) تاريخ دمشق 17/ 235.

وليَ قضاء نَيسَابور بضعَ عشرة سنة، وكان محمودَ السيرة نَزِهًا، عفيفًا ورعًا، يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقول: لولا هذا لم أتلبَّس بعمل، لكنني إذا لم ألِ القضاءَ لم أقدر على ذلك. وكان يُحيي الليلَ، ويصومُ يوم الإثنين والخميس والجمعة، ولا يرضى من العُمَّال حتَّى يردُّوا (¬1) حقوقَ الناس. دخل عليه يومًا أحمد بن حَرْب بن عطيَّة فوعظه، وأشار في مواعظه بأن يستعفيَ ممَّا هو فيه، فقال له: يا أبا عبد الله، ما يحملُني على ما أنا فيه إلَّا نصر الملهوفين، والقدرةُ على الانتصاف للمظلومين من الظالمين، لعلَّ الله تعالى قد عرفَ لي ذلك. وقال محمد بن عبد الوهَّاب: قال لي نصر القاضي: يأبى الناس العدلَ، ألا تَرى أنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - سُمَّ (¬2) على العدل، وعمر قُتل على العدل، وكذا عثمان وعليّ - رضي الله عنه -، وسُمَّ عمرُ بن عبد العزيز على العدل. توفي بنَيسَابور في صفر لتسعٍ (¬3) بقين منه وهو ابن ستٍّ وتسعين سنة. سمع عبد الله بن المبارك وغيره، وروى عنه شريح الحاكم، وكان صدوقًا ثقةً، وكان المأمونُ يحبُّه ويكاتبُه دائمًا لا يقطعُ عنه كتبَه (¬4). * * * ¬

_ (¬1) في المنتظم 11/ 247: يؤدوا. (¬2) هذا بناه على ما قيل من أنَّ اليهودَ سمَّت أبا بكر في أرزَّةٍ فمات بعد سنة. والأصح أنَّه مات غير مسموم. انظر تاريخ الإسلام 2/ 68، 71. والله أعلم. (¬3) في المنتظم 11/ 246: لسبع. وكذا في تاريخ الإسلام 5/ 948. (¬4) جاء بعدها في (خ) ما نصه: آخر الجزء الثامن، والحمد لله وحده، يتلوه الجزء التاسع، السنة السابعة والثلاثون بعد المئتين، إن شاء الله، غفر الله لكاتبه ولجميع المسلمين.

السنة السابعة والثلاثون بعد المئتين

السنة (¬1) السابعة والثلاثون بعد المئتين فيها قُتِل يوسف بن محمد عاملُ المتوكِّل على إرمينية، وسببه أنَّ رجلًا من أهل إرمينية يقال له: بقراط بن أسواط (¬2) كان عظيمًا عندهم، ويسمّونه بطريقَ البطارقة، أخذَه يوسف بن محمد بأمان، فقيدّه (¬3)، وبعثَ به إلى المتوكِّل، فأسلم، واجتمع أهله من بطارقة إرمينية، وحصروا يوسف بن محمد في بلدٍ يُقال لها: طَرُون، فخرجَ إليهم فقاتلهم فقتلوه، وبلغ المتوكِّل، فبعثَ إليهم بُغَا الكبير، فنزلَ إرمينية، وخرجَ إليه أهلُها، وفيهم القتلة، فالتقوا على دَبِيل -مدينة من مدائن إرمينية- واقتتلوا فظفرَ بهم بغا، فقتلَ منهم زهاء ثلاثين ألفًا، وسبَى خلقًا كثيرًا، فباعهم بإرمينية، ثم صار إلى تَفْليس فأقامَ بها. وفيها ولّى المتوكل عبدَ الله بن إسحاق المصعبي والي الشرطة، ثمَّ قدِمَ محمد بن طاهر من خُرَاسان على المتوكِّل، فولّاه الجزيةَ وأعمال السواد وخلافتَه على بغداد، فصار إلى بغداد (¬4). وفيها عزل المتوكِّلُ محمَّد بن أحمد بن أبي دؤاد عن المظالم، وولَّاها محمد بن يعقوب، وغضبَ أيضًا على أحمد بن أبي دؤاد، وأمر بقبض ضياعه، وحَبسَ ابنَه محمَّدًا وإخوته في ديوان الخَرَاج في ربيع الأول، فحمل محمَّدٌ إلى المتوكِّل مئةً وعشرين ألف دينار وجوهرًا قيمتُه عشرين ألف دينار، ثم صُولِحَ بعد ذلك على ستة ¬

_ (¬1) هنا بداية الجزء التاسع من النسخة الخطية (خ)، وابتدأه بقوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رب يسر بخير يا كريم. السنة ... (¬2) في تاريخ الطبري 9/ 187، والكامل 7/ 58: أشوط. (¬3) وكان بقراط خرج يطلب الإمارة. انظر تاريخ الطبري 9/ 187، والمنتظم 11/ 249، والكامل 7/ 58. (¬4) نص الخبر كما في تاريخ الطبري 9/ 188: في هذه السنة وُلِّي عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بغداد ومعاون السواد. وفيها قدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان لثمان بقين من شهر ربيع الآخر، فولِّيَ الشرطة والجزية وأعمال السواد وخلافة أمير المؤمنين بمدينة السلام، ثم صار إلى بغداد. اهـ. وهو أشبه وأتم.

عشر ألف ألف درهم، وأشهد عليهم ببيع كل ضيعةٍ لهم، وكان قد فُلِجَ، فأمرَ المتوكِّلُ بحمله إلى بغداد في شعبان فَحَدَرُوه (¬1)، فقال أبو العتاهية: [من البسيط] لو كنتَ في الرأي منسوبًا إلى رَشَدِ ... وكان عزمُك عزمًا فيه توفيقُ لكانَ في الفقه شغلٌ لو شُغِلْتَ به ... عن أنْ تقول كتابُ الله مخلوقُ ماذا عليكَ وأصلُ الدِّين يجمَعُهم ... ما كانَ في الفرعِ لولا الجهل والموقُ (¬2) وفيها رضيَ المتوكِّلُ على يحيى بن أكثم، وكان ببغداد، فأشخصَ إلى سامرَّاء، وولي قضاء القضاة والمظالم، فولى سوَّار بن عبد الله العنبريّ قضاءَ الجانب الغربيّ، وحيَّان بن بشر الجانب الشرقي، وكانا أعورين، فقال جماز -وقيل: دعبل-: [من الوافر] رأيتُ من الكبائرِ قاضيين ... هما أحدوثةٌ في الخافقينِ هما اقتسمَا العمَى نصفين قدمًا ... كما اقتسمَا قضاءَ الجانبينِ هما فألُ الزمانِ بهُلْكِ يحيى ... إذِ افتتحَ الزمانَ بأعورينِ (¬3) وفيها أطلقَ المتوكِّل مَنْ كان حُبِسَ على القول بخلق القرآن بسامرَّاء وبغداد والبلاد كلها، وكتب إلى الدنيا بذلك. وفي يوم الفطر أمرَ بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي ودفعه إلى أوليائه، فحُمِلت جثَّتهُ إلى بغداد، وجمع بينها وبين رأسه، ودُفِنَا في مقبرة عبد الله بن مالك، وكثر يتردَّدُ العامَّةُ إلى قبره والتبرُّك به (¬4)، فكتبَ المتوكِّلُ إلى ابن طاهر بأن ينهى عن الاجتماع عند قبره مخافةَ الفتنة. وغزا عليٌّ الأراضي الصائفة. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 11/ 189: أمر المتوكل بولد أحمد بن أبي دؤاد، فحُدروا إلى بغداد. (¬2) تاريخ الطبري 11/ 189. (¬3) تاريخ الطبري 11/ 189، والمنتظم 11/ 250، والكامل 7/ 60. ونسبها الصولي في أشعار أولاد الخلفاء ص 330، والأصبهاني في الأغاني 23/ 203 لأبي العبر الهاشمي. وانظر ديوان دعبل ص 425 - 426 ونسبها له أيضًا ابن الجوزي في المنتظم 11/ 251. (¬4) في تاريخ الطبري 9/ 190، والمنتظم 11/ 251 أن العامة تمسحوا بجنازة أحمد بن نصر وخشبة رأسه.

إسحاق بن إبراهيم

[وفيها (¬1) ظهرَ في السمَّاء شيءٌ مستطيلٌ، دقيقُ الطرفين، عريضُ الوسط من ناحية المغرب، فامتدَّ ما بين عشاء المغرب إلى عشاء الآخرة، ثم ظهر خمس ليال، وليس بضوء كوكب، ولا بكوكبٍ له ذنب، ثمَّ انقضَّ]. وفيها ظهرت نارٌ بأرضِ عَسْقَلان، فأحرقت المنازل والمساجدَ والبيادر، فهربَ الناس، ولم تزل تحرق حتَّى مَضَى ثلثُ الليل، ثمَّ كُفَّتْ (¬2). وفيها تمَّ بناءُ جامعِ سامراء، وكان ابتداءُ بنائه في سنة أربعٍ وثلاثين ومئتين، وصلَّى فيه المتوكِّلُ في رمضان هذه السنة، وبلغت النفقةُ عليه ثلاثَ مئة ألف وثمانيةَ آلاف ومئتين واثني عشر دينارًا، سوى الأنقاض والآلات التي حُمِلت من بغداد، وإنَّما هذا المبلغ [المذكور] صُرِفَ إلى [البنَّائين والنجَّارين و] الفَعَلة والصُّنَّاع (¬3). وتمَّ بناءُ قصرِ المتوكِّل، ويعرف بالعروس، فأُنفِقَ عليه ثلاثونَ ألف ألف درهم (¬4). وحجَّ بالناس عليُّ بنُ عيسى بنِ جعفر بنِ المنصور، وهو والي مكَّة يومئذ. وفيها (¬5) توفي إسحاق بن إبراهيم ابنِ مَخْلَد بنِ إبراهيم، أبو يعقوب (¬6) التميميُّ الحنظليُّ، ويعرف بابن راهويه، من أهلِ مرو، سكن نَيسَابور، ومولدُه سنةَ إحدى وستين ومئة، وقيل: سنَة ستٍّ وستين، وقيل: سنة ثلاثٍ وستين. وقال موسى بن هارون: سألتُ إسحاق أيُّما أكبر، أنتَ أو أحمد بن حنبل؟ فقال: هو أكبرُ مني في القدر والسن. ومولد الإمام أحمد سنة أربع وستين (¬7). ¬

_ (¬1) هنا بداية أحداث السنة السابعة والثلاثون بعد المئتين في النسخة (ب)، وما بين حاصرتين منها. (¬2) المنتظم 11/ 252. (¬3) المنتظم 11/ 252، وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬4) في المنتظم 11/ 252: ثلاثون ألف درهم. (¬5) من هنا إلى قوله بعد صفحتين: وفيها توفي حاتم ... ليس في (ب). (¬6) في (خ) و (ف): بن يعقوب. والمثبت من المصادر. (¬7) فمولد إسحاق عند موسى بن هارون سنة ستٍّ وستين. قال الذهبي في السير 11/ 364، قدمنا أن مولده قبل هذا بمدة، فموسى لم يحرِّر ذلك.

وهو مثقوبُ الأذنين (¬1)، فقال الفضل بن موسى السِّيناني: يكونُ هذا رأسًا في الخير أو الشر. فكان في الخير. وقال له عبدُ الله بن طاهر: ما معنى راهويه؟ فقال: وُلدَ أبي في طريق، فقالت المراوزة: راهوي، أي: وُلِد في الطريق. وإسحاق أحدُ الأئمَّة، وعلمٌ من أعلام الدين، اجتمعَ له الحديثُ والفقهُ، والحفظُ والورعُ، والزهدُ والصِّدقُ. رحلَ إلى العراق، والحجاز، واليمن، والشام، وسمع بهذه الأماكن، ولقيَ الأئمَّة، وورد بغداد، وجالس الحفَّاظ بها، وعاد إلى خراسان وانتشرَ علمُه بها. وقال: [أحفظ] (¬2) سبعين ألف حديث كأنَّها نُصْبَ عيني، وقيل: مئة ألف حديث. وكان الإمام أحمد يقول: ما أعرفُ لإسحاق بالعراق نظيرًا، ولم تر عيني مثله، ولا عبر الجسرَ مثلُه. وما رُئي في يده كتابٌ قط، ما كان يحدِّثُ إلَّا من حفظه (¬3). وسُئِل عنه مرَّةً فقال: أُسأل عن إسحاق، إنما ينبغي أنْ يُسألَ إسحاق عني (¬4). وقال ابن داود الخفاف: أملى علينا إسحاق من حفظِه أحدَ عشر ألف حديث، ثم قرأها علينا، فما زادَ حرفًا، ولا نقصَ حرفًا. وقال إسحاق: ما كتبتُ سوادًا في بياض إلى يومي هذا، ولا حدَّثني أحدٌ بحديثٍ فنسيتُه قط (¬5)، وأحفظ أربعةَ آلاف حديث مزورة، فقيل: ما الفائدةُ فيها؟ فقال: إذا مرَّ ¬

_ (¬1) كذا وردت الرواية في (خ) و (ف)، وتمام الخبر كما في تاريخ بغداد 7/ 365: عن علي بن إسحاق بن راهويه قال: ولد أبي من بطن أمِّه مثقوب الأذنين، قال: فمضى جدي راهويه إلى الفضل بن موسى السيناني، فسأله عن ذلك، وقال ولد لي ولدٌ خرج من بطن أمه مثقوب الأذنين، فقال: يكون .... (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 7/ 371. (¬3) قوله: وما رئي في يده ... من كلام أبي يحيى الشعراني. انظر تاريخ بغداد 7/ 374. (¬4) نص كلام الإمام أحمد -كما في تاريخ بغداد 7/ 368: من مثل إسحاق؟ مثل إسحاق يسأل عنه؟ ! . (¬5) قوله: ما كتبت سوادًا في بياض ... إلى هنا هو من كلام الشعبي لا من كلام إسحاق بن راهويه، وقد حُدِّث به ابن إسحاق فقال: تعجب من هذا، كنت لا أسمع شيئًا إلا حفظته، وكأني أنظر إلى سبعين ألف حديث. أو قال: أكثر من سبعين ألفًا في كتبي. انظر تاريخ بغداد 7/ 371.

حاتم الأصم

حديثٌ منها في الأحاديث الصحاح سللته منها سلًّا (¬1). وتوفي ليلة الخميس نصف شعبان بنيسابور، وهو ابن سبعٍ وسبعين سنة (¬2). وقال ابنُه محمد: مات أبي سنة ثمانٍ وثلاثين (¬3). أسندَ عن خلقٍ كثير، وسمع سفيان بن عُيينة، وعبد الرزاق، وبقيَّةَ بن الوليد، وغيرهم، وروى عنه الإمامُ أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، ومحمد بن حُميد الرازي، وهما من أقرانه، والبخاريُّ، ومسلمٌ، والترمذيُّ، في خلقٍ كثير، وأجمعُوا على صدقه وثقتِه. وقال محمد بن أسلم الطُّوسيّ حين مات: لو كان الثوريُّ في الحياة لاحتاج إلى إسحاق، وبلغ قولُه محمدَ بن يحيى الصَّفَّار فقال: والله صدق، لو كان الحسنُ البصريُّ حيًّا لاحتاجَ إلى إسحاق في أشياء كثيرة (¬4). ولإسحاق اختياراتٌ في المذهب وغيره. [وفيها توفي حاتم الأصم واختلقوا في اسم أبيه على قولين؛ أحدهما أنَّه حاتم بن يوسف، والثاني حاتم بن عنوان، وكنيته] (¬5) أبو عبد الرحمن البلخيّ. [وقال أبو عبد الرحمن السلمي: هو] مولى المثنى بن محمد (¬6) المحاربي. [فأما سبب تسميته الأصم، فقال الخطيب بإسناده إلى أبي الحسن بن علي الدَّقَّاق ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 7/ 372 وغيره: فليتهُ منها فليًا. (¬2) المنتظم 11/ 260، وأورده ابن الجوزي في وفيات سنة ثمان وثلاثين ومئتين. وأكثر العلماء عليه، وقال أبو داود: ومات سنة سبع أو ثمان وثلاثين. انظر تاريخ بغداد 7/ 374. (¬3) تاريخ دمشق 2/ 716، 724. وهو قول الجمهور. وانظر تاريخ بغداد 7/ 374 - 375، وتهذيب الكمال 2/ 288 - 287. (¬4) تاريخ بغداد 7/ 367. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): حاتم بن يوسف، وقيل: حاتم بن عنوان. (¬6) كذا في (خ) و (ف) و (ب)، وفي طبقات الصوفية ص 91: المثنى بن يحيى.

يقول: جاءت امرأة فسألت حاتمًا عن مسألة] (¬1) فاتَّفق أنَّه خرجَ منها في تلك الحال صوتٌ، فخجلت، فقال [لها حاتم: ] ارفعي صوتَك، فأراها من نفسه أنَّه أصم، [فسرَّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت، ] فغلب عليه الأصم (¬2)، [ولم يكن به صممٌ.] وكان [حاتم] من قدماء مشايخ خراسان [المفلحين]، صحب شقيقًا البلخي وانتفع به. [وقد ذكره الأئمة؛ أبو نُعَيم الحافظ، والقُشَيريّ، وابنُ خميس في "المناقب"، والخطيبُ، والسُّلَميُّ، وغيرهم. ذكر طرف من أخباره: قال الخطيب بإسناده عن عليِّ بن الموفَّق قال: سمعت حاتمًا يقول: ] (¬3) لقينا التُّرك، وكان بيننا جولةٌ، فرماني تركيٌّ بوَهَق (¬4)، فقلبني عن فرسي، ونزل عن دابته، فقعد على صدري [ليذبحني]، وأخذَ بلحيتي، وأخرج سكينًا من خُفِّه، ولم يبق إلا أن يذبحني، فَوَحَقِّ سيِّدي ما كان قلبي عنده ولا عند سكِّينه، وإنَّما كان قلبي عند سيِّدي، أنظر ماذا يَنْزِلُ به القضاءُ منه، فقلت: سيدي، قضيتَ علي أن يذبحَني هذا، فعلى الرأس والعين، إنَّما أنا لك وملكك، فبينا أنا أخاطبُ سيِّدي، والتركيُّ قاعدٌ على صدري، آخذٌ بلحيتي، إذ رماه بعضُ المسلمين بسهمٍ، فما أخطأَ حلقَه، فسقطَ عنِّي، فقمتُ إليه، فأخذتُ السكِّين من يده وذبحتُه، فما هو إلا أن تكونَ قلوبكُم عند السيِّد حتَّى تروا من عجائب لُطفه ما لم تروه من الآباء والأمهات (¬5). و[روى الخطيب عنه أنَّه] قال: لي أربع نسوة وتسعةُ أولاد، ما طمعَ الشيطانُ أن يُوسوسَ لي في شيءٍ من أرزاقهم (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ويعرف بالأصم وسببه أن امرأة سألته مسألة. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 152. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): وقال حاتم. (¬4) الوهق: الحبل يرمى به في أنشوطةٍ، فتؤخذ به الدابة والإنسان. القاموس المحيط (وهق). (¬5) تاريخ بغداد 9/ 152 - 153. (¬6) تاريخ بغداد 9/ 152.

وقال [حاتم: ] مررتُ براهبٍ في صومعة، فسألته عن مسألة، فقال: مكانَك، وأدخلَ رأسَهُ في صومعته، فلما كان بعد أسبوعٍ أخرجَ رأسَه وقال: أنت ها هنا؟ فقلت: نعم للموعد، فما الَّذي حبسَك عنِّي، قال: كنت على غير طريق (¬1)، فعرضَ لقلبي شيءٌ، فلم أزل أفكِّر (¬2) فيه إلى اليوم، ثمَّ قال لي: من أين أنت؟ قلت: من بَلْخ، قال: فإلى من كنت تجلس؟ قلت: إلى شقيق البلخي، قال: فأيشٍ سمعتَه يقول؟ قلت: سمعتُه يقول: لو كانت السماءُ من نحاسٍ والأرضُ من حديد، فلا السماءُ تمطر، ولا الأرضُ تنبت، وكان عيالي ما بين الخافقين، لم أبالِ، فقال الراهب: لا تجلس إليه قلت: ولم؟ قال: لأنَّه يفكرُ فيما لم يكن كيفَ كان، لا تجالسه، فإنَّه فاسدُ الفكر. [ذكر نبذة من كلامه: حكى عنه أبو نعيم الأصفهاني قال: ] سأله رجل، علام بنيتَ أمرك في التوكُّل؟ فقال: على أربع خصال؛ علمتُ أنَّ رزقي لا يأكلهُ غيري، فاطمأنَّت به نفسي، وعلمتُ أنَّ عملي لا يعملُه غيري، فأنا مشغولٌ به، وعلمتُ أنَّ الموتَ يأتيني بغتةً، فأنا أبادرُه، وعلمتُ أنِّي لا أخلو من عينِ الله حيث كنت، فأنَا أستحي منه (¬3). [قال: ] ومرَّ به عصام بن يوسف الفقيه فقال [له: ] يا حاتم، كيف تصلِّي؟ فقال: أقوم بالأمر، وأمشي بالسكينة (¬4)، وأدخلُ بالنيَّة، وأكبِّرُ بالتعظيم، وأقرأ بالترتيل (¬5)، وأركعُ بالخشوع، وأسجدُ بالخضوع، وأسلِّمُ بالسنَّة، وأمثِّلُ الجنَّة عن يميني، والنارَ عن شمالي، وأقول في نفسي: إنَّ الله حاضرٌ معي، وإنِّي لا أصلِّي صلاةً بعدها. فالتفتَ عصام إلى أصحابه وقال: قوموا بنا نعيدُ صلاتَنا، فما منا مَنْ يُصلِّي، أما أنتَ يا حاتم فتحسن [أن] تصلِّي. [وحكى ابن باكويه الشيرازي عن حاتم قال: ] ¬

_ (¬1) في (خ): على طريق. وفي مناقب الأبرار 1/ 246، والوافي بالوفيات 11/ 233: على غير طهر. (¬2) في (ف): أنكر. (¬3) حلية الأولياء 8/ 73، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): وأنثني بالسكينة، وفي حلية الأولياء 8/ 74: وأمشي بالخشية، وفي مناقب الأبرار 1/ 243: وأقف بالخشية. والمثبت من (ب). (¬5) في (خ) و (ف): بالرسل. وهي غير واضحة في (ب)، والمثبت من الحلية، والمناقب.

قال لي شقيقٌ البلخيّ: قد صَحِبْتَني (¬1) ثلاثين سنة، فما الَّذي استفدتَ منِّي؟ فقلتُ: خصالًا محمودةً، فقال: وما هي؟ فقلت: أمَّا الأولى: فإنِّي سمعتُ الله يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وعلمتُ أنِّي من جملةِ الدوابّ، فلم أشغل نفسي بشيءٍ من رزقي بعد أن تكفَّل به لي ربِّي. والثانية: أنِّي نظرتُ إلى هذا الخلق، فرأيتُ كلَّ واحدٍ يحبُّ محبوبًا، فهو معه إلى قبره، فإذا وصل إلى قبره فارقَه، فجعلتُ العملَ الصالح محبوبي، فإذا دخلتُ القبر كان معي. والثالثة: سمعت الله تعالى يقول: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40 - 41] فاجتهدتُ في دفعِ الهوى عن نفسي. والرابعةُ: أنِّي نظرتُ إلى هذا العالم، فرأيتُ أنَّ كلَّ من معه شيءٌ له قَدْرٌ وقيمةٌ حفظَه، ونظرتُ في قوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، فكُلَّما وقعَ معي شيءٌ له قيمة أنفذته إليه؛ ليبقى لي ذخيرةً عنده. والخامسة: أنِّي نظرتُ إلى الناس فإذا كلُّ واحدٍ يرجعُ إلى شيءٍ، فبعضُهم إلى المال، وبعضُهم إلى الجاه، وبعضُهم إلى الشرف، وسمعت الله يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فعملتُ على التقوى حتَّى أكون عند الله كريمًا. والسادسة: أنِّي نظرتُ إليهم، فرأيتُ بعضَهم يبغضُ بعضًا [ويلمز بعضًا]، فعلمتُ أنَّ أصلَه الحسد، وأنَّ الله تعالى هو القسَّام، وقد قال [الله تعالى: ] {نَحْنُ قَسَمْنَا بَينَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] فتركتُ الحسدَ، فاسترحتُ من بغضهم، ورأيتُ بعضَهم يبغي (¬2) على بعض، وبعضهم يقاتلُ بعضًا فبحثت عن السبب، فإذا هو حبُّ الدنيا، وسمعتُ الله تعالى يقول: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَينَكُمْ} الآية [الحديد: 20]، فتركتُها واسترحت. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): في صحبتي، والمثبت وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب): ... فاسترحت من عداوة الناس. والسابعة أني نظرت في أمورهم فرأيت بعضهم يبغي.

والسابعة (¬1): أني رأيتُ طاعةَ الشيطان سببًا إلى كلِّ أمرٍ قبيح، وسمعت الله يقول: {إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] فعاديتُه فاسترحت. [قال: ] فقال لي شقيق: أحسنتَ يا حاتم، فإنِّي قرأتُ القرآن والتوراةَ والإنجيل والزبور، فوجدتُها تدورُ على الخصالِ التي ذكرت. [وروى الخطيب عنه أنَّه كان يقول (¬2): ] لو جلسَ إليك صاحبُ خَبَرٍ لاحترزتَ منه، وكلامُك يعرَضُ على الله تعالى فلا تحترز (¬3). [قال: ] وقال: ما من يومٍ إلَّا والشيطانُ يقول لي: ما تأكل؟ [فأقول: ] الموت، وما تلبس؟ فأقول: الكفن، فيقول: أينَ تسكُن؟ فأقول: في القبر (¬4). وقال [حاتم: ] من ادَّعى ثلاثًا بغير ثلاث فهو كذَّاب، من ادعى محبَّة الله من غير وَرَعٍ عن محارمه، فهو كذَّاب، [ومن ادَّعى محبَّةَ الجنَّة من غير إنفاق ما يجمعهُ، فهو كذَّاب]، ومن ادَّعى محبَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من غير محبَّة الفقراء (¬5) فهو كذَّاب (¬6). وقال: لا تغترَّ بمكانٍ صالح، فلا مكانَ أصلح من الجنَّة، وقد لقيَ فيها آدمُ ما لقي، ولا تغترَّ بكثرةِ العبادة، فما عَبَدَ اللهَ أحدٌ مثل إبليس، ولا تغترَّ بالعلم، فإنَّ بلعام كان يعرفُ اسم الله الأعظم، فانظر كيف هلك، ولا تغترَّ برؤية الصالحين، فلا شخصَ أصلح من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينتفع برؤيته آباؤه وأمهاته وأهله. يعني من المشركين. و[روى ابن باكويه الشيرازي قال: ] قال له رجل: من أين تأكل؟ فقال: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] (¬7). [وروى الخطيب عن] سعدون [الرازي قال: ] (¬8) كنت مع حاتم، وكان يتكلَّم، فقلَّ ¬

_ (¬1) في (ب) -وما بين حاصرتين منها-: والثامنة. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال حاتم. (¬3) تاريخ بغداد 9/ 150. (¬4) طبقات الصوفية ص 96. (¬5) في (ب) وما سلف بين حاصرتين منها: للفقر. (¬6) طبقات الصوفية ص 97، وحلية الأولياء 8/ 75. (¬7) تاريخ بغداد 9/ 152. (¬8) في (خ) و (ف): وقال ابن سعدون.

[ذكر قصة حاتم مع محمد بن مقاتل الرازي ومحمد بن عبيد الطنافسي وأهل المدينة

كلامُه، فقيل له [في ذلك: إنك كنت تتكلَّمُ فينتفعُ الناس، فقال: ما أحبُّ أن أتكلم] كلمةً قبل أن أُعِدَّ لها جوابًا لله تعالى، فإذا قال لي يوم القيامة: لم قلت: كذا وكذا قلتُ: يا ربّ، قصدتُ كذا وكذا (¬1). [ذكر قصة حاتم مع محمد بن مُقَاتل الرازي ومحمد بن عُبيد الطنافسيّ وأهل المدينة ذكرها ابنُ خميس في كتاب "مناقب الأبرار" عن أبي عبد الله الخواص قال: ] (¬2) دخلت الريّ مع حاتم الأصمّ، ومعه ثلاث مئة وعشرون رجلًا، ونحن نريدُ الحجَّ، وعليهم الصوف والزُرْمَانقات (¬3)، على قدم التجريد، فنزلنا على رجلٍ من التجار متنسِّكٍ يحبُّ الصالحين، فأضافنا تلك الليلة، فلمَّا كان من الغد، قال [الرجل] لحاتم: يا أبا عبد الرحمن، إنِّي أريدُ أن أعودَ القاضي محمد بن مقاتل الرازي، قاضي الريّ وفقيهها، فهو مريض، فقال حاتم: وأنا معك، فعيادةُ المريض عبادةٌ، قال: فجئنا إلى باب داره، وإذا البواب كأنَّه متسلِّطٌ، فبقي حاتم مفكِّرًا يقول: دارُ عالمٍ فقيهٍ تكون على هذه الصفة، ثمَّ أذن فدخلنا، وإذا بفرشٍ وستورٍ معلَّقةٍ وآلة، ثمَّ دخلنا إلى المجلس الَّذي فيه محمد، وإذا بفراشٍ رفيعٍ، وابنُ مقاتلٍ نائمٌ عليه، وحوله [غلمان وقوف في المجلس، فجلس التاجر، وحاتمٌ] قائم، فقال له محمد [بن مقاتل: ] اقعد، قال: لا أقعد، قال: ولم؟ قال: لي مسألةٌ إليك أسألُكَها، فقال: سل، قال: اقعد حتَّى أسألك (¬4)، فأسندوه فقعد، فقال له حاتم: علمك [هذا] من أين جئت به؟ فقال: حدَّثني به الثقات، قال: عمَّن؟ قال: عن الثقات، قلت: إلى من؟ قال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل، عن الله عزَّ وجلَّ، قال: فهل سمعتَ فيه أنَّ من كانت دارُه في الدنيا أحسن، وأثاثُه أجمل، وزينتُه أكثر، كانت المنزلةُ له عندَ الله أعظم؟ قال: لا، قال: ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 9/ 153. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): وقال أبو عبيد الخواص. (¬3) في (خ) و (ف): والدرمانقات. والمثبت من (ب)، وانظر مناقب الأبرار 1/ 247، وفي حلية الأولياء 8/ 80: الذرنيانقات، وفي الطبقات السنية 3/ 15: الرزمانقات. والزرمانقة: جبة من صوف. معجم الألفاظ الفارسية ص 78. (¬4) في (خ) و (ف): أجيبك. وهو خطأ. والمثبت وما بين حاصرتين من (ب).

فكيف سمعت؟ قال: إنَّ من زهد في الدنيا، ورغب في الآخرة، وأحبَّ المساكين، وقدَّم لآخرتِه كانت له المنزلةُ عند الله أكثر، وكانَ إليه أقرب، فقال له حاتم: فأنتَ بمن اقتديت، بالثقات، أم بالصحابة، أم بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أم بفرعون، أم بنمرود، فإنَّهما أولُ من بنى بالجص والآجر؟ يا علماءَ السُّوء، مثلكم كمثل الجاهل المتكالب على الدنيا الراغب فيها (¬1)، يقول: إذا كان العالمُ على هذه الحالة، لا أكونُ أنا شرًّا منه، ثمَّ خرجَ، وازداد [محمد بن مقاتل] الرازيّ مرضًا على مرضه [من كلام حاتم]. وبلغ أهل الرَّيِّ [ما جرى من حاتم وابن مقاتل، فقيل لحاتم: ] (¬2) إنَّ محمد بن عُبيد الطَّنافسيّ بقَزْوين أكبرُ سنًّا (¬3) من ابن مقاتل، وهو غريقٌ في بحار الدنيا، فصار حاتم إلى قزوين، فدخلَ على الطنافسيّ، وعنده خلقٌ كثير، وهو يحدِّثهم في داره، فرأى في داره أعظمَ ما رأى في دارِ ابن مقاتل، فوقفَ على رأسه وسلَّم، فقال الطنافسيُّ: اقعد، فقال: أنا رجلٌ أعجمي، أتيتُك لتعلمني مبدأ ديني، ومفتاح صلاتي، وهو الوضوء، قال: نعم، يا غلام، إناء فيه ماء، فأحضره، فتوضأ الطنافسيُّ ثلاثًا ثلاثًا، ثمَّ قال لحاتم: توضَّأْ هكذا، فتوضَّأ ثلاثًا ثلاثًا، وزادَ واحدةً، فقال الطنافسيُّ: أسرفت وزدتَ على الثلاث، فقال: يا مسكين، أنا في كفٍّ واحدٍ من ماء أسرفت، وأنتَ فيما أنت فيه من الدنيا [ما أسرفت]؟ ! ففهمَ الطنافسيُّ [أنَّه أراد أن ينكيه]، فدخلَ بيته، ولم يخرج إلى الناس أربعين يومًا. [وكتب التجار إلى بغداد بما جرى لحاتم مع ابن مقاتل والطنافسيّ، ] ثم قدم [حاتم] بغداد. [قال الخطيب بإسناده إلى أبي عبد الله الخوَّاص -وكان من أصحاب حاتم- قال: لما دخل حاتم بغداد اجتمع] إليه أهلها وقالوا [له] أنت رجل أعجميٌّ، ليس يكلِّمُك ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): مكالب على الدنيا، راغب فيها. والمثبت من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). ومكانها في (خ) و (ف): ذلك فقال. (¬3) كذا في (خ) و (ف) و (ب)، والطبقات السنية 3/ 17، وفي حلية الأولياء 8/ 81: إن الطنافسي ببغداد أكثر شيء من هذا، وفي مناقب الأبرار 1/ 249: أكثر شيئًا من هذا.

أحدٌ إلَّا قطعتَه، لأيِّ معنى؟ ! قال: لأنَّ معي ثلاث خصال أظهر بها (¬1) على خصمي، قالوا: وما هي؟ قال: أفرحُ إذا أصاب خصمي، وأحزنُ إذا أخطأ، وأحفظ نفسي لا تتجاهل عليه. فبلغَ ذلك الإمام أحمد [بن حنبل] رحمةُ الله عليه، [فقال: سبحان الله، ما أعقله من رجل. هذه صورة ما ذكر الخطيب، رجع الحديث إلى "مناقب الأبرار" قال ابن خميس: عن أبي عبيد الله الخَوَّاص قال: فقام أحمد بن حنبل وجاء إلى حاتم، فدخل فسلّم عليه]، فردَّ وقال: يا أبا عبد الله، مجيئك إليَّ من الإيمان، فقال له [أحمد: ] يا أبا عبد الرحمن، ما السلامة من الدنيا؟ قال: لا يسلمُ منها إلَّا من تركَها، [أو إلا بترك ما فيها]، وأن يغفرَ للقوم جهلَهم، ويكون آيسًا من خيرهم. ثمَّ خرج حاتم إلى الحجّ، فلمَّا قضى مناسكه توجَّه إلى مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا دخلها [و] رأى القصور والبنيان، قال: أينَ [قصور] (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وقصور أهله وأصحابه]؟ قالوا: ما كانت لهم قصور، وإنَّما كانت بيوتُهم مبنيةً باللبن والقصب، فقال: هذه مدينة فرعون! فحملُوه إلى الوالي، وقالوا: إنه قال: كذا وكذا! فقال للوالي: سألتُهم عن قصورِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: كذا وكذا، فقلت: كذا وكذا، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فأنتم بمن تأسَّيتم، برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أم بفرعون؟ ! ففهمَ الوالي قصدَه، فأطلقَه، وعرفَه الناسُ، فدخل مسجدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس، [فقال علماء المدينة: تعالوا حتَّى نبكِّتَهُ، فاجتمعوا إليه، فقال له رجل منهم: مسألة، فقال: قل قال: ] (¬3) ما تقولُ في رجل قال: اللهمَّ ارزقني؟ قال حاتم: متى طلب [هذا] العبدُ من الله الرزق، في الوقت، أو قبله، أو بعده؟ فقالوا: بيِّن ما تقول، فقال: مثلُ العبدِ الَّذي يطلبُ الرزق من ربِّه كرجلٍ له على رجلٍ دينٌ، فطالبه به ولازمه، فقال له جيرانه: [إنَّ] هذا رجلٌ معسرٌ، فأجِّله حتَّى يحتال، فقال: كم مقدار ما أصبر عليه؟ قالوا: شهرًا، فأجَّله فلما مضى من الشهر ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): أظهرها. وفي (ب): أظفر بها. والمثبت من تاريخ بغداد 9/ 149. (¬2) في (خ) و (ف): قصر. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فاجتمع إليه علماء المدينة، فقال له رجل منهم يريد تبكيته.

حيان بن بشر الحنفي

عشرةُ أيَّام جاءَه فتقاضاه (¬1)، فقالوا له: ما أجلته شهرًا؟ ! ثمَّ مضى فجاءه رأسَ الشهر، فقالوا: إنَّما حلَّ دَينُك اليوم، أجِّلهُ ثلاثًا [حتى] يحتال، فكذا أنتم، عندكم دراهم وطعامٌ وأثاث، وأنتم تقولون: اللهم ارزقنا، [فقد رزقكم، فأخرِجُوا ما عندكم، فإذا لم يبق شيءٌ، فأقيموا بعده ثلاثًا، وقولوا بعد ذلك: اللهم ارزقنا] (¬2). [ذكر وفاته: قال علماء السير: ] توفي حاتم [في هذه السنة] بوا شَجِرْد عند رباط يقال له: رامش (¬3). أسند [حاتم] الحديثَ عن شقيق البلخي، وشَدَّاد بن حكيم، وعبد الله بن المقدام، [ورجاء بن محمد الصَّغَّاني] وغيرهم، وروى عنه حمدان بن ذي النون، ومحمد بن فارس، وغيرهما. واشتغلَ بالعبادة عن الرواية، وكان له ابنٌ يقال له: خشنام (¬4)، على منهاجه في الزهد والورع. حيان بن بشر (¬5) الحنفي وليَ القضاء ببغداد وأصبهان، وكان من جِلَّة (¬6) أصحاب الحديث، ثقةً. روى يومًا أن عَرْفَجة قُطع أنفه يوم الكلاب، فكسر الكاف، فقال له المستملي: أيُّها القاضي، إنَّما هو يوم الكُلاب بالضمّ، فأمر بحبسِه، فأقامَ مدَّةً، فدخلَ عليه الناس فقالوا: ما دهاك؟ فقال: قُطِعَ أنفُ عرفجةَ في الجاهليَّة، وحبستُ أنا به في الإسلام. مات ببغداد. ¬

_ (¬1) في (ب): يتقاضاه. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر الخبر في مناقب الأبرار 1/ 247 - 252، وحلية الأولياء 8/ 80 - 83. (¬3) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وفي طبقات الصوفية ص 91: رأس سروند، وفي مناقب الأبرار 1/ 239: رامس سروند. (¬4) في (خ) و (ف): الحسام. وهي غير واضحة في (ب) لتشويش أصابها. والمثبت من طبقات الصوفية ص 91، ومناقب الأبرار 1/ 239. (¬5) هذه الترجمة والتي بعدها ليست في (ب). (¬6) في (خ) و (ف): جملة. والتصويب من تاريخ بغداد 9/ 215.

عبد الأعلى بن حماد

سمع (¬1) هُشيم بن بشير وغيره، وروى عنه البغويُّ وطبقتُه. عبدُ الأعلى بن حمَّاد أبو يحيى الباهليّ، قدم بغداد وحدَّث بها، ثم عاد إلى البصرة، فمات بها. أسندَ عن مالك بن أنس وغيره، وأخرج عنه البخاريُّ ومسلم في صحيحهما. وقال: قدمتُ على المتوكِّل بسامرَّاء، فدخلتُ عليه، فقال: يا أبا يحيى، قد كنَّا هممنا لك بأمرٍ، فتدافعت الأيَّام، فقلت: يا أمير المؤمنين، سمعتُ مسلم بن خليفة المكيّ يقول: سمعتُ جعفر بن محمد يقول: من لم يشكُر الهمَّة لم يشكرِ النعمةَ، ثم أنشدت: [من البسيط] لأشكرنَّكَ معروفًا هَممتَ به ... إنَّ اهتمامكَ بالمعروفِ معروفُ ولا أذمُّك إن لم يُمضِه قدرٌ ... فالشيءُ بالقدر المحتومِ مصروفُ فجذبَ الدَّواةَ وكتبها، ثم قال: يُنجَز لأبي يحيى ما كنَّا هممنا به، وهو كذا وكذا، ويضاعفُ لخبره هذا (¬2). أبو عُبيد البُشري من قريةٍ [يقال لها: ] بُسْر بحوران. كان مجابَ الدعوة، [صالحًا]، صاحبَ كرامات، ويقال: إن اسمه محمد. وكان صاحبَ جهادٍ وغزوات، وإذا خرجَ في جيشٍ نُصِرَ من فيه. قال أبو بكر بن مَعْمَر: سمعت ابن أبي عُبيد يقول: خرج أبي في غزاةٍ، وكان تحته مهرٌ، فوقع [المهر] ميتًا، فقال: يا رب، أنا ضعيف، وقد خرجتُ في سبيلك ولا قدرةَ لي على المشي، فأعرني إيَّاه حتَّى أرجعَ إلى بُسْر، [قال: ] فإذا المهرُ قائمٌ، فلمَّا عُدنا إلى بسر، قال [لي: ] يا بني خذ السرج عن المهر، فقلت: إنه عَرِقٌ، قال: إنَّه عارية، [قال: ] فأخذتُ السَّرجَ، فوقع المهر ميتًا (¬3). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): مع. والتصويب من تاريخ بغداد 9/ 213. (¬2) تاريخ بغداد 12/ 355 - 357. (¬3) تاريخ دمشق 61/ 294 - 295 (طبعة مجمع اللغة).

وحكى ابن جَهْضَم قال: كان أبو عُبيد بعَرَفة واقفًا، فالتفتَ إلى ابنه فقال: يابنيّ، ليهنك الفارس، ولدت الساعة امرأتك غلامًا، قال: ورجعنا إلى بسر، فكان كما قال (¬1). و[قال ابن جهضم: ] كان [أبو عبيد] يقول: ما أسفي إلَّا أن يجعلَني اللهُ يومَ القيامة ممن عفا عنهم، فقيل له: فعلى العفو تذابحوا (¬2)، فقال: أجل، ولكن يقبحُ بشيخٍ مثلي أن يوقفَ غدًا بين يدي الله تعالى فيقول [له: ] يا شيخ السوء، قد غفرتُ لك، وإنَّما أَمَلِي من الله أن يهبَ لي كلَّ من أحبني. [وحكى عنه في "المناقب" أنَّه كان] إذا دخلَ شهرُ رمضان دخلَ بيتًا في داره وقال لزوجته: طيِّني عليَّ الباب، وناوليني كل ليلةٍ من الكُوَّة رغيفًا وكوزًا من ماء، فكانت تفعل ذلك، فإذا كان يوم العيد فتحت امرأته الباب، فإذا الأرغفة بحالها، لا أكل ولا شرب ولا نام (¬3). [وكانت وفاته في هذه السنة] (¬4) بالشام ودفن ببُسر وقبره [ظاهر] يزار رحمة الله عليه. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 61/ 295. (¬2) في (خ) و (ف): فعلى العقوبة أنجو. وهو تحريف. والمثبت من (ب) وصفة الصفوة 4/ 243. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 392، وهي في تاريخ دمشق 61/ 290. وأوردها الذهبي في تاريخ الإسلام 6/ 237 - 238. ثم قال: هذه حكاية بعيدة الصحة، وفيها مخالفة السنة بالوصال، وفيها ترك الجمعة والجماعة، وغير ذلك، ذكرتها للفرجة لا للحجَّة. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وأورده ابن الجوزي في المنتظم 11/ 263 - 264 في وفيات سنة 238 هـ، وذكر الذهبي في تاريخ الإسلام 6/ 238 أنَّه مات سنة ستين ومئتين.

السنة الثامنة والثلاثون بعد المئتين

السنة الثامنة والثلاثون بعد المئتين فيها حاصر بُغَا الشرابيُّ مدينة تَفْلِيس، وكان بها إسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية، [وقد ذكرنا أنَّ] (¬1) بُغَا لمَّا فصل عن إرمينية قصدَ [مدينة] تَفْلِيس، وذلك في ربيع الأول، [و] قدَّم [بغا] بين يديه زيرك التركي، فجاوز الكُرَّ -وهو نهرٌ عظيم ما بين [حد] إرمينية وتفليس، ويقال: إنَّه أعظم من الصَّرَاة أو دِجلة (¬2)، وتَفْلِيس في جانبٍ منه، ولها خمسةُ أبواب؛ باب الميدان، وباب قريش، والبابُ الصغير، وباب الرَّبَض، وبابٌ يقال له: باب الحسك، والكُرُّ ينحدر مع المدينة. وجمعَ بُغَا أهلَ إرمينية على قتال تَفْلِيس، وجاء زيرك من باب الميدان، ووقف بغا على تلٍّ مطلٍّ على المدينة، وخرج [إسحاق بن] (¬3) إسماعيل مقابله زبرك، فأمر بُغَا النفَّاطين، فضربوا المدينةَ بالنفط، وهي من خشب الصنوبر، وهاجت الريحُ في الخشب، وعاد إسحاق إلى المدينة لينظر، وإذا النارُ قد أخذت قصره، وأحاطت بمن فيه، ثمَّ جاءه التركُ والمغاربةُ، فأخذوا إسحاق أسيرًا، وجاؤوا به إلى بُغَا، [فأمر] فضُربت عنقُه، وحملت رأسه إلى بغا، وصُلِبَ جسدُه على الكر، وعلِّقت رأسُه على باب الحسك، واحترقت المدينة، وفيها نحو من خمسين ألف إنسان، وطفئت النار في يومٍ وليلة، وقيل: في أسرع وقت؛ لأنَّ نارَ الصنوبر لا بقاءَ لها، وأسروا من كان حيًّا، وسلبوا الموتى. وكانت امرأةُ إسحاق -وهي ابنة صاحب السرير- نازلةً شرقي تفليس في مدينة قد حصَّنَها إسحاق، فأعطاها بُغا الأمان، على أنْ يَضعوا أسلحتَهم ويذهبوا، ثم بثَّ بغا سراياه في الحصون التي في أعمال تَفْلِيس ففتحها. وفيها قصدت الرومُ دِمْيَاط في ثلاث مئة مركب، ووافقَ أنَّ عنبسةَ بن إسحاق الضبيّ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وكان بغا. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب): الفراة ودجلة. وقي تاريخ الطبري 9/ 192: وهو نهر عظيم مثل الصراة ببغداد وأكبر. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 192 ..

بشر بن الوليد بن خالد

والي مصر استدعى الجندَ الذين بدمْياط ليتجمَّل بهم يوم العيد، [وأخلى دِمْياط]، وجاءت الروم، فدخلت دِمْياط، فقتلت وسبت نحوًا من ستِّ مئة امرأة من المسلمات والذمِّيَّات، وأَخَذَت الأموال والأمتعة، وأحرقت الجامع والكنائس، وكان من غرق في بحيرة دمياط من النساء والصبيان أكثر ممَّن سباه الروم، وعادوا إلى بلادهم (¬1). [وقال ابن حبيب الهاشمي في "تاريخه": ] وفي صفر [سنة ثمانٍ وثلاثين] وجَّه طاهرُ بن عبد الله بن طاهر إلى المتوكِّل حجرًا وزنه ثمان مئة وأربعون درهمًا، أبيض فيه صدع، ذُكر أنَّه وقعَ بأرض طبرستان، وأنَّه سُمِع لسقوطِه هدَّةٌ من مسيرة أربعة فراسخ في مثلها، وأنَّه ساخَ في الأرض خمسة أذرع (¬2). وحَجَّ بالناس عليُّ بنُ عيسى بنِ جعفر بن أبي جعفر المنصور (¬3). وقيل: عبدُ الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (¬4). وفيها توفي بشر بن الوليد بن خالد (¬5) أبو بكر الكِنْدِيُّ الحنفيّ. كان علمًا من أعلام الإسلام، صالحًا ديِّنًا خشعًا حسنًا في العلم (¬6)، واسع الفقه، جميلَ المذهب، حسنَ الطريقة. وشكاهُ يحيى بنُ أكثم إلى المأمون، وقال: إنَّه لا يُنْفِذُ قضائي، وكان يحيى قد غلب عليه، حتَّى كان عنده أكثر (¬7) من ولده، وكان المأمونُ يقعدُه معه على سريره، فدعا بشرَ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 193 - 194. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬2) المنتظم 11/ 258. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ الطبري 9/ 195. (¬4) ذكر الطبري في تاريخه 9/ 196 أن الأخير حج بالناس سنة تسع وثلاثين ومئتين. (¬5) هذه الترجمة ليست في (ب). (¬6) في تاريخ بغداد 7/ 563: وكان عالمًا ديِّنًا خشنًا في باب الحكم، وفي سير أعلام النبلاء 10/ 675: كان بشر خشنًا في أحكامه. (¬7) في تاريخ بغداد 7/ 563: أكبر.

ابن الوليد، وقال له: ما ليحيى يشكوك ويقول: إنَّك لا تنفذُ أحكامه؟ فقال: سألتُ عنه بخراسان فلم يُحمد أثره في بلده، ولا في جواره، فصاح به المأمون: اخرج، فخرجَ، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، قد سمعت ما قال فاصرفه، فقال: ويحكَ يا يحيى، هذا لم يراقبني فيك مع علمه بمنزلتك عندي، أصرفهُ؟ ! لا والله. وكان بِشْرٌ جوادًا ممدَّحًا، مدحه ربيعةُ بن ثابت الرَّقِّيّ فقال: [من مجزوء الكامل] بشرٌ يجودُ بماله ... جودَ السحابة بالدِّيمْ فكأنَّه البدرُ المنيـ ... ـرُ إذا بدا جَلَّى الظُّلَمْ وكأنَّه البحرُ المحيـ ... ـطُ إذا تقاذفَ والتَطَمْ وكأنَّه زهرُ الربيع ... إذا تفتَّح أو نجَمْ ختمَ الإله لبشرنا ... بالخير منه إذا ختم (¬1) وكان يجري في مجالس سفيان بن عُيينة مسائلُ، فيقول: سَلُوا بِشْرَ بن الوليد. وقال أبو قدامة: لا أعرفُ ببغدادَ إلَّا من أعان (¬2) على أحمد بن حنبل ما خلا بشر بن الوليد. سعى به رجلٌ إلى المعتصم بأنَّه لا يقولُ بخلق القرآن، فحبسَه في بيته، ونهاه عن الفتيا، فلمَّا وَلي المتوكِّلُ أطلقَه، ثم أشكلَ عليه في آخرِ عمره القرآن، قال: أقول بالوقوف، فأمسكَ أصحابُ الحديثِ عنه. وعاشَ سبعًا وتسعين سنةً، ويقال: إنه تغَيَّر وفُلج، وتوفي في ذي القعدة ببغداد، ودفن عند أبي حنيفة، وقيل: بباب الشام. سمعَ خلقًا كثيرًا منهم مالك بن أنس، وروى عنه البغويُّ وغيره، واتَّفقوا على فضله وثقته ودينه وصدقه (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 564. (¬2) في (خ) و (ف): أعاد. والتصويب من تاريخ بغداد 7/ 565. ونص قول ابن قدامة عنده كالتالي: لا أعلم ببغداد رجلًا من أهل الأهواء من أهل الرأي والرافضة، إلا كانوا معينين على أحمد بن حنبل، ما خلا بشر بن الوليد الكندي، رجل من العرب. (¬3) انظر ترجمته أيضًا في المنتظم 11/ 260، وسير أعلام النبلاء 10/ 673.

صفوان بن صالح بن صفوان

صفوان بن صالح بن صفوان الحنفي، مؤذِّنُ جامع دمشق، وداره في رَبَض باب الفَراديس شرقي المقابر. سمع سفيان بن عُيينة وغيره، وروى عنه الإمامُ أحمد رحمة الله عليه وغيره، واتَّفقوا على صدقه وثقته وديانته. وقال: إنَّ أهلَ الجنَّة ليحتاجون إلى العلماء في الجنَّة كما يحتاجون إليهم في الدنيا، قيل له: وكيف؟ قال: تأتيهم رسلٌ من ربهم، فيقولون لهم: سلوا ربكم، فيقولون لهم: قد أعطانا ما سألنا وما لم نسأل، فيقولون: بل سلوا، فيقولون: ما ندري ما نسأل، فيقول بعضهم لبعض: اذهبوا إلى العلماء الذين كانوا إذا أشكل علينا [في الدنيا] أمرٌ سألناهم، فيأتون العلماء فيقولون: قد أتانا رسول ربِّنا تعالى، وقال [لنا: ] سلوا ربكم، فيقول لهم العلماء: سلوا كذا وكذا، فيَسألون فيُعْطَون [ذلك] (¬1). [وفيها توفي] عبدُ الرحمن بن الحَكَم بن هشام أبو المُطَرِّف الأمويّ، والي الأندلس. ولد بطُلَيطُلَة [في] سنة ستٍّ وسبعين ومئة (¬2)، وأمُّه أم ولد اسمها حلاوة. ولي الأندلس [في] سنة ست ومئتين في أيَّام المأمون، ومات في صفر (¬3)، وكانت ولايتُه اثنتين وثلاثين سنة (¬4)، وكان له يومَ مات اثنتان وستون، أو ثلاث وستون سنة. وكان محمودَ السيرة، حسنَ الطريقة، عادلًا جوادًا فاضلًا، [قال العلماء بأخبار الأندلس: ] نظر [عبد الرحمن] في علم الأوائل، وهو أول من أقام أبَّهةَ الملكِ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 335 - 337 (مخطوط). وما بين حاصرتين من (ب)، وقد وقع فيها في هذه الترجمة تشويش واهتراء ضاع معه معظم كلماتها. (¬2) في (خ) و (ف): سبع وسبعين ومئة. والتصويب من (ب). وانظر المغرب في حلى المغرب 1/ 45، وسير أعلام النبلاء 8/ 261. (¬3) كذا في جذوة المقتبس ص 10. وفي المغرب في حلى المغرب 1/ 45، وسير أعلام النبلاء 8/ 261 أنَّه مات لثلاث خلون من ربيع الآخر. (¬4) في (خ) و (ف): اثنتين وأربعين. وهو خطأ، والتصويب من (ب).

محمد بن الحسين

بالأندلس، ورتَّبَ رسومَ المملكة، وامتنعَ من التبذُّل للعامَّة، وانتخبَ الرجال للأعمال، واستوزرَ الأكْفَاء، وزاد في جامعِ قُرْطُبة، وبنى سورَ مدينة إشبيلية، وكان شُبِّه بالوليد بن عبد الملك في علوِّ همته وشرف نفسه، وكان محبًّا للعلماء والفضلاء، يأخذُ عنهم، ويصدرُ عن رأيهم ومشورتهم، ويقيمُ للناس الصلوات الخمس بنفسه، ويجلسُ لكشفِ المظالم، ويهتمّ بأمور الثغور، ويتولَّى الكلِّيَّات بمباشرته، ولا يثق فيه بأحد (¬1). وكان له مئةُ ولد؛ خمسون ذكرًا، وخمسون أنثى، ولمَّا مات وليَ بعده ولدُه محمد، فأقام إلى سنة ثلاثٍ وسبعين ومئتين، [والحمد لله وحده] (¬2). محمدُ بن الحسين أبو جعفر البُرْجُلاني، نُسِب إلى محلَّة البُرْجُلانيَّة، كان فاضلًا زاهدًا، له المصنفات الكثيرة في الرقائق. سمعَ خلقًا كثيرًا، منهم زيد بن الحُبَاب وغيره، ورَوى عنه ابن مسروق (¬3) وغيره، وكان صدوقًا ثقةً، وأثنى عليه الإمام أحمد، وكان إذا سُئِل عن أحاديث الزهد يقول: عليك بالبُرْجُلانيّ (¬4). محمد بن خالد ابن يزيد بن غزوان البَرَاثيُّ، كان فاضلًا ديِّنًا ورعًا، وكان بشر الحافي يأنسُ إليه، ويقبل صلتَه؛ لورعه وحسن معاملته، وكان ذا مالٍ يتصدَّق منه، ويجهِّزُ المجاهدين إلى الثغور. توفي ببغداد، أسندَ عن سفيان بن عيينة وغيره (¬5). ¬

_ (¬1) انظر الكامل 7/ 69 - 70، والوافي بالوفيات 18/ 140 - 141، وتاريخ الإسلام 5/ 862. (¬2) ما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) اسمه: أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي. تاريخ بغداد 3/ 5. (¬4) تاريخ بغداد 3/ 5، والمنتظم 11/ 262. وترجمته غير واضحة في (ب). (¬5) تاريخ بغداد 3/ 131، والمنتظم 11/ 263، وهذه الترجمة ليست في (ب).

محمد بن المتوكل

محمد بن المتوكل ابن عبد الرحمن العسقلانيُّ الحافظ، مولى بني هاشم، كان فاضلًا زاهدًا عابدًا، توفي بعَسْقَلان [في هذه السنة]. أسند عن الفضيل بن عياض وغيره، وأخرج عنه أبو داود في "سننه" وغيره، واتَّفقوا على صدقه (¬1) وثقته وفضله (¬2). و[حكى عنه الحافظ ابن عساكر] قال: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: يا رسول الله، استغفر لي، فقد حدثنا سفيان بن عُيينة، عن أبي الزُّبير، عن جابر أنَّك ما سُئلت شيئًا فقلت: لا، فتبسَّم، وقال: غفر الله لك (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في (ب) -وما بين حاصرتين منها-: زهده. (¬2) وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: لين الحديث، وقال ابن عدي: كثير الغلط. تهذيب الكمال 26/ 358. وقال ابن حجر في التقريب: صدوق عارف له أوهام كثيرة. (¬3) تاريخ دمشق 64/ 301. ووقع بعدها في (خ): رحمة الله عليه وعلى كاتبه.

السنة التاسعة والثلاثون بعد المئتين

السنة التاسعة والثلاثون بعد المئتين (¬1) فيها نفى المتوكل عليَّ بن الجهم إلى خراسان (¬2). وفيها وجدت سَعْفَةٌ في نخلةٍ عليها مكتوب: خَلْقُهُ غافلون ساهون مطلوبون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]، {إِنْ كَانَتْ إلا صَيحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَينَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53]. وفيها غزا عليُّ بن يحيى الأرمنيّ بلادَ الروم، وأوغلَ فيها، فيقال: إنَّه شارف القُسْطَنطينية، وأحرقَ ألف قريةٍ، وقتلَ عشرة آلاف عِلْج، وسَبى عشرين ألف رأس (¬3)، وأخذ من الدوابّ والغنائم ما لا يحد، وعاد سالمًا. وفيها عُزِل يحيى بن أكثم عن القضاء، وأخذَ المتوكِّلُ من منزله مئة ألف دينار (¬4)، ومن البصرة أربعةَ آلاف جريب، فقوِّمت بمئة ألف وستين ألف دينار. وكان ابنُ أكثم يقول: والله ما فيها من ماله ولا من مال أبيه ولا أخيه درهم، اقرؤوا سككها، كلُّها من مال الرشيد والمأمون، اسمهما على السِّكك. وبنى المتوكِّلُ فيها بناءً لم يعجبه، فهدمَه، فقال الناس: قد بانَ ظلمه ليحيى. وفيها زُلْزِلت الدنيا في الليل في جمادى الأولى، واصطكَّت الجبال، وخصوصًا بالساحل، ووقع من الجبل المشرف على طبريَّة قطعةٌ طولها ثمانون ذراعًا، وعرضها خمسون ذراعًا، فماتَ تحتها خلق كثير (¬5). وفيها اتفق شعانينُ النصارى والنَّيروز يومَ الأحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة، ¬

_ (¬1) جاء بعدها في (ب) ما سيأتي ذكره في أحداث السنة الأربعين بعد المئتين، فكأنه حصل سبق نظر للناسخ من أحداث هذه السنة إلى التي بعدها. والله أعلم. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 196، والمنتظم 11/ 265، والكامل 7/ 71. (¬3) في المنتظم 11/ 265 - والخبر فيه-: وسبى سبعة عشر ألف رأس. (¬4) في المنتظم 11/ 266، وتاريخ الطبري 9/ 198، والكامل 7/ 74: قبض منه خمسة وسبعين ألف دينار. اهـ. والطبري وابن الأثير أوردا هذا الخبر في أحداث سنة أربعين ومئتين. (¬5) المنتظم 11/ 266.

محمد بن أحمد

فزعمتِ النصارى أنَّها لم تجتمعْ قبلَ ذلك في الإسلام قط (¬1). ووليَ قضاءَ البصرة إبراهيم بن محمد التيميّ. وحجَّ بالنَّاس عبدُ الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو والي مكَّة. وفيها توفي محمدُ بن أحمد ابن أبي دُؤاد، أبو الوليد الإياديّ، ولَّاه المتوكلُ القضاءَ والمظالمَ بعدما فُلِجَ أبوه أحمد، ثمَّ عزله عن المظالم، ثمَّ صُرِف عن القضاء (¬2). وكان بخيلًا مع شهرة أبيه بالكرم، وقال فيه إبراهيم بن العباس: [من البسيط] عفت مساوٍ تبدَّتْ منك ظاهرةً ... على محاسن بقَّاها أبوكَ لكَا لئن تقدَّمت أبناءَ الكرام بهِ ... لقد تقدَّم آباءَ اللئام بكَا (¬3) ولمحمد أخبارٌ في البخل منها أنَّ خبازَه شكا إليه أنَّ (¬4) الخبز يبقى عنده حتَّى يجف، قال: قلل الخبز، قال: التنور كبير، قال: صغِّره أو اقطعه اثنين، وكان إذا حضرَ عنده ضيوف قدَّم لكلِّ واحدٍ رغيفًا، فَإِنْ عازَ شيئًا ستقرضَ من الجواري ولا يردُّ عليهنّ عوضَه. وقد هجا عليُّ بن الجهم محمدًا وآباءه فقال: [من الكامل] يا أحمد بن أبي دؤادٍ دعوة ... بَعَثَتْ عليك جنادلًا وحديدَا فَسدت أمورُ الدِّين حين وَليتَهُ ... ورميتَه بأبي الوليد وليدَا لا مُحكمًا جَزْلًا ولا مستطْرَفًا ... كهلًا ولا مستحدثًا (¬5) محمودَا ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 196، والمنتظم 11/ 266 - وفيه: لعشر خلت من ذي القعدة-، والكامل 7/ 72. (¬2) انظر تاريخ بغداد 2/ 129 - 130، والمنتظم 11/ 268 - 269. (¬3) تاريخ بغداد 2/ 131. (¬4) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد 2/ 132 أنَّه هو شكا إلى خبازه .... (¬5) في (خ) و (ف): ولا مستنشيًا. وفي تاريخ بغداد 2/ 130: متشببًا. والمثبت من الأغاني 10/ 218، وانظر ديوان علي بن الجهم ص 124 (تكملة).

وإذا تربَّع في المجالِس خلتَه ... ضَبُعًا وخلتَ بني أبيه قرودا ماتَ محمد ببغداد آخر ذي الحجة، وقيل: في العشرين منه، وماتَ أبوه بعده في سنة أربعين، بينهما عشرون يومًا، وقيل: كلاهما ماتَ سنة أربعين، والأول أشهر. * * *

السنة الأربعون بعد المئتين

السنة الأربعون بعد المئتين (¬1) فيها وثبَ أهلُ حمص على أبي المغيث الرافقي (¬2) والي المتوكِّل، فأخرجُوه وقَتلوا جماعةَ من أصحابه، فبعث إليهم المتوكِّلُ محمد بن عبدويه واليًا، ففتكَ فيهم، وعمل فيهم العجائب. و[فيها] ذكر محمد بن حبيب الهاشميُّ أنَّه خسف بثلاث عشرة قرية من قرى المغرب، [بالقيروان، ] فلم ينجُ من أهلها إلَّا نفرٌ يسير، قيل: كانوا اثنين وأربعين رجلًا سودَ الوجوه، فأتوا القيروان، فمنعهم أهلها من الدخول عليهم [وقالوا: أنتم من المسخوط عليهم، ] وبنوا لهم حظيرةً خارج المدينة، فنزلوا فيها. وفيها سمع أهل خِلاط صيحةً من السماء، فمات خلق كثيرٌ، ودامت ثلاثةَ أيَّام. وخرجت ريحٌ من بلاد الترك، فمرَّت على خراسان، ثمَّ على بلاد الرَّيّ وهَمَذَان وحُلْوَان والعراق، فأصابَ الناس منها سعالٌ وزكام، فماتَ بها خلقٌ كثير. وأمر المتوكلُ أن يعلَّم أهل الذمة بالعبرانية والسَّرْيَانية، ويمنعوا من العربيَّة، فأسلم منهم خلقٌ كثير. ومطرت سامراء بَرَدًا مثل بيض [الحمام و] الدجاج (¬3). وحجَّ بالناس عبد الله بن محمد بن داود (¬4). فصل: وفيها توفي ¬

_ (¬1) في (ب): السنة التاسعة والثلاثون بعد المئتين. وهو خطأ. فالأخبار المذكورة تحتها هي للسنة الأربعين بعد المئتين، فانتقلت عين الناسخ أو المختصر من سنة إلى التي بعدها، كما أشرنا إلى ذلك في مطلع السنة السابقة. وسقطت أحداث سنة 239 من (ب) فلم تذكر فيها بالكلية. (¬2) كذا في (خ) و (ت)، وهذا الخبر ليس في (ب). وفي تاريخ الطبري 9/ 197، والكامل 7/ 73: الرافعي. (¬3) المنتظم 11/ 270 - 271. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) من قوله: وحج بالناس ... إلى هنا ليس في (ب). ووقع في (خ) و (ف): محمد بن عبد الله بن داود. والتصويب من تاريخ الطبري 9/ 198، والمنتظم 11/ 271، والكامل 7/ 75.

إبراهيم بن خالد

إبراهيم بن خالد ابن أبي اليمان، أبو ثور الكلبي. [قال الخطيب: ] كان أحد الثقات المأمونين، ومن الأئمَّة أعلام الدين، وله كتبٌ مصنَّفةٌ، جمعَ فيها بين الحديث والفقه (¬1). [قال: و] كان الإمام أحمد رحمه الله يثني عليه ويقول: أعرفُه بالسنَّة منذ خمسين سنة. [وسئل الإمام] (¬2) أحمد [بن حنبل] عن مسألة فقال [للسائل: ] سل الفقهاء، سل أبا ثور. وقال الخطيب [أيضًا بإسناده: ] وقفت امرأةٌ على مجلسٍ فيه يحيى بن مَعين، وأبو خَيثمة، وخَلَف بن سالم، وجماعةٌ يتذاكرون الحديث، فسمِعَتهم يقولون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورواه فلانٌ، وحدَّث به عن فلان، فسألَتْهُم عن الحائض، أتغسل الموتى؟ وكانت غاسلة، فلم يجبها أحدٌ منهم، وجعل بعضُهم ينظرُ إلى بعض، وأقبل أبو ثور، فقالوا لها: عليكِ بالمُقْبِل، فسألته، فقال: نعم، تغسِّل؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال [لها: ] "إنَّ حيضتكِ ليست في يدك" ولقولها: كنت أفرق رأسَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حائض. قال أبو ثور: فإذا فرقَتْ رأس الحيّ فالميت أولى به، قالوا: نعم حدثنا فلانٌ به ورويناهُ عن فلانٍ من طريق كذا، وخاضُوا في الطرق والروايات، قالت المرأة: فأين كنتم إلى الآن؟ ! (¬3). [وكره أرباب الظواهر للجنب والحائض أنْ يُغسِّلا الميت (¬4)؛ لأنهما نجسان حكمًا، ولهذا يُمنعون من الصَّلاة وقراءة القرآن، والأصحُّ ما عليه العامَّة. وقد قال عامَّةُ العلماء بأنَّ غسل الميت لا ينقضُ الوضوء. قال أحمد بن حنبل: ينقض؛ لأنَّ ابن عمر وابن عباس كانا يأمران الغاسل أنْ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 577. (¬2) في (خ) و (ف): وقيل للإمام. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ بغداد 6/ 580. (¬4) وهو قول الحسن وابن سيرين، كما في المجموع 5/ 143، وانظر الفروع 3/ 275.

أحمد بن الخضر

يتوضَّأ، والأصحُّ أنَّه لا ينقض؛ لأنَّ الحَدَثَ لا يوجد، ولا وضوء إلَّا من حَدَث، وما رواه عن ابن عمر وابن عباس لا يعارضُ السنن المشهورة والإجماع، أو يحمل على غسلِ اليدين من النجاسة] (¬1). و[قال الخطيب: ] كان أبو ثور يتفقَّه على محمد بن الحسن، فلمَّا قدم الشافعيّ رحمه الله بغداد انضم إليه وأخذ عنه، وانتحل له مذهبًا آخر. [قال أبو بكر البيهقي: ] كان إمامًا عالمًا مجتهدًا زاهدًا، وأخذ عنه مذهبه جماعة منهم الجُنيد بن محمد الزاهد، وسمع سفيان بن عُيَينَة وغيره، وروى عنه مسلم بن الحجَّاج وغيره، واتفقوا على صدقه وثقته وديانته، وتوفي ببغداد في صفر، ودفن بمقبرة باب الكُنَاس (¬2). وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمة الله عليه: رجعتُ من جنازتِه، فقال لي أبي: أين كنت؟ قلت: في جنازةِ أبي ثور، فقال: رحمه الله إنَّه كان فقيهًا (¬3). أحمد بن الخضر أبو حامد البلخي (¬4)، ويُعرف بابن خَضْرويه، من كبار مشايخ خراسان، صحب أبا تراب النَّخْشَبيّ، وحاتمًا الأصمّ، ورحل إلى أبي يزيد البسطامي وأبي حفص النيسابوري. وكان أبو حفص يقول: ما رأيتُ أكبر همَّة ولا أصدقَ حالًا من ابن خضرويه. وكان له قَدمٌ في التوكُّل، قال: كنتُ أمشي بطريق مكَّة، فعلقَ برجلي شِكَال (¬5)، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر المغني لابن قدامة 1/ 256. (¬2) نص العبارة في (ب): أخذ العلم عن الشافعيِّ وسفيان بن عيينة وأقرانهما، وجعلَ له مذهبًا أخذَه عنه جماعةٌ منهم الجُنيد بن محمد الزاهد. وكانت وفاتُه ببغداد في صفر في هذه السنة، ودُفن بمقبرة الكُنَاس، واتَّفقوا على صدقه وثقته وديانته. (¬3) تاريخ بغداد 6/ 581. (¬4) هذه الترجمة ليست في (ب). (¬5) في (خ) و (ف): شيكان. وهو تصحيف. والشكال: القيد. انظر المعجم الوسيط (شكل). وفي طبقات الصوفية ص 105: فوقعت رجلي في شكال. وانظر مناقب الأبرار 1/ 268.

فمشيتُ فرسخين ورجلي متعلِّقةٌ به، فرآهُ بعضُ النَّاس فنزعه عني، فلمَّا عُدت من الحج جعلتُ طريقي على بِسْطام، فدخلتُ على أبي يزيد، فابتدأني وقال لي: الحالُ الذي وردَ عليك بطريق مكَّة، كيف كان حكمُك فيه مع الله تعالى؟ قلت: أردتُ أن لا يكون لي فيه مع الله اختيار، فقال: يا فضوليّ، قد اخترتَ كلَّ شيء حيثُ كانت لك إرادة. وقال ابن خضرويه: القلوبُ جوَّالةٌ، فإمَّا أن تجول حولَ العرشِ، وإمَّا أن تجولَ حول الحشّ. وقال: الصبرُ زاد المضطرين، والرضا درجةُ العارفين. وقال له رجلٌ: أوصني، قال: أمتْ نفسَك حتى تحييها. وقال: لا نومَ أثقلُ من الغفلة، ولا رقَّ أملكُ من الشهوة، ولولا ثقلُ الغفلة لم تظفر بك الشهوة. وسُئِل: أيُّ الأعمالِ أفضل؟ فقال: رعايةُ السر عن الالتفات إلى غير الله. وقال: في الحريَّة تمامُ العبوديَّة، [و] (¬1) في تحقيقِ العبودية تمامُ الحرية. وقال: القلوب أوعيةٌ، فإذا امتلأت من الحقِّ ظهرت بزيادة أنوارها على الجوارح. وقال: من أراد أن يكونَ مع الله، فليلزم الصدق، فإنَّ الله مع الصادقين. وقال: رأيتُ ربَّ العزَّة في المنام فقال: يا أحمد، كل الناس يطلبون مني إلَّا أبا يزيد، فإنَّه يطلبني. وقال محمد بن حامد: كنتُ جالسًا عند ابن خضرويه، وهو في النزع، وكانت قد أتت عليه خمسٌ وتسعون سنة، فسُئِل عن مسألة، فدمعت عيناه وقال: يا بني، بابٌ كنت أدقُّه خمسًا وتسعين سنة هو يفتح في الساعة، لا أدري أيُفتح بالسعادة أو بالشقاوة، فأنَّى لي بالجواب؟ وكان قد ركبه من الدين سبع مئة دينار، وحضره غرماؤه، فنظرَ إليهم وقال: إنَّك جعلت الرهونَ وثيقةً لأرباب الأموال، وأنت تأخذُ عنهم وثيقتهم، فأدِّ عنِّي، فدَقَّ داقٌّ الباب وقال: أين غرماء أحمد بن خضرويه، فخرجُوا إليه ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من طبقات الصوفية ص 104، ومناقب الأبرار 1/ 267.

أحمد بن أبي دؤاد

فقضَى عنه دينَه، ثم خرجت روحُه (¬1). أسند أحمد الحديث، واشتغلَ بحاله عن الرواية. [وفيها توفي] أحمدُ بن أبي دؤاد أبو عبد الله القاضي. و [اختلفوا في] اسم أبي دؤاد [فقيل: ] الفرج، وقيل: دُعمِي، [ويقال: إن اسمه كنيته.] (¬2) وقد نسبه الخطيبُ إلى معد بن عدنان (¬3). قال: وأصلُه من بعض قرى قِنَّسرين من الشام (¬4)، ومولده بالبصرة. وصحب هيَّاج بن العلاء السُّلَميّ من أصحاب واصل بن عطاء، فأخرجه (¬5) إلى الاعتزال. [ذكر طرفٍ من أخباره: قال الخطيب: ] كان أحمد موصوفًا بالجود والسخاء، والمروءة والفتوة، وحسن الخلق ووفور الأدب، ولولا ما حملَ عليه السلطان والناس من [مذهب الجهميَّة، والقول بخلق القرآن، ولم يَشعْ عنه ما شاع من] المقالة، لما لحقَه أحدٌ في العلم والكرم، واجتمعت الألسنُ على مدحه (¬6). فإنَّه كان قد ضمَّ إلى علمه الكرمَ الواسع، فلم يكنْ أحدٌ من إخوانه إلا بَنى له دارًا، ثم وَقَفَ على ولده ما يُغنيهم أبدًا، ولم يكن لأخٍ من إخوانه ولدٌ إلَّا من جاريةٍ وهبها له (¬7). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 10/ 42، والمنتظم 11/ 276، وصفة الصفوة 4/ 164. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر تاريخ بغداد 5/ 233 - 234. (¬3) تاريخ بغداد 2/ 129 (ترجمة ابنه محمد بن أحمد بن أبي دؤاد). (¬4) وفيات الأعيان 1/ 81. (¬5) في (خ) و (ف): فأحوجه. والمثبت من (ب). وانظر وفيات الأعيان 1/ 81. (¬6) تاريخ بغداد 5/ 234 - 235. (¬7) تاريخ بغداد 5/ 237.

[قال: و] ولي القضاءَ للمأمون والمعتصم والواثق والمتوكِّل، وكان له عندهم منزلةٌ عظيمةٌ. [قال عليُّ بن الحسين الإسكافي: ] مرض [أحمد بن أبي دؤاد]، فعاده المعتصم، [ولم يكن يعود أحدًا من أهل بيته ولا غيرهم، ] وقال له: شفاك الله يا أبا عبد الله، فقال [له: ] يا أمير المؤمنين قد شفاني الله بالنظر إليك، فقال له [المعتصم: قد نذرتُ إنْ عُوفيتَ لأتصدقَنَّ بعشرة آلاف دينار، فقال: ] يا أمير المؤمنين، [اجعلها] في أهل الحرمين، فقال [المعتصم: ] إنَّما نذرتُ أن أتصدَّق بها ها هنا، وأنا أطلق لأهل الحرمين مثلها، فقال: أنتَ كما قال النَّمَريُّ لأبيك: [من البسيط] إنَّ المكارمَ والمعروفَ أوديةٌ ... أحلَّكَ الله منها حيثُ تجتمعُ من لم يكن بأمينِ الله معتصمًا ... فليسَ بالصلوات الخمس ينتفعُ (¬1) فلمَّا خرجَ المعتصمُ من عنده قيل له: أتعودُه وما عدتَ أحدًا قبله؟ ! فقال: كيف لا أعود رجلًا ما وقعت عيني عليه إلا ساق إليَّ أجرًا، أو أوجب لي شكرًا، أو أفادني فائدةً تنفعُني في الدنيا و [في] الآخرة، وما سألَني لنفسه حاجةً قط (¬2). وقال أحمد يومًا لرجل: أما تعرفني؟ فقال: لا ولا أنكرك، قال: انقطعَ شسعُ نعلي يومًا فأصلحتَه، والله لأُصلحنَّ حالك، فأعطاهُ خمس مئة دينار، وقال له: زرني كلَّ وقت (¬3). وكان رجلٌ من أولاد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يؤذي ابنَ أبي دؤاد ويشتمُه دائمًا في وجهه، فعرَضت للرجل حاجةٌ إلى المعتصم، فجاء إلى محمد بن عبد الملك الزيَّات، فدفع إليه ورقة يقدِّمُها إلى المعتصم، قال ابن الزيَّات: فاغتنمتُ غيبةَ ابن أبي دؤاد وعرضتُ القصَّة، ودخل ابنُ أبي دؤاد والقصَّة في يد المعتصم، فدفعَها إليه، فرأى اسم الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّما هي حاجةُ عمر بن الخطاب، ولابدَّ من قضائها، ¬

_ (¬1) من قوله: فقال: أنت كما ... إلى آخر البيتين ليس في (ب). (¬2) تاريخ بغداد 5/ 244. (¬3) انظر تاريخ بغداد 5/ 239 - 240 والخبر ليس في (ب).

قال ابن الزيَّات: فخرجتُ قبل صورة الحال، وخرج أحمد فقام الرجل يشكره، فقال له: اذهب عافاك الله، فإنَّما قضيتُ حاجةَ عمر بن الخطاب، لا حاجتك. وكان ذلك الرجلُ لا يلتقي ابن أبي دؤاد إلا لعنه في وجهه ودعا عليه سواءٌ كان في محفلٍ أو وحدَه، فصارَ إذا لقيه لا يكادُ ينظرُ إليه من الحياء (¬1). وقال له الواثق يومًا: يا أحمد، قد اختلَّت بيوتُ الأموالِ بطلبائك اللائذين بك، والمتوسِّلين إليك، فقال: يا أمير المؤمنين، نتائجُ شكرها متَّصلةٌ بك، وذخائرُ أجرها لك، وما لي من ذلك إلا عشقُ اتصال الألسن بحلو المدح فيك، فقال له: يا أبا عبد الله، والله لا منعناك ما يزيد في عشقك، فافعل ما أحببت (¬2). وأمر الواثق لعشرةٍ من بني هاشم بعشرةِ آلاف دينار على يد أحمد، فدفع لكلِّ واحدٍ من ماله عشرة آلاف دينار (¬3)، وبلغَ الواثق فقال: يا أبا عبد الله، مالُنا أكثرُ من مالك، فلم تغرم علينا، فقال: يا أميرَ المؤمنين، والله لو أمكنني أن أجعل ثوابَ حسناتي لك لفعلت، فكيفَ أبخلُ بمالي وأنت مَلَّكتنيه على الذين يُكثرُون الشكرَ، ويتضاعفُ فيهم الأجر؟ فوصلَه بمئة ألف درهم، ففرَّقها في بني هاشم. وقال له الواثق: بلغني أنَّك ولَّيتَ القضاءَ رجلًا ضريرًا، قال: نعم؛ لأنَّه بلغني أنَّه بكى على المعتصم حتى ذهبت عيناه، وقد أمرتُه أنْ يستنيب (¬4). وسألَه رجلٌ أنْ يحملَه على [عَيْر -يعني] حمارًا- فأعطاهُ حمارًا وفرسًا وبغلًا وجملًا وبِرْذَونًا وجاريةً، وقال: لو علمت مركوبًا غير هؤلاء لحملتك عليه. وقال (¬5) أبو العيناء -وكان ضريرًا-: ما رأيتُ في الدنيا أكثر أدبًا من ابن أبي دؤاد؛ ¬

_ (¬1) كذا، وانظر تاريخ بغداد 5/ 242 - 243. والخبر بطوله ليس في (ب). (¬2) تاريخ بغداد 5/ 240. والخبر ليس في (ب). (¬3) كذا في (خ) و (ف)، ولم يذكر الخبر في (ب). وسياق الخبر كما في تاريخ بغداد 5/ 240: أمر الواثق لعشرة من بني هاشم بعشرة آلاف درهم على يد ابن أبي دؤاد، فدفعها إليهم، فكلَّمهُ نظراؤهم، ففرَّق فيهم عشرة آلاف درهم والعشرة مثل أولئك من عنده على أنها من عند الواثق ... (¬4) أخبار أبي تمام ص 144، تاريخ بغداد 5/ 241. والخبر ليس في (ب). (¬5) من هنا ... إلى قوله: قال أبو العيناء: وكان ابن أبي دؤاد شاعرًا ... ليس في (ب).

ما خرجتُ من عنده قطُّ فقال: يا غلام خذ بيده، بل يقول: اخرج معه (¬1). وقال أبو العيناء: قلتُ له يومًا: إنَّ قومًا تظاهروا عليَّ، فقال أحمد: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ} (¬2) [الفتح: 10]، فقلت: أنا وحدي، وهم عددٌ كثير، قال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، قلت: فإنَّهم قد مكروا بي، فقال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]. فحدَّثت أحمد بن يوسف الكاتب بذلك، فقال: ما ترى ابن أبي دؤاد إلَّا أن القرآن أُنزِلَ عليه. وقد مدحَ أحمدَ خلقٌ كثير لا يحصون، وكان يجيزُهم مثلَ جوائز الملوك قال أبو تمام وقد شرب أحمد دواءً: [من المنسرح] أعقبَك الله صحَّة البدنِ ... ما هتفَ الهاتفانِ في الغُصُنِ لا نزعَ الله عنكَ صالحةً ... أَبليتَها من بلائك الحسنِ إنَّ بقاءَ الجوادِ أحمد في ... أعناقنا منَّةٌ من المِنَنِ لو أنَّ أعمارَنا تطاوعُنا ... شاطرَهُ العُمرَ سادةُ اليمنِ (¬3) وقال أبو تمَّام أيضًا: [من الوافر] لقد أنسَتْ مساوئَ كلِّ دهرٍ ... محاسنُ أحمدَ بنِ أبي دؤادِ مقيمُ الظنِّ عندكَ والأماني ... وإن قَلِقَت (¬4) ركابيَ في البلادَ وقال له أحمد: أظنُّك يا أبا تمام عاتبًا، فقال: إنَّما يعتبُ الإنسانُ على واحد، وأنت كلُّ الناس، فقال: من أين هذا؟ قال: من قول الحاذق -يعني أبا نواس-: [من السريع] وليسَ لله بمسنتكر ... أنْ يجمعَ العالمَ في واحدِ (¬5) وقال له الواثقُ: يا أبا عبدِ الله بلغني أنَّك أعطيتَ شاعرًا ألف دينار -يعني أبا تمام- ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 242. (¬2) كذا، ولا وجه لاستشهاده بهذه الآية. ولم أقف على مصدر القصة. (¬3) أخبار أبي تمام للصولي ص 145 - 146، وتاريخ بغداد 5/ 238، وديوان أبي تمام 3/ 315. (¬4) في (خ) و (ف): أفلت ركابكَ، والمثبت من أخبار أبي تمام ص 141، وتاريخ بغداد 5/ 238، وديوان أبي تمام 1/ 374. (¬5) أخبار أبي تمام ص 146، وتاريخ بغداد 5/ 237. والبيت في ديوان أبي نواس ص 218.

فقال: يا أميرَ المؤمنين ما أعطيتُه لمدحه إيَّايّ، بل لقولهِ للمعتصمِ فيك: [من الكامل] واشدُد بهارونَ الخلافة إنَّه ... سَكَنٌ لوَحشَتِها ودارُ قرارِ ولقد علمتَ بأنَّ ذلك مِعصَمٌ ... ما كنتَ تتركُه بغير سوارِ فطرب الواثق وقال: أحسنتَ والله، وأمرَ لأبي تمام بألفي دينار (¬1). قال مروانُ بنُ أبي الجنوب في أحمد لما فُلج: [من البسيط] لسانُ أحمدَ سيفٌ مسَّه طبعُ ... من علَّةٍ فجلاها عنهُ جاليها ما ضرَّ أحمد باقي علَّةٍ درسَتْ ... والله يذهبُ عنه رسمَ باقيها موسى بنُ عمران لم يُنْقِص نبوَّتَه ... ضعف اللسان به قد كان يحصيها (¬2) قد كان موسى على علَّاتِ منطقِه ... رسائلُ الله تأتيه فيمضيها (¬3) قال المصنِّفُ رحمه الله: لقد افتضحَ ابنُ أبي الجنوب في تشبيه موسى - عليه السلام - بابن أبي دؤاد؛ لأنَّ عقدةَ لسانِ موسى - صلى الله عليه وسلم - كانت من آياته ومعجزاته، وخَرس ابن أبي دؤاد كان عقوبة من الله على جحد كلامه وصفاته. وقال مروان فيه: [من الوافر] فقل للفاخرينَ على نزار ... ومنها خِنْدِفٌ وبنو إيادِ رسولُ الله والخُلفاء منَّا ... ومنَّا أحمدُ بنُ أبي دؤادِ (¬4) وقال أحمد لمروان: ما يمنعُك أن تسألني؟ فقال: إذا سألتُك فقد جعلت سؤالي إيَّاكَ عوضًا عمَّا تعطيني، فقال: صدقتَ، وأعطاهُ خمسة آلاف درهم (¬5). ¬

_ (¬1) في أخبار أبي تمام ص 145، وتاريخ بغداد 5/ 242: أنه وصله بخمس مئة دينار. والبيتان في ديوان أبي تمام 2/ 208 - 209. (¬2) في تاريخ بغداد 5/ 245: يمضيها. (¬3) في تاريخ بغداد: يؤديها. والأبيات في تاريخ بغداد منسوبة لمروان بن أبي حفصة، وهو خطأ؛ لأن وفاته كانت سنة 182 هـ، وأحمد بن أبي دؤاد فُلج سنة 233 هـ. (¬4) تاريخ بغداد 5/ 235. (¬5) كذا في (خ) و (ف). والقصة -كما في تاريخ بغداد 5/ 239 - : بين ابن أبي دؤاد ومسبِّح بن حاتم، قال ابن أبي دؤاد: ما يمنعك أن تسألني؟ فقلت له: إذا سألتك فقد أعطيتك ثمن ما أعطيتني، فقال لي: صدقت، وأنفذ إليَّ خمسة آلاف درهم.

و [قال أبو العيناء: ] كانَ ابنُ أبي دؤاد شاعرًا مجيدًا (¬1). [ذكرهُ دعبل في كتاب "طبقات الشعراء"] (¬2). وكان إذا صلَّى رفع يديه إلى السماء يخاطبُ ربَّه عزَّ وجلَّ: [من الكامل] ما أنتَ بالسببِ الضعيفِ وإنَّما ... نُجْحُ الأمورِ بقوَّةِ الأسبابِ فاليومَ حاجتُنا إليكَ وإنَّما ... يُدعَى الطبيبُ لساعةِ الأوصابِ (¬3) ذكر وفاته: [حكى الصولي وقال: ] كان المتوكل يستحيي أن يَنْكِبَ ابنَ أبي دؤاد؛ لإحسانه إليه في أيَّام الواثق، ولما كانَ يقومُ به من أمره، واختيارِه له يوم البيعة بالخلافة، و [لكن] كان يكرهُه لسوء مذهبه واعتقاده، وما أظهرَ من البدع، وحملِه الخلفاءَ والناسَ على القول بخلق القرآن، ومذهبِ الجهميَّة. فلمَّا فُلِجَ [ابنُ أبي دؤاد]، ولَّى ابنه محمدًا المظالم والقضاء، ثمَّ عزله، [وولَّى يحيى بن أكثم ما كان إليه، وأحدرَ ابنَه محمدًا إلى بغداد، وتوفِّي في العشرين من ذي الحجَّة، وتوفي أبوه يوم عاشوراء سنة أربعين ومئتين، فكانَ بينهما عشرون يومًا. وقال الصوليُّ: ماتا كلاهما في أوَّل سنة أربعين. وقيل: كان بينهما شهر. وقول الخطيب أشهر (¬4). وقيل: إنَّ المتوكل لما استأصلَ آل دؤاد وأحدرَهم إلى بغداد أحدرَ أحمد في الجملة، فماتَ ببغداد] (¬5). وصلى عليه ابنُه العباس [بن أحمد]، ودفن بداره ببغداد. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 236. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 237 من قول محمد بن عمران. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ بغداد 5/ 236. والخبر ليس في (ب). (¬4) كذا، وانظر تاريخ بغداد 5/ 252، و 2/ 133، وتاريخ الطبري 9/ 197. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). ومكانها في (خ) و (ف): وأحدره إلى بغداد وأحدر أحمد فمات بها يوم عاشوراء.

[قال الخطيب: ] ولمَّا خرجوا بسريره تعلَّق به جماعة ممَّن كان يعولُهم ويقوم بهم، فأنشدَ واحدٌ منهم: [من البسيط] اليومَ مات نظامُ الفَهم واللَّسَنِ ... وماتَ من كان يُعْدِينا (¬1) على الزمنِ وأظلمت سُبُلُ الخيراتِ إذ حُجِبت ... شمسُ العوارفِ في غيمٍ من الكفنِ وقال آخر: [من الكامل] تَرك المنابرَ والسرير تواضعًا ... وله منابرُ لو يشَا وسريرُ ولغيره يُجْبَى الخراجُ وإنَّما ... تُجْبَى إليه محامدٌ وأجورُ وقال آخر: [من الطويل] وليس نسيمَ المسك ريحُ حَنُوطه ... ولكنَّه ذاك الثناء المخلَّفُ وليسَ صريرَ النعشِ ما يسمعونه ... ولكنَّه أصلابُ قومٍ تقصَّفُ (¬2) وقد (¬3) أكثر الناس فيه الهجو بعد المدح لما أظهر من البدع، فقال فيه ابن شراعة البصريّ لما فلج: [من الكامل] أفلتْ نجومُ سعودك (¬4) ابنَ دؤاد ... وبدتْ نُحوسُك في جميع إيادِ فرحتْ بمصرعك البريَّةُ كلُّها ... من كان منها موقنًا بمعادِ لم يبقَ منك سوى خيالٍ لامع ... فوقَ الفراش ممهَّدًا بوسادِ أطراك يا ابن أبي دؤادٍ مدحُنا (¬5) ... فجريتَ في ميدانِ إخوةِ عاد لم تخشَ من ربِّ السماء عقوبةً ... فسنَنْتَ كلَّ ضلالةٍ وفسادِ كم من كريمة معشرٍ أرملتَها ... ومحدِّثٍ أوثقتَ (¬6) في الأقيادِ إنَّ الأسارى في السجون ليفرحوا (¬7) ... لما أتتكَ مواكبُ العوَّادِ ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 5/ 245: يستعدى. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 245 - 246. (¬3) من هنا إلى قوله: ذكر أقوال العلماء فيه. ليس في (ب). (¬4) في تاريخ بغداد 5/ 250: سعود نجومك. بدل: نجوم سعودك. (¬5) في المصادر: أطغاك يا ابن أبي دؤاد ربنا. (¬6) في (خ) و (ف): أوعيت. والمثبت من المصادر. (¬7) في المصادر: تفرَّجوا.

لا زال ما بكَ دائمًا متزايدًا (¬1) ... وفجعتَ قبل الموتِ بالأولاد (¬2) * * * فقل (¬3) للفاخرينَ على نزارٍ ... وهم في الأرضِ ساداتُ العبادِ رسولُ الله والخلفاءُ منَّا ... ونبرأ من دعيّ بني إياد وما منَّا إيادٌ إذ أقرَّت ... بدعوة أحمدَ بنِ أبي دؤاد * * * إلى (¬4) كم تجعلُ الأعرابَ طُرًّا ... ذوي الأرحام منك بكلّ وادي فأُقْسِمُ أنَّ رحمَك من إياد ... كرحم بني أميَّةَ من زيادِ وبلغه قوله فقال: ما بلغَ أحدٌ مني مثل ما بلغَ هذا الغلام (¬5)، ولولا أنِّي أكرهُ أن أنبِّه عليه لعاقبتُه عقابًا لم يعاقَبْ أحدٌ بمثلِه، جاء إلى منقبة في فنقضَها عروةً عروة (¬6). وكان أحمد يُنْسَبُ إلى إياد. ذكر أقوال العلماء فيه: [حكى الخطيب والحافظ ابن عساكر في تاريخهما قال: ] سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه عنه فقال: كافرٌ بالله العظيم، قال الله تبارك وتعالى: {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120] والقرآنُ من علم الله، فمن قال: إنَّه مخلوقٌ فقد كفر (¬7). [وحكى الخطيب أيضًا عن عبد العزيز بن يحيى المكي قال: ] (¬8) دخلت عليه وهو ¬

_ (¬1) في المصادر: لا زال فالجك الذي بك دائبًا. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 250 - 251، وفي الأغاني 10/ 229 منها الأبيات 3، 2، 6، 7، 8 ونسبها أبو الفرج لعلي ابن الجهم. (¬3) الأبيات الثلاثة التالية من قطعة أخرى في هجاء ابن أبي دؤاد من البحر الوافر، نسبها الخطيب في تاريخ بغداد 5/ 236 لأبي هفان المهزمي. وانظر الطبقات السنية 1/ 307. (¬4) البيتان التاليان -من الوافر- من قطعة أخرى في هجاء ابن أبي دؤاد، وهي في تاريخ بغداد 2/ 131 (ترجمة محمد بن أحمد بن أبي دؤاد) دون نسبة. (¬5) في (ف): الكلام. (¬6) قول ابن أبي دؤاد هذا قاله عقب أبيات أبي هفان المهزمي. انظر تاريخ بغداد 5/ 236. (¬7) تاريخ بغداد 5/ 248. (¬8) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال عبد العزيز بن يحيى المكي.

مفلوج، فقلت: إني لم آتك عائدًا، وإنما جئتُ شامتًا [بك]، فالحمدُ لله الذي سجنك في جلدك سبع سنين (¬1)؛ [لأنَّه فُلِج في سنة ثلاث وثلاثين ومئتين. وحكى أيضًا عن] سفيان بن وكيع [قال: ] (¬2) رأيتُ كانَّ جهنَّم قد زفرت، واللهب يخرجُ منها (¬3)، فقلتُ: ما هذا؟ قيل: جهنَّم أُعِدَّت لابن أبي دُؤاد (¬4). وقال (¬5) أحمد بن المعدَّل: كَتب ابنُ أبي دؤاد إلى عبد الله بن موسى بن جعفر، وهو في المدينة، يدعوه إلى القولِ بخلق القرآن ويقول: إنْ وافقتَ أمير المؤمنين فيها استوجبتَ منه حسنَ المكافأة، وإن خالفْتَه لمٍ تأمن مكروةه، فكتب إليه: عصمَنا الله وإيَّاك من الفتنة، فإنَّه إن يفعل فأعظِم بها منَّة، كان لم يفعل فهي الهلَكَة، نحن نرى الكلام في القرآن بِدعة، يشتركُ فيها السائلُ والمجيب، فانتهِ إلى حيث انتهى إليه سلفُنا الصالح بأنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى القديم، وما سواه مخلوق، فانتهِ إلى ذلك، وذرِ الذين يلحدونَ في أسمائه، الآية (¬6)، ولا تسئم القرانَ باسمٍ من عندك، فتكون من الظالمين (¬7). وقال عليُّ بن الموفق: ناظرتُ أقوامًا من الواقفة (¬8) أيام المحنة، فنالوني بما أكرَه، فرأيتُ في المنام رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - داخل المسجد، وفي المسجد حلقتان؛ أحدهما أحمدُ بن حنبل، وفي الحلقة الأخرى أحمدُ بن أبي دؤاد وأصحابه، فوقفت بين الحلقتين، وإذا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قد أشار إلى حلقةِ ابن أبي دؤاد وقرأ: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} وأشار إلى حلقة أحمد بن حنبل وقرأ: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} (¬9) [الأنعام: 89]. [وحكى الخطيب عن أبي عبد الله الزاهد البراثي قال: ] (¬10) رأيتُ في المنام قارئًا ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 251. (¬2) في (خ) و (ف): وقال سفيان بن وكيع. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب): من فيها. (¬4) تاريخ بغداد 5/ 251. (¬5) من هنا إلى قوله: وحكى الخطيب عن أبي عبد الله الزاهد البراثي. ليس في (ب). (¬6) نص الآية كالتالي: {اوَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]. (¬7) تاريخ بغداد 5/ 246. (¬8) في (خ) و (ف): الرافضة. وهو تحريف. (¬9) تاريخ بغداد 5/ 249. (¬10) في (خ) و (ف): وقال أبو عبد الله الزاهد البراثي. والمثبت بين حاصرتين من (ب).

يقرأ: {أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)} [الفجر: 6، 7] إلى أن قال: {فَصَبَّ عَلَيهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13] منهم ابن أبي دؤاد {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (¬1) [الفجر: 14]. [وروى الخطيب أيضًا بإسناده عن] يعقوب بن موسى بن الفَيْرزان، ابن أخي (¬2) معروف الكرخي [قال: ] (¬3) رأيتُ في المنام كأنِّي وأخًا لي (¬4) نمرُّ على نهر عيسى، وإذا بامرأةٍ تقول: ما تدري ما حدثَ الليلة؟ قلت [لها: ] وما حدث؟ قالت: أهلك الله ابنَ أبي دؤاد، قلت: وما كان سبب هلاكه؟ قالت: أغضبَ الله فغضب الله عليه. أسندَ ابنُ أبي دؤاد الحديثَ عن جماعة، وإنَّما أسقطَ الناسُ حديثه؛ لما أحدثَ من القول بخلق القرآن، وقد حَكى عن الخلفاء، [فحكى القاضي التنوخيُّ عن ابنِ أبي دؤاد، قال: حدَّثني الواثقُ عن أبيه المعتصم عن آبائه أنَّ قومًا ركبوا في البحر، فسمعوا هاتفًا يقول: من يعطيني عشرةَ آلاف [دينار]، حتى أعلمه كلمةً إذا أصابه غمٌّ أو أشرفَ على هلاكٍ فقالها كشفَ الله عنه؟ فقال رجل من أهل المركب: أنا، فقال: ارمِ بالمال في البحر، فرمَى به، فقال الهاتف: إذا أصابك همٌّ أو أشرفتَ على هلكةٍ فاقرأ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيثُ لَا يَحْتَسِبُ} إلى قوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 - 3] فقال أهل المركب: قد ضيَّعت مالك، فقال: كلَّا، إنَّ هذا ما أشكّ في نفعه. فلمَّا كان بعدَ أيَّام، انكسرَ المركب، فلم ينجُ منه إلَّا ذلك الرجل على لوح، قال: فطرحني الموجُ إلى جزيرة، فصعدتُ إليها، فإذا بقصرٍ منيف، فدخلتُه، فإذا فيه من الجواهر والأموالِ ما لا أقدرُ [أن] أصفَه، وإذا بامرأةٍ ما رأيتُ مثلَها حسنًا وكمالًا، فقلت لها: من أين أنتِ، وما الذي ألقاكِ ها هنا؟ فقالت: أنا بنتُ فلانٍ من البصرة، [و] كان أبي لا يصبرُ عنِّي ساعةً، فسافر في البحر وحملني معه، فانكسرَ مركبنا، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 249. (¬2) في (ب): ابن أخت. وهو خطأ. انظر ترجمته في تاريخ بغداد 16/ 403. (¬3) في (خ) و (ف): وقال يعقوب بن موسى ... رأيت. والمثبت من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): أنا وعمي وخالي، وفي (ب): أنا وخالي. والتصويب من تاريخ بغداد 5/ 251، والمنتظم 11/ 275.

الحسن بن عيسى بن ماسرجس

فاختُطِفتُ وحُمِلتُ إلى هذه الجزيرة، ويخرجُ إليَّ شيطانٌ من البحر في كل سبعةِ أيَّام (¬1)، فيتلاعبُ بي من غير أنْ يطأني، وهذا يوم موافاته، فاتَّقِ الله في نفسك؛ فإنِّي لا آمنُه عليك، [قال: ] فما انقضى كلامُها حتى جاءت الظلمة، فقالت: جاء والله، فلمَّا قَرُبَ منِّي كاد يغشاني، فقرأت الآيةَ، فصار رمادًا، فقالت المرأة: هلك والله، من أنتَ الذي منَّ الله عليَّ بك؟ فحملنَا من القصر من الجواهر والمال ما قدرنا [على حمله] (¬2)، وقدَّمت إليَّ طعامًا، فقلتُ: من أين هذا؟ قالت: كان يأتيني به (¬3)، ثمَّ خرجنا من القصر، ولزمنَا ساحلَ الجزيرة، وإذا بمركبٍ، فلوَّحنا إليه، فجاؤوا وحملونا، وسألونا عن حالنا، فقلنا: غرقنا (¬4)، وسلمنا الله حتى وصلنا إلى البصرة، فدلَّتني على أهلها، فأتيتُهم وقلت: أنَا رسول فلانة إليكم، فصرخوا وبكوا وقالوا: جدَّدت علينا أحزاننا، فأتيتُ بهم إليها، فلمَّا رأوها كادوا يموتونَ فرحًا، وسألوها عن حالها، فقصَّت عليهم القصَّة، وسألتُهُم أنْ يزوجوني بها، ففعلُوا، وقسمتُ المال بيني وبينها، ورزقني الله منها الأولاد، وصاروا من مياسيرِ أهل البصرة [وتُجَّارِها] (¬5). [وفيها توفي] الحسنُ بن عيسى بن ماسَرْجِس أبو علي النيسابوريّ. كان نصرانيًّا من أهل بيت الثروة، أفأسلمَ على يد ابن المبارك، وقد ذكر الخطيبُ قصَّته فقال: كان الحسنُ والحسين ابنا عيسى بن مَاسَرْجِس (¬6)] إذا ركبا يتحيَّر الناسُ في حسنهما، فاتَّفقا على أن يسلِما، فقصدا حفص بن عبد الرحمن ليسلمَا على يده، ¬

_ (¬1) في الفرج بعد الشدة: يتلاعب بي سبعة أيام. (¬2) في (خ) و (ف): عليه. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬3) في الفرج بعد الشدة: وجدته هاهنا. (¬4) في (خ): فعرفناهم بالحال وما وقع لنا. بدل: فقلنا: غرقنا. (¬5) الفرج بعد الشدة 1/ 99 - 101. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وكان هو وأخوه الحسين.

فقال لهما: أنتما من أجلِّ النصارى، وعبدُ الله بن المبارك شيخُ الدنيا من المشرق إلى المغرب، فإذا أسلمتُما على يده كان ذلك أعظمَ عند المسلمين، وأرفع لكما، وكان ابن المبارك في الحجّ، فانصرفا عنه، ومرض الحسين فمات [على نصرانيته] قبل رجوع ابن المبارك من الحجّ، فلما قدم ابن المبارك أسلمَ الحسن على يده (¬1). [قلت: وقد أخطأ حفصُ بن عبد الرحمن بتأخير إسلام الحسين حتَّى مات على نصرانيته؛ لأنَّ الإسلامَ لا يؤخَّرُ احترازًا عن مثل هذا (¬2). ولمَّا أسلم الحسن] طلب العلم ورحلَ في طلبِ الحديث، ولقيَ الشيوخ. وروي أنَّ ابن المبارك رأى الحسنَ يومًا راكبًا، فقال: من هذا الشاب؟ فقالوا: نصراني، فقال: اللهمَّ ارزقهُ الإسلام، فاستجاب الله دعوته فيه (¬3)، فأسلمَ على يده. وكان يقالُ له: مولى عبد الله بن المبارك. [واشتغل بالحديث والعلم] وكان ديِّنًا ورعًا عفيفًا ثقةً، ولم يزل من عقبِه محدِّثون وفقهاء بنَيسابور. [قال الخطيب: ] قدم [الحسن] بغداد، فجلس بباب الطَّاق، وجلسَ الأئمَّة في مجلسه، وكان في مجلسه بضعة عشر ألفَ محبرة (¬4). [قال: ] وخرجَ حاجًّا في سنة أربعين ومئتين، فتوفي بالثعلبية عند رجوعه [من الحج] في صفر، وأنفقَ في هذه الحجَّة ثلاث مئة ألف درهم، و [كان] قبره يزار (¬5) ظاهر الثعلبية، وعليه مكتوب: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [النساء: 100] هذا قبر الحسن بن عيسى النيسابوري (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 333. (¬2) قال الذهبي في السير 12/ 28: يبعد أن يأمرهما حفصٌ بتأخير الإسلام، فإنه رجل عالم، فإن صح ذلك فموت الحسين مريدًا للإسلام، منتظرًا قدوم ابن المبارك ليُسلِم نافعٌ له. (¬3) تاريخ بغداد 8/ 333. (¬4) في تاريخ بغداد 8/ 334: اثنا عشر ألف محبرة. (¬5) لفظه: يزار. ليست في (ب) و (ف). (¬6) تاريخ بغداد 8/ 335 - 336.

قتيبة بن سعيد

[قال: ] وقال أبو يحيى [البزَّاز: ] كنتُ مع الحسن فيمن حجَّ وقتَ وفاته بالثعلبيَّة، فاشتغلت عن الصلاة عليه بحفظ محملي ورحلي [وغيبة عديلي]، فرأيتُه في منامي، فقلت: أبا علي، ما فعلَ الله بك؟ قال: غفر لي ولكلِّ من صلَّى عليَّ، فقلتُ: قد فاتتني الصلاةُ عليك لغيبةِ عديلي، فقال: لا تجزع، فقد غفرَ الله لي و [لكلِّ من] (¬1) ترحَّم على. رحمهُ اللهُ تعالى (¬2). حدَّثَ ببغداد عن ابن المبارك، وسفيان بن عيينة، وأبي معاوية الضرير، وغيرهم. وسمع منه الأئمَّة، وروى عنه الإمام أحمد، والبخاريُّ، ومسلم، رحمة الله عليهم، وغيرهم (¬3). واتفقوا على صدقِه وديانته وعدالته، رحمة الله عليه (¬4). قتيبة بن سعيد ابن جميل بن طَريف، أبو رجاء الثقفيّ، مولاهم، من أهل بَغْلَان، قريةٍ من قرى بَلْخ. ولد سنةَ خمسين ومئة، ورحل إلى الأمصار، وكان عالمًا فاضلًا مكثِرًا. حدَّث عن مالك بن أنس وغيره، وروى عنه الإمامُ أحمد رحمة الله عليه وغيره، واتفقوا على صدقه وثقته. ومن شعره: [من البسيط] لولا القضاءُ الذي لا بدَّ مُدْرِكُه ... والرزق يأكله الإنسان بالقَدرِ ما كانَ مثلي في بَغلان مسكنُه ... ولا يمرُّ بها إلا على سفرِ (¬5) [وفيها توفي ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): ولمن. والمثبت وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬2) تاريخ بغداد 8/ 336. (¬3) من قوله: حدث ببغداد ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬4) انظر ترجمته أيضًا في المنتظم 11/ 276 - 277، وتهذيب الكمال 6/ 294 - 299. (¬5) تاريخ بغداد 14/ 481 - 488، والمنتظم 11/ 279 - 280، وتهذيب الكمال 23/ 523 - 537. وهذه الترجمة ليست في (ب).

الوليد بن عتبة

الوليد بن عتبة أبو العباس الأشجعي، وُلد في سنة ستٍّ وسبعين ومئة. قال الحافظ ابن عساكر: وكانت دارُه بدمشق في زُقَاق الأسديين بقرب مسجد بني عطية. وكان يُسمع الحديث في هذا المسجد، ومات بدمشق. وقيل: بصور. قرأ القرآن بحرف ابن عامر على أيوب بن تميم. وروى الحديث عن الوليد بن مسلم وغيره. وكان ثقة. والله أعلم بالصواب (¬1)]. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 17/ 864 - 866 (مخطوط)، وما بين حاصرتين من (ب)، ولم ترد هذه الترجمة في (خ) و (ف).

السنة الحادية والأربعون بعد المئتين

السنة الحادية والأربعون بعد المئتين فيها وثبَ أهلُ حمص بواليهم محمد بن عبدويه، وساعدهم عليه قومٌ من النصارى، فكتب محمدٌ إلى المتوكِّل بذلك، [فأمره] بقتالهم، وكتب إلى صالح العباسيّ -وهو على دمشق- بأن ينجدَه، وأن يهدِمَ الكنائس والبِيَعَ التي بحمص، ويُدخِلَ البِيعةَ التي إلى جانب المسجد [في المسجد]، ويخْرِجَ كلَّ من فيها من النصارى، ويضرب (¬1) رؤسائهم بالسياط، فإذا ماتُوا صلبَهم على أبوابهم، وأمرَ لمحمد بن عبدويه بخمسين ألف درهم، وللقوَّاد بصلات، ففعل ما أمرهم به. وفيها ولَّى المتوكِّلُ أبا حسان الزياديّ قضاءَ الشرقية في المحرم. وشهدَ الشهود عند [أبي حسان] الزياديّ على عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم [صاحب خان عاصم] أنَّه شتَم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضوان الله عليهم، وكتبَ صاحبُ البريد إلى المتوكِّل رحمهُ الله بذلك، فكتبَ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر ببغداد أنْ يضربَ عيسى بالسياط حتى يموت، [فإذا مات رمى به] في دِجلة (¬2)، ففعل به ذلك. [وذكر الخطيب الواقعة وقال: فقال له الرجل: ] (¬3) أيُّها القاضي قتلتني، فقال: قتلك الحقُّ لقذفك (¬4) زوجةَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وشتمِك الخلفاءَ الراشدين. وفيها في ليلة الخميس لليلة خَلَت من جمادى الآخرة، ماجت النجومُ في السماء، وتناثرت الكواكبُ شرقًا وغربًا مثلَ الجراد، من قَبْلِ غروب الشمس إلى قريبِ الفجر، ولم يكن مثلُ هذا إلَّا حينَ ظهورِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) و (ف): كل. وفي تاريخ الطبري 9/ 199: فأمره أن يأخذ من رؤسائهم ثلاثة نفر فيضربهم بالسياط ضرب التلف، فإذا ماتوا صلبهم على أبوابهم، وأن يأخذ بعد ذلك من وجوههم عشرين إنسانًا فيضربهم ثلاث مئة سوط، كل واحد منهم ويحملهم في الحديد إلى باب أمير المؤمنين. وانظر المنتظم 11/ 282. (¬2) في (خ) و (ف): حتى يموت ويرمى في الدجلة. والمثبت من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): قال عيسى. والمثبت من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): لذكرك. والمثبت من (ب)، وتاريخ بغداد 8/ 341. (¬5) تاريخ الطبري 9/ 201، والمنتظم 11/ 283.

وفيها كتب عامل اليمن إلى المتوكِّل بأنَّ جبلًا من اليمن يقال له الصفراء (¬1)، سار من مكانه، وقيل: كان ذلك في السنة الآتية (¬2). وفيها أغارت الرُّوم على مكان بعين زَربَة من الزطِّ الذين ظهروا بواسط، وحملوا إلى عين زربة، فاجتاحهم بنسائهم وأولادهم ودوابهم وجميع أسبابهم (¬3). وفيها فادى المتوكِّل الرومَ فخلَّص من المسلمين سبعَ مئة وخمسة وستين (¬4) رجلًا [وخمسة وعشرين امرأةً] (¬5). وفيها أغارت البُجة (¬6) على حرسٍ من أرض مصر، فبعثَ المتوكِّلُ لحربهم محمد بن عبد الله القُمِّي، وكانتَ البُجة لا تغزو المسلمين ولا يغزونهم، لهدنةٍ قديمةٍ كانت بينهم [ذكرها فيما تقدَّم، على يد ابن أبي سَرح] والبُجة جنسٌ من أجناس الحبَش (¬7) بالمغرب، [(وبالمغرب) سودانٌ ونوبة] (¬8)، وفي بلادهم معادنُ ذهب وفضَّة، يقاسمونَ من يعملُ فيها، ويؤدُّون إلى عامل مصر [عن معادنهم] في كلّ سنةٍ أربع مئة مثقال تبرًا. فلمَّا كان في أيام المتوكِّل امتنعُوا من أداءِ الخراج سنتين، وكان المتوكِّلُ قد ولَّى مصر يعقوب بن إبراهيم البَاذَغِيسيّ مولى الهادي، [ويعرف بقَوْصَرة، ] وفوَّضَ إليه ولايةَ الإسكندرية وبَرقَة والمغرب، فكتب إلى المتوكِّل أنَّ البُجة قد نقضت الهدنة [التي ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف)، وفي (ب): السهقر. ولم أعرفه. (¬2) ذكر ابن الجوزي الخبر في المنتظم 11/ 295، وابن العماد في شذرات الذهب 2/ 99 في أحداث سنة 242 هـ. (¬3) كذا وقع الخبر في (خ) و (ف)، وليس في (ب). وانظر الخبر في تاريخ الطبري 9/ 201، والمنتظم 11/ 282، وانظر ما سلف من أخبار الزط في أحداث سنة 220 هـ. (¬4) في تاريخ الطبري 9/ 203، والكامل 7/ 77: وثمانين. وفي المنتظم 11/ 284: وسبعين، وفي نسخة كما في هامشه: وستين. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي تاريخ الطبري والكامل والمنتظم: مئة وخمسًا وعشرين امرأة. (¬6) اضطربت النسخ في هذه الكلمة، فجاءت مرات: بجاة، بألف، ومرات بغير ألف. وأثبتها كما وردت في تاريخ الطبري والمنتظم في سائر المواضع. (¬7) في (خ) و (ف): من أجناس السودان والحبش. والمثبت من (ب) وانظر تاريخ الطبري 9/ 203، والمنتظم 11/ 285 - 284. (¬8) ما بين حاصرتين من (ب). ولفظة: وبالمغرب. استدركتها من تاريخ الطبري 9/ 203.

كانت بينها وبين المسلمين]، وخرجت من بلادها إلى معادن الذهب والجوهر، وهي على التُّخوم فيما بين أرض مصر وبلاد البُجة، فقتلُوا عدَّةً من المسلمين ممَّن كان يعملُ في المعادن، وسبوا عدَّةً من ذراريهم ونسائهم، وذكروا أنَّ المعادنَ لهم، وفي أرضهم، فاشتدَّ ذلك على المتوكل، وشاور (¬1) في أمرهم، فقيل له: إنَّ البُجة [قومٌ] من أهل البدو، و [هم] أصحابُ إبلٍ وماشية، والوصولُ إلى بلادهم صعبٌ، لا تسلكُ فيه الجيوش؛ لقلَّة المياه، وأنَّها صحارى ومفاوز، مسيرتُها شهرٌ في أرض قفر وجبالٍ وَعْرَة، لا ماءَ فيها ولا زرع، ولا مَعقِلَ ولا حصن، ومن سلكها من الجيوش هلكَ، فأمسكَ المتوكِّلُ عنهم. وزاد فسادُهم، وكثُرت غاراتهم، حتى خافَ أهلُ سعيد مصر على أنفسهم [وذراريهم منهم]، فبعثَ المتوكِّل إليهم محمد بن عبد الله [المعروف بـ]، القُمِّي، وولَّاه أمور صعيد مصر وأسوان [وملك الكور]، فسارَ إليها، فانضمَّ إليه من كان يعملُ في المعادن، فصار في عشرين ألفًا ما بين (¬2) فارسٍ وراجل، ووجَّه إلى القُلْزُم، فحمل فيه سبع مراكب موقرةً بالدقيق والزيت والتمر والسَّويق والشعير والمِيرة وغيرها، وأمرَ قومًا أن يلجِّجُوا بها في البحر حتى يوافوا بها ساحل البحر عندَ البُجة، ودخل بمن معه أرضَ البجاة حتى جاوزَ المعادن، ثمَّ صار إلى الحصون والقلاع، وخرج إليه [ملكهم واسمه] علي بابًا (¬3) في جيشٍ كثيف، [و] عُدَدٍ أضعاف ما كان مع القُمِّي، و [كانت] البُجة على إبلهم، مع الحِرَاب، وإبلهم فرْهٌ تشبهُ المهاري في النجابة، وجعلُوا يتناوشون أيَّامًا من غير قتال، وقصد ملك البُجَة أن تطول الأيام فتفنى أزوادهم وعلوفتهم، فيموتون جوعًا، فتأخذهم البُجَة بأيديهم، فلما توهم [ملك البُجَة] أن الأزوادَ قد فنيت، [وبينما هو على ذلك] إذا بالمراكب السبعة قد أرست على ساحل من سواحل البُجَة، تعرف بمصحية (¬4)، ففرح القمِّي وأصحابه، وفرَّق عليهم ما كان فيها، ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وشاورهم. والمثبت من (ب) وتاريخ الطبري 9/ 204. (¬2) في (خ) و (ف): ومئتي. وهو تصحيف، والمثبت من (ب) وتاريخ الطبري 9/ 205. (¬3) في (خ) و (ف): وخرج إليه علي بابًا ملكهم. والمثبت من (ب). (¬4) في تاريخ الطبري 9/ 205: بصنجة.

وقصدهم علي بابًا، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، وكانت الإبل التي تحت البُجَة زعرةً تخاف من كلِّ شيء، [فلمَّا رأى القُمِّيُّ ذلك، جمع] (¬1) الأجراسَ التي كانت في أعناق إبل العسكر، فجعلَها في أعناقِ الخيل، ثم حملَ على البُجَة، فنفرت إبلُهم لأصوات الأجراس، واشتدَّ رعبها، فحملتهم على الجبال والأودية، فمزَّقتهم كلَّ ممزَّقٍ، وأتبعهم القُمِّيُّ قتلًا وأسرًا، حتى أدركَه الليل، وذلك في أول هذه السنة (¬2)، ثمَّ رجعَ إلى معسكره، ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم، ثمَّ جَمَعَ البُجَة جمعًا كبيرًا من الرجالة، وصاروا إلى مكانٍ أَمِنوا فيه، وسار القُمِّي [في طلبهم] (¬3)، فظفرَ بهم في الليل، فهربَ الملك، فأخذ تاجَه وأمواله، ثم أرسل إليه الملكُ يطلبُ [منه] الأمانَ، وأن يردَّه إلى مملكته وبلاده، ويؤدِّي الخراجَ [المدةَ]، التي فاتته وفي المستقبل، فأمَّنه القُمِّيّ، فأدَّى إليه خراجَ أربع سنين، في كل سنةٍ أربع مئة مثقال، وشرط عليه القُمِّيُّ أنْ يسيرَ إلى باب المتوكل، فاستخلفَ ابنه، وسارَ ومعه سبعون من البُجَة بأيديهم الحراب، فدخلوا سامرَّاء على الإبل، وفي رؤوس حرابهم رؤوسُ أعيان الذين قتلهم القُمِّي، وكسا المتوكل علي بابا درّاعة ديباج وعمامة سوداء [ولم يعرض له المتوكل]، وأمرَ القميّ أن يعيدَه إلى بلاده، فخرج به، فيقال: إنَّه كان معه صنمٌ من حجارؤ كهيئةِ الصبيّ فكان يسجد له. وولَّى المتوكلُ سعدًا الخادم الإيتاخي البُجَة، وطريق ما بين مكة ومصر، فاستناب [الخادم] القُمِّيَّ (¬4). وفيها مات يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة مصر (¬5). وحجَّ بالناس [عبد الله بن] محمد بن داود، وكان في الحجِّ جعفر بن دينار والي طريق مكة وأحداث الموسم (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فجمع القمي. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (ب): أول سنة إحدى وأربعين ومئتين في هذه السنة. (¬3) في (خ) و (ت): إليهم. والمثبت من (ب). (¬4) انظر الخبر بطوله في تاريخ الطبري 9/ 203 - 206، والمنتظم 11/ 284 - 286، والكامل 7/ 77 - 79. (¬5) لفظة: مصر. ليست في (ب). ولعلها: بمصر. (¬6) تاريخ الطبري 9/ 206، والكامل 7/ 80، وما بين حاصرتين من (ب).

أحمد بن حنبل

وفيها توفي الإمام أحمد بن حنبل [واختلفوا في نسبه، فقال الخطيب: هو أحمد بن محمد بن حنبل] بن هلال بن أسد [بن إدريس بن عبد الله بن حيَّان بن عبد الله بن أنس بن عَوْف بن قاسِط] بن مازن بن شيبان بن ذُهْل بن ثَعلبة بن عُكَابة بن صَعْب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسِط بن هِنْب بن أفصى بن دُعْمِيّ بن جَدِيلة بن أَسد بن ربيعة بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان (¬1). [فالخطيب قدَّم شيبان على ذهل]. وقال [عباس] الدوري وابن ماكولا (¬2): ذُهْل بن شيبان، فقدَّما ذُهْل على شيبان. [وقد أنكر الخطيب هذا، وقال: هو] (¬3) غلط [من الدُّوري]، والصحيحُ: شيبان بن ذُهْل (¬4)، [وكذا قال أئمَّةُ اللغة وأهل النسب، وأبو بكر البيهقي، والحافظ ابن عساكر (¬5) وغيره. قلت: وقد قال الجوهريُّ: ] (¬6) وشيبان حي من بكر، وهما شيبانان؛ أحدهما شيبانُ بن ثعلبة بن عُكَابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، والآخر شيبانُ بن ذُهْل بن ثعلبة بن عُكَابة (¬7) [وهذا موافقٌ لما قال الخطيب، وقد ذكرناه في صدر الكتاب]. وقد ذكره العلماء وأثنوا عليه، فقال ابن ماكولا: هو إمامٌ في النقل، وعَلَمٌ في الزهد والورع، وكان أعلمَ الناس بمذاهب الصحابة والتابعين (¬8). [وأثنى عليه وذكره الخطيب فقال: ] أبو عبد الله المروزيّ الأصل، البغداديُّ الدار، إمامُ المحدثين، والنَّاصرُ للدين، والمناضلُ عن السنَّة، والصابرُ في المحنة، حملَت به ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 93: عن عبد الله بن الإمام أحمد. (¬2) في الإكمال 2/ 563. (¬3) في (خ) و (ت): قال الخطيب. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) تاريخ بغداد 6/ 92. (¬5) في تاريخ دمشق 2/ 120 (مخطوط). (¬6) في (خ) و (ف): قال المصنف رحمه الله. والمثبت من (ب). (¬7) الصحاح (شيب). (¬8) الإكمال 2/ 563.

أمُّه بمَرو، وقدمت [به] بغداد وهي حاملٌ به، فولَدتْهُ في سنةِ أربعٍ وستين ومئة، فنشأ بها، وطلب العلم، وسمع من شيوخِها، ثم سافر إلى البلاد؛ الكوفة، والبصرة، والحجاز، ومكَّة، والمدينة، واليمن، والشام (¬1). [وذكره ابن عساكر فقال: ] (¬2) هو أحدُ (¬3) الأعلام [من] أئمَّة الإسلام، سمع بدمشق (¬4) وغيرها. [وذكر جماعةً من شيوخه، قال: ] ولد [أحمد] في ربيع الآخر سنة أربع وستين ومئة، وكان أبوه (¬5) محمد والي سَرخَس، وكان من أبناء الدعوة -[يعني] العباسيَّة- وضُرِب بسبب الدعوة وحُلق (¬6). [وقال ابن عساكر عن صالح بن أحمد قال: ] (¬7) قال أبي: طلبتُ الحديثَ وأنا ابنُ ستَّ عشرة سنة، ومات هُشيم وأنا ابنُ عشرين سنة، وخرجتُ إلى الكوفة سنةَ مات هُشيم، سنةَ ثلاثٍ وثمانين ومئة، وهي أول [سفرةٍ (¬8) سافرت فيها، قال: ] وخرجتُ إلى البصرة سنة سث وثمانين [ومئة]، وخرجتُ إلى سفيان بن عُيينة في سنة سبعٍ وثمانين [ومئة] إلى مكَّة، وقد مات الفضيلُ بن عياض، وهي أوَّلُ سنةٍ حججتُ فيها، وخرجت سنة سبعٍ وتسعين (¬9) إلى عبد الرزاق. [ذكر صفته: قال الحافظ ابن عساكر: كان شيخًا أسمر شديد السمرة، طُوَالًا، مخضوبًا بالحنَّاء. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 90 - 91. (¬2) في (خ) و (ف): وقال ابن عساكر، وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) بعدها في (خ) و (ف): الأئمة. والمثبت من (ب) وتاريخ ابن عساكر 2/ 120 (مخطوط). (¬4) في (ب): وقدم دمشق. (¬5) كذا في (خ) و (ف): وفي تاريخ ابن عساكر 2/ 123 (مخطوط): وجدُّه حنبل بن هلال، ولي سَرْخَس، وكان من أبناء الدعوة ... وانظر تاريخ بغداد 6/ 94. (¬6) بعدها في (خ) و (ف): وكان شيخًا أسمر شديد السمرة طوالًا مخضوبًا بالحناء. وقيل: كان ربعة. وستأتي هذه الجملة في: ذكر صفته. (¬7) في (خ) و (ف): وقال صالح ابنه. (¬8) في (خ) و (ف): وهي أول سفري وخرجت إلى البصرة، والمثبت من (ب). وفي تاريخ دمشق 2/ 126: وهي أول سنة سافرت ... (¬9) في تاريخ دمشق 2/ 127: وأقمت بمكة سنة سبع وتسعين وخرجنا سنة ثمان وتسعين، وأقمت سنة تسع وتسعين عند عبد الرزاق.

وقيل: كان رَبْعَةً (¬1). وقال الخطيب: كان يخضبُ بالحنَّاء والكَتَم خَضْبًا ليس بالقاني، وكان حسن الوجه] (¬2). ذكر طرف من [زهده وورعه: روي عن أبي داود السجستاني قال: ] (¬3) ما رأيتُ أحمدَ بن حنبل ذكر الدُّنيا قَطّ (¬4). [وروى ابن عساكر قال: ] (¬5) لما وليَ صالحٌ ابنه القضاء، كان بينه [وبين أبيه أحمد] (¬6) بابٌ، فسدَّه الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهجره (¬7). قال: وجاءه رجل بعشرةِ آلاف درهم، فردَّها، وجاءه آخر بثلاثةِ آلاف دينار، فردَّها، وكان ينسج التِّكَك، ويتقوَّت [من ثمنها] (¬8). وأَعطَى الإمامُ أحمد رحمة الله عليه رجلًا درهمين ليشتري له بهما كاغَدًا، فاشتَراه، وجعل في الكاغَد خمس مئة دينار، فلمَّا فتحه الإمامُ أحمد وجدَ الدنانير، فسألَ عن بيت الرجل، فدُلَّ عليه، [فقام أحمد، ] فحملَ الكاغَد والدنانير، وأتى إلى بيت الرجل، فوضعَ الجميع بين يديه، فقال له: الكاغَدُ اشتريتُه بدراهمك، فقال: لا آخذه ومضى (¬9). [و] قال عبد الله بن الإمام أحمد رحمةُ الله عليه: ماتتْ أمّ صالح زوجةُ أبي، فقال لامرأةٍ عنده: اذهبي إلى ابنة عمِّي فلانة فاخطبيها لي، قالت: فأتيتها (¬10) فخطبتها عليه، ولها أختٌ عوراء، جالسة [تسمع]، فرجعت المرأة [إلى أحمد] وقالت: قد ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 124. (¬2) تاريخ بغداد 6/ 95. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): ذكر طرف من أخباره. قال أيوب بن داود السجستاني. والمثبت بن حاصرتين من (ب). (¬4) تاريخ دمشق 2/ 139. (¬5) في (خ) و (ف): وقال ابن عساكر. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (خ) و (ف): وبينه. والمثبت من (ب). (¬7) تاريخ دمشق 2/ 144. (¬8) في (خ) و (ف): بها. والمثبت من (ب). وانظر تاريخ دمشق 2/ 145 - 146. (¬9) تاريخ دمشق 2/ 146. (¬10) في (خ) و (ف): قال: فأتتها. والمثبت من (ب).

أجابت، فقال: هل كانت أختُها جالسةً عندها؟ قالت (¬1): نعم، قال: فاذهبي فاخطبي لي أختَها؛ لئلَّا ينكسرَ قلبُها، فخطبَتْها (¬2) فتزوَّجَها. قال عبد الله بن أحمد: فهي أمي، ولدتني وأقامتْ مع أبي عشرينَ سنة، فقالت له أمي: يا ابنَ عمِّي، هل أنكرت مني شيئًا قط؟ قال: لا إلَّا أنَّ نعلك هذه تَصِرُّ (¬3). وقيل: إنَّ المرأةَ المتوفاةَ أمُّ صالح بن أحمد، يقال لها: عباسة بنتُ الفضل، كان الإمامُ أحمد رحمة الله عليه يُثني عليها ويقول: أقامتْ معي [أم صالح] ثلاثين سنة ما اختلفتُ أنا وإيَّاها في كلمةٍ قط. وقال ابن معين: لمَّا خرجنَا إلى عبد الرزاق إلى اليمن حججنَا، فبينا أنا في الطَّواف إذا بعبد الرزاق في الطواف، [قال: ] فقلت لأحمد بن حنبل: قد قرَّبَ اللهُ خطانا، ورَفَّه (¬4) علينا في النفقة، وأراحنا من مسيرة شهر، فقال [له: ] إني نويتُ ببغداد أن أسمع عنه بصنعاء، والله لا غيرت نيَّتي، [قال: ] فخرجنا إلى صنعاء، فنفدت نفقتُه، فعرَض عليه عبد الرزاق دراهمَ كثيرةً، فلم يقبلها، فقال: على وجهِ القرض، فأبا. [قال: ] وعرضنا عليه نفقاتنا، فلم يقبل، [قال ابن معين: ] فاطَّلعنا عليه، وإذا به يعملُ التِّكَك ويفطرُ [على ثمنها (¬5)]. [قال: ] واحتاجَ مرَّةً فأكرى نفسَه للحمَّالين. [قال: وكان معه سطل، فرهنه باليمين عند بقال. وقد رواه ابن عساكر عن سليمان بن داود الشَّاذَكوني قال: ] رهنَ أحمدُ سطلًا باليمين عند بقالٍ وأنا حاضر، وأخذ منه ما يتقوَّتُ به، ثمَّ جاءه بفكاكه، فأخرجَ له سطلين وقال له: انظر أيُّهما سطلك فخذه، فقال: قد اشتبهَ عليَّ، أنتَ في حلٍّ من السطل وفكاكه [قال الشاذكوني: ] فقلت ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): قلت. والمثبت من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): فخطبها. والمثبت من (ب). وانظر الخبر في مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 374. (¬3) في مناقب الإمام أحمد ص 374 عن أحمد بن عبثر أنها أقامت معه سبعًا، وفي رواية بعد أيام. وذكر ابن الجوزي في المناقب ص 375 في خبر آخر عن أبي بكر المَرُّوذيّ قول أحمد: مكثنا عشرين سنة ما اختلفنا في كلمة. (¬4) كذا في (خ) وفي (ف). وفي (ب): ورد. وانظر تاريخ دمشق 2/ 127، ومناقب الإمام أحمد ص 54. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): ويفطر عليها. وانظر تاريخ دمشق 2/ 145.

للبقال: أخرجتَ سطلين إلى رجلٍ من أهل الورع، والسطول تتشابه، فقال: والله إنَّه لسطلُه بعينه، وإنَّما أردتُ امتحانه. [وقيل: وإنت هذه الواقعةُ بمكَّة.] وقال أحمدُ بن محمد التستري: أتى على أحمد ثلاثة أيامٍ ما طَعم فيها بطعام، فبعث إلى صديقٍ له، فاقترضَ منه شيئًا من دقيق، فعرفَ أهلُه شدَّةَ حاجتِه، فخبزوه عاجلًا، فلمَّا وُضِعَ بين يديه قال: كيف خبزتُم هذا بسرعة؟ قالوا: كان تنورُ صالحٍ مسجورًا فخبزناه عاجلًا، فقال: ارفعوه، ولم يأكلْ منه شيئًا؛ لأنَّ صالحًا وليَ القضاء. وقال عبد الله: ما مشى أبي في سوقٍ قط. [وقال عبد الله بن أحمد: ] وبعثَ المتوكِّلُ [إلى أبي] يقول: قد أحببتُ أن أراك وأتبرَّك بدعائك، [قال: ] فخرجنَا من بغداد، فأنزلَنا دار إيتاخ بسامراء، والمتوكل يرانا من وراء الستر، وأمرَ لأبي بثيابٍ ودراهم وخلعة، فبكى أبي وقال: سلمتُ من هؤلاء منذ ستين سنةً، فلمَّا كان في آخر العمر ابتليتُ بهم، ولما جاؤوا بالخلعة لم يمسها، ولا غيرها، فجعلتُها على كتفيه، فما زال يتحرَّك حتى رَمى بها، ثم عدنا إلى بغداد ومرض أبي. [وذكر الحافظ ابن عساكر عن المُزَنيّ عن الشافعي قال: دخلت على هارون الرشيد فسالني عن اليمن فقلت: ] (¬1) تركتُها شاغرةً من حاكم وتحتاجُ إليه، فانظر رجلًا تولِّيه قضاءها، فلمَّا خرجَ من عنده اجتمعَ بأحمد وقال: إنِّي كلَّمتُ هارون أن يولي على اليمن قاضيًا، وأشرتُ بكَ (¬2)، فتهيّأ حتى أدخِلَكَ عليه، فقال له أحمد: إنَّما جئتُ إليك لأقتبسَ منك العلم، تأمرني أن أدخلَ لهم في القضاء، ما كان هذا الظنَّ بك، وذكرَ الأحاديثَ الواردةَ في النهيِ عن القضاء، فقال: إنَّما قصدتُ نفعَ الناس، فيقال: إنه لم يعدْ إلى الشافعي بعدَها. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وقال المزني: لما دخل الشافعي على الرشيد مسألة عن اليمن فقال. (¬2) في تاريخ ابن عساكر 2/ 131: وإني قد اخترتك.

[ذكر عبادته وخوفه: ] وقال صالح: كان أبي يصلِّي كلَّ يومٍ وليلةٍ ثلاث مئة ركعة، ويقومُ الليل، فلمَّا مرض من الأسواطِ التي ضُرِبها ضَعُفَ، فصار يصلِّي كلَّ يومٍ وليلةٍ خمسين ومئة ركعة، وكان قد بلغَ الثمانين أو قاربها، وكان كل يومٍ يقرأ سُبع القرآن، ويسردُ الصوم دائمًا. وحَكى عنه المروذي (¬1) قال: كان يقول: الخوفُ يمنعُني من الطعام والشراب فما أشتهيه. [قال: ] وبال في مرض موته الدم، فحُمِل ماؤه إلى الطبيب، فقال: هذا ماء رجل قد فَتَّت [الخوفُ] كبدَه؟ وقال أبو [بكر] الخلَّال: لما استزارهُ المتوكِّل، [بعث إليه] (¬2) مالًا فتصدَّق به، وسأله أن يحدِّث أولاده فحلفَ أن لا يحدِّثَ، ومرضَ فلم يحدث حتى مات. [والله أعلم بالصواب.] ذكر وفاته: [حكى الخطيب عن المرُّوذي قال: ] مرض [أحمد] ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول [سنة إحدى وأربعين ومئتين] (¬3) فلمَّا كان يوم الجمعة قبض في صدر النهار، وكان مرضُه تسعةَ أيَّام وبعضَ العاشر، وكانَ بعض ولدِ الفضل بن الربيع قد أعطاهُ وهو في الحبسِ ثلاثَ شعرات من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأوصى أنْ يجعل في كل عينٍ شعرة وعلى لسانه شعرة. وبلغه أن طاوسًا كان يكره الأنين فما أنَّ الإمام أحمد إلَّا في الليلة التي مات فيها. [وحدثنا غير واحد عن الفضل بن ناصر بإسناده إلى محمد بن عبد الله بن عمرويه قال: سمعت عبد الله بن الإمام أحمد قال: ] لما حضرت أبي الوفاة جلست [عند رأسه وبيدي] (¬4) الخرقة؛ لأشدَّ بها لَحيَيهِ (¬5)، فجعل يغرقُ ثم يفيق، [ثم يفتح عينيه] ويقولُ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): المروزي والمثبت من (ب). وفي تاريخ دمشق 2/ 155: المروروذي. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): دفع له المتوكل ... (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 490. (¬4) في (خ) و (ف): جلست عنده ومعي. (¬5) في (خ) و (ف): لحيته.

بيده هكذا: لا بعد، لا بعد، ففعل ذلك مرةً ومرةً، فلما كان في الثالثة، قلت له: يا أبه، أيُّ شيءٍ هذا الذي قد لَهِجْتَ به في هذا الوقت؟ فقال: يا بنيّ، ما تدري؟ قلت: لا، قال: إبليسُ قائمٌ بحذائي، عاضٌ على أنامله يقول: يا أحمد [قد] فُتَّني، فأقول: لا بعد، حتى أموت. [وحكى الخطيب عن بنان بن أحمد قال: ] (¬1) كانت الصفوفُ من الميدان إلى القنطرة بباب القطيعة، وحُزِرَ من حضرها من الرجال فكانوا ثمان مئة ألف رجل، ومن النساء ستون ألفًا (¬2)، غير من كان في الطرق وعلى الأسطحة، ومُسِحَت مواضعُهم، فكانت مقدار ألف ألف إنسان. [قال: ] وأسلمَ من اليهود والنصارى [والمجوس] أربعة وعشرون ألفًا (¬3)، و [في روايةٍ: ] وقع النَّوْحُ في الطوائفِ كلها؛ المسلمين، واليهود، والنصارى (¬4)، والمجوس، وصلَّى عليه محمد بن طاهر، وعاش سبعًا وسبعين سنة. [وحكى ابن عساكر عن أحمد أنه قال -أو كان يقول-: ] (¬5) بيننا وبينهم يوم الجنائز (¬6). قلت: يعني أهلَ البدع. ذكر ما رؤى له من المنامات: [حكى الخطيب عن محمد بن خُزَيمة الكنديّ (¬7) قال: ] (¬8) رأيتُ [أبا عبد الله] أحمد بن حنبل بعد موته [في المنام] كأنَّه في روضةٍ، وعليه حُلَّتان خضراوان، وعلى رأسهِ تاجٌ من النور، وهو يمشي مشيةً لم أكنْ أعرفُها [له]، فقلت: يا أبا عبد الله، ما هذه المشية؟ قال: مشية الخدَّام في دار السلام، قلت: فما هذا التاج الذي على رأسك؟ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وقال بنان بن أحمد. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬2) تاريخ بغداد 6/ 103، ومناقب الإمام أحمد ص 503 - 504. (¬3) في تاريخ بغداد 6/ 104، وتاريخ دمشق 2/ 160، ومناقب الإمام أحمد ص 510: عشرون ألفًا. بدل: أربعة وعشرون ألفًا. (¬4) بين كذب هذا الخبر ونكارته الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 11/ 343، وفي تاريخ الإسلام 5/ 1068، فانظر كلامه ثمة. (¬5) في (خ) و (ف): وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬6) تاريخ دمشق 2/ 159 - 160. (¬7) كذا في (خ) و (ت) و (ب)، وفي تاريخ دمشق 2/ 161: الإسكندراني. (¬8) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): قال محمد بن خزيمة الكندي.

فقال: قَرَّبني ربِّي إليه، [وأدناني، ] وتوَّجني بهذا التاج، وألبسني نعلين من ذهب، ثم قال: يا أحمد، هذا [تاج الوقار] توَّجتُك به لقولك: القرآن كلامي [مُنَزَّل] غيرُ مخلوق، يا أحمد، ادعوني بالكلمات التي كنت تدعوني بهنّ [في الدنيا]، فقلت: يا ربّ، بقدرتكَ على كلّ شيء، لا تسألني عن شيء، وهبْ لي كلَّ شيء، فقال: قد فعلت. وحكى الخطيبُ عن رجلٍ أنَّه رأى على كل قبر قنديلًا فقال: ما هذا؟ فقيل له: أما علمت أنه نُوِّرَ لأهلِ القبور قبورُهم بنزول هذا الرجل [بين ظهرانيهم] (¬1)، وقد كان فيهم من يعذَّب فرُحِم. [وحكى الخطيب أيضًا عن بُنْدَار قال: ] (¬2) رأيتُ عبد الرحمن بن مهدي (¬3) [في المنام]، فقلتُ: ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال: غفر لي، وفي كمِّه شيء، فقلت: أي شيء [الذي] في كمِّك؟ فقال: قُدِم بروحِ أحمد بن حنبل (¬4)، فأمرَ الله جبريل أن ينثرَ عليها الدر والجوهر (¬5) والزبرجد، وهذا نصيبي منه. [قال الخطيب: ويشبه أن يكون بُنْدار رأى هذا المنام عند موت أحمد بن حنبل. قلت: وبينَّا أن موت عبد الرحمن بن مهدي تقدم على موت أحمد بن حنبل لأن ابن مهدي مات في سنة ثمان وتسعين ومئة، وقد ذكرناه. وروى ابن عساكر عن أحمد بن محمد الكندي قال: ] رأيت أحمد [بن حنبل] في المنام فقلت: ما فعلَ الله بك؟ فقال: غَفَر لي، وقال لي: يا أحمد، ضُربتَ فيَّ، قلت: ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): بينهم. والمثبت من (ب). وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 2/ 160 من طريق الخطيب البغدادي. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال: بندار. (¬3) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وهو خطأ، ونص الخبر -كما في تاريخ بغداد 10/ 280 ترجمة سلامة بن سليمان: قال بندار: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: صف لي الثوري، قال: فوصفه لي، فسألت الله أن يرينيه في منامي، فلما أن مات عبد الرحمن رأيته في الصورة التي وصفها لي عبد الرحمن ... فالذي رآه بندار في منامه هو سفيان الثوري لا عبد الرحمن بن مهدي. والله أعلم. (¬4) في (ب) -وما سلف بين حاصرتين منها-: لما قدم أحمد بن حنبل تزوج. وهو تحريف. (¬5) بعدها في (خ): واللؤلؤ.

نعم يا رب، فقال: هذا وجهي فانظر إليه، فقد أبحتُك ذلك (¬1). ذكر ثناء العلماء عليه: روى [الحافظ] ابن عساكر عن الشافعيّ [قال: ] لمَّا قدم مصر قال أو سئل: من خلَّفتَ بالعراق؟ فقال: ما خلفت به أعقلَ ولا أفقهَ ولا أزهدَ ولا أورعَ [ولا أتقى] (¬2) من أحمد بن حنبل. وحكى [الحافظ ابن عساكر أيضًا] عن علي بن عبد العزيز [الطلحي] قال: قال لي الربيع: خرجَ الشافعي إلى مصر وأنا معه، فقال: خذْ كتابي هذا، واذهبْ به إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل، [وأتني بالجواب، فمضيتُ إلى بغداد، ودخلت على أحمد]، فناولته الكتاب، ففتحه وقال: مرحبًا بكتاب أبي عبد الله، وقرأه، فتغرغرت عيناهُ بالدموع، فقلت: يا أبا عبد الله، ما فيه؟ فقال: يذكرُ أنَّه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يقول [له: ] اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأقرئه منِّي السلام، وقل [له: ] إنَّك سوف تمتحنُ وتُدْعى إلى القول بخلق القرآن، فلا تجبهم، [فسترفع] (¬3) إلى أعلى عليين، وسَينشرُ الله لك عَلَمًا إلى يوم القيامة. قال الربيع: فقلتُ له: البشارة، فخلعَ قميصَه الذي يلي جسدَه، ودفعَه، وكتب لي جوابَ الكتاب، وعدتُ إلى مصر، فناولتُه الشافعي فقال: أيُّ شيءٍ أعطاك؟ قلت: ثوبه الذي على جسدِه، فقال الشافعيُّ: ليس نفجعك فيه، ولكن اغسلهُ، وادفَع إليَ ماءه؛ لأتبرَّكَ به. وحكى [ابن عساكر أيضًا] عن يزيد بن هارون قال: تنحنحَ أحمدُ يومًا في مجلس يزيد بن هارون، وكان يزيد قد أضر، فقال [يزيد: ] من هذا؟ قالوا: أحمد بن حنبل، قال: هلا أعلمتموني أن أحمد ها هنا حتى لا أمزح (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 164 من طريق الخطيب البغدادي، وهو في تاريخ بغداد 6/ 102. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وليس فيها قوله: ولا أزهد. وانظر تاريخ دمشق 2/ 130 - 131. (¬3) في (خ) و (ف): فترفع. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) كذا وقع الخبر في (ب) و (خ) و (ف). وسياقه كما في تاريخ دمشق 2/ 128 - 129: ... خلف بن سالم يقول: كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مع مستمليه فتنحنح أحمد بن حنبل -وكان في المجلس- فقال=

قال: وقال ابن مهدي: ما نظرتُ إلى أحمدَ إلا وذكرتُ سفيان الثوري. وسُئل ابن معين عن الإمام أحمد بن حنبل فقال: والله ما رأيتُ مثله (¬1). وقال البيهقي: قال الشافعي: ما تركت بالعراق من يشبه أحمد بن حنبل. [قال البيهقي: إنما قال الشافعي هذا عن تجربة.] (¬2) وقال ابن عساكر: قال الحسن بن الربيع: ما شبهتُ أحمد إلَّا بابن المبارك في هيئته وسمته وزهده. ولولا أحمد بن حنبل لأحدثُوا في الدين (¬3)، فقال قتيبة بن سعيد: لو أدرك أحمد عصر الثوري ومالك والليث والأوزاعي لكان هو المقدَّمَ عليهم. [قال: ] وأحمد إمامُ الدنيا، ولولاه لمات الورع، وما أعظم منَّةَ أحمد على جميعِ المسلمين، إنَّ أحمد قام في هذا الأمر مقام النبوة (¬4). قال: وقال محمد بن إسحاق الحنظليّ (¬5): أحمد حجَّةُ الله على عباده. قال: وقال عليُّ بن المديني: إنَّ الله أعزَّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث أبو بكر - رضي الله عنه - يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة (¬6). قال الميموني: فلما سمعتُ ذلك من ابن المدينيِّ أنكرتُه (¬7)، فأتيت أبا عبيد القاسم ¬

_ = يزيد: من المتنحنح؟ فقيل له: أحمد بن حنبل. فضرب يزيد بيده على جبينه وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هاهنا حتى لا أمزح. (¬1) تاريخ دمشق 2/ 129. (¬2) تاريخ دمشق 2/ 131. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) قوله: ولولا أحمد بن حنبل لأحدثوا في الدين. من قول قتيبة بن سعيد. وتمام قوله كما في تاريخ دمشق 2/ 131: لولا الثوري لمات الورع، ولولا أحمد بن حنبل لأحدثوا في الدين. (¬4) انظر تاريخ دمشق 2/ 132، والكامل. (¬5) في تاريخ بغداد 6/ 96، وتاريخ دمشق 2/ 133: .. محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: سمعت أبي يقول ... وذكره. (¬6) تاريخ دمشق 2/ 133. (¬7) قول الميموني هذا، إنما قاله اعتراضًا على قول علي بن المديني: ما قام أحد في الإسلام ما قام به أحمد بن حنبل ... فهذا القول هو الذي تعجب منه الميموني وسأل عنه أبا عبيد. وانظر تاريخ دمشق 2/ 133.

ابن سلَّام، فذكرتُ له ذلك، فقال: إذًا يخصمك، قلت: بأيِّ شيء؟ قال: لأنَّ أبا بكرٍ وجدَ على أهل الردَّة أنصارًا وأعوانًا، وأحمد لم يجد ناصرًا، بل بذلَ نفسَه لله، وهل في الإسلام مثل أحمد؟ ! قال: وكان علي بن المدينيِّ يقول: سيدي أحمد بن حنبل لا يحدِّثُ إلَّا من كتاب، وأنا كذلك (¬1). قال: وبعثَ أحمدُ بن حنبل إلى ابن معين يقول له: قد بلغني أنَّ ابنَ عُلَيَّة يكرهُ أن يقال له: ابن عُلَية، وأنت تقوله، فقال لرسوله: أقرئه منِّي السلام، وقل له: قبلنا منكَ يا معلِّم الخير (¬2). قال: وقال أبو عُبيد القاسم: ليس في شرق الأرض (¬3) وغربها مثل أحمد بن حنبل. قال: وسُئِلَ بشرُ بن الحارث عن أحمد بن حنبل فقال: أُدخِلَ الكيرَ، فخرجَ ذهبًا أحمر. وكان يدعو له (¬4). [قال: وقال الفلَّاس، واسمه محمد بن هارون: ] (¬5) إذا رأيتَ إنسانًا يقعُ في أحمد، فاعلم أنَّه مبتدع. قال: وقال عبد الله بن أحمد: سمعتُ أبي [أحمد] يقول: ما استفادَ الشافعي منَا أكثر ممَّا استفدنا منه، وكلُّ شيءٍ في كتاب الشافعيّ: حدَّثنا الثقة، فهو أبي (¬6). وحكي عن المُزَنيّ (¬7) أنه قال: أحمد بن حنبل وأبو بكر يومَ الردَّة، وعمر يومَ السقيفة، وعثمان يومَ الدَّار، وعليٌّ يومَ صِفِّين. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 134. (¬2) تاريخ دمشق 2/ 135. وهذا الخبر ليس في (ب). (¬3) في (ب): الإسلام. بدل: الأرض. وانظر تاريخ دمشق 2/ 133. (¬4) تاريخ دمشق 2/ 137. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال محمد بن هارون الفلاس. (¬6) تاريخ دمشق 2/ 142. وانظر في تحقيق معنى قول الشافعي: قال الثقة. ما قاله السبكي في طبقات الشافعية 2/ 30. (¬7) في تاريخ دمشق 2/ 148: أبو إبراهيم المديني، وفي مختصر تاريخ دمشق 3/ 250: أبو إبراهيم بن المزني.

قال: وقال رجل من أهل العلم والفضل يُكْنَى بأبي جعفر في العشية التي دُفِنَ فيها الإمام أحمد رحمه الله: أتدرونَ من دفنَّا اليوم؟ قالوا: من؟ قال: سادس خمسةٍ، قالوا: من؟ قال: الخلفاءُ الأربعة، وعمر بن عبد العزيز. يعني كلَّ واحدٍ في زمانه (¬1). قال: وقال عليُّ بن المديني: أحمدُ أفضل من سعيد بن جبير؛ لأنَّ سعيدًا كان له نظراءُ في زمانه، وما لأحمد في الدنيا نظير (¬2). وحكى عن سَلَمَةَ بن شَبيب قال: كنَّا عند أحمد بن حنبل في أيَّام المعتصم، فجاء شيخٌ، فسلَّم وقال: أيُّكم أحمد بن حنبل؟ فأشرنا إليه، فقال له: جئتُك في [البرِّ و] البحر من أكثر من أربع مئة فرسخ؛ رأيت الخضرَ في منامي ليلة جمعة، فقال: أتعرفُ أحمد بن حنبل؟ قلت: لا، قال: فأتِ بغداد وسلِّم عليه (¬3)، وقل له: أخوكَ الخضرُ يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إنَّ ساكنَ السماء الذي على عرشه راضٍ عنك، والملائكةُ راضونَ عنك؛ بما بذلتَ نفسكَ لله تعالى. [وفي رواية: ساكن العرش والملائكة راضونَ عنك بما صبرت لله تعالى] (¬4)، فقال له أحمد: ألكَ حاجة؟ فقال: والله ما جاء بي حاجةٌ من أربع مئة فرسخ إلَّا هذا، كانت عندي أمانةٌ أدَّيتُها، ثمَّ انصرفَ، فقال أحمد [بن حنبل: ] لا قوَّةَ إلَّا بالله العليِّ العظيم. وقال: قال سفيان بن وكيع: من علي أحمد [بن حنبل] فهو فاسق (¬5). وقال ابن أعين: [من الكامل] أضحى ابنُ حنبلَ محنةً مأمونةً ... فبحبِّ أحمدَ يعرفُ المتنسِّكُ ومتى رأيتَ لأحمد متنقصًا ... فاعلم بأنَّ سُتورَهُ ستهتَّكُ وزاد عليها ابن عساكر فقال: وقال أبو عبد الله البوشنجيّ: [من الكامل] إنَّ ابن حنبلَ إنْ سألتَ إمامُنا ... وبه الأئمَّة في الأنامِ تمسَّكُ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 148. ومن قوله: وحكي عن المزني ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) تاريخ دمشق 2/ 151. (¬3) في تاريخ دمشق 2/ 151: فأت بغداد وسل عنه. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) تاريخ دمشق 2/ 154.

خلف النبيَّ محمدًا بعد الأُلى ... كانوا الخلائفَ بعدهُ فاستهلكوا (¬1) قال: وكان أحمد إذا حضرَ عند ابن عُلَيَّةَ قدَّمه فيصلِّي به. قال: وضحك يومًا رجل عند ابن عليَّة فقال له: ويحكَ، تضحكُ وعندي أحمد بن حنبل؟ ! لا أمَّ لك. وقال عليُّ بن خشرم: سُئِلَ بشر الحافي عن أحمد فقال: مثلي يُسألُ عن أحمد، إنَّما أحمدُ يُسألُ عني، حفظَه الله من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه و [عن] شماله. قال: وقال أبو حاتم الرازيّ: إذا رأيتُم الرجلَ يحبُّ أحمد [بن حنبل]، فاعلموا أنَّه صاحبُ سنة. ذكر حجاته: [قد ذكرنا عن ابن عساكر عن أحمد أنه قال: خرجت إلى سفيان بن عينية في سنة سبع وثمانين ومئة إلى مكة، فَقَدِمناها وقد مات الفضيل بن عياض، قال: وهي أول سنةٍ حججتُ فيها، وأقمت بمكَّة سنة (سبع وتسعين، وخرجنا سنة ثمان وتسعين وأقمت سنة) (¬2) تسعٍ وتسعين ومئة عند عبد الرزاق، قال: و] (¬3) حججتُ خمس حجج، منها ثلاث راجلًا، أنفقتُ في إحداهنَّ ثلاثين درهمًا، وفي رواية: عشرين درهمًا. [وحكى ابنُ عساكر قال: كان أحمد بن حنبل امتحن هو وابن نوح، وحُبِسَا بصور (¬4). وهو وهم، وما امتحن أحمد إلا ببغداد وسرَّ من رأى والرقَّة. وقد ذكرناه. وقال ابن عساكر: وقد اجتاز أحمدُ بدمشق وأعمالها] (¬5). ذكر مسانيده: طافَ الدُّنيا، ورَوى عن خلقٍ كثير، منهم الوليد بن مسلم، وسفيان بن عُيينة، وهُشيم بن بشير، وإسماعيل بن عُلَيَّة، ويحيى بن سعيد القطَّان، وعبد الرحمن بن مَهْدي، وإبراهيم بن سَعد الزُّهري، ووَكيع بن الجرَّاح، وأبو معاوية الضرير، وعبد ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 155، ومن قوله: وقال ابن أعين ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) ما بين قوسين من تاريخ دمشق 2/ 127. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حججت ... (¬4) كذا في (ب)، وما بين حاصرتين منها. ولعلها: بطرسوس. انظر مناقب الإمام أحمد ص 392. (¬5) تاريخ دمشق 2/ 121.

الرزاق، ويزيد بن هارون، وجماعة يطولُ ذكرهم. و[روى عنه] (¬1) أحمد بن الحسن الترمذي، وإبراهيم الحربيّ، وأبو داود السجستاني، والبخاري، ومسلم، وأبو زرعة الدمشقي، [وأبو زرعة] (¬2) وأبو حاتم الرازيان، وجمٌّ غفير، وآخرُ من روى عنه أبو القاسم البغويّ. وقال أبو نصر أحمد بن محمد الكَلَاباذي: روى البخاري عن أحمد بن الحسن الترمذيّ، عن أحمد بن حنبل، ولم يحدِّثْ عن نفسِه بشيء (¬3). وقال صالح ابن الإمام أحمد: إنَّ البخاريَ لما نُسِبَ إليه القولُ بالوقف في القراءة (¬4)، هجرَهُ الإمامُ أحمد، ولمَّا قَدِم بغداد والإمام أحمد يحدِّثُ بجامع الرُّصَافة، جلسَ البخاريُّ في مجلسه، فلمَّا رآه الإمامُ أحمد سكت ونزل من مكانه، فيقال: إنَّه لم يسمع من الإمام أحمد إلَّا حديثًا واحدًا (¬5). [ذكر محفوظاته: قد ذكرنا في صدر الكتاب أنَّه] جمعَ (¬6) المسند من ألف ألف حديث، وصنَّف "التفسير" وهو مئة ألف وعشرون ألف حديث، و"التاريخ"، و"الناسخ والمنسوخ"، [و"جوابات القرآن"، و"المناسك الكبير والصغير"]، وغير ذلك. وقال إبراهيم الحربي: كان أحمد يحفظُ ألف ألف حديث (¬7) [وكأنَّ الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء، ويمسك عمَّا شاء. وذكر الخطيب بمعناه، وحكى أيضًا عن عبد الله بن أحمد أنه قال: كان أبي يحفظ ألف ألف]. فقيل ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. انظر تاريخ دمشق 2/ 120 - 121. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬3) رجال صحيح البخاري 1/ 43. (¬4) كذا في (خ) و (ف). ووضع فوقها في (خ): كذا. (¬5) من قوله: ذكر مسانيده إلى هنا ليس في (ب). (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وجمع الإمام أحمد رحمه الله ... (¬7) هذا الكلام لم أقف عليه لإبراهيم الحربي، وإنما هو لأبي زرعة الرازي. انظر تاريخ بغداد 6/ 100، ومناقب الإمام أحمد ص 85. والكلام الذي بعده لإبراهيم الحربي، فقد أورد ابن الجوزي في صفة الصفوة 2/ 337 عنه قال: رأيت أحمد =

له: وما يُدريك؟ قال: ذاكرتُه فأخذتُ عليه الأبواب (¬1). وقال إبراهيم الحربي وقد سئل: أيُّما كان الشافعيّ أعرف بالحديث أو أحمد؟ فقال: بينهما كما بين المسندين (¬2). ذكر نبذة من كلامه رحمة الله عليه: [حكى أبو نُعَيم عنه أنَّه] كان يقولُ في دبر كلِّ صلاة: اللهمَّ كمَا صُنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن ذلِّ السؤال لغيرك (¬3). وقال عبد الله ابن الإمام أحمد (¬4) رحمة الله عليهما: سُئل أبي عن التوكُّل، فقال: هو قَطْعُ الاستشراف بالأياس من الخلق، قيل له: فما الشاهد؟ قال: قصَّة الخليل عليه السلام لما عارضه جبريل [- عليه السلام -]، وقد رُمي من كفَّة المنجنيق، فقال له: ألك حاجة؟ قال: أمَّا إليك فلا، قال: فسل ربك، قال: علمُه بحالي يغنيني عن سؤالي (¬5) (¬6). قال المصنِّفُ رحمه الله: نُبَذُه كثيرةٌ، وإنما اقتصرنَا هاهنا على هذه النبذة، فرحمة الله على أئمَّة الإسلام، فلقد دأبوا في تحصيلِ الآداب، وشيدوا قواعدَ الإسلام؛ طلبًا للثواب، وعمروا قصورَ العلوم، فزينت القباب، ولله درُّ القائل، فلقد سَرَتْ بقوله الركاب: [من البسيط] ¬

_ = ابن حنبل، كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين ... (¬1) قوله: وحكى أيضًا عن عبد الله بن أحمد أنه قال ... هذا القول أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 6/ 100 بإسناده إلى عبد الله بن أحمد عن أبي زرعة الرازي كما قدمت في التعليق السالف. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) من قوله: وقال إبراهيم ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) حلية الأولياء 9/ 233. (¬4) الخبر في مناقب الإمام أحمد ص 257، وتاريخ دمشق 2/ 147 لكن عن أبي يوسف يعقوب بن إسحاق لا عن عبد الله بن أحمد. (¬5) في مناقب الإمام أحمد وتاريخ دمشق: فقال: أحب الأمرين إليَّ أحبهما إليه. وقوله: علمه بحالي يغنيني عن سؤالي، قال ابن تيمية: موضوع. تنزيه الشريعة 1/ 150. (¬6) بعدها في (ب): انتهت ترجمة أحمد بن حنبل، والحمد لله وحده. السنة الثانية والأربعون.

الحسن بن حماد

يا ربعُ فيكَ المها والأُسْدُ أحبابُ ... فقل لنا كُنَاسٌ أنت أم غابُ بين الكثيبين حي أخوهم أدب (¬1) ... محضٌ وإيجازُهم في القول إسهابُ خَطُّوا وأقلامهم خَطِّيَّة سُلُب (¬2) ... فهم على الخيل أميون كُتَّابُ إن أحسنوا كلمًا واخلولقوا ذممًا ... واخشوشنوا شيمًا فالقومُ أعرابُ وقد مدح الإمامَ أحمد جماعة من أصحابه وهو مشهور (¬3). الحسن بن حمَّاد ابن كُسَيب، أبو عليّ الحضرمي، ويعرف بسجَّادة؛ لملازمته السجادة في الصلاة، كان عالمًا (¬4) فاضلًا زاهدًا عابدًا ورعًا من أهل السنة. سُئِل عن رجل حلف بالطلاق أنْ لا يكلِّم كافرًا، فكلَّم من يقول بخلق القرآن، قال: تطلق امرأته. سمع أبا معاوية الضرير وغيره، وروى عنه ابنُ أبي الدنيا وطبقتُه، وتوفي ببغداد وكان ثقة (¬5). محمد بن محمد ابن إدريس، أبو عثمان الشافعيّ، ولي قضاء الجزيرة، وحدَّثَ هناك. واجتمع بالإمام أحمد بن حنبل، فقال له: أبوك من الستَّةِ الذين أدعو لهم وقت السَّحر. وللشافعيِّ رحمةُ الله عليه ولدٌ آخر اسمه محمد، توفي صغيرًا بمصر سنةَ إحدى وثلاثين ومئتين. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). ولعلها: حيٌّ قولهم أدب. (¬2) في (خ) و (ف): خطوا بأقلامهم خطية سلبت. والمثبت من المدهش ص 144 - والبيتان الثالث والرابع فيه- والخطيةُ: الرماح. لسان العرب (خطط). (¬3) بعدها في (ف): فكذلك (بياض) هاهنا. (¬4) في (خ): عاقلًا. (¬5) تاريخ بغداد 8/ 248، والمنتظم 11/ 289. وترجمته والتي بعدها ليستا في (ب).

أبو غياث المكي مولى جعفر بن محمد

سمعَ صاحبُ هذه الترجمة أباه والإمام أحمد وغيرهما، وكان ثقةً (¬1). أبو غياث المكي مولى جعفر بن محمد قال أبو جعفر محمدُ بن جرير الطبريّ: كنت بمكَّة [في] سنة أربعين (¬2) [ومئتين]، فرأيت خُرَاسانيًّا ينادي: يا معشر الحُجَّاج، من وجد هِميانًا فيه ألفُ دينار فردَّه [عليَّ] أضعفَ الله له الثواب، [قال: ] فقام إليه شيخ من أهل مكَّة كبير من موالي جعفر بن محمد، فقال [له: ] يا خراسانيّ، بلدُنا فقيرٌ أهلُه، ضعيف حالُه، أيَّامه معدودةٌ، ومواسمُه منتظَرة، [و] لعله يقعُ بيد رجلٍ مؤمنٍ يرغبُ فيما تبذلُه حلالًا يأخذه، ويردُّه عليك، فقال الخراسانيُّ: وكم يريد؟ فقال: عُشرهُ، مئة دينار [ويردُّه]، قال: لا أفعل، وأحيلُه على الله تعالى، وافترقا. قال الطبري: فوقع لي أنَّ الشيخَ [صاحب القريحة، و] الواجد للهميان، وكان كما ظننت، فأتى بابًا فدخله وقال: يا لبابة، فقالت: لبَّيك يا أبا غياث، فقال: قد وجدتُ صاحب الهِميان، وأخبرها بما جرى، ثمَّ قال: ولا بدَّ من ردِّه، فقالت: نُقَاسي معك الفقر منذ خمسين سنة، ولك أربعُ بنات وأختان وأنا وأمي، وأنت تاسعُ القوم، أشبِعنا واكسُنا، فلعلَّ الله يغنيك فتعوِّضه، فقال: لستُ أحرقُ حشاشتي بعد ستٍّ وثمانين سنةً بالنار. قال: وانصرفت، فلمَّا كان من الغد، إذا بالخراساني يقول: يا معاشر الحُجَّاج ووفد الله من [الحاضر والبادي] (¬3)، من وجدَ هِميانًا فيه ألفُ دينار وردَّه أضعفَ الله له الثواب، فقام الشيخ فقال: يا خراسانيّ، قد قلتُ لك بالأمس ونصحتك، وبلدنا والله قليلُ الزرع والضرع، وقلتُ لك: تدفعُ إلى واجده عشره مئة دينار، فأبيتَ، فادفع له عشرةَ دنانير، فقال [الخراساني: ] لا أفعل، وأحيلُه على الله. فلما كان اليوم الثالث قال الخراساني مثلَ مقاله الأوَّل، وأجابه الشيخ بمثل ذلك، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 323 - 325، والمنتظم 11/ 289. (¬2) وذكرت هذه القصة بطولها في النسخة (ب) عند أحداث سنة 240 هـ- وانظر التعليق رقم (1) في أحداث تلك السنة- تحت عنوان: وجرت واقعة عجيبة حضرها الطبري. (¬3) في (خ) و (ف): من الحاضرين. والمثبت من (ب).

حتى اقتصر على دينار، وقال: أشتري بنصفه قِربةً أستقي [عليها] (¬1) الماء، وأشتري بالنصف الآخر شاة أحلبُها غداءً لعيالي (¬2)، فقال الخراسانيُّ: لا أفعل، وأحيلُه على الله تعالى، فجذَبه الشيخُ وقال: تعال، خذ هِميانَكَ وأرحنَا منه (¬3)، ومشى الشيخ [وتبعه] (¬4) الخراسانيُّ. قال الطبري: وكنت أكتبُ كتاب "النسب" للزبير بن بكَّار فتركتُ الكتابةَ، وقمتُ فمشيت خلفهما، [فدخل الشيخ بيته، ودخل الخراسانيُّ، ودخلت خلفهما]، فأتى الشيخُ إلى الدرجة، فنبش تحتها وأخرج الهِميان، أسود من [خرق] (¬5) غلاظٍ بخارية، وقال: هذا هميانُك؟ قال: نعم، ففتحَه وصبَّه في حجره، وقلَّبَه وأعاده، وقام فحملَه على عاتقه، ثمَّ أراد الخروج، فلمَّا بلغَ باب الدار، رجع وقال للشيخ: يا شيخ، مات أبي، وترك ثلاثة آلاف دينار، وقال لي: أخرج ثلثها في أحقِّ الناس من الفقراء، والله ما رأيتُ منذ خرجت من خراسان إلى هاهنا رجلًا هو أحق منك بها، فخذ الهِميان، بارك الله لك [فيه]، ثمَّ خرج الخراسانيُّ، وخرجت بعدَه، فعدا أبو غياث [فلحقني] (¬6) وردَّني، وكان شيخًا كبيرًا معصوب الحاجبين، فقال: إلى أين؟ اجلس، فقد عرفتَ خبرنا وأتيت أوَّلَ يومٍ واليوم، وقد سمعتُ أحمد بن يونس اليربوعيّ يقول: سمعتُ مالكَ بن أنس يقول: سمعتُ نافعًا يقول: سمعتُ عبدَ الله بن عمر يقول: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول لعمر وعليّ: "إذا أتاكما الله بهديَّةٍ بغير مسألةٍ ولا استشرافِ نفسٍ فاقبلاها ولا تردَّاها"، وهذه هديَّةٌ من الله تعالى، والهديَّةُ لمن حضر، [ثم صاح: ] يا لبابة ويا فلانة ويا فلانة، فحضر بناتُه وأخواتُه وزوجتُه وأمُّها، فصرنا عشرة، فحل الهِميان، وقال: ابسطوا حجوركنَّ، وما كان لهنَّ قميصٌ، وأقبلَ يعدُّ دينارًا دينارًا، فأصاب كلَّ واحدٍ مئةُ دينار، [وأعطاني مئة دينار، ] وقال: إنَّه حلالٌ، فاحتفظ به. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): بها. والمثبت من (ب). (¬2) في المصادر: يشتري ... يستقي ... ويشتري ... يحلبها ... لعياله. (¬3) في (ب): منك. (¬4) في (خ) (و (ف): ومعه. والمثبت من (ب). (¬5) في (خ) و (ف): خيوط. والمثبت من (ب) والمصادر. (¬6) في (خ) و (ف): خلفي: والمثبت من (ب) والمصادر.

قال الطبريُّ: ووسَّع الله عليَّ، فاشتريتُ الورقَ وغيره، وسافرتُ، [فغبتُ] عن مكَّة إلى سنة ستٍّ وخمسين ومئتين، فسألتُ عن الشيخ، فقالوا: ماتَ بعد ذلك بشهور، يعني في سنة إحدى وأربعين ومئتين، ووجدتُ بناته ملوكًا تحت ملوك، فكنتُ بعد ذلك أنزلُ على أزواجهنَّ وأولادهنَّ، وأحدثهم حديثَ الهميانِ فيأنسونَ بي ويكرموني (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر الخبر بطوله في صفة الصفوة 2/ 260 - 264، والمنتظم 11/ 290 - 293.

السنة الثانية والأربعون بعد المئتين

السنة الثانية والأربعون بعد المئتين [قال الطبري: و] فيها كانت زلازلُ هائلةٌ بقُوْمِس ورَسَاتيقها في شعبان، فهُدِمت الدور، ومات من الناس مما (¬1) سقطَ [عليهم] من الحيطان وغيرها بشرٌ كثيرٌ، ذُكِرَ أنَّ عدَّتَهم بلغت خمسةً وأربعين ألفًا وستةً وتسعين إنسانًا، وكان أعظم ذلك بالدَّامَغَان. [قال: ] وذُكِرَ أنَّه كان بفارس وخراسان والشام في هذه السنة زلازلُ وأصواتٌ منكرة، وكان باليمنِ أيضًا مثلُ ذلك مع خسفٍ كان بها. [وهذا قولُ الطبريّ.] (¬2) وقال محمد بن حبيب الهاشمي: [و] في شعبان زلزلت الدَّامَغَان، فسقطَ نصفُهما على أهلها، وسقطت بلدان كثيرة على أهلها، وسقط نحوٌ من ثلثي بِسْطَام، وزلزلت الرَّيّ، وجُرْجَان، وطَبَرستان، ونَيسابور، وأصبهان، وقُف، وقاشان، وذلك كلُّه في وقتٍ واحد، وتقطعت جبالٌ ودنا بعضُها من بعض، ونبع الماء من موضع الجبال، وسمع الناس [من السماء] أصواتًا عالية، وانشقَّت الأرضُ شقوقًا، كلُّ شقِّ بمقدار ما يدخل الرجلُ فيه. ورُجِمت قريةٌ [يقال لها: ] السويداء بناحية مُضَر (¬3) [بخمسة أحجار]، ووقع منها حجر على خيمة أعرابي، فاحترقت، ووُزِن حجرٌ منها فكان عشرة (¬4) أرطال، فحمل منها أربعةٌ إلى الفُسْطَاط (¬5) وحجرٌ إلى تِنِّيس. وسار جبلٌ في اليمن عليه مزارعُ لأهله حتى أتى مزارع آخرين، فصار فيها. وسقطت صاعقةٌ بالبردان، فأحرقت رجلين، وأصابت ظهرَ ثالث، فاسودَّ منها، وسَقطت في الماء. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ت): فيما، وفي (ب) -وما بين حاصرتين منها-: ممن. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬2) في تاريخه 9/ 207. (¬3) في (خ) و (ت) و (ب) والمنتظم 11/ 295: مصر. والصواب بالمعجمة، والسويداء بلدةٌ مشهورةٌ قرب حرَّان، بينها وبين بلاد الروم. معجم البلدان 3/ 286. (¬4) انظر تلقيح فهوم أهل الأثر ص 90. ووقع في المنتظم 11/ 295: خمسة أرطال. (¬5) في (خ) و (ت): قسطاس. والمثبت من (ب) والمنتظم والتلقيح.

[قال ابن حبيب أيضًا: وحكي عن ابن أبي الوضاح (¬1) أن طائرًا دون الرَّخَمَة وفوق الغراب، أبيض، وقع على دُلْبة ببلد حلب، ] (¬2) لسبع ليال مَضين (¬3) من رمضان، فصاحَ: يا معاشرَ الناس، اتقوا الله، الله، الله، فصاح أربعين صوتًا، ثم طار، وجاء من الغدِ فصاحَ كذلك أربعين صوتًا، وكتبَ صاحبُ البريد بذلك، وأشهدَ خمس مئة إنسان أنَّهم سمعوه. [قال: ] ومات رجلٌ في بعض كور الأهواز في شوَّال، فسقطَ طائرٌ أبيض على جنازته، فصاح بالفارسيَّة أو بالحوزية (¬4): إنَّ الله قد غفرَ لهذا الميِّت ولمن شهده. وقيل: إنَّ هذه الأهوال إنَّما ظهرت في السنة الماضية [التي مات فيها أحمد بن حنبل] (¬5). وفي شوال قتل المتوكل رجلًا عطَّارًا كان نصرانيًّا وأسلم (¬6)، فمكثَ مسلمًا سنين كثيرةً، ثمَّ ارتدَّ، فاستُتيب، فأبى أن يرجعَ إلى الإسلام، فضرب عنقه، وأُحرِقَ (¬7) بباب العامَّة. وفيها خرجت الرُّوم من ناحية شِمشَاط (¬8) إلى الجزيرة وبلاد آمِد وربيعة، وكان عليُّ بن يحيى الأرمني قد غزا الصائفة في العام الماضي، فقتلَ وسبى، فخرجت الروم في إثره، فقتلُوا وسبَوا وأسروا نحوًا من عشرة آلاف إنسان، ورجعُوا إلى بلادهم. [وفيها في رجب مات القاضي أبو حسان الزيادي قاضي الشرقية ببغداد، ومات ¬

_ (¬1) في المنتظم 11/ 295: وذكر علي بن أبي الوضاح. وانظر تلقيح فهوم أهل الأثر ص 90. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ووقع على دلبة ببلد حلب طائر دون الرخمة وفوق الغراب أبيض ... (¬3) لفظة: مضين. ليست في (ب). وانظر تلقيح فهوم أهل الأثر ص 90، ووقع في المنتظم 11/ 295: بقين. (¬4) في المنتظم 11/ 296: بالخوذية وفي التلقيح ص 90 بالجوزية! (¬5) ما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬6) كذا في المنتظم 11/ 296، والكامل 7/ 81، وفي تاريخ الطبري 9/ 207: وفيها قتل المتوكل عطاردًا، رجلًا كان نصرانيًّا فأسلم. (¬7) في (خ) و (ف): وأحرقه. والمثبت من (ب) والمصادر. (¬8) في (خ) و (ف) و (ب): شميصات. وفي الكامل 7/ 81: سميساط. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 207، وتاريخ الإسلام 5/ 986. وانظر معجم البلدان 2/ 362.

الحسن بن [عثمان]

أيضًا الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور] (¬1). وحج بالناس عبدُ الصَّمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام [بن محمد بن عليِّ (ابن عبد الله) بن عباس] (¬2)، وهو والي مكَّة، وحجَّ من العراق جعفر بن دينار، وهو والي طريقِ مكَّة وأحداث الموسم، وحجَّ [أيضًا] من البصرة إبراهيمُ بن مطهر بن سعيد الكاتب الأنباريّ على عَجَلَةٍ تَجرُّها الإبل، وكان ذلك من أعجبِ ما رآه الناس (¬3). [فصل: ] وفيها توفي الحسن بن [عثمان] ابن حماد بن حسَّان، أبو حسَّان الزياديُّ، [القاضي] البغدادي. رحل إلى الأمصار في طلب [العلم و] الحديث، [ويعدُّ في أصحاب الواقدي. وقال الخطيب: ] كان أحدَ الأفاضل العلماء، صالحًا ديِّنًا، عفيفًا كريمًا، جوادًا مفضالًا، من أهل الثقة والمعرفة والأمانة، وليَ القضاء بالشرقية ببغداد [بعد محمد بن عبد الله بن المؤذِّن] في أيام المتوكل، [سنة إحدى وأربعين ومئتين، ] وصنَّف الكتب، وكان فهمًا، وله معرفةٌ بأيَّام الناس، وله تاريخ حسن (¬4). [وكان جوادًا] ولما قدم الشافعيُّ رحمةُ الله عليه بغداد نزل عليه، فأقامَ عنده سنة في أحسن حال، [فلمَّا كان بعد السنة] استأذنه (¬5) الشافعيُّ رحمه الله في الخروج إلى المدينة، فوجَّه الزياديُّ إلى ستَّةٍ من إخوانه ستَّ رقاع يعرفهم ذلك، فما رجعت رقعةٌ منها إلَّا ومعها ألف دينار، فغضب [أبو حسان] الزياديّ، وقال: لا يزالُ الناس في تناقص من (¬6) أفعالهم في حقِّ إخوانهم، ودَفَعَ الدنانيرَ إلى الشافعيِّ رحمه الله، فأخذَها ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وستأتي ترجمتهما قريبًا في وفيات هذه السنة. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وما بين قوسين استدركته من تاريخ بغداد 12/ 306، وذكر الخطيب ثمة أن عبد الصمد أقام الحج في خلافة المتوكل سنة ثلاث وأربعين، وأربع وأربعين، وخمس وأربعين. والله أعلم. (¬3) المنتظم 11/ 296. وفيه: إبراهيم بن مظهر. (¬4) تاريخ بغداد 8/ 339، 341. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ثم استأذنه. (¬6) في (ب): في.

وانصرف (¬1). [قلت: رحمةُ الله على الزياديّ، لو كان في زماننا هذا وبعثَ ستَّ رقاع إلى ست من الأعيان ما رجع مع كلِّ رقعةٍ ولا درهم]. وقد زعم بعضُ الناس أنه من ولد زياد بن أبيه. وليس كذلك، وإنما تزوج أحد أجداده أمَّ ولدِ زياد، فقيل له: الزيادي (¬2). وتاريخُه حسنٌ، جمعَ فيه طُرفًا من أخبار الناس، وكان يقول: لم يُستَعَنْ على الكَذَّابين بمثل التاريخ، [يُقالُ للشيخ، كم سنُّك، وفي أيِّ سنةٍ ولدت؟ فإذا أقرَّ بمولدٍ عرفنا صِدقه من كذبه (¬3). قال أبو حسان: ] فأنا أعملُ في التاريخ منذ ستين سنة. وقال الخطيب: رَأى ربَّ العزة في المنام، فقال له الحربيُّ: بلغني أنَّك رأيتَ ربَّ العزَّة في المنام، فقال: نعم، رأيتُ نورًا عظيمًا لا أقدرُ أن أصفه، ورأيتُ [فيه] شخصًا يُخَيَّلُ لي أنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يشفع في أمته، وسمعت قائلًا يقول: ألم يَكفك أنِّي أنزلتُ عليك في سورة الرعد: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الآية: 6] ثم انتبهت (¬4). [ذكر قصته مع الخراساني: قال الخطيب وإسناده عن أبي سهل الرازي قال: ] (¬5) حدثني أبو حسان الزياديّ قال: أضقتُ إضاقةً شديدةً حتى ألحَّ عليَّ القصَّابُ والخبَّازُ والبقالُ وسائر المعاملين، فبينا أنا ذاتَ يومٍ مفكِّر في حالي، إذ دخلَ الغلام فقال: حاجي من أهل خراسان على الباب يستأذنُ عليك، فأذنتُ له، [فدخل] فسلَّم وقال: أنا رجلٌ غريبٌ أريدُ الحجَّ، ومعي عشرةُ آلاف درهم، وأريدُ أن أودعَها عندك إلى أن أحجّ وأعود، فقلت: نعم، ¬

_ (¬1) لم أقف عليها. (¬2) ذكره أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب بغداد، كما ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق 2/ 461 (مخطوط)، وانظر معجم الأدباء 9/ 24. (¬3) قائل هذا الكلام هو حسان بن زياد، كما في تاريخ بغداد 8/ 340 - 341، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) تاريخ بغداد 8/ 342. (¬5) في (خ) و (ف): وقال أبو سهل الرازي. وما بين حاصرتين من (ب).

فأحضرَها وخرج بعد أن وزنَها وختمَها، فلمَّا خرج فتحتُها، وفرَّقتُها في المعاملين، وقلت: إذا عاد قضيتُه، وإلى أنْ يعود يفرِّج الله، واتَّسعتُ بها، وزال ضيقي، وأنا لا أشكُّ في خروج الخراساني إلى الحج، فلمَّا كان من الغد وإذا به على الباب، فدخل وقال: إنِّي كنتُ عازمًا على الحجّ على ما عَرَّفتُك، فوردَ عليَّ الخبرُ بوفاة والدي، وقد عزمتُ على الرجوع إلى خراسان، وأريدُ المال، قال: فوردَ عليَّ أمرٌ لم يرد (¬1) عليَّ مثلُه أقط، ، وتحيَّرتُ ما أقول له؟ فخطرَ لي أن قلت له: إنَّ منزلي هذا ليس بحرز، ولمَّا أخذتُ المال منك، بعثتُ به إلى مكان حريز، فتعودُ في غدٍ [لتأخذه]، فانصرف، وبقيتُ متحيِّرًا لا أدري كيف أصنع [إن جحدته استحلفني وافتضحت، وإن دافعتُه صاحَ وهتكني]، وبقيت (¬2) ليلتي لم أعرف الغمضَ [فيها]، فلمَّا طلعَ الفجر ركبتُ بغلتي وأطلقتُ عنانَها، ولا أدري أين أتوجَّه، فعبرَت في الجسر، وأنا لا أمنعُها، وأخذَتْ بي نحوَ دار المأمون، وإذا بفارسٍ قد تلقَّاني، والدُّنيا بعد ظلمة، فنظرَ في وجهي، ثم مضى وتركني، ثمَّ رجع وقال: ألستَ الزيادي؟ قلت: بلى، قال: أجب الأميرَ الحسن بن سهل، [فقلتُ في نفسي: وما يريدُ الحسن منِّي؟ ] فسرتُ معه حتى دخلنا عليه وهو جالس، فقال: أبا حسان، ما خبرُك، وما حالك، ولم انقطعت عنا؟ فأخذتُ أعتذر [إليه بأسباب] (¬3)، فقال: دع عنك هذا، فإنِّي رأيتك البارحة في النوم وأنتَ في تخليطٍ كثير، فشرحتُ له حالي وحديثَ الخراسانيّ، فقال لي: قد فرَّجَ الله عنك، فهذه بدرةٌ للخراسانيِّ، وبدرةٌ تتَّسعُ بها، وإذا نفدت أعلمنا حتى نوسِّع عليك. فقبضتُ البدرتين، وقضيتُ الخراسانيَّ، واتَّسعتُ، وفزَج الله تعالى (¬4). توفِّي أبو حسَّان في رجب، وله تسعٌ وثمانون سنة، وأسندَ عن الوليد بن مسلم، وسفيان بن عيينة، وغيرهما، وروى عنه الباغَنْديُّ وغيره، وكان صدوقًا ثقةً (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): لم يكن يرد. (¬2) في (ب): وبت. وما سلف بين حاصرتين منها. (¬3) في (خ) و (ف): في الأسباب. والمثبت من (ب). (¬4) تاريخ بغداد 8/ 342 - 344. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬5) انظر ترجمته أيضًا في سير أعلام النبلاء 11/ 496.

الحسن بن علي بن الجعد

الحسنُ بن عليّ بن الجَعد الجَوهريُّ، القاضي الحنفي، مولى أم سلمة زوجة السفاح. ولي قضاء المدينة للمنصور سنة ثمانٍ وعشرين ومئتين ووالده عليٌّ حيّ. وكان الحسنُ ذا مروءة، ومات هو والزياديُّ في وقت واحد، فقال ابن أبي حكيم: [من الخفيف] سُرَّ بالكرخِ والمدينة قومٌ ... مات في جُمعةٍ لهم قاضيانِ لهفَ نفسي على الزياديِّ حقًّا ... لهفَ نفسي على فتى الفتيانِ (¬1) [وفيها توفي] عبد الله بن أحمد ابن بَشير بن ذَكْوَان، [أبو محمد، ] إمامُ جامع دمشق. [ذكره الحافظ ابن عساكر (¬2) فقال: ] كان يسكن بدرب الهاشميين بدمشق. [وقرأ القرآن على أيوب بن تميم، ثم قرأ عليه محمد بن موسى بن عبد الرحمن الدمشقي]. وقال أبو زُرْعة الدمشقيّ: لم يكنْ بالشامِ ومصرَ والعراق والحجاز أقرأ من ابن ذكوان. ولد سنة ثلاث وسبعين ومئة ومات يوم عاشوراء. [حكاية عجيبة] وقال ابن عساكر: [عن أبي الحسن الغَسَّانيّ قال: ] جاء رجلٌ من قرية الحُرجُلَّة قد زَوَّج أخاه، [وجاء] بطلبِ اللاعبين يلعبون في عرسه، فوجدَ السلطان قد منعهم، فجاء يطلبُ المغبِّرين (¬3) -يعني الذين ينشدون الأشعار- فقال لرجلٍ من الصوفيَّة: دُلَّني على ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 350 - 351. وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬2) تاريخ دمشق 32/ 296 (طبعة مجمع اللغة). (¬3) المغبَّرة: قوم يغبِّرون بذكر الله تعالى بدعاء وتضرع، ويتناشدون بالألحان حتى يطرِّبوا ويرقصوا. انظر لسان العرب (غبر).

محمد بن أسلم بن سالم

المغبِّرين، وكان الصوفيُّ ماجنًا، وكان [عبد الله] بن ذَكْوان جالسًا في مقصورة المنبر بجامع دمشق، فأشار الصوفيُّ إليه وقال: ذاك رئيسُ المغبِّرين، فجاء الرجلُ إلى ابن ذَكْوان، فسلَّم عليه وقال: أنا رجلٌ من أهل الحُرجُلَّة، [فقال: حيَّاك الله، فقال: ] وإنَّ أخي عملَ عرسًا، قال: باركَ الله له فيه، قال: فإنَّه أرسلني أطلبُ له اللاعبين، فقالوا: قد منعَهم السلطان، فقال: قد أحسنَ وأجملَ في منعهم، فقال: وقال لي: [و] إن لم تصبهم فأحضر المغبِّرين، وقد أُرشدتُ إليك، فقيل لي: إنَّك رئيسُهم، فقال ابن ذكوان: لنا رئيسٌ، فإن مَضَى معك جئنا، فقال: وأين هو، فأشارَ إلى هشام بن عمار، وكان جالسًا عند المحراب، فجاء الرجل [إلى هشام] فسلَّم عليه وقال: أنا من أهل الحُرجُلَّة، فقال هشام: ما أبالي من أين كنت، فقال: إنَّ أخي محمل عرسًا، قال: فأيش أعملُ به؟ ! فقال: وقد أرسلني في طلب اللعَّابين، فقال: لا بارك الله فيك ولا فيهم، فقال: وقال لي: إن لم تجد اللعَّابين، فأحضر المغبِّرين، وقد سألتُ عنهم، فقيل لي: إنَّك رئيسُهم، فقال هشام: من دلَّك عليَّ؟ قال: ذاك المجالس، وأشار إلى ابن ذكوان، فقال: قبحك الله وقبَّحَ من دلَّكَ [عليَّ]، ثمَّ قام هشام إلى ابن ذَكْوان وقال له: أَوَقَدْ تفرَّغت لذلك؟ ! قال: نعم، أنت شيخُنا ورئيسُنا، لو مشيتَ معه لمشينا (¬1). [فصل: وفيها توفي] محمد بن أسْلَم بن سَالم أبو الحسن الطوسيُّ، الزاهد العابد، كان يشبَّه بالصحابة. قال إسحاق بن راهويه وكان صديقه: كان يخدمُ نفسَه وعياله ويستقي (¬2) من النهر بالجرار في اليوم البارد، وإنا مَرِضَ لا يُخبر بعلَّته [أحدًا] ولا يَتداوى (¬3). و [قال إسحاق: ] لم أسمع بعالمٍ منذ خمسين سنة كان أشدَّ تمسُّكًا بأثرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 32/ 299 - 300. وما سلف بين حاصرتين من (ب). وانظر ترجمته أيضًا في تهذيب الكمال 14/ 280، ومعرفة القراء 1/ 402. (¬2) في (خ) و (ف): ويسقي. والمثبت من (ب). (¬3) ذكره ابن الجوزي في المنتظم 11/ 302 من كلام محمد بن رافع. وفي كون إسحاق بن راهويه صاحب محمد بن أسلم نظر. انظر حلية الأولياء 9/ 239.

محمد بن رمح بن المهاجر

ورَوى أبو نعيم الحافظ عنه أنَّه كان يقول: ما لي ولهذا الخلق، كنتُ في صلب أبي وحدي، ثم صرتُ إلى بطن أمي وحدي، [ثم خرجتُ إلى الدنيا وحدي، ثم تُقبضُ روحي وحدي، ] ثمَّ أصير في قبري وحدي، ويأتيني منكرٌ ونكير وحدي، ثمَّ أصيرُ إلى القيامة وحدي، فأنا أحاسَبُ وحدي، ويوضع عملي في ميزاني وحدي، [وإن دخلتُ الجنَّة دخلتُها وحدي، ] فمالي وللناس (¬1). وقال محمد بن القاسم: صحبتُه نيِّفًا وعشرينَ سنة، لم أرهُ يصلِّي تطوعًا إلَّا ركعتي الجمعة، ولا يقرأ ولا يسبِّحُ حيث أراه، وسمعته يحلفُ مرارًا: لو قَدرتُ أن أتطوَّعَ حيث لا يراني ملكاي لفعلت (¬2). وكان [يدخل] بيتًا صغيرًا فيبكي، فإذا أرادَ الخروجَ غَسَل وجهه واكتحل، فلا يُرى عليه أثرُ البكاء، وكان يبعثُ إلى أقوامٍ بعطاءٍ وكسوة من الليل، ولا يعلمون من يأتيهم بذلك (¬3). [قال: وكانت وفاته في] هذه السنة (¬4)، ودُفن إلى جانب صديقه إسحاق بن راهويه، وصلى عليه نحو (¬5) من ألف ألف نفر. أسند عن الحُميديِّ، ويَزيد بن هارون، [وقَبيصة، وسعيد بن منصور، ] وخلق كثير، واشتغلَ بالعبادة عن الرواية. [وفيها توفي محمد بن رمح بن المهاجر أبو عبد الله التُّجِيبيُّ البصريُّ. رأيت له بقَرافة مصر مسجدًا حسنًا يقال له: مسجد ابن رمح. وكان موسرًا فاضلًا. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 9/ 241 - 242. (¬2) حلية الأولياء 9/ 243. ومن قوله: وقال محمد بن القاسم ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) حلية الأولياء 9/ 243. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وتوفي هذه السنة. (¬5) في (خ) و (ف): أكثر.

محمد بن عبد الله

حَكى عن مالك بن أنس (¬1)، والليثُ بن سعد، وابن لَهِيعة، وتلك الطبقة. وتوفي في شوال هذه السنة، ورُوي عنه الحديث، وكان ثقةً.] (¬2) محمد بن عبد الله ابن عمَّار بن سَوَادة، أبو جعفر المُخَرِّميّ. ولد سنةَ اثنتين وثلاثينَ ومئة (¬3)، وماتَ في هذه السنة، وكان تاجرًا مُوسرًا من أهل الفضل. قدمَ بغداد، فحدَّثَ بها عن سفيان بن عُيينة وغيره، وكان ثقةً مأمونًا صدوقًا (¬4). * * * ¬

_ (¬1) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 11/ 499: ولم يقع له عنه رواية. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر ترجمته في المنتظم 11/ 304، وتهذيب الكمال 25/ 203. (¬3) كذا في (خ) و (ف). والصواب أنه ولد سنة اثنتين وستين ومئة. انظر تاريخ بغداد 3/ 420. (¬4) تاريخ بغداد 3/ 418 - 421. وهذه الترجمة ليست في (ب).

السنة الثالثة والأربعون بعد المئتين

السنةُ الثالثة والأربعون بعد المئتين فيها خرج المتوكِّل من سامرَّاء لعشرٍ بقين من ذي الحجَّة يريدُ دمشق، فضحَّى (¬1) ببلد، [وقال أبو سليمان بن زبر: سبب قدوم المتوكل دمشق] (¬2) أنَّهم وَصفوا له أنهارَها وقصورَها ومستنزهاتها، فلمَّا رآها أعجبته، فنقل إليها أهله ودواوينه، وعزمَ على المُقَام بها، وشرع في بناء قصرٍ بداريا، وكان ابنُه المنتصر بسامرَّاء، ويقال: إنَّه قال ليزيد بن محمد المهلبيّ: اعملْ شيئًا يَردُّ أميرَ المؤمنين إلى العراق، فعمل: [من الوافر] أظنُّ الشامَ تَشْمَتُ بالعراقِ ... إذا عزمَ الإمامُ على انطلاقِ فإن تدعِ العراقَ وساكنيهِ ... فقد تُبلَى المليحةُ بالطَّلاق (¬3) وبعث [محمد] المنتصر بهما إلى بعضِ القيان تغنِّي بهما بين يدي المتوكِّل. وقيل: إنَّ المنتصر زادَ فيهما: [من الوافر] يقول محمدٌ تفديكَ نفسي ... أمَّا تُبقي عليَّ من الفراقِ فإنْ تظعنْ وتتركني مقيمًا ... فلستُ أسرُّ إلَّا بالتَّلاقِ فلمَّا سمعَ المتوكِّل الأبياتَ، ذكرَ العراق، فعزمَ على الرجوع، وخرجَ إلى الصيدِ فأرادَ جماعةٌ من مماليكه قتلَه، فعاد إلى سامرَّاء، [فكان خروجُه منها -كما ذكرنا- في ذي القعدة، ثم عاد إليها] في صفر سنةَ أربعٍ وأربعين [ومئتين]، وكانت غيبتُه عن العراق ثلاثةَ أشهرٍ وأيامًا. وقال الطبريُّ: إنَّما دَخل [المتوكِّلُ] دمشق في صفر سنة أربعٍ وأربعين (¬4)، لما نذكرُ إن شاء الله تعالى. [فصل: ] وحجَّ بالناس عبد الصمد بن موسى [أيضًا]، وخرجَ بالحجِّ من بغداد جعفر ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فضحك. وهو تحريف. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ الطبري 9/ 209، والمنتظم 11/ 305، والكامل 7/ 83. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 210.

إبراهيم بن العباس

ابن دينار، [وهو] والي طريق مكَّة (¬1). وفيها توفي إبراهيم بن العبَّاس ابن محمد بن صُول، أبو إسحاق الكاتب، مولى يزيد بن المُهَلَّب، أصلُه من خُرَاسَان، كان من أفصح الكُتَّاب وأرقِّهم نثرًا ونظمًا، وكان صُول جدُّ أبيه وفيروز أخوين تركيين ملِكين بجُرجان يدينان بدين المجوسية، فلمَّا دخل يزيد بن المهلَّب جُرجان أمنهما، فأسلم صُول على يده، ولم يزل معه حتى قُتِل. ومن شعر إبراهيم بن العباس: [من البسيط] كم قد تَجرَّعتُ من حُزْنٍ ومن غُصَصٍ ... إذا تجدَّدَ حُزنٌ [هوَّن] (¬2) الماضي وكم غضبتُ فما بَاليتُم غضبي ... حتى رجعتُ بقولٍ (¬3) ساخطٍ راضي أخذهُ من قول العبَّاس بن الأحنف خاله: [من الطويل] تعلَّمتُ ألوانَ الرضا خَوْف هجره ... وعلَّمه حبِّي له كيف يغضبُ ولي ألفُ باب (¬4) قد عرفتُ طريقها ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهبُ وتوفِّي إبراهيمُ في شعبان بسامرَّاء (¬5). ومن رواياته: عن عليِّ بن موسى الرِّضا لمَّا قدم خُرَاسان أنه قال: سألت أبي موسى بن جعفر (¬6): ما بالُ القرآن لا يَزدادُ على الدَّرس والنَّشرِ إلَّا مَلَاحةً؟ فقال: لأنَّ الله تعالى لم يجعله لزمانٍ دون زمان، ولا لناسٍ دون ناس، فهو في كُلِّ زمانٍ جديد، وعند كلِّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 209. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 7/ 31. ومكانها في (خ) و (ف) بياض. (¬3) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد: بقلب. (¬4) في المصادر: ولي غير وجه. (¬5) انظر تاريخ بغداد 7/ 31، والمنتظم 11/ 307، ومعجم الأدباء 16/ 131. (¬6) في تاريخ بغداد 7/ 31: عن علي بن موسى عن أبيه موسى بن جعفر قال: سأل رجلٌ أبي جعفر بن محمد ... (¬7) هذه الترجمة ليست في (ب).

أحمد بن سعيد

أحمد بن سعيد أبو عبد الله، الرِّبَاطِيّ المروزيّ. قدم بغداد في أيام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وجالسَ العلماء وذاكرَهم، قال: لما قدمتُ بغداد جئتُ إلى أحمد بن حنبل فجعلَ لا يرفعُ رأسَه إليَّ، فقلت: يا أبا عبد الله، إنَّه يُكْتَب الحديثُ عنِّي بخُرَاسان، فإن عاملتَني بهذه المعاملة رموا بحديثي، فقال: يا أحمد هل تدر أن يقال يوم القيامة (¬1): أين عبدُ الله بن طاهر وأتباعه؟ فانظر كيف تكون منه، قلت: إنَّما ولَّاني أمرَ الرباط، فلذلك دخلتُ معه، فجعل يكرِّرُ القولَ عليَّ. سمع وَكيع بن الجرَّاح، وعبدَ الرزاق، وخلقًا كثيرًا، وروى عنه البخاريُّ ومسلم في الصحيحين وغيرهما. وكان عالمًا فاضلًا ثقة صدوقًا (¬2). الحارثُ بن أسد أبو عبد الله المُحَاسِبيُّ، أصلُه من البصرة، وسكن بغداد، وكان من جِلَّة المشايحِ، عارفًا بعلم الباطن والظاهر، والأصول والمعاملات والإشارات، جمعَ بين العلوم والحقائق، وله التصانيف المشهورة. وقيل: سمِّي المحاسبي لأنَّه كان يحاسبُ نفسَه دائمًا، وهو أستاذُ أكثر البغداديين. وقال الجنيد: كان أبوه أسد واقفيًّا قدريًّا، مات وتركَ تسعين ألف (¬3) درهم، فلم يأخذ الحارثُ منها درهمًا واحدًا، وكان محتاجًا إلى دانق فضَّة. وقال: قد صحَّت الروايةُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "أهل ملَّتين لا يتوارثان" (¬4) فعوَّضهُ الله تعالى أنَّه إذا مدَّ يده إلى طعامٍ فيه شبهةٌ تحرَّك في إصبعه عِرْقٌ، فلا يتناول منه. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف) وفي تاريخ بغداد 5/ 271 والمنتظم 11/ 306: هل بدٌّ يوم القيامة من أن يقال ... (¬2) أورده ابن الجوزي في المنتظم 11/ 306 في وفيات هذه السنة 243، وقيل في وفاته غير ذلك. انظر تهذيب الكمال 1/ 311 - 312، وسير أعلام النبلاء 12/ 208. وهذه الترجمة والتي بعدها ليست في (ب). (¬3) في الرسالة القشيرية ص 67: سبعين ألف. وانظر مناقب الأبرار 1/ 165. (¬4) أخرجه أحمد (6664)، وأبو داود (2911)، والنسائي في الكبرى (6351)، وابن ماجه (2731).

وقال الجنيد: مرَّ بي يومًا وأنا جالسٌ على الباب، فرأيتُ في وجهه أثرَ الجوع، فقلت: يا عم، لو ملتَ إلينا، فدخلَ الدار، فقمتُ ودخلتُ بيتَ عمي، فأتيتُه بأنواع الأطعمة من عرسٍ حُمِلَ إليهم، فمدَّ يده فأخذ لقمةً فدفعها (¬1) إلى فيه، وجعل يلوكها [ولا] يزدردُها، وقام وخرج وما كلَّمني، فلقيتُه من الغد، فقلت له: يا عم، سررتني ثم نغصتني، فقال: يا بنيّ، أمَّا الفاقة فكانت [شديدة، وقد اجتهدتُ في أن أنال من الطعام الذي قدَّمته إليَّ، ولكن] (¬2) بيني وبين الله علامةٌ، إذا لم يكن الطعام مرضيًّا، ارتفع إلى أنفي منه زفرةٌ (¬3)، فأصابني أمس كذلك، وقد رميتُ اللقمةَ في دهليزكم وخرجت، فقدَّمتُ إليه كسرًا يابسةً، فأكلَ منها، وقال: إذا قَدَّمت إلى فقيرٍ منها شيئًا، فقدِّم مثلَ هذا. ذكر نبدة من كلامه قال: ثلاثةٌ عزيزةٌ أو معدومة؛ حسنُ الوجه مع الصِّيانة، وحسن الخُلُق مع الدِّيانة، وحسنُ الإخاءِ مع الأمانة. وقال: العلمُ يورِثُ المخافة، والزهد يورث [الراحة] (¬4)، والمعرفةُ تورث الإنابة. وخيارُ هذه الأمَّة الذين لا تشغلهم آخرتُهم عن دُنياهم، ولا دنياهُم عن آخرتهم. ومن حَسُنت معاملتُه في الظاهر مع جهد باطنه، أورثَه الله الهداية إليه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. وقال الجنيد: كنتُ أقولُ كثيرًا: عزلتي أنسي، فقال لي الحارث: كم تقول هذا؟ ! لو أنَّ نصفَ الخلق قَرُبوا منِّي ما وجدتُ بهم أنسًا، ولو أنَّ النصفَ الآخر نأوا عنِّي ما استوحشتُ لبعدهم. ¬

_ (¬1) في المصادر: فرفعها. (¬2) ما بين حاصرتين من حلية الأولياء 10/ 75، وتاريخ بغداد 9/ 108 وغيرها. (¬3) في المصادر: زفورة. (¬4) ما بين حاصرتين من طبقات الصوفية ص 58، وحلية الأولياء 10/ 75، ومناقب الأبرار 1/ 166. ومكانها في (ف): بياض، وقوله: والزهد يورث الراحة. ليس في (خ).

وقال: صفةُ العبودية أن لا ترى لنفسك إزاره (¬1). وقال: التسليمُ هو الثبوتُ عند نزولِ البلاء، من غير تغيُّرٍ في الظاهر والباطن. وقال: لكلِّ شيءٍ جوهر، وجوهرُ الإنسان العقل، وجوهرُ العقل العملُ بحركات القلوب في مطالعات الغيوب، وذلك أشرفُ من العمل بحركات الجوارح (¬2). وقال: إذا أنت لم تسمع بالحقِّ كيف تجيب داعيه الجوارحُ؟ ! وقال: القانعُ غنيٌّ وإن جاع، والحارصُ فقيرٌ وإن ملك. وقال: لم تزل العارفونَ تحفرُ الخنادقَ خنادق الرضا، ويغوصونَ في بحار الرجا، يستخرجونَ جواهر الصفا، [حتى (¬3)] وصلُوا إلى الله تعالى في السرِّ والخفا. وقال: أوحى الله تعالى إلى نبيٍّ من أنبيائه: بعيني ما يتحمَّل المتحمِّلون من أجلي، وما يريد (¬4) المكابدون في مرضاتي، فغدًا أكشفُ لهم الحجابَ عن وجهي، فليبشر المصفُّون أعمالهم بالنعيم المقيم، أفتراني أنساهم عملًا (¬5)، وأنا أجودُ على المولِّينَ عني؟ فكيف بالمقبلين عليّ؟ وما غضبتُ من شيء كغضبي (¬6) على من أخطأ ثم استعظمَ ذلك في جنب عفوي، ولو عاجلتُ أحدًا لعاجلتُ القانطين من رحمتي. وقال: الصادقُ هو الذي لا يبالي لو خرجَ كلُّ قدرٍ له في قلوب الخلق من أجل إصلاحِ قلبه، ولا يحبُ أن يطَّلعَ الناسُ على مثاقيل الذرِّ من [حسن] (¬7) عمله. وسئل عن الإنس فقال: التوحُّشُ (¬8) من الخلق. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وقول المحاسبي -كما في طبقات الصوفية ص 59، ومناقب الأبرار 1/ 167 - : صفة العبودية ألا ترى لنفسك ملكًا، وتعلم أنك لا تملك ضرًّا ولا نفعًا. (¬2) كذا، وفي طبقات الصوفية ص 59، ومناقب الأبرار 1/ 167: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر، والعمل بحركات القلوب في مطالعات الغيوب أشرفُ من العمل بحركات الجوارح. (¬3) ما بين حاصرتين من مناقب الأبرار 1/ 167. (¬4) في حلية الأولياء 10/ 80، ومناقب الأبرار 1/ 168: وما يكابد. (¬5) في حلية الأولياء 10/ 80، ومناقب الأبرار 1/ 168: أنسى لهم عملا. (¬6) في (خ) و (ف): فغضبي. والمثبت من حلية الأولياء، ومناقب الأبرار. (¬7) ما بين حاصرتين من مناقب الأبرار 1/ 168. (¬8) في (خ) و (ف): المتوحش. والتصويب من حلية الأولياء 10/ 107، ومناقب الأبرار 1/ 170.

وصنَّفَ كتبًا كثيرةً من الزهديات والإشارات وعلوم المعاملات، قال: ولما صنَّفتُ (¬1) كتاب المعرفة أعجبتُ به، فبينا أنا أنظرُ فيه يومًا متعجِّبًا منه ومستحسِنًا له، إذ دقَّ الباب داق، فقلت: من؟ فقال: فقير، فأذنتُ له، فدخل رجلٌ عليه ثيابٌ [رثَّة]، فقال: يا أبا عبد الله، المعرفةُ حقُّ الحقِّ في الخلق، [أو حقُّ] (¬2) الخلق على الحقِّ؟ [فقلت له: حقٌّ على الخلق للحقّ، فقال: هو أولى أن يكشفَها لمستحقِّها، فقلتُ: بل حقٌّ للخلق على الحق] (¬3) فقال: هو أعدل [من] أن يظلمَهم (¬4) ثم قام وخرج، فأخذتُ الكتابَ فحرقته. وقال إسماعيل بن إسحاق السراج: كان الإمامُ أحمد بن حنبل ينكر على الحارث كلامَهُ في علوم الصوفية، فقال لي يومًا: بلغني أنَّ الحارثَ يتردَّدُ إلى بيتك، فلو أحضرتَه مجلسَك وأجلستني من حيث لا يراني لأسمعَ كلامه، فقلت: نعم، فأجلستُه في مكانٍ بحيث لا يراه الحارث، وهو يرى الحارث، فجاء الحارثُ وأصحابُه فجلسوا، والإمام أحمد في غرفة، وقُدِّم إليه الطعام، فشرعَ الحارثُ يتحدَّث مع أصحابه، فقال أحمد: هذا من السُّنَّة، فلما فرغوا غسلُوا أيديَهم، وحضرت العتمة فصلَّوا، ثمَّ أمر الحارث قارئًا يقرأ آياتٍ من القرآن، فبكى الحاضرون، وقعدوا بين يدي الحارث كأنَّ الطير على رؤوسهم، وهم سكوت، فسألَه بعضُهم عن مسألةٍ، فأجاب عنها من الكتاب والسنَّة، وجعل بعضُهم يبكي، وبعضُهم يصيح، وبعضهم يئنُّ ويتأوه. قال إسماعيل: فصعدتُ الغرفةَ لأتعرَّف أخبارَ الإمام أحمد بن حنبل، وإذا به يبكي وقد كاد أن يُغْشَى عليه، فقلت: كيف رأيتَ؟ فقال: ما أعلمُ أنِّي رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علوم الحقائق مثل هذا الرجل، ولا أنكر من [هذا شَيئًا] (¬5)، ومع هذا فإنِّي لا أرى لك صحبتَهم (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): صنف. (¬2) ما بين حاصرتين من مناقب الأبرار 1/ 169، والطبقات الكبرى للشعراني ص 64. ومكانها في (ف) بياض. (¬3) ما بين حاصرتين من مناقب الأبرار 1/ 169، والطبقات الكبرى ص 64. (¬4) بعدها في (خ) و (ف): لم يكشفها لمستحقيها! (¬5) في (خ) و (ف): بياض بمقدار كلمتين، واستدركتهما من طبقات الشافعية 2/ 279. (¬6) انظر تاريخ بغداد 9/ 109 - 110.

وقال الخطيب: كان أحمدُ ينكر على الحارث خوضَهُ في علوم الكلام، ويصدُّ الناس عنه (¬1). وهجرَه أحمد فاختفَى في دارٍ ببغداد، فماتَ فيها ولم يصلِّ عليه إلَّا أربعة نفر (¬2). قال المصنِّف رحمه الله: وكان الذي ينكره الإمام أحمد عليه كلامَه في الأصول، أمَّا غيره من علوم الحقائق (¬3). والإمام أحمد رحمه الله ماتَ قبل الحارث بمدَّةٍ على ما ذكرنا. وقال الحارث: جلستُ ليلةً في محرابي، فإذا بفتًى من أحسن الناس وجهًا، طيِّبِ الرائحة، فسلَّمَ عليَّ وقعدَ بين يديّ، فقلت: من أنت؟ فقال: واحدٌ من السائحين، أقصد المتعبدين في مَحاريبهم (¬4)، ثم قال: ما أرى لك اجتهاد، فإيش عملك؟ فقلت: كتمانُ المصائب واجتلاب الفوائد، فصاح صيحةً عظيمةً وقال: ما أظنُّ أحدًا بين جنبي المشرق والمغرب بهذه الصفة، فأردتُ أن أزيدَه فقلت: أما علمتَ أنَّ أربابَ الأحوال يتحمَّلون الأثقال ويكتمون الأسرار، فصاح صيحةً أخرى وغُشِيَ عليه، فلمَّا أفاق قام فدخل على المأمون، فقال: من أنت؟ فقال: رجلٌ من السياحين [فكرت فيما عمل الصدِّيقون قبلي] (¬5) فلم أر موعظةً أفضل من موعظة جبَّارٍ ظالم، وأنت والله ظالمٌ، وأنا ظالمٌ إن لم أقل لك: يا ظالم، فأمرَ به المأمونُ فقتل، قال: فبتُّ محزونًا عليه، فرأيتُه في المنام، فقلت: والله لمحزون عليك، فقال: والله يا حارث أتيت (¬6) والله الكاتمين الذين يخفون أحوالهم، ويكتمونَ أسرارهم، فقلت: وأين هم؟ قال: الساعة يتلقونك، وإذا بركبان، فقالوا: يا حارث، أمَّا السائحُ فقد بذل نفسَه لله في الجهاد، فأنزله الله معنا، وأما الذي قتلَه فقد غضبَ الله عليه. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 9/ 109. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 110. (¬3) كذا في (خ) و (ف)! ؟ (¬4) في (خ) و (ف): محارباتهم. (¬5) في (خ) و (ف) بياض بمقدار كلمتين، وما بين حاصرتين من مناقب الأبرار 1/ 171، وانظر إحياء علوم الدين 2/ 355 - 356. (¬6) في (خ): أثيب، والمثبت من (ف)، ومناقب الأبرار 1/ 172.

وأنشد قَوَّال بين يدي الحارث: [من مجزوء الرمل] لم أكنْ يومَ خروجي ... من بلادي بمصيبِ أنَا في الغربةِ أبكي ... ما بكتْ عينُ غريبِ عجبي لي ولتركي ... وطنًا فيه حبيبي فقام الحارثُ وبكى وتواجد حتى رحمَه كلُّ من حضر (¬1). وكان الحارثُ ينشد: [من مجزوء الكامل] الخوفُ أولَى بالمسي ... ءِ إذا تألَّه والحزنْ والحبُّ يحسنُ بالتقيـ ... يِ وبالنقيِّ من الدرنْ والشوق للنجباء والـ ... أبدال عند ذوي الفِطَنْ (¬2) ذكر وفاته: قد حكى الخطيب أنه ماتَ متخفِّيًا، والأصحُّ خلافُه. وقال [جعفر ابن أخي أبي ثور: ] (¬3) حضرتُ وفاة الحارث ببغداد، فقال لنا: إن رأيتُ ما أحبُّ تبسَّمتُ إليكم، وإن لم أر ما أحبّ لم أتبسَّم، فلمَّا كان بعد ساعةٍ نظر إليه وتبسَّم. حدَّثَ الحارثُ عن يزيد بن هارون وطبقته، وروى عنه أبو العباس بن مسروق الطُّوسيُّ وغيره. وللحارث مصنَّفات في الزهد والأصول والديانات (¬4)، والردِّ على المخالفين من المعتزلة والجهميَّة وأهل البدع، وكتبه كثيرةُ الفوائد، جمَّةُ المنافع. ذكر أبو علي بن شاذان يومًا كتاب الحارث في الدِّماء فقال: على هذا الكتاب عَوَّل أصحابُنا في أمر الدماء (¬5) التي جرت بين الصحابة. [وفيها توفي] ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية ص 60، ومناقب الأبرار 1/ 167. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 106. (¬3) في (ف): وقال ثور. وفي (خ) وقال ... (بياض). والمثبت من تاريخ بغداد 9/ 110. (¬4) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد 9/ 105: وفي أصول الديانات. (¬5) في (خ) و (ف): في الدنيا. في الموضعين، وهو تصحيف. والتصويب من تاريخ بغداد.

الوليد بن شجاع

الوليدُ بن شُجَاع ابنِ الوليد بن قيس، أبو هَمَّام السَّكونيُّ، [الكوفيُّ الأصل، البغداديُّ الدار، ] كان صالحًا عفيفًا ديِّنًا ورعًا، توفِّي ببغداد. [وروى أبو نُعيم الأصفهانيُّ عن أبي يحيى مُستملي الوليد قال: ] (¬1) رأيتُ أبا همَّام في المنام وعلى رأسه قناديل [معلَّقة]، فقلت: أبا همام، بم نلتَ هذه القناديل [المعلَّقة]؟ فقال: هذا بحديث الحوض، وهذا بحديثِ الشفاعة، وهذه بحديث كذا، وجعل يعدِّد. سمعَ ابن المبارك وغيره، وروى عنه أبو حاتم الرازيّ، [وأبو القاسم البغويُّ، وعباس الدوريُّ، وغيرهم]، وكان عنده مئةُ ألف حديث عن الثقات، وكان ثقةً (¬2). [وفيها توفي] هارونُ بن عبد الله بن مروان أبو موسى البزَّاز، [المعروف بالحمَّال، ] الحافظ. قال [هارون: ] جاءني الإمام أحمد رحمه الله [ليلًا] فدقَّ عليَّ الباب، فقلت: من [هذا]؟ فقال: أحمد، فبادرتُ إليه، فمسَّاني ومسَّيتُه، وقلت: هل من حاجةٍ يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، شَغَلْتَ اليوم قلبي، قلت: بماذا؟ قال: جُزْتُ عليك اليوم وأنت قاعدٌ تحدِّثُ الناس في الفيء، والناسُ في الشمس بأيديهم الأقلامُ والدفاتر، لا تفعل هذا مرَّةً أخرى، إذا قعدتَ فاقعد مع الناس. توفي في شوال ببغداد. سمع سفيان بن عُيينة، [ورَوْح بن عُبادة، وسَيَّار بن حاتم، وغيرهم]، وأخرجَ عنه مسلم وغيره، وكان [حافظًا] صدوقًا ثقةً (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أبو يحيى مستملي الوليد. (¬2) تاريخ بغداد 15/ 615 - 620، والمنتظم 11/ 309 - 310، وتاريخ دمشق 17/ 826 - 830 (مخطوط)، وتهذيب الكمال 31/ 22 - 28، وسير أعلام النبلاء 12/ 23 - 24. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ بغداد 16/ 31 - 32، والمنتظم 11/ 310، وتهذيب الكمال 30/ 96 - 100، والسير 12/ 115 - 116.

هناد بن السري

[وفيها توفي] هنَّادُ بن السَّرِيّ [أبوالسريّ، ] الدارميُّ، الكوفيُّ، الزاهد، الحافظ، [الخائف]، كان يقال له: راهب الكوفة. وكان قد اعتزلَ النساء (¬1) واشتغل بالعبادة، فلم يتزوَّج ولم يتسرَّ. [وذكره أبو عبد الله الحاكم، فروى عن أحمد بن سلمة قال: ] كان [هنَّاد بن السريّ] كثيرَ البكاء، و [كان] إذا صلَّى الفجر جلسَ حتى تطلعَ الشمس يقرأ القرآن، فإذا ارتفعت الشمسُ صلَّى الضحى، ثمَّ خرجَ إلى منزله، فيتوضَّأ، ثمَّ يرجعُ إلى المسجد، فيصلِّي إلى الزوال، فإذا صلَّى الظهرَ صلَّى إلى العصر، فإذا صلَّى العصر قرأ القرآن وبكى إلى المغرب، ثمَّ يصلِّي العشاءَ الآخرة، ويقوم الليل، فأقام على هذا منذ سبعين سنة. [وقال البخاريُّ: ] مات [هنَّاد] يوم الأربعاء آخر [يوم من] ربيع الأول [في هذه السنة] (¬2). سمع وكيعًا وطبقتَه، وروى عنه أبو حاتم الرازيّ وغيرُه، وكان [صدوقًا] ثقةً (¬3). يحيى بن أكْثَم ابن محمد بن قَطَن بن سَمعان بن مُشَنِّج بن عبد عمرو بن عبد العُزّى بن أكثم بن صيفي المروزي التميميُّ الأسديّ (¬4)، أبو عبد الله، وقيل: أبو زكريا [القاضي]. وقيل: [كنيته] أبو محمد. وكان ينكرُ أنْ تكونَ كنيتُه أبا زكريا، [فحكى الخطيبُ أنَّ رجلًا قال له: ] (¬5) يا أبا زكريّا، فقال له يحيى: قِسْتَ فأخطأت (¬6)، أشارَ إلى أنَّ يحيى ابنُ زكريا. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): الناس. والمثبت من (ب). وما سيأتي بين حاصرتين منها. (¬2) التاريخ الصغير 2/ 380. (¬3) انظر ترجمته في الجرح والتعديل 9/ 119، والمنتظم 11/ 310 - 311، وتهذيب الكمال 30/ 311 - 313، وسير أعلام النبلاء 11/ 465. (¬4) انظر تاريخ دمشق 18/ 25 (مخطوط). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال له رجل. (¬6) تاريخ بغداد 16/ 284.

[ذكر طرف من أخباره: قال علماء السير: ] ولي يحيى القضاءَ بالبصرة وبغداد والكوفة وسَامرَّاء، وكان عالمًا فاضلًا [فطنًا]، عارفًا بالفقه، بصيرًا بالأحكام، ذا فنون من العلوم، عرف المأمونُ فضلَه، فلم يتقدَّمه عندَه أحد، فقلَّده القضاءَ، وتدبيرَ أمر المملكة، وكانت الوزراءُ لا تعملُ شيئًا في تدبير الملك إلَّا عن رأيه وبعد مطالعته، [ولم يغلب أحد على سلطانه في زمانه إلا يحيى وابنُ أبي دؤاد.] (¬1) وقال الخطيب (¬2): كان أحدَ أعلام الدنيا، ومن اشتُهِرَ أمرُه، وعُرِف خبرُه، ولم يستتر عن الكبير والصغير من الناس فضلُه وعلمُه، ورياستُه وسياستُه لأمره وأمرِ الخلفاء والملوك، واسعُ العلم والفقه، كثيرُ الأدب، حسنُ العارضة، قائمٌ بكلِّ مفضلة (¬3)، أخذ بمجامع قلب المأمون، ففوَّضَ إليه أمرَ مملكتِه. ولما ولَّاه قضاءَ البصرة وخرج إليها، تلقَّاه أهلُها، وكان صغيرًا فاحتقروه، فقالوا: كم سنُّ القاضي؟ قال: سن (¬4) عَتَّاب بن أَسِيد (¬5) لمَّا ولَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكَّة، وأنا أكبر من مُعاذ لمَّا بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، وأنا أكبرُ من كعب بن سُور لما بعثه عمر بن الخطاب رضوان الله عنه قاضيًا. وقيل: سنُّه دونَ العشرين سنة، فأقامَ سنةً لا يقبلُ بها شاهدًا، فتعطَّلت الأمور، فقيل له في ذلك، فأجازَ في يومٍ شهادةَ سبعين شاهدًا. قال (¬6) عليُّ بن المديني: خرجَ سفيان بن عيينة إلى أصحاب الحديث وهو ضَجِر، فقال: أليس من الشقاء أنْ أكونَ جالستُ ضَمْرة بن سعيد، وجالس ضمرةُ أبا سعيدٍ الخدريّ، وجالست ابن دينار، وجالسَ ابنَ عُمر، وجالستُ الزهريَّ، وجالس الزهريُّ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) رواه الخطيب في تاريخه 16/ 289 عن التنوخي عن طلحة بن محمد بن جعفر. (¬3) في تاريخ بغداد 16/ 289: معضلة. ومن قوله: وقال الخطيب ... إلى هنا ليس في (ب). (¬4) في (ف): تلقاه أهلها، فقال له بعض الناس: كم سنُّ القاضي -وكان صغيرًا- ففهم مراده، فقال: سني سن ... (¬5) في تاريخ بغداد 16/ 291: أكبر من عتاب بن أسيد. (¬6) في (خ) و (ف): فقال.

أنس بن مالك، وعدَّدَ جماعةً، ثم قال: وأنا أجالسُكم! فقال: والله لشقاءُ من جالسَ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشدُّ من شقائك، فأطرقَ سفيان وتمثَّل: [من مجزوء الرمل] خلِّ جنبيكَ لرامِ ... وامضِ عنهم بسلام مُتْ بداءِ الصمتِ خيرٌ ... لكَ من داءِ الكلام (¬1) ثم قال سفيان: من الحَدَث؟ قال: يحيى بن أكثم، فقال سفيان: هذا الغلامُ يصلحُ لصحبة هؤلاء، يعني السلطان (¬2). وقال محمد بن منصور وأحمد بن أبي دؤاد: كنَّا مع المأمون في طريق الشام، فأمرَ فنودِيَ بتحليلِ المتعة، فقال لنا يحيى بن أكثم: تدخلا غدًا عليه، فإنْ رأيتُما للقول وجهًا فقولا، وإلَّا فاسكتا إلى أنْ أدخل، فدخلا عليه وهو مغتاظٌ يقول: متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ (¬3)، وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا أحول حتى تنهَى عمَّا فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فأمسكنا، وجاء يحيى، فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيِّرًا؟ قال: لما حدثَ في الإسلام، قال: وما حدث؟ قال: النداء بتحليل الزِّنا، [قال: الزنا؟ ! ] (¬4) قال: نعم، المتعَة زنا، قال: ومن أين لك هذا؟ قال: من كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} يا أمير المؤمنين زوجةُ المتعة مِلكُ يمين؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عنى الله، ترثُ وتُورث، ويلحقُ بها الولد، ولها شرائطها؟ قال: [لا، قال: ] فقد صار متجاوزُ هذين من العادين، وهذا الزهريُّ رَوى عن عبد الله والحسن (¬5) ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما، عن أبيه عليِّ بن أبي طالب أنَّه قال: أمرَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أناديَ بالنهي عن المتعة وتحريمها، بعد أن كان ¬

_ (¬1) البيتان لأبي نواس. ديوانه ص 587. (¬2) تاريخ بغداد 16/ 283 - 284. (¬3) بعدها في (خ) و (ف): وعمر. وهي خطأ، كما يدل عليه سياق الخبر، وكلامه التالي تعريض بسيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. انظر تاريخ بغداد 16/ 291 - 292. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد. (¬5) في (خ) و (ف) والمنتظم 11/ 315: عبيد الله والحسين. وهو خطأ.

أمرَ بها، فالتفتَ إلينا المأمون وقال: أمحفوظٌ هذا من حديث الزُّهريّ، قلنا: نعم يا أمير المؤمنين، رواه جماعةٌ منهم مالكُ بن أنس، فقال المأمون: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة. قال الصُّوليُّ: فسمعتُ إسماعيل بن إسحاق -وقد ذُكر يحيى بن أكثم فعظَّم أمره- قال: وكان له يومٌ في الإسلام لم يكن لأحدٍ مثله، وذكر هذا اليوم، فقال له رجل: فما كان يقال: فقال: معاذَ الله أن تزولَ عدالةُ مثله بكذب باغٍ أو حاسد (¬1). وقال أبو العيناء: لمَّا قال له يحيى: المتعة زنا، قال: يا يحيى حديثُ المتعة رواه الربيعُ بن سَبْرة، وهو أعرابيٌّ يبولُ على عقبيه، فلا أقول به، فقال له يحيى: فهذا حديثٌ آخر، قال: وما هو؟ قال: حدثني القعنبيُّ، قال: ثقةٌ عمن؟ قال: عن مالك بن أنس، قال: ثقةٌ عمَّن؟ قال: عن الزهريّ، قال: ثقةٌ، ولكنه كان عاملًا لبني أمية، عمَّن؟ قال: عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية، فقال المأمون: كان أحدهما يقولُ بالوعيد، يعني الحسين، و [الآخر بـ] (¬2) الإرجاء، هيه عمَّن؟ قال: عن أبيهما محمد، قال المأمون: أكرم به، عمَّن؟ قال: عن أبيه أمير المؤمنين عليّ رضوان الله عليه، قال: أهلًا به، عمَّن؟ قال: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: نادُوا بتحريمها (¬3). [ذكر أخبار من سيرة ابن أكثم متفرقة: حكى الخطيب عنه أنه كان سليمًا من البدعة ينتحل مذهب أهل السنة] (¬4)، وكان يقول: من قال: [إنَّ] القرآن مخلوق ضربت عنقه (¬5). [وذكره ابن عساكر فقال: قدم يحيى دمشق مع المأمون، وجلس في جامعها. وقال الصوليُّ: دخل عليه رجلٌ في مجلسه فأنشدَه: [من البسيط] ماذا تقولُ كَلَاكَ الله في رجلٍ ... يهوى عجوزًا أُراها بنت تسعينِ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 291 - 293، وتاريخ دمشق 18/ 29 - 30 (مخطوط). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬3) من قوله: ولما ولاه قضاء البصرة ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وكان يحيى سليمًا من أهل السنة، سليمًا من البدعة. (¬5) تاريخ بغداد 16/ 290.

قال: فأطرق ساعةً ثم رفع رأسَه فقال: يُبكى عليه وقد حقَّ البكاء له ... إنَّ العجوزَ لها حينٌ من الحينِ] (¬1) وقدم دمشق ومصر، ويعدُّ من فقهاء خراسان، وكتبُه في الفقه أجلُّ كتب، وإنَّما تُرِكت لطولها. وقال: اختصمَ إليَّ (¬2) في جامع الرصافة الجدُّ الخامس يطلبُ ابن ابن ابن ابنه. وكان قاضيًا وزيرًا ومشيرًا، وكان يقول: ما طرقَ سمعي ألذُّ من قول المستملي: من ذكرتَ رضي الله عنك؟ (¬3) وقال ابن عساكر: كان [يحيى بن أكثم] (¬4) أعور. وقال الخطيب: كتب إلى صديق له: [من الطويل] جفوتَ وما فيما مضَى كنت تفعلُ ... وأغفلتَ من لم تُلْفِه عنك يغفلُ وعجَّلتَ قطعَ الوصل في ذاتِ بيننا ... بلا حَدَثٍ أو (¬5) كدتَ في ذاك تعجلُ فأصبحتُ لولا أنَّني ذو تعطُّفٍ ... عليكَ بودِّي صابرٌ متجمِّلُ (¬6) أرى جفوةً أو قسوةً من أخي ندى ... إلى الله منها المُشتكى والمعوَّلُ وأقسمُ لولا أنَّ حقَّك واجبٌ ... عليَّ وأنِّي بالوفاءِ موكَّلُ لكنتُ عَزوفَ النفسِ عن كل مُدْبرٍ ... وبعضُ عزوفِ النفس عن ذاك أجملُ ولكنَّني أرعى الحقوقَ وأستحي ... وأحملُ من ذي الودِّ ما ليس يحملُ فإنَّ مصابَ المرء في أهل ودِّه ... بلاءٌ عظيمٌ عند من كان يعقلُ وكان ليحيى أخٌ اسمُه عبد الله بن أكثم زاهدًا، لمَّا ولي يحيى القضاء وداخل الخلفاء، كتب إليه أخوه: [من البسيط] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر الخبر في تاريخ بغداد 16/ 285. (¬2) بعدها في (خ) و (ف): رجلان. ولا معنى لها. انظر تاريخ بغداد 16/ 288. (¬3) من قوله: وقدم دمشق ومصر ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ) و (ف): إذ. والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 285. (¬6) في (خ) وتاريخ بغداد: متحمِّلُ.

ولقمةٍ بجريش الملحِ آكلُها ... ألذُّ من تمرةٍ تحشَى بزُنْبُورِ كم لقمةٍ جلبت حتفًا لصاحبها ... كحبةِ القمح دقَّت عنق عصفورِ (¬1) [وكان يحيى انحرفَ عنه المأمون] (¬2) وأبعده، فولَّاه البصرة، ولما ولي المعتصم قرَّبَهُ، وكذا الواثق، ولما ولي المتوكِّلُ صيَّره في مرتبة ابن أبي دؤاد، وخَلع عليه خلعًا كثيرة، وقرَّبه، ثمَّ غضب عليه [المتوكل]، فعزله عن القضاء [بجعفر بن عبد الواحد]، واستصفى أمواله، ثمَّ أمرَه بالانتقال إلى بغداد، وألزمَه بيتَه إلى أن مات [في هذه السنة بالرَّبَذَة]. [ذكر وفاته: حكى الخطيب عن داود بن عليّ قال: خرج ابن أكثم] (¬3) إلى الحجِّ في سنة اثنتين وأربعين على عزم المجاورة بمكة، فبلغه [رجوع المتوكِّل عن القول بخلق القرآن، وأنه] قد صلح قلبه، [فبدا] له [من المجاورة]، فعاد (¬4) إلى المدينة، ثمَّ رجع يريدُ العراق، فمات بالرَّبَذة [في سنة ثلاث وأربعين ومئتين] (¬5)، وقبرُه بها إلى جانب أبي ذر - رضي الله عنه -، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، رحمه الله (¬6). [ذكر المنام الذي رؤي له: رواه الخطيب بإسناده إلى محمد بن عبد الرحمن الصيرفيّ قال: ] رأى جارٌ لنا يحيى بنَ أكثم في منامه بعد موته، فقال له: ما فعلَ الله بك؟ قال: وقفتُ بين يديه فقال: سوءةٌ لك يا شيخ، فقلت: يا رب إن رسولَك قال: "إنَّك لتستحيي أنْ تعذِّبَ أبناءَ الثمانين" وأنا ابنُ ثمانين، أسيرُك في الأرض، فقال: صدقَ رسولي، قد عفوت عنك (¬7). ¬

_ (¬1) من قوله: وقال الخطيب: كتب ... إلى هنا. ليس في (ب)، والبيت الثاني كما في تاريخ دمشق 18/ 31 (مخطوط): وأكلةٍ قربت للهلك صاحبها ... كحبة الفخِّ دَقَّتْ عنقَ عصفورِ (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وكان المأمون انحرف عنه. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وكان خرج إلى الحج ... (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فبلغه أن المتوكل قد صلح قلبه له فعاد ... (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): هذه السنة. (¬6) تاريخ بغداد 16/ 295 - 296. (¬7) تاريخ بغداد 16/ 296.

ورَوى الخطيبُ بإسناده إلى محمد بن سَلْم (¬1) الخوَّاص بمعناه، وفيه: فقال الله تعالى: يا شيخ السوء، لولا شيبتُك لأحرقتُك بالنار، قال: فأخذني ما يأخذ العبدَ بين يدي مولاه، فلما أفقتُ كرَّرها الله تعالى ثلاثًا، فقلت: يا رب، ما هكذا حُدِّثتُ عنك، فقال الله تعالى: وما حدثت عنِّي؟ وهو أعلم بذلك. فقلت: حدَّثني عبد الرزاق بن همَّام، عن مَعْمَر بن راشد، عن ابن شهاب الزُّهريّ، عن أنس بن مالك، عن نبيِّكَ - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل، عنك يا عظيم أنَّك قلت: ما شابَ لي عبدٌ في الإسلام شيبةً إلَّا استحييتُ منه أن أعذِّبه بالنار، قال الله تعالى: صدقَ عبدُ الرزاق، وصدق معمر، وصدق الزهريُّ، وصدق أنس، وصدق نبيي، وصدق جبريل، أنا قلت ذلك، انطلقوا به إلى الجنَّة (¬2). أسند يحيى [الحديث] عن [خلقٍ كثير منهم] سفيان بن عُيينة، وأبو معاوية الضَّرير، وعبد الرزاق، [والدَّرَاوردي، وعبدُ الله بن إدريس، وغيرهم] (¬3). وروى عنه عليُّ بن المديني، والبخاريُّ (¬4)، والترمذيُّ، والأئمَّة. ومن رواياته عن ابن عباس قال: أوَّل ما خلق الله القلم، فأمرَه أن يكتب ما هو كائنٌ، فكتب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} (¬5). وقد تكلَّموا فيه من حيث الرواية والديانة؛ أمَّا من حيث الرواية فرماهُ ابنُ معين وغيرُه بالكذب، وقال أبو الفتح الأزديّ: رَوى عن الثقات عجائب لا يتابعُ عليها. وأمَّا من حيثُ الديانة فقد أكثروا القولَ بميله إلى المُرْد (¬6)، [وقال الخطيب: و] سببُ عزلِه عن القضاء أنَّه دخل عليه ابنا مسعدة، وكانا في غاية الجمال، فأقعدَهما بين ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): سالم. وفي (ب): أسلم. والتصويب من تاريخ بغداد 16/ 296. (¬2) تاريخ بغداد 16/ 296. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): أسند يحيى عن سفيان بن عيينة، وأبي معاوية الضرير، وعبد الرزاق، وخلقٍ كثير. (¬4) في غير الصحيح. انظر سير أعلام النبلاء 12/ 6. (¬5) لم أقف عليه من رواية يحيى بن أكثم، وذكره الخطيب في تاريخ بغداد 16/ 299 في ترجمة يحيى بن واقد من روايته، والله أعلم. (¬6) من قوله: وقد تكلموا فيه من حيث ... إلى هنا ليس في (ب).

يديه وقال: [من مخلع البسيط] يا زائِرَينَا من الخِيام ... حياكم الله بالسَّلامِ لم تأتياني وبي نهوضٌ ... إلى حلالٍ ولا حرام يحزنني أن وقفتُما بي ... وليس عندي سِوى الكَلامِ (¬1) [وكذا قال ابن الأنباريّ أن سببَ عزله عن الحكم إنشاءُ هذا الشعر] (¬2). قال أبو العيناء: تولَّى يحيى ديوانَ الصَّدقات على الأضِرَّاء، فلم يعطهِم شيئًا، فطالبوه وألحوُّا عليه، ووقفوا له وقد خرجَ من جامع الرُّصافة، فقال: ما لكم عندَ أمير المؤمنين شيء، فقالوا: لا تفعل يا أبا سعيد (¬3)، فأمرَ بحبسهم، فحُبِسوا، فلمَّا كان في الليل ضجُّوا، فسمعَهم المأمون، فقال: ما هذا؟ قالوا: الأضِرَّاء حبسَهم يحيى بنُ أكثم، فقال: ولم؟ قالوا: كَنَّوه، فدعاه وقال: حبستَهم على أن كَنَّوك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّما حبستُهم على التعريض، كنوني بشيخٍ لائطٍ في الخريبة (¬4)، فضحكَ المأمون وأطلقَهم (¬5). [وروى الخطيبُ بإسناده إلى أحمد بن يعقوب قال: كان يحيى يحسدُ حَسدًا شديدًا] وكان يحيى مُفْتَنًّا، إذا دخلَ عليه فقيهٌ سألَه عن الحديث، وإذا دخلَ عليه محدِّثٌ سأله عن الفقه، وإذا كان يحفظُ النحو سألَه عن الكلام، فيقطعه ويخجله، فدخلَ عليه رجلٌ من أهل خراسان [حافظٌ]، فناظرَه فرآه مُفْتَنًّا، فقال له: نظرتَ في الحديث؟ قال: نعم، قال: فما تحفظُ منه؟ قال: [أحفظ] عن شَرِيك، عن أبي إسحاق، عن الحارث أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - رَجم لوطيًّا، فسكت ولم يكلِّمه (¬6). وقال الحسن بن المقدام: استعدى ابنُ عمار بن أبي الخصيب عند ابن أكثم على ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 287. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): يا أمير المؤمنين. وهو خطأ. والتصويب من تاريخ بغداد 16/ 286. (¬4) في تاريخ ابن عساكر 18/ 36، وسير أعلام النبلاء: الحربية. وهي في (خ) و (ف) بدون نقط. (¬5) من قوله: قال أبو العيناء ... إلى هنا ليس في (ب). (¬6) تاريخ بغداد 16/ 286. وما سلف بين حاصرتين من (ب).

ورثة أبيه، قال: أيُّها القاضي، أعدني عليهم، فقال له: فمن يعديني على عينيك، فهربت به أمُّه إلى بغداد، فقال لها وقد تقدَّمت إليه: والله لا أنفذتُ لكم حكمًا، أو تَرُديِّه، فإنَّه أولى بالمطالبة منك (¬1). [وذكر جدِّي في "المنتظم" عن أحمد بن يونس الضبي قال: ] (¬2) كان زيدان الكاتب يكتبُ بين يدي يحيى بن أكثم، وكان جميلًا متناهيَ الجمال، فقرص يحيى خدَّه [يومًا]، فخجلَ [واستحى، وطرح القلمَ من يده]، فقال له: اكتب ما أملي عليك، [ثمَّ قال: ] [من الطويل] إذا كنتَ للتجميش والعشقِ كارهًا ... فكنْ أبدًا يا سيِّدي متنقِّبَا ولا تظهر الأصداغَ للنَّاس فتنةً ... وتجعل منها فوقَ خدَّيكَ عقربَا فتقتلَ مشتاقًا وتفتنَ ناسكًا ... وتتركَ قاضي المسلمينَ معذَّبَا (¬3) وفيه يقول أحمد بن أبي نعيم: [من الطويل] وكنا نرجِّي أن نَرى العدلَ ظاهرًا ... فأعقبنَا بعد الرجاءِ قنوطُ وهل تصلحُ الدُّنيا ويَصلحُ أهلها ... وقاضي قضاةِ المسلمين يلوطُ (¬4) [وقال الخرائطي: حدثنا فَضْلَك بن العباس الرازي قال: ] (¬5) مضيت إلى يحيى [بن أكثم] مع داود بن علي الأصبهاني الظاهري، ومعنا مسائل نلقيها عليه، فألقينَا عليه البعض، وهو يجيب بأحسن جواب، فدخل عليه غلامٌ أمرد، فلمَّا رآه خلَّط في الجواب، ولم يدرِ ما يقول، فقال لي داود: قم بنا، فإنَّ الرجلَ قد اختلط (¬6). وقال العتابي: إنَّ عبادةَ المخنَّث سأله بحضرة المأمون فقال: أشتهي من سيِّدنا ¬

_ (¬1) من قوله: وقال الحسن بن المقدام ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أحمد بن يوسف الضبي. (¬3) المنتظم 11/ 318 - 319، وتاريخ دمشق 16/ 37. (¬4) نسبهما أبو الفرج في الأغاني 20/ 255 لإبراهيم بن أبي محمد اليزيدي، وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان 6/ 155: وهذان البيتان لأبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب. ومن قوله: وفيه يقول أحمد ... إلى هنا ليس في (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال فضل بن العباس الرازي. (¬6) اعتلال القلوب ص 139. وما سلف بين حاصرتين من (ب).

القاضي أن يعرِّفَنا فضائلَ (¬1) الصلب، فخجلَ يحيى وقام، فعزلَه المأمون عن القضاء، وولَّاه قضاء البصرة والكوفة؛ ليبعده عنه. وقال أبو العيناء: كنتُ في مجلس أبي عاصم النَّبيل، وفيه أبو بكر بن يحيى بن أكثم، فنازعَ أبو بكر غلامًا أمرد، فقال أبو عاصم: إن يسرق فقدْ سرقَ أبٌ له من قبل (¬2). وقال ابن عبد ربه صاحب "العقد": تعامل (¬3) المأمون وعبد الله بنُ طاهر على يحيى حتى يسكروه، فغمز المأمون الساقي [فأسكره]، وكان بين أيديهم ردمٌ (¬4) من الورد والرياحين، فشقُّوا له فيه لحدًا، وصيَّروه فيه، وأمر المأمون قينةً فغنَّته [هذه الأبيات: ] [من البسيط] ناديتُه وهو حيٌّ لا حَراك به ... مكفنًا في ثيابٍ من رياحينِ فقلت قم قال رجلي ما تطاوعُني ... فقلتُ خذ قال كفِّي ما يواتيني فانتبهَ يحيى على صوت العود ونغمة الجارية (¬5)، فقال مجيبًا لها [هذه الأبيات: ] [من البسيط] يا سيِّدي وأميرَ الناس كلِّهم ... قد جارَ في حُكمه من كان يَسقينِي إنِّي غفلتُ عن الساقي فصيَّرني ... كما تراني سليبَ العقلِ والدينِ (¬6) لا أستطيعُ نهوضًا قد وَهى بدني ... ولا أجيبُ المنادِي حين يدعونِي كأنَّني ميِّتٌ صُيِّرت (¬7) في جدثٍ ... وسطَ الرياضِ دفينًا في الرياحين (¬8) قال المصنِّف رحمه الله: وهذه من هَنَاتِ صاحب العقد، فإنَّ ابنَ أكثم ما كان يعاشرُ المأمونَ إلَّا على الصلاح والديانة، وقد رأى المأمونُ غلامًا حدثًا فقال: ما تقولُ يا ¬

_ (¬1) في (ب): فرائض. (¬2) تاريخ بغداد 16/ 288 - 289. ولم يرد الخبر في (ب). (¬3) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وفي العقد الفريد 6/ 345: تغامر. (¬4) في العقد الفريد: رِزَم. (¬5) من قوله: فانتبه ... إلى هنا ليس في (ب). (¬6) في (خ) و (ف): لا الدين. والمثبت من (ب) والعقد الفريد. (¬7) في (ب): قد صرت. (¬8) البيت الأخير ليس في العقد الفريد.

يحيى في مُحْرِمٍ صاد ظبيًا؟ فقال: يا أمير المؤمنين يقبحُ بك إمام المسلمين، وبي وأنا قاضٍ تقولُ في هذا، فغضب وقال: من الذي يقول: [من المنسرح] قاضٍ يرى الحدَّ في الزناء ولا ... [يرى] على من يلوطُ من باس؟ فقال يحيى: وما تعرف من قاله! الفاجر أحمد بن أبي نُعيم الذي يقول: [من المنسرح] لا أحسبُ الجورَ ينقضي وعلى الـ ... أُمَّة والٍ من آل عباسِ (¬1) [قلت: ] وقد كان الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه يُنكِرُ ما قيل عن يحيى من نبزه بالمُرْدِ، [فذكر الخطيب عن عبد الله ابن الإمام أحمد قال: ] (¬2) ذُكِر يحيى عند أبي فقال: ما عرفتُ فيه بدعةً قط. وذكر ما يرميه الناسُ به، فقال: سبحان الله، من يقول هذا؟ وبلغ يحيى فقال: جزاه الله خيرًا والله ما عَرفَ فيَّ بدعةً قطّ (¬3). [وكذا روى ابنُ عساكر عن إسماعيل بن إسحاق قال: كان يحيى] أبرأ (¬4) إلى الله ممَّا كان يُرمى به (¬5) من أمرِ الغلمان، وإنَّما كانت فيه دعابةٌ، كان يهزلُ مع صديقه ومع عدوِّه. [حكاية الزاغ: ذكرها الحافظ ابن عساكر بإسناده عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن مسلم السعديّ قال: ] (¬6) دخلتُ على يحيى بن أكثم، وإذا عن يمينه قِمَطْرةٌ مجلَّدةٌ، ففتحها، وإذا قد خرجَ منها رأسُ إنسان، وهو من سرَّته إلى أسفل خلقة (¬7) زاغ، وفي صدره وظهره سلعتان (¬8)، فكبَّرتُ وهلَّلتُ [وفزعت، ويحيى يضحك، ] فقال بلسان فصيح ¬

_ (¬1) انظر تاريخ دمشق 18/ 35. ومن قوله: قال المصنف ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فقال عبد الله ابن الإمام أحمد. (¬3) تاريخ بغداد 16/ 290. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال إسماعيل بن إسحاق: أبرأ ... (¬5) بعدها في (خ) و (ف): يحيى. والمثبت من (ب). وما بين حاصرتين منها. وانظر تاريخ دمشق 18/ 38. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال محمد بن مسلم. (¬7) في (ب): إلى ركبته أسفله خلقة. (¬8) فسر الذهبي السلعة بالحَدْبة. سير أعلام النبلاء 12/ 11.

يعقوب بن إسحاق السكيت

[طلق: ] (¬1) [من الهزج] أنا الزاغُ أبو عجوة ... أنا ابن الليثِ واللبوَهْ أحبُّ الراحَ والريحا ... نَ والنشوةَ والقهوهْ فلا عربدتي تُخشى ... ولا تُرْهبُ لي سَطوهْ ولي أشياء تُسْتَظْرَ ... ف يومَ العرس (¬2) والدعوهْ فمنها سِلعةٌ في الظهرِ ... لا تسترُها الفَروهْ وأمَّا السِّلعةُ الأخرى ... فلو كان لها عُروهْ (¬3) لما شكَّ جميعُ النا ... س فيها أنها ركوهْ (¬4) ثم قال [الزاغ: ] يا كهل أنشد شعرًا غزلًا، [فقال لي يحيى: قد أنشدَكَ، فأنشِدْهُ: ] فأنشدته [هذين البيتين: ] أغرَّكِ أن أذنبتِ ثم تتابعت ... ذنوب فلم أهجركِ ثم ذنوبُ (¬5) وأكثرتِ حتى قلتِ ليسَ بصارمي ... وقد يُصرَمُ الإنسانُ وهو حبيبُ فصاح: زاغ زاغ زاغ، ثمَّ سقط في القِمَطْر، فقلت ليحيى: أعزَّك الله وعاشق أيضًا؟ ! فقال: هو ما ترى، فقلت: ما هذا؟ قال: وجَّه به صاحبُ اليمن إلى أمير المؤمنين، وما رآه بعد. والزَّاغ حيوانٌ من جنس النسانيس الذي باليمن، [انتهت ترجمته]. [وفيها توفي] يعقوب بن إسحاق السِّكِّيت أبو يوسف اللغوي، صاحبُ "إصلاح المنطق"، وكتاب "الألفاظ"، و"معاني الشعر"، ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 18/ 39: ذلق. والمثبت بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): العيد. والمثبت من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): فروه. والمثبت من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): في أنها ركوة. وفي (ب): أنها تشبه الركوة. والمثبت من تاريخ دمشق. (¬5) كذا في (خ) و (ف) وتاريخ دمشق. وفي (ب)، وسير أعلام النبلاء 12/ 12، والنجوم الزاهرة 2/ 317: أتوب.

و"القلب والإبدال" وغير ذلك. [وحكى الخطيب عن الفرَّاء أنَّه قال: ] (¬1) سألتُه عن نسبه فقال: حُوْزِيُّ الأصل من كور الأهواز (¬2). إلَّا أنَّه بغداديُّ الدار، وكان يؤذَبُ مع أبيه بمدينة السلام في درب القَنْطرة صبيانَ العامَّة، حتى احتاج إلى الكسب، فتعلَّم النحو، ولم يكن نفاذُه فيه كنفاذه في اللغة. [قال: ] (¬3) وحكيَ عن أبيه أنَّه حجَّ فطافَ بالبيت، وسأل الله تعالى أن يتعلَّم ابنُه النحوَ، [فتَعلَّم النَّحوَ] (¬4) واللغة، [قال: فاحتاج] محمدُ بن عبد الله بن طاهر إلى رجل يعلِّم ولدَه، فأخذَ يعقوب، فجعل له ألفَ درهم كلَّ شهر، [وكان يعقوب قد خرج قبل ذَلك، (¬5) إلى سامرَّاء في أيَّام المتوكِّل، فصيَّره عبيد الله بن [يحيى بن] (¬6) خاقان عند المتوكِّل، [فضمَّ إليه ولده] (¬7)، وأسنى له الرزق. وقال أبو الحسن الطوسيّ: كنَّا في مجلس اللِّحيانيّ، فقال: العربُ تقول: مُثْقَلٌ استعانَ بذَقَنه، فقام ابن السكِّيت -وهو حدثٌ- فقال: يا أبا الحسن (¬8) إنَّما هو مُثْقَلٌ استعانَ بدَفَّيه، بالفاء، يريدون الجملَ إذا نهض بالحِمْل استعان بجنبيه، فقطع اللِّحيانيُّ الإملاءَ، فلمَّا كان في المجلس الثاني قال اللِّحيانيّ: العربُ تقول: هو جاري مكاشري، بالشين المعجمة، فقام ابن السكّيت فقال: أعزَّك الله، إنما هو مُكَاسِري، بالسين المهملة، أي: كِسْرُ بيته إلى بيتي، أي: جانبه، فقطع اللّحياني الإملاءَ، فما أملى بعد ذلك شيئًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال الفراء. (¬2) تاريخ بغداد 16/ 398. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) قوله: فتعلم النحو. من تاريخ بغداد 16/ 398. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وخرج يعقوب بعد ذلك. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). (¬7) قوله: يحيى بن. من تاريخ بغداد. (¬8) في (خ) و (ف) والمنتظم 11/ 312: يا أبا الحسين. والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 398، وانظر ترجمة اللحياني في إنباه الرواة 2/ 255، ومعجم الأدباء 14/ 106.

وقال الصوليُّ (¬1): أنشد ابن السكيت، وهما له: [من الخفيف] ومن الناس من يحبُّك حبًّا ... ظاهرَ الحبِّ ليس بالتقصيرِ فإذا ما سألتَه عُشْر فلسٍ ... ألحقَ الحُبَّ باللَّطيفِ الخبيرِ وحَكى ابنُ السكيت أنَّ محمد بن [عبد الله بن] (¬2) طاهر عزمَ على الحجِّ، فخرجت إليه جاريةٌ فبكت لمَّا رأت آلة السفر، فقال محمد بن [عبد الله بن] طاهر: [من مجزوء الرمل] دمعةٌ كاللؤلؤ الرَّط ... ــب على خدٍ أسيلِ هطلتْ في ساعةِ البيـ ... ــنِ من الطَّرف الكحيلِ فقال لها: أجيزي فقالت: حينَ همَّ القمر البا ... هرُ عنَّا بالأُفولِ إنَّما يفتضح العا ... شقُ في وقتِ الرحيلِ (¬3) [وقال الحافظُ ابن عساكر: قدم دمشقَ مع المتوكِّل، وكان يؤدِّبُ أولاده.] (¬4) وكان المبرِّدُ يقول: ما رأيتُ للبغداديين كتابًا أحسن (¬5) من [كتاب] "إصلاح المنطق" لابن السِّكِّيت. [وقال ثعلب: ما عرفنا خَرْبَةً (¬6) قطّ، أي: زلَّةً، والخاربُ: سارقُ الإبل ليلًا.] (¬7) [ذكر] سبب وفاته: قال أحمد بن عبيد (¬8): شاورني ابن السكِّيت في منادمة المتوكل، فنهيتُه عنه، فحملَه ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 16/ 399، وإنباه الرواة 4/ 53: الموصلي. وهو الأشبه. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 3/ 424. (¬3) من قوله: وقال أبو الحسن الطوسي ... إلى هنا ليس في (ب). (¬4) انظر مختصر تاريخ دمشق 28/ 39. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) في (خ) و (ف): أصلح. والمثبت من (ب). وانظر تاريخ بغداد 16/ 400. (¬6) في تاريخ بغداد 16/ 399: خزية. وانظر سير أعلام النبلاء 12/ 17، والقاموس المحيط، ولسان العرب (خرب). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). (¬8) في (خ) و (ف): عبيد الله. والمثبت من (ب)، ووفيات الأعيان 6/ 395، وسير أعلام النبلاء 12/ 17، وفي (ب): وحكى الخطيب عن أحمد بن عبيد قال. ولم أقف عليه في تاريخ بغداد.

على الحسد (¬1)، فنادمَه، وكان ابنُ السكِّيت يحبُّ عليًّا - عليه السلام - وأهلَ بيته، فلما هَدَم المتوكِّلُ قبرَ الحسين - رضي الله عنه -، وعمل ابنُ السكِّيت الأبيات التي [في] أولها: [من الكامل] بالله إنْ كانت أميَّةُ قد أتت ... قتلَ ابن بنت نبيِّها مظلومَا وقد ذكرناها فيما تقدم (¬2)، [و] بلغت المتوكِّلَ، فبقيَ في قلبه، وكان ابنُ السكِّيت يؤدِّب المعتزَّ والمؤيَّد، فحضر ليلة عند المتوكِّل، فتمثَّل المتوكِّل؛ فقال له يا يعقوب: أيُّما أفضل، [عليُّ] بن أبي طالب وولداه الحسن والحسين، أم أنا وولداي؟ فغضب ابنُ السكِّيت رحمه الله وقال: والله إنَّ شعرةً من قَنْبَر خيرٌ منك ومن ولديك، فأمرَ المتوكِّلُ الأتراكَ فداسُوا بطنَه، وحُمِل إلى بيتِه، فماتَ من غد ذلك اليوم، فقال أحمد بن عبيد [هذين البيتين: ] [من الطويل] نهيتُك يا يعقوبُ عن قُرْب ظالمٍ (¬3) ... إذا ما سَطا أربى على كلِّ ضَيغمِ فذقْ واحسُ ما استحسنتَه لا أقولُ إذ (¬4) ... عثرتَ لعًا بل لليدين وللفمِ [واختلفوا في وفاته، فقال الخطيب: مات في سنة ثلاث وأربعين ومئتين، (¬5)، وقد بلغَ ثمانيًا وخمسين سنة، وقيل: ماتَ [في] سنة أربع وأربعين، [أو] سنة ستٍّ وأربعين ومئتين (¬6). [وقال الخطيب: كان يعقوب] (¬7) من أهل الدين والفضل والثقة والأمانة، موثوقًا بروايته (¬8). روى عن محمد بن السمَّاك، والأصمعيّ، وأبي عُبيدة، والفرَّاء، وغيرهم، ورَوى عنه أبو عكرمة الضبيُّ، وميمون بن هارون الكاتب، وأبوه إسحاق، وكتبُه جيِّدة (¬9). ¬

_ (¬1) في (ب): فحمله قول على الحسد. وفي وفيات الأعيان: فحمل قولي على الحسد. (¬2) عند أحداث السنة 236 هـ. (¬3) في معجم الأدباء 20/ 51، وإنباه الرواة 4/ 54، ووفيات الأعيان 6/ 396: شادن. (¬4) في إنباه الرواة ووفيات الأعيان: واحْسُ ما استحسيتَهُ لا أقول إذْ. وفي معجم الأدباء: واحْسُ إني لا أقول الغداة إذ. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ومات في هذه السنة. (¬6) تاريخ بغداد 16/ 400. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وكان. (¬8) تاريخ بغداد 16/ 397. (¬9) انظر تاريخ بغداد 16/ 398، وإنباه الرواة 4/ 51، ووفيات الأعيان 6/ 395، ومن قوله: روى عن محمد السمَّاك ... إلى هنا. ليس في (ب).

السنة الرابعة والأربعون بعد المائتين

السنة الرابعة والأربعون بعد المائتين قال الطبري: وفيها دخلَ المتوكِّلُ دمشق في صفر، وعزمَ على المقام بها، ونقلَ دواوينَ الملك إليها، وأمرَ بالبناء، فتحرَّك الأتراكُ في أرزاقهم، فأمرَ لهم بما أرضاهم، ثم استوبأَ البلد، [وذلك] لأنَّ الهواءَ بها باردٌ [نديٌّ]، والماء ثقيل، والريح تهبُّ فيها مع العصر، فلا تزال تشتدُّ حتى يمضي عامَّة الليل، وهي كثيرةُ البراغيث، وغلت بها الأسعار، وحال الثلج بين السابلة والمِيرَة (¬1). قال المصنِّف رحمه الله: وهذه من هَنَات الطبريّ في ذمِّ دمشق. وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا ... وآفتُه من الفهمِ السقيمِ (¬2) قال: وأقام المتوكِّل بدمشق شهرين وأيامًا، ثم سلك طريق الغزاة، ثمَّ دخل سامراء لسبعٍ بقين من جمادى الآخرة. وبعثَ المتوكّلُ بُغَا من دمشق إلى [بلاد] الروم، فافتتح قلعةً يقال لها: صُمُلَّة (¬3). وقال الصوليُّ: ولما دخل المتوكِّلُ سامرَّاء ذكر نزه] (¬4) دمشق وبساتينها وأنهارها وغيطانها، فعزَم على العودِ إليها، فمرضَ، فدخلَ عليه محمد بن عبد الله بن طاهر فأنشدَه: [من البسيط] اللهُ يرفعُ (¬5) عن نفسِ الإمام لنا ... وكلُّنا للمنايا دونه غَرَضُ أتيتُه عادةَ العُوَّادِ من مرضٍ ... بالعائدينَ جميعًا لا به المرضُ ففي الأنامِ لهُ في غيرنا (¬6) عوضٌ ... وليسَ في غيره منه لنا عوضُ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 210. (¬2) هو للمتنبي. ديوانه 4/ 246، ولم يرد البيت في (ب). (¬3) تاريخ الطبري 9/ 210. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وذكر المتوكل. (¬5) في تاريخ بغداد 8/ 50: يدفع. (¬6) في تاريخ بغداد: ففي الإمام لنا من غيره عوض. ولم تذكر الأبيات في (ب).

إبراهيم بن عبد الله بن حاتم

وما أبالي إذا ما نفسُه سلمَت ... لو بادَ كلُّ عبادِ الله وانقرضُوا وفيها أُتيَ المتوكِّلُ بحربةٍ، ذكر أنَّها كانت للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، تسمى العنَزَة؛ التي أهداها النجاسيُّ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على يدِ الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، وكان المؤذِّنون يمشونَ بها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العيدين، وكانت تُركزُ بين يديه - صلى الله عليه وسلم - في الأسفار، فيصلِّي إليها، فأمر المتوكِّلُ بحملِها بين يديه، فحملَها صاحبُ الشرطة. وقيل: إنَّ النجاشيَّ وهبَها للزبير بن العوَّام، وهو أهداها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفيها سخطَ المتوكِّلُ على بختيشوع المتطبِّب، وأخذَ ماله، ونفاه إلى البحرين، فقال أعرابيّ: يا سَخطةً جاءت على مقدارِ ... نَازلَهُ (¬2) الليثُ على اقتدارِ منه وبختيشوعُ في اغترار ... رَمى به في موحشِ القفارِ وفيها اتَّفقَ عيدُ الأضحى، وفطيرُ اليهود، والشعانين للنصارى، في يومٍ واحد، ولم يتَّفق ذلك في الإسلام قبلَ ذلك. [فصل: ] وحجَّ بالناسِ عبدُ الصمد بن موسى (¬3). وفيها توفي (¬4) إبراهيم بن عبد الله بن حاتم أبو إسحاق الهرويّ. وكان يديمُ الصوم، فإذا دعاه أحدٌ إلى طعامٍ أفطر. توفي في رمضان بسامرَّاء. أسند عن إسماعيل بن عُلَيَّة وغيره، ورَوى عنه ابن أبي الدنيا وغيره، واتَّفقوا على ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 210. (¬2) في تاريخ الطبري 11/ 211: ثار له، ولم يذكر البيتان في (ب). (¬3) تاريخ الطبري 11/ 211، والكامل 7/ 85. (¬4) من هنا إلى آخر وفيات هذه السنة، لم يذكر في (ب).

أحمد بن حميد

فضله (¬1)، حتى قال إبراهيم: كان حافظًا متقنًا ثقةً (¬2)، ما كان هاهنا أحدٌ مثله. أحمد بن حُميد أبو طالب المُشْكَانيُّ، صاحبُ الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وروى عنه مسائل انفردَ بها، وكان الإمام أحمد يكرمُه ويُعظمه، وكان صبورًا على الفقر، صالحًا، تعلَّم من الإمام أحمد مذهب القناعة (¬3). أحمد (¬4) بن مَنِيع بن عبد الرحمن أبو جعفر المروزي (¬5) الأصمّ، جدُّ البغويِّ لأمِّه. ولد سنةَ ستين ومئة، ونشأَ في طلب العلم، وكان متعِّبدًا يختمُ القرآنَ في كل ثلاثة أيام، توفي في شوَّال. أسندَ عن ابن المبارك وغيره، وروى عنه البخاريُّ (¬6) ومسلم وغيرهما، وكان صدوقًا ثقةً (¬7). الحسن بن شُجَاع بن رَجاء أبو عليّ البلخيّ، سافر في طلب الحديث، وسمعَ الكثير، ولقيَ الشيوخ، وكان حفظة. قال عبد الله بن الإمام أحمد: قلت لأبي: يا أبت، من الحفَّاظ؟ قال: يا بنيّ، ¬

_ (¬1) في دعوى الاتفاق عليه نظر، فقد قبله جماعة، وضعفه أبو داود، وقال النسائي: ليس بثقة. انظر أقوال العلماء فيه في تهذيب الكمال 2/ 121 - 122، وسير أعلام النبلاء 11/ 479. وأرجع ابن حجر كلام العلماء فيه إلى كلامه في القرآن في المحنة المشهورة. انظر تهذيب التهذيب 1/ 71، وقال ابن حجر في التقريب: صدوقٌ حافظٌ تكلم فيه بسبب القرآن. (¬2) كذا في (خ) و (ف) والمنتظم 11/ 323، وفي تاريخ بغداد 7/ 34، وتهذيب الكمال 2/ 122: تقيًّا. (¬3) تاريخ بغداد 5/ 198. (¬4) في (خ) و (ف): محمد. والمثبت من المصادر. (¬5) كذا في (خ) و (ف)، والمنتظم 11/ 324، والصواب: المروروذي. انظر تاريخ بغداد 6/ 377، وسير أعلام النبلاء 11/ 483. (¬6) رواية البخاري عنه بواسطة. انظر سير أعلام النبلاء 11/ 483. (¬7) تاريخ بغداد 6/ 377 - 379، وانظر ترجمته أيضًا في تهذيب الكمال 1/ 495.

علي بن حجر بن إياس

شبابٌ كانوا عندنا من أهل خُرَاسان، قلت: من هم؟ قال: محمدُ بن إسماعيل البخاري، وعبيد الله بن عبد الكريم، أبو زُرْعة (¬1) الرازي، وعبدُ الله بن عبد الرحمن السمرقنديّ، والحسنُ بن شُجاع البلخيّ، قلت: فمن أحفظ منهم؟ قال: أمَّا البخاريُّ فأعرفهم، وأمَّا السمرقنديُّ فأتقنُهم، وأما الرازيُّ فأسردُهم، وأما الحسنُ بن شُجاع فأجمعُهم للأبواب. وقال الحاكم: أدركت المنيةُ الحسنَ قبل الخمسين، فمات وهو ابن تسعٍ وأربعين سنة. سمع خلقًا كثيرًا منهم أبو مُسْهرِ الغسانيّ وغيره، وروى عنه البخاريُّ وغيرُه، واتَّفقُوا على أنَّه ثقة (¬2). علي بن حُجْر بن إياس ابن مُقاتل بن المُشَمْرِخ (¬3) أبو الحسن السَّعْدِيّ، ولد سنة أربع وخمسين ومئة، وكان من علماء خراسان. نزل بغداد، ثمَّ تحوَّل إلى مرو، وكان حافظًا صادقًا متقنًا فاضلًا شاعرًا، طافَ الدنيا، وانتشر حديثه بمرو، وبها ماتَ في جمادى الأولى. سمع ابن المبارك وغيره، وروى عنه البخاريُّ ومسلم وغيرهما، وكتب إلى بعض إخوانه: [من الوافر] أحنُّ إلى عتابِكَ غير أنِّي ... أُجِلُّكَ عن عتابٍ في كتابِ ونحنُ إذا التقينَا بعد بينٍ ... شفيتَ عليلَ (¬4) صدري بالعتابِ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وأبو زرعة. وهو خطأ. (¬2) انظر ترجمته في تاريخ دمشق 4/ 458 - 459 (مخطوط)، وتهذيب الكمال 6/ 172 - 176، وتاريخ الإسلام 5/ 1116. (¬3) كذا في (خ) و (ف) وتاريخ دمشق 49/ 32. وفي تهذيب الكمال 20/ 355، وتاريخ الإسلام 5/ 1186، وسير أعلام النبلاء 11/ 507: بن مقاتل بن مُخَادِش بن مُشَمْرِج. وقال الذهبي في السير: ولجده مشمرج بن خالد صحبة. قال ابن حجر في الإصابة 9/ 208: مُشَمْرِج بضم أوله وفتح الشين المعجمة وسكون الميم وكسر الراء بعدها جيم ... (¬4) في تاريخ بغداد 13/ 363، وتاريخ دمشق 49/ 36 (طبعة مجمع اللغة): غليل.

محمد بن الحسن بن طريف

وإن سبقتْ بنا دارُ المنايا (¬1) ... فكم من حضرةٍ (¬2) تحت الترابِ وقال أيضًا: [من الرجز] لتتركنَّ قصركَ المبنيَّا ... وكرمَك المعرَّشَ المسقيَّا والحوضَ والبستانَ والرَّكِيَّا ... والمجلسَ المبجَّل (¬3) البهيَّا والمسجدَ المشرَّف العليَّا ... والبابَ والوصيدَ والنديَّا والتبرَ والأوراقَ والحُليَّا ... لوارثٍ عهدتَهُ عَصِيَّا يأكُلُه أكلًا له هنيَّا ... ثم تزورُ جَدَثًا قصيَّا في ملحدٍ تُلقَى به نسيَّا (¬4) ... قضاء ربٍّ لم يزل خفيَّا (¬5) يعلمُ منكَ الجهرَ والخفيَّا ... وكان وعدُ ربِّنا مأتيَّا محمدُ بن الحسن بن طَرِيف أبو بكر الأَعْين البغدادي. كان الإمامُ أحمد رحمه الله يثني عليه، ويقول: رحمَ الله الأعين، إنِّي لأغبِطهُ، لقد ماتَ ولا يعرفُ إلَّا الحديث، ولم يكن صاحب كلام. مات ببغداد في هذه السنة (¬6). وقيل: في سنة أربعين (¬7). سمع سعيد بن أبي مريم وغيره، ورَوى عنه أبو زُرعة الرازيُّ وغيره. وكان ثقةً. محمد بن العلاء بن كُرَيب أبو كُرَيب الهَمْداني الكوفي. ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق والمنتظم 11/ 326: ذات المنايا. (¬2) في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق والمنتظم: عاتبٍ. (¬3) في تاريخ دمشق 49/ 38: المنجَّد. (¬4) في تاريخ دمشق: منسيّا. (¬5) في تاريخ دمشق: حفيَّا. (¬6) الوافي بالوفيات 2/ 336. (¬7) تاريخ بغداد 2/ 575، وتهذيب الكمال 26/ 79، وتاريخ الإسلام 5/ 925، وسير أعلام النبلاء 12/ 120. وذكره ابن الجوزي في المنتظم 11/ 280 في وفيات سنة أربعين ومئتين.

محمد بن أبي العتاهية

لم يكن بعد الإمام أحمد رحمه الله أحفظ منه، شاع عنه أنَّه كان يحفظُ ثلاثَ مئة ألف حديث، وتوفي في جمادى الآخرة (¬1). أسند عن عبد الله بن المبارك وغيره، وروى عنه البخاريُّ ومسلم وغيرهما. وغَلبتْ عليه اليبوسة، فقال الطبيب: غلِّفُوا رأسَه بالفالوذج، فغلَّفُوه، فتناوله من رأسه فأكله، وقال: بطني أحوجُ إلى هذا من رأسي. وقال عبدُ الله بن محمد بن الورَّاق (¬2): جئنا إلى أحمد بن حنبل، فقال: من أين جئتم؟ قلت: من مجلس أبي كُريب، فقال: اكتبوا عنه، فأنَّه شيخٌ صالحٌ، فقلنا: فإنَّه يطعنُ عليك، فقال: فأيُّ حيلةٍ لي، شيخٌ صالح قد بُلِي بي. وأوصى أن تدفنَ كتبُه، فدفنت. محمد بن أبي العتاهية أبو عبد الله الشاعر، ويلقب عتاهية، كان زاهدًا عفيفًا طَاهر اللسان، حذا حذو أبيه في القول والزهد، ومن شعره يقول: [من السريع] لربما غُوفِصَ (¬3) ذو شِرَّةٍ ... أصحَّ ما كان ولم يَسْقَمِ يا واضعَ الميِّتِ في قبره ... خاطبكَ اللحدُ فلم تفهمِ وقال أيضًا: [من مخلَّع البسيط] قد أفلح الساكتُ الصموتُ ... كلامُ راعي الكلام قوتُ ما كلُّ نطقٍ له جواب ... جوابُ من (¬4) يُكرهُ السكوتُ يا عجبًا لامرئٍ ظَلُومٍ ... مُستيقنٍ أنَّه يموتُ * * * ¬

_ (¬1) لكن في سنة ثمان وأربعين ومئتين. وقيل: مات سنة سبع وأربعين. قال المزي: وهو وهم. تهذيب الكمال 26/ 248، وانظر تاريخ دمشق 64/ 109 - 110، 113 (طبعة مجمع اللغة)، وتاريخ الإسلام 5/ 1239، وسير أعلام النبلاء 11/ 396. (¬2) في تاريخ دمشق 64/ 112: عبد الله بن محمد الوراق. (¬3) غافصه أي: أخذه على غرَّة. مختار الصحاح (غفص). (¬4) في تاريخ بغداد 2/ 358، والمنتظم 11/ 326: ما.

السنة الخامسة والأربعون بعد المئتين

السنة الخامسة والأربعون بعد المئتين فيها عمَّت الزلازلُ الدُّنيا، فأخربت القلاع والمدن والقناطر، وهلكَ خلقٌ كثيرٌ من أهل العراق والمغرب، [وأنطاكية، وسقط فيها] (¬1) ألفٌ وخمس مئة دار، ونيِّفٌ وتسعونَ برجًا، وسمعوا من السماء والكوى والأزقَّة أصواتًا هائلة، وهربَ أهلُها إلى البريِّة، وتقطَّع جبلُها الأقرع، وسقطَ في البحر، فهاج البحرُ من ذلك، وارتفع منه دخانٌ أسود منتن، وغار نهرها. وامتدَّت الزلزلة إلى حمص، وحماة، وحلب، ودمشق، وطَرَسُوس، وأَذَنَة، والمَصِّيصَة، وسواحل الشام، وزُلزِلت اللاذقيَّة، فوقعت على أهلها، فما نجا منهم إلَّا اليسير، وذهبت جَبَلة بأهلِها. وعبرت الزلزلةُ الفرات بعد أن هدمت بَالِسْ وما حولَها وحَرَّان والرُّهَا والرقَّة ورأس عين [و] المَوْصل، وامتدَّت إلى خُرَاسان، فمات خلقٌ لا يحصون كثرةً. وأمر المتوكِّلُ بثلاثة آلاف ألف درهمٍ للذين أصيبوا بمنازلهم. وزُلزلت مصر وبلبيس وسمعَ أهلُها من ناحية مصر ضجةً هائلةً، فماتَ من أهل بلبيس خلقٌ كثير (¬2). وظهرت نارٌ من السماء من ناحية القبلة. وغارت عيونُ مكَّة (¬3). [فصل: ] وفيها أمر المتوكِّلُ ببناء الماحوزة، وأقطع القوَّاد والحاشية مواضعَ من بنائها، وانتقل إلى المحمديَّة ليتمَّ البناء، وسمَّاها الجعفريّ، وأنفقَ عليها أكثرَ من ألفي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وسقط بأنطاكية. (¬2) كذا في (ب) و (خ) و (ف). وفيه نظر، ووقع الخبر في تاريخ الطبري 9/ 213، والمنتظم 11/ 328 - 329 بعد خبر هيجان البحر، السالف قريبًا، ونصُّه: وسمع فيها -فيما قيل- أهلُ تِنِّيس في مصر ضجةً دائمةً هائلةً، فمات منها خلق كثير. اهـ. فلم يرد فيه ذكرٌ لزلزلة مصر. وانظر الكامل 7/ 87. (¬3) كذا، وفي تاريخ الطبري 9/ 213، والمنتظم 11/ 329: وفيها غارت مُشَاشُ عين مكة، حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهمًا، فبعثت أمُّ المتوكل فأنفقت عليها.

ألف دينار، وأحضر القرَّاء فقرؤوا، وأحضرَ أصحاب الملاهي فلعبوا، ووهبَ لهم ألفي ألف درهم، وبَنى فيها قصرًا سمَّاه اللؤلؤة، لم يُرَ مثلُه في علوِّه وارتفاعه، وأمرَ بحفر نهرٍ يأخذ من فراسخ فوق الماحوزة، [يأخذ من مكان يقال له: كَرْمَى، ] يكون شِربًا لما حولها، وقَدَّر للنهر من النفقة مئتي ألف دينار، وأخذ الخَصَاصَة العُليا والسفلى -وهما قريتان [وكَرْمَى أيضًا قرية]- وأمرَ أهلها ببيعِ منازلهم وإخراجهم منها، وألقى في حفر النهر اثني عشرَ ألف رجل [يعملون فيه، فأقاموا يعملون] (¬1) فيه حتى قُتِل المتوكِّل، فبطلَ النهرُ، وخربت المَاحُوزة، ونُقِضَ القصر (¬2). وفيها أغارت الروم على بلاد حلب ووصلوا سُمَيسَاط (¬3)، فقتلوا خمس مئةٍ من المسلمين وسبوا وعادوا (¬4). وغَزا الصائفة عليُّ بن يحيى الأرمنيّ، فلم يظفر بهم. وحجَّ بالناس محمدُ بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام. وردَّ المتوكِّلُ النيروزَ إلى عهد أردشير رفقًا بالرعية وأهل الخراج، فوافقَ ذلك يوم السبت [لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ولسبع عشرة خلت من حزيران، ولثمان وعشرين من] (¬5) أرديبهشت (¬6)، فقال البحتري: [من الخفيف] إنَّ يوم النيروزِ عادَ إلى العهـ ... ـــد الذي كان سَنَّه أردشيرُ (¬7) وكان الخلفاءُ قبل المتوكِّل غيَّروه، [والله أعلم بالصواب]. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فلم يزالوا يعملوا. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 212. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ) و (ف): صصاب، وفي (ب): شهيمات. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 218، والمنتظم 11/ 330، والكامل 7/ 89. (¬4) في المصادر: فقتلوا وسبوا نحوًا من خمس مئة. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): يوم السبت حادي عشر شهر ربيع الأول، وسابع عشر حزيران، وثامن وعشرين. (¬6) في (خ) و (ف) و (ب): أزديرهشت. وفي تاريخ الطبري 9/ 218: أرديوهشت. وأرديبهشت: الشهر الثاني من السنة الشمسية. المعجم الذهبي ص 60. (¬7) ديوان البحتري 2/ 902، ولم يرد البيت في (ب).

إسحاق بن أبي إسرائيل

وفيها توفي (¬1) إسحاقُ بن أبي إسرائيل - واسمه إبراهيم- أبو يعقوب المروزيّ. ولد سنة خمسين ومئة، ومات بسامرَّاء. سمع حمَّادَ بن زيد وغيره. وأخرج عنه البخاري (¬2) وغيره، إلَّا أنَّهم توقَّفوا في الرواية عنه؛ لأنَّه كان واقفيًّا لا يقول: القرآن مخلوق ولا غير مخلوق، وكان يقول: لا أقول هذا على الشكّ، ولكن أسكتُ كما سكتَ القوم قبلي، فذمُّوه لسكوته (¬3). وقال حفص بن عمر المِهْرَقَانيّ: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم واقفًا على باب إسحاق وهو يقول: عنَّيتني إليك من ألفٍ وخمسين فرسخًا، أنت الذي تقف في القرآن؟ ! (¬4) وقال أحمد (¬5) بن المدبر الكاتب: كنَّا عند المتوكِّل، فدخلَ عليه إسحاق، فقال: يا أمير المؤمنين، حدَّثنا الفضيلُ بن عياض، عن هشام بن حسَّان، عن الحسن أنَّه قال: المصافحةُ تزيدُ في المودَّة، فمدَّ المتوكِّل يدَه فصافحَه (¬6). الحسين بن علي بن يزيد أبو علي الكرابيسيّ، كان يبيعُ الكرابيس (¬7)، وهي ثيابٌ من الكرابيس معروفة. كان الإمام أحمد بن حنبل رحمهُ الله ذامًّا له يقول: مات بشر المريسيّ، وخلفَه حسينٌ الكرابيسيّ. وكان حسينٌ من اللفظيَّة، يقول: لفظي بالقرآن مخلوق. وجاء رجلٌ إليه فسألَه عن القرآن، فقال: لفظي به مخلوق. وجاء رجلٌ (¬8) إلى الإمام ¬

_ (¬1) من هنا ... إلى ترجمة أبي تراب النخشبي ليس في (ب). (¬2) في كتاب الأدب. انظر سير أعلام النبلاء 11/ 476. (¬3) قال الإمام الذهبي في السير 11/ 478: الإنصاف في من هذا حاله أن يكون باقيًا على عدالته. (¬4) تاريخ بغداد 7/ 382. (¬5) كذا في (خ) و (ف). وفي المنتظم 11/ 331، وتاريخ بغداد 7/ 378: إبراهيم. (¬6) انظر ترجمته أيضًا في تهذيب الكمال 2/ 398 - 407. (¬7) الكرباس: ثوب من القطن الأبيض. القاموس (كربس). (¬8) هو نفس الرجل الذي ذهب إلى الكرابيسي. انظر تمام الخبر في تاريخ بغداد 8/ 612 - 613.

سوار بن عبد الله

أحمد رحمة الله عليه فأخبره، فقال: بدعة، فرجع إلى الكرابيسي فأخبرَه، فقال: أيشٍ أعملُ بهذا الصبي، إن قلنا: لفظُنا بالقرآن مخلوق، قال: بدعة، وإن قلنا: غير مخلوق، قال: بدعة (¬1). ولمَّا سمعَ الناسُ كلام الكرابيسيِّ في الإمام أحمد رحمه الله تركوا الروايةَ عنه. ولعنه ابن معين وقال: إنَّما يتكلم في الناس أشكالُهم، ما أحوجه إلى أن يُضْرَبَ. وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: أظهرَ حسين رأيَ (¬2) جَهْمِ بن صفوان، وإنَّما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي صنفوها، وتركوا الآثار، ألم تسمع قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فممَّن يسمع؟ وتوفي في هذه السنة، وقيل: سنة سبع وأربعين (¬3). سمع من الشافعي رحمة الله عليه وغيره، وروى عنه محمد فُسْتُقة. سوَّار بن عبد الله ابن سوَّار بن عبد الله بن قُدامة، أبو عبد الله العنْبَريّ البصريّ، كان عالمًا فاضلًا فقيهًا زاهدًا شاعرًا ديِّنًا أديبًا. نزل بغداد، ووليَ بها القضاءَ في الرُّصافة شرقي بغداد سنة سبعٍ وثلاثين ومئتين. وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه يثني عليه ويقول: ما بلغني عنه إلّا الخير. وإن كان عنده دفعه (¬4)، فقال فيه الشاعر: [من البسيط] ¬

_ (¬1) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/ 82: ولا ريب أنَّ ما ابتدعه الكرابيسيُّ وحرَّره في مسألة التلفظ وأنه مخلوق هو حق، لكن أَباهُ الإمامُ أحمد؛ لئلا يُتَذَرَّع به إلى القول بخلق القرآن، فسُدَّ الباب؛ لأنك لا تقدر أن تَفْرِزِ التلفظَ من الملفوظ الذي هو كلام الله إلا في ذهنك. (¬2) في (خ) و (ف): بن أبي. وهو تحريف قبيح، انظر تاريخ بغداد 8/ 614. (¬3) لم أقف على هذا القول. والراجح أنه توفي سنة ثمان وأربعين. انظر تاريخ بغداد 8/ 615، والمنتظم 12/ 14، وسير أعلام النبلاء 12/ 82. (¬4) كذا في (خ) و (ف). وتمام الخبر كما في تاريخ بغداد 10/ 292: عن مسبح بن حاتم قال: سمعت سوار يقول إن كان عنده قال: نعم، وإن لم يكن عنده قال: يقضي الله، ولا يقول: لا.

ما قال لا قطُّ إلَّا في تشهُّده ... لولا التشهُّد لم تسمعْ له لاء (¬1) ودخلَ الحمَّامَ يومًا، فجاءَ على قلبه شيء من الوجد (¬2) فقال: [من الطويل] سَلَبْتِ عظامي لحمَها فتركتِها ... عواريَ ممَّا نالها تتكسَّرُ وأخليتِ منها مخَّها فكأنَّها ... قواريرُ في أجوافها الريحُ تَصْفُرُ خذي بيدي ثمَّ ارفعي الثوبَ تنظُري ... ضنا جَسدي لكنَّني أتستَّرُ ودخلَ الحمام يومًا خلفَه رجلٌ، وقد استلقَى على ظهره يتغنَّى، فقال له: أيُّها القاضي مسألة، فقال: ليس هذا موضعَ المسائل، فقال: إنَّما هي من مسائل الحمَّام، فضحك وقال: سل، فقال: أنت القائل: سَلَبْتِ عظامي لحمَها؟ فقال: نعم، قال: فإنَّه يُتَغَّنى بها، فقال: لو شهدَ الذي يُغنِّي بها عندي لأجزتُ شهادتَه (¬3). ودخل سوَّار يومًا على محمد بن عبد الله بن طاهر، فقال له: أيُّها الأمير، إني قد جئتُك في حاجةٍ رفعتُها إلى الله قبلَ أن أرفعَها إليك، فإنْ قضيتَها حمدنَا الله وشكرنَاك، وإن لم تقضهَا حمدنا الله وعذرنَاك، فقضى جميعَ حوائِجه (¬4). وقال محمَّد بن سلَّام: كان حمَّاد بن موسى صاحبَ أمر محمد بن سليمان والي البصرة والغالبَ عليه، فحَبسَ سوَّارُ رجلًا، فبعث حمَّاد من أخرجه من الحبس، فجاء خصمه إلى سوّار، فأخبره، فجاء سوّار فدخل على محمد بن سليمان وهو في مجلسه، والناس على مراتبهم، فجلس حيث يراه محمد، ثمَّ دعا قائدًا من قواد محمد، ثمَّ بآخر وآخر، فقال لهم: أسامعون أنتم مطيعون؟ قالوا: نعم، قال: انطلقوا إلى حمَّاد بن موسى، فضعوه في الحبس، أفنظروا إلى محمد بن سليمان، فأشارَ إليهم أن افعلوا ما أمرَكم به، فانطلقوا إلى حمَّاد فوضعوه في الحبس، ] (¬5) وانصرفَ سوَّار إلى منزله، فلمَّا ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 10/ 292: أتسمع له لا لا. (¬2) في تاريخ بغداد 10/ 291: كان سوار قد خامر قلبه شيءٌ من الوجد فقال. اهـ. وليس فيه أنه قاله في الحمام. (¬3) تاريخ بغداد 10/ 292، والمنتظم 11/ 332. (¬4) تاريخ بغداد 10/ 291. (¬5) ما بين حاصرتين من المنتظم 11/ 333. وانظر أخبار القضاة 2/ 69.

عبد الرحمن بن إبراهيم

كان العشاء أرادَ محمدٌ الركوبَ إلى منزل سوَّار، وجاءته الرسلُ تخبره بذلك، فقال: بل أنا أولَى بالركوب إليه، فركب، فتلقَّاه محمد، وقال: كنت على المجيء إليك يا أبا عبد الله، فقال: ما كنتُ لأجشم الأميرَ ذلك، فقال: بلغني ما صنعَ هذا الجاهل حمَّاد، فإن رأيتَ أن تهب لي ذنبَه، فقال: إنْ ردَّ الرجلَ إلى الحبس، قال: نعم بالصغر والذل، فردَّه إلى الحبس، وأخرج حماد. وكتبَ بذلك صاحبُ الخبر إلى الرشيد، فكتب إلى سوَّار يجزيه خيرًا ويحمدُه على ما فعل، وكتب إلى محمد كتابًا غليظًا يذكر فيه حماد، ويقول: الرافضيُّ ابن الرافضيّ، والله لولا أنَّ الوعيد أمامَ العقوبة ما أدَّبتُه إلَّا بالسيف؛ ليكون عظةً لغيره، ونكالًا على مَنْ يعتاب (¬1) على قاضي المسلمين في رأيه، ويركب هواهُ لموضعِه منك، ويعترضُ في الأحكام استهانةً بأمر الله تعالى وإقدامًا على أمير المؤمنين، وما ذاك إلَّا بك وبما أرخيتَ من رسنه، وبالله إن عاد إلى مثلها ليجدنِّي أغضبُ لدين الله وأنتقمُ لأوليائه من أعدائه. وكانت وفاةُ سوَّار في شوَّال بعد أن كُفَّ بصرُه. حدَّثَ عن عبد الرحمن بن مَهْدِي وغيره، ورَوى عنه عبدُ الله ابن الإمام أحمد رحمه الله وغيره، وكان صدوقًا ثقةً (¬2). عبد الرحمن بن إبراهيم ابن عَمرو بن ميمون، أبو سعيد القُرَشيّ مولاهم، ويعرف بالقاضي دُحَيم. ولد في شوَّال سنة سبعين ومئة، وولي القضاءَ بدمشق وطَبَرِيّة والرَّمْلَة، وكان ينتحلُ مذهب الأوزاعيِّ في الفقه، ومات بالرملة يوم الأحد لثلاث عشرة بقين من رمضان (¬3). سمع سفيانَ بن عُيينة وخلقًا كثيرًا غيره، وروى عنه الإمامُ أحمد رحمة الله عليه - وهو أكبر منه - والبخاريُّ وغيرهما. واتَّفقوا على صدقِه وورعِه وأمانته، حتى قال الإمام ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي أخبار القضاة والمنتظم: ليكون عظة لغيره ونكالًا، يفتات على ... (¬2) انظر ترجمة سوَّار أيضًا في تهذيب الكمال 12/ 238 - 240، وسير أعلام النبلاء 11/ 543 - 545. (¬3) في تاريخ دمشق 9/ 849 (مخطوط): لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.

أبو تراب النخشبي

أحمد: دُحَيم عاقلٌ ركين (¬1). [وفيها توفي أبو تراب النَّخْشَبيّ واسمه عَسْكَر بن محمد (¬2) بن الحُصَين] (¬3) الزاهدُ العارف، [صحب حاتم الأصمّ، وأبا حاتم العطَّار البصري، و] كان من جِلَّة مشايخ خُرَاسان [المذكورين، و] المشهورين بالعلم والفتوَّة والورع والزهد والتوكُّل. [وروى الخطيب عن أبي عبد الله بن الجلَّاء قال: ] (¬4) لقيتُ ستَّ مئة شيخ، ما لقيتُ منهم مثل أربعة، منهم (¬5) أبو تُراب النَّخْشَبيّ. [ذكر طرف من أخباره: ذكر بعضها في "المناقب"، حكى الخطيب عن أبي عبد الله بن الجلَّاء قال: ] (¬6) قدمَ أبو تراب مرة إلى مكَّة (¬7)، فقلت له: يا أستاذ، أين أكلت؟ فقال: جئت بفُضولك، أكلت أكْلَة بالبصرة، وأكْلَة بالنِّباج (¬8)، وأكْلَة عندكم. وكان يحجُّ على قدم التوكُّل. [و] قال أبو عبد الرحمن السلميّ: قدم أبو تراب بغداد غيرَ مرَّة، واجتمع بالإمام أحمد، فسمعه يقول: فلانٌ ثقةٌ، وفلان غيرُ ثقة، فقال له: يا شيخ، [هذه غيبة، أو: ] لا تغتاب المسلمين، فقال [له] الإمام أحمد رحمه الله: هذه نصيحة لا غيبة (¬9). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 11/ 549 - 551، وتاريخ دمشق 9/ 845 - 850، والمنتظم 11/ 335، وتهذيب الكمال 16/ 495 - 501، وسير أعلام النبلاء 11/ 515 - 518. (¬2) كذا في (خ) و (ف) و (ب)، والذي في المصادر: عسكر بن الحصين، وفي مناقب الأبرار 1/ 286: عسكر بن حصين، ويقال: عسكر بن محمد بن حصين. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): عسكر بن محمد بن الحصين أبو تراب النخشبي. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال أبو عبد الله الجلاء. (¬5) في تاريخ بغداد 14/ 266، ومناقب الأبرار 1/ 287: أولهم. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال الجلاء. (¬7) في (خ) و (ف): الكوفة. والمثبت من (ب) وتاريخ بغداد 14/ 267. (¬8) النِّباج: منزلٌ لُحجَّاج البصرة. معجم البلدان 5/ 255. (¬9) انظر تاريخ بغداد 14/ 266. وما سلف بين حاصرتين من (ب).

[وروى الخطيب عن الحسين بن خَيران الفقيه قال: ] (¬1) مرَّ أبو تراب بمُزَيِّن، فقال له: تحلِقُ رأسي لله تعالى؟ قال: نعم، اجلس، [فجلس]، فبينا هو يحلقُ رأسَه إذ مرَّ به أميرٌ من أهل بلده، فقال لحاشيته: أليسَ هذا أبو تراب؟ قالوا: نعم، فقال: أيشٍ معكم؟ فقال رجل من خاصَّته: معي خريطةٌ فيها ألف دينار، قال: ادفعها إليه إذا قام، واعتذر إليه، وقل له: لم يكنْ معنا غيرُها، فجاء الغلام إليه بها، واعتذر، وقال له ما قال الأمير، فقال أبو تراب: ادفعها إلى المزيِّن، فقال للمزيِّن: خُذها، فقال [المزيِّن: ] أنا حلقتُ رأسَه لله، والله لو أعطاني ملكَ الدنيا ما أخذتُه (¬2)، فقال أبو تراب للرسول: قل له: ما رضيَ المزيِّن يأخذها، فخذها أنت، اصرفها في مهماتك. [وحكى عنه أبو نُعيم الأصفهاني قال: ] بيني وبينَ الله عهدٌ ألا أمدَّ يدي إلى حرام إلَّا قصرت يدي عنه (¬3). [وحدثنا غير واحدٍ عن أبي بكر بن حبيب العامري، بإسناده إلى أبي العباس الشرقيّ قال: ] (¬4) كنَّا مع أبي تراب بطريق مكَّة، فمرض، فعدلْنَا عن الطريق، فقال بعضُ أصحابه: أنا عطشان، فضرب أبو تُراب برجله الأرضَ، فإذا عينُ ماء مثل الزُّلَال، فقال السائل: أحبُّ أن أشربه في قدحِ زجاجٍ أبيض، فضرب أبو تراب بيده إلى الأرض، فأخرج قدحًا من زجاجٍ أبيض كأحسن ما رأيت، فشربَ وسقانا، وما زال القدح معنا إلى مكَّة، فقال [لي: ] ما يقولُ أصحابُك في هذه الأمور التي يكرمُ الله بها عباده؟ فقلت: ما رأيتُ أحدًا إلَّا وهو يؤمنُ بها، قال: ما سألتُك إلَّا عن الأحوال، قلت: ما أعرفُ لهم فيه قولًا، فقال: بلى، زعموا أنَّها خُدع من الحقّ (¬5)، وليس كما ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال الحسين بن خيران الفقيه. (¬2) في تاريخ بغداد 14/ 267: فقال: لا والله، ولو أنها ألفي دينار ما أخذتها. (¬3) حلية الأولياء 10/ 47 - 48. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أبو العباس المشرقي. (¬5) كذا في (خ) و (ف) و (ب)، والرسالة القشيرية ص 544، وصفة الصفوة 4/ 174، ومناقب الأبرار 1/ 289. وفي تاريخ دمشق 47/ 364 (طبعة مجمع اللغة): خدع من الجنّ.

زعموا، إنما الخدع تكون في حال السكون إليها، فأمَّا من لم يعرِّج على الملك في اعتناق (¬1) الحقائق، فتلك مرتبةُ الربانيين. [وقال ابن باكويه: ] كان أبو تراب يقولُ لأصحابه: من لبسَ منكم مرقعةً، أو قعدَ في خانكاه أو مسجدٍ، أو قرأ القرآن وأحدٌ يسمعُه، فقد تعرَّضَ للسؤال، [أو سأل الناس]. [وروى ابن باكويه عنه أنَّه قال: كنت في السفر، فاشتهت نفسي عليَّ خبزًا وبيضًا] (¬2)، فعدلتُ إلى قريةٍ، فوثبَ عليَّ رجل من أهلها، فتعلَّق بي وقال: هذا كان مع اللصوص، فبطحوني وضربوني سبعينَ خشبةً، فوقفَ عليهم رجلٌ فعرفني، فصاح وقال: ويلَكم ما صنعتُم؟ ! هذا أبو تراب، فأطلَقوني واعتذرُوا إليَّ، وأدخلني الرجلُ إلى منزله، فقدم لي خبزًا وبيضًا، فقلتُ في نفسي: كل بعد سبعينَ خشبةً. [وقد ذكرها الخطيب، وقال: ما تمنَّت علي نفسي شيئًا قطُّ إلَّا مرَّةً واحدةً، تمنَّت خبزًا وبيضًا (¬3). قلت: قد كان ينبغي أن لا يأكلَ البيض لوجهين؛ أحدهما: لما جرى عليه من الضرب، والثاني: عقوبة لنفسه، ومجاهدةً لها. وحكوا عن ابن باكويه أيضًا عن محمد بن يوسف البنَّاء قال: ] (¬4) كان أبو تراب صاحبَ كرامات، سافرنَا معه إلى مكَّة ومعه أربعون فقيرًا، فأصابتنا فاقة، فعدلَ بنا عن الطريق، وجاءنا بـ[عِذْق] موز، فتناولنا منه، وكان معنا فقيرٌ، فلم يأكل، فقال له [أبو تراب: ] كل، فقال: الحالُ التي اعتقدتُها ترك المعلومات، وجعلتك معلومي، فقال: ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): أغساق. وفي (ب): أعناق. والمثبت من صفة الصفوة. ونص العبارة في الرسالة القشيرية وتاريخ دمشق: فأما من لم يقترح ذلك، ولم يساكنها، فتلك ... (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال: ما تمنت عليَّ نفسي شيئًا قط إلا مرةً واحدة، تمنيت خبزًا وبيضًا، وكنت في السفر. والمذكور في (خ) و (ف) هو لفظ الخطيب في تاريخه. وسيأتي. (¬3) تاريخ بغداد 14/ 267. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال محمد بن يوسف البناء.

كنْ مع ما وقع لك (¬1). [وحكى عنه ابن باكويه أيضًا قال: ] (¬2) خرجتُ إلى مكَّة، فقلتُ لأصحابي: امضُوا على طريق وأنا على غيرها، والموعدُ مكَّة، [قال: ] فمضوا، وسرتُ وحدي وساروا، وجعتُ وجاعوا، فصادَ بعضُهم ظبيًا، فذبحه وشواه، وجلسُوا يأكلون، فانقضَّ عليهم نسرٌ فأخذَ قطعةً من الظبي، وجاء إليَّ وأنا أمشي وحدي، فألقَاها إليَّ فأكلتُها، فلمَّا اجتمعنا بمكَّة، حكوا لي حكاية النسر، فقلت: أنا أكلتُ الشوي، فنظرُوا فإذا كلُّنا [قد] أكلنَا في وقتٍ واحد. وقال [يوسف] بن الحسين الرازي: صحبتُ أبا تراب في طريق مكَّة خمسين حجَّة (¬3) على غير الجادة، وكنتُ أشاهدُ منه العجائب، فرأى يومًا في وجهي أثرَ الجوع، فقال: التفتْ فالتفتُّ، فإذا برغيفٍ وكوز ماء، فقال: كل، قلت: وأنت؟ قال: يأكلُ من اشتهاه، [فأكلت] (¬4). وقال أبو تراب: دخلتُ البادية ومعي ثلاثُ مئة تلميذ على التوكُّل، ومعنا جِمالٌ، فوقع الموتُ فيها، وضعفَ أصحابي عن المشي، فهتفَ بي هاتفٌ: يا أبا تراب، لا نرى لك قدمًا إلا والله قدَّمكَ فيها، ألم تر إلى موسى - عليه السلام - لما قال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيهَا} [طه: 18] وادعى ملكًا ورأى نفسه، قال الله تعالى: {أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف: 117] فقلت: أنشدُك الله، من أنت؟ قال: الخضر، وقد وكَّلني الله بقلوبِ أوليائه، إذا شردت عنه رددتُها إليه، يا أبا تراب، التلف في أول قدم، والنجاة في آخره، فأخذني الاستقلال من وقتي، فلا أدري أسائرًا كنت أو طائرًا (¬5). ¬

_ (¬1) انظر الخبر في مناقب الأبرار 1/ 289، وتاريخ دمشق 47/ 364، وفيهما: وصرت أنت معلومي، فلا أصحبك بعد هذا .... (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أبو تراب. (¬3) في مناقب الأبرار 1/ 290، وطبقات الشافعية الكبرى 2/ 308، وطبقات الأولياء ص 357: خمس سنين. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) مناقب الأبرار 1/ 291، ومن قوله: وقال أبو تراب: دخلت ... إلى هنا ليس في (ب).

[ذكر] نبذة من كلامه: قال: إذا أَلِفَت القلوبُ الإعراضَ عن الله صحبَتْها الوقيعةُ في أوليائه (¬1). وقال: أنتم تحبُّون ثلاثةَ أشياء، وليست لكم، النفس والروح، وهما لله، والمال، وهو للورثَة. وقال: الوصولُ إلى الله درجات أوَّلُها الرضا، وأعلاها (¬2) التوكُّل، وليس في العبادات شيءٌ أصلح للقلوب من إصلاحِ الخواطر. وقال له رجل: ألك حاجة؟ قال: يومَ يكون لي إليك وإلى أمثالك حاجة، لا يكونُ لي إلى الله حاجة (¬3). وقال: الفقيرُ قُوْتُه ما وجد، ولباسُه ما ستر، ومسكنُه حيث نزل. وقال: من استفتحَ أبواب المعاش بغير مفاتيح الأقدار وُكِلَ إلى حولِهِ وقوَّته، قيل له: وما مفاتيح الأقدار؟ قال: الرضا بما يَرِدُ عليه من أسباب الغيب. ذكر وفاته: [واختلفوا فيها على قولين أحدهما حكاه ابن الجلَّاء عنه] قال: وقفتُ بعرفات خمسًا وخمسين حِجَّة، فقلت في آخر حجة: اللهمَّ [إنْ كان في هذا الخلق، من لم تقبل حجَّه، فاجعل ثوابَ حجِّي له، [قال: ] وبتُّ بجمع، فرأيت في المنام قائلًا يقول أو هاتفًا يهتف بي: أتتسخَّى عليَّ وأنا أسخى الأسخياء؟ وعزَّتي ما وقفَ أحدٌ هذا الموقفَ إلَّا غفرتُ له، فانتبهتُ وأنا مسرور بهذه الرؤيا، فقصيتها على بعض المشايخ (¬4)، فقال: إنْ صدقَتْ رؤياك عشتَ أربعين يومًا. قال ابن الجلَّاء: فماتَ عند الأربعين، فغسَّلوه وكفَّنوه ودَفنوه [رحمه الله، حكى هذا القول الخطيب (¬5)، والثاني ¬

_ (¬1) لم يرد هذا القول في (ب). (¬2) في (ب): وآخرها. وانظر مناقب الأبرار 1/ 287. (¬3) لم يرد هذا القول في (ب). (¬4) في (ب): فقلت لأقصنها على بعض المشايخ. (¬5) في تاريخه 14/ 267 - 268 لكن من قول أحمد بن محمد بن أبي دارم لا من قول ابن الجلاء. وما بين حاصرتين من (ب).

محمد بن حبيب

حكاه الخطيب أيضًا وأبو نُعَيم والسُّلَمي وابنُ خميس في "مناقب الأبرار" وغيرهم، أنَّه مات بالبادية وأنَّ السِّباعَ نهشته (¬1). [وحكاه ابن الجلَّاء أيضًا، قال أبو نعيم: ] قال ابن أبي عمران الإصطخريّ (¬2): أنَا والله رأيتُه في البادية قائمًا لا يمسكه شيء. أسند أبو تراب الحديثَ عن محمد بن نُمَير، ونُعيم بن حمَّاد وغيرهما، واشتغلَ بالعبادة والحجِّ والسياحات والمجاهدات وتدقيقِ الورع عن الرواية. [انتهت ترجمةُ أبي تراب، والحمدُ لله وحده.] (¬3) محمد بن حبيب (¬4) مولى بني هاشم، كان عالمًا بالأنساب وأيَّام العرب، حافظًا متقنًا، موثَّقًا في روايته صدوقًا. توفي بسامرَّاء في ذي الحجَّة. حَدَّث عن هشام بن محمد الكلبيّ، وروى عنه أبو سعيد السُّكَّريّ. واختلفوا في حبيب، فقال الخطيب: هو اسم أمِّه، وهو ولد ملاعنة. وقال غيره: هو اسم أبيه. وهو الظاهر (¬5). محمد بن رافع ابن أبي رافع بن أبي زيد (¬6) القُشيريّ النيسابوريّ، إمامُ عصره بخراسان علمًا وعملًا وزهدًا وورعًا. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 14/ 268، وحلية الأولياء 10/ 49، وطبقات الصوفية ص 147، ومناقب الأبرار 1/ 286. (¬2) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وفي حلية الأولياء 10/ 49، وتاريخ دمشق 47/ 366: أبو عمرو الإصطخري. (¬3) انظر ترجمة أبي تراب أيضًا في سير أعلام النبلاء 11/ 545 - 546. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) هذه الترجمة وما بعدها ... إلى آخر وفيات هذه السنة، لم ترد في (ب). (¬5) تاريخ بغداد 3/ 87 - 88، والمنتظم 11/ 335 - 336، وتاريخ الإسلام 5/ 1220. (¬6) كذا في (خ) و (ف) والنجوم الزاهرة 2/ 321. وفي المصادر: محمد بن رافع بن أبي زيد ... انظر المنتظم 11/ 245، وتهذيب الكمال 25/ 192، وسير أعلام النبلاء 12/ 214، وتاريخ الإسلام 5/ 1224، وتهذيب التهذيب 3/ 560.

محمد بن القاسم

رحل إلى البلاد، ولقي الشيوخ، وسمع الكثير. بعث إليه عبد الله بن طاهر بخمسة آلاف درهم على يد رسول له، فدخلَ عليه بعدَ صلاة العصر وهو يأكلُ الخبزَ مع الفُجْل، فوضع الكيسَ بين يديه، وقال: بعثني إليك الأمير عبد الله بن طاهر بهذا تنفقه عليك وعلى أهلك، فقال له: خذه خذه، فإنِّي لا أحتاجُ إليه، فإنَّ الشمسَ قد بلغت رؤوسَ الجبال، وإنما تغربُ بعد ساعة، وقد جاوزتُ الثمانين، إلى متى أعيش؟ وردَّ المال، ولم يقبله، فأخذ الرسولُ المال وخرج، ودخل عليه ابنُه في الوقت وقال: يا أبت، ليس عندنا الليلةَ خبزٌ، فبعث ببعضِ أصحابه خلفَ الرسول ليردَّ المال إلى ابن طاهر؛ فزعًا من أن يذهبَ ابنُه خلف الرسول فيأخذ المال. وقال زكريا بن في دلّويه: ربما كان يخرج محمدُ بن رافع إلينا في الشتاءِ الشَّاتي، وقد لبس لحافَه الذي يلبسه بالليل. قال الحاكم: وقد دخلتُ داره وتبرَّكتُ بالصلاة في بيته، واستندت إلى الصنوبرة التي كان يستندُ إليها. وتوفي بنيسابور، وصلى عليه محمدُ بن يحيى. ورؤي في المنام، فقيل له: ما فعلَ الله بك؟ فقال: بشَّرني بالرَّوح والراحة. سمع سفيانَ بن عيينة وغيره، وأخرج عنه البخاريّ ومسلم، وكان رفيقَ الإمام أحمد لمَّا خرج إلى عبد الرزاق، فكان فوق الثقة باتِّفاقِ الحفَّاظ. محمد بن القاسم أبو الحسن المعروف بماني المُوَسْوس، من أهل مصر، قدم بغداد أيام المتوكِّل، وكان من الظِّراف اللِّطاف، توفي بسامراء. ومن شعره: [من الخفيف] زَعمُوا أنَّ من تشاغلَ باللذ ... ــذات عن من يُحِبُّهُ يَتسلَّى كذبُوا والذي تُقادُ له البُدْ ... نُ ومن عاذَ بالطوافِ وصَلَّى

نجاح بن سلمة

إنَّ نارَ الهوى أحرُّ من الجمـ ... ــر على قلبِ عاشقٍ يَتقلَّى (¬1) نجاح بن سَلَمَة كان على ديوان التواقيع للمتوكِّل، وكان يتتبع العُمَّال ويرافعهم، فسعى بهم إلى المتوكِّل، فكان ممَّن سعَى به الحسن بن مَخْلد، وموسى بن عبد الملك، وأنَّهما قد خانا، وأنَّه يَستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم، فقال له المتوكل: تعال غدًا لأدفعهما إليك، فأصبحَ غاديًا إلى دار المتوكِّل، فلقيَه الوزيرُ عبيدُ الله [بن يحيى] (¬2) بن خاقان، وكان الحسن وموسى من أصحابِه، فقال لنجاح: ما الذي دعاكَ إلى ما فعلت؟ ! أنا أصلح بينكما (¬3)، ومهما شئتَ أخذتُ لك منهما، وتكتب رقعةً للمتوكِّل أنك كنت سكران، ولم يزل يخدعه حتى كتبَ رقعةً بما قال الوزير ذلك خوفًا على نفسه، وأخذ الكتابَ ودخل الوزيرُ على المتوكِّل، وقال: يا أمير المؤمنين، قد رجعَ نجاح عمَّا قال، وهذا خطُّه، والحسن وموسى يكفلان بما رُفِع عليهما، فقال سلِّمه إليهما، فسلَّمه إليهما وولديه وكاتبه، فأقرُّوا بأموالٍ عظيمة، وضُرِبَ حتى مات، وقيل: عصروا خصيتيه فمات، فقال الشاعر: [من البسيط] ما كان يَخشى نجاحٌ صَوْلةَ الزمنِ ... حتى أُديل لموسى منه والحَسَنِ غدا على نِعَمِ الأحرارِ يَسلبُها ... فراحَ صفرًا سليبَ المالِ والبدن (¬4) وقيل: إنَّه أخذَ منهم ثلاث مئة ألف دينار، وقيل: إنَّ الحسنَ كان على ديوان الضياع، وموسى على ديوان الخراج، وكانا لا يخالفان الوزير فيما يأمرُهما به، وكان نجاح بن سَلَمة ينادمُ المتوكل، فرفع عليهما كما ذكرنا. وقيل: إنَّ المتوكِّل لما عزم على بناء القصر الجعفريِّ قال له نجاح: يا أمير المؤمنين، أسمِّي لك أقوامًا تأخذُ منهم ما تبني به قصرك ومدائن، قال: نعم، فسمَّى الحسن وموسى، وعيسى بن فَرُّخَنشاه وغيره (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 283 - 284، والمنتظم 11/ 338 - 339. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 214، وانظر تمام الخبر فيه. (¬3) كذا، وفي تاريخ الطبري: بينك وبينهما. (¬4) انظر تاريخ الطبري 9/ 217، والمنتظم 11/ 329 - 330. (¬5) تاريخ الطبري 9/ 215 - 216.

هشام بن عمار

هشام بن عمَّار ابن نُصَير بن ميسرة، أبو الوليد السلميّ، راوية الوليد بن مُسْلِم، وخطيب دمشق، وقارئ أهلها ومفتيهم. ولد سنة ثلاثٍ وخمسين ومئة، وهو أحدُ المكثرين الثقات الذين انتشرَ حديثُهم في الدنيا. رحلَ إلى البلاد ولقيَ الشيوخ، وسمعَ فأكثر، وقال: باع أبي دارًا بعشرين دينارًا، وجهَّزني إلى الحجّ؛ لأسمعَ من مالك، فلما دخلتُ المدينةَ أتيتُ مجلسه، فرأيتُه في هيبةِ الملوك، وهو جالسٌ، والغلمانُ وقوفٌ بين يديه، والناسُ يسألونَه وهو يجيبهم، ومعي مسائل فقلت له: يا أبا عبد الله، ما تقول في كذا وكذا؟ فنظر إليَّ وقال: حصلنا على الصبيان! وأشار إلى غلامٍ، فحملني وضربني بدِرَّةٍ مثل درَّةِ المعلِّمين سبع عشرة دِرَّةٌ، فبكيتُ، فقال: ما يبكيك؟ أَوْجَعَتك هذه؟ قلت: باع أبي دارًا بعشرين دينارًا، وبعثَ بي إليك لأتشرَّفَ بالسماع منك فضربتَني! فقلت: من أنت؟ قلت: هشام بن عمار الدمشقي، فقال: اقعد، فقعدتُ، فحدَّثني سبعةَ عشر حديثًا، وأجابني عن المسائل. قرأ هشام القرآنَ على أيوب بن تميم وغيره، وكان إذا مَشى يُطْرِقُ برأسه ولا يرفعه إلى السماء حياءً من الله تعالى، وكان يغيِّرُ شيبَه اتِّباعًا للسنة. وكان يقول: الخلفاءُ خمسة؛ الأربعةُ وعمر بن عبد العزيز. وكان يقول في خطبته: قولُوا الحقَّ ينزلكمُ الحق منازلَ أهل الحق يوم لا يقضى فيه [إلا بالحقِّ] (¬1). مات هشام في المحرَّم هذه السنة بدمشق -وقيل: في سنة أربع وأربعين- وهو ابن اثنتين وتسعين سنة. أسند عن الوليد بن مسلم، ومالك بن أنس، وابن عيينة وغيرهم، ورَوى عنه الوليد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من مختصر تاريخ دمشق 27/ 107، وتهذيب الكمال 30/ 252، وسير أعلام النبلاء 11/ 429، 433.

ابن مسلم وهو شيخه، وأبو عبيد القاسم بن سلَّام وغيرهما، منهم محمد بن شُعيب بن شَابور. وقيل لهشام: رَوى عنك الوليد بن مسلم! ؟ يعظمون الوليد، فقال: قد روى عني من هو أكبر من الوليد، قيل: من هو؟ قال: محمد بن شعيب بن شابور. واتَّفقوا على صدقه وثقته ودينه، وجلالة قدره، وأنَّه لم يكن في زمانه مثله. وقال أحمد بن أبي الحواري: إنْ حدَّثتُ في بلدٍ فيه هشام بن عمار يجبُ أنْ تُحلَق. وأشارَ إلى لحيته. * * *

السنة السادسة والأربعون بعد المئتين

السنة السادسة والأربعون بعد المئتين فيها غزا جماعةٌ من المسلمين بلاد الروم، منهم عمرو (¬1) بن الأقطع، وقريناس (¬2)، والفضل بن قارن، وعليّ بن يحيى الأرمني، فأمَّا ابنُ الأقطع فأخرجَ من السبي سبعةَ آلاف رأس، وأخرج قريناس خمسةَ آلاف، وأما ابن قارن فغزا أنطاكية في البحر في عشرين مركبًا، ففتح حصنَها، وأما ابنُ الأرمنيّ فأخرجَ خمسةَ آلاف رأس، ومن الدوابِّ والرَّمَك (¬3) والحمير نحوًا من عشرة آلاف (¬4). وفيها تحوَّلَ المتوكِّل إلى الماحوزة -مدينتِه التي أمر ببنائها- يوم عاشوراء، وفرَّق في الصنَّاع والكتاب ومن وليَ البناءَ ألفي ألف درهم. ووقعَ الفداءُ في صفر بين المسلمين والروم على يدي عليِّ بن يحيى الأرمنيّ، ففودي بالفين وثلاث مئة ونيِّفًا. [ذكر القصَّة: ] قال نصر بن أزهر الشيعيّ، وهو كان رسولَ المتوكِّل إلى ميخائيل ملك القُسْطَنطينية: لما دخلت القسطنطينية حُمِلتُ إلى دار ميخائيل بسوادي وقلنسوتي وسيفي، وكان خال الملك يقال له: بطرناس، [و] هو القيِّمُ بشأن الملك ومدبِّرُ دولتِه، فقال: لا سبيلَ أنْ تدخلَ على الملك بهذه الهيئة، قلت: لا أدخل إلا بها، وخرجت مغضبًا، فردُّوني من الطريق، وكان معي هديَّةٌ للملك، فيها ألفُ نافجة مسك، وثيابٌ كثيرة، وحريرٌ وزعفران وطرائف، ثم أُدخِلت على ميخائيل، وهو جالسٌ على سرير ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ت)، والصواب: عمر بن عبيد الله الأقطع. انظر ترجمته في وفيات سنة 249 هـ. (¬2) كذا في (خ)، وفي (ت): فريباس، وفي تاريخ الطبري 9/ 207، 219: قربياس، وفي الكامل 7/ 81، 93: قريباس، وفي مروج الذهب 8/ 74 - 75 قرنياس البيلقاني، وذكر المسعودي أنه كان بطريق البيالقة وأن وفاته كانت سنة 249. (¬3) في (خ) و (ت): والرمال. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 219. والرَمَكْ جمع الرَّمَكَة وهي الفرس، والبرذونة تتخذ للنسل. (¬4) من قوله: عمرو بن الأقطع ... إلى هنا ليس في (ب).

أحمد بن أبي الحواري

تحته سرير، فسلَّمتُ وجلست على طرف السرير، والبطارقةُ قيامٌ حولَه، فقدَّمتُ الهدايا، والترجمان يعبِّرُ ما أقول، فقَبِلها وسُرَّ بها، وأمر بإنزالي قريبًا منه وأكرمني، وأقمتُ عنده أربعةَ أشهر، حتى تقرَّر أمرُ الفداء وأن يعطوني جميعَ من عندهم من المسلمين، وأعطيَ جميع من عندي، وكان الذين عندي نحوًا من ألف، والذين عندهم أكثر من ألفين، وحلفتُ لهم وحلفوا لي، وجئنا إلى موضع الفداء، ولم يبقَ عندهم سوى خمسة أنفرٍ، من المسلمين، [اختاروا المقام عندهم] (¬1). وفيها مطرت سِكَّةٌ ببلخ دمًا عبيطًا. [وصلَّى المتوكل بالجعفريَّة صلاة الفطر، ولم يُصَلّ بسامرَّاء أحد.] وحجَّ بالناس محمدُ بن سليمان، وحجَّ فيها محمد بن عبد الله بن طاهر فوليَ أعمال الموسم، وحملَ معه ثلاث مئة ألف دينار؛ [مئةُ ألف] لأهل مكَّة، ومئةُ لأهل المدينة، ومئةُ ألف لما أمرت به أمُّ المتوكّل من إجراءِ الماء من عرفات إلى مكَّة، وأمر المتوكِّلُ أن يوقدَ على المشعر الحرام وجميع المشاعر الشمعُ، وكانوا [قبله] يوقدونَ الزيتَ والنفط (¬2). وفيها توفي أحمدُ بن أبي الحَوارِيّ [واسم أبي الحواري] ميمون التغلبيُّ (¬3). [هذا هو المشهور (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر الخبر في تاريخ الطبري 9/ 219 - 220. (¬2) المنتظم 11/ 341. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب)، وتاريخ دمشق 39/ 201 (طبعة مجمع اللغة) في ترجمة عبد الله بن ميمون، وسير أعلام النبلاء 12/ 85، وتوضيح المشتبه 3/ 377: الثعلبي. قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: التغلبي، بفتح المثناة، وسكون المعجمة، وكسر اللام وانظر تهذيب الكمال 1/ 369. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) وهو قول السلمي في طبقات الصوفية ص 98 وابن خميس في مناقب الأبرار 1/ 270. وبقية المصادر على القول الثاني الذي سيذكره المصنف.

وقال الحافظ ابن عساكر: هو] (¬1) أحمد بن عبد الله بن ميمون بن عيّاش (¬2)، أبو عبد الله (¬3) الدمشقي. [وقال ابن منده: أصله من الكوفة، وسكن دمشق. قلت: والمشهورُ أنَّه دمشقيّ، وكنيته، أبو الحسن. [وذكره ابن سعد في الطبقة الثامنة من أهل الشام (¬4)، وذكره أبو عبد الرحمن السلميّ فقال: هو] من قدماءِ مشايخ الشام، [من أهل دمشق]، تكلَّم في علوم المحبَّة والمعاملات، وصحب أبا سليمان، وأخذ طريقةَ الزهد من أبيه أبي الحواري. [قال السلميّ: وأبو الحواريّ اسمه ميمون قال: ولأحمد ابنٌ اسمُه عبد الله، وروى عن أبيه، وكان من الزُّهاد أيضًا. قال: وأبو الحواري] من أهل الزهد والورع (¬5) أيضًا. وذكره أبو زرعة الدمشقي فقال: ، قال أحمدُ بن أبي الحواري: قال لي أحمد بن حنبل: متى مولدُك؟ قلت: سنة أربع وستين ومئة، فقال: هو مولدي. وقال ابن ماكولا: واسم أبي الحواري عبدُ الله بن ميمون بن عيَّاش بن الحارث الثعلبيّ الغَطَفاني الزاهد (¬6). وقيل: أصلُه من بعلبك. ذكر طرف من أخباره: [روى أبو نُعيم عن ابن مَعِين أنه قال: ] (¬7) ما أظنُّ أنَّ الله يَسقي أهلَ الشام الغيثَ إلَّا به. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬2) كذا في (خ) و (ب)، ومختصر تاريخ دمشق 3/ 142، وتوضيح المشتبه 3/ 377. وفي (ف)، وتاريخ دمشق 39/ 201 في ترجمة عبد الله بن ميمون، وتهذيب الكمال 1/ 369، وتهذيب التهذيب 1/ 31: عباس. (¬3) في (خ) و (ف): بن عبد الله. والمثبت من (ب). ولم أقف على من كناه بأبي عبد الله. لكن سيذكر المصنف قريبأ أن لأحمد ابنًا يقال له عبد الله .. والمشهور أن كنيته: أبو الحسن، كما سيأتي قريبًا. وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب 1/ 31: وكناه ابن حبان في "الثقات" أبا العباس. اهـ. ومثله في طبقات الأولياء ص 31. (¬4) لم أقف عليه في طبقات ابن سعد. (¬5) انظر طبقات الصوفية ص 98 - 99. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬6) الإكمال 3/ 216 - 217. وقول ابن ماكولا ليس في (ب). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال ابن معين.

وكان الجنيد يقول: هو ريحانةُ أهل الشام. واشتهر أحمد بصحبةِ أبي سليمان الدارانيّ، وروى عنه معظم كلامه وحكاياته، [وقد ذكرناه في ترجمة أبي سليمان] (¬1). وله أيضًا الكلام الحسن والمجاهدات الكثيرة والواقعات العجيبة (¬2). [وروى أبو نعيم عن العباس بن حمزة (¬3) قال: حدثنا أحمدُ بن أبي الحواري، قال: بينا أنا يومًا في بعض بلاد الشام في قبَّةٍ في مقبرة، إذا بحائط القبَّة يدقّ، فقلت: من هذا؟ قالت: امرأةٌ ضالَّةٌ، فدُلَّني (¬4) على الطريق، قلت: عن أيِّ طريق تسألين؟ قالت: عن طريق النجاة، وبكت، فقلت: هيهات هيهات، إنَّ بيننا وبينها عقابًا لا تقطع إلَّا بالسير الحثيث، وتصحيح المعاملة، وقطع العلائق الشاغلة (¬5)، [قال: فـ]، بكت بكاءً شديدًا، [ثم] قالت: يا أحمد، سبحان من أمسكَ عليك جوارحَك فلم تتقطع، وحفظَ عليك فؤادك فلم ينصدع، ثم غُشي عليها. وكان هناك نساء، فقلت لبعضهنَّ: انظرن (¬6) أي شيء حالُ هذه الجارية؟ فقمن إليها فحركنَها فإذا بها ميتة، وإذا في جيبها ورقةٌ، فقرأتُها، وإذا فيها مكتوب: كفنوني في أثوابي [هذه]، فإن كان (¬7) لي عند الله خيرٌ فسيبدلني خيرًا منها، وإنْ كان غير ذلك فيا شقوتي. وإذا بخدمٍ وجوارٍ حاسرات، فأحطنَ بها، فكشف النساء [عن] رؤوسهن والخدم عمائمهنّ، وستروها بها، فسألتُ بعضَ الخدم عنها، فقال: هذه بنتُ الملك، وهؤلاء أخواتها، [فـ] غلبَ عليها حبُّ الله تعالى، فخرجت على وجهها، ونحن نكونُ حولَها من بعيد، وقد امتنعَتْ من الطعام والشراب، فحملنا لها الأطباء، فتقول: [دعوني، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) قوله: وله أيضًا ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) كذا في (ب) -وما بين حاصرتين منها-، وفي حلية الأولياء 10/ 11، وسير أعلام النبلاء 12/ 91: عمر بن بحر. (¬4) في (خ) و (ف): تدلني، والمثبت من (ب). (¬5) بعدها في (خ) و (ف): عليه. وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (ب): انظري. (¬7) في (خ) و (ف): يكن. والمثبت من (ب).

أو] خلُّوا بيني وبين الطبيب الذي أمرضني، فعنده شفائي، وفي رواية: خلُّوا بيني وبين الطبيب الزاهد أحمد بن أبي الحواري، أشكو إليه ما أجدُ من بلائي، فربَّما يكونُ عنده شفائي (¬1). [وذكر في "المناقب" (¬2) طرفًا منها. وحكى القشيريُّ عن يوسف بن الحسين الرازي قال: ] (¬3) كان بين [أبي] سليمان وأحمد بن أبي الحواري عقدٌ أن لا يخالفَه في شيءٍ يأمرُه به، فجاءَ إليه أحمد يومًا وأبو سليمان يتكلَّم في مجلسه، فقال له: إن التنور قد سجر، فما تأمر؟ فلم يجبه، فألحَّ عليه مرتين أو ثلاثة، فكأنَّه ضاقَ صدرُه، فقال له: اذهب فاقعد فيه، فجاء أحمد فنزل في التنُّور، وتغافل عنه أبو سليمان ساعةً، ثمَّ ذكره، فقال: أدركوا أحمد فإنَّه في التنُّور، فذهبوا إليه، فإذا هو جالسٌ في التنُّور لم يحترق منه شعرة (¬4). [وروى عنه ابن باكويه الشيرازي قال: ] (¬5) مررتُ براهب فرأيته [نحيفًا]، فقلتُ: منذ كلم أنت على هذا؟ فقال: منذ عرفت نفسي، قلت: فتداوى، قال: قد أعياني الدواء، وقد عزمتُ على الكيّ، قلت: وما الكيّ؟ قال: مخالفةُ الهوى. قال: ورأيتُ في المنام جاريةً ما رأيتُ أحسنَ منها، فقلت لها: ما رأيتُ أحسن من هذا الوجه، فقالت: أتذكرُ ليلةَ جلستَ في السحر فبكيت، قلت: نعم، قالت: حُمِلت إليَّ دمعتُك، فغسلتُ بها وجهي فصارَ كما ترى (¬6). وحَكَى ابن عساكر أنَّ بعضَ أصحابِه وُلدَ له مولودٌ، فجاء إلى أحمد يطلب منه شيئًا، فقال: ما أصبحتُ أملكُ سوى هذين الثوبين، فخلعَ أحدَهما (¬7)، فناولَه إيَّاه، ومضَى الرجل، وخرج أحمد من جامع دمشق من باب جَيرُون، فلقيه رجل على درج الجامع، ¬

_ (¬1) انظر حلية الأولياء 10/ 11. وفيه اختلاف عما ذكرها هنا. (¬2) 1/ 273 - 272. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال يوسف بن الحسين الرازي. (¬4) الرسالة القشيرية ص 321. وما بين حاصرتين من (ب). ووصف الذهبي في السير 12/ 93 هذه القصة بأنها منكرة. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أحمد. والخبر ذكرهُ أيضًا ابن خميس في المناقب 1/ 273. (¬6) مناقب الأبرار 1/ 274. (¬7) في طبقات الأولياء ص 34: أجدهما، وانظر مناقب الأبرار 1/ 276 ..

فقال له: عمير بن جوصاء يسلِّم عليك ويقول: هذه ثلاثون دينارًا، انتفع بها، فصرخَ أحمد صرخةً عظيمةً وقال: ما هذه الغفلة، أَعطيت قميصًا واحدًا، [فـ] بعثَ إليَ بثلاثين دينارًا، ثمَّ وقع، فلو لم يمسكوه لتهشَّم وجهه. وولد لتلميذٍ له ولدٌ (¬1) ولم يكن عنده شيءٌ، فقال لتلميذه: اذهب إلى السُّوق، فاستسلف لنا وزنة دقيق، فعزَّ على التلميذ ذلك وقال: مثلُ هذا الشيخ يكون بين الناس لا يفتقدونه، وكان بعضُ التجار قد نذر إنْ سلم في البحر حملَ إلى أحمد مئتي درهم، فسلم، وبعثَ إليه في تلك الساعةِ بمئتي درهم، فأخبره خبره، فقال التلميذ الذي قال له أحمد: اذهب، فاستدن لنا الدقيق: الحمدُ لله، قد فرَّجَ الله عن الشيخ بهذه الدراهم، وإذا برجل قد دخل فقال: يا سيدي، قد ولد لي البارحةَ مولود، وليس عندي شيء، فرفع أحمد رأسَه إلى السماء وقال: يا إلهي كذا بالعجلة، ثم قال للرجل: خذها، فأخذ المئتي درهم، ثم قال للتلميذ: قُم فاستسلفْ لنا الدقيق. [ذكر] نبذةٍ من كلامه: [حكى عنه ابن باكويه الشيرازي] قال: إني لأقرأ القرآن، فأنظر في آية آية، فيحارُ عقلي فيها، فالعجبُ لقرَّاء القرآن، كيف يَلَذُّ لهم عيشٌ، أو يقرُّ لهم قرار، أو يشتغلوا بشيء من الدنيا؟ ! [وقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي كان أحمد يقول: ] كلما ارتفعت منزلةُ القلب كانت العقوبةُ إليه أسرع (¬2). وقال: من نَظر إلى الدنيا نظرَ إرادةٍ وحُبٍّ (¬3) لها، أخرجَ الله نورَ اليقين من قلبه. وقال: أفضلُ البكاء بكاءُ العبد على ما فات من أوقات المخالفات. وقال: من عملَ عملًا بغير اتِّباع السنة فعملُه باطل، وعلامةُ حبِّ الله حبُّ طاعته، ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). ولم يذكر الخبر في (ب). وفي مختصر تاريخ دمشق 3/ 144، وطبقات الأولياء ص 33 أنه جاءه مولود (يعني لأحمد). (¬2) طبقات الصوفية ص 101. (¬3) في (خ): وأَحبَّ. والمثبت من (ف) وطبقات الصوفية ص 100، ومناقب الأبرار 1/ 271. وهذا القول ليس في (ب).

وإذا (¬1) أحبَّ الله عبدًا أحبَّه، ولا يقدرُ العبدُ أن يحبَّ الله حتى يبتدئَه اللهُ [بالحب له، وذلك حين عرف منه الاجتهادَ في مرضاته. وقال: من أحبَّ أن يُعْرَف بشيءٍ من الخير أو يُذكَرَ به، فقد أشرك في عبادتِه؛ لأنَّ من عَبد، (¬2) على المحبَّة لم يحب أنْ يَرى سوى خدمةِ مخدومه. وقال: الدنيا مزبلةٌ ومجمع الكلاب، وأقلُّ من الكلب من عكفَ عليها، فإنَّ الكلبَ يأخذُ منها حاجتَه ويتركُ الباقي، والمحبُّ لها لا يشبعُ منها أبدًا. وقال: إنَّما كرهَ الأولياءُ الموتَ لانقطاعِ ذكر الحبيب عنهم. وقال: إذا رأيتَ من نفسك غفلةً، ومن قلبك قسوةً، فجالسِ الذاكرين، واصْحَبِ الصالحين، ورافقِ الزَّاهدين، وأَحِبَّ المحبِّين، وقد زالتْ عن قلبك القسوة، وحصلت لك اليقظة. وقال [أحمد بن أبي الحواري: ] (¬3) لولا أنَّ السنَّة مضت بتقديمِ أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم ما قدمنا على عليٍّ رضوان الله عليه أحدًا؛ لسابقته وفضله رضي الله عنه. ذكر وفاته: واختلفوا فيها [خلافًا واسعًا على ثلاثة أقوال؛ أحدها: في] (¬4) سنة ثلاثين ومئتين، حكاه الخطيب (¬5). وذكره جدِّي في "المنتظم"، وقال: أحمد بن أبي الحواري؛ كان الجنيد يقول: هو ريحانةُ الشام. وقال ابن معين: أظنُ أهل الشام يسقيهم اللهُ الغيثَ به. وقال: قال أحمد: كلما ارتفعت منزلةُ القلب كانت العقوبةُ إليه أسرع. وتوفي هذه السنة، يعني سنة ثلاثين ومئتين (¬6). ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله: لا يشبع منها أبدًا. ليس في (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من طبقات الصوفية ص 101، 102، ومناقب الأبرار 1/ 271، 272. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فقيل. (¬5) لم أقف له على ترجمة في تاريخ بغداد. (¬6) المنتظم 11/ 154.

قلت: هذه صورةُ ما ذكره جدِّي في "المنتظم"، ولهذا أعدتُه. والقول الثاني: في] (¬1) سنة إحدى وثلاثين [ومئتين. والقول الثالث: في] (¬2) سنة خمس وأربعين [ومئتين. وحكى الحافظ ابن عساكر عن أبي عبد الرحمن السلمي أنَّه قال: قد قيل إنَّه مات في سنة ثلاثين ومئتين (¬3). قال: وهو وهم (¬4). وأهلُ الشام أعلم. قال أبو زرعة: مات أحمد، في رجب سنة ستٍّ وأربعين [ومئتين (¬5). وحكاهُ عن جماعة]. وروى [ابن عساكر عن] الحسن بن حبيب، عن أبيه قال: دخلتُ على أحمد وقتَ الموت، وقد صار مثل الخيط، فأخرج يدَه من تحت الإزار وهو يبكي، وشالها إلى السماء وقال: واخطراه، وامخاطرتاه، ثمَّ تشهد ومات. [وفي رواية الخطيب عنه أنَّه قال: ] (¬6) لو خُيِّرت بين أن يسجرَ تنورٌ فأرمى فيه فأحترق، ولا أبعث، ولا أرى الحسابَ، لاخترتُ الوقوعَ فيه، قيل: فالجنَّة؟ قال: وأينَ الوقوف والحساب والتوبيخ بين يدي الله تعالى؟ [وقال الخطيب: ] قدم أحمد بغداد، وحدَّث بها [رحمه الله تعالى] (¬7)، وسمع (¬8) الإمامَ أحمد بن حنبل، وسفيان بن عُيينة، وابن مَعِين، وغيرهم، وأخرج عنه أبو داود، وابن ماجه، وأبو زُرْعَة الرازي، وغيرهم. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬3) انظر طبقات الصوفية ص 99. (¬4) انظر مختصر تاريخ دمشق 3/ 147. وكذا غلطه الذهبي في تاريخ الإسلام 5/ 1007 وانظر تهذيب الكمال 1/ 375. (¬5) تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 288، 2/ 710، رواه عن ابن أبي الحواري. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال الخطيب: إنه قال. (¬7) لم أقف له على ترجمة في تاريخ بغداد. (¬8) من هنا إلى قوله: ذكر زوجته. ليس في (ب).

ومن رواياته: عن أبي بُرْدة، عن أبي موسى، عن أبيه (¬1)، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ، أمر الله ملكًا أن يكتبَ له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم". وقال يوسف بن الحسين الرازي: طلب أحمد العلم ثلاثين سنة، فلمَّا بلغ منه الغايةَ، حمل كتبهَ إلى البحر وقال: يا علم، لم أفعل بك هذا تهاونًا ولا استخفافًا، وإنما طلبتُك لأهتدي بك إلى الله تعالى، فلمَّا اهتديتُ استغنيتُ عنك، ثم رَمى بها في البحر. وقال ابن عساكر: قال أحمد: صحبتُ أبا سليمان مدَّة، وقلت: دلَّني، فقال: قد طلبتَ العلم واجتهدت، فاطلب لنفسكَ الخلاص، وإيَّاك أن يشغلكَ العلم عن الله، فرجعتُ فرميتُ بكتبي في الماء. ذكر زوجته: واسمها رايعة -بياء منقوطة باثنتين من تحت (¬2) - وكانت في الزهدِ والعبادة مثل رابعة بالبصرة، [لا] بل أبلغ. [وروي عن أحمد بن أبي الحواري أنه قال: ] (¬3) كانت إذا طبخت قدرًا تقول لي: كلْها، والله ما أنضجَها إلَّا التسبيح (¬4). [وروى أبو عبد الرحمن أنَّها قالت لزوجها أحمد: ] (¬5) ربما رأيتُ الحورَ العين يذهبنَ في داري ويجئن، ويستترنَ بأكمامهنَ منِّي (¬6). [وروى ابن باكويه عن أحمد بن أبي الحواري قال: ] (¬7) قلتُ لرايعة، وكانت تقومُ ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف) وحلية الأولياء 10/ 24، والصواب: عن أبي بردة بن أبي مولى عن أبيه. وأخرجه البخاري في صحيحه (2996) من غير طريق ابن أبي الحواري. (¬2) كذا في (خ) و (ف). وقيدها بالياء أيضًا ابن الملقن في طبقات الأولياء ص 35، وابن ناصر الدين في توضيح المشتبه 4/ 84، والصفدي في الوافي بالوفيات 14/ 72. وفي (ب): ذكر زوجة أحمد بن أبي الحواري عامة الرواة على أن اسمها رابعة. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أحمد. (¬4) في (ب): كلها فوالله ما أنضجتها إلا بالتسبيح. وانظر صفة الصفوة 4/ 302. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقالت لزوجها. (¬6) ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات ص 60. (¬7) في (خ) و (ف): وقال أحمد، والمثبت من (ب).

الليل: قد رأينَا أبا سليمان، وتعبَّدنا معه، [ما] رأينا من يقوم من أول الليل، فقالت: سبحان الله، [مثلك] (¬1) يتكلَّم بهذا، أنا أقومُ إذا نوديت. [وحكى أبو نعيم عن سريٍّ السقطيّ قال: ] (¬2) قدمتُ الشام، فدخلتُ على أحمد بن أبي الحواري المسجدَ، فسلَّمتُ عليه وقلت: عظني وأوجز، فقال: ما أُحسِن، ولكن سر إلى المنزل، ففيه من يُحْسِن، [قال: ] فخرجتُ أطلبُ منزله، وإذا براهبٍ كبيرٍ خلفَه راهبٌ صغير، فقلت للصغير: لم تتبع هذا؟ قال: لأنه طبيبي يسقيني الدواء، [قال: ] فوردَ من كلامه على قلبي شيءٌ لا أعقله، فجئتُ إلى منزل أحمد فطرقت الباب، فكلَّمتني امرأته (¬3) من وراء حجاب، فذكرتُ لها قول الراهب، [قال: ] فقالت: يا ليت شعري، أيَّ دواء يسقيه؛ دواء الإفاقة أم دواء الراحة؟ فقلتُ: بيِّني ما تقولين، فقالت: أمَّا دواء الإفاقة فالكفُّ عن محارم الله عزَّ وجلَّ، وأمَّا دواءُ الراحة فالرضى عن الله تعالى، قال سريّ: فوالله ما خرجَ كلامها من قلبي أبدًا (¬4). وقال أحمد: سمعتُ رايعة تقول: ما رأيتُ ثلجًا إلا ذكرتُ به تطايرَ الصحف، ولا جرادًا إلا ذكرتُ به الحشر، ولا سمعتُ أذانًا إلا ذكرتُ به منادي يوم القيامة. قال: ودفعت إليَّ يومًا خمسة آلاف درهم، وقالت: تزوَّج بهذه أو تسرَّى، فإنِّي مشغولة عنك. [قال: ] وكانت تطبخُ الطعام وتقول: كُلِ اللحمَ، فإنَّك حديثُ عهدٍ بعرس، وتحتاجُ إليه، وكان لأحمد أربعة نسوة. قال أحمد: وكان لها أحوالٌ، ففي حالةِ غلبَ عليها الحبُّ تقول: [من الوافر] حبيبٌ ليس يعدلُه حبيبُ ... وما لسواه في قلبي نصيبُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ومالك. (¬2) في (خ) و (ت): وقال سري السقطي، والمثبت من (ب). (¬3) في (ب): امرأة. (¬4) في مختصر تاريخ دمشق 8/ 348 - والخبر فيه-: ثم كلمتني بكلمة لا تخرج من رأسي أبدًا، قلت: وما هي رحمك الله؟ قال: قالت: أما علمت أن العبد إذا أخلص بعمله لله عزَّ وجل أطلعه الجليل على مساوئ عمله، فاشتغل بها عن جميع الخلق. قلت: بسِّي.

دعبل بن علي

حبيبٌ غابَ عن بصري وسمعي (¬1) ... ولكن عن فؤادي ما يغيبُ وتارةً يغلبُ عليها الأنس فتقول: [من الكامل] ولقد جعلتُك في الفؤاد محدِّثي ... وأبحتُ جسمي من أرادَ جلوسِي فالجسمُ مني للجليس (¬2) مؤانسٌ ... وحبيبُ قلبي في الفؤاد أنيسي وتارةً يغلبُ عليها الخوف فتقول: [من الطويل] وزادي قليلٌ ما أراه مُبلِّغِي ... أللزادِ أبكي أم لبعدِ مسافتي أتحرقُني بالنَّار يا غايةَ المنى ... فأينَ رجائي فيكَ أين محبَّتي (¬3) وتوفيت (¬4) سنة تسع وعشرين ومئتين. دِعْبل بن عليّ ابن رَزِين بن عمَّار (¬5) بن عبد الله بن يزيد (¬6) بن وَرْقاء الخُزاعيّ. والدِّعبل البعيرُ المسنُّ العظيم الخَلْق، وكان دِعبلُ طوالًا ضخمًا، شُبِّه بالبعير. ولد سنة ثمان وأربعين ومئة، وبرعَ في علم الشعر والعربيَّة، وهو من الكوفة، وقيل: من قَرْقِيسيا، وكان أكثر مقامه ببغداد، وسافرَ إلى الشام وخراسان والبلاد، وصنَّف كتابًا في طبقات الشعراء، ذكر فيه جماعةً من أعيانهم، وكان هجَّاءً خبيثَ اللسان، أُطْرُوشًا، وفي قفاه سَلْعة. هجا المعتصم، والواثقَ، والمأمونَ، والرشيدَ، وطاهرَ بن الحسين، والوزراء، والكتَّاب. قال محمدُ بن عبد الملك الزيَّات يرثي المعتصم: [من المنسرح] ¬

_ (¬1) في صفة الصفوة 4/ 301، ومختصر تاريخ دمشق 8/ 349: وشخصي. (¬2) في (خ) و (ف): للأنيس. والمثبت من (ب)، ومختصر تاريخ دمشق 8/ 349، وصفة الصفوة 4/ 303. (¬3) في (ب)، ومختصر تاريخ دمشق 8/ 350: مخافتي. والمثبت من (خ) و (ف) وصفة الصفوة 4/ 302. (¬4) وفي (ب) -وما سلف بين حاصرتين منها-: وتوفيت رابعة قبل أحمد في سنة تسع وعشرين ومئتين رحمة الله عليها. وانظر ترجمتها في المصادر السابقة، وترجم لها أيضًا ابن الجوزي في المنتظم 11/ 146. (¬5) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد 9/ 360: عثمان. وترجمة دعبل ليست في (ب). (¬6) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد: بديل. وانظر تاريخ دمشق 6/ 85 (مخطوط).

قد قلتُ إذ غيَّبوهُ وانصرفوا ... في خيرِ قبرٍ بخير مدفونِ لن يَجبُرَ اللهُ أمَّة فَقَدَتْ ... مثلكَ إلَّا بمثلِ هارونِ فقال دعبل يعارضه: [من المنسرح] قد قلتُ إذ غيَّبوه وانصرفُوا ... في شرّ قبرٍ بشرِّ مدفونِ اذهبْ إلى النار والجحيم فما ... خَلْقُك (¬1) إلَّا من الشياطينِ ما زِلْتَ حتى عَقَدْتَ بيعةَ مَنْ ... أضرَّ بالمسلمينَ والدينِ وكان إبراهيم بن المهدي يحرِّضُ المأمونَ على قتل دعبل، فقال المأمون: ما تحرِّضُني على قتله إلَّا لقوله فيك: [من الكامل] فلتَصلحنْ من بعده لمخارقِ (¬2) ولقوله: خليفةٌ يرزق أجناده (¬3) فقال إبراهيم: فقد قال فيك: أيسومُني المأمون خطَّة ظالمٍ ... أو ما رأى بالأمسِ رأسَ محمدِ (¬4) فقال المأمون: قد عفوتُ عن هجوه لأجل هجوه لك. ثم دخل أبو عبَّاد فقال المأمون: من يقدُم على أبي عبَّاد يُحجِمُ عن أحد؟ والله ما وقعتْ عيني على أبي عبَّاد إلَّا أضحكني قولُ دعبل: أولى الأمورِ بضيعةٍ وفسادِ ... أمرٌ يدبِّره أبو عبَّادِ ¬

_ (¬1) في ديوان دعبل ص 262، والأغاني 20/ 145: خلتك. (¬2) عجز بيت صدره: إن كان إبراهيم مضطلعًا بها ديوان دعبل ص 198. (¬3) كذا في (خ) و (ف). وتمام البيت: فهكذا يرزق أجناده ... خليفة مصحفه البربط وهو في ديوان دعبل ص 175. (¬4) ديوان دعبل ص 122.

حنقٌ (¬1) على جلسائِه فكأنَّهم ... حَضرُوا لملحمةٍ ويوم جلادِ وكأنَّه من ديرِ جنّة مقبلٌ (¬2) ... حَرِدٌ يَجرُّ سلاسلَ الأقياد ثم قال المأمون: أبو عبَّاد جاهلٌ حقود، وأنا أعفو وأصفح. وكان دعبلُ من شيعةِ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وقصيدتُه التائيَّة من أفخر الشعر وأحسن المديح. [قال دعبل: قصدتُ بها أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا، وهو بخراسان]، (¬3) وهو وليُّ عهد المأمون، فدخلتُ عليه فقرَّبني وأدناني، فقلت له: يا أبا الحسن قد نظمتُ فيكم أهلَ البيت قصيدة، وآليتُ على نفسي أن لا أنشدَها لأحدٍ قبلَك، فجمعَ أهله ومواليه وقال: قل على خيرةِ الله تعالى، فقلت: [من الطويل] مدارسُ آياتٍ خَلت من تلاوةٍ ... ومهبطُ وحي موحشُ العَرصاتِ لآلِ رسولِ الله بالخيفِ من منى ... وبالبيتِ والتَّعريفِ والحجراتِ (¬4) ديارُ عليٍّ والحسينِ وجعفرٍ ... وحمزةَ والسجَّاد ذي الثَّفِنَاتِ (¬5) ودارٌ لعبد الله والفضل صِنْوُه ... ودارُ عبيدِ الله ذي الدَّعواتِ ديارٌ عفاها جورُ كلِّ منابذٍ ... ولم تَعفُ بالأيام والسنواتِ قِفا نسأل الدارَ التي خَفَّ أهلُها ... متى عهدُها بالصومِ والصلواتِ وأين الأُلى شَطَّت بهم غربةُ النَّوى ... أفانينَ في الأطرافِ مفترقاتِ همُ أهلُ ميراثِ النبيِّ إذا اعتزَوا ... وهم خيرُ ساداتٍ وخيرُ حماةِ قبورٌ بكُوفانٍ وأخرى بطيبةٍ ... وأخرى بفخٍ نالها صلواتِ وقبرٌ بأرض الجُوزَجان محفُه ... وقبرٌ بباخَمْرى لذي القربات (¬6) وقبرٌ ببغدادٍ لنفسٍ زكيَّةٍ ... تضمَّنَها الرحمنُ في الغُرُفاتِ ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي الأغاني 20/ 141، وديوان دعبل ص 125: خَرِقٌ. (¬2) كذا في (خ) و (ف). وفي المصادر: وكأنه من دير هِزْقِلَ مُفْلتٌ. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق، زدتها من الفرج بعد الشدة 4/ 227. (¬4) في معجم الأدباء 11/ 103، وديوان دعبل ص 78: وبالركن والتعريف والجمرات. (¬5) ذو الثفنات: عليُّ بن الحسين بن علي، المعروف بزين العابدين، لقب بذلك لأن مساجده كانت كثفنة البعير من كثرة صلاته - رضي الله عنه -. انظر القاموس وتاج العروس (ثفن). (¬6) في الديوان ص 80: لدى العَرِمات.

نفوسٌ لدى النهرين من أرضِ كربلا ... مُعرَّسُهم (¬1) فيها بشطِّ فراتِ تقسَّمهُم ريبُ المنونِ فما تَرى ... لهم عَقْوَةً (¬2) مغشيَّةَ الحُجُراتِ وقد كان منهم بالحجازِ وأرضِه ... مغاويرُ نحَّارونَ للبَدَناتِ (¬3) إذا افتخَروا يومًا أتَوا بمحمدٍ ... وجبريلَ والقرآن ذي السُّورَاتِ مَلامَكَ (¬4) في آل النبيِّ فإنّهم ... أودّايَ ما عاشُوا وأهلُ ثقات تخيَّرتُهم رشدًا لأمريَ إنَّهم ... على كلّ حالٍ خِيرَةُ الخيرَاتِ فيا ربِّ زدني في يقيني بصيرةً ... وزدْ حبَّهم يا ربّ في حسناتي بنفسيَ أنتم من كهولٍ وفتيةٍ ... لفكِّ عُنَاةٍ أو لحملِ دياتِ أحبُّ قَصِيَّ الرَّحْمِ من أجل حُبِّكم ... وأهجرُ فيكم إخوتي وبناتي وأكتمُ حُبِّيكُم (¬5) مخافةَ كاشحٍ ... بغيضٍ لأهل الحق غيرِ مواتِ ألم تر أنِّي مذ ثلاثون حِجَّةً ... أروحُ وأغدو دائمَ الحسراتِ أليس عجيبًا أنَّ آل محمدٍ ... مذودين مطرودين في الفلواتِ بناتُ رسول الله يسبينَ بالعرا ... وآل زيادٍ سُكَّن الحجراتِ وآلُ رسول الله نحفٌ جسومُهم ... وآلُ زيادٍ غُلَّظُ القَصراتِ أرى فيئَهم من غيرهم متقسَّمًا ... وأيديهم من فيئهم صَفِراتِ إذا وُتروا مَدُّوا إلى واتريهمُ ... أكفًّا عن الأوتارِ منقبِضاتِ فلا والذي أرجوه (¬6) في اليومِ أو غدٍ ... تقطَّع قلبي إثرهُم حسراتِ خروجُ إمامٍ لا محالةَ ثائر ... يقومُ على اسمِ الله والبركاتِ يميِّزُ فينا كلَّ حقٍ وباطل ... ويجزي [على] النعماء بالزلفات (¬7) ¬

_ (¬1) عرَّس القوم: نزلوا في آخر الليل للاستراحة. القاموس (عرس). (¬2) العقوة: ما حول الدار والمحلَّة. القاموس (عقا). (¬3) في الديوان ص 83: في السنوات. (¬4) في (خ) و (ف): سلامك. والمثبت من ديوان دعبل ص 84، ومعجم الأدباء 11/ 107. (¬5) في (خ) و (ف): حبكم. والمثبت من ديوان دعبل ص 85، ومعجم الأدباء 11/ 107. (¬6) في ديوان دعبل ص 86، ومعجم الأدباء 11/ 86: فلولا الذي أرجوه. (¬7) في الديوان ص 87، ومعجم الأدباء 11/ 87 - وما بين حاصرتين منهما-: ويجزي على النعماء والنقمات.

فيا نفسُ طيبي ثمَّ يا نفسُ فابشري ... فغيرُ بعيدٍ كلُّ ما هو آتِ فبكى الرضا حتى رحمه الحاضرون، ثمَّ قام ودخل وأرسلَ إليَّ مع خادمه عشرةَ آلاف درهم من الدراهم المضروبة باسمه، فقلت: والله ما قصدتُ هذا، ولا لأجله مدحت، وإنَّما أريدُ ثوبًا من ثيابه يكون كفنًا لي، فعاد إليه بالمال، فردَّه إليَّ ومعه جبَّةٌ من جبَّاته، وقال: بحقِّ أهل البيت لا ترجع إلينا ما خرجَ منَّا، قال: وخرجتُ فقدمت، فنظروا إلى الجبَّة فعرفوها، فأعطوني فيها ثلاثين ألف درهم، فقلت: لا والله، ولا بالدنيا وما فيها، ثم خرجت من قم فاتبعوني، وقطعوا الطريق عليَّ، وأخذوا الجبَّة، فبكيت وقلت: يا قوم، لا تفعلوا، خذوا العشرة آلاف درهم ودعوا الجبَّة، فقالوا: لا بدَّ منها، وأعطوني خرقة منها، فقلت: هذه لأكفاني، وأعطوني ثلاثين ألف درهم، وقدمت العراق فاشتري مني العشرة آلاف بمئة ألف، كلُّ درهمٍ بعشرة. وقال القاضي التنوخيُّ: لما بلغ المأمون الأبيات -وكان ساخطًا على دعبل- طلبَه من الرضا، فلمَّا حضر قال للرضا: قل له ينشدُ الأبياتَ، فأنشدها، فأمر له المأمونُ بخمسين ألفًا، ورضيَ عنه، فقال دعبل للرضا: يا سيدي، أريدُ أن تهبَ لي ثوبًا من ثيابك التي تلي بدنَك أتكفَّن فيه، فوهب له قميصًا قد ابتذله، وأمر له ذو الرياستين بصلة. قال دعبل: وحملَني على برذونٍ أصفر خراسانيّ، فقفَلتُ راجعًا إلى العراق، فقطعَ عليَّ الطريق لصوص، وأخذوا جميعَ ما كان معي، ومعهم جيشٌ من الأكراد، يقال لهم: المازنجان (¬1)، وأخذوا جميعَ ما كان معي وفي القافلة، فقعدتُ أبكي، ولم أتأسَّف إلَّا على القميص، ومرَّ بي بعضُهم على البرذون التي لي، ووقف قريبًا مني، وأنشد: مدارسُ آيات ... الأبيات، وجعلَ يبكي، فعجبتُ وقلت: يا سيدي، لمن هذه الأبيات؟ فقال: لدِعْبِل شاعر آل محمد، فقلت: أنا والله دِعْبل، وهذه قصيدتي، قال: ويحك ما تقول؟ ! فقلت: هو والله ما أقول وأنشدته إيَّاها، وقلت: سل القافلة، فقال: لا جرم والله لا يذهبُ لواحدٍ منكم عقال، ورَدُّوا جميعَ ما أخذوا (¬2)، فقلت: هذا مما أُكرِمتُ به في الدنيا ببركةِ آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأرجو في الآخرة كذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي الفرج بعد الشدة 4/ 228: الماريخان. (¬2) الفرج بعد الشدة 4/ 228 - 230.

وروى المبرِّدُ عن دعبل قال: لما قلتُ: مدارسُ آياتٍ خلت من تلاوةٍ نمتُ في بيتٍ، والباب يجافُ عليَّ، وإذا بقائلٍ يقول من زاوية البيت: السلام عليك أبا محمد وأبا الحسن (¬1) فرددتُ عليه. وقلتُ: من أنت؛ فقال: أخٌ من إخوانك من الجن ومعي أخداني، ونحن ممَّن يحبُّ أهل البيت، قلت: فمن أنت؟ قال: طيبار بن عامر (¬2)، فأنشدتُ القصيدة فسمعت بكاءً عظيمًا من ناحية البيت. وقال أبو العيناء: اجتاز دِعْبل بالرقَّة، فمدح أميرَها (¬3) فمنعه العطاء فقال: [من الكامل] إن قلتُ أعطاني كذبت وإن أقُل ... ضَنَّ الجوادُ بمالِه لم يَجْمُلِ ولأنتَ أعلمُ بالمكارم والعُلا ... من أن أقولَ فعلتَ ما لم تَفعلِ فاختر لنفسك ما أقولُ فإنَّني ... لا بدَّ مخبرُهم وإنْ لم أُسألِ فبعث إليه بألف دينار (¬4). وقال أبو الفرج (¬5) الأصبهاني: إنّما كتبَ بها إلى عبدِ الله بن طاهر ومنها: لما رأتْ شيبًا يلوحُ بمفرقي ... صَدَّت صدودَ مفارقٍ مُتَجمِّلِ فظللتُ أطلبُ وصلَها بتذلُّلٍ ... والشيبُ يغمزُها بأن لا تفعلِ (¬6) وقال دعبل: كنتُ بالثغر فنودي بالنفير، فخرجتُ مع الناس، وإذا بفتى يجرُّ رمحَه، فنظر إليَّ وقال: اسمع: [من مجزوء الرمل] أنا في أمرَي رشاد ... بينَ غزوٍ وجهادِ ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). (¬2) في الأغاني 20/ 142، ومعاهد التنصيص 2/ 200: ظبيان بن عامر. (¬3) في تاريخ دمشق 6/ 74 (مخطوط) أنه قالها لعبد الله بن طاهر. (¬4) العقد الفريد 1/ 272. وفيه أنه أمر له بعشرة آلاف درهم. والأبيات في ديوان دعبل ص 220 - 221. (¬5) في (خ) و (ف): وقال أبو الفرج بن طاهر الأصبهاني! ؟ ولم أجده في الأغاني. (¬6) ديوان دعبل ص 456 قسم الشعر الذي نسب إلى دعبل وليس له. وانظر تاريخ بغداد 9/ 362، وتاريخ دمشق 6/ 72.

بدني يغزو عدوِّي ... والهوى يغزو فؤادي ثم قال: جيد؟ قلت: جيد، فقال: والله ما خرجتُ إلا هاربًا من الحبّ، ثم التقينَا، فكانَ أوَّل قتيل (¬1). ولدعبل كتابٌ جمعَ فيه أخبارَ الشعراء، ذكر فيه جملة من الأعيان، ذكر فيه عن عبد الله بن محمد بن رَزِين الشاعر الخزاعيّ- وأبو الشيص كنيةُ أبيه- قولَه: [من الوافر] أظنُّ الدهرَ قد آلى فبرَّا ... بأن لا يُكسِب الأموال حرَّا لقد قعد الزمانُ بكل حرٍّ ... ونقَّص من قواه المستمرَّا وملَّك من رقابِ المالِ قومًا ... وملَّكهم به نَفعًا وضرَّا ومن جعل الكلامَ له قَعودًا ... أصابَ من الدُّجى خيرًا وشرَّا (¬2) وأبو الشيص من شعراء الحماسة، وهو القائل فيها: وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليسَ لي ... متأخَّر عنه ولا مُتقدَّمُ أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حُبًّا لذكركِ فليلمنِي اللوَّمُ أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحبُّهم ... إذ كانَ حظِّي منكِ حظِّي منهمُ وأهنتنِي فأهنتُ نفسِيَ صاغرًا ... ما من يَهونُ عليكِ ممَّن يُكرَمُ (¬3) ذكر وفاته: ذكر بعضُهم أنَّ المعتصمَ قتلَه في سنة ستٍّ وعشرين ومئتين، وهو وهم، والأصحُّ أنه عاش إلى هذه السنة، توفي بالطِّيب، ودفن بالسُّوس، وله تسعٌ وتسعون سنة. وقال المبرِّد: كان دعبل قد هَجا مالك بن طوق الثعلبيَّ صاحبَ الرَّحْبَة، فطلبه فهرب إلى البصرة وعليها إسحاقُ بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان قد هجاه، فأخذَه وأرادَ قتله، فحلف له أنَّه ما هجَاه، وبكى وتضرَّع إليه، فرقَّ له وأطلقه، فضرب إلى الأهواز، وكان مالك قد أرسل خلفَه رجلًا، وأمرَه أن يغتاله، وضمن له عشرة آلاف درهم ودفع إليه سُمًّا في زُجِّ عكاز، ثم وافاه ببعضِ قرى ¬

_ (¬1) اعتلال القلوب ص 215. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 257 ترجمة عبد الله بن أبي الشيص. (¬3) ديوان الحماسة 3/ 1374 بشرح المرزوقي.

ذو النون بن إبراهيم

السُّوس، فرصدَه حتى خرج ليلة بعد العشاء، فضربَه من خلفه بالعكَّاز في ظهره، فأنفذه، ومات من الغد في تلك القرية، فحمِل إلى السُّوس. أسندَ دعبلُ الحديث عن المأمون، ومالك بن أنس، ويحيى بن سعيد القطَّان، وسفيان بن عُيينة (¬1)، وغيرهم. وروى عنه أحمدُ بن أبي دؤاد. ورُوي عنه أحاديث مسندة عن مالك بن أنس وغيره، وكلُّها باطلة (¬2). ذو النون بن إبراهيم المصري النوبي، وذو النون لقبه، [واختلفُوا في اسمه على قولين؛ أحدهما: ثَوْبَان، والثاني: الفيض، واختلفوا في كنيته على قولين؛ أحدهما: أبو الفيض، والثاني: أبو العباس] (¬3)، وأبوه من إخميم، قريةٍ بصعيد مصر، مولى إسحاقِ بن محمد الأنصاري. [قال السلميُّ: ] وكان لإبراهيم بَنُون؛ ذو النُّون، وذو الكفل، وعبد الباري، وعبد الخالق، والهميسع (¬4). [قال: ] وكان ذو النون أوحدَ زمانه علمًا وحالًا وورعًا وأدبًا، وكان فصيحًا واعظًا، ينطق بالحكمة، وهو رئيسُ القوم، وإليه المرجعُ والقَبول على جميع الألسن، وهو أوَّل من عبَّر عن علوم المنازلات، وله الرياضات المذكورة، والسياحاتُ المشكورة، وانتقل من إخميم إلى مصر. وقد أثنى عليه الأئمة، وقال الدارقطنيُّ: كان أسمر نحيفًا جدًّا ينطقُ بالحكمة، وكان يعلوه حمرة (¬5). ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). والصواب -كما في تاريخ دمشق 6/ 69 (مخطوط) -: يحيى بن سعيد الأنصاري وسفيان الثوري. (¬2) انظر تاريخ بغداد 9/ 361. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): واسمه ثوبان أبو الفيض. (¬4) في تاريخ بغداد 9/ 378، والمنتظم 11/ 346، وصفة الصفوة 4/ 314، وتاريخ دمشق 6/ 171 (مخطوط): وكان له أربع بنين ... فلم يذكروا عبد الخالق. (¬5) لم أقف عليه. ونقل ابن عساكر عن الدارقطني قوله: ذو النون بن أَبراهيم رُوي عنه عن مالك أحاديث في =

وقال أبو عبد الله بن الجلّاء: لقيت ستَّ مئة شيخ ما لقيت منهم مثل أربعة، ذو النون أحدهم (¬1). [ذكر سبب توبته وتخلِّيه عن الدُّنيا وإقباله على الآخرة: واختلفوا على أقوال؛ أحدها ما ذكره في "المناقب" عن سالم المغربي قال: ] (¬2) قلت لذي النون: ما كان سبب توبتك؟ فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمتُ في بعض الصحارى، ففتحتُ عيني فإذا بقُنْبُرةٍ عمياء، قد وقعت من وكرها على الأرض، فانشقَّ الموضعُ، فخرج منه سُكْرُجتان، إحداهما من ذهب، والأخرى من فضة، وفي إحداهما سِمْسِم، وفي الأخرى ماء، فجعلت تأكلُ وتشرب (¬3)، فقلت: حسبي، قد تبت، ولزمتُ البابَ إلى أن قبلني. [والثاني: قرأتُ على شيخنا الموفق رحمه الله من كتاب "التوابين"] (¬4) بإسناده إلى ذي النون قال: كنتُ يومًا إلى جانب غدير ماء، وإذا بضفدع قد خَرَجَت من الغدير، وهناك عقرب، فركبتِ الضفدع، وجعلت تسبحُ بها حتى عبرت، فقلت: لهذه شأن [عظيم]، فتبعتُ العقرب، فجاءت إلى رجلٍ نائمٍ وهو سكران، وعلى صدره حيَّةٌ، وهي تطلب أذنَه لتدخلَ فيها، فضربَتْهَا العقربُ فانقلبت الحيَّة ميتة، ورجعت العقربُ إلى الغدير، والضفدع واقفةٌ تنتظرُهَا، فركبتْهَا وعبرت، [فحرَّك ذو النون الرجلَ وقال: ] (¬5) ويحكَ اقعد وانظر ممَّ نجَّاك الله، ثم [أنشأ ذو النون يقول: ] [من المنسرح] يا نائمًا والجليلُ يحرسُه ... من كلِّ سوءٍ يَدِبُّ في الظُّلمِ كيفَ تنامُ العيونُ عن مَلِكٍ ... تأتيك منه فوائدُ النِّعَمِ فنهضَ الرجل وقال: إلهي، هذا فعلُك مع من يعصيك، فكيف من يطيعك؟ ! ثمَّ ¬

_ = أسانيدها نظر، وكان واعظًا، وانظر مناقب الأبرار 1/ 82. (¬1) تاريخ بغداد 9/ 374. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال سالم المغربي. (¬3) بعدها في (ب): من الأخرى، وفي مناقب الأبرار 1/ 85: فجعلت تأكل من هذا، وتشرب من هذا. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال شيخنا موفق الدين. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فحركت الرجل وقلت.

تاب وحسنَتْ توبتُه (¬1)، [وشاهدت ذلك. والثالث: حكاهُ عبد الله بن باكويه الشيرازي بإسناده إلى يوسف بن الحسين الرازي: استأنست بذي النون] (¬2) فقلت له: أيُّها الشيخ، ما كان بدوُّ شأنك؟ فقال: كنت شابًّا صاحبَ لهوٍ ولعب، ثمَّ تُبتُ، وتركتُ ذلك، وخرجت حاجًّا إلى مكَّة ومعي بُضَيِّعَة (¬3)، فركبتُ في مركبٍ مع تجَّار من مصر، وركبَ معنا شابٌّ صَبيح الوجه، [كأن وجهه يشرق]، (¬4) فلمّا توسَّطنا البحر فقد صاحبُ المركب كيسًا فيه مال، وأمر بحبس المركب، ففتَّشَ من فيه، وأتعبهم، فلمَّا وصلوا إلى الشاب ليفتِّشُوه، وثبَ وثبةً من المركب حتى جلس على أمواج البحر، وقام له الموجُ على مثال السرير، ونحن ننظر إليه، ثمَّ قال: يا مولاي، إنَّ هؤلاء اتَّهموني، وإني أُقسِم عليك يا حبيب قلبي أنْ تأمر كل دابَّةٍ في هذا المكان أنْ تُخرِجَ رأسَها وفي [أفواهها جوهر] (¬5). قال ذو النون: فما تمَّ كلامُه حتى رأينا دوابَّ البحر أمام المركب وحواليه وقد أخرجت رؤوسها، وفي فم كل دابَّةٍ منهنَ (¬6) جوهرةٌ تتلألأ، ووثبَ الشابُّ من الموج، وجعلَ يتبختر على متن الماء ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حتى غابَ عن بصري، فهذا الذي حملني على السياحة. [ذكر طرف من أخباره] (¬7) وقال ذو النون: جَنَّني الليلُ في سواد نيل، فنمتُ بين زرعها، وإذا بامرأةٍ سوداء قد أقبلت فأخذت سنبلةً ففركتها، ثم بكت، وقالت: يا من بذره حبًّا في أرضٍ يابسةٍ ولم ¬

_ (¬1) كتاب التوابين ص 234 - 235. وظاهر أن هذه القصة في توبة الرجل السكران، لا توبة ذي النون. والله أعلم. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال يوسف بن الحسين الرازي: كنت مع ذي النون. (¬3) في (خ) و (ف): بضيعتي. والمثبت من (ب) وكتاب التوابين ص 233. (¬4) في (خ) و (ف): يشرق وجهه. والمثبت من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وفي فيها جوهرة. (¬6) في (ب): كل واحدة منهم. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). ومن قوله: وقال ذو النون .... إلى قوله: وقال: حججت مرة. ليس في (ب).

يكُ شيئًا، ثمَّ صيَّرتَهُ حشيشًا، ثم جعلتَه عودًا قائمًا، ثم رَكَّبتَ عليه حبًّا متراكبًا، وكَوَّنته بتكوينك، وأنتَ على كلِّ شيءٍ قدير، ثم قالت: عجبتُ لمن هذه قدرته كيف يُعْصَى؟ ! ولمن هذه صنعتُه كيف لا يُطَاع؟ ! ولمن هذه مشيئته كيف يشتكى؟ ! فدنوتُ منها وقلت: من يشكو؟ قالت: أنتَ يا ثوبان، إذا مرضتَ فلا تشكُ علَّتكَ إلى مخلوقٍ مثلك، واطلب دواءك ممن ابتلاك، ثمَّ ولَّت وهي تقول: لا حاجةَ لي في مناظرة البطَّالين، وأنشدت: [من الطويل] وكيف تنامُ العينُ وَهْي قريرةٌ ... ولم تدرِ في أيِّ المحلَّين تنزلُ (¬1) وقال: بينا أنا أسيرُ في جبال بيتِ المقدس في ليلةٍ مظلِمةٍ، إذ سمعتُ صوتًا حزينًا وبكاءً عاليًا، وهو يقول: يا وحشتي بعد الإنس، ويا فقري بعد الغنى، ويا ذلّي بعد العزّ، فتتبعتُ الصوتَ، فلمَّا طلعَ الفجرُ إذا شابٌّ ناحلُ الجسم، فسلَّمتُ عليه وقلت: ما الذي بك؟ قال (¬2): [من المديد] أنا لم أرزق مودَّتهُم ... إنَّما للعبدِ ما رُزِقا كان لي قلبٌ أعيشُ به ... فرمَاه الحُبُّ فاحترقَا فقلت: تنتحلُ المحبَّة، وذلك إرادة، وأنشدتُه: [من مجزوء الكامل] إنَّ المحبَّ هو الصبو ... رُ على البلاءِ لمن أحبَّهْ حبُّ الحبيب هو الدوا ... ء مع الشفاءِ لكلّ كُرْبَهْ فبكى وغاب عني. وقال سعيد بن عثمان: بينا أنا أسير مع ذي النون في تيهِ بني إسرائيل، إذا نحن بشخصٍ قد أقبل، فقال لي ذو النون: تأمَّل هذا الشخص، فتأملتُه، فإذا هو امرأة، فقال: صدِّيقة وربّ الكعبة، ثمَّ بادرها بالسلام، فردَّت وقالت: ما للرجال وخطاب النساء؟ ! فقال: أنا أخوك ذو النون، ولست من أهل التُّهم، ما الذي حملك على دخول هذا المكان؟ ¬

_ (¬1) انظر حلية الأولياء 9/ 344، ومناقب الأبرار 1/ 86. (¬2) في (ف): وقلت: ما الذي تقول. وانظر حلية الأولياء 9/ 345.

فقالت: آيةٌ من كتاب الله وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]، فكلَّما دخلتُ بلدًا يُعصى فيه حبيبي لم يَهنني فيه قرار، فقال لها: صِفي لي المحبة، فقالت: سبحان الله، أنت تتكلم بلسان المعرفة، وتسألُني عن المحبة؟ ! فقال: نعم، للسائل حقُّ الجواب، فقالت: نعم، أول المحبة لَهَجُ القلب بذكر المحبوب، مع الشوق الدائم، والوجد الملازم، فإذا انتهى المحبُّ إلى أعلى درجاتها، شغلَه وجدان الحال (¬1) عن كثيرٍ من أعمالِ الطَّاعات، ثم أَخَذَتْ في الشهيق والبكاء، وولَّت وهي تقول: أحبُّك حبينِ حب الوداد ... وحبًّا لأنَّك أهلٌ لذَاكَا فأمَّا الذي هو حبُّ الوداد (¬2) ... فحبٌّ شغلتُ به عن سواكَا وأمَّا الذي أنتَ أهلٌ له ... فكشفكَ للحُجْب حتى أراكَ فما الحمدُ في ذا ولا ذاكَ لي ... ولكن لك الحمدُ في ذا وذاكَا قال: ثم غابت عني (¬3). وقال ذو النون: بينا أنا أسير في بعض بلاد الشام، وإذا بعابدٍ قد خرجَ من كهفٍ، فلمَّا رآني استترَ عني بين الأشجار، ثم قال: أعوذُ بك يا سيِّدي ممَّن يشغلُني عنك، يا مأوى القلوب، ويا حبيبَ المشتاقين، ويا مُعِين الصادقين، ويا غايةَ أمل الآملين، ويا قرَّةَ عين المحبِّين، ثم صاح: واغمَّاه من طول المكث في هذه الدار، فدنوتُ منه وقلت له: بالذي تسيرُ إليه، ادع لي، فقال: سبحان من أذاق قلوب العارفين حلاوةَ الانقطاع إليه، فلا شيء عندهم ألذّ من الخلوة به، والتضرُّع بين يديه، قدوس قدوس، خففَ الله عليكم مؤنةَ نصبِ المسير إلى بابه، ثم هرب بين الشجر (¬4) كأنَّه هاربٌ من سَبُع (¬5). ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي حلية الأولياء 9/ 348: الخلوات، وفي مناقب الأبرار 1/ 88: وجدان عن كثير. (¬2) في حلية الأولياء ومناقب الأبرار: حب الهوى. في الموضعين. (¬3) في الحلية. ثم شهقت شهقة فإذا هي قد فارقت الدنيا. (¬4) من هنا إلى قوله: وسأله المقام. ورقة مفقودة من النسخة (ف). (¬5) انظر الخبر بنحوه في حلية الأولياء 9/ 356، ومناقب الأبرار 1/ 88، وصفة الصفوة 4/ 360 - 361.

وقال [ذو النون: ] حججتُ مرَّةً، فبينا أنا أطوفُ في ليلةٍ مظلمةٍ إذا بشخصٍ قد تعلَّقَ بأستار الكعبة وهو يبكي ويقول: [من الكامل] روَّعتَ قلبي بالفراقِ فلم أجد (¬1) ... شيئًا أمرَّ من الفراقِ وأوجعَا حسب الفراقِ بأنْ يفرِّقَ بيننا ... ولطالما قد كنتُ منه مروَّعَا [قال: ] فدنوتُ منه فتجلَّل بخمار، وقال: غُضَّ بصرَك، فإني حرام، فعلمتُ أنَّها امرأة، فقلتُ: بم تستولي الهمومُ على قلب المحبّ؟ قالت: لأنَّ الشوقَ يورثُ السقام، ثمَّ قالت: [من الخفيف] لم أذق طيبَ (¬2) طعمِ وصلكَ حتَّى ... زال عنِّي محبَّتي للأنامِ ثم غابت عني. [ذكر قصة يوسف بن الحسين الرازي مع ذي النون في الاسم الأعظم: حكى ابن خميس في "المناقب" عن يوسف بن الحسين الرازي قال: ] (¬3) بلغني أنَّ ذا النون يعرف اسم الله [تعالى الأعظم]، فخرجتُ إليه قاصدًا من مكَّة، فوافيته بجيزة مصر، فدخلتُ عليه، فاستبشع منظري؛ لأني كنتُ طويلَ اللحية، وفي يدي ركوةٌ كبيرةٌ، وأنا متَّزر بمئزرٍ من صوف، وعلى كتفي مثله، فسلَّمت عليه، فلم أر منه تلك [الساعة] البشاشة، فأقمتُ عنده يومين، فجاءَه رجلٌ من المتكلِّمين، فناظره [في علم الكلام]، فظهرَ على ذي النون، فتقدَّمتُ إلى الرجل فناظرتُه حتى قطعتُه، فقال ذي النون: اعذرني، فما عرفتُ محلَّك من العلم، فكان يكرمُني بعد ذلك، فأقمتُ عنده سنةً، فقال لي: ما الذي تريد؟ فقلت: بلغني أنَّك تعرفُ الاسم الأعظم، فعلِّمني إيَّاه، فأعرضَ عني مدَّةً، ثم أخرجَ لي سلَّة مشدودة الرأس بخيط (¬4)، وقال: تعرف صاحبنا فلانًا بالفُسْطَاط؟ قلت: نعم، قال: احمل إليه هذه، فأخذتُها وخرجتُ إلى بعض ¬

_ (¬1) في (خ): يكن. والمثبت من (ب). وحلية الأولياء 9/ 375، ومناقب الأبرار 1/ 89. (¬2) لفظة: طيب. من (خ)، وليست في (ب) وفي حلية الأولياء 9/ 375، ومناقب الأبرار 1/ 90: طعم. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ): وقال يوسف بن الحسين الرازي. (¬4) في حلية الأولياء 9/ 387، وتاريخ بغداد 16/ 465، ومناقب الأبرار 1/ 91 أنه أخرج إليه من بيته طبقًا ومكبة مشدودًا في منديل.

الطريق، فوجدتُها خفيفةً، فقلتُ: كيف يهدي ذو النون إلى صاحبه سلَّة فارغةً، لأحلنَّها وأنظر ما فيها، [قال: ] فكشفتُها وإذا بفأرةٍ قد خرجت منها وذهبَتْ، فاغتظتُ وقلت: سخرَ بي ذو النون، ورجعتُ إليه فقال: أوصلتَها؟ فسكتُّ، فقال: ائتمَنتُكَ على فأرةٍ فخنتَني فيها، فكيف أأتمنُك على اسم الله الأعظم؟ ! قم وارحل [عنِّي]. [قال أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة ذي النون: ] كان ذو النون يخرجُ مع أصحابه إلى المطالب، فحفرُوا يومًا، فوجدوا مالًا عظيمًا، ولوحًا من ذهب، فيه مكتوبٌ اسمُ الله الأعظم، فدفعَ إليهم المال وأخذ اللوح (¬1). [ذكر بعض كراماته: ] [حكى عنه في "المناقب" أنه قال: ] (¬2) أتتني امرأة فقالت: [يا ذا النون، أو] يا أبا الفيض، أخذَ التمساحُ ابني الساعة، قال: فرحمتُها وقمتُ معها، فأتيتُ النيل وقلت: اللَّهمَّ أظهر التمساح، فظهر فشققتُ جوفَه، وإذا بابِنها قد ظهرَ صحيحًا [حيًّا]، فأخذَتْه وذهبَتْ، وقالت: كنتُ إذا رأيتُك سخرتُ منك، وأنا تائبةٌ، فاجعلني في حلّ. [وحكى أيضًا عن يوسف بن الحسين الرازي قال: ] (¬3) كنتُ عند ذي النون، فجاء إليه رجلٌ، وشكا إليه دينًا كان عليه، نحوًا من سبع مئة دينار، فأخذَ ذو النون حصاةً من الأرض، وقال للرجل: خذها، فأرجو أن يكونَ فيها قضاء دينك، فاحتقرَها، ومضى أبها، إلى سوقِ الجوهر، فباعها بألفٍ وأربع مئة دينار. [وحكى أيضًا عن يوسفُ بن الحسين قال: ] (¬4) تَذَاكَرْنَا يومًا أحوال القوم، فقال ذو النون: إنَّ من طاعة الأشياء للأولياء أن أقول لهذا السرير: در، فيدور، فدار السرير في زوايا البيت، [قال: ] وكان معنا فتى، فما زال يبكي حتى مات في وقته ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) انظر الخبر في تاريخ دمشق 6/ 149 (مخطوط) والسياق فيه مختلف عما هنا. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ): وقال ذو النون. والخبر في مناقب الأبرار 1/ 89. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ): وقال يوسف بن الحسين الرازي. والخبر في مناقب الأبرار 1/ 92. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ): وقال يوسف بن الحسين. (¬5) الخبر في مناقب الأبرار 1/ 96، والرسالة القشيرية ص 539 لكن من حكاية أي جعفر الأعور. وما سلف بين حاصرتين من (ب).

[وذكر في "المناقب" أيضًا عن أحمد بن محمد السلمي قال: ] (¬1) دخلت يومًا على ذي النون، فرأيتُ بين يديه النَّدَّ والعنبرَ يُسجَر في طَسْتٍ من ذهب، فقال [لي: ] أنت ممَّن يدخلُ على الملوك في حال بسطهم؟ ثم رمى إليَّ بدرهمِ، فأنفقتُ منه إلى بلخ (¬2). [وحكى عن بكر بن عبد الرحمن قال: ] (¬3) خرجنا مع ذي النون إلى البادية، فنزلنا تحت شجرة أم غيلان، فقلنا: ما أحسنَ هذا المكان لو كان في هذه الشجرة رُطَبٌ، فتبسَّم ذو النون، وأشار إليها فحملت رُطَبًا، فأكلنا منه ونمنا، ثم انتبهنا فحرَّكناها، فتناثَر علينا الشوك (¬4). وقال نعمان بن موسى: اختصمَ اثنان، فكسرَ أحدُهما ثنيَّةَ الآخر، فتعلَّق به وقال: لا بدَّ من الوالي، فقيل لهما: ادخلا إلى ذي النون، فدخلا فأخذ السنَّ، وبلَّها بريقه، فتعلَّقت بإذن الله (¬5). وقال (¬6) يوسف بن حسين الرازي: بلغَ المتوكِّلَ أنَّ ذا النون يتكلَّم في القدر، فكتبَ إلى عامر بن نصر أنْ يُشخِصَه إلى سامرَّاء مكبَّلًا بالحديد مقيَّدًا، ففعلَ العامل ما أمره به، فلمَّا دخلَ سامرَّاء على تلك الحال والناسُ يبكون حوله، وهو يقول: هذا من مواهبِ الله وعطاياه، وكل فعلٍ منه حسن، وينشد: [من الخفيف] لكَ من قلبي المكانُ المصونُ ... كلُّ لومٍ عليَّ فيك (¬7) يهون لك عزمٌ (¬8) بأن أكون قتيلًا ... فيك والصبرُ عنك ما لا يكون ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ): وقال أحمد بن محمد السلمي. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 95، ومختصر تاريخ دمشق 8/ 249. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ): وقال بكر بن عبد الرحمن، وفي مناقب الأبرار 1/ 96: أبو بكر بن عبد الرحمن. (¬4) انظر الرسالة القشيرية ص 539 - 540. (¬5) انظر تاريخ دمشق 6/ 151 (مخطوط). (¬6) من هنا إلى قوله: يرجعك الله سالمًا. ليس في (ب). (¬7) في (خ): فيه. والمثبت من وفيات الأعيان 1/ 316، ومختصر تاريخ دمشق 8/ 250، وطبقات الأولياء ص 222. (¬8) في مختصر تاريخ دمشق: غُرْمٌ.

فأمر المتوكِّل بحبسه في المُطْبِق، ثمَّ لما دخل عليه قال له: بلغَني أنَّك تناظرُ في العظمة وتنافس في القدرة، وأنك قدريّ، فقال: يا أمير المؤمنين، ما لعقلٍ مولود، في جسمٍ مكدود، يتكلَّم في قدرة القادر المعبود، فرقَّ له المتوكل وقال: يا شيخ عظني، فقال: من أصلحَ سريرتَه أصلح الله علانيتَه، ومن أصلحَ ما بينه وبين الله أصلحَ ما بينه وبين الناس، فبكى المتوكِّلُ وعرضَ عليه ما لا، فلم يقبلهُ، وسألَه المقام (¬1) عنده، فأبى فردَّه إلى مصر مكرمًا، وكان إذا ذُكر عنده أهلُ الورع يبكي ويقول: حيّ هلا بذي النُّون. وقال ذو النون: من أراد أن يتعلَّم الظَّرفَ والمروءةَ، فعليه بُسقَاة الناس ببغداد، ومن أرادَ أن يسمعَ تجريد التوحيد وخالصَ التوكُّل، فعليه بالنساء الزَّمْنى ببغداد، قيل له: وكيف؟ قال: لمَّا حُمِلتُ إلى بغداد مرَّ بي على باب الطاق (¬2) مقيدًا، فمرَّ بي رجل متَّزِرٌ بمنديلٍ مصريّ، مُتَعمِّمٌ بمنديلٍ دَبِيقيٍّ، بيده كيزان خزف جدد رفاع، فقلت: هذا ساقي السلاطين؟ قالوا: لا، بل ساقي العامة، فأومأتُ إليه: أن اسقني، فجاء إليَّ وسقاني، فشَمِمْتُ من الكوز رائحةَ المسك، فقلت لمن معي: ادفع إليه دينارًا (¬3)، فأعطاهُ دينارًا، فلم يأخذه، فقلت: لعلك استقللتَه، فقال: لا والله، ولكنَّك أسير، وليس من المروءة الأخذُ من أسير، فقلت: هذا قد كَمُل ظرفه. فسمعتُ إنسانًا من ورائي يقول: يا شيخ، فلم لم تتظرف (¬4) عن الحال التي أوجبت فيك ما أرى؟ فالتفتُّ فإذا بامرأةٍ زَمِنةٍ في كوخٍ تتصدَّق، فقلت لها: أنا مظلوم، فقالت: إذا دخلتَ على هذا الرجل فلا تهبه، ولا ترَ أنَّه فوقك، فإنَّما أنتما مخلوقان من طينةٍ واحدة، وهو فقيرٌ إلى ما أنتَ إليه فقير، فلا تحتجَّ لنفسك محقًّا كنت أو متهمًا، قلت: ولم؟ قالت: إن هبتَه سُلِّطَ عليك، وإن احتججتَ لنفسك زاد ذلك وبالًا؛ لأنك إن كنتَ متَّهمًا تباهتُ الله فيما يعلمه منك، وإن كنتَ بريئًا فادعُ (¬5) الله ينتصر لك، ولا ¬

_ (¬1) إلى هنا نهاية الورقة الساقطة من (ف). (¬2) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد 1/ 353 - والقسم الأول من الخبر فيه- ومناقب الأبرار 1/ 115: رُمي بي على باب السلطان. (¬3) في (خ) و (ف): إلي دينار. والمثبت من تاريخ بغداد ومناقب الأبرار. (¬4) كذا في (ف)، وفي (خ): تنطرف. وفي مناقب الأبرار 1/ 115: تتصرَّف. (¬5) في (خ): فدع.

تنتصر لنفسك يكلك الله إليه. فلمَّا دخلتُ على المتوكِّل سلَّمتُ عليه بالخلافة، فقال: ما تقول فيما قيل عنك؟ فسكتُ، وقال وزيره: هو عندي حقيقٌ بما (¬1) قيل فيه، وقال المتوكِّل: لم لا تتكلم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن قلت: لا، كذَّبتُ المسلمين فيما قالوا: وإن قلت: نعم، كَذَبْتُ على نفسي، فقال المتوكل: هذا رجلٌ بريءٌ ممَّا قيل فيه، فقال: عظني عافاك الله، فوعظتُه بكلماتٍ يسيرة، ثم خرجتُ فمررتُ على العجوز وهي في الكوخ، فقلت: جزاك الله خيرًا، فقد امتثلتُ ما قلت لي، فمن أين لك هذا؟ قالت: من قصَّة الهدهد مع سليمان، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]، ولم يهبه، فقلت لها: ادعي لي، فقالت: يرجعكَ الله سالمًا (¬2). وقال عمرو السراج (¬3): سألت ذا النون كيف [كان] خلاصُك من المتوكِّل؟ فقال: لما أوصلني الخادم إلى الستر رفعه، وإذا بالمتوكِّل في غِلالةٍ مكشوفَ الرأس، وعبيدُ الله قائمٌ على رأسه، متكئ على السيف، وعرفتُ في وجوه القوم الشرَّ [لي]، ففُتِحَ عليَّ بابٌ من الدعاء، فقام المتوكل، وخطا إلي خطواتٍ، ثم اعتنقني وقال: أتعبناكَ يا أبا الفيض، فإن شئت أقمتَ عندنا وإن شئت أن تنصرف، فاخترتُ الانصراف [، والله الحافظ] (¬4). وقال أحمد بن مقاتل: لما قدم ذو النون بغداد بعد انفصاله من المتوكِّل، اجتمعَ عليه الصوفية ومعهم قوَّال، فأنشد: [من مجزوء الوافر] صغيرُ هواكَ عذَّبني ... فكيف به إذا احتَنكا أما تَرثي لمكتئبٍ ... إذا ضحكَ الخليُّ بكى وأنت جمعت من قلبي ... هوىً قد كان مُشْتَرَكا فقام ذو النون وتواجد، فسقط على وجهه، وخرج الدم من جبهتِه، فقام رجلٌ من ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): لما. والمثبت من مناقب الأبرار. (¬2) في مناقب الأبرار 1/ 116: جعلك الله مسلمًا. (¬3) قبلها في (ب): ودخل ذو النون على المتوكل، وكان قد وجه إليه المتوكل، فحمل إلى حفرته بسرَّ من رأى -وقيل: ببغداد- حتى سمع كلامه، واختلفت الروايات في سبب دخوله، فقال عمرو السراج ... (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر الخبر في تاريخ دمشق 6/ 153.

القوم فتواجد، فقال له ذو النون: وهو {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218] فقعد الرجل (¬1). وقال يوسف بن الحسين: أحضر الصوفيَّةُ طعامًا وأكلوا قبل السماع، فقال لهم ذو النون: إنَّ المقدحة إذا ابتلَّتْ لم تور نارًا (¬2). ومعناه: هلَّا كان هذا بعد السماع. وقال ذو الكفل أخو ذو النون: كان في السماع مريدٌ لذي النون، ولم يكن ذو النون حاضرًا، فأنشدَ القوَّالُ أبياتًا، فصاحَ مريدُ ذي النون ومات، وجاء ذو النون فرآه ميتًا (¬3)، فقال: ما هذا؟ قيل له: إنَّ القوَّال غنَّى فمات، فقال للقوَّال: أعد الأبيات، فأعادها، فصاح ذو النون، فماتَ القوَّال، فقال ذو النون: النفسُ بالنفس والجروح قصاص. [ذكر] نبذة من كلامه: [روى عنه أبو نعيم أنه] قال: بصحبة الصالحين تطيب الحياة، والخير مجموعٌ في القرين الصالح، إن نسيتَ ذكَّرك، وإنْ ذكرتَ أعانك (¬4). وسأله رجلٌ: ما الذي أنصبَ العباد وأضناهم؟ فقال: ذكر المقام، وقلَّةُ الزاد، وخوفُ الحساب، ولم لا تذوبُ أبدانهم، وتذهَلُ عقولُهم؟ والعرضُ على الله أمامَهم، وقراءةُ كتبهم بين أيديهم، والملائكة وقوفٌ بين يدي الجبَّار ينتظرون أمَره، فإمَّا إلى الجنَّة، وإمَّا إلى النار (¬5). وقال له رجل: متى تصحُّ عزلة الخلق؟ فقال: إذا قدرت على عزلةِ النفس (¬6). وقال يوسف بن الحسين الرازي: لما فارقتُ ذا النون قلت له: أوصني، فقال: ¬

_ (¬1) انظر تاريخ بغداد 9/ 377، ومناقب الأبرار 1/ 95. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 8/ 246 - 247. (¬3) في تاريخ بغداد 9/ 377، وتاريخ دمشق 6/ 151: فاتصل الخبر بذي النون، فدخل إلى بغداد، فقال: عليَّ بالقوال ... (¬4) حلية الأولياء 9/ 359. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) حلية الأولياء 9/ 346، ومناقب الأبرار 1/ 87، وصفة الصفوة 4/ 316. (¬6) حلية الأولياء 9/ 368، وصفة الصفوة 4/ 316.

عليك بصحبة الصالحين، ومن يذكرك اللهَ رؤيتُهُ، ويقع على باطنك عملُه، ويعظُك بلسانِ فعله لا بلسان قوله (¬1). وقال ذو النون: ما خلعَ الله على عبدٍ خلعةً أحسن من العقل، ولا قلَّده قلادة أجمل من العلم، ولا زيَّنه بزينةٍ أفضلَ من الحلم، وكمالُ ذلك كلَّه التقوى (¬2). وقال: إلهي لو سمعتُ موئلًا في الشدائد غيرك، أو ملجأً في النوازل سواك، لحقَّ لي أن لا أعرض وجهي؛ لقديم إحسانك إليَّ وحديثه، وظاهر منَّتك علي وباطنها، ولو قَطَّعني البلاءُ إربًا إربًا، وانصبَّت عليَّ الشدائدُ صبًّا، ليس لي مشتكىً غيرك ولا مفرِّجًا سواك، فيا وارثَ الأرض ومن عليها، وباعثَ جميع من فيها، ورِّث أملي فيك مني أملي، وبلغ همَّتي فيك منتهى وَسائلي (¬3). [وحكى عنه في "المناقب" عن إبراهيم البنا قال: ] (¬4) صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية، فلمَّا صرنا ببعض الطريق حضرَ وقتُ إفطاره، فأخرجَ مزودًا فيه سويق الشعير، فاستفَّ منه سفة، وأخرجتُ قرصًا وملحًا كان معي، فنظرَ إليَّ وقال: ملحُك مدقوق؟ قلت: نعم، فقال: ليس تفلح، ثمَّ كان يتناولُ من مزودِه كلَّ ليلةٍ سفَّة، فكان هذا دأبَه إلى الإسكندربة، [قال: ] فتقاصرت إليَّ نفسي، فلمَّا عزمَ على فراقي [قلت له: أوصني، فـ] (¬5) قال: عانقِ الفقرَ، وتوسَّد الصبرَ، وعادِ الشهوات، وخالف الهوى، وافزع إلى مولاك في أمورك كلِّها، فعند ذلك يورثُك الله الشكرَ والرضا والمحبّة والرجاء (¬6). وقال ذو النون: صحبني أسود في التيه، فكان إذا ذكرَ الله ابيضَّ لونُه، [فقلت له: ما هذا؟ فقال: لو ذكرتَهُ على الحقيقة لتغيَّر لونك، ثم قال: ] [من الطويل] ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 4/ 316. ومن قوله: وسأله رجل ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) صفة الصفوة 4/ 317. (¬3) صفة الصفوة 4/ 317، وهذا القول ليس في (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال إبراهيم البنا. وانظر مناقب الأبرار 1/ 105 - 106. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) مناقب الأبرار 1/ 105 - 106.

ذكرنا فما كنَّا لننسى فنذكر ... ولكن نسيمُ القربِ يبدو فيزهرُ فأفنى به عنه وأبقى له به ... إذ الحقُّ عنه مخبرٌ ومعبِّرُ (¬1) وقال (¬2) محمد بن أحمد النيسابوري: احذر أن تنقطع عنه فتكونَ مخدوعًا، قلت: فكيف ذاك؟ قال: لأنَّ المخدوع من ينظرُ إلى عطاياه، أفينقطع عن النظر إليه بالنظر إلى عطاياه] (¬3)، ثم قال: تعلَّق الناسُ بالأسباب، وتعلَّقَ الصديقون بترك (¬4) الأسباب، ومن علامة تعلُّقهم بالعطايا طلبُهم منه العطايا، ومن علامة تعلُّق قلوب الصديقين بوليِّ (¬5) العطايا انصبابُ العطَايا عليهم، وشغلُهم به عنها، ثم قال: ليكن اعتمادُك على الله في الحال، لا على الحال [مع الله] (¬6)، واعقل من هذا صفوةَ التوحيد. وقال ذو النون: من ذكر الله على حقيقةٍ نسيَ في جنبه كلَّ شيء، حتى حفظ الله عليه كلَّ شيء، وكان له عوضًا من كلّ شيء (¬7). وقال: أكثرُ الناسِ إشارةً إلى الله في الظاهر أبعدُهم عنه (¬8). وكان [ذو النون] يقول: إلهي إن كان صَغُرَ في جنبِ طاعتِك عملي، فقد كَبُرَ في جنبِ رجائِك أملي (¬9). وسُئِل عن الآفة التي يُخدَع بها المريد عن الله تعالى، فقال: رؤيةُ الكرامات، قيل: فبم يُخدَع قبل وصوله إلى هذه الدرجة؟ قال: بوطء الأعقاب وتعظيم الناس له. ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 107. (¬2) من هنا إلى قوله: أبعدهم عنه. ليس في (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من حلية الأولياء 9/ 351، وصفة الصفوة 4/ 318. (¬4) في الحلية وصفة الصفوة: بوليّ. (¬5) في (خ) و (ف): تغير! والمثبت من الحلية وصفة الصفوة. (¬6) ما بين حاصرتين من صفة الصفوة وحلية الأولياء. (¬7) نص العبارة -كما في صفة الصفوة 4/ 318: من ذكر الله على حقيقة نسي في جنبه كل شيء، ومن نسي في جنب الله كل شيء حفظ الله عزَّ وجلَّ عليه كل شيء، وكان له عوضًا من كل شيء. وأخرجها البيهقي في شعب الإيمان (707). (¬8) حلية الأولياء 9/ 353، وشعب الإيمان (6917). (¬9) حلية الأولياء 9/ 385، وصفة الصفوة 4/ 318.

وقال: من ذبح حنجرةَ الطمع بسكين اليأس، ورَدم خندقَ الحرص، ظَفِر بكيمياء السعادة (¬1)، ومن استقَى بحبل الزُّهد من بئر الحكمة سقَى رياضَ التقوى، ومن سلك أودية الكمد عاش حياة الأبد، ومن حصدَ عشبَ الذُّنوب بمنجلِ الورع أضاءت له روضة الاستقامة، ومن قطعَ لسان الفضول بشفرة الصمت وجدَ عذوبة الراحة (¬2)، ومن تدرَّع بدرع الصدق قويَ على مجاهدة عسكر الباطل، ومن فرحَ بمدح الجاهل ألبسَهُ الشيطانُ ثوبَ الحماقة (¬3). [وحكى أبو نعيم أيضًا عن سعيد بن عثمان قال: سمعت ذا النون يقول: ] ما طابتِ الدنيا إلَّا بذكره، ولا الآخرةُ إلَّا بعفوه، ولا الجنةُ إلَّا برؤيته (¬4). وقال: ما أعزَّ الله عبدًا بعزٍّ هو أعزُّ له من أنْ يدلَّه على ذلِّ نفسه، وما أذل الله عبدًا بذلٍّ هو أذل له من أن يحجبه عن ذلِّ نفسه (¬5). ومن تطاطأ لقيَ رطبًا، ومن تعالى لقي عطَبًا (¬6). وقال: لا تثقنَّ بمودَّة من لا يحبُّك إلَّا معصومًا (¬7). وقال: من صحبك ووافقك على ما تحبّ وخالفَك فيما تكره، فإنَّما يصحبُ هواه، ومن صحبَ هواه، فإنما يصحبُ راحةَ نفسه (¬8). وقال: كل مطيعٍ مستأنس، وكلُّ عاصٍ مستوحش، وكلُّ محبٍّ ذليل، وكلُّ خائفٍ هارب، وكلُّ راجٍ طالب (¬9). ¬

_ (¬1) في صفة الصفوة 4/ 318: ظفر بكيمياء الخدمة. (¬2) من قوله: وسئل عن الآفة ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) انظر حلية الأولياء 9/ 380. (¬4) حلية الأولياء 9/ 372، وصفة الصفوة 4/ 319. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) حلية الأولياء 9/ 374، وصفة الصفوة 4/ 319، وتاريخ دمشق 6/ 155 (مخطوط)، ومختصر تاريخ دمشق 8/ 251. (¬6) حلية الأولياء 9/ 376، وصفة الصفوة 4/ 319. (¬7) حلية الأولياء 9/ 376. (¬8) في حلية الأولياء 9/ 376، وصفة الصفوة 4/ 319: فإنما هو طالب راحة الدنيا. (¬9) في حلية الأولياء 9/ 376، وصفة الصفوة 4/ 319. ومن قوله: وقال: ما أعز الله عبدا ... إلى هنا ليس في (ب).

[وروى أبو نعيم أيضًا عن محمد بن خلف المؤدّب قال: ] (¬1) رأيتُ ذا النون على ساحل البحر، فلمَّا جنَّ الليلُ نظر إلى السماء والماء، ثم قال: ما أعظمَ شأنكما (¬2)، بل شأنُ الله أعظم منكما، فلمَّا تهوَّرَ الليلُ أنشد: [من مجزوء الخفيف] اطلبوا لأنفسِكم ... مثلمَا طلبتُ أنا قد وجدتُ لي سكنًا ... ليس في هواه عنا إن بعدت قرَّبني ... أو قربتُ منه دَنا وما زال يردِّدُها إلى الصباح (¬3). وقال: دوام الفقر إلى الله مع التخليط أحبُّ إليَّ من دوام الصفاء مع العُجْب (¬4). وكان يقول: إلهى، أنا عبدك مفتقر، وأنتَ مليكٌ مقتدر، أسألُكَ العفوَ تذلُّلًا، فأعطنيه تفضُّلًا (¬5). وقال: إياك أن تكون بالمعرفة مُدَّعيًّا، وبالزهدِ محترفًا، وبالعبادة متعلِّقًا (¬6). [قال: ] وقال [ذو النون: ] قال الله تعالى في بعض كتبه: من كان لي مطيعًا كنتُ له وليًّا، فليثق بي، وليحكم عليّ، فوعزَّتي لو سألني زوال الدنيا لأزلتُها له (¬7). وقال: الصوفيُّ من إذا نطقَ أبان نطقُه عن الحقائق، وإذا سكتَ نطقتْ عنه الجوارحُ بقطعِ العلائق (¬8). وقال: من أرادَ التواضع فليوجِّه نفسَه إلى عظمة الله تعالى، فإنَّها تذوب وتصفو (¬9)، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال محمد بن خلف المؤدب. (¬2) في (ب): سبحان من أعظم شأنكما. (¬3) حلية الأولياء 9/ 344. (¬4) صفة الصفوة 4/ 319. (¬5) حلية الأولياء 9/ 384، وصفة الصفوة 4/ 319. (¬6) طبقات الصوفية ص 18، وحلية الأولياء 9/ 350. ومن قوله: دوام الفقر ... إلى هنا ليس في (ب). (¬7) طبقات الصوفية ص 19، وحلية الأولياء 9/ 394. وما بين حاصرتين من (ب). (¬8) طبقات الصوفية ص 19. (¬9) من قوله: وقال: الصوفي ... إلى هنا ليس في (ب).

ومن نظرَ إلى سلطان الله تعالى ذهبَ سلطانُ نفسه؛ لأنَّ النفوسَ كلَّها مضمحلَّةٌ عند هيبتِه (¬1). وقال: كلُّ مُدَّعٍ محجوبٌ بدعواه عن شهودِ الحقّ؛ لأنَّ الحقَّ شاهدٌ لأهل الحقّ، والله تعالى هو الحقّ، وقوله الحقّ، فلا يحتاج يدَّعي إذا كانَ الحقُّ شاهدًا له، وأمَّا إذا كان غائبًا فحينئذٍ يدَّعي؛ لأنَّ الدعوى إنَّما تقع للمحجوبين (¬2). وقال: من أنِسَ بالخلقِ فقد استمكنَ من بساطِ الفراعنة، ومن غُيِّبَ عن ملاحظة نفسه فقد استمكن من الإخلاص، ومن كان حظُّه من الأشياء "هو"، لا يبالي ما فاتَه مما دونه (¬3). وقال: سبحانَ من حجبَ أهل المعرفة عن جميع خلقه؛ حجبَهم عن أبناء الدنيا بأستار الآخرة، وعن أبناء الآخرة بأستار الدنيا (¬4). وسُئل عن السَّفِلَة فقال: هو الذي لا يعرفُ الله ولا يتعرَّف إليه (¬5). [قال: ] وقال: توبةُ العوامِّ من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة (¬6). ومن قَنَعَ استطال على أقرانه، واستراحَ من أهلِ زمانه (¬7). وسئل (¬8) عن الإنس بالله فقال: علامته أن يوحشَك من خلقه، فإذا رأيتَه قد أوحشَك من خلقه، فاعلم أنَّه قد آنسكَ به، وإذا رأيتَه يؤنسُك بخلقه، فاعلم أنَّه قد أوحشك من نفسه (¬9). ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية ص 20. (¬2) طبقات الصوفية ص 22. (¬3) طبقات الصوفية ص 22، ومناقب الأبرار 1/ 84. (¬4) من قوله: وقال: كل مدع ... إلى هنا ليس في (ب). (¬5) نص العبارة في تاريخ دمشق 6/ 163 (مخطوط): من لا يعرف الطريق إلى الله ولا يتعرف. (¬6) الرسالة القشيرية ص 58. (¬7) الرسالة القشيرية ص 266. (¬8) من هنا إلى قوله: وحكي عنه في المناقب. ليس في (ب). (¬9) حلية الأولياء 9/ 343، 377.

وقال: الدنيا أمةُ الله، والخلقُ عبيدُه، خلقَهم لطاعته، وضمنَ لهم أرزاقهم، ونهاهم عن أمته، فحرصوا عليها، وطلبُوا الأرزاقَ، وقد تكفَّل لهم بها، فلا هم على أمته قَدَرُوا، ولا في أرزاقهم استزادُوا (¬1). وقال: أوحى اللهُ إلى موسى - عليه السلام -: يا موسى، كن كالطَّير الوحدانيّ، يأكلُ من رؤوس الشجر، ويشرب من الماء القُرَاح، وإذا جَنَّهُ الليلُ أوى إلى كهفٍ من الكهوف؛ استئناسًا بي، واستيحاشًا ممَّن عصاني، يا موسى، إنِّي آليتُ أن لا أتمم لمدبرٍ عنِّي عملًا، ولأقطعنَّ أملَ كل من يؤمِّلُ غيري، ولأقصمنَ ظهرَ من استندَ إلى سواي، ولأطيلنَّ وحشة من استأنس بغيري، يا موسى، إنَّ لي عبادًا إن ناجَوني أصغيتُ إليهم، وإن نادوني أجبتهم، وإن قربوا مني قرَّبتُهم، وإن والوني واليتُهم، وإن عملوا إليَّ جازيتُهم، يا موسى، أنا مدبرُ أمورهم، وسائسُ قلوبهم، ومتولي أحوالهم (¬2). وقال: رَكَضَتْ أرواحُ الأنبياء في ميادين المعارف، وسبقت روحُ سيِّدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى روضة الوصال (¬3). وقال: معاشرةُ العارف كمعاشرة الله تعالى، يحتملك، ويحلمُ عنك؛ تخلُّقًا بأخلاق الله تعالى (¬4). وسُئِل عن السماع فقال: وارد حقٍّ يزعجُ القلوبَ إلى الحقّ، فمن أصغَى إليه بحقّ تحقَّق، ومن أصغى إليه بباطل (¬5) تزندق. [وحكي عنه في "المناقب" عن محمد بن يزيد التميمي قال: ] كنتُ مارًّا مع ذي النون وإذا بشابٍّ يبني دارًا، وهو يأمرُ وينهى، فوقفَ عليه ذو النون وقال: أيُّها المغرورُ بدارِ الغرور، واللاهي عن دار البقاء والسرور، لم لا تشتري من مولاك دارًا يقالُ لها ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 9/ 377، ومناقب الأبرار 1/ 95. (¬2) حلية الأولياء 9/ 379، ومناقب الأبرار 1/ 95 - 91. (¬3) الرسالة القشيرية ص 474. (¬4) حلية الأولياء 9/ 351، 376. (¬5) في الرسالة القشيرية ص 508: بنفسٍ.

دار الأمان، لا يضيقُ بها السكان، ولا يزعج (¬1) منها القطَّان، ولا تشعثها (¬2) حوادثُ الزمان، ولا تحتاجُ إلى بنَاءٍ وطيَّان، فقال له الشاب: يا أستاذ، لكلِّ دارٍ حدّ، فما حدود هذه الدار؟ فقال: [لها] أربعُ حدود؛ الحدُّ الأول ينتهي إلى منازل الراجين (¬3)، والحدّ الثاني إلى مواطن الخائفين، والثالث إلى أماكن المحبِّين، والرابع إلى جوار (¬4) الفائزين، وتشرعُ مَشارعُ هذه الدار إلى خيايم مضروبة، وقبابٍ منصوبة على شاطئ أنهار الفردوس وجنات النعيم في ميادين الشوق (¬5)، وفيها سررٌ منصوبةٌ، وفرشٌ ممهودةٌ، في كثبان المسك والزعفران، قد عانقوا خيراتٍ حسان، فقال الشاب: ما ثمنها؟ قال: تكتب [في صكِّ اليقين: ] هذا ما اشترى عبدٌ محبورٌ من الملك الغَفُور، اشترى منه هذه الدار بالتنقُّل من ذلِّ المعصيةِ إلى عزِّ الطاعة، ومن الحرص إلى القناعة، فما أدرك هذا المشتري من دركٍ فبنقضِه للعهود، ومخالفته للمعبود. [وذكر في "المناقب" كلامًا طويلًا. والله أعلم بالصواب] (¬6). وقال (¬7) الفتحُ بن شُخْرف: كان سعدون المجنون صاحب محبَّةٍ لله تعالى ولهجٍ بالقول، من صام سنين (¬8) حتى نشفَ دماغُه، وسمَّاه الناس مجنونًا؛ لتردُّدِ قوله في المحبَّة، فبينا أنا واقفٌ ذات يومٍ بالفسطاط إذا به قد أقبلَ، فوقفَ على حلقة ذي النون، وعليه جبَّةُ صوف، عليها مكتوب: لا تُباعُ ولا تُشترى، وذو النون يتكلَّم في علم الباطن، فناداه سعدون: يا أبا الفيض، متى يكون القلب أميرًا بعدما كان أسيرًا؟ فقال له: إذا اطَّلعَ الخبيرُ على الضمير، فلم ير فيه إلَّا حبَّ الجليل القدير. فصرخَ سعدون، وخرَّ مغشيًّا عليه، ثم أفاق وقال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في (ب): ولا يفزع. (¬2) في (ب): ولا تشنعها، وفي مناقب الأبرار 1/ 116: ولا يسكنها. (¬3) في (خ) و (ف): الراضين. والمثبت من (ب) ومناقب الأبرار 1/ 116. (¬4) في (ب): منازل. (¬5) في مناقب الأبرار: في ميادين قد أشرقت. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر الكلام بنحوه في مناقب الأبرار 1/ 116. (¬7) من هنا إلى قوله: ذكر وفاته. ليس في (ب). (¬8) في حلية الأولياء 9/ 371، ومناقب الأبرار 1/ 97 - 98: صام ستين سنة.

ولا خيرَ في الشَّكوى إلى غير مشتكى ... ولا بدَّ من شكوى إذا لم يكن صبرُ ثم ناداه: يا أبا الفيض، أَمِنَ القلوب قلوبٌ تستغفرُ قبلَ أن تذنب؟ قال: نعم، وتلك القلوب تثابُ قبل أن تطيع، فقال سعدون: بيِّن ما تقول، فقال: نعم تلك القلوبُ أشرقت بمصابيح اليقين، ففاضت عليها أنوارُ الحقِّ سبحانه، فكشفَ لها عن حقائق الأمور، أنِسَت بمحبوبها، فاستوحشَتْ بمن سواه، فصاح سعدون، وولَّى هاربًا. وقال ذو النون: وُصِفَ لي عابدٌّ بالمغرب، فقصدتُه وأقمتُ على بابه أربعين يومًا، وهو يخرجُ إلى الصلاة، ويعودُ إلى منزله، ولا يكلِّم أحدًا، فقلت له بعد الأربعين: يا هذا، إنِّي أتيتُك من بلادٍ بعيدة، ولي واقفٌ على بابك أربعين يومًا، ما كلَّمتني كلمة، فقال: يا هذا إنَّ لساني سبُع، إن أطلقتُه قتلني، فقلت: أوصني وصيةً أنتفعُ بها، قال: لا تحب الدنيا، وعدَّ الفقرَ غنى، والبلاءَ نعمةً، والمنعَ عطاءً، والوحدةَ أنسًا، والذلَّ عزًّا، والحياةَ موتًا، والتوكُّلَ معاشًا، واللهَ تعالى في كلِّ شيءٍ عُدَّةً، فقلت: فما وصف العارف (¬1)؟ قال: قوتُه ما وجد، ومنزلُه حيث أدرك، ولباسه ما سترَ، الخلوةُ مجلسُه، والقرآنُ أنيسُه، والحقُّ سبحانَه جليسُه، والذكرُ رفيقُه، والزهدُ قرينُه، والخوفُ محجَّتُه، والشوقُ راحلتُه، والصبرُ وسادُه، والحكمةُ كلامُه، والصديقون إخوانُه، والعقلُ دليلُه، والحلمُ خليله، والله تعالى عونه. وكان ذو النون ينشد: [من الكامل] عجبًا لقلبكَ كيف لا يتصدَّعُ ... ولركن جسمِك كيفَ لا يتَضَعْضَعُ فاكحل بمُلْمُول (¬2) السُّهادِ لدى الدُّجى ... إنْ كنتَ تفهمُ ما أقولُ وتسمعُ منعَ القرانُ بوعده ووعيدِه ... نومَ العيون فليتَها ما تهجعُ وأنشد أيضًا: [من الطويل] يجولُ الغنى والعزُّ في كلِّ موطنٍ ... ليستوطنَا قلبَ امرئٍ إن توكَّلَا ومن يتوكَّل كان مولاه حسبَه ... وكان له فيما يحاولُ معقلَا ¬

_ (¬1) في مناقب الأبرار 1/ 114 أنه مكث شهرًا، ثم سأله أن يزيده من الموعظة. (¬2) في (خ) و (ت) ومناقب الأبرار 1/ 90: بملول. والمثبت من حلية الأولياء 9/ 377، والمُلمُول: الميلُ الذي يُكْتحَل به. مختار الصحاح (ملل).

إذا رضِيت نفسي بمقدور حظِّها ... تعالتْ فكانت أرفعَ الناس منزلَا (¬1) وأنشدَ أيضًا: [من الخفيف] قد بقينا مذبذبينَ حيارى ... نطلب الصدق ما إليه سبيلُ فدعاوى (¬2) الهوى تَخِفُّ علينا ... وخلافُ الهوى علينا ثقيلُ ذكر وفاته: قال الفتح بن شُخْرف: دخلتُ على ذي النون عندَ موته، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: [من الطويل] أموتُ وما ماتتْ إليكَ صبابتي ... ولا رَويت من صدقِ حبِّكَ أوطارِي مناي المُنى كلُّ المني أنتَ لي مُنى ... وأنت الغنى [كلُّ الغنى] عند إقتاري (¬3) تضمَّن قلبي منك مالك قد بَدا ... وإن طال سرِّي فيك أو طال إظهارِي وبينَ ضلوعي منكَ ما لا أَبُثُّهُ ... ولم أكُ مبديهِ لأهلٍ ولا جارِ سرائرُ لا يخفى عليكَ خفيُّها ... وإن لم أبح حتى التنادي بأسرارِي فهب [لي] نسيمًا منك أَحْيَى بروحِه ... وجُد لي بيسرٍ منك يطردُ إعساري أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن (¬4) ... من العلمِ في أيديهم عشرُ معشار وعلَّمتهم علمًا فآبوا بنورِه ... وبانتْ لهم منه معالمُ أنوارِ (¬5) معاينةً للغيب حتى كأنَّها ... لما غابَ عنها منه حاضرةُ الدارِ فأبصارُهم محجوبة وقلوبُهم ... تَرَاكَ بأوهامٍ حديدةِ أبصارِ جمعتَ لها الهمَّ المفرَّق والتُّقى ... على قَدَرٍ والهمُّ يجري بمقدارِ ألستَ دليلَ الركب إن هم تحيَّروا ... وعصمةَ من أمسى على جُرُفٍ هارِ ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 93، وذكر أبو نعيم في حلية الأولياء 9/ 372 البيتين الأولين، وفيه 6/ 306 البيت الثالث. (¬2) كذا في (خ) ومناقب الأبرار 1/ 118، والبيت ساقط من (ف). وفي تاريخ دمشق 6/ 411 (مخطوط)، وطبقات الأولياء ص 224: فدواعي. (¬3) في (خ) و (ف) بياض، وفوقه: كذا. والمثبت بين حاصرتين من المصادر. (¬4) في (خ) و (ف): أنور الهدى للمهتدين ولم أكن. والمثبت من المصادر. (¬5) في المصادر: أسرار.

قال الفتح: فلمَّا ثقل قلت له: كيف تجدك؟ فقال: وما لي سوى الإطراقِ والصمت حيلة ... ووضعي على خدِّي يدي عندَ تذكارِي وإن طرقتني عَبرةٌ بعد عَبرةٍ ... تجرَّعتُها حتى إذا عِيلَ تصباري أفضتُ دموعًا جمَّةً مستهِلَّة ... أُطَفِّي بها حرًّا تضمَّن إضماري (¬1) فيا مُنتهَى سؤلِ المحبِّين كلِّهم ... أبحني محلَّ الأُنسِ مع كلِّ زواري ولستُ أبالي فائتًا بعد فائتٍ ... إذا كنتَ في الدارين يا واحدًا جاري (¬2) [ذكر وفاته: واختلفوا في وفاته، فقال الخطيب: عن حيَّان بن أحمد السهمي قال: ] (¬3) ماتَ ذو النون بالجيزة، وحُمِل في مركبٍ حتى عدي به إلى الفُسطاط خوفًا عليه من زحمة الناس على الجسر، ودُفن في مقابر أهل المَعافر، وذلك [في] يوم الإثنين لليلتين خلتا من ذي القعدة [من سنة ستٍّ وأربعين ومئتين] (¬4). [وحكى عنه محمد بن زبَّان الحضرمي قال: ] (¬5) كنتُ واقفًا على كوم بالمعافر يوم مات [ذو النون]، فلمَّا أخرج [من القارب]، وحُمِلَ على أعناق الرجال، جاءت طيورٌ خضرٌ فاكتنفت الجنازةَ تُرفرفُ عليها، فلمَّا دُفن غابت في الأرض، فقال الحسن بن يحيى بن هلال: ورأيتُ أعجبَ ما رأيتُ ولم أكن ... من قبل ذاك رأيتُه لمُشَيَّعِ طيرٌ تُرَفْرِفُ فوقَه وتَحُفُّه ... حتى توارَى في حجابِ المضجعِ وأظنُّها رسلَ الإله تنزَّلت ... -والله أعلمُ- فوق ذاك الشرجعِ (¬6) ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف) وفي المصادر: أسراري. (¬2) تاريخ دمشق 6/ 170 (مخطوط)، وصفة الصفوة 4/ 320 - 321. ومن قوله: قال الفتح بن شخرف إلى هنا ليس في (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال حسان بن أحمد الريمي. (¬4) تاريخ بغداد 9/ 378 وما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): هذه السنة. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال محمد بن زبان الحضرمي. (¬6) من قوله: فقال الحسن ... إلى آخر الأبيات. ليس في (ب)، وما سلف بين حاصرتين منها. والشرجع: الجنازة. القاموس (شرجع).

وقيل: إنَّ مثلَ هذه الطيور رُؤي في جنازةِ أبي إبراهيم المزنيّ، وإنَّ الحسنَ قال هذه الأبيات في ذلك اليوم (¬1). وقال أبو عبد الرحمن السُّلَميُّ: كان أهلُ مصر يقدحون في ذي النون لمَا كان يبدو منه من علوم المكاشفات، فلمَّا ماتَ وأظلَّتِ الطيور جنازته أكرموا بعد ذلك قبرَه. [قال: ] ولما دفن أصبحَ الناس فرأوا مكتوبًا على قبره: ماتَ ذو النون حبيبُ الله، مات من الشوق إلى الله (¬2). وقال أبو سعيد بن يونس [في "تاريخ مصر"]: مات [ذو النون] سنة خمسٍ وأربعين ومئتين (¬3)، وقيل: [في] سنة ثمانٍ وأربعين ومئتين. أسند ذو النون عن جماعة [من الأئمة]، منهم مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان بن عُيينة، والفُضيل بن عياض، [وعبد الله بن لَهِيعة قاضي مصر، ورشدين بن سعد، ومروان بن محمد الفزاري] وغيرهم. وروى عنه يوسف بن الحسين الرازي، والجنيد بن محمد، ومشايخُ العراق. وقال الخطيب: أسندَ عن ذي النون جماعة أحاديثَ غير ثابتة، والحملُ فيها على من دونه (¬4). وصحبه عدَّة من المشايخ، منهم أبو عبد الله بن الجلَّاء، وحكى عنه قال: جاورتُ مع ذي النون بمكَّة، فبقينا أيامًا لم نأكل شيئًا، فقام ذو النون وصعدَ أبا قُبَيس وأنا خلفه، فرأيتُ في الوادي قشرَ موز، فأخذتُ منه ووضعتُه في كمِّي، وجعلتُ آكلُ منه، وأسارقُ ذا النون النظر، فلمَّا صعدنا إلى الجبل قال: ارمِ ما معك، فخجلتُ ورميتُه، فلمَّا عدنا إلى الحرم إذا برجلٍ قد أقبل ومعه طعام، فوضعَه بين يدي ذي النون، فقال: دعه قدَّام ذاك، فتركه قدامي، فقلت لذي النون: ما تأكل؟ ! فقال: يأكلُ من طَلَبَ، ولم يأكل ذو النون (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: وإن الحسن قال ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) تاريخ دمشق 6/ 148 (مخطوط). (¬3) ورجحه الذهبي في سير أعلام النبلاء 11/ 536، وتاريخ الإسلام 5/ 1139. (¬4) من قوله: وقال الخطيب أسند ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬5) تاريخ بغداد 6/ 460، ومناقب الأبرار 1/ 104.

سليمان بن أبي شيخ

وقال محمد بن الحسن الجوهري: قلت لذي النون: حَدِّثني بحديثٍ لَعَلِّي أنتفعُ به في الرقائق، يكون عونًا لي على هذا المذهب، فقال: للحديث رجال، ولي شغلٌ بنفسي عن الحديث، وإن كان الحديثُ من أركان الدين، ولولا نقصٌ دخلَ على أهل الحديث والفقه لكانوا أفضلَ الناس، ولكن بذلُوا علمَهم لأهل الدنيا، فحجبُوهم وتكبَّروا عليهم، وجعلوهم خَولًا، وافتتنوا بالدنيا لمَّا رأوا حرص أهل العلم عليها (¬1) والخوض فيها، وأنَّهم جعلوا العلم فخًّا لصيدِهم، ولو أنَّهم لزمُوا بابَ ربِّهم لكفَاهم وأعزَّهم، ولكنَّهم انقطعُوا إلى المخلوقين، فوكِلُوا إليهم (¬2). وقال أبو الحارث الأولاسي: قصدتُ مصر لأسألَ ذا النون عن مسائل، فوافيتُه قد مات، فجئتُ إلى قبره فصلَّيت ركعتين عنده ونمتُ، فرأيتُه في المنام، فقلت: يا أبا الفيض، إنَّما قصدتُك لأجل مسائل، فقال: سل، فسألتُه، فأجابني عن الجميع (¬3). [انتهت ترجمة ذي النون، والحمد لله] (¬4). سليمان بن أبي شيخ أبو تراب الوَاسطيّ سكن بغداد، وكان عالمًا بالأنسابِ والتواريخ وأيَّامِ النَّاسِ ووقائعهم. سمع سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه إبراهيم الحربيّ وغيره، وكان ثقةً، وتوفي عن خمسٍ وتسعين سنة (¬5). شُجَاع (¬6) أمُّ المتوكِّل وتُدعى السيِّدة، وكانت صالحةً كثيرةَ الصدقات والمعروف، من أكثر النساء دينًا ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): حرص الدنيا عليها. والتصويب من مناقب الأبرار 1/ 109، وانظر الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 61. (¬2) من قوله: وقال محمد بن الحسن ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬3) مناقب الأبرار 1/ 103. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) تاريخ بغداد 10/ 67، والمنتظم 11/ 346، وتاريخ الإسلام 5/ 1148. وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬6) ترجمة شجاع بطولها لم ترد في (ب).

وعفَّةً وكرمًا. وكانت تُخرجُ صدقات السرِّ على يدِ كاتبها أحمد بن الخَصيب، قال: بينا أنا ذات يوم جالسٌ في الديوان، إذ خرجَ خادمٌ ومعه كيس وقال: السيدةُ تقول لك: خذ هذه الألف دينار من طيِّبِ مالها، وادفعهَا إلى قومٍ مستحقِّين، واكتب أسماءَهم وأنسابَهم ومنازلهم، وكلَّما جاءَ من هذه الناحية شيءٌ صرفناه إليهم، فأخذتُ الكيس، [وصرتُ إلى منزلي، ووجَّهتُ خلف من أثقُ به، فعرَّفتُهم ما أمرتُ به] (¬1)، وسألتُهم أن يُسمُّوا لي من يعرفون من أهل الحاجة، فسموا لي جماعةً، ففرَّقتُ فيهم ثلاثَ مئة دينار، وجاءَ الليل وبقيَّةُ المال بين يدي، لعلِّي أصيبُ مستحقًّا، وأنا أفكر في سامرَّاء وبعد أقطارها، وتكاتف أهلها، ليس بها مستحقّ، ومضَى من الليل ساعة، وغُلِّقتِ الدروب، وطاف العسس، وإذا بالباب يدقُّ، فقلتُ للغلام: انظر من هذا، فخرج وعاد وقال: فلان العلويّ يستأذنُ عليك، وعندي بعض حرمي، فقلت: كونوا وراء هذا الستر، فما قَصَدَنا هذا الرجلُ في هذا الوقت إلَّا لحاجة، فلمَّا دخل سلّم وجلس، فسألتُه عن حاله، فقال: طرقني في هذا الوقت طارقٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - به اتصال، والله وما عندنا شيء، ولم يكن في جواري من أفزعُ إليه سواك، فدفعتُ إليه دينارًا، فأخذَه وشكر وانصرف، فخرجَتْ ربَّةُ البيت فقالت: يا هذا، تدفعُ إليك السيدة ألفَ دينار تفرِّقُها إلى مستحق، فمن ترى أحق من ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما شكاه (¬2) إليك، فقلت: فما أصنع؟ فقالت: ادفع إليه الكيس كلَّه، فقلتُ: يا غلام رُدَّه، فرَدَّه، فحدَّثتُه الحديث، ودفعتُ إليه الكيس، فأخذه وانصرف، فلمَّا ولَّى عني جاءني إبليس وقال: المتوكِّلُ وانحرافه عن أهل البيت، تدفع إليك أمُّه ألفَ دينارٍ لتدفعَها إلى أقوامٍ تكتَب أسماؤهم وأنسابُهم ومنازلُهم، تعطي واحدًا سبعَ مئة دينار، فبماذا تحتجّ، وأيُّ عذرٍ لك؟ فقلت لربة المنزل: أوقعتيني فيما أكره، وعرَّفتُها ما خطر ببالي، فقالت: اتَّكل على جدِّهم، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المنتظم 11/ 347. (¬2) في (خ) و (ف): مع شفاه، والمثبت من المنتظم.

وجعلت تردِّدُ (¬1) القول، وقمتُ إلى فراشي فما أخذني النوم، فلمَّا كان بعد ساعة إذا البابُ يُدَقّ، فقلت للغلام: اخرج، فخرج وعاد وقال: رسول السيِّدة يأمرُك بالركوب الساعة، وجاء آخر وآخر، فقلت: جاءني ما كنتُ أحذر، فركبتُ والليل قد تهوَّر (¬2)، فأدخلني الخدمُ إلى الستر وقالوا: السيدة تسمع كلامك، فأجبها، فقالت: يا أحمد، أحساب ألف دينار أم سبع مئة دينار؟ وهي تبكي، فقلت في نفسي: بليَّة العلوي، أخذَ المال، ومضى إلى السوق اشترى ما يحتاج إليه، وفتح الدكاكين، فكتبَ أصحابُ الأخبار إلى المتوكِّل، وقد أمر بقتلي، وهي تبكي رحمةً لي، ثم كررت القول وسألتني عن الحساب، فحدَّثتُها حديثَ العلويّ، فبكت وقالت: يا أحمد، جزاكَ الله خيرًا، وجزى من في منزلك خيرًا، تدري ما كان من خبري الليلة؟ قلت: لا يا أم أمير المؤمنين، قالت: كنتُ نائمةً في فراشي، فرأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول لي: جزاكِ الله خيرًا، وجزى أحمدَ بن الخصيب خيرًا، وجزى من في منزله خيرًا، فقد فرَّجتم الليلة عن ثلاثة من ولدي، ما كان لهم شيء، ثم قالت: خذ هذا الحلي مع هذه الثياب والمال، فادفعه إلى العلوي، وقل له: نحن نصرفُ إليك كلَّما جاء من هذه الناحية، وخذ هذا الحلي والثياب والمال، فادفعه إلى زوجتك، وقل لها: جزاك الله خيرًا، فهذه دلالتك، وخذ هذه الثياب والمال لك، فأخذتُ الجميعَ وركبتُ إلى منزلي والنجوم بحالها، وجعلتُ طريقي على باب العلويّ، فقلت: أبدأ به، إذ كان الله رزقنا هذا الرزقَ بسببه، فطرقت البابَ، فخرج العلويُّ وقال: هات ما معك، فقلت: وما يدريك ما معي؟ فقال: انصرفتُ من عندك بما أخذتُه منك، ولم يكن عندنا شيء، فدفعتُ المال إلى بنت عمي، ففرحت وقالت: قم إلى الصلاة، وادعُ حتى أؤمِّن على دعائك، فقمتُ وصلَّيتُ ودعوتُ وهي تؤمِّن، ودعونا لك وللسيدة ولزوجتك، ثمَّ نمتُ، فرأيت جدِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: قد شكرتُهم عنك، فإذا جاؤوك بشيءٍ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): تتردد. والمثبت من المنتظم. (¬2) تهور الليل: ذهب، أو ولَّى أكثره. القاموس (هور).

شعيب بن سهل بن كثير

آخر فاقبلهُ، فدفعتُ إليه ما كان معي وانصرفتُ إلى منزلي، وإذا بربَّة البيت قلقة، فحدَّثتُها الحديث، فقالت: ألم أقل لك: اتكل على جدِّهم؟ فدفعتُ لها ما كان لها، فدَعت وفرحت (¬1). توفيت شجاع بالجعفرية لستٍّ خلون من ربيع الأول (¬2)، والمتوكِّل غائبٌ، فصلَّى عليها ابنه محمد المنتصر، ودُفِنت عند الجامع، وخلَّفت من الذهب خمسة آلاف ألف دينار وخمسين ألف دينار، ومن الدراهم كذلك، ومن الجواهر ما قيمتُه ألف ألف دينار، وكذا من العقارات والمتاع والأثاث وغيره. وقال جعفر بن عبد الواحد الهاشمي: دخلتُ على المتوكِّل لمَّا توفيت أمُّه فعزَّيتُه، فقال: يا جعفر، ربَّما قلتُ البيتَ الواحد، فإذا جاوزتُه خلَّطتُ، وقد قلت: [من الطويل] تذكَّرتُ لمَّا فرَّقَ الدهرُ بيننا ... فعزَّيت نفسي بالنبيِّ محمَّدِ فأجازه بعض من حضر، وقال: فقلتُ لها إنَّ المنايا سبيلُنا ... فمن لم يمت في يومه ماتَ في غدِ (¬3) شُعَيب بن سَهْل بن كثير أبو صالح الرازيّ، ويعرف بشعبويه. ولَّاه المعتصم قضاء بغداد على عسكر المهدي، ثمَّ عُزِل. وكان يقول بخلق القرآن، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول: أخزاهُ الله، كان يرى رأيَ جهم بن صفوان (¬4). وكان قد كتبَ على باب مسجدِه وفي المحراب: القرآنُ مخلوق، فجاءتِ العامَّةُ إلى ¬

_ (¬1) المنتظم 11/ 347 - 349. (¬2) في المنتظم 11/ 350: ربيع الآخر. وذكر الطبري في تاريخه 9/ 234، والمسعودي في مروج الذهب 7/ 267 - 266 أيضًا أنها توفيت في ربيع الآخر، لكن من سنة سبع وأربعين ومئتين. (¬3) المنتظم 11/ 350. (¬4) الجرح والتعديل 4/ 346.

محمد بن سليمان

داره فنهبوها وأحرقوها، فهربَ منهم، وهو أوَّل قاضٍ أُحرقت دارُه، ونهبت، وكان خبيثًا (¬1). محمد بن سليمان ابن حبيب بن جُبير، أبو جعفر الأسديُّ الكوفيّ، ويعرف بلُوَين. خرج من الكوفة طالبًا الثغر، فسكن المصيصةَ مرابطَّا بَها، فماتَ، فدُفِن بها في هذه السنة وقيل: سنة خمس وأربعين، وقيل: مات بأذنة (¬2). سمع مالكًا وغيره، وروى عنه عبد الله بن الإمام أحمد رحمة الله عليهما، وكان ثقةً، وعاش مئة وثلاث عشرة سنة، رحمه الله (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 10/ 335 - 336، والمنتظم 11/ 346، وتاريخ دمشق 8/ 83 - 84 (مخطوط). ولم ترد ترجمته في (ب). (¬2) الذي في المصادر أنه مات بأَذَنَة ونقل إلى المصيصة فدفن بها. انظر تاريخ بغداد 3/ 218، 220، 221، وتهذيب الكمال 25/ 297، 301، وسير أعلام النبلاء 11/ 501 - 502. (¬3) هذه الترجمة لم ترد في (ب).

السنة السابعة والأربعون بعد المئتين

السنة السابعة والأربعون بعد المئتين فيها قُتِل المتوكل، ووليَ ابنه محمد المنتصر [بعده]. الباب الحادي عشر في خلافته (¬1) هو محمد بن جعفر المتوكِّل [ابن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، واختلفوا في كنيته، فقال الطبري: ] (¬2) أبو جعفر (¬3)، [وقال الحلمي: ] (¬4) أبو عبد الله، وقيل: أبو العباس. [واختلفوا في مولده على قولين؛ أحدهما] بسامرَّاء في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين ومئتين، وقيل: في سنة أربع وعشرين (¬5). وأمُّه أمُّ ولدٍ روميَّة، اسمُها حَبشيَّة. [ذكر صفته: ] وكان أعينَ أقنى ربعة، وقيل: قصيرًا، ضخم الهامة (¬6)، عظيمَ البطن، جسيمًا، مليحَ الوجه، مهيبًا، على عينه اليمنى أثر، وكانَ قد وقعَ وهو صغير، فأصابَه ذلك (¬7). وبويع (¬8) يومَ الأربعاء لأربعِ خلونَ من شوَّال بالجعفريَّة، وكان قد بُويع في الليلة التي قُتِلَ فيها أبوه، فلمَّا كان صباح الأربعاء شاع قتلُ المتوكل بين القوَّاد والجند، فاجتمعوا وتكلَّموا في أمر البيعة، فخرجَ إليهم بعضُ أصحاب المنتصر، [فأبلغهم عن ¬

_ (¬1) في (ب): ذكر خلافته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). ومكانها في (خ) و (ف): وكنيته. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 234. (¬4) كذا في (ب)، ولم أتبينه. وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬5) قوله: وقيل في سنة أربع وعشرين. ليس في (ب)، ولم أقف على هذا القول، وفي المنتظم 11/ 353 أن عمره حين ولي الخلافة أربع وعشرون سنة. وهو أحد الأقوال. فلعله انتقال بصر، والله أعلم. (¬6) في (خ) و (ف): القامة. والمثبت وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬7) كذا في (ب) و (خ) و (ف)، وفي تاريخ بغداد 2/ 485: على عينه اليمنى أثر وَقْعٍ أصابه وهو صغير. (¬8) من هنا ... إلى قوله: فصل وقال المسعودي .. ليس في (ب).

المنتصر ما يحبُّون، فأسمعوه، فدخلَ إلى المنتصر فأبلغه، فخرج] (¬1) وبين يديه جماعة من المغاربة، وحملَ عليهم وصاح: يا كلاب، خذوهم، فانهزموا، ومات في الزحام منهم جماعة، ثمَّ بايع الناس. وأوَّل من دخل عليه جعفرُ بن سليمان وهو قاضي القضاة، فقال له المنتصر: بايع، فقال: وأينَ أمير المؤمنين؟ فقال: قتلَه الفتحُ بن خاقان، قال: وما فُعِلَ بالفتح؟ قال: قتله بغا، قال: فأنتَ وليُّ الدم وصاحب الثأر، ثم بايعه. وحضر الوزير عبيد الله بن [يحيى بن] خاقان فبايع، ثم نفاه المنتصر بعد ذلك إلى بغداد، وسبب نفيه أن عبيد الله والفتح صحَّ عندهما أنَّ المنتصرَ يريدُ قتل أبيه، فرتَّبا له من يقتلُه إذا خرج من داره، فلم يخرج حتى قُتِل المتوكِّل، فلمّا ولي المنتصر نفى عبيد الله إلى بغداد، وكتبَ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بحبسه والاحتراز عليه، ثمَّ نفاه بعد ذلك إلى مكَّة، وسنذكرُه إن شاء الله تعالى. وأقام المنتصرُ بالجعفريَّةِ عشرةَ أيام، ثمَّ انتقلَ إلى سامرَّاء بعياله وأهله، فصالح المنتصرُ إخوتَه وأخواته من ميراثهم على أربعة آلاف ألف درهم (¬2). قال الصوليُّ: لمَّا حضروا للبيعة لم يبق خاصٌّ ولا عامّ إلَّا وجاء، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتابًا من المنتصر مضمونه أنَّ الفتحَ بن خاقان قتلَ المتوكِّلَ غيلةً، فقتله به. وأحضرَ المنتصرُ إخوتَه المعتز والمؤيِّد، وعزَّاهما في أبيهما، وقال: شرق بالكأس فمات، وكتب كتابًا إلى بغداد بالبيعة، فبويعَ بعد بيعته بسامرَّاء يومَ السبت لسبعٍ خلون من شوال. وقال عليُّ بن يحيى المُنَجِّم: جلسَ المنتصرُ بعد قتل أبيه في مجلسٍ فيه بساطٌ كبير، فيه دائرةٌ فيها مثال فرس، وعليه فارس راكب، وعلى رأسه تاج، وحول الدائرة كتابةٌ بالفارسية، وكان الندماء حولَ المنتصر، وعلى رأسه الموالي والقوَّاد، فنظرَ إلى تلك ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 239، والمنتظم 11/ 354. (¬2) في المنتظم 11/ 354: أربعة عشر ألف ألف درهم.

الدائرة والكتابة التي حولَها، فسأل بغا عن الكتابة، فقال: ما أدري ما هي، فقال لمن حضر من الندماء: اقرؤوها، فلم يتجاسر أحدٌ عليها، فقال المنتصر لوصيف: أحضر لي من يقرأ هذه الكتابة، فأحضر رجلًا فارسيًّا، فقرأها، فغضب، فقال له المنتصر: ما هي؟ فقال: يا أمير المؤمنين، بعضُ حماقات الفرس، قال: أخبرني، قال: ما له معنى، فألحَّ عليه وغضب وقال: لا بدَّ، فقال: يقولُ شيرويه بن كسرى بن هرمز: قَتَلْتُ أبي، فلم أمتَّع بالملكِ إلَّا ستةَ أشهر، فتغيَّر وجهُ المنتصر، وقام مُغْضَبًا إلى النساء، وتفرَّقَ القومُ، فلم يملك إلَّا ستةَ أشهر (¬1). وقال محمد بن سهل الكاتب: قُتِل المتوكِّلُ على البساط، وكان ملوَّثًا بدمه، وقال المنتصر (¬2): أحرقوه، ويحك يا بغا ويا وصيف، أما كان في الدنيا غير هذا البساط، فأحرقوه (¬3). [فصل: ] وقال المسعوديُّ (¬4): اسم [هذا] المكان الذي قُتِلَ فيه المتوكِّل الماحوزة (¬5)، وفيه قَتلَ شيرويه أباه كسرى، ولمَّا انتقلَ المنتصر إلى سامرَّاء أمرَ بخراب القصر الذي بناه أبوه، ويسمى الجعفريّ، وكان المتوكِّلُ قد غرمَ عليه أموالًا عظيمةً. وفيها أخرج المنتصرُ عليَّ بن المعتصم من سامرَّاء، ونفاه إلى بغداد، ووكَّل به من يحفظُه. وبعدَ البيعةِ بيوم ولَّى المنتصرُ المظالمَ أبا عمرةَ أحمد بن سعيد مولى بني هاشم، فقال الشاعر: [من السريع] يا ضيعةَ الإسلام لمَّا وَلي ... مظالمَ الناس أبو عمرهْ صُيِّر مأمونًا على أُمَّةٍ ... وليسَ مأمونًا على بعرهْ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 485 - 486، والمنتظم 11/ 354 - 355. (¬2) في مروج الذهب 7/ 293 أن الذي أمر بإحراق البساط وصيف وبغا. (¬3) من قوله في بداية الكلام عن خلافة المنتصر: وبويع يوم الأربعاء لأربع خلون ... إلى هنا ليس في (ب). (¬4) في مروج الذهب 7/ 290. (¬5) في (خ) و (ف): الماحوز. وفي (ب): الماجور. وفي مروج الذهب والكامل 7/ 105: الماخورة. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 239. وانظر معجم البلدان 2/ 143.

أحمد بن خالد

وحج بالناس محمد بن سليمان الزينبيّ (¬1). وفيها توفي أحمد بن خالد أبو العباس (¬2) البغداديُّ، الفقيه الفاضل، سمع الإمام الشافعيَّ رحمة الله عليه، وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، وغيرهم، وكان صدوقًا ثقةً (¬3). [فصل: ] جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن الرشيد [ذكر طرف من أخباره: ] ولد سنة سبع ومئتين، وقيل: سنة خمس ومئتين، [و] ولي الخلافةَ سنة اثنتين وثلاثين ومئتين، وكان شجاعًا جوادًا يقظًا، أحيا السنَّةَ، وأماتَ البدعة. و[قال الصوليُّ: ] كانت أيامه سرورًا لا ضرَّ فيها، لولا انحرافه عن أمير المؤمنين علي - عليه السلام - (¬4)، [وهدمه لمشهد الحسين وحرثه، وأباد العلويين، وشتَّتهم في الدنيا، وأتلف منهم خلقًا كثيرًا، وكان إذا ذمَّ لشاعرٌ عليًّا - عليه السلام - أعطاه مئة ألف درهم. وقال أحمد بن الخصيب: إنَّ المنتصرَ ما قتل أباه حتى استفتى الفقهاءَ في قتله، فأفتوه بذلك. قال: وكان يسبُّ عليًّا في المحافل ومجالس الشرب، وأضف إلى ذلك إقدامه على سفك الدماء واستحلال أموال الناس بالمصادرات. وكان أهل البيت في أيامه في محنةٍ عظيمة؛ قطع أرزاقهم، وهدم منازلهم ومشاهدهم، ونفاهم إلى الأقطار] (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 239، ومن قوله: وكان المتوكل قد غرم عليه ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) كنيته كما في تهذيب الكمال 1/ 301، وسير أعلام النبلاء 11/ 531، وتاريخ الإسلام 5/ 998، وطبقات الشافعية الكبرى 2/ 5، وتهذيب التهذيب 1/ 21: أبو جعفر. ولم أقف على من كناه بأبي العباس. (¬3) انظر ترجمته بالإضافة إلى المصادر المذكورة في تاريخ بغداد 5/ 206، وطبقات الحنابلة 1/ 42. وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬4) قال الذهبي في تاريخ الإسلام 5/ 1099: ولم يصح عنه النصب. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

دخل مروان بن أبي الجنوب عليه فأنشده قصيدته التي يقول فيها: [من الطويل] سلامٌ على جُمْلٍ وهيهاتَ من جُمْلِ ... ويا حبَّذا جُمْلٌ وإن صرمَتْ حبلِي أبوكم عليٌّ كان أفضلَ منكم ... أباه ذوُو الشورى وكانوا ذَوي عدلِ وساءَ رسولَ الله إذ ساءَ بنتَه ... بخطبتِه بنتَ اللعين أبي جهلِ أراد علي بنتِ النبيِّ تزوُّجًا ... ببنتِ عدوِّ الله يا لَكَ من فعلِ فذمَّ رسول الله صهرَ أبيكُم ... على منبر بالمنطق الصادق الفصل وحكَّم فيها حاكمين أبوكُمُ ... هما خلعاهُ حذوَ ذي النعلِ بالنعلِ (¬1) وقد باعَها من بعده الحسنُ ابنُه ... فقد أبطلَا دعواكما الرثَّةَ الحبلِ وخلَّيتموها وهي في غير (¬2) أهلها ... وطالبتموها حين صارتْ إلى أهلِ فأعطاه مئة ألف درهم. وقال في المعنى: [من مجزوء الكامل] لكمُ تراثُ محمدٍ ... وبعدلكم تُنْفَى الظُّلَامهْ يرجو التُّراثَ بنو البنا ... تِ ومالهم فيه قُلَامَهْ والصهرُ ليس بوارثٍ ... والبنتُ لا ترثُ الإمامَهْ ما للذين تَنحَّلُوا ... ميراثَكم إلَّا الندامَه أخذَ الوراثةَ أهلُها ... فعلامَ لومُكم علامَهْ لو كان حقُّكُم لها ... قامتْ على القومِ القيامَهْ ليس التراثُ لغيركم ... لا والإلهِ ولا كرامه أصبحتُ بين حبِّكم ... والمبغضينَ لكم علامَهْ فخلعَ عليه المتوكِّلُ أربعَ خلع، وأعطاه ألفَ دينار (¬3)، وعشرة آلاف درهم، وولَّاه البحرين واليمامة. وكان مروان أنشد المتوكل لما ولَّى ولاةَ العهد: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في الأغاني 23/ 206: خلع ذي النعل للنعل. (¬2) في (خ): عقر. وفي (ف): عصر. والمثبت من الأغاني. (¬3) في تاريخ الطبري 9/ 231 - والأبيات فيه-: ثلاثة آلاف دينار.

سَقى الله نجدًا والسلامُ على نجدِ ... الأبيات. فأعطاه مئةً وعشرين ألفًا، وثيابًا، وخيلًا، وغيرها، فأنشده: فأمسك ندا كفيكَ عنِّي ولا تَزِد ... فقد خفتُ أنْ أَطغى وأن أتجبَّرا فقال له المتوكِّلُ: لا والله، ما أمسكُ حتى يغرقك جودي، ولا بدَّ أنْ تسألَ حاجةً، فقال: يا أمير المؤمنين، الضيعةُ التي أمرتَ بإقطاعي إيَّاها باليمامة، ذكر ابنُ المدبِّر أنَّها وقفٌ من المعتصم على ولده، ولا يجوز إقطاعها، قال: فإنِّي أقبلكها بدرهم في السنة مئَة سنة (¬1)، فقال: ما يحسن أن يؤدَّى درهم في الديوان، فقال ابن المدبِّر: فألف درهم؟ قال: نعم. ثم أطلقَ له ضياعًا كثيرةً، ولم يعطِ خليفةٌ شاعرًا ما أعطاهُ المتوكِّل (¬2). وقال الخطيب: كانت عدَّةُ نَوْبَةٍ من نُوَب الفرَّاشين في دار المتوكِّل أربعة آلاف فرَاش (¬3). وقال عليّ المنجِّم: خرجنا مع المتوكِّل إلى دمشق، فلحقتنا ضائقةٌ بسبب النفقات، فاقترضتُ من بَخْتيشُوع عشرين ألف درهم، وبلغَ المتوكل، فدخلت عليه بعد يومين، فقال: يا عليّ، لك عندي ذنبٌ عظيم، فقلت: ما أعرف لي ذنبًا ولا جناية، فقال: بلى، استقرضتَ من بختيشوع عشرينَ ألف درهم، هلّا أعلمتني؟ فقلت: صلاتُ أميرِ المؤمنين عندي متواترة، وأرزاقُه كثيرةٌ، فاستحييتُ أن أسألَه، فقال: ولم؟ إيَّاك أن تستحي مني، وأن تعاودَ إلى مثلها، وأمر لي بمئةِ ألف درهم (¬4). وقال الخطيب: اعتلَّ عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فأمر المتوكِّلُ الفتحَ بن خاقان يعوده، فعاده وقال: أمير المؤمنين يسلِّم عليك، فقال عبيد الله: [من الهزج] عليلٌ من مكانين ... من الأسقامِ والدَّينِ وفي هذين لي شُغْلٌ ... وحسبي (¬5) شغلُ هذين ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فإني أقيلكها بدراهم في كل سنة مئة ألف. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 232. (¬2) من قوله: دخل مروان بن أبي الجنوب عليه فأنشده ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) تاريخ بغداد 1/ 417. (¬4) تاريخ بغداد 8/ 49 - 50. (¬5) في (خ) و (ف): وجسمي.

فأخبرَ الفتحُ المتوكِّل، فأمرَ له بألف ألف درهم. ودخل عليُّ بن الجهم على المتوكِّل، وبيده دُرَّتان يقلِّبهما، فأنشدهُ أبياتًا منها: [من مجزوء الكامل] وإذا مَرَرْتَ ببئر عُر ... وة فاسقني من مائِها (¬1) فدحَا إليه الدُّرةَ التي كانت في يمينه، فقلَّبها ابنُ الجهم، فقال له المتوكِّلُ: تستنقصُ، وهي خير من مئة ألف؟ ! فقال: لا، ولكن فكرت في أبياتٍ أعملُها لأجل التي في يسارك، قال: قل، فقال: [من مخلع البسيط] بِسُرَّ من رَا إمامُ عَدْلٍ ... تغرفُ من جوده البحار (¬2) يُرْجَى ويخْشَى لكلِّ خطبٍ ... كأنَّه جنَّةٌ ونارُ الملكُ فيه وفي بنيه ... ما اختلفَ الليلُ والنهارُ يداه في الجود ضَرَّتانِ ... عليه كلتاهما تَغَارُ لم تأت منه اليمين شيئًا ... إلا أتت مثلَها اليسارُ فدحا إليه التي في يساره، ويقال: إنَّ الأبياتَ للبحتريِّ (¬3) في المتوكِّل (¬4). [وحكى الخطيب عن] (¬5) الفتح بن خاقان: دخلتُ يومًا على المتوكِّلِ وهو مطرقٌ يتفكَّر، فقلت: ما هذا الفكر يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما على وجه الأرض أطيبُ عيشًا منك، ولا أرخى بالًا، فقال: بلى يا فتح، أطيبُ عيشًا منِّي مَنْ له دارٌ واسعة، وزوجةٌ صالحةٌ، ومعيشةٌ حاضرةٌ، لا يعرفُنا فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه (¬6). وكان المأمون يقول (¬7): الخليفةُ بعدي في اسمه عين، فكان المعتصم، ثم يقول: وبعدَه هاء، فكان الواثق، واسمه هارون، ثمَّ قال: وبعدَه أصفرُ الساقين، فإنَّ المتوكِّل ¬

_ (¬1) ديوان علي بن الجهم ص 37. (¬2) في (خ) و (ف): تغرق. والمثبت 8/ 48، وديوان علي بن الجهم (التكملة) ص 136. (¬3) وهي في ديوان البحتري 2/ 1013 - 1114 بألفاظ قريبة. (¬4) من قوله: وقال علي المنجم: خرجنا مع إلى هنا ليس في (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال. (¬6) تاريخ بغداد 8/ 51. (¬7) في (ب): وروي أن المأمون كان يقول.

أصفر الساقين، كأنَّما صُبغَا بزعفران (¬1). ذكر مقتله: اتفقت له أسبابٌ ردية، من أعظمها تغيُّره على ولده [محمد] المنتصر، وأراد أن ينقلَ العهدَ منه إلى [ابنه] المعتز، [وكان المتوكِّل مائلًا إلى المعتز]؛ لمحبته لأمه [قبيحة]، وسأل [ابنَه] المنتصر أن ينزلَ عن العهد فأبى، [وكان المنتصر يحبُّ عليَّ بن أبي طالب وأهل البيت، والمتوكِّل يبغضهم، وعرف المتوكِّلُ من المنتصر، ] فكان يحضرُه [في] مجالس العامَّة، ويحطُّ من منزلته ويتهدده بالقتل، وأحضرَه ليلةً وشتمَه شتمًا قبيحًا وقال: أنت المنتظِر لموتي، وشتم أمَّه، فقام المنتصرُ وقال: والله لو أنَّها أَمَةٌ لبعض سوَّاسك لمنعتَ من ذكرها، ولوجبَ عليك صيانتُها، فغضب المتوكِّل وقال للفتح بن خاقان: برئتُ من قرابتي من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لئن لم تلطمه (¬2) لأقتلنَّك، فقام الفتحُ ولطمَه [لطمتين في وجهه]، وقال المتوكل: اشهدوا عليَّ أنِّي قد خلعتُه من الخلافة. [قال الصوليُّ: وأحضره ليلةً وأمر جلساءه بسبِّ أمير المؤمنين عليّ، فغضب المنتصر، وقال: أما يستحيي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر هؤلاء الصفا عنه (¬3) بسبِّ ابن عمِّه؛ فقال المتوكِّل للمغاني: غنوا: [من المجتث] غارَ الفتى لابن عمِّه ... (كذا وكذا) (¬4) في حِرِ امِّهْ] (¬5) فبقيت هذه الأشياء في قلب المنتصر، وانضافَ إلى ذلك انحرافُ المتوكل عن الأتراك، وأخذُ ضياع وصيف وبُغا، فاتَّفقوا مع المنتصر على قتله [بعد أن استفتى الفقهاء في قتل أبيه]، وأقطع المتوكِّلُ ضياعَ وصيف بأصبهان والجبال للفتحِ بن خاقان، فجعلَ وصيف يُغري المنتصرَ بقتل أبيه ويطمعُه في الخلافة. ¬

_ (¬1) تاريح الطبري 9/ 233. (¬2) في (خ): تلطم خده. (¬3) كذا رسمت في (ب)، ولم أتبينها. (¬4) الشطر الثاني كما في الكامل 7/ 55: رأس الفتى في حر امه (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

ودخل شهرُ رمضان، وعزمَ المتوكِّلُ أن يصلِّي بالناس آخر جمعةٍ منه بسامراء، فاجتمعَ الناس من بغداد، وحشد بنو هاشم وغيرهم لرفعِ القِصص وكلامِه إذا ركب، فقال له الفتح بن خاقان (¬1): يا أميرَ المؤمنين، قد اجتمع الناس للقصص من كل مكان، وأنت تشكو ضيقَ الصدر، فإن رأيتَ أن تأمر بعض ولاة العهود أن يصلي بالناس فافعل، فقال: من ترون لها؟ وكانوا قد عرفوا ميلَه إلى المعتزِّ، فأشاروا به وقالوا: شرِّفه في هذا اليوم بالنيابة عنك، فقال: نعم، وبلغ المنتصر وهو مقيمٌ في منزله بالجعفرية، فكان ذلك ممَّا زاد في إغرائه بأبيه. وركبَ المعتزُّ والفتح معه وجميعُ القوَّاد والخاصة والعامة، فصعدَ المنبر فخطبَ آخر جمعة في رمضان، فأحسن في خطبته وقراءته، ولمَّا فرغ من الصلاة انصرفَ بين يديه داود بن محمد بن أبي العباس الطوسيّ، فقال داود: يا أمير المؤمنين، لقد رأيتُ الأمين والمأمون والمعتصم والواثق على المنبر، فوالله ما رأيتُ أحسنَ قوامًا، ولا أحسن بديهةً، ولا أجهرَ صوتًا، ولا أعذب لسانًا، ولا أفصح من المعتز، فأعزَّه الله بك، وأيَّده ببقائك، فقال له المتوكِّل: أسمعكَ الله خيرًا، وأمتعنا بك (¬2). فلمَّا كان يوم الفطر، وهو يوم الأحد، وجد المتوكل فترةً، فقال: مروا المنتصرَ فليصلِّ بالناس، فقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان: يا أميرَ المؤمنين، قد كان الناس يتطلَّعون إلى رؤيتك في يوم الجمعة واحتشدوا، فلم تركب، وإن لم تركب اليوم ويراك الناس، لا نأمنُ أن يُرجِفوا بمرضك، وتختلَّ الأمور، فإن رأيتَ أن تَسُرَّ الأولياء بركوبك، وتكبتَ الأعداء، فافعل. فركبَ في يوم الفطر وقد ضُرِبت له القباب (¬3)، واجتمعت العساكر والقوَّاد، وترجَّلَ الناس ومشوا بين يديه نحوًا من أربعة أميال، وكان يومًا عظيمًا لم يُرَ في الإسلام مثلُه، ولا بعده، فلمَّا عاد إلى قصرِه أخذ حفنةً من تراب فوضعها على رأسه، فقيل له في ذلك، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 222: فقاله له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان. (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 222 - 223. (¬3) في تاريخ الطبري 9/ 223: وقد ضربت له المصافّ.

فقال: إنِّي رأيتُ كثرة الجمع، وأنَّ الله ملَّكني عليهم، أحببتُ أن أتواضعَ لله تعالى. وأقام نهار الأحد والإثنين والثلاثاء واجمًا، وقد منع ندماءَه عنه، فلمَّا كان في نهار الثلاثاء أصبحَ نشيطًا، فدعا بندمائه وجلسَ في مجلس الشراب، وبين يديه الندماء وأهلُ الطرب (¬1)، وأرسلت له قبيحةُ مُطرفَ خزٍّ أخضر، لم يرَ الناسُ أحسنَ منه، فنظرَ إليه واستحسنه، وأمرَ به فقُطِع نصفين، وردَّه عليها، وقال لرسولها: قل لها: تذكرني به، فوالله إنَّ نفسي تحدِّثني أنِّي لا ألبسُه، فما أريدُ أحدًا أن يلبسَه بعدي، فقال له ندماؤه: نعيذُك يا مولانا أن تقول هذا، فقال: أنا والله مفارقُكم عن قليل، [ولم يزل في لهوه وسروره إلى الليل] (¬2). وكان قبلَ ذلك قد قُرِئ عليه كتابٌ (¬3) فيه ملاحم، فمرَّ القارئُ على موضعٍ فيه أنَّ الخليفةَ العاشر من بني العباس يُقتَل في مجلسه، فقال المتوكل: ليتَ شعري من هذا الشقيُّ المقتول، ووجم فقيل له: أنتَ الحادي عشر، وذَكروا إبراهيم بن المهدي من جملة الخلفاء، فسرِّي عنه. و[قال الصولي: ] رأى [المتوكِّلُ] في منامه كأنَّ دابَّةً تكلّمُه، فقال لبعض جلسائِه: ما تفسيرُه؟ فورَّى بشيءٍ آخر، ثم قال في نفسه: حان هلاكُه لقوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} [النمل: 82]. وكان قد عزم على قتل المنتصر والأتراك معه في تلك الليلة، فأحضرَه وجعلَ مرَّةً يسقيه، ومرَّةً يشتمُه، ومرَّةً يصفعُه، ومرَّةً يتهدَّده بالقتل، ثم قال [له: ] قد خلعتُك من الخلافة، وكنت قد سمَّيتُك المنتصِر، فسمَّاك الناسُ (¬4) لحمقك المنتظِر، ثم صرتَ الآن المستعجل، فقال: يا أمير المؤمنين، لو ضربتَ عنقي لكان أسهل عليَّ مما تفعلُ بي. وكان المنتصر واقفًا مع زرافة التركي الحاجب، فخرج [المنتصر] وقال لزرافة: ألا تشيعني ساعةً حتى أشكو إليك ما ألاقي، فقال: بلى، وخرج معه فشيَّعه إلى داره، وجعل ¬

_ (¬1) من قوله: وأقطع المتوكل ضياع وصيف ... إلى هنا ليس في (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). ووقعت هذه العبارة في (خ) و (ف) بعد قوله الآتي: دابة من الأرض تكلمهم. وانظر تاريخ الطبري 9/ 225. (¬3) في (ب): وقال الصولي: قرئ على المنتصر كتاب ... وترتيب الأخبار في (ب) مختلف عما في (خ) و (ف). (¬4) في (خ) و (ف): فسماك الله. والمثبت من (ب) وتاريخ الطبري 9/ 225.

يطاوله، حتى أغلق بُغَا الأبواب كلَّها، إلَّا باب الماء. [وقال الصولي: لمَّا كانت ليلةُ الأربعاء لثلاثٍ خلون من شوال سنة سبعٍ وأربعين ومئتين، وكان المتوكِّلُ على تلك الحالة في قصره المعروف بالجعفريّ، وعنده الفتح بن خاقان وجماعةٌ من المغنين، فقال لبعضهم: غنِّي، فغنَّى هذه الأبيات: ] (¬1) [من الكامل] يا عاذليَّ من الملام دعاني ... إنَّ البليَّة فوق ما تصفانِ زعمتْ بثينةُ أنَّ رحلَتنا غدًا ... لا مرحبًا بغدٍ فقد أبكاني (¬2) فتطيَّر المتوكلُ من هذا، وقال: ويحك، كيف وقعَ لك هذا، غيِّره، فذهبَ ليغيِّرَهُ بغيره فأعاده. [وأقام المتوكل في مجلسه إلى ثلث الليل] (¬3). ودعا المتوكِّلُ بطعامٍ، وكان بُغا الشرابيُّ قائمًا عند الستر، وكانت نوبتُه في تلك الليلة (¬4)، فقال للندماء: انصرفوا، فقال الفتح: ليسَ هذا وقت انصرافهم، فقال بغا: قد شرب أميرُ المؤمنين كثيرًا، فأخرجهم، ولم يبقَ إلَّا المتوكِّل والفتح بن خاقان وأربعةٌ من الخدم، شفيع، وفرج الصغير، ومؤنس، وأبو عيسى (¬5)، ودخل القوم الذين عَيَّنوا قتلَه من باب الماء (¬6)، وهم باغر وبغلون وموسى بن بغا وهارون بن صوارتكين، فلمَّا رأى المتوكل السيوف مسلَّلة قال: ما هذا؟ قيل أصحاب النوبة، ورجع القومُ لمَّا سمعوا كلام المتوكِّل، فقال لهم بُغَا: ويحكم، أنتم مقتولون لا محالة، فموتوا كرامًا، فرجعوا إلى المجلس، فابتدره بغلون، فضربه على كتفه وأذنه فقدَّه، فقال: مهلًا، قطعَ الله يدك، وأراد الوثوبَ، فاستقبلَه فأبان يده، وشركه باغر. وقيل: أول من ضربه باغر على عاتقه، فنزل السيفُ إلى خاصرته، ثم ثناه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال المتوكِّلُ لبعض المغنين: غنِّي، فغنى. (¬2) ديوان جميل بثينة ص 205. (¬3) المنتظم 11/ 357 - 358، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في تاريخ الطبري 9/ 226 أنها كانت نوبة بغا الكبير لا بغا الصغير المعروف بالشرابي، وكان بغا الكبير يومئذ بسميساط وخليفته في الدار ابنه موسى. (¬5) من قوله: ودعا المتوكل بطعام ... إلى هنا ليس في (ب). (¬6) في تاريخ الطبري 9/ 226، والكامل 7/ 98: باب الشط.

[قال الصولي: ] وكان أهدي للمتوكل [سيفٌ لم يُرَ مثله في الدنيا، فوهبه لباغر، فقتله به. قال الصولي: وُصِف] هذا السيف [للمتوكل] فاشتراه بألفي درهم قبل أن يراه، فلمَّا رآه استحسنه، وكان قاطعًا، فالتفتَ إلى باغر وقال: هذا سيف وحش، [وأنت وحش]، فخذه، فوهبه (¬1) له. [وفي روايةٍ أنَّ هذا السيف وصِف للمتوكِّل مدَّةً حتى وقع به. وقال الصولي: دخل المتوكِّلُ] (¬2) بيتًا فيه تصاوير، فرأى صورةَ باغر التركي، وكان يبغضه، فقال: والله لا عدتُ إلى هذا البيت أبدًا بغضًا لباغر، فما مضت الأيام حتى قتلَه باغر. فصاح الفتح: ويلكم قتلتُم أمير المؤمنين، فقال له [باغر: ] يا فاعل، وشتمَه شتمًا قبيحًا: ألا تسكت، فرمى الفتحُ نفسَه عليه، فبعجُوه بالسيوف فقتلوه، وخرج القوم إلى المنتصر، فسلَّموا عليه بالخلافة، وقاموا على رأس زرافة بالسيوف، وقالوا: بايع، فبايع. وكان عبيدُ الله الوزير في الحجرة ينفذ الأمور، ولا يعلم بشيء، فدخلَ عليه خادم فقال: ما يقعدُك، الدارُ سيفٌ واحد، فخرج إلى بعض أبواب الشطِّ فرآه مغلقًا، فكسره، وصار إلى زورق، فقعدَ فيه، وصار إلى منزل المعتز، فسأل عنه فلم يجده، فقال: إنَّا لله، قتلني وقتل نفسَه، واجتمع غداةَ يوم الأربعاء إلى عبيد الله الوزير أصحابُه ومواليهم وغيرهم في عشرة آلاف وأكثر، فقالوا له: إنَّما أنت تصطنعنا لمثل هذا اليوم، فمرنا بأمرِك لنميلَ على القوم، فنقتلَ المنتصرَ والأتراك وغيرهم، فأبى ذلك، وقال: الرجلُ في أيديهم -يعني المعتز- فما ينفع (¬3). وقيل: إنَّ المتوكِّلَ قُتِلَ ليلةَ الخميس لخمسٍ خلونَ من شوال. [وقال ابن أبي الدنيا: قتل] (¬4) ليلةَ الأربعاء بعد العتمة بساعة. ¬

_ (¬1) انظر مختصر تاريخ دمشق 6/ 93. وفيه: ياغر. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وكان المتوكل دخل. (¬3) من قوله: وكان عبيد الله الوزير ... إلى هنا، ليس في (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقيل.

[واختلفوا في كيفية دفنه، فقال الصوليُّ: أُمِر به وبالفتح بن خاقان، فدفنا] (¬1) في قبرٍ واحد، ولم يُغسَّلا من دمائهما. وقيل: لُفَّا في بساط بقيَّةَ ليلتِهما، ثم دُفنا من الغد. ويقال: إنَّ قبيحةَ كفنته في ذلك الثوب الذي مزَّقه نصفين. وصلَّى عليه ابنُه المنتصر، ودفن في قصره المعروف بالجعفري، وهو الذي قُتِل فيه. [واختلفوا في سنِّه، فقال الصوليُّ: ] كان سنّه يومَ قُتل إحدى وأربعين سنة، وقيل: أربعون [سنة]، وقيل: تسعٌ وثلاثون سنة، وتسعة أشهر، وعشرة أيام، [وقد ذكرنا أنَّه ولد في سنة ستٍّ ومئتين]، وكانت خلافته أربع عشرة سنة، وعشرة أشهر، وثلاثة أيام. وقيل: أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وأيامًا. وقال بنان المغني: كان المنتصر يشبِّبُ بقتل أبيه، فلمَّا كان في الليلة التي قتل فيها، قال لي: يا بنان، قد زوجتُ ابنَ زرافة بابنة أوتامش، وابنَ أوتامش بابنة زرافة، [قال: ] فقلت: يا سيِّدي، فأين النثار؟ فقال: الآن تراه، فقُتِل أبوه في تلك الليلة، رحمه الله تعالى (¬2). ذكر ما ظهر من الآثار عند قتله: [ذكر الخطيب بإسناده عن الطيالسي قال: أخبرني] (¬3) بعض الزمازمة الذين يحفظون زمزم [قال: ] غارت زمزم ليلة من الليالي، فأرَّخناها، فجاء الخبر أنَّها الليلةُ التي قُتِل فيها المتوكل. [وحكى الخطيب بإسناده عن عمرو بن شيبان الحلبي قال: ] (¬4) رأيتُ في الليلة التي قُتِل فيها المتوكل حين أخذت مضجعي كأن آتيًا أتاني، فقال لي: [من البسيط] يا نائم العين (¬5) في جثمانِ يقظان ... أفض دموعك يا عمرَو بن شَيبانِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ودفن هو والفتح بن خاقان. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 226. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، ومكانها في (خ) و (ف): قال. وانظر الخبر في تاريخ بغداد 8/ 54. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال عمرو بن شيبان الحلبي. (¬5) في (خ): الليل.

أمَّا ترى الفتيةَ الأرجاسَ ما فعلوا ... بالهاشميِّ وبالفتحِ بنِ خاقانِ وافى إلى الله مظلومًا فضجَّ له ... أهلُ السماوات من مثنى ووحدانِ وسوف تأتيكُم أخرى مُسوَّمَةٌ ... توقعوها لها شأنٌ من الشانِ فابكُوا على جعفرٍ وارثُوا خليفتَكم ... فقد بكاهُ جميع الإنسِ والجان فأصبحتُ وإذا الناس يقولون: قُتِلَ المتوكِّلُ في هذه الليلة (¬1). وقال أبو عبد الله أحمد بن العلاء: رأيتُ المتوكل بعدَ قتله بأشهر كأنَّه بين يدي الله تعالى، فقلت: ما فعلَ الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: بماذا؟ قال: بقليلٍ من السنَّة تمسَّكتُ بها، قلت: فما تصنع ها هنا؟ قال: أنتظرُ ابني محمدًا أخاصمه إلى الله العظيم (¬2). وقال جعفر المتوكلي (¬3): رأيتُ المتوكّل في النوم وهو جالسٌ في النور، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وذكر بمعناه. وقال أبو الوارث قاضي نصيبين: رأيتُ في منامي كأنَّ آتيًا أتاني فقال: [من البسيط] يا نائمَ العينِ في جثمانِ يقظان ... ما بالُ عينكَ لا تجري بتَهْتَانِ إنَّ اللياليَ لم تحسِن إلى أحد ... إلا أساءتْ إليه بعد إحسانِ أما رأيتَ صروفَ الدهر ما فعلت ... بالهاشمي وبالفتحِ بن خاقانِ (¬4) فما كان بعد أيام حتى وصلَ البريد بقتلهما (¬5). وقال الصولي: سمع الناس قائلًا يقول: [من مجزوء الكامل] يا عينُ ويحكِ فاهملي ... بالدمعِ منك واسبلي ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 53. (¬2) في (خ) بين يدي الله تعالى. وانظر تاريخ بغداد 8/ 54، والمنتظم 11/ 359. (¬3) كذا في (خ) و (ف). والخبر في تاريخ بغداد 8/ 52 عن عليّ بن إسماعيل قال: رأيت جعفر المتوكل بطرسوس في النوم وهو في النور جالس ... (¬4) من قوله: وافى إلى الله مظلومًا ... إلى هنا ليس من (ب). (¬5) تاريخ الطبري 9/ 230، دون البيت الثاني وفيه بعد الأخير: وسوف يتبعهم قوم لهم غدروا ... حتى يصيروا كأمسِ الذاهب الفاني

دلَّتْ على قُرْبِ القيَا ... مةِ قِتْلَةُ المتوكِّل (¬1) ورثاه البحتريُّ بعدَ موتِ المنتصر فقال: [من الطويل] لنعم الدمُ المسفوحُ ليلةَ جعفر ... هَرقتُم وجُنْحُ الليلِ سودٌ دياجرُهْ أكان وليُّ العهدِ أضمرَ غَدْرَةً ... ومن عجبٍ أن وُلِّيَ العهدَ غادرُهْ فلا مُلِّيَ الباقي تراثَ الذي مضى ... ولا حملتْ ذاكَ الدعاءَ منابرُه (¬2) وقال علي بن الجهم: [من الطويل] عبيد أمير المؤمنين قتلنه ... وأعظمُ آفاتِ الملوك عبيدُها بني هاشمٍ صبرًا فكلُّ مصيبةٍ ... سيبلَى على طولِ الزمان جديدُها (¬3) [ذكر من قتله عبيده: أولهم] (¬4) المتوكل، وخمارويه بن أحمد بن طولون، وأبو سعيد الجَنابي القُرْمُطِي ومن المغاربة علي بن محمود، في خلقٍ يسير (¬5). ذكر أخبار متفرقة [من سيرة المتوكل: ذكر الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" أنَّ المتوكل ولَّى] (¬6) على دمشق رجلًا يقال له: سالم بن حامد (¬7)، وكان سيِّئ السيرة، فوثبَ عليه أهلُ دمشق على باب الخضراء، فقتلوه وقتلوا من قدروا عليه من أصحابه، فقال المتوكل: من للشام يكون له صولة الحجاج؟ فقال له أفريدون التركي: أنا (¬8)، فجهَّزه في سبعةِ آلاف فارس، وثلاثةِ آلاف راجل، وأباحَ له دمشق ثلاثةَ أيَّامٍ قتلًا ونهبًا، فجاء أفريدون فنزل بيت لِهْيا، ويقال لها: السكاسك والسكون، فلمَّا أصبح استعدَّ وعبأ أصحابه، ودعا ببغلةٍ دهماء ليركبها، ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 9/ 230. (¬2) ديوان البحتري 2/ 1048 - 1049. (¬3) في (ب): ورثاه البحتري بعد موت المنتصر، ورثى ابن الجهم المتوكل. وليس فيها ذكر الأبيات. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وممن قتله عبيده. (¬5) في (ب): كثير. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال ابن عساكر: ولى المتوكل. (¬7) في (خ) و (ف): أحمد بن سالم. وفي (ب): سالم بن أحمد. والمثبت من تاريخ دمشق 7/ 18 (مخطوط). (¬8) في تاريخ دمشق: فقيل له: أفريدون التركي فدعا به.

وقال: يا دمشق، إيش يحلُّ بك اليوم؟ ! فلمَّا أرادَ أن يضع رجله في الركاب، دارت إليه وضربته بالزوج على فؤاده، فوقعَ ميتًا من ساعته، وخاب سعيه، وصار مثلًا، وانصرفَ جيشُه إلى العراق خائفين من نهب الشاميين، وقُتِل المتوكلُ بعد ذلك بيسير. وقال أبو الفرج الأصفهانيّ: لما أراد المتوكلُ الرجوعَ من الشام إلى العراق أحبَّ أن يجعلَ طريقَه على البريّة؛ لينظرَ إلى آثار بني أميَّة ومصانعهم، وقصور هشام بالرُّصَافة، فرأى ديرًا إلى جانب قصور هشام، فدخله، فإذا في أعلاه مكتوب: [من الطويل] أيا منزلًا بالدير أصبحَ ثاويًا ... تلاعبُ فيه شمألٌ ودَبورُ كأنَّك لم يسكنكَ بيضٌ أوانسٌ ... ولم يتبخترْ في فنائِكَ حُورُ وحولك راياتٌ لهم وعساكرٌ ... وخيلٌ لها بعد الصهيلِ شخيرُ إذ العيش غضٌّ والخلافةُ لدنة ... وأنتَ طريرٌ والزمانُ غَرِيرُ وروضُك مرتاض ونورك نير ... وعيشُ بني مروان فيك نضيرُ بلى فسقاك الله صوب غمامة ... عليك [لها] بعد الرَّواحِ بكورُ تذكَّرتُ قومي خاليًا فبكيتُهم ... بشجوٍ ومثلي بالبكاء جديرُ وعزَّيتُ نفسي وهي نفسٌ إذا جرى ... لها ذكرُ قومي أَنَّةٌ وزفيرُ لعلَّ زمانًا جار يومًا عليهم ... لهم بالذي تهوى النفوسُ يدورُ فيفرحَ محزونٌ وَينْعَمَ بائسٌ ... ويُطْلَقَ من رق الوَثَاق أسيرُ رويدَك إنَّ اليوم يتبعُه غدٌ ... وإنَّ سرورَ الدائرات (¬1) تدورُ فبكى المتوكل بكاءً شديدًا (¬2). وقال الصولي: كان المتوكل مغرًى ببناء القصور، لم ينفق خليفة عليها مثل ما أنفق؛ بنى بسرَّ من رأى قصرًا غَرِم عليه ثلاثَ مئة ألف دينار، وبنى الجعفريّ، وغرم عليه مثل ذلك، وأمر الشعراء أن يمدحوه، فقال عليُّ بن الجهم: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف)، والخبر ليس في (ب). وفي البصائر والذخائر 8/ 105، ومعجم ما استعجم 2/ 581: صروف الدائرات. (¬2) في المصادر أن المتوكل لما قرأها ارتاع وتطير، ودعا صاحب الدير وسأله عن الرقعة، .. إلخ. وليس فيها أنه بكى.

وما زلتُ أسمعُ أنَّ الملوك ... تبني على قَدرِ أخطارِها صحون تسافرُ فيها العيون ... وتحسرُ عن بعد أقطارها وقُبَّةُ ملكِ (¬1) كأنَّ النجو ... م تصغي إليها بأسرارها إذا أُوقدَتْ نارُها بالعراق ... أضاءَ الحجازَ سنا نارِها تخرُّ الوفودُ لها سُجدًا ... إذا ما تجلَّتْ لأبصارِها لها شُرُفاتٌ كأنَّ الربيع ... كساها الربيع بأزهارها (¬2) وفوارة ثأرها في السماء ... فليست تقصِّرُ عن ثأرها تردُّ على المزنِ ما أنزلتْ ... على الأرض من صَوبِ مِدْرارِها (¬3) وقال علي بن الجهم: دخلتُ على المتوكل يومًا، فقال لي: يا عليّ، دخلتُ الساعة على قبيحة، وقد كَتَبَت اسمي بالمسك على خدِّها، فوالله ما رأيتُ سوادا في بياضِ أحسن منه في ذلك الخدِّ، فقل فيه شيئًا، قال: وقبيحة (¬4) خلف الستر، فبادرتني وقالت: [من الطويل] وكاتبةٍ بالمسك في الخدِّ جعفرا ... بنفسي محطُّ المسكِ من حيث أثَّرَا لئن أودعَت سطرًا من المسكِ خدَّها ... لقد أودعت قلبي من الحب أسطُرا فيا من بمملوكٍ لملكِ يمينه ... مطيعٍ له فيما أسرَّ وأظهرا فأفحمتُ فلم أقدر على حرفٍ، وضحك المتوكِّلُ ووصلني (¬5). وقال يمدحه وقد بَرِئ من مرضه: [من الخفيف] كلُّ شيء إذا اعتللتَ عليلُ ... وشكاةُ الإمام خطبٌ جليلُ كادت الأرضُ أن تميدَ لشكوا ... ك وكادت لها الجبالُ تزولُ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وفيهم ملك. والمثبت من الديوان. (¬2) في ديوان علي بن الجهم: كساها الرياضَ بأنوارها. (¬3) ديوان علي بن الجهم ص 28 - 31. وهذه القطعة لم ترد في (ب). (¬4) في مختصر تاريخ دمشق 6/ 90: وكانت محبوبة جالسة وراء الستارة ... قالت على البديهة ... وكذا نسبه لمحبوبة أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني 22/ 199. ونسبه أيضًا 19/ 310 - 311 لفضل الشاعرة. (¬5) الخبر ليس في (ب).

ورأينا الأمور حسرى كليلا ... تٍ ولم يلبث (¬1) الحسيرُ الكليلُ وَلِهَتْ أنفسٌ وكادت من الوجْـ ... ـد عيونٌ من الدماءِ تسيلُ (¬2) وشكا الدِّينُ ما شكوتَ من العلَّـ ... ـة شكوى قد اجتوتها (¬3) العقول ثم لمَّا أفقتَ أشرقتِ الآ ... فاقُ وانقادَ للهداةِ السبيلُ واطمأنَّت زلازلُ الأرض حتى ... ذاب منها وعورُها والسهولُ (¬4) فهنيئًا للمُلْكِ صِحَّةُ راعيـ ... ـه وللدينِ عِزُّه الموصولُ (¬5) عبدُكَ الفتحُ كابدَ الليل حتى ... نال من جسمه الضَّنى والنُّحولُ فإذا ما سلمتَ فهو سليمٌ ... وإذا ما اعتللتَ فهو عليلُ فأعطاهُ الفتح عشرة آلاف درهم (¬6). وقال عافيةُ بن شَبيب التميميّ: كنَّا نكثرُ الحديثَ للمتوكل عن الجمَّاز -واسمُه محمد بن عمرو بن حمَّاد، مولى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقيل: اسمه إسماعيل (¬7) - فأحب أن يراه، فحُمل إليه، فلمَّا دخلَ عليه لم يقع الموقعَ الذي أردناه، فقال له المتوكل: تكلم فإنِّي أريدُ أن أستبريك، فقال الجمَّاز: بحيضةٍ أو بحيضتين؟ فضحكَ المتوكِّل والجماعة، فقال له الفتح: قد كلَّمتُ أميرَ المؤمنين فيك، فولَّاك جزيرةَ القرود، فقال الجمَّاز: ألستَ من رعيَّتي؟ فحصر الفتح، وأمر له المتوكِّلُ بعشرِة آلاف درهم، فأخذَها ومضى إلى البصرة، فمات (¬8). وقال يموت بن المزرِّع: كان أبي والجماز يمشيان وأنَا خلفهما، فمررنا بإمامٍ قد ¬

_ (¬1) في ديوان علي بن الجهم: وهل يلبث. (¬2) في الديوان: عيون مع الدموع تسيلُ. (¬3) في (خ) و (ف): شكوى تبينها. والمثبت من الديوان. (¬4) في ديوان علي بن الجهم: واطمأنَّت زلازلُ الشرق والغر ... بِ وغاضت عن الصدور الذُّحولُ (¬5) ديوان علي بن الجهم ص 23 - 25، والبيتان الآتيان ليسا فيه، وذكرهما محقق الديوان في التكملة ص 169 نقلًا عن مرآة الزمان. (¬6) الخبر ليس في (ب). (¬7) لم أقف على من سماه إسماعيل. وانظر تاريخ بغداد 4/ 211. (¬8) تاريخ بغداد 4/ 212. والخبر ليس في (ب).

أذَّن، وهو ينتظرُ من يمرُّ عليه فيصلي معه، فلمَّا رآنا الإمامُ أقامَ الصلاة مبادرًا، فقال له الجمَّاز: دع هذا عنك، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تلقي الجَلَبْ (¬1). ودخل الحسينُ بن الضحَّاك الخليع على المتوكِّل فأنشده: [من الطويل] سقاني بكفَّيه وعينيه شربة ... فأذكرَني ما قد نسيتُ من العهدِ سقَى اللهُ دهرًا لم أبتْ فيه ليلة ... من الدهر إلَّا من حبيبٍ على وعدِ (¬2) فأعطاهُ عشرين ألفًا. وأهدى رجلٌ للمتوكل قارورة فيها دهن بان، وكتب معها: يا أمير المؤمنين، إنَّ الهديةَ إذا كانت من الحقير إلى الخطير، فكلما لطفت كانت أحسن، وإذا كانت من الخطيرِ إلى الحقير، فكلما جلَّت كانت أبهى وأنفع، فوصلَه بمال. وقال المتوكل يومًا لأبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا: ما يقول ولدُ أبيك في العباس (¬3)؟ قال: ما تقولون في رجل افترضَ الله طاعةَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - على خلقه وافترض طاعته على نبيه. فطرب المتوكِّل وأعطاه مئة ألف درهم (¬4). وهذا من المعاريض؛ لأنَّ أبا الحسن ورَّى وقصد طاعةَ الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فظن المتوكِّلُ أنَّه عنى به العباس. وكان المتوكِّل قد أشخصَ أبا الحسن من المدينة لشيءٍ بلغَه عنه، فوجده بريئًا. وكان المتوكِّلُ فطنًا، أنشدَه يحيى بن أكثم: [من الوافر] وباسطة بلا نصبٍ جناحًا ... وتسبق ما يطير ولا تطيرُ إذا ألقمتَها الحجرَ (¬5) اطمأنَّت ... وتألمُ أن يباشرها الحريرُ فلم يفهم الحاضرون معناها، فقال المتوكل: هي العين. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 212. والخبر ليس في (ب). (¬2) العقد الفريد 6/ 400. والخبر ليس في (ب). (¬3) في (خ) و (ف): في ولد العباس. والمثبت من المصادر. (¬4) مروج الذهب 7/ 206، وتاريخ الإسلام 5/ 1099، وسير أعلام النبلاء 12/ 38. (¬5) أراد بالحجر الإثمد. انظر التذكرة الحمدونية 8/ 327.

ذكر أولاده ونسائه [وسراريه: قال علماء السير: ] كان له نيفٌ وثلاثون ولدًا ما بين ذكرٍ وأنثى؛ محمد المنتصر لأم ولد، وموسى لأمِّ ولد (¬1)، وأبو عبد الله المعتز، وإسماعيل وعبد الله، وأمُّهم أم ولد صِقلِّيَّة اسمها قبيحة، وإبراهيم المؤيَّد وأبو أحمد الموفق واسمه طلحة، لأم ولدٍ واسمُها إسحاق (¬2)، أندلسيَّة، وأبو بكر وموسى لأم ولد اسمها لهب، وأبو العباس أحمد المعتمد لأمِّ ولدٍ اسمها فتيان، وأبو عيسى لأمِّ ولد اسمها خزر، ويعقوب لأمِّ ولد يقال لها: الحين، كانت جارية لقبيحة وهبتها المتوكِّل، وأبو القاسم عبد الله لأمِّ ولد اسمها جعفر كوفية، وأبو حفص لأمِّ ولد صِقليَّة يقال لها حنت، وأبو العباس ويلقب بالكبش (¬3) لأمِّ ولدٍ روميَّة يقال لها: قلب، وأبو شيبة -واسمه الغيداق- وأم العباس ومريم، وأمُّهم أم ولد يقال لها: مالك، وعبد الله لأمِّ ولدٍ يقال لها تيسرع، والفضل وفاطمة لأمِّ ولدٍ يقال لها: سبتح، وعائشة وأختها لأم ولد يقال لها: بوسة، وخديجة لأمِّ ولد يقال لها: زيد، وأمُّ القاسم لأم ولد يقال لها: كهف، وأم موسى لأمِّ ولد يقال لها: مستهام، وزينب لأمِّ ولد يقال لها: عرس، وأروى لأم ولد يقال لها: مترف، وصفية لأم ولد يقال لها: فخر، وأم الفضل لأمِّ ولد يقال لها: جود، وأم حبيب لأمِّ ولد اسمها لبنى (¬4). ولي الخلافة من أولاده ثلاثةٌ المنتصرُ، والمعتزُّ، والمعتمد. وأمَّا نساؤه فأربع، أمُّ سلمة بنت سليمان بن القاسم بن عيسى بن موسى الهادي، وريطةُ بنت العباس بن علي بن المهدي، طلب منها أن تَطمَّ (¬5) شعرها مثلَ الغلمان، فأبت، فطلقها، وفاطمة بنت موسى بن محمد بن عبد الله بن موسى، طلقها، وعائشة بنت عمرو بن الفرج الرُّخَّجي، باتت عندَه ليلةً وطلقها. ويقال: [إنه] تزوَّج نساء أُخر. ¬

_ (¬1) المنتصر وموسى لأمٍ واحدة. انظر جمهرة أنساب العرب ص 27. (¬2) في جمهرة أنساب العرب: سحق. (¬3) كذا في (خ) و (ف). وفي جمهرة أنساب العرب ص 27: بالكيس. (¬4) من قوله: محمد المنتصر لأم ولد ... إلى هنا ليس في (ب). وما سلف بين حاصرتين منها. (¬5) في (ب): تضفر، وفي (خ): تصفر، وفي (ب): تظهر. والمثبت من المحاسن والأضداد للجاحظ ص 118. وطَمُّ الشعر: جزه. انظر القاموس (طمم).

وأما سراريه فكانَ له خمسة آلاف سُرِّيَّة، فيقال: إنَّه وَطِئ الجميع، وكان أبو عبّاد يقول: أحلفُ بالله، لو لم يقتل المتوكِّلُ لما عاش من كثرةِ جماعه، كان يصب في أذنه أوقية دهن بنفسج، فلا يبين فيها، وكانت أعضاؤه قد يبست، فأمر أن يجعل له الزئبق في زِقاقٍ ويُملأ منها بركة، ويُفرش له فوقها، وكان يكفيه في وقت الجماع تحريكُ ذلك الزئبق، ولا يتحرك بنفسه. [قلت: وأيُّ لذةٍ في هذا إذا لم يكن الباعث قويًّا من نفسه وذاته، وأنَّه هو الذي يتولَّى ذلك بنفسه.] ولم يكن عنده أحظى من قبيحة أم المعتزّ، وله فيها أشعار، منها: [من السريع] إنسانةٌ كالشمس هيفانة ... أحسِبُها ليست من الإنسِ مليحةُ الشكل غلاميَّة ... أحسنُ في الحسن من الشمسِ [وبدر منها أمورٌ كاسمها، وأهينت هوانًا عظيمًا، وسنذكرها في ترجمة المعتز] (¬1). وكان للمتوكِّل (¬2) جارية اسمها محبوبة، وكان يجدُ بها وَجدًا شديدًا، وكانت من الأدب والإحسان في الغناء على غاية، وكانت تحبُّه حبًّا شديدًا، وتفرَّقَ الجواري إلى القُوَّاد، فصارت إلى وصيف التركي، فجلس يومًا للشراب، وأحضر الجواري اللاتي كنَّ للمتوكل في الحليّ والحُلَل، وأحضرَ محبوبة، فجاءت وعليها ثوب من قطن أبيض خشن، ومِعْجَر أبيض، وهي باكية، فقال وصيف للجواري: غنين، فغنينَ وطربن وضحكن، وأومأ إلى محبوبة بالغناء، فقالت: إنْ رأى الأمير أن يعفيني، [فإنِّي حزينة] فأبى، وقلن لها الجواري: لو كان في الحزن فرجٌ لحزنَّا معك، وجيء بعود فوضعَ في حجرها، فأنشأت تقول: [من مجزوء الخفيف] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) بعدها في (ب): أنبأنا عبد العزيز بن ( ... ) بإسناده عن أبي العباس المروزي قال أخبرني (بعض أهل الأدب أنه) كان للمتوكل جاربة يجد ... وما بين قوسين غير واضح في المخطوطة وقد أصابها في الوسط رطوبة فطمست الكلمات، وتبينت بعضها من المنتظم 11/ 360.

أيُّ عيشٍ يطيبُ لي ... لا أرى فيه جعفرَا ملكًا قد رأته عيـ ... في جريحًا معفَّرَا كلُّ من كان هائمًا ... أو سقيمًا فقد بَرَا غيرَ محبوبة التي ... لو ترى الموتَ يُشتَرى لاشترتهُ بما حوتـ ... ـه جميعًا لتُقْبَرا (¬1) فاشتد ذلك على وصيف، وأمرَ بإخراجها، فصارت إلى قبيحة، ثم بعث وصيف بعد ذلك إلى قبيحة يطلبُها، فقالت: إنها تمسَّحت -أي: لبست مِسْحًا- ومضت، لا أدري إلى أين صارت. [قلت: وهذه الجارية أهداها ابن طاهر إلى المتوكِّل من خراسان، وقد ذكر الحكاية الخرائطيُّ في كتاب "اعتلال القلوب" أتمَّ من هذا، فقال: حدثنا أبو العباس أحمد بن إسحاق الجوهري قال: ] قال [لي] علي بن الجهم: لما أفضت الخلافةُ إلى المتوكِّل، أهدى إليه ابن طاهر من خراسان جواري، فيهن [جاريةٌ يقال لها: ] محبوبة، وكانت قد نشأت بالطَّائف، وكان لها مولًى مغرًى بالأدب، وكانت قد أخذت عنه، وروت الأشعار، وكان المتوكِّلُ بها معجبًا (¬2)، فغضبَ عليها يومًا، ومنع جواري القصر من كلامها، فكانت في حجرتها أيَّامًا لا يكلمُها أحد، فرأت في المنام كأنَّه قد صالحها، قال [عليُّ] بن الجهم: فدخلت عليه، فقال: يا عليّ، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: أشعرتَ أنِّي رأيتُ محبوبة في المنام كأنِّي قد صالحتُها وصالحَتني، فقلت: خيرًا يا أمير المؤمنين، إذًا يُقِرُّ الله عينك ويسرُّك، فوالله إنَّا فيما نحن فيه من حديثها، إذ جاءت وصيفةٌ فقالت له: يا سيدي، سمعتُ صوتَ عودٍ من حجرة محبوبة، فقال: يا عليّ، قم بنا، فنهضنا حتى أتينا حجرتَها، فإذا هي تضرب بالعود وتقول: [من المنسرح] أدورُ في القصر لا أرى أحدًا ... أشكو إليه ولا يُكلِّمني ¬

_ (¬1) انظر اعتلال القلوب ص 194، ومروج الذهب 7/ 286، والأغاني 22/ 202، ومختصر تاريخ دمشق 6/ 91 - 92. (¬2) في (ب) -وما سلف بين حاصرتين منها-: محبًّا.

حتى كأنِّي أتيتُ معصيةً ... ليس لها توبةٌ تخلِّصُنِي فهل شفيع لنا إلى ملكٍ ... قد زارَني في الكَرى فصَالحَنِي حتَّى إذا ما الصباحُ لاحَ لنا ... عادَ إلى هجرهِ فصَارَمَني [قال: ] فصاحَ المتوكِّلُ، وصحتُ معه، وسمِعَتْ فخرجَتْ، فأكبَّت على رجله تقبِّلُها، وقالت: يا سيِّدي، رأيتُك في المنام في ليلتي هذه كأنَّك قد صالحتَني، فقال: وأنا والله رأيتُ كذلك، ثم ردها إلى مرتبتِها كأحسن ما كانت. [قال: فلمَّا كان من أهل (¬1) المتوكِّل ما كان، تفرقنَ، فصرنَ إلى القواد، وصارت محبوبةُ إلى وصيف. تمام الحكاية، وأنَّ وصيف قال لها: غنِّي، فغنَّت: أيُّ عيشٍ يطيبُ لي ... لا أرَى فيه جعفرَا قال: ثم صارت إلى قبيحة، فلبست الصوف، وأخذت ترثيه وتبكي حتى ماتت.] (¬2) وكان (¬3) للمتوكِّل خادم اسمه شفيع، لم يكن في الدنيا أحسن منه ولا أظرف، وكان المتوكِّل يحبُّه حبًّا شديدًا، وكان محمد بن عبد الملك الزيّات قد عَلِقَه، وشاركَه في محبَّته الحسن بن وهب، وجرت منها قصص، آخرها أنَّ محمد بن عبد الملك قال للحسن: انزل لي عن محبَّةِ شفيع، فقال له الحسن: طاعتُك فرض، ولكن أنت أولى من آثر، فقال له ابن الزيات: هذه علةٌ نفسانية تُفضي بصاحِبها إلى التلف، فقال له الحسن: إذا بلغَ الأمر إلى هذا، فسمعًا للوزير وطاعة (¬4). وكان المتوكِّلُ قد كتبَ على خدِّ شفيع الأيمن بالمسك (¬5): [من مجزوء الكامل] بَدر على غصن نَضير ... مسح الترائبَ بالعبير (¬6) وعلى عاتقه الأيسر: ¬

_ (¬1) في اعتلال القلوب: من أمر. (¬2) اعتلال القلوب ص 193 - 194. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) من هنا إلى قوله: أسند المتوكل الحديث. ليس في (ب). (¬4) العقد الفريد 6/ 402. (¬5) في العقد الفريد 6/ 426 أنَّ شفيع كتب على عاتق قبائه الأيمن بالمسك. (¬6) في العقد الفريد: شَرِقُ الترائبِ بالعبير.

عبد الله بن محمد بن إسحاق

خطَّت محاسنُ وجهه ... في صفحةِ القمرِ المنير ذكر وزرائه وقضاته وحجابه: وَزر له ابن الزيَّات أربعينَ يومًا، ثمَّ قتلَه، ثم وزرَ له محمد بن الفضل الجَرْجَرائي، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وحجبَه وصيف وزرافة التركيان. وكان على القضاء في أيامه أحمدُ بن أبي دؤاد، ويحيى بن أكثم. وكان بين المتوكِّل وبين أبي العباس السفَّاح مئة سنة وعشر سنين، وبين السفاح والعباس مئة سنة (¬1). أسند المتوكل الحديث عن أبيه المعتصم، ويحيى بن أكثم القاضي، وهشام بن عمَّار الدمشقيّ لمَّا قدم دمشق في خلافته، سمع منه بدمشق ومن غيره. وروى عنه عليُّ بن الجهم الشاعر، وروى هو أيضًا عن عليِّ بن الجهم. انتهت سيرةُ المتوكل. عبد الله بن محمد بن إسحاق أبو عبد الرحمن الأذْرَمِيّ. كان سببًا لرجوع (¬2) الواثق عن القول بخلقِ القرآن. سمع سفيانَ بن عيينة وغيره. وكان ثقة (¬3). [وفيها توفي] سَلَمَةُ بن شَبِيب أبو عبد الرحمن النيسابوري، ويعرف بالمِسْمَعِيّ، أحدُ الأئمَّة الرحَّالين في طلب ¬

_ (¬1) وفاة العباس - رضي الله عنه - سنة اثنتين وثلاثين أو بعدها. ووفاة أبي العباس السفاح سنة ست وثلاثين ومئة. (¬2) في (خ): لخروج. (¬3) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 11/ 271، والمنتظم 11/ 361، وتهذيب الكمال 16/ 42. وهذه الترجمة ليست في (ب).

الفتح بن خاقان بن عرطوج

[العلم و] الحديث، [سمع بالشام والعراق والحجاز ومصر. وحكى الحاكم أبو عبد الله النيسابوريُّ عنه قال: ] قال: بعت داري بنيسابور، وتجهَّزتُ إلى مكَّة لأجاورَ بها، فقلت: أصلِّي ركعتين، وأودع عُمار الدار، فصليت وقلت: يا عُمَّار الدار، سلامٌ عليكم، إنِّي خارجٌ إلى مكَّة لأجاور بها، فهتفَ بي هاتف: وعليك السلام، يا أبا عبد الرحمن، ونحنُ والله خارجون منها، فقد بلغنا أنَّ الذي اشتراها يقول بخلق القرآن، ونحن لا نقيمُ في مكانٍ يقال فيه: القرآن مخلوق (¬1). [واختلفوا في وفاته فقال ابن قانع: ] (¬2) جاور سلمة بمكَّة، وماتَ في سنة سبعٍ وأربعين ومئتين في رمضان. وقيل: سنة أربعٍ، أو ستّ وأربعين. سمعَ الوليد بن مسلم (¬3) وغيره، وروى عنه الإمام أحمد (¬4) رحمة الله عليه، وولده، وغيرهما، وأخرج عنه مسلم في "صحيحه" (¬5)، وكان صدوقًا ثقةً بإجماعِهم رحمه الله تعالى. [فصل: وفيها توفي] الفتح بن خاقان بن عُرطوج أبو محمد التركي، وزيرُ المتوكِّل. كان أديبًا ظريفًا جوادًا شاعرًا فصيحًا، وكان أبوه خاقان عظيمًا عند المعتصم، و [كان] إذا مرضَ يعودُه. [قال المعافى بن زكريا (¬6): دخل المعتصمُ يومًا على خاقان يعوده، ] (¬7) والفتحُ صبيّ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1/ 169، وابن عساكر في تاريخ دمشق 7/ 489 (مخطوط) من غير طريق الحاكم. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في تهذيب الكمال 11/ 285: الوليد بن عتبة. ولم أقف على من ذكر له رواية عن الوليد بن مسلم. (¬4) وهو من شيوخه. انظر سير أعلام النبلاء 12/ 256. (¬5) من قوله: سمع الوليد ... إلى هنا ليس في (ب). (¬6) في تاريخ دمشق 57/ 453 (طبعة مجمع اللغة): المعافى بن زكريا، نا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، أنا محمد بن القاسم قال: ... (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ): دخل عليه يومًا يعوده.

صغيرٌ لم يَثَّغر (¬1)، فقال له المعتصم (¬2) ممازحًا له: أيما أحسن داري أو داركم؟ فقال له الفتح: يا سيدي، دارُنا إذا كنتَ فيها أحسن، فقال المعتصم: والله لا أبرح حتى أنثر عليه مئة ألف درهم، فنثرها. [وقال الصوليُّ: حدثنا أبو العيناء قال: ] غضبَ المتوكِّل على الفتح [بن خاقان]، ثم رضيَ عنه، وقال له: ارفع إليَّ حوائجَك، فقال له: يا أميرَ المؤمنين، ليس شيءٌ من عرض الدنيا وإن جلَّ، يفي برضاك [وإن قلّ]، فحشى فاه جوهرًا (¬3). [قال الصولي: ] كان الفتح سيِّدًا [نبيلًا] جوادًا ممدَّحًا. قال البحتريُّ يمدحُه: [من الطويل] أطلَّ بنُعمَاه فمن ذا يطاولُهْ ... وعم بجدواهُ فمن ذا يُساجِلُهْ صَفَتْ مثلَ ما تصفو المُدَام خِلالُهُ ... ورَقَتْ كما رَقَّ النسيمُ شمائلُهْ ولما حضرنا سُدَّة الأذن (¬4) أُخِّرت ... رجالٌ عن البابِ الذي أنَا داخلُهْ فأفضيتُ من قُرْبٍ إلى ذي مهابةٍ ... أقابلُ بدرَ الأُفْقِ حين أقابلُهْ فسلَّمتُ واعتاقَتْ جنانيَ هيبةٌ ... تنازعني القولَ الذي أنا قائلُهْ فلما تأمَّلتُ الطلاقةَ وانثنَى ... إلي ببشرٍ آنستني مخايلُهْ دنوتُ فقبَّلتُ الثرى (¬5) من يد امرئٍ ... جميلٍ محيَّاه سبَاطٍ أناملُهْ أمنتُ (¬6) به الدهرَ الذي كنتُ أتَّقِي ... ونلتُ به القدرَ الذي كنتُ املُهْ من أبيات (¬7). ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): يشعر. والمثبت من تاريخ دمشق 57/ 453 (طبعة مجمع اللغة). وقوله: لم يثَّغِر، أي: لم تنبت أسنانه بعد السقوط. انظر تاج العروس (ثغر). (¬2) من قوله: وإذا مرض يعوده ... إلى هنا ساقط من (ف). (¬3) تاريخ دمشق 57/ 453. (¬4) في (خ) و (ف): شدة الباب، والمثبت من تاريخ دمشق وديوان البحتري. (¬5) في تاريخ دمشق والديوان: الندى. (¬6) في (خ) و (ف): رميت. (¬7) من قوله: قال البحتري ... إلى هنا ليس في (ب). وانظر الأبيات في ديوان البحتري 3/ 1608 - 1610، وتاريخ دمشق 57/ 454 - 455.

[وحكى القاضي التنوخيُّ أنَّ الفتحَ بن خاقان خرج] (¬1) يومًا يتصيَّدُ، وانقطعَ عنه أصحابه وعسكره، فمرَّ على نهرٍ، فعبر على القنطرة، فانقطعتْ من تحته فغرق، وراه فلاحٌ [وهو] لا يعرفُه، فألقى نفسه عليه وخلَّصه بعد أن كاد يتلف، ولحقَه أصحابُه، فأعطى الفلاحَ مالًا عظيمًا، وتصدَّق بمثله، فقال البحتري من أبيات: [من الطويل] لقد كان يومُ النهرِ يوم سلامةٍ (¬2) ... أطلَّت ونعماءٍ جرى بهما الدهرُ (¬3) مررتَ عليه عابرًا فتشاغبت (¬4) ... أواذيُّهُ لما طمَى فوقه البحرُ وزالت أواخي الجسرِ وانهدمتْ به ... قواعدُه العظمى وما ظلمَ الجسرُ تحمَّل حلمًا (¬5) مثل قافٍ وهمةً ... كَرَضْوَى وقَدرًا ليس يقدره قدرُ فما كان ذاك الهولُ إلَّا غَيابةً ... بدا طالعًا من تحت ظُلَّتِها البدرُ فإن ننسَ نعمى الله فيك فحظَّنا ... أضعنا وإن نشكرْ فقد وجبَ الشكرُ (¬6) وقال ابن عساكر: قدم الفتحُ [بن خاقان] دمشق معادلًا للمتوكِّل على جُمازةٍ، ثم نزلَ بالمِزَّة، فلمَّا رحلَ المتوكِّل عن دمشق ولَّاه إيَّاها، فاستخلفَ الفتحُ بها كَلْباتكين التركيّ، وكان الفتحُ على خاتم المتوكل (¬7). وكان المتوكِّلُ يقول: إنِّي أشتهي أنْ يحيى الفتحُ معي، ولا أفقده فيتنغص عيشي، ولا يفقدني، فقُتلَ معه كما ذكرنا. وعمل (¬8) البحتريُّ في هذا المعنى: [من الخفيف] سيِّدي أنت كيف أخلفتَ وعدي ... وتثاقلتَ عن وفاءٍ بعهدِي لا أرتني الأيَّامُ فقدَك يا فتـ ... ـح ولا عرَّفتكَ ما عِشتَ فقدِي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وخرج. (¬2) في الفرج بعد الشدة 3/ 324، وديوان البحتري 2/ 846: يوم عظيمة. (¬3) في الفرج بعد الشدة والديوان: النهر. (¬4) في الفرج بعد الشدة: فتشاعبت، وفي ديوان البحتري: فتساجلت. (¬5) في (خ) و (ف): حملًا. والمثبت من الفرج بعد الشدة والديوان. (¬6) من قوله: أصحابه فأعطى ... إلى آخر الأبيات ليس في (ب). (¬7) تاريخ دمشق 57/ 452. (¬8) من هنا إلى قوله: قال الصولي: ومن شعر الفتح. ليس في (ب).

حسدًا (¬1) أن تكونَ إلفًا لغيري ... إذ تفرَّدْتُ في الهوى فيكَ وحدِي فقال المتوكل: أحسنتَ والله يا بحتريّ، لقد جئت بما في نفسي، وأعطاه ألف دينار. وقال عليُّ بن الجهم: أنا عند المتوكل يومًا والفتح جالس، إذ قيل له: فلانٌ النخَّاس بالباب، فأذن له، فدخل ومعه وصيفة، فقال له المتوكل: ما صناعة هذه؟ فقال: تقرأُ القرآن بألحان، فقال الفتح: اقرئي لنا خمس آيات، فاندفعت تقول: [من السريع] قد جاء نصرُ الله والفتحُ ... وشقَّ عنَّا الظلمةَ الصبحُ خَدِينُ ملْكٍ ورجا دولةٍ ... وهَمُّه الإشفاقُ والنصحُ الليثُ إلَّا أنَّه ماجدٌ ... والغيثُ إلَّا أنَّه سَمْحُ وكلُّ بابٍ للنَّدى مغلقٌ ... فإنَّما مفتاحُه الفتحُ فوالله لقد دخل على أمير المؤمنين من السرور ما إنَّه قامَ إلى الفتح، فوقع عليه يقبِّلُه، ووثبَ الفتحُ فقبَّل رجلَه، وأمر المتوكِّل بشرائها، وأمر لها بجائزة وكسوة، وبعث بها إلى الفتح، فكانت أحظى جواريه عندَه، فلما قتل الفتح رثتهُ بهذه الأبيات: [من المنسرح] قد قلتُ للموتِ حين نازَلَهُ ... والموتُ مقدامةٌ على البُهمِ لو قد تبينت ما فعلت إذًا (¬2) ... قَرَعْتَ سنًّا عليه من ندم فاذهبْ بمن شئتَ إذْ ذهبتَ به ... ما بعد موت الفتح من ألمِ (¬3) ولم تزل تبكي عليه وتنوحُ حتى ماتت (¬4). [قال الصوليّ: ] ومن شعر الفتح: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): حبذا. والمثبت من تاريخ دمشق 57/ 457. (¬2) في (خ) و (ف): لقد نبيتنا فقلت إذا. والمثبت من تاريخ دمشق 57/ 458. (¬3) في تاريخ دمشق: ما بعد فتح للموت من ألم. (¬4) تاريخ دمشق 57/ 458، ومعجم الأدباء 16/ 186. وهذه الأبيات نسبت لمطيع بن إياس يرثي يحيى بن زياد الحارثي. انظر تاريخ بغداد 16/ 163.

أيها العاشقُ المعذَّبُ صبرا ... فخطايا أخي الهوى مغفُورهْ زفرة في الهوى أحطُّ لذنبٍ .. من غزاةٍ وحجَّةٍ مبرورهْ (¬1) وأنشد الفتحُ في الليلة التي قتل فيها: [من الطويل] وقد يَقتلُ الغُتْميُّ (¬2) مولاه غيلة ... وقد ينبحُ الكلبُ الفتى وهو غافل (¬3) * * * ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 57/ 453. (¬2) هو الذي لا يفصح عن شيء. مختار الصحاح (غتم). (¬3) تاريخ دمشق 57/ 459. ومن قوله: وأنشد الفتح ... إلى هنا ليس في (ب).

السنة الثامنة والأربعون بعد المئتين

السنة الثامنة والأربعون بعد المئتين فيها (¬1) وقعَ بين الوزير أحمد بن الخَصيب وبين وصيف التركيّ تباعدٌ، فأشارَ ابن الخصيب على المنتصر أنْ يبعدَ عنه وصيفًا، وقال له: أخافُ عليك منه، فأرسلَ المنتصر إلى وصيف يقول: إنَّ طاغيةَ الروم قد أقبل يريد بلاد الشام، فاخرج إليه، فامتنعَ واعتذرَ، فأحضره وشافهه وقال: إمَّا أن تخرج أنت أو أنا، فقال وصيف: لا بل أنا، فانتخب المنتصرُ معه عشرة آلاف من الموالي وغيرهم، وأنفق فيهم الأموال، وجعل على مقدمته مُزاحم بن خاقان أخا الفتح، وعلى ساقتِه محمد بن رجاء، وكتبَ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر إلى بغداد يعرِّفه مسير العساكر إلى الروم، ولمَّا سار وصيف كتب إليه المنتصر كتابًا يأمرُه بالمقام ببلاد الثغر إذا (¬2) هو انصرفَ من غزاته أربع سنين، يغزو في أوقات الغزو منها، إلى أن يأتيَه أمرُ أمير المؤمنين. وقيل: إنَّما كان مسيرُ وصيف إلى الثغر بعد خلعِ المعتزّ والمؤيَّد. وفيها في شهر ربيع الآخر -وقيل: في صفر- خلع المعتز والمؤيَّدُ أنفسهما. لمَّا استقامت الأمورُ للمنتصر اجتمعَ ابنُ الخصيب ووصيف وبُغَا، فقال لهما: إنَّا لا نأمن الحدثان بأنْ يموتَ المنتصر قبلَ المعتزّ، فلا يُبقي منَّا باقية، والرأي أن نعمل في خَلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا. فاتَّفقَ الأتراك معهم على ذلك، وألحُّوا على المنتصر في خلعهما، وأن يبايع لابنه عبد الوهاب. وكان المنتصر مكرمًا للمعتز والمؤيَّد، فلما انقضت أربعونَ ليلةً من خلافته أحضرهما إليه، وخلعهما في حجرة (¬3)، فقال المعتزُّ للمؤيَّد: يا أخي، لم أحضرنا؟ فقال له: يا شقي، للخلع! فقال: ما أظنُّه يفعل، فبينا هما على ذلك، إذ جاءتهم الرسل بالخلع، فأجاب المؤيَّد، وامتنعَ المعتزّ، وقال: إن كنتم تريدون قتلي فافعلوا، فمضوا ¬

_ (¬1) من هنا إلى ترجمة قاسم بن عثمان الجوعي ليس في (ب). (¬2) في (خ) و (ف)، فإذا. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 244. والخبر مطولًا فيه. (¬3) كذا في (خ) و (ف)، ولعلها: وخلفهما. وفي تاريخ الطبري 9/ 244: فأحضرا وجعلا في دار.

وعادوا، فأخذوا المعتزَّ وأدخلوه في بيت، وأغلظوا له، وأغلقوا عليه الباب. قال المؤيَّد: فقلت لهم: يا كلاب، ضَرِيتُم على دمائِنا تثبون على مولاكم هذا الوثوب! اغربوا، قبحكم الله، ودعوني حتى أكلمه، فقالوا: افعل، قال المؤيَّد: فدخلت عليه، فقلت: يا جاهل، قد رأيتَ ما جرى على أبيك، وأنت أقربُ إلى القتل، اخلع ويلك ولا تراجعهم، فقال: سبحان الله، أمر قد مضى في الآفاق، أخلعُه من عنقي! فقلت: اخلع نفسك فإن كان في السابق أن تليَ لَتليَنْ، فأجاب، فخرجتُ إليهم وقلتُ لهم: قد أجاب، فجزوني خيرًا. ثم كتبوا كتاب الخلع، ومضوا به إلى المنتصر، فلمَّا وقفَ عليه استدعانا إلى مجلس العامَّة، والناس على مراتبهم، فسلَّمنا، فردَّ السلام، فأمرنا بالجلوس، وقال: هذا كتابكما؟ فقلت: نعم، وسكت المعتز، فقلت: تكلَّم، فتكلَّم بمثل ما تكلمت، وقلت: هذا كتابٌ بمسألتنا ورغبتنا وضعفنا عن هذا الأمر، وأنَّه لا يحلُّ لنا أن نتقلَّده، وكرهنا أن يأثمَ المتوكِّل بسببنا، إذ لم نكن له موضعًا، فأقبل علينا والأتراكُ وقوف، فقال: أتراني خلعتُكما طمعًا في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له، والله ما طمعتُ في ذلك ساعة واحدة قطّ، وإذا لم يكن لي فيها طمع، فوالله لئن يليَها بنو أبي أحبُّ إلي من أن يليها بنو عمي، ولكن هؤلاء -وأومأ إلى سائر الموالي ممن هو قائم على رأسه وقاعد- ألحُّوا عليَّ في خلعكما، فخفتُ إن لم أفعل أن يعترضكما بعضُهم بحديدةٍ، فيأتي عليكما، فما ترياني صانعًا! أقتله؟ فوالله ما تفي دماءهم كلِّهم بدم بعضكما، فكانت إجابتُهم إلى ما سألوا أسهلَ عليَّ، فأكبا عليه، فقبَّلا يديه، فضمَّهُما إليه، وانصرفا. وكان حاضرًا قبل الخلع (¬1) جعفر بن عبد الواحد قاضي القضاة، وبنو هاشم، وأعيان القواد، ومحمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف، وبغا الكبير، وبغا الصغير، ولم يتخلَّف منهم أحدٌ، ونسخته عن لسان المعتزِّ والمؤيد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أمَّا بعد، فإنَّ المتوكِّل قلدني هذا الأمر، وأنا صغير، من غير إرادتي، وبايع لي، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 246 أنهما قاما بالخلع على رؤوس المذكورين.

الباب الثاني عشر في خلافة المستعين أحمد بن المعتصم

فلمَّا عقلتُ أمري علمتُ أنِّي لا أقوم بما قلَّدني، ولا أصلحُ للخلافة على المسلمين، فمن كانت لي في عنقه بيعةٌ فهو في حل من نقضِها، وأبرأتُه منها، ولا عقدَ لي ولا عهد في رقابِهم، وهم بُرَآء من ذلك. وكان القارئُ للكتاب أحمد بن الخصيب الوزير، ثمَّ قام كلُّ واحدٍ منهما قائمًا، وقال لمن حضر: هذه رقعتي وقولي، فاشهدوا عليَّ، فشهدُوا، ولما فرغَ قال لهما المنتصر: قد خارَ الله لكما وللمسلمين، ثم قام فدخل، وتفرق الناس، ونفذت الكتبُ إلى الآفاق بذلك. وفيها حكمَ محمد بن عمر الخارجي (¬1) بناحية الموصل، ومال إليه خلق كثير، فبعث إليه المنتصرُ إسحاق بن ثابت الفَرْغَاني، فاقتتلوا فقتل من أصحاب إسحاق جماعة، ثم ظهر عليهم، فأخذ محمد أسيرًا، وقدمَ به على المنتصر مع جماعةٍ من أصحابه، فقُتِلوا وصلبُوا إلى جانب خشبة بابك. وفيها قويت شوكةُ يعقوب الصفَّار، واستولَى على معظمِ خُراسان، وسارَ من سجستان فنزل هَرَاة، واجتمعَ إليه خلقٌ كثير، وفرَّق فيهم الأموال، فأراد المنتصرُ أن يرسل إليه الجيوش، فأدركتهُ المنيَّةُ، واستُخْلِفَ أحمد بن محمد المعتصم. الباب الثاني عشر في خلافة المستعين أحمد بن المعتصم (¬2) وكنيته أبو العباس، وقيل: أبو عبد الله، وأمُّه أمُّ ولدٍ يقال لها: مُخَارق الصِّقِلِّيَّة، تزوَّجها ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف) وتاريخ الإسلام 5/ 990، وفي تاريخ الطبري 9/ 255: محمد بن عمرو الشاري. وفي المنتظم 12/ 5: محمد بن عمر الشاري. وفي الكامل 7/ 120: محمد بن عمرو. (¬2) كذا قال المصنف، فجعل المستعين ابن المعتصم، ومثله عند الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/ 46، وتاريخ الإسلام 5/ 990، والصفدي في الوافي بالوفيات 8/ 93، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 358، والصواب أنه حفيد المعتصم، واسمه أحمد بن محمد الأكبر بن محمد المعتصم، كما صرح بذلك ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص 25، وانظر المعارف لابن قتيبة ص 393، وتاريخ اليعقوبي 2/ 494، وتاريخ الطبري 9/ 256، ومروج الذهب 7/ 323، وتاريخ بغداد 6/ 255، والمنتظم 12/ 6. وقال ابن الأثير في الكامل 7/ 118: ذكر ابن مسكويه في كتاب تجارب الأمم أن المستعين أخو المتوكل لأبيه، وليس هو كذلك، إنما هو ولد أخيه محمد بن المعتصم، والله أعلم. وقد ذكر المصنف في ترجمة المعتصم عند ذكر أولاده المستعينَ في أولاد المعتصم ثم قال: في المستعين نظر فإن كتب المؤرخين تنطق بأنه ابن ابنه.

المعتصم (¬1)، وكان المستعينُ حسنَ الوجه، أبيضَ اللون، ألثغ، بوجهه أثرُ جُدَريّ. وسبب بيعته: لمَّا توفي المنتصرُ اجتمعَ الموالي في الهاروني، منهم بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش وتآمروا فيما بينهم، وذلك برأي أحمد بن الخصيب، فقال لهم أوتامش: متى ولَّيتُم أَحدًا من ولد المتوكل لا يبقي منَّا باقية، فقالوا: ما لها إلا أحمدُ بن المعتصم ابن مولانا، فقال لهم محمد بن موسى المنجِّم سرا: أتوتُون رجلًا عنده أنَّه أحقُّ بالخلافة من المتوكل، وأنتم دفعتموه عنها، وقد كان أحقَّ من المنتصر، فبأي عينٍ يراكم، وأيُّ قدرٍ يكون لكم عنده، ولكن اصطنعوا إنسانًا يَعْرِفُ لكم ذلك، فلم يَقبلوا منه، وأرسلوا إلى أحمد بن المعتصم، فأحضروه وبايعوه، ولقَّبوه المستعين بالله. وقيل: بل هو لقَّب نفسه؛ لأنَّهم لما بايعوه قال: استعنتُ بالله. وقيل: إنَّ المنتصرَ توفي يوم السبت وقتَ العصر لأربعٍ خلونَ من شهر ربيع الآخر، فاجتمعَ الموالي في الهارونيّ يوم الأحد، وفيهم بغا الكبير والصغير وأوتامش، واستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة وغيرهم -وكان الذي استحلَفهم عليُّ بن الحسين بن عبد الأعلى الإسكافيّ كاتبُ بُغَا الكبير- على أن يرضَوا بما رضي به بغا الصغير وأوتامش (¬2)، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب، فحلفوا، واتفقَ رأيُهم على المستعين دونَ أولاد المتوكِّل، وأحضروا بني هاشم وأحمد المستعين، فبايعوه وقتَ العشاء ليلة الإثنين لست خلونَ من ربيع الآخر، وهو ابنُ ثمانٍ وعشرين سنة، فاستكتبَ أحمد بن الخصيب، واستوزرَ أوتامش. فلما كان يوم الإثنين صار إلى دار العامة، وقد ألبسوه الطويلةَ وثياب الخلافة، وحَملَ إبراهيمُ بن إسحاق بين يديه الحربة، ودخل دار العامَّة، وحضر أربابُ المراتب من ولد المتوكِّل والعباسيين والطالبيين وغيرهم، فبينما هم كذلك إذا جماعةٌ من الشاكرية وأخلاطٌ من الناس زعموا أنَّهم أصحابُ أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر، ومعهم الغوغاء والسُّوقَة في ألف رجل، فشهروا السلاح وصاحوا: المعتز يا ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق. (¬2) في تاريخ الطبري 9/ 256: بما يرضى به بغا الصغير وبغا الكبيرُ أو تامش. وفي المنتظم 12/ 6: ... بغا الكبير وبغا الصغير.

منصور، وكانت الأشروسنيَّة قد وقفتْ على باب دار العامَّة صفَّين مع واجن الأشروسني، فحمَلوا على الأشروسنيَّة فتضعضعوا، وانضمَّ بعضُهم إلى بعض، ونفر من على باب العامَّة من الشاكرية والمبيضة والمغاربة، وشدُّوا عليهم (¬1)، ونشبت الحرب، وقُتِل بينهم جماعةٌ، إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات، وخرج المستعين من دار العامَّة بعد ما بايعه من حضر فيها، ودخلَ إلى القصر الهارونيّ، فبات به، ودخل الغوغاءُ دار العامَّة، فنهبُوا خزائن السلاح والدروع والجواشن، ونهبوا دورًا كثيرة، وأخذوا العدد، فكثرت الرماحُ والتراسُ في أيدي العامَّة والغوغاء، وجاء بغا الصغير، فأجلاهم عن دار العامَّة، وكثُرتِ القتلى في الفريقين، فوضعَ المستعينُ العطاء فسكتُوا، وبعثَ بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر إلى بغداد (¬2)، فأخذ البيعة على الناس للمستعين أحمدُ بن الخصيب، وأعطاه أموالًا جليلة، فيقال: إنَّها كانت ألف ألف درهم، ومتاعًا كثيرًا من جملةِ فرش القصر الجعفريِّ الذي كان للمتوكِّل، وكان يُحمَلُ على خمسين ومئتي بعير (¬3)، ثمَّ نفاه في هذه السنة في رجب -وقيل: في ربيع الآخر- إلى (¬4) أقريطش. ولمَّا وردت خلافةُ المستعين إلى مصر، أحضر الوالي الجماعة والمنجِّمين وقال: انظروا في طالَعه وفي مدَّةِ عمره، فنظروا في طالع الوقت، فقال لهم الجمل الشاعر وكان بمصر: لا تتعبوا، أنا أعلمُ مدَّة عمره وأيَّامه، قالوا: كم يعيش؟ قال: ما شاء بغا وأوتامش ووصيف، فارتج المجلسُ بالضحك (¬5). وفيها مات طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان، فعقد المستعينُ لابنه أبي عبد الله محمد بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبد الله بن طاهر على العراق والحَرَمين والشرطة والسواد. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 257: ونفر من على باب العامة من المبيّضة مع الشاكريّة، فكثروا، فشد عليهم المغاربة والأشروسنية. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 257 - 258. (¬3) المنتظم 12/ 7. (¬4) في تاريخ الطبري 9/ 258: في جمادي الأولى. وفي الكامل 7/ 119: في جمادي الآخرة. (¬5) الوافي بالوفيات 8/ 96.

ومرض بُغا الكبير في جمادى الآخرة، فعادَه المستعين، ومات في نصفه، فعقد المستعينُ لابنه موسى بن بغا على أعمال أبيه، وزاده ديوانَ البريد (¬1). وفيها نفى المستعينُ أحمد بن الخصيب إلى أقريطش، واستصفى أمواله، ونهبَ داره، فأخرج على بغل بإكاف في يوم حار، وسبُبه أنَّ أحمد بن الخصيب كان قد استولى على المستعين، وكان لا يصبرُ المستعين عنه ساعةً، وما دعاه باسمه قطّ، بل بكنيته، وكان ابن الخصيب قد اعترضَ على أوتامش في بعض أموره، فحمل عليه المستعين، ففعل به ما فعل. وفيها ابتاع المستعين من المعتزِّ والمؤيد جميعَ ما كان لهما، إلا ما استثناه (¬2) من يسيرٍ من غلَّة، أما ما عدا ذلك من القصور والدّور والفُرش والضِّياع، فابتاع الجميع، وكان الذي ابتاع منهما قيمتُه ثلاثة عشر ألف ألف درهم من المعتزِّ بعشرة آلاف ألف، ومن المؤيَّد بثلاثة آلاف ألف درهم، وترك للمعتزِّ ما يبلغ غلته في السنة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم ما يبلغ ثلاثة آلاف دينار (¬3)، وحبسهما على الجَوْسَق، ووكَّل بهما، وجعل أمرَهما إلى بُغَا الصغير، وكان الأتراك لما شاع في الغوغاءِ والشاكريَّة أرادوا قتلَهما، فمنعَهم أحمد بن الخصيب، وقال: ما ذنبهما، وما فعلا؟ وليس لهما في هذا أمر، وإنَّما الشغب من أصحاب ابن طاهر. وفيها شغبت أهلُ حمص على كيدر بن عبد الله (¬4) عامل المستعين، وأخرجوه منها، فأرسلَ إليهم وخدعهم حتى دخلها، فقُتِل منهم خلق كثير، وحمل من أعيانهم مئةُ رجلٍ إلى سرَّ من رأى، وهدم سورها. وفيها عقد المستعين لأوتامش على مصر والمغرب مضافًا إلى الوزارة. وفيها عقدَ لبغا الكبير على حلوان وماسَبَذان ومِهْرِجان (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 258، والكامل 7/ 118. (¬2) في (خ): استثنياه. وفي تاريخ الطبري 9/ 258: استثنى منه المعتز. (¬3) في تاريخ الطبري 9/ 259: خمسة آلاف دينار. (¬4) كذا في (خ) و (ف) وتاريخ اليعقوبي 2/ 495. وفي تاريخ الطبري 9/ 259: كيدر بن عبيد الله. (¬5) تاريخ الطبري 9/ 260، والكامل 7/ 120 وفيهما: مهرجان قذق، والمنتظم 12/ 8.

أحمد بن سلمان بن الحسن

وقال الصوليُّ: لما وليَ المستعينُ كان في بيت المال ألفا ألف دينار، وثلاث مئة ألف دينار، ففرَّق الجميعَ في الجند وغيرهم. وقال الخطيب: دخل عبد الله بن محمد بن داود الشاعر المعروف بأُتْرُجَّة على المستعين فأنشده: [من الطويل] غدوتَ بسعدٍ غُدوةً لك بَاكِرَهْ ... ولا زالت الدُّنيا بملكِكَ عامرَهْ بُعثتَ علينا غيث جودٍ ورحمةٍ ... فنلنا بفضلٍ منك دنيا وآخرهْ (¬1) ونال مواليكَ الغِنى بك ما بقوا ... وعزُّوا وعزَّت دولةٌ لك ناصرهْ (¬2) فلا خائفٌ إلا بسطتَ أمانَهُ ... ولا مُعدمٌ إلَّا سَددتَ مفاقِرَهْ تبين بفضلِ المستعين لفضله ... على غيره نعماءُ في الناس ظاهرهْ فرمى إليه بخريطةٍ مملوءةٍ دنانير، وغلَّفه بيده بالغالية. وفيها غزا وصيف الصائفة، وأقطع المستعينُ وصيفًا وبغا وأوتامش كلَّ واحدٍ غلَّة ألف ألف درهم. وولى المستعينُ شاهك الخادم على داره وحُرَمه وخزائنه وأموره (¬3). وحج بالناس محمد بن سليمان الزينبيّ؛ وخرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحجّ، فبعث المستعينُ رسولًا ينفيه إلى بَرْقة، ومنعه من الحج (¬4). وفيها توفي أحمد بن سَلْمان بن الحسن أبو بكر النجَّاد (¬5)، الفقيه الحنبليُّ البغداديُّ. ولدَ سنة ثلاث وخمسين ومئة (¬6)، ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 6/ 256: فنلنا بدنيا منك فضلًا وآخره. (¬2) في تاريخ بغداد، والوافي بالوفيات 17/ 473: ناضره. (¬3) المنتظم 12/ 8 - 9. (¬4) المنتظم 12/ 9. (¬5) كذا أورده المصنف في وفيات هذه السنة، وهو خطأ، والصواب أنه توفي سنة ثمانٍ وأربعين وثلاث مئة. انظر تاريخ بغداد 5/ 312 - 313، والمنتظم 14/ 118، وغيرها. (¬6) كذا، وهو خطأ، والصواب أنه ولد سنة ثلاث وخمسين ومئتين.

أحمد بن صالح

وكانت له حلقتان بجامع المنصور؛ يوم الجمعة قبل الصلاة وبعدها على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه؛ إحداهما للفتوى، والثانية لإملاء الحديث (¬1)، وهو ممن اتسعت روايتُه وانتشر حديثه. وسمع خلقًا كثيرًا. وكانت وفاته في ذي الحجة، وقد كُفَّ بصرُه، فدفن عند بشر الحافي، وهو ابن خمسٍ وتسعين سنة. أسندَ عن خلقٍ كثير، وجمعَ السنن وغيرها، وروى عنه الدارقطنيُّ وغيره، واتَّفقوا على صدقه وثقته وزهده وورعه. وكان يمشي حافيًا لطلب الحديث ونعلُه في يده؛ احترامًا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويصومُ الدهر، ويفطرُ كلَّ ليلةٍ على رغيف، ويفضل منه لقمة، فإذا كانت ليلة الجمعة تصدق بالرغيف، وأكلَ تلك اللُّقم التي استفضلها. وكان ينشد: [من الطويل] سيبلى لسانٌ كان يُعربُ لفظَهُ ... فيا ليته في موقف العرضِ يَسلمُ وما ينفعُ الإعراب إن لم يكن تقى ... وما ضرَّ ذا تقوى لسانٌ مُعجم (¬2) أحمد بن صالح أبو جعفر المصري، ويعرف بابن الطبري، كان أبوه من طبرستان جنديًّا. ولد أحمد سنة سبعين ومئة بمصر، وكان أحد الحفَّاظ، عالمًا بالحديث والنحو والفقه. وردَ بغداد، وجرت بينه وبين الإمام أحمد رحمه الله مذاكرات، وكان الإمام أحمد يُثني عليه ويكرمُه، وكتبَ عنه واستفاد منه، وكان يضاهيه في الزهد والعلم والورع والحفظ. وكانت وفاتُه بمصر يوم الإثنين لليلتين بقيتا من ذي القعدة (¬3). ¬

_ (¬1) نص الخبر كما في تاريخ بغداد 5/ 310: ... قبل الصلاة وبعدها، إحداهما للفتوى في الفقه على مذهب أحمد بن حنبل، والأخرى لإملاء الحديث. (¬2) انظر ترجمته أيضًا في طبقات الحنابلة 2/ 7 - 12، وسير أعلام النبلاء 15/ 502 - 505. (¬3) في تاريخ بغداد 5/ 329: لثلاث بقين من ذي القعدة.

أحمد بن أبي فنن صالح، الشاعر

أسندَ عن سفيان بن عيينة، والإمام أحمد، وعبد الرزاق وغيرهم، وحدَّثَ عنه البخاريُّ وغيره. وكان يعقوب بن سفيان يقول: كتبتُ عن ألف شيخ، حجتي فيما بيني وبين الله رجلان، أحمد بن صالح، وأحمد بن حنبل. ودخلَ عليه النسائيُّ بغيرِ إذن، فأمر بإخراجه، فأطلق لسانَه فيه، وليس الأمر على ما ذكر النسائي. وكان لا يحدِّثُ إلَّا ذا لحية، فدخل عليه أبو داود السجستاني ومعه ابنه، وهو غلام أمرد، فأنكرَ إحضارَه، فقال له أبو داود: وهو وإن كان أمرد غير أنَّه أحفظُ من أصحاب اللحى، فامتحَنَهُ فوجدَه كما قال، فحدَّثه، ولم يحدِّث بالعراق أمرد غيره. وكان أحمد يصلِّي بالشافعيّ (¬1). أحمد بن أبي فَنَن صالح، الشاعر من شعره: [من الوافر] صحيحٌ ودَّ (¬2) لو يُمسي عليلا ... ليكتب أو يرى منكم رسُولا أراك تسومُه الهجرانَ حتى ... إذا ما اعتلَّ (¬3) كنتَ له وَصُولا يود (¬4) ضنى الحياة بوصل يومٍ ... يكونُ على رضاك له دليلا هما موتان موت ضنًى وهجرٍ ... وموتُ الهجر شرُّهما سبيلا (¬5) أحمد بن عبد الرحمن بن بكَّار أبو الوليد البسريّ الدمشقيّ. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ بغداد 5/ 319 - 330، والمنتظم 9/ 12، وتهذيب الكمال 1/ 340 - 354، وسير أعلام النبلاء 12/ 160. (¬2) في تاريخ بغداد 5/ 330: الود. (¬3) في (خ) و (ف): عيد. والتصويب من تاريخ بغداد والمنتظم. (¬4) في تاريخ بغداد: فرُدَّ. (¬5) انظر ترجمته أيضًا في طبقات ابن المعتز ص 396 - 397، والوافي بالوفيات 6/ 423.

بغا الكبير الشرابي

سكن بغداد وحدَّثَ بها، وروى عنه النسائي وغيره، وكان ثقة، وماتَ بسُرَّ من رأى (¬1). بُغَا الكبير الشرابيّ مولى المعتصم، كان مقدَّمًا في الدولة من أكابر أمرائها. مرض فعاده المعتصم (¬2) وبنو هاشم، وصلَّى عليه المستعين لمَّا مات، وقد جاوز التسعين منه. وباشرَ من الحروب ما لم يباشر غيره، ولم يكن يلبسُ السِّلاح، ولا جُرِح قط، فقيل له في ذلك فقال: الأجلُ جوشن، وإنِّي رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: يا رسول الله، ادع لي، فقال: لا بأس عليك، أحسنتَ إلى رجلٍ من أهل بيتي، فعليكَ من الله واقية. والرجل الذي خلَّصه كان المعتصمُ قد أمرَه أن يلقيه إلى السباع، فلم يفعل. وتوفي في جمادى الآخرة، وكان يومًا مذكورا (¬3). أبو عثمان بكر بن محمد بن عدي المازنيُّ البصريّ العلَّامة، من مازن ربيعة (¬4). قدم بغداد في أيام المعتصم والواثق، وكان عارفًا بالنحو واللغة والآداب، وله التصانيفُ الحسان. قال: دخلت على الواثق، فقال لي: يا مازنيّ، ألك ولد؟ قلت: لا، ولكن لي أختٌ بمنزلة الولد، قال: فما قالت لك لمَّا خرجت من عندها؟ قلت: ما قالت بنتُ ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 6/ 399 - 401، ومختصر تاريخ دمشق 3/ 150 - 151، وتهذيب الكمال 1/ 383 - 385، وسير أعلام النبلاء 12/ 114. (¬2) كذا في (خ) و (ف)، والصواب أن الذي عاده هو المستعين. (¬3) انظر مروج الذهب 7/ 360، وتاريخ دمشق 3/ 390 - 391 (مخطوط)، والمنتظم 12/ 11، وتاريخ الإسلام 5/ 1093، والوافي بالوفيات 10/ 172 - 173. (¬4) كذا في (خ) و (ف)، وانظر وفيات الأعيان 1/ 284، والأغاني 9/ 234. وفي تاريخ بغداد 7/ 579، والمنتظم 12/ 12 أنه من مازن شيبان.

الأعشى لأبيها: [من المتقارب] فيا أبِ لا تَنْسنَا غائبًا ... فإنَّا بخيرٍ إذا لم تَرِم أرانا إذا أضمرتك البلا ... دُ نُجْفَى وتقطعُ منَّا الرحم فقال: فما الذي قلت لها؟ قلت: ما قال جرير: [من الوافر] ثقي بالله ليسَ له شريكٌ ... ومِنْ عندِ الخليفة بالنَّجاحِ (¬1) فقال: أحسنت، وأعطاني ألف دينار (¬2). وقيل: إنَّ بعضَ اليهود بالبصرة قصدَ المازنيَّ ليقرأَ عليه كتاب سيبويه، ويعطيه مئة دينار، فامتنعَ مع فقرِه وفاقته، فقيلَ له في ذلك، فقال: هذا الكتاب يشتملُ على كذا وكذا آية من كتاب الله، وكيفَ أمكِّنُ ذميًّا من قراءته وتحكمه عليه؟ ! فأخذتني الحميَّةُ لكتاب الله، فاتَّفقَ أنَّ جاريةً غنَّت للواثق: [من الكامل] أظلومُ إنَّ مصابكم رجلًا فاختلفَ من بالحضرة في البيت، فبعضهم نصبَ "رجلًا"، وبعضهم رفعه، وسأل الجارية فقالت: قرأته على المازنيِّ بالنصب، فاستحضره من البصرة وسأله، وأعطاه ألفَ دينار وعادَ إلى البصرة، وقال: تركنا مئةً، فعوَّضَنا اللهُ ألفًا (¬3). وقال: نزلت ببُصرى الشام، فسألتُ عن فصحائهم، فقيل لي: عندنا امرأةٌ نصرانيَّةٌ في ديرٍ ظاهر البلد تقول الشعر، فخرجتُ إلى الدير فناديتُها، فاطلعت امرأةٌ مسنَّةٌ، فقلت: أنشديني لنفسك، فأنشدت: [من الطويل] أيا رفقةً من أهل بُصْرَى تحمَّلت ... تؤمُّ الحِمى لُقِّيتِ من رفقةٍ رُشدا إذا ما وصلتم سالمينَ فبلِّغُوا ... تحية من قد ظنَّ أن لا يَرى نجدا وقولوا تركنا العامريَّ محرَّقًا ... بنار الهوى والشوقُ قد جاوز الحدَّا غدًا يكثرُ الباكونَ منَّا ومنكم ... وتزدادُ داري من دياركم بُعدا (¬4) ¬

_ (¬1) ديوان جرير 1/ 89. (¬2) في تاريخ بغداد 7/ 580، والمنتظم 12/ 12: خمس مئة دينار. (¬3) المنتظم 12/ 12 - 13. وسلف نحو الخبر بأطول مما هنا في ترجمة محمد بن عائذ (232 هـ). (¬4) الخبر بنحوه في تاريخ دمشق تراجم النساء ص 589 (طبعة مجمع اللغة) والأبيات فيه -عدا البيت الأخير- باختلاف يسير.

جعفر الموسوس

من أبيات، ثمَّ بَكت بكاء شديدًا، وأدخلَت رأسها في صومعتِها، فسألتُها أن تتكلَّم فأبت. وقيل: إنَّ المازني توفي سنةَ تسع وأربعين ومئتين (¬1). أسند عن الحارث بن أبي أسامة (¬2)، وأخذَ الأدب عن أبي عبيدة والأصمعيّ وأبي زيد الأنصاري. وأخذ عنه المبرِّدُ والفضل بن محمد اليزيدي وغيرهما، واتَّفقوا على ثقته (¬3). جعفر المُوسوس (¬4) واسمه جعفر بن علي [بن] السَّرِي، أبو الفضل البغداديّ. ولد ببغداد ونشأ بها، وكان من أهل الفضل والأدب، ووسوس في أثناء عمره، وأبوه من أبناء خراسان. قال خالد الكاتب: أرتجَ عليَّ وعلى دعبل وعلى آخر نصفُ بيت قلنا: [يا] بديع الحسن حاشا فقلنا: ما لنا غير جعفر، فجئناه فأخبرناه، فقال: أنا جائع، فأشبعوني، فأشبعناه وقلنا: تمِّمه فقال: [من مجزوء الرمل] يا بديعَ الحسنِ حاشا ... لك من هجرٍ بديعِ فقال له دعبل: زدني، فقال: وبحسن الوجه عَوَّذْ ... تُك من سوء الصنيعِ فقال الذي معنا: ولي بيتٌ آخر، فقال: ومن النخوةِ يستعـ ... ـفيك لي ذلُّ الخضوعِ فقمنا، فقال: وأزودكم ببيت آخر فقال: ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 580. (¬2) بل الحارث بن أبي أسامة هو أخذ عن المازني. انظر تاريخ بغداد 7/ 579. (¬3) انظر ترجمته أيضًا في معجم الأدباء 7/ 107، وسير أعلام النبلاء 12/ 270. (¬4) في (خ) و (ف): بن الموسوس. وهو خطأ، والمثبت وما بين حاصرتين من المصادر.

قاسم بن عثمان الجوعي

لا يعبْ بعضك بعضًا ... كن جميلًا في الجميعِ (¬1) [وفيها توفي] قاسم بن عثمان الجوعي [ذكره أبو عبد الرحمن السُّلَميّ، وأثنى عليه وقال: هو] من أقرانِ سَرِيّ السَّقَطِي والحارث المحاسبي، وصحب أبا سليمان الداراني، وصحبَه أبو تراب النخشبيّ، وإنَّما سُمِّي الجوعيّ؛ لأنَّه كان يجوع كثيرًا. [وحكى عنه أحمد بن أبي الحواري قال: ] (¬2) شبع الأولياءُ عن الجوع بالمحبة، ففقدوا لذَّة الطعام والشراب والشهوات ولذات الدنيا، وإنَّما سميتُ الجوعيَّ؛ لأنَّ الله قوَّاني على الجوع، حتى لو تركتُ شهرًا لم يُقدَّم إلي طعامٌ ولا شراب لم أبال. [أبو نعيم: كان قاسم يقول: ] (¬3) حبُّ الدنيا أصلُ (¬4) كلِّ موبقة، وقليلُ العمل مع المعرفة خيرٌ من كثير العمل بغير معرفة. ورأسُ الأعمالِ الرضا عن الله تعالى، والورعُ عمادُ الدين، والجوعُ مخُّ العبادة، والحصنُ الحصين ضبطُ اللسان. [قال: ] وتكلَّم يومًا وعلى رأسه عمامة، وكان قد شرع في علم الفناء، فقام رجلٌ فأخذ عمامته، وشرعَ يتعمَّم بها، والجُوعيُّ يديرُ رأسه إليه حتى أخذها، ولم يتكلَّم كلمةً (¬5). وكانت وفاته في رمضان بدمشق. أسند عن أبي سليمان، وسفيان بن عيينة، [وأبي معاوية الأسود، والوليد بن مسلم، وغيرهم] (¬6)، وروى عنه أبو حاتم الرازيُّ وغيره (¬7). وقيل: هما اثنان؛ كبيرٌ وصغير، فالكبيرُ صاحب هذه الترجمة، والصغيرُ صاحب ¬

_ (¬1) انظر تاريخ بغداد 8/ 44 - 45، والمنتظم 12/ 13. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وكان يقول. (¬4) في (ب): رأس. (¬5) تاريخ دمشق 58/ 310 (طبعة مجمع اللغة). (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وغيرهما. (¬7) في (ب): وروى عنه خلق كثير.

محمد بن جعفر المتوكل

سياحات وكرامات، لم يدرك أبا سليمان، بل تأخَّر عنه. [وله حكايةٌ أنبأناها غير واحدٍ؛ عن أبي بكر الصوفي بإسناده عن قاسم بن عثمان الجُوعيّ] قال: رأيت رجلًا في الطواف لا يزيدُ على قوله: إلهي، قضيتَ [حوائج المحتاجين] (¬1)، وحاجتي لم تقض، [قال: ] فقلتُ له: ما هذا الكلام [في هذا المقام]؟ فقال: أحدِّثك، كنَّا عشرة أنفس، فخرجنا في غَزَاة فاستُؤسِرْنا كلُّنا، فقدمنا لتضربَ أعناقُنا، فرأيت في السماء بابًا [قد] فتح، ونزلَ منه عشرةُ جواري، ما رأيتُ أحسنَ منهنّ، بأيديهنَّ المناشف، فقُدِّمَ واحدٌ من العشرة فضُرِبت عنقُه، فنزلت واحدةٌ منهن فنشّفتهُ [بمنشفة] وصعدت، وضُربت أعناق التسعة، والجواري يفعلنَ كذلك، وبقيت واحدةٌ [منهن] بإزائي، فسأله بعض العلوج فيّ، فأطلقني، فارتفعت الجاريةُ وهي تقول: أيشٍ فاتَك يا محروم! ؟ وأغلقت الباب، فأنا متحسرٌ (¬2) على ذلك، ثم قال قاسم: أُرَاه أفضلَهم؛ لأنَّهم استشهدوا، وبقيَ هو يعملُ على الشوق (¬3). [فصل وفيها] محمد بن جعفر المتوكل الملقب بالمنتصر. [قال علماءُ السير: ] كان [محمد] راجحَ العقل، واسعَ الاحتمال، كثير المعروف، راغبًا في الخير، حسن الأخلاق، [على خلاف رأي أبيه في آل بني طالب، وكان] محسنًا إلى العلويين. [وأعاد بناء قبر الحسين - عليه السلام - إلى ما كان وزاده، وعمر المشاهد، وأغناهم وأكرمهم، و] دفع إلى أحمد بن الخصيب مالًا جزيلًا، وقال: فرِّقه في العلويين، فقد نالَهم جفوة، فقال: سوف أفعلُ في هذا ما يرضي أميرَ المؤمنين، فقال: إذًا تسعدُ عند الله وعندي، فإني ما وليتُك الوزارة إلا لتخلفني فيهم، وتتفقَّد أحوالهم، وتقضي حوائجَهم، [فـ] قال يزيد بن المهلبي [هذه الأبيات: ] [من الكامل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): حاجة المنجحين. (¬2) في (ب): متحير. (¬3) تاريخ دمشق 58/ 314 - 315. وانظر ترجمة القاسم أيضًا في صفة الصفوة 4/ 236، والمنتظم 11/ 302 (وفيات سنة 242 هـ)، وسير أعلام النبلاء 12/ 77 - 79.

ولقد بررتَ الطالبيَّةَ بعدما ... ذمّوا (¬1) زمانًا بعدَهم وزمانَا ورددت إلفة هاشمٍ فرأيتَهم. بعدَ العداوةِ بينهم إخوانا لو يعلم الأسلافُ كيف بررتَهم ... لرأوك أثقلَ منهم ميزانَا (¬2) وقال الطبري: أوَّلُ شيءٍ أحدثَ المنتصرُ أنَّه عزلَ صالح بن علي عن المدينة، وولاها عليَّ بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد، وقال له لما ودعَه: يا عليّ، إنِّي قد بعثتُك إلى لحمي ودمي -ومد جلدة ساعدِه- فانظر كيف تكونُ للقوم، وكيف تعاملهم -يعني آل أبي طالب- فقال له: أرجو أن أمتثل رأيَ أمير المؤمنين -أيَّده الله- فيهم، فقال: إذًا تسعدُ بذلك عندي (¬3). [قال: ] ووجِد [في أيام المنتصر] رجلٌ مقتولٌ على فراشه، قتلَه عبد أسود، فأحضرَه المنتصر، وقال [له: ] ويلك! لم قتلت مولاك؟ فقال: كما قتلتَ أنت أباك، فضربَ عنقه وصلبَه عند خشبة بابك (¬4). [وقال الصولي: ] رأى المنتصر يومًا باغر التركيّ في داره، فقال: ما يصنعُ هذا هاهنا، أيريدُ أن يقتلني كما قتل أبي؟ قالوا إنَّه يخلف بُغَا الصغير، فقال: أخرجوه، لعنَ الله الجميع، فألحقَه بوصيف بالصائفة. وكان أحمد بن الخصيب قد قال للمنتصر: أَبْعِدْ هؤلاء الموالي عنك، فإنِّي خائفٌ عليك منهم، [ففعل]. [حكاية الرجل الذي كان يجمعُ الرجال والنساء: [حكى الصوليُّ قال: ] كان في أيام المنتصر رجل بمكَّة يجمعُ بين الرجال والنساء، فنفاه الوالي إلى عرفات، فصارَ الناسُ يخرجون على الحمير إليه، فبلغ الوالي خبرُه، فأحضره [إلى بين يديه]، وقال [له: ] يا عدوَّ الله، طردتُك من الحرم فصرتَ إلى المشعر ¬

_ (¬1) في سير أعلام النبلاء 12/ 44: دفُّوا. (¬2) مروج الذهب 7/ 304، والوافي بالوفيات 2/ 90. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 254. ومن قوله: وقال الطبري ... إلى هنا. ليس في (ب)، وما سلف بين حاصرتين منها. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 255.

الحرام (¬1)، فأنكرَ الرجلُ، فقال أهل مكة: بيننا وبينه حمير المُكَارين، نرسلُها من مكَّة إلى عرفة، فإن قصدت بيتَه صدقنا (¬2)، فقال الوالي: أرسلوها، فأرسلوها، فوقفت على [باب بيته] (¬3)، فقال الوالي: جرِّدوه لأضربه، فقال الرجل: يا قوم، ما يشتفي أهلُ المدينة (¬4) منَّا بأكثر من هذا، يقولون: أهلُ مكَّة لا يقبلون قولَ الشاهد مع اليمين، ويجيزونَ شهادةَ الحمير، فضحك الوالي وأطلقه، وكتب إلى المنتصر يعرفُه الخبر، فضحك [المنتصر] وكتب له بمالٍ إلى مكَّة، وقال للوالي: استتبه، فقد أغنينَاه عن ذلك. [وذكر عن بيان المغني -وكان خصيصًا بالمنتصر- قال: ] (¬5) سألتُه ثوبَ خزّ أو ثوب ديباج، فقال لي: تمارض حتى أعودَك ليحصلَ لك أكثر من الثوب الديباج، [قال: ] فمات، ولم يهب لي شيئًا (¬6). ذكر وفاته: [واختلفوا في أسبابها على أقوال؛ أحدها أنه] كان يقول: [يا بغا] أين أبي؟ من قتل أبي؟ ويكثر دائمًا من سبِّ الأتراك، ويقول: هؤلاء قتلةُ الخلفاء، فقال بغا الصغير للأتراك الذين قتلوا أباه: ما لكم عند هذا الرجل خبزٌ، فهَمُّوا به، فلم يقدروا عليه؛ لأنَّه كان مهيبًا شجاعًا فطنًا حازمًا محترزًا، فدسُّوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار، واتَّفق أنَّه مرض، فأشار عليه بالفَصْد، ودسَّ فاصدًا، أو أعطاه مبضعًا مسمومًا، ففَصَدَه به، فمات، واتفق أنَّ الذي فصدَه، ألقى ذلك المبضع في مباضعه ونسيه، ثمَّ مرض الفاصد، فقال لتلميذٍ له: افصدني، ففصَدَه به، ولم يعلم، فماتَ الطبيب. [ذكره الصولي]. [والثاني: ] أنَّ المنتصرَ حدثَ به مرض في أنثييه، فماتَ بعد ثلاثة أيام. [والثالث: ] أنَّه مات بالذبحة في حلقه. ¬

_ (¬1) في (ف): الأعظم. (¬2) في (خ) و (ف): قصدنا. وفي (ب): فصدقها. وانظر مروج الذهب 7/ 321، والعقد الفريد 6/ 448. (¬3) في (خ) و (ف): بابه. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وفي المصادر: أهل العراق. وهو الأشبه. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال بيان المغني وكان خصيصًا بالمنتصر. (¬6) تاريخ الطبري 9/ 552.

[والرابع: ] أنَّه أصابه ورم (¬1) في فؤاده، فمات. [والخامس: ] أنَّ حجَّامًا حجَمه بمحاجم مسمومة. [والسادس: ] أنَّ رأسَه ضرب عليه من شقيقة، فقطرُوا في رأسه دهنًا فمات. [والسابع: ] (¬2) أنَّه كان يحب الكمّثرى، فدشَ الأتراكُ إلى خادمٍ مالًا كثيرًا، فعمد إلى أحسن ما في الكمثرى فسمَّها بإبرةٍ نقبَها بها، فأكلها فوجد فترة، فقال للطبيب: أجدُ حرارةً، فقال: هذا من غلبةِ الدم، احتجم، فاحتجمَ، وخافوا أن يطولَ مرضُه، ففصدوه بمبضعٍ مسموم، فمات (¬3). [قال الصولي: ] وما كان سبب هلاكه إلا الأتراك، نظر يومًا إلى بغا قد أقبل في جمعٍ من المماليك، فقال: قتلني الله إن لم أقتلكم جميعًا، كما فعلتم بأبي، وبلغَهم قولُه، فدسوا إلى الطبيب الطيفوريِّ أموالًا، فقتله (¬4). وكان بُغا يحلفُ بالله أنَّه دُفِن حيًّا. [وقال أحمد بن الخصيب: ] لما احتضر جعلَ يقول لأمّه: يا أماه، ذهبت منّي الدنيا والآخرة، يا أمَّاه عاجلتُ أبي فعوجلت، وأنشد: [من الطويل] فما مُتِّعَتْ نفسي بدنيا أصبتُها ... ولكن إلى الربِّ الكريمِ أصيرُ وما كان ما قدَّمتُه رأيَ فلتةٍ ... ولكن بفُتياها أشار مشيرُ (¬5) [قال الصوليّ: ] ودخلَ عليه جعفر بن عبد الواحد القاضي عائدًا، فقال له: يا جعفر، لقد عوجلتُ، فما أسمع بأذني ولا أبصرُ بعيني (¬6). وقال أحمد بن الخصيب: قال لي المنتصر: رأيتُ في منامي كأنِّي صعدتُ درجةً. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): مرض. والمثبت من (ب). وفي تاريخ الطبري 9/ 251 أن علته كانت من ورم في معدته، ثم تصعد إلى فؤاده فمات. (¬2) ما بين حاصرتين كله من (ب)، بدله في (خ) و (ف): وقيل. (¬3) انظر تاريخ الطبري 9/ 252 - 253، والمنتظم 12/ 16 - 17. (¬4) انظر مروج الذهب 7/ 300 - 301. (¬5) أوردهما الصفدي في الوافي بالوفيات 2/ 290، وأورد الطبري في تاريخه 9/ 254 البيت الأول فقط. (¬6) وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 2/ 486.

فانتهيتُ إلى خمس وعشرين مرقاة، ثم قيل لي: قف، فهذا آخرُ عمرك، فوقفتُ فأوَّلتُها الخلافةَ خمسًا وعشرين سنة، قال: فمات بعد خمس وعشرين يوما (¬1). وقال [أحمد بن الخصيب: ] رأى المنتصرُ أباه في منامه وهو يقول له: ويحكَ يا محمد، ظلمتني وقتلتني، والله لا مُتِّعتَ بالدنيا بعدي إلَّا أياما يسيرةً، ومصيرك إلى النار (¬2). [وروى ابن أبي الدنيا عن عبد الملك بن سليمان بن أبي جعفر قال: ] (¬3) رأيتُ المتوكِّلَ والفتحَ بن خاقان في منامي وهما في بستان، فقال لي المتوكِّلُ: يا عبد الملك، قل لمحمد: بالكأسِ الذي سقيتنا تشرب (¬4)، فماتَ بعد ثلاث، كانت علته ثلاثةَ أيام. وتوفي يوم السبت لخمسٍ (¬5) خلون من ربيع الآخر [من هذه السنة]. وقيل: يوم الأحد رابع ربيع الآخر (¬6)، وصلَّى عليه عمُّه المستعين (¬7)، ودفن بالجَوْسق بسُرَّ من رأى. قال [أبو جعفر] الطبريّ: وهو أوَّل خليفةٍ عُرِفَ قبرُه من بني عباس، وذلك لأنَّ أمَّه طلبت إظهارَ قبره، فأجيبت (¬8). قال المصنف رحمه الله (¬9): والعجبُ من الطبريِّ، وقبر السفاح بالأنبار تحتَ المنبر، والمهدي بماسَبَذان، وهارون بطُوس، والمأمون بطَرَسُوس، والمعتصم والواثق والمتوكِّل بسُر من رأى. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 9/ 253. (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 252. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال عبد الملك بن سليمان بن أبي جعفر. (¬4) مروج الذهب 7/ 301. (¬5) في تاريخ الطبري 9/ 251، والمنتظم 12/ 16: لأربع. (¬6) في تاريخ الطبري 9/ 251، وتاريخ بغداد 2/ 486: ومات مع صلاة العصر من يوم الأحد لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر. (¬7) هذا مبني على ما ذكره المؤلف آنفًا من أن المستعين هو محمد بن المعتصم، والصواب أنه محمد بن محمد الأكبر ابن المعتصم كما بينته. (¬8) تاريخ الطبري 9/ 254. وانظر تاريخ بغداد 2/ 487. (¬9) في (ب): قلت.

ومات المنتصر وهو ابنُ خمسِ وعشرين سنة. وقيل: أربع وعشرين [سنة]، وكانت خلافته ستة أشهر، مدَّة شيرويه بن كسرى الذي قتلَ أباه. ذكر أولاده ووزيره وقاضيه وحاجبه: كان له ثلاثةٌ من الولد، عبد الوهاب وعبد الله وأحمد لأمَّهات أولاد (¬1). [وكان وزير المنتصر (¬2)] أحمد بن الخصيب، [ذكره محمد بن عبدوس في كتاب "الوزراء"، قال: كان] من أهل جرجرايا من طَسُّوج (¬3) النهروان الأسفل، [وكاتبَ المنتصر] (¬4) في أيّام إمارته، فلما وليَ الخلافة استوزره. [قال: ] وكان جاهلًا أحمق. قال له المنتصرُ يومًا: إنَّ السيدةَ -يعني أمَّه- تطلبُ منِّي أن أُقطِعها ضياعَ شُجاع أمِّ المتوكِّل، فقال له: وما قلتَ للفاجرة؟ وجعلَ يردِّدُها، فقال المنتصر: قتلني الله إن لم أقتلك (¬5). [قال الصولي: ] كان [ابن الخصيب] سيءَ الخلقِ متكبِّرا، ركبَ يومًا، فاستغاثَ به مظلوم، فأخرجَ رجله من الرِّكاب وضربَه في صدره فمات، فقال أحمد بن أبي طاهر: قل للخليفة يا ابن [عمّ] (¬6) محمدٍ ... اشكُل وزيركَ إنَّه ركَّالُ اشكلْه عن ركلِ الرجال وإن تُرِد ... مالًا فعند وزيركَ الأموالُ قد نال من أعراضنَا بلسانِه ... ولرجله عند الصدور مجالُ (¬7) وبلغ المنتصر، فعزَّ عليه، وأرادَ أن يوقِع به، فمات. [وذكر ابن عبدوس في كتاب "الوزراء" قال: ] رُفِعَت إلى ابن الخصيب قصص لبني هاشم والمهاجرين والأنصار، فكتب على قصص بني هاشم: هَشَم الله وجوههم، ¬

_ (¬1) من قوله: ذكر أولاده ... إلى هنا ليس في (ب). وانظر تتمة أولاد المنتصر في جمهرة أنساب العرب ص 27. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): ووزيره. (¬3) أي: من ناحية. القاموس (طسج). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وكان كاتبه. (¬5) من قوله: قال له المنتصر ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬6) لفظة: عم، ليس في (خ) و (ف)، وأضفتها من مروج الذهب 7/ 296 والأبيات -عدا الأخير- فيه. (¬7) من قوله: فقال أحمد بن أبي طاهر ... إلى آخر الأبيات ليس في (ب).

محمد بن حميد بن حيان

وعلى قصة المهاجرين: هجرهم الله، وعلى قصة الأنصار: لا نصرَهم الله، [وسنذكر ابن الخصيب في ترجمة المستعين.] (¬1) ونُقِلَ عنه أنَّه قال للمنتصر يومًا لمَّا بويع: إنَّ الناس قد نسبوك إلى ما تعلم واستعظموك واستفظعوه (¬2)، فأحسن إليهم يحبُّوك، وأفشِ العدل فيهم يحمدوك، ولا تطلق فيهم لسانًا فيبغضوك ويذمُّوك، وأنت كما قيل: [من الوافر] وذنبي ظاهرٌ لا سترَ عنه ... لطالبه وعذري بالمغيب (¬3) وأما قاضيه فجعفر بن عبد الواحد، وأما حاجبه فوصيف وبُغَا (¬4). محمد بن حُمَيد بن حَيَّان أبو عبد الله الرازي. رحل وسمع الحديث، وروى عنه ابن المبارك وغيره والإمام أحمد (¬5)، وقد تكلمُوا فيه، رحمه الله. مُهَنَّى بن يحيى أبو عبد الله البغدادي. صحب الإمام أحمد ثلاثًا وأربعين سنة، ورحل معه إلى عبد الرزاق، وكان يسألُه عن مسائلَ لا يسأله عنها غيرُه ويُدلُّ عليه، وكتبَ عنه بضعة عشر جزءًا من مسائله، لم تكن عند غيره، وكتبها عنه عبد الله بن أحمد (¬6). واتَّفقوا على دينه وصدقه وثقته. قال الدارقطني: مهنى ثقة ثبتٌ، رحمة الله تعالى عليه (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): واستفظعوك. (¬3) الوافي بالوفيات 6/ 372 - 373، ومن قوله: ونقل عنه ... إلى هنا، ليس في (ب). (¬4) بعدها في (ب): انتهت السنة التاسعة والأربعون. (¬5) كذا في (خ) و (ف). والصواب أنه روى عن ابن المبارك، وروى عنه الإمام أحمد. انظر تاريخ بغداد 3/ 60. (¬6) في تاريخ بغداد 15/ 359: ومسائله أكثر من أن تحد، وكتب عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل مسائل كثيرة بضعة عشر جزءًا عن أبيه. (¬7) انظر ترجمته أيضًا في طبقات الحنابلة 1/ 345، والمنتظم 12/ 17.

السنة التاسعة والأربعون بعد المئتين

السنة التاسعة والأربعون بعد المئتين فيها في أول صفر منها شغبَ الجندُ والشاكريّة ببغداد، وله سببان؛ أحدهما: مقتل عمر بن عبيد الله الأقطع، وعلي بن يحيى الأرمني، فإنَّهما قُتِلا ببلاد الروم مجاهدَين، واستيلاءُ الترك بعد قتل المتوكِّل على بغداد، وقتلهم من أرادوا قتلَه من الخلفاء، ونصبهم من أرادوا نصبه منهم، وأخذهم ما أرادوا من الحريم والأولاد والأموال من غير نظرٍ في مصالح المسلمين. اجتمعت العامَّة بالصراخ، ونادوا: النفير النفير، وانضمَّت إليهم الأبناءُ والشاكريَّة، وطلبوا أرزاقَهم، وفتحوا السجون، وأخرجوا من فيها، وأحرقوا جسر بغداد، وانتهبوا الدواوين، وقطعوا الأوراق التي فيها الحساب، ورموها في دِجْلة، وانتهبوا دور الكتَّاب من النصارى، وأخرجَ أهلُ بغداد أموالًا كثيرةً؛ قوَّوا بها من نهضَ لحربِ الروم (¬1). وفي ربيع الآخر (¬2) شغبت العامَّةُ بسر من رأى يومَ الجمعة (¬3)، وفتحوا السجون وأخرجوا من فيها، وركبَ التركُ ووصيف وبُغَا وأوتامش، فقتلوا من العامةِ جماعةً، ورُمي وصيف بحجر فشجَّه، وقيل: بقدرٍ، فأمرَ بإحراقِ الحوانيت والأسواق، فأُحرقت، واحترقت منازلُ الناس. وقتل أوتامش وكاتبه شجاع في ربيع الآخر، فاستوزرَ المستعينُ أبا صالح عبدَ الله بن محمد بن يزداد، وولى وصيفًا الأهواز، وولى بُغَا الصغير فلسطين، ثم غضب بغا الصغير على عبد الله (¬4) بن محمد بن يزداد، فهرب إلى بغداد، واستوزرَ المستعينُ محمد بن الفضل الجَرْجَرائي، وولى على ديوان الرسائل سعيد بن حُميد، فقال الحمدونيّ: [من الرمل] ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 261 - 262، والمنتظم 12/ 20، والكامل 7/ 121 - 122. (¬2) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ الطبري 9/ 262، والمتظم 12/ 20، والكامل 7/ 122: ربيع الأول. (¬3) في المصادر: وثب نفر من الناس لا يُدْرى من هم يوم الجمعة بسامراء. (¬4) في (خ) و (ف): وعلي بن عبد الله. وهو تصحيف. والتصويب من تاريخ الطبري.

إبراهيم بن عيسى

لبسَ السيفَ سعيدٌ بعدَما ... عاشَ ذا طِمْرَين لا نوبةَ لَهْ إنَّ لله لآياتٍ وذا ... آيةٌ لله فينا مُنْزلَهْ (¬1) وفيها عزل المستعين جعفر بن عبد الواحد عن القضاء، وولاه جعفر بن محمد بن عمار البُرْجُميّ الكوفي (¬2). وفيها زُلزلت الريّ زلزلةً عظيمةً، انهدمت الدور، وماتَ تحت الهدم خلقٌ كثير، وهرب الباقون إلى الصحراء. [فصل: ] وحجَّ بالناس عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم [الإمام]، وهو والي مكة (¬3). وفيها قتل أوتامش التركي، وسبب مقتله أنَّ المستعين لما وليَ الخلافة استوزره، وأطلق يده ويد شاهك الخادم في بيوتِ الأموال، وفعل ذلك بأمِّ (¬4) نفسه، وكانت الأموال التي تَرِدُ على السلطان إنما يصيرُ معظمها إلى هؤلاء الثلاثة، ووَصيف وبُغَا والأتراك عن ذلك بمعزل، وهم في ضيقٍ شديد، فأغريا الموالي والفراغنة والشاكرية وغيرهم بأوتامش، فلمَّا كان يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر زحفوا إلى أوتامش، وهو بالجَوْسق مع المستعين، فأراد الهرب، فلم يقدر، واستجار بالمستعين، فلم يجره؛ لضعفه وكثرة الجند، فحصروه يومين، ودخلوا عليه يوم السبت فقتلوه، وقتلوا كاتبه شجاع بن القاسم، وانتبهوا دار أوتامش، فأخذوا منها أموالًا جليلةً وفَرْشًا ومتاعًا كثيرًا (¬5). [فصل: وفيها توفي] إبراهيم بن عيسى أبو إسحاق الأصفهاني، الزاهد العابد. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 264. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 265. ومن بداية أحداث السنة إلى هنا ليس في (ب). (¬3) تاريخ الطبري 9/ 265، وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (خ) و (ف): بأمر. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 263، وانظر الكامل 7/ 123. (¬5) من قوله: وفيها قتل أوتامش ... إلى هنا. ليس في (ب).

بكر بن خالد

صحب معروفًا [الكرخي (¬1)]. وكانت (¬2) عبادتُه تشبهُ عبادةَ الملائكة، فليلة يقومُ فيها إلى قريب الفجر [ثم يركع، وليلةً يركعُ إلى قريب الفجر] ثم يسجد (¬3)، فإذا صلَّى الفجرَ دعا لجميع المسلمين والمسلمات والحيوانات [والبهائم] والحشرات، ويقول: اللهم اهدِ اليهود والنصارى، وسَلِّم التجَّار وغيرهم. أسند عن معروف الكرخي وغيره (¬4). بكر بن خالد أبو جعفر القصير، ويقال: محمد بن بكر (¬5)، كاتبُ أبي يوسف القاضي، أخذ عنه العلم، وكان فاضلًا. ورَوى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "هاجروا تُورِثوا أبناءَكم مجدًا" (¬6). الحسن بن الصَّبَّاح بن محمد أبو علي البزار الحافظ. كان الإمام أحمد يرفع قدره ويبجِّله ويقول: صاحب سنة. قال الحسن: أُدخِلت على المأمون، فقال لي: أنت الحسنُ البزَّار؟ قلت: نعم، قال: أتشتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟ فقلت: صلى الله على علي مولاي وسيدي، فقال: خلوا سبيلَه. وكانت وفاتُه ببغداد في ربيع الأول، وكان صدوقًا ثقة. أخرج عنه البخاري وغيره (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): صحب معروفًا. (¬2) قبلها في (ب): قال الخطيب. ولم أقف عليه في تاريخه. (¬3) بعدها في المنتظم 12/ 24، وصفة الصفوة 4/ 83: وليلة يسجد إلى قريب الفجر ثم يرفع. (¬4) انظر ترجمته أيضًا في حلية الأولياء 10/ 393، وتاريخ الإسلام 5/ 1081. (¬5) كذا قال المصنف وتبعه ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة 2/ 330، وأجمعت المصادر على أن اسمه محمد بن بكر. انظر تاريخ بغداد 2/ 446، والمنتظم 12/ 32، وتاريخ الإسلام 5/ 1216. (¬6) تاريخ بغداد 2/ 447، وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬7) تاريخ بغداد 8/ 299، وهذة الترجمة ليست في (ب).

علي بن [الجهم بن] بدر

علي بن [الجهم بن] بدر الشاعر [المشهور] من ولد سَامة بن لؤيّ بن غالب (¬1)، [وديوانه مشهور، وهو شاعر مجيد، و] كان فاضلًا متدينًا، وله اختصاصٌ بالمتوكِّل، وكان تقدَّم عليه بالكلام، فنفاه إلى العجم. وقال: وجه بي المتوكِّلُ في حاجة له إلى بغداد، فلمَّا كان يومُ جمعة صلَّيتُ في الجامع، وإذا بسائلٍ قد وقف يسأل، فحدَّثَ بأحاديث صحاح، وأنشد شعرًا حسنًا، وتكلم بكلام فصيح، فأخذَ قلوب الناس، ثم قال لهم: يا قوم إني لم أوت من عجزٍ، وإنِّي أفتيت (¬2) في علوم كثيرة، ولقد حضرتُ بناء القصر الجعفريِّ للمتوكِّل، فجاء يومًا يدورُ في القصر على حمار، فأنشدتُه القصيدة الفلانية -وأنشدها فأجاد إنشادَها- فأمرَ لي بعشرةِ آلاف درهم، فقال له علي بن الجهم الشاعر: الساعةَ يفتح عليك أهلُ الخلد، فلا يكفيك بيوت الأموال، فلم يعطني شيئًا، قال: فلم يبق أحدٌ إلَّا ذمَّني ولعنني، فاستدعيتُه وقلت: أتعرف عليَّ بن الجهم؟ قال: لا، قلت: فأنا عليُّ بن الجهم، فقال: هاتِ عشرة دراهم أخرجك وأدخل غيرك، فأعطيتُه عشرةَ دراهم واستحلفتُه أن لا يذكرني. ومن شعره المستحسن: [من الطويل] عيونُ المها بين الرُّصَافة والجِسر ... جلبنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدرِي أعدنَ لي الشوقَ القديم ولم أكُن ... سلوتُ ولكن زدنَ جمرًا على جمرِ كفى بالهوى شُغلًا وبالشيب زاجرًا ... لو أنَّ الهوى مما يُنَهْنَه بالزجرِ بما بيننَا من حرمةٍ هل رأيتُما ... أرقَّ من الشكوى وأقسى من الهجرِ وأفضحَ من عين المحبِّ لسرِّه ... ولا سيَّما إن أطلقتْ عبرةً تجرِي وما أنا ممَّن سارَ بالشعرِ ذكرُه ... ولكنَّ أشعارِي يسيرُ بها ذِكِري ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): بن غالب بن لؤي. وهو خطأ، وليس في (ب) والتصويب من الأغاني 10/ 203، وتاريخ بغداد 8/ 166 (ترجمة الجهم والده)، ووفيات الأعيان 3/ 355، وانظر مقدمة ديوان علي بن الجهم. (¬2) كذا في (خ) و (ف) ونسخة كما في هامش المنتظم، وفي تاريخ بغداد 13/ 291، ومطبوع المنتظم 12/ 27: افتُتنت. ولعل الصواب: افتننت. والخبر بطوله ليس في (ب).

ولا كلُّ من قادَ الجيادَ يسوسُها ... ولا كلُّ من أجرى يقالُ له مُجرِي ولكنَّ إحسانَ الخليفةِ جعفر ... دعاني إلى ما قلتُ فيه من الشعرِ وفرَّق شملَ المال جودُ يمينه ... على أنَّه أبقَى له أحسنَ الذكْرِ إذا ما أجال الرأيَ أدركَ فكرُه ... غرائبَ لم تخطر ببالٍ ولا فكرِ ولا يجمعُ الأموال إلَّا لبذلِها ... كما لا تساقُ الهديُ إلَّا إلى النحرِ ومن قال إنَّ القطر والبحر أشبَها ... نداهُ فقد أثنىَ على البحرِ والقَطْرِ أغيرَ كتابِ الله تبغونَ شاهدًا ... لكم يا بني العبَّاسِ بالمجدِ والفخرِ كفاكُم بأنَّ الله فوَّضَ أمرَه ... إليكم (¬1) وأوحى أن أطيعُوا أولي الأمرِ ولن يُقْبَلَ الإيمانُ إلا بحبِّكُم ... وهل يقبلُ اللهُ الصلاةَ بلا طُهْرِ ومن كان مجهولَ المكانِ فإنَّما ... منازلكُم بين الحَجُون إلى الحِجْرِ (¬2) قال المصنف رحمه الله تعالى: ولقوله: عيونُ المها بين الرصافة والجسرِ حكايةٌ، خرج رجلٌ من أهل بغداد فلقيَ امرأةً حسناء، فقال: يرحمُ الله عليَّ بن الجهم، فقالت المرأة يرحم اللهُ أبا نواس (¬3)، وأراد الرجل قول ابن الجهم: عيونُ المها، وأرادت قول أبي نواس: [من الطويل] فيا دارها بالخيف إنَّ مزارها ... قريبٌ ولكن دونَ ذلك أهوالُ (¬4) [وقال الخطيب: ومن شعره: ] (¬5) [من الكامل] نُوَبُ الزمانِ كثيرةٌ وأشدُّها ... شملٌ تحكَّم فيه يومُ فراقِ يا قلبُ لِمْ عرَّضتَ نفسَك للهوى ... أومَا رأيتَ مَصَارعَ العُشَّاقِ (¬6) ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): إليه. والمثبت من الديوان. (¬2) انظر القصيدة في ديوان علي بن الجهم ص 141 (التكملة)، وص 220، وص 252 (صلة التكملة). والقصيدة بطولها ليست في (ب). (¬3) في كتاب الأذكياء لابن الجوزي ص 260 - والخبر فيه-: يرحم الله أبا العلاء. (¬4) الخبر ليس في (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ولابن الجهم رحمه الله. (¬6) تاريخ بغداد 13/ 291، وديوان علي بن الجهم ص 156 (تكملة).

[وذكر له ابن الهبارية في "فلك المعاني" في غاية الجود وهما هذه: ] (¬1) [من البسيط] أما ترى اليومَ ما أحلى شمائلَهُ ... غيمٌ وصحوٌ وإبراقٌ وإرعاد كَأنَّه أنتَ يا من لا شبيهَ له ... هجرٌ ووصلٌ وتقريبٌ وإبعادُ (¬2) ذكر مقتله: كان قد خرجَ غازيًا إلى الشام، [قال الصولي: ] ورد على المستعين في شعبان سنة تسعٍ وأربعين كتابُ صاحب البريد بحلب يقول: خرجَ عليُّ بن الجهم من حلب متوجِّهًا إلى الغزو، فخرجَ عليه جماعةٌ من كَلْب على خيل، ومعه جماعة، فقاتلَهم قتالا شديدًا، ولحقَه الناسُ وهو جريحٌ بآخرِ رمق، فقال: [من المجتث] أَسَال بالصبح سيلُ ... أم زِيدَ في الليلِ ليلُ يا إخوتي بدُجيلٍ ... وأينَ منِّي دُجيلُ وأنه مات في ذلك المنزل على يومٍ من حلب، ووجدوا في جبته (¬3) رقعة فيها [مكتوب: ] [من المنسرح] يا رحمةً للغريب في البلد النـ ... ـازحِ ماذا بنفسهِ صنعا فارق أحبابَهُ فما انتفعُوا ... بالعيش من بعدِه ولا انتفعا [وقال الطبريُّ: توجَّه ابن الجهم من بغداد إلى الثغر، فلمَّا كان بقرب حلب بموضعٍ يقال له: خُساف، لقيه خيلٌ لكلب، فقتلته، فأخذت ما كان معه، فقال -وهو في السَّوْقِ (¬4) -: أزاد في الليل ليلُ ... وذكر البيتين (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وله. (¬2) ديوان علي بن الجهم ص 122 - 123 (تكملة). (¬3) في (ب) -وما سلف بين حاصرتين منها-: جيبه. (¬4) في تاريخ الطبري: وهو في السياق، والسِّياق والسَّوْق: النزع. وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) تمام البيتين كما في تاريخ الطبري 9/ 264 - 265: =

علي بن يحيى الأرمني

وقيل: كان منزلُه في شارع الدُّجَيل. انتهت ترجمتُه، والحمد لله وحدَه، وصلواته وسلامُه على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -.] عليّ بن يحيى الأرمنيّ صاحب الغزو والجهاد، وكان شجاعًا، وله نكاياتٌ في الروم، وكان قد قفل من إرمينية إلى مَيَّافارِقِين، وبلغَه مقتل عمر بن عبيد الله الأقطع فعاد يطلب الروم فالتقوه فقاتلَ قتالًا شديدا، فقُتِل، وقُتِل معه أربعُ مئة رجل من أبطال المسلمين (¬1). عمر بن عبيد الله الأقطع كان قد خرجَ مع جعفر بن دينار إلى الصائفة، فافتتح حصنًا يقال له: مَطَامير، فاستأذن جعفرَ بن دينار في الدخول إلى بلد الروم، فأذنَ له، فدخل ومعه عسكرٌ كثيفٌ، فلقيَه الملكُ بمرج الأسقف، وكان الروم في خمسين ألفًا، فأحاطوا به وبمن معه، فقتلُوه، وقتل عليه ألف رجلٍ من أعيان المسلمين، وذلك يوم الجمعة منتصف رجب (¬2). [وفيها توفي] عمرو بن علي ابن بَحْر (¬3) بن كَنيز، أبو حفص، الصَّيرفيُّ الفلاسُ البصريُّ. كان إمامًا حافظا صدوقًا، مدحه شاعرٌ بالصدق فقال: [من المتقارب] يَزُمُّ الحديثَ بإسناده ... ويمسكُ عنه إذا ما وَهِمْ ولو شاءَ قال ولكنَّه ... يخافُ التزيُّدَ فيما عَلِمْ قدم الفلَّاسُ يطلبُ الخليفة، فتلقَّاه أصحابُ الحديث في السفن من (¬4) المدائن، ¬

_ = أزيد في الليل ليلُ ... أم سال بالصبح سيلُ ذكرتُ أهل دجيلٍ ... وأين مني دجيلُ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 261، وهذه الترجمة والتي بعدها ليست في (ب). (¬2) تاريخ الطبري 9/ 261. (¬3) وقع بعدها في (ب) خرم (ورقة بيضاء) وينتهي ص 290. (¬4) كذا، وفي تاريخ بغداد والمنتظم: إلى المدائن.

محمد بن يزيد

فدخل بغداد فحدَّثهم، ثم قدمَ سرَّ من رأى، فتوفي بها في ذي القعدة رحمه الله (¬1). محمدُ بن يَزيد ابن محمد بن كثير بن رِفَاعة بن سَمَاعة، أبو هشام الرفاعي الكوفي. ولي القضاء ببغداد بعد أبي حسَّان الزيادي، وولي القضاء بالمدائن، ومات ببغداد وهو قاضٍ في هذه السنة، وقيل: في سنة ثمانٍ وأربعين في شعبان (¬2). حدَّث عن عبد الله بن إدريس وغيره، ورَوى عنه البخاريُّ ومسلم وغيرهما، وكان ثقةً عالمًا بالأحكام والقراءات، وله فيها كتاب. قال المصنِّفُ رحمَه الله: وقد قال البخاريُّ: رأيتُهم مجتمعين على تضعيفه، فلم يخرج عنه في "صحيحه" (¬3). موسى بن عبد الملك بن [هشام أبو] (¬4) الحسين الكاتب (¬5)، أحد كتَّاب المتوكِّل، قدم معه دمشق، وهو القائل وقد قفل من الحجاز ووصل إلى الثعلبية: [من مجزوء الكامل] لمَّا وردنا الثَّعلبيـ ... يةَ حيثُ مجتمعُ الرقاقْ (¬6) وشممتُ من أرضِ الحجـ ... ـازِ نسيمَ أرواحِ العراقْ وامتدَّ لي أمدُ الهوى ... ورأيتُ أسبابَ التلاقْ أيقنتُ لي ولمن أحـ ... ـب بجمعِ شملٍ واتِّفاقْ ما بيننا إلَّا تَصَر ... ـرمُ هذهِ السبعِ البواقْ حتَّى يطولَ حديثُنا ... بصنوفِ ما كنَّا نُلاقْ ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 14/ 117 - 124، والمنتظم 12/ 31 - 32، وتهذيب الكمال 22/ 162 - 165، وسير أعلام النبلاء 11/ 470 - 472. (¬2) وصححه الخطيب في تاريخ بغداد 4/ 598. (¬3) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 4/ 595 - 598، وتهذيب الكمال 27/ 24 - 30، وسير أعلام النبلاء 12/ 153 - 156. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 17/ 288 (مخطوط). (¬5) في وفيات الأعيان 5/ 341، وتاريخ الإسلام 5/ 1263 أنه توفي سنة ست وأربعين مئتين، وفي تاريخ دمشق (مخطوط) 17/ 289: سنة سبع وأربعين مئتين. (¬6) في وفيات الأعيان 5/ 337، وتاريخ دمشق 17/ 289: الرفاق.

السنة الخمسون بعد المئتين

السنة الخمسون بعد المئتين فيها ظهرَ يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالكوفة، وقُتِل. وفيها في رمضان خرجَ الحسنُ بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وسببُ خروجه أنَّ محمد بن عبد الله بن طاهر لمَّا قتل يحيى بن عمر أقطعَه المستعينُ قطائعَ بطبرستان، فبعث نائبَه فحازها، وحاز معها أراضي الناس، فنفر أهل طبرستان من ذلك وشغبوا، وجاؤوا إلى محمد بن إبراهيم (¬1) العلوي، فدعوه إلى البيعة، فأبى وقال: أدلُّكم على من هو أولى مني بذلك وأحق؛ الحسن بن زيد، وهو مقيمٌ بالرَّيّ، فأرسل إليه أهل طبرستان يدعونَه، فجاء إليهم فبايعوه، وطردُوا عمَّال ابن طاهر، وجاء بمن معه إلى آمُل -وهي أولُ مدائن طبرستان- فاستولَى عليها، وجبى خراجها، وامتدَّ سلطانُه إلى الرَّيِّ وهَمَذان، وكان عامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر. وكانت المنازعةُ في أرض قريبة من الديلم، فيها غياض وشجر ومرافق لهم ولمواشيهم، ليس لأحد عليها [ملك، فحازها] (¬2) نُوَّاب ابن طاهر، فكان ذلك سببًا للفتنة. ولجأ إلى آمُل كلُّ من يريد الفتنة والنهب وغيرهم، ثم خرج الحسن يريدُ سارية، فدخلَها، وانهزم أصحابُ ابن طاهر بين يديه، ومقدَّمُهم سليمانُ بن عبد الله. وورد الخبرُ على المستعين باستيلاء الحسن بن زيد على البلاد، فبعثَ إسماعيل بن فَراشة في جيش إلى هَمَذان، وأمره بالمقام بها؛ لأنَّ ما وراءها كان مفوضًا إلى ابن طاهر. وفيها عقد المستعينُ لابنه العباس على العراق والحجاز (¬3)، فقيل له: ألَا تعهدُ إليه ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): إبراهيم بن محمد، والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 273، والكامل 7/ 131، والمنتظم 11/ 34. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. وانظر تاريخ الطبري 9/ 271 - 272، والكامل 7/ 130 - 131. (¬3) في مروج الذهب 7/ 346 أنه عقد له سنة تسع وأربعين ومئتين.

إبراهيم بن محمد

بالخلافة، فقال: لا يراني الله أولي أمورَ المسلمين صغيرًا لا يقيمُ القيام بأمور نفسه. وفيها نُفي جعفر بن عبد الواحد القاضي إلى البصرة؛ لأنَّه بعث إلى الشاكريَّة، فأفسدَهم. وفيها وثبَ أهلُ حمص بالفضل بن قارن عامل السلطان بها، فقتلوه في رجب، فوجَّه المستعين إليهم موسى بن بُغَا الكبير في رمضان، فلمَّا وصل الرستن تلقَّاه أهل حمص فيما بين حمص والرستن، فقاتلوه فهزمهم، وافتتح حمص، وقَتل فيها مقتلة عظيمة، وأحرقها، وأسر من رؤسائها جماعةً، وهدم سورها (¬1). وفيها بعث محمدُ بن طاهر من خراسان بفيلين وأصنام حُمِلت إليه من كابُل إلى سرَّ من رأى. وحجَّ بالناس جعفر بن الفضل والي مكة (¬2). وفيها توفي إبراهيم بن محمد أبو إسحاق التيميّ، قاضي البصرة. أشخصَه المتوكِّلُ إلى بغداد ليولِّيِه القضاء، وأشخص معه محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، فلمَّا حضرا بباب المتوكِّل، أمر بإدخال ابن أبي الشوارب عليه، فلما أدخل قال: إنِّي أريدُك للقضاء، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي لا أصلحُ له، فقال: ما تأتون (¬3) يا بني أميَّة إلَّا كبرًا، فقال: والله ما بي من كبر، ولكنِّي لا أصلحُ للحكم، فأمر بإخراجه، وكان هو وإبراهيم قد تعاهدا أن لا يتولَّى أحدٌ منهما القضاءَ، فُدعِيَ إبراهيم، فقال: إني أريدك للقضاء، فقال: إنِّي على شريطة، قال: وما هي؟ قال: تدعو لي دعوة، فإنَّ دعوةَ الإمام العادل مستجابة، فولاه. وكانت وفاته في ذي الحجَّة. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 276، والكامل 7/ 134 - 135، والمنتظم 12/ 35. وليس فيها ذكر هدم سورها. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 277، والكامل 7/ 135، والمنتظم 12/ 36. (¬3) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ بغداد 7/ 80، والمنتظم 12/ 37 قال: تأبون.

الحارث بن مسكين

حدث عن سفيان بن عيينة وغيره. وكان ابن أبي الشوارب يذمُّه ويقول: قاتلَه الله، باعَ آخرتَه بدنياه، ونافق. وهجره حتى مات. وكانت ولايةُ إبراهيم للقضاء في سنة تسعٍ وثلاثين ومئتين. قال المصنف رحمه الله: وإبراهيم هو الذي رَوى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "من جَعلَ نفسَه قاضيًا، فقد ذبح نفسه بغير سكين" (¬1). إلَّا أنَّه حديث ضعيف، ذكره ابنُ الجوزيّ في "الواهية" (¬2). الحارثُ بن مسكين ابن محمد بن يوسف، أبو عمرو المصري (¬3)، مولى محمد بن زبَّان (¬4) بن عبد العزيز بن مروان. ولد سنة أربع وخمسين ومئة، وكان فقيهًا على مذهب مالك. حملَه المأمون إلى بغداد في أيَّام المحنة، وقال له: قل: القرآن مخلوق، فلم يقل، فحبسَه، فلم يزل محبوسًا ببغداد إلى أيَّام المتوكِّل، فأطلقه، فحدَّث ببغداد، ورجعَ إلى مصر، فكتبَ إليه المتوكِّل بقضاء مصر، فلم يزل قاضيًا بمصر من سنة سبع وثلاثين ومئتين إلى سنة خمس وأربعين، فصُرِف عنها، وكانت وفاتُه بها في هذه السنة. رأى الليثَ بن سعد، وسأله، وسمع سفيان بن عيينة وأقرانه، وكان يجالسُ بُرْد صاحب مالك، وقعد بعَد موت بُرْد (¬5) في حلقته. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 80. (¬2) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (1261). وهو حديث حسن، انظر تتمة تخريجه في مسند أحمد (7145) و (8777). ولفظ الحديث كما في المصادر: "من جُعِلَ قاضيًا بين المسلمين فقد ذبح بغير سكين". (¬3) في (خ) و (ف): أبو عمر البصري. والمثبت من المصادر. (¬4) في (خ) و (ف): زياد. والمثبت من المصادر. (¬5) في المنتظم 12/ 38، وتهذيب الكمال 5/ 285: بُرْد بن نجيح. ولم أقف على ترجمته، وذكروا من أصحاب مالك ورواة الموطأ عنه سليمان بن بُرْد التُّجَيبي المصري، المتوفى سنة عشر أو اثنتي عشرة ومئتين. انظر ترتيب المدارك 2/ 460، فلعلَّه هو. والله أعلم.

عباد بن يعقوب الرواجني الكوفي

وكان الإمام أحمد رحمه الله وابنُ مَعين والنسائي يثنونَ عليه، ويقولون: ثقةٌ مأمون (¬1). عَبَّاد بن يعقوب الرواجِنِيُّ الكوفي سمع الكثير، وذهبَ بصرُه في آخر عمره، وكان يتشيع. قال قاسم بن زكريا المطرز: قدمتُ الكوفةَ، فكتبت عن شيوخها [كلهم غير عَبَّاد بن يعقوب، فلمَّا فرغت ممَّن سواه، دخلت عليه وكان يمتحنُ من سَمِع منه] (¬2)، فقال لي: من حفر البحر؟ قلت: الله خلق البحر، فقال: هو كذلك، ولكن من حفره؟ فقلت: يذكر الشيخ، فقال: حفره علي بن أبي طالب، ثم قال: من أجراه؟ فقلت: الله، فقال: هو كذلك، ثم قال: أجراه الحسين بن علي (¬3). قال: ورأيتُ في داره سيفًا وحَجَفةً فقلت: ما تصنع بهذا؟ قال: أقاتلُ به بين يدي المهدي. فلما أردتُ الخروج من عنده بعد ما سمعت منه وكتبت عنه، أتيتُ لوداعه، فقال: من حفر البحر؟ قلت: معاوية بن أبي سفيان، قال: ومن أجراه؟ قلت: عمرو بن العاص (¬4)، فقام إليَّ وانهزمتُ بين يديه وهو يقول: اقتُلوا عدوَّ الله الفاسق (¬5). سمع الوليد بن أبي ثور وغيره، وأخرجَ عنه البخاري في "صحيحه"، ولعلَّ البخاري لم يعلم أنه كان متشيِّعًا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 9/ 111 - 113، والمنتظم 12/ 37 - 38، وترتيب المدارك 2/ 569، وتهذيب الكمال 5/ 281 - 285، وسير أعلام النبلاء 12/ 54 - 58. (¬2) ما بين حاصرتين من المنتظم 12/ 41. (¬3) كذا في (خ) و (ف). وتمام السياق -كما في المنتظم 12/ 41 - : فقال: هو كذلك، ولكن من أجرى البحر؟ فقلت: يفيدني الشيخ، فقال: أجراه الحسين بن علي. (¬4) كذا في (خ) و (ف). وفي المنتظم: قلت: معاوية، وأجراه عمرو بن العاص. (¬5) قال الذهبي في السير 11/ 538: إسنادها صحيح. (¬6) بل إن البخاري أخرج عنه حديثًا قرن فيه آخر. سير أعلام النبلاء 11/ 537، وانظر ترجمته أيضًا في تهذيب الكمال 14/ 175 - 179.

عبد الوهاب بن عبد الحكم

عبد الوهاب بن عبد الحكم (¬1) أبو الحسن الورَّاق، صاحب الإمام أحمد. قال ابنه الحسن (¬2): ما رأيت أبي ضاحكًا قط، وما رأيته مازحَ أحدًا قط، ولقد رآني مرة وأنا أضحكُ مع أمي، فقال لي: صاحب قرآن يضحكُ هذا الضحك؟ ! وكان عابدًا مجتهدًا، وكان الإمامُ أحمد يقول: إنِّي لأدعو له، ومن (¬3) يقدرُ على ما يقدرُ عليه عبد الوهاب؟ ! هو رجل صالح موفَّقٌ لإصابةِ الحق. وقيل للإمام أحمد عند موته: من نسألُ بعدك؟ فقال: عبد الوهاب. أسند عن الإمام أحمد وغيره، وروى عنه عبد الله ابن الإمام أحمد (¬4) وغيره. قال عاصم الحربيّ: رأيتُ بشرًا الحافي فِي المنام، فقلت: يا أبا نصر، من أين أقبلت؟ قال: من عِلِّيين، قلت: ما فعلَ الله بأحمد بن حنبل؟ فقال: تركتُه الساعة هو وعبد الوهاب الورَّاق بين يدي الله يأكلان ويشربان ويتنعَّمان (¬5). الفضل بن مروان أبو العباس البَرْدَانيّ، وزير المعتصم. قدم معه دمشق، وقدمَها مع المتوكِّل، وكان يُدِلُّ على المعتصم، قدم معه دمشق، وكان يمنعُه من إطلاق الأموال، وكان يطلقها للمغاني والملاهي، فلا يمضيها الفضل، فقال الهَفْتيُّ الضحَّاك (¬6) للمعتصم: أتحسبُ أنك الخليف؟ قال: نعم، قال: لا والله، ما لك من الخلافة إلَّا الاسم، وإنَّما الخليفة الفضلُ بن مروان، فنفاه إلى ¬

_ (¬1) أورده ابن الجوزي فِي المنتظم فِي وفيات سنة 251 هـ. وقال ابن أبي يعلى فِي طبقات الحنابلة 1/ 212: وهو أثبت. وانظر مصادر الترجمة ثمة. (¬2) فِي (خ) و (ف): الحسين. والمثبت من المصادر. (¬3) فِي (خ) و (ف): ولمن. وهو تصحيف، والتصويب من المصادر. (¬4) كذا، وفي المصادر: عبد الله بن أبي داود. والله أعلم. (¬5) انظر ترجمته فِي تاريخ بغداد 12/ 283 - 286، وطبقات الحنابلة 1/ 209 - 212، والمنتظم 12/ 52 - 53، وتهذيب الكمال 18/ 497 - 501، وسير أعلام النبلاء 12/ 323 - 324، وتاريخ الإسلام 6/ 326. (¬6) كذا فِي (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري 9/ 19، وتاريخ دمشق 58/ 115: وكان مضحكًا.

السنّ (¬1)، وولَّى محمد بن عبد الملك الزيَّات، ثم عاد الفضل إلى سرَّ من رأى، فأقام بها إلى أن مات ليلةَ الجمعة لعشرٍ بقين من شوال. وكان عاقلًا فصيحًا يقول: أمعنتُ النظرَ فِي علمين، فلم أرهما يصحَّان؛ النجوم والسحر (¬2). قال المصنِّف رحمه الله: وأين هو عن الكيمياء؟ ! وهو الثالث. خرجَ الفضل يومًا، فرأى مكتوبًا على باب داره: [من الطويل] تفرعنتَ يا فضلُ بنَ مروان فاعتبر ... فقبلكَ كان الفضلُ والفضلُ والفضلُ ثلاثةُ أملاكٍ مضَوا لسبيلهم ... أبادهمُ التنكيلُ والحبسُ والقتلُ وإنَّك قد أصبحت للناس عبرةً (¬3) ... ستودي كما أودَى الثلاثةُ من قبلُ أراد الفضلَ بن الربيع، والفضل بن يحيى، والفضل بن سهل. وفيه يقول محمد بن عبد الله التيمي (¬4): [من البسيط] لا تغبطنَّ أخا دنيا بمقدرةٍ ... فيها وإن كان ذا عزٍّ وسلطانِ يكفيك من حادثاتِ الدهرِ ما فعلتْ ... يدُ الحوادث بالفضلِ بن مروانِ إنَّ الليالي لم تُحسن إلى أحدٍ ... إلَّا أساءت إليه بعد إحسانِ العيشُ حلوٌ ولكن لا قاءَ له ... جميعُ ما الناسُ فيه زائلٌ فانِ وقال الفضل: مضيتُ مع المعتصم عليّ بن عاصم أسمعُ عليه، وكان المعتصمُ أميرًا فقال: حدثنا عمرو بن عُبيد، وكان قدريًّا، قال الفضل: فقلتُ له: فإذا كان قدريًّا فلِمَ ترو عنه؟ فالتفتَ إلى المعتصم، وقال: هذا كاتبك يَشْغَبُ علينا، فقال له المعتصم: يا أبا الحسن، أليس القدريَّة مجوس هذه الأمة (¬5)؟ قال: بلى، قال: فلم ¬

_ (¬1) فِي (خ) و (ف): السند، وهو تصحيف. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 20، وتاريخ دمشق 58/ 116. والسن قرية فِي طريق الموصل. (¬2) تاريخ دمشق 58/ 114. (¬3) فِي تاريخ دمشق 58/ 117: لعبة، وفي وفيات الأعيان 4/ 45: ظالمًا. (¬4) كذا فِي (خ) و (ف). وفي تاريخ دمشق 58/ 118: محمد بن عبيد الله العروضي. (¬5) أخرجه أبو داود (7602) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

نصر بن [علي بن] نصر

تروِ عنه؟ قال: لأنَّه صدوقٌ ثقة. قال المعتصم (¬1): فلو كان المجوسيُّ ثقةً أتروي عنه؟ ! فقال له عليّ: يا أبا إسحاق، أنتَ شَغَّابٌ أيضًا (¬2). نَصْر بن [علي بن] نصر ابن علي بن صُهْبان (¬3)، أبو عمرو، الجَهْضَميّ، البصريّ. قدمَ بغداد، فروى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخذَ بيد الحسن والحسين وقال: "من أحبَّني وأحبَّ هذين وأباهما وأمَّهما كان معي فِي درجتي يوم القيامة" (¬4). فأمرَ المتوكِّل أنْ يضربَ ألفَ سوط؛ ظنًّا منه أنَّه كان رافضيًّا، وكلَّمه فيه جعفر بن عبد الواحد القاضي، وقال: هذا الرجلُ من أهل الصلاح والسنَّة، يردِّدها، فتركه. وقال نصر: كان لي جارٌ طفيليّ، فكنتُ إذا دُعيت إلى مَدعاةٍ ركب لركوبي، فإذا جلسنا أُكرِم من أجلي، فاتَّخذ جعفر بن سليمان أميرُ البصرة دعوةً، ودعاني، فقلت فِي نفسي: والله لئن جاء هذا الطفيليُّ لأخزينَّه اليومَ، فجاء بين يديَّ، ودخلنَا، فأكرم من أجلي، فلمَّا أن حضرت المائدة، قلت: حدثنا دُرُسْت بن زياد، عن أبان بن طارق، ¬

_ (¬1) كذا فِي (خ) و (ف)، ولعلها: قال المعتصم. (¬2) كذا وقع سياق الخبر فِي (خ) و (ف) وفيه اضطراب، وأنا أسوق لك الخبر كما جاء فِي الكفاية فِي علم الرواية للخطيب ص 200، وتاريخ دمشق 58/ 113: قال الفضل بن مروان: كان المعتصم يختلف إلى علي بن عاصم المحدث، وكنت أمضي معه إليه، فقال يومًا: حدثنا عمرو بن عبيد، وكان قدريًّا، فقاله له المعتصم: يا أبا الحسن، أما يروى أنَّ القدرية مجوس هذه الأمة؟ قال: بلى، قال: فلم تروي عنه؟ قال: لأنه ثقة فِي الحديث صدوق، قال: فإن كان المجوسيُّ ثقةً فما تقول؟ أتروي عنه؟ ! فقاله علي: أنت شغاب يا أبا إسحاق. (¬3) فِي (خ) و (ف): ظبيان. والتصويب وما سلف بين حاصرتين من المصادر. (¬4) أخرجه الترمذي (3733)، وعبد الله بن أحمد فِي زوائده على المسند (576). قال الذهبي فِي السير 12/ 135: هذا حديث منكرٌ جدًّا ... وما فِي رواة الخبر إلَّا ثقة، ما خلا علي بن جعفر، فلعلَّه لم يضبط لفظ الحديث، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من حبه وبث فضيلة الحسنين ليجعل كلَّ من أحبهما فِي درجته فِي الجنّة، فلعله قال: فهو معي فِي الجنّة. وقد تواتر قوله عليه الصلاة والسلام: "المرء مع من أحب" ونصر بن علي، فمن أئمة السنة الأثبات. اهـ.

عن نافع، عن ابن عمر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مشى إلى طعامٍ لم يُدْعَ إليه، دخلَ سارقًا وخرج مغيرًا" (¬1). فقال الطفيليّ: مِثْلُكَ يا أبا عمرو يتكلَّم بهذا الكلام على مائدة الأمير (¬2)! وليس هاهنا إلَّا من يظنُّ أنَّك رميتَه بهذا الكلام، ثم لا تستحي وتروي عن دُرُست، ودُرُسْت كذَّاب لا يحتجُّ بحديثه عن أبان بن طارق، وأبان كان صبيانُ المدينةِ يلعبونَ به، ولكن [أين] أنت ممَّا حدثنا به أبو عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "طعامُ الواحد يكفي الاثنين، وطعامُ الاثنين يكفي الأربعة" الحديث (¬3). قال نصر: فكأنِّي أُلقِمتُ حجرًا، فلمَّا خرجنا من الدار أنشدَ الطفيليّ: [من المتقارب] ومن ظن ممَّن يلاقي الحروب ... بأنْ لا يُصَاب فقد ظنَّ عجزا (¬4) قال نصر: دخلتُ على المتوكِّل وإذا هو يمدحُ الرفق فأكثر، فقلت: يا أمير المؤمنين أنشدني الأصمعي: [من السريع] لم أرَ مثل الرفقِ فِي لينهِ ... أخرجَ للعذراءِ من خِدْرِهَا مَن يستعن بالرفق فِي أمرِه ... يستخرجُ الحيَّةَ من جُحْرها فقال: يا غلام، الدواةَ والقرطاس، فكتبها بيده (¬5). وقال أبو بكر بن أبي داود: كان المستعينُ قد بعثَ إلى البصرة ليشخص نصر بن علي إلى القضاء، فدعاه أميرُ البصرة، فأخبره بذلك، فقال: أرجعُ وأستخيرُ الله، فرجعَ إلى بيته نصف النهار، فصلَّى ركعتين وقال: اللهمَّ إنْ كان لي عندك خيرٌ فاقبضني إليك، ¬

_ (¬1) أخرجه القضاعي فِي مسند الشهاب (527) من طريق نصر بن علي بن جهضم، وأخرجه أبو داود (3741)، والقضاعي (528) من طريق مسدد عن درست ... قال أبو داود: أبان بن طارق مجهول. (¬2) فِي (خ) و (ف): أمير المؤمنين، والمثبت من المنتظم 12/ 39، والخبر فيه. (¬3) أخرجه بهذا الإسناد الدارمي (2044)، وابن حبان (5237)، وأخرجه مسلم فِي صحيحه (2059) بعدة أسانيد. وانظر تتمة تخريجه فِي مسند أحمد (14222). (¬4) المنتظم 12/ 38 - 39. والبيت للخنساء، وهو فِي ديوانها ص 82. (¬5) تاريخ بغداد 15/ 390 - 391، والمنتظم 12/ 39 - 40.

يحيى بن عمر

فنامَ، فأنبهوه فإذا هو ميت (¬1). وذلك فِي أحد الربيعين. سمع سفيانَ بن عيينة وغيره، وروى عنه عبد الله ابن الإمام أحمد، وروى عنه مسلم فِي "صحيحه" فِي آخرين، واتَّفقوا على ثقته وزهده وعدالته ودينه، رحمة الله عليه (¬2). يحيى بن عمر ابن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكنيتُه أبو الحسن، وأمُّه أمُّ الحسين فاطمةُ بنتُ الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، الخارج بالكوفة فِي هذه السنة. وسببُ خروجه أنَّه نالته ضائقةٌ شديدةٌ، ولزمه دين ضاقَ به ذَرْعًا، فلقي عمر بن فرج الرُّخَّجي، وهو متولي أمر الطالبيين فِي أيام المتوكِّل، فكلَّمه فِي رزقه وصلته، فأغلظ له الرُّخَّجي، فقذفه يحيى، فحبسَه، ثم كفلَهُ أهلُه، فأطلقَه، فخرج إلى بغداد، [فأقام] (¬3) بها فِي حال سيئة، ثمَّ قدم سامرَّاء، فلقيَ وصيفًا، فطلبَ منه رزقَه، فأغلظَ له وجبهَه بالرد، فخرجَ إلى الكوفة، وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان الهاشميّ عاملًا عليها من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر، فجمعَ يحيى جمعًا كثيرًا من الأعراب، وانضمَّ إليه جماعةٌ من أهل الكوفة، ونزل الفلوجة، وكتب صاحب البريد إلى محمد بن طاهر بخبره، فكتب ابنُ طاهر إلى أيوب بن [الحسن و] عبد الله بن محمود السرخسيّ -[و] كان عامل ابن طاهر على معاون السواد - يأمرهما بمحاربته، وكان على خراج الكوفة زيد بن الأصبغ، فِي سبعة آلاف فارس (¬4)، فدخل الكوفة، وأخذَ ما فِي بيت المال، وفتح السجون، وأطلق من فيها، فلقيه عبدُ الله بن محمود فِي الشاكرية، فحمل عليه يحيى فضربه ضربةً، أثخنه، فانهزمَ ابن محمود وأصحابه، وغنم يحيى ما كان معه من المال والدواب. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 392، والمنتظم 12/ 40. (¬2) انظر ترجمته أيضًا فِي تهذيب الكمال 29/ 355 - 361، وسير أعلام النبلاء 12/ 133 - 136. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 266 - 267. (¬4) كذا فِي (خ) و (ف). وفي العبارة سقط وخلل وتحريف. وتمام العبارة كما فِي تاريخ الطبري 9/ 267: وكان على الخراج بالكوفة بدر بن الأصبغ، فمضى يحيى بن عمر فِي سبعة نفر من الفرسان إلى الكوفة.

ثم خرج يحيى من الكوفة ومعه جماعةٌ من الزيدية، وجاءه الأعراب وأهل الطُّفوف، وأقام بمكان يقال له: البستان، واستفحل أمرُه، فبعث إليه محمدُ [بن عبد الله] (¬1) بن طاهر الحسينَ بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب فِي جماعةٍ من القوَّاد والخراسانيين، فجاؤوا، فنزلوا بمقابلة يحيى، ثمَّ سار يحيى نحو السِّيب، ثم عاد إلى الكوفة، وعسكرُ ابن طاهر يتبعه، فلمَّا دخل الكوفة اجتمعتْ إليه الزيديَّة، ودعا إلى الرضا من آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأحبَّه الناسُ وبايعوه. ونزل الحسين بن إسماعيل بمكان يقال له: شاهي، قريبًا من الكوفة، وجاءتهم الأمداد والميرة والأموال، ويحيى بالكوفة يشحذُ الأسلحة ويهيِّئُ آلة الحرب، فقال له جماعةٌ من الزيديَّة ممن لا علم لهم بالحرب: اخرج إلى الحسين قبلَ أن يقوى عليك، ووافقهم عوامّ أصحابه على ذلك، فزحفَ إليهم من ظهر الكوفة من وراء الخندق ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب، ومعه فرسان بني عِجْل، يقدمهم الهَيضَم العِجليّ، وفرسان بني أسد ورجاله من أهل الكوفة، فأدلجوا ليلتهم، وصبَّحُوا الحسينَ، وأصحابُه مستعدُّون مستريحون، وقد كلَّ أصحابُ يحيى من السهر، ومعظمُهم عراة، فحملَ عليهم أصحابُ الحسين فانهزموا، وكان تحت يحيى برذون فتقَطّر (¬2) به، واجتمع جماعةٌ فقتلُوه وذبحوه، وبعثُوا برأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وادَّعى قتلَه جماعةٌ. وورد الرأسُ على ابن طاهر، وقد تغيَّر (¬3)، فأمر بتقويره، فقُوِّرَ، وأخرج دماغه وعيناه، وحُشي بالصَّبِر والكافور، وبُعِثَ به إلى المستعين، فنصبَه بباب العامَّة بسامراء ساعة، ثم أمر بردِّه إلى بغداد، فنصب على [باب] الجسر (¬4). وقيل: لم يقدروا على نصبه لكثرة ما اجتمعَ من الناس، فدفن فِي قصر باب الذهب. واجتمع بنو هاشم وفيهم جماعةٌ من الطالبيين إلى ابن طاهر ليهنونه بالفتح، وعنده ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 267. (¬2) فِي (خ) و (ف): تقنطر. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 269، وتقطَّر أي: نفر. القاموس (قطر). (¬3) فِي تاريخ الطبري 9/ 269: تغبَّر. (¬4) فِي (خ) و (ف): الحسين. وفوقها فِي (خ): كذا. والمثبت وما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 270.

داود بن الهيثم (¬1) الجعفري من ولد جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيُّها الأمير، إنَّك لتهنَّأ بقتل رجلٍ لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيًّا لعُزِّيَ به، فما ردَّ عليه محمدٌ شيئًا، فخرج الجعفري وهو يقول: يا بني طاهرٍ كلُوه وبيًّا (¬2) ... إنَّ لحمَ النبيِّ غيرُ مَريِّ إنّ وتْرًا يكونُ طالبُه الله ... لوتْرٌ نجاحهُ بالحريِّ وقال المعلَّى بن أيوب: إنَّ آلَ طاهر تولَّغوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله لا بقيتْ منهم بقيَّة، ولا دامت لهم نعمة، فلم تمض إلَّا مدَّةٌ يسيرةٌ حتَّى خرجت خراسان من أيديهم، ومات محمدُ بن طاهر وزالت أيامه. * * * ¬

_ (¬1) كذا فِي (خ) و (ف) ونسخة كما فِي هامش تاريخ الطبري. وفي تاريخ الطبري 9/ 275، ومروج الذهب 7/ 331: داود بن القاسم. وهو الصواب. وانظو ترجمته فِي تاريخ بغداد 9/ 341. (¬2) فِي الكامل 7/ 129: وبيئًا.

السنة الحادية والخمسون بعد المئتين

السنة الحادية والخمسون بعد المئتين فيها اضطربت أمورُ المستعين، وسببُه قتلُ باغر التركيّ قاتل المتوكل، واضطرابُ أمر الأتراك، وكان باغر قد أُقطِعَ بسواد الكوفة ضياعًا، وكان له كاتبٌ يهوديٌّ، فجارَ على أهل تلك الناحية، فنهاه رجلٌ يقال له أحمد بن مَارِمَّة، فحبسَه اليهوديّ (¬1)، فهرب من الحبس إلى سامرّاء، فلقي دُلَيل بن يعقوب النصرانيّ كاتب بُغَا الشرابي وصاحب أمورِ العساكر، فاستجارَ به ابن مَارِمَّة، فأجاره، وكان باغر أحدَ قواد بغا، فمنع دليل باغر من ظلمه، فأوغر صدره، وكان بغا والموالي يتوقَّونَ شرَّ باغر، فجاء باغر وهو سكران إلى بغا وهو فِي الحمام، فأغلظَ له وقال: والله ما من قتل دُليل النصراني بُدّ، فخاف منه بغا فقال: لو أردتَ قتل ابني فارس لما منعتك، ولكن أمري وأمر الخلافة والعساكر إلى دليل، فاصبر حتَّى أبصر لمكانه إنسانًا يقوم بأمره، وافعل به ما شئت، وأرسل بغا إلى دُلَيل فأمرَه أن لا يظهر، فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز فاستكتَبه مكان دُلَيل، فرضي باغر بعزل دُلَيل، وما زال بغا حتَّى أصلح ما بين باغر ودُلَيل، وفي قلب باغر ما فيه، ثمَّ تلطَّف باغر، ولزم خدمة المستعين فِي الدار، وكره المستعين مقامه عنده، فقال لوصيف: أيُّ شيءٍ كان إلى إيتاخ من العمل؟ فقال: كذا وكذا، فقال: ولُّوه لباغر، وكانت تلك الأعمال إلى بغا، وبلغ دُليلًا، فأرسلَ إلى بغا يقول: أنتَ فِي دارك وهم فِي تدبير عزلك عن أعمالك، ما بقيَ بعده إلَّا أن يقتلوك، فجاء بغا إلى وصيف وقال: أردت أن تزيلَني عن مرتبتي، وتصيِّر باغر مكاني، وهل باغر إلَّا عبدٌ من عبيدي، فقال وصيف: ما عملتُ إلَّا ما أراد الخليفة من ذلك (¬2)، فتعاهد بغا ووصيف على محنة باغر. وكان المستعين خائفًا منه، فأمر من أرجف باغر بالإمرة، وأن يُضَاف إليه جيشٌ ¬

_ (¬1) كذا فِي (خ) و (ف). وسياق الخبر كما فِي تاريخ الطبري 9/ 278: أن باغر أقطع قطائع ... فتضمَّن تلك الضياع التي أُقطعها باغر هنالك من كاتب كان لباغر يهوديُّ بألفي دينار فِي السنة، فعدا رجل بتلك الناحية يقال له: ابن مارمَّة على وكيل لبغا هنالك، فتناوله أو دسَّ إليه من تناوله، فحبس ابن مارمة ... (¬2) كذا فِي (خ) و (ف) وفي تاريخ الطبري 9/ 279: ما علمتُ ما أراد الخليفة من ذلك، وانظر الكامل 7/ 138.

كثير، ودافعه، فأحسَّ بالمكر به، فبايع الذين ساعدوه على قتل المتوكل وغيرهم على قتل المستعين وبغا ووصيف، وأنَّهم يولُّون عليَّ بن المعتصم أو ابن الواثق، وتصير الدنيا لهم. وبلغ المستعين من امرأة كانت لباغر فطلَّقها، فبعث المستعين إلى بغا ووصيف، فقال لهما: أنا ما سألتُكما أن تجعلاني خليفة، أنتما فعلتما ذلك، وتريدان أنتما والموالي تقتلوني، وأخبرهم الخبر، فحلفا بالله ما علمنا بشيء من ذلك. ثمَّ أرسلا إلى باغر وجماعة من الأتراك، فأحضروهم إلى دار بغا، وعدلوا بباغر فحبسوه فِي حمَّام، وبلغ الأتراك، فنهبوا دارَ المستعين، وحصرُوا الجوسق بالسلاح، فقال لرشيد بن سعاد (¬1): أقتل باغر، فدخل عليه فِي عدَّةٍ من أصحابه، فشدخوه بالطبرزينات، وقتلوه شرَّ قتلة، ونزل المستعينُ وبغا ووصيف وشاهك الخادم وأحمد بن صالح بن شيرزاد فِي حَرَّاقة (¬2) إلى بغداد، وهاج الأتراك ووقعَ النهب بسامراء، ونهبت الدور، فقال أحمد بن الحارث اليمامي: [من المتقارب] لعمري لئن قَتلوا باغرًا ... لقد هاجَ باغرُ حربًا طحونَا وفرَّ الخليفةُ والقائدانِ ... بالليلِ يلتمسانِ السفينَا وصاحُوا بمَيسَانَ ملَّاحِهم ... فجاءهُمُ يَسبِقُ الناظرينَا فألزَمهم بطن حرَّاقةٍ ... فصرَّت مجاذيفهم سائرينَا وما كان قدرُ ابنِ مارمَّةٍ ... ليكشف (¬3) فيه الحروبَ الزَّبونَا ولكن دُليلٌ سعَى سَعْيَةً ... فأخزى الإلهُ به العالمينا فليتَ السفينةَ لم تأتِنا ... وغرَّقها اللهُ والراكبينا من أبيات. وهرب ابن مَارِمَّة ودُليل إلى بغداد، فمرض ابن مارمَّة، فعاده دُليل، فقال له: ما مرضك؟ فقال: القيد الَّذي قيدني به اليهوديُّ قد انتقضَ عليَّ مكانُه، فقال له دُليل: لئن ¬

_ (¬1) فِي (خ) و (ف): لرشد بن رشدس. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 280 ورشيد بن سعاد ابن أخت وصيف. (¬2) الحراقات: سفنٌ بالبصرة فيها مرامي نيران يرمى بها العدو. القاموس (حرق). (¬3) كذا فِي (خ) و (ف)، وفي تاريخ الطبري 9/ 281: فتكسب. وفي الكامل 7/ 140: فنكسب.

ذكر بيعة المعتز البيعة الأولى

عقركَ القيدُ، لقد نقضتَ الخلافةَ، وأثرت فتنة عظيمةً. ومات ابن مارمَّة فِي تلك الأيام. ولمَّا نزل المستعين بغداد تلقَّاه محمد بن [عبد الله بن] طاهر وقبَّل الأرض بين يديه، وقال: أنا العبد الأصغر، وأنزلَه فِي داره، وذلك يوم الأربعاء لأربع خلون من المحرم. ونزل وصيف وبغا وبعضُ الترك، فدخلوا على المستعين، وتذلَّلوا وخضعوا، وسألوه العفوَ عنهم، فقال لهم: أنتم أهلُ بغي وفساد، وبَطَرٍ وظلم، وأَشَرٍ واستقلالِ النعم، ألم ألحق أولادكم بكم فِي العلاء (¬1)؟ وهم نحو ألفي غلام، وألحقت بناتكم بالمتزوِّجات؟ وهنَّ نحو من أربعة آلاف امرأة، وفعلتُ معكم وفعلت، وأنتم تزدادون بغيًا وفسادًا وتهدُّدًا. فبكوا وتضرَّعوا وقالوا: أخطأنا ونسأل العفوَ عنا، فقال: قد صفحتُ عن زلَّتكُم، وعفوتُ عنكم، فقالوا: إن كنت قد عفوتَ عنَّا فاركب معنا إلى سامراء، فإنَّ الأتراكَ ينتظرونَك، فقال لهم محمد بن [عبد الله بن] طاهر: هكذا تقولون لأمير المؤمنين: قم فاركب معنا! فضحكَ المستعين وقال: هؤلاء قومٌ عجمٌ ليس لهم معرفةٌ بحدود الكلام، وقال لهم المستعين: ارجعوا إلى سامراء حتَّى أنظرَ فِي أمري وأعود، فانصرفوا يائسين منه، وأجمعوا على إخراج المعتزّ من الحبس، وأن يبايعوه، وكان المعتزُّ والمؤيَّد فِي الجَوْسَق فِي حجرةٍ صغيرة محبوسَين (¬2). ذكر بيعة المعتز البيعة الأولى ولمَّا عادُوا من بغداد أخرجوا المعتز، وبايعوه بعد انحدار المستعين إلى بغداد بثمانية أيام، وكان المستعين لمَّا خرج من سامراء خلَّفَ فِي بيت المال خمس مئة ألف دينار، وفي بيت مال أمه ألف ألف دينار، فأخذَها المعتزُّ وفرَّقها فِي الأتراك، ثمَّ بايعوا المعتزَّ، ومن بعده لأخيه إبراهيم المؤيَّد، وأكَّدُوا العهودَ على الناس وعلى المعتزِّ لأخيه المؤيَّد، وكان فيمن حضَر البيعةَ أبو أحمد بن الرشيد محمولًا فِي مِحَفَّة (¬3)؛ لأنَّه كان به نِقْرِس، فامتنعَ وقال للمعتز: خرجت إلينا خروجَ طائع فخلعتَها، وزعمتَ أنك لا تقومُ بها، ثُمَّ تقول اليوم: بايعوني، فقال المعتز: أكرهتُ وخفتُ السيف، فقال ¬

_ (¬1) كذا فِي (خ) و (ف). ولعلها: العطاء. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 283 - 284، وما سلف من حاصرتين منه. (¬3) المحفَّة: مركب للنساء كالهودج، إلَّا أنها لا تقبب.

أبو أحمد: ما علمنا أنك أُكرهت، وقد بايعنا هذا الرجل، فتريدُ أن نطلِّقَ نساءَنا، ونخرجَ من أموالنا، ولا ندري ما يكون! فتراني على أمري حتَّى تجتمع الناس، وإلَّا فهذا السيف، فقال المعتز: دعوه على حاله، ورُدُّوه إلى منزله، فردُّوه من غير بيعة (¬1). وكانت هذه البيعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم (¬2)، واستوزرَ المعتزُّ جعفر بن محمد بن محمود (¬3) الإسكافي، وجعل سعيدَ بن صالح على الشرطة، وجعفرَ بن دينار على الحرس. وأقامَ المستعين ببغداد لا أمرَ له، والأمرُ لبغا ووصيف فقال شاعر: [من مجزوء الكامل] خليفةٌ فِي قفص ... بين وَصِيف وبُغَا يقول ما قالا له ... كما تقول الببغَا (¬4) ولمَّا اتصلَ بمحمد بن عبد الله بن طاهر [خبر] البيعة للمعتز قطعَ الميرةَ عن سامرَّاء، وكتبَ إلى مالك بن طوق وهو بالرحبة بالقدوم بأهله ومن معه إلى بغداد، وكتب إلى سليمان بن عمران المَوْصلي يمنع الميرةَ من الموصل إلى سرَّ من رأى، وأمر المستعين محمد بن طاهر بتحصين بغداد، فأدير عليها السور من الشماسية إلى سوق الثلاثاء، وحفر عليها الخنادق، وسلَّم كل بابٍ إلى قائد، فبلغت النفقة على ذلك ثلاثَ مئة ألف دينار وثلاثينَ ألف دينار، ونصبَ عليها المجانيق والعرَّادات، واستعدَّ للحصار. ثمَّ جرت المكاتباتُ والمراسلات بين المعتزّ وابن طاهر يدعوه إلى الدخول فيما دخلَ فيه الجماعة، ويذكر له خلعَ المستعين، وما أخذَ عليه المتوكل من العهود بأنَّ المعتزَّ هو الخليفة من بعد المنتصر، فما أجابه ابن طاهر، وكتبَ ابن طاهر إلى الأتراك ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 286، والمنتظم 12/ 43، والكامل 7/ 143. (¬2) انظر تاريخ بغداد 2/ 489. (¬3) كذا فِي (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري 9/ 287، 388، وتاريخ الإسلام 6/ 307، والوافي بالوفيات 11/ 152: جعفر بن محمود. وفي مروج الذهب 7/ 379: جعفر بن محمد. (¬4) مروج الذهب 7/ 325.

ذكر تجهيز المعتز العساكر إلى قتال المستعين

بسامراء يأمرهم بنقض بيعة المعتزّ والوفاء للمستعين بما بايعوه عليه، فلما رأى ذلك أمر بكسرِ القناطر والجسور وبثق المياه حول البلد فِي طريقهم. وكتب كلُّ واحدٍ من المستعينِ والمعتز كتابًا إلى موسى بن بغا -وكان مقيمًا بأطراف الشام قد انفصلَ عن حمص ومحاربة أهلها (¬1) - يأمره بأن يصير إليه، ويَعِدُهُ الولايات والإقطاعات، فمال إلى المعتز، وقدمَ عليه بسرَّ من رأى، ثمَّ قدم عبد الله بن بغا الصغير على أبيه ببغداد، واعتذر إليه من تأخُّره عنه، واحتجَّ بحجَّةٍ، فقبلَ ذلك منه أبوه، وأقام أيَّامًا، ثم عاد إلى سرَّ من رأى مخالفًا لأبيه، وقال للمعتز: إنما صرتُ إلى بغداد لأعرفَ أخبارهم، فصدَّقَه المعتزّ، وأحسن إليه. وقدم الحسنُ بن الأفشين بغداد على المستعين، فسر إليه (¬2)، وضمَّ إليه من الأشروسنة وغيرهم، وقدمَ أيضًا أسد بن داود سياه، وجماعةٌ من القوَّاد على المستعين، وجهز المستعين العساكر إلى بغداد. ذكر تجهيز المعتز العساكر إلى قتال المستعين لما كان يوم السبت لسبعٍ بقين من المحرَّم عقد المعتز لأخيه أبي أحمد بن المتوكل على حرب [ابن] (¬3) طاهر والمستعين، وجهَّزه فِي جيشٍ كثيف، وجعل التدبير إلى كلباتكين التركي، فعسكرَ بالقاطول فِي خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة، وألفين من المغاربة، ومقدَّمهم محمدُ بن راشد المغربيّ، فنزلوا عُكْبَرَا ليلة الجمعة لليلةٍ بقيت من المحرَّم، وصلى بها أبو أحمد الجمعة، ودعا للمعتزِّ بالخلافة، وكتب إليه بالفتح، وهربَ الناس منهم ما بين بغداد وعُكْبَرَا وسائر القرى من الجانب الغربيّ؛ خوفًا على أنفسهم، وتركوا الضياع والغلَّات والأمتعة، فنهبت، وهدمتِ المنازل، وقطعت الطرق. وهرب جماعةٌ من أصحاب بغا الشرابيّ إليهم، فأكرمَهم أبو أحمد، وجاء أبو أحمد بعسكرِه فنزل بباب الشمَّاسيَّة، وذلك فِي ليلة [الأحد] (¬4) لسبعٍ خلونَ من صفر. ¬

_ (¬1) كذا فِي (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري 9/ 289: وكان خرج إلى حمص لحرب أهلها. (¬2) فِي تاريخ الطبري 9/ 290، والكامل 7/ 145، والمنتظم 12/ 44: فخلع عليه. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 290. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 291.

ولثلاث عشرة خلت منه جاء لابن طاهر جاسوس، فأخبره أنَّ أبا أحمد يريدُ أن يحرق ظلال الأسواق من جانبي بغداد، فأمر بها فكُشِطَتْ. وقيل: إنهم جَدُّوا فِي القتال من باب الشمَّاسيَّة إلى سوق الثلاثاء، ومن قنطرة الحربية إلى الصراة، ثم تأخروا إلى القُفص. والأصحُّ أنهم أقاموا من غير قتالٍ إلَّا مناوشات، ثم جدُّوا فِي القتال من منتصف صفر، فقُتِل من الفريقين فِي ذلك اليوم أربع مئة، من كلِّ فريق مئتان، وكثُرت الجراحات فيهم، وكانت الغوغاء تقاتلُ أعظمَ من الجند بالمجانيق والمقاليع، والمعتزُّ يردفُهم بالعساكر والأموال. ولمَّا كان فِي اليوم السادس عشر من صفر -وقيل: يوم الأربعاء لليلةٍ بقيت منه- وجَّه محمدُ بن طاهر عسكرًا إلى باب القطيعة، وجعل كمينًا، وجاءَ أصحاب أبي أحمد وقُتِل منهم ألفان، وأخذ ما كان معهم من متاعٍ وأموالٍ ودوابّ وأسرى، وجُعلت رؤوسهم فِي الزواريق، وأُخِذت أعلامُهم وطبولهم، وغرقَ منهم ألفان (¬1)، وانهزمَ الباقون إلى سامرَّاء، وخلعَ ابن طاهر على المُقَدَّمين، وسوَّرهم، وطوَّقهم أطواق الذهب. وفرحَ المستعين وأمر أن يكتب كتاب بالنصر وعدَّةِ القتلى، ويقرأ فِي نواحي بغداد، ودعا فيه لمحمد بن طاهر. وهدم ابنُ طاهر ما كان بباب الشماسيَّة وراءَ السور من الدور والحوانيت، وقطع البساتين؛ ليتَّسع للخيل مجال (¬2). ولمَّا جرى على عسكر المعتزِّ ما جرى نهب العوامُّ أسواقَ سامرَّاء وحوانيتَها (¬3). وفي يوم الاثنين لستٍّ بقين من صفر قدم بغداد إسماعيلُ بن فراشة من ناحية همذان فِي ثلاث مئة فارس، وقدم معه رسولُ المعتزّ يأمرُه بالبيعة، فقيَّد ابنُ فراشة الرسول، وصحبَه إلى بغداد، وحملَه على بغلٍ بإكاف (¬4)، فخلع ابنُ طاهر على ابن فراشة عدَّة خلع. ¬

_ (¬1) كان عسكر الأتراك أربعة آلاف، قتل منهم ألفان، وغرق من غرق، وأسر منهم جماعة. انظر تاريخ الطبري 9/ 295 - 296. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 303. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 305. (¬4) فِي تاريخ الطبري 9/ 306: بلا إكاف.

ولليلةٍ بقيت من صفر جاء الأتراكُ والمغاربة إلى أبواب بغداد من الجانب الشرقيّ، فأغلقتْ فِي وجوههم، ورُموا بالسهامِ والمجانيق وقتل من الفريقين جماعةٌ ورَجعوا. وفي ربيع الأوَّل جاء عسكرٌ من سامرَّاء، فخرجَ إليهم محمدُ بن طاهر فِي قوَّاده واقتتلوا، وما زالوا كذلك إلى نصف رجب، وضاق ببني هاشم الحال (¬1)، وانقطعت أرزاقُهم، فجاؤوا إلى دار ابن طاهر، فشتموه، وصاحوا بالمستعين: إن لم تدفع إلينا أرزاقَنا، وإلَّا فتحنَا الأبوابَ لأصحاب المعتزّ، فأرسلَ إليهم من لطف بهم، ووعدهم الخيرَ، فسكتوا. وفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان نقبَ الأتراكُ سور باب الأنبار، وأحرقوا الباب، وما كان عليه من المجانيق والعُدد، فركب ابنُ طاهر وبُغَا ووصيف، والتقوا، فهزموا الأتراكَ، وسدُّوا باب الأنبار بالجصِّ والآجر (¬2). وفيها كتب المعتز إلى أبي أحمد يلومه على تأخُّره عن القتال، ويأمره بالجدِّ، فكتب إليه أبو أحمد: [من المتقارب] ليوم المنايا علينا طريقُ ... وللدَّهر فيه اتِّساعٌ وضيقُ وأيَّامنا عِبَرٌ للأنام ... فمنها البكورُ ومنها الطُّروقُ ومنها هَنَاتٌ تشيبُ الوليدَ ... ويَخذلُ فيها الصدوقَ [الصديقُ] (¬3) وبلدةُ حصنٍ لها (¬4) ذِرْوةٌ ... تفوتُ العيونَ وبحرٌ عميقُ قتالٌ مبيدٌ وسيفٌ عتيدٌ ... وخوفٌ شديدٌ وحِصْنٌ وثيقُ وطولُ صياحٍ لداعي الصباح الـ ... ـسلاحَ السلاحَ فما يستفيقُ فهذا قتيلٌ وهذا جريحٌ ... وهذا حريقٌ وهذا غريقُ وهذا [قتيلٌ] (¬5) وهذا تليل ... وآخر يشدخُه المنجنيقُ ¬

_ (¬1) فِي (خ) و (ف): الجبال. وانظر تاريخ الطبري 9/ 327. (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 330 - 331. (¬3) فِي تاريخ الطبري 9/ 316: الصديق الصديق. وما بين حاصرتين منه. (¬4) فِي تاريخ الطبري: وسور عريض له. (¬5) مكانها فِي (خ) و (ف) بياض. والمثبت بين حاصرتين من تاريخ الطبري.

هُناكَ اغتصابٌ وثَمَّ انتهابٌ ... ودُوْرٌ خرابٌ وكانت تَرُوقُ إذا ما سمونا إلى مسلكٍ ... وجدناه قد سُدَّ عنا الطريقُ فبالله نبلغُ ما نرتجيهِ ... وبالله ندفعُ ما لا نطيقُ وقيل: إنَّ هذه الأبيات لعليِّ بن أميَّة فِي فتنة المأمون (¬1). وفي ذي القعدة كانت بينهم وقعةٌ عظيمة وكان أبو أحمد قد نزل بباب الشماسيَّة وأخرب ما حوله، وجدَّ فِي القتال، فسألَهم ابنُ طاهر الموادعةَ لينظر فِي الأمر، فأجابه أبو أحمد، وبطل القتال، وأبواب بغداد مغلقةٌ، ولم يزل أمرُ بغدادَ يضعفُ، وأمرُ الأتراك يشتدُّ؛ لأنَّ الميرةَ كانت تأتيهم من كلِّ مكان، فصاح أهلُ بغداد: إمَّا القتال، وإمَّا فتح الأبواب، فلم يجابوا، فصاحوا: الجوع الجوع، وكاتب المعتزُّ محمد بن طاهر يرغِّبه ويرهِّبه، وبعثَ إليه أبو أحمد بهدايا كثيرة، وعلمت العامة فجاؤوا إلى باب ابن طاهر فقاتلوه، وقُتل بينهم قتلى، وأرادوا نهبَ داره، وكان المستعين نازلًا بها، فأرسل إليه ابنُ طاهر يسألُه أن يُكلِّم العوامّ، فاطَّلع إليهم وقال: كفُّوا، ثم أصبحوا إلى دار ابن طاهر فقاتلوه وقالوا: قد واطأت الأتراكَ والمعتزَّ على خليفتنا وراسلتَهم وراسلوك، وتريدُ أن تحكِّمَ الأتراكَ فِي حريمنا وأموالنا، ونحن لا نأمنُك على خليفتنا، انقله من دارك، فقال له المستعين: لا آمنُ عليك الغوغاء، انقلني من دارك، قال: بسم الله، فركب المستعين من داره وخرج ومحمدٌ بين يديه بالحربة؛ لأنَّه كان صاحب الشرطة، والقوَّادُ يمشون خلفه، إلى دار رزق الخادم بالرُّصَافة -وقيل: إلى دار عمَّته أم حبيب بنت هارون الرشيد- ولمَّا مر بدار علي بن المعتصم خرج وسألَه النزول عليه، فأبى. وعزم ابنُ طاهر على النقلة من داره إلى المدائن خوفًا من العامَّة، فاجتمع إليه الغوغاء (¬2)، وقالوا: هؤلاء الغوغاء سفهاء، وقد جاعوا، وطال عليهم الحصار، فاصفح عنهم ولا تؤاخذهم، فأجابَهم، وخرج ابن طاهر إلى العامة، حَلفَ لهم أنَّه ما أضمرَ للمستعين غلًّا ولا شرًّا، ولا قصدَ إلَّا الإصلاح، وبَكى فأبكى الناس، فرضوا عنه. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 317. (¬2) كذا فِي (خ) و (ف).

ذكر انحراف ابن طاهر على المستعين

ذكر انحراف ابن طاهر على المستعين لم يزل ابن طاهر مجدًّا فِي نصرته حتَّى أيقظَه عبيدُ الله بن [يحيى بن] (¬1) خاقان، فقال له: هذا الَّذي تنصرُه وتبذلُ روحَك بين يديه، ومالكَ فِي نصرته، أشدُّ الناس نفاقًا، وأخبثهم دينًا، أَمَرَ بُغَا ووصيفًا بقتلِك، فاستعظما ذلك، فسلْ تُخبر، وحسبك دليلًا على نفاقه أنَّه كان بسرَّ من رأى لا يجهرُ ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فلمَّا صار إلى بغداد جهرَ بها مداجاةً لك، وتقرُّبًا إليك، فقال محمد: أخزَى الله هذا، فما يصلحُ لدنيا ولا دين. ولمَّا كان منتصف ذي الحِجَّة خرجَ ابنُ طاهر إلى باب الشمَّاسيَّة فوقفَ هنالك، وجاءَ أبو أحمد بن المتوكِّل وقد ضرب لهما مضرب، فنزلا وتحادثَا طويلًا، واتَّفقا على خلع المستعين، وضمنَ أبو أحمد لابن طاهر فِي كلِّ سنةٍ خمسين ألف دينار، وغَلَّةً بثلاثين ألف دينار، وأن يُقيم على حاله ببغداد، وله ثلث مغلها، وللموالي والأتراك الثلثان، ويولي بُغَا مكة والمدينة والحجاز، ووصيفًا الجبال (¬2). ورجع ابنُ طاهر إلى المستعين، فكاشفه بالخلع، فقال: يا محمد، إنَّما نزلتُ دارك لتجيرني وتنصرني على عدوِّي، فإن لم تفعل ذلك فكفَّ عني، وهذا عنقي والسيف دون الخلع، ما أفسد حالي غيرك. فقال ابن طاهر: أمَّا أنا فأقعد فِي بيتي، وأمَّا أنتَ فلا بدَّ لك من الخلع كارهًا أو مطيعًا، وكان ابن الخَلَنْجِيّ حاضرًا، فقال لابن طاهر وأغلظ له: أتريد أن تخلع قميصًا من قمص الله به أمير المؤمنين، لا ولا كرامة (¬3). ذكر خلع المستعين لما خذله ابنُ طاهر وبغا ووصيف، وضعف أمره، أجابَ إلى الخلع، ولمَّا ناظروه قال له وصيف: أنتَ أمرتنا بقتل باغر، فصرنَا إلى ما نحن فيه، وأنتَ عرَّضتنَا لقتل أوتامش، وقلت: إنَّ محمد بن عبد الله بن طاهر ليس بناصح، وقال له محمد: أنت ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 342. (¬2) فِي تاريخ الطبري 9/ 343: على أن يعطى خمسين ألف دينار، ويقطع غلة ثلاثين ألف دينار فِي السنة، وأن يكون مقامه بغداد حتَّى يجتمع لهم مال يعطون الجند، وعلى أن يولَّى بغا مكة والمدينة والحجاز، ووصيف الجبل وما والاه، ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله، وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك. (¬3) وقع فِي سياق الخبر ها هنا خلل وتداخل. فانظر تمامه فِي تاريخ الطبري 9/ 343، 344.

قلت لي: إنَّ أمرنَا لا يصلحُ إلَّا باستراحتنا من هذين، وكاشفوه فأذعنَ بالخلع كرهًا. ولمَّا كان يومُ السبت لعشرٍ بقين من ذي الحجة ركبَ محمد بن طاهر إلى الرُّصافة، وجمعَ القضاة والشهود والفقهاء، فأدخلَهم على المستعين فوجًا فوجًا، وأشهدهم على نفسه بالخلع، وأخذ منه جواهرَ الخلافة. واشترط المستعينُ أنْ ينزلَ مدينةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأن يتردَّد من المدينة إلى مكَّة، فأُجيبَ إلى ذلك، وبعثوا بالكتاب إلى المعتزّ. وحُمِل إلى المستعين أمُّه وابنه (¬1) وعيالُه بعد ما فُتِّشُوا وأَخذوا ما كان معهم، فوصلُوا إلى بغداد أول سنة اثنتين وخمسين ومئتين. وعاد أبو أحمد إلى أخيه المعتزّ بالبُرْدَةِ والقضيب والسيف وجوهر الخلافة مع شاهك الخادم. وكان المستعين يقول: اللهمَّ إنْ كنتَ خلعتني من الخلافةِ، فلا تخلعني من رحمتك. وأكثرت الشعراءُ فِي خلع المستعين وغدرِ ابن طاهر به، فقال شاعر: [من الطويل] أطافت بنا الأتراكُ حولًا مكمَّلًا ... وما برحت فِي حجرها أمُّ عامرٍ أقامت على ذلٍّ بها ومهانةٍ ... فلمَّا بدت أبدت لنا لؤمَ غادرِ ولم ترعَ حقَّ المستعين فأصبحت ... تعينُ عليه حادثاتُ المقادرِ لقد جمعتْ لؤمًا وخبثًا وخِسَّةً ... وأبقت لهم عارًا على آل طاهر (¬2) وقال آخر: [من الكامل] خُلِعَ الخليفة (¬3) أحمدُ بن محمدٍ ... وسيقتلُ التالي له أو يُخْلَعُ ويزولُ ملكُ بني أبيه ولا يُرَى ... أحدٌ تملَّكَ منهمُ سيُمَتَّعُ إيهًا بني العباس إنَّ سبيلَكم ... فِي قتلِ أعبُدِكُم سبيلٌ مهيَعُ رقَّعتُمُ دنياكُم فتمزَّقتْ ... بكمُ الحياةُ تمزُّقًا لا يُرْقَعُ ¬

_ (¬1) فِي تاريخ الطبري 9/ 345: وابنته. (¬2) مروج الذهب 7/ 368 - 369. (¬3) فِي تاريخ الطبري 9/ 350: خُلِعَ الخلافة.

وقال مروان بن محمَّد (¬1) بن أبي الجنوب يمدح المعتز بعد خلع المستعين: [من السريع] قد عادتِ الدُّنيا إلى حالِها ... وسرَّنا اللهُ بإقبالِهَا دنيا بك اللهُ كفى أهلَها ... ما كان من شدَّةِ أهوالِهَا وكان قد ملَّكهَا جاهلًا ... ما تصلحُ الدُّنيا لجهَّالهَا قد كانتِ الدُّنيا به أقفلتْ ... فكنتَ مفتاحًا لأقفالهَا خلافةٌ كنتَ حقيقًا بها ... فضَّلكَ اللهُ بسربالِهَا فردَّه اللهُ إلى حالِهِ ... وردَّها اللهُ إلى حالِهَا بدَّلنا اللهُ به سيِّدًا ... أسكنَ دُنيا بعد زلزالهَا (¬2) من أبيات. وقال: [من البسيط] إنَّ الأمور إلى المعتزِّ قد رَجَعَتْ ... والمستعينُ إلى حالاته رجعَا وكان يعلمُ أنَّ الملكَ ليس له ... وأنَّه لك لكن نفسَهُ خَدعَا ومالكُ الملكِ مؤتيهِ ونازعُهُ ... آتاه (¬3) ملكًا ومنهُ الملكَ قد نزعَا إنَّ الخلافةَ كانت لا تلائمُهُ ... كانت كذاتِ حليلٍ زُوِّجت مُتعَا ما كان أقبحَ عند الناس بيعتَه ... وكان أحسنَ قول (¬4) الناس قد خُلِعَا ليت السُّقاةَ إلى قافٍ به دَفَعَتْ (¬5) ... نفسي الفداءُ لملَّاحٍ به دَفعا أمسى بك الناسُ بعد الضيقِ فِي سَعَةٍ ... والله يجعلُ بعد الضيقِ متَّسعَا والله يدفعُ عنكَ السوء من مَلكٍ ... فإنه بكَ عنَّا السوءَ قد دفعَا ما ضاعَ مدحي وما ضاع اصطناعُكَ لي ... لقد وجدتُ بحمدِ الله مصطنعَا من أبيات (¬6). ¬

_ (¬1) كذا فِي (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري 9/ 350: محمَّد بن مروان. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 351 - 352. (¬3) فِي تاريخ الطبري 9/ 351: آتاك. (¬4) فِي (خ) و (ف): عند. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬5) كذا فِي (خ) و (ف) وفي تاريخ الطبري 9/ 351: ليت السفين إلى قافٍ دفعن به. (¬6) تاريخ الطبري 9/ 351.

وقال البحتريُّ فِي المعتز وأوَّلُها: يجانبنا فِي الحبِّ من لا نُجانِبُهْ ... ويبعدُ عنَّا فِي الهوى من نُقارِبُه ألَا هل أتاهَا أنَّ مُظْلِمَةَ الدُّجى ... تجلَّتْ وأنَّ العيشَ سُهِّلَ جانبُهْ وأنَّا رددنَا المستعارَ مذمَّمًا ... على أهلِه واستأنفَ الحقَّ صاحِبُهْ عجبتُ لهذا الدهرِ أعيتْ صروفُه ... وما الدهرُ إلَّا صَرْفُه وعجائبُهْ متى أمَّلَ المخلوع أن يصطفى له ... عُرَى التاجِ أو تُثنَى عليه عصائبُهْ وكيف ادَّعى حقَّ الخلافةِ غاصبٌ ... حوى دونه إرثَ النبيِّ أقاربُهْ بكى المنبرُ الشرقيُّ إذ خار فوقَه ... على الناس ثورٌ قد تدلَّت غباغِبُهْ تخطَّى إلى الأمرِ الَّذي ليس أهلَهُ ... فطَورًا يناديه (¬1) وطورًا يواثبُهْ (¬2) فكيف رأيتَ الحقَّ قرَّ قرارُه ... وكيف رأيتَ الظُّلمَ زالت (¬3) عواقبُهْ ولم يكن المغتَرُّ بالله إذ سَرى ... ليعجِز والمعتزُّ بالله طالبُهْ رمى بالقضيبِ عَنْوَةً وهو صاغرٌ ... وعُرِّيَ من بُرْدِ النبيِّ مناكبُهْ وقد سرَّني أنْ قيلَ وُجِّهَ مسرعًا ... إلى الشرق تجري سُفْنُهُ ومراكِبُهْ إلى كَسْكَرٍ خلف الدَّجاجِ ولم يكن ... لتُنْشِبَ إلَّا فِي الدجاجِ مخالبُهْ فأُقسم بالوادي الحرام وما حوتْ ... أباطحُه من مُحْرِمٍ وأخاشبُهْ لقد حملَ المعتزُّ أُمَّةَ أحمدٍ ... على سَنَنٍ يسري إلى الحقِّ لاحبُهْ تداركَ دينَ الله من بعد ما عَفَتْ ... معالمُه فينا وغارتْ كواكبُهْ وضَمَّ شعاعَ الملك حتَّى تجمَّعتْ ... مشارقُه موفورةً ومغاربه ثم أرادَ المستعينُ أنْ يخرجَ إلى مكَّة، فمنع، وإلى البصرة، فقيل: هي حارَّة، فقال: أتراها أشد حرًّا من فقد الخلافة (¬4)، فاختارَ نزول واسط، فبعثَ معه المعتزُّ من يُسَلِّمُه إلى منصور بن نصر الخزاعيّ عامل المعتزِّ على واسط (¬5). ¬

_ (¬1) فِي ديوان البحتري 1/ 215: ينازيه. وفي تاريخ الطبري 9/ 353: يناغيه. (¬2) فِي ديوان البحتري وتاريخ الطبري: يشاغبه. (¬3) فِي ديوان البحتري: آلت. (¬4) انظر تاريخ الطبري 9/ 349. (¬5) انظر تاريخ الطبري 9/ 363.

ولما وقعت الفتنةُ فِي هذه السنة بين المستعين والمعتزّ تحرَّكت العلويَّة من كل جانب، فغلبَ الحسنُ بن زيد بن محمد على طبرستان، وخرج بالرَّيِّ عليُّ بنُ جعفر بنِ حسين بن علي بن عمر، وخرجَ الحسينُ بن أحمد الكَوْكَبيّ، فسارَ إلى الدَّيلَم، وخرج الحسينُ بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن حسين بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، وظهر بمكَّة إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسين بن عليّ (¬1) بن أبي طالب (¬2). فأمَّا الحسنُ بن زبد صاحب طبرستان، فإنَّه قصدَه سليمانُ بن عبد الله بن طاهر، فأخرجَه من طبرستان، فألحقَه بالديلَم (¬3). وأمَّا الكوكبيّ، واسمه الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن محمد بن [علي بن] (¬4) الحسين بن علي بن أبي طالب، غلبَ على قَزْوين وزِنْجَان، فطردَه عنها عمال ابن طاهر (¬5). وأمَّا الحسين بن محمد بن حمزة الخارج بالكوفة، فإنَّه غلبَ على سوادها فِي ثلاث مئة رجل، فوجَّه إليه المستعين مُزاحم بن خَاقان، فهزمه الطالبيُّ، فدخل مزاحم الكوفة، ثم جاء الطالبي، فخرجَ إليه مزاحم فهزمه. وكتبَ المعتزُّ إلى مزاحم فاستماله، فأتى إلى سرَّ من رأى، ولم يعد إلى بغداد، وذلك فِي رجب. فأما إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم الخارج بمكَّة، فإنَّه لما دخلَ مكَّة كان بها جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى عاملًا عليها، فهرب، فنهبَ إسماعيل منزلَه ومنازل أصحاب السلطان، وقتل الجند وجماعةً من أهل مكة، [وأخذ ما كان حمل لإصلاح العين الجارية إلى مكَّة]، وأخذ ما فِي الكعبة من الذهب والفضة والطيب والكُسْوة، وأخذ من الناس نحوًا من مئتي ألف دينار، ونهب مكة، وأحرق بعضها فِي ربيع ¬

_ (¬1) هنا نهاية الخرم فِي (ب). (¬2) المنتظم 12/ 49 - 50. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 307. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) كذا فِي (خ) و (ف) و (ب). وفي تاريخ الطبري 9/ 346: أنَّ الكوكبيَّ هو طرد آل طاهر منها.

إسحاق بن عباد بن موسى

الأول، ثم خرجَ منها بعد خمسين يومًا، وصار إلى المدينة، فتوارى عنه عاملها عليُّ بن الحسين بن إسماعيل، ثم رجع [إسماعيل] إلى مكة فِي رجب، فحصرَهم حتَّى ماتوا جوعًا وعطشًا، وبلغ الخبز ثلاثَ أواقٍ بدرهم، واللحمُ رطلٌ بأربعة دراهم، وشربةُ ماءٍ بثلاثة دراهم، ولقي منه أهلُ مكَّة كلَّ بلاء، وأقام عليهم محاصرًا سبعةً وخمسين يومًا، ثم مضى إلى جُدَّة، فأخذ أموال التُّجَّار وأصحاب المراكب، ومنع الطعام أنْ يُحمَل إلى مكَّة (¬1). وجهَّز المعتزُّ إليه محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وعيسى بن محمد المخزوميّ، فقدما بالحاج، فقاتلهم، فقتَل من الحاجِّ نحوًا من ألفٍ ومئة رجل، وسَلَبَ الناس، فهربوا إلى مكَّة، ولم يقف بعرفات منهم أحدٌ إلَّا إسماعيل وأصحابه، ثمَّ رجع إلى جُدَّة، فأفنَى أموالها (¬2). وفيها (¬3) توفِي إسحاق بن عباد بن موسى أبو يعقوب الخُتُّليّ (¬4). حدَّث عن الإمام أحمد وغيره، وروى عن ابن المديني. قال: حجَّ الأعمش والمعلَّى (¬5) ومالك بن مِغْوَل، فآذاهم الجمَّال، قام إليه الأعمشُ بعصى، فضربه فشجَّهُ فقيل له: تفعل هذا وأنت محرمٌ؟ ! فقال: اسكتوا، من تَمام الحجِّ ضربُ الجمَّال. إسحاق بن منصور بن بَهْرام أبو يعقوب الكَوْسَج المَرْوَزِيّ. ولد بمرو، ورحل إلى العراق والحجاز والشام، وهو أحدُ الأئمة للحديث، وكان ¬

_ (¬1) فِي تاريخ الطبري: فحمل إلى مكة الحنطة والذرة من اليمن، ثم وافت المراكب من القلزم. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 346 - 347. وما بين حاصرتين من (ب). (¬3) من هنا إلى نهاية ترجمة الحسن بن الضحاك، ليس فِي (ب). (¬4) انظر ترجمته فِي تاريخ بغداد 7/ 400 - 401، وتاريخ دمشق 2/ 761 - 763 (مخطوط). (¬5) فِي تاريخ دمشق 2/ 763: والعلاء.

الحسين بن الضحاك بن ياسر

عالمًا فقيهًا، دَوَّنَ عن الإمام أحمد مسائل، وقال: بلغني أنَّ الكَوسجَ يروي عنِّي مسائل، اشهدوا أنِّي قد رجعت عنها، وكان الإمام أحمد يكره أن يدوَّنَ كلامُه، وبلغَ الكوسج، فوضعَ تلك المسائل فِي جراب، وحملَه على عنقه إلى بغداد، فدخلَ على الإمام أحمد، فعرضَها عليه، وأوقفَه على خطِّه، فأعجبه ذلك، وأقرَّ له بها ثانيًا. استوطنَ الكوسج نَيسابور، وماتَ بها، [ودُفِن] (¬1) يوم الجمعة لعشرٍ بقين من جمادى الأولى. أسندَ عن الإمام أحمد، وسفيان بن عيينة، وعبد الرزاق، وخلقٍ كثير، ورَوى عنه عبد الله ابن الإمام أحمد، وأخرج عنه البخاريُّ ومسلم، وأجمعُوا عليه (¬2). الحسين بن الضَّحَّاك بن ياسر (¬3) أبو علي الشاعر، ويعرف بالخليع، الباهليّ. ولد بالبصرة سنة اثنتين وستين ومئة، ونشأ بها ومدح غيرَ واحدٍ من الخلفاء، وحصلت له أموالٌ عظيمة. وقف الخليع على مجلسٍ فيه غلامٌ أمرد وضيءُ الوجه، فجعلَ ينظر إلى الغلام وهو معرضٌ عنه، فقال الخليع: [من الطويل] تتيهُ علينا أنْ رُزِقتَ ملاحةً ... فمهلًا علينا بعضَ تيهكَ يا بدرُ لقد طالما كُنَّا [ملاحًا و] طالما ... صَدَدنا وتهنَا ثم [غيَّرنا] (¬4) الدهرُ [فصل: وفيها توفي] محمد بن سَهْل ابن عَسكر بن عُمارة، أبو بكر البخاري، ويعرف بابن دُوَيد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 7/ 387. (¬2) انظر ترجمته فِي تاريخ بغداد 7/ 385 - 387، والمنتظم 12/ 51، وتاريخ دمشق 2/ 784 - 786 (مخطوط). (¬3) كذا ذكره المصنف فِي وفيات هذه السنة وتبعه ابن تغري بردي فِي النجوم الزاهرة 2/ 333. وفي تاريخ بغداد 8/ 595، ووفيات الأعيان 2/ 168، وسير أعلام النبلاء 12/ 191، والوافِي بالوفيات 12/ 379 أن وفاته كانت سنة خمسين ومئتين. (¬4) فِي (خ) و (ف) بياض، وما بين حاصرتين من الأغاني 7/ 211.

يعقوب بن إسحاق

سكنَ بغداد، وحجَّ إلى مكَّة مرارًا، [وكان صالحًا ثقةً. وقال عبد الله بن أحمد (¬1): حدثنا محمد بن سهل قال: ] (¬2) رأيت بطَريقِ مكة رجلًا مغربيًّا ينادي: من أصابَ لنا هميانًا له ألف دينار، وإذا بإنسان أعرج، عليه أطمارٌ رثَّةٌ يقول للمغربي: ما علامة هميانك؟ فقال: كذا وكذا، فأخرج الهميان فدفعه إليه ففتحه، وإذا فيه جوهر له قيمة تساوي خمسين ألف دينار، فأخرج منه حبَّةً وجعل يقول: هذه تساوي كذا وكذا ألف دينار، وهذه تساوي ألف دينار، وهذه تساوي خمس مئة دينار، وكان فيه بضائع للناس، ثمَّ أخرجَ ألف دينار ودفعَها إلى الأعرج، فلم ينظر إليها وقال: لو كان الهميانُ يساوي عندي بعرةً ما رَدَدْتُه، ومضى ولم يأخذ منها شيئًا (¬3). حدَّث عن عبد الرزاق وغيره، ورَوى عنه عبدُ الله بن الإمام أحمد (¬4) وغيره، وكان صالحًا ثقةً (¬5). يعقوب بن إسحاق ابن البُهلول بن حسَّان بن سِنان، أبو يوسف التَّنوخيُّ الأنباريّ. كان من حفَّاظ القرآن، عالمًا بعدده وآياته وحروفه وكلماته (¬6)، زاهدًا ورعًا. ولد بالأنبار سنة سبعٍ وثمانين ومئة، وحدث حديثًا كثيرًا، ومات فِي حياةِ أبيه فِي رمضان، ودفن فِي مقابر باب التبن، فوجدَ أبوه عليه وجدًا شديدًا، وفاته صلوات (¬7) بسبب حزنه عليه، وكان يقول: ابني يعقوب أكملُ مني. وتوفي أبوه فِي السنة الآتية (¬8). ¬

_ (¬1) كذا فِي (ب)، وفي تاريخ بغداد 3/ 253: أحمد بن محمد بن مسروق ... (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال. (¬3) انظر الخبر بنحوه فِي تاريخ بغداد 3/ 253 - 254. (¬4) لم أقف على من ذكر عبد الله بن أحمد فِي الرواة عنه. (¬5) انظر ترجمته أيضًا فِي تهذيب الكمال 25/ 325، وتاريخ الإسلام 6/ 176. وأورده ابن الجوزي فِي المنتظم 14/ 149 فِي وفيات 351 هـ! ؟ (¬6) فِي تاريخ بغداد 16/ 403: وكان من حفاظ القرآن، العالمين بعدده وقراءاته. (¬7) فِي تاريخ بغداد 16/ 404، والمنتظم 12/ 54: وأنه لما توفي يعقوب أغمي على إسحاق وفاتته صلوات، فأعادها. (¬8) عن قوله: حدث عن عبد الرزاق وغيره ... إلى هنا ليس فِي (ب).

السنة الثانية والخمسون بعد المئتين

السنة الثانية والخمسون بعد المئتين وفيها استقرَّ خلع المستعين، وبويع المعتز. الباب الثالث عشر فِي خلافة المعتز (¬1) [واختلفوا فِي اسمه، فقيل: ] (¬2) الزبير، وقيل: محمَّد، وكنيته أبو عبد الله، وأمُّه أم ولد يقال لها: قبيحة، رومية، [وقد ذكرناها] (¬3) وكانت بيعته الثانية عند خلعِ المستعين فِي ذي الحجة من السنة الماضية، وقيل: لستٍّ خلونَ من المحرم يوم الخميس [في هذه السنة]، وقيل: لليلتين خلتا [من المحرم] (¬4)، وهو ابن ثماني عشرة سنة. ومولده سنة أربع أو خمس وثلاثين ومئتين (¬5) بسُرَّ من رأى، وكان طوالًا، أبيض، أسود الشعر، حسن الوجه والعينين [والجسم]، ضيق الجبهة، أحمر الوجنتين. والمستعين عمه [لأبيه، أحمد بن المعتصم (¬6)، والمعتز الزبير بن جعفر المتوكل بن المعتصم] (¬7). ولمَّا بويع (¬8) لأخيه إبراهيم بن المتوكِّل من بعده، واستوزرَ أحمد بن إسرائيل، وخلع على محمد بن عبد الله بن طاهر خِلَعَ الملك، وقلَّدَه سيفًا. وأقامَ بغا ووصيف ببغداد على وجلٍ من ابن طاهر، فخاطب الأتراكُ المعتزَّ فيهما، ¬

_ (¬1) فِي (ب): ذكر خلافة المعتز. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): واسمه. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وسلف ذكر قبيحة عند ذكر أولاد المتوكل ونسائه وسراريه. (¬4) فِي تاريخ الطبري 9/ 348، والمنتظم 12/ 55، والكامل 7/ 167 أنَّه بويع له يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم من هذه السنة. (¬5) ذكر الخطيب فِي تاريخه 2/ 487 قولين فِي مولد المعتز، الأول -وصححه -: فِي شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومئتين. والثاني: فِي شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين ومئتين. (¬6) انظر ما ذكرته عند بداية خلافة المستعين من أنَّه أحمد بن محمد بن محمد المعتصم، فعليه يكون المعتز ابن عمِّ المستعين. والله أعلم بالصواب. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). (¬8) كذا فِي (خ) و (ف). ومن هنا إلى خبر موت إسماعيل بن يوسف الطالبي. ليس فِي (ب).

فرضي عنهما، وردَّهما إلى مرتبتهما، وردَّ عليهما ما كان أخذه منهما، وكتب إلى ابن طاهر فِي السرِّ يمنعهما من الخروج من بغداد، فلم يقدر، فخرجا وتركا أثقالهما وعيالهما بها، ودعت لهما العامَّة، فلمَّا وصَلا سرَّ من رأى أكرمهُما المعتزّ وخلعَ عليهما على بغضٍ منه، وفي قلبه منهما ما فيه. وفوَّض إلى موسى بن بغا ما كان إلى أبيه (¬1). وقيل: إنَّ ابن طاهر دخل على المستعين ومعه شروط الأمان، فقال: يا أميرَ المؤمنين هذه شروط الأمان، كتبها سعيدُ بن حميد، وقد أكَّدها غايةَ التأكيد، أفنقرؤها عليك وأنت تسمع؟ فقال له المستعين: يا أبا العباس، لا عليكَ أن لا تؤكدها، فما القوم بأعلم منك، وقد أكَّدت على نفسِك قبلهم ما أكَّدتَ، وفعلتَ ما فعلت، فسكت محمد، ولم يرد عليه شيئًا. ثمَّ نقلوا المستعينَ من الرُّصافة إلى قصر الحسن بن سهل فِي المُخَرِّم هو وعياله وولده وجواريه، ووكَّل بهم ابنُ طاهر [سعيدَ بن] (¬2) رجاء الحضاري. وكان عنده خاتمان من الجوهر يقال لأحدهما: الجبل، والآخر: البرج، فأخذهما محمد منه، وبعث بهما إلى المعتز (¬3). ولإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرَّم قدم أبو أحمد سامرَّاء منصرفًا من بغداد، فخلع عليه المعتز خِلَعَ الملك، وتوَّجه بتاجٍ من ذهب، وقَلَنْسُوةٍ مجوهرة، ووشاحين مجوهرين، وقلَّده سيفين مجوهرين، وأُجْلِس على كرسيٍّ، وخلع على القوَّاد (¬4). وفي رجب خلعَ المعتزُّ أخاه إبراهيم المؤتد من العهد، وسببه أنَّ عاملَ إرمينية -ويقال له: العلاء بن أحمد- أرسلَ إلى المؤيَّد بخسمة آلاف دينار؛ ليصلح بها أمره، فأخذها عيسى بن فرخانشاه، فأغرى المؤيَّدُ الأتراكَ بعيسى، وخالفهم المغاربة، فبعث المعتزُّ إلى إخوته المؤيَّد وأبي أحمد، فحبَسهما فِي الجوسق، وقيَّد المؤيَّد وضيَّق ¬

_ (¬1) فِي تاريخ الطبري 9/ 356: وردَّ ديوان البريد كما كان قبل إلى موسى بن بغا الكبير، فقبل موسى ذلك. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 348. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 349. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 353 - 354.

إبراهيم بن جعفر المتوكل

عليه، وحبس كنجور التركي صاحب المؤيَّد، وضربَه خمسين مقرعة، ثم رضيَ عنه وأطلقه، وضربَ المؤيَّد أربعين مِقْرَعة، وخلعه بسامرَّاء يوم الجمعة لتسعٍ (¬1) خلون من رجب، وكتب خطّه، وأشهد عليه القاضي ابن أبي الشوارب، ومحمد بن عمران الضبي بذلك. وفيها ولي الحسنُ بن أبي الشوارب قضاءَ القضاة. وفيها حسبت أرزاقُ الأتراك والمغاربة والشاكرية، وكانت فِي كلِّ سنةٍ مئتي ألف ألف دينار، وذلك خراجُ المملكة لسنتين (¬2). [فصل: ] وفيها مات إسماعيل بن يوسف الطالبي الخارج بمكة، [وفعل بها ما فعل] (¬3). وفيها نَفى المعتزُّ أخاه أبا أحمد إلى واسط، ثم رُدَّ إلى بغداد، وأنزلَ فِي الجانب الشرقي فِي قصر دينار بن عبد الله، ونفى عليَّ بنَ المعتصم إلى واسط، ثمَّ رُدَّ إلى بغداد، فأنزلَ بالجانب الشرقي (¬4). وحجَّ بالناس محمَّد بن أحمد بن عيسى بن المنصور من قبل المعتزّ. وفيها (¬5) توفِّي إبراهيم بن جعفر المتوكل ويلقَّب بالمؤيَّد، وأمُّه أم ولد، يقال لها: إسحاق، وكان المعتز خلَعَه وحبَسه، فأقام فِي الحبس أيَّامًا، فجاءت امرأةٌ من نساء الأتراك إلى محمد بن راشد مقدَّم المغاربة، فقالت: إنَّ الأتراكَ قد عزموا على إخراجِ المؤيَّد من الحبس، فأخبرَ محمد ¬

_ (¬1) فِي تاريخ الطبري 9/ 362: لسبع. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 371. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 372، وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) خبر نفي أبي أحمد وعليِّ بن المعتصم أورده الطبريُ فِي تاريخه 9/ 377، وابن الجوزي فِي المنتظم 12/ 64 فِي أحداث سنة ثلاث وخمسين ومئتين. ومن قوله: وفيها نفى المعتز إلى هنا ليس فِي (ب). (¬5) من هنا إلى خبر وفاة المستعين ليس فِي (ب).

إبراهيم بن سعيد

المعتزَّ بذلك، فدعا موسى بن بغا وسألَه عن ذلك، فأنكر وقال: إنَّما أرادوا إخراجَ [أبي] (¬1) أحمد؛ لأنَّهم أنسُوا به فِي الحرب على بغداد، فأمَّا المؤيَّد فلا. فلمَّا كان يوم الخميس لثمانٍ بقين من رجب دعا بالقضاة والشهود والفقهاء والوجوه، فأخرجَ إبراهيم المؤيّد ميتًا لا أثرَ به، وحُمِل إلى أمه على حمار، وحُمِل أبو أحمد إلى الحجرةِ التي كان فيها المؤيَّد، ثمَّ نفاه إلى بغداد. وذُكِرَ أنَّ المؤيَّد أُدرج فِي لحاف سَمُّور، ومسك طرفاه حتَّى مات. وقيل: أُقعِد فِي الثلج حتَّى ماتَ من البرد. وقال الفضل بن العباس: سألني المؤيَّد فقال: يا فضل، بعد كم قتل المعتصمُ أبَاك منذ حبسه؟ قلت: بعد سبعة عشر يومًا، قال: وأنا كذلك، فأُخرِج فِي اليوم السابع عشر ميتًا، فلمَّا شاهَدَتْهُ أمُّه بعثت إلى [قبيحة] (¬2) وقالت: هكذا ترين ابنك عن قريب إن شاء الله تعالى، فلمَّا رأت قبيحةُ ابنها المعتزَّ قتيلًا، قالت: أديلت والله إسحاقُ منِّي. إبراهيم بن سعيد أبو إسحاق الجَوْهريّ. رحل فِي طلب الحديث ولقيَ الشيوخ، وصنَّف "المسند"، وكان لأبيه دنيا واسعة. وحجَّ إبراهيم (¬3)، فحمل معه أربع مئة رجل من الزوَّار، سوى حشمه وخدمه وأهله، وكان فيهم إسماعيل بن عيَّاش وهشيم بن بشير. قال إبراهيم الهروي: وكنتُ معه. وقدم بغداد وحدَّثَ بها، ثم انتقل إلى عين زَرْبة مرابطًا، فمات بها. سمع سفيان بن عيينة وغيره، ورَوى عنه مسلم وغيره، وكان ثقةً ثبتًا مكثرًا حافظًا جوادًا. قال عبد الله بن جعفر بن خاقان السُّلَميّ: سألتُ إبراهيم بن سعيد الجوهريّ عن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 362. وانظر ترجمة المؤيَّد أيضًا فِي تاريخ بغداد 6/ 553، وسير أعلام النبلاء 12/ 333. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. انظر سير أعلام النبلاء 12/ 333، وتاريخ الإسلام 6/ 40. (¬3) كذا فِي (خ) و (ف). والصواب: وحج سعيد. أي: والد إبراهيم.

أحمد بن المعتصم

حديثٍ [لـ] أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فقال للجارية: أخرجي إليَّ الجزء الثالث والعشرين من مسند أبي بكر - رضي الله عنه -، فقلت له: لا يصحُّ لأبي بكرٍ خمسون حديثًا، فمن أين ثلاثة وعشرون جزءًا؟ ! فقال: كلُّ حديثٍ لم يكن عندي من مئة وجه فأنا به يتيم (¬1). [وفيها توفي] أحمد بن المعتصم (¬2) الملقب بالمستعين، كان جوادًا سمحًا يطلقُ الألوف، قال يومًا لأحمد بن يزيد المهلبيّ وكان يأنسُ به: يا أحمد، ما أظنُّ أحدًا من بني هاشم إلَّا وقد طمع فِي الخلافة لمَّا وَليتُها لبعدي عنها، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين ما أنت ببعيد، وإنَّما تقدَّم العهد لمن رأى الله تعالى أنْ يقدِّمهُ عليك، فقال المستعين: قد قلت فِي ذلك: [من مجزوء الرمل] جاءَ أمر الله بالأمر ... الَّذي لا أرتجيه فعليَّ الآن أنْ أقـ ... ـــضيَ حقَّ الشربِ فيهِ (¬3) وأمر المغنِّين فغنوه. [وقال الخطيب: ] كان المستعينُ مربوعًا عبلًا، بوجهه أثرُ جُدَريّ (¬4)، وفي لسانه لثغةٌ؛ يميل المهملة (¬5) إلى الثاء المعجمة المنقوطة بثلاث، ومن شعره: [من المجتث] أحببتُ ظبيًا ثمين ... كأنَّه غُثنُ تين ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 618 - 621، وما بين حاصرتين منه. وانظر ترجمته أيضًا فِي تهذيب الكمال 2/ 95 - 98، وسير أعلام النبلاء 12/ 149 - 151، وتاريخ الإسلام 5/ 1077 - 1078. قال الذهبي فِي السير 12/ 151: وتوفي مرابطًا بعين زَرْبة، فما حرَّروا وفاته كما ينبغي، فقيل: مات سنة سبعٍ وأربعين، وقيل: سنة أربعٍ وأربعين، وقيل: سنة تسع وأربعين، وقيل: سنة ثلاث وخمسين ومئتين. اهـ. وانظر تهذيب التهذيب 1/ 67. وذكره ابن الجوزي فِي المنتظم 12/ 64 - 65 فِي وفيات سنة ثلاث وخسين ومئتين. ولم أقف على من ذكر أنَّه توفي سنة 252 هـ والله أعلم. (¬2) سلف غير مرَّة أن الصواب فِي اسمه: أحمد بن محمد بن المعتصم. (¬3) فِي الوافي بالوفيات 8/ 96: حقَّ الله فيه، ثم قال: وأعداؤه رووا أنَّه قال: حقَّ الشرب فيه. (¬4) تاريخ بغداد 6/ 257. (¬5) فِي (ب): يميل بالسين.

[باللهِ أي عالمين] ... ما فِي الثما مثلمين (¬1) ذكر صفة هلاكه: [واختلفوا فيه، فقال الفضل بن العباس: ] لمَّا همَّ المعتزُّ بقتل المستعين كتب إلى محمد بن طاهر مع خادمٍ له -يقال له: سيما- يأمرهُ أن يكتب كتابًا إلى منصور بن نصر [بن حمزة] عامل واسط، و [كان قد] وكَّل به ابن أبي خميصة وابن المظفَّر القائد وصاحب البريد، فكتب محمدُ بن طاهر إلى منصور بذلك، ثم وجَّه أحمد بن طولون التركيّ فِي جيش، فأخرجَ المستعين إلى القاطول، فوافى به إليه لستٍّ بقين من رمضان، وقيل: لثلاثٍ خلون من شوال (¬2). وقيل: إنَّ ابن طولون [التركي] كان موكلًا به، فلمَّا [صار به] (¬3) إلى القاطول، خرج سعيد بن صالح [فتسلَّمه، فيقال: إنَّ سعيدًا قتله بالقاطول، وقال بعضهم: ] (¬4) أدخلهُ [سعيد] إلى منزله بسُرَّ من رأى، فعذَّبه حتَّى مات. وقيل: بل ركبَ معه فِي زورقٍ حتَّى حاذى به فم دُجَيل، وشدَّ فِي رجله حجرًا، وألقاه فِي الماء فغرق. [وحكي عن متطبِّبٍ نصراني كان مع المستعين يقال له: فضلان، قال: ] (¬5) كُنْتُ مع المستعين لمَّا حُمِل إلى سامرَّاء، فلمَّا قربنا منها إذا بعسكرٍ فيه جماعة، فقال: يا فضلان، تقدَّم وسل من هذا؟ فإنْ كان سعيدًا، فقد ذهبت نفسي، [قال: ] فسألتُ، فإذا به سعيد، فعدتُ وأخبرته [بأنَّه سعيد الحاجب]، فكانت له داية تعادله (¬6)، فلمَّا التقوه أنزلوه وضربوه بالسيوف، وصاحت دايته، فصرتُ إلى الموضع، وإذا به مقتول فِي ¬

_ (¬1) انظر الوافي بالوفيات 8/ 94 - 95، وفوات الوفيات ص 141 وما بين حاصرتين منهما. والأبيات ليست فِي (ب). (¬2) كذا! وفي تاريخ الطبري 9/ 363: فأخرج المستعين لست بقين من شهر رمضان، فوافى به القاطول لثلاث خلون من شوال. (¬3) فِي (خ) و (ف): فلما خرج. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فقتله وقت تسلمه وقيل. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال ابن فضلان المستطبب. (¬6) فِي تاريخ الطبري 9/ 363: وكان فِي قبة تعادله امرأة.

سراويل، وقد حزُّوا رأسه وأخذوه، و [إذا] المرأةُ مقتولة، فطرحتُ عليهما من التراب حتَّى واريتهما، وانصرفت. [وقال الطبريُّ: وأتي برأسه إلى المعتزِّ وهو يلعب بالشطرنج، فقيل له: هذا رأسُ المخلوع، فقال: ضعوه هنالك حتَّى أفرغ من دَستي (¬1)، ودعا به فرآه، فأمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم، وولَّاه معونةَ البصرة (¬2). وذُكِرَ أنَّ المستعين] (¬3) لمَّا استقبله سعيد أنزلَه، ووكَّل به رجلًا من الأتراك، فأراد قتلَه، فقال: أمهلني حتَّى أصليَ ركعتين، وكانت عليه جبة، فسلبهُ إيَّاها التركيّ قبل قتله، ولمَّا سجد فِي الركعةِ الثانية ضربَه فأبان رأسه، فأخذه ودفنه، وعفا مكانه (¬4). وقال الصوليُّ: بعثَ المعتزُّ أحمدَ بن طولون [التركي] إلى واسط، وأمره بقتله، فقال: لا والله، لا أقتل أولاد الخلفاء، [وكان عاقلًا]، فقال له المعتز: فأوصِلْه إلى القاطول، فأوصلَه إليه، والتقاه سعيد الحاجب، فتسلَّمه منه، وكان شاهك الخادم عديلَ المستعين فِي عمارية، قال شاهك: فلقانا جيشٌ كثيف، فقال: يا شاهك، انظر من رئيس القوم؟ فإن كان سعيد [الحاجب] فقد هلكت، قال: فتأملته وإذا به سعيد، فأخبرته، فبكى وقال: والله ذهبت نفسي، هذا جزاءُ بني العباس، فلمَّا دنا منه [سعيد] قنَّعه بالسوط، وأخرجَه من العماريَّة، وأضجعَه، وقعد على صدره (¬5) وهو يقول: فأين العهود وأين المواثيق وأين الأيمان؟ ! فذبحَه بيده، وحزَّ رأسَه، ومضَى به إلى المعتزّ وهو يلعب بالشطرنج، فقال: هذا رأسُ المخلوع، فقال: أنا مشغول، قد أشرفتُ على الغلب، ضعه هناك حتَّى أتفرَّغ، ثمَّ دعا به، فرآه، فأمر بدفنه، وأمر لسعيدٍ بخمس مئة ألف درهم (¬6)، وولَّاه البصرة، [وقيل: ] (¬7) ألقي جسدُه فِي دُجَيل. ¬

_ (¬1) الدست: النوبة والدفعة فِي اللعب والقمار. المعجم الذهبي ص 267. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 364، والكامل 7/ 173. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 364، والكامل 7/ 173. (¬5) انظر مروج الذهب 7/ 370 - 371. (¬6) فيما سلف قريبًا أنَّه أمر له بخمسين ألف درهم. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وألقى.

أحمد بن سعيد بن صخر

وقيل: إنَّ ابنَ طولون واراهُ بعد أن كفَّنَه. وقال الخطيب: قُتِل بالقادسية فِي طريق سامراء (¬1) فِي شوَّال رحمه الله تعالى (¬2). ذكر سنِّهِ ومدَّةِ ولايته وأولاده وعمَّاله: [وذكرنا أنَّه] بويع [بالخلافة فِي] سنة ثمانٍ وأربعين ومئتين، وانحدرَ إلى بغداد [في] سنة إحدى وخمسين [ومئتين]، فكانت خلافته إلى حين انحداره [إلى بغداد] سنتين وتسعة أشهر، وتوفِّي وهو ابنُ ثلاثٍ أو خمسٍ وثلاثين سنة، وقيل: ابن أربعٍ وعشرين سنة. وكان له من الولد ست ذكور. ووزر له أحمد بن الخصيب (¬3)، ثمَّ أحمد بن صالح بن شيرزاد (¬4). وقاضي قضاته ابن أبي الشوارب، وقيل: إنَّما ولّاه المعتزّ (¬5). على الجزيرة والثغور عبدُ الله بن ميمون ونصر بن صالح بن خاقان وغيرهما، ومحمد بن طاهر صاحبُ شرطته ونائبه ببغداد (¬6). والمستعينُ ثالث خليفةٍ قُتِل بالسيف (¬7)؛ أوَّلهم الأمين، وثانيهم المتوكِّل، وهو ثالثهم. قلت: من بني العباس، وإلَّا فقد قُتِل من الخلفاء الراشدين عمر وعليّ وعثمان -رضي الله عنهم-، والوليد بن يزيد، ومروان الجعدي. أحمد بن سعيد بن صخر أبو جعفر الدارِميُّ، كان فقيهًا عارفًا بالحديث، ثقةً حافظًا متقنًا، وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى يثني عليه ويكاتبُه، فيقول فِي أول كتابه: لأبي جعفر أكرَمه ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 257. (¬2) من قوله: وقال الخطيب قُتل ... إلى هنا ليس فِي (ب). (¬3) فِي تاريخ الطبري 9/ 256 أن المستعين استكتب أحمد بن الخصيب. (¬4) فِي (خ) و (ف) و (ب): يزداد. والتصويب من مروج الذهب 7/ 324، وتاريخ الإسلام 6/ 33. (¬5) سلف قريبًا أن المعتز هو ولى ابن أبي الشوارب قضاء القضاة. (¬6) من قوله: على الجزيرة ... إلى هنا. ليس فِي (ب). (¬7) بعدها فِي (ب): انتهت ترجمة المستعين. والحمد لله.

إسحاق بن البهلول

الله تعالى من أحمد بن حنبل. ومن حديثه عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل شيءٍ قلب، وقلبُ القرآن يس" (¬1). وقيل: ماتَ سنة ثلاثٍ وخمسين ومئتين (¬2). إسحاق بن البهلول ابن حسَّان، الأنباريّ، التنوخيّ. ولد بالأنبار سنة أربعٍ وستين ومئة، وكان إمامًا عالمًا فاضلًا، فقيهًا، عارفًا بالنحو واللغة والشعر والأدب، وله مصنفات. وقدم بغداد وحدَّثَ بها خمسين ألف حديث من حفظِه، وكانت كتبه بالأنبار، فلم يخطئ منها بحرف. أسندَ عن الأئمَّة، وسمع منه المتوكل بسرَّ من رأى، ونَصب له منبرًا فِي الجامع، وأقطعه إقطاعًا فِي كل سنة اثني عشر ألف درهم. واتَّفقوا على فضلِه ودينه وصدقه وثقته (¬3). إسحاق بن حنبل ابن هلال بن أسد الشيباني، عمُّ الإمام أحمد. ولد سنة إحدى وستين ومئة، ومات وله اثنتان وتسعون سنة. سمع يزيد بن هارون وطبقته، وروى عنه ابنه حنبل بن إسحاق وغيره. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 273. وأخرجه الترمذي (2887) وقال: هذا حديث غريب. وقال أبو حاتم: هو حديث باطل لا أصل له. علل الحديث (1652). (¬2) ذكر هذا القول الخطيب البغدادي 5/ 276، والمزي فِي تهذيب الكمال 1/ 317، والذهبي فِي سير أعلام النبلاء 12/ 234، وتاريخ الإسلام 6/ 26. وأورده ابن الجوزي فِي المنتظم 12/ 64 فِي وفيات سنة 253 هـ. ولم أقف على من قال إنه توفي سنة 252 هـ. والله أعلم. وهذه الترجمة لم ترد فِي (ب). (¬3) تاريخ بغداد 7/ 390 - 394، والمنتظم 12/ 57 - 58، والسير 12/ 489 - 491. وهذه الترجمة لم ترد فِي (ب).

علي بن سلمة بن عقبة

وكان ثقة، وبينه وبين الإمام أحمد رحمه الله ثلاث سنين (¬1)، وسمع عامَّة مشايخ الإمام أحمد. ورَوى عنه إبراهيم الحربيّ وعبدُ الله بن الإمام أحمد. وكان صالحًا دينًا. وقيل: إنَّه مات سنة ثلاثٍ وخمسين ومئتين (¬2). [وفيها توفي] عليُّ بن سَلَمة بن عُقْبة أبو الحسن القرشيّ النيسابوريّ، ويعرف باللبَقيّ. سمع حفص بن غياث وغيره (¬3)، وكان ثقةً، وتوفي فِي جمادى الأولى. [وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده عن داود بن الحسين البيهقي يقول: ] (سمعت علي بن سلمة اللبَقي يقول: ) (¬4) رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي المنام قد أقبلَ، وموسى بن عمران عن يمينه، وعيسى بن مريم عن يساره، فقلت له: يا رسول الله [صلى الله عليك وسلم]، ما تقول فِي القرآن؟ قال: أنا أشهدُ أنَّه كلامُ الله غير مخلوق، وهذا [أخي] موسى وهذا أخي عيسى يشهدان بذلك. قال: وهذا فِي أيام المحنة. [قال: ] وقال [اللبقيّ: ] سمعتُ موسى بن جعفر بن محمد (¬5) الصادق (¬6) يقول: سمعتُ أبي يقول: برئَ اللهُ ممَّن برئ من أبي بكرٍ وعمر. وروى عنه البخاريُّ ومسلم وغيرهما (¬7). ¬

_ (¬1) أي: بينهما فِي سنة الولادة ثلاث سنين. (¬2) هو قول ابنه حنبل، كما فِي تاريخ بغداد 7/ 394، وطبقات الحنابلة 1/ 111، وتاريخ الإسلام 6/ 48، وأورده ابن الجوزي فِي المنتظم 12/ 66 فِي وفيات سنة 253 هـ ... ولم أقف على من ذكر أنَّه توفي سنة 252 هـ والله أعلم. وهذه الترجمة لم ترد فِي (ب). (¬3) فِي (ب) وما بين حاصرتين منها: سافر وسمع الشيوخ. مكان: سمع حفص بن غياث وغيره. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وما بين قوسين من المنتظم 12/ 59. وفي (خ) و (ف) وقال: رأيت. (¬5) فِي (ب): موسى بن محمد. وفي المنتظم 12/ 59: محمد بن جعفر بن محمد. (¬6) كذا فِي (خ) و (ف) و (ب) ونسخة كما فِي هامش المنتظم. وفي مطبوعه: الصناديقي. (¬7) انظر ترجمته أيضًا فِي تهذيب الكمال 20/ 451 - 453.

محمد بن بشار

محمد بن بشَّار ابن عثمان بن كَيسَان، أبو بكر البصري، ويعرف ببُنْدار. ولد سنة سبع وستين ومئة، ورحلَ فِي طلب العلم وعُمِّر، فكان يقول: كتب عني الحديثَ خمسة قرون، وسألوني الحديث وأنا ابن ثمان عشرة سنة، فاستحييت أن أحدثهم [في المدينة] (¬1) فأخرجتُهم إلى البستان، وأطعمتهم الرُّطبَ، وحَدَّثتُهم. وكانت وفاته فِي رجب ببغداد، وكان يقول: أردتُ السفرَ، فمنعتني أمي، فأطعتُها فبورك لي فيه. وقد تكلَّمُوا فيه فقال القواريريّ: كان صاحبَ حَمَامٍ يلعبُ بالطيور (¬2). وقد أخرج عنه فِي الصحيحين (¬3). * * * ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 2/ 459. (¬2) قال الذهبي فِي ميزان الاعتدال 4/ 65: احتجَّ به أصحاب الصحاح كلهم، وهو حجَّةٌ بلا ريب. (¬3) انظر ترجمته فِي تاريخ بغداد 2/ 458 - 463، والمنتظم 12/ 60، وتهذيب الكمال 24/ 511 - 518، وسير أعلام النبلاء 12/ 144 - 149. وغيرها. وترجمته لم ترد فِي (ب).

السنة الثالثة والخمسون بعد المئتين

السنة الثالثة والخمسون بعد المئتين فيها فِي رجب عقد المعتزُّ لموسى بن بُغَا على الجبل، وأضاف إليه جيشًا من الأتراك، وسار من سرَّ من رأى إلى هَمَذَان، وكان مفلح على مقدِّمته، فالتقى بعسكر عبد العزيز بن أبي دُلف، فهزمَهم وتبعَهم إلى الكَرَج، فتحصَّن عبد العزيز بقلعةٍ فيها، وقَتَل مفلح مقتلةً عظيمة، وبعثَ إلى سامرَّاء تسعين حِمْلًا من الرؤوس، وسبى نساءً فيهم أمُّ عبد العزيز صاحب الكَرَج (¬1). وخلع المعتزُّ فِي رمضان على بُغَا الشرابي، وألبسَه التاج والوشاحين (¬2). وفي شوال [في هذه السنة] قُتِل وصيفٌ التركيّ. ولليلة أربع عشرة من ذي القعدة كَسَفَ القمر، فغاب كلُّه، ولم يبق [منه] إلَّا اليسير. ومات محمد بن [عبد الله بن] طاهر مع انتهاء كسوفه (¬3). ومات مزاحم بن خاقان بمصر. وغزا محمد بن معاذ (¬4) بلادَ الروم، ودخل من ناحية مَلَطْية، فأُسِر محمد، وقُتِل جماعةٌ من المسلمين. وفيها التقى موسى بن بُغا والكَوْكَبيُّ على فرسخٍ من قَزوين يوم الإثنين سَلْخ ذي القعدة، فهزمَ موسى الكوكبيَّ، فألحق بالديلم، فجاء الديلمُ فاصطفُّوا صفوفًا، وأقاموا تراسهم فِي وجوههم يتَّقون السهام، فلمَّا رأى موسى أنَّ سهام أصحابِه لا تصلُ إليهم أمر بما معه من النفط، فصُبَّ فِي الأرض التي التقوا فيها، ثمَّ قال لأصحابه: اطردوا، فأظهروا الهزيمة، وتبعَهم الكوكبيُّ وأصحابُه، فلمَّا علمَ موسى أنَّهم قد توسَّطوا النفطَ، ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 9/ 373، والمنتظم 12/ 63، والكامل 7/ 178، وتاريخ الإسلام 6/ 8. (¬2) من قوله: فيها فِي رجب ... إلى هنا، ليس فِي (ب). (¬3) تاريخ الطبري 9/ 376. وما بين حاصرتين من (ب). (¬4) فِي (خ) و (ت): محمَّد بن سعاد، والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 377، والكامل 7/ 183.

أحمد بن المقدام

رجعَ عليهم، وأمرَ الزرَّاقين (¬1)، فأضرموا فيه النار، فخرجت من تحت أرجلِ أصحاب الكوكبيّ، فجعلت تحرقُهم، فانهزموا (¬2). وحجَّ بالناس عبدُ الله بن محمد بن سليمان الزينبيّ من قبل المعتزّ. وفيها توفي أحمدُ بن المِقْدام ابن سليمان بن الأشعث، أبو الأشعث العِجليّ البصريّ. قدم بغداد، وسكن قطيعة الربيع، وحدَّثَ بها. كتب إليه جماعة يسألونه الإجازة، فكتب إليهم: [من الطويل] كتابي هذا فافهموه فإنَّه ... رسولي إليكم والكتابُ رسولُ وفيه سماعٌ من رجالٍ لقيتُهم ... لهم بصرٌ فِي علمهم وعقولُ فإن شئتمُ فارووه عني فإنَّكم ... تقولون ما قد قلتُه وأقولُ ألَا فاحذروا التَّصحيفَ فيه فربَّما ... تغيَّرَ معقولٌ له ومقولُ وكانت وفاته فِي صفر. حدَّث عن حمَّاد بن زيد وغيره، وأخرج عنه البخاريُّ فِي "صحيحه" وغيره، وكان ثقةً (¬3). [فصل: وفيها توفي] السَّرِيُّ بن المُغَلِّس أبو الحسن السَّقَطيُّ، الزاهد العابد الورع العارف، خالُ الجُنيد وأستاذه. وكان أوحدَ زمانه فِي علوم التوحيد والورع، وهو أوَّلُ من تكلَّم بها فِي بغداد، وإليه ينتمي مشايخها. ¬

_ (¬1) الزراقون: صنف من العسكر يستعملون آلة حربية على هيئة القارورة، تحشى من الداخل بذرات الحديد، تزرق بزيت النفط وتشعل وتلقى على الأعداء. انظر معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص 220. (¬2) من قوله: وغزا محمد بن ... إلى هنا ليس فِي (ب). (¬3) تاريخ بغداد 6/ 381 - 385، وتهذيب الكمال 1/ 488 - 490، وسير أعلام النبلاء 12/ 219 - 221. وهذه الترجمة ليست فِي (ب).

[قال ابن عساكر: هو أحدُ الزهَّاد والعبَّاد الأتقياء، وأول من أظهر لسان التوحيد ببغداد]، ولزمَ بيتَه، وانقطعَ عن الناس وأسبابهم (¬1)، [قال: ] وكان الإمام أحمد رحمه الله إذا ذكر سريٌّ يقول: ذاك الشيخُ الَّذي يُعْرَف بطيب الغذاء، وتصفية القوت، وشدَّةِ الورع (¬2). ذكر طرف من عبادته وزهده وورعه [وخوفه] ونحو ذلك: [وحكى الخطيب عن الجنيد قال: ] (¬3) ما رأيتُ أعبدَ من سريّ، أتت عليه ثمانٌ وتسعون سنة ما رُئي مُضطجعًا إلَّا فِي علَّة الموت (¬4). [وحكى الخطيب عن علَّان الخياط قال: ] (¬5) اشترى سَرِيٌّ كُرَّ لوز بستين دينارًا، وكتب فِي روزنامجة (¬6): ربحُه ثلاثةُ دنانير، فصار [الكرّ] يساوي تسعين دينارًا، فجاء الدلَّال يشتريه منه، فقال له سريّ: خذه بثلاثةٍ وستين دينارًا، فقال له الدلَّال: قد بلغَ الكُرُّ تسعين دينارًا، فقال له سري: قد عاهدتُ الله أنِّي أبيعُه بـ[ربح] ثلاثة دنانير، فقال الدلال: وأنا عاهدتُ الله أن لا أغشَّ مسلمًا، فلا سريٌّ باع ولا الدلالُ اشترى (¬7). وقال أبو الورد: دخلتُ على سريٍّ وبين يديه دَوْرَقٌ مكسور وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ ! أنا أشتري لك عوضَه بدانق، فقال: كيف لا أبكي؟ ! وأنا أعرفُ من عملَه، ومن [أين] (¬8) طينه، والدانقُ الَّذي اشتريَ به، وأيَّ شيءٍ أَكَلَهُ الَّذي عملَه حتَّى فرغَ منه (¬9). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 7/ 77، 78 (مخطوط). (¬2) تمام الكلام -كما فِي تاريخ دمشق 7/ 79: قال أبو علي الحسن البزار: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن السريّ بعد قدومه من الثغر، فقال أبو عبد الله: أليس الشيخ الَّذي يعرف بطيب الغذاء؟ قلت: بلى، قال: هو على ستره عندنا قبل أن يخرج، وقد كان السري يكثر من ذكر طيب الغذاء وتصفية القوت وشدة الورع، حتَّى انتشر ذلك عنه، وبلغ ذلك أحمد بن حنبل فقال: للشيخ الَّذي يعرف بطيب الغذاء. اهـ. وانظر صفة الصفوة 2/ 378. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال الجنيد. (¬4) تاريخ بغداد 10/ 266. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال علان الخياط. (¬6) روزنامجه: مصغر روزنامه؛ الدفتر اليومي للتجار. المعجم الذهبي ص 302. (¬7) تاريخ بغداد 10/ 263. (¬8) لفظة "أين" من تاريخ بغداد 10/ 263. (¬9) من قوله: وقال أبو الورد ... إلى هنا. ليس فِي (ب).

[وحكى الخطيبُ عن سعيد بن عثمان قال: سمعتُ سريًّا يقول: ] (¬1) غزونا بلدَ الروم، فمررتُ بروضةٍ خضراء فيه خُبَازى (¬2) وحجرٌ منقور فيه ماء المطر، فقلت فِي نفسي: لئن كنت أكلتُ حلالًا فاليوم، فنزلتُ عن الدابَّة وسيبتها، وأكلتُ من الخُبَازى، وشربتُ بيدي من الحجر المنقور، فهتفَ بي هاتفٌ: هب أنَّك اليوم أكلتَ حلالًا، فالنفقةُ التي بلَّغتْكَ إلى ها هنا من أين؟ ! [وحكى الخطيب عن الحسن المُسُوحي قال: ] (¬3) دفع إليَّ سريٌّ قطعةً، وقال: اشْتري [لي] بها باقلاء ممَّن قِدْرُه داخل [الدكان أو] الباب، فطفتُ الكَرْخَ كلَّهُ، فلم أجد إلَّا من قِدْره خارج الباب، فرجعتُ إليه فأخبرتُه، وقلت: خذْ قطعتَك، فإني ما وجدتُ إلَّا من قِدْره خارج الباب (¬4). قال المصنف رحمه الله (¬5): وإنَّما قال سريٌّ ذلك؛ لأنَّ قدورَ أصحاب الباقلَّاء إذا كانت خارجَ الباب كانت فِي طريق المسلمين، فتورَّعَ سريٌّ عن ذلك. [وحكى الخطيب عن الجنيد قال: ] (¬6) قال سريّ: ما أحبُّ أنْ أموتَ حيث أعرف، أخافُ أن لا تقبلني الأرض، فأفتضح، وإني لأنظرُ إلى أنفي كلَّ يومٍ مرتين مخافةَ أن يكون قد اسودَّ وجهي (¬7). وقال سريّ: إنِّي لأنظرُ فِي المرآة كلَّ يوم مرارًا؛ مخافةَ أن يكون قد اسودَّ وجهي (¬8) لما أتعاطاه، وأشتهي أن أُدفَن فِي غير بغداد؛ أخافُ أن لا تقبلني الأرضُ، فأفتضح. [وحكى عنه فِي "المناقب" أنَّه قال: ] (¬9) لي منذ ثلاثين سنة أشتهي أنْ أغمسَ جزرةً ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال سري - رضي الله عنه -. (¬2) الخبازى: جنس نبات منه نوعٌ يطهى ورقه فيؤكل. المعجم الوسيط (خبز). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال الحسن التنوخي. (كذا). (¬4) تاريخ بغداد 10/ 265. (¬5) فِي (ب): قلت. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال الجنيد. (¬7) حلية الأولياء 10/ 116، ومناقب الأبرار 1/ 150، وصفة الصفوة 2/ 376. ولم أقف عليه فِي تاريخ بغداد. (¬8) من قوله: وقال سري إني لأنظر ... إلى هنا ليس فِي (ب). (¬9) ما بين حاصرتين من (ب)، والخبر فِي مناقب الأبرار 1/ 154.

فِي دبس وآكلها، فما [صحَّت لي، أو ما] أَطَعْتُ نفسي (¬1). [وحكى أبو نعيم عنه أنَّه قال: ] (¬2) أشتهي أن آكلَ أكلةً ليس لله عليَّ فيها تَبِعَة، ولا لمخلوقٍ عليَّ فيها منَّة، ولم أجد إليها سبيلًا (¬3). وقال: أشتهي الباقلّاء (¬4) منذ ثلاثين سنةً ما أقدرُ عليه، وأشتهي الحندقوقا (¬5) منذ [ست عشرة سنة، والهندباء بخلّ منذ] (¬6) ثماني عشرة سنة، ما أقدرُ عليه، فالعجبُ لمن يتَّسعُ فِي المآكل. وكان يقول: ما دام ملحُك مدقوقًا ما تفلح (¬7). [وحكي عن أبي العبَّاس المؤدِّب قال: ] (¬8) دخلت على سريٍّ فقال: لأعجبنَّك من عصفورٍ يجيءُ فيسقطُ على هذا الرِّواق، فأكون قد أعددت له لُقيمةً، فأفتُّها، فيسقطُ على أطراف أناملي فيأكل، فلمَّا كان وقتٌ من الأوقات سقطَ على الرِّواق، ففتَّيتُ له الخبزَ على يدي، فلم يسقط على أناملي كما كان، ففكَّرتُ فِي سِرِّي؛ ما العلَّة فِي وَحْشَته منِّي؟ فوجدتُني قد أكلت ملحًا مطيَّبًا، فقلت فِي نفسي: أنا تائبٌ من الملح المطيَّب، فجاء العصفورُ فسقطَ على أناملي، ثمَّ انصرف (¬9). [وحكى ابن باكويه عن سريٍّ قال: ] (¬10) حمدتُ الله مرةً، فأنا أستغفرُ الله من ذلك الحمدِ منذُ ثلاثين سنة؛ وقعَ حريقٌ فِي السوق، فخرجتُ أتعرَّفُ حال (¬11) حانوتي، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 265. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال. (¬3) حلية الأولياء 10/ 116. (¬4) فِي تاريخ بغداد 10/ 264: أشتهي بقلًا. (¬5) الحندقوق: جنس نباتات عشبية حولية. المعجم الوسيط (حندقوق). (¬6) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 10/ 264. (¬7) تاريخ بغداد 10/ 265. ومن قوله. وقال أشتهي الباقلاء ... إلى هنا ليس فِي (ب). (¬8) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أبو العباس المؤدب. (¬9) صفة الصفوة 2/ 379. وأخرجه أبو نعيم فِي حلية الأولياء 10/ 123 عن أحمد بن خلف. (¬10) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال سريّ. (¬11) فِي (ب): خبر.

فالتقاني رجلٌ فقال: احترقت الحوانيتُ كلُّها إلَّا حانوتك، فقلت: الحمدُ لله حيث سلَّم متاعي، ثم فكَّرتُ فإذا بها خطيئة، حيث أردتُ لنفسي خيرًا دون المسلمين (¬1). وكان سريٌّ تاجرًا فِي السوق، [فترك التجارة، وسببه أنَّ معروفًا الكرخيّ كان يتردَّدُ عليه فجاءه يومًا يتيمٌ]، (¬2) فقال: اكسه (¬3)، فكساه، فقال له معروف: بغَّضَ الله إليك الدنيا، فقام من السوق، ولزم بيته والعبادة. [وقال فِي "المناقب": ] لمَّا ترك [سريٌّ] التجارة كانت أختُه تنفقُ عليه من غَزْلها، فأبطأت عليه يومًا، فسألها عن [ذلك] فقالت: ما اشتروا غَزْلي، ذكروا أنَّه مخلوط، فامتنعَ من] طعامها، فدخلت عليه يومًا، فرأت عنده عجوزًا كبيرةً، تكنسُ بيته قد حملت له رغيفين، فحزنت (¬4) وشكَت إلى الإمام أحمد، فعاتبَه على ذلك، فقال: لمَّا امتنعتُ من أكل طعامِها قيَّض الله لي الدنيا فِي صورةِ عجوزٍ تُنفِقُ عليَّ وتخدمُني. [وذكر فِي "المناقب" عن علي بن الحسين بن حرب قال: ] (¬5) بعثني أبي إلى سريّ [بشيءٍ من حبِّ] السعال؛ لسعالٍ كان به، فقال لي: كم [ثمنه] (¬6)؛ قلت: لم يقل [لي] شيئًا (¬7)، فقال: سلِّم عليه وقل له: نحن نعلِّم الناسَ منذُ خمسين سنةً لا يأكلُوا بأديانهم، فترانا نأكُل اليومَ بديننا، ولم يأخذه (¬8). وقال الجنيد: كان سريٌّ يدافعُ أوَّل اللَّيل، فإذا غلبَهُ الوجدُ أخذَ فِي البكاء والنَّحيب. [وحكى ابن باكويه عن سريّ قال: ] (¬9) صليتُ ساعةً فِي الليل ثم جلست لأستريح، ¬

_ (¬1) انظر تاريخ بغداد 10/ 262، ومناقب الأبرار 149. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فجاءه معروف الكرخي. (¬3) فِي (خ) و (ف): اكسني. وانظر مناقب الأبرار 1/ 149. (¬4) فِي (ب): فخرجت. وانظر الخبر فِي مناقب الأبرار 1/ 153. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال سهل بن الحسين بن حرب. (¬6) مكانه بياض فِي (ف). وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) من قوله: بشيء من حب ... إلى هنا. ليس فِي (خ)، ومكانه فيها بياض كتب فوقه: بياض فِي الأصل. (¬8) مناقب الأبرار 1/ 152، وانظر حلية الأولياء 10/ 117. (¬9) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال سري.

فمددت رجلي، فنوديت: يا سريّ، من يجالسُ الملوك ينبغي أن يجالسَهم بحسن الأدب. [وذكر فِي "المناقب" بمعناه، وفيه: قال سريّ: ] فضممتُ رجلي، وقلت: وعزَّتك لا مددتُ رجلي أبدًا (¬1). [وحكى الخطيب عن عليّ بن عبد الحميد الغضائري قال: ] (¬2) دققتُ البابَ على سريّ، فسمعتُه يقول: اللهمَّ اشغل من جاء يشغلني عنك بك (¬3). [وحكى ابن جَهْضَم عن الجنيد قال: ] (¬4) دخلتُ على سريّ، وبين يديه كوزٌ مكسور وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: كنت صائمًا، فجاءت ابنتي بكوزٍ من ماء، فعلَّقتهُ هناك، وكان يومًا حارًّا، وقالت: يبردُ لتفطرَ عليه، فحملتني عيني [فنمت]، فرأيتُ [في المنام] كأنَّ جاريةً دخلت من هذا الباب، عليها قميصُ فضَّة، وفي رجليها نعلان، لم أرَ قطُّ قدمًا فِي نعلٍ أحسن منهما، فقلتُ لها: لمن أنت؟ فقالت: لمن لا يبرِّدُ الماء فِي [الكيزان الخضر] (¬5)، ثم ضربت بكمِّها الكوز، فرمت به، فتكسَّر، فانتبهت، وهو كما ترى. قال الجنيد: فاختلفتُ إليه مدَّةً وأرى الكوزَ بين يديه مكسورًا، قد عفا عليه التراب، وهو لا يرفعُه (¬6). وقال لي الجنيد: قال [لي] سريّ: اجتهد أن تكونَ آلةُ بيتك خزفًا (¬7). [وحكى الخطيب عن علَّان الخيَّاط قال: ] (¬8) جاءت امرأةٌ إلى سريٍّ [السَّقَطيّ] فقالت: يا أبا الحسن، أخذ ابني الطَّائف، وأخافُ أن يفرُط فيه أمرٌ، فإن رأيتَ أنْ ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 153، وانظر حلية الأولياء 10/ 120، وتاريخ بغداد 10/ 261. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال علي بن عبد الحميد الغضائري. (¬3) المنتظم 13/ 251 من طريق الخطيب، وصفة الصفوة 2/ 374. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال الجنيد. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ): الكوز. ومكانها فِي (ف) بياض. (¬6) صفة الصفوة 2/ 380. (¬7) صفة الصفوة 2/ 375. وما بين حاصرتين من (ب). (¬8) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال علان الخياط.

تجيءَ معي إلى الوالي، فقام يصلِّي وأطال صلاتَه، فقالت المرأة: الله الله فِي ولدي، فسلَّم وقال: ففي حاجتك أنا، فجاءت امرأةٌ فِي الحال تقول لها: الحقي ابنك فقد أُطلق. [ثم قال علَّان: اشترى كُرَّ لوزٍ بستين دينارًا. ذكر الحكاية. ثم قال علَّان: وكيف لا يُستجاب دعاء من هذا فعلُه (¬1). وحكى فِي "المناقب" عن الجنيد قال: ] (¬2) قال لي سريّ: خفيَت عليَّ علَّةٌ ثلاثينَ سنة، وذلك لأنَّا كنَّا جماعةً نبكِّرُ إلى الجمعة، ولنا أماكنُ قد عرفت بنا، فمات [لنا جارٌ] (¬3) يوم الجمعة، فخرجتُ فِي جنازته، وارتفع النهار، وجئتُ إلى الجامع، فلمَّا قربتُ من المكان الَّذي أصلِّي فيه، قالت لي نفسي: الآن يرونَك وقد أصبحت (¬4) وتأخَّرت عن وقتك، [قال: ] فانتبهت، وقلتُ لها: أراك مرائيةً منذ ثلاثين سنة، وأنا لا أدري، فتركتُ ذلك [المكان]، وجعلتُ أصلِّي فِي أماكن مختلفة؛ لئلَّا [أعرف، أو] يُعْرَفَ مكاني، وقضيتُ صلاةَ الجمع لمدَّة ثلاثين سنة. ذكر طرفٍ مما لقي فِي سياحته: [وحكى عنه فِي "المناقب"] قال: مررتُ ببعض الجبال، فإذا بجماعةٍ مرضى وزَمْنى وعميان، فقلت: ما تصنعون ها هنا؟ فقالوا: ها هنا رجلٌ صِدِّيق، يخرجُ إلينا فِي كل سنةٍ مرَّةً واحدة، يدعو لنا فنشفى، [قال: ] فأقمتُ حتَّى خرجَ فدعا لهم، فشفوا، فتقدَّمتُ إليه وقلت: أنا مريضٌ، وبي علَّةٌ باطنة، فما دواؤها، وتعلَّقتُ به، فقال: خلِّ عني يا سريّ، فإنَّه غيورٌ، واحذر أن تسَاكنَ غيره فتسقط من عينه (¬5). [قال: وقال سريٌّ: مررتُ براهبٍ فناديتُه، فأشرفَ عليَّ، فقلت: ما بالكم تعجبكم ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 262 - 263. وانظر ما سلف. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال الجنيد. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): أحدنا. وانظر مناقب الأبرار 1/ 154، وحلية الأولياء 100/ 125. (¬4) فِي حلية الأولياء: أضحيت. (¬5) مناقب الأبرار 1/ 156. ومن قوله: فإنَّه غيور ... إلى هنا ليس فِي (ب).

الخضرة؟ فقال: إنَّ القلوبَ إذا غاصت فِي بحار الفكر غشيت الأبصار، فإذا نظرَتْ إلى الخضرة عاد إليها نسيمُ الحياة (¬1). قال: ] وقال [سريّ: ] صحبتُ رجلًا من أهل سرَّ من رأى يعرف بالواله سَنةً، فلم أسأله [عن] مسألة، فقلت له يومًا: أيشٍ المعرفة التي [ليس] فوقها معرفة؟ [فـ] قال: أن تجدَ الله أقرب إليك من كلِّ شيء، وأحبَّ إليك من كلِّ شيء، وأن تمحوَ من باطنك وظاهرك كل شيءٍ غيره. [قال: ] فقلت: فبأيِّ شيء أتوصَّل إلى ذلك؟ قال: بزهدك فيك، ورغبتك فيه. [قال: ] وكان ذلك سببًا لانتفاعي بهذا الأمر. [وحكى عنه فِي "المناقب" قال: ] (¬2) بتُّ ليلةً فِي بعض قرى الشام، فسمعت طائرًا يصيحُ طول الليل: أخطأتُ ما أعود، فسألتُ أهلَ القرية عنه، فقالوا: هذا يقالُ له: فاقدُ إلفه. [وحكى أيضًا عن سريٍّ قال: ] بينا أنا سائرٌ فِي الشام، إذ مِلْتُ عن الطريق، فإذا بعابدٍ على رأس جبل، فوقفتُ عليه وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: وكيف لا أبكي وقد توعَّرَ الطريق، وقلَّ السالكون له، وهُجِرت أعمالُ القُرَب، وقلَّ الراغبون فيها، ورُفضَ الحقُّ، ودرسَ هذا الأمرُ، فلا أراه إلَّا فِي لسان كلِّ بطَّال؛ ينطقُ بالحكمة، ويفارق الأعمال، قد افترشَ الرُّخصَ، وتمهَّد التأويل، ثمَّ صاح وقال: آه، كيف سكنت قلوبُهم إلى راحة الدنيا، وانقطعت عن روح الملكوت الأعلى؟ ثمَّ ولَّى صارخًا وهو يقول: واغمَّاه من فتنة العلماء، واكرباه من حيرة الأدِلَّاء، ثمَّ جال جولةً وقال: أين الأبرارُ من العُبَّاد؟ أين الأخيارُ من الزُّهَّاد، ثمَّ بكى وقال: شغلهم والله ذكرُ طول الوقوف وهمُّ الجواب عن ذكر الجنَّة والنار والثواب والعقاب، ثمَّ قال: وأنا فأستغفرُ الله من شهوة الكلام، تنحَّ عني [يا سريّ، فخليتُه] وقد مُلِئتُ منه رعبًا (¬3). [وفي رواية: فتنحينا منه، وقد ملئنا .. وذكره. ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 156. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال سري. والكلام مع الخبر الذي قبله فِي مناقب الأبرار 1/ 158 - 159. (¬3) كذا، وفي مناقب الأبرار 1/ 162، وصفة الصفوة 4/ 360: وقد ملئنا منه غمًّا وهمًّا.

وحكى أيضًا عن سريّ قال: ] (¬1) بدوت يومًا وأنا وحدي (¬2)، فجنَّ عليَّ الليل وأنا بفناء جبل لا أنيسَ به، ووقتي طيبٌ، فناداني منادٍ: لا تجولُ القلوب فِي الغيوب حتَّى تذوبَ النفوسُ من مخافة فوتِ المحبوب، [قال: ] فعجبتُ وقلت: جِنِّيٌّ يخاطبُني أم إنسيّ؟ ! فقال: بل جِنِّيّ، ومعي إخواني (¬3)، ونحن مؤمنون بالله، ومحبُّون له، [قال: ] قلت: فهل عندهم ما عندك؟ قال: نعم وزيادة، فناداني الثاني: لا تذهبُ من البدن الفترة إلَّا بدوام القربة (¬4)، ثمَّ قال الثالث: من أنس به فِي الظلام لم يبقَ له بغيره اهتمام، [قال: ] فصعِقتُ، فما أفقتُ إلَّا برائحة الطيب، وإذا بنرجسةٍ على صدري، فقلت: وصية رحمكم الله، فقالوا: من اتبع طبيبًا مريضًا دامت علَّتُه، ومن طلب شفاه من غير من ابتلاه طالت شقوته، ثمَّ سكتوا، فلا أزالُ أجدُ بركةَ كلامهم فِي خاطري. [وحكى أيضًا عن سريٍّ قال: ] رأيتُ فِي بعض جبال الشام ثلاثةً، لباسُهم الصوف، ووجوهُهم تشرق، فسلَّمتُ عليهم، فردُّوا وقالوا: وعليك السلام يا سريّ، فقلت: من أين [تاكلون]؟ فقال واحدٌ منهم: من زهرة رياض الأُنس، قلت: بمن؟ قال الثاني: بالحبيب ذي المواهب، قلت: فما كنتم تصنعونَ فِي تلك الزهرة؟ فقال الثالث: نشربُ بكؤوس الوجد، قلت: فما استفدتم؟ فقال الأول: انحسر عنَّا ظلامُ الغفَلات، وقال الثاني: فخرجنَا إلى النور بعد الظُّلمات، وقال الثالث: وأعطينا مفاتيحَ الكنوز، وصرنا عليها مأمونين، وفي رياض الملكوت متنزهين. ثمَّ حرَّكَ أحدُهم شفته، فإذا بمائدةٍ من السماء [قد نزلت علينا]، عليها من كلِّ لون، فقلت: سبحان المكرم لأوليائه، فقالوا: إن كنتَ وليًّا لله فتقدَّم وكُلْ، فقلت: أنا أحقرُ من ذلك، فجلسوا يأكلون، وإذا بفتيان قد انحدروا من الجبل، وجلسُوا يأكلونَ معهم، فنظرُوا إليَّ وأنا ناحية أبكي، فقال واحدٌ منهم: ما بالُ البطَّال لا يحيرُ جوابًا؟ ثم قال: ويحك يا ابن المغلّس، هلَّا جلستَ فِي أفنية أهل الصدق، وحططتَ رحلَك فِي رحال ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال سري. وهذا الخبر وسابقه فِي المناقب 1/ 158 - 159. (¬2) كذا فِي (خ) و (ف) و (ب). وفي مناقب الأبرار 1/ 162، وصفة الصفوة 4/ 446، وذيل تاريخ بغداد 18/ 332: وأنا حدث. (¬3) فِي (خ) و (ف): أخداني. والمثبت من (ب) ومناقب الأبرار، وصفة الصفوة. (¬4) فِي مناقب الأبرار وصفة الصفوة وذيل تاريخ بغداد: الغربة.

أهل القرب، ومواطن أهل الصفاء، وأحرقت بالخشية منك مواد الشكوك، حتَّى يرتعَ بك اليقين فِي رياض الأنس، فتصيرَ له جليسًا، ويكون لك طبيبًا وأنيسًا، فقلت: بالذي أكرمكم بهذه الكرامة من أنتم؟ قالوا: نحنُ الأبدال، أكرمَنا الله بهذه المائدة، ثمَّ غابوا عني. [ذكر طرف من كراماته: وقد حكينا أنَّ الله قيَّضَ له الدنيا تخدمُه، وحديثَ الكوز، وحديثَ المرأة أخذَ ولدها الوالي. وقال فِي "المناقب": قال علَّان الخيَّاط: كان لسريّ تلميذةٌ، ولها ولد عند المعلِّم فِي الكتَّاب، فأرسله المعلِّمُ إلى الرَّجَا (¬1)، فنزلَ فِي الماء، فغرق، فجاءَ المعلِّمُ إلى سريٍّ فأخبره، فقال: قوموا بنا إلى أُمِّه، فجاؤوا فجلسوا عندها، وأخذَ سريٌّ يتكلَّم، ثم تكلَّم فِي علوم الرضى، فقالت: يا أستاذ، ما تريدُ بهذا؟ فقال: ابنُك قد غرق، فقالت: ما فعلَ ربِّي هذا، أين غرق. قال: فِي الرَّجَا، فقالت: قومُوا بنا إليه، فجاؤوا إلى الرَّجا، فقالت: أين غرق؟ فأشارُوا إلى مكانٍ فِي النهر، وقالوا: هاهنا، فصاحت: ابني محمد، فقال: لبيكِ يا أمَّاه، فقالت (¬2) ونزلت فأخذت بيده، ومضت إلى منزلها. وكان مع سريٍّ جماعةٌ من أصحابه، فقال لهم سريّ: ما تقولون فِي هذا؟ فقال الجنيد: إنَّ المرأةَ مراعيةٌ لحقِّ الله تعالى، ومن حُكْمِ من كان هكذا أنْ لا يُحدِث الله فِي الكون حادثةً حتَّى يعلمَه بها، ولمَّا لم يُعْلِمها بهذا أنكرت تلك الحادثة، وقالت: إنَّ ربِّي ما فعل هذا، ولو فعلَه لعلمت. قلت: وليس كلُّ من كان مراعيًا لحقِّ الله من شرطه أن لا يُحدِثَ الله حدثًا حتَّى يُعلِمَه؛ لأنَّ أفعال الله تعالى لا تحتاجُ إلى مشاورة، وإنما يُحمَل على أنَّ المرأة علمت إمَّا بإلهامٍ أو بمنامٍ أنَّ ابنها يطول إلى مدَّةٍ، فوافقَ أنَّه غرق فِي ماء ضَحْضَاحٍ لم يغمره، ¬

_ (¬1) الرجا: ناحية البئر. القاموس (رجا). (¬2) كذا في (ب).

ولم يفنَ أجلُه، إذ لو فنيَ أجلُه لما عاش، فكان ذلك من باب الكرامات، يجري الله على يديها هذا، فما ظنُّكم بالشيخ (¬1). ذكر نبذة من كلامه: حكى عنه فِي "المناقب" قال: اعتللت علَّةً بطرَسُوس، وكانت علَّة الذَّرَب، فدخل عليَّ جماعة من ثقلاء القرَّاء يعودوني، فأطالوا الجلوسَ، فآذاني ذلك، فقالوا: إن رأيت أن تدعو لنا، فمددتُ يدي وقلت: اللهمّ علِّمنا كيف نعودُ المرضى، فقاموا (¬2). وحكى أيضًا عن الجنيد قال: ] (¬3) دخلتُ يومًا على سريّ، فوجدتُه متغيِّرَ اللون، فقلت له: ما لك؟ قال: دخل عليَّ شابٌّ، فسألني عن التوبة، فقلت: أن لا تنسى ذنبَك، فعارضني وقال: بل التوبةُ أنْ تنسى ذنبَك، قال الجنيد: فقلت: الأمرُ عندي على ما قال الشاب، قال: ولم؟ قلت: لأني إذا كُنْتُ فِي حال الجفاء، فنقلني إلى [حال] الصَّفاء، فذكرُ الجفاء في حال الصفاء جفاء، فسكت (¬4). [قلت: الأمرُ على ما قال سريّ؛ لأنَّه ليس من لوازم أحوال الصفاء أن (لا) (¬5) يذكر فيها أوقات الجفاء، وقد رأينا أناسًا نسوا ذنوبهم، قطعوا وحاروا، وأقوامًا جعلوا ذنوبهم مرآةً بين أعينهم كيف ما دارت داروا. والأَولى أن يكون الإنسان طول دهره على وجل، ولا يسلك به الغرورُ سبيلَ الأمل، وما زال الخائفون على هذا. وحكى أبو عبد الرَّحمن السلميُّ عن سريٍّ أنَّه قال: ] (¬6) من أراد أن يسلمَ له دينُه، ويستريحَ قلبُه وبدنُه، ويقلَّ غمُّه، فليعتزل النَّاس، فإنَّه زمانُ عزلةٍ ووحدة (¬7). [قال: ] وقال: اللهمَّ إن عذَّبتني، فلا تعذِّبني بذلِّ الحجاب (¬8). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 159 - 160. (¬2) انظر حلية الأولياء 10/ 122، ومناقب الأبرار 1/ 153 - 154. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال الجنيد. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 154 - 155، والرسالة القشيرية ص 172. (¬5) ما بين قوسين زيادة يقتضيها السياق. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال سري. (¬7) طبقات الصوفية ص 50. (¬8) طبقات الصوفية ص 51.

[قال: ] وسُئِل عن أهل الحقائق فقال: أَكْلُهم أكلُ المرضى، ونومُهم نومُ الغرقى (¬1). وقال الجنيد: قال لي سريّ: احذر أنْ تكون ثناءً منشورًا وعيبًا مستورًا (¬2). وقال: قلوب المؤمنين متعلقةٌ بالسوابق، يقولون: ترى ماذا سبق لنا؟ وقلوبُ الأبرار متعلِّقة بالخواتيم، يقولون: ترى بماذا يختمُ لنا؟ (¬3) وقال: من حاسبَ نفسه استحيى الله من حسابِه. [وحكى ابن باكويه عن سريّ أنَّه قال: ] (¬4) الشوقُ والأنسُ يرفرفان على القلب، فإن وجدا فيه الهيبةَ والتعظيم حلَّا، وإلَّا رحلا. [وحكى عليُّ بن جَهْضَم عنه أنَّه قال: ] إذا فاتني شيءٌ من وردي، لم أقدر على أن أعيده (¬5). قال المصنفُ رحمه الله (¬6): أشارَ إلى أنَّ الزمانَ الَّذي يعيدُه فيه أنَّه يذهبُ بمقابلته زمانٌ آخر؛ لأنَّه مجتهدٌ فِي العمل لا يفتر، وقد قيل لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لم لا تنام؟ فقال: ليس لي وقتٌ أنام فيه، وكان ينعس وهو قاعد، ويقول: إن نمتُ بالنهار ضيَّعتُ المسلمين، وإن نمتُ بالليل ضيَّعت [حظَّ] نفسي من الله تعالى (¬7). [وحكى ابن جهضم عنه أنَّه قال: ] (¬8) لو أنَّ رجلًا دخل بستانًا، فيه من جميع الأشجار، وعليها ما خلقه الله من الثمار والأطيار، فخاطَبه كلُّ طائرٍ بلغته وقال: السلام عليك يا وليَّ الله، وسكنت نفسُه إلى ذلك، كان أسيرًا فِي يدها مخدوعًا (¬9). [وحكى فِي "المناقب" عن سريٍّ أنَّه قال: ] (¬10) التصوُّفُ اسمٌ لثلاثة معانٍ؛ أحدها ¬

_ (¬1) انظر حلية الأولياء 10/ 125. (¬2) انظر حلية الأولياء 10/ 119. (¬3) انظر حلية الأولياء 10/ 221. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال. (¬5) انظر طبقات الصوفية ص 50، وحلية الأولياء 10/ 124، وصفة الصفوة 2/ 381. (¬6) فِي (ب): قلت. (¬7) انظر صفة الصفوة 2/ 382. (¬8) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال. (¬9) انظر حلية الأولياء 10/ 118، ومناقب الأبرار 1/ 153. (¬10) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال.

أنَّ الصوفيَّ [هو] الَّذي لا يطفئُ نورُ معرفته نورَ ورعه، ولا يتكلَّم فِي علمٍ باطنٍ ينقضُه عليه ظاهرُ الكتاب، ولا تحملُه الكراماتُ على هتك أستار المحرَّمات (¬1). [قال: ] وقال لي رجلٌ: ادع لي، [فقال: ] جمعَ الله بيننا تحتَ شجرة طُوبى، فإنَّ أولَ ما يدخلُ المحبُّونَ الجنَّة يستريحونَ تحتها. [قال: ] وتكلَّمَ يومًا فِي الصبر فدبَّت عقربٌ على رجله، وجعلت تضربُه [مرارًا]، وهو صابرٌ حتَّى سال دمه، فقيل له: لم لا تنحِّيها؟ فقال: إئي أستحي من الله أن أتكلَّم فِي الصبر ولا أصبر (¬2). [قال: ] وقُرِئ بين يديه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَينَكَ وَبَينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] فقال: هذا حجابُ الغيرة، ومعناه أنَّ الله لم يجعل الكفَّار أهلًا لمعرفته (¬3). وقال الجنيد: دفعَ إليَّ سريٌّ رقعةً، وقال: هذه خيرٌ لك من الدنيا وما فيها، فقرأتُها وهو يقول: سمعتُ حاديًا يحدو فِي البادية يقول: [من الكامل] أبكي وما يدريكَ ما يبكيني ... أبكي حذارًا أنْ تفارقينِي وتقطعي حبلي وتهجريني ... وتجعلين الهجرَ منك دينِي (¬4) قال: ودفع إليَّ رقعةً أخرى وقال: هذه خيرٌ لك من كذا وكذا، فقرأتُها فإذا فيها: [من الطويل] ولمَّا ادَّعيتُ الحبَّ قالت كذبتَني ... فما لي أرى الأعضاءَ منك كواسيَا فلا حبَّ حتَّى يلصقَ الجسمُ (¬5) بالحشا ... وتخرس (¬6) حتَّى ما تجيب المناديَا وتتلفَ حتَّى لا يُبَقِّي لك الهوى ... سوى مُقلةٍ تبكي بها وتناجيَا ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 149، وتاريخ دمشق 7/ 92 (مخطوط). (¬2) مناقب الأبرار 1/ 155، والرسالة القشيرية ص 298. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 156، والرسالة القشيرية ص 396. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 156، والرسالة القشيرية ص 498 دون الشطر الأخير. (¬5) فِي مناقب الأبرار 1/ 156، والرسالة القشيرية ص 486: القلب، وفي تاريخ دمشق 7/ 92 (مخطوط): الجلد. (¬6) فِي مناقب الأبرار 1/ 156، والرسالة القشيرية ص 486: وتذبل.

وقال سريٌّ: تطربُ قلوب المحبِّين عند السماع، وتخافُ قلوب المقصِّرين، وتلهبُ قلوبُ المشتاقين (¬1). وقال الجنيد: دخلتُ عليه يومًا وهو ينشد [ويقول: ] [من البسيط] لا فِي النهار ولا فِي الليل لي فَرَجٌ (¬2) ... فما أبالي أطال الليلُ أم قصرَا لأنَّني طولَ ليلي هائمٌ دَنِفٌ ... وفي النهارِ أقاسي الهمَّ والفِكرَا ثم قال: لولا خوفُ الشناعة لصِحتُ، ثم قال: أين شاهد هذا؟ قالوا: لا نعلم، قال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس عند ربكم ليل ولا نهار" (¬3) فمن كان عند ربِّه فليس فِي ليلٍ ولا نهار. [قلت: قد فاتَ سريًّا المعنى؛ لأنه من كان عند ربِّه يغيب عن الموجودات، فلا يبقى له رسمٌ، ولا يَعرفُ عكرًا ولا همًّا] (¬4). وقال: الفوائدُ ترِدُ فِي ظلماتِ الليل. (¬5) وقال الجنيد: قال لي سريٌّ: ما أرى لي فضلًا على أحد، فقلت: ولا على المخنَّثين؟ فقال: ولا على المخنَّثين (¬6). [وحكى أيضًا عن الجنيد قال: ] (¬7) كُنْتُ نائمًا عند سريّ، فأيقظني وهو يبكي، فقلت: ما لك؟ فقال: رأيتُ كأنَّ الله تعالى أوقفني بين يديه وقال: يا سريّ، قلت: لبَّيك، فقال: خلقتُ الخلقَ، فكلُّهم ادَّعوا محبتي، وخلقتُ الدُّنيا، فهربَ مني تسعةُ أعشارهم إليها، وبقي معي العشر، وخلقتُ الجنَّة فذهب (¬8) إليها تسعةُ أعشار ذلك العشر، وبقيَ معي عشر العشر، وخلقتُ النَّار فذهب إليها تسعةُ أعشار عشر العشر، [فسلَّطت عليهم البلاء، ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 162، ومن قوله: وقال الجنيد دفع إلى سري ... إلى هنا. ليس فِي (ب). (¬2) فِي مناقب الأبرار 1/ 163، والطبقات الكبرى ص 64: فرح. (¬3) لم أقف عليه مرفوعًا، وأورده ابن القيم فِي عدة الصابرين ص 209 موقوفًا على ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) من قوله: وقال الفوائد ... إلى هنا. ليس فِي (ب). (¬6) طبقات الصوفية ص 49 - 50. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال الجنيد. (¬8) فِي (ب): فهرب.

فهرب مني تسعة أعشار عشر العشر، ] (¬1) فقلتُ لما بقي: لا فِي الدنيا أردتم، ولا للجنة طلبتم (¬2)، ولا من النار هربتم، ولا من البلاء فررتُم، فما الَّذي أردتم؟ قال المصنف رحمه الله (¬3): كذا وقعت هذه الرواية، والصحيح [ما حدثنا به أبو اليُمن الكنديّ بإسناده عن محمد بن أحمد المفيد] (¬4) قال: سمعتُ الجنيدَ يقول: كُنْتُ نائمًا عند سريّ، فأنبهني وقال لي: يا جنيد، رأيتُ كأنِّي وقفتُ بين يدي الله تعالى، فقال لي: يا سريّ، خلقتُ الخلقَ، فكلُّهم ادَّعوا محبَّتي، وخلقتُ الدنيا، فهرب منِّي تسعةُ أعشارهم، وبقيَ معي العشر، وخلقت الجنَّة، فهربَ مني تسعةُ أعشار العشر، وبقي معي عشر العشر، فسلَّطتُ عليهم ذَرَّةً من البلاء، فهربَ مني تسعةُ أعشار عشر العشر، فقلتُ للباقين معي: لا للدنيا أردتم، ولا للجنَّة أخذتم، ولا من البلاء هربتم، فما الَّذي أردتم؟ قالوا: وإنَّك لتعلمُ ما نريد، فقال لهم: فإنِّي مسلِّطٌ عليكم من البلاء بعدد أنفاسكم ما لا تقوم له الجبالُ الرواسي، أتصبرون؟ قالوا: إذا كنتَ أنت المبتلي، فافعلْ ما شئت. فهؤلاء عبادي حقًّا (¬5). [وحكى فِي "المناقب" عن الجنيد قال: ] سألني سريٌّ يومًا عن المحبة، فقلت: قد قال قوم: هي الإيثار، وقال قومٌ: هي الموافقة، وقال قوم: كذا وكذا، فأخذ سريٌّ جلدةَ ذراعه فمدَّها، فلم تمتد، وقال: وعزَّتِه، لو شئتُ أن أقول: [إنَّ] هذه الجلدةَ يبست على هذا العظمِ من محبَّة الله تعالى لصدقت. ثم غشي عليه، فدارَ وجهُه كأنَّه قمر، وكان [السريُّ فيه] أُدْمَة (¬6). ذكر وفاته رحمة الله عليه: [قال أبو نعيم: حدثنا جعفر الخُلْدي فِي كتابه قال: سمعت الجُنيد يقول: ] (¬7) اعتلَّ ¬

_ (¬1) كذا، وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) فِي (ب): لا للدنيا طلبتم، ولا للآخرة طلبتم ... (¬3) فِي (ب): قلت. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ما رواه أحمد بن المفيد. (¬5) أخرجه أيضًا من طريق محمد بن أحمد المفيد ابنُ عساكر فِي تاريخ دمشق 7/ 88 (مخطوط). (¬6) مناقب الأبرار 1/ 149، وانظر تاريخ دمشق 7/ 88 (مخطوط)، وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال الجنيد.

سريٌّ فدخلتُ عليه أعوده، فقلت: [السلام عليك]، كيف تَجِدُكَ؟ فقال: [من الخفيف] كيف أَشْكو إلى طبيبي ما بي ... والذي بي أصابَني من طبيبي [قال: ] فأخذتُ المروحة أروِّحُه، فقال لي: كيفَ يجدُ ريحَ المروحة من جوفه يحترقُ من داخل؟ ثم قال: [من البسيط] القلبُ محترقٌ والدمعُ مستبقٌ ... والكربُ مجتمِعٌ والصبرُ مُفترِقُ كيفَ القرارُ على من لا قرارَ له ... ممَّا جنَاه الهوى والشوقُ والقلقُ يا ربِّ إنْ كان شيءٌ فيه لي فرجٌ ... فامنُن عليَّ به ما دام لي رَمقُ (¬1) [وحكى الخطيب عن علَّان الخياط قال: ] (¬2) قلت لسريّ: كيف أنت؟ فقال: [من الكامل] من لم يبتْ والشوقُ حشو فؤاده ... لم يدرِ كيف تفتَّتُ الأكبادُ (¬3) وقال الجنيد: قلت له: أوصني، فقال: إيَّاكَ ومصاحبة الأشرار، ولا يشغلنَّك عن الله [مشاهدةُ] الأخيار، ثمَّ تشهَّد، فكان [هذا] آخر كلامه (¬4). [واختلفوا في وفاته، فقال الخطيب: ] توفي يوم السبت (¬5) لستٍّ خلون من رمضان [سنة ثلاث وخمسين ومئتين. وقال جدي في "المنتظم": مات] (¬6) يوم الثلاثاء بعد أذان الفجر [لستٍّ خلون من رمضان]، ودفن بعد [صلاة] العصر، وقبره ظاهر بالشونيزيَّة (¬7). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 625، وتاريخ دمشق 7/ 88 - 89، ومناقب الأبرار 1/ 158. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال علان الخياط. (¬3) انظر طبقات الصوفية ص 55، وحلية الأولياء 10/ 119، ومناقب الأبرار 1/ 152، وتاريخ دمشق 7/ 88 والخبر فيها من رواية الجنيد قال: قال رجل لسري. (¬4) الخبر في مناقب الأبرار 1/ 161 لكن من رواية ابن أبي الورد. (¬5) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وفي تاريخ بغداد 10/ 266: الثلاثاء. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬7) المنتظم 12/ 68.

[وقال أبو عبد الرَّحمن السلمي: ] (¬1) مات [في] سنة إحدى وخمسين [ومئتين] (¬2). أو: سنة سبع وخمسين ومئتين (¬3). [وحكى الخطيب عن أبي عبيد بن حربويه قال: ] (¬4) حضرتُ جنازة سريّ، فسررتُ من كثرة الجمع، فحدَّثني رجلٌ شهد الجنازة قال: رأيتُ سريًّا في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفرَ لي ولمن حضر جنازتي وصَلَّى عليّ، قال: فقلت: فأنا ممَّن حضرها وصلى عليك، [قال: ] فأَخْرَجَ درجًا فنظر فيه وقال: مالكَ فيه اسم، فقلت: انظر جيدًا، فإنِّي حضرت، فنظر وقال: بلى، هذا اسمك في الحاشية (¬5). ذكر مسانيده: [قال الخطيب: حدَّث عن هُشيم، وأبي بكر بن عيَّاش، ويزيد بن هارون (¬6)، وكان من العبَّاد المجتهدين. وذكره الحافظُ ابن عساكر في "تاريخه" فقال: السَّريُّ السَّقَطيّ بن المُغَلِّس الصوفيّ، أحدُ الزهَّاد والأتقياء العُبَّاد، قدمَ دمشق، وحدَّث بها (¬7) عن مروان بن معاوية، ويحيى بن اليمان، ومحمد بن معن الغفاريّ، وعليّ بن غُراب، ومحمد بن فُضَيل الضبيّ، وأبي أسامة حمَّاد بن أسامة الكوفيّ وغيرهم. واجتمع بأحمد بن أبي الحواري، فقال له: يا أحمد، عظني وأوجز (¬8). وقد ذكرنا اجتماعه في ترجمة أحمد بن أبي الحواري وحكايةَ ما قال سريٌّ عن الراهب الذي لقيه لزوجةِ أحمد رايعة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬2) طبقات الصوفية ص 48. (¬3) قوله: أو سنة سبع وخمسين ومئتين. ليس في (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال عبيد بن حربويه. (¬5) تاريخ دمشق 7/ 94 من طريق الخطيب، وانظر تاريخ بغداد 10/ 266 - 267، وصفة الصفوة 2/ 385 - 386. (¬6) تاريخ بغداد 10/ 260. (¬7) لفظة: بها. ليست في تاريخ دمشق. وفيه 7/ 77: قدم دمشق، وحدث عن. . . (¬8) تاريخ دمشق 7/ 78.

عبد الله بن محمد

قال ابن عساكر: وقال سريّ: أشتهي الباقلاء منذ ثلاثين سنة ما أقدرُ عليه، وأشتهي الحندقوقا منذ ثمانية وعشرين سنة (¬1) ما أقدر عليه، فالعجب لمن يتَّسع في المآكل. قال: وكان يقول: ما دام ملحُك مدقوقًا (ما تفلح) (¬2). وقال أبو نعيم: وقد حَكَى عن سريّ أبو العباس بن مسروق الطوسيّ، وأبو الحسين النُّوري. واشتغل بحاله وخلوتِه وعزلته عن الرواية. انتهت ترجمته رحمة الله عليه] (¬3). عبد الله بن محمد ابن [أبي] (¬4) يزيد القاضي الخَلَنجي الحنفي. ولي قضاءَ دمشق، وكان من أصحاب ابن أبي دؤاد، يقول بخلق القرآن، وكان عفيفًا، وهو الذي قال: برئتُ من الإسلام إن كان كما (¬5) محمدُ بن عبد الله ابن طاهر بن الحسين بن مصعب، أبو العباس الخُزاعيّ. ولي إمارةَ بغداد في أيَّام المتوكل، وأبوه أمير، وجدُّه أمير. [وذكره الخطيب فقال: أميرٌ بن أمير بن أمير]، وكان جوادًا فاضلًا، أديبًا شاعرًا، ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 7/ 80: ست عشرة سنة. وانظر ما سلف أول ترجمته. (¬2) ما بين قوسين من المصادر، وانظر ما تقدم في الصفحة 309. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وسياق الكلام كما في (خ) و (ف): حدث عن هشيم وأبي بكر بن عياش ويزيد بن هارون وغيرهم، وحكى عنه إبراهيم بن السريّ والجنيد والعباس بن يوسف الشكلي، وأبو العباس بن مسروق الطوسي، وأبو الحسين النوري، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله تلميذ بشر الحافي، وغيرهم. واشتغل بالعبادة وحاله وورعه وخلوته وعزلته عن الرواية. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 11/ 269، وتاريخ الإسلام 6/ 107. وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬5) بعدها في (خ) بياض، وفوقه: كذا وجد. وهو مطلع شعر له، تمامه: برئت من الإسلام إن كان ذا الذي ... أتاكِ به الواشون عنِّي كما قالوا وانظر تمام الخبر في تاريخ دمشق 32/ 380 (دار الفكر).

مَأْلَفًا لأهل الفضل والأدب (¬1)، أسند الحديث، ورَوى الأشعار، [وقد ذكرنا أخباره متفرِّقة في الكتاب، وهو الذي خلع المستعين في السنة الماضية، فما طال عمره.] (¬2) وقال الحسن بن وهب: كنَّا عند محمد بن عبد الله بن طاهر، فعرضَتْ سحابةٌ، فأرعدت وأبرقَتْ ومَطَرَتْ، فقلت: [من الخفيف] هطلَتنا السماء هطلًا دِرَاكًا ... عَارَضَ المَرْزبانُ فيها السِّماكَا قلتُ للبرق إذ توقَّد فيها ... يا زنادَ السَّماء من أوراكَا أحبيبٌ أحببتَه فجفاكا ... فهو العارِضُ الذي استبكاكَا أم تشبَّهتَ بالأمير أبي العـ ... ـباس في جودِه فلستَ هناكَا (¬3) [ذكر طرف من أخباره: قال الصولي: ] وكتب ابنُ طاهر إلى جاريةٍ له فقال: [من البسيط] ماذا تقولين فيمن شفَّه سَقَمٌ ... من جَهْدِ حبِّك حتى صار حيرانَا فأجابته [تقول: ] إذا رأينا مُحِبًّا قد أضرَّ به ... جهدُ الصبابةِ أوليناهُ إحسانَا (¬4) وجلسَ ابنُ طاهر يومًا، ومعه الحسنُ بن محمَّد بن طالوت، فقال ابنُ طاهر: نحتاجُ إلى ثالثٍ نَأْنسُ به، فقال له الحسن: هاهنا ماني الموسوس، فإنَّه ظريفٌ لطيف، يُحتمَلُ ما يبدو منه لظرفِه، فأرسلَ خلفَه، فوجدَه في خراب كَرْخِ بغداد، يأوي دائمًا إلى خربة هناك، فجاء به إلى دار ابن طاهر، فدخلَ فسلَّم فأحسن، وردَّ عليه ابنُ طاهر وقال: قد آنَ لك أن تزورنا يا ماني على شوقنا إليك، فقال: يا سيدي، أمَّا الشوق فشديد، وأما الودُّ فحميد (¬5)، والبوَّابُ فظٌّ عتيد، ولو سهلَ لنا الحجابُ الغليظ، لهانت علينا الزيارة، فقال محمَّد للحسن: ما أحسنَ ما أتى به من العذر في تأخير الزيارة، ثُمَّ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 421. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) من قوله: وقال الحسن بن وهب. . . إلى هنا. ليست في (ب). وانظر الخبر في تاريخ بغداد 3/ 422، المنتظم 12/ 68 - 69. (¬4) تاريخ بغداد 3/ 424، والمنتظم 12/ 69 - 70. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬5) كذا في (خ) و (ف). وفي الأغاني 23/ 184، ومروج الذهب 7/ 386: والودُّ عتيد.

أمر محمدٌ جاريتَه فيوسة (¬1) فغنَّت: [من الطويل] ولستُ بناسٍ إذ غدَوا فتحمَّلوا ... دُموعي على الخدَّين من شدَّةِ الوجدِ وقَولي وقد سارت سُحَيرًا حُمُولهم ... بأمِّ الثنايا لا تكن آخرَ العهدِ (¬2) فبكى ماني بكاءً شديدًا، ثم قال لمحمد: أتأذنُ لي يا سيدي؟ قال: نعم، فأطرقَ ساعةً ثمَّ رفع رأسَه وقال: وعدتُ أناجي الفكرَ والدمعُ حائرٌ ... بمقلةِ موقوفٍ على الضَّرِّ والجَهْدِ ولم يعدُ هذا الأمر إلَّا بعزِّهِ ... على ظلامٍ لجَّ في الهجرِ والبعدِ (¬3) فقال له محمَّد: أحسنتَ يا ماني، أعاشقٌ أنت؟ فخجل وقال: يا سيدي، أبعدَ الشيب صبوة، وإنَّما حرَّك الطربُ وجدًا كامنًا وشوقًا مبرِّحًا، ثم غنَت الجاريةُ شعر أبي العتاهية: [من الخفيف] حجبوها عن الرياح لأنِّي ... قلتُ للريحِ بلِّغيهَا السلاما لو رَضُوا بالحجاب هانَ ولكن ... منعوهَا يومَ الرياح الكلاما (¬4) فقال ماني: ما على قائل هذا الشعر لو زادَ فيه: فتنفَّستُ ثمَّ قلتُ لقلبي (¬5) ... آهِ إن زار طيفُها إلماما (¬6) حيِّها بالسلامِ سرًّا وإلَّا ... منعوهَا لشقوتي أنْ تناما ¬

_ (¬1) في الأغاني 23/ 184: مَنُوسة. وفي عقلاء المجانين ص 120: بنُّوسة. وفي مروج الذهب 7/ 387: مؤنسة. (¬2) رواية البيت كما في الأغاني وعقلاء المجانين والوافي بالوفيات: وقولي وقد زالت بعيني حمولهم ... بواكر تُحدى لا يكن آخر العهد (¬3) كذا وقع البيت في (خ) و (ف). وراويته كما في الأغاني 23/ 184، وعقلاء المجانين ص 120، والوافي بالوفيات 4/ 348: ولم يُعْدني هذا الأمير بعدله ... على ظالمٍ قد لجَّ في الهجر والصدِّ وهو الصواب. (¬4) ديوان أبي العتاهية ص 637 (تكملة). (¬5) في المصادر: لطيفي. (¬6) رواية الشاطر الثاني كما في مروج الذهب 7/ 381: آه إن زُرْتَ طيفها إلماما، وفي الأغاني 23/ 185: ويك إن زرتَ. . . وفي عقلاء المجانين ص 121، والوافي بالوفيات 4/ 348: ويك لو زرتَ. . .

فقال محمد: أحسنتَ والله يا ماني، ثم غنّت بشعر أبي نواس: [من الخفيف] يا خليليَّ ساعةً لا تريما ... وعلى ذي صبابةٍ فأقيما ما مررنَا بقصر زينبَ إلَّا ... فضحَ الدمعُ سرِّيَ المكتومَا (¬1) فقال ماني: ظبيةٌ كالهلالِ لو تلحظُ الصـ ... ـخرَ بطرفٍ لغادرتهُ هشيمَا وإذا [ما] (¬2) تبسَّمتْ خِلْتَ ما يبـ ... ـدو من الثَّغر لؤلؤًا منظومَا فطربَ محمدٌ وقال: يا ماني، الرغبةُ في حسن ما تأتي به حائلةٌ بينك وبين الرهبة، فإن كنتَ مجيزًا فأجزْ هذين البيتين: [من السريع] لم تطبِ اللذات إلَّا بما ... دارت به أنفاسُ فيُّوسَهْ غنَّت غناها مظهرًا لذَّة (¬3) ... كانت بحسنِ الصبرِ محبوسَهْ فقال ماني: وكيف صبرُ النفس عن غادةٍ ... تظلمُها إن قلتَ طاووسَهْ وجُرْتَ إن شبَّهتَها بانةً ... في جنَّةِ الفردوسِ مغروسَهْ فقال له محمد: فاعدلْ في الوصف، فقال ماني: جَلَّت عن النعتِ فما فكرةٌ ... يدركها بالوصفِ محسوسَهْ فدعتْ له الجارية، ثمَّ قال محمد: هات يا ماني، فقال: [من المديد] مدمنُ الإغضاءِ موصولُ ... ومديمُ العتبِ مملولُ ليس لي شغلٌ فيقطعني ... فارقت نفسي الأباطيلُ أنا مغبوطٌ بزورةِ من ... ربعُهُ بالجود مأهولُ طاهرُ الأعراق ذي أَنَفٍ (¬4) ... عرفُه للناسِ مبذولُ دمُ من يشقى بصارمه ... مع هبوبِ الريح مطلولُ ¬

_ (¬1) ديوان أبي نواس ص 582. (¬2) ما بين حاصرتين من المصادر. (¬3) في مروج الذهب 7/ 370، وعقلاء المجانين ص 121: عبرةً. (¬4) كذا في (خ) و (ف). وفي مروج الذهب 7/ 392، وعقلاء المجانين ص 122: طاهري في مواكبه.

فشكرَه محمدٌ وعرضَ عليه مالًا، فأبى أنْ يقبلَه، وعرض عليه المقامَ فأبى، وقال: بل زيارة، وقام فخرج (¬1). فقال محمد للحسن: لله درُّ صالح بن عبد القدوس حيث يقول: [من الكامل] لا يعجبنَّك من يصونُ ثيابَه ... حذرَ الغبارِ وعرضهُ مبذولُ ولربما افتقرَ الفتى فرأيتَهُ ... دنسَ الثيابِ وعرضُه مغسولُ ومن شعر محمد بن طاهر: [من الوافر] أواصلُ من هويتُ على خلالٍ ... أذودُ بهنَّ ليَّات المقالِ (¬2) وفاءٌ لا يحولُ به انتكاثٌ ... وودٌّ لا تخوّنه الليالي وأحفظُ سرَّه والعيبَ (¬3) منه ... وأرعَى عهدَه في كلِّ حالِ وأوثرهُ على عسرٍ ويسر ... وينفذُ حكمُه في سرِّ مالي وأغفرُ نبوةَ الإدلالِ منه ... إذا ما لم يكن غيرُ الدلالِ وما أنا بالمَلُول ولا التجنِّي ... ولا الغدرُ المذمَّمُ من فعالي من أبيات (¬4). قال الخطيب (¬5): مرضَ محمدٌ بعلَّةِ القروحِ في حلقِه ورأسه، فكان يُدخِلُ فيها الفتائل، فما زالت به حتى خنقَتهُ، وذلك في ليلة النصف من ذي القعدة ليلةَ الأحد (¬6)، وكَسَف القمر تلك الليلة. وقيل: ماتَ ليلةَ الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت منه (¬7)، والأوَّلُ أشهر، وكان بينه وبين قتل المستعينِ سنة. ¬

_ (¬1) من بداية الخبر إلى هنا ليس في (ب). (¬2) في (خ) و (ف): لميات المقال. وفي تاريخ بغداد 3/ 425: أسباب التقالي. وانظر الوافي بالوفيات 3/ 305. (¬3) في تاريخ بغداد 3/ 425، والوافي بالوفيات 3/ 305. والغيب. (¬4) من قوله: ومن شعر محمد بن. . . إلى هنا. ليس في (ب). (¬5) انظر تاريخ بغداد 3/ 425. (¬6) سلف أن كسوف القمر وموت محمد بن عبد الله بن طاهر كان ليلة أربع عشرة من ذي القعدة. وذكر الطبري في تاريخه 9/ 377 أن محمد بن عبد الله بن طاهر كتب إلى عماله باستخلافه أخاه عبد الله، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة، ففي قوله: ليلة الأحد. نظر، والله أعلم. (¬7) انظر تاريخ بغداد 3/ 425.

[وقال الخطيب: وفيه يقول أخوه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: ] (¬1) [من الخفيف] هُدَّ ركنُ الخلافة الموطودُ ... زال عنها السُّرادقُ الممدودُ يا كسوفان ليلة الأحد النَّحـ ... ـس أحلَّتكُما النجومُ السعودُ أحدٌ كان حدُّه من نحوسٍ ... جمعت نَحْسَها إليه الأحودُ كسفَ البدرُ والأميرُ جميعًا ... فانجلَى البدرُ والأميرُ غَمِيدُ [قال الخطيب: ] ولمَّا مات محمدٌ تنازعَ في الصلاة عليه أخوه عبيد الله بن عبد الله ابن طاهر] وابنه طاهر بن محمد، وكان قد أوصى أن يصلِّيَ عليه ابنُه طاهر، واستخلفَ على بغداد أخاه عبيد الله ابن عبد الله]، فصلَّى عليه ابنُه طاهر، واقتتل أهل بغداد من الجانبين؛ فريق مع طاهر، وفريق مع عبيد الله، وكان عوام بغداد إلى ابنه طاهر أميل. ودُفِنَ بمقابر قريش، ووردتِ الخلعُ من المعتزِّ لأخيه عبيد الله، وتقرره مكانَ أخيه، وأطلقَ له خمسينَ ألف درهم (¬2). وقال محمد بن عبد الله بن طاهر: كنت واقفًا على رأس أبي، وعنده أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو الصَّلت الهَرَويّ، فقال أبي: ليحدِّثني كلُّ رجلٍ منكم بحديث، فقال أبو الصلت: حدثني عليُّ بن موسى الرضا -وكان والله رضا كما سُمِّي- قال: حدَّثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن [الحسين، عن أبيه] (¬3) الحسين بن عليّ، عن أبيه عليّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمانُ قولٌ وعمل" (¬4)، فقال بعضهم: ما هذا الإسناد؟ ! فقال أبي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أخوه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. (¬2) أي أمر عبيد الله للذي أتاه بالخلع بخمسين ألف درهم. انظر تاريخ الطبري 9/ 377. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 3/ 421. (¬4) أخرجه ابن ماجه (65) بلفظ: "الإيمان معرفة بالقلب وقولٌ باللسان، وعمل بالأركان"، وكذا أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (36) وقال: هذا حديث موضوع، لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الدارقطني: والمتهم بوضع هذا الحديث أبو الصلت الهروي. . . اهـ وانظر "المصنوع" للملَّا علي القاري وما علقه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة حول هذا الحديث ص 70 - 71.

وصيف التركي

عبدُ الله بن طاهر: هذا سَعوطٌ، لو سُعِط به مجنونٌ لبرأ (¬1). [وفيها قُتِل] وصيف التركي كان أميرًا كبيرًا، خدمَ جماعةً من الخلفاء، وكان حاكمًا على الدُّول. وسببُ قتله أنَّه استولَى على المعتز، واحتجر على الأموال لنفسه، فشغبت الأتراكُ والفراغنة والأشروسنية وطلبوا أرزاقهم، فخرج إليهم بُغَا ووَصيف وسيما الشرابي في نحوٍ من مئة رجل من أصحابهم، فقال لهم وصيف: ما تريدون؟ قالوا: أرزاقنا، فقال: ما لكم عندنا سوى التراب فخذوه، مالٌ ما عندنا، وقال بغا: ثم (¬2) نسألُ أمير المؤمنين لكم، وخرجَ بغا وسيما لاستئمار الخليفة، وبقيَ وصيف في دار أشناس (¬3)، فوثبوا عليه فضربوه بالطبرزينات حتى قتلُوه، وقطعوا رأسه، ونصبوه على محراك تنُّور، وبلغ المعتزّ، فولَّى بغا الشرابي ما كان إلى وصيف (¬4). وقال هلال بن المُحْسن الصابي: حدثني بعض [مشايخ قم] قال: وردَ علينا قم وصيفٌ أميرًا [على بلدتنا، فـ] لقيناه، فرأيناه عاقلًا راجحًا، فسَأَلنَا عن [أمرِ] بلدنا وأهله سؤال عالمٍ [به، وسألنَا عن شيوخ] البلد، إلى أن انتهى إلى [أن ذكر] رجلًا، فلم يعرفه منَّا إلَّا رجلٌ واحد، [ثمَّ أتبَع] ذكرَه بتعظيمِ أمره، وتَعرُّفِ خبر ولده، وحالِه في معيشته، وأطال إطالةً استجهلنَاه فيها، ثمَّ قال: أحضرونيه إحضارًا رفيقًا، فإنِّي أكرهُ أن أنفُذَ إليه فينزعج، فأحضرناه، فلمَّا وقعت عينه عليه قام إليه وأجلسَه معه في دَسته (¬5)، ثمَّ أقبل يسألُه عن أهله وولده، والشيخُ يجيبه جوابَ دَهشٍ، ثمَّ قال له: أحسبُكَ قد نسيتني وأنكرتَ معرفتي، فقال: كيف أُنكِر الأميرَ مع جلالة قدره؟ ! فقال: دع هذا، أتعرفُني جيِّدًا، قال: لا، قال: أنا وصيفٌ مملوكُك، ثمَّ التفتَ إلينا وقال: يا مشايخ، ¬

_ (¬1) من قوله: وقال محمد بن عبد الله. . . إلى هنا، ليس في (ب). (¬2) في (خ): بم، وفي تاريخ الطبري 9/ 374: نعم. (¬3) من قوله: فشغبت الأتراك. . . إلى هنا. ليس في (ب). (¬4) في (ب): فولى بغا الشرابي ما كان إلى بغا التركي. انتهت ترجمته والحمد لله وحده. (¬5) الدَّست: صدر المجلس. الوسيط (دست).

أنا رجلٌ من الديلم، سُبيت وقتَ كذا وكذا، وحُمِلتُ إلى قزوين، وسنِّي نحو العشر سنين، فاشتراني هذا الشيخ، وأسلَمني مع ابنه في المكتب، فأحسَن تربيتي، وكان إذا وقعَ في [يدي شيءٌ] تركتُه عند بقالٍ في المحلَّة اسمه [فلان، أهو] باقٍ؟ قالوا: نعم، فأحببت بعد بلوغي العمل [بحمل السلاح]، فرآني بعضُ الجند، فقال: هل لك أن تجيء [إلى خراسان]، فأركبَك الخيلَ وأعطيكَ السلاح؟ [فقلت: أفعلُ، على] أن [لا] أكونَ لك مملوكًا، بل غلامًا، قال: نعم، فجئتُ إلى البقَّال فحاسبتُه، وأخذتُ ما لي عندَه، وابتعتُ ما أحتاج إليه، وهربتُ من مولاي هذا إلى خراسان مع الجند، وتدرَّجَت بي الأمور، وتقلَّبت بي الأحوال، حتى بلغتُ إلى هذه المنزلة وأنا تحت رقِّ مولايَ هذا، وأسألكُم أن تسألوه أن يبيعني نفسي، فقال الشيخ: الأمير حرٌّ لوجه الله، وأنا عبدُه ومتحمِّلٌ بولائه ومفتخرٌ به، فقال وصيف: يا غلام، هات ثلاث بِدَر، فأُحضِرت، فسلَّمها إلى الشيخ، ثم استدعى له من الثياب والطِّيب والدواب مثلَ قدر المال، وطلبَ ابنه فأكرمَه وأعطاه عشرةَ آلاف درهم وثيابًا وطيبًا ودوابًا، واستدعى البقَّال، فأعطاه خمس مئة دينار، ثم بعثَ إلى زوجة الشيخ مالًا وثيابًا، وقال للشيخ: انبسط في سلطاننا انبساطَ من صاحبه مولاك، فإنِّي لا أردُّكَ عن مطلبٍ تطلبُه، ولا أعترضُ عليك في شيءٍ تعملُه، ثمَّ قال: يا مشايخ قم، أنتم شيوخي، ما على وجه الأرض أوجبُ حقًّا منكم عليّ، إلَّا أنِّي أخالفُكم في التشيُّع (¬1)، فإني قد حلفتُ (¬2) وطفتُ الآفاقَ، وعرفتُ المذاهبَ، فرأيتُ الناسَ يخالفونَكم، ومن المحال إجماعُ الأمَّةِ على ضلال، وانفرادُكم من بين الناس، وصار الشيخُ وابنُه رئيسَي البلد. (¬3) * * * ¬

_ (¬1) في المنتظم: في الرفض. (¬2) كذا في (خ) و (ف). (¬3) ووقع في (خ) و (ف) بياض في سياق الخبر، استدركته بين حاصرتين من المنتظم 12/ 70 - 72، والخبر بطوله فيه.

السنة الرابعة والخمسون بعد المئتين

السنة الرابعة والخمسون بعد المئتين فيها قتل بُغا الشرابي. وفيها عُقِد لأحمد بن طولون على مصر. وفيها وقع مفلح وباجور بأهل قم، فقتَلا منهم مقتلةً عظيمةً في ربيع الأول. وفي جمادى الآخرة ماتَ عليُّ بن محمد بن عليِّ بن موسى الرضا. وفي هذا الشهر وافى دُلَف بن عبد العزيز بن أبي دُلَف الأهواز، بعثَهُ إليها أبوه. واستولى مُساور الشاري على الجزيرة، فبعثَ المعتزُّ إليه نوشري، فقتل من أصحاب الشاري جماعةً، وهزمهم. وحجَّ بالناس علي بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي (¬1). وفيها قُتِل بُغَا التركيُّ الصغير الشرابيّ وكان فاتكًا قد طغَى وبغى، وخالف أمرَ المعتزّ، واستبدَّ بالأموال، وكان المعتزُّ يقول: لا ألتذُّ بحياةٍ ما دام بغا في الدنيا، وما يطيبُ لي عيشٌ حتَّى أعلمَ أنَّ رأس بغا لي. وكان بغا يحثُّ المعتزَّ على النزول إلى بغداد والمعتزُّ يأبى ذلك [عليه، وكان] (¬2) باكباك التركيّ عدوًّا لبغا، ثمَّ إنَّ بغا اشتغلَ مع صالح بن وصيف في عُرسٍ لابنة بغا، واسمها جمعة، كان صالح قد تزوَّجها في منتصف ذي القعدة، فركب المعتزُّ ليلًا ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سامراء يريد باكباك، وكان باكباك مستخفيًا من بغا محترزًا، وكان قد وقعَ بينهما؛ جلسا على الشراب، فعربَد أحدُهما على صاحبه، فتهاجَرا، فلمَّا وَافى المعتزُّ إلى باكباك شكا إليه ما يلاقيه من بغا، واجتمعَ مع المعتزِّ أهلُ الكرخ ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 9/ 381. ومن قوله: وفيها عقد لأحمد بن طولون. . . إلى هنا. ليس في (ب). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. انظر تاريخ الطبري 9/ 379.

والدور، وخرجوا ومعهم باكباك وهو يقول: الساعةَ أقتل بغا، فجاؤوا إلى الجَوْسَق بسامرَّاء، وبلغَ ذلك بغا، فخرجَ في غلمانه، وهم زهاء خمس مئة، ومثلهم من ولده وقوَّاده، فصار إلى السنّ من بلد الموصل، وكان معه من العين تسع عشرة بَدْرَة دنانير، ومئة [بدرة] (¬1) دراهم، أخذها من بيت مال السلطان. وقيل: لمَّا بلغَه أنَّ المعتزَّ قد صار إلى الكرخ خرج إلى عُكْبَرا في خواصّه، ثم مضى حتى صار في السنّ، [فشكا أصحابُه] (¬2) بعضُهم إلى بعضٍ ما هم فيه من العَسْف، وأنَّهم لم يخرجوا معهم بمَضَارب، وأنَّهم ليس معهم ما يُكِنُّهم من البرد، وكان الزمان شتاءً، ونزل هو في مضربٍ صغيرٍ على دجلة، فأتاه ساتكين، فقال: أصلحَ الله الأمير، قد تكلَّم أهلُ العسكر وخاضُوا في كذا وكذا، وأنا رسولُهم إليك، فقال: وكلُّهم على مثل رأيك وقولك؟ قال: نعم، قال: دعني الليلة حتى أفكر، فلمَّا جنَّ عليه الليل دعا بزورقٍ، فركب مع خادمين له، وحمل معه شيئًا من المال، ولم يحمل معه سلاحًا، ولم يُعلِم أهلَ عسكره بذلك، والمعتزُّ خائف منه لا ينام إلا في السِّلاح، وقد بطل شُرب الشراب، ووصلَ بغا إلى الجسر ثلثَ الليل الأول، فصاحَ المتوكِّلون بالجسر: من في الزورق؟ وخرجَ بغا إلى البستان الخاقاني، فتبعَه بعضُهم، فقال: أنا بغا، ولحقه وليد المغربي، فقال له: ما لك؟ فقال: إمَّا أن تذهب بي إلى موسى بن صالح بن وصيف (¬3)، وإمَّا أن تذهبوا معي حتى أُحسنَ بكم، فوكَّل به وليد، ومرَّ يركض نحو [الجوسق، فاستأذن] (¬4)، فدخل على المعتزّ، فأخبرَه فقال: ائتني الساعة برأسه، فرجعَ الوليد، [وقال للموكَّلين] (¬5) به: تنحَّوا عنه حتى أبلغَه الرسالة (¬6)، فضربَه بالسيف على جبهته، فصرعَه، ثمَّ ذبَحه، وحملَ رأسَه إلى المعتزّ، فأعطاه عشرةَ آلاف دينار، وخلع عليه، ونصب الرأس بسامرَّاء، ثم بعث به إلى بغداد، ووثب المغاربةُ على ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري، ومكانها في (ف) بياض. وفي (خ): ومئة ألف أخذها. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 379، ومكانها في (خ) و (ف) بياض. (¬3) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري 9/ 380، والكامل 7/ 187: إلى منزل صالح بن وصيف. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري، ومكانها في (خ) و (ف) بياض. (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري، ومكانها في (خ) و (ف): وكان الموكلون. (¬6) من قوله: وكان باكباك التركي عدوًا لبغا. . . إلى هنا ليس في (ب).

علي بن محمد

جسده، فأحرقوه بالنار، وكتب المعتزُّ إلى عبيد الله بن طاهر ببغداد، فيتتبعَ بنيه، وكانوا قد هربوا إليها، فحبس في قصرِ الذهب منهم ومن أصحابه خمسةَ عشر، وفي المطبق عشرة، ونفى المعتزُّ من ولده خمسةَ صغار إلى عُمان والبحرين، ونجا يونس بن بغا فاستترَ عند بختيشوع (¬1). وقيل: إنَّ مُسَاور الشاري خرج بأرض الموصل، فوجَّه المعتزُّ إليه بغا في جيشٍ، فلمَّا فصل بغا عن سرَّ من رأى نهبَ الموالي دارَه، فتفرَّق الجيش الذي كان معه، فانحدَر في زورقٍ، فقتلَه الوليد المغربيّ. [وفيها توفي] عليُّ بن محمد ابن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشمي العسكريّ، أحدُ الأئمَّة الاثني عشر، وإنَّما سُمِّي العسكريّ لأنَّ المتوكِّلِ أنزلَه بمكان العسكر، ثمَّ انتقلَ إلى سرَّ من رأى، فأقام بها عشرين سنةً وأشهرًا. ومولده [في] سنة أربع عشرة ومئتين، وقيل: في رجب سنة ثلاث عشرة ومئتين (¬2). واسم أمه سوسن، وقيل: سُمَانة (¬3). [والله أعلم بالصواب]. [ذكر سبب قدومه إلى سُرَّ من رأى: حكى الصوليُّ عن يحيى بن هرثمة] (¬4) أنَّه كان مقيمًا بالمدينة بين أهله، فمال الناس إليه، وبلغَ المتوكِّل، قال يحيى بن هرثمة: قال لي المتوكِّل: يا يحيى، اذهب إلى المدينة، فانظر في حاله وأَشخصْهُ إلينا، [قال يحيى: ] فقدمت المدينة، فضجَّ أهلُها ضجيجًا ما سمع الناسُ بمثله؛ خوفًا عليه من المتوكِّل؛ [لأنَّه كان يبغضُ العلويين، ] وكان أهل المدينة يحبُّون عليًّا؛ لأنَّه كان ملازمًا للمسجد، مواظبًا على العبادة، محسنًا إلى الناس، لم يكن عنده ميلٌ إلى الدنيا، قال يحيى: فجعلتُ أسكِّنهم، وأحلفُ لهم ¬

_ (¬1) انظر المنتظم 12/ 73. (¬2) في تاريخ بغداد 13/ 520 عن أبي سعيد الأزدي أنه ولد في رجب سنة مئتين وأربع عشرة من الهجرة. (¬3) انظر فرق الشيعة للنوبختي ص 93. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب) وفي (خ) و (ف): وسبب قدومه إلى سُرَّ من رأى.

أني ما أمرتُ فيه بمكروه، ولا بأس عليه، فاطمأنُّوا، وفتَّشتُ بيتَه، فلم أجد فيه إلَّا مصاحف وأدعية، فعظم في عيني، وتولَّيتُ خدمته بنفسي، وأحسنتُ عشرتَه، فلمَّا قدمتُ بغداد بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري، وكان نائبَ الخليفة ببغداد، فقال لي: يا يحيى، إنَّ هذا الرجل قد ولدَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد عرفتَ انحرافَ المتوكِّل [على أهل البيت] فإن بلَّغتَه عنه كلمةً (¬1) قتله، ويكون النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خصمكَ يوم القيامة، فقلت: والله ما عرفتُ منه ما أنكرُه، ولا وقفتُ منه إلَّا على أمرٍ جميل، ثم صرتُ به إلى سامرَّاء، فبدأتُ بوصيف التركيّ، فقال لي: يا يحيى، والله لئن سقطَ منه شعرةٌ لا يطالبُ بها سواك، [قال: ] فعجبتُ كيف وافق قولُه قولَ إسحاق، ثم دخلتُ على المتوكِّل، فسألني عنه، فأخبرتُه بحسن سيرته، وسلامة طريقته، وزهده وورعه، وأنِّي فتَّشتُ كتبَه ودارَه، فلم أجد سوى المصاحف وأدعية، وأخبرتُه بما رأيتُ من محبَّة أهل المدينة له وخوفهم عليه، فقال: عليَّ به، فأدخلته عليه، فأكرمَه وقرَّبهُ، ورفعَ منزلتَه، وأجزلَ صِلتَه، وأنزله معه بسُرَّ من رأى (¬2). [وقال الخطيب بإسناده عن الحسين بن يحيى قال: ] (¬3) اعتلَّ المتوكِّلُ في أوَّل خلافتِه، فقال: لئن برئتُ لأتصدقنَّ بدنانيرَ كثيرة، فلما برئَ جمعَ الفقهاء، فسألهم عن ذلك، فاختلفوا [فيه]، فبعث إلى عليِّ بن محمد [بن علي بن موسى]، فقال: يتصدَّقُ بثلاثةٍ وثمانين دينارًا، فعجبَ قومٌ من ذلك، [وتعصَّب عليه قومٌ]، وقالوا للمتوكِّل: سله من أين هذا؟ فسأله، فقال للرسول: قل لأمير المؤمنين: في هذا الوفاء بالنَّذر؛ لأنَّ الله تعالى قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25]، فروى أهلنا (¬4) جميعًا أنَّ المواطنَ في الوقائع والغزوات والسرايا كانت ثلاثةً وثمانين موطنًا، وأنَّ يومَ حنين كان الرابع والثمانين، وكلَّما زاد أميرُ المؤمنين في فعل الخير كان أنفعَ له وأجدَى [عليه] في الدنيا والآخرة (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): كما سمعته. والمثبت من (ب) و (ف). (¬2) انظر مروج الذهب 7/ 381 - 382، وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف). وقال الحسين بن يحيى. (¬4) في (خ) و (ف) و (ب): أهلها. والمثبت من تاريخ بغداد. (¬5) تاريخ بغداد 13/ 519. وقد ردَّ ابن تيمية هذا الخبر في منهاج السنة 2/ 129 - 131 من وجوه، فانظره ثمة.

[وفي رواية: ] فعجب المتوكِّلُ من جوابه، وبعثَ إليه بمالٍ كثير وقال: تصدَّق منه بما أحببت. وقال المسعوديُّ: بلغ المتوكِّلَ أنَّ في منزل عليٍّ كتبًا وسلاحًا من شيعة أهل قم، وأنَّه عازمٌ على الوثوب [عليه]، فبعثَ جماعةً من الأتراك، فهجموا دارَه، فلم يجدوا فيها شيئًا، ووجدوه في بيتٍ مغلقٍ عليه، وعلى بدنه مِدْرَعةٌ من صوف، وهو جالسٌ على الرمل يقرأ القرآن ويبكي، فحملُوه على حاله إلى المتوكِّل وهو جالسٌ على شرابه، فأجلسَه إلى جانبِه وناوله الكأس التي كانت في يده، فبكى وقال: والله ما خامرَ لحمي ودمي قطّ، فأعفني (¬1) لله، فأعفاه، وقال: أنشدني شعرًا، فقال: والله ما أنا راويةٌ للشعر، وما أعرفُ إلَّا ما أقول وما كان في معناه، فقال: قل، فقال: [من البسيط] بانوا على قُلَلِ الأجبال تحرسُهم ... غُلْبُ الرجال ولم تحرسهم القللُ واستُنزِلُوا بعد عزٍّ من معاقلِهم ... وأسكنوا حُفرًا يا بئسَ ما نزلُوا ناداهمُ صارخٌ من بعدِ دفنهم ... أين الأسرَّة (¬2) والتيجانُ والحُلَلُ أين الوجوهُ التي كانت منعَّمةً ... من دونها تضرَبُ الأستارُ والكِلَلُ (¬3) فأفصحَ القبرُ عنهم حين ساءلهُم ... تلك الوجوهُ عليها الدودُ يقتتلُ قد طال ما أكلُوا دهرًا وما شربوا ... فأصبحُوا بعد طول الأكل قد أُكلِوا [قال: ] فبكى المتوكّل [بكاءً شديدًا]، وبكى الحاضرون، وأمرَ له بأربعة آلاف دينار، وصرفَه مكرمًا (¬4). وقال يحيى بن هرثمة: اختلفَ الفقهاءُ بحضرة المتوكِّل فيمن حلقَ رأس آدم عليه السلام، فلم يعرفوا من حلقه، فأرسلَ إلى عليٍّ فسأله، فقال: حدثني أبي عن آبائه عن عليٍّ - عليه السلام - أنَّه قال: أنزلَ الله ياقوتةً من يواقيتِ الجنَّة مع جبريل - عليه السلام -، ¬

_ (¬1) في (ب): فأعتقني. (¬2) في (خ) و (ف): الأساور. والمثبت من (ب). (¬3) الكِلَّة: الستر الرقيق. انظر لسان العرب (كلل). (¬4) انظر وفيات الأعيان 3/ 272 - 273، ومنهاج السنة 2/ 129، والوافي بالوفيات 22/ 72 - 73. وما سلف بين حاصرتين من (ب).

كثير بن عبيد

فحلق بها رأسَ آدم، فتناثرَ الشعرُ، فحيثما بلغ نور الياقوتة صارَ حَرَمًا. [روي هذا المعنى مرفوعًا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬1). وكانت وفاته في جمادى الآخرة بسُرَّ من رأى، ودفن بداره في أيام المعتزّ، وصلَّى عليه أبو أحمد بن المتوكِّل في الشارع المنسوب إلى داره (¬2). وقيل: إنَّه مات مسمومًا، [وكان سنُّه يوم مات] أربعين سنة، وكان نقش خاتمه: الله وليُّ عصمتي. وكان له أولادٌ، منهم الحسن بن عليّ [الإمام، وسنذكره] (¬3)، وأوصَى إليه والده. كَثير بن عُبيد ابن نُمير، أبو الحسن الحِمْصي (¬4). أمَّ بالناسِ ستين سنةً بجامع حمص ما سها في صلاته قَطّ، فقيل له في ذلك، فقال: ما دخلتُ المسجدَ وفي نفسي غير الله تعالى. توفي بحمص، حدَّث عن بقيَّة بن [الوليد] (¬5)، وأخرج عنه أبو داود وغيره، وكان ثقةً صالحًا (¬6). [وفيها توفي] محمد بن منصور ابن داود، أبو جعفر الطوسيّ، الزاهدُ العابدُ الصالح. كان من الأبدال، [وأصله من طوس]، سكنَ بغداد ومات بها، وكان الإمام أحمد يُثني عليه ويشكره، وهو صاحبُ كرامات. ¬

_ (¬1) أخرجه مرفوعًا الخطيب البغدادي في تاريخه 3/ 519 من طريق محمد بن الحسن بن زياد النقاش، وهو متهم بالكذب، والقصة جرت في حفرة الواثق والذي يرويها يحيى بن أكثم. (¬2) أي الشارع المنسوب إلى أبي أحمد. انظر تاريخ الطبري 9/ 381، ومروج الذهب 7/ 379. (¬3) ما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬4) ذُكر في وفاته أقوال، الأول أنه مات سنة سبعٍ وأربعين ومئتين، والثاني أنه مات سنة خمسين ومئتين أو بعدها بقليل. ولم أقف على من قال إنه توفي سنة أربع وخمسين ومئتين. فالله أعلم. ولم ترد ترجمته في (ب). (¬5) في (خ) بياض فوقه كذا، واستدركته من المصادر. (¬6) انظر ترجمته في تاريخ دمشق 59/ 246 - 248 (طبعة مجمع اللغة)، وتهذيب الكمال 24/ 140 - 143، وتهذيب التهذيب 3/ 463.

المؤمل بن إهاب

[فقال الخطيب بإسناده عن أحمد بن محمد بن الفضل قال: ] (¬1) سمعتُ محمد بن منصور الطوسيّ، وحواليه قومٌ، فقالوا له: قد شكّ الناسُ أنَّ اليومَ يومُ عَرَفة أم غيره؟ فقال: اصبروا، ثمَّ قام فدخل البيت. وخرج وقال: هو عندي يوم عرفة، فقيل له: من أين لك ذلك؟ قال: دخلتُ البيت فسألتُ ربِّي تعالى أن يريني ذلك، فكشفَ لي، فرأيتُ الناس في الموقف، فعدُّوا الأيامَ والليالي، فكان كما قال (¬2). توفي [الطوسيُّ] يومَ الجمعة لستٍّ بقين من شوال، وله ثمان وثمانون سنة. [سمع إسماعيل بن عُليَّة، وسفيان بن عيينة، وعفان بن مسلم، وغيرهم.] (¬3) وروى عنه البغويُّ وغيره، وكان صدوقًا دَيِّنًا ثقةً. المؤمَّل بن إهاب ابن عبد العزيز بن قَفَل، أبو عبد الرحمن الكوفي. أصله من كَرْمان، ونزل الكوفة، وقدم بغداد، وحدَّث بها [و] (¬4) بدمشق، وقدم مصر، ثمَّ خرج إلى الشام، فأقام بالرَّمْلَة، فمات بها يوم الخميس لتسع (¬5) ليالٍ خلونَ من رجب. وكان عسرَ الخلق يَكرهُ أصحابَ الحديث، وكان وَعْرًا (¬6) ممتنعًا، فألحُّوا عليه، فامتنع عليهم، فمضوا جميعًا إلى الوالي، وأبقوا منهم نَفْسَين (¬7)، وتقدَّموا وقالوا: إنَّ لنا عبدًا إن بيناه وأدبناه (¬8)، وأَبَقَ منا، وقد أردنَا بيعَه فتعزَّزَ علينا بالمحبرة وطلب ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أحمد بن محمد بن الفضل. (¬2) في تاريخ بغداد 4/ 408، والمنتظم 12/ 76 أنه لما قال لهم: هو عندي يوم عرفة. استحيوا أن يقولوا له: من أين ذاك؟ فعدُّوا الأيام والليالي، فكان كما قال، وسأله أبو بكر بن سلام بعد ذلك: من أين عرفت أنه يوم عرفة. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): سمع سفيان بن عيينة وغيره. (¬4) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬5) في تاريخ بغداد 15/ 238، وتاريخ دمشق 17/ 431 (مخطوط): لسبع. (¬6) في تاريخ بغداد 15/ 237، وتاريخ دمشق 17/ 431: زعرًا. (¬7) في تاريخ بغداد، والمنتظم 12/ 77: وألَّفوا منهم فئتين. (¬8) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد: إن لنا عبدًا خِلاسيًّا، له علينا حق صحبة وتربية، وقد كان أدَّبنَا

الحديث، فقال: وكيفَ أعلمُ صحة قولكم؟ فقالوا على الباب جماعةٌ من الأعيان يشهدون بذلك، فأحضرَهم فحضروا، وشهدوا عليه بالإباق وهو ساكت، فقال: لم أبقتَ من مواليك؟ فلم ينطق، فحبسَه، وبلغَ أصحابَه، فجاؤوا إلى الوالي، فأنكروا عليه، وقالوا: مثلُ هذا الرجل يحبسُ ظلمًا؟ ! فقال: ذاك الآبق، قالوا: معاذَ الله، ذاك إمامُ المسلمين، وأخبروه بحاله، فأحضرَه وسأله أن يجعلَه في حلّ، فلم يزلْ مؤمَّل مقيمًا بالرملة لم يُسمِع أحدًا حديثًا واحدًا حتى لحق بالله تعالى (¬1). أسندَ عن يزيد بن هارون وغيره، وروى عنه ابنُ أبي الدنيا وغيره، وكان صدوقًا ثقةً (¬2). * * * ¬

_ = وأحسن لنا التأديب. والخِلاسيّ: الولد بين أبوين أبيض وأسود. القاموس (خلس). (¬1) في تاريخ بغداد 15/ 238، وتاريخ دمشق 17/ 431، والمنتظم 12/ 78: فلم يُرَ مؤمَّلٌ بعد ذلك ممتنعًا امتناعه الأول حتى لحق بالله عزَّ وجلَّ. وأورد هذه الحكاية الذهبيُّ في سير أعلام النبلاء 12/ 247 - 248، وقال بعدها: فهذه حكاية منكرة. (¬2) ترجمة مؤمَّل بن إهاب لم ترد في (ب).

السنة الخامسة والخمسون بعد المئتين

السنة الخامسة والخمسون بعد المئتين فيها دخل مُفْلِح طبرستان، فهزمَ الحسنَ بن زيد الطالبيّ، فلحقَ بالديلم، ودخل مفلح آمُل، فهدم منازل الحسن، ثمَّ سار إلى الديلم في طلبه. وفيها كان بين يعقوب بن الليث وطَوْق بن المُغَلِّس وقعةٌ خارج كَرْمان، ظهر فيها يعقوب على طوق، فأخذَه أسيرًا، وسببه أن يعقوب كان قد استولى على فارس، فكلاهما غيرُ مطيعٍ للسلطان، يجبيان الخراج لأنفسهما، فكتب عليُّ بن الحسين إلى المعتزِّ يسألهُ ولايةَ خراسان، ويقول بأنَّ آل طاهر قد ضعفُوا عن مقاومة يعقوب بن الليث، وقد خرب خراسان، فكتبَ إليه بولايتها، وكتب أيضًا إلى يعقوب بولايتها، وأرادَ أن يغريَ بينهما، ليسقط مؤونة الهالكِ منهما عنه، وينفرد بمؤونة الآخر، إذ كان كلُّ واحدٍ منهما له حربًا، فسار يعقوبُ من سجستان يريد كَرْمان [ووجَّه عليُّ بن الحسين طوق بن المُغَلّس، وقد بلغه خبر يعقوب وقصده كَرْمان في جيشٍ عظيمٍ من فارس، فصار طوق بكَرْمان، وسبق يعقوب إليها] (¬1)، فدخلها، وجاء يعقوب فصار على مرحلة منها، فأقامَ كلُّ واحدٍ منهما مكانَه شهرين، وحفظ عسكره من الدخول إلى عسكر الآخر، فلمَّا طال ذلك عليهما، أظهرَ يعقوبُ الرحيلَ إلى سجستان، فسار نحو مرحلة، وبلغ طوقًا رحيلُه، فوضع له آلة الحرب، ودعا الملاهي، وقعد يشرب، ويعقوب يستطلعُ أخبارَه ساعةً بساعة، ويضع عليه العيون والجواسيس، فجاءت عيونُه، فأخبرته خبرَه، فسار وطوى مرحلتين في مرحلة (¬2)، فلم يشعر به طوق إلَّا وقد أحاطَ به وبأصحابه، فذهبَ أصحابه يدافعون عن أنفسهم، فقال يعقوب: أفرجوا لهم، فخرجوا هاربين لا يلوون على شيء، وخلوا جميعَ ما كان في عسكرهم، وأسر يعقوب طوقًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 382. (¬2) في تاريخ الطبري 9/ 383: فطوى مرحلتين في يومٍ واحد.

وكان عليُّ بن الحسين بعث معه صناديق في بعضها أطواقٌ وأسورة، وفي بعضها قيودٌ وأغلال، فلمَّا حازَها يعقوب فتحَ الصناديقَ التي فيها الأطواق والأساورة، فقال: يا طوق: ما هذه؟ قال: حمَّلنيها عليٌّ لأطوِّقَ بها وأسوِّر أهلَ البلاء من أصحابي، وفتحَ الصناديق التي فيها القيودُ والأغلال، فقال: ما هذه؟ قال: أمرني أن أقيِّدَ بها أصحابك، فقال: انظروا أثقل قيدٍ وأكبر غُلٍّ، فاجعلوه في رِجْلِ طوقٍ ورقبته، وفعل بأصحابه كذلك، وأخذ الأطواق والأساورة فجعلها في أعناق أصحابه وأيديهم. ولمَّا أمر يعقوب بمدِّ يد طوق ليضعها في الغُلِّ، إذا بعصابة على ذراعه، قال: ما هذه؟ قال طوق: كنتُ وجدت حرارةً ففَصَدْتُ، فمدَّ يعقوب رجله، وقال: يا غلام، انزع الخف، فنزعه، فتناثرَ الخبز اليابس، فقال: يا طوق هذا خُفِّي، لم أنزعه منذ شهرين، وخبزي في خفِّي آكل منه لا آكل من غيره، ولا أطأُ فراشًا، وأنت جالسٌ في مجالس الشراب والملاهي. ولمَّا فرغ يعقوب من أمرِ طوق دخلَ كَرْمان وحازها، وصارت له مع سجستان. وفيها دخل يعقوب بن الليث فارس، وأسرَ عليَّ بن الحسين بن قُرَيش. السبب لمَّا اتَّصل خبرُ طوقٍ بعليِّ بن الحسين، أيقن بقصدِ يعقوب إيَّاه، وكان يومئذ بشيراز، ونزل بمكان ضيِّقٍ تحت جبل، لا يقدرُ أنْ يمرَّ به غيرُ رجلٍ واحد، ومن الجانب الآخر نهر يقال له الكر عريض، وترك شيراز وراءه (¬1) بين يديه، وقال: إنْ جاء يعقوب لا يقدر على الوصولِ إلينا؛ لصعوبة المكان. وجاء يعقوب، فنزل قريبًا منه ممَّا يلي كَرْمان، ثم ركب وحده وبيده رمح عُشَاريّ، ومعه رجلٌ واحد، فوقف ينظر إلى الكرّ والطريق التي بينه وبين الجبل، ويتأمَّل عسكرَ عليِّ بن الحسين، فعرفه أصحابه، فأخذُوا يشتمونَه، ويقولون: لنردنَّك إلى شعب القماقم والمراجل يا صَفَّار (¬2)، وهو ساكتٌ لا يتكلَّم، فلمَّا شاهدَ ما أراد من ذلك انصرف، فلمَّا كان من الغد عند الظهر أقبلَ بأصحابه ورجاله حتى صار على شطِّ كُرّ ممَّا يلي كرمان، فأمرَ أصحابه فنزلوا عن دوابِّهم، وحظُّوا أثقالهم، ثُمَّ أخرج صندوقًا ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) بياض بمقدار كلمتين. (¬2) في (خ) و (ف): بإصغار، والمثبت هو الصواب، فهو يعقوب بن الليث الصَّفّار، وانظر تاريخ الطبري 9/ 385.

كان معه، ففتحه، وأخرج منه كلبًا ذئبيًّا (¬1)، ثمَّ ركبوا دوابَّهم عُرَاة (¬2)، ورماحُهم بأيديهم، وكان عليٌّ قد عبَّأ صفوفَه على الممرِّ بين الجبل والكرّ، وهم يرون أنَّه لا سبيلَ ليعقوب (¬3) إلَّا من هناك، وقد سجنوه، ثم أطرق (¬4) أصحاب يعقوب الكلبَ في الكر، وأصحابُ عليٍّ ينظرونَ ويضحكون، وسبحَ الكلبُ في الماء، وتبعَه أصحابُ يعقوب، فجازوا الكرّ، وجاء أصحابُ يعقوب من وراء الكر (¬5)، فانهزَم عليُّ بن الحسين وأصحابه، وعملَ فيهم السيف، وقصدوا كرمان (¬6)، وعثرت بعليِّ بن الحسين دابَّتُه، فسقطَ، فوضع بعضُ الغلمان عمامتَه في عنقه، وسحبه إلى بين يدي يعقوب، فقيَّدهُ وحبَسهُ، ودخل يعقوب إلى شيراز، ونهب أصحابُه دارَ عليٍّ ودورَ أصحابه، وجمع يعقوب الغنائمَ وأموال الخراج، وعاد إلى سجستان، ومعه علي بن الحسين مقيَّدًا. وبعث يعقوب إلى المعتزِّ بخيلٍ وبُزَاة ومسك وهدايا. وفيها ولَّى المعتزُّ سليمانَ بن عبد الله بن طاهر شرطةَ بغداد والسواد في ربيع الآخر، وكان قدم من خراسان يوم الخميس لثمان خلون من ربيع (¬7). وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل، والحسن بن مَخْلَد، وأبا نوح عيسى بن إبراهيم، فقيَّدهم، وطالبَهم بالأموال، وهؤلاء هم كتاب المعتزِّ وخاصَّتُه. وسببُ ذلك أنَّ صالح بن وصيف قال للمعتز: يا أمير المؤمنين، ليس للأتراك (¬8) عطاء، ولا في بيت المال مال، وقد ذهب ابنُ إسرائيل وأصحابُه بأموال الدنيا، فقال له أحمد: يا عاصي يا ابنَ العاصي، وتراجعا الكلام حتى وقعَ صالح مغشيًّا عليه وبلغ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): ذهبا. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬2) في تاريخ الطبري: أعراء. والعُرِي: الفرس بلا سرج، وجمعه أعراء. انظر تاج العروس (عرى). (¬3) في (خ) و (ف): إلى يعقوب. والتصويب من تاريخ الطبري. (¬4) كذا في (خ) و (ف). والمراد أنهم رموا الكلب في الماء، انظر تاريخ الطبري 9/ 386. (¬5) في تاريخ الطبري: من وراء أصحاب علي بن الحسين. (¬6) في تاريخ الطبري: شيراز. (¬7) أي: ربيع الأول. كما في تاريخ الطبري 9/ 387. (¬8) في (خ) و (ف): ليس له عليك. تحريف.

أصحابه وهم على الباب، فصاحوا صيحةً واحدةً، واخترطُوا السيوفَ، ودخلُوا على المعتزّ، فلمَّا رآهم قام فدخل، وأخذ صالح أحمد بن إسرائيل ومن سمَّينا، فقال له المعتز: هب لي أحمد، فقد ربَّاني وهو كاتبي، فلم يفعل، وأخذهم إلى داره، فضرب ابن إسرائيل حتى تكسَّرت أسنانُه، وضرب ابن مخلد مئة مقرعة، وكان عيسى بن إبراهيم قد احتجم، فضُرب حتى سالت محاجمُه، وأخذَ خطوطهم بمال جليل، وجُعِل في رِجْل كلِّ واحدٍ منهم ثلاثون رطلًا من حديد، وفي عنقه عشرون رطلًا، وطولبوا بالأموال، فلم يُجب واحدٌ منهم إلى شيء، فبعث صالح في قبض ضياعهم وأسبابهم (¬1). ولليلتين مضتا من رجب ظهرَ بالكوفة عيسى بن جعفر، وعليّ بن زيد الحسنيّان، فقتلا بها عبدَ الله بن محمد بن داود بن عيسى (¬2). ولثلاثٍ بقين من رجب خُلِع المعتز. وسببُه أنَّ هؤلاء الكتاب لمَّا لم يقرُّوا بشيءٍ، صار جماعة من الأتراك إلى المعتز، وقالوا: أعطنا أرزاقَنا لنقتلَ صالحَ بن وصيف، فأرسلَ إلى أمِّه يطلبُ مالًا، فلم تعطه شيئًا، وليس في بيوت الأموال شيء، فحينئذٍ أجمعَ الأتراكُ والمغاربةُ والفراغنةُ في خلعه، ووافقَ في ذلك صالح بن وصيف، وباكباك، ومحمد بن بُغا وغيرهم، فلبسوا السلاح، وجاؤوا إلى دار المعتزِّ، وهو في بعض حجره، فبعثوا إليه: اخرج إلينا، فقال: قد شربتُ دواءً، وأنا ضعيف، فإن كان ولا بد، فابعثُوا إليَّ من يُعلِمني بأمركم، فهجم عليه جماعةٌ منهم، وجماعةٌ من أهل الدُّور والكَرْخ والقُوَّاد، فجرُّوا برجلِه إلى باب الحجرة، وتناولوه بالضرب بالدبابيس، فخرج وقميصه مخرَّن في مواضع، وآثارُ الدم في منكبيه، فأقاموه في الشمس في الدار في شدة الحرّ، فبقيَ يرفعُ قدمًا ويضع أخرى، ثمَّ جعلوا يلطمونَه في وجهه، وهو يتَّقي بيده، ويقولون: اخلعْها، ثمَّ حبسوه في حجرة، وبعثُوا إلى القاضي ابن أبي الشوارب، فأحضروه مع جماعةٍ من أصحابه، فقال له صالح بن وصيف: اكتبْ كتاب خَلع، فقال: لا أحسنه، وكان معه رجلٌ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 387 - 388. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 388.

الباب الرابع عشر في خلافة المهتدي بالله

أصبهانيّ، فقال: أنا أكتبه، فكتبه، وشهدوا عليه، وشهدوا على الجماعة أنَّ له ولابنه ولأخته (¬1) ولأمِّه الأمان، فقال صالح بكفّه، أي: نعم، ووكَّلوا بذلك (¬2) المجلس وبأمِّه جماعة نساء يحفظنَها، فيقال: إن أمَّه وأخته وقُرْب حفرن سَرَبًا، وهربنَ منه، وأقام هو في الدار محبوسًا (¬3). الباب الرابع عشر في خلافة المهتدي بالله وهو أبو إسحاق، وقيل: أبو عبد الله، محمد بن هارون الواثق بن المعتصم بن هارون الرشيد. ولد بالقاطول، وأمُّه رومية يقال لها: قُرْب، تزوجها المستعين، فلَّما قُتِل [المستعين] صيَّرها المعتزُّ في قصر الرُّصَافة الذي فيه الحُرَم، ثم ماتت قبل أن يلي ابنُها الخلافة (¬4). [واختلفوا في مولده على أقوال؛ أحدها] (¬5) في ربيع الآخر سنةَ خمس عشرة ومئتين، [والثاني: في سنة سبع عشرة ومئتين، والثالث: ] (¬6) سنة ثمان عشرة [ومئتين، والرابع: في] (¬7) سنة تسع عشرة ومئتين، وهو الأشهر (¬8). [ذكر صفته] وكان أسمر رقيقًا، رحبَ الجبهة، حسنَ الوجه، أشنب (¬9)، [والشَّنَبُ: حِدَّة الأسنان، وقيل: بَرْدُها وعُذُوبتها، ] عظيمَ البطن، [عريض المنكبين، قصيرًا، طويل اللحية. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): ولأخيه. والتصويب من تاريخ الطبري 9/ 390. (¬2) في (خ): في ذلك. (¬3) من بداية أحداث هذه السنة إلى هنا ليس في (ب). (¬4) انظر تاريخ الطبري 9/ 396. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ومولده. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬8) قوله: وهو الأشهر. ليس في (ب). (¬9) في تاريخ بغداد 4/ 554، والمنتظم 12/ 81: أشيب.

ذكر بيعته: واختلفوا فيها، فقال الطبريُّ: بويعَ يوم الأربعاء لليلةٍ بقيت من رجب، فقال: ] ولم يقبل [المهديُّ] بيعةَ أحدٍ حتى أتي بالمعتز فخلع نفسه، وأخبرَه بعجزه عن القيام بما أسند إليه، ومدَّ المعتزُّ يدَه فبايعه. وذكر صفةَ خلعِ المعتزِّ، [وأنَّه أشهدَ عليه الشهود في صحَّة عقله، وجوازٍ من أمره، طائعًا غير مكره، وأنَّه عاجزٌ عن القيام. وكتب المعتزُّ خطَّه على الكتاب. وذكر الطبريُّ كلامًا طويلًا حاصلُه ما ذكرناه (¬1). والمعتزُّ ابن عمه لحًّا. واختلفوا في كيفية حضور المعتز للبيعة، فقال الصوليّ: ] لمَّا جاء المعتزُّ [إلى المهتدي]، قام له المهتدي، وسلَّم عليه بالخلافة وجلس بين يديه، وجيءَ بالشهود، فلمَّا رآهم المعتزّ قال: لا مرحبًا بهذه الوجوه التي لا تُرى إلا في الخسوف، فلمَّا بايعَه المعتزُّ ارتفعَ المهتدي إلى صدرِ المجلس وقال: لا يجتمعُ سَيفَان في غمد، ولا فحلان في شَوْل، ثم أنشدَ لأبي ذؤيب: [من الطويل] تريدينَ كيما تجمعيني وخالدًا ... وهل يُجمعُ السيفان ويحكِ في غمدِ (¬2) [وفي رواية الصولي أيضًا أنَّ الأتراكَ وصالحَ بنَ وصيف لمَّا فعلوا] (¬3) بالمعتزِّ ما فعلُوا أرسلُوا إلى بغداد، فأحضرُوا محمدَ بن الواثق، وهو ابنُ عمه لحًّا، وكان [المعتزُّ] قد نفاه من سرَّ من رأى إلى بغداد، فوافوا به سُرَّ من رأى ليلةَ الأربعاء لليلة بقيت من رجب، فأُدخِل عليه المعتزُّ لثلاثٍ خلون من شعبان، فقال له المهتدي: أخُلِعت أم خَلَعتَ نفسَك؟ فقال: بل خُلِعت، فوُجِئ في عنقه حتى سقطَ، ثمَّ أقيم، فقال: بل خلعتُ نفسي على أنَّ لي الأمان ولإخوتي وأمي وولدي، فلم يفوا لي بشيءٍ من ذلك. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 391. (¬2) شرح ديوان الهذليين 1/ 219. ومن قوله: ثم أنشد لأبي ذؤيب. إلى هنا ليس في (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال الصولي: لما فعل الأتراك.

وقال المسعوديُّ: أتي بالمعتزِّ إلى المهتدي في ثوب دنس، وعلى رأسه منديل، فلمَّا رآه قام إليه واعتنقه، وأجلسه معه على سريره، وقال: ما هذا يا أخي؟ فقال: هو ما ترى، فقال [له المهتدي: ] أنا أصلحُ أمرك مع الموالي، فقال: هذا أمرٌ لا أطيقُه، ولا حاجة لي فيها، فقال: فأنا في حلٍّ من بيعتك؟ قال: نعم، وفي سَعَةٍ منها، فردَّ المهتدي وجهَه عنه، وأقيمَ من المجلس، فحُبس وقُتل بعد سبعة أيام (¬1)، وقيل: بعد ثلاثة أيام. قال الصوليُّ: وأولُ ما فعلَ المهتدي بعد بيعته أنَّه نفَى المغنين والمغنِّيات إلى بغداد، وأمرَ بقتل السباع التي كانت في دار السلطان، وكسرِ الملاهي، وطرد الكلاب، وردِّ المظالم، وجلس للعامَّة، وكان يتحرَّى سيرةَ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، ويقول: إني لأغار لبني العباس أنْ لا يكونَ فيهم مثلُه، ولزم الصلاة والصوم وقراءةَ القرآن والتقشُّف، وكان من أحسن الناس مذهبًا، وأحمدهم (¬2) طريقة، وأكثرهم ورعًا وعبادةً، ولم يُبَايع ببغداد حتى قُتِلَ المعتزُّ ليومين من شعبان. [قلت: من (أين) (¬3) وصفُ الخطيب والصوليِّ وغيرهما له بالورع، وقد واطأ على قتل ابن عمِّه المعتزّ من غير سبب إلَّا حبّ الدنيا، وقد كان قادرًا على منع الأتراك من قتله وتعذيبه بأن يأخذَه إلى داره فيقول: إن قتلتموه فلا حاجة لي في الخلافة، وهل يفي دمُ مسلمٍ بعبادة الثقلين، وقد عُوجل بعد المعتزِّ بيسير، والله أعلم.] (¬4) وفيها أوقعت العامَّةُ ببغداد بسليمان بن عبد الله بن طاهر، وكان وردَ كتابُ المهتدي يوم الخميس سلخ رجب يأمرُه بأخذِ البيعة على الناس، وكان أبو أحمد بن المتوكِّل ببغداد، فأرسلَ إليه فأخذَه إلى داره، وعلِم أهلُ بغداد، فجاؤوا إلى باب سليمان وشغبوا وهجموا عليه، ودعوا باسم أبي أحمد، وأرادوا نهبَ دار سليمان، وقالوا: أرنَا أبا أحمد، فأظهرَه لهم، فسكنوا، ثم شغبوا، وقالوا عن المهتدي: هذا كان أبوه ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 7/ 372، 399: بعد ستة أيام. (¬2) في (ب): وأجملهم. (¬3) ما بين قوسين زيادة يقتضيها السياق. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

يقول بخلق القرآن، ما نبايعه، وقُتِلَ بينهم جماعة، وجُرِح آخرون، فبعثَ المهتدي مالًا، ففُرِّقَ فيهم، فسكنوا، وبويع يوم الجمعة لثمان خلونَ من شعبان، واستقرَّ له الأمر (¬1). [فصل: ] وفيها ظهرت قَبيحة أمُّ المعتزِّ في رمضان، بعد أن كانت قد استترت وأودعت الأموال والجواهر وما كان لها عند الناس، وطلبَها صالحُ بن وصيف، فأرسلت إليه امرأةً يقال لها العطَّارة تثقُ بها، فتوسَّطت بينهما، وكان لها ببغداد أموالٌ عظيمةٌ غير ما كان لها بسرَّ من رأى، فأحضرت من بغداد خمس مئة ألف دينار (¬2) وخمسينَ ألف دينار (¬3) ثم نقلَها صالح [بن وصيف] بعدما استصفاها إلى مكَّة في ذي القعدة، فذُكِر عمَّن سمعها وهي تقول [في طريقها: ] اللهمَّ أخزِ صالحَ بن وصيف، وخذ لي بحقِّي منه كما قتل ولدي، وأخذ مالي، وبدَّد شملي، وهتكَ ستري، وارتكب الفاحشةَ منِّي (¬4)، وغرَّبني عن بلدي. ولما انصرفَ الناس من الموسم حُبِست بمكَّة، وكان الأتراك [قد] طلبوا منها قبل قتلِ المعتز [وخلعِه] خمسينَ ألف دينار على أن يُبقوا المعتز في الخلافة، ويقتلوا صالح بن وصيف، فبخلَتْ [عليهم] (¬5)، وأنكرت أن يكون عندها مال، ثم ظهرَ لها بعد ذلك من العين (¬6) زهاء على ألف ألف دينار، وثلاث مئة ألف دينار (¬7)، ووجدوا ثلاثة أسفاط في كلِّ سَفَطٍ مقدارُ مكُّوك زمرد [من الذي] (¬8) لم تر الخلفاءُ مثلَه، وسفط فيه ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 9/ 392 - 393، والمنتظم 11/ 85. (¬2) في (خ) و (ف): ست مئة ألف دينار، والمثبت من (ب) وتاريخ الطبري 9/ 394. (¬3) قوله: وخمسين ألف دينار. لم يرد في تاريخ الطبري. (¬4) في تاريخ الطبري 9/ 394: وركب الفاحشة مني. (¬5) ما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬6) في (ب): المال. (¬7) كذا ذكر المصنف، ومثله في الكامل 7/ 200، ولعله خطأ، ففي تاريخ الطبري 9/ 395 أن صالحًا أرسل أحمد بن خاقان إلى مكان أخبر أن فيه مالًا لقبيحة، فوجد فيه زهاء ألف ألف دينار، فأخذَ أحمد منها ومَنْ كان معه قدر ثلاث مئة ألف دينار. . (¬8) ما بين حاصرتين من (ب).

[نصف] (¬1) مكوك حبٍّ كبار، لم يشاهَد مثله، وسفطٌ فيه مقدارُ كيلجة [من] ياقوت أحمر، لم يوجد في الدنيا مثله، فقوِّمتِ الأسفاطُ بألفي ألف دينار (¬2)، فحُمِل الجميعُ إلى صالح [بن وصيف]، فلمَّا رآه قال: قبَّحها الله، عرَّضت ابنَها للقتل في خمسين ألف دينار، وعندها هذا، فنفاها (¬3) إلى مكَّة، وأخذ الجميع وهي ترى، وكان ذلك في حائطِ دارٍ لبعض من تثق به، فغمزَ عليه (¬4). وفي رمضان قتل صالحُ بن وصيف أحمدَ بن إسرائيل وأبا نوح (¬5). وفيها شخص موسى بن بغا بمن كان معه من الرَّيّ، وانصرف مفلح عن طبرستان بعدما دخلها، وهَزَم الحسَن بن زيد إلى الديلم، وسبب ذلك أنَّ قبيحةَ لمَّا رأت تغيُّرَ الأتراك كتبت إلى موسى تسألُه القدوم، وكان مُفْلِح بطبرستان، فكتب إليه موسى يأمره بالانصراف إليه (¬6)، وكان قد أوغلَ في الديلم لطلب الحسن بن زيد، فرجع قافلًا إلى الرَّيّ، فشقَّ ذلك على رؤساء طبرستان؛ لأنَّه كان يَعِدُهم اتِّباعَ الطالبيِّ أين توجَّه، فسقط في أيديهم، فقال لهم: قد وردَ عليَّ كتابُ الأمير موسى يأمرني أن لا أضعَه من يدي حتى أقبل إليه، وأنا مهتمٌّ بأمرِكم، ولكن لا سبيل إلى مخالفته، ولم يتهيَّأ لموسى المسيرُ من الرَّيِّ حتى أتاه كتابٌ بهلاك المعتزّ، وقيام المهتدي، فثناه عن القدوم إلى سامرَّاء، وامتنع هو وأصحابُه من بيعة المهتدي، ثمَّ بايعوا بعد ذلك في رمضان (¬7). ثمَّ إنَّ المواليَ الذين في عسكرِه بلغَهم أنَّ صالح بن وصيف استخرجَ الأموال من ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 395. (¬2) بعدها في (ب) -وما سلف بين حاصرتين منها-: وثلاثة مئة ألف دينار. والمثبت موافق لما في تاريخ الطبري 9/ 395. (¬3) في (خ) و (ف): فنقلها. والمثبت من (ب). (¬4) انظر الخبر بتمامه في تاريخ الطبري 9/ 395. (¬5) قوله: وأبا نوح. ليس في (خ)، ونص العبارة في (ب): وفي رمضان مثل صالح بن وصيف لأحمد بن إسرائيل لأبي نوح! ! ؟ وانظر تاريخ الطبري 9/ 396. (¬6) في تاريخ الطبري 9/ 406: إليها. (¬7) أي: ورد خبرُ بيعتهم سامرَّاء في رمضان. انظر تاريخ الطبري 9/ 407.

قبيحة ومن الكُتَّاب، فشحُّوا (¬1) بذلك على المقيمين بسُرَّ من رأى، وسألوا موسى المسيرَ إليها. وكتب إليه المهتدي يأمرُه بالمقام بالريّ، وبعثِ الجيوش إلى الطالبيّ، فلم يلتفت، فبعث إليه عبد الصَّمد بن موسى و [أبا] (¬2) عيسى بن إسحاق العباسيين يخبراه بضيقِ المال بسامرّاء، وما يخافُ من رجوع الطالبيِّ إلى طبرستان، فأبلغاه الرسالة، فلم يسمع، وأغلظ الموالي للرسولين، وهمُّوا بقتلهما، وأقبلَ موسى إلى بغداد وصالح يعظِّمُ على المهتدي قدومَه، وينسبُه إلى المعصية والخلاف، فرفعَ يده إلى السماء وقال: اللهمَّ إنِّي أبرأُ إليكَ من فعل موسى بن بغا، وإخلاله بالثغر، وإباحةِ العدو، ثم جعل يبكي خوفًا من قدومه. وكتبَ موسى إلى المهتدي يعتذرُ بتخلُّف من معه عن الرجوع إلى قوله دون ورود باب أمير المؤمنين، وأنه متى خالفهم لم يأمنهم على نفسه، ثُمَّ وردَ سامرّاء (¬3) لأربعٍ خلون من المحرَّم سنة ستٍّ وخمسين. وكان كنجور التركيّ قد نفاهُ المعتزُّ إلى فارس، فأقام عند علي بن [الحسين بن] قريش، فلمَّا غلبَ يعقوبُ ابنَ قريش كان كنجور محبوسًا عنده، فأطلقه (¬4)، وجاء إلى. . . (¬5) فأمرَ المهتدي بأن يقيَّد ويبعث إلى بغداد فيحبس، فخالفَه صالح (¬6)، وأراد أن يتقوَّى به على موسى (¬7). وفيها عَصَى أبو موسى، عيسى بنُ الشيخ بنِ السليل الشيبانيّ بديارِ بكر وآمِد ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فسخر. وفي الكامل 7/ 204: فحشدوا المقيمين بسامرَّاء. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 407. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 408. (¬3) في تاريخ الطبري 9/ 409 أنَّ الذين قدموا سامراء هم رسلُ المهتدي مع وفد من عسكر موسى. (¬4) في تاريخ الطبري 9/ 409: لما أراد علي بن الحسين محاربة يعقوب بن الليث أخرجه من الحبس. (¬5) في (خ) و (ف) بياض بمقدار كلمتين. (¬6) في تاريخ الطبري 9/ 409 أن صالحًا كتب عن المهتدي في حمل كنجور إلى الباب مقيدًا. (¬7) في سياق الخبر هنا اختصار مخل واضطراب، وانظر تمام الخبر في تاريخ الطبري 9/ 409. ومن قوله: وفي رمضان قتل صالحُ بن وصيف أحمد. . . إلى هنا ليس في (ب).

إبراهيم بن الحسين بن ديزيل الهمذاني

ومَيَّافارِقين (¬1)، وكان المعتزُّ قد ولَّاه ذلك (¬2)، فلمَّا قُتِل المعتزّ عَصى على المهتدي، ولم يبايعه، وأنكرَ قتلَ المعتزّ، ووَلَّى ولدَه محمدًا آمد، وأحمد مَيَّافَارِقين، والذي (¬3) بنى منارةَ الجامع بمَيَّافَارِقين محمدُ بن أحمد بن عيسى، وكتب اسمَه في لوح، وهو عند بابها يقرؤه من دخل (¬4). فصل: وفيها توفِّي إبراهيم بن الحسين بن دِيزيل الهَمَذَاني (¬5) كتب الكثير، وكان منهمكًا في كتابة الحديث، حكى جدِّي في "المنتظم" عن إسماعيل بن أحمد السمرقنديّ، بإسناده إلى إبراهيم قال: جلستُ في بعض الليالي أكتب، فكتبتُ حتى عييتُ، ثُمَّ خرجتُ أتأمَّل السماء، وإذا به أول الليل، فأتممتُ كتابي، أصبحتُ وصلَّيتُ الصبحَ، وخرجتُ إلى حانوتِ تاجرٍ بالسوق، وإذا به يكتبُ حسابًا له، ويؤرِّخه يوم السبت، فقلت: سبحان الله! أليس اليوم يوم الجمعة؟ فضحك وقال: لعلَّك لم تحضر أمس الجامع، فراجعت نفسي، وإذا أنا قد كتبتُ ليلتين ويومًا (¬6). ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 57/ 29 (طبعة مجمع اللغة) أنَّ عيسى بن الشيخ غلب على دمشق سنة خمس وخمسين ومئتين. قال الذهبي في العبر 2/ 41: وكان قد ولي دمشق، فأظهر الخلاف في سنة خمس وخمسين، وأخذ الخزائن وغلب على دمشق، فجاء عسكر المعتمد، فالتقاهم ابنه ووزيره، فهزموا، وقتل ابنه وصُلِبَ وزيره، وهرب عيسى، ثم استولى على آمد وديار بكر مدة. اهـ. وذكر ابن الأثير في الكامل 7/ 397 أنه توفي سنة 269 هـ وبيده إرمينية وديار بكر. (¬2) في تاريخ الطبري 9/ 372 أن المعتزَّ عقَد له على الرَّملة سنة اثنتين وخمسين ومئتين. (¬3) في (خ) و (ف): والديني. وفي (ب): والمديني. ولعل المثبت هو الصواب. (¬4) انظر أخباره في تاريخ الطبري 9/ 372، 474، والمؤتلف والمختلف للدارقطني 3/ 1403، وتاريخ دمشق 57/ 28 - 30، والكامل 7/ 176، 397، وتاريخ الإسلام 6/ 382 - 383، والعبر 2/ 41. (¬5) وكذا أورده ابن الجوزي في المنتظم 12/ 89 في وفيات سنة 255 هـ. ولم أقف على من ذكر وفاته في هذه السنة غيره. ونقل الذهبي في السير 13/ 190 عن أبي يعلى الخليلي قال: مات سنة سبع وسبعين ومئتين. كذا قال فوهم. . . والصحيح من وفاته ما أرَّخه علي بن الحسين الفلكي فقال: في آخر شعبان سنة إحدى وثمانين ومئتين. وكذا أرخ القاسم بن أبي صالح. انتهى كلام الذهبي. وانظر تاريخ دمشق 2/ 426 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 6/ 709، والعبر 2/ 65، والوافي بالوفيات 5/ 346. وهذه الترجمة لم ترد في (ب). (¬6) المنتظم 12/ 90.

إسماعيل بن يوسف

قلت: وإيش نفعته كتابةُ الحديث، وقد ضيَّع فرائضَ الصلوات، وهل كان من الملائكة، أقامَ ليلتين ويومين لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يبول! وهذا الرجل من هَمَذَان، كوفيٌّ من رفقاء محمد بن سعد كاتب الواقدي (¬1)، وتوفي في هذه السنة بالكوفة. [فصل: ] وفيها توفي إسماعيل بن يوسف أبو عليّ الدَّيلَميُّ الزاهد العابد. جالسَ أحمدَ بن حنبل ومن بعده من الحفَّاظ. وروى الخطيبُ عن الجوهريِّ بإسناده عن أبي الحسين ابن المنادي قال: كان إسماعيل [الديلميّ] من خيار الناس، وذُكر لي أنَّه كان يحفظُ أربعينَ ألف حديث. وكان من أشهر الناس بالزُّهدِ والورعِ والصيانة، وكان يسكن بالأَرْحَاء على شاطئ نهر عيسى (¬2). وحكى عنه الخطيب قال: اشتهيتُ حلواء، فخرجت في الليل من المسجد لأبول، فإذا بجانبي (¬3) الطريق أخاوين (¬4) حلواء، فنوديتُ: يا إسماعيل، هذا الذي اشتهيت، وتركُه خيرٌ لك، فتركته. وكانت وفاتُه في هذه السنة، وقبرُه وراءَ قبر معروف مشهور، ويعرف بقبر الديلمي. واتفقوا على صدقه ودينه وورعه وحفظه للحديث ومعرفته به، فيقال: إنَّه كان يذاكر بسبعين (¬5) ألف حديث. ¬

_ (¬1) كذا، ولم أقف عليه. (¬2) كذا قال، وهو وهم، وفي تاريخ بغداد 7/ 259، وطبقات الحنابلة 1/ 107، والمنتظم 12/ 91: وأما مكسبه فكان من المساهرة في الأرحاء. والأرحاء جمع رحى. قال أبو علي بن الأبزاري لإسماعيل الديلمي: تسهر في هذا الرحى بثُلث درهم، وأيُّ شيءٍ يكفي ثلث درهم. . . (¬3) في (ب) و (ف): بجانب. وفي تاريخ بغداد 7/ 260: جنبتي. (¬4) جمع إِخْوان، لغة في الخِوان، وهو ما يؤكل عليه. المصباح المنير (خون). (¬5) في (خ) و (ف): تسعين، وفي طبقات الحنابلة 1/ 108: بتسعين. والمثبت من (ب) وتاريخ بغداد 7/ 261، والمنتظم 12/ 91.

الجاحظ

وفيها توفي الجاحظ واسمه عمرو بن بحر بن محبوب، أبو عثمان البصري، من كبار المعتزلة، وأحد شيوخهم، ولد سنة خمس وخمسين ومئة. قال جدِّي في "المنتظم": وكان جدُّه أسود، وكان هو من متكلِّمي المعتزلة، وهو تلميذ أبي إسحاق النظَّام، قال: والناس يَعمونَ (¬1) بتصانيفه زائدًا في الحدّ، وليس الأمر كذلك، بل له جيِّدٌ ورديء. قلت: هذا صورةُ ما ذكر له جدِّي، ولم يذكر شيئًا من مصنَّفاته، ولا حكى بعض مقالاته، فأقول: أمَّا مصنفاتُه فثلاثُ مئةٍ وستُّون مصنَّفًا، ووقعتُ على أكثرها في مشهد الإمام أبي حنيفة ببغداد، منها كتاب الحيوان، وهو كتابٌ كثيرُ الحشو، قليلُ الفائدة، وذكر فيه أن الذي يحيض من الحيوانات أربع؛ المرأة، والأرنب، والضبع، والخفاش (¬2). وكان الجاحظُ في أيَّام المعتصم والمتوكِّل، وانفردَ عن أصحابه بمسائل، منها قوله: إنَّ المعارفَ كلَّها ضرورية، وليس شيءٌ من ذلك من أفعال العباد. و: ليس للعبادِ [كسبٌ] (¬3) سوى الإرادة. ومنها: إن أهل النار لا يخلَّدون، وإنَّما يصيرون إلى طبيعةٍ ناريَّة. ومذهبه مذهبُ الفلاسفة في نفي الصِّفات ونحو ذلك. ذكرُ طرفٍ من أخباره: ذكر له الخطيب حكايةً بإسناده إلى يَمُوت بن المُزَرِّع قال: قال لنا الجاحظ: ما غلبني إلَّا رجلٌ وامرأة؛ فأمَّا الرجلُ، فإنِّي كنتُ مجتازًا ببعض الطرق، فإذا برجلٍ قصيرٍ بطين، كبير الهامة، طويل اللحية، متَّزرٍ بمئزرٍ، وبيده مشطٌ يسقي به شقَّهُ، ويمشطها بيده (¬4)، ¬

_ (¬1) في المنتظم 12/ 94: يعجبون. (¬2) انظر كتاب الحيوان 3/ 529. (¬3) ما بين حاصرتين من الملل والنحل 1/ 75. (¬4) في تاريخ بغداد 14/ 128، والمنتظم 12/ 94: به.

فاستزريُته، وقلت: أيُّها الشيخ، قد قلت فيك شعرًا، فقال: هاته، فقلت: [من الوافر] كأنك صَعْوةٌ في أصلِ حُشٍّ ... أصابَ الحُشَّ طَشٌّ بعدَ رشِّ (¬1) فقال لي: فاسمع جوابك، فقلت: هات، فقال: كأنك جندب (¬2) في دبر كبشِ ... تُدَلدلُ هكذا والكبشُ يمشي والجندب ضربٌ من الجراد، وكان الجاحظُ قبيحَ المنظر دميمًا، ناتئ العينين، قصيرًا مشوّهًا، قال: فخجلتُ منه وانصرفت. وأما المرأة فكنتُ راكبًا على حمارة، فحَبَقت (¬3)، وإذا بامرأتين، فقالت إحداهما للأخرى: وي وي حمارة الشيخ تفعل كذا وكذا، قال: فغاظتني، فقلت: نعم، ما حملتني أنثى إلَّا أصابَها كذا، فقالت: لقد كانت أمُّك تسعةَ أشهرٍ معكَ في جهدٍ جهيد. وفي رواية: فضربت بيدِها على كتفِ الأخرى، وقالت: لقد كانت أمُّ هذا منه تسعةَ أشهر. . . وذكرتهُ. قلت: وقد غلبتهُ أخرى، جاءت إليه امرأةٌ فقالت: إنَّ فلانًا يستدعيك، وذكرت رجلًا جميلًا، فقال: وما يريدُ مني؟ قالت: يسألك عن مسألة في علم الكلام، ومشى معها، وأجلسته عند صائغ وقالت: أقعد هاهنا حتى أهيِّئَ لك الجائزة، وأستأذِن لك وأعود، فقعد عند الصائغ عامَّة النهار، والصائغ ينظرُ إليه، ويردِّدُ النظرَ فيه، فضجر وقال للصائغ: أتعرف هذه المرأة؟ فقال: لا والله، وإنَّما جاءت وقالت: عندنا صبيٌّ صغيرٌ يبكي قد منعنا النوم، والساعة آتيك برجلٍ قبيحِ المنظر، تصوِّرُ [بي] (¬4) على صورته شيئًا يفزعُ به الصغير، وها أنا قد صوَّرتك في هذه الصحيفة، فقام الجاحظُ خجلًا وانصرف. وحكى الخطيب عن [ابن] (¬5) أبي الذيَّال قال: حضرنا مع الجاحظ وليمةً، فجاء ¬

_ (¬1) الصَّعوة: عصفور صغير، والخش: المكان الذي تقضى به الحاجة في البساتين، والطش المطر الضعيف. اللسان (صعا)، (حشش)، (طشش). (¬2) في تاريخ بغداد 14/ 128، وتاريخ دمشق 54/ 354 (طبعة مجمع اللغة)، والمنتظم 12/ 94: كندب. (¬3) أي: ضرطت. القاموس (حبق). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 14/ 129.

الظهر، فصلَّينا ولم يصلِّ الجاحظ، وجاء العصر ولم يصلِّ، وقام الجاحظُ لينصرف، فقال لصاحب المنزل: إنِّي لم أصل لمذهبٍ أخبركَ به، فقال له الرجل: ما أظنُّ لك في الصَّلاة مذهبًا إلَّا تركها. وحكى ابن عساكر عنه أنَّه قال: رأيتُ جاريةً سوداء ببغداد في سوق النخَّاسين ينادى عليها، قال الجاحظ فقلت لها: ما اسمك؟ قالت: مكَّة، فقلت: قد قرَّب الله الحجّ، أتأذنين لي أن [أقبل الحجر] (¬1) الأسود؟ فقالت: ألم تسمع إلى قوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7]؟ وحكى ابن عساكر أيضًا عن الجاحظ عن ثُمَامة بن أشرس قال: قدَّمَ رجلٌ خصمًا له إلى بعض الولاة، فقال: هذا خصمي ناصبيٌّ، رافضيٌّ، جهميٌّ، مشبهيٌّ، يشتمُ الحجاج بن الزبير [الذي هدم الكعبة على علي بن أبي سفيان] (¬2)، ويلعن معاوية بن أبي طالب، فقال له الوالي: ثكلتك أمك، ما أدري ممَّ أعجب، من معرفتك بالإنساب، أو من معرفتك بالمقالات؟ ! فقال: ما خرجتُ من الكتَّاب حتى تعلمتُ هذا كلَّه، قال: صدقت. ذكر نبذة من كلامه: قال الجاحظ: المكافأة على الإحسان فريضة، والتفضُّلُ ابتداءً نافلةٌ. و: العقلُ والهوى ضدَّان، فقَرِينُ العقل التوفيق، وقَرِينُ الهوى الخِذْلان. وقال: القلوبُ أوعيةٌ، والعقولُ معادن، وما في الوعاء ينفد إنْ لم يمدّه المعدن. وقال: الأشخاصُ كالأشجار، والحركاتُ كالأغصان، والألفاظُ كالثمار. وقال: كفى بالتجارب تأديبًا، وبتقلُّبِ الأيام عظةً، وبالأخلاق ممن عاشرتَ معرفةً، وبالموتِ زاجرًا. وقال: النظر في العواقب أوَّلُ الاستعداد للنوائب. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف) بياض، وفي (ب): أن أقبل الأسود. والمثبت بين حاصرتين من تاريخ دمشق 54/ 355 (طبعة مجمع اللغة). (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ ابن عساكر 54/ 354.

وقال: لا خير فيمن لم يتلقّ هفواتِ الإخوان بالعفو والغفران (¬1). وقال المبرد: كتبَ إلى صديق له يعزيه بميِّت مات له: أمَّا بعد، فإن الماضي قبلك (¬2) هو الباقي لك، والباقي بعدك هو المأجورُ فيك، وفي الله العزاءُ من كلِّ هالك، وفيه الخَلَفُ من كل مصيبة، ومن لم يتعزَّ بعزاء الله تقطَّعت نفسُه على الدنيا حسرات، والصبرُ يعقبُه الأجر، والجزعُ يعقبُه الهلَع، فتمسَّك بحظِّكَ من الصبر، تنلْ به عظيمَ الأجر والثواب {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. وحكى الخطيبُ عنه أنَّه كان يقول: ما أكرهُ من الشيعةِ إلَّا الشين التي في أوَّل اسمهم، فإنِّي لا أجدُها إلا في كل شرٍّ، وشؤمٍ، وشيطانٍ، وشَغبٍ، وشقاءٍ، وشِقَاق، وشَينٍ، وشكوى (¬3)، وشهرةٍ، وشحٍّ، وذكر كلَّ لفظةٍ في أوَّلها شِين (¬4). وكان قد فُلِجَ، فأتاهُ رسول المتوكِّل يطلبه، فقال: ما يصنع بشقٍّ مائل ولعابٍ سائل؟ (¬5) ذكر وفاته: [روى الخطيبُ عن الصيمريِّ، عن المَرزُبانيِّ، عن الجرجاني، عن المبرِّد قال: ] (¬6) دخلتُ على الجاحظ في آخر أيَّامه وهو عليل، فقلت: كيف أنت؟ فقال: كيف يكونُ من نصفُه مفلوجٌ، فلو نشرَ بالمناشير ما أحسَّ به، ونصفُه الآخر مُنَقْرَسٌ، فلو طارت ذبابة بقربه (¬7) لآلمته، والآفةُ في هذا كله أنِّي قد جاوزت (¬8) تسعين سنة، ثم أنشد يقول: [من الوافر] أترجو أن تكونَ وأنت شيخٌ ... كما قد كنت أيَّام (¬9) الشبابِ ¬

_ (¬1) انظر العقد الفريد 4/ 242 - 243. (¬2) في (خ) و (ف) و (ب): ذلك. والمثبت من العقد الفريد 4/ 245. (¬3) في (ب): وشكوك. (¬4) الخبر في كتاب الحيوان للجاحظ 3/ 22 لكن من كلام شيخ إباضي جوابًا للجاحظ، لا من كلام الجاحظ. (¬5) تاريخ دمشق 54/ 359. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال المبرد. (¬7) في (خ): به، وفي (ب): عليه، وليست في (ف). والمثبت من تاريخ بغداد 14/ 130. (¬8) في (ب): أنه قد جاوز. (¬9) في (ب): في زمن. بدل: أيام.

عيسى بن إبراهيم

لقد كذبتكَ نفسُك ليس ثوبٌ ... دَرِيسٌ كالجديد من الثيابِ ومات [الجاحظ] ببغداد في المحرَّم، ودُفن قريبًا من أبي حنيفة، وعمره مئةُ سنة [انتهت ترجمته] (¬1). عيسى بن إبراهيم أبو نوح، الكاتب المقتول، كتب للفتح بن خاقان، ثمَّ للمتوكِّل، وكان جوادًا ممدَّحًا، ومدحه البحتريُّ (¬2) فقال: [من الكامل] وأخٍ لبستُ العيشَ أخضر [ناضرًا] (¬3) ... بكريمِ عِشْرَتِه وفَضلِ إخائِهِ ما أكثرَ الآمال عندي والمُنَى ... إلَّا دفاعُ اللهِ عن حوبائِهِ وعلى أبي نوحٍ لباسُ محبَّةٍ ... تعطيه محضَ الودِّ من أعدائِهِ تنْبِي طلاقةُ وجهه عن جودِهِ ... فتكاد تلقى النُّجْحَ قبلَ لقائِهِ وضياءُ وجهٍ لو تأمَّله امرؤٌ ... صادي الجوانحِ لارتوى من مائِهِ (¬4) [تمام حديث] المعتزِّ بالله [واسمه] محمد بن جعفر المتوكِّل قد ذكرنا ما فعله به الأتراك (¬5)، ثمَّ أتوا به إلى المهتدي بعد ما سلَّمه صالحٌ إلى نوشري (¬6)، فعذَّبه بأنواعِ العذاب، ومشَّاه في الرمل حافيًا، فطلب نعلًا فلم يعطوه، فأسبل سراويله على رجليه، ومشى، وجعل يستغيثُ فلا يغاث. [واختلفوا في كيفيه قتله على أقوال؛ أحدها أنَّهم] (¬7) أدخلوه حمامًا، ومنعوه الماء ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ديوان البحتري 1/ 24. (¬3) ما بين حاصرتين من ديوان البحتري وتاريخ دمشق. (¬4) تاريخ دمشق 57/ 5 - 7 (طبعة مجمع اللغة). وهذه الترجمة لم ترد في (ب). (¬5) في (ب): قد ذكرنا أنه أغرى الأتراك ودخل على المعتز ففعل به ما ذكرنا وحبسوه وخلعوه وولوا الهتدي وأقاموا المعتز في الشمس. (¬6) في (خ) و (ف) و (ب): سلموه لصالح النوشري. والمثبت من بغية الطلب في تاريخ حلب 8/ 3774. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ثم.

البارد، ثمَّ أخرجُوه، فسقوه الماء والثلج فمات. [والثاني] (¬1) أنهم نزعوا أصابعَ يديه ورجليه ثمَّ خنقوه، [والثالث] (¬2) أنَّهم أدخلُوه سردابًا مجصَّصًا بجصٍّ جديد (¬3)، فاختنق، ولم يعذَّب خليفةٌ ما عذِّب على صغرِ سنه. وكانت وفاته يوم السبت لستٍّ خلون من شعبان، وقيل: لليلتين خلتا منه (¬4). [وذكره جدِّي في "التلقيح" وقال: مات المعتز بمكروهٍ نالهُ في] اليوم الثاني من رمضان، [وقيل: في غُرَّة شعبان، ] وكانت ولايتُه ثلاثَ سنين وستَّة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا (¬5)، و [كان سنُّه يوم قتل أربعةً وعشرين سنة (¬6)؛ لأنَّه ولد في رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومئتين قبل خلافة أبيه المتوكِّل بثلاثة أشهر وعشرة أيَّام]، وأخرجوه ميتًا، وأحضروا القضاة والشهود، فشهدُوا أنَّه لا أثرَ به، ودُفِن إلى جانب أخيه المنتصر في ناحية قصر الصوامع، [فقال الخطيب: كان ابن ثلاث وعشرين سنة، وقال ابن أبي الدنيا: دفن] (¬7) بمكان يقال له: السَّمَيدَع [عند أخيه المنتصر]. وكان أبيض جميلًا على خدِّه الأيسر خالٌ أسود، وصلى عليه [محمد بن الواثق الملقب] المهتدي، ونقشُ خاتمه: المعتزُّ بالله، وهو ثالثُ خليفة خُلِعَ من بني العباس، ورابعُ خليفة قتل منهم. [وقال الصوليّ: ولمَّا قتلَه صالح بن وصيف ظفر بأمَّه قبيحة، فأخذَ أموالها وذخائرها، وركبَ منها الفاحشة، ونفاها إلى مكَّة، فكانت تتعلَّق بأستار الكعبة، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. (¬3) كذا في النسخ والوافي بالوفيات 2/ 292 - نقلًا عن المرآة- وفي تاريخ الطبري 9/ 390 أنهم جصَّصوا سردابًا بالجص الثخين. . . (¬4) بعدها في (خ) و (ف): وقيل في غرته. وقوله: لليلتين خلتا منه. ليس في (ب). (¬5) في تلقيح فهوم أهل الأثر ص 91: وثلاثة عشر يومًا. وما ذكره ابن الجوزي هو بالنظر إلى البيعة العامة له، أمَّا بالنظر إلى البيعة الأولى بسامرَّاء، فمدَّةُ خلافته أربعُ سنين وستة أشهر وثلائة وعشرون يومًا. انظر تاريخ الطبري 9/ 390. (¬6) في (خ) و (ف): وسنُّه يوم قتل أربع وعشرون سنة، وقيل ثلاثة وعشرون سنة. وما بين حاصرتين من (ب). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقيل. وانظر تاريخ بغداد 2/ 492.

وتدعو عليه وتقول: اللهمَّ خذ لي بحقِّي من صالح، فقد فعل بي وفعل بي، فاستجابَ الله لها، فَقُتِل أقبحَ قتلةٍ لما نذكر]. وكان له من الولد جماعةٌ لم يشهر منهم إلا عبد الله، وليَ الخلافة يومًا واحدًا، وسمَّى نفسَه الغالب [، وسنذكره]. ووزرَ للمعتزِّ جعفرُ بن محمد (¬1) الإسكافيّ، ثمَّ عزلَه وولَّى عيسى بن فرخان شاه، ثم أحمد بن إسرائيل. وقاضيه الحسنُ بن أبي الشوارب. وقال البحتريُّ الشاعر: كنتُ مصاحبًا لأبي معشر المنجِّم، فأضقنا إضاقةً شديدةً، فدخلنا على المعتزّ، وهو محبوسٌ قبلَ أن يليَ الخلافة، فأنشدتُه أبياتًا كنتُ قلتُها في محمد بن يوسف الثَّغْريّ لمَّا حُبِس، وكأنِّي عملتها في الحال وهي: [من الطويل] جعلتُ فداكَ الدهرُ ليس بمنفكِّ ... من الحادث المشكوِّ والنازلِ المُشْكِي وما هذهِ الأيَّام إلَّا منازلٌ ... فمن منزلٍ رحبٍ ومن منزلٍ ضَنْكِ وقد هذَّبتكَ الحادثاتُ وإنَّما ... صفا الذهبُ الإبريزُ قبلَك بالسبكِ أما في رسولِ الله يوسفَ أسوةٌ ... لمثلكَ محبوسًا على الظُّلم والإفكِ أقام جميلَ الصبر في الحبسِ بُرهةً ... فآل به الصبرُ الجميل إلى الملك (¬2) وكان على رأسِه خادمٌ، فدفعَ إليه الرقعةَ التي فيها الأبيات، وقال له: احتفظ بها، فإن فرَّج الله عنِّي فذكِّرني بها، لا ينسى حقُّ هذا الرجل (¬3). وكان أبو معشر قد أخذَ مولده، فحكم له بالخلافة بمقتضى طالع الوقت، فناولَه رقعةً فيها ذلك، وانصرفنا، فلما وليَ الخلافةَ دخلنا عليه، وأعطَى كلَّ واحدٍ منَّا ألف دينار، وأجرى له في كل شهرٍ مئةَ دينار (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف)، ومروج الذهب 7/ 379، والوافي بالوفيات 2/ 292 (نقلًا عن مرآة الزمان). وفي تاريخ الطبري 9/ 287، وتاريخ الإسلام 6/ 307، والوافي بالوفيات 11/ 152: جعفر بن محمود. (¬2) ديوان البحتري 3/ 1563 - 1564. (¬3) الفرج بعد الشدة 2/ 11 - 13. (¬4) من قوله: وقال البحتريُّ الشاعر. . . إلى هنا ليس في (ب).

محمد بن عمران

وقال الزبير بن بكَّار: دخلتُ على المعتزِّ فقال لي: يا أبا عبد الله، قد قلتُ أبياتًا في مرضي هذا -وكان مريضًا- وقد أعيا عليَّ إجازةُ بعضها، فأنشدَني: [من البسيط] إنِّي عرفتُ علاج القلب من وجعِ ... وما عرفتُ علاجَ الحب والهلعِ جزعتُ للحبِّ والحمَّى صبرتُ لها ... [إني لأعجبُ من صبري ومن جزعي من كان يشغلُه عن حبِّه وجعٌ] ... فليسَ يشغلني عن حبِّكُم وَجعي (¬1) قال الزبير: فقلت [له: ] وما أملُّ حبيبي (¬2) ليلتي أبدًا ... مع الحبيبِ ويا ليتَ الحبيبَ معي (¬3) محمد بن عِمْران ابن زياد الضَّبِّيّ، أبو جعفر النحوي الكوفي. كان الغالب عليه الأخبار والأدب، وكان ثقةً فيما ينقل، وكان شيخًا حلوًا، وكان قبل أن يؤدِّب [عبد الله بن] المعتزّ معلمًا يعلِّم الصبيان، فلمَّا اتَّصل بالمعتز، جعلَه على القضاة والفقهاء، فاجتمعوا إليه يومًا فنعسَ، ففتحَ عينيه وقال: تهجَّوا، فضحكُوا. وحفَّظ عبد الله بن المعتزّ سورةَ النازعات، وقال له: إذا سألكَ أبوك أميرُ المؤمنين: في أي سورة أنت؟ فقل: في السورة التي تلي عبس، فسألَه أبوه، فقال ذلك، فقال: من علَّمكَ هذا؟ قال: معلمي، فأمرَ له بعشرة آلاف درهم (¬4). محمد بن كَرَّام ابن عِراق، أبو عبد الله، السِّجزيُّ العابد، شيخ الكرَّاميَّة. أصله من مرو من قريةٍ يُقال لها: زَرَنْج (¬5)، ونشأ بسجستان، ثم دخلَ خراسان. وصرَّح في كتبه بأن [الله] (¬6) جسم، وأنَّ ذاتَه محلُّ الحوادث، وأنه مماسُّ العرش، ¬

_ (¬1) العقد الفريد 5/ 376 وتاريخ دمشق 6/ 336 (مخطوط)، وما بين حاصرتين منهما. (¬2) في (خ) و (ف): مبيتي. والمثبت من (ب) والعقد الفريد وتاريخ دمشق. (¬3) بعدها في (ب) -وما سلف بين حاصرتين منها-: انتهت. السنة السادسة والخمسون. . . (¬4) تاريخ بغداد 4/ 233 - 224، وإنباه الرواة 3/ 179، وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬5) زرنج -بفتح أوله وثانيه ونون ساكنة وجيم-: مدينة هي قصبة سجستان. معجم البلدان 3/ 138. (¬6) مكانها في (خ) و (ف) بياض. استدركته من المنتظم 12/ 97.

فلا هو سكت سكوتَ الزاهدين، ولا تَفلَّقَ بكلام المتكلمين. وذكره أبو حاتم بن حبان الحافظ في كتاب "المجروحين" وقال: كأنَّه خُذِل حتى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها، وجالسَ أحمد الجُوَيباري وابنَ تميم، ولعلَّهما قد وضعا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الصحابة والتابعين مئةَ ألف حديث، ثمَّ جالس أحمد بن حرب الأصفهاني بنيسابور، فأخذ عنه التقشُّف، ولم يكن يُحسِنُ العلم. وقال أبو عبد الله الحاكم: جاورَ بمكَّة خمسَ سنين، ثمَّ انصرفَ إلى نَيسابور، فحبسَه طاهر بن عبد الله بن طاهر، فلمَّا أطلقَه خرجَ إلى بعض ثغور الشام، ثم عاد إلى نيسابور، فحبسه محمد بن طاهر، وطالت حبسته ومحنته، وكان يغتسلُ كُلَّ جمعة، ويتأهَّبُ للخروج إلى الجامع، ويقول للسجَّان: أتأذنُ لي في الخروج إلى الجمعة؟ فيقول: لا، فيقول: اللهمَّ إنَّك قد علمتَ أنِّي قد بذلتُ مجهودي، والمنعُ من غيري (¬1). ومكث بنيسابور أربع عشرة سنة، منها ثمانيةٌ في السجن، وكان في أوَّل أمره يلبسُ مَسْكَ ضأنٍ مدبوغ، وعلى رأسه قلنسوةٌ بيضاء، ويجلس فيعظُ ويذكِّرُ الناس (¬2). وقال الشهرستانيُّ: كان محمد بن كرَّام قليلَ العلم قد قمَّشَ من كل مذهَبٍ ضِغْثًا، وأثبتَه في كتابه، وروَّجهُ على أغتامٍ، فانتظمَ ناموسُه بسواد خراسان، وصار ذلك مذهبًا، قد نصره السلطان محمود بن سُبكتكين، وصبَّ البلاءَ على أصحاب الحديث من جهتهم (¬3)، وأصحابُه فرقٌ، ونصَّ على أن معبودَه على العرش مستقرٌّ، وأطلقَ عليه اسمَ الجوهر، وأنَّه سبحانه مماسُّ العرش من الصفحة العليا، وجوَّزَ عليه الانتقال والتحويل (¬4). ذكر وفاته: لمَّا أطلقَه محمدُ بن طاهر خرج إلى الشام، فنزلَ القدس، فنفاهُ الأمير يانس -وكان ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 64/ 190 - 191 (طبعة مجمع اللغة). (¬2) المنتظم 12/ 98. (¬3) نص العبارة في الملل والنحل 1/ 33: وصب البلاء على أصحاب الحديث والشيعةُ من جهتهم. (¬4) الملل والنحل 1/ 108 - 109.

معلى بن أيوب

على الرملة والقدس- فنزل زُغَر، فمات بها في صفر، ثُمَّ حُمِل إلى القدس ميتًا، فدُفن بمقابرِ الأنبياء، عند باب أريحا، بقرب يحيى بن زكريا عليهما السلام، ولم يَعلم به أحد. وتوفِّي وأصحابُه بالقدس أكثرُ من عشرين ألفًا على التقشُف والتعبُّد، ولهم رباطٌ يجتمعون إليه، ويظهرونَ النسك. وكان نصر بن إبراهيم المقدسيّ ينكرُ عليهم ويقول: ظاهرٌ حسن وباطن قبيح. وكان بالقدس رجلٌ يقال له: هجَّام يحبُّ الكَرَّاميَّة، ويحسنُ الظنَّ بهم، فنهاه الفقيه نصر، فقال: إنَّما لي ما ظهر منهم، فلمَّا كان بعدَ ليالي رأى هجَّام في منامه كأنَّه اجتازَ برباطهم، وقد نبتَ النرجسُ في حيطانِه، فمدَّ يده ليأخذَ منه باقةَ نرجس، فوجدَ أصولَه في العَذِرَة، فقصَّ رؤياه على الفقيه نصر، فقال: هذا تصديقُ ما قلت لك: ظاهرُهم حسن، وباطنُهم خبيث (¬1). قال المصنِّف رحمه الله: وأصحابُ ابن كرَّام اليوم بسجستان وخراسان، منهم خلقٌ كثير، ولهم معبدٌ رائد، ولهم مقالاتٌ في التشبيه والحلول (¬2). مُعَلَّى بن أيوب أبو العلاء الكاتب، وهو ابن خالة الفضل والحسن بن سَهْل. وكتب للحسن بن سهل ثم للمأمون ثم للمتوكِّل، وكان عفيفًا، وإليه المظالم. وقال معلَّى: [حدثني أحمد بن صالح بن أبي فنن الشاعر قال: ] (¬3) كان محمدُ بن يزيد بن مَزْيد الشيباني أجودَ بني آدم في عصره، لا يردُّ طالبًا من حاجة، فإن كانت عنده دفعها، وإن لم تكن عنده لم يقل: لا، ولكنه يَعِدُ، ثمَّ يستدينُ وينجزُ وعدَه، وأنشدني أحمد بن صالح بن أبي فنن فيه: [من الكامل] عشقَ المكارمَ فهو مشتغلٌ بها ... والمكرماتُ قليلةُ العشَّاقِ وأقام سوقًا للثناء ولم يكن ... سوقُ [الثناء يعدُّ] (¬4) في الأسواق ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 64/ 193. (¬2) قال الذهبي في السير 11/ 524: وكانت الكرَّامية كثيرين بخراسان، ولهم تصانيف، ثم قلُّوا وتلاشوا. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 17/ 18 (مخطوط). (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 17/ 18، ومكانها في (خ) و (ف) بياض.

بثَّ الصنائعَ في البلاد فأصبحتْ ... تُجبى إليه محامدُ الآفاقِ وقال معلَّى: دخلتُ على المأمون، فرأيتُه مقبلًا على شيخٍ شديد بياضِ الثياب، حسن اللحية، على رأسه لاطية، فقلت: من هذا؟ قالوا: أبو العتاهية، فقال له المأمون: أنشدني من شعرك، فقال: [من مجزوء الكامل] أنساكَ محياكَ المماتَا ... فطلبتَ في الأرض الثباتَا أَوثقِت بالدنيا وأنْـ ... ـتَ ترى جماعتَها شتاتَا إنَّ الإله يُميتُ من ... أَحْيى ويحيي من أماتَا يا من رأى أبويه في ... من قد رأى كانا فماتَا (¬1) وقال: دخلتُ على عبد الله بن طاهر، فدخلَ عليه رجل، فأجلسَه على سريره -وكان يعرفه قديمًا- ثم أنشدَه ابنُ طاهر: [من الوافر] أميلُ مع الذِّمام (¬2) على ابن عمِّي ... وأحملُ للصديقِ على الشقيقِ فإن ألفيتني ملكًا عظيمًا ... فإنَّك واجدِي عبدَ (¬3) الصديقِ أفرِّقُ بين معروفي ومَنِّي ... وأجمعُ بين مالي والحقوقِ * * * ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 17/ 17 - 18. وأبيات أبي العتاهية في ديوانه ص 74 - 75 دون البيت الثالث. (¬2) في (خ) و (ف): الدنيا. والمثبت من تاريخ دمشق 17/ 18. (¬3) في (خ) و (ف): عند. والمثبت من تاريخ دمشق 17/ 18.

السنة السادسة والخمسون بعد المئتين

السنة السادسة والخمسون بعد المئتين فيها قدم موسى بن بُغَا سامرَّاء يوم الإثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرَّم، عبَّأ أصحابَه ميمنةً وميسرة، وأقام هو في القلب، وشهرُوا السلاح، ودخلوا المدينة مجمعين على قتل صالح بن وصيف، يقولون: قَتلَ المعتزَّ، وأخذَ أمواله وأموال قبيحة وأموال الكتَّاب، وفعل وفعل، وصاحت العامة في الأسواق بصالح: يا فرعون قد جاءك موسى. وكان المهتدي قد جلس للمظالم، فطلب موسى الإذنَ عليه، فلم يأذن لهم، فهجمَ بمن معه عليه، أقاموه من مجلسه وحملوه على دابَّة من دواب الشاكريَّة، ومضوا يريدون الكَرْخ، وانتهبُوا ما كان في الجَوْسَق، فلمَّا وصلوا إلى دار ياجور، أدخلُوا المهتدي إليها، وهو يقول لموسى: ويحك يا موسى، اتَّقِ الله، ما تريد؟ فإنَّك قد ارتكبتَ أمرًا عظيمًا. فقال له موسى: والله ما نريدُ إلَّا خيرًا، وتربةِ المتوكِّل، لا نالكَ منَّا سوءٌ البتة. ولو أرادوا به خيرًا لقالوا: وتربةِ المعتصم والواثق. ولمَّا صاروا به إلى دار ياجور، وأخذُوا عليه العهودَ والمواثيق لا يمالي صالحًا عليهم، ولا يضمرُ لهم سوءًا، ويكون باطنه مثل ظاهره، فحلف، وجدَّدوا له البيعةَ ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرَّم. وأصبحوا يوم الثلاثاء، فبعثُوا إلى صالح أنْ يحضرهم للمناظرة، فوعدَهم أن يصير إليهم، فقيل لبعض الفراغنة: ما الذي تريدون منه؟ قال: دماء الكتَّاب، ودم المعتزّ، وما أخذ منه ومن كتَّابه ومن أمِّه. وأصبحَ صالح يوم الأربعاء فاستتر، وأقيمَ النداءُ عليه، ورُدَّ المهتدي إلى الجَوْسَق (¬1). ولثمانِ ليالٍ بقينَ من صفر قُتِل صالح بن وصيف. وسببُ قتله أنَّه لمَّا كان يومُ الأربعاء لثلاثٍ بقين من المحرَّم، أُظهر كتابٌ ذكرَ أنَّ سيما الشرابي زَعَمَ أنَّ امرأةً ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 9/ 438 - 440.

جاءت به، ودفعتهُ إلى كافور الخادم، وقالت: فيه نصيحةٌ لأمير المؤمنين، فإن طلبتموني ففي المكان الفلاني، فلمَّا وقف عليه المهتدي طلبَها في المكان، فلم يوجد لها أثر، فدعا المهتدي سليمان بن وهب، وموسى بن بغا، ومُفْلِح، وباكباك، وياجور، وأعيانهم، ودفع الكتابَ إلى سليمان وقال: أتعرفُ هذا الخط؟ قال: نعم، هذا خطُّ صالح، فقرأه عليهم، وفيه يذكر أنه مستخفٍ بسامرّاء، وإنَّما استتر خوفًا من الفتن واتصال الحروب، وأنَّ الأموال علمُها عند الحسن بن مَخْلَد، وذكر وجوهًا في تفرقة أموال قبيحة وغيرها، وكان كتابه يدلُّ على قوَّةٍ في نفسه. فذكر المهتدي ما يدلُّ على الصلح ودفع الفتن، فلمَّا سمعَ القومُ اتَّهموه بأنَّه يعلمُ علمَ صالح، وأنَّه يتقدَّمهم عنده، فكان بينهم في هذا كلام، فأصبحُوا يوم الخميس لليلتين بقيتا من المحرم، فصاروا إلى دار موسى بن بُغَا، وتراطنوا وتكلَّموا في خلع المهتدي وقتله، فقال لهم باكباك (¬1): ويحكم، قتلتُم ابنَ المتوكِّل وهو حسن الوجه، سخيُّ النفس، وتريدون أن تقتلوا هذا، وهو مسلمٌ يصوم ويصلِّي، ولا يشرب النبيذ، من غير ذنب! والله لئن فعلتم هذا لأَصِيرَنَّ إلى خُراسان، ولأُشِيعَنَّ أمركم هناك. وبلغ المهتدي، فخرج إلى مجلسه وقد لبس ثيابًا بياضًا، وتطيَّب، وتقلَّد بسيف، ثمَّ أمرَ بإدخالهم إليه، فقال لهم: قد بلغني ما أنتم عليه، ولستُ كمن تقدَّمني مثل أحمد المستعين، ولا مثل ابن قبيحة، والله ما خرجتُ إليكم إلَّا وأنا متحنِّط، وقد أوصيتُ إلى إخوتي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربنَّ به ما استمسكت قائمتُه بيدي، ولئن سقط مني شعرة، ليذهبنَّ بها أكثركم، أمَّا دين! أما حياء! أما رِعَة (¬2)! كم يكون الخلافُ على الخلفاء، والإقدامُ والجرأةُ على الله؟ ! ثم قال: ما أعلم علم صالح. قالوا: فاحلف لنا، فقال: إذا كان يوم الجمعة وحضرَ القضاة والهاشميون والشهود والقوَّادُ، فإذا صلَّيتُ الجمعة حلفتُ لكم، ليكون اليمينُ بحضرتهم، فرضوا بذلك، وانفصلوا على هذا. ثمَّ ورد مال من فارس والأهواز يوم الأربعاء لثلاثٍ بقينَ من المحرم، ومبلغُه عشرة ¬

_ (¬1) كذا في الكامل 7/ 219، وتاريخ الإسلام 6/ 12، والقائل كما في تاريخ الطبري 9/ 442 أخو باكباك. (¬2) الرعة: التقى، من وَرع يرع رِعةً. انظر مختار الصحاح (ورع).

آلاف ألف درهم (¬1)، وخمس مئة ألف. فانتشرَ في العامَّةِ أنَّ الأتراكَ قد اتَّفقوا على خلع المهتدي، والفتك به، فثار العوام والقوَّاد، وكتبوا رقاعًا، وألقَوها في الجوامع والمساجد والطرقات مضمونها: يا معاشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا، المضاهي لعمر بن الخطاب، أنْ ينصره على عدوِّه، ويكفيه مؤنة ظالمه. وتحرَّكَ أهلُ الكَرْخ والدور، وكانوا مع المهتدي، وراسلُوه في الوثوب بالأتراك وبموسى بن بُغَا وغيره، فأرسل إليهم وجزاهم خيرًا، ووعدَهم بكلِّ خير (¬2). وفيها تحرك الزَّنج من السَّبَخَة وقربوا من البصرة، وأخذوا مراكبَ كثيرة، وغنموا منها أموالًا جليلة، وكانوا قد هزموا جُعلان، فتهيَّأ سعيد الحاجب نحوهم (¬3). وفي مستهل جمادى الأولى رحلَ موسى بن بُغا وباكباك إلى مُساور الشاري، وكان بالسِّنِّ قريبًا من الموصل، وجاءهم المساء، وكانوا عند جبل، فأوقد مساور النيران على رأس الجبل، ثم نزلُوا من مكانٍ آخر ومضوا، وفارقوا موسى، فأقام موسى وباكباك وجماعة من الموالي بالكُحَيل (¬4). ولأربع عشرة ليلةً خلت من رجب خُلِع المهتدي، وقُتِل يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلةً بقيت منه، وسبب (¬5) ذلك [أنَّ الجند] (¬6) ثاروا يطلبونَ العطاء، فلم يعطِهم شيئًا، ووعدَهم، وكان موسى بن بُغا وباكباك والموالي بطريقِ خراسان في طلب مساور الشاري، وكان المهتدي قد استمالَ جماعةً من الأتراك منهم باكباك، وهو مع موسى في وجه الشاري، فكتب إلى باكباك يأمره يقتلُ موسى ومُفْلِحًا، أو يحملهما إليه مقيَّدَين، ويكون هو الأمير على الأتراك، فأوقف (¬7) موسى على كتابه وقال: إنِّي لستُ ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف) والكامل 7/ 221. وفي تاريخ الطبري 9/ 443: سبعة عشر ألف ألف درهم. . . (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 444، والكامل 7/ 221، وتاريخ الإسلام 6/ 12. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 470 - 471. (¬4) انظر تاريخ الطبري 9/ 455 - 456. ومن بداية أحداث السنة إلى هنا ليس في (ب). (¬5) من هنا إلى الباب الخامس عشر من خلافة المعتمد، ليس في (ب). (¬6) ما بين حاصرتين من تاريخ الإسلام 6/ 12، وانظر تاريخ الطبري 9/ 456. (¬7) في (خ) و (ف): فإن وقف. والتصويب من تاريخ الإسلام 6/ 13، وانظر تاريخ الطبري 9/ 456.

أفرح بهذا، وإنَّما هذا تدبيرٌ علينا جميعًا، وإذا فَعَلَ بك اليوم شيئًا فَعَلَ بي غدًا مثله، فماذا ترى؟ فقال: أرى أن تصير إلى سامرَّاء وتخبره أنَّك في طاعته وناصره، فإنَّه يطمئنُّ إليك، ثم ندبِّرُ في قتله. فسار إلى سامرَّاء ودخل على المهتدي، فغضب وقال: ألم آمرك تقتل موسى ومفلحًا، فداهنت في أمرهما؟ ! فقال: يا أمير المؤمنين، كيف كنتُ أقدرُ عليهما، وجيشُهما أعظمُ من جيشي، ولكنِّي قد قدمت بجيشي ومن أطاعني، لأنصرنَّك عليهما، وقد بقيا في عددٍ يسير، فأمرَ بأخذِ سلاحه، فقال: أذهب إلى منزلي وأعود، فليس مثلي من يفعل به هذا، فقال: أحتاجُ إلى مناظرتك، فأخذ سلاحَه وحبسه، ولما أبطأ خبرُه على أصحابه، قال لهم أحمد بن خاقان حاجبه: اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدثَ به حدث، فجاشوا وأحاطوا بالجَوْسَق، فقال المهتدي لصالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور: ما ترى؟ فقال: قد كان أبو مسلم أعظم شأنًا من هذا العبد، وأنت أشجع من المنصور، فاقتلهُ، فأمر بضربِ عنقه، فقُتِل، وألقي رأسُه إلى أصحابه، فجاشوا، وأرسل المهتدي إلى الفراغنة والمغاربة والأشروسنية، فجاؤوا، فاقتتلوا، فقتل من الأتراك أربعة آلاف، وقيل: ألفان، وقيل: ألف، وذلك يومَ السبت لثلاث عشرة خلت من رجب. وحجز بينهم الليل وجاؤوا يوم الأحد، ومعهم أخو باكباك وحاجبه أحمد بن خاقان في زهاء عشرة آلاف، وخرج المهتدي ومعه صالح بن علي، والمصحف في عنقه، وهو يقول: أيُّها الناس، انصرُوا خليفتكم، وحمل عليهم طغوبا (¬1) أخو باكباك في خمس مئة رجل، فمالت الأتراكُ الذين مع المهتدي إلى طغوبا، والتحمَ القتال، فانهزم الذين كانوا مع المهتدي، وكثر فيهم القتل، ومضى المهتدي يركض منهزمًا، والسيف في يده مشهور، وهو ينادي: أيُّها الناس، انصروا خليفتكم، ولم يزل منهزمًا حتى وصل إلى دار [أبي] (¬2) صالح بن محمد بن يزداد، فدخلَها، ورمى سلاحه، ولبس البياض ليعلوا دارًا فينزل إلى أخرى ويهرب، وجاء أحمد بن خاقان حاجب باكباك، فسأله عنه، فأخبر به، فتبعَه ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 458: طوغيتا. وفيه 9/ 461: طغوينا. وفي تاريخ الإسلام 7/ 13: طغويا. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 458.

الباب الخامس عشر في خلافة المعتمد

فهرب، فرماه بعضهم بسهم، ولفحه بالسيف، ثم حُمِل إلى أحمد بن خاقان، فأركبوه بغلًا، وجعلوا خلفَه سائسًا، وحملوه إلى دار أحمد، وجعلُوا يوقعون به الفعل في رأسه ووجهه (¬1)، وسألُوه عن ثمن ما باع من القصر الجعفريّ من المتاع وأواني الذهب والفضة -وكان باعَ الجميع لمَّا ولي- فأقرَّ لهم بستِّ مئة ألف دينار مودعةٍ ببغداد، أودعها الكرخي، وأخذوا خطَّه إلى خَشَف الواضحية المغنية بستِّ مئة ألف دينار، ودفعوه إلى رجلٍ، فعصرَ على خصيتيه حتى مات (¬2). وقيل: لمَّا أخرجُوه من الدار كان به طعنةٌ في خاصرته فحملوه على برذون أعجف في قميص وسراويل (¬3). وقيل: لمَّا صاروا به إلى دار أحمد بن خاقان أرادوه على الخلع، فأبى، واستسلم للقتل وكان قد كتب بيده رقعةً لموسى وباكباك ومُفْلح وجماعةٍ من القوَّاد أنَّه لا يغدرُ بهم، ولا يغتالهم، ولا يواطئُ عليهم بقتلٍ ولا غيره، وأنَّه متى فعلَ ذلك فيهم، فيحلُّ من بيعته، والأمر إليهم يولُّون من أرادوا، فلمَّا قتل باكباك، وفعل ما فعل، استحلُّوا بذلك نقضَ أمره، فخلعُوه وقتلوه (¬4)، وبايعوا أحمد بن المتوكل، ولقَّبوه المعتمدَ على الله (¬5). الباب الخامس عشر في خلافة المعتمد (¬6) [واسمه] أحمد بن جعفر المتوكل، ويكنى أبا العباس، وقيل: أبا جعفر، وأمُّه روميَّةٌ اسمها فِتْيان. ولد بسرَّ من رأى في أوَّل المحرَّم سنة تسعٍ وعشرين ومئتين، ولم تُدرِك أمُّه خلافتَه، وكان أسمرَ أعين، صغيرَ اللحية، خفيفَ الجسم، جميلًا، بوجهه أثرُ جدريّ (¬7). ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 458: فجعلوا يصفعونه ويبزقون في وجهه. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 458. (¬3) انظر تاريخ الطبري 9/ 467. (¬4) انظر تاريخ الطبري 9/ 462. (¬5) انظر تاريخ الطبري 9/ 467 - 468. (¬6) في (ب): ذكر خلافة المعتمد. (¬7) انظر تاريخ بغداد 5/ 98 - 99، والمنتظم 12/ 103، وليس فيهما أن بوجهه أثر جدري. وسلف في ترجمة لمستعين بالله أنه كان موصوفًا بذلك. والله أعلم.

[ذكر بيعته: ] وبويع يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلةٍ بقيت من رجب [في هذه السنة]، في اليوم الذي توفِّي فيه المهتدي (¬1)، وهو ابن عمِّه لحًّا، وكان له يوم وليَ خمسٌ وعشرون سنة وشهورًا. وقيل: إنَّ المهتدي قُتِلَ بعد بيعة المعتمد بيومين في يوم الخميس (¬2). ودخل موسى بنُ بُغَا سامراء يوم السبت لعشرٍ بقين من رجب، فسلم على المعتمد، فخلع عليه، وسكن الناس وخمدت [الفتنة] (¬3). وكان المعتمدُ [بن فتيان] محبوسًا بالجَوْسق، فأخرجوه وبايعوه (¬4). ولمَّا هلك المهتدي، طلب الأتراك أبا نصر محمد بن بغا أخا موسى، وهم يظنونه حيًّا، وكان المهتدي [قد] قتله يوم قتل باكباك، فدُلُّوا عليه في القصر، فنبشوه، [وأخرجوه] مذبوحًا، وحملوه إلى أهلِه، وكَسرتِ الأتراكُ على قبره ألف ألف سيف (¬5)، وهذه عادتهم، وحُمِلت جثَّة باكباك فدفنت، [وسنذكر مقتل المهتدي في ترجمته] (¬6). وحَبس المعتمدُ أولادَ المهتدي ببغداد، وضيَّقَ عليهم، وكان أكثرهم مرضى مقلِّين، فجعلُوا يبكون من الجوع، فبلغ خبرُهم إسماعيلَ بن إبراهيم نقيب العباسيين، فبعثَ إليهم بطعام، وكان يتفقَّدُهم، ولمَّا ولي المعتمدُ ولَّى أخاهُ طلحةَ الموفق العهد، وولَّاه المشرق، وجعلَ المعتمدُ ابنَه جعفرًا وليَّ عهده، وولاه المغرب، ولقبه المفوِّض إلى الله، وانهمك المعتمدُ في لهوه ولذَّاته، واشتغلَ عن الرعية، فكرهه الناس، ومالوا إلى أخيه طلحة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر المنتظم 12/ 102 - 103. (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 467 - 468. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 462. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 467. (¬5) كذا في (خ) و (ف). وفي (ب): ألف قوس، وفي تاريخ الطبري 9/ 469: ألف سيف. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). ولم ترد فيها ترجمة المهتدي. (¬7) من قوله: ولما ولي المعتمد. . . إلى هنا ليس في (ب).

الحسن بن علي المسوحي البغدادي

وفيها دخل الزَّنْج البصرة لعشرٍ بقين من رجب، فقتلوا وفتكوا، ثمَّ دخلوا الأُبُلَّة والأهواز، ففعلوا فيها أكثرَ ممَّا فعلوا بالبصرة، وهربَ أهلُها (¬1). وفيها ظهرَ بالكوفة عليُّ بن زيد الطالبي. وفيها غلب الحسن بن زيد الطالبيّ على الرَّيِّ، فجهَّز إليه المعتمدُ موسى بن بُغَا في الموالي، وخرجَ معه مشيِّعًا له (¬2). وحجَّ بالناس محمدُ بن أحمد بن عيسى بن أبي جعفر المنصور. وفيها توفي الحسنُ بن عليّ المُسوحيّ البغداديّ (¬3) أوحدُ زمانه في علوم الحقائق، ولم يكن له مأوى غير المساجد، وهو أستاذُ أكثر البغداديين، وهو من كبار أصحاب السريّ، وهو أوَّلُ من عقِدت له الحلقةُ ببغداد، فتكلَّم في علوم الحقائق، ولم يتخلَّف عن مجلسه أحد من أصحاب السريّ، ولم يكن له روايةٌ يُعرَف بها. قال المُسوحي: كنت آوي إلى باب الكُناس (¬4) كثيرًا، وكنتُ أدخل مسجدًا هناك أتَّقِي من الحر، وأستكنُّ من البرد، فدخلتُ يومًا وقد كظَّني الحرُّ واشتدَّ عليَّ، فحملتني عيني، فنمتُ، فرأيتُ كأنَّ سقفَ المسجد قد انشقَّ، فنزلت منه جاريةٌ عليها قميصُ فضَّة يتخَشْخَش، ولها ذؤابتان، فجَلَسَتْ عند رجلي، فقبضت رجلي عنها، فمدَّت يدها فنالت رجلي، فقلت لها: يا جارية، لمن أنت؟ فقالت: لمن دامَ على ما أنتَ عليه. وقال الجنيد: كلمتُ الحسن المُسوحيَّ في شيءٍ من الأُنس، فقال: لو مات من تحت السماء ما استوحشتُ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 9/ 470 - 473. (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 474، والكامل 7/ 240. ومن قوله: وفيها ظهر بالكوفة. . . إلى هنا ليس في (ب). (¬3) وكذا أورده ابن الجوزي في وفيات سنة 256 هـ. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/ 581 وتاريخ الإسلام 6/ 315: توفي المسوحيُّ بعد سنة ستين ومئتين. (¬4) في (خ) و (ف): الكنائس. والمثبت من تاريخ بغداد 8/ 354، والمنتظم 12/ 110. (¬5) تاريخ بغداد 8/ 354 - 355. وهذه الترجمة لم ترد في (ب).

الزبير بن بكار

[وفيها توفي] الزبيرُ بن بَكَّار ابنِ عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزُّبير بن العوَّام، أبو عبد الله الأسديُّ المدنيّ، الإمامُ العلَّامة، صاحب كتاب "النسب". كان عالمًا بالأنساب، وأخبار المتقدِّمين، وأيَّام الناس، ولي القضاءَ بمكَّة، وقدم بغداد، وحدَّث بها، [وقال الخطيب: ] كان ظريفًا كَيِّسًا. [وروى الخطيب بإسناده عن محمد بن إسحاق الصيرفي قال: ] (¬1) سألتُ الزُّبير وقد جَرى حديث (¬2) النساء: منذ كم لزوجتك معك؟ فقال: لا تسألني (¬3)، ما يردُ القيامة أكثرُ كباشًا منها، ضحَّيتُ عنها بسبعين كبشًا. [وروى الخطيب أيضًا أن أخت الزبير مدحته] (¬4) فقالت: إنَّ أخي خير رجل لأهله، لا يتزَّوجُ، ولا يشتري [له] جاريةً، فقالت امرأتُه: إنَّ هذه الكتب أشدُّ عليَّ من ثلاثِ ضرائر (¬5). وكان الزبير ممدَّحًا مدحه ابنُ أبي طاهر فقال: [من البسيط] ما قال لا قطُّ إلَّا في تشهُّدِه ... ولا جَرَى لفظُه إلَّا على نعمِ بين الحواريِّ والصِّدِّيقِ نسبتُه ... وقد جَرى ورسولُ الله في رحِمِ (¬6) أشارَ إلى صفيَّة بنت عبد المطلب - رضي الله عنها - أمِّ الزبير. واستقدمَه الخليفةُ إلى بغداد، فلقيَه محمدُ بن عبد الله بن طاهر، فقال: لئن تباعدت بيننَا الإنسابُ، لقد تقاربت بيننا الآداب، ثم وصلَه وأحسنَ إليه (¬7)، وأُخْرِج إلى سُرَّ من ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال محمد بن إسحاق الصيرفي. (¬2) في (خ) و (ف): وقد جرى في حديث. والمثبت من (ب) وتاريخ بغداد 9/ 492، المنتظم 12/ 112. (¬3) بعدها في (ب): عنها. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): ومدحته أخته. (¬5) تاريخ بغداد 9/ 491، وما بين حاصرتين من (ب). (¬6) تاريخ بغداد 9/ 489. (¬7) تاريخ بغداد 9/ 490.

صالح بن وصيف التركي

رأى، ثمَّ عاد إلى مكَّة، فماتَ بها وهو على قضائها (¬1). [روى الخطيبُ عن أحمد بن سليمان قال: توفِّي] ليلةَ الأحد. لتسعِ ليالٍ بقين من ذي القعدة، [سنة ستٍّ وخمسين ومئتين]، وقد بلغَ أربعًا وثمانين سنة، ودُفِنَ بمكَّة، وصلَّى عليه ابنُه محمَّد (¬2). [قال: ] وسبب وفاته أنَّه وقعَ من سطح داره، فأقامَ يومين لا يتكلم ومات. [قال أحمد بن سليمان: مات بعد فراغنا من كتاب "النسب" عليه بثلاثة أيَّام.] (¬3) سمعَ خلقًا كثيرًا منهم سفيانُ بن عيينة وغيره، ورَوى عنه أحمدُ بن يحيى ثعلب، وخلق كثير، واتَّفقُوا على صدقه وثقته، وأنَّه لم يكن في الدنيا في زمانه أعلم منه في نسب قريش وأيَّام العربِ ووقائعها. صالح بن وَصِيف التركي أحدُ قوَّاد المتوكِّل، قدم معه دمشق سنةَ ثلاثٍ وأربعين ومئتين (¬4)، وكان قد استطال على الخلفاء، وقتلَ المعتزَّ وأخذَ أمواله ومال أمِّه، وولَّى المهتدي الخلافة وحكم عليه، وكان موسى بن بُغا (¬5) بالريّ فكتبت إليه قبيحة تخبرُه بما فعل صالح، فسار موسى إلى سُرَّ من رأى، فدخلها، واستتر [صالح بن وصيف] (¬6)، فنادى موسى: من جاءَ به فله عشرةُ آلاف دينار، فلم يظفر به أحدٌ. واتَّفقَ أنَّ بعضَ الشاكريَّةِ دخلَ زقاقًا وقتَ الحرِّ يستترُ فيه، فرأى بابًا مفتوحًا ولم يسمع حسًّا، فدخل الدهليز -وكان طويلًا مظلمًا- فرأى صالحًا نائمًا وليس عنده أحدٌ، ¬

_ (¬1) من قوله: وكان الزبير ممدحًا. . . إلى هنا ليس في (ب). وما سيأتي بين حاصرتين منها. (¬2) كذا في (خ) و (ف) و (ب). وفي تاريخ بغداد 9/ 492، والمنتظم 12/ 112: وصلى عليه ابنه مصعب. (¬3) بعدها في (ب) -وما بين حاصرتين منها-: وهذا ما انتهى إلينا والله أعلم. السنة السابعة والخمسون بعد المئتين. . . (¬4) تاريخ دمشق 8/ 228 (مخطوط). (¬5) في (خ) و (ف): وولى المهتدي الخلافة صالح بن موسى بن بغا. والتصويب من الوافي بالوفيات 16/ 275. وانظر تاريخ الطبري 9/ 456. (¬6) ما بين حاصرتين من الوافي بالوفيات 16/ 275.

فعرفَه، فجاء إلى موسى بن بغا فأخبره، فبعث الموالي إليه فأخذوه. وقال إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زُرَيق: حدثني صاحبُ رَبْع القبَّة [وهو ربعٌ] (¬1) تلقاء دار صالح قال: بينَا نحن قعود يوم الأحد ثامن صفر (¬2)، إذا غلامٌ قد خرجَ من زُقَاق، وأُراه مذعورًا، فأنكرناه، فأردنا أن نسألَه ففاتنا، وإذا بعيَّارٍ من موالي [صالح بن] وصيف قد أقبل، ويعرف بروزبه، ومعه ثلاث نفر، فدخلوا الزقاق، فلم يلبثوا أن أخرجوا صالحًا، فسألنا عن الخبر، وإذا بذلك الغلام قد دخل [دارًا في] (¬3) الزُّقاق يطلبُ ماءً يشرب، فسمعَ قائلًا يقول بالفارسيَّة: أيّها الأمير تنحّ، فإنَّ غلامًا قد جاء يطلبُ ماء، فسمع الغلام ذلك، وكان بينه وبين هذا العيَّار [معرفة، فجاء فأخبره] (¬4) فأخذ العيارُ ثلاثةً، وهجمَ عليه فأخرجَه. قال (¬5): لمَّا نظرتُ إلى صالح في الدار، وإذا بيده مرآةٌ ومشطٌ، وهو يسرِّحُ لحيتَه، فلمَّا رآني بادرَ فدخل بيتًا، فظننتُ أنَّه يريدُ أخذَ سلاحٍ، فتلوَّمتُ ساعةً، وإذا به قد التجأَ إلى زاوية، فدخلتُ فأخرجتُه، فتضرَّعَ إليَّ، فقلت: ليس إلى إطلاقِك سبيل، ولكنِّي أمر بك على أبواب إخوتك وأصحابك وقوَّادك وصنائعك (¬6)، فإن اعترض لي منهم اثنان أطلقتُك، قال: فخرجتُ به عليهم، فكلُّهم كان على مكروهه. وقيل: حملوه على بِرذَونٍ، ورأسه مكشوف، والعامَّة تعدو خلفه، فلمَّا صارُوا به إلى دار موسى، أتاه باكباك ومُفلح وياجور وساتكين وغيرهم من القوَّاد، وكانوا خائفين منه، ثم ذهبوا إلى الجَوْسَق، فبادرَه رجلٌ من أصحاب مفلح بضربةٍ من ورائه على عاتقه، فكاد يقدُّه نصفين، ثم احتزَّ رأسَه، وتركُوا جيفتَه هناك، وأتوا برأسه إلى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 453. (¬2) كذا في (خ) و (ف). والصواب: يوم الأحد لثمان بقين من صفر. انظر تاريخ الطبري 9/ 445. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 453. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 453، ومكانها في (خ) و (ف) بياض. (¬5) القائل هو العيار. (¬6) في (خ) و (ف): وضياعك. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 454.

المهتدي وهو قائمٌ يصلِّي المغرب، فلم يزدهم على أن قال: وارُوه، فلمَّا أن كان يومُ الاثنين تاسع صفر (¬1) حملُوا رأسَه على قناة، ونودي: هذا جزاءُ من قتلَ مولاه، [ونصب] (¬2) بباب العامَّة ساعةً، ثم نُحّي، وفُعِل به ذلك ثلاثةَ أيَّام (¬3)، وقال السَّلوليُّ لموسى: [من البسيط] ونِلتَ وتْرَك من فرعونَ حينَ طغَى ... وجئتَ [إذ جئتَ] (¬4) يا موسى على قَدرِ ثلاثةٌ كلُّهم باغٍ أخو حَسدٍ ... يرميكَ بالظُّلم والعُنوانِ عن وَتَرِ وصيفُ بالكَرْخِ ممثُولٌ به وبُغا ... بالجسرِ محترقٌ بالجمر والشَّررِ وصالحُ بن وصيفٍ بعدُ منعفرٌ ... في الحير جيفتُه والروحُ في سَقرِ ورثى المهتدي صالحًا فقال: [من مجزوء الخفيف] رحمَ اللهُ صالحَا ... فلقد كان ناصحَا ثم أضحى وقد ترا ... مي به الدهرُ طائحَا والمنايا إن لم تُغَا ... دكَ جاءت روائِحا (¬5) وقال الصوليُّ: عذبوه كما فَعَل بالمعتزّ، ثم أدخلوه الحمام حتَّى قرَّ بالأموال، ثمَّ خنقوه، وقال أحمدُ بن صالح (¬6) الخرَّاز: [من الطويل] دماءُ بني العباس غير ضوائع ... ولا سيَّما عند العبيدِ الملاطعِ طغى صالحٌ لا قدَّس اللهُ صالحًا ... على ملكٍ ضخم العلا والدسائعِ طغَى وبَغى جهلًا ونَوْكًا وغرَّةً ... فأورد مولاهُ كريهَ المشارعِ وكان له ذو العرشِ طالبَ وتره ... بموسى وموسى شاكر للصنائعِ يطيفُ برأسِ العبد ظهرًا وجسمُه ... لقىً للضباعِ الناهشات الخوامعِ ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف)، والصواب -كما في تاريخ الطبري 9/ 454 - : لسبع بقين من صفر. (¬2) في (ف) بياض، وما بين حاصرتين استدركته من تاريخ الطبري 9/ 454. (¬3) من قوله: ونصب إلى هنا ليس في (خ). (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 455. (¬5) تاريخ دمشق 8/ 228. (¬6) في تاريخ دمشق 8/ 228، والوافي بالوفيات 16/ 276: أحمد بن الحارث.

عبد الله بن محمد

عبد الله بن محمد ابن المُهاجر، أبو محمد البغداديّ، ويُعرف بفُوران. من خواصّ أصحاب الإمام أحمد، وكان يقدِّمُه، ويكرمُه، ويحترمُه، ويأنسُ به، ويقترضُ منه، ومات الإمامُ أحمد وله عنده خمسونَ دينارًا، وأوصَى أنْ يعطى من غلَّته، فلم يأخذها فُوران، وأحلَّهُ منها. وولد للإمام أحمد ولد، فجاءَ إلى فوران وقال له: قد وهبَ الله لنا ولدًا، ما ترى أن نسميه؟ وكانت وفاةُ فوران منتصف رجب. حدَّث عن الإمام أحمد وغيره، وروى عنه عبد الله ابن الإمام أحمد وغيره. وكان صدوقًا زاهدًا ورعًا أمينًا (¬1). محمد بن إبراهيم أبو جعفر الأنماطيّ، ويعرف بمُرَبَّع، أحدُ الحفَّاظ. قال: حضرتُ عند الإمام أحمد بن حنبل، فذكرَ حديثًا، فقلت: أتأذنُ لي أن أكتبَ من محبرتك؟ قال: يا هذا، هذا ورع مظلم، اكتب. أسندَ عن أبي حذيفة النهديّ وغيره، ورَوى عنه القاضي المَحَاملي وغيره، وكان ثقةً (¬2). محمدُ بن إسماعيل ابن إبراهيم بن المغيرة بن بَذْدِزْبة (¬3)، أبو عبد الله، البخاريّ، الجعفيّ مولاهم. وكان المغيرةُ مجوسيًّا، أسلم على يدي يمان البخاريِّ الجعفيّ والي بخارى، نُسِب إليه (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 276 - 277، والمنتظم 12/ 112 - 113. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 270. (¬3) انظر تاريخ بغداد 2/ 323، وتاريخ دمشق 61/ 52 (طبعة مجمع اللغة)، وتهذيب الكمال 24/ 437. (¬4) تاريخ بغداد 2/ 323.

وُلِدَ البخاريُّ يومَ الجمعة بعد الصلاة، لثلاث عشرة ليلة خَلت من شوال، سنة أربع وتسعين ومئة، وكان نحيفَ الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير (¬1). رحلَ في طلب العلم إلى سائر محدِّثي الأمصار، وكتبَ بخراسان، والجبال، ومدن العراق، والشام، ومصر، والحجاز، وصنَّفَ "الجامع الصحيح" و"التفسير" و"التاريخ" (¬2). وكان قد ذهبَ بصرُه في صغره، فكانت أمُّه تبكي، فرأت في منامها إبراهيمَ الخليل - عليه السلام - وهو يقول لها: يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصرَه؛ لكثرة بكائك ودعائك، فأصبح وقد عادَ بصرُه (¬3). ومَهرَ في معرفة الحديث، ورُزِقَ الحفظَ له. وقال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: قلت للبخاري: كيف كان بدءُ أمرك في طلب الحديث؟ فقال: أُلهِمتُ حفظَ الحديث وأنا في الكُتَّاب، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل، ثمَّ خرجتُ من الكتَّابِ بعد العشر، فجعلتُ أختلف إلى الدَّاخلي وغيره، فقال يومًا في إملائه على النَّاس: عن سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، قلت له: يا أبا فلان، إنَّ أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، فدخل ثم خرج، وقال: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي (¬4) عن إبراهيم، فأخذَ القلم منِّي، وأحكمَ كتابه، وقال: صدقت، فقال له بعض أصحابه: ابن كم أنت إذ ذاك؟ فقال: ابن أحد عشرة سنة، قال: فلمَّا طعنتُ في ستَّ عشرة سنة حفظتُ كتبَ ابن المبارك ووكيع، ثم خرجتُ مع أخي إلى مكَّة في طلب الحديث، ورجعَ أخي بعدما حجّ، وأقمتُ بها، فلما طعنتُ في ثمانِ عشرةَ سنة جعلتُ أصنِّفُ قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفتُ كتابَ "التاريخ" إذ ذاك عندَ قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليالي المقْمرة، وقلَّ اسمٌ في التاريخ إلَّا وله عندي قصَّة، إلَّا أنِّي كرهتُ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 324. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 322، والمنتظم 12/ 113. ولم أقف على من نسب إليه كتاب التفسير. (¬3) تاريخ دمشق 61/ 56. (¬4) في (خ) و (ف): الزبير بن علي. والمثبت من تاريخ بغداد 2/ 325، وتاريخ دمشق 61/ 57.

تطويلَ الكتاب. وفي رواية عنه قال: كتبتُ تراجمَ الجامع الصحيح بين قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنبره، كنتُ أصلِّي لكل ترجمة ركعتين (¬1). وكتبتُ عن ألف شيخ، وأخرجتُ هذا الكتابَ من زهاء ستِّ مئةِ ألف حديث وأكثر. ما وضعتُ في كتاب "الصحيح" حديثًا إلَّا اغتسلتُ قبلَ ذلك وصلَّيت ركعتين (¬2). وقال الفَرَبْرِيّ: سمع كتاب "الصحيح" تسعون ألف رجل، ما بقي أحدٌ منهم يرويه غيري (¬3). وروي عن البخاريِّ أنَّه قال: كتبتُ عن ألف شيخ، عن كلِّ واحدٍ عشرة آلاف حديث وأكثر، وما عندي حديثٌ إلا وأنا ذاكرٌ إسنادَه (¬4). قال: ودخلتُ مرارًا بغداد، كل مرة أجالسُ أحمد بن حنبل، فقال لي في آخر ما ودَّعته: تتركُ العلمَ والناسَ وتصيرُ إلى خراسان؟ ! قال: فأنا الآن أذكرُ قوله (¬5). يعني لمَّا امتُحن. وقال محمد بن يوسف: كنتُ أنامُ عند البخاريّ، فنمتُ عندَه ليلةً، فأحصيت أنَّه قام ثماني عشرة مرَّة، يوقدُ المصباح ويكتب ما يذكره (¬6). وكان البخاريُّ حافظ زمانه، وكان الإمام أحمد يقول: البخاري من حفَّاظ زماننا. وكان يختلفُ إلى البصرة ولا يكتب، فقال له بعض رفقائه: لم لا تكتب؟ فقرأ عليهم جميعَ ما سمعوه من حفظه، وكان يزيد على خمسةَ عشر ألف حديث (¬7). وكان بُندار يقول: ما قدمَ علينا مثلُ محمد بن إسماعيل (¬8). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 327، وتاريخ دمشق 61/ 71. (¬2) المنتظم 12/ 115، وانظر تاريخ بغداد 2/ 328، 327، وتاريخ دمشق 61/ 58، 71، 72. (¬3) تاريخ بغداد 2/ 328، وتاريخ دمشق 61/ 74. (¬4) تاريخ دمشق 61/ 58. (¬5) تاريخ بغداد 2/ 343. (¬6) تاريخ بغداد 2/ 333. (¬7) تاريخ بغداد 2/ 334. (¬8) تاريخ بغداد 2/ 336 - 337.

وقال محمد بن نُمير: ما رأينا مثل البخاري (¬1). وقال الإمام أحمد: ما أخرجت خراسانُ مثلَ البخاري (¬2). وقال إسحاق بن راهويه وعنده البخاري: يا معاشرَ أصحاب الحديث، اكتبُوا عن هذا الشاب، فإنَّه لو كان في زمنِ الحسن لاحتاجَ الناسُ إليه؛ لمعرفته بالحديث وفهمه (¬3). وقال الدارقطنيُّ: لولا البخاريُّ ما ذهبَ مسلم ولا جاء. وقال محمد بن حَمْدويه: سمعتُ البخاري يقول: أحفظُ مئةَ ألف حديث صحيحة، ومئتي ألف غير صحيحة (¬4). وقال أبو أحمد بن عدي الحافظ: سمعتُ عدَّة مشايخ يحكون أنَّ البخاريَّ قدمَ بغداد، فسَمِعَ به أصحابُ الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث، فقلبوا متونَها وأسانيدَها، وجعلُوا متنَ هذا الإسناد لإسنادٍ آخر، وإسناد هذا المتن لمتنٍ آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس، إلى كل نفسٍ عشرةَ أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يُلقونها على البخاريّ، فحضرُوا، فانتدَب رجل من العشرة، فسأله عن متن حديث من تلك الأحاديث، فقال: لا أعرفه، وسأله آخر، فقال: لا أعرفه، فما زال يُلقي عليه واحدًا بعد واحد، حتى فرغَ العشرة، والبخاريُّ يقول: لا أعرفه، فكان بعض الفُهماء قال: الرجُلُ فهِم، وبعضهم قال: الرجلُ عاجز، ثم انتدبَ رجلٌ آخر، فسألَه عن الأحاديث، ولا يزيده على: ما أعرفه، فلمَّا مسألة العشرة، التفتَ إلى الأوَّل فقال: أمَّا حديثُك الأول فهو كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، حتى أتى على العشرة، فردَّ كل متنٍ على إسناده، وكلَّ إسنادٍ على متنه، وفعل بالجميع كذلك، فأقرَّ له الناسُ بالحفظ، وأذعنُوا له بالفضل. وكان ابنُ صاعدٍ إذا ذكرَه يقول: ذاك الكبشُ النَّطَّاح (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 339. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 342. (¬3) تاريخ بغداد 2/ 348. (¬4) تاريخ بغداد 2/ 346. (¬5) تاريخ بغداد 2/ 340 - 341، وتاريخ دمشق 61/ 65 - 66.

وذكر الخطيبُ أنّه حُمِل إلى البخاريَّ بضاعةٌ، أنفذَها إليه فلانٌ، فاجتمعَ إليه التجَّارُ بالعشيَّة، وطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم، فقال لهم: انصرفُوا الليلةَ، فجاءَ من الغد تجَّارٌ آخرون، وطلبوها بربح عشرة آلاف درهم، فقال: إنِّي نويتُ البارحةَ أنِّي أدفعُها إلى أولئك، وما أحب أن أغيِّرَ نيَّتي، فدفعها إلى الأُوَل (¬1). وكان البخاري يقول: أرجو أنْ ألقَى الله ولا يحاسبَني أنَّني اغتبتُ مسلمًا (¬2). وكان يختم القرآنَ كلَّ ثلاثِ ليالٍ، ويقول: في عند كل ختمةِ دعوةٌ مستجابة (¬3). وقال: جمعتُ الصحيحَ في ستة عشر سنة، وجعلتُه [حُجَّةَ فيما] (¬4) بيني وبين الله تعالى. وقال الخطيب: كان البخاريُّ يصلِّي، فدخلَ زُنْبُورٌ بين ثيابه وجسده، فلسعَه في سبعة عشر موضعًا، ولم يقطع صلاته (¬5). وقال الفضلُ بن إسماعيل الجُرْجَاني: [من المتقارب] صحيحُ البخاري لو أنصفوه ... لمَا خُطَّ إلَّا بماءِ الذهبْ أسانيدُ مثلُ نجومِ السماء ... أمامَ متونٍ كمثلِ الشُّهُبْ فيا عالمًا أجمعَ العالمون ... على فضل رُتْبتِه في الرُّتَبْ نَفَيْتَ السقيمَ من النَّاقلين ... ومن كان متَّهمًا بالكذِبْ وأثبَتَّ من عدَّلتهُ الرواة ... وصحَّتْ روايتُه في الكُتُبْ وأبرزتَ من حسن ترتيبِه ... وتبويبه عجبًا للعجبْ (¬6) ذكر قدومه نيسابور ومحنته ووفاته: ورد البخاريُّ نيسابور، فقال يحيى بن محمد الذُّهْلِيّ: اذهبُوا إلى هذا الرجل ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 330. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 332. (¬3) تاريخ دمشق 61/ 79. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 2/ 333. (¬5) تاريح بغداد 2/ 331. (¬6) تاريح دمشق 61/ 74.

العالم، فاسمعوا منه، فأقبلوا على السماع منه حتى ظهرَ الخللُ في مجالس محمد بن يحيى، فقال لهم: قد بلغني أنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فامتحنُوه، فقامَ إليه رجلٌ من المحدِّثين فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوقٌ أو غير مخلوق؟ فقال البخاريُّ: كلامُ الله غير مخلوفٍ، وأفعالُ العِباد مخلوقة (¬1)، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬2)، فحركاتهم وأصواتُهم وكتابتهم مخلوقة، فصرَّح بأنَّ اللفظَ بالقرآن مخلوق (¬3)، فشغبوا به وهجروه. وبلغ محمد بن يحيى فقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق. فقد ابتدع، ولا يجالسُ ولا يُكَلَّم، ومن ذهب إلى البخاري بعدَ هذا فاتَّهموه، فإنّه لا يحضرُ مجلسَه إلا من هو على مثل هذا (¬4). فخرج البخاريُّ إلى بُخارى، وترك نَيسابور، فلمَّا دخلَ بُخارى، أرسلَ إليه أميرُها خالد بن أحمد الذهلي: احمل إلينا "الجامع" و"التاريخ" وغيرهما (¬5) لنسمعَها عليك، فقال البخاريُّ لرسوله: أنا لا أذلُّ العلم وأحملُه إلى أبواب الناس، فإنْ أرادَ السماع فليحضر إلى مسجدي، وإن لم يعجبه فيمنعني من الحديث؛ ليكون في عذرٌ عند الله يوم القيامة، فكان ذلك سببًا للوحشة بينهما، فاحتال عليه الوالي حتَّى أخرجَه من بُخَارى، فنزل قريةً من قرى سمرقند يقال لها: خَزتَنْك، على فرسخين منها، وله أقارب بها. ¬

_ (¬1) انظر الخبر بتمامه في تاريخ دمشق 61/ 92. (¬2) في تاريخ دمشق 61/ 93 بإسناده إلى الفربري قال: سمعت البخاري يقول: أما أفعال العباد مخلوقة، فقد حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا أبو مالك، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يصنع كل صانعٍ وصنعته"، وتلا بعضهم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. (¬3) لم يصرح البخاري بهذا القول، وكذَّب من نسبه إليه، فقال -كما أخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 96 - : من زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب. وقال الذهبي في السير 12/ 457: المسألة هي أن اللفظ مخلوق، سئل عنها البخاري، فوقف فيها، فلما وقف واحتجَّ بأن أفعالنا مخلوقة، واستدلَّ لذلك، فهم منه الذُّهْلي أنه يوجه مسألة اللفظ، فتكلم فيه، وأخذه بلازم قوله هو وغيره. (¬4) تاريخ بغداد 2/ 354. (¬5) في (خ) و (ف): وكتبها، والتصويب من تاريخ بغداد 2/ 355، وتاريخ دمشق 61/ 97.

وسببُ نفيه من نيسابور أنَّ أهلَها كتبوا إلى خالد بن أحمد الذهليّ يقولون بأنَّ البخاريَّ يقول: لفظي بالقران مخلوق، فقال الذُّهْليُّ: وما المحدث وهذا؟ ! وأراد قتلَه، فهرب، وكان خالدٌ من العلماءِ الأفاضل (¬1). وقال عبد القدُّوس السمرقندي: سمعتُ البخاري لمَّا أُخرج من بُخارى يقول في الليل: اللهم إنِّي قد ضاقت عليَّ الأرضُ بما رحبتْ، فاقبضني إليك، ودخل في الصلاة، فما تم التشهُّد حتَّى مات (¬2). وكانت وفاتُه ليلةَ السبت عندَ صلاة العشاء الآخرة ليلةَ الفطر، ودفن يوم الفطر بعدَ صلاة الظهر بهذه القرية، وعمرُه اثنان وستون سنةً إلَّا أيَّامًا. وقيل: إلَّا ثلاثةَ عشر يومًا، ودُفن بخَزتَنْك رحمه الله (¬3). وقال عبد الواحد بن آدم الطَّواويسي: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام ومعه جماعةٌ، وهو واقف، فسلَّمت عليه وقلت: يا رسولَ الله، ما وقوفك هاهنا؟ فقال: أنتظرُ محمَّد بن إسماعيل البخاريَّ، فماتَ في تلك الساعة (¬4). وقال ابن أبي حاتم (¬5) قدمَ البخاريُّ الريَّ سنةَ خمسٍ وخمسين ومئتين (¬6)، وسمع منه أبي وأبو زُرْعة، ثم تَركا حديثَه عندما كتبَ إليهما محمد بن يحيى النيسابوريّ الذهليّ أنَّه أظهر عندهم أنَّ لفظَه بالقرآن مخلوق. وحكى ابن عساكر عن البخاريِّ أنَّه كان يقول: كلامُ الله غيرُ مخلوق، عليه أدركنا علماء الأمصار (¬7). ¬

_ (¬1) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/ 466: قلت: خالد بن أحمد الأمير، قال الحاكم: له ببخارى آثار محمودة كلُّها، إلَّا موجدته على البخاري، فإنَّها زلَّةٌ، وسببٌ؛ لزوال مُلكِه. (¬2) كذا؟ ! ! وفي تاريخ بغداد 2/ 357: قال: فما تمَّ الشهر حتى قبضه الله تعالى. (¬3) انظر تاريخ بغداد 2/ 357، وتاريخ دمشق 61/ 99. (¬4) تاريخ بغداد 2/ 357. (¬5) في (خ) و (ت): ابن أبي الدنيا. والتصويب من تاريخ دمشق 61/ 52. (¬6) في تاريخ دمشق: سنة خمسين ومئتين. (¬7) تاريخ دمشق 61/ 91.

محمد المهتدي بن هارون الواثق

وقال الخطيب: قال البخاري: حركاتُ العباد وأكسابُهم وكتابتُهم مخلوقةٌ، فأمَّا القرآنُ المبين، المثبتُ في المصاحف، المسطور الموعى، فهو كلامُ الله ليس بمخلوق، قال اللهُ تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬1) [العنكبوت: 49]. أسندَ البخاريُّ عن خلقٍ كثير، فمن أعيانهم الإمامُ أحمد بن حنبل، ويحيى بن مَعين، ومكِّي بن إبراهيم، ومحمدُ بن عبد الله الأنصاري، والفضلُ بن دُكين، وعفَّانُ بن مسلم، وأبو الوليد الطيالسي، والحُمَيديّ، والقَعنَبيّ، وعليّ بن المديني، وأبو اليمان الحمصي، وأبو عاصم النبيل، وغيرهم. وروى عنه إبراهيم الحربيّ، ومسلمُ بن الحجَّاج، وأبو حاتم وأبو زُرْعة الرازيَّان، ويحيى بنُ صاعد في آخرين. وقال ابن المدينيّ: ما رأى البخاريُّ مثله (¬2). وكان مسلمٌ يجلسُ بين يديه ويسالُه سؤال الصبيِّ المتعلِّم (¬3). محمد المهتدي بنُ هارون الواثق ابنِ محمد المعتصم (¬4). قال أبو موسى العباسيّ: لم يزل المهتدي صائمًا منذ وليَ الخلافة حتى قتل (¬5). وكان قد منعَ من الظلم والبغي والفساد، ونفى المغنيات، وحمل الناس على العدل وإقامة الصلوات، و [كسر] (¬6) آلة المنكرات. وقال الصوليّ: كان إذا ركبَ أرتاعَ له الناس، ومنهم من يبكي إذا رآه، وكان عامَّةَ نهاره يكشف المظالم. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 353. (¬2) تاريخ دمشق 61/ 82. (¬3) تاريخ بغداد 2/ 351. (¬4) في (خ) و (ف): بن محمد بن المعتصم. والتصويب من المصادر. (¬5) تاريخ بغداد 4/ 556. (¬6) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق.

وقال الإسكافيّ: حضرتُ مجلسَ المهتدي، وقد جلسَ للمظالم، فاستعداه رجلٌ على ابنٍ له، فأحضرَه، وحكم عليه بردِّ الحق، فقال الرجل: أنتَ والله يا أمير المؤمنين كما قال الأعشى: [من السريع] حكَّمتموه فقضَى بينكم ... أبلجُ مثل القمر الزَّاهرِ لا يقبلُ الرشوة في حُكْمه ... ولا يبالي غَبَنَ الخاسرِ (¬1) فقال له المهتدي: أمَّا أنا فما جلستُ هذا المجلس حتى قرأتُ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَال حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47] فما رأيتُ باكيًا أكثرَ من ذلك اليوم (¬2). وقال هاشم بن القاسم الهاشميّ: كنتُ بحضرة المهتدي عشيةً من العشايا، فلمَّا كادت الشمسُ تغرب وَثَبْتُ لأنصرف، وذلك في شهر رمضان، فقال لي: اجلس، فجلست، وأذن المؤذِّنُ وأقام، فتقدَّم المهتدي فصلَّى بنا، ثم ركع وركعنا، ودعا بالطعام، فأُحضِر طبق خِلاف (¬3)، وعليه أرغفةٌ من الخبز النقيّ، وفيه آنيةٌ في بعضها ملحٌ، وفي بعضها خلٌّ، وفي بعضها زيتٌ، فقال: كل، فأكلت أكل من يظنُّ أنَّه سيؤتَى بطعامٍ آخر فيه سَعَةٌ، فنظر إليَّ وقال: ألم تكن صائمًا؟ قلت: بلى، قال: أفلست عازمًا على الصوم غدًا؟ قلت: بلى، أليس هو شهر رمضان؟ ! فقال: كل واستوف غداءَك، فليس هاهنا من الطعام غير ما ترى، فعجبتُ من قوله وقلت: ولم يا أمير المؤمنين، وقد وسَّع الله عليك الرزقَ وبسطه؟ فقال: الأمرُ على ما وصفت، والحمد لله على ذلك، ولكنِّي فكَّرت في أنَّه كان في بني أميَّة عمرُ بن عبد العزيز، وكان من التقلُّل والتقشُّف على ما بلغك، فغرتُ علي بني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثلُه، فأخذتُ نفسي بما رأيت (¬4). ووجد للمهتدي بعد قتله سَفَطٌ فيه جُبَّة صوف وكساء وبُرنُس كان يلبسه في الليل ¬

_ (¬1) ديوان الأعشى الكبير ص 189. (¬2) تاريخ بغداد 4/ 555 - 556. (¬3) الخِلاف: شجر الصفصاف. (¬4) تاريخ بغداد 4/ 556 - 557.

ويصلِّي فيه، ويقول: أما تستحي بنو العباس أن لا يكونَ فيهم مثلُ عمر بن عبد العزيز، وكان قد حرَّم على نفسه الغناءَ والشُّرب، وحسمَ أصحابَ السُّلطان عن الظلم، ويجلسُ يوم الاثنين والخميس لكشف المظالم، والكُتَّابُ بين يديه (¬1). وكانت الهدايا تقبل في العيدين والنيروز، فلم يَقبل المهتدي لأحدٍ هديَّةً، فلمَّا حمل الناس على المحجَّة البيضاء، ثَقُلَتْ وطأتُه عليهم، فقتلوه. وقد مدحهُ الشعراء، فقال البحتريُّ قصيدةً أولُها: [من الطويل] إذا عرضتْ أحداجُ ليلى فنادِها ... سقتك الغوادي المزن صوبَ عِهادها (¬2) غدا المهتدي بالله والغيثُ مُلْحَقٌ ... بأخلاقِه أو داخلٌ (¬3) في عِدَادِها حمدنا له (¬4) عهد الليالي وأشرقَت ... لنا أوجُه الأيام بعد اربدادِها سَرَتْ تتبغاه الخلافةُ رغبةً ... إليه بأوفى قصدِها واعتمادِها لَسجَّادة السجَّادِ أحسنُ منظرًا ... من التاج في أحجارِه واتِّقادِها سأشكرُ من نُعمَاكَ آلاءَ مُنْعِمٍ ... وجدتُ طريفي كلَّه من تِلادها من أبيات (¬5) وقال: [من الطويل] لقد خوَّل الله الإمامَ محمدًا ... خصوصَ معانٍ (¬6) في قريشٍ عمومُها إذا المهتدي بالله عُذَت خلالُه ... حسبتَ السماء كاثرتكَ نجومُها هجرتَ الملاهي حِسْبةً وتفرُّدًا ... بآياتِ ذكرِ الله يُتلَى حكيمُها وما تحسن [الدنيا] إذا هي لم تعن ... بآخرةٍ حسناءَ يبقَى نعيمُها ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 557. (¬2) في ديوان البحتري: سقتكِ غوادي المزنِ صوبَ عهادها. والأحداج: جمع حِدج، وهو مركب للنساء. انظر القاموس (حدج). (¬3) في ديوان البحتري: زائد. (¬4) في ديوان البحتري: به. (¬5) ديوان البحتري 2/ 674 - 679. (¬6) في ديوان البحتري: معالٍ.

بقاؤكَ فينا نعمةُ الله عندنا ... فنحنُ بأوفى شُكرِها نستديمُها من أبيات (¬1) ذكر مقتله: اختلفوا في صفةِ هلاكه، وقد ذكرنَا بعض الأقوال. قال الصوليّ: لمَّا ظفروا به قالوا: اخلع نفسك، فامتنع، فقالوا: إننا بايعناكَ على أنَّك متى مالأتَ علينا أحدًا وجبَ خلعُك، وقد قتلتَ رئيسنا باكباك من غير ذنبٍ، وضربوه، فخَلَعَ نفسه، وحبسُوه في مكانٍ ضيِّقٍ، فماتَ في الليل من جراحاتٍ كانت به، فأخرجوه ميتًا، فصلَّى عليه جعفرُ بن عبد الواحد القاضي، ودُفِنَ إلى جانب المعتزِّ والمنتصر. وقيل: لما امتنع من الخلعِ عذَّبوه، وخلعُوا أصابع يديه ورجليه من كفيه وقدميه، فتورَّمت يداه ورجلاه فمات (¬2). وقيل: لمَّا أحاط به عسكرُ باكباك انهزمَ إلى سامرَّاء يستغيث ولا مُغيثَ له، ثم وعظَ الناس، فانقادوا إليه، فقال لهم أحمد بن ثَوابة الكاتب (¬3): إنَّما يقولُ هذا بلسانه، ولو تفرَّغ لبدَّد شملَكم، فمالوا عليه بالخناجر، فأوَّلُ من جاءه بخنجر ابن باكباك (¬4)، وكان سكرانًا، فنَدَرَ الدمُ، فأقبلَ يمصُّ دمَه حتى رَوي، وقال: قد رَويتُ من دمه كما رَويتُ من الخمر، ومات، فلمَّا رأوه ميتًا قتيلًا قعدوا يبكُون عليه، وندموا على قتله، وكان قد تمكَّن له في قلوب الموالي هيبةٌ عظيمةٌ، فلمَّا جاهرَهم بالقتل قتلوه. وآخر ما سُمِع منه: [من الطويل] أَهُمُّ بأمر العزمِ لو أستطيعه ... وقد حيلَ بين العَيرِ والنَّزَوانِ (¬5) ¬

_ (¬1) ديوان البحتري 3/ 2019 - 2022. (¬2) تاريخ الطبري 9/ 468. (¬3) ذكر في مروج الذهب 8/ 10 أن القائل سليمان بن وهب الكاتب، وقيل غيره. (¬4) في مروج الذهب 8/ 11: ابن عم لباكيال (كذا). (¬5) تاريخ الطبري 9/ 469. والبيت لصخر بن عمرو بن الشريد. انظر الأصمعيات ص 146.

وكان قتلُه يومَ الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب (¬1). وقيل: لأربعٍ وعشرين ليلة خلت منه. وقيل: يوم الخميس الثاني عشر منه. وكانت خلافتُه أحدَ عشر شهرًا وستَّة عشر يومًا. وقيل: وسبعة أيام. وكان موصوفًا بالزهد والعقل والعدلِ، متحريًّا سيرةَ عمر بن عبد العزيز، ونقشُ خاتمه: محمدٌ أمير المؤمنين، وهو رابعُ خليفةٍ خلِع، وخامسُ خليفةٍ قُتِل من بني العبَّاس. وقال أحمد بن سعيد الأموي: كان في حلقة بمكَّة في المسجد الحرام، أقرِئ فيها النحو واللغةَ والعروض، وقد علتْ أصواتُنا، فوقف علينا مجنونٌ، فنظرَ إلينا وقال: [من الطويل] أما تستحونَ الله يا معدِنَ الجهل ... شُغِلْتم بذا والناس في أعظمِ الشغلِ إمامُكم أضحَى قتيلًا مجدَّلًا ... وقد أصبحَ الإسلامُ مُفْتَرِقَ الشَّملِ وأنتم على الأشعارِ والنحو عُكَّفًا ... تصيحونَ بالأصواتِ لستم ذوي عقل فتفرَّقنا وقد أفزعَنَا ما ذكرهُ المجنون، وحفظنا الأبيات، وأَخْبَرنَا إسماعيلَ بن المتوكل، وكان قد نفاهُ صالحُ بن وصيف إلى مكَّة ومعه قبيحة، فحدَّث بذلك قبيحة أمَّ المعتز، فقالت: أرِّخوا هذا اليوم، واطووه عن العامَّةِ، فلهذا نبأ، فوصل الخبرُ في اليوم الخامس عشر إلى مكة بقتل المهتدي (¬2). ذكر أولاده: كان للمهتدي سبعة عشرة ذكرًا وست بنات، وأولادُه أعيانُ أهل بغداد، وهم الخطباء بالجوامع، ومنهم عدول، ولم يبقَ ببغداد من أولادِ الخلفاء أكثرَ من ولده. ذكر وزرائه وقضاته: وزرَ له أبو أيوب سليمان بن وهب، وجعفر بن محمد، ثمَّ صرفه، وقلَّدها عبدَ الله بن محمد بن يَزْداد، فلما قُتِل المهتدي قُبِضَ على عبد الله بن يزداد وسَلِّمَة إلى الحسن بن مخلد، ثمَّ نفي إلى الأهواز، واستترَ سليمانُ بن وهب. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 558. (¬2) تاريخ بغداد 4/ 557 - 558، والمنتظم 12/ 120.

وكان على القضاء الحسن بن أبي الشوارب، فعزلَه، وولَّى عبدَ الرحمن بن نائل البصري. أسندَ المهتدي الحديثَ، فقال: حدثني علي بن [أبي] هاشم (¬1)، حدثنا محمد بن حسن الفقيه، عن [ابن] أبي ليلى، عن داود بن علي، عن أبيه، [عن] (¬2) عبد الله بن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال للعباس وقد سأله: ما لنا في هذا الأمر؟ فقال: "لي النبوَّة، ولكم الخلافة، بي (¬3) فتح الله هذا الأمر وبكم يختمُه" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف)، والمنتظم 12/ 82: علي بن هاشم. والمثبت من تاريخ بغداد 4/ 555، وانظر تهذيب الكمال 21/ 171. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 4/ 555، والمنتظم 12/ 82. (¬3) في تاريخ بغداد 4/ 555، المنتظم 12/ 82: بكم. (¬4) تاريخ بغداد 4/ 555. وعلامات الوضع ظاهرةٌ عليه. قال ابن القيم في المنار المنيف ص 117: كل حديث في ذكر الخلافة في ولد العباس، فهو كذب.

السنة السابعة والخمسون بعد المئتين

السنة السابعة والخمسون بعد المئتين فيها دخلت الزَّنْجُ الأُبلَّة فقتلوا [في] ثلاثة أيام ثلاثينَ ألفًا، وأحرقوها، فبعث إليهم المعتمدُ سعيد الحاجب، فأوقع بهم، واستخلص [منهم] ما أخذوه (¬1). وقيل: إنَّه خلص إبراهيم بن المدبَّر وغيره، ثمّ استظهرَ الزنجُ على سعيد [الحاجب]، فقتلوا من أصحابه مقتلةً عظيمة، ثم دخل صاحب الزنج البصرة، فقتل من أهلها خلقًا كثيرًا. وكان يموِّهُ على أصحابه ويقول: عُرِضت عليَّ النبوةُ فأبيتُها، ودعوتُ على أهلِ البصرة، فقيل لي: لا تدعُ عليهم، الملائكةُ تُخرِبُها على يدك (¬2). وفيها عقدَ المعتمدُ لأخيه أبي أحمد على الكوفة والحجازِ والحرمين واليمن وبغداد وواسط والبصرة والأهواز وفارس وما والاها (¬3). وفيها عاد صاحبُ الزَّنْجِ إلى البصرة، وتأخر عنه سعيد الحاجب، فأخربَ الجامع، وقتل اثني عشر ألفًا (¬4)، وبعثَ إليه المعتمدُ من سامرَّاء محمد المولَّد في جيشٍ كثيف، وكان صاحب الزَّنج قد قال لأصحابه: قيل لي: إذا انكسفَ القمر بمقدار نصف الرغيف، فقد خربت البصرة، وكان يعرف النجومَ، فكسفَ القمر، فقال لأصحابه: صدق، ففعلُوا ما فعلوا بالبصرة. وفيها استسلم أهلُ عبَّادان للخبيث، وسلَّموا إليه حصنهم لما فعلَ بأهل الأبلَة والبصرة ما فعل، فأخذ ما كان في الحصن من السلاح والعبيد، ففرَّقه في أصحابه، ولم يتعرَّض لأهل عبَّادان في هذه المرَّة. وقيل: إنَّ في هذه السنة دخلَ الأهواز، وأسرَ إبراهيم بن المدبَّر، وكان على الخراج، وهرب من كان بقيَ بالبصرة، وتفرَّقُوا في البلدان. ¬

_ (¬1) انظر المنتظم 12/ 123، وتاريخ الطبري 9/ 481، 487. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 478 - 481، والمنتظم 12/ 124 - 125. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 476. (¬4) في المنتظم 12/ 124: فقتلوا عشرين ألفًا.

وفيها ظهر بالكوفة علي بن زيد الطالبي، فوجَّه إليه المعتمد الشاه بن ميكايل، فهزمَه الطالبي. وقدم أبو أحمد بن المتوكل من مكَّة إلى سامرَّاء، وقبيحة أيضًا (¬1). وفيها خلصَ إبراهيمُ بن المدبَّر من يد الخبيث، كان محبوسًا في بيت، فتحيَّل حتى نقبَ المتوكلون به سَرَبًا، وهرب منه هو وابنُ أخٍ له يعرف بـ[أبي] (¬2) غالب ورجلٌ من بني هاشم. وفيها جرت وقعات بين الخبيث وأصحاب المعتمد، مثل سعيد الحاجب، ومنصور بن جعفر الخيَّاط، وشاهين بن بِسْطَام، وهو يظهرُ عليهم، وقَتل من أصحابهم خلقًا كثيرًا، وعاد فدخلَ البصرة، وفعلَ فيها أعظمَ ما فعل أولًا، وهربَ من بقي من جيش المعتمد وأهل البصرة على وجوههم، وكان يقول: الملائكةُ أخربتها. وانتسبَ في ذلك اليوم إلى [يحيى بن زيد بن علي، وذلك لمصير جماعةٍ من العلويّة الذين كانوا بالبصرة إليه، وأنَّه كان فيمن أتاه عليٌّ بن أحمد بن عيسى بن زيد، وعبد الله] (¬3) بن علي وغيرهما؛ خوفًا على نسائهم وحرمهم، فلما جاؤوه تركَ الانتساب إلى أحمد بن عيسى بن زيد، وانتسبَ [إلى] يحيى بن زيد، وكان كاذبًا؛ لأنَّ يحيى بن زيد لم يُعقِّب [إلا] ابنةً مات (¬4) وهي ترضع. وفيها قُتِل ميخائيل بن توفيل قتله بسيل الصَّقْلَبي، وبسيل من أهل بيت المملكة، وكان ميخائيل بن توفيل قد ملك أربعًا وعشرين سنة (¬5). وحجَّ بالناس الفضلُ بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. ¬

_ (¬1) من خبر استسلام أهل عبادان ... إلى هنا هو من أحداث سنة 256 هـ. انظر تاريخ الطبري 9/ 472 - 475، والمنتظم 12/ 108، والكامل 7/ 237، 239. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري 9/ 477. (¬3) في (خ) و (ف) بياض بمقدار كلمتين، وفوقه علامة الانقطاع. واستدركته من تاريخ الطبري. (¬4) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري 9/ 488 - وما سلف بين حاصرتين منه-: ماتت وهي ترضع. (¬5) تاريخ الطبري 9/ 489. ومن قوله: وفيها استسلم أهل عبادان .... إلى هنا ليس في (ب).

أحمد بن إبراهيم

فصل: وفيها توفي أحمد بن إبراهيم ابن أيوب، أبو علي المُسُوحي، [وهو] غيرُ الذي ذكرناه في السنة الماضية. كان من كبار القوم، صاحبَ مجاهداتٍ ورياضات، [وذكره السلميّ وغيره. قال السلميّ: كان المُسُوحيُّ] من جِلَّة مشايخِ بغداد وظرافهم ومتوكليهم. كان يَحُجُّ ماشيًا بقميصٍ ورداء، ونعل طاق، ولا يحملُ معه شيئًا إلا كوز فيه تفاحٌ شامي، يشمُّه من بغداد إلى مكة، وكان من أفاضل الناس. صحب سَرِيًّا، وسمع ذا النون المصريّ وغيره (¬1). الحسن بن عبد العزيز أبو علي الجُذاميُّ المصريّ. قدم بغداد وحدَّث بها. وقال الدارقطنيُّ: لم يُرَ مثلُه فضلًا وزهدًا ودينًا وورعًا وثقةً وصدقًا وعبادةً. وكانت وفاته في هذه السنة، حدث عن أبي معاوية الضرير وأقرانه، وحدَّث عنه جماعة آخرهم القاضي المَحَامِلي. وقال الحسن: [من] لم يردعهُ القرآن والموت، ثمَّ تناطحت الجبالُ بين يديه لم يرتدع (¬2). الحسن بن عَرَفة بن يزيد أبو عليّ العبديُّ. ولد سنة خمسين ومئة، سمع الكثير، وروى عنه الأئمَّة، ثم نزلَ سُرَّ من رأى فتوفِّي بها. قال الخطيب: وقد بلغ من العمر مئةً وعشر سنين، وكان يقول: لم يبلغ أحدٌ من ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 5/ 19 - 20، والمنتظم 12/ 126. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬2) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 8/ 310 - 312، والمنتظم 12/ 127 - 128، وما بين حاصرتين منهما. وهذه الترجمة والتي بعدها لم ترد في (ب).

زهير بن محمد

أهل العلم هذا السِّنَّ غيري. و: لي عشرةُ أولاد سميتُهم بأسامي العشرة المبشرين. و: قد كتب عنِّي خمسةُ قرون. سمع عبدَ الله بن المبارك وغيره، وروى عنه عبدُ الله ابن الإمام أحمد وغيره، وكان صدوقًا ثقة (¬1). [وفيها توفي] زهيرُ بن محمد ابن قُمَير بن شُعبة، أبو محمد، المَروَزيُّ الأصل. كان زاهدًا ورعًا، سكن بغداد، ثم انتقل إلى طَرَسُوس مرابطًا. [قال الخطيب: ] وكان يختمُ القرآنَ في كل يومٍ وليلةٍ ثلاثَ مراتٍ في شهر رمضان، [فكان يختمه في الشهر] تسعين مرة (¬2). [وقد حكاه جدي في "المنتظم" عن محمد بن زهير بن قُمَير قال: ] (¬3) كان أبي يجمعُنا عند ختمة القرآنَ في رمضان [، في كل يومٍ وليلةٍ ثلاثَ مرات] (¬4). [واختلفوا في وفاته، قال الخطيب: مات بطَرَسُوس في هذه السنة. وقال أبو الحسين بن المنادي: ماتَ ببغداد، ودُفن بباب حرب. قال الخطيب: وهم ابنُ المنادي، والأوَّلُ أصحّ.] (¬5) سمع عبد الرزاق وغيره. [ورَوى عنه ابنُ صاعد، والحربيُّ، وعبدُ الله بن أحمد، وأبو القاسم البغوي.] وقال البغويُّ: ما رأيتُ بعد أحمد بن حنبل أورعَ من زهير ولا أفضلَ، سمعتُه ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 8/ 398 - 402، والمنتظم 12/ 128 - 129. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 513، وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال ولده محمد. (¬4) المنتظم 12/ 131. (¬5) تاريخ بغداد 9/ 513.

سليمان بن معبد

يقول: أشتهي لحمًا [من] أربعين سنة، ولا آكلُه حتى أدخلَ الروم، فآكله من مغانم الروم. [والله أعلم] (¬1). سليمان بن مَعْبد أبو داود النحويُّ المروزيُّ. رحلَ في طلب العلم إلى العراق، والحجاز، واليمن، والشام (¬2)، ومصر، وقدمَ بغداد وذاكرَ الحفَّاظ، وتوفِّي بها في ذي الحجَّة. سمعَ النضرَ بن شُمَيل وغيره، وروى عنه مسلمُ بن الحجَّاج وغيره، وكان صدوقًا ثقةً. ومن شعره: [من البسيط] يا آمرَ الناس بالمعروف مُجتهدًا ... وإن رأى عامِلًا بالمنكر انتهرَهْ ابدأ بنفسكَ قبلَ الناس كُلِّهم ... فأوصِها واتلُ ما في سورة البقرَهْ أتأمرون ببرٍّ تاركينَ له ... ناسين ذلك دأبَ الخُيَّبِ الخسرَهْ فإن أمرتَ ببرٍّ ثمَّ كُنت على ... خلافه لم تكن إلَّا من الفَجَرَهْ (¬3) العباسُ بن الفرج أبو الفضل الرِّياشيُّ، النحويُّ البصريُّ، مولى محمد بن سُليمان العباسيّ. رحلَ في طلب العلم، وكان من النحو والأدب واللغة والفضل بالمحلِّ الأعلى، وكان من الثقاتِ الحفَّاظ. [قال المازني: ] قرأ [عليَّ] (¬4) كتاب سيبويه، وهو أعلم به منِّي. وقال الأصمعيُّ: خطبنا الرياشيُّ بالبادية، فحمد الله، وأثنى عليه، ووحَّده، وصلَّى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ في الإيجاز، ثمَّ قال: أيُّها الناس، إنَّ الدنيا دارُ بلاء، والآخرةَ دارُ قرار، فخذُوا لمقرِّكم من ممرِّكم، ولا تهتكُوا أستارَكم عند من لا تخفى عليه ¬

_ (¬1) بعدها في (ب) -وما بين حاصرتين منها-: السنة الثامنة والخمسون بعد المئتين ... (¬2) قوله: والشام. لم يرد في تاريخ بغداد والمنتظم، ولم أجد ترجمته في تاريخ دمشق، فالله أعلم. (¬3) تاريخ بغداد 10/ 68، والمنتظم 12/ 131. (¬4) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. انظر تاريخ بغداد 14/ 22، والمنتظم 12/ 132.

فضل الشاعرة

أسراركم، في الدنيا [أنتم]، ولغيرها خلقتم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم، والمدعوُّ له الخليفة، والأميرُ جعفر بن سليمان، وصلَّى الله على سيدنا محمد (¬1). ومن شعره -وقيل: إنه أنشده لغيره-: [من الطويل] فلو أنَّ لحمي إذ وهى لَعِبَتْ به ... أسودٌ كرامٌ أو ضِبَاعٌ وأذؤبُ لهوَّن من وجدي وسلَّى مصيبتي ... ولكنَّما أودى بلحميَ أَكْلُبُ (¬2) [وقال: ] (¬3) [من البسيط] إنَّ الغصونَ إذا قوَّمتَها اعتدلت ... ولا يلينُ إذا قوَّمتهُ الخَشَبُ قد ينفع [الأدبُ] الأحداثَ في مَهَلٍ ... وليس ينفعُ [في] ذي الشيبةِ الأدبُ (¬4) دخل عليه الزَّنجُ، وهو في مسجده بالبصرة قائمٌ يصلِّي الضحى، فضربوه بأسيافهم وقالوا: هاتِ المال، وهو يقول: أيُّ مال؟ ! أسندَ عن عمرو بن مرزوق وغيره، وروى عنه ابن دُريد والمبرد وغيرهما في آخرين (¬5). فضل الشاعرة كانت من مولدات اليمامة وكذا أمُّها (¬6)، وبها ولدت، ونشأت في دار رجل من بني عبد القيس، فأدَّبها وأخرجها فباعها (¬7)، فاشتراها محمد بن الفرج الرُّخَجِي، فأهداها إلى المتوكِّل، ولم يكن في زمانها أفصح منها ولا أشعر، فلمَّا دخلت على المتوكل قال ¬

_ (¬1) المنتظم 12/ 132. وما بين حاصرتين منه. (¬2) المنتظم 12/ 133. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها الكلام. (¬4) المنتظم 12/ 133، وما سلف بين حاصرتين منه. (¬5) انظر ترجمته أيضًا في وفيات الأعيان 3/ 27 - 28، وتهذيب الكمال 14/ 234 - 238، وسير أعلام النبلاء 12/ 376 - 372. (¬6) كذا، وفي الأغاني 19/ 301، والمنتظم 12/ 134: كانت من مولدات البصرة، وأمها من مولدات اليمامة. (¬7) في المنتظم 12/ 134: فأدبها وخرَّجها وباعها، وانظر الأغاني 19/ 301.

لها: أنت فضل (¬1)؟ فخجلت وقالت: كذا يزعُم من باعني ومن اشتراني، فقال لها: أنشدينا من شعرك، فقالت: [من السريع] استقبلَ الملكَ إمامُ الهُدى ... عامَ ثلاثٍ وثلاثينَا وحَضَرَتْ يومًا عنده وعنده عليُّ بن الجهم، فقال له المتوكل: قل بيتًا، وطالبْ فضلًا بأن تجيزَه، فقال: [من مخلع البسيط] لاذ بها يَشتكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذَا ثم قال: أجيزي، فقالت: ولم يزل ضارعًا إليها ... تهطلُ أجفانُه رذاذَا فعاتبوهُ فزادَ عشقًا ... فماتَ وجدًا فكان ماذا فطرب المتوكل، وقال: أحسنت وحياتي يا فضل، وأمر لها بألفي دينار (¬2). وألقى عليها يومًا أبو دُلَف العجليّ يقول: [من الكامل] قالوا عشقتَ صغيرةً فأجبتُهم ... أشهى المَطيِّ إليَّ ما لم يُركبِ فقالت: كم بينَ حبَّةِ لؤلؤٍ مثقوبةٍ ... لبست (¬3) وحبةِ لؤلؤٍ لم تثقبِ (¬4) وكتبت إلى بُنَان: [من السريع] يا نفسُ صبرًا إنَّها مِيْتَةٌ ... يَجْرَعُها الكاذبُ والصادقُ ظنَّ بُنَانٌ أنَّني خُنْتُهُ ... روحي إذًا من جسدي طالقُ (¬5) ولها أشعارٌ كثيرة. ¬

_ (¬1) كذا، وفي الأغاني 19/ 302، والمنتظم 12/ 134: أشاعرة أنت. (¬2) الأغاني 19/ 312 - 313، والمنتظم 12/ 134 - 135. (¬3) كذا في (خ) و (ف) والمنتظم 12/ 135، وفي الأغاني: نظمت. (¬4) في الأغاني والمنتظم أن هذا البيت أيضًا من قول أبي دُلف العجلي. وفيها أن فضلًا أجابت: إن المطية لا يَلَذُّ ركوبُها ... ما لم تذلَّل بالزمام وتركبِ والدرُّ ليس بنافعِ أصحابَه ... حتى يؤلَّفَ للنظام بمثقب (¬5) الأغاني 19/ 312، والمنتظم 12/ 135.

محمد بن عمرو

محمد بن عمرو ابن حَنَان، الكلبيُّ الحمصيّ، ولد سنة إحدى وسبعين ومئة، وقدم بغداد، وحدَّثَ بها عن بقيّة بن الوليد وغيره، وروى عنه المَحامِلي وغيره. وأخرج له الخطيبُ عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اجتمعَ في يوم الجمعة العيد، فمن شاءَ أجزأه العيد عن الجمعة، فإنَّا مُجمعون إنْ شاء الله تعالى" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 218. وأخرجه أبو داود (1073)، وابن ماجه (1311) من طريق بقية بن الوليد.

السنة الثامنة والخمسون بعد المئتين

السنة الثامنة والخمسون بعد المئتين فيها عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد الموفَّق على الشام ومصر وقِنسْرين والعواصم (¬1)، وخلعَ عليه وعلى مُفلح، وجهَّزَهما إلى حروب الخبيث الزَّنجي. وفيها قتلت الزنْجُ منصور بن جعفر بن دينار، وكان محاربًا لهم ما زال ينازلُهم حتى التقَوا، فتفرَّقَ عنه أصحابُه، فجاءَ إلى نهرٍ، فضرب فرسَه، فنزل فيه، وراه بعضُ الزّنج، فلمَّا صعدَ الفرس بمنصور، ضرب الزنجيُّ رأسَه فابانَه، وانهزم عسكرُه، وغنم الزَّنْجُ ما كان معهم (¬2). وفيها قُتِلَ مفلحٌ أيضًا، وقد ذكرنَا أنَّ المعتمدَ جهَّزَ أخاه الموفق ومفلحًا إلى الخبيث، وخرجَا في جيشٍ لم يخرج [مثله] من بغداد [في] (¬3) العُدَد والفرسان والخزائن، وكان المعتمدُ قد أهمَّه أمرُ الخبيث وما يفعلُ في بلاد الإسلام، وسارَ الموفقُ إلى قتال الخبيث، وكان أصحاب الخبيث يراوحون البصرة ويغادونها (¬4)؛ لقلَّة الناصر لها، وكانوا يَمتَارُون منها، وجيشُ الخبيث بنهر مَعْقِل، فلمَّا وردَ الموفق نهر مَعْقِل انهزمَ جيشُ الخبيث مرعوبين، فلحقُوا به وقالوا: هذا جيشٌ هائلٌ لم يأتنا مثله، وبعث الخبيث طلائعه، فرجعُوا إليه بتعظيم أمرِ الجيش وتفخيمه، فبعثَ إليهم جندًا، فلقيه مفلح، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وظهر مُفْلِح على الخبيث، فبينا الناسُ على الظفَر جاء مفلحًا سهمٌ غائرٌ بغير نصل، فوقعَ في صدره يوم الثلاثاء، فمات يوم الأربعاء، وزعم الخبيث أنَّه الذي رَمى مفلحًا بالسهم، وكذب، وانهزم أصحابه، وركبهم الزنْجُ، واقتسموا لحومَ القتلى، وتهادوها فيما بينهم. وسأل الخبيث بعضَ الأسارى عن مُقَدَّم جيش المعتمد، ولم يكن يعلم، فقال له: أبو أحمد الموفَّق، فارتاعَ لذكر الموفَّق. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ الطبري 9/ 490، والمنتظم 12/ 136: على ديار مضر وقنسرين والعواصم. (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 491 - 492. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ الإسلام 6/ 16، وانظر تاريخ الطبري 9/ 492. (¬4) في (خ): ويعاودونها.

وتحيَّز الموفق إلى الأُبُلَّة، واجتمع إليه الفلولُ، فعادَ فنزل بنهر أبي الأسد (¬1). وفيها أُسِرَ يحيى بنُ محمد البَحرَانيّ قائدُ الزَّنْج، بعث (¬2) الموفَقُ جيشًا، فالتقاهم يحيى، فأسروه، وقتلُوا عامَّةَ أصحابه، وبعث به الموفق إلى المعتمد، فضربه مئة سوط (¬3)، وشهره، ثمَّ ذبحَه وأحرقَه. وفيها انحازَ أبو أحمد الموفَّق عن مقاتلة الزَّنج إلى واسط. وسببه أنَّه لمَّا أقامَ بنهر أبي الأسد وقعَ في العسكر الوباء، فمرضَ منهم خلقٌ كثير، ومات جماعةٌ، وامتدَّ الوباءُ إلى العراق، ووقع ببغداد وسامرَّاء داءٌ عظيمٌ، يسمّونه القُفَّاع، فأتلفَ خلقًا كثيرًا (¬4). ورحل الموفَّقُ فنزلَ قريبًا من واسط، وأعطى الجندَ أرزاقهم، وأصلح السفنَ والمعابر، وشحنهم بالعساكر، وبعثهم إلى نهر أبي الخصيب، وكان الزنجُ به، وأقام هو موضعه في نفرٍ يسيرٍ قد أمرَهم أنْ لا يفارقوه، فلما نشبت الحرب مال أكثرُهم إلى نهر أبي الخصيب، فثبتَ الموفَّق موضعَه مخافَة أن يطمعَ فيه الزَّنج، وتفرَّقَ عنه أصحابه، وعرف الزَّنجُ ذلك، فقصدوه فثبتَ، ودخلَ أوائلُ أصحابه على أهل الزَّنج، وأحرقُوا منازلهم، واستنقذوا من النساء جمعًا، فلما رأى الموفَّق الغلبة، أمرَ أصحابَه بالرجوع إلى سفنهم (¬5)، وتقطَّع بعضهم في الأدغال والمضايق، وخرجت عليهم الزنج فاقتتلوا، وثبتَ منهم طائفةٌ، فقُتِلوا، وانهزم أصحابُ الموفَّقِ إليه بعد قتل جماعةٍ منهم، وحُمِل إلى الخبيث مئةُ رأس، فزاد في غيِّه، ووقع في عسكر الموفَّقِ حريقٌ، فاحترقت الخيام، ورَحل أبو أحمد إلى واسط في رمضان، وتفرَّقَ عنه معظمُ أصحابِه (¬6). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 9/ 492 - 495. (¬2) في (خ) و (ف): فبعث. (¬3) في تاريخ الطبري 9/ 498: مئتي سوط. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 501. (¬5) في تاريخ الطبري 9/ 500 أنه أتاه من جمع الزَّنج ما علم أنه لا يقاوم بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها، فرأى أن الحزم محاجزتهم، فأمر أصحابه عند ذلك بالرجوع إلى السفن ... (¬6) من بداية أحداث هذه السنة إلى هنا لم يرد في (ب).

أحمد بن بديل

وفيها كانت هدَّاتٌ عظيمة بالصَّيمرَة، وقعت المنازل، وماتَ تحت الهدم زهاء عشرين ألفًا. وحجَّ بالناسِ الفضلُ بن إسحاق بن الحسن (¬1). وفيها توفي أحمد بن بُدَيل ابن قريش (¬2)، أبو جعفر، القاضي الكوفي. كان من أهل العلم والفضل، ولي قضاءَ الكوفة وهمَذان والرَّي، وكان يسمَّى راهب الكوفة. وكان يقول: خُذِلتُ على كبر السنّ (¬3)، يعني لمَّا قُلِّدَ القضاء. قال أبو القاسم عبيدُ الله بن سليمان: كنتُ أكتبُ لموسى بن بُغَا، وكنَّا بالرَّي، وقاضيها إذ ذاك أحمدُ بن بُدَيل الكوفي، فاحتاج موسى أن يجمعَ ضيعةً هناك كان له فيها سهامٌ ليعمرها، وكان فيها سهمٌ ليتيم، فصرتُ إلى أحمد بن بُدَيل، وخاطبتُه ليبيعَ علينا حصَّة اليتيم، ويأخذ الثمن، فامتنع وقال: ما باليتيم حاجةٌ إلى البيع، ولا آمنُ أن أبيعَ مالهُ وهو مستغنٍ عنه، فيحدث على ماله حادثةٌ، فيكون قد ضيعتُه عليه، فقلت: فإنَّا نعطيكَ في حصَّته ضعفَ ثمنها، فقال: ما هذا لي بعذرٍ، فأدرتُه (¬4) بكل لون وهو يمتنع، فأضجرني فقلت: أيُّها القاضي ألا (¬5) تفعل؛ فإنه موسى بن بغا؟ ! فقال لي: أعزَّك الله، إنَّه اللهُ تعالى. فاستحييتُ من الله تعالى أن أعاودَه، وفارقتُه، ودخلت على موسى، فقال لي: ما عملت في الضيعة؟ فقصصتُ عليه الحديث، فلما بلغتُ إلى قوله: إنَّه الله، بكى، وما زال يكررُها، وقال: لا تتعرَّض لهذه الضيعة، وانظر في أمر ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 9/ 500. (¬2) هذه الترجمة لم ترد في (ب). (¬3) بعدها في تاريخ بغداد 5/ 81: مع عفته وصيانته. (¬4) في (خ) و (ف): فأردته. والمثبت من تاريخ بغداد 5/ 83، والمنتظم 12/ 138. (¬5) في (خ) و (ف): لا تفعل. والمثبت من تاريخ بغداد والمنتظم.

أحمد بن الفرات بن خالد

هذا الشيخ الصالح، فإن كانت له حاجةٌ فاقضها، قال: فأحضرته وقلت: إنَّ الأمير قد أعفاكَ من أمر الضيعة، وهو يعترض حوائجَك، فقال: هذا الفعل وما لي حاجةٌ إليه (¬1). وقال أحمد بن بُدَيل: بعث إليَّ المعتزُّ، فأتيتُ بابَه، فقال الحاجب: يا شيخ [نعليك] (¬2)، فلم ألتفت، ودخلتُ الباب الثاني، فقال الحاجب: نعلك، فلم ألتفت، ودخلتُ الثالث، فقال الحاجب: نعليك، فقلت: فأنا بالواد المقدس طُوى فأخلع نعلي؟ ! ثمَّ دخلتُ على المعتزّ، فأكرمني وأجلسني على مُصَلَّاة وقال: أتعبناكَ يا أبا جعفر، فقلت: نعم أتعبتني وذعرتني (¬3)، فكيف بك إذا سُئِلت عنِّي؟ فقال: ما أردنا إلا الخير، أردنا أن نسمعَ العلم، فقال: وقلت: وتسمع العلم أيضًا؟ ألا جئتني؟ فإنَّ العلمَ يؤتَى ولا يأتي، فقال: حدِّث، فأمليتُ عليه حديثين أسخنَ الله بهما عينيه، أمَّا الأول فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من استُرعيَ رعيةً فلم يَحُطْها بالنصيحة، حرَّم الله عليه الجنَّة"، والثاني: "ما من أمير عشرة إلَّا يؤتَى به يوم القيامة مَغْلولًا" (¬4). سمعَ حَفْصَ بن غياث وغيره، وحدَّث عنه عليُّ بن عيسى الوزير وغيره، وكتبَ عنه أبو حاتم الرازي، وقال: محلُّه الصدق (¬5). أحمد بن الفرات بن خالد أبو مسعود الرازيّ الأصفهانيُّ الحافظ، أحدُ الأئمَّة الثقات، ذكره أبو نعيم في الطبقة السابعة وأثنى عليه (¬6). وقال الخطيب: هو من كبار الأئمة، سافر الكثير؛ إلى البصرة، والكوفة، والحجاز، واليمن، والشام، ومصر، ولقي العلماء، وقدمَ بغداد في أيَّام الإمام أحمد ¬

_ (¬1) كذا، وفي تاريخ بغداد 5/ 83، والمنتظم 12/ 138: قال: هذا الفعل أحفطُ لنعمته، وما لي حاجة إلا إدرار رزقي، فإنّه تأخر منذ شهور، وأضرني ذلك. قال: فأطلقتُ له جَارِيَهُ. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 5/ 83، والمنتظم 12/ 139. (¬3) في (خ) و (ف): ودعوتني. والمثبت من المنتظم 12/ 139. وفي تاريخ بغداد 5/ 84: وأذعرتني. (¬4) تاريخ بغداد 5/ 83 - 84، والمنتظم 12/ 139 - 140، والحديث الأول أخرجه البخاري (7150)، ومسلم (142)، وأحمد (20291) من حديث معقل بن يسار، والحديث الثاني أخرجه أحمد (9573) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) قوله: محله الصدق. هو من قول عبد الرحمن ابن أبي حاتم. انظر تاريخ بغداد 5/ 81. (¬6) ذكر أخبار أصبهان 1/ 82. وترجمته لم ترد في (ب).

رحمه الله، وكان أحمد يكرمه ويقدِّمه، ويقول: ما رأيتُ أسودَ الرأس أحفظَ منه، ولا أعرفَ بمسانيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكان قد استوطن أصبهان، وأقام بها خمسًا وأربعين سنة، وكان وفاتُه بها في شعبان. أسند عن خلق كثير، منهم هشام بن إسماعيل، والحكمُ بن نافع، ويزيد بن هارون، وعبد الرزَّاق بن همَّام، والطيالسي، وعفان بن مسلم، وغيرهم، وأخرجَ عنه أبو داود وغيره. ولمَّا ماتَ غسَّله محمد بن عاصم، وصلَّى عليه القاضي إبراهيم بن أحمد الخطابي، ودفن في مقبرة مردبان (¬2). وقال محمد بن يوسف: رأيتُ أبا مسعود في المنام، فقلت: ما فعل الله بك (¬3)؟ فقال: حدثنا وحدثنا، قلت: وفي الآخرة أنبأنا وحدثنا؟ ! قال: نعم. وكان يقول: كتبتُ عن ألفٍ وسبع مئة وخمسين شيخًا، أدخلتُ منهم في تصانيفي ثلاثَ مئة وعشرة، وأسقطت الباقين، وكتبتُ ألفَ ألف حديث وخمس مئة ألف حديث، أدخلتُ في تصانيفي ثلاثَ مئة ألف في التفاسير والأحكام والفوائد وغيرها (¬4). وقال الخطيب: دخل مصر، فاستلقى على قَفاه وقال: خذُوا حديث مصر، فجعل يقرأه شيخًا شيخًا من قبل أن يلقاه (¬5). واتَّفقوا على صدقه وأمانتِه وفضِله، وأنَّه لم يكن في زمانِه أحفظ منه. وقد تكلَّم فيه عبدُ الرَّحمن بن يوسف بن خراش وضعَّفه، وقد ردَّ عليه الحافظ أبو أحمد بن عدي فقال: لم يُوافق ابنَ خراش على الطعن في أبي مسعود أحدٌ، ولقد ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 563 - 564. (¬2) في (خ) و (ف) وذيل طبقات الحنابلة 1/ 314 (ترجمة محمد بن حامد بن حمد الأصبهاني): مرديان. وفي تاريخ دمشق 2/ 74 (مخطوط): موذنان. والمثبت من ذكر أخبار أصبهان ص 82، ومعجم البلدان 1/ 210. (¬3) قوله: فقلت: ما فعل الله بك. ليس في تاريخ دمشق 2/ 75. وهو مقحم في الكلام. (¬4) تاريخ دمشق 2/ 73. (¬5) تاريخ بغداد 5/ 564.

أحمد بن محمد بن سوادة

تحامل عليه (¬1)، وسببُ تحامله أنَّ ابن خراش صنَّفَ كتبًا في مثالب الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وكان رافضيًّا، فبلغ أبا مسعود، فأنكرَ عليه فتهدَّده بالقتل، فقيل له في ذلك فقال: وددتُ أني قُتلت في حبّ أبي بكر وعمر (¬2). فتحامل. أحمد بن محمد بن سَوادة أبو العباس الكوفيّ، ويلقب بخُشَيش (¬3). نزلَ بغداد، وحدَّث بها، ومن شعره: [من المديد] كنْ بذكرِ الله مشتغلا ... لجميعِ النَّاس معتزِلَا فانجُ منهم (¬4) قد عرفتَهم ... ليس ذو علمٍ كمن جهلَا لا تَرِدْ من مشربٍ كدرًا ... أبدًا علًّا ولا نَهلَا ودعِ الدُّنيا لطالبها ... فكأنْ قد ماتَ أو قُتِلَا وكانت وفاته ببغداد. حدَّث عن عبيدة بن حميد وغيره، وروى عنه قاسم المطرز وغيره، وتكلَّم فيه الدارقطني وغيره، وردَّ عليه الخطيب فقال: ما أرى أحاديثَه إلا مستقيمةً (¬5). أحمد بن محمد ابن يحيى بن سعيد القطَّان البصري، أبو سعيد. ¬

_ (¬1) نص كلام ابن عدي في الكامل 1/ 193: وهذا الذي قاله ابن خراش لأبي مسعود هو تحامل، ولا أعرف لأبي مسعود رواية منكرة، وهو من أهل الصدق والحفظ. اهـ. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال 1/ 181 (طبعة مؤسسة الرسالة): ذكره ابن عدي فأساء، فينه ما أبدى شيئًا غير أن ابن عقدة روى عن ابن خراش -وفيهما رفض وبدعة- قال: إن ابن الفرات يكذب متعمدًا. قلت: فبطل قول ابن خراش. اهـ. وقال الذهبي في السير 12/ 487: من الذي يُصدِّق ابن خراش ذاك الرافضي في قوله؟ . (¬2) قول أبي مسعود: وددت ... أخرجه ابن عساكر في تاريخه 2/ 74. (¬3) هذه الترجمة لم ترد في (ب). (¬4) في تاريخ بغداد 6/ 143، والمنتظم 12/ 140: قَدْك منهم. (¬5) تاريخ بغداد 6/ 143، والمنتظم 12/ 140.

جعفر بن عبد الواحد

سكن بغداد، وحدَّث بها عن جدِّه وغيره. وقال: كنتُ أقرأ على يزيد بن هارون يوما فأبرمته، فقال: أنتَ أثقلُ عليَّ من نصف حَجَرِ البزر، قلت: ولم لم تقل من الحجر كلِّه؟ قال: لأنَّه إذا كان صحيحًا تدحرجَ، وإذا كان نصفًا لم يتدحرج ولم يتحرَّك. وكانت وفاته بسُرَّ من رأى. أسندَ عن جدِّه وغيره، وروى عنه المَحَامليُّ وكيره، وكان ثقةً (¬1). جعفر بنُ عبد الواحد ابنِ جعفر بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس الهاشميّ، وأمُّه أم ولد واسمها جمانة. قدم دمشق مع المتوكِّل سنةَ ثلاثٍ وأربعين ومئتين، وكان يقال له: قاضي الثغور، ووليَ القضاء بسُرَّ من رأى سنةَ خمسٍ وأربعين (¬2). وبلغ عنه المستعين كلامٌ، فنفاه إلى البصرة سنة خمسين، وعزلَه، ورجع إلى سُرَّ من رأى فماتَ بها. حدث عن أبي عاصم النبيل وغيره، وروى عنه محمد بن محمد الباغندي وآخرون. وكان له وقارٌ وهيبة وسكينةٌ وبلاغةٌ، وحفظَ الحديث، فقال أبو زرعة الرازي: كنت إذا رأيته هبتهُ وأقول: هذا يصلحُ للخلافة، ثم حُدِّثت بأحاديثَ لا أصل لها، فقلت: سبحان الله! يضعُ مثلُ هذا الأحاديث (¬3). محمد بن يحيى ابن عبد الله بن خالد بن فارس، أبو عبد الله النيسابوريّ، الذهْلِيّ مولاهم، إمامُ الحديث بنَيسابور، وصاحبُ الواقعة مع البخاري. كان أحدَ الأئمة العارفين، والحُفَّاظ المتقنين، والثقاتِ المأمونين، وكانَ الإمام ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 308 - 310، وتهذيب الكمال 1/ 483 - 485. وهذه الترجمة لم ترد في (ب). (¬2) في تاريخ بغداد 8/ 55، والمنتظم 12/ 141 أنه ولي قضاء سرَّ من رأى سنة أربعين ومئتين. (¬3) انظر تاريخ بغداد 8/ 55 - 59، والمنتظم 12/ 141. وله أيضًا ترجمة في مختصر تاريخ دمشق 6/ 75 - 76.

أحمد رحمة الله عليه يُثني عليه، وينشرُ فضله، ويقول: هو إمام السنة بنيسابور. ودخلَ على أحمد رحمه الله، فقام إليه، وقال لأصحابه ولابنيه (¬1): اكتبوا عنه، فتعجب الناس من قيامه له، فقال: ألا أقوم لإمام السنة، اكتبوا عن أبي عبد الله (¬2). وكان جوادًا زاهدًا ورعًا صدوقًا فاضلًا، وقد أجمعوا عليه. وقالت جاريته: خدمتُه ثلاثينَ سنةً، فما رأيتُ ساقَه وأنا ملكٌ له (¬3). وقال: رحلتُ إلى البصرة ثماني عشرة رحلةً من نيسابور، وإلى اليمن رحلتين، واتَّفقَ دخولي البصرة، فاستقبلَتني جنازةُ يحيى بن سعيد القطان على باب البَصرة (¬4). وسمع خلقًا كثيرًا من أهل العراق والحجاز والشام ومصر والجزيرة. واختلفوا في وفاته، فقيل: سنة اثنتين وخمسين ومئتين (¬5)، في أحد الربيعين بنيسابور (¬6)، وقد بلغ ستًّا وثمانين سنة. وحدَّثَ عنه خلقٌ كثير، وأخرج عنه البخاريُّ في مواضع (¬7)، واتَّفقوا على فضلِه وزهده وثقته. وقال أبو حاتم الرازي: محمد بن يحيى إمام أهل زمانه (¬8). وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: محمدُ بن يحيى إمامُ زمانه، أسكنَه اللهُ جنَّته مع محبِّيه. ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 4/ 659: لبنيه. (¬2) الخبر في تاريخ بغداد 4/ 659 دون قوله: ألا أقوم لإمام السنة. (¬3) تاريخ بغداد 4/ 663، والمنتظم 12/ 147. (¬4) انظر تاريخ بغداد 4/ 662. (¬5) وقيل: سنة ست وخمسين، وقيل: سنة سبع وخمسين ومئتين. قال الخطيب البغدادي: وكل هذه الأقوال وهم، والصواب أنه مات في سنة ثمان وخمسين ومئتين. انظر تاريخ بغداد 4/ 663 - 664. (¬6) أي: في أحد الربيعين من سنة ثمان وخمسين. انظر تاريخ بغداد 4/ 664. (¬7) قال المزي في تهذيب الكمال 26/ 622: روى عنه البخاري في مواضع من "الصحيح" فتارة يقول: حدثنا محمد فلا ينسبه، وتارة يقول: حدثنا محمد بن عبد الله فينسبه إلى جده، وتارة يقول: حدثنا محمد بن خالد فينسبه إلى جد أبيه. ولم يقل في موضع منها: حدثنا محمد بن يحيى. (¬8) تاريخ بغداد 4/ 661، وانظر الجرح والتعديل 8/ 125.

معاوية بن صالح بن حدير

وقال عبد الله بن سليمان: محمدُ بن يحيى أميرُ المؤمنين في الحديث (¬1). وقال الإمامُ أحمد رحمة الله عليه: ما رأيتُ أعلمَ بحديث الزهريّ ولا أصحَّ كتابة (¬2) منه. وقال أبو عمرو (¬3) الخفَّاف: رأيتُ محمد بن يحيى في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفَر لي، قلت: فما فعل في علمك؟ قال: كُتِبَ بماء الذهب، ورُفِعَ في عِليين. معاوية بن صالح بن حُدَير أبو عمرو الحضرميّ الحمصيّ، قاضي الأندلس (¬4)، من الطَّبقة الثَّالثة من أهل مصر (¬5). لما دخل عبدُ الرَّحمن بن معاوية بن هشام الأندلس وملكَها، اتَّصل به معاوية، فأرسَلَه إلى الشَّام في بعض أمره، فلمَّا عادَ ولَّاه قضاءَ الأندلس، وهو ابنُ نيِّفٍ وثلاثين سنة. وكان خروجُه من حمص سنةَ خمسٍ وعشرين ومئة (¬6). وقدمَ مصر حاجًّا إلى مكَّة. وقال أبو صالح الفارسي: مرَّ بنا معاوية بن صالح حاجًّا في سنة أربع وخمسين ومئتين (¬7)، وكتب عنه أهل مصر والمدينة. قال المصنِّفُ رحمه الله: ولم يذكر ابن سعد ولا ابنُ يونس ولا ابنُ عساكر مولدَه، وعلى قول [ابن] يونس أنَّه وليَ القضاء في أيَّام عبد الرَّحمن الداخل، وعبدُ الرَّحمن ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 662. (¬2) كذا في (خ) و (ف). وفي تاريخ بغداد 4/ 659: كتابًا. (¬3) في (خ) و (ف): أبو عمر. والمثبت من تاريخ بغداد 4/ 663. وترجمة محمد بن يحيى لم ترد في (ب). (¬4) إيراده في هذه السنة وهم، فوفاة معاوية بن صالح في سنة ثمان وخمسين ومئة. انظر تاريخ دمشق 68/ 154 - 155 (طبعة مجمع اللغة). ولم يذكره المصنف في وفيات سنة 185 هـ. وفي الكلام الآتي ما يدل على وهمه. (¬5) انظر طبقات خليفة بن خياط ص 296، وتاريخ دمشق 68/ 148. (¬6) تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي 2/ 140. (¬7) كذا، وهو خطأ، والصواب -كما في تاريخ دمشق 68/ 149 - : سنة أربع وخمسين ومئة.

يحيى بن معاذ بن جعفر

وليَ الأندلس سنة تسعٍ وثلاثين ومئة، وماتَ سنة اثنتين وسبعين ومئة، وكان [عمره] (¬1) لمَّا وليَ اثنان وثلاثون سنة، فقد عاشَ دهرًا طويلًا، ونصَّ ابنُ يونس أنَّه ماتَ بالأندلس سنةَ ثمان وخمسين ومئتين (¬2)، وله عقب. حدَّثَ عن مكحول، والأوزاعيّ، وسليمان بن موسى، وعبد الرَّحمن بن جبير بن نفير، ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم، ورَوى عنه الليثُ بن سعد، والواقدي، ورِشْدِين بن سعد في آخرين (¬3). [فصل: وفيها توفي] يحيى بن معاذ بن جعفر أبو زكريا الرازيُّ الواعظ، حكيمُ زمانه، وأوحدُ وقته في علوم الحقائق، وكان له لسانٌ في المعرفة، وخصوصًا في الرجاء. أصلُه من الرَّيّ، ثم انتقلَ إلى نَيسَابور، فسكنَها إلى أن ماتَ بها. وكانوا ثلاثة إخوة، يحيى، وإسماعيل، وإبراهيم، وكان إسماعيلُ أكبرَهم سنًّا، ويحيى أوسطَهم، وإبراهيم أصغرَهم، وكانوا [كلُّهم] زُهَّادًا عبَّادًا. خرج إلى بَلخ ومعه أخوه إبراهيم، فمات بين بلخ ونَيسابُور، فأقام يحيى ببلخ مدَّةً، ثم عاد إلى نَيسْابور (¬4). وقال رجلٌ لإسماعيل: مع من يريد أخوك يحيى أن يعيش، وقد هجرَ الخلقَ كلَّهم؟ ! فذكر إسماعيلُ ذلك لأخيه يحيى، فقال له: ألا قلتَ له: يعيشُ مع الذي هجرهم لأجله (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) هذا وهم أيضًا فنص ابن يونس -كما نقله عنه ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس 2/ 140، والمزي في تهذيب الكمال 28/ 193 - أنه توفي سنة ثمان وخمسين ومئة. (¬3) هذه الترجمة لم ترد في (ب). (¬4) طبقات الصوفية ص 115. (¬5) من قوله: وقال رجل لإسماعيل ... إلى هنا ليس في (ب)، وما سلف بين حاصرتين منها. وانظر تاريخ بغداد 16/ 309 - 310.

ذكر طرفٍ من كلامه: قال: أحسنُ شيءٍ من الكلام الحسنُ معناه، وأحسنُ من معناه استعمالُه، [وأحسن من استعماله] (¬1) ثوابُه، وأحسنُ من ثوابه رِضَى من يُعمَل لأجله. وقال: قلوبٌ من التقوى خراب، وذنوبٌ عددَ الرَّمل والتراب، ثمَّ نطمعُ في الكواعب الأتراب، هيهات، أنت سكران من غير شراب (¬2). وقال (¬3): ما أكملك لو بادرتَ أملَك، ما أجلَّكَ لو بادرت أجلَك، ما أقواك لو خالفتَ هواك. وقال: ليكن بيتكُ الخلوة، وطعامُك الجوع، وحديثُك المناجاة، فإمَّا أن تموتَ بدائك، وإمَّا أن تصلَ إلى دوائك (¬4). [وحدثنا غير واحد عن أبي (بكر بن) (¬5) محمد بن عبد الباقي الأنصاري بإسناده إلى عبد الواحد بن محمد قال: ] جاء يحيى بنُ معاذ إلى شيراز، وله شيبة حسنة، وقد لبس دست ثيابٍ سود، فكان أحسن [شيء]، فصعدَ المنبر، واجتمع الناس [إليه] (¬6)، فأوَّلُ ما بدأ به أنْ قال: [من السريع] مواعظُ الواعظ لن تُقبلا ... حتَّى يعيَها قلبُه أوَّلَا يا قومِ من أظلمُ من واعظٍ ... خالفَ ما قد قاله في الملَا أظهر بين الناس إحسانَه ... وبارزَ الرَّحمن لمَّا خلَا ثم وقع من الكرسي ولم يتكلَّم في ذلك اليوم، ثمَّ إنَّه ملكَ قلوب أهل شيراز بعد ذلك، وكان إذا أرادَ أن يضحكَهم أضحكَهم، وإذا أراد أن يبكيَهم أبكاهم، وأخذَ من ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 16/ 307. (¬2) من قوله: قال: أحسن شيءِ ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) وقع في (ب): قال السمرقندي: سمعته يقول، يعني يحيى ... وهو في تاريخ بغداد 16/ 307 وصفة الصفوة 4/ 90 عن الحسن بن علُّويه عن يحيى بن معاذ. والذي نقله محمد بن محمود السمرقندي عن يحيى هو قوله السالف قريبًا: أحسن شيء من الكلام معناه ... (¬4) صفوة الصفوة 4/ 91. (¬5) ما بين قوسين من المنتظم 12/ 148. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال.

البلد سبعة آلاف دينار (¬1). [وروى الخطيب بإسناده عن محمد بن أحمد الصرَّام قال: ] دخلَ يحيى [بن معاذ] على علويٍّ [ببلخ -أو بالرَّيّ-] زائرًا له ومسلِّمًا عليه، فقال له العلويّ: أيَّد الله الأستاذ، ما تقولُ فينَا أهلَ البيت؟ فقال: ما أقولُ في طين عُجِنَ بماء الوحي، وغُرِس فيه شَجرُ (¬2) النبوَّة، وسُقِي بماء الرسالة، فهل يفوح منه إلَّا مسكُ الهدى وعنبر التُّقى؟ ! فحشَا العلويّ فاهُ بالدرّ. وفي رواية: ما أقولُ في طينةٍ غُرِست بماء الجلالة، وخمِّرَت في إناءِ الرسالة، وسُقِيت بماء الوحي، فهل تثمرُ إلَّا مسك النُّسُك، وعنبرَ الجلال. ثمَّ زار العلويّ من الغد يحيى [بن معاذ]، فقال يحيى: إن زرتَنا فبفضلك، كان زرناك فلفضلك، فلك الفضلُ زائرًا ومَزورًا. [وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري بإسناده عن محمد بن جعفر بن علكان يقول: ] (¬3) من خانَ الله في السرِّ هتكَ الله سترَه في العلانية. [وحكى أبو نُعيم الأصفهاني عن يحيى أنه قال: ] لا تستبطئ الإجابةَ إذا دعوت، وقد سددتَ طريقَها بالذُّنوب (¬4). [قال: ] وقال: لو سمع الخلقُ صوتَ النياحةِ على الدنيا في الغيب من ألسنة الفناء، لتساقطت القلوب حزنًا، ولو رأت العقول بعين الحقائق نزهةَ الملكوت، لذابت النفوس شوقًا، ولو أدركت القلوب كنهَ المحبَّة لخالقها، لانخلعت مفاصلُها [فَرَقًا]، ولطارت الأرواحُ دَهشًا (¬5). وقال: الليلُ طويلٌ، فلا تقصِّره بمنامك، والنهارُ نقيّ، فلا تدنِّسهُ بآثامِك. ¬

_ (¬1) المنتظم 12/ 148، 149، وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) و (ت): وغرس في شجرة، والمثبت من (ب). وانظر تاريخ بغداد 16/ 309. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال. (¬4) حلية الأولياء 10/ 53. (¬5) انظر حلية الأولياء 10/ 53، وصفة الصفوة 4/ 94.

وقال: مفاوزُ الدنيا تُقطَع بالأقدام، ومفاوز الآخرة بالاهتمام (¬1)، ولا يزال دينُك متمزِّقًا ما دامَ قلبُك بحبِّ الدنيا متعلِّقًا. وقال: الزهَّادُ غرباءُ الدنيا، والعارفونَ غرباءُ الآخرة. وقال: لولا أن العفوَ أحب الأشياء كلِّها إليه ما ابتلى بالذنبِ أكرمَ الخلق عليه. وقال: جازُوا على قناطرِ الفتن إلى خزائنِ المنن. وقال: اللهم لا تجعلنا أهونَ الأشياءِ عليك (¬2). وقال: يا من ألزمنَا طاعةً لا حاجةَ له إليها، لا تحرمنَا مغفرة لا غنى لنا عنها. وقال: إن وضع علينا عدلَه لم تبق لنا حسنة، وإن أتى فضلُه لم تبق لنا سيئة (¬3). [وحكى عنه في "المناقب" عن يحيى أنه قال: ] (¬4) من استفتح باب المعاش بغير مفاتيح الأقدار وُكِلَ إلى المخلوقين (¬5). وقال: جوعُ التائبين تجربة، وجوعُ الزاهدين سياسة، وجوعُ الصدِّيقين مكرمة (¬6). وقال: مَن سُرَّ بخدمةِ الله سُرَّت الأشياءُ كلُّها بخدمته، ومن قرَّت عينُه بالله قرَّتْ كل عينٍ بالنظر إليه (¬7). وقال: أبناء الدنيا تخدمهم العبيد والإماء، وأبناء الآخرة يخدمهم الأمراء والأبرار (¬8). وقال: الدرهمُ عقرب، فإن لم تحسن رقيتَه، فلا تأخذه، فإنَّه إن لدغك قتلك (¬9). ¬

_ (¬1) في حلية الأولياء 10/ 52، وصفة الصفوة 4/ 93: بالقلوب. (¬2) من قوله: وقال: جازوا ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) انظر الأقوال السابقة في صفة الصفوة 4/ 90 - 96. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال. (¬5) مناقب الأبرار 1/ 253، وانظر حلية الأولياء 10/ 63. (¬6) مناقب الأبرار 1/ 254، وحلية الأولياء 10/ 67، ومن قوله: وقال: جوع ... إلى هنا ليس في (ب). (¬7) طبقات الصوفية ص 113، ومناقب الأبرار 1/ 255. (¬8) طبقات الصوفية ص 114، ومناقب الأبرار 1/ 255، وفيهما: الأحرار والأبرار. (¬9) انظر حلية الأولياء 10/ 60، ومناقب الأبرار 1/ 257.

وقال: لو خاف ابنُ آدم من النَّار كما يخاف من الفقرِ، دخلَ الجنَّة (¬1). وقال: من فرَّ إلى الله بذنبه وهو يتَّهمه في رزقه، فقد فرَّ منه لا إليه (¬2). وقال: الدنيا حانوتُ المؤمنين، والليلُ والنهارُ رؤوس أموالهم، وصالحُ الأعمال بضائعهم، وجنَّةُ الخلد أرباحهم، والنَّارُ خسرانهم. وقال: من هجرَ أقرباءَه في الله عوَّضه الله صحبةَ أوليائه. وقال: العلماءُ يُحتَاج إليهم في الجنَّة، قيل له: وكيف؟ قال: لأنَّه يقال: يا أهل الجنة تمنَّوا، فلا يدرون ما يتمنون، فيقال: فاسألُوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، فيرجعون إليهم، فيسألونهم، فيقولون: سلُوا النظرَ إلى وجهه الكريم، فيكون ذلك تكرمة للعلماء (¬3). وقال: مثل الحكيم مثل الصياد يصيد العبادَ من أفواه الشياطين، فالدنيا بحرٌ، والحكمةُ شبكةٌ، والناسُ صيده، فلو لم يصد في عمره إلا واحدًا لكان [قد حصل له] خيرٌ كثير (¬4). وقال: كم بين من يريدُ حضورَ الوليمة للوليمة، وبينَ من يريدُ حضورَها ليلقى صاحبه فيها (¬5). وقال: لو لطمَني واحدٌ فلم أقدر على الانتصاف منه لكان أحبَّ إليَّ من أن يبرَّني واحدٌ ولا أقدرَ على مكافأته (¬6). وقال: محاربةُ الصِّدِّيقين مع الخطرات (¬7)، ومحاربةُ الزهَّاد مع الشهوات، ومحاربةُ التائبين مع الزلَّات. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 310. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 259 - 260، ومن قوله: وقال: من ذر ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) انظر مناقب الأبرار 1/ 216، والطبقات الكبرى للشعراني 1/ 69. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 261، والطبقات الكبرى 1/ 70. (¬5) مناقب الأبرار 1/ 262، والطبقات الكبرى 1/ 70. (¬6) مناقب الأبرار 1/ 262. (¬7) بعدها في مناقب الأبرار 1/ 263، والطبقات الكبرى 1/ 70: ومحاربة الأبدال مع الفكرات.

وقال: لا يحضُر مجلسَ الذكر إلا ثلاثة، راغبٌ وطالبٌ وعائب، فالراغبُ يريدُ بحضوره ما عندَ الله، والطالب يريدُ بحضوره العلم والأدب، والعائبُ يريد إصابةَ عيب، فيذيعه، فلُبابُ المجلس الراغب، وقلبه الطالب، ووباله (¬1) على العائب (¬2). وقال: في الحديث: "الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ما كان لله" (¬3)، [ثَم قال: ] وما يحبُّ الملعونَ إلَّا ملعون، أو من هو ألعن منه، وأنشدَ -وقيل: إنَّه له-: [من مجزوء الوافر] دع الدُّنيا لناكحِها ... سيصبحُ من ذبائِحها أرى الدنيا وإن صلحَتْ ... تدلُّ على فضائِحها مصدقةٌ لعائبِها ... مكذبةٌ لمادحِها (¬4) وقال: من سمعت أذنُه من ربَّه صمَّتْ عن خلقِه. وأنشد: [من البسيط] سلِّم على الخلقِ وارحلْ نحو مولاكَ ... واهجر على الصدقِ والإخلاصِ دنياكا عساكَ في الحشر تُعطَى ما تؤمِّلُه ... ويكرمُ الله ذو الآلاءِ مثواكَا (¬5) وقال: [من الطويل] دعتني دواعي الحبِّ من كلِّ جانبٍ (¬6) ... فليسَ لها منِّي سبيلٌ ومهربُ وحمَّلتني ما لم تطقهُ جوانحي ... فسرُّك في الأحشاءِ مني مغيَّبُ (¬7) ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فليأت المجلس الراغب، وقلبه للطالب، ووثالبه ... والمثبت من مناقب الأبرار 1/ 263. (¬2) من قوله: وقال: كم بين من ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) أخرجه أحمد في الزهد ص 37، وأبو داود في المراسيل (502) من حديث محمد بن المنكدر مرسلًا، ويشهد له حديث أبي هريرة عند الترمذي (2322) وابن ماجه (4112) بلفظ: "ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالمًا أو متعلمًا". (¬4) مناقب الأبرار 1/ 265. (¬5) حلية الأولياء 10/ 63، ومناقب الأبرار 1/ 257، وطبقات الأولياء ص 323. (¬6) مناقب الأبرار 1/ 257: دعتني أداري الحب من كل جانب. (¬7) من قوله: وأنشد: سلِّم ... إلى هنا ليس في (ب).

يحيى الجلاء

ذكر وفاته: [قال الحاكم: ] توفِّي [يحيى] بنيسابور في جمادى الأولى، وكُتِبَ على قبره: ماتَ حكيمُ الزمان يحيى بن معاذ (¬1). أسندَ الحديث عن إسحاقَ بنِ سليمان (¬2) الرازي، ومكي بن إبراهيم البلخي، وعلي بن محمد الطنافسي وغيرهم. وروى عنه محمد بن محمود السمرقندي، وعبد الواحد بن محمد، وغيرهما. [وفي الأعيان ثلاثة، اسم كلِّ واحدٍ منهم يحيى بن معاذ، أحدُهم صاحب هذه الترجمة، والله أعلم (¬3). وفيها توفي] يحيى الجلَّاء [والد أبي عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء، وسنذكره في سنة ست وثلاث مئة. و] كان [يحيى] من الزهَّاد، صحب بِشرًا الحافي، ومعروفًا الكرخي، وسريًّا السقطي. وقال أحمد بن يحيى الجلَّاء: قلتُ لذي النُّون: لم يُسمَّى أبي الجلَّاء، أكان يصنع صنعه؟ فقال: لا، نحن سمَّيناهُ الجلَّاء، كان إذا تكلَّم [علينا] جلا قلوبَنا (¬4). [وروى أبو نعيم عن أحمد بن يحيى الجَّلاء قال: ] (¬5) قلتُ لأبي وأمِّي: أحبُّ أن تهبَاني لله، قال: قد وهبناك [له]، فغبتُ عنهما مدَّةً، ثمَّ رجعت من غيبتي -وكانت ليلةً مطيرةً- فدققتُ عليهما الباب، فقالا: من؟ قلت: ولدكما أحمد، فقالا: كان لنا ولد فوهبناه لله، ونحنُ من العرب، لا نرجعُ فيما وَهبْنَا. وما فتحَا ليَ الباب (¬6). ¬

_ (¬1) انظر المنتظم 12/ 149. (¬2) في (خ) و (ف) و (ب): إسحاق بن إبراهيم. وهو خطأ. والتصويب من تاريخ بغداد 16/ 306، والمنتظم 12/ 148. (¬3) انظر تلقيح فهوم أهل الأثر ص 627. (¬4) صفة الصفوة 2/ 411. وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أحمد بن يحيى. (¬6) حلية الأولياء 10/ 315 (ترجمة أحمد بن يحيى الجلاء).

[وحكى الخطيب عن أحمد بن الجلَّاء قال: ] (¬1) مات أبي، فلمَّا وُضِع على المغتسل رأينَاه يضحك، فالتبسَ على الناس أمرُه، فجاؤوا بطبيب وغطَّوا وجهه، فأخذ مجسَّه، وقال: هذا ميِّت، فكشفوا الثوبَ عن وجهه، فرأيناه يضحك، فقال الطبيب: ما أدري أحيٌّ هو أم ميِّت؟ ! وكان إذا جاءَ إنسانٌ ليغسله لبستهُ منه هيبةٌ، فلا يقدرُ على غسله، حتى جاءَ رجلٌ من إخوانه، فغسَّله، وكفَّنه وصَلَّى عليه، ودُفِن. [رحمه الله تعالى] (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أحمد. (¬2) انظر صفة الصفوة 2/ 411، وطبقات الأولياء ص 86.

السنة التاسعة والخمسون بعد المئتين

السنة التاسعة والخمسون بعد المئتين (¬1) فيها تراجعَ الناسُ إلى الموفَّق وهو بواسط، وجاءته الأمداد والخزائن، وهيَّأ المعابر والسفنَ ليدخل إلى الخبيث، وكان الخبيثُ قد نزل البَطِيحة، وشقَّ حولَه الأنهار، وتحصَّن بها، فهجم عليه الموفَّقُ فقتَل من أصحابه مقتلةً عظيمة، وأحرق أكواخَه، واستنقذ من النساء جمعًا كثيرًا، ووقعَ الوباءُ في عسكرِ الموفق، فرحل إلى بغداد، واستخلف على قتال الخبيث محمد بن المولَّد، فقصد الخبيثُ الأهوازَ، فقتل خمسينَ ألفًا، وسبَى مثلهم، فجهَّز إليه المعتمد موسى بن بُغَا، فلمَّا خرجَ من سامرَّاء خلع عليه المعتمدُ، وطوَّقه، وخرجَ مشيِّعًا له، فجرت بينه وبين الخبيث حروبٌ يطول ذكرها (¬2). وفيها ولد عبيد الله الملقَّب بالمهدي، جدّ الخلفاء المصريين. وفيها قتل كنجور، وكان على الكوفة، فانصرفَ عنها يريدُ سامرَّاء بغير إذن المعتمد، فأرسلَ إليه يأمرُه بالرجوعِ فأبى، فبعثَ إليه بمالٍ ليفرِّقَه في أصحابه، فلم يقنع، وكان له في المعتمد نية رديئة، فجهَّز إليه المعتمدُ جماعةَ من القوَّاد منهم ساتكين، وعبد الرحمن بن مُفْلِح، وموسى بن أتامش، فالتقوه، فأنزلُوه من فرسه فذبحوه، وحملُوا رأسَه إلى سُرَّ من رأى (¬3). وفيها استولى يعقوب بن الليث على بَلْخ وهرَاة وبُوشَنج وبَاذَغِيس، مضافًا إلى ما كان بيده من سجِستان (¬4). ¬

_ (¬1) حوادث هذه السنة في (ب) مختصرة. وهذا نصها: وفيها ولد عبيد الله اللقب بالمهدي جد الخلفاء المصريين. وحج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. اهـ. (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 504 وما بعدها. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 502. (¬4) كذا. ونص الخبر -كما في تاريخ الطبري 9/ 502 - : وفيها انصرف يعقوب بن الليث عن بلخ، فأقام بقُهِستَان، وولَّى عماله هرَاة وبُوشَنج وبَاذَغِيس، وانصرف إلى سجستان.

ولمَّا خرج موسى بن بُغَا من سامرّاء، جهّز قوَّاده إلى الخبيث، فبعث عبد الرَّحمن بن مفلح إلى الأهواز، وإسحاق بن كُندَاج إلى البصرة، وإبراهيم بن سيما إلى واسط، وكان خروجُ موسى من سامرَّاء في ذي القعدة، فأقام يحاربُ الخبيثَ بضعةَ عشرة شهرًا، حتى دخلت سنة ستين ومئتين، وبعث موسى بجماعةٍ من أصحاب الخبيث إلى سامرَّاء أسراء، فقتِلُوا وأحرِقوا (¬1). وفيها نزلت الرومُ على سُمَيسَاط (¬2) ومَلَطْيَة، فقاتلهم أهلُ مَلَطْيَة، وكان بها أحمد بن محمد القابوس، فخرج إلى الروم، فقتلَ مقدَّم البطارقة، ويقال له: الإقريطشيّ. وفيها دخل يعقوبُ بن الليث نَيْسابور، فلمَّا قربَ منها بعثَ إليه محمدُ بن طاهر يستأذنُه في تلقِّيه، فلم يأذن له، فبعثَ إليه بعمومته وأهل بيته، فتلقَّوه، ثمَّ دخلَ نيسابور لأربع خلونَ من شوال آخر النهار، فنزل طرفًا من أطرافها، فركب محمد بن طاهر إليه، فنزل في مضربه، فأقبل عليه يعقوب يوبِّخُه ويؤنِّبُه على تفريطِه في البلاد حتى غلبَ عليها العدو، ثم وكَّل بمحمَّد وأهلِ بيته. ووردَ الخبرُ على المعتمد، وكتب إليه يعقوب يقول: إن الشُّرَاة والمخالفين قد تغلَّبوا على خراسان، ويشكو ضعفَ عبيد الله بن طاهر (¬3)، وأنَّ أهلَ خراسان كاتبوا يعقوب، وسألُوه القدومَ عليهم، وأن يعينَهم، فكان الجواب لرسل يعقوب: إنَّ أميرَ المؤمنين لا يُقارُّ يعقوب على ما فعل، وأنَّه يأمُره بالانصراف إلى العمل الذي ولاه إيَّاه، يعنون سجستان، فليرجع، فإن امتثلَ الأمر كان من الأولياء، وإلا فهو من المخالفين. وحجَّ بالناس إبراهيمُ بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - (¬4). وفيها توفي ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 9/ 504 - 506. (¬2) في (خ) و (ف): صميصات. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 506، والكامل 7/ 267. (¬3) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ الطبري 9/ 507، والكامل 7/ 262: محمد بن طاهر. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 507.

أحمد بن سندي بن الحسن بن بحر

أحمد بن سِنْدي بن الحسن بن بَحْر (¬1) أبو بكر الحدَّاد البغدادي، كان من الأبدالِ مجابَ الدعوة. سمعَ محمدَ بن العباس المؤدِّب وغيره، ورَوى عنه أبو نعيم الحافظ وغيرُه، وكان صالحًا ثقةً. الحسين بن عبد السَّلام أبو عبد الله المصريّ، ويعرف بالجَمَل الشاعر. ولد سنة سبعين ومئة، وكان الغالب عليه الهجو، ومدحَ المأمون وابن طاهر لمَّا قدما مصر (¬2)، وكان يصحبُ الشافعيَّ رحمة الله عليه (¬3). قال الجمل الشاعر: كان أحمد بن المُدَبِّر بدمشق [يقصده الشعراء] (¬4)، فمن مدحَه بشعرٍ جيِّدٍ أجازَه، ومن مدحَهُ بشعرٍ رديءٍ بعثَ به إلى الجامع، ووكَّل به من لا يفارقه حتَّى يصلي مئةَ ركعة ثم ينصرف ولم يعطه شيئًا، وقال الجمل: فقدمتُ عليه فأنشدتُه: [من الوافر] أردنا في أبي حسنٍ مديحًا ... كما بالمدح تُنتجَعُ الولاةُ فقالوا أكرمُ الثقلينِ طرًّا ... ومن جدواهُ دجلةُ والفراتُ وقالوا يقبلُ المدحات لكن ... جوائزُهُ عليهن الصَّلاةُ فقلت لهم وما يُغنِي عيالي ... صَلَاتي إنَّما الشأن الزَّكاةُ فيأمر لي بكسرِ الصَّاد منها ... فتضحي [لي] الصَّلاة هي الصِّلاتُ فقال لي: أخذتَ هذا من قول أبي تمَّام: هنَّ الحَمَامُ فإنْ كسرتَ عِيَافةً ... من حَائِهنَّ فإنَّهنَّ حِمَامُ (¬5) ¬

_ (¬1) إيراد ترجمته في هذه السنة وهم. والصواب أن وفاته في سنة تسع وخمسين وثلاث مئة. انظر تاريخ بغداد 5/ 305. وهذه الترجمة والتي بعدها ليست في (ب). (¬2) تاريخ دمشق 5/ 5 (مخطوط). (¬3) تاريخ دمشق 57/ 286 (طبعة مجمع اللغة) في ترجمة غالب بن سليمان بن دواد. (¬4) تاريخ دمشق 5/ 4 (مخطوط)، ومعجم الأدباء 10/ 121، وما بين حاصرتين منهما. (¬5) ديوان أبي تمام 3/ 52.

محمد بن عمرو بن يونس

فقلت: نعم، فأجازني وأجزلَ إجازَتي. [فصل: وفيها توفي] محمد بن عمرو بن يونس أبو جعفر التَّغلبيّ، ويعرف بالسُّوسيِّ، الزاهد العابد. [قال الطحاوي: ] حجَّ [في] سنة ثمانٍ وخمسين ومئتين، وعاد من الحج سنةَ تسع وخمسين [ومئتين]، فدخل في الصلاة، فتوفِّي وهو ساجد، وقد بلغ مئةَ سنة. حدث عن [عبد الله بن نمير، و] أبي معاويةَ الضرير وغيرهما (¬1). وروى عنه صالح بن عليّ الدِّمشقيُّ وغيره، وكان ثقةً (¬2). محمود بن إبراهيم ابن محمد بن عيسى بن القاسم بن سُمَيع، أبو الحسن القُرَشيُّ الدمشقيُّ، العالمُ الفاضل الحافظُ الثقةُ الصدوق. صنَّفَ كتاب "الطبقات"، وذكرَ فيه أعيانَ العلماء، وتوفِّي بدمشق. حدَّثَ عن خلقٍ كثير، وحدَّث عنه أبو زُرْعة الدمشقيُّ وغيره. قال المصنف رحمه الله: وكلُّ ما أقولُ في كتابي هذا: قال ابن سُمَيع، فهو إشارةٌ إليه (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وغيره. والمثبت من (ب). وما سلف بين حاصرتين منها. (¬2) انظر ترجمته في تاريخ دمشق 64/ 86 - 88 (طبعة مجمع اللُّغة)، وتاريخ الإسلام 6/ 186. (¬3) انظر ترجمته في تاريخ دمشق 66/ 277 - 279 (طبعة مجمع اللُّغة)، وسير أعلام النبلاء 13/ 55.

السنة الستون بعد المئتين

السنة الستون بعد المئتين فيها واقع يعقوبُ بن الليث الحسنَ بن زيد الطالبيّ، فهزمه، ودخلَ طبرستان وأرض الدَّيْلَم، فتبعَه يعقوب، فصعد الحسن إلى جبال الديلم، ونزل الثلج والمطرُ على يعقوب، فأقام بأرض طبرستان، [وكان قد أقام] على بعض الجبال، فأتلفَ الثلجُ عامَّة من كان مع يعقوب، ولم يقدر [يعقوب] على النزول منه إلَّا على ظهور الرجال، ولم يكن له طريق إلى الطالبيِّ إلَّا من مكان ضيِّق، فخافَ، فرجعَ إلى سِجستان وقد فقد من أصحابه أربعين ألفًا، ولم يبق معه من الخيلِ والإبل والدواب والأثقال إلَّا شيء يسير (¬1). وفيها غلت الأسعار في الدنيا خصوصًا بالحجاز والعراق، وهربَ أهلُ مكَّة، وبلغ الكُرّ الحنطة ببغداد خمسين ومئة دينار، والشعيرُ عشرين ومئة دينار. وفيها أغارت الأعراب على حمص، فخرج إليهم منجور الكركي (¬2) واليها، فقتلُوه، فولى عليها المعتمد بُكتمر التركي. واستولى يعقوب بن الليث على نَيسابور وخُراسان وأعمال ابن طاهر. وفيها قَتَلَ قائدُ الزَّنج عليَّ بن زيد العلوي صاحب الكوفة (¬3). [وفيها أخذت الروم لؤلؤة من المسلمين.] (¬4) وفيها أمر مفلح التركي أن يُزَاد في جامع المنصور الدار المسمَّاةُ بدار القَطَّان، كانت قديمًا ديوانًا و [أبي جعفر] المنصور، فتقدَّم مفلح إلى صاحبه القَطَّان ببنائها، وأنه يضيفها إلى الجامع؛ ليصلِّي فيها مفلح، ففعل (¬5). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 9/ 508 - 509، وما سلف بين حاصرتين من (ب). (¬2) كذا، وفي تاريخ الإسلام 6/ 18، والنجوم الزاهرة 3/ 31: التركي، ولم تذكر نسبته في تاريخ الطبري 9/ 510، والكامل 7/ 272. (¬3) من قوله: وفيها أغارت ... إلى هنا ليس في (ب). وانظر تاريخ الطبري 9/ 508، والكامل 7/ 273. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر تاريخ الطبري 9/ 511. (¬5) المنتظم 12/ 156.

إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق

قال المصنِّف رحمه الله: سمعتُ جماعةً من أهل بغداد يتفاصحُون ويقولون: دار القُطَّان -بضمِّ القاف- يعنونَ القاطنين، وليس كما قالوا، وإنما لمَّا بناها القَطَّان -بفتح القاف- نسبت إليه (¬1). وحجَّ بالناس إبراهيمُ بنُ محمد الذي حجّ بهم عام أول. وفيها توفي إبراهيمُ بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجُوزَجانيّ. [ذكر الحافظ ابن عساكر قال: قال أبو أحمد ابن عدي: ] سكن [الجُوزَجانيّ] دمشق، وكان يحدِّثُ [لها] على المنبر، [ويكاتبه أحمد بن حنبل، فقرأ كتبه على المنبر]. وأقام بمكة مدّةً، وبالرّملة مدّةً، وبالبصرة مدَّةً. [قال: وقال الدارقطني: ] كان من الحفَّاظِ، إلا أنَّه كان منحرفًا عن علي بن أبي طالب، متحاملًا عليه. [وقال الدارقطني: ] اجتمعَ على بابه أصحابُ الحديث، فأخرجتْ جاريتُه فروجةً، فلم تجد من يذبحها، فقال إبراهيم: سبحان الله! لا نجدُ من يذبحُ هذه الفروجة، وقد ذَبَحَ عليٌّ في ساعةٍ نيِّفًا وعشرين ألفًا. وفي روايةٍ: سبعين ألفًا. وبلغ يزيدَ بن هارون قولُه، فقال: لعنَه الله، وهل قتل عليٌّ أحدًا إلَّا وهو مستحقُّ القتل؟ ! [وقد اختلفوا في وفاته، فقال قوم في سنة ستٍّ وخمسين ومئتين بدمشق] (¬2)، وقيل: [في] سنة تسع وخمسين، وقيل: في هذه السنة (¬3). حدث عن يزيد بن هارون، [وأبي عاصم النبيل، وأبي مُسْهِر الغساني، وغيرهم]، ¬

_ (¬1) من قوله: قال المصنف ... إلى هنا. ليس في (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ت): وقال قوم: توفي بدمشق سنة ست وخمسين ومئتين. (¬3) لم أقف على من ذكر أن وفاته كانت سنة ستين ومئتين. فالله أعلم.

أيوب بن إسحاق

وروى عنه أبو زُرعةَ وغيرُه (¬1). أيوب بن إسحاق ابن إبراهيم بن سافري. سكنَ الرملةَ، وحدَّث بها، وبمصر ودمشق، وتوفِّي بها في ربيع الآخر. سمع محمّد بن عبد الله الأنصاري، وغيره. وكان زعر الخُلُق، سألَهُ بعضُ أصحابه أن يكتب عنه شيئًا من الأخبار، فمطلَه، فكتب الرجل إليه: [من البسيط] إذ لم أخُطَّ حديثًا عنك أعلمُه ... ولا كتبتُ لغيري عنكَ مجتهدَا إلَّا أحاديثَ خوَّاتٍ وقصَّتَه ... عن البعير ولمَّا فاء أو شردَا (¬2) فسوف أخرجُها إن شئتَ من كتبي ... ولا أعود لشيءٍ بعدَها أبدَا (¬3) [وفيها توفي] الحسن بن علي ابن محمَّد [بن علي] بن موسى بن جعفر [بن محمَّد] بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ويقال له: العسكريّ أيضًا، وهو الإمام، وكنيتُه أبو محمَّد. ولد سنة إحدى وثلاثين ومئتين (¬4) بسرَّ من رأى، وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: سوسن، وقيل: عسفان. كان سيدًا فاضلًا، [حكى أبو الحسن النَّصيبيُّ قال: ] (¬5) خطرَ في قلبي عَرَقُ الجُنُبِ هل هو طاهر أم لا؟ فأتيتُ إلى باب الإمام أبي محمد الحسن لأسألَه، وكان ليلًا، فنمتُ، فلمَّا طلعَ الفجر خرجَ من داره، فرآني نائمًا، فأيقظني [وقال: إن كان من حلالٍ ¬

_ (¬1) قوله: وروى عنه أبو زرعة وغيره. ليس في (ب). وانظر ترجمة الجوزجاني في تاريخ دمشق 2/ 570 - 571 (مخطوط)، وتهذيب الكمال 2/ 244 - 248. (¬2) كذا، وفي تاريخ بغداد 7/ 460، والمنتظم 12/ 157: ولما قال قد شردا. (¬3) هذه الترجمة لم ترد في (ب). وانظر ترجمته أيضًا في تاريخ دمشق 3/ 264 - 265 (مخطوط). (¬4) تاريخ بغداد 8/ 353 - 354. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال أبو الحسن النَّصيبيُّ.

فنعم، وإن كان من حرامٍ فلا] (¬1). وقال داود بن القاسم: دخلتُ على الإمام أبي محمد الحسن العسكريّ، وفي خاطري أن أسأَلَه عن إيمان أبي طالب، فابتدأني وقال: إنَّ إيمانَ أبي طالب كإيمان أهل الكهف، أسرَّ الإيمانَ وأظهر الكفر، فآتاه الله أجرَهُ مرتين (¬2). وكانت وفاته بسُرَّ من رأى [في هذه السنة] وقد بلغ تسعًا وعشرين سنة، [و] صلَّى عليه أبو عيسى بن المتوكِّل، ودُفِنَ إلى جانب أبيه في داره بسرَّ من رأى، وصحبَ أباه عشرين سنة، وكانت إمامته (¬3) خمس سنين وشهورًا، وقيل: إنَّه ولدَ في سنة عشرين ومئتين، وعاشَ أربعين سنة، وكان نقشُ خاتمه: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42]. أسندَ الحديث عن أبيه عن آبائه الطاهرين. قال المصنف رحمه الله: وأخرج له جدِّي رحمه الله حديثًا في كتابه المسمى بـ "تحريم الخمر" نقلتُ هذا الحديثَ من خطِّ جدِّي، وأشهدُ بالله أنِّي سمعتُه يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ أبا عبد الله الحسين بن علي يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ عبد الله بن عطاء الهروي يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ عبد الرحمن بن أبي عبيد البيهقيّ يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ أبا عبد الله الحسين بن محمَّد الدِّينَوريّ يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ أحمد بن عبد الله الشيعي (¬4) يقول: أشهدُ بالله لقد سمعت الحسنَ بن علي العسكريّ يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ أبي علي بن محمَّد يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ أبي محمدًا يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ أبي علي بن موسى الرضا يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ أبي موسى يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ أبي جعفرًا يقول: أشهدُ بالله لقد سمعتُ أبي محمَّدًا يقول: أشهد بالله لقد سمعتُ أبي علي بن الحسين يقول: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وقال ابن المنذر في الإجماع ص 21: وأجمعوا على أن عَرَقَ الجُنُبِ طاهر. (¬2) من قوله: وقال داود بن القاسم ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) في (ب): ولايته. (¬4) في (ب) و (خ) و (ف). السبيعي. والتصويب من لسان الميزان 1/ 517.

أشهدُ بالله لقد سمعت أبي الحسين بن عليٍّ يقول: أشهدُ بالله لقد سمعت [أبي] علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: "أشهد بالله، لقد سمعتُ محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أشهدُ بالله لقد سمعت جبريل يقول: أنا أشهدُ بالله لقد سمعتُ ميكائيل يقول: أشهدُ بالله لقد سمعت إسرافيل يقول: أشهدُ بالله على اللوح المحفوظ أنَّه قال: أشهدُ بالله لقد سمعتُ الله تعالى يقول: شارب الخمر كعابد وثن" (¬1). قال أبو نعيم الفضل بن دُكَيْن (¬2): هذا حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ، روتهُ العترةُ الطيبة (¬3) الطاهرة، ورواه جماعةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عليٌّ، وابنُ عباس، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنهم - أجمعين (¬4)، في آخرين. وولده محمد القائم الحجَّة، لمَّا مرضَ أوصى إليه، وهو آخرُ الأئمة، وهو صاحبُ السرداب بسرَّ من رأى (¬5). ¬

_ (¬1) أورده ابن حجر في لسان الميزان 1/ 517، ثم قال: وهذا المتن بالسند المذكور إلى عليِّ بن موسى، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" [3/ 203] بسند له فيه من لا يُعرَف حاله إلى الحسن العسكري أيضًا، لكن لم يذكر فيه إلا جبريل ... والمتن أورده ابن حبان في صحيحه [(5347)] من حديث ابن عباس، وفي سنده مقال. وانظر ما سلف عند ترجمة موسى الرضا في وفيات سنة 203 هـ. (¬2) كذا، ولعله أبو نعيم الأصفهاني صاحب الحلية، فقد قال في الحلية 3/ 204: هذا حديث صحيح ثابت، روته العترة الطيبة. (¬3) في (خ) و (ف): روته جماعة والعترة ... والمثبت من (ب). (¬4) أخرجه عن ابن عباس أحمد (2453) وفي سنده انقطاع، وانظر تتمة تخريجه ثمة. وأخرجه عن أبي هريرة ابنُ ماجه (3375)، والبخاري في التاريخ الكبير 1/ 129. قال البخاري: ولا يصح حديث أبي هريرة في هذا. وأخرجه عن أنس الطبراني في الأوسط (4810). قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 75: وفيه جنادة بن مروان وهو متهم. وأخرجه عن ابن أبي أوفى ابن عدي في الكامل 2/ 703 ومن طريقه ابنُ الجوزي في العلل المتناهية (1115). وفيه الحسن بن عمارة. قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال شعبة: الحسن بن عمارة كذاب يحدث بأحاديث قد وضعها. وقال يحيى: كذاب. وقال أحمد والنسائي والفلاس ومسلم بن الحجاج والدارقطني: متروك. (¬5) قال الذهبي في السير 13/ 122: فلو فرضنا وقوع ذلك في سالف الدهر، فمن الذي رآه؟ ومن الذي نعتمد عليه في إخباره بحياته؟ ومن الذي نص لنا على عصمته، وأنه يعلم كل شيء؟ هذا هوسٌ بين، إن سلطناه على=

الحسن الفلاس العابد البغدادي

وقد رَوى جعفر الصادق (¬1) أنَّه قال: كأنِّي بيومٍ حرام في شهرٍ حرام قائمًا بين الركن والمقام ينادي: يا من يجيبُ المضطرَّ إذا دعاه ويكشفُ السوء، فما يبرح حتى يحصلَ في عدَّة أهل بدر، فيملك الأرض. وروي عن الصادق أيضًا أنَّه قال: إنَّ القائمَ ليدخلُ دورَهم، ويمشي في أسواقِهم، ولا يعرفونه، حتَّى يأذنَ الله له في الخروج، فيعرفهم نفسَه. ورويَ عن عليِّ بن موسى الرضا أنَّه قال في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يسمَعُونَ الصَّيحَةَ بالحَقِّ}: هو ظهورُ القائِمِ الحجَّة الخلف. ولدَ في ذي الحجَّة سنةَ ثمان وخمسين ومئتين، وقيل: سنة ست وخمسين ومئتين، وصحبَ أباه سنتين، ثم توفِّي أبوه في هذه السنة وأقام بعده سنتَين ثم اختفى، وكنيتُه أبو القاسم، أبو عبد الله، ويقال له: ذو الاسمين محمد وأبو القاسم، وأمُّه أمُّ ولدٍ ويقال لها: صقيل. وفي حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرجُ في آخرِ الزمان رجل من ولدي، اسمه كاسمي، وكنيتُه ككنيتي، يملأُ الأرضَ عدلأ كما مُلِئت جورًا، فذلك هو المهدي". وفي رواية: "ولو لم يبقَ من الدهرِ إلَّا يوم واحد، لبعثَ اللهُ من أهل بيتي من يملأ الأرض عدلًا" وذكره. وقد أخرج أبو داود والترمذيُّ طرفًا منه (¬2). [وفيها توفي] الحسن الفلَّاس العابد البغدادي كان لا يتقوت إلَّا من قمام المزابل، صحب بشرًا الحافي، وسَرِيًا السقطي، ¬

_ = العقول ضلَّت وتحيَّرت، بل جوزت كل باطل. أعاذنا الله وإياكم من الاحتجاج بالمحال والكذب، أو ردِّ الحق الصحيح، كما هو ديدن الإمامية. اهـ. (¬1) كذا في (خ) و (ف). (¬2) سنن أبي داود (4282)، وسنن الترمذي (2231) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. ومن قوله: وقد روى جعفر الصادق .... إلى هنا ليس في (ب).

الحسن بن محمد بن الصباح

ومعروفًا الكرخي. وانتفع ببشر الحافي، وهو كان سبب تزهُّده، [حدثنا غير واحد عن محمد بن أبي منصور بإسناده إلى وَهْب بن نُعيم بن الهَيصَم قال: جاء حسن الفلَّاس إلى بشر بن الحارث] (¬1) يسأله في مسألةٍ؛ ليكون حجَّةً فيما بينه وبين الله تعالى، فوجد بشرًا في المقابر، فقال له: يا حسن، يودُّ هؤلاء أن يُرَدُّوا ليصلحُوا ما أفسدوا؟ [وفي رواية: ] يا حسن، لو قيل لهؤلاء: ما تشتهون؟ لقالوا: أن نردَّ إلى الدنيا، فنصليَ ركعتين، ونصوم يومًا، [ثم قال: ] (¬2) أوصني، فقال له بشر: يا حسن، إنَّه من فرحَ بشيءٍ من الدنيا أخطأ الحكمةَ قلبُه، ومن جعل شهواتِ الدُّنيا تحتَ قدميه فَرِقَ الشيطانُ من ظلِّه، ومن غلب هواه فهو الصابرُ الغالب. ألا واعلم أنَّ البلاءَ كلَّه في هواك، والشفاءَ كلَّه في مخالفتك إيَّاه، فإذا لقيتَ الله تعالى فقل: قال لي بشر. فرجعَ الحسنُ، فعاهدَ الله تعالى أن لا يأكل ما يُباع، ولا ما يُشترى، ولا ما يُلبس، ولا ما يُقتنى، ولا يُمسِك بيده ذهبًا ولا فضةً ولا يضحك أبدًا، وكان يأوي ستَّةَ أشهر في العباسيَّة قريةٍ قريبةٍ من بغداد، وستَّةَ أشهر حول دار البطيخ محلةٍ خارجةٍ عن بغداد، ويلبسُ ما في المزابل، فقيل له: يا حسن، من ترك شيئًا لله عوَّضَه اللهُ خيرًا منه، فما عوضك؟ فقال الحسن: الرضَا بما أنا فيه. ومرضَ، فلمَّا احتضر قيل له: كيف أنت؟ فقال: لقد أعطاني ما يتنافسُ فيه المتنافسون (¬3). ودُفِن قريبًا من بشر الحافي رحمةُ الله عليهما. [وفيها توفي] الحسنُ بن محمد بن الصَّبَّاح أبو عليّ الزعفرانيّ، من قرية بالعراق يقال لها الزعفرانيَّة، وهو صاحبُ الإمام ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): جاء إليه. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فقال. (¬3) المنتظم 12/ 158 - 159.

مالك بن طوق

الشافعيّ رحمةُ الله عليه الذي قرأَ عليه كتاب "الأم" (¬1)، ورَوى عنه أقواله القديمة. وقال: قدمَ علينا الشافعيُّ فاجتمعنا إليه، فقال: التمسُوا من يَقرأ لكم، فلم يتجاسر أحدٌ أن يقرأ عليه غيري، فقرأت عليه كتبَه كلَّها، وما كنَّا نظنُّ أمره أنَّه ينتهي إلى هذا، وكنت غلامًا ما في وجهي شعرة. فلمَّا قرأتُ عليه كتاب "الرسالة" قال: من أين أنت؟ قلت: من قريةٍ يقال لها: الزعفرانية، فقال: أنتَ سيِّدُ هذه القرية. [قال: ] وكان قد غلبَ علينا مذهبُ الكوفيين (¬2). وكانت وفاته [في رمضان] ببغداد بدرب الزعفرانيّ. [وقال الخطيب: ] وإليه ينسب، وهو الدربُ المسلوك فيه من باب الشَّعير إلى الكَرْخ (¬3)، وقد دَثرَ، فلا عين ولا أثر. أسندَ عن سفيان بن عيينة وغيره، وحدَّث عنه البخاريُّ وغيرُه (¬4). وأجمعُوا على فضله وصدقه وأمانته. وقال أحمد بن محمَّد الشَّطَويّ: سمعنَا الحسن بن محمَّد بن الصبَّاح ينشد -وقد اجتمع إليه الناس ليحدثهم- فقال: [من المنسرح] لا والذي تسجدُ الجباهُ لهُ ... ما لي بما دونَ ثوبِها خبرُ ولا بفيها ولا هممتُ بها ... ما كان إلَّا الحديثُ والنَّظرُ فقال له رجل: يا أبا علي، إنَّ هذا الشعر يُغنَّى به! فقال له: ثكلتك أمُّك! وهل يغنى إلَّا بالشعر الجيد؟ ! (¬5) [وفيها توفي] مالك بن طَوْق ابن مالك بن عتَّاب التغلبيّ، صاحب الرَّحْبَة. ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 8/ 421، والمنتظم 12/ 158، وسير أعلام النبلاء 12/ 262، وطبقات الشافعية الكبرى 2/ 114 أنَّه روى عن الشافعي كتابه القديم. (¬2) انظر تمام الخبر في تاريخ بغداد 8/ 424 فهو فيه أتم وأوضح. (¬3) تاريخ بغداد 8/ 422. (¬4) من قوله: أسند عن سفيان. . . . إلى هنا ليس في (ب)، وما سلف بين حاصرتين منها. (¬5) تاريخ بغداد 8/ 425. ومن قوله: وقال أحمد بن محمَّد. . . إلى هنا ليس في (ب).

[ذكره الحافظ ابن عساكر قال: ] كان أحد أجواد العرب ومُمَدَّحيهم. [وحكى عن أبي الحسين الرازي قال: ] (¬1) وَلِيَ إمرة دمشق والأردن في خلافة الواثق والمتوكِّل ثم عزله المتوكِّل (¬2). فقال أبو جعفر محمَّد بن يزيد الأمويّ: [من الطويل] ليهنكَ إذ أصبحتَ مُجتمعَ الحمدِ ... وراعي المغاني (¬3) والمُحامي عن المجدِ وأنَّك صُنْتَ المال فيما وليتَهُ ... وفرَّقْتَ ما بين الغوايةِ والرُّشْدِ فلا تحسب الأعداءُ عزلكَ مغنمًا ... فإنَّ إلى الإصدار عاقبةَ الردِّ (¬4) وما كنتَ إلَّا السيفَ جُرِّدَ في الوغى ... فأُحمِدَ فيه، ثمَّ رُدَّ إلى الغِمْدِ ومدحه بكرُ بن النطَّاح فقال: [من الطويل] أقولُ لمُرتادِ النَّدى عند مالك ... كفى كلَّ هذا الخلق بعضُ عُدَاتِهِ ولو طاوعت (¬5) أموالُه جودَ كفه ... لقاسمَ من يرجوه شطرَ حياتِهِ ولو لم يجدْ في العمرِ قَسْمًا لسائل ... وجازَ له الإعطاءُ من حسناتِهِ لجادَ بها من غير كُفْرٍ بربِّهِ ... وأَشركَنَا في صَومِه وصلاتِهِ ولما كان (¬6) أمره على دمشق، كان ينادي مناديه كلَّ ليلةٍ في رمضان بعد المغرب على باب الخضراء: الإفطارَ رحمكم الله، والأبوابُ مفتَّحة، لا يُمنعُ أحد. [قال: ] ومرض [فدخل عليه العُوَّاد]، فأنشده شاعر: [من الوافر] وليس من الرزيَّةِ فقدُ مالٍ ... ولا شاةٌ تموتُ ولا بعيرُ ولكن الرزيَّةَ فَقْدُ شخصٍ ... يموتُ لموته خلقٌ كثيرُ [وقال الرازي: ] قدم عليه أبو تمام دمشق، فأقام مدَّةً [فـ] لم يصل إليه، فقال للحاجب: استأذن [لي] عليه، فقال: لا سبيل لي ولكن اكتب ورقةً، وهو اليومَ خارجٌ إلى بستانه، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) تاريخ دمشق 66/ 115 - 116 (طبعة مجمع اللغة). (¬3) في تاريخ دمشق 66/ 116: المعالي. (¬4) في تاريخ دمشق 66/ 117: الورْدِ. (¬5) في تاريخ دمشق 66/ 116: ولو خذلت. (¬6) من قوله: ثم عزله المتوكل. . . . إلى هنا. ليس في (ب).

فألقها في مكانٍ أقول لك، ففعل، وكان [في الرقعة هذه الأبيات: ] (¬1) [من المتقارب] لعمري لئن حَجَبَتْنِي العبيـ ... ــدُ عنك فلن تُحجَبَ القافيهْ سأرمي بها من وراءِ الجدا ... رِ شنعاءَ تأتيكَ بالدَّاهيهْ تُصِمُّ السَّميعَ وتُعمي البصير ... ومن بعدهَا تسألُ العافيهْ قال أبو تمام: فلمَّا قرأهَا استدعاني، ولم يكن يعرفُني قبلها، فقال: أنت صاحبُ الرقعة؟ قلت: نعم، قال: أنشدها، فأنشدتُه إيَّاها، فلمَّا بلغت إلى قولي: ومن بعدها تُسألُ العافيهْ قال: لا، بل من قبلها، ثمَّ قال: [ما] حاجتك؟ فأنشدت: [من الكامل] ماذا أقولُ إذا انصرفتُ وقيل لي ... ماذا لقيتَ من الجوادِ المُفْضِلِ إن قلتُ أعطاني كذبتُ وإن أقلْ ... بخلَ الجواد بماله لم يجمُلِ فاختر لنفسِك ما أقول فإنَّني ... لا بدَّ مخبرُهم وإنْ لم أُسألِ فقال: إذًا والله لا أختارُ إلَّا أحسنَها، كم قد أقمت ببابي؟ قلت: أربعةَ أشهر، فأعطاني مئة ألف درهم وعشرين ألفًا؛ لكلِّ يوم ألف درهم (¬2). ودخل أبو تمام عليه وعنده خيلٌ، فأعجبَه بِرْذَونٌ، فطلبَه منه، فأرادَ مالك أن يُولَعَ به، فأخرجه عنه، فقال أبو تمام: اسمع، فقال: على هذه السرعة؟ ! قال: نعم، وأنشده: [من البسيط] اسمع مقالي وخيرُ القول أصدقُه ... وإنَّما لكَ في ذي اللُّبِّ منطقُهُ وبابكَ الدهرَ مفتوحٌ لطارقِه ... غيري ويُطرقُ دوني حين أطرقُهُ إنِّي أحبُّكَ فاسمع قوله ذي ثقةٍ ... ما المالُ مالُكَ إلَّا حينَ تُنفِقُهُ والناس شتَّى فذو لؤمٍ وذو كرمٍ ... والعِرْض سورٌ وبذلُ المالِ خندقُهُ والسورُ ما لم يكن ذا خندقٍ غَدِقٍ ... بالماءِ هان على الراقي تَسلُّقُهُ ها قد هززتُ وما في الهزِّ منقصةٌ ... والمسكُ يزدادُ طيبًا حين تَفْتِقُهُ (¬3) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): فيها. (¬2) تاريخ دمشق 66/ 119. (¬3) في تاريخ دمشق 66/ 120: ننشقه.

موسى بن مسلم

بل قد كشفتُ قناعَ العَتْبِ معتذِرًا ... إلى السؤالِ فقل لي كيف أغلقُهُ فقال له: أغلقه، وخذ البرذونَ بسرجِهِ ولجامِه (¬1). [وقال أبو الحسين الرازي: ] لمَّا عزل مالك عن دمشق جمعَ التجَّار في القبَّة التي في وسط الجامع، وقال: قد دخلتُ بلدَكم ومعي أموالُ الدنيا، وأنا خارجٌ من عندكم مديون، كم لكم علي؟ قالوا: ثلاثون ألف دينار، فقال: من شاء منكم أن يقيم وأرسل إليه ماله، ومن شاء فليخرج معي إلى الرَّحبة، فخرجَ بعضُهم وأقام البعض، فوفَّاهم جميعَ أموالهم (¬2). وكانت وفاته بالرَّحْبَة [في] سنة ستين ومئتين (¬3). موسى (¬4) بن مُسْلِم ابن عبد الرَّحمن، أبو بكر القنطريّ. كان ينزل قنطرة البردان ببغداد، فنُسِبَ إليها، وكان يشبَّه في الزهد والورع ببشر الحافي، وكان قوتُه يسيرًا. كان يكتبُ "جامع" سفيان الثوري لقومٍ لا يشكُّ في صلاحهم ببضعة عشر درهمًا، ويتقوَّتُ بالأجرة. وقال أحمد بن محمَّد المَرُّوذي: دخلتُ على أبي بكر بن مُسلم يوم عيد، فوجدتُه وعليه قميصٌ مرقوع، وقدَّامه قليلُ خرنوبٍ يقرضهُ، فقلت له: اليوم العيد، وأنت تأكلُ الخرنوب؟ ! فقال لي: لا تنظر إلى هذا، ولكن انظر إن سألني يوم القيامة: من أين هو؟ أيَّ شيءٍ أقول (¬5)؟ وقال الجُنيد بن محمَّد: عبرتُ يومًا إلى أبي بكر القنطري نصفَ النهار، فقال: أمَّا ¬

_ (¬1) من قوله: ودخل أبو تمام. . . . . . إلى هنا ليس في (ب). (¬2) تاريخ دمشق 66/ 120. (¬3) في (خ) و (ف). ومئة. والمثبت من (ب) وما سلف بين حاصرتين منها. (¬4) كذا في (خ) و (ف) والنجوم الزاهرة، وصوابه: محمَّد بن مسلم. انظر ترجمته في تاريخ بغداد 4/ 417، والمنتظم 12/ 162، وتاريخ الإِسلام 6/ 195. ولم ترد ترجمته في (ب). (¬5) تاريخ بغداد 4/ 418.

كان لك شغلٌ في هذا الوقت يشغلك عني؟ فقلت: إذا كان مجيئي إليكَ هو شغلي، فما أعمل (¬1)؟ وكان الجنيدُ يقول: كان لي شيوخٌ كانت رؤيتُهم قوتي من الأسبوع إلى الأسبوع، وإنَّ أبا بكر القنطريّ منهم. وكانت وفاتُه في ذي الحجَّة. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 418.

السنة الحادية والستون بعد المئتين

السنة الحادية والستون بعد المئتين (¬1) فيها مالت الدَّيلم إلى يعقوب بن الليث الصفَّار، ومالت على الحسن بن زيد، فخرج الحسنُ من الديلم، وأحرقَ منازلهم ومكانًا يقال له: شالوس، وصار إلى كرمان (¬2). وفيها كتب المعتمد كتابًا، وبعث به إلى بغداد، فُقرِئ على الحاجِّ من أهل خراسان والرَّيّ وطبرستان، ومضمونُه أنَّ الخليفةَ لم يولِّ يعقوبَ الصفَّار خراسان، ويأمرُهم بالبراءةِ منه، وينكرُ عليه دخولَ خراسان وأسْرَه محمَّد بن طاهر (¬3). وفيها وليَّ المعتمدُ أبا السَّاج الأهواز وحربَ صاحب الزَّنج، فسار إليها فأقام بها، فبعثَ إليه قائدُ الزَّنج عليَّ بن أبان المهلبيّ، وبعث إليه أبو السَّاج صهرَه عبد الرَّحمن، فاقتتلوا عند الدولاب، وكانت بينهم وقعةٌ عظيمةٌ، قُتِل عبد الرَّحمن، وانحازَ أبو السَّاج إلى عسكر مكرَم، ودخل الزَّنجُ الأهواز وقتلوا أهلَها، وسبوا ونهبوا، وأحرقوا دورَها، وصُرِفَ أبو السَّاج عن قتال الزَّنج والأهواز، ووُلِّيَ ذلك إبراهيم بن سيما (¬4). وفيها كتبَ المعتمدُ إلى أحمد بن أسد (¬5) السامانيّ بولاية ما وراء جَيحُون وسَمَرْقَند وبُخَارى. وفيها جاء يعقوبُ بن الليث إلى فارس، وبها ابنُ واصل، فالتقيَا، فهزمَه يعقوب، وفلَّ عسكرَه، وأخذَ من قلعةٍ له أربعين ألف ألف درهم، ويقال للقلعة: خُرَّمَة. ¬

_ (¬1) حوادث هذه السنة جاءت مختصرة في (ب). وهذا نصها: وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق الذي حج بهم في السنة الماضية. اهـ. وقوله: الذي حجَّ بهم في السنة الماضية فيه نظر. وانظر ما سيأتي. (¬2) انظر تاريخ الطبري 9/ 512، وفيه أنَّ الحسن أحرق شالوس لممالأتهم يعقوب، وأنه أقطع ضياعهم الديالمة. (¬3) تاريخ الطبري 9/ 512. (¬4) تاريخ الطبري 9/ 513. (¬5) كذا في (خ) و (ف)، وتاريخ الإِسلام 6/ 241، وفي تاريخ الطبري 9/ 514، والبداية والنهاية 14/ 549: نصر بن أحمد بن أسد.

الحسن بن محمد بن عبد الملك

وفيها لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوَّال جلسَ المعتمدُ في دار العامَّة، فولَّى ابنَه جعفر بن المعتمد، وسماه المفوِّض إلى الله، وولَّاه المغرب، وضمَّ إليه موسى بن بُغَا، وولّاه إفريقية، والشَّام، ومصر، والجزيرة، وإرمينية، وطريق خراسان، ومِهْرِجان قَذَق، وحُلوان، وولَّى أخاه أبا أحمد الموفق العهدَ بعد جعفر، وولَّاه المشرق، وضمَّ إليه مسرورًا البلخي، وولَّاه بغداد، والسَّواد، والكوفة، وطريقَ مكَّة والمدينة، واليمن، وكور دِجْلة، والأهواز، وفارس، وأصبهان، وقُمْ، والكرج، والدِّينَور، والرَّي، وزِنْجَان، وقَزْوين، وخراسان، وطبرستان، وكَرْمان، وسِجستان، والسِّند، وعقد لكلِّ واحدٍ منهما لواءين؛ أبيض وأسود، وشرط إنْ حَدَثَ به حدثُ الموت ولم يكتمل (¬1) أنْ يكونَ الأمرُ لأبي أحمد الموفق، ثمَّ لجعفر بعدَه، وأُخِذت البيعةُ على الناس، وفُرِّقَت نسخةُ الكتب، وبُعث نسخةٌ مع الحسن بن محمَّد بن أبي الشوارب القاضي ليعلِّقَها في الكعبة، فمات الحسنُ بمكَّة بعد ما حجّ، وعقد جعفر (¬2) المفوض لموسى بن بغا على المغرب في شوَّال. وحجَّ بالناس الفضل بن إسحاق الذي حجَّ بهم في السنة الماضية (¬3). وفيها توفي الحسن بن محمَّد بن عبد الملك أبو محمَّد القاضي الأمويّ، ويعرف بابن أبي الشوارب، وجدُّه عتَّاب بن أسيد الذي ولَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكَّة. وقيل: جدُّه خالدُ بن أسيد (¬4). ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 9/ 514: وجعفر لم يكمل للأمر. (¬2) في (خ) و (ف): لجعفر. والتصويب من تاريخ الطبري 9/ 514. (¬3) كذا، وفي تاريخ الطبري أن الذي حجَّ بهم سنة مئتين وستين هو إبراهيم بن محمَّد، والذي حجَّ بهم سنة إحدى وستين ومئتين هو الفضل بن إسحاق. وذكر ابن الجوزي في المنتظم أن الذي حجَّ بهم سنة مئتين وستين هو إبراهيم بن محمَّد، كما عند الطبري والمصنف، وأن الذي حجَّ بهم في سنة إحدى وستين ومئتين هو الذي حجَّ بهم في السنة التي قبلها. (¬4) كذا في (خ) و (ف)! ؟ ونص الكلام -كما في تاريخ بغداد 8/ 426 - : ولم يزل في أهل هذا البيت إمارةٌ وقيادة ورياسة، منهم عتاب بن أسيد ولاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكة. . . . ومنهم خالد بن أسيد، وهو جدُّ آل أبي الشوارب. اهـ وانظر المنتظم 12/ 164.

أبو يزيد البسطامي

ولي القضاءَ بسُرَّ من رأى في أيَّام المتوكِّل وبعده، وكان عالمًا، فاضلًا، جوادًا، ذا مروءة. وقال [أحمد بن] (¬1) إبراهيم بن محمَّد بن عرفة: وليَ جعفرُ بن عبد الواحد الهاشمي قاضي القضاة سنة أربعين ومئتين، واستخلفَ على القضاء بسُرَّ من رأى الحسنَ بن محمد بن أبي الشوارب، وكان أفتى فقيهٍ وقاض، [وكان] من السخاء والكرم وإظهارِ المروءة على حالةٍ لم يُرَ (¬2) عليها حاكمٌ قطّ، ولم يزل في هذا البيت إمارةٌ ورياسة، منهم عتَّاب بن أسيد. [وورد على محمَّد] (¬3) بن عبد الملك بن أبي الشوارب كتابُ ابنه الحسن بولايته القضاء، فكتب إليه: وردَ كتابُك بتوليتكَ القضاء، وحاشا لوجهك الحسنِ يا حسنُ من النَّار. وكان المعتزُّ يقول: ما رأيتُ أفضلَ من الحسن بن محمَّد بن أبي الشوارب، ولا أكثرَ وفاءً منه، ما حدَّثني قطُّ فكذَبَني، ولا ائتمنته على سرٍّ فخانني فيه. واختلفوا في وفاته فقال ابن المنادي: توفي ببغداد في ذي الحجَّة، وصلَّى عليه يوسُف بن يعقوب القاضي. وقال الطبريُّ: توفِّي بمكَّة (¬4). [وفيها توفي] أبو يزيد البِسْطَامي واسمه طَيْفُور بن عيسى بن شروسان (¬5)، وكان شروسان مجوسيًّا فأسلم، وكان لعيسى ثلاثةُ أولاد، آدم وهو أكبرهم، وطيفور وهو أوسطهم، وعليّ وهو أصغرهم، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 8/ 426. (¬2) في (خ) و (ف): لم يرد. والتصويب من تاريخ بغداد 8/ 426. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. انظر تاريخ بغداد 8/ 426 - 427. (¬4) تاريخ بغداد 8/ 427، وتاريخ الطبري 9/ 515. وترجمة ابن أبي الشوارب لم ترد في (ب). (¬5) كذا في (خ) وسير أعلام النبلاء 13/ 86، والوافي بالوفيات 16/ 514، والنجوم الزاهرة 3/ 35. وفي طبقات الصوفية ص 67، والأنساب 2/ 213، ومناقب الأبرار 1/ 187، وصفة الصفوة 4/ 107، والمنتظم 12/ 166: سروشان. وفي (ف): شروشان. وفي (ب): شرشوان.

وكانوا كلُّهم زهَّادًا عُبَّادًا. وكان أبو يزيد أفضلَ أهل زمانه، وأجلَّهم حالًا، له لسان في المعارف والتدقيق، وفي العلوم والمكاشفات (¬1)، والفناء والبقاء لم يُسبَق إليه. ذكر طرف من أخباره: [حكى أبو نعيم الأصفهاني وابن باكويه وابن خميس في "مناقب الأبرار" طرفًا من زهده وكراماته وخوفه وورعه وجميل صفاته وعباداته. حدثنا جدِّي رحمه الله بإسناده إلى العباس بن حمزة يقول: ] (¬2) صلَّيتُ خلفَ أبي يزيد [البِسطامي] الظهرَ، فلمَّا أرادَ أنْ يرفعَ يديه ليكبِّر، لم يقدر إجلالًا لاسم الله تعالى، وارتعدت فرائصُه، حتَّى كنتُ أسمعُ تقعقعَ عظامِه، فهالني ذلك (¬3). [وروى جدِّي عن ابن ناصر بإسناده إلى عيسى بن آدم ابن أخي أبي يزيد قال: ] (¬4) وإن أبو يزيد يعظُ نفسه، فيصيح عليها: [يا مأوى كل سوء]، المرأةُ إذا حاضت طهرتْ بعد ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، وأنت قاعدةٌ منذ عشرين أو ثلاثين سنة وبعد ما طهرت، فمتى تَطهُرين، إنَّك تقفين بين يدي الله تعالى، والوقوف بين يدي (¬5) الطاهر ينبغي أن يكون طاهرًا (¬6). [قلت: لم يذكر له جدِّي في "المنتظم" سوى هذه الكلمات عن العبَّاس بن حمزة وعن عيسى بن آدم ابن أخي أبي يزيد، ولا خفاء أنَّ الرجل كان جليلًا سيِّدًا عارفًا نبيلًا، وقد استقصيتُ أخباره، وذكرتُ أحواله وآثاره، فأقول: حكى ابن باكويه بإسناده عن قاسم الحدَّاد قال: ] (¬7) خرجَ أبو يزيد في سياحاته، فجاءَ إلى دِجْلة، فالتقى له ¬

_ (¬1) في (ب): في علوم المكاشفات. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال العباس بن حمزة. (¬3) المنتظم 12/ 166. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال عيسى بن آدم. (¬5) قوله: الوقوف بين يدي. ليس في (ب). (¬6) نص العبارة كما في المنتظم 12/ 167: إن وقوفك بين يدي الله طاهر فينبغي أن تكوني طاهرة. (¬7) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال قاسم الحداد.

الشَّطَّان (¬1)، فحوَّل وجهَه عنها، ثمَّ قال: وعزَّتك إنَّك تعلم أنِّي ما عبدتُك لهذا، فلا تحجبني بك عنك (¬2). [وحكى عنه عليُّ بن جهضم في "بهجة الأسرار" قال: ] صعدَ أبو يزيد ليلةً على سور بِسْطام، فدارَ عليه طول الليل يجتهدُ أن يذكرَ الله تعالى فلم يقدر؛ إجلالًا له وهيبةً، فلما طلعَ الفجرُ نزلَ فبال الدم (¬3). [قال: ] وجلسَ يومًا بين يدي المنبر، فقرأ الخطيب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]، فخرجَ الدم من بين عيني أبي يزيد، فضربَ الدمُ المنبر (¬4). [وقد حكى هاتين الحكايتين جدِّي في كتاب "المنتخب في الوعظ". وحكى عنه أبو عبد الرحمن السلميّ قال: ] قال أبو يزيد جلستُ ليلةً في المحراب، فمددتُ رجلي، فهتفَ بي هاتفٌ: يا أبا يزيد، من يجالسُ الملوك ينبغي أن يجالسَهم بحسنِ الأدب (¬5). [وحكى عنه ابن جهضم في "البهجة" أنَّه قال: ] (¬6) رأيت ربَّ العزَّة في المنام فقلت: يا خُداه، كيف الطريقُ إليك؟ فقال: فارق نفسَك وتعال (¬7). [وحكاه جدِّي في "المنتخب". وذكر ابنُ خميس في "المناقب" عنه أنَّه] أذَّنَ مرَّة، ثمَّ أراد أن يقيم، فنظرَ في الصفِّ، فرأى رجلًا عليه آثارُ السفر، فكلَّمه بشيء، فخرجَ الرجل من المسجد، فقيل له: ما قال لك أبو يزيد؟ فقال: قال لي: اخرج واغتسل، فما يجوزُ التيمُّمُ في الحضر. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف) و (ب) وصفة الصفوة 4/ 110: الشيطان. وهو تصحيف قبيح. والمثبت هو الصواب والله أعلم. وانظر هامش صفة الصفوة، فقد ذكر محققه أن في هامش إحدى النسخ: كذا، والصواب: الشطآن. اهـ. (¬2) في (ب): فلا تحجبني عنك. وفي صفة الصفوة 4/ 110: فلا تحجبني به عنك. (¬3) صفة الصفوة 4/ 111. (¬4) من قوله: فقرأ الخطيب. . . إلى هنا ساقط من (ب). (¬5) طبقات الصوفية ص 69، ومناقب الأبرار 1/ 187. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): قال أبو يزيد. (¬7) مناقب الأبرار 1/ 191، وصفة الصفوة 4/ 111، وقوله: يا خُداه، يعني: يا الله.

وكان الرجلُ قد أجنبَ في السفر، فتيمَّم وصلَّى، ثمَّ قدمَ فدخلَ المسجد، ولم يعلم أنَّه لا يجوز للجنب أنْ يتيمَّمَ في الحضر (¬1). [وحكى أيضًا قال: ] اشتهرَ رجلٌ بالولاية، فقال أبو يزيد لبعض أصحابه: قم بنا إليه، فدخلَ الرجلُ المسجدَ وبصق تُجاه القبلة، فرجعَ أبو يزيد وقال لصاحبه: امض بنا، فهذا غيرُ مأمونٍ على أدب من آداب الشريعة، فكيف يكونُ مأمونًا على ما يدَّعيه من الولاية؟ ! (¬2). [قال: ] وغسلَ يومًا ثوبَه في الصحراء ومعه صاحبٌ له، فقال له صاحبه: علِّقه على حائط الكرم، فقال: ما أذنَ لي صاحبه، فقال: علِّقه على الشجر، قال: تنكسرُ أغصانه فيفسد، فقال: ابسطهُ على الإذخِر، قال: يفسد؛ لأنَّ الله تعالى جعلَه علفًا للدواب، ثمَّ ولَّى أبو يزيد ظهرَه إلى الشمس، وجعل القميصَ على رأسه وظهره، وقلَّبَه حتى جفّ، ثمَّ لبسَه (¬3). [قال: ] ودخلَ يومًا إلى الجامع، فغرسَ عصاه في الأرض، فوقعت على عُكَّاز شيخٍ إلى جانبه، فوقعَ العكَّاز، فقام الشيخُ فانحنى وأخذَه، فقام أبو يزيد إلى الشيخ وقبَّل رأسَه وحاللَهُ، وقال: إنَّما انحنيتَ وأخذتَ العكَّازَ بسببي (¬4). [قال: ] وقدمَ شقيقٌ البلخيُّ وأبو تراب النَّخْشَبيّ عليه، وقُدِّمت السُّفرة، وهناك شابٌّ جالس، فقال له أبو يزيد: قم وكل مع الشيوخ، فقال: أنا صائم، فقال له أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر، فأبى، فقال له شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى، فقال لهم أبو يزيد: دعوا من سقطَ (¬5) من عين الله، فأُخِذَ الشاب بعد سنةٍ في تُهَمَة، فقطِعت يده. [قال: ] وقال عُمر البِسْطامي (¬6): كنَّا قعودًا في مسجد أبي يزيد، فقال: قُوموا بنا ¬

_ (¬1) من قوله: وكان الرجل. . . إلى هنا ليس في (ب). وانظر مناقب الأبرار 1/ 187، وطبقات الصوفية ص 70. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 189، والرسالة القشيرية ص 72 - 73. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 191 - 192. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 192، وانظر الرسالة القشيرية ص 190. (¬5) في (ب): دعوه فقد سقط وانظر مناقب الأبرار 1/ 194، والرسالة القشيرية ص 499. (¬6) في مناقب الأبرار 1/ 194، والرسالة القشيرية ص 551: عمي البسطامي.

نستقبل وليًّا من أولياء الله تعالى، فقمنا، وإذا بإبراهيم بن شَيبة الهَرَويّ (¬1) قد أقبل، فقال أبو يزيد: وقع في خاطري أن أستقبلك، وأشفع لك إلى ربِّي، فقال له إبراهيم: لو شفَّعَك في جميع الخلائق لم يكن عجبًا، إنَّما هم قطعة من طين. فتحيَّر أبو يزيد من جوابه. [ذكر المختار من كلامه: قال أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم الهَرَويِّ يقول: سمعت أبا يزيد يقول: ] غلطتُ في ابتداء أمري في أربعة أشياء؛ توهَّمتُ أنِّي أذكرُه وأعرفُه وأحبُّه وأطلبُه، فلمَّا انتهيتُ رأيتُ ذكرَه سبق ذكري، ومحبَّته سبقت محبَّتي، ومعرفتَه سبقت معرفتي، وطلبَه سبق طلبي (¬2). [وقال إبراهيم: وسمعته يقول: ] (¬3) عملتُ في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدتُ شيئًا أشدَّ عليّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيتُ متحيِّرًا، واختلافُهم رحمةٌ إلَّا في تجريدِ التوحيد (¬4). [قال: ] وسئل [أبو يزيد: ] ما علامةُ العارف؟ فقال: لا يفترُ من ذِكره، ولا يملُّ من حقِّه، ولا يستأنس بغيره. وقال: إنَّ الله تعالى أمرَ العباد ونهاهم، فأطاعوه، فخلَعَ عليهم من خِلَعه، فاشتغلوا (¬5) بالخلع عنه، وإنِّي لا أريدُ من الله إلا الله تعالى. [وقد حكينا عن أحمد بن خضرويه أنَّه قال: ] (¬6) رأيتُ ربَّ العزَّةِ في المنام، فقال لي: يا أحمد، كلُّ الناس يطلبون منِّي إلَّا أبا يزيد، فإنَّه يطلبُني (¬7). وقال: لو صفتْ لي تهليلةٌ ما باليتُ بعدَها بشيء. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): العدوي. والمثبت من (ب)، ومناقب الأبرار 1/ 194، والرسالة القشيرية ص 551. (¬2) حلية الأولياء 10/ 34، وانظر مناقب الأبرار 1/ 188. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال. (¬4) طبقات الصوفية ص 70، وحلية الأولياء 10/ 36، ومناقب الأبرار 1/ 187 - 188، وصفة الصفوة 4/ 107 - 108. (¬5) في (ب): فاستغنوا. والمثبت موافق لما في مناقب الأبرار 1/ 188، وصفة الصفوة 4/ 108. (¬6) ما بين حاصرتين عن (ب). وفي (خ) و (ف): وقال أحمد بن حضرويه. (¬7) صفة الصفوة 4/ 113.

وقال: هذا فرحي بك وأنا أخافُك، فكيف فرحي بك إذا أمنتك. وسئل: بم نالوا المعرفة؟ فقال: بتضييع ما لهم والوقوف مع ما له. وقال: إنَّ الله اطَّلعَ على قلوبِ أوليائه، فمنهم من لا يصلح لحملِ المعرفة صِرفًا، فشغله (¬1) بالعبادة. [وقال: ليس العجبُ من حبِّي لك وأنا عبدٌ فقير، وإنَّما العجبُ من حبِّك لي وأنت ملكٌ قدير.] (¬2) وقال: منذ ثلاثينَ سنةً كلَّما أردتُ أن أذكرَ الله أتمضمضُ وأغسل لساني؛ إجلالًا له أنْ أذكرَه (¬3). وحكى عنه في "المناقب" أنَّه قال: ] أشدُّ المحجوبين عن الله ثلاثةٌ بثلاثة، فأوَّلُهم الزاهدُ بزهده، والثاني العابدُ بعبادته، والثالثُ العالم بعلمه، ثمَّ قال: مسكينٌ الزاهد، لو علمَ أن الله سمَّى الدنيا كلها قليلًا في قليل، فكم مقدارُ ما ملكَ من ذلك القليل؟ وفي كم زهد ممَّا ملك؟ وأمَّا العابد فلو رأى مِنَّةَ الله عليه في العافية (¬4)، عرف عبادته في المنَّة، وأمَّا العالم فلو عَلِم أنَّ جميعَ ما في العالم سطرٌ (¬5) واحدٌ ممَّا في اللوح المحفوظ، فكم عَلِمَ هذا العالم من ذلك السطر؟ وكم عَمِلَ ممَّا علم؟ [قال: ] وقال: ما ذكروه إلَّا بالغفلة، ولا خدمُوه إلَّا بالفترة، وأكثرُ الناس إشارةً إليه أبعدُهم عنه (¬6). وقال: غبتُ عن الله تعالى ثلاثينَ سنة، وكانت غيبتي عنه ذِكري إيَّاه، فلما حضرت (¬7) وجدتُه في كلِّ حال. ¬

_ (¬1) في (ب): فعلله، وانظر مناقب الأبرار 1/ 188. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر مناقب الأبرار 1/ 191. (¬3) انظر الأقوال السابقة في صفة الصفوة 4/ 108 - 109. (¬4) في (ب): العاقبة. وفي صفة الصفوة 4/ 109: العبادة، وانظر مناقب الأبرار 1/ 191. (¬5) في (خ) و (ف) و (ب): شطر. في الموضعين، والمثبت من مناقب الأبرار وصفة الصفوة. (¬6) صفة الصفوة 4/ 109. (¬7) في حلية الأولياء 10/ 35، وصفة الصفوة 4/ 110: فلما خنستُ عنه.

[قال: وقيل له: لم لا تسافر؟ فقال: لأنَّ صاحبي مقيم، فقيل له: إنَّ الماء الراكدَ يُكرهُ الوضوءُ منه، فقال: لم يَرَوا بماءِ البحر بأسًا، "هو الطَّهور ماؤه والحلُّ مَيتَتُهُ". ثم قال: نرى للأنهار دَويًّا وخَرِيرًا، فإذا دَنت من البحر وامتزجَت، سكنت وذهب خريرُها (¬1). وحكى أبو نُعيم عنه قال: ] طلقَّتُ الدنيا ثلاثًا بتاتًا، لا رجعة لي فيها، وصرتُ إلى ربِّي وحدي، فناديتُه بالاستغاثة: أدعوك دعاءَ من لم يبق له غيرُك، فلمَّا عرفَ صدق الدعاءِ من قلبي، واليأس من نفسي، كان أول ما ورد [عليَّ] من إجابة دعائي أنَّه أنساني نفسي بالكليَّة، ونصبَ لي الخلق بين يديّ مع إعراضي عنهم بالكليَّة (¬2). وقال: دعوت نفسي إلى الله، فاستعصت [عليَّ]، فتركتُها ومضيتُ إليه. [وحكى عنه ابن باكويه أنَّه قال: ] (¬3) كلُّ الناس يخافون من الحساب، ويتجافون عنه، وأنا أسأل الله أن يحاسبني، قيل له: ولم؟ قال: لعلَّه أن يقول لي فيما بين ذلك: يا عبدي، فأقول: لبيك، ثمَّ ليفعل بي ما يشاءُ بعد ذلك (¬4). [قال: ] وقال له رجلٌ: دُلَّني على عملٍ أتقرَّبُ به إلى الله، فقال: تحبَّب إلى أوليائه ليحبُّوك، فإنَّه ينظرُ إلى قلوب أوليائه، فلعلَّه أن ينظرَ إلى اسمك في قلب وليِّه فيحبَّك، فيغفر لك. [وحكى عنه ابن باكويه قال: ] (¬5) عُرِجَ بقلبي إلى السماء، فطاف وعاد، قيل له: بأيِّ شيء عاد؟ قال: بالمحبة والرضا. [وحكى عنه ابن جهضم أنَّه قال: ] (¬6) نظرتُ، فإذا الناسُ يتلذَّذونَ في الدنيا بالطعام ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وانظر حلية الأولياء 10/ 34، ومناقب الأبرار 1/ 190، وصفة الصفوة 4/ 110، وحديث "هو الطهور ماؤه. . ." أخرجه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائيُّ 1/ 50، وابن ماجه (386)، من حديث أبي هريرة. وانظر التلخيص الحبير 1/ 9 - 12. (¬2) حلية الأولياء 10/ 36. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال. (¬4) انظر صفة الصفوة 4/ 111. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال. وانظر مناقب الأبرار 1/ 196.

والشراب والنكاح، وكذا في الآخرة، فجعلتُ لذَّتي في الدنيا ذِكرَه، وفي الآخرة النظرَ إليه. [وقال جعفر الخُلْدِي: ] قال له رجل: لمن أصحب؟ فقال: لمن إذا مرضتَ عادك، وإذا أذنبت سامحك (¬1). [وحكى في "المناقب" أنَّ رجلًا قال له: ] (¬2) بماذا أستعين على العبادة؟ فقال: بالله إن كنت تعرفه (¬3). وقال: لا خطرَ للجنَّة عند أهل المحبَّةِ، وأهلُ الجنَّة محجوبون لمحبتهم (¬4). وقال: من سمعَ الكلام ليتكلَّم به مع الناس (¬5)، رزقَه اللهُ فهمًا يكلِّمُ به الناس، ومن سمعَه ليعاملَ به الله، رزقَه الله فهمًا يناجي به ربَّه. وقال: اللهمَّ أفهمني عنك، فإنِّي لا أفهمُ عنك إلَّا بك (¬6). وقال: القلانس تنزل من السماء، وإنِّي أعرفُ أقوامًا يقولون برؤوسهم كذا وكذا. وقال: كنت اثنتي عشرة سنة حَدَّادَ نفسي، وخمسَ سنين مرآة قلبي، وسنةً أنظرُ فيما بينهما، فنظرت فإذا في وسطي زُنارٌ ظاهر، فعملتُ في قطعه اثنتي عشرة سنة، ثمَّ نظرتُ فإذا في باطني زُنَّارٌ آخر، فعملت في قطعه خمس سنين، فكُشف لي عن الحقائق، فرأيتُ الخلق موتى، فكبَّرت عليهم أربعَ تكبيرات (¬7). وقيل له: بأيِّ شيءٍ وجدتَ هذه المعرفة، فقال: ببطنٍ جائع، وبدنٍ عار (¬8). ¬

_ (¬1) انظر صفة الصفوة 4/ 112. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال له رجل. (¬3) طبقات الصوفية ص 70. (¬4) كذا في (خ) و (ف)، وقوله الأخير لم يرد في (ب). وفي طبقات الصوفية ص 70، وحلية الأولياء 10/ 36، ومناقب الأبرار 1/ 188: بمحبتهم. (¬5) في (خ) و (ف). ليكلم به الناس. والمثبت من (ب) وطبقات الصوفية ص 71، ومناقب الأبرار 1/ 188. (¬6) طبقات الصوفية ص 72، ومناقب الأبرار 1/ 188. (¬7) مناقب الأبرار 1/ 188، والرسالة القشيرية ص 176 - 177. (¬8) طبقات الصوفية ص 74، ومناقب الأبرار 1/ 189، والرسالة القشيرية ص 72.

وقال: العارفُ همُّه ما يُؤمِّل، والزاهدُ همُّه ما يأكُل. وقال: السنَّةُ ترك الدنيا، والفريضةُ الصحبةُ مع المولى (¬1). وسُئِل عن الزهد فقال: ليس له منزلة، ثمَّ ذكر ابتداءَ زهده فقال: كنتُ في الزهد ثلاثة أيام، ففي اليوم الأوَّلِ زهدتُ في الدنيا وما فيها، وفي اليوم الثاني زهدتُ في الآخرة وما فيها، وفي [اليوم] الثالث زهدتُ فيما سوى الله، فلمَّا كان في اليوم الرابع لم يبق لي شيءٌ سوى الله، فهتف بي هاتف؛ يا أبا يزيد، إنَّك لا تقوى معنا، فقلت: هذا الذي أردت، فقال: وَجدتَ وجدتَ (¬2). وقال: دعوتُ نفسي إلى طاعة [الله]، فأبت عليّ، فمنعتُها شربَ الماء سنة. وقال: إنَّ لله تعالى شرابًا يسقيه في الليل قلوبَ أحبابه، فإذا شربُوه طارت قلوبهم في الملكوت الأعلى حبًّا لله تعالى وشوقًا إليه، ثمَّ أنشد: [من الوافر] غرستُ الحبَّ غرسًا في فؤادي ... فلا أسلُو إلى يوم التنادي جرحتُ القلبَ منِّي باتِّصالٍ ... فشوقي زائدٌ والحبُّ بادي سقاني شربةً أحيا فؤادِي ... بكأسِ الحبِّ من بحر الودادِ فلولا الله يحفظُ عارفيه ... لهام العارفونَ بكلِّ وادي (¬3) [قال: ] وسألَه بعضُ أصحابه عن التوكُّل، فقال له: ما تقول أنت [فيه]؟ فقال: إنَّ أصحابَنا يقولون: لو أنَّ السباعَ والأفاعي عن يمينك وشمالك ما تحرَّك سرُّك لذلك. قال أبو يزيد: هذا قريبٌ، ولكنِّي أقول: لو أنَّ أهل الجنَّة في الجنة يتنعَّمون، وأهلَ النار في النار يعذَّبون، ثمَّ وقع لك تمييزٌ بين الفريقين، لخرجتَ من التوكُّل (¬4). [قال: ورأى أبو يزيد رجلًا يسوقُ حمارًا، فقال: ما حِرْفتُك؟ فقال: خربنده (¬5). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 189، وطبقات الصوفية ص 74. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 189 - 190، والرسالة القشيرية ص 73. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 191. وذكر الأبيات ابن الملقن في طبقات الأولياء، ص 401 - 402. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 192، والرسالة القشيرية ص 271. (¬5) أي: حارس الحمار. المعجم الذهبي ص 235.

فقال أبو يزيد: أماتَ الله حمارك لتكون عبد الله لا عبد الحمار (¬1). قال: ] وأرسل إليه ذو النون المصري يقول: يا أخي [إلى] متى النوم والراحة وقد سارت (¬2) القافلة؟ فقال أبو يزيد لرسوله: قل لأخي ذي النون: ليس الرجلُ من يقومُ طولَ الليل ثمَّ يسبقُ إلى المنزل، إنَّما الرجل من ينام طول الليل على فراشه، ثمَّ يصبحُ وقد سبقَ القافلة، فبكى ذو النون وقال: هذا كلامٌ لا تبلغُه أحوالُنا. [قال: ] وقال له رجل: أنت أبو يزيد؟ فقال: ومن أبو يزيد؟ ومن يعرف أبا يزيد؟ [أبو يزيد] يطلب أبا يزيد فما يجده. وبلغَ ذا النون فقال: رحمَ الله أخي أبا يزيد، فقدَ نفسه في الذاهبين (¬3) إلى الله تعالى. وقال: أولياءُ الله عرائسُ مخدَّرون عنده في حِجَال (¬4) الأُنس، لا يراهُم أحدٌ لا في الدنيا ولا في الآخرة. وقال: حظوظُ الأولياء في أربعة أشياء؛ الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، فمتى فني عنها بعد ملابسته إيَّاها فهو الكامل، [و] بيانه: من كان حظُّه من اسمه [في] الظاهر، لاحظَ عجائب قدرته، ومن كان حظُّه من اسمه [في] الباطن، شاهد ما يجري في السرائر، ومن كان حظُّه من اسمه الأوَّل، كان شغله بالسوابق، ومن لاحظَّ له إلَّا في الآخر، صار مرتبطًا بالمستقبل، وكلٌّ كُوشف (¬5) على قدرِ طاقته. وسئل عن المعرفة فقال: {قَالتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34]. وقال: للخلقِ أحوالٌ، ولا حال للعارف؛ لأنَّه مُحيَت رسومُه، فلا يشاهدُ في يقظته ونومه غيرَ الله تعالى (¬6). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 192. وما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في مناقب الأبرار 1/ 192، والرسالة القشيرية ص 324: وقد جازت القافلة. (¬3) في (ب): الراغبين، وانظر مناقب الأبرار 1/ 88 (ترجمة ذي النون المصري). (¬4) في (خ) و (ف): حجاب. والمثبت من (ب) وحلية الأولياء 10/ 40، ومناقب الأبرار 1/ 192. وحجال العروس: بيتٌ يزيَّن بالثياب والأسرَّة والسُّتور. مختار الصحاح (حجل). (¬5) في (خ) و (ف): وكل من كوشف. وفي (ب): وكان كوشف. والمثبت من مناقب الأبرار 1/ 193، والرسالة لقشيرية ص 405. (¬6) انظر مناقب الأبرار 1/ 193، والرسالة القشيرية ص 473.

وسئل عن المحبَّة فقال: استقلالُ الكثير من نفسِك، واستكثارُ القليل من حبيبِك (¬1). وقال أبو موسى الديلمي (¬2): سألت عبد الرَّحمن بن يحيى عن التوكُّل، فقال: لو أدخلتَ يدَك في فم التنين، حتى تبلغَ إلى الرسغ، لا تخافُ غير الله، قال: فخرجتُ إلى أبي يزيد لأسأله عن التوكُّل، فطرقتُ عليه الباب، فقال: قد كان لك في جواب عبد الرَّحمن كفاية، فقلت: افتح، فقال: ما أتيتني زائرًا، وقد أتاكَ الجوابُ من وراء الباب، ولم يفتح لي، [قال: ] فغبتُ عنه سنةً ثمَّ أتيتُه، فطرقتُ عليه الباب، فقال: مرحبًا، الآن أتيتَ زائرًا، وفتحَ لي، فأقمتُ عنده شهرًا لا يخطرُ بقلبي شيءٌ إلَّا أخبرني به، فقلت له عند وداعي إياه: أفدني فائدة، فقال: أخبرتني أمِّي أنَّها كانت حاملًا بي، فكانت إذا قُدِّم إليها طعام فيه شبهةٌ انقبضت يدُها عنه. [فإن قيل: فهذا الجوابُ لا يطابقُ السُّؤال، قلت: هذا جوابٌ عن إخبار أبي يزيد عمَّا كان يخطرُ له، فإنَّ من منعَ الله أمَّه وهي حاملٌ به عن تناول الحرام، لا يبعدُ منه أن يتكلَّم عن الخواطر والأوهام. وقال في "المناقب": كتب يحيى بنُ معاذ إلى أبي يزيد: ] (¬3) سكرتُ من كثرة ما شربت من كأس محبَّته، فكتب إليه أبو يزيد: غيرُك شربَ بحار السماوات والأرض وما روي بعدُ، ولسانُه خارجٌ على صدره، وهو يصيح: العطش العطش، وأنشد [في ذلك: ] [من الوافر] عجبتُ لمن يقول ذكرتُ ربِّي ... وهل أنسى فأذكر ما نسيتُ شربتُ الحبَّ كأسًا بعد كأس ... فما نَفِدَ الشرابُ ولا رويتُ (¬4) وقال: إنَّ لله عبادًا لو احتجبَ عنهم في الدنيا أو في الجنَّة لحظةً، لاستغاثوا كما يستغيثُ أهل النار [في النار]. ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 193، والرسالة القشيرية ص 483. (¬2) في (خ) و (ف): الدنبلي، وفي مناقب الأبرار 1/ 193: الديبلي. والمثبت من (ب) والرسالة القشيرية ص 375. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وكتب إلى يحيى بن معاذ الرازي. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 193 - 194.

وقال: إنَّ الله خلقَ إبليسَ كلبًا من كلابه، وخلقَ الدُّنيا جيفةً، ثمَّ أقعدَ إبليس على آخر طريق الدنيا وأوَّل طريقِ الآخرة، وقال له: كلُّ مَن مال إلى الجيفة، فقد سلَّطتُك عليه (¬1). [حديث الطَّاس والعسل والشعرة: حكى القاضي الدامغانيُّ في "مجرَّد الحكايات" عن أبي يزيد البِسطاميّ قال: كنتُ جالسًا يومًا وعندي أربعةٌ من الصَّالحين، فأتي بَطاسٍ فيه عسلٌ، وإذا فيه شعرةٌ، فوُضِعَ بين أيدينا، فقال أبو يزيد: طاسٌ حسنٌ، وعسلهُ حلوٌ، وشعرةٌ دقيقةٌ، فليقل كلُّ واحدٍ منكم في هذا شيئًا. فقال واحدٌ منهم: الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر أحسنُ من هذا الطَّاس، وحلاوةُ العلمِ أحلَى من هذا العسل، وصدقُ الدَّعوى أدقُّ من هذه الشعرة. وقال الثاني: العقلُ أحسنُ من هذا الطَّاس، وكتابُ الله أحلَى من العسل، وطريقُ الحُجَّة أدقُّ من هذه الشعرة. وقال الثالث: اليقينُ أحسنُ من هذا الطَّاس، والعلمُ أحلى من هذا العسل، وطريقُ الورعِ أدقُّ من هذه الشعرة. وقال الرابع: الآخرة أحسن من هذا الطَّاس، ونعيمُ الجنَّة أحلى من هذا العسل، وطريقُ الأولياء إلى الله أدقُّ من هذه الشعرة. فقالوا لأبي يزيد: فما تقول أنت؟ فقال: المعرفةُ في قلوب العارفين أحسنُ من هذا الطَّاس، ورؤيةُ المحبِّين لله أحلى من هذا العسل، وطريقُ الصدق أدقُّ من هذه الشعرة. ذكر قصَّة الشابِّ الذي ماتَ عند رؤيته: ذكر ابن خميس في "المناقب"، والغزاليُّ في "الإحياء"، وصاحب "القوت"، وغيرهم عن بعض أصحاب أبي يزيد قال: ] (¬2) كان عندي شابٌّ متعبِّدٌ ملازمٌ للخلوة، ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 194، وطبقات الأولياء ص 402. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): وقال بعض أصحاب أبي يزيد.

فقلت له: هل رأيتَ أبا يزيد؟ فقال: لا، فتركتُه أيَّامًا وأعدتُ عليه القول، فقال: لا، فلمَّا أكثرتُ عليه قال: رأيتُ الله، فأغناني عن أبي يزيد، [قال: فكررتُ عليه القول، وهو لا يزيدُ على هذا، فأغضبني، فقلت: ] لو رأيتَ أبا يزيدٍ مرَّةً [كان أنفعَ لك من رؤية الله سبعين مرَّة]، فقال: قم بنا إليه، فخرجنَا نطلُبه، وإذا به قد خرجَ من النهر وفروتُه مقلوبةٌ على كتفه، فلمَّا رآهُ الشاب صاح ومات، فقلت لأبي يزيد: ما هذا، فإنَّه ذَكر أنَّه يَرى الله وما مات، يراك فيموت؟ ! فقال: نعم، كان يرى الله على قدرِ حاله، فلمَّا نظرَ إليَّ رأى الله على قدر حالي، فلم يثبت (¬1) فمات، [قال: ثمَّ واريناه] (¬2) فغسَّلناه وكفَّنَّاه، وصلَّى عليه، ودفنَهُ وبكى (¬3). [حديث حجِّه وما جرى له: ذكر ابن خميس في "المناقب" طرفًا من ذلك فقال: ] قال أبو يزيد: حججتُ أوَّل مرَّةٍ فرأيتُ البيتَ ولم أرَ صاحبَ البيت، وحججتُ ثانيًا فرأيتُ صاحبَ البيت ولم أر البيت، وحججتُ ثالثًا فلم أرَ البيت ولا صاحبَ البيت ولا الناس. [هذا صورةُ ما ذُكر في "المناقب" (¬4)، وذُكِرَ في كتابٍ جمعَهُ عبدُ الحقّ البغدادي الحرميّ تمام الحكاية، فرواه عن أشياخه قالوا: قال أبو يزيد: ] فقلت: من مثلي، وقد وصلتُ إلى هذه الحالة، وعجبتُ، فهتفَ بي هاتفٌ: أعجبت، اذهب فلا حاجةَ لنا فيك، [قال: ] فتِهتُ أيَّامًا في البادية على وجهي، لا آكلُ ولا أشربُ ولا أنام، فمررتُ بديرٍ فيه راهبةٌ، فقلت [لها: ] ها هنا مكانٌ طاهرٌ أصلِّي فيه؟ فقالت: طهِّر قلبَك وصَلِّ حيث شئت [قال: ] فدخلتُ ديرًا، فرأيتُ قومًا يعبدون الصليب، فغرت (¬5) وقلت: ويحكم أتعبدون ما يضرُّ ولا ينفع، وتَدَعُون عبادةَ من ينفعُ ولا يضرّ، فهتفَ بي ذاك الهاتف: نحنُ في غنى عن نصحك، اذهب فلا حاجةَ لنا فيك، فقلت: ما بقيَ بعد هذا حديث، ثم قلت لراهبٍ: ناولني زُنَّارًا، فناولني، فقلت: ما بقيَ غير شدِّ الزُّنَّار، ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): يلبث، والمثبت من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): ثم قال واره. (¬3) انظر الخبر بنحوه في إحياء علوم الدين 4/ 356، وقوت القلوب 2/ 70. (¬4) 1/ 196. (¬5) في (خ): فعبرت.

فأدخلت يديَّ في أكمام مرقعتي، وقلت: أرمي بها وأشدُّ الزُّنَّار، ولم يبقَ إلَّا أن أُخرِجَ رأسي من مرقعتي، فهتف بي الهاتف: لا يا أبا يزيد، ما وصلَ الحالُ إلى هذا، وإنَّما نحن نَعْلَمُ أنَّك تحبُّنا، فنتدلَّلَ عليك. وأنشدوا في هذا المعنى: [من البسيط] قالت لطيفِ خيالٍ زارَها ومَضى ... بالله صفهُ ولا تنقص ولا تزدِ فقال خلَّفته لو ماتَ من عطشٍ ... وقلت قفْ عن ورودِ الماء لم يردِ قالت صدقتَ الوفا في الحبِّ عادتُه ... يا بردَ ذاك الذي قالت على كبدِي ذكر وفاته: [قالت علماء السير: توفِّي أبو يزيد في هذه السنة ببِسْطَام] (¬1) وقبره ظاهرٌ يزار. [قال أبو نُعيم: ] وإذا أجدبُوا استسقَوا به فسُقُوا. وكان له يوم مات ثلاثةٌ وسبعون سنة. وقد أسندَ الحديث (¬2)، وأخرجَ له أبو نُعيم حديثًا واحدًا (¬3)، وأخرج له غيره أحاديث (¬4)، واشتغَل بحاله عن رواية الحديث رحمة الله عليه ورضوانه. فصل: قال المصنِّفُ رحمه الله: وقد نقلتُ عنه ألفاظًا من باب الشطح والدعاوى، والجوابُ مختصر؛ وهو أن للمشايخ أحوالًا، حالُ قبض وبسط، وفناء وبقاء، وقد يطرأُ على الإنسان أحوالٌ فتغيِّبه عن الموجودات. وقيل للجنيد: قد قال أبو يزيد: سبحاني! فقال: الرجل مستهلَكٌ في شهود الجلال، أذهلَه الحقُّ عن رؤية ما سواه، فوصفَه بما لا يليقُ إلَّا به سبحانه (¬5). وفي الحديث: لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو رأوكم لقالوا: ما آمنوا ... (¬6) وفصلُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). وفي (خ) و (ف): توفي ببسطام. (¬2) بعدها في (ب): والله أعلم بالصواب. السنة الثانية والستون بعد المئتين. (¬3) حلية الأولياء 10/ 41. وقال أبو نعيم بعده: وهذا الحديث ممَّا رُكِّبَ على أبي يزيد. . . (¬4) قال ابن الجوزي في صفة الصفوة 4/ 113: ووجدت أنا لأبي يزيد ثلاثة أحاديث أخر مسندة، منها حديثان لا يثبتان، فلم أذكرهما، والثالث قريب حاله، فاقتصرت عليه. . . وذكره. (¬5) انظر كلام الذهبي في التعليق (5) الصفحة الآتية. (¬6) في (خ) و (ف) بياض بمقدار كلمتين. والحديث لم أقف عليه مرفوعًا، وذكره الغزالي في الإحياء 3/ 18، والمناوي في فتح القدير 2/ 79 من قول الحسن البصري. وتمامه: لقد أدركنا أقوامًا لو رأيتموهم لقلتم: =

الخطاب -إن صح ما ذكروا-[عنه في] (¬1) هذا الباب أنَّ للرجل حالين، حال بسطٍ وحال قبض، ففي حالة البسط ينطقُ عن وجده بلسان الفناء [وفي حالةِ القَبْضِ ينطق] (¬2) بما يردُ عليه من الواردات، فيغيبُ عن الموجودات فلا يشاهدُ إلَّا مُوجِدَها، وهذه الأحوالُ ينكرُها من لا يعرفها، ويعرفها من لابَسها: يَعرِفُهُ (¬3) الباحِثُ من جِنْسِه ... وسائرُ الناسِ له مُنكِرُ وهذا الرجلُ - رضي الله عنه - كان يغرفُ من بحرٍ عميق لا يزاحمُه فيه غيره، ولا يفهمُه إلَّا من حصلَ له من الذوقِ ما حصل له، ثمَّ إنَّ الأقوال التي نُقِلت عنه من هذا، إن صحَّت عنه، فهي متأوَّلَةٌ (¬4) محتمِلةٌ، والله أعلم (¬5). وكان في محلَّة أبي يزيد فقيهٌ، فبلغَه عنه ميل، فجاء إليه فقال: يا أبا يزيد، بلغني عنك أعاجيب، قال له: وما لم تسمع من عجائبي أكثر، فقال له الرجل: فعلمك هذا عمَّن أخذته؟ ومن أين؟ فقال أبو يزيد: علمي من عطايا الله تعالى، وعن الله، ومن حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العلمُ علمان، علمٌ ظاهرٌ وعلمٌ باطن، فالظاهرُ حجَّةُ الله على خلقه، والباطنُ هو العلم النافع" (¬6)، و"من عمل بما علِمَ ورَّثه الله علم ما ¬

_ = مجانين، ولو أدركوكم لقالوا: شياطين. (¬1) في (خ) و (ف) بياض بمقدار كلمتين، وما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في (خ) و (ف) بياض بمقدار كلمتين، وما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬3) في (خ): تعرف. (¬4) في (ف): تناوله. وهي في (خ) غير منقوطة، ولعلَّ المثبت هو الصواب. (¬5) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 13/ 88: وجاء عنه أشياء مشكلة لا مساغ لها، الشأن في ثبوتها عنه، أو أنَّه قالها في حال الدهشة والسكر، والغيبة والمحو، فيطوى، ولا يحتج بها، إذ ظاهرها إلحاد، مثل: سبحاني، و: ما في الجبة إلا الله. . . اهـ. وقال أيضًا في تاريخ الإِسلام 6/ 346: وقد نقلوا عنه أشياء من متشابه القول، الشأن في صحتها عنه، ولا تصح عن مسلم، فضلًا عن مثل أبي يزيد، منها: سبحاني. . . . وهذا الشطح إن صحَّ عنه فقد يكون قاله في حالة سكره. . . (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (35502 - عوامة)، والحسين المروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك (1161)، والدارمي في سننه (365)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1150) عن الحسن مرسلًا. وصحح إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (139). وأخرجه الدارمي (364) من قول الحسن. وأخرجه الخطيب البغدادي 5/ 568، ومن طريقه ابن الجوزي في العلل المتناهية (88) عن الحسن عن جابر مرفوعًا. =

عبد الله بن محمد

لم يعلم" (¬1)، فعلمُك من أين؟ ! إنَّما هو نقلٌ من لسانٍ إلى لسان، وعلمي إلهام من الله تعالى ألهمني إيَّاه [فقال] (¬2) الشيخ: علمي من الثقات كابرًا عن كابر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل، عن الله تعالى، فقال أبو يزيد: فهل لله علم لم يطَّلع عليه جبريل ولا المقرَّبون؟ قال: نعم، قال: فتُنْكِرُ (¬3) أن يلهمَ الله أولياءه من ذلك العلم ويلقيه في أسرارِهم حتى ينطقُوا بالحكمة فينفعُوا الأمَّة، ألم تعلم أنَّ الله ألهم أمَّ موسى أنْ صنعت التابوتَ، وألقتهُ في اليمّ، حتى وصلَ إلى فرعون، وجرى ما جرى؟ أمَّا علمتَ أنَّ الله تعالى ألهمَ الخضر أمر السفينة والجدار والغلام وما جرى؟ أمَّا علمتَ أنَّ الله ألهم يوسف في السجن تعبيرَ الرؤيا حتى قال: ذلك مما علَّمني ربِّي، وكمَا ألهمَ أبا بكر - رضي الله عنه - حتى قال لعائشة - رضي الله عنهما -: إنما هما أخواك وأختاك (¬4)، وكما ألهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأن قال: يا ساريةُ الجبل، فسمعَه سارية، وبينهما مسافةٌ طويلة (¬5)، وذلك إنَّما هو من علم الله الخفيّ، قال الله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، فأهلُ الإلهام قومٌ اختصَّهم الله تعالى بالفوائد، وفضَّل بعضَهم على بعض في الإلهام والفراسة، فقال له الشيخ: جزاكَ الله عنِّي خيرًا، فلقد أفدتَنِي علمًا، وشفيتَ صدري (¬6). عبد الله بن محمد ابن يزداد، أبو صالح الكاتب المروزيّ. وزر أبوه للمأمون، ووزرَ هو للمستعين والمهتدي، وكان فاضلًا شاعرًا. قدم دمشق في صحبة المتوكِّل، ومدحَهُ البحتريُّ وغيره. ¬

_ = قال ابن الجوزي: وفيه يحيى بن يمان، قال أحمد: ليس بحجة في الحديث، وقال أبو داود: يخطئ في الأحاديت ويقلبها. وأخرجه ابن الجوزي أيضًا في العلل (89) عن أنس مرفوعًا، وقال: وفيه أبو الصلت، وهو كذاب بإجماعهم. (¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية 10/ 15 من حديث أنس - رضي الله عنه - وضعفه، وانظر الفوائد المجموعة 1/ 286. (¬2) في (خ) و (ف) بياض استدركته من مناقب الأبرار 1/ 195، وانظر تلبيس إبليس ص 311. (¬3) في (خ) و (ف): فتذكر. ولعل المثبت هو الصواب. (¬4) أخرجه مالك في الموطأ 2/ 752. والمقصود منه أنَّه بشَّرها بأختها أم كلثوم وهي ما زالت في بطن أمها. (¬5) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 6/ 370. (¬6) مناقب الأبرار 1/ 196 - 197، وانظر كلام ابن الجوزي حول هذا الخبر في تلبيس إبليس ص 311 - 312.

عبد الرحمن بن المتطبب

ومن شعره يفتخر لمَّا وزرَ أبوه للمأمون، وولَّاه أمورَ بني هاشم: [من الخفيف] إنَّ بيتي من الأكاسرة الغُر ... ر مكانًا تحلُّه العَيُّوقُ (¬1) ولنا من ولاء أحمد خير الـ ... ـناس ما نحوه النفوس تتوقُ تتلظَّى الأعداءُ شحًّا عليه ... ما لهمْ من جُمَالةٍ ثُفْروقُ (¬2) والإمامُ المأمونُ آكد منه ... سببًا قادَه له التوفيقُ ومن شعره في جارية كان يهواها: [من الخفيف] ضاق صدري لما بعُدْتَ ولو كنـ ... تَ قريبًا إذًا لما ضاقَ صدرِي يا خليًّا ممَّا ألاقيهِ فيه ... ليس بالحُبِّ والصبابةِ تدرِي (¬3) ومن شعره: [من البسيط] لا تجحد الذنب ثمَّ اطلبْ تجاوزَنا ... عنه فإنَّ جحودَ الذنب ذَنْبانِ وامحُ الإساءةَ بالإحسان معترِفًا (¬4) ... إنَّ الإساءةَ قدُ تمحَى بإحسانِ توفِّي ببغداد، وكان مختفيًا لما قُتِل المهتدي، فلم يصدِّقوا موته، وكان قد دفنَ في داره، فنبشُوه ونظروا إليه، ثمَّ ردُّوه في قبره (¬5). عبد الرَّحمن بن المتطبِّب (¬6) كان يَطُبُّ الإمام أحمد وبشرًا الحافي، قال: فكنت إذا دخلتُ على بشر أقول له: كيف تجدكَ يا أبا نصر؟ فيحمدُ الله، ثمَّ يخبرني، يقول: أحمدُ الله إليك، أجدُ كذا وكذا، فأدخلُ على الإمام أحمد فأقول: كيف تجدكَ يا أبا عبد الله؟ فيقول: بخير، ¬

_ (¬1) العَيُّوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن، يتلو الثريا لا يتقدمها. القاموس (عوق). (¬2) الجمالة: الطائفة من الجمال. والثفروق: قمع التمرة أو ما يلتزق به قمعها. ويقال: ما له من ثفروق، أي: ما له شيء. انظر القاموس (جمل)، (ثفرق). (¬3) بعده في مختصر تاريخ دمشق 13/ 339 - وترجمته فيه -: بأبي وجهكَ الذي لم يزل لي ... قائمًا عند من يلومُ بعُذري (¬4) في مختصر تاريخ دمشق 13/ 339: مقتبلًا. (¬5) وانظر ترجمته أيضًا في سير أعلام النبلاء 12/ 339 - 340، والوافي بالوفيات 17/ 494 - 495. (¬6) كذا في (خ) و (ف)، وفي تاريخ بغداد 11/ 567: عند الرحمن الطبيب، وفي المنتظم 12/ 167: عبد الرحمن المتطبب.

مسلم بن الحجاج بن مسلم

فقلت له يومًا: إنَّ أخاكَ بشرًا عليل، وإذا سألتُه عن حاله بدأ بحمد الله ثمَّ يخبرني، فقال أحمد: سله عمَّن أخذ هذا؟ فقلت: إني أهابُه، فقال: قل له: أخوك أحمد يقول لك: عمَّن أخذت هذا؟ فدخلتُ على بشر، وقلت له ما قال الإمام أحمد، فقال لي: أبو عبد الله لا يريدُ الشيءَ إلَّا بإسناد، أخبرنا [أزهر، عن (¬1)] ابن عون، عن ابن سيرين قال: إذا حمدَ الله العبدُ قبل الشكوى لم تكن شكوى، وإنَّما أقول لك: أجد كذا وكذا؛ لأُعَرِّفكَ قدرةَ الله فيَّ، قال: فخرجتُ من عنده، فدخلتُ على الإمام أحمد، فعرَّفته ما قال، فكنتُ بعد ذلك إذا دخلتُ عليه أسأله يقول: أحمدُ الله إليك، ثمَّ يذكرُ ما يجد. مسلم بن الحجَّاج بن مسلم أبو الحسين النيسابوريُّ القُشيريُّ، صاحب "الصحيح". ولد بنَيسابور، ولم يُضْبط مولده، والظاهرُ أنَّه وُلِد سنة ستٍّ ومئتين (¬2)؛ لأنَّه ماتَ وهو ابن خمسٍ وخمسين سنة. هو أحدُ الأئمَّة، رحلَ إلى العراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد مرارًا، وحدَّث بها، وآخرُ قدومه إليها في سنة تسعٍ وخمسين ومئتين، واقتفَى في جمع "الصحيح" طريقَ البخاريّ؛ لأنَّه لازمَه في آخر عمره، وصنَّفَ المصنَّفات الحسان، فمنها "الجامع الصحيح المسند" قال: جمعتُه من ثلاثِ مئة ألف حديث صحيحة مسموعة، وكتاب "طبقات التابعين"، و"الأسماء والكنى"، و"المسند الكبير على الرجال"، وما أظنُّ أنه سمعه منه أحد (¬3)، وكتاب "الجامع الكبير" على الأبواب، وكتاب "التمييز"، وكتاب "العلل"، وكتاب "الأفراد"، وكتاب "سؤالات الإمام أحمد بن حنبل" رحمة الله عليه، وكتاب "الانتفاع بأُهُبِ السباع"، وكتاب "عمرو بن شعيب" يذكر فيه من لم يحتجَّ بحديثه وما أخطأ فيه، وكتاب "مشايخ مالك بن أنس"، وكتاب ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "تاريخ بغداد 13/ 568، والمنتظم 12/ 168. (¬2) في (خ) و (ف): ست وخمسين. وهو تحريف قبيح. قيل: إنَّه ولد سنة أربع ومئتين. انظر سير أعلام النبلاء 12/ 558، وتهذيب الكمال 27/ 507. وليس فيهما غير هذا القول. (¬3) قوله: وما أظن أنه سمعه منه أحد. من كلام الحاكم. انظر سير أعلام النبلاء 12/ 579.

"مشايخ الثوري" وكتاب " [مشايخ] (¬1) شعبة"، وكتابٌ ذكرَ فيه من ليس له إلَّا راوٍ واحد، وكتاب "ذِكْرُ أوهام المحدثين"، وكتاب "المخضرمين"، وكتاب "أولاد الصحابة"، وكتاب "تفضيل السن" (¬2)، وكتاب "أفراد الشاميين"، وكتاب "المعرفة"، وغير ذلك. وسئل أبو العباس بن عُقْدة: أيُّما أعلم الإمام البخاريُّ أو مسلم؟ فقال: البخاريُّ يقع في حديثه الغلطُ في أهل الشام، فتارةً يذكرُ الواحدَ منهم بكنيتِه، وتارةً باسمه، ويتوهَّم أنَّهما اثنان، ومسلم ما يقع الغلطُ في حديثه (¬3). وكان أبو [عليّ] (¬4) الحسين بن علي النيسابوري يحلفُ بالله: ما تحتَ أديم السماء مثلُ كتاب مسلم ولا أصح (¬5). قال المصنف رحمه الله: ومع هذا فيه أحاديثُ فيها نظر مثلُ حديث أبي ذر في المعراج، قال: قلت: يا رسول الله، رأيتَ ربَّك؟ فقال: "نورٌ أنَّى أراه" (¬6)، وقد ضعَّفَه ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من سير أعلام النبلاء 12/ 579، والمنتظم 12/ 172. (¬2) في المنتظم 12/ 172: تفضيل السنن. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 124 وقال الخطيب: قلت: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه، ولما ورد البخاريُّ نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه، وقد حدثني عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال: سمعت أبا الحسنن الدارقطني يقول: لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء. (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 15/ 123، وتاريخ دمشق 67/ 216 (طبعة مجمع اللغة) وغيرها. (¬5) قال الإمام ابن الصلاح في علوم الحديث ص 18 - 19: وأما ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري أستاذ الحاكم أبي عبد الله الحافظ من أنه قال: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج، فهذا وقول من فضَّل من شيوخ المغرب كتابَ مسلم على كتاب البخاري، إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجح بأنه لم يمازجه غير الصحيح، فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودًا غير ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندها على الوصف المشروط في الصحيح؛ فهذا لا بأس به، وليس يلزم منه أن كتاب مسلم أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح على كتاب البخاري، وإن كان المراد به أن كتاب مسلم أصح صحيحًا فهذا مردود على من يقوله، والله أعلم. ورجح النووي في إرشاد طلاب الحقائق 1/ 118 قول الجمهور في تفضيل صحيح البخاري على مسلم، ثم قال: واختص مسلم بفائدة، وهو أنه يجمع طرق الحديث في مكان واحد. وانظر مقدمة النووي على شرحه لمسلم 1/ 14 - 15. (¬6) صحيح مسلم (178): (291).

الإمامُ أحمد (¬1). وكان محمدُ بن يحيى الذُّهْليّ يكرهُ مسلمًا لميلِه إلى البخاريّ، قال الحافظ محمَّد بن يعقوب: لمَّا صنَّف مسلمٌ كتاب "الصحيح" دخل على محمَّد بن يحيى الذُّهْلي، فوضعه بين يديه، فقال له: ما هذا؟ قال: "الصحيح"، قال: وكم فيه حديث؟ قال: عشرةُ آلاف حديث، قال: اقتفيتُ أنا ومحمد بن إسماعيل أحاديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفا ألف حديث، ما صحَّ منها سوى عشرة آلاف حديث، فيقال: إنَّ محمدًا ألقاه في بركةٍ بين يديه (¬2). ولمَّا استوطن البخاريُّ نَيسابور، ووقعَ بينه وبين محمد بن يحيى الذُّهْلِي في مسألة اللفظ، ونادى عليه، ومنعَ الناس عنه، لم ينقطع مسلمٌ عن البخاريّ، ولزمَه، فحضرَ مسلمٌ يومًا عند محمد بن يحيى فقال: من قال بأنَّ لفظي بالقرآن مخلوقٌ فلا يقربنَّ مجلسَنا، وكان مسلم يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، ولا يخفيه، فأقامَه محمدٌ من مجلسه، فمضى مسلمٌ إلى منزله (¬3)، وجمع جميع ما سمعَ من محمد بن يحيى، وبعثَ به على ظهر حَمَّالٍ إلى باب محمد بن يحيى، فألقَاه ومضى. ذكر وفاته: اتَّفقوا على أنه ماتَ في رجب سنة إحدى وستين ومئتين، ودُفن بنَيسابور في ميدان زياد. وقال أحمد بن سلمة: عُقِد لمسلم مجلس المذاكرة، فذكر له حديثٌ لم يعرفه، ¬

_ (¬1) نقل تضعيفه العراقي في المغني عن حمل الأسفار 4/ 312 ونصه: ما زلت له منكرًا. اهـ. ونقل العراقي أيضًا قول ابن خزيمة في الحديث: في القلب من صحة إسناده شيء. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (21392) وبعده: يعني على طريق الإيجاب. قال محققو المسند وقوله في آخر الحديث: يعني على طريق الإيجاب، يظهر أنه من كلام عبد الله بن أحمد أو من كلام الإمام أحمد، وحينئذٍ تُقرأ الكلمة: نورانيّ أراه. ثم نقلوا عن ابن تيمية تصريحه بأنَّه تصحيف، وانظر شرح صحيح مسلم للنووي 3/ 12، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 6/ 507 - 508. وينظر حديث مسلم الذي بعده برقم (178): (292)، ولفظه: "رأيت نورًا". (¬2) كذا وقع الخبر في (خ) و (ف)، ولم أقف عليه فيما بين يدي من المصادر. (¬3) في تاريخ بغداد 15/ 125، وتاريخ دمشق 67/ 219 (طبعة مجمع اللغة) أن مسلمًا لما سمع قول يحيى أخذ الرداء فوق عمامته، وقام على رؤوس الناس وخرج من مجلسه.

فانصرفَ إلى منزله، وأوقدَ السِّراج، وقال لمن في الدار: لا يدخلنَّ أحدٌ منكم هذا البيت، فقيل له: أُهِديت لنا سلَّةٌ فيها تمرٌ، فقال: قدِّموها إليّ، فقدَّموها إليه، فكان يأكل تمرةً تمرة، فأصبح وقد فنيَ التمرُ ووجدَ الحديث (¬1). وقال ابن عساكر: أقامَ مسلمٌ ليلةً يفتِّش على حديثٍ، وبينَ يديه سلَّة من تمر، فلم يزل يفتِّشُ عليه ويأكلُ من السلَّة، حتَّى لم يبقَ فيها شيء، فماتَ (¬2)، وذلك لخمسٍ بقينَ من رجب (¬3). أسندَ عن خلقٍ كثير، منهم الإمامُ أحمد، ومحمد بن يحيى الذُّهْلي، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، ورَوى عنه خلقٌ كثير، منهم يحيى بن محمد، ومحمد بن مَخْلَد، وصالح بن محمد، في آخرين. وكان مسلمٌ (¬4) أبيضَ الرأس واللحية. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 125، وتاريخ دمشق 67/ 219. (¬2) لم أقف على الخبر بهذا السياق في تاريخ ابن عساكر، وإنما ذكر ما قبله. والله أعلم. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 125، وتاريخ دمشق 67/ 219. (¬4) في (خ) و (ف): أبو مسلم؟ ! والمثبت من المنتظم 12/ 171.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [16]

السنة الثانية والستون بعد المئتين

السنة الثانية والستون بعد المئتين (¬1) فيها وافى يعقوبُ بن اللَّيث الصفَّار رامَهُرْمُز (¬2) في المحرَّم، وقيل: في ربيع الأوَّل، فأطلق المعتمدُ مَن كان في حبسه من أصحابه، لأنَّه لما حبس محمَّدَ بن طاهر حبس المعتمدُ مَن كان عنده ممَّن يلوذ بيعقوبَ؛ مثل غلامه وَصيف وغيرِه. وولَّى المعتمدُ يعقوبَ خُراسان، وطَبَرِستان، وجُرجان، والرَّيّ، وفارس، والشُّرطةَ بمدينة السلام، وبلغ يعقوبَ، فقال: لا أرضى بهذه الولايات حتَّى أصيرَ إلى باب أمير المؤمنين، وأضمرَ في نفسه الحُكمَ على الخليفة، والاستيلاءَ على العراق والأموال، مضافًا إلى ما كان بيده من المشرق كلِّه ومن وراء النَّهر، وعلم المعتمدُ قَصْدَه، فارتحل من سُرَّ مَنْ رأى يوم السَّبت لثلاثٍ خلون من جمادى الآخرة، واستخلف على سامراءَ ابنَه جعفرًا المفوَّض، وضمَّ إليه محمدًا المولَّد. ووافى بغدادَ يوم الأربعاء لأربع عشرةَ خلت منه ولم ينزلها، ونزل بالزَّعْفَرانيّة، وقدَّم أخاه أبا أحمد الموفَّق، وسار يعقوبُ بجيش لم يُرَ مثلُه، وأموالٍ وخزائنَ لم يَحوِها مَلِك، فيقال: كان جيشُه سبعين ألفًا، وخزائنُه وأموالُه على عشرة آلاف جَمَل. ووافى واسِطًا، فدخلها لستِّ بقين من جمادى الآخرة. وارتحل المعتمدُ من الزَّعْفَرانيَّة يومَ الخميس لليلة بقيتْ منه حتَّى صار إلى سِيب بني كُوما، فأقام أيامًا حتَّى جاءه مَسْرور البَلْخيُّ والعساكر، وزحف يعقوبُ من واسِط إلى دَير العاقول نحو المعتمد، فأقام المعتمد في السِّيب على حاله، ومعه عبيدُ الله بن يحيى بن خاقان، وجهَّز أخاه الموفَّق إلى حَرْب يعقوب، فجعل الموفَّقُ موسى بنَ بُغا على ميمنته، ومَسْرورًا البَلْخيَّ على مَيسرته، ووقف هو في القلب، والتقى العَسْكران لثلاثٍ خَلَون من رجب بمكانٍ يقال له: اضطربد؛ بين سِيب بني كُوما ودَير العاقول. فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكانت الهزيمةُ أوَّلًا على الموفَّق، ثمَّ صارت على يعقوب، فكره أصحابُه قتال أصحاب المعتمد فولَّوا مُدْبِرين. ¬

_ (¬1) حقق من هذا الجزء الصفحات 5 - 385 زاهر إسحاق، والصفحات 386 - 454 فادي المغربي، والصفحات 455 - 562 عمار ريحاوي. (¬2) في النسخ: وامهروز، والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 516.

وانهزم يعقوبُ في نَفَرٍ من أصحابه، فذكروا أنَّه أُخذ من عسكره عشرةُ آلاف فرسٍ، ومن العَين ألفا ألف دينار، ومن الدَّراهم ما يعجزون عن حَمْلِه، وعدَّةُ أحمالٍ من الجواهر والمِسْك والعَنْبر، وعشرةُ آلاف خيمة، وثلاثون ألف سرك (¬1)، وخلَّصوا محمَّد بنَ طاهر، وكان مع يعقوب مُثْقلًا بالحديد وخَلع عليه الموفَّقُ، وأعلى مرتبتَه، وكتب المعتمد كتابًا مضمونُه: ولم يزل المَلْعون المارقُ المسمَّى يعقوب بنُ اللَّيث الصفَّار يَنتحل الطَّاعة، حتَّى أحدث الأحداثَ المُنْكَرةَ؛ من مصيره إلى صاحب خُراسان، وغلبتِه إيَّاه عليها، وتقلُّدِه الصَّلاةَ والإحداثَ بها، ومصيرِه إلى فارس مرَّةً بعد مرَّة، واستيلائه على أموالها، وإقباله على أمير المؤمنين مُظْهرًا لطاعته، وفي قلبه الغشُّ بعد أنْ فوَّض إليه أمير المؤمنين خُراسانَ وطَبَرِسْتان وغيرها، فما زاده ذلك إلا طُغيانًا وبَغْيًا، فذاق وَبَال أمرِه، وأخذه اللهُ أخْذَ عزيز مقتدر، فولَّى هو وأصحابُه مهزومين مجروحين مَسلوبين، وذكر بمعناه. ثمَّ عاد المعتمد إلى سُرَّ من رأى، وقيل: إلى المدائن، وصار يعقوبُ إلى فارس، وقدم محمد بنُ طاهر إلى بغداد، ورُدَّ عليه عملُه، فلم يَعزِلْ أحدًا، وأمر له المعتمد بخمس مئة ألف درهم. وقال محمَّد بن علي الطَّائي يمدح الموفَّق ويذمُّ الصفَّار: [من الكامل] ولقد أتى الصَّفار في عَدَدٍ له ... رَهَجٌ فوافَقَهُنَّ (¬2) نَكْبَةُ ناكبِ جلب القضاءُ عليه حَتْفًا عاجلًا ... سَقْيًا ورَعْيًا للقضاء الجالبِ أغواه إبليسُ اللَّعينُ بكَيده ... واغترَّه منه بوَعْدٍ كاذبِ حتَّى إذا اختلفوا وظنَّ بأنَّه ... قد عزَّ بين عَساكرٍ وكتائبِ دَلَفتْ إليه عساكرٌ مَيمونةٌ ... يَلْقَونَ زَحْفًا باللِّواءِ الغالبِ في جَحْفَلٍ لَجِبٍ (¬3) تُرى أبطالُه ... من دارعٍ أو رامِحٍ أو ناشِبِ ¬

_ (¬1) السَّركسي بالتركية: نوع من البُسُط. تكملة المعاجم العربية لدوزي 6/ 67 (سرك). (¬2) في "تاريخ الطبري" 9/ 519: حُسْنٌ فوافتهنَّ. والرَّهْجُ والرَّهَج: الغبار. اللسان (رهج). (¬3) في (خ) و (ف): بحيث؟ ! والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 520. واللَّجَب: صوت العسكر، وعسكر لَجِبٌ: عَرَمْرَمٌ ذو لَجَب وكثرة. اللسان: (لجب).

لما التَقَوْا بالمَشْرَفيَّةِ والقَنا ... ضَرْبًا وطَعْنَ مُحاربٍ لمحاربِ ثار العَجاجُ وفوقَ ذاك غمامةٌ ... غرَّاءُ تَسْكُبُ وَبْلَ صَوْبٍ صائبِ فلَّ الجموعَ برأيِ حَزْمٍ ثابتٍ ... منه وفَرَّق صاحبًا عن صاحبِ يا فارسَ العَرَب الذي ما مثلُه ... في النَّاس يُعْرَفُ مثلُه لنَوائبِ من فادِحِ (¬1) الزَّمَن العَضوض ومِن لُقا ... جيشٍ لذي غدْرٍ خَؤُونٍ غاصبِ وفيها بعث الخبيثُ جيوشَه إلى ناحية البَطِيحة، وسببُه اشتغالُ المعتمد بقتال يعقوب، وخلوُّ كُوَرِ دجلةَ من عساكره، فطمع الخبيث، وبعث عسكره إلى البَطِيحة فنهبها، وأفسدوا، وقتلوا، وأسروا، وأخذوا من البقر والغنم والدَّوابِّ شيئًا كثيرًا، وفيها ولي القضاءَ عليُّ بن محمد بن أبي الشَّوارب بسُرَّ مَنْ رأى، وولي قضاء الجانب الشرقيِّ من بغداد إسماعيلُ بن إسحاق، ثمَّ جُمع له الجانبان (¬2). وفيها تعرَّض رجلٌ لامرأة ببغداد، وأمر مَن يَسحبُها إلى مكانٍ معيَّن، وهي تصيح اتَّقِ الله [اتَّقِ الله] (¬3)، وهو لا يلتفتُ، فقالت: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَينَ عِبَادِكَ} الآية [الزمر: 46] ثمَّ رفعتْ رأسها إلى السَّماء، وقالت: اللهمَّ إنْ كان قد ظلمني فخُذْه إليك، فوقع الرجلُ ميتًا، وانصرفت المرأة. قال أبو عون الفرائضيُّ (¬4): فأنا والله رأيتُ الرَّجل مَيتًا، فحُمِل على نعشه والناس يهلِّلون ويكبِّرون. وفيها غلب يعقوب بن الليث على فارس، وهرب عاملُ المعتمد ابنُ (¬5) واصل إلى الأهواز. وفيها كانت وقعة بين الزَّنْج وأحمدَ بنِ لَيثَوَيه صاحبِ مَسْرورٍ البَلْخي، فقتل من الزَّنْج خلقًا كثيرًا، وأسر قائدهم، ويقال له: الصُّعْلوك. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): فارس. والمثبت من "تاريخ الطبري". (¬2) من بداية السنة إلى هنا ليس في (ب). (¬3) هذه الزيادة وما سيأتي بين معكوفين من (ب). (¬4) في (ب): وقد حكى الحكاية ابن عون الفرائضي وقال. . . والخبر في "المنتظم" 12/ 174. (¬5) في النسخ: من؟ ! والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 527، و"تاريخ الإِسلام" 6/ 243، وهذا الخبر ليس في (ب).

خالد بن يزيد

وحجَّ بالنَّاس الفضل بن إسحاق (¬1) الذي حجَّ بهم عام أوَّل. [والله أعلم]. وفيها توفي خالد بن يزيد أبو الهيثم، التميميُّ، الخُراسانيُّ، الكاتبُ، أحدُ كُتَّاب الجيش ببغداد، وكان فاضلًا شاعرًا، وله [حكايات و] نوادرُ، قَصَده إلى داره إبراهيمُ بن المهدي، فطرق عليه الباب، فخرج وإبراهيمُ راكبٌ على حمار وعليه طَيلَسان، ومعه خادم، فقال له: أنت القائل: [من المنسرح] أقولُ للسُّقمِ عُدْ إلى بَدَني ... حبًّا لِشَيءٍ يكونُ من سَبَبكْ قال خالد: نعم، فقال له: أحبُّ أن تنزل عنه، فقال: وهل ينزل الرَّجل عن ولده؟ فتبسَّم وأعطاه ثلاث مئة دينار. ولقيه أبو تمَّام على بغلة فقال له: أنت القائل: [من المتقارب] رَقَدْتَ ولم تَرْثِ للسَّاهرِ ... وليلُ المحبِّ بلا آخرِ ولم تَدْرِ بعد ذهابِ الرُّقادِ ... ما فعل الدَّمعُ بالنَّاظرِ فقال: نعم. ومن شِعره أيضًا (¬2): [من السريع] يا تاركَ الجِسْم بلا قَلبِ ... إن كنتُ أهواكَ فما ذَنْبي (¬3) يا مُفْرَدًا بالحُسْن أفْرَدْتَني ... منكَ بطُولِ الهَجْر والعَتْبِ إنْ تكُ عيني أبصرتْ فتنةً ... فهلْ على قلبيَ من ذَنْبِ حسيبُكَ اللهُ لما بي كما ... ألقاهُ في فِعلكَ بي حَسْبي وقد نادم المعتصمَ والمتوكِّلَ وغيرَهما، ولمَّا بنى المعتصم قصرَه بسامُرَّاء قال خالد: [من مجزوء الكامل] ¬

_ (¬1) في (ب): الفضل بن العباس، وهو الفضل بن إسحاق بن الحسن بن العباس بن محمد، انظر الطبري 9/ 529. (¬2) من قوله: وله نوادر إلى هنا سقط من (ب). (¬3) في (ب): وذكر الخطيب مقتطفات من شعره منها: يا تارك. . . وهذه الأبيات ليست في "تاريخ بغداد"، وهي في "الأغاني" 20/ 286، و"المنتظم" 12/ 176.

سعدان بن يزيد

عزمَ السُّرورُ على المُقا ... م بسُرَّ مَنْ را للإمامْ وتراه أشبهَ منزلٍ ... في الأرضِ بالبَلَد الحرامْ فاللهُ يَعْمُرهُ بمَنْ ... أضحى به عِزُّ الأنامْ فأعطاه خمسة آلاف درهم. [وقال الخطيب: ] (¬1) عُمِّر خالد دهرًا طويلًا [وكان كاتبًا لجيش المعتمد وغيره ببغداد، وعاش إلى أيام المعتمد]، واختلط في آخر عُمُره، وكان الصِّبيان يَعْدُون خلفه ويصيحون: يا بارد، يا بارد، وهو يقول: وَيحَكُم، كيف أكون باردًا وأنا الَّذي أقول: [من الخفيف] سيِّدي [أنتَ] لم أقلْ سيِّدي أنتَ ... لِخَلْقٍ سواكَ والصَّبُّ عَبْدُ خُذْ فؤادي فقد أتاك بودٍّ ... وهو بِكْرٌ ما افْتَضَّه قطُّ وَجْدُ كَبِدٌ رَطْبةٌ (¬2) يفتِّتُها الوَجْـ ... ـــدُ وخدٌّ فيه من الدَّمع خَدُّ [قلت: من نَسب صاحب هذا الشِّعر إلى الاختلاطِ، فقد ضلَّ عن سواء الصِّراط.] وقيل: إنَّ سبب تغيُّره في آخر عمره أنَّه كان يهوى جاريةً لبعض الأكابر، ولم يَقدرْ عليها، فسمع يومًا قائلًا يُنشد ويقول: [من البسيط] مَنْ كان ذا شَجَنٍ بالشَّام يَطلُبُه ... ففي سوى الشَّام أمسى الأهلُ والوطَنُ فبكى بكاءً شديدًا، ووقع إلى الأرض فخولط، واتَّصل به حتَّى وَسْوَس، ومات رحمةُ الله عليه. سَعْدان (¬3) بن يزيد أبو محمد، البزَّاز (¬4)، كان فاضلًا، توفِّي في رجب ببغداد، وروى عن يزيدَ بن هارون وطبقته، وروى عنه محمدُ بنُ نصرٍ الصَّائغ. ¬

_ (¬1) في "تاريخ بغداد" 9/ 250 - 252، وما بين معكوفين من (ب). (¬2) في النسخ: كبد هائم. والمثبت من "تاريخ بغداد"، و"المنتظم" 12/ 177، وما سلف بين معكوفين منهما. (¬3) هذه الترجمة ليست في (ب). (¬4) في (خ): البزار، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في "تاريخ بغداد" 10/ 281، و"المنتظم" 12/ 180، و"السير" 12/ 358.

عبد الله بن منير المروزي

وقال أبو بكر بن أبي معمر: أنشدنا سَعدان: [من الطويل] ألا في سبيلِ الله عُمرٌ رُزِئْتُه ... وفَقْدُ ليالٍ فاتَ منها نعيمُها أأُغْبَنُ أيَّامي ولا أستقيلُها وتَذْهب عنِّي ليلةٌ لا أقومُها وتنقطعُ الدنيا ويذهب غُنْمها ... ويغتنمُ الخيراتِ منها حكيمُها (¬1) [وفيها توفي] عبد الله بنُ منير (¬2) المَرْوَزيُّ كان من الأبدال، مقيمًا بقَزوين، فإذا كان يوم الجمعة، رأَوه بآمِد، وبينهما مسافة بعيدة، وكان يمشي على الماء، ويقف له جَيْحون، فكان يجمع الأُشنان ويتقوَّتُ بثمنه، وإذا رآه السَّبُع خشع له وبَصْبَصَ (¬3) بين يديه. [وفيها توفي] يعقوب بن شيبة (¬4) ابن الصَّلْت بن عُصْفُور، أبو يوسف، السَّدوسيُّ البصريُّ. [قال الخطيب: حدَّثني الأزهريُّ قال: ] صنَّف المسند معلّلًا؛ إلا أنَّه لم يُتِمَّه (¬5)، وكان فقيهًا على مذهب مالك، وكان في منزله أربعون لِحَافًا أعدَّها لمَن يبيتُ عنده من الورَّاقين الذين يُبَيِّضون المسند، ولزمه في تصنيفه عشرةُ آلاف دينار لمن يُبيِّضه، ووقع منه بمصرَ نسخة [من مسند] أبي هريرة فكانت مئتي جزء. وسمع يزيد بنَ هارون، [وهاشمَ بنَ القاسم، وعليَّ بن عاصِم، وعَفَّانَ بنَ مسلم وغيرهم]، وكان ثقةً إلَّا أنَّه كان يقول بالوَقْف في القرآن، فهجره النَّاس. [انتهت ترجمته] (¬6). ¬

_ (¬1) هذا البيت زيادة من (ف). (¬2) في (ب): بن فقير. وفي (ف): بن معتز، وكلاهما خطأ، وليست في (خ)، والمثبت من كرامات الأولياء للالكائي 9/ 289، و"المنتظم" 12/ 182. (¬3) بصبص السَّبُع: إذا حرَّك ذَنَبه طمعًا أو خوفًا. "اللسان": (بصص). (¬4) في (خ): اشبه، وفي (ب) -وما بين معكوفين منها- و (ف): شبة؟ ! والمثبت من "تاريخ بغداد" 16/ 410، و"المنتظم" 12/ 186، و"تاريخ الإِسلام" 6/ 451. (¬5) في (خ) و (ف): لا يتَّهمه. وليست في (ب)، والمثبت من المصادر السالف ذكرها. (¬6) ما بين معكوفين من (ب)، ومعنى أنَّه يقول بالوقف بالقرآن: لم يقل بمخلوق ولا غير مخلوق.

السنة الثالثة والستون بعد المئتين

السنة الثالثة والستون بعد المئتين فيها بعث يعقوبُ بن اللَّيث عُزيزَ بن عبد الله الأسَدي (¬1) إلى ابنِ واصل عاملِ المعتمد على فارس، فأخذه عُزيزٌ أسيرًا، وقدم به على يعقوب، ودخل يعقوبُ الأهوازَ واستولى عليها، وهرب من بين يديه [ابنُ] (¬2) لَيثَويه نائبُ الموفَّق. وفيها مات عُبَيد (¬3) الله بن يحيى بنِ خاقان، واستوزر من الغَدِ الحسن بن مَخْلَد، ثمَّ قدم موسى بنُ بُغا سامرَّا، فهرب الحسنُ إلى بغداد، واستوزرَ مكانه سليمان بن وهب في ذي الحِجَّة. وفيها أخرج [أخو] شركب (¬4) الحسينَ بنَ طاهر عن نَيسابور، وغلب عليها، وصار الحسينُ إلى مَرْو، وبها ابنُ (¬5) خُوارِزم شاه يدعو لمحمَّدِ بنِ طاهر، وضارَّ أخو شركب أهلَ خُراسان، وأخذ ثُلُثَ أموالِهم (¬6). وفيها سلَّمت الصَّقالبةُ حِصنَ لُؤلؤة إلى ملكِ الرُّوم. وحجَّ بالنَّاس الفَضْلُ بنُ إسحاقَ الذي حجَّ بهم عامَ أوَّل [والله أعلم] (¬7). وفيها توفي عُبَيدُ الله بنُ يحيى ابنِ خاقان بن عُرطوج (¬8)، أبو الحسن (¬9)، الوزير التُّركي. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 9/ 530: عُزيز بن السَّريّ، وهو الأشبه. (¬2) ليست في النسخ، والمثبت من "تاريخ الطبري". (¬3) في النسخ: عبد. وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 532، و"الكامل" 7/ 310، و"تاريخ الإِسلام" 6/ 366. وسيأتي ذكره قريبًا. (¬4) في (خ) و (ف): أخرج شركت. والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 532، و"الكامل" 7/ 310. (¬5) في "تاريخ الطبري": أخو. والمثبت موافق لما في "الكامل". (¬6) من أول السنة إلى هنا ليست في (ب). (¬7) في (ب): حج بهم في السنة الماضية. وما بين معكوفين منها. (¬8) في (ب): بن خاقان، وخاقان هو ابن عرطوج. (¬9) في النسخ: أبو الحسين. والمثبت من "تاريخ مدينة دمشق" 44/ 447، و"تاريخ الإِسلام" 6/ 367.

وَزَر [عبيد الله] للمتوكِّل، وقَدِم معه الشَّام، ونفاه المستعينُ إلى بَرْقة سنةَ [ثمانٍ وأربعين ومئتين، ثمَّ عاد إلى بغدادَ في سنة] (¬1) ثلاثٍ وخمسين ومئتين. ذكرُ طرفٍ من أخباره: كان جَوَادًا سَمْحًا، ذا مروءةٍ ظاهرةٍ، يفكِّر في العاقبة، و [كان ممدَّحًا، ] مدحه البحتريُّ بقصيدته الَّتي يقول فيها: [من الكامل] يا عارضًا مُتَلَفِّعًا ببُرُودهِ ... يَختالُ بين بُرُوقه ورُعُودهِ لو شئتَ عُدْتَ بلادَ نَجْدٍ عَوْدَةً ... فنزلْتَ بين عَقِيقهِ وزَرُودهِ وإلى أبي الحسنِ انصرفْتُ بهِمَّتي ... عن كلِّ منْزُور النَّوالِ زَهيدهِ الدَّهرُ يَضحكُ عن بَشاشةِ بِشْرِهِ ... والعيشُ يرطُبُ من نضارةِ عُودهِ أعلي بنو خاقانَ مجدًا لم تزلْ ... أخلاقُهم حُبُسًا على تَشييدهِ إنْ أوقفَ الكُتَّابَ أمرٌ مُشكِلٌ ... في حَيرةٍ رجعوا إلى تسْديدِهِ فاللهُ يُبْقيه لنا ويُعزُّه ... ويحوطُه ويزيدُ في تأييدهِ من أبيات (¬2). وقال ابن عساكر: قَدِمَ دمشقَ مع المتوكِّل، وقدمها [مرَّةً أخرى مُكرهًا] حين نفاهُ المستعينُ إلى بَرقة، [وحجَّ وعاد إلى بغداد في سنة ثلاثٍ وخمسين ومئتين، واستوزره المعتمدُ في شعبان سنةَ -ستٍّ- وخمسين ومئتين] وكان يَتَقلَّد (¬3) دمشقَ عيسى بنُ الشيخ، فلقيه عيسى، وترجَّل له، وأعظمه، وأكرمه، وخَدَمه، ووصله، حتَّى كان عبيدُ الله يسيرُ في قُبَّةٍ له طول اللَّيل، وعيسى يسيرُ بين يديه على فرسِه اللَّيلَ كلَّه، وعبيدُ الله لا يشكُّ أنَّ عيسى في قُبَّة، فقيل له: ما زال عيسى يسيرُ بين يديك طولَ اللَّيل على فرسه، فحفظ له ذلك، فلمَّا قُلِّد الوزارةَ المرَّة الثانية، قلَّد عيسى بلادَ بكر وأرْمينية. وحجَّ وعاد إلى بغدادَ سنةَ ثلاثٍ وخمسين، وأقبل يومًا فأنشدهُ عاصمُ بنُ وهبٍ البُرْجُميُّ: [من الطويل] ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ب)، وهو الموافق لما في "تاريخ دمشق" 44/ 447. (¬2) من قوله: بقصيدته. . . إلى هنا ليس في (ب)، وما سلف بين معكوفين منها، والأبيات في ديوان البحتري 2/ 693 - 696، و"تاريخ دمشق" 44/ 452. (¬3) من هنا إلى ذكر وفاته ليست في (ب).

نظرتُ إلى يحيى بنِ خاقان مُقْبلًا ... فشبَّهْتُه في المُلْكِ يحيى بن خالدِ ومرَّ عبيدُ الله يُشْبه جعفرًا ... فأكْرِمْ بمولودٍ وأَكْرِمْ بوالدِ جمعتُ بذا المعنى معانٍ كثيرةً ... ولم أفسدِ المعنى بطولِ القصائدِ (¬1) ولما ولي المعتمدُ الخلافةَ سمَّوا له جماعةً من الوزراء، فلم يُعجِبْه إلَّا عبيدُ الله فاستوزرهُ، فقام بأمر الخلافة أحسنَ قيام وأتمَّ نظامٍ، مع كثرة المتغلّبين على البلاد، وكان أحمدُ بنُ طولون قد تغلَّب على مصرَ والإسكندرية وبَرقة، وأماجور (¬2) على الشَّام ودمشقَ، وسيما الطَّويل على العَواصم وقِنَّسْرين، وأيوبُ بنُ أحمد ديارَ ربيعة والموصلَ وشَهْرَزُور، وعمر بن علي (¬3) أَذْرَبِيجان، وابن أبي دُلَف على أَصْبَهان وهَمَذَان ونَهَاوَنْد، ويعقوب الصفَّار على خُراسان وفارس وسِجِسْتان وكَرْمان، وكيغلغ على الرَّيِّ وقُمّ وقَزْوين، والحسنُ بنُ زيد على طَبَرِستان وجُرْجَان والدَّيلَم، وصاحبُ الزَّنْج على البَصْرة والأهواز والبحرين والأُبُلَّة وعبَّادان، وكَنْجور على سَقْيِ الفراتِ، ومُساور الشَّاري على دَقوقا وطريقِ خُراسان، فدبَّر الدُّنيا حكاية. وقال محمدُ بن أحمد بن الخصيب: قال لي عبيدُ الله يومًا: أخرج إلى الباب ترَ شيخًا من صفتِه كذا وكذا. فقل له: أبْرَمْتَني (¬4)، وأنت ثقيلٌ على قلبي، انصرفْ فليس لك عندي عمل، وإلَّا فعلتُ وفعلتُ، وحبستُكَ سنةً، فخرجتُ إلى الشَّيخ وإذا به قائمٌ، فأدَّيتُ إليه الرسالةَ، فقال لي غيرَ مكْترثٍ بما سمع منِّي: قل له: والله ما أتيتُك قاصدًا لكَ، ولا راغبًا فيك، ولكنَّك جلستَ في طريقِ أرزاقنا، ولابُدَّ من الاجتياز بك، وإن كان رجاءُ العاقل منوطًا بالله دونَك، وليس (¬5) الملكُ منعٌ ولا عطاء، ثُمَّ تضاحك، وقال: يحبسني سنةً! يا وَيحه، من ملَّكه الزمانَ المستقبلَ حتَّى يستحكمَ هذا التحكُّمَ، ويتوعَّدَ هذا التوعُّد؟ قال محمد: فدخلتُ على عبيد الله فأعدتُ عليه ما قال، فقال: صدق والله، ولقد ابتُلِيتُ به، ثمَّ ركب عبيد الله فتلقَّاه بمثل ما كان يتلقَّاه به من السَّلام، ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 4/ 451، 454. (¬2) في (خ): اباجور، وفي (ف): ناجور، والمثبت من "تاريخ الإِسلام" 6/ 301، وسيأتي. (¬3) في (خ): وعمرو بن كذا علي. والمثبت من تاريخ الطبري 9/ 510. (¬4) في تاريخ ابن عساكر 44/ 449: ألححت عليّ. وأَبْرَمَهُ: أملَّه وأضجره. مختار الصحاح (برم). (¬5) في (خ) و (ف): وكيس. والمثبت من "تاريخ دمشق".

وكان من عادته إذا رأى عبيد الله ترجَّل. وسار عبيدُ الله إلى دار الخليفة، ثمَّ خرج غلامٌ فاستدعى الشيخَ، فدخل، فغاب ساعةً، وخرج وبيده ثلاثُ تواقيع، فعجبتُ منه، فلمَّا خرج عبيدُ الله سايرتُه، وسألته عن الشَّيخ فقال: دخلتُ على الخليفة وقد غلب عليَّ الغيظُ من رسالة الشَّيخ، فقال: دخلت على الخليفة فبعضُها يحرِّكني على مَساءته، وبعضُها يوقفني عنه، فقال لي الخليفةُ: قد مات عاملُ الخَراج على الثُّغور، فمن ترى أنْ نولِّي، فقلتُ: شيخًا على الباب يصلحُ إن قَبِلتَه، قال: فأَحضِرْه، فأحضرتُه، فلمَّا دخل عليه تأمَّله وقال: ما أحسنَ ما اخترتَ، قد قَبِلَتْه نفسي، قال: فقلتُ في نفسي: جاء والله معنى الرسالة، فكلَّم الخليفة فقال: والله يا أمير المؤمنين البطالةُ قد ضعَّفتْ حالي، فقال: توقّع له بألفِ دينار، وتكتب بأرزاق من يجيء معي، فقلتُ: نكتب بها، فقال: وتوقيعًا بالولاية، فكتب له بالجميع، قال عبيدُ الله: فلم أرَ في نفسي انحطاطًا ولا تذلُّلًا، وشكرًا لله تعالى وحدَه، فلم أرَ رجلًا استصغر مواردَ أمورِنا ومصادِرَها مثلَ الشَّيخ. وقال أحمدُ بنُ إسرائيل: قال لي عبيدُ الله: قد فكَّرتُ في أمور الدُّنيا وصلاحها، ودُرور الأموال، وأَمْنِ السُّبُل، وعلمتُ أنَّ الدُّنيا أمكنُ وأنكرُ وأنكدُ من أن يدومَ صفاؤُها لأحد، فما مضتْ بعد ذلك أربعون ليلةً حتَّى قُتل المتوكِّل، ونُفي عبيدُ الله (¬1). قال الصُّولي: ركب يومًا وهو وزيرٌ، فوقف له بعضُ الهاشميين، فأخذ بِلِجام فرسِه وقال له: يا زنديقُ، يا فاسقُ، يا كذَّابُ، فقال: أمَّا زنديق؛ فوالله ما كفرتُ بعد إسلامي، وأمَّا فاسق؛ ففي الحلال مندوحةٌ عن الحرام، وأمَّا كذَّاب؛ فوالله ما تعمَّدتُ الكذبَ ولا استَحْسَنتُه، خلِّ اللِّجامَ، فعجب النَّاسُ من حِلمه وعفوه (¬2). ولمَّا دخلت الزَّنجُ البصرةَ في أيام المعتمد، أكثر الناسُ الضَّجيجَ على الوزير فملَّ وضَجِر، فقال: ذهبت البصرةُ فمَهْ! ؟ وسمعها النَّاس، فقال عمرو بن إبراهيم العدويُّ: [من المنسرح] ¬

_ (¬1) ذكر هذا الخبر ابن عساكر في "تاريخه" 44/ 451. (¬2) ذكر الخبر مختصرًا الصفدي في "الوافي بالوفيات" 19/ 418.

قال الوزيرُ المعاونُ الظَّلَمَهْ ... الأخرسُ اللَّفْظِ مُشْبِهُ الرَّخَمهْ (¬1) وقد شكونا ذهابَ نُصرتِنَا ... إن ذهبتْ نصرةُ الغريب فَمَهْ إنْ ذهبتْ زال ملكُ بني العبَّاس أهلِ الفَخَار والعَظَمهْ كَلْمة سُوءٍ زلَّ اللِّسانُ بها ... ورُبَّ حَتْفٍ تسوقُه كَلِمهْ هانَتْ عليه دماءُ سادَتِنا ... أسأل ربِّي بما جناه دَمَهْ وبلغ أبا يعلى كاتبَه فقال: والله لا يُفنه من الدنيا، فقال العدويُّ: أمَّا من الدُّنيا فلا يلي من سُرَّ مَنْ رأى فنعم، ثمَّ قال فيه: [من الخفيف] نعمةُ الله لا تُعاب ولكنْ ... رُبَّما استُقْبِحَتْ على أقوامِ لا يليقُ الغِنى بوجه أبي يَعْـ ... ــلى ولا نورُ بَهْجَةِ الإِسلامِ وَسِخُ الثَّوبِ والقَلانسِ والبِرْ ... ذَون والوَجْهِ والقَفَا والغُلام لا تمسُّوا أقلامَه فتمسُّوا ... من دماء الحُسين في الأَقلام (¬2) ومعناه أنَّهم لما أتَوا برأس الحسين عليه السَّلام إلى ابنِ زياد، طلب من يقوِّره، فلم يتجاسرْ عليه أحدٌ، فقام طارقُ بنُ المبارك فقوَّره على ما أراد ابنُ زياد (¬3)، وأبو يعلى من ولد طارق. وكان عبيد (¬4) الله مشغولًا بالوزارة ليس عنده أدبٌ ولا رواية، وابنُه موسى صاحبُ القصيدة الخاقانيَّةِ في تجويد القراءة وهي مشهورة. ذكر وفاته: [قال الصُّولي: ] دخل عبيدُ الله ميدانًا في داره يوم الجمعة لعشرٍ خلون من ذي القعدة [في سنة ثلاث وستين ومئتين] على ثلاث ساعات ليضرب بالصَّوالِجَة، فصدمه خادمُه رَشيق، فسقط من دابَّته فلم يَنْطق بحرف، وجرى من أذنيه دمٌ كثير، وبلغ الموفَّق فجاء مُبادرًا، فوضع رأسَه على فخذِه، وكلَّمه فلم يتكلَّم، فقال ابنُ راسبة (¬5) [الطبيبُ] طبيبُ ¬

_ (¬1) الرَّخَمة: طائر أبقع على شكل النَّشر خلقةً، إلا أنه مبَقَّع بسواد وبياض. اللسان (رخم). ويضرب بها المثل بأنها ألأمُ طير وأقذرها طعمًا؛ لأنها تأكل العذرة، يقال أموقُ من الرَّخمة. "مجمع الأمثال" 2/ 323. (¬2) ذكر هذه الأبيات العكبري في شرح ديوان المتنبي 2/ 370، وابن المعتز في "طبقات الشعراء" ص 417، والصفدي في "الوافي بالوفيات" 22/ 410 - 411. دون ذكر البيت الأخير. (¬3) ذكر هذا الخبر القرطبيُّ في "التذكرة" ص 567. (¬4) في (خ) و (ف): عبد، وهو خطأ. (¬5) في (ب) و (ف): راشته.

محمد بن محمد بن عيسى

أبي أحمد: هذا الدَّمُ الخارجُ من أذنيه؛ انقطع بعضُ الشّريانات الَّتي في رأسه، فمات بعد ثلاثِ ساعاتٍ عند صلاة الجمعة، فحزن عليه الموفَّق، ومشى في جنازته، وصلى عليه، وحُمِل في جنازته أعلامٌ احترامًا له، ولم تُحمل في جنازة غيره، ودفن بسُرَّ من رأى، ورثاه الشُّعراء؛ فقال (¬1) يحيى بنُ عليّ: [من الطويل] أبا حسنٍ لا تَبْعَدَنَّ فقد مضى ... من الأرض لما أن مَضيتَ بهاؤُها وهي المُلكُ وانحلَّتْ عُرى الدِّين بعدَه ... وأظلم من أرض العراقِ ضياؤُها لقد فارق الدُّنيا حَميدًا وأَلْسُنُ ... البَرِيَّة مصروفٌ إليه ثناؤُها يُسَكِّن نفسي أَنَّني لستُ باقيًا ... ولستُ أرى نفسًا يَدومُ بقاؤُها عزاءً أميرَ المؤمنين لنفسك ... البقاءُ طويلًا والنُّفوسُ فداؤُها ولا تُحْبِطَنْ أجرَ المصيبةِ إنَّه ... على قَدْرِ أحزانِ النُّفوس جزاؤُها وفيها توفي محمد بن محمد (¬2) بن عيسى أبو الحسن البغداديُّ، ويعرف بابن أبي الوَرْد، وبـ: حَبَش؛ لأنَّه كان أسمرَ اللَّون، وإلى جدِّه أبي الوَرْد تُنسب [سُويقة أبي الورد] (¬3) ببغداد. واسم جدِّه أبي الورد: (محمد) (¬4) بنُ محمدِ بنِ عيسى، مولى سعيدِ بنِ العاص مولى عَتاقة، وكان في صحابة المنصور. و[قال الخطيب: ] ما زال - محمَّدٌ هذا - مشهورًا بالزُّهد والوَرَع والخلوةِ [والعبادة] حتَّى توفِّي في رجب من هذه السَّنة ببغداد (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: فقال يحيى. . . إلى آخر الأبيات، ليست في (ب)، وبدلها: وهذا ما انتهى إلينا من سيرته. وما سلف بين معكوفين منها. والأبيات ذكرها الصَّفدي في "الوافي بالوفيات" 19/ 419. وفيه: يحيى بن عبيد الله بن المنجّم، بدل: يحيى بن علي. (¬2) جاءت هذه الترجمة في (ب) في آخر السنة، وذكرها ابن الجوزي في "المنتظم" 12/ 185، في وفيات سنة (262 هـ). (¬3) ما بين معكوفين من (ب). (¬4) هذه الزيادة من "تاريخ بغداد" 4/ 330. (¬5) ما سلف بين معكوفين من (ب).

صحب بِشرًا الحافيَّ، وسَريًّا السّقَطيَّ، والحارثَ المُحاسِبيَّ، وأسند الحديثَ عن هاشم (¬1) بنِ القاسم وغيرِه، وروى عنه عبدُ الله بنُ محمدٍ البغويُّ وغيرُه (¬2). ومن حديثه عن ابنِ مسعودٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "أوحى اللهُ إلى نبيٍّ من أنبياءِ بني إسرائيل: قل لفلانٍ العابد: أمَّا زهدُك في الدُّنيا فقد تعجَّلت الراحةَ لنفسك، وأمَّا انقطاعُكَ إليَّ فتعزَّزتَ بي، فماذا عملتَ فيما لي عليك؟ فأخبره النبيُّ بذلك فقال: سَلْه: يا ربُّ، ومالك عليَّ؟ فقال: قل له: هل عاديتَ فيَّ عدوًّا، أو واليتَ فيَّ وليًّا؟ " (¬3). وقال محمَّد بنُ هلال: النَّاس في حرفين؛ اشتغالٍ بنافلةٍ وتضييعٍ لفريضة، وعملٍ بالجوارح بغير مواطأة القلب، وإنَّما مُنعوا الوصول بتضييع الأصول (¬4). وأخوه أحمدُ بن محمد أبو الحسن أيضًا كان من كبار الزهَّاد، مات قبلَ أخيه محمَّد، وصحب أحمدُ مَنْ صحب أخوه محمَّد، وله الرِّياضاتُ والمجاهداتُ والكلامُ الحسنُ. قال: وليُّ الله كلَّما زاد جاهُه زادَ تواضعُه، وإذا زاد مالُه زاد سخاؤُه، وإذا زاد عمرُه زاد اجتهادُه. وقال: إنَّما وصل القومُ بخمسٍ: بلُزومِ الباب، وتركِ الخلاف، والنَّفاذِ في الخدمة، والصَّبرِ على المصائب، وصيانةِ الكرامات (¬5). وكان هو وأخوه قد صحبا أبا عبد الله السَّاجي، فكان يقول: مَن أراد أن يخدمَ الفقراءَ فلْيخدِمْهم خدمةَ ابنَي أبي الوَرْد؛ صَحِباني عشرين سنةً ما سألاني مسألةً قطُّ، ولا رأيتُ منهما ما أكره. وقال ابنُ حُميد: أحمد ومحمد ابنا أبي الوَرْد من كبار المشايخ العراقيين، وأقاربِ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): الهيثم، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في "تاريخ الإِسلام" 6/ 421 - 422. (¬2) من هنا إلى آخر الترجمة ليست في (ب). (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 10/ 316، والخطيب في "تاريخه" 4/ 331، وفيه حميد الأعرج؛ قال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث. "تهذيب التهذيب" ص 501. (¬4) ذكر الخبر أبو نعيم في "الحلية" 10/ 316. (¬5) ذكر الخبر أبو نعيم في "الحلية" 10/ 315.

الجُنيد وجُلسائه، وطريقتُهما في الوَرَع قريبةٌ من طريقة بِشر الحافي. وقال محمَّد: مَن كانت نفسُه لا تحبُّ الدنيا فأهلُ الأرض يُحبُّونَه، ومَن كان قلبُه لا يحبُّ الدُّنيا فأهل السماء يُحبُّونه. وقال: الوليُّ مَن يوالي أولياءَ الله، ويعادي أعداءَه. وقال أحمد: بِساطُ المجد بُسِط لأولياء الله ليأنَسُوا به، ويرفعَ عنهم حِشمةَ البَديهة، وبِساطُ الهَيبة بُسط للأعداء ليستوحشوا من قبائح أفعالهم، ولا يشاهدوا ما يستريحون إليه في المشهد الأعلى (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ذكره أبو نعيم في "الحلية".

السنة الرابعة والستون بعد المئتين

السَّنة الرابعة والسّتون بعد المئتين فيها (¬1) في المحرَّم خرج أبو أحمد الموفَّق إلى قتال الزَّنج ومعه موسى بن بُغا، فعسكرا بالقائم (¬2)، وشيَّعهما المعتمدُ، فلمَّا نزلا بغداد مات موسى بنُ بُغا، فُحمِل إلى سامراء فدُفن بها. وفي شهر ربيعٍ الأوَّل ماتت قَبيحةُ أمُّ المعتزِّ، وكان المعتمد قد أعادها من مكَّة إلى سامرَّاء. وفيها أسرت الرُّوم عبدَ الله بن رُشَيد بن كاوس، وكان قد دخل الرُّوم في أربعة آلاف فارسٍ، فأوغلَ فيها، فأَسر وقتل وغَنم، وقَفل عنها، فلمَّا نزل البَذَنْدُون (¬3) أقام به، ثمَّ رحل، وكانت البطارقة قد تتبَّعته بطريق سَلُوقية، وبطريق قديدة (¬4)، وبطريق قُرَّة، وبطريق كوكب، وبطريق خَرْشَنة (¬5) فأَحْدقوا به، فنزل جماعةٌ من المسلمين فَعَرْقَبوا (¬6) دوابَّهم، وقاتلوا إلَّا خمس مئةٍ من المسلمين انهزموا، فقتلوا الرُّومُ مَن قتلوا، وأسروا عبد الله بنَ رُشيد بعدما جُرح جِراحات، وحُمل إلى لُؤلؤة، ثمَّ حُمل إلى ملك الرُّوم على البريد. وفيها ولَّى المعتمدُ محمدًا المولَّد واسِطًا، فحاربه سُليمان بن جامع قائد صاحب الزَّنج، وكان قد ولَّاه تلك النَّواحي، فهزمه محمدٌ عن واسِطٍ ودخلها، ثمَّ دخلت الزَّنج واسِطًا، فهرب أهلُها حُفاةً عُراةً، فأحرقها الزَّنجُ بعدما أخذوا من الأموال والسَّبايا ما أرادوا (¬7). ¬

_ (¬1) من أول السنة إلى ترجمة أماجور التركي ليست في (ب). (¬2) في (خ) و (ف): بالغنائم، والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 533. (¬3) في (خ): الريدون. وفي (ف): الربدون. ووقع في "تاريخ الطبري" و"الكامل": بَدندون. والمثبت من "تاريخ الإِسلام"، و"معجم البلدان" 1/ 361. (¬4) في "تاريخ الطبري": قذيذية. (¬5) في (خ) و (ف): درشنة. والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 533، و"معجم البلدان" 2/ 359. (¬6) عَرْقَبَ الدَّابة: قطع عرقوبها؛ وهو في رجلها بمنزلة الركبة في يدها. اللسان: (عرقب). (¬7) "تاريخ الطبري" 9/ 534، و"تاريخ الإِسلام" 6/ 244.

أحمد بن حمدون

وفيها خرج سليمانُ بن وهب من بغداد إلى سُرَّمن رأى ومعه أخوه الحسنُ، وشيَّعه أبو أحمد الموفَّق، ومَسْرور البَلْخيُّ، وعامَّة القوَّاد، فلمَّا صاروا بسامرَّاء، غضب المعتمدُ على سليمانَ بنِ وهب، وقيَّده، وحَبَسه، وانتهب أمواله ودُورَ أهله. واستوزر الحسنَ بنَ مَخْلد في ذي القَعدة، فبلغ الموفَّق، فشخص من بغداد ومعه عبدُ الله بنُ سليمان بنِ وهب، فلمَّا قَرُب من سامرَّاء، تحوَّل المعتمدُ إلى الجانب الغربيِّ فعسكر به، ونزل أبو أحمد بظاهر سامرَّاء في جزيرة المؤيَّد، وهذا أوَّلُ ما بدا من الموفَّق في حقِّ المعتمد، ثمَّ تراسلا واصطلحا في ذي الحجَّة، واجتمعا في حرَّاقة في دجلة، خلع عليه المعتمدُ وأطلق سليمانَ بنَ وهب، واجتمع العَسكران، ورجع المعتمدُ إلى الجَوْسَق، وهرب الحسنُ بنُ مَخْلد، وأحمدُ بنُ صالح بن شيرزاد (¬1)، فقبضَ على أسبابهما، وشَخصَ القوَّاد الذين كانوا بتَكْريت إلى الموصِل، فوضعوا أيديَهم في جبَايةِ الخَراج. وحجَّ بالناس هارونُ بنُ محمد بنِ إسحاق بنِ موسى بنِ عيسى الهاشميُّ الكوفيُّ. وفيها توفي أحمدُ بنُ حَمْدون ابنِ إسماعيلَ بنِ داودَ، أبو عبد الله، الكاتبُ. كان فاضلًا شاعرًا كثيرَ الأدب، كان يحضر مجالسَ الخلفاء؛ الواثقِ والمتوكِّلِ (¬2). ومِنْ شعرِه يعاتبُ أبا الحسن عليَّ بنَ يحيى المنَجِّم: [من الرمل] مَنْ عَذيري مِنْ أبي حَسَنٍ ... حينَ يجْفوني ويَصْرمُني كان لي خِلًّا وكنتُ لهُ ... كامتزاجِ الرُّوحِ بالبَدَنِ فوَشَى واشٍ فغيَّرهُ ... وعليه كان يَحْسُدُني إنَّما يزدادُ معرفةً ... بوِدادي حين يَفْقِدُني ¬

_ (¬1) في (خ): ومحمد بن صالح من شيراز، وفي (ف): ومحمد بن صالح بن شيراز، والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 541، و"تاريخ الإِسلام" 6/ 244. وما سلف بين معكوفين منهما. (¬2) "تاريخ الإِسلام" 6/ 262.

أماجور التركي

وكان أحمد مُمدَّحًا، مدحه البُحتريُّ وغيرُه (¬1). أماجور التركيُّ ذكره أبو الحسين الرَّازيُّ في أمراء دمشقَ في أيَّام المعتمِد على الله، وكان (¬2) مَهيبًا شجاعًا، أَمِنَت الطُّرق في أيَّامه والحُجَّاج، وجعل الشَّامَ مثلَ المَهْد. [وحكى الحافظ (¬3) عن أبي الحسين الرَّازي قال: ] بعث [أماجورُ] مرَّةً جنديًّا إلى أذرِعات في رسالةٍ، فنزل اليرموكَ، فصادف أعرابيًّا في قرية، فجلس الجنديُّ [إليه، فمدَّ الأعرابي يدَه، فنتف من سِبال (¬4) الجنديِّ] خَصلتين، وعاد الجنديُّ إلى دمشقَ، وبلغ الخبرُ أماجورَ التركيَّ، فدعاه وسأله عن القصَّة فاعترف، فأمر بحبسه، ثمَّ استدعى بمعلِّم الصِّبيان، فأعطاه مالًا وقال له: اذهبْ إلى المكان الفلانيِّ وأَظْهِرْ أنَّك تعلِّم الصِّبيان، ولابدَّ أن ترى الأعرابيَّ هناك، فإنْ رأيتَه فشاغِلْه، وأعطاه طيورًا، وقال: عرِّفني الأخبارَ يومًا بيوم، فخرج الرجلُ وأتى إلى القرية، فجلس يعلِّم الصِّبيان ستَّة أشهر، ويبحث عن الأعرابي حتَّى عرفه، وجاء الأعرابي، فقال المعلِّم لأهل القرية: شاغلوه، وأطلق الطيورَ إلى دمشقَ، فركب أماجورُ بنفسه من دمشقَ إلى اليرموك [في] يومٍ واحد، وأحاط بالقرية، وأخذ الأعرابيَّ مَكتوفًا معه، فلمَّا دخل دمشقَ أحضره وقال: ما حملك على أنْ رأيت رجلًا من أولياء السُّلطان في قريةٍ، ما تعرَّض لك أن تنتفَ سِباله؟ قال: كنتُ سَكرانًا لم أعقل، فأمر بنتفِ كلِّ شعرةٍ فيه من أجفانه [وحاجبيه] ولحيته ورأسه، فما ترك عليه شعرة [إلا نتفها]، وضربه ألف سوط، وقطع يديه ورجليه، ثمَّ صلبه، وأخرج الجنديَّ من الحبس، فضربه مئةَ سوطٍ، وطرده عن الخدمة، وقال: أنت ما دافعتَ عن نفسكَ، فكيف تدافعُ عنِّي لو احتجتُ إليك؟ [قال الرازيُّ: ] ولمَّا مات أماجور رُئيَ في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. فقيل: بماذا؟ قال: بحفظي طُرُقات المسلمين والحُجَّاج. ¬

_ (¬1) ذكر الأبيات ابنُ العديم في بغية الطلب 2/ 706، والصفدي في "الوافي بالوفيات" 6/ 210. (¬2) في (خ) و (ف): أماجور التركي: أمير دمشق في أيام المعتمد كان. . .، والمثبت من (ب). (¬3) في تاريخ دمشق 3/ 89. (¬4) السِّبال: ما ظهر من مقدَّم اللحية بعد العارضين. اللسان (سبل).

أبو زرعة الرازي

و [قال ابنُ عساكر: ] بنى بدمشقَ خانًا بالخوَّاصين، وكتب على بابه: مئةُ سنةٍ وسنةٍ، فعاش بعد ذلك مئة يومٍ ويوم، [والله العالم بما في الغيب] (¬1). [وفيها توفي] أبو زُرْعَة الرَّازي واسمه عُبيد (¬2) الله بنُ عبد الكريم بنِ يزيد بنِ فَرُّوخ، مولى (¬3) عيَّاشِ بن مُطَرِّف القُرشيُّ، وُلدَ سنة مئتين بالرَّيِّ، وكان إمامًا، حافظًا، مُتقنًا، صَدوقًا، [وكان] من كبار الحفاظ، وسادات أهل التَّقوى. [وذكره الخطيب (¬4) فقال: هو] أحدُ الأئمَّة المشهورين الرَّاحلين لطلب العلم، [وقال: ] (¬5) قدم بغدادَ غيرَ مرَّة، وحدَّث بها، وجالس الإمامَ أحمدَ بن حنبل رحمة الله عليه، وكان الإمامُ أحمد يحبُّه ويُثني عليه، ويقدِّم الجلوسَ معه على النَّوافل. وقال عبدُ الله بنُ أحمد: لما ورد أبو زرعةَ بغداد نزل علينا، فقال لي أبي: يا عبد الله، قد اعتَضْتُ بنوافلي مُذاكرةَ هذا الشَّيخ، وفي رواية: ما صلَّيتُ اليوم غيرَ الفرض، استأثرتُ بمذاكرته على نوافلي. وما جاوز الجسرَ أحفظُ منه. وقال محمَّدُ بنُ مسلمِ بنِ وَارةَ: كنتُ عند إسحاقَ بن إبراهيم بنيسابور، فقال رجلٌ من أهل العراق: سمعتُ الإمامَ أحمدَ بنَ حنبل يقول: صحَّ من الحديث سبعُ مئة ألف حديثٍ وكسور، وهذا الفتى -يعني أبا زرعةَ- قد حفظ ستَّ مئة ألف حديث، فقيل للإمام أحمد: مِنْ أين لك هذا؟ فقال: ذاكَرْتُه الأبوابَ. قال البيهقيُّ: معنى قولِ أحمدَ أنَّه يحفظ ستَّ مئة ألف حديث؛ فإنَّما أراد ما صحَّ من الحديث وأقاويلِ الصَّحابة وفتاويهم، لا مجرَّدَ الأحاديثِ المرفوعة. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ب)، والخبر في "تاريخ دمشق" 3/ 89 - 90. (¬2) في النسخ: عبد. والمثبت من مصادر الترجمة الآتي ذِكرُها. (¬3) في (خ) و (ف): عبد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ أبو زرعة الرازي مولى ... ، والمثبت وما بين معكوفين من (ب). (¬4) ما بين معكوفين من (ب)، ولم نقف على نص قول الخطيب في تاريخه. (¬5) في "تاريخ بغداد" 12/ 33.

وكان أبو زُرعةَ يقول: كتبتُ عن إبراهيمَ بنِ موسى الفرَّاء مئةَ ألفِ حديثٍ، وعن أبي بكر بن أبي شيبةَ مئةَ ألف حديثٍ، وأحفظ مئتي ألفِ حديثٍ كما يحفظُ أحدُكم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وفي روايةِ ابن منده: وأحفظ ثلاثَ مئةِ ألفِ حديث. وقال محمَّدُ بنُ إسحاقَ الصنعانيُّ: أبو زُرعة يشبه أحمدَ بنَ حنبل. وقال الإمامُ أحمدُ رحمةُ الله عليه: ما رأيتُ أحفظَ من أبي زُرعة. وقال إسحاقُ بن رَاهُويه: كلُّ حديثٍ لا يعرفه أبو زُرعةَ فليس له أصلٌ. وقال أبو يعلى المَوصليُّ: ما سمعنا أحدًا يُذكر من الحُفَّاظ إلا كان اسمُه أكبرَ من رؤيته، إلّا أبا زُرعة؛ فإنَّ مشاهدتَه كانت أعظمَ من اسمه. وحكى [الخطيبُ عن] أبي زُرعة قال: إنَّ في بيتي ما كتبتُه منذ خمسين سنة ولم أطالِعْه منذ كتبتُه، وإنِّي لأعلمُ في أيِّ كتاب هو، في أيِّ وَرَقٍ هو، وفي أيِّ صفحةٍ هو، وما سمعتُ بأُذُني شيئًا إلا وعاهُ قلبي، وإنِّي لأمشي في أسواق بغدادَ فأسمعُ من الغُرَف صوتَ المغنِّيات، فأضعُ أصبعي في أُذني مخافةَ أن يعِيَه قلبي (¬1). وقال محمَّد بنُ إسحاق الثقفيُّ: لما انصرف قتيبةُ بنُ سعيد إلى الرَّيِّ، سألوه أن يحدِّثهم، فامتنع وقال: أحدِّثكم بعد أن حضر مجلسي أحمدُ بنُ حنبل وابنُ معين وابنُ المديني؟ ! وعدَّ جماعة، فقالوا: إنَّ عندنا غلامًا يسردُ ما حدَّثتَ به مجلسًا مجلسًا، ثم قال: قم يا أبا زُرعة، فقام فسرد كلَّ ما حدَّثهم به قتيبة، فعجب، ثمَّ حدَّثهم حينئذٍ. وحكى ابن باكويه عن أحمد بن سعيد الدَّارميِّ قال (¬2): صلَّى أبو زُرعة عشرين سنةً وفي مِحْرابه كتابةٌ فيها اسمُ الله تعالى لم ينظر إليها، فقدم عليه جماعةٌ من المحدثين، فقالوا: ما تقول في الكتابة على المحاريب؟ فقال: قد كرهها قومٌ، قالوا: فهذه كتابة في محرابك! فرفع رأسه إليها فرآها (¬3)، وقال: والله ما رأيتها قبلَ اليوم، أيدخل الداخلُ على الله وَيدري ما بين يديه؟ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وقال أبو زرعة: إن في ... ، والمثبت من (ب). والكلام في "تاريخ بغداد" 12/ 41. (¬2) في (خ) و (ف): وقال محمد بن سعيد الدارمي، والمثبت من (ب) وهو الموافق لما في "تاريخ دمشق" 44/ 317. (¬3) في (خ) و (ف): وقرأها. والمثبت من (ب).

وكان أبو زُرعة يدعو للإمام أحمدَ بنِ حنبل رحمة الله عليه، ويقول: إنِّي لأكون في شدَّة، وأسأل الله ببركات أبي عبد الله؛ فيرفعها عنِّي وعن أهل بلدي. وقال (¬1): اِلتقاني رجلٌ فقال: ليكوننَّ لك شأنٌ من الشأن، فلا تقربنَّ أبوابَ هؤلاء -يعني الأمراءَ-[قال]: فخُيِّل إليِّ أنَّه الخَضِرُ، فقبلتُ وصيَّته. [ذكر وفاته: ] قال الخطيب بإسناده إلى أبي جعفر التُّسْتري: حضَرْنَا (¬2) أبا زُرعة وكان في السَّوْق وعنده أبو حاتم، ومحمَّد بنُ مُسلم بنُ وارة، والمنذر بنُ شاذان، وجماعةٌ من العلماء، فذكروا حديث التَّلْقين، وقولَه - صلى الله عليه وسلم -: "لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله" (¬3) فاستحيَوا من أبي زُرعة، وهابوا (¬4) أن يلقِّنوه، فقالوا: [تعالوا] (¬5) نذكر الحديث، فقال محمد بن مسلم بن وارة: حدَّثنا الضَّحَّاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، ولم يجاوز، والباقون سكوت، فقال أبو زُرعة وهو في السَّوق: حدَّثنا بُندار، حدَّثنا أبو عاصم، حدَّثنا عبدُ الحميد بنُ جعفر، عن صالح بن أبي عَريب، عن كثير بن مُرَّة الحَضْرمي، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان آخرُ كلامه لا إله إلا الله دخلَ الجنَّةَ" (¬6)، وتوفِّي رحمه الله. [وقال الخطيب: توفي] بالرَّيِّ يوم الاثنين سَلْخ ذي الحجَّة وقد بلغ أربعًا وستين سنة (¬7). [ذكر ما رُئيَ له من المنامات: ] روى الخطيب بإسناده إلى أحمدَ (¬8) بنِ محمد المُرادي [قال: ] رأيتُ أبا زُرْعَة [في ¬

_ (¬1) في (ب): وحكى ابن باكويه عنه قال: ... (¬2) في (خ) و (ف): وقال أبو جعفر التستري: حضرنا ... ، والمثبت من (ب) والكلام في "تاريخ بغداد" 12/ 45. (¬3) أخرجه مسلم (916) من حديث أي سعيد الخدري، و (917) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، والسَّوق: الاحتضار. (¬4) في (خ) و (ف): وتهابوا، والمثبت من (ب) وهو الموافق لما في "تاريخ بغداد" 12/ 45. (¬5) ما بين معكوفين من (ب)، وهو الموافق لما في "تاريخ بغداد". (¬6) أخرجه أحمد (22034)، وأبو داود (3116). (¬7) "تاريخ بغداد" 12/ 46، وما سلف بين معكوفين من (ب). (¬8) في (خ) و (ف): وقال أحمد ... ، والمثبت من (ب)، وما بين معكوفين منها، والكلام في "تاريخ بغداد" 12/ 47.

المنام فقلت له: يا أبا زرعة، ما فعل الله بك؟ قال: لقيتُ ربِّي تعالى فقال لي: يا أبا زُرعة، ] إنِّي أوتى بالطِّفل فآمر به إلى الجنَّة، فكيف بمَن حفظ السُّننَ على عبادي؟ تبوَّأ من الجنَّة حيثُ شئتَ. وقال يزيد (¬1) بن مَخلد الطَّرَسُوسي: رأيتُه في المنام فقلت: يا أبا زُرعة، إنَّ الجهمية قد آذونا. فقال: اسكت، فإنَّ أحمد بن حنبل قد سدَّ عليهم الماءَ من فوق. [قال: ] (¬2) ورآه محمَّد بنُ مسلم بن وارة في المنام، فقال [له: ] ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وقال: ألحقوه بأبي عبد الله وأبي عبد الله [وأبي عبد الله وأبي عبد الله] فقيل [لابن] وارة: فسِّر لنا هذا، فقال: أبو عبد الله الأوَّل؛ سفيانُ الثَّوري، والثاني: مالكُ بن أنس، والثالثُ: الشافعي، والرابع: أحمدُ بن حنبل. وحكى الحافظُ ابنُ عساكر عن حفصِ (¬3) بن عبد الله قال: رأيت أبا زُرعة في المنام وهو في السَّماء يصلِّي بالملائكة، فقلت له: بِمَ نلتَ هذا؟ فقال: كتبتُ بيدي ألفَ ألفِ حديث، في كلِّ حديث إذا ذكرتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أصلِّي عليه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من صلَّى عليَّ مرَّةً صلَّى الله عليه بها عشرًا" (¬4). أسند أبو زُرعة عن (¬5) خلقٍ كثير، منهم (¬6): الإمام أحمدُ بن حنبل رحمة الله عليه، والفضلُ بن دُكين، والقَعْنَبيُّ، والطَّيالسيُّ، وأبو سَلَمة، والبخاريُّ، ويحيى بنُ بُكَير المصريُّ وغيرهم، وروى عنه: أبو زُرعة الدمشقيُّ، ومسلمُ بنُ الحجَّاج، وأبو حاتم الرَّازيُّ، وعبدُ الله بنُ أحمد وغيرهم (¬7). ودخل أبو زُرعة على الإمام أحمد، فحدَّثه أحمدُ عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ¬

_ (¬1) في (ب): وقال الخطيب: ورآه يزيد ... ، وليست في "تاريخ بغداد". (¬2) ما بين معكوفين من (ب)، والخبر بنحوه في "تاريخ بغداد". (¬3) في (خ): وقال أبو حفص ... ، وفي (ف): وقال حفص ... ، والمثبت من (ب)، والكلام في "تاريخ دمشق" 44/ 325. (¬4) أخرجه أحمد (6568)، ومسلم (384) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. (¬5) في (خ) و (ف): أسند الحديث عن ... ، والمثبت من (ب). (¬6) من هنا إلى آخر السنة ليست في (ب)، وأتى مكانها: والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. (¬7) "تهذيب الكمال" 5/ 46 - 47، و "السير" 13/ 66.

منصور، عن سالم، عن جابر: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجدَ جافى جنبيه (¬1)، ومَجْمَجَ (¬2) أحمدُ عليه في الإسناد، فقال أبو زُرعة: في أيِّ خبرُ هذا الحديث؟ فقال الإمام أحمد: أخاف أن يكون فيه غلط، فقال أبو زُرعة: حدثنا محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ، عن رضوان البخاريِّ، عن الفضيل بن عياض، عن منصور، عن سالم، عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى بين جنبيه. فقال الإمام أحمد رحمه الله: هاتِ القلم، وكتب: صحّ صحّ صحّ، ثلاثَ مرَّات (¬3). * * * ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (2922)، ومن طريقه أحمد (14138)، وأخرجه الطحاوي في "معاني الآثار" 1/ 231، والخطيب البغدادي في "تاريخه"12/ 34 من طريق هشام بن يوسف الصنعاني عن معمر عن منصور عن سالم عن جابر ... (¬2) المجمجة: تغيير الكتاب وإفساده عمَّا كتب. اللسان (مجج). (¬3) ينظر ما سلف من الأخبار في "تاريخ بغداد" 12/ 33 - 47، و"تاريخ دمشق"44/ 292 - 325، و"المنتظم" 12/ 193 - 195، و"تهذيب الكمال" 5/ 46 - 50، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 65 - 85، و"تاريخ الإسلام" 6/ 360 - 366.

السنة الخامسة والستون بعد المئتين

السنة الخامسة والستون بعد المئتين فيها خرج ابن طولون من مصرَ إلى الشام في المحرَّم، فحصر سيما الطَّويل بأنطاكية، ولم يزلْ مقيمًا عليها [حتى افتتحها] (¬1)، وقَتَل سيما. وفيها في المحرَّم لحق محمد المولَّد (¬2) بيعقوب بنِ اللَّيث، وصار من خواصِّه، فأمر المعتمد بقَبْض أمواله. وفيها أمر أبو أحمد الموفَّق بحبس سليمانَ بنِ وهب وابنِه عُبيد (¬3)، فحُبسا، وقَبضَ أموالهما وعقارَهما، ثمَّ صُولحا على تسعِ مئةِ ألف دينار. وفيها استوزر إسماعيل بن بُلْبُل، ومات يعقوب بنُ اللَّيث بالأهواز، وخلفه أخوه عمرو بنُ اللَّيث، وكتب إلى المعتمد بأنَّه سامع مطيع. وفيها بعث ملك الرُّوم بعبد الله بنِ رُشيد بن كاوس الذي كان عاملَ الثُّغور إلى أحمد بنِ طولون مع عدَّة أسارى [ومصاحف] كان أحدُها مع أهل أَذَنَة، فبعث بذلك إلى أحمد هَديَّة (¬4). وفيها وصلت الزَّنج إلى جَبُّل، فأخذوا سُفُنًا فيها طعام. وفيها لحق العبَّاسُ [بنُ] أحمدَ بن طولون ببَرْقة مخالفًا لأبيه، وكان أبوه قد استخلفه على مصر لمَّا توجَّه إلى سيما محاصرًا بأنطاكية، وحمل معه -العبَّاسُ- ما في بيت مال مصرَ من الأموال، وما كان لأبيه من الأثاث وغيرِ ذلك، ثمَّ مضى إلى بَرْقة، فوجَّه أبوه أحمد خلْفه جيشًا، فظفروا به، فردُّوه إلى أبيه، فحبسه، وقتل جماعةً من القوَّاد الذين كانوا مع ابنه، وكانوا قد تركهم في خدمة العبَّاس، [فأشاروا عليه] بالعصيان (¬5)، فعصى وأخذ العساكر والأموال وتوجَّه نحو بَرْقة إلى إفريقية، فوصل إلى لَبْدة، فخرج ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من "تاريخ الطبري" 9/ 543. (¬2) في (خ): المؤيد. والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في تاريخ الطبري 9/ 543، و"تاريخ الإسلام" 6/ 245. (¬3) في (خ) و (ف): عبد، والمثبت من "تاريخ الطبري"، و"الكامل في التاريخ" 7/ 327، و"تاريخ الإسلام". (¬4) تاريخ الطبري 9/ 543، وما بين حاصرتين استدرك منه. (¬5) انظر "الكامل" 7/ 324.

إبراهيم بن هانئ

إليه عاملُها وأهلُها، وتلقوه بالإكرام، فأمر العبَّاس بنهْبِهم على غِرَّة، فنُهبوا، وقتل رجالَهم وسبى نساءَهم، وبلغ ذلك إلياسَ بنَ منصور النَّفُوسيَّ رأسَ الإباضيَّة -وهو يومئذ بجبل نَفوسة- فسار إلى العبَّاس في اثني عشر ألفًا، وبعث إبراهيم بنُ أحمد بنِ الأغلب العجليُّ صاحبُ إفريقية جيشًا كثيفًا مع غلامٍ له، فأطبق الجيشان على العبَّاس، فباشر الحربَ بنفسه، فقُتلت صناديدُه، ونُهبت أموالُه، فعاد إلى بَرْقة، فبعث إليه أبوه جيشًا، فهرب أصحابُه، وأسروه، وحملوه إلى أبيه مقيَّدًا، فحبسه، وقتل مَنْ بقي معه من الَّذين أشاروا عليه بالعِصيان (¬1). وفيها (¬2) دخل الزَّنج النُّعمانية، فأحرقوا أسواقَها وأكثرَ منازل أهلها، وقتلوا وسبَوا، ووصلوا إلى جَرْجَرايا، فانهزم أهلُ السَّواد، ودخلوا إلى بغداد، وعاد الزنج إلى مواضعهم. وفيها ولَّى أبو أحمد الموفَّقُ عمرَو بنَ الليث خُراسان، وكِرْمان، وفارس، وأَصبهان، وسِجِسْتان، والسِّند، وأشهد عليه الشُّهودَ بذلك، وبعث بعهده مع أحمدَ بنِ أبي الأصْبَغ، وبعث معه بالخِلَع. وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمَّد بنِ إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشميُّ (¬3). [فصل] وفيها توفي إبراهيمُ بنُ هانئ أبو إسحاق النَّيسابوريُّ، رحل في طلب العلم إلى العراق والشَّام ومصرَ والحجاز، ثمَّ استوطن بغدادَ. [قال الخطيب: ] واختفى أحمدُ [بن حنبل] في داره أيَّام المحنة، وكان [أحمد] يُثني عليه ويقول: أبو إسحاق أقوى منِّي على العبادة، إنِّي لا أُطيق ما يُطيق، وإنَّ [أبا إسحاق من الأبدال، وفي رواية: إنْ] كان ببغدادَ أحدٌ من الأبدال فإبراهيم (¬4). ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 9/ 545، و"تاريخ دمشق" 32/ 67 - 68، و"الكامل" 7/ 324، و"تاريخ الإسلام" 6/ 245 - 246، وما سلف بين معكوفين منها. (¬2) من بداية السنة إلى هنا ليس في (ب). (¬3) ذكر هذه الأخبار الطبري في "تاريخه" 9/ 545، وابن الجوزي في "المنتظم" 12/ 197، وابن الأثير في "الكامل" 7/ 322، 326، 328. (¬4) "تاريخ بغداد" 7/ 160 - 163، و"المنتظم" 12/ 197 - 198، وما سلف ويأتي بين معكوفين من (ب).

سعدان بن نصر

[وروى الخطيب عن أبي بكر النَّيسابوريِّ قال: ] لما احتُضر أبو إسحاق قال لابنه: أنا عطشان، فجاءه بماء، فقال: يا بُني، غابت الشمس؟ قال: لا، قال: فردَّه، ثمَّ قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} [الصافات: 61]. ثمَّ خرجتْ روحُه، وذلك في ربيع الآخر من هذه السَّنة، وفي رواية: فقال له ابنُه: قد رُخِّص لك في الإفطار وأنت متطوِّع. فقرأ الآية ومات. سمع خَلْقًا كثيرًا منهم: أحمد بن حنبل ببغداد، وأبا اليَمان، وقَبيصة، ومحمدَ بن بكَّار، وأبا نُعيم الفضلَ بن دُكَين، وعفَّانَ بن مسلم وغيرهم. وأجمعوا على صدقِه، وثقتِه، ودينه، وعبادتِه (¬1). سَعْدَان (¬2) بن نَصْر ابن منصور، أبو عثمان، الثَّقفيُّ، البزَّاز، واسمه سعيد، ولد سنةَ اثنتين وسبعين ومئة، رحل في طلب العِلم، وسمع الشُّيوخ، وتوفِّي في ذِي الحجَّة وقد جاوز تسعين سنةً. سمع سفيانَ بنَ عُيينة وغيرَه، وروى عنه ابنُ أبي الدُّنيا وغيرُه. وكان شاعرًا، فمن شعره: [من السريع] أيا غريمَ الموتِ يا ابْنَ (¬3) الخُطى ... أنتَ بأنفاسك مَلْزومُ يا مُغْفِلَ الموتِ تناسيتَهُ ... حتَّى كأنَّ الموتَ مكتومُ قد ماتَ مَنْ كانت له فارسٌ ... حينًا ومَنْ كانت له الرُّومُ وكان ثقة (¬4). صالح ابن الإمام أحمدَ ابن محمد بن حَنْبل، أبو الفَضْل، الشَّيباني، ولد سنةَ ثلاثٍ ومئتين في ربيع الآخر، ولي القضاءَ بأصبهان، فلمَّا دخلها بدأ بالجامع، فصلَّى ركعتين، فاجتمع النَّاس ¬

_ (¬1) هذه العبارة أتت في (خ) و (ف) بعد قوله: سمع خلقًا كثيرًا، مختصرة. (¬2) ترجمة سعدان بن نصر، وصالح ابن الإمام أحمد، وعبد الله بن محمد بن أيوب، ليست في (ب). (¬3) في المصادر: أين الخطى. (¬4) "تاريخ بغداد" 10/ 283 - 284 - والأبيات فيه-، و"المنتظم" 12/ 199، و"تاريخ الإسلام"6/ 335.

عبد الله بن محمد بن أيوب

والشُّيوخ، فقرأ عهدَه عليهم وهو يبكي، فبكَوا وقالوا: والله كلُّنا نحبُّ أبا عبد الله، فازداد بكاؤه وقال: وددتُ أبي أن يراني في مثل هذه الحالة، وكان عليه ثيابٌ سواد وقال: كان أبي إذا جاءه رجلٌ مُتَقَشِّفٌ يبعثُ خلفي لأنظرَ إليه؛ يُحبُّ أن أكون مثلَه، وكان إذا انصرف مجلسُ الحُكْم يخلعُ سَوادَه ويقول: ترى أموتُ على هذا؟ والله ما دخلتُ فيه إلا لِدَين رَكِبَني، وعجزتُ عن وفائه مع كثرة العيال. وقال الخطيب (¬1): قدم دمشقَ، وحدَّث بها، وولي القضاءَ بطَرَسوس، ثمَّ قدم إلى بغداد، وكان يجلس للفقه وعلى رأسه طويلةُ (¬2)، فجاءت عجوزٌ فوقفت عليه وقالت: أعرف أباك وهو يخرج من بيته ولا شيءَ على رأسه، ما رفعه الله بهذه الطَّويلة، وإنَّما رفعه من فَوق. سمع أباه الإمامَ أحمد، وعفَّانَ بنَ مسلم، وابنَ المديني وغيرَهم، وروى عنه ابنُه زهير، والبغويُّ، والحسنُ بن حبيب وغيرُهم. وتوفِّي بأصبَهان في رمضان سنةَ خمسٍ وستين ومئتين، وقيل: سنةَ ستٍّ، أو ثلاثٍ أو أربعٍ وستِّين، وله ثلاثٌ وستون سنة، ودُفن ببابِ بيرة، وكان صدوقًا، كريمًا، جوادًا، صالحًا، كما سُمِّي (¬3). عبد الله بن محمد بن أيوب أبو محمد، المُخَرِّمي، الزاهدُ، الورعُ. قال محمد بن محمد بن سليمان الباغَنْدي: كنتُ بسُرَّ مَن رأى، وكان عبد الله المُخَرِّمي يَقْرب إليَّ، وكان مُقيمًا ببغداد، فخرج توقيعُ الخليفة بتَقْليده القضاء، فانحدَرْتُ في الحال إلى بغداد، فطرقتُ الباب عليه فخرج، فقلت له: البُشرى. فقال: بشَّرك الله بخير، وما هو؟ قلت: خرج توقيعُ الخليفة بتقليدكَ القضاءَ لأحد البَلَدَين؛ إمَّا بغداد وإمَّا سُرَّ مَن رأى. فأطبق الباب، وقال: بشَّرك الله بالنَّار، وجاء أصحابُ السُّلطان، فلم يَظهر لهم، فانصرفوا. ¬

_ (¬1) في "تاريخه" 12/ 433. (¬2) يعني: قلنسوة طويلة. (¬3) "تاريخ بغداد" 12/ 433 - 434، و"المنتظم" 12/ 199، و"تاريخ الإسلام" 6/ 343.

علي بن الموفق

وتوفِّي في جمادى الأولى (¬1) وقد جاوز السبعين. سمع سفيان بن عُيينة وغيره، وروى عنه أبو حاتم الرَّازي وغيره، وكان ثقة. [وفيها توفي] عليُّ بن المُوَفَّق [أبو الحسن] العابد، صاحبُ (¬2) الكرامات والمقامات. حكى الخطيبُ بإسناده عن محمد بن أحمد المهتدي (¬3) قال: سمعت عليَّ بن الموفَّق يقول: أضَقْتُ إضاقةً شديدة، فخرجتُ يومًا لأؤذِّن، فأصبتُ قرطاسًا فيه مكتوب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يا عليَّ بن الموفَّق، تخشى الفقرَ وأنا ربُّك. قال: وسمعتُه يقول ما لا أُحصيه: اللَّهمَّ إن كنتَ تعلم أنِّي أعبدكَ خوفًا من نارِكَ فعذِّبْني بها، وإن كنتَ تعلم أنِّي أعبدكَ حُبًّا لجنَّتك وشوقًا إليها فاحْرِمْنيها، وإن كنتَ تعلم أنَّما أعبدكَ حبًّا منِّي لك، وشوقًا إلى وجهِكَ الكريم، فأبحْنيه وافعلْ بي ما شئتَ. وحكى الخطيب عنه أنَّه قال (¬4): لمَّا تمَّ لي ستُّون حجَّة خرجتُ من الطَّواف، وجلستُ حِذاءَ المِيزاب، وجعلتُ أفكِّر لا أدري ما حالي عند الله، وقد كثُر تردُّدي إلى هذا المكان، فغَلَبتْني عيناي [فنمتُ]، فكأنَّ قائلًا يقول: يا عليّ، أتدعو إلى بيتك إلَّا من تحبُّه؟ فانتبهتُ وقد سرِّي عنِّي ما كنتُ فيه. و[في رواية عنه أنَّه] قال: كنتُ في الموقف، فسمعتُ ضجيجَ النَّاس، فقلت: اللَّهمَّ إن كان في هؤلاء مَن لم يُقبل حجُّه فقد وهبتُ حجَّتي له، [قال: ] ونمت، فرأيت ربَّ العزَّة سبحانه في المنام وهو يقول: يا عليّ، يا ابنَ الموفّق، أتتسخَّى عليَّ وأنا الملكُ، ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): الآخرة. والمثبت من "تاريخ بغداد"11/ 281، و"المنتظم" 12/ 200. (¬2) قبلها في (خ) و (ف): كان. (¬3) في (خ) و (ف): والمقامات قال أحمد بن محمد المهتدي، والمثبت وما سلف بين معكوفين من (ب). والكلام في "تاريخ بغداد" 13/ 600. (¬4) في (خ) و (ف): وقال ابن الموفق، والمثبت وما سيأتي بين معكوفين من (ب)، والكلام في "تاريخ بغداد" 13/ 599 - 600، و "صفة الصفوة"2/ 386 - 387.

قد غفرتُ لأهل الموقف، وشفَّعتُ كلَّ واحد منهم في أهل بيته وذرَّيته وعشيرته (¬1). وقال [الخطيب (¬2) بإسناده إلى] أبي العبَّاس محمَّدِ بنِ إسحاق الثقفيِّ: سمعتُ ابنَ الموفَّق يقول: حَجَجْتُ على قدمي ستِّين حجَّة، منها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ثلاثين حجَّة، قال أبو العبَّاس الثقفيُّ: فاقتديت بابن الموفَّق، فحججتُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] سبع حِجَج، وضحَّيتُ عنه مئةً وسبعين أضحية، وقرأتُ القرآن عنه اثنتي عشرة مرَّةً، وجعلتُ أعمالي كلَّها له. [قلت: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مستغن عنهما، فلو جعلاه لأنفسهما لكان أولى.] [وقال أبو الحسين بن المنادي: ] مات عليُّ بن الموفق رحمه الله ببغداد [سنة خمسٍ وستين ومئتين، ] ولما خرجوا بجنازته رأى الفَتْحُ بن شَخْرف الأُزُر تُطرح على تابوته فقال: ما أحسن هذه المُزاحَمات لو كانت على الأعمال. [وحكى الخطيب عن] أحمدَ بن عبد الله الحفَّار (¬3) [قال: ] رأيتُ الإمام أحمدَ بن حنبل رحمة الله عليه في المنام، فقلت: ما فعل الله بكَ؟ فقال: حَبَاني وأعطاني، وقرَّبني إليه وأدناني، قلت: فما فعل عليُّ بنُ الموفَّق؟ قال: السَّاعة تركتُه في زَلّال وهو يريد العَرْش (¬4). حدَّث [عليُّ بنُ الموفَّق] عن منصور بن عمَّار، [وأحمدَ بن أبي الحَواري] وغيرهما، وروى عنه أحمدُ بن مسروق الطُّوسيُّ وغيرُه، واتَّفقوا على صدقه وثقتِه وفَضْله - رضي الله عنه -. [وأخرج له الخطيب حديثًا عن يعلى بن مُنْية، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ النار لَتقول يوم القيامة: جُزْ يا مؤمن، فقد أطفأ (نورُك لهبي) (¬5) ". انتهت ترجمة ابن الموفَّق، والحمد لله وحده.] ¬

_ (¬1) ذكر الخبر أبو نعيم في "الحلية"10/ 312، وابن الجوزي في "صفة الصفوة"، والصفدي في "الوافي بالوفيات" 22/ 265. (¬2) في (خ) و (ف): وقال أبو العباس بن محمد ... ، والمثبت وما بين معكوفين من (ب) والكلام في "تاريخ بغداد" 13/ 599. (¬3) في (ب): محمد بن عبيد الله الحفار. (¬4) "تاريخ بغداد" 13/ 600 - 601. والزلّال: بفتح وتشديد اللام، مبالغة اسم الفاعل من زلّ، بمعنى انزلق، وكان يطلق أيام العباسيين على زورق كبير طويل سريع الانزلاق في الماء. تكملة المعاجم 5/ 344. (¬5) "تاريخ بغداد" 13/ 599، وما بين حاصرتين منه. وفي إسناده: منصور بن عمار، وهو منكر الحديث. كما في "ميزان الاعتدال" 4/ 385.

عمرو بن مسلم

[وفيها توفي] عمرو بن مُسلم (¬1) أبو حَفْص، الزَّاهد، النَّيسابوريُّ، كان من الأبدال، مُجابَ الدعوة، [ذكره أبو عبد الله الحاكم في "تاريخ نيسابور"، وأثنى عليه، وذكر له حكايةً فقال: سمعتُ أبا الحسن بن إسحاق المزكي يقول: سمعت جعفر الخير يقول: سمعت أبا عثمان سعيدَ بن إسماعيل [يقول: ] قال أبو حفص: اذهب فاقترضْ لي من بعض إخواننا ألفَ درهم إلى شهر، [قال: ] فاقترضتُها وحملتها (¬2) إليه، فوضع لعياله منها قوتَ سنة، ثمَّ خرج إلى الحجِّ، [قال: ] فتحيَّرتُ في أمري، وجعلتُ أعدُّ الأيام وأقول: قد قرُب الأجل، فمِنْ أين أؤدِّي هذه الألف وهو غائب، [قال: ] فلمَّا كان اليوم التَّاسعُ والعشرون خرجتُ لصلاة الصُّبح، فرأيت السِّكَّة من أوَّلها إلى آخرها جُوالقات (¬3) مطروحةٌ، والحمَّالون عليها قُعود، فقلت في نفسي: تُرى لمن هذه؟ وإذا بحمَّال يقول لي: بعْ هذه الحِنطةَ واقضِ بها دينَ فلان. [قال: ] فبعتها بألف درهم، وقضيت دَين أبي حفص (¬4)، فلمَّا جاء من الحجِّ لقيتُه، فقال لي في أوَّل كلمة: لِمَ شَغَلتَ فكرك شهرًا؟ هلَّا وثقتَ بربِّك. وقال أبو عثمان: دخلت معه على مريضٍ، فقال المريض: آه، فقال أبو حفص: ممَّن؟ فسكت، فقال: مع مَنْ؟ . وكانت وفاتُه ليلةَ الجمعة لاثنتي عشرةَ ليلة خلتْ من ربيعٍ الأوَّل، وقيل: توفِّي في سنة أربع وستين، أو سبع وستين، أو سبعين ومئتين، والأوَّل أصحّ (¬5). [وفيها توفي] ¬

_ (¬1) في "تاريخ بغداد" 14/ 133، و"السير" 12/ 510، و"تاريخ الإسلام" 6/ 378: عمرو بن سَلْم، والمثبت موافق لما في "المنتظم"12/ 203. (¬2) في (خ) و (ف): وبعثتها، والمثبت من (ب). (¬3) قال في اللسان (جلق): هو وعاء من الأوعية معروف، ولم يقولوا جُوالقات، استغنوا عنه بجواليق. (¬4) في (خ) و (ف): وقضيت بها دينه. (¬5) "المنتظم" 12/ 203 - 204.

يعقوب بن الليث [الصفار]

يعقوب بن اللَّيث [الصَّفَّار] الخارجيُّ المتغلِّب على سِجستان، وطَبَرِسْتان، وخُراسان، وفارس وغيرها، وكان قد طغى وبغى، وتجبَّر وتكبَّر، وقصد المعتمد ليَحكم عليه، فالتقاه أبو أحمد الموفَّق، فكسره فانهزم، وقد ذكرناه. وكانت وفاتُه بالأهواز، وحُمل تابوته إلى جُنْدَيسابور، وخلَّف في بيت ماله مئة ألف ألف دينار، وخمسين ألف ألف درهم، وكتب على قبره: [هذا قبر] يعقوب المسكين، وتحته هذين البيتين: [من البسيط] أحسنْتَ ظنَّكَ بالأيَّام إذ حسُنَتْ ... ولم تَخَفْ سُوءَ ما يأتي به القَدَرُ وسالمتْكَ اللَّيالي فاغْتَررْتَ بها ... وعند صَفْو اللَّيالي يحدُث الكَدَرُ (¬1) [فولَّى أبو أحمد الموفَّقُ أخاه عمرَو بنَ اللَّيث ما كان إلى أخيه، وقد ذكرناه، والله أعلم.] * * * ¬

_ (¬1) قوله: هذين البيتين؛ من (ب). والخبر مع البيتين في "المنتظم" 12/ 206، و"وفيات الأعيان"6/ 420، والبيتان نُسبا لأبي العتاهية، وهما في ديوانه ص 536.

السنة السادسة والستون بعد المئتين

السنة السادسة والستون بعد المئتين (¬1) فيها كتب عمرو بن الليث [صاحب خُراسان] إلى عبيد (¬2) الله بنِ عبد الله بنِ طاهر بأن يكون نائبَه على الشرطة ببغداد (¬3)، وكان في عهد عمرو بن الليث ذلك، وبعث إليه [عمرو] بخِلعة وعمودٍ من ذهب، وخلع الموفقُ أيضًا على عبيد الله. وفيها وصلت سرايا الرُّوم إلى ديار ربيعة، فقتلتْ جماعةً من المسلمين، وهرب أهلُ الجزيرة والموصل. ومات في المحرَّم سليمانُ بنُ عبد الله بنِ طاهر، وكان على شرطة بغداد. ومات أبو السَّاج بجُنْدَيسابور في ربيع الأوَّل. وولَّى عمرو بنُ اللَّيث أحمدَ بن عبد العزيز [بن] أبي دُلَف أصبهان. وولَّى الموفَّق محمدَ بن أبي السَّاج الحرمين وطريقَ مكة. وفيها دخل عليُّ بن أبان مُقَدَّم الزَّنج الأهوازَ، فقاتله أغرتمش التركيُّ، وجرى بينهم قتال شديد، فهزمه عليُّ بن أبان ووجَّه بالرؤوس إلى الخبيث، فنصبها على سور مدينته، وكانت الحربُ بين عليِّ بن أبان وأغرتمش سِجالًا، وابنُ أبان يَظهر في كلِّ مرَّة عليه. وفي شوَّال قتل أهلُ حمص عاملَهم الكرخيَّ. وفيها دعا الحسن بنُ محمد بنِ جعفر بنِ عبد الله بنِ حسين (¬4) الأصغر أهلَ طَبَرِسْتان إلى نفسه، وكان أحمدُ بن عبد الله الخُجُسْتانيُّ قد خرج على الحسن بن زيد، فاستحلف الحسن بن محمد أنَّ الحسنَ بنَ زيد قُتِل، فحاربه الحسنُ بنُ محمد، فاحتال له الحسنُ ¬

_ (¬1) جاءت هذه السنة مختصرة في (ب) لا تتجاوز سبعة أسطر، وما سيأتي بين معكوفين منها. (¬2) في (خ) و (ف): عبد، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في "تاريخ الطبري" 9/ 549، و"الكامل " 7/ 332، و "تاريح الإسلام" 6/ 246. (¬3) في (خ) و (ف): على شرطة بغداد، والمثبت من (ب). (¬4) في "تاريخ الطبري" 9/ 552: حسن، والمثبت موافق لما في "الكامل" 7/ 335.

ابن زيد حتَّى ظفر به فقتله (¬1). وفيها حارب الخُجُستانيُّ عمرَو بن اللَّيث، فظهر على عمرو، فهزمه ودخل نيسابور، فأخرج عاملَ عمرو منها، وقتل جماعةً ممَّن كان يميل إلى عمرو. وفيها كانت وقعةٌ بالمدينة ونواحيها بين الجَعافِرَة والعلويِّين، وسببُها: أنَّ العاملَ على المدينة ووادي القُرى ونواحيها إسحاقُ بنُ محمد بنِ يوسف الجَعْفَريّ، فولَّى وادي القُرى عاملًا من جهته، فوثب أهلُ الوادي على الغُلام فقتلوه، وقتلوا أخوين لإسحاق، فخرج إسحاقُ لوادي القرى ليقاتِلَهم، فمرض ومات، فقام بأمر المدينة أخوه موسى بنُ محمد، فخرج عليه الحسنُ بن موسى بن جعفر، فأرضاه بثمان مئة دينار، ثمَّ خرج عليه أبو القاسم أحمدُ بنُ محمد بنِ إسماعيل بنِ الحسين (¬2) بن زيد، [ابنُ] عمِّ الحسن بن زيد صاحب طَبَرِسْتان، فقتل موسى، وغلب على المدينة فضَبَطها، وكان قد غلا بها السِّعر، فرفع الجبايةَ عنهم، وجلب الغلَّة، فرخصت المدينةُ، وسكنت الفتنةُ، فأقام بها إلى أن قدم إليها ابنُ أبي السَّاج. وفيها وثب الأعرابُ على كسوة الكعبة (¬3)، فانتهبوها، وصار بعضُها إلى صاحب الزنج، وأصاب الحاجَّ شدَّةٌ شديدة. وفيها دخل إسحاقُ بن كنداج [نَصِيبين]، فاستنجد عليه إسحاقُ بن أيوب عيسى (¬4) ابنَ الشَّيخ صاحبَ آمِد، فأنجده، فظهر على ابن كنداج، وبعث المعتمدُ إلى ابن كنداج بخِلَع ولواء، وولَّاه الموصلَ وديارَ ربيعة وأرمينيةَ، فبعثوا يطلبون الصُّلح وبذلوا مالًا. وفيها وافى محمَّدُ بن أبي السَّاج مكَّةَ وبها المخزوميُّ (¬5)، فحاربه، فهزمه ابنُ أبي ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ف). والذي في "تاريخ الطبري" 9/ 552، و"الكامل، 7/ 335: وذلك أن الحسن بن زيد عند شخوصه إلى جرجان كان استخلفه بسارية، فلما كان من أمر الخُجُستاني وأمر الحسن ما كان يحرجان، وهرب الحسن منها، أظهر العقيقي -وهو الحسن بن محمد- بسارية أن الحسن قد أسر، ودعا من قبله إلى بيعته، فبايعه قوم، ووافاه الحسن بن زيد فحاربه، ثم احتال له الحسن حتى ظفر به فقتله. (¬2) في "تاريخ الطبري" 9/ 553: الحسن. وما سيأتي بين معكوفين منه. (¬3) في (خ) و (ف): على كسوة الأعراب. وهو خطأ. (¬4) في (خ) و (ف): العبسي. وهو خطأ، والمثبت من الطبري 9/ 553 وما بين معكوفين منه. (¬5) في "تاريخ الطبري" 9/ 553: ابن المخزومي، وانظر "الكامل" 7/ 336.

السَّاج، واستباح ماله، وذلك يوم التَّروية. وفيها دخل أصحاب قائد الزَّنج رامَهُرْمُز، فاستباحوها. وفيها كانت لأكراد الدَّاربان (¬1) وقعةٌ مع الزَّنج عظيمة، ظهر الزَّنج على الأكراد في أوَّلها، وكان قائدَ الزَّنج عليُّ بنُ أبان، وكان الأكراد بمكان يقال له: الدَّاربان قريبًا من رامَهُرْمُز، وكان ابن أبان لمَّا دخل رامَهُرْمُز صالحه محمَّد بن عبيد الله بن أزامَرْد (¬2) على ثمانين ألف درهم؛ على أن يكفَّ عنه، وأن يكونَ عند عليِّ بن أبان عسكر من محمَّد، فأجابه، فلمَّا قصد ابنُ أبان الأكرادَ طلب من محمَّد جندًا، فبعث له، فلمَّا قصد ابن أبان الأكراد خذله أصحابُ محمَّد، فانهزم الزَّنج، وعمل فيهم السَّيف فقُتِل أكثرُهم. وكتب الخبيث إلى محمَّد يقول: قد علمت أنَّ الذي جرى على أصحابي إنَّما كنتَ سبَبَه، وتهدَّده، فخاف محمَّد منه، فبعث إليه بخيل وعدَّة، وكتب يعتذر ويتضرَّع للخبيث، وكاتب أصحابَ الخبيث وأهدى لهم؛ مثل: عليٍّ بن أبان وبَهْبُوذ والكِرْماني وغيرهم، فكلَّموا الخبيث فيه فقال: لا أرضى عنه حتَّى يخطب لي على منابرِ أعماله، فكتبوا إليه فطاولهم، وكان مقيمًا بمكانٍ يقال له: مَتُّوث، من كُوَر الأهواز، فقصده عليُّ بن أبان ومعه المجانيق والسَّلالم. وكان أبو أحمد قد قدَّم في مقدمته إلى الزَّنجي مَسْرورًا البَلْخيَّ، فصار يقصد الأهواز، ولم يعلم بحصار الخبيث وعليِّ بن أبان محمدٌ، فوافاهم وهم يقاتلون، فلمَّا رأوا أوائل خيلِ مَسْرور انهزم عليُّ بن أبان أقبح هزيمة، وترك ما كان معه من الآلات، فقتل منهم مسرورٌ جمعًا كثيرًا وأسر، وبعث بالرؤوس إلى الموفَّق، وشاعت الأخبار بوصول الموفَّق إلى قتال الزَّنج، فطابت قلوب الناس واطمأنُّوا، وقيل: إنَّما شاعت الأخبار بوصول المعتمد. وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمد الذي حجَّ بهم في السَّنة الماضية (¬3). ¬

_ (¬1) في (ف): الداربار، والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 554 - 555، وفي "الكامل" 7/ 331: الدارنان. (¬2) في "تاريخ الطبري" 9/ 555: أزارمرد. (¬3) "تاريخ الطبري " 9/ 555 - 556.

إبراهيم بن أورمة

وفيها توفي إبراهيم بن أُوْرمة ابن سياوش بن فَرُّوخ أبو إسحاق، الأصبهانيُّ. سكن بغداد، وكان يُشَبَّه بالإمام أحمدَ بنِ حنبل، وابنِ معين، وابن المديني وطبقتِهم، وكان حافظًا، مُتقنًا، ثَبْتًا، ثقة، توفِّي يوم السبت لأربعٍ خلَون من ذي الحجَّة، وله خمس وخمسون سنة، والله أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 6/ 540 - 544، و "المنتظم" 12/ 208 - 209.

السنة السابعة والستون بعد المئتين

السَّنة السَّابعة والستُّون بعد المئتين فيها دخل الزَّنج واسِطًا، فقتلوا وأحرقوا، وبلغ الخبرَ الموفَّقُ وهو ببغداد، فجهَّز ابنَه أبا العبَّاس إلى الزَّنج في عشرة آلاف فارس في أحسن زيِّ وأكمل عُدَّة، ومن الرَّجَّالة ما لا يُحصى، ومعهم المعابرُ والسُّفن قد أُحكمت، فرحل أبو العبَّاس فنزل المدائن، وشيَّعه أبوه، ثمَّ رحل فنزل دَيرَ العاقُول، وكان قد قدَّم في السُّميريَّات والشَّذا نُصيرًا -المعروف بأبي حمزة- بين يديه، وأمره أن يكشف خبر قائد الزَّنج هو وسليمان بن جامع، وكان قد وافى في خيل ورجَّالة وسُميريات، وكذا الجبَّائي (¬1) وسليمان بن موسى، وأنَّهم قد أخذوا المضايق، ثمَّ عادوا فاجتمعوا، ونزل أوَّلهم بفم الصِّلْح وآخرُهم ببستان موسى بن بُغا أسفلَ واسِط. فأرسل أبو العبَّاس طائفةً من عسكره، وتأخَّر بفم الصِّلْح، ثمَّ التقَوْا في الظَّهْر والسُّفُن، واقتتلوا، فمنح الله أبا العبَّاس أكتافَهم، فانهزموا لا يَلْوُون على شيء؛ وأبو العبَّاس في أكتافهم، حتَّى أدرك آخرَهم بقرية عبد الله، وهي ستَّة فراسخ كثيرًا (¬2)، وكان ذلك أوَّلَ الفتح. وأشار أصحاب أبي العبَّاس عليه بأن يعسكر بالصِّلْح؛ المكانِ الذي كانت الوَقْعة فيه، إشفاقًا عليه من الزَّنج، فقال: ما أنزل إلا واسِطًا، فنزلها. واجتمع أصحاب الخبيث: سليمانُ بن موسى الشَّعرانيُّ، وعليُّ بن أبان، وسليمانُ بن جامع، وأداروا الرّأي، وقالوا: هذا فتًى حَدَثٌ، لم يُمارِس الحرب، والرَّأيُ أن نرميه بحدِّنا وحديدنا في أوَّل مرَّة؛ فلعلَّه أن يَرتدعَ فيرحلَ إلى موضع جاء منه، أو نَظفر به، فاجتمعوا وحشدوا. ودخل أبو العبّاس واسطًا في أحسن زيٍّ، واستأمن إليه خلقٌ كثير، ثمَّ انحدر إلى العُمْر (¬3) -وهو على فرسخ من واسط- فأقام به، ورتَّب غلمانه في السّفن يراوحونهم ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): الحاني، وفي "الكامل" 7/ 338: الحياتي، والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 558. (¬2) كذا، وانظر "تاريخ الطبري" 9/ 559. (¬3) في النسخ: القم. والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 559.

القتال ويغادونهم. واستعدَّ سليمان بنُ موسى الشَّعراني للقاء أبي العبَّاس، وفرَّق أصحابه ثلاثَ فرق في ثلاث نواحٍ، وجاؤوا بحدِّهم وحديدهم وفارِسِهم وراجِلِهم، فلقيهم أبو العبَّاس، فانهزموا وتفرَّقوا في كل موطن، ثمَّ ورد الخبر على أبي العبَّاس بأنَّهم على عزم كَبْس عسكرِه، وأنهم قد أقاموا كمينًا فيه عشرةُ آلاف، وساروا في السفن والبَرِّ، والتقاهم أبو العبَّاس، فمنحه الله أكتافهم، وانهزم سليمان والجبَّائي وحدهما راجِلَين، وغنم أبو العبَّاس الجميع، وكان سليمان قد حفر حفائرَ وجعل فيها سَفافِيد (¬1) الحديد قيامًا، وغشَّاها بالبَواري (¬2) ليتهوَّر فيها الفرسان، وعلم أبو العبَّاس فاحترز. ثمَّ كتب سليمان إلى صاحب الزَّنج يستمدُّه، فأمدَّه بأربعين سُميريَّة فيها أربعون مجذافًا (¬3)، وفيها الرِّجال والعُدَد والسِّلاح، فأقاموا شهرين يقاتلونهم، فرتَّب أبو العباس أصحابَه وخواصَّه في السُّميريات، ونزل هو في سُميرية، والتقَوا، فقذف الله الرُّعب في قلوب الزَّنج فانهزموا، وأخذ منهم ثلاثين سُمَيرية، وانهزم الجبَّائيُّ في ثلاث سُمَيْريات، ورمى أبو العبَّاس بقوس حتَّى دَمِيت أصبعه، وانهزم الزَّنْج، وعاد أبو العبَّاس إلى معسكره، وخلع على أصحابه وقوَّاده الخِلَع والأطواق والأساور، وأمر أن تُصلَح السُّمَيريات المأخوذة من الزَّنج. وأما قوَّاد الزَّنج فإنَّ سليمان بنَ جامع تحصَّن وعسْكَرَه في مكان يقال له: طَهيثا (¬4)، وتحصَّن الشعرانيُّ بمكانٍ يقال له: سوق الخميس، وجعلوا يخرِّبون ويحرِّقون ويحملون المِيرة والغلَّات، وواقعهم أصحابُ أبي العباس، وأخذوا جميعَ ما كان معهم قد حمل إليهم من الغلَّة والمِيرة، وقصد مكانًا يقال له: الصينيَّة، وكان بها منهم جمع كثير فغنمهم، وعاد إلى عسكره، فاستنقذ أبو العبَّاس يومئذٍ من النِّساء اللَّواتي كنَّ في أيدي الزَّنج خَلْقًا كثيرًا، فردَّهن إلى أهليهنَّ، وغنم ما جمع الزَّنج، ثمَّ عزم على ¬

_ (¬1) السفافيد: جمع سفود، وهو حديدة ذات شُعَب معقَّفة."اللسان": (سفد). (¬2) قال الزبيدي في "تاج العروس" (بور): البواري: الحصير المنسوج، وفي "الصحاح": التي من القصب. (¬3) في (خ) و (ف): مقذافًا. والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 561. (¬4) انظر "تاريخ الطبري" 9/ 563.

دخول مكانٍ يقال له: سوقُ الخميس فيه قوَّاد الزَّنج، فقال له أصحابه: نحن نسير إليه عوضكَ. فقال: لا بدَّ لي من ذلك، قالوا: فلا تُكثر العدد في السُّميريات، فسار في خمس عشرة سُميرية، وقدَّم أصحابه بين يديه في السُّميريات. وكان سليمان بن موسى الشَّعراني قائد الخبيث قد بنى مدينةً بسوق الخميس وسمَّاها المَنيعَة، وبَثَق حولها الأنهار، ووعَّر طريقها، فجاء أبو العبَّاس فأخذ فوهة النَّهر الذي يصل إليها، وخرج إليه خلقٌ كثير من الزَّنج فقاتلوه، وحالوا بينهم وبين المنيعَة وسورِها مقدارَ فرسخين، وكان قد قدَّم بين يديه نُصيرًا القائد، فخالفه في بعض الأنهار والبُثوق، ومضى نُصير فوقع بمدينة الزَّنج فقاتلهم، وأسر منهم جماعةً. وصاح الزَّنج بأبي العبَّاس: قد أسَرْنا نُصيرًا، فضاق صدرُه، وإذا بنُصير قد وافاه بالأسارى والغنيمة على فوهة النَّهر، فسُرَّ به، ثمَّ وقع القتال، وقاتل أبو العبَّاس قتالًا شديدًا والزَّنج يرمونه من السُّفن والبَرِّ بالنُّشَّاب والآجرّ، فنُزِع من دِرعه خمسٌ وعشرون نُشَّابة، ومن لُبَّادٍ كان عليه أربعون نشّابة، ونصره الله عليهم، فانهزموا، فغنم سفنَهم وسلاحَهم. ورجع أبو العبَّاس إلى معسكره بالعُمر (¬1) سالمًا غانمًا، وخلع على الملَّاحين ووصلهم، وأخذ سُمَيريَّات الزَّنج مشحونة بالسِّلاح، فكان من غرق مَن الزنج أكثرَ ممن قُتل وأُسر، وكتب إلى أبيه الموفَّق بالفتح، ويخبره بما جرى، ويُطمعه في الزَّنج. وكان الخبيث قد أمر قوَّاده بالاجتماع على حرب العبَّاس، فسار الموفق من بغداد بجيوشه والسُّفن والمعابر والشَّذا والسُّميريات في هيئةٍ لم يُرَ مثلُها إلى واسِط، فتلقَّاه ولدُه أبو العبَّاس في وجوه قوّاده وجنده، فوصف له بلادَهم ونصحهم، فخلع عليهم وأحسنَ إليهم، فسار ونزل عند عسكر ابنه بالعُمْر، ثمَّ رحل فنزل قريةَ عبد الله، ثمَّ قدَّم بين يديه ولدَه أبا العبَّاس إلى المدينة التي سمَّاها صاحبُ الزَّنج المنيعة من سوق الخميس، فقيل لأبي أحمد: ابدأ بمدينة الشَّعراني ولا تجعلها خلفك، فبدأ بها، وهجمها أبو العبَّاس، فقتل من الزَّنج خلقًا كثيرًا، واستولى على ما كان فيها، وهرب ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): بالغنم، والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 566.

الشَّعراني، وتبعهم أصحابُ أبي العبَّاس في السميريات إلى البطائح فقتلوهم، وغرق منهم أكثرُ مما قتل. واستنقذوا من المسلمات زُهاء خمسة آلاف، فبعث بهنَّ أبو أحمد إلى واسط، وأمر بتسليمهنَّ إلى أهاليهنَّ، وهدم المدينةَ، وطمَّ خنادقَها، وأحرق جماعةً من الزَّنج كانوا بها، ثم نازل مدينة الشَّعراني فدخلها، وانهزم الشَّعرانى في نَفَرٍ يسير، وسلب ولده، وماله، وأهلَه، ووصل إلى المذَار، وكتب إلى الخبيث بخبره، فتردَّد الخبيث إلى الخلاء مرارًا في ساعة، ورجف فؤادُه، وتقطَّع كبده، وأيقن بالهلاك. ثمَّ إن الموفَّق سأل عن أصحاب الخبيث فقالوا: معظمهم مع سليمان بنِ جامع في مدينة يقال لها: طَهيثا، فسار الموفَّق إليها في ربيع الآخر، وزحف عليها بجنوده، فتلقَّاه سليمانُ بن جامع وأحمدُ بنُ مهدي الجبَّائي في جموع الزَّنج، ورتَّبوا كمينًا في مواضعَ شتَّى، ونشبت الحرب، فرمى أبو العبَّاس أحمدَ بنَ مهديٍّ الجبَّائي بسهم في إحدى منخريه (¬1)، فخرقه ووصل إلى دماغه، فحُمل إلى معسكره فأقام أيامًا ومات، وكان أبو العبَّاس راميًا. ثمَّ أصبح الموفَّق يوم السبت لثلاثٍ بقين من ربيعٍ الآخر، فعبَّأ أصحابه، وجعلهم كتائبَ يتلو بعضُها بعضًا فُرسانًا ورجَّالة، وأمر بالسُّميريات والسُّفن أن يشقَّ بها في النَّهر الذي يأخذ إلى مدينة طَهيثا؛ ويُعرف بنهر المنذر، وسار هو نحو الزَّنج حتَّى انتهى إلى سور المدينة، فرتَّب قوَّاده في الأماكن التي يُخاف خروجُ الزَّنج منها، وقدَّم الرجَّالة أمام الفرسان، ونزل فصلَّى أربعَ ركعات، وابتهل إلى الله تعالى في الدُّعاء، وسأله النَّصر، ثمَّ لبس سلاحَه، وأمر ابنَه أبا العباس بالتقدُّم إلى المدينة ففعل. وكان سليمانُ بنُ جامع قد أعدَّ أمام سور مدينتِه التي سمَّاها المنصورة خندقًا عريضًا، فلمَّا وصل إليه عسكرُ أبي العبَّاس هابوه، فترجَّل القوَّاد بأسرهم، واقتحموا الخندق، ودخلوا البلد فوجدوا له خمسة أسوارٍ، وراء كلِّ سور خندق، فجعلوا يقتحمون خندقًا خندقًا والقتال يعمل، وشقَّت السُّميريات النَّهر الذي يدخل البلدَ، فما ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): بسهم واحد منخريه، والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 572.

كانت إلا ساعة وانهزمت الزَّنج، وعمل فيهم السَّيف، فغرق أكثرهم، وأجلوهم عن المدينة. وأفلت سليمانُ بن جامع في نفرٍ من أصحابه، واستحرَّ القتلُ في الزَّنج والأسر، واستنقذ أبو أحمد من المدينة زُهاءَ عشرة آلاف امرأة، فأمر بحملهنَّ إلى واسط، ودفعهنَّ إلى أهاليهنَّ، واحتوى على ما كان في المدينة من الأموال والذَّخائر والأطعمة والمواشي ما لا يُحدّ ولا يحصى، واستغنى عسكرُه وشبعوا، وفرَّق فيهم ذلك. وأقام أبو أحمد في المدينة سبعةَ عشر يومًا، ثمَّ أمر بهدم سورها وطمِّ خنادِقها، وكان قد لجأ من أعيان الزَّنج جماعةٌ إلى آجام حول المدينة، فبعث أبو أحمد أصحابه، فأتوا بهم إليه، فخلع عليهم وأحسن إليهم، وقصد صَرْفهم عن الخبيث، ومَنَّ عليهم، ولم يقتلْ من الأعيان أحدًا. ولما كان يوم الجمعة لليلةٍ خلت من جمادى الآخرة توجَّه الموفَّق إلى الأهواز ليصلحَ أمورها، ووكَّل عساكره بفوهة نهر أبي الخَصيب الذي فيه مدينة الخبيث [و] قوَّادُه، وشحنها بالسُّميريات والفرسان. وكان المهلبيُّ مقيمًا بالأهواز في ثلاثين ألفًا من الزَّنج، فلمَّا قصدها الموفَّق انهزم المُهَلَّبيُّ وتفرَّق أصحابُه، وكان بَهْبوذ الزَّنجي مقيمًا في أطراف البلاد، فهرب إلى الخبيث، وترك أمواله، ومن الطعام والتَّمر شيئًا عظيمًا، فاحتوى عليه الموفَّق. ولما تفرَّق عن المهلبيِّ وبَهْبوذ أصحابهما كتبوا إلى الموفَّق يسألونه الأمان؛ لِمَا انتهى إليهم [من] عَفوه عمَّن ظَفِر به من أصحاب الخبيث، فأمَّنهم، وهرب بَهْبوذ والمُهَلَّبيُّ إلى الخبيث إلى نهر أبي الخَصيب. وأقام الموفَّق حتَّى أحرز ما ترك المهلَّبيُّ وبَهْبوذ، وفتح السُّكور التي كان الخبيث أحدثها في دِجْلة، ورحل الموفَّق من السُّوس إلى جُندَيسابور، ثم سار إلى تُسْتَر فنزلها، ثمَّ أمر عاملَ الأهواز [بإحضار مَن معه] (¬1) من الموالي والغِلمان والجند ليعرضَهم، وأمر بإعطاء أرزاقهم، وجُمعت أموالُ الأهواز وحملت إليه، ففرَّقها في العساكر. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من "تاريخ الطبري" 9/ 577.

ثمَّ رحل إلى عسكر مُكْرَم، فجعله منزلًا، وانقطعت عنه المِيرةُ ثلاثة أيام، فساءت أحوال العسكر وكادوا يتفرَّقون، فبحث الموفَّق عن السَّبب، فقيل له: هاهنا قنطرةٌ من بناء الأكاسرة بين سوق الأهواز ورَامَهُرْمز يقال لها: قنطرة أربُك، وكان الخبيث قد قطعها، فركب أبو أحمد في ساعته، وهي على فرسخين من سوق الأهواز، وجمع العساكر والرجَّالة والسودان، فنقلوا الحجارةَ والصخور، وبذل لهم الأموال، فلم يَرِمْ من مكانه حتى أعادها إلى ما كانت عليه، فوافت القوافل وحمل النَّاس المِيرةَ، فحسُنت أحوال عسكره. وأمر الموفَّق بجَمْع السُّفن لعقد الجسر، وجاءه ألف رجل من أصحاب المهلّبيِّ يسألونه الأمان، فأحسن إليهم، ووصلهم، وضمّهم إلى قوَّاده، وأجرى أرزاقَهم، ولما عقد الجسر على دُجَيل عَبَر عليه، وعسكر بالجانب الغربيِّ من دُجَيل بمكان يقال له: قصر المأمون. وكان قد قدَّم ابنه أبا العباس إلى نهر المبارك من فُرات البَصرة، وكان ابنه هارون قد خلفه بواسط، فكتب إليه ليسير بجيشه إلى نهر المبارك، ليجتمع العساكر ثَمَّ، ورحل أبو أحمد عن قصر المأمون، وسار حتَّى نزل نهر المبارك يوم السَّبت منتصف رجب، وتلقَّاه ابناه أبو العباس وهارون، وبعث ابنَه أبا العبَّاس إلى نهر أبي الخَصيب لقتال الخبيث، فبعث إليه الخبيث سُميرتات وسُفنًا، فاقتتلوا، فهزمهم أبو العبَّاس، واستأمن إليه قائد من قوَّاد الزَّنج يقال له: منتاب، فأحسن إليه ووصلَه. ولما نزل الموفَّق بنهر المبارك يريد قتال الخبيث؛ كان أوَّل ما بدأ به أن كتب إلى الخبيث كتابًا يدعوه فيه إلى التَّوبة، والإنابة إلى الله تعالى ممَّا ركب من سفْكِ الدماء، وانتهاكِ المحارم، وإخرابِ البلدان والأمصار، واستحلالِ الفروج والأموال، وانتحالِ ما لم يجعلْه الله له أهلًا من النبوَّة والرسالة، ويعطيه الأمان، [فإن هو] (¬1) نزع عمَّا هو عليه، ودخل في جماعة المسلمين، محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه، وكان له به الحظّ الجزيل، وبعث به مع رجل من أصحابه، فلم يصل الرَّسول إلى الخبيث، ¬

_ (¬1) زيادة من "تاريخ الطبري" 9/ 581.

وأخذوا منه الكتاب، فلمَّا قرأه ما زاده ذلك إلا نفورًا وإصرارًا واستكبارًا، ورجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره، ويقال: إنَّه قتل الرسول. فسار أبو أحمد في جيوشه وعُدَدِه إلى مدينة الخبيث بنهر أبي الخَصيب، فأشرف عليها -وكان قد سمَّاها المختارة- فتأمَّلها، ورأى حصانتَها وأسوارَها وخنادقَها، وما وعّر (¬1) من الطُّرق المؤدِّية إليها، وما أعدَّ عليها من المجانيق والعرَّادات (¬2) وآلاتِ القتال شيئًا لم يُرَ مثله في مدينة، ورأى من كثرة المقاتِلة (¬3) ما استعظمه، ورفعوا أصواتهم فارتجَّت الأرض، فأمر الموفَّق ابنَه أبا العباس برَشْقِهم بالسِّهام فرماهم، ورمَوه عن يدٍ واحدة بالمجانيق والعرَّادات والمقاليع والآجُرّ والنُّشَّاب، فأذهلوا أبا أحمد والعسكر، فرجع عنهم، ولم يبق مكان إلَّا وفيه حَجرٌ أو سَهْم، وثبت أبو العبَّاس، واستأمن جماعةٌ من أصحاب الخبيث إليه، فأحسن إليهم ووصلهم، فلمَّا رأى أصحاب الخبيث ذلك استأمن منهم خلقٌ كثير، فخلع عليهم وأحسن إليهم. ولما كان في اليوم الثاني جهَّز الخبيث بَهْبوذ في السّميريات، فالتقاه أبو العبَّاس واقتتلوا، فأصاب بَهبوذ طعنتان، وجُرح جراحات بالسِّهام، وهرب إلى الخبيث. وعاد الموفَّق إلى معسكره بنهر المبارك وقد تبعه خلقٌ كثير من أصحاب الخبيث مستأمنين، فخلع عليهم وضمَّهم إلى ولدِه أبي العباس. ولما كان في شعبان خرج الخبيثُ في ثلاث مئة ألف مقاتل ما بين فارس ورَاجِل، وركب أبو أحمد في خمسين ألفًا، وبينهم النَّهر، فنادى أبو أحمد بالأمان لأصحاب الخبيث، فاستأمن إليه خلقٌ كثير، فأحسن إليهم، وانفصلوا عن غيرِ قتال (¬4). وفيها بنى الموفَّق مدينة بإزاء مدينة الخبيث على جانب دجلة، وسمَّاها الموفَّقية، وذلك لأنَّه فكر ونظر، فرأى أنَّه لابُدَّ من مصابرته وحصاره، وتفريق جماعته عنه بالإحسان إليهم، فشرع في بناء المدينة، وكتب الكتب إلى عمَّاله بإنفاذ الصُنَّاع والمِيرة ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري"9/ 581، و"المنتظم" 12/ 212: عور. (¬2) العرّادات: شبه المنجنيق صغيرة. اللسان: (عرد). (¬3) في (خ) و (ف): القتال. والمثبت من "تاريخ الطبري"، و"تاريخ الإسلام" 6/ 249. (¬4) من أول السنة إلى هنا ليس في (ب).

وما يصلح [له]، فورد عليه ذلك، وقدم التُّجَّار بالأموال والأمتعة، وبنى الموفَّق الجامع والأسواق والمنازل، وشاع خبر الموفَّقية، فقدم إليها النَّاس من كل مكان واستوطنوها (¬1)، وتتابع قوَّاد الزَّنج إلى أبي أحمد بالأمان، فكان عددُ من وافاه منهم من رجب إلى رمضان خمسةَ آلاف رجلٍ ما بين أبيضَ وأسود. وفي شوَّال كانت وقعة بين أبي العبَّاس والخبيث قَتل منهم خلقًا كثيرًا، وذلك لأنَّ الخبيث انتخب من قوَّاده خمسة آلاف، وأمرهم أن يعبروا فيبيِّتوا عسكر الموفَّق، فاستأمن إلى الموفَّق غلام من الملَّاحين، فأنهى إليه خبرَهم، فأمر الموفَّق ابنَه أبا العباس بالنُّهوض إليهم، وكان لهم كمين، فبعث إليه قومًا آخرين، واقتتلوا، فنصره الله عليهم، فركب أكتافهم، فكانوا بين قتيل وأسير وغريق، وأخذ أبو العبَّاس الأسارى، فصلبهم على السُّفن، ورمى برؤوس القتلى في المجانيق إلى مدينة الخبيث؛ وسببه: أنَّ أصحاب الخبيث لمَّا رأوا من الأمان والإحسان جعلوا يهربون إلى الموفَّق، فأيقن الخبيثُ بالهلاك، فوكَّل بكل ناحية من المدينة مَن يمنعهم الهربَ، فأرسل جماعةٌ من قوَّاده إلى الموفَّق يسألونه الأمان، وأن يعبرَ إلى المدينة ليكون قريبًا منهم، وكان الزَّنج قد ظهروا على أبي العبَّاس قبل ذلك بيومين، وقتلوا من أصحابه جماعة، فعبر إليهم الموفَّق في جميع أصحابه وجيوشه، وكان يومًا مشهودًا، ودار حول المدينة وأصحاب الخبيث يرمونهم بالمجانيق وغيرها، وجاء أبو العبَّاس من مكان آخر، فاقتحم الخنادق، وثلم السُّور ثُلْمة اتَّسع منها الدخول، وانهزم أصحاب الخبيث وهو معهم، وأصحابُ الموفق يتبعونهم إلى الليل، وعاد الخبيث إلى المدينة، وعبر الموفَّق إلى معسكره، وتراجع أصحاب الخبيث، واستأمنَ إلى الموفَّق خلقٌ كثيرٌ من قوَّاده وفرسانه، فأحسن إليهم، وخرجت هذه السَّنة والقتالُ بينهم والحرب قائمة، ورمَّ الخبيث ما كان وَهَى من الأسوار والخنادق. وفيها استولى أحمد [بن عبد الله] الخجستانيُّ على خُراسان وكِرْمان وسِجِسْتان، وطرد عنها نوَّاب عمرِو بن اللَّيث، وعزم على المسير إلى العراق، وضَرَب الدنانير ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله: وفيها استولى أحمد الخجستاني؛ ليس في (ب).

العباس بن عبد الله

والدراهم باسمه، وجعل وزنَ الدينار عشرة دوانيق، والدِّرهم ثمانية دوانيق، وكتب على جانبٍ منه: المعتمد بالله، وعلى الجانب الآخر: أحمد بن عبد الله. وقيل: إنَّه كتب على وجهٍ: المُلْك والقُدرة [لله]، والحولُ والقوَّة بالله، لا إله إلَّا الله محمَّد رسول الله، وعلى الجانب الآخر: اسم المعتمد واسمه [والله أعلم] (¬1). وفيها وثب أحمد بن طولون على أحمد بن المدبّر، وكان متولِّي خراج دمشق والأردن وفلسطين، فحبسه وأخذ أمواله، ثمَّ صالحه على ستِّ مئة ألفِ دينار (¬2). وحجَّ بالنَّاس هارون بنُ محمد بنِ إسحاق بنِ موسى بنِ عيسى الهاشميُّ. فصل [وفيها توفي] العبَّاس بن عبد الله ابن أبي عيسى أبو محمد التَّرْقُفِي (¬3). كان زاهدًا [عابدًا] عالمًا، [وروى الخطيب عن] ابن مخلد قال: ما رأيته يضحك قطُّ، قيل: ولا تبسم؟ قال: لا. وأثنى عليه الخطيب، وروى عنه أنَّه قال: قيل لبعض العرب (¬4): لم لا تتزوَّج؟ فقال: مُداراةُ العِفَّةِ أيسرُ من الاحتيال لمصالح المرأة. [قال الخطيب: ] توفي بسُرَّ من رأى [في] هذه السَّنة، وقيل: في سنة ثمانٍ وستين [ومئتين]. سكن بغداد، وحدَّث بها عن محمد بن يوسف الفريابيّ وغيره، وروى عنه ابنُ أبي الدنيا وغيره، وكان ثقةً صالحًا صدوقًا. ¬

_ (¬1) هذا الخبر في "تاريخ الطبري" 9/ 599 - 600، وما بين معكوفين من (ب). (¬2) هذا الخبر ليس في (ب). وانظر "المنتظم"12/ 213. (¬3) في (خ) و (ف): الرفقي، وفي (ب): البرنقي، والمثبت من "تاريخ بغداد" 14/ 28، و"تاريخ دمشق" 32/ 100، و"المنتظم" 12/ 214. (¬4) في (خ) و (ف): وقال العباس: قيل لبعض العرب ... ، والمثبت من (ب)، ولم نقف على نص كلام الخطيب في "تاريخ بغداد"، ورواه عن الخطيب ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 32/ 101.

علي بن الحسن

[فصل وفيها توفي] عليُّ بن الحسن ابنِ موسى بن مَيسرة، الهلاليُّ، النَّيسابوريُّ، الدَّرابْجِرْدي، ودَرابْجِرْد محلَّةٌ بنَيسابور، وكان من أكابر علماء نيسابور، وابنَ عالمهم، وله مسجد بهذه المحلَّة يُتبرَّك بالصلاة فيه. واختلفوا في وفاته؛ فقيل: إنَّه زَبَر عامل نيسابور وزجره عن ظُلمه، فأوقد له نارًا في تِبْنٍ، وأدخله في بيت، فمات من الدُّخان، وقيل: إنَّه وُجد ميتًا في مسجده بعد أسبوع [من وفاته] ولم يعلموا به، وقيل: أكله الذِّئب. سمع أبا عاصم النَّبيل وغيرَه، وروى عنه البخاريُّ ومسلم وغيرهما، وكان سيِّدًا، عالمًا، فاضلًا، صدوقًا، ثقة (¬1). محمد بن حمَّاد ابن بكر، المقرئ، صاحب خَلَف بن هشام. كان أحدَ القرَّاء المُجَوِّدين، وعباد الله الصَّالحين، وكان الإمامُ أحمد رحمة الله عليه يُجلُّه ويُكرمه، ويصلِّي خلفَه في شهر رمضان وغيره، وكانت وفاتُه ببغداد في يوم الجمعة لأربعٍ خلون من ربيع الآخر. سمع يزيدَ بن هارون وغيرَه، وروى عنه القراءات خلقٌ كثير، وانتفعوا به، وكان صالحًا ثقة (¬2). [وفيها توفي] يحيى بن محمد بن يحيى أبو زكريا الذُّهْليُّ، [ويلقب حَيْكان (¬3). ¬

_ (¬1) "المنتظم" 12/ 213، و"تاريخ الإسلام" 6/ 372، و"تقريب التهذيب". (¬2) هذه الترجمة ليست في (ب)، وانظرها في "تاريخ بغداد" 3/ 76، و"المنتظم" 12/ 215. (¬3) ما بين معكوفين من (ب)، ووقع فيها: حكمان. والمثبت من "تاريخ بغداد" 16/ 319، و"المنتظم" 12/ 215.

عابدة يمنية

وكان يحيى] إمامَ أهل نيسابور في الفتوى والرياسة وابنَ إمامها، [وقد اختلف هو وأبوه في مسألة، فحكَّما محمد بن إسحاق بن خزيمة، فحكم ليحيى على أبيه. وذكره أبو عبد الله في "تاريخه" وأثنى عليه، وقال: قتله] أحمد بن عبد الله الخُجُسْتانيُّ الخارجيُّ، [وكان] جبَّارًا ظالمًا عنيدًا، تغلَّب على نيسابور مدَّة، ثمَّ خرج عنها، واستخلف إبراهيمَ بن نصر رئيس البلد مع أصحابه، فشرع أصحابُ الخُجستانيِّ في الفساد، فنهض يحيى بن محمد وأصحابُه فقاتلوهم وأخرجوهم من البلد، فلمَّا عاد الخجستانيُّ إلى البلد أخذ يحيى بن محمد، فبنى عليه حائطًا، وقيل: إنَّه قتله في جمادى الآخرة. وقال [الحاكم: سمعت الحسن بن يعقوب المُعَدَّل يقول: سمعت] أبا عمر وأحمد بن المبارك المستملي [يقول: ] رأيتُ يحيى بن محمد في المنام، فقلتُ: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. قلت: فما فعل الخُجستانيُّ؟ فقال: هو في تابوت من نار ومفتاحُه بيدي. أسند يحيى عن الإمام أحمد أبن حنبل، وغيره، وروى عنه أبوه إمام نيسابور صاحب الواقعة مع البخاريِّ، وكان يقول: أبو زكريا ولدٌ، وهو والد، وروى عنه محمد بنُ إسحاق بنِ خزيمة وغيرُه، وخلقٌ كثير. [وفيها توفيت] عابدة يمنية [لم يذكر اسمها، ولها قصَّة رواها أبو الفضل محمد بن ناصر بإسناده إلى] محمد بن سليمان القرشيِّ [قال: ] بينا أنا أسير في بلاد اليمن، إذا أنا بغلام واقف على الطَّريق في أذنيه قُرطان، في كلِّ قُرط جوهرة يضيء وجهه منها (¬1)، وهو يمجِّد ربَّه تعالى ويقول: [من الوافر] مَليكٌ في السماءِ به افتخاري ... عزيزُ القدْر ليس به خفاءُ فسلَّمتُ عليه فقال: ما أنا برادٍّ عليك حتَّى تؤدِّي [من] حقِّي الذي يجب عليك، ¬

_ (¬1) في (ب): يضيء وجهه بين تلك الجوهرة، والمثبت في (خ، ف)، والخبر في المنتظم 12/ 216.

قلت: وما حقُّك؟ فقال: أنا غلام على مذهب الخليل - عليه السلام -، لا أتغدَّى ولا أتعشَّى كلَّ يوم حتى أسيرَ الميلَ والميلين في طلب الضَّيف، فسرتُ معه حتَّى قربنا من خيمة شَعَر، فصاح: يا أُختاه، فأجابته جاريةٌ من الخيمة: يا لَبَّيْكاه، فقال: قومي إلى ضيفنا، فقالت: حتَّى أبدأَ بشكر المولى الذي سبَّبَ لنا هذا الضَّيف، فقامت فصلَّت ركعتين، ثمَّ أخذ الغلامُ شَفرةً، ومال إلى عَناقٍ فذبحها، وأدخلني الخيمة، وقامت أختُه لتُصلحَ العَناق، فنظرتُ إلى أحسن الناس وجهًا، فجعلتُ أُسارقُها النَّظر، ففطنت لبعض لَحظاتي إليها، فقالت: مه، أما علمتَ أنَّ ساكنَ يثرب - صلى الله عليه وسلم - قال: "زنى العيون النظر" (¬1)، [وفي رواية: أما علمت أنَّه قد نُقل إلينا عن صاحب يثرب ... وذكرته، ] ثمَّ قالت: أما إنِّي ما قصدتُ توبيخَكَ، ولكن أردتُ أن أؤدِّبك لكي لا تعود إلى مثلها. فلمَّا جاء اللَّيل خرجت أنا والغلام فبِتنا خارجَ الخيمة، وباتت الجارية في الخيمة، فكنتُ أسمع دَويَّ القرآن اللَّيلَ كلَّه من الخيمة بأحسن صوتٍ وأرقِّه، فلمَّا أصبحتُ سألتُ الغلام عن ذلك الصَّوت فقال: هي أختي؛ تحيي الليلَ كلَّه إلى الصَّباح، فقلت: فأنت يا غلام أحقُّ (¬2) بهذا العمل منها! فتبسَّم وقال: أما علمتَ أنَّه موفَّقٌ ومَخذول. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657)، وهو عند أحمد (7719) من حديث ابن عباس عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، بلفظ: "العَين" وهو في مسند الشهاب (66) كما أورده المصنف. (¬2) في (خ) و (ف): فأنا أحق ... ، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في "المنتظم" 12/ 218.

السنة الثامنة والستون بعد المئتين

السنة الثامنة والستون بعد المئتين (¬1) فيها في المحرَّم استأمن إلى الموفَّق جعفر بن إبراهيم، ويعرف بالسَّجَّان، صاحبُ الخبيث، وكان صاحبَ أسراره، قد اطَّلع على أحواله، وهو أحدُ ثِقاته، فلمَّا استأمن إلى الموفَّق خلع عَليه ووَصَله، وأعطاه مالًا كثيرًا، وأمر بحمله في سفينة إلى قريب مدينة الخبيث، فلمَّا حاذى قصرَ الخبيث صاح بهم: وَيْحكم إلى متى تصبرون على الخبيث الكذَّاب، وأخبرهم بما وقف عليه من كَذِبه وفُجوره، وأنَّهم في غُرور منه، فاستأمن في ذلك اليوم إلى الموفَّق خلقٌ كثير من قوَّاد الزَّنج، وأحسن إليهم، وتتابع النَّاس في الخروج من عند الخبيث. وفي ربيع الأوَّل زُلْزِلت بغداد زلزلةً هائلة، وجاء بعدها مطرٌ شديد وصواعقُ، فخاف النَّاس. وفي ربيع الآخر عبر الموفَّق إلى مدينة الخبيث بعد أن ضيَّق عليه ومنعه المِيرة، فزحف إليها، وهدم من السُّور أماكنَ كثيرة، ودخل أصحابُه من كلِّ ناحية واغترُّوا، فخرج عليهم أصحابُ الخبيث من مواضعَ كانوا قد كَمَنوا فيها، فتحيَّروا في الخروج، وبعضُهم قصد الشَّطَّ فغرق، وأصابوا من أصحاب الموفَّق أسلحة وأسلابًا (¬2)، وثبت جماعةٌ من غلمان الموفَّق ومن الدَّيلم نحوًا من ثلاثين فقُتلوا، ورجع الموفَّق فعبر إلى المدينة الموفَّقيَّة، وكان قد أمر أصحابه بأن يَنْقُبوا السُّورَ لا غير، ولا يدخلوا المدينة، فخالفوه، فجرى ما جرى، فلمَّا عبر إلى الموفَّقية جَمَعَ الناسَ، وعَذَلهم على ما كان من مُخالفته، والالتفات (¬3) عليه في رأيه، وتوعَّدهم بالعقوبة إن عادوا إلى الخلاف، وأمر بتسمية مَن قُتل، فانتسبوا أسماءهم، فأقرَّ ما كان جاريًا لهم على أولادهم وأهاليهم، فحَسُن موضعُ ذلك، ومالت قلوب النَّاس، ومنع المِيرة عن الخبيث، وضاق بهم الأمر حتَّى أكلوا لحوم الكلاب، ونبشوا الموتى من القبور فأكلوا لحومَهم، واستأمن منهم ¬

_ (¬1) جاءت هذه السنة مختصرة في (ب). (¬2) في (خ) و (ف): أسبابًا، والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 603. (¬3) في "تاريخ الطبري" 9/ 603: والافتيات.

خلقٌ كثير، فسُئلوا عن الخبز؟ فقالوا: لنا سنة ما أكلناه. وواصل الموفَّق القتال عليهم والتضييق إلى رجب، فقُتل بَهْبوذ قائد الزَّنج، وكان من أكبرهم وأعزِّهم على الخبيث، وكان صاحبَ أموالٍ جليلة، وكان يخرج فيقاتل في السُّمَيريات الخفاف، فيخترق الأنهار المؤدِّية إلى دجلة، فإذا صادف سفينة للموفَّق أخذها فأدخلها النَّهر الذي خرج منه، فركب يومًا شَذاةً وشبَّهها [بشَذَوات] (¬1) الموفَّق، وجعل عليها مثلَ أعلام الموفَّق، وسار بها في دِجْلة، فإذا ظفر بغزَةٍ من أهل العسكر أوقع بهم، فقَتل وأَسر، وكان يخترق الأنهار؛ نهرَ الأبُلَّة، ونهر مَعْقِل، وبَثْق شيرين، ونهر الدّير (¬2)، ويقطع السُّبُل، ويعبث في أموال السَّابلة ودمائهم، فبلغ الموفَّق، فأمر بسكر الأنهار (¬3) التي يَخرجُ منها، وأقام السُّميريَّات على رؤوس الأنهار، فخرج من نهرٍ لم يسكر، فقَتَل وسَبى ونَهب، فبعث الموفَّق ابنَه أبا العباس في شذًى وسُميريَّات يسبقه إلى النَّهر الذي يأخذ إلى مدينة الخبيث، فسبقه. وأقبل بَهْبوذ في شذاه وسُمَيرياته وأصحابه، فالتقَوْا، فقتل أبو العبَّاس من أصحابه جمعًا كثيرًا، وأسر جمعًا، وأفلت بَهْبوذ في جمع يسير. ثمَّ خرج بَهبوذ بعد ذلك يعترض أهلَ القرى ليمتارَ منها، وعلم به أبو العبَّاس فخرج في طلبه، فاعترضه في طريقه غلامٌ لأبي العبَّاس في سُميرية، وطمع بَهبوذ في السُّميرية، فطعنه بعض غلمان السُّميرية السُّود في بطنه فأنفذه، فهوى إلى الماء، فحمله أصحابه إلى مدينة الخبيث، فلم يصلوا به إليها حتَّى عجَّل الله بروحه الخبيثة إلى النَّار، فعظم ذلك على الخبيث وأصحابه، وكان قتْلُه من أعظم الفتوح. وخفي على الموفَّق هلاكُه، ثمَّ علم من ملَّاح كان مع بَهبوذ واستأمن إلى الموفَّق، فسُرَّ بذلك، وأحضر الرِّجال الذين كانوا في تلك السُّميرية والغلامَ الذي طعنه، فوصلهم وزاد في أرزاقهم، وخلع على الغُلام الذي قتله وطوَّقه وسوَّره، وأمر لكلِّ من كان في السَّفينة بخِلَع وصِلات وجوائز. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين زيادة من "تاريخ الطبري" 9/ 609. (¬2) في (خ) و (ف): السيل. والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 609. (¬3) في (خ) و (ف): الأموال. وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ الطبري".

قال الطبريُّ (¬1): وفي هذه السَّنة اتَّفق أنَّ أوَّل رمضان كان يوم الأحد، وكان الأحد الثَّاني السَّعانين (¬2)، والأحد الثَّالث الفِصْح، والأحد الرَّابع النَّيروز، والأحد الخامس انسلاخ الشَّهر. وفيها خرج رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشميِّ بالشَّام (¬3)، وبعث إليه لؤلؤ بن أبان بن طولون قائدًا يقال له: يوذر، في جيش (¬4)، فهزمه الهاشميُّ، ورجع وليس معه كثير أحد. وفيها أظهر لؤلؤ الخلاف على ابن طولون، وكاتب الموفَّق بالقدوم عليه، ولؤلؤ مولى ابن طولون. وفيها عبر الموفَّق لقتال الخبيث، فجاءه سهمٌ في صدره رماه غلامٌ به روميٌّ اسمه قُرطاس، فتجلَّد ولم يُظهر شيئًا، وأقام أيَّامًا وبرئ، وقيل: بل قُتل في السَّنة الآتية (¬5)، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وجاء لؤلؤ فنهب بالِس والرَّقَّة، وافتتح قرْقِيسياء، وسار إلى العراق. ولما قُتل بَهْبوذ حبس الخبيث غلمانه على المال، وأخرب دورَه فلم يجد شيئًا، فزهد فيه أصحابُ بَهبوذ، واستأمنوا إلى الموفَّق، وبلغ الخبيث أنَّ ابنه يريد اللَّحاق بالموفَّق فقتله (¬6). وفيها قُتل أحمد بن عبد الله الخُجستاني المتغلِّب على خراسان (¬7)، قتله غلمان له في ذي الحجَّة. ¬

_ (¬1) في "تاريخه" 9/ 611. (¬2) السَّعانين: عيد للنصارى. اللسان: (سعن). (¬3) بعدها في (خ) و (ف): فهزمه الهاشمي، وهي زيادة مقحمة، انظر الطبري 9/ 611. (¬4) في "تاريخ الطبري" 9/ 611: ووجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائدًا يقال له بودن في عسكر وجيش كثيف. (¬5) ذكر هذا الخبر وما بعده الطبري 9/ 614، وابن الجوزي 12/ 224، وابن الأثير 7/ 376، والذهبي 6/ 252 في حوادث سنة (269 هـ). (¬6) في "تاريخ الطبري" 9/ 611: وفيها قتل صاحب الزنج ابن ملك الزنج، وكان بلغه أنه يريد اللحاق بأبي أحمد. (¬7) بعدها في (ب): وفعل ما فعل، وقتل عثمان الحمكي.

أحمد بن سيار

وفيها غزا الصَّائفةَ خلف الفرْغانيُّ عاملُ ابن طولون على الثُّغور الشَّامية، فقتل من الرُّوم بضعة عشر ألفًا، وغنم الغنائم، فبلغ السَّهم أربعين دينارًا. وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمد بن إسحاق [بن موسى] (¬1) الهاشميّ. وفيها توفي أحمد بن سيَّار (¬2) ابن أيوب أبو الحسن المَرْوَزيُّ، إمام أهل الحديثَ بمَرْو، جمع بين الحديث، والعلم، والزُّهد، والفقه، والوَرَع، وكان يقاس بعبد الله بن المبارك في عصره. ورد بغداد فحدَّث بها، ورحل إلى الشَّام ومصر وغيرها، وصنَّف كتابًا في أخبار مرو، وصنَّف "فتوح خراسان"، وكانت أمُّه من موليات المأمون، وتوفِّي في ربيع الأوَّل. سمع إسحاقَ بن راهويه والأئمَّة، وروى عنه أئمَّة خراسان؛ البخاريُّ وغيره، واتَّفقوا على صلاحه وصدقه وثقته. أنس بن خالد ابن عبد الله (¬3) بن أبي طلحة بن موسى بن أنس بن مالك الأنصاري، صاحِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كان فاضلًا، توفِّي ببغداد في جمادى الأوَّل، أسند عن سفيانَ بنِ عُيينة (¬4) وغيره، وروى عنه عبد الله ابن الإمام أحمد وغيره، وكان ثقة. محمد بن عبد الله ابن عبد الحكم أبو عبد الله، فقيه أهل مصر ومحدِّثُهم. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ب)، وانظر تاريخ الطبري 9/ 612، والمنتظم 12/ 220. (¬2) في (خ) و (ف): سنان، والمثبت من "تاريخ بغداد" 5/ 306، و"تاريخ الإسلام" 6/ 265. (¬3) بعدها في (خ): بن عبد الحكم، وهو انتقال نظر، والمثبت موافق لما في "تاريخ بغداد"7/ 518، و"المنتظم" 12/ 220. (¬4) ولد سفيان بن عيينة سنة (107 هـ)، وتوفي سنة (198 هـ). كما في "تهذيب الكمال" 3/ 228.

ولد سنة اثنتين وثمانين ومئة، وتوفِّي بمصر منتصف ذي القعدة، وصلَّى عليه بكَّار بن قتيبة، ويعرف بصاحب الشافعيِّ، وكان مالكيَّ المذهب، حُمل إلى بغداد، وامتحنه ابن أبي دؤاد، فثبت على السُّنَّة، ولم يُجب إلى ما أراد منه، وكان فقيهًا بارعًا زاهدًا عابدًا ورعًا. أسند عن الإمام الشَّافعيِّ رحمة الله عليه، وروى عنه أبو حاتم الرَّازيُّ وغيره، وأجمعوا على فضله ودينه وثقته (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "المنتظم" 12/ 220، و"تاريخ الإسلام" 6/ 410، و"السير" 12/ 497.

السنة التاسعة والستون بعد المئتين

السَّنة التَّاسعة والستون بعد المئتين (¬1) وفي شهر المحرّم (¬2) اجتمع كسوفان؛ كسوفُ القمر وكسوفُ الشَّمس، [فكسوف القمر] في ليلة أربعة عشر [منه] وغاب منكسفًا، وكسوف الشَّمس يوم الجمعة لليلتين بقيتا منه وقتَ المغيب. وغابت منكسفة، وهذا نادر كسوفُهما في شهر (¬3). وفيها في المحرَّم قطعت الأعرابُ الطَّريق على قافلة الحاجِّ قريبًا من سَميراء، فأخذوا نحوًا من خمس مئة جمل (¬4) بأحمالها وأناسًا كثيرًا [والله أعلم بالصواب] (¬5). وفيها وثب خَلَف الفَرْغانيُّ صاحب ابن طولون على يازمان خادم الفتح بن خاقان ومولاه، وكان بالثُّغور بأَذَنة وطَرَسوس، فحبسه خَلَف، فوثب أهل الثَّغر فخلَّصوا يازمان، وأرادوا قتل خلف، فهرب إلى دمشق، ولعنوا ابن طولون على المنابر، وبلغه فخرج من مصر إلى دمشق، ثمَّ نزل أَذَنة وبها يازمان الخادم، فتحصَّن بها، وسدَّ أبوابها سوى باب الجهاد وباب البحر، وبَثَق المياه حولها، وفعل ذلك أهل طَرَسوس، فأقام ابن طولون على أَذَنة، فلم يظفر منها بطائل، فعاد إلى أنطاكية، ثمَّ إلى دمشق فأقام بها. قال الطَّبريُّ (¬6): وفي هذه السَّنة خالف لؤلؤ، وسار إلى قَرْقِيسياء وبها ابن صفوان العُقيلي، ففتحها عَنوةً، وسلَّمها إلى أحمد بن مالك بن طَوْق، وهرب ابنُ صفوان، وكاتَب لؤلؤ الموفَّقَ، وشرط عليه شروطًا فأجابه، فسار يريد العراق. وفيها دخل الموفَّقُ مدينةَ الخبيث عَنوةً، وكان الخبيث لما هلك بَهْبوذ طمع في أمواله، وكان قد صحَّ عنده أنَّه قد ملك مالًا عظيمًا وجوهرًا، فجمع أصحاب بَهْبوذ وأقاربَه، وسألهم عن المال، فأنكروا، فضربهم بالسِّياط، وهدم دورًا من دُوره فلم ¬

_ (¬1) جاءت هذه السنة مختصرة في (ب) مع اختلاف في ترتيب الأحداث. (¬2) في (خ): فيها، وفي (ف): في المحرم، والمثبت من (ب)، وما سيأتي بين معكوفين منها أيضًا. (¬3) في (ب): وهذان نادران اجتمع في شهر واحد كسوفان. (¬4) في "تاريخ الطبري"9/ 613، و"المنتظم" 12/ 222، و"الكامل" 7/ 396: خمسة آلاف بعير. (¬5) من هنا إلى قوله: وفيها عبر الموفق إلى الخبيث ... بعد صفحات ليس في (ب)، وما بين معكوفين منها. (¬6) في "تاريخه" 9/ 614.

يجد فيها شيئًا، ففَسَدت قلوبُهم. وعَبَر الموفَّق إلى المدينة، ونادى في أصحاب بَهْبوذ بالأمان، فسارعوا إليه من كلِّ وجه، فأجازهم، وأحسن إليهم، ووصلَهم، ثمَّ زحف على المدينة فدخلها بعد قتالٍ جَهيد، وقصد الدَّارَ التي كان الخبيث اتَّخذها مسجدًا وسمَّاه الجامع، فقاتل أصحابُه دونَه قتالًا شديدًا لما كان يعظِّمه الخبيث، فقُتل عليه خلقٌ كثير منهم. وبذل الموفَّق الأموال والأَطْوقَة والأَسْورة لمَن سارع إلى هدم كمار (¬1) الخبيث، وهدموا المسجد، وأتَوا بالمنبر إلى الموفَّق، فسُرَّ سرورًا عظيمًا، وعاد إلى مدينته وقد أنكى في الزَّنج نِكاية عظيمة، ونهب خزائنَ الخبيث، وأُحرقت عامَّة دُوره ودُور أصحابه، وأحرقوا الأسواق. وظهر في ذلك اليوم للموفَّق تباشير الفتح، وبينا هو واقف إذ رماه غلامٌ روميٌّ -كان مع الخبيث، يقال له: قرطاس- بسهم، فأصابه في صدره، وذلك يوم الاثنين لخمسٍ بقين من جمادى الأولى، فستر الموفَّقُ ما ناله من السَّهم، وانصرف إلى الموفَّقيَّة، فعُوْلج في تلك اللَّيلة، ثمَّ باكر الحرب على ما به من ألم الجراح؛ ليشدَّ قلوب أوليائه، فزاد عليه الألم بسبب الحركة، وعَظُم أمره حتَّى خِيف عليه، واضطرب العسكر والرَّعيَّة، وخافوا قوَّة الخبيث عليهم، وأشار عليه أصحابه بالرَّحيل إلى بغداد، فأبى ذلك، وخاف أن يكون فيه ائتلافُ ما قد تفرَّق من شَمْل الخبيث، فأقام على مَضَض من الألم، ثمَّ منَّ الله عليه بالعافية، فظهر للنَّاس بعد احتجابه، فقويت نفوسُهم وتباشروا، وعادوا إلى ما كانوا عليه من حرب الخبيث. ولما بلغ الخبيثَ حديثُ السَّهم [جعل] (¬2) يَعِد أصحابه العِدَات، ويمنِّيهم الأماني الكاذبة، ويحلف على منبره أنَّ أبا أحمد قتله السَّهم، وما يُرى في السُّميريات والحروب مثالُه؛ ليموِّهوا على النَّاس بحياته. وقال الصُّولي: أصاب الموفَّقَ سهمٌ في ثُنْدوَته (¬3) اليسرى، فكادَ يَتْلَف، وتصدَّقت ¬

_ (¬1) الكَمَر: اسم لكل بناء فيه العقد، كبناء الجسور والقناطر. "معجم الألفاظ الفارسية المعربّة" ص 137. (¬2) ما بين معكوفين من "تاريخ الطبري" 9/ 620 - 621. (¬3) الثندوة: اللحم الذي حول الثدي. اللسان: (ثند).

عنه أمُّه بَوْزنِه وَرِقًا فبرئ، وأقام الخبيث مدَّة مرض الموفَّق في إصلاح ما تشعَّثَ من مدينته. وفي يوم السَّبت نصف جمادى الأولى شَخَصَ المعتمدُ من سُرَّ من رأى يريد اللَّحاق بابن طولون لأمرٍ تقرَّر بينهما. وقال أبو جعفر أحمد (¬1) بن يوسف بن إبراهيم الكاتب: خرج أحمد بن طولون من مصر في آخر سنة ثمانٍ وستين ومئتين، وحمل معه ابنَه العبَّاس معتقلًا في قُبَّة، فأقام بدمشق، وخرج المعتمد من سُرَّ مَن رأى على وجه التنزُّه (¬2)، وقصْدُه دمشق لاتِّفاقٍ جرى بينه وبين ابن طولون، وخرج مع المعتمد أخوه أبو عيسى، وإبراهيم بن المدبّر، وأحمد بن خاقان، وخطارمِش وغيرهم، فلمَّا بلغ الموفَّق وهو بالبصرة في مقابلة الزَّنجيِّ، كتب إلى إسحاق بن كُنْداج يقول له: قد عزم المعتمد على قصد ابن طولون، وإن دخل مصر تغلَّب على دار السُّلطان، ومتى استولى ابن طولون على المعتمد لم يبقَ منكم يا معاشر الموالي اثنين، فاجتهد في ردِّه. وكان ابن كنداج في نَصِيبين في أربعة آلاف فارس، فصار إلى المَوْصِل، فوجد حرَّاقات (¬3) المعتمد وحشَمَه بموضع يقال له: الدَّواليب، فوكَّل بهم هناك وسار، فلقي المعتمد بين المَوْصل والحَديثة (¬4)، فخرج إليه نحرير الخادم، فسلَّم عليه واستأذن، فأذن له، فدخل إسحاق ومعه ابنُه محمد وجماعة يسيرة، فسلَّم على المعتمد، ووقف بين يديه، فقال له: يا إسحاق (¬5)، لِمَ منعتَ الحشَم من الدُّخول إلى الموصل؟ وكان بين يدي الخليفة أحمد بن خاقان، وخطارمش، وتينك (¬6)، فقال: يا أمير المؤمنين، أخوك في وجه العدوّ، وأنت تخرج من مُستقرِّك ومدينةِ آبائك ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): محمد. والمثبت من "تاريخ الإسلام" 6/ 252. (¬2) في (خ) و (ف): الميرة. والمثبت من "تاريخ الإسلام". (¬3) الحرَّاقات: سفن فيها مرامي النيران. "اللسان": (حرق). (¬4) في (خ) و (ف): المدينة، والمثبت من "تاريخ الإسلام" 6/ 252. (¬5) في (خ) و (ف): يا أبا إسحاق، والمثبت من "تاريخ الإسلام". (¬6) في "الكامل" 7/ 394: نيزك، والمثبت موافق لما في الطبري 9/ 620.

ودار مُلكك، ومتى صحَّ عنده هذا رجع عن مقاومة الخارجيِّ، فتغلَّب عدوُّك على دار ملكك، وهذا كتابُ أخيك يأمرني بردِّك. فقال: أنت غلامي أو غلامُ أخي؟ فقال: كلُّنا غِلمانك ما أطعتَ الله، فإذا عصيتَه فلا طاعة لك علينا، وقد عصيتَ الله بما فعلتَ من خروجك، وتسليط عدوِّك عليك وعلى المسلمين. ثمَّ خرج من المَضرب، ووكَّل به جماعة، ثمَّ بعث إلى المعتمد يطلب ابنَ خاقان وخطارمِش وتينك ليُناظرهم، فبعث بهم إليه، فقال لهم: ما جنى أحدٌ على الإسلام وعلى الخليفة ما جنيتُم، أخرجتموه من دار مُلكه في عدَّة يسيرة، وهارونُ الشَّاري بإزائكم في جمع كبير، فلو حضركم وأخذ الخليفة لكان عارًا وسُبَّة على الإسلام. ثمَّ وكَّل بهم، وبعث إلى الخليفة يقول: ما هذا بمُقامٍ والشَّاري بإزائنا، فارجع. فقال الخليفة: فاحْلِف لي أنَّك تنحدر معي ولا تُسلمني، فحلف له، وانحدر إلى سُرَّ من رأى، فتلقَّاه صاعد بن مَخْلد كاتبُ الموفَّق، فسلَّمه إسحاق إليه، فأنزله في دار أحمد بن الخَصيب، ومنعه من نزول الجَوْسَق (¬1)، ووكَّل به قائدًا معه خمس مئة رجل يَمنعون من الدُّخول إليه. وقيل: كان ابن طولون بمصر، وإسحاق بن كنداج عامل الموفَّق على الموصل والجزيرة، فبعث إليه الموفَّق مع صاعد بن مَخلد كاتبه بالقبض على المعتمد وعلى من معه، وردِّهم إلى سُرَّ من رأى، وكان المعتمد قد أقام بالكُحَيل يتصيَّد، ومعه من القوَّاد: أحمد بن خاقان وخطارمش وجماعة، فلمَّا وصلوا إلى الموصل أظهر إسحاق أنَّه مع المعتمد موافقٌ غيرُ مخالف، وكان مَن مع المعتمد قد حذَّروه إسحاق وقالوا: لا حاجةَ لنا إلى المرور به، فخالفهم وقال: هو غلامي، وفي الطَّريق إليه صَيد كثير. وكان ابن طولون قد بعث قائدًا إلى الرَّقَّة أسيرًا في خدمة المعتمد، فلمَّا بقي بين المعتمد وبين عمَّال ابن طولون منزل؛ أمر برحيل الغِلمان والأثقال والأتباع، فخلا ابنُ كنداج بالقوَّاد الذين مع المعتمد، وقال لهم: إنَّكم إذا صرتم إلى ابن طولون فالأمر أمرُه، وأنتم تحت يده، أفترضَون بذلك، وإنَّما هو مثلُ واحد منكم؟ ¬

_ (¬1) الجوسق: الحصن. والقصر. "اللسان": (جسق).

وجرى بينهم مناظرات حتَّى ارتفع النَهار، ولم يَرتَحِل المعتمد لاشتغال القوَّاد بالمناظرة، ولم يجتمع رأيُهم على شيء، فقال لهم ابن كنداج: قوموا بنا حتَّى نتناظر في غير هذا المكان، وأكرِموا مجلسَ أمير المؤمنين عن ارتفاع الأصوات فيه، فأخرجهم من مَضْرب المعتمد وأدخلهم مضرب نفسه، وأمر قوَّاده وأصحابَه وفرسانه فدخلوا عليهم، فقيَّدوا الجميع، ثمَّ عاد إسحاق فدخل على المعتمد، وعَذَله في شخُوصه عن دار مُلكه، وفراقِ أبي أحمد على الحال الَّتي هو بها من مُحاربة الخبيث، وما في ذلك من الفساد، ثمَّ حمله ومَن كان معه إلى سُرَّ مَن رأى في شعبان، وبعث أبو أحمد بِخِلَع [إلى] إسحاق، وقلَّده سيفين، وتُوِّج وطُوِّق وسُوِّر، وأفضى عليه من الخِلَع والأموال ما لا يحصى، وأُقطِع ضياعَ القوَّاد الذين كانوا مع المعتمد (¬1). وقال الصُّولي: كان المعتمد قد تخيَّل من أخيه الموفَّق، فكاتَبَ ابنَ طولون، واتَّفقا على أنَّه يتوجَّه إلى مصر، فلما خرج من سُرَّ من رأى قال لقُوَّاده خطارمش وأحمد بن خاقان وغيرهما: لا حاجة لنا إلى العبور على الموصل؛ فإنَّ ابن كنداج مائلٌ إلى أبي أحمد فلا آمنه، فاعدلوا عنه، فقالوا: هو أخونا ومعنا ويُساعدنا على ما نريد، فقال: سوف ترون، فلمَّا قيَّدهم صاح بهم المعتمد بالله: قيِّدْهم وزِدْهم قيدًا آخر، قال: ولمَ؟ قال: لأنَّك أخوهم وتُساعدهم على ما يريدون (¬2)، وسلَّم ابنُ كنداج المعتمدَ إلى صاعد، فأنزله في دار ابن الخَصيب، وحجر عليه، فقال: [من الوافر] أليس من العجائب أنَّ مِثلي ... يرى ما قَلَّ مُمْتَنعًا عليه وتُؤكَل باسمه الدُّنيا جميعًا ... وما من ذاك شيءٌ في يديه (¬3) ولُقِّب ابن كنداج ذو السَّيفَين، وصاعد ذو الوزارتين، وأقام صاعد في خدمة المعتمد، والمعتمد يجور عليه ليس له أمرٌ ولا نهي. حكاية جرت لصاعد: قال الصُّولي: سعَوْا بصاعد إلى الموفَّق، ورمَوه بمال عظيم، فأمر بحمله إليه إلى ¬

_ (¬1) "تاريخ الإسلام" 6/ 253 وما بين معكوفين منه. (¬2) بعدها في (خ) و (ت): وسلم ما يريدون. (¬3) ذكر الأبيات الذهبي في "تاريخ الإسلام " 6/ 253.

واسط، وجعلوا الرُّقعة التي فيها السِّعاية بالمال العظيم تحت ذَنَب طائر، وانتُظر به مسير صاعد إلى واسِط. قال صاعد: وكان عندي مئتا ألف درهم، فقلت: أحملها إلى الموفَّق، ثمَّ قلتُ: والله لا فعلتُ، ولأتصدَّقنَّ منها بمئة ألف درهم. قال: فتصدَّقت بمئة ألف في اليوم الذي حُملت فيه إلى واسط، ونزلتُ في سفينة، فبينا أنا أسير إذ سقط بين يديَّ طائر، فأخذتُه، فوجدتُ الرُّقعة الَّتي سُعي بي فيها تحت ذَنَبه، فعلمتُ أنَّ الله كفاني ذلك لأجل صدقتي، فلمَّا دخلتُ على الموفَّق أريتُه الطَّائر والرُّقعة، وعرَّفتُه الصَّدقةَ وما فعلتُ، فعظمتُ في عينه، وارتفعتْ منزلتي عنده، وقال: ما فعل الله بك هذا إلَّا لخيرٍ رَادَك له، وخصَّك به (¬1). ولما بلغ أحمدَ بن طولون ذلك جمع القُضاةَ والأشرافَ والعدول، وفيهم العمريُّ وأبو حازم وبكَّار، وقال: قد نَكَث أبو أحمد بأمير المؤمنين، فاخلعوه من العهد، فخلعوه إلا القاضي بكَّار فإنَّه قال: أنت أوردتَ عليَّ كتابًا من المعتمد بولاية العهد للموفَّق، فأورِدْ عليَّ كتابًا ثانيًا منه بخلعه، فقال: إنَّه مَحْجورٌ [عليه و] مقهور، فقال: لا أدري، فقال ابن طولون لبكَّار: غرَّك النَّاس بقولهم: ما في الدنيا مثل بكَّار، وأنت شيخٌ قد خَرِفتَ، وأنا أحبسك حتَّى يَرِد عليَّ كتابٌ بإطلاقك، فحبسه وقيَّده، واستردَّ منه جميع ما كان قد أعطاه من الجوائز في مدَّة ولايته، فكانت عشرة آلاف دينار، فوجدها في بيت بكَّار بحالها وبختمها. وكتب ابن طولون كتاب الخَلْع وفيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما أجمع عليه القُضاة، والعلماء، والأولياء، ووجوهُ الأمصار؛ أنَّ ابن طولون أحضرهم إلى مَجْلسه بدمشق، وسألهم عن ما يوجبه ما أقدم عليه النَّاكث أبو أحمد في أمر أمير المؤمنين المعتمدِ على الله؛ من احتياله على الحَجْر عليه، وقبضِ أمواله، وتشريد جماعته، وأنَّه دسَّ إليه السُّمَّ، واحتال في اغتياله، فخاف أمير المؤمنين على نفسه فأجمع المسيرَ إلى أحمد بن طولون ليَعتصمَ به؛ إذ هو ثقتُه، وعدتُه، وسيفُه، وحصنُه، وإنَّ إسحاقَ بن كنداج عرض له بأمر أبي أحمد وكتابه، فردَّه قهرًا إلى سُرَّ من رأى، وسلَّمه إلى صاعد ¬

_ (¬1) ذكر هذا الخبر عن الصولي ابنُ الجوزي في "المنتظم" 12/ 223.

فحبسه، ومنع أهلَه وحشَمه عنه، وقد أصبح أسيرًا بعيدَ النَّاصر، عُرضةً لسُوء القول، وقبيحِ الفعل، يَخاف على نفسه ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجَهارًا، فرأى كلُّ مَن حضر من القضاة والعلماء خَلْعَ أبي أحمد ممَّا فوَّضه إليه أمير المؤمنين من ولاية عهده، والتبرِّي منه، وأفتَوا بجهاده لوجوهٍ؛ أحدها: أنَّه منع حقَّ إمامه، والثاني: حقَّ الأخوّة، والثالث: حقَّ النِّعمة، وأوقع مَن حضر من الحكَّام شهاداتهم عليه، وفتياهم به، وكتب في سنة تسعٍ وستِّين ومئتين، شهد عُبيد الله بن محمد العمريُّ، وعبدُ الحميد بن عبد العزيز قاضي دمشقَ والأردن وفلسطين، وكتبوا بها نُسخًا، وبعثوا بها إلى الأمصار. وأكثر الشُّعراء في ذلك، فقال إسحاق بن طريف المخزوميّ: [من الخفيف] كيف يُرجى للعهد مَنْ نَقَض العَهْـ ... ــــدَ ولم يَرْعَ حُرمَةَ الأجدادِ ناكثٌ قد أضلَّ قومًا أطاعو ... هُ على نكْثِ بيعةٍ وفسادِ أيُّ صوم لكم وأيُّ صلاةٍ ... وإمامُ الهُدى أسيرُ الأعادي أيُّ عُذْرٍ لكم بخَذْلِ إمامٍ ... لابسٍ ثوبَ ذِلَّةٍ واضطهادِ وبلغ الموفَّق، فكتب إلى الأمصار بلعنةِ ابن طولون على المنابر، فكان الخطيب يقول: وإنَّ عدوَّ الله، المباينَ لجماعة المسلمين، المعروفَ بابن طولون، المارقَ عن الدِّين، الذي أخرب ثغورَ المسلمين، وقاتَلَ المجاهدين، وأهَّل بالفسوق المارقين، واستباح الحريم، وسفك الدِّماء، وظلم الرَّعيَّة، ولم يقسم بالسَّويَّة ... وذكر كلامًا طويلًا. ثمَّ سار ابن طولون من دمشق إلى المصِّيصة وبها يازمان الخادم، فتحصَّن ونصب المجانيق والعرَّادات، وجاء فنزل المَرْج والبردُ شديد، والمطرُ كثير، فبثق عليه يازمان نهر طَرَسوس المعروف ببردان، فغرق المَرْج، وهلك عسكرُ ابن طولون، فرحل وهو خائف، وخرج أهل طَرَسوس، فنهبوا ما كان في عسكره، فسار إلى دمشق لا يلوي على أحد، فمرض مرضته الَّتي مات على عَقيبها، ولم يكن فيه إلَّا الغبن من لعنته على المنابر، وعصيان يازمان عليه، وأخذ المعتمد من يده بعد أن كان قد نوى أن يأخذ به الدُّنيا وما فيها. وولَّى ابنُ طولون قضاءَ مصر محمد بن شاذان الجوهريَّ نيابة عن بكَّار، وولَّى

الموفَّق إسحاقَ بن كنداج المغرب كلَّه، والعراقَ وشرطتَه، وما كان بيدِ أحمد بن طولون، وقرئ كتاب بمكة بلَعْنَةِ ابنِ طولون، وأقام إسحاق بسامرَّاء بأمر الموفَّق هذه السَّنة. وفيها عبر الموفَّق إلى الخبيث، وأحرق قطعةً من البلد، وجرح أنكلاي بن الخبيث صاحب آمد وديار بكر. قال الطَّبريُّ (¬1): وفيها صار جعفر المفوَّض إلى جامع سُرَّ من رأى يوم الجمعة، ولعنَ ابنَ طولون على المنبر، وعقد لإسحاق بن كنداج من باب الشَّمَّاسِيّة إلى إفريقية (¬2)، وعقد لصاعد على شَهْرَزور، والجبال، وحُلْوان، وأعمال الفرات. وفيها كانت بين الموفَّق والزَّنج وقعةٌ عظيمةٌ في شوَّال. كان الخبيث مدَّة اشتغال الموفَّق بمرضه قد أعاد القنطرة الَّتي كانت قريبة من نهر أبي الخَصيب، وألبسها الحديد، وعمل دونها سكرًا بالحجارة يمنع دخول السُّفن إليه، فندب الموفَّق قائدَين في أربعة آلاف ليُجليا أصحابَ الخبيث عن القنطرة، وركب الموفَّق حتَّى وافى نهرَ أبي الخَصيب ليشغلهم عن المعاونة على القنطرة. وخرج الزَّنج يقودهم أنكلاي بن الخبيث، وسُليمان بن جامع، وعلي بن أبان المهلَّبيّ، وقاتلوا عن القنطرة أشدَّ قتال؛ لعِلْمهم بما في قطعها من الضَّرر عليهم، ولم يزل القتال بينهم إلى العصر، وكره الموفَّق أن يهجم اللَّيل والجيشُ موغل في نهر أبي الخَصيب؛ فتتمكنَ الزَّنج من أذاهم، فرجع إلى الموفَّقيَّة، وأحسن إلى المقاتِلة، وخلع عليهم. ولمَّا رأى الخبيث أن الموفَّق قد ضيَّق عليه تحوَّل إلى مكان آخر، وانقطعت عنه المِيرة، وضَعُف أمرُه، وقلَّ عنده الشَّيء، حتَّى كان الرَّجل منهم إذا خلا بامرأة أو صبيِّ ذبحه وأكله، ثمَّ كان مَنْ قوي من الزَّنْج بعضُهم على بعض ذبحه وأكله، وكان الخبيث لا يعاقب مَن يفعل ذلك إلَّا بالحبس، ثمَّ يُطلقه. ¬

_ (¬1) في تاريخه 9/ 627 - 628. (¬2) من هنا إلى ترجمة عيسى بن الشليل ليس في (ب).

وكان الموفَّق قد أحرق على الخبيث دارَه وقصرَه ومنازلَه، وبقي في جانب من النَّهر في قصره لبعض أصحابه، ووعَّر الطريق إليه وسدَّها، وعمل الخنادق، فسار إليه الموفَّق، وأحرق الأماكن الَّتي كان فيها، ودخل مدينته فتمَّم خرابها، وأمر بقلع باب قصره الذي انتزعه من حصن البصرة، فحُمل إلى بغداد، وقطع الجسرَ الذي كان يرتفق منه الخبيث، فخاف الزنج، وقاتلوا قتالًا شديدًا، ثمَّ انهزموا، فدخل غلمان الموفَّق، فخَلَّصوا مَن كان في تلك الناحية، ودخلوا دار القائد، ونهبوها، وسبَوْا ولدَه ونساءه. وعبر الخبيثُ إلى الجانب الشَّرقي من نهر أبي الخَصيب، وأخلى الغربيَّ، واستأمن إلى الموفَّق جماعةٌ من قوَّاد الخبيث ممَّن كان يَثق بهم، فأحسن إليهم ووصلهم، وجاء بعضهم بمنبر الخبيث، فسُرَّ به وتفاءل بالفتح، واستنقذ الموفَّق نساءً علويَّات كنَّ عند الخبيث مُحَبَّسات، فأمر بحملهنَّ إلى العسكر، وفتحوا سجنًا كبيرًا كان للخبيث فيه خلق من العساكر الذين كانوا يقاتلون من أصحاب الموفَّق ومن غيرهم، فأَخرجوا الجميع وفي أرجلهم القيود، وفي أعناقهم الأغلال، فأطلقوهم. وبعث أنكلاي بن الخبيث إلى الموفَّق يَطلب الأمان، ويَشترط أشياء، فأجابه إلى كلِّ ما سأل، وبلغ أباه، فعَدَله إلى قتال الموفَّق، وباشر الحرب بنفسه. وفي ذي القعدة دخل الموفَّق مدينة الخبيث الشَّرقيَّة من نهر أبي الخَصيب، جمع السفن والمعابر من دجلة والبَطيحة ونواحيها، وأضافها إلى ما في عسكره، فأُحصي ما كان في المعابر والشَّذا والسُّميريات زهاءَ عشرة آلاف ملَّاح، ممَّن يجري عليه الرِّزق من بيت المال مشاهرة، سوى سُفن أهلِ العسكر الَّتي يحمل فيها المِيرة، ويركبها النَّاس في حوائجهم، وأمر الموفَّق بتفرقة السُّفن على الفرسان والرَّجَّالة، وقدَّم ابنه أبا العبَّاس وقوَّاده ومواليه، وذلك في يوم الاثنين لتسعٍ خلون من ذي القعدة. وفي هذا الشهر أدخل المعتمد إلى واسط. وسارت السفن والسُّميريات والخيَّالة والرَّجَّالة على ترتيب لم يُرَ مثله (¬1)، فيقال: إنَّ المقاتِلة كانوا ثلاثين ألفًا، وسارت السُّفن في دجلة منذ صلاة الظُّهر إلى اللَّيل، وأصبح ¬

_ (¬1) هذا وما بعده من تمام وصف دخول الموفق مدينة الخبيث، انظر "تاريخ الطبري" 9/ 646 - 647.

أحمد بن عبد الله

يوم الثلاثاء وقد انضاف إليه خلقٌ كثير، فصار في خمسين ألفًا؛ يكبِّرون، ويهلِّلون، ويقرؤون القرآن، ويصلُّون على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا رأى الخبيث ذلك أبهره، وزال عقلُه، وزحف الجيشُ نحو الخبيث، فتلقَّاه بنفسه في جيشه، واشتبكت الحرب، وكَثُر القتل والجراح بين الفريقين. وحامى (¬1) الزَّنج على المدينة الشَّرقية واستقتلوا، وحمل الموفَّق بنفسه وأبو العبَّاس والخواصُّ فهزموهم، وقتلوا منهم مَقْتلَةً عظيمة، وأسروا من شُجعانهم خلقًا كثيرًا، فضرب الموفَّق أعناقَهم، وقصد دار الخبيث وقد التجأ الخبيث إليها، وانتخب أنجادَ أصحابه، وكان فيها بقايا ما كان سَلِم للخبيث، فانتهب غلمانُ الموفَّق الجميع، وأخذوا حرمه وأولاده -وكانوا أكثر من مئة امرأة وصبيّ-، وهرب الخبيث على وجهه نحو دار المهلّبيّ لا يلوي على أحد ولا مال ولا أهل، وأُتي بأولاده ونسائه، فأمر الموفَّق بحملهم إلى الموفَّقيَّة، وأحسن إليهم، وأمر بإحراق دار الخبيث فأُحرِقَت بما فيها، واستنقذ خمس مئة امرأة من المسلمات اللَّاتي كنَّ عند الخبيث، فردَّهنَّ الموفَّق إلى أهاليهنَّ، وكان الخبيث قد جاءه منهنَّ أولاد. وفي ذي الحجَّة ورد كتاب لؤلؤ مولى ابن طولون إلى الموفَّق يسأله القدومَ عليه؛ ليَشهَد حرب الخبيث، فأجابه إلى ذلك، وأقام ينتظر قدوم لؤلؤ ليُناجز الخبيث، فقدم لؤلؤ مدينة السَّلام في جمع عظيم من الفَراغِنة والأتراك والرُّوم والبَربر والسُّودان وغيرهم، فأقام ببغداد أيَّامًا، ثمَّ توجَّه إلى الموفَّق، فوافاه يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرَّم سنة سبعين ومئتين، وسنذكره هناك. وبعث الموفَّق بعيالِ (¬2) صاحب الزَّنج إلى بغداد. وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمد بن إسحاق الهاشميّ. وفيها توفي أحمد بنُ عبد الله ابنِ القاسم، أبو بكر، الورَّاق الحافظ. حدَّث [عن] عُبيد الله بن مُعاذ العَنْبريّ وغيره، وروى عنه أبو سعيد بن الأعرابيِّ وغيره. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وحامل، والمثبت من "تاريخ الطبري" 9/ 647. (¬2) في (خ) و (ف): يغتال، والمثبت هو الصواب، انظر "تاريخ الطبري" 9/ 652.

الحسن بن مخلد

وأخرج له الخطيب (¬1) أثرًا عن زِرّ بن حُبَيش قال: قلتُ لأُبيِّ بن كعب: إنَّ ابن مسعود يقول: مَن يَقُم شهرَ رمضان يُدركْ ليلة القَدْر، فقال أُبيّ: يرحم الله ابن مسعود، لقد علم أنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرين. الحسن بنُ مَخْلد ابنِ الجرَّاح، أبو محمد، الكاتب، الوزير (¬2). ولد سنة تسع ومئتين هو ومحمد بن عبد الله بن طاهر، وعُبيد الله بن يحيى بن خاقان، وأحمد بن إسرائيل، وكلُّهم وَلُوا الوزارة. وكان ابن مَخْلَد يتولَّى ديوان الضياع للمتوكِّل، وقدم معه دمشق، ثمَّ بقي إلى زمان المعتمد، فاستوزره سنة ثلاثٍ وستين، ثمَّ عزله فيها سليمان بن وهب، واعتقله، وأخذ منه مئة ألف وعشرين ألف دينار، ثمَّ أطلقه، واستوزره في سنة أربعٍ وستِّين وقبض على سليمان، ثمَّ عزل الحسن وأعاد سليمان إلى الوزارة في ذي الحجَّة، فهرب ابن مخلد، ثمَّ ظهر في ربيع الأول سنة خمس وستين، فأُعيد إلى الوزارة في ربيع الأوَّل، ثمَّ سخط عليه المعتمد في شعبان، واستوزر أحمد بن صالح، فبعث أحمد بن طولون إليه فأشخصه إلى مصر، فلمَّا قدم عليه رأى منه ما لم يره من غيره من الفَهم والدِّراية بأمر الدُّنيا، فحظي عنده، وقال له: انظر في أعمالي، فنظر فيها، وضمن له زيادةَ ألف ألف دينار في كلِّ سنة؛ مع العدل في الرَّعيَّة، فخافه الكتاب فوشَوْا به إلى ابن طولون، وقالوا: هذا عينُ الموفَّق عليك، فحبسه، فقالوا: لا ينبغي أن يكون في جِوارك محبوسًا؛ فربَّما حَدَث به حادث فيُنسب إليك، فبعث به إلى عامله بأنطاكية، وأمره أن يعذِّبه، فعذَّبه في هذه السَّنة. وكان شاعرًا جوادًا ممدَّحًا، مدحه البحتريُّ وغيره، ومن شعر الحسن وكتب به إلى أهله من مصر إلى بغداد: [من البسيط] مَن للغريب البعيدِ النَّازحِ الوَطَنِ ... مَنْ للأسير أسيرِ الهَمِّ والحَزَنِ ¬

_ (¬1) في "تاريخه" 5/ 357 - 358. (¬2) ترجمته في "تاريخ دمشق" 4/ 597 (مخطوط)، و"تاريخ الإسلام" 6/ 317، و"الوافي بالوفيات" 12/ 267.

خالد بن أحمد بن خالد

مَن للغريب الذي لا مُستراحَ له ... مِنَ الهموم ولا حظٌّ من الوَسَنِ لا خيرَ في عيشِ نائي الدَّارِ مُغْتَربٍ ... يأوي إلى الهمِّ كالمَصْفود في قَرَنِ يا أهلُ كم فاتني من حُسنِ مُستمعٍ ... منكم وفارقتُه من مَنظَرٍ حَسَنِ وكم تجرَّعتُ للأيام بعدكمُ ... من جُرعةٍ أزعجَتْ روحي من البَدَنِ وقال الحسن: عُرِضَتْ على المتوكِّل جاريتان شاعرتان، فقال لإحداهما: قولي في مجلسنا شيئًا -وكان فيه الفتح بن خاقان- فقالت: [من الطويل] أقول وقد أبصرتُ صورةَ جعفرٍ ... إمامِ الهدى والفَتح ذي العزِّ والفخرِ أشمس الضُّحى أم شِبهُها وجهُ جعفر ... وبدرُ السماءِ الفتحُ (¬1) أم مُشبِهُ البَدْرِ ثمَّ قال للأخرى: قولي أنت شيئًا، فقالت: [من الطويل] أقول وقد أبصرتُ صورةَ جعفر ... تعالى الذي أعلاك يا سيِّدَ البَشَرْ وأكمل نَعماه (¬2) بفَتْحٍ ونُصحه ... فأنت لنا شمسٌ وفتحٌ لنا قَمَرْ فأمر بشراءِ الأولى دون الثانية، فقالت: لم رَدَدْتَني؟ فقال: لأنَّ في وجهك نَمَشًا، فقالت: [من السريع] لم يَسْلَمِ الظَّبيُ على حُسْنِه ... يومًا ولا البَدْرُ الذي يُوصَفُ الظَّبيُ فيه خَنَسٌ بَيِّنٌ ... والبدرُ فيه نُكتة تُعرَفُ فأمر بشراء الأخرى. خالد بن أحمد بن خالد ابن عمرو، أبو الهَيثم، الذُّهْليُّ. ولي إمارة مَرْو، وهَرَاة، وبُخارى، وغيرها من بلاد خُراسان، وكان من أهل السُّنَّة، وله آثار مَشهودة، وأمور مَحمودة، وهو الذي نفى البخاريَّ عن بخارى لما قال: لَفْظي بالقرآن مخلوق. وكان يحبُّ العلماء والحديث، وأنفق في طلب الحديث والعلم ألفَ ألفِ درهم، ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): للفتح، والمثبت من "نشوار المحاضرة" 6/ 194، و"تاريخ دمشق" 4/ 598. (¬2) في (خ) و (ف): معناه، والمثبت من "نشوار المحاضرة" و"تاريخ دمشق".

عيسى بن الشيخ

ولمَّا استوطن بُخارى استقدم إلى حَضرته حفَّاظ الحديث، مثل: صالح جَزَرة، ومحمد بن نَصْر المَرْوزي، ونصر بن أحمد، وغيرهم، وسمع من إسحاق بن راهويه وغيره. ورد بغداد وحدَّث بها، فسمع منه القاضي وكيع، وأبو طالب الحافظ، وابن عُقدة، وغيرهم. وكان يختلف إلى المحدِّثين فيسمع منهم، ويمشي لطلب الحديث ولا يركب تواضعًا، وبسط يده بالإحسان إلى العلماء فأحبُّوه، وقَدِموا عليه من الآفاق، وكان شديدًا على الطَّاهرية، مائلًا إلى يعقوب الصَّفَّار، وكان قد كلَّم محمد بنَ طاهر لمَّا كان بهَراة بما ساءه، فرفع محمد أمرَه إلى السَّلطان، فاتَّهمه السُّلطان فحبسه ببغداد، فمات في حبسه، فكانوا يرَون أنَّه عُوقب بسبب ما فعل بالبخاريّ (¬1). [فصل وفيها توفي] عيسى بن الشَّيخ ابن السَّليل بن ضَبِيس (¬2)، أبو موسى، الذُّهْلي، الشَّيباني (¬3)، من ذُهْل بن شَيبان. غلب على دمشق في أيَّام المهتدي وأوَّلِ أيام المعتمد، وذكره أبو الحسين الرَّازي في أمراء دمشق فقال: غلب على دمشق (¬4) سنةَ خمسٍ وخمسين ومئتين، وأظهر الخلاف، وأخذ مال الشَّام، وكان يتقلَّد فلسطين والرَّملة والأردنّ، وكان ذلك في وقت اضطراب الأتراك بسامراء، فاغتنم عيسى ذلك، فجمع الرِّجال، ومنع المال، واتَّفق أنَّ ابنَ المدبَّر حمل من مصر سبع مئة ألف دينار وخمسين ألف دينار يريد سامراء، فأخذها عيسى منه، فبعثوا من سامرَّاء حسين الخادم، ومعه الكُريزي وأبو نصر المروزيّ الفقيهان؛ لمطالبته بمال مصر، وبما كان في يده من الأعمال، وبعثوا بعَهْده على أرمينية معهم، فلم يُقرَّ بشيء وقال: استولت النَّفقات على الجميع. ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد"9/ 257، و"المنتظم" 12/ 225، و "تاريخ الإسلام"6/ 322. (¬2) في (خ) و (ف): صيص، والمثبت من "تاريخ دمشق" 57/ 28. (¬3) في (ب): وقد نسبه الحافظ ابن عساكر فقال: عيسى بن الشيخ أبو موسى ... ، وما سلف بين معكوفين منها. (¬4) في (خ) و (ف): وقال أبو الحسين الرازي: غلب علي بن عيسى على دمشق ... ، والمثبت من (ب).

وكان لمَّا ولي المعتمد لم يبايعْه عيسى لأجل المهتدي، ولا لبس السَّواد، فتلطَّف به حُسين الخادم، ودفع إليه عهدَه على أرمينية حتى أقام الدَّعوة للمعتمد، وهو يظنُّ أنَّه استُعمل على أرمينية مضافًا إلى الشَّام، فقلَّد المعتمد أماجور التُّركي دمشقَ وأعمالها، فسار إلى الشَّام في جيشه، وقيل: في أقلَّ من ألف رجل، فلمَّا قَرُب منها أنهض عيسى ابنَه منصور وكنيته أبو الصَّهباء، فخرج إلى أماجور وقاتله، فانهزم منصور وأُخذ أسيرًا، وجيء به إلى أماجور، فضرب عنقه، وصلبه على باب دمشق (¬1)، ومضى عيسى منهزمًا إلى أرمينية، فأقام بها إلى سنة تسع وخمسين ومات بها، [وهذه حكاية ابن عساكر عن أبي الحسين الرَّازي]. وذكره الدارقطني فقال (¬2): كان عيسى أميرًا على آمد [ومن ولده جماعة من أصحاب الحديث، منهم: محمد بن إسحاق بن عيسى بن الشيخ]. وقال الصُّولي: جاءه رجل فأنشده هذه الأبيات: [من الوافر] رأيتُكَ في المنام خَلَعْتَ (¬3) خزًّا ... عليَّ بَنَفْسَجًا وقضيتَ دَيني فعجِّل لي فِداكَ أبي وأمِّي ... مقالًا في المنام رأتْه عيني فقال عيسى: يا غلام، كم في الخزانة من شِقاق البنفسج؟ قال: سبعون شُقَّة، قال: ادفعها إليه. ثم قال: كم دَينُك؟ قال: عشرة آلاف درهم، فأعطاه إيَّاها وقال: اقض [بهذه] دينك، وعشرة آلاف أخرى استَعِنْ بها (¬4)، وإيَّاك أن تَعودَ فترى منامًا آخر، فلعلَّك لا تجد مَن يُفسِّره لك. ¬

_ (¬1) هكذا جاءت العبارة في (خ) و (ت) وهي خطأ. والذي في "تاريخ دمشق" 57/ 30: أنهض إليه عيسى بن الشيخ ابنه منصور بن عيسى وظفر بن اليمان المعروف بأبي الصَّهباء، فلما التقوا انهزم أصحابه، وقتل منصور بن عيسى بن الشيخ وأسر ظفر بن اليمان، فأمر به أماجور فضرب عنقه، وصلبه على باب دمشق، وانظر "تاريخ الطبري" 9/ 474 - 475. (¬2) في (خ) و (ت): ومات بها. وقال الدارقطني ... ، والمثبت وما سلف وسيأتي بين معكوفين من (ب)، وكلام الدارقطني في "تاريخ دمشق". (¬3) في (خ) و (ف): رأيت، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في "تاريخ دمشق"، و"تاريخ الإسلام" 6/ 383. (¬4) في (خ) و (ت): اقض دينك وأعطاه مثلها وقال: استعن ... ، والمثبت من (ب)، وما سيأتي بين معكوفين منها.

محمد بن إبراهيم

وقال الصُّولي: كان بُغا الكبير قد ولّى عيسى بن الشيخ على فلسطين والأردنّ في سنة خمس وخمسين ومئتين، فغلب على دمشق، ثم مضى إلى أرمينية، فتوفي بها في هذه السنة.] وحكى ابن عساكر عن عيسى أنَّه قال: قال المأمون (¬1): دخول الحمَّام بالغَدَوات دخولُ الملوك، ووقت الظُّهر دخولُ التُّجَّار، وبعد العصر دخول السُّفَّل، ووقتَ السَّحَر دخول العيَّارين [والطَرَّارين، وهذا ما انتهى إلينا، والله أعلم]. [وفيها توفي] محمد بن إبراهيم أبو حمزة، الصُّوفيُّ، البغداديُّ، [مولى عيسى بن أبان القاضي، وقيل: إنَّه من ولده. وكان أبو حمزة] أستاذَ البغداديِّين، وهو أوَّل مَن تكلَّم ببغداد في هذه المذاهب من صفاء الذِّكر، وجمعِ الهَمِّ، والمحبَّة، والشَّوق، والقُرب، والأُنس، لم يسبقه إلى الكلام بهذا على رؤوس المنابر ببغداد أحد، وما زال مَقبولًا، حسنَ المنزلة عند النَّاس، إلى أن توفي في سنة تسع وستين ومئتين، ودفن بباب الكوفة (¬2). وكان عالمًا بالقراءات، وجالس الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد أبن حنبل، إذا جرى في مجلسه شيءٌ من كلام القوم يلتفت إلى أبي حمزة ويقول: ما تقول في هذه المسألة يا صوفيّ؟ وصحب سريًّا، والجنيد (¬3)، وحسنًا المُسُوحي [وإليه كان ينتمي وغيرهم، وحكى عنه خير النَّسَّاج]. وقدم مكَّة والمدينة وتكلَّم بهما مرارًا. [ذكر طرف من أخباره وكلامه: حكى الخطيب بإسناده إلى خير النَّسَّاج قال: سمعتُ أبا حمزة] يقول: خرجتُ من ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وقال عيسى قال المأمون، والمثبت من (ب)، والكلام في "تاريخ دمشق" 57/ 28. (¬2) في (خ) و (ف): عند الناس وتوفي بباب الكوفة، والمثبت وما سيأتي بين معكوفين من (ب)، وهو الموافق لما في "تاريخ بغداد"2/ 279، و"المنتظم" 12/ 227. (¬3) بعدها في (ب): وهو من أقرانهما.

بلاد الرُّوم، فوقفتُ على راهب فناديته: هل عندك خَبَرُ مَن قد مضى؟ قال: نعم، فريقٌ في الجنَّة، وفريق في السَّعير [، وذكرها ابن خَميس في "المناقب" (¬1)]. وقال: استراح من أسقط عن قلبه محبَّة الدُّنيا، ومتى خلا منها سكنه التوكُّل. [وحكى عنه في "المناقب"] (¬2) قال: مَن رُزق ثلاثة أشياء نجا من الآفات؛ بطنٌ جائع مع قلبٍ قانع، وفقر دائم مع زهد حاضر، وصبر كامل مع ذكر دائم. وسئل عن الأُنس فقال: ضِيق الصَّدر من مُعاشرة الخَلْق. وقال: إنِّي لأستحيي من الله أن أَدخل الباديةَ وأنا شبعان وقد اعتقدتُ التَّوكُّل. وقال الجنيد: خرج مرَّة من البادية، فقدَّمت إليه طعامًا كثيرًا فأكل الجميع، فعجبتُ منه فقال: لا تعجب؛ فإنِّي أكلتُ أكلةً بمكَّة وهذه الثانية. وسمع رجلًا يلوم إنسانًا على إظهار وَجْدِه، وغلبةِ الحال عليه في مجلس بعض الأضداد، فقال أبو حمزة: يا أخي، الوَجْدُ الغالب يُسقط التَّمييز، ويجعلُ الأماكن كلَّها مكانًا واحدًا، والأعيانَ عينًا واحدة، فلا لَوْمَ على مَن اضطرَّه وجْدُه إلى ذلك، وما أحسن قولَ القائل: [من الكامل] فدَعِ المحبَّ من الملامةِ إنَّها ... بئسَ الدَّواءُ لمُوْجَعِ مِقْلاقِ لا تُطفِئنَّ جَوًى بلَوْمٍ إنَّه ... كالرِّيح تُغري النَّارَ بالإحراقِ (¬3) وخرج طائفة من مكَّة من المشايخ يستقبلونه، وقيل: إنَّما خرجوا من بغداد يستقبلونه عند قدومه من مكَّة، فإذا به قد شَحَب لونُه، فقال له الجريريُّ: يا سيِّدي، هل تتغيَّر الأسرار بتغيُّر الصِّفات؟ قال: معاذ الله أن تتغيَّر بتغيُّر الصِّفات، لو تغيَّرت لهلك العالم، ولكنَّه ساكنَ الأسرارَ فحملها، وأعرض عن الصِّفات فلاشاها (¬4)، ثمَّ أنشد: ¬

_ (¬1) "مناقب الأبرار"1/ 492. (¬2) ما بين معكوفات من (ب)، وانظر "مناقب الأبرار" 1/ 492، و"تاريخ بغداد"2/ 275 فما بعدها، و"تاريخ الإسلام" 6/ 391. (¬3) البيتان لابن الرومي وهما في "ديوانه" 4/ 1663. ورواية الشطر الأول في (خ) و (ت): فدع الملامة للمحب فإنها، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في المناقب. (¬4) في النسخ: فلا شاهد، والمثبت من "تاريخ بغداد" 2/ 277، و"تاريخ دمشق" 60/ 374.

[من مجزوء الكامل] كما ترى صَيَّرني ... قَطْعُ قِفارِ الدِّمَنِ شرَّدني عن وطني ... كأنَّني لم أكنِ إذا تغيَّبتُ بدا ... وإن بدا غيَّبني يقولُ لا تشهد ما ... يشهد أو يشهدني ذكر وفاته: قال: تكلمتُ يومًا فهتف بي هاتف: قد تكلَّمتَ فأحسنتَ، بقي أن تسكتَ فتُحسن، فما تكلَّم بعد ذلك، وعاش أسبوعًا ومات. وقال السُّلَمي: تكلَّم يومًا في جامع الرُّصافة في علوم الإرادات، فسقط من المنبر، فأقام مريضًا، وتوفِّي بعد أيام. وقيل: إنَّما سقط في جامع المنصور، وقيل: إنَّه مات في سنة تسعٍ وسبعين. [قال الخطيب: وفي] سنة تسعٍ وستين أصحّ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ب)، وانظر "تاريخ بغداد" 2/ 279، و "طبقات الصوفية" 296، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/ 268، و"الوافي بالوفيات" 1/ 344، وسيرد في وفيات سنة (295 هـ): أبو حمزة الصوفي، وسياق الأخبار هناك تختلف عمَّا هنا، فليحرَّر، وينظر تاريخ الإسلام 6/ 392، 462 حيث ذكره باسمه مرَّة وبكنيته مرَّة أخرى ..

السنة السبعون بعد المئتين

السَّنة السَّبعون بعد المئتين فيها في المحرَّم كانت وَقعةٌ بين الموفَّق والخبيث أوهَنَت الخبيث، ووقعةٌ أخرى في صفر قُتل فيها الخبيث، وسنذكره. وفيها توفي هارون بن [أبي] (¬1) أحمد الموفَّق ببغداد يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأولى. وفيها مات الحسنُ بن زيد العَلَوي بطَبَرِستان في شعبان، وقيل: في رجب، ومات ابنُ طولون في ذي القعدة. وفي نصف شعبان أُعيد المعتمد إلى سامرَّاء، ودخل بغداد ومحمد بن طاهر يسير بين يديه بالحَرْبة، والجيشُ في صحبته كأنَّه لم يُحجر عليه. وفيها انبثق ببغداد في الجانب الغربي بَثْقٌ من نهر عيسى من الياسِرِيَّة، فجاء الماء إلى الكَرْخ، فهدم سبعةَ آلاف دار. وقال أبو الحسين الرَّازي: وفيها ظهر أحمد بنُ عبد الله بنِ إبراهيمَ بنِ إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله [بن حسن] بن حسن بن عليٍّ - عليه السلام - (¬2) بصعيد مصر، وتبعه خلقٌ كثير، فبنى أحمد بن طولون على قبر معاوية بن أبي سفيان أربعةَ أَرْوقَة، وأخرج عظامَ الصَّحابة، فرمى بها حتَّى أسَّس البناء، ورتَّب عند القبر أُناسًا يقرؤون القرآن، ويوقدون الشُّموع. ثمَّ جهز [أحمد بن طولون] إلى أحمد بن عبد الله الجيوشَ إلى صعيد مصر، فكانت بينهم حروب، فظفر به أصحابُ ابنِ طولون، فحملوه إليه فقتله، ومات ابن طولون بعده بيسير. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من "تاريخ الطبري" 9/ 666. (¬2) ما بين معكوفين من "تاريخ الإسلام" 6/ 256.

أحمد بن طولون

وفيها نزلت الرُّوم طَرَسوس في مئة ألف، [وعليهم بِطْرِيق يقال له: أندرياس، وكان بطَرَسوس يازمان الخادم، فبيَّتهم ليلًا] وقَتل البطريقَ وسبعين ألفًا معه، وأَخذ منهم صُلبانَ الذَّهب منها صليب الصَّلَبوت، وعليه جواهرُ لا قيمةَ لها، وأَخذ منهم مئتي كرسيٍّ من الذَّهب والفضَّة مرصَّعة بالجواهر، ومن الخيام والسِّلاح ما لا يُحصى، وكذا من الخيل، لم يفلتْ منهم إلَّا القليل، وذلك في ربيع الأوَّل. وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمد الهاشميّ (¬1). [فصل] وفيها توفي أحمد بن طولون أبو العبَّاس، التُّركي، وطولون مولى نوح بن أسد عامل بخارى وخراسان. أهداه نوح إلى المأمون في سنة مئتين، ووُلد له أحمد في سنة عشرين ومئتين، وقيل: في سنة أربع عشرة، والأوَّل أصحّ، ببغداد، وقيل: بسُرَّ من رأى، من جارية يقال لها: هاشم، وقيل: قاسم. وقيل: إنَّ أحمد لم يكن ابنَ طولون وإنَّما تبنَّاه. وذكر أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحُميدي [ما يدلّ عليه: ] قال بعض المصريِّين (¬2): إنَّ طولون تبنَّاه ولم يكن ابنَه، وإنَّه رأى فيه مَخايل النَّجابة. ودخل عليه يومًا [وهو صغير] فقال: بالباب قوم ضُعَفاء، فلو كتبتَ لهم بشيء، فقال [له طولون: ] ادخل إلى المقصورة وائتني بدواة وبيضاء، فدخل أحمد، فرأى في الدِّهليز حَظِيَّة من حظاياه قد خلا بها خادم، فأخذ الدَّواة وخرج ولم يتكلَّم، فخَشيت الجاريةُ أن يسبقها إلى طولون بالقول، فجاءت إلى طولون وقالت: إنَّ أحمد راودني السَّاعةَ في الدّهليز، فصدَّقها، وكتب كتابًا إلى بعض خَدَمِه يأمره بقتل حامل الكتاب من غير مشورة، وقال لأحمد: اذهب بهذا الكتاب إلى فلان، فأخذ الكتاب، ومرَّ على الجارية [بالكتاب]، فقالت له: إلى أين؟ فقال: في حاجةٍ مُهمَّةٍ للأمير [ولا يعلم ما] ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 9/ 666، و"المنتظم" 12/ 229. (¬2) في (خ) و (ف): فقال أبو عبد الله نصر بن محمد الحميدي: قال بعض ... ، والمثبت من (ب).

في الكتاب، فقالت: أنا أرسله [إليه] ولي بك حاجة (¬1)، فدفع إليها الكتاب، فدفعتْه إلى الخادم الذي كان معها وقالت: اذهب به إليه، وشَغَلت أحمد بالحديث، وإنَّما قصدت أن يزداد عليه طولون حَنَقًا. فلمَّا وقف المأمور على الكتاب قطع رأس الخادم، وبعث به إلى طولون، فلمَّا رآه عَجِب، واستدعى أحمد، وقال له: اصدُقْني، ما الذي رأيتَ في طريقك إلى المقصورة؟ قال: لا شيء، قال: اصدقني وإلَّا قتلتُك. فصدقه الحديث، وعَلِمت الجارية بقتل الخادم، فخرجت ذَليلةً حَيرانة، فقال لها: اصدُقيني، فصدقتْه، فقتلَها، وحظي أحمد عنده. [قلت: ما أشبه هذه الحكاية بقول القائل: أحسنْ إلى المُحْسِن بإحسانه، فأمَّا المُسيء فتكفيه مَساءته. وفي الباب حكاية معروفة]. قال أحمد بن يوسف [الكاتب]: قلتُ لأبي العباس بن خاقان: النَّاس [في أحمد] فرقتان؛ فرقة تقول: إنَّ أحمدَ ابنُ طولون. وأخرى تقول: هو ابن مَليح التركي (¬2)، وأمُّه قاسم جارية طولون، فقال: كذبوا، إنَّما هو ابن طولون، ودليله: أنَّ الموفَّق لمَّا لعنه نسبه إلى طولون ولم ينسبه إلى مليح (¬3)، و [كان] مليح مِضحاكًا يُسخر منه، وطولون معروف بالسّتر. وقال أحمد بن يوسف في "سيرة ابن طولون": إنَّ طولون كان رجلًا (¬4) من أهل طُغُزغُز، فحمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظَّفًا عليه [من المال والرَّقيق والخيل في كلِّ سنة. وولد أحمد بن طولون بسامرَّاءَ من جارية يقال لها: قاسم]. واختلفوا في وفاة طولون، فحكينا عن أحمد بن يوسف الكاتب: أنه مات في سنة ¬

_ (¬1) في (خ) و (ت): أنا أرسله ولك بي حاجة، والمثبت من (ب) وما بين معكوفين منه، وانظر "مختصر تاريخ دمشق" لابن منظور 3/ 122 - 123، و"المقفّى" للمقريزي 1/ 418، و"النجوم الزاهرة" 3/ 2. (¬2) في "النجوم الزاهرة" 3/ 3: ابن يليخ التركي. وما سلف ويأتي بين معكوفين من (ب). (¬3) في (ب): أسنده لابن طولون، ولو كان ابن مليح لأسنده إليه. (¬4) في (خ) و (ف): وقال أحمد بن يوسف: كان طولون رجلًا، والمثبت من (ب).

أربعين ومئتين، [وكذا ذكر الخطيب، وقيل: إنَّ أحمد ولد في سنة أربعة عشر ومئتين، ومات أبوه] (¬1) في سنة ثلاثين ومئتين، والأوَّل أصحّ، وفوِّض إليه ما كان إلى أبيه، ولمَّا ترعرع خطب إلى يارجوخ بنت عمٍّ له تُعرف بخاتون، فزوَّجه إيَّاها، فوَلَدت له العبَّاس [بن أحمد في] سنة اثنتين وأربعين ومئتين. ذكر طرف من أخباره: [حكى ابن عيسى اللؤلؤي وقال: ] كان ظاهر النَّجابة من صغره، ونشأ بعيدَ الهِمَّة، على طريقة مستقيمة ومذهبٍ جميل، وطلبَ العلم في صغره، وسمع الحديث، وقرأ القرآن، وكان حسنَ الصوت، يَدرس القرآنَ كثيرًا (¬2). وكان يقول: ينبغي للرَّئيس أن يَجعل اقتصادَه على نفسه، وسَماحتَه على مَن يَقصُده ويشتمل عليه؛ فإنَّه يملكهم ملكًا لا يزول به عن قلوبهم. ونشأ أحمد في العِفَّة والصَّلاح والدِّين والجود، حتَّى صار له في الدُّنيا ذكر جميل (¬3)، وكان شديدَ الإِزْراء على التُّرك وأولادِهم؛ لما يرتكبونه من أمر الخلفاء، غير راضٍ بذلك، ويستقلُّ عقولهم، ويقول: [إنَّ] حرمة الدِّين عندهم مَهتوكة، وكانوا يَهابونه ويتَّقونه على الأموال (¬4) ويحبُّونه. وقال الخاقانيُّ وكان خَصِيصًا بابن طولون: قال لي يومًا: يا أخي، كم نُقيم [على] هذا الإثم مع هؤلاء الموالي -يعني الأتراك- لا نَطأ مَوطئًا إلا كُتب علينا الخطأ والإثم؟ وكان يستصغر عقولهم ويقول: يَسْمُون (¬5) إلى ما لا يستحقُّونه من المراتب، والصَّواب أن نسأل الوزير أن يكتب بأرزاقنا إلى الثَّغر، فسأله، فكتب له، فخرجْنا إلى طَرَسوس، فلمَّا رأى ما النَّاسُ عليه من الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر سُرَّ بذلك، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ب). (¬2) انظر "مختصر تاريخ دمشق" 3/ 123 - 124. (¬3) في (ب): حتى طار له في الدنيا دهر جميل. (¬4) جاءت العبارة في "المنتظم" 12/ 230: إن حرمة الدين عندهم منهوكة، وكانوا يهابونه، ويتقوَّون به على الأموال. (¬5) في (خ) و (ف): يسمعون. وهو خطأ والمثبت من (ب). وما سلف بين معكوفين منها وهو الموافق لما في "مختصر تاريخ دمشق" 3/ 125.

وأقمنا نسمع الحديث. ورجعت إلى سرَّ من رأى، فاستَقبلَتْني أمُّه قاسم بالبكاء وقالت: مات ابني؟ فحلفتُ لها أنَّه في عافية، ثمَّ عدت إلى طَرَسوس، فأخبرته بما رأيتُ من أمِّه وقلت له: إن كنتَ أردتَ بمقامك بهذه البلاد وجهَ الله وتدع أمَّك كذلك فقد أخطأت، فوعدني بالخروج من طَرَسوس. ثمَّ خرجنا ونحن زُهاء خمس مئة رجل -والخليفةُ يومئذ المستعين- وخرج معنا خادم الخليفة ومعه ثيابٌ مثمنة عمل الرُّوم على بغل، فسرنا إلى الرُّها، فقيل لنا: إنَّ جماعة من قُطَّاع الطَّريق على انتظاركم، والمصلحةُ دخولُكم حصنَ الرُّها حتَّى يتفرَّقوا، فقال أحمد: لا يراني الله فارًّا وقد خرجتُ على نيَّة الجهاد، وخرجنا فالتقينا، فأوقع بالقوم، فقتل منهم جماعةً وهرب الباقون، فزاد في أعين النَّاس جَلالةً ومَهابة. ووصل الخادم إلى المستعين بالثِّياب، فلمَّا رآها استحسنها، فقال له الخادم: لولا ابن طولون ما سَلِمتْ ولا سلمْنا، وحكى له القصَّة، فبعث إليه مع الخادم بألفِ دينار سرًّا، وقال له: عرِّفْه أنَّني أحبُّه، ولولا خوفي عليه لقَرَّبتُه. وكان ابن طولون إذا دخل على المستعين مع الأتراك في الخدمة أومأ إليه الخليفة بالسَّلام سرًّا، واستدام الإحسان إليه ووهب له جارية اسمها ميَّاس، فولدت له ابنه خُمارويه في المحرَّم سنة خمسين ومئتين. ولما تنكَّر الأتراك للمستعين وخلعوه، أحْدروه إلى واسِط وقالوا: مَن تختار أن يكون في صُحبتك؟ فقال: أحمد بن طولون، فبعثوه معه، فأحسن صُحبته، ثمَّ كتب الأتراك إلى أحمد: أن اقتُل المستعين ونولِّيك واسطًا، فكتب إليهم: لا رآني الله قتلتُ خليفةً بايعتُ له أبدًا. فبعثوا سعيدًا الحاجب فقتل المستعين بالقاطول، فوارى أحمدُ جثَّته، ولما رجع أحمد [بن طولون] إلى سُرَّ من رأى بعد ما قَتل [سعيدٌ الحاجب] المستعينَ أقام بها، فزاد محلُّه عند الأتراك، فولَّوْه مصر نيابةً عن أميرها سنة أربع وخمسين [ومئتين]، فقال حين دخلها: غايةُ ما وُعدت به في قتل المستعين ولايةُ واسط، فتركتُ ذلك لله تعالى، فعوَّضني الله ولايةَ مصر والشَّام، فلمَّا قتل والي مصر في أيَّام المهتدي صار مستقلًّا به

في أيَّام المعتمد. وقيل: إنَّه ولي الشَّام نيابةً عن باكباك [ثمَّ ولي باكباك مصر نيابة عنه]، فلمَّا قُتل باكباك استقلَّ، فكان حكمه من الفرات إلى المغرب. و[قال الخطيب: ] (¬1) ركب يومًا يتصيَّد بمصر، فغاصت قوائم فرسه في الرَّمل، فأمر بكشف ذلك الموضع فظفر بمَطْلبٍ فيه ألف ألف دينار (¬2)، فأنفقها في أبواب البرِّ والصَّدقات. وكان يتصدَّق في كلِّ يوم بمئة دينار غير ما كان عليه من الرَّواتب، وينفق على مطبخه كلَّ يوم ألف دينار، وكان راتبه على [الفقهاء، و] العلماء، وأهل القرآن، والأئمَّة، وأرباب البيوت في كلِّ شهر عشرة آلاف دينار. وكان يبعث بالصَّدقات إلى دمشقَ، والعراق، والثُّغور، والجزيرة، وبغداد، وسرَّ من رأى، والكوفة، والبصرة، والحرمين، وغيرها، فحُسب ذلك فكان ألفي ألف دينار ومئتي ألف دينار. وبنى الجامع المعروف بين مصر والقاهرة، وغَرم عليه أموالًا لا تحصى، قال أحمد الكاتب: أنفق عليه مئة ألف دينار وعشرين ألف دينار. [وقرأت في "تاريخ مصر" أنَّ ابن طولون لمَّا تمَّ بناءُ الجامع] قال له الصُّنَّاع: على أيِّ مثال نعمل المنارة -وما كان يَعبث قطّ- فأخذ درجًا من الكاغَد وجعل يعبث به، فخرج بعضُه وبقي بعضه في يده، فعجب الحاضرون، فقال: اصنعوا المنارةَ على هذا المثال، فصنعوها [وهي قائمة اليوم على ذلك] (¬3). ولمَّا تمَّ بناءُ الجامع رأى ابن طولون في منامه كأنَّ الله تعالى قد تجلَّى للقصور الَّتي حول الجامع، ولم يتجلَّ للجامع، فسأل المعبّرين فقالوا: يخرب (ما حوله) ويبقى [الجامع] قائمًا وحده، فقال: من أين لكم هذا؟ قالوا: من قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ ¬

_ (¬1) ما سلف بين معكوفين من (ب)، ولم نقف على قول الخطيب في تاريخه، وذكره عنه السيوطي في "حسن المحاضرة" 2/ 247، وذكر ابن الجوزي في "المنتظم" 12/ 231 - 232 هذه الأخبار دون نسبة لأحد. (¬2) في (ب): فظهر له كنز فيه ألف ألف دينار. (¬3) ما بين معكوفين من (ب)، وذكرها السيوطي في حسن المحاضرة 2/ 247 - 248 نقلًا عن "مرآة الزمان".

لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تجلَّى الله لشيء خضع له" (¬1) فكان كما قالوا. وأنفق على المارستان ستِّين ألف دينار، وعلى حصن الجزيرة ثمانين ألف دينار، وعلى الميدان خمسين ألف دينار (¬2). وحمل إلى المعتمد في مدَّة أربع سنين ألفي ألف دينار ومئتي ألف دينار، وكان خراجُ مصر في أيَّامه أربعة آلاف ألف وثلاثمئة ألف دينار. وقال له وكيله [يومًا] في الصّدقات: ربَّما امتدَّت إليَّ الكفُّ المطوَّقة، والمعصم فيه السِّوار، والكمّ النَّاعم، أفأمنع هذه الوظيفة؟ فقال له: ويحك، هؤلاء المستورون الَّذين يحسبهم الجاهلُ أغنياءَ من التَّعفُّف، احذر أن تردَّ يدًا امتدَّت إليك. [وجرت له قصَّة مع الحسن بن سفيان نذكرها في سنة ثلاث وثلاثمئة]. وحسَّن له بعض التجَّار التجارة، فدفع إليه خمسين ألف دينار، فرأى في المنام كأنَّه يُمَشْمِش (¬3) عَظْمًا، فدعى المُعَبِّر فقصَّ عليه، فقال [له]: قد سَمَت همَّتُك إلى مَكْسَب لا يُشبه خَطَرك، فأرسل إلى التَّاجر، فأخذ المال فتصدَّق به. وكان فيه خِلال جميلة، إلَّا أنَّه لمَّا ولي مصر والشَام ظَلَم وسفك، فيقال: إنَّه مات في حبسه ثمانية عشر ألفًا. و[رأيتُ في كتاب "تعبير الرؤيا" أنَّ ابن طولون] رأى في منامه كأنَّ الحقَّ سبحانه وتعالى قد مات في داره، فاستعظم ذلك، وانتبه فَزِعًا، وجمع المعبِّرين فلم يَدْروا، فقال له بعضهم: أقول ولي الأمان، قال: نعم، قال: أنت ظالم قد أمتَّ الحقَّ في دارك، فبكى [ابن طولون]. ذكر [مرضه و] وفاته: [ذكر أحمد بن يوسف بن إبراهيم الكاتب في "سيرة ابن طولون" أنَّ] بدوَّ مرضه كان بأنطاكية لمَّا عاد عن طَرَسوس، وكان قد أكل من لبن الجاموس فأكثر منه، وكان له ¬

_ (¬1) ما بين قوسين زيادة من "النجوم الزاهرة" 3/ 8، وحسن المحاضرة، ولم نقف على الحديث. (¬2) الذي في مختصر "تاريخ دمشق" 3/ 124 وعلى الميدان مئة وخمسين ألف. (¬3) مشمش العظمَ: مصَّه ممضوغًا. "اللسان": (مشش).

طبيب اسمه سعيد بن نوفيل نصرانيّ، فقال له: ما الرَّأي؟ قال: لا تقرب الغداء اليوم وغدًا. -وكان جائعًا- فاستدعى خروفًا وفراريجَ فأكل منها، وكان به علَّة القيام فانقطع، فأخبر الطَّبيب، فقال: إنَّا لله ضعُفت القوَّة الدَّافعة بقهر الغِذَاء لها، فعاوده الإسهال، فخرج من أنطاكية في مِحَفَّة تحمله الرِّجال إلى الفَرْما، فضعف، فركب في البحر في قُبَّة إلى مصر، وقيل لطبيبه: أنت حاذق، فانظر كيف تكون؟ فقال: والله ما خِدْمتي له إلَّا خدمة الفأر للسِّنَّور، والسَّخلة للذِّئب، وإنَّ قتلي عنده أهونُ عليَّ من صحبته (¬1). ولما دخل مصر استدعى الأطباء وفيهم الحسن بن زِيرك، وقال لهم: والله لئن لم يَنْجَع في تدبيرُكم لأضربنَّ أعناقكم قبل موتي، فخافوا منه، وما كان يحتمي، ويخالفهم. ولمَّا اشتدَّ مرضه خرج المسلمون بالمصاحف، واليهود والنَّصارى بالتَّوراة والإنجيل، والمعلِّمون بالصِّبيان إلى الصَّحراء، ودَعَوْا له، ولَزِم (¬2) المسلمون المساجد يختمون الختمات، ويَدعون له، فلمَّا أَيِس من نفسه رفع يديه إلى السَّماء، وقال: يا ربّ، ارحم مَن جهِل مقدارَ نفسه، وأبطره حلمُك عنه، ثمَّ تشهَّد ومات بمصر يوم الاثنين لثمان عشرة خلت من ذي القَعدة في هذه السنة -وقيل: في التي قبلها- وعمره خمسون سنة، و [كانت] ولايته سبعة عشر سنة. [ذكر ما رُئيَ له من المنامات: ] قال أبو عيسى اللؤلؤي: رآه بعض أصحابه في المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: ما البلاء إلَّا على مَن ظلَم مَن لا ناصر له إلا الله تعالى. ورآه بعض المتزهِّدين في حال حسنةٍ، فقال [له]: كيف أنت؟ فقال: لا ينبغي لمن سكن الدُّنيا أن يَحتقر حَسَنةً فيدعَها، ولا سيِّئة فيرتكبَها، عُدل بي عن النَّار إلى الجنَّة بتثبُّتي عن مُتَظَلِّم عَييّ اللِّسان، شديد التهيُّب، فسمعتُ منه، وصبرتُ عليه حتَّى قامت حجَّتُه، [و] تقدَّمتُ بإنصافه، وما في الآخرة على رؤساء الدُّنيا أشدّ من الحِجابِ لِمُلتَمِسي الإنصاف. ¬

_ (¬1) في (ب): وإن قتلي لأهون من صحبتي له. (¬2) في (خ) و (ف): ونزل، والمثبت من (ب).

وقال [الخطيب بإسناده عن الحسين بن أحمد النديم قال: سمعتُ] محمد بن علي المادَرَائي [يقول]: كنتُ أجتاز بتربة أحمد بن طولون فأرى شيخًا ملازمًا للقراءة على قبره، ثمَّ إنِّي لم أره مدَّة، ورأيتُه بعد ذلك، فقلت له: ألستَ الذي كنتُ أراك عند قبر أحمد بن طولون تقرأ عليه؟ قال: بلى، قد [كان] وَلينا في هذه البلد، [وكان] له علينا بعض العدْل وإن لم يكن الكلّ، فأحببت أنْ أصِله بالقرآن، قلت: فلِمَ انقطعتَ عنه؟ قال: رأيتُه في النَّوم وهو يقول: أحبُّ أن لا تقرأ [عليَّ أو] عندي، قلت: فلأيِّ سبب؟ قال: ما تمرُّ بي آية إلا قُرِّعت بها، وقيل لي: أما سمعتَ هذه؟ ! فهذا كان سبب انقطاعي (¬1). ورثاه جماعة، فقال بعض المصريِّين يرثيه: [من الكامل] يا غُرَّة الدُّنيا الذي أفعالُه ... غُرَرٌ بها كلُّ الوَرَى تتعلَّقُ أنت الأمير على الشَّآم وثَغْرِه ... والرَّقَّتين (¬2) وما حواه المشرقُ وإليك مصرُ وبَرْقةٌ وحجازُها ... كلٌّ إليك مع المَدى يتشوَّقُ ذكر أولاده، وما خلف من المال وغيره: [قال علماء السِّيَر: ] خلَّف ثلاثةً وثلاثين ولدًا، منهم سبعة عشر ذكرًا؛ العبَّاس، وخُمارويه، وعدنان، ومُضر، وشيبان، وربيعة، وأبو العَشَائر، وهؤلاء أعيانُهم: فأمَّا العبَّاس فهو الذي عصى على أبيه، ودخل (¬3) إلى الغرب، وحُمل إلى أبيه، توفِّي بعد [وفاة] أبيه بيسير، وكان شاعرًا [فصيحًا]، وهو القائل: [من البسيط] لله درِّيَ إذْ أعْدو على فرسي ... إلى الهِياجِ ونارُ الحرب تَسْتَعِرُ وفي يدي صارمٌ أفري الرُّؤوس به ... في حدِّهِ الموتُ لا يُبقي ولا يَذَرُ إن كنتِ سائلةً عنِّي وعن خبري ... فها أنا اللَّيثُ والصَّمْصَامَةُ الذَّكَرُ ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ب)، وانظر "المنتظم" 12/ 233، و"مختصر تاريخ دمشق" 3/ 126، و"تاريخ الإسلام" 6/ 269، و"الوافي بالوفيات" 6/ 431، و"النجوم الزاهرة" 3/ 14. (¬2) في (ب): الرقيتين، وفي (خ) و (ف): المرقبين، والمثبت من "المقفى الكبير" 1/ 427، و"النجوم الزاهرة" 3/ 20. (¬3) في (خ) و (ف): فهو الذي عصى عليه ودخل، والمثبت من (ب).

إسماعيل بن عبد الله

من آل طولونَ أصلي إن سألتِ فما ... فوقي لمُفْتَخِرٍ في الجودِ مُفْتخَرُ (¬1) ولما خرج أبوه إلى الشَّام في السنة الماضية أخذه معه مقيَّدًا. وأمَّا خُمارويه، فكنيته أبو الجَيش، قُتل بظاهر دمشقَ بعد أن استخلفه أبوه فيها سنةَ ثلاث وثمانين ومئتين. وعدنان مات سنةَ خمس وعشرين وثلاث مئة، وسنذكرهم إن شاء الله تعالى. [قالوا: ] وخلَّف من العَين عشرة آلاف ألف دينار، ومن المماليك سبعة آلاف، ومن الخيل سبعة آلاف فرس، ومن البغال والحمير ستة آلاف رأس، ومن الدَّوابِّ الخاصَّة ثلاث مئة، ومن المراكب [الحربيَّة مئة مركب، ومن الغلمان أربعة وعشرون ألفًا، ومن الجمال عشرة آلاف، ومن البراذين] ما لا يحصى، وكان له خاصَّة من المال في كلِّ سنة ألف ألف دينار. [انتهت ترجمة أحمد بن طولون، وهذا ما انتهى إلينا من سيرة أحمد.] إسماعيل بن عبد الله ابن مَيْمون بن عبد الحميد بن أبي الرِّجال، أبو النَّضْر، العِجليُّ. توفِّي ببغداد ليلةَ الاثنين لثلاث وعشرين خلت من شعبان، وقد بلغ أربعًا وثمانين سنة. سمع خلقًا كثيرًا، وروى عنه ابنُ المنادي وغيرُه، وكان ثقة شاعرًا فصيحًا، قال: [من الطويل] تُخَبِّرني الآمال أنِّي مُعَمَّرٌ ... وأنَّ الذي أخشاه عنِّي مؤخَّرُ فكيف ومرُّ الأربعين قضيّةٌ ... عليَّ بحكمٍ قاطعٍ لا يُغَيَّرُ إذا المرءُ جاز الأربعين فإنَّهُ ... أسيرٌ لأسباب المنايا مُعثَّرُ (¬2) [وفيها توفي] بكَّار بن قُتيبة بن عبد الله وقيل: قُتيبة بن أسد بن [أبي] بَرْذَعة بن عبيد الله بن [بشير بن عبيد الله بن] أبي بَكْرة الثَّقفي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وكنيةُ بكَّار أبو بكرة، القاضي، البَصريّ. ¬

_ (¬1) "النجوم الزاهرة" 3/ 21. (¬2) "تاريخ بغداد" 7/ 269 - 270، و"المنتظم" 12/ 234 - 235، وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬3) اختلفت المصادر في اسمه، وتتمة نسبه تنظر ثمَّة.

[قال أبو جعفر الطَّحاوي: ] ولد [أبو بكرة بكَّار] بالبصرة سنةَ اثنتين وثمانين ومئة، وكان عالمًا، فاضلًا، زاهدًا، ورِعًا، عفيفًا عن أموال الناس، حَنفيّ المذهب [يحكم على مذهب أبي حنيفة، وذكره أبو الحسن بن إبراهيم بن زُولاق المصريُّ في كتاب "القضاة" وذكر طرفًا من سيرته، فقال: ] ولَّاه المتوكِّل القضاءَ على مصر، فقَدِمها يوم الجمعة لثمانٍ خلون من جمادى الآخرة (¬1) سنة ستٍّ وأربعين ومئتين، فلقي محمَّد بن أبي اللَّيث (¬2) قاضي مصر قبله عند الجِفَار خارجًا إلى بغداد مصروفًا، فقال له بكَّار: أنا رجل غريب، وأنت قد عرفتَ النَّاس، فدُلَّني على مَن أشاوره في أموري وأسكن إليه، فقال: عليك برجلين؛ أحدهما عاقل، والآخر زاهد، أمَّا العاقل فيونسُ بن عبد الأعلى، فإنِّي سعَيتُ في سفك دمه، فقدر عليَّ فحَقَن دمي، وأمَّا الزَّاهد فأبو هارون موسى بن عبد الرَّحمن بن القاسم، فقال: صِفْ لي حِلْيَتَهما، فوصفهما له. فلمَّا دخل مصر جاءه الرجلان فاختصَّ بهما، وكان يشاورهما في أموره، فقال يومًا لموسى: يا أبا هارون، من أين المعيشة؟ قال: مِنْ وقفٍ وَقَفه أبي أتكفَّى به، ثمَّ قال له موسى: يا أبا بَكْرة، قد سألتني وأُريد أن أسألك، قال: سَلْ، قال: هل رَكِبَك دينٌ بالبصرة؟ قال: لا، قال: فهل لك ولدٌ أو زوجة؟ قال: لا، ما نكحتُ قطُّ، قال: أفَلَك عِيال؟ قال: ما عندي سوى غلامي، قال: أَفَأكرَهكَ السُّلطان على القضاء وعرضَ عليكَ العذاب؟ قال: لا، قال: أَفضَربتَ آباطَ الإبل من البصرة إلى مصرَ لغير حاجةٍ ولا ضرورةٍ إلَّا لتليَ دماء المسلمين وأموالهم وفروجَ نسائهم! لله عليَّ لا عُدْتُ إليك بعد اليوم، ولا كلَّمتُك أبدًا، ثمَّ انصرف عنه ولم يَعُد إليه. [قال ابن زُولاق: ] وكان النَّصارى يتولَّون أَمْرَ المقياسِ (¬3) بمصر، فكتب بكَّار إلى المتوكِّل بأنَّ هذا أمرٌ عظيم من إنعام الله تعالى، فلا ينبغي أن يتولَّاه إلَّا مَن يُوحِّد الله تعالى، فكتب إليه: افعل: فولَّاه عبدَ الله بن عبد السَّلام ويُكنى أبا الرَّدَّاد (¬4) -وكان ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): الأولى، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في "تاريخ الإسلام" 6/ 303. (¬2) في "وفيات الأعيان" 7/ 250: محمد بن الليث، وانظر المقفى 2/ 454. (¬3) يعني: مقياس زيادة النيل ونقصانه. ينظر مروج الذهب 2/ 365 وما بعدها. (¬4) وجاء في هامش (خ): وتوليه لأبي الردَّاد في زمن القاضي بكار في سنة سبعين ومئتين في السنة التي مات فيها أحمد بن طولون.

محدِّثًا- وأجرى عليه رزقًا، وذلك في سنة سبعين (¬1) ومئتين، فهو باقٍ في عَقِبه إلى هلُمَّ جرًّا. [قال ابن زولاق: ] وكان أحمد بن طولون يعظِّم بكَّارًا وَيحترمه، ويحضر مجالسه، ويسمع عليه الحديث؛ إلى أن طلب منه لعنةَ الموفَّق، فامتنع، فحبسه، وقيل: إنَّه لما ألحَّ عليه قال: ألا لعنةُ الله على الظَّالمين، فلم يَقْنَع منه بذلك. [قال: ] ولمَّا حبسه كان يغتسل في كلِّ جمعة، ويتطيَّب، ويَلْبَس ثيابَه، ويأتي إلى باب السِّجن، فيقول له السجَّان: إلى أين؟ فيقول: قد ناداني منادي ربِّي، وأنا أوَّل من أجابه، فيقول] السجَّان: اعذرني، فما أقدر على ذلك، ويعزُّ عليَّ، فيقول بكَّار: اللَّهمَّ اشهد، ثمَّ يرجع، وبلغ ابنَ طولون فبعث إليه يقول: كيف رأيتَ المقهورَ المغلوبَ، لا أمر له ولا نهي؟ أشار إلى المعتمد. وقال الطَّحاوي: لا أقدر أن أُحصي كم كان أحمد بن طولون يجيء إلى مجلس بكَّار وهو على الحديث، ومجلسُه مملوء بالنَّاس، ويتقدَّم الحاجب ويقول: لا يتغيَّرْ أحد من مكانه، فما يشعر به بكَّار إلا وهو إلى جانبه، فيقول له: أيُّها الأمير، ألا تركتَني حتَّى أَقضي حقَّك، وأقومَ بواجبك! ثمَّ فسد الحال بينهما حتَّى حبسه، وفعل به ما فعل. و[قال ابن زولاق: ] دخل على بكَّار قومٌ من أهل الرَّمْلة فقال لهم: كيف حال قاضيكم؟ قالوا: عفيف، فقال: إنا لله، غَمَمْتوني، إنَّما يقال: قاضٍ عَفيف، إذا فسدت الدُّنيا. [قال: ] ولمَّا عصى العبَّاسُ بن أحمد [بن طولون] على أبيه، أرسل أبوه إليه جماعة من الأعيان منهم بكَّار بالأيمان والأمان، فقال العبَّاس لبكَّار: المستشار مؤتمن، أتخاف عليَّ من أبي شيئًا؟ فقال له: قد أمَّنك وحلف، ولا أدري أيفي لك أم لا، فامتنع العبَّاس من القدوم على أبيه، فأرسل إليه من أحضره. ¬

_ (¬1) في (ب) و (ف): أربعين. والذي في "وفيات الأعيان" 3/ 112، و "الوافي بالوفيات" 17/ 257: وجمع إليه النظر في أمره وما يتعلق به في سنة ست وأربعين ومئتين.

[قال: ] ومات رجل ولأحمد بن طولون عليه دَيْن، فأرسل أحمد [بن طولون] إلى بكَّار: ربعْ ماله، فقال: حتَّى تحلفَ أنَّك تستحقُّه، فجاء ابنُ طولون إلى مجلسه وحلف، فقال بكَّار: أمَّا الآن فنعم، فباع ماله، وقضى دينَه. [قال: ] وكان بكَّار يقرأ آية في ليلة فيردِّدها إلى الصَّباح، [فقرأ ليلةً {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] فما زال يردِّدها إلى الصَّباح ويبكي] (¬1). ذكر وفاته: [قال ابن زولاق: ] أرسل إليه ابن طولون وهو مريض يقول: أجِبْنِي إلى ما دعوتُك إليه واخْلص، فقال: أنا شيخ كبير ومريض، والملتَقى قريب، وأنت أيضًا مريض، والحاكم بيننا عادل. ومات ابن طولون، فقيل لبكَّار: مات أحمد، فقال: مات البائس، فقيل له: انصرف إلى منزلك، فقال: الدَّار بالأجرة وقد صلحتْ لي، فأقام بها، وجاءه أصحابُها يطلبون أجرة الماضي، وقالوا: غصَبَنا ابن طولون إيَّاها، فقال: مذهبي أنَّ الغاصبَ لا أُجرة عليه، ولكن أَدْفع لكم في المستقبل. [وقال الطَّحاويّ: ] توفِّي يوم الخميس لستٍّ بقين من ذي الحجَّة [سنة سبعين ومئتين] بعد ابن طولون بنيِّفٍ وأربعين يومًا. وقيل: [إنَّه] مات قبل [ابن طولون] وهو وهم. [وقال الطَّحاوي: ] ولي القضاء سنة ستٍّ وأربعين [ومئتين]، فأقام على القضاء أربعًا وعشرين سنة وستَّة أشهر وأيَّامًا، وتوفِّي وهو ابنُ سبع وثمانين سنة، ومات في اللَّيل، فلم يُدفن إلا بعد العصر لكثرة الزِّحام، وصلى عليه ابن أخيه محمد بن [الحسن] الفقيه (¬2)، ودُفن بقَرَافة مصر عن يسار الطَّريق حيال الكرم (¬3) الذي عند مصلَّى بني ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن عساكر" 3/ 411 - 415، و"وفيات الأعيان" 1/ 280 - 282، و"تاريخ الإسلام" 6/ 303 - 306، و"الوافي بالوفيات" 10/ 185 - 186. (¬2) في "وفيات الأعيان" 1/ 282، و"تاريخ الإسلام" 6/ 306، و"السير" 12/ 604: وصلى عليه ابن أخيه محمد بن الحسن بن قتيبة. وما بين معكوفين من (ب). (¬3) في (ب): خيال الكوم. وفي "وفيات الأعيان"، و"الوافي بالوفيات" 10/ 186: تحت الكرم.

مسكين، وقبرُه ظاهر يُزار، ويقال: إنَّ الدُّعاء عنده مُستجاب مُجرَّب. حدَّث عن خَلْق كثير (¬1)، وكان ممَّن أحيى علم البصرة بمصر، واتَّفقوا على زهده وثقته وورعه. وأسند عنه ابنُ عساكر أنَّه روى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "من قال: سبحان الله وبحمده غرس الله له بها نخلة في الجنَّة" (¬2). وقال ابن زُولاق: كان لبكَّار اتِّساع في العلوم والفقه، وصنَّف كتابًا ردَّ فيه على الإمام محمد بن إدريس الشَّافعي، وسببُ تصنيفه أنَّه وقف على كتابٍ لإبراهيم المزنيِّ ردَّ فيه على أبي حنيفة في إسنادٍ ذكر أنَّه سمعه من الشَّافعي، فقال بكَّار لرجلين من عُدُوله: اذهبا فاسمعا من المزنيِّ هذا الكتاب، واشهدا عليه أنَّه سمعه من الشَّافعي، وكان يقال لأحدهما: سقلاب والآخر سرداب، فذهبا إليه وسمعاه منه، فقالا: أنت سمعتَ هذا من الشَّافعي؟ قال: نعم، فرجعا إلى بكَّار، وشهدا عنده بذلك، فقال: الآن طاب لنا أن نقول، ثمَّ ردَّ عليه. وكان بكَّار ينشد دائمًا: [من الطويل] لنفسيَ أبكي لستُ أبكي لغيرها ... لنفسيَ (¬3) في نفسي عن النَّاس شاغلُ ومات ولم يخلِّف (¬4) دينارًا ولا درهمًا ولا دارًا ولا عَقارًا. وولي بعده أبو عبيد الله محمد بن عبدة (¬5) بن حرب البصري، وكان جبَّارًا، له مئة مملوك، وبنى دارًا بمصر عند دار العنقود غرم عليها مئة ألف دينار، وأجرى عليه أبو الجيش بن أحمد بن طولون في كلِّ شهر ثلاثة آلاف دينار، وكان يعظِّمه. [انتهت ترجمته. ¬

_ (¬1) في (ف): حدث عن بكار خلق كثير. (¬2) "تاريخ دمشق" 3/ 412 (مخطوط) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، وأخرجه الترمذي (3464) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬3) في "تاريخ دمشق" 3/ 413: لعيبي. (¬4) في (ب): وقال ابن زولاق: لم يخلف ... (¬5) في النسخ: محمد بن عبد الله ... ، والمثبت من "تاريخ الإسلام" 7/ 274.

داود بن علي بن خلف

وفيها توفِّي] داود بن علي بن خَلَف أبو سليمان، الظَّاهريُّ صاحب مذهب الظَّاهرية. ولد سنة مئتين، وقيل: سنة اثنتين ومئتين، وهو أوَّلُ من نفى القياسَ في الأحكام الشرعيَّة، وتمسَّك بظواهر النُّصوص، وجمد على الأحاديث والآثار، وأصله من أصبهان. سمع الحديث [الكثير]، ولقي الشيوخ، وتبعه خلق كثير، وقدم بغداد، وصنَّف بها الكتبَ. وقال أحمد بن كامل: داود أوَّلُ من أظهر انتحال الظَّاهر، ونَفَى القياس في الأحكام [قولًا] (¬1)، واضطُرَّ إليه فعلًا، فسمَّاه دليلًا. ورحل من أصبَهان إلى نيسابور قبل قدومه بغداد، فسمع من إسحاق بن راهويه "المسند" و"التفسير"، وقال أبو عمرو المُسْتملي: سمعتُه يردُّ على إسحاق، وما رأيتُ أعقلَ منه ولا أكثرَ علمًا. وقال القاضي المَحَامليُّ: رأيتُ داود يصلِّي، فما رأيتُ مسلمًا يشبهُهُ في حُسن صلاته، وتضرُّعه، وتواضعه. وكان زاهدًا، ورعًا، عابدًا، متقلِّلًا من الدُّنيا، يتقنَّع منها باليسير. [وقال الخطيب بإسناده عن أحمد بن الحسين قال: سمعت أبا عبد الله المحاملي يقول: ] (¬2) صلَّيتُ صلاةَ العيد في يومِ فطرٍ في جامع المدينة -يعني مدينة المنصور- فلمَّا انصرفتُ قلتُ في نفسي: أدخل على داود فأُهَنِّيه، وكان ينزلُ قطيعة الرَّبيع، فجئتُه، وقرعتُ عليه الباب، فأَذِن، فدخلتُ، وإذا بين يديه طاقات هِنْدَباء ونُخالة وهو يأكل، فهنَّيتُه، وعجبت من حاله، ورأيتُ أن جميع ما نحن فيه من الدُّنيا ليس بشيء، فخرجتُ من عنده، ودخلتُ على رجلٍ من أهل [القطيعة] يُعرف بالجُرْجاني له مال، فقال: ما الذي عنَّى القاضي؟ قلت: مهمّ، قال: وما هو؟ قلت: في جوارك داود بنُ ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من "تاريخ بغداد" 9/ 348، و"المنتظم" 12/ 238. (¬2) ما بين معكوفين من (ب)، وكلام الخطيب في "تاريخه" 9/ 344 - 345.

علي، ومكانُه من العلم ما تعلم، وأنت كثير البرِّ والرَّغبة في الخير، كيف غفلتَ عنه؟ ! وحدَّثته حديثَه، فقال: إنَّ داود شَرِسُ الخُلُق، بعثتُ إليه البارحة مع غلامي بألف درهم، فقال للغلام: قل له: بأيِّ شيءٍ رأيتَني؟ وما الذي بلغك من حاجتي حتَّى بعثتَ إليَّ بهذا؟ قال المحاملي: فعجبتُ وقلت: هاتِ الدَّراهمَ، [فأنا أحملها إليه، قال: ] فدفعها إليَّ، وأعطاني ألفًا أخرى وقال: هذا لموضع القاضي وتعنّيه (¬1). [قال: ] فأخذتُ الألفين، وجئتُ إلى داود، فطرقتُ بابَه فقال: مَن هذا؟ فقلتُ: فلان، فقال: ما الذي عنَّاك؟ ادخل، [فدخلتُ] فجلستُ ساعة، ثمَّ أخرجتُ الألفَين وجعلتهما بين يديه، فنظر إليَّ وقال: هذا جزاءُ مَن ائتمنك على سرِّه! ؟ [وفي رواية: فقال للمحامليّ: ] ما الذي رأيتَ من حاجتي؟ قلت: رأيتُك تأكل الهِنْدَباء بالنّخالة، فقال: لو كان عندي امرأة أكنتَ تنظر إليها؟ ! إنَّما أدخلتُك بيتي بأمانة العلم، ارجع فلا حاجة لي فيما معك. [قال المحامليّ: ] فرجعتُ وقد صَغُرت الدُّنيا في عيني، ودخلتُ على الجرجانيّ فأخبرتُه بما كان، فقال: هذه الدَّراهم قد خرجت لله تعالى، فلا ترجع إلى مالي، فلْيتولَّ القاضي إخراجَها في أهل السَّتر والعفاف، فقد أخرجتُها عن قلبي. [وقال الخطيب: ] (¬2) كان داود يقول: خير الكلام ما دخل الأُذُن بلا إِذْن. وقال صالح بن الإمام أحمد: سألني داود أن أتلطَّف له في الدُّخول على أبي، فاستأذنتُه فقال: قد كتب إليَّ محمد بن يحيى النَّيسابوريُّ في أمره أنَّه يزعم أنَّ القرآن الذي في اللَّوح المحفوظ قديم، لا يمسه إلَّا المطهَّرون، والذي تقرأه النَّاس مخلوق تمسُّه الحائض والجُنُب، فقلت: قد رجع عن هذا. وفي رواية: أنَّه أنكر ما قد قيل عنه، فقال: لا حاجةَ لي في الاجتماع به. وقال المحامليُّ: وسئل داود فقيل له: ما معنى (¬3) قول القائل لجرير والبيت لجرير: [من الكامل] ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، والذي في "تاريخ بغداد"، و"المنتظم": وعنايته. وما بين معكوفين من (ب). (¬2) في "تاريخه" 9/ 345. (¬3) في (خ) و (ف): وقيل لداود: ما معنى ... ، والمثبت من (ب).

لو كنتُ أعلم أنَّ آخرَ عهدكُم ... يومُ الرَّحيل فعلتُ ما لم أفعلِ (¬1) ما كان يفعل؟ فقال: كان يَقلع عينَه، ولا يرى مَظْعَن أحبابه. وكان أبو جعفر محمد بن جرير الطَّبريُّ على مذهب داود، وعنه أخذ، وقرأ عليه، وكان يَحضر حلقته، ثمَّ تخلَّف عنه، وعقد لنفسه مَجلسًا، وبلغ داود فأنشد: [من الوافر] فلو أنِّي بُلِيتُ بهاشميٍّ ... خُؤولته بنو عبد المَدَانِ صَبرتُ على أذيَّته ولكن ... تعالي وانظُري بمَن ابتلاني [حكاية جرت لداود مع محمد بن يحيى النَّيسابوري: ] حكاها المحامليُّ (¬2) قال: قدم داود نَيسابور وعليه طِمْرٌ (¬3) خَلَق، وعلى رأسه خُريقة، فدخل مجلس محمد بن يحيى، فجلس في أطراف النَّاس ولم يعرفوه، فذكر محمد بن يحيى حديثًا هو: "أفطر الحاجم والمحجوم" (¬4). ولم يبيِّن ما فيه، فأخذ داود يذكر إسناده ومتنه، ومَن رواه من الصَّحابة، ومن ذهب إليه منهم ومن الفقهاء، فقام محمد بن يحيى من مجلسه، ومضى إليه، وأجلسه إلى جانبه، وسأله عن نفسه فعرَّفه إياه، فاعتذر إليه. [فصل في الكلام على الحديث: قلت: عامَّة العلماء على أنَّ الحجامة لا تُفطر الصَّائم ولا تُكره له، وبه قال مالك والشافعيُّ، وقال أحمد: الحجامة تُفطر الحاجم والمحجوم، واحتجَّ بثمان أحاديث أخرجها أحمد في "المسند" عن رافع بن خَديج، وشدَّاد بن أوس، وثَوبان، ومَعْقِل بن يَسار الأشجعيّ، وأُسامة بن زيد، وأبي هُريرة، وعائشة، قالوا: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" (¬5). ¬

_ (¬1) هو في شرح ديوانه 2/ 940. (¬2) في (خ) و (ف): وقال المحاملي: قدم ... ، والمثبت وما بين معكوفين من (ب)، والبيتان السالفان نُسبا لدعبل وهما في ديوانه 429، ونسبا أيضًا للإمام علي - رضي الله عنه - وهما في ديوانه 96. (¬3) الطِّمْر: الثوب الخَلَق. اللسان: (طمر). (¬4) ينظر تخريجه في التعليق الآتي. (¬5) مسند أحمد (15828)، (17112)، (22371)، (15901)، (21826)، (8768)، (25242) (على الترتيب). ولم يذكر المصنف الحديث الثامن وهو عن بلال - رضي الله عنه - وهو عند أحمد (23888).

الربيع بن سليمان

قال أحمد: أصحُّ شيء في هذا الباب حديث رافع بن خَديج (¬1). ولعامَّة العلماء ما روى البخاريُّ عن ابن عبَّاس قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقاحة وهو صائم (¬2). وروي عن أنس قال: أوَّل ما كُرهت الحجامة للصَّائم أنَّ جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمرَّ بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما يغتابان رجلًا فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" (¬3)، ثمَّ رخَّص بعد ذلك في الحجامة للصَّائم، وقد ذكرناه] (¬4). ذكر وفاة داود بن علي: حكى الخطيب أنه توفِّي في رمضان، وقيل: في ذي القَعدة ببغداد [سنة سبعين ومئتين، رحمة الله عليه]، وسمع إسحاق بن راهويه وغيره خلقًا كثيرًا، وروى عنه ابنُه محمد بن داود وغيره. قال الخطيب (¬5): وفي كتبه حديث كثير، إلَّا أنَّ الرِّواية عنه عزيزة جدًّا (¬6). الرَّبيع بن سليمان ابن عبد الجبَّار بن كامل، أبو محمد، المُراديُّ، مولى مُراد، صاحب الشَّافعي، نَقل عنه معظمَ أقاويله. وكان فقيهًا سيِّدًا فاضلًا ثقة، وكانت وفاتُه بمصرَ في شوَّال، وصلَّى عليه خُمارَويه ابن أحمد بن طولون. أسند عن الشَّافعي وغيره، وروى عنه المصريُّون وغيرهم (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر كلام أحمد الترمذيُّ عقب إخراجه حديث رافع (774). (¬2) صحيح البخاري (1939) دون قوله: بالقاحة، وهي موجودة في رواية أحمد في مسنده (2186). والقاحة: موضع يبعد عن المدينة 95 كم تقريبًا في الجنوب الغربي منها. (¬3) أخرجه الدارقطني (2260)، والبيهقي 4/ 268 في سننهما. (¬4) ما بين معكوفين من (ب). (¬5) في تاريخه 9/ 342. (¬6) بعدها في (ب): انتهت ترجمته والحمد لله وحده، وفيها توفي نصر بن الليث. اهـ وستأتي ترجمة نصر بن الليث بعد سبع تراجم. (¬7) "المنتظم" 12/ 238، و "تاريخ الإسلام" 6/ 332، و"السير" 12/ 587.

عبد الله بن محمد بن شاكر

عبد الله بن محمد بن شاكر أبو البَخْتَريّ، العَنْبريُّ، الكوفيُّ. سمع الحديث، وقدم بغداد، وحدَّث بها، وكان فاضلًا حافظًا. قال السَّرَّاج: أنشدنا أبو البَخْتري: [من السريع] يَمنَعُني من عَيبِ غيري الذي ... أعرفُه فيَّ من العَيبِ وكيف شُغْلي بسوى مُهْجَتي ... أم كيف لا أنظرُ في جَيبي إنْ كان عَيْبي غاب عنهم فقدْ ... أحصَى عيوبي عالمُ الغيبِ عَيْبي لهم بالظَّنِّ منِّي لهم ... ولستُ من عَيبيَ في رَيبِ لو أنَّني أقبلُ من واعظٍ ... إذًا كفاني واعظُ الشَّيبِ سمع حُسَينًا الجُعفيَّ وغيرَه، وروى عنه القاضي المحامليُّ وغيرُه، وكان ثقة (¬1). عليُّ بن محمد صاحب الزَّنْج، وقيل: اسمه بَهْبوذ، وقد ذكرنا وقائعَه مع أبي أحمد الموفَّق وحصارَه له، وكان الموفَّق قد بنى مدينة وسمَّاها الموفَّقية على جانب دِجلة، فكانت دجلةُ بينهما، كان يعبر إليه فيقاتله، ويضيِّق عليه إلى هذه السَّنة، فجرَت بينهما واقعتان؛ واقعةٌ في المحرَّم، وأخرى في صفر قُتِل فيها (¬2). فصل: ذِكْر تلخيصِ الواقعتين (¬3): قد ذكرنا حديث السِّكْر الذي عمله الخبيث، وما كان من أمر الموفَّق وأصحابه، ولم يزل حتَّى تمكَّن من الدُّخول في نهر أبي الخَصيب بالشَّذا والسُّمَيريَّات، وكان قد اجتمع إلى الموفَّق من أهل البلدان زهاءَ ثلاث مئة ألف مقاتل، بعضُهم تطوُّعًا وبعضهم بالدِّيوان، وزحف إلى الخبيث، فخرج إليه الخبيث برجاله وكانوا خلقًا كثيرًا، فنصر الله الموفَّق على الخبيث، فانهزم هو وأصحابه، فقُتِل وأُسر وغَرق منهم أكثرُ من ذلك، واستولى الموفَّق على مدينة الفاسق بأسرها، واستَنْقَذ مَن كان بقي فيها من الرِّجال ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 11/ 281 - 283، و"المنتظم" 12/ 238 - 239. (¬2) "المنتظم" 12/ 235. (¬3) ذكر هاتين الواقعتين الطبري في تاريخه 9/ 654 - 666، وابن الأثير في "الكامل" 7/ 399 - 406.

والنِّساء والصِّبيان، وظفروا بعيال عليِّ بن أبان المُهَلَّبيّ وأخويه الخليلِ ومحمدٍ ابنَي أبان وسليمان بنِ جامع وأولادهم، وعُبر بهم إلى الموفَّقية. ومضى الخبيث هاربًا ومعه ابنه أنكلاي والمهلّبيّ وسليمان بن جامع وغيرهم إلى النَّهر المعروف بالسُّفيانيّ، وكان الخبيث قد أعدَّ فيه موضعًا ليهرب إليه إذا غُلب على مدينته، ولمَّا رآهم لؤلؤ قد اقتحموا النَّهر اقتحم خلفَهم، فانهزموا في نهرٍ يعرف بالسَّامان (¬1) فاعتصموا بجبلٍ وراءه، فأرسل الموفَّق إلى لؤلؤ يأمره بالانصراف عنهم خوفًا عليه، فرجع، فشكره الموفَّق، وحمله على الشَّذا معه، ورفع منزلته، وأكرمه حيث باشر قتال العدوِّ بنفسه، وأيقن النَّاسُ بالفتح لمَّا هرب الخبيث من مدينته واستولى عليها المسلمون. ثمَّ أقام أبو أحمد بمدينته أيَّامًا لإصلاح السُّفُن وما تحتاج إليه، ثمَّ أمر ولده أبا العبَّاس أن يتقدَّمه إلى موضع يُعرف بعَسْكر رَيحان بين النَّهر المعروف بالسُّفياني والنَّهر الذي لجأ إليه الخبيث، وبثَّ القوَّاد في المكان الذي فيه الخبيث، ثمَّ عبر الموفَّق يوم السَّبت لليلتين خلتا من صفر من هذه السَّنة، فوافى نهرَ أبي الخَصيب. وكان الخبيث لمَّا عبر الموفَّق إلى مدينته عاد هو وأصحابُه إلى مدينتهم ليصلحوا ما تشعَّث منها، وجاءت مقدّمات الموفَّق، فلمَّا وصلوا إلى المدينة لم يعلموا أنهم قد رجعوا إليها، فأوقعوا بهم، فانهزم الخبيث وأصحابُه، وتبعهم أصحابُ الموفَّق يَقتُلون ويَأسرون، وانقطع الخبيثُ في جماعة من قوَّاده وجماعةٍ من الزَّنْج، وفارقه ابنُه أنكلاي وسليمان بن جامع. وظفر أبو العبَّاس بسليمان بن جامع، فجاء به إلى الموفَّق من غير عهدٍ ولا عقد، فارتفع الضَّجيج، وكبَّر الناس، وأيقنوا بالفتح؛ لأنَّ سليمان كان أكبرَ أصحابه مدافعةً عنه، ثم أسر خواصَّ أصحابه، فبعث بهم الموفَّق إلى الموفقيَّة، ثم شدَّ الخبيثُ وغلمانُه فأزالوا النَّاسَ عن مواقعهم، فحمل عليه الموفَّقُ والنَّاس، فانهزموا، وتبعهم إلى آخر نهر أبي الخَصيب، فبينا الموفَّق واقف والقتال يعمل إذ أتاه فارس مع أصحاب لؤلؤ يَركض ورأسُ الخبيث في يده، فلم يصدِّق الموفَّق، فعرضه على جماعة من ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 9/ 657: يُعرف بالمساون.

أصحابه فعرفوه، فترجَّل وترجَّل أبو العبَّاس والخواصُّ وخرُّوا لله سُجَّدًا، وأكثروا الشُّكر والثَّناء على الله تعالى، وأمر الموفَّق برفع رأس الخبيث على قناة طويلة ليَعرفه النَّاس، فكثر التَّحميد لله، وارتفعت الأصواتُ بذلك. وذكر أنَّ أصحاب الموفَّق لمَّا أحاطوا به، ولم يبق معه من أصحابه إلَّا المهلَّبيُّ؛ ولَّى هاربًا وأسلم نفسَه، فقذف نفسه في النَّهر الذي يُعرف (¬1) بنهر الأمير، فقتلوه، وجاؤوا برأسه إلى الموفَّق، فعاد الموفَّق فنزل في الشَّذا، ورأسُ الخبيث على قناة بين يديه، وسليمان بن جامع والهمداني مصلوبان على دِفْل (¬2) بأيديهما، وكان أنكلاي قد لجأ إلى الآجام والدَّغَل، فجيء به، وحُبس هو وأصحابُ أبيه. وهرب قِرطاس الذي رمى الموفَّقَ بالسَّهم إلى رامَهُرْمز، فعرفه رجل كان رآه في عسكر الخبيث، فدلَّ عليه عاملَ البلد، فأخذه وبعث به إلى الموفَّق، فسأله أبو العبَّاس أن يُوليه قتلَه، ففعل، فقام إليه فقتله. وبعث الموفَّق برأس الخبيث مع ولده أبي العبَّاس إلى بغداد، فدخل وهو على قناة بين يديه، وكبَّر الناس، وضُربت القباب، وزُيِّنت المدينة، وأكثر النَّاس من الدُّعاء للموفَّق وولدِه، وكان يومًا عظيمًا لم يُرَ في الإسلام مثلُه، وكتب الموفَّق إلى الآفاق برجوع النَّاس إلى أوطانهم: البصرةِ، والأُبُلَّة، والأهواز، وواسط، وكُوَر دجلة، وغيرِها، وطابت قلوب النَّاس ورجعوا، وأحسن الموفَّق إليهم، وولَّى قضاءَ البصرة محمدَ بن حمَّاد، وأقام هو بالموفَّقية حتى تراجع النَّاس. فكان خروج الموفَّق يوم الأربعاء لأربع بقين من رمضان سنة خمسٍ وخمسين ومئتين، وقيل: يوم السَّبت، أو ليلة السَّبت، لليلتين خلتا من صفر سنةَ سبعين ومئتين، وكانت مدَّةُ إقامته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وعشرةَ أيَّام (¬3). وقال الصُّولي: قتل من المسلمين ألفُ ألف وخمسُ مئة ألفٍ ما بين شيخ وشابٍّ ¬

_ (¬1) بعدها في (خ): نفسه؟ . (¬2) هو نوع من الشجر المرّ كما في "اللسان": (دفل). (¬3) كذا في (خ) و (ف). والذي في "تاريخ الطبري" 9/ 663، و"الكامل" 7/ 405: وكان خروج صاحب الزَّنج، بدل: الموفق ... وقتل يوم السبت، بدل: وقيل يوم السبت.

وصبيٍّ وذَكَرٍ وأنثى، وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثة مئة ألف، واستأمن من أصحابه خمسة عشر ألفًا (¬1). وكان له مِنبرٌ في مدينته، يصعد عليه، ويسبُّ عثمانَ وعليًّا ومعاويةَ وطلحة والزُّبير وعائشة - رضي الله عنهم -، وهذا رأيُ الخوارج الأَزَارِقة، وكان ينادى على الجارية من ولد الحسن والحسين - رضي الله عنهم -، أو بني هاشم العبَّاسيِّين وغيرهم بدرهمين أو ثلاثة، وينادى عليها في عسكره بنَسَبها: هذه فلانة بنتُ فلان بنِ فلان، وكان عند كلِّ واحد من الزَّنج من العلويَّات العشرةُ والعشرون يطؤهُنَّ، وتخدمن نساءَ الزَّنج مثل الوصائف (¬2). واستغاثت إليه يومًا ربقة (¬3) من ولد الحسين عليه السَّلام ما تلقاه من بعض الزَّنج، وسألته أن ينقلها إلى غيره، فأسمعها كلامًا فاحشًا، وذكر فاطمةَ عليها السَّلام بنتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأكثر الشُّعراء في مقتله ومدْحِ الموفَّق، فقال يحيى بن محمد الأسلميُّ: [من الطويل] أقولُ وقد جاء البشيرُ بوَقْعةٍ ... أعزَّتْ من الإسلام ما كان واهيا جزى الله خيرَ النَّاس للنَّاسِ بعدما ... أُبيح حِماهم خيرَ ما كان جازيا تفرَّد إذ لم ينصر اللهَ ناصرٌ ... بتجديدِ دينٍ كان أصبح باليا وتشييدِ مُلْكٍ قَدْ وَهَى بعد عزِّه ... وإدراكِ ثاراتٍ تُبير الأعاديا وتَرجِعَ أمصارٌ أُبيحتْ وأُحرقتْ ... مِرارًا فقد أمستْ قواءً عَوافيا وتُشفَى صدورُ المؤمنين بوَقْعةٍ ... تَقَرُّ بها منَّا العيونُ البواكيا وأعرض عن أحبابه ونعيمِهِ ... وعن لذَّةِ الدُّنيا وأقبلَ غازيا من أبيات طويلة. وقال أيضًا: [من السريع] ¬

_ (¬1) "المنتظم" 12/ 235. (¬2) "تاريخ الإسلام 6/ 256، والوصائف: جمع وصيف، وهو الخادم غلامًا كان أو جارية. "اللسان": (وصف). (¬3) كذا في (خ) و (ف). وهي بمعنى رقيقة.

أين نجومُ الكاذبِ المارِق ... ما كان بالطَّبِّ ولا الحاذقِ صبَّحه بالنَّحسِ سَعْدٌ بدا ... لسيِّدٍ في قوله صادقِ فخرَّ في مأزِقِه مُسْلَما ... إلى أُسودِ الغاب في المأزِقِ وذاقَ من كأسِ الرَّدى شَرْبةً ... كَريهةَ الطَّعْمِ على الذَّائقِ وقال يحيى بن خالد: [من الكامل] يا بنَ الخلائفِ من أَرُومَةِ هاشمٍ ... والغامرينَ النَّاسَ بالإفضالِ والذَّائدين عن الحَريمِ عدوَّهم ... والمُعْلِمين لكلِّ يومِ نِزالِ مَلِكٌ أعاد الدِّينَ بعد دُروسه ... واستنقَذ الأسرى من الأغلالِ أنت المُجيرُ من الزَّمان إذا سَطَا ... وإليك يَقصِدُ راغبٌ بسؤالِ أطفَأْتَ نيرانَ النِّفاق وقد علَتْ ... يا مُنيةَ الآجال والآمالِ لله درُّكَ من سليلِ خلائفٍ ... ماضي العزيمة طاهرِ السِّرْبالِ أفنيتَ جمعَ المارقِين فأَصبحوا ... متذلِّلين قد ايقنوا بزَوالِ أمطرتَهُم عَزَماتِ رأيٍ حازمٍ ... مَلأتْ قلوبَهُمُ من الأهوالِ لمَّا طغى الرِّجْسُ اللَّعينُ قَصدْتَه ... بالمَشْرَفيِّ وبالقَنَا الجوَّالِ وتركتَه والطَّيرُ يَحجُلُ حولَه ... متقطِّعَ الأوداج والأوصالِ يَهوي إلى حَرِّ الجحيم وقَعْرِها ... بسَلاسلٍ قد أوهنَتْهُ ثِقالِ هذا بما كَسَبتْ يداه وما جَنى ... وبما أتى من سيِّئ الأعمالِ أقررْتَ عينَ الدِّين ممَّن كادَه ... وأدَلْتَهُ من قاتل الأطفالِ صال الموفَّقُ بالعراق فأفْزَعَتْ ... مَن بالمغارب صَولةُ الأبطالِ وقال عيسى بن مَخلد بن مروان (¬1): [من الطويل] أَبِنْ لي جوابًا أيُّها المنزلُ القَفْرُ ... فلا زال مُنْهَلًّا بساحاتِكَ القَطْرُ أَبِنْ لي عن الجيران أين تحمَّلوا ... وهل عادتِ الدُّنيا وهل يَرجعُ السَّفْرُ وكيف تُجيب الدَّارُ بعد دُرُوْسِها ... ولم يَبْقَ من أعلام ساكنِها سَطْرُ منازلُ أبكاني مَغانيُّ أهلها ... وضاقَتْ بيَ الدُّنيا وأسْلَمني الصَّبْرُ ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 9/ 665: يحيى بن خالد بن ومروان، وما سلف من أبيات فيه.

الفضل بن العباس

كأنَّهُمُ قومٌ رَغا البَكْرُ فيهمُ ... وكان على الأيَّام في هُلْكهم نَذْرُ وعاثَتْ صُروفُ الدَّهرِ فيهم فأسرعتْ ... وشرُّ ذوي الأضْغانِ ما فعل الدَّهرُ فقد طابتِ الدُّنيا وأينَعَ نَبْتُها ... بيُمْنِ وليِّ العَهْدِ وانقَلَبَ الأَمْرُ وعاد إلى الأوطان مَن كان هاربًا ... ولم يبقَ للمَلعون في مَوْطنٍ أَمْرُ (¬1) بسيف وليِّ العَهد طالت يدُ الهدى ... فأشرق وجهُ الدَّهر واصطُلِم الكُفْرُ وجاهَدَهم في الله حقَّ جهادِهِ ... بنَفْسٍ لها طولُ السَّلامةِ والنَّصْرُ من أبيات. الفضل بن العبَّاس ابن موسى، أبو نُعيم، العَدَويُّ الأستراباذيُّ. كان فقيهًا فاضلًا، مقبولَ القول عند الخاصِّ والعامّ غير أحمد بن عبد الله الطاغي على أستراباذ، فعزم على نهبها، فاشتراها منه بست مئة ألف درهم، ووزَّعها على النَّاس. ويقال: إنَّ محمد بن زيد العلويّ قتله سرًّا وأخفاه. وروى عن الفَضْل بن دُكَين وغيره، وكان ثقة (¬2). [محمد بن إسحاق] (¬3) بن جعفر أبو بكر، الصَّاغانيّ، الحافظ. رحل في طلب العلم، ولقي الشّيوخ، وكتبوا عنه، وكانت وفاته يوم الخميس لسبعٍ خلون من صفر. سمع يزيد بن هارون وغيرَه، وروى عنه النَّسائي وغيرُه، وكان أحدَ الأثبات المُتْقنين، مع صَلابةٍ في الدِّين، واشتهارٍ بالسُّنَّة، واتِّساع في الرِّواية، واتَّفقوا على فضله وثقتِه، حتَّى قال الدارقطنيُّ: كان ثقةً وفوقَ الثِّقة، رحمه الله تعالى. ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 9/ 665: في موضع إثر. (¬2) "المنتظم" 12/ 239 - 240، و"تاريخ الإسلام" 6/ 386. (¬3) هذه الزيادة من "تاريخ بغداد" 2/ 44، و"المنتظم" 12/ 240، و"تاريخ دمشق" 61/ 19، و"تاريخ الإسلام" 6/ 394.

محمد بن الحسين بن المبارك

محمد بن الحسين بن المبارك أبو جعفر، ويعرف بالأعرابي. كان عابدًا ناسكًا، وسببُ وفاته: أنَّه توفِّي له وَلَد نَفيس كان يحفظ الحديث، فتغيَّر حالُه، وحَزِن عليه، وما زال به الحُزْنُ حتَّى مات في رمضان لعشرٍ بقين منه. سمع أسود بنَ عامر وطبقتَه، وروى عنه ابنُ صاعد وغيرُه، وكان ثقةً رحمة الله عليه (¬1). محمد بن مُسلم ابن عثمان (¬2) بن عبد الله، أبو عبد الله، الرَّازي، ويعرف بابن وارة. أحد الحفَّاظ الرَّحَّالين، والعلماء المتقنين، وكان أبو زُرعة الرَّازي لا يقوم لأحد، ولا يُجلس أحدًا مكانه إلَّا ابن وارة، وكان يقول: ابنُ وارة أبو الحديث وأمُّه. توفِّي في شهر رمضان بالرِّيِّ سنة سبعين ومئتين، وقيل: سنة خمس وخمسين، أو سنة خمس وستِّين، وهو وهم. أسند عن خلقٍ كثير، منهم: أبو مُسْهر الدِّمشقيُّ وغيره، وروى عنه البخاريُّ وغيره. واتَّفقوا على فضله وصدقه وثقتِه؛ إلَّا أنَّه كان متكبِّرًا. [وفيها توفي] نَصْر بن اللَّيث بن سعد (¬3) أبو منصور، البغداديُّ، الورَّاق. [رحل وطلب الحديث وحدَّث ببغداد. وقد] أخرج له الخطيب حديثًا غريبًا بإسناده ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 3/ 8 - 9، و"المنتظم" 12/ 240 - 241، و"تاريخ الإسلام" 6/ 400. (¬2) في (خ) و (ف): محمد بن مسلمة أبو عثمان. وهو خطأ، والمثبت من "تاريخ بغداد" 4/ 418 - 423، و "تاريخ الإسلام" 6/ 423 - 424. (¬3) في (خ) و (ف): أسعد، والمثبت من (ب)، وما بين معكوفين منها، وهو الموافق لما في "تاريخ بغداد" 15/ 396 - 395، وما سيأتي بين قوسين منه.

عن عثمان (¬1) بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان يَمان، ورَحَى الإيمان في قَحطان، والقَسوة والجفاء فيما وَلَد عدنان، وحِمْيَر رأسُ العرب ونابُها، والأَزْدُ كاهِلُها وجُمْجُمتها، ومَذْحِج هامَتُها وغَلْصَمَتُها، وهَمْدان ذِرْوَتُها، اللهمَّ أعِزَّ الأنصار الذين آوَوْني ونَصَروني وحَمَوْني، وهم أصحابي في الدُّنيا، وشيعتي في الآخرة، وأوَّلُ مَن يدخل بُحبوحة الجنَّة من أمَّتي". * * * ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وأخرج له الخطيب حديثًا يرفعه إلى عثمان ... ، والمثبت من (ب)، والحديث في "تاريخ بغداد" 15/ 396. وأخرجه أيضًا ابن أبي عاصم (1698) مختصرًا، والبزار في مسنده (410)، والرامهرمزي في أمثال الحديث (155)، وفي إسناده مقال.

السنة الحادية والسبعون بعد المئتين

السَّنة الحادية والسَّبعون بعد المئتين فيها دخل محمَّد وعليٌّ ابنا الحسين بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليٍّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب المدينة، وقتلا جماعةً من أهلها وأخذا الأموال، ولم يصلِّ أهلُها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع جُمَعٍ، لا جمعة ولا جماعة، فقال العبَّاس بن الفَضْل العَلَويُّ (¬1): [من الخفيف] أُخرِبتْ دارُ هجرةِ المصطفى ... البَرِّ فأبكى إخرابُها المسلمينا عينُ فابكي مقامَ جبريلَ والقَبْـ ... ـرَ والرَّوْضَ والمِنْبرَ الميمونا وعلى المسجد الذي أُسُّهُ التَّفـ ... ـوى خَلاءً أضحى من العابدينا وعلى طَيبةَ الَّتي بارك اللـ ... ـه عليها بخاتَم المُرْسَلينا وفيها أُدخل جماعةٌ من أهل خُراسان على المعتمد، وأَشهدهم أنَّه قد عَزل عمرَو بن الليث عمَّا كان قَلَّده من خراسان، وأنَّه قد قلَّدها محمَّدَ بن طاهر، وأمر بلَعْن عمرو بن اللَّيث على المنابر (¬2). وفيها كانت وقعة عظيمة بين أبي العبَّاس ابن الموفَّق وبين خُمارويه بن أحمد بن طولون بمكان يقال له: الطَّواحين بأرض فلسطين. كان الموفَّق قد جهَّز ولده أبا العبَّاس في جيوش العراق، وأعطاه الخزائن، وولَّاه أعمال ابن طولون، فخرج أبو العبَّاس من سُرَّ مَن رأى إلى الشَّام، فنزل بفلسطين، وجاء خُمارويه [بن أحمد] من مصر، والتقيا، فقُتل بينهما خلقٌ عظيم (¬3) بحيث جرت الطَّواحينُ من الدِّماء على ما قالوا، وكانت الدَّبْرة على خُمارويه، فانهزم إلى مصر على الجمازات (¬4)، واشتغل أصحابُ أبي العبَّاس بالنَّهب. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 10/ 7، و"الكامل" 7/ 413. (¬2) "تاريخ الطبري" 10/ 7، و"الكامل" 7/ 414. (¬3) في (خ): كثير، والمثبت من (ب)، وما بين معكوفين منها. (¬4) في "المنتظم" 12/ 243، والطبري 10/ 8: على حمار.

ونزل أبو العبَّاس في مَضرب خُمارويه ولا يرى أنَّه بقي له طالب، وكان سعدٌ الأعسر مع خُمارويه قد كَمَّن كَمينًا لأبي العبَّاس [فخرج عليهم وقد وضعوا السِّلاح، فحمل عليهم فانهزموا وتفرَّقوا، ومضى أبو العبَّاس] إلى طَرَسوس في نَفَرٍ يسير، وذهب جميع ما كان معه وما حواه من عسكر خُمارويه، انتهب الجميعَ سعدٌ الأعسر، وأقام أبو العباس بطَرَسوس. وفيها وثب يوسف بن أبي السَّاج على الحُجَّاج، فقاتلوه وأسروه، وقدموا به بغداد مقيَّدًا قد أُشهِر على جمل. قال أبو بكر الأدمي القاري (¬1): [لما أُدخل ابن أبي السَّاج سامراء مقيَّدًا مشهورًا أخرجني] مؤنس معه فتلقيناه [من فراسخ -وقيل: إنَّما أدخل به بغداد- قال الأدمي: ] فقرأتُ بين يديه وهو مقيَّدٌ مشهور {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] وأَتبعتُها بكلِّ ما جاء في القرآن من هذا الجنس، وابنُ أبي السَّاج عليه البُرنس وهو يبكي، فلمَّا كان بعد مدَّة شفع فيه مؤنس، فرضي الخليفة عنه، وأَطلقه إلى داره، فقال لي مؤنس: قد طلبك ابن أبي السَّاج منِّي، فامضِ إلى داره، فقلت: خَفِ الله فيَّ، لعلَّه وجد في نفسه من ذلك اليوم، فقال: لا بدَّ، فقلتُ: اللهَ اللهَ فيَّ أيُّها الأستاذ، فقال: لا بدَّ أن تمضي إليه. فدخلت عليه، فقرَّبني ورفع مجلسي وقال: أحبُّ أن تقرأ [تلك] الآيات التي قرأتَها بين يدي يوم كذا وكذا، فقلت: كان الحالُ يقتضي ذلك، أمَّا اليوم فلا، فقال: لا بدَّ ولا بأس عليك، فإنَّني انتفعتُ بها. فشرعتُ، فقرأتها وهو يبكي ويَنْتَحب إلى أن قطعتها، فأخرج من تحت مُصلَّاه دنانيرَ كثيرة، فَحَشَا بها فمي، ثمَّ أعطاني ألفي درهم، فأخذتُها وخرجت، وإذا ببَغْلةٍ فارهة بسَرْجها ولجامها، فركبتُها، وأصحبني ثيابًا، وقال: إذا شئت فعُدْ إلينا، ولا تنقطع عنَّا ما دمنا مُقيمين، فكنتُ آتيه في كلِّ أسبوع أقرأ عنده، فيعطيني في كلِّ شهر مئة دينار، إلى أن خرج من دار السَّلام. ¬

_ (¬1) في (ب): وذكر له أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي عن أبيه في كتاب "الفرج بعد الشدة" حكاية عن أبي بكر الأدمي قال .. والمثبت من (خ) و (ف)، ولم نقف على الخبر في كتاب التنوخي، ونقله عنه ابن الجوزي في "المنتظم" 12/ 244.

بوران بنت الحسن

ويقال: إنَّ في هذه السَّنة ردَّ الموفَّق أخاه المعتمد إلى سُرَّ مَن رأى، فصلَّى بالنَّاس عيد الأضحى، وخرج عليهم وعليه البُردة والقَضيب، وابنُ طاهر يمشي بين يديه بالحربة (¬1). [وفي هذه السَّنة] زُلزلت مصر زلزلة عظيمة، هَدَمت المنازلَ والجوامع، وقتلت خلقًا عظيمًا، فأخرج في يوم واحد ألفُ جنازة (¬2). وحج بالنَّاس هارون بن محمد. وفيها توفيت بُوران بنت الحسن ابن سَهْل، زوجة المأمون. [وقد ذكرنا تزويجها ودخولَ المأمون بها في فم الصِّلْح، وما أنفق عليها أبوها من الأموال، وإقامتها ببغداد مكرّمة محترمة.] وكانت فَطِنة مُتصدِّقة، توفِّيت في ربيع الأوَّل ببغداد وقد بلغت ثمانين سنة، ودُفنت بالسَّهلية عند جامع السلطان على باب بغداد، وهناك بُنْيتُه قائمة، يقال إنَّها في تابوت مربوط بسلاسل (¬3). حَمْدون بن أحمد بن عُمارة أبو صالح، القصَّار، النَّيسابوريّ. إمام الملامتيَّة (¬4) بنيسابور ومنه انتشر مذهبهم. وكان أبو صالح فقيهًا على مذهب سفيان الثوريّ، وسمع الحديث وصحب [أبا تراب، النَّخْشَبيَّ وأقرانه. [وذكره ابن خميس في "المناقب" (¬5) وأثنى عليه، وله الكلام المليح، فمنه ما ذكره السُّلميُّ ¬

_ (¬1) "المنتظم" 12/ 245. (¬2) ذكر هذا الخبر الطبري في "تاريخه" 10/ 10، وابن الأثير في "الكامل" 7/ 420، وابن الجوزي في "المنتظم" 12/ 249 في أحداث سنة (272 هـ). (¬3) "المنتظم" 12/ 245 - 246، و"وفيات الأعيان" 1/ 290، و"تاريخ الإسلام" 6/ 528. (¬4) المَلامِيَّة: هم الذين لم يظهروا مما في بواطنهم على ظواهرهم، وهم يجتهدون في تحقيق كمال الإخلاص، أي: مذهبهم تخريب الظاهر وتعمير الباطن. التعريفات للجرجاني 348 - 349، وتاريخ الإسلام 6/ 541. (¬5) مناقب الأبرار 1/ 303 - 307.

أبو حفص النيسابوري

وغيره أنه كان يقول: إذا رأيت سكرانًا فتمايل لئلَّا تنعي عليه؛ فتُبتلى بمثل ما ابتُلي به. وقال: لا تُفشِ على أحدٍ سرًّا تحبُّ أن يكون منك مكتومًا. وقال: من ضيَّع عهودَ الله عنده فهو لآداب الشريعة أضيعُ. وقال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بمسجون. وقال: لا يفرح إبليس بشيءٍ كفرحه بقلب فيه خوف الفقر. وحكى عنه أبو نعيم قال: قيل لحمدون: ما بال كلام السلف (¬1) أنفعُ من كلامنا؟ فقال: لأنَّهم تكلَّموا لعزِّ الإسلام، ورضى الرَّحمن، ونجاة النُّفوس، ونحن نتكلَّم لعزِّ النُّفوس، وطلب الدُّنيا، ورضى الخلق. [قال: ] وسَفِهَ عليه رجل، فقال له حمدون: لو نقصتَني كلَّ نَقْصٍ لم تَنقصني كنقصي عند نفسي، ثمَّ قال: سَفِهَ رجل على إسحاق الحنظليّ فاحتمله، فقيل له في ذلك فقال: لأيِّ شيءٍ تعلَّمنا العلم؟ . وقال: مَن استطاع منكم أن لا يَعمى على نُقصان نفسه فليفعل. وقال: مَن نظر في سِيَر السَّلف عرف تقصيره وتخلُّفَه عن درجات الرِّجال. وتوفِّي صديقٌ له وهو قاعد عند رأسه، فأطفأ السِّراج وقال: هذا زيتٌ قد صار للوَرَثة. وكانت وفاة حمدون بنيسابور [في هذه السنة (¬2). وفيها توفي] أبو حَفص النَّيسابوري [واسمه: ] عمرو بن سَلْم، وقيل: ابن سَلَمة (¬3)، الحدَّاد. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وقيل له: ما بال السلف ... والمثبت من (ب)، والخبر في "الحلية"10/ 231. (¬2) "طبقات الصوفية" ص 123 - 129، و "حلية الأولياء" 10/ 231 - 233، و"صفة الصفوة" 4/ 122 - 123، و"المنتظم" 12/ 246، و"تاريخ الإسلام" 6/ 541. (¬3) الذي في مناقب الأبرار 1/ 227: عمرو بن سالم، والأصح أنه: عمرو بن سلمة. والذي في المنتظم 12/ 203: عمرو بن مسلم، ويقال: عمرو بن سلمة. وينظر أيضًا طبقات الصوفية 115، وتاريخ بغداد 14/ 133، والحلية 10/ 229، والسير 12/ 510.

وهو من قرية على باب نَيسابور يقال لها: كُورْدَاباذ على طريق بُخارى. كان عظيم الشَّأن [صحب المشايخ، وإليه ينتمي شاه بن شجاع الكِرْماني، وكان] أحد السادة الأئمة، من كبار مشايخ القوم، وله الكراماتُ المشهورة. روى الخطيب عن الجنيد بن محمد: أن أبا حفص ذُكر عنده، فقال الجنيد: كان رجلًا من أهل الحقائق، ولو رأيتُه لاستغنيتُ به. وكان يتكلَّم في غَور بعيد، ولقد قال له يومًا بعضُ أصحابه: كان مَن مضى لهم الآيات الظاهرة، فأيش لك؟ فأخذ بيده وأتى به إلى سودتى الحدَّادين إلى كُور عظيم محميٍّ، فيه حديدةٌ عظيمة، فأدخل يده فأخذها؛ فبَردت في يده. [وقال الخطيب: ] دخل أبو حفص على مريض، فقال المريض: آه، فقال أبو حفص: ممَّن؟ فسكت، فقال: مع مَن، فقال المريض: كيف أقول؟ قال: لا يكنْ (¬1) أنينُك شكوى، ولا سكوتُك تجلُّدًا، وليكن بين ذلك. [وحكى السُلميُّ عن] مَحْمِش الجَلّاب قال: صحبتُ أبا حفص اثنتين وعشرين سنة، [فما رأيتُه ذكر الله تعالى إلَّا على وجه الحضور والتَّعظيم والحُرمة]، وما رأيتُه يذكره على حدِّ الغَفلة والسَّهو والانبساط، وكان إذا ذكره تغيَّر حاله (¬2). وكان يقول: ما أظنُّ محقِّقًا يذكر الله على غير غفلة، ثمَّ يبقى بعد ذلك حيًّا إلَّا الأنبياء؛ فإنَّهم أُيِّدوا بقوَّة النُّبوَّة. وحكى ابن باكويه الشّيرازي، عن أبي عثمان النَّيسابوري قال: خرجنا (¬3) مع أبي حفص إلى ظاهر نيسابور، فتكلَّم علينا، فطابت قلوبنا، فبَصُرنا بأُيَّل (¬4) قد نزل من الجبل، فبرك بين يديه وأصغى إليه، فبكى أبو حفص بكاء شديدًا، فقلنا له: تكلَّمتَ علينا فطابت قلوبُنا، فلمَّا جاء هذا الوحشُ وبَرَك بين يديك أزعجك وأبكاك! فقال: نعم، رأيتُ اجتماعَكم حولي وطيبَ قلوبكم، فوقع في خاطري لو أنَّ شاةً ذبحتُها ¬

_ (¬1) في (ب): مع من قل: لا. فقال المريض: كيف أقول لا لا يكن ... وكلام الخطيب في تاريخه 14/ 134. (¬2) "طبقات الصوفية" 116. (¬3) في (خ) و (ف): وقال أبو عثمان النيسابوري خرجنا، والمثبت من (ب). (¬4) هو نوع من الوعول مثل الثور الأهلي.

ودعوتكم إليها، فما تحكَّم هذا الخاطر حتَّى جاء هذا الوحش فبرك بين يديَّ، فخُيِّل لي أنِّي مثل فرعون لمَّا سأل ربَّه فأجرى له النِّيل، قلت: فما يؤمنني أن يُعطيني الله حُظوظي في الدُّنيا، وأبقى فقيرًا يوم القيامة لا شيء لي؟ فذلك الذي أزعجني. [وقال السُّلمي: ] كان أبو حفص إذا غضب تكلَّم في حُسن الخُلُق حتَّى يَسْكُن غَضَبُه، ثم يرجع إلى حديثه. [وحكى عنه السُّلمي أيضًا أنه] قال: حرستُ قلبي عشرين سنة، ثمَّ حرسني قلبي عشرين سنة، ثمَّ وردتْ عليَّ وعليه حالةٌ صرنا فيها محروسَين جميعًا (¬1). وحكى في "المناقب" عن المرتَعِش قال: دخلنا (¬2) مع أبي حفص على مريض نعوده ونحن جماعة، فقال للمريض: ما تشتهى؟ فقال: أن أبرأ، فقال أبو حفص لأصحابه: تحمَّلوا عنه، فقام المريض وخرج معنا، وأصبحنا كلُّنا أصحاب فُرُشٍ نُعاد. [وقال السُّلمي: ] قيل لأبي حفص: مَن الوليّ؟ قال: من أُيِّد بالكرامات وغُيِّب [عنها] (¬3). [وحكي عنه في "المناقب" أنه] قال: المعاصي بَريد الكفر، كما أنَّ الحُمَّى بريد الموت (¬4). وقيل له: إنَّ فلانًا إذا سمع السَّماع صاح ومزَّق ثيابه، فقال: الغريق يتشبَّث بكلِّ شيءٍ يظنُ أنَّ فيه نَجاتَه. قال: ولما دخل بغداد قال له الجُنيد: لقد أدَّبتَ أصحابَك أدب السَّلاطين، فقال أبو حفص: حُسنُ الأدبِ في الظَّاهر عنوان حُسنِ الأدبِ في الباطن، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو خشع قلبُ هذا لخشعَتْ جوارحُه" (¬5). ¬

_ (¬1) "طبقات الصوفية" 117، 119، وما بين معكوفين من (ب). (¬2) في (خ) و (ف): وقال المرتعش دخلنا، والمثبت من (ب) والخبر في "مناقب الأبرار" 1/ 280. (¬3) "طبقات الصوفية" 121، وما بين معكوفين من (ب). (¬4) "مناقب الأبرار" 1/ 277. (¬5) أخرجه عبد الرزاق (3309)، وابن أبي شيبة (6854) من كلام سعيد بن المسيب، قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 1/ 151: وأخرجه الحكيم في النوادر [ص 317] من حديث أبي هريرة بسند ضعيف، والمعروف أنه من قول سعيد بن المسيب.

محمد بن وهب

[قال: ] وسُئل: من الرجال؟ فقال: هم القائمون لله تعالى بوفاء العهود، قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ} الآية [الأحزاب: 23]. وقال: الخوف سَوْط (¬1) الله في أرضه، يقوِّم به الشَّاردين عن بابه، وهو سِراج القلب، به يُبصر ما فيه من الخير والشّر. [وقيل له: أيُّهما أفضل، النُّطق أو الصَّمت؟ فقال: لو علم النَّاطق ما آفة النُّطق لصمت عمر نوح، ولو علم الصَّامت ما آفة الصَّمت لسأل الله ضِعفَي عمر نوح حتى ينطق] (¬2). وقال: إنَّ الله تعالى دعا الخَلْق إليه من أربعة أبواب؛ دعاهم من باب الرضا فما أجابه إلَّا القليل، ودعاهم من باب الصَّبر فما أجابه إلَّا القليل، ودعاهم من باب الذِّكر فما أجابه إلَّا القليل، ودعاهم من باب حُسن الظَّن فقال: "لا يموتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسن الظَّنَّ بربِّه" (¬3) فأجابوه. [واختلفوا في وفاته: فقال السُّلمي: في] سنة سبعين [ومئتين] وقيل: سنة إحدى وسبعين، وقيل: [في] سنة أربع [أو ستٍّ] أو سبع وستين ومئتين رحمه الله (¬4). [وفيها توفي] محمد بن وَهْب أبو جعفر، العابد، صاحب الجنيد. [حكى عنه الخطيب أنَّه] قال: سافرتُ لألقى أبا حاتم العطَّار البصريَّ الزَّاهد، فطرقتُ عليه بابَه فقال: مَنْ؟ قلتُ: رجلٌ يقول: ربي الله، ففتح الباب، ووضع خدَّه على الأرض وقال: طَأْ عليه؛ فهل بقي في الدُّنيا مَن يُحسِن أن يقول: ربِّي الله؟ ! ¬

_ (¬1) في (خ): شرط. وفي (ب): سلطان. والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في "الرسالة القشيرية" 2/ 190 - 191. (¬2) ما بين معكوفين من (ب)، والكلام في "الرسالة القشيرية" 2/ 186، و"مناقب الأبرار" 1/ 284. (¬3) أخرجه أحمد (14481)، ومسلم (2877) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬4) ما بين معكوفين من (ب) وكلام السلمي في طبقاته 116. وينظر "حلية الأولياء" 10/ 229 - 230، و"تاريخ بغداد" 14/ 133 - 135.

محمد بن يعقوب بن الفرج

وكانت وفاته ببغداد، فتولَّى الجنيدُ غسلَه وتكفينَه والصَّلاةَ عليه، ودُفن إلى جانب سَرِيٍّ السَّقَطي [رحمة الله عليهما] (¬1). محمد (¬2) بن يعقوب بن الفَرَج أبو جعفر، الصُّوفي، من أهل سُرَّ مَن رأى. كان من أبناء الدُّنيا، ورث مالًا كثيرًا، فأنفقه في طلب العلم، وعلى الفقراء والزُّهَّاد والصُّوفية والمحدِّثين. وقال بُنان بن أحمد المصري: قدم محمد بن يعقوب مصرَ، فقصدتُه، فإذا هو في بيت مملوءٍ كُتبًا، فقلت: رحمك الله، اختصر لي من هذه الكتب كَلمتين أنتفعُ بهما، فقال: ليكن همُّك مَجموعًا فيما يُرضي الله تعالى، فإنِ اعترضَ عليك شيءٌ فتُب من وقتك. وكانت وفاته بالرَّمْلَة، حدَّث عن عليِّ بن المَديني وغيره، وروى عنه بِشر بن يوسف الهَرَوي وغيره (¬3). مصعب بن أحمد ابن مُصْعَب، أبو أحمد القلانسيُّ. ولد ببغداد، وكان من أقران الجُنيد، عظيمَ الشَّأن. قال جعفر الخُلْدي (¬4): قال لي أبو أحمد القَلانِسيُّ: يا جعفر، فرَّق رجل على الفقراء أربعين ألف درهم ببغداد، فقال لي سَمنون: يا أبا أحمد، ما تَرى ما فعل هذا الرجل؟ ونحن ما معنا شيء نفرِّقه، اخرج بنا إلى المدائن نصلِّي بكلِّ درهمٍ ركعة، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ب)، وكلام الخطيب في "تاريخه" 4/ 535 - 536. (¬2) من هنا إلى نهاية السنة ليس في (ب). (¬3) الذي في "تاريخ بغداد" 4/ 612 أن الذي روى عنه هو محمد بن يوسف بن بشر الهروي، وانظر "المنتظم" 12/ 248، و"تاريخ الإسلام" 6/ 627. (¬4) في (خ) و (ف): الخالدي. والمثبت من "تاريخ بغداد" 15/ 141، و"المنتظم" 12/ 241، و"تاريخ الإسلام" 6/ 438، وذكراه في وفيات سنة (470 هـ).

فخرجنا إليها، فصلَّينا أربعين ألف ركعة، وزُرنا قبرَ سليمان وحُذيفة، وانصرفنا. وكان أبو أحمد مُجَرَّدًا من الدُّنيا، مُلازِمًا للمساجد والصَّحارى ليس له منزل، وكان يَصحبه غلام اسمُه محمد بن يعقوب المالكي، وكان حَدَثَ السِّنّ، فقال لأبي أحمد: أحبُّ أن أتزوَّج، فأمر مَن خطب له ابنةَ رجل من أعيان النَّاس، فأجاب، فلمَّا حضر جماعة بسبب العقد قال محمد بن يعقوب: قد بدا لي من التَّزويج، فغضب أبو أحمد وقال: تَخطب إلى رجلٍ كَريمتَه فيُجيب، ثمَّ تمتنع؟ والله لا يتزوَّجها غيري، فقام أبوها فقبَّل رأسه، فقال: ما كنتُ أظنُّ أنَّ قَدْري عند الله أن أُصاهِرك، ولا قدْرَ ابنتي أن تكون أنت زوجَها. وقيل: إنَّه مات سنة سبعين، خرج حاجًّا، فلمَّا قضى نُسُكَه توفِّي، فدُفن بأَجْياد عند الهدف، رحمه الله. * * *

السنة الثانية والسبعون بعد المئتين

السَّنة الثانية والسَّبعون بعد المئتين فيها وقع بين يازمان الخادم وأبي العبَّاس بن الموفَّق خلافٌ في طَرَسوس، فأخرج أهلُها أبا العبَّاس منها، فخرج يريد بغداد في نصف المحرَّم، وقدم بغداد لسبعٍ بقين من جُمادى الآخرة. وفيها دخل حَمدان بن حَمدون وهارون الشَّاري (¬1) الخارجيَّان مدينةَ المَوْصِل، وصلَّى الشاري بالنَّاس في المسجد الجامع. وفيها قدم صاعد بن مَخْلد كاتب الموفَّق من فارس إلى واسِط في رجب، وكان الموفَّق بها، فأمر القوَّاد باستقباله، فتلقَّوه وقبَّلوا يده، وكان في قتال عمرو بن اللَّيث. ولسبعٍ (¬2) بقين من رجب قبض عليه الموفَّق وعلى أصحابه، وانتَهبَ منازلَهم، وقبض على ابنَيه أبي عيسى وأبي صالح ببغداد، وعلى أخيه عَبْدون بسامرّاء، وذلك كلُّه في يوم واحد، واستكتب الموفَّق إسماعيلَ بن بُلْبُل (¬3). وفيها تحرَّكت الزَّنج بواسط وصاحوا: أنكلاي يا منصور، وهو ابنُ الخبيث، وكان أنكلاي، وسليمان بن جامع، والمهلّبيّ، والشَّعرانيّ، وغيرهم من قوَّاد الزنج مُحْتَبَسين ببغداد في دار محمد بن عبد الله بن طاهر، في يدِ غُلامٍ من غلمان الموفَّق يقال له: فتح السَّعيدي، فكتب إليه الموفَّق أن يبعث إليه برؤوسهم، فذبحهم واحدًا واحدًا، وبعث برؤوسهم إليه، وقيل: إنَّه صلب أبدانهم على الجسر، وكانوا قد رُموا ببالوعة، فأُخرجوا، وصلب ثلاثة منهم في الجانب الغربيّ، وثلاثة في الجانب الشرقيّ. وفيها غزا الصَّائفة يا زمان الخادم. وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس الهاشميّ. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): الرازي. والمثبت من "تاريخ الطبري" 10/ 9، و"الكامل" 7/ 419، و"تاريخ الإسلام" 6/ 468. (¬2) في تاريخ الطبري 10/ 10: لتسعٍ. (¬3) من أول السنة إلى هنا ليست في (ب).

أحمد بن مهدي بن رستم

وفيها توفي أحمد بن مَهْديّ بن رُسْتم أبو جعفر، الأصبهانيّ. أحد الثِّقات الأثبات، الرحَّالين في طلب العلم، صاحب صلاة وتعبُّد واجتهاد، لم يُفْرَش له فراشٌ منذ أربعين سنة، وأنفق على تحصيل العلم ثلاث مئة ألف درهم، وصنَّف "المسند". سمع ببغداد أبا عُبيد القاسم بن سلَّام، وعزم على أن يكتب كتاب "الأموال" لأبي عبيد بماء الذَّهب، فقال له أبو عبيد: اكتب بالحِبر فإنَّه أبقى. وسمع ابن أبي الدُّنيا وخَلْقًا كثيرًا، وكان فوق الثِّقة (¬1). [وفيها توفي الحسن بن إسحاق] بن يزيد أبو علي، العَطَّار. قال عبد الرَّحمن بن هارون: كنَّا في البحر سائرين إلى إفريقية، فرَكَدَت علينا الرِّيح، فأرسَينا إلى موضع يقال له: البَرْطون، ومعنا فتًى صَقْلَبي يقال له: أيمن، ومعه شِصٌّ (¬2) يَصطاد به السَّمَك، فاصطاد سَمكةً نحوًا من شِبر أو أقلّ، فرأينا على صَحْفَةِ (¬3) أُذنها اليُمنى مكتوبًا: لا إله إلا الله، وعلى اليُسرى: محمد رسول الله، وكانت السَّمكةُ بيضاء، والكتابةُ سوداء؛ كأنَّها كُتبتْ بحِبر، وكانت أَبْيَنَ من نَقْشٍ على حَجَر، فقذفناها في البحر، ومَنعْنا النَّاسَ أن يصيدوا من ذلك الموضع. حدَّث الحسن عن أبي نُعيم وغيره، وروى عنه مَخْلد وغيرُه، وكان ثقة. سليمان بن وَهْب كان كاتب الموفَّق، وهو الَّذي تعصَّب لأبي تمام، وولَّاه بَريد الموصل. ¬

_ (¬1) "أخبار أصبهان" 1/ 85 - 86، و"تاريخ دمشق" 2/ 254 - 255، و"تاريخ الإسلام" 6/ 501 - 502. (¬2) الشِّص والشَّص: حديدة عقفاء يصاد بها السمك. "اللسان": (شصص). (¬3) في "تاريخ بغداد" 8/ 234، و"المنتظم" 12/ 251، و"تاريخ الإسلام" 6/ 534: صَنيفة، وهي طرف الأذن.

العلاء بن صاعد

وكان فاضلًا، حبسه الواثق سنة ثمانٍ وعشرين ومئتين، فكتب إليه أخوه الحسن بن وهب يقول: [من الكامل] صَبْرًا أبا أيُّوب صَبْرًا يُرْتَضى ... فإذا جَزِعتَ من الأمور فَمَن لها (¬1) توفِّيت أمُّ سليمان، فدخل عليه صالح بن شَهريار (¬2) الكاتب وكان مُغَفَّلًا، فأنشده مرثيَّة في أمِّه يقول: [من الطويل] لأمّ سليمانٍ علينا مصيبةٌ ... مُغَلْغَلَةٌ مثلُ الحُسامِ البَواترِ وكنتِ سِراجَ البيتِ يا أمَّ سالمٍ ... فأمسى سِراجُ البيت بين المقابرِ فقال سليمان: ما نزل بأحدٍ مثل ما نزل بأمِّي؛ ماتت وتُرثى بمثل هذا الشعر المشؤوم، واسمي سليمان فصيَّرني سالمًا. وتوفِّي سليمان في حبس الموفَّق يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر (¬3). [وفيها توفي] (¬4) العلاء بن صاعِد أبو عيسى، البغداديُّ، الكاتب. كان يتعاطى علمَ النُّجوم، حبسه الموفَّق على مالٍ اتَّهمه به، وكان مريضًا فحُمِل في مِحَفّة إلى الحبس [فقال لأصحابه: طالعُ الوقت يقتضي أنَّ بعد ثلاثة عشر يومًا أخرج من الحبس]، وأَعودُ إلى منزلي، فتوفِّي في الحبس بعد ثلاثة عشر يومًا، فدُفع ميتًا إلى أهله. [وقال الصُّولي: ] رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام وكان مريضًا، فقال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يهبَ لي العافية، فأعرض عنه يمينًا وشمالًا وهو يقول ذلك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا أفعل، فقال: يا رسول الله، ولم؟ قال: لأنَّ أحدكم يقول: أعلَّني المرِّيخ، وأبرأني المُشْتري (¬5). ¬

_ (¬1) "الوافي بالوفيات" 12/ 298. (¬2) في "العقد الفريد" 6/ 166: شيرزاذ. (¬3) "المنتظم" 12/ 251، و"تاريخ الإسلام" 6/ 556، وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬4) جاءت ترجمته في (ب) في أحداث سنة ثلاث وسبعين ومئتين، وما بين معكوفين منها. (¬5) "المنتظم" 12/ 252، ومن هنا إلى ترجمة يعقوب بن سماك ليس في (ب).

عيسى بن جعفر

عيسى بن جعفر أبو موسى، الورَّاق، البغداديّ. كان من أفاضل النَّاس، وشجعان المجاهدين، مع ورع، وعقل، ومعرفة، وحديث كثير. سمع الإمام أحمد رحمة الله عليه وغيرَه، وروى عنه المَحامِليُّ وغيره، وكان صالحًا ثقة (¬1). محمد بن عبد الله ابن عمَّار بن سَوادة، أبو جعفر، المَولى، المُخَرِّمِّيُّ (¬2). ولد سنة اثنتين وستِّين ومئة، وقَدِم سُرَّ مَن رأى تظلُّمًا من القاضي الزُّبَيري، فكثر النَّاس عليه في طلب الحديث، فبلغ الخليفة فقال: ما الذي أقدم هذا الرَّجل؟ قالوا: يتظلَّم من الزُّبيري، فقال: اعزلوا الزُّبيري. ومحمد نزيل الموصل، وأحد العلماء المحقِّقين، حافظٌ، كثير الحديث، سمع سفيانَ بن عُيينة وغيرَه، وروى عنه عبدُ الله بن الإمام أحمد وغيره، وكان ثقة صدوقًا. محمد بن أبي داود عُبيد الله ابن يزيد، أبو جعفر، [ابن] المُنادي. كان يسكن المُخَرِّم (¬3) ببغداد سنة إحدى وسبعين ومئة، ومات لثلاثٍ بقين من رمضان سنة اثنتين وسبعين ومئتين، وله مئة سنةٍ وسنة، وأربعة أشهر (¬4)، وأيامًا. وقال: صمتُ اثنين وتسعين رمضانًا. سمع يزيد بن هارون وغيرَه، وروى عنه البخاريُّ وغيره، وكان ثقة. ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 12/ 496 - 497، و"تاريخ الإسلام" 6/ 584. (¬2) في (خ) و (ف): الخرقي. والمثبت من "تاريخ بغداد" 3/ 418، و"تاريخ دمشق" 62/ 437. (¬3) في (خ) و (ف): المحرن. والمثبت من "تاريخ بغداد" 3/ 566. (¬4) في (خ) و (ف): وله مئة سنة وأربع عشر شهرًا، والمثبت من "تاريخ بغداد" 3/ 566، و"تاريخ الإسلام" 6/ 615.

محمد بن عوف بن سفيان

محمد بن عَوْف بن سفيان أبو جعفر، الطائيّ، الحِمصيّ، الزاهد، العابد، الفاضل. كان الإمام أحمد رحمة الله عليه يقول: ما كان بالشَّام منذ أربعين سنة مثله. حدَّث عن هشام بن عمار وطبقته، وروى عنه أبو زُرعة الرَّازي وغيره، واتَّفقوا على فضله وصدقه وثقته (¬1). [وفيها توفي] يعقوب بن سِواك أبو يوسف (¬2) الخُتَّليُّ، الزاهد. سكن بغداد، وصحب بِشرًا الحافيَّ وانتفع به، وسلك طريقتَه في الزُّهد والوَرَع، وكان حافظًا للسانه. ولمَّا احتُضر قال له ابنه محمد: يا أبتِ، أَدْفِنُكَ عند أخيك وصديقك بشرٍ الحافيِّ؟ فقال: يا بُنيّ، ادفنِّي عند أبي وأمي؛ فإنِّي أحبُّ أن يجمعنا الله غدًا في القيامة جميعًا، فقال له: يا أبت، فأكفِّر عن يمينك بشيء؟ فقال: يا بُنيّ، ما حلفتُ بالله تعالى على حقٍّ ولا على باطل، ومات رحمه الله. * * * ¬

_ (¬1) "طبقات الحنابلة" 1/ 310 - 313، و"سير أعلام النبلاء" 12/ 613 - 616، و"تاريخ الإسلام" 6/ 617 - 617. (¬2) في (خ) و (ف) و"المنتظم" 12/ 254 ابن يوسف. والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في "تاريخ بغداد" 16/ 414.

السنة الثالثة والسبعون والمئتين

السَّنة الثَّالثة والسَّبعون والمئتين فيها كانت وَقعةٌ بين إسحاق بن كُنداج وبين محمد بن أبي السَّاج بالرَّافقة، فانهزم إسحاق في جمادى الأولى، ثمَّ تواقعا أيضًا في ذي الحجَّة، فانهزم إسحاق أيضًا (¬1). وفيها وثب ثلاثةُ بنين لملك الرُّوم على أبيهم، فقتلوه، وملَّكوا أحدَهم عليهم. وفيها قبض الموفَّق على لؤلؤ مولى ابنِ طولون الَّذي قدم عليه بالأمان من الشَّام، وأخذ أمواله وكانت أربع مئة ألف دينار، وكان الموفَّق يقول: إنَّه كاتبَ خُمارويه، فكان لؤلؤ يقول: والله ما كاتَبْتُه، ولا لي ذنبٌ إلَّا كثرة مالي، شَرِه أبو أحمد إليه ففعل بي هذا، فقيَّده وحبسه. وحجَّ بالنَّاس هارون بنُ محمد بن إسحاق الَّذي حجَّ بهم في السِّنين الماضية، وهي السَّنة العاشرة من حجِّه بالنَّاس، ولم يحجَّ بالنَّاس عشر سنين متتابعة بعد عمر بن الخطاب رضوان الله عليه سواه، وقد حجَّ أيضًا بعد هذه (¬2). [فصل] وفيها توفي أحمد بن سَعْد بن إبراهيم ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف، أبو إبراهيم، الزُّهريُّ، الجَوْهريّ. [قال الخطيب: ] كان عالمًا، فاضلًا، زاهدًا، ورعًا، مشهورًا بالصَّلاح (¬3). [وقال الحافظ ابن عساكر: كان] يعدُّ من الأبدال، وهو من أهل بيت كلُّهم زهاد وعلماء ومحدِّثون (¬4). دخل على الإمام أحمد رحمة الله عليه، فقام له، وأكرمه، واعتنقه، وفرح به، فلمَّا ¬

_ (¬1) هذا الخبر ليس في (ب). (¬2) "تاريخ الطبري" 10/ 12، و"المنتظم" 12/ 255، و"الكامل" 7/ 422 - 423، و"تاريخ الإسلام" 6/ 469. (¬3) ما سلف بين معكوفين من (ب)، وكلام الخطيب في تاريخه 5/ 295، 298. (¬4) ما بين معكوفين من (ب)، وينظر كلام ابن عساكر في مختصر "تاريخ دمشق" 3/ 85، 86.

خرج [من عنده]، قال له ابنه عبد الله: يا أبتِ، أبو إبراهيم شابٌّ وتعمل به هذا [وتقوم له! ] فقال [له]: يا بُنيّ، لا تُعارضْني في مثل هذا، ألا أقوم إلى ابن عبد الرَّحمن بن عوف؟ ! ومولده في صفر سنة ثمانٍ وتسعين ومئة، وتوفِّي في المحرَّم (¬1) ببغداد، ودُفن بمقبرة باب التَّبّانين (¬2) [ببغداد] وقد بلغ خمسًا وسبعين سنة. وله أخوان أكبر منه، عبد الله وعبيد الله. [وحكى الخطيب عنه أيضًا حكاية عجيبة، قال أبو إبراهيم]: كنتُ (¬3) جائيًا من المَصِّيصة، فمَررْتُ بجبل اللُّكام، فأحبْبتُ أن أرى المتعبِّدين (¬4) هناك، فقصدتُهم، وجاءت صلاة الظُّهر وفيهم رجلٌ يعرفني، فقلت: دلُّوني على رجل، فقالوا: هو شيخ يصلِّي بنا، وإذا به قد أقبل فصلَّى بهم، فلمَّا فرغ قال له الرجل: هذا من ولد عبد الرَّحمن بن عوف، وجدُّه لأمِّه سعدُ بن معاذ، فبَشَّ بي، وسلَّم عليَّ كأنَّه قد كان يعرفني، فقلت له: من أين تأكل؟ فقال: أنت مُقيمٌ عندنا الليلة؟ [قلت: أما الليلة، فأنا عندكم.] ثمَّ مضى بي إلى كَهْفٍ في الجبل، فأخرج منه قَعْبًا (¬5) قد مضت عليه الدُّهور (¬6)، يسع رَطْلًا ونصفًا، فلمَّا صلَّينا المغرب اجتمع حواليه الظِّباء، فاعتقل منها ظَبْية، فحلبَها حتَّى ملأ القَعْب، ثمَّ أرسلها، وشرب وسقاني وسقا القوم، وقال: ما هو غيرُ ما ترى، وربَّما أحتاج إلى الشَّيء، فتجتمع الظِّباء حولي، فآخذ حاجتي ثمَّ أُرسلها. سمع الإمام أحمد [بن حنبل] رحمه الله، [وعلي بن -جعد- الجوهري، ومحمد بن سَلام الجُمحي] وغيرهم، وروى عنه عبد الله بن محمد البغوي، [ويحيى بن محمد بن صاعد، وأبو الحسين بن المنادي، وآخرون]، وكان صالحًا ثقة. ¬

_ (¬1) في (ب): وكانت وفاة أحمد في المحرم ... (¬2) في (خ) و (ف): التبن، وفي (ب): البنين، وما بين معكوفين منها، والمثبت من "تاريخ بغداد"، و"المنتظم" 12/ 256، و "مختصر تاريخ دمشق". (¬3) في (خ) و (ف): وقال له إبراهيم أحمد ... والمثبت من (ب) وكلام الخطيب في تاريخه 5/ 296 - 297، وما سيرد بين حاصرتين منه. (¬4) في (ب): من المصيصة وقد انتقل من بغداد إلى الثغر فمررت بجبل اللكام فأحببت أن أراهم يعني المتعبدين. (¬5) القَعْب: القدح الضخم الغليظ، وقيل: القدح من خشب مقعَّر. "لسان العرب": (قعب). (¬6) في (خ) و (ف): الشهور. والمثبت من (ب).

أحمد بن العلاء بن هلال

[وفيها توفي] أحمد بن العَلاء بن هِلال أبو عبد الرَّحمن، القاضي، الرَّقيِّ [، أخو هلال بن العلاء. قدم دمشق في أيام ابن طولون، وكان فيمن خَلعَ أبا أحمد الموفّق] (¬1). ولد سنة اثنتين وتسعين ومئة، وكانت وفاتُه بمصرَ بعد ابن أخيه أبي الهيثم بعشرين يومًا، فرثاهما أخوه هلال فقال: [من الطويل] ألا أيُّها القَبْران شوقي إليكما ... شديدٌ فقد أفنيتُ دَمْعي عليكما تضمَّنْتُما منِّي حَبيبَين فارفُقا ... بشخْصَين حلَّا في ثَرى حُفْرَتَيكما حبيبَين كانا مؤنِسَين فأصبحا ... برَغْمي على طول البِلى مؤنسيكما سلامٌ ورَيحانٌ ورَوْحٌ ورحمةٌ ... من السَّيِّد المَولى على ساكِنَيكما سمع من الإمام أحمد رحمة الله عليه وغيرِه، وروى عنه ابن أبي الدُّنيا وغيرُه [والحمد لله] (¬2). حَنْبل بن إسحاق بن حَنْبل ابن عمِّ الإمام أحمد رحمه الله. سمع الكثير، وصنَّف التاريخ، وكان زاهدًا، عابدًا، ورعًا، خرج إلى واسط وغيره، وروى عنه أبو القاسم البغويّ، وكان ثَبْتًا ثقة (¬3). الفَتْح بن شَخْرف ابن داود بن مُزاحم، أبو نصر الكَشّيُّ، أحد الزهَّاد الوَرعين، والصُّلحاء السَّيَّاحين. [ذكره الخطيب وأثنى عليه.] (¬4) ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ب). (¬2) "تاريخ دمشق" 2/ 57 - 60 والأبيات فيه، و"تاريخ الإسلام" 6/ 490. (¬3) "تاريخ بغداد" 9/ 217، و"المنتظم" 12/ 256، و"تاريخ الإسلام" 6/ 543، وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬4) "تاريخ بغداد" 14/ 363، وما بين معكوفين من (ب).

كان الإمام أحمد رحمة الله عليه يقول: ما أخرجتْ خُراسان مثلَ الفتح بن شَخْرف. قال الفتح: رأيتُ ربَّ العزَّة في منامي، فقال لي: يا فتح، احذر، لا آخذكَ على غِرَّة، [قال]: فتهتُ في الجبال سبع سنين. [وحكى عنه الخطيب أنَّه] قال: كتبتُ بقَلَمٍ واحد أربعين سنة. [وقال ابن باكويه: ] كتب [الفتح] على باب [داره]: رحم الله ميتًا دخل على هذا الميت فلم يَذْكرِ الموتى عنده إلَّا بالخير. وقال محمد بن أحمد بن إشكاب: أقام الفتح بن شخرف ثلاثين سنة لم يرفع رأسه إلى السَّماء حياءً من الله تعالى، فرفعه مرَّة ناسيًا فقال: قد طال شوقي إليك، فعجِّل قدومي عليك. وقال الخطيب (¬1): أقام [الفتح] ثلاثين سنة لم يأكل الخبز، وكان يُطعِم النَّاسَ الطَّعامَ الطَّيِّبَ. ذكر وفاته كان [الفتح] يقول: أعرف رجلًا على عضوٍ من أعضائه مكتوب: لله، والله ما كتبها كاتب. [حكى الخطيب عن] الجُريريّ قال: لما مات [الفتح] غسَّلتُه، فإذا على فَخِذه الأيمن كتابةٌ بيِّنة: لله، وكان الشِّبلي يصبُّ عليه الماء. [وقال أبو الحسين بن المنادي: ] توفِّي [الفتح] يوم الثلاثاء منتصف شوَّال بداره بالجانب الغربي من بغداد [في دَرْب سليمان بن جعفر حِيال الجسر الأعلى]، ولما خرجوا بجنازته صلِّي عليه ثلاثًا وثلاثين مرَّة، أقلُّ قوم كانوا يصلُّون عليه خمس وعشرون ألفًا إلى ثلاثين ألفًا، ودفن بين المقبرة التي بين باب حَرْب وقُطْرُبُّل. أسند عن رجاء بن مُرَجّا المَروزيّ وغيره، وروى عنه أحمد بن سليمان النجَّاد وغيره. ¬

_ (¬1) في تاريخه 14/ 368.

محمد بن إبراهيم بن مسلم

[قال الخطيب: ] قال الفتح: رأيت عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه في المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين، عِظني، فقال: ما أحسن تواضعَ الأغنياء للفقراء، وأحسنُ منه تِيه الفقراء على الأغنياء ثقةً بالله. وقال: رأيتُ بالبادية شابًّا بغير زاد ولا راحلة، فقلت: أين الزَّاد؟ فأخرج مصحفًا وقال: اقرأ {كهيعص} [مريم: 1] الكاف من كافٍ، والهاء من هادٍ، فيُحتاج مع هذا إلى زاد (¬1)؟ ! محمد بن إبراهيم بن مُسلم أبو أميَّة، البغداديُّ. كان رفيعَ القدر، إمامًا في الحديث، متقدِّمًا على أهل زمانه، سكن طَرَسوس، وكانت وفاته بها في جمادى الآخرة. سمع أبا نُعيم وغيرَه، وروى عنه أبو حاتم الرَّازي، وكان صدوقًا ثَبْتًا. ومن شعره: [من البسيط] في كلِّ يومٍ أرى بيضاءَ قد طَلَعتْ ... كأنَّما طلعتْ في باطنِ البَصَرِ لئن قطعتُكِ بالمِقراض عن بصري ... فما قطعتُكِ عن هَمِّي وعن فِكري (¬2) [وفيها توفي] محمد بن عبد الرَّحمن ابن الحكم بن هشام، الأُموي، والي الأندلس. [ذكره الحُميديُّ في "تاريخه" (¬3) وقال: ] كان عالمًا، فاضلًا، [عاقلًا]، فصيحًا، ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 14/ 362، و"المنتظم" 12/ 256، و"تاريخ دمشق" 57/ 459، و"تاريخ الإسلام" 6/ 585. (¬2) "تاريخ دمشق" 60/ 360، والبيتان أيضًا في معجم الشعراء للمرزباني ص 216 من شعر أبي دلف القاسم بن عيسى. وتنظر ترجمته في "تاريخ بغداد" 2/ 279 - 283، و"المنتظم" 12/ 258، و"تاريخ الإسلام" 6/ 594 - 595. (¬3) ص 11، واسمه جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس.

محمد بن يزيد بن ماجه

يخرج إلى الجهاد فيُوغل في بلاد الكفَّار السَّنة والسَّنتين وأكثر، فيقتل ويَسبي، وهو صاحب وقعة وادي سَلِيط؛ وهي من الوقائع المشهورة، لم يُعرَف قبلها مثلُها في الأندلس، وللشُّعراء فيها أشعارٌ كثيرة، يقال: إنَّه قتل فيها ثلاث مئة ألف كافر. وذكره بَقيُّ بن مَخلَد فقال: ما رأيت (¬1) ولا علمتُ أحدًا من الملوك، ولا سمعتُ أبلغَ لفظًا منه، ولا أفصحَ، ولا أعقل، ذكر يومًا الخلائفَ وصفتَهم وسِيَرهم ومآثرهم بأفصح لسان، فلمَّا وصل إلى نفسه سكت، وكان خيرَهم. [قال: وقال له رجل: ما أطيب الموت، فقال له محمد: يا أَبْله، وهل أقْعَدَنا هذه القعدة إلَّا الموت. وفي رواية أنَّ الرجل قال: ما أقبح الموت، فردَّ عليه.] بويع يوم مات والده سنة ثمان وثلاثين ومئتين في أيام المتوكِّل، فأقام واليًا خمسًا وثلاثين سنة، وأمُّه أمُّ ولد، وكان محبًّا للعلماء [وأهلِ العلم]. ولمَّا مات ولي بعده ولدُه المنذر بن محمد، ويقال: إنَّه مات سنة خمس وسبعين ومئتين (¬2). محمد بن يزيد بن ماجه أبو عبد الله، الحافظ، القَزْويني، الإمام، صاحب "السُّنن" و"التاريخ" و"التَّفسير"، وهو مولى ربيعة. ولد سنة تسع (¬3) ومئتين، ورحل إلى مكَّة، والكوفة، والبصرة، وبغداد، والشَّام، ومصر، وغيرها، وسمع الكثير، وكان ذا فنون. توفِّي يوم الاثنين، ودُفن يوم الثلاثاء لستٍّ بقين من رمضان وهو ابن أربع وستين (¬4) سنة. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وقال بقيُّ بن مخلد ما رأيت، والمثبت من (ب). (¬2) "تاريخ الإسلام" 6/ 612 - 613. (¬3) في (خ) و (ف): سبع، والمثبت من "تاريخ دمشق" 65/ 289، و"المنتظم" 12/ 258، و"وفيات الأعيان" 4/ 279، و "تاريخ الإسلام" 6/ 625، و"السير" 13/ 277. (¬4) في (خ) و (ف): سبعين. والمثبت من المصادر، وهذه الترجمة ليست في (ب).

أبو يعقوب الشريطي

سمع خلقًا عظيمًا، وقال: عَرضتُ كتاب "السُّنن" على أبي زُرعة، فنظر فيه وقال: إنْ وقع هذا في أيدي النَّاس تعطَّلت هذه الجوامع كلُّها أو أكثرها. وكانت وفاته بقَزْوين، وصلَّى عليه أخوه أبو بكر. [وفيها توفي] أبو يعقوب الشَّريطي [البَصْري] الصُّوفي. صحب أبا تُراب النَّخْشَبيَّ وغيره، وكان عارفًا بعلوم جمَّة حافظًا. ذكر حكايته مع داود الظَّاهري: قال الخطيب (¬1) بإسناده عن أبي سعيد الزِّيادي قال: ] دخل [أبو يعقوب الشريطي] مجلسَ داود بن علي الأصبهانيّ وعليه خِرقتان، فتصدَّر لنفسه من غير أن يرفعه أحد، فقال له داود: سلْ يا فتى، فقال أبو يعقوب: بل يسألُ الشيخُ عمَّا أحبَّ، فغضب داود وقال: أسأل عن الحِجامة، فبرك أبو يعقوب، ثمَّ روى طُرُق: "أفطر الحاجم والمحجوم" ومَن أرسله، ومَن أسنده، ومَن وقفه، ومَن ذهب إليه من الفقهاء، وروى اختلافَ طُرُق: احتجم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأعطى الحجَّام أجرَه (¬2)، ثمَّ ذكر أحاديث الحِجامة، وما ذكر فيها أهلُ الطِّبِّ وغيرهم، ثمَّ قال في آخر كلامه: وأوَّل ما خرجت الحجامة من أصبهان، فقال داود: والله لا احتَقَرْتُ أحدًا بعدك. [قلت: قد ذكرنا ما يتعلَّق بهذا المعنى في ترجمة داود بن علي الظاهريّ (¬3). وقوله: أوَّل ما خرجتْ الحِجامةُ من أصبهان؛ إنَّما أراد تبكيتَ داود على عادة شرار المُتَفَقِّهَة، وإلَّا فقد كانت الحجامةُ منذ خَلَق الله العالم، وقد احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة. انتهت ترجمتُه والحمد لله وحده.] (¬4) ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 16/ 588 - 589، وينظر أيضًا المنتظم 12/ 259 - 260. (¬2) أخرجه البخاري (2278)، ومسلم ص 1205 (65)، وأحمد (2337) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬3) في وفيات سنة (270 هـ). (¬4) ما بين معكوفين من (ب).

السنة الرابعة والسبعون بعد المئتين

السنة الرابعة والسبعون بعد المئتين فيها خرج الموفَّق إلى كَرْمان يقصد حرب عمرو بن اللَّيث في ربيع الأوَّل. وغزا يازمانُ الخادمُ، فأسر وقتل وسبى، وعاد سالمًا في رمضان. وفيها هجم صِدِّيق الفَرْغانيُّ سامراء، فأخذ أموال التُّجَّار، ونَهب دورَ النَّاس، وكان [الفرغاني] لصًّا يقطع الطَّريق فصار خفيرًا، ثم رجع إلى قَطْع الطُّرُق، ونَهب الأموال، وكان المعتمد بسُرَّ مَن رأى، والموفَّق قد خرج [من بغداد] لقتال عمرو [بن الليث]. وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمد أيضًا (¬1). وفيها توفي أحمد بن حَرْب بن مِسْمَع أبو جعفر، المُعَدَّل. كان من قرَّاء القرآن، وأحدَ الشهود الذين رغبوا عن الشَّهادة في آخر أعمارهم، ومات ببغداد فُجاءة. سمع عفَّانَ بن مُسلم وغيره، وروى عنه المَحامِليُّ وغيره، وكان ثقة. وقيل: مات سنة خمس وسبعين (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 10/ 12، و"الكامل" 7/ 426 - 427، و"المنتظم" 12/ 261. (¬2) "تاريخ بغداد" 5/ 192 - 193، و"تاريخ الإسلام" 6/ 480، وهذه الترجمة ليست في (ب).

السنة الخامسة والسبعون بعد المئتين

السنة الخامسة والسبعون بعد المئتين فيها بعث الموفَّق جيشًا إلى نواحي سُرَّ من رأى مع [شخص يقال له: ] الطَّائي، فأخذ صِدِّيق الفرغانيّ اللصّ، فقطعوا يديه ورجليه، وأيدي أصحابه وأرجلَهم، وحُملوا إلى بغداد على تلك الصُّورة. وفيها غزا يازمان الخادم البحر، فأخذ عدَّةَ مراكب للرُّوم. وفي شوال حبس الموفَّقُ ابنَه أبا العبَّاس، فشَغَب أصحابُه، وحملوا السِّلاح، واضطربت بغداد، فركب الموفَّق، وصاح بأصحاب أبي العبَّاس وغلمانه: أَتُراكُم أَشْفَقَ على ولدي منِّي! هو ولدي على كلِّ حال، وقد احتجْتُ إلى تقويمه وتأديبه، فوضعوا السِّلاح وتفرَّقوا. وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمد الهاشميّ (¬1). وفيها تُوفِّي أحمد بن محمد بن الحجَّاج أبو بكر، المرُّوذي، صاحبُ الإمام أحمد رحمة الله عليه. كان أبوه خُوارزميًّا، وأمُّه مَرُّوذِيَّة، وكان مقدَّمًا في أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه لوَرعه وفضله، وكان الإمام أحمد يأنَس به، وينبسط إليه، وإذا بعثه في حاجة يقول له: كلُّ ما تقول فهو قولي وعلى لساني. وكان قد سلك طريقةَ الإمام أحمد في الزُّهد والورع، وكان له في قلوب النَّاس محبَّة، ولهم فيه حُسنُ اعتقاد، وهو الذي تولَّى إغماضَ الإمام أحمد رحمه الله وتغسيلَه لمَّا مات، وروى عنه مسائلَ كثيرة. وكان قد خرج إلى الغزو فشَيَّعه النَاسُ إلى سُرَّ من رأى، فجعل يردُّهم ولا يرجعون، فحُزِر مَن وافاه بسُرَّ من رأى سوى من رجع فكانوا خمسين ألفًا، فقيل له: يا أبا بكر، احْمَدِ الله، فهذا علم قد نُشِر لك، فبكى ثمَّ قال: ليس هذا العلم لي، وإنَّما هو علم أبي ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 10/ 14 - 15، و"تاريخ الإسلام" 6/ 469، و"المنتظم" 12/ 264.

أحمد بن محمد

عبد الله. وكانت وفاتُه في جمادى الأُولى. قال عبد الله بن الإمام أحمد: شَهِدتُ جنازتَه، وأمَّنَا هارون بن العبَّاس الهاشمي، ودُفن قريبًا من أحمد بن حنبل. ورُئيَ أحمد في المنام ليلةَ مات المرُّوذيُّ راكبًا على فرسٍ أشهب، فقيل له: إلى أين؟ قال: إلى شَجرة طُوبى، ألحق أبا بكر المرُّوذي. أسند المرُّوذي عن الإمام أحمد رحمة الله عليه وطبقته (¬1). [وفيها توفي] أحمد بن محمد ابن غالب بن خالد أبو عبد الله، البَصريّ الباهلي، ويعرف بغلام خليل. سكن بغداد [في دار الكلبيِّ] وحدَّث بها، وكان زاهدًا متعبِّدًا، يصوم دائمًا، ويتقوَّت بالباقِلاء اليابس، [وكان حافظًا]، وكان له في قلوب النَّاس مكانة. [وقال الخطيب: ] توفِّي ببغداد في رجب، وحُمل في تابوت إلى البصرة، فخرج عامَّة أهل بغداد [الرِّجال والنِّساء والصّبيان] للصلاة عليه، [وغُلِّقت أسواقُ بغداد، فلم يقدروا من الزِّحام، فصلَّى بعضهم بالإيماء، ونزل البعض في الزَّواريق، وبعضهم مُشاةً إلى كَلْواذى -يعني تحت بغداد وأسفل منها- يشيِّعونه]، وكان يومًا عظيمًا، ولما وصل البصرة بنَوا عليه قبَّة ولازموه مدَّة. حدَّث [ببغداد] عن [ابن حبيب، وشَيبان بن فَرُّوْخ، وسليمان] الشَّاذَكوني، [ودينار بن عبد الله، ويروي عن أنس بن مالك، (¬2) وغيرهم، وروى عنه أحمد بن كامل وغيره. وتكلَّموا فيه، قال أبو عبد الله النَّهاوندي: قلتُ لغلام خليل: هذه الأحاديث الرَّقائق التي تحدِّث بها من أين؟ فقال: هذه وضعناها لنرقِّق بها قلوبَ العامَّة. ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 6/ 105، و"المنتظم" 12/ 265، و"تاريخ الإسلام"6/ 495، وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬2) في (ب): ويروي عن مالك بن أنس. والمثبت من "تاريخ بغداد" 6/ 246، و"تاريخ الإسلام" 6/ 496، ولفظه فيه: حدث عن دينار الذي ادَّعى أنه سمع من أنس بن مالك.

سعد الأعسر

وقال الدَّارقطني: غلام خليل متروك (¬1). [وفيها توفي] سَعْد الأَعْسَر [ويقال: أَيْسَر]. كان أمير دمشق، وكان عادلًا مُحسنًا، من خواصِّ أحمدَ بنِ طولون، وهو الذي هزم أبا العبَّاس بن الموفَّق يوم الطَّواحين، ولمَّا مات أحمد بن طولون، واستخلف ابنَه خُمارَويه، وجاء للقاء أبي العبَّاس، وانهزم خمارويه إلى مصر؛ اشتغل بِلَهْوه [وفساده، ومُجاهرة الله بالمعاصي]، فكان سعد يَعيب عليه ويقولى: هذا الصَّبيُّ مَشغولٌ بلَهوه وأنا أُكابِد الشدائد. وبلغ خمارويه، فخرج من مصر، ونزل الرَّمْلَة، واستدعاه، فخرج [سعد من دمشق إلى الرملة]، فلمَّا دخل على خُمارويه قام إليه فقتله بيده، وبلغ أهلَ دمشق فعصَوا، ولعنوا خمارويه على المنبر، وأخرجوا نائبَه من دمشق، وكاتبوا الموفَّق، وأقاموا المَآتم على سعد، فنادى خمارويه بالحجِّ في تلك السَّنة، وغرم أموالًا عظيمة، وبَذل العطاء، فسكن النَّاس. وقيل: إنَّما قتله سنة ثلاث وسبعين [ومئتين، والله أعلم (¬2). وفيها توفي] أبو داود السِّجِسْتاني واسمه: سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شَدَّاد بن عمرو بن عِمْران الأزديُّ، الإمام الحافظ، صاحب "السُّنن". قُتل جدُّه عمران مع عليِّ بن أبي طالب عليه السَّلام بصِفِّين. ولد أبو داود سنة اثنتين ومئتين، وهو إمامُ أهلِ الحديث في عصره بغير مُدافعة. ¬

_ (¬1) "الضعفاء والمتروكين" ص 54، و"المنتظم" 12/ 266. (¬2) "تاريخ دمشق" 7/ 198، و"تاريخ الإسلام" 6/ 548، وما بين معكوفين (ب).

سافر إلى خُراسان، والعراقَين، والحجاز، والشَّام، ومصر، [وكتب بهراة قبل أن يخرج إلى العراق، وكتب بالرّيّ أيضًا]، وقدم بغداد غير مرَّة، وروى بها كتاب "السُّنن"، ونقله عنه أهلُها، وعرضه على الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه فاستحسنه. وكان [حاذقًا]، عارفًا بعِلَلِ الحديث، ذا عَفافٍ ووَرع، وكان يُشبَّه بالإمام أحمد [بن حنبل] رحمه الله، وكان الإمام أحمد يُثني عليه [خيرًا]. وكان لأبي داود كُمٌّ واسع وكُمٌّ ضيِّق، فقيل له في ذلك فقال: الواسع للكتب، والآخر لا أحتاج إليه. [وحكى الخطيب عن أبي داود] قال: كتبتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة ألف حديث، انتخبتُ منها ما ضمَّنتُه كتابَ "السُّنن" أربعة آلاف وثمان مئة حديث، ذكرتُ الصَّحيحَ وما يُشبهه ويُقاربه، ويكفي الإنسانَ لدينه من ذلك أربعةُ أحاديث: أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمال بالنيات" (¬1). والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حُسنِ إسلام المَرْء تَركُه ما لا يَعنيه" (¬2). والثالث: قوله - عليه السلام -: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتَّى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه" (¬3). والرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: "الحلالُ بَيِّنٌ، والحرام بيِّن، وبينهما [أمور] مُتَشابهات [أو مشتبهات] (¬4). قال المصنِّف رحمه الله (¬5): ولو أخرج الخامس كان أبلغ وهو قوله عليه [الصَّلاة] ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907)، وأحمد (168) من حديث عمر - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه أحمد (1737) من حديث الحسين بن علي - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45)، وأحمد (13963) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) (107)، وأحمد (18374) من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -. والخبر في "تاريخ بغداد" 10/ 78، وما بين معكوفين من (ب). (¬5) في (ب): قلت، والمثبت من (خ) و (ف).

السلام: "المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده" (¬1). [وقال الخطيب: كان يقول: الشهوة الخفيَّة حبُّ الرِّياسة] (¬2). [وذكر الحافظ ابن عساكر حكاية عنه، عن] أبي بكر بن جابر خادم أبي داود قال: كنتُ معه ببغداد، فجاء أبو أحمد الموفَّق إليه بعدما صلى المغرب، فاستأذن فأُذن له، فدخل، فقال له أبو داود: ما الذي عنَّى الأمير في مثل هذا الوقت؟ قال: خِلال ثلاث، قال: وما هي؟ قال: تنتقل إلى البصرة فتَتَّخِذها دارًا؛ ليرحلَ النَّاسُ وطلبةُ العلم إليها من أقطار الأرض، فإنَّها قد خَرِبت لما جرى عليها من الزَّنج، قال: هذه واحدة فهات الثانية، قال: تَروي لأولادي كتابَ "السُّنن"، قال: نعم، هات الثالثة، قال: تُفرِد لهم مجلسًا للرِّواية؛ فإنَّ أولاد الخلفاء لا يَقعدون مع العامَّة، قال: أمَّا هذه فلا سبيلَ إليها؛ لأنَّ النَّاس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء، فكانوا يحضرون، ويُضرَبُ بينهم وبين العامَّة ستر، ويسمعون معهم (¬3). ذكر وفاته: [واختلفوا فيها، فحكى أبو سليمان الخطَّابي قال: ] مات [أبو داود] بالبصرة سنة خمس وسبعين ومئتين في شوَّال ليلةَ الجمعة، ودُفن إلى جانب سفيان الثَّوري، وعمره ثلاثٌ وسبعون سنة. وقيل: مات سنة ستٍّ وسبعين. وقيل: سنةَ ثلاث وسبعين، وصلَّى عليه عبَّاس بن عبد الواحد الهاشميّ. أسند عن خلق كثير؛ منهم الإمام أحمد، وإسحاقُ بن راهويه، وهشام بن عمَّار، وغيرهم. وروى عنه خلق كثير؛ منهم أبو عيسى التِّرمذيّ، وأبو عبد الرَّحمن النَّسائي، وعبد الله بن الإمام أحمد، وآخرون. واتَّفقوا على فَضْله، وصِدقه، وأمانته. ¬

_ (¬1) أخوجه البخاري (6484)، وأحمد (6515) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (171) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬2) "تاريخ بغداد" 10/ 81. وما بين معكوفين من (ب). (¬3) "تاريخ دمشق" 7/ 548 - 549 (مخطوط).

علي بن يحيى بن أبي منصور

وكان إبراهيم الحربيُّ يقول: أُلِين لأبي داود الحديثُ كما أُلين لداودَ الحديد. وجمع مع علمه الورعَ والتَّقوى. وحكى [الحافظ] ابن عساكر [في "تاريخه"] عن أبي داود أنَّه قال: شَبرتُ بمصرَ قِثَّاءةً، فكان طولُها ثلاثة عشر شِبرًا، ورأيتُ بمصر أُتْرُجَّةً قُطعت نصفين، وصُيِّرتْ مثلَ عِدْلَين (¬1). [قلت: وهذا بعيد في زماننا، ويحتمل أن يكون في زمانهم، والله أعلم. (¬2) وفيها توفي] عليُّ بن يحيى بن أبي منصور أبو الحسن، المُنَجِّم، من أبناء فارس. كان أديبًا، شاعرًا، جوادًا، مُمَدَّحًا، مدحه البحتريُّ وغيره، ونادم الخلفاء من المتوكل إلى المعتمد، وكانوا يعظِّمونه ويحترمونه. [وذكره الخطيب وقال: ] كان عالمًا بأيَّام النَّاس، راويةً للأشعار والأخبار، أخذ الأدب وصنعة الغِناء عن إسحاق بن إبراهيم] (¬3). ومن شعره: [من الرمل] مَنْ لقلبٍ هائمٍ دَنِفٍ ... كلَّما سكَّنْتُه قَلِقا زارني طيفُ الحبيب فما ... زاد أن أغْرى بيَ الأرَقا أنا لم أُرْزَق مَودَّتَكم ... إنَّما للعبد ما رُزِقا (¬4) وكانت وفاته بسُرَّ من رأى. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" 7/ 549، وهذا القول في سنن أبي داود بعد حديث (1599). (¬2) ما بين معكوفين من (ب)، وانظر "المنتظم" 12/ 268، و"تاريخ الإسلام" 6/ 550، و "السير" 13/ 205. (¬3) "تاريخ بغداد"13/ 613 - 614، وما بين معكوفين من (ب)، وينظر تاريخ الإسلام 6/ 581، والسير 13/ 282. (¬4) ذكر البيت الأول والثاني أبو الفرج في "الأغاني" 8/ 367، والمرزباني في "معجم الشعراء" ص 142، وابن خلكان في "وفيات الأعيان"3/ 374.

محمد بن إسحاق

[وفيها توفي] محمد بن إسحاق ابن إبراهيم بن العَنْبَس، الصَّيمري (¬1)، الشاعر. كان أديبًا، قدم بغداد، ونادم المتوكل. وأنشد الخطيب مُقَطّعات من شعره (¬2): [من الخفيف] كم مريضٍ قد عاش مِن بعد يأسٍ ... بعد موت الطَّبيبِ والعُوَّادِ قد يُصادُ القَطا فينجو سَليمًا ... ويَحُلُّ القضاءُ بالصَّيَّادِ وكانت وفاته ببغداد، وحُمل إلى الكوفة فدُفن بها [والله تعالى أعلم]. المُنْذر بن محمد ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام، أبو الحكم، الأموي، والي الأندلس. ولي سنة ثلاث وسبعين، فأقام واليًا سنتين، وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: أثْل، وهو السادس لصُلب عبد الرَّحمن الدَّاخل، وولي بعده أخوه عبد الله بن محمد، بويع يوم مات أخوه المنذر في صفر، فأقام إلى سنة ثلاث مئة واليًا على الأندلس خمسًا وعشرين سنة. وكانت وفاة المنذر يوم السَّبت لثلاث عشرة بقين من صفر، وهو ابن ستٍّ وأربعين سنة في غَزاةٍ له، وكان أشدَّ الأيِّدِين (¬3) شَكيمةً، وأمضاهم عَزيمةً، لما ولي بعث إليه أهلُ طُليطلة بالأموال والتُّحف والهدايا والجبايات عن خراج رؤوسهم، فردَّها عليهم وقال: أتُمِدُّونني بمال؟ ! لا حاجةَ لي فيه، ولابدَّ من حربكم، وفتوحِ بلدكم، واستعدَّ لهم استعدادًا لم يستعدَّه غيره، فأدركه أجلُه (¬4). ¬

_ (¬1) في (ب): الصميري، وفي (خ): الطميري، وفي (ف): الظهيري، والمثبت من "تاريخ بغداد" 2/ 41، و"المنتظم"12/ 271. (¬2) في (خ) و (ف): ونادم المتوكل ومن شعره، والمثبت من (ب) وجاء بعدها فيها: ومن شعر ابن أبي العنبس، والشعر في "تاريخ بغداد" 2/ 42، و"المنتظم" 12/ 272. (¬3) في (خ) و (ف): الايين، وفي العقد 4/ 496: وكان أشد الناس عزيمة، ولعل المثبت هو الصواب، ومعنى الأيدين: الأقوياء الأشداء، فيكون أشدهم شكيمة، أو تكون الكلمة محرفة عن الأمويين، والله أعلم. (¬4) "جذوة المقتبس" 11 - 12، و"تاريخ الإسلام" 6/ 631، و"تاريخ علماء الأندلس" 6، و "بغية الملتمس" 16.

السنة السادسة والسبعون بعد المئتين

السَّنة السَّادسة والسَّبعون بعد المئتين فيها رضي المعتمد على عمرو بن اللَّيث الصَّفَّار، وكتب اسمه على الأعلام والتِّراس والعُدد الَّتي تكون في مجلس الحرب (¬1) ببغداد، وذلك في المحرَّم. وفي ربيع الأوَّل خرج الموفَّق إلى الجبل من بغداد يريد أحمدَ بن عبد العزيز بن أبي دُلَف بأصبهان، فتنحَّى له أحمد عن داره بآلتها وفُرُشِها، فنزل فيها الموفَّق، وخرج أحمد بجيشه وعياله عن البلد، وقدم محمد بن أبي السَّاج على الموفَّق هاربًا من خُمارويه بعد وقعات جرت بينهما، وضعُف عنه ابن أبي السَّاج، فخلع عليه الموفَّق وأحسن إليه. وولي عمرو بن اللَّيث شرطة بغداد. وفيها انفرج تلٌّ بنهر الصّلح (¬2) عند فم الصّلح بالعراق، ويعرف بتلِّ بني شَقيق، عن سبعة أَقْبُر فيها سبعة أبدان صحيحة، والأكفان جُدد تفوح منها رائحة المِسك، وأحدهم شابٌّ له جُمَّةٌ طويلة طريَّة، ولم يتغيَّر منه شيء، وفي خاصرته ضَرْبةٌ، وكانت القبور من حجارة مثل المِسَنّ، وعندهم كتاب لا يُدرى ما فيه. وفي شوال أمر المعتمد برمي الأعلام والمطارد التي عليها اسمُ عمرو بن اللَّيث، وإسقاط ذِكره، وعزله عن شرطة بغداد. وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمد [الهاشمي]، وكان واليًا على مكَّة والمدينة والطَّائف [والله أعلم]. [فصل] وفيها توفي بَقيّ بن مَخْلَد بن يزيد أبو عبد الرَّحمن، الأندلسيُّ، الحافظُ، صاحب الرِّحلة المشهورة والتَّصانيف ¬

_ (¬1) في "تاريخ الطبري" 10/ 16: في مجلس الجسر، وفي "المنتظم" 12/ 273: مجلس الشرطة. (¬2) في "تاريخ الطبري" 12/ 16: بنهر الصلة، وفي "المنتظم" 12/ 273: بنهر الصراة، وفي "الكامل" 7/ 437: تل من نهر البصر.

المذكورة. كان إمامًا، عالمًا، فاضلًا، وَرِعًا، مُجابَ الدعوة. [ذكره العلماء وأثنوا عليه، و] رحل إلى مكة، والمدينة، ومصر، والشَّام، ودمشق، وبغداد، والمشرق، والعراقَين، وكان له مئتان وأربعة وثمانون شيخًا. ولد في رمضان سنة إحدى ومئتين. [ذكر حكايته مع المرأة التي أُسر ولدُها: حدثنا عبد الملك بن مُظَفّر بن غالب الحربي، عن أحمد بن مظفّر بإسناده إلى عبد الرَّحمن بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: ] جاءت امرأة [إلى بقي بن مخلد] فقالت: إنَّ ابني أسره الرُّوم، وليس له مالٌ سوى دُويرةٍ أسكُنُها، ولا طاقةَ لي على بيعها، فلو أشرتَ إلى مَن يَفديه، فليس لي قَرارٌ في ليل ولا نهار، فقال: نعم، [تصبَّري] حتَّى انظر في أمره إن شاء الله، وأطرق الشَّيخ وحرَّك شَفَتيه، ولبثت المرأة مدَّةً، وجاءت ومعها ابنُها وهي تدعو للشَّيخ وتقول: قد جاء سالمًا، وله حديثٌ يحدِّثُك به، فقال الشَّابُّ: كنَّا في يدَي بعض العمَّال يستعملنا، فخرجنا يومًا إلى الصَّحراء وعلينا قيودُنا، فبينا أنا كذلك انفتح القَيدُ من رجلي، ووصف اليوم والسَّاعة التي جاءت المرأة فيها إلى (¬1) الشَّيخ ودعا، قال: فصاح بي الَّذي كان يَحفظُني ويستعملني وقال: كسرتَ القيد؟ قلت: لا والله، بل سقط من رجلي، فتحيَّر وأخبر الملك، فأحضر الحدَّاد وقيَّدني ثانيًا، فلما مشَيت خطوات سقط القيد من رجلي، فتحيَّر، وأعاده ثالثًا وهو يسقط، [فقال الملك: لك والدة؟ قلت: نعم، وفي رواية: ] فأُحضر علماؤهم ورُهبانُهم [فأخبروهم] فقال الرهبان: ألك والدة؟ قلت: نعم، فقالوا: قد وافق دعاؤها الإجابة، وقد أطلقك الله تعالى فلا نقدر على تَقييدك، وزوَّدوني وبعثوني إلى ناحية المسلمين. [قال الحميدي: ] كان بقيٌّ يمشي في حوائج النَّاس إلى الولاة، وربَّما أتته المرأة في الليلة المظلمة في حاجة، فيمشي معها إلى الأمير [والله أعلم]. ¬

_ (¬1) من هنا إلى آخر السنة ليس في (ف)، وكتب في هامشها: خرم ورقة بالأصل.

سهل بن عبد الله بن الفرخان

ذكر وفاته: [واختلفوا فيها، فقال أبو عبد الله الحُميدي في "تاريخ الأندلس" (¬1): ] توفي [بقي بن مخلد] ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، سنةَ ستٍّ وسبعين ومئتين، وهو ابن سبع أو ستٍّ وسبعين سنة، ودُفن بالأندلس. [وذكر الدَّارقطني في كتاب "المؤتلف والمختلف" (¬2) أنه مات سنة ثلاث وسبعين ومئتين. وقول الحميدي أصحُّ؛ لأنه أعرف بأهل بلده. سمع الإمام أحمد رحمة الله عليه وغيره (¬3)، وصنَّف "المسندَ"؛ روى فيه عن ألف وستِّ مئة صحابيٍّ بل يزيدون، وشيوخُه أعلام، وتصانيفُه كثيرة؛ منها "التفسير". وجمع بين العلم، والدِّين، والتقوى، والصدق، والأمانة. وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه يحترمه ويعظِّمه (¬4)، وروى عنه أئمة المغرب (¬5)، ومعظم حديثه عندهم (¬6) [انتهت ترجمته والحمد لله]. سَهْل (¬7) بن عبد الله بن الفَرُّخان أبو طاهر، الأصبهاني، العابد. كان من رَبَض مدينة أصبهان، مجابَ الدَّعوة، مَفْزَع أهلِ أصبهان في النَّوائب إلى دعائه، وله آثار في الدُّعاء مشهورة، كتب الحديث الكثير بالعراق والشَّام ومصرَ. سمع هشامَ بن عمَّار وغيرَه، وأقام بالثَّغْر مدَّة، وروى عنه محمد بن عبد الله الصفَّار وغيرُه. ¬

_ (¬1) ينظر جذوة المقتبس له ص 178. (¬2) 1/ 272. (¬3) في (ب): سمع بدمشق هشام بن عمار وأحمد بن أبي الحواري وقاسم الجوعي وغيرهم. وما سلف ويأتي بين معكوفين منها. (¬4) في (ب): وكان أحمد بن أبي الحواري يحترمه ويعظمه. (¬5) وقع في (خ): وروى عنه أبهر العرب. وهو خطأ، والمثبت من (ب). (¬6) "المنتظم" 12/ 274 - 275، وجذوة المقتبس ص 177، والصلة 116، و "تاريخ الإسلام" 6/ 521. (¬7) في (خ): سليمان بن عبد الله الفرحان، والمثبت من "تاريخ أصبهان"1/ 339، و"تاريخ الإسلام" 6/ 556، والسير 13/ 33، وهذه الترجمة ليست في (ب).

شاه بن شجاع

[وفيها توفي] شاه بن شُجاع أبو الفوارس، الكَرْماني. من أبناء الملوك، ترك الدُّنيا وتزهَّد، وصحب [أبا عُبيد البُسْريّ، و] أبا تراب النَّخْشَبيَّ وغيرهما. [قال أبو نعيم الأصبهاني: سمعت أبا عبد الرَّحمن السُّلمي (¬1) يقول: سمعت جدي أبا عمرو بن نُجيد يقول: ] كان [شاه بن شجاع] حادَّ الفِراسة؛ قلَّما أخطأت فراسته. وكان يقول: مَن غضَّ بصرَه عن المُحرَّمات، وأمسك نفسَه عن الشَّهوات، وعمَّر باطنَه بدَوام المُراقبات، وظاهرَه باتِّباع السُّنَّة، وعوَّد نفسه أكلَ الحلال؛ لم تُخطئ له فراسة قطّ. وقال: مَن صَحِبك ووافقك على ما تُحبّ، وخالفك فيما تكره فإنَّما يصحب هواه، ومَن صَحب هواه فهو يَطلب راحةَ الدُّنيا. [وله الكلام المليح]. وكانت وفاته هذه السَّنة، وقيل: قبلَها، والله أعلم (¬2). [وفيها توفي] عبد الله بن مُسلم بن قُتَيبة أبو محمد، المَرْوزيّ، الكاتب. [ويقال: الدِّينَوَري لأنَّه أقام بالدِّينَوَر مدَّة فنسب إليها، و] مولده بمَرْو، [و] سكن بغداد، وصنَّف الكتب: "غريب الحديث"، و"غريب القرآن"، و"مشكل القرآن" و"مشكل الحديث"، و"أدب الكاتب"، و"المعارف"، و"عيون الأخبار" وغير ذلك. [وأقام ببغداد إلى أن توفي في هذه السَّنة.] ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" 10/ 237، و"طبقات الصوفية" ص 192. وما بين معكوفين من (ب). (¬2) ذكره ابن الجوزي في "المنتظم" 13/ 126، وابن خميس في المناقب 1/ 397، والذهبي في "تاريخ الإسلام" 6/ 951 في وفيات سنة تسع وتسعين ومئتين.

عبد الملك بن محمد

[واختلفوا في وفاته؛ فحكى الخطيب (¬1) عن محمد بن العبَّاس قال: قُرئ على ابن المنادي وأنا أسمع أنَّ ابن قتيبة] مات فجأة؛ صاح صَيحةً عظيمةً سُمِعت من بُعد، ثمَّ أُغمي عليه ومات. [قال ابن المنادي: أخبرني أبو القاسم الصَّائغ أنَّ ابن قتيبة أكل هَريسة، فأصابته حرارة شديدة، فصاح ثمَّ أُغمي عليه، ومازال يضطرب إلى السَّحر، ثمَّ مات]. وذلك في أوَّل ليلة من رجب [سنة ستٍّ وسبعين ومئتين]. وقال جدِّي في "المنتظم" (¬2): قال أهل العلم بالنَّقل: إنَّه مات بالكوفة، ودفن إلى جانب قبر أبي خازم القاضي. قلت: وهو وهم منهم؛ لأنَّ أبا خازم مات في سنة اثنتين وتسعين ومئتين، بينهما مدَّة طويلة. وقيل: مات ابن قتيبة سنة سبعين ومئتين. وهو وهم أيضًا]. حدَّث عن إسحاق بن راهويه وغيره، وروى عنه ابنُه أحمد وغيره. وقال الدَّارقطني: كان يميل إلى التَّشبيه (¬3)، وكلامُه يدلُّ عليه. وقال البيهقيُّ: كان يرى رأيَ الكرَّاميَّة. [فصل وفيها تُوفِّي] عبد الملك بن محمد ابن عبد الله، أبو قِلابة، الرَّقاشي [البصريّ]. ولد بالبصرة سنة تسعين ومئة، وسكن بغداد إلى حين وفاته، [وكان يُكنى أبا محمد، فكُني بأبي قلابة. وحكى الخطيب عن أم أبي قلابة] قالت: رأيتُ في المنام كأنِّي وَلدت هُدْهُدًا، فقيل لي: تلدين وَلدًا يُكثر الصلاة، فولدت أبا قلابة، فكان يصلِّي في كل يوم وليلة أربع مئة ¬

_ (¬1) في "تاريخه"11/ 411. وما بين معكوفين من (ب). (¬2) 12/ 277. (¬3) قال الذهبي في "السير" 13/ 298: ونقل صاحب "مرآة الزمان" بلا إسناد عن الدارقطني أنه قال: كان ابن قتيبة يميل إلى التشبيه. قلت -يعني الذهبي-: هذا لم يصح، وإن صحَّ عنه، فسحقًا له فما في الدين محاباة.

ركعة [، قلت: لا معنى لهذا؛ لأنَّ الهدهد ينقل الأخبار ولا يصلِّي (¬1)]. وأقام ببغداد يحدِّث، [قال الخطيب: ] وكانت وفاته بها في شوَّال، ودُفن بباب خُراسان [رحمه الله تعالى]. سمع يزيد بن هارون وغيره، وروى عنه المَحامِليُّ وغيره، وكان صدوقًا، ثقةً، من أهل الصَّلاح، حدَّث ببغداد من حفظه سِتين ألف حديث، فوقع الخطأ في بعضها (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ذَكَر الدميري في الحيوان 2/ 381 أن رؤية الهدهد في المنام تعبر بنقل الأخبار، وربَّما دلت على المعرفة بالله تعالى ولما شرعه من الدين والصلاة، وغير ذلك. (¬2) "تاريخ بغداد" 12/ 179، و "المنتظم"12/ 277، و"تاريخ الإسلام" 6/ 571 - 572.

السنة السابعة والسبعون بعد المئتين

السنة السابعة والسبعون بعد المئتين فيها اتَّفق يازمان الخادم مع خمارويه [بن أحمد بن طولون]، ودعا له على المنابر بطرسوس، وسببُه: أنَّ خمارويه استماله ولاطفَه، وبعث إليه بثلاثين ألف دينار، وخمس مئة ثوب، وخمس مئة دابَّة، وسلاحًا كثيرًا، فلمَّا وصل ذلك إليه دعا له على المنابر، فبعث إليه [خمارويه] بعد ذلك بخمسين ألف دينار. وفيها ولي [يوسف بن] (¬1) يعقوب بن إسماعيل بنِ حمَّاد بن زيد بن درهم أبو محمد المظالمَ ببغداد، فنادى: مَن كانت له مظلمةٌ ولو عند الأمير أبي أحمد الموفَّق فليحضرْ نُنْصفه منه، فكفَّ النَّاس عن المظالم، وأُطلقت يده، فشكره النَّاس، وحَسُنت سيرتُه. وقدم على الموفَّق قائد من قوَّاد خمارويه في جيش كبير، ففرح به. [وفيها] حجَّ بالنَّاس هارون بن محمد الهاشميَّ. [فصل] وفيها توفي أحمد بن عيسى أبو سعيد الخرَّاز، الصُّوفي البغداديّ، أحد المشايخ المذكورين بالزُّهد والمُجاهدة، والوَرَع والمُراقبة، وهو من أئمَّة القوم وجِلَّة مشايخهم، وكانوا يعظِّمونه، ويحترمونه، ويعترفون بفضله. قال الجنيد: لو طالبَنا الله بحقيقة ما عليه أبو سعيد الخرَّاز لهلكنا، قيل له: وعلى أيِّ شيءٍ حاله؟ قال: أقام كذا وكذا سنة يَخرِز، ما فاته الله بين الخَرزتين؛ يعني ذكر الله تعالى. [ذكر طرف من أخباره وكراماته وواقعاته: قال الخطيب بإسناده عن العبَّاس بن الشاعر قال: حدثتني تلميذة لأبي سعيد الخرَّاز قالت: ] (¬2) كنتُ أسألُه مسألةً والإزار بيني وبينه مشدود، فاستفزَّني حلاوة كلامه، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ الطبري 1/ 180، و"الكامل" 7/ 439، و"المنتظم" 12/ 281. (¬2) ما بين معكوفين من (ب) وهو الموافق لما في "تاريخ بغداد" 5/ 456. وفي (خ): وقال تلميذ له: كنت ...

فنظرت من ثقب في الإزار فرأيت شَفتَه، فلمَّا وقعتْ عيني عليها سكَت وقال: حدث هاهنا حدَثٌ [فأخبريني ما هو؟ ] فأخبرتُه، فقال: أما علمتِ أنَّ هذا العلم لا يَحتمل التَّخليط؛ لأنَّ نظرك إليَّ معصية. قال المصنِّف رحمه الله: من باب تدقيق الورع، [لأنَّ نظر المرأة إلى الرجل لا يحرم عليها إلا إذا قصدت الخلوة لغرض]. وقال أبو القاسم بن مردان: كان عندنا بنهاوند فتًى يَصحبني، وكنتُ أصحب أبا سعيد الخرَّاز، وكنتُ أصف للفتى أخلاقَه وأحواله، وكان أبو سعيد إذ ذاك بمكَّة، فقال لي: اخرج بنا إليه، ثمَّ إنَّ الفتى أخذ حجَّة من حمولا -وهو [رئيس نهاوند (¬1) - ولم أعلم، فلمَّا قدمنا مكَّة دخلنا على أبي سعيد، فسلَّمنا عليه، فقال له الفتى: يا أبا سعيد، ما حقيقةُ التوكُّل؟ فقال: ألا تأخذ حجَّة من حمولا، فخجل الفتى، فقال له: خذ فيما كنتَ فيه. ثم قال: كنتُ في حداثتي أراعي شيئًا من هذا الأمر، فسلكتُ باديةَ الموصل، فبينا أنا أسير إذ سمعت حِسًّا من ورائي، فحَفِظْتُ قلبي عن الالتفات، ودنا الحِسُّ منِّي، وإذا بسَبُعَين قد صعدا على كتفي، ولحسا خدِّي، فلم أنظر إليهما حين صعدا، ولا حين نزلا. وقال: كنتُ أمشي في الصَّحراء وإذا بقريب من عشرة كلاب من كلاب الرُّعاة قد شدُّوا عليَّ، فلمَّا قربوا منِّي جعلت أستعمل المراقبة، فإذا كلب أبيضُ من بينهم قد خرج وحمل عليهم، فطردهم عنِّي، ولم يفارقني حتَّى غابوا عنِّي. وقال: رأيتُ إبليس في منامي وهو يمرُّ عني ناحية، فقلتُ له: تعال، فقال: إيش أعمل بكم؟ أنتم طرحتُم عن نفوسكم ما أخادع به النَّاس، قلت: وما هو؟ قال: الدُّنيا، ثمَّ التفتَ إليَّ بعد ما ولّى وقال: غير أنَّ لي فيكم لطيفة، قلت: وما هي؟ قال: صحبة الأحداث، [وفي رواية قال: ] فأخذتُ عصًا لأضربه فقال: أمَّا أنا ما أخاف من عصا، قال: ممَّ تخاف (¬2)؟ قال: من نور القلب (¬3). ¬

_ (¬1) في (خ): حمولا زهر نهاوند، والمثبت من "تاريخ دمشق"2/ 63 (مخطوط)، وجاء الخبر في (ب) مختصرًا. (¬2) من بداية السنة إلى هنا ليس في (ف). (¬3) "طبقات الصوفية" 232، و"الرسالة القشيرية"98، ومناقب الأبرار 1/ 425، و"تاريخ دمشق" 2/ 64.

[وحكي عنه أيضًا] قال: دخلتُ الباديةَ مرَّة بغير زاد، فأصابتْني فاقةٌ شديدة، وكانت المَرْحَلةُ بعيدة، فوصلتُ إلى قرية، فسُررتُ بوصولي إليها، ثمَّ فكَرتُ في نفسي فرأيتُ أنِّي قد اتَّكلْتُ على غير الله، فآليتُ على نفسي أن لا أدخلَ القرية إلا أن أُحمل إليها، فحفرتُ لي حُفْرةً في الرَّمل، وتواريتُ فيها إلى صدري، فلمَّا كان نصفُ اللَّيل سمع أهل القرية صوتًا عاليًا يقول: يا أهلَ القرية، إنَّ لله وليًّا قد حبس نفسه في الرَّمل، فالحقوه، فجاؤوني، فأخرجوني من الرَّمل، وحملوني إلى القرية (¬1). [وحكى في "المناقب" أيضًا] قال: رأيتُ يوم الجمعة فقيرًا يدور على الصُّفوف ويقول: تصدَّقوا عليَّ؛ فقد كنتُ صوفيًّا فضَعُفْتُ، [قال]: فرفقتُه بشيء، فنظر إليَّ وقال: مُرَّ، ليس هذا من ذاك، ومضى ولم يأخذ شيئًا. قال المصنِّف رحمه الله: إنَّما عنى الفقيرُ أنَّه كان له حال مع الله ففقده، ولم يُرِد الدُّنيا. [وحكى عنه أيضًا] قال: كنتُ بمكَّة، فخرجتُ يومًا من باب بني شَيبة، فرأيت شابًّا حسنًا ميتًا على قارعة الطريق، فنظرتُ في وجهه فتبسَّم، فقلت: أحياةٌ بعد الموت؟ ! فقال: أبا سعيد، أما علمتَ أنَّ أولياء الله أحياءٌ عنده، إنَّما يُنقلون من دار إلى دار. [وحكى عن أبي سعيد أيضًا] قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلتُ: اعذرني، فإنَّ محبَّة الله شغلتْني عن مَحبَّتك، فقال لي: يا مبارك، أما علمتَ أنَّ من أحبَّ الله فقد أحبَّني. [وحكى في "المناقب" (¬2) أيضًا عن] أبي القاسم بن مَرْوان النَّهاوندي قال: كنتُ أنا وأبو بكر الورَّاق مع أبي سعيد الخرَّاز نمشي على ساحل البحر نحو صَيدا، فرأى شخصًا من بعيد فقال: لا يخلو هذا المكان من وليٍّ لله تعالى، وإذا بشابِّ حسنِ الثِّياب مليحِ الوجه، وبيده رِكوة ومحبرة، وعليه مرقَّعة، فالتفت إليه أبو سعيد مُنكرًا عليه بحمل المحبرة والركوة، وقال له: يا فتى، كيف الطريق إلى الله تعالى؟ فقال: يا أبا سعيد أعرف إليه طريقين، طريقًا خاصًّا، وطريقًا عامًّا، فالعامُّ ما عليه أنت وأصحابُك، والخاصُّ ما ترى، ثمَّ تقدَّم فدخل البحر ومشى على الماء حتَّى غاب عن أعيننا، فتحيَّر أبو سعيد وقال: هذه المواهِب. ¬

_ (¬1) "الرسالة القشيرية" 279، 568، و "تاريخ دمشق" 2/ 68. (¬2) 1/ 423 - 424.

[وحكى عنه في "المناقب" أيضًا قال: ] كان لأبي سعيد ابنٌ فمات قبله، فرآه أبو سعيد في المنام، فقال له: يا بُنيَّ، أوصني، فقال: يا أبتِ، لا تجعل بينك وبين الله قميصًا، فما لبس أبو سعيد قميصًا ثلاثين سنة (¬1). [ذكر المختار] من كلامه: [روى الخطيب (¬2) أنَّه قال: ] إذا بكى الخائفون فقد كاتبوا اللهَ بدموعهم [، وفي رواية: إذا بكت أعينُ الخائفين .. وذكره]. [وروى الخطيب (¬3) عنه أنَّه] قال: ذنوب المقرَّبين حسنات الأبرار. وقال: العافية سترت البَرَّ والفاجرَ، فإذا جاءت البلوى تبيَّن عندها الرِّجال (¬4). وقال (¬5): بقيتُ إحدى عشرة سنة أتردَّد من مكَّة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة؛ أريد أن أحجَّ حجَّة أرى فيها ربَّ البيت ولا أرى البيت، فما صحَّ لي، فلمَّا كان بعد إحدى عشرة سنة وأنا بين مكَّة والمدينة وإذا بشخص قد تراءى لي من الجنِّ، فناداني: يا أبا سعيد، قد والله رحمتُك من كثرة تردُّدك في هذا الموضع، وقد حَضرني شيءٌ فاسمع، فقلتُ: هات، فقال: [من الطويل] أتيهُ فلا أدري من التِّيه مَن أنا ... سوى ما يقول النَّاس فيَّ وفي جنسي أتيه على جنِّ البلاد وإنسها ... فإنْ لم أجد خَلْقًا أتيهُ على نفسي فقلت له: اسمع إن كنتَ تُحسِن أن تسمع، ثمَّ قلت: [من الطويل] أيا مَن يرى الأسباب أعلى وجودِه ... ويَفرح بالتِّيه الدَّنيِّ وبالأُنْسِ فلو كنتَ من أهل العُلوِّ لغِبتَ عن ... مُباشرةِ الأملاكِ والعَرْشِ والكُرسي وكنتَ بلا حالٍ مع الله واقفًا ... تُصان عن التَّذكار والجنِّ والإنسِ ألا اسمعْ صِفاتي في الوجود فإنَّني ... إذا غِبتُ عن نَفسي كغيبوبة الشَّمسِ وقامتْ صِفاتي للمليك بأسْرِها ... وغابت صفاتي حين غبتُ عن الحسِّ ¬

_ (¬1) "الرسالة القشيرية" 469، 489، 540، 568، و"تاريخ دمشق"2/ 62، ومناقب الأبرار 1/ 425. (¬2) في "تاريخه" 3/ 463، وما بين معكوفين من (ب). (¬3) في "تاريخه" 5/ 456. (¬4) ذكره ابن الجوزي في "المنتظم" 12/ 282. (¬5) من هنا إلى قوله بعد صحيفة: ولو صيَّر المحبوب دار الشقا حبسي؛ ليست في (ب).

وغاب الَّذي من أجله غاب شاهدي ... فذاكَ فَنائي فافهموا يا بني جِنسي فهذا وجودي في المغيب بحاله ... أقرِّبه حتَّى يواري الثَّرى رمسي ولستُ أبالي فائتًا بعد فائتٍ ... ولو صيَّر المحبوبُ دارَ الشَّقا حَبْسي [وحكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: دخلت البادية، فنالني جوعٌ شديدٌ، فضَعُفْتُ، فوقع في نفسي أنَّني أسأل الله صَبْرًا، فهتف بي هاتف يقول: [من الوافر] ويزعم أنَّه منَّا قريبٌ ... وأنَّا لا نُضَيِّعُ مَن أتانا ويسألُنا القوى جُهدًا وصَبرًا ... كأنَّا لا نراه ولا يرانا [قال: ] فأخذني الاستقلال من ساعتي، وقمتُ فمشيتُ (¬1). وقال: كلُّ باطنٍ يُخالفه الظاهر فهو باطل (¬2). [وحكي عنه أنَّه] قال: لولا أنَّ الله تعالى أدخل موسى عليه السَّلام في ظلِّ كَنَفِهِ، لأصابه ما أصاب الجبلَ. وقال: للعارفين خزائن أُودِعَتْ علومًا ربَّانيَّة؛ يتكلَّمون بها بعبارة الأزلية. وقال: المحبُّ يتعلَّل بكلِّ شيءٍ، ولا يتسلَّى عن حبيبه بشيء، وأنشد: [من الطويل] أسائلُكُم عنها فهل من مُخبِّرٍ ... فما لي بنُعْمٍ بعد مُكْثَتنا عِلمُ فلو كنتُ أدري أين خيَّم أهلها ... وأيُّ بلاد الله إذ ظَعَنوا أَمُّوا إذًا لَسَلَكْنا مَسْلَكَ الرِّيح خلفَها ... ولو أصبحتْ نُعمٌ ومن دونها النَّجْمُ وقال: العلم ما استعملك، واليقين ما حملك (¬3). وقال (¬4): المُسْتنبِط من مُلاحظة الغيب لا يَخفى عنه شيء، ثمَّ قرأ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. والمتوسِّم العارف بما في سويداء القلب، ثمَّ قرأ: {إِنَّ ¬

_ (¬1) ذكر هذه الأخبار مع الأبيات ابن خميس في المناقب 1/ 426، وابن عساكر في "تاريخه" 2/ 67، وما بين معكوفين من (ب). (¬2) "الرسالة القشيرية" 98، و"تاريخ بغداد" 2/ 62. (¬3) "طبقات الصوفية" 232، و"حلية الأولياء" 10/ 247 - 248، والمناقب 1/ 421، و"تاريخ دمشق" 2/ 68، وينظر "الرسالة القشيرية" 292. (¬4) من هنا إلى قوله: معاداة الفقراء ... ليست في (ب).

فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} الحجر: 75، والمتفرِّس الذي ينظر بنور الله فيدرك المعاني "اتقوا فراسة المؤمن" (¬1). والرَّبَّاني أعلى مرتبةً من هؤلاء {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] لله، أي: تخلَّقوا بأخلاقه، وافنَوا به عن خلقه. وقال: إذا أراد الله أن يواليَ عبدًا فتح عليه باب ذِكره، فإذا استلذَّ الذِّكرَ فتح عليه باب القُرْب، ثمَّ رفعه إلى مجالس الأُنس، ثمَّ أجلسه على كرسي التوكُّل (¬2)، ورفع عنه الحجاب، وكشف له عن الجَلال، فبقي هو بلا هو، فيتبرَّأ حينئذٍ من دعاوى نفسه، ويبقى في حفظ الله تعالى خلقه. وسئل: هل يصير العارف إلى حالٍ ينقطع عنه البكاء؟ فقال: نعم، إنَّما البكاء للقوم بمنزلة الزَّاد في حال سفرهم إلى الله تعالى، فماذا نزلوا منازلَ القُرب، وذاقوا طَعْمَ الوصال، استقرَّ بهم المنزل، فلا حاجةَ لهم إلى الزَّاد. وقال: إذا خَرِسَت الألسنُ عن الأذكار، نَطقَتْ القلوبُ بالافتكار (¬3). وقال: مُعاداةُ الفقراء بعضهم لبعض غيرةٌ من الله عليهم، لئلَّا يسكن بعضُهم إلى بعض. وقال: علامة التَّوحيد خروجُ العبد عن كل شيء، وردُّ جميع الأشياء إلى متولِّيها (¬4). ذكر وفاته: [حكى في "المناقب" عن] رُوَيم قال: حضرتُ وفاةَ أبي سعيد، فسمعتُه يقول في آخر نَفَسه: [من الطويل] حنينُ قلوب العارفين إلى الذِّكر ... وتَذكارهم وقتَ المُناجاةِ للسِّرِّ (¬5) أُديرَتْ كؤوسٌ للمنايا عليهم ... فأغفَوا عن الدُّنيا كإغفاء ذي السُّكْرِ همومهمُ جوَّالةٌ بمُعَسْكَرٍ ... به أهلُ ودِّ الله كالأنْجُمِ الزُّهْرِ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3127) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) في "الرسالة القشيرية" 405، والمناقب 1/ 423: على كرسي التوحيد. (¬3) في المناقب 1/ 425: بالافتقار. (¬4) في (ب) و (ف): منزلتها. وينظر المناقب 1/ 430، و"طبقات الشعراني" 1/ 79. (¬5) في النسخ: للبشر. والمثبت من المناقب 1/ 423، و"الرسالة القشيرية" 463، و"تاريخ دمشق" 2/ 68.

إبراهيم بن إسحاق

فأجسامهم في الأرض قَتْلى بحبِّه ... وأرواحهم في الحُجْبِ نحو العُلى تَسري فما عرَّسوا إلَّا بقُرب مَليكهم ... ولا عرَّجوا عن مسِّ بؤسٍ ولا ضرِّ وبلغ الجُنيد فقال: إنَّ أبا سعيد كان كثير التَّواجد، فليس بعجيب أن تطير روحه إلى الله اشتياقًا. [واختلفوا في وفاته على أقوال، أحدها: ] توفي سنة ستٍّ وسبعين ومئتين. و[الثاني: ] سنة سبع (¬1) وسبعين. [والثالث في] (¬2) سنة ستٍّ وثمانين [ومئتين]. وقال أبو نعيم: ] (¬3) والأصحُّ في هذه السَّنة. [وذكر أبو عبد الرَّحمن السُّلمي: أنَّ أبا سعيد مات في سنة سبع وأربعين ومئتين (¬4). قال الخطيب: وهذا القول ثابت، والأصحُّ في هذه السَّنة] (¬5). أسند عن هشام بن عمَّار وغيره، وصحب بشرًا الحافيَّ، وسريًّا السَّقَطيَّ، وذا النُّون المصريَّ، وأقرانَهم، وروى عنه أبو جعفر الصَّيدلانيُّ وغيرُه. وأخرج له الخطيب حديثًا رفعه إلى عائشة - رضي الله عنهما - قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سوءُ الخُلُق شؤم، وشرارُكم أسوؤكم أخلاقًا" (¬6). إبراهيم بن إسحاق ابن أبي العَنْبس أبو إسحاق، الزُّهريُّ، الكوفيُّ. ولي قضاء بغداد، ثمَّ صُرف عنه سنة أربع وخمسين ومئتين، وسببُ صرفه: أنَّ أبا أحمد الموفَّق أراد منه أن يدفع إليه أموال الأوقاف (¬7)، فامتنع، فولِّي قضاء الكوفة، فخرج إليها فأقام بها، ومات في ربيع الآخر، وحمل النَّاسُ عنه الحديث الكثير. ¬

_ (¬1) في (ب): تسع. وما بين معكوفين منها. (¬2) في (خ) و (ف): وقيل: سنة ست ... (¬3) لم نقف على قول أبي نعيم في الحلية. (¬4) الذي في "طبقات الصوفية" 228: مات سنة تسع وسبعين ومئتين. (¬5) "تاريخ بغداد" 5/ 457. (¬6) "تاريخ بغداد" 5/ 455، وأخرجه أيضًا أبو نعيم في "الحلية" 10/ 249. (¬7) في "تاريخ بغداد"6/ 520: الأيتام.

أبو حاتم محمد بن إدريس

أسند عن يَعلي بن عُبيد الطَّنافسي وغيره، وروى عنه علماءُ الكوفة، واتَّفقوا على خيرِه، وصدقه، وصلاحه، وورعه (¬1). [وفيها توفي] أبو حاتم محمد بن إدريس ابن المنذر بن داود بن مِهْران، الرَّازيُّ، الحافظ المشهور، الحَنْظَليُّ مولى تميم بن حَنْظَلة الغَطَفانيّ، وقيل: سمِّي الحَنْظَليّ لأنّه كان يسكن بالرَّيِّ بدَرْب حَنْظَلة. كان أحدَ الأئمة الرحَّالين، والأثبات المتقنين، العارفين بعِلَل الحديث والجرح والتعديل، طاف الدُّنيا فسافر إلى خُراسان، والعراقَين، والحجاز، واليمن، والشَّام، ومصر. وقال [الخطيب: حكى عبد الرَّحمن بن أبي حاتم، عن أبيه قال: ] مشيتُ على قَدَمي في طلب الحديث زيادةً على ألف فرسخ، وكان يتعذَّر عليَّ القوت فأبقى اليوم واليومين والثلاثة مالي ما آكل (¬2). وقال: سألني هشام بن عمَّار فقال: أيّ شيء تحفظ في الأَذْواء؟ فقلت: ذو الأصابع، وذو الثُّدَيَّة، وذو الجَوْشَن، وذو الزَّوائد، وذو اليَدَين، وذو اللِّحية الكلابيّ، فقال هشام: حفِظْنا نحن ثلاثة، وزِدْتَنا أنت ثلاثة. وسئل أبو حاتم عن الفرق بين المُسْنَد، والمُرْسَل، والمتَّصل، والمُعَنْعَن، والتَّدليس، والمُنْقَطع؛ فقال: أمَّا المسند؛ فهو ما اتَّصل إسناده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما المرسل؛ فهو أن يحدِّث التَّابعي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقد لقي جماعة من الصَّحابة، مثل ابنِ المسيب والحسنِ والشَّعبيِّ وأمثالِهم، فيقول: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا المتَّصل؛ فبمعنى المسند. ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد"، و"المنتظم" 12/ 282، و"تاريخ الإسلام" 6/ 507، وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬2) من هنا إلى ذكر وفاته ليست في (ب)، والكلام في "تاريخ بغداد" 2/ 417، و"مقدمة الجرح والتعديل" 359، و"المنتظم" 12/ 285، و "تاريخ دمشق" 61/ 8.

محمد بن يوسف

وأمَّا المعنعن؛ مثل أن يقول: عن فلان، عن فلان، هو مثل المسند إذا جمع شروطًا ثلاثة؛ عدالة الرِّجال، ولقاءَ بعضهم بعضًا، والبراءةَ من التَّدليس؛ مثل أن يقول: حدَّثنا محمد، ثمَّ يقول في حديث آخر: حدَّثنا أبو عبد الله، وهو ذاك الرَّجُل بعينه، وهو عَيب عند الحفَّاظ. وأمَّا المنقطع، فمثل أن يروي التابعيُّ عن الصحابيِّ، والتابعيُّ لم يسمع منه، مثاله: عن الزهريِّ، عن ابن عبَّاس وأبي هريرة، والزهريُّ لم يسمع منهما. وقيل: إنَّ المنقطع بمعنى المرسل. ذكر وفاته: [قال الخطيب: ] توفِّي بالرّيِّ في شعبان، وأسند عن خلقٍ كثير وسمع محمدَ (¬1) بن عبد الله الأنصاريَّ، وأبا زيد النَّحويَّ، وهشامَ بن عمَّار وغيرَهم. وأخرج عنه ابنُه عبد الرَّحمن وابنُ أبي الدنيا وغيرُهما، وأخرج عنه البخاريُّ (¬2) وغيره. واتَّفقوا على صدقه، وثقته، وورعه، وفضله، وأنَّه كان إمامًا في السُّنَّة. ومن شعره: [من الطويل] تفكَّرتُ في الدُّنيا فأبصرتُ رُشْدَها ... فذلَّلتُ بالتَّقوى من الله خدَّها (¬3) أسأتُ بها (¬4) ظنًّا فأخلفتُ وَعْدَها ... وأصبحتُ مولاها وقد كنتُ عبدَها محمد بن يوسف ابن عيسى، أبو بكر بن الطبَّاع. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): وسمع منه محمد ... ، والمثبت من "تاريخ بغداد" 2/ 414، و"تاريخ دمشق" 61/ 1 - 2، و"المنتظم"12/ 284، و"تاريخ الإسلام" 6/ 597 - 598. (¬2) قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" 6/ 598: وقيل إن البخاري وابن ماجه رويا عنه، ولم يصحّ. ومن قوله: وسمع محمد ... إلى هنا ليس في (ب). (¬3) في النسخ: عهدها. والمثبت من تاريخ بغداد 2/ 421، و"تاريخ دمشق"61/ 14. (¬4) في النسخ: أساءت بنا. والمثبت من "تاريخ دمشق".

مضر بن محمد

قدم سُرَّ من رأى فنزل في البَغَويّين، فاجتمع المحدِّثون والنَّاسُ إليه، فسمع محمد بنُ عبد الله بن طاهر الضَّوضاء، فقال: ما هذا؟ قالوا: كلام المحدِّثين عند ابن الطَّبَّاع، فكتب إليه محمد بن طاهر رُقعةً يسأله أن يَحضُر إليه فيحدِّث فتيانه، فكتب إليه جواب رقعته: أمَّا بعد، فأكرمك الله كرامةً تكون لك في الدُّنيا عِزًّا، وفي الآخرة من النَّار حِرْزًا، إنِّي لم أتخلَّف عنك صِيانةً، بل ديانة؛ لأنَّ العلم يُؤتى ولا يأتي. فلمَّا قرأها محمد قال: صدق، ثمَّ صار إليه هو وبنوه، فحدَّثه عامَّةَ الليل، ثمَّ قام محمَّد فانصرف، وقال لصاحبه: سَلْه ما يريد؟ فقال ابن الطَّبَّاع: قل له يبعث لنا ما نتغطَّى به من البرد، فبعث إليه بمِطْرَفِ خَرٍّ يساوي خمس مئة دينار. وكانت وفاته في المحرَّم. سمع يزيد بن هارون وغيرَه، وروى عنه المَحامِليُّ وغيره، وكان ثقة (¬1). مُضَر بن محمد ابن خالد بن الوليد أبو محمد، القاضي، الأسديُّ، البغداديّ. ولي قضاء واسط، وكان راوية لحروف القراءات، وحدَّث بدمشق، ومصر، وبغداد عن يحيى بن معين وغيره، وروى عنه يحيى بن محمد بن صاعد وغيره. ومن شعره: [من البسيط] لو كان في البَيْنِ إذ بانوا لهم دَعَةٌ ... لكان بَينُهمُ من أعظمِ الضَّرَرِ فكيف والبَيْنُ مَقرونٌ به تَعَبٌ ... تَعَسُّفُ البِيدِ والإدْلاجُ في السَّحَرِ سيَّان إتعابُ من أهوى وبينهُم ... هذا لعَمْرُكَ خَطْبٌ غيرُ مُغْتَفَرِ كأنَّ أيدي مَطاياهُم إذا وَخَدَتْ (¬2) ... يَقَعْنَ في حُرِّ وَجهي أو على بَصري عندي من الوَجْدِ ما لو أنَّ أَيسَرَه ... يُصَبُّ في الماء لم يُشْرَب من الكَدَرِ (¬3) [وفيها توفي] ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 4/ 624، و"تاريخ الإسلام" 6/ 628. (¬2) الوَخْد: سعة الخطو في المشي. "اللسان" (خدى). (¬3) "تاريخ بغداد" 15/ 361 - 362، و "تاريخ دمشق" 67/ 417 - 420 والأبيات فيه، و"تاريخ الإسلام" 6/ 629، وهاتان الترجمتان ليستا في (ب).

يعقوب بن سفيان بن جوان

يعقوب بن سفيان بن جُوان (¬1) أبو يوسف، الفارسيُّ، الفَسَويُّ، صاحب "التاريخ" والتَّصانيف الحسان. [وذكره الحاكم أبو عبد الله في "تاريخه" وقال: هو] إمام أهل الحديث بفارس، سافر إلى البلاد، ولَقي الشيوخ، [قدم نيسابور وأقام بها سنين، وسمع منه مشايخنا]، وقال: كتبت عن ألف شيخ وأكثر وكلُّهم ثقات. وقال أبو زُرعة الدِّمشقي: قدم علينا يعقوبُ دمشقَ، ويعجز أهلُ العراق أن يَرَوا مثلَه. وحكى الحافظ ابن عساكر عن يعقوب بن سفيان قال: كنت أطلب (¬2) في رحلتي الحديث، فدخلتُ بلدًا صادفتُ فيه شيخًا احتجت إلى الإقامة عليه للاستكثار منه، فقَلَّتْ نَفقتي، وبعُدْتُ عن أوطاني، [فكنتُ] أُدمِن الكتْبَة ليلًا ونهارًا، فبينا أنا ذات ليلةٍ أنسخ في السِّراج؛ نزل الماء في عينيَ فلم أُبصر شيئًا، فبكيتُ على انقطاعي عن بلدي ووطني، وقلَّة نفقتي، وعلى ما يَفوتُني من العلم، فنمت، فرأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: يا يعقوب، ما الذي بك؟ فقلت: يا رسول الله، ذهب بصري، وشكوتُ إليه حالي، فقال: اُدْنُ مني، فدنوتُ، فمسح يده على وجهي وعيني كأنَّه يقرأ، فاستيقظتُ، وفتحتُ عينيَّ وإذا بهما على حالهما، فأخذتُ الكتاب وقعدتُ أنسخ في السِّراج. [واختلفوا في وفاته، فقال أبو سعيد بن يونس: ] مات بالبصرة. وقال [أحمد بن محمود بن صَبيح: مات] ببلده بفَسَا قبل موت أبي حاتم الرَّازي بشهر (¬3). أسند عن خلقٍ كثير منهم هشام بن عمار وغيره، وأخرج له البخاريُّ ومسلم حديثَ عمرو بن عَبَسة في صدر الإسلام (¬4). ¬

_ (¬1) هذه الترجمة وردت في (ب) في أول سنة (278 هـ)، وأضفنا منها هنا ما يأتي بين معكوفين. (¬2) في (خ) و (ف): وقال يعقوب: كنت أطلب، والمثبت من (ب)، وانظر"مختصر تاريخ دمشق" 28/ 45، وما بين حاصرتين منه. (¬3) "مختصر تاريخ دمشق" 28/ 44 - 46، و"تاريخ الإسلام" 6/ 641 - 642، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 180 - 184. وما بين معكوفين من (ب). (¬4) هذا السياق فيه أكثر من خطأ، فيعقوب بن سفيان لم يرو له البخاري ومسلم، وإنما روى عنه الترمذي =

[وروى الخطيب عن] عَبْدان بن محمد المروزيُّ قال: رأيتُ يعقوب في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وأمرني أن أحدِّث في السماء الرَّابعة، فاجتمع عليَّ الملائكةُ، واستملى عليَّ جبريل، وكتبوا بأقلام من ذهب. واتفَّقوا على فضله وصدقه وثقته. * * * ¬

_ = والنسائي كما ذكر المزي في "تهذيب الكمال" (7683)، والذهي في "السير" 13/ 180، و"تاريخ الإسلام" 6/ 641، وابن حجر في "تهذيب التهذيب" وغيرهم، وحديث عمرو بن عبسة أخرجه مسلم فحسب (832) في صحيحه دون البخاري، انظر "تحفة الأشراف" 8/ 161، والجمع بين الصحيحين للحميدي (3075) 3/ 519، وليس ليعقوب ذكر في حديث عمرو بن عبسة - رضي الله عنه -.

السنة الثامنة والسبعون بعد المئتين

السَّنة الثامنة والسَّبعون بعد المئتين فيها لليلتين بقيتا من المحرَّم طلع كوكب ذو جمَّة، ثمَّ صارت الجمَّة ذُؤابة. ووردت الأخبار أنَّ نيل مصر غار فلم يبق منه شيء، ولم يُعْهَد ذلك قطُّ، ولا سُمع به في الأخبار السالفة، فغلت الأسعار عندهم. وفي المحرَّم انصرف أبو أحمد الموفَّق من الجبل إلى بغداد مريضًا، وكان به نِقْرِس، فلم يقدر على ركوب الخيل، فاتُّخذ له سريرٌ عليه قُبَّة، فكان يَقعد عليه والخدم يبرِّدون رجليه بالثلج، فأنزلوه في دَيالى في زَلَّالٍ (¬1) حتَّى أخرجوه إلى دجلة، ثمَّ زاد مرضه فصار داءَ الفيل، فكان يَحمل سريرَه قبل نزوله في الماء أربعون رجلًا، يتناوب عليه عشرون عشرون، وربما اشتدَّ به الوجع أحيانًا فيأمرهم أن يضعوه، وقال يومًا للذين يحملونه: لعلَّكم قد ضَجِرتُم منِّي، وَدِدْتُ والله أنِّي كواحدٍ منكم أَحملُ على رأسي وآكل وأنِّي في عافية. وقال في مرضه هذا: قد أطبق دستوري [أو دفتري] على مئة ألف مُرتَزِق، وما أصبح فيهم أسوأ حالًا منِّي. وفي يوم الاثنين لثلاث بَقينَ من المحرَّم وافى النَّهْروان، فأخرجوه إلى دجلة إلى الزَّعفرانية، وصار في داره يوم الجمعة لليلتين خلتا من صفر، فأقام بها، وانتفخ قدمه وعَظُم، فتوفِّي في صفر، وسنذكره إن شاء الله تعالى [في ترجمته، والله أعلم] (¬2). وفيها ظهرت القرامطة بسواد الكوفة، وقد اختلفوا فيهم على أقوال: أحدها: أنَّه قدم رجل من ناحية خُوزِستان إلى سواد الكوفة إلى موضع يقال له: النَّهرين، فأقام بها وأظهر الزُّهد والتَّقشُّف، وكان يَسُفُّ الخُوصَ ويأكل من كَسْبه، ويصلّي اللَّيل والنَّهار، ¬

_ (¬1) الزلَّال: ضربٌ من السفن الصغيرة والسريعة كانت معروفة بنهاية العصر العباسي. معجم المصطلحات والألقاب التاريخية: 223، والديارات للشابشتي: 24، وتكملة المعاجم لدوزي 5/ 344. (¬2) ما بين معكوفين من (ب) وجاء بعدها فيها: وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وانظر الطبري 10/ 19 - 20، و"المنتظم" 12/ 287، و"الكامل" 7/ 441، و"تاريخ الإسلام"6/ 470 - 471.

وَيسْرُدُ الصَّوم، فأقام على ذلك مدَّة، فكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدِّين، وزهَّده في الدُّنيا، وأعلمه أنَّ الصَّلاة المفترضة على النَّاس خمسون صلاة في اليوم واللَّيلة، حتَّى فشا ذلك عنه، ثمَّ أعلمهم أنَّه يدعو إلى إمام من أهل البيت عليهم السَّلام. وكانوا يقعدون إليه، ويحدِّثهم بمثل هذا وأشباهِه، وكان يقعد إلى بقَّال في القرية، وبالقرب منه نَخْل اشتراه قوم من التُّجَّار، فسألوا البقَّال أن يطلب لهم رجلًا يحفظ عليهم التَّمر، فدلَّهم عليه، فكان يأخذ من البقَّال كلَّ ليلة رطلَ تمر، فيفطر عليه، ويبيع للبقَّال النَّوى، وبلغ التُّجار، فأتوا إليه، وضربوه، وقالوا: ما كفاك أن أكلتَ التَّمر حتَّى بعتَ النَّوى؟ فقال لهم البقَّال: ويحكم، لقد ظلمتموه؛ فإنَّه لم يأكل من تمركم، وإنَّما كان يشتري منِّي التمر فيفطر عليه، ويبيعني النوى، فندموا على ضربه، وسألوه أن يجعلهم في حِلٍّ ففعل، فازداد نُبْلًا عند أهل القرية، ومرض فرمى بنفسه على الطَّريق. وكان في القرية رجل اسمه حَمدان، ويقال له: كرميته، وتفسيره بالنبطيَّة: الأحمر العين، وكان له ثوران يحمل عليهما غلَّات السَّواد، فقال البَقَّال لكرميته: هذا الخراسانيُّ رجل صالح وغريب ومريض، فاحمله إلى منزلك. فحمله وأقام عنده حتَّى برأ، ثمَّ كان يأوي إلى منزله، ووصف مذهبه لأهل تلك النَّاحية فاتَّبعوه، فكان يأخذ من كلِّ رجل دينارًا، واتَّخذ منهم اثني عشر نقيبًا [كما فعل موسى وعيسى بالحواريين]، وفرض عليهم في كلِّ يوم خمسين صلاة ووظائف للعبادات، فاشتغلوا بها عن أعمالهم، فخربت الضياع وتعطَّلت المصالح. وكان للهَيْصَم هناك ضياع، فقصَّروا في عمارتها، فسأل عن ذلك [فقيل له: إنَّ رجلًا ظهر فيهم، وأظهر لهم مذهبًا، وفرض عليهم كذا وكذا، ] فأُخبر بخبره، فطلبه، فحضر، فسأله عن أمره، فدعاه إلى مذهبه، فحبسه في بيت، وأقفل عليه الباب، وحلف ليَقْتُلَنَّه، وترك مفتاح القفل تحت رأسه ونام، وسمعتْه جاريةٌ من جواريه فرقَّت له، وأخذت المفتاح، وفتحت عليه وأخرجته، وقفلت الباب، وأعادت المفتاحَ إلى مكانه، وانتبه الهَيْصَم ففتح الباب، فلم يجده، وقال النَّاس: رُفع إلى السَّماء. ثمَّ ظهر في مكان آخر، فسألوه عن قصَّته فقال: من تعرَّض لي بسوء هلك. ثمَّ هرب إلى الشَّام فلم يُعرف له خبر، وسمِّي كرميته باسم الرَّجل الذي كان في

منزله، ثمَّ خُفِّف فقيل: قرْمط. وفي رواية: وكان هذا الرَّجل قد لقي الخبيثَ صاحبَ الزَّنْج، فقال له: ورائي مئة ألف سيف، فوافِقْني على مذهبي حتَّى أصير إليك بمن معي، وتناظرا فاختلفا ولم يقع بينهما اتِّفاق، فافترقا من غير شيء أو هذا أحد الأقوال في تسمية قُرمط]. والثاني: [أنَّ] أوَّل مَن أظهر لهم هذا المذهبَ رجل يقال له: محمد الورَّاق، يُعرف بالمُقرمِط، من أهل الكوفة، شرَّع لهم شرائع، ورتب لهم ترتيبًا، قال: خالف به الإسلام. والثالث: أنَّ بعض دُعاتهم اكترى دوابَّ [أو بقرًا] من رجل يُقال له: قُرمط بن الأشعث، ودعاه إلى مذهبه [فأجابه]، وصار [قرمط] داعيةً في مذهبهم. والقول الأوَّل أصحُّ. ثمَّ همْ فرق: القرامطة، والباطنية، والخُرَّميَّة، والبابَكية، والمحمِّرة، والسَّبعيَّة، والتعليميَّة. فأمَّا الباطنيَّة: فادَّعَوا أنَّ لظواهر الآيات والأخبار بواطنُ تجري مجرى اللُّبِّ من القشر، وادَّعوا ذلك لقوله عليه السّلام: "لكلِّ آية بطن وظهر" (¬1) وكذا قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَينَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ} [الحديد: 13] يعني بين علمائهم والجهَّال، وإنَّ من وقف على علم الباطن سقطت عنه التَّكاليف، واستراح من أعبائها. وأما الخُرَّمية: فخُرَّم اسمٌ أعجميٌّ معناه: الشيء المُستَلَذّ، وهم أهلُ الإباحة من المجوس الَّذين نبغوا في أيَّام قُباذ، فأباحوا المحظورات، فلُقِّب هؤلاء بهم. [وقد ذكرناهم في صدر الكتاب]. وأمَّا البابَكية: فهم أصحاب بابَك الخُرَّمي، ولهم ليلة في السَّنة يجتمعون فيها، يختلط النِّساء بالرِّجال، ويتناهبون النساء، فمن وقعت في يده امرأة استحلَّها. وأمَّا المحمِّرة: فهم قوم يلبسون الثِّياب الحُمر، لهم مذهب يُعرفون به. وأمَّا السَّبعية: فزعموا أنَّ الكواكب السَّبعة تدبِّر العالم السُّفلي. ¬

_ (¬1) أخرجه البزار في مسنده "البحر الزخار" (2081)، وأبو يعلى في مسنده (5149) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.

وأمَّا التعليمية: فمذهبهم إبطالُ القياس، ولا علم إلَّا ما يُتلقَّى من إمامهم. قال المصنِّف رحمه الله: وقد زعم [قوم] أنَّ الإسماعيليَّة منهم، وأنَّ قُرمط غلام إسماعيل بن جعفر بن محمد بن محمد الصَّادق أحدث لهم هذه المقالات، وليس كما ذكروا؛ فإنَّ إسماعيل كان يدعو إلى مذهب آبائه وأجداده، ولا يخرج عن الشَّريعة المحمديَّة، ولا يُعرف له غلام اسمه قُرمط، وإنَّما القرامطة مَن ذكرنا يشيرون إلى مذهب الملاحدة مثل زرادشت ومزدك وماني وغيرهم، [ومن ذكرنا في صدر الكتاب] ممَّن أباح المحظورات والأمَّهات والبنات، وشيَّدوا مذهب الفرس والمجوسيَّة، وقالوا بقول الفلاسفة، وجَحدوا النُّبوَّات، وأباحوا الخمورَ والملاهي وغير ذلك. فأمَّا الإسماعيلية: فينتسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصَّادق، وأنَّه لا يزال منهم إمام معصوم يتلقَّون منه العلوم، ويُظهرون التمسُّك بالإسلام والصَّوم والصلاة ونحو ذلك. ومن مذاهب القرامطة أنَّ محمد بن الحنفية هو المهديّ، وأنَّه جبريل، والمسيح، والدَّابة الَّتي تخرج في آخر الزَّمان، ويزيدون في الأذان: وأنَّ نوحًا رسول الله، وإبراهيم رسول الله، وعيسى رسول الله، ومحمد بن الحنفية رسول الله، وأنَّ القبلة والحج إلى بيت المقدس، ويوم الجمعة والاثنين والخميس يوم استراحة، وأن قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] أي: ظاهرها؛ ليعلموا بها عدد السِّنين والحساب والشهور والأيَّام، وباطنها هم أوليائي الذين عرَّفوا عبادي سبيلي، وأنَّ الصَّوم في السَّنة يومان وهما: النَّيروز والمهرجان، وأنَّ النَّبيذ حرام، والخمر حلال، ولا غُسل من الجنابة إلا غسل الذَّكر، وما معنى الاغتسال من المنيِّ دون البول. وكثير من هذه الحماقات والخرافات (¬1). ومنهم مَن يتحيَّل على المسلمين بطرق شتَّى، ولا يَنْفق قولُهم إلَّا على الجُهَّال، فتارةً يدخلون على أهل السنة بما يوافقهم، وعلى الشِّيعة بما يوافقهم، ويَخدعون الطَّوائف بكلِّ حيلة، ويتوسَّلون إلى استجلابهم بكلِّ وسيلة، فيقولون للدّاعي: اجعل التشيُّع دينَك عند أهله، فقل: ظُلِم عليٌّ عليه السَّلام وغُصب حقُّه، وقُتل الحسين وسُبي ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 10/ 19 - 27، و"الكامل" 7/ 441 - 449، و"تاريخ الإسلام"6/ 470 - 473.

أحمد بن محمد

أهله، وجرى عليهم ما جرى، وتَنَقَّص أبا بكر وعمر، واذكر ما فعلا، وما فعل بنو أميَّة بأهل البيت، وإن كان سنِّيًّا فاعكس الأمر، وإن كان رقيق الدِّين فاذكر له الرَّجعةَ، والمجون، والخلاعةَ، والتَّناسخ، وإن كان زاهدًا فاذكر له الزُّهد والتَّقشُّف ونحو ذلك، وعلى هذا المثال يستدرجون الخلائق إلى مذاهبهم بكلِّ طريق، فمن وافقهم سُلب التَّوفيق، [وقد ذكرنا في صدر الكتاب طرفًا من ذلك]، وسنذكر جملة من مذاهبهم في أماكنها (¬1). [فصل وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمد الهاشميّ]. وفيها غزا يازمان الخادم الصَّائفة، فبلغ حِصنًا يقال له: سَلَنْدو، فنصب عليه المجانيق، وأشرف على فتحه، فجاءه حجر من الحصن فقتله، فارتحلوا به وفيه رمق، فمات بالطَّريق من غده في رجب، فحُمل على أكتاف الرِّجال إلى طَرَسوس، فدُفن بها، وكان شجاعًا جوادًا (¬2). وفيها توفي أحمد بن محمد ابن عبيد الله بن المدبّر، الكاتب، أبو الحسن [الذي أسره الزَّنج من الأهواز. قال الحافظ ابن عساكر: ] بعثه المتوكّل سنة إحدى وأربعين ومئتين إلى دمشق، فمسح أراضيها، وأصله من سُرَّ من رأى، وكان أديبًا شاعرًا، [ولّاه المتوكل خراج جند دمشق والأردنّ. وذكره الصُّولي فقال: أحمد أسنُّ من أخيه إبراهيم، وأحمد بن المدبر هو الذي إذا امتدحه شاعر فلم يرضه بعث غلمانه معه إلى الجامع، فيلازمونه حتى يصلِّي مئة ركعة فتحاماه الشُّعراء، وقد ذكرناه في ترجمة الجَمَل الشاعر، واسم الجَمَل حسين بن عبد السَّلام]. حُبس أخوه إبراهيم، فكتب إليه من الحبس رُقْعةً يشكو إليه ما هو فيه، فكتب إليه ¬

_ (¬1) "المنتظم" 12/ 293 - 294. (¬2) "تاريخ الطبري" 10/ 27.

ديك الجن

أحمد: [من الوافر] أبا إسحاقَ إن تكُنِ اللَّيالي ... عَطَفْنَ عليك بالخَطْبِ الجَسيم فلم أرَ صرفَ هذا الدَّهر يَجني ... بمكروه على غير الكريمِ (¬1) ومن شعر أحمد: [من الوافر] دنوتَ تواضُعًا وبَعُدْتَ قَدْرًا ... فشأناك انخفاضٌ وارتفاعُ كذاك الشَّمسُ تَبعد أن تُسامى ... ويَدنو الضَّوءُ منها والشُّعاعُ (¬2) وقال (¬3) أبو الحسين الرَّازي: كان أحمد بن المدبّر على دمشقَ وأعمالها لمالك بن طَوْق، فقدم عليه ديكُ الجنّ، فأقام ببابه مدَّة لا يصل إليه، فكتب إليه: [من البسيط] إنّي ببابك لا وُدِّي يُقرِّبني ... ولا نَسيبيَ يعلو بي ولا نَسبي إنِّي امرؤٌ نازلٌ في ذِروَتَيْ شَرَفٍ ... لقَيصَرٍ ولكِسرى مَحتدي وأبي ما شِدَّةُ الحِرْصِ من شأني ولا طَلَبي ... ولا المكاسبُ من هَمِّي ولا أَرَبي لكن طوارقُ تأتيني وحادِثةٌ ... والدَّهرُ يَطرُقُ بالأحداثِ والنُّوَبِ وليس يَعرفُ لي قَدري ولا أدبي ... إلا امرؤٌ كان ذا قَدْرٍ وذا أَدَبِ واعلم بأنَّك ما أسْديتَ من حَسَنٍ ... عندي أنا حَسنٌ أنقى من الذَّهبِ فأحسن إليه (¬4). [وفيها توفي] ديك الجنّ ذكر أخباره: [قال أبو الفرج: ] واسم (¬5) عبد السَّلام بن رَغْبان بن عبد السَّلام بن حبيب بن عبد الله بن رَغْبان بن يزيد بن تميم، أبو محمد. ¬

_ (¬1) ذكر هذين البيتين أبو الفرج في "الأغاني" 22/ 177، وهذا الخبر ليس في (ب). (¬2) ذكر هذين البيتين القالي في "أماليه" 1/ 40 ونسبهما للبحتري. (¬3) من هنا إلى آخر الترجمة ليست في (ب). (¬4) "تاريخ دمشق" 2/ 187 - 189، و 42/ 237 - 238. (¬5) في (خ، ف): ذكر أخبار ديك الجن واسمه ... ، والمثبت وما بين معكوفين من (ب).

أسلم جدُّه تميم على يدي حَبيب بن مَسْلَمة الفِهريّ، وسمِّي ديك الجنّ لأنَّ عينيه كانتا خضراوتين، وكان قبيح المنظر. [وكان شاعرًا] فصيحًا، عاصر أبا تمَّام، وكان أبو تمَّام يعترف له بالفضل، وهو من شعراء الدَّولة العبَّاسية، وكان يسكن حمص ويتشيَّع وله مَرَاثٍ في الحسين عليه السَّلام (¬1). ومن شعره: [من الكامل] سُكران سكر هوًى وسُكر مُدامةٍ ... فمتى يُفيق فتًى به سكران وكان صاحبَ لَهْو، [ولم يذكر الأصفهاني تاريخ وفاته، ] وهو الذي قتل غلامَه وجاريتَه. وقال عليُّ بن عبد الله الأنماطي: كان عبد السَّلام (¬2) بن رَغْبان الملقَّب بديك الجنّ شاعرًا، أديبًا، ذا نعمة حَسَنة، وكان له غلامٌ كالبدر، وجارية كالشَّمس، وكان يهواهما جميعًا، فدخل يومًا منزله على غَفلةٍ فرآهما مُتَعانقَين، والجارية تقبِّل الغلام، فشدَّ عليهما فقتلهما، ثمَّ جلس عند رأس الجارية يبكي ويقول: [من الكامل] يا طلعةً طلع الحِمامُ عليها ... وجنى لها ثَمَرَ الرَّدى بيدَيها روَّيتُ من دمها الثَّرى ولطالما ... روَّى الهوى شَفَتيَّ من شَفتيها فأَجَلْتُ سَيفي في مَجال خِناقها ... ومَدامعي تجري على خدَّيها فوَحَقِّ عينيها وما وَطِئ الثَّرى ... شيءٌ أعزُّ عليَّ من عَينيها ما كان قَتْليها لأنِّي لم أكن ... أبكي إذا سقط الغُبارُ عليها لكن بَخِلْتُ على سِواي بحُسْنها ... وأنِفْتُ من نظر الغلام إليها ثم جلس عند رأس الغلام فقال: [من الكامل] قمرٌ أنا استخرجتُه من خِدْره ... بمَودَّتي وجَزيتُه من غَدْرهِ فقتلتُه وله عليَّ كرامةٌ ... مِلْءُ الحشا وله الفؤادُ بأَسْرهِ ¬

_ (¬1) "الأغاني" 14/ 51. (¬2) في (ب): وذكر القصة الخرائطي في "اعتلال القلوب" (312) فقال بإسناده عن جماعة من شيوخ حمص قالوا: كان عبد السلام، والمثبت من (خ) و (ف).

أبو أحمد طلحة

عَهْدي به مَيتًا كأحسنِ نائمٍ ... والدَّمعُ يَنْحرُ مُقلَتي في نَحْرهِ غُصَصٌ تكاد تَفيضُ منها نَفْسُه ... ويكاد يَخرجُ قَلبُه من صَدْرهِ (¬1) أبو أحمد طلحة وقيل: محمد بن جعفر المتوكِّل، الملقَّب بالموفَّق، ولقِّب بعد قتل الزَّنجي بالنَّاصر لدين الله، فكان يُخطب له على المنابر بلقَبَين، فيقال: اللَّهمَّ وأصلح الأمير النَّاصر لدينك أبا أحمد الموفَّق بالله، وليَّ عهد المسلمين، أخا أمير المؤمنين. وأمُّه أمُّ ولد، يقال لها: إسحاق. كان من أَجَلِّ الملوك رأيًا، وأَسْمَحِهم نَفْسًا، وأحسنهم تدبيرًا، عزيزَ العقل، جوادًا، سَمْحًا، وكان أخوه المعتمد قد جعله وليَّ عهده بعد ابنه جعفر المفوَّض، فمات الموفَّق قبل المعتمد وقبل جعفر، ولمَّا مات الموفَّق بايع المعتمد لأبي العبَّاس بعد جعفر، ولقبه المعتضد. وقال أبو عبد الله الألوسي (¬2): لمَّا صار جيش الدَّعيِّ الخبيث بالبصرة وجاء إلى النُّعمانية طُرحت في دار الموفَّق رقعة، فقرأها وفيها: [من الوافر] أرى نارًا تأجَّجُ من بعيدٍ ... لها في كلِّ ناحية شُعاعُ وقد نامتْ بنو العبَّاس عنها ... فأضحتْ وهي غافِلةٌ رَتاعُ كما نامت أميَّةُ ثم هبَّتْ ... لتدفعَ حين ليس لها دِفاعُ فأمر الموفَّق من ساعته بالرَّحيل إلى قتال الزَّنج. ومراد الشَّاعر قولُ نَصْر بن سيَّار: أرى تحت الرَّمادِ وَمِيضَ جَمْرٍ (¬3) ¬

_ (¬1) "الأغاني" 14/ 57، و"تاريخ دمشق" 42/ 242، و"وفيات الأعيان" 3/ 186، و "تاريخ الإسلام" 5/ 866 - 867 وذكره في وفيات سنة (235) أو (236). (¬2) في (خ) و (ف): الأموسي. والمثبت من "تاريخ دمشق" 61/ 226، وينظر ما سلف في "تاريخ بغداد" 2/ 493 - 495. (¬3) عجزه: وأخلَقَ أن يكون له ضِرام، انظر "أنساب الأشراف" 3/ 149، و"الأغاني"7/ 56، و"تاريخ دمشق" 61/ 226.

ولد الموفَّق يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأوَّل، سنة تسع وعشرين ومئتين، وقتل الزنجي وفعل ما فعل، وكان يقول: بلغني عن جدِّي عبد الله بن عبَّاس أنَّه كان يقول: إنَّ الذباب لَيقع على جليسي فيَغُمُّني ذلك، وهذا نهاية الكرم، وأنا والله أرى جُلسائي بالعين الَّتي أرى بها نفسي وإخواني وأهلي. وقال يومًا: صدق المأمون حيث يقول: الفَلَك أدَقُّ من أن يَبقى على حال، فاغتنموا أوقات السُّرور، واعتقدوا المِنَن في أرقاب الرِّجال، واتَّخِذوا لأعقابكم الصَّنائع، فإنَّ المُقام في الدُّنيا لُمَعٌ، ولا يدوم الدَّهر على حال. ذكر وفاته: كان الموفَّق قد حبس ابنَه أبا العبَّاس عند إسماعيل بن بُلبل، فضيَّق عليه، فلمَّا ورد الموفَّق بغداد، واشتدَّ مَرضُه، وأُرْجِف بموته، ويئس منه إسماعيل، وجَّه إلى بكتمر التُّركي -وكان موكَّلًا بالمعتمد (¬1) وابنِه جعفر بالمدائن- أن يُحضِرهما إلى بغداد، فأصعد بهما، وأنزلهما ابنُ بلبل في داره، فأقاما يومًا، فقيل لابن بُلْبل: قد أفاق الموفق من غَشْيته، فانحدر ومعه المعتمد وابنه جعفر المفوّض إلى دار الموفق، وقال المعتمد: أريد أن أَنْصُرَ أخي. ومضى صافي الحُرَميُّ ومؤنس ويانس خدم الموفَّق فأخرجوا أبا العبَّاس، وأتَوْا به إلى دار الموفَّق، فقرَّبه أبوه وأدناه، وخلع عليه وعلى إسماعيل، وكان قد ضيَّق إسماعيل على أبي العبَّاس، وعلمت العامَّةُ ذلك، وكانوا يخافون عليه من إسماعيل، فنَهبت العامَّة دار إسماعيل، فخرج أهلُه وولده حُفاةً عُراةً، وطلب إسماعيل حَصيرًا يجلس عليه فلم يجد، فاستُعير له حَصير من بعض دور الجيران. وفي يوم الأربعاء لثمانٍ بقين من صفر توفِّي الموفق، ودُفن ليلة الخميس في الرُّصافة عند قبر أمِّه، وصلَّى عليه ابنُه أبو العبَّاس، وكانت وفاته بالقصر الحَسَني، وله تسع وأربعون سنة إلا أيامًا (¬2). ¬

_ (¬1) في مروج الذهب 8/ 106: وكان موكلًا بالمعتضد بالمدائن ... (¬2) في (ب): فكانت وفاته بالثغر الحسيني وله سبع وأربعون سنة إلا أيامًا.

قال عبد الله بن المعتز: لمَّا مات الموفّق كتب إليّ عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يعزِّيني فيه، وقال: إنَّما أُعزِّيك بالمنصور الثاني، لا أعرف في ولده أشبهَ به منه (¬1). وبايع النَّاسُ والقوَّادُ والغِلمانُ لأبي العبَّاس بولاية العهد بعد جعفر المفوّض، ولُقِّب المعتضد بالله، وخُطب يوم الجمعة للمعتمد، ثمَّ للمفوَّض جعفر، ثم لأبي العباس (¬2)، وذلك لسبعِ ليالٍ بَقين من صفر. وفي يوم الاثنين لأربعٍ بقين منه قبض أبو العبَّاس على إسماعيل بن بُلُبل، وعذَّبه بأنواع العذاب، وجعل في عُنُقه غُلًّا فيه رُمَّانةُ حديد، وزنُها مئة رطلٍ وعشرون رطلًا، وألبسه جُبَّة صوف وقد صيِّرت في دهن الأكارع، وعلَّق في عنقه رأسَ كَلْبٍ مَيت، ثمَّ مات، فدفن بقيوده وغلّه وجُبَّته. واستكتب أبو العبَّاس عبيد الله بن سليمان بن وهب لثلاثٍ بقين من صفر يوم الثلاثاء، وولَّاه الوزارة، وقيل: إنَّ إسماعيل [بن بلبل] مات في سنة تسع وسبعين ومئتين بعد موت المعتمد، وتمكُّن المعتضد من الخلافة (¬3). وقال عبد الله بن أحمد بن حَمدون: حدَّثني المعتضد بالله وهو خليفة قال: لما ضرَّب إسماعيل بن بُلبل بيني وبين أبي الموفَّق، وأوحشه منِّي حتَّى حبسني الحَبْسَةَ المشهورة، كنتُ أتخوَّف القتلَ صباحًا ومساءً، وأن يَرميَني إسماعيلُ عنده بما يكون سببًا لقتلي، واتَّفق خروج أبي إلى الجَبل، فازداد خَوفي، وأشفَقْتُ أن يُكاتبه إسماعيل عنِّي بكَذبٍ يجعل غَيبتَه طريقًا إلى تَلَفي، وكنتُ محبوسًا عنده، فأقبلت على الدُّعاء والتضرُّع إلى الله تعالى. وكان إسماعيل يأتي كلّ يوم، ويريني أنَّ ذلك خدمة لي، فدخل عليَّ يومًا والمصحف في يدي وأنا أقرأ فيه فقال: أيُّها الأمير، أعطني هذا المصحف لأتفاءل لك، فلم أُجِبْه، فمدَّ يده فأخذه، فأول ما فتح خرج: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] فاسودَّ وجهُه، ثمَّ فتح ¬

_ (¬1) "المنتظم" 12/ 304. (¬2) في النسخ: ثم للمفوض جعفر ولقب المعتضد بالله، وهذه العبارة الأخيرة مكررة لانتقال النظر، والله أعلم، والمثبت من "الكامل" 7/ 444. (¬3) "تاريخ الطبري" 10/ 22، و"تاريخ الإسلام" 6/ 518 - 519. ومن هنا إلى آخر السنة ليست في (ب).

ثانيًا فخرج: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] فارْبَدَّ وَجْهُه، ثم فتح ثالثًا فخرج: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] فوضع المصحف وقال: أيُّها الأمير، أنت والله الخليفة بغير شكّ، فما حَقُّ بِشارتي؟ فقلت: اللهَ اللهَ في دمي، وأسأل الله أن يُبقي أمير المؤمنين والأمير الموفَّق، وما لنا وهذا؟ وجعل يحلف بالأيمان أنَّه لم يكن منه إليَّ مكروه، فصدَّقتُه ولاطفتُه؛ خوفًا من أن تزيد وحشتُه فيسرع في تدبير أمري، حتَّى سكن، وجاء الموفَّق من الجبل مريضًا، وجاؤوا فأخرجوني من الحبس، وولِّيت الخلافة ومكَّنني الله من ابن بلبل، فأنفذتُ الحكمَ فيه (¬1). وقال أحمد بن حَمْدون: حدَّثني المعتضد قال: لمَّا قدم أبي من الجبل وهو عَليل عِلَّتَه التي مات فيها وأنا في حبسه، اشتدَّ خوفي، ولم أشكَّ أنَّ إسماعيل يَحمله على قتلي، أو يحتال بحيلةٍ يَسفك فيها دمي إذا وجد أبي قد ثقل ويئس منه، فصلَّيتُ في اللَّيل صلاةً كثيرة، ودعوتُ دعاءً عظيمًا، وتضرَّعت إلى الله تعالى، ونمتُ، فرأيتُ في منامي كأنِّي على شاطئ دجلة، وهناك رجل يمدُّ يده إلى مائها فيصير في يده، ثمَّ يردُّه فيعود إلى دجلة، فعل ذلك مرارًا، فدنوتُ منه، وسلَّمتُ عليه، وقلتُ: من أنتَ يا عبد الله الصالح؟ فقال: أنا عليُّ بن أبي طالب، فقلت: يا أمير المؤمنين، ادعُ الله لي، فقال: إنَّ هذا الأمرَ صائرٌ إليك، فاعتضِدْ بالله، واحفظْني في ولدي، قال: فانتبهتُ مَرعوبًا، وكتبتُ: فلان الوزير، وفلان الأمير، وكتبتُ ما أعتمده إذا وليتُ الخلافة، ودفعتُ الرُّقعة إلى غلامٍ كان معي في الحبس، ولَحِقَتِ الموفَّقَ غَشْيةٌ، وإذا بأقفال البيت الذي أنا فيه تُكْسَر، فأيقنتُ بالهلاك، واستقبلتُ القبلة، وجرَّدت سيفي بين يدي وقلت: أموتُ كريمًا، وإذا بخدم أبي وغلماني قد دخلوا عليَّ، فزال خوفي، ورميتُ السَّيف من يدي، فأخرجوني وأدخلوني على أبي، فأخذت يده وجعلتُ أقبِّلها، ففتح عينيه فرآني، فرقَّ لي، وأشار إلى الخدم أن قد أحسنتُم فيما فعلتُم، ثمَّ مات من ليلته، فلمَّا وليتُ الخلافة عملتُ بما في الورقة. قال أحمد بن حمدون: فما عرض المعتضد في أيَّامه للعلويِّين، ولا آذى منهم أحدًا، وأحسن إليهم ووصلهم (¬2). ¬

_ (¬1) "الفرج بعد الشدَّة"1/ 182 - 185. (¬2) "الفرج بعد الشدَّة" 2/ 210 - 212، وينظر "مروج الذهب" 8/ 205 - 206.

السنة التاسعة والسبعون بعد المئتين

السَّنة التَّاسعة والسَّبعون بعد المئتين فيها لثمانٍ بقين من المحرَّم خُلع جعفر المفوّض من العهد من بعد المعتمد، وبويع المعتضد [بالله] بأنَّه وليُّ العهد بعد المعتمد، وخُطب يوم الجمعة على المنابر بذلك، وأنشئت الكتب عن المعتضد إلى الآفاق، وأنَّه قد فُوِّض إليه ما كان إلى الموفَّق أبيه من الأمر والنَّهي، والولاية والعزل، وأمر المعتضد أن لا يَقعد على الطَّريق ببغداد ولا في المسجد الجامع قاصٌّ، ولا صاحبُ نجوم وزجر، وحُلِّف الورَّاقون لا يبيعوا كتب الفلاسفة والجدل ونحو ذلك، وحمل المعتضد إلى المعتمد مئتي ألف درهم، وثيابًا وطِيبًا، وإلى ابنه المفوَّض مئة ألف درهم وثيابًا وطيبًا، فطابت نفوسهما. [وهذا يدلُّ على أنَّ المعتمد كان محجورًا عليه، وأنَّ أخاه الموفَّق فعل به ذلك]. وفيها توفِّي المعتمد وولي المعتضد [بالله] (¬1). الباب السَّادس عشر في خلافة المُعْتَضِد بالله واسمه أحمد بن طلحة بنِ المتوكِّل، [وكنيته] أبو العبَّاس، [وقال الصُّولي: ] وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: خزر [وقال الخطيب (¬2): اسمها] ضرار، وقيل: خفير، توفِّيت قبل خلافته بيسير، وكانت وَصيفةً لخديجة بنت محمد بن إبراهيم بن مصعب، فاشتراها بعض القوَّاد، فأهداها إلى المتوكِّل، فوهبها لجاريته [واسمها: ] إسحاق أمّ الموفّق، فوهبتها [إسحاقُ] لابنها الموفَّق، فحملت بأبي العبَّاس. ولد بسُرَّ من رأى في سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين ومئتين. [ذكر صفته: ] كان أسمر، نحيفَ البدن، مُعْتَدِلَ الخَلْق، قد وَخَطَه الشَّيب في مقدَّم لحيته، وكان في رأسه شامةٌ بيضاء، وكان يَخضِبُ بالسَّواد، [وكان] نقشُ خاتَمه: أحمد يؤمن بالله الواحد. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 10/ 28 - 29، و"الكامل" 7/ 452 - 455. (¬2) في "تاريخه" 6/ 79. وما بين معكوفين من (ب).

[قال ابن أبي الدنيا: ] وبويع بالخلافة صبيحةَ يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب حين مات المعتمد، وهو ابن سبعٍ أو ستٍّ وثلاثين سنة، فولَّى بدرًا غلامَه الشُّرطةَ، وعبيدَ الله بن سليمان الوزارة، ومحمدَ بن الشَّاة الحرس، وحُجُبه الخاصَّة والعامَّة صالحًا المعروف بالأمين، فاستخلف صالح جعفرًا السَّمرقندي، وسكنت الفتن، وصَلحت الدُّنيا، وارتفعت الحروب، ورخصت الأسعار، ومال إليه كلُّ مخالف، ودانت له الأمور، وتهيَّأت له الأسباب، وانفتح له الشَّرقُ والغرب، وأسقط المُكوس من البلاد، ورفع المَظالم، وسار في النَّاس أحسنَ سيرة. وكان يُعدُّ من رجالات بني العبَّاس، وكان أمرُ الخلافة قد ضعف، وبيوت الأموال قد فَرغت، فدبَّر وساس الملك حتَّى استقامت أمور الخلافة، وامتلأت بيوت الأموال، فقال عبد الله بن المعتزّ: [من المديد] يا أمير المؤمنين المرجَّى ... قد أقرَّ الله فيك العُيُونا ودعينا لك ببيعة حقٍّ (¬1) ... فسَعَينا نحوها مُسرعينا بنفوسٍ أمَّلتْك زمانًا ... سبقتْ أيديَنا (¬2) طائعينا أنت أقْرَرْتَ حَشا كلِّ نفسٍ ... وفرشْتَ الأمنَ في الخائفينا [وذكره الصُّولي في كتاب "الأوراق" قال: ] وكان يسمَّى السَّفَّاح الثاني؛ لأنَّه جدَّد مُلك بني العبَّاس بعد إخلاقه، وفي ذلك يقول عليُّ بن العبَّاس الرُّوميّ (¬3): [من الطويل] هنيئًا بني العبَاس أنَّ إمامَكم ... إمامُ الهدى والبأسِ والجودِ أحمدُ كما بأبي العباس أُنشئ مُلككُم ... كذا بأبي العبَّاس أيضًا يُجدَّدُ وكان يقتل الأسد وحده لشجاعته. [وقال المسعوديُّ في "مروج الذهب" (¬4): ومع هذا] كان شَحيحًا، ينظر فيما لا ينظر فيه أقلُّ النَّاس، وكان إذا غضب على قائد عذَّبه بأنواع العذاب [وسنذكره في ترجمته]. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): ودعينا أباك بيعة حق. والمثبت من الديوان 380. (¬2) في (خ) و (ف): أيدٍ لنا. والمثبت من الديوان، و"المنتظم" 12/ 307. (¬3) ديوانه 2/ 660. (¬4) 8/ 114 - 115.

وبدرٌ الذي ولَّاه الشُّرطة كان أبوه خيرًا من موالي الموفَّق، وكان بدر يخدم الموفَّق ويحمل له العبَّاسية، فنقلتْه السَّعادة إلى أن صار عبارةً عن المعتضد. ثمَّ بنى المعتضد قصرَه المعروف بالثُّريَّا وهو دار الخلافة، وفيه التَّاج، وكان قصر الحسن بن سهل [فجعله] المعتضد [دار الخلافة، وهو] أوَّل من سكنه من الخلفاء، وغَرِم على عمارته أربع مئة ألف دينار، وقيل: إنَّما جدَّده في السَّنة الآتية، وإنَّ قصر الثُّريا غيرُه. وفيها قدمت عليه الهدايا، وأطاعه الخوارج، فقدم عليه في شعبان رسولُ عمرو بن اللَّيث الصَّفَّار بهدايا، وسأله ولايته على خراسان، فأجابه، فبعث إليه المعتضد بالعهد والخِلَع واللِّواء مع عيسى النُّوشري، فوصل إليه في رمضان. وفيها قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجَصَّاص رسولًا من خمارويه [بن أحمد بن طولون إلى المعتضد] بهدية من الذَّهب العين: عشرين حِملًا على بغال، وخدم وصناديقَ وخيول بأطواق الذَّهب والفضَّة، وجواهر وبغال سروجيَّة، وزرافة، وذلك في شوال، فوصل إلى المعتضد وخلع عليه، وسَفَر ابنُ الجصَّاص في تزويج ابنة خُمارويه من عليِّ بن المعتضد وهو المكتفي، فقال المعتضد: إنَّما قصد أبو الجيش أن يتشرَّف بنا، ونحن نَزيده شَرَفًا، أنا أتزوَّجها، فتزوَّجها، وولي أمرها ابن الجصَّاص. [فصل: ] وفيها فتح أحمد بن عيسى بن الشَّيخ قَلْعة ماردين، وكانت بيد محمد بن إسحاق بن كُنداج. وفيها صلَّى المعتضد بالنَّاس صلاة الأضحى قريبًا من القصر الحسنيِّ، فكبَّر في الأولى ستَّ تكبيرات، وفي الثَّانية واحدة، ولم يُسمَع منه خطبة. وحجَّ بالنَّاس هارون بن محمد الهاشميّ، وهي آخر حجَّة حجَّها بالنَّاس، وكان [هارون] قد حجَّ بهم ستَّ عشرة حجَّة، أوَّلها [من] سنة أربع وستين ومئتين إلى هذه السَّنة (¬1). وفيها توفي ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري"10/ 30 - 31، و"الكامل" 7/ 453 - 460.

المعتمد على الله

المُعْتَمِد على الله [واسمه] أحمد بن جعفر المتوكِّل، [وكنيته] أبو العبَّاس. كان له أشعار حسنة منها: [من مجزوء الرمل] طال والله عَذابي ... واهتمامي واكتئابي بغَزالٍ من بني الأصـ ... ـــفَر لا يَعنيه ما بي أنا مُغرًى بهواه ... وهو مغرًى باجتنابي فإذا ما قلتُ صِلْني ... كان لا منه جوابي وله: [من مجزوء الرمل] عجَّل الحبُّ بفُرْقه ... فبقلبي منه حُرقه مالكٌ بالحبِّ رقِّي ... وأنا أملك رِقَّه إنَّما يستروح الصَّبُّ ... إذا أظهر عِشقَه (¬1) بويع المعتمد يوم الثلاثاء لأربع عشرةَ ليلةً بقيت من رجب، سنة ست وخمسين ومئتين. ذكر وفاته: [حكى الصُّولي عن القاضي الحسين بن إسماعيل المحاملي قال: ] جلس [المعتمد] في يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب بالقصر [المعروف بـ] الحَسَني على المُسَنَّاة المُشرِفة على دجلة مع المغنِّين والنُّدماء، وأكل في ذلك اليوم رؤوس الجِداء، وأصبح مُصْطَبِحًا، ثم اشتكى ليلة الاثنين ومات فيها. [وقال المسعودي: ] (¬2) إنَّه سُمَّ في رؤوس الحُملان، ومات معه كلُّ من أكل منها. وقيل: إنَّه نام فغُمَّ في بساطٍ لُفَّ فيه رأسُه فأصبح ميتًا. وقيل: إنه سُمَّ في كأسه، فدخل عليه القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حمَّاد ومعه شهود، فلم يروا به أثرًا، وذلك بأمر المعتضد، فغُسِّل وكُفِّن، وجُعل في تابوت قد أُعدَّ له، ¬

_ (¬1) "المنتظم" 12/ 103. (¬2) في "مروج الذهب" 8/ 110، وما بين معكوفين من (ب).

وحُمل إلى سُرَّ من رأى فدفن بها وهو ابن ثمانٍ وأربعين سنة، وقيل: ابن خمسين سنة. كان أسنَّ من الموفَّق بستَّة أشهر، وعاش بعده سنة وأربعة أشهر، وكانت خلافتُه ثلاثة وعشرين سنة وشهورًا. [وقال جدّي في "التلقيح" (¬1): مات ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومئتين فجاءة ببغداد، وحمل إلى سُرَّ من رأى، فكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وستَّة أشهر]. وقيل: وستة أيَّام، وقيل: ويومًا واحدًا. وكان له من الولد جعفر المفوّض، ومحمد، وإسحاق، ووَزر له عُبيد الله بن يحيى بن خاقان، وسليمان بن وهب، ثمَّ صاعد بن مخلد، ثمَّ إسماعيل بن بُلبل، وقاضيه الحسن بن أبي الشَّوارب، وحاجبه موسى بن بغا. وقال الخطيب (¬2): توفِّي في صفر سنة ثمانٍ وسبعين ومئتين، وهو وهم. وكانت عَريب جاريةَ المعتمد قد أعطاها أموالًا كثيرة، ولها فيه مدائحُ منها: [من الخفيف] بارك الله للإمام أبي العبَّـ ... ــــا س عند (¬3) الأنام في المعشوقِ وأراه فيه السُّرورَ وملَّاه ... طويلَ لذيذِ عيشٍ رقيقِ يا شبيهَ البدرِ المنيرِ كمالًا ... وابن عمِّ الهادي النبيِّ الصَّدوقِ فيم يا سيِّدي ومولاي أَشْمَتَّ ... عدوِّي وسُؤْتني في صديقي وكان المعتمد مشغولًا باللَّذَّات عن أمر الرَّعيَّة، فاستولى عليه أخوه الموفَّق وحجر عليه، واستصحب المعتضد الحال. قال المصنِّف رحمه الله (¬4): أسند المعتمد الحديث، فقال إسماعيل بن عبد الله العسكري: كنَّا عند أمير المؤمنين بسُرَّ من رأى في رمضان، فلمَّا أمسينا دعا بتمرٍ فأفطر ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 91. (¬2) ترجمته في "تاريخ بغداد" 5/ 98 - 99، ولم نقف على قوله فيه، وهذا القول ذكره ابن منظور في مختصر "تاريخ دمشق" 3/ 35. (¬3) في الإماء الشواعر ص 111: غيث. والبيت الثاني ليس فيه. (¬4) هذه الأخبار الآتية ذكرها ابن الجوزي في "المنتظم"12/ 104.

عليه على تمرة، ثمَّ ناول من حضر تمرةً تمرة، ثمَّ قال: حدَّثني أبي، حدَّثني أحمد بن حنبل، عن عبد الرَّزَّاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يفطر قبل أن يصلِّي على رُطَبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد تمراتٍ حَسَا حَسَوات من ماء (¬1). ثمَّ قال: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن حَنْبل يقول: حدَّثنا عبد الرزَّاق، عن معمر، عن وَهْب بن مُنبِّه قال: إنَّ الصَّائم يَزيغ بصرُه، فإذا أفطر على الحلاوة رجع إليه بصَرُه. قال أحمد بن يزيد المُهَلَّبي: كنَّا ليلةً بين يدي المعتمد، وكان [مع سماحة (¬2) أخلاقه وكثرة جوده] كثيرَ العَرْبَدة على نُدمائه إذا سكر، فاشتهى أن يصطبح على أُترجّ، فاتَّخذ منه شيئًا كثيرًا مُفرِطًا، فاصطبح عليه، ولم يدع شيئًا من الخِلَع والصّلات إلَّا وعمله مع نُدمائه ذلك اليوم، وخصَّني منه بالكثير، وكان كثيرَ الشُّرب، وكانت عَلامتُه إذا أراد أن ينهض جلساؤه التفت إلى سرير لطيف، ويُسبِل رجليه عليه كأنَّه يريد أن يَصعده، فنقوم. فلمَّا قام ذلك اليوم مدَّ رجله إلى السرير في أوَّل اللَّيل، فانصرفتُ إلى حُجرةٍ كانت مرسومةً لي، فلمَّا انتصف الليل دعاني بخادم، فأتيتُ مُسرعًا، فقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت: مضى يومُنا على نهاية السُّرور، وسَلِمنا من عَربدته، فقد عنَّ له أن يُعَرْبد عليَّ، فقد استدعاني في هذا الوقت. فأتيتُه وأنا في نهاية الجَزَع، فلمَّا رآني لم يستَجْلِسْني، وقال لخادمه: عليَّ بصاحب الشُّرطة، فقلتُ في نفسي: لم تَجْرِ عادته في العَرْبَدة بصاحب الشرطة، وما هذا إلَّا لبليَّةٍ احتيل بها عليَّ عنده. فأقبلتُ أنظر إليه طَمعًا أن يُفاتحني بكَلمةٍ، فأرفق به في الجواب، وهو لا يرفع رأسه من الأرض، إلى أن جاء صاحب الشرطة، فرفع رأسه إليه وقال: في حبسك رجل يُعرف بمنصور الجمَّال؟ قال: نعم، قال: أحضِرْنيه الساعة، فمضى ليحضره، وسَهل ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (12676)، وأبو داود (2356)، والترمذي (696). (¬2) في (ب): وحكى القاضي التنوخي بإسناده: كان المعتمد مع سماحة، والمثبت من (خ). والخبر في "الفرج بعد الشدة" 2/ 243.

عليَّ الأمر قليلًا، ووقفت وهو لا يخاطبني بشيء إلى أن أحضر الرجل، فقال له: من أنت؟ قال: أنا منصور الجمَّال، قال: وما قصَّتك؟ قال: أنا مظلوم، حُبست منذ كذا وكذا، وأنا رجل من أهل الجبل كان لي جمال، وكنتُ أعيش من فضل أُجرتها، وكان يتقلَّد بلدَنا فلان العامل، فاستدعى بي إلى الحَضْرة، فأخذ جمالي غَصْبًا يستعين بها في حمل سَواده، فتظلَّمت إليه فقال: إذا صرتَ بالحَضْرة رددتُها إليك. فخرجتُ معه، فلمَّا بلغنا من حُلوان سلَّ الأكرادُ منها جملًا محمّلًا، فبلغه الخبر، فأحضرني وقال: أنت سرقتَ الجمل بما عليه. ثم أمر بضَربي وتقييدي، فلمَّا ورد الحضرة أنفذني إلى الحبس، وأخذ الجمال، ولم يكن لي متظلِّم، وطالت بي المحنة إلى الآن، فقال لبعض الخدم: امض السَّاعة إلى فلان العامل، فاقعد على دماغه ولا تبرح، أو يردّ عليه جماله أو قيمتها على ما يريد، فإذا قبض ذلك فاحمله إلى الخزانة، واكسه كسوةً حسنة، وادفع إليه كذا وكذا دينارًا، واصرفه مصاحبًا. ثمَّ قال لصاحب الشُّرطة: في حبسك رجل يُعرف بفلان الحدَّاد؟ قال: نعم، قال: أحضرنيه السَّاعة، فأحضره، فقال: ما قصَّتك؟ فقال: أنا رجل من أهل الشَّام، وكانت لي نعمةٌ فزالت، فهربتُ من بلدي، فوافيتُ الحَضْرَةَ طالبًا للتصرُّف، فتعذَّر عليَّ حتى كدتُ أتلَفُ جَزَعًا، فأُرشدتُ إلى حدَّاد يعمل ليلًا، فقصدتُه، فاستأجَرني بدرهم كلَّ ليلة، وكان معه غلامٌ آخر يضرب بالمِطْرَقة، فأفسد ذلك الغلامُ على الحدَّاد نعلًا كان يضربها، فرماه بالنَّعل الحديد، فوقعت على قُلَّته (¬1)، فتَلِف للوقت فهرب الحدَّاد، وبقيت أنا في الموضع متحيِّرًا. وأحسَّ الحارس بما رابه، فهجم عليَّ، فوجدني قائمًا والغلام ميتًا، فلم يشكَّ أنِّي أنا القاتل، فقبض عليَّ ورفعني، فحُبِستُ إلى الآن. فقال لصاحب الشرطة: خلِّ عنه، وقال لخادم آخر: خذه فغيِّر عليه حاله فاكسه، وادفع إليه خمس مئة دينار، ودعه ينصرف مُصاحَبًا. ¬

_ (¬1) قُلَّة كلِّ شيء رأسه. "اللسان" (قلل).

ثمَّ رفع رأسه إليَّ وقال: الحمد لله الذي وفَّقني لهذا الفعل، فقلت: كيف تكلَّف أمير المؤمنين النَّظر في هذا بنفسه في مثل هذا الوقت؟ ! فقال: ويحك، إنِّي رأيتُ في منامي رجلًا يقول: في حبسك رجلان مظلومان، منصور الجمَّال، وفلان الحدَّاد، فأَطْلِقْهما السَّاعة وأحسِنْ إليهما، فانتبهتُ مَذعورًا، ثمَّ نمت، فرأيت ذلك الشَّخص بعينه يقول لي: ويلك آمُرُك أن تُطلق رجلَين مظلومَين في حبسك فلا تفعل، وترجع تنام؟ فقلتُ له: يا هذا، مَن أنت؟ فقال: أنا محمد رسول الله، فقبَّلت يده وقلت: يا رسول الله ما عرفتُك، ولو عرفتُك ما جَسَرتُ على تأخير أمرك، قال: قم فاعمل في أمرهما ما أمرتُك به، فانتبهتُ، فاستدعيتُك لتَشهدَ ما يجري. فقلت: هذه عنايةٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمير المؤمنين، واهتمامٌ بما يُصلح دينَه، ويثبِّتُ ملكَه، فالمنَّة لله ولرسوله، فقال: امض فقد أزعجناك. فعدتُ إلى حُجرتي، فلمَّا كان من الغد دخلتُ عليه وهو جالس للرَّسم، فأحببت أن أعرِّف الجلساء ما جرى البارحة ليزهو بذلك، وكنتُ أعرفُ من طَبعه أنَّه يُحبُّ الإطراءَ والمَدْح، فقلت: أرى أمير المؤمنين ليس يخبر خدمه بما كان من المعجز البارحة، وعناية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلافته، فقال: وما ذاك؟ فقلت: إحضاري البارحة، وإحضار صاحب الشُّرطة والجمَّال والحدَّاد، ورؤياه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وما أمره فيهما، والإحسان إليهما، وإطلاقهما، فقال: والله ما أذكرُ من هذا شيئًا، وما كنت إلَّا سكران، نائمًا طولَ ليلتي، فقلتُ: بلى يا سيِّدي، فتنكَّر، وقال: قد صرتَ تُغالطني وتُخادعني بالكذب؟ فقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله، هذا أمر مشهور في الدَّار عند الخدم، وصاحب الشرطة نفسه، وقصصتُ عليه القصَّة، وشرحتُها له. فاستدعى الخدم، فتحدَّثوا بمثل ما ذكرتُه، فأظهر تعجُّبًا شديدًا، وحلفَ بالبراءة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبالله العظيم، وبالنَّفي من العبَّاس أنَّه ما يذكر شيئًا من ذلك، ولا يعلم إلَّا أنَّه كان نائمًا، ولا رأى منامًا، ولا انتبه، ولا جلس، ولا استدعى أحدًا، ولا أمر بأمر، فما رأيتُ أعجبَ من هذا المنام، ولا أظرف من هذا الاتِّفاق في كتابة ذلك.

أحمد بن أبي خيثمة زهير

أحمد بن أبي خَيثَمة زُهير ابن حرب بن شدَّاد، النَّسائيُّ الأصل. كان عالمًا، حافظًا، ذا فنون، بَصيرًا بأيام النَّاس، راويةً للآداب. أخذ علم الحديث عن الإمام أحمد بن حنبل، وابنِ معين، وعلمَ النَّسب عن مُصعب الزُّبَيري، وأيَّام النَّاس عن أبي الحسن المدائني، والآداب عن محمد بن سلَّام الجُمَحي، وصنَّف "التَّاريخ" الذي أحسن تصنيفَه، وأكثر فوائدَه. وكانت وفاته في جمادى الأولى وقد بلغ أربعًا وتسعين سنة. سمع عفَّان بنَ مسلم وغيرَه، وروى عنه البغويُّ، وابنُ صاعد، وابنُ المنادي، وغيرهم، وأجمعوا على دينه، وصدقه، وثقته. ومن شعره: [من البسيط] مَن كان لم يرَ من هذا الهوى أَثَرًا ... فلْيَلْقَني فيرى آثارَ بَلواه متيَّمٌ شَفَّه بالحُبِّ مالِكُهُ ... ولو يشاء الذي أدْواه داواه (¬1) [فصل وفيها تُوفِّي] أحمد بن عبد الرَّحمن ابن مَرْزوق، أبو عبد الله، البُزروي، البغدادي، ويعرف با بن أبي عَوْف. [قال الخطيب: ] (¬2) وإليه يُنسب شارع ابن أبي عوف ببغداد، المسلوك فيه إلى نهر القلّائين. ولد أحمد سنة أربع عشرة ومئتين، وطلب الحديث، وسمع الكثير، وكان ثقة، نبيلًا، رَفيعًا، جَليلًا، له منزلة من السُّلطان، ومودَّة في قلوب العوامِّ، وحالٌ من الدُّنيا واسعة، وطريقة في الخير مَحمودة. وهو الذي سأل الإمام أحمد [بن حنبل] رحمة الله عليه عن بيع النَّرْجِس ممَّن يشرب ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد"5/ 265 - 267 والأبيات المذكورة فيه، و"المنتظم" 12/ 328، و "تاريخ الإسلام" 6/ 481. وهذه الترجمة ليست في (ب). (¬2) في "تاريخه" 5/ 406.

المُسْكر، فقال: لا يعجبني. [وقد أثنى عليه] إبراهيم الحربيُّ وقال: ابن أبي عوف أحد عجائب الدُّنيا، عفيفُ اللِّسان والفرج واليد. وكان له اختصاص بعبيد الله بن سليمان الوزير، [وقد ذكر الخطيب (¬1) السَّبب بكلام طويل اختصرته عن ابن أبي عوف حاصله: أنَّ] ابن أبي عوف قال: كان سبب اختصاصي بعبيد الله [بن سليمان الوزير] أنِّي اجتَزْتُ يومًا بمدينة أبي جعفر، فدخلتُ جامعَ المنصور، وإذا بغَريم قد لزم عُبيد الله، وطالبه بثلاث مئة دينار، وهو في عَقيب نكبته، وكان بيننا مودَّة، فسألتُ الغريم إنظارَه، فأبى، فقلت: المال عندي إلى أسبوع، فقال: اكتب خطّك. فكتبتُ وانصرف، فشكرني الوزير، فقلت: أحبُّ أن تُتِمَّ سروري بأن تصير معي إلى منزلي، قال: نعم، فأركبتُه حماري، ومشيتُ في رِكابه، فأدخلتُه داري، وقدَّمت له طعامًا فأكل، وأخرجتُ له كيسًا فيه دنانير، وقلت: لعلَّك على إضاقة، فخُذْ منه ما شئتَ، فأخذ منه دنانير. ثمَّ قام فخرج، فلامَتْني زوجتي وقالت: لم تقنع بأن ضَمِنتَ عنه ما لا يفي حالُك به حتَّى أعطيتَه دنانير! فقلتُ لها: ويحك يا هذه، قد فعلتُ جميلًا، وأسديتُ يدًا جليلةً إلى حرٍّ كريم من بيت كريم، وله أصلٌ خطير، فإن نفعني الله بذلك فله قصدتُ، وإن تكن الأخرى لم يضِع عند الله. قال: وحلَّ الدَّين، وجاء الغَريم يُطالبني، فأخَّرتُه يومين لأبيع عقاري وأُعطيه ثمنَه، فبينما أنا على ذلك إذا برُقْعةِ الوزير قد جاءتني، فمضيتُ إليه، فقال: جاء الرَّجل؟ قلت: نعم، قال: فما الذي جرى؟ فقلتُ: أمهلْتُه يومين حتَّى أنادي على عقاري وأبيعه وأعطيه ثمنه، فقال: قد جاءتني غليلةٌ من ضَيعةٍ لي سَلِمت من النَّكبة، وثمنُها يفي بما ضمنتَ عنِّي، فبِعْها وأدِّ ثمنها إلى الغريم. [قال: ] فبعتُها، وحملتُ ثمنَها إليه، وقلت: أنت مضيّق وأنا أعطي الغَريمَ البعض من عندي وأصبِّره، [فأبى، فقلت: لا بدَّ. وجاء الغريم، فأعطيته البعض من عندي، وصبَّرتُه] بالباقي إلى مدَّة. ولم يمض على ذلك إلَّا اليسير حتَّى ولي عبيدُ الله الوزارة، فأحضرني من يومه، وقام من مجلسه [قائمًا]، وتلقَّاني، [وجعلني في السماء]، وكان إذا خرج ليركب دابَّتَه ¬

_ (¬1) في "تاريخه" 5/ 408 - 409.

أحمد بن يحيى بن جابر

لا يركب حتَّى أركب دابَّتي، ويقف الوزيرُ والنَّاس حتَّى أركب، فكسبتُ الأموال الجليلة، وكلُّ ما أنا فيه من النِّعمة فمِن ذاك. [قلت: وعبيد الله بن سليمان بن وَهْب نكبَه المعتمد مرارًا، فلمّا ولي المعتضد استكتبه واستوزره]. سمع أحمد عمرو بن محمد النَّاقد وغيره، وروى عنه أبو بكر الشافعيُّ وغيره، وكانت وفاته ببغداد (¬1)، وهو ثقة [انتهت ترجمته، والله أعلم] (¬2). أحمد بن يحيى بن جابر أبو بكر، وقيل: أبو جعفر، وقيل: أبو الحسن، البَلاذُريُّ، صاحب "التاريخ"، الكاتب البغداديُّ. طاف الدُّنيا، وصنَّف "التاريخ " ولم يصنَّف في فنِّه مثله، ومدح المأمون، وجالس المتوكِّل. وكان شاعرًا أديبًا فاضلًا، ووفاته ببغداد، ومن شعره: [من الخفيف] اِستعدِّي يا نفسُ للموت وابغي ... لنَجاةٍ فالحازمُ المُسْتَعِدُّ قد تيقَّنتُ أنَّه ليس للحيِّ ... خلودٌ ولا من الموت بُدُّ إنَّما أنتِ مستعيرةٌ ما سو ... ف تَرُدِّيه والعَواري تُرَدُّ أيّ مُلْك في الأرض أو أيُّ حظِّ ... لامرئ حظُّه من الأرض لَحْدُ كيف يَهوى امرؤٌ لَذاذَةَ أيَّا ... مٍ عليه الأنفاسُ فيها تُعَدُّ سمع هشام بن عمَّار وغيره، وروى عنه جمٌّ غَفير، وأجمعوا على صدقه وثقته وفضله. وقال ابنُ عساكر: وسوس في آخر عمره (¬3). ¬

_ (¬1) أرخ الخطيب 5/ 407، وابن الجوزي 13/ 90، والذهبي في "تاريخه" 6/ 884 وفاته سنة (297 هـ). (¬2) ما بين معكوفات من (ب)، وبعدها فيها: السنة الثمانون ومئتين. (¬3) لم نقف على هذا القول في "تاريخه" 2/ 269 - 270، وهو في مختصره لابن منظور 3/ 319، ونقله الذهبي في "تاريخ الإسلام" 6/ 505 عن المرزباني.

خاقان أبو عبد الله الصوفي

خاقان أبو (¬1) عبد الله الصّوفي كان له كرامات، اجتاز بشابٍّ، فقال له ابن فَضْلان الرَّازيُّ وهو جالس به: كان أبي ببغداد، وكان أبوه من الباعة، فدفع إلى خاقان دينارًا، فأخذه ولم يقلْ شيئًا، قال ابن فضلان: فتبعتُه، فاشترى بالدِّينار طعامًا، وحمله إلى مسجد الشُّونيز، فدخل، وإذا بثلاثة من الفقراء جلوس، فألقاه بين أيديهم، وقام يصلّي، فأكلوا، فلمَّا انفتل من صلاته قالوا له: لِمَ لمْ تأكل معنا؟ فقال: كنتُ مشغولًا بشابٍّ ناوَلَني دينارًا، فسألتُ الله أن يُعتِقَه من رقِّ الدُّنيا وقد فعل، قال الشابُّ: فلم أتمالك أن قعدتُ بين يديه وقلت: صدقتَ يا أستاذ، وخرج الشابُّ عن الدُّنيا. محمد بن المُظَفَّر ابن موسى بن عيسى، أبو الحسين، البزاز، الحافظ. رحل إلى الأمصار، وبرع في علم الحديث ومعرفة الرجال، وتوفِّي في جمادى الأولى ببغداد. سمع الطَّبريَّ وغيرَه، وروى عنه الدَّارقطني وغيرُه، واتَّفقوا على فضله وصدقه وثقته (¬2). فصل وفي الرّواة محمد بن المظفّر جماعة؛ فمنهم: محمد بن المظفّر بن عبد الله، أبو الحسن، البغداديّ، المعدَّل. حكى عن جعفر الخالدي، عن الجنيد أنَّه قال: اطِّراح هذا العالم من المروءة، والاستئناس بهم حجاب عن الله، والطمع فيهم فقر الدُّنيا والآخرة. وقال الخطيب: أنشدنا لغيره، وقيل: هما لهلال بن العلاء الباهليّ: [من الطويل] سَيَبْلَى لسانٌ كان يعرف لفظَهُ ... فيا ليته في وقْفَةِ العَرْض يَسْلَمُ ¬

_ (¬1) في (خ): بن، والمثبت من "حلية الأولياء" 10/ 331، و"تاريخ بغداد"9/ 307، و"المنتظم" 12/ 329. (¬2) "تاريخ بغداد" 4/ 426 - 429، و "المنتظم" 14/ 342 - 343، و"تاريخ الإسلام" 8/ 472 - 473. وكلهم ذكروا تاريخ وفاته في سنة تسع وسبعين وثلاث مئة.

نصر بن أحمد

وما تنفعُ الآداب إن لم يكن تُقًى ... وما ضرَّ ذا تقوى لسانٌ مُعَجَّم (¬1) وقال الخطيب: وأنشدنا أيضًا لأبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصَّابئ: [من السريع] قد كنتُ للحِدَّةِ من ناظري ... أرى السُّها في اللَّيلةِ المُقْمِرَه فالآن ما أُبصِرُ بدرَ الدُّجى ... إلَّا بعينٍ تشتكي الشَّبْكره (¬2) لأنَّني أنظرُ منها وقد ... غيَّر منِّي الدَّهرُ ما غيَّره ومَن طوى السِّتِّين من عُمره ... رأى أمورًا فيه مُسْتنكَرَه وإن تخطَّاها رأى بعدها ... من حادثاتِ الدَّهر ما غيَّره وكانت وفاتُه في جمادى الأولى سنة عشرٍ وأربع مئة، وقد بلغ أربعًا وسبعين سنة (¬3). نَصْر بن أحمد ابن أسد بن سامان. [كان سامان] مع أبي مسلم صاحب الدَّعوة، وكان ينتسب إلى الأكاسرة، فمات سامان، وبقي ابنُه أسد مع علي بن عيسى بن ماهان، فولَّاه الرشيد خراسان، وتوفي أسد في ولايته، وخلَّف ابنَه نوحًا، وأحمد، ويحيى، وإلياس، فولي أحمد بن أسد فَرْغانة، ونوح سَمَرْقَنْد، ويحيى الشَّاش وأشْرُوسنة، وإلياس هَراة. وكان أحمد أحسنَهم سيرة، توفِّي في أيَّام عبد الله بن طاهر، وخلَّف سبع بنين، منهم نصر بن أحمد، فولي ما كان إلى أبيه من سَمَرْقَند والشَّاش وفَرْغانة (¬4)، وولَّى أخاه إسماعيل بخارى وأعمالها، وهؤلاء يُسمَّون السَّامانية، وكانوا ملوكًا. وتوفِّي نصر بسَمَرْقَند في هذه السَّنة، وكان أديبًا، شاعرًا، فاضلًا، ثقة (¬5). * * * ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" 4/ 429 - 430. (¬2) الشبكرة: العَشى يكون في العين. "اللسان" (هدبد). (¬3) وتنظر ترجمته أيضًا في "المنتظم" 15/ 137 - 138، و"تاريخ الإسلام" 9/ 158 - 159. (¬4) كذا في النسخ والمنتظم 12/ 331، والنجوم الزاهرة 3/ 84، والذي في نهاية الأرب، فصل الدولة السامانية: فلما توفي أحمد بن أسد استخلف ابنه نصرًا على أعماله بسمرقند، فبقي عاملًا عليها إلى آخر الأيام الطاهرية وبعدها إلى أن مضى لسبيله ... ، وما بين معكوفين من (ب).

السنة الثمانون بعد المئتين

السَّنة الثمانون بعد المئتين فيها في المحرَّم قبض المعتضد على محمد بن الحسن بن سَهل، ويُعرف بشَيلَمة، وكان أحدَ قوَّاد الزَّنجي إلى آخر أيامه، ثمَّ استأمن إلى الموفَّق، فبلغ المعتضد أنَّه يدعو إلى أحد أولاد المُهْتدي، فقُرِّر فلم يُقِرَّ، فهدَّده وقال: أخبرني عن الرَّجُل الذي تدعو إليه، فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتُهما عنه، فقتله. وفي صفر خرج المعتضد من بغداد بجيوشه يريد بني شيبان، وكانوا قد عاثوا وأفسدوا، فلَحِقهم بمكان يقال له: السِّنّ، فأوقع بهم، فقتل منهم مقتلةً عظيمة، وغَرق منهم في الزَّابَيْن خلقٌ عظيم، وأخذ النساء والذَّراري، وغنم العسكرُ من أموالهم ما عَجزوا عن حمله، حتَّى بيعت الشَّاة بدرهم، والجمل بخمسة دراهم، وأمر بحفظ النِّساء والذَّراري عن التعرُّض لهم. ثمَّ مضى المعتضد إلى الموصل، ثمَّ رجع إلى بغداد، فلقيه بنو شيبان، وتذلَّلوا، وسألوه الصَّفح عنهم، فأخذ منهم خمس مئة رجل رهائن، وردَّ عليهم نساءهم وذَراريهم، وكان مع المعتضد حادٍ يَحدو بصوتٍ شَجيٍّ، وكان يَدلُّ به، فأشرف على جبل تَوْباذ فأنشد: [من الطويل] وأجْهَشْتُ للتَّوباذ حين رأيتُه ... وهلَّل للرَّحمن حين رآني وقلتُ له أين الَّذين عَهِدتُهم ... بظلِّك في خَفْضٍ وأمن زمانِ فقال مَضَوْا واستخلفوني مكانَهم ... ومَن ذا الذي يَبقى على الحَدَثانِ فبكى المعتضد بكاء شديدًا، وجعل يقول: ما سَلِم من الحَدَثان أحد (¬1). وفيها فتح محمد بن أبي السَّاج مَراغَةَ بعد حصار طويل، وأخذ منها مالًا كثيرًا. وفيها مات جعفر المفوَّض في ربيع الآخر، وكان محبوسًا في دار المعتضد لا يراه أحد، وقيل: إنَّ المعتضد نادمه. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 10/ 32 - 33، والمنتظم 12/ 332 - 333، والكامل 7/ 462، وتاريخ الإسلام 6/ 474 - 475، وهذه الأبيات في ديوان مجنون ليلى ص 275.

وفيها دخل عمرو بن اللَّيث نَيسابور في جمادى الأولى. وفيها غزا إسماعيل بن أحمد بلادَ التُّرك من وراء النَّهر، وأسر مَلِكها وزوجتَه، وأسر عشرة آلاف [نفس]، وقتل مثلَهم، وأصاب غنائمَ كثيرة، أصاب الفارسَ ألفُ درهم من المغنم. ومات مَسرور البلخيّ الأمير الذي كان مع الموفَّق في حصار الخبيث. وفي ذي الحجَّة ورد كتاب من الدَّبِيل أنَّ القمر انكسف في شوَّال لأربع عشرة ليلة [خلت] منه، ثمَّ انجلى في آخر اللَّيل، فأصبحت الدُّنيا مظلمة، ودامت الظُّلمة إلى العصر، فهبَّت ريح سوداء شديدة، فدامت إلى ثلث اللَّيل، فلما كان ثلث الليل زُلْزِلوا، فأصبحوا وقد ذهب ثلث المدينة، فلم ينجُ من منازلها إلَّا قَدْرَ مئة دار، وأنَّهم أخرجوا من تحت الهدم ثلاثين ألفًا إلى تاريخ الكتاب (¬1)، ثمَّ زُلزلوا بعد ذلك خمس مرَّات، فكان عدَّة من أُخرج من تحت الهدم خمسون ومئة ألف. وفيها شكا النَّاس إلى المعتضد ما يقاسونه من عَقبة حُلْوان من المشقَّة، فبعث عشرين ألف دينار فأصلحها. وفيها زاد المعتضد في جامع المنصور، [و] دار المنصور التي كان يَسكنها، وفتح بينهما سبعة عشر طاقًا، وحوَّل المنبر والمحراب إلى مكانه اليوم، وذلك على يد القاضي يوسف بن يعقوب، فبلغت النَّفقة عشرين ألف دينار. وفيها تمَّ بناء القصر الحسني الذي هو دار الخلافة اليوم، وتحوَّل إليه المعتضد. وذكره الخطيب (¬2) فقال: حدَّثني هلال بن المُحسِّن قال: كانت دار الخِلافة التي على شاطئ دجلة تحت نهر معلَّى قديمًا للحسن بن سهل، فلمَّا توفي صارت لبوران بنت الحسن، فاستنزلها المعتضد عنها، فاستنظرتْه أيَّامًا، ثمَّ رمَّتها وعَمَّرَتْها، وبيَّضَتْها، وفَرَشتها بأجلِّ الفَرْش، وعلَّقت أصنافَ السّتور على أبوابها، وملأت خزائنها (¬3) بكلِّ ما يُخدَم به الخلفاءُ، ورتَّبت فيها الخَدَم والجواري، وأمرت المعتضد ¬

_ (¬1) في (ب): إلى حين تاريخ هذا الكتاب. (¬2) في تاريخه 1/ 416، وعنه ابن الجوزي في المنتظم 12/ 335. (¬3) في (خ): جوانبها. والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد.

البرتي

بالنُّقلة إليها، فانتقل، فرأى ما أعجبه وأدهشه، واستكثَرَه واستحسنه، ثمَّ أضاف المعتضد إلى الدَّار ما جاورها وكبَّرها، وعمل عليها سورًا جمعها [به] وحصَّنها، ثمَّ زاد المكتفي بالله بناء التَّاج على دِجلة، وعمل وراءه من المجالس والقِباب ما تناهى في سَعته وحُسْنه، ثمَّ زاد فيها المقتدر وغيره. [قال الخطيب: كذا حدَّثني هِلال بن المُحَسِّن أنَّ بوران سلَّمت الدَّار إلى المعتضد، وذلك غير صحيح؛ لأنَّ] بُوران لم تَعِشْ إلى وقت (¬1) المعتضد، [ويشبه أن يكون سلَّمت الدَّار إلى المعتمد]. وفيها أمر المعتضد باتِّخاذ المَطامير في داره، وجعلها حُبوسًا لمن يَنْقُم عليه، وعمل المُطْبَق وغيره، وقيل: إنَّه خطَّ الثُّريا وأضافه إلى القصر. وحجَّ بالنَّاس محمَّد بن عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبيد الله بن العبَّاس (¬2). البِرْتيُّ (¬3) ولي القضاء بواسط، ثمَّ ببغداد في الشَّرقية أيَّام المعتمد، فبعث إليه الموفَّق وإلى إسماعيل بن إسحاق، وقد عزم على الانحدار أن يقبضا (¬4) ما في أيديهما من مال اليتامى والوقوف، فحمل إليه إسماعيل ما كان قِبَله، واستنظره البرتيّ ثلاثة أيام، وعمد إلى ما كان في يده، فدفعه إلى مَن أنس به رشدًا، وإلى الأُمناء الثِّقات، فلمَّا طولب بالمال قال: دفعتُه إلى أربابه، فعُزِل من القضاء بهذا السبب، فلزم بيتَه بالبِرْت، واشتغل بالتعبُّد. وقال العلاء بن صاعد: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام ودخل عليه أبو العبَّاس ¬

_ (¬1) في (خ): إلى خلافة المعتضد، والمثبت وما بين معكوفين من (ب). (¬2) في تاريخ الطبري 10/ 35، والمنتظم 12/ 336، والكامل 7/ 465: وحج بالناس أبو بكر محمد بن هارون المعروف بابن ترنجة. (¬3) كذا، والبرتي: هو أحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر، انظر تاريخ بغداد 6/ 219، والمنتظم 12/ 337، وتاريخ الإسلام 6/ 498. (¬4) كذا في (خ)، وفي المنتظم: يقتضياه.

عثمان بن سعيد بن خالد

البرتيُّ، فقام إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصافحه، وقبَّل ما بين عينيه، وقال: مرحبًا بالذي عمل بسُنَّتي وآثرني، فكان العلاء بن صاعد إذا دخل عليه البِرْتيُّ قام إليه، وقبَّل ما بين عينيه، وصافحه، وقال: هكذا رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل. حدَّث البرْتيُّ عن الفضل بن دُكين وغيره، وروى عنه المحامليُّ وغيره، واتَّفقوا على فضله وصدقه وورعه. عثمان بن سعيد بن خالد أبو سعيد، الدَّارِميّ السِّجْزيُّ، نزيل هَراة. رحل إلى الأمصار، ولقي الشيوخ، وجالس الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وابنَ معين، والحفَّاظ، حتَّى قالوا: ما رأينا مثله، ولا رأى عثمان مثلَ نفسه. وكان لا يحدِّث مَنْ يقول بخلق القرآن. ودخل عليه أبو الحسن الطرائفيُّ بهراة، فقال له عثمان: متى قَدمتَ؟ فأراد أن يقول أمسِ، فقال: غدًا، فقال له عثمان: فأنت في الطَّريق بعدُ. وكانت وفاته بهَراة، وقيل: في سنة اثنتين وثمانين ومئتين. سمع حَيوة بن شُريح وغيرَه، وروى عنه أحمد بن محمد بن الأزهر وغيره، وكان حافظًا ثقة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 45/ 222، 227، وتاريخ الإسلام 6/ 574 - 576.

السنة الحادية والثمانون بعد المئتين

السنة الحادية والثمانون بعد المئتين فيها دخل طُغْج بن جُفّ صاحب خُمارويه من ناحية طَرَسوس لغزو الرُّوم، فبلغ طرابلون (¬1)، وفتح مَلُورية في جمادى الآخرة. وفيها غارت المياه بالرّيِّ وطَبَرِسْتان، فكان يُباع الماء ثلاثة أرطال بدرهم (¬2)، فغلت الأسعار، وقُحِط النَّاس، وأكل بعضهم بعضًا، وأكل إنسان ابنته. ولليلتين خلتا من رجب شخص المعتضدُ إلى الجبل ناحية الدِّينوَر، وقلَّد ابنَه أبا محمد عليًّا الرّيَّ، وقَزْوين، وزَنجان، وأَبْهَر، والدِّينَور، وقلَّد كَتَبَتَه أحمدَ بنَ أبي الأصبغ (¬3)، ونفقاتِ عسكره والضّياعَ بالرَّيِّ الحسينَ بنَ عمرو الصّزاني (¬4)، وقلَّد عمر بن عبد العزيز بن أبي دُلف أصبهان، ونَهاوند، والكَرْخ، وتعجّل الانصرافَ من غلاء الأسعار وقلَّة المِيرة، فوافى بغداد يوم الأربعاء لثلاثٍ خلون من رمضان. ولستِّ ليالٍ بقين من ذي القعدة خرج المعتضد الخَرْجة الثانية إلى الموصل عامدًا لحَمْدان بن حَمدون بن الحارث بن منصور بن لُقمان، وهو جدُّ ناصر الدَّولة، وكان قد بلغ المعتضدَ أنَّه يميل إلى هارون الشَّاري الخارجي، وأنَّه دعا له. وكانت الأعراب والأكراد قد اجتمعوا لمَّا بلغهم خروجُ المعتضد، وتحالفوا أنَّهم يُقتلون على دمٍ واحد، فالتقَوا على الزاب، وعبَّؤوا عسكرهم ثلاثة كَراديس (¬5)، وجعلوا عيالهم وأولادهم وأثقالهم خلفهم، فحمل عليهم المعتضد، ففرَّق شملَهم، فكان مَن غرق أكثر ممَّن قُتل. ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 10/ 36: طرايون، وفي الكامل 7/ 467: طرابزون. (¬2) في (خ): ثلث رطل بدرهم. والمثبت من الكامل 7/ 465، وتاريخ الإسلام 6/ 649، وانظر المنتظم 12/ 339. (¬3) في (خ): أحمد بن أبي الصفر. والمثبت من المصادر. (¬4) في (خ): النصراني. والمثبت من تاريخ الطبري 10/ 36، وانظر المنتظم 12/ 339. (¬5) الكراديس: جمع كردوس؛ وهي الخيل العظيمة، وقيل: القطعة من الخيل العظيمة، والكراديس: الفِرَقُ منهم.

ابن أبي الدنيا

ثمَّ سار المعتضد إلى المَوصل، وخرج إلى ماردين وبها حمدان بن حمدون، فلمَّا قرب منه المعتضد هرب من القلعة، وخلَّف فيها ابنَه، فنزل المعتضد، ودنا من باب القلعة، وصاح بنفسه: يا ابن حمدان، فأجابه، فقال: افتح الباب، فقال: نعم، ففتحه، وقعد المعتضد على الباب، ونقل ما فيها من المال والأثاث، ثمَّ أمر بهدمها فهُدمت، ووجَّه خلف حمدان، فطُلب أشدَّ الطلب، وأُخذت الأموال كانت له مُودعة، ثمَّ ظفر به بعد ذلك فحبسه. ثمَّ مضى المعتضد إلى مدينة يقال لها: الحسنيَّة، وبها رجل كرديٌّ يقال له: شدَّاد، في عشرة آلاف مقاتل، وكان له في المدينة قلعة يتحصَّن بها، وما زال المعتضد يُحاصره ويقاتله حتَّى ظفر به، وهدم قلعته (¬1). وفي رمضان هدم المعتضد دار النَّدوة بمكَّة، وجعلها مسجدًا إلى جانب المسجد الحرام، وغَرِم عليها أموالًا كثيرة. وحجَّ بالنَّاس محمد بن عبد الله بن ترنجة (¬2). وفيها توفي ابن أبي الدُّنيا واسمُه عبد الله بن محمد بن عُبيد بن سفيان بن قيس، أبو بكر، القُرشي، البغداديُّ، مولى بني أميَّة. ولد [في سنة] ثمانٍ ومئتين، وكان مؤدِّبًا لجماعة من أولاد الخلفاء منهم المعتضد وابنه عليّ المكتفي. وكان إمامًا، عالمًا، فاضلًا، زاهدًا، عابدًا، ورعًا، ثقةً، ذا مروءة تامَّة، ونيَّة صادقة، وله التصانيف الحسان، وبورك له فيها، والنَّاس بعده عيالٌ عليه في الفنون الَّتي جمعها (¬3). ¬

_ (¬1) من قوله: ولليلتين خلتا من رجب شخص .. إلى هنا ليست في (ب). (¬2) كذا يورده المصنف: محمد بن عبد الله بن ترنجة، وقد سلف احمه قريبًا، والذي في الطبري 10/ 35، والمنتظم 12/ 340، والكامل 7/ 465 أنَّه محمد بن هارون بن إسحاق. (¬3) بعدها في (ب): وقد فرق جدي رحمه الله معظمها في كتبه.

قال المصنِّف رحمة الله عليه: وبلغني أنَّها مئة ونيف وثلاثون مصنَّفًا. وقال الشيخ أبو الفرج الجوزي رحمه الله في "المنتظم" (¬1): وصنَّف في الزُّهد أكثر من مئة مصنَّف، [ولم يذكر منها شيئًا وقد ذكرتُ ما وقع إليَّ منها. وبعد فهذا ما وصل إلينا من مصنَّفاته] فمنها كتاب: الأولياء، والإخلاص، والإخوان، والأضاحي، وأعلام النُّبوة، وحقيقة الإيمان، وقصر الأمل، وأخبار إبراهيم بن أدهم، وأخبار الأحنف بن قيس، وذمُّ البخل، والبرّ والصِّلة، والتفكُّر والاعتبار، والتَّقوى، والتوكُّل، وأعقاب السُّرور والأحزان، والتعفُّف، والتَّهجُّد، وقيام الَّليل، والتَّاريخ، والجهاد، والجوع، والجود والسَّخاء، وحسن الظَّنِّ، والحلم، وذمُّ البغي، وذمُّ الحسد، وحكماء المجانين، وقضاء الحوائج، وعلم السُّلطان، والخائفين، والخلفاء، والحاكم، والخمول والتَّواضع، والدُّعاء، ومواعظ الخلفاء، ومجابي الدَّعوة، والذِّكر، وذمُّ الدنيا، والرّهبان، وتعبير الرؤيا، والرِّقة والبكاء، والرَّمي والنّضال، والرّغائب، والرّضا، وفضل رجب وشعبان ورمضان، وإرساله - صلى الله عليه وسلم -، والشُّكر، وفضل الصَّدقة، واصطناع المعروف، والصبر، وصدقة الفطر، والطَّاعون، ومن عاش بعد الموت، والعزاء، والعلم، وأخبار النَّاس، والعمر، والفرج، والقناعة، وقِرى الأضياف، وفضل الصَّلاة، والصَّمت، والعقوبات، والعيال، وفضائل العيدين، وفضل عشر ذي الحجة، وعاشوراء، والعقل، ومقتل عمر رضي الله عنه، ومقتل الحسين - عليه السلام -، ومقتل حُجْر بن عديّ، ومقتل سعيد بن جبير، ومقتل عبد الله بن الزُّبير، ومقتل طلحة، ومقتل عثمان رضوان الله عليه، وأخبار قريش، والقبور، وصفة القيامة، والألوية، ومداراة النَّاس، ومحاسبة النَّفس، والمحتضرين، ومكائد الشيطان، والمنامات، وذمُّ الملاهي، وذمُّ المسكر، والمرض والكفَّارات، وحكم معاوية والعمرين، والمروءة، والموت، والنوازل، والمراثي والمعازي، ومواعظ الملوك، والمعاريض، والمجالسات، وصفة الجنَّة، وصفة النَّار، والنَّوادر، والنَّوازل (¬2)، ونَورُ الشَّيب، والورع، وأخبار [أويس، وأخبار معاوية] (¬3) والرهائن، والهمُّ والحزن، والهواتف، وفضل لا إله إلَّا الله، ¬

_ (¬1) 12/ 341. وما بين معكوفتين من (ب). (¬2) لعلها النوازع. ينظر سير أعلام النبلاء 13/ 403. (¬3) ما بين حاصرتين من السير 13/ 401 - 402.

وكتاب اليقين، وغير ذلك والله أعلم. [وروى ابن ناصر بإسناده إلى عمر بن سعد القراطيسيّ قال: كنّا على باب ابن أبي الدُّنيا ننتظر خروجَه، فجاءت السَّماء بمَطَرٍ عظيم، فخرجت جاريةٌ ومعها رقعة، فدفعَتْها إلينا، فقرأناها، فإذا فيها [مكتوب]: [من الرمل] أنا مُشتاق إلى رؤيتكم ... يا أخلَّائي وسَمعي والبَصَرْ كيف أنساكم وقلبي عندكم ... حال فيما بيننا هذا المطر [قال: ] فتفرَّقنا. واختلفوا في وفاته على ثلاثة أقوال؛ أحدها ذكره أبو الحسين بن المنادي قال: مات في سنة إحدى وثمانين ومئتين ودفن ببغداد في الشّونيزيَّة وله سبعون سنة. والثاني سنة اثنتين وثمانين ومئتين. قاله ابن قانع. والثالث في سنة ثلاث وثمانين ومئتين، والأوَّل أصح، وقد نصَّ عليه ابن المنادي، وحكاه عنه الخطيب. وصلَّى عليه يوسف بن يعقوب القاضي رحمة الله عليه (¬1). سمع خلقًا كثيرًا، وروى عنه خلق كثير، واتَّفقوا على صدقه وثقته وأمانته (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في (خ): فتفرقنا، ومات في هذه السنة ودفن ... وقيل مات سنة اثنين وثمانين وقيل سنة ثلاث وثمانين، والأول أصح وصليَّ عليه يوسف بن يعقوب القاضي، سمع خلقًا ... وأمانته. والمثبت من (ب). وانظر في ترجمته تاريخ بغداد 11/ 293، والمنتظم 12/ 341، وتاريخ الإسلام 6/ 768، والسير 13/ 397. (¬2) جاء بعدها في نسخة (ب) ما نصه: والحمد لله وحده، وصلَّى الله على أشرف خلقه محمد وآله وسلَّم، نجز الجزء السادس بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وكان الفراغ من تعليقه في يوم الخميس المبارك تاسع عشر ذي القعدة الحرام، من شهور سنة إحدى وسبعين وتسع مئة، أحسن الله تعالى عاقبتها في خير وسلامة، وصلَّى الله على أشرف الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. يتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء السابع السنة الثانية والثمانون بعد المئتين.

السنة الثانية والثمانون بعد المئتين

السنة الثانية والثمانون بعد المئتين (¬1) فيها في المحرَّم أمر المعتضد بتغيير نَيروز العَجم الَّذي هو افتتاحُ الخراج، وأخَّره إلى حادي عشرين حزيران (¬2)، وسمَّاه النَّيروز المعتضدي، وقصد بذلك الرِّفق بالرَّعيَّة [والترفيه عليهم]، فأنشأ الكتب بذلك، [وقرئت بالآفاق]، ومنع النَّاس مما كانوا يعملونه في كلِّ سنة من إيقاد النِّيران، وصبِّ الماء على النَّاس في ذلك اليوم، فكان ذلك من أحسن أفعال المعتضد في الإسلام؛ حيث أزال سُنَّة المجوس وأطفأ نارهم. وفيها لليلتين خلتا من المحرَّم قدم ابن الجصَّاص بقطر النَّدى بنت خُمارويه من مصر ومعها أحد عمومتها، فأنزلت في دار صاعد، وكان المعتضد غائبًا بالموصل. وفيها (¬3) كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون في المصير إليه، فأمَّا إسحاق فسارع إلى ذلك، وأما حمدان فتحضَّن في بعض قِلاعه، وغيَّب أمواله وحُرَمَه، فوجَّه إليه المعتضد وصيف مُوشْكير ونصر القُشوريّ وغيرهما، فصادفوا الحسين (¬4) بن حَمْدان في قلعة تُعرف بالزَّعْفَران، فطلب الأمان وسلَّم إليهم القلعة، فهدمها وصيف، وسار يطلب حمدان في زورق في دجلة ومعه مال، فعبر إلى الجانب الغربيِّ من دجلة وصار إلى ديار ربيعة؛ ليلحق بالأعراب الذين كانوا هناك لما حيل بينه وبين أكراده الذين في الجانب الشرقيّ، وعبر في إثره عدد يسيرٌ من الجند، فاقتفَوا أثره حتَّى عرفوا مكانه، وكان قد نزل في ديرٍ هناك، فلمَّا علم بهم ألقى نفسه في زورق كان هناك ومعه كاتبُه زكريا بن يحيى النَّصراني، وخلَّف المال في الدَّير، فأخذه أصحاب المعتضد وحملوه إلى المعتضد، وتبعه عسكر وَصيف في الماء وعلى الظَّهر، فلمَّا رآهم خرج من الزَّورق هاربًا إلى ضَيعةٍ له شرقي دجلة، فأخذ دابَّةً لوكيله، وسار ليلته إلى أن وافى مَضْرِب إسحاق بن أيوب في عسكر المعتضد مُستجيرًا به، فأجاره ¬

_ (¬1) من هنا بدأت نسخة (م 1)، وأولها: الجزء السابع من مرآة الزمان، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. (¬2) في تاريخ الطبري 10/ 39، والمنتظم 12/ 343: الحادي عشر من حزيران. (¬3) من هنا إلى ذكر دخوله بقطر الندى ليس في (م). (¬4) في (خ) و (ف): يحيى. والمثبت من تاريخ الطبري 10/ 39، والكامل 7/ 470.

وأحضره إلى المعتضد، فأمر بالاحتراز عليه، وبثَّ الخيل في طلب أسبابه، فظفروا بكاتبه وعدَّةٍ من أهله وغلمانه، وتتابع رؤوس الأكراد في الدُّخول في الأمان في آخر المحرَّم، وعاد المعتضد إلى بغداد. ذكر دخوله بقَطْر النَّدى بنت خُمارويه: ولخمس (¬1) خلون من ربيع الأول نُقلت [قطر النَّدى] إلى التَّاج المعتضدي، وذلك لأنَّه لمَّا كان يوم الأحد نودي في جانبي بغداد: لا يعبر أحدٌ في دجلة يوم الأحد، وأُغلقت أبواب الدُّروب التي على الشَّطّ، ومُدَّ على الشَّوارع النَّافذة إلى دجلة شراع بحافَّتي دجلة، ومنع من ظهور النَّاس من دورهم التي على الشَّطِّ. فلمَّا كان وقت العتَمة وافت سفينةٌ من التَّاج المعتضدي فيها خدم (¬2) معهم الشُّموع، فوقفوا عند دار صاعد، وقد أعدَّت أربع حَرَّاقات، وأنزلت قطر النَّدى في حَرَّاقة، وحُملت إلى المعتضد، فأقامت بالدَّار حتَّى دخل بها ليلة الثلاثاء لخمسٍ خلون من ربيع الأوَّل. ذكر ما نقل من جهازها: [قال الصُّولي: ] نقل أبوها في جَهازها ما لم يُر مثله، كان من جملته أربعة آلاف تِكَّة مجوهرة، وعشر صناديق جواهر وتحف، وقُوِّم ما كان معها فكان ألف ألف دينار وعشرين ألف ألف درهم، [وأعطى أباها مئة ألف ألف دينار، وقال: اشترِ لها به من تحف العراق ما تحتاج إليه، وكان المعتضد حمل صداقها إلى مصر ألف ألف درهم] وأنواعًا من الطِّيب، ولطائف الهند والعراق شيئًا كثيرًا، وبعث لخُمارويه خُفًّا فيه جوهر لم يُر في الدُّنيا مثله، ووشاحين، وتاجًا، وإكليلًا، وقَلَنْسوة، وقَباءً كلُّه مكلَّل بالدُّر والجوهر. وكان ابن الجصَّاص قد حبس بعضَ الجواهر عنده، وقال لقطر النَّدى: الزمان لا يُؤمن، والوقت لا يدوم على حال، فيكون هذا لكِ عندي ذخيرة، وماتت قطر النَّدى، فأخذ ابنُ الجصَّاص الجواهر [التي كان احتبسها عنده لقطر النَّدى]، ثم أخذها منه ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 10/ 40، والمنتظم 12/ 343: ولأربع. (¬2) في النسخ: حرم. والمثبت من تاريخ الطبري 10/ 40، والمنتظم 12/ 344.

المقتدر وأضعافها [وسنذكر ذلك في ترجمة ابن الجصَّاص في السنة الخامسة عشر وثلاث مئة، ونذكر أيضًا مصادرة المقتدر له]. وقال عليُّ بن العبَّاس بن جُرَيج الشَّاعر في دخول المعتضد بقطر النَّدى [بنت خماروريه ليلة بنائها]: [من الكامل] يا سيِّدَ العَرَب الَّذي وَرَدَتْ له ... باليُمْنِ والبركاتِ سيِّدةُ العَجَمْ فاسْعَدْ بها كسُعودها بك إنَّها ... ظَفِرَتْ بما فوقَ المطالب والهِمَمْ شمسُ الضُّحى زُفَّتْ إلى بَدْرِ الدُّجَى ... فتكشَفَتْ بهما عن الدُّنيا الظُّلَمْ ظَفِرَتْ بمالئ ناظرَيها بَهْجَةً ... وضَميرها نُبْلًا وكفَّيها كَرَمْ (¬1) [قلت: وقوله: شمس الضحى زفَّت إلى بدر الدُّجى؛ فيه نظر، لأنَّ أرباب الهيئة يقولون: إنَّ الشمس ذكر والقمر أنثى] (¬2). وفيها خرج المعتضد إلى الجبل، فبلغ الكَرَج، وأخذ أموالًا لابن أبي دُلَف، وكتب إليه يطلب منه جوهرًا كان عنده، فبعث به إليه، وتنحَّى من بين يديه. وفيها أطلق المعتضد لؤلؤًا غلامَ ابنِ طولون، وحمله على دوابّ وغيرها. وفيها بعث المعتضد الوزيرَ عُبيد الله بن سليمان إلى الرّيّ إلى ابنه عليّ. وفيها بعث محمد بن زيد العلويّ من طَبَرِستان إلى محمد بن الوَرْد العطَّار ببغداد نيفًا وثلاثين ألف دينار؛ ليفرِّقها على أهله العلويَّة ببغداد والكوفة، ومكَّة والمدينة (¬3)، فسُعيَ به إلى بدر المعتضدي، فأحضره، وسأله عن ذلك فقال: نعم، إنَّه في كلِّ سنة يبعث إليَّ بمثل هذا، فافرِّقه فيمن يسرّ إليهم من أهله، فأخبر بدر المعتضد فقال: يا بدر، تذكر الرُّؤيا التي أخبرتك بها منذ زمان؟ قال: لا، قال: أما أخبرتُك أنَّ أبي الموفَّق دعاني وقال لي: اعلم أنَّ هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -؟ قال: ثمَّ رأيتُ كأنِّي خارج بغداد أريد ناحية النَّهْرَوان في جيشي وقد تشوَّف النَّاس إليَّ، إذ مررتُ برجلٍ واقفٍ على تلّ يصلِّي لا يلتفت إليَّ، فعجبتُ منه ومن قلَّة اكتراثه بي ¬

_ (¬1) مروج الذهب 8/ 117 - 119، 207 - 208، والأبيات أيضًا في ديوان ابن الرومي 6/ 2245. (¬2) ما سلف بين معكوفين من (ت) و (م 1). (¬3) من هنا إلى قوله: وفيها قدم بغداد إبراهيم ... ليس في (م 1).

إسماعيل بن إسحاق

وبعسكري، فأقبلتُ إليه، ووقفتُ بين يديه، فلمَّا فرغ من صلاته قال: أقبِلْ. فأقبلتُ إليه، فقال: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا عليُّ بن أبي طالب، خذ هذه المِسْحاة -لمسحاة بين يديه- فاضرب بها الأرض، فأخذتُها، وضربتُ بها ضَرَبات، فقال: إنَّه سَيَلي من ولدك هذا الأمر بعدد ما ضَربتَ بها في الأرض، فأوصِهم بولدي خيرًا. قال بدر: بلى يا أمير المؤمنين، قد ذكرتُ، قال: فأطلِق الرجل والمال. وأمره أن يكتبَ إلى صاحبه بطَبَرِستان أن يوجّه بما يوجِّهه إليه ظاهرًا، وأن يفرِّق محمد بن وَرْد ما يفرِّقه ظاهرًا، وتقدَّم بمعونة محمد على ما يريد (¬1). وفيها عاد الوزير عُبيد الله من الرِّيّ إلى بغداد، فخلع عليه المعتضد. ولثمانٍ بقين من شهر رمضان وُلد للمعتضد وَلدٌ من ناعم جاريةِ أمِّ القاسم بنت محمد بن عبد الله، فسمَّاه جعفرًا، وسمَّى هذه الجارية شغب. وفيها قدم بغداد إبراهيمُ بن أحمد الماذَرائيُّ لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجَّة من دمشق على السَّماوة في أحد عشر يومًا، وقيل: في سبعة أيام، فأخبر المعتضد أنَّ خُمارويه [بن أحمد بن طولون] ذُبح على فراشه. وكان المعتضد قد بعث مع ابن الجصَّاص هديّةً إلى خُمارويه ورسالة، وخرج [ابن الجصَّاص] إلى سرَّ من رأى، فردَّه المعتضد إلى بغداد في ذي الحجَّة لسبع بقين منه. وحجَّ بالنَّاس محمَّد بن عبد الله المعروف بابن ترنجه (¬2). وفيها توفِّي إسماعيل بن إسحاق (¬3) ابن إسماعيل بن حمَّاد بن زيد بن دِرْهَم، أبو إسحاق الأزديُّ، القاضي، البصريُّ، مولى جرير (¬4) بن حازم. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 10/ 41 - 42، والمنتظم 12/ 344 - 345، والكامل 7/ 474. (¬2) سلف أنَّه محمد بن هارون بن إسحاق، وما بين معكوفين من (م 1). (¬3) من هنا إلى ذكر وفاة خمارويه ليس في (م 1). (¬4) في (خ): حرز. والمثبت من تاريخ بغداد 7/ 272، والمنتظم 12/ 346 - 348، ومعجم الأدباء 6/ 129 - 140.

خمارويه بن أحمد بن طولون

ولد سنة تسع وتسعين ومئة، وقيل: سنة مئتين، ونشأ بالبصرة، وسمع الحديث الكثير، وكان فاضلًا، مُفتيًا، فقيهًا على مذهب مالك، وشرح مذهبه ولخَّصه، وصنَّف "المسند" وكُتبًا كثيرة في علوم القرآن، وأقام قاضيًا نيِّفًا وخمسين سنة. رفع المعتضد إلى عبيد الله بن سليمان يقول: واستوصِ بالشيخين الخيِّرين الفاضلين إسماعيل بن إسحاق الأزديّ وموسى بن إسحاق الخَطْميِّ خيرًا؛ فإنَّهما ممن [إذا] أراد الله بأهل الأرض سوءًا دفع عنهم بدعائهم. وقال المبرِّد: ماتت أمُّ إسماعيل، فعزَّاه الجِلَّة من النَّاس، فلم يقبل عزاءً، فأنشدته: [من المتقارب] لَعَمري لئن غال رَيبُ الزَّما ... نِ فينا لقد غال نَفْسًا حَبيبَهْ ولكنَّ عِلمي بما في الثَّوا ... بِ عند الرَّزِّيَةِ أَنْسى المُصِيبَةْ فزال عنه ما كان به. وكانت وفاته ليلة الأربعاء لثمانٍ بقين من ذي الحجَّة وقتَ صلاة العشاء الآخرة فجأة. سمع خلقًا كثيرًا منهم عليُّ بن المدينيّ وغيره، وروى عنه عبد الله بن الإمام أحمد وغيرُه، وأجمعوا على صدقه. [وفيها توفِّي] خُمارَويه بن أحمد بن طولون ويقال له: خُمار، وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: ميَّاس (¬1). ولد بسرَّ من رأى [في] سنة خمس وخمسين ومئتين، وولي بعد أبيه إمرة مصر ودمشق والثُّغور. [وقد ذكرنا أنَّه التقى بأبي العبَّاس المعتضد في سنة إحدى وسبعين في شوَّال، وانكسر خمارويه، ويقال: إنَّه دخل مصر على حمار، وإنَّ سعدًا الأعسر خرج من الكمين على أبي العباس فهزمه، وأنَّه زوج المعتضد ابنته قطر الندى على يد ابن الجصَّاص، وبعث معها بالأموال والتُّحف والجواهر. ¬

_ (¬1) في (ف): أمناس.

ذكر مقتله: حكى الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" عن محمد بن صالح الدمشقي قال: كان خمارويه، كثير الفساد مع الخدم [متجرِّئًا على الله تعالى في ذلك، ] دخل الحمَّام مع جماعة منهم، فطلب من بعضهم الفاحشة، فامتنع الخادم حياءً من الخدم [الذين كانوا معه]، فأمر خمارويه أن يُضرب، فلم يزل يصيح إلى أن مات في الحمَّام، فأبغضه الخدم [وكرهوه، وسألوا الفقهاء: ما حدّ اللواط؟ فقالوا: القتل]. وكان قد بنى قصرًا بسفح قاسيون أسفل من دير مُرَّان يَشرب فيه، فدخل تلك الليلة الحمَّام، فذبحه خَدَمه، وقيل: ذبحوه على فراشه وهربوا. ويقال: إنَّ بعض الخدم تولَّع بجارية لخمارويه، فتهدَّده بالقتل، فاتَّفق مع الخدم على قتله، وكان ذَبْحُه منتصف ذي الحجَّة [من هذه السنة]، وقيل: لثلاثٍ خلون منه. وكان طُغْج بن جُفّ في القصر في تلك اللَّيلة، وبلغه الخبر، فركب وتبع الخدم، وكانوا نيفًا وعشرين خادمًا، فأدركهم، فقتلهم وصلبهم. وحُمل أبو الجَيش خمارويه في تابوت إلى مصر، وصلَّى عليه ابنه جَيش. [قال ابن عساكر: ] ويقال: إنَّه دُفِن إلى جانب (¬1) أبي عبيد البُسْري، فرآه بعض أصحابه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بقربي من أبي عبيد ومجاورته (¬2). ثمَّ ولي [بعده] ابنُه جَيش، فقتلوه بعده بيسير، ثم ولَّوا أخاه هارون بن خُمارويه، وقرّر على نفسه أن يحمل إلى المعتضد [في] كلّ سنة ألف ألف دينار وخمس مئة ألف دينار. فلمَّا ولي المكتفي عَزَله، وولّى محمد بن سليمان الواثقي، فاستصفى أموال آل طولون، وكان هارون آخر ولاتهم. وكان عمرُ خُمارويه حين قُتل سبعًا وعشرين سنة، وقيل: اثنتين وثلاثين سنة. ورثاه أحمد بن سعيد أبو بكر الطَّائي: [من البسيط] ¬

_ (¬1) في (خ): دفن في القصر إلى جانب. (¬2) تاريخ دمشق 5/ 688 - 689 (مخطوط)، وانظر ترجمته في ولاة مصر للكندي ص 258 - 264، والمنتظم 12/ 350 - 351، وتاريخ الإسلام 6/ 747 - 749.

مضى الأميرُ أبو الجيش الكريمُ فقد ... مضى النَّدى والشَّذى والجودُ والكرمُ فكادت الأرضُ إعظامًا لمقتله ... تَنْهَدُّ والشَّامخاتُ الشُّمُّ تَنْهَدِمُ قال المصنِّف رحمه الله: وهذا أحمد بن سعيد الطَّائي ذكر له [لحافظ] ابن عساكر في "تاريخه" حكايتين؛ الأولى: قال أحمد بن سعيد الطَّائي: حدثنا أبو العبَّاس بن قهيدة، عن عمرو بن الحسن قال: رأيتُ إبليس في منامي راكبًا على كَرْكَدن يسوقه بأفعى، فقال: يا عمرو بن الحسن، ما حاجتك؟ فدفعت إليه رقعة، فوقّع فيها: [من السريع] ألم ترَ القاضي وأعوانَهُ ... ما يفعلُ اللهُ بأهلِ القُرى بلى ولكن ليس من شُغله ... إلَّا إذا استعلى أذلَّ الوَرَى فليتَ أنِّي متُّ فيمن مضى ... ولم أعشْ حتَّى أرى ما أرى وكلُّ ذي خَفْضٍ وذي نِعمةٍ ... لا بدَّ أن يَعلو عليه الثَّرى ثم كتب: الحسد صيَّرني إلى ما ترى، وغشُّ بني آدم [ينفق عليهم]، ثمَّ ضرب كركدنه بالأفعى ومضى. والحكاية الثانية عن [أبي] سليمان بن زَبْر قال: اجتمعتُ أنا وعشرةٌ من المشايخ في جامع دمشق فيهم أبو بكر أحمد بن سعيد الطَّائي، نقرأ فضائل عليِّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، فوثب إلينا نحوٌ من مئة رجل، وضربونا، وسحبونا إلى الخضراء إلى الوالي، فقال لهم أبو بكر الطَّائي: ياسادة، اسمعوا، إنَّما قرأنا اليوم فضائل عليّ، وغدًا أقرأ لكم فضائل أمير المؤمنين معاوية، وقد حَضَرتْني أبيات، فإن رأيتم أن تسمعوها، فقالوا: هات، فقال على البَدِيه: [من السريع] حبُّ عليٍّ كلُّه ضَرْبُ ... يَرْجُفُ من خِيفته القَلْبُ ومَذهبي حبُّ إمام الهدى ... يزيدَ والدِّينُ هو النَّصْبُ مَن غَيرَ هذا قال فهو امرؤ ... ليس له عقلٌ ولا لُبّ والنَّاسُ مَن يَنْقَدْ لأهوائهم ... يسلمْ وإلَّا فالقَفا نَهْبُ قال: فخلّوا عنَّا، فقال الطَّائي: والله لا سكنتُ بلدًا يجري علينا فيها ما قد جرى، وخرج من وقته فأقام بحمص (¬1). ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 3/ 88 - 89، وتاريخ الإسلام 7/ 382، وما بين معكوفين منهما، وقال الذهبي: بَقيَ الطائيُّ هذا إلى سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة.

الحافظ أبو زرعة

[وفيها توفي] الحافظ أبو زُرْعَة [واسمه] عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان بن عمرو، النَّصْريُّ، الدمشقي. [وقال ابن ماكولا: نَصْري بالنون (¬1). ذكره الحافظ ابن عساكر وقال: ] بيانت داره بدمشق عند باب الجابية شرقيِّ زقاق الأسديين عن يمين الدَّاخل. رحل إلى البلاد، ولقي الشيوخ، وكتب عنهم وكتبوا عنه، وكان إمامًا، عادلًا، عالمًا، فاضلًا، زاهدًا، ورعًا، جوادًا، صالحًا، شيخ الشَّام في وقته، يرحل إليه العلماء من الآفاق، ويأخذون عنه، فلم يزل يُسمع الحديث والنَّاس مقبلون عليه إلى أن توفِّي بدمشق في جمادى الآخرة من هذه السَّنة، وقيل: في سنة ثمانين، أو إحدى وثمانين ومئتين. سمع خلقًا كثيرًا: أبا نُعَيم الفَضْل وغيرَه، وروى عنه أبو داود السِّجستاني [وابنه عبد الله بن أبي داود] (¬2). محمد بن جعفر المتوكِّل كان فاضلًا شاعرًا، وهو القائل لمَّا أراد أخوه المعتمد الخروج إلى الشَّام والدُّنيا مضطربة: [من المتقارب] أقول له عند توديعه ... وكلٌّ بعَبْرَته مُبْلِسُ لئن بَعُدتْ عنك أجسامُنا ... لقد سافرتْ معك الأَنْفُسُ بلغ المعتضد أنَّه كاتب خُمارويه فأهلكه، وقيل: إنَّما أهلكه لمَّا ولي الخلافةَ في سنة تسعٍ وسبعين ومئتين (¬3). [وفيها توفي] محمد بن عبد الرحمن ابن محمد بن عُمارة بن القَعْقاع ابن شُبْرُمَة، أبو قَبِيصة، الضَّبِّي [أخو عبد الله بن شُبْرُمة]. ¬

_ (¬1) الإكمال 1/ 391. (¬2) تاريخ دمشق 41/ 137 - 141، وتاريخ الإسلام 6/ 772. (¬3) مختصر تاريخ دمشق 22/ 67 - 69، والوافي بالوفيات 2/ 295. وهذه الترجمة ليست في (ف، م 1).

أبو العيناء

كان صالحًا عابدًا مجتهدًا. [وحكى الخطيب عن إسماعيل بن عليٍّ الخُطَبيّ قال: ] قال [محمد بن عبد الرحمن]: تزوَّجتُ بأمِّ أولادي هؤلاء، فلمَّا كان بعد الإملاك بأيَّام قصدتهم للسلام، فاطَّلعت من شقِّ الباب، فرأيتُها، فأبغضتُها، وهي معي من ستِّين سنة. وقال إسماعيل بن عليِّ: [وكان هذا الشيخ من أَدْرس مَن رأينا للقرآن]، سألتُه عن أكثر ما قرأ في يوم -وكان يوصف بكثرة الدَّرس وسُرعَتِه- فامتنع أن يخبرني، فلم أزل به حتَّى قال لي: إنَّه قرأ في يوم من أَيَّام الصَّيف الطوال أربع ختمات، وبلغ في الخامسة إلى "براءة"، وأذَّن المؤذن للعصر، وكان من أهل الصِّدق، وتوفي في ربيع الأوَّل. سمع سعيدَ بن سليمان [الواسطيَّ] وغيره، وروى عنه الخُطَبيُّ وغيرُه، وكان ثقة (¬1). [وفيها توفي] أبو العَيناء [الضَّرير، صاحب الحكايات والمُلَح، واسمه] محمد بن القاسم بن خلَّاد، مولى [أبي جعفر] المنصور. وأصله من اليَمامة، ويعرف بأبي عبد الله اليَمامي، وإنَّما سمِّي بأبي العيناء؛ لأنَّه سئل ما تصغير عين؟ فقال: عُيَين. [قال الخطيب: ] ولد بالأهواز سنة إحدى وتسعين ومئة، ونشأ بالبصرة، وذهب بصرُه بعد أربعين سنة، وطلب الأدبَ، وكتب الحديث، وسمع من الأئمة، وكان حافظًا للنَّوادر، سريعَ الجواب، فصيحًا (¬2). قال: قال لي المتوكِّل: قد أردْتُك لمجالستي، فقلت: لا أُطيق ذلك، ولا أقول هذا جَهلًا بمالي في هذا من الشَّرَف، ولكنِّي رجل مَحْجُوب، تختلف إشاراته، ويخفى عليه الإيماء، ويجوز علي أن أتكلَّم بكلام غضبان ووجهُك راضٍ، وبكلام راضٍ ووجهُك ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 546، والمنتظم 12/ 352، وتاريخ الإسلام 6/ 810. وما بين معكوفين من (ف) و (م 1). (¬2) تاريخ بغداد 4/ 285، 294، وما بين معكوفين من (ف) و (م 1).

غضبان، ومتى لم أميِّز بين هذين هلكتُ، قال: صدقتَ، ولكن تَلْزَمُنا. قلت: [لزوم] (¬1) الغَرَض الواجب، فوصلني بعشرة آلاف درهم. [ذكر طرف من أخباره: قال الخطيب (¬2) بإسناده إلى أحمد بن القاضي، عن أبي العيناء أنَّه حدَّثه قال: أتيتُ عبد الله بن داود الخُرَيبي، قال: ما جاء بك؟ قلت: الحديث، قال: اذهب فاحفظ القرآن، قلت: قد حفظتُه، قال: اقرأ {وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس: 71] فقرأتُ العَشْر حتَّى أنفدته، قال: اذهب الآن فتعلَّم الفرائض، قال: فقلت: قد تعلَّمتُ الصُّلب والجدَّ، قال: فأيّما أقرب إليك ابن أخيك أو ابن عمِّك؟ قال: فقلت: ابن أخي، قال: ولِمَ؟ قلت. لأن أخي من أبي، وعمِّي من جدِّي. قال: اذهب فتعلَّم العربية، فقلت: قد تعلّمتها قبل هذين، قال: فلم قال عمر بن الخطاب حين طُعن: يالله يالِلمسلمين، لِم فَتَح لام الله، وكَسَر لام المسلمين؟ قال: قلت: فتح الأوَّل على الدُّعاء، وكسر الثانية على الاستعانة والاستنصار. قال: اذهب، لو حدَّثتُ أحدًا لحدَّثتُك]. وقيل: إنَّ المتوكِّل قال: أشتهي أن أنادم أبا العيناء لولا أنَّه ضرير، فقال أبو العيناء: إنْ أعفاني أمير المؤمنين من رؤية الأهلة، وقراءة نَقْشِ الخواتيم، فإنِّي أصلحُ. وكان يقول: لَحِقَتْنا دعوة الرَّجل الصَّالح عبد الله بن حسن بن حسن، دعا المنصور جدّي خَلّادًا وكان مولاه، فقال له: إنِّي أريدك لأمر قد أهمَّني واخترتُك له، وأنت عندي كما قال أبو ذؤيب الهذلي: [من المتقارب] أَلِكْني إليها وخيرُ الرسو ... لِ أعلَمُهمْ بنَواحي الخَبَرْ (¬3) فقال: أرجو أن أبلُغَ رِضى أمير المؤمنين، قال: صِرْ إلى المدينة، وأظهر لعبد الله بن حسن أنَّك من شيعته، وابذُلْ له الأموال، واكتب إليَّ بأنفاسه وأخبار ولدِه، فأرضاه، ثمَّ علم عبد الله أنَّه أُتي من قِبَله، فدعى عليه وعلى نسْله بالعمى، [قال: ] فنحن نتَوارث ذلك إلى السَّاعة. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين زيادة من المنتظم 12/ 354. وهذا الخبر ليس في (م 1). (¬2) في تاريخه 4/ 287. (¬3) تاريخ بغداد 4/ 285 - 286، والمنتظم 12/ 354، والبيت أيضًا في شرح أشعار الهذليين 1/ 113، ومعنى ألكني إليها: أي: كن رسولي إليها. الصحاح (لوك).

وتأخَّر رزق أبي العيناء، فشكا إلى عبيد الله بن سليمان (¬1)، فقال: ألم نكن كتبنا لك إلى ابن المدبّر، فما فعل في أمرك؟ فقال: جرَّني على شَوْك المَطْل، وحَرمني ثمرةَ الوَعْد، فقال: أنت اخترتَه، فقال: وما عليَّ وقد اختار موسى قومَه سبعين رجلًا، و [ما] (¬2) كان فيهم رجل رشيد، فأخذتهم الرجفة، واختار النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنَ أبي سَرْح كاتبًا، فلحق بالكفار، واختار عليُّ بن أبي طالب أبا موسى فحكم عليه. وقال: [الخطيب: انتقل أبو العيناء من البصرة إلى بغداد فأقام بها. قال: وسبب انتقاله ما رواه الصولي عن أبي العيناء قال: حدثني عن سبب خروجه من البصرة وسكناه بغداد قال: ] اشتريتُ غلامًا يُنادَى عليه ثلاثون دينارًا ويساوي ثلاث مئة دينار، وكنتُ أبني دارًا، فدفعتُ إليه عشرين دينارًا يُنفقها على البناء، فجاءني بعد أيَّام، وقال نَفِدت النَّفَقَةُ، فقلت: ارفع حسابَك، فرفعه فإذا به عشرة دنانير، قلت: فأين الباقي؟ قال: اشتريتُ به ثوبًا مُصْمَتًا وقطعتُه، قلتُ: مَنْ أمرك بهذا؟ قال: يا مولاي لا تَعجل، فإنَّ أهلَ المروءات والأقدار لا يَعيبون على غِلمانهم إذا فعلوا فعلًا يعود بالزَّين على مواليهم، [قال: ] فقلت في نفسي: أنا اشتريتُ الأصمعيَّ ولم أعلم (¬3). قال: وأردت تزوّج امرأة، فأطلعتُه على ما في نفسي، وقلتُ: اكتم ذلك عن بنت عمِّي، فقال: أنا نِعم العونُ لك على الخير، فتزوَّجتُها، ودفعتُ إليه دينارًا، وقلت: اشترِ لي كذا وكذا ويكون فيه سمكًا هازِبَى (¬4). فمضى واشترى جميعَ ما أمرته به، واشترى سمكًا مارماهى (¬5)، فقلت له: ما هذا؟ فقال: رأيتُ بُقْراط يقول: السَّمك الهازبى يولّد السَّوداء، ووصف المرماهى، فقلت: يا ابن الفاعلة، ما علمتُ أني اشتريتُ جالينوس، وقمتُ إليه أضربُه، فضربتُه عشرَ مَقارع، فلمَّا فرغتُ أخذ المِقْرَعة وضربني سبعًا، وقال: الأدب ثلاث، والسبعةُ فَضْل، وهي قِصاص، فخفتُ عليك من القصاص غدًا، فاستوفيت منك اليوم، فغاظني جدًّا ¬

_ (¬1) في (خ): إسماعيل، والمثبت موافق لما في المنتظم 12/ 355. (¬2) زيادة من المنتظم. (¬3) تاريخ بغداد 4/ 293، والمنتظم 12/ 355. (¬4) نوع من أنواع السَّمك. اللسان (هفف). (¬5) هو الجِرِّيُّ: وهو نوع من السمك يشبه الحية، وهو فارسي. اللسان: (جرر).

فرميته (¬1) فشَجَجْتُه، فمضى من وقته إلى ابنة عمِّي، فأَخبرها أنّي تزوَّجتُ، وقال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "من غشَّنا فليس منَّا" (¬2) وقد تزوَّج مولاي واستكْتَمَني، والدِّين النَّصيحة، فلمَّا قلتُ له: لا بدَّ من تعريف مولاتي، ضربني بالمقارع وشجَّني. [قال: ] فمنعتْني بنتُ عمي من دخول الدَّار، وحالت بيني وبين ما فيها، ووقعنا في تَخبيط، فلم أَرَ الأمر يَصلُح حتَّى طلَّقتُ المرأة، ولم أقدر من بنت عمِّي أن أكلِّمه، وسمَّتْه النَّاصحَ، فقلت: ما لي إلا أن أُعتقه وأستريحَ منه، فعَتَقْتُه فقال: الآن وجب عليَّ حقُّك، ما أُفارقك. وجاء أوان الحجِّ، فجهَّزتُه وزوَّدتُه، ومضى فغاب عنِّي عشرين يومًا وعاد، فقلت: ما الخبر؟ فقال: قُطِع عليَّ الطَّريق، والله تعالى قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وأنا غير مستطيع، ثمَّ أرادَ الغَزو (¬3) فجهَّزته، فلما غاب عنِّي بعتُ كلَّ ما أملكه بالبصرة من عَقار وغيرِه، وخرجت منها خوفًا أن يرجع. [وحكى] الصُّولي قال: دخلتُ على أبي العَيناء في آخر عمره وقد كُفَّ بصرهُ، فسمع صَريرَ قَلمي على الدَّفتر فقال: مَن هذا؟ قلت: عبدُك وابن عبدك محمد بن يحيى الصُّولي، قال: بل ولدي وابن أخي، ما تكتب؟ قلت: جُعلتُ فداكَ، أكتبُ شيئًا من النَّحو والتَّصريف، فقال: النَّحو من العلوم كالملح في الطَّعام (¬4)، إذا أكثرتَ منه صارت القِدْرُ زُعاقًا، يا بنيّ إذا أردتَ أن تكون صدرًا في المجالس فعليك بمعاني القرآن والفقه، وإذا أردتَ أن تكون مُنادمًا للخلفاء وذوي المروءات فعليك بنُتَفِ الأشعار، ومِلحَ الأخبار، [وقال: الزُّعاق: الماءُ المالح]. وسأل القاضي ابن أبي دؤاد أبا العيناء (¬5): ما أشدَّ ما أصابك في ذهاب بصرك؟ فقال: خَلَّتان؛ إحداهما: أنَّه يَبدؤني رجل بالسَّلام، وكنتُ أحبُّ أن أبدأه، والثانية: ¬

_ (¬1) في (م 1): فرميته بحجر .... (¬2) أخرجه أحمد (9396)، ومسلم (101) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) في (خ) و (م 1): العود، والمثبت من تاريخ بغداد 4/ 294، والمنتظم 12/ 357. (¬4) في (خ): القدر، والمثبت من (ف) و (م 1). وهو الموافق لما في المنتظم. (¬5) في (ف) و (م 1): وحكى الخطيب أن ابن أبي الدنيا القاضي سأل أبا العيناء ... والمثبت من (خ) وهو الموافق لما في تاريخ بغداد 4/ 289.

ربَّما حدَّثتُ رجلًا فيُعرض عنِّي، وأحبُّ أن أعرف ذلك لأقطع حديثي عنه، فقال أحمد بن أبي دؤاد: أمَّا مَن كافأك بابتداء السَّلام فقد كافأتَه بحُسن النِّيَّة، وأمَّا مَن أعرض عن حديثك فما أكسبَ نفسَه من سوء الأدب أكثر ممَّا وصلت إليه من حُسن استماعه (¬1). وحضر أبو العيناء مجلسَ بعض الوزراء، فوصف جودَ البرامكة، فقال الوزير: هذا من كَذِب الورَّاقين، فقال أبو العيناء: فلِمَ لا يكذب الورَّاقون عليك؟ ! ودخل [أبو العيناء] على المتوكِّل سنة ست وأربعين ومئتين وهو في قصره الجَعفريّ، فقال له: كيف ترى هذا القصر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، النَّاس يبنون القصور في الدُّنيا، وأنت قد بنيت الدُّنيا في قصرك. وقال له يومًا: ما تقول في عبيد الله بن خاقان؟ فقال: نِعْمَ العبد إنَّه أوّاب، وكان عبيد الله قائمًا على رأس المتوكِّل (¬2). ذكر وفاته: [واختلفوا فيها، فحكى الخطيب أنَّه] قدم بغداد فأقام بها مدَّة طويلة، ثمَّ ركب في زَورق يريد البصرة، فيه ثمانون نفسًا، فغرق الزَّورق بمَن فيه، فلم يَسلم إلَّا أبو العيناء، فأُخرج حيًّا، فركب في زورق آخر، فلمَّا وصل إلى البصرة مات بها في هذه السَّنة. و[حكى الخطيب أيضًا عن القاضي أحمد بن كامل] قال: مات [أبو العيناء] ببغداد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين [ومئتين] وحُمل إلى البصرة في تابوت، وقد جاوز تسعين سنة (¬3). أسند الحديثَ عن أبي عاصم النَّبيل [وأبي زيد الأنصاريِّ] وغيرهما، وأخذ الأدب عن الأصمعي وغيره، ولمَّا قدم بغداد كتب عنه أهلُها، ولم يسند من الحديث إلَّا القليل، والغالبُ على رواياته الأخبارُ والحكايات. * * * ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد: أكثر مما وصل إليك من سوء اجتماعه. (¬2) مروج الذهب 8/ 122 - 123، ووفيات الأعيان 4/ 343. (¬3) تاريخ بغداد 4/ 294 - 295، وما بين معكوفين من (ف) و (م 1).

السنة الثالثة والثمانون بعد المئتين

السنة الثالثة والثمانون بعد المئتين فيها خرج المعتضد إلى ناحية الموصل لثلاث عشرة بقيت من المحرَّم بسبب هارون الشَّاري، وكان الحسين بن حمدان قد قال للمعتضد: إنْ أنا جئتُ بهارون الشَّاري إليك فلي ثلاثُ حوائج، فقال: اذكرها، فقال: أمَّا الأولى فإطلاق أبي من الحبس، والحاجتان أذكرهما بعد ما آتي به، فقال له المعتضد: لك ذلك، فامْضِ، فقال: أريد ثلاث مئة فارس أنتَخِبُهم مع وصيف موشكير ولا يُخالفني، فقال المعتضد: نعم. وخرج الحسين يطلب الشاري حتَّى انتهى إلى مخاضة في دجلة، فقال لوَصيف: ليس للشَّاري طريقٌ يَهرب منه غير هذا الموضع، فقِفْ ها هنا لا تفارقْ هذا المكان، فإنْ مرَّ بك الشَّاري فامنعه من العبور، أو أجيئك، أو يَبلُغك أنِّي قد قُتلت، قال: نعم، فوقف. ومضى حسين في طلب الشاري فلقيه، فالتقيا، فكان بينهما قتلى، وهرب الشَّاري، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه: قد طال مقامُنا ها هنا، وقد أضرَّ بنا ذلك، ولسنا نأمن أن يأخذ حسينٌ الشَّاريَّ فيكون الفتحُ لهُ دونَنا، والصَّواب أن نمضي في آثارهم، فأطاعهم ومضى، وجاء الشَّاري المخاضة فعبر، وجاء حسين في إثْرهِ فلم يَرَ وَصيفًا وأصحابَه، ولم يَعرف للشَّاري خبرًا، وسأل عنه فقيل: عبر دِجلة. فعبر خلفه، وجاء الشَّاري إلى حيٍّ من أحياء العرب، فأخذ دابَّة من دوابهم، ومضى حسين إلى العرب فسألهم عنه فكتموه أمره، فقال: المعتضدُ في إثري، وأراد أن يوقع بهم، فأخبروه بمكانه، فاتَّبعه، فلحقه وهو في مئة فارس، فناشده الشَّاري وتوعَّده، فألقى حسين نَفْسَه عليه فاخذه أسيرًا، وجاء به إلى المعتضد بغير عَهدٍ ولا عَقْد، فأمر المعتضد بفكِّ قيود حمدان بن حمدون، والتَّوسعةِ عليه، والإحسان إليه. وانصرف المعتضد بالشَّاري راجعًا إلى بغداد، فوافاها لثمانٍ بقين من ربيع الأوَّل، فنزل بباب الشَّمَّاسيَّة، وعبَّأ جيوشَه هناك، وخلع على الحسين بن حمدان وطوَّقه بطَوقٍ من ذهب، وخلع على جماعةٍ من رُؤساء أهله، وزُيِّن الفيل بثياب الدِّيباج، وجعل عليه

مثل المحفَّة، وأجلس الشَّاري فيها، وألبس دُرَّاعةَ دِيباج، وجعل على رأسه بُرْنُسَ حريرٍ طويل. وركب المعتضد في الجانب الشرقي ركوبًا ظاهرًا، وضُربت القِباب في الطريق كلِّه إلى قصره، والشَّاري بين يديه، والحسين بن حمدان بين يدي المعتضد وجماعةٌ من أصحابه، وحمل الحَرْبةَ بين يديه في هذا اليوم سعيد بن يكسين التركيّ وكان على شرطة الشَّرقيَّة، ولم يحملها أحدٌ من الموالي قبله؛ لأنَّها كانت لآل طاهر قبل ذلك، ومن كثرة الزّحام سقط كرسيُّ الجسر الأعلى ببغداد، فغرق كثير من الرِّجال والنساء والصِّبيان، وكان على المعتضد قباء أسودُ، وعمامةٌ سوداء، وجميع الملوك والأمراء يمشون بين يديه، وكان يومًا مشهودًا. وورد كتاب ظغْج بن جُفّ من دمشق ومن موالي ابن طولون أنَّهم في الطَّاعة، واستأذنوا المعتضد في القدوم عليه أو في المقام بدمشق، فكتب يأمرهم بالمقام بدمشق، وولَّاها طُغْج. وفيها قدم رسول عمرو بن الليث (¬1) من خُراسان بالهدايا وفيها مئتا حِمْل مال، ومئتا جُمَّازة، ومن اللطائف والطرائف (¬2) شيءٌ كثير، وكان فيها صَنَمٌ على خِلقة امرأة؛ كان قوم من الهند في مدينة يقال لها: إبل شاه، كانوا يعبدونها. واستقضى المعتضد يوسف بن يعقوب على الجانب الشرقيِّ، وكلواذى، والنَّهروانات، وكُور دجلة، وواسط (¬3)، وخلع على القاضي أبي خازم وقُلِّد قضاء الشرقيَّة، وبادَرَايا، وسقي الفرات (¬4)، وشاطئ دجلة إلى حدِّ عمل واسط، مضافًا إلى ما كان يتولَّاه من القضاء على الكوفة وأعمالها، وعبد الحميد بن عبد العزيز على الجانب الغربيّ، وذلك بعد أن أقامت بغداد ثلاثة أشهر وثمانية عشر يومًا بعد وفاة إسماعيل بغير قاضٍ. ¬

_ (¬1) من أول السنة إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). (¬2) في (ف) و (م 1): الظرف والظرائف. والجمَّازة: دُرَّاعة من صوف. القاموس (جمز). (¬3) في المنتظم 12/ 260: وكور دجلة والخط. (¬4) في المنتظم 12/ 360: وشقي الفرات. والمثبت من الأصل، وهو الموافق لما في أخبار القضاة 3/ 293.

وكتب المعتضد إلى عليّ بن محمد بن أبي الشَّوارب وهو بسُرَّ من رأى بتولِّي القضاء بها، فصار إلى بغداد، فولي قضاء مدينة المنصور، وقُطْرَبُّل، مضافًا إلى ما كان يتولَّاه من القضاء بسامرَّاء، وتكريت، وطريق الموصل، وخلع عليهم، وقُرئت عهودهم، وأُمروا جميعًا بالجلوس في المساجد الجامعة. وخلع المعتضد على حمدان بن حمدون وأطلق في الركوب. ولعشر (¬1) بقين من جمادى الآخرة أمر المعتضد بالكتاب إلى جميع البلاد بردِّ [الفاضل من سهام] ذوي الأرحام، [يعني الميراث من سهام ذوي المواريث]، وإبطال (¬2) ديوان المواريث، وصرف عمَّاله، فنفذت الكتب، وقرئت على المنابر. وسببه: أنَّه سأل القاضي أبا خازم فقال: ما تقول فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] فقال المعتضد: قد رُوي عدم الرَّدِّ عن الخلفاء الأربعة، فقال أبو خازم: كذب النَّاقل عنهم، بل كلُّهم ردُّوا، جميعُ الصحابة سوى زيد بن ثابت، ولا يعتدُّ بخلافه مع الجمهور، وكان يُخفيه حتَّى مات عمر رضوان الله عليه خوفًا منه، وهو مذهب فُقهاء التابعين ومَن بعدهم، ولم يذهب إلى قول زيد غير الشَّافعيّ في أحد القولين، والقول الآخر مثلُ قول الصَّحابة، فقال المعتضد: اكتبوا إلى الآفاق بذلك، وكثرت الأدعية للمعتضد، وقالوا: أحيي سُنَّة الخلفاء. وفيها (¬3) خرج عمرو بن الليث من نَيسابور، فخالفه رافع بن هَرْثَمة إليها، فدخلها، وخطب بها لمحمد بن زيد الطَّالبي وأبيه، فقال: اللهمَّ وأصلح الدَّاعي إلى الحقِّ، القائم بالعدل والقسط، الإمام أبا عبد الله محمَّد بن زيد ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رافع مُباينًا لبني العبَّاس، خارجيًّا عليهم، وكان عمرو الصفَّار يقاتله، ولما بلغ عَمْرًا ما فعل رافع عاد إلى نيسابور، فنزل بعسكره ظاهِرَها، وأقام محاصرًا لها في ربيع الآخر. ¬

_ (¬1) من قوله: واستقضى المعتضد يوسف. . إلى هنا، ليس في (ف) و (م 1). (¬2) في (خ): برد ميراث ذوي الأرحام وإبطال، والمثبت من (ف) و (م 1)، وهو الموافق لما في المنتظم 12/ 359. (¬3) هذا الخبر والذي يليه ليس في (ف) و (م 1).

وفيها قدم بغداد جماعة من قوَّاد جيش بن خمارويه، منهم محمد بن إسحاق بن كنداجيق، وخاقان المفلحي، وبدر بن جُفّ وغيرهم، وسببُ قدومهم إلى المعتضد بالأمان أنَّهم أرادوا أن يفتكوا بجَيش، فسُعي بهم إليه، وكان راكبًا في موكبه، وعلموا أنَّه قد علم بهم، فخرجوا من يومهم، وسَلكوا البَرّيَّة، وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أيَّامًا، ومات منهم جماعة بالعطش، ثمَّ خرجوا على طريق الكوفة، وبلغ المعتضد فأرسل إليهم بالأطعمة والدَّوابِّ وغيرها، فلما وصلوا بغداد حبس لهم، فدخلوا عليه، فقرَّبهم وأدناهم، وخلع عليهم، وأنزلهم المنازل، وكانوا ستين رجلًا (¬1). وفيها وثب الجندُ من المغاربة والبربر على جَيش بن خُمارويه، وقالوا: لا نرضى بك أميرًا، فتنحَّ عنَّا حتَّى نوَلِّيَ عمَّك، فكلَّمهم كاتبُه عليُّ بن أحمد الماذرائيّ، وسألهم أن ينصرفوا عنه يومَهم، فانصرفوا، وغدا جَيش على عمِّه الَّذي ذكروا أنَّهم يؤمِّرونه، فضرب عُنُقَه وعُنُقَ عمٍّ آخر له، ورمى برؤوسهما إليهم، فهجم الجند على جيش فقتلوه، وقتلوا أمَّه، وانتهبوا داره [بمصر] وأحرقوها، وأقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه جيش. وفيها وقع الفداء بين المسلمين والرُّوم على يدي أحمد بن طُغان والي طَرَسوس في شعبان، فكان عدَّة من فُودي من المسلمين الرِّجالِ والنساءِ مقدار ألفين وخمس مئة وأربعة أنفس. وفيها استأمن عمر بن عبد العزيز بن أبي دُلف إلى بدر، فخرج الوزير عبيد الله (¬2) إلى لقائهم، ونزلوا في مضرب بدر، وخلع عليهم، وحلفوا أنَّهم في طاعة أمير المؤمنين، وكان قبلهم قد دخل بكر بن عبد العزيز بن أبي دُلَف في الطَّاعة إلى بدر والوزير، فولَّياه عمل أخيه عمر على أن يخرج إليه فيحاربه، فلمَّا دخل عمر في الطَّاعة قال الوزير لبكر: إنَّ أخاك قد أطاع، وإنَّما ولَّيناك عمله لكونه كان عاصيًا، والآن فامضيا إلى باب أمير المؤمنين ليرى رأيه فيكما. وولي عيسى النُّوشري أصبهان، وأظهر أنَّه من قِبَل عمر بن عبد العزيز، فهرب بكر ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 10/ 44 - 45، والكامل 7/ 477 - 478. (¬2) في (خ): فخرج الوزير بن عبيد الله، والمثبت من تاريخ الطبري 10/ 47، والكامل 7/ 479.

في أصحابه، فكُتب بذلك إلى المعتضد، فكتب إلى بدر يأمره بالمقام مكانه حتَّى يعرف خبر بكر. وسار الوزير إلى الرَّيِّ فلحق بعليِّ بن المعتضد، وظهر خبر بكر أنَّه بالأهواز، فوجَّه المعتضد خلفه وصيف موشكير، فانتهى إلى حدود فارس، وبات كلُّ واحد منهم قريبًا من صاحبه ولم يتوافقا، فارتحل بكر في الليل ولم يتبعه وصيف، ومضى إلى أصبهان، ورجع وصيف إلى بغداد، وكتب المعتضد إلى بدر بحربه، فتقدَّم بدر إلى عيسى النُّوشري بذلك، فقال بكر من أبيات طويلة: [من الكامل] يا بدرُ إنَّك لو شهدتَ مواقفي ... والموتُ يَلْحَظ والصِّفاحُ دَوامي لذَمَمْتَ رأيَك في إضاعةِ حُرْمَتي ... ولضاق ذَرْعُك (¬1) في اطِّراح ذِمامي حرَّكْتَني بعد السُّكونِ وإنَّما ... حرَّكْتَ من حِصني جبال تَهامِ وقال يذكر هرب النُّوشريّ من بين يديه، ويعيِّر وصيفًا بالإحجام عنه، ويتهدَّد بدرًا: [من الخفيف] قالتِ البِيضُ قد تغيَّر بَكرٌ ... وبدا بعد وَصْلِه منه هَجْرُ ليس كالسَّيفِ مُؤنِسٌ حين يَعْرُو ... حادثٌ مُعْضِلٌ ويَفْدَحُ أَمْرُ أوقَدوا الحربَ بيننا واصطَلَوْها ... ثمَّ خانوا فأين منها المَفَرُّ وبَغَوْا شرَّنا فهذا أوانٌ ... قد بدا شَرُّه ويتلوه شَرُّ (¬2) قد رأى النُّوشَريُّ لمَّا التقينا ... مَن إذا أُشرع الرِّماحُ يَفِرُّ جاء في قَسْطَلٍ لُهامٍ (¬3) فصُلْنا ... صَولةً دونها الكُماةُ تَهِرُّ ولِوا الموشَجِير أفضى إلينا ... رُوِّيَتْ عند ذاك بِيضٌ وسُمْرُ (¬4) ¬

_ (¬1) في (خ): عذرك. والمثبت من تاريخ الطبري 10/ 48. (¬2) في (خ): وبدا شرنا فهذا أوان ... قد بدا شرها ويتلوها شر والمثبت من تاريخ الطبري 10/ 49. (¬3) القسطل: الغبار الساطع. واللُّهام: الجيش الكثير كأنه يلتهم كل شيء. اللسان (قسطل)، (لهم). (¬4) في (خ): ولِوا الموشكير أفضى إلينا ... ودمار وبن بيض وسمر =

إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم

غرَّ بدرًا حِلْمي وفَضلُ أَناتي ... واحتمالي وذاك ممَّا يَغُرُّ لستُ بَكرًا إن لم أدَعْهم حديثًا ... ما سَرى كوكبٌ وما كَرَّ دَهْرُ وفي شوال مات عليُّ بن محمد بن أبي الشَّوارب، فحُمل إلى سرَّ من رأى في تابوت، فدُفن بها، وكانت ولايتُه على قضاء مدينة المنصور ستة أشهر. وفيها قدم بغداد عمرُ بن عبد العزيز بن أبي دُلَف، فأمر المعتضد بتلقِّيه، فتلقَّاه الخواصُّ والقوَّاد، ووصل إلى المعتضد، فخلع عليه وأحسن إليه. وفيها هزم (¬1) عمرو بن الليث رافعَ بنَ هَرْثَمة، وجدَّ في طلبه. وبعث عمرو [بن الليث] إلى مكة بمال جليل لينفق على ضيافة (¬2) الماء من عرفات إلى مكة. وفيها ورد كتاب عمرو بن اللَّيث إلى المعتضد يخبره بقتل رافع بن هرثمة بخُوارزم، وأنَّه بعث محمد بن عمرو البلخيَّ في جيش، فواقعه بطُوس فانهزم، وتبعه فلحقه بخُوارزم، وبعث بخاتمه مع الكتاب (¬3). وحجَّ بالنَّاس محمد بن عبد الله بن تُرنجة. وفيها توفِّي (¬4) إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم أبو إسحاق، الثَّقفيُّ، السَّرَّاج، النَّيسابوريُّ. كان الإمامُ أحمد بن حنبل رحمة الله عليه يَزوره في منزله، ويُفطرُ عنده، ويَنْبَسط إليه في منزله؛ لزُهده وورعه وصلاحه، وأقام ببغداد حتَّى توفِّي بها. سمع الإمام أحمد رحمه الله وغيرَه، وروى عنه أخوه محمد بن إسحاق (¬5). ¬

_ = والمثبت من تاريخ الطبري، والكامل، وفي الكامل النوشري بدل الموشجير. (¬1) من قوله: وفيها استأمن عمر بن عد العزيز ... إلى هنا ليس في (ت) و (م 1). (¬2) في (ف) و (م 1): سياقة، وما بين معكوفين منهما. (¬3) تاريخ الطبري 10/ 49 - 50. وهذا الخبر ليس في (ف). (¬4) هذه الترجمة والتي تليها ليست في (ت) و (م 1). (¬5) تاريخ بغداد 6/ 520 - 522، والمنتظم 12/ 361، وتاريخ الإسلام 6/ 703.

جيش بن خمارويه

جَيش بن خُمارويه ابن أحمد بن طولون. ولي إمرة دمشق بعد موت أبيه مدَّةً يسيرة، ثمَّ خرج إلى مصر في هذه السَّنة، واستخلف على دمشق طُغْج بن جُفّ، فلمَّا دخل مصر لم يرضَ أهلُها، وقالوا: نريد عمَّك أبا العشائر بن أحمد، فوثب هارون بن خُمارويه على أخيه جَيش فقتله في جمادى الأولى (¬1)، وكانت ولايته خمسة أشهر، واستولى هارون على مصر. قال ربيعة بن أحمد بن طولون: لمَّا قُتل أخي خمارويه ودخل ابنه جيش مصر قبض عليَّ وعلى عمَّيه مضر وشيبان (¬2) ابني أحمد، وحبسنا في حجرة معه بالميدان، وكان كلّ يوم يأتينا بمائدة عليها طعام، فكنَّا نجتمع عليها، فجاءنا يومًا خادم، فأخذ أخانا مُضَر، فأدخله بيتًا، فأقام خمسة أيام لا يَطعَم ولا يَشْرَب، مقفول عليه بقفل، فدخل علينا ثلاثةٌ من أصحاب جيش وقالوا: أين أخوكم؟ قلنا: لا ندري، فدخلوا عليه البيت، فضربه واحدٌ منهم بسَهم في مقتله فقتلوه، وغلَّقوا علينا الباب، وبقينا يوم الجمعة والسبت لم يقدّموا إلينا طعامًا، فظننا أنَّهم نسونا، فلمَّا كان يوم الأحد سمعنا [صارخة في الدار] (¬3)، وفتح علينا الباب، وأُدخل إلينا جَيش بن خُمارويه، فقلنا: ما حالك؛ فقال: غلبني أخي هارون، وتولَّى الإمارة، فقلنا: الحمد لله الَّذي قبض يدكَ وأضرع خدَّك، فقال: ما كان عَزْمي إلا أن أُلحقكما بأخيكما. ودخل خادم ومعه مائدة من الطَّعام وقال: إنَّ الأمير هارون قد بعث إليكما بهذه المائدة، وكان في عزم جيش أن يُلحقكما بأخيكما، فقوما إليه فاقتلاه، وخذا بثأركما منه، وانصَرِفا على أمان، قال: فلم نقتله، وانصرفنا إلى منازلنا، وبعث هارون خدمًا فقتلوه، وكُفينا أمر عدوِّنا. [فصل وفيها توفِّي] سهل بن عبد الله بن يونس أبو محمد، التُّسْتَري (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف ص 194 من خَبَر مقتله. (¬2) في (خ): نصر وسنان. والمثبت من تاريخ دمشق 4/ 55. (¬3) ما بين معكوفين زيادة من تاريخ دمشق. (¬4) تنظر ترجمته في طبقات الصوفية 206 - 211، وحلية الأولياء 10/ 189 - 212، والرسالة القشيرية 197، =

أحد المشايخ، ومن أكابر علماء القوم، والمتكلِّم في علوم الإخلاص والرياضات، وكان كبيرَ الشَّأن في باب الورع والمعاملات، مشهورًا بالكرامات. [ذكر طرف من أخباره: حكى ابن خميس في "المناقب": أنَّه] (¬1) كان يقوم الليل وله ثلاث سنين. قال: كُنْتُ أنظر إلى [صلاة خالي محمد] بن سَوّار وكان يقوم الليل، فكنت أقوم معه. [وروي أنَّه] صام الدَّهر وهو في القِماط، قال: أرضعتني أمِّي ليلًا، ثمَّ طلع الصَّباح، فألقى الله عليَّ النُعاس طول النهار، فلمَّا جاء اللَّيل أرضعتْني، فبقيتُ على هذا مدَّة الرضاع، ثمَّ ألهمني الله وأنا ابن ثلاث سنين [سَرْدَ الصوم، قال: وحفظت القرآن وأنا ابن ستِّ سنين] وكنتُ أَسْرُد الصَّوم وأفطر على خبز الشَّعير حتَّى بلغتُ اثنتي عشرة سنة. قال: وقال لي خالي محمد بن سَوّار وأنا طفل: [يا سهل، ] ألا تذكر الله الَّذي خلقك؟ قلت: كيف أذكره؟ قال: تقول بقلبك من غير أن تحرِّك شفتيك ولسانَك: الله ناظري، الله شاهدي، الله معي، ثمَّ قال: دُم على هذا فإنَّه ينفعك في قبرك، [قال: ] فدُمت عليه، فوجدتُ حلاوتَه في سرِّي. وقال: وقعتُ في مسألة وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، فخرجتُ إلى عبَّادان، فسألتُ عنها أبا حبيب حمزةَ بنَ عبد الله العبَّاداني، فأجابني عنها، ثم رجعتُ إلى تستر، فكان قوتي في كل شهر درهم أشتري به شعيرًا وأطحنه، وأُفطر في كل ليلةٍ وقتَ السَّحرَ على أوقيَّة [بغير] ملح ولا إدام، وكنتُ أُواصل اليومين والثلاثة والعشرة والعشرين وأكثر. [حدثنا جدِّي رحمه الله بإسناده عن] أبي العبَّاس الخوَّاص قال: كنت أحبُّ أن أعلم من أينَ يقتات سهل بن عبد الله؟ [فلم يخبرني أحد]، فجئتُ ليلة إلى المسجد وسهل قائمٌ يصلِّي، [فجاءت شاةٌ فدخلت المسجد، ] فأوجز في صلاته، وأخذ قَعْبًا من طاق ¬

_ = 234، 332، 412، 529، 535، ومناقب الأبرار 1/ 197 - 220، وصفة الصفوة 4/ 64 - 66، 254، 443 - 444، والمنتظم 12/ 362، وذم الهوى ص 77، ووفيات الأعيان 2/ 429 - 430، وتاريخ الإسلام 6/ 756 - 758. (¬1) المناقب 1/ 198، وما بين معكوفين من (ف).

المسجد]، فجاءتْ فوقفت بين يديه، فحلَبها لبنًا، فملأ القَعْب وشرب، ثمَّ مسح يده عليها وكلَّمها بالفارسية، فخرجت إلى البريَّة، وعاد إلى صلاته، [قال ابن جَهْضَم: وكان يفطر في شهر رمضان على الماء القراح]. [وحكى في "المناقب" عن] بعض أصحابه قال: دخلت على سهل (¬1) يوم الجمعة وقت الصَّلاة، فرأيتُ في البيت حيَّةً، فجعلت أُقدِّم رِجلًا وأؤخِّر أخرى، فقال لي: ادخل، لا يَبلغ العبدُ حقيقةَ الإيمان وعلى وجه الأرض شيءٌ يخافه، ثمَّ قال: هل لك في صلاة الجمعة؟ فقلت: بيننا وبين المسجد مسيرةُ يوم وليلة، فقام وأخذ بيدي، فما كان بأسرع أن رأيت المسجد، فصلَّينا الجمعة وخرجنا، فوقف ينظر إلى النَّاس وهم خارجون، فقال: أهل لا إله إلا الله كثير، والمخلصون منهم قليل. ووقع بين يديه حمام في المسجد، فقال: إنَّ شاه بن شُجاع الكرمانيّ قد مات في هذه السَّاعة، فأرَّخوا الوقت، فكان كما قال. وظهر بيعقوب بن الليث الصَّفَّار مرضٌ أعيى الأطباء، فقيل له: لو دعا لك سَهل لعوفيت، فاستحضره وقال: ادعُ الله لي، فقال: ما يَنفَعك دعائي وفي الحبس مظلومون يدعون عليك؟ فأخرج جميعَ مَن كان في حبسه، فقال سهل: [اللهم كما أريتَه] ذُل المعصية، فأرِهِ عزَّ الطَّاعة، فعُوفي من ساعته، وأخرج مالًا عظيمًا وقال لسهل: فرِّقه في الفقراء، فلم يقبل منه، فخرج من عنده، فقيل له: لو قبلتَه ودفعتَه إلى الفقراء، فنظر في الصَّحراء، وأشار إلى الحصى، فصار كلُّه جواهر، فقال لأصحابه: مَن يُعطى مثل هذا لا يحتاج إلى مال يعقوب بن اللَّيث. [وحكى عنه في "المناقب" أيضًا أنَّه] قال: أوَّل ما رأيتُ من العجائب والكرامات أنِّي خرجتُ يومًا إلى موضعٍ خالٍ، وطاب لي المقام فيه، وحضر وقتُ الصَّلاة، ولم يكن عندي ماء، فاغتَمَمْتُ لفَقْد الماء، فبينا أنا كذلك إذا بدُبٍّ يمشي على رجليه ومعه جرَّةٌ خضراء، فدنا منِّي وسلَّم عليَّ، ووضع الجرَّة بين يديّ، فجاءني اعتراضُ العلم، وقلت: هذا الماء لا أدري من أين هو؟ فنطق الدُّبُّ وقال: يا سهل، نحن قومٌ قد ¬

_ (¬1) في (خ): قال بعض أصحاب سهل دخلت عليه.، والمثبت من (ف) و (م 1).

انقطعنا إلى الله تعالى على عَزْم التوكل والمحبَّة، فبينما نحن نتكلَّم مع أصحابنا في مسألةٍ إذ نُودينا: ألا إنَّ سهلًا يريد أن يُجدِّد الوضوء، ووضعت الجرَّة بين أيدينا. قال سهل: وإلى جانبها مَلَكان يَصُبَّان فيها الماء من الهواء وأنا أسمع، فغُشي عليَّ، ثمَّ أفقتُ، وإذا الجرَّة موضوعة، ولا علمَ لي بالدبِّ أين ذهب، وأنا متحسِّرٌ حيث لم أكلِّمْه، فتوضَّأْتُ من الجرَّة، وأردتُ أن أشرب منها فنوديت: ياسهل، ما آن لك أن تشربَ من هذا الماء بعدُ، قال: وبقيت الجرَّةُ تضطرب وأنا أنظر إليها، فلا أدري أين ذهبت. و[ذكر في "المناقب" أيضًا أنَّه] كان لسهل بتُسْتَر بيت تضيف فيه السّباع، قال أبو نصر السَّرَّاج: دخلنا تُستَر فرأينا في قصر سهل بيتًا يسمُّونه بيت السِّباع، فسألنا عنه فقالوا: كانت السِّباعُ تزور سَهلًا، فيُدخِلَهم هذا البيت، ويطعمهم اللَّحم، قال أبو نصر: ورأيتُ أهل تُستر مُجتمعين على هذا، وهم الجمُّ الغَفير، والعَددُ الكثير، لا يُتصوَّر تواطؤهم على الكذب. [قال السرَّاج: وحكى لنا] أبو سعيد صاحب سهل قال: دخل سَبُع إلى دار سهل ففزعنا كلُّنا، فقام سهل فأدخله البيت، وأمرني أن أشتريَ له لحمًا ثلاثة أيام، فلمَّا كان في اليوم الرابع جاءه سهل فوقف على الباب وقال: يا مُبارك، الضيافة ثلاثة أيام (¬1)، فخرج السَّبُع إلى البريّة يُهَرْول. وقال رجل من أصحابه له: ربَّما أتوضأ للصلاة، فيَسيلُ الماء بين يديَّ قضبان الذَّهب والفضَّة، فقال له سهل: أما علمتَ أن الصِّبيان إذا بكَوا يُعطَون خَشخاشة يشتغلون بها. وقال له بعض أصحابه: أريد (¬2) الخروج إلى البيت المقدس، وأحبُّ أن يكون لي هناك مَن آنَسُ به، فدلَّني على رجلٍ يكون كذلك، فقال له سهل: اذهب إلى هناك فإنَّك تلقى فلانًا، ووصف له صفتَه ومكانه من المسجد، قال الرجل: فأتيتُه فعرفتُه ¬

_ (¬1) في (ف): الضيافة ثلاث. (¬2) في (ف): وحكى أيضًا عن بعض أصحابه أنَّه قال له أريد.

بالوَصْف، وسلَّمتُ عليه، وقلت: ادعُ لي، فقال: أتعرفُني؟ قلتُ: دلَّني عليك سهل، فقال: أتحبُّ أن ترى سهلًا؟ فقلتُ: إنِّي خلَّفتُه بتُستَر في بلده، فقال: قم إلى ذاك العَمود، فقمتُ إليه، وإذا بسهل قائمٌ يصلِّي عنده، فوقعت عليَّ رِعدة ولم أكلِّمه، وغلبني النَّوم، فأنبهوني للصَّلاة. وقال سهل: كنت (¬1) يومًا بناحية ديار عاد، فرأيتُ مدينةً من حجرٍ منقور، في وسطها قصرٌ من حجارة، مَنقورةٌ سُقوفُه وأبوابه، تأوي إليه الجنُّ، فدخلتُه، وإذا شيخٌ عظيمُ الخِلْقة يصلِّي نحو الكعبة، وعليه جُبَّة صوف فيها طراوة، [قال: ] فلم أتعجَّب من عِظَم خِلقَتِه كما تعجَّبت من طراوة جُبَّته، فسلَّمت عليه، فردَّ وقال: يا سهل، إنَّ الأبدان لا تُخلِق الثِّياب، وإنَّما يُخلِقها روائحُ الذُّنوب، ومطاعمُ السُّحْت، وإنَّ لهذه الجُبَّةِ علي سبع مئة سنة (¬2)، وفيها لقيتُ المسيح عليه السَّلام ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وآمنتُ بهما، فقلتُ له: ومَن أنت؟ فقال: أنا الَّذي نزل فيَّ قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] الآية. وقال (¬3) عبد العزيز الأهوازي: قال لي سهل بن عبد الله: مُخالطة الوليِّ للنَّاس ذلٌّ، وتفرُّدُه عزٌّ. وقال: ما رأيتُ وليًّا لله إلا مُنفردًا إلَّا عبد الله بن صالح؛ فإنَّه كان رجلًا صالحًا له سابقةٌ جَليلة، وكان يفرُّ من الناس من بلد إلى بلد حتَّى أتى مكَّة، فطال مُقامه بها، فقلتُ له في ذلك فقال: ولمَ لا أُقيم ببلدٍ أر بلدًا تنزل فيه من الرَّحمة والبَركة أكثر من هذا البلد؟ والملائكة تغدو فيه وتروح، وإنِّي أرى فيه أعاجيبَ كثيرة، أرى الملائكة يطوفون به على صور شتَّى لا يقطعون ذلك، ولو قلتُ ذلك كلّما رأيتُ لصَغُرت عنه عقولُ البشر أو عقولُ قوم ليسوا بمؤمنين، فقلت: أسألك، ألا أخبرتَني بشيءٍ من ذلك، فقال: ما من وَليٍّ لله صحَّت ولايتُه إلَّا وهو يَحضر في هذا البلد في كلِّ ليلةِ جمعة، ولا ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): وحكى أيضًا عن سهل قال كنت. (¬2) في صفة الصفوة 4/ 444: وإنَّ هذه الجبة عليَّ منذ سبع مئة سنة. (¬3) هذا الخبر ليس في (ف) و (م 1).

يتأخَّر عنه، فمقامي ها هنا لأجل مَن أراه منهم، ولقد رأيتُ رجلًا يقال له: مالك بن القاسم جبليّ، قد جاء ويده غَمِرَة (¬1)، فقلتُ له: إنَّك قريبُ عَهْدٍ بالأكل؟ فقال لي: أستغفر الله؛ فإنِّي منذ أسبوع لم آكل، ولكن أطعمتُ والدتي، وأسرعتُ لألحقَ صلاةَ الفجر ها هنا، وبينه وبين الموضع الَّذي جاء منه سبع مئة فرسخ، فهل أنت مؤمن بهذا؟ قال سهل: فقلت: نعم، فقال: الحمد لله الَّذي أراني مؤمنًا موقنًا. ذكر المختار من كلامه: [حدَّثنا غير واحد عن عمر بن المظفَّر بإسناده، عن محمد بن الحسن بن مصباح] قال: [سمعتُ] سهل [بن عبد الله يقول: ] أمسِ قد مات، واليوم في النَّزْع، وغدًا لم يولد. [وحكى عنه في "المناقب" أنَّه] قيل له: ما تقول في هذا الَّذي يقولون: يكون الرجل بالغَداة بالبصرة، وبالعَشيّ بمكة؟ فقال: أليس يكون لبعض الملوك عَبْدٌ يَدفع إليه مفاتيح خزائنه يتصرَّف فيها كيف شاء؟ ! قالوا: بلى، قال: فكذا العبد إذا أطاع مولاه فيما أمره به ونهاه، واجتهَد فيما يقرِّبه إليه، سخَّر له كلَّ شيء. [وروى أبو نعيم الأصفهاني (¬2) بإسناده إلى ابن الصباح قال: ] قال [سهل: ] استجلبْ حَلاوةَ الزُّهدِ بقِصَر الأمل، واقطع أسبابَ الطَّمَع بصحَّةِ اليأس، وتعرَّض لرقَّة القلب بمُجالسةِ أهل الذِّكر، واستفتِحْ بابَ الحُزن بطول الفكر، وتزيَّن لله بالصِّدق، وإيَّاك والغَفْلة؛ فإنَّ فيها سوادَ القلب. [وحكى في "المناقب" بمعناه، وزاد عليه: ] وتحبَّب إلى الله بتَعجيل الانتقال، وإيَّاك والتَّواني فيما لا عُذرَ فيه؛ فإنَّه مَلجأ النَّادمين، واسترجِعْ سالفَ الذُّنوب بشدَّة النَّدَم، وتعرَّضْ لعفو الله بحُسن المراجعة، واستدِمْ بعظيم الشُّكر خوفَ زوال النِّعمة. [وحكى أبو نعيم (¬3) عنه أنَّه، قال: أوَّل الحِجاب الدَّعوى، فإذا أخذوا فيها حُرموا. [وحكى الخطيب عن سهل بمعناه قال: ] ليس بين العبد وبين الله حِجابٌ أغلظ من الدَّعوى، ولا طريقٌ أقرب من الافتقار. ¬

_ (¬1) الغَمَر: ما يعلق باليد من دسم اللحم. اللسان: (عُمر). (¬2) في حلية الأولياء 10/ 199 - 200. وما بين معكوفين من (ف) و (م 1). (¬3) في الحلية 10/ 202.

[وحكى عنه ابن باكويه أنَّه قال: ] ليس على النَّفس شيءٌ أشدَّ من الإخلاص؛ لأنَّه ليس لها فيه نصيب. [وحكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: كلُّ الأحوال لها وجهٌ وقفا، إلَّا التوكُّل فإنَّه وجهٌ بلا قفا. [وحكى عنه أيضًا أنَّه] قال: ما من قلبٍ إلا والله تعالى مطَّلعٌ عليه، فإن رأى فيه مَيلًا إلى غيره سلَّط عليه إبليس. وقال: لا يستحقُّ الإنسان الرّياسة حتَّى يَصرف جهله عن النَّاس، ويَحمل جَهلَهم، ويَتركَ لهم ما في أيديهم، ويَبذُلَ لهم ما في يده. وقال: من أخلاق الصِّدِّيقين أنَّهم لا يَحلفون بالله صادقين ولا كاذبين، ولا يَغتابون ولا يُغتاب عندهم، وإذا وَعدوا لم يُخلِفوا، ولا يُشْبِعون بطونَهم، ولا يَمزحون، ولا يتكلَّمون إلَّا الاستثناء في كلامهم. وقال: الآيات لله، والمعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء، والمعونات للمريدين، والتمكين لأهل الخصوص. وقال: تربة المعاصي الأمل، وبذرها الحرص، وماؤها الجهل، وزارعها الإصرار، وتربة الطاعة المعرفة، وبَذْرها اليقين، وماؤها العلم، وزارعها الإقلاع. وقال: مَن لم يَصحبه الورعُ أكل رأسَ الفيل ولم يشبع. وقال له رجل: أُريد أن أصْحَبَك، فقال: إذا مات أحدُنا فمَن يصحب الباقي؟ فقال: الله تعالى، قال: فلنَصْحَبه الآن. وسئل عن ذات الله تعالى، فقال: ذاتُه سبحانه موصوفة بالعلم، غيرُ مُدْرَكَةٍ بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حدٍّ ولا إحاطة، قد حجب الخَلْقَ عن معرفةِ كُنْهِ ذاته، ودلَّهم عليه بآياته، فالقلوب تَعرفُه، والعقول لا تُدركه. وقال: مَن كان له في الدُّنيا سببٌ يتعلَّق به غير الله، أو يُؤوي إليه غيرَه، فقلبه مَحجوبٌ عنه، ومَن لم يغلب عليه الوَحدة فهو بعيدٌ من باب الله تعالى.

صالح بن محمد

وقيل له: ما القوت؟ فقال: ذكرُ الحيِّ الَّذي لا يموت. وقال: إنَّ الله تعالى منع أقوامًا لَذيذَ مُناجاته، فلم يرض عقولَهم لمعرفته، ولا أبدانَهم لخدمته، فجعلهم عَبيدَ الدنيا. [وقال في "المناقب" أيضًا: ] كان قد أصاب سَهلًا زَمانَةٌ في آخر عمره، فكان إذا حضر وقتُ الصلاة انتَشَرت يداه ورجلاه، فإذا فرغ من الصَّلاة عادت الزَّمانة، ولم يزل كذلك إلى أن مات. [واختلفوا في وفاته؛ فذكر أبو عبد الرحمن السُّلَمي في "الطبقات" (¬1) أنَّه] مات في هذه السَّنة، وقيل: في سنة ثلاث وسبعين ومئتين. [قال في "المناقب": ] ولمَّا خرجوا بجنازته أكبَّ النَّاس عليها وهناك شيخٌ يهوديٌّ، فصاح صَيحة عظيمة وقال: هل ترون ما أرى؟ قالوا: وما ترى؟ قال: أرى أقوامًا نزلوا من السَّماء يتمسَّحون بالجنازة، ثمَّ أسلم في الحال وحَسُن إسلامُه. أسند سهل عن خاله محمد بن سَوَّار، واجتمع بذي النُّون المصري بمكَّة، ولقي جماعة من المشايخ، وكانت وفاته بتُسْتَر رضي الله عنه (¬2). صالح بن محمد ابن عبد الله بن عبد الرحمن، أبو الفضل، الشِّيرازي (¬3) البغداديّ. كان رجلًا صالحًا، ختم القرآن أربعة آلاف مرَّة، وتوفِّي في شوال. حدَّث عن عفَّان بن مسلم وغيره، وروى عنه أبو بكر الشَّافعي وغيرُه، وكان ثقة. عبد الرحمن بن يوسف ابن سعيد بن خِراش، أبو محمد، الحافظ، البغداديُّ. أقام بنيسابور مدَّة مُستَفيدًا من محمد بن يحيى الذُّهلي وغيره، وسمع منه جماعة، ورواته حُفَّاظ الأئمة من أهل الدُّنيا؛ لأنَّه كان أوحدَ زمانه، وفريدَ عصره، ومات ببغداد لخمسٍ خَلَون من رمضان. أسند عن خلق كثيرٍ؛ وروى عنه أحمد بن عُقْدَة وغيره. ¬

_ (¬1) ص 206. (¬2) من هنا إلى آخر السنة ليست في (ف) و (م 1). (¬3) كذا في (خ) والمنتظم 12/ 362، والذي في تاريخ بغداد 10/ 435، وتاريخ الإسلام 6/ 759: الرازي.

علي بن العباس بن جريج

ومن شعره: [من السريع] وقائلٍ كيف تهاجَرْتُما ... فقلتُ قولًا فيه إنصافُ لم يكُ من شكلي فتاركتُهُ ... والنَّاسُ أشكالٌ وأُلَّافُ واتَّفقوا على صدقه، وثقته، وأمانته، وفضله (¬1). وقال أبو أحمد بن عديّ: كان يتشيَّع، سئل عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن معاشر الأنبياء لا نُورَث، ما تركناه صدقة". فقال: هذا حديث باطل (¬2). عليُّ بن العبَّاس بن جُرَيج أبو الحسن، ابن الرُّومي، الشَّاعر، مولى عُبيد الله بن عيسى بن جعفر. شاعر مَشهور فصيح، وهو أحد الشُّعراء المُكْثِرين المُجَوِّدين في الغَزَل، والمديح، والهجاء، والأوصاف. ومن شعره: [من الطويل] إذا ما كساكَ الدَّهرُ سِرْبال صِحَّةٍ ... ولم تَخْلُ من قوتٍ يَلَذُّ ويَعْذُبُ فلا تَغْبِطَنَّ المُتْرَفين فإنَّه ... على قَدْرِ ما يَكسوهمُ الدَّهرُ يَسْلُبُ (¬3) وقال: [من الوافر] عدوُّكَ من صديقك مُستفادٌ ... فلا تَسْتَكْثِرنَّ من الصِّحابِ فإنَّ الدَّاءَ أكثر ما تراه ... يكون من الطَّعامِ أو الشَّراب إذا انْقَلبَ الصَّديقُ غدًا عدوًّا ... مُبينًا والأمورُ إلى انقلابِ فدَعْ عنك الكثيرَ فكم كثيرٍ ... يُعافُ وكم قليلٍ مُستَطاب وما اللُّجَجُ المِلاحُ بمُرْوياتٍ ... وتَلْقى الرِّيَّ في النُّطَفِ العِذابِ (¬4) ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 571، والمنتظم 12/ 362، وتاريخ الإسلام 6/ 773. (¬2) الكامل 4/ 1629 دون قوله: "نحن معاشر الأنبياء" وأخرجه أيضًا دون هذا اللفظ البخاري (3094)، ومسلم (1757) (49)، وأحمد (172) من حديث عمر - رضي الله عنه -، وأخرجه النسائي في الكبرى (6275) بلفظ: "إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة". (¬3) المنتظم 12/ 365، والديوان 1/ 187. (¬4) ديوانه 1/ 231 - 232.

وقال: [من الطويل] لِمَا تُوعد الدُّنيا به من صُروفِها ... يكون بُكاءُ الطِّفلِ ساعةَ يُولَدُ وإلَّا فما يُبكيه منها وإنَّها ... لَأَفْسَحُ ممَّا كان فيه وأرغَدُ (¬1) أخذ هذا المعنى بعض المتأخِّرين فقال: [من الطويل] لِمَا توعد الدُّنيا به من شُرورها ... يكون بكاءُ الطِّفل ساعةَ يُوْضَعُ وإلَّا فما يُبكيه منها وإنَّها ... لأفسحُ ممَّا كان فيه وأوسعُ وقال في ابنٍ لعيسى بن منصور وكان شحيحًا: [من المتقارب]: يُقَتِّرُ عيسى على نَفسِهِ ... وليس بباقٍ ولا خالد فلو يستطيعُ لتَقْتِيرِه ... تنفَّسَ من مِنْخَرٍ واحدِ (¬2) وقال وقد نزل في سفينة، فرأى أبا رِياح على دار ابن طاهر والشُّرفات: [من الوافر] ترى شُرُفاتها مثلَ العَذَارى ... خَرَجْنَ لنُزهَةٍ فقَعَدْنَ صَفَّا عليهنَّ الرَّقيبُ أبو رياحٍ ... فليس لخوفه يُبْدينَ حَرْفا (¬3) وقال: [من الطويل] إذا ما مدحتَ الباخِلين فإنَّما ... تُذَكِّرُهم ما في سِواهم من الفَضْلِ وتُهدي لهم غمًّا طويلًا وحَسْرةً ... فإنْ مَنعوا منك النَّوال فبالعَدْلِ (¬4) وقال: [من الطويل] تَخَذْتُكُمُ حِصنًا حَصينًا لتَدْفَعوا ... نِبال العِدا عنِّي فكنتم نِصالها وقد كنتُ أرجو منكمُ خيرَ ناصرٍ ... على حين غَدْراتِ اليمين شِمالها فإن أنتُمُ لم تَحفظوا لي مَوَدَّتي ... ذِمامًا فكونوا لا عليها ولا لَها قِفوا مَوْقِفَ المَعْذورِ عنِّي بمَعْزِلٍ ... وخلُّوا نِبالي والعِدا ونِبالها (¬5) ¬

_ (¬1) ديوانه 2/ 586. (¬2) البيتان في ديوانه 2/ 641، وذكرها أيضًا الخطيب في تاريخه 13/ 474 - 475. (¬3) ذكر هذين البيتين الخطيب في تاريخه، ولم نقف عليهما في ديوان ابن الرومي. (¬4) المنتظم 12/ 364، وديوانه 5/ 20225. (¬5) المنتظم 12/ 366، وديوانه 5/ 1911.

وقدم بعضُ إخوانه من سفرٍ، فتأخَّر عن السَّلام عليه، فكتب إليه يقول: [من الكامل] يا مَن أُؤمِّلُ دونَ كلِّ كَريمِ ... وتُحبُّ نفسي دون كلِّ حَميمِ أخَّرتُ تَسليمي عليك كَراهةً ... لزِحامِ مَن يَلقاك للتَّسليمِ وذكرتُ قِسْمتَكَ التَّحفِّي بينهم ... عند اللقاءِ كفعلِ كلِّ كريمِ (¬1) فنَفَسْتُ ذاك عليهمُ وأرَدْتُه ... من دونهم وَحْدي بغير قَسيمِ فصبرتُ عنك إلى انْحِسارِ غِمارِهم ... والقلبُ نَحوك دائمُ التَّحْويمِ صَبْرَ امرئٍ يُعطي المودَّةَ حقَّها ... لا صَبْرَ مَذْمومِ الحِفاظِ (¬2) لَئيمِ والسَّعْيُ نحوك بعد ذاك فَريضةٌ ... وقَضاءُ حَقِّك واجبُ التَّقديمِ وقال أبو عثمان النَّاجم: دخلتُ على ابن الروميّ وهو يموت، فقال لي: [من الوافر] أبا عُثمانَ أنت حَميدُ (¬3) قومِكْ ... وجُودُكَ للعَشيرةِ دون لومِكْ تزوَّدْ من أخيك فما أُرَاه ... يَراك ولا تَراهُ بعد يَوْمِكْ فلمَّا خرجتُ من عنده مات. وكان موته في هذه السَّنة، وقيل: سنة أربع وثمانين ببغداد، ويقال: إنَّ الوزير القاسم بن عبيد الله سَمَّه في خُشْكنانه؛ لأنَّه هجاه. وله: [من الطويل] وحَبَّبَ أوطانَ الرِّجال إليهمُ ... مآربُ قضَّاها الشَّبابُ (¬4) هُنالكا إذا ذَكَروا أوطانَهم ذكَّرَتْهمُ ... عُهودَ الصِّبا فيها فحَنُّوا لذلِكا ¬

_ (¬1) في (خ): حليم. والمثبت من الديوان 6/ 2243، وتاريخ بغداد 13/ 473. والتَّحفِّي: الكلام واللقاء الحسن. اللسان: (حفا). (¬2) في (خ): اللحاظ. والمثبت من المصادر السالفة. (¬3) كذا في (خ)، وتاريخ بغداد، والذي في الديوان 5/ 1889: عميد. (¬4) في (خ): ما أردت قضاها التصابي، والمثبت من الديوان 5/ 1826، والمنتظم 12/ 366.

علي بن محمد بن أبي الشوارب

عليُّ بن محمد بن أبي الشَّوارب الأمويّ البَصريّ، أبو الحسن، قاضي سرَّ من رأى. سمع أبا الوليد الطَّيالسيَّ وغيره، وروى عنه ابن صاعد (¬1) وغيرُه، وكان عفيفًا ديِّنًا ثقة. وكانت وفاته ببغداد في شوَّال، وحمل إلى سرَّ من رأى. الوليد بن عُبيد ابن يحيى بن عُبيد، أبو عُبادة، البُحْتُريّ (¬2)، من بُحتر طَيِّئ، من أهل مَنْبج. شاعر مشهور، ولد سنة مئتين، وقيل: سنة ستٍّ ومئتين، تأدَّب، وخرج إلى العراق فمدح المتوكِّل، والخلفاء، والأمراء، والأكابر، والرؤساء، وأقام ببغداد دهرًا طويلًا، ثم عاد إلى بلده فمات به سنة ثلاثٍ وثمانين. وقيل: سنة خمس وثمانين ومئتين، وقد بلغ ثمانين سنةً. وكان يُفَضَّل على أبي تمَّام، وإذا قيل له في ذلك يقول: كلا والله، ذاك الرئيسُ الأستاذ، وهل أكلْنا الخبزَ إلَّا به؟ وكان أبو تمَّام يقول له: أنت أمير الشُّعراء بعدي، فقال البحتري: هذا الكلام أحبُّ إليَّ من جميع ما حَويتُه. وشهرة البُحتريِّ تُغني عن الإطناب في وصفه. ومن شعره يمدح كاتبًا: [من الكامل] وإذا دَجَتْ أقلامُه ثمَّ انتحت ... بَرَقتْ مَصابيحُ الدُّجى في كُتْبِهِ فاللفظُ يُرْقَبُ (¬3) فَهْمُه في بُعده ... منَّا ويَبْعُد نَيلُه في قُربهِ حِكَمٌ سَحائبُها خِلال بَنانه ... هَظَالةٌ وقَليبُها في قَلْبهِ ¬

_ (¬1) في (خ): ابن صائغ، والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 523، والمنتظم 12/ 363، وتاريخ الإسلام 6/ 784. (¬2) ذكره في المنتظم 12/ 392 - 397 في وفيات سنة خمس وثمانين ومئتين، وانظر تاريخ الإسلام 6/ 844، وتاريخ بغداد 15/ 621. (¬3) في ديوانه 1/ 165، وتاريخ بغداد 15/ 622: يقرب، وهي الأشبه.

كالرَّوض مؤتَلِقًا بحُمْرَةِ نوره ... وبياضِ زَهْرتِه وخُضرةِ عُشْبهِ وكأنَّها والسَّمعُ مَعقودٌ بها ... شخْصُ الحبيب بَدَا لعَينِ مُحبِّهِ وقال يصف كُتّابًا: [من البسيطِ] قومٌ إذا أخذوا الأقلامَ عن غَضَبٍ ... ثمَّ استمدُّوا بها ماءَ المنيَّاتِ نالوا بها من أعاديهمْ وإنْ كَثُروا ... ما لا يُنالُ بحدِّ المَشْرَفيَّاتِ (¬1) وله: [من الكامل] وإذا تكامل للفتى من عُمْرِه ... خمسون وهو إلى التُّقى لا يَجْنَحُ عَكَفتْ عليه المُخْزِياتُ فما له ... مُتأخَّرٌ عنها ولا مُتَزَحْزحُ وإذا رأى الشَّيطانُ غُرَّةَ وَجْهه ... حَيَّى وقال: فَديتُ مَن لا يَصْلُحُ (¬2) وقال يتشوَّق: [من الطويل] سلامٌ عليكم لا وَفاءٌ ولا عَهْدُ ... وَشيكًا ولم يُنجَزْ لنا منكمُ وَعْدُ حَبيبٌ من الأحبابِ شَطَّت به النَّوى ... وأيُّ حَبيب لم يَحُلْ دونه البُعْدُ (¬3) وقال أيضًا: [من الخفيف] إنْ جَرى بيننا وبينكِ عَتْبٌ ... وتَناءت منَّا ومنكِ الدِّيارُ فالغَليلُ الَّذي عَهِدْتِ مُقيمٌ ... والدُّموعُ التي شَهِدْتِ غِزارُ (¬4) وقال أيضًا: [من الخفيف] هل لما فاتَ من تَلاقٍ تلافي ... أم لشَاكٍ من الصَّبابةِ شافِ ليس من ثَروةٍ بلغتُ مَداها ... غير أنِّي امرؤٌ كفاني كَفافي (¬5) وقال أيضًا: [من الطويل] أتاك الرَّبيعُ الطَّلْقُ يَختالُ ضاحِكًا ... من الحُسْنِ حتَّى كاد أن يتكلَّما ¬

_ (¬1) نسبها ابن خلكان في وفيات الأعيان 3/ 59 لابن أسعد الموصلي، ونسبها الصفدي في الوافي بالوفيات 7/ 116 لأحمد بن عبد الله أمير المؤمنين المستظهر. ولم نقف عليها في ديوان البحتري. (¬2) هذه الأبيات في ديوان البحتري 1/ 482 باختلاف كثير في ألفاظها، والقافية في الديوان مكسورة. (¬3) ديوان البحتري 2/ 740. (¬4) ديوان البحتري 2/ 852 - 853. (¬5) ديوان البحتري 3/ 1381، 1383.

العباس بن محمد بن عبيد الله

وقد نبَّه النّوروزُ في مَجلسِ الدُّجى ... أوائلَ وَرْب كنَّ بالأمس نُوَّما (¬1) وقال أيضًا: [من المتقارب] إذا المرءُ لم يرضَ ما أَمْكَنَهْ ... ولم يأتِ من دهره أَزْينَهْ وأُعجِبَ بالعُجبِ فاقتادَهُ ... وتاهَ به التِّيهُ فاستَحْسَنَهْ فدَعْه فقد ساء تدبيرُه ... سَيضحكُ يومًا ويبكي سَنَهْ (¬2) [وفيها توفي العبَّاس بن محمد بن عُبيد الله أبو الفضل البَزَّاز، ويُعرف بدُبَيس، البغدادي. أحد الشّهود المعدلين من الجانب الشرقي. قال ابن المنادي: وجد غمًّا على قلبه لحوادثَ لَحِقَتْه، فركب يومًا حمارًا، فأخذ به خارج السُّور فسقط، فيَبِسَت رجلُه في الرِّكاب، فإلى أن يُلحَق مشى به الحمار مَجرورًا فمات، وحُمل مَيتًا إلى منزله في رجب. سمع عفَّان بن مُسلم وطبقته، وروى عنه أبو عمرو ابن السمَّاك وغيرُه، وبيان ثقةً.] (¬3) * * * ¬

_ (¬1) ديوان البحتري 4/ 2090. (¬2) لم نقف على هذه الأبيات في ديوان البحتري، وهي في الديوان المنسوب لسيدنا علي - رضي الله عنه - ص 99، ونسبها للبحتري الخطيب في تاريخه 15/ 623. (¬3) ما بين معكوفين زيادة من (ف) و (م 1)، وتنظر ترجمته في تاريخ بغداد 14/ 35 - 36، والمنتظم 12/ 368 - 369، وتاريخ الإسلام 6/ 762.

السنة الرابعة والثمانون بعد المئتين

السنة الرابعة والثمانون بعد المئتين فيها في يوم الخميس لأربعٍ خَلَونَ من المحرَّم قدم رسول عمرو بن اللَّيث على المعتضد برأس رافع بن هَرْثَمة، فخلع على الرَّسول، ونصب الرأسَ في جانبَي بغداد، ثمَّ رُدَ إلى دار الخلافة. وفي (¬1) صفر أوقع عيسى النُّوشَري ببَكْر بن عبد العزيز بن أبي دُلَف في حدود أصبهان، فهزمه النُّوشري، وقتل رجاله، واستباح عسكَرَه، وهرب في نفر يسير. وفي ربيع الأوَّل قلَّد المعتضد أبا عمر محمد بن يوسف (¬2) القضاء على مدينة المنصور مكان ابن أبي الشَّوارب، وخلع عليه. وفيها أُخذ خادمٌ نصرانيٍّ لطبيب نصرانيٍّ اسمه غالب -طبيب السُّلطان- وشهدوا على الخادم أنَّه شتم النبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام، فحُبس، ثمَّ اجتمع العامَّة وجاؤوا إلى دار القاسم بن عبيد الله الوزير، وطالبوه بإقامة الحدِّ عليه، وأسمعوه ما يكره، فهرب منهم، ومَضَوا إلى قصر الخلافة، وبلغ المعتضد فأدخل إليه منهم جماعةً، وسألهم عن الخَبر، وأرسل معهم رسولًا إلى القاضي، وأمره أن يَنْظُر في القَضيَّة، فجاؤوا إلى القاضي، وكانت البيِّنةُ قد قامت عنده، فوعدهم بإقامة الحدِّ، فشَغَبوا وهجموا عليه، فهرب أعوانُه، وقام فدخل بيته، وأغلق بابه، وأرسل إليه الوزير بدفع القضيَّة، فدفعها، فقال ابن بسَّام: [من السريع] عنايةُ القاسمِ بالخادم ... دلَّت على دِينِ أبي القاسمِ لو يَكُنِ المَشْتومُ عيسى لما ... رضي بغير القَتْلِ للشَّاتمِ أراد بأبي القاسم القاضي. وفي ربيع الآخر ظهرت بمصر ظُلْمَة وحُمْرَة في السَّماء شديدة، حتَّى كان الرَّجل ¬

_ (¬1) الأخبار الثلاثة الآتية ليست في (ف) و (م 1). (¬2) في تاريخ الطبري 10/ 51، والكامل 7/ 484: يوسف بن يعقوب، والمثبت موافق للمنتظم 12/ 370، وتاريخ الإسلام 6/ 654.

ينظر إلى وجه الآخر فيراه أحمر، وكذا الحيطان، فخرج النَّاس من منازلهم يَدعون ويَتضرَّعون إلى الله تعالى، ودامت من وقت العصر إلى الليل. وفيها بعث عمرو بن اللَّيث الصَّفَار بألف ألف درهم لتُنفَق على طريق مكة مما يلي الكوفة والبصرة، وكانت الأمطار قد انقطعت من مكَّة ونواحيها، ففتح النَّاس باب الكعبة مِرارًا، واستَسْقوا ودعوا. قال الطَّبري: وفي هذه السَّنة عزم المعتَضِد على لَعْنَةِ معاويةَ بنِ أبي سفيان على المنابر، فخوَّفه عبيد الله (¬1) الوزير اضطرابَ العامَّة والفتنةَ، فلم يلتفت إليه، وتقدَّم إلى العامَّة بلُزوم أعمالهم، وترك الاجتماع والمعصية (¬2)، ومنع القُصَّاصَ من القعود على الطَّريق، ومنع من اجتماع الحِلَق والجدال في الجوامع، وكتب المعتضد كتابًا في ذلك، وأجمع النَّاس يوم الجمعة على أنَّ الخطيب يقرأه فما قوي. والكتاب من إنشاء عبيد الله الوزير، وكان نسخته بعد حمد الله تعالى والصَّلاة على نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن قال: وقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعةٌ من العامَّة من شُبْهةٍ قد دخلتْهم في أديانهم، وفَسادٍ لَحِقَهم في عقائدهم، وعصبيَّةٍ قد غَلبتْ عليها أهواؤهم، وقطعت بها ألسنتهم على غير معرفةٍ ولا رويَّة، قلَّدوا فيها أئمَّة الضَّلالة بغير بيِّنة ولا بصيرة، وخالفوا السُّنَن المتَّبَعة، ومالوا إلى الأهواء المبتدعة، وقال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] خروجًا عن الجماعة، ومُسارعةً إلى الفتنة، وإيثارًا للفُرقة، وتَشتيتًا للكلمة، وإظهارًا لموالاة مَن قطع الله عنه الموالاة، وبَتَر منه العِصمة، وأخرجه من المِلَّة، وقد قال الله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] وإنَّما أراد بني أميَّة الملعونين على لسانِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي كتاب الله. وإنَّ أبا سفيان وبَنِيه وأهلَه لم يزالوا في المواطن كلِّها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا أشدَّ عداوةً له من جميع الكفَّار، ولم ترفع الكفَّار رايةً يوم بدرٍ وأُحُدٍ والخندق إلَّا وأبو سفيان وأشياعُه أصحابُها، ومُقَدَّموها، ورؤساؤها، وقادتُها. ¬

_ (¬1) في (م 1): فخوفه عبيد الله والكتاب وهدَّأ عبيد الله بن سليمان بن وهب. (¬2) في تاريخ الطبري 10/ 54: والقضية، وفي المنتظم 12/ 372: العصبية.

ولمَّا رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق أبا سفيان راكبًا ومعاويةُ يقودُه وابنُه يزيد بن أبي سفيان قال: وذكر الحديث (¬1). وإنَّ أبا سفيان كان يقول: تلقَّفوها [تَلَقُّفَ] الكُرة، فما ثَمَّ جنَّةٌ ولا نارٌ، وكان يقول: ها هنا ذَبَبْنا محمدًا وأصحابَه (¬2). وأنزل الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَينَاكَ إلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] فإنَّه رأى بني أميَّة يَنْزُون على منبره نَزْوَ القِرَدَة، فساءه ذلك. وكان الحكم بن أبي العاص يتجسَّس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويَنقل أخبارَه إلى الكفَّار، ورآه يومًا وهو يُحاكي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في مشيته فقال: كن كذلك، فكان. ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا معاوية، فقيل له: إنَّه يأكل، فقال: "لا أَشْبَعَ [الله] بطنَه" (¬3)، فما شبع بعدها. ثمَّ إنَّ معاوية وَثَب على أفضل المسلمين مكانًا، وأقْدَمِهم سابقة، وأحسنِهم أثرًا، أميرِ المؤمنين عليِّ بن أبي طالب، فنازعه حقَّه بباطله، وقاتله بغُواته، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعمار: "تَقتُلُك الفئةُ الباغية". وانبرى على هذه الأمَّة، فابْتَزَّهم أمرَهم من غير رِضًى ولا مَشورة، فسفك الدِّماء المحرَّمة، ونهب الأموال، وسبى الحَريم، ومنع من الحقوق أهلَها، وقتل خيارَ الصَّحابة: حُجْر بن عديِّ، وعَمرو بن الحَمِق (¬4) وأمثالهما، وادَّعى زياد بنَ أبيه بن سميَّةَ الفاجرة جَراءةً على الله، ومخالفةً لرسوله؛ لأنَّ الله تعالى قال: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش وللعَاهِرِ الحَجَر" (¬5). ¬

_ (¬1) ونصه كما في تاريخ الطبري 10/ 58: لعن الله القائد والراكب والسائق. (¬2) في الطبري 10/ 58: ومنه ما يروون من وقوفه على ثَنيَّة أُحد بعد ذهاب بصره وقوله لقائده: هاهنا ذببنا محمدًا وأصحابه. (¬3) أخرجه مسلم (2604) من حديث ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، وما بين معكوفين من الطبري 10/ 58. (¬4) في (خ): عمرو بن الجموح، والمثبت من تاريخ الطبري 10/ 59، وتاريخ الإسلام 6/ 655. وهو الصواب فإن عمرو بن الجموح استشهد يوم أحد. وينظر أسد الغابة 4/ 206. (¬5) أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457)، وأحمد (24975) من حديث عائشة - رضي الله عنها - وأخرجه =

ثمَّ دعا النَّاسَ إلى بيعةِ ابنه يزيد، وقد علم بفُجوره وفِسْقه، وقد علم النَّاس ما فعل بأولاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحسين، ونوبة الحَرَّة، وتحريقه البيتَ الحرام؛ جراءةً على الله وكُفرًا به ... وهو كتاب طويل، وفيه العجائب والغرائب. ولمَّا كتبه عبيد الله الوزير قال للقاضي يوسف بن يعقوب: كَلِّم المعتَضِد في هذا، فقال له: يا أمير المؤمنين، أخاف الفتنةَ عند قراءته، فقال المعتضد: إن تحرَّكت العامَّة وضعتُ سيفي فيها، فقال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بالطالبيِّين الذين هم في كلِّ ناحية قد خرجوا عليك؟ وإذا سمع النَّاس بما في هذا الكتاب من مآثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفضائل أهل البيت؛ كانوا إليهم أمْيَل، وكانوا هم أبسطَ ألسنة، وأثبتَ حُجَّةً منهم اليوم، فأمسك المعتضد عنه، ولم يقل له شيئًا. وفي شعبان ظهر شخص في دار المعتضد في يده سيفٌ مَسلول، فقصده بعضُ الخدم، فضربه بالسَّيف فجرحه، ودخل في البستان فاختفى، وطُلب فلم يوجد له أَثَر، وعَظُم ذلك على المعتضد، واحترز في سور دار الخلافة، وقيل: هو من الجنِّ، واختلف النَّاس فيه، وساءت الظُّنون، واستوحش المعتضد من الدار وَحْشةً شديدة، وأقام الشخصُ يظهر مرارًا على تلك الصُّورة ويتراءى، ولم يظهر خبره حتَّى مات المعتضد والمكتفي (¬1) وولي المقتدر (¬2). [وقال أبو يوسف القزويني: ] كان هذا الشخص خادمًا أبيض للمعتضد، وكان يميل إلى بعض الجواري، [اللاتي للمعتضد]، وكانت الجاريةُ في دار الحُرم، وكان مَن بلغ من الخُدَّام لا يدخلون دار الحرم، بل يسكنون خارجًا عنها، وكان خارج دار الحُرم بستان كبير كثير الأشجار، فاتَّخذ هذا الخادم لحيةً من مُشاق الكَتَّان، وكان يلبسها على وجهه، واتَّخذ برانس كثيرة مختلفة، ولحًى كثيرة، فتارة يظهر في صورة راهب، وتارة في صورة جندي، وبيده سيف مسلول، فكان إذا ظهر خرجت الجاريةُ مع الجواري كأنَّها تُشاهده، فيخلو بها بين الشَّجَر، ويتحدَّث معها بما يُريد خِلسَةً، فإذا طُلب دخل ¬

_ = البخاري (6818)، ومسلم (1458)، وأحمد (7262) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬1) في (ف) و (م 1): وقام المكتفي. (¬2) تاريخ الطبري 10/ 63، والمنتظم 12/ 372 - 373، والكامل 7/ 486 - 487، وتاريخ الإسلام 6/ 655.

بين الشَّجر ونزع اللِّحية، وخبأها مع البُرنس، والسيفُ مَسلول بيده كأنَّه بعض الخدم الطَّالبين للشخص، ودام الحالُ أيامَ المعتضد والمكتفي، حتَّى ولي المقتدر، فخرج الخادم إلى طَرَسوس (¬1)، فتحدَّثت الجاريةُ بحديثه. وفيها قُتل شفيع الخادم [خادم] عمر بن عبد العزيز ابن أبي دُلف، قتله أبو ليلى الحارث بن عبد العزيز بن أبي دُلَف، وسببه أنَّ أخاه عمر وثب عليه، فقيَّده، وحمله إلى قلعةٍ لآل أبي دُلف فيها أموالهم وجواهرهم وذخائرهم، ووكَّل به شفيعًا الخادم، ومعه جماعة من غِلمان عمر وخاصَّته، فلمَّا (¬2) استأمن عمر إلى المعتضد وهرب بكر عاصيًا (¬3) [على المعتضد] بقيت القلعةُ بما فيها في يد شفيع، فسأله أبو ليلى إطلاقه، فأبى وقال: حتَّى يأمرني أخوك عمر، فقال أبو ليلى لغلامٍ صغير كان يَخدُمه: احتلْ لي في مِبْرَدٍ وأدخلْه إليَّ في الطعام، ففعل الغلام. وكان شَفيع يأتي كلَّ ليلة فيشاهد أبا ليلى نائمًا على فراشه، ثمَّ يخرج فيُقْفِل عليه الباب، وينام قريبًا من الباب، فما زال أبو ليلى يُعالج القَيد بالمِبْرَد حتَّى قطع المسمار الَّذي كان فيه، فكان يخرجه من رجله إذا شاء، فقال لجارية عنده: ضعي على الفراش ثيابًا كثيرة، وإذا جاء شفيع فسأل عنِّي فقولي: هو نائم، واجلسي عند الفراش كأنَّك تكبسيني، ففعلت الجارية ذلك، وخرج أبو ليلى من البيت، فاختفى في الدِّهْليز خارج الباب، وجاء الخادم فسأل عنه، فأخبرته بأنَّه نائم، ورأى الفراش وما عليه فظنَّ أنَّه نائم، فخرج وأقفل الباب ونام، فجاء أبو ليلى ومعه سكِّين كان غُلامه دسَّها إليه في طعام -وقيل: إنَّه استلَّ سيفَ الخادم من عند رأسه- وذبحه. ووثب الغلمان الذين كانوا مع الخادم، فقال لهم [أبو ليلى]: أنا قتلته -والسَّيف مَشهورٌ في يده- فخافوه وخرجوا من الدَّار، وفتح باب القلعة، فاجتمع النَّاس إليه، ومَلَك القلعة، وخرج على المعتضد، وجمع (¬4) إليه جماعة، والتقى بعيسى النّوشريّ ¬

_ (¬1) في المنتظم 12/ 373: طوس. وما سلف بين معكوفين من (ف) و (م 1). (¬2) في (خ): ومعه جماعة من غلمان عبد العزيز فلما .... والمثبت من (ف) و (م 1)، وهو الموافق لما في الطبري 10/ 64، والكامل 7/ 487. (¬3) في (ف) و (م 1): وهرب إلى ديار بكر عاصيًا. (¬4) من هنا إلى آخر هذا الخبر ليس في (ف) و (م 1).

أحمد بن أصرم

في ذي الحجَّة على فرسخين من أصبهان، فبينا أبو ليلى يقاتل إذ جاءه سهمٌ فوقع في حَلْقِه فنَحره، فسقط عن فرسه، فانهزم أصحابُه، وأُخِذ رأسُه فحُمل إلى أصبهان، وذلك لليلتين بقيتا من ذي الحجَّة. وقُتل شفيع لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، فكان بينهما أربعون يومًا. وفيها وعد المنجِّمون النَّاسَ بغَرَق الأقاليم السَّبعة، ويكون ذلك بكثرة الأمطار، وزيادة المياه في العيون والآبار، فانقطع الغيثُ، وغارت العيون، وقلَّت المياه، حتَّى احتاج النَّاس إلى أن يَستسقوا ببغداد، وقحطت الدُّنيا، وأكذب الله المنجِّمين. وحجَّ بالنَّاس محمد بن عبد الله بن ترنجة (¬1). وفيها توفي أحمد بن أصْرم ابن خُزَيمة بن عبَّاد بن عبد الله بن حسَّان بن عبد الله بن المُغَفَّل صاحبِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أبو العبَّاس، المُزَنيُّ، البصري. كانت وفاته بدمشق. حدَّث عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره، وروى عنه ابنُ أبي حاتم وغيرهُ، وكان ثقة. ومن رواياته عن سفيان الثوري أنَّه قال: إنَّما سمِّيت الدُّنيا لدنوِّها من الآخرة، وسمِّي المال مالًا لأنَّه يُميل (¬2). أحمد بن المُبارك أبو عمرو المُسْتَملي، الزَّاهد، العابد، النَّيسابوريُّ. كان يسمَّى راهبَ عصره، يصوم النَّهار، ويقوم الليل، واستملى على المشايخ ستًّا وخمسين سنة، وسمع الكثير، وكانت وفاتُه بنَيسابور في جُمادى الآخرة. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 10/ 66، والمنتظم 12/ 373 - 374، ومن هنا إلى آخر السنة ليس في (ف) و (م 1). (¬2) تاريخ بغداد 5/ 72 - 74، والمنتظم 12/ 379، وتاريخ الإسلام 6/ 669 - 670.

سمع الإمام أحمدَ بن حنبل رحمة الله عليه وغيرَه، وروى عنه الأئمة. وقال أبو الحسن عليُّ بن محمد القاضي: حضرتُ مجلسَ أبي عثمان سعيدِ بن إسماعيل، فدخل أبو عمرو المستملي وعليه ثياب رثَّة، فبكى أبو عثمان، فلمَّا كان يوم مجلس الذِّكر تكلَّم وقال في آخر مجلسه: دخل عليَّ شيخٌ من مشايخ أهل العلم، فاشتغل قلبي برَثاثَة حاله، ولولا أنِّي أُجِلُّه عن تسميته في هذا الموضع لسمَّيتُه، فجعل النَّاس يَرمون بالخواتيم والدَّراهم والكسوة، فقام أبو عمرو وقال: أيُّها النَّاس، أنا الَّذي ذكرني أبو عثمان برَثاثة الحال، ولولا أنِّي كرهت أن يُتَّهم به غيري فآثمَ فيه لسترتُ ما ستره الله عليَّ، فتعجَّب أبو عثمان من إخلاصه، وأخذ جميعَ ما جمع له، فما بلغ باب الجامع إلَّا وقد فرَّق الجميع على الفقراء، ولم يأخذ منه شيئًا (¬1). * * * ¬

_ (¬1) المنتظم 12/ 374 - 375، وتاريخ الإسلام 6/ 693 - 694.

السنة الخامسة والثمانون بعد المئتين

السنة الخامسة والثمانون بعد المئتين فيها في يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المُحرَّم قطع صالحُ بن مُدرِك الطَّائيُّ في جماعةٍ من طَيِّئ على الحاجِّ الطَّريقَ بالأجفُر، فأخذوا من الأموال والمماليك والنِّساء الحرائر ما تبلغ قيمتُه ألفا ألف دينار. وفي المحرَّم ولَّى المعتضد عَمْرَو بنَ الليث ما وراء جَيحون، وعزل إسماعيل بنَ أحمد عنها. وفي صفر قدم برأس أبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دُلَف، فاستوهبه من المعتضد أخوه عمر، فوهبه له، فدفنه. وفي ربيع الأول هبَّت بنواحي الكوفة ريحٌ صفراءُ عامَّةَ نهار الأحد لعشرٍ بَقين من ربيع الأوَّل إلى المغرب، ثمّ استحالت سوداء ومطرت السَّماء عقيب ذلك مطرًا شديدًا، برُعودٍ هائلة، وبُروق متَّصلة، ثمَّ سكنت، ومُطرت قرية تُعرف بأحمداباذ بحجارة بيض وسُود. وفي يوم الجمعة لخمسٍ بقين منه هبَّت بالبصرة ريخ صفراء، ثمّ صارت خضراء، ثمَّ سوداء، ثمَّ امتدَّت في الأمصار (¬1)، ووقع عَقيبها بَرَدٌ وزنُ البَرَدة مئةٌ وخمسون درهمًا، وقَلَعت الرِّيحُ من تلك النَّواحي ستَّ مئة نخلة [من نهر معقل مئة، ومن نهر الحسين خمس مئة]. وفي جمادى الأولى توفِّي بكر بن عبد العزيز بن أبي دُلَف بطَبَرِسْتان، فأعطى المعتضدُ مَن جاء بالخبر ألفَ دينار. وفيها ولَّى المعتضدُ ابنَ أبي السَّاج أَرْمينية وأذْرَبيجان، وكان قد غلب عليها، وبعث إليه بخِلع. وفيها غزا راغبٌ الخادم مولى الموفَّق الرُّومَ في البحر، فأظفره الله بمراكبَ كثيرة، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 10/ 68، والمنتظم 12/ 378، والكامل 7/ 490: ثم تتابعت الأمطار. والمثبت موافق لما في تاريخ الإسلام 6/ 656.

إبراهيم بن إسحاق

ضرب منها ثلاثة آلاف رَقَبة، وأحرق المراكب، وفتح حصونًا كثيرة. وفي ذي الحجَّة قدم عليُّ بن المعتضد بغدادَ، وكان قد جهَّزه لقتال محمد بن زيد العلويّ ودفعه عن الجبال، فانهزم العلويُّ إلى طَبرِستان، فلمَّا قدم قبَّل أبوه ما بين عينيه بعد أن خرج عُبيد الله وجميع أرباب الدَّولة لاستقباله، وقال له: بعثناك ولدًا فرجعت أخًا، فقال: يا أمير المؤمنين، أبقاني الله لِخدْمتك، ولا أبقاني بعدك، وأكرمه، وخلع عليه بحضرته. [وقال الصُّولي: كان المعتضد قد جهَّز ابنَه عليًّا لقتال محمد بن زيد العلويّ، ودفعه عن الجبال، فانهزم العلويُّ إلى طبرِستان، وعاد المكتفي إلى بغداد، فقبَّل أبوه ما بين عينيه، وقال ما ذكرناه، ] وأعطاه ألف ألف دينار. وفي ذي الحجَّة خرج المعتضد من بغداد يريد آمِد، وخرج معه ابنه أبو محمد، واستخلف ببغداد صالحًا الحاجب، وقلَّده النَّظرَ في المظالم وغيرها. وكان قد مات أحمد بن عيسى بن شيخ، وقام ابنه محمد بما كان في يد أبيه بآمِد وما يليها على وجه التَّغَلُّب، فقصده المعتضد، وبعث هارون بن خُمارَويه إلى المعتضد بتقرير أمره على مصر، وسأله المقاطعة عليها بمال، فلم يُجبه. وصلَّى بالنَّاس يوم النَّحر ببغداد عليُّ بن المعتضد، وركب في أحسن زيٍّ كما تركب ولاةُ العهود، وصلَّى بالنَّاس، وخطب، ووقف على المِرْقاة (¬1) الثانية من أعلاه احترامًا لأبيه، ثمَّ نزل ومضى إلى داره، فوضع سِماطًا عظيمًا للنَّاس. وحجَّ بالنَّاس محمد بن ترنجة. [فصل]: وفيها توفِّي إبراهيم بن إسحاق ابن إبراهيم بن بشير بن عبد الله، [أبو إسحاق المَرْوَزي، الحَرْبي، العالم الفاضل] الزَّاهد العابد الوَرع. ¬

_ (¬1) المِرْقاة: الدَّرَجة. اللسان: (درج).

[وأمُّه من بني تغلب، وذكره الأئمة، وأثنَوا عليه، ومولده سنة ثمان وتسعين ومئة. وقال الدارقطنيُّ: إبراهيم الحربيُّ إمام فاضل] مصنِّف عالم بكلِّ شيء، بارع في كلِّ علم، صادق صدوق، كان يُقاس بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في فَضله وزهده ووَرَعه وأصلِه، [وله التَّصانيف الحسان. وقال الخطيب (¬1): ] كان إمامًا في جميع العلوم، رأسًا في الزهد، عارفًا بالفقه، بصيرًا بالأحكام، حافظًا للحديث، جامعًا للغة، [صنَّف كتبًا كثيرة]. قال: [وقال أبو العبَّاس أحمد بن يحيى] ثعلب: ما فَقدتُ إبراهيم الحربيَّ من مجلس نحوٍ أو لغة خمسين سنة. [قال الخطيب: ] وسُئل لِمَ سمِّيتَ الحَربيّ وأنت مروزيّ؟ فقال: صحبتُ قومًا من الكَرْخ في طلب الحديث، فسمَّوني الحربيَّ؛ لأنَّ عندهم أنَّ ما جاوز القنطرة العتيقة من الحربيَّة. [ذكر طرف من أخباره: ] وقال أحمد بن عبد الله بن خالد: سمعتُ إبراهيم (¬2) الحربي يقول: أجمع عُقلاءُ كلِّ أمَّةٍ على أنَّه من لم يجرِ مع القَدَر لم يتهنَّأ بعيشه، كان يكون قميصي أنظفَ قميص، وإزاري أوسخ إزار، ما حدَّثتُ نفسي أنَّهما يستويان قطُّ، وكان فَرْدُ عَقِب مَداسي مَقطوعًا، والآخر صحيحًا، وكنت أمشي فيهما، وأدور جانبَي بغداد، ولا أحدِّث نفسي أنني أُصلحهما. ودامت لي شَقيقةٌ خمسًا وأربعين سنة، ما علم بها أحدٌ من أهلي، ولا زوجتي، ولا بناتي، الرجلُ هو الَّذي يُدخِلُ غَمَّه على نفسه، ولا يَغُمُّ عياله. قال: وأفنيتُ ثلاثين سنة من عُمُري برغيفين، إن جاءتني بهما أمِّي أو أختي أكلتُ، وإلَّا بتُّ جائعًا عطشان إلى الليلة الآتية، وأفنيتُ ثلاثين سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة. ¬

_ (¬1) في تاريخه 6/ 523. (¬2) في (ف) و (م 1): وقال الخطيب بإسناده سمعت عن أحمد بن عبد الله بن خالد عن إبراهيم، والمثبت من (خ).

ومرضتْ ابنتي فأقامت أمُّها عندها شهر رمضان، فقام إفطاري في ذلك الشهر بدرهمٍ ودانقين، ودخلتُ منه الحمام، واشتريتُ صابونًا، فقامت نفقةُ رمضان بدرهم (¬1). وقال [الخطيب بإسناده عن] أبي عثمان الرَّازي [قال: ] جاء رجل (¬2) من عند المعتضد إلى إبراهيم الحربيِّ بعشرة آلاف درهم، وقال: يقول لك الخليفة: فرِّقها في جيرانك، فقال للرسول: هذا مالٌ لم نشغلْ نفوسَنا بجمعه، فلا نشغلها بتَفْرقته، فألحَّ عليه، فقال: قل لأمير المؤمنين: إن تركتَنا وإلَّا تحوَّلنا من جوارك. وقال [الخطيب باسناده عن أبي القاسم الجبلي [قال: ] اعتُلَّ (¬3) إبراهيم علَّةً حتَّى أشرف على الموت، فدخلتُ عليه أعودُه، فقال لي: يا أبا القاسم، أنا في أمرٍ عظيم مع ابنتي وهي تسمع، ثمَّ قال: قومي فاخرجي إلى عمِّك، فألقت خِمارها على وجهها وخرجت، فقالت: يا عمُّ، نحن في أمرٍ عظيم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، الشَّهرَ والدَّهرَ ما لنا طعام إلَّا الكِسَر اليابسة والملح، وربَّما عَدِمنا القوت، وبالأمس وجَّه إليه المعتضد مع بدر بألف دينار فلم يأخذها، وبعث إليه فلانٌ وفلانٌ فلم يأخذ شيئًا، وهو مريض، فقال لها إبراهيم: يا بُنيَّة، إنَّما خفتِ الفقر؟ قالت: نعم، قال: انظري إلى تلك الزَّاوية؛ فيها اثنا عشر ألف جزء لغة وغريب كتبتُها بخطِّي، فإذا متُّ فبيعي كلَّ جزءٍ بدرهم، ومَنْ عنده اثنا عشر ألف درهم فليس بفقير. [وفي رواية أبي القاسم الجبلي قال: ] فلمَّا كان بعد أيَّام جاء رجل في الليل، فطرق الباب على إبراهيم، فقال: مَنْ؟ قال: رجل من إخوانك، فقال: ادخل، فقال: أطفئ السِّراج، فأكفأ عليها الغَضارة (¬4)، ودخل الرجل فترك شيئًا وخرج، فكشف السراج وإذا بمنديل فيه حلوى وفاكهة، وفي ظرفه مشدود دنانير، فصاح: يا بُنيَّة يا بُنيَّة، تعالي فخُذي هذا. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 526، والمنتظم 12/ 381 - 382. (¬2) في (خ): وقال أبو عثمان الرازي جاء رجل، والمثبت من (ت) و (م 1)، وانظر تاريخ بغداد 6/ 528، والمنتظم 12/ 383. (¬3) في (خ): وقال أبو القاسم الجبلي اعتل، والمثبت من (ف) و (م 1)، وانظر تاريخ بغداد 6/ 528 - 529، والمنتظم 12/ 383. (¬4) طين لزج، أو تراب طيني دقيق الذرات.

[وقال أبو القاسم أيضًا: ، فلمَّا كان بعد أيَّام قدم الحاجُّ من خُراسان، وإذا بجمَّال يقول جَملين وهو يقول: أين دار إبراهيم الحربيّ؟ [فدُلَّ عليه] وصادف الحربيَّ جالسًا على الباب، فقال: أنت إبراهيم الحَربيّ؟ قال: نعم، قال: خذ هذين الجملين بما عليهما، قال: وما عليهما؟ قال: كاغَد وإبرَيسَم، فقال: من أين هذا؟ قال: من رجل خُراساني، بعث بهما إليك، واستحلفني أن لا أقول من هو. و[قال الخطيب بإسناده عن أبي القاسم الجبلي قال: ] كان لإبراهيم ولد بلغ أحد عشر سنة علَّمه القرآن، والفقه، وأسمعه الحديث، فتوفِّي، فحزن عليه الجيران ولم يحزن عليه إبراهيم، فقيل له في ذلك فقال: كنتُ أشتهي موتَه، قيل له: مثلك يقول هذا؟ ! قال: نعم، رأيتُ [في المنام] كأنَّ القيامة قد قامت، والنَّاسُ في شدَّة من العَطَش، ورأيتُ صبيانًا بأيديهم قِلالٌ فيها ماء، وهم يَسقون النَّاس، فقلت لبعضهم: اسقني، فنظر في وجهي وقال: لستَ أبي، فقلت: ومَن أنتم؟ قالوا: نحن الصِّبيان الذين متنا في الدُّنيا وخلَّفْنا آباءنا، نستقبلُهم فنَسقيهم الماء، فلهذا تمنَّيت موته. [وقال الخطيب: ] كان إبراهيم مع فضله وزهده وورعه حسنَ الأخلاق، متواضعًا، ضاحكَ السّنِّ، وكان له حَلْقة بجامع المنصور يقرأ فيها الحديثَ، وكان يحضرها مع النَّاس حَدَثان، فأقاما على ذلك مدَّة، ثمَّ انقطع أحدهما وبقي الآخر، فكان الذي انقطع يأتي فيقف ظاهرَ الحلقة، والآخر جالس فيها، فبقي على ذلك مدَّة، فلما كان في بعض الجُمَع رمى ذلك الواقف رُقعة، فأخذها إبراهيم فقرأها، وإذا فيها [هذه الأبيات]: [من الطويل] عفا الله عن عبدٍ أعانَ بدعوةٍ ... خليلَين كانا دائمَين على الودِّ إلى أن وَشَى واشي الهوى بنَميمةٍ ... إلى ذاك من هذا فحالا عن العَهْدِ (¬1) فرفع إبراهيم يديه وقال: اللهمَّ اجمع بينهما على طاعتك وفيما يقرِّبهما إليك، وأمَّن الحاضرون، فلمَّا جاءت الجمعة الأخرى إذا بالغلامين قد جاءا فجلسا مكانهما، فعجب الحاضرون. ¬

_ (¬1) انظر مروج الذهب 8/ 184 - 188، وسير أعلام النبلاء 13/ 364 - 366.

وقال إبراهيم لجماعةٍ عنده: مَنْ تعدُّون الغريبَ في زمانكم؟ فقال بعضهم: مَن نأى عن وطنه، وقال آخر: مَن فارق أحبابَه، وقال كلُّ واحد شيئًا، فقال إبراهيم: الغريب في زماننا رجلٌ صالحٌ يعيش بين قومٍ صالحين، إن أمر بالمعروف آزروه، وإن نهى عن المنكر أعانوه، وإن احتاج إلى سبب من الدُّنيا مانوه، ثمَّ ماتوا وتركوه. [وحكى الخطيب قال: ] جاءه يومًا رجل ومعه أولادُه، فقال له إبراهيم: احذر، لا يرونَك حيث نهاك الله، فتسقط من أعينهم. وقال محمَّد بن عبد الملك (¬1) الكاتب: كنتُ عند أبي العبَّاس المبرّد، فأنشد يقول: [من البسيط] جسمي معي غير أنَّ الرّوح (¬2) عندكمُ ... فالجسمُ في غُربةٍ والرّوح في وَطنِ فلْيَعْجب النَّاسُ منِّي أنَّ لي بَدَنًا ... لا روحَ فيه ولي روحٌ بلا بَدَنِ قال: ومضيتُ إلى ثعلب فأنشد: [من السريع] غابوا فصار الجسمُ من بعدهمْ ... لا تَنظرُ العينُ له فيَّا يا خَجْلَتي منهم ومن قولهمْ ... إذا رأوني بعدهمْ حيّا (¬3) فأتيتُ إبراهيم فأخبرتُه، فقال: ألا أنشدتَهما: [من الخفيف] يا حَيائي ممَّن أحبُّ إذا ما ... قيل بعد الفِراق إني حَييتُ ذكر وفاته: [حكى الخطيب عن] عيسى بن محمَّد الطُّوماري قال: دخلْنا على إبراهيم في مرضه نعودُه وقد حَملت الجاريةُ ماءَه إلى الطبيب، فعادت بالماء وقالت: مات الطبيب، فبكى إبراهيم وقال: [من الوافر] إذا مات المُعالِجُ من سَقامٍ ... فيوشكُ للمُعالج أن يموتا ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 6/ 535، والمنتظم 12/ 384: محمَّد بن عبد الله. (¬2) في (خ): القلب، والمثبت من (م 1)، والمصادر. (¬3) في تاريخ بغداد 6/ 535، والمنتظم 12/ 384: بأي وجه أتلقاهم ... إذا رأوني بعدهم حيا يا خجلتي منهم ومن قولهم ... ما ضرك الفقد لناشيا

ودخلنا عليه مرَّةً أخرى فقلنا: كيف تجدك؟ فقال: [من الخفيف] دبَّ فيَّ البَلاءُ سُفْلًا وعُلْوًا ... وأراني أموتُ عُضْوًا فعُضوًا ذهبتْ جِدَّتي بطاعةِ نفسي ... وتذكَّرتُ طاعةَ الله نِضْوا وكانت وفاتُه يوم الاثنين لسبعٍ بقين من ذي الحجَّة، وصلَّى عليه يوسف بن يعقوب القاضي، وكان يومًا مَشهودًا، ودُفن بداره بباب الأنبار غربيِّ مدينة المنصور، وقبرُه ظاهر يزار، وعليه قُبَّة يقال لها: قُبَّة الحَربيّ، وإلى جانبه قبران يقال إنَّهما ابنتاه. وذكر الخطيب له ابنةً واحدة اسمُها أمُّ عيسى (¬1)، وكانت فاضلة، إذا جاءت فتوى وإبراهيمُ غائب تُفتي عنه، وتوفِّيت في رجب سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة وكانت صالحة [، وقيل: إنَّ أحد القبرين لها والآخر لولده.] أسند إبراهيم عن خلقٍ كثير لا يُحصَون كثرةً؛ منهم الإِمام أحمد رحمه الله، والفَضْل بن دُكَين، وعفَّان بن مسلم وغيرهم، وروى عنه جمّ غفير؛ منهم عبد الله بن الإِمام أحمد رحمه الله، وابن الأنباري، وابن صاعد وغيرهم. وقال محمَّد بن صالح الأنماطيّ: ما أخرجت بغدادُ مثل إبراهيم الحربيّ في الفقه، والحديث، والأدب، والعربية، والزهد، والورع (¬2). قال المصنِّف رحمه الله: وقول إبراهيم الحربيّ: إذا مات المعالج من سقام ... البيت؛ قد جرى لإسماعيل بن أبي هاشم الدمشقيُّ مثل هذا، [فذكر الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" عن أبي الحسن علي بن أحمد بن محمَّد بن سَلامة الطَّحاوي قال: ] كان لإسماعيل بن أبي هاشم طبيبٌ يقال له: النُّعمان، فمرض إسماعيل، ومرض الطبيب، فسأل عنه فقيل: مات، فقال إسماعيل: [من السريع] قد قلتُ لمَّا قال لي قائلٌ ... قد صار نُعمانُ إلى رَمْسهِ وأين ما يُوصَف من حِذْقه ... وعلمِه بالطِّب مع جَسِّهِ هيهات لا يَدفع عن غيرهِ ... مَن كان لا يَدفَعُ عن نفسهِ ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): ولم يذكر الخطيب سوى ابنة واحدة قال واسمها أم عيسى، والمثبت من (خ)، وانظر تاريخ بغداد 16/ 631. (¬2) انظر في ترجمته تاريخ بغداد 6/ 522، والمنتظم 12/ 379، والسير 13/ 356، وتاريخ الإسلام 6/ 703.

[وهذا إسماعيل كان فاضلًا من الفضلاء، قال ابن الطحَّان أيضًا: ] قال إسماعيل: قرأتُ بدمشق على قصرٍ لبني أميَّة: [من الخفيف] ليت شِعري ما حالُ أهلِكَ يا قَصُـ ... ـر وأين الذين عَلَّوا بِناكا ما لأربابِكَ الجبابرةِ الأمـ ... ـلاك شادوك ثمَّ حَلَّوا سِواكا الزُهدٍ يا قصرُ فيك تحامَوكَ ... ألا تُبْتَتَى ولستَ هُناكا ليتَ شِعري وليتني كنتُ أدري ... ما دَهاهم يا قصرُ ثمَّ دَهاكا ليت أنَّ الزَّمان خَلَّف منهم ... واحدًا مُخْبِرًا فأعلم ذاكا وتحته مكتوب: [من الخفيف] أيها السَّائلُ المُفَكِّرُ فيهم ... ما إلى ذا السُّؤالِ قل لي دَعاكا أَوَ ما تَعرف المَنونَ إذا حلَّتْ ... دِيارًا فلن تُراعي هَلاكا إنَّ في نفسِك الضَّعيفَةِ شُغلًا ... فاعتبرْ وامْشِ فالمنونُ وَراكا [وقال ابن الطحان: وحدَّثني] إسماعيل قال: قرأتُ على قصرٍ لعبد العزيز بن مروان بحُلْوان؛ مكانًا بمصر: [من الخفيف] أين ربُّ القَصْرِ الذي شَيَّد ... القَصْرَ وأين العَبيدُ والأَجْنادُ أين تلك الجموعُ والأمرُ والنَّهي ... وأعوانُهم وأين السَّوادُ أين عبدُ العزيز أم أين مروانُ ... وأين الحُماةُ والأولادُ ما لنا لا نُحِسُّهم ونراهم ... أترى ما الذي دَهاهم فبادوا وتحته مكتوبٌ جوابًا عنهم: [من الخفيف] أيُّها السَّائلُ المفكِّرُ عنهم ... كيف بادَتْ جُموعُهم والجيادُ أين كسرى وتُبَّعٌ قبلَ مروانَ ... ومِن قبل تُبَّعٍ شَدَّادُ أين نُمروذُ أين فرعونُ موسى ... أين مِن قبلهم ثَمودُ وعادُ كلُّهم في التُّراب أضحى رَهينًا ... حين لم تُغْنِ عنهم الأجنادُ إنَّ في الموتِ يا أخي لك شُغْلًا ... عن سواه والمَوْقِف الميعادُ (¬1) ¬

_ (¬1) الروض المعطار 196، 242.

أحمد بن عيسى بن الشيخ

أحمد بنُ عيسى بن الشَّيخ صاحب آمِد وديار بكر، ولَّاه إيَّاها المعتز، فلما قُتل استولى عليها، ومات في هذه السنة، فوليها ولدُه محمَّد، فسار إليها المعتضد فأخذها بعد ذلك، لما يذكر (¬1). [فصل وفيها توفِّي] النَّاقد واسمه زكريا بن يحيى بن عبد الملك بن مروان بن عبد الله، أبو يحيى، البغداديّ (¬2)، الزاهد، العابد. قال [الخطيب وإسناده عن] محمَّد بن جعفر [بن سالم: ] لو قيل لأبي يحيى: إنَّك تموت غدًا؛ لما ازداد في عمله. وقال الخطيب بإسناده: حدثنا أبو زُرعة الطبريُّ، قال: حدثنا أبو يحيى قال: اشتريتُ (¬3) من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة، فلمَّا كان آخر ختمة سمعت خِطابَ الحوراء من الهواء وهي تقول: وفيتَ بعهدك، فها أنا لك، وأنا التي اشتريتَني، فيقال: إنَّه مات عقيبَ فراغه من الختمة الأخيرة بقريب. وكان الإِمام أحمدُ رحمة الله عليه يُثني عليه، ويقول: النَّاقد رجلٌ صالح. ونعْم الرجل. وكانت وفاته ليلة الجمعة لثمانٍ بقين من ربيع الآخر، ودُفن ببغداد. أسند عن خلقٍ كثير، منهم الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله وغيرهُ، وروى عنه أبو بكر الخلَّال وغيرُه، واتفقوا عليه، وهو أحد العُبّاد المجتهدين، والأثبات المحدِّثين. وقال الدَّارقطني: الناقد الثِّقة الفاضل (¬4). ¬

_ (¬1) الكامل 7/ 491، وتاريخ الإسلام 6/ 688. (¬2) في (خ): ابن مروان بن محمَّد الدربندي البغدادي. والمثبت من (ف) و (م 1)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد 9/ 477، وانظر المنتظم 12/ 386، وتاريخ الإسلام 6/ 752. (¬3) في (خ): وقال أبو زكريا: اشتريت، والمثبت من (ف) و (م 1). (¬4) سؤالات الحاكم ص 117.

المبرد

[وفيها توفي] المُبَرِّد [واسمه] محمَّد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عُمير بن حسان بن سُليم بن سعد بن عبد الله بن زيد بن مالك بن الحسن بن عامر (¬1) بن عبد الله بن بلال بن عوف، وعَوف هو ثُمالة بن أسلم، قبيلة من الأزد بن الغَوْث، أبو العبّاس، النَّحويُّ، البصريُّ، الأزديُّ، الثُّماليُّ، إمام أهل النَّحو واللُّغة والعربية بالبصرة. ولد سنة ستٍّ ومئتين، وقيل: سنة عشر ومئتين، وسُئل: لِم سمّيت المبرِّد؟ فقال: طَلَبني عاملُ البصرة، فخِفت منه، فدخلت على أبي حاتم السّجِسْتاني، فجاء رسولُ العامل يَطلبني، فقال أبو حاتم: ليس هو عندي، وجعل يصفِّق ويقول: المبرِّد المبرِّد، وتسامع الناس بذلك فلَهَجوا به، والمُزَمَّلَة يُبرَّد فيها الماء (¬2). قدم بغداد وأقام بها, ولقي الأئمةَ، وأخذ عنهم، وأخذوا عنه، وكان حسنَ المحاضرة، مَليحَ الأخبار، كثيرَ النَّوادر. وقال أبو عبد الله بن المفجَّع: كان المبرِّد لعِظم حِفْظِه اللغة، واتّساعه فيها يُتَّهم بالكذب، فتواضعنا على مسألةٍ لا أصل لها، فأرسلنا إليه فجاء، فقلنا له: أيَّدك الله، ما القِبَعْضُ؟ فقال على البديهة: القُطن، وأنشد [من الوافر]: كأنَّ سنامها حُشِيَ القِبَعْضا (¬3) فعجبنا وقلنا: إن كان صَحيحًا فهو عَجب، وإن كان اختلقَ الجواب فهو أعجب. [وحكى الخطيب (¬4) عن] المازني قال: قلت للمبرد: [يا أبا العباس] , بَلَغني أنَّك تَنصرف من مجلسنا فتصير إلى المارستان، فتجلس إلى المجانين، فقال: نعم، إنَّ لهم طرائفَ من الكلام، وعجائب من الأقسام، فقلتُ له: أخبرني بأعجب ما رأيت منهم، فقال: دخلتُ يومًا عليهم، فرأيتُ أحوالهم في العلاج مُختلفة على مقدار بليَّتهم، ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 4/ 603، وتاريخ دمشق 65/ 261: ابن الحارث بن عامر ... (¬2) في المنتظم 12/ 389: فجاء رسول العامل يطلبني فقال لي أبو حاتم: ادخل في هذا، يعني غلاف المزملة فارغ، فدخلت فيه وغطى رأسه ثم خرج إلى الرسول فقال: ليس هو عندي ... (¬3) تاريخ بغداد 4/ 604، ونزهة الألباء ص 23، ومعجم الأدباء 19/ 113. (¬4) في تاريخه 4/ 607 - 609. وما بين معكوفين من (م 1).

فبعضهم قيام، وبعضهم نيام، وبعضهم قعود، ومررت بشيخٍ منهم وقد دَهَن رأسَه، والدُّهنُ يَبرق من صَلْعته، وهو جالس مُستقبل القبلة كأنَّه يصلِّي، وتحته حصيرٌ نظيف، فلم أسلِّم عليه، فقال: وأين السلام؟ أترى مَن المجنون أنا أو أنت؟ قال: فاستحييتُ منه، وقلت: سلام عليك، فقال: لو كنت ابتدأتَ بالسَّلام لأوجبتَ علينا حُسْنَ الرَّدّ عليك، ولكنَّا نصرفُ سوءَ أدبك إلى أحسنِ جهاته من العُذْر؛ لأنَّه يقال: للدَّاخل على القوم دَهْشَة، اجلس أعزك الله، وأومأ إلى مَوضع من حصيرٍ يَنفُضه كأنَّه يوسِّع لي، فناداني صاحبي: إيَّاك، فأحجمتُ، ووقفتُ ناحية، وكان معي مِحْبرة، فقال الشيخ: أرى آلة أحد رجلين: إمَّا أن تكون تجالس أصحاب الحديث الأغثاء (¬1)، أم أصحاب النحو الأدباء؟ ! فقلت: الأدباء، قال: أتعرف أبا عثمان المازنيَّ؟ قلت: نعم، قال: أتعرف الذي يقول فيه: [من مجزوء الرمل] وفتًى من مازنٍ ... ساد أهل البَصْرَه أمُّه معروفةٌ ... وأبوهُ نَكِرَهْ فقلت: لا، فقال: أتعرف غُلامًا قد نبغ في هذا العصر له حفظ وذهنٌ، قد برز في النَّحو وجلس مجلسَه؟ قلت: نعم، أنا عينُ الخبير به، قال: فهل أنشدك شيئًا من عبثِ (¬2) شعره؟ قلت: لا أحسبه يقول الشعر، قال: يا سبحان الله، أليس هو القائل: [من مجزوء الرمل] حبَّذا ماءُ العناقيد ... بريقِ الغانياتِ بهما ينبتُ لحمي ... ودمي أيَّ نباتِ قلت: قد سمعتُه ينشد هذا في مجلس أُنسه، فقال: وهل يُستحى أن ينشد مثل هذا حول الكعبة؟ ! ثمَّ قال: ما سمعتَ الناس يقولون في نسبه؟ قلت: يقولون هو من ثُمالة، قال: أفتعرف القائل: [من الوافر] سألْنا عن ثُمالةَ كلَّ حيٍّ ... فقال القائلون ومَن ثُمالهْ فقلتُ محمدُ بن يزيد منهم ... فقالوا زِدْتنا بهم جَهَاله فقال لي المبرِّدُ خَلِّ قومي ... فقَومي مَعْشَرٌ فيهم نَذَالهْ ¬

_ (¬1) في (خ): الأعشا، وفي مطبوع تاريخ بغداد: الأغثاث، والمثبت من تاريخ دمشق 65/ 275. (¬2) في (ف): غيب، وفي تاريخ بغداد: غثيثات، وفي تاريخ دمشق: عبثات.

فقلت: نعم أعرفها, لعبد الصمد بن المُعَذّل يهجوه، فقال لي: يا هذا، قد غلبتَ بخفَّة روحك على قلبي، وأعجبني استحسانُك لما أتيتَ به، فما الكُنية؟ قلت: أبو العبَّاس، قال: فالاسم؟ قلت: محمَّد، قال: ابن مَن؟ قلت: ابن يزيد، فقال: ما أحوجَني إلى الاعتذار إليك ممَّا قدَّمْتُ ذكره، ثمَّ وثب باسطًا يدَه ليُصافحني، فإذا القَيدُ في رجله قد شُدَّ إلى خَشَبةٍ في الأرض، فأَمِنْتُ عند ذلك غائلتَه، فقال لي: يا أبا العبَّاس، صُنْ نفسَك عن الدُّخول إلى هذه المواضع؟ فليس يتهيَّأ لك في كلّ وقتٍ أن تُصادف مثلي على هذه الحالة، ثمَّ انقلبت عيناه، وتغيَّر حالُه، وجعل يصفق ويقول: المبرد المبرّد، فبادَرْتُ مُسرعًا خوفًا أن تَبْدُرَ منه بادِرة، وقَبلْتُ قولَه، فلم أدخل بعدها دار المرضى. وقال المبرد: دخلتُ مرةً دارَ المرضى، فناداني شابّ مقيَّد: يا ابن يزيد، فقلت: لبيك، فقال: أتعرف بني فلان؟ وأشار إلى حيٍّ من أحياء العرب، فقلت: نعم، فقال: هم الذين حيَّروني وأحَلُّوني هذا المحلَّ، قلت: فما الذي فعلوا؟ قال: [من السريع] زَمُّوا المطايا واستقلُّوا ضُحًى ... ولم يُبالوا قَلْبَ مَن تَيَّموا ما ضرَّهم واللهُ يَرْعَاهمُ ... لو وَدَّعوا بالطَّرْفِ أو سَلَّموا سألتُهم تسليمةً منهم ... عليَّ إذ بانوا فما سلَّموا واستَحْسَنوا ظُلمي فمِن أجلهم ... يُحبُّ قلبي كلَّ مَن يَظْلمُ ما زلتُ أَذْري الدَّمعَ في إثْرهم ... حتَّى جَرى من بعد دمعي دمُ ما أنصفوني يومَ بانوا ولم ... يَرْعَوا أماناتي ولم يرحموا ودَّعتهم من حيث لم يعلموا ... ورُحتُ والقلبُ بهم مُغْرَمُ (¬1) ثمَّ صاح صيحة خرجت نفسُه معها. وقال المبرد: خرجْتُ ومعي جماعة من أصحابي نحو الرقَّة، وإذا بدَيرٍ كبير، فقال بعض أصحابنا: مِلْ بنا إليه لننظرَ مَن فيه، ونحمدَ الله على ما رَزقنا من السَّلامة، ¬

_ (¬1) ذكر ابن حبيب في عقلاء المجانين 143، والسراج في مصارع العشاق 1/ 163 البيتَ الأول والثاني والخامس والسادس عن أبي الحسن المؤدِّب، وذكر أيضًا في عقلاء المجانين 148، ومصارع العشاق 1/ 49 البيت الثالث والرابع والسابع عن سهلان القاضي باختلاف في ألفاظها.

فدخلنا، وإذا بمجانين يتقلَّبون في أقذارهم، وبينهم شابٌّ نَظيف، عليه ثياب نقيَّة، وهو مَشدودٌ بسِلْسِلة إلى سارية، فلمَّا رآنا قال: مَرْحبًا بالوَفْد، حيَّاكم الله بالتَّحية، وقرَّب ما نأى من داركم، وجمع الله شَمْلَكم، بأبي أنتم من أين؟ فقلتُ: وأنت، فأمتع الله الخاصَّة والعامَّة بقُربك، وآنسَ جماعةَ ذوي المروءة بشَخْصك، وجعلَنا فداك، نحن من العراق، فقال: أحسن الله عن جَميل القول جزاءكم، وتولَّى عنِّي مكافأتكم، بأبي العراقُ وأهلهُ، فقلنا: ما تصنع بهذا المكان الذي غيرُه أَلْيَقُ بك؟ (¬1) فأنشد: [من السريع] اللهُ يَعلَم أنَّني كَمِدُ ... لا أستطيعُ أبثُّ ما أَجِدُ روحان لي رُوحٌ تضمَّنها ... بَلَدٌ وأخرى حازَها بَلَدُ وأرى المُقِيمةَ ليس يَنْفَعها ... صَبْرٌ ولا يَقوى لها جَلَدُ وأظنُّ غائبتي كشاهدتي ... بمكانِها تَجِدُ الذي أَجِدُ وبكى وبَكَينا، فقلنا له: زِدْنا، فقال: [من المنسرح] إنْ وَصَفوني فناحِلُ الجَسَدِ ... أو فتَّشوني فكَمِدُ الكَبِدِ أضعفَ جسمي وزاد في سَقَمي ... أنْ لستُ أشكو الهوى إلى أحَدِ كأن قلبي إذا ذكرتُهُم ... فَريسَةٌ بين مِخْلَبَي أسَدِ ما أَقْتَلَ البَيْنَ للنُّفوس وما ... أوْجَعَ قلبَ المحبِّ بالكَمَدِ فقلت له: والله إنَّك لظريف فزِدْنا، فأنشد: [من البسيط] شَوقٌ وبَيْنٌ وتوديعٌ ومُرتَحَلٌ ... أيُّ العيون على ذا ليس تَنْهَمِلُ والله ما جَلَدي من بَعدِهم جَلَدٌ ... ولا اختِزانُ دُموعي بعدَهم بَخَلُ بلى وحُرْمَةِ ما خلَّفنَ من رَمَقي ... قلبي إليهن مُشتاقٌ ومُخْتَبَلُ وَدِدْتُ أنَّ البحارَ السَّبعَ لي مَدَدٌ ... وأنَّ جسمي عيونٌ كلُّها هَمَلُ وأنَّ لي بَدلًا من كلِّ جارحة ... في كلِّ جارحة يوم النَّوى مُقَلُ لا دَرَّ درُّ النَّوى لو صادَفَتْ جَبَلًا ... لانهدَّ منها وَشيكًا ذلك الجَبلُ ¬

_ (¬1) ذكر هذه القصة بنحوها عن المبرد ابن عساكر في تاريخه 65/ 263، وذكرها في عقلاء المجانين ص 147، ومصارع العشاق 1/ 19، وذم الهوى 534 - 535 عن عبد الله بن عبد العزيز السامري.

لما أناخوا قُبيلَ الصُّبح عِيسَهمُ ... ورَحَّلوها وثارَتْ بالهوى الإبِلُ وأبرزَتْ من خلال السِّجْفِ (¬1) ناظرَهَا ... ترنو إليَّ ودمعُ العَين مُنْهَمِلُ وودَّعت ببَنَان عَقْدُها عَنَمٌ (¬2) ... ناديتُ لا حَمَلَتْ رِجلاك يا جَمَلُ وَيلي من البَيْن ماذا حلَّ بي وبهم ... من نازِلِ البَين حان البَينُ وارتَحلُوا يا سائقَ العِيسِ قِفْ كيما أودِّعَهم ... يا زاجِرَ العِيسِ في تَرْحَالكَ الأَجَلُ إنِّي على العَهْد لم أَنْقُض مودَّتَهم ... فلَيتَ شِعري وطال العَهْدُ ما فعلوا ثمَّ قال: يا سيِّدي، ما فعلوا؟ [فقال من البعض الذين كانوا معي، وفي رواية] فقلنا ونحن نُمازحه: ماتوا، فقال: هيه بالله ماتوا؟ قلنا: نعم، فقال: وأنا أموت، قلنا: إن شئتَ، وظَننَّاه مازِحا، فتمطَّى، واستند إلى السَّارية التي كان مَشدودًا إليها، وجَذَب نَفْسه، فانْدَلَع لسانُه ومات، فما بَرِحْنا حتَّى واريناه، ونَدِمْنا على ما فعلنا وبكينا, ولم نزل [باكين] متحسّرين [نادمين] على ما بدا منَّا. وحكى المبرِّد، عن [ابن] أبي كامل، [عن] إسحاق بن إبراهيم، عن رجاء بن عمرو النَّخَعي قال: كان بالكوفة (¬3) فتًى جميلُ الوجه، شديدُ التَّعبُّد والاجتهاد، وكان أحدَ الزُّهَّاد، فنزل في جِوارِ قومٍ من النَّخَع، فنظر إلى جاريةٍ منهنَّ جميلةٍ، فهويها، وهام بها عقلُه، ونزل بها مثلُ الذي نزل به، فأرسلَ يَخطُبها من أبيها، فأخبره أبوها أنَّها مسمَّاةٌ على ابن عمٍّ لها، فلمَّا اشتدَّ عليهما ما يُقاسيان من ألَم الهوى أرسلت إليه الجارية: قد بلغَني شدَّةُ محبَّتكَ لي، وقد اشتدّ بلائي بكَ، فإن شئت زُرني، وإن شئتَ زرتُك، فقال للرسول: ولا واحدة من هاتين الحالتين، {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15] فأبلغها الرسولُ ما قال، فقالت: أُراه زاهدًا يخاف الله، والله ما ¬

_ (¬1) السجف: الستر. اللسان: (سجف). (¬2) في (خ): وودعت ببيان زانها حفرا (؟ ! )، وفي (ف) و (م 1): وطاش عقلي من خوف الفراق لهم، والمثبت من مصارع العشاق 1/ 20، وذم الهوى 537، وانظر عقلاء المجانين 147، ومروج الذهب 7/ 201، وتاريخ دمشق 65/ 264. (¬3) في (ف) و (م 1): وحكى الخرائطي عن المبرد حكاية، فقال الخرائطي: حدثنا المبرد بإسناده عن رجاء بن عمرو النخعي قال: كان لي بالكوفة. والمثبت من (خ)، وما بين معكوفين من اعتلال القلوب للخرائطي 79 - 78، والتوابين 271 للموفق بن قدامة، رحم الله الجميع.

أحدٌ أحقَّ بهذا من أحد، وإنَّ العِباد فيه لَمشتركون، ثمَّ انخلعت من الدُّنيا ولبست المُسُوح، وجعلت تتعبَّد، وهي مع ذلك تذوب وتَنْحَلُ حبًّا للفتى، وأسَفًا عليه، حتَّى ماتت شوقًا إليه. فكان الفتى يأتي قَبْرها فيبكي عنده، فرآها في منامه في أحسن مَنْظَر، فقال لها: كيف أنتِ، وما الذي لَقيتِ بعدي؟ فقالت: نِعم المحبةُ يا حبيبي حُبُّكم ... حبُّ يقودُ إلى خيرٍ وإحسانِ فقال لها: إلى ما صِرتِ؟ فقالت: [من البسيط] إلى نَعيمٍ وعَيشٍ لا زَوال لهُ ... في جنَّة الخُلْدِ مُلْكٌ ليس بالفاني فقال لها: اذكُريني هناك فإنِّي لستُ أنساكِ، فقالت: وأنا والله لا أنساك، ولقد سألتُ الله قربكَ فأعني على ذلك بالاجتهاد، ثمَّ ولَّت مُدْبرة، فقال لها الفتى: فمتى ألقاكِ [أو أراكِ]؟ فقالت: ستأتينا عن قريب، فلم يعش الفتى بعد الرُّؤيا إلا سبع ليالٍ حتَّى مات، فدُفن إلى جانبها. وللمبرد المصنَّفاتُ الحِسان؛ منها "الكامل"، وكتاب "الروضة"، وغير ذلك. [ذكر وفاته: قال الخطيب: ] توفِّي [المبرِّد] ببغداد [في هذه السنة] ودُفن بمقابر باب الكوفة [من الجانب] الغربي من مدينة أبي جعفر، وعمرُه تسعٌ وسبعون سنة. وروى عن المازنيِّ وغيره، وروى عنه إبراهيم بن محمَّد بن عَرَفَة نِفْطَويه، وخلقٌ كثير، وكان صدوقًا [ثقةً] ثَبتًا. [قال ابن عساكر: ] ومن رواياته عن الإِمام مالك بن أنس [الفقيه] رحمة الله عليه أنَّه قال: إنَّ لهؤلاء الشُّطَّار مَلاحة، كان أحدهم يصلِّي خلف إنسان فأُرتج عليه، فجعل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يردِّدها، فصاح به الشَّاطر: الشيطان ما له ذَنْب، أنت ما تحسن تقرأ (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 65/ 262، ومن هنا إلى بداية السنة التالية ليس في (ف) و (م 1).

وكان بين المبرد وثعلب مفارقة، فقال حين مات المبرد: [من الكامل] مات المبرد وانقضت أيَّامُه ... وليذهَبنَّ مع المبرّد ثعلبُ بيت من الآداب أصبح نِصفُه ... خَرِبًا وباقي نصفِه فسيخربُ فابكوا لما سَلَب الزَّمان ووطِّنوا ... للدَّهر أنفُسكم على ما يسلبُ غاب المبرّد حيث لا تَرجونه ... أبدًا ومَن يرجونه سيُغَيَّبُ شملتْكمُ أيدي الردى بمصيبةٍ ... وتوعَّدت بمصيبة تترقَّبُ فتزوَّدوا من ثَعلبٍ فبكأس ما ... شَرِب المبرّدُ عن قليل يَشربُ وأرى لكم أن تكتبوا ألفاظَه ... إن كانت الألفاظُ ممَّا يُكتَبُ فلْيَلْحَقنَّ بما مضى مُستخلفٌ ... من بعده وليذهبنَّ ونَذهبُ (¬1) وقيل: إنَّ الشِّعر للحسن بن علي المعروف بابن العلَّاف، قلت: وهو الظَّاهر (¬2). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 611، وتاريخ دمشق 65/ 283، والمنتظم 12/ 390. (¬2) وكذا أوردها ياقوت الحموي في معجم الأدباء 19/ 120، وابن خلِّكان في وفيات الأعيان 4/ 319، ونسباها لابن العلاف، قالها في رثاء المبرد وثعلب.

السنة السادسة والثمانون بعد المئتين

السنة السادسة والثمانون بعد المئتين في ربيع الآخر منها نازل المعتضد آمِد (¬1)، وأناخ عليها بجنده، وبها محمَّد بن أحمد بن عيسى بن الشيخ، فأغلق أبوابَها، وعصى عليه، فنصب عليها المعتضد المجانيق، ونصب أيضًا محمَّد المجانيق على أسوارها، وأقام الحصار أربعين يومًا. [قال الصُّولي: ] وكان مع المعتضد أعرابيٌّ يقال له: شُعْلَة بن شهاب من بني يَشْكُر، وكان فصيحًا [، وهو من خاصَّة المعتضد] , فقال له: اذهب إلى محمَّد بن عيسى برسالتي، وحذِّرْه العصيان، وخوِّفْه، ورغِّبْه في الطَّاعة، قال شعلة: فذهبتُ إلى محمَّد، فلاطفتُه ووعدتُه الإحسان, ورغَّبته في الطَّاعة فلم يُجِبْني، وكان له عمَّةٌ يقال لها: أمّ شريف، [قال: ] فأرسلتْ إليَّ فصرتُ إليها، فقالت: يا أبا شهاب، كَيف خلَّفْتَ أمير المؤمنين؟ فقلت: خلَّفتُه آمرًا بالمعروف، فاعلًا للخير، فقالت: هو والله أهل لذلك ومُستحقُّه، وكيف لا وهو ظلُّ الله الممدودُ على بلاده، وخليفتُه المؤتَمَن على عباده، فكيف رأيتَ صاحبنا؟ قلت: غلامًا حَدَثًا مُعْجَبًا، قد استحوذ عليه السُّفهاء، واستبدَّ بآرائهم، يُزَخْرفون له الكذب، ويسوقونه بالباطل، وسيوردونه النَّدم، فقالت: هل لك أن تلقاه بكتابي هذا قبل أن ترجع إلى أمير المؤمنين؟ قلت: نعم. فكتبتْ إليه كتابًا لَطيفًا أجزلَتْ فيه الموعظة، وكتبت في آخره أبياتًا وهي: [من البسيط] اقبَلْ نصيحةَ أمٍّ قلبُها وَجِعٌ ... خوفًا عليك وإشفاقًا وقُلْ سَدَدا واستعملِ الفِكْرَ في قولي فإنَّك إنْ ... فكَّرتَ ألفَيتَ في قولي لكَ الرَّشَدا ولا تَثِقْ برجالٍ في قلوبهمُ ... ضَغائن تَبعثُ الشنآنَ والحَسدَا مثل النِّعاج خُمولًا في بيوتهمُ ... حتَّى إذا أمِنوا ألفيتَهم أُسُدا وداوِ داءك والأدواءُ مُمْكنةٌ ... وإذ طبيبُكَ قد ألقى عليك يدا ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1) ومروج الذهب 8/ 134: وفي شهر ربيع الأول نازل المعتضد آمد، والمثبت من (خ)، وتاريخ الطبري 10/ 70، والمنتظم 12/ 398، وتاريخ الإِسلام 6/ 657.

واعْطِ الخليفةَ ما يُرضيه منك ولا ... تَمنعْه مالًا ولا أهلًا ولا وَلَدًا واردُدْ أخا يَشْكُرٍ ردًّا يكون له .. رِدْءًا من السُّوء لا تُشْمِت به أحدا قال اليَشْكُريُّ: فأخذتُ الكتاب، ورجعتُ به إلى محمَّد، فقرأه، ورمى به إليَّ وقال: يا أخا يشْكُر، ليس بآراء النِّساء وعقولهنَ تَتِمُّ الدُّول ويُساس الملك، ارجع إلى صاحبك. قال: فرجعتُ إلى المعتضد، فأخبرته بالخبر، وناولتُه كتابَها فقرأه، فأعجبه عقلُها وشِعرُها، ثمَّ تبسَّم وقال: والله إنّي لأرجو أن أشفِّع أمَّ الشَّريف في كثير من القوم. ثمَّ تطاول الأمر على محمَّد، فضَعُف وعَجز، وخانه أصحابُه، فأرسل إلى المعتضد يطلب الأمان لنفسه ولأهل البلد فأعطاه، فخرج إليه محمَّد ومعه أصحابُه وأولياؤه، فوصلوا إلى الخليفة، فخَلَع عليه وعليهم، وانصرفوا إلى مَضْرِبٍ قد أُعِدَّ لهم، وتحوَّل المعتضد من عسكره إلى منازل محمَّد ودوره، ولما استقرَّ به المنزل قال لليَشْكُريّ: هل عندك من أمِّ الشَّريف خَبر؟ قال: لا، قال: فامضِ مع هذا الخادم فإنَّك ستجدها في جُملة نسائها. قال: فانصرفتُ وإذا بها كما قال، فلما رأتني سَفَرتْ عن وجهها وقالت: [من مجزوء الكامل] رَيبُ الزَّمان وصَرْفُه ... وعِنادُه كشف القِناعا وأذلَّ بعد العزِّ منَّا الصَّعْبَ ... والبَطَلَ الشُّجاعا ولكم نَصَحْتُ فما أُطِعتُ ... وكم حَرَصْتُ بأن أُطاعا فأبى بنا المِقْدار إلَّا ... أن نُقَسَّم أو نُباعا يا ليتَ شِعريِ هل نَرى ... أبدًا لفُرقَتنا اجتماعا ثمَّ بكت حتَّى على صوتُها، وضربت بيدها على الأخرى، وقالت: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، كأنِّي والله كنتُ أرى ما أرى، فقلتُ لها: إنَّ أمير المؤمنين وجَّه بي إليك وبهذا الخادم، وما ذاك إلَّا لجميل رأيه فيك، فقالت: فهل لك أن توصل لي إلى أمير المؤمنين رُقْعَة؟ قلت: نعم، فدفعتْ إلي رقعة فيها: [من الكامل] قلْ للخليفةِ والإمامِ المرتَضى ... وابنِ الخلائفِ من قريش الأبطحِ

عَلَمِ الهدى ومنارِه وسراجِه ... مفتاحِ كلِّ عظيمةٍ لم تُفْتَحِ بكَ أصلح الله البلادَ وأهلَها ... بعد الفَساد وطال ما لم تصلحِ [أعطاك ربُّك ما تحبُّ فأعطِهِ ... ما قدْ يُحبُّ وجُدْ بعفوٍ واصْفَحِ] يا بَهْجَةَ الدُّنيا وبَدْرَ مُلوكها ... هَبْ ظالميَّ ومُفسِديَّ لمُصْلحِ قال: فلمَّا قرأها المعتضد ضحك وقال: لقد نصحتْ لو قَبِل منها، وأمر أن يُحمل إليها خمسون ألف درهم، وخمسون تَخْتًا من الثياب، وأن يُحمل إلى محمَّد ابن أخيها مثل ذلك (¬1). وقال ابن المعتزِّ يهنِّئ المعتضد بفتح آمد: [من الكامل] اسْلَمْ أميرَ المؤمنين ودُمْ ... في غِبْطَةٍ ولْيَهْنِكَ النَّصْرُ فلَرُبَّ حادثةٍ نَهضْتَ لها ... متقدِّمًا فتأخَّر الدَّهرُ ليثٌ فرائسُه اللُّيوث فما ... يَبْيَضُّ من دمها له ظُفْرُ (¬2) وأقام المعتضد بآمد بقيَّة جمادى الأولى، وثلاثةً وعشرين يومًا من جمادى الآخرة، ثمَّ ارتحل منها نحو الرَّقَّة (¬3)، وأمَر بِهَدْم سور آمِد، فهُدم بعضه، وتعذَّر هدمُ الباقي لما يحتاج إليه من الغرامات، فتركه، وخلَّف بآمِد ابنه عليًّا في جيش كثيف، وضمَّ إليه ديار بكر وربيعة والعواصم والرَّقَّة. ولما كان المعتضد بالرَّقَّة بعث إلى راغب مولى الموفَّق -وكان على طَرَسوس- يطلبه، فجاء إليه، فأقام في عسكره يومًا ثمَّ قبض عليه، واستأصله وحبسه، فمات بعد أيام، وعاد المعتضد إلى بغداد فدخلها لليلتين خلتا من شوال. وفيها ورد رسول هارون بن خُمارويه يذكر أنّه قد نزل عن أعمال قِنَّسرين والعواصم، وأنَّه يحمل إلى الخليفة في كل سنة أربع مئة ألف دينار وخمسين ألف دينار، ويسأل تجديد الولاية له على الشَّام ومصر، فأجابه إلى ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) المنتظم 12/ 399 - 401. (¬2) ديوان ابن المعتز 196، والمنتظم 12/ 398، وينظر أشعار أولاد الخلفاء 126. (¬3) في (ف) و (م 1): ثم ارتحل منها لتسع بقين منه نحو الرقة. وفي الطبري 12/ 71: ثمَّ ارتحل منها يوم السبت لسبع بقين منها نحو الرقة والمثبت من (خ). (¬4) من قوله: وخلف بآمد ابنه عليًّا. .. إلى هنا ليست في (ف) و (م 1).

[فصل: ] وفيها وافت هديَّة عمرو بن اللَّيث الصَّفَار من نَيسابور إلى بغداد في جمادى الآخرة، وهي أربعة آلاف ألف درهم، وعشرة من الدَّوابّ بسروجها ولُجُمها محلَّاة بالذَّهب، وخمسون دابة بجلالٍ مشهَّرة، وكسوة، وطِيب، وبُزاة وغير ذلك، وكان المعتضد غائبًا عن بغداد. وفيها ظفر إسماعيل بن أحمد بعمرو بن اللَّيث الصَّفَّار، وكانوا قد التَقَوا على بَلْخ فاقتتلوا، وكان أهلُ بَلْخ قد ملُّوا عَمْرًا وأصحابَه، وضجروا من نزول أصحابه (¬1) في دورهم، والتَّضييق عليهم، وأخذِهِ لأموالهم، وتعرُّضِ أصحابه لحريمهم، فلمَّا التَقَوا حمل عليهم إسماعيل، فانهزم عمرو إلى بَلْخٍ فوجد أبوابها مُغلقة، فصاح: أنا عمرو، ففتحوا له، ولم يكن معه إلا اليسير، فوثب عليه أهلُ بَلْخ فأوثقوه، وحملوه إلى إسماعيل، فلمَّا دخل عليه قام [له] إسماعيل، واعتنقه، وقبَّل ما بين عينيه، وغَسَلَ وَجْهَه من الغبار، وخلع عليه، وقال: عزَّ علي ما أصابك، وحلف له أنَّه لا يُؤذيه ولا يُسْلمه. وقيل: إنَّ إسماعيل كان من وراء النَّهر، فسأل عمرو بن الليث [الصَّفَّار، المعتضدَ أن يولِّيه أعمال إسماعيل، فولَّاه، وبعث إليه بالتَّقليد واللِّواء، فعزم على محاربة إسماعيل [بن أحمد] , فكتب إسماعيل إلى عمرو: إنَّك قد ولِّيت خراسان والدُّنيا، وإنَّما في يدي ما وراء النَّهر، وأنا في ثَغْر، فاقنع بما في يدك، ودَعْني مُقيمًا بهذا الثَّغر، فأبى عمرو، وقيل له: بين يديك جَيْحون كيف تعبره؟ فقال: لو شئتُ أن أسكره بِبِدَرِ الأموال لفعلتُ حتَّى أعبره، وبلغ إسماعيل فقال: أنا أَعبُر إليه. فجمع الدَّهاقين وغيرهم وجاوز النَّهر إلى الجانب الغربي، وجاء عمرو فنزل بَلْخ، وأخذ عليه إسماعيل الطُّرق [فصار] كالمحاصَر، وندم عمرو على ما فعل، وطلب المُحَاجَزة فلم يُجِبْه إسماعيل، واقتتلوا يسيرًا فانهزم عمرو، وتبعه أصحاب إسماعيل، فوَحِلتْ دابَّتُه (¬2)، فهرب أصحابه، فأُخذ أسيرًا، وحُمل إلى إسماعيل. وبلغ المعتضد فخلع على إسماعيل خِلَع السَّلْطنة، وقال: يُقَلد أبو إبراهيم كلّ ما ¬

_ (¬1) في (خ): من نزولهم، والمثبت من (ف) و (م 1)، وهو الموافق لما في المنتظم 12/ 401. (¬2) في (ف) و (م 1): فدخلت دابته في درعه. وما بين معكوفين منها.

كان في يد عمرو. ثمَّ جاء كتاب المعتضد إلى إسماعيل يَعزم عليه، فما رأى بدًّا من تسليمه، فبعث به إلى المعتضد، فدخل بغداد على جَملٍ ليشهروه، فقال الحسين بن محمَّد بن الجَهْم (¬1): [من الطويل] ألم تَرَ هذا الدَّهرَ كيف صُروفُهُ ... يكون يَسيرًا مرَّةً وعَسيرا وحَسْبُك بالصَّفَار نُبْلًا وعِزَّة ... يروحُ ويَغدو في الجيوش أميرا حَباهُم بأجْمالٍ ولم يَدْرِ أنَّه ... على جَمَلٍ منها يُقادُ أسيرًا أشار إلى أنَّه كان يحمل الأموال والهدايا إلى بغداد على الجمال، ثمَّ حبسه المعتضد في مَطْمورة، وكان يقول: لو أردت أن أعملَ على جَيحون جسرًا من ذهب لعملتُ، وكان مَطبخي يُحمل على ستِّ مئة جمل، وأركب في مئة ألف، أصارني الدَّهر إلى المطامير والقيود والذُّلِّ، وأقام في المطمورة إلى سنة تسع وثمانين ومئتين، ومات في أيام المكتفي، وقيل: إنَّه غُمَّ عند موت المعتضد، وقيل: في حياته (¬2). وقال الطَّبريُّ: إنَّما دخل عمرو بن الليث بغداد في سنة ثمان وثمانين ومئتين في جمادى الأولى ومعه أشناس غلام إسماعيل بن أحمد، قال: وذكر لي أنَّ إسماعيل خيَّره بين المقام عنده أسيرًا وبين توجيهه إلى باب أمير المؤمنين، فاختار توجيهه إلى المعتضد (¬3). فأدخل بغداد يوم الخميس مستهلَّ جمادى الأولى، وركب أبو النَّجم بدر، والقاسم بن عبيد الله الوزير، والقوَّاد والنَّاس جميعًا، وعمرو بن الليث على جَملٍ له سنامان في غاية الارتفاع، وقد أُلبس الجمل الدِّيباج، وحُلّي بذوائب فِضة، وعلى عمرو دُرَّاعة ديباج، وبُرْنُس طويل، وطيف به في شوارع بغداد، وأُدخل على المعتضد فأوقف بين يديه ساعة، فقال له: يا عمرو، هذا ببَغْيك، ثمَّ أُخرج إلى حُجرة كانت قد أُعدَّت له، ¬

_ (¬1) كذا في النسخ وتاريخ الإِسلام 6/ 658، والذي في مروج الذهب 8/ 208: الحسن بن فهم، وفي وفيات الأعيان 6/ 429: الحسين بن محمَّد بن الفهم. (¬2) ذكر الطبري 10/ 76، وابن الأثير 7/ 500 - 502 خبر عمرو بن الليث في أحداث سنة (287 ص). (¬3) تاريخ الطبري 10/ 83.

وبعث إلى إسماعيل ببَدَنةٍ من لؤلؤ، وتاجٍ مرصَّعٍ، وسيفٍ من ذهب، وعشرة آلاف ألف درهم (¬1). وفيها ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد الجنَّابي [بالبحرين] واجتمع إليه جماعة من الأعراب والقَرامطة، وكان خروجه في أوَّل هذه السَّنة، ثمَّ قوي أمره في جمادى الآخرة، وكثر أصحابُه، فقتل مَن حوله من أهل القرى، وسار إلى مكان بينه وبين البصرة مراحل يقال له: القَطيف، فقتل مَن كان به، وأظهر أنَّه يريد البصرة، فأرسل المعتضد إلى البصرة، فبنى عليها سُورًا، فقدِّرت نفقته بأربعة عشر ألف دينار. وغلب أبو سعيد على هَجَر وأعمالها، وكان رجلًا كيَّالا بالبصرة، يبيع الطَّعام للنَّاس بناحية الزَّارة، وجَنَّابة قريةٌ من قُرى الأهواز، وقيل: من أعمال البصرة، وقيل: من البحرين. وكان يتردَّد إلى البصرة وإلى القَطيف والبحرين رجلٌ يقال له: يحيى بن علي (¬2)، ويزعم أنَّه رسول المهديِّ، ويبثُّ فيهم الدَّعوةَ سرًّا، ويأخذ أموالهم، ويجيء إلى البصرة فينزل على أبي سعيد الجنَّابي، ويقول أبو سعيد لامرأته: إنْ أرادكِ رسولُ المهديّ على نفسك فلا تمنعيه. وعلم به عامل البصرة وهو أحمد بن محمَّد الواثقي، فأخذ يحيى بن علي رسولَ المهدي فضربه بالسِّياط، وحلق رأسَه ولحيته، وعلم أبو سعيد فهرب من البصرة، واجتمع إليه مَن كان على مثل رأيه، فخرج وعَمل ما عَمِل. وقال الصُّولي: كان أَبو سعيد فقيرًا يرفو (¬3) أعدال الدَّقيق بدار البصرة، وكان يُسْخَر منه ويُستَخفُّ به، فخرج إلى البحرين، فانضاف إليه جماعة من الزَّنج وقُطَّاع الطريق، وأفسد، وعاث، ونشر الدَّعوة، وتفاقَمَ أمرُه، حتَّى بعث إليه الخليفة جيوشًا وهو يهزمها، وهو جدُّ أبي عليٍّ الذي استولى على الشَّام، ومات بالرَّملة سنة خمسٍ وستين وثلاث مئة. ¬

_ (¬1) من قوله: وقال الطبري ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). (¬2) كذا في (خ) و (ف) و (م 1) والذي في الكامل 7/ 493: يحيى بن الهدي. (¬3) رَفَأَ الثوبَ: لَأَمَ خَرْقَه بنساجة، وفي معناه: رفأ يرفو رفوًا. المغرب (رفأ).

أحمد بن سلمة

وقال ابن حَوْقل: الحسن المكنَّى بأبي سعيد بن بَهْرام الجنَّابي من أهل جَنَّابة، كان دقَّاقًا، فتعلَّق بدعوة القرامطة من قِبَل عبدان الكاتب صهر حَمدان قرمط، وجعل الدَّعوة إليه بجنَّابة وفارس ونواحي البصرة، وكان حمدان قرمط ينتمي إلى خلفاء مصر وهم يومئذٍ بالمغرب، فأقام أبو سعيد مدَّة، ثمَّ ذُبح في حمَّام كان قد بناه في قصره، ثمَّ خلفه ابنه أبو طاهر سليمان بن الحسن، وهو الذي قتل الحاجَّ، ونزع الحجر الأسود من الكعبة، وفعل ما فعل، حتَّى أهلكه الله تعالى، وسنفصِّل هذه الجُمل بعون الله تعالى. وفيها جرت واقعةٌ عجيبةٌ بالرِّيِّ ذكرها الخطيب، وقال بإسناده إلى أبي عبد الله محمَّد بن أحمد القاضي (¬1): حضرتُ مجلسَ القاضي موسى بن إسحاق قاضي الرَّي، فادَّعى وكيلُ امرأةٍ على زوجها صداقها خمس مئة دينار فأنكر، فقال القاضي: البَيِّنة؟ فقال الوكيل: حاضرة، فأحضر شهودًا، فقالوا: لا بدَّ أن يُنظَر إلى المرأة لتتحقَّق الشهادة، فقال الزوج: ولا بد؟ قالوا: ولا بدَّ، فقال الزوج: أيُّها القاضي، اشهد علي أنَّ الخمس مئة دينار في قِبَلي وعندي ولا ينظر هؤلاء إلى امرأتي، فقالت المرأة: فإنَّني أُشهد القاضي أنِّي قد وهبتُ له المهرَ وأبرأتُه منه في الدُّنيا والآخرة، فقال القاضي: يُكتب هذا في مكارم الأخلاق. [فصل] وحجَّ بالناس محمَّد بن عبد الله بن ترنجة. وفيها توفي أحمد بن سَلَمة ابن عبد الله، أبو الفَضْل البزَّاز، النَّيسابوري، أحدُ الحفَّاظ. رافق مسلم بن الحجَّاج في رحلته إلى قُتيبة بن سعيد، وسمع من شيوخ مسلم، وجمع المسند الصحيح مثل "صحيح مسلم"، وقدم بغداد فحدَّث بها، وكتب عنه أبو زُرْعَة وغيره، وكانت وفاته في جمادى الآخرة وكان صالحًا صدوقًا (¬2). ¬

_ (¬1) في (خ): وفيها جرت واقعة بالري، قال أبو عبد الله محمَّد بن أحمد القاضي، والمثبت من (ف م 1)، وانظر تاريخ بغداد 15/ 53، والمنتظم 12/ 402. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 302 - 304، وسير أعلام النبلاء 13/ 373، وتاريخ الإِسلام 6/ 674، وهذه الترجمة =

إسحاق بن محمد

[وفيها توفي] إسحاق بن محمَّد [ابن أحمد] بن أبان، أبو يعقوب النَّخَعِيّ، ويعرف بالأحمر. كان به بَرَصٌ فكان يغيِّر لونَه بالأحمر (¬1). [وذكره الخطيب فقال: ] كان رَديءَ الاعتقاد، خبيثَ المذهب، يقول: إنَّ عليًّا عليه السلام هو الله تعالى، وله مقالات، وبالمدائن من أرض العراق أقوامٌ على مذهبه يقال لهم: الإسحاقية، يقولون: إنَّ عليًّا بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. روى عن [أبي عثمان] المازني، وكان صاحب حكايات وأشعار [وأخبار] (¬2). [وفيها توفي] إسماعيل بن إسحاق ابن إبراهيم (¬3) بن مهران، أبو بكر، السَّرَّاج، النَّيسابوريّ، مولى ثَقيف. سمع [إسحاق بن راهويه، و] الإِمام أحمد [بن حنبل] رحمة الله عليه، وكان صاحبه، وغيرهما، وأقام ببغداد خمسين سنة ومات بها، فسافر عنها أخوه محمَّد [بن إسحاق] إلى نيسابور، فكان يتأسَّف على بغداد، فقيل له: لم خرجتَ منها؟ فقال: أقام بها أخي إسماعيل خمسين سنة يحدِّث ويسمع، فلمَّا مات وأخرجت جنازته قال واحد على باب الدَّرب: مَن هذا؟ فقال له آخر: غريبٌ كان ها هنا، فقلت: إنَّا لله من المقام بين هؤلاء القوم، [يقيم أخي بينهم خمسين سنة يحدِّث، ويشتهر بالعلم والزُّهد والعبادة ويقال في حقِّه كذا! والله لا أقمتُ بها] فخرجتُ إلى الوطن. [وفيها توفي] ¬

_ = ليست في (ت) و (م 1). (¬1) في (خ): فكان يغير لون جلده فقيل الأحمر، والمثبت من (ف) و (م 1)، وما بين معكوفين منهما. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 410، والمنتظم 12/ 404 - 406. (¬3) في (خ): إسحاق بن محمَّد بن إبراهيم .... ، والمثبت من (ف) و (م 1)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد 7/ 284، والمنتظم 12/ 403.

الحسين بن بشار

الحسين بن بَشَّار أبو علي، البغداديّ، الخيَّاط. كان عارِفًا بتعبير الرُّؤيا، حاذِقًا بها، [قال الخطيب: ] مرض القاضي أبو عمر محمَّد بن يوسف مرضًا شديدًا أقام فيه شهورًا، فرأى في منامه قائلًا يقول له: كُلْ لا، واشرب لا، وقد عوفيتَ، فسأل المعبِّرين فلم يفهموا معناه، فأرسل إلى الحسين فسأله فقال: أخِّرني الليلة، فلما كان من الغد أرسل إليه فقال: كُلِ الزيتون واشربِ الزَّيت، فقال: [ومِن] أين لك هذا؟ فقال: قرأت البارحة القرآن كلَّه، فلم أجد معناه إلَّا في قوله تعالى: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] ففعل القاضي فعوفي. وكانت وفاته في صفر، أسند عن أبي بلال الأشعريِّ وغيرهِ، وروى عنه عبد الصَّمد [ابن علي] الطّستي وغيرُه، وكان ثقة (¬1). محمَّد بن وضَّاح ابن بَزيع، أبو عبد الله، الأندلسيُّ، القرطبيُّ، مولى عبد الرحمن الدَّاخل. كان زاهدًا، عفيفًا، فاضلًا، مجابَ الدَّعوة، اعتُقل لسانه فسأل الله تعالى فأطلقه. رحل إلى المشرق مرَّتين، وقرأ القرآن على أصحاب وَرْش، وسمع الإِمام أحمد رحمة الله عليه وغيرَه، وحديثه في الأندلس ووفاته بها، وبه صارت دارَ حديث رحمه الله (¬2). [وفيها توفِّي] محمد بن يوسف أبو عبد الله، الأصبهاني، البنَّاء. كان رجلًا صالحًا، يبني للنَّاس بالأجرة (¬3)، فيأخذ من أُجرته دانِقًا في كلِّ يوم يُفطر ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 545، والمنتظم 12/ 406. (¬2) تاريخ دمشق 65/ 187 - 191، وتاريخ الإِسلام 6/ 828 - 829، وهذه الترجمة ليست في (ف) و (م 1). (¬3) في (ف) و (م 1): قال أبو نعيم: كان يبني للناس بالأجرة، ولم نقف على كلام أبي نعيم في ترجمة محمَّد بن يوسف في الحلية 8/ 225، وأخبار أصبهان 2/ 220، وانظر المنتظم 12/ 410، وصفة الصفوة 4/ 83.

الكديمي

عليه، ويتصدَّق بالباقي، ويختم القرآن كلَّ يوم وليلة خَتمة، ولقي ستَّ مئة (¬1) شيخ، وكتب الحديث الكثير. وكانت له كرامات، قال: كنتُ بمكة، فسألت الله أن يُدخل قلبي المعرفة، وإمَّا أن يقبضني [إليه] فلا حاجةَ لي في الحياة بغير معرفة، فرأيت في المنام قائلًا يقول: صم شهرًا، ولا تكلم أحدًا من النَّاس في الشهر، ثمَّ ادخل بعد ذلك قبَّةَ زَمزم، وسلْ ما تريد، قال: ففعلتُ، فناداني صوتٌ من زمزم: يابن يوسف، أيُّهما أحبُّ إليك؟ العلم مع الغنى، أو المعرفة مع الفقر؟ فقلت: المعرفة مع الفقر، فسمعت ذلك الصَّوت يقول: قد أُعطيت، قد أُعطيت. أسند عن إسحاق بن راهويه وغيره، وروى عنه ابن مَخْلَد وغيره. [وفيها توفي الكُدَيمي واسمه] محمَّد بن يونس بن موسى بن سليمان بن عُبيد بن ربيعة بن كُدَيم، أبو العبَّاس، القُرشيّ، البصريُّ. [وهو ابن امرأة رَوْح بن عُبادة. ولد سنة ثلاث أو خمس وثمانين ومئة في ليلة مات هُشيم بن بشير، وسافر في طلب الحديث إلى الحجاز، واليمن، والشام، ومصر، وخراسان، وسمع الكثير] , حجَّ أربعين حجَّة، ثمَّ أقام ببغداد، وكان حافظًا مُتقنًا (¬2). قال: حضرتُ جنازة عبد الرحمن بن مَهديّ في سنة ثمان وتسعين ومئة، وكتبتُ عن ألفٍ ومئة شيخ وستة وثمانين شيخًا. وكانت وفاته ببغداد في نصف جمادى الآخرة. سمع عفَّان بن مسلم وغيرَه، وروى عنه ابنُ الأنباري وغيرُه. وقد تكلَّموا فيه؛ فقال عبد الله بن الإِمام أحمد: الكُديميُّ حَسَنُ الحديث والمعرفة، ¬

_ (¬1) في (خ): خمس مئة، والمثبت من (ف) و (م 1). (¬2) ما بين معكوفين من (ف) و (م 1)، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 4/ 688، والمنتظم 12/ 408، وتاريخ الإِسلام 6/ 833، والسير 13/ 302، وميزان الاعتدال (7867).

يعقوب بن إسحاق بن تحية

ما وُجد عليه في شيءٍ إلا صُحبته لسليمان الشَّاذكرني، فإنَّ سليمان كان يضع الحديث. وكان الكديميُّ يقول: مَن رماني بالزَّندقة فهو في حِلٍّ، ومَن رماني بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاثَيتُه بين يدي الله تعالى. وكان ينشد ويقول (¬1): [من البسيط] لا تَخْضَعَنَّ لمَخلوقٍ على طَمَعٍ ... فإنَّ ذاك مُضِرٌّ منك بالدِّينِ واستَرْزقِ الله ممَّا في خزائنهِ ... فإنَّما هو بين الكاف والنونِ [وفيها توفي] يعقوب بن إسحاق بن تَحيَّة أبو يوسف، الواسطيّ. قدم بغداد، وحدَّث بسوق الثلاثاء عن يزيد بن هارون بأربعة أحاديث، ووعد النَّاس أن يحدثهم من الغد، فأصبح ميتًا، وله مئة واثنتي عشرة سنة، وروى عن ابن صاعد وغيره (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): وروي أن الكديمي كان ينشد هذين البيتين. والبيتان في تاريخ بغداد 4/ 701. (¬2) تاريخ بغداد 16/ 421 - 423، والمنتظم 12/ 410، وتاريخ الإِسلام 6/ 854.

السنة السابعة والثمانون بعد المئتين

السنة السابعة والثمانون بعد المئتين فيها قبض المعتَضِد على محمَّد بن أحمد بن عيسى ابن الشَّيخ صاحب آمد، وعلى جماعةٍ من أهل بيته، وقيَّدهم وحبسهم في دار ابن طاهر، وسببه أنَّ بعض أقارب محمَّد وشى به [إلى المعتضد وقال: هو] على عزم الهرب (¬1) وجماعةٍ من أصحابه. وفيها في المحرَّم واقعت طَيِّئ قافلةَ الحاجِّ عند عودهم من مكَّة؛ بمكان يقال له: المعدن، وكان الأعراب في ثلاثة آلاف بين فارس وراجل، وكان أبو الأغرّ على الحاجِّ، فأقاموا يقاتلونهم يومًا وليلة، ومع طيئِّ ومن انضاف إليهم من الأعراب أموالُهم وظُعُنهم وأهاليهم، واشتدَّ القتال بينهم، ثمَّ إنَّ الله تعالى نصر أبا الأغرِّ والحاجَّ، فهزموهم يوم الجمعة لليلتين بقيتا من المحرَّم، وقُتل صالح بنُ مُدْرِك الذي نهب الحاجَّ في ماضي السنين، وقتل معه أعيان طيِّئ، ووافى أبو الأغَرِّ بغداد وبين يديه رأسُ صالح [بن مُدْرِك] ورؤوس [جماعةٍ من] أصحابه، فوصل إلى المعتضد، فخلع عليه وطوَّقه وسوَّره، ونصب الرؤوس عند الجسر، وحَبس الأسرى في المطامير. وفي صفر أمر المعتضد أن يُبنى له قصر [ببَراز الرّوز للتنزُّه، ] فشرعوا فيه. وفيها غَلُظ أمرُ القرامطة، فأغاروا على البصرة ونواحيها، فبعث إليهم المعتضد عبَّاس بنَ عَمرو الغَنَويّ في ألفَي رجل، وقيل: في عشرة آلاف، فالتقوا، فقُتل أصحاب العبَّاس إلا القليل، وأُسر العباس، ثمَّ أطلقه أبو سعيد بعد ذلك. فقال العبَّاس: لمَّا أسرني القرمطيُّ قيَّدني وضيَّق عليَّ، فيئستُ من الحياة، فلمَّا كان بعد ذلك أرسل إليَّ مَن أخذ قيدي وثيابي، واستدعاني، فدخلتُ عليه، فسلمتُ عليه فردَّ، وأَدْناني، وأمرني بالجلوس، وقال: أنتَ رجلٌ عربيّ، وقد مننتُ عليك بنفسك، وأريد أن أستودعَك أمانة تؤدِّيها إلى صاحبك، فقلت: أفعل ما تأمُرني به، قال: تقول له: يا هذا، لِمَ تَخْرِقُ هيبتَكَ، وتبعث إليَّ الجيوشَ، وأنا أقتل رجالك، ويَطمع فيك ¬

_ (¬1) في (خ): وشى به أنَّه على عزم ... ، والمثبت من (ف) و (م 1)، وما بين معكوفات منهما، وانظر تاريخ الطبري 10/ 74.

أعداؤك، وأنا رجلٌ مقيمٌ في فلاةٍ لا زَرْعَ فيها ولا ضَرْع، قد رضيتُ لنفسي بخُشونة العيش، والتَّقلُّب على أطراف الرِّماح، وما غَصَبْتُ لك بلدًا، ولا أزلتُ لك سلطانًا، ومع هذا فوالله لو أرسلتَ إليَّ جميع عساكرك ما ظفرتَ منِّي بطائلٍ؛ لأنَّك تبعثُ إليَّ رجالًا قد تعوَّدوا شُرْبَ الماءَ بالثَّلج، وشمَّ الرياحين، والمآكلَ اللذيذة، والأماكنَ الباردة، فيجيؤون من المسافة البعيدة وقد ضَنكهم العيشُ والتعب، فما يَمْكثُون إلا ساعةً من نهار ثمَّ يُهزمون، وإن ظهروا على دخلتُ الصَّحارى أنا ورجالي، وقد تعوَّدْنا القَشَف وخشونةَ العيش، فلا يقدرون عليَّ، ثمَّ إنَّني آتيهم على غِرَّة فأقتلهم وأغنم أموالهم، ويعودُ فَلُّهم إليك، فما تَحظى إلا بكَسْر الحُرْمَة، وإنفاق الأموال، وإطماع العدوِّ فيك، وأنا فما أُنفقُ مالًا، ولا أتكلَّفُ مَشَقَّةً ... وذكر كلامًا طويلًا في هذا المعنى، وبعث معي رجالًا أوصلوني إلى مأمَني، وأعطاني نَفَقةً، فلمَّا دخلتُ على المعتضد أَعَدْتُ عليه ما قال، فتمعَّطَ في جلده غَيظًا حتَّى قلت: إنَّه يسير إليه بنفسه، ثمَّ أفكر فكأنَّه عَرف صدقَ قوله، فما ذكره بعد ذلك. ثمَّ ولَّى المعتضد العبَّاسَ الغَنَويَّ اليمامة والبحرين ومُحاربَةَ القرمطي، فخرج إليها في رجب، وجاءه القرمطيُّ فاقتتلوا، فانهزم العبَّاس، ولحقه القِرمطي فأسره، وأسر معه سبعَ مئة رجل، وغنم ما كان في العسكر، وقتل السَّبع مئة، ثمَّ أحرقهم، وسار إلى هَجَر فأمَّنهم ودخلها، وهرب أهل البصرة، وكان بها أحمد بن محمَّد الواثقيّ فسكَّنهم. ثمَّ أطلق القرمطيُّ العبَّاسَ، فوافى بغداد في رمضان، ويقال: إنَّ هذه الوقعة هي التي أسر القرمطي فيها العبَّاس في الأوَّل، ولما أسره دَعا به وقال: أتحبُّ أن أُطلِقَك؟ قال: نعم، قال: امْضِ وعرِّف الذي وجَّه بك ما رأيت من قِبَل أصحابه وتحريقهم، وأرسل معه رجالًا من القرامطة يحملون الزَّاد والمال إلى الأُبُلَّة، فأوصلوه، فجاء إلى البصرة، وقدم على المعتضد فحكى له ما شاهد، وقال له: يا أمير المؤمنين، أقمتُ عنده ثمانيةَ عشر يومًا ما أكلت إلا الطُّرموس (¬1) والتَّمر، قال: والمعتضد مُطرِقٌ قابِضٌ على لحيته، لا يرفع طَرْفَه، فإذا رفعه نظر إليَّ شَزْرًا، فلم أزل خائفًا حتَّى خرجتُ من ¬

_ (¬1) الطُّرموس: خبز الملَّة. والملَّة: الرماد الحار. مقاييس اللغة 3/ 459، ولسان العرب: (ملل).

أحمد بن عمرو

بين يديه، ثمَّ خلع عليه (¬1). وفي شوَّال خرج المعتضد من بغداد فنزل باب الشمَّاسيَّة [في طلب] وَصيف خادم ابن أبي السَّاج وكتم ذلك، فظهر أنه يريد [ديار] مُضَر (¬2)، وسار عن بغداد في ذي القعدة، وأتته عيونه أنَّ وصيفًا يريد عين زُرْبة، فقدَّم بين يديه ابنه عليًّا، ثمَّ أتبعه مؤنسًا الخازن، ثمَّ بالقوَّاد، فأدركوا وَصيفًا في عسكره قبل أن يصل إلى عين زُرْبة، فأخذوه أسيرًا، وجاؤوا به، فكان بين مَسير المعتضد من بغداد إلى أن قبض على وصيف بعين زُرْبة والعواصم ستَّة وثلاثون يومًا؛ لأنَّه خرج من بغداد لإحدى عشرة بقيت من ذي القعدة، ثمَّ أقام بعين زُرْبة يومين، وبالمَصِّيصة أيَّامًا، ونزل طَرَسوس فأقام بها أيامًا، ثمَّ رحل إلى أنطاكية فأقام بها أيامًا، ثمَّ جاء إلى حلب، ثمَّ إلى بالِس، ثمَّ إلى الرقَّة، فأقام بها إلى سَلْخ ذي الحجَّة (¬3). وفيها مات محمَّد بن زيد العَلَويّ صاحب طَبَرِسْتان. وفيها أوقع بدر غلامُ الطَّائيّ بالقرامطة على غرَّة منهم بنواحي رودميسان (¬4)، فقتل منهم مَقتلةً عظيمة، ثمَّ تركهم خوفًا على السَّواد أن يخَرب إذ كانوا فلَّاحيه وعمَّاله. وحجَّ بالنَّاس محمَّد بن عبد الله بن ترنجة (¬5). وفيها توفي أحمد بن عمرو ابن الضَّحَّاك بن مَخْلد بن مسلم، أبو بكر، القاضي، الشَّيباني، الفقيه. محدِّثُ بنُ محدِّث بنِ محدِّث، ولي القضاء بأصفهان، وصنَّف في علوم الحديث، وكان مُكثِرًا، وروى عن جدَّيه لأبيه ولأمِّه، أمَّا جدُّه لأبيه فهو أبو عاصم النَّبيل، وأمَّا جدُّه ¬

_ (¬1) نشوار المحاضرة 4/ 130 - 132، والفرج بعد الشدة 2/ 104 - 107، وذكره أيضًا ابن الجوزي في المنتظم 12/ 321 - 322 في أحداث سنة تسع وسبعين ومئتين. (¬2) ما بين معكوفين زيادة من تاريخ الطبري 10/ 79. (¬3) تاريخ الطبري 10/ 79 - 81، والكامل 7/ 497 - 498. (¬4) كذا في النسخ، وفي تاريخ الطبري 10/ 82: روذميستان، وفي الكامل 7/ 500: بنواحي ميسان. (¬5) من هنا إلى ذكر وفاة يعقوب بن يوسف بن أيوب ليس في (ف) و (م 1).

الحسين بن السميدع

لأمِّه فأبو سلمة التَّبُوذَكيّ، وكان أحمد بن عمرو ظاهريَّ المذهب، مات بأصبهان (¬1). الحسين بن السَّمَيدع ابن إبراهيم أبو بكر، البَجَلي، الأنطاكيّ. قدم بغداد وحدَّث بها، وتوفِّي في ذي القَعدة، وكان ثقة، وأنشد لنفسه أو لغيره: [من البسيط] حتَّى متى أنا مَمْطولٌ بما تَعِدُ ... ما للمواعيد فيما بيننا أمَدُ أزكى المواعيدِ ما كانت مهيَّأةً ... لا المَطْلُ فيها ولا التَّسويفُ والنَّكَدُ فأبْقِ عنديَ للمعروف تفعلُه ... شُكرًا تضمَّنه الأعقابُ والأبَدُ (¬2) محمد بن زيد العَلَويّ، صاحب طَبَرِسْتان. لما بلغه أسْرُ عمرو بن اللَّيث خرج من طبرِستان في جيش كثيف نحو خراسان طامعًا فيها، ظنًّا منه أنَّ إسماعيل بن أحمد لا يتجاوز عمله بما وراء النَّهر، فلمَّا صار إلى سِجِسْتان كتب إليه إسماعيل يقول: قد ولاني أمير المؤمنين خُراسان، فارجع إلى طَبَرِستان ولا تتعرَّض لما ليس لك، فأبى محمَّد، فدعا إسماعيل محمَّد بنَ هارون وكان خليفة لرافع بن هَرثمة في أيَّام ولاية رافع خراسان، فقال له: سِرْ إلى محمَّد بن زيد، وضمَّ إليه جَمعًا كثيرًا من جنده ورجاله. فسار إليه والتقيا على باب جُرجان، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكانت الدَّبَرَةُ فيه أولًا على محمَّد بن هارون، ثمَّ رجع عليهم فهزمهم، وقتل من أصحاب العلويِّ خلقًا كثيرًا، وباشر العلويُّ القتال بنفسه، ووقع في رأسه ووجهه ضَرَباتٌ كثيرة، وأَسَر ابنَه هارونُ، وحوى ما كان في عسكره، ثمَّ مات محمَّد بن زيد بعد هذه الواقعة بأيَّام، فدُفن على باب جُرجان، وحُمل ابنُه زيد بن محمَّد إلى إسماعيل بن أحمد، وسار محمَّد بن هارون إلى طَبَرِسْتان (¬3). ¬

_ (¬1) أخبار أصبهان 1/ 100 - 101، وتاريخ دمشق 2/ 48 - 50، والسير 13/ 430 - 439. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 587 - 589، وتاريخ دمشق 4/ 671 - 672. (¬3) تاريخ الطبري 10/ 81، والكامل 7/ 504، وتاريخ الإِسلام 6/ 803 - 804، والوافي بالوفيات 3/ 81 - 82.

يعقوب بن يوسف بن يعقوب

يعقوب بن يوسف بن يعقوب أبو يوسف، النَّيسابوريُّ. كان جَليلًا، مُحتَشِمًا، كبيرَ المحلِّ، كاتب الإِمام أحمد رحمه الله، واجتمع به غير مرَّة، وأثنى عليه الإِمام أحمد، أسند عن هشام بن عمَّار وطبقتِه، وكتب عنه مسلم بن الحجَّاج، وكان ثقة (¬1). [فصل وفيها توفي] يعقوب بن يوسف بن أيُّوب أبو بكر، المطوّعي، الزَّاهد العابد، [حكى عنه الخطيب أنَّه] قال: كان وردي في شبيبتي في كلّ يوم وليلة أربعين ألف مرَّة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}. وكانت وفاته ببغداد في رجب، ودُفن بباب البَردان. سمع الإِمام أحمد [بن حنبل] رحمة الله عليه، [وابن معين، وابن المديني] , وروى عنه النجَّاد [وجعفر الخُلْدي] , وكان ثقةً صدوقًا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 28/ 53 - 54، وتاريخ الإِسلام 6/ 855. (¬2) تاريخ بغداد 16/ 423، والمنتظم 12/ 414، وتاريخ الإِسلام 6/ 855، وما بين معكوفات من (ف) و (م 1) وجاء فيهما بعدها: والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمَّد وآله.

السنة الثامنة والثمانون ومئتين

السنة الثامنة والثمانون ومئتين فيها وقع وَباء بأذْرَبيجان فمات خَلْقٌ كثير، وفُقدت الأكفان، فكفّن النَّاس في الأكْسِيَة واللّبود، ثمَّ فُقدت [الأكسية] ومَن يدفن الموتى، فكانوا يُطرَحون في الطُّرق عَرايا. ثمَّ وقع الطَّاعون في أصحاب محمَّد بن أبي السَّاج بَبَرْذَعة في ربيع الأوَّل، فمات لمحمد ما بين ولدٍ وغُلامٍ ممن أخِذت مناطقُهم وسيوفُهم، وأدخلت خزانة ابن أبي السَّاج؛ سبعُ مئة إنسان، ثمَّ توفِّي محمَّد بن أبي السَّاج ببَرْذَعة، وقيل: بأذربيجان، وكان يلقب بالأفشين، فاجتمع غلمانه فأمَّروا عليهم ابنه ديوداد، فاعتزلهم أخوه يوسف بن أبي السَّاج وهو مخالفٌ لهم (¬1). وفيها قدم المعتضد بغداد [فنزل] بباب الشَّمَّاسية مُنْصَرِفًا من سفره، ومعه وصيف خادم ابن أبي السَّاج، وكان عاصيًا عليه بالثُّغور، ثمَّ دخل المعتضد قصرَه بالثُّريّا ليلًا، وركب من الغد ابنُه جعفر وأبو النجم بدر المُعْتَضدي، وبين أيديهم القوَّاد، ووَصيف الخادم قد أُركب جَملًا له سنامان بغير وطاء، وعليه دُرَّاعة ديباج، ومعه رجل يعرف بالبُغَيل من أهل طَرَسوس ممَّن كان يقاتل في البحر على جمل، ورجلان آخران وعليهم الذرائع والبَرانس، وكان في المَرْكب ممن أبلى في الوقعة خاقان المُفْلحي مُطوَّقًا مُسوَّرًا، ووَصيف موشكير، ومؤنس الخادم، ومؤنس الخازن مطوَّقين بغير أسورة (¬2). وقال الخطيب: هجم المعتضد على وصيف بطَرَسوس فأخذه أسيرًا، وعاد إلى أنطاكية وعليه قَباء أصفر، فقال رجل: يا قوم، الخليفةُ عليه قباء أصفر، فأين السَّواد؟ فقال بعض الناس: هذا القباء كان عليه وهو ببغداد؟ فجاءه الخبر بعصيان وصيف، فحلف لا يغيِّرُه حتَّى يَفْرُغ من أمر وصيف (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري 10/ 83، والمنتظم 12/ 416، والكامل. (¬2) مروج الذهب 8/ 196 - 199. (¬3) تاريخ بغداد 6/ 80.

بشر بن موسى

وعاد المعتضد وقد شاب، فدخلت عليه بدعة جارية [عريب] فقالت له: يا سيدي، شِبْتَ في هذه السفرة! فقال لها: من دون ما كنتُ فيه [يُشَيّب] , قالت: فأنت والله فيه أحسن من القمر، ثمَّ قالت: [من الخفيف] إن تكن شِبْتَ يا مَليكَ البرايا ... بأمورٍ عانَيتَها وخُطوبِ فلقد زادكَ المَشيبُ جَمالًا ... ووَقارًا والشَّيبُ فَخْرُ الأديبِ (¬1) وفيها تزوَّج جعفر بن المعتضد خديجة بنت أبي النَّجم بدر، وحمل المعتضد إلى بدر صَداقها في مئة كيس على يد مئة غلام، وقيل: إنَّما تزوَّجها المعتضد. وفيها توفي عبيد الله بن سليمان الوزير. وتوفِّي وَصيف الخادم، فأُخرجت جثَّته وصُلبت عند الجسر. وحجَّ بالنَّاس محمَّد بن هارون بن العبَّاس بن إبراهيم بن عيسى بن [أبي] جعفر المنصور (¬2). وفيها توفي بِشْر بن موسى ابن صالح، أبو علي، الأسديُّ. ولد سنة تسعين ومئة، وهو من بيت الفضل والرِّياسة، والثِّقة والأمانة، وكان الإِمام ¬

_ (¬1) الإماء الشواعر لأبي الفرج الأصبهاني 140 - 141، وما بين معكوفين منه. ونص هذا الخبر في (ف م 1) وحكى أبو الفرج الأصبهاني [141] وقال: لما عاد المعتضد من نوبة وصيف إلى بغداد وقد شاب دخلت عليه بدعة جارية عريب فقالت له: يا سيدي شبت في هذه السفرة! فقال لها من دون ما كنت فيه يشيب، قالت: فأنت فيه والله أحسن من القمر، ثم قالت بديهًا: ما ضرك الشيب شيئًا ... بل زدت فيه جمالا قد هذبتك الليالي ... وأورثتك كمالا فعش لنا في سرور ... وانعم بعيشك بالا تزيد في كل يوم ... وليلة من المعالي تعالى (كذا) في نعمة وسرور ... ودولة تتعالى (¬2) في تاريخ الطبري 10/ 85، والمنتظم 12/ 417، والكامل 7/ 510: وحج بالناس هارون بن محمَّد المكنى أبا بكر، وما بين معكوفين من تاريخ بغداد 4/ 565.

ثابت بن قرة

أحمد [بن حنبل] رحمه الله يعظِّمه ويحترمه، وكانت وفاته في ربيع الأوَّل ببغداد، ودُفن بمَقْبرة باب حَرْب، وقيل: بباب التِّبن. حدَّث عن الإِمام أحمد رحمة الله عليه وغيره، وروى عنه [ابن] صاعد وغيره، [قال الخطيب: ] وكتب إلى الحميديِّ والحميديُّ بمكة (¬1). ومن شعره: [من الطويل] ضَعُفْتُ ومَن جاز الثَّمانين يضعُفُ ... ويُنكَرُ منه كلُّ ما كان يُعرَفُ وَيمشي رُويدًا كالأسير مُقَيَّدًا ... تَدانى خُطاه في الحديد ويرسُفُ (¬2) ثابت بن قُرَّة أبو الحسن، المُهَنْدِس. صاحب الكُتُب الحسان في الفلسفة والهندسة والطّبِّ وغيرها, ولد سنة إحدى وعشرين ومئتين، وكان فاضلًا، مُتقنًا في جميع العلوم، وهو جدُّ ثابت بن سِنان بن ثابت بن قُرَّة صاحب "التاريخ". ورثاه ابن المُنَجِّم النَّديم فقال: [من الطويل] ألا كلُّ شي ما خلا اللهَ مائتُ ... ومَنْ يغتربْ يومًا ومَن مات فائتُ أرى مَن مضى عنَّا وخيَّم عندنا ... كسَفْرٍ ثَوَوْا أرضًا فسارٍ وبائتُ نَعَيْنا العلومَ الفَلسفيَّاتِ كلَّها ... عداها التماعُ النُّورِ مُذْ مات ثابتُ وأصبح أهلوها حَيارى لفَقْدِه ... وزال به رُكْنٌ من العلم ثابتُ وكانوا إذا ضَلُّوا هَداهم لنَهْجِها ... خَبيرٌ بفَصْلِ الحُكم للحقِّ ناكتُ ولمَّا أتاه الموتُ لم يُغْنِ طِبُّه ... ولا ناطِقٌ ممَّا حواه وصامِتُ فلو أنه يُسْطاع للموتِ مَدْفَعٌ ... لدافعَه عنه حُماةٌ مَصالِتُ ثِقات من الإخوان يُصْفون وُدَّه ... وليس لما يَقضي به الله لافِتُ أبا حَسَنٍ لا تَبْعَدنَّ فكلُّنا ... لهُلْكِكَ مَفْجوعٌ له الحُزْنُ كابِتُ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 570، والمنتظم 12/ 417، وتاريخ الإِسلام 6/ 724. (¬2) بعدها في (ف م 1): انتهت ترجمته والحمد لله وحده، وفيها توفي العباس بن حمزة.

العباس بن حمزة

أآمُلُ أن تُجلا عن الحقِّ شُبهةٌ ... وشَخْصُك مَقْبورٌ وصوتُك خافِتُ عَجِبتُ لأرضٍ غيَّبَتْك ولم تكن ... ليُثْبِتَ فيها مثلَك الدَّهرَ ثابتُ تهذَّبْتَ حتَّى لم يكن لك مُبْغِضٌ ... ولا لك لمَّا اغتالك الموتُ شامتُ وبَرَّزْتَ حتَّى لم يكن لك دافعٌ ... عن الفَضْلِ إلا كاذبُ القولِ باهِتُ مضى عَلَمُ العِلم الذي كان مَقْنَعًا ... فلم يَبْقَ إلا مُخطِئٌ مُتهافِتُ (¬1) من أبيات. [وفيها توفي] العبَّاس بن حَمْزة [ابن] عبد الله بن أشْرَس، أبو الفضل، النَّيسابوريّ، الواعظ. صاحب لسانٍ وبَيان، رحل في طلب الحديث إلى الأمصار، [قال الحافظ ابن عساكر: ] ورأى ذا النُّون المصري، وسمع كلامه، وأسند عنه. [قال: ] فمن ذلك أنَّه قال: سمعتُ ذا النُّون يقول في مُناجاته: إلهي، عَرف المُطيعون عَظَمتك فخضعوا، وسمع المذنبون بجودك فطمعوا. [قال: ] وكان يصوم النَّهار ويقوم الليل، [وكان] مُجابَ الدَّعوة، يقول: لَحِقَتْني بركاتُ ذي النون. وكان يَعِظ السُّلطان، ومرض فعاده أحمد بن أبي ربيعة، فقال له: كيف تَجِدك يا أبا الفَضْل؟ فقال: حَبَسني ربي على بابه، وأغناني عن أبوابكم، وكانت وفاته في ربيع الأوَّل. سمع الإمام أحمد رحمة الله عليه وغيرَه، وروى عنه البغويُ وغيرُه (¬2). [وفيها توفي] عُبيد الله بن سليمان ابن وَهْب [الوزير]. ¬

_ (¬1) عيون الأنباء في طبقات الأطباء ص 297 - 298. (¬2) تاريخ دمشق 32/ 75، والمنتظم 12/ 419، وتاريخ الإِسلام 6/ 761، وما بين معكوفين من (ف م 1).

وَزَر للمعتضد (¬1) عشر سنين وشهرين وعشرة أيام، وكان ناهضًا، كافيًا، يلتقي الأعداء بنفسه، ومضى إلى الرَّيّ مع علي بن المعتضد [وقد ذكرناه] , وكانت وفاتُه يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الآخر، وصلَّى عليه ابنه القاسم، ودُفن بداره، وكتب المعتضدُ رُقعةً إلى القاسم يعزِّيه بأبيه، ويترحَّم عليه، ويأمره بالقيام بأمر الوزارة، وذلك بإشارة بدر أبي النجم. وقد حكى القاضي التَّنُوخي عن أبيه قال: لمَّا مات عبيد الله أراد المعتضد أن يولِّي الوزارة أحد رجلين: إمَّا أحمد بن الفرات، وإمَّا جَرادة، فاستشار بَدْرا فقال: يا أمير المؤمنين، ابنُ الفرات لا هَيبةَ له، وجَرادةَ غِرٌّ، والقاسم قد خَبَر الأمور، وعرف مَوارِدَها ومَصادرَها، فقال المعتضد: قد أجبناك إلى سؤالك في القاسم، فاذهب إليه فعَزِّهِ بأبيه، وهنِّه بالوزارة. فلمَّا خرج بدر قال المعتضد لخَفيف الحاجب السَّمرقنديّ وكان حاضرًا: أسمعتَ ما جرى؟ قال خفيف: نعم، فقال: والله لا قتل بَدْرًا غير القاسم، فكان كما قال، كأنَّه كان ينظر من سِتْر رقيق. ثمَّ ركب القاسم إلى دار المعتضد يوم الأربعاء منتصفَ ربيع الآخر، بعد وفاة أبيه بيوم، والمعتضدُ في الثريَّا، فخلع عليه خِلْعةَ الوزارة، وعاد إلى منزله، وبدرٌ والقواد بين يديه (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في (خ): وزير المعتضد. والمثبت وما بين معكوفين من (ف) و (م 1). (¬2) من قوله: وقد حكى القاضي ... إلى هنا ليس في (ف م 1)، وانظر ترجمة الوزير في السير 13/ 497.

السنة التاسعة والثمانون بعد المئتين

السنة التاسعة والثمانون بعد المئتين فيها فاض ماء البحر على السَّاحل فأخرب الحصون والبلادَ التي عليه، ولم يُعرف قبل ذلك. وانتشرت القرامطةُ بسَواد الكوفة، وكان رئيسُهم رجل يقال له: ابنُ أبي الفوارس، فظَفرَ به عسكرُ المعتضد، فحُمِل وجماعةٌ معه إلى بغداد، فعُذبوا بأنواع العذاب، ثمَّ صُلبوا وأُحرقوا، وأمَّا ابن أبي الفوارس فقُلِعتْ أضراسُه، ثمَّ شُدَّ في إحدى يديه (¬1) بَكْرَة، وفي الأخرى صَخْرة، ورُفعت البكرة، فلم يزل على حاله إلى وقت الظهر، ثمَّ قُطعت يداه ورجلاه، وضُربت عُنقُه. وفيها في ربيع الأول (¬2) أمر المعتضد ببناء قصر بناحية باب الشَّمَّاسيَّة، وأمر بإخراج مَن كانت له دار هناك أو حانوت، وقيل لهم: خذوا أنقاضَ دُوركم، وأخذ منهم العِراص، وابتدأ على دجلة ببناء دِكَّة ليُقيم بها المعتضد إلى أن يَفرغ من بناء القصر، ثمَّ اعتلَّ [المعتضد] في ربيع الآخر علَّة صَعْبة، واشتدَّ وجعه، وأُرجف عليه، ثمَّ عوفي، فقال عبد الله بن المعتز: طار قلبي بجَناحِ الوَجيبِ ... جَزَعًا من حادثاتِ الخطُوبِ وحِذارًا أن يُشاكَ بسوءٍ ... أَسَدُ المُلْكِ وسيفُ الحروبِ جمال شيطانُ الأراجيفِ فينا ... بحَديثٍ مُفَتِّتِ للقلوبِ وكأنَّ النَّاسَ أغنامُ راعٍ ... غاب عنها أو أحسَّت بذيبِ ثمَّ بدّت (¬3) نعمة الله بشرى ... كشفتْ عنَّا غطاءَ الكروبِ وقعتْ منا مواقعَ ماءٍ ... في حَريقٍ مُشَعَّل ذي لَهيبِ ربِّ أَصْحِبْه سَلامةَ جِسمٍ ... واحْبُهُ منك بعُمْرٍ رَحيبِ وفي ربيع الآخر توفِّي المعتضد، وولي الخلافةَ ابنُه المكتفي بالله. ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): رجليه، والمثبت من (خ)، وهو الموافق لما في تاريخ الطبري 10/ 86، والمنتظم 12/ 421. (¬2) في (خ): الآخر. والمثبت من (ف) و (م 1). (¬3) في المنتظم 12/ 422: هَبْت، والأبيات ليست في (ف م 1).

الباب السابع عشر في خلافته

الباب السابع عشر في خلافته (¬1) هو أبو محمَّد عليُّ بن أحمد المعتضد بن أبي أحمد الموفَّق ابن جعفر المتوكّل، وليس في الخلفاء المتقدّمين مَنْ كنيته أبو محمَّد إلَّا الحسن بن علي رضوان الله عليهما، وموسى الهادي، والمكتفي، وفي المتأخرين أبو محمَّد المستضيء، وليس فيهم من اسمه عليٌّ إلَّا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه والمكتفي. ولد في ربيع الآخر، وقيل: في رجب سنة أربع وستين ومئتين، وأمُّه أمُّ ولد تركية يقال لها خنجو (¬2)، وقيل: ظَلوم، ولم تدرك خلافته، وكان أحسن الخلفاء صورة. ذكر بيعته: لمَّا اشتدَّ مرض المعتضد اجتمع القوَّاد والموالي والخدم في دار العامَّة وفيهم مؤنس الخادم، ومؤنس الخازن، ووصيف موشكير، والفضل بن راشد، ورشيق القاري، وغيرهم، وكان بدر بفارس، فقالوا للقاسم بن عبيد الله: خذِ البيعة، فقال: أمير المؤمنين حيٌّ، ولا آمَنُ إفاقتَه وقد أطلقتُ المال، فيُنكر عليَّ، فقالوا: إنْ منَّ الله تعالى على أمير المؤمنين بالعافية فنحن المحتجُّون والمناظرون دونَك، وإن صار الأمر إلى الأمير أبي محمَّد أعزَّ بالله فمن المُحال أن يلومنا ونحن نطلب الأمر له، فقال القاسم: رأيكم. وكان في عزمه أن يصرف الأمر إلى غير المكتفي، فلمَّا رآهم على هذا الرأي قال: افعلوا ما ترونه، فإنَّ الأموال والخلافةَ لأبي محمَّد بعد أمير المؤمنين، وقد أوصاني أمير المؤمنين بهذا. فأخذت البيعة بعد صلاة العصر من يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلةً بقيت من ربيع الآخر لأبي محمَّد علي، ولُقِّب المكتفي بالله، وأطلق مال البيعة للموالي وغيرهم، فأحضر القاسم أحمد بنَ محمَّد بن بسطام، وأولاد الخلفاء: عبد الله بن المعتزّ، وقُصيّ ¬

_ (¬1) هذا الباب كاملًا ليس في (ف) و (م 1). (¬2) في (خ): منجور. والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 214، ونسخة في المنتظم 13/ 4 كما في حاشيته.

ابن المؤيَّد، وعبد العزيز بن المعتمد، وعبد الله بن الموفَّق، فأُخذت عليهم البيعة، ووكّل بهم في دار مؤنس (¬1). قال عبد الله بن المعتز: فسهرت ليلةً، وفكَّرت في نفسي وقلت: غدًا يَقدُم المكتفي فيقتلنا, ولنا اتِّصال برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمرَّت بي وقتَ السَّحَر حَمامةٌ، فقلت: [من البسيط] يا نفسُ صَبْرًا لعل الخيرَ عُقباكِ ... خانتْكِ من بعد طُولِ الأمْنِ دُنياكِ مرَّت بنا سَحَرًا طيرٌ فقلت [لها] ... طُوباكِ يا ليتني إيَّاك طوباكِ لكنْ هو الدَّهرُ فالْقَيه على حَذَرٍ ... فربَّ مِثلك تَنْزو بين أشْراكِ فأحببتُ أن أكون مثلها مُخَلَّيًا (¬2). وسأل المكتفي عنَّا، فأُخبر بحالنا، فأطلَقَنا في السَّحَر، وأعطى كلَّ واحد منا ألفَ دينار، وقيل: إنَّ القاسم الوزير أطلقهم، وردَّهم إلى منازلهم مُكرَّمين لما دخل المكتفي، وأنفذ القاسم الأمور. وتوفِّي المعتضد ليلة الاثنين لثمان بقين من ربيع الآخر على خمس ساعات من الليل، وكان المكتفي بالرقَّة، فكتب إليه القاسم كتابًا في الحال يخبره أنَّه أخذ له البيعة قبل وفاة المعتضد، ثمَّ جدَّدها بعد ذلك، وقال في كتابه: وقد أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين، وفي بيوت الأموال عشرة آلاف ألف دينار، ومن الدَّراهم أضعافها، ومن الجواهر ما قيمته كذلك، ومن الأثاث والأمتعة والكسوة والفُرش أضعاف ذلك، ومن الخيل والدوابّ والجمال والبغال عشرون ألفًا، وذكر أشياء كثيرة. فكتب المكتفي: أمتعني الله بك أبا محمَّد -شرَّفه بالكنية- مَن كان موقعُه من دولتنا موقعَك، ومحلُّه فيها محلَّك من حمايتها وتأييدها والاجتهاد فيها يزيد من عزِّها وتمكينها، استحقَّ الحباء والكرامة، والسُّموَّ إلى أعلى المراتب، وقد أمرنا بتكنيتك بحضرتنا وفي مجالسنا؛ إظهارًا لموقعك منَّا، وحالك عندنا، ومستقرِّك من رأينا، على ¬

_ (¬1) تاريخ الإِسلام 6/ 661 - 662. (¬2) أشعار أولاد الخلفاء 286، وتاريخ بغداد 11/ 305.

أنَّ ما فعلنا معك ونفعلُه إنَّما هو دون ما تستحقّه، ودون مالكَ من أنفسنا، فأظهِرْ كتابَنا هذا لمن بحضرتك من الخاص والعامّ؛ تعريفًا لهم بهذا الإنعام، والسلام. وقال الصُّولي: لما مات المعتضد تحرَّك الجند ببغداد قبل قدوم المكتفي من الرَّقَّة، فوضع القاسم الوزير فيهم العطاء فسكنوا، وأخذوا البيعة للمكتفي وسنُّه يومئذ خمس وعشرون سنة. وخرج المكتفي من الرَّقَّة يوم الجمعة بعد الصَّلاة، وجدَّ في السَّير، فتلقَّاه القاسم بالأنبار ومعه الناس، ووافى بغداد يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الأولى، ومرَّ بدجلة في سُماريّة، وهو جالس على سريرٍ، والوزيرُ بين يديه، والطَّيارات حوله، وكان يومًا عظيمًا حين وافى القصر الحَسني، وازدحم طيارُ مؤنس وطيَّارُ أبي عمر القاضي، فغرق أبو عمر بين الجسرين، ثمّ أُخرج سالمًا، وقيل للوزير: إنَّ أبا عمر قد غرق فاغتمَّ، فلما قيل له: قد نجا سالمًا سجد وقال: الحمد لله الذي لم يَفْجَعنا به (¬1). وقال الخطيب: ركب المكتفي من الرَّقَّة في الفرات، وأمر الجيش فوافَوه على البَرِّ، فدخل بغداد، فنزل قصر الخلافة، وجلس للبيعة والتَّعزية (¬2)، فأنشده شاعر: [من الطويل] أجلُّ الرَّزايا أن يموت إمام ... وأسنى العَطايا أن يقوم إمامُ فأُسقي الذي مات الغَمام وجاده ... ودامت تحيَّاتٌ له وسلامُ وأبقى الذي قام الإلهُ وزاده ... مواهبَ لا يَفنى لهنَّ دوامُ ودامت له الآمالُ واتَّصلت بها ... فوائدُ موصولٌ بهنَّ تَمامُ هو المكتفي بالله يَكفيه كلَّ ما ... عَناه برُكْنٍ منه ليس يُرامُ ثمَّ خلع المكتفي على القاسم الوزير سبعَ خِلع، وقلَّده سيفًا. وكان أوَّل ما فعل المكتفي في خلافته أنَّه أحضر إخوتَه، وضمَّهم إليه، وقبلهم، وعزاهم، ومنَّاهم، وهدم المطامير التي عَمرها أبوه، وجعل مواضعها مساجد، وكانت ¬

_ (¬1) تاريخ الإِسلام 6/ 662. (¬2) ينظر تاريخ بغداد 13/ 214، والمنتظم 13/ 4.

صلاة الجمعة لا تقام ببغداد إلَّا في جامع المنصور والرصافة، وكان أهل دار الخلافة يصلُّون في غير جامع، فبنى موضعَ المطامير المسجدَ الجامع في الرَّحْبَة عند باب العامَّة، واستقرَّت الصَّلاة في الجوامع الثلاثة إلى خلافة المتَّقي، وأمر بردِّ الدُّور والبساتين والحوانيت التي أخذها أبوه بباب الشمَّاسيَّة على أهلها, ولم يأخذ منهم أثمانَها، وفرَّق أموالًا جَليلة، وردَّ المَظالم، وسار في النَّاس سيرةً جميلة، فمالت قلوب النَّاس إليه، وكثرت له الأدعية. ومات عمرُو بن اللَّيث في غد اليوم الذي دخل فيه المكتفي إلى بغداد، ودُفن بالقرب من القصر الحسني. وقد كان المعتضد عند موته لمَّا امتنع من الكلام أمر صافيًا الحُرَميَّ بقتل عمرو، وأومأ إليه، وأشار بيده ووضعها على رقبته وعينه أن اذبح الأعور، وكان عمرو أعور، فلم يفعل صافي لعِلْمه بحال المعتضد وقُرب وفاته، فلمَّا وصل المكتفي ودخل بغداد سأل القاسمَ الوزير عن عمرو: أحيّ هو؟ قال: نعم، فسُرَّ بحياته وقال: أُريد أن أُحسِن إليه، وكان عمرو يُهدي إلى المكتفي وَيبَرُّه أيَّام مقامه بالرّي برًّا كثيرًا، فذُكر أنَّ القاسم كره ذلك، فدسَّ إلى عمرو مَن قتله. وفي رجب ورد الخبر إلى بغداد أنَّ جماعة من أهل الرَّيِّ كتبوا إلى محمَّد بن هارون الذي كان إسماعيل صاحب خُراسان بعثه لقتال محمَّد بن زيد العلويِّ وولاه طَبَرِستان، فخلع محمَّد بن هارون المكتفي، ولبس البَياض، وسأله أهل الرَّيِّ المصيرَ إليهم، وكان واليهم أوكرتُمش قد أساء السِّيرة فيهم، فصار محمَّد بن هارون إلى الرَّيِّ، فخرج عليه أوكرتمش فحاربه، فهزمه محمَّد وقتله، وقتل ابنَين له وقوَّادَه، ودخل الريَّ فاستولى عليها. وفي رجب زُلزلت بغداد زَلزلةً عظيمة، ودامت أيَّامًا. وفيها قُتل بدر المعتضدي، وسنذكره إن شاء الله تعالى (¬1). وفيها خُلع على أحمد بن محمَّد بن بسْطام، ووُلِّي آمِد وديار ربيعة. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 10/ 88 - 89.

وفيها هبَّت ريح بالبصرة، فقلعت عامَّةَ نخلها, ولم يُسمع بمثل ذلك. وفيها ظهر بالشام يحيى بن زَكرويه، وجمع جموعًا كثيرة من الأعراب وغيرهم، فأتى دمشق. وبها طُغْج بن جُفّ من قبل هارون بن خُمارويه، فخرج إليه طغج، فكان بينهما وقعات كثيرة في آخر هذه السنة، وقيل: في أول سنة تسعين. والسبب في خروجه أنَّ زكرويه بن مهرويه داعية قرمط لمَّا رأى متابعة الجيوش من المعتضد إلى مَن بسواد الكوفة، وأنَّه أثخن فيهم القتل، ورأى أنَّهم لا طاقةَ لهم به، سعى في جماعة من الأعراب الذين يقربون من الكوفة من أسد وطيئ وتميم وغيرهم، ودعاهم إلى رأيه، وزعم أنَّ مَن بالسَّواد يوافقونهم على أمرهم إن استجابوا له، فلم يستجيبوا له. وكان جماعة من كلب وغيرهم يَخفِرون الطريق على السَّماوة فيما بين دمشق والكوفة على طريق تدمر وغيرها، ويحملون الرُّسل وأمتعة التجَّار على إبلهم، فأرسل زكرويه أولادَه إليهم، فبايعوهم وخالطوهم، وانتموا إلى عليِّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، وإلى [محمد بن] إسماعيل بن جعفر (¬1)، وذكروا أنَّهم خائفون من السُّلطان، وأنَّهم يلجؤون إليهم، فقبلوهم، ثمَّ دبوا فيهم بالدُّعاء إلى رأي القَرامطة، فلم يَقبل ذلك إلا قبيلةٌ من بني عَدي بن جَناب خاصة فقبلوهم، وبايعوهم في آخر هذه السنة بناحية السَّماوَة. وكان المشار إليه في القرامطة يحيى بن زكرويه، ويكنى أبا القاسم، ولقبه الشيخ، وزعم أنَّه أبو عبد الله بن محمَّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمَّد، وقيل: بل زعم أنَّه محمَّد بن عبد الله بن [محمد بن] إسماعيل بن جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين، وقيل: لم يكن لمحمد بن إسماعيل ابنٌ يسمَّى عبد الله، وزعم لهم أنَّ أباه المعروف بأبي محمود داعيةٌ له، وأنَّ له بالسواد والمشرق والمغرب مئة ألف تابع، وأنَّ ناقته التي يركبها مَأمورة، وأنَّهم متى اتَّبعوها في مسيرها ظَفروا، وأظهر عَضُدًا له ناقصًا، وذكر أنَّه آية. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ الطبري 10/ 95.

المعتضد

وانحاز إليه جماعةٌ من بني الأصْبَغ، وتسمَّوا بالفاطميين، ودانوا بدينه، فقَصَدوا الرُّصافة التي غربي الفرات وبها شبل الدَّيلمي (¬1) مولى المعتضد فقتلوه، وأحرقوا مسجد الرُّصافة، واعترضوا كلَّ قرية اجتازوا بها من أعمال الشام، وهزم كلّ عسكر لقيه من دمشق، حتَّى قُتل في السَّنة الآتية. وفيها كانت وقعة بين محمَّد بن هارون وأصحاب إسماعيل بن أحمد على باب الرَّي، وكان محمَّد في ثمانية آلاف، فكانت الدَّبْرة عليه، فانهزم إلى الدَّيلم في ألف رجل، واستجار بهم، ودخل أصحاب إسماعيل إلى الرَّيِّ. وصلَّى المكتفي بالنَّاس يوم عيد النَّحر بالمصلَّى، وكان بين يديه ألوية الملك، وترجَّل الملوك والأمراء والنَّاس، فلمَّا انصرف من المصلَّى وبلغ الحَلْبة والوزير القاسم بين يديه راكب دون النَّاس يسايره ويحادثه، ولم يُر خليفة يسايره وزيرُه ولا غيره في مثل هذا اليوم غير المكتفي. وحجَّ بالنَّاس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن عبيد الله بن العبَّاس بن محمَّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس. [فصل] وفيها توفي المُعتَضِد واسمه أحمد بن طلحة بن جعفر المتوكِّل بن المُعْتَصم بن الرشيد، وكنيتُه أبو العبَّاس، [وقد ذكرنا أنَّه] ولد في سنة اثنتين، أو ثلاث وأربعين ومئتين، [وقد ذكرنا وقائعه مع صاحب الزَّنج وشهامته وشجاعته وخلافته. ذكر طرف من أخباره: قد ذكرنا وقعة الطَّواحين، وذكره الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" وقال: ] قدم دمشق لمحاربة خُمارَويه [بن أحمد بن طولون] , جهَّزه أبوه الموفَّق، فدخل من باب الفَراديس إلى الجامع، فأعجبه، وقال: مالي الدنيا [جامع] مثل هذا، ثمَّ سار إلى الرَّملة فواقع خمارويه، [وكان مع خمارويه خمسون ألفًا من المغاربة والبربر وغيرهم، ¬

_ (¬1) في تاريخ الطبري 10/ 95: سبك الديلمي.

فهزمهم إلى مصر، ثمَّ خرج سعيد الأعْسَر على المعتضد في الكَمين فهزمه، فأتى طَرَسُوس] (¬1). وقد ذكرناه. وذكره المبرِّد فقال: هو والله كما قال الأخطل: [من الكامل] تسمُو العيونُ إلى إمام عادلٍ ... مُعْطى المَهابةِ نافع ضَرَّارِ وترى عليه إذا العيونُ رَمَقْنَه ... سِيما الحَليم وهيبةَ الجبَّارِ (¬2) وقال المسعودي [في "تاريخه"]: كان قليلَ الرَّحمة، وحكى عنه العجائب، منها أنَّه [قال: ] كان إذا غضب على قائد أو على أحد من خواصِّه أو غلمانه أمر بأن تُحفر له حُفيرة، ثمَّ يُرمى فيها على أمِّ رأسه، ويُهال التراب على بعض جسده، ثمَّ يُداس وهو يراه، حتَّى تخرج روحه من دُبُره، وكانت له سياسة عظيمة (¬3). [حديث اللصوص الذين نزلوا المَقْثَأة: ذكرها القاضي علي بن المُحَسِّن التنوخي (¬4) بإسناده إلى أبي محمَّد] عبد الله بن حَمْدون قال: خرج المعتضد في عسكره للصيد، فنزل إلى جانب مَقْثأة وأنا معه، فصاح ناطور المقثأة، فقال: عليَّ به، فأُحضر بين يديه، فسأله عن صياحه فقال: ثلاثة من الغلمان نزلوا المقثأة فأخربوها، فقال: أتعرفهم؟ قال: نعم، قال: اذهب فانظرهم، فذهب إلى العسكر فرآهم فعرفهم، فأتى بهم بين يديه، فحبسهم، فلمَّا كان في وقت السَّحر أخرجهم فضرب أعناقهم في المقثأة. قال [أبو محمَّد] عبد الله [بن حمدون: ] ثمَّ قال لي بعد أيام: يا عبد الله، ما يُنكر عليَّ النَّاس؟ قلت: لا شيء، فقال: بالله إلَّا صَدَقْتني، فقلت: إسرافُك في الدِّماء (¬5)، فقال: والله ما سفكتُ دمًا حَرامًا [قط] منذ ولِّيت الخلافة إلا بحق، قلت: فلِمَ قتلتَ أحمد بن الطَّيِّب وكان خادمَك؟ فقال: دعاني إلى الإلحاد فقلت: أنا ابن عمِّ رسول الله ¬

_ (¬1) انظر مختصر تاريخ دمشق 3/ 111، 114، وانظر في ترجمة المعتضد تاريخ بغداد 6/ 79، والمنتظم 13/ 7، والكامل 7/ 513، والسير 13/ 463، وتاريخ الإِسلام 6/ 676. (¬2) ديوانه 80. (¬3) مروج الذهب 8/ 115 - 116. (¬4) في نشوار المحاضرة 1/ 331 - 333، وعنه المنتظم 12/ 307. (¬5) في (ف): فقال: افتراؤك في الدنيا، وفي (م 1): فقال: إسرافك في الدنيا، والمثبت من (خ)، وفي المنتظم: إسراعك إلى سفك الدماء.

- صلى الله عليه وسلم - صاحبِ الشريعة، وأنا قائمٌ مقامه، أُلحد حتَّى أتبرَّأ منه؟ ! فقلت: فالثلاثة نزلوا المَقثأة؟ فقال: والله ما قتلتُهم، والذين قتلتُهم كانوا لصوصًا قد قَتلوا، أخرجتهم في الليل فقُتلوا، وأطلقت أولئك. [ذكر قتله الأسد: حكى القاضي التنوخي بإسناده إلى] خَفيف السمَرْقَنديّ [مولى المعتضد] قال: خرجتُ مع المعتضد في بعض مُتَصيَّداته وقد انقطع عنَّا العسكر، وليس معه غيري، فخرج علينا أسد فقَصَدَنا، فقال المعتضد: يا خفيف، أفيك خير؟ قلت: لا، قال: ولا تُمسك فرسي حتَّى أنزل أنا إليه؟ قلت: بلى، فنزل وأعطاني فَرسه، وشدَّ أطراف قَبائه في مِنطقته، واستلَّ سيفه، ورمى بالقُراب إليَّ فأخذتُه، وأقبل يمشي إلى الأسد، وقصده الأسد وحمل عليه، حتَّى إذا قرب منه وثب عليه، فتلقاه المعتضد بسيفه فقطع يده فطارت، فتشاغل الأسد بالضربة، فثنَّاه أخرى ففلق هامته، فخرَّ صَريعًا، فمسح السَّيف في صوفه وقد مات، ثمَّ رجع إليَّ فأخذ الغمد فأدخل السَّيف فيه، ثمَّ ركبنا وقصدنا العسكر، وصحبته إلى أن مات، فما سمعته يذكر الأسَد بلفظه، فلا أدري من أي شيءٍ أعجب من شجاعته وشدَّته، أم من قلَّة احتفاله بما صنع حتَّى كتمه، أم من عفوه عنِّي؛ فما عاتبني على ضنِّي بنفسي (¬1)؟ ! [حكاية تدلُّ على عفَّته: قال الخطيب بإسناده إلى] إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: دخلتُ (¬2) على المعتضد وعلى رأسه أحداثٌ صِباحُ الوجوه رومٌ وتُرْكٌ وغيرهم، فجعلت أتأملهم ففطن، فلما أردت القيام قال: اقعد، فقعدتُ، فلمَّا خلا المجلس قال: يا قاضي، والله ما حَلَلتُ سراويلي على حرام قطُّ. [ذكر قصَّته مع العبد الأسود: ذكرها] القاضي التنوخي بإسناده قال (¬3): كان المعتضد يومًا جالسًا في بيت له ¬

_ (¬1) في (خ): على ضني بنفسه منه، وفي (ف م 1): طني عنه، والمثبت من نشوار المحاضرة 3/ 260، والمنتظم 12/ 315. (¬2) في (خ): وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي دخلت، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 6/ 80. (¬3) في (خ): وحكى القاضي التنوخي بإسناده قال، والمثبت من (ف) و (م 1)، والخبر في الأذكياء 59 - 60 عن المحسن التنوخي.

يشاهد الصُّنَّاع يبنون، فرأى [في] الفَعَلة غلامًا أسودَ، مُنكَر الخَلْق، شديدَ المرَح، يصعد على السلالم مِرْقاتين مرقاتين، ويحمل أضعافَ ما يحمله غيره، فأنكر ذلك، وقال لابن حمدون: أيّ شيءٍ يقع لك في أمره؟ فقال: ومَن هو هذا حتَّى صرفتَ فِكرَك إليه؟ ولعله لا عيال له، فهو خالي القلب، فقال المعتضد: قد خمَّنتُ فيه تخمينًا إمَّا أن يكون معه دنانير قد ظَفِر بها، أو يكون لصًّا يتستَّر بالعمل في الطِّين. فأحضره وقال: مَقارع، فضُرب مئةَ مَقْرَعَة، فلم يُقرَّ بشيءٍ، فقال: عليَّ بالسَّيف والنِّطع، وقال: اضربوا عُنُقه، فقال الأسود: أنا آمِن؟ فقال: نعم، إلا ما كان فيه حدٌّ، فلم يفهم ما قال، وظنَّ أنَّه قد أمَّنه، فقال: كنتُ أعمل في أتاتين (¬1) الآجر مدَّة، فمرَّ رجل، وحلَّ من وَسَطه هِمْيانًا، وأخرج منه دنانير، ثمَّ شدَّه، فقمتُ إليه فكتَّفْتُه، وسَدَدْتُ فاه، وألقيته في نُقرة الأتُّون وطينتُه، فلما كان بعد أيام أخرجتُ عِظامَه، وطرحتُها في دجلة، والدّنانير معي أتقوى بها. فأمر المعتضد بحلِّ الهِميان من وسطه، فحُلَّ، وإذا اسمه عليه مكتوب، فنودي في البلد باسمه، فجاءت امرأتُه ومعها طفلٌ صغير، فقالت: زوجي، وهذا ابني منه، وإنَّه خرج من عندي يوم كذا وكذا ومعه هِمْيان فيه ألفُ دينار، فغاب إلى الآن، ولا أدري ما فُعل به، فأعطاها الهِمْيان، وأمرها أن تعتدَّ، وضرب عنق الأسود. [حديث الغلام: حكى القاضي التنوخي عن أبيه قال: ] قام (¬2) المعتضد ليلة لحاجة له، فرأى بعض الغلمان [قد نهض عن ظهر غلام، ومشى على أربع حتَّى اندسَّ بين الغلمان] فجاء المعتضد، فجعل يضع يده على صدر واحد واحد، إلى أن وضع يده على صدر ذاك الغلام، فرأى فؤادَه يخفق خَفَقانًا شديدًا، فركضه برجله فقعد، فقال: وَيحك ما صنعتَ؟ فأنكر، فدَعى بآلة العقوبة، فأقرَّ، فقتله. [حديث الصياد: حكى القاضي المحسّن أيضًا قال: بلغنا أن خادمًا من خدم المعتضد جاء يومًا ¬

_ (¬1) واحدها أتون، الموقد. لسان العرب (أتن). (¬2) ما بين معكوفين من (ف م 1)، والخبر في الأذكياء 60 عن التنوخي.

فأخبره] أنَّه (¬1) كان قائمًا على دجلة، فرأى صيادًا قد طرح شبكتَه، فتعلَّقت بشيءٍ ثقيل، فأخرجها، وإذا بجراب، فظنَّه مالًا، وإذا فيه آجُرّ وبين الآجر كف مخضوبة بالحِنَّاء، فتحيَّر المعتضد وقال: قل للصيَّاد يَطرح الشَّبَكة، فطرحها، فخرج فيها جراب فيه رِجْل، ورمى الشبكة فلم يخرج شيءٌ، فتحيَّر المعتضد وقال: إنَّا لله، معي في البلد مَنْ يَقتل النَّاسَ ويقطِّع أعضاءهم؟ ! ما هذا مُلْك. وأقام يومه مَغمومًا لم يَطْعم طعامًا، واستدعى برجلٍ لا يُؤبه إليه، وأعطاه الجراب فارغًا، وقال له: طُفْ به في البلد على كلِّ من يعمل الجُرُب، وابحث عنه، فأخذه الرجل، وغاب ثلاثة أيام، وعاد فأخبره أنَّه طاف الدَّبَّاغين وأصحاب الجُرُب حتَّى عرف صانعه، وأنَّه سأله عنه، فقال: نعم، اشتراه منِّي عَطَّارٌ بسوق يحيى، وأنَّه اشتراه منه ومعه عشرة جُرُب، [وهو] فلان الهاشميّ من ولد المهديّ، عظيم إلا أنَّه أشرُّ النَّاس وأفسدُهم لحريم المسلمين، وما في البلد مَن يُنهي خبرَه إلى المعتضد؛ خوفًا من شرِّه وتمكّنه من الدّولة والمال والجاه، فلم يزل يحدّثني حتَّى قال: وحسبُك أنَّه كان يَعْشَق فلانة المغنّية جارية فلانة المغنّية، وكانت كالدِّينار المنقوش، وكالقمر الطَّالع، وكانت قد باعتها بألف دينار، فبعث إليها بدنانير عن حقّ ثلاثة أيام، وقال: لا أقل من [أن] أودّعها، فلما صارت إليه غيَّبها، وادَّعى أنَّها هربت من داره، فلم يُعرَف لها خَبَر، وقال الجيران: إنَّه قتلها، وقد أقامت عليها مولاتها المأتم، وكلَّما جاءت إلى بابه شتمها وضربها. فلمَّا سمع المعتضد هذا سجد شكرًا لله حيث انكشف له الأمر، وأرسل إلى الهاشميِّ فأحضره وستّ الجارية، وأخرج اليد والرّجْل، فلمَّا رآها الهاشميُّ امتُقع لونُه، وأيقن بالهلاك، فقال: اقتلوه، فكلَّمه فيه الوزير عبيد الله وقال: الحبس، فحبسه، وأغرمَه ثمنَ الجارية، ودفعه إلى ستِّها، واستأصله وباع عقاره، فلا يُدرى هل قتله أم مات في الحبس؟ ! . ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م 1)، وجاء بدله في (خ): وأخبر بعض خدامه أنه، والخبر في الأذكياء 60 - 62 عن التنوخي.

[ذكر قصَّة المعتضد مع القَطَّان: وهي من أحسن ما يُسَطَّر، حكاها القاضي المُحَسِّن عن أبيه بإسناده عن القاضي أبي عليٍّ] الحسن بن إسماعيل بن إسحاق (¬1) وكان ينادم المعتضد، قال: بينا المعتضدُ في مجلس سرور إذ دخل بدر فقال: يا مولاي، قد أحضرنا القطَّان الذي من بِرْكة زُلْزُل، فنهض المعتضد من مجلسه، ولبس قَباءً، وأخذ بيده حَرْبة، وقعد على كرسي، وبيننا وبينه ستارة نشاهده من ورائها، وأُدخل شيخٌ ضعيف، فصاح عليه بصوتٍ عالٍ ووجهٍ مُغْضَب: أنت القطَّان الذي قلتَ بالأمس ما قلت؟ فأُغمي عليه من الخوف، ثمَّ أفاق، فقال له: وَيلَك، تقول في سوقك: ليس للمسلمين مَن ينظر في أمورهم، فأين أنا؟ وما شغلي غير ذلك؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أنا رجل قطَّان أعيش من القُطْن الذي أعامل به النساء، ولا تمييز على مثلي فيما يَلْفِظ به، وإنما اجتاز بي رجلٌ ابتعتُ منه قطنًا، وكان ميزانه ناقصًا، فقلتُ ما قلت، وإنَّما عنيتُ به المُحْتَسِبَ علينا لا أميرَ المؤمنين، فقال له المعتضد: آالله إنَّك أردتَ المحتسب؟ قال: أي والله، قال: انصرف فلا بأس عليك. ثمَّ أحضر المحتسب في الحال، ونال منه، [وأمره] بالكشف عن الموازين لئلَّا يبخس النَّاس، وتوعَّده وشدَّد عليه، [ثم عاد المعتضد إلى مجلسه وهو يضحك وقد غير لباسه,] وعاد إلى ما كان عليه. قال الحسن بن إسماعيل: فقلت [له]: يا مولاي، قد عرفتَ فضولي، أفتأذن لي في القول؟ فقال: قل، فقلت: كنتَ على أكمل مَسَرَّة، فتركتَ ذلك، وشغلتَ الزَّمان بخطابِ رجلٍ من السُّوقة، قد كان يكفيه أن يؤدبه بعض الرَّجَّالة، ثمَّ لم يكْفِكَ ذلك حتّى غيَّرتَ لباسَك، ولبستَ سلاحَك، وناظرتَه بنفسك! فقال: يا حسن، أنت تعلم ما يجرُّه هذا القول إذا تداولتْه الألسنة، ووعتْه الأسماعُ، وحصل في القلوب، فربَّما أخرج العوامّ ذلك إلى المخالفة، وخلعِ الطَّاعة، وإثارة الفتنة، وإفساد النظام، وليس شيءٌ أبلغ في قطع هذه الأسباب وحسم موادها من إزالة دواعيها، وقد طارت روحُ هذا ¬

_ (¬1) في (خ) وقال الحسن بن إسماعيل بن إسحاق، والمثبت من (ف) و (م 1)، والخبر في نشوار المحاضرة 1/ 328 - 326، وعنه المنتظم 12/ 315.

القطَّان من الخوف، وسيحدِّث بما جرى العامَّةَ، ويزيد فيه، ويسمع الناسَ ما تقدَّمنا به إلى المحتسب، وما نحن عليه من النَّظر في أمور الرعيَّة، فتكفُّ العامَّة ألسنتَها عنَّا، وتقوم الهيبة في نفوسها، ويكون ما تكلَّفتُ من هذا القليل قد كفاني مُؤنة التَّعب في الكثير، [قال: ] فدعونا له. [حديث المعتضد مع الملَّاح: حكى القاضي المحسّن عن أبيه، عن الحسن بن محمَّد الصّلحي قال: حدَّثني أحد خُدَّام المعتضد قال: ] كان المعتضد (¬1) يومًا نائمًا نصف النَّهار فصاح: يا غلمان، انزلوا الشَّطَّ، فأوَّل ملَّاح ترونه مُنحَدِرًا فأتوني به، فنزلوا، وإذا بملَّاح مُنْحَدر إلى واسط وسفينتُه فارغة، فأحضروه بين يديه، فقال له: حدِّثني حديث المرأة، فتلكَّأ عليه، فقال له: اصدق، فقد عرفتُ حالها، فقال: يا أمير المؤمنين، نزلتْ معي اليوم وقتَ السَّحَر امرأةٌ جميلة، وعليها ثياب لها قيمة وحليّ، فطمِعْتُ فيها، فغرَّقْتُها وأخذتُ ما كان عليها، وقلتُ أذهب إلى واسط فأعيش فيه، فقال: أحضِر الثّيابَ والحلي، فأحضره، ثمَّ نادى في بغداد على المرأة، فجاء أهلُها، فأعطاهم الثّياب والحليّ، وغرق الملَّاح ونادى: لا ينزل أحدٌ مع ملَّاح حتى يطلع النَّهار، فقال له بعض الخدم: يا مولاي، أُوحي إليك؟ قال: لا, ولكن رأيتُ في منامي الساعة شيخًا أبيض الرأس واللحية يقول: يا أحمد، أوّل ملَّاح ينحدر السَّاعة اقبض عليه، وقرِّرْه على المرأة التي قتلها، وأقِمْ عليه الحدَّ، فكان ما رأيتم. [حديث الخيّاط: ] حكى القاضي المحسِّن أنَّ بعض التُجَّار كان له على بعض القُوَّاد دَين، فمطله مدَّة ولم يعطه شيئًا، فقال له بعض معارفه: فأين أنت من فلان الخيَّاط؟ فقال: وما يصنع الخيَّاط بالقائد؟ ! فقال: بلى، قم بنا إليه. فجاء به إلى الخيَّاط، وكان في مسجد يَخيط الثياب ويُقرئ القرآن، فقصَّ عليه القصَّة، فنهض معه إلى القائد، فأكرمه واحترمه وقام إليه، فقال: هل من حاجة؟ قال: ¬

_ (¬1) في (خ): وقال بعض خدم المعتضد: كان المعتضد، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في المنتظم 12/ 311 - 313 عن المحسن.

نعم، هذا الشيخ تُعطيه ماله، فقال: إي والله، معي بعضُه ويصبر بالبعض، فأخذ ما كان معه وخرجوا، فقال التاجر للخياط: قد تفضَّلتَ [عليّ] وأنعمتَ، فأخبرْني ما سببُ انقياد هذا الظالم لك؟ فقال: أنا منذ أربعين سنة أُقرئ القرآن في هذا المسجد وأخيط، وليس بيني وبين أحد أمر، صلَّيت المغرب ليلةً، وخرجتُ أريد بيتي، وإذا بتركي قد تشبَّث بامرأة طويلة جميلة وهو سكران، وهو يسحبها إلى داره، وهي تبكي وتقول: قد حلف زوجي بالطلاق أنَّني لا أبيت إلا في داري، وإنَّما خرجت إلى الحمام. [قال: ] فتقدَّمتُ إليه وسألتُه فيها، فضربني بدَبّوس فشجَّ رأسي، وأدخلها إلى داره قهرًا، فأتيتُ المسجد، فصليتُ العشاء الآخرة، وقلت لأصحابي: قوموا بنا نخلِّصِ المرأة، فأتينا باب داره، فخرج هو وغلمانه فضربونا ضربًا شديدًا كدتُ أموت، وحملوني إلى بيتي فلم أقدر على النّوم، وفكَّرت في أمر المرأة وطلاقِها، فصعدتُ إلى المنارة التي في المسجد وقلت: أؤذن فالتركي ما يعرف الوقت -وكانت داره قريبة من المسجد- فلعلَّه أن يخرجها قبل الفجر، فأذَّنتُ نصف الليل ونزلتُ، فجلستُ على الطريق أنتظر خروج المرأة، وإذا بالشارع قد امتلأ خيلًا ورَجِلًا ومشاعل، فقالوا: من أذَّن الساعةَ؟ فقلت: أنا، فحملوني وأدخلوني على المعتضد، وهو جالس والشمع على أنصافه (¬1)، فقال: أنت أذَّنت الساعة؟ قلت: نعم، فقال: ما حملك على أن تَغُرّ النَّاس [بأذانك] في هذا الوقت؟ فقصصتُ عليه القصَّة، وأريتُه الآثارَ التي في وجهي ورأسي وبدني، فقال: يا بدر، الساعة تحضر المرأة والتركي فحضرا، فسألها [المعتضد] عن حالها، فذكرت له مثل ما ذكرتُ له، فقال لبعض الخدم: امض معها إلى زوجها، وقيل له يحسن إليها ولا يفارقها، ثمَّ قال للتركي: كم عطاؤك في كلِّ شهر؟ فقال: كذا وكذا، فقال: أما كان لك ما يُغنيك عن هتك محارم الله حتَّى وثبتَ على هذا الشيخ الصَّالح، وفعلتَ به هذا الفعل حيث أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر؟ ثم قال: جَوالِق (¬2) ومَداقّ الجَصّ. فقيد التركيَّ وجعله في الجوالق، وأمر الفرَّاشين فدقُّوه حتَّى فتَّتوا عظامه، ثمَّ رمى به في دجلة، وقال: يا شيخ، متى ما رأيت مُنكرًا قل أو أكثر فالعلامة بيننا الأذان في مثل ذلك [الوقت]. ¬

_ (¬1) في (ف): أصنافه. (¬2) وعاء كبير، أو هو العِدْل من صوف أو من شعر، وعند العامة (شوال)، معرب.

وشاع الخبر في الجند وغيرهم، فما سألتُ أحدًا منهم إنصافًا أو كفًّا عن القبيح إلا وأطاعني (¬1). حديث الخادم: ذكر الحافظ ابن عساكر عن القاضي أبي عمر محمَّد بن يوسف قال: قدم خادم (¬2) من وجوه خدم المعتضد إلى أبي في حكومة، فارتفع في المجلسِ على خصمه، فأمره الحاجب بموازاة خَصمه فلم يفعل؛ إدْلالًا بمحلِّه من الدَّولة، فصاح عليه أبي وقال: قِفاه، يا غلام، اذهب بهذا العبد إلى النَّخَّاس، فبعه واحمل ثمنه إلى أمير المؤمنين، فأخذ الحاجب بيده وسوَّاه مع خصمه وحكم عليه، فجاء إلى الخليفة وبكى بين يديه، وقال: فعل بي وفعل، فصاح عليه المعتضد وقال: والله لو باعك لأَجَزْتُ بيعَه، ولما رَجَعتَ إلى ملكي أبدًا، وليست خصوصيتك بي مما يزيل مرتبة الحكم، فإنَّه عمود السلطان وقوام الأديان (¬3). وقال عبيد الله الوزير: كنت ليلة عند المعتضد وغلام بيده المَذَبَّة يروح عليه، فنَعِس الغلام، فأصاب بالمذبَّةِ قَلَنْسُوةَ المعتضد، فوقعت من رأسه، فقال له: اذهب واسترح. وغُصْتُ والله في الأرض خوفًا من هيبته فقلت: والله يا أمير المؤمنين، ما سمعتُ بمثل هذا الحِلْم، فقال: وهل يجوز غير هذا؟ إنَّ هذا البائس لو دار في خَلَده ما جرى لذهب عقلُه، وتَلِفَت نَفْسُه، وقد طال تَعبُه ونُعاسه، وإنَّما يلحق الإنكارُ المتعمِّدَ لا الخاطئ ولا الساهي، ثمَّ زاد في عدد غلمانه برسم المذبّة. [حديث المعتضد مع المجوسي: ] قال محمَّد بن عبد الملك: أراد المعتضد تجهيز جيش، فعجز عليه بيتُ مال العامَّة، فأُخبر بمجوسيٍّ له مال عظيم، فاستدعاه وقال: تقرضني كذا وكذا من المال وأُعيده إليك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أنا ومالي بين يديك، فقال: كيف وثقْتَ بنا أننا نردُّ ¬

_ (¬1) نشوار المحاضرة 1/ 315، والمنتظم 12/ 317. (¬2) في (خ): وقال القاضي أبو عمرو محمَّد بن يوسف قدم خادم، والمثبت من (ف) و (م 1)، والخبر في مختصر تاريخ دمشق 3/ 115، ونشوار المحاضرة 1/ 245. (¬3) في النسخ: الأبدان. والمثبت من المصادر.

إليك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله قد ائتَمَنَك على عباده وبلاده، تؤدِّي الأمانة، وتُفيض العَدْل، وتحكم بالحق، أفلا أأتمنك أنا على جزء من مالي؟ فدمعت عيناه وقال: انصرف فقد وفَّر الله عليك مالك وأغنانا عن القرض منك، ومتى كانت لك حاجة فحِجابُنا مرفوع عنك [ولم يقترض منه شيئًا]. وقال محمَّد بن حَمْدون: خرج (¬1) المعتضد يومًا فعسكر بباب الشماسية، ونهى أن يأخذ أحدٌ من بستان أحدٍ شيئًا، فأتي بأسود قد أخذ عَذْقًا من البُسْر، فأمر بضرب عُنقه، ثمَّ التفت إلى أصحابه وقال: تقول العامَّة: ما في الدنيا أقسى قلبًا من الخليفة، ولا أقلَّ دينًا منه، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا قَطْع في كَثَرٍ ولا ثَمَر (¬2) " وما رضي بقطعه حتَّى قتله، والله ما قتلتُه بهذا السبب، ولكن لي مع هذا الأسود قصَّة عجيبة. استأمن هذا الأسود إلى أبي من عسكر الزَّنج، فخلع عليه أبي ووصله، وقصد أن يستميل به الزَّنج، فرأيتُه يومًا وقد نازع رجلًا في شيء، فضربه بفاس فقتله، فأهدر أبي دمَ المقتول، وأطلق الأسود ليتألَّف به الزَّنج، فاغتظتُ، وقلت: ترى أتمكّن من هذا الأسود وأنفذ حكم الله فيه، وطلبتُه فلم أقدر عليه، ووالله ما وقعت عيني عليه إلا في هذه الساعة، فقتلته بذلك الرجل (¬3). ذكر ما عُزي إليه من الأشعار: ومنها: [مجزوء الرمل] غَلَب الشَّوقُ رُقادي ... مثل غلْبي للأعادي ها هنا جسمي مُقيمٌ ... وببغدادَ فؤادي أملكُ الأرض ولكن ... تملكُ الخَودُ قيادي هكذا كلُّ مُحِبٍّ ... باع نومًا بسُهاد (¬4) ¬

_ (¬1) في (ف م 1): حديث المعتضد مع أسود آخر حكى محمَّد بن حمدون قال خرج، والمثبت من (خ). (¬2) أخرجه أحمد (15804)، وأبو داود (4388)، والترمذي (1449)، والنسائي 8/ 87 - 88، وفي الكبرى (7407)، وابن ماجه (2593) من حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه -. (¬3) من هنا إلى وفاة المعتضد ليس في (ف) و (م 1)، والأخبار الثلاثة في المنتظم 12/ 324 - 32. (¬4) ذكر هذه الأبيات ابن العديم في بغية الطلب 2/ 820.

وقال في جارية تُوفّيت له: [من السريع] لم أبكِ للدَّار ولكنْ لمن ... [قد] كان فيها مرَّةً ساكنا فخانني الدَّهرُ بفقدانِهِ ... وكنتُ من قبلُ له آمنا ودَّعتُ صَبري عند توديعه ... وبات قلبي معه ظاعِنا فقال له عبيد الله الوزير: يا أمير المؤمنين، مثلُك تهون عليه المصائب؛ لأنَّك تجد لمن كان فقيدًا خَلَفًا، وتقدر على ما تريد، والعوض منك غير موجود، وقد قال الشاعر: [من البسيط] يُبكى علينا ولا نبكي على أحدٍ ... إنَّا لَأغلظُ أكبادًا من الإبلِ قال أبو عُبيد: الإبل لا توصف بغِلَظ الأكباد، وقد غلط النَّاس في هذا، بل توصف بالرِّقة والحنين. قال المصنف رحمه الله: هب أنَّ الفاقد وَجَد، فأين قول القائل حيث قال: [من البسيط] لي حُسْنُ عَهْدٍ فلو أنِّي رُدِدْت إلى ... شبيبتي لبكيتُ الشَّيب ألوانا وقال ابن المعتزّ يرثي هذه الجارية: [من الخفيف] يا إمامَ الهدى بنا لا بك ... الغمُّ وأفنيتَنا وعِشْتَ سَليما أنتَ علَّمتَنا على النِّعم الشُّكرَ ... وعند المصائب التَّسليما فاسلُ عمَّا مضى فإنَّ التي كا ... نت سرورًا صارت ثوابًا عظيمًا قد رَضينا بأنْ نموتَ وتحيا ... إنَّ عندي في ذاك حَظًّا جَسيما مَنْ يَمُت طائعًا لديكَ فقد أُعْطي ... فوزًا ومات موتًا كريما وللمعتضد فيها: [من مجزوء الرمل] يا حَبيبًا لم يكن ... يَعْدِلُه عندي حَبيبُ أنتَ من عيني بعيدٌ ... ومن القلب قريبُ ليس لي بعدَكَ في ... شيءٍ من الدُّنيا نَصيبُ لكَ من قلبي على قُلْبي ... وإن بِنْتَ رقيبُ لو تراني كيف لي ... بعدَك عَوْلٌ ونَحيبُ

وفؤادي حَشْوه جَمْرٌ ... يُذكِّيه لَهيبُ ما أرى نفسي وإنْ ... طيَّبْتُها عنك تطيبُ ليَ دمعٌ ليس يعْصيـ ... ـني وصَبرٌ ما يُجيبُ (¬1) وقال لمَّا كان على آمد: [من المتقارب] مُقيمٌ بآمِدَ ذي غُربةٍ ... قليلُ الرُّقاد كثيرُ الألَمْ وكيف يَلَذُّ لذيذَ الرُّقادِ ... أخو فِكرةٍ قلبُه مُقْتَسَمْ إذا ما تَنبَّه من رَقْدةٍ ... لما في الحشا من جَوى لم يَنَمْ وقال أَيضًا حيث يقول: [من المنسرح] يَا لاحظي بالفُتورِ والدَّعَجِ ... وقاتلي بالدَّلالِ والغَنَجِ أشكو إليك الذي لَقيتُ من الـ ... ـوجْد فهل لي لديكَ من فَرَجِ حَلَلْتَ بالظَّرْف والجمال من النـ ... ـناسِ محلَّ العيون والمُهَجِ وقال لجلسائه: أرِقْتُ الليلة وقد قلت: [من الطَّويل] ولمَّا انتبَهْنا للخيال الذي سَرَى فأجيزوه، فقال ابن العلَّاف الشَّاعر: إذِ الأرض قَفْرٌ والمَزارُ بعيدُ وهو من أبيات أولها: سَرى طَيفُ سُعدى طارِقًا فاستَفَزَّني ... سُحَيرًا وصَحْبي بالفلاة رُقودُ فلمَّا انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذِ الأرضُ قَفْرٌ والمزارُ بعيدُ فقلت لعيني عاودي النَّومَ واهجعي ... لعلَّ خيالًا طارِقَّا سَيعودُ (¬2) ذكر وفاته: كان المعتضد (¬3) قد أمر بإخراج النَّاس من دورهم وحوانيتهم بباب الشمَّاسيَّة، وأنْ يأخذ النَّاسُ أنقاضَهم، وعزم أن يبني هناك قصرًا ودورًا لأصحابه، فدعا النَّاسُ عليه، ¬

_ (¬1) المنتظم 12/ 325 - 327. (¬2) المنتظم 13/ 300. (¬3) في (ف) و (م 1): ذكر وفاة المعتضد، قال الخَطيب: كان المعتضد، والمثبت من (خ).

واتَّفق مرضه فاشتغل عن ذلك. وسبب وفاته غلبة اليَبس (¬1) من كثرة الجماع، فكان الأطبَّاء يأمرونه بما يرطِّب مَعِدته، فكان يُريهم أنَّه يحتمي، فإذا خرجوا من عنده أحضر الزيتون والخبر والصِّحناة والسمك فأكل، فلم يزل كذلك حتَّى سقطت قوَّتُه. وقيل كان (¬2) إسماعيل بن بُلبل قد سمَّه خوفًا منه، فما زال السُّمُّ يجري في بدنه، واتّفق عصيان وصيف الخادم بطَرَسُوس، فخرج من بغداد في شدَّة القبض لا يَلوي على شيء حتَّى نزل طرسوس، وعاد وقد نَحِل جسمه. وقيل: سمَّته جارية في منديل أعطته إياه ليتمسَّح به. وقال المسعوديُّ: شكُّوا في موته، فتقدَّم إليه بعض الأطباء فجسَّ نَبْضَه، فرفَسَه برجله فألقاه أذْرُعًا، فمات الطبيب، ومات المعتضد من ساعته (¬3). وكانت وفاته بقصره الحسني (¬4) ليلة الأحد لسبع بقين من ربيع الآخر [سنة تسع وثمانين ومئتين] على خمس ساعات من الليل، وقيل: لثمانٍ بقين منه. وأوصى أن يُدفن في دار محمَّد بن طاهر، وهو الحريم الطَّاهري اليوم في الجانب الغربي من بغداد، فدُفن بدارٍ [تعرف بدار] الرُّخام، وقبره بها اليوم، وغسَّله أَحْمد بن شَيبة. وأوصى أن يحضر جنازته الأكابر، فحضر الوزير القاسم، والقضاة أبو خازم، ويوسف بن يعقوب وهو الذي صلّى عليه، وحمل من قصره الحسنيّ ليلًا إلى دار ابن طاهر. [وحكى الخَطيب عن] صافي الحُرَمي قال: كفَّنته (¬5) في ثوبين أبيضين قيمتهما ستة عشر قيراطًا. ¬

_ (¬1) في (ف م 1): واختلفوا في سبب وفاته فقال الصولي غلب عليه اليبس. (¬2) في (ف م 1): وقال سعيد بن غالب كان. (¬3) مروج الذهب 8/ 212. (¬4) في (ف) و (م 1): وقال الصولي: كانت وفاته في قصره الحسيني. . (¬5) في (خ): وقال صافي الحرمي: كفنته ... ، والمثبت وما بين معكوفين من (ف) و (م 1)، وكلام الخَطيب في تاريخه 6/ 83.

وقال وصيف خادمُه: سمعتُه يقول عند موته: [من الطَّويل] تمتَّع من الدُّنيا فإنَّك لا تبقى ... وخُذْ صَفْوها ما إنْ صَفَتْ ودَعِ الرَّنْقَا ولا تأمَنَنَّ الدَّهرَ إنِّي أمِنتُه ... فلم يُبْقِ لي حالًا ولم يَرع لي حَقّا قتلتُ صَناديدَ الرِّجال فلم أدَعْ ... عَدوًّا ولم أُمهِلْ على ظِنَّةٍ خَلْقا وأخليتُ دور المُلْك من كلِّ بازِلٍ ... وشَتَّتهم غربًا ومزَّقْتُهم شَرْقًا فلما بلغتُ النَّجمَ عِزًّا ورِفعةً ... ودانت رقابُ الخلقِ أجمع لي رِقَّا رماني الرَّدى سَهْمًا فأخْمَد جَمْرتي ... فها أنا ذا في حُفرتي عاجلًا مُلْقى فأفسَدْتُ دُنياي وديني سَفاهةً ... فمَنْ ذا الذي منِّي بمَصْرَعِه أَشْقى فيا ليت شِعري بعد موتيَ ما أرى ... إلى نعمةٍ لله أم ناره ألقى وكانت سنه يوم مات سبعًا وأربعين سنة، وقيل: خمسًا أو ستًّا وأربعين سنة وأشهرًا وأيامًا، وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام، وقيل: ويومين، وقيل: وخمسة أيام، وقيل: عشر سنين وتسعة أشهر. ورثاه عبد الله بن المعتز (¬1) فقال: [من البسيط] أستغفر الله هذا كلُّه قَدَرٌ ... رَضيتُ بالله ربًّا واحدًا صَمدا يَا ساكنَ القبر في غَبْراءَ مُظلمةٍ ... بالطَّاهرية نائي الدَّارِ مُنْفَردا أين الجيوشُ التي قد كنتَ تَصْحَبها ... أين الكنوزُ التي أحصيتَها عَددا أين السَّرير الذي قد كنتَ تملؤه ... مَهابةً مَن رأتْه عينُه ارتَعدا أين الأعادي الأُلَى ذلَّلْتَ صَعْبَهمُ ... أين اللُّيوثُ التي صيَّرتَها نَقَدا (¬2) أين الوفودُ على الأبواب عاكفةً ... يَرجون فَضْلَكَ ما يأتي وما اطَّردا أين الجيادُ التي حجَّلْتَها بدمٍ ... وكنَّ يَحمِلْنَ منك الضَّيغَمَ الأسدا ¬

_ (¬1) في (ف م 1): واختلفوا في سنه على أقوال؛ أحدها: سبعة وأربعون سنة، والثاني: خمس أو ست وأربعون سنة وأربعة أشهر وثلاثة عشر يومًا، حكاه الطبري وقال: كانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام، وكانت وفاته في ربيع الآخر من سنة تسع وثمانين ومئتين، وخلافته تسع سنين، وتسعة أشهر، ويومين، وقيل: وخمسة أيام، وقد ذكرنا ما خلف من المال وغيره عند بيعة المكتفي، وقال الصولي: ورثاه عبد الله بن المعتز. اهـ. وليس فيهما الأبيات الآتية، ولم نقف على كلام الطبري في تاريخه. (¬2) النَّقَدُ: صغار الغنم. اللسان (نقد).

بدر المعتضدي

أين الرماح التي غذَّيتَها مُهَجًا ... مذ مِتَّ ما وَرَدَتْ قلبًا ولا كبدا ثمَّ انقضيتَ فلا عَينٌ ولا أَثَرٌ ... حتَّى كأنَّك يومًا لم تكنْ أبدًا (¬1) ذكر أولاده: كان له من الولد علي المكتفي، وجعفر المقتدر، ومحمَّد القاهر، وهارون، واحد عشر بنتًا، وقيل: سبع عشرة بنتًا (¬2). ذكر وزرائه وقضاته: وَزَرَ له: إسماعيل بن بلبل، ثمَّ عبيد الله بن سليمان، ثمَّ ابنه القاسم بن عبيد الله، وقضاته: إسماعيل بن إسحاق بن حمَّاد بن زيد، وابن أبي الشَّوارب، ويوسف بن يعقوب. وحكى عن المعتضد قال (¬3): رُفع إليه أنَّ أقوامًا يجتمعون ويُرجِفون ويخوضون في الفضول، ويُخاف منهم على الدَّولة، فرمى بالرُّقْعَة إلى عبيد الله الوزير وقال: ما ترى؟ قال: الرأي صَلْبُ بعضهم، وإحراقُ البعض، والمُثْلة ببعضهم، لتتَّعظ العامَّة بهم، فقال له المعتضد: والله لقد برَّدتَ لَهيب غضبي بقسوتك، وعطَّفتَني عليهم بعد السّخط، وما كنت أعلم أنَّك تستجيز مثل هذا في دينك، أما علمتَ أنَّ الرعية وديعةُ الله عند سلطانها، وأنَّ الله سائله عنها، وأنَّ أحدًا من الرعية لا يقول قولًا إلَّا لظُلْم لَحِقه، أو لداهيةٍ نالته أو نالت صاحبًا له؟ قم سَلْ عن القوم، فمن كان سيّء الحال فصِلْه من بيت المال، ومن كان مظلومًا فأزل ظُلامته، ومن أخرجه البَطَر إلى هذا فخوِّفْه، ففعل، فصلحت الأحوال. انتهت سيرة المعتضد. بدر المُعْتَضديّ كان يخدم المعتضد والموفَّق، وأبوه من غلمان المتوكِّل، فرفعتْه السعادة. ¬

_ (¬1) ذكر هذه الأبيات الذهبي في تاريخ الإِسلام 6/ 681، وفي السير 13/ 478 - 479، وابن تغري بردي في النجوم الزاهرة 3/ 127 - 128، والسيوطي في تاريخ الخلفاء 375. (¬2) بعدها في (ف م 1): انتهت سيرة المعتضد والحمد لله وحده، السنة التسعون بعد المئتين. (¬3) الحاكي هو ابن الجوزي، والخبر في المنتظم 12/ 325.

قال يحيى بن عليّ النَّديم: كنتُ واقفًا على رأس المعتضد وهو مُقَطِّب، فدخل بدر فأسفَر وجهُه لمّا رآه وضحك، ثمَّ قال لي: يَا يحيى، من القائل: [من البسيط] في وَجهه شافعٌ يمحو إساءتَه ... من القلوب وَجيهٌ حيثما شَفعا فقلت: الحكم بن قنبر المازنيّ، فقال: أنشدْني تمامَه، فأنشدتُه: كأنَّما الشمسُ من أعطافه لَمَعَتْ ... حُسْنًا أو البَدرُ من أزراره طَلَعا مُسْتَقْبَلٌ بالذي يَهوى وإن كَثُرتْ ... منه الذُّنوب ومَعذورٌ بما صَنَعا وَيلي على مَن أطارَ النَّومَ فامتنعا ... وزاد قلبي إلى أوجاعه وَجَعا (¬1) وكان بدر جوادًا مُمَدَّحًا سَخيًّا شجاعًا، وكان يؤثر القاسم بن عبيد الله ويتعصَّب له، فقال له المعتضد: والله لا قتله غيرُه، فكان كما قال. وذلك أنَّ القاسم كان قد همَّ بتغيير الخلافة بعد المعتضد في غير ولده، فناظر بدرًا في ذلك، فامتنع بدر وقال: ما كنتُ بالذي أصرف الأمر عن ولد مولاي الذي هو وليُّ نعمتي، فلمَّا رأى القاسم ذلك وعلم أنَّه لا سبيلَ إلى مخالفة بدر؛ إذ كان المستولي على أمر المعتضد، والمطاعَ في غلمانه وخدمه، اضْطَغَنها على بدر، وحدث على المعتضد الموت وبدرٌ بفارس -وكان زعيمَ الجيوش- فبايع القاسم المكتفي وهو بالرَّقَّة على ما ذكرنا، وقدم المكتفي بغداد، فعمل القاسم في هلاك بدر، فخاف أن يطَّلع المكتفي على ذلك فيكون سببًا لهلاكه. وكان بين المكتفي وبدر تباعُدٌ في أيام المعتضد؛ لأنَّ بدرًا كان حاكمًا على الجيوش والخزائن، فأشار القاسم على المكتفي أن يكتب إلى بدر بأن يقيم مكانَه بفارس، ويبعثَ إليه المال له ولأصحابه، وأن يختار من الولايات ما شاء، ولا يقدمَ إلى الحضرة، وقال للمكتفي: أخاف عليك منه، فكتب إليه مع يانس الموفَّقي بذلك، وبعث معه بعشرة آلاف أَلْف درهم، فلما وصل إلى بدر فكّر، وخاف لبُعده عن المكتفي من حيلةٍ تَنْفُذ من القاسم عليه، فكتب إلى المكتفي يقول: لا بدَّ من المصير إلى الحضرة، وأن أشاهد مولاي، فقال له القاسم: قد جاهَرَك بالمعصية، ولا آمَنُه عليك. ¬

_ (¬1) مروج الذهب 8/ 223، والبيت الأخير عندنا هو الأول فيه.

وكاتب القاسمُ القوَّاد الذين كانوا مع بدر بالمصير إلى باب الخليفة، فأوقفوا بدرًا على الكتب، وقالوا: قم بنا حتَّى نجمعَ بينك وبين الخليفة لتأمنَ على نفسك، فقال: قد كتبتُ كتابًا إليه، وأنا منتظرٌ جوابَه، ففارقوه ووصلوا إلى بغداد. وجاء بدر فنزل واسِطًا، فندب القاسمُ القاضي أَبا خازم وقال له: اذهب إلى بدرٍ برسالةِ أمير المُؤْمنين، وأنَّه آمِنٌ على نفسه وماله، وأعطِه العهودَ والمواثيق، فامتنع أبو خازم -وكان ذا وَرَعٍ ودين- وقال: ما أؤدي عن الخليفة رسالةً لم أسمعْها منه، قال القاسم: أما تَقنعُ بقولي؟ قال: ما يكفيني قولُك في مثل هذا، فتركه، وندب القاضي أَبا عمر محمَّد بن يوسف لذلك، فأجاب فسرعًا، ولم ينظر كما نظر أبو خازم، وانحدر إلى واسط فاجتمع ببدر، وأعطاه العهود، والأيمان المُغَلَّظَة، والأمان عن الخليفة. فنزل بدر في طيَّار، وترك أصحابَه بواسط، وأمرهم أن يلحقوه، فبينما هو يسير إذ تلقاه لؤلؤ غلامُ القاسم -وقيل: بل هو غلامٌ محمَّد بن هارون الذي قتل محمَّد بن زيد بطَبَرِستان- في جماعة من الخَزَر، فنقلوا [القاضي] (¬1) إلى طيَّار آخر، وأصعدوا بدرًا إلى جزيرة، فلمَّا علم أنَّهم قاتلوه قال: دعوني أصلِّي ركعتين وأوصي، فتركوه، فأوصى بعتق مماليكه وجواريه وصدقةِ ما يملك، وذبحوه في الركعة الثَّانية، وذلك في ليلة الجمعة السابعة والعشرين من شهر رمضان (¬2)، وألقَوا جسده في الجزيرة، وقدموا برأسه على المكتفي، فسجد وقال: الآن ذُقتُ لذَّةَ الخلافة، وحُمل رأس بدر إلى الخزانة. وأكثر النَّاسُ ذمَّ القاضي محمَّد بن يوسف وقالوا: هو الذي غرَّ بدرًا وأعطاه أمانًا باطلًا، ومدحوا أَبا خازم، وندم القاضي محمَّد حيث لا ينفعه النَّدم، وقالت النَّاس الأشعار، فمن ذلك: [من الخفيف] قل لقاضي مدينةِ المنصورِ ... بمَ أحللْتَ أخذَ رأسِ الأميرِ بعد إعطائه المواثيقَ والعهـ ... ـد وعَقْدِ الأمان في مَنْشورِ ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. وهو الموافق لما في مروج الذهب 8/ 217، وتاريخ الإِسلام 6/ 665. (¬2) في مروج الذهب 8/ 218، وتاريخ الطبري 10/ 92، والكامل 6/ 518: وذلك في يوم الجمعة قبل الزوال لست خلون من شهر رمضان.

أين أيمانُكَ التي شهد اللهُ ... على أنَّها يمينُ فجورِ أنَّ كفَّيك لا تفارق كفَّيـ ... ـه إلى أن يرى مَليك السَّريرِ يَا قليلَ الحياء يَا أكذبَ ... الأمَّةِ يَا شاهدًا شهادةَ زُورِ ليس هذا فعل القضاة ولا يُحـ ... ـسن أمثاله ولاةُ الجسورِ أيّ أمرٍ ركبتَ في الجمعة الغَرَّاء ... من خير شهر هذي الشُّهورِ قد مضى مَن قتلتَ في رمضان ... صائمًا بعد سجدة التَّعفيرِ يا بني يوسفَ بن يعقوبَ أضحى ... أهلُ بغدادَ منكمُ في غرورِ بدَّد الله شملكمْ وأراني ... ذُلَّكم في أيام هذا الوزيرِ فأعِدَّ الجواب للحاكم العا ... دل من بعدِ مُنكَرٍ ونَكيرِ أنتم كلُّكم فِدًى لأبي خا ... زِمٍ المستقيمِ كلّ الأمورِ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) كذا في النسخ والمصادر، انظر الحاشية السابقة.

السنة التسعون بعد المئتين

السنة التسعون بعد المئتين وفيها (¬1) في المحرَّم قصد يحيى بن زكرويه القِرمطيُّ الرَّقَّة في جمع كثير، فخرج إليه أصحاب السلطان، فقتل منهم جماعة وانهزم الباقون. وبعث طُغْج بن جُفّ إلى القرمطيِّ جيشًا عليهم غلام له يقال له: بشير، فواقعهم القرمطيُّ، وقتل بشيرًا، وهزم الجيش. وفيها خلع المكتفي على أبي الأغَرّ، وبعثه لقتال القرمطيّ في عشرة آلاف. وفيها حصر القرمطيّ دمشق وفيها طغج بن جُفّ، فعجز عن مقاومته. وفيها خرج المكتفي من بغداد يريد سُرَّ من رأى لينتقلَ إليها في جمادى الآخرة، وعزم على ذلك، فصرفه الوزير وقال: نحتاج إلى غرامات كبيرة، فعاد إلى بغداد. وفيها قتل يحيى بن زكرويه على باب دمشق -وسنذكره إن شاء الله تعالى- وأقاموا مقامه أخاه الحسين بن زكرويه، وبلغ المكتفي فوجَّه العساكر لقتال القرمطيِّ، وكان المصريُّون قد كتبوا إلى المكتفي يشكون ما يلاقونه من ابن زكرويه صاحبِ السّلعة، وأنَّه قد سفك الدِّماء، وما لقوا من أخيه قبلَه، فعسكر المكتفي بباب الشمَّاسية، ثمَّ شخص عن بغداد إلى الموصل لتسعٍ خلون من رمضان. وللنصف منه ورد أبو الأغرّ في جيوشه إلى حلب، فنزل قريبًا منها بوادٍ يقال له: بُطْنان، ونزل أصحابه، وكان يومًا شديد الحرّ، فنزع أصحابُه ثيابهم وجعلوا يتبرّدون، فكبسهم صاحب الشامة القرمطيّ، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، وأفلت أبو الأغرّ إلى حلب في نحو من أَلْف رجل، وقيل: تسعة آلاف، وجاء القرمطيّ إلى باب حلب، فحاربه أبو الأغرّ بمن بقي معه من أصحابه وأهل البلد، فانصرفوا بما أخذوا من عسكره من الأموال والسلاح والكراع وغيره. ووصل المكتفي إلى الرَّقَّة، فأقام يُسَرّح الجيوشَ إلى القرمطيّ جيشًا بعد جيش. وفي رمضان وصل القرمطيّ إلى دمشق، فخرج إليه بدر الحماميُّ صاحب ابن ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله: وحج بالنَّاس الفضل ... ليس في (ف) و (م 1).

الحسن بن عليل

طولون، فهُزم القرمطيُّ صاحبُ الشامة، ووُضع في أصحابه السيفُ، ومضى من أفلت منهم نحو البادية، وبعث المكتفي في إثر القرمطيّ الحسينَ بن حمدان وغيره من القوَّاد، وقيل: إنما كانت الوقعة بين القرمطيِّ وبدر الحماميِّ على باب مصر، وإنَّ القرمطيَّ انهزم إلى الشَّام، وتفرَّق عنه أصحابه، وقَتل منهم بدرٌ مقتلةً عظيمة، وسلك القرمطيُّ طريق البريَّة، ونهب البلاد الفراتيَّة: الرَّحبة، وهِيت، والأنبار، وقتل وسبى، وحمَّل الجمال الأموال والنساء، وأحرق هيت، ومضى إلى الأهواز. وحجَّ بالنَّاس الفضل بن عبد الملك (¬1). وفيها تُوفِّي الحسن بن عُليل ابن الحسين بن عليّ، أبو عليّ، العَنَزيُّ، البغداديُّ. صاحبُ أخبار وآداب، توفِّي في المحرَّم بسُرَّ من رأى، حدَّث عن ابن مَعين وغيره. ومن شعره: [من البسيط] كلُّ المحبِّين قد ذمُّوا السُّهاد وقد ... قالوا بأجمعهم طُوبى لمن رَقَدا وقلتُ يَا ربِّ لا أبغي الرُّقادَ ولا ... ألهو بشيءٍ سوى ذِكري له أبَدَا إن نمتُ نام فؤادي عن تذكُّره ... وإن سَهِرتُ شكا قلبي الذي وَجَدا وروى عن الأصمعيِّ أنَّه قال: مجالسةُ الثقيل حُمَّى الروح (¬2). [وفيها تُوفِّي] عبد الله بنُ الإِمام أَحْمد ابن [محمد بن] حنبل، أبو عبد الرَّحمن، الشَّيبانيُّ. ولد سنة ثلاث عشرة ومئتين، ولم يكن في الدُّنيا أحدٌ [روى عن أَبيه رحمه الله أكثر ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 10/ 97 - 99، والمنتظم 13/ 14 - 16، والكامل 7/ 523 - 529، وتاريخ الإِسلام 6/ 665 - 666. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 405، والمنتظم 11/ 241 وذكره في وفيات سنة (236 هـ)، وتاريخ الإِسلام 6/ 737، وهذه الترجمة ليست في (ف م 1).

منه، وسمع منه "المسند" وهو ثلاثون أَلْف حديث، و"التفسير" مئة وعشرون ألفًا، و"النَّاسخ والمنسوخ"، و"التاريخ"، و [المقدَّم] (¬1) والمؤخَّر في كتاب الله تعالى، و"جوابات القرآن"، و"المناسك الكبير والصغير" وغير ذلك. وكان عارفًا بالرِّجال، والأسامي، والكُنى، وعِلل الأحاديث، وكان أبوه يقول: لقد وعى عبد الله علمًا كثيرًا. وكان على منهاج أَبيه في الزُّهد والحفظ وغير ذلك، وقال: كنتُ يومًا (¬2) عند أبي، فجاءه أبو إبراهيم السَّائح، فقال له: حدِّثني بأعجب ما رأيت، قال: خرجتُ في سياحتي فمرضت (¬3) في الطريق، وكنت قريبًا من دَير، فقلت في نفسي: لو كنتُ بقرب الدَّير لعلَّ مَن فيه من الرُّهبان يُداويني، وإذا بسَبُع عظيم قد أقبل، فحملني على ظهره حملًا رفيقًا حتَّى ألقاني على باب الدَّير، والرُّهبان ينظرون إليه، فنزلوا فأسلموا كلّهم، وكانوا أربع مئة واهب. [فصل] ذكر وفاته: مرض (¬4) [عبد الله] فقيل له: أين تحبُّ أن تُدفَن، أتحبُّ أن ندفنك عند أبيك؟ فقال: قد صحَّ عندي أنَّ بالقطيعة نبيًّا مدفونًا، ولأن أكون في جوار نبيٍّ أحبّ إليَّ من أن أكون في جوار أبي. [قلت: والعجب من هذا، ومن أين في أرض العراق نبيٌّ مدفون؟ فقد ترك أمرًا متيقنًا وهو جوار أَبيه لأمر مظنون. وحكى الخَطيب عن إسماعيل بن عليّ الخُطَبي قال: ] مات [عبد الله] يوم الأحد، ودُفن آخر النهار في القطيعة في مقابر باب التِّبن لتسع (¬5) ليال بقين من جمادى الآخرة [من هذه السنة] وصلَّى عليه زهير ابن أخيه (¬6) صالح، وكان جمعًا عظيمًا. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من تاريخ بغداد 11/ 13، والمنتظم 13/ 17، والمقصد الأرشد 2/ 6. (¬2) في (ف) و (م 1): وقد روى عن أَبيه العجائب، فمن ذلك قال: كنت يومًا، والمثبت من (خ). (¬3) في (خ): فمررت، والمثبت من (ف) و (م 1). (¬4) في (ف) و (م 1): وحكى الخَطيب عن أبي الحسن بن المنادي قال مرض، ... ولم نقف على هذا القول في تاريخ بغداد، وذكره ابن الجوزي في المنتظم 13/ 17. (¬5) في النسخ: لسبع. والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 14 وما بين معكوفات من (ف م 1). (¬6) في (خ): أبي، وليست في (ف م 1)، والمثبت من المنتظم وتاريخ بغداد.

عبد الله بن أحمد

سمع عبد الله خلقًا كثيرًا: أباه، وابنَ مَعين، وابنَ المَدينيّ وغيرَهم، وروى عنه أبو القاسم البغويُّ، ويحيى بن صاعد، والقاضي المَحامليُّ وغيرُهم. واتَّفقوا على دينه، وصدقه، وزهده، وورعه، وأمانته، وقال الدَّارقطني: كان فوق الثِّقة. فصل: وفي الرواة جماعة اسم كل واحد منهم عبد الله بن أَحْمد، منهم: عبد الله بن أَحْمد ابن الحسين بن رجاء، أبو القاسم، الخِرَقيُّ، البغداديُّ. [حدَّث عن إبراهيم الحَرْبيِّ وغيره، وروى عنه عليُّ بن أَحْمد الرزّاز شيخ الخَطيب] بإسناده إلى عبد الرَّحمن بن أبزى قال: بينا نحن في جنازة، وعليُّ بن أبي طالب يمشي خلفها، وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - وعن الجميع يمشيان أمامها، إذ أخذ على بيدي وقال: إنَّهما ليعلمان أنَّ فضل مَن يمشي خلفَها على مَن يمشي أمامها كفضل صلاة الرَّجل في جماعة على صلاته وحده، ولكنَّهما يسهِّلان على النَّاس (¬1). قلت: وبهذا الأثر أخذ أبو حنيفة، والشافعي وأَحمد أخذا بفعل أبي بكر وعمر؛ لأنَّ الترجيح مع أبي حنيفة لوجهين: أحدهما اعتذار علي عنهما، والثاني: لأنَّه أبلغ في ذلك. قلت: وبلغني عن] بعض المشايخ [أنَّه] قال: إن كانت الجنازةُ (¬2) رجلًا فالمشي خلفها أفضل، وإن كانت امرأة فالمشيُ أمامها أولى، وهذا حسن؛ لأنَّ مَبنى حال النِّساء على السّتر. مات الخِرقيُّ سنة إحدى وخمسين وثلاث مئة. عبد الله بن أَحْمد ابن أَفْلَح بن عبد الله بن محمَّد [بن عبد الله] بن عبد الرَّحمن بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، أبو محمَّد، القاضي، البكريُّ. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 33. (¬2) في (خ): وقال بعض المشايخ إن كانت الجنازة، والمثبت وما بين معكوفين من (ف) و (م 1).

عبد الله بن أحمد

[حدَّث عن هلال بن العلاء الرَّقي وغيره، وقد] أخرج له الخَطيب حديثًا [فقال: حدَّثنا الحسن بن أبي طالب بإسناده عن قتادة، عن] أنس (¬1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من يوم جمعة ولا ليلة جمعة إلَّا ويطَّلع الله تعالى إلى دار الدّنيا وهو متَّزر بالبَهاء، لباسُه الجَلال، متَّشِحٌ بالكبرياء، مُرْتدٍ بالعظمة، فيُعتق مئتي أَلْف عتيق من النَّار من الموحّدين؛ ممَّن قد استوجب من الله ذلك، ثمَّ ينادي: عبادي، هل أجْودُ منّي جودًا؟ عبادي، هل أكْرمُ منِّي كرمًا؟ عبادي، هل من سائل فأعطيَه؟ هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفرَ له؟ عبادي، ما خلقتُ الجنَّة لأُخليها, ولا نَشَرْتُها لأطويها، وإنَّما خلقتُها لكم وخلقتكم لها، عبادي، فعلَام تعصوني؟ أعلى الحسن من بلائي، أم على الجميل من نعمائي، أليس قد نشرتُ عليكم الرحمة نَشْرًا، وألبستُكم من عافيتي كَنَفًا وسترًا، وأضعفتُ لكم الحسنات مرارًا، وأقَلْتُكم العَثَرات كبارًا وصغارًا، وخلقتُكم أطوارًا؟ فما لكم لا ترجون لله وقارًا؟ عبادي، سبحاني احتجبتُ عن خلقي فلا عينٌ تراني" (¬2). عبد الله بن أَحْمد أبو محمَّد، المَرْوَزيُّ [من أهل الدَّندانَقان؛ قرية من قرى مَرْو]. مات سنة سبعين وثلاث مئة، أخرج له الخَطيب حديثًا عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِصاحب القرآن دعوةٌ مُستجابة عند كلِّ خَتمة، وشجرةٌ في الجنَّة؛ لو أنَّ غرابًا طار من أصلها لم يَنْتَهِ إلى قعرها (¬3) حتَّى يُدرِكَه الهَرَم". [عبد الله بن أَحْمد ابن ماهبزد، ويعرف بالظَّريف. سكن بغداد، وحدَّث عن أبي القاسم البغوي وغيره، وكان يقول: صمتُ تسعين رمضانًا. ومولده سنة ثلاث وثمانين ومئة، ومات سنة تسعين ومئتين.] (¬4) ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م 1)، وجاء بدله في (خ): القاضي البكري أخرج له الخَطيب حديثًا رفعه إلى أنس. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 25 وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات 2/ 404 - 405 من طريق الخَطيب، ثم قال: هذا حديث موضوع. (¬3) في تاريخ بغداد 11/ 34: فرعها، وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/ 115: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) الذي في تاريخ بغداد 11/ 36 - 37، والمنتظم 14/ 304 أنَّ مولده سنة ثلاث أو أربع أو ست وسبعين ومئتين. وأورده ابن الجوزي في وفيات سنة (374 هـ). وهذه الترجمة ليست في (خ).

محمد بن عبد الله

محمَّد بن عبد الله أبو بكر، الزَّقَّاق. من مشايخ بغداد، [ذكره أبو نُعيم والسُّلَمي والخطيب، وهو صاحب الحكاية المشهورة: قال الخَطيب بإسناده عن] الجنيد قال: رأيت إبليس في منامي وكأنَّه عُريان، فقلت: أما تستحي من النَّاس؟ قال: وأين النَّاس؟ كان هؤلاء من النَّاس، قلت: ولمَ؟ قال: لو كانوا من النَّاس ما تلاعَبْتُ بهم كما يتلاعب الصِّبيان بالكرة، قلت: فمَنِ النَّاس؟ قال: قوم في مسجد الشُّونيزيَّة، قد أنحلوا جسمي، وأضنَوا قلبي، كلَّما هَمَمْتُ بهم أشاروا إليَّ (¬1) فأكاد أحترق. قال الجنيد: فانتبهتُ، وأتيت مسجد الشونيزيَّة [وعليَّ ليل] , فدخلت من الباب وإذا بثلاثةِ رؤوسهم في مُرَقَّعاتهم، فلما أحسُّوا بي أخرج واحدٌ منهم رأسَه من مُرَقَّعته وقال: يَا أَبا القاسم، أَنْتَ كلّ من قال لك شيئًا تقبل منه؟ ! قال: والثلاثة أبو بكر الزَّقَّاق، وأبو حمزة، وأبو الحسين النُّوري. وحكى الخَطيب عن الزقَّاق أنَّه قال: لي سبعون سنة (¬2) أرُبُّ هذا الفقر، من لم يصحبه في فقره الورع أَكَل الحرام النَّضَّ (¬3). قال المصنِّف رحمه الله: وذكر ابن خميس في "المناقب" رجلًا آخر يقال له: الزقَّاق اسمه: أَحْمد بن نَصْر شيخ مصر، [وقال: الزقاق] الكبير، [وحكى عنه في "المناقب" الكلامَ المَليح]، وكان عظيمًا. [وحكى ابن خميس عن] الكتَّانيِّ قال: لمَّا مات الزقَّاق انقطعت حُجَّة الفقراء في دخولهم إلى مصر (¬4). ¬

_ (¬1) في (ف): كما هممت بهم قالوا الله أشار إلي، وفي تاريخ بغداد 3/ 462، والمنتظم 13/ 20: كما هممت بهم أشاروا إلى الله تعالى. (¬2) في (خ): وقال الزقاق: لي سبعون سنة، والمثبت من (ف م 1). (¬3) النَّضّ: الظاهر. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 377.

وقال الزَّقَّاق: جاورتُ بمكة عشر سنين، فاشتهيتُ اللَّبَن، فغلبتْني نفسي، فخرجتُ إلى عُسْفان، فاستضَفْتُ حيًّا من العرب، فنظرتُ إلى جارية بعيني اليمين، فأخذَتْ بقلبي، فقلتُ لها: قد أخذ كلُّك كلِّي فما فيَّ لغيركِ مَطْمَع، فقالت: تقبح بك الدَّعاوى العالية، لو كنتَ صادقًا لذهبتْ عنك شهوة اللبن، فقلعتُ عيني اليمين، فقالت: مثلك من نظر لله تعالى. قال: ورجعتُ إلى مكة فطفتُ أسبوعًا، ثمَّ نمت، فرأيتُ يوسف الصّديق - عليه السلام - فقلت: يَا نبي الله، أقرَّ الله عينَك بسلامتك من زَليخا، فقال: وأنت أقرَّ الله عينك بسلامتك من العُسْفانيَّة، ثمَّ أمرَّ يدَه على عيني، فانتبهتُ وقد عادت أحسنَ ما كانت (¬1). [وحكى عنه في "المناقب"] قال: تهتُ في تيه بني إسرائيل خمسة عشر يومًا، فلما وقفتُ على الطريق استقبلني جنديٌّ، فسقاني شَربةً من ماء، فعادت قساوتُها على قلبي ثلاثين سنة (¬2). وقال: نهاية الإرادة أن تشير إلى الله فتجدَه مع الإشارة، فقيل له: فأيّ شيءٍ يستوعب الإرادة؟ فقال: أن تجد الله بلا إشارة. وقال: لا يكون المزيد مريدًا حتَّى لا يكتبَ عليه كاتبُ الشمال خطيئة عشرين سنة. وقال: كنتُ في التِّيه فخطر ببالي أنَّ علم الحقيقة مباينٌ لعلم الشريعة، فهتف بي هاتف: كلُّ حقيقة لا توافق الشريعةَ فهي باطلة. وقال: لا يصلح هذا الأمر إلَّا لأقوام كنَسوا المزابلَ بأرواحهم. ودخل عليه يومًا أبو علي الرُّوْذَباري وهو في حال عجيبة، فقال له الشيخ: ما لكَ؟ فقال: اجتزت ببعض الخَوخات وإذا بمنشد يقول: [من الطَّويل] أبَتْ غَلَباتُ الشوقِ إلَّا تشوُّقا ... إليك ويأبى العَذْلُ إلَّا تجنُّبا وما كان صدِّي عنك صَدَّ مَلامةٍ ... ولا ذلك الإغضاءُ إلَّا تَهَيُّبا عليَّ رقيبٌ منك حلَّ بمُهْجَتي ... إذا رُمْتُ تسهيلًا عليَّ تَصَعَّبا ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 10/ 344، ومناقب الأبرار 1/ 377، وما بعده فيه. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 380.

يحيى بن زكرويه بن مهرويه

قال أبو علي: فما هو إلَّا أن أنشدني الزَّقاق الأبياتَ حتَّى صرتُ مَغلوبًا لا أدري ما لحقني، ثمَّ أفقتُ، فقال لي: يَا أَبا عليّ، مَن وقع في بَليَّةٍ لم يَخْلُ من البلاءِ حاضروه. وقال الرقِّيُّ: كنَّا عند الزقَّاق بالغداة فقال: إلى كم تبقيني ها هنا؟ فما جاء الظهر حتَّى مات، ولم يذكر في "المناقب" تاريخ وفاته. يحيى بن زكرويه بن مهرويه أبو القاسم، القِرمطيُّ، ويعرف بالشيخ المُبَرْقَع. وكان يسمِّي نفسه عليَّ بن أَحْمد بن محمَّد بن عبد الله، من ولد جعفر بن محمَّد الصَّادق، وكذب فيما يزعم، بل هو يحيى بن زكرويه، وكان من دُعاة القَرامطة. عاث في الشَّام وبنواحي الرَّقَّة، ثمَّ جاء إلى دمشق، فخرج إليه طُغْج بن جُفٍّ أميرُ دمشق في جيش، فكسره القرمطيُّ، فبعث المصريُّون جيشًا مع بدر الحمَّامي، فلقيه القرمطيُّ على قرية بحوران يقال لها: كُنَيْكر، في سنة تسعين ومئتين، فاقتتلوا قتالًا عظيمًا، فقُتل القرمطيُّ، وقام أخوه موضعَه. وكان سبب قتله أنَّ بعض البرابرة زَرَقه بمِزْراق (¬1)، واتَّبعه نفَّاطٌ فأحرقه بالنَّار، وذلك في كَبِد الحرب وشدَّتها, ولمَّا قُتل نصَّب أصحابُه أخاه الحسين بن زكرويه ويسمَّى بصاحب الشَّامة، وزعم أنَّه أَحْمد بن عبد الله بن محمَّد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق، وهو ابن نَيّفٍ وعشرين سنة، وأظهر شامةً في وجهه وزعم أنَّها آيتُه، وجاءه ابن عمِّه عيسى بن مِهرويه، وزعم أنَّه عبد الله بن أَحْمد ابن محمَّد، (¬2) بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق، فلقَّبه المدَّثِّر، وعَهِد إليه، وذكر أنَّه المعنيُّ في السورة، ولقّب غلامًا له: المطوَّق بالنُّور، وقلَّده قتل أسرى المسلمين، وظهر على المصريِّين، وعلى دمشق وحمص والشَّام، وتسمَّى بأمير المُؤْمنين والمهدي، ودُعي له على المنابر، وسنذكره في ترجمته عند مقتله. وليحيى بن زكرويه صاحبِ هذه الترجمة شعرٌ منه: [من الوافر] ¬

_ (¬1) زرقه بمزراق، أي: رماه بها، والمزراق: رمح قصير. اللسان: (زرق). (¬2) هذه الزيادة من تاريخ الطبري 10/ 96، وترجمة يحيى ليست في (ت م 1).

ألا لله ما فعلتْ برأسي ... صُروفُ الدَّهر والحِقَبُ الخوالي تَركْنَ بلِمَّتي سَطْرًا سَوادًا ... وسَطرًا كالثَّغام من النِّزالِ فما حالتْ لطول اليأسِ نفسي ... عليَّ ولا بكَتْ لذهاب مالي ولكنِّي لذي الكُرُبات آوي ... إلى قلبٍ أشدَّ من الجبالِ وأصبِرُ للشَّدائد والرَّزايا ... وأعلم أنَّها مِحَنُ الرِّجالِ فإنَّ وراءها أمْنًا وخَفْضًا ... وعَطْفًا للمُديل على المُدالِ فيومًا في السُّجون مع الأُسارى ... ويومًا في القصور رَخيَّ بالِ ويومًا للسُّيوف تَعاوَرَتْني ... ويومًا للتَّفَتُّقِ والدَّلالِ كذا عيشُ الفتى ما دام حيًّا ... دوائرُ لا يَدُمْنَ على مثالِ

السنة الحادية والتسعون بعد المئتين

السَّنة الحادية والتسعون بعد المئتين فيها قُتل الحسين بن زكرويه صاحبُ الشَّامة. وفيها خلع المكتفي على محمَّد بن سليمان كاتبِ الجيش، وعلى محمَّد بن إسحاق بن كنداجيق، وأبي الأغرّ، وجماعةٍ من القوَّاد، وأمرهم بالسَّمع والطاعة لمحمد بن سليمان، وأمرهم بالمسير إلى دمشق؛ لقبض ما كان بيد هارون بن خمارويه من الأعمال؛ لأنَّه ضَعُف، وقَتَلَ القرمطيُّ رجاله، وكان عسكرُ المكتفي في عشرة آلاف. وفيها زوَّج المكتفي ابنه أَبا أَحْمد بابنة الوزير القاسم بن عبيد الله في جمادى [الأولى] بحضرة المكتفي، وخطب أبو عمر القاضي، وانصرف أبو أَحْمد بن الخليفة والقوَّاد والوجوه مع القاسم إلى داره في الشَّذا، فأقام عند القاسم، وخلع القاسم على أربع مئة إنسان الدِّيباجَ والخزَّ والوَشْي وغير ذلك، وحمل الأمراء أَبا أَحْمد على سبعة وأربعين فرسًا بسروجِ الذَّهب، وكان الصَّداق مبلغه مئة أَلْف دينار. وفيها خرجت التُّرك إلى بلاد المسلمين في جيوش عظيمة، كان فيها سبع مئة قبَّة تركيَّة، ولا تكون القبَّة إلَّا للملك، فنادى إسماعيل بن أَحْمد في خُراسان وسجستان وطَبَرِستان: النَّفيرَ النَّفيرَ، وجهَّز رجلًا من قوَّاده في جيش كثيف، فوافى المسلمون التُّركَ وهم آمنون غارُّون (¬1) مع الصُّبح، فقتلوا منهم مَقتلة عظيمة، وانهزم الباقون، وغنم المسلمون أموالهم، وعادوا سالمين. وفيها بعث صاحب الرُّوم عشرةَ صُلبان، تحت كل صليب عشرةُ آلاف، فوصلوا إلى الحَدَث، فنَهبوا وقتلوا مَن قدروا عليه، وأحرقوا ورجعوا (¬2). وفي رمضان مات أَحْمد بن محمَّد بن الفرات الكاتب، وقلَّد القاسم عليَّ بن محمَّد أخاه مكانه، وقال: ما غاب عنَّا من أخيك إلَّا عيناه. ¬

_ (¬1) غارون: غافلون. اللسان (غرر). (¬2) تاريخ الطبري 10/ 115 - 116، والمنتظم 13/ 23، والكامل 7/ 532 - 533، وتاريخ الإِسلام 6/ 863.

إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل

وفيها غزا غلام زرافة من طَرَسوس إلى الرُّوم، فوصل إلى أنطاكية قريبًا من قسطنطينية، فأناخ عليها وقاتلها، ففتحها بالسَّيف عَنوة، وقتل فيها خمسة آلاف رجل، وأسر أضعافَهم، واستنقذ من أُسارى المسلمين أربعة آلاف إنسان، ووجد بساحلها ستِّين مَرْكبًا، فحفَلها ما غنم من الذَّهب والفضَّة والمتاع والرقيق، وأصاب سهم الفارس أَلْف دينار. وفيها مات القاسم بن عُبيد الله الوزير، ودخل محمَّد بن سليمان دمشق بالعساكر، وكان بها بدر الحمامي فتلقاه، فقلَّده إياها، وسار محمَّد إلى الرَّملة. وحجَّ بالنَّاس الفضلُ بن عبد الملك الهاشميُّ. [فصل] وفيها تُوفِّي إبراهيم بن أَحْمد بن إسماعيل أبو إسحاق، الخوَّاص، البغداديُّ. أوحد زمانه في التوكُّل، صحب أَبا عبد الله المغربي، وكان من أقران الجُنيد والثَّوريّ، وله في الرياضات والسِّياحات مقامات يطول شَرحُها، وأصله من سُرَّ من رأى، وإنَّما سكن الرّيَّ وأقام بها, ولم يكن خوَّاصًا، وإنما جرت له واقعةٌ سمِّي لها الخوَّاص. قال (¬1): فَتَرْتُ في بعض الأوقات، فكنت أخرج إلى ظاهر البلد، فأجلس على نهر وحوله خُوصٌ كثير، فخطر لي أن أعمل كلَّ يوم خمس قفاف وألقيها في النَّهر أتسلَّى بذلك، [وكأنِّي كنت مُطالبًا به، فجرى وقتي على ذلك أيَّامًا] , فخطر لي في بعض الأيام أن أمشي خلف القِفاف، وأنظرَ أين تذهب، فمشيتُ على جانب النَّهر ساعة، وإذا بعجوزٍ جالسة حزينة -ولم أكن عملتُ في ذلك اليوم شيئًا- فقلت: ما لي أراك حزينة؟ فقالت: أنا امرأةٌ أَرْمَلة، مات زوجي وترك خمس بنات، ولم يخلِّف لنا شيئًا، ¬

_ (¬1) في (ف م 1): ذكر الواقعة، حكاها الخَطيب وغيره عن جعفر الخلدي عن إبراهيم الخواص. اهـ. والخبر في تاريخ بغداد 6/ 496 وليس فيه ذكر للخلدي. وانظر في ترجمة الخواص: الحلية 10/ 325، وطبقات الصوفية 284، والمنتظم 13/ 26، وتاريخ الإِسلام 6/ 906.

فأَخْرجُ كل يوم، فأجلس على هذا النَّهر، فتأتي على رأس الماء خمس قِفاف، فأبيعُها فنتقوَّت بها، واليوم ما جاءتني، وما أدري كيف أصنع؟ فرفعتُ رأسي إلى السماء وقلت: إلهي، لو علمتُ أنَّ لها خمسَ عِيال لزدتُ في العمل، ثمَّ أخذ العجوز إلى بيته، وأعطاها دراهم ودقيقًا وقال: كلَّما أردتِ شيئًا فتعالي فخذي ما يكفيكم. [ذكر طرف من أخباره: حكى عنه جعفر الخُلْديُّ أنَّه] قال: أعرف سبعة عشر طريقًا إلى مكة، طريق منها ذهب، وأخرى فضة. [ذكر قصَّته مع المريض: حكى عنه ابن خميس في "المناقب"، قال: صَعِدتُ إلى جبل اللُّكام، فرأيت شجرة عليها رمَّان، فاشتهيتُه، فمددتُ يدي فأخذتُ رُمَّانة، فإذا هي حامضة، فرميتُ بها ومضيت، وإذا برجل مَطروحٍ على قارعة الطَّريق، وقد اجتمع عليه زنابيرُ كثيرة وهي تلدغه، فسلَّمتُ عليه، فقال: وعليكم السلام يَا إبراهيم، فقلتُ: كيف عرفتَ اسمي؟ ! فقال: مَنْ عرف الله لم يخْفَ عليه شيءٌ، فقلت: أرى لك مع الله حالًا، فلو سألتَه أن يَقيَك لَدْغ هذه الزَّنابير، فقال: إنَّ لَدْغ الزنابير أجدُ أَلَمَه في الدُّنيا، فهلَّا سألتَ الله أن يَقيَك لَدْغ شَهْوة الرُّمَّان الذي تجد ألمه في الآخرة؟ فتركتُه ومضيت. [ذكر قصَّته مع الخضر - عليه السلام -: حكى أبو عبد الرَّحمن السلميُّ قال: قيل للخواص: ] حدِّثنا (¬1) بأعجبِ شيءٍ لقيتَ في أسفارك، قال: لقيني شابٌّ في بعض أسفاري، فوقع في خاطري أنَّه الخَضِرُ، فسألني الصُّحبةَ، فقلت: أخشى أن يتغيَّر عليَّ توكُّلي، لا حاجةَ لي في صُحبتك، قال: إن صدقتَ فمن أنا؟ قلت: الخضر، وفارقتُه. [ذكر قصَّته مع الشاب: حكى عنه السُّلميُّ أَيضًا] قال: صَحبني شابٌّ حَسَنُ المراعاة لأوقاته، فقلت [له: ] ¬

_ (¬1) في (خ): وقيل له: حَدَّثَنَا، والمثبت وما بين معكوفين من (ف) و (م 1)، ولم نقف عليه في طبقات الصوفية، وذكر هذا الخبر والذي يليه القشيري في رسالته 3/ 53، 57.

لا تُطيق صُحبتي لأنِّي أجوع، قال: إن جعتَ جعتُ معك، فبقينا أربعة أيام لم يُفتَح علينا بشيء، ثمَّ فتح علينا فقلت له: هَلُمَّ فكُلْ، فقال: قد عَقدتُ مع الله عقدًا أن لا أتناول بواسطة، فقلت: يَا غلام، دققت، فقال: يَا أَبا إسحاق، لا تَتَبَهْرَج، فإنَّ النَّاقد بصير، ما لك والتوكُّل، إنَّ أدنى أحواله أن تَرِدَ عليك مواردُ الفاقات، فلا تسمو نفسُك إلَّا إلى مَن له الكفايات، وفارقني. [ذكر قصَّته مع الشيطان: حكى السُّلميُّ عن إبراهيم] قال: كنتُ بالبادية فنمتُ على حجر، وإذا بشيطان قد رَفَسَني برجله وهي مثل الحربة (¬1)، فقال: أَنْتَ وليّ الله فمن أَنْتَ؟ قلت: إبراهيم الخوَّاص، قال: صدقت، ما ضرَّتْك رجلي وقد يَبِست، ثمَّ قال: معي حلال وحرام؛ أمَّا الحلال فرُمَّان الجبل المباح، وأمَّا الحرام فمَرَرْتُ على صيَّادَين يصيدان السمك، فتخاونا، فاخذتُ التي تخاونا فيها، فكُلْ أَنْتَ الحلال ودع الحرام لي. [ذكر قصَّته في صيد السمك: حكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: طلبتُ الحلال، فخرجتُ إلى دجلة ومعي شَبكة، فجلستُ أصيد السَّمك، فوقعت في الشبكة سمكةٌ، فأخذتها، ثمَّ أخرى وأخرى، فهتف بي هاتف: لم تجد مَعاشًا إلَّا أن تأتي إلى مَن يذكرنا فتقتله؟ ! [قال: ] فرميتُ الشَّبكة، وتبتُ إلى الله تعالى من الصَّيد (¬2). [ذكر قصَّته مع الجن والشابِّ: حكى ابن خَميس في "المناقب" عن إبراهيم، قال: حججتُ مرَّة مع أصحابي، فعارَضَني عارضٌ من سرِّي: خذ في غير الجادَّة، ففعلتُ، ومشيتُ ثلاثة أيام بلياليها في بَرّيَّة خضراء، فيها من كل الرَّياحين والثّمار، وفي وسطها بُحيرةٌ ماؤها أطيبُ ماء وأعذبُه، فوقفتُ مفكِّرًا في حُسنها، وإذا بنَفَرٍ قد حفُّوا بي، وعليهم المُرَقَّعاتُ الحِسان، فسلَّموا عليَّ، وسيماهم سيما الآدميين، ووقع لي أنَّهم من الجنّ، فقلت: مَن أنتم؟ فقالوا: نحن من الجنّ الذين سمعوا من محمَّد - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ ليلة الجنّ، فسَلَبَتْنَا نَغمةُ ¬

_ (¬1) في (خ): الخرقة، والمثبت من (ف). (¬2) مناقب الأبرار 1/ 471.

كلام الله جميعَ أمور الدُّنيا، وقد قيَّض الله لنا هذه البريَّة؛ نسيح بها، ونشرب من ماء هذه البحيرة، ونأكل من هذه الثمار. قلت: فكم بيني وبين المكان الذي فارقتُ فيه أصحابي؟ فتبسَّم بعضُهم، وقال: يَا أَبا إسحاق، لله أسرار وعجائبُ، إنَّ هذا المكان الذي أَنْتَ فيه لم يَحضره آدميٌّ قبلك إلَّا شابٌّ من أصحابكم السيَّاحين، وصل إلى ها هنا فتوفِّي، وذاك قبرُه على شاطئ البحيرة وحوله رياحين، كنَّا ليلةً قعودًا على جانب البحيرة نتذاكر المحبة، فإذا بشابٍّ قد وقف علينا، فسلَّم، فرددنا - عليه السلام -، وقلنا: مِن أين؟ قال: من نَيسَابُور، قلنا: ومتى خرجتَ منها؟ قال: منذ سبعة أيام، أزعَجتْني آية وهي قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54] قال: فقلنا [له: ] فما معنى الإنابةِ والتسليم والعذاب؟ فقال: أما الإنابة: أن ترجع منك إليه (¬1)، وأمَّا التسليم: فالاستسلام له، وأمَّا العذاب: فعذاب الفراق، ثمَّ صاح ومات، فوارَيناه. قال إبراهيم: فقمتُ إلى قبره وإذا عند رأسه طاقَةُ نَرْجِس كأنَّها رَحَى [عظيمة] وعلى القبر مكتوب: هذا حبيب الله قَتيلُ العَبْرة (¬2)، وعلى وَرَقةٍ منها مكتوب: هذه صفةُ الإنابة، فسألوني أن أفسِّر لهم ما على ورقة النَّرْجِس مكتوب، ففسَّرتُه، فوقع الطَّرب فيهم، فأُلقي عليَّ النُّعاس، فنمتُ، وانتبهتُ وإذا أنا قريبٌ من مسجد عائشة -رضي الله عنها-، وإذا في وطائي طاقةُ نَرْجِس أو رَيحان، فبقيتْ معي سنة لم تتغيَّر، ثمَّ فقدتُها. [ذكر قصَّته مع الشاب وأخته: حكاها عنه في "المناقب" أَيضًا] قال: تهتُ في البادية عن الطريق -وكانت ليلةً مُقمرة- فلَجَجتُ في البريَّة، وإذا بصوتٍ ضعيف يقول: إلي يَا أَبا إسحاق إليَّ، فإنِّي سأَلتُ الله أن يُحضِر وفاتي وليًّا من أولياء الله (¬3)، وأرجو أن يكون قد فعل. [قال: ] فجئتُ إليه، وإذا بشابٍّ من أحسن الشباب، مَطروحٍ وحوله رياحين كثيرة، فسلَّمتُ عليه فقال: مرحبًا بك يَا أَبا إسحاق، فقلت: من أين أَنْتَ؟ فقال: من شِمْشاط، كنتُ بين أهلي في عزٍّ ورفاهيةِ عيش، فخطر بقلبي السَّفَر، فخرجتُ، وقد ¬

_ (¬1) في مناقب الأبرار 1/ 479: أن يرجع بك إليه. (¬2) في مناقب الأبرار: المغيرة. (¬3) في (ف م 1): أن يحضر وقت وفاتي وليًّا من أوليائه، والمثبت من (خ).

وقعتُ ها هنا، قلت: ألك أهل؟ فقال: نعم، والدان وإخوة وأخوات، قلت: فهل خطروا في سرِّك؟ قال: لا إلَّا اليوم، لمَّا أيقنتُ بالموت أحببتُ أن أشمَّهم، ولي أختٌ صالحة أحب أن أشمَّها، وهذه الرَّياحين التي حولي جاء بها إليَّ الوحوشُ وبكوا عندي. قال إبراهيم: فتحيَّرت في أمره (¬1)، ووقع الشابُّ على سرِّي، وإذا بحيَّةٍ عظيمة قد أقبلت، وفي فيها طاقةُ نَرْجِس دورها ثلاثة أذرع، فنطقت الحيَّة وقالت: يَا إبراهيم، اعدِلْ بسرِّك عن الشابّ فإنَّ الحقَّ غَيور، فصحت صيحة [عظيمة] وغُشي عليَّ، فما أفقتُ إلَّا والشابُّ قد قضى، قلت: كيف أعمل؟ [مالي] مَن يساعدني عليه، وأين الماء [وأين] الكَفَن؟ فأُلقي عليَّ النُّعاس، فما أفَقْتُ إلَّا بحرِّ الشَّمس، وإذا بي على الجادَّة. فلمَّا قضيتُ الحجَّ ورجعت قلت: لا بدَّ من المضيِّ إلى شِمْشاط، والسؤالِ عن الشابِّ وأهلِه، [قال: ] فمضيتُ إليها، فلمَّا بلغتُ إلى المصلَّى إذا بنسوة عليهنَّ المرقَّعات قد أقْبَلْنَ، وبينهنَّ امرأةٌ أشبهُ النَّاس بالشابِّ، فنادتني: يَا أَبا إسحاق، أنا في انتظارك منذ أيام، حدِّثني حديثَ أخي وقُرَّةِ عيني وثمرةِ فؤادي، فحدَّثتُها حديثَه، فلمَّا بلغتُ إلى قوله: أريد أن أشَمَّهم، قالت: هاه، بلغ الشمّ الشمّ، ثمَّ وقعت ميتة، فقلن النِّساءُ: جزاك الله عنها خيرًا، فلقد أرَحْتَها ممَّا كانت فيه، وكان هناك رِباط فيه نساء، فخَرَجْنَ فوَلين أمرَها, ولم يبق في البلد أحدٌ إلَّا شهد جنازتها (¬2)، ثمَّ أقمتُ عند قبرها شهرًا وانصرفت. [حديث إبراهيم مع الحيَّات: حكى ابن باكويه عن] حامد الأسود قال: خرجتُ (¬3) مع إبراهيم في سفر، فجئنا إلى موضع فيه حيَّات كثيرة، فجلسنا، فلمَّا بَرَد الهواء في الليل خرجت الحيَّات، فخفت [منها]، فقال [لي] إبراهيم: لا تَخَف واذكر الله، فذكرتُ، فذهبت الحيَّات، ثمَّ عادت ¬

_ (¬1) في (ف م 1): أمري. (¬2) في (خ): شهدها، والمثبت من (ف) و (م 1). (¬3) في (خ): وقال حامد الأسود: خرجت، والمثبت من (ف م 1). وهذا الخبر ذكره القشيري في رسالته 3/ 164 - 165.

فقال: اذكر الله تعالى، فذكرتُ، فما زلنا كذلك إلى الصَّباح، وقمنا نمشي، وإذا بحيَّة عظيمة قد سقطت من وطائه، وقد تطوَّقت [به] , فقلت له: أما علمتَ بها؟ فقال: والله منذ زمان ما نمتُ أطيبَ من الليلة. وقال حامد: خرجتُ معه في سفر، فنزلنا تحت شجرة، فجاء السَّبُع، فهربتُ منه وصَعدتُ إلى الشجرة، وبات السبع يشمُّ إبراهيم من قَرْنه إلى قدمه إلى الصَّباح، ومشينا، فأتينا آخر النهار إلى قرية، فدخلنا مَسجدَها، فوقع في الليل على وجهه بقَّةٌ، فانزعج منها، فقلتُ له: ما هذا؟ ! فقال: تلك حال كنتُ فيها مع الله، وهذه حالة أنا فيها مع نفسي. [حديث إبراهيم مع العقرب: حكى ابن جَهْضم عن] المزيّن [قال: ] كنتُ (¬1) عند إبراهيم، فدبَّت عقرب، فجعلت تلسعه في فخذه وهو صابر، فقمتُ لأقتلها فقال: دعها، كلُّ شيءٍ مُفْتَقر إلينا، ولسنا مُفْتَقرين إلى شيء. [ذكر قصته مع النَّصْراني: حكى أبو نعيم وغيره عنه] قال: دخلت (¬2) البادية، فصحبني رجل على وسطه زنَّار، فقلتُ: مَن أَنْتَ؟ قال: نصرانيّ أريد صحبتَك، فمشينا سبعة أيام لم نأكل شيئًا، فقال: يَا راهب الحنيفية، هات ما عندك من الانبساط فقد جعنا، فقلت: يَا إلهي، لا تَفْضَحْني مع هذا الكافر، وإذا بطبق عليه خُبزٌ وشواء، ورُطَب وكوز ماء، فأكلنا. ومشينا سبعة أيام، فقلت: يَا راهب النصرانية، هات ما عندك من الانبساط فقد [جعنا، وقد] وصلتْ إليك النَّوبة، فاتَّكأ على عصاه ودعا، وإذا بطَبقين عليهما أضعاف ما كان على طبقي، فتحيَّرتُ، وأبَيتُ أن آكل، فألحَّ عليَّ وقال: كُلْ، فلم أفعل، فقال: طِبْ نفسًا فإنِّي مُبشِّرُك ببشارتين؛ إحداهما: أنِّي أشهد أن لا إله إلَّا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، والثانية: أنِّي قلت: اللهم إن كان لهذا العبد عندك خطر فافتح علينا ¬

_ (¬1) في (خ): وقال المزين كنت، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في الرسالة القشيرية 4/ 27. (¬2) في (خ): وقال إبراهيم دخلت، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في الرسالة القشيرية 4/ 173.

بطَبَقَين، فهذا ببركتك، فأكلنا، وأحرم الرجلُ ودخل مكَّة مُحرِمًا، فجاور معي سنة، وتوفِّي، فدفنتُه بالمعلَّى. [حديث إبراهيم مع العجوز: حكى ابن باكويه عن إبراهيم] قال: دخلتُ البادية (¬1) مرَّة، فنالتني فاقة شديدة، فلما دخلت مكَّة دخلني إعجاب، فنادتني عجوز: يَا إبراهيم، لا تعجب بنفسك فأنا كنتُ رفيقتك في البادية، ولم أكلِّمك خوفًا أن أُشغل سرَّك، فأخرِجْ عنك هذا الخاطر. [حديث إبراهيم مع الفارس: حكى الكتَّاني عن إبراهيم] قال: خرجتُ إلى الحجاز، فمشيتُ أيَّامًا، فعَطِشتُ وسقطت من العطش، وإذا بماء قد رُشَّ على وجهي، ففتحتُ عيني، وإذا بفارسٍ على فَرَسٍ أشهب، حسنِ الوجه، طيِّب الرائحة، فسقاني شَربةَ ماء، وقال: قمْ، فمشيتُ خطوات وإذا بالنَّخْل، فقال: هذه المدينة، اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منِّي السلام، وقيل له: الخضر يقرِئك السلام. [حديث إبراهيم مع السَّبُع: حكى الكتاني عن إبراهيم] قال: رأيتُ في البادية شجرةً تحتها عينُ ماء، فجلستُ تحتها، وإذا بسَبُعٍ عظيم قد أقبل، فاستسلمتُ، فلما قرب منِّي إذا به يعرج، فبرك بين يديَّ، ووضع يديه في حجري، وإذا هي مُنتَفخةٌ فيها قيح ودم، فأخذت عودًا، وشققت المكان، فخرجتْ منه شوكة، وسال ما كان فيها من الدَّم والقيح، وربطتُه بخرقة، فمضى وغاب ساعة، وعاد ومعه شِبلان يُبَصْبِصان، فألقى إلي رغيفًا ومضى (¬2). [حديث المَشْعَل: حكى ابن باكويه قال: ] سألت امرأةٌ إبراهيم عن تغيُّرٍ وجدتْه في نفسها، فقال [لها]: تَفقَّدي، قالت: قد تفقَّدتُ (¬3) فما وجدتُ شيئًا، فقال لها: ولا ليلة المشعل؟ فقالت: الله أكبر، كنتُ أغزِلُ ليلةً فوق السطح، فانقطع خيطي، فمرَّ بي مشعلُ السلطان، ¬

_ (¬1) في (خ): وقال دخلت البادية، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في الرسالة القشيرية 3/ 184. (¬2) الرسالة القشيرية 4/ 185 - 186، وما سلف بين معكوفين من (ف) و (م 1). (¬3) في النسخ: افتقدت، والمثبت من صفة الصفوة 1/ 531.

فغزلت في ضوئه خيطًا، ثمَّ نسجتُ الغزلَ ولبستُه قميصًا، وهو عليَّ [قائم] ثمَّ قامت وخلعت القميص وقالت: إن أنا بعتُه وتصدَّقتُ بثمنه هل يرجع قلبي إلى الصَّفاء؟ قال: إن شاء الله تعالى. [حديث إبراهيم مع الذي رآه يزحف: حكى ابن باكويه عنه أنَّه قال: ] رأيتُ (¬1) في البادية رجلًا يزحف زحفًا، فقلت له: من أين؟ فقال: من بخارى، ثمَّ رأيته في الطَّواف وهو يطوف زحفًا، فعجبت [منه] فناداني: يَا إبراهيم، أتعجب من قويٍّ يحمل ضعيفًا؟ قلت: لا يَا حبيبي (¬2): [من الطَّويل] نعمْ تحمل الأشواقُ والعِيسُ ظُلَّعٌ ... ويمشي الهوى والنَّاقلاتُ قُعودُ [حديث إبراهيم مع الكلب: حكى ابن جَهْضَم قال: ] كان إبراهيم جالسًا في مسجده بالرّيِّ، فسمع صوت الملاهي من بعض دور الجيران، فانزعج، وقام فخرج يقصد الدَّار التي سمع منها الصَّوت، فلمَّا بلغ طرف الزّقاق وثب عليه كلبٌ ونَبح عليه، فرجع [إبراهيم] إلى المسجد، وفكَّر ساعة، ثمَّ عاد وخرج، فقام الكلب إليه (¬3) وبَصْبَص بين يديه، فلمَّا وصل إلى باب الدَّار خرج منها شابٌّ، وقال: يَا سيدي، كنتَ أرسلتَ بعض أصحابك ولا انزعجتَ، فبلَّغَ لك ما تريد، وتاب الشابُّ، وكسر الملاهي وتعبَّد، فسُئل إبراهيم عن سبب رجوعه وخروجه ثانيًا فقال: كان بيني وبين الله عقد ولم أنتبه. فنبح عليَّ الكلب أوَّل مرَّة، فلمَّا عدتُ إلى المسجد ذكرتُه فاستغفرت الله منه، ثمَّ خرجت الثَّانية فكان ما رأيتم، وهكذا كلُّ من خرج إلى إقامة معروف أو تغيير منكر فتحرَّك عليه شيء من المخلوقات، فسببُه فساد عقدٍ بينه وبين الله تعالى، فإذا وقع الأمر على الصِّحَّة لم يتحرَّك عليك شيء، وكان الأمر على ما شاهدتموه. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال إبراهيم رأيت، والمثبت من (ف م 1). (¬2) بعدها في (ف م 1): فنشد هاهنا. (¬3) في (خ): عليه الكلب، والمثبت وما بين معكوفين من (ف) و (م 1).

[حديث إبراهيم مع الأعرابي: حكى السلمي عن إبراهيم قال: ] دخلت (¬1) البادية على التوكُّل، فإذا بهاتفٍ، فالتفتُّ، وإذا به أعرابي، فقال: يَا إبراهيم، أَنْتَ تدَّعي التوكّل، أقم عندنا حتَّى تصحَّ دعواك في توكُّلك، أما علمتَ أنَّ رجاءك لدخولك بلدًا فيه أطعمة تحملك (¬2)؟ اقطع رجاءك عن البلدان وتوكَّل. ذكر نبذة من كلامه: حكوه في "المناقب" وغيرها؛ حكى السلمي عنه أنَّه قال (¬3): مَن لم تبكِ الدُّنيا عليه لم تضحك الآخرةُ إليه (¬4). قال: المُتاجِر بغير رأس ماله مُفْلِس، والهالك من هلك في آخر سفره وقد قارب المنزل، والفقير في خَلَقَانه أحسن منه في جديد غيره. وقال: ما هالني شيءٌ إلَّا ركبتُه. وقال: مَن ترك شَهوةً فلم يجد عوضَها في قلبه فهو كاذب في تركها. وقال: المزيد الصَّادقُ اللهُ تعالى مرادُه، والصِّدِّيقون إخوانُه، والخلوة بيتُه، والوحدة أُنْسُه، والنَهار غمُّه، والليل سروره، والقرآن دليله، والبكاء [راحته] , والجوع إدامُه، والأيام مراحِلُه، والوَرَع طريقه، والزُّهدُ قَرينُه، والصبر شِعارُه، والرضى دِثارُه، والصِّدق مطيَّتُه، والعبادة مركبُه. وقال: على قدر إعزاز المؤمن لأمر الله يُلبسه الله من عزّه، ويُقيم له العزَّ في قلوب المُؤْمنين. وقال: الفقر رداء المتقين، وجِلباب المرسَلين، ولباس المُؤْمنين، وجَمال العابدين، وسرور الزَّاهدين، ولذَّة الصابرين، ورأس مال الصِّدَيقين، وغنيمةُ العارفين، وحصنُ المتَّقين. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال إبراهيم دخلت، والمثبت من (ف) و (م 1). (¬2) قال الشيخ العروسي في شرحه للرسالة القشيرية 3/ 50: تحملك، أي: على الإقامة فيه. (¬3) في (خ): ومن كلامه قال، والمثبت من (ف م 1). (¬4) مناقب الأبرار 1/ 467.

[وحكى السلمي أنَّه] (¬1) كان جالسًا يتكلَّم، فنزلت عليه الشَّمس في يوم حارٍّ، فقيل له: ألا تنتقل للفيء؟ فقال: [من الوافر] لقد وَضَح السَّبيلُ إليك قَصْدًا ... فما أحدٌ أرادك يَستدلُّ فإن وَرَدَ الشتاءُ فأنت صيفٌ ... وإنْ وَردَ المَصيفُ فأنت ظِلُّ وقال السُّلَمي: ومن محاسن شعره أَيضًا: [من الطَّويل] صَبرتُ على بعض الأذى خوفَ كلِّه ... ودافعتُ عن نفسي بنفسي فعزَّتِ وجرَّعتُها المكروهَ حتَّى تدرَّبَتْ ... ولو جملةً جرَّعتُها لاشمأزَّتِ ألا رُبَّ ذُلٍّ ساق للنَّاس عزَّةً ... ويا رُبَّ نفسٍ بالتعزُّز ذَلَّتِ إذا ما مَدَدْتُ الكفَّ ألتمسُ الغنى ... إلى غير مَن قال اسألوني فشَلَّتِ (¬2) ذكر وفاته رحمة الله عليه: [حكى السلميُّ عن] يوسف بن الحسين الرَّازيّ قال: مرض (¬3) بعلَّة القيام في جامع الري، فكان كلَّما دخل إلى السّقاية يغتسل ويتوضَّأ، ويصلِّي ركعتين، فدخل مرَّة ليغتسل فخرجت روحُه وهو في وسط الماء، فغسَّلتُه، وكفَّنتُه، وصلَّيتُ عليه، ودفنتُه، وكان يومًا عظيمًا، وقيل: إنَّه مات سنة إحدى وتسعين ومئتين. [وحكى السلمي عن] الكتَّاني قال: رأيت (¬4) في المنام كأنَّ القيامة قد قامت، فأوَّل مَن خرج من عند الله أبو جعفر الدِّينوري، وكتابُه بيمينه وهو يضحك، ثمَّ خرج إبراهيم الخوَّاص، وكتابُه بيمينه وهو يدرُس القرآن رحمة الله عليه. [وفيها تُوفِّي] ¬

_ (¬1) في طبقات الصوفية 284 - 285، وما بين معكوفين من (ف) و (م 1). (¬2) ينظر الرسالة القشيرية 2/ 132، 3/ 29، وصفة الصفوة 4/ 101 والتدوين في أخبار قزوين 2/ 99 - 100، وطبقات الشعراني 1/ 84. (¬3) في (خ): وقال يوسف بن الحسين مرض، والمثبت من (ف) و (م 1) والخبر في طبقات الصوفية 284. (¬4) في (خ): وقال الكتاني رأيت، والمثبت من (ف) و (م 1)، والكلام في تاريخ بغداد 6/ 497، وصفة الصفوة 4/ 79.

أحمد بن يحيى

أَحْمد بن يحيى ابن زيد بن سيَّار (¬1)، أبو العباس، الشَّيباني مولاهم، ثَعْلب النَّحْويُّ، إمام أهل الكوفة. ولد سنة مئتين، [ولم يبلغ خمسًا وعشرين سنة إلَّا وهو أوحد أهل زمانه. وكان إمامًا في اللغة والنحو، وهو مصنف كتاب "الفصيح" وغيره]. و[حكى الخَطيب عنه أنَّه] قال: ما بلغت خمسًا وعشرين سنة حتَّى أتقنت كتب الفرَّاء، فلم يبق منها مسألة إلَّا وقد عرفتها (¬2). [قال: ] وقال محمَّد بن عبد الرَّحمن الزُّهريُّ: كان بيني وبين أبي العبَّاس مودَّة أكيدة، فجئت أستشيره في الانتقال من المحلَّة لتأذّيي بالجيران، فقال لي: أَبا محمَّد (¬3)، صَبرُك على أذى مَن يعرفك وتعرفه خيرٌ لك من استحداث مَن لا تعرفه. و[حكى الخَطيب عن] أبي بكر بن مجاهد قال: دخلتُ (¬4) على ثعلب، فقال لي: يَا أَبا بكر، اشتغلَ أهلُ القرآن بالقرآن ففازوا، وأهلُ الحديث بالحديث ففازوا، وأهلُ الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلتُ أنا يزيد وعمرو، فليت شِعري ماذا يكون حالي في الآخرة؟ قال ابن مجاهد: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام في تلك الليلة، فقال لي: يَا ابن مجاهد، اقرأ على أبي العباس السلام عنِّي، وقيل له: إنَّك صاحبُ العلم المستطيل؛ أراد أنَّ الكلام به يتَّصل ويستقيم، والخطاب به يكمل ويجمُل، وكلُّ العلوم مفتقرة إليه. وقال إبراهيم الحَرْبيُّ: بلغني أنَّ أَبا العبَّاس كره الكلام في الاسم والمسمَّى، وقد كرهتُ ما كرهه أبو العبَّاس ورضيتُ به. وقيل لإبراهيم الحربي: إنَّ ثعلبًا مع فضله يلحن! فقال: قد كان أبو هريرة يكلّم صبيانه بالنَّبَطيَّة. ¬

_ (¬1) في النسخ: سنان، والمثبت من تاريخ بغداد 6/ 448، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 275. ووقع في المنتظم 13/ 24: يسار! ! وانظر السير 14/ 5، وتاريخ الإِسلام 6/ 900. (¬2) تاريخ بغداد 6/ 448، وما بين معكوفين من (ف م 1). (¬3) في (خ م 1): فقال لي أَبا عبد الله، وفي (ف): أَبا العباس، والمثبت من تاريخ بغداد 6/ 450. (¬4) في (خ) وقال أبو بكر بن مجاهد دخلت، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 6/ 455 - 456.

[قال: ] وقال ثعلب: دخلتُ على أَحْمد بن حنبل فقال لي: فيم تنظر؟ فقلت: في العربية، فقال: [من الطَّويل] إذا ما خلوتَ الدَّهرَ يومًا فلا تقلْ ... خلوتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ ولا تحسبنَّ الله يُغفل ما مضى ... ولا أنَّ ما تُخفي عليه يغيبُ خَلَوْنا لَعَمر الله حتَّى تراكمت ... علينا ذنوبٌ بعدهنَّ ذنوبُ ألا فلعلّ الله يَغفرُ ما مضى ... ويأذَنُ في توباتنا فنتوبُ ذكر وفاته: حكى الخَطيب قال: مات ثعلب ببغداد (¬1) يوم السَّبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى [من هذه السنة] ودُفن بمقابر باب الشَّام. أسند عن جماعة منهم إبراهيم بن المنذر الحِزاميُّ وغيره، وروى عنه ابن الأنباري وغيرُه، وأدركه صَمَمٌ في آخر عمره. [وقال الصولي: ] خلّف ألفي دينار وأحدًا وعشرين أَلْف درهم، وأملاكًا قيمتُها ثلاثة آلاف دينار، ولم يكن له وارث إلَّا ابن بنته فأخذ الجميع، وكانوا في ذلك الوقت يورِّثون ذوي الأرحام، واتَّفقوا على صدقه، وصلاحه، وأمانته، وثقته. وكان يسمَّى فاروق النُّحاة لصدقه. ومن شعره: [من الوافر] إذا ما شئت (¬2) أن تَبلو صديقًا ... فجرِّب ودَّه عند الدَّراهمْ فعند طِلابها تبدو هَناتٌ ... وتُعرَفُ ثَمَّ أخلاقُ الأكارمْ وله (¬3): [من السريع] بلَغتُ من عُمري ثمانينا ... وكنتُ لا آملُ خمسينا فالحمدُ لله وشكرًا له ... أن زاد لي عمري ثلاثينا ¬

_ (¬1) في (خ): ذكر وفاته مات ببغداد، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 6/ 456. (¬2) في (ف م 1): قال الخَطيب: كان يسمى فاروق النحاة لصدقه وقد روى له الخَطيب أشعارًا فقال بإسناده إلى إسحاق بن أَحْمد الكاذي قال: أنشدنا ثعلب إذا ما شئت، والمثبت من (خ)، والأبيات التي رواها الكاذي عن ثعلب هي الآتية: بلغت من عمري ثمانينا، كما في تاريخ بغداد 6/ 456. (¬3) في (ف م 1): وأنشد أَيضًا.

الحسين بن زكرويه القرمطي

فأسأل الله بُلوغًا إلى ... مرضاته آمين آمينا قلت: وعلى ما ذكر من مولده ووفاته فقد عاش إحدى وتسعين سنة (¬1). [وفيها تُوفِّي] الحسين بن زكرويه القِرْمِطيُّ [قد ذكرنا أنَّه استولى على الشَّام بعد أخيه,] ولمَّا قُتل أخوه أقاموه مقامه، فدعا إلى مثل ما كان يدعو إليه أخوه، فأجابه الأعراب وأهلُ البوادي، واشتدَّت شوكتُه، فجاء إلى دمشق، فصالحه أهلُها على مال دفعوه إليه، فانصرف عنهم إلى حمص، فتغلَّب عليها، وخُطب له على منابرها، وتسمَّى بالمهدي، ودخلها بعد أن أمَّنهم، ثمَّ سار إلى المعرَّة وحماة والثغور، فقتل أهلَها، وسبى النِّساءَ والأطفال، ثمَّ جاء إلى بَعْلَبَك فقتل عامَّة أهلها (¬2)، ثمَّ صار إلى سَلَمْيَة، فحاربه أهلُها، ومنعوه الدُّخولَ إليهم، فوادعهم وأمَّنهم، ففتحوا له بابها، فدخلها، فبدأ ببني هاشم ممَّن كان بها، فقتلهم أجمعين، ثمَّ ثنّى بأهلها وبصبيان المكاتب والدَّوابِّ والبهائم، فما خرج منها وبها عين تَطْرِف، ثمَّ صار إلى القرى يقتل ويسبي. قال أبو الحسن المتَطَبِّب: بينا أنا بباب المحوّل ببغداد إذ جاءتني (¬3) امرأةٌ بعد ما قُتل الحسين بن زكرويه (¬4)، فقالت: أريد أن تُعالج جراحةً في كَتِفي، فقلت: [أنا رجل كحّال، و] ها هنا امرأة تعالج الجراحات، فانتظري مجيئها [فالساعة تجيء، قال: ] ورأيتُها مَكروبة، فسألتُها عن سبب جراحها فقالت: قصَّتي طويلة، فقلتُ: حدّثيني فقالت: كان لي ابن فغاب عني مدَّة طويلة، وخلَّف عليَّ أخواتٍ له، فاحتجتُ، فقيل لي: هو بالرَّقَّة، فخرجت خلفَه فلم أجده، ووقعتُ في عسكر القرمطي، وإذا به فيهم، فرآني فعرفني وعرفتُه، فمضى بي إلى منزله، وسألني عن أخواته فأخبرتُه، ثمَّ قال: دعيني من هذا، أخبريني ما دينُك؟ فقلت له: أما تعرفُني؟ ! فقال: كلُّ ما كنَّا فيه باطل، ¬

_ (¬1) في (ف م 1) بعد هذا: انتهت ترجمته والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمَّد وآله. (¬2) بعدها في (ف م 1): فلم يجد فيها إلَّا اليسير، وفي الطبري 10/ 100: حتى لم يبق منهم فيما قيل إلَّا اليسير. (¬3) في (ف م 1): وحكي عن متطبب ببغداد بباب المحول يدعى أَبا الحسن قال: جاءتني، والمثبت من (خ). (¬4) في الطبري 10/ 100: بعدما أدخل القرمطي صاحب الشامة وأصحابه بغداد.

والذي نحن عليه الآن هو الحقّ، فأعظمتُ ذلك، فخرج وتركني، وبعث إليَّ بلَحْم وقال: اطبُخيه، فلم أمسَّه، ثمَّ عاد فرآه بحاله فطبخه بنفسه، فبينا نحن كذلك إذا برجل يطرق الباب ويقول: عندكم امرأة تُحسِن أن تُصلح أمرَ النّساء؟ فقال ابني: قومي معي، [قالت: ] فقمتُ، فأدخلني دارًا، وإذا بامرأةٍ تَطلُق، فقعدتُ بين يديها وهي لا تكلِّمني، وجعلتُ أكلِّمُها وهي ساكتة، فقال لي الرَّجل: أصلحي أمْرَها ودعي كلامَها، فوَلَدت غلامًا، وأصلحتُ شأنَه، وجعلتُ أتلطَّف بها وأقول: يَا هذه، قد وجب حقِّي عليك، فأخبريني مَن والدُ هذا الغلام؟ فقالت: تسأليني عن أَبيه ليُعطيك شيئًا؟ فقلت: لا، ولكن أحبُّ أن أعلم خبرَك، فقالت: أنا امرأةٌ هاشميَّة، وإن هؤلاء القوم أتونا؛ فذبحوا أبي وأمي وإخوتي وأهلي جميعًا، ثمَّ أخذني رئيسُهم، فأقمتُ عنده خمسةَ أيام، ثمَّ أخرجني، فدفعني إلى أصحابه وقال: طهِّروها، فأرادوا قتلي، وكان بين يديه قائد فقال: هَبْها لي، فوهبني له، فنازعه فيَّ ثلاثة وقالوا: تكون بيننا أربعتنا وإلَّا قتلناها، فقال القرمطيُّ: تكون لأربعتكم -[وكانت جميلة]- فأخذوني، وأنا مع أربعتهم، فما أدري هذا الولد ممَّن هو منهم؟ قالت: وجاء الأربعةُ فجعلتُ أهنِّيهم، فأعطاني كلُّ واحد سَبيكةَ فضة فيها أَلْف درهم، وضاعف لي مقدَّمهم العطاء. [قالت: ] فقلتُ للمرأة: قد وجب حقِّي عليك، وأريد منك خلاصي ووصولي إلى بناتي سالمة، فقالت: قومي إلى رئيسهم وسَليه ذلك، قالت: فقمتُ إليه وقلت: قد وجب حقِّي عليك، وقد أغنيتَني عن غيرك، ولي بناتٌ ضِعاف فقراء، فإن أَذِنتَ لي أن أمضي وأحضرهنَّ إلى خِدمتِك حتَّى يخدِمْنك، قال: أوَتفعلين ذلك؟ قلت: نعم، فدعا قومًا من غلمانه وقال: اذهبوا معها حتَّى تبلغوا بها موضع كذا وكذا، ثمَّ ارجعوا. [قالت: ] فحملوني على دابَّة، ومضَوا بي مقدار عشرة فراسخ، وإذا بابني يَركض خلفَنا، فقال: [يا] فاعلة، وشَتَمني وضربني بالسَّيف، فمنعه القوم، ولَحِقني ذُبابُ السيف في كتفي فجرحني، ثمَّ طردوه عني، وأبلغوني المأمن وعادوا. [قالت: ] فلمَّا قدم أمير المُؤْمنين المكتفي بالقرمطيِّ ومعه الأسارى، خرجتُ لأنظر إليهم، وإذا بابني راكب على جملٍ عليه بُرنُس وهو يبكي وهو فتًى شابّ، فقلت له: لا

خفَّف الله عنك ولا خلَّصك. قال المتطبّب: فجمعتُ بينها وبين المرأة التي تُداوي الجَرحى، فأبصرت جُرحها، فقلت لها بعدما انصرفت: كيف حالُ جُرحِها؟ فقالت: ما أراها تنجو منه؛ لأنِّي وضعتُ يدي على الجرح وقلت لها: انفخي فنفخت، فخرج الريحُ من جرحها من تحت يدي، ومضت المرأة فلم تَعُد إلينا [بعد ذلك اليوم. فصل: ] وفيها جهَّز المكتفي الجيوشَ لقتال الحسين بن زكرويه مع محمَّد بن سليمان الكاتب، وكان الحسين قد عاد من العراق إلى الشَّام، والمكتفي مقيم بالرَّقَّة، فالتقَوا بِتَمْنَع (¬1) بين حلب وحماة يوم الثلاثاء لتسع خلون من المحرَّم، وكان القرمطيُّ قد قدَّم أصحابه وتخلَّف هو في جماعة منهم ومعه مالٌ، وجعل سوادَه وراءه، فالتحمت الحربُ بين القرمطيِّ ومحمَّد بن سليمان، فهزمهم محمَّد، وتفرَّقوا، وأَسر منهم خلقًا كثيرًا. فلمَّا رأى القرمطيُّ ما حلَّ بأصحابه حمَّل أخًا له مالًا، وأمره أن يلحق بالبادية؛ إلى أن يظهر في مكان فيصير إليه، وركب هو وابن عمّه المسمى بالمدَّثِّر، والمطوّق بالنور غلامه وكان روميًّا (¬2)، وأخذ دليلًا، وسار يريد الكوفة عرضًا في البرّيَّة، حتَّى انتهى إلى موضع على الفرات يُعرف بدالية ابن طَوق، فنفد ما كان معهم من الزَّاد والعَلَف، فوجَّه إلى الدَّالية رجلًا اشترى لهم منها زادًا وعَلَفًا، فأنكروا زيَّه، فأخذوه إلى والي المكان، فتهدَّده (¬3) فأخبره أنَّ صاحب الشَّامة خَلْفَ رابيةٍ في ثلاث مئة نفر (¬4)، فجاء الوالي، فأخذهم وحملهم إلى المكتفي بالرَّقَّة لأربع خلون من المحرَّم، وهو راكبٌ على جمل، وبين يديه المدَّثِّر والمطوَّق. ¬

_ (¬1) هي قرية من بلاد المعرفة على الطريق الآخذة من حماة إلى حلب. المختصر في أخبار البشر 1/ 188. (¬2) في الطبري 10/ 108، والكامل 7/ 530: والمطوق صاحبه وغلام له رومي. (¬3) في (ف م 1): فتهددوه فذكر أنَّه ابتاع رقيق (كذا؟ ! ) فصل وفيها تُوفِّي إبراهيم بن عبد الله، وبهذا سقطت أحداث السنة (292 هـ)، ووضع للسنة (293 هـ) عنوان: السنة الثَّانية والتسعون بعد المئتين، ثم تتابع ترقيم السنين بعدها. (¬4) في الطبري 10/ 109، والكامل 7/ 531: في ثلاثة نفر.

القاسم بن عبيد الله الوزير

ثمَّ إنَّ المكتفي خلَّف عساكره بالرقَّة مع محمَّد بن سليمان، وشخص إلى بغداد في خواصِّه وغلمانه، ومعه القاسم بن عبيد الله الوزير، وجماعةٌ مِمَّن أسر، ودخل بغداد والقرمطيُّ وأصحابُه بين يديه على الجمال، والقرمطيّ على فيل، وفي في المطوَّق خشبةٌ مَخروطة شبه اللّجام؛ لأنَّه كان يشتم النَّاس، ثمَّ بني لهم دكَّة عالية، ونُودي في بغداد من الجانبين: مَن أراد أن يحضرَ عقوبة القرمطيِّ فليحضر، فلم يتخلَّف أحد. وكان مع القرمطيِّ سبعون أسيرًا من أعيان أصحابه، وقيل: بل كانوا ثلاث مئة وعشرين، فعذَّبهم المكتفي بأنواع العذاب، فكان يقطع أيديهم وأرجلَهم من خِلاف وهم على وجوههم، فلمَّا فرغ منهم قدَّم المدَّثِّرَ فضرب أَلْف سوط، وكذا المطوَّق وصاحب الشَّامة، وضُربت أعناقُهم، وصُلبت أبدانهم، ثمَّ أُحرقوا. القاسم بن عُبيد الله الوزير ولد سنة ثمانٍ وخمسين ومئتين، ووَزَر للمعتضد والمكتفي، وكان شابًّا غِرًّا، قليلَ الخبرة بالأمور، مُستهلِكًا للمحارم، وإنَّما استوزره المكتفي لأنَّه أخذ له البَيعة، وحفظ عليه الأموال، وهو الذي قتل بَدْرًا المعتضديّ. وكان جبارًا ظالمًا سفَاكًا للدِّماء، لا ينام أحد إلَّا وهو على وَجَلٍ منه، وهو الذي حمل المكتفي على قتل عبد الواحد بن الموفَّق؛ ما زال يقول: إنَّه يَروم الخلافة حتَّى قتله، وبان بعد ذلك للمكتفي أنَّه ما كان يروم الخلافة، وأنَّه كان مَشغولًا باللهو، وكان عبد الواحد يتمثَّل بقول العَتَّابي: [من الطَّويل] ذَريني تَجئني ميتتي مُطمئنَّة ... ولم أتجشَّم هولَ تلك المواردِ فإنَّ نَفيساتِ الأُمور مُناطةٌ ... بمُستودَعاتٍ في بطون الأساودِ وإنَّ الذي يسمو إلى دَرَك العُلى ... مُلَقًّى لأسباب الرَّدى والمكائدِ فقال المكتفي: قاتلهم الله، قد قلنا لهم إنَّه ما له في الملك أَرَب فلم يسمعوا (¬1). وكانت وفاةُ القاسم في ذي القعدة. وقال الصُّولي: ومن العجائب التي رأيتُها أنَّنا كنَّا نُبَكِّر إلى عيادة القاسم كلَّ يوم، فدخلنا يوم الأربعاء الذي توفِّي فيه لستٍّ من ذي القعدة دارَه، فرأينا ابنَيه أَبا عليٍّ وأبا ¬

_ (¬1) مروج الذهب 8/ 228 - 230.

محمد بن أحمد

جعفر قد خرجا، فقام النَّاس لهما، ودنا العبَّاس بن الحسن (¬1) بن أبي أَحْمد إليهما فقبَّل يديهما، ومات القاسم في بقيَّة اليوم، وخُوطب العبَّاس بالوزارة بإشارة القاسم، فخرج الولدان جميعًا فقبَّلا يده، وكان مَغَلُّ القاسم في كلِّ سنة سبع مئة أَلْف دينار. ولما مات فرح النَّاس بموته، وأظهروا الشَّماتة به، فقال [عبد الله بن] الحسن بن سعد (¬2): [من المتقارب] شَرِبْنا عشيَّةَ مات الوزيرُ ... ونَشربُ يَا قوم في ثالثِهْ فلا قدَّس الله تلك العظامَ ... ولا باركَ الله في وارثِه وكان القاسم قد مرض في رمضان، ودام مرضه، فاستخلف ابن أخيه عبد الوهَّاب بن الحسن بن عُبيد الله، فكان يدخل على المكتفي، فاعترض يومًا عليه، فلمَّا خرج من عنده تمثَّل المكتفي: [من الطَّويل] ولَمَّا أبي إلَّا جماحًا فؤادُهُ ... ولم يسْلُ عن ليلى بمالٍ ولا أهلِ تسَلَّى بأُخرى غيرِها فإذا الذي ... تسَلَّى بها تُغري بلَيلى ولا تُسلي (¬3) محمَّد بن أَحْمد ابن البراء بن المُبارك، أبو الحسن، العَبْديُّ. كان فاضلًا، سمع عليَّ بن المدينيّ وطبقتَه، وروى عنه المَحامليُّ وأقرانُه، وكانت وفاته ببغداد. جرى بينه وبين القاضي إسماعيل بن إسحاق شيءٌ، فعزم إسماعيلُ على الرُّكوب إليه، فبادره العبديُّ وأنشد: [من الطَّويل] صَفَحتُ ابنَ عمِّي فيك (¬4) صَفْحَ ضَرورةٍ ... إليكَ وفي قلبي نُدُوبٌ من العَتْبِ ¬

_ (¬1) في (خ): الحسين، والمثبت من المنتظم 13/ 28. (¬2) في (خ): فقال الحسن بن معبد، والمثبت من مروج الذهب 8/ 227، ووفيات الأعيان 3/ 362، والوافي بالوفيات 24/ 130. (¬3) المنتظم 13/ 27، وانظر تاريخ الإِسلام 6/ 1000. (¬4) في تاريخ بغداد 2/ 104 - 106، والمنتظم 13/ 28: صفحت برغمي عنك، وانظر ترجمته في تاريخ الإِسلام 6/ 1008.

محمد بن محمد بن إسماعيل

فأنشد إسماعيل: [من الطَّويل] ولا زال بي شَوقٌ إليك مُبرِّحٌ ... يُذلِّل منِّي كلَّ مُمْتَنِعٍ صَعْبِ محمَّد بن محمَّد بن إسماعيل ابن شدَّاد، أبو عبد الله، الأنصاريُّ، ويُعرف بالجُذُوعيّ. كان صالحًا، ورِعًا، دَيِّنًا، ثِقَة، توفِّي ببغداد في جمادى الآخرة، حدَّث عن عليِّ بن المدينيّ وغيرِه، وروى عنه المحامليُّ وغيرُه. وقال محمَّد بن [علي بن الخلال] البصريُّ: أُدخل الشهودُ والقضاةُ بمدينة السلام على المعتمد ليَشهدوا عليه في دَين كان اقترضه عند الإضاقة، وأنفقه على صاحب الزَّنْج، فلمَّا مَثُلوا بين يديه، قرأ عليه إسماعيلُ بنُ بلبل الكتابَ، وقال: تشهد الجماعة على أمير المُؤْمنين؟ قال: نعم، فشهد واحدٌ بعد واحد، حتَّى بلغ الأمر إلى الجُذُوعيِّ، فأخذ الكتاب بيده وقال: أشهد عليك؟ قال: نعم، قال: لا يصحُّ حتَّى تقول: اشهد، فقال: اشهد. ثمَّ خرجوا، فقال المعتمد: مَنْ هذا؟ قالوا: القاضي الجُذُوعيّ، قال: أبطَّال هو أم عمَّال؟ قالوا: بطَّال، قال: مثل هذا لا يكون بطَّالًا، فقلَّده القضاء على واسِط، فصار إليها، وكان بها الموفَّق، فاحتاج يومًا إلى مشاورة القاضي، فقال: استَدعُوه، فاستدعَوْه، فجاء وعلى رأسه دَنِّيَّة طويلة (¬1) -وكان قصيرَ العُنُق- فدخل دِهليز الموفَّق، فالتقاه غلامٌ وهو مَخمور، وكان مكينًا عند الموفَّق، فوضع يده على قَلَنْسُوةِ القاضي وكبسها، فغاص رأسُه فيها. ومضى الغلام، فجلس الجُذُوعي موضعَه، وعمد غلامُه ففتقها وأخرج رأسَه منها، فثنى ردَاءه على رأسه، وعاد إلى داره، وأحضر الشُّهود، وسلَّم إليهم قِمَطرَ القضاء، وصرفَهم وأغلق الباب. وطال على الموفَّق انتظارُه، فأرسل وراءه، فلم يَخرج من داره، وحدَّثوا الرسول بالقصَّة، فجاء فأخبر الموفَّق، فاستدعى صاحبَ الشرطة وقال له: جرِّد الغلامَ، ¬

_ (¬1) شرحها محقق نشوار المحاضرة 2/ 26 أنها عمامة تشبه الدن يتقلدها القضاة.

هارون بن موسى بن شريك

واحملْه إلى باب القاضي، واضربه أَلْف سوط، وتوعَّدَه إن لم يفعل. وكان والد الغلام من جِلَّة القوَّاد، ومحلُّه منهم محلُّ مَن لو همَّ بالعصيان لأطاعه الجيش، فلم يقل شيئًا، وجاء القوَّاد إليه وقالوا له: مُرْنا بأمرك، وترجَّلوا ووقفوا بين يديه، فقال والد الغلام: الأميرُ الموفَّق أشفقُ عليه منِّي، فمشى القوَّاد بأسرهم مع صاحب الشُّرطة والغلام إلى الجُذُوعيِّ، وشفعوا إليه وتضرَّعوا وسألوه، فقال لصاحب الشرطة: لا تضربه، فقال: لا بُدَّ، وما أتجاسَرُ أن أخالِفَ الموفَّق، فركب الجُذُوعيُّ إلى دار الموفَّق، وسأله في الغلام فقال: لا بُدَّ من ضربه، فقال: الحقُّ لي، وقد وهبتُه. فسكت الموفَّق، وعاد الجُذُوعيُّ إلى بغداد (¬1). هارون بن موسى بن شَريك أبو عبد الله، التَّغلِبيُّ، الأخْفَش، المُقرئُ، النَّحْويّ، الشاميُّ. ولد سنة مئتين، سمع هشامَ بنَ عمَّار وطبقتَه، وكان إمامًا في كلِّ فنٍّ وفي القراءات. قال: دخلنا على أبي مسْهر الغسَّانيّ نعوده، فقال: [من الطَّويل] يَسُرُّ الفتى ما كان قدَّم من تُقًى ... إذا نزل الدَّاءُ الذي هو قاتلُهْ ولَمَّا مات الأخفشُ جلس مكانه محمَّد بن نُصير بن أبي حَمْزة، وهذا هو الأخفش الشاميُّ، أمَّا الأخفش البصريُّ فاسمه سعيد بن مَسْعدة، وثَمَّ أخفشُ ثالث نذكره سنةَ خمس عشرة وثلاث مئة (¬2). * * * ¬

_ (¬1) نشوار المحاضرة 2/ 52 - 27، وتاريخ بغداد 4/ 336 - 339، والمنتظم 13/ 30 - 32، وتاريخ الإِسلام 6/ 1043. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 27/ 47، وتاريخ الإِسلام 6/ 1062 - 1063 وقد ذكرا أنَّه تُوفِّي سنة اثنتين وتسعين ومئتين. وينظر النجوم الزاهرة 3/ 133.

السنة الثانية والتسعون بعد المئتين

السنة الثَّانية والتسعون بعد المئتين (¬1) فيها في صفر سار محمَّد بن سليمان إلى مصر لحرب هارون بن خُمارويه، وخرج إليه هارون في القوَّاد، وجرت بينهم وَقعات، ثمَّ وقع بين أصحاب هارون في بعض الأيام عصبيَّة، فاقتتلوا، فخرج هارون يُسكِّنهم، فرماه بعضُ المغاربة بسهم فقتله، وتفرَّقوا، فدخل محمَّد بن سليمان مصر، واحتوى على دُور آل طولون وأسبابِهم، وأخذهم جميعًا وكانوا بضعة عشر رجلًا، فقيَّدهم وحبسهم واستصفى أموالهم، وكتب بالفتح إلى المكتفي. وقيل: إنَّ محمدَ بنَ سليمان لَما قَرُب من مصر أرسل إلى هارون يقول: إنَّ الخليفة قد ولَّاني مصرَ، ورسَمَ أن تسير بأهلك وحَشَمك إلى بابه إن كنتَ مُطيعًا، وبعث بكتاب الخليفة إلى هارون، فعرضه على القوَّاد، فأبَوْا عليه، فخرج هارون، فصاح: المكتفي يَا منصور، فقال القوَّاد: هذا يُريد هلاكَنا، فدسُّوا خادمًا فقتله على فراشه، وولَّوْا مكانه عمَّه شيبان بن أَحْمد بن طولون، ثمَّ خرج شيبان إلى محمَّد مُستأمِنًا. وكتب الخليفة إلى محمَّد بن سليمان في إشخاص آل طولون وأسبابهم والقوَّادِ، وأن لا يترك أحدًا منهم بمصر ولا الشَّام، فبعث بهم إلى بغداد، فحُبسوا في دار صاعد. وفي جمادى الأولى زادت دِجلة زيادةً عظيمة حتَّى تهدَّمت الدُّور والقصور التي على شاطئيها، وبلغت الزيادةُ إحدى وعشرين ذِراعًا، وخربت بغداد، ولم يُرَ مثل هذه الزيادة. وفي رمضان غلب قائد من قوَّاد مصر يقال له: الخَلَنْجيُّ (¬2)، كان قد تخلَّف عن محمَّد بن سليمان في أطراف مصر، فاستمال جماعةً من المصريِّين مِمَّن يحبُّ الفتنةَ، وكان النوشريُّ عاملَ المعونة بمصر (¬3)، فأخرجه الخلنجيُّ إلى الإسكندرية، واستولى على مصر. ¬

_ (¬1) في هذه السنة والتي تليها تأخير وتقديم في (ف م 1)، وما يرد بين معكوفات منهما. (¬2) في تاريخ الطبري 10/ 119: الخليجي، وفي مروج الذهب 8/ 236: ابن الخليجي. (¬3) في (خ): وكان النوشري عامل لمعاوية بمصر. والمثبت من تاريخ الطبري 10/ 119، والكامل 7/ 536، وينظر تاريخ الإِسلام 6/ 864 - 865.

إبراهيم بن عبد الله

وفيها قدم بغداد بدر الحماميُّ الحاكم على مصر والشَّام، وهو الذي قتل القرمطيَّ، فتلقَّاه أرباب الدَّولة، وخُلع عليه وعلى ابنه (¬1)، وطُوِّق بدر وسُوِّر، وقيِّدت بين يديه خيلُ الخليفة جنائبَ، وحمل إليه مئةُ أَلْف درهم. وجهَّز المكتفي فاتكًا مولى المعتضد لمحاربة الخَلَنْجيِّ، وضمَّ إليه بدرًا الحماميَّ، وأمره أن لا يخالف بدرًا، وجهَّزه في جيش كثيف، فخرجا من بغداد في شوَّال. وفيها وافت بغداد هديَّةُ إسماعيل بن أَحْمد والي خراسان، فكان فيها ثلاث مئة جمل، عليها صناديق فيها المسكُ والعنبرُ والثِّياب [من] كلِّ لون، ومئةُ غلام وغيرُ ذلك. وتوفِّي القاضي أبو خازم، فنُقل أبو عمر محمَّد بن يوسف من مدينة المنصور إلى قضاء الشرقيَّة، وقلِّد عبد الله بن عليّ بنِ أبي الشَّوارب قضاءَ مدينة المنصور. وقَدِم طُغْج وجماعةٌ من الشَّاميين والمصريين فخلع عليهم المكتفي وأنزلهم. وفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلةً خلت من رجب، ولتسع عشرة من أيَّار طلع كوكب الذَّنَب في الجوزاء، وكان له طول عظيم دقيق (¬2). وحجَّ بالنَّاس الفضل بن عبد الملك الهاشميُّ. [فصل] وفيها تُوفِّي إبراهيم بنُ عبد الله ابن مسلم، أبو مسلم، الكُجِّيُّ (¬3) البَصْريُّ. ولد سنة مئتين، ورحل وسمع الكثير، وكان حافظًا متقنًا. [قال الخَطيب: ] قدم بغداد، فكان يُملي برَحْبةِ غسَّان، ويُملي على سبعة، كل واحد منهم يبلِّغُ الذي يليه، ويكتب النَّاسُ عنه قيامًا بأيديهم المحابر، ومُسِحَ المكان الذي ¬

_ (¬1) في (خ): ابنيه، وفي (ف): أَبيه، والمثبت من (م 1)، وهو الموافق لما في النجوم الزاهرة 3/ 156. (¬2) في المنتظم 13/ 33: وطلع كوكب الذنب وقت المغرب لعشر خلون من رجب في آخر برج الحوت، وفي الكامل 7/ 537: في العشرين من أيار طلع كوكب له ذنب عظيم جدًّا في برج الجوزاء. (¬3) بعدها في (ف) و (م 1): ويقال الليثيّ. وهو تحريف عن الكشي، انظر ترجمته في تاريخ بغداد 7/ 37، والمنتظم 13/ 34، وتاريخ الإِسلام 6/ 911، والكامل 7/ 537.

إدريس بن عبد الكريم

كانوا قيامًا، فكان فيه نيِّف وأربعون ألفَ مِحْبَرة سِوى النَّظَّارة [قال: ] وتوفي ببغداد لسبع خلون من المحرَّم، وله اثنتان وتسعون سنة، وحُمل إلى البصرة فدُفن بها. سمع محمَّد بن عبد الله الأنصاريَّ وخلقًا كثيرًا، وروى عنه البغويُّ وخلقٌ كثير. واتَّفقوا على صدقه وثقته. وكان قد نذر أنَّه إذا حدَّث تصدَّق بألف دينار (¬1)، فلمَّا فرغوا من سماع السُّنن عليه، عمل مأدُبةً للمحدّثين، أنفق فيها أَلْف دينار. وقال: شهدتُ اليوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَبل قولي، ولو شَهِدتُ وحدي على دَسْتَجة (¬2) بَقْلٍ لاحتجتُ إلى شاهد آخر يشهد معي، أفلا أصنع شكرًا لله تعالى. وكان جوادًا مُمدَّحًا؛ مدحه البحتريُّ بقصائد منها: [من الخفيف] ولعمري لئن دعوتكَ بالجو ... دِ لَقِدْمًا لبَّيتني بالنَّجاحِ خُلُقٌ كالغمامِ ليس له بَرْ ... قٌ سوى بِشْرِ وَجْهِك الوضَّاحِ ارتياحًا للطَّالبين (¬3) وبَذْلًا ... والمعالي للباذلِ المُرْتاحِ وحكى الصُّوليُّ عن الكجِّيِّ أنَّه سمع شعرًا (¬4) من بعض الجنِّ في الحمَّام بالبصرة، ثم سأل الحمَّاميَّ فقال: نعم، هذا جِنِّيٌّ يتراءى لنا في كلّ وقت، وينشد: [من الخفيف] أيُّها المُذنِبُ المفرِّطُ مَهْلًا ... كم تمادى وتركبُ الذَّنبَ جَهْلا كم وكم تُسْخِطُ الجليلَ بفعلٍ ... سَمِجٍ وهْو يُحسن الصُّنع فعلَا (¬5) كيف تَهدا جفونُ مَن ليس يدري ... أَرَضي عنه مَن على العرش أم لا إدريس بن عبد الكريم أبو الحسن، الحدَّاد المُقرئ. ولد سنة تسع وتسعين ومئة، ومات ببغداد يوم الأضحى وهو ابنُ أربع وتسعين سنة. ¬

_ (¬1) الذي في تاريخ بغداد 7/ 37، والمنتظم 13/ 34، وتاريخ الإِسلام 6/ 912: بعشرة آلاف درهم. (¬2) الدَّسْتَجة: الحزمة، تاج العروس. (¬3) في (خ): للنادلين، والمثبت من ديوانه 1/ 459، وتاريخ بغداد 7/ 39. (¬4) في (خ): وسمع الكجي شعرًا، والمثبت من (ف) و (م 1). (¬5) في (ف): وهو يحسن الصنيع يجزيك فعلًا، وفي (م 1): وهو يحسن إليك أبدًا فضلًا، والمثبت من (خ).

القاضي أبو خازم

سمع الإِمام أَحْمد رحمة الله عليه وغيرَه، وروى عنه ابنُ الأنباريِّ وغيرُه. وسئل عنه الدَّارقطنيُّ فقال: هو ثِقَةٌ وفوق الثِّقة بدرجات. وقال ابنُ مِقسم: كنت عند أبي العبَّاس أحمدَ بنِ يحيى إذ جاءه إدريس الحدَّاد، فأكرمه وحادثه ساعةً -وكان إدريس قد أسنَّ- فقام وهو يتساند، فلَحَظَه أبو العبَّاس وقال: [من الطَّويل] أرى بصري في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... يَكِلُّ وطَرفي عن مَدَاهُنَّ يَقْصُرُ ومَن يَصْحَبِ الأيامَ تسعين حِجَّةً ... يُغيِّرْنَه والدَّهرُ لا يتغيَّرُ لَعَمري لئن أصبحتُ أمشي مُقيَّدًا ... لما كنتُ أمشي مُطْلَقَ القَيدِ أكثرُ (¬1) القاضي أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الحميد، السَّكونيُّ، الإِمام، الفاضل، الورع (¬2). أصله من البصرة، وسكن بغداد، ولي القضاء على مدينة السَّلام وغيرِها. وكان عراقيَّ المذهب، عاقلًا، عَفيفًا، ثقةً، أديبًا، وولي قضاء دمشق والأردن وفلسطين في أيَّام أَحْمد بن طولون، وولي الكوفة. وقال ابن حَبيب الذَّارع: كنَّا ونحن أحداث نُقعد أَبا خازم قاضيًا ونتحاكم إليه، فما مضت الأيامُ والليالي حتَّى صار قاضيًا. وكتب إليه عُبيد الله الوزير بسبب ضيعة مجاورة لضياعه أن يبيعها على اليتيم، فكتب إليه أبو خازم: إن رأى الوزير أن يجعلني أحدَ رجلين؛ إمَّا رجلًا صِيْن الحكمُ به، أو صِين الحكمُ عنه، فعل، فسكت ولم يعادوه. وقال طلحة بن محمَّد بن جعفر: استقضى المعتضدُ أَبا خازم على الشَّرقية سنة ثلاث وثمانين ومئتين، وكان أديبًا، ورعًا، عالمًا بمذاهب أهل العراق، والفرائض، والدُّور، والوصايَا، والمناسخات، والجبر، والمقابلة، والمَحَاضر، والسّجلَّات، وأمَّا عقله فلم يكن في زمانه من أبناء جنسه أعقل منه. ¬

_ (¬1) سؤالات السهمي 203، وتاريخ بغداد 7/ 466 - 468، والمنتظم 13/ 37، وتاريخ الإِسلام 6/ 916. (¬2) تاريخ بغداد 12/ 338، والمنتظم 13/ 38، وتاريخ الإِسلام 6/ 971، ومروج الذهب 8/ 236.

وأدَّب رجلًا فمات، فكتب إلى المعتضد: يَا أمير المُؤْمنين، إذا كان المُرادُ من التأديب مصلحةَ المسلمين؛ فدِيةُ هذا الرَّجل في بيت المال، فأمر المعتضد يحمل الدِّية إلى وَرَثة الميت. وقال عبد الواحد بن محمَّد الخَصيبي: بلغ من شدَّة أبي خازم في الحكم أنَّ المعتضدَ وجَّه إليه بطَريف المَخْلدي يقول: إنَّ لي على الضُّبعي مالًا من بيع، وقد بلغني أنَّ غُرماءه أثبتوا عندك ديونَهم، وقد قسَّطتَ لهم من ماله، فاجعلني كأحدهم، فقال: قل لأمير المُؤْمنين: إنَّه لَمَّا قلَّدني هذا الأمر أخرجه من عُنقه وجعله في عنقي، ولا يجوز لي أن أحكم بغير بيِّنة. فرجع إليه طريف فأخبره، فقال المعتضد: قل له: فلان وفلان يشهدان، لرجلين كانا جَليلين في ذلك الوقت، فقال: إذا شهدا عندي سألت عنهما، فإن زُكِّيا قبلتُ شهادتهما، وإلا أمضيتُ ما ثبت عندي، فامتنع أولئك الرجلين من الشَّهادة؛ خوفًا من القاضي، ولم يعطِ المعتضد شيئًا. وأُثني على قاضٍ عند أبي خازم بالعِفَّة، فقال: قبَّح الله زمانًا صار القاضي يُوصف فيه بالعِفَّة، إنَّما يوصف بالعِّفَّة صاحبُ الشرطة لا القُضاة. وقال وكيع القاضي: كان المعتضد قد أخذ أراضي من أوقاف الحسن بن سهل، فأدخلها في قصره المعروف بالحسني، فلمَّا جاء رأس السَّنَة أرسلني إلى المعتضد أطلب منه الأجرة، وقال لي: قل للخادم: إنَّما جئتُ في مهمٍّ، ففعلتُ ما أمرني به، فدخل الخادم على الخليفة وأخبره، فظنَّ أنَّه قد حدث أمرٌ، فأحضرني وقال: هي (¬1)، وَتشَوَّفَ إلى سماع كلامي، فقلت: يَا أمير المُؤْمنين، براءةُ الذِّمَّة عند الله عظيمة، قال: وما هو؟ فأخبرتُه، فقال: أصاب عبد الحميد، فجزاه الله خيرًا حيث عرَّفني بهذا، يَا غلام، هاتِ الميزان, فأحضرَ الدنانير، ووزن أربع مئة دينار وقال: اشكر عبد الحميد. وجاءه رجل فقال: يَا أَبا خازم، إنَّ الشيطان قد شوَّش عليَّ، يأتي إلي كلَّ ساعة ويقول: قد طلَّقتَ زوجتك، وأنا في عَناء معه، فغافَلَه القاضي ساعة، واشتغل عنه بالخصوم، ثمَّ التفت إليه وقال: قمْ فاكتُبْ براءةَ امرأتك، قال: ولِمَ؟ ! قال: لأنَّك ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 12/ 340: هيه، وكلاهما يراد به الاستزادة من الكلام.

طلَّقتَها، فقال: أيُّها القاضي، خَفِ الله، فوالله وتالله وبالله، وحلف بالأيمان المغلَّظة أنَّه ما طلَّقها، فقال له: إذا جاءك الشَّيطان فاحلِفْ له مثل هذه اليمين وقد خلصتَ منه. ومن شعره: [من المتقارب] يُدِلُّ فيا حبَّذا من مُدِلّ ... ومن سافكٍ لدمي مُستَحِلّ إذا ما تعزَّز قابلتُه ... بذُلٍّ وذلك جُهْدُ المُقِلّ ولَمَا احتُضِرَ جعل يبكي ويقول: يَا إلهي، مِنَ القضاء إلى القبر؟ ! وتوفِّي ببغداد في رجب، وقيل: بالكوفة، وله خمس وسبعون سنة، واتَّفقوا على صدقه، وثقته، وفضله، وزهده، وورعه. أسند عن محمَّد بن بشار العَبديّ وغيرِه، وروى عنه عبد الله بن أَحْمد بن ربيعة بن زَبْر وغيرُه. * * *

السنة الثالثة والتسعون بعد المئتين

السنة الثالثة والتسعون بعد المئتين فيها في المحرَّم واقع الخَلَنجيُّ المتغلِّبُ على مصرَ عسكرَ المكتفي على العَريش، فهزمهم أقبحَ هزيمة، وكان فيهم أَحْمد بن كَيغَلَغ، فجهَّز المكتفي إليه جماعة فيهم إبراهيمُ بنُ كيغلغ. وفيها ظهر بالدَّالية من طريق الفرات أخٌ للحسين بن زَكْرويه (¬1)، وحارب أهلها، فندب المكتفي لقتاله الحسينَ بن حَمْدان، وصار القرمطيُّ إلى دمشق فحارب أهلها، فمضى إلى طبريَّة وحارب أهلها، فغلب عليها ودخلها، فقتل عامَّة أهلها من الرِّجال والنِّساء، ونَهبها، وانصرف إلى ناحية البادية. وقال محمَّد بن داود بن الجرَّاح: لَمَّا قُتل الحسين بن زكرويه صاحبُ الشَّامة، أنفذ أبوه زكرويه بن مهرويه من القَطيف رجلًا كان يُعلِّم الصِّبيان بقريةٍ تُدعى الزَّابُوقة من عمل الفلُّوجة؛ يسمَّى عبد الله بنَ سعيد، ويُكْنى أَبا غانم، فتسمَّى نصرًا ليُعَمِّي أمرَه، فدار على أحياء كَلْب يدعوهم إلى رأيه، فلم يقبله أحد سوى رجل واحد من بني زياد يسمَّى المِقْدام بنَ الكيَّال، فاستغوى له طوائفَ من بطون العرب، وقصد ناحيةَ الشَّام، وعاملُ المكتفي على دمشقَ والأردن أحمدُ بن كيغلغ، وهو مقيمٌ بمصر لحرب الخلنجيِّ، فاغتنم عبد الله بن سعيد ذلك، وسار إلى بُصرى وأَذرِعات والبَثَنيَّة، فحارب أهلها ثمَّ أمَّنهم، فلمَّا استسلموا قَتل مقاتلتهم، وسبى ذراريَّهم، وأخذ أموالهم. وجاء إلى دمشق، فخرج إليه صالحُ بن الفضل، فقتله وفضَّ عَسْكَرَه، ودافعه أهلُ دمشق فلم يقدر عليهم، فمضى إلى طبريَّة، وكان على الأردن وطبريَّة يوسفُ بن إبراهيم عاملُ أَحْمد بن كيغلغ، فأَمَّنه القرمطيُّ، ثمَّ غدر به فقتله، ونهب طبريَّة، وسبى نساءها، فبعث المكتفي الحسين بن حمدان، فورد دمشق والقرامطةُ بطبريَّة، فعطفوا نحوَ السَّماوة، وتبعهم الحسين، فلَحِجُوا (¬2) في البريَّة، فانقطع الحسين عنهم لقلَّة الماء، ¬

_ (¬1) في (خ): للحسين بن حمدان بن زكرويه، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ الطبري 10/ 121، والمنتظم 13/ 44، وتاريخ الإِسلام 6/ 866. (¬2) أي: دخلوا ولجؤوا. ينظر اللسان: (لحج).

ووصل القرمطيُّ إلى هِيت لتسع بقين من شعبان، فصبَّحها، فقتل عامَّة أهلِها، وأحرق المنازل، وأوقر الأموال ثلاثة آلاف راحلة كانت معه، وأخذ من الأطعمة ما يحتاج إليه، ولم يقدر على قلعتها، وإنَّما فعل هذا بأهل الرَّبَض (¬1). وبلغ المكتفي، فجهَّز إلى هِيت محمدَ بنَ إسحاق بن كُنْداجِيق، فهربوا في البريَّة لَمَّا علموا به، وكان الحسين بن حمدان قد وصل الرَّحْبة، فكتب إليه ابنُ كُنداجيق ليجتمعا على طلبهم، فلمَّا أحسَّ الكَلبيّون وغيرُهم بإقبال الجند إليهم ائتمروا بعدوِّ الله المسمَّى نصرًا، فوثب عليه رجل منهم يقال له: الذِّئب بن القائم (¬2) ففَتَك به، ونهبوا ما كان معه، وجاءت طلائعُ محمَّد بن إسحاق، فظفروا بالقرمطيِّ قتيلًا، فاحتزُّوا رأسَه، وبعثوا به إلى بغداد. ووقعت الدماء بين القرامطة والعرب والقبائل، فأرسل المكتفي إلى محمَّد بن إسحاق يأمره باستئصالهم (¬3)، فأنفذ إليهم زَكْرَويه داعيةً من أهل السَّواد من الأكَرَة (¬4)، يسمَّى القاسم بن أَحْمد بن عليّ، ويعرف بأبي محمَّد، من رُستاق نهر تلخايا (¬5)، فأَعْلَمَهم أنَّ فِعْل الذِّئب قد أنفره عنهم، وأنَّهم قد ارتدُّوا عن الدِّين، وأنَّ وَقْت (¬6) ظهورهم قد حضر، وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفًا، ومن سوادها مئة أَلْف رجل (¬7)، وأنَّ يومَ موعدِهم هو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] وأنَّ زَكْرويه يأمرهم أن يُصبِّحوا الكوفةَ يوم النَّحر، وهو يوم الخميس لعشرٍ خَلَوْنَ من ذي الحجَّة، وكان بها إسحاقُ بن عمران عاملُ المكتفي، فصبَّحوها يوم النَّحْر، فقاتلهم أهلُ الكوفة. ¬

_ (¬1) الرَّبَض: ما حول المدينة، وقيل: هو الفضاء حول المدينة. اللسان: (ربض). (¬2) في (خ): القاسم: والمثبت من تاريخ الطبري 10/ 124، والكامل 7/ 543. (¬3) في تاريخ الطبري 10/ 124، والكامل 7/ 543: وكتب السلطان إلى حسين بن حمدان يأمره بمعاودتهم واجتثاث أصولهم. (¬4) جمع أكّار، الحراث والزراع. اللسان (أكثر). (¬5) في تاريخ الطبري: تلحانا، وفي بغية الطلب 2/ 938: ملخانا، ولم أحققها. (¬6) في (خ) وقعت. وهو خطأ. والمثبت من تاريخ الطبري. (¬7) في تاريخ الطبري 10/ 124: أربع مئة أَلْف رجل.

وكتب إسحاق إلى المكتفي يَستمدّه، فبعث إليه جماعةً من القوَّاد في جيش كثيف إلى موضعٍ يقال له: الصَّوَّان (¬1)، بينه وبين القادسية أربعة أميال، وجاءهم زكرويه، فالتَقوا يوم الأحد لعشرٍ بَقينَ من ذي الحجَّة. وكمّن زكرويه كمينًا، فكانت الدَّبْرة أوَّلَ النَّهار على القرامطة، فلما انتصف النهار خرج الكَمين فانهزم أصحاب المكتفي أقبحَ هزيمة، وقتلهم القرامطة كيفما شاؤوا، وغنموا جميع ما كان معهم، ولم ينْجُ منهم إلى الكوفة إلَّا كلُّ من كان فرسُه جوادًا، وتقوَّى زَكْرويه بما أخذ منهم، وكان معهم القاسم بن أَحْمد داعية زَكْرويه، فضربوا عليه قُبَّة، وقالوا: هذا ابنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ هجموا الكوفة وهم يصيحون: يَا ثارات الحسين، يعنون ابنَ زكرويه، وأظهروا الأعلام البيض، استغوَوْا رَعاع الكوفيين، فخرج إليهم إسحاق بن عمران وجماعةٌ من الطَّالبيين والعامَّة، فقاتلوهم أشدَّ قتال، وأخرجوهم عن الكوفة، فتفرَّقوا في سوادها. وفيها ظفر المكتفي بالخَلَنجيِّ، وكان المكتفي قد عزم على الخروج بنفسه إلى مصرَ، وضرب خيامه بباب الشمَّاسيَّة، وكان فاتكٌ المعتضديُّ في حرب الخَلَنجيّ فزحف عليهم، فانهزم إلى مصر، ودخل الفُسْطاط، وقُتِل أكثر أصحابه، وانهزم الباقون، واحتوى فاتكٌ على عسكره، واستتر الخَلَنْجيُّ عند رجل من أهل الفُسطاط، فدُلَّ عليه، فأُخِذ ومعه جماعة من أصحابه، وبعثه فاتكٌ إلى بغداد، فدخلها الخلنجيُّ في نصف رمضان وأصحابُه على الجمال، فأُحضروا بين يدي المكتفي، فأمر بحبسهم ولم يقتلهم. وفيها عُمِل ببغداد على دجلة من جانبيها مثلُ مِقياس مصرَ، طولُه خمسة وعشرون ذراعًا، على كلِّ ذِراع علاماتٌ يَعرفون بها الزيادةَ، ثمَّ خرب بعد ذلك. وحجَّ بالنَّاس الفضلُ بنُ عبد الملك الهاشميُّ. وفيها تُوفِّي ¬

_ (¬1) في الطبري 10/ 125: بالصوءر، وفي نسخ من الكامل 7/ 544: بالصوار، والمثبت موافق لما في متن الكامل.

صالح بن محمد

صالح بن محمَّد ابن عَمرو بن حَبيب، أبو عليٍّ، الأسديُّ، البغداديُّ، الملقَّب جَزَرة. وإنَّما لُقِّب بذلك لأنَّه جاء في حديث عبد الله بن بُسْر أنَّه كانت خَرزَة يَرقي بها المرضى، وكانت لأبي أُمامة الباهليّ، فصحَّفها وقال: جَزَرة، بجيم وراء معجمة. وُلد صالح سنة خمس ومئتين، وكان مِمَّن يُرجع إليه في علم الآثار, انتقل من بغداد إلى بُخارى، وأقام بها إلى أن مات بها، فحصل حديثه عند أهلها. سمع هشامَ بن عمار وغيرَه، وروى عنه مسلمُ بن الحجَّاج وغيرُه. وقال: كان ببغداد شاعران؛ أحدُهما صاحب حديث، والآخر معتزليٌّ، فمرَّ بي المعتزليُّ يومًا فقال: يا بنيّ، كم تكتب؟ ! يذهبُ بصركَ، ويَحْدَودبُ ظهرُكَ، ويزداد فَقرُكَ، ثمَّ أخذ كتابي وكتب عليه: [من مجزوء الكامل] إنَّ القراءةَ والتَّفقُّه ... والتَّشاغلَ بالعُلُوم أصلُ المَذَلَّة والتقلُّل ... والمَهانة والهُمُوم ثمَّ ذهب، وجاء الآخر فقرأ الشعر، فقال: ما هذا؟ فأخبرتُه فقال: كذب عدوّ الله، بل يرتفع ذكرُكَ، وينشرُ علمك، ويبقى اسمُك مع اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ثمَّ كتب على كتابي: [من مجزوء الكامل] إنَّ التشاغُلَ بالدَّفاتر والكتابة والدِّراسه أصلُ التفقُّه والتزهُّد والرِّياسة والسِّياسه واتَّفقوا على صدقه وفضله وثقته (¬1). [وفيها تُوفِّي] عبد الله بن محمَّد أبو العبَّاس، الأنباريُّ، النَّاشيء، الشاعر، ويعرف بابن شِرْشِير. [قال الخَطيب: قدم بغداد فأقام بها مدة. و] له تصانيف في الردِّ على الشعراء وأهلِ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 440، وتاريخ دمشق 8/ 225، وتاريخ الإِسلام 6/ 953، والمنتظم 13/ 52 وذكره في وفيات سنة (294 هـ).

المنطق [والنُّحاة، فلم يطاوعوه، فسقط ببغداد، وخرج إلى مصر] , وعمل قصيدة على قافية واحدة ورَويٍّ واحد أربعة آلاف بيت. خرج إلى مصر فأقام بها حتَّى مات، وكان [متهوِّسًا] شديد الهَوَس (¬1). فمن شعره (¬2): [من الطَّويل] عَذَلْتَ على ما لو عَلِمتَ بقدرهِ ... بَسَطْتَ مكانَ العَذْلِ واللَّومِ من عُذْري جهلتَ ولم تعلم بأنَّك جاهلٌ ... فمَنْ لي بأن تدري بأنَّك لا تدري وله أَيضًا: [من المتقارب] وكان لنا أصدقاءٌ حُماة ... وأعداءُ سَوءٍ فما خُلِّدوا تساقَوْا جميعًا بكأس الرَّدى ... فمات الصَّديقُ ومات العَدُو وله أَيضًا: [من الطَّويل] إذا المرءُ أحمى نفسَه كلَّ شَهوةٍ ... لصِحَّة أيَّام تَبِيدُ وتَنْفَدُ فما بالُه لا يحتمي من حَرَامها ... لصِحَّةِ ما يَبقى له ويُخلَّدُ (¬3) وقال الخرالطيُّ: أنشدني أبو العباس الناشئ (¬4): [من الكامل] إنِّي ليَهجُرني الصَّديقُ تجنِّيًا ... فأُريه أنَّ لهجره أسبابا وأراه إنْ عاتبتُه أغريتُه ... فيكون تَرْكي للعتابِ عتابًا وإِذا بُلِيتُ بجاهلٍ متجاهلٍ ... يجدُ المحال من المقالِ صوابا أوليتُه مني السُّكوتَ ورُبَّما ... كان السُّكوتُ عن الجواب جوابًا وقال بديهًا في قَيْنَة: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 297، وانظر في ترجمته المنتظم 13/ 45، وتاريخ الإِسلام 6/ 966، وما بين معكوفين من (ف م 1). (¬2) في (ف م 1): وقد روى الخَطيب طرفًا من شعره فمنها في داود بن عليّ الظاهري، والمثبت من (خ)، والشعر في تاريخ بغداد 9/ 349. (¬3) ذكر هذين البيتين ابن عبد البر في بهجة المجالس 1/ 144. (¬4) في (خ): وله أَيضًا. بدل قوله: وقال الخرائطي ... ، وهذه الأبيات نسبها ابن خلكان في وفيات الأعيان 3/ 370، للناشئ الأصغر، وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن وصيف المتوفى سنة 366 هـ.

فديتُكِ لو أنَّهم أنصفوا ... لرَدُّوا النَّواظرَ عن ناظريكِ تَرُدِّين أعيننا عن سواك ... وهل تنظرُ العَينُ إلَّا إليكِ وهم جعلوكِ رقيبًا علينا ... فمَنْ ذا يكون رقيبًا عليك ألم يقرؤوا وَيحَهم ما يرو ... ن مِنْ وَحْي حُسْنكِ في وَجْنَتيكِ (¬1) ورؤي في جامع دمشق (¬2) وقد خلع سراويله ليبيعَه، فقيل له: لو تقرَّبتَ من هؤلاء الملوك؟ ! فقال: [من الطَّويل] وإنِّي لأَرْضى باليسير تعفُّفًا ... ولي همَّةٌ تسطو على نُوَب الدَّهرِ أفكِّر في بَيعي قَبَائي بهمَّتي ... فأرتاحُ مِنْ ذُلِّ السُّؤال إلى الفقرِ مخافةَ أن ألقى بخيلًا مُبَخَّلًا ... يُثَمِّن لي نَزْرَ العطيَّةِ بالشُّكرِ * * * ¬

_ (¬1) ديوان المعاني 2/ 228، وتاريخ بغداد 11/ 298، والمنتظم 13/ 46. (¬2) في (ف م 1): وذكره الحافظ ابن عساكر وقال: قال أبو القاسم السمرقندي: رؤي الناشئ في جامع دمشق، والمثبت من (خ).

السنة الرابعة والتسعون بعد المئتين

السنة الرابعة والتسعون بعد المئتين في المحرَّم خرج زَكْرويه القِرمطيُّ من بلاد القَطيف يريد قافلة الحاجِّ، فجاء إلى واقِصَة، ثمَّ أقام قريبًا من الماء المسمى بسَلْمان، ووافت القافلة الأولى واقِصَة، فأنذرهم أهلُها، فارتحلوا فنجَوْا، وجاء القرمطيُّ إلى واقِصة، فسألهم عن القافلة، فأخبروه بأنَّهم لم يُقيموا، فقَتَل منهم جماعة، وتحصَّن الباقون بحصنهم. ثمَّ اعترض [زكرويه] قافلة خراسان لإحدى عشرة ليلةً خلت من المحرَّم بالعقبة التي يقال لها: عَقبة الشيطان، فحاربوه حربًا شديدًا وترجَّلوا، فقال لهم: أمعكم من عسكر السلطان أحد؟ قالوا: لا، قال: فامضوا لشأنكم فلست أريدكم، فساروا، فأوقع بهم، وجعل أصحابُه يَنخَسون الجِمَال بالرِّماح، ويبعجونها بالسيوف، فنَفَرت، وأكبَّ أصحاب القرمطيِّ على الحاجِّ يقتلونهم كيفما شاؤوا، فقتلوا من الرّجال وسبَوا النّساء، واحتَوَوْا على ما في القافلة، وأفلت من الجَرحى [قوم] فوقعوا بين القتلى، فتحاملوا في الليل ومضَوْا، فمنهم مَن مات في الطَّريق، ومنهم مَن نجا، وكان نساء القرامطة يطُفْن في القتلى يعرضْنَ عليهم الماء، فمن كلَّمَهنَّ أجهزوا عليه، فيقال: إنَّهم قتلوا من الحاجّ عشرين ألفًا، وأخذوا ما قيمتُه ألفي [أَلْف] دينار. وورد الخبر إلى بغداد يومَ الجمعة منتصف المحرَّم، فشقَّ ذلك على المكتفي والمسلمين، ووقع النَّوْح والبُكاء في البلد، [وعظُمت الرَّزّيَة] , فندب الوزير العباس بن الحسن، محمدَ بنَ داود بن الجَرَّاح الكاتب لإنفاذ الجيوش، فخرج من بغداد لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرَّم، وحَمَل معه أموالًا عظيمة. وسار زَكرويه إلى زُبالة فنزلها، وبثَّ الطلائعَ أمامَه ووراءَه؛ [خوفًا من أصحاب المكتفي، وكانوا مُقيمين بالقادسية] خوفًا منه على قافلة الحاجّ، فجرى عليهم ما جرى، ولم يعلموا إلَّا بعدما فات الأمر، وكانت قد تأخَّرت القافلة الثالثة وهي العُظمى، فسار إلى ما بين الشُّقوق والبِطان في طرف الرَّمْل ينتظرها في مكان يُعرف بالطُّلَيح.

محمد بن نصر

وكان في القافلة أعيانُ أصحاب السلطان، ومعهم الخزائنُ والجواهرُ والأموالُ وشَمْسةُ الخليفة، فوصلوا إلى فَيْد، وبلغهم خبرُه فأقاموا ينتظرون عسكر السلطان، فلم يَرِد إليهم أحد، فساروا فوافاهم بالهَبِير، وقاتلهم يومًا إلى الليل، ثمَّ عاودهم القتال في اليوم الثاني، فعطشوا واستسلموا، فوضع فيهم السيفَ، فلم يُفْلِت منهم إلَّا اليسيرُ، وأخذ النساء والأموال أعظم من القافلة الأولى. وبلغ المكتفي فندب لقتاله وصيف بن صُوارتكين ومعه الجيوشُ والقُوَّاد، وكتب إلى بني شيبان أن يوافوه، فجاؤوا في ألفين ومئتي فارس، وسلكوا على طريق خَفَّان، فلقيه وصيف يوم السبت لأربعٍ بقين من ربيع الأوَّل (¬1)، فاقتتلوا، ثمَّ حجز بينهم الليلُ، وأصبحوا على القتال، فنصر الله وَصيفًا وبني شيبان، فقتلوا عامَّةَ أصحاب القرمطيِّ الرجال والنِّساء، وخلَّصوا المسلمات والأموال، وخَلَص بعضُ الجند إلى زَكْرويه فضربه وهو مولٍّ على قفاه ضربةً خَلَصت إلى دماغه، وأخذه أسيرًا، وخليفتَه، وخواصَّه، وأقرباءَه، وابنَه، وكاتِبَه، وامرأتَه، واحتوى الجندُ على ما في عسكره، وعاش زكرويه خمسة أيام ثمَّ مات، فشقّوا بطنَه، وحُمِل إلى بغداد على هيئته، وقدم به وبالأسارى، فقُتِّلوا وأُحرقوا. وقيل: إنَّ الذي جرح زَكْرويه وصيف، ضَرَبه بالسيف فخالط دماغه، وتمزَّق أصحابُه في البريَّة، فماتوا عطشًا وجوعًا. [وقيل: إنَّ هذا العام يسمَّى عامَ الهرير؛ لأنَّ الوقعة كانت عنده]. وحجَّ بالنَّاس الفضلُ بن عبد الملك أَيضًا. وفيها تُوفِّي مُحَمَّد بن نَصْر أبو عبد الله، المَرْوَزيُّ، الفقيه. أحد الأئمة المشهورين، والمصنِّفين المذكورين [ذكره الأئمة وأثنوا عليه. ¬

_ (¬1) في الطبري 10/ 134، والكامل 7/ 551، والمنتظم 13/ 50: يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأول، والمثبت موافق لما في تاريخ الإِسلام 6/ 868.

قال الخطيب: ] (¬1) ولد ببغداد سنة اثنتين ومئتين، ونشأ بنَيسابور، واستوطن سَمَرْقَند، وهو صاحب التَّصانيف الكثيرة، والكتب المشهورة، وسافر إلى الأمصار في طلب العلم [وسمع خلقًا كثيرًا في خراسان والعراق والشام ومصر والحجاز]، وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام، وكان إمامًا، عالمًا، حافظًا، زاهدًا، عابدًا، ورعًا، كثيرَ الخشوع في صلاته، قليلَ الكلام فيما لا يعنيه. [وقال الخطيب: ] وهو مصنف كتاب "القسامة" وهو كتابٌ عزيزُ الوجود. وقال عبد الله بن محمد الثَّقفيُّ: جالست محمدَ بن نصر أربعَ سنين فلم أسمعه في تلك المدَّة يتكلَّم في غير العلم. وحكى الحاكم عنه أنَّه كان يتمنَّى الولدَ على كِبَر سنِّه، فجاءه رجل من أصحابه وعنده جماعة يذاكرهم العلم، فسارَّه في أُذنه بشيء، فرفع أبو عبد الله يديه وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ} [إبراهيم: 39] ثمَّ مسح وجهه بباطن كفَّيه، ورجع إلى ما كان فيه، فرأينا أنَّه استعمل في تلك الكلمة الواحدة ثلاث سنن؛ سمَّى الولدَ، والثانية: حَمِد الله تعالى على الموهبة، والثالثة: أنَّه سمَّاه إسماعيل لأنَّه وُلد على كِبَر، وقد قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وقال الحاكم: سمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول: ما رأيت (¬2) أحسنَ صلاةً من محمد بن نصر؛ كان الذُّباب يقع على أُذنه، فيَسيل الدَّم ولا يذبُّه عن نفسه، ولقد كنَّا نتعجب من حُسْن صلاتِه وخشوعه. وقال [الخطيب بإسناده عن عثمان بن جعفر اللبَّان قال: حدَّثني] محمد بن نصر [قال: ] خرجتُ من مصر ومعي جاريةٌ لي، فركبتُ البحر أريد مكَّة، فغرقتُ، وذهب منِّي ألفا جزء، وصرت إلى جزيرة ومعي الجارية فما رأينا فيها أحدًا، فأخذني العطشُ، فلم أقدر على الماء، فوضعت رأسي على فخذ جاريتي مستسلمًا للموت، فإذا رجل قد جاءني ومعه كُوز ماء، فقال: هاه، فأخذتُه وشربتُ وسقيتُ الجارية، فما ¬

_ (¬1) في تاريخه 4/ 508، وينظر المنتظم 13/ 54 - 57، وتاريخ الإسلام 6/ 1045 - 1049. (¬2) في (خ): وقال الحافظ محمد بن يوسف: ما رأيت، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في المنتظم 13/ 55.

أدري من أين جاء ولا أين ذهب. وقال محمد بن عبد الوهَّاب الثَّقفيُّ: كان إسماعيل بن أحمد والي خُراسان يَصِلُ محمدَ بن نصر في كلِّ سنة بأربعة آلاف درهم، ويصله أخوه إسحاقُ بن أحمد بأربعة آلاف درهم، ويصله أهلُ سمرقند بأربعة آلاف درهم، وكان يُنفقها من السَّنة إلى السَّنة من غير أن يكون له عيال، فقيل له: لعلَّ هؤلاء القومَ الذين يصلونك يَبدو لهم، فلو جمعتَ هذا لنائبة، فقال: يا سبحان الله، أنا بقيت بمصر كذا وكذا سنةً، فكان قُوتي وثيابي وكاغَدي وحِبْري وجميعُ ما أنفقه في السنة عشرين درهمًا، أفَترى إن ذهب هذا لا يبقى ذاك؟ ! و[حكى الخطيب بإسناده إلى محمد بن عبيد الله قال: سمعت] الأمير [أبا إبراهيم] إسماعيل بن أحمد يقول: كنت بسَمَرْقَنْد (¬1)، فجلستُ يومًا للمظالم، وجلس أخي إسحاق [إلى جنبي، إذ دخل أبو عبد الله المروزي، فقمتُ له إجلالًا لعِلمه، فلمَّا خرج عاتبني أخي إسحاق] وقال: أنت والي خراسان، يدخل عليك رجل من رعيَّتك فتقوم إليه، وهذا ذهاب السياسة؟ فبتُّ تلك الليلة، فرأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -[في المنام] وأخي إسحاق واقف معي، إذ أخذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعَضُدي وقال: يا إسماعيل، ثبَّت الله مُلكَكَ ومُلْكَ بنيك بإجلالك محمدَ بن نصر، ثمَّ التفت إلى أخي إسحاق فقال: ذهب مُلكُك وملكُ بنيك باستخفافك بمحمد بن نصر. وكان مُقيمًا بنَيسابور (¬2)، وكان مُفتيها وعابدَها، ثمَّ خرج إلى سَمَرْقَنْد، فتوفِّي بها في المحرَّم. سمع هشامَ بن عمَّار وغيرَه، وروى عنه ابنُه إسماعيل وغيرُه، وكان ابنُه إسماعيل على طريقته، فقيل له: لو زَجَرْتَ ولدك؟ فقال: لا أُفسد مروءتي بصلاحه. واتَّفقوا على دينه [وأمانته] وثقته وصدقه (¬3). ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): وحكى الخطيب بإسناده أيضًا إلى محمد بن عبد الله قال: سمعت الأمير أبا إبراهيم إسماعيل بن أحمد يقول: كنت والي خراسان ... ، والمثبت من (خ)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد 4/ 510. (¬2) في (ف م 1): استوطن محمد بن نمر نيسابور. (¬3) بعدها في (ف م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

السنة الخامسة والتسعون بعد المئتين

السنة الخامسة والتسعون بعد المئتين فيها خرج عبد الله بن إبراهيم المِسْمَعيُّ عن مدينة أصبهان، وانضمَّ إليه عشرة آلاف من الأكراد وغيرِهم، وأظهرَ الخلافَ للمكتفي، فبعث إليه منصورًا الكاتب بكتاب يخوِّفه فيه عاقبةَ الخلاف، فلمَّا وصل إليه ناظره وخوَّفه، ووَعده وأوعده، فرجع إلى طاعة الخليفة، واستخلف على أصبهان نائبًا، وقصد باب المكتفي في نَفَرٍ من غلمانه، فرضي عنه، وخلع عليه وعلى ابنه ووصله. وبعث المكتفي خاقان المُفْلِحيّ إلى أَذْرَبيجان لحرب يوسف ابن أبي السَّاج، فسار في أربعة آلاف. وفيها تمَّ الفداء بين المسلمين والرُّوم، فكانت عِدَّة من فُودي من الرِّجال والنِّساء ثلاثةَ آلاف نفس. وفي ذي القَعْدة مات المكتفي، وبُويع أخوه جعفر [بن المعتضد]، ولُقِّب بالمقتدر. الباب الثامن عشر في خلافة المُقْتَدر وكُنيته أبو الفَضْل، وأمُّه أمُّ ولد روميَّة، يقال لها: شَغَب، وقيل: كانت تركيةً، واسمها جَكك (¬1)، وغريبٌ المعروفُ بالخال أخوها، أدركتْ خلافته، وسُمِّيت السيِّدة، وكانت لأمِّ القاسم بنت محمد بن عبد الله بن طاهر، اشتراها منها المعتضد. ولد المقتدر يوم الجمعة لثمانٍ بقين من رمضان سنة اثنتين وثمانين ومئتين (¬2). وكان رَبْعةً ليس بالطَّويل ولا بالقصير، جميلَ الوجه، أبيضَ مُشْرَبًا حمرةً، حسَنَ الخَلْق، مليحَ العينين، بعيد ما بين المنكبين، جَعْدَ الشعر، مدوَّرَ الوجه. ¬

_ (¬1) في الكامل 8/ 8: جيجك. (¬2) في (ف م 1) بعدها: ذكر صفته. والمثبت من (خ)، وانظر تاريخ بغداد 8/ 126، والمنتظم 13/ 59، والكامل 8/ 8، والسير 15/ 43، ومروج الذهب 8/ 247.

ذكر بيعته (¬1). لما اشتدَّت عِلَّة المكتفي في ذي القَعْدة سأل عن أخيه أبي الفضل جعفر، فصحَّ عنده أنَّه بالغ، فأُحضر في يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، وأحضر القضاةَ والشُّهود، وأشهدهم على نفسه أنَّه قد جعل العهد إليه، وبويع بالخلافة بعد وفاة المكتفي سَحَر يومِ الأحد لأربع عشرة ليلةً خلت من ذي القَعْدة، ولما أراد الجلوس صلَّى أربع ركعات، وما زال يرفع صوته بالدُّعاء والاستخارة، وصلَّى على حصير على الأرض، ولم يصعد إلى سرير الخلافة تواضعًا، ولقِّب المقتدر بالله وهو ابن ثلاث عشرة سنة وشهر وأحد عشر يومًا، ولم يَلِ الخلافة من بني العبَّاس قبله أصغرُ منه. وقال الصُّولي: لما ثَقُل المكتفي عزم العبَّاس الوزير على أن يبايعَ محمدَ بن المعتمد خوفًا من ابن المعتزّ؛ لأنَّه كان يخافه، وكان محمد بن المعتمد يجالس المكتفي، فأحضره العبَّاس ليلًا، وأحضر القاضي محمدَ بن يوسف، وأراد محمدًا على البيعة، وطلب منه أن يؤمِّنَه على نفسه وماله أو يستوزرَه، وكان محمد بن المعتمد عاقلًا أديبًا ذا صيانة ومذهب جميل، فقال: ما كنت لأحلِفَ وروحُ المكتفي في جسده، وإن لم أوفِّ لك بغير يمين لم أوف لك بيمين، فقال له القاضي: ارضَ منه بهذا، فقال: قد رضيت، وأفاق المكتفي من مرضه. ثمَّ إنَّ محمد بن المعتمد تَنازع مع صاحب الشرطة في ميراثٍ لمولى محمد كان قد استولى عليه صاحبُ الشرطة، فاغتاظ محمد، وجعل ينتفض من الغيظ، ففُلِج في وقته، فيئس العبَّاسُ منه، وجعل يميز بين عبد الله بن المعتز وغيرِه، فقال فاتك المعتضدي: والله لا عَدَلْنا بها عن ابن مولانا -يعني المقتدر- ولو لم يكن للمعتضد ابنٌ أقعدنا بعضَ بناته، ووافقه صافي الحُرَميُّ، وكره الوزير خلافهما. ولما أفاق المكتفي قال له صافي الحُرَميُّ: إن رأى أميرُ المؤمنين أن يبعث إلى محمد بن المعتمد وعبدِ الله بن المعتز فيُوكل بهما في دارهما، قال: ولِمَ؟ قال: لأنَّ النَّاس قد ذكروهما لهذا الأمر، فقال المكتفي: فهل تكلَّم أحد منهما في شيء؟ قال صافي: ما علمتُ شيئًا، قال: فما ذَنْبُهما إن أَرْجف النَّاس بشيء لم يذكراه، فلا تعرَّضْ لهما، فإنَّهما قد ولدهما خليفتان. ¬

_ (¬1) من هنا إلى ترجمة إبراهيم بن نوح ليس في (ف م 1).

قال الصُّولي: وكان المكتفي تعرَّض لنا بشيء من ذلك، فحدَّثته يومًا حديث السَّفَّاح؛ وأنَّه استشار سعيدَ بن عمرو بن جَعْدة بن هُبَيرة أن يصيِّرَ العهدَ بعده إلى عمِّه عبد الله بن علي دونَ أخيه أبي جعفر، فقال له: يا أمير المؤمنين، كنتُ مع مَسْلَمة بن عبد الملك بالقسطنطينية، وجاءه خبر أخيه سليمان وولايةِ عمر بن عبد العزيز، فجَزعَ جزعًا شديدًا، فقلت: لا تجزعْ لموت أخيك، بل لخروج الخلافة عن ولدِ أبيك إلى ولد جدِّك، فأمسك أبو العبَّاس، وعهد إلى أخيه دون عمِّه، وذكرتُ له أنَّ داود بن علي عمَّ السفاح قال له: يا أمير المؤمنين، اعهدْ إلى رجل من بنيك ليَضبطَ هذا الأمر بعدك لئلا ينتشر؛ فإنَّ أمرنا قريب، فقال له أبو سلمة الخلال: ما لك ولهذا؟ هذا أمرٌ يَرى فيه أميرُ المؤمنين رأيَه، وما استعجالك كأنك طَمِعت فيها، والله ما لأحدٍ من أعمام أمير المؤمنين فيها حظٌّ ما دام من ولد أبيه محمد بن عليٍّ رجل حيّ، فاضْطَغَنها داودُ على أبي سلمة، ولم يزل يحتالُ في قتله حتَّى قُتل، فوافقت هذه الأخبارُ ما كان في نفس المكتفي، وخاف أن يخرج الأمرُ من ولد أبيه؛ فعهد إلى المقتدر كما ذكرنا (¬1). وقال ثابت بن سنان: لَمَّا ثَقُل المكتفي في علَّته، فكَّر العبَّاس وزيرُه فيمن يقلِّده الخلافةَ، فاستشار أرباب الدَّواوين؛ وهم: محمد بن داود بن الجرَّاح، وعلي بن محمد بن الفرات، وعلي بن عيسى بن داود بن الجرَّاح، ومحمد بن عبدون، فكان في كلِّ يوم يستشير واحدًا منهم، فأشار عليه محمد بن داود بعبدِ الله بن المعتز، وأمَّا ابن الفرات فقال: هذا شيءٌ ما جرت لي عادة بالدُّخول فيه، وإنَّما يشاوَر مثلي في أمر العمَّال، فغضب الوزير وقال: ليس هذا حقِّي منك (¬2)؟ وألح عليه، قال: إن كان رأيُك تَقَرَّر على إنسان فأمضِه، قال ابن الفرات: فعلم أنِّي قد عَنيتُ ابن المعتز لاشتهار الخبر به، فقال: ما أريد إلَّا أن تَمحَضني النَّصيحة، قال: فقلت له: إذا كان الأمر على هذا فاتَّق الله، ولا تنصِّب في هذا الأمر مَنْ قد عرف دار هذا، وبستان هذا، وضَيعة هذا، وجارية هذا، ونعمةَ هذا، ومن قد لقي النّاس ولقوه، وعرف الأمور، وتحنَّك، وجرَّب، وتدرَّب. ¬

_ (¬1) الأوراق للصولي 21 - 22 (ما لم ينشر من الأوراق). (¬2) كذا، وفي الكامل 8/ 9: ليس يخفى عليك الصحيح.

قال: فاستعاد العبَّاس ذلك مني مرارًا، ثمَّ قال لي: فبمن تُشير؟ فقلت: بجعفر بن المعتضد، ومَن تحكم عليه أولى بمن يحكم عليك، قال: فما أصنع بأمِّه وخالته وقَهارِمَتِه (¬1)؟ قلت: تُقيمهنَّ مقام حرمك؛ فإنَّهنَّ يرضينَ إذا أخرجتهنَّ من الضِّيق إلى السَّعَة، ويشكُرْنك على ذلك. ثمَّ شاور في اليوم الثالث عليَّ بن عيسى، واجتهد به أن يسمِّي له أحدًا، فامتنع وقال: ينبغي أن تتقي الله أيُّها الوزير وتنظرَ للدِّين، فمالت نفسُ العبَّاس إلى رأي ابن الفرات، ووافق رأيَه ما كان المكتفي يُسارُّ إليه من تقليد أخيه. وطلب المقتدر من دار ابن طاهر، فمضى صافي الحُرَميُّ فأحْدَره في حَرَّاقة، فاجتاز بدارِ الوزير، فصاحوا بالملَّاح: قدّمْ إلينا، فظنَّ صافي أنَّه قد بدا للوزير رأيٌ، فقال للملَّاح: إن قدمت قتلتك. ومضَوْا إلى القصر الحَسَني وبايعوه، وتمَّ أمرُه، فقلَّد حَجبتَه سَوْسَن مولى المكتفي، وأقرَّ على الشرطة محمدَ بن أحمد بن عَمْرويه الخُراساني، وأقرَّ القضاةَ بالحضرة، وأقرَّ أصحابَ الدَّواوين على ما هم عليه. قال الصُّولي: وقد اتَّفق للمقتدر ما لم يتَّفق لغيره من الخلفاء؛ ولده ستة؛ منهم: المعتضدُ، والمتوكِّل، والمعتصم، والرَّشيد، والمهديُّ، والمنصور، وأخوه خليفة وهو المكتفي، وقد فخر المأمونُ بثلاثة من الخلفاء الرشيدِ والمهديِّ والمنصورِ؛ لأنَّه لما هجاه دِعْبِل وقال: [من الكامل] شادُوا بذِكرِكَ بعد طولِ خُمولهِ ... واستنقذوكَ من الحَضيضِ الأَوْهَدِ قال: قاتَلَه الله، ومتى كنتُ خاملًا وقد ولدني ثلاثةٌ من الخلفاء (¬2)! ؟ واستوزر المقتدر العبَّاس بن الحسن، وولَّى ابنَه على ديوان والدته وإخوته، وخلع على الجميع، وفرَّق أموالًا جليلة، ووَصَل النَّاسَ، ولم يكن مؤنس الخادم حاضرًا وقت البيعة؛ لأنَّ المعتضد كان قد أخرجه إلى مكَّة مُكْرَهًا، وكان في عَزْمه أن يُلحِقه ¬

_ (¬1) القهرمان: هو المسيطر الحفيظ على من تحت يديه. اللسان: (قهرم). (¬2) ما لم ينشر من أوراق الصولي ص 29، والبيت في ديوان دعبل ص 70.

إبراهيم بن محمد بن نوح

بمصر كراهيةً له، فاستدعاه المقتدر، ورفع منزلتَه، وكان صافي الحُرَميُّ يشير على مؤنس بمباعدته عن المعتضد شفقةً عليه في الظَّاهر، وفي الباطن حسدًا لئلّا يشاركَه في الأمور، فلمَّا قدم شاركه، ومات صافي بعد بيعة المقتدر فاختصَّ مؤنس بالأمور كلِّها. وكان في بيت المال يومَ بُويع المقتدر خمسة عشر ألفَ ألف دينار، وأموالُ المعتضد وأثاثُه ودوابُّه، وزاد المكتفي أمثالها، ثمَّ كتب العبَّاس كتابًا إلى الآفاق ببيعة المقتدر، ووفاة المكتفي. وحجَّ بالنَّاس الفضلُ بن عبد الملك الهاشمي. وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن نوح ابن عبد الله، أبو إسحاق، المُزَكِّي، الحافظ، النَّيسابوريُّ. إمامُ عصره بنيسابور في معرفة الحديث والعِلَل والرِّجال والزُّهد والوَرَع، اجتمع بالإمام أحمد رحمة الله عليه، مِرارًا وذاكره، وكان الإمام أحمد يُثني عليه، وكان مُجابَ الدعوة، مَهِيبًا، متقلِّلًا، لم يكن له من الدُّنيا شيء سوى حانوت كان يُكريه في كلِّ شهر سبعةَ دراهم (¬1)، هي لمأكله ومَلْبَسه [ونوائبه]، ولم يقبل من أحدِ شيئًا، وكانت وفاته في رجب. سمع خلقًا كثيرًا منهم الإمام أحمد بن حنبل، رحمة الله عليه [وغيره]، وروى عنه خلقٌ كثير. [وفيها توفي] أبو الحسين أحمد بن محمد النُّوري بغداديُّ المَولد والمَنْشأ، [وأصله من] (¬2) خُراسان من قرية بين هَرَاة ومَرْوالرُّوذ [يقال لها: يعسور، وقيل: بَغ؛ فلذلك كان يُعرف بالبَغوي، وقيل: اسمه محمد بن ¬

_ (¬1) في المنتظم 13/ 73: سبعة عشر درهمًا. (¬2) هذه الزيادة من طبقات الصوفية ص 164، والمنتظم 13/ 73، وتاريخ الإسلام 6/ 891، وما سلف ويأتي بين معكوفين من (ف) و (م 1).

محمد. والأول أصحّ. قال السُّلمي: ] وإنَّما سُمِّي النُّوري لأنَّه كان إذا حضر في مكان تنوَّر، وكان إذا دخل مسجد الشُّونيزيَّة ليلًا انقطع ضوءُ السِّراج، وإذا حضر مع أصحابه لا يؤذيهم برغوث (¬1). وكان أوحدَ وقته، صاحبَ لسان وحال، ولم يكن في وقته من مشايخ الصُّوفية أحسن طريقة منه، ولا ألطف كلامًا. وقال [الخطيب بإسناده عن] أبي أحمد المغازلي [قال: ] ما رأيت أعبدَ من النُّوري، قيل له: ولا الجُنيد؟ قال: لا ولا الجنيد. وقال أبو جعفر الفَرْغانيُّ: مكث أبو الحسين النُّوري عشرين سنة يأخذ من بيته رغيفين، ويخرج ليمضيَ إلى السُّوق، فيتصدَّق بالرغيفين، ويدخل إلى مسجد فلا يزال يركع حتَّى يجيء وقتُ سُوقه، فإذا جاء الوقت مضى إلى السُّوق، فيظنُّ أستاذُه أنَّه قد تغدَّى في منزله، ويظنُّ مَنْ في بيته أنَّه قد أخذ معه غداءه، وإنَّه لصائم. [وقال السُّلَميُّ: كانت له قنينة تَسَع خمسة أرطال ماء؛ يشربها عند إفطاره في خمس ليالٍ. وروى الخطيب بإسناده عن] عمر النَّجَّار قال: دخل أبو الحسين إلى الماء ليغتسل، فجاء لصٌّ فأخذ ثيابه، فخرج من الماء فلم يجدْها، فرجع إلى الماء، وإذا باللِّصِّ قد جاء وقد يَبِست يدُه اليمنى والثِّيابُ معه، فوضعها بين يديه، فلبسها [أبو الحسن] وقال: يا سيِّدي، قد ردَّ عليَّ ثيابي فرُدَّ عليه يده، فأطلق اللهُ يدَه. [وروى الخطيب بإسناده إلى] أبي عمر الأنماطي قال: اعتلَّ النُّوري، فبعث الجنيد إليه بصُرَّة فيها دراهم، فردَّها عليه، واعتلَّ الجنيد، فعاده النُّوري وقعد عند رأسه، ووضع يده على جبهته، فعُوفي الجنيد من ساعته، فقال له النُّوريُّ: إذا عُدتَ إخوانَكَ فارفقهم بمثل هذا البِرِّ (¬2)، [وذكرها ابن جهضم وقال: ] إنَّ النُّوري لما عاد الجنيدَ قال لأصحابه: اقتسموا علَّته، فأدخلوا رؤوسهم في مرقَّعاتهم، ثمَّ أخرجوها، وعُوفي ¬

_ (¬1) بعدها في (ف م 1): ذكر طرف من أخباره حكى السلمي وغيره في المناقب طرفًا منها. (¬2) تاريخ بغداد 6/ 332 - 334.

الجنيد، وجلس على فراشه وتحدَّث، فلمَّا قام النُّوري ليخرجَ، قام الجنيد يمشي معه مودِّعًا، فقال له النُّوري: يا أبا القاسم، إذا عُدتَ مريضًا فعُدْه كذا، وأصبح النُّوريُّ وأصحابُه مرضى. [وحكى عنه ابن خَميس في "المناقب"] قال: اعتلَّ النُّوريُّ والجنيد، فكتم النُّوري علَّته وأظهرها الجنيد، فقيل للنُّوريّ: لِمَ لمْ تخبرْ كما أخبر صاحبك؟ فقال: ما كنَّا لنُبْتَلى ببلوى فنُوقع عليها اسمَ الشكوى، ثمَّ أنشد: [من المجتث] إن كنتُ للسُّقم أهلًا ... ما زلتَ للشُّكر أهلا عذِّب فلم يَبْقَ عضو ... يقول للسُّقم مهلا (¬1) فبلغ الجنيد فقال: ما كنَّا شاكين، ولكن أردنا أن نكشفَ عينَ القُدرة فينا. وبلغ الشِّبليَّ فقال: [من مجزوء الخفيف] مِحْنَتي فيك أنَّني ... لا أبالي بمِحنَتي يا شِفائي من السِّـ ... قام ويا بُدوَّ عِلَّتي (¬2) [وحكى في "المناقب" عن أبي العباس] بن عطاء قال: قال النُّوري: كان في نفسي من هذه الآيات شيء، فأخذتُ قصبةً ونزلت إلى الشَّطِّ، فوقفتُ بين زَوْرَقين وقلت: وعزَّتك لئن لم تُخْرج لي سمكةً ثلاثة أرطال لأُغْرقنَّ نفسي، فخرجت له سمكةٌ ثلاثة أرطال، وبلغ الجنيد فقال: كان من حُكمه أن تخرجَ له أفعى تلدغُه (¬3). قال المصنِّف رحمه الله: الجنيدُ أشار إلى أنه تحكم على القدرة، ولو ظن أنَّه في حالة البَسْط لما قال ذلك. [وحكى أيضًا عن زيتونةَ خادمةِ النُّوري -وكانت تخدم الجنيدَ وأبا حمزة الصوفيَّ الخراسانيَّ وغيرَهم- جاءت يومًا إلى النُّوري ومعها خبزٌ ولَبن، وكان بين يديه كانون فيه فَحْم وهو يقلِّبه بيده، فجعل يأكل اللَّبن ويقلِّب الفحم، فسال سوادُ الفحم على يده ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية ص 168، وتاريخ بغداد 6/ 333، وحلية الأولياء 10/ 252، وما سلف ويأتي بين معكوفين من (ف م 1). (¬2) مناقب الأبرار 1/ 351. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 353.

مع بياض اللَّبن، قالت زيتونة: فقلتُ في نفسي: سبحانك ما أقذر أولياءك! ما فيهم أحد نظيف، وخرجت من عنده، فتعلَّقت بي امرأةٌ وقالت: سرقت لي رِزْمةَ ثياب، وجرَّتْني إلى الوالي، وبلغ النُّوريَّ، فجاء إلى الوالي فقال: لا تتعرَّض لها؛ فإنَّها وليَّة لله تعالى، فقال: وكيف أصنع بالمرأة؟ وإذا بجارية قد جاءت ومعها الرِّزْمة، فأطلق الوالي زيتونة، فرجع النُّوريُّ إلى مسجده، والتفتَ إلى زيتونة وقال لها: لا تعودي تقولي: ما أقذر أولياءك، فقالت: قد تبتُ إلى الله تعالى يا سيِّدي]. وحكى في "المناقب" أنَّه خرج ليلةً إلى دِجلة ليَعْبُرَ، فالتقتْ له حافَّتاها، فقال: وعزَّتك ما أعبرها إلَّا زورقًا (¬1). وقيل: إنَّه قال: كرامةٌ بفَلْس؟ ما أريدها، يعني أجرةَ الملَّاح. وسعى ساعٍ بالصُّوفية إلى الخليفة أنَّهم يعتقدون الحلولَ، فأمَّا الجنيد فانتسب إلى الفقه، وأمَّا النّوري والرَّقَّام والشَّحَّام وغيرهم فإنَّه أمر بضرب أعناقهم، وجيء بالسيف والنِّطع، فتقدَّم النُّوري، فقال له السيَّاف: هل تدري إلى ما تُبادر؟ قال: نعم إلى القتل، قال: فما حَملك على هذا؟ فقال: أوثر أصحابي بحياة ساعة. فتحيَّر السيَّاف، ورفع أمرَهم إلى الخليفة، فردَّهم إلى القاضي، فلمَّا حضروا عند القاضي ألقى على النُّوري مسائلَ فقهية، فأجاب عنها، ثمَّ قال: وبعد هذا؛ فإنَّ لله عبادًا إذا قاموا قاموا بالله، وإذا قعدوا قعدوا بالله، وإنْ نطقوا نطقوا بالله، وذكر ألفاظًا، فبكى القاضي، وكتب إلى الخليفة: إن كان هؤلاء زنادقةً فما على وجه الأرض مسلم، فأطلقهم (¬2). [وحكى في "المناقب" عن] أحمد بن إبراهيم المُقري قال: كان النُّوريُّ لا يسأل عمَّا لا يعنيه، ولا يفتِّش عمَّا لا يَحتاج إليه، غير أنه إذا رأى منكرًا غيَّره ولو كان فيه تلفُه؛ نزل يومًا [إلى] دِجلة ليتوضأَ للصَّلاة، فرأى زَورقًا فيه ثلاثون دَنًّا مكتوب عليها بالقار: لطف، [فأنكر ذلك، لأنَّه ما كان يعرف شيئًا يعبَّر عنه بـ"لطف"] فقال للملَّاح: إيش هذه؟ فقال: أنت صوفيٌّ فضولي، هذا خمرٌ للمعتضد يريد أن يُتِمَّ به مجلسَه، فقال: أعطني المِدْرَى، فقال لغلامهْ أعطه حتَّى ننظر إيش يعمل. فأعطاه، فمال على ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 352. (¬2) ذكر هذا الخبر أبو نعيم في الحلية 10/ 250 - 251، وابن خميس في مناقب الأبرار 1/ 353 - 354، والقشيري في رسالته ص 389.

الدِّنان فكسرها إلَّا دنُّا واحدًا والملَّاحُ يستغيث، فركب مؤنس بن أفلح صاحب الجِسر، فقبض على النُّوريِّ وأشخصه إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضدُ سيفُه يسبق كلامَه، ولم يشكّ النَّاس أنَّه سيقتله. قال النُّوري: فاُدخلتُ وهو جالسٌ على كرسيٍّ من حديد، وبيده عمودٌ يقلِّبه، فقال: مَنْ أنت؟ قلت: مُحتسِب، قال: مَنْ ولَّاك الحِسْبة؟ قلت: الذي ولَّاك الخلافةَ، فأطرق ساعة ورفع رأسه وقال: ما الذي حملك على هذا؟ قلت: شفقةً عليك، وصرفًا للمكروه عنك، قال: فكيف سلم هذا الدَّنُّ الواحد من بين الدِّنان]؟ قلت: لَمَّا أقدمتُ على الدِّنان كان بمطالبة الحقِّ لي بذلك ولما غَمر قلبي من مشاهدة الإجلال فغابت هيبةُ الخلق عنِّي، فلما صرتُ إلى هذا الدَّنِّ تداخلني عُجْب في نفسي، وقالت: كيف أقدم مثلك على دِنان الخليفة، وتداخَلَها الكِبر، فامتنعتُ من كسره، ولو أقدمتُ بالخاطر الأوَّل حتَّى يكون ملء الدُّنيا دِنانًا لكسرتها ولم أبال، فقال المعتضد: اذهب فقد أطلقنا يدكَ فغيِّر ما رأيت من المنكر، فقلت: الآن نقص اليقين، قال: ولمَ؟ قلت: لأنِّي كنتُ أُنكر لله تعالى والآن صاحب شرطة، فقال: حاجتُك؟ فقلت: تعجِّل سراحي، فأذن لي. قال أحمد: فانحدر النُّوريُّ إلى البصرة، فأقام بها حتَّى مات المعتضد خوفًا أن يُسأل الشفاعة في حاجة، ثمَّ عاد إلى بغداد (¬1). وكان النُّوري يسمَّى في بغداد طاووس العُبَّاد وكذا الجنيد. ذكر نبذة من كلامه: حكى في "المناقب" عنه قال: أعزُّ الأشياء (¬2) في زماننا عالم يعملُ بعلمه، وعارفٌ ينطِقُ عن حقيقة. وقال: كانت المُرَقَّعات صَدَفًا على الدُّرِّ، فصارت مَزابلَ على جِيَف. وقال: الجمعُ بالحقِّ تفرقةٌ عن غيره، والتفرقة من غيره جمع به. وسئل: ما الفرقُ بين الحبيب والخليل؟ فقال: ليس مَن طُولب بالتَّسليم كمن نودي بالتَّسليم (¬3). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 355 - 356. (¬2) في (خ): ومن كلامه أعز الأشياء، والمثبت من (ف م 1). (¬3) مناقب الأبرار 1/ 349 - 350.

وقال المُرْتَعشُ: سمعت النُّوريَّ يوصي بعضَ أصحابه ويقول: احتفظ بهذه الخصال؛ مَنْ رأيته يدَّعي مع الله حالًا يُخرجه عن الشريعة فلا تقربنَّ منه، والثانية: مَنْ رأيته يسكن إلى غيرِ أبناء جنسه فلا تقربنَّ منه، والثالثة: مَنْ رأيته يَرْكَن إلى الرِّياسة والتعظيم فلا ترجُ فلاحَه، والرابعة: مَنْ رأيته رجع من الآخرة إلى الدُّنيا فلا تخالطْه، والخامسة: مَنْ رأيته مستغنيًا بعِلْمه فلا تأمننَّ جهلَه، والسادسة: مَنْ رأيته يدَّعي مع الله حالة باطنةً ولا يَشهد له بها ظاهرُه، فلا تقربنَّ منه، والسابعة: مَنْ رأيته يسكنُ إلى نفسه فاحذره؛ فإنَّه مخدوع، والثامنة: مَنْ رأيته في بدايته يميلُ إلى القصائد فلا ترجُ فلاحَه، والتاسعة: فقيرٌ لا تراه حاضرًا عند السَّماع فاتَّهِمْه، والعاشرة: مَنْ رأيته مدَّعيًا حالةَ الكمال فلا تقربنَّ منه (¬1). وسئل عن الرِّضا فقال: سرورُ القلب بمُرِّ القضاء. وقال: لا تصل إلى الله حتَّى تخوضَ سبع بحار من نار، وعسى يبدو لك أوائلُ المعرفة. وقال لفقير: لمن صحبت؟ فقال: لأبي حمزة الخراسانيّ، فقال: الذي يشيرُ إلى القُرب؟ قال: نعم، قال: إذا لقيتَه فقل له: يقول لك فلان: قُرْبُ القُرْب الذي تشير إليه بُعدُ البُعْد مما أنت عليه. وقال: إذا امتزجت نارُ التعظيم مع نُور الهيبة في السِّرِّ هاجت ريحُ المحبَّة من حُجُب العطف على النَّار والنُّور، فتتلاشى البشريَّة، فيتولَّد من ذلك المشاهدة. وسئل عن الرِّضا؟ فقال: لو أسكنني الدَّرْكَ الأسفلَ من النَّار لكنتُ أرضى مِمَّن هو في الفِردوس الأعلى (¬2). ومن شعره: [من البسيط] كم حَسْرةٍ ليَ قد غصَّت مرارتُها ... جعلتُ قلبي لها وقْفًا لذكراكا وحَقِّ ما منك يُبكيني ويُقلقني ... لأبكينَّك أو أحظى بلُقياكا (¬3) ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 352. (¬2) طبقات الصوفية ص 166، 169، والحلية 10/ 251 - 253، والرسالة القشيرية ص 90، 159، 312. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 350.

وسأل سائل فقال: [من الطويل] إذا كان منِّي الكلُّ بالكلِّ فانيًا ... أَبِنْ ليَ عن أبيِّ الوجودَين أُخبرُ فأجابه النُّوري: [من الطويل] إذا كنتَ فيما لستَ بالوَصْف فانيًا ... وقوفُك في الأوطانِ عندي تحيُّر ومن شعره: [من الطويل] إلى الله أشكو طولَ شوقي وحَيرتي ... ووجْدِي بما طالتْ عليَّ مطالبُه ومَنْ قد بَرى جسمي وكَدَّر عيشتي ... ويَمنعني الماءَ الذي أنا شاربُه فيا ليتَ شعري ما الذي فيه راحتي ... وما آخرُ الأمر الذي أنا طالبُه (¬1) ومن شعره أيضًا: [من مخلع البسيط] أشار قلبي إليكَ كَيما ... يرى الذي لا تراه عيني وأنت تُلقي على ضميري ... حلاوةَ السُّؤل والتمنِّي تُريد مني اختبارَ سرِّي ... وقد علمتَ المُرادَ منِّي وليس لي في سواكَ حظٌّ ... فكيف ما شئتَ فاختبِرْني (¬2) ذكر وفاته: قال الخطيب: مات النُّوريُّ بمسجد الشونيزيَّة، وبقي جالسًا أربعة أيام مقفَّعًا لا يعلمون بموته (¬3). وقيل: إنَّه سمع قائلًا يقول (¬4): [من الكامل] ما زلتُ أنزلُ من ودادكَ منزلًا ... تتحيَّرُ الألبابُ عند نُزوله فهام في الصَّحراء على وجهه، ووقع في أَجَمَة قَصَب قد قُطعت وأصولُها قائمةٌ مثل السيوف، فكان يمشي عليها ويُعيد البيتَ طول الليل -والدَّمُ يسيل من قدميه- ثمَّ وقع مثل السَّكران وانتفخت قدماه، ووقع في الموت، فقيل له: قل: لا إله إلَّا الله، فقال: ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 358 - 359، وطبقات الأولياء ص 63. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 361، وذكرها ابن حبيب في عقلاء المجانين ص 153، دون نسبة. (¬3) تاريخ بغداد 6/ 337. (¬4) في (ف) و (م 1): وحكى في المناقب أن أبا الحسين سمع قائلًا يقول، والمثبت من (خ).

إسماعيل بن أحمد

ليس إليه ندعو (¬1)؟ وقيل له: هل في قلبك شهوةٌ؟ قال: نعم، أشتهي أن أراه، ثمَّ مات، فقال الجنيد: ما بقي أحد يخبر عن حقيقة الصِّدق بعد النُّوري. أسند النُّوري عن سَرِيٍّ السَّقَطي وغيره. وقال الخطيب بإسناده عن محمد بن عيسى الدِّهْقان قال: قلت (¬2) للنُّوريِّ: ما الذي تحفظ عن السَّرِيّ؟ فقال: حدَّثنا السَّرِيُّ، عن مَعروفٍ الكَرْخيِّ، عن ابن السَّمَّاك، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قضى لأخيه المسلم حاجةً كان له من الأجر كمن خدم الله عُمُرَه"، قال محمد بن عيسى: فسألت سَرِيًّا عنه فقال: حدَّثني معروف أنَّه خرج إلى الكوفة، فرأى ابن السَّمَّاك فسأله، فذكر الحديث وزاد فيه: "وكان له من الأجر كمن حجَّ واعتمر" (¬3). [وفيها توفي] إسماعيل بن أحمد ابن أسد بن سامان. أحد ملوك السَّامانية، وهم أربابُ الولايات بالشّاش وسَمَرْقَند وفَرْغانة وما وراء النهر، ولما بعث بعمرو بن اللَّيث الصَّفَّار إلى المعتضد كتب له بولاية خراسان، [وبعث إليه بالخِلَع، وولَّاه المكتفي الرّيَّ، وبلاد الترك، وما وراء النهر مُضافًا إلى خراسان]. وكان جَوادًا، سَمْحًا، شجاعًا، صالحًا، بنى الرُّبُط في المفاوز، وأوقف عليها الأوقاف، وكلُّ رِباط يسع ألفَ فارس، وأقام المُقامات للمسافرين، وكسر التركَ وكانوا سبعَ مئة قبَّة (¬4)، وبعث إليهم قوَّاده وهم غارون فقتلوهم. وكان طاهر بن محمد بن عمرو بن اللَّيث قد استولى على فارس بعدما أُسر جدُّه عمرو، فأنفذ المعتضد بدرًا لقتاله، فبعث [طاهرٌ إلى] إسماعيلَ يسأله أن يتوسَّطَ له عند ¬

_ (¬1) في مناقب الأبرار 1/ 354: أعود. (¬2) في (خ): وقال محمد بن عيسى الدهقان قلت، والمثبت من (ف م 1). (¬3) تاريخ بغداد 6/ 331، وهو حديث موضوع، من أجل محمد بن عيسى الدِّهقان، قال الذهبي في الميزان (7568): لا يعرف، وأتى بخبر موضوع، وساق هذا الحديث. (¬4) في المنتظم 13/ 74: ألف وسبع مئة قبة. وما سلف بين معكوفين من (ف) و (م 1).

الحسن بن علي بن شبيب

المعتضد -وقيل: عند المكتفي- ليُقِرَّه على فارس، ويقطع عليه مالًا، وأهدى طاهر إلى إسماعيل هدايا من جُملتها ثلاث عشرة جوهرة، وزنُ كلِّ جوهرة ما بين سبعة مثاقيل إلى العشرة، بعضُها أحمر، وبعضُها أزرق، فقوِّمت بمئة ألف دينار، فكتب إسماعيل إلى الخليفة يَشفع فيه، ويخبره بحال الهديَّة، ويَستأذنه في قبولها، فكتب إليه الخليفة لو أهدى لك كلُّ عامل لأمير المؤمنين أمثال هذا كان ذلك [ممَّا] يسرُّه، وشفَّعه في طاهر. ولما توفِّي إسماعيل تمثَّل المكتفي بقول أبي نُواس: [من المنسرح] لن يُخْلِفَ الدَّهْرُ مِثلَهُ أبدًا ... هيهاتَ هيهاتَ شأنُه عَجَبُ (¬1) [وفيها توفي الحسن بن علي بن شَبيب أبو علي، المَعْمَريُّ، الحافظ البغداديُّ. وإنَّما قيل له المَعْمَري؛ لأنَّ أمَّه أمُّ الحسن بنتُ سفيان بن أبي سفيان صاحب يَعْمَر بن راشد. رحل الحسن في طلب العلم إلى الأمصار، وكان فاضلًا، قال أحمد بن كامل: كان في جمع الحديث وتصنيفه إمامًا في زماننا، وكان قد شدَّ أسنانه بالذهب، وكان يُكْنى قديمًا بأبي القاسم. وقال الخطيب: وكانت وفاتُه ببغداد في المحرَّم وقد بلغ اثنتين وثمانين سنة، ودُفن بمقابر البرامكة بباب البَرَدان، فكان حافظًا صدوقًا، والحمد لله وحده (¬2). وفيها توفي] علي المكتفي بن المعتضد بن الموفَّق قد ذكرنا سيرته مفرَّقة في السنين، وقال المسعوديُّ: أخذ أملاك النَّاس بالشمَّاسيَّة، ¬

_ (¬1) ديوان أبي نواس ص 32، والمنتظم 13/ 75، وتاريخ الإسلام 6/ 919. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 363، والمنتظم 13/ 75، وتاريخ الإسلام 6/ 931، وهذه الترجمة من (ف م 1).

وأراد أن يبنيَ قصرًا بإزاء قُطْرَبُّل كما فعل أبوه، ولم يعطهم أثمانَها، فدعا النَّاس عليه، وكان وزيرُه القاسم بن عبيد الله سفَّاكًا للدِّماء، فحمله على كلِّ هولٍ وبليَّة (¬1). وقال الصُّولي: أنشد متوّج بن محمود بن مروان بن أبي الجَنوب بين يدي المكتفي: [من المنسرح] تَعروهُمُ رِعدةٌ لديكَ كما ... قَفْقَف تحت الدُّجُنَّةِ الصُّرَدُ فضمَّ الصَّاد وفتح الرَّاء، فضحك المكتفي وقال: يا متوّج، ما يرضى الصُّولي بهذا. قال الصُّولي: وكنتُ قد قمت إلى الصَّلاة، فلمَّا فرغت وعُدْت، غمزني المكتفي عليه وقال: أنشِدْه البيتَ، فأنشده فقلت: أبي الله أن يدير على لسانك صوابًا، فقال: وما الصَّواب؟ فقلت: فَتْحُ الصَّاد وكسر الرَّاء. والشعر لطُرَيح بن إسماعيل في قصيدةٍ يمدح بها السَّفَّاح، وبعد هذا البيت: لا خوفَ ظُلمٍ ولا قِلى خُلُقٍ ... إلَّا جَلالًا كَساكهُ الصَّمدُ (¬2) وقال المكتفي يومًا لمتوّج: أليس جدك القائل: [من الطويل] وحكَّم فيها حاكِمَين أبوكمُ ... هما خلعاها خلْع ذي النَّعل للنَّعل (¬3) فقال متوج: يا أمير المؤمنين، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ما عليَّ من وزْره؟ فقال: بلى، أنتَ على مذهبه، ثمَّ قال: يا صوليّ، أنشِدْه أبيات البُحتري في جدِّه، وزِدْ في رفع صوتك، فأنشدتُه: [من السريع] إن كَسَدتْ سوقُك أو أخْلَقَتْ ... بضاعةٌ من شِعْرك الخائبِ اِنسابَ كي يُنفقَها زَاريا ... على عليِّ بن أبي طالبِ قد آنَ أن يَبرُدَ معناكُمُ ... لولا لَجَاجُ القَدَرِ الغالبِ (¬4) فقال: الحمد لله الذي برَّد معناكم في أيَّامي. ¬

_ (¬1) مروج الذهب 8/ 226، ومن هنا إلى ذكر وفاته ليس في (ف م 1). (¬2) ذكر القصيدة كاملة صاحب الأغاني 4/ 324 - 325. (¬3) ذكره أبو الفرخ في الأغاني 23/ 211. (¬4) ديوان البحتري 1/ 176.

وكان المكتفي يحبُّ عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه والعلويِّين، ويحسن إليهم، وكان من محبَّته لهم يحفظُ ديوانَ الكُميت وينشد دائمًا: [من المنسرح] أنَّى ومِنْ أين هاجَك الطَّرَبُ القصيدة (¬1). ومن شعر المكتفي: [من السريع] مَنْ لي بأن يعلم ما أَلْقَى ... ويعرفَ الصَّبْوةَ والعِشْقا ما زال لي عبدًا وحُبِّي له ... صيَّرني عبدًا له رِقّا أَعتِقُ من رقِّي ولكنَّني ... مِن حُبِّه لا أملك العِتقا وفي أيَّامه فُتحت أنطاكية، واستنقذ منها أربعة آلاف أسير من المسلمين، وغنم المسلمون غنائمَ عظيمة؛ أصاب الفارس ألف دينار، وقيل: ثلاثة آلاف دينار (¬2). ذكر وفاته: [حكى الصُّولي وقال: ] انصرف المكتفي من الصَّيد بناحية تكريت إلى بغداد في جُمادى الأولى [من هذه السنة]، فاعتلَّ من ذَرَب شديد، واشتدَّت عِلَّتُه في شعبان، ويُئِس منه، وزال عقلُه، فأخذ صافي الحُرَميُّ الخاتمَ من يده وهو لا يعلم، فبعث به إلى العباس الوزير، ثمَّ أفاق، فقال له الوزير: ادعُ لي بألف ألف دينار ففَرِّقها في أمهات أولادك، والمسلمون يجعلونك في حِلٍّ منها لما وفَّرت عليهم من أموالهم، فقال: والله لا فعلتُ، حسبي ما اجتنيتُ من الإثم، ولي عند صافي والداية ست مئة ألف دينار؛ جمعتُها منذ كنت صبيًّا، تُفَرَّق فيهنَّ فإنَّها تكفيهنّ. وكانت وفاته ببغداد ليلة الأحد مع المغرب لاثنتي عشرة ليلةً خلت من ذي القعدة، وقيل: بين الظهر والعصر يوم السبت، وحُمل إلى دار محمد بن طاهر، فدُفن عند أبيه المعتضد. وكانت سنُّه (¬3) اثنتين وثلاثين سنة غير شهر واحد. وقيل: ثلاثًا وثلاثين سنة. ¬

_ (¬1) ديوان الكميت ص 63، وتمامه: من حيث لا صَبْوَةٌ ولا رِيَبُ. (¬2) المنتظم 13/ 4 - 5، وانظر مروج الذهب 8/ 243. (¬3) في (ف م 1): واختلفوا في سنه على قولين أحدهما أنه كانت سنه.

محمد بن عبيد الله بن مرزوق

[واختلفوا أيضًا في خلافته، فقال الصُّوليُّ: ] كانت خلافته ستَّ سنين وستة أشهر وتسعة عشر يومًا، [وذكر جدِّي في "التلقيح" أنَّها كانت] خمس سنين وثلاثة أشهر (¬1). وقال الطَّبريُّ: ولد سنة أربع وستين ومئتين، [فيكون له اثنتين وثلاثين سنة. قال: ] وبويع لتسع بقين من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين [ومئتين (¬2). فعلى قول الطبري تكون خلافته ستَّ سنين وشهورًا وأيامًا]، وكان له يوم بُويع خمسٌ وعشرون سنة. وقال الصُّوليُّ: لَمَّا دُفن دخلنا على العبَّاس الوزير نعزِّيه فقال: مَنِ القائل: [من البسيط] فما تزوَّد مِمَّا كان يَملِكُه ... سوى حَنوطٍ غداةَ الموت في خِرَقِ فقلت: أعشى هَمْدان (¬3)، فقال: كأنَّه والله عنى المكتفي بهذا الشِّعر. ذكر أولاده ووزرائه وقُضاته: كان له من الولد محمَّد، والعبَّاس، وعبد الملك، وعيسى، وعبد الصَّمد، والفضل، وجعفر، وموسى، وهارون، وعبد الله، وأمُّ الفضل، وأمُّ محمد، وأمُّ سلمة، وأمُّ العباس، وأمةُ العزيز، وأسماء، وسارة، وأمة الواحد. ووَزَر له القاسمُ بن عبيد الله، والعبَّاسُ بن الحسن. وقضاتُه: أبو خازم، وأبو عمر، ومحمد بن يوسف. [وكان] نقشُ خاتمه: عليٌّ يتوكَّل على ربِّه (¬4). [وفيها توفي محمد بن عُبيد الله بن مَرْزوق أبو بكر، البزَّار، البغدادي، ويعرف بالخلَّال. سافر إلى البلاد، وسمع الكثير، وجالس الحفَّاظ، وكانت وفاته في جمادى ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر 92، وما بين معكوفين من (ف م 1). (¬2) تاريخ الطبري 10/ 87 و 138. (¬3) البيت في الأغاني 6/ 57 لأعشى هَمْدان. (¬4) بعدها في (ف م 1): انتهت سيرة المكتفي والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

أبو حمزة الصوفي

الأولى، وأخرج له (¬1) أحاديث كثيرة مستقيمة غير حديث واحد منكر أخرجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عَرج بي جبريلُ رأيتُ في السماء خيلًا وحوافرُها من الزُّمُرُّد الأخضر، وأبدانُها من العَقيق الأصفر، ذواتُ أجنحة، فقلت: يا جبريل، لمن هذه؟ فقال: لمحبِّي أبي بكر وعمر، يزورون اللهَ عليها يوم القيامة (¬2). وفيها توفي أبو حَمْزة الصُّوفي واختلفوا فيه، فقال السُّلَميُّ: هو خُراساني، وقال القُشَيريُّ: هو نَيسابوري، من مَحَلَّة يقال لها: مُلْقاباذ (¬3). واختلفوا أيضًا في اسمه؛ فعامَّة المشايخ على أنَّ اسمَه كنيتُه، وذكره الخطيب في أسماء المحمَّدين فقال: محمد بن إبراهيم (¬4). وما عليه المشايخ أولى؛ لأنَّهم أَعْرَفُ به من الخطيب، ولهذا قال أبو نُعيم الأصبهاني (¬5): هو بغداديّ. وقال غيره: هو دمشقيٌّ، وهو] من أقران الجُنَيد (¬6) وأبي تراب النَّخْشَبي [، وقيل: هو أقدم من الجنيد]. وكان من كبار مشايخ القوم، وأزهدِهم، وأورعِهم، وأفتاهم، وله المجاهداتُ والرياضاتُ المشهورة. [وحكى ابن خميس عنه في "المناقب" أنَّه] قال: بقيتُ مُحرمًا في عباءة سنينَ كثيرة، فكنتُ أسافر في كلِّ سنة ألفَ فَرْسخ، تطلعُ عليَّ الشمس وتغرب، كلَّما حَلَلْتُ أحرمتُ (¬7). [قال: وهو صاحب أبي تُراب النَّخْشَبي وعنه أخذ. والحمد لله وحده. ¬

_ (¬1) يعني الخطيب في تاريخه 3/ 569. (¬2) وأخرجه أيضًا ابن الجوزي في الموضوعات 2/ 67 - 68، وقال: هذا حديث موضوع بلا شك؛ وهذه الترجمة من (ف م 1). (¬3) طبقات الصوفية ص 326، والرسالة القشيرية ص 107، ومناقب الأبرار 2/ 21. وفيه أنه توفي سنة (290). (¬4) في تاريخ بغداد 2/ 274، والذي ذكره الخطيب باسم محمد بن إبراهيم سلف ترجمته في وفيات سنة 269 هـ. (¬5) في الحلية 10/ 320. (¬6) ما بين معكوفين من (ف م 1)، وجاء بدلها في (خ): أبو حمزة الصوفي من أقران الجنيد. (¬7) مناقب الأبرار 2/ 22.

ذكر وقوعه في البئر: حكاها في "المناقب"، وذكرها السُّلَميُّ وأبو نعيم وغيرهم عن أبي حمزة] قال: حَجَجتُ سنةً من السِّنين، فبينا أنا أمشي وقعتُ في بئر، فجعلت في قعرها، ولم أقدر على الخروج منها، هاذا قد وقف على رأسها رجلان، فقال أحدهما للآخر: تعال حتَّى نسدَّ رأس هذا البئر لئلَّا يقع فيه أحد من المجتازين، فجاءا بقصب وباريَّة (¬1)، فهَمَمْتُ أن أنادي أنا فيها (¬2) فنُوديت: تتوكَّل علينا وتشكونا إلى غيرِنا؟ ! فسَكتُّ، فطمُّوها، فأقمتُ فيها يومي وليلتي، وإذا بشيءٍ قد كشف رأسَ البئر، ودلَّى رجليه، وهَمْهَم كأنَّه يقول: تعلَّق بي، فتعلَّقت به فأخرجني، وإذا به سَبُع، ونُوديت: يا أبا حمزة، أليس هذا أحسن؟ نَجَّيناك من التَّلَف بالتَّلَف، وكفيناك ما تخافُ ممَّا تخاف، وأنشأ أبو حمزة يقول: [من الطويل] نهاني حَيائي منك أن أكشِفَ الغِطا ... وأغنيتَني بالفَهْم منكَ عن الكشْفِ تلطَّفْتَ في أمري فأبديتَ شاهدي ... إلى غائبي واللُّطفُ يُدْرَك باللُّطْفِ تراءيتَ لي بالغيب حتَّى كأنَّما ... تبشِّرني بالغيب أنَّك في كفِّ أراكَ وبي من هيبةٍ لكَ حِشمةٌ ... فتُؤْنِسُني بالفَهْم منك وبالعطفِ وتُحيي مُحِبًّا أنتَ في الحُبِّ حتْفُه ... ومِن عَجَبٍ كونُ الحياةِ من الحَتْفِ [قلت: وذكر جدِّي هذه الحكاية في "تلبيس إبليس" وقال: أخطأ هذا الرجل، وخالف الشَّرع بسكوته، وقد أعان على نفسه، وكان يجب عليه أن يصيحَ ويمنعَ من طمِّ البئر، كما يجب عليه أن يدفعَ عن نفسه مَن يَقْصد قتلَه؛ فإنَّ إلقاء النَّفس إلى الهَلَكة حرام (¬3). وذكر كلامًا في هذا المعنى. قلت: وهذا الذي ذكر جدِّي هو ظاهرُ الشرع، وليس على أرباب التوكُّل في مثل هذه الأحوال جُناح، ولطالما نُجِّي من بحار الهلاك الغرقى، وأُغرق السبَّاح، وطريقةُ أرباب القلوب والأولياء غيرُ طريقة الفقهاء والعلماء، والحمد لله وحده]. ¬

_ (¬1) الباريَّة: الحصير المنسوج. اللسان: (بور). (¬2) في (خ): فجعلت أُنادي أنا فيها، والمثبت من (ف) و (م 1). (¬3) تلبيس إبليس ص 294، وانظر حلية الأولياء 10/ 178، وتاريخ بغداد 2/ 276 - 277، والرسالة القشيرية ص 279 - 280، ومناقب الأبرار 2/ 22.

السنة السادسة والتسعون بعد المئتين

السنة السادسة والتسعون بعد المئتين فيها خُلع المقتدر (¬1)، وسبَبُه صِغَر سنِّه، وقصورُه عن تدبير الخلافة، واستيلاءُ أمِّه والقَهْرَمانة على الخلافة. قال القاضي محمد بن يوسف: لما تمَّ أمر المقتدر استصباه العبَّاس الوزير، وكثر خَوْضُ النَّاس فيه في صغر سنِّه، فعمل العبَّاس على أن يخلي أمره، ويقلِّد الخلافة محمدَ بنَ المعتمد، ثمَّ اجتمع محمد بن المعتمد وابنُ عمْرَوَيه صاحب الشرطة في مجلس العبَّاس يومًا، وجرت بينهما منازعة، فأربى عليه ابن عمرَوَيه في الكلام، ولم يعرف ما قد رُشِّح له، ولم يتمكَّن محمد من الانتصاف منه لمحَلِّه، فلمَّا اغتاظ غيظًا عظيمًا كظمه، ففُلج في المسجد، فاستدعى العبَّاس عماريَّة، فحمله فيها إلى منزله، فلم يلبث أن مات، فعمل العبَّاس على تقليد أبي الحسين ابن لُجين من ولد المتوكِّل على الله، فمات الآخر. ذكر فتنة عبد الله بن المُعْتَزّ اتَّفق جماعة من القوَّاد والأعيان والقضاة والعامَّة على خَلْع المقتدر وتولية عبد الله بن المعتزِّ الخلافةَ، فأجابهم بشرط ألا يكونَ فيها دمٌ ولا حرب، فأجابوه كلُّهم، وكان رأسُهم محمدَ بن داود بن الجرَّاح، وأبو المثنَّى أحمد بن يعقوب القاضي، والحسين بن حمدان، واتَّفقوا على قتل المقتدر ووزيرِه العبَّاس وفاتكٍ المعتضدي، فلمَّا كان يوم السبت لعشر بقين من ربيع الأول ركب الحسين بن حمدان والقوَّاد والوزير، ووقفوا على باب الخلافة وتسايروا، فعطف الحسين بن حمدان على العبَّاس الوزير فقتله، فأنكر عليه فاتك، فعطف على فاتك فقتله، وكان المقتدر بالحلبة يلعب بالصَّوالِجَة، فقصده ابنُ حمدان ليقتله، وسمع المقتدرُ الضجَّةَ، فدخل الدَّار وأغلق الأبواب، فعاد ابن حمدان إلى المُخَرِّم (¬2)، فنزل بدار سليمان بن وهب، وأرسل إلى عبد الله بن المعتز -وكان نازلًا في دار إبراهيم بن أحمد المادرائيِّ- الراكبةَ على الصَّراة ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله: وفيها قدم الحسين بن حمدان ... ليس في (ف) و (م 1). (¬2) المُخَرِّم: محلة ببغداد بين الرصافة ونهر المعلى. معجم البلدان 5/ 71.

ودجلة، فعبر إلى المخرِّم إلى ابن حمدان، وحضر القوَّاد والجندُ والقضاةُ ووجوهُ الناس سوى خواصِّ المقتدر وأبي الحسين بن الفرات، فبايعوه بالخلافة، ولقَّبوه بالمنتصف بالله، وقيل: بالغالب بالله، وقيل: بالمرتضي، وقيل: بالراضي بالله. واستوزر محمدَ بن داود بن الجرَّاح، وقلَّد محمد بن عبدون دواوين الأزمَّة، وعليَّ بن عيسى دواوينَ الأصول، وجعل يُمْن الخادم حاجبَه، فغضب سوسن الخادم وعاد إلى المقتدر. ونفذت الكتبُ عن عبد الله بن المعتز بالرسائل إلى سائر البلاد يخبرهم بتقليده الخلافةَ، وكان تمامُ أمره ليلة يوم الأحد لتسعٍ بقين من ربيع الأول. وقال الصُّولي: كان العبَّاس الوزير قد دبَّر خلع المقتدر وقتله مع الحسين بن حمدان ومبايعةَ ابنِ المعتز، ووافقهم وصيف التركيُّ، وبلغ المقتدرَ فأصلح حال العبَّاس ورفع إليه مالًا، فرضي ورجع عن ذلك، وعلم الحسينُ بن حمدان فقتله على ما ذكرناه. وبلغ الخبرُ إلى الفقيه أبي جعفر الطَّبريِّ فقال: ومن ترشَّح للوزارة؟ قالوا: محمد بنُ داود بن الجرَّاح، قال: ومن ذُكر للقضاء؟ قالوا: أبو المثنَّى أحمد بن يعقوب، ففكَّر طويلًا وقال: هذا أمر لا يتمّ، قيل: ولمَ؟ قال: لأنَّ كلَّ واحد من هؤلاء الذين ذكرتم مقدَّم في نفسه، عالي الهِمَّة، رفيعُ المرتبة في أبناء جنسه، والزمان مُدْبِر، والدّولةُ مُوَلِّية، فكان كما قال. ثمَّ إنَّ ابنَ المعتزِّ بعث إلى المقتدر يأمره بالانصراف إلى دار محمد بن طاهر؛ لينتقلَ هو إلى دار الخلافة، فأجاب بالسمع والطاعة، ولم يكن بقي معه من رؤساء القوَّاد غير مؤنس الخادم، ومؤنس الخازن، وغريب الخال، وجماعة من الخدم والحاشية. وباكر الحسينُ بن أحمد بن حمدان إلى دار الخلافة فقاتلها، فأجمع الغلمان والخَدَم فدفعوه عنها، فحمل ما قدر عليه من المال والحريم، وسار إلى الموصل، فقال الذين بقَوْا عند المقتدر: يا قوم، نسلِّم هذا الأمر هكذا! لِمَ لا نجرِّب نفوسَنا في دفع ما قد أظلَّنا، فلعلَّ اللهَ أن يكشفه عنَّا؟ فنزلوا في الشَّذا، وألبسوا جماعةً منهم السِّلاح، وقصدوا دار المُخَرِّم وفيها عبد الله بن المعتز، فلمَّا رآهم مَن كان فيها أوقع اللهُ في قلوبهم الرُّعْبَ، فانصرفوا قبل أن يجري بينهم حرب، وولَّوا منهزمين.

وخرج عبد الله بن المعتزِّ من الدَّار، وقدِّمت له دابَّة فركبها، ومعه محمد بن داود وزيرُه، ويُمْن حاجبه، وقد شهر سيفه وهو ينادي: معاشر العامَّة، ادعوا لخليفتكم، وأشار إلى الجيش أن يتبعَهم إلى سامراء ليثبت أمرهم بها، فلم يتبعهم أحد من الجيش، فنزل ابن المعتزِّ من دابَّته، ودخل دارَ ابن الجصَّاص، واستتر ابنُ الجرَّاح والقاضي أبو المثنَّى، ونُهِبتْ دورُهما، ومرَّ النَّاس على وجوههم، ووقعت الفتنةُ والنَّهب والقتلُ ببغداد. واستتر أبو الحسن عليُّ بن عيسى، ومحمد بن عبدون في دار رجل يبيع البَقْل، وبدَرهما العامَّة فكبسوا الدَّارَ وأخرجوهما على بَغْل بإكاف إلى دار المقتدر، [وقُبض] (¬1) على وصيف بن صوارتكين -وقيل: إنَّه هو الذي قتل فاتكًا- وقُبض على يُمْن الخادم، والقاضي أبي عمر محمد بن يوسف، والقاضي أبي المثنَّى أحمد بن يعقوب، والقاضي محمد بن خلف، والقوَّاد والفقهاء الذين خلعوه، وسُلِّموا إلى مؤنس الخازن، فقتلهم جميعًا إلَّا ما كان من عليِّ بن عيسى، ومحمد بن عبدون، والقاضي محمد بن يوسف، والقاضي محمد بن خلف، فإنَّهم سَلِموا من القتل، وكان قتْلُ الباقين يوم الاثنين لثلاث عشرةَ ليلةً خلت من ربيع الآخر. وأقام ابنُ المعتز يومًا وليلةً، ثمَّ استتر في دار ابن الجصَّاص، وثبت أمر المقتدر يوم الاثنين لثمانٍ بقين من ربيع الأوَّل. وفيها استوزر المقتدرُ أبا الحسن عليَّ بن محمد بن الفرات، وخلع عليه خِلع الوزارة، ومشى الناسُ بأجمعهم بين يديه إلى داره بسوق العَطَش، وخلع المقتدر على مؤنس الخادم وغريب الخال ويانس وصافي الحُرَميّ وغيرهم، وطُوِّقوا وسُوِّروا، وجاء خادم يُعرف بسوسن من خُدَّام أبي عبد الله بن الجصَّاص إلى صافي الحُرَمي، فأخبره بأنَّ ابن المعتزِّ في داره، فبعث المقتدر صافيًا في جماعة، فكبس دارَ ابن الجصَّاص، وأخذ ابنَ المعتز وابنَ الجصَّاص إلى دار الخليفة، فصُودر ابن الجصَّاص على مال وأُطلق، وحُبس ابن المعتز، ثمَّ أخرج ميتًا بعد ذلك، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من الكامل 8/ 17.

وفيها أمر المقتدرُ أن لا يُستخدم أحدٌ من اليهود والنَّصارى إلَّا في الطِّبِّ والجَهْبَذَة فقط، وأن يُطالبوا بلبس العسليِّ، وتعليقِ الرِّقاع المصبوغة على دراريعهم، وأن يركبوا على السُّروج التي هي كهيئة الأكف (¬1). وفيها افتتح أبو الحسن بن الفرات وزارته بأن أخرج أمرَ الخليفة إلى سائر البلاد بإنصاف الرعيَّة، وإفاضة العدل والإحسان، وإزالةِ الرُّسوم الجائرة عنهم، وأعطى بني هاشم جوائزَهم وصِلَتَهم، وأخرج أمره بالصَّفْح عمن خرج عن طاعته ووالى ابنَ المعتز، وأمر بإحراق جميع الجرائد التي فيها أسامي مَن خلع المقتدر، وقيل: إنَّه غرَّقها في دِجلة، فدعا الناس له وللوزير. ولَمَّا استقرَّ الأمر للمقتدر فوَّض الأموال إلى أبي الحسن بن الفرات، وتوفر على لذَّاته واحتشم الرِّجال وانقبض عنهم، واطَّرح النُّدماء والجلساء والمغنِّين، وعاشر النساء، وغلب على الدَّولة الحُرَم والخدم، وما زال يُنفق الأموال من بيت مال الخاصَّة ويبذِّر حتَّى أتلفها. وفيها قدم الحسين بن حمدان إلى بغداد (¬2)، وسببُه: أنَّ المقتدر كتب إلى أخيه أبي الهيجاء عبدِ الله بن حمدان في قصد أخيه، وبعثَ له أربعة آلاف رجل مع القاسم بن سيما، فالتقَوْا، فانهزم أبو الهيجاء وابنُ سيما، فنزل إبراهيم بن حمدان إلى بغداد، فأصلح أمرَ أخيه الحسين، وكتب له المقتدر أمانًا، فقدم في جمادى الآخرة فنزل ظاهر بغداد من الجانب الغربيِّ ولم يدخلْ دارَ الخلافة، وقُلِّد أعمال الحرب بقُمّ وقاشان، وحملت إليه الخِلَع، فلبسها ومضى إلى قمّ، وعزل عنها العبَّاس بن عمرو. وفيها وقع ببغداد ثلجٌ في كانون من أول النَّهار إلى العصر، وأقام أيامًا لم يَذُب. وفي رمضان ابتدئ بعمارة المصلَّى ببغداد، وصلَّى فيه أبو الحسن بن الفرات الوزير يومَ الفطر. وخلع المقتدر على مؤنس الخادم، وأمره بالخروج إلى الثَّغْر بسبب الفداء. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 10/ 140 - 142، والمنتظم 13/ 79 - 82، والكامل 8/ 14 - 17، وتاريخ الإسلام 6/ 869 - 871، وتكملة تاريخ الطبري 11/ 30 - 33. (¬2) من هنا إلى آخر الخبر ليس في (ف) و (م 1).

أحمد بن محمد

ووصل الخبر بأنَّ السَّيل دخل مكَّة فغرق البيت من أربعة أركانه، وأنَّ زمزم فاضت ولم يُعرف ذلك [من قبل غير طُوفان نوح]. وقُلِّد محمد بن عبد الله بن عليِّ بن أبي الشَّوارب القضاءَ بالحَرَمين، فخرج مع الحاجِّ، واستخلف محمدَ بن موسى الرازي. وحجَّ بالنَّاس الفضل بن عبد الملك، وعاد كثير من الحاجِّ لقلَّة الماء، وغارت العيون، وانقطع المطر، وخرج النَّاس يستسقون. وفيها توفي أحمد بن محمد ابن هانئ، أبو بكر الطَّائي، الأَثْرَم. سمع الكثير، وصنَّف "عِلَلَ الحديث"، و"الناسخَ والمنسوخ" في الحديث، وكان صاحبَ الإمام أحمد رحمة الله عليه، وعلى مذهبه اشتغل، وأصلُه من بلد إسكاف وهناك مات. سمع عفَّان بنَ مسلم وغيَرَه، وكان فاضلًا ثقةً ورعًا حافظًا متقنًا (¬1). خَلَف بن عمرو ابن عبد الرَّحمن بن عيسى، أبو محمد العُكْبَريُّ. كان له ثلاثون خاتمًا، وثلاثون عُكَّازًا، يلبس كُلَّ يوم خاتمًا ويحمل عكَّازًا، وكان واسع المال والجاه، عظيمَ السّتر، وكان قد علَّق في بيته سوطًا، فقيل له في ذلك، فقال: عَلِّق السَّوط يَخافُك عيالُك. وكانت وفاته بعُكْبَرا، سمع سعيدَ بن منصور وغيرَه، وروى عنه الخُطبي وغيرُه، وكان ثقةً (¬2). فصل وفيها توفي ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 295 - 296، والمنتظم 13/ 83. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 284 - 285، والمنتظم 13/ 84، وتاريخ الإسلام 6/ 942، وهاتان الترجمتان ليستا في (ف م 1).

عبد الله بن المعتز

عبدُ الله بن المُعْتَزّ واسم المعتز، محمد بن جعفر المتوكّل، وكنية عبد الله أبو العبَّاس، وقيل: أبو عبد الله. قال سنان بن ثابت: ولد (¬1) سنة ستٍّ وأربعين ومئتين -[وقال الخطيب: ] لسبع بقين من شعبان سنة سبع وأربعين ومئتين- قبل قتل المتوكِّل بأربعين ليلة. [قال سنان بن ثابت: ] واسم أمِّه خاين (¬2). [قلت: ولم يذكر ذلك غيره، وهو اسم غريب]. وكان غزير الأدب، بارعَ الفضل، مَليح الشعر، لم يسبقه أحد إلى التشبيهات في نظمه، وله النثر المليح. أخذ الأدب عن المبرِّد وثعلب وغيرهما، وكان كريمَ الأخلاق، حسنَ العشرة، جوادًا، ممدَّحًا (¬3). وقال الصُّولي: حدَّثني ابن المعتزّ قال: كان محمد بن يزيد المبرِّد يأتيني كثيرًا في دار أبي المثنَّى القاضي، فاشتقتُ إليه، وكنتُ قد امتنعتُ من الرّكوب حتَّى إلى الجامع، فكتبت إليه: [من الرجز] ما وَجْدُ صادٍ في الحِبال مُوثَق ... عن ماءِ مُزْنٍ باردٍ مصفَّقِ جادت به أَخلافُ دَجْنٍ مُطْبِق ... لصَخرةٍ إنْ ترَ شمسًا تَبْرُقِ فهو عليها كالزُّجاج الأزرق ... صريحِ غيثٍ خالصٍ لم يُمْذَقِ إلا كوجدي بكَ لكنْ أتَّقي ... يا فاتحًا لكلِّ بابٍ مُغْلَقِ ¬

_ (¬1) في (خ): عبد الله بن المعتز محمد بن جعفر المتوكل أبو العباس ولد. والمثبت من (ف م 1)، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 11/ 302، ومروج الذهب 8/ 250، والمنتظم 13/ 84، وتاريخ الإسلام 6/ 970، والسير 14/ 42، وأشعار أولاد الخلفاء للصولي ص 107. (¬2) في (ف م 1): جابن، وينظر النجوم الزاهرة 3/ 166. (¬3) بعدها في (ف م 1): وقد ذكرنا طرفًا من أشعاره منها: أترى الجيرة الذين تداعوا ... عند سير الحبب قبل الزوال قلت: وسيأتي البيت مع غيره قريبًا.

وصَيرفيًّا ناقِدًا للمَنْطقِ ... إن قال هذا بَهْرجٌ لم يَنْفُقِ إنَّا على الإبعاد والتفرُّقِ ... لَنَلْتَقي بالقلب إن لم نلتقِ فكتب إليَّ يدعو لي ويشكرني ويقول: إنني لست مِمَّن يقول الشعر (¬1). قال المصنف رحمه الله: وابن المعتز إنَّما أخذ هذا المعنى من قول جميل (¬2): [من الطويل] فما صافِناتٌ حُمْنَ يومًا وليلةً ... على الماء يَغْشَينَ العِصيَّ حواني لَوائبُ لم يَصْدُرنَ عنه بوجهةٍ ... ولا هُنَّ من بَرْد الحِياضِ دواني يَرَينَ حَبابَ الماء والموتُ دونَه ... فهنَّ لأصواتِ السُّقاةِ رَواني بأكثرَ منِّي لَوْعَةً وتشوُّقًا ... إليكِ ولكنَّ العدوَّ عَداني وفي المعنى: [من الطويل] وما وَجْدُ مِلْواحٍ من الهِيْم حُلِّئتْ ... عن الورْدِ حتَّى جَوفُها يَتَصَلْصَلُ تحومُ وتغْشاها العِصيُّ ودونَها ... أكاريعُ أنعامٍ تُعَلُّ وتُنْهَلُ بأظمأ منِّي غُلَّةً وتشوُّقًا ... إلى الورْد إلَّا أنَّني أتَعَلَّلُ (¬3) وقريبًا منه: [من الطويل] وما ذاتُ طَوْقٍ في فروعِ أراكةٍ ... لها رَنَّةٌ تحت الدُّجى وصُدُوحُ ترامَتْ بها أيدي النَّوى وتمكَّنتْ ... بها فُرْقَةٌ من أهلها ونُزُوحُ فحلَّت بزَوْراء العراق وزَرْبُها ... بعُسْفانَ ثاوٍ منهم وطَليحُ تحنُّ إليهم كلَّما ذرَّ شارقٌ ... وتَسجَعُ في جُنْحِ الدُّجى وتَنُوحُ بأبْرحَ من وَجْدِي لذكراكُمُ متى ... تألَّقَ برقٌ أو تَنسَّم ريحُ (¬4) ¬

_ (¬1) الخبر والأبيات في أشعار أولاد الخلفاء 114 - 115، وتاريخ بغداد 11 / ص 302 - 303 بين ابن المعتز وثعلب، وانظر ديوانه ص 298. (¬2) كلام المصنف هذا ليس له، وإنما هو لثعلب كما نقل الصولي ص 115، وعنه الخطيب 11/ 303، وأبيات جميل الآتية في ديوانه ص 205. (¬3) الأبيات دون نسبة في البيان والتبيين 3/ 55. والملواح في الدواب: السريع العطش، وحُلِّئت: مُنِعت. اللسان: (لوح)، (حلأ). (¬4) نسبها ابن خلكان في وفيات الأعيان 3/ 498 لفخر الدين صاحب تكريت.

ومن شعر عبد الله بن المعتز: [من المتقارب] بَلوتُ أخِلَّاء هذا الزَّمانِ ... فأقلَلْتُ بالهَجْر منهم نَصيبي وكلهمُ إن تَصَفَّحتُهم ... صديقُ العِيان عَدُوُّ المغيبِ (¬1) وله: [من الخفيف] حدَّثَتْ عن تغيُّري الأترابا ... ومشيبي فقُلنَ بالله شابا نظرتْ نظرةً إليَّ وصدَّتْ ... كصُدودِ المَخْمور شمَّ الشَّرابا هي أدْهى مُلمَّةٍ نزلتْ بي ... أنْ تَصُدِّي وقد عَدِمتُ الشبابا (¬2) وله: [من مجزوء الرمل] [ابْكِ] يا نفسُ وهاتي توبةً قبل المماتِ قبلَ أن يُفجِعَنا الدَّهْرُ ببَيْنٍ وشَتاتِ لا تخونيني إذا متُّ وقامتْ بي نُعاتي إنَّما الوافي بعهدي مَن وَفَى بعدوفاتي قال المصنِّف رحمه الله: كذا روى الصُّولي هذه الأبيات، ورواها غيرُه: بحياتي يا حياتي اشربي الكأسَ وهاتي الأبيات (¬3). وقد أنشدها الحلَّاجُ عند قتله، وزاد فيها: [من مجزوء الرمل] والذي حيّ قيومٌ ... غيرُ مَفْقودِ الصِّفاتِ وأنا منه مقيمٌ (¬4) ... في حُجورِ المُرْضِعاتِ أين راقٍ لغَرامي ... وطبيبٌ لشَكاتي وقال أيضًا: [من مجزوء الكامل] ما عابني إلَّا الحَسُو ... دُ وتلك من خيرِ المعائبْ ¬

_ (¬1) ديوان ابن المعتز ص 62، والمنتظم 13/ 87. (¬2) نسبها الصفدي في الوافي بالوفيات 6/ 259 لأحمد بن أمية الكاتب ... (¬3) أشعار أولاد الخلفاء 179، والمنتظم 13/ 88، والبداية والنهاية 14/ 754. (¬4) ذكر هذين البيين القزويني في آثار البلاد ص 168 وروايتهما فيه: والذي حي قديم ... وأنا منه رضيع ....

فإذا فَقَدْتَ الحاسديـ ... ـــن فَقَدْتَ في الدُّنيا الأطايبْ (¬1) وقال: [من السريع] سابِقْ إلى مالكَ وُرَّاثَه ... ما المرءُ في الدُّنيا بلبَّاثِ كم صامتٍ يَخْنُقُ أكياسَه ... قد صاح في ميزانِ ميراثِ (¬2) وقال: [من السريع] تطرَّقُ أهلَ الفَضْلِ دونَ الوَرَى ... مصائبُ الدُّنيا وآفاتُها كالطير لا يُحبَسُ من جنسِها ... إلَّا التي تُطرِبُ أصواتُها (¬3) وقال: [من الوافر] تولَّى الجهلُ وانقطع العِتابُ ... ولاح الشَّيبُ وافتُضِحَ الشبابُ لقد أبغَضْتُ في نفسي مَشِيبي ... فكيف تُحِبُّني الخَوْدُ الكَعَابُ (¬4) وقال: [من الطويل] وما تنفعُ الآدابُ والعِلْمُ والحِجَى ... وصاحبُها عند الكمال يموتُ كما مات (¬5) لقمانُ الحكيمُ وغيرُه ... وكلُّهمُ تحت التُّراب صُمُوتُ وقال: [من السريع] يا ذا الغنى والسَّطْوَةِ القاهره ... والدَّولةِ الناهيَةِ الآمِرَهْ ويا شياطينَ بني آدم ... ويا عبيدَ الشَّهوةِ الفاجِرَهْ انتظرِ الدُّنيا فقد أَقْرَبَتْ ... وعن قليلٍ تَلِدُ الآخِرَهْ (¬6) وقال: [من البسيط] إنَّ الذين بخيرٍ كنتَ تَذْكُرُهمْ ... قضَوْا عليكَ وعنهم كنتُ أنهاكا ¬

_ (¬1) ديوانه ص 71، وتاريخ بغداد 11/ 304. (¬2) المنتظم 13/ 88. (¬3) وفيات الأعيان 1/ 154 دون نسبة. (¬4) ديوانه ص 82، وأشعار أولاد الخلفاء ص 281. (¬5) في (خ): قال. والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 305. (¬6) أشعار أولاد الخلفاء ص 284، والمنتظم 13/ 88.

لا تَطْلُبنَّ حياةً عند غيرهمُ ... فليس يُحييك إلَّا من تَوَفَّاكا وقال: [من الخفيف] أتَرى الجِيرةَ الذين تَداعَوْا ... عند سَيرِ الحبيبِ قبلَ الزَّوالِ عَلِموا أنَّني مُقيمٌ وقلبي ... راحلٌ فيهمُ أمام الجِمالِ مثلَ صاع العزيزِ في أَرحُلِ القو ... مِ ولا يعلمون ما في الرِّحالِ ما أعزَّ المعشوقَ ما أهونَ العا ... شِقَ ما أقْتل الهوى للرِّجالِ (¬1) وقال: [من المتقارب] أَطَلْتَ وعَذَّبْتَني يا عَذولُ ... بُليتُ فدَعْني حَديثي يَطولُ هوايَ هوى باطنٌ ظاهرٌ ... قديمٌ حديثٌ لطيفٌ جليلُ ألا ما لِذا اللَّيلِ لا يَنقضي ... كذا ليلُ كلِّ محبٍّ يَطولُ أبِيتُ أُساهِرُ نَجْمَ الدُّجى ... إلى الصُّبح وحدي ودَمْعي يَسيلُ (¬2) وقال: [من المنسرح] يطوفُ بالرَّاح بيننا رَشَأٌ ... مُحَكَّمٌ في القُلُوب والمُقَلِ يكادُ لَحْظُ العُيونِ حين بدا ... يَسفِكُ من خدِّه دَمَ الخَجَلِ وقال أيضًا: [من مجزوء الكامل] اصبرْ على كَيدِ الحَسو ... دِ فإنَّ صبرَكَ قاتلُهْ كالنَّارِ تأكُلُ بعضَها ... إنْ لم تَجِدْ ما تأكُلُهْ وقال في عُبيد الله بن سليمان: [من الطويل] لآل سليمانَ بنِ وَهْبٍ صنائعٌ ... إليَّ ومعروفٌ لدَيَّ تقدَّما هُمُ علَّموا الأيامَ كيف تَبَرُّني ... وهُمْ غَسَلُوا عن ثوبِ والدِيَ الدَّما وقال وقد افتصد أبوه: [من الخفيف] يا دمًا سال من ذِراع الإمامِ ... أنتَ أزكى من عَنْبرٍ ومُدامِ ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 87، 88. (¬2) ديوانه ص 329، والمنتظم 13/ 89، وأشعار أولاد الخلفاء 239.

قد ظننَّاكَ إذ جريت إلى الطَّسْـ ... ـــتِ دموعًا من مُقْلَتَي مُستهامِ إنَّما غرَّق الطبيب شَبا المِبْـ ... ـــــضَعِ في نَفْسِ صِحَّةِ الإسلامِ (¬1) وقال: [من البسيط] يا نفسىُ صَبرًا وإلَّا تهلكي جزعًا ... إنَّ الزَّمانَ على ما تَكرهين بُني لا تحسبي نِعمًا سرَّتْكِ لذَّتُها ... إلَّا مفاتيح أبوابٍ من الحَزَنِ (¬2) قال الصوليُّ: اعتلَّ عبدُ الله بن المعتز، فأتاه أبوه عائدًا (¬3) وقال: ما عَراك يا بُنيّ؟ فأنشأ يقول: [من الخفيف] أيُّها العاذِلون لا تَعْذِلوني ... وانظروا حُسْنَ وجْهِها تعذرُوني وانظروا هل ترَوْنَ أحسنَ منها ... إن رأيتم شَبيهَها فاعذِلُوني فتتبَّع أبوه الحال حتى وقع عليها، فابتاع الجاريةَ التي شغف بها بسبعة آلاف دينار، وبعث بها إليه. [وقال بعض المتأخِّرين: وابن المعتز هو القائل: الشمسُ نَمَّامَةٌ والبَدْرُ قَوَّادُ (¬4) سرقه المتنبي فقال: [من البسيط] أزورُكم وسوادُ اللَّيل يَشفعُ لي ... وأنثني وضياءُ الصُّبح يُغْرِي بي] (¬5) ومن كلامه (¬6): أنفاسُ الحيِّ خُطاه إلى أجله. ربَّما أوْرَد الطَّمع ولم يُصْدِر. ربما شَرِق شارب الماء قبل رِيِّه. ¬

_ (¬1) انظر المقطعات الأربعة في ديوانه ص 337، 344، ومروج الذهب 8/ 252 - 254. (¬2) المنتظم 13/ 88. (¬3) في (خ): اعتل عبد الله فأتاه المعتز عائدًا، والمثبت من (ف م 1). وانظر المنتظم 13/ 86. (¬4) صدره كما في ديوانه ص 147: لا تَلْقَ إلَّا بليلٍ مَن تواصلُه. (¬5) ديوان المتنبي 1/ 290، وهذه الزيادة من (ف م 1). (¬6) من هنا إلى ذكر مقتله ليس في (ف م 1).

مَن تجاوز الكفافَ لم يُغْنِه الإكثار. كلَّما عَظُمَ قَدْرُ المُنافس فيه عَظُمَت الفَجِيعةُ به. أشقى النَّاسِ أقرَبُهُم من السُّلطان؛ كما أن أقرب الأشياء من النَّار أسرعُها احتراقًا. ومن شارك السُّلطان في عزِّ الدُّنيا شاركه في ذُلِّ الآخرة. أهلُ الدُّنيا رَكْبٌ يُسارُ بهم وهم نيام. الحرصُ يُنْقِص من قَدْر الإنسان ولا يزيد في حظِّه. يكفيك من الحاسد أنه يغتمُّ في وقت سُرورك. الفُرصةُ سريعةُ الفَوْت بعيدةُ العَوْد. الجودُ حارس الأَعراض. الأسرار إذا كثُر خُزَّانها ازدادت ضَياعًا. البلاغة بلوغُ المعنى. [ذلُّ] العَزْل يضحكُ من تِيه الولاية. تَرِكة الميت عزٌّ للورثة. لا تَشِنْ وجهَ العَفْو بالتَّقريع. ومن أظْهَر عدا وتَكَ فقد أنذرَكَ (¬1). اللسانُ تُرجمانُ القلب، وصيقلُ العقل، ومُجلي الشُّبَه، ومُظهِرُ الحُجَج، والحاكم عند مخاصمة الظَّنِّ، والفارق بين الشَّكِّ واليقين. خيرُ الكلام ما شرُفتْ مبانيه ولطُفَتْ معانيه. وإذا كان اللَّفظُ بليغًا، والمعنى شريفًا، والطبعُ صحيحًا، أثَر في القلوب تأثيرَ الغيث في التُّربة الكريمة. ذكر مقتله: قال الصُّوليُّ: قال عبد الله بن المعتز في الليلة التي قُتل في صَبيحتها (¬2): [من البسيط] ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 85 وما بين معكوفين منه. وانظر أشعار أولاد الخلفاء ص 287. (¬2) في (ت م 1) بعدها: الأبيات الطاقية (كذا؟ ! ) قلت: وقد ذكرها الخطيب وقال بإسناده عن أحمد بن محمد بن =

يا نفسُ صَبْرًا لعلَّ الخيرَ عُقْباكِ ... خانَتْكِ من بعد طولِ الأمْنِ دنياكِ مرَّت بنا سَحَرًا طَيرٌ فقلتُ لها ... طوباكِ يا ليتني إياكِ طوباكِ إن كان قصدُكِ شَرْقًا فالسلام على ... شاطي الصَّراةِ ابْلُغي إن كان مَسْراكِ من مُوثَقٍ بالمنايا لا فكاكَ له ... يبكي الدِّماء على إلْفٍ له باكي [فرُبَّ آمنة حانَتْ منيَّتُها ... ورُبَّ مُفْلَتَة من بين أشراكِ] أظنّه آخرَ الأيام من عُمُري ... وأوشكَ اليوم أن يبكي لي الباكي فقتله مؤنس آخرَ الليل. [قلت: لو أراد ابن المعتزِّ أن يكون مُطْلَقًا مثل الطَّير، سليمًا من كلِّ آفةٍ ما تعرَّض للخلافة. وقال الصُّولي: ] لَمَّا أرادوا قتلَه قال: [من الوافر] فقل للشَّامِتِين بنا رُويدًا ... أمامكمُ المصائبُ والخُطُوبُ هو الدَّهْرُ الذي لا بدَّ من أنْ ... يكونَ إليكمُ منهُ دَبيبُ قلت: كأنَّه نظر في سِتْر رقيق، فإنَّ المقتدرَ قُتل شرَّ قِتْلة لما نذكر. قال الصولي: سلَّم المقتدر عبد الله بن المعتز إلى مؤنس الخادم فقتله، وأخرجه ملفوفًا (¬1) في كساء، فسلَّمه إلى أهله، فدفنوه في خزانةٍ (¬2) بإزاء داره على الصَّراة، [وكذا قال ثابت بن سنان؛ سلَّمه المقتدر إلى مؤنس يوم الخميس لليلتين خلتا من ربيع الآخر، فصار به مؤنس الخادم إلى منزله، وأخرجه ملفوفًا في زِليٍّ (¬3)، فسلَّمه إلى أهله فدفنوه]. وقيل: إنَّه مات حتْفَ أنفه، وليس بصحيح، بل خَنَقه مؤنس. وكان له يومَ قُتل ثمانٌ وأربعون سنة، وقيل: تسعٌ وأربعون سنة. ومولده سنة ستٍّ وأربعين ومئتين. ¬

_ = عباس قال: قال عبد الله في الليلة التي قتل في صبيحتها. اهـ. والمثبت من (خ)، والخبر والأبيات في تاريخ بغداد 11/ 307، وعنه في المنتظم 13/ 89 - 90، والأبيات فحسب في أشعار أولاد الخلفاء ص 286. (¬1) في (خ): يكون إليكم منه دبيب، وقتله مؤنس الخادم وأخرجه ملفوفًا، والمثبت من (ف م 1). (¬2) كذا، ولعلها: خرابة. (¬3) الزِّلِيَّة بالكسر: البساط. تاج العروس: (زلل). وما بين معكوفين من (ف) و (م 1).

محمد بن داود بن الجراح

ورثاه جماعةٌ منهم عليُّ بن محمد بن بَسَّام فقال: [من البسيط] لله درُّكَ من مَلْكٍ بمَضْيَعَةٍ ... ناهيكَ في العَقْل والآداب والحسَبِ ما فيه لولا ولا ليتٌ فتُنْقِصُهُ ... وإنَّما أدرَكَتْه حِرْفةُ الأدَبِ (¬1) محمد (¬2) بن داود بن الجَرَّاح أبو عبد الله، الكاتب، عمُّ علي بن عيسى الوزير. ولد سنة ثلاث وأربعين ومئتين، وكان عالمًا بأخبار النَّاس والخلفاء والوزراء، وله المصنَّفاتُ في ذلك، وقد ذكرنا خروجه مع ابن المعتزِّ واختفاءَه عند انحلال أمره، فاستتر محمد عند موسى بن عيسى كاتبِ مؤنس الخازن، فعرض له رقعةً على الوزير ابن الفرات، فلمَّا قرأها قال: يقول له: أمْرك بعدُ طريٌّ، فتوقَّف حتى تَخْلَق القضيةُ، ثمَّ لاطِفْ في أمرك، فلمَّا عاد موسى بالجواب وَقع له أنَّ ابنَ الفرات أشار بإشارة لتستمرَّ نكبته، فقال: أيّ ذنب لي حتَّى أستترَ؟ ومضى إلى دار سَوْسَن الحاجب، فاستأذن عليه فلم يُصدّق، وأذن له، ثمَّ أنهى خبره إلى المقتدر، فأمر بتسليمه إلى مؤنس الخازن، فسلَّمه إليه، فقتله، فلمَّا ورد الخبر إلى ابن الفرات بقتله اغتمَّ غمًّا شديدًا، وبكى حتَّى قال جلساؤه: ما كنَّا نظنُّ به ذلك، فقال: كان في عداوته لي عاقلًا، وكان من أقرب أعدائي انقيادًا إلى ما أريد، ومع ذلك فكان كاتبًا، فاضلًا، عارفًا بالخراج والجيش، والحديث، والأدب، والشِّعر، ظريفًا، شجاعًا، سخيًّا، سَمْحًا، كريمًا. وقال ثابت بن سنان: جاء رجل إلى حاجب ابن الفرات فقال: عندي للوزير نصيحةٌ فاطلب لي الإذنَ عليه، فأخبره فأذن له، فقال: أخرج مَنْ عندك، فأخرجهم، فقال: محمد بن داود بن الجراح في الدَّار الفلانية في المكان الفلاني، والبارحةَ بتُّ عنده، فقال له: إن كنت صادقًا فلك عندنا ألف دينار، وإلا عاقبتُك، ثمَّ قال: احتفِظُوا به في جانب الدَّار حتَّى نجمع الرِّجال. ¬

_ (¬1) ما لم ينشر من أوراق الصولي ص 42، وتاريخ بغداد 11/ 308، والمنتظم 13/ 89، وجاء بعدها في (ف) و (م 1): انتهت ترجمة ابن المعتز، والحمد لله وحده، وصلَّى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. (¬2) من هنا إلى آخر السنة ليس في (ف) و (م 1).

وبعث إلى محمد بن داود فقال له: الأمر كذا وكذا، فانتقل من المكان الذي أنت فيه، واستدعى صاحب الشرطة وقال: اجمع خمس مئة رجل، واذهب مع المنتصح إلى دار فلان ففيها ابنُ الجراح فأحضِرْه، فمضى صاحب الشرطة إلى الدَّار فلم يجد فيها أحدًا، وعاد بالمنتصح فضُرب بباب العامَّة مئتي سَوْط، وشهَّره على جمل، ونودي عليه: هذا جزاءُ مَن يسعى بين النَّاس بالباطل، ثمَّ نفاه إلى البصرة. وقال أبو عمر محمد بن يوسف القاضي: لَمَّا جرى في أمر عبد الله بن المعتز ما جرى حُبِسْتُ ولم يكن في لحيتي طاقة بيضاء، وحُبِس معي القاضي أبو المثنَّى أحمد بن يعقوب، ومحمد بن داود بن الجرَّاح، وكنَّا في دار واحدة في ثلاثة أبيات متلاصقة، وكان بيتي في الوسط، وقد يئسنا من الحياة، فكان إذا جنَّنا الليلُ تحدَّثنا من وراء الأبواب، ويوصي كلُّ واحدٍ منَّا صاحبَه، فلمَّا كان في بعض اللَّيالي فُتحت الأقفال، ودخل ناس بالشموع، ففتحوا الباب الذي فيه محمد بن داود [بن] الجرَّاح، وأخرجوه من البيت، وأضجعوه للذَّبح، فقال: يا قوم، ذَبْحًا كالشاة؟ أين المصادرات؟ أين أنتم من الأموال؟ أنا أفدي نفسي بكذا وكذا، فما التفتوا إلى قوله، وذبحوه وأخذوا رأسَه، وألقَوْا جثَّته في بئر وأنا أراه من شقِّ الباب، ومضَوْا وعادوا بعد ساعة، وأخرجوا أبا المثنَّى القاضي، وقالوا له: يقول لك أمير المؤمنين: يا عدوَّ الله، بمَ استحللتَ نكثَ بيعتي؟ فقال: لعِلْمي أنَّه لا يَصلُح للإمامة، فقالوا: قد أمرنا أمير المؤمنين أن نَسْتَتيبَك من هذا الكفر، فإن تبتَ وإلا قتلناك، فقال: أعوذ بالله من الكفر، فذبحوه، وأخذوا رأسه، وألقَوْا جثَّته في البئر، ولم يبقَ غيري، ومضَوْا وأنا أدعو وأبتهل، ثمَّ عادوا، فأخرجوني إلى صحن الدَّار وقالوا: أمير المؤمنين يقول لك: يا فاعل، ما الذي حملك على خَلْعِ بيعتي؟ قلت: الشَّقاوةُ، وقد أخطأتُ، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى. فحملوني إلى دار الخلافة، وابنُ الفرات الوزيرُ جالس، فأخذ يوبِّخُني وأنا أتنصَّل وأعتذر، فقال: قد وهب لك أمير المؤمنين دمَك، واشتريتُ حرمَكَ وأهلك منه بمئة ألف دينار، فقلت: والله ما رأيتُ بعضَها مجتمعًا قطُّ، فغمزني الوزير اسكت، وإنَما أراد أن يخلِّصني، فأدَّيتُ البعضَ، وسومحت بالبعض، وأخذتُ المرآة فنظرتُ فيها؛

وإذا قد شابت لحيتي ورأسي في ليلة (¬1). وقال القاضي أبو عمر صاحب هذه الواقعة: ظهر في يد رجلٍ مالٌ جليلٌ بعد فقر طويل، فسُئل عن سببه فقال: كان لي مالٌ فأنفقتُه حتَّى لم يبقَ لي شيء، فرأيت في منامي قائلًا يقول: غِناكَ بمصر فاخرجْ إليها. قال القاضي: فقال لي الرجل: اكتب لي كتابًا إلى مصر لعلِّي أنصرف، فكتبتُ له كتابًا، وخرج به فأوصله إلى صاحبه، قال الرجل: فلم يُقدِّر الله شيئًا، ونفدت نفقتي، وهممتُ أن أسأل الناسَ في الليل، فخرجتُ وإذا بالطَّوف (¬2) رجلٌ قد مرَّ بي، فأنكرني وقال: من أنت؟ قلت: رجل غريب، فلم يصدِّقْني، وأخذ يَضربُني بالمَقارع، فقلت: أنا أصدقُك، أنا رجلٌ من أهل بغداد، ورأيت في المنام كذا وكذا، وحدَّثته الحديثَ، فقال الذي على الطَّوف: ما رأيتُ أحمقَ منك، والله لقد رأيتُ في المنام قائلًا يقول: غِناك في بغداد، في الشارع الفلانيِّ في دارٍ يقال لها: دار فلان، فيها سِدْرةٌ تحتها ثلاثون ألف دينار في قُمْقُمٍ من نحاس، وأنا لا ألتفتُ. قال الرجل: فذكر شارِعي وداري، وأطلقني وقال: أنت أحمق؛ تمشي من بغداد إلى مصر بسبب منام؟ ! قال: فخرجتُ من مصر أمشي إلى بغداد، فدخلتُ داري، وحفرتُ تحت السِّدرة فخرج القُمْقُمْ وفيه المال، فأغناني الله تعالى، واشتريت الضِّياع وغيرَها. أسند محمد بن داود عن عمر بن شبَّة النُّميري وغيره، وروى عنه القاضي عمر بن الحسن وغيرُه، وكانت وفاتُه في ربيع الآخر (¬3). * * * ¬

_ (¬1) الفرج بعد الشدة 2/ 131. (¬2) الطَّوف: هي التي يعبر عليها في الأنهار الكبار، تسوَّى من القصب والعيدان. اللسان: (طوف). (¬3) تاريخ بغداد 3/ 156 - 158، والمنتظم 13/ 91، وتاريخ الإسلام 6/ 1023.

السنة السابعة والتسعون بعد المئتين

السنة السابعة والتسعون بعد المئتين فيها قال ثابت بن سنان: رأيتُ في بغداد في صَدْر خلافة المقتدر امرأةً بلا ذراعين ولا عَضُدين، ولها كفَّان بأصابع تامَّة معلَّقان في رأس كتفَيها، لا تعمل بهما شيئًا، وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها، تَغْزِل برجليها، وتمدُّ الطاقة وتسوِّيها، وتُسَرِّح المرأةَ برجليها. قال: ورأيت [امرأة أخرى] بعَضُدَين وذراعين وكفَّين، إلَّا أنَّ كلَّ واحد من الكفَّين يَنْخرطُ ويدقُّ إذا فارق الزَّنْدين؛ حتى ينتهي إلى رأسٍ دقيق يمتدُّ فيصير أصبعًا واحدة، وكذا رجلَيها على هذه الصُّورة، ومعها ابنٌ لها كذلك (¬1). وفي المحرَّم ولد للمقتدر ابنٌ سمَّاه أحمد، ثمَّ توفي في رجب، وماتت أمُّ المولود في صفر. وفي صفر أُدخل طاهر ويعقوب ابنا محمد بن عمرو بن الليث بغداد أسيرين في قُبَّة على بغل. وفيها تمَّ الفداء في بلد الرُّوم على يد مؤنس الخادم. وفيها ظهر عُبيدُ الله أبو محمد المسمَّى بالمهديِّ، جدُّ الخلفاء المصريِّين على المغرب وبنى المَهْدِيَّة، وأَخرج الأغلب، ودُعي له في رَقَّادة من بلاد القيروان، وخرجت المغربُ في هذه السنة من يد بني العبَّاس. [وقال ثابت بن سنان: وفي سنة سبع وتسعين ومئتين] ورد الخبرُ بخروج زيادة الله [بن عبد الله بن] الأغلب عن بلده وهو إفريقية والقيروان من المغرب؛ لأنَّ عبيد الله العلويَّ أخرجه منها، وصار إلى مصر، فكتب إليه أن يصير إلى الرقَّة ويقيم بها (¬2). [وقال ثابت: ] وفي شعبان مات أبو العبَّاس أحمد بن محمد بن بِسْطام بمصر، وحُمِل تابوتُه إلى بغداد، فدُفن بمقابر باب الكوفة في رمضان، ثمَّ مات عيسى النّوشريُّ بمصر بعد موت ابنِ بسطام بعشرة أيام، وحُمل إلى البيت المقدس، وقلَّد المقتدر تكين ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 93. (¬2) ذكر هذه الأحداث ابن الأثير في الكامل 8/ 20 - 53 مطولة في أحداث سنة (296 هـ).

الجنيد بن محمد [بن الجنيد]

الخاصَّة أعمال المعاون بمصر في رمضان. وفي رمضان مات القاضي أبو محمد يوسف بن يعقوب بن حمَّاد وله سبعٌ وثمانون سنةً (¬1)، وصلَّى عليه ابنُه أحمد. وفي رمضان مات أبو بكر محمد بن داود الأصبهانيّ. وفي شوَّال مات أبو عبد الله جعفر بن محمد بن الفرات، وصلَّى عليه أخوه الوزير وكان أسنَّ من الوزير بثلاث سنين، وأقرَّ الوزير ابنَه أبا الفتح الفضل على ديوان المشرق. وفيها مات محمد بن عبد الله بن عُبيد الله بن طاهر (¬2). وحجَّ بالنَّاس الفضل بن عبد الملك الهاشميُّ. وفيها توفي الجُنيد بن محمد [بن الجنيد] أبو القاسم، القواريريُّ، الخزَّاز (¬3). كان أبوه يبيع الزُّجاج وهو يبيع الخَزَّ، وأصلُه من نَهاوَنْد، إلَّا أنَّ مولده ومنشأه ببغداد. [ذكر طرف من أخباره: قال علماء الطريقة: كان الجنيد] سيِّد الطَّائفة، من كبار أئمَّة القوم وساداتِهم، مَقبولًا على جميع الألسُن، فقيهًا على مذهب أبي ثور، أفتى في حلقته وهو ابنُ عشرين سنة، وأخذ الطريقة من خاله سَرِيٍّ السَّقَطي، وسَريٌّ أخذها من مَعْروفٍ الكرخيِّ، ¬

_ (¬1) في أوراق الصولي ص 70 (ما لم ينشر من الأوراق): وسنه تسعون سنة، وفي الكامل 8/ 59: وله تسع وثمانون سنة، وما سلف بين معكوفين من (ف م 1). (¬2) في أوراق الصولي ص 70، والمنتظم 13/ 102: محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر. (¬3) ترجمه ابن الجوزي 13/ 118، وابن الأثير 8/ 62 في وفيات سنة (298 هـ)، وصحح ذلك الذهبي في تاريخ الإسلام 6/ 927، وانظر طبقات الصوفية ص 155، وحلية الأولياء 10/ 255، وتاريخ بغداد 8/ 168، ومناقب الأبرار 1/ 308، والسير 14/ 66 وغيرها كثير، وما بين معكوفين من (ف م 1) ولن أشير إليه ثانية.

ومَعْروفٌ أخذها من عليِّ بن موسى الرِّضا. قال الجنيد: ما أخرج (¬1) الله إلى النَّاس علمًا وجعلَ لهم إليه سبيلًا إلَّا وقد جعل لي منه حظًّا ونصيبًا. قال الخُلديُّ: وبلغني أنَّ ورْدَه كان كلّ يوم وليلة ثلاث مئة ركعة، وثلاثين ألف تسبيحة. وقال السُّلَمي: كان يدخل كل يوم حانوتَه، ويُسبلُ السِّتْر، ويصلِّي أربع مئة ركعة. [وحكى الخطيب عن الخُلديِّ قال: ] قال الجنيد: ما نزعتُ ثوبي للفراش منذ أربعين سنة. [وقال الخُلديُّ: ] أقام [الجنيد] عشرين سنةً لا يأكل إلَّا من الأسبوع إلى الأسبوع. [وحكى الخطيب عن الخُلديِّ قال: ] قيل للجنيد: من أين استَفَدْتَ هذا العلم؟ قال: من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدَّرَجة، وأومأ إلى درجة في داره. [وحكى الخطيب عن] أبي عمرو بن علوان قال: خرجتُ في جنازة بالرَّحْبة، فوقعت عيني على امرأة مُسْفِرة من غير تعمُّد، فألححتُ بالنَّظر إليها، ثمَّ استرجعتُ، ورجعتُ إلى منزلي، فقالت لي عجوزٌ عندي: مالي أرى وجهك أسود؟ ! فنظرت في المرآة وإذا وجهي أسود، فذكرتُ النَّظرةَ، وأقمتُ أستغفر الله أربعين يومًا، فخطر لي في خاطري: انحدرْ إلى [شيخك] الجنيد، فانحدرتُ وجئتُ إلى بابه، فطرقتُه فقال: نعم يا أبا عمرو، تُذنب بالرَّحبة وأستغفر لك ببغداد، ادخل. وقال الخلديُّ: رأيت بيد الجنيد سُبحةً، فقلت: أنت مع فضلك وشرفك تحمل سُبحة؟ ! فقال: نعم، طريقٌ عرفتُ الله به لا أفارقه. وقال الجنيد: رأيتُ (¬2) فقيرًا عليه أَثَرُ النُّسُك يسأل النَّاسَ، فقلتُ في نفسي: لو عمل ¬

_ (¬1) في (ف م 1): قال الخطيب بإسناده عن جعفر الخلدي يقول سمعت الجنيد بن محمد يقول ما أخرج، والمثبت من (خ). (¬2) في (ف م 1): وحكى عنه في المناقب قال رأيت، والمثبت من (خ).

هذا عملًا يصون به نفسَه كان أولى، ونمت تلك الليلة، فرأيتُ ذلك الفقيرَ قد جيء به على خِوان وهو ممدود، فقيل لي: كُلْ لَحْمَه فقد اغتبتَه، فلمَّا أصبحتُ خرجتُ أطوف عليه، وإذا به على دِجلةَ يلتقط أوراقَ البَقْل وما ينفصل منه، فلمَّا رآني قال: يا أبا القاسم، تعود؟ قلت: لا. قال: يغفر الله لنا ولك. وقال الخلديُّ: جاءه رجل بخمس مئة دينار في أيَّام الموسم فقال: فرِّقها في الفقراء، فقال: ألكَ غيرها؟ قال: نعم، قال: أفترجو الزيادة فوقَ ما تملك؟ قال: نعم، قال: خذها، فأنت أحوجُ منَّا إليها، ولم يقبلها. وكان يصحب الجنيدَ شابٌّ يتكلَّم على الخاطر، فقال له الجنيد يومًا: إيش هذا الذي يُذكَر عنك؟ فقال له الشابُّ: اعتقدتَ كذا وكذا، فقال الجنيد: لا، ثمَّ فعل ذلك ثانيًا وثالثًا، والجنيد يقول: لا. فقال الشابُّ: أنت صدوق، وأنا أعرف قلبي، فما هذا؟ فقال الجنيد: صدقتَ في جميع ما قلتَ، وإنَّما أردتُ أن أمتحنك هل يتغيَّر قلبُك أم لا. وقال الجنيد: رأيتُ شابًّا في البادية تحت شجرة أمِّ غَيلان، فقلت له: ما تصنع هاهنا؟ فقال: حالٌ فقدتُه، فمضيتُ وتركتُه، فلمَّا قضيتُ الحجَّ عدتُ، وإذا به قد انتقل من ذلك المكان إلى مكان آخر قريبٍ من الشجرة، فقلت له: ما جلوسك هاهنا؟ قال: وجدتُ الذي كنتُ أطلبه في هذا الموضع فلزمتُه، قال الجنيد: فلا أدري أيّهما كان أشرف، لزومُه للمكان الأوَّل لفقد حاله فيه، أو لزومه للموضع الذي نال فيه مُرادَه. وقال جعفر الخلديُّ: دفع إليَّ الجنيدُ درهمًا وقال: اشتر لي به تينًا وَزيريًّا، فاشتريتُه له وأتيتُه به، فأخذ واحدةً وجعلها في فيه، ثمَّ رمى بها وبكى، فقلت: ما لَكَ؟ فقال: هتف بي هاتف: أما تستحي، تركتَ هذا من أجلي ثمَّ تعود إليه؟ وقال الجنيد: جاءني يومًا بعضُ الصالحين فقال: ابعث معي فقيرًا أُدخل عليه سرورًا، ويأكل عندي شيئًا، قال: وعندي فقيرٌ قد شَهِدت فيه الفاقة، فقلتُ: امضِ معه وأدخل عليه سرورًا. فمضى معه ثمَّ عاد سريعًا، وجاء الرجل فقال: يا أبا القاسم، ما أكل إلَّا لُقمةً، فقلت له: هلَّا أتممتَ سرورَ الشيخ، فقال: أكلتُ أكلةً في الكوفة، ودخلتُ عليك في

بغداد، وكرهتُ أن يَبدوَ منِّي سوءُ أدب من جَهْد الفاقة في حضرتك، فلمَّا دعوتَني سَرَرْتَني إذ جرى ذلك منك ابتداءً، فمضيتُ معه وأنا لا أرضى له بالجنان، فلما جلستُ على مائدته ما أكلتُ سوى لقمة، وقال: كلْ فهذه أحبُّ إلي من عشرة آلاف درهم، فلمَّا ثمَّن اللقمةَ علمتُ أنَّه دنيُّ الهِمَّة، فتطرَّقتُ عن أكل طعامه. وقال الخلديُّ: كان شابٌّ يصحب الجنيد، فكان الجنيد كلَّما ذكر شيئًا صاح الشابُّ، فقال له الجنيد: إن فعلتَ هذا مرَّةً أخرى لم تَصْحَبني، فكان الشابُّ إذا سمع بعد ذلك شيئًا تغيَّر وضبط نفسه، فصاح يومًا صيحةً ومات (¬1). [ذكر نبذة من كلامه: حكى الخطيب عن المرتعش قال: ] قال الجنيد (¬2): كنتُ يومًا بين يدي السَّرِيّ وأنا ابنُ سبع سنين، وبين يديه قومٌ يتكلَّمون في الشُّكر، فقال لي: يا غلام، ما حدُّ الشُّكر؟ فقلت: أن لا يُعصَى الله بنِعَمِه، فقال السَّريّ: يا غلام، أخشى أن يكون حظُّك من الله لسانُك. قال الجنيد: فأنا أبكي على الكلمة التي قالها السَّري حتَّى ألقى الله تعالى. وقال: الجنيد: مشى (¬3) قوم على الماء باليقين، ومات بالعطش مَنْ هو أقوى يقينًا منهم. [وحكى أبو نعيم (¬4) عنه أنَّه] قال: لو أقبل مقبلٌ على الله ألف ألف سنة، ثمَّ أعرض عنه لحظةً واحدة كان ما فاتَه أعظمَ مِمَّا ناله. وقال له رجل: على ما يتأسَّف المحبُّ؟ فقال: على زمانِ بَسْطٍ أَورث قبضًا، وعلى زمانِ أُنْسٍ أورث وَحْشةً، ثمَّ أنشد: [من البسيط] قد كان لي مَشْرَبٌ يَصفو برؤيتكم ... فكدَّرتْه يدُ الأيَّام حينَ صفا قال المصنِّف رحمه الله: وقد مرَّ بي على هذا الوزن والرَّويِّ أبياتٌ من هذا الجنس، وهي: [من البسيط] ¬

_ (¬1) ينظر ما سلف من أخبار في الرسالة القشيرية ص 253، 328، 374، 513. (¬2) ما بين معكوفين من (ف) و (م 1)، وانظر تاريخ بغداد 8/ 172. (¬3) في (ف م 1): وقال ابن باكويه كان الجنيد يقول مشى، والمثبت من (خ). (¬4) في حلية الأولياء 10/ 278 - 279.

هل عائدٌ وأحاديثُ المُنى خُدَعٌ ... على الغَضا زمنٌ من عيشنا سَلَفا هيهات أن تُخْلِفَ الأيامُ من عُمُري ... شَبيبةً فيكمُ أنفقْتُها سَرَفا (¬1) وقال أبو العبَّاس بن مَسْروق: كنتُ أمشي مع الجنيد في بعضِ دُرُوب بغداد، وإذا بمغنٍّ يغني: [من البسيط] منازلٌ كنتَ تهواها وتألَفُها ... أيَّام أنت على الأيَّام منصورُ فبكى الجنيد بكاءً شديدًا وقال: يا أبا العبَّاس، ما أطيبَ منازلَ الأُلْفة والأُنْس، وأوحشَ مقاماتِ المخالفات، لا أزال أحنُّ إلى بَدْء إرادتي، وحِدَّة سَعْي، وركوبي الأهوال طمعًا في الاتِّصال، وها أنا ذا في أيَّام الفترة أتأسَّف على أوقاتي الماضية. وسئل (¬2) الجنيدُ: مَن العارفُ؟ فقال: مَن يَنطِق عن سرِّك وأنت ساكن (¬3). وقال: لا يَصِلُ العبدُ إلى مقام الحريَّة وعليه ذرَّة من حقيقة العبودية. وقال: المعرفة على رؤوس العارفين أحسنُ من التِّيجان على رؤوس الملوك. وقال: ما نجا مَن نجا إلَّا بصدق اللَّجا. وقال: المسير من الدُّنيا إلى الآخرة سهلٌ، ومن النَّفس إلى الله صعبٌ، والصَّبر مع الله أشدُّ. وقال: حدُّ الصَّبر تجرُّع المرارات من غير تَعْبيس. وقال: الحكايات جُندٌ من جنود الله تعالى، يقوِّي بها قلوبَ المريدين، قيل له: فما الشاهد؟ قال: قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} الآية [120: هود]. وقيل له: ما الفرق بين المريد والمراد؟ فقال: المريد تتولَّاه سياسة العلم، والمُراد تتولَّاه رعايةُ الحقِّ، المريدُ سائر، والمُرادُ طائر، ومتى يلحق السائرُ بالطائر؟ وقال: الصادقُ يتقلَّب في اليوم أربعين مرَّة، والمرائي يثبتُ على حالة واحدة أربعين سنة. ¬

_ (¬1) هذان البيتان لسبط بن التعاويذي وهما في ديوانه ص 291. (¬2) في (ف م 1): وحكى في المناقب وقال سئل، والمثبت من (خ). (¬3) طبقات الصوفية ص 240، وحلية الأولياء ص 214.

وسُئل عمّن خرج من الدُّنيا ولم يبق عليه إلَّا مقدارُ مصِّ نواة؟ فقال: المكاتَبُ عبدٌ ما بقي عليه درهم [وهذا الجواب في غاية الجودة] (¬1). وقال الفتوَّة بالشام، واللِّسان بالعراق، والصِّدق بخراسان. وقال: الفتوة كفُّ الأذى وبَذْلُ النَّدى. وقال: قال لي سريٌّ: تكلَّمْ على النَّاس -وكان في قلبي حِشْمةٌ من الكلام عليهم- فرأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام ليلةَ جُمعة، فقال: يا جنيد، تكلَّمْ على النَّاس، فانتبهتُ، وأتيتُ باب سَرِيّ قبل أن أُصبح، فطرقتُه فقال: لم تصدِّقنا حتَّى قيل لك؟ قال: فجلست في الجامع، واجتمع النَّاس فوقف عليَّ غلام فقال: ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "اتقوا فِراسة المؤمن فإنَّه ينظر بنور الله"؟ -[وسنذكر الحديث في آخر ترجمة الجنيد]- فوقع في قلبي أنَّه نصرانيٌّ، فقلت: أنْ تُسلمَ فقد آنَ وقتُ إسلامِك، فأسلم (¬2). وقال: إذا رأيتَ الصُّوفي يعنَى بظاهره فاعلم أن باطِنَه خراب. وقال: علمُ التوحيد علمٌ تَضْمَحِلُّ فيه الرسومُ، وتندرج تحته العلوم، وقد طُويَ اليوم بساطه، وإنَّما يتكلَّم النَّاسُ في حاشيةٍ من حواشيه. وقال: أشرفُ كلمةٍ في التوحيد قولُ أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه -: سبحان مَنْ لم يجعلْ لخلقه سبيلًا إلى معرفته إلَّا بالعجز عن معرفته. وقال الكتَّانيُّ: جرت مسألةٌ في المحبَّة في أيَّام الموسم بمكَّةَ، فتكلَّم فيها الشيوخُ، وكان الجنيد أصغرَهم سنًّا، فقالوا: هاتِ ما عندك فيها يا عراقيّ، فأطرق ودَمعتْ عيناه، ثمَّ رفع رأسه وقال: عبدٌ ذاهبٌ بنفسه، متَّصل بربِّه، قائمٌ بأداء حقوقه، ناظرٌ إليه بقلبه، أحرقتْ قلبَه أنوارُ [عظمته و] وحدانيته، شرب بكأس ودِّه من صفاء شربه، فإن تكلَّم فبه، [وإن سكت فبه، وإن تحرَّك فبه، ] وإن سكن فبه، فهو بالله ومع الله ولله وفي الله، فبكى القوم وقالوا له: أحسنتَ يا تاجَ العارفين. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 10/ 257، والرسالة القشيرية ص 191، 294، 323، 324، 349، وما بين معكوفين من (ف) و (م 1). (¬2) الرسالة القشيرية ص 360 - 361، 377. والحديث أخرجه الترمذي (3127) وقال: هذا حديث غريب.

وقيل له: لم يبكي المحبُّ عند لقاء محبوبه؟ فقالا: في الأول سُرورًا بلقائه، وفي الآخر خَوفًا من فراقه. وقال: التقى محبَّان فتعانقا، فقال أحدهما: واشوقاه، وقال الآخر: واوجداه. وقيل له: ما بالُ الإنسان يكون هادئًا فإن سمع السَّماع اضطرب؟ فقال: لأنَّ الله تعالى لَمَّا خاطب الذَرَّ يوم الميثاق وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] استفرغت عُذوبة سماع الكلام الأرواح، فإذا سمعوا ذكره ذكروا العَهْد فاضطربوا. وقال الجنيد: دخلت يومًا على سَرِيٍّ وعنده رجلٌ مغشيٌّ عليه، فقلت: ما حاله؟ قالوا: سمعَ آيةً من كتاب الله تعالى، فقلت: تُقرأ عليه الآية مرَّةً أخرى، فقال: من أين لك هذا؟ قلت: من قميص يوسف عليه السَّلام؛ فإنَّ بسببه ذهبتْ عينا يعقوب عليه السلام، وبالقميص عادتْ، فاستحسن سريٌّ منِّي ذلك. [وقال الخلديُّ: قيل للجنيد: أيزلُّ العارف؟ فقال: وكان أمر الله قَدَرًا مَقْدورًا.] وقال: رأيتُ في المنام كأنَّني أتكلَّم على النَّاس، فوقف عليَّ ملكٌ وقال: أقربُ ما تقرَّب به المتقرِّبون إلى الله ماذا؟ فقلت: عملٌ خفيٌّ بميزانٍ وفيٍّ، فولَّى الملكُ وهو يقول: كلامٌ موفَّق والله (¬1). وقال: إذا تخلَّى العبد عن الدُّنيا وما فيها فُتحت له أبوابُ المشاهدة، فيستريح من غموم الدُّنيا وما فيها، ويتنزَّه في رياض التَّوفيق، بين يديه قائدُ الحقيقة، فيكتفي بالله عمَّا سواه. وقال: [مَنْ فتح على نفسه باب نيَّة حسنة فتح الله عليه سبعين بابًا من التوفيق، و] مَنْ فتح على نفسه بابَ نيَّةٍ سيئة فتح الله عليه سبعين بابًا من الخُذْلان من حيثُ لا يشعر. وقال له رجل: العناية قبل البداية؟ فقال: بل قبل خلق الماء والطين. وسئل عن قوله عليه الصلاة السلام: "حبُّك للشيء يُعمي ويُصمّ" (¬2) فقال: يُعمي عن الدُّنيا، ويُصم عن الأخرى. ¬

_ (¬1) الرسالة القشيرية ص 430، 455، 457، 488، 507، 513، 566. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (21694) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -، والصحيح أنه موقوف.

وقال: لو علم منك التَّحقيقَ لوسَّع عليك الطَّريقَ، ولو سِرْتَ إليه في أوَّل المصائب لرأيتَ من لُطفه العجائب. وقال الخلدي: سمعتُه ينشد: [من الطويل] ولو نَطَقتْ بي ألسنُ الدَّهر خبَّرتْ ... بأنِّيَ في ثوبِ الصَّبابَةِ أرْفُلُ وما إنْ لها عِلْمٌ بحالي ومَوْضِعي ... وما ذاك مفهومٌ لأنِّي مُثْقَلُ (¬1) قال: ودخلتُ يومًا عليه وهو يبكي، فقلت: ما لكَ؟ فقال: فقدتُ أُنسي في الخلوة، وعدمتُ الإخوان الذين كنتُ أستأنِس بهم، ودون هذا مما يُبكي، وأنشد: [من الكامل] ذُمَّ المنازلَ بعد منزلةِ الهوى ... والعيشَ بعد أولئك الأقوامِ (¬2) [وحكى الخطيب (¬3) عن الخُلْدي عن] الجنيد قال: كلَّمتُ الحسنَ المُسُوحي في شيءٍ من الأُنس، فقال: لو مات مَنْ تحت السماء ما استوحشتُ. ذكر وفاته: [حكى السُّلميُّ عن الخطيب (¬4) قال: ] دخل أبو العبَّاس بن عطاء عليه وهو في النَّزْع، فسلَّم عليه فلم يردَّ، ثمَّ ردَّ بعد ساعة وقال: اعذُرني فإنِّي كنتُ في ورْدي السابع، ثمَّ حوَّل وجهَه إلى القبلة وكبَّر وتُوفِّي. [وحكى السلمي أيضًا عن] أبي محمد الجَريري قال: كنتُ (¬5) واقفًا على رأس الجنيد وهو في الموت -وكان يوم الجمعة- وهو يقرأ القرآن، فقلت: يا أبا القاسم، ارفِقْ بنفسك، فقال: يا أبا محمد، ومَنْ أحوجُ منِّي في هذا الوقت إلى ما ترى؟ وهذه صحيفتي تُطوى، فقلت له: لو اضطجعتَ؟ فقال: هذا وقت يؤخذ منه، الله أكبر ومات. ¬

_ (¬1) ذكر البيتين الكلاباذي في التعرف لمذهب أهل التصوف ص 138. (¬2) البيت لجرير، وهو في ديوانه 2/ 990. (¬3) في تاريخه 8/ 355. (¬4) في تاريخه 8/ 173. (¬5) في (خ): وقال أبو محمد الجريري: كنت ... ، والمثبت وما بين معكوفين من (ف) و (م 1)، والكلام في تاريخ بغداد 8/ 176.

وقال: يا أبا محمد، إذا متُّ فاتَّخِذْ لأصحابنا طعامًا، فإذا انصرفوا من الجنازة أكلوا لئلَّا يتشتَّتوا، فبكى الجريريُّ، وقال: والله لئن فقدنا هاتين العينين لا اجتمع منَّا اثنان أبدًا، فكان كما قال (¬1). وقال في "المناقب": ختم الجنيدُ القرآن عند موته، ثمَّ ابتدأ من سورة البقرة، فقرأ سبعين آيةً ثمَّ مات. واختلفوا في وفاته على ثلاثة أقوال؛ أحدها: في هذه السنة، قال الخطيب (¬2): توفِّي يوم السبت في شوَّال، وكان نَيروزَ الخليفة هذه السَّنة. والثاني في سنة ثمانٍ وتسعين [ومئتين. والثالث في سنة تسع وتسعين ومئتين (¬3). وغسَّله الجريريُّ، وصلَّى عليه ولدُه. وقال ابن المنادي: ذكر (¬4) لي أنَّه حُزِر الجَمْعُ الذين صلَّوا عليه فكانوا نحوًا من ستين ألفًا، ودُفن بمقابر الشُّونيزيَّة، وقبرُه ظاهر يُزار ... وقال الجريري: كان (¬5) في جوار الجنيد رجلٌ مُصاب في خَرِبَةٍ، فلمَّا رجعنا من الجنازة تقدَّمَنا ذلك المصاب، ووقف على تلٍّ وقال لي: يا أبا محمد، أتراني أرجع إلى تلك الخَرِبَة وقد فقدتُ ذلك السيِّد؟ ثم أنشأ يقول: [من مخلع البسيط] واأسفي من فِراقِ قومٍ ... همُ المصابيحُ والحصونُ والمُدْنُ والمُزْنُ والرَّواسي ... والخيرُ والأمنُ والسكونُ لم تتغيَّر لنا اللَّيالي ... حتَّى توفَّتْهمُ المنونُ فكلُّ جَمْرٍ لنا قلوبٌ ... وكلُّ ماءٍ لنا عيونُ ثمَّ غاب، فكان آخرَ العَهْد به. ¬

_ (¬1) ينظر طبقات الشعراني 1/ 74. (¬2) في تاريخه 8/ 177. (¬3) في (خ): واختلفوا في وفاته قال الخطيب يوم السبت ... وقيل سنة ثمان وتسعين وقيل سنة تسع وتسعين ومئتين، والمثبت من (ف م 1). (¬4) في (ف م 1): قال الخطيب: أخبرني الجوهري عن محمد بن العباس عن ابن المنادي قال ذكر، والمثبت من (خ)، وانظر تاريخ بغداد 8/ 177. (¬5) في (ف م 1): وحكى في المناقب عن الجريري قال كان، والمثبت من (خ)، والخبر في تاريخ بغداد 8/ 177.

[وحكى الخطيب (¬1) عن] جعفر الخُلْديِّ قال: رأيتُ (1) الجنيدَ في منامي فقلت: ما فعلَ الله بك؟ فقال: طاحت تلكَ الإشارات، وذهبتْ تلك العبارات، وفَنِيَتْ تلك العلوم، ونَفِدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلَّا رُكيعات كنَّا نركعها في وقت السَّحَر. لقي الجنيدُ خلقًا كثيرًا من العلماء والشيوخ، فقال: صَحِبتُ خمس طبقات من أكابر النَّاس؛ فأوَّلُهم خالي سَرِيٌّ السَّقَطيُّ، والحارثُ بنُ أسد المحاسبيُّ، وأبو جعفر الخصَّاف، وأبو يعقوب محمد بن الصّباح، ونظراؤهم في السِّنِّ والمكانة. والطبقة الثانية: أبو عثمان الورَّاق، وأبو الحسين بن الكريبي، وأبو حمزة محمد بن إبراهيم، وحسن المُسُوحيُّ، ومحمد بن أبي الورد، ونظراؤهم. والطبقة الثالثة: محمد بن وهب، و [أبو] يعقوبُ الزيَّات (¬2)، وسعد الدمشقيُّ البزاز، ونظراؤهم. والطبقة الرابعة: أبو القاسم الواسطيُّ، وأبو العبَّاس الأدَميُّ، وأبو أحمد المغازليُّ، ومحمدُ بن السمَّاك، ونظراؤهم. والطبقة الخامسة، وهي التي نحن فيها، ما رأيتُ أحدًا من هؤلاء زَحَمَتْه حاجةٌ فاحتشم صاحبه (¬3) منها، وعلى هذا مضى أكابرُ أهلِ هذه الصِّفة. أسند الجنيدُ الحديثَ عن الحسن بن عَرفة وغيرِه. وقال الخطيب بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا فِراسة المؤمن فإنَّه ينظر بنور الله" ثمَّ قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ): وقال جعفر الخلدي رأيت، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 8/ 176. (¬2) في (خ): ويعقوب بن الزيات، والمثبت صفة الصفوة 2/ 416. (¬3) في تاريخ دمشق 7/ 128، زحمته جارحة عند صاحبه. (¬4) تاريخ بغداد 8/ 169، وسلف تخريج الحديث قريبًا، ومن قوله: وقال الخطيب بإسناده إلى هنا من (ف) (م 1)، وجاء بعد هذا فيهما: انتهت ترجمة الجنيد والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف الخلق سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

عمرو بن عثمان

[وفيها توفي] عمرو بن عثمان أبو عبد الله، المكِّي. سكن بغداد، وكان شيخَ القوم في وقته، [وله الكلام الحسن، ] صحب الجنيدَ وأبا عبد الله النِّباجيَّ وأبا سعيد الخراز وغيرَهم. ذكر المختار من كلامه: حكى أبو عبد الرَّحمن السلمي عنه أنه قال: المروءة (¬1) التغافل عن زَلَل الإخوان. وقال: العلم قائدٌ، والخوفُ سائقٌ، والنَّفس حَرُونٌ بين ذلك، خدَّاعة روَّاغة، فاحذرها وراعِها بسياسة العِلْم، وسُقْها بتهديد الخوف، يتمُّ لك ما تريد. [وحكى عنه في "المناقب" (¬2) أنَّه] قال: كلُّ ما يتوهَّمه قلبُك، أو يَسْنَح في مجاري فكرك، أو يخطر في معارضات سِرِّك من نورٍ أو بهاءٍ، أو أُنْسٍ أو ضياءٍ، أو شبح أو خيال، فالله تعالى بعيدٌ من ذلك، ألم تسمع إلى قوله تعالى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} الآية [الشورى: 11]. وقال: واغمَّاه من عَهْد لم تَقُم له بوفاء، ومِن خَلْوةٍ لم تُصحَب بحياء، ومن مسائلَ ما الجوابُ عنها غدًا، ومن أيامٍ تَفْنى ويبقى ما كان فيها أبدًا. وحكى عنه [في "المناقب" (¬3) أيضًا] أنَّه رأى الحسينَ الحلَّاج يومًا يكتب شيئًا، فقال له: ما تصنع؟ فقال: أعارض القرآن، فدعا عليه وهَجَره، قال الشيوخ: فالذي حلَّ بالحلَّاج إنَّما كان بدعاء عمرو عليه. ¬

_ (¬1) في (خ): وأبا سعيد الخراز وغيرهم ومن كلامه المروءة، والمثبت من (ف م 1) وما يأتي بين معكوفين منهما، وانظر طبقات الصوفية ص 200، وتاريخ بغداد 14/ 136، ومناقب الأبرار 1/ 381، والمنتظم 13/ 97، وتاريخ الإسلام 6/ 990. (¬2) 1/ 382. (¬3) 1/ 384.

أبو الحارث الفيض بن الخضر بن أحمد

[واختلفوا في وفاته؛ فقال قوم: ] مات عمرو ببغداد، والأصحُّ أنَّه مات بجُدَّة في هذه السَّنة، وقيل: سنة إحدى وتسعين ومئتين، وقيل: إنَّه وَلِي قضاءَ جُدَّة فهجره الجنيد [وقال: كان يُظهر الزهد في الدنيا ويتولى القضاء! ]. أسند عن الرَّبيع بن سليمان [ويونس بن عبد الأعلى] وغيرِهما، وروى عنه الخُلْدي وغيرُه. [وفيها توفي] أبو الحارث الفَيض بن الخَضِر بن أحمد وقيل: الفيض بن محمد الأوْلاسي الطَّرسوسي. [قال السُّلَمي: هو] أحد الزُّهَّاد، وكان في صباه يتعانى اللهوَ والغناءَ، فاجتاز يومًا على مريض مطروح على قارعة الطَّريق، فقال له: ما تشتهي؟ فقال: رُمّانًا، فقال: فأتيته برمَّان فوضعتُه بين يديه، فرفع رأسه إلى السَّماء وقال: تاب الله عليك، فما أمسيتُ حتَّى تغيَّر قلبي عن ما كان عليه. وخرجتُ إلى الحجِّ، فبينا أنا أسير في الليل مررتُ بقوم يشربون، وأجلسوني معهم، وعرضوا عليَّ الشراب، فقلت: أحتاج إلى البول، وذهبتُ في غابة وإذا بسَبُع، فقلت: اللهمَّ إنَّك تعلمُ ما تركتُ، وفيمَ خرجت، فاصرف عنِّي شرَّه، فولَّى وهو يُهَمْهم. ودخلت مكَّة فلقيتُ بها من انتفعتُ به، منهم: إبراهيم بن سعد العلويُّ. وقال (¬1): رأيت إبليسَ له جُمَّة شَعَر، فأقبلتُ أتملَّق له، وأقول: خَلِّني وربي، فقال: كيف أخلّيك وفي أبيك هلكتُ؟ والله لا أخلِّيكم حتَّى تهلكوا معي، فأخذتُ برأسه، وبركته على حَجَر، وأردت أن أخنِقَه، فذكرتُ أنَّ الله قد أَنْظَره إلى يوم القيامة فتركتُه. [وحكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: أقمتُ ثلاثين سنةً ما يسمع لساني إلَّا من سِرِّي، ثمَّ أقمتُ بعد ذلك ثلاثين سنةً ما يسمع سِرِّي إلَّا من ربِّي. وكانت [وفاته] بطَرَسُوس. ¬

_ (¬1) في (ف م 1): وحكى عن ابن جهضم قال: والمثبت من (خ). وانظر ترجمته في تاريخ دمشق 58/ 219 - 226، والمنتظم 13/ 98، وتاريخ الإسلام 6/ 998.

محمد بن داود

[وفيها توفي] محمد بن داود ابن عليِّ بن خَلَفٍ، أبو بكر، الأصبهانيُّ، الظاهريُّ، صاحبُ كتاب "الزَّهْرة". كان [على مذهب أبيه داود]، فصيحًا، عالمًا، أديبًا، فقيهًا، شاعرًا، ذا فنون، وكان يُلَقَّب بعصفور الشَّوْك؛ لنحافته وصُفْرة لونه. قال [الخطيب (¬1) بإسناده عن] رُوَيم بن محمد [قال: ] كنَّا عند داود بن علي [الأصبهاني]، إذ دخل عليه محمد ابنُه وهو يبكي، فضمَّه إليه وقال: ما يُبكيك؟ قال: الصبيانُ يلقِّبوني بعصفور الشَّوك، فضحك داود، فقال له ابنُه: أنت أشدُّ عليَّ من الصِّبيان، فقال داود: لا إله إلَّا الله، ما الألقاب إلَّا من السماء، ما أنت إلَّا عصفورُ الشوك. [وروى الخطيب أيضًا بإسناده عن] أبي الحسن الداودي [قال: ] لَمَّا جلس (¬2) محمد بن داود بعد وفاة أبيه في حلقته استصغروه عن ذلك، فدسُّوا إليه رجلًا وقالوا: سَلْه عن حدِّ السُّكْر ما هو، فسأله الرجل وقال: متى يكون الإنسان سَكرانًا؟ فقال محمد على البديه: إذا عَزَبتْ عنه الهمومُ، وباح بسرِّه المَكْتوم، [وفي رواية: حدُّ السُّكْر أن ترتفع الهموم ويُباح بالمكتوم] فاستحسَنُوا ذلك منه، وعلموا موضعَه من العلم. وقال محمد: ما انْفَكَكْتُ من هوًى قطُّ منذ دخلتُ الكُتَّاب، وبدأتُ بعمل كتاب "الزَّهْرة" وأنا في الكُتَّاب، ونظر أبي في أكثره. ودخل محمد يومًا على ثعلب النَّحْويّ، فقال له ثعلب: اذكر لي شيئًا من صَبْوَتك، فقال: [من الطويل] سقى اللهُ أيَّامًا لنا ولياليًا ... لهنَّ بأكنافِ الشبابِ مَلاعِبُ إذ العيشُ غَضٌّ والزَّمانُ بغرَّةٍ ... وشاهدُ أوقات (¬3) المحبِّين غائبُ فبكى ثعلب. ¬

_ (¬1) في تاريخه 3/ 158 - 159. وما بين معكوفين من (ف) و (م 1). (¬2) في (خ): وقال أبو الحسن الداودي لما جلس، والمثبت وما بين معكوفين من (ف) و (م 1). وكلام الخطيب في تاريخه 3/ 159. (¬3) في تاريخ بغداد 3/ 160، والمنتظم 13/ 99: آفات.

وروى الخطيب عن القاضي [أبي عمر محمد بن] يوسف بن يعقوب قال: كنت (¬1) أُساير أبا بكر بن داود، فسمع جاريةً تغنِّي بشعره وتقول: [من البسيط] أشكو غَليلَ فؤادٍ أنت مُتْلِفُهُ ... شكوى عليلٍ إلى إِلْفٍ يعلِّلُهُ سُقمي تزيد على الأيَّام كثرتُهُ ... وأنتَ في عُظْم ما ألقَى تُقفلُهُ الله حرَّم قَتْلي في الهَوى سَفَهًا ... وأنتَ يا قاتلي ظُلْمًا تُحَلِّلُهُ فقال محمد: يا أبا عمر، كيف السَّبيل إلى ارتجاع مثل هذا؟ فقلت: هيهات، سارت به الرُّكبان. وساير محمد بن داود ابنَ سُرَيج يومًا في طريق ضيِّق، فقال ابنُ سُريج: الطَّريق يُورثُ العُقوقَ، فقال أبو بكر: ويُوجب الحقوق. ومن شعر محمد: [من الطويل] حملتُمْ جِبال الحُبِّ فوقي وإنَّني ... لَأَعْجزُ عن حَمْلِ القميصِ وأضعُفُ وما الحُبُّ من حُسْنٍ ولا من سَماحةٍ ... ولكنَّه شيء به الروحُ تَكْلَفُ ومن شعره: [من البسيط] يا يوسفَ الحُسْنِ تمثيلًا وتشبيهًا ... يا طَلْعةً ليس إلَّا البدرُ يَحكيها مَن شَكَّ في الحُور فلْينظرْ إليك ... فما صِيغتْ مَعانيك إلَّا من معانيها وقال أيضًا: [من الطويل] أُكَرَّر في رَوْضِ المحاسنِ مُقْلَتي ... وأمنَعُ نَفْسي أنت تنال مُحرَّما رأيتُ الهوى دَعوى من الناس كلِّهم ... فما إن أرى حُبًّا صحيحًا مسلَّما ومن شعره وهو أحسن ما قيل (¬2): [من الطويل] وإنِّي لأدري أنَّ في الصَّبْر راحةً ... ولكنَّ إنفاقي على الصَّبْر من عُمري فلا تُطْفِ نارَ الشَّوق بالشَّوق طالبًا ... سُلُوَّا فإنَّ الجَمْرَ يُسْعَر بالجَمْرِ ذكر وفاته: ¬

_ (¬1) في (خ): وقال القاضي يوسف بن يعقوب كنت، والمثبت من (ف م 1)، وما بين معكوفين من تاريخ بغداد 3/ 161، والمنتظم 13/ 100. (¬2) في (خ): وقال أيضًا، والمثبت من (ف م 1).

حكى الخطيب وغيره أن محمدًا كان يهوى (¬1) فتًى حَدَثًا من أهل أصبهان يقال له: محمد بن جامع، ويقال: محمد بن زُخْرُف، وكان أبو بكر عفيفًا طاهرًا في عِشْقه، وكان ابنُ جامع يُنفق عليه، وما رأى النَّاسُ معشوقًا يُنفق على عاشقه إلَّا هو، وما زالت محبَّتُه به حتَّى قَتَلَتْه. ودخل ابنُ جامع الحمَّام يومًا، وخرج فأخذ المرآة، فنظر إلى وجه نفسه، فأعجبه وجهُه فغطَّاه بمنديل، وجاء إلى ابن داود وهو على تلك الحالة، فقال له: ما هذا؟ فقال: نظرتُ في المرآة، فأعجبني حُسْني، فما أحببتُ أن يراه أحد قَبْلَك، فغُشي على ابن داود. قال الخطيب: ودخل عليه إبراهيم بن محمد بن عَرَفَة النَّحْويُّ المعروف بنِفْطَويه وقد ضَني (¬2) على فراشه، فقال له: يا أبا بكر، ما هذا الضَّنى مع القُدرة والمحبوب مُساعد؟ فقال: أنا في آخر يوم من أيام الدُّنيا، لا أنالني اللهُ لشفاعةَ محمد - صلى الله عليه وسلم - إن كنتُ حَلَلْتُ سَراويلي على حرامٍ قطُّ، حدَّثني أبي بإسناده إلى ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن عَشِق وكَتَم وعَفَّ وصبر، ثمَّ مات مات شهيدًا، وأدخله الله الجنَّة" (¬3). قال المصنف رحمه الله: والحديث رواه الخرائطيُّ رفعه إلى ابن عبَّاس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن عَشِق فعفَّ فمات فهو شهيد (¬4) ". [قال الخطيب: ] توفِّي أبو بكر ابن داود يوم الإثنين لتسعٍ خلون من رمضان سنة ستٍّ، أو سبعٍ، أو ثمانٍ وتسعين ومئتين (¬5)، وروى عن أبيه وغيرِه، ولَمَّا مات محمد جلس ابن سُريج في عزائه، وبكى، وجلس على التُّراب وقال: ما أسفي إلَّا على ترابٍ ¬

_ (¬1) في (خ): ذكر وفاته كان محمد يهوى، والمثبت من (ف م 1). (¬2) في (خ): ودخل عليه إبراهيم نفطويه وقد ضني، والمثبت من (ف م 1)، وانظر تاريخ بغداد 3/ 165. (¬3) بعدها في (ف) و (م 1): قلت: قاتل الله نفطويه، أما كفى ابنَ داود ما هو فيه من النظر إلى المحرم حتى يزيّن له الفاحشة التي يفضي بها إلى نار جهنم. (¬4) اعتلال القلوب للخرائطي ص 79، قال ابن الجوزي في العلل المتناهية 2/ 772: هذا الحديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) تاريخ بغداد 3/ 167، ومن هنا إلى آخر السنة ليس في (ف م 1). وانظر مروج الذهب 8/ 254، والسير 13/ 109، وتاريخ الإسلام 6/ 1023.

محمد بن طاهر بن عبد الله

أكل لسانَ أبي بكر. محمَّد بن طاهر بنِ عبد الله ابنِ طاهر بن الحسين، أبو العبَّاس، النَّيسَابوريُّ. أميرٌ ابن أميرٍ ابنِ أميرٍ ابن أميرٍ، ولَّى المأمون جدَّه طاهرًا الجزيرةَ والرَّقَّة، ثمَّ خُراسان، فمات، فولَّاها ابنَه عبد الله، فمات، فوليها ابنُه طاهر، فمات، فوليها ابنُه محمد صاحب هذه الترجمة، فكانت مدَّةُ إمارة بني طاهر من أيَّام المأمون إلى هذه السنة، وكان يعقوب بن الليث الصفَّار قد ظفر بمحمَّد، فكان معه أسيرًا يطوف به البلادَ إلى سنة اثنين وستِّين ومئتين، خَلُص من أسره، فلم يزل مقيمًا بمدينة السَّلام حتَّى مات. سمع محمد بن طاهر من إسحاقَ بنِ راهويه وغيره، وروى عنه أحمدُ بن حاتم المَرْوزيّ، ومات ببغداد في أيَّام المقتدر سنة ثمانٍ أو سبعٍ وتسعين ومئتين، ودُفن إلى جانب عفه محمد بن عبد الله بن طاهر بمقابر قريش (¬1). محمد بن العبَّاس بن محمد ابن عمرو الجُمَحيُّ، القاضي. أصلُه من البصرة، وسكن دمشقَ بعد التسعين ومئتين. وكان وَرِعًا، صالحًا، فاضلًا، عَفيفًا، وإذا تقدَّم إليه ذو جاهٍ لا يلتفت إليه. جاءه ابنُ زُنْبُور الوزير ومعه كيغلغ (¬2)، فجلسا عنده، فقال له الوزير: للأمير كيغلغ حكومةٌ، يشتهي أن تقضيَ فيها على اختلاف العلماء، فغمَّض عينيه وقال: والله لا أفتحهما وأنتما جالسان، فما فتحهما حتَّى قاما من مجلسه، وما قام قطُّ لظالمٍ. وكان له بيتٌ صغير، إذا جاءه أحد من أبناء الدُّنيا قام فدخل البيت، فإذا جلس الرجل قام فخرج. وكتب إليه محمَّد بن علي ابن الشيخ الماذرائي أبياتًا يعاتبه فيها: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 361، والمنتظم 13/ 102 - 103، وتاريخ الإسلام 6/ 1030. (¬2) في تاريخ دمشق 62/ 364: أبو زنبور ومعه ابن كيغلغ.

يوسف بن يعقوب بن إسماعيل

يَعزُّ على مُشْفِقٍ أن يَراك ... قريبًا لمَن لستَ من شَكْلِهِ وأنتَ الذي لو تأمَّلْتَه ... لأكْبَرتَ قَدْرَك عن مِثلِهِ فهَبْكَ رضيتَ قضاءَ الشآم ... وصِرْتَ رئيسًا على أهله ألستَ العَليمَ بأنَّ الفَناءَ ... على آدمٍ وبني نَسْله فماذا تقولُ إذا ما دُعِيتَ ... إلى مَجْمَعٍ ماجَ من حَفْله وقيل هلُمُّوا بأشياعِكم ... وبالجُمَحيّ على رِسْله فهبْكَ اصطَفَيتَ خراجَ البلاد ... وما كان في الحَزْن أو سَهْله ولستُ أقولُ لما قد جَمَعْتَ ... حرامًا ولكنَّ من حِلِّه فهل فيه فَخْرٌ لذي حِكْمةٍ ... وقَيدُ المنيَّةِ في رِجْله وكانت وفاتُه بدمشقَ، وبقي البلدُ شاغرًا من قاضٍ أيَّامًا، حتَّى وليه أبو زُرْعة محمد بن عثمان. يوسف بن يعقوب (¬1) بن إسماعيل ابن حمَّاد بن زيد بن دِرْهم، أبو محمد، البَصْريُّ، مولى آل جرير بن حازِم الأَزْدي. وُلد سنة ثمانٍ ومئتين، ولي قضاءَ البَصْرة سنة ستٍّ وسبعين ومئتين، وضُمَّ إليه قضاءُ واسط، ثمَّ أُضيف إليه قضاء الشَّرقية ببغداد. وكان حسنَ السِّيرة، جميلَ المذهب، مستقيمَ الطَّريقة، صالحًا، ورعًا، عفيفًا، حاكمًا بالحقِّ، مات مصروفًا عن القضاء في رمضان، غير مطعونٍ عليه في شيء. سمع سليمانَ بن حَرْب وغيرَه، وروى عنه ابنُ قانع وغيره. ولما احتضر دخل عليه إخوانُه يعودُونَه فقالوا: كيف تجدُك؟ فقال: [من الوافر] أرانيَ في انتقاصٍ كلَّ يومٍ ... ولا يَبْقى مع النُّقصانِ شيُّ طَوَى العَصْران ما نَشَراه ... منِّي فأخْلَقَ جِدَّتي نَشْرٌ وطَيُّ ¬

_ (¬1) في (خ): محمد بن يعقوب، والمثبت من تاريخ بغداد 16/ 456، والمنتظم 13/ 103، وتاريخ الإسلام 6/ 1069.

السنة الثامنة والتسعون بعد المئتين

السنة الثامنة والتسعون بعد المئتين فيها قَدِمَ القاسمُ بنُ سيما من غزوهِ الصائفة بالرّوم، ومعه خَلْقٌ من الأسارى، وخمسون عِلْجًا قد شُهِّروا على الجمال، وبأيديهم أعلامُ الروم، عليها صلبانُ الذَّهب والفِضَّة. وفيها فُلِجَ القاضي عبد الله بن أبي الشَّوارب، قال [طلحة بن] محمد بن جعفر: لم يزلْ عبد الله بن علي بن [محمد بن] عبد الملك بن أبي الشَّوارب على القضاء بالجانب الشَّرقيِّ من بغداد وعلى الكَرْخ أيضًا من شهر ربيع الأوَّل سنة ستٍّ وتسعين ومئتين إلى أن ضربه الفالجُ فأُسكت، فاستخلف ابنَه محمدًا على عمله كلِّه، وذلك في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى أو الآخرة، سنة ثمانٍ وتسعين ومئتين. وكان محمد جميلًا، واسعَ الأخلاق، ولم يكن فيه خشونة، فاضطربت الأمورُ بنظره، ولُبِّست عليه في أكثر أحواله، ولم يزلْ على خلافة أبيه إلى سنة إحدى وثلاث مئة، فتوفي فيها (¬1). وفي ربيع الأول دخل مؤنس الخادم وبين يديه الليث بنُ عليٍّ مشهورًا مغلولًا. وفيها قدم الحسين بن حمدان من قُم إلى بغداد، فخلع عليه المقتدر وولَّاه ديارَ بكر [وربيعة، وكانت الروم قد وصلت إلى ديار بكر]، واستولت على بعض الحصون. وقيل: إنَّ في هذه السَّنة قبض المقتدر على وزيره ابنِ الفرات، وقيل: في السَّنة الآتية لما نذكره إن شاء الله تعالى. وفي ربيعٍ الآخر مات محمد بن عَمْرَويه بآمِد، [قال ثابت بن سنان: ] فَحُمِل تابوتُه إلى بغداد، ودُفن في شارع القَحاطِبة. وفي شعبان مات صافي الحُرَمي، وقُلِّد مكانه مؤنس الخادم، واستخلف على الحرم ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 179، والمنتظم 13/ 105 - 106 وما بين معكوفين منهما، وهذا الخبر ليس في (ف م 1).

أحمد بن محمد

في دار السلطان بدَير الحُرَمي. وفيها استتر أبو علي محمد بن عبيد الله الخاقانيُّ؛ لوصول رُقعة له إلى المقتدر يطلب (¬1) فيها الوزارة، فبعث بها إلى ابن الفرات، واتَّهم ابنُ الفرات عبد الله بن الحسين بن زوران بأنَّه يسعى له في الوزارة، فنفاه إلى الرَّقَّة. [قال ثابت: ] وفي شعبان أُخذ رجل من باب المُحَوَّل يقال له: أبو كثير (¬2)، واخر يقال له: أبو شاكر، وآخر يعرف بأبي مسلم، وآخر يعرف بالشمري، وذُكر أنَّهم أصحابُ رجلٍ يُعرف بمحمَّد بن بشر يدَّعي الرّبوبيّة. وجاءت الرُّوم في ذي القعدة إلى اللاذقية. وهبَّت ريحٌ صفراءُ حارَّة بحديثة الموصل في ذي الحجَّة فمات لشدة حرِّها جماعة. وحجَّ بالنَّاس الفضلُ بن عبد الملك الهاشميُّ. وفيها توفي أحمد بن محمد ابن مَسْروق، أبو العبَّاس، الصُّوفي، الطُّوسي (¬3). أحدُ مشايخ القوم وأصحاب الكرامات، أقام ببغداد وحدَّث بها. ذكر طرف من أخباره وكراماته ومجاهداته: حكى ابن جَهْضَم عنه قال (¬4): كانت والدتي تبكي عليَّ يوم الجمعة؛ لأنِّي كنت أنصرف من الجمعة عَليلًا لما أسمعه من الشيوخ، وكنتُ أنظر إلى شيوخي فتكون رؤيتي لهم قوتي من الجمعة إلى الجمعة، وكنتُ ألْبَسُ المُسوح. [وحكى الخطيب عنه] قال: أردتُ السَّفَر فودَّعتُ والدتي، وخرجتُ فمشيتُ أيامًا، ¬

_ (¬1) في (خ): يخطب، والمثبت من تاريخ الإسلام 6/ 873، وهذا الخبر ليس في (ف م 1). (¬2) الذي في المنتظم 13/ 106: أبو كثيرة. (¬3) تاريخ بغداد 6/ 280، وطبقات الصوفية ص 237، وحلية الأولياء 10/ 213، والمنتظم 13/ 107، وصفة الصفوة 4/ 129، وتاريخ الإسلام 6/ 896، والسير 13/ 494. (¬4) في (خ): طرف من أخباره قال، والمثبت من (ف م 1).

ثمَّ وقفتُ وَقْفةً، فلم أقدر أن أنقل قَدَمًا إلى قُدَّام، ولم أعلم ما العِلَّة! فرجعتُ إلى بيتي، فطرقتُ الباب ففُتح، وإذا بأمّي قاعدة خلف الباب وعليها سوادٌ، فقلت: ما هذا؟ فقالت: منذ خرجتَ وإلى الآن أنا قاعدةٌ هاهنا، وعاهدتُ الله أن لا أزول من هاهنا حتَّى تعود، فقلت: تلك الوقفة كانت لهذا. [وحكى في "المناقب" عن] الجريري قال: دعانا (¬1) أبو العبَّاس بن مَسْروق إلى بيته، فاستَقْبَلَنا صديقٌ لنا، فقلنا له: ارجع معنا فنحن في ضيافة أبي العبَّاس، فقال: إنَّه لم يَدْعُني، فقلنا: نحن نستثنيك كما فعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة - رضي الله عنها - (¬2)، فجاء معنا، فدخلنا على أبي العبَّاس فأخبرناه خبرَ الرجل، فخرج أبو العبَّاس إليه وقال له: جعلتَ موضعي من قلبك أن جئتَ إلى منزلي من غير استدعاء، عليَّ كذا وكذا إن مشيتُ إلى الموضع الذي تقعد فيه إلَّا على خدِّي، ووضع خدَّه على الأرض، ووضع رِجْل [الرَّجُل] على وجهه، وجعل يَسْحَب وَجْهَه على الأرض إلى أن بلغ إلى موضع جلوسه (¬3). [وروى الخطيب بإسناده إلى] جعفر الخُلْدي قال: حدَّثني (¬4) ابن مسروق قال: دخلتُ إلى الريّ، فقصدتُ أبا موسى الدُّولابي -وكان في ذلك الوقت أشرف مَن يُذْكر- فدخلتُ إليه وسلَّمت عليه، وأقمتُ في منزله ثلاثةَ أيَّام، فلمَّا أردتُ الخروجَ أتيتُه لأودِّعه، فقال: يا غلام، الضيافةُ ثلاثة أيام، وما كان فوق ذلك فهو صدقةٌ منك عليَّ. وقال: دخلتُ على شيخ من أصحابنا، فوجدتُه على حالٍ رثَّة، فقلتُ في نفسي: من أين يرتزق هذا الشيخ؟ فصاح بي: دَعْ عنك هذا الخاطر، فإنَّ لله ألطافًا خفيَّة (¬5). وحكى الخطيب عن الخُلدي قال: سمعتُ أبا العباس بن مَسْروق يقول: قدم (¬6) علينا شيخٌ، وكان يتكلَّم بكلامٍ حَسَن، وكان عَذْبَ اللسان، جيِّدَ الخاطر، فقال لنا في ¬

_ (¬1) في (خ): وقال الجريري دعانا، والمثبت من (ف م 1). (¬2) انظر حديثها في صحيح مسلم (2037). (¬3) مناقب الأبرار 1/ 438. (¬4) في (خ): وقال جعفر الخلدي حدثني، والمثبت من (ف م 1)، وانظر تاريخ بغداد 6/ 280. (¬5) الرسالة القشيرية ص 372. (¬6) في (خ): ألطافًا خفية، وقال: قدم. والمثبت من (ف م 1)، وانظر تاريخ بغداد 6/ 282.

بعض كلامه: كلُّ ما وقع في خواطركم فقولوه لي، فوقع في خاطري أنَّه يهودي، وعرَّفت الجريريَّ فكَبُر عليه، وقوي في خاطري ذلك، فقلت له: يا هذا، قد وقع في خاطري أنَّك يهوديّ، فأطرق ساعة، ثمَّ رفع رأسه وقال: صدقتَ، ثمَّ أسلم، وقال: قد مارَسْتُ الأديانَ كلَّها والمذاهب؛ فما رأيتُ مَن هو على الحقِّ إلَّا أنتم، وحَسُن إسلامه. وقال أبو العباس: كنتُ آوي (¬1) إلى مسجد فيه سِدْرَة يأوي إليها بُلبُلان، ففقد أحدُهما صاحبَه، وبقي الآخرُ على الغُصْن ثلاثة أيَّام لا ينزل، ولا يلتقط، ولا يشرب ماءً، فلمَّا كان في اليوم الثالث، مرَّ به بلبل آخر فصاح، فذكر البلبلُ الذي كان على الغُصن صاحبَه، فوقع ميتًا. ذكر نبذة من كلامه: حكى السُّلمي عنه أنه قال: من راقب الله (¬2) في حركات قلبه عصمه في حركات جوارحه. وقال: أنت في هَدْم عمرك منذ خرجتَ من بطن أمِّك. وحكى في "المناقب" عن جعفر الخلدي قال: سألتُ ابنَ مسروق عن العقل، فقال (¬3): مَنْ لم يَحْتَرِز بعقله من عقله لعقله هلك بعقله. وقيل له: ما التوكُّل؟ فقال: الاستسلامُ لجَرَيان القضاء والأحكام. وقيل له: مَن الزاهد؟ فقال: الذي لا يَملكُه مع الله سَببٌ. وقال: كثرةُ النَّظَر إلى الباطل تَذْهب بنور الحقِّ من القلب. وقال: إنَّ الله وَسَمَ الدُّنيا بالوَحْشَة؛ لئلَّا يأنس المطيعون بها. وقال: شجرةُ المعرفة تُسْقى بماء الفكرة، وشَجَرةُ المحبَّة تُسقى بماء الاتِّفاق، ¬

_ (¬1) في (ف م 1): وحكى أبو نعيم عن أبي العباس قال كنت آوي، والمثبت من (خ)، ولم نقف على الخبر في حلية الأولياء. (¬2) في (خ): وقال أبو العباس: من راقب الله، والمثبت من (ف م 1)، وانظر طبقات الصوفية ص 240. (¬3) من قوله: وحكى في المناقب ... إلى هنا من (ف م 1). وانظر مناقب الأبرار 1/ 436.

أحمد بن يحيى بن إسحاق

وشجرةُ الغفلة تُسقى بماء الجهل، وشجرةُ التوبة تُسقى بماء النَّدم. وقال الخُلْديُّ: أنشدني ابن مَسْروق: [من الطويل] وإنِّي لأهواه مُسِيئًا ومُحْسِنًا ... وأقضِي على نفسي له بالذي يَقْضي فحتى متى رُوح الحَيا لا يَنالُني ... وحتَّى متى أيَّامُ سُخْطِك لا تمضي (¬1) ذكر وفاته: [قال ابن المنادي: ] توفي ابن مسروق في صفر، ودُفن بباب حَرْب وقد بلغ أربعًا وثمانين سنة، وقيل: مات سنةَ تسعٍ وتسعين ومئتين. حدَّث عن خَلَف بن هشام [البزاز] وغيرِه، وروى عنه أبو بكر الشافعي وغيرُه. واتفقوا على فضله، وصِدْقه، وثقَّته، وزُهده، وورعه. وحكى أبو نُعيم عن الجنيد أنَّه قال: رأيتُ (¬2) في منامي قومًا من الأبدال، فقلت لهم: هل ببغداد أحد من الأولياء؛ قالوا: نعم، أبو العبَّاس بن مَسْروق، فإنَّه من أهل الأُنس بالله تعالى. [وقال الخطيب: كان ابن مَسْروق معروفًا بالخير، مذكورًا بالصلاح.] (¬3) [وفيها توفي] أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين، البغداديُّ، المعروف بابن الرَّاوَنْدي (¬4)، الماجِن، المنسوب إلى الهَزْل والزنْدَقة. كان أبوه يهوديًّا وأسلم، فكان بعضُ اليهود يقول للمسلمين: احذروا أن يُفسد هذا عليكم كتابَكم كما أفسد أبوه علينا كتابنا. وكان أبوه يحيى يعلِّم اليهودَ ويقول: قولوا عن موسى إنَّه قال: لا نبيَّ بعدي. ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية ص 273 - 241، والرسالة القشيرية ص 273، ومناقب الأبرار 1/ 437. (¬2) في (خ): وقال الجنيد رأيت، والمثبت من (ف م 1)، وانظر حلية الأولياء 10/ 214. (¬3) ما بين معكوفين من (ف م 1)، وانظر تاريخ بغداد 6/ 280. (¬4) في المنتظم 13/ 158، وتاريخ الإسلام 6/ 902: الرّيوندي.

وروى علي بن المُحَسِّن التنوخيُّ عن أبيه: كان (¬1) ابن الراوندي يجالس الزَّنادقة وأهلَ الإلحاد، فإذا عوتب، قال: إنَّما أريد أن أعرف مذاهبهم. ثمَّ كاشف وناظر على الإلحاد، وصنَّف في الزَّندقة كتبًا كثيرة، منها كتاب: "نعت الحكمة"، وكتاب "قضيب الذَّهب"، وكتاب "التاج"، وكتاب "الزمرُّد"، وكتاب "الدَّمغ للقرآن"، وكتاب "الفريد"، وكتاب "إمامة المفضول" [، وقد نقض كتابَ الحكمة وغيره أبو عليٍّ محمد بن عبد الوهَّاب الجُبَّائيُّ، ونقض عليه كتاب "الزمرُّد" أبو الحسين عبد الرَّحيم بن محمد الخيَّاط، ونقض عليه كتاب "الزمرُّد" أيضًا أبو علي الجُبَّائي وغيره]. وأزرى في كتاب "الزمرّد" على النبوَّات وقال فيه: إنَّا نجد في كلام أكثم بن صيفي أحسن من {إِنَّا أَعْطَينَاكَ الْكَوْثَرَ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وإنَّ الأنبياء وقعوا بطِلَّسْمات، كما أنَّ المغناطيس يجذبُ الحديد، وقوله عليه الصلاة والسلام لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" (¬2) فإنَّ المنجِّم يقول مثل هذا إذا عرف المولد والطَّالع. وقال أبو علي الجبَّائي: لم أجد في كتاب ابن الراونديّ الزنديق [الفاجر] إلَّا السَّفَهَ والكذبَ، قال: وقد وضع كتابًا في قِدَم العالم، ونَفْيِ الصانع، وتصحيحِ مذهب الدَّهْرية، وفي الردّ على أهل التوحيد، قال: وصنَّف كتابًا سمَّاه "الزمرّد" في الطَّعن على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وشتم فيه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في مواضعَ، ونسبه إلى الكذب، وطعن في القرآن فادّعى في تسمية هذا الكتاب بالزمرد [لأن الزمرد] له خاصيَّة في نظر الأفاعي والحيَّات إذا رأته عَمِيت، فكان قصدُه أنَّ الحُجَجَ التي أودعها فيها تُعمي حججَ المخالفين له. [وقال أبو علي الجُبَّاليُّ: ] ووضع كتابًا لليهود، وكتابًا للنصارى على المسلمين، يحتجُّ لهم فيه على إثبات نبوَّة موسى وعيسى عليهما السلام، ويبطل ما سواهما. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال المحسن التنوخي كان، والمثبت من (ف م 1). والخبر في المنتظم 13/ 108 عن المحسن. (¬2) أخرجه أحمد (11011)، والبخاري (447)، ومسلم (2916) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

أبو عثمان [الحيري]

وقال في كتاب ["الفريد": إن المسلمين احتجوا لنبوَّة نبيّهم بالكتاب] الذي جاء به (¬1)، وأنَّه تحدَّى به العرب فلم يأتوا بمثله، ولا قَدَروا على معارضته، فيقال لهم: لو أتى جالينوس أو أحدُ الفلاسفة بكتابٍ مثلِ هذا، وادَّعى أنَّ الخلقَ يَعْجزون عن الإتيان بمثله؛ أكانت ثبتت نبوَّته؛ وذكر أشياءَ من هذا القبيل تدل على جهله [وكفره] وسخافةِ عقله. وذكر في "الدامغ" أشياءَ؛ منها أنَّه قال: قوله: {إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] وأيُّ ضعفٍ فيه وقد أخرج آدمَ من الجنَّة، وقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرَهَا} [النساء: 56] فعذَّب جلودًا لم تَعْصِه. ومنها أنَّه أهلك أمَّة عظيمةً بناقة، وما قَدْرُ ناقة؟ وذكر أشياءَ من هذه الحماقات والخرافات. وقد أجاب الشيخ أبو الفرج ابن الجوزيِّ رحمة الله عليه عن بعض شبهه (¬2)، وقد كان الواجب الإعراضَ عنه؛ فإنَّ السفيهَ لا يُقابَل إلَّا بالسكوت، وإنْ فاته العقابُ في الدُّنيا لم يَفُتْه في الآخرة. قال المصنِّف رحمه الله: والمختارُ عندي في كتبه الغَسْل، وفي نفسه القتل، وأمَّا حكاياتُه في الهَزْل والاعتراض على الله تعالى والسُّخرية والاستهزاء فأشهرُ من أن تخفى [وتذهب آثارها وتعفى]. [واختلفوا في سبب وفاته] قال عليُّ بن عقيل الحنبليُّ: صلبه بعضُ السلاطين، وقيل: إنَّه مات على فراشه ببغداد وهو ابنُ ستٍّ وثمانين سنة، لعنةُ الله عليه وعلى مَن يعمل بعمله آمين. [وفيها توفي] أبو عثمان [الحِيْريُّ واسمه] سعيد بن إسماعيل بن سعيد، النَّيسابوري، الواعظ (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من المنتظم 13/ 111. (¬2) في (ف م 1): وقد أجاب جدي عن بعض سفهه. (¬3) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 10/ 145، وطبقات الصوفية ص 170، وحلية الأولياء 10/ 244، والمنتظم 13/ 119، وتاريخ الإسلام 6/ 944.

وُلد بالرّيّ ونشأ بها، ثمَّ انتقل إلى نيسابور فسكنها إلى أن مات، وكان أوحدَ المشايخ في وقته، ومنه انتشرت طريقة التصوُّف بنيسابور، وقدم بغداد وحدَّث بها، وكان مجابَ الدَّعوة، وكان أبو حفص الحدَّاد قد زوَّجه ابنتَه بنيسابور، وأخذ الطريقةَ عنه. قال ابنُ المنادي: [ولد بالرَّيِّ]، وخرج إلى نيسابور مع شيخه شاه بن شجاع الكرمانيّ يزور أبا حفص النيسابوريّ، فزوَّجه ابنته. [وحكى في "المناقب" عن] أبي عثمان قال: صحبتُ (¬1) أبا حفص الحدَّاد وأنا شابٌّ، فطردني وقال: لا تجلس عندي، فقمتُ قائمًا ولم أُوَلِّه ظهري، وجعلتُ أمشي إلى ورائي ووجهي إلى وجهه حتَّى غبتُ عنه، وجعلتُ في نفسي أن أحفِرَ على بابه حُفيرةً، ولا أخرج منها حتَّى يرضى عنِّي، فلمَّا رأى ذلك منِّي قرَّبني، وأدناني، وجعلني من خواصِّ أصحابه (¬2). وكان بين زكريا النَّخْشَبي وبين امرأةٍ سببٌ قبل توبته على يدي أبي عثمان، فبينا زكريا يومًا قائم على رأس أبي عثمان بعدما صار من خواصِّ تلامذته، فكَّر في شأن المرأة، فرفع أبو عثمان رأسَه إليه، وقال له: أما تستحي (¬3)؟ ! وجاء رجلٌ إلى أبي عثمان (¬4) فدعاه إلى ضيافة، فمشى معه إلى باب داره، فقال له يا أستاذ، ليس لدخولك اليوم وجة، وقد ندمتُ، فرجع، ثمَّ عاد إليه ثانيًا وثالثًا ورابعًا وهو يردّ، ثمَّ أخذ بعد ذلك يعتذر إلى أبي عثمان ويقول: إنَّما أردتُ أن أختبرَك، وأخذ يَمدَحُه، فقال له أبو عثمان: لا تمدحْني على خُلُق تجد في الكلاب مثلَه، فإنَّ الكلب إذا دُعي حضر، وإذا زُجِر انزجر. واجتاز أبو عثمان يومًا بسكَّةٍ وقتَ الهاجرة، فألقي عليه من سطحٍ طشتٌ فيه رماد، فتغيَّر أصحابه، وبسطوا ألسنتهم على الذي ألقاه، فقال أبو عثمان: لا تقولوا شيئًا، مَن استحقَّ النار فصُولح على الرماد حُق له أن لا يغضب. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال أبو عثمان صحبت، والمثبت من (ف م 1). (¬2) مناقب الأبرار 1/ 341 - 342. (¬3) الرسالة القشيرية ص. 37. (¬4) في (ف م 1): وحكى في المناقب أن رجلًا إلى أبي عثمان، والمثبت من (خ).

[وحكى الخطيب (¬1) عن امرأة أبي عثمان قالت: كنَّا نؤخِّر اللعبَ والضحك حتى يدخل أبو عثمان في وِرْده.] وقال أبو عمرو بن نُجَيد: اختلفتُ إلى أبي عثمان في حال شبابي، وكنت قد حَظِيت [عنده] (¬2)، فاشتغلتُ عنه بما يشتغل به الفتيان، وانقطعتُ عنه، وكنتُ إذا رأيتُه في طريقٍ اختفيتُ منه، فلقيتُه يومًا في سكَّةٍ، فهربت منه، فناداني: يا أبا عمرو، لا تَثِقَنَّ بمودَّة مَن لا يحبَّك إلا مَعصومًا، إنَّما ينفعك أبو عثمان في مثل هذه الحالة، فتاب أبو عمرو ورجع إلى الإرادة. [وقال الخطيب بإسناده عن محمد بن نعيم الضَّبيِّ قال: سمعت أمي تقول: سمعت] مريم امرأة أبي عثمان [تقول]: صادفتُ (¬3) من أبي عثمان خلوةً فاغتنمتُها، فقلت: يا أبا عثمان، أيُّ عملك أرجى عندك؟ فقال: يا مريم، لما ترعرعتُ وأنا بالرَّي كانوا يريدونني على الزواج و [أنا] أمتنع، فجاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان، قد أحببتُك حبًّا أذهب نومي وقراري، وأنا أتوسَّل إليك بمقلب القلوب أن تتزوَّج بي، قلت: ألك والد؟ قالت: نعم، فلان الخيَّاط في موضع كذا وكذا، فأرسلتُ إليه أن يزوِّجَها منِّي، ففرح بذلك، وأحضر الشهود، فزوَّجني بها، فلمَّا دخلتُ بها وجدتُها عوراءَ عرجاءَ مشوَّهة الخَلْق، فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدَّرتَه لي، وكان أهلي يلومونني على ذلك فأزيدُها بِرًّا وإكرامًا؛ إلى أن صارت لا تَدَعْني أخرج من عندها، فتركتُ حضورَ المجالس إيثارًا لرضاها وحِفظًا لقلبها، وبقيتُ معها على هذه الحالة خمس عشرة سنةً، وكنتُ على الجَمْر من ذلك، لا أُبدي لها مِمَّا عندي شيئًا إلى أن ماتت، فما شيءٌ أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي. [ذكر نبذة من كلامه: ] قال: منذ أربعين سنة (¬4) ما أقامني الله في حالٍ فكَرِهتُه، ولا نَقَلني إلى غيره فتَسَخَّطْتُه. ¬

_ (¬1) في تاريخه 10/ 145. وما بين معكوفين من (ف م 1). (¬2) هذه الزيادة من صفة الصفوة 4/ 104. (¬3) في (خ): وقالت مريم امرأة أبي عثمان صادفت، والمثبت من (ف م 1)، وانظر تاريخ بغداد 10/ 145 - 146، والمنتظم 13/ 120. (¬4) في (ف م 1): وقال الخطيب حدثنا عبد الكريم بن هوازن قال سمعت أبا عثمان يقول: منذ أربعين سنة، =

وقال: الصحبةُ مع الله بالأدب، ومع رسولِه باتَّباع السُّنَّة، ومع الأولياء بالاحترام والخدمة، ومع الأهل بحُسن الخُلُق، ومع الإخوان بدوام البِشْر، ومع الجُهَّال بالدُّعاء (¬1) لهم. وقال [أبو] (¬2) عمرو بن مَطَر: حضرتُ مجلس أبي عثمان، فخرج فقعد في الموضع الذي يقعد فيه للتَّذكير، فسكت حتى طال سكوتُه، فناداه رجل: نرى أن تقول في سكوتك شيئًا، فقال: [من الطويل] وغيرُ تقيٍّ يأمرُ النَّاس بالتُّقى ... طبيبٌ يداوي والطبيبُ مريضُ فارتفعت الأصواتُ بالبُكاء والنحيب. وكان ينشد: [من الطويل] أسأتُ ولم أُحسِنْ وجئتُكَ هاربًا ... وأين لعبدٍ من مَواليه مَهْرَبُ يؤمِّل غُفرانًا فإنْ خاب ظنُّه ... فما أحدٌ منه على الأرض أَخْيَبُ وقال: لا يَكمُل العبدُ حتَّى يستويَ في قلبه أربعةُ أشياء: المنعُ، والعطاء، والعزُّ، والذُّلُّ. وقال في قوله تعالى: {إِنَّ إِلَينَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] إنَّ معناه: رجوعُهم إلينا وإن تمادَى بهم الجَوَلان في ميادين المخالفات (¬3). وقال: الخوفُ من الله يوصلك إليه، والعُجْب والكِبْر يقطعانك عنه، واحتقار النَّاس في نفسك مرضٌ عظيم لا يُداوى. وقال: العاقلُ من تأهَّبَ للمخاوفِ قبل وقوعها. وقال: قطيعةُ الفاجر غُنمٌ (¬4). وقال: حقٌّ لمن أعزَّه الله بالمعرفة أنْ لا يُذِلَّ نفسَه بالمعصية. ¬

_ = والمثبت من (خ)، وانظر تاريخ بغداد 10/ 146، والمنتظم 13/ 121. (¬1) حلية الأولياء 10/ 245، وصفة الصفوة 4/ 105. (¬2) هذه الزيادة من تاريخ بغداد 10/ 146. (¬3) الرسالة القشيرية 174، ومناقب الأبرار 1/ 342. (¬4) من قوله: الصحبة مع الله بالأدب. إلى هنا ليس في (ف م 1).

وقال: الزهدُ في الحرام فريضةٌ، وفي المباح فضيلةٌ، وفي الحلال قُربةٌ. وقال: الرضا بابُ الله الأعظم. وقال: اصحب الأغنياءَ بالتعزُّز، والفقراءَ بالتذلُّل، فإنَّ التعزُّزَ على الأغنياء تواضع، والتذلُّل للفقراء شرف (¬1). وقال: ثمرة الورع خفَّةُ الحساب (¬2). وقال في قوله تعالى: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} [العنكبوت: 5]: هذا معونةٌ (¬3) للمشتاقين، ومعناه: إنِّي أعلمُ أنَّ اشتياقَكم إليَّ غالب، وقد أجَّلتُ للقائكم أجلًا، وعن قريبٍ يكونُ وصولكم إلى مَن تشتاقون إليه. وقال: مَن أضرَّ به الرجاءُ حتَّى قاربَ الأمن، فالخوفُ له أفضل، ومن أضرَّ به الخوف حتى قارب الأياس، فالرجاء له أفضل (¬4). ذكر وفاته: [وقال أبو نعيم وغيره: ] توفي يوم الثلاثاء لعشير بقينَ من ربيع الآخر بنَيسابور، وقبره ظاهرٌ يزار (¬5). [قال: ] ولما تغيَّر عليه الحال، مَزَّق ابنُه أبو بكر قميصَه، ففتحَ أبو عثمان عينه وقال: يا بنيّ، خلافُ السنَّة في الظاهر علامةُ الرياء في الباطن (¬6). سمع أبو عثمان محمدَ بن إسماعيل الأَحْمَسيّ وغيره (¬7). [وقال السُّلميّ: ] وكان لأبي عثمان ابنة صالحة تسمَّى عائشة، وكانت مجابةَ ¬

_ (¬1) انظر الأقوال السابقة في طبقات الصوفية ص 173 - 175، وحلية الأولياء 10/ 245، ومناقب الأبرار 1/ 343 - 344. (¬2) الرسالة القشيرية ص 195، ومناقب الأبرار 1/ 345. (¬3) في شعب الإيمان (458)، والرسالة القشيرية ص 495، ومناقب الأبرار 1/ 347: تعزية. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 348، ومن قوله: وقال في قوله تعالى. إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). (¬5) انظر حلية الأولياء 10/ 244، وتاريخ بغداد 10/ 146. وما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬6) حلية الأولياء 10/ 245. (¬7) من قوله: سمع أبو عثمان ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1).

سمنون بن حمزه

الدعوة، وكانت تقول: مَن استوحشَ في وحدته (¬1) فذلكَ لقلَّة أُنسِه بربِّه. وتأخَّر موتها إلى سنة ستٍّ وأربعين وثلاث مِئة. [وفيها توفي] سَمنون بن حمزه - ويقال: [ابن] عبد الله- الصوفيّ، أبو القاسم، المُحبّ. أصلُه من البصرة، و [لكنه] سكنَ بغداد، وكان من ساداتِ المحبِّين، قد غلبَ عليه حبُّ الله تعالى، كثيرَ العبادة، [فروى الخطيب بإسناده إلى أبي أحمد المغازلي قال: كان ورد سمنون] كل (¬2) يومٍ وليلةٍ خمس مئة ركعة. وُسْوسَ، وكان يتكلَّم في المحبَّةِ أحسن كلام (¬3). [ذكر] طرف من أخباره [وكلامه: حكى أبو نعيم بإسناده عن أبي أحمد القلانسيّ قال: فرَّق رجلٌ ببغداد أربعين ألف درهم على الفقراء، فقال لي (¬4) سمنون: ليس لنا مالٌ نُنفقه، قم بنا إلى المدائن، قال: فخرجنا فصلَّينا أربعينَ ألف ركعة؛ مكانَ كلِّ درهيم ركعة، وزُرْنا سلمان (¬5) وحذيفة وانصرفنا. وذكرنا هذا فيما تقدم. وحكى في "المناقب" عن سمنون] قال: دخلت عبَّادان فسألتُ عن رجل آنسُ به، فقالوا: ما بقيَ عندنا إلَّا شيخٌ قد نقر لنفسه [في البحر] ساجة، وهو يتعبَّد فيها في البحر منذ ثلاثين سنة، وربَّما ألقتهُ الريح إلى هاهنا في كلِّ سنةٍ مرَّة أو مرَّتين. [قال]: فخرجتُ فوافيته في الساجة، فسلَّمت عليه، وقلت: حدّثني بأشدِّ ما رأيت في هذا البحر، فقال: هبَّت ليلةً ريحٌ شديدةٌ، وأظلمَ البحر (¬6) وخبَّ (¬7) حتى ما رأيتُ مثله قطّ، وتداخلني وَحْشَةٌ عظيمةٌ، فطلبتُ شيئًا أُزيل به عنِّي الوَحشة، وإذا بتنينٍ عظيمٍ قد فتح فاه، فألقاني ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1) وما بين حاصرتين منهما: غربته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ت) و (م 1). ومكانها في (خ): وِرده كل .... وانظر تاريخ بغداد 10/ 326. (¬3) من قوله: وسوس ..... إلى هنا، ليس في (ف) و (م 1). (¬4) في (ف) و (م 1): له. والمثبت من حلية الأولياء 10/ 311. (¬5) في (ت) و (م 1): سليمان. والمثبت من حلية الأولياء 10/ 311. والمقصود في سلمان الفارسي. (¬6) في (ف) و (م 1): الليل. (¬7) في (ف): وجنت. وفي (م 1): وحنت؟ !

الموجُ إلى فيه وأنا في الساجة، فدخلتُ في فيه، وجلست على نابٍ من أنيابه، وصلَّيتُ ركعتين، فزال عني ما كنت أجدُه من الوحشة (¬1). وقال سمنون: أوَّل وصالِ العبدِ للحقِّ هوانُه لنفسه (¬2)، وأوَّلُ هجرانِ العبد للحق مواصلتُه لنفسه. وقال: لا يُعبَّر عن شيءٍ إلَّا بما هو أرقّ منه، ولا شيءأرقُّ من المحبة، فبماذا يُعبَّرُ عنها؟ وقال: الفقيرُ الصادقُ هو الذي يأنسُ بالعدم كما يأنسُ الجاهلُ بالغِنى، ويستوحشُ من الغنى كما يستوحشُ الجاهل من الفقر (¬3). وسئل عن قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 54]، فهل يجوز أن يُنسَبَ المكرُ إلى الله تعالى، فأنشد: [من الوافر] ويقبحُ من سواكَ الفعلُ عندي ... فتفعلُه فيحسنُ منك ذاكَا فقال له السائل: أسألُك عن تفسيرِ آيةٍ من كتاب الله، تجيبُني ببيتٍ من الشعر، فقال له: يا جافي، إنَّ الله آلى على نفسِه أنْ لا يودِع حكمتَه عند أعجميِّ القلب! [لم] أجبك بشعر عَجْزًا عن البيان، وإنما أردتُ أنْ أخبرك أنَّ في أقلِّ الأشياء أدلَّ الدلائل عليه، اسمع، تخليتهم مع المكرِ مكرٌ منه بهم، إذ لو شاءَ منع (¬4). وقال: ذهبَ المحبُّون لله تعالى بشرفِ الدنيا والآخرة؛ أليس النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "المرءُ مع من أحبّ" (¬5)، فهم مع الله تعالى (¬6). [قال: ] وقال إبراهيم بن فاتك: رأيتُ سَمنون يتكلَّم على الناس في المسجد (¬7)، فجاء طائرٌ صغير، فلم يزل يدنو منه حتَّى جلس على يده، ثُمَّ لم يزل يضرب بمنقاره الأرضَ حتَّى سال منه الدم، ومات الطائر. ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 390. (¬2) في حلية الأولياء 10/ 311: هجرانه لنفسه. (¬3) طبقات الصوفية ص 196، 198. (¬4) مناقب الأبرار 1/ 386 - 387، وما بين حاصرتين منه. (¬5) أخرجه البخاري (6170)، ومسلم (2641) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (¬6) من قوله: وقال سمنون: أول وصال العبد .... إلى هنا، ليس في (ف) و (م 1). (¬7) بعدها في (خ): الحرام. والمثبت موافق لما في مناقب الأبرار 1/ 389.

وقال: رأيتُه يتكلَّم يومًا في المحنَّة، فاصطفقت (¬1) قناديلُ المسجد، وكسر بعضُها بعضًا. قال: وسمعتُه يقول: إذا بسطَ الجليلُ غدًا بساط المجد، دخلت ذنوبُ الأوَّلين والآخرين تحت حاشيةٍ من حواشيه، فإذا شاء الجوادُ ألحقَ المسيءَ بالمحسن (¬2). [وحكى عنه أيضًا في "المناقب" أنه أنشد يومًا] (¬3): [من مخلع البسيط] وليس لي في سواك حظُّ ... فكيفَ ما شئتَ فاختبرنِي [فأخذه الأسرُ من ساعته، أي: حصر بوله، فكان يدورُ على المكاتب، ويفرِّق الجوزَ على الصبيان، ويقول: ادعوا لعمِّكم الكذَّاب. وحكى في "المناقب" أن سمنون لما حُبِسَ بوله] كان (¬4) يتجلَّد ويقول: وليس لي في سواك حظٌّ البيت. و[كان] يصبرُ ولا يجزع، فسمعَ يومًا جماعةً من أصحابه يتحدَّثون ويقولون: سمعنا أستاذنا سمنون يسألُ الله ويتضرَّع إليه، وقال واحدٌ: وأنا سمعتُه، وقال آخر: وأنا سمعته، ولم يكن دعا بشيء، فعَلِم [أنَّ] المرادَ منه إنَّما هو إظهارُ الجزع والافتقار إلى الله تعالى تادُّبًا بالعبودية (¬5) وسترًا للحال، فكان يدورُ على المكاتب، ويفرِّقُ الجوزَ على الصبيان، ويقول: ادْعُوا لعمِّكم الكذاب (¬6). وقال: عليّ بن محمد الصُّوفيّ: كان سَمنون يشطحُ ويقول: [من الكامل] ضاعِفْ عليَّ بجَهْدِكَ البلوى ... وابلُغْ بجهدي غايةَ الشّكوى واجهدْ وبالغ في مُهاجرتي ... واجهرْ بما في السِّرِّ والنَّجْوَى فإذا بلغتَ الجَهْدَ فيَّ ولم ... تترك لنفسِك غايةَ القُصْوَى ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): فاصتكت. (¬2) انظر طبقات الصوفية ص 196، وحلية الأولياء 10/ 311. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وأنشد سمنون يومًا. (¬4) في (خ): فحصر بوله من ساعته، فكان .... (¬5) في (خ) و (ف) و (م 1): باديًا للعبودية. والمثبت من مناقب الأبرار 1/ 388، وطبقات الأولياء ص 167. (¬6) من قوله: ويفرق الجوز ..... إلى هنا جاء مكانه في (ف) و (م 1): وذكره.

فانظر فهل حالٌ بي انتقلَتْ ... عمَّا تحبُّ لحالةٍ أُخرى فعوقبَ على ذلك بقطر البول (¬1)، فرأى في منامه كأنَّه يشكو حاله إلى بعض الصّالحين، فقال له: عليك بدعاء الكتاتيب، فكان يطوفُ على الكتاتيب وبيدِه قارورةٌ يَقطرُ فيها بولُه، ويقول للصبيان: ادعوا لعمِّكُم الكذاب المُبْتَلى بلسانه (¬2). [وحكى أبو نعيم عن أبي بكر الواسطي قال: ] (¬3) قال سَمنون: يا رب قد رضيتُ بكلِّ ما تقضيه عليَّ، فاحتبس بولُه أربعة عشر (¬4) يومًا، فكان يتلوَّى كما تتلوَّى الحيَّةُ على الرمل يمينًا وشمالًا، فلمَّا أُطلقَ بولُه قال: يا ربّ، تُبتُ إليك. وهذا إنَّما هو استعمالُ الرِّضا والتسليم لله تعالى، وتلقِّي ما يَرِدُ من قضائه وقَدره على وفق ما وقع، لا أنَّه يقاوي. وقال النُّوري: سألتُ سَمنونًا عن المحبة، فقال: عن أبيِّ شيءٍ تسأل؛ عن محبة الله إيَّاك، أو عن محبتك الله؟ فقلت: بل عن محبة الله لي، فقال: لا تطيقُ الملائكة سماع ذلك، فكيف أنت؟ ! لقد تكلَّمت أمس مع الخضر والملائكةُ يسمعون قولي، ويستحسنون قولي وكلامي، والحقُّ حاضر، فلم يعب عليَّ، ولو عاب عليَّ لأخرسني (¬5). قال المصنف رحمه الله: أمَّا قوله عن الخضر، فقد قدَّمنا الكلام في حياته، وأمَّا سماعُ الملائكة قولَه، فلقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وأما استحسانُهم كلامَه، فإنَّ الكلام الحسن تستحسنه الملائكة وغيرها في الغالب، وأمَّا قوله: والحقُّ سبحانَه وتعالى حاضر، فلقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا} (¬6) [المجادلة: 7]، أي بالعلم، ومعنى قوله: لو عاب علي لأخْرَسَني: إنَّني أقمتُ الأدلَّة من كتاب الله وسنَّة نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، ومن أصول الشريعة وكلام القوم، وتقديره: فكيف يخرسني وأنا أقول الحق (¬7)؟ ! ¬

_ (¬1) من قوله: وقال علي بن محمد .... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1)، وفيهما: وروي أنه رأى في منامه كأنه .... (¬2) بعدها في (ف) و (م 1): لقوله: وليس لي في سواك حظ. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال أبو بكر الواسطي. (¬4) في (خ): أربعة وعشرين. والمثبت من (ف) و (م 1) وحلية الأولياء 10/ 310. (¬5) مناقب الأبرار 1/ 389. (¬6) في (خ): {وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]. والمثبت هو الصواب. (¬7) من قوله: وهذا إنما هو استعمال الرضا ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1).

وقال السُّلَمي: كان سمنون جالسًا (¬1) على شاطئ دِجلة، وبيده قضيب، وهو يضرب [به على] فخذه حتى تبدَّد اللحم، وهو [ينشد و] يقول: [من المديد] كان لي قلبٌ أعيشُ به ... ضاعَ منِّي في تَقلُّبِهِ ربِّ فارْدُدْهُ علَيَّ فقد ... عِيلَ صبري في تطلُّبه وأَغِثْ ما دامَ بي رَمَقٌ ... يا غياثَ المستغيثِ بهِ (¬2) [وذكر أبو نُعيم والسُّلميّ والخطيب وابنُ خَميس في "المناقب" طرفًا مِمَّا كان ينشده سَمنون لنفسه ولغيره، فمن ذلك هذه الأبيات: ] (¬3) [من الطويل] وكانَ فؤادي خاليًا قبلَ حُبِّكُم ... وكان بذكرِ الخلقِ يَلْهُو وَيمرَحُ (¬4) فلما دعا قلبي هواكَ أجابهُ ... فلستُ أُراهُ عن فِنَائكَ يَبْرَحُ رُميتُ ببَينٍ منك إنْ كُنتُ كاذبًا ... وإنْ كنتُ في الدُّنيا بغيركَ أَفرحُ وإن كان شيءٌ في البلاد بأسرِها ... إذا غبتَ عن عيني بعيني يَمْلُحُ فإنْ شئتَ واصِلْنِي وإنْ شئتَ لا تَصِلْ ... فلستُ أَرى قلبي لغيركَ يَصْلُحُ (¬5) ومنها: [من البسيط] أنت الحبيبُ الذي لا شكَّ في خَلَدِي ... منه فإنْ فَقَدَتْكَ النَّفْسُ لم تعِشِ يا مُعْطِشي بوصالٍ كنت واهبَهُ ... هل فيك لي راحةٌ إن صِحْتُ واعَطَشِي ومنها: [من الطويل] أحِنُّ بأطرافِ النَّهارِ صَبابةً ... وفي الليلِ يَدعونِي الهوَى فأُجيبُ وأيامُنا تفْنَى وشوقي زائدٌ ... كأنَّ زمانَ الشَّوقِ ليسَ يَغيبُ (¬6) ومنها: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): وحكى السلمي أنه كان جالسًا. (¬2) طبقات الصوفية ص 197، ومناقب الأبرار 1/ 386. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وكان سمنون رحمة الله عليه ينشد أشعارًا لنفسه ولغيره فمنها. (¬4) في طبقات الصوفية: ويمزح. (¬5) طبقات الصوفية ص 198، وتاريخ بغداد 10/ 327، ومناقب الأبرار 1/ 386. (¬6) طبقات الصوفية ص 197، ومناقب الأبرار 1/ 386.

صاق الخادم الحرمي

ولو قلتَ طأ (¬1) في النار أعلم أنَّهُ ... رضي لك أو مُدْني لنَا من وصالِكَا لقدَّمتُ رجلي نحوهَا فوطِئْتُها ... لعلميَ أني (¬2) قد خطرتُ ببالكَا من أبيات (¬3). توفِّي سَمنون ببغداد، ودُفِن بمقابر الشونيزيَّة قريبًا من الجنيد، رحمة الله عليهما. [فصل: ] صاق الخادم الحُرَمي كان حاكمًا على الدولة، وقد ذكرناه في مواضع، وكانت وفاته في شعبان، واستقل مؤنس بالأمر (¬4). وكان لصافي غلامٌ اسمه قاسم، فلما احتُضر أحضر القاضي والشهود، وأشهدَهم على نفسِه أنَّه ليس له عند غلامه قاسم مالٌ ولا عقارٌ، ولا قليل ولا كثير، فلمَّا مات حملَ قاسمٌ إلى المقتدر مئةَ ألف دينار، وعشرينَ ألف دينار وسبع مئة مِنْطَقة، وقال: هذا كان له عندي، فاعجب المقتدر، وولَّاه مكان صافي، ورفع منزلتَه (¬5). [وفيها توفي محمدُ بن عليّ بن طَرْخَان ابن عبد الله بن جَبَّاش، أبو بكر، البَلْخي، ثم البيكَنْدي (¬6). ذكرهُ ابنُ ماكولا وقال: كانَ حافظًا للحديث، حسن التصانيف. رحل إلى العراق والشام وغيرها، فسمع ببَلْخ حَفْصَ بن عمرو العابد وغيره (¬7)، وبالشام هشامَ بن عمَّار ¬

_ (¬1) في (خ): لظا. (¬2) في تاريخ بغداد 10/ 326، ومناقب الأبرار 1/ 388: سرورًا لأني. (¬3) من قوله: ومنها: أنت الحبيب .... إلى هنا، ليس في (ف) و (م 1). (¬4) قوله: واستقل مؤنس بالأمر. ليس في (ف) و (م 1). (¬5) كذا، وفي المنتظم 13/ 122: فأمر أن ينزل القاسم منزلته. وفي الأوراق ص 73 (ما لم ينشر منها): فأمر أن يترك القاسم على مرتبته. والله أعلم. (¬6) هذه الترجمة وما بعدها إلى نهاية السنة من (ف) و (م 1)، ولم ترد في (خ). (¬7) الإكمال 2/ 348.

محمد بن نصر

وغيره، وقُتَيبةَ بن سعيد وغيره، وخلقًا كثيرًا. وحدَّث عنه ابنه (¬1) عبد الله بن محمد وغيره. وماتَ في رجب، وكان ثقةً. وفيها توفي محمد بن نَصْر ابن منصور الصَّائغ، أبو جعفر، البغدادي. حدَّث عن إسماعيل بن أبي أويس وطبقته، ورَوى عنه الخُطبي، وابنُ المنادي، وابن صاعد (¬2) وغيرهم. وماتَ في رمضان ببغداد (¬3). وكان ثقةً مامونًا. وفيها توفي محمد بن يحيى بن سليمان أبو بكر الورَّاق، مروزيُّ الأصل، سكن بغداد، وكان مكثرًا (¬4). وروى عن أبي عبيد القاسم بن سلَّام وطبقته، وروى عنه أحمد بن سليمان النَّجَّاد، والخُطَبي، وابن المنادي، وأبو بكر الشافعي، وغيرهم. وكانت وفاته ببغداد بالجانب الغربي بدرب الحَبَّاقين في باب الشام، وكان ثقة. وفيها توفي ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): وحدث عن أبيه. والتصويب من الإكمال 2/ 348، وتاريخ دمشق 63/ 395 (طبعة مجمع اللغة). (¬2) كذا في (ف) و (م 1). وفي تاريخ بغداد 4/ 512، وتاريخ الإسلام 6/ 1049: ابن قانع. (¬3) في تاريخ بغداد 4/ 512 أنه توفي ليلة السبت لسبع خلون من شهر رمضان سنة سبع وتسعين ومئتين، ومثله في تاريخ الإسلام 6/ 1049. وفي معجم أسامي شيوخ أي بكر الإسماعيلي 1/ 392 أنه توفي ببغداد سنة ست وتسعين. (¬4) في تاريخ بغداد 4/ 668: حدث عن عاصم بن علي وكان مكثرًا عنه.

عبد السلام بن أحمد

عبد السَّلام بن أحمد ابن إسماعيل (¬1) بن مالك بن دينار، أبو بكر، البَصْريّ. نزل مصر، وحدَّث بها عن هشام بن عمَّار (¬2) وغيره، ورَوى عنه أبو سعيد بن يونس، والحسن بن رَشيق العَسْكري، وغيرهم. وكانت وفاته بمصر في ربيع الآخر. وكان صدوقًا صالحًا ثقةً، وكان قد سمع قديمًا بمصر الحسن بن علي القراطيسي، وعيسى بن حماد زُغْبَة، وغيرهما (¬3)]. * * * ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 42/ 230: سهيل. (¬2) كذا، وفي تاريخ دمشق 42/ 230: سمع بدمشق هشام بن عمار. (¬3) بعدها في (م 1): والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

السنة التاسعة والتسعون بعد المئتين

السنة التاسعة والتسعون بعد المئتين [قال ثابتُ بن سنان: وفيها ظهرت ثلاثةُ كواكب مُذَنَّبة؛ أحدها ظهرَ ليلة الخميس لخمسٍ بقين من شهر رمضان في برج الأسد، والآخرُ ظهرَ ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلةً بقيت من ذي القعدة في المشرق، والثالثُ ظهر ليلة الأربعاء لعشرٍ بقين من ذي القعدة في برج العقرب. قال: وطلوعُ هذه الكواكب قبل] قبض المقتدر (¬1) على الوزير أبي الحسن بن الفرات يوم الأربعاء (¬2) لأربعٍ خلون من ذي الحجَّة، ووكَّل بداره، وهتك حُرَمَه أقبح هتك، ونُهبت دوره ودور كتَّابِه وأسبابه، وأخذ كلما وجد له ولأهله. وقيل: ادُّعي عليه أنَّه كَاتَبَ الأعراب بأنْ يكبِسوا بغداد. ولَمَّا نُهبت دوره، وقعت الفتنةُ ببغداد، ونهب الناس، وكان مؤنس الخازن متولِّي الشرطة [ببغداد]، فركب، وسكَّنَ الناس فلم يسكنوا، ودامَ النهبُ ثلاثةَ أيام، وكان مؤنس يركبُ كلَّ يوم في تسعة آلاف فارس وراجل (¬3). [قال ثابت: ] فكانت [مدة] وزارة ابن الفرات هذه الأولى ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يومًا (¬4). [قال: ] واستوزرَ المقتدرُ أبا عليّ محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): فيها قبض المقتدر ... (¬2) في (ف) و (م 1): الأحد. والتصويب من المنتظم 13/ 123. (¬3) كذا، ووقع في تكملة تاريخ الطبري ص 201 أنه قُبض على ابن الفرات وهتكت حرمه وخهبت دوره ودور أسبابه، فكان صاحب الشرطة مؤنس الخادم تحت يده تسعة آلاف فارس وراجل، وإذا كز النهب وعظم الخطب يركب، فيسكن المنتهبون عند ركوبه، ويعودون إلى النهب عند نزوله، ودام ذلك ثلاثة أيام بلياليها. وانظر الكامل 6/ 63. (¬4) كذا في النسخ والكامل 6/ 299، وفي أوراق الصولي (ما لم ينشر) ص 82، وصلة عريب ص 39: واثني عشر يومًا.

[وفي رواية: وكان قد ضمن لأم ولد المعتضد (¬1) -أو المقتدر- مئة ألف دينار، فأشارت على المقتدر بولايته.] وفيها وردت هدايا [من] مصر، [قال الصولي: ] وفيها ضلعُ إنسانِ طولُه أربعة عشر شِبْرا في عرض شبر، زعموا أنه من قوم عاد، [قال: وفيها] تيسٌ له ضَرْعٌ يحلبُ لبنا، وخمسُ مئة ألف دينار (¬2)، قالوا: وُجِدت في كنز. [قال الصولي: ] ووردت رسلُ أحمد بن إسماعيل والي خراسان بهدايا جليلة لم ير مثلها، [فيها] بدنةٌ مرصَّعةُ بفاخر [الدُّرِّ و] اللؤلؤ، وتاجٌ من ذهبِ مرصَّعٌ بجوهرِ له قيمة كبيرةٌ، ومناطق الذهب المرصَّعة، وعنبرٌ كثيرٌ ومسكٌ، وربعةُ ذهبٍ مرصَّعة بالجوهر، وخيل وغيرها. [وقال ثابت: وفيها وردَ الخبرُ من فارس بأنَّه حدثَ بها طاعون مات فيه سبعةُ آلاف إنسان. قال: ] وفيها وَردتْ هدايا يوسف بن أبي السَّاج، وهي خمسُ مئة رأسِ من الخيل والبغال والثيابِ والرقيقِ والسِّلاح، [قال الصوليّ: ] ومن المال ثمانونَ ألف دينار، و [كان في الهديَّة] بساطٌ رومي أو أرمنيّ (¬3)، لم يُر مثلُه، طوله سبعون (¬4) ذراعًا في عرض ستين [ذراعًا، وعليه مكتوب أنه عُمِلَ في عشر سنين]. وحجَّ بالناس الفضل بن عبد الملك [أيضًا] (¬5). [فصل] وفيها توفي ¬

_ (¬1) في أوراق الصولي ص 85، وصلة عريب ص 40: أم ولد المعتضد. وما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬2) أوراق الصولي ص 78، وليس فيه ذكر الضلع وانظر المنتظم 13/ 124 وما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬3) في (ف) و (م 1): أو آمدي. والمثبت من (خ) والأوراق ص 125، والمنتظم 13/ 124. (¬4) كذا في النسخ والمنتظم 13/ 124، وفي الأوراق ص 79: ستون ذراعًا. (¬5) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1).

أحمد بن نصر بن إبراهيم

أحمد بن نَصْر بن إبراهيم (¬1) أبو عمرو، الخَفَّاف، الحافظ. رحل في طلب الحديث، ولقي الشيوخ، وكان زاهدًا مُتعبّدًا، صامَ نيفًا وثلاثين سنةً، وتصدق بألوفٍ سرًّا وعلانية. [وذكره الحاكم أبو عبد الله في "تاريخ نيسابور" وأثنى عليه. وقال الحاكم: سمعت أبا حامد بن محمد المغربي (¬2) يقول: ] وقف سائل [على أبي عمرو الخَفّاف] (¬3)، فأمرَ له بدرهمين، فقال الرجل: الحمدُ لله، فقال لصاحبه: اجعلها خمسة، فقال الرجل: اللهم لك الحمد، فقال: زده خمسة، فلم يزل الرجل يحمدُ الله وهو يزيده (¬4) حتى بلغ مئة درهم، فقال الرجل: جعل الله عليك واقيةً باقيةً (¬5)، فقال أبو عمرو: والله لو لم يرجع من الحمد إلى غيره لبلغت عشرةَ آلاف درهم. [قلت: وإمامه في هذا عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، لما جاءته تلك المرأة من العراق، وقالت: لي خمسُ بنات كسلٌ كسد، فقال لها: سمِّي الأولى، ففرضَ لها، وهي تحمدُ الله، وسمت الثانيةَ والثالثة، وهو يفرضُ لهنَّ، فلما ذكرت الرابعة دعت له (¬6)، فرمى بالقلم، وقال: مري بناتِك يُفِضْن عليها، فإني لا أفرضُ لها، قالت: ولم؟ قال: لأنِّي كنتُ أفرض لهنَّ لمَّا كنتِ تقولين الحمدَ لمستحقِّه، أمَّا إذا أفضتِ الأمر إليَّ فلا. وقد ذكرناه في سيرة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. وكانت وفاة] أحمد (¬7) [بن نصر] في شعبان. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف) و (م 1): إسماعيل. وهو خطأ. والتصويب من المنتظم 13/ 124، وسير أعلام النبلاء 13/ 560، وتاريخ الإسلام 6/ 898. (¬2) كذا في (ف) و (م 1). وفي المنتظم 13/ 125: المقرئ. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقف عليه سائل. (¬4) بعدها في (خ): خمسة. (¬5) كذا في (خ) والمنتظم 13/ 125، وفي (ف) و (م): ماقية. ولعلها بمعنى: صائنة. فقد جاء في اللسان (مقا): امْقِه مقيتَك مالَك، وامْقُه مقْوَك مالك، ومُقاوتك مالك، أي: صنه صيانتك مالك. (¬6) الصواب: أنه فرض للأربعة، فلما ذكرت الخامسة دعت له. (¬7) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وتوفي أحمد.

الحسين بن عبد الله بن أحمد

وسمع إسحاق بن راهويه، [ومحمد بن رافع، وأبا كُرَيب] وغيره، وروى عنه الخُطَبيُّ وطبقتُه. وكان صدوقًا ثقةً، يذاكرُ بمئةِ ألف حديث. الحسين بن عبد الله بن أحمد أبو علي الخِرَقي، والد عمر مصنف كتاب "الخِرَقي" على مذهب الإمام رحمةُ الله عليه. وكان الحسين خليفةَ المرُّوذيّ، وكان زاهدًا عابدًا ورعًا. توفي يوم الفطر، ودُفن عند الإمام أحمد. حدَّث عن حمَّاد (¬1) وغيره، ورَوى عنه أبو بكر الشافعيّ وغيرُه. الحَكم بن عبد الله ابن مَسْلَمة بن عبد الرحمن (¬2)، أبو مُطيع، البَلْخيّ. إمامُ أهل خراسان في وقتِه، وكان زاهدًا ورعًا عابدًا عارفًا بمذاهب الصحابة والتابعين، وكان من الأكابر. قدم بغداد غير مرة وحدَّث بها، وأقام على قضاء بلخ ستَّ عشرة سنة. جاء كتابُ الخليفةِ إلى خراسان بولاية العهد، وفيه: {وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] فقُرِئ على المنبر، فقامَ أبو مطيع وبكى، وقال: يا معاشر المسلمين أَنُجَرُّ إلى الكفر؟ ! إنَّما قال الله تعالى ذلك في حقّ يحيى بن زكريا، فمن قالها في غيره فقد كفر، فارتجَّ المسجد بالبكاء (¬3). فيقال: إنَّه قام مَقام الأنبياء. وكان الحاكم (¬4) يقول: لأبي مطيع المنَّةُ على الدنيا جميعًا. ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، ولم ترد هذه الترجمة والتي بعدها في (ف) و (م 1). وفي المنتظم 13/ 126: حدث عن جماعة. وانظر تاريخ بغداد 8/ 603، وتاريخ الإسلام 6/ 938 - 939. (¬2) كذا وقعت ترجمته في هذه السنة. والصواب أنه توفي سنة 199 هـ. انظر تاريخ بغداد 9/ 122 والمنتظم 10/ 77، وغيرهما. (¬3) انظر الخبر بتمامه في تاريخ بغداد 9/ 122 - 123. (¬4) هو من قول ابن المبارك، كما في تاريخ بغداد 9/ 123.

عباس بن المهتدي

وله الكتبُ المشهورةُ والاختياراتُ في مذهب أبي حنيفة، ومات في جمادى الأولى وهو ابنُ أربعٍ وثمانين سنة. حدث عن هشام بن حسَّان وغيره، وروى عنه أحمدُ بن مَنِيع وغيره. وقد تكلَّموا فيه (¬1). عبَّاس بن المُهْتَدي أبو الفَضْل، الصُّوفيّ، البغدادي. سكن مصر، وصحبَ أبا سعيد الخَرَّاز، وكان من أقران الجنيد، [وكان] كثيرَ السياحة. [وقال أبو عبد الرحمن السلمي: كان] يرجعُ إلى فتوَّةٍ ظاهرة، وفرَاسةٍ حادَّة، وحبٍّ للفقراء وميلٍ إليهم. [حدثنا غير واحد عن أبي بكر بن حَبيب بإسناده، عن محمد بن عبد الله الفَرْغاني قال: ] تزوَّج [عباس بن المهتدي] امرأةً، فلمَّا كانت الليلة التي أراد أن يَدخُلَ بها فيها وقعتْ عليه نَدامةٌ، فدخل عليها وهو كارهٌ لها، فلمَّا أراد أن يدنو منها زُجِر عنها، فامتنع من وطئها، وقام فخرج من عندها، فلمَّا كان بعد ثلاثة أيام ظهرَ لها زوجٌ (¬2). عيسى بن محمد أبو موسى النُّوْشَري. ولي إمرةَ دمشق من قبل محمد المنتصر والمستعين، وشرطةَ بغداد في أيام المُكتفي، ووليَ أصبهان والجبال، وولَّاه المكتفي مصر، فماتَ بها (¬3). محمد بن أحمد بن كَيسان أبو الحسن، النحويُّ، اللغويُّ، الإمام الفاضل، أحدُ المذكورين بالعلم، والموصوفين بالفهم. كان يحفظ مذهب البصريين والكوفيين في النحو؛ لأنَّه أخذ عن المبرِّد وثعلب، وكان أبو بكر بن مجاهد المقرئ يقول: هو أنحى منهما. ¬

_ (¬1) انظر الكلام في تضعيفه في تاريخ بغداد 9/ 124، وميزان الاعتدال 1/ 526 - 527. (¬2) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 14/ 42، والمنتظم 13/ 127، وتاريخ دمشق 32/ 259، وما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬3) تاريخ دمشق 57/ 63 - 64، وتاريخ الإسلام 6/ 995. وهذه الترجمة والتي بعدها لم تردا في (ف) و (م 1).

محمد بن إسماعيل

وله التصانيفُ والأقوالُ المشهورة في التفاسير ومعاني الآيات، وكان فوقَ الثقةِ، وتوفِّي في المُحَرَّم (¬1). [وفيها توفي] محمد بن إسماعيل أبو عبد الله، المغربيُّ، الزاهد. [وهو] أستاذُ إبراهيم الخَوَّاص، وإبراهيم بن شَيبان، وغيرهما، [و] كان كبيرَ الشأن في علم المعاملات والمكاشفات، وحجَّ على قدميه سبعًا وتسعين حجَّة. [وحكى عنه ابن باكويه -وقد تقدَّم إسنادنا إليه- وروى عنه إبراهيم بن شيبان قال: ] (¬2) سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: ما رأيتُ ظُلمة منذ سنين كثيرة. قال إبراهيم: وذلك لأنَّه كان يتقدَّمُنا في الليلة المظلمة، ونحنُ نتبعُه، وهو حافي حاسر، فكان إذا عثرَ أحدُنا يقول: يمينًا وشمالًا، ونحنُ لا نرى ما بين أيدينا، فإذا أصبحنا نظرنَا إلى رجْلِه كأنَّها رجلُ عروسٍ قد خَرَجَتْ من خِدْرِها. قال: وكان يتكلَّم علينا، فتكلَّم يومًا ونحنُ على الطُّور فقال: لا ينالُ العبدُ مرادَه حتى ينفردَ فردًا لفرد، وانزعجَ واضطرب، فرأيتُ الصخورَ قد تَدَكْدكَتْ، وغُشِي عليه، ثم أفاقَ كأنَّه نُشِر من قبره (¬3). [وحكى عنه ابنُ خَميس في "المناقب" أنَّه] ما كان يأكلُ مِمَّا تصل إليه يدُ بني آدم، وأقام سنين (¬4) على ذلك، بل كان يتناولُ من أصولِ الحشيش أشياءَ تَعوَّد أكلَها. وكان يُسافرُ مع أصحابِهِ مُحرِمًا، فماذا تحلَّلَ من إحرامه أحرَم ثانيًا، ولم يَتَّسِخ له ثوبٌ، ولا طال له ظُفرٌ أو شعر (¬5). ¬

_ (¬1) في طبقات النحويين للزبيدي ص 153 أنه توفي لثمانٍ خلون من ذي القعدة سنة تسع وتسعين. وقال الخطيب في تاريخ بغداد 2/ 187: بلغني أنَّه مات في سنة تسع وتسعين ومئتين، وتعقبه ياقوت الحموي في معجم الأدباء 17/ 141 فقال: والذي ذكره الخطيب سهو، فإني وجدت في تاريخ أبي غالب همام بن الفضل بن المهذّب المغربي أن ابن كيسان مات في سنة عشرين وثلاث مئة. (¬2) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال إبراهيم بن شيبان. (¬3) المنتظم 13/ 128 - 129. (¬4) في (ف) و (م 1): ستين سنة: وانظر مناقب الأبرار 1/ 432، وطبقات الأولياء ص 403. (¬5) مناقب الأبرار 1/ 433.

[وحكى عنه أيضًا أنَّه قال: ] (¬1) مررتُ بمَفازةٍ في المغرب، فبقيتُ فيها عشرينَ يومًا لم أر آدميًّا، ولم آكل شيئًا، فبينما أنا أسيرُ إذ لاح لي شيخٌ قائمٌ يصلِّي، فسلَّمتُ عليه، فردّ، فقلت: من أنت؟ فقال: خليلُ خليل الرحمن إبراهيم، كان مسكني في الهواء من حين أُلْقِي إبراهيمُ في النار، فقلت: بم نلت هذه المنزلة؟ فقال: بالتوكُّل، فما في المملكة أعزّ منه. قلت: فما حدُّه؟ قال: النظرُ إليه بلا عينٍ تَطْرِف، ولسان ذاكر بغير حركة، ونفس جوَّالة بغير روح. ثمَّ وثب، فإذا به في الهواء (¬2). [وحكى عن إبراهيم بن شيبان قال: ] بعثني أبو عبد الله لأُحضِر له ماء، فأتيتُ إلى عينٍ، فإذا السَّبُعُ قد جاء إليها، فالتقينا في مضيق، فجعلَ السَّبُعُ يزاحمُني وأزاحمُه، حتى سبقتُه إلى الماء، وحملتُ منه في ركوتي والسبع ينظر إليَّ، ثمَّ جئتُ إلى أبي عبد الله، فلمَّا رآني تبسَّم (¬3). [وحكى أيضًا عن إبراهيم بن شيبان قال: ] قال أبو عبد الله: خرجتُ حاجًّا، فبينا أنا في بَرِّيَّةِ تبوك، وإذا بامرأةٍ بغير عينين ولا يدين ولا رجلين، فعجبتُ منها، وقلت: يا أمةَ الله، من أين أقبلت؟ فقالت: من عنده، فقلت: وأين تريدين؟ قالت: إليه، فقلت: سبحان الله، بادية (¬4) تبوك، وليس فيها مغيث، وأنتِ على هذه الحالة؟ ! فقالت: غمِّض عينيك، فغمَّضتُها، فقالت: افتحها، ففتحتُها، وإذا بها متعلقةٌ بأستار الكعبة، وقالت: أَتَعْجَبُ من قويٍّ يحملُ ضعيفًا؟ ! ثم صارت (¬5) بين السماء والأرض. [وحكى الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" عن إبراهيم بن شيبان قال] (¬6): خرجتُ مع أبي عبد الله إلى الحجّ على طريق تبوك، فلمَّا أشرفنَا على مَعَان، وكان لأبي عبد الله بها صديقٌ يقال له: أبو الحسن المَعَاني، وما كنتُ رأيتُه قبلَ ذلك، فوقعَ في خاطري أنَّنا إذا نزلنَا عليه أقولُ له يصلح لنا عدسًا [بخلّ]، فالتفتَ إليَّ أبو عبد الله وقال: احفظ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال أبو عبد الله. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 433. (¬3) مناقب الأبرار 1/ 434. (¬4) في (خ): بادم. والمثبت من (ف) و (م 1). (¬5) في (ف) و (م 1): عادت. وفي مناقب الأبرار 1/ 434: طارت. (¬6) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال إبراهيم بن شيبان.

خاطرك، فلمَّا دخلنا على المَعَاني قال لي -وما رآني قط-: قد عاد خاطرُك على الجماعة، ما عندنَا إلَّا عدس [بخل (¬1). ذكر نبذة من كلامه: حكى أبو نعيم أنه قال: ] (¬2) أفضل الأعمال عمارةُ الأوقات في الموافقات. و: أعظمُ الناس ذلًّا فقيرٌ داهن غنيًّا، أو تواضع له، وأعظم الناس عزًّا غنيّ تذلَّل لفقيرٍ أو حفظ حرمته (¬3). [وحكى عنه في "المناقب" أنه قال: ] (¬4) الأبدالُ بالشام، والنُّجباءُ باليمن، والأخيار بالعراق. وقال: من ادَّعى العبوديةَ وله مُرَاد باقٍ فهو كذَّاب، ولا تصحُّ العبودية إلَّا لمن أفنَى مُراداتِه بالكليَّة، وقامَ بمرادِ سيِّده، وأنشد: لا تدعُني إلا بيَا عبدَها ... فإنَّه أشرفُ أسمائي (¬5) وقال: ما رأيتُ أنصفَ من الدنيا، إنْ خَدَمْتَها خدمَتْكَ، وإن تركْتَها تركَتْكَ (¬6). ذكر وفاته: [حكى في "المناقب" عن إبراهيم بن شيبان قال: ] توفي أبو عبد الله على جبل الطُّور، فدفنتُه إلى جانب أستاذه عليِّ بن رزين بوصيَّةٍ منه، وعاش كلُّ واحدٍ منهما عشرينَ ومئة سنة، فهما على جبلِ الطور. [قال: ] وكان ابنُ رزين قد صحب الحسنَ البصريَّ، وكان يشربُ في كلِّ أربعةِ أشهرٍ شربة [ماء]، فقيل له في ذلك، فقال: وإيش في هذا، سألتُ الله أنْ يكفيَني مؤنةَ بطني [ففعل، أو] فكفاني (¬7) [والحمد لله وحده]. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 446 (مخطوط). (¬2) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال أبو عبد الله. (¬3) حلية الأولياء 10/ 335. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال. (¬5) مناقب الأبرار 1/ 432، وانظر طبقات الصوفية ص 245. (¬6) طبقات الصوفية ص 243. (¬7) مناقب الأبرار 1/ 434.

محمد بن يحيى بن محمد

محمد بن يحيى بن محمد أبو سعيد، البغدادي [ويعرف بحامل كفنه. قال الخطيب: بلغني أنَّه] توفي وغُسِّلَ وكُفِّنَ وصُلِّي عليه ودُفِن، فلمَّا كان الليل (¬1) جاءه نَبَّاشٌ فنبشَ عنه، فلمَّا حلَّ أكفانَه ليأخذَها استوى قاعدًا، فخرج النبَّاش هاربًا منه، فقامَ وحمل كفنه (¬2)، وجاءَ إلى منزلِه، وأهلُه يبكون عليه، فدقَّ البابَ، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقالوا: يا هذا، لا يحلُّ لك أن تزيدنَا على ما نحنُ فيه، فقال: افتحوا، فوالله أنا فلان، فعرفوا صوتَه، ففتحوا له [الباب]، وعاد حزنُهم فرحًا، وسمّي يومئذٍ حاملَ كفنه. قال الخطيب: ومثل هذا سُعَير بن الخِمْس الكُوفي، فإنَّه لما دُلّيَ في قبره اضطربَ فحُلَّتْ عنه أكفانه، فقام ورجعَ إلى منزله، ثمَّ وُلد له بعد ذلك ابنُه مالك. سكن حاملُ كفنِه دمشقَ، وحدَّثَ بها، وكان ثقةً (¬3). [وفيها توفي] مِمْشاذ (¬4) الدينوري [قال السُّلميّ: ] كان من أولاد الملوك، فتزهَّد وتركَ الدنيا، وصحب أبا تراب النَّخْشَبيّ، وأبا عبيد البُسْريّ، وغيرهما، أوورد نَيسابور والعراق، وزار بنيسابور أبا حفص النيسابوري]، وكان من كبار المشايخ وجِلَّتهم. [وحكى عنه في "المناقب" قال: ] خرج [ممشاذ] من بيته، فنبحَ عليه كلب، فقال ممشاذ: لا إله إلا الله، فمات الكلب (¬5). وقال [ممشاذ: ] مذ علمت أنَّ أحوال الفقراء جدٌّ كلُّها لم أمازح أحدًا (¬6)، وسببُه أنَّه ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): فلما كان في قبره. (¬2) في (خ): أكفانه. (¬3) تاريخ بغداد 4/ 668، وتاريخ الإسلام 6/ 1052، وما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬4) في (خ) و (ف) و (م 1)، وحلية الأولياء 10/ 353، ومناقب الأبرار 2/ 12: ممشاد. وهو في أكثر المصادر بالذال المعجمة. وذكره الزبيدي في تاج العروس (ممشذ)، وضبطه بكسر الميم. (¬5) مناقب الأبرار 2/ 12. (¬6) في المناقب 2/ 13: لم أمازح فقيرًا.

سنة ثلاث مئة

قدمَ علي فقير، فقال: أريد عَصيدةً، فجرى على لساني إرادة وعصيدة، وأمرتُ بعملها، وطلبتُ الفقير فلم أجده، فقالوا: خرجَ من عندك، ولم يزل يقول: إرادةٌ وعصيدة حتى مات في البريَّة. [ثم قال: ] ودخل عليَّ يومًا فقير، فسلَّم وقال: هاهنا مكان طاهرٌ [ونظيف] يمكن الإنسان أن يموتَ فيه؟ قال: فأشرتُ إلى مكان وهناك عين ماء، فجدَّد الوضوء وصلَّى ركعتين، ثمَّ مدَّ يديه ورجليه، ثمَّ مات. وقال: منذ مُدَّة تعرضُ عليَّ الجنَّة، فما أعيرُها طَرْفي. وقال: لو جَمَعْتَ حكمَ الأوَّلين والآخرين، وأحوال المقرَّبين، لم تصل إلى درجات العارفين حتى يسكنَ سرُّكَ إلى رب العالمين. [قال: ] ولَمَّا احتُضر قيل له: كيف تجدك؟ فقال: اسألوا العلَّة عني، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فحوَّل وجهَهُ إلى الحائط وقال: [من المجتث] أفنيتُ كلِّي بكلِّك ... هذا جزا من يحبُّك (¬1) ثم ماتَ رحمةُ الله عليه. [ثم] دخلت سنةُ ثلاث مئة فيها ظهرَ محمدُ (¬2) بن جعفر بن علي بن محمد بن (¬3) موسى بن جعفر بن علي (¬4) بن الحسين بن علي عليهم السلام في أعمال دمشق، فخرج إليه أميرُها (¬5) أحمد بن كَيغَلَغ، ¬

_ (¬1) الرسالة القشيرية ص 464، ومناقب الأبرار 2/ 14. وانظر ترجمة ممشاذ في طبقات الصوفية ص 316، وحلية الأولياء 10/ 353، وطبقات الأولياء ص 288، وغيرها. وما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬2) كذا في (خ) و (ف) و (م 1) والنجوم الزاهرة 3/ 180، وتاريخ الإسلام 6/ 874، ووقع في مروج الذهب 8/ 279، وتاريخ الإسلام 6/ 1055: مُحسِن. ولعله الصواب. (¬3) بعدها في مروج الذهب 8/ 279، وتاريخ الإسلام 6/ 1055: بن علي. (¬4) في مروج الذهب 8/ 279، وتاريخ الإسلام 6/ 1055: جعفر بن محمد. (¬5) لفظة: أميرها لم ترد في (م 1). وفيها نظر. فقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه 2/ 85 (مخطوط) في ترجمة أحمد بن كيغلغ أنه ولي إمرة دمشق أول مرة في سنة اثنتين وثلاث مئة وكان قبل ذلك قد ولي غزو الصائفة.

فاقتتلا، فقُتِل محمدٌ في المعركة، وحُمِلَ رأسُه إلى بغداد، فنصبَ على (¬1) الجسر. وفيها وقع ببغداد والبادية وباءٌ عظيم وموتٌ جارف، فماتَ الناس على الطرق، وكلبت الذئاب والكلاب في البريَّة، وخالطت الناسَ في البلدان فأهلكتهم. وساخ جبل بالدِّينَوَر في الأرض، ويعرف بالتل (¬2)، وخرج من تحته ماءٌ كثير غرَّقَ القرى. ووقعت قطعةٌ عظيمة من جبل لبنان في البحر. وتناثرت النجومُ في جمادى الآخرة تناثرًا عجيبًا، وكلُّها إلى ناحية المشرق. وقبض المقتدرُ على حاشيةِ ابن الفرات، واستترَ أولادُه المحسن والحسين والفضل، وكاتِبه أبو علي محمد بن علي ابن مُقْلة وغيرهم، وهُدِمت دورُ الباقين، ولم يمكِّن المقتدرُ أحدًا من أبي الحسن بن الفرات ولا من مناظرته، وكان في دار مكرمًا. وقلَّد الوزيرُ الخاقانيُّ أبا الهيثم العباس بن محمد بن ثَوابة، وكاتب محمد بن أبي الساج (¬3) ديوانَ المصادرات، وكان ابن ثوابة من الموصوفين بالشرّ، فأسرفَ في مناظرة أصحاب ابن الفرات، وقيَّدهم وغلَّهم بحضرةِ القَهْرَمانة، فردَّ عليه أقبحَ ردِّ وشتمَه، ونسبَه في نفسه إلى كل قبيح، فكتبَ ابن ثَوابة إلى المقتدر أنَّ ابن الفرات لم يُقْدِم على هذا الأمر إلا لكثرة أمواله، واستأذنه في معاقبته، فبسطَ يده فيه، فغل ابنَ الفرات، وقيَّدَه، وألبسَه جُبَّة صوف، وأقدمه في الشمس أربعَ ساعات، فكاد يَتلَف، فأنهَى أمرَه إلى المقتدر بدرٌ الحرميّ، فأنكرَ ذلك، وأمرَ بإزالة ذلك عنه، وأفردَ له حُجرةً في دار الخلافة من حَجَر الحرم الخواصّ، ورفع يدَ ابن ثوابة عنه بعد أن حلفَ له أنَّه ما بقيَ عنده مال، ثم صارَ المقتدرُ بعد ذلك يشاورُه في أموره، ويبعث إليه برقاع الوزير والكتاب، فيجيبُ عنها. قال ثابت بن سنان: وفيها صرف المقتدرُ أبا عليّ الخاقاني من الوزارة، وكان يتقلَّد في وزارة ابن الفرات أعمال البريد والمظالم بإسَبَذَان، فلمَّا ولي الوزارة تحيَّر لقلة ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): عند. (¬2) في (ف) و (م 1): يا ليل. وفي (خ): بالليل. والمثبت من: ما لم ينشر من أوراق الصولي ص 88، والمنتظم 13/ 32. (¬3) كذا في (خ).

الأحوص بن المفضل

الدُّرْبَة والمعرفة بالأعمال، وكانت بينه وبين مؤنس الخادم مباعدةٌ، فشرعَ مؤنس في تقليد علي بن عيسى مكانَه، فتوصَّل الحسنُ بن رَوْح إلى أم موسى القهرمانة، وكتب إليها ورقةً يبذلُ فيها خمس مئة ألف دينار مُعَجَّلة يستخرجها من أولاد الخاقاني وكُتَّابه ابن ثوابة وغيره، فتقربت القهرمانة إلى الخاقاني بالورقة، وكان ابن روح من أصحاب علي بن عيسى، فقبضَ الخاقانيُّ على ابن روح، وحبسَه وصرفَه عمَّا كان إليه، ثمَّ إن المقتدرَ لَمَّا رأى اضطرابَ الأمور، وفسادَ التدبير، وقلَّة المال، احتاجَ إلى إخراج خمسِ مئة ألف دينار من بيت مال الخاصَّة، ولم يصحَّ ما ضمنه الخاقانيّ من إثارة الأموال والزيادة فيها، فشاور مؤنسًا في تقلُّده الوزارة، وعرَّفه أن الضرورةَ تدعوهُ إلى إعادة ابن الفرات، فقال له مؤنس: يقبحُ أن يقال عنكَ: إنَّك صرفتَ بالأمس وزيرًا، ثمَّ اضطررت إلى ردِّه بعد شهور من صرفه، فلا ينسبون ذلك إلَّا إلى الطَّمَع في ماله فقط، وهذا عليّ بن عيسى لم يبق مَن يَصلح لتدبير المملكة غيره، ووصفه بالثقة والأمانة، والعفة والديانة، والبَراعة والصناعة، فأمرهُ المقتدرُ بإنفاذ ما يليقُ إليه؛ ليحمله إلى الحضرة، وكان غائبًا (¬1). وفيها ولدت بغلةٌ فَلُوًّا. وحجَّ بالناس الفضلُ بنُ عبد الملك. وفيها توفي الأحوصُ بن المُفَضَّل ابن غسَّان، أبو أميَّة، الغَلَابي. كان تاجرًا في البَزِّ ببغداد، فاستترَ ابنُ الفرات عنده، وقال له: إن أعدتُ إلى الوزارة، فأيّ شيءٍ تريدُ أن أصنعَ بك؟ فقال: تقلِّدني بعض أعمال السلطان، فقال: لا يجيء منك عامل، ولا قائد، ولا أمير، ولا صاحب شرطة، فإيش أقلِّدُك؟ قال: لا أدري، قال: القضاء، قال: رضيت، فلمَّا أعيد ابنُ الفرات إلى الوزارة ولَّاه قضاء البصرة والأهواز وواسط، وكان قليلَ العلم، إلَّا أنَّ عفَّتَه وتَصَوّنه غَطَّتا على نقصه، فلم ¬

_ (¬1) من قوله: وقبض المقتدر على حاشية ابن الفرات ... إلى هنا ليس في (ت) و (م 1).

عبد الله بن محمد

يزل قاضيًا حتى قَبَضَ عليه ابن كنْدَاج أميرُ البصرة، لوَحْشَةٍ كانت بينهما في بعض نكباتِ المقتدر لابن الفُرات، وما كان الأحوصُ يلتفتُ إلى ابن كنداج ويعارضُه في قضاياه، ولا يركبُ إليه، ويكتب ابن كنداج إلى ابن الفرات يشكوه، فيجيبه بالصواعق، فلمَّا نُكِبَ ابنُ الفراتِ حبسَه ابنُ كنداج وضيَّقَ عليه، فأقام في السجن مدة ثم مات. قال الخطيب: ولا نَعلمُ قاضيًا ماتَ في السجن سواه! روى عن أبيه كتاب "التاريخ"، وروى عنه جماعة (¬1). عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان والي الأندلس، وأمُّه أم ولد، يقال لها: عشار. بويع في صفر سنة خمس وسبعين ومائتين في السنة التي توفي فيها أخوه المنذر في أيام المعتمد. وكان زاهدًا عابدًا ورعًا تاليًا لكتاب الله، قائمًا بحدوده، بنى السَّاباط بقُرطُبة، والتزم الصلوات الخمس بالجامع إلى جانب المنبر حتى مات، وكان في أيَّامه المتغلبون من كلِّ ناحية والفتن، وله غزواتٌ مشهورة، منها غزاة بلي التي أنست كلَّ غزاةٍ تقدَّمتها، وذلك لأنَّ المرتد ابن حَفْصون حاصرَ حصنَ بَليّ في ثلاثين ألفًا، وبلغ عبد الله فخرج إليه من قرطبة في أربعة عشر ألفًا من أهلها خاصَّة، وأربعة آلاف من حشمِه وخواصه، فبرزَ إليه ابن حفصون في سفحِ جبلٍ بالأندلس فيه الحصن، فصدمه عبد الله صدمةً ولَّى مدبرًا، وتبعه عبد الله قتلًا وأسرًا، فلم يفلت منهم أحدًا، وكانت وفاته غرَّة ربيع الآخر (¬2)، وأيامه خمسًا وعشرين سنة وستة أشهر وأيامًا، وولي ابنُ ابنه ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 7/ 521 - 523، والمنتظم 13/ 133، ولم ترد هذه الترجمة والتي بعدها في (ف) و (م 1). (¬2) كذا في (خ) وسير أعلام النبلاء 14/ 156. وفي تاريخ علماء الأندلس ص 6، وجذوة المقتبس 1/ 12 أنه توفي مستهل ربيع الأول.

عبيد الله بن عبد الله

عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله في اليوم الذي توفي فيه جدُّه، وكنيته أبو المظفر (¬1) ولقَّبَ نفسَه بالناصر، وتوفي سنةَ خمسين وثلاث مئة (¬2). [وفيها توفي] عبيد الله بن عبد الله ابن طاهر بن الحسين، أبو أحمد، الخُزاعي [أخو محمد بن عبد الله بن طاهر] (¬3). ولد سنةَ ثلاثٍ وعشرين ومئتين، وولي إمارةَ بغداد، وكان أديبًا فاضلًا شاعرًا فصيحًا، ومن شعره: [من السريع] حَقُّ التَّنائي بين أهلِ الهوى ... تكاتبٌ يسَخَّنَ عينَ النَّوى وفي التَّداني لا انقضَى عمرُه ... تزاورٌ يَشفي عَليلَ الجَوَى وقال أبو الحسن عليُّ بن هارون بن علي: كان أبي نازلًا في جوار عُبيد الله، فانتقل عنه إلى دارٍ ابتاعَها، فكتب إليه عُبيد الله: [من البسيط] يا مَن تحوَّلَ عنَّا وهو يألَفُنا ... بَعُدتَ جدًّا على ما (¬4) صرتَ تلقانَا فاعلمْ بأنك إذ بَدَّلت جيرتَنا ... بدَّلت دارًا وما بدَّلت إخوانَا فأجابه أبي: [من البسيط] بَعُدتُ عنكم بداري دون خالصَتي ... ومَحْضُ ودِّي وعهدي كالذي كانَا وما تَبَدَّلْتُ مذ فارقتُ قُرْبَكُم ... إلَّا همومًا أعانيها وأحزانا (¬5) [وقال الخطيب: ] كان عبيد الله جوادًا مُمَدَّحًا، مدحَهُ الشعراءُ، منهم البُحتري، قدم عبيد الله من خراسان إلى بغداد فأنشدَ: [من الطويل] لقد سرَّني أنَّ المكارمَ أصبحت ... تَحُطُّ إلى أرضِ العراقِ حُمولُها ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، والنجوم الزاهرة 3/ 180. وهو تصحيف. والصواب أبو المطرف. انظر جذوة المقتبس 1/ 13، وسير أعلام النبلاء 8/ 265، و 15/ 562. (¬2) انظر بالإضافة إلى ما سلف من المصادر: الكامل 8/ 73. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬4) كذا في (خ). وفي تاريخ بغداد 12/ 56: فلأيًا. وهو الصواب. (¬5) من قوله: ومن شعره .... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1).

مجيءُ عبيدِ الله من شَرْقِ أرضه ... سُرَى الدِّيمَة الوَطْفاء هَبَّت قَبُولها أضاءت لنا بغداد بعد ظَلامها ... فعادَ ضُحًى إمساؤُها وأصيلُها (¬1) ومن شعر عبيد الله: [من الطويل] ألا أنَّها الدهرُ الذي قد مَلَلْتُه ... لتخليطه حتى ملكتَ حياتي (¬2) فقد وجلالِ الله حَببتَ دائمًا (¬3) ... إليَّ على بُغض الوفاةِ وفاتي ولَمَّا قدم بغداد بعثَ إليه أبو الحسن بن الفرات بهدايا ومالٍ طائل، فكتب إليه عبيدُ الله: [من الطويل] أياديكَ عندي مُعْظماتٌ جلائلُ ... طوال المَدَى شكري لهنَّ قصيرُ فإنْ كنتَ عن شكري غنيًّا فإنَّني ... إلى شُكرِ ما أوليتَني لفَقيرُ (¬4) [وحكى القاضي التنوخي علي بن المُحَسِّن، عن أبيه، عن الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي، عن أبي] (¬5) سُليمان الثلَّاج، عن أبيه قال: كان أصلُ نعمتي من خمسة أرطال ثلج، [وذلك] لأنَّ [الثلج] عزَّ ببغداد في بعض السنين، وكان عندي منه شيء فبعته، وبقي [عندي] خمسةُ أرطال، فاعتلَّت جارية لعبيد الله [بن عبد الله بن طاهر]، كانت روحَه من الدنيا، وهو إذ ذاك أميرُ بغداد، فطلبت (¬6) ثلجًا، فجاءَ وكيلُه إلى عندي، فقلت: عندي رطلُ ثلج ما أبيعُه إلَّا بخمسة آلاف درهم، فما جسرَ أن يشتريه حتى يشاورَ عبيد الله، فشتمَه وقال: اشتره بأيِّ ثمن كان، ولا تراجعني، فجاء إليَّ وقال: هذه خمسةُ آلاف درهم، فقلت: ما أبيعُ الرطلَ إلَّا بعشرة آلاف درهم، فما جسرَ أن يخالفَ عبيد الله ولا يراجعه، فأعطاني عشرةَ آلاف درهم، وأعطيتُه رطلًا، فشربت منه الجاريةُ فقويتْ نفسُها، وقالت: أريد رطلًا آخر، فجاءني الوكيلُ بعشرةِ آلاف درهم، فأعطيتُه رطلًا [آخر]، فشربته [الجارية]، فعوفيت، وطلبت رطلًا آخر، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 12/ 55 - 56. (¬2) في تاريخ بغداد 12/ 57: هلّا مللتَ حياتي. (¬3) في تاريخ بغداد 12/ 57: دائبًا. (¬4) تاريخ بغداد 12/ 57. ومن قوله: قدم عبيد الله من خراسان ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). (¬5) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وحكى أبو سليمان. . (¬6) في (ف) و (م 1) -وما بين حاصرتين منهما-: فطلب.

فجاءني بعشرة آلاف درهم، فأعطيتُه رطلًا، ومضى، فطلبت الجاريةُ شيئًا آخر، فجاءني (¬1)، فقلت: قد بقي عندي رطل، وما أبيعُه إلَّا بثلاثين ألفًا، فقال: خذ، فاستحييت من الله أن أبيعَ رطلًا من ثلج بثلاثين ألفًا، فقلت: هات عشرين ألفًا، ووالله ما بقيَ عندي غيره، وبرئت الجاريةُ، وبعتُ خمسةَ أرطال ثلجٍ بخمسين ألفًا (¬2)، وبلغَ عبيد الله عافيةُ الجارية، وأنَّ الثلجَ كان السبب، فدعاني، وقال: والله أنت رددتَ حياتي بحياة جاريتي، فاحتَكِم، فقلت: أنا خادم الأمير وعبدُه، فاستخدمني على شرابه وكثيرٍ من أمر داره (¬3). [قلت: تذكر هذه الحكاية في الحوادث فيُقال: حكى القاضي التنوخي أنَّ خمسةَ أرطال ثلج بيعت ببغداد بخمسين ألف درهم. وكانت وفاة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر] في (¬4) داره بمُرَبَّعة شَبيب ببغداد ليلةَ السبت لاثنتي عشرة ليلةً خَلت من شوّال، وصلى عليه أبو العباس ابن عبد الصمد الهاشميّ، ودُفِن بمقابر قريش عند أخيه وأهله، وله من السنِّ ثمان وسبعون سنة (¬5). [حدَّثَ عن الزُّبير بن بكَّار، وأبي الصَّلْت الهَرَويّ وغيرهما، وروى عنه الصوليُّ، وأبو القاسم الطَّبَراني وغيرهما، والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم] (¬6). * * * ¬

_ (¬1) من قوله: فجاءني بعشرة آلاف ... إلى هنا. ليس في (ف) و (م 1). (¬2) في نشوار المحاضرة 1/ 126، والمنتظم 13/ 137: وداخلتني رغبة في أن أشرب أنا شيئًا من الثلج؛ لأقول أني شربت ثلجًا سعر الرطل منه عشرة آلاف درهم، قال: فشربت منه رطلًا. اهـ. قلت: ومع هذا الرطل يكون قد باع خمسة أرطال بخمسة آلاف. (¬3) نشوار المحاضرة 1/ 125 - 127، والمنتظم 13/ 136 - 138. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وتوفي عبيد الله في. (¬5) في الأوراق للصولي (ما لم ينشر منها) ص 90 أنَّ سِنَّهُ كانت إحدى وثمانين سنة ومولده سنة عشرين ومئتين، وانظر أيضًا صلة تاريخ الطبري لعريب ص 42. (¬6) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1)، وفي (خ): حدث عنه الزبير بن بكار وغيره.

السنة الحادية وثلاث مئة

السنة الحادية وثلاث مئة قال ثابت بن سنان: [و] فيها قبضَ المقتدرُ على وزيره [أبي عليّ، محمد بن عبيد الله بن خاقان، وحبسه وأهله، وذلك في] (¬1) يوم الإثنين لعشرٍ خلون من المحرَّم، ركبَ إلى دار المقتدر، فقُبضَ عليه وعلى ابنيه وأبي الهيثم ابن ثوابة وغيرهم (¬2)، فكانت مدَّةُ وزارته سنةً واحدة، وشهرًا واحدًا، وخمسة أيام. وكان قد مضى بليق المؤنسيّ في ثلاث مئة غلامٍ إلى مكَّة؛ لإحضار عليِّ بن عيسى للوزارة (¬3). وفيها قدم [أبو الحسين] علي بن عيسى من مكَّة لعشرٍ (¬4) خلونَ من المحرم، وخلع عليه في دار السلطنة، وركب معه مؤنس الخادم، وغريب الخال، وسائر القُوَّاد إلى داره، وسُلِّم إليه الخاقانيُّ وابناه وابن ثوابة وغيرهم، فاعتقلَهم في دار الوزارة، وصادرهم مصادرةً قريبة، ثم صرفَ الخاقانيَّ إلى منزله، وصان حرمه، ورفقَ به، ووكَّل به توكيلًا خفيفًا (¬5) وأحسنَ عليُّ بن عيسى التدبير، ولطفَ بالرعيَّة، وعدل فيهم، وعفَّ عن المال والحريم، فحسنتِ الأحوال واستقامت الأمور، وكتب [بحسن السيرة] إلى الآفاق كتابًا نسختُه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أما بعد، فنِعَمُ أمير المؤمنين عليَّ يَشْفعُ قديمَها حديثُها، ويصل ماضيها مستقبلها، وكان مما جدَّده -أيَّده الله تعالى- وخصَّني به من إحسانه، وشرَّفني به من تَكرِمته وتنزيهه بي، أن استقدمني من حَرَمِ الله تعالى، فلمَّا وافيتُ إلى مدينة السلام، وحضرت في حضرته، قرَّبني وشرَّفني وخاطبني وأكرمني بما يثقُ به منِّي، ويسكن إليه من كفايتي ونهضتي، وقلَّدني -أيَّده الله تعالى- وزارتَه ودواوينَه وأعماله ومملكته وجيوشه بحضرته وسائر نواحي سلطانه؛ إنعامًا منه عليَّ، ورجاءً لحسنِ الأثر منِّي في تلافي ما وكلته أسبابُ الإهمال والتقصير، واعترضتهُ عوارضُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1)، وفي (خ): وزيره الخاقاني. (¬2) من قوله: ركب ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). (¬3) من قوله: وكان قد مضى ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). (¬4) في أوراق الصولي (ما لم ينشر) ص 90: لثلاث. والمثبت موافق لما في صلة عريب ص 43. (¬5) من قوله: وغريب الخال .. إلى هنا ليس في (ف) و (م 1).

الإضاعة والتفريط مِمَّن تقدَّمني، وأمرني أن أعاملَ كل أحدٍ بحسب ما يقتضيه أثرُه، ويستدعيه مذهبُه، بما أنا ممتثلُه، ومستفرغٌ بإذن الله ومشيئته الوسعَ فيه، فأطال الله بقاءَ أمير المؤمنين، ممتنعًا بالعز والتأييد، ممتدًّا في سوابغِ النعم وجلائل المواهب بصالح المزيد. وذكر كلامًا طويلًا. وساس الدنيا سياسةً حسنةً، ورسم للعمال بالأعمالِ الجليلة، وأنصف الرعية (¬1)، وراقبَ الله، وأزال السُّنَنَ الجائرة، [ولازم الصلواتِ في الجماعات وفي الجامع؛ تارةً بجامع المنصور، وتارةً بجامع الرُّصَافة وغيرها]، وأبطلَ المُكوس بمكَة وفارس والأهواز، وجبايةَ الخمور في البلاد كلِّها (¬2). قال ثابت: فحدثني بعد عزله ولزومه منزلَه في خلافةِ الراضي بالله قال: قال لي ابنُ الفرات بعدَ صرفي من الوزارة وتوليته إيَّاها في دار السلطان: أبطلتَ الرسومَ، وهدمتَ الارتفاع، فقلت: أيَّ رسمٍ أبطلت؟ قال: المكس بمكَّة، قلت: هذا وحدَه أبطلت، قد أبطلتُ أشياء كثيرة، وعددتها، ومبلغُ ذلك خمس مئة ألف دينار في السنة، ولم أستكثر هذا القدرَ في جنب ما حططتُه عن أمير المؤمنين من الأوزار، وغسلتُ عنه من الدَّرن والعار، ولكن انظر مع ما حططتُ وأبطلتُ إلى ارتفاعي وارتفاعك، ونفقاتي ونفقاتك، قلت: فبأيِّ شيءٍ أجاب؛ قال: خروج الخادم، وفرَّقَ بينَنا قبل أن يجيب. وفي صفر سأل علي بن عيسى المقتدرَ أنْ يقلِّد القضاءَ أبا عمر محمد بن يوسف، وعَرَّفه بفضله وموضعه، فقلَّده القضاء في جانبي مدينة السلام، سوى مدينة المنصور، فإنها كانت إلى أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول، ولَمَّا وليَ القضاء أبو عمر لم يمضِ سجلات محمد بن علي بن أبي الشوارب، وكان ابنُ أبي الشوارب قد صرف بأبي عمر. قال ثابت: ولما صُرِفَ الخاقانيُّ، أكثرَ الناسُ التزويرات عليه، وأُحضرت الكتبُ إلى عليِّ بن عيسى، فأنكرها وجمعَها وقال لرسوله: اذهب إلى أبي علي الخاقانيّ، وقل له ينظر في هذه التوقيعات، ويعرِّفني الصحيحَ منها الذي أمر به، والباطل الذي ¬

_ (¬1) من قوله: كتابا نسخته .... إلى هنا، ليس في (ت) و (م 1). (¬2) من هنا .... إلى خبر وصول هدايا عمان ليس في (ت) و (م 1).

زُوِّرَ عليه، فجاء الرسول والخاقانيّ قائمٌ يصلِّي، فوضع التوقيعات بين يدي أبي القاسم بن الخاقاني، وأدَّى إليه الرسالةَ، فأخذ يميِّزُ الصحيحَ منها من المزوَّر، فلمَّا فرغَ أبوه من الصلاة أخذَها وتصفحها، ثم خلطها، وردَّه إلى الرسول، وقال له: سلّم على الوزير وقل له: هذه التوقيعاتُ كلُّها صحيحة، وأنا أمرتُ بها، فما رأيتَ أن تمضيَه أمضيتَه، وما رأيت أن تبطلَه أبطلته، ولَمَّا انصرفَ الرسول قال الخاقاني لابنه: يا بنيّ، أردت أن تُبَغِّضنا إلى الناس، ويكون الوزير قد التقطَ الشوكَ بأيدينا، نحنُ قد صُرِفنا، فلم لا نتحتبُ إلى الناس بإمضاء ما زوَّروه، فإن أمضاه كان لنا الحمدُ والضررُ عليه، وإن أبطلَه كان الحمد لنا والذم له (¬1). [وقال ثابت: ] وفيها وصلت هدايا صاحب عُمَان إلى المقتدر، و [كان] فيها ببغاء بيضاء وغزلان (¬2) ونمور وزيادات. وركب المقتدرُ في شعبان من داره إلى الشماسيّة، ثم عاد في دِجْلة، وهي أولُ ركبة ظهرَ فيها للعامة. [قال ثابت بن سنان: ] وفي يوم الاثنين لستٍّ خلونَ من ربيع [الأول أو] (¬3) الآخر أدخل الحسين بن منصور الحلَّاج مشهورًا على جمل إلى بغداد، وكان قد قُبِضَ عليه بالسُّوس، وحُمل إلى عليِّ بن أحمد الرَّاسبي، فحمل إلى الحضرة، فصُلِبَ وهو حيّ وصاحبُه -وهو خال ولدِه- في مجلسِ الشرطة من الجانب الشرقيِّ من بغداد، ثم صُلِبَ وهو حيٌّ في الجانب الغربي وعليه جبة عَوْديَّة، ونودي عليه: هذا أحدُ دعاة القرامطة فاعرفوه، وحُبِسَ وحده في دار السلطان (¬4). [قال ثابت: ] وظهر عنه با لأهواز وبمدينة السلام أنَّه ادَّعى أنَّه إلهٌ، وأنَّه يقولُ بحلول اللاهوت (¬5) في الأشراف من الناس، وأنَّ له مكاتبات تُشعِر بذلك، وأنَّه يُظهِر العجائب. ¬

_ (¬1) من قوله: قال ثابت: فحدثني بعد عزله ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). (¬2) في (ف) و (م 1): وغراب أسود. وفي المنتظم 13/ 141: وغزال أسود. (¬3) ما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬4) قوله: وحبس وحده في دار السلطان، ليس في (ف) و (م 1)، وما بين حاصرتين منهما. (¬5) في (خ): بحلول المذهب للاهوت. والمثبت من (ف) و (م 1).

وفي رواية: وحصلَ في يد عبد الرحمن خليفة [علي بن أحمد] الراسبي رقاعٌ وُجِدت في منزل الحلَّاج فيها رموز، فأحضرَه عليّ بن عيسى وناظرَه، فلم يجد عنده شيئًا من القرآن، ولا من الفقه، ولا من الحديث، ولا من العربية، فقال له عليّ: أنت تعلُّمك الوضوء والفرائض أولى من رسائل لا تدري ما فيها، ثمَّ تدعي -ويلك- الإلهيَّة، وتكتب إلى تلامذتك: من النور الشعشعانيّ! ما أحوجَك إلى الأدب، وأقام محبوسًا، فاستمال بعضَ أهل دار السلطان بإظهار السنة (¬1)، فصاروا يتبركون به، ويسألونه الدعاء. وسنذكرُ أخبارَه فيما بعد إنْ شاءَ الله تعالى. وفيها أُطلِقَ الخاقانيُّ، وأُزيلَ عنه التوكيل (¬2). وفي شعبان خُلع على أبي العباس ابن المقتدر، وقُلِّدَ أعمال الحربِ بمصر والمغرب، وعمرُه أربعُ سنين، واستخلِفَ له مؤنس الخادم، وكتب المقتدر إلى مؤنس كتابًا يخبرُه بذلك منه: أمَّا بعد، أحسن الله حياطَتك، وأدامَ لأمير المؤمنين الإمتاعَ بك، إنَّ أولى مَن اقتفى سُبلَ أمير المؤمنين، وتَمَّم نهجَهُ واطئًا عقبَه، وسار بسيرته مقتفيًا أثرَهُ، واحتذَى مثاله من كان نجلَ أمير المؤمنين وسليله، وفرعَ دوحته وثمرة نَبْعَته، ومن إلى فخر أبويه يَنمي، وعن قوسِ مجده يَرْمي، وعلى شاكلته يجري، وبيده يَريشُ ويَبْري، ومن سِنْخُ النبوة منشؤه، وفي بيتِ الخلافة مبوَّؤه، وعلى ذِرْوة الشَّرَف مَنْصبُه، وفي بُحْبوحة السَّناء منقلبُه. وذكر ابنَ المقتدر، وقال: وقد رأى أميرُ المؤمنين -لِمَا بيَّنتُه فيكَ من أماراتِ الكفايات والغَناء، وتوسَّمه لديكَ من جميل الجزالة والبلاء- تقليدَك مصر، والإسكندرَّية، وبَرْقة، وإفريقية، وصِقِلِّية، وأَقْرِيطِش، وذكر بلادَ المغرب وما والاها، ودُنْباوند وقَزْوين وزِنْجان وأبهر وغيرها، وكتب له كتابًا (¬3). وفي شعبان أُنفِذَ محمد بن ثَوابة إلى الكوفة، وسُلِّم إلى إسحاق بن عمران، فكان معتقلًا في داره حتَّى مات (¬4). ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): من أهل السنة. وانظر المنتظم 13/ 144. (¬2) في (ف) و (م 1): التوكل. (¬3) في الكامل 8/ 76 أن الذي ولي الرَّيَّ ودنباوند وقزوين وزنجان وأبهر هو علي بن المقتدر. (¬4) من قوله: وكتب المقتدر إلى مؤنس كتابًا يخبره ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1).

[وفي شعبان] (¬1) ورد الخبرُ إلى بغداد أن غلمان أحمد بن إسماعيل صاحب خُراسان قتلوه على شاطئ نهر بَلْخ (¬2)، وقام مقامه ابنه [أبو الحسن] نَصْر [بن أحمد]، فبعث إليه المقتدرُ عهدَه على خراسان مكان أبيه. وفي رمضان وردَ الخبرُ بأنَّ خادمًا لأبي سعيد الجَنَّابيِّ القِرمطيّ المتغلِّب على هَجَر قتلَه. قال ثابت بن سنان: وكان عليّ بنُ عيسى لَمَّا تقلَّد الوزارة سأل المقتدرَ في أمر القرامطة، وأشارَ بمكاتبة أبي سعيد الحسن بن بهرام الجَنَّابيّ والإعذارِ إليه، فتقدَّم إليه بمكاتبته عنه، فكتبَ إليه كتابًا طويلًا حمدَ الله في أوَّله، وصلَّى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الآيات المختصَّةَ بالإسلام وشرفه، وحث فيه على طاعة الخلفاء، فقال: والحمدُ لله الذي شرَّف أمير المؤمنين وآباءَه الخلفاء الراشدين، الأئمَّة المَهديين، وجعلهم لُبابَ عِترته، وصَفوةَ أسرته، وفروعَ أَرومته، وبواسق نعمته، وجَمعَ لهم ما حازوه من ميراث النبوَّة عنه من الخلافة بعدَه، وارتضاهُم لسيرتِه والاقتداءِ بسنَته، ثم وبَّخه على ما يُحكى (¬3) عنه وعن أصحابه من ترك الصلاة والزكاة، وإباحة المحظورات، وارتكابِ المُحَرَّمات، ثم توعَّدهُ وهدَّده وقال: وأمير المؤمنين إنْ أقمت على بدعتِك ومذاهبكَ المستبشعة، وأعرضتَ عمَّا دعاك إليه من الدخول في الطاعة والسنَّة والجماعة، وإلا قلَّدكَ بغيك وآذنكَ بحربٍ من الله ورسوله، وذكرَ آيات الجهاد، وقال في آخره: واللهُ ولي التوفيق والإرشاد، والمطَّلعُ على سرائر العباد، والهادي إلى الخيرِ من أراد، وهو لمن عصاهُ بالمرصاد، وكتب علي بن عيسى في المحرم سنةَ إحدى وثلاث مئة. ونفذت الرسل من حَضرة المقتدر، فلمَّا وصلوا البصرة بلغَهم مقتلُ أبي سعيد، فكتبوا إلى الوزير فعاد الجوابُ بأن يسيروا إلى من قامَ بعدَه، فساروا ووصَّلُوا الكتابَ ¬

_ (¬1) في (خ): وفيها. وما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬2) كذا في (خ) و (ف) و (م 1)، وتكملة تاريخ الطبري ص 204، وتاريخ الإسلام 7/ 8. وفي أوراق الصولي (ما لم ينشر منها) ص 94، والصلة لعريب ص 46 أنه قتل على فراشه. وانظر الخبر في الكامل 8/ 77 - 78. (¬3) في (خ): تخلي. والمثبت من المنتظم 13/ 142.

إلى أولاده، وأدوا الرسالة، فكتبوا جوابًا طويلًا من جنسِ كتاب الوزير، فمنه: للوزير أبي الحسن علي بن عيسى من أخوته، سلامٌ على الوزير، فإنَّا نحمدُ الله إليه الذي لا إله إلا هو، ونسألُه أن يصلِّيَ على سيدنا محمد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، أما بعد: أطال الله بقاءك، فقد وصلت رسلُ السلطان -أعزَّه الله- بكتابه، وما حمَّلهُم من رسالته إلى رجلٍ قد مضى لسبيله إلى رحمة الله تعالى، فذكروا أنَّ الوزير أعزه الله تعالى أمرهم بالمصير إلينا، وإيصالِ الكتاب وأداء الرسالة، فسمعناها وقرأنا الكتاب، وقد أجبنا الوزير بما يقف عليه، ومع هذا، فنحنُ قوم لا نرى مكاتبةَ السلطان؛ لقلَّة معرفتنا بمكاتبته أعزَّه الله، لأنَّا لا نكاتبُ أحدًا من السلاطين، وقد كاتبنا الوزير وأحسنَّا الظنَّ والثقةَ به، وأملنا فيه -أيّده الله تعالى- أن يُلزِمَ نفسَه القيامَ بأمورنا، والعنايةَ بأسبابنا، إذ كانت الأخبار متواترةً بحسن نظرِه في الرعيَّة، وإصلاح أحوالها، وبسطِ العدل منها. فأمَّا ما ذكرهُ السلطان -أدام الله عزه، وزاد شرفه ارتفاعًا وعلوًا وامتناعًا- من انفرادنا عن الجماعة، وعدولنا عن الجماعة والطاعة، وإيثارنا وحشَةَ الفرقة وظلمتَها، فنحن -أيَّد الله الوزيرَ- لم ننفرد عن الجماعة، ولم نعدل عن الطاعة، بل أُفرِدنا عنها، وأُخْرِجنا من ديارنا، وشُرِّدْنَا عن حُرَمنا وذرارينا، واستحلُّوا دماءَنا بغير حق، ونحن نشرحُ للوزير -أيَّده اللهُ- حالنا. كان قديم (¬1) أمرنا أنَّا كنا أناسًا مستورين، مقبلين على تجارتنا ومعايشنا، ننزِّهُ أنفسَنا عن ارتكاب المعاصي التي حرّمَها الله تعالى، محافظين على فرائضِ الله تعالى، من إقامة الصلوات، وأداء الزكوات، والصيام، والحج، فنَقَم علينا سفهاءُ الناس وفُجَّارُهم مِمن لا يُعْرَفُ بدين، ولا ينسب إلى تقوى ولا يقين، فأكثروا التشنيع علينا حتَّى اجتمعَ الناسُ علينا، وتظاهروا بالإثم والعدوان، وشهدُوا علينا بالزور والبهتان، وأنَّ نساءنا بيننا بالسويَّة، وأنَّنا لا نحرِّمُ حرامًا، ولا نحلُّ حلالًا، وسبُّونا في وجوهنا، وأهانونا وأذلُّونا، حتى نادوا في البلد: من أقامَ عندنا بعد ثلاثة أيَّام فلا يلومنَّ إلا نفسَه، فخرجنا من البلد هاربين، ومن بقيَ منَّا جعلُوا في رقابهم الحبال، وفي أعناقهم السلاسل، وفعلُوا بهم وفعلوا، وذكروا كلامًا طويلًا، إلى أن قال: فأجلونا إلى جزيرة أو إلى .... (¬2). ¬

_ (¬1) في (خ): قد تم. والمثبت من تاريخ الإسلام 7/ 9. (¬2) في (خ) بياض بمقدار كلمة، وفوقه: كذا وجد.

ثمَّ أرسلنا إليهم نطلبُ أموالنا وأهلنا وحُرَمنا، فمنعونا إيَّاها، وعَزموا على حربنا والبغي علينا، فحاكمناهم إلى الله تعالى، وقد قال: "ومن بغي عليه لينصرنَّه الله" (¬1) فنصرنَا الله عليهم، وأمَّا ما ادُّعي علينا من الكفر وتركِ الصلوات، فنحنُ تائبون مؤمنونَ بالله. وذكر كلامًا طويلًا، فكتب الوزبرُ لهم كتابًا يَعِدُهم فيه الإحسان (¬2). وفيها جرت بين ابن جصَّاص وإبراهيم بن أحمد المَاذرائي مُنازعة (¬3)، فنسبه ابنُ الجصَّاص إلى شيء، فقال الماذرائي: عليَّ مئةُ ألف دينار من مالي صدقةً إن كان ما قلتَ صحيحًا، فقال ابنُ الجصَّاص: فعليّ قفيزُ مال صدقةً لقد أبطلتَ في يمينك، فقال له المَاذرائي: أنتَ من جهلك لا تعلمُ أنَّ مئةَ ألف دينار أكثر من قفيز، فاعتبر الحاضرون قولَهما، فكان القفيزُ ستَّةً وتسعينَ ألف دينار [، فكانت المئة ألف دينار تزيدُ على القفيز بأربعة آلاف دينار] (¬4). وفيها سار العَلَويُّ صاحبُ إفريقية جذ الخلفاء المصريين يريد مصر في نيّفٍ وأربعين ألفًا من البَرْبر في البر والبحر، ونزلَ لِبْدَة، وهي من الإسكندرية على أربعة مراحل، [وهذا قول ثابت بن سنان] (¬5)، وكان بمصر تكين الخاصّة، ففجَّر النيل، فحال بين العلوي ومصر، وولَّى المقتدرُ مصرَ أبا عليّ الحسين بن أحمد، وأبا بكر محمد بن علي الماذرائيين، وأضاف إليهما جندَ فلسطين ودمشق، فساروا إلى مصر، وكانت بينهما وبين العلويين وقعات، وعادَ العلويُّ إلى بَرْقة، وأقام الماذرائيُّ بمصر. وولى المقتدر أبا القاسم عليّ بن أحمد بن بسطام حمص والعواصم وقِنسرين، وولَّى وصيفًا التركيَّ البكتمري آمِد وصُمَيْصات، وولَّى يمن (¬6) الطولوني الموصل (¬7). وحجَّ بالناس الفضل بن عبد الملك. ¬

_ (¬1) كذا، وتام الآية: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60]. (¬2) من قوله: وفي رمضان ورد الخبر بأن خادمًا ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). (¬3) بعدها في (خ): نفيسة. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). انظر الخبر في ما لم ينشر من أوراق الصولي ص 95. (¬5) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬6) في (خ): ابن. والمثبت من الكامل 8/ 76. (¬7) من قوله: وولى المقتدر أبا القاسم ... إلى هنا. ليس في (ف) و (م 1).

جعفر بن محمد

وفيها توفي جعفر بن محمد ابن الحسن بن المُسْتَفَاض، أبو بكر، الفِريابي، قاضي الدِّينَوَر. ولد سنة سبع ومئتين، وطاف الدُّنيا شرقَها وغربها في طلب العلم، وهو أحدُ أوعيته، ولقيَ أعلامَ المحدِّثين في كل بلد، واستوطنَ بغداد وحدَّثَ بها. قال عمر بن علي الزيَّات (¬1): لَمَّا ورد الفريابيُّ بغداد استُقْبِلَ بالطَّيارات والزبازب، ووُعِد الناس إلى شارع المنار بباب الكوفة ليسمعُوا منه، فحضرَ الناس، فحزرُوا فكانوا ثلاثين ألفًا، وكان الذين يستملون ثلاث مئة وستة عشر. وقال ابنه محمد بن جعفر: مات أبي في المحرم وهو ابنُ أربع وتسعين سنة، وكانَ قد حفرَ لنفسه قبرًا في مقابر أبي أيوب قبلَ موته بخمسين سنة (¬2)، فكان يمرُّ عليه، فيقفُ عنده، وما قضي له أن يُدْفَن فيه. ودفن بباب الأنبار ببغداد لأربعٍ بقين من المحرَّم ليلة الأربعاء. أسند عن ابن المَديني وخلقٍ كثير، ورَوى عنه أحمد النَّجَّاد وغيره، وكان صدوقًا ثقة. وقال أبو أحمد بن عدي: رأيتُ مجلس الفريابي يُحزر بخمسة عشر ألف مِحْبرة، وكنا نحتاجُ أن نبيت موضع المجلس؛ لنتَّخذَ مكانًا نجلسُ فيه (¬3). الحسن بن بَهْرام أبو سعيد، القِرْمِطي، الجَنَّابي، المُتَغَلِّب على هَجَر. كان كيَّالًا، طُلِبَ بالبصرة فهرب، واسْتَغوَى خلقًا من القرامطة والأعراب، فغلبَ على القَطيف وهَجَر، وجهَّزَ إليه المعتضدُ جيوشًا وهو يهزمها، فكتب إلى المعتضد كتابًا يقول له: ما الذي عليك مني؟ ! فأنا ما أوذيك، فكفَّ المعتضدُ عنه. ¬

_ (¬1) هو عمر بن محمد بن علي الزيات. انظر تاريخ بغداد 8/ 104. (¬2) كذا! وفي تاريخ بغداد 8/ 105، والمنتظم 13/ 146: بخمس سنين. (¬3) الكامل لابن عدي 5/ 1875 (ترجمة عاصم بن علي بن عاصم الواسطي). وهذه الترجمة لم ترد في (ف) و (م 1).

حمدويه بن أسد

وقيل: شغلَه عنه الموت، ولم يجهِّز إليه المقتدرُ أحدًا، وكان بهجر من ناحية البرّيَّة. وقتله خادمٌ صَقْلَبيٌّ في الحمَّام، أراده على الفاحشة. وقال ثابت بن سنان: وردَ الخبرُ من البصرة لتسعٍ بقين من رمضان بأنَّ خادمًا لأبي سعيد قتلَه في الحمام، ثمَّ خرج بعد قتله فدعا رجلًا من رؤساء أصحابه، وقال: السيّدُ يستدعيك، فلمَّا دخل قتلَه، وما زال يفعلُ ذلك بواحدٍ واحد حتى قتل أربعة من رؤسائهم، ثمَّ دعا بالخامس، فلما رأى القتل صاح واطَّلع النساء، فصِحْنَ، واجتمعُوا على الخادم فقتلوه. وكان أبو سعيد قد عهدَ إلى ابنه سعيد، فلم يضطلع بالأمر، فغلبهُ عليه أخوه الأصغر سليمان بن الحسن، وكنيتُه أبو طاهر، واسم أمه فرحة (¬1). [فصل وفيها توفي] حَمدَويه بن أسد (¬2) الدِّمَشْقي، المُعَلِّم. كان من الأبدال، [وذكره الحافظ ابن عساكر وقال: كان] (¬3) مُجابَ الدَّعوة، أقام بغارٍ في قاسيون إحدى عشرة سنة لم يكلِّم أحدًا، وكان يخرجُ إلى صلاة الجمعة (¬4)، وكانت تفتحُ له أبواب المدينة والدروب والمساجد، وأقامَ خمسين سنة ما استند ولا مدَّ رجله بين يدي الله تعالى هَيبة له (¬5). [قال الحافظ: ] وجاءه رجلٌ فقال: بلغني أنَّ الخضر يأتي إليك، وأريد أن تجمعَ بيننا، فقال: حتى أشاورَه، فلما جاءه الخضر أخبره، فقال: قل له يقعد [عند] خزانةِ الزَّيت بجامع دمشق، فأخبر الرجل، فقعدَ عندها، فلم ير أحدًا، فجاء [الرجل] إلى ¬

_ (¬1) هذه الترجمة لم ترد في (ف) و (م 1). (¬2) كذا في (خ) و (ف) و (م 1). واسمه -كما في تاريخ دمشق 60/ 158 - : محمد بن أحمد بن سيد حمدويه. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬4) تاريخ دمشق 60/ 160. (¬5) في (ف) و (م 1): حياءً من الله وهيبة له.

عبد الله بن علي

حمدويه فقال: وأين الخضر؟ فقال: جاء إلى خزانة الزيت [وجلس عندك]، وقلت له: قم من عندي، أمَّا وجدت في الجامع موضعًا غير هذا؟ ! فقال الرجل: قد كان ذلك، وما علمتُ أنَّه الخضر واسترجع، فقال حمدويه: بلى. وقال حمدويه: كنتُ أمشي في اليوم أربعينَ ميلًا، وأختم في كلِّ ميلٍ ختمة (¬1)، فلمَّا كان في بعض الأيام تعبتُ تعبًا شديدًا وضَعُفت من الجوع، فأتيتُ في البرية إلى عين ماءٍ في مكانٍ طيِّب، فقعدتُ واسترحت (¬2)، وشربتُ من العين، وقلت: لو كان مع الماء شيءٌ من طعام، وإذا بجاريةٍ سوداء واقفة على رأسي فقالت: قد أرسلَ مولاي إليك هديَّةً، وقال: إن قبلهَا فأنتِ حُرَّةٌ لوجه الله، فقلت: ضعيه واذهبي، فوضعته وإذا فرنيتان وبيضٌ مَسْلوق، [قال: ] فتركتُه بحاله، ومضيت ولم أتناول منه شيئًا [قال الراوي: كأنه جزع من سرعة الإجابة]. وقال [الحافظ: قال حمدويه: ] عطشتُ [ليلةً] وأنا بجامع دمشق، والأبوابُ مغلقةٌ، فقلت: يا إلهي، عطشت، وإذا بكفٍّ قد خرجت من الحائط وفيها كوز من ماء، فقال: اشرب. [قال ابن عساكر: ] مات حمدويه بدمشق [في هذه السنة]. أسند عنه [أبو القاسم (¬3) بن أبي العَقَب، وأبو هاشم المؤدِّب، و] أبو صالح الذي ينسب إليه مسجد أبي صالح بباب شرقي وغيره [انتهت ترجمته (¬4). وفيها توفي] عبد الله بن علي ابن محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوارب، القاضي، الفاضل. كان من سَرَوات الرجال، له قدرٌ وجلالة، [و] استقضاه المكتفي على مدينة المنصور [في] سنة اثنتين وتسعين ومئتين، وما زال كذلك إلى سنة ست وتسعين، فنقلَه ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 60/ 160: كنت أمشي في اليوم أربعن ميلًا، وأختم ختمة. (¬2) في (خ): واسترجعت وقلت: إنا لله وأنا إليه راجعون! (¬3) في (خ) و (ف) و (م 1): عن أبي القاسم ... والتصويب من تاريخ دمشق 60/ 159، وانظر سير أعلام النبلاء 14/ 112. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وبعدها في (م 1): والحمد لله وحده.

محمد بن عبد الله

المقتدرُ إلى الجانب الشرقيّ، ففُلِج، وكانت وفاتُه بالسَّكْتة، وقيل: في سنة ثمان وتسعين [ومئتين] (¬1). محمد بن عبد الله ابن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، القاضي، الأموي (¬2)، ويعرف بالأحْنَف. كان يخلفُ أباه على القضاء ببغداد، وكان سَريًّا جميلًا، واسعَ الأخلاق، كثير الإحسان، قريبًا من الناس. وتوفِّي يومَ السبت بعد أبيه بثلاثة وسبعين يومًا، ودُفنا بباب الشام (¬3). [وفيها توفي] محمد بن عثمان ابن إبراهيم بن زُرْعَة، أبو زُرْعة الثَّقَفيّ مولاهم، قاضي دمشق ومصر. [ذكره الحافظ ابن عساكر، وقال: ] كانت داره بدمشق بباب البَريد، وليَ قضاءَ مصر [في] سنة أربعٍ وثمانين ومئتين في أيَّام خُمارَويه (¬4) [بن أحمد بن طولون]. وكان حسنَ المذهب، عفيفًا عن المال والحريم، شديد التوقُّفِ في إنفاذ الحكم، وأمره أحمدُ بن طولون بخلع أبي أحمد الموفَّق لما حجر على المعتمد، [قال أبو الحسين الرازي: ] فقام [أبو زرعة] يوم الجمعة عند مِنْبر دمشق [وقال: نحنُ أهل الشام، أهلُ صفين، اشهدوا أنِّي خَلعتُ أبا أحمق -يعني أبا أحمد- كما خلعتُ خاتمي من أصبعي، ولعنَه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين في (ف) و (م 1). وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 11/ 781، والمنتظم 13/ 147. (¬2) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 3/ 451، والمنتظم 13/ 149. (¬3) لم ترد هذه الترجمة في (ف) و (م 1). ووقع بعدها في (خ) قطعة عنوانها: نبذة من كلامه ذُكر فيها أقوال ليوسف بن حسين الرازي. وهي مقحمة، وستذكر في موضعها في ترجمة يوسف بن الحسين في وفيات سنة أربع وثلاث مئة. (¬4) كذا في (خ) و (ف) و (م 1). والصواب -كما في تاريخ دمشق 63/ 208: هارون بن خمارويه.

قلت: تبًّا لهذا القاضي، أمَّا خاف الله تعالى! يلعنُ الموفَّق وقد جاهد صاحب الزَّنج، وفعل ما فعل، وبذلَ نفسه لله تعالى وأمواله وولدَه، واستنقذ المسلمين والمسلمات من يد الخبيث. عامَّة ما في الباب أنَّه حجرَ على المعتمد لمصلحةٍ رآها توجب ذلك؛ لعنه عليًّا على المنابر شفاهًا، خصوصًا وهو من الشيعة الهاشمية والشجرة العباسية. قال أبو الحسين الرازي: ولما قدمَ أبو العباس المعتضدُ دمشقَ] (¬1) عند رجوعه من وقعة الطَّواحين في سنة إحدى وسبعين [ومئتين]، قال لأبي عبد الله أحمد بن محمد الواسطي: انظر من كان يبغض دولتنا من الدمشقيين، فاحمله إلى الحضرة، فحمل محمد بن عثمان [صاحب هذه الترجمة، وأبو زُرْعَة] عبد الله (¬2) بن عمرو، ويزيد بن محمد بن عبد الصمد، مقيَّدين إلى أنطاكية، فرآهم المعتضد يومًا سائرين في المَحامل، فاستحضرَهم وقال: أيكم القائل [قد خلعت] أبا أحمق، فخرسَ القوم، فقال له محمد بن عثمان [القاضي: ] أصلحَ اللهُ الأمير، أشهدكَ أنَّ نسائي طوالق، وعبيدي أحرار، ومالي في سبيل الله، إن كان في هؤلاء القوم من قال هذه المقالة، فقال المعتضد: أطلقوهم (¬3). [والعجبُ من ذكاء المعتضد ونظره في دقائق الأمور! والعُجاب، كيف مرَّت عليه هذه التورية التي لا تخفى على صبيان المكاتب؟ ! وقال ابن عساكر: ] كان محمد بن عثمان من موالي بني أمية، وممَّن كان يُرْمَى بالنَّصْب. وقيل: إنَّه مات [في] سنة اثنتين وثلاث مئة (¬4). * * * ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬2) كذا في (ف) و (م 1) -وما بين حاصرتين منهما- وفي تاريخ دمشق 63/ 210: عبد الرحمن. (¬3) بعدها في (خ): فمرت على المعتضد هذه البهرجة. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1)، والخبر في تاريخ دمشق 63/ 210. وبعدها في (م): والله سبحانه أعلم بالصواب.

السنة الثانية وثلاث مئة

السنة الثانية وثلاث مئة فيها في المحرَّم وردَ كتابُ نَصْر بن أحمد بن إسماعيل صاحب خُراسان أنَّه واقعَ عَمَّهُ إسحاق بن إسماعيل، وأنَّه أسرهُ، فبعث إليه المقتدر بالخِلَع واللواءِ وعهدِه على خراسان (¬1). وفيها عاد العلويُّ إلى الإسكندرية ومعه صاحبُه حُباسة، فجرت بينه وبين عسكر المقتدر حروبٌ، قُتِل فيها حباسة، وعاد العلويُّ إلى القيروان. وفي جمادى الأولى طهَّرَ المقتدرُ خمسةً من أولاده، فبلغ النِّثارُ عليهم والنفقة ست مئة ألف دينار، وطهَّر معهم جماعة من اليتامى، وكساهم وأعطاهم الدنانير الكثيرة. [قال ثابت: وفي جمادى الأولى] قُبِضَ على أبي عبد الله الحسين بن عبد الله بن الجصَّاص الجوهري، [و] أَنفذ المقتدرُ إلى داره جماعة من خواصِّه، فأخذوا منه [من] المال و [من] الجوهر ما قيمتُه أربعة آلاف [ألف] دينار (¬2)، وكان هو يدَّعي أكثر من ذلك بكثير [وهذا قول ثابت بن سنان]. وقال أبو الفرج بن الجوزي (¬3) رحمه الله [في "المنتظم"]: أُخِذَ منه ما مقداره ستَّةَ عشر ألف ألف دينار عينًا وورقًا وآنيةً وثيابًا وخيلًا وخدمًا. [قلت: وقد ذكرنا أنَّ أموال (¬4)] ابن الجصَّاص من قَطْر النَّدى بنت خُمارَويه، فإنَّه لَمَّا حملَها من مصر إلى المعتضد كان معها أموالٌ عظيمةٌ، وجواهر [لها قيمة]، فقال لها ابنُ الجصَّاص: الزمانُ لا يدوم على حال [واحد]، والدهر لا يؤمنُ، دعي عندي بعضَ هذه الجواهر تكون ذخيرةً لك، فماتت قطرُ الندى، فأخذَ الجميع [ابنُ الجصَّاص]. ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 150. ولم يرد هذا الخبر في (ف) و (م 1). (¬2) في (م 1): ما قيمته ألف ألف دينار. (¬3) في (ف) و (م 1): وقال جدي، والخبر في المنتظم 13/ 150. (¬4) في (خ): قال المصنف رحمه الله: وأموال. والمثبت من (ف) و (م 1).

وقال أحمد بن الحسين بن المنذر: دخلتُ يومًا على ابنِ الجصَّاص، وبين يديه سفط منطق بالحرير، [و] فيه جوهرٌ قد نَظَم منه عشرين سُبحة وأكثر، وزنُ كلِّ حبَّةٍ بمقدار صاحبتها لا تزيد ولا تنقص، وهي مثل بيض الدجاج (¬1)، وبين يديه سبائك ذهب تُوزن بالقبَّان كما يوزن الحطب، ثم صادره المقتدر، وأخذَ الجميع، ثمَّ قتلَه المقتدر، وتقاسمَه الموالي، وتفرَّقَ شذَرَ مَذَر (¬2). [وسنذكرُ ابن الجصَّاص في سنة خمس عشرة وثلاث مئة. وقال ثابت بن سنان: ] وفي جمادى الآخرة وقع بين الحنابلة وبين أصحاب ابن القاص [كلامٌ غليظٌ، فتوسَّط بينهم عليُّ بن عيسى الوزير، ومنع ابن القاص] من الكلام. وفي رمضان أُدخِل أولادُ المقتدر الكُتَّاب، وكان المؤدِّبَ أبو إسحاق إبراهيم بن السريّ الزَّجَّاج النحويّ. وفيها خرج الحسنُ بن عليٍّ العلويّ، وتغلَّب على طَبَرِسْتان، ولقِّب بالداعي (¬3). وهو قول ابن ثابت، وأمَّا غيره فقال: هذا العلويُّ اسمه: الحسنُ بن علي بن الحسن بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، ويُعرف بالأطروش (¬4). ودعا الدَّيْلَمَ إلى الله تعالى، وكانوا مجوسًا فأسلموا، وبنى لهم المساجد، وأقامَ شعائر الإسلام، وكان فاضلًا صالحًا عاقلًا، وله سيرةٌ مُدَوَّنةٌ، وأقام عند الديلم سنين، فأصلحهم [الله] على يديه. وفي ذي القعدة خلعَ المقتدر على أبي الهَيْجاء عبد الله بن حَمْدان، وقلَّدَه الجزيرةَ وأعمالها والموصل. ¬

_ (¬1) في (خ): مثل البيض. والمثبت من (ف) و (م 1)، وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬2) من قوله: ثم قتله المقتدر ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). (¬3) قال ابن الأثير في الكامل 8/ 86: وقد ذكره ابن مسكويه في كتاب "تجارب الأمم" فقال: الحسن بن علي الداعي. وليس به، إنما الداعي علي بن القاسم، وهو ختن هذا. (¬4) وقع الخبر في (خ) مختصرًا مع تداخل في الروايات. وهذا نصه: وفيها خرج الحسن بن علي بن الحسن بن عمر بن علي بن أبي طالب العلوي ويعرف بالأطروش ولقب بالداعي. والمثبت من (ف) و (م 1).

أحمد بن يونس

وفيها بنى عليُّ بن عيسى [الوزير] المارَسْتان بالحَرْبية مَحلَّة الحَنابلة غربي بغداد، وأنفقَ عليه أمواله. وحجَّ بالناس الفضل بن عبد الملك، فلما عادوا خرج عليهم [رجل علويٌّ يقال له: ] الحسن بن عمر (¬1) الحسنيّ في خلقٍ من طيئ وبني صالح بن مُدْرك الشَّيباني، فأخذوا ما كان مع الحاجِّ من الأموال والأمتعة والجمال، وأخذُوا من النساء مئتين وثمانين امرأةً من الحرائر سوى المملوكات والمماليك، وبلغ الخبرُ إلى بغداد، ومات الباقون بالعطش والجوع، فلمَّا دخلَ من سلم منهم بغداد ضجُّوا، واجتمعت معهم العامَّة، وشَغَبوا (¬2) على السلطان، فوعدهم الوزير عليُّ بن عيسى أن يكتب كتابًا إلى العلويّ، فكتبَ إليه كتابًا يتهدَّدُه فيه ويتوعده، ويأمره بردِّ ما أخذ، فلم يلتفت [لقوله]. وفيها توفي أحمد بن يونس ابن عبد الأعلى بن موسى، أبو الحسين. ولد في ذي القعدة سنةَ أربعين ومئتين، وكان من الخائفين البكَّائين. روى عنه الأئمة (¬3). [فصل وفيها توفيت بدعة جاريةُ عَريب، مولاة المأمون. ذكرها ثابتُ بن سنان فقال: وفي سنة اثنتين وثلاث مئة توفيت] (¬4) بدعة الكبيرة جاريةُ عَريب توفيت لستٍّ بقينَ من ذي الحجة، وصلَّى عليها أبو بكر بن المُهْتدي. وقد كان إسحاق بن أيوب بذلَ فيها لعَريب مولاتها مئةَ ألف دينار على يدي أبي ¬

_ (¬1) كذا في (خ) وتاريخ الإسلام 7/ 11. وفي (ف) و (م 1): الحسن بن عمرو. (¬2) في (خ): وشنعوا. والمثبت من (ف) و (م 1). (¬3) المنتظم 13/ 151. ولم ترد ترجمته في (ف) و (م 1). (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1).

العباس بن محمد

الحسن علي بن يحيى المُنَجِّم، وللمنجِّم عشرين ألف دينار لسفارته، فلمَّا خاطب عَريبًا في ذلك، دعت بدعة وعرَّفتها ذلك، وسألتها: هل تحبُّ وتختار البيع، فقالت: لا أختارُ البيع، فردَّتِ المال وأعتقتها من وقتها، وكانت بدعة مغنِّيةً، وخلَّفت مالًا عظيمًا، وضياعًا كثيرة (¬1). [قلت: وينبغي أن تُذكر هذه المَنْقَبة في ترجمة عَريب.] (¬2) العباس بن محمد ابن ثَوابة أبو الهَيثم، كاتبُ المقتدر (¬3). وكان يطمعُ في الوزارة، ولَمَّا ولي عليُّ بن عيسى الوزارة اعتقلَه بالكوفة عند إسحاق بن عمران، فماتَ يوم الأحد سَلْخَ ذي الحجَّة، وأوصى أنْ يصلِّي عليه أبو عيسى الطَّلْحي، وأن يكبِّر عليه أربعًا، وأن يُسَنِّم قبرَه، وكان الوزراءُ يخافونَه لشرِّه، فيقال: إنَّ إسحاق دسَّ إليه سمًّا، فأكله فمات (¬4). قال المصنف رحمه الله (¬5): وإلى هنا انتهى تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطَّبري، وقيل: إلى سنة ثلاثٍ وثلاث مئة (¬6). * * * ¬

_ (¬1) انظر أوراق الصولي (ما لم ينشر منها) ص 102، وصلة تاريخ الطبري ص 52، وتكملة تاريخ الطبري ص 206، والمنتظم 13/ 152. (¬2) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬3) ذكر الصوليُّ في الأوراق (ما لم ينشر منها) ص 105، وعريب في صلة تاريخ الطبري ص 57 أن أبا الهيثم مات سنة ثلاث وثلاث مئة. (¬4) هذه الترجمة لم ترد في (ف) و (م 1). (¬5) في (ف) و (م 1): قلت. (¬6) بعدها في (ف) و (م 1): والحمد لله وحده.

السنة الثالثة وثلاث مئة

السنة الثالثة وثلاث مئة [قال ثابت بن سنان: و] فيها وَقفَ المقتدر أوقافًا كثيرةً من المُسْتَغَلَّات السُّلطانيَّة، وأشهدوا عليه القضاةَ والعدول، وكتبوا السجلَّات وثبتت على الحكام، وليس لها اليومَ أثر. [قال ثابت بن سنان: ] وفيها حُمَّ المقتدر أيَّامًا، فاحتجم، ولم يمرض في خلافته غيرَ هذه المرضة، وكان يحتجمُ كلَّ وقت، أمَّا دواء الإسهال فلم يشربه قطّ. وفيها راسلَ عليُّ بن عيسى الوزيرُ القرامطة وكاتبهم وهاداهم، وأطلق لهم ما أرادوا من البيع والشراء بسيراف، فنسبَه الناسُ إلى موالاتهم، وإنَّما قصدَ أن يتلافاهم خوفًا على الحاجِّ منهم، فلما فعلُوا بالحاجِّ ما فعلوا [بعد ذلك]، استصوبَ الناسُ رأيَه وعلمُوا أنَّه إنَّما فعل ذلك نظرًا للحاجّ (¬1). وفي يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجَّة ولد عليُّ بنُ عبد الله بن حمدان. وفيها تواترتِ الأخبارُ أنَّ الحسينَ بن حمدان قد خالفَ وخرج عن الطاعة، وكان مؤنس الخادم مشغولًا بحرب العلويِّ بمصر، فندبَ عليُّ بن عيسى رائقًا الكبير لمحاربته، وخَلَعَ عليه في جمادى الأولى، وكتبَ إلى مؤنس يعرِّفُه ويأمُره أن يصيرَ إلى ديار مضر، ويأخذ معه من مصر أعيانَ القوَّاد ومن يخاف منهم، مثل أحمد بن كيغلغ، وعلي بن أحمد بن بسطام، والعباس بن عمرو، فشخصَ مؤنس بهؤلاء معه، وأمَّا رائق فالتقى بابن حمدان، فهزمَه ابنُ حمدان، فصار إلى مؤنس، وسار مؤنس مُجِدًّا، وعبرَ الحسينُ دجلة إلى ديار ربيعة في أربع مئة فارس، ولَمَّا قرب منه مؤنس بعثَ الحسينُ إليه بكاتبه مروان، وجرت بينه وبين مؤنس خطوب. وقال: إنَّ السببَ في خروج الحسين عن الطاعة عدولُ الوزير عليِّ بن عيسى عمَّا كان عليه في أمره، فأوحشَه ذلك، وأنَّه ضمن له ضمانات وما وفى له، ويسألُه المقام بحرَّان ويكاتب الوزيرَ فيه، ويتركه ¬

_ (¬1) بعدها في (ف) و (م 1): وفيها عصى الحسين بن حمدان على القتدر، فخلع المقتدر على رائق الكبير وجهزه لمحاربته. وسنذكر عصيان أحمد بن حمدان.

مقيمًا في منزله، ويقلِّد أخاه أعمال ديار ربيعة، وذَكرَ أنَّه قد اجتمعَ له من القبائل ثلاثون ألف رجل، فأغلظَ له مؤنس وقال: لا سبيلَ إلى هذا حتَّى يدخلَ في الطاعة، وأمَّا القبائل فنحن نفرِّقُهم عنه، وكتبَ إلى الوزير يعرِّفه. وسار مؤنس فنزل بإزاء جزيرة ابن عمر في شعبان، ورَحل الحسين إلى ناحية البادية، وانتقلَ عسكرُه إلى مؤنس أولًا أولًا، فأحسنَ إليهم مؤنس، وخلعَ عليهم، وكانوا سبعَ مئة فارس. ثم سار مؤنس وراءَ الحسين منصوبًا على جمل (¬1)، وابنُه عبد الوهَّاب على جملٍ آخر، وأصحابه على الجمال، وبين يديهم الأميرُ أبو العباس بن المقتدر، والوزيرُ عليّ بن عيسى، والأستاذ (¬2) مؤنس الخادم، وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، وإبراهيم بن حمدان، وجميع القواد والجيوش، وادخل الحسينُ إلى المقتدر، وأوقَفَه بين يديه، فأمرَ بحبسِه عند زيدان القَهْرَمانة في دار السلطان، ثمَّ قبضَ على أبي الهيجاء وعلى جميع إخوته، وحُبِسوا في دار السلطان عند نصر الحاجب، وذلك في ذي القعدة. [وفي هذه السنة] (¬3) ورد الخبرُ إلى بغداد أنَّه وجد في خُراسان بالقندهار (¬4) أزَجٌ (¬5) فيه ألفُ رأس (¬6) في برج، [من هذه الرؤوس تسعة وعشرون رأسًا] (¬7)، في أذن كلِّ واحد خيطٌ من إبريسم، فيه رقعةٌ مكتوبٌ فيها اسمُ صاحبه، وكان من جملتها هانئ بن عروة، وحاتم بن حَسَنة، وطَلْق بن معاذ وغيرهم، وتاريخهم من سنة سبعين من الهجرة. وحجَّ بالناس الفضلُ بن عبد الملك. ¬

_ (¬1) يعني بعد أسر الحسين. (¬2) كذا. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬4) في (خ): بالعهدار. وفي (ف) و (م 1): بالقصران. والمثبت من أوراق الصولي (ما لم ينشر منها) ص 110، وصلة تاريخ الطبري ص 59، والمنتظم 13/ 167، وجميعهم أورد الخبر في حوادث سنة أربع وثلاث مئة. (¬5) الأزَجُ: بيت يبنى طولًا، والجمع آزج وآزاج. (¬6) في أوراق الصولي (ما لم ينشر منها) ص 110، وصلة تاريخ الطبري ص 59: خمسة آلاف رأس. (¬7) ما بين حاصرتين من أوراق الصولي ص 110، وصلة تاريخ الطبري ص 59، والمنتظم 13/ 167.

أحمد بن علي

[فصل] وفيها توفي أحمد بن عليّ ابن شُعيب (¬1) بن علي بن سِنان بن بَحْر، أبو عبد الرحمن، النَّسَائيّ، الإمامُ الحافظ. ولد بنَسَا سنة خمس عشرة ومئتين، وقيل: سنة أربع عشرة [ومئتين]، وسافرَ إلى العراق والشام والحجاز [ومصر]، واستوطن مصر، فأقام بزُقَاق القناديل، وصنَّفَ كتاب "السنن" المشهور، و"الضعفاء والمتروكين". وأثنَى عليه الأئمَّة، فقال الحاكم أبو عبد الله: كان إمامَ أهل الحديث، وكان يصومُ الدهرَ، ويختمُ القرآنَ في كلِّ يومٍ وليلة، فإذا جاءَ رمضان ختمَه في كلِّ يوم [وليلةٍ] مرَّتين، وكان يجاهدُ ويرابط. وقال الدارقطني: النسائيُّ مقدَّمٌ على كلِّ من يُذْكَر بهذا (¬2) العلم في أهل عصره. [كان أول رحلته إلى نَيسابور، فسمع إسحاقَ بن إبراهيم الحَنْظليّ، والحسين بن منصور، ومحمد بن رافع، وأقرانهم، ثم خرج إلى بَغْلان (¬3)، فأكثرَ عن قتيبة، وانصرفَ إلى طريق مَرْو، وكتب عن عليِّ بن حجر وغيره، ثمَّ توجَّه إلى العراق فكتب عن أبي كُرَيب وأقرانه، ثمَّ دخل الشام ومصر فأقام بهما.] وكان إمامًا في الحديث، [ثقة] ثبتًا حافظًا فقيهًا. [وحكى الحافظ ابن عساكر عن محمد بن المُظَفَّر الحافظ أنَّه كان يقول: سمعت مشايخنا] (¬4) بمصر يعترفون لأبي عبد الرحمن [النسائي] بالتقدُّم والإمامة، ويصفون من ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، والمنتظم 13/ 155، ووفيات الأعيان 1/ 77، والنجوم الزاهرة 3/ 188. وفي غيرها من المصادر: أحمد بن شعيب بن علي، وهو المشهور. انظر الكامل في التاريخ 8/ 96، وتهذيب الكمال 1/ 328، وسير أعلام النبلاء 14/ 125، وتاريخ الإسلام 7/ 59، والوافي بالوفيات 6/ 416، وطبقات الشافعية 3/ 14، وتهذيب التهذيب 1/ 26، وغيرها. (¬2) في (ف) و (م 1): هذا. وليست في (خ). والمثبت من تهذيب الكمال 1/ 344. (¬3) بفتح الباء وسكون الغين المعجمة. قال السمعاني في الأنساب 2/ 257: هي بلدة بنواحي بلخ، وظني أنها من طخارستان. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1).

اجتهاده في العبادة بالليل والنهار، ومُواظبته على الحج والجهاد، واضرابه عن مجالس السلطان، وأنه لم يزل على ذلك حتَّى استُشهد بدمشق (¬1). وصنَّفَ الكتبَ المشهورة، وإليه تشدُّ الرِّحال في علل الأخبار ومعرفةِ الرجال (¬2). ذكر وفاته: [واختلفوا في أي مكان تُوفِّي، فحكى الحاكم أبو عبد الله قال: حدثني] محمد بن إسحاق (¬3) الأصبهاني، [قال: سمعت مشايخنا بمصر يذكرون أن أبا عبد الرحمن] فارق مصر (¬4) في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسُئِل عن معاوية وما روي في فضائله، فقال: أما يَرضى معاوية أن يخرج رأسًا برأس حتَّى يُفَضَّل؟ ! وفي رواية: ما أعرف له فضيلةً إلا: "لا أشبعَ اللهُ بطنه" (¬5). وكان يتشيَّع، فما زالوا يدفعون في خُصْيَيه (¬6) حتَّى أخرجوه من المسجد [وفي رواية: يدفعون في خصيه] (¬7) وداسوه، ثمَّ حُمِل إلى الرَّمْلَة فمات بها [في هذه السنة. قال الحاكم: وحدثني علي بن عمر الحافظ -يعني الدارقطني- قال: ، لما امتُحِنَ النسائيُّ بدمشق قال: احملُوني إلى مكَّة، فحُمِل إليها فتوفِّي بها (¬8)، وهو مدفونٌ بين الصفا والمروة، [وكانت وفاتُه في شعبان من هذه السنة]. وقال أبو نعيم: لَمَّا داسُوه بدمشق مات بسبب ذلك الدَّوْس، فهو مقتول. ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 3/ 102. (¬2) بعدها في (م 1): والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليمًا كثيرًا. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): قال محمد بن إسحاق ... (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): فارق النسائي مصر .... (¬5) أخرجه مسلم (2604). قال الذهبي في السير 14/ 130: لعل أن يقال: هذه منقبة لمعاوية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم من لعنته أو سببته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة". أخرجه مسلم (2601) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وانظر شرح النووي لصحيح مسلم 16/ 156. (¬6) في (خ): خصيته. وفي تهذيب الكمال 1/ 339، وسير أعلام النبلاء 14/ 132: حِضنيه. (¬7) ما بين حاصرتين من (ف). وفي الوافي بالوفيات 1/ 77: حضنه. (¬8) بعدها في (خ): في شعبان.

الحسن بن سفيان

[قال: ] وكان قد صنَّف كتابَ "الخصائص" في فضل علي - عليه السلام - وأهل البيت - رضي الله عنه -، وأكثرُ رواياته فيه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، فقيل له: ألَا تصنِّفُ كتابًا في فضائل الصحابة، فقال: دخلتُ دمشق والمنحرفُ عن عليٍّ رضوان الله عليه فيها كثير، فأردت أن يهديهم اللهُ بهذا الكتاب. وكان يصومُ يومًا ويفطر يومًا، وبيان موصوفًا بكثرة الجماع، قال ابن عساكر: وبيان له أربع زوجات يقسم لهنَّ، وسراري. وقال أبو سعيد بن يونس: خرج من مصر سنة اثنتين وثلاث مئة، وتوفِّي بفلسطين سنة ثلاث وثلاث مئة (¬1). وقيل: بالرملة. وقال الدارقطني: امتحن بدمشق، وأدركَ الشهادة. وأسند عن خلقٍ كثير، منهم الإمام أحمدُ بن حنبل، وهشام بن عمار، وغيرهما، وأجمعوا عليه. [وفيها توفي] الحسن بن سفيان ابن عامر بن عبد العزيز بن النُّعمان بن عطاء، أبو العباس، الشَّيباني، النَّسَويّ، الحافظ، مُحدِّث خُراسان في عصره، وإليه كانت الرّحلة بخراسان. وهو من قريةٍ [يقال لها: ] (¬2) بالُوز، على ثلاثة فراسخ من نَسَا. رحل إلى البلاد، وسمعَ الكثير، ولقيَ الشيوخ، وأخذ الأدبَ عن أصحاب النَّضْر بن شُمَيل، وتفقه على أبي ثور [إبراهيم بن خالد]، وكان يُفتي على مذهبه، وصنَّفَ "المسند"، و"المعجم"، و"الجامع"، و"التاريخ"، وغير ذلك، ورَوى مصنفات ابن المبارك وغيرها، [وكان الحاكم أبو عبد الله يقول عن أبي بكر الرازي: ] (¬3) ليس للحسن بن سفيان في الدنيا نظير. ¬

_ (¬1) ورجحه الذهبي في السير 14/ 133. (¬2) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال أبو بكر الرازي.

[ذكر حكايته وحكاية جماعة من الطلبة للعلم مع أحمد بن طولون: وروى أبو الفضل بن ناصر السَّلامي بإسناده عن أبي الحسين الصفَّار قال: ] (¬1) كنا عند الحسن بن سفيان، وقد اجتمعَ إليه طائفةٌ من أهل الفضل، ارتحلوا إليه من البلاد البعيدة لكتابة الحديث، فخرجَ يومًا إلى مجلس إملائه، فقال: اسمعوا ما أقولُ لكم قبل أن نشرع في الإملاء، وقد علمنَا أنَّكم طائفةٌ من أبناء (¬2) النِّعم، هجرتُم أوطانَكم، وفارقتم ديارَكم وأصحابكم في طلب العلم، فلا يخطرنَّ ببالكم أنَّكم قضيتم بهذا التجشُّم للعلم حقًّا، ولا أدَّيتم له من المشقَّة فرضًا، وأنا أحدِّثكم ببعض ما تحمَّلتُه من المَشَقَّة: ارتحلنَا إلى شيخٍ من أهل مصر، فأقمنَا نسمعُ عليه الحديثَ، فنَفِدَت نفقاتُنا، وبعنَا جميع ثيابنا، وأفضَى بنا الحالُ إلى أنْ طوينَا ثلاثةَ أيامٍ بلياليهن، وأصبحنَا في اليوم الرابع وليس بنا حَرَاكٌ من الجوع، ولم يبقَ حيلةٌ إلَّا الخروج إلى [سؤال] الناس، فكتبنا رقاعًا فيها أسامينا، واقترعنَا على من يتولَّى السؤال، فخرجتِ القرعةُ على اسمي، فتحيَّرتُ ولم تسمح نفسي بذلك، فعدلتُ إلى زاويةٍ في المسجد الَّذي كنَّا فيه، وصلَّيتُ ركعتين، وسألتُ الله بأسمائه العظام وكلماته الرفيعة، فلم أستتمَّ دعائي حتَّى دخل المسجد خادمٌ في يده منديل، فقال: من منكم الحسن بن سفيان؟ فرفعتُ رأسي من السجدة وقلت: أنا، فقال: إنَّ الأمير [أحمد] بن طولون صاحبي يقرئكُم السلام، ويعتذرُ إليكم من الغفلة عن تفقُّد أحوالكم والتقصيرِ في حقوقكم، وهو زائرُكم غدًا بنفسه. ووضع بين يدي كلِّ واحدٍ منَّا صُرَّةً فيها مئة دينار، وكنَّا ثلاثة، فقلت له: فما سببُ هذا؟ ومن أين يعرفنا الأمير؟ ! فقال: حدَّثني أنَّه أتاهُ البارحة في المنام فارسٌ وبيده رمحٌ، فوضعه على خاصرته، وقال: قم فأدرك الحسنَ بن سفيان وأصحابَه، فإنَّهم منذ ثلاث ما أكلوا، وهم في المسجد الفلانيّ، قال ابن طولون: فقلت: من أنت؟ قال: رضوان خازنُ الجنان، قال: فلمَّا أصبح [ابن طولون] دعاني وأخبرني الخبر، وقال: منذُ وَضعَ الرمحَ على خاصرتي أصابني وجعٌ شديد، فعجِّل بإيصال المال إليهم ليزولَ الوجع عنِّي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): قال أبو الحسن الصفار: كنا عند. (¬2) في (ف) و (م 1): أهل.

رويم بن أحمد

قال الحسن: فتعجَّبنا من ذلك، وخرجنا [من] تلك الليلة من مصر؛ لئلَّا يزورنا ابنُ طولون، فيكون ذلك سببًا لارتفاع اسمنا وانبساط جاهنا، ويتَّصل بذلك [نوع] رياءٍ وسُمعةٍ، فلمَّا أصبحَ ابن طولون جاء إلى [ذلك] المسجد ليزورنا، فلم يرنا، فابتاعَ تلك المحلَّة [بأسرها]، وأوقفَها على المسجد وعلى من ينزلُ به من الغرباء وطلبة العلم؛ لئلَّا يصيبهم من الخَلل ما أصابنا، وذلك كلُّه لقوَّة الدين، وصفو الاعتقاد، وأصبحَ كلُّ واحدٍ منَّا أوحدَ عصره وفريدَ دهره في العلم والفضل (¬1). [وهي حكايةٌ طويلةٌ اختصرتها. قال الخطيب: وكانت وفاة الحسن في هذه السنة، وقيل: بنيسابور.] سمع الحسنُ الإمامَ أحمدَ رحمة الله عليه، وابنَ مَعين، وهشام بن عمَّار وغيرهم. وروى عن (¬2) إسحاق بن راهَويه، والقَواريري، وغيرهما. واتفقوا على فضله وزهده وصدقه وثقته (¬3). [وفيها توفي] رُوَيْم بن أحمد وقيل: ابن محمد بن يزيد (¬4)، أبو محمد، وقيل: أبو الحسن، وقيل: أبو الحسين، البغدادي، الصُّوفي. قرأ القرآن [على جدِّه يزيد بن رويم وغيره]، وكان عارفًا بمعانيه، وتفقَّه على مذهب داود بن علي الظَّاهري. ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 158 - 161، وتاريخ دمشق 4/ 453 - 455 (مخطوط) وأوردها الذهبي في السير 14/ 161 مختصرة والأمير عنده طولون، ثم قال: فالله أعلم بصحتها، ولم يلِ طولون مصر، وأمَّا ابنه أحمد بن طولون فيصغر عن الحكاية، ولا أعرف ناقلها، وذلك ممكن. اهـ. وما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬2) في (خ): عنه. وهو خطأ. انظر المنتظم 13/ 157، وتاريخ دمشق 4/ 450، وسير أعلام النبلاء 14/ 157. (¬3) هذا نص الكلام فيمن روى عنه الحسن بن سفيان في (خ)، ووقع في (ف) و (م 1): سمع بخراسان حِبَّان بن موسى، وإسحاق بن إبراهيم، وقتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، وآخرين، وسمعَ ببغداد أحمد بن حنبل وغيره، واتَّفقوا على فضله وصدقه وثقته. (¬4) في (ف) و (م 1) والمنتظم: وقيل: ابن محمد بن رويم بن يزيد. وفي تاريخ بغداد 9/ 428، وسير أعلام النبلاء 14/ 234: وقيل: رويم بن محمد بن يزيد بن رويم بن يزيد. وقال ابن خميس في مناقب الأبرار 1/ 368: رويم بن أحمد. أصح.

وكان مُجرَّدًا من الدنيا، ثمَّ ترك ذلك. وقال أبو عمرو الزَّجَّاجي: نهاني الجنيدُ أن أدخلَ على رُويم، فدخلتُ عليه يومًا، وكان قد دَخلَ في شيءٍ من أمور السلطان، فدخل الجنيدُ فرآني عنده، فلمَّا خرجنا قال لي: كيف رأيت؟ قلت: لا أدري، قال: إن الناس يتوهمون أن هذا نقصانٌ في حالهِ ووقته، وما كان رويم أعمرَ وقتًا منه في هذه الأيَّام، ولقد كنت أصحبه بالشُّونيزيَّة في حالة الإرادة، وكنت معه في خرقتين، وهو الساعة أشدُّ فقرًا منه في تلك الحالة وتلك الأيام (¬1). [وحكى القاضي التنوخي بإسناده إلى جعفر الخُلْدي قال: ] (¬2) من أراد أن يستكتم سرًّا، فليفعل كما فعل رويم (¬3)، كتم حبَّ الدنيا أربعين سنة [فقيل له: وكيف يتصور ذلك؟ قال: ] وَلِيَ إسماعيلُ بن إسحاق [القاضي] قضاءَ بغداد، وكانت بينهما مودَّةٌ أكيدة، فجذبه إليه [وجعله وكيله على بابه] (¬4)، فترك لبس الصوف، ولبس الخزَّ والقَصَبَ والدَّبيقيّ، وأكلَ الطيبات، وبنى الدور، وإذا هو كان يكتمُ حبَّ الدنيا ما لم يجدها، فلمَّا وجدَها أظهرَ ما كان يكتم من حبها. [ويقال: إنَّه وليَ القضاء ببغداد. وهو وهم. والأصحُّ أنَّه كان وكيلًا كما ذكر الخطيب. وذكر ابن خَميس في "المناقب" قال] (¬5): لَمَّا دخلتُ بغداد قَصدتُ رُويمًا وقد وَليَ القضاء، فدخلتُ عليه، فرحَّب بي وأدناني وقال: ما تقول الصوفيَّة فيّ؟ قلت: لا أدري، فقال: بلى، يقولون: رجعَ إلى الدنيا، فبينا هو يحدِّثني إذ دخلَ ابنٌ له صغير، فقعد في حجره، فقال رويم: لو كُنْتُ أرى [فيهم] من يكفيني مؤونة هذا الطفل ما دخلتُ فيما دخلتُ فيه، ولكن شُغْل قلبي بهذا وأمثاله هو الَّذي أوقعني فيما وقعتُ فيه. ¬

_ (¬1) من قوله: وقال أبو عمرو الزجاجي ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). وانظر تاريخ بغداد 9/ 430، والمنتظم 13/ 162. (¬2) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال جعفر الخلدي. (¬3) في نشوار المحاضرة 3/ 120: فليستكتم رويم. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬5) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1)، وفي (خ): وقال رويم.

وقال في "المناقب": صلَّى رويم صلاةَ الغداة بوضوء العشاء الآخرة عشرينَ سنة (¬1). [قلت: ولرويم الواقعاتُ الحسنة والكلامُ المليح، فمن ذلك ما حَكى عنه في "المناقب" أنَّه قال: ] (¬2) اجتزتُ ببغداد في وقت الهاجرة في بعض السِّكَك وأنا عطشان، فاستسقيتُ ماءً من دار، ففتحت الباب صبيَّةٌ وبيدها كوز، فلمَّا رأتني قالت: يا أمَّاه صوفيٌّ يشرب (¬3) بالنهار. فما أفطرتُ بعد ذلك. [وحكى عنه في "المناقب" أيضًا أنَّه قال: ] (¬4) قف على البساط، وإيَّاك والانبساط، واصبر على ضرب السِّياط، [حتى] تجوز الصّراط، وأنشد: [من المنسرح] صَبْرًا جميلًا ما أقربَ الفَرَجا ... مَن صَدقَ اللهَ في الأمورِ نجَا مَن خشيَ الله لم يَنَلْهُ أذًى ... ومن رَجا اللهَ كان حيثُ رجَا وأنشد أيضًا يقول: [من الكامل] لو كُنْتِ عاتبةً لَسَكَّن عبرتِي ... أملي رضاكِ وزُرْتُ غيرَ مُرَاقَبِ لكن صددتِ (¬5) فلم يكن لي حيلةٌ ... صدُّ المَلولِ خلافُ صدِّ العاتبِ (¬6) [وحكى الخطيب عنه أنَّه قال: ] منذ عشرين سنة لم يخطر بقلبي ذكرُ الطَّعام حتَّى يحضر. [وحكى الخطيب عنه أنَّه قال] (¬7): الفقر له حُرمة، وحُرْمَتُه سترُه وإخفاؤُه والغيرةُ عليه، فمن كشفَه وأظهرَه فليسَ هو من أهله، ولا كرامة (¬8). [وحكى ابن باكويه عنه أنَّه قال] (¬9): إذا وهبَ اللهُ لك مقالًا وفعالًا، فأخذَ منك ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 1/ 372. (¬2) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال رويم. (¬3) في (ف) و (م 1): يفطر. وانظر مناقب الأبرار 1/ 369. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال. (¬5) في طبقات الصوفية ص 183: مللت. وفي مناقب الأبرار 1/ 370: ملكت. (¬6) من قوله: وأنشد أيضًا ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). (¬7) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال. (¬8) تاريخ بغداد 9/ 429. (¬9) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال. ..

زهير بن صالح

المقال، وأبقى [عليك] الفعال فلا تبالي، فإنَّها نعمةٌ، وإن أخذ [منك] الفعال وترك عليك المقال فإنَّها مصيبة (¬1)، وان أخذهما منك فاعلم أنَّها نقمة. توفي رويم ببغداد، ودُفِنَ بالشونيزيَّة. أسند الحديث عن يزيد بن سنان البصري وغيره (¬2). زُهير بن صالح ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، توفِّي وهو حَدَث (¬3) في شعبان (¬4)، روى عن أبيه صالح، وروى عنه أبو بكر النَّجَّاد (¬5). عليُّ بن محمد ابن نَصْر (¬6) بن بسَّام، الشاعر، البغدادي (¬7). قال في أبيه أبي جعفر محمد بن نصر: [من البسيط] بنى أبو جعفر دارًا فشيَّدَها ... ومثلُهُ لخيارِ الدُّورِ بنَّاءُ فالجوعُ داخلها والذُّلُّ خارجها ... وفي جوانبِها بؤسٌ وضرَّاءُ ما ينفعُ الدارَ من تشييد حائطِها ... وليسَ داخلها خبزٌ ولا ماءُ (¬8) وقال في الوزير ابن مَخْلَد: [من الوافر] سَجَدْنَا للقرودِ رجاءَ دُنيا ... حَوَتْها دونَنا أيدي القرودِ ¬

_ (¬1) تحرفت في (ف) و (م 1) إلى: معصية. (¬2) انظر ترجمته أيضًا في حلية الأولياء 10/ 296، وصفة الصفوة 2/ 442، وطبقات الأولياء ص 228. (¬3) قوله: وهو حدثٌ. وهمٌ تابع فيه المصنف جدَّه ابن الجوزي في المنتظم 13/ 163، لأن صالحًا أباه توفي سنة 265 هـ، وزهير حدَّث عن أبيه -كما ذكر المصنف- فإن كان سماعه منه لأقل سنِّ السماع، فيكون سماعه منه حوالي سنة 255 هـ. (¬4) في تاريخ بغداد 9/ 514، والمنتظم 13/ 163 أنَّه توفي في ربيع الأول. (¬5) هذه الترجمة لم ترد في (ف) و (م 1). وانظر ترجمته أيضًا في طبقات الحنابلة 2/ 49. (¬6) اسمه كما في تاريخ بغداد 13/ 529: علي بن محمد بن منصور بن نصر. (¬7) وكذا أورده في وفيات هذه السنة المسعودي في مروج الذهب 8/ 257. وفي تاريخ بغداد 13/ 530، ومعجم الأدباء 14/ 140، وسير أعلام النبلاء 14/ 113 أن وفاته كانت سنة اثنتين وثلاث مئة. (¬8) مروج الذهب 8/ 257.

محمد بن عبد الوهاب

فما رجعَ السجودُ لنا بشيءٍ ... ربحناهُ سوى ذلِّ الخدودِ (¬1) وكان الغالبَ على شعره الهجو (¬2). محمد بن عبد الوهاب أبو عليّ، الجُبَّائي، المُتَكَلِّم مولى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬3) إمام المُعتزلة. ولد سنة خمس وثلاثين ومئتين، وتوفِّي في شعبان (¬4). [وفيها توفي] محمد بن خالد الآجُرِّيُّ البغداديُّ [و] كان عبدًا صالحًا [حكى الخطيب عنه أنَّه] قال: هيّأتُ اللَّبِن لأطبخه من الغد آجُرًّا، فسمعت لَبِنَةً تقول لأختها: يا أختي السلام عليك، غدًا ندخل النار، فانظري كيف تكونين. فهامَ الآجريُّ على وجهه (¬5). قال المصنف رحمه الله (¬6): وقد وقع هذا الاسم -وهو الآجري- في [الحكايات و] الروايات كثيرًا من غير فصل [بين رجل ورجل]، والحاصلُ أنَّهم أربعة؛ أحدهم [صاحب هذه الترجمة] (¬7)، والثاني: أبو إسحاق إبراهيم الآجُريُّ، [ولا يعرف اسم أبيه]، وهو الَّذي كان ليهوديٍّ عليه دينٌ، فجاءه يتقاضاه، وهو يوقدُ أتون الآجُرّ، فقال له: ويحك! أسلم لئلَّا تدخل النار (¬8)، فقال اليهودي: أنا رأيتُ لا بدَّ لنا من دخولها، ¬

_ (¬1) مروج الذهب 8/ 265. (¬2) لم ترد هذه الترجمة في (ف) و (م 1). (¬3) كذا في (خ). وهو اختصار مخل. والصواب -كما في المنتظم 13/ 164 - : محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان، أبو علي الجبائي المتكلم. (¬4) لم ترد هذه الترجمة في (ف) و (م 1). (¬5) انظر سياق الخبر في تاريخ بغداد 3/ 132 - 133، والمنتظم 13/ 164 - 165. وهو فيهما مغاير لما ذكره المصنف هاهنا. وما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬6) في (ف) و (م 1): قلت. (¬7) في (خ): هذا. والمثبت وما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬8) بعدها في (ف) و (م 1): فقال: أنا وأنت، قال: ولم؟ قال: لأنكم تقرؤون ...

محفوظ بن محمود النيسابوري

قال: ولم؟ قال: لأنَّكم تقرؤون في كتابكم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فإنْ أحببتَ أن أسلم فأرني شيئًا أعرفُ به شرفَ الإسلام، فقال: هات رداءك، فأخذه ولفَّه في رداء نفسه، وألقاهُ في النار ساعةً، ثمَّ قام [الآجُرِّيُّ] باكيًا واجدًا، ودخل الأتون وهو يتأجَّج نارًا، فأخرج الرداءين وقد احترق رداءُ اليهوديّ، ورداؤه لم يحترق، فقال: هكذا يكون الدخول، أسلم أنا وتحترق أنت، فأسلم اليهودي [وهذا الآجُرِّيُّ لم أقف على تاريخ وفاته] (¬1). والثالث: الآجُرِّيُّ الكبير، واسمُه محمد بن الحسين، وكنيتُه أبو بكر، مات [في] سنة ستين وثلاث مئة، وكان من كبار القوم (¬2). والرابع: [أبو بكر] الآجريّ، مُحَدِّث مشهور (¬3) [نذكره إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده] (¬4). مَحْفوظ بن محمود النَّيسابوري أحد المشايخ الصالحين. صحب أبا حَفْص النيسابوري وغيره. وقال: من أبصر محاسنَ نفسه ابتُلِي بمساوئ الناس. وقال: التائبُ الَّذي يتوبُ من غَفَلاته وطاعاته. وقال: أكثرُ الناس خيرًا أسلمُهم صدرًا للمسلمين. وقيل: مات سنة أربع وثلاث مئة، ودُفن إلى جانب أبي حَفْص بنَيسَابور، وكان جليلًا (¬5). * * * ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 7/ 171، وما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬2) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 3/ 35. (¬3) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 5/ 209. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬5) طبقات الصوفية ص 273، وحلية الأولياء 10/ 351، وطبقات الأولياء ص 370.

السنة الرابعة وثلاث مئة

السنة الرابعة وثلاث مئة فيها عاد نصر الحاجب من الحج في المحرم، ومعه العلويُّ الَّذي كان يقطعُ الطريقَ على الحج مأسورًا، فحُبس في المُطْبِق. وفي ربيع الآخر غزا مؤنسٌ الخادم بلادَ الروم من ناحية مَلَطْية، وكتب إلى أمراء الأطراف يوافونَه إلى الدَّرْب، فوافاه عليُّ بن أحمد بن بسطام من طَرَسُوس، ففتحَ مؤنسٌ حصونًا كثيرة، وأثر آثارًا جميلة، وعاد إلى بغداد، فخَلَع عليه المقتدر. وفي جمادى الأولى توفِّي عبد الوهاب بن علي بن عيسى [الوزير، وأخو الوزير داود بن عيسى، ومات زيادةُ الله بن الأغلب والي إفريقية]. وفي شوال ماتَ محمد بن إسحاق بن كُنداجيق بالدِّينوَر، وكان متقلِّدًا لها، وصادر عليُّ بن عيسى ورثتَه على ستين ألف دينار مُعَجَّلة (¬1). وفيها فزع الناس ببغداد من حيوان يسمى الزَّبْزَب، ذكروا أنَّهم يرونه في الليل على أسطحتهم، وأنه يأكُل أطفالهم، وربما قطعَ يدَ الإنسان وهو نائم، وثديَ المرأة، فيأكله، وكانوا يتحارسون طول الليل ولا ينامون، ويضربون [الطُّسوت و] الصواني والهواوين؛ ليُفزعوه فيهرب، وارتجَّت بغداد من الجانبين، وأصلحَ الناسُ لأطفالهم مكابّ من سَعَفٍ يُكِبُّونَها (¬2) عليهم بالليل، ودام ذلك عدَّة ليال، فأخذَ السلطانُ حيوانًا أبلق كأنَّه من كلاب الماء، وذكر أنَّه الزبزب، وأنَّه صِيدَ فصلب عند الجسر الأعلى بالجانب الشرقي، فلم يغن ذلك شيئًا إلى أن انبسطَ القمر، وتبيَّن للناس أنَّه لا حقيقة لما توهَّموه، فسكنوا، إلَّا أنَّ اللصوصَ وجدوا فرصةً بتشاغل الناس [في سطوحهم]، فكثُرت النُّقوب والعملات (¬3). ¬

_ (¬1) انظر أوراق الصولي ص 111 (ما لم ينشر منها)، وصلة تاريخ الطبري ص 60 - 61. (¬2) في (ف) و (م 1): يكفونها. (¬3) المنتظم 13/ 167، وانظر تكملة تاريخ الطبري ص 210، والكامل 8/ 105. وما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1).

وفي ذي الحجَّة قبضَ المقتدرُ على أبي الحسن علي بن عيسى الوزير. [قال ثابت بن سنان: كان علي بن عيسى] قد ثقُل (¬1) عليه أمر الوزارة، وتضجَّر [في الأوقات] من سوء أدب الحاشية، وكثرة المطالبة، واستعفَى من الوزارة مرارًا، [فيخاطب المقتدر، فينكر] (¬2) عليه ذلك؛ لعدله، ودينه، وحسن سياسته [للرعيَّة]، واستقامة الأمور في أيامه، إلى أن اتفقَ أنَّ أمَّ موسى القَهْرَمانة جاءت إليه في آخر ذي القعدة (¬3) لتوافقه على ما يطلق (¬4) في عيد الأضحى للحرم والحاشية، فوجدتهُ مُحْتَجِبًا، فلم يجسر عليه حاجبه [أن يستأذنه لها]، فصرفَها صرفًا جميلًا، فغضبت، وعلم الوزير فأرسلَ خلفَها من يردُّها، فأبت، وصارتْ إلى السيدةِ والمقتدر فأغرتهما به، وتخرَّصت عليه الكذب، فصرفَه يوم الاثنين لثمانٍ خلونَ من ذي الحجَّة عند ركوبه إلى دار الخلافة، ولم يتعرَّض لشيءٍ من أسبابه وأمواله وضياعِه، ولا لأحدٍ من أصحابه (¬5)، واعتُقِلَ عند زيدان القهرمانة، فكانت وزارتُه ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية عشر يومًا. وأُعيد أبو الحسن عليُّ بن الفرات إلى الوزارة، وخُلِع عليه يوم التروية سبعُ خلع، وحُمل إليه من دار الخلافة ثلاثُ مئة ألف درهم، وعشرونَ خادمًا، وثلاثون دابَّة لركوبه، وخمسونَ لغلمانه، وخمسون بغلًا لثقله، وعشرة تخوت من ثياب وغيرها، وركبَ مؤنس الخادم بين يديه والقواد والخاصة، فصار إلى داره بسوق العَطَش، ورُدَّت عليه ضياعُه وأسبابُه، وأقطع الدار التي بالمخرِّم، [فسكنها]. وسقي الناسُ في داره في ذلك اليوم والليلة أربعونَ ألف رطلٍ من الثلج، وكان بين اعتقاله و [بين] رجوعه إلى الوزارة خمسُ سنين وأربعةُ أيام. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وكان قد ثقل ... (¬2) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): فتنكر المقتدر. (¬3) في (ف) و (م 1): في آخر عمره. وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬4) في (ف): يصلح. وفي (م 1): يطلب. (¬5) سيذكر المصنف في الصفحة التالية مصادرة أخوي عليِّ بن عيسى، ومصادرة بعض أصحابه.

وسمع بعض العوام يقول: والك، خذ إليك، أخذوا منَّا مُصحفًا، وأعطونا طُنبورًا، وبلغ ذلك المقتدر، فكان ذلك سببًا للإحسان إلى عليِّ بن عيسى، حتَّى أُطلِق من الحبس (¬1). [قال ثابت بن سنان: ] وكتب عن المقتدر إلى الأطراف كتبًا يخبرهم [فيها] بإعادةِ ابن الفرات إلى الوزارة بألفاظٍ أنشأها أبو الحسن محمد بن جعفر بن ثَوابة، منها: ولَمَّا لم يجد أميرُ المؤمنين بدًّا منه، ولم يكن للملك غنًى عنه، انتضاه من غِمده، فعاودَ ما عرف من حدِّه، [ودبَّر الأمور كأن لم يخلُ منها، وأمضاها كان لم يزل عنها، إذ كان] (¬2) الحُوَّل القُلَّب (¬3)، والمُحَنَّك المُجَرَّب، الدَّرِب الخبير بِدَرَّة المال كيف تُحلب، ووجوهه من أين تُطلب، وكان الكُتَّاب على اختلاف طبقاتهم، وتباينِ مقاديرهم، يحتكمون إليه إذا اختلفوا، ويقفون عنده إذا استبقوا، وكان هذا الأمر حقًّا من حقوقه، استعير منه، ثم رُدَّ إليه (¬4). وكلامًا هذا معناه. وقبضَ ابنُ الفرات على إبراهيم وعبيد الله ابني عيسى لَمَّا قبض على أخيهما عليِّ بن عيسى، فصادر إبراهيم على ستين ألف دينار، وعبيد الله على خمسين ألف دينار (¬5)، من غير أن ينالهما بمكروه، ثمَّ صرفهُما إلى منازلهما، وصادر بعضَ أصحاب علي بن عيسى مصادرةً جميلة. وفيها عصَى يوسفُ بن أبي السَّاج على المقتدر، واستولى على بلاد إرمينية وأَذْرَبيجان، فبعث إليه مؤنس الخادم، فظفر بيوسف فأخذهُ أسيرًا بعد حرب طويلة (¬6). [قال ثابت بن سنان: ] وخرج أمر المقتدر إلى [أبي الحسن] ابن الفرات في أوَّل ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 167. (¬2) ما بين حاصرتين من الفرج بعد الشدة 2/ 51. (¬3) الحُوَّل القُلَّب: أي المحتال البصير بتقليب الأمور. انظر مختار الصحاح (حول)، (قلب). (¬4) انظر الفرج بعد الشدة 2/ 51، وطبقات الأدباء 18/ 97 - 98. (¬5) في تكملة تاريخ الطبري ص 215: أن إبراهيم صودر على خمسين ألف دينار، وعبيد الله صودر على ستين ألف دينار. (¬6) من قوله: منها: ولما لم يجد أمير المؤمنين بدًّا ... إلى هنا ليس في (ت) و (م 1).

زيادة الله بن عبد الله

وزارته أن يقلد سنان بن ثابت الطبيب أمرَ جميع المارستان بمدينة السلام، وكانت خمسةً من الجانبين، ومارستان مكة والمدينة وطَرَسُوس، وقيل: كان ببغداد أربعُ مارستانات سوى مارستان عليِّ بن عيسى الوزير (¬1). وحجَّ بالناس الفضل بن عبد الملك [أيضًا]. وفيها توفي زيادة الله بن عبد الله ابن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب، أبو نَصْر، وقيل: أبو منصور، صاحبُ القيروان. [ذكره الحُميدي في "تاريخ المغرب" قال: ] (¬2) ويقال له: زيادةُ الله الأصغر، وجدُّ جدِّه [يقال له: ] زيادة الله الأكبر. [و] قال الصوليّ: وهو من ولد الأغلب بن عمرو المازنيّ، وكان عمرو من أهل البصرة، ولَّاه الرشيدُ المغربَ بعد موت إدريس بن عبد الله بن حسن، فأقامَ بها حتَّى توفي وخلف ابنُه الأغلب بن عمرو، ثمَّ وليها أولاده صاغرًا عن كابر، حتَّى صار الأمرُ إلى زيادة الله هذا، [وهو الأصغر]. وقال الحميدي: [و] لهم بإفريقية آثارٌ عظيمة، حتَّى قيل إنَّهم بنوا بأرضها ثلاثينَ حصنًا، وبنى إبراهيمُ جدُّ زيادة الله المَحَارِسَ على سواحل البحر، حتَّى كانت النيران توقدُ في ليلةٍ واحدةٍ من طنجة فتصلُ إلى الإسكندرية، [وذكر] (¬3) الصولي: كان العباس بن الحسن وزير المكتفي قد كاتب زيادةَ الله الأصغر وراسله، ورغَّبَه في الطاعة، فأجاب، وبعث إلى المكتفي بهدايا وخدمٍ وخيلٍ وطِيبٍ وثيابٍ [ودراهم] ودنانير، [في] كل دينار عشرة دراهم (¬4)، [وفي كل درهم عشرة دراهم] (¬5)، وكتب على الدينار ¬

_ (¬1) بعدها في (ف): المحارمات محول. وفي (م 1): المحار بباب نحول. ومارستان علي بن عيسى بناه في الحربية كما في المنتظم 13/ 151. (¬2) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): قال الحميدي. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال. (¬4) كذا، وفي تاريخ دمشق 6/ 464 (مخطوط)، والوافي بالوفيات 15/ 19: في كل دينار عشرة دنانير. (¬5) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): ودراهم كل درهم عشرة دراهم.

والدرهم من الجانبين؛ أمَّا الجانب الواحد: [من الكامل] يا سائرًا نحوَ الخليفةِ قل له ... أنْ قد كفاكَ اللهُ أمرك كلَّه بزيادةِ الله بن عبدِ الله سيـ ... ـفِ الله من دونِ الخليفةِ سَلَّهُ وعلى الجانب الآخر: [من الكامل] لا يَنبري لك بالشِّقاقِ مُنافقٌ ... إلَّا أباحَ حَريمَه وأذلَّهُ من لا يرى لك طاعةً فالله قد ... أعماه عن سُبلِ الهُدى وأضلَّهُ فاتَّفقَ موتُ رسوله ببغداد. ثمَّ ورد زيادةُ الله إلى مصر مُنهزمًا من عبيد الله العلوي الخارج بالمغرب، فكتبَ العباسُ بن الحسن إلى ابن بسطام بأن يكرمه ويقيم له الأنزال (¬1)، ويقيمَ عنده، فأقامَ [عنده] شهورًا، ثمَّ توفِّي في هذه السنة [وهذا قولُ الصولي]. وأمَّا في تواريخ المغاربة؛ فإنَّ زيادة الله إنَّما دخلَ الشام [في] سنة اثنتين وثلاث مئة، حين غُلِب [على] ملكه بإفريقية، وقَصدَ بغداد، فردّ [من] دمشق إلى مصر، فمات بالرملة في هذه السنة. وقال ثابت: نزلَ بالرقَّة وماتَ بها [والأصح: بالرملة]. وقال الصوليّ: كان لزيادةِ الله ولدٌ اسمه خَطَّاب [وكان من أحسن ما يكون من الشباب، ومن جماله أنهم كتبوا اسمه على السِّكَك] (¬2)، بلغَ أباه عنه ما يكره، فقيَّده بقيدٍ ثقيلٍ من ذهب وحبسَه، وكان يحبُّه، وكان عبدُ الله بن الصائغ على البريد، [دخل يومًا على الغلام] (¬3)، فرآه مقيَّدًا، فكتب إلى أبيه زيادةِ الله يقول: [من البسيط] يا أيُّها الملكُ المَيمون طائرُه ... رفقًا فإنَّ يدَ المَعْشوقِ فوقَ يدكْ كم ذا التجلُّد والأحشاءُ واجفةٌ ... أعيذُ قلبكَ أنْ يسطو على كبدِكْ فطربَ زيادةُ الله، وفكَّ القيدَ من رجلِ ولده، وأعطى القيدَ لعبد الله بن الصائغ، ورضيَ عن ولده. ¬

_ (¬1) الأنزال: جمع نُزْل، وهو ما يهيّأ للنَّزيل. لسان العرب (نزل). (¬2) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): من أجمل الشباب وأحسنهم. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): فدخل عليه.

يموت بن المزرع

يَموت بن المُزَرِّع ابن يَموت، أبو بكر، العَبْديّ، من عبد قيس، أبو بكر. بصريٌّ رحلَ عن البصرة، وقدم بغداد سنةَ إحدى وثلاث مئة، وهو شيخ كبير، ثمَّ خرجَ إلى دمشق، وأقام بطَبَرَيّة، ومات بها سنة ثلاث وثلاث مئة، وقيل: هذه السنة (¬1). وكان صاحب مُلَحٍ وآداب، وهو ابن أخت أبي عثمان الجاحظ. وقيل: اسمه محمد، والغالبُ عليه يموت، وكان إذا عادَ مريضًا يُسْقِطُ يموت، ويقول: ابن المُزرِّع. حدَّث عن المازنيّ وغيره، وروى عنه الخرائطي وغيره. ومن رواياته عن ابن عباس قال: ما صرفَ الله سليمانَ عن الهُدهد إلا ببرِّ الهُدهد لأمِّه. وكان ثقةً. وفيه يقول الشاعر: [من مجزوء الرمل] أنت تَحيى والذي يكـ ... ـرهُ أنْ تحيى يموتُ أنتَ صِنْو النفس بل أنـ ... ـتَ لروحِ النفسِ قوتُ أنتَ للحكمة بيتٌ ... لا خلت منكَ البيوتُ (¬2) [وفيها توفي] يوسف بن الحسين بن علي أبو يعقوب، الرَّازي، شيخُ الرَّيّ والجبال في وقته. [و] كان أوحدَ زمانه في طريقته، عالمًا ديِّنًا، وطريقته إسقاط الجاه، وتركُ التصنُّع، واستعمال الإخلاص. أثنى عليه الأئمَّة، فقال السُّلمي: هو إمامُ وقتِه، لم يكن في المشايخ مثلُ طريقته في تذليلِ النفس وإسقاطِ الجاه. ¬

_ (¬1) هو قول أبي سعيد بن يونس المصري. انظر تاريخ بغداد 16/ 525. (¬2) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 16/ 523، ووفيات الأعيان 7/ 53، والمنتظم 13/ 172، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 64. ولم ترد هذه الترجمة في (ف) و (م 1).

[و] قال القشيريّ: كان نسيجَ وحده (¬1) في إسقاط التصنُّع، وهو القائل: لأن ألقَى الله بجميع المعاصي أحبُّ إليَّ من أن ألقَاه بذرَّةٍ من تصنُّع (¬2). [وأثنى عليه ابن باكويه، وابن جهضم، وأبو نعيم، وصاحب "المناقب"، وغيرهم]، وكان كثيرَ السياحة، قد كتب على عُكَّازه: [من السريع] سر في بلاد الله سيَّاحا ... وابك على نفسِكَ نوَّاحَا وامشِ بنور الله في أرضِه ... كفَى بنورِ الله مِصْباحَا وهو صاحب واقعةِ الفأرة مع ذي النون، وقد سألَه يعلِّمه الاسمَ الأعظم، وقد ذكرناها (¬3). [وحكى في "المناقب" عن أبي حسين الدرَّاج قال: ] (¬4) خرجتُ من بغداد إلى الرَّيّ قاصدًا زيارة يوسف بن الحسين، [قال: ] فدخلتُ الرَّيّ، فسألتُ عن منزله، فكلُّ من سألتُه عنه يقول: إيش تصنعُ بذلك الزنديق؟ [قال: ] فضيَّقوا صدري، وعزمتُ على أن أنصرفَ ولا أراه، فبتُّ بمسجدٍ، ثم أفكرت وقلت: وصلتُ إلى هنا ولا أراه! فأتيتُه وهو قاعدٌ في محراب مسجده، وبين يديه مصحف وهو يقرأ فيه، فسلَّمتُ عليه، فردَّ وقال: من أين أنت؟ قلت: من بغداد، أتيتُ لزيارة الشيخ، فقال [لي: ] لو قال لك أحدٌ في بعض البلدان: أقم عندي حتَّى أشتريَ لك دارًا وجاريةً، أكان يمنعُك ذلك من زيارتي؟ فقلت: ما امتحنني اللهُ بشيءٍ من ذلك، ثم قال: أتحسنُ أن تقول شيئًا؟ قلت: نعم، فقال: [قل]، فقلت: [من الطويل] رأيتُك تبني دائبًا في قطيعتي ... ولو كنتَ ذا حَزْمٍ لهدَّمتَ ما تبنِي فأطبقَ المصحفَ وبكى حتَّى بلَّ ثوبَه ولحيته، فرحمتُه من كثرةِ بكائه، ثمَّ قال: تلومُ أهلَ الرَّيّ إذا قالوا عني: [إني] زنديق، وأنا من وقت صلاة الصبح أقرأ في المصحف، إلى [هذه] الساعة لم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت عليَّ القيامة بهذا البيت (¬5). ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): كان شيخ وقته. (¬2) الرسالة القشيرية ص 97. (¬3) من قوله: وهو صاحب واقعة ... إلى هنا، ليس في (ف) و (م 1). وما سلف بين حاصرتين منهما. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقال أبو الحسين الدراج. (¬5) مناقب الأبرار 1/ 405، وانظر تاريخ بغداد 16/ 466.

[قلت: لا بأس على يوسف في هذا، فإنَّ الرِّقَّةَ تحصلُ تارةً بسماع القرآن، وتارةً بسماع الشعر، على قدر الأحوال والأوقات، والقلوب بيد الله تعالى يقلبها كيفما شاء، والقرآن جدٌّ كله فيحتاج إلى حال وقت. ذكر] (¬1) نبذة من كلامه (¬2): [حكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: أكثرُ الناسِ حبًّا للدنيا أكثرُهم لها ذمّا عند أبنائِها؛ لأنَّ ذمَّهم لها حرفةٌ عندهم (¬3). وقال: لو طرقتِ التوبةُ بابي ما أذنتُ لها، عَلى أنِّي (¬4) أنجو بها من ربِّي، ولو أنَّ الصدقَ والإخلاصَ كانا عبدين لي لبعتُهما؛ لأنِّي إن كنت في علم الله سعيدًا لم أتضرَّر مع السعادة، وإنْ كُنْتُ عنده شقيًّا محرومًا لم تنفعني توبتي ولا صِدقي، فاعتمادي على الله أولَى من اعتمادي على صفاتي المدخولة، وأفعالي المعلولة (¬5). [قال: ] وسُئِل عن معنى قوله - عليه السلام -: "يا بلالُ، أرحنا بها" (¬6)، فقال: معناه: أرحنا بالصلاة من أشغال الدنيا وحديثها؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام كانت قرَّةُ عينه في الصلاة (¬7). وقال: عينُ الأمل عوراء، [وفي رواية: عين الهوى]. وسئل عن السماع فقال: أودع الله الأسرار والعقول لطائف الإقرار يوم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] وتلك اللطائف تنيل كلَّ نعمةٍ طيبةٍ وشيءٍ مُسْتَحسَنٍ، فإذا سمعته أو رأته اضطربت (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬2) وقعت هذه الفقرة: (ذكر نبذة من كلامه) في النسخة (خ) مرتين، الأولى أقحمت فيها خطأ إثر ترجمة محمد بن عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، والثانية هنا، فأثبتها هنا، وحذفتها من الموضع الأول، وقد جاء في الموضع الأول أقوالٌ لم ترد هنا فزدتها ولم أشر إليها، وما سيرد بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬3) مناقب الأبرار 1/ 401. (¬4) في (خ) و (ف) و (م 1): علي أن. والمثبت من طبقات الصوفية ص 189، وحلية الأولياء 10/ 239، ومناقب الأبرار 1/ 401. (¬5) مناقب الأبرار 1/ 401 - 402. (¬6) أخرجه أبو داود (4985)، وأحمد (23088). (¬7) مناقب الأبرار 1/ 453. (¬8) مناقب الأبرار 1/ 405، ومن قوله: وسئل عن السماع ... إلى هنا ليس في (ف) و (م 1).

[قال: ] وكان يقول: إلهي، [توبةٌ] أو مغفرة، فقد ضاقت بي أبواب المعذرة. [قال: ] وكان ينشد [ويقول: ] [من البسيط] وأذكركم في السِّرِّ والجَهْر دائمًا (¬1) ... وقلبي لديكُم في الوثاقِ أسيرُ لتعرف نفسي قُدرةَ الربِّ إنَّه ... يُدبِّرُ أمرَ الخلقِ وهو قديرُ وقيل [له: ] ما بال المحبِّ يتذلَّلُ لمحبوبه، ويجد الذل عزًّا؟ ! فأنشد: ذُلُّ الفتى في الحبِّ مَكرُمةٌ ... وخضوعه لحبيبه شَرفُ (¬2) [وروي عن يوسف بن الحسين الرازي أنَّه] قال: كلَّما رأيتموني أفعلُه فافعلوه، إلا صحبة الأحداث، فإنَّها أفتنُ الفتن، ولقد عاهدتُ الله أكثر من مئة مرة ألا أصحبَ حدثًا فيفسخها عليَّ حسنُ الخدود (¬3)، وقوامُ القدود، وغنجُ العيون، وما يسألني الله تعالى معهم عن معصيبةٍ قط، وأنشدَ لصريع الغواني: [من الخفيف] إنَّ وَرْدَ الخدودِ والحدقَ النُّجـ ... ـلَ وما في الثُّغورِ من أقحوانِ واعوجاجَ الأصداغِ في ظاهر ... الخدّ وما في الصدورِ من رُمَّانِ تركتني بين الغَواني صَريعًا ... فلهذا أُدْعَى صَريعَ الغواني (¬4) [وذكر في "المناقب" عنه أنَّه لَمَّا] مات (¬5) رآه بعضُ أصحابه في المنام، فقال [له: ] ما فعلَ الله بك؟ قال: غفر لي، قال: بماذا؟ قال: ما خلطت جدًّا بهزل. [ذكر وفاته: واتفقوا على أنَّه مات في هذه السنة] في بعض (¬6) أسفاره وسياحاته. وقال [الخطيب بإسناده عن] أبي خَلَف الوَزَّان [قال: ] رُئي يوسف [بن الحسين] في ¬

_ (¬1) في مناقب الأبرار 1/ 406: دائبًا. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 406. (¬3) في طبقات الصوفية ص 191: ففسحها على حسن الخدود. (¬4) من قوله: فيفسخها .. إلى هنا ليس في (ف) و (م 1). وانظر مناقب الأبرار 1/ 402 - 403، والأبيات في شرح ديوان صريع الغواني ص 343 (ذيل الديوان). (¬5) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): ولما مات. (¬6) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): ومات في بعض.

المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني، قيل: بماذا؟ قال: بكلماتٍ قلتُها عند الموت، قلت: اللهمَّ إنِّي نصحتُ خلقَك -[أو الناس]- قولًا، وخُنْتُ نفسي فعلًا، فهب خيانةَ فعلي لنصح قولي (¬1). وفي رواية: اللهمَّ إنِّي نصحتُ خلقَك ظاهرًا، وغششتُ نفسي باطنًا، فهب لي غشِّي لنفسي لنُصحي لخلقك (¬2). أسند [يوسف] الحديثَ عن جماعةٍ منهم الإمام أحمد رحمه الله (¬3)، قال: قلت لأحمد رحمة الله عليه: حدثني، فقال: ما تصنعُ بالحديث يا صوفيّ؟ فقلت: لا بدّ، فقال: حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاريّ، عن هلال بن سويد أبي المُعَلَّى، عن أنس بن مالك قال: أُهديَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - طائران، فقُدِّم إليه أحدُهما، فلمَّا أصبح قال: "هل عندكم من غداء؟ ! فقُدِّمَ إليه الآخر، فقال: "من أين هذا يا بلال؟ " فقال: خبأتُهُ لك، فقال: "أنفق يا بلال، ولا تخفْ من ذي العرش إقلالًا، إنَّ الله يأتي برزق كلِّ يوم" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 467. (¬2) هذه الرواية ذكرها الخطيب في تاريخ بغداد 16/ 466، لكن ليى فيها حكاية رؤيا، بل قيل له -وهو يجود بنفسه: قل شيئًا. فقال: اللهم إني نصحت ... (¬3) بعدها في (ف) و (م 1): والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وسلم. (¬4) تاريخ بغداد 16/ 462 - 463 وإسناده ضعيف لضعف أبي المعلى. وانظر مسند أحمد (13043).

السنة الخامسة وثلاث مئة

السنة الخامسة وثلاث مئة [و] فيها قدمت رُسُلُ ملك الروم إلى بغداد على طريق الفرات بهدايا [عظيمة] وتُحَف. واختلفت الروايات فيها، فقال ثابت بن سنان: ورد رسولان [لملك الروم على طريق الفرات] بهدايا عظيمةٍ، وألطافٍ كثيرة، يلتمسان الهُدنة، فأقاما بهِيت (¬1) مُدَّةً حتَّى استُؤذِن لهما، فدخلا بغداد يوم الإثنين لليلتين خلتا من المحرم، فأُنزلا في الدار المعروفة بصاعد بن مَخْلَد، وحُمل إليهما ما يحتاجان إليه من سائر الآلات والأواني، وأقيمت لهما الأنزال والضيافاتُ، والتمسَا الوصولَ على المقتدر؛ ليبلغا الرسالة [التي معهما]، فأُعلِما أنَّ ذلك [متعذِّر] لا يمكن إلا بعد لقاء الوزير، [وتقرير الأمر معه]، وهو يخاطبُ الخليفة، فأُرسلا إلى الوزير، فجلسَ لهما واحتفل، وأقام غلمانَه ومماليكَه والعساكرَ في طريقهما، وفرشَ داره -وتعرف بدار البستان- وعَلَّق فيها من السُّتور ما يساوي ثلاثينَ ألف دينار، وجلس مجلسًا لم يجلسه وزير، والخدمُ بين يديه وخلفه، [و] القوَّاد والأولياء عن يمينه وشماله، ودخل عليه الرسولان، وأحدُهما شيخٌ قد نيَّفَ على السبعين، والآخر [شاب له] نحو من أربعين سنة، فشاهدا من الجَمْع (¬2) والفَرْشِ والسُّتُور والزينة ما هالهما، وكان معهما أبو عمر بن عبد الباقي يترجمُ لهما، فذكرا ما وصلا بسببِه من الفداء والصلح، وسألاه أن يسألَ المقتدر [في] ذلك، فوعدهما [أن يخاطب الخليفة] (¬3) وخرجا [من عنده على تلك الحال]. ثم خاطب المقتدر [فيهما]، فأجابه إلى إحضارهما [وما سألا]، وتقدَّم بأن تُشحن رحابُ الدار والدهاليز والممرَّات بالرجال والسلاح، وأن تفرشَ سائرُ القصور بأحسنِ الفرش، ثمَّ [أمر بإحضار الرسولين، فأحضرا] (¬4)، والمقتدرُ [جالسٌ] على سرير، والأولياء على مراتبهم، وأبو الحسن بن الفرات قائم بالقرب منه، ومؤنس الخادم ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 1/ 419 أنهما احتبسا شهرًا بتكريت. (¬2) في (م 1): الجميع. (¬3) في (خ): بمخاطبته. والمثبت من (ف) و (م 1). (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1) وفي (خ): ثم أحضرا.

دونه، والخدمُ عن يمينه وشماره، فلمَّا دخلا قبَّلَا الأرض (¬1)، وأدَّيا [الأمانة و] الرسالة إلى الوزير، والوزيرُ يعيدها على المقتدر، ثمَّ خرجا وخُلِعَ عليهما، وأمر مؤنسًا أن يتجهَّز للمسير معهما ليحضر الفداء [هذا حاصل ما ذكره ثابت بن سنان] (¬2). و[قد] ذكر الصولي وغيرُه احتفال المقتدر [بالرسل] فقالوا (¬3): أقام المقتدرُ العساكرَ، وصفَّهم بالسلاح، وكانوا مئةَ وستينَ ألفًا، وأقامَهم من باب الشماسيَّة إلى دار الخليفة، وبعدَهم الغلمان الحُجَريَّة، والخدمُ الخاصَّة بالثياب الحرير والمناطق المحلَّاة، وكانوا سبعةَ آلاف خادم، منها أربعةُ آلاف بيض، وثلاثة آلاف سود، [وكان الحجَّابُ] سبع مئة حاجب، وفي دجلة الطيَّارات والسفَاريَّات والزبازب (¬4) مزيَّناتٍ [بأفضل زينة]. وأُدخِل الرسولان من باب الشماسيَّة، فمرا بدار نصرٍ الحاجب، فشاهدا من الزينة والغلمان والسلاح ما هَالهما، فظنَّا أنَّها دارُ الخلافة، فقيل لهما: هذه دارُ الحاجب، ثمَّ دَخلا دارَ الخلافة فشاهدَا أمرًا عظيمًا، وكانت السُّتُورُ ثمانيةً وثلاثين ألفَ ستر من الديباج المذهب، ومن البُسُط الفاخرة اثنانِ وعشرون ألفَ بساط، وكان في الدار قطعانٌ (¬5) من الوحش تأنسُ بالناس وتأكلُ من أيديهم، وكان فيها مئةُ سَبُع، كل سَبُعٍ بيد سبَّاع. ثمَّ أُدخلا دار الشجرة، وكان في وسطها بركةٌ، والشجرةُ فيها، وكان لها ثمانية عشر غصنًا، لكل غصنٍ منها شاخات (¬6) كثيرةٌ، عليها الطيور والعصافير من كلِّ نوعٍ، مذهبةٌ ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 1/ 423 أن الرسول وترجمانه مثلًا بين يدي المقتدر بالله، فكفرا له. أي أنهما أومأ برأسَيهما من غير سجود. (¬2) ما سلف بين حاصرتين من (ف) و (م 1). (¬3) في (ف) و (م 1): فقال. (¬4) هذه الثلاثة المذكورة من أنواع القوارب المستعملة ببغداد -كما ذكره محقق تاريخ بغداد 1/ 418. وقال مصطفى عبد الكريم الخطيب في معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص 257: السمارية من أنواع المراكب التي عرفها العرب منذ العمر العباسي، شبهها البعض بالعوامة. (¬5) كذا في (خ) والمنتظم 13/ 175. وفي (ف) و (م 1): قطيعان. (¬6) في (خ): ساجات. وفي (ف) و (م 1): سياجات. والمثبت من تاريخ بغداد 1/ 422، والمنتظم 13/ 175. ووقع في المغرب في ترتيب المعرب ص 129: فراخ الزرع: شاخاته. وفي المعجم الذهبي ص 360: شاخ: فرع غصن.

ومفضَّضةٌ، وأكثرُ قضبان الشجرة عليها ذهبٌ وفضَّةٌ؛ وهي تتمايل (¬1)، ولها ورقٌ مختلفُ الألوان، وكلُّ طائرٍ من هذه الطيور يَصفر، ثم أُدخلا إلى الفِرْدوس، وفيه من الفَرْشِ والآلات ما لا يُحْصَى، وفي دهاليزه عشرةُ آلاف جوشنٍ مُذْهبَة معلَّقة. ووصل (¬2) الرسولان إلى المقتدر وهو جالسٌ على سرير من الأبنوس، مطعَّمٌ بالذهب والفضَّة، وعن يمين السرير تسعةُ عقودٍ من أفخر الجوهر معلَّقة، وعن يساره مثلها، [وهي من أفخر الجواهر التي تضيء]، وضوءها يغلبُ على ضوء النهار. ووقفَ الرسولان من الخليفة على نحو مئةِ ذراع، وابن الفرات قائمٌ بين يديه، والترجمان يترجم عنهما، ثم أُخرجا وطِيف بهما في الدار، وعلى الشط، والفيول (¬3) مزيَّنةٌ قائمةٌ، والزرافة والسباع والفهود وغيرها. ثمَّ خلع عليهما، وحُمل إلى كلِّ واحدٍ منهما خمسون ألف درهم (¬4)، وثيابٌ وغيرها. [وفي غير رواية الصولي وثابت بن سنان أنَّه] (¬5) كان من باب الشماسية إلى قريبٍ من سوق الثلاثاء دربٌ يقال له: درب المنائر، فيه ألفُ منارةٍ، ومُرَّ بالرسولين فيه (¬6) وقت الظهر، وأُمِر المؤذنون فأذنوا جملةً، فكادت الدنيا أن تتزلزل، وخاف الرسولان، ولما عادا إلى قيصر أخبراه بما شاهدا (¬7)، وكان في عزمه غزو العراق، فرجعَ عن ذلك، وأطلقَ المقتدرُ لمؤنس مئةَ أبي وسبعين ألف دينار للطريق، فسار مع الرسولين، وتمَّ الفداء على يديه، فيقال: إنَّه استنقذَ من المسلمين خمسة آلاف وخمس مئة. وفيها وردت هدايا أحمد بن هلال صاحب عُمان، [و] فيها طائر أسود يتكلَّم ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف) و (م 1): تماثيل. والمثبت من تاريخ بغداد 1/ 422، والمنتظم 13/ 175. (¬2) في (خ): ودخل. (¬3) وفي المنتظم 13/ 175: وطيف صهما في الدار حتَّى أُخرجا إلى دجلة، وقد أُقيمت على الشطوط الفيلة. (¬4) في تاريخ بغداد 1/ 424: وحمل إليهما خمسون بدرةً ورقًا، في كل بدرة خمسة آلاف درهم. (¬5) ما بين حاصرتين من (ف) و (م 1). وفي (خ): وقيل. (¬6) في (ف) و (م 1): في الدرب. (¬7) في (ف) و (م 1): بما شاهدوا بالمنائر والأذان.

سليمان بن محمد بن أحمد

بالفارسية والهنديَّة أفصحَ من الببغاء، وظباء سود (¬1). وكان على البصرة الحسنُ بن الخليل بن ريمال الفَرْغاني، فثارت فتنةٌ عظيمة، وثار العوامّ، وأحرقُوا جامعَ البصرة (¬2)، فركبَ الفرغانيُّ وقتلَ منهم مقتلةً عظيمة، ثم ضعفَ عن قتال العوام، فخرجَ إلى واسط ومعه وجوهُ أهل البصرة، ثمَّ صرفَه المقتدرُ، وولَّى مكانَه أبا دُلَف هاشم بن محمد الخُزاعي، فأقامَ على ولايتها سنةً، ثمَّ صُرِفَ وأقام بالبصرة بعدَ عزله لم يحدِّث، فكان مستمليه يقول: حدَّثكم أبو دلف هاشمُ بن محمد الخزاعي، أمير البصرة كان (¬3). [وفي جمادى الآخرة توفي غريب خال المقتدر] (¬4). وفيها خُلِعَ على أبي الهَيجاء عبد الله بن حَمْدان وإخوته خِلَع الرِّضا. وحجَّ بالناس الفضل بن عبد الملك [أيضًا]. وفيها توفي سليمان بن محمد بن أحمد أبو موسى النَّحْوي، ويعرف بالحامِض. صحب ثعلبًا أربعينَ سنة، وأخذ عنه نحو الكوفيين، وجلس مكانه بعد موته، وله التصانيف الكثيرة منها "خلق الإنسان"، وكتاب "الوحوش" و"النبات" و"غريب الحديث" وغيره، وكان ديِّنًا صالحًا. توفي في ذي الحجَّة، ودفن بباب التِّبن، رحمَه الله (¬5). ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): وظبيًا أسود. والمثبت من (خ) والمنتظم 13/ 176. (¬2) في أوراق الصولي (ما لم ينشر) ص 113، وصلة تاريخ الطبري ص 63 أن الحسن بن خليل هو أحرق السوق التي حول الجامع، وركضت خيله في المسجد، وقتلوا جماعة من العامة ممن كان في المسجد. وفي المنتظم 13/ 176: وأُحرِق الجامع. (¬3) من قوله: وكان على البصرة ... إلى هنا ليس في (ت) و (م 1). (¬4) ما بين حاصرتين من (ت) و (م 1). (¬5) تاريخ بغداد 10/ 85، والمنتظم 13/ 176. وهذه الترجمة وما بعدها من تراجم إلى آخر هذه السنة لم يرد في (ف) و (م 1).

عبد الله بن أحمد

عبد الله بن أحمد ابن أبي الحَواري، أبو محمد، الزَّاهد ابن الزاهد. كان على طريقة أبيه حتَّى صار من أعيانِ المشايخ بالشام، وكان له رياضات وسياحات. أسند عن أبيه وغيره، وروى عنه محمد (¬1) بن سليمان الرَّبَعي وغيره، وأجمعوا على دينه وصدقه وثقتِه وزهدِه وورعِه. عبد الصَّمد بن عبد الله أبو محمد، القُرَشيّ، قاضي دمشق. حدَّث عن هشام بن عمار وغيره، وكان ثقةً (¬2). غَريب خال المُقتدر، أخو السيِّدة. كان مُقدَّمًا في الدولة محترمًا، وكان فيمن قاتل ابن المعتز، وقرَّر أمر المقتدر. ومرض بعلَّة الذَّرَب والشَّخخ، ومات ليلة الخميس لتسع بقين من ذي الحجة، وقيل: في جمادى الأولى (¬3). وصلَّى عليه الوزير ابنُ الفرات (¬4) وأربابُ الدولة، وله عقبٌ ببغداد بالحريم. * * * ¬

_ (¬1) في (خ): أحمد. والتصويب من تاريخ دمشق 32/ 325 (طبعة مجمع اللغة)، وتاريخ الإسلام 7/ 89. (¬2) تاريخ دمشق 42/ 266. (¬3) تقدم قريبًا أنَّه توفي في جمادى الاخرة، وانظر الأوراق (ما لم ينشر) ص 117، وصلة تاريخ الطبري ص 65. (¬4) في الأوراق (ما لم ينشر) ص 117، وصلة تاريخ الطبري ص 65 أن أحمد بن العباس الهاشهي أخو أم موسى هو الَّذي صلى عليه. وفي تكملة تاريخ الطبري ص 212: وحضر ابن الفرات جنازته بداره.

السنة السادسة وثلاث مئة

السنة السادسة وثلاث مئة [قال ثابت بن سنان: ] وفي أول يوم من المحرَّم فتح والدي سنانُ بن ثابت مارَستان السيدة أمّ المُقتدر الَّذي بنته بسوق يحيى على دجلة، ورتب (¬1) في الأطباء، وكان مَبلغُ النَّفقةِ عليه في كل شهر ست مئة دينار، وأشار سنان بن ثابت على المقتدر ببناء مارستان، فبناه بباب الشام وولاه سنانًا، فكانت النفقة عليه في كل شهر مئتي دينار. وفي ربيع الأول مات محمد بن خلف وكيع القاضي (¬2)، وولّى المقتدر أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن البُهلول ما كان يتولاه وكيع من القضاء بالأهواز؛ مضافًا إلى ما كان يتولاه إليه من القضاء بمدينة أبي جعفر. وفي جمادى الأولى أمر المقتدر بقتل الحسين بن حَمْدان في حبسه، فقُتل وقت المغرب لثلاث عشرة بقين منه، وحُمِل (¬3) ابنه إلى حبس الجرائم. وفي يوم الخميس لليلة بقيت منه (¬4) قبض على الوزير أبي الحسن بن الفُرات فكانت مدة وزارته الثانية سنة واحدة وخمسة أشهر وتسعة عشر يومًا. [وقال ثابت بن سنان: ] وكان السبب في صرفه [في هذه المرة] أنَّه أخَّر إطلاق أرزاق الفرسان الذين مع القُوّاد، واحتجَّ بضيق الأموال، والتمس من المقتدر إطلاق مئتي ألف دينار من بيت مال الخاصة، فغضب عليه (¬5) المقتدر وقال: فأين ما ضمنتَ من القيام بالنَّفقات في الجند وغيرهم؟ فاحتج بكثرة الخَرْج، فلم يقبل عُذره وتنكَّر له. وكان المقتدر يميل إلى حامد بن العباس ضامن واسط وتلك النواحي، وكذا أم المقتدر ونصر الحاجب؛ لأنه كان يُهاديهم ويحمل إليهم، فأشاروا على المقتدر بتقليده ¬

_ (¬1) في (ف): ورتبت، وما سلف ويأتي مما هو بين معكوفات منها ومن (م 1). (¬2) في المنتظم 13/ 178 أنَّه مات في ربيع الآخر. (¬3) في (ف م 1): ونقل، والمثبت من (خ). (¬4) في (ف م 1): لثلاثة بقيت من جمادى الأولى، وفي: ما لم ينشر من أوراق الصولي ص 120، وصلة تاريخ الطبري ص 68: لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر. (¬5) في (خ): فصعب على، والمثبت من (ف م 1).

الوزارة، فكتب إليه فقدم، وعزل ابن الفُرات، ودخل حامد في زِيٍّ عظيم إلى بغداد، وخلفه أربع مئة غلام يحملون السلاح، وخدم وحشم، فخلع عليه وجلس في الديوان أيامًا، فظهر منه قلَّةُ معرفة، وسوءُ تدبير مع حدة وغضب، وبلغ المقتدر فأراد عزلَه، فقيل لحامد: اطلب عليَّ بن عيسى من المقتدر يكون معك، وكان حامد صديقًا لعلي أيام وزارته، فطلبه فأطلقه المقتدر، وباشر الأمور بنفسه، فاستقامت الأحوال، وقوي أمر علي بن عيسى حتَّى بلغ أعلى من مرتبة الوزارة (¬1)، ولم يبق لحامد غير الاسم، ويحضر عند المقتدر فلا يشاوره في شيء، والحلُّ والعقد لعلي بن عيسى. وكان أبو علي بن مُقلة يكتب بين يدي حامد بن العباس ويوقّع، ولم يبق لحامد إلا لُبسُ السَّواد وحضوره دار الخلافة (¬2)، فقال شاعر فيهما: [من مخلع البسيط] هذا وزيرٌ بلا سوادٍ ... وذا سَوادٌ بلا وزير وقال ثابت بن سنان (¬3): كان علي بن محمد بن الحَواري قد أشار على المقتدر بتولية حامد، فلما قدم بغداد ليلة الثلاثاء لليلتين خلتا من جمادى الآخرة أقام تلك الليلة في دار السلطان عند نصر الحاجب في دار الحِجْبة، وجلس يتحدَّث، فبان للقُوَّاد وخواص المقتدر ما فيه من الحدَّة وقلَّة الخبرة بأمور الوزارة، وبلغ المقتدر فعتب على ابن الحَواري حيث أشار به، فوصفه باستخراج الأموال، والهيبة عند العمال والسَّراة (¬4)، وكثرة الغلمان ونحو ذلك، وأشار في عرض كلامه بإطلاق علي بن عيسى وتقليده الدواوين نيابة عن حامد، فامتنع المقتدر من ذلك إلا أن يسأله حامد، فاحتال ابن الحواري على حامد بذلك، وعرَّفه سوء أدب الخاصة، وحوائج الحاشية، وأوهمه أنَّه [إن] لم يسأل ذلك فعل مُراغمة له. فلما دخل حامد على المقتدر سأله إطلاق علي، وأن يكون خليفته على الدَّواوين، وأثنى عليه، فقال له: ما يجيب علي إلى ذلك، ولا يرضى أن يكون تابعًا بعد أن كان ¬

_ (¬1) في (م 1): من مرتبته في الوزارة، وفي (خ): أعلى مرتبة الوزارة، والمثبت من (ف)، وانظر المنتظم 13/ 180. (¬2) في (ت) و (م 1): الخليفة. (¬3) من هنا إلى قوله: وفيها أمرت أم المقتدر؛ ليس في (ت) و (م 1). (¬4) في النسخ الخطية (السار)، ولعل الصواب: السَّراة، وهم السادة والأشراف، تاج العروس: (سرى).

مَتبوعًا، فقال حامد بحضرة الناس: ولمَ لا يجيب، وإنما مثل الكاتب كمثل الخيَّاط؛ يَخيط ثوبًا قيمته ألف دينار يومًا، ويومًا يَخيط ثوبًا بعشرة دراهم؟ ! فضحك المقتدر والناس منه. ومما عيب عليه: أن أم موسى القَهْرَمانة خرجت إليه يومًا برُقْعَة من المقتدر، فقرأها ووضعها بين يديه، وكان قد شرع يتحدَّث في بَثْق انفجر بأرض واسط، والقهرمانة واقفة تستعجله بالجواب، فما أجاب عن الرُّقعة حتَّى فرغ من حديث البَثْق. وخلع المقتدر على ابن عيسى خِلْعَةً دون خلعة الوزارة، وبعث به إلى حامد مع نَصْر الحاجب وشَفيع المقتدري، فأكرمه حامد ورفعه عليهما؛ حتَّى أجلسه على بساط الدّست، وانصرف إلى منزله، وكان يتردَّد إلى دار حامد. وفيها عَزل علي بن عيسى أبا القاسم علي بن أحمد بن بسطام من جند قِنَّسرين والعواصم، وقلَّد الشام ومصر أبا علي الحسين بن أحمد الماذَرائي، وقرَّر عليه في كل سنة عن خراج الشام ومصر ثلاثة آلاف ألف دينار خارجًا عن نفقات الجيوش وغيرهم تُحمل إلى المقتدر (¬1). وفيها أمرت أمُّ المقتدر ثَمَل القَهْرَمانة أن تجلس (¬2) بالتُرْبة التي بنتها بالرُّصافة للمظالم، وتنظر في رِقاع الناس في كل جمعة، فكانت تجلس في كل جمعة، وتُحضر القضاةَ والفقهاء والشهود والأعيان، وتَبرز التواقيع وعليها خطها، وكان القاضي في هذه السنة أبو الحسين الأُشناني، فكانت القهرمانة تنظر في القصص وتدفعها إلى القاضي، فيقف عليها ويستدعي الأجوبة. [قال القاضي علي بن أحمد: وهذا شيء لم يَجْرِ في دولة أبدًا. واختلفوا فيمن حجَّ بالناس في هذه السنة؛ فذكر جدي في "المنتظم" وقال: حج بالناس الفضل بن عبد الملك أيضًا. ¬

_ (¬1) انظر تكملة تاريخ الطبري للهمذاني 213 - 214. (¬2) في (ف) و (م 1): وفي هذه السنة أمرت أم المقتدر قهرمانة لها ثمل أن تجلس، والمثبت من (خ)، وانظر صلة تاريخ الطبري ص 67، والمنتظم 13/ 180.

أحمد بن حسن بن عبد الجبار

وقال ثابت بن سنان: حج بالناس أحمد بن العباس أخو أم موسى القهرمانة (¬1). فصل وفيها توفي أحمد بن حسن بن عبد الجبَّار أبو عبد الله، الصُّوفي، سمع يحيى بن مَعين وغيره، وروى عنه محمد بن المُظَفَّر وغيره. وكان ثقة إلا أنَّه روى حديثين لا يَصحّا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَن لَقم أخاه لُقمة حَلْوى صرف الله عنه سبعين بَلْوى". أما الحديث الأول ففي إسناده ابن الفَرُّخان؛ ذاهب الحديث، إلا أن الحمل فيهما على مَن ذكرنا لا على صاحب هذه الترجمة لأنه كان ثقة] (¬2). وفيها توفي أحمد بن عمر بن سُرَيج أبو العباس، القاضي، صاحب مسألة الدَّور في الطلاق. قال الدارقطني: كان فاضلًا لولا ما أحدث في الإسلام من المسألة. وقال الخطيب: انتهت إليه رياسة أصحاب الشافعي، وشرح المذهب ولخّصه، وصنّف المسائل في الفروع. [وحكى الخطيب عنه بإسناده] قال: رأيت في المنام كانا مُطرنا كبريتًا أحمر، فملأتُ أكمامي وجيبي وحِجْري، فعُبِّر لي أني أُرزق علمًا عَزيزًا كعِزّة الكبريت الأحمر (¬3). ¬

_ (¬1) من قوله: قال القاضي علي بن أحمد ... إلى هنا، من (ف) و (م 1)، وجاءت في (خ) مختصرة. وانظر صلة تاريخ الطبري ص 67، والمنتظم 13/ 180 - 181، وما لم ينشر من الأوراق ص 123. (¬2) هذه الترجمة من (ف) و (م 1)، وليست في (خ)، وقد اختُصرت من تاريخ بغداد 5/ 132 اختصارًا مخلًا، وانظر المنتظم 13/ 182. ولعل الحديث الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى جَملًا لأبي جهل. ينظر لسان الميزان 1/ 63. (¬3) بعدها في (ف): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. وانظر تاريخ بغداد 5/ 473، والمنتظم 13/ 183.

أحمد بن يحيى

[ذكر وفاته: حكى الخطيب بإسناده إلى] عثمان بن السِّندي قال: قال لي أبو العباس بن سُرَيج في علّته التي مات فيها: أُريت البارحة في المنام كأن قائلًا يقول: هذا ربك تعالى يُخاطبك، قال: فسمعت: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، قلت: بالإيمان والتَّصديق، ووقع في قلبي أنَّه يُراد مني زيادة في الجواب، فقلت: بالإيمان والتصديق غير أنا قد أصبنا من هذه الذُّنوب، فقال: أما إني سأغفر لكم. [وقال بعض الفضلاء: إنما قصد الخطيب بهذا المنام مَدْحَه، وإنما هو تهديد لما أحدث في الإسلام من المسألة، فكأنه يقول: ليس مما جاء به المرسلون ما أتيتَ به، ألا ترى أنَّه أخر عنه الغفران وأحاله على المستقبل؟ ! ولو كان ما أحدث مرضيًا لقال له: قد غفرت لك، وكذا لو كان ما أتى مما جاء به المرسلون لكان كرّر عليه القول. قال الخطيب: ] وكانت وفاته ببغداد في جمادى الأولى وله سبع وخمسون سنة، ودُفن بسُوَيقة أبي غالب. [قال الخطيب: ] وحدَّث ابن سُرَيج يسيرًا عن [الحسن بن محمد الزَّعْفَراني، وعباس الدوري، و] أبي داود السِّجِسْتاني وغيرهم، وروى عنه سليمان بن أحمد وغيره (¬1). [وفيها توفي أحمد بن يحيى أبو عبد الله، الجَلَّاء، الصُّوفي، وقيل: محمد بن يحيى، [وأحمد أصح]. وهو بغدادي ولكنه انتقل إلى الشام، وأقام بدمشق والرَّمْلة، وهو أحد مشايخ الشام زهدًا وورعًا، وهو أستاذ محمد بن داود الدُّقّي. ذكر طرف من أخباره: [قد ذكرنا في ترجمة أبيه يحيى في رواية أبي نعيم عن أحمد أنَّه] قال: قلت لأبي وأمي: أحبُّ أن تَهَباني لله تعالى، فقالا: قد وَهَبناك، قال: فغبتُ عنهما مدة طويلة، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 471 - 472، وما بين معكوفين من (ف) و (م 1).

ثم رجعتُ من غَيبتي وكانت ليلة باردة مَطيرة، فطَرقتُ عليهما الباب فقالا: مَنْ؟ قلتُ: وَلَدُكما أحمد، فقالا: كان لنا ولد اسمه أحمد فوهبناه لله؛ ونحن من العرب لا نرجع فيما وهبناه، ولم يفتحا الباب. وقال الدُّقّي: رأيتُ ابن الجلاء يمشي في الهواء. [وقد ذكرنا أنما سمي أبوه الجلاء لأنه كان يجلو القلوب بكلامه. وحكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: كنت أمشي يومًا مع أستاذي، فرأيتُ غلامًا حَدَثًا جميلًا فقلت: يا أستاذ أترى يُعذّب الله هذه الصورة بالنار! فقال: أَوَ نَظرتَ؟ ! سوف ترى غِبَّها، قال: فنسيتُ القرآن بعد عشرين سنة. [وحكى عنه أيضًا في "المناقب" أنَّه] قال: أعرف مَن أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من زمزم إلا برِشائه وركوته، ولم يتناول من طعامٍ جُلب من مصر. [قال: ] وسأله محمد بن ياسين عن الفقر فلم يُجبه، وقام فخرج، ثم عاد فأجابه فقال: لِمَ أخَّرتَ الجواب؟ فقال: كان عندي أربعة دَوانيق، فاستَحْيَيتُ من الله تعالى أن أتكلَّم في الفقر وهي عندي، فأخرجتُها ثم أجبتُك. [وحكى عنه أيضًا أنَّه] قال: اشتهت أمي على أبي سَمَكًا، فمضى إلى السُّوق وأنا معه، فاشترى سمكةً، ووقف ينظر مَن يحملها معه، فرأى غلامًا واقفًا فقال: أتحملها؟ قال: نعم، فحملها، وإذا بمؤذّن يقيم الصلاة في مسجد، فترك الغلام طَبَقه على الدُّكَّان ودخل يصلي، فقال أبي: هذا قد هان عليه طبقه وله قيمة، أفلا تهون علينا سمكتنا! ؟ فدخلنا وصلينا جميعًا، ثم خرجنا والسمكةُ بحالها، فلما وصلنا إلى دارنا حكى أبي لأمي حديثَ الغلام فقالت: سَلْه أن يقيم عندنا حتَّى نُصلحها فيأكل معنا منها، فسأله أبي فقال: أنا صائم، قال: تقيم عندنا إلى الليل، فأقام وأفطر معنا، وأفردْنا له بيتًا لخلوته ونمنا. وكان لنا بنت زَمِنَة لها مدّة مُقْعَدة، وهي مُنفردة في بيت، فلما كان وقت السَّحَر وإذا بها قد جاءت تمشي على رجليها، فدُهشنا لها، وقلنا لها: ما هذا؟ فقالت: سمعتكم تذكرون ضيفنا الليلة بخير، فتوسَّلتُ به إلى الله تعالى، فقمتُ أمشي، قال: فأتينا بابَ

البيت الَّذي كان فيه الغلام فلم نجده؛ والأبواب مُغْلَقة على حالها، فقال أبي: نعم فيهم صغار وكبار. [وحكى عنه أيضًا أنَّه] قال: قدمت المدينة وبي فاقة، فتقدَّمتُ إلى القبر وقلت: السلام عليك يا رسول الله أنا ضيفك، ونمت فرأيته في المنام، فناولني رغيفًا فأكلتُ نصفَه، وانتبهتُ وفي يدي النصف الآخر. [قال الدّقي: مرض ابن الجلاء، فدخل عليه قوم فأطالوا وقالوا: ادع لنا، فرفع يديه وقال: اللهم عَلِّمنا عيادة المَرْضى. ذكر نبذة من كلامه: حكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: مَن استوى عنده المَدْح والذَّمُّ فهو زاهد، ومن حافظ على الفرائض فهو عابد، ومن رأى الأفعال كلها من الله فهو مُوحّد. وسئل عمَّن دخل البادية بغير زاد ولا راحلة فقال: هذا من الرجال، قيل له: فإن مات؟ فقال: الدية على القاتل (¬1). وقال: اهتمامك بالرِّزق يُبعدك عن الحقِّ، ويُفقرك إلى الخَلْق. وقال: الخائف مَن تأمنه المخاوف (¬2). وقال: مَن عَلت هِمَّته عن الأكوان وصل إلى مُكوِّنها، ومَن وقف بهِمَّته على شيء سوى الحق فاته الحق؛ لأنه أعزُّ من أن يَرضى معه بشريك. وكانت وفاته يوم السبت لاثنتي عشرة ليلةً خلت من رجب في هذه السنة بالرَّملة، وقيل: بدمشق. صحب ذا النون المصري، وأبا تُراب النَّخْشَبي، وأبا عبيد البُسْري وغيرهم (¬3). ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): على العاقلة. (¬2) في مناقب الأبرار 1/ 364: المخلوقات. وهي الأصح. (¬3) بعدها في (ف) و (م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. وانظر في ترجمة ابن الجلاء: تاريخ بغداد 6/ 459، حلية الأولياء 10/ 314، طبقات الصوفية ص 176، تاريخ دمشق 2/ 273 (مخطوط)، مناقب الأبرار 1/ 362، والمنتظم 13/ 181، صفة الصفوة 2/ 442، السير 14/ 251.

الحسين بن حمدان

الحسين (¬1) بن حَمْدان ابن حَمْدون التَّغْلبيّ، عم سيف الدولة. كان من وجوه الأمراء، وهو الَّذي بعثه المكتفي لقتال بني طولون، وولاه المكتفي (¬2) ديار بكر وربيعة، وغزا الصّائفة سئة إحدى وثلاث مئة، وفتح حصونًا كثيرة، ثم خالف المقتدر فبعث إليه رائقًا ومؤنسًا فأسراه، ودخلا به بغداد على جمل، وقد ذكرناه، ثم قتله في الحَبْس، وأطلق أهله، وقيل: مات في الحبس، والله أعلم. عبد الله بن أحمد ابن موسى بن زياد، أبو محمد، الجَواليقيّ، القاضي، ويعرف بعَبْدان. من أهل الأهواز ولد سنة ست عشرة ومئتين، وكان أحد الحفّاظ الأثبات، جمع الأبواب والشيوخ، وحدَّث عن الأئمة، وكان يحفظ مئةَ ألف حديث، وتوفي في ذي الحجة بعَسْكَر مُكْرَم. حدّث عن هُدْبَة بن خالد وغيره، وروى عنه المَحامِليّ وغيره، وكان ثقةً (¬3). عبد الله بن الحسين ابن حَسنون، أبو أحمد، المقرئ. توقّفوا فيه، قال عبد الغني بن سعيد: سلوه متى سمع من الوكيعي، فسألوه فقال: سمعتُ منه بالموسم بمكة سنة ثلاث مئة، فقال عبد الغني: مات الوكيعي في [أول] سنة ثلاث مئة، فكيف يسمع منه في آخرها؟ ! ومات بمصر هذه السنة، وقيل: سنة سبع وثلاث مئة. وأنشد لعبد الله بن المعتز: [من الخفيف] جَسَّ نَبْضي فقال عِشقًا طبيبي ... وَيحَه من أخي علاجٍ مُصيبِ ¬

_ (¬1) من هنا إلى ترجمة أبي نصر المحب؛ ليس في (ف) و (م 1). (¬2) في تاريخ دمشق 4/ 667 (مخطوط): المقتدر. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 16، وتاريخ دمشق 32/ 345 (مجمع اللغة)، والمنتظم 13/ 184، والسير 14/ 168.

محمد بن خلف

فزجَرْتُ الطَّبيبَ لَمْحًا بعيني ... ثم ناجيتُه بحقّ الصَّليب لا تقل لَوعة الهوى قتلتْه ... فينالون بالدُّعاء حبيبي (¬1) محمد بن خَلَف ابن حيّان بن صَدَقة، أبو بكر، القاضي، الضَّبِّي، ويعرف بوَكيع. كان عالمًا، فاضلًا، نبيلًا، فصيحًا، عارفًا بالسير وأيام الناس وأخبارهم، وله تصانيف كثيرة في أخبار القضاة، وعدد آيات القرآن، والرَّمي، والنِّصال، والمَكاييل والمَوازين، وكتاب الطريق، وكتاب الشريف. وكان يتقلَّد القضاء بالأهواز وكُوَرها، وكان العلماء يعترفون له بالفضل؛ قيل لابن مجاهد: ألا تُصنّف كتابًا في العدد؟ فقال: قد كفانا ذلك وكيع. توفي في ربيع الأول. حدّث عن الزبير بن بكَّار وغيره، وروى عنه أحمد بن كامل وغيره، وكان يسكن بدَرْب أمّ حكيم ببغداد. وأنشد لنفسه: [من الطويل] إذا ما غَدتْ طَلّابة العلم تبتغي ... من العلم يومًا ما يُخلَّد في الكُتْب غدوتُ بتَشميرٍ وجِدِّ عليهم ... ومَحبرتي أذني ودَفْتَرُها قلبي (¬2) [وفيها توفي] أبو نَصْر المُحبّ من كبار مشايخ الصوفية، كان جوادًا سَمْحًا زاهدًا عابدًا صاحب مروءة. [حكى الخطيب عن أبي] العباس بن مَسْروق قال: اجتزتُ أنا وأبو نصر بالكَرْخ، وعليه إزارٌ له قيمة، فإذا بسائل يقول: شفيعي إليكم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فشق أبو نصر إزارَه، وأعطى نصفه للسائل، ومشى خطوات ثم قال: هذا نَذالة، ورجع فأعطاه النصف الباقي (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 104، وما بين معكوفين منه. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 126، والمنتظم 13/ 186، والسير 14/ 237. (¬3) بعدها في (ف، م): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. وانظر ترجمة المحب في تاريخ بغداد 16/ 603، والمنتظم 13/ 187.

السنة السابعة وثلاث مئة

السنة السابعة وثلاث مئة فيها في المحرم خلع المقتدر على أبي منصور بن أبي دُلَف، وولاه أعمال آمِد وسُمَيساط. وفي صفر توفّي الفضل بن عبد الملك الهاشمي صاحب الصلاة بمدينة السلام ومكة (¬1)، فولي ابنه عمر مكانه. وفي جمادى الأولى خلع المقتدر على نازوك، وولَّاه دمشق، فسار إليها، وأجْدَبَت العراق، فخرج أبو العباس أخو أم موسى القهرمانة والناس معه فاستسقوا. وفيها انقضَّ كوكبٌ عظيم غالب الضوء، وتقطّع ثلاث قطع، وسُمع بعد انقضاضه هدَّةٌ عظيمة هائلة من غير أن يكون ثَمَّ غيم. وفيها دخلت القرامطة البصرة، فنهبوها وقتلوا وسَبَوا. وفيها ضَمِن حامد بن العباس الوزير السّواد والأهواز وأصبهان بخمس مئة ألف دينار، مئتي ألف عن السواد، ومئتي ألف عن الأهواز، ومئة ألف عن أصبهان. وسببه (¬2) انفرادُ علي بن عيسى بتدبير أمور المملكة، وإبطال أمر حامد وانقطاعه عنه. وشاور حامد أصحابه، فقال له بعضهم: لا تفعل تسقط هَيبتك من عيون الناس، وأشار عليه بعضهم بذلك وقالوا: تتعطّل أمور علي بن عيسى، فخاطب حامد علي بنَ عيسى بحضرة المقتدر وقال له: تفرَّدتَ بتدبير الأمور دوني، ولا ترضى أن تُشاورني، ولا بدَّ من صدق أمير المؤمنين، قد أضَعْتَ بالسواد والأهواز وأصبهان في سنة ست وثلاث مئة أربع مئة ألف دينار، وأنا أضمن هذه الأعمال أربع سنين بكذا وكذا، فقال له علي بن عيسى: إن مَذهبك في خَبْط الرَّعية، وإحداث السُّنن الجائرة، والظلم والضرب معروف، وقد كنتَ تقلَّدت في أيام المعتضد ديار بكر وربيعة والمشرق، فأخربت الجميع بظُلمك وعَسْفك، وطال الحديث بينهما، فقال المقتدر لعلي بن ¬

_ (¬1) في (ف): بالمدينة بالشام ومكة. (¬2) من هنا إلى قوله: وحج بالناس أحمد، ليس في (ف) و (م 1).

علي بن سهل

عيسى: هذا توفير من حامد لا يجوز تركه، فإن ضمنتَ هذه النواحى ضمَّنتُك، فقال: أنا كاتب، ولست بضامن ولا عامل، وحامد أولى بالضمان لأنه يليق به، وأنا فقد عَمَرتُ البلاد، ورَفَقْتُ بالرعية، وقد تناهت عمارة البلاد على يدي، وسوف ترى، فضمَّنها حامدًا بما بذل. وخرج حامد إلى الأهواز، وصادر العمال، وبسط يده في عذاب الرعية، وضاقت النَّفقات على المقتدر، وشَغَب الجند، وغلت الأسعار، فأشرفت بغداد على الهَلاك والخَراب، والدولة على الزَّوال، ووردت الكتب من الأهواز وغيرها يسبون حامدًا، ويدعون لعلي بن عيسى. وحج بالناس أحمد بن العباس بن محمد بن عيسى بن سليمان بن محمد بن إبراهيم الإمام، ويعرف بأخي أم موسى القهرمانة. [فصل] وفيها توفي علي بن سهل ابن الأزْهَر، أبو الحسن، الأصفهاني. كان سيدًا فاضلًا، من أبناء الدنيا المُتْرَفين، فتزهّد وخرج عما كان فيه، وكان من أحسن الناس إشارة، وكان يكاتب الجنيد فيقول الجنيد: ما أشبه كلامه بكلام الملائكة. [وقال السُّلمي: ] كان يقيم أيامًا لا يأكل ويقول: الشوق قد استولى عليَّ فألهاني عن الأكل. وقال: المُبادرة إلى الطاعات من علامات التوفيق، والتقاعد عن المخالفات من علامة حُسن الرِّعاية، ومُراعاةُ الأسرار من علامات التَّيقُّظ، وإظهار الدَّعاوى من رُعونات البشرية، ومَن لم تَصحّ مبادئ إرادته لا يسلم في منتهى عواقبه. [وقال أبو نعيم الأصفهاني: سمعت أبي وغيره من أصحاب ابن سهل يقولون: ] كان علي يقول لأصحابه دائمًا: أتظنّون موتي يكون بإعلال وأسقام؟ ! لا إنما هو دعاء وإجابة، أُدعى فاجيب، فكان يومًا قاعدًا في جماعة فقال: لبيك، ووقع ميتًا (¬1). ¬

_ (¬1) أخبار أصبهان 2/ 14، وطبقات الصوفية ص 233، ومناقب الأبرار 1/ 440، المنتظم 13/ 192، وصفة الصفوة 4/ 85.

[محمد بن سليمان

[محمد بن سليمان ابن بابويه بن فِهرويه، أبو بكر العَلَّاف. سمع يعقوب الدَّوْرَقي وغيره، وروى عنه أبو بكر القَطيعي وغيره. وهو الَّذي روى عن علي بن أبي طالب أنَّه قال: النساء أربع: القَرْثَع، والوَعْوَع، والغِلُّ الَّذي لا يُنْزَع، والجامعة التي تَجمع. فأما القرثع فالسَّمْجة، وقيل: البَلْهاء، وحكى الجوهري في "الصحاح" (¬1) عن بعض الأعراب أنَّه قيل له: ما القرثع؟ قال: التي تكحَل إحدى عينيها وتترك الأخرى، وتلبس قميصًا مقلوبًا. وأما الوعوع فالسَّخَّابة، وهو نعت قبيح. وأما الغل الَّذي لا ينزع فالمرأة السُّوء، للرجل منها أولاد ولا يقدر على الخلاص منها. وأما الجامعة فهي التي تجمع الشَّمْل، وتلمّ الشَّعث (¬2). وفيها توفي موسى بن سهل ابن عبد الحميد، أبو عمران، الجَوْني، البَصري. رحل إلى البلاد، وسمع فأكثر، ثم استوطن بغداد، ومات بها في رجب (¬3). وفي الرواة رجل آخر يكنى أبا عمران الجوني، واسمه عبد الملك بن حبيب، أقدم من هذا. ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل البصرة (¬4). ¬

_ (¬1) (قرثع 3/ 1265). (¬2) تاريخ بغداد 3/ 231. (¬3) تاريخ بغداد 15/ 58، والسير 14/ 261. (¬4) طبقات ابن سعد 9/ 237.

وكان يقصّ على الناس، وروى عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل أنَّه قال: تصعد الملائكة إلى الله تعالى بالأعمال، فينادي الملك: ألق تلك الصحيفة، فيقول الملك: يا ربّ، قد قالوا خيرًا، وحفظناه عليهم، فيقول الله تعالى: إنه لم يُرِدْ به وجهي. قال: وينادي الملك: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول: يا رب، إنه لم يعمله، فيقول الله عز وجل: إنه نواه إنه نواه. وروى أبو الحسين بن المُنادي عنه قال: وعظ موسى يومًا، فشقَّ رجل ثوبَه، فأوحي إلى موسى: لا يشق ثوبه، ولكن ليشرح عن قلبه. ولم يذكر ابن سعد تاريخ وفاته، يعني أبا عمران، وقد رأى الصحابة وحدّث عنهم. فالظاهر أن وفاته تقدَّمت، والله أعلم (¬1).] * * * ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 2/ 309، وصفة الصفوة 3/ 264، وتهذيب الكمال، والسير 5/ 255، وفيهما أنَّه توفي سنة 123، أو 128، أو 129 هـ. وهاتان الترجمتان من (ف) و (م 1).

السنة الثامنة وثلاث مئة

السنة الثامنة وثلاث مئة فيها غلت الأسعار ببغداد، فشَغَبت العامة، ووقع النَّهْب ببغداد، وركبت العساكر فظهرت عليهم العامة -وكان سببه ضمان حامد بن العباس السَّواد- وقصدوا باب حامد، فخرج إليهم غلمانه فحاربوهم، ودام القتال أيامًا، ثم انكشف الحال عن جماعة من القتلى بين الفريقين، ثم صار من العامة إلى الجسرين عشرة آلاف فأحرقوهما، وفتحوا السجون من الجانبين، ونَهبوا دور الناس، فأمر المقتدر هارون بنَ غريب الخال فركب في العساكر، وركب حامد في طَيَّار فرجموه، واختلّت الأمور، وتغيرت أحوال الدولة العباسية من هذه السنة، وكانت أمورها مُنْتَظمة من أول ولاية السفاح [سنة اثنتين وثلاثين ومئة، فدامت] إلى هذه السنة، وكانت مدة أمرهم ونفاذه في الدنيا مئة وخمسًا وسبعين سنة، وقيل: مئة وسبعة وسبعين. ومن هذه السنة ظهرت الفتن، واستولى المُتَغَلّبون، وفرغت الخزائن والذخائر، [وكان مبدأ الهَرْج في هذه السنة، ] واستولى عُبيد الله العَلَوي على القَيروان وإفريقية وعامة بلاد المغرب، وجهز الجيوش إلى بَرْقَة والإسكندرية، وكان عبد الرحمن بن محمد الأموي بالأندلس، وحج بالناس أحمد بن العباس أيضًا. [فصل] وفيها توفي جعفر بن محمد ابن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن [بن الحسن] بن علي بن أبي طالب. كان فاضلًا ورعًا عاقلًا، سمع الحديث الكثير، ولزم مسجده يُقرئ القرآن ويتعبد، وتوفي ببغداد في ذي القعدة. [سمع الفَلَّاس وطبقته، وروى عنه أبو بكر الشافعي وغيره] وكان ثقة (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 109، والمنتظم 13/ 196.

عبد الله بن ثابت

عبد الله بن ثابت ابن يعقوب، أبو عبد الله التَّوَّزي بزاي معجمة. ولد سنة ثلاث وعشرين ومئتين، وسكن بغداد، وتوفي بالرُّمَيْلَة غربيها (¬1). حدَّث عن أبيه وغيره، وروى عنه محمد بن سليمان الرَّبَعي وغيره. وقال محمد بن الهيثم: أنشدنا عبد الله بن ثابت: [من المتقارب] إذا لم تكن حافظًا واعيًا ... فعِلْمُك في البيت لا ينفعُ وتَحْضُر بالجَهل في مجلسٍ ... وعلمك في الصُّحْف مُستودَعُ ومن يكُ في دهره هكذا ... يكن دهرَه القَهْقَرى يرجعُ [وفيها توفي] محمد بن هارون ابن العباس، بن عيسى بن أبي جعفر المنصور. ولي إقامة الحج في سنة ثمان وثمانين ومِئتين، وأقام خمسين سنة يصلي بجامع المنصور إمامًا، وكان من أهل السِّتر والصِّيانة والفضل، وتوفي وهو ابن خمس وسبعين سنة، وولي ابنه جعفر مكانه، فأقام تسعة أشهر بعد أبيه، ثم توفي في سنة تسع وثلاث مئة (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في النجوم الزاهرة 3/ 199: ومات غريبًا بالرملة. اهـ قال ياقوت في معجم البلدان 3/ 69: والرملة محلة خربت نحو شاطئ دجلة، مقابل الكرخ ببغداد. وفي تاريخ بغداد 11/ 83، والمنتظم 13/ 198: ودفن بالرملية. وانظر إنباه الرواة 2/ 111، وغاية النهاية 1/ 411. وهذه الترجمة ليست في (ف، م). (¬2) بعدها في (ف) و (م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 4/ 565.

السنة التاسعة وثلاث مئة

السنة التاسعة وثلاث مئة فيها وصل جيش عُبيد الله صاحب المغرب إلى مصر، والتقاه مؤنس فردّه إلى بَرْقَة، وعاد إلى بغداد فخلع عليه المقتدر، ولقّبه بالمُظَفَّر، وقيل: إن هذا كان في السنة الماضية. وجرى بين أبي جعفر الطَّبَري صاحب التاريخ وبين الحَنابلة كلام، فحضر أبو جعفر عند علي بن عيسى في داره لمناظرتهم فلم يحضروا. وكان أمر حامد قد اضْمَحَلّ، وعزم المقتدر على عزله، فأهدى له بستانًا يقال له: النَّاعورة، بنى له فيه مجالس وزخرفها، وغَرِم عليها مئة ألف دينار، [وعَلَّق على المَجالس السُّتور، وفرشها بالفُرُش الفاخرة، فقبله المقتدر، ووقف أمره. وفيها قتل الحَلَّاج لما نذكر]. وحجَّ بالناس إسحاق بن عبد الملك بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد (¬1). [فصل] وفيها توفي أحمد بن [محمد بن] سَهْل ابن عطاء، أبو العباس، الصُّوفي، البغدادي، الأدَمي (¬2). كان من ظِراف المشايخ، له لسان في علم القرآن يختصّ به. وكان أحد شيوخهم (¬3) الموصوفين بالعبادة والاجتهاد وكثرة الدَّرس للقرآن. وكان ينام من النهار والليل ساعتين، ويختم في كل يوم خَتْمة، وفي رمضان تسعين ¬

_ (¬1) في صلة تاريخ الطبري ص 94، وما لم ينشر من أوراق الصولي ص 128 أن الَّذي أقام الحج أحمد بن العباس. (¬2) في (ف) و (م 1): وفيها توفي أبو العباس بن عطاء الصوفي واسمه أحمد بن سهل بن عطاء الأدمي البغدادي. والمثبت من (خ)، وكلمة: بن محمد؛ من مصادر ترجمته. (¬3) في (ف) و (م 1): وقال أبو نعيم: كان أحد شيوخهم ... وهذا القول للخطيب في تاريخه 6/ 164 لا لأبي نعيم.

ختمة؛ ثلاث ختمات في كل يوم، وبقي يستنبط مُوْدَع القرآن بضع عشرة سنة في ختمة، فمات قبل أن يُتمَّها؛ ومعناه: أنَّه يريد فهم ما أودعه الله فيها من المعاني. [ذكر نبذة من كلامه في القرآن وغيره: حكى عنه في "مناقب الأبرار" أنَّه قال: في اسم الله هَيبته، وفي الرحمن عَوْنه ونُصْرته، وفي الرحيم صُحْبته ومَوَدَّته، ثم قال: سبحان مَن فرَّق بين هذه المعاني في لطافتها، وهذه الأسامي في غوامضها. قال: وقال في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] على انفراد القلب بالله تعالى. قال: وسئل عن قول الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] فقال: اقترب إلى بساط الرُّبوبية، فقد أعتقناك من رِقِّ العبودية. قال: وسئل عن قول الله تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)} [الواقعة: 89] فقال: الرَّوح: النَّظَر إلى وجهه الكريم، والرَّيحان استماع كلامه، وجنة نعيم: أنَّه لا يُحْجَب عنه. قال: وقال: في البيت مقام إبراهيم، وفي القلب آثار الله، وللبيت أركان، وللقلب أركان، فأركان البيت من الصَّحن، وأركان القلب من مَعادن أنوار المعرفة.] وقال: التوبة توبتان: توبة الإنابة وتوبة الاستجابة، فتوبة الإنابة أن يتوب العبد خوفًا من عقوبته، والاستجابة أن يتوب العبد حَياءً من كرمه. وقال: مَن تأدّب بآداب الأولياء صلح لبساط المؤانسة، ومَن تأدب بآداب الصالحين صلح لبساط الكرامة. [وقال: لما خرج آدم من الجنَّة بكى عليه كلُّ شيء إلا الذهب والفضة. وقد ذكرنا تمامه في قصة آدم - عليه السلام -، وفي آخره: فقال الله: وعزَّتي لأجعلن بني آدم خَوَلًا لكما] (¬1). وقال: أصحُّ العقول عقلٌ وافق التوفيق، وشرُّ الطاعات طاعة أورَثَتْ عُجبًا، وخير ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف) و (م 1).

الذُّنوب ذنب أعقب توبة ونَدَمًا. وقال: السكون إلى مألوفات الطَّبع يقطع صاحبها عن بلوغ درجات الحقائق. وقال: المحبّة أغصان تُغْرَس في القلوب فتُثْمِرُ على قدر العقول، وأنشد: [من الطويل] غَرَسْتُ لأهل الحبّ غُصْنًا من الهوى ... ولم يك يدري ما الهوى أحدٌ قبلي [فأوْرَقَ أغصانًا وأينَعَ نَشوةً ... وأعْقَبَ لي قُوتًا من الثَّمَرِ الأزلي] فكلُّ جميع العاشقين هواهم ... إذا نَسبوه كان من ذلك الأصل وقال: مكتوب في بعض الكتب القديمة: يقول الله تعالى: يا ابن آدم إن أعطيتك الدنيا اشتغلتَ بها عني، وإن منعتُك إياها اشتغلتَ بطلبها، فمتى تتفرّغ لي. وقال: كيف يوعى الإيمان في سرِّ من هو عَبْدُ لُقمة (¬1). وبلغه أن بعض الفقراء مرَّ بصبيان يلعبون وعندهم شيوخ، فقال لهم الفقير: ألا تستحيون من هؤلاء الشيوخ؟ فقال صبي: لا ما نستحي، هؤلاء شيوخ قلَّ وَرَعُهم فقلّت هَيبتهم، فقال ابن عطاء: صدق الصبي، الهَيبةُ مَقرونة بالوَرع. وقال: لما قُبض النبي - صلى الله عليه وسلم - قام أبو بكر - رضي الله عنه -، فساس الناس بقَضيب مع قُوَّة نَسيم النبوة، فلما قام عمر - رضي الله عنه - لم يقدر على سياستهم بالقضيب فساسهم بالدّرة، فلما قام عثمان - رضي الله عنه - جرَّد فيهم السَّوط فلم يَستقم له الأمر كما استقام لصاحبيه، فلما قام علي - رضي الله عنه - لم يقدر سياستهم إلا بالسيف فبذله فيهم. وسئل: لِمَ بُلي الخلق بالفراق؟ فقال: لئلا يكون لأحد سكون إلى غير الله تعالى، أو مع غيره. وسئل عن معنى الطَّهارة فقال: معنى غسل الوجه الإعراض عن الدنيا، ومعنى غسل اليدين يمينًا وشمالًا إلقاء الخلق يَمنَةً ويَسْرةً، ومعنى مسح الرأس التَّبرُّؤ عن النَّفْس، ومعنى غسل القدَمين التَّخلي عن الموجودات ليقوم بها إلى المناجاة، فإذا كبَّر خرج عن الكائنات، فالطهارة للنفوس، والصلاة بالقلوب. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، وفي (م 1): في قلب، بدل: في سر. وفي مناقب الأبرار 1/ 459: كيف يرى الإيمان في سره من يكون عبد لقمة.

وتكلم يومًا فقال: أين المحبة والرِّضى، فإن لم يكن فأين الصِّدق والصَّفا، فإن لم يكن فأين الانتباه (¬1) والحيا، فإن لم يكن فأين التوبة (¬2) والوفا، فإن لم يكن فأين التَّضرُّع والبُكا، فمن عري عن ذلك فلْيَبْك على نفسه أيام الدنيا. وبكى باك في مجلسه وأكثر، فأنشد ابن عطاء: [مجزوء الرمل] قال لي حين رُمتُه ... كل ذا قد علمتُه لو بكى طولَ دهره ... بدَمٍ ما رَحِمتُه وأنشد يومًا (¬3): [من الطويل] أُجِلُّك أن أشكو الهوى منك إنني ... أُجِلُّك أن تُومي إليك الأصابعُ وأُطرِق طَرْفي نحو غيرك عامدًا ... على أنه بالرّغم نحوك راجع وأنشد لنفسه: [من الطويل] ومُسْتَحْسِن للهَجر والوصلُ أعذبُ ... أُسائلُه وُدِّي فيأبى ويَهربُ إذا جُدتُ مني بالصفا أظهر الجَفا ... ولستُ بمُرْتابٍ ولا أنا مُذنبُ تعلَّمتُ ألوانَ الرِّضى خوفَ هَجره ... وعلَّمه حُبِّي له كيف يَغضبُ ولي ألفُ باب قد عرفتُ طريقها (¬4) ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهبُ [وقال في "المناقب" أيضًا: ] كان له أخ يحبّه فمرض، فكتب إليه ابن عطاء: [من البسيط] يا ليت حُمّاه كانت بي مُضاعفةً ... يومًا بشَهْر وأنَّ الله عافاهُ فيُصبح السُّقْم من قَرْني إلى قدمي ... ويَجعل الله منه البُرْءَ عُقباه كم قلتُ للسُّقم كم ذا قد لَهجتَ به ... فقال لي مثلَ ما تهواه أهواهُ ذكر وفاته: [واختلفوا فيها؛ حكى السُّلمي أنه] توفي في ذي القعدة ببغداد ودفن بها، وقيل: في ¬

_ (¬1) في (خ): الإساءة، تصحيف. وانظر مناقب الأبرار 1/ 465 - 466. (¬2) في (ت) و (م 1): السنة. (¬3) من قوله: فأنشد ابن عطاء ... إلى هنا من (ت) و (م 1). (¬4) (خ): طريقه، والمثبت من (ت، م 1)، والمناقب 1/ 455.

الحلاج

سنة إحدى عشرة وثلاث مئة. أسند الحديث عن جماعة، منهم الفضل بن موسى صاحب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وصحب الجُنيد وأقرانه (¬1). وفيها توفي الحَلَّاج واسمه الحسين بن منصور بن مَحْميّ، وكنيته أبو مُغيث، وقيل: أبو عبد الله. وقد ذكر أخباره جماعة من أرباب السير كالقاضي أبو يوسف القَزويني الحَنَفيّ، وابن حَوْقَل، وثابت بن سنان، والخطيب وغيرهم، ونحن نأتي على معظم أقوالهم. فأما أبو يوسف القزويني فقد جمع أخباره في مجلد، وقد وقفتُ عليه قال: كان جده مَحْمي مَجوسيًّا (¬2) من أهل بيضاء فارس، ونشأ الحسين بواسط، وقيل: بتُسْتَر، وتَلْمَذ لسهل بن عبد الله التُّسْتَري، ثم قدم بغداد وخالط الصوفية، ولقي الجُنَيد، والنُّوري، وابن عطاء وغيرهم، وجالسهم، وكان في وقت يَلبس المُسوح، وفي وقت يلبس الثياب المُصَبَّغة، وفي وقت الأقبية. [ذكر طرف من أخباره: ] واختلفوا لم سمّي الحلاج على أقوال: أحدها أن أباه منصورًا كان حلاجًا بواسط. والثاني أنه تكلم على الناس وعلى ما في قلوبهم فقالوا: هذا حَلاج يَحْلُج الكلام. والثالث ذكره السُّلَمي قال (¬3): مرَّ على حلاج وقال له: اذهب في شغل كذا وكذا، فقال: أنا مَشغول بصَنْعتي، فقال: اذهب وأنا أُعينك على شُغلك، فذهب الرجل وعاد، فإذا جميع ما في دكانه من القطن مَحْلوجًا، فسمي الحلاج. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته وأقواله في: تاريخ بغداد 6/ 164، حلية الأولياء 10/ 302، طبقات الصوفية ص 265، مناقب الأبرار 1/ 451، المنتظم 13/ 200، صفة الصفوة 2/ 444، سير أعلام النبلاء 14/ 255. (¬2) من قوله: وفيها توفي الحلاج ... إلى هنا، من (ف، م)، وجاء في (خ) بدلها: الحسين بن منصور بن محمي، أبو مغيث وقيل أبو عبد الله الحلاج كان جده مجوسيًّا. (¬3) في (خ): واختلفوا لم سمي الحلاج، فقيل كان أباه ... وقيل إنه تكلم ... وقيل إنه مر، والمثبت من (ف) و (م 1).

[وقال أبو يوسف: ثم] طاف الدنيا، ودخل الهند، وعبر النَّهر، وكان قد تلمذ له جماعة في البلاد؛ فبعضهم يُكاتبه بالمُغيث، وبعضهم بالمُقيت، ويسميه أقوام المُصْطَلم، وقوم المُحَيّر، وحج وجاور ثم أقام بمكة. [وقال الخطيب: ذكر عن أبي يعقوب النَّهْرَجوري قال: دخل الحسين إلى مكة وذلك] أول في خوله إليها، فجلس في صَحْن المسجد سنةً لا يَبْرَح من موضعه إلا للطهارة والطواف، ولا يبالي بحرِّ الشمس ولا المطر، وكان يُحمل إليه في كل عشية قرص من أقراص مكة وكوز من ماء، فيعضُّ منه أربع عَضَّات ويردُّ الباقي، ويصعد على أبي قُبَيْس وقت الهاجرة، فيقعد على صخرة والعرق يسيل منه، فرآه أبو عبد الله المغربي فقال: سوف يبليه الله ببلاء لا يطيقه؛ قعد بحُمْقِه يتصبّر على الله تعالى (¬1). وقيل: إنه (¬2) لما أقام بمكة حسده أبو يعقوب النَّهْرَجوري، فتكلّم فيه فخرج إلى البصرة، ثم دخل إلى الهِنْد وتُرْكسْتان والصِّين (¬3)، وصنف الكتب، ودعا إلى الله، وكوتب من البلاد ما ذكرنا. ثم قدم بغداد فبنى بها دارًا، واشترى عقارًا، واختلف إليه الناس، وسمعوا كلامه فوثب عليه محمد بن داود الفقيه والجنيد. واختلف الناس فيه، فقوم يقولون: إنه ساحر، وقوم يقولون [: له كرامات، وقوم يقولون: ] مُنمّس، حتى أخذه السلطان فحبسه. وقال أبو بكر الصُّولي: رأيتُ الحَلَّاج وجالستُه، فرأيته جاهلا يتعاقل، وعَييًّا يتبالغ، وفاجرًا يتزهّد، وكان ظاهره أنه ناسك صوفي، فإذا علم أن أهل بلده يرون الاعتزال صار معتزليًّا، أو يرون الإمامة صار إماميًّا، أو رآهم سنة صار سنيًّا، وكان يعرف الشَّعْبَذة والكيمياء والطب، وكان مع جهله خبيثًا، ينتقل في البلدان، ويدعي الربوبية. وكان يقول لواحد من أصحابه: أنت آدم، ولآخر: أنت نوح، ولآخر: أنت إبراهيم، ولآخر: أنت موسى، ولآخر: أنت عيسى، ولآخر: أنت محمد، ويدّعي ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 696. (¬2) في (ف) و (م 1): وفي رواية أنه. (¬3) في تاريخ بغداد 8/ 690: وماصين.

التناسخ، وأن أرواح الأنبياء انتقلت (¬1) إلى أجسامهم. وحكى الخطيب بإسناده إلى علي بن أحمد الحاسب قال: حدثني أبي (¬2) قال: وجَّهني المعتضد إلى الهند، وكان معنا في السفينة رجل يعرف بالحسين بن منصور، فقلت (¬3) له: في أي شيء جئت إلى هاهنا؟ فقال: جئتُ لأتعلم السِّحر، وأدعو الخلق إلى الله تعالى. وقال الخطيب: لما افتُتن الناس بالأهواز وكُوَرها بالحلاج، وما يُخرجه لهم من الأطعمة والأشربة في غير حينها (¬4)، والدَّراهم التي سماها دراهمَ القُدرة، حُدّث أبو علي الجُبَّائي بذلك، فقال لهم: هذه الأشياء محفوظة في أماكن تمكن الحِيل فيها، ولكن أدخلوه إلى بيت من بيوتكم، وكلّفوه أن يُظهر لكم منها شيئًا، فإن فعل فصدّقوه، وبلغ الحلاج قوله، وأن قومًا عَملوا على ذلك؛ فخرج من الأهواز. وحكى الخطيب، عن محمد بن يحيى الرَّازي قال: سمعت (¬5) عمرو بن عثمان يلعن الحلاج ويقول: لو قدرتُ عليه لقتلتُه بيدي؛ قرأت يومًا آية من كتاب الله تعالى فقال: أقدر أن أؤلّف مثلها. وحكى أيضًا عن أبي زُرعة الطبري قال: [سمعت أبا يعقوب الأقطع يقول: ] زوّجت ابنتي من الحسين بن منصور الحلاج لما رأيت من حسن طريقته، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر مُحتال خَبيث كافر (¬6). وقال الصولي: أول من أوقع بالحلاج أبو الحسين (¬7) علي بن أحمد الرَّاسبي، فأدخله بغداد وغلامًا له على جَملين قد شهرهما، وذلك في ربيع الأول (¬8) سنة إحدى ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): انقلبت. (¬2) في (خ): وقال علي بن أحمد الحاسب حدثني أبي، والمثبت من (ف) و (م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 8/ 698. (¬3) في (ف) و (م 1): فقيل. (¬4) في (ف) و (م 1): من غير جنسها. (¬5) في (خ): وقال محمد بن يحيى الرازي سمعت، والمثبت من (ف) و (م 1). (¬6) تاريخ بغداد 8/ 699، والمنتظم 13/ 203 وما بين معكوفين منهما. (¬7) في المنتظم 13/ 204: أبو الحسن. (¬8) في ما لم ينشر من أوراق الصولي ص 126، والمنتظم 13/ 204: ربيع الآخر.

وثلاث مئة، وكتب معهما كتابًا يذكر فيه أنه قامت البيّنة عنده بأن الحلاج يدّعي الربوبية، ويقول بالحُلول، فأحضره علي بن عيسى، وأحضر الفقهاء فناظروه، فأسقط في لفظه، ولم يجده يُحسن شيئًا من القرآن ولا من غيره، فحبسه في دار الخليفة. [وقال الصولي: ] قيل: إنه كان يدعو في أول أمره إلى الرضا من آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فسُعي به فضرب، وكان يُري الجاهل شيئًا من شَعْبَذَته، فإذا وثق به دعاه إلى أنه إله، فدعا فيمن دعا أبا سَهْل بن نُوبَخْت، ثم ترقّت به الحال إلى أن دافع عنه نصر الحاجب، لأنه قيل له: إنه سُنّي، وإنما تُريد الرافضة قتلَه، ووُجد في رقاعه وكتبه: إني مُغرق قوم نوح، ومُهلك عاد وثمود، وإن الإنسان إذا صام ثلاثة أيام ولياليها ولم يفطر، وأخذ في اليوم الرابع ورقات هِنْدَباء وأفطر عليها أكناه عن صوم رمضان، وإذا صلى ركعتين في ليلة أغناه ذلك عن الصلوات، وإذا بنى بيتًا وصام أيامًا ثم طاف حوله عُريانًا أغناه عن الحج، وذكر جملة من هذه الحماقات. وذكر ابن حَوْقل في كتاب "الأقاليم" وقال: ظهر (¬1) من إقليم فارس الحسين بن منصور، من أهل البيضاء، كان حَلَّاجًا ينتحل النُّسُك والتصوف، فما زال يترقَّى طبقًا عن طبق حتى انتهى به الحال إلى أنه زعم: أن مَن هذب في الطاعة جسمَه، وشغل بالأعمال الصالحة قلبَه، وصبر على مُفارقة اللذّات، وملك نفسه بمنعها عن الشَّهَوات؛ ارتقى إلى مقام المُقَرَّبين، ومنازل الكرام الكاتبين، ثم لا يزال يترقّى في درج المصافاة حتى يصفو عن البشريّة طبعُه، فإذا صفا حل فيه روح الله الذي كان منه عيسى بن مريم، فيصير مُطاعًا يقول للشيء كن فيكون. فكان الحلاج يتعاطى ذلك، ويدعو إلى نفسه، حتى استمال جماعةً من الوزراء، وحاشية السلطان والأُمراء، وملوك الجزيرة والعراق والجبال، وما كان يمكنه الرجوع إلى فارس خوفًا من أهلها، حتى أُخذ وحُبس بدار الخلافة ثم صُلب (¬2). ذكر مقتله: قد ذكرنا أنه حُبس في سنة إحدى وثلاث مئة بدار الخلافة، فأقام إلى هذه السنة ¬

_ (¬1) في (خ): وقال ابن حوقل ظهر، والمثبت من (ف) و (م 1)، وانظر صورة الأرض لابن حوقل ص 257. (¬2) في (ف) و (م 1): بدار الخليفة حتى صلب.

وهي سنة تسع وثلاث مئة، قال الشيخ أبو الفرج (¬1) في "المنتظم": قد كان هذا الرجل يتكلَّم بكلام الصوفية، فتَبْدُر له كلمات حِسان، ثم يخلطها بأشياء لا تجوز، وكذلك أشعاره، فمن المنسوب إليه: [من السريع] سُبحان مَن أظهر ناسوتَه ... سِرّ سَنا لاهوته الثاقبِ ثم بدا في خلقه ظاهرًا ... في صورة الآكل والشّاربِ حتى لقد عاينه خلقُه ... كلَحْظَةِ الحاجبِ بالحاجب قال: ولما حُبس استغوى جماعةً فكانوا يستشفون بشُرب بَوله، ويقولون: إنه يُحيى الموتى. وقال الصُّولي: لما وقف حامد بن العباس الوزير على شيء من كتبه دعا القُضاة والفقهاء والأشراف، وجرت بينهم مُناظرات، فقال لهم حامد: ما تقولون في قتله؟ ! فنطق بالشهادتين (¬2)، فقالوا: لا يمكن قتله بعدها، فأحضروا الرقاع والدفاتر التي أُخذت من عنده، وفيها: أن مَن أراد الحج ولم يُمكنه انفرد في بيت طاهر، وصام وصلى، وفعل أفعال المناسك؛ أجزأه ذلك عن الحج [وذلك من جنس ما ذكرنا من حماقته]، فقال له حامد: أتعرف هذا وتدين به؟ قال: نعم، قال: فمن أي كتاب نقلتَه؟ فقال: من كتاب "الإخلاص" للحسن البَصْري (¬3)، وكان القاضي أبو عمر حاضرًا، فقال له: كذبتَ يا حَلال الدَّم، قد سمعنا كتاب الإخلاص بمكة منه وليس فيه شيء من هذا، فقال حامد للقاضي: قد أفتيت بأنه حلال الدم، فضع خَطَّك بهذا، فدافع القاضي ساعة، فمد حامد يده إلى الدَّواة، وقدَّمها إلى القاضي، وألحَّ عليه إلحاحًا لم يمكنه مدافعتُه، فكتب بأنه حلال الدم، وكتب الفقهاء والعلماء خطوطهم بذلك؛ والحلاج يقول: يا قوم، لا يحلّ لكم إراقة دمي، دمي عليكم حرام، أتستحلُّونه بالتأويل؟ ! فلم يلتفتوا إليه، وردّه حامد إلى الحبس، وبعث بخطوطهم إلى المقتدر، واستأذنه في قتله، فتأخر عنه الجواب (¬4)، فخاف أن يبدو للمقتدر فيه رأيٌ لما قد استمال من الخواصِّ، وما كان يُظهر من الزُّهد والنُّسك والرياضة والصيام والعبادة في ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): وقال جدي. (¬2) في (ف) و (م 1): في قتله وقد نطق بالشهادتين. (¬3) في (ف) و (م 1): من كتاب الحسن البصري ويسمى كتاب الإخلاص. (¬4) في (ف) و (م 1): فأبطأ عليه الجواب.

الحبس، فكتب حامد إلى المقتدر: قد أفتى الفقهاء والقضاة بقتله، وشاع أمرُه ومَخْرَقَتُه وسحره، وادعاؤه الربوبية، وإن لم يفعل أمير المؤمنين ما أفتى به القاضي والفقهاء افتُتن الناس، وتجرّأ أقوام على الله والرسل. وبالغ حامد في نُصرة ما دبّره خوفًا أن ينعكس عليه أمره، فأذن له المقتدر في قتله، فأحضر حامد بن العباس محمد بنَ عبد الصمد صاحب الشرطة، وأمره أن يضربه ألف سَوْط، فإن مات وإلا قطع يديه ورجليه، فأخرجه يوم الثلاثاء لثلاث بقين من ذي القعدة، وقيل: لست بقين منه، مقيَّدًا إلى باب الطَّاق وهو يَتَبَخْتر في قَيده ويقول: [من الهزج] حبيبي غير مَنسوبٍ ... إلى شيءٍ من الحَيْفِ سقاني مثل ما يَشْر ... بُ فِعْل الضَّيف بالضَّيفِ فلما دارتِ الكأسُ ... دعا بالنِّطْعِ والسَّيفِ كذا مَن يشربُ الرَّاحَ ... مع التنِّينِ في الصَّيفِ (¬1) [وقال أبو يوسف القَزويني: قد ظنّ قوم أن هذه الأبيات للحلاج، وإنما هي لأبي نُواس، كان يُنادم الأمين محمد بن زُبَيدة، فنادمه ليلة -وكان محمد من أحسن الناس- فغلب عليه الشراب، فقال له: يا أبا نواس، ما تقول، أتشتهيني نفسك؟ فقال: أوَ تُعفيني؟ فقال: لا بدّ، فقال: من الذي يَراك ولا يَشتهيك؟ ! فغضب الأمين وأمر بقتله، وقال: قل فيما نحن فيه شيئًا، فعمل هذه الأبيات، فضحك الأمين وعفا عنه.] (¬2) وقال ثابت بن سنان [في "تاريخه"]: انتهى إلى حامد بن العباس في أيام وزارته أمرُ الحلاج، وأنه قدَّموه على جماعة من الخَدَم والحَشَم وأصحاب المقتدر، وعلى خدم نصر الحاجب، وحَمد بن محمد (¬3) الكاتب، وأن حمد كان يشرب بوله ويقول: إنه مَرض فشربه فعُوفي (¬4)، وكان مَحبوسًا بدار الخلافة، فسأل حامد المقتدر أن يسلمه ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 205 - 206. (¬2) ما بين معكوفين من (ف) و (م 1). (¬3) في (خ): نصر الحاجب بأنه يحيي الموتي وأن الجن يخدمونه ويحضرون إليه ما يريد وأن أحمد بن محمد. والمثبت من (ف) و (م 1). (¬4) في (ف) و (م 1) زيادة: فجرد حامد بن العباس منه.

إليه فأجابه إلى ذلك، وسُعي إلى حامد برجل يعرف بالسّمري أنه من أصحاب الحلاج وبجماعة، فقبض عليهم حامد وناظرهم، فاعترفوا أن الحلاج إله، وأنه يُحيي الموتى، وأوقفوا الحلاج وكاشفوه، فأنكر وقال: أعوذ بالله من ذلك، واستحضر حامد القاضي أبا عمر، والقاضي أبا جعفر بن البهلول، وجماعة من الشهود، واستفتاهم فيه فقالوا: لا يحلُّ لنا أن نُفتي فيه بشيء حتى يُقرّ، أو تقوم عليه البَيّنة [، فأقام على ذلك حتى وجدت له كتب من جنس ما ذكرنا]. وكانت ابنة السمري صاحا الحلاج قد أقامت عنده في دار السلطان مدة، وكانت عاقلة حَسنةَ العبارة، فدعاها حامد فسألها عن بعض أمره فقالت: قال لي يومًا: قد زوَّجتُك من سليمان ابني، وهو مقيم بنيسابور، وليس يخلو أن يقع بين المرأة وزوجها خلاف، فإن جرى منه ما تكرهينه فصومي يومَك، واصْعَدي آخر النهار إلى السَّطح، وقومي على الرَّماد، وأفطري عليه وعلى الملح الجَريش، واذكري لي ما أنكرتيه من زوجك؛ فإني أسمع وأرى. قالت: وكنت نائمة ليلة وهو قريب مني وابنته عندي، فما حسستُ به إلا وقد غَشيني، فانتبهتُ فَزِعةً فقلت: ما لك؟ فقال: إنما جئتُ لأوقظك للصلاة. قالت: وقالت لي ابنته يومًا: اسجدي له، فقلت: أو يسجد أحدٌ لغير الله -وهو يسمع كلامنا- فقال: نعم، إله في السماء وإله في الأرض. وذكر [العجائب والغرائب، وذكر] حديث تسليمه إلى صاحب الشرطة [وهو محمد بن عبد الصمد] وأن حامدًا قال له: اضربه ألفَ سَوط، فإن مات فحُزَّ رأسَه، وأحرق جثَّته، وإن لم يَتلَفْ بالضرب فاقطع يده ثم رجله، ثم يده ثم رجله، وأحرق جسدَه، وانصِبْ رأسَه على الجسر، ففعل به محمد ذلك، وبعث برأسه إلى خُراسان فطيف به، وأقبلت أصحابه يَعدُّون أربعين يومًا ينتظرون رجوعَه. واتفق أن دجلة زادت زيادة عظيمة، فزعموا أن ذلك من رماده (¬1)، وبعض أصحابه ¬

_ (¬1) في (ف) و (م 1): زيادة عظيمة، فادعى أصحابه أن الرماد خالط الماء.

زعم أنه لم يُقتل، وأن عدوًا له أُلقي عليه شَبَهه؛ كما جرى لعيسى بن مريم - عليه السلام -. وبعضهم ادّعى أنه رآه في غد ذلك اليوم في طريق النَّهْرَوان راكبًا على حمار وهو يقول: قولوا لهؤلاء البقر الذين ظنوا أنني أنا الذي قتلت: ما أنا ذاك. وأحضر حامد الوراقين، واستحلفهم أن لا يبيعوا شيئًا من كتب الحلاج ولا يشترونها [، وهذا معنى ما ذكر ثابت]. وقال في "المناقب": لما رُفع على الجِذْع بعد أن ضُرب ألف سَوط ولم يتأوَّه؛ غير أنه لما ضُرب ست مئة قال لمحمد صاحب الشرطة: ادْنُ مني فلي معك حديث، فقال: قد حُذِّرت مثل هذا، ثم لما رفع على الجذع قال: [حسب الواجد إفراد الواحد، ثم قال: ] {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18] ولم يبق ببغداد إلا من شهد قتله (¬1). وقيل له وهو على الجِذْع: ما حَدُّ التصوف؟ فقال: ما ترون. وروي أنه التفت إلى الناس وقال: مَن حضر بطلت شهادته، ومن غاب عنا قُبلت عدالتُه. وروي أن بعض الصوفية ناداه وهو مَصْلوب: مَن طَلَّق الدنيا كانت الآخرة زوجته، ومَن فارق الحق كان الجِذْع راحِلَته. ويُروى أنهم لما قطعوا يده كتب الدمُ على وجه الأرض: الله الله، وليس بصحيح [ومعناه ظاهر؛ لأن الدم نَجِس، والنجس لا يكتب الطاهر. قلت: ] وقد اختلف مشايخ الصوفية فيه، [قال الخطيب: ] فأكثرهم نفاه وأباه، وبعضهم قبله، وممن قبله: أبو العباس بن عَطاء، ومحمد بن خَفيف الشِّيرازي، وإبراهيم بن محمد النَّصْراباذي، وصحَّحوا حاله، ودوَّنوا كلامَه. قال: ومَن نفاه من الصوفية نسبه إلى الشَّعْبَذة والزَّنْدَقة، وله إلى الآن أصحاب يُنسبون إليه، ويَغْلون فيه. وقال ابن خميس في "المناقب": صحب الجُنَيد، والنُّوري، وعَمرو بن عثمان ¬

_ (¬1) لم أجدها في ترجمته في مناقب الأبرار 2/ 68 - 80.

المكّي، والمشايخ في أمره مختلفون، ردّه أكثرهم كالجنيد وأقرانه، وأنكروا أن يكون له قَدَمٌ في التصوُّف، وقبِلَه بعضهم، ودوّنوا كلامَه، وجعلوه أحد المحقّقين (¬1). [وذكر في "المناقب" جملة من كلامه، فقال الحسين بن منصور: ] (¬2) حجبهم بالاسم فعاشوا، ولو أبرز لهم علومَ القُدْرة لطاشوا، ولو كشف لهم عن الحقائق لماتوا. وقال: إذا وصل العبد إلى مَقام المعرفة أوحى الله إلى خاطره، وحرس سره أن يَسْنَح فيه غيره، وعلامة العارف أن يكون فارغًا من الدنيا والآخرة. وقال: مَن طلب الحقَّ بنور الإيمان كان كمَن طلب الشمس بنور الكواكب. وكتب إلى أبي العباس بن عطاء: أطال الله حياتَك، وأعدَمَني وَفاتَك، على أحسن ما جرى به خاطر، أو تحرك به قلب، مع ما أن لك في قلبي من لواعج الاشتياق، ومن أسرار مَحبتك، ودَفائن (¬3) ذخائر مَوَدَّتك، ما لا يُترجمه لسان، ولا يُحصيه كتاب، ولا يُفنيه عِتاب، وفي ذلك أقول: [من الطويل] كتبتُ ولم أكتب إليك وإنما ... كتبتُ إلى روحي بغير كتابِ وذاك لأن الرُّوح لا فَرْقَ بينها ... وبين مُحبِّيها بفَصْل خطابِ فكلُّ كتابٍ صادر منك وارد ... إليك بلا ردّ الجَواب جَوابي ومن شعره: [من الطويل] مواجيد حقٍّ أوجد الحقُّ وجدها (¬4) ... وإن عَجَزت عنها فُهومُ الأكابرِ وما الوَجْدُ إلا خَطْرةٌ ثم نَظرةٌ ... تُثير لَهيبًا بين تلك السَّتائر وسئل عن حال موسى - عليه السلام - عند سماع الكلام فقال: بدا بادٍ لموسى من الحق، فلم يبق له أثرٌ [، ثم فني] موسى عن موسى (¬5)، وأنشد: [من الكامل] وبدا له من بعد ما انْدَمَل الهوى ... بَرْقٌ تألَّق موهنًا لَمَعانُه ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 2/ 71. (¬2) ما بين معكوفين من (ف) و (م 1)، جاء بدله في (خ): فمن كلامه، وانظر مناقب الأبرار 2/ 75. (¬3) في مناقب الأبرار 2/ 80: وأفانين، وهي الأشبه. (¬4) في طبقات الصوفية ص 310: أوحد الحق كلها، وفي مناقب الأبرار 2/ 76: أوجد الحق كلها. (¬5) ما بين معكوفين من المناقب 2/ 78.

يَبدو كحاشية الرِّداء ودُونَه ... صَعْبُ الذرى مُتَمَنِّع أركانُه فأتى ليَنْظُرَ كيف لاح فلم يُطِقْ ... نَظَرًا إليه وصَده سُبحانه فالنارُ ما اشتملتْ عليه ضُلوعُه ... والماء ما سَمَحتْ به أجفانُه وقال أيضًا: [من الرمل] مُزِجَتْ روحُك في روحي كما ... تُمزَج الخَمْرةُ بالماء الزُّلال فإذا مَسك شيءٌ مسَّني ... فإذا أنت أنا في كلِّ حال وقال أيضًا: [من مجزوء الرمل] قد تحققتُك في ... سِري فناجاك لساني فاجتمعنا لمَعانٍ ... وافترقْنا لمعاني إن يكن غَيبَك ... التَّعظيم عن عَين العِيان فلقد صَيَّرك الوَجْدُ ... من الأحشاء دانِ وقال أيضًا: [مجزوء الكامل] دُنيا تُغالِطُني كأنـ ... ـني لستُ أعرفُ حالها حَظَر الإلهُ حَرامَها ... وأنا اجتَنَبْتُ حلالها ورأيتُها مُحتاجةً ... فوهَبْتُ جُملتَها لها وقال الخطيب: حدثنا أبو العلاء قال: لما أُخرج الحلاج ليُقتل أنشد: [من الوافر] طَلَبتُ المُسْتَقَرَّ بكلِّ أرضٍ ... فلم أر لي بأرضٍ مُستَقَرّا أطَعْتُ مَطامعي فاستَعْبَدَتْني ... ولو أني قَنِعْتُ لعِشْتُ حُرّا [قلت: وقد جمع جدي أخبارَه في كتاب، جمعها من كتاب أبي يوسف القزويني، والصُّولي، وثابت بن سنان، والخطيب وغيرهم، وسماه: "القاطع لمحال اللجاج بحال الحلاج" (¬1)، وذكره في مواضع من كتب وعظه فقال: انكسر مِغْزل رابعة، وبقي قطن الحلاج. وسأله سائل عن الحلاج فقال: ما يسأل عن الحلاج إلا الحائك، وغير ذلك. وهذا ¬

_ (¬1) سماه في المنتظم 13/ 204: القاطع لمحال اللجاج القاطع بمحال الحلاج.

عبد الله بن محمد

ما انتهى إلينا من ترجمة الحلاج، والله أعلم] (¬1). وفيها توفي عبد الله بن محمد أبو محمد، الخَرَّاز، الرَّازي. [من كبار مشايخ أهل الري] جاور بمكة سنين كثيرة، وكان ورعًا قوَّالًا بالحق، مُتَحرِّيًا للصدق. [ذكره في "المناقب" وقال: ] خرج من أصحابه عشرون نَفْسًا من الرَّي يريدون الحج، فقالوا: يا أستاذنا، ألا تُودّعنا؟ فقال: بلى، فخرج معهم إلى بطن مَرْو، وقال: أستودعكم الله، فقالوا: يا أستاذنا، قد بقي بينك وبين مكة ثمانية عشر ميلًا وترجع من هاهنا؟ فقال: ما خرجتُ إلا مودِّعًا لكم وأنا راجع إلى الري أعقد الحج وألحقكم، وكان قد بقي للموسم خمسة أشهر، فعاد إلى الري، فأعقد الحج ولحق الموسم معهم. من كلامه: وقال: العبارات يَفهمها العلماء، والإشارات تعلمها الحكماء، واللطائف لا يقف عليها إلا السادات. وقال: صيانة الأسرار عن الالتفات إلى الأغيار من علامات الإقبال على الله. [صحب أبا حَفْص النَّيسابوري وغيره (¬2). وفيها توفي] محمد بن خَلَف ابن المَرْزُبان بن بَسَّام، أبو بكر المُحَوَّلي، والمُحَوَّل قرية غربي بغداد كان يسكن بها. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف) و (م 1)، وانظر في ترجمة الحلاج: ما لم ينشر من أوراق الصولي ص 126، وحكاية حال الحلاج لابن باكويه ص 651 (مجلة مجمع اللغة)، وصلة تاريخ الطبري ص 79، وتكملة تاريخ الطبري ص 219، وطبقات الصوفية ص 307، وتاريخ بغداد 8/ 688، والمنتظم 13/ 201، ومناقب الأبرار 2/ 68، والسير 14/ 313. (¬2) قوله: صحب أبا حفص ... من (ف) و (م 1) وجاء بعدها فيهما: والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف =

محمد بن راشد بن معدان

له التصانيف الحِسان، وقيل: هو مصنف كتاب "تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" [، وهو كتاب مشهور]. حدّث عن الزبير بن بكار، [وابن أبي الدنيا] وغيرهما، وروى عنه ابن الأنباري وغيره، وكان صدوقًا ثقة. كتب إلى صديق له هَجَره: [من الخفيف] أجَميلٌ بالمَرْءِ يُخْلِفُ وَعْدا ... أو يُجازي المُحِبَّ بالقُرْب بُعدا ما مَللْناك إذ مللتَ ولم ننـ ... ـفكّ نزدادُ مُذْ عَرَفْناك وُدَّا لك مُذْ دام صَرْفُ وَجْهِك أيا ... مْ طِوالْ أعُدها لك عَدَّا وتناهى إليَّ أمسِ حديثٌ ... كاد يقضي علي حُزْنًا ووَجْدا أدرك الحاسِدُ الشِّماتَ وقد كا ... ن قديمًا لهَجْرنا يَتَصَدَّى (¬1) محمد بن راشد (¬2) بن مَعْدان أبو بكر، الثَّقَفي مولاهم، الحافظ، مُحدّث بن محدث. طاف الدنيا، ولقي الشيوخ، وصَنَّف الكتب، وتوفي بكَرْمان. حدّث عن يونس بن حَبيب وغيره، وروى عنه ابن المُنادي وغيره، وكان صدوقًا صالحًا ثقة (¬3). * * * ¬

_ = خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. وانظر ترجمة الخراز في طبقات الصوفية ص 288، ومناقب الأبرار 1/ 482. (¬1) تاريخ بغداد 3/ 128، والمنتظم 13/ 207. (¬2) في أخبار أصبهان 2/ 243، والسير 13/ 404: محمد بن أحمد بن راشد. وهذه الترجمة ليست في (ف) و (م 1). (¬3) بعدها في (خ): آخر الجزء التاسع من مرآة الزمان، غفر الله لكاتبه ومالكه آمين. يتلوه في الجزء العاشر: السنة العاشرة والثلاث مئة فيها مرض علي بن عيسي فعزم المقتدر على عيادته.

السنة العاشرة وثلاث مئة

السنة العاشرة وثلاث مئة فيها مرض عليٌّ بن عيسى، فعَزَم المقتدرُ على عِيادته، وبعث إليه ولده هارونَ [بن المقتدر]، ومؤنسًا [الخادم]، وجميعَ الخاصَّة، وأخبره مؤنسٌ [الخادم] أنَّ المقتدر عَزَم على عيادته، فانزعج، وسأل مؤنسًا أن يُعفى من ذلك، ثم أصبح وركب إلى دار الخليفة على ضَعْفٍ فيه؛ خوفًا لأن يعوده المقتدر. وفيها قبض المقتدرُ على أمِّ موسى القَهْرَمانة وأهلها وأسبابها في رمضان، واختلفُوا في السبب، فذكر ثابت بن سنان أنَّ أمَّ موسى زوَّجَت (¬1) ابنةَ أخيها أبي بكر محمدَ بنَ إسحاق بن المتوكّل على الله، وكان محمد من وجوه بني هاشم [وأولاد الخلفاء، وكانت له نعمة، وكان] حسنَ المروءة، كثيرَ النّعمةِ والغلمان والمواكب، وكان يُرشَّح للخلافة، [فلما وقعت المصاهرةُ بين أمّ موسى وبينه مُكّنَ] أعداؤها من السَّعْي عليها، وكانت [قد] أسرفَت في نَثْر المال على صهرها، وبلغ المقتدر أنَّها تريد أنْ تسعى له في الخلافة، فكاشفَتها السيدةُ أمُّ المقتدر وقالت: قد دبرْتِ على الخليفة، وصاهَرْتِ ابنَ المتوكل حتى تُقْعِديه في الخلافة، وجَمعْتِ له الأموال؟ ! وسلَّمَتها وأخاها وأختَها إلى ثَمَل القَهْرَمانة، وكانت ثَمَل موصوفة بالشرّ، قاسيةَ القلب، تُعاقب بأشدِّ العقوبات، فبسطَت على أمّ موسى وأهلها العذابَ، فاستخرجت منهم أموالًا عظيمةً وجواهرَ نفيسة، ومن الطيب والثياب والفُرُش والكسوة ما يَعظُم مِقدارُه، فيقال: إنَّه حصل من جهتهم ما مقدارُه ألفُ ألفِ دينار. [وهذا قول ثابت بن سنان وأما غيره فقال: ] إنَّ المقتدر اعتَلَّ، فبعثَت أمُّ موسى إلى بعض أهله ليقرِّرَ له الأمرَ، فكان ذلك سببَ القبض عليها، والأول أصحّ (¬2). وفي هذه السنة صرف المقتدرُ [أبا جعفر] أحمد بنَ إسحاق بن البُهْلُول عن القضاء ¬

_ (¬1) في (خ): وأسبابها في رمضان وسببه أنها زوجت، والمثبت من (ف م 1)، وانظر المنتظم 13/ 209، وتاريخ الإسلام 7/ 26، والأوراق للصولي 128، وتكملة الطبري 227، وصلة الطبري 95، والكامل 8/ 137. (¬2) ما بين معكوفين من (ف م 1) ولن أشير إليه دائمًا.

بدر الحمامي الكبير

بمدينة السلام، واستقضى [أبا الحسين] عمر بن الحسن الشَّيباني، المعروف بابن الأُشْناني، فجلس يوم السبت للحكم لسبعٍ بقين من ربيع الآخر، وصرف يوم الأحد، ولم يُرَ قاضيًا ولي يوم الخميس وصرف يوم الأحد غيره، أقام ثلاثة أيام بعد أن خلع عليه المقتدر (¬1). [قال الخطيب: ] وكان من جِلَّة الناس، ومن أصحاب الحديث، والحُفَّاظ المُجَوِّدين، وكان قد وَلي القضاء بالشام، والحِسْبَةَ ببغداد (¬2). وسنذكره في سنة ثمان عشرة وثلاث مئة إن شاء الله تعالى. وفي النصف من رمضان استقضى المقتدر عمرَ بنَ محمد بن يوسف بن يعقوب، وكان قبل ذلك يَخْلُفُ أباه على القضاء بالشرقية، ثم ولي قضاءَ مدينة أبي جعفر في حياة أبيه. وفيها قلَّد المقتدرُ نازوك الشرطةَ بمدينة السلام مكانَ محمد بن عبد الله بن طاهر (¬3). وفيها بعث الحسين بن أحمد الماذرائي من مصر إلى المقتدر هدايا، وفيها بغلة معها فلُوّ يتبعُها ويَرضَعُ منها، وغلامٌ طويل اللسان يضربُ لسانُه طرفَ أنفه. وفي يوم الفطر ركب الأميرُ أبو العباس بن المقتدر إلى المصلَّى، ومعه حامد بن العباس، وعلي بن عيسى، ومؤنس المُظَفَّر، وصلى بالناس إسحاق بن عبد الملك الهاشمي (¬4)، و [كان] إسحاق [قد] حج بالناس [في هذه السنة] أيضًا. وفيها توفي بدر الحَمَاميّ الكبير أبو النَّجم، المُعْتَضِديّ (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): المعروف بابن الأشناني، فجلس ثلاثة أيام، ثم صرف بعد أن خلع عليه المقتدر، والمثبت من (ف م 1). (¬2) تاريخ بغداد 13/ 92، وعنه المنتظم 13/ 210 - 211. (¬3) في تكملة الطبري 226، والمنتظم 13/ 210: مكان أبي طاهر محمد بن عبد الصمد. وهذا الخبر والذي قبله ليسا في (ف م 1) (¬4) من قوله: وفي يوم الفطر ... إلى هنا، ليس في (ف م 1). (¬5) ذكر مترجموه وفاته في سنة (311 هـ)، انظر تكملة الطبري 228، وتاريخ بغداد 7/ 602، والمنتظم 13/ 228، والكامل 7/ 145، وتاريخ الإسلام 7/ 234، ومختصر تاريخ دمشق 5/ 173. وأشار المؤلف إلى وفاته في سنة (311 هـ) نقلًا عن ثابت بن سنان آخر ترجمته.

كان في بدايته مع أحمد بن طولون بمصر، فولّاه الأعمال الجليلة، ومات أحمد، فأقام عند ابنه خُمارَويه، ولمَّا حاصر القِرْمِطيُّ دمشق في خلافة المكتفي، كان بها طُغْج [بن جُفّ الفَرْغاني] من قِبَل ابن طولون، جهَّز ابنُ خمارويه بدرًا [الحَمامي] في العساكر إلى دمشق مَدَدًا لطُغْج [بن جُفّ]، فلقي بدرٌ القرمطيَّ على كُناكِر من حَوران فقتله، ثم انصرف بدرٌ راجعا إلى مصر، فرُدَّ من الطريق واليًا على دمشق من قبل هارون بن خُمارويه، فقدمها في سنة تسعين ومئتين، فلما قتل هارون بن خمارويه قدم العراق -وقد ذكرناه- وقدم أصبهانَ (¬1) سنةَ ثلاث وثمانين ومئتين لإخراج عمرَ بن عبد العزيز، وقدمها واليا عليها سنةَ خمسٍ وتسعين، فتولَّاها إلى سنة ثلاث مئة. وكان عادلًا، حسنَ السيرة، مُحبًّا للعلم وأهله، ومنعَ الجندَ أنْ ينزلوا دورَ الناس بأصبهان، وكان يُقرِّب العلماء، ويرفَعُ منهم (¬2). ولما قدم من الشام إلى بغداد ولاه السلطان فارسَ، فأقام بها إلى أنْ مات. [قال أبو نعيم: ] وكان صالحًا مُستجابَ الدعوة، وطالت أيامُه فتمهَّدَت به البلاد، ويقال: إنَّه مات بشِيراز، وحُمِل إلى بغداد. ووقع يومًا من فرسه، فقال المُعوَّج الأنطاكي: [من البسيط] لا ذَنْبَ للطِّرْفِ إنْ زَلَّت قوائمُه ... وليس يَلحقُهُ من عائبٍ دَنَسُ حَملتَ بأسًا وجودًا فوقَه وندًى ... وليس يَقوى على ذا كلِّه الفَرَسُ أسند الحديث عن هلال بن العلاء الرَّقِّي وغيره، وروى عنه ابنُه محمد بن بدر الأصبهاني (¬3). ولما مات ولَّى المقتدرُ ابنَه محمدا مكانَه. [وقال ثابت بن سنان: ] مات سنة إحدى عشرةَ وثلاثَ مئة في صفر، [وكان على فارس وكَرْمان، ] ودُفن بشيراز، ثم نُبِش وحُمل في تابوت إلى دار السلام. ¬

_ (¬1) في (خ): واليًا على دمشق من قبل هارون بن خمارويه، ثم قدم العراق وقدم أصبهان، والمثبت من (ف م 1). (¬2) في (ف م 1): ويرفع منزلتهم. (¬3) من قوله: ووقع يومًا من فرسه ... إلى هنا؛ ليس في (ف م 1).

محمد بن جرير

محمد بن جرير ابن يزيد بن كثير بن غالب، أبو جعفر، الطَّبَري، صاحبُ التاريخ وغيره (¬1). وُلد في آخر سنة أربع وأوَّل سنة خمس وعشرين ومئتَين، وكان أسمرَ، مَديدَ القامة، أعينَ، مُلتَفَّ الجسمِ، فصيحَ اللسان، حسنَ الوجه. ولد بآمُل (¬2)، ثم نزل بغداد فاستوطنها، وأقام بها، وهو أحدُ أئمة العلم، يُحكَم بقوله، ويُرجَع إلى رأيه لفضله ومعرفته. وكان قد جمَعَ من العلوم ما لم يُشاركه فيه أحد من أهل عصره. وكان حافظًا لكتاب الله، بصيرًا بمعانيه، عالمًا بالسُّنَن وطُرقها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بالفقه وأقوالِ الصحابة والتَّابعين، عالمًا بالأحكام والحلال والحرام، وأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في التاريخ، وله كتاب التفسير لم يُصنَّف مثلُه، وكتاب "تهذيبُ الآثار" لم يُتَمِّمْه، وكتاب "أصول الفقه وفروعه"، وغيرُ ذلك، وتفرَّد بمسائلَ حُفِظَت عنه. وأقام أربعينَ سنةً يكتبُ كلَّ يوم أربعينَ ورقةً. وقال يومًا لأصحابه: أتَنْشَطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم مقدارُه؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا شيءٌ تفنى الأعمارُ قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثةِ آلافِ ورقة، ثم قال: أتَنْشَطون لتاريخ العالم من آدمَ إلى وقتنا؟ قالوا: وكم مقدارُه؟ فذكر نحوًا مما ذَكَر في التفسير، فأجابوا بمثل ذلك، فقال: إنا لله، ماتَت الهِمَمُ. ثم اختصره في نحو ما اختصر به التفسير. وأثنى عليه ابنُ عساكر وقال: صفّف (¬3) بضاعةً فسُرِقت، فاحتاج، وأفضى به الحال ¬

_ (¬1) ترجمة الطبري ليست في (ف م 1)، وانظرها في: تاريخ بغداد 2/ 548، وتاريخ دمشق 61/ 193، والمنتظم 13/ 215، والكامل 8/ 134، وسير أعلام النبلاء 14/ 267، وتاريخ الإسلام 7/ 161، وفي حواشيها مصادر أخرى. (¬2) في (خ): بآمد، وهو تحريف، والمثبت من تاريخ دمشق 61/ 198، 199. (¬3) كذا في (خ)، وفي تاريخ دمشق 61/ 198: وكانت معه بضاعة.

حتى باع كُمَّي قميصِه، فقال له بعض أصدقائه: أتَنْشَطُ لتأديب بعضِ ولد الوزير أبي الحسن عُبيد الله بنِ يحيى بن خاقان؟ قال: نعم. فمضى الرجل، وأحكم أمْرَه، وعاد إليه، فأوصلَه إلى الوزير بعد أنْ أعارَه ما يَلبَسُه، فلما رآه عُبيد الله قرَّبه، ورفع مجلسَه، وأجرَى عليه في كل شهرٍ عشرةَ دنانير، فلما جلس الولدُ بين يديه كتَّبه في اللوح، فكتب من ساعته، فأخذ الخادمُ اللوحَ ودخل مُستبشرًا، فلم تَبْقَ جاريةٌ إلا وأهدَت له صينيَّةً فيها دنانير ودراهم، فرد الجميعَ وقال: قد شُورِطْتُ على شيءٍ، فما آخُذُ غيرَه. وبلَغَ الوزيرَ، فأحضره وعاتَبه على ردِّه، فقال: هؤلاء عبيدٌ، والعبيدُ لا يَملكون، والشَّرطُ أملَكُ. فعَظُم في عينه. وقال ابن عساكر: عزم المكتفي على أنْ يُوقِفَ وقفًا يجمع أقاويلَ العلماء (¬1)، فجمعهم وفيهم ابنُ جرير، فكتب كتاب الوقف، وسَلِمَ من الخلاف على ما أراد المكتفي، فأعجبه، فأرسَلَ إليه بجائزة فردَّها، فقال له صافي الحرمي: أنتَ عند ستر أمير المؤمنين، وهو يسمعُك، ومَن وصل إلى هاهنا لم يخرج إلا بجائزة أو حاجة مَقضيَّة، فقال له: أما الجائزةُ فلا أقبلها، وأما الحاجةُ فأسألُ أنْ يَتقدَّمَ إلى صاحب الشُّرطة بمنع السُّؤال يوم الجمعة من دخول المقصورة التي في الجامع حتى تنقضيَ الجمعةُ، فتقدَّم الخليفةُ بذلك، وعَظُم في نفوسهم. وكان ابن جرير يميلُ إلى مذهب الظاهرية، واختارَ له مذهبًا، وكان يمسَحُ على قدمَيه ولا يغسلهما عملًا بظاهر الآية، فنُسِبَ إلى الرفْض. وقال محمد بن إسحاق بن خُزَيمة: التمس العباسُ بنُ الحسنِ بنَ جرير أن يُؤلفَ له كتابًا في الفقه، فألَّفه وبعَثَ به إليه، فأرسل إليه العباسُ ألفَ دينار، فردَّها وقال: معاذَ الله أنْ آخُذَ على العلم أجرًا. وقال الفَرْغانيّ: كان الطبري قد وقَفَ على علم الشافعيِّ، ثم أداه اجتهادُه ودينُه ونُصحه للمسلمين بأن اختارَ لنفسه قولًا لم يجد فيه نصًّا (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، وفي تاريخ دمشق 61/ 199: أريد أن أوقف وقفًا تجتمع أقاويل العلماء على صحته. (¬2) أي: لم يجد فيه نصًّا عند عالم يجب التسليم له بعلمه. انظر تاريخ دمشق 61/ 205.

ومن شعره: [من الوافر] إذا أعْسَرْتُ لم يعلمْ رفيقي ... وأَستَغني فيَستغني صديقي حَيائي حافظٌ لي ماءَ وَجهي ... ورِفْقي في مُطالبتي رفيقي ولو أنِّي سمَحْتُ ببَذْل وَجْهي ... لكنتُ إلى الغِنى سهلَ الطريقِ وقال أيضًا: [من الكامل] خُلُقانِ لا أرضَى طريقَهما ... بَطَرُ الغِنى ومَذلَّةُ الفقرِ فإذا غَنِيتَ فلا تكن بَطِرًا ... وإذا افْتَقرْتَ فَتِهْ على الدهرِ ذكر وفاته: لما كان يوم الاثنين وقتَ الظهر طلبَ ماءً ليُجدِّدَ الوضوءَ، فقيل له: أخِّر الظهرَ لتجمع بينها وبين العصر، فأبى، وصلَّى الظهرَ في وقتها، والعصرَ في وقتها، وقيل: كان ذلك يوم الأحد ليومين بقيا من شوال، فتوفِّي عَشيَّةَ الأحد، ودُفِنَ في داره برَحْبة يعقوب بباب خراسان، ولم يُؤذَن به أحدٌ، فلمَّا علم الناسُ اجتمع خَلْقٌ عظيم، وصلَّوا على قبره شهرًا ليلًا ونهارًا. وقال أبو الفرج رحمه الله في "المنتظم": كان أبو بكر بن أبي داود قد كتب في حقه ورقةً إلى نصر الحاجب شنَّع عليه بأشياءَ، منها: أنَّه يرى رأيَ جَهْمٍ، وأنَّه تَأوَّلَ قولَه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] أي: نعمتاه، ومنها ما روى ابنُ جرير أنَّ روحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا خرجَت سألَتْ في كفِّ علي بن أبي طالب فحَساها، قال: وإنَّما الحديثُ فمَسَح بها وجهَه (¬1). وقد رثى الطبريَّ أبو بكر بن الحسن بن دريد فقال: [من البسيط] لن تستطيعَ لأمر الله تعقيبا ... فاستَنْجدِ الصَّبرَ أو فاستشعرِ الحُوْبا وافزعْ إلى كَنَفِ التَّسليمِ وارْضَ بما ... قضى المُهيمنُ مَكروهًا ومَحبوبا إن العَزاء إذا عزَّته جائحةٌ ... ذَلَّت عَريكتُه فانْقاد مَجنوبا فإنْ قَرنْتَ إليه العَزْمَ أيَّده ... حتى يعودَ إليه الحُزْنُ مَغلوبا ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 217.

أودى أبو جَعفرٍ والعلم فاصطحبا ... أعظِمْ بذا صاحبًا أو ذاك مَصحوبا ومنها: أهوى الرَّدى للثَّرى إذ نال مُهجَتَه ... نجمًا على مَن يُعادي الحقَّ مَصْبوبا (¬1) إنَّ المنيَّةَ لم تُتْلِف به رجلًا ... بل أتْلَفَتْ عَلمًا للدين مَنصوبا كان الزمانُ به تَصفو مشاربُه. فالآن أصبح بالتَّكدير مَقْطوبا ودَّت بِقاعُ بلادِ الله لو جُعلَت ... قبرًا له فحَباها جسمُه طِيبا دامت حياتُك للدنيا وساكِنها ... نورًا فأصبح عنها النُّورُ مَحجوبا لو تعلمُ الأرضُ مَن وارَت لقد خشَعَت ... أقطارُها لك إجلالًا وتَرْحيبا وقال الخطيب: عاش خمسًا وثمانينَ سنةً، وكان السَّوادُ في رأسه ولحيته أكثرَ من البياض، وما غيَّر شيبَه قطُّ (¬2)، وسمع خلقًا كثيرًا، منهم: محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوارب، وأحمد بن مَنيع البَغَويّ، ويعقوب الدَّوْرَقيّ وغيرهم، وروى عنه أحمد بن كامل، وسليمان بن الأتم الطَّراري (¬3)، وأبو محمد الفَرْغاني وغيرهم. ورثاه أبو سعيد بن الأعرابي فقال: [من الخفيف] حَدَثٌ مُفْظِعٌ وخَطْبٌ جَليلُ ... دقَّ عن مثله اصطبارُ الصَّبورِ قام ناعي العلومِ أجْمَع لمَّا ... قام ناعي محمد بنِ جريرِ فهَوَتْ أنجمٌ لها زَاهِرات ... مُؤذِناتٌ رُسومُها بالدُّثور يا أبا جعفرٍ مضَيْتَ حَميدًا ... غيرَ وانٍ في الجدِّ والتَّشْمير * * * ¬

_ (¬1) في (خ): منصوبا، والمثبت من تاريخ بغداد 2/ 555، وتاريخ دمشق 61/ 212، والسير 14/ 281. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 533 - 354. (¬3) كذا في (خ)، ولعلها تحريف عن سليمان بن أحمد الطبراني، انظر تاريخ دمشق 61/ 194، وتاريخ الإسلام 7/ 161.

السنة الحادية عشرة وثلاث مئة

السنة الحادية عشرة وثلاث مئة فيها خُلِع على مُؤنس المُظَفَّر، وخرج في صفر من بغداد يريد الغزو، وخُلع على أبي الهَيجاء عبد الله بن حمدان، وقُلِّد فارس وكَرْمان، ثم عُدِل عنه إلى [إبراهيم بن] (¬1) عبد الله المِسْمَعي. وفي يوم الخميس لسبعٍ بقين من صفر -وقيل: ربيع الآخر- صُرِفَ حامد بنُ العباس عن الوزارة، وعلي بن عيسى عن الدواوين، فكانَت مدَّتُهما أربعَ سنين وعشرة أشهر وأربعة عشر يومًا، واستَوزر المقتدرُ أبا الحسن عليَّ بنَ محمد بن الفرات يومَ الخميس لسبع بَقين من ربيع الآخر، وهذه الدفعة الثالثةُ من وزارته، وخلع عليه وعلى ابنه المُحَسن، وشُرِط على ابن الفرات أنْ لا يُنْكِب حامدًا، وأنْ يُناظرَه على فَضْلِ الضَّمان بمَحْضرٍ من القضاة والشهود والكتَّاب، فإذا وَجَب عليه شيءٌ أخذ بعضَه، وسامحَه بالبعض، وقال المقتدر: هذا خَدمني مدةَ سنين، ولم يَصل إليه مني سوى رزق سنة واحدة، فلم يَطِب ذلك لابن الفرات، ولا هان عليه سلامةُ حامد وقد أمكنَتْه الفرصةُ منه. وكان حامدٌ لمَّا وَلِيَ الوزارةَ أحضر ابنَ الفرات وأسمعَه ما يكره من الشَّتْم القبيح، فقال له ابن الفرات: أنت في دار المملكة، وعلى بساط أمير المؤمنين، فانظر ماذا تقول، فليس هذا بَيْدر تقسمه، ولا أنا عامل تشتمُه وتلاطِمُه. ثم التفَتَ إلى شَفيع اللؤلؤي وكان حاضرًا فقال: عرِّف أميرَ المؤمنين أنَّ الحامل لحامد على الدخول في الوزارة -وليس مِن أهلها- أني أوجبتُ عليه ألفَ ألف دينار (¬2) من فَضْل ضمانه لأعمال واسط، فدخل في الوزارة ظنا منه أن يَنجوَ من المطالبة، وقد كان الأولى لما دخل في الوزارة أنْ يدعَ ضمانَ واسط؛ فَضْلًا عن أن يضمنَ السَّواد وغيرَه، فأما وزيرٌ وضامن فهذا أوَّلُ خيانته. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من تكملة تاريخ الطبري 11/ 228. (¬2) في الكامل 8/ 112: ألفي ألف دينار.

فلمَّا سمع حامد ذلك أمر أن يُؤخَذَ بلحيته، فما قام إليه أحدٌ، فقام حامدٌ بنفسه فأخذ بلحيته وأهانَه. وبلغ المقتدر، فبعَث خادما، فأقام ابنَ الفرات من المجلس، وردَّه إلى مَحبسه، وبقي في قلبه. فلمَّا عُزِل حامد وَوُلِّي ابنُ الفرات كان حامدٌ بواسط، فأودع أمواله وذخائرَه عند الناس، وأظهرَ أنَّ الخليفةَ قد استدعاه، ثم هرب من واسِط إلى حيث يأمَنُ على نفسه، وبلغ ابنَ الفرات فأخبر المقتدرَ، فأمر نازوكَ صاحبَ الشُّرطة بالمَسير إليه، فخرج من بغداد، فلقي جماعةَ من غلمان حامد وكُتَّابه بدَير العاقول، فقبض عليهم، وأخذ ما كان معهم من الأثقال. وأحس حامد فحاد عن الطريق واستَتَر، ودخل نازوك بغداد بما أخذ، فأخذ المقتدرُ المال والدوابَّ، وردَّ الضّالات إلى ابن الفرات. وأما حامد فإنَّه لبس كساءً على زي الرُّهبان، وقَصَد بابَ الخليفة مستجيرًا به، وسأل أن يكون مُعتَقَلًا في دار السلطان إلى حين مناظرته على وجهِ جميل، وشفَعَت فيه أمُّ الخليفة، فقال مُفْلح الخادم -وكان بينه وبين حامد عداوةٌ-: لئن فعلتُم هذا لم يتمَّ لابن الفرات أمرٌ وتَبطل الأموال، فبعث المقتدر بحامد إلى ابن الفرات، فأحسَنَ إليه، وأكرمه، وخاطبَه بالوزارة، وأفرد له دارًا كبيرةً، ونقل إليها الفُرُش والأمتعةَ، وكان يحمل إليه من الطعام والشراب مثلَ ما كان يُحمَل إليه وهو وزير. ثم إنَّ ابن الفرات خلا به ولاطَفَه، وقال له: قد علمتَ طَمعَ هذا الرَّجل -يعني المقتدر- وقد عزم على أنْ يُسلِّمك إلى ابني المحسِّن فيعذِّبك، وقد علمتَ جراءةَ المُحَسّن، فأطلعني على أموالك وما أودعتَه فإنَّ إنكارك لا يفيد، فقال: احلِف لي أنَّني متى أقررتُ بذلك لا تنالُني بمكروه، ولا تُسلمني إلى ابنك، فحلف له، فأطلعه على أمواله وذخائرِه ودفائنه وودائعه، فبلغ ذلك ألفَ ألف دينار ومئتي ألف دينار، فرفع ابن الفرات ذلك إلى الخليفة، فقال: هذه الأموال بالنسبة إلى نعمة حامد يسيرةٌ، سلِّمه إلى ابنك المحسن، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يحل لي ذلك بدون اليمين، فكيف وقد حلفتُ له، وضمنتُ أنَّه لا ينالُه مكروه، وما أبقى حامد (¬1) بقية، فبعث المقتدرُ فسلَّمه ¬

_ (¬1) في (خ): خالد.

إلى المحسن، فعذَّبه بأنواع العذاب وأهانَه أقبح هَوان، فلم يقرَّ بدرهم، فقال المحسن لخادمه القاسمي: اذهب به إلى واسط فعذِّبه هناك، فخرج به، فمات في الطريق، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ثم إنَّ ابن الفرات كاتب المقتدر في تسليم عليِّ بن عيسى إليه، فلم يمكنه، فكتب المحسن إلى المقتدر يقول: سلِّمه إلي وما أوذيه، بل أستخرجُ منه المال، فبعث به إليه، فقيَّده، وألبسه جُبَّةَ صوفٍ، وأهانه كما فعل بحامد، فقال: والله ما أملكُ سوى ثلاثة آلاف دينار، وما أنا من أهل الخيانة. وحضر نازوك يومًا والمُحسِّن قد أحضره وعليه الجُبَّة الصوف، فشرع يَشتمُه ويتهدَّده ويُهينه، فقام نازوك، فقال له المحسن: إلى أين؟ فقال: قد قبلْنا يدَ هذا الشيخ سنينَ كثيرة، فما يَطيبُ لي أنْ أراه على هذا الحال، ودخل على المُقتدر فأخبَرَه، فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا، وبعث ابنُ الفرات إلى ابنه المحسِّن فشتمه شتمًا قبيحًا ونال منه، وبعث إلى علي بن عيسى بمالٍ، وحمله مكرَّمًا إلى داره، ولم يؤخذ منه شيء، فسأَلَ الخروج إلى مكة، فأذن له المقتدر، فخرج إليها (¬1). وفيها نكب ابنُ الفرات أبا علي بن مُقْلَة، وكان كاتبًا بين يدَي حامد، وضيَّق عليه، وقيَّده، وطالبه بمالٍ كثير، فكتب ابنُ مُقْلَة إلى أبي عبد الله زنجي (¬2) كاتب ابن الفرات يقول: [من الطويل] تُرى حُرِّمَت كُتْبُ الأخلاء بينهم ... أبِنْ لي أمِ القرطاسُ أصبح غاليا فما كان لو ساءلْتَنا كيف حالُكم ... وقد دَهَمَتْنا نَكبَةٌ هيَ ماهيا صديقُك مَن راعاك عند شديدةٍ ... وكُلًّا تراه في الرَّخاء مُراعيا فهَبْكَ عدوِّي لا صديقي وربَّما ... رأيتَ الأعادي يَرحمون الأعاديا فأُوقِفَ ابنُ الفرات عليها، فرقَّ له وخَفَّف مُصادرته. ¬

_ (¬1) ينظر تكملة الطبري 11/ 229 وما بعد، والمنتظم 13/ 219، والكامل 8/ 140 - 141 - 142. ومن بداية السنة إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬2) في النسخ (خ ف م 1): أبي عبد الله بن نجا، والمثبت من الفرج بعد الشدة 1/ 322، وانظر تاريخ بغداد 2/ 379.

وفيها عمل ابن الفرات على إخراج مؤنس من بغداد، وكان مؤنس لمَّا وليَ ابنُ الفرات الوزارةَ غائبًا في الثَّغْر، فقدم بغداد في رمضان، والتقاه المُحَسِّن والقوَّادُ والخاصّ والعامُّ، واجتمع بالمُقتدر فرفع منه. وكَثُرت الأراجيف بإنكار مؤنس ما جرى على حامد وابن عيسى والكُتَّاب، وأنَّ أكثر العساكر يريدون أنْ ينضمُّوا إلى عسكر مؤنس، فعز على ابن الفرات، واجتمع بالمقتدر، وأغراه بمؤنس وقال: قد عَزم على التحكُّم على الخلافة، وأن يصير الأمر إليه، وجميع العساكر معه. فلمَّا دخل مؤنس على المقتدر قال له: ما شيءٌ أحبَّ إليَّ من أنْ تقيمَ ببغداد لآنَسَ بك، ولكن قد قلَّت الأموال بالعراق، وعسكرُكَ يحتاجون إلى الأرزاق، ومالُ الشام والمغرب ومصر كثيرٌ، وأرى أن تقيمَ بالرقَّة، والأموال تُحمَل إليك من كلّ جهة، ورسم له بالخروج من وقته بعسكره. فعلم مؤنس أنَّه رأيُ ابن الفرات -وكان بينهما عداوةٌ شديدة- فسأل مؤنسٌ من المقتدر أنْ يُمْهِلَه إلى العيد بقيةَ شهر رمضان، فأجابه، وأقام إلى نصف شوال، فلمَّا أراد المسير دخل على ابن الفرات مودِّعًا له، فقام له قائمًا، فاستعفاه فلم يُعْفِه، وكذا عند خروجه، وسأله في أشياء فأجابه، منها: تسليمُ الحسين بن أحمد ومحمد بن علي الماذرائيين، وكانا في مصادرة ابن الفرات، فسلمهما إليه، وقضى حوائجَه، وودَّع الخليفةَ وخرج في ذي القعدة إلى الرقَّة، واستوحش مؤنس (¬1). وفيها شرع ابن الفرات في نَكبة نصر الحاجب، لمَّا فرغ من أمر مؤنس تجرَّد له ولشَفيع المُقْتَدريّ، وكثَّر عليهما عند المقتدر وخاصَّةً نصر، ووَصَف أموالهما وضياعَهما وذخائرهما، فأجابه إلى تسليم نصر دون شفيع، فعلم نصر فلجأ إلى السيدة، فعَنِيَت به وقالت للمقتدر: قد أبعد ابنُ الفرات مؤنسًا عنك، وهو سيفك، ويريدُ أنْ ينكب حاجبَك ليتمكَّن منك، فيُجازيك على حسب ما عاملتَه به من إزالة نعمتِه وهَتْك حُرَمه، فليت شعري فبمَن تستعينُ على ابن الفرات والمُحَسِّن مع ما قد ظهر من ¬

_ (¬1) تكملة تاريخ الطبري 11/ 240، والكامل 8/ 143، وتاريخ الإسلام 7/ 206.

شرِّهما واستحلالهما الدماءَ أن يخلعاك؟ فوعدها بالكفِّ عن نصر. وكان نصر قد استتر، فبعثَت إليه السيدة: ارجع إلى خدمتك، فرجع، وأقام ابن الفرات يُغري به المقتدر ويقول: ضيَّع عليك في أمر ابن أبي السَّاج خمسة آلاف ألف دينار، ولو كانت باقية لأرضيت بها الجُند، فكان المقتدر مرةً يَستحي من والدته وخدمةِ نصر، ومرةً تَشْرَه نفسُه للمال. واتَّفق أنَّه وُجد في دار الخليفة رجل أعجمي، دخل مع الصنَّاع وخرجوا، وأقام أيامًا، فأُخذ وضُرب، وقُرّر فلم يُقر شيئًا، ولم يزد: ندانم (¬1)، وصُلب وأُحرق. وقيل: إنَّ ابن الفرات قال لنصر بحضرة المقتدر: ما أحسبُك ترضى لنفسك أن يجريَ في دارك ما جرى في دار أمير المؤمنين وأنت حاجبُه، وما تم هذا على أحد من الخلفاء قديمًا وحديثًا: أنَّ عدوّا يدخل دورَهم، ولو أراد بأمير المؤمنين سوءًا لقدر عليه، وكثَّر على نصر، فقال له نصر: ليت شعري، كيف أُدبِّر أنا على أمير المؤمنين؟ لأنَّه أخذ أموالي وَهَتك حريمي، وقبض ضياعي، وحبسني عشر سنين (¬2)! وجَرَت بينهما فصول، ويقال: إنَّ ابن الفرات فعل هذا ليتمكَّن من نصر، واندفع المكروه عن نصر (¬3). وفي شعبان أمر المقتدر برفع المَواريث، وردِّها إلى ما كانت عليه في زمان المُعْتَضد، وتوريث ذوي الأرحام، وأُظهِرَت نسخة كتبها القاضي أبو خازم في أيام المعتضد يقول: قد اختلف الناس في توريث الأقارب، فرُوي عن زيد بن ثابت أنَّه جعل التركةَ إذا لم يكن للميت مَن يَرثُه من عَصَبة أو سهم لجماعة المسلمين ولبيت مالهم، وخالفَه عمرُ بن الخطاب، وعليّ، وابنُ مسعود، وابنُ عباس، وغيرُهم من الصحابة، ورَدَّ ما يَفضل من السُّهمان على أصحاب السّهام من القرابة وذوي الأرحام، ¬

_ (¬1) (ندانم) كلمة بالفارسية تعني: لا أعرف أو: لا أدري، وانظر تكملة الطبري 11/ 240 - 241، والكامل 8/ 146. (¬2) في الكامل 8/ 146: لم أقتل أمير المؤمنين وقد رفعني من الزى إلى الثريا؟ إنما يسعى في قتله مَن صادره وأخذ أمواله وأطال حبسه هذه السنين وأخذ ضياعه. وانظر تكملة الطبري 11/ 241. (¬3) من قوله: وفيها عمل ابن الفرات على إخراج مؤنس ... إلى هنا ليس في (ف م 1).

إبراهيم بن السري بن سهل

والسنةُ تُعاضدهم في ذلك والكتاب؛ قال الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6]، ولو كان هذا القول في المسألة لا يدلُّ عليه شاهدٌ من الكتاب والسنة لكان الواجبُ تقليدَ الأفضل والأكبر من السابقين الأولين، وتركَ قول مَن سواهم ممَّن لا يَلحَق بدرجتهم بسابقته وسِنِّه، وقد روى المقدامُ بن مَعدي كَرِب أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخالُ وارثُ مَن لا وارثَ له، ويَخْلُفُه في عياله"، وروت عائشة وأبو هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك (¬1)، وهو قولُ عامة التابعين ... وذكر كلامًا طويلًا (¬2). وفيها دخل أبو طاهر سليمان بن الحسن الجَنَّابي القِرمطي إلى البصرة في ربيع الآخر لخمس بقين منه وقتَ السَّحَر في ألف وسبع مئة فارس، ونَصب السَّلالم، وصعدَ على الأسوار، ثم نزل البلدَ، وقتَلَ البوَّابين الذين كانوا على الأبواب، وفتح الأبواب، وطرح بين كلِّ مِصراعَين منها حصى ورملًا كان معه على الجمال؛ لئلَّا يمكن غَلْق الأبواب، ووَضَع السيفَ في أهل البصرة، وأحرَقَ المِرْبَد والجامعَ ومسجدَ طلحة، وهرب الناس، وألقَوا نفوسَهم في الماء فغرِق معظمُهم، [وأقام القِرمطي بالبصرة سبعة عشر يومًا ينقل على جماله كلَّ ما قدر عليه من الأمتعة والنساء والصبيان] وخرج عنها [بما أخذه] (¬3) يوم الخميس لاثنتَي عشرة ليلة من جمادى الأولى، وانصرف إلى بلده، واشتغل ابنُ الفرات بذلك عن نصر وغيرِه [، وحج بالناس إسحاق بن عبد الملك] (¬4). وفيها توفي إبراهيم بن السَّري بن سَهْل أبو إسحاق، الزَّجَّاج، الإمام الفاضل، مصنّف كتاب "معاني القرآن" وغيره. ¬

_ (¬1) أخرج حديث المقدام: أحمد (17175)، وأبو داود (2899) و (2900)، والدارقطني (4116). وأخرج حديث عائشة: الترمذي (2104)، والدارقطني (4112) و (4113). وأخرج حديث أبي هريرة - رضي الله عنهم -: الدارقطني (4121) و (4122). وليس فيها: "ويخلفه في عياله". (¬2) من قوله: وأظهرت نسخة كتبها القاضي أبو خازم ... إلى هنا ليس في (ف م 1). (¬3) ما بين معكوفين من (ف م 1). (¬4) في صلة تاريخ الطبري 11/ 102 أن الذي حج الفضل بن عبد الملك.

قال: كنتُ أخْرِطُ (¬1) الزُّجَاج، فاشتهيتُ النحو، فلزمتُ المبرِّد لتعلُّمه، وكان لا يُعلِّم مجَّانًا، ولا يعلِّم بأجرة إلا على قدرها، فقال لي: أي شيءٍ صناعتُك؟ قلتُ: أخرُطُ الزُّجاج، وكسبي كل يومٍ درهمٌ، وأشترطُ أنْ أعطيَك إيَّاه إلى أن يُفرِّقَ الموتُ بيننا إن استغنَيتُ عن التعليم أو احتجْتُ إليه. ولزمتُه، وكنتُ أخدمُه في أموره، ومع ذلك فأعطيه الدرهم، فينصحُني في العلم حتى استقلَلتُ، فجاءه كتابُ بعض بني مارية (¬2) من الصَّرَاة يلتمسون معلمًا نحويًّا لأولادهم، فقلت له: أَسْمِني لهم، فسمَّاني، فخرجتُ فكنتُ أعلِّمهم، وأُنفذ إليه كل شهر ثلاثينَ درهمًا، وأتفقده بعد ذلك بما أقدرُ عليه، ومضت مدة، فطلب منه عبيد الله بن سليمان (¬3) الوزير مؤدِّبًا لابنه القاسم، فقال: لا أعرف لك إلا رجلًا زجَّاجًا بالصراة مع بني مارية. فكتب إليهم عبيد الله فاستَنْزَلهم عني، فأحضرني، وسلَّم إليَ القاسم ابنَه، فكنتُ أعطي المبرد كلَّ شهر ثلاثينَ درهمًا إلى أن مات، وأتفقدُه مع ذلك بحسب طاقتي. وقال الزجَّاج: كنتُ أؤدِّبُ القاسم بنَ عبيد الله فأقول له: إنْ بَلغك الله منازلَ أبيك، ووَليتَ الوزارةَ، ما تصنع بي؟ فيقول: مهما أحببتَ، فأقول: تُعطيني عشرين ألف دينار، وكانت غايةَ أُمنيّتي. فما مضت إلا سِنون حتى وَلي القاسمُ الوزارة، وأنا على مُلازمتي له وقد صرتُ نَديمَه، فدعتْني نفسي إلى إذكاره بالوَعْد ثم هِبْتُه، فلما كان اليوم الثالث من وزارته قال لي: يا أبا إسحاق، لم أرك أَذكرتَني بالنَّذر! قلتُ: عوَّلتُ على رعاية الوزير أيَّده الله، وأنَّه لا يحتاج إلى إذكارٍ في أمرِ خادمهِ واجبِ الحقِّ، فقال: إنه المعتضد، ولولاه ما ¬

_ (¬1) في (خ): أخرج، وهذه الترجمة والثنتان بعدها ليست في (ت م 1)، والمثبت من مصادر ترجمته، انظر: تكملة الطبري 11/ 236 - 237، وتاريخ بغداد 6/ 614، ومعجم الأدباء 1/ 130، والمنتظم 13/ 223، وتاريخ الإسلام 7/ 233، والسير 14/ 360 وفي حواشيه مصادر أخرى. (¬2) في معجم الأدباء 1/ 131: بني مارقة، وفي سائر المصادر: بني مارمة، بميمين، والمثبت موافق لنشوار المحاضرة 1/ 275. (¬3) في (خ): أبو عبد الله بن سليمان، والمثبت من المصادر.

تعاظَمني ذلك أن أدفعَه من مالي، ولكن أخافُ أنْ يصيرَ لك معه حديث؛ فاسمح لي بأخذها متفرقةً، قلتُ: أفعل، فقال: اجلس للناس وخُذ رِقاعَهم في الحوائج الكبار، واستَجْعِلْ عليها، ولا تَمنع من مسألتي شيئًا صحيحًا كان أو مُحالًا، إلى أنْ يَحصُل لك غرضُك من مال النَّذْر. فكنتُ أعرِضُ عليه كلَّ يومٍ رِقاعًا، فيُوقع فيها، وربما قال: كم ضُمِنَ لك على هذا؟ فأقول كذا وكذا، فيقول: غُبنْتَ، هذا يُساوي كذا وكذا فاستزِدْ، فلا أزالُ أماكِسُهم ويَزيدونني حتى أبلغَ الرسمَ الذي رسمه، فحصل عندي أكثرُ من عشرين ألف دينار في مُدَيدة، فقال بعد شهور: يا أبا إسحاق، حصل مالُ النَّذْر؟ فقلتُ: لا، فسكَتَ. ثم كان يَعرِض لي في كلِّ شهرٍ أو نحوه فأقول: لا، خوفًا من انقطاع الكَسْب، وقد حصل لي أضعافُ ذلك، فسألني يومًا، فاستَحْيَيتُ من الكذب المتَّصل فقلت: قد حصل ذلك ببركة الوزير، فقال: فَرَّجْتَ والله عنِّي، فقد كنتُ مشغولَ القلب إلى أن تحصَّل لك غَرضُك. ثم وقَّع لي من ماله بثلاثة آلاف دينار صِلةً، فأخذتُها، وامتنعتُ أن أعرضَ عليه شيئًا، ولم أَدْرِ كيف أصنعُ، ولا كيف أقعُ منه، فلمَّا كان من غدٍ حيَّيتُه وجلستُ، فقال: هات ما معك، فقلت: ما أخذتُ من أحدٍ رقعة لأنَّ الغَرَض قد حصل، فقال: سبحان الله، أتُراني كنتُ أقطعُ عنك شيئًا قد صار لك به عادة، وعلم الناسُ به، وصار لك عندهم جاهٌ ومنزلةٌ، وغُدوٌّ ورَواح إلى بابك، أفأقطعُ ذلك عنك فيظنّوا أنَّ جاهَك قد ضعُف عندي، أو تغيَّرت رتبتُك؟ ! اعرض عليَّ رَسْمَك وخُذْ بغير حساب، فقبَّلتُ يدَه وباكرتُه بالرِّقاع، فكنتُ أعرض عليه كلَّ يوم إلى أن مات. قال المصنف رحمة الله عليه: وهذه الحالة هي التي أسقطَت حُرمةَ الزجَّاج من عين القاسم، حتى كان يُباسِطُه بالعَظائم. وحكى الخطيب عن الزجَّاج أنَّه كان جالسًا عند القاسم، فجاء خادمٌ فسارَّه بشيء، فقام القاسم فدخل، ثم خرج وهو واجِمٌ، فقال له: ما الذي بالوزير؟ فقال: كانت تتردَّدُ إلينا جاريةٌ لبعض المُغَنِّيات فعشقتُها، وسألتُ مولاتَها بيعَها فأبت، ثم أُشير عليها تُهديها إلي رجاء أن أُضاعفَ لها ثمنَها، فأرسلَتْها الساعة، فجاء الخادم وسارَّني

أحمد بن حمدان

بحديثها، فقمتُ فَرِحًا لأفتضَّها فوجدتُها حائضًا، فضاق صدري لهذا، فأخذ الزجَّاج الدَّواة وكتب: [من المديد] فارسٌ ماضٍ بحَرْبته ... حاذِقٌ بالطَّعْنِ في الظُّلَمِ رامَ أن يُدمي فَريسَتَه ... فاتَّقَتْهُ من دَمٍ بدمِ واجتاز الزجَّاج يومًا ببغداد، وكان النَّيروز، فرش عليه بعضُ الصبيان الماء فنفضَه من ثيابه وقال: [من الطويل] إذا قلَّ ماءُ الوَجهِ قل حياؤُه ... ولا خيرَ في وجهٍ إذا قلَّ ماؤه وجرى بينه وبين رجلٍ من أهل العلم شرّ، فشتَمَه الزجَّاج، فكتب إليه الرجلُ: [من الوافر] أبي الزجَّاجُ إلَّا شَتْمَ عِرضي ... ليَنْفَعَه فآثَمَهُ وضَرَّهْ وأُقسِمُ صادقًا ما كان حُرُّ ... ليُطلِقَ لفظةً في شَتْم حُرهْ فلو أنِّي كرَرْتُ لفرَّ مني ... ولكنْ للمَنونِ علي كَرهْ فأصبحَ قد وقاه الله شَرِّي ... ليومٍ لا وَقاهُ الله شرَّهْ وبلغَ الزجَّاجَ، فمشى إليه راجلًا واسترضاه، وسأله الصَّفْحَ فصفح عنه. وتوفي الزجَّاج يوم الجمعة في جُمادى الآخرة ببغداد، وأخذ النحوَ عن المبرد وغيره، ولم تظهَر له روايةُ حديث. أحمد بن حَمدان ابن علي بن سِنان، أبو جعفر، الحِيريُّ، الزَّاهد، النَّيسابوري (¬1). كان من الأبدال، مُجابَ الدَّعوة، وصنَّف كتاب "الصحيح" على شرط مسلم، فعَازَه أحاديثَ ليتِمَّه، فسافر إلى البلاد بهذا السبب، وعاد إلى نيسابور فتوفي بها. روى عنه ابناه محمد وأبو عمرو، وأبو عليّ الحافظ وغيرُهم، وحديثه بنيسابور، ولقي أبا حَفْص وغيرَه. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 185، وطبقات الصوفية 332، والمنتظم 13/ 223، والسير 14/ 299، وتاريخ الإسلام 7/ 239.

أحمد بن محمد بن هارون

وحكى عنه الحاكم أنَّه قال: أنت تُبغِض (¬1) أهلَ المعاصي بذَنبِ واحد تظنُّه، ولا تُبغضُ نفسَك مع ما تَتَيَقَّنُهُ من ذنوبك. أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر، الخَلَّال، صاحبُ الإمام أحمد رحمه الله (¬2). جمع من علومه ما لم يجمعه أحدٌ، ودوَّنها، وسافر لأجلها، ولم يكن في أصحابه مَن اعتنى بها مثلُه، وكلُّ مَن تَمَذْهب للإمام أحمد رحمة الله عليه يأخذ من كتبه. وتوفي يوم الجمعة لليلتَين خلَتَا من ربيع الأول، ودُفن قريبًا من الإمام أحمد إلى جانب المَرُّوذي، وصلَّى عليه أبو عمر حمزة بن القاسم القاضي. سمع الحسنَ بن عَرَفة وغيرَه، وروى عنه عبد العزيز بنُ جعفر وغيرُه، وكان لا يفرِّق بين قوله: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، فقيل له في ذلك فقال: قَولي في كتبي كلها: حدثنا. [فصل: أحمد بن عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز بن المَرْزُبان، أبو الطيِّب، البَغَويّ، ويُعرف بابن أبي القاسم (¬3). تُوفي في حياة أبيه، وحدَّث عن أبيه، وعن الحسن بن محمد بن الصبَّاح الزَّعْفَراني وغيره. وأخرج له الخطيبُ حديثًا رواه عن أبي إِشْكاب -واسمه محمد بن الحسين- بإسناده إلى ابن عباس: أنَّ رجلًا سأله عن عمل التَّصاوير وقال: إنِّي رجل أُصوِّرُها، فقال ابن عباس: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ اللهَ يُعذِّبُ المُصَوّرين" (¬4)، فقال: إنَّ لي عيالا، فقال: صَوِّر، ولا تُصَوّر شيئًا فيه روح. ¬

_ (¬1) في (خ): أذنب بعض، والمثبت من طبقات الصوفية والمنتظم. (¬2) تاريخ بغداد 6/ 300، والمنتظم 13/ 220، وتاريخ الإسلام 7/ 232، والسير 14/ 297. (¬3) تاريخ بغداد 5/ 369، وتاريخ الإسلام 7/ 230، وهذه الترجمة من (ت م 1)، وليست في (خ). (¬4) أخرجه بنحوه أحمد (1866) و (2162)، والبخاري (2225) و (5963)، ومسلم (2110).

حامد بن العباس الوزير

وفيها توفي] حامد بن العباس الوزير كان يَنظر قديمًا بفارس، ثم انتقل إلى النَّظَر بواسط والبصرة والأهواز، وكان موسرًا، له أربعُ مئة مملوك يحملون السلاحَ، ولكلِّ مملوك مماليك، وكان يخدمُه ألف وسبع مئة حاجب، واستوزَرَه المقتدر سنةَ ست وثلاث مئة، وقد ذكرناه. وكان ظاهر المروءة، جوادًا، سَمْحًا، كثيرَ العطاء، [فحكى الصولي أنه] شكا إليه شفيع المُقتدري فَناءَ شعيره، فكتب له بمئة كُر، وكذا لنصر الحاجب، ولابن الحَواري، ولأمِّ المقتدر (¬1)، ولمؤنس الخادم. وحكى القاضي التنوخي عن بعضِ الكتَّاب (¬2): حضرتُ مائدةَ حامد، وكنتُ أسمع أنَّه يُنفقُ عليها في كلِّ يوم مئتي دينار، فحضرت بين يدَي حامد مائدةٌ عليها ألوانُ الأطعمة، فاستَقْلَلْتُها بالنسبة إلى ما كان يُقال عنه، ثم خرجتُ من عنده وإذا في الدار نيفٌ وثلاثون مائدةً منصوبة، على كل مائدةٍ عشرون نفسًا، وفي مجالس أخرى عليها ثلاثون نفسًا، فرأيت ما هالني (¬3). وذكر القاضي التَّنوخي: أنَّ حامدًا رأى في دِهليزه يومًا قِشرَ باقِلاء، فأحضر وكيله وقال: ويلك يُؤكَلُ في داري الباقلاء؟ فسأل وإذا به من فِعْل بعضِ البوَّابين، فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: نبعثُ بجِراياتِنا من اللَّحم إلى عيالنا، ولا يطيبُ لنا أنْ نأكلَها دونَهم، فنحن نأكلُ الباقلاء. فقال: أجروا لعيالهم اللحم، وأطعموا البوَّابين من الموائد. [وقال التنوخي: ] رفعَت له امرأةٌ رُقْعةً تذكر فيها فَقْرَها، فوقَّع عليها بمئتَي دينار، فأنكرها الجِهْبِذ، وعرَّفه فقال: والله ما كان في نفسي إلا أنْ أطلقَ لها مئتَي درهم، ولكنَّ الله أجرى لها، فأعطِها فإنِّي لا أرجع عن ذلك، فلمَّا كان بعد أيامٍ وقف له رجلٌ بقصَّة وقال: أيها الوزير، إنَّك أطلقْتَ لزوجتي مئتي دينار، وقد استطالت عليَّ وطلبَت ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، وفي المنتظم 13/ 229، وصلة تاريخ الطبري 73: وكتب لأم موسى، وانظر ما لم ينشر من أوراق الصولي 125. (¬2) في (خ): وقال بعض الكتاب، والمثبت من (ف م 1). (¬3) المنتظم 13/ 229.

الطلاق، فضحك حامدٌ، وأطلَقَ له مئتي دينار، وقال: قد صار لك الآن مثلَ ما لها، فهي لا تُطالبُك بالطلاق (¬1). [وقال المُحَسِّن: ] كان إذا سافر ومعه حُرَمُه نزلوا في حَزَاقة، والملاحون الذين فيها خِصيان ليس فيهم فحل. [وحكى المحسن أيضًا أن حامدًا] خرج يومًا إلى بستانه، فرأى في طريقه دارًا مُحترقة، وشيخًا قائمًا يبكي، وحولَه صبيانٌ ونساءٌ يُوَلْولون، فسأل عنهم فقيل له: هذا رجلٌ تاجرٌ احترَقَت دارُه وافتقر، فوَجَم ساعةً، ودعا وكيلَه وقال: [أريد أنْ أندُبَك لأمر، إنْ فعلتَه كما في نفسي أحسنتُ إليك وفعلتُ معك كذا، وإنْ تجاوزتَ فيه رَسْمي فعلتُ بك وصنعتُ، فقال: مُرْ بأمرك، فقال: ] قد اجْتَزْتُ بهذه الدار، وقد ضاق صدري على الشيخ، وآلمني قلبي، وتنغَّصَت علي نُزهتي بسببه، وما تسمحُ نفسي بالتوجُّه إلى بستاني إلا بعد أنْ تضمَن لي أنِّي إذا عدتُ [العشيةَ] من البستان أن أجدَ الشيخ في داره، وهي كما كانت مبنيةً نظيفةً، وفيها صنوف المتاع والفُرُش مثل ما كانت وأكثر، وتحضر إليها كسوةُ الشتاء والصيف للشيخ ولعياله، فقال: تقدم إلى الخازن (¬2) بأنْ يُطلِق ما أُريده، وإلى صاحب المَعونة أنْ يقفَ معي، ويُحضرَ ما أطلبه من الصُّنَّاع والآلات. فأمر بذلك -وكان الزَّمان صيفًا- فأحضر الصُّنَاع والفَعَلة، وشرعوا، وأقاموا الدار كما كانت، وسُقِفَت وبيّضَت، وبقيت الطوابيقُ، فكتب الوكيلُ إلى حامد يسألُه أنْ يلبَثَ في البستان إلى العِشاء الآخرة، فأقام، وكتَبَ الوكيلُ جميع ما ذهب للشيخ حتى المِقْدَحَة والمِكْنَسَة، وأُحضِرَت الصَّناديق، وامتلأت الخزائنُ بالأمتعة، وكمُلَت الدارُ، واجتاز حامد بها وقد اجتمع الناس كأنَّه يومُ عيد، والناس يَضجّون بالدعاء له، وحمل حامد إلى الشيخ خمسةَ آلاف درهم يزيدُها في بضاعته، ثم سار حامدٌ إلى داره. ¬

_ (¬1) الخبران في نشوار المحاضرة 1/ 22، 41، وعنه في المنتظم 13/ 229 - 230، وتاريخ الإسلام 7/ 235، والسير 14/ 357. (¬2) في (ف م 1): تأمر الخازن، وما سلف بين معكوفين منهما، وانظر المنتظم 13/ 231، وصلة تاريخ الطبري 235 - 236، وتاريخ الإسلام 7/ 237.

قد ذكرنا أنَّ المقتدر لمَّا نكبَ حامدُ أمر ابنَ الفرات أنْ [لا يُعارضَه ولا] يناظره [إلا] بمحضرٍ من القُضاة والكتَّاب، [وحضور] مُفْلح الخادم وكان بينهما عداوةٌ، فأغلظ له مفلح، فقال حامد: والله لأبتاعنَّ مئة أسودَ مثلِك وأجعلهم قوَّادًا، وأسمِّي كلَّ واحد مفلحًا، فنقل مفلح إلى الخليفة عن حامد ما لم يَقُلْه، فسلَّمه إلى المُحَسِّن بن الفرات، فعذَّبه، ثم بعَث به إلى واسط مع خادمه القاسمي (¬1) ليعذِّبَه هناك، وكان في رمضان، وأخذ حامدٌ بيضًا يتحسَّاه نِيم رُسْته (¬2) في الطريق، فتحيَّل الخادمُ حتى سمَّه في بعضه، فلَحِقَه ذَرَبٌ عظيمٌ، ودخل واسطًا وهو مُثْقَل، فسلَّمه إلى محمد بن علي البَزَوْفَري، وكان ينظُر في واسط من قبل حامد. وأسرع الخادمُ إلى بغداد، فأراد البَزَوْفَري أن يحتاط لنفسه، فأحضر قاضيَ واسط وشهودها ليَشهدوا عليه أنَّه مات حَتْف أنفه، وأنَّه لا صُنْعَ للبزوفري فيه، وكتبوا كتابًا وقالوا: نشهدُ عليك، فقال حامد: اشهدوا أنَّ ابنَ الفرات الكافرَ الفاجرَ الرافضي الزنديق عاهدني إن أقرَرتُ بأموالي لا ينالُني بمكروه، فأقررتُ له بها، فسلمني إلى ابنه الفاجر، فعذَّبني بأنواع العذاب، وأخرجني إلى هذا البلد مع خادم القاسم بن عبيد الله، وكان أهذا الخادم، يتولَّى قتلَ النفوس للقاسم، فغافلني وسقاني سُمًّا في بيض فقتلني، ولا ذَنْب للبزوفري في دمي إلى وقتنا هذا، ولكنَّه كفر إحساني إليه، فاشهدوا عليّ بما قلتُ. وكتَبَ صاحبُ البريد إلى المقتدر بذلك، ومات حامدٌ لثلاث عشرة ليلة خَلَت من رمضان، فكان بين وفاته ومقتل الحَلّاج تسعة أشهر وعشرة (¬3) أيام. وقيل: إنَّ الذي سمَّه في البيض المُحَسِّن، وخرج من بغداد مَسْمومًا (¬4). ¬

_ (¬1) في (م 1) و (ف): مع خادمٍ له يقال له القاسمي. (¬2) نيم رسته: كلمة فارسية تعني: نصف ناضج (نيم: نصف، رسته: نام)، ينظر المعجم الذهبي ص 236 و 582. (¬3) في (م 1) و (ف): وسبعة. (¬4) صلة الطبري 11/ 235، والمنتظم 13/ 232، والكامل 8/ 140.

محمد بن إسحاق

محمد بن إسحاق ابن خُزَيمة بن المُغيرَة، أبو بكر، الحافظ، السُّلَميُّ، النيسابوريُّ، مولى مُجَشِّر بن مُزاحم. طاف الدنيا في طلب الحديث، وصار مُبرِّزًا فيه، وتوفي بنيسابور ليلةَ السبت ثامن ذي القعدة، ودفن بداره، ثم صارت مَقْبُرَة. سمع إسحاق بن راهويه، وأحمد بن مَنيع، وبشر بن معاذ وغيرهم. وروى عنه جماعة من مشايخه، منهم: البخاريُّ، ومسلم، وغيرهما، وأجمعوا على صدقه وأمانته وفضله (¬1). أبو محمد الزَّاهد الجُريري، بضمِّ الجيم (¬2). واسمه: أحمد بن محمد بن الحسين، وقيل: الحسن بن محمد، وقيل: عبد الله بن يحيى، والغالبُ أنَّ اسمه كنيتُه. وهو أحدُ المشايخ الصوفية (¬3)، ولمَّا مات الجنيدُ أقعدوه مكانه لحُسْن طريقته، وفضله، وقدمه. [وفي رواية: ] قيل للجنيد: مَن نُقعِدُ بعدك؟ فقال: الجريري [، وصحب سهل بن عبد الله أيضًا. ذكر طرف من أخباره: روى عنه أبو عبد الرحمن أنه قال: ] ما مَدَدتُ (¬4) رجلي منذ عشرين سنة عند جلوسي ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 233، والسير 14/ 365، وتاريخ الإسلام 7/ 243. وهذه الترجمة ليست في (ت م 1). (¬2) ضبطه الذهبي في المشتبه 150 بفتح الجيم على أنه من أولاد جَرير بن عبد الله البجلي، قال ابن ناصر الدين في توضيحه 2/ 281: وضبطه أبو القاسم القشيري بفتح الجيم كما تقدم، وقد قيده بعض المؤرخين بضم الجيم. (¬3) في (ف م 1): وفيها توفي أبو محمد الجريري، واختلفوا في اسمه على أقوال أحدها ... والثاني ... والثالث: عبد الله بن يحيى ... وهو أحد مشايخ القوم. والمثبت من (خ). وانظر ترجمته في: طبقات الصوفية 359، وحلية الأولياء 10/ 347، وتاريخ بغداد 6/ 116، والرسالة القشيرية 100، والمنتظم 13/ 221، ومناقب الأبرار 1/ 443، والسير 14/ 467، وتاريخ الإسلام 7/ 231. (¬4) ما بين معكوفين من (ف م 1)، بدله في (خ): قال الجريري: ما مددت.

في الخَلْوة، فإنَّ استعمال الأدب مع الله أولى. وقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: أقام الجريري بمكةَ في سنة اثنتين وتسعين ومئتين سنةً لم يأكل ولم يَشرب ولم يَنَم، ولم يستند إلى شيء، ولم يمد رجليه، وكان مُقامه في المسجد الحرام، فقيل له: بم قَدَرْتَ (¬1) على هذا؟ فقال: علم الله صِدْق باطني فأعانني على ظاهري. [وحكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: حَججْتُ وقَدِمتُ منزلي، فأتيتُ الجنيدَ لئلَّا يتعنَّى [لزيارتي]، فسلَّمتُ عليه ثم انصرفتُ، فلمَّا كان في اليوم التالي صلَّيتُ الفجر في المسجد، فلمَّا سلمتُ إذا بالجنيد خلفي، فقلتُ: يا أبا القاسم، إنَّما بدأتُ بك أمس لئلَّا تتعنَّى، فقال: ذاك فضلُك وهذا حقك. [وحكى عنه أيضًا أنه] قال: كنتُ في مسجد مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانكسَفَ القمرُ ليلةَ جمعة، فنظرتُ فإذا به أسودُ، مكتوبٌ في وسطه بالنور: أنا الله وحدي، فغُشِيَ علي حتى أصبحتُ. وقال لأصحابه: هل فيكم مَن إذا أراد اللهُ أنْ يُحدِثَ حدثًا في المملكة أبدى علمه إليه قبل إبدائه إلى الكون؟ قالوا: لا، قال: فمُروا وابكوا على قلوبٍ لم تَجِد من الله شيئًا من هذا. وقال: مَن رَضِيَ بدون قَدْره رفَعَه الله فوق غايته. وقال: عَبيدُ النِّعم كثيرٌ، وعبيدُ المنعم يَعِزُّ وجودُهم. وقال في تأويل قوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] قال: سامعين من الله، قائلين بالله. وقال: إن الذي يقرأُ القرآن لينال بقراءته جزاءً، ثم أعطي الجنة فقد رضي بالقليل؛ لأن الجنة مَخلوقةٌ والقرآن قديم. وقال: مَن تحلَّى بشاهد الحقِّ عُصِمَ، ومَن تحلَّى بشاهد نفسه قُصِمَ. ¬

_ (¬1) في (ف م 1): وفي رواية فقيل له كيف قدرت. والمثبت من (خ).

وقال: قال لي الجُنيد: يا أبا محمد، ما معنى قوله - عليه السلام -: "أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ ولا فَخْر"؟ (¬1) قلتُ: معناه: أنَّني لا أفتخرُ بالعطاء، بل أفتخر بالمعطي، فقال: أحسنتَ. وسئل الجريري عن قوله تعالى: {يَاليتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23] فقال: الخواصُّ لهم إشْراف على ما يَتَجَدَّد من الحوادث، فلمَّا ولدت مريمُ عيسى أشرفَت على ما سيكون، فغمَّها أنْ يكونَ منها ما يُنسَب إلى الربوبية، فقالت: يا ليتني متُّ قبل أنْ أحملَ بمَن يتَّخذُه الناس إلهًا، فأنطق الله عيسى فقال: إنّي عبد الله آتاني الكتاب، والعبدُ لا يكونُ إلهًا. ومما أنشد الجريري: [من الكامل] قِفْ بالدِّيار فهذه آثارهم ... تبكي الأحبَّةَ حَسْرةً وتَشَوُّقا كم قد وقفتُ بها أسائلُ مُخبِرًا ... عن أهلها أو صادقًا أو مُشْفِقا فأجابني داعي الهوى في رَسْمها ... فارقْتَ مَن تَهوَى فعَزَّ المُلتقى وأنشد أيضًا: [من الطويل] شكرتُكَ لا أنِّي أُجازيك مُنْعِمًا ... بشُكري ولكن كي يقال له شُكْرُ فأذكرُ أيامي لدَيك وحُسْنَها ... وآخرُ ما يبقى على الذَّاكرِ الذّكْرُ ذكر وفاته (¬2): حكى الخطيبُ، عن السُّلَمي، عن أبي سعيد الرَّازي قال: تُوفّي الجريري في سنة وقعة الهَبِير، وكانت في سنة إحدى عشرة وثلاث مئة. قلتُ: وقد اختلفوا في وقعة الهبير على قولَين: أحدهما -: أنَّ القِرمطي عارضهم في سنة إحدى عشرة وثلاث مئة، والثاني: في سنة اثنتي عشرة. وحكى الخطيب عن أحمد بن عطاء الرُّوذَباري أنَّه قال: مات الجريري سنة الهَبِير، فاجتَزْتُ به بعد سنة، وهو مستندٌ جالسٌ ورُكبتُهُ إلى صدره، وهو يشير إلى الله تعالى بأُصبعه (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - (2546). (¬2) جاءت وفاة الجريري في (خ) مختصرة، فأثبت سياق (ف م 1) لوضوحه وتمامه. (¬3) بعدها في (ف): والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

السنة الثانية عشرة وثلاث مئة

السنة الثانية عشرة وثلاث مئة فيها في يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم عارض أبو طاهر بن أبي سعيد الجَنَّابي قافلةَ الحاج قريبًا من الهَبير، وسنُّه يومئذٍ سبع عشرة سنة، وهو في ألف فارس وألف راجل، وكان في القافلة أبو الهَيجاء عبد الله بن حَمْدان -وطريق مكة وبَذْرَقةُ (¬1) الحاج إليه- وأحمد بنُ بدر عمُّ السيدة والدةِ المقتدر، وشقيق (¬2) خادم السيدة، وجماعة من الأعيان، فأسَرَهم أبو طاهر، وأخذ الأموال والجمال، والنساء والرجال والصبيان، وسار بهم إلى هَجَر، وترك باقي الحاج مواضعَهم بغير زادٍ ولا رَواحل، فمات أكثرُهم بالعطش والحفاء. وبلغَ الخبرُ إلى بغداد فانقلبَت من الجانبَين، وخرج النساءُ مُنشرات الشعور، مُسَودات الوجوه، يَلْطِمْنَ ويَصْرُخن في الشوارع، ثم انضاف إليهم حُرَمُ الذين نكبَهم ابنُ الفرات، فكانت صورةً شَنِعةً لم يُرَ مثلُها. وبلغ المقتدرَ الخبرُ، فضعُفَ أمرُ ابن الفرات، واستدعى نصرًا الحاجب فأدخله في المُشاورة، وتمكَّن منه نصرٌ وقال له: الساعةَ تقول أيُّ شيءٍ ترى، بعدَ أنْ زَعزعت أركانَ الدولة وعرَّضْتَها للزَّوال بإبعادك لمؤنس الذي كان يُناضلُ الأعداء ويدفعُ عن الدولة، ومَن لنا الآن بدَفْع هذا الرجل عن الحَضْرة؟ ومَن الذي أسلَم رجال السلطان وخَدَمَه وقُوَّادَه إلى القرمطي سواك؟ وقد ظهر الآن أمرُ الرجل الأعجمي الذي وُجد في دار السلطان، أنَّه كان صاحبًا للقرمطي [وأنت أوصلْتَه] (¬3). ثم التفت نصر إلى المقتدر، وأشار عليه بمكاتبة مؤنس، والتَّعجيلِ به إلى الحضرة، فأمر أن يُكتب إليه بالقدوم، فلمَّا خرج مِن عند المقتدر سألَ ابنُ الفرات نصرًا أن لا ¬

_ (¬1) البذرقة: الخُفَارة، والمبذرق الخفير. القاموس المحيط (بذرقة). (¬2) في (م 1) و (ت): وسبعين. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة من الكامل 8/ 148، وانظر ما لم ينشر من أوراق الصولي 140، وتحفة الأمراء في تاريح الوزراء 42، وصلة الطبري 103، وتكملة الطبري 242، والمنتظم 13/ 239، وتاريخ الإسلام 7/ 207 - 208.

يكتبَ إلى مؤنس حتى يكون هو الذي يكتب، فأوهمه أنَّه يتوقف، وبادر وكتب إلى مؤنس من يومه، وأنفذ الرُّسلَ، وأمره بالمُبادرة إلى الحضرة، وكتب ابنُ الفرات بمثل ذلك عن المقتدر. ووثبت العامةُ على ابن الفرات، ورجمَت طيَّارَه بالآجُر، ورجمَت ابنَه المحسِّن أيضًا، وما زالت العامةُ تَضِجُّ في الطرقات بأنَّ ابنَ الفرات القرمطي الكبير، وأنَّه ليس يُقنعُه إلا إتلاف أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وامتَنَع الناسُ من الصَّلوات في الجوامع والمساجد. وأشار ابنُ الفرات بإخراج ياقوت الكبير إلى الكوفة ليضبطَها من القرمطي، فتقدَّم المقتدرُ إليه بالخروج في الغلمان الحُجَريَّة (¬1) ووجوه القُوَّاد، وأزاح عِلَلَهم، وأنفق فيهم خمسَ مئة ألف دينار. وسار القرمطي إلى هَجَر ولم يَقْرُب الكوفةَ، فرجع ياقوتُ مِن بعض الطريق، وأصلح المقتدر بين نصر وابنِ الفرات. وقَدِم مؤنس بغدادَ غرَّةَ ربيع الأول، ودخل على المقتدر من وقته، وعاد إلى داره، فركب إليه ابنُ الفرات بسبب السلام عليه، ولم يَجْرِ بذلك عادةٌ، ولا لأحد من وزراء المقتدر قبلَه، فخرج مُؤنس إلى باب داره، وتلقَّاه، وسأله الانصرافَ، فلم يفعل، وصعد من طيَّاره، ودخل دار مؤنس، وهنَّأه بالسلامة، ثم خرج وخرج معه مؤنس إلى أنْ نزلَ في طيَّاره، وقبَّل يدَه. ولمَّا اضطرب أمرُ ابنِ الفرات خاف المحسن ابنُه أنْ يظهر عليه ما أخذه من الذين نكبهم لنفسه، فسلَّمهم إلى محمد بن علي الشَّلْمَغاني، ويعرف بابن أبي العَزاقِر نائبِهِ على العقوبات، وفيهم عبد الوهاب بن ما شاء الله، ومؤنس خادمُ حامد، فذبحَهم كما يُذبَح الغَنَم، وذهب بإبراهيم بن عيسى أخي عليِّ بن عيسى إلى البصرة بعد أن استأصله، وسلَّمه إلى عاملها، فسمَّه فمات، وكَثُر حُرَم المقتولين على باب ابن الفرات وابنه المُحسّن. ¬

_ (¬1) نسبة إلى حُجْرة، وهي الثكنة أو دار العسكر في بغداد ومصر، كان قرب قصر الوزير مكان واسع يطلق عليه اسم الحُجَر يسكنه الغلمان الذين يخدمون الخلفاء، لكل واحد منهم فرس وسلاح، ينفذون ما يصدر إليهم من أوامر دون تردد. انظر تكملة المعاجم 3/ 82.

ولما اشتد الإرجافُ بعزل ابن الفرات، بعث رسالةً إلى المقتدر يقول: يا أمير المؤمنين، أنت تعلم أنَّني عاديتُ في استيفاء حقوقك الكبيرَ والصغير، واستخرجتُ لك الأموال من الدنيِّ والشريف، وبلغتُ غايةَ ما أمكنني في طاعتك، فلا تقبل فيَّ مَن يريد إبعادي عن خدمتك، ويغريك بما لا فائدةَ لك فيه، ويحملُك على ما تُذَمُّ عواقبُه، وبعدُ، فطالعي وطالعُك واحد، وليس يَلحقُني شيءٌ إلا لَحِقَك مثلُه، فلا تَلتفت إلى ما يُقال لك، وقد علمَت الخاصَّةُ والعامةُ أني أطلقتُ للرجال النَّافذين إلى مكة ما لم يُطلقه أحد مِمَّن تقدَّمني، واخترتُ رؤساءَ القواد وشجعانَ الرجال، وأزحتُ العلَّة في كل ما التُمِس منِّي، فحدَث من قضاء الله تعالى على الحاجِّ ما قد حدث في أيام المكتفي مثلُه فما أَنْكرَه على وزيره، ولا أكبر به جرره، ولا أفسدَ عليه وزارَتَه. وأتبع هذه الرسالة ما شاكَلَها. ثم بعد أيام بعث المقتدر فقبض عليه وأخرجَه إلى طيَّار فيه مؤنس، فرفَعَه مؤنس، وخاطبه بخطابٍ جميل وعاتبه، فتذلَّل له وخاطبه بالأستاذ، فقال مؤنس: الساعةَ تُخاطبني بالأستاذ وبالأمس تُخرجني على سبيل النَّفْي إلى الرقة والمطرُ على رأسي، وتذكر لمولانا أميرِ المؤمنين أنَّني أسعى في فساد دولته. ثم انحدر به إلى دار السلطان، ومعه أولادُه وكتَابُه، والمُحسّن قد استتر، ورَجَمت العامةُ طيار مؤنس، وكثُر ضجيجُهم على ابن الفرات، ويقولون: قد قُبِضَ على القِرمطيِّ الكبير وبقي القرمطيُّ الصغير، واعتُقِل وأولادُه في دار الخليفة، وسلمهم نصرًا الحاجب، فكانت مدَّة وزارته الثالثة عشرة أشهر وثمانية عشر يومًا. ولمَّا كان يوم الخميس لتسعٍ خلَون من ربيع الأول (¬1) استوزَر المقتدرُ عبد الله بن محمد الخاقاني، وخَلَع عليه، وشافَهَه بالوزارة، وركب إلى داره ومعه مؤنسٌ الخادم، وهارون بن غريب الخال، ونصر الحاجب والأعيانُ. ذكر ما جرى على ابن الفرات: لمَّا حُبس في دار الخلافة شَغَبت العامة وقالوا: لا نرضى إلا أن يُخرج منها، ويُسلم إلى شَفيع اللؤلؤي، فقبض عليه شفيع، وحمله إلى داره. ¬

_ (¬1) من قوله: وبلغ المقتدر الخبر فضعف أمر ابن الفرات ... إلى هنا ليس في (ف م 1).

ولمَّا وَلي الخاقاني راسل شفيع ابنَ الفرات فيما يَبذله من المُصادرة عن نفسه؛ لئلَّا يُسلَّم إلى الخاقاني، وكان الخاقاني قد استتر أيام وزارة ابن الفرات خوفا منه، فقال ابن الفرات: أريد أمان المقتدر، وما عندي سوى مئة وستين ألف دينار، فأمر المقتدرُ بتسليم ابنِ الفرات وأولاده إلى الخاقاني، فحُملوا إليه، فسلَّمهم إلى رجل يُعرَف بأبي العباس بن بعد شَرّ (¬1)، فعذَّبهم حتى استصفى أموالهم، فبلغت ألفي ألف دينار. وكان ابنُه المُحَسِّن قد استتر بالكَرْخ عند امرأة فغُمز عليه، فأخذه نازوك ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول، فضُربت الدَّبادِبُ نصف الليل فَرَحا بأخذه، فارتاع الناسُ، وظنُّوا أنَّ القِرمطيَّ قد كبَس بغداد، وكان المحسن في زِيّ امرأةٍ قد خَضَب يديه ورجليه بالحِنَّاء، فسُلِّم إلى ابن بعد شر، فأوقع به مكروهًا، وأخذ خطَّه بثلاثة آلاف ألف دينار، ولم يقرَّ بشيءٍ، ولم يؤخذ منه درهم. واتَّفق هارون بن غريب الخال، ومؤنس، ونصر الحاجب على قتل ابن الفرات وولدِه، وكاشفوا المقتدرَ فقال: دعوني أنظر. فقالوا: نخافُ أن يَشغَب (¬2) القوَّاد والناس، واستشار الخاقاني فقال: لا أدخل في سَفْك الدّماء، والمصلحةُ حملُهما إلى دار الخليفة، فإذا أمِنا أظهرا المال [، ولا ينبغي أن يَسْهُلَ على الملوك قتلُ أحدٍ من الحواشي، فكيف يسهل عليهم قتلُ خواصِّهم؟ ]. ولمَّا كان يوم الأحد لاثنتي عشرة خلَت من ربيع الأول قُدّم إلى ابن الفرات طعامٌ فقال: إنِّي صائمٌ، فلمَّا كان عند المساء قُدِّم إليه فقال: لستُ أفطرُ الليلةَ، وأنا غدًا مقتول، فقيل له: نُعيذُك بالله، فقال: [بلى] رأيتُ أخي أبا العباس البارحة في النوم وهو يقول: أنت تُفطر عندنا يوم الاثنين بعد غدٍ، وما قال لي شيئًا في النوم قطّ إلا وصَحَّ. فلمَّا كان يوم الاثنين انحدر الرؤساء والقوَّاد إلى دار المقتدر، فلم يصلوا إليه، فكتبوا رقعةً: إنْ تأخَّرَ قتلُ ابنِ الفرات وابنه اليوم جرى على المملكة ما لا يُتَلافى. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، وتحفة الأمراء 45، وتكملة الطبري 244، وفي أوراق الصولي 141، وصلة الطبري 104: يعرف بابن نقد الشر. (¬2) في (ف م 1): دعوني أفكر، فقالوا: نخاف شغب.

فأرسل إلى نازوك، فأمر بقتلهما، فقال نازوك: هذا أمر عظيم، لا يُقنعني (¬1) فيه رسالة، فأمر المقتدرُ بإدخاله إليه، فشافهه بذلك، [فخرج إلى ابن الفرات، ] فقتل المحسِّن، وجاء برأسه إلى أبيه، فارتاع وقال لنازوك: راجع أميرَ المؤمنين فأنا أُقر بأموالي وودائعي، وعندي مالٌ عظيم وجواهر جليلة (¬2)، فلم يلتفت، وضرب عُنقه، وبعث برأسيهما إلى المقتدر، فأمر بأن يُرميا في دجلة، فغُرِّقا. وكان سنُّ أبي الحسن بن الفرات حين قُتل إحدى وسبعين سنة وشهورًا، إلا أنه ولد سنة إحدى وأربعين ومئتين، وسنّ ابنه المُحسن ثلاثًا وثلاثين سنة، فكان بينهما وبين وفاة حامد [بن العباس] الوزير ستةُ أشهرٍ وأيامًا. ولمَّا قُتل ابن الفرات جاء هارون بن غريب إلى الخاقاني فهنأه، فغُشي عليه حتى ظنَّ هارون أنَّه قد مات، وصرخ عليه أهلُه وغلمانُه، وقال مؤنس: أليس قد قُتل ابنُ الفرات؟ والله لنقتلَنَّ كلنا [كما قتل]. وقيل: إن كاتبَ ابن الفرات ويقال له: أبو الطيب رأى في منامه كأنَّه دخل إلى مكان وفيه مؤنس، وفي يده عشرُ خواتيم فُصوصُها ياقوتٌ أحمر، ومؤنس يقول: قد قُتل ابن الفرات، والله لنقتلن كلُّنا، أوَّلُنا المقتدرُ، وأنا والله ما أردتُ قتلَه، وإنما قتله نصر الحاجب، فكان كما قال، قُتل مؤنس بعد عشر سنين (¬3). وكان أبو نَصْر وأبو عبد الله ابنا أبي الحسن بن الفرات مُعْتَقَلَين، وكان قد أخذ خطُّهما بأربع مئة ألف دينار، فقال مؤنس للمقتدر: إنهما قد أُصيبا بأبيهما، وما كان لهما مع المحسن مدخلٌ، وأسأل أن يُطلَقا ولا يؤخذ منهما شيء، فأجابه المقتدر، فخلع عليهما مؤنسٌ، وأعطى كلَّ واحدٍ عشرة آلاف درهم. وفيها أطلق القرمطي أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان، فوصل إلى بغداد، وبعث القرمطى يطلب من المقتدر البصرةَ والأهوازَ، وذكر ابنُ حمدان أنَّ القرمطيَّ قتل من الحاجِّ من الرجال ألفَين ومئتين، ومن النساء ثلاث مئة، وبقي عنده بهجر ألفان ومئتان ¬

_ (¬1) في (ت م 1): لا تنفعني. (¬2) في (ت م 1): وجوهر جليل. (¬3) تحفة الأمراء 51.

علي بن محمد

من الرجال، وخمس مئة امرأةٍ. وفيها فُتحت فَرْغانة على يد والي خُراسان. وحج بالناس الحسين بن عبد العزيز الهاشمي (¬1) وفيها توفي علي بن محمد أبو الحسن، ابن الفُرات، الوزير. وزر للمُقتدر ثلاث مرات، وملك أموالًا عظيمةً تزيد على عشرة آلاف ألف دينار، وأودع الأموال عند وجوه الناس ببغداد، فلم يبقَ قاضٍ ولا عَدْل إلا أودعه، وكذا عند التجَّار والأشراف، بحيث إنه لم يبقَ أحد إلا وله عنده وَديعة. وكان جبارًا، فاتكًا؛ إلا أنه كان يَرقُّ في بعض الأوقات. ولمَّا قُلِّد الوزارة قَلد سليمان بن الحسن بن مَخْلَد الدِّيوانَ بأسره، فأقام نحوًا من سنتين، فقام يومًا من دار ابن الفرات، فسقطت من كُمِّه ورقةٌ ولم يعلم، فأخذها بعضُ الغلمان، فقرأها، وإذا بها سعايةٌ إلى المقتدر بابن الفرات، وسَعي لعبد الحميد (¬2) كاتب السيدة في الوزارة، فتقرَّب بها الغلام إلى ابن الفرات، فقبض على سليمان، وعذَّبه واستصفى أمواله، ونفاه إلى واسط، فكانت أمُّه تبكي عليه ليلًا ونهارًا، فيقال: إنَّها ماتت بحَسْرته، فرَقَّ له بعد ذلك، وتذكَّر المَوَدةَ التي كانت بينه وبين أبيه الحسن بن مَخْلَد، فكتب إليه كتابًا بخطِّه يقول فيه: أما بعد، فإني مَيَّزْتُ بين حقِّك وجُرْمِك، فوجدتُ الحق يوفي على الجُرم، وتذكَّرتُ من سالف خدمتك في المنازل التي فيها رَبيت، وبين أهلها دَبَبْتَ ما ثناني إليك، وعَطَفني عليك، وأعادني لك إلى أفضل ما عَهِدتَ، وأجمل ما أَلِفْتَ، فثِقْ بذلك، واسكُنْ إليه، وعَوِّل على صلاح ما اختلَّ من أمرك عليه، واعلم أنَّني أُراعي فيك حقوقَ أبيك التي تقوم ¬

_ (¬1) كذا، وفي صلة الطبري 107: وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك. (¬2) في تحفة الأمراء 80: لابن عبد الحميد، وهو الصواب، فهو أحمد بن محمد بن عبد الحميد صرح باسمه في ص 76 من التحفة.

بتوَكُّد (¬1) السبب مقام اللحمة من النَّسَب، ولن أدع مُحافظتَها ومراعاة جانبها بمشيئة الله تعالى، وقد قَلَّدتُك دَسْتُمِيسان لسنة ثمان وتسعين ومئتين، وأمرتُ لك بعشرة آلاف دينار تُحمَل إليك من مالي، ويُردُّ جميعُ ما أخذ منك، فتقفد هذه الأعمال، وأَثر بها آثارًا جميلةً تُبيّن حسنَ كفايتك، وتؤدِّي إليَّ ما أحبُّه من زيادتك، والسلام. وزوَّر رجلٌ كتابًا عن ابنِ الفرات إلى ابن زنبور عاملِ مصرَ ليُولِّيه مكانةً، فلما وقف عليه ابن زنبور أنزل الرجل، وأكرمَه، وأعطاه جائزةً يَسيرةً، ووعده، ثم أنكر ابن زنبور الكتاب، واستراب بالخطاب، وقال للرجل: سوف أنظر في أمرك. ثم أرسل الكتابَ إلى ابن الفرات، فقرأه وقال لأصحابه: ماذا تَرَون؟ فقال بعضهم: تُقطع يده لتزويره على الوزير، وقال بعضهم: يُقطع إبهامُه، وقال بعضهم: يُضرب ويُحبس، وقال بعضهم: يُكشَف أمره لابن زنبور ليَطْرُدَه، فقال لهم ابن الفرات: بئس ما قلتم، وما أبعدَ طباعَكم من فعل الجميل، رجلٌ توسل بنا، وتحمل المشاق إلى مصر يُريد جاهَنا، ولعله ما وصل إلينا، فخفَّف عنا بأن طلب جهةً أخرى؛ يكون حظُّه منا الخيبةَ؟ ! وكان في الكتاب عن لسان الوزير: أن للرجل حُرْمةً وَكيدةً عند الوزير، وسابقَ خدمةٍ قديمة. فكتب ابنُ الفرات على الكتاب المزوَّر: هذا كتابي، ولا أعلمُ السببَ الذي أنكرتَه واستربْتَ به ما هو، وحرمةُ صاحبه عندي وكيدةْ، وسببُه أقوى ما يكون، فأجزِلْ عطيتَه، وتابع بره، وزِدْ في الإحسان إليه. فلما وقفَ على الكتاب فعل ما أمره الوزير، فلما كان بعد مدةٍ طويلة دخل على ابن الفرات رجل جميل الهيئة، فأخذ يدعو لابن الفرات، ويبكي ويُقبل الأرض، وابن الفرات لا يعرفه ويقول: بارك الله عليك، ما لك؟ فقال: أنا صاحبُ الكتاب الذي زورتُه على الوزير إلى ابن زنبور، فضحك ابنُ الفرات وقال: فبكم وَصَلك؟ فقال: صَرفني ووَصَلَني عشرون ألف دينار، فقال: الزَمْنا ننفعْك بأضعافها، واستخدَمَه فأكسبه مالًا عظيمًا (¬2). ¬

_ (¬1) في (خ): تكون توكيد، والمثبت من تحفة الأمراء 80. (¬2) انظر تحفة الأمراء 87، والمنتظم 13/ 242، ووفيات الأعيان 3/ 428.

فاطمة بنت عبد الرحمن

وابن الفرات أولُ مَن حلَّ نظام السياسة ببغداد، فإنَّه ضَعْضَع أمر القَضاء، فولاه أجهلَ الناس، وقد ذكرنا مقتلَه ومقتل ولده (¬1). [فصل: وفيها توفيت] فاطمة بنت عبد الرحمن ابن أبي صالح [الحَرَّاني، واسم أبي صالح] عبد الغَفَّار بن داود. [قال الخطيب: كنيتُها] أم محمد الصوفية (¬2)، وُلدت ببغداد، وحُملت إلى مصر وهي حَدَثة. وكانت من الصالحات المُتعبدات، طال عُمُرها حتى جاوزت الثمانين، وكانت تُعرف بالصوفية لأنَّها أقامت تَلبس الصوفَ ولا تنام إلا في مصلاها بغير وطاء فوق ستينَ سنة. سمعت من أبيها [عبد الرحمن]، وروى عنها ابنُ أخيها عبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن (¬3). محمد بن جُمُعة بن خَلَف أبو قُرَيش، القُهُسْتاني، الحافظُ، الوَرع، صاحبُ الرحلة (¬4). صنَّف "المسند"، وانتشر حديثُه بخُراسان، وسمع خلقًا كثيرًا، منهم: محمد بن حُميد الرَّازي وغيرُه، وروى عنه أبو بكر الشافعي وغيرُه، واتَّفقوا على فضله وصدقه وثقته. محمد بن محمد ابن سليمان بن الحارث، أبو بكر، الأزْديّ، الواسِطيّ، ويُعرف بالباغَنْدي (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: وقيل إن كاتب ابن الفرات ويقال له أبو الطيب ... إلى هنا ليس في (ف م 1). (¬2) ما بين معكوفين من (ف م 1)، وانظر تاريخ بغداد 16/ 630، والمنتظم 13/ 244. (¬3) بعدها في (م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. (¬4) تاريخ بغداد 2/ 556، والمنتظم 13/ 254، وتاريخ الإسلام 7/ 272، والسير 14/ 304 ووفاته عندهم في سنة (313 هـ). (¬5) تاريخ بغداد 4/ 343، والمنتظم 13/ 244، وتاريخ الإسلام 7/ 257، والسير 14/ 383.

رحل في طلب الحديث إلى الأمصار البعيدة، وعُني به العناية العظيمة، وأخذ عن الحفَّاظ والأئمة. وكان حافظًا فقيهًا يقول: أنا أُجيبُ في ثلاث مئة ألف مسألة من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسكن بغداد وحدَّث بها، وكان عامةُ ما يرويه من حفظه. وكان حريصًا على حفظ الحديث وروايته، يَسرُد الحديث من حفظه مثلَ تلاوة القرآن، وكان يقول: حدثنا فلان، وحدثنا فلان، وهو يحرِّك رأسَه حتى تسقط عمامتُه. وقال عمر بن أحمد الواعظ: قام الباغَندي يُصلِّي، فكبَّر ثم قال: حدثنا محمد بن سليمان، فسبحنا به، فقال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ}. وقد روى مثلَها ابنُ شاهين فقال: صلينا خلف الباغندي، فافتتح الصلاةَ ثم قال: حدثنا لُوَين، فقلنا: سبحان الله، فقال: حدثنا هلال، فقلنا: سبحان الله، فقال: حدثنا شَيبان بن فَروخ الأُبُلِّي، فقلنا: سبحان الله، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقرأ الفاتحة. توفي يوم الجمعة، ودُفن يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجَّة. سمع [محمد بن] عبد الله بن نُمَير (¬1)، وشَيبان بن فَرُّوخ، وابن المَديني، وخلقًا كثيرًا من أهل الشام ومصر والكوفة والبصرة وبغداد. وروى عنه القاضي المَحامِلي، وابن مَخْلَد، وابن الصَّواف، ودَعْلَج بن أحمد، وخلقٌ كثير. وقال الدارقطني: كان يُدلِّس ويحدِّث بما لم يَسمع، وربما سرق (¬2). وقال الخطيب: لم يثبُت من أمر الباغندي ما يُعاب به سوى التَّدليس، ورأيتُ كافَّة شيوخنا يحتجُّون بحديثه، ويُخرِّجونه في الصحيح. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من مصادر ترجمته، وهذه الترجمة والتي قبلها ليستا في (ف م 1). (¬2) سؤالات حمزة 91.

السنة الثالثة عشرة وثلاث مئة

السنة الثالثة عشرة وثلاث مئة فيها أمر المقتدر بنَقْض جامع براثا غربي بغداد وجَعْلِه مقابر، وكان يجتمع إليه قومٌ على مَذهب القَرامطة (¬1) يسبُّون الصحابة -رضي الله عنهم-، ومُقدَّمُهم رجلٌ يُعرف بالكَعْكي، فبعث المقتدرُ نازوك في صفر، فقَبض عليه وعلى الجماعة، ووجد معهم خواتيمَ من طين عليها مكتوبٌ: محمد بن إسماعيل الإمام المهدي، فكتب [المقتدر فتوى في] المسجد أنَّه مسجد ضِرار يجب هدمُه، فنُقِضَ وأُحرق جانبٌ منه [وذلك في صفر. وفيها] في ذي القعدة خرج الحاجُّ من بغداد ومعهم جعفر بن وَرْقاء في ألف فارس من بني شَيبان ليُبَذْرِقَهم [إلى مكة] (¬2). فلَقي القِرمطيَّ بزُبالة، فناوشه قليلًا، واضطرب الناس، ورجعوا إلى بغداد، وجاء القرمطيُّ فنزل بظاهر الكوفة، فقاتلوه فغلبَهم، وأقام بظاهرها ستَّة أيام، يدخل البلد نهارًا، ويخرج فيَبيتُ في عسكره ليلًا، وأخذ من الثِّياب والمَتاع ما لا يوصَف، ثم رحل إلى بلده، ودخل جعفر بغداد [، ولم يحجَّ في هذه السنة أحدٌ خوفًا من القرمطيّ]، وندب المقتدر مؤنسًا الخادم لقتال القرمطيِّ، وجهزَه بألف ألف دينار (¬3). [وفيها انقضَّ كوكبٌ عظيمٌ قبل مَغيب الشمس من ناحية الجنوب إلى ناحية الشمال، فأضاءت الدُّنيا منه إضاءة، وكان له صوتٌ مثل صوت الرَّعد الشَّديد.] (¬4) وفيها صُرِف الخاقاني الوزير، وكانت وزارتُه سنةً وستَّة أشهر وأيامًا، واستوزر المقتدر أحمد بنَ عُبيد الله بن أحمد بن الخَصيب، وخلع عليه، وكان [الخصيبي] قد استخرج مالًا وجواهر من زوجة المُحَسِّن بن الفُرات، فصارَت له بذلك عند المقتدر ¬

_ (¬1) في (ف م 1): وسببه أنه رفع إلى المقتدر أنه يجتمع إليه أقوام على مذهب القرامطة. والمثبت من (خ). (¬2) ما بين معكوفين من (ت م 1)، ومعنى يبذرقهم: يخفرهم ويحميهم حتى يصلوا مكة. وهذه الحادثة أوردها صاحب الأوراق 146، وصلة الطبري 107، والكامل 8/ 155 - 156 في أحداث السنة الماضية (312 هـ). (¬3) المنتظم 13/ 248، وتاريخ الإسلام 7/ 209. (¬4) ما بين معكوفين من (ف م 1). وانظر المنتظم 13/ 247، والكامل 8/ 160.

علي بن عبد الحميد

منزلة، فاستوزره، وسلَّم إليه الخاقاني (¬1)، فصادره، وصادر كُتَّابَه، وأخذ أموالهم. وفيها [حُمل التَّمر من بغداد إلى البصرة، كان قد] كَثُر الرُّطَب ببغداد، فبيع كلّ ثمانية أرطال بحَبّة، فعمل تمرًا، وبعث منه إلى البصرة [، وصحَّ المثل: حُمل التَّمر إلى هَجَر (¬2). فصل: ] وفيها توفي علي بن عبد الحَميد ابن عبد الله بن سليمان، أبو الحسن، الغَضائري، نزيلُ حلب (¬3). حج [أربعين حجة في] أربعين سنة من حلب على رجليه ذاهبًا وراجعًا. [وحكى عنه الخطيب] قال: طرقتُ باب السَّرِيّ السقَطي، فسمعتُه يقول: اللهم اِشْغَل مَن شَغلني عنك بك، وتوفِّي في شوّال. [وفيها توفي] علي بن محمد بن بشَّار أبو الحسن، الزّاهدُ، العابد، البغدادي، صاحبُ الكرامات (¬4). كان من الأبدال، وكان يَعِظُ الناس فيفتح مَجلسَه بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] فقال له رجل: فما الذي تُريد؟ فقال: هو وعزَّته يعلم أني ما أريد من الدنيا والآخرة سواه (¬5). ¬

_ (¬1) في (ف م 1): فاستوزره وعزل الخاقاني وسلمه إلى الخصيبي. (¬2) ما بين معكوفين من (ف م 1)، وانظر المنتظم 13/ 249، والكامل 8/ 160، وتاريخ الإسلام 7/ 209، ورواية المثل الذي أورده: كمستبضع التمر إلى هجر؛ انظر مجمع الأمثال 2/ 152، والمستقصي 2/ 233، وفصل المقال 413. (¬3) تاريخ بغداد 13/ 480، والمنتظم 13/ 251، وتاريخ الإسلام 7/ 267، والسير 14/ 432. (¬4) ما بين معكوفين من (ف م 1)، وانظر في ترجمته: تاريخ بغداد 13/ 534، والمنتظم 13/ 251، وتاريخ الإسلام 7/ 267، وتكملة الطبري 248. (¬5) صفة الصفوة 2/ 446.

محمد بن إسحاق

[وروى الخطيب عن ابن مِقْسَم قال: كان ابن بشار] إذا أراد أن يُخبر عن نفسه شيئًا قال: أعرف رجلًا حالُه كذا وكذا، فقال ذات يوم: أعرف رجلًا منذ ثلاثين سنةً يشتهي أن يشتهي ليَتْرُكَ ما يشتهي، فما يجدُ شيئًا يشتهي. وقال: منذ ثلاثين سنةً ما تكلَّمتُ بكلمةٍ أحتاج أن أعتذرَ منها. [وقال الخطيب: ] قال له رجل: كيف الطريقُ إلى الله عزَّ وجلَّ؟ فقال: كما عَصيتَه سرًّا فأطِعْه سرّا حتى يوصلَك إليه. وكانت وفاتُه ليلةَ الخميس لسبع خلون من ربيع الأول، وحضره الوزراءُ والأمراء وأربابُ الدولة، ودُفن غربي بغداد بمَشْرَعة الساج، وقبرُه [اليوم] ظاهرٌ يُزار ويتَبَرك به (¬1). حدّث عن صالح بن الإمام أحمد وغيرِه، وروى عنه [أحمد بن] (¬2) محمد بن مِقْسَم وغيره، واشتغل بالتعبّد عن الرواية. محمد بن إسحاق ابن إبراهيم بن مِهْران بن عبد الله، أبو العباس، السَّرَّاج، النَّيسابوري مولى ثقيف (¬3). وُلد سنة ثمان عشرة ومئتين، ورحل في طلب الحديث إلى الأمصار: بغداد، والكوفة، والبصرة، والحجاز، وصنَّف كُتُبًا كثيرةً، وكان مُجابَ الدعوة، وتوفي بنيسابور. قال: رأيتُ في المنام كأنَّني أرقى في سُلَّم طويلٍ، فصَعِدتُ تسعًا وتسعين درجةً، فعاش تسعًا وتسعين سنةً. قال الحاكم: ولد له أبو عمر بن محمد وهو ابنُ ثلاث وثمانين سنة. ¬

_ (¬1) بعده في (ف م 1): ويقال له اليوم القربة. (¬2) ما بين معكوفين من تاريخ بغداد 13/ 534. (¬3) تاريخ بغداد 2/ 56، والمنتظم 13/ 252، وتاريخ الإسلام 7/ 270، والسير 14/ 388. وهذه الترجمة ليست في (ف م 1).

يحيى بن محمد

سمع إسحاق بن راهَويه، وخلقًا كثيرًا، وروى عنه البخاري، ومسلم وغيرهما، واتفقوا على صدقه وفضله وثقته ووَرَعه. [وفيها توفي يحيى بنُ محمد ابن محمد بن زياد الكَلْبي. سكن دقَانِيَة وبيت سَوا، قريتين من قرى دمشق في الغوطة. حدث عن الحسن بن عَرَفة، وروى عنه شيوخُ الشامِ، وكان ثقةً] (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م 1) وبعده فيهما: والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه. واتظر ترجمة يحيى في تاريخ بغداد 16/ 340، وتاريخ الإسلام 7/ 276، وتاريخ دمشق 18/ 183 (مخطوط).

السنة الرابعة عشرة وثلاث مئة

السنة الرابعة عشرة وثلاث مئة فيها خرج أهل مكة بأموالهم وأهاليهم منها خوفًا من قُرب القِرمطيّ منهم، ودخلت الرومُ مَلَطْيَة، فأسروا وقتلوا وسَبَوا، وأقاموا فيها أيامًا كثيرةً، فورد أهلُها بغداد في جمادى الأولى مُسْتَصرِخين. وفيها جَمَدت دجلةُ عند الموصل، وعبرت عليها الدوابُّ، وجلس ابنُ أبي بَكْرة (¬1) المحدِّث على الجَمْد في وسط دِجْلة، وسُمع عليه الحديث. وفي رمضان هبَّت ريحٌ عظيمة، فقلعت شجر نَصِيبين، وهَدَمت منازلَها. وفي شوال سقط ثلجٌ كثير ببغداد أتلف أكثر النَّخْل، وشجر الأُتْرُجِّ والنَّارَنْج وغيرها، ولم يحج أحدٌ في هذه السنة، ورُدَّ حاجُّ خُراسان من بغداد خوفًا من القرمطي، وقيل: حجَّ بالناس عبد السَّميع بن أيوب. وفي ذي القعدة قبَضَ المقتدرُ على وزيره الخَصيبي (¬2) لاشتغاله باللَّهو واللذات، واختلال الأمور في أيامه، وأعاد علي بن عيسى بن الجَرَّاح إلى الوزارة (¬3)، وكان مجاورًا بمكة، فأمر المقتدرُ نازوك فقبض على الخصيبي وأسبابه، وحُبس في دار الخليفة عند زيدان القَهْرَمانة، فكانت مدةُ وزارته سنةً وشهرَين. وكان أبو القاسم عُبيد الله بن محمد الكَلْوذاني بدمشق قد قلَّده إياها علي بنُ عيسى في المرة الثانية من وزارته، فأحضره المقتدر من دمشق، وقال له: تَنوبُ عن علي بن ¬

_ (¬1) في (ف): ابن أبي زكرة، وفي المنتظم 13/ 256: المعروف بأبي زكرة، ولعله يزيد بن محمد بن إياس، المعروف بابن زكرة، مؤلف تاريخ الموصل، الحافظ، انظر السير 15/ 386، وتاريخ الإسلام 7/ 751. (¬2) في النسخ: الخاقاني، وهو خطأ، وسيرد بعد سطرين على الصواب، وانظر الأوراق 154، وصلة الطبري 112، والمنتظم 13/ 256، والكامل 8/ 163، وتاريخ الإسلام 7/ 210. (¬3) في (ف م 1): وسببه أن الأمور اختلفت في أيامه؛ لأنه كان مشغولًا باللذات واللهو، وأشار مؤنس على المقتدر فعزله وأعاد علي بن عيسي بن الجراح إلى الوزارة، وانفردت (ف) بزيادة: والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم، السنة الخامسة عشر وثلاث مئة.

أحمد بن عبيد الله بن عمار

عيسى حتَّى يَحْضُر، وبعث المقتدرُ سلامة الطُّولوني إلى مكة ليُحضِر علي بن عيسى (¬1) , وأُطلق الخاقاني من حبس الخصيبي، وحُمل إلى منزله فمات في رجب. وفيها توفِّي أَحْمد بن عُبيد الله بن عَمَّار أبو العباس، الثَّقَفي، الكاتب، وكان يُعرف بحمار العُزَير. له مصنفات في مَقاتل الطالبيين وغير ذلك، وكان يتشيَّع، ويميلُ إلى القول بالقَدَر. وفيه يقول ابنُ الرُّومي الشَّاعر: [من السريع] وفي ابن عمارٍ عُزَيريَّةٌ ... يُخاصِمُ الدَّهرَ بها والقَدَرْ ما كان لِمْ كان ومالم يكن ... لِمْ لم يكن فهو وَكيلُ البَشَرْ تُوفِّي ببغداد في ربيع الأول (¬2). الحسين بن أَحْمد بن رُسْتُم أبو علي، الكاتب، ويعرف بابن زُنْبور (¬3)، الماذرائي، من كتَاب آل طُولون. كان من الفُضلاء، أحضره المقتدر لمُناظرة ابن الفرات، ثم قلَّده خراج مصر في سنة ستٍّ وثلاث مئة، ثم سَخِط عليه وأحضره إلى بغداد، وأخذ خطَّه في رمضان هذه السنة بثلاثة آلاف أَلْف دينار وست مئة أَلْف دينار، ثم أخرج إلى مصر مع مؤنس الخادم فمات بدمشق، وقيل في سنة سبع عشرة وثلاث مئة. ¬

_ (¬1) كذا ورد الخبر في (خ)، والذي في المصادر أن علي بن عيسى كان بدمشق أو المغرب، فأرسل إليه المقتدر سلامة الطولوني، وأمر المقتدر عبيد الله الكلوذاني بالنيابة عن علي إلى أن يحضر. انظر الأوراق 154، وصلة الطبري 112، وتحفة الوزراء 227، وتكملة الطبري 249، والمنتظم 13/ 256، والكامل 8/ 164. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 417، ومعجم الأدباء 3/ 232، وتاريخ الإِسلام 7/ 278. وانظر ديوان ابن الرومي 3/ 913. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 646، وورد في المصادر: ويعرف بأبي زنبور، انظر الأوراق 111، 113، وصلة الطبري 62، 63، وتحفة الأمراء 38، 71، 73 - 76، وسيرة محمَّد بن طغج 227 (ضمن كتاب شذرات من كتب مفقودة)، والوافي بالوفيات 12/ 321، والمقفى 3/ 466، والنجوم الزاهرة 3/ 215.

نصر بن القاسم

حدث عن أبي حَفْص العَطَّار وغيره، وروى عنه الدارقطني. نَصْر بن القاسم ابن نصر بن زيد، أبو اللَّيث، الحَنَفيّ (¬1). كان فاضلًا، فقيهًا، قَيِّمًا بالفرائض، جليلًا، نَبيلًا، ثِقَة، ثبتًا. حدَّث عن القَواريري وغيره، وروى عنه ابن شاهين وغيره، وله مُصنَّفات. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 402، والمنتظم 13/ 259، وتاريخ الإِسلام 7/ 287.

السنة الخامسة عشرة وثلاث مئة

السنة الخامسة عشرة وثلاث مئة فيها في صفر قدم علي بنُ عيسى بغدادَ، فتلقَّاه النَّاس من الأنبار، ودخل على المقتدر فقرَّبه وأدناه، وخاطَبَه بالجميل، وصرفه إلى منزله، وبعث إليه بكسوة فاخرةٍ، وفُرُش، ودوابّ، وعشرين أَلْف دينار، فلما كان من الغد خَلَع عليه خِلْعةَ الوزارة، فأنشد علي بن عيسى: [من البسيط] ما النَّاسُ إلَّا مع الدُّنيا وصاحبِها ... فكيف ما انقلبتْ يومًا به انقلبوا يُعظِّمون أخا الدنيا فإن وثَبَتْ ... يومًا عليه بما لا يَشتهي وَثَبوا وفي ربيع الآخر خلَع المقتدرُ على مؤنس، وأمره بالخروج إلى الثُّغور؛ لأنَّ الروم وصلوا سُمَيسَاط، وأخذوا جميعَ ما كان فيها، وضربوا بالنَّاقوس في الجامع، وتجهَّز مؤنس للخروج، ولم يبْقَ إلَّا وداعُه للمقتدر، فجاءه خادمٌ من خواصِّ المقتدر فقال لمؤنس (¬1): إنَّ الخليفة قد حفر لك زُبْيَةً بدار الشَّجرة، وأمر أن تنفردَ إذا دخلتَ ممَّن معك، ويُمرَّ بك على الزُّبْيَة، وتُلقى فيها وتُدفَن، ويظهر أنَّك وقعتَ في سِرْداب فمتَّ، فامتنع من وداع المقتدر، وركب إلى مؤنس القوَّادُ والغلمان بأسرهم، ولم يبْقَ في باب الخليفة أحد، ولبسوا السلاحَ، وقال له أبو الهيجاء عبد الله بنُ حمدان: أيُّها الأستاذ، لا تخَفْ؛ فلنقاتلَنَّ بين يديك حتَّى تَنْبُتَ لك لِحْية. فبعث إليه المقتدرُ رُقعةً بخطِّه مع نسيم الشرابي، يحلفُ له فيها بالأيمان المُغَلَّظة على بُطلان ما بلغه، ويُعرِّفه أنَّه سائر إليه الليلة ليحلفَ له مُشافهةً، فصرف مؤنس جميع مَن صار إليه من الجيش إلى دار الخليفة، ولزم أبو الهيجاء دار مؤنس ليلًا ونهارًا، وبعث المقتدر نصرًا الحاجب وخواصَّه، فأحضروا مؤنسًا إلى حضرته، فقبَّل الأرض، وقبَّل يدَي الخليفة وقدميه، فحلف له المقتدرُ أنَّه على صفاء نيَّةٍ له، وأنَّ ما نُقِل إليه ليس له أصل، وودَّعه مؤنس، وسار من بغداد في ربيع الآخر، وشيَّعه الأمير أبو العباس بن المقتدر، والوزيرُ، والخواصُّ، وتوجَّه إلى الثغور فأوقع بالروم، وقتل منهم مَقْتَلةً ¬

_ (¬1) في (خ): فقال له مؤنس، وليس في (ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا، وانظر المنتظم 13/ 261.

عظيمة. وقال ثابت: لمَّا وصل خبرُ القِرمطيِّ ردَّه المقتدرُ من تكْريت إلى بغداد، فبعث جيشًا إلى الروم (¬1). وفيها ظهرت الدَّيْلَم على الرَّيّ والجبال، وأول مَن غلب لنكي بن النُّعمان، فقتل من أهل الجبال مقتلةً عظيمة، وذبح الأطفال في المُهود، ثم غلب على قَزْوين أرجلٌ دَيلَميّ يقال له: ] أسفار بن شيرويه، وألزم أهلَها مالًا وعَسَفهم، فخرج الشيوخ والأطفال والنساء والصبيان إلى المصلَّى يدعون الله عليه. وكان له قائد اسمه مرداويج [بن زيار، فوثب مرداويج] على أسفار، فقتَلَه وملك مكانه، وأساء السيرة في أَصبهان، وانتهك الحُرمات، وجلس على سرير من ذهب، دونه سريرٌ من فضة يجلس عليه مَن يرفع منه ويقول: أنا سليمان بن داود، وهؤلاء الشياطين أعواني، وكان يسيءُ السيرةَ في أصحابه وخصوصًا الأتراك، فدخل الحمَّام يومًا، فدخل عليه الأتراك فقتلوه ونهبوا خزائنَه، ومشى الديلمُ بأجمعهم حُفاةً تحت تابوته أربعة فراسخ. وفيها جاء أبو طاهر القرمطيُّ إلى الكوفة في شوال، فنزل قريبًا منها في أَلْف فارس وخمسة آلاف راجل، فجهَّز المقتدر إليه يوسف بن أبي السَّاج في عشرين ألفًا ما بين فارسٍ وراجلٍ مُقاتلة سوى الأتباع، وأخذ القرمطيُّ من الكوفة ما كانوا أعدُّوه من الميرة والعُلوفات ليوسف [فَتَقوَّى بها] وكان القرمطيُّ قد سبق يوسفَ [إلى الكوفة] بيومٍ، وذلك يوم الخميس لسبع خلون من شوال، وبعث يوسفُ إلى القرمطي يدعوه إلى الطاعة، فلم يُجب، والتقوا يوم السبت، فنظر يوسفُ إلى عسكر القرمطيِّ فاحتقره وقال: ومَن هؤلاء الكلاب حتَّى أُفكِّر فيهم، هؤلاء بعد ساعة في يدي، ثم كتب (¬2) إلى المقتدر كتاب الفتح قبل اللقاء [تهاونًا به] وأمر بدقِّ الدَّبادب والبوقات، فقال القرمطيُّ: هذا فشلٌ، ولم يكن في عسكره دَبادب ولا بوقات. ¬

_ (¬1) من قوله: وتجهز مؤنس للخروج ... إلى هنا ليس في (ف م 1). (¬2) في (ف م 1): ثم أمر فكتب.

والتقوا، فثبت ابن أبي السَّاج، وقاتل قتالًا شديدًا، وخرج من القرامطة خمسُ مئة بالنُّشَّاب المَسموم، والقرمطيُّ في عَمَّاريَّة في نحو مئتي فارس من ثقاته، فنزل من العَمَّاريَّة (¬1) وركب فرسًا، وحمل هو ومن معه من أصحابه على يوسف، وحمل عليه يوسف في غلمانه، واشتبكت الحربُ بينهم، فلمَّا كان في آخر النهار أُسر يوسف وفي جَبينه ضَرْبة، بعد أن اجتهد به غلمانُه أن ينصرف فامتنع [عليهم، وصار أسيرًا في يد القرمطي بعد أن] قتل من أصحابه عِدَّةٌ كثيرةْ، وانهزم أصحابُه، وحُمل إلى القرمطي فضُربت له خيمة، وفُرِش له فيها، وداوَوْا جراحتَه. وبلغ الخبرُ إلى بغداد في ثالث عشر شوال، فانزعج المقتدر وأهلُ بغداد، وعزموا على النُّقْلَة إلى شرقي بغداد، وخرج مؤنس بعساكره إلى باب الأنبار فأقام به، وجاء القرمطيُّ إلى الأنبار فنزل غربيها، فقطعوا الجسرَ بينهم وبينه على الفرات، وأقام غربي الفرات يتحيَّل في العبور إلى الجانب الشرقي، ثم عبر، وقتل أصحابَ السلطان بالأنبار. وخرج نصر الحاجب والرجَّالة وجميع مَن ببغداد من القوَّاد وغيرهم، واجتمعوا بمؤنس بباب الأنبار، وكانوا أربعين ألفًا من الفُرسان والمُقاتلة والرَّجَّالة وزيادةً على ذلك، وخرج أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإخوتُه أبو الوليد وأبو العلاء وأبو السَّرايا في أصحابهم وأعوانهم. وتقدَّم نصر الحاجب فنزل على نهر زبارا عند عَقْرَقُوف (¬2)، على نحو فَرْسَخَين من بغداد، ولحق به مؤنس [واجتمعوا على النهر] وأشار أبو الهَيجاء [على نَصْر] بقطع القَنْطَرة، فتثاقل مؤنس عن قطعها فقال له: أيُّها الأستاذ، اقطعها واقطع لحيتي (¬3) معها، فقطعها لإحدى عشرة ليلة خلَت من ذي القعدة. ولمَّا أصبحوا جاءهم القرمطيُّ في عسكره فحاذاهم، وبعث بين يديه أسود ينظر إلى ¬

_ (¬1) في (ف م 1): وخرج من أصحاب القرمطي خمس مئة رجل بالنشاب المسموم وأكثر، فلما رأى القرمطي ذلك وكان في عمارية مع من يشق به من أصحابه في نحو من مئتي فارس ونزل من العمارية. والمثبت من (خ). (¬2) في (ف م 1): فنزل على النهر الذي عند عقرقوف ويعرف ببارا، والمثبت من (خ). (¬3) في (ف م 1): واقطع الجسر، وانظر تكملة الطبري 254.

المَخاض، فرَمَوه بالنُّشاب حتَّى جعلوه كالقُنْفُذ، وبينهم النهر، فلم يزل حتَّى رأى القنطرة مقطوعةً، فعاد وأخبر القرمطي، فرجع، ولم يجد مَخاضةً يَعبر فيها، وكان مؤنس قد بَثَق البُثوق. وأقام القرمطيُّ بإزائهم يومين، ثم سار نحو الأنبار، فلم يتجاسر أحدٌ من عسكر مؤنس يتبعُه. وقال ثابت: وكان ما أشار به أبو الهيجاء من توفيق الله، فإنَّها لو كانت القنطرةُ صحيحةً لعبر عليها أبو طاهر، وانهزم (¬1) عسكر الخليفة، وملك أبو طاهر بغداد. [قلتُ: ] فانظروا إلى هذا الخِذْلان، فإنَّ مؤنسًا كان في أربعين ألفًا من الفرسان، والقرمطيّ في أَلْف فارس [من سائر الألوان] وقيل: ثمان مئة فارس وسبع مئة راجِل. وقال ثابت [بن سنان: لقد حَدَّثني جماعة] أن مُعْظَم عسكر المقتدر انهزموا إلى بغداد قبل أن تقع عيونُهم على القرمطي [ولا رأوا جيشَه] , مع علمهم بقطع القنطرة، لعِظَم ما دخل في قلوبهم من الرّعب. ووصل أبو طاهر الأنبار لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، وظنَّ أصحابُ السلطان الذين كانوا بالأنبار أن القرامطة رجعوا مُنهزمين (¬2)، فقاتلوهم، فقُتِل منهم نحوٌ من مئة فارس، وانهزم الباقون، وخرج إليه شيوخ الأنبار ومعهم أمان كان أعطاهم إياه، فلم يتعرَّض لهم. وكان ابن أبي الساج أسيرًا في ثَقَل القرمطي غربيّ الفرات، وكان مؤنس قد بعث بليق (¬3) في ستة آلاف فارس ليُخَلِّص [ابن أبي الساج من ثقل القرمطي]؛ ظنًّا منه أن القرمطي لا يقدر على عبور الفرات، فجاء بليق [فوجده قد عبر إلى ثقله، فانهزم بليق] , ¬

_ (¬1) في (خ): فلم يتجاسر أحد ببغداد وكان قطع القنطرة من توفيق الله تعالى وإلا كان عبر القرمطي عليها وهزم. والمثبت من (ف م 1). (¬2) في (ف م 1): قد عادوا منهزمين. (¬3) كذا ورد هذا الاسم هنا وفي بعض المصادر، وورد بتقديم الياء (يلبق) في مصادر أخرى، ولم أقف على مَن صحح أحدهما. انظر أوراق الصولي 158، وصلة الطبري 115، وتكملته 254، والمنتظم 13/ 265، والكامل 8/ 173.

وأخرج ابن أبي الساج رأسَه من الخيمة لينظر حديث الوقعة، فوقع [إلى] القرمطي أنَّه أراد الهرب، فدعاه إلى حضرته وقال: أردتَ أن تهرب، وزعمتَ أنَّ غلمانك يُخلِّصونك، وأمر به فضُربت عنقُه، وقتل جماعةً من أصحابه، وعمل أطوافًا من القصب والخشب وكان يعبر عليها. وكان علي بن عيسى قد أقام من باب الأنبار إلى زبارا مقدار فرسخين مئة رجل، مع كل واحدٍ طَيْر يكتبون على أجنحتها خبرَ العدوِّ في كل ساعة، وهرب معظم أهل الجانب الغربي إلى الشرقي، ومضى بعضهم إلى حُلْوان [والبَنْدنيجَين، ولم يشكُّوا أن القرمطي يملك بغداد]. وسار القرمطي إلى هِيت، ورحل (¬1) مؤنس بالعساكر إلى الأنبار، وقدَّم مؤنس هارون بن غَريب وسعيد بن حَمْدان إلى هِيت برجالهما، فسبقا القرمطيَّ، وصَعِدا على سورها، وقَويت قلوبُ أهلها، ونصب (¬2) أهلُ هيت المناجيقَ على الأسوار والعَرَّادات، وعمل القرمطيُّ سلالم، وزَحَف إليها فلم يقدر على نَقْبها، وقتلوا من أصحابه جماعةً، فرحل عنها. وتصدَّق المقتدر بمال عظيم [لما رحل أبو طاهر من زبارا والأنبار وهيت، فكان] مبلغُه مئتي أَلْف درهم، وتصدَّقَت أمُّه بمئة أَلْف درهم، وعلي بن عيسى بخمسين أَلْف درهم. وورد كتاب مؤنس يُحصي الذين اجتمعوا في عسكر السلطان بزبارا [فكانوا] نيفًا وأربعين ألفًا سوى الغلمان والأتباع. ولمَّا وصل الخبر بقتل ابن أبي الساج دخل علي بن عيسى على المقتدر وقال [له: ] يَا أمير المُؤْمنين، إنَّما جمع الخلفاء [المتقدِّمون] الأموال ليَقْمعوا بها أعداءَ الدِّين والخوارجَ، ويَحفظوا بها [الإسلام و] المسلمين، ولم يلحق المسلمين منذ قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ أعظم من هذا الكافر؛ لأنَّه قد أوقع بالحاجِّ، وجرى عليهم منه ¬

_ (¬1) في (ف م 1): وعجل. (¬2) في (ف م 1): قلوب أهلها، وعقد مؤنس على الفرات جسر الأنبار، ونصب.

ما لم يَجْرِ [على أحد] مثلُه، وقد تمكَّنَت هيبتُه في قلوب الأولياء والخاصِّ والعامّ، فاتَّقِ الله يَا أمير المُؤْمنين؛ فإنَّه لم يبق في بيت المال شيءٌ، فخاطِب السيدةَ في مالي تُنفقه في العساكر، فإنَّها دَيِّنة فاضلةٌ، فإن كان عندها مالٌ قد ذَخَرَتْه لشدَّةٍ تَلْحقُها فهذا وقتُه، وإن يكن الأخرى فمالك ولأصحابك إلَّا أقاصي خُراسان. فدخل على والدته، وأخبرها بما قال الوزير، فأخرجت خمس مئة أَلْف دينار، وأخرج المقتدر ثلاث مئة أَلْف دينار، وجرَّد علي بن عيسى العنايةَ في استخدام العساكر والحاشية وأصحاب مؤنس وبني حَمدان. وورد من هِيت صاحبُ نصر الحاجب ومعه ثلاثة عشر (¬1) من القرامطة مأسورين كانوا تخلَّفوا عن القرمطي، فأمر المقتدر بإطلاقهم، وأعطى كل واحدٍ منهم خمس مئة درهم، وثوبَ دِيباج، وعمامةَ خَزٍّ. وبلغ الوزير أنَّ رجلًا بَبغداد يُعرف بالشِّيرازي (¬2) يُكاتب القرمطيُّ، ويطالعه بالأخبار، وأنَّه من خواصِّ أصحابه، [فتقدم الوزير إلى نازوك بالقبض عليه، فبعث إلى مُرَبَّعة الخُرْسِيّ، فأخذه] (¬3) فأحضره بين يديه، وسأله عن ذلك فقال: نعم، أنا صاحبُ السيد، وما صحبتُه إلَّا لأنَّه على حق، وأنت وصاحبك وجميع مَن معكم على الباطل، وأنتم كفارٌ، ولا بدَّ لله من إمامٍ عادل وهو المهديُّ صاحبنا، فقال له الوزير: عرِّفني مَن يُكاتبه من ها هنا؟ فقال: أُخبرك بإخواننا المُؤْمنين حتَّى تُسلّمهم إلى صاحبك الكافر؟ فأمر بضَرْبه بالمَقارع والدِّرة، وغُلَّ وقُيِّد وسُلِّم إلى نازوك، فحبسه في المُطْبِق، وامتنع عن الأكل والشرب، فمات بعد ثلاثة أيام. واستدعى المقتدر مؤنسًا [المُظَفَّر] ونصرًا الحاجب إلى حضرته فقدما، ووَلَّى [أَبا] الهَيجاء [بن حَمْدان] المَوْصل والجزيرة. واجتمع الجند فشَغبوا على المقتدر، وطلبوا الزّيادةَ، وشتموه أقبحَ شتمٍ، ونهبوا القصر المعروف بالثُّريَّا، وأحرقوا بعضه، وصاحوا: بَطَّلتَ حجَّنا، وأخذتَ أموالنا، ¬

_ (¬1) في (ف م 1): ومعه عشرين. وفي تاريخ الإِسلام 7/ 213: وورد من هيت نصر الحاجب ... (¬2) في تكملة الطبري 255، والكامل 8/ 174: أن رجلًا من شيراز. (¬3) ما بين معكوفين من (م 1).

الحسين بن مسلم

وجَرَّأتَ علينا عدوَّنا، وتنامُ نومَ الأمَة، فبذل لهم المال فسكتُوا. وجُدِّدَت الخنادق على بغداد، وأُصلحت الأسوار، ولم يحجَّ أحدٌ من العراق [خوفًا من القرمطي]. وقيل: حجَّ بهم عبد الله بن عبيد الله بن سليمان بن محمَّد الأزرق (¬1). وفيها تُوفِّي الحسين بن مسلم ابن محمَّد بن عُفَير (¬2) بن محمَّد بن سَهْل بن أبي حَثْمَة الصحابي، أبو عبد الله. ولد سنةَ تسع عشرة ومئتين، وتوفي في صفر بالجانب الشرقي من بغداد عن سبعٍ وتسعين سنة وأيام. حدَّث عن أبي بكر بن أبي شَيبة وغيره، وروى عنه ابن شاهين وغيره، وكان ثِقَة. [فصل: وفيها تُوفِّي] الحسين بن عبد الله أبو عبد الله، الجَوْهَري، ويُعرف بابن الجَصَّاص، صاحبُ الأموال والجواهر التي ذكرناها. وكانت بدايةُ أمره أنَّ أَحْمد بن طولون قال: لا يُباعُ لنا شيءٌ إلَّا على يده، فكَسِب الأموال. قال: كان بدوُّ إكثاري (¬3) من الأموال أنِّي كنتُ جالسًا في دهليز حُرَم [أبي الجَيش] ¬

_ (¬1) في صلة الطبري 116: وحج بالنَّاس في هذه السنة أبو أَحْمد عبيد الله بن عبد الله بن سليمان من بني العباس. (¬2) كذا في (خ ف)، وهذه الترجمة ليست في (م 1)، والذي في المصادر: الحسين بن محمَّد بن محمَّد بن عفير، انظر سؤالات السهمي للدارقطني (267)، وتاريخ بغداد 8/ 662، والمنتظم 13/ 266، وتاريخ الإسلام 7/ 291. (¬3) في (م 1): وقد ذكر القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أَبيه بإسناده عن محمَّد بن أبي طاهر البَزَّار أخباره عن التنوخي قال ابن الجصاص كان بدو إكثاري.=

خُمَارويه بن أَحْمد بن طولون، وكنتُ أبتاعُ لهم الجوهرَ وغيره، وما كنتُ أفارق الدِّهليز، فخرجت إليَّ قَهْرَمانةٌ لهم في بعض الأيام ومعها عِقْدُ جوهرٍ، فيه مئة حبَّة لم أر قبله أحسن منه، تساوي كلُّ حبةٍ أَلْف دينار، فقالت: نحتاج تَخْرِط هذا حتَّى يَصْغُر، فأخذتُه [وقلتُ: السمعُ والطاعة] , وخرجتُ في الحال، فجمعتُ التجار، ولم أزل أشتري ما أقدر [عليه] , حتَّى حصَّلتُ مئةَ حبةٍ من النوع المطلوب، وأتيتُ بها إلى القهرمانة وقلتُ: قد خَرَطْنا اليوم ما قَدَرْنا عليه، والباقي نخرُطُه، وحملتُ إليهم مئتَي حبَّة وقلت: هذا تمامُه، وتُقُوِّم على ذلك بمئة أَلْف درهم. وقال: نَكَبني المقتدر وحَبَسني، فأقمتُ مدةً، وأصبحتُ يومًا وأنا آَيَسُ ما كنتُ من الفَرج، فجاءني خادمٌ فقال: البشارة لي، قلتُ: وما الخبر؟ قال: شفعَت فيك السيدة وقالت: شيخٌ، وغريبٌ، وله خدمةٌ، وقد استأصَلْتَه، فما تريدُ منه؟ ! فشفَّعَها فيه. قال: فلمَّا خرجتُ مررتُ بدار السيدة، فرأيتُ هناك أحمالًا من الخَيش في أعْدالٍ، مئةُ عِدْل، فعرفتُها (¬1)، وكانت قد أُخِذت في المصادرة ولم يعلموا ما فيها، وكان وكيلي قد بعث بها إليَّ من مصر، وجعل في باطن كلِّ خيشٍ ألفَ دينار كانت لي هناك، ولاستغنائي عن المال لم أفتح الأعدال، وألقيتُها في بيتٍ، فلمَّا نُكبت ونُقل جميعُ ما في داري أُخذت، فلما رأيتُها بحالها قلت للخادم: قَبِّل الأرضَ بين يدي السيدة وقيل لها: قد أحسنْتِ إليَّ، وقد خرجتُ من الحَبس كما ترين، وهذا الخَيش لا يُنتَفع به، فإن رأيتِ أن تُطلقيه لي لأبيعَ منه ما أُنفقُه عليَّ، فإنَّكم لا تنتفعون به، فأطلقَتْه، فأخذْتُه وفتحتُ الأعدال، وأخرجتُ من كلِّ خَيشٍ ألفَ دينار، وبعتُ الخيش. قال المُحَسِّن: ولمَّا صُودِرَ كان في داره سبعُ مئة مُزَمَّلَة خَيزُران -فما ظنُّك بدار يكون فيها هذا- وبلغت مصادرتُه ستة آلاف أَلْف دينًار، غير المَتاع والأثاث والدَّواب والغِلمان (¬2). ¬

_ = وهذا النص فيه أخطاء، صوابه ما في المنتظم 13/ 267، قال ابن الجوزي: أَنْبأنا محمَّد بن أبي طاهر البزَّاز، عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أَبيه قال: حَدَّثني أبو علي أَحْمد بن الحسين بن عبد الله الجصاص قال: قال لي أبي: كان بدء إكثاري، وانظر نشوار المحاضرة 2/ 312. (¬1) وقع في (م 1) خرم ينتهي في منتصف أحداث سنة (320 هـ). (¬2) نشوار المحاضرة 1/ 25، والمنتظم 13/ 268.

وقال جعفر بن وَرْقاء الشَّيباني: اجتزتُ بدار ابن الجَصَّاص بعد إطلاقه من المُصادرة، وإذا به في رَوْشَن داره يَعدو من أوله إلى آخره في يوم شديد الحرِّ كالمجنون، فصَعِدتُ إليه وقلتُ: ما الذي أصابك؟ فوقَع ساعةً كالمَغْشيِّ عليه، ثم أفاق فغسل وجهَه ورجليه وقال: أوَلا يحقُّ لي أن يذهب عقلي وقد أُخِذ مني كذا وكذا، وجعل يَعدُّ، فذكر شيئًا كثيرًا، فقلتُ له: يَا هذا، إنَّ نهايات الأموال غيرُ مُدرَكةٍ، وإنَّما يجبُ أن تعلمَ أنَّ النفوسَ لا عِوَضَ لها، فكذا العقولُ والأديانُ، فما سلم لك من ذلك فالفضلُ معك، وإنَّما يَقلَقُ هذا القلق مَن يَخاف الفقرَ والحاجةَ إلى النَّاس، أو يخاف ذهابَ الجاه، فاصبر حتَّى أُوافقك على أنَّه ليس ببغداد اليوم بعد الذي خرج عنك أيسرُ منك من أصحاب الطَّيالِس، فقال: هات. قلتُ: أليس دارك هذه التي كانت قبل المصادرة [ولك فيها من الفُرُش والأثاث ما فيها؟ قال: بلى. قلت: وعَقارك] بالكَرْخ يُساوي خمسين أَلْف دينار؟ قال: نعم، قلت: وبستانك الفلاني وضيعتك الفلانية وقيمتها كذا وكذا؟ [ولك] بالبصرة عقارٌ وملك قيمتُه مئةُ أَلْف دينار (¬1)، وأحصيتُ له ما قيمتُه سبعُ مئة أَلْف دينار، وقلتُ: اصدُقْني عمَّا سلم لك من الجواهر والعبيد والأثاث، فقال: قيمتُه ثلاثُ مئة أَلْف دينار. فقلتُ: ما ببغداد اليوم مَن له ما يساوي أَلْف أَلْف دينار غيرك، وجاهُك قائمٌ، وهم يظنُّون أنَّك قد بقي لك أضعافُ ما أُخذ منك، فلمَ تَغْتمُّ؟ ! فسجد شُكرًا، وبكى وقال: قد غَلَب عليَّ الفكرُ حتَّى خفتُ على عقلي، فالله أنفذك إليَّ، ولو لم تجئني الساعة لزاد الفكر، وما عزاني أحدٌ أنفعَ لي من تعزيتك، وما أكلتُ منذ ثلاثٍ شيئًا، وأُحبُّ أن تقيمَ عندي، فأقمتُ عنده يومي. وكان فيما أُخِذ لابن الجصاص خمسُ مئة سَفَط من مُرتفع ثياب مصر، ووجدوا في بستانه جِرارًا خُضْرًا فيها أموالٌ عظيمةٌ، وقَماقِمُ مُرَصَّعة مُرَصَّصَة والمال فيها. وكان مع هذه الثروةِ فيه نوعُ بَلَهٍ وغَفْلة، ويُحكى عنه الحكاياتُ العجيبة، منها: أنَّه قرأ يومًا في المصحف: "دِرْهم يأكلوا وَيتَمتعوا ويُلْهِهم الأمل" فجعل يقول: ¬

_ (¬1) في (خ ف): قيمته مئة أَلْف أَلْف دينار، والمثبت من المنتظم 13/ 269، ونشوار المحاضرة 1/ 28.

عبد الله بن محمد بن جعفر

والله رخيصٌ، آكلُ وأتمتَّع بدرهم، هذا من إنعام الله تعالى. وكان يُسبِّح كل يوم بعد صلاة الصبح ويقول: أعوذ بالله من نِعمه، وأتوبُ إليه من كرمه، وأستقيلُه عافيته، وأسأله عوائق الأمور، حسبي الله وأنبياؤه وملائكتُه، اللهم وأدخل من بَركة دعائنا على أهل القصور في قصورهم، وعلى أهل البِيَع في بِيَعهم، وعلى أهل الكنائس في كنائسهم، سبحان الله قبل الله وبعد الله. ومرض بالحمَّى فقيل له: كيف تَجِدُك؟ فقال: الدنيا كلُّها مَحمومة. ونظر يومًا في المرآة وعنده رجلٌ فقال له: ترى لحيتي قد طالت؟ فقال: المرآة في يدك! فقال: الشاهد يرى ما لا يراه الحاضر (¬1). ودخل يومًا على ابن الفرات الوزير فقال: أيَّها الوزير، عندنا كلابٌ ما تَدَعُنا ننام، فقال: لعلَّهم جراء، فقال: لا والله إلَّا كل كلب مثلي ومثلك. وجلس يومًا يأكل معه، فلمَّا فرغ من الأكل قال: الحمد لله الذي لا يُحلَف بأعظم منه. ونزل يومًا مع الوزير الخاقاني في زَبْزَبِه وبيده بِطّيخة كافورٍ، فأراد أن يَبصُقَ في دجلة ويعطي الوزير البطِّيخة، فبصق في وجه الوزير وألقى البطيخة في دجلة، فارتاع الوزير وقال له: ويحك ما هذا؟ فقال: غَلِطتُ، أردتُ أنْ أبصُقَ في وجهك وأرمي البطيخة في دجلة، فقال له الوزير: كذا فعلتَ أي جاهل، فغَلِط في الفعل وأخطأ في الاعتذار. ومن هذا الباب شيءٌ كثير، وقيل: إنّه كان يَتغافل، والصَّحيحُ أنَّه كان مُغفَّلًا (¬2). عبد الله بن محمَّد بن جعفر أبو القاسم، القَزْويني، الفقيه، الشَّافعيّ (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في (خ ف)، وفي أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي 51: الغائب، وهذه الحكايات كلها فيه. (¬2) نقل التنوخي في نشوار المحاضرة 1/ 30 عن ابن أبي عبد الله الجصاص قمحة تردُّ مزاعم غفلة أَبيه ابن الجصاص، وانظر المنتظم 13/ 270، وأخبار الحمقى والمغفلين 53 - 56، وتاريخ الإِسلام 7/ 214 - 216، والسير 14/ 472. (¬3) تاريخ دمشق 32/ 169 (طبعة دار الفكر)، وتاريخ الإِسلام 7/ 293، وميزان الاعتدال (4337).

علي بن سليمان بن الفضل

وَلي قضاءَ [دمشق] نيابة عن محمَّد بن العباس الجُمَحيّ، وولي قضاء الرَّمْلة، وسكن مصر، وكانت له بها حَلْقة، وكان محمود السيرة فيما ولي. وكانت له عبادةٌ ونُسُك ووَرع، ثم خَلَّط في آخر عمره فافتُضِح، ومُزِّقَت كُتبه في وجهه، وهَجَره النَّاس فلم يَقْرَبْه أحدٌ، فمات بعد ذلك بيسير. حدَّث عن الرَّبيع بن سليمان وغيره، وروى عنه ابن أبي العَقَب وغيره، ثم تركوه. وقال الطحاوي: قدم علينا مصر، فكتب عنه شيوخُها، أمَّا نحن فما كتبنا عنه لأنَّنا نُناظره. معناه: أنَّنا نعرف الحديث ومن يُتَّهم به. وقال الدارقطني: كان القزويني يضع الحديث (¬1). عليُّ بن سليمان بن الفَضْل أبو الحسن، البغداديّ، النَّحْوي، ويعرَف بالأخْفَش الصغير (¬2). كان عالمًا فاضلًا يُضاهي الأخفشَ الكبير في فضله، وتوفِّي ببغداد في ذي القعدة، وقيل: في شعبان فجاةً. وكان فقيرًا من الدنيا، وكان أبو علي بن مُقْلَة يَبَرُّه، وكلَّم في شأنه الوزير علي بنَ عيسى ليخرج له رزقًا فلم يفعل، وزَبَر ابنَ مُقلة، وعلم أبو الحسن فاغتمَّ، وانتهت به الحال إلى أن أكل السَّلْجَم (¬3) النِّيء، فقبض على قلبه فمات فجأة. وكان مُفتيًا. سمع ثعلبًا، والمُبرّد، واليَزيديّ وغيرَهم، وروى عنه المعافي بن زكريا وغيره. ومن شعره يرثي قريبًا له: [من البسيط] يَا ليتني كنتُ ممَّن كان شاهدَه ... إذ ألْبَسوه ثيابَ الغُرْبَة الجُدُدا وطيَّبوه فما ضَنُّوا بطيبهم ... طِيبًا لَعَمْرُك لم تمدد إليه يدا حتَّى إذا صَيَّروه دون صَفِّهِمُ ... وأمَّهم قارئٌ صلَّى وما سجدا ¬

_ (¬1) سؤالات الحاكم للدارقطني ص 120 وعن 173. (¬2) تاريخ بغداد 13/ 388، وتاريخ دمشق 49/ 238، والمنتظم 13/ 271، وتاريخ الإسلام 7/ 295، والسير 14/ 480. (¬3) هو اللفت كما في المعجم الوسيط.

محمد بن إسماعيل

قالوا وهم عُصَبٌ يَسْتغفرون له ... قولَ الأحبَّة لا تَبْعَد وقد بَعِدا وقال المعافى: كان إذا هجاه إنسانٌ ترك ذلك الهَجْوَ في أماكنه، فيستحي الذي هجاه فلا يعودُ إلى ذلك. محمَّد بن إسماعيل ابن القاسم بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، أبو عبد الله، العَلَوي (¬1). وإنَّما سُمِّي جدُّه طباطبا لأنَّ أمَّه كانت تُرَقِّصُه وتقول: كبا كبا يعني: نم. سكن مصر، وكان سيدًا فاضلًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وكان له بمصر جاهٌ ومنزلة جليلة عند السلطان والعامة، وبها تُوفّي، وقبرُه بالقَرافَة ظاهرٌ يُزار ويتبرَّك به. حدَّث عن أَبيه وغيره، وروى عنه المصريّون، وقدم الشَّام صُحبةَ خُمارَوَيه بن طولون. محمَّد بن المُسيّب بن إسحاق أبو عبد الله، النَّيسابوري ثم الأَرْغِياني (¬2). ولد سنة ثلاث وعشرين ومئتين، وطاف البلاد، وكان زاهدًا، خائفًا، بكَّاءً حتَّى ذهب بصرُه، وكان يقول: ما بقي مِنْبَر من منابر الإِسلام لم أدخله لسماع الحديث. وكان يمشي وفي كُمِّه مئةُ أَلْف حديث في مئة جزءٍ صغار. وتوفي يوم السبت منتصف جمادى الأولى وهو ابن اثنتين وتسعين سنةً. سمع خلقًا كثيرًا منهم أَبا سعيد الأشَجَّ، وروى عنه أبو حامد [بن] الشَّرقي وغيره، وأجمعوا عليه. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 61/ 103، وتاريخ الإِسلام 7/ 296، والوافي بالوفيات 2/ 211. (¬2) تاريخ دمشق 64/ 473، والسير 14/ 422، وتاريخ الإِسلام 7/ 299.

السنة السادسة عشرة وثلاث مئة

السنة السادسة عشرة وثلاث مئة فيها في المحرَّم دخل أبو طاهر الرَّحبةَ بعد حرب جرت بينه وبين أهلها، ووضع فيها السيف، وبعث إليه أهلُ قَرْقِيسيا يطلبون الأمانَ، فأمَّنهم، وبثَّ سراياه في الأعراب، فقتلوا وسَبَوا ونَهَبُوا، وجعل على الباقين إتاوةً في كل شهر دينارًا من كل واحد، ثم دخل قَرْقيسيا ونادى: لا يظهرَنَّ أحدٌ من أهلها نهارًا، فلم يظهر أحدٌ، وقصد الرَّقة، وكان في تسع مئة فارس وثلاث مئة راجل، فدخل الرقة، وقتل من أهل الرَّبَض جماعة، ثم دفعه أهلُها، وتبعوه فنهبوا من دوابِّه وسَواده، وانصرف عنها، وبلغ مؤنسًا فسار من بغداد إلى الرقَّة، فوصلها بعد انصراف أبي طاهر الهَجَري عنها. واجتاز الهَجَري بهيت وقد حمل معه مَتاعَ أهلِ الرحبة في الزَّواريق، وكان أهل هِيت قد نصبوا عليها المَجانيق والعَرَّادات، فحاربهم، فرَمَوه بالحجارة، فقتلوا واحدًا من أصحابه، فارتفع الصُّراخ والبكاء حتَّى ظنَّ النَّاسُ أنَّ الهجريَّ قُتل، ثم ظهر أنَّه أبو الرَّوَّاد من خواصِّ أصحابه، ثم سار، فأخذوا ما رماه أصحابُه من المتاع. وجهَّز المقتدر نصرًا الحاجب إلى الكوفة بالعساكر في شهر رمضان، فلمَّا بلغ سُورا مرض واشتدَّت عِلَّتُه، فاستخلف أَحْمد بن كَيغَلَغ، وبعث معه بالجيش، فانصرف الهَجَريُّ قبل أن يلقاه، ومات نصر ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رمضان، وحُمل تابوتُه إلى بغداد، ودُفن يوم الفطر، وبعث المقتدر شفيعًا إلى الجيش يُخبرهم أنَّه قد استخلف عليهم هارون بن غريب، وانصرف الهَجَري إلى بلده، وعاد هارون إلى بغداد. ولما رأى علي بن عيسى أنَّ الهجري قد استولى على البلاد استعفى من الوزارة، فكانت مدَّةُ وزارته سنة وأربعة أشهر ويومين. وقيل: إنَّ المقتدر لم يوافقه وقال: أَنْتَ عندي بمنزلة المعتضد، ولامه مؤنس وقال: لا تفعل، فقال: أَنْتَ تمضي إلى الرقة، ولو كنتَ مُقيمًا لاستعنتُ بك، وكان نصر الحاجب مُنحرفًا عنه، فأشار بأبي علي بن مُقلَة، فاستوزره المقتدر في ربيع الأول، وخلع عليه، ولم يكن من بيت الوزارة وإنَّما ألجأت الضرورة إليه.

ولمَّا رجع الهجري إلى بلده بني دارًا سمَّاها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي، وتفاقم أمرُه، وكثُر أتباعُه، وهرب عمَّالُ الكوفة من بين يديه، وبثَّ السرايا في السَّواد وغيره فأخربوه، فبعث المقتدر هارون بن غَريب إلى واسط، وصافي إلى الكوفة، فوقع هارون على جماعة منهم فقتلهم، وبعث بجماعة منهم أُسارى إلى بغداد مشهورين على الجمال، ومعهم مئةٌ وسبعون رأسًا وأعلامٌ بيضٌ مُنكَّسة عليها مكتوب: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] فقُتلوا، واستقام أمرُ السواد وطابت قلوبُ النَّاس. وفيها استوحش نازوك، ووقع بينه وبين هارون حربٌ في ذي القعدة، وسببه: أن سُوَّاس نازوك وهارون تغايروا على غلام أمرد، فأخذ نازوك سُوَّاس هارون فحبسهم بعد أن ضربهم، فوثب أصحاب هارون وانتزعوهم، فدخل نازوك على المقتدر فشكا هارونَ، فلم يكن من المقتدر إنكار، فخرج نازوك مُحْفَظًا، وجمع رجاله، وجمع هارون أصحابه، وزحف نازوك إلى دار هارون، فخرج إليه أصحابه واقتتلوا، وقُتل من الفريقين جماعةٌ. وركب الوزير ابنُ مُقْلَة ومُفلح الأسود وأدَّيا إليهما رسالةَ المقتدر بالكفِّ فكفَّا. وأقام نازوك في داره يتمرَّض، وجاء إليه هارون بن غريب، واصطلحا وزال ما كان بينهما. وكَثُر الإرجافُ بأن هارون يتولَّى إمرة الأمراء، وكان مؤنس بالرَّقَّة، فكتب إليه أصحابُه من بغداد بذلك، فسار على طريق الموصل، فقدم بغداد لثلاث بقين من ذي الحِجَّة يوم الأربعاء، ولم يدخل على المقتدر، فبعث إليه ولدَه والوزيرَ ابنَ مُقْلَة، فسلَّما عليه ووصفا شوقَ المقتدر إليه، فاعتل بعلَّةٍ شكاها، وظهرت الوَحْشةُ بينه وبين المقتدر. وأقام هارون في دار السلطان مُنابذًا لمؤنس، وأقامت الرسلُ تتردَّد بين مؤنس والمقتدر، وسنذكر في سنة سبع عشرة ما آل الأمر إليه إن شاء الله تعالى. ولم يحجَّ أحدٌ بالنَّاس خوفًا من الهَجَري. وفيها تُوفِّي

بنان بن محمد بن حمدان

بُنان بن محمَّد بن حَمدان أبو الحسن، الزَّاهد، ويُعرف بالحمَّال (¬1). أصلُه من واسط، ونشأ ببغداد وسمع الحديثَ بها، ثم انتقل إلى مصر فأقام بها حتَّى مات. وكان من جِلَّة المشايخ الورعين، الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر، وله المقامات والكرامات، وكان لا يقبل عطيَّةَ السلطان، ويُضرَب المثلُ بعبادته وزُهده وورعه. قال: لقيتُ امرأةً بطريق مكة وقد حملتُ زادًا على ظهري، فقالت: أَنْتَ حمَّال تحمل الزاد على ظهرك وتتوهَّمُ أنَّه لا يَرزُقُك؟ ! فرميتُ ما كان على ظهري، ومشيتُ ثلاثة أيامٍ لم آكل، فلقيتُ في الطريق خَلْخالًا من ذهب، فقلتُ في نفسي: أحملُه حتَّى يجيءَ صاحبُه فآخذ منه شيئًا وأعطيه إيَّاه، فعارضتْني تلك المرأة وقالت: أَنْتَ تاجرٌ تقول في نفسك كذا وكذا، ثم رَمَت إليَّ بدراهم وقالت: يَا قليلَ اليقين، أنفقها إلى مصر، فسمِّيتُ الحمَّال لهذا. وأنكر على ابن طولون، فأمر به أن يُلقى بين يدي السَّبُع، قال: فجعل يَشمُّه ولا يضرُّه، فلما خرج قيل له: ما الذي كان في قلبك حيث شمَّكَ السبع؟ قال: كنتُ أتفكَّر في سُؤر السباع ولُعابها، واختلاف العلماء في نجاسة سُؤرها وطهارته. وقال [عمر بن] محمَّد بن عِراك: إن رجلًا كان له على رجل وثيقةٌ بمئة دينار، فطلبها فلم يجدها، فجاء إلى بُنان فسأله الدعاء وقال: مالي غيرها، فقال له كان: أنا أحبُّ الحَلوى، فاذهب فاشترِ لي حلوى في قِرطاس، وجاءه بها، فقال له: افتح القِرطَاس. ففتحه، فإذا هو الوثيقة، فقال لبنان: هذه والله وثيقتي! قال: خذها وخُذِ المعقود فأطعِمْه صبيانك، فقال: وأنت؟ فقال: لا حاجةَ لي فيه (¬2). ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 291، حلية الأولياء 10/ 324، تاريخ بغداد 7/ 591، الرسالة القشيرية 103، المنتظم 13/ 273، صفة الصفوة 2/ 448، مناقب الأبرار 1/ 484، السير 14/ 488، تاريخ الإِسلام 7/ 302. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 593، والمنتظم 13/ 474، وصفة الصفوة 2/ 450، وما بين معكوفين منها.

واحتاج إلى جارية تخدُمُه، فجمع له أصحابه ثمنَ جاريةٍ، فقدم تجَّارٌ من خُراسان ومعهم جارية، فساوموا صاحبها فقال: ليست للبيع، هذه لبُنان الحمَّال، أهدتها إليه امرأةٌ من أهل سَمَرْقَند، فحملوها إليه. وقال: لَحِقَتْني ضائقةٌ، فخرجتُ وإذا بقطعةٍ من ذهب مُلقاة، فأخذتُها، وجعلتُها في فِيَّ، ومشيتُ غير بعيد، وإذا صبيانٌ بينهم صبيٌّ على شيء مرتفع يتكلَّم عليهم في التصوُّف، فوقفتُ أسمع، فقال له واحدٌ منهم: متى يجدُ العبد حَلاوةَ الصِّدق؟ فقال: إذا رمى القِطعة من الشِّدْق، فأخرجتُها من فمي ورميتُ بها. نبذة من كلامه: قال: الحرُّ عبدٌ ما طَمِع، والعبدُ حرٌّ ما قَنِع. وقال: الخائنُ خائفٌ، والبريءُ جريء، ومَن أساء استوحش، ومَن كان يسُرُّه ما يضرُّه متى يُفلح؟ وقال: خلق الله سبعَ سماوات، وله في كلِّ سماء جنود، وطاعتُهم له على سبع مَقامات، فطاعةُ أكل السماء الدنيا على الخَوف والرَّجاء، وطاعةُ أهل السماء الثَّانية على المحبَّة والحياء، وطاعةُ أهل السماء الثالثة على المِنَّة والدُّعاء، وطاعةُ أهل الرابعة على الشَّوق والهَيبة، وطاعةُ أهل الخامسة على المُناجاة والإجلال، وطاعةُ أهل السادسة على الإنابَة والتَّعظيم، وطاعةُ أهل السابعة على المِنَّة والقُربة (¬1). وقال: أنشدني بعضُ أصحابنا وقد دعوتُه: [من مجزوء الرمل] مَن دعانا فأبَينا ... فله الفَضْلُ علينا فإذا نحن أَجَبْنا ... رَجَعَ الفضلُ إلينا وأنشد بُنان: [من الوافر] لَحاني العاذِلون فقلتُ مَهْلًا ... فإنِّي لا أرى في الحُبِّ عارا فقالوا قد خَلَعْتَ فقلتُ لسنا ... بأوَّل خالعٍ خَلَعَ العِذارا وتوفِّي بمصر في شهر رمضان، ولم يتخلَّف عن جنازته أحدٌ، ودُفن بالقَرَافة، وقبرُه ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 293، ومناقب الأبرار 1/ 484 وفيهما بعض الاختلاف.

داود بن الهيثم

بها ظاهرٌ يُزار. وقيل: مات سنة عشر وثلاث مئة. وكانت له منزلةٌ رفيعةٌ بمصر عند الخاص والعامِّ، وصحب الجُنيد وأصحابه، وهو أستاذ أبي الحسين النُّوري، سمع الحسن بن عَرَفة وغيره، وروى عنه الحسن بن رَشِيق وغيرُه. داود بن الهَيثم ابن إسحاق بن البُهْلُول، أبو سعد (¬1)، التَّنوخي. ولد بالأنبار، وبها تُوفي وله ثمانٌ وثمانون سنة. وكان إمامًا، فاضلًا، مُفتيًا، عارفًا باللغة وغيرها من العروض والنحو والآداب، وصنَّف كُتُبًا في النحو واللغة على مذهب الكوفيين، وله كتاب كبير في خلق الإنسان، وكان شاعرًا فصيحًا، وأخذ العلم عن يعقوب بن السِّكيت وغيره، وحدَّث عن عمر بن شَبَّه وغيره، وروى عنه محمَّد بن المظفَّر وغيره، وكان ثِقَةً. عبد الله بن سليمان بن الأشعث أبو بكر بن أبي داود السِّجِسْتاني (¬2). الحافظ ابن الحافظ، محدِّثُ العراق وابنُ إمامها في عصره. ولد بسِجِسْتان سنة ثلاثين ومئتين، ورحل به أبوه فطوَّف به الدنيا شرقًا وغربًا، وأسْمَعه من علماء خُراسان، والجبال، وأصبَهان، وفارس، والبصرة، والكوفة، وبغداد، ومكة، والمدينة، والجزيرة، والشام، ومصر. واستوطن بغداد وصنَّف"المسند" و"السُّنن" و"السِّير" و"التفاسير" و"القراءات" و"الناسخ والمنسوخ" وغيرَ ذلك. وكان فهمًا، عالمًا، حافظًا، ونصب له السلطان مِنبرًا فكان يحدِّثُ عليه، وكان في ¬

_ (¬1) في (خ ف): سعيد، والمثبت من: تاريخ بغداد 9/ 355، والمنتظم 13/ 274، والسير 14/ 483، وتاريخ الإِسلام 7/ 304. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 136، وتاريخ دمشق 9/ 368 (مخطوط)، والمنتظم 13/ 275، والسير 13/ 221، وتاريخ الإِسلام 7/ 305، وميزان الاعتدال (4155).

وقته مشايخُ علماءٌ، لكنَّهم لم يبلغوا في الإتقان ما بلغ. وكان عليُّ بن عيسى الوزير يحدِّثُ في داره فيقول: حدَّثنا البغويُّ في ذلك المَوضع، ويُشير إلى بُقعةٍ من الدار، وحدَّثنا ابن صاعد في ذلك المكان، فيذكر جماعة، ويشير إلى مواضعهم، فقيل له: ما لك لا تذكر ابنَ أبي داود؟ فقال: ليتَه إذا مَضينا إلى داره يأذنُ لنا في الدُّخول. وخرج إلى سِجِستان في أيام عمرو بن اللَّيث، فاجتمع إليه أصحابُ الحديث، وسألوه أن يُحدِّثَهم، فأبى وقال: ليس معي كتاب، فقالوا له: ابن أبي داود [وكتاب؟ ! ] فأملى (¬1) عليهم ثلاثين ألفَ حديث من حفظه، فلمَّا قدم بغداد قال البغداديون: مضى ابنُ أبي داود إلى سِجِستان ولعب بالنَّاس، ثم فيَّجوا فَيجًا (¬2) اِكْتَرَوْه بستَّة دنانير إلى سِجستان ليكتبَ لهم نسخةً، فكتب، وجاء بها إلى بغداد، وعُرِضَت على الحفَّاظ فخَطَّؤوه في ستَّة أحاديث، قال: منها ثلاثةٌ حَدَّثتُ بها كما حُدِّثتُ، وثلاثة أحاديث أخطأتُ فيها. وقال: مررتُ يومًا بباب الطَّاق، فإذا رجلٌ يُعَبِّر الرؤيا، فمرَّ به رجلٌ، فأعطاه قطعةً وقال له: رأيتُ البارحة في منامي كأنّي أُطالبُ بصَداق امرأةٍ ولم أتزوَّج قطُّ؟ فردَّ عليه القطعة وقال: ليس لهذه جواب، قال: فتقدَّمتُ إليه وقلت: خُذ منه القطعةَ وأنا أعبره، فأخذها، فقلتُ للرجل: أَنْتَ تطالبُ بخَراج أرضٍ ليست لك، فقال الرَّجل: صدقتَ، هذا التَّوكيل معي على الخراج. وقال أبو حفص بن شاهين: أملى علينا ابنُ أبي داود نحوًا من عشرين سنةً، ما رأيتُ بيده كتابًا، وإنَّما كان يُملي من حفظه، وكان أحفظَ من أَبيه. ذكر وفاته: مات ليلة الإثنين ودُفن يوم الإثنين وقت الظهر لثماني عشرة خلت من ذي الحجة ¬

_ (¬1) في (خ ف): إن أبي داود فأملى، والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 137، وتاريخ دمشق 9/ 371، والمنتظم 13/ 275. (¬2) أرسلوا رسولًا.

ببغداد، وصلَّى عليه المُطَّلب الهاشمي صاحب الصلاة في جامع الرُّصافة، وصلَّى عليه زُهاء ثلاث مئة أَلْف، وصلّوا عليه ثمانين مرةً في أربعة مَواضِعَ، وما وصل إلى قبره حتَّى أرسل المقتدرُ إلى نازوك الوالي فخلَّصه منهم، ودُفن بمَقبرة باب البُستان وهو ابنُ سبعٍ وثمانين سنةً قد مضى منها ثلاثة أشهر، وقيل: ابنُ ستٍّ وثمانين سنة وثمانية أشهر وأيام. حدَّث عن أَبيه، ومحمَّد بن يحيى الذُّهْلي، وخلق كثير. وروى عنه [أبو] محمَّد بن أبي حاتم، وابن شاهين، والدارقطني، وابن سَمْعون، وابن زَبْر، وابن مُجاهد، وابن قانع، وابن حَبابَة، وعلي بن عيسى الوزير، وخلق كثير (¬1). وقد تكلَّموا فيه، فقال الخَطيب: كان مُنحرفًا عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه مائلًا عنه (¬2). وقال ابن عساكر: قال ابن أبي داود: إنْ صحَّ حديثُ الطير الذي يقال: إنَّ عليًّا أكل مع النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- منه، فنُبوَّة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - باطلة (¬3). وكان أبو ليلى الحارث (¬4) بن عبد العزيز قد أمر بضرب عُنقه لمّا شاع عنه هذا، ثم شفعوا فيه فنفاه (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ دمشق 9/ 369. (¬2) نقله عن الخَطيب ابنُ عساكر في تاريخه 9/ 374، والذي في تاريخ بغداد 11/ 139 أن أَبا بكر بن أبي داود قال غير مرة: كلُّ مَن بيني وبينه شيء فهو في حِلّ، إلَّا مَن رماني ببغض علي بن أبي طالب. (¬3) تاريخ دمشق 9/ 374 بإسناده إلى ابن عدي قال: سمعت علي بن عبد الله الداهري يقول: سألت ابن أبي داود عن حديث الطير ... وهو في الكامل 4/ 1578. وحديث الطير أخرجه التِّرْمِذِيّ (3721) عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان عند النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - طير فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير" فجاء علي فأكل معه. وانظر كلام الذهبي على الخبر في السير 13/ 232. (¬4) في (خ ف): الحسن، وهو خطأ، والمثبت من المصادر، انظر التعليق التالي. (¬5) الخبر في أخبار أَصبهان 2/ 210 - 211، وعنه في تاريخ دمشق 9/ 374 - 375، والسير 13/ 229، وتاريخ الإِسلام 7/ 308 وفيه: أن ابن أبي داود قدم أَصبهان، فحسده جماعة من النَّاس لحفظه، وأجرى في مذاكرته ما قالته الخوارج -قبحهم الله- في أمير المُؤْمنين علي رضوان الله عليه من أن أظافيره حفيت من كثرة تسَلُّقه على أم سلمة زوج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، ونسبوا الحكاية إليه، وتقوَّلوا عليه، وأقاموا بعض العلوية خصماء له، فأُحضر مجلس =

محمد بن السري

قال ابن عساكر: قال أبو داود: ابني أبو بكر كذَّاب (¬1). محمَّد بن السَّرِيّ أبو بكر، السَّرَّاج، النَّحوي، مصنِّف كتاب "الأصول في النحو" (¬2). أحدُ العلماء المذكورين بالأدب وعلم العربية، صَحِب المبرِّد وأخذ عنه العلم في العربية (¬3)، وقرأ عليه كتاب "الأصول" الذي صنَّفه، فاستحسنه بعضُ الحاضرين وقال: هذا والله أحسنُ من كتاب "المقتَضب"، فأنكر عليه ابن السَّرَّاج وقال: لا تقل هذا، ثم تمثَّل: [من الطَّويل] ولكن بَكَتْ قبلي فهيَّجَ لي البُكا ... بُكاها فكان الفَضْلُ للمُتَقدِّمِ وحضر بين يديه صبيٌّ له صغير، فقيل له: أتُحبُّه؟ فأنشد: [من الرجز] أحبُّه حُبَّ الشَّحيحِ ماله ... قد كان ذاقَ الفقرَ ثمَّ نالهُ تُوفِّي ببغداد يوم الأحد ثالث ذي الحجة. نَصْر حاجبُ المقتدر كان عاقلًا ديِّنًا شُجاعًا، ولمَّا جهَّزه المقتدرُ إلى القِرمطيّ تبرَّع من ماله بمئة أَلْف دينار مُضافًا إلى ما أعطاه المقتدر، وخرج يَقصدُ قتال القرمطي، فمات، وحُمل إلى بغداد في تابوت، رحمه الله تعالى (¬4). ¬

_ = الوالي أبي ليلى الحارث بن عبد العزيز، وأقاموا عليه الشهادة، فأمر الوالي بضرب عنقه، فحضر محمَّد بن عبد الله الهمذاني الذكواني، وجرَّح الشهود، وقدح في شهادتهم، وخلص ابن أبي داود من القتل. (¬1) تاريخ دمشق 9/ 373 ونقله عن ابن عدي، وهو في الكامل 4/ 1578. قال ابن عدي: وهو مقبول عند أصحاب الحديث، وأما كلام أَبيه فيه فلا أدري أيش تبين له منه. وقال الذهبي رحمه الله في السير 13/ 231: لعل قول أَبيه فيه -إن صح- أراد الكذب في لهجته لا في الحديث، فإنَّه حجة فيما ينقله. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 263، والمنتظم 13/ 277، ومعجم الأدباء 18/ 197، وتاريخ الإِسلام 7/ 313، والسير 14/ 483 وفي حواشيه مصادر أخرى. وقد طبع كتاب الأصول بتحقيق عبد الحسين الفتلي في ثلاثة أجزاء بمؤسسة الرسالة. (¬3) في (ف): وأخذ عنه علم العربية. (¬4) انظر المنتظم 13/ 278.

يعقوب بن إسحاق

يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم بن يزيد، أبو عَوانة، الإسْفَرايِيني النَّيسابوري، الحافظ (¬1). طاف الدنيا، وصنَّف "المسند الصَّحيح المُخَرَّج على كتاب مسلم"، ولقي خلقًا من العلماء لا يُحصَون، وحجَّ عدَّة حجَّاتٍ. وكان زاهدًا، عابدًا، وَرِعًا، صَدوقًا، ثبتًا. كتب إليه بعضُ أصدقائه (¬2): [من الوافر] فإن نحن التَقَينا قبل موتٍ ... شَفَينا النفس من مَضَضِ العِتابِ وإن سَبقَتْ بنا أيدي المَنايا ... فكم من عاتبٍ تحت التُّرابِ وتوفي بنَيسابور. سمع عمر بن شَبَّه، ومحمَّد بنَ يحيى الذهْليّ، ومسلم بن الحجاج وغيرهم، وروى عنه خلقٌ كثير، وأجمعوا عليه. * * * ¬

_ (¬1) تاريخ جرجان 490، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 37، وتاريخ الإِسلام 7/ 315، والسير 14/ 417. (¬2) في مختصر تاريخ دمشق 28/ 38: كتب إليه أخوه محمَّد بن إسحاق.

السنة السابعة عشرة وثلاث مئة

السنة السابعة عشرة وثلاث مئة فيها خُلِع المقتدر، قال ثابت بن سنان: لما كان يوم السبت لثمانٍ خلَون من المحرَّم خرج مؤنس إلى باب الشَّمَّاسية، ومعه جميعُ الجيش، وركب نازوك الوالي في جيشه من داره بالجانب الغربي وغلمانه في السلاح، فأتى دجلة ليعبر إلى مؤنس، فوجد الجسر مقطوعًا، فأقام إلى أن أُصلِح، وعَبر عليه، وخرج أبو الهيجاء بن حمدان إلى مؤنس أَيضًا، فردَّ عليه الدِّينَوَر، وكان المقتدر عزله عنها، وكذلك جميع القواد صاروا إلى مؤنس، وانتقلوا إلى المصلَّى. وشَحن المقتدرُ دارَه ومعه هارون بن غريب، وأَحمد بن كيغلغ، والحُجَرية والرَّجَّالة، فلما كان آخر النهار انفَضَّ أكثرُ مَن كان في دار الخليفة من الرَّجالة وصاروا إلى مؤنس، ولما كان من الغد انفَضَّ الباقون إليه أَيضًا. وراسل مؤنسٌ المقتدرَ بأنَّ الجيشَ عاتبٌ منكرٌ لما يُصرَف من الأموال إلى الحُرَم والخَدَم، وأنَّهم يطلبون إخراجَ الحُرَم والخدم من الدار، وإبعادَهم، وأخْذَ ما في أيديهم، فكتب إليه رُقعة بخطه منها: أمْتَعَني الله بك، ولا أخلاني منك، ولا أراني فيك سوءًا، وإنِّي تأملتُ الحال التي خرج الأولياءُ إليها وتمسَّكوا بها، فوجدتُهم لم يُريدوا إلَّا صيانةَ نفسي ووَلدي، وإعزازَ أمري ومُلكي، واجتلابَ الخير والمنفعةِ لي، فبارك الله عليهم، وأحسنَ إليهم، وأعانَني على صالح ما أنويه فيهم. فأما أَنْتَ يَا أَبا الحسن المظفَّر -لا خَلَوتُ منك- فشيخي وكبيري، ومَن لا أحولُ عن المَيل إليه والتوفُّرِ عليه، اعترض بيننا هذا الحادث أو لم يَعْترِض، وانتقضَ الأمرُ الذي يجمعُنا أو لم يَنْتقِض، وأرجو ألا تَشُكَّ في ذلك إذا صدقْتَ نفسَك وحاسبْتَها، وأزَلْتَ الظُّنونَ السيئةَ عنها، أدام الله حِراستَها والقُوَّةَ بها. والذي خاض أصحابُنا فيه من أمر الحُرَم والخَدَم الذين يُخرَجون من الدار ويُباعَدون عنها، وتسقط رُسومهم في الخدمة ويُمنَعون منها، وتُبْتَزُّ نعمتُهم ويُحال بينهم

وبينها؛ فقولٌ إذا تبَيَّنوه حقَّ تبيُّنِه، وتَصفَّحوه حقَّ تَصَفُّحِه: علموا أنَّه قول جافٍ، والبَغْيُ على فيه غيرُ مُستَترٍ ولا خافٍ ... وذكر كلامًا طويلًا ثم قال: فأمَّا أنتم فمُعْظم نِعمتكم منِّي، وما كنتُ لأعودَ عليكم في شيءٍ سمحتُ لكم به، ونازوك فلا أدري من أيِّ شيءٍ عَتَبَ، ولا لأيَّةِ حالٍ استوحشَ واضطَرَب، فإنِّي لم أمنعْه من مُحاربة هارون ولا الانتصار منه، ولا أمرتُ بمَعونة هارونَ عليه، ولا أخذتُ له مالًا، ولا كفَفْتُ يده عما كان إليه. وأما عبد الله بن حمدان فالذي أحفظه صَرْفُه عن الدِّينَوَر، فقد كان يَتهيَّأ إعادته إليها، أو تعويضُه من الأعمال ما هو أعظمُ منها، وما عندي لجميعكم إلَّا التَّجاوزُ والإغضاءُ، والرِّعايةُ والإبقاء. وقبل هذا وبعده فلي في أعناقكم بيعةٌ قد وَكَّدتُموها على أنفسكم دفعةً بعد دفعة، ومَن بايعني فإنَّما بايع الله، ومَن نكث فإنَّما يَنكُثُ عهدَ الله، ولي عليكم أَيضًا نِعمٌ وأياد، وصنائعُ وعَوارفُ آمَلُ أن تعترفوا بها، وتشكروها ولا تكفروها. فإن رجعتُم إلى الحَسَنُ الجميل، وتلافيتُم هذا الخَطْب الجَليل، وفرَّقتُم جُموعَكم، وعدلتُم إلى منازلكم، وجريتُم في الخدمة على عوائدكم: كنتُم (¬1) بمنزلة مَن لم يَبْرَح من موضعه، ولم يأتِ بما أتى به، وإن أبَيتُم إلَّا المُكاشَفةَ والمُخالفةَ، وإيثارَ الفتنة وتجديدَ المِحْنَة؛ فقد ولَّيتُكم ما تولَّيتُم، وأغمَدْتُ سيفي عنكم، ولم أخرجِ من منزلي، ولم أُسلِّم الحقَّ الذي لي إلَّا كما خرج عثمانُ بن عفان عن داره، لمَّا خَذله أعوانُه وأنصارُه وعامَّةُ ثِقاته، وكان ذلك فيما بين الله وبيني، والله بصيرٌ بالعباد، وللظالمين بالمِرصاد، وهو حسبي ونعم الوكيل. فلمَّا وقفوا على الورقة عَدَلوا إلى مطالبته لإخراج هارون بن غريب عن بغداد، فأجابهم إلى ذلك، وقلَّده [الثغور] الشامية والجزيرة، وخرج من يومه إلى قُطْرَبُّل فأقام بها. فلما كان يوم الخميس لعشرٍ خلَون من المحرَّم نزل مؤنس والجيش معه وعدلوا ¬

_ (¬1) في (خ ف): على عوائدكم كما كنتم، والمثبت من تكملة الطبري 260.

كراهية لثغر الجيش (¬1)، ثم اتَّفقَ مؤنس ونازوك على خَلْع المقتدر. ولمَّا كان يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلةً خلت من المحرَّم خرج مؤنس دفعةً ثانية إلى الشَّمَّاسِيَّة، وخرج معه أبو الهيجاء ونازوك وجميعُ القواد والجيوش، فلمَّا كان يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت منه بعد صلاة الجمعة جاؤوا إلى دار الخليفة، فهرب المُظَفَّر بن ياقوت الحاجب وجميعُ الحُجَّاب، والحَشَمُ والخدمُ، والوزيرُ ابن مُقْلَة، ودخل مؤنس من باب الميدان، ونازوك من باب الخاصة، وأبو الهيجاء من باب العامة، وأحرق صافي البصريُّ بابَ الزاوية ودخل منه، وحصل الجيش كلُّه في دار الخليفة. فلمَّا كان بعد العشاء بساعة أُخرج المقتدر ووالدته وخالته وحُرَمه وجواريه من الدار، وأُصْعِد بهم إلى دار مؤنس، ودخل هارون من قُطْرَبُّل إلى بغداد فاستتر بها. وأحضروا محمَّد بن المعتضد من الحريم من دار ابن طاهر وكان محبوسًا بها، والموكَّل عليه كافور أبو الحجاج، فوصل محمَّد إلى دار السلطان في الثُّلُث الأخير من ليلة السبت نصف المحرم، وسُلِّم عليه بالخلافة، وبايعوه، ولُقب القاهر بالله. وأطلق مؤنس [عليَّ بن عيسى من دار السلطان] (¬2) فمضى إلى منزله وكان محبوسًا، فأحضر أَبا علي بن مقلة (¬3)، وقلَّده الوزارة للقاهر، وقلَّد نازوك الحِجبة مضافًا إلى ما كان بيده من شرطة بغداد، وأضاف إلى أبي الهيجاء ولايةَ حُلْوَان والدِّينَوَر وهَمَذان ونَهاوَند وغيرها، مع ما كان بيده من المَوصل والجزيرة ومَيَّافارِقين. ووقع النَّهبُ في دار السلطان وبغداد، وكان لأمِّ المقتدر بالرُّصافة ستُّ مئة أَلْف دينار فأُخذت، وحُملت إلى دار الخليفة. وخُلع المقتدرُ يوم السبت منتصف المحرم، وأَشهد على نفسه بالخَلْع القضاةَ، وسُلِّم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمَّد بن يوسف، فسلَّمه القاضي إلى ابنه أبي ¬

_ (¬1) كذا؟ ! وفي (ف) بعدها: وأرجف شديدة، وفي تاريخ الإِسلام 7/ 218: ودخل في عاشر محرم مؤنس والجيش، فأرجف بالمقتدر أراجيف شديدة. وانظر تكملة الطبري 260 - 261، والكامل 8/ 201. (¬2) ما بين معكوفين من تكملة الطبري 261. (¬3) الذي أحضره هو مؤنس كما في تكملة الطبري.

الحسين وقال له: يَا بُنيّ، احفظ هذا الكتاب واستُره، ولا يقف عليه أحدٌ من خلق الله تعالى غيرك، فقال له: فما الفائدةُ في كتمانه وقد علم به الخلق؟ ! فقال له أبوه: وما الفائدةُ في إظهاره، ومن أين تعلمُ ما يكون؟ فلما أُعيد المقتدرُ إلى الخلافة بعد يومين دخل القاضي أبو عمر عليه، فسلَّم إليه الكتاب من يده إلى يده، وحلف له أنَّه ما رآه أحدٌ من خلق الله غيرُه وغيرُ ولده، فحَسُن مَوقعُ ذلك من المقتدر. وانصرف النَّاس من دار السلطان يوم السبت، ولمَّا كان يوم الأحد [حضر] بين يديه (¬1) الوزير ابنُ مُقْلَة، وكتب إلى البلاد والعمَّال بتقليد القاهر الخلافةَ كتابًا، منه بعد حمد الله تعالى: وقد اختصَّ أمير المُؤْمنين القاهر بالله محمَّد بن المعتضد بالخلافة، وأفضى إليه بالإمامة؛ لكماله، وشريفِ أفعاله، وكبيرِ فضائله، وعظيم رأفته ... وذكر كلامًا آخر. وتقدَّم نازوك إلى الرَّجالة -ويُسمَّون المصافيَّة- بقلْع خيمهم من دار السلطان، وأمر رَجَّالته بأن يقيموا مكان المصافية، فاضطربت المصافية من ذلك، وتقدَّم إلى خلفاء الحُجَّاب والبوابين أن لا يَدخل دار السلطان إلَّا مَن كانت (¬2) له مَرتبة، فاضطرب الحُجَرية من ذلك وتكلَّموا فيه. فلمَّا كان يوم الإثنين سابع عشر المحرَّم بكَّر النَّاسُ إلى دار السلطان؛ لأنَّه يومُ موكبٍ ودولة جديدةٍ، فامتلأت الدهاليزُ والرِّحابُ وشاطئ دجلة منهم، وحضر الرَّجَّالة المصافية بالسلاح يطلبون مال البيعة ورزقَ سنة، ولم ينحدر مؤنس في ذلك اليوم إلى دار السلطان، وارتفعت أصواتُ المصافية، فخاف نازوك، فوقع بينهم وبين أصحابه قتال، فبعث إلى أصحابه أن لا يعرضوا لهم، فزاد الشَّغَب من المصافية، وفتحوا الدَّهاليز يريدون الصَّحْن التسعينيّ، فلم يمنعهم أحدٌ لما كان من تَقدُّمِ نازوك لأصحابه. ¬

_ (¬1) يعني بين يدي القاهر كما في المنتظم 13/ 280 وما بين معكوفين منه. (¬2) في (خ ف): دار السلطان وإذا رجالته بأن يقيمون ... وتقدم إلى خلفاء الحجاب والبوابين ... أنَّه من كانت، والمثبت من الكامل 8/ 202 - 203، وتكملة الطبري 261.

وكان القاهرُ جالسًا في التِّسعيني وابنُ مُقْلَة بين يديه ونازوك وأبو الهَيجاء، فبعث نازوك إليهم يُخوِّفُهم -وكان مَخمورًا قد شرب طول ليلته- فقام إلى الرَّوْشَن، فلمَّا رأوه أسرعوا إليه فهرب منهم، فطمعوا فيه فتبعوه، فانتهى به الهَرَب إلى باب كان قد سدَّه أمس ذلك اليوم بالآجرِّ والجصّ، فلم يُمكنه النُّفوذ فيه، فلَحقوه فقتلوه، وقد كانوا قتلوا قبله خادمَه عجيبًا، وصاحوا للمقتدر: يَا منصور، فتهارب كل مَن في دار السلطان: الوزيرُ والحُجَّابُ والجُندُ وسائرُ النَّاس، حتَّى بقيت الدَّار والشُطوط والمَمرَّات خاليةً، وصاروا إلى دار مؤنس يطلبون المقتدرَ ليَرُدُّوه إلى الخلافة، وبادر الخدم فأغلقوا باب دار السلطان، وكانوا جميعهم خدمَ المقتدر وحاشيتَه. وأراد أبو الهيجاء الخروجَ، فتعلَّق به القاهر وقال له: يَا أَبا الهيجاء، تُخلِّيني وتخرج؟ فتداخلَتْه الحَميَّةُ والأَنَفَة فقال: لا والله. ورجع معه، فوجد الأبواب مُغلقةً، فقال له أبو الهيجاء: امضِ فوالله لا أُفارقك أو أقتل دونك. فمضيا حتَّى دخلا الفردوسَ، وخرجا إلى الرَّحبة التي يُسلَك منها إلى باب النُّوبي، ونزع أبو الهيجاء سَوادَه ومِنْطَقتَه ودفعها إلى غلامٍ له، وأخذ جُبَّتَه وكانت من صوف، وركب فرسه وانصرف، ووقف القاهرُ مع خدمٍ له، وعاد إليه ابن حمدان فقال للقاهر: قُتِل نازوك وثارت العامَّةُ من جانبي بغداد. وسُدَّتْ على أبي الهيجاء والقاهر المَسالك، فقال أبو الهيجاء: هذا أمرٌ من السماء، فارجع بنا إلى الدار، فدخلا من الفردوس، وجعل مَن معهما من الخدم يتسلَّلون أوَّلَا أولًا. وبقي من خدم المقتدر جماعةٌ فجرَّدوا السيوف، ورآهم أبو الهيجاء فرهقهم فوقفوا، ثم رجع القَهْقَرى، فدخل في بيمق من ساج مُفرَدًا، وجاء خماجور -أحدُ الغلمان الأكابر الحُجْرية- فقال للخدم يُحرشونه حتَّى يخرج (¬1)، فشتموه، فغضب وخرج كالجمل الهائج وصاح: يا لَتغلب، أأُقْتَل بين الحيطان؟ أين الكُمَيتُ؟ أين الدّهماءُ؟ فرماه خماجور بسهم فأصاب ثَدْيَه، وأتبعه بآخر فأصاب تَرْقُوَتَه، ورماه بثالث فشكَّ فَخِذَيه، فضرب أبو الهيجاء الذي شكَّ فخذيه فقطعه، وجذب السَّهم الذي أصاب ثديه ¬

_ (¬1) انظر صلة الطبري 124، وتكملته 262، والكامل 8/ 205، وتاريخ الإِسلام 7/ 219.

فانتزعه ورمى به، وكان مع خماجور أسودان فبادرا إليه، فحَزَّ أحدهما رأسه، فانتزعه خادمٌ منه ومضى به يريد المقتدر. وكان الرجال قد حملوا المقتدرَ على أعناقهم من دار مؤنس إلى قصر الخلافة، فلما دخل قال: ما فعل أبو الهيجاء؟ قيل: هو في دار الأبرجة (¬1) في بيت البهاج، فقال: عليَّ بدَواة وبَيضاء لأكتبَ له أمانًا قبل أن يَحدثَ به حادث، فأبطؤوا عليه، وجاء الخادم برأسه إلى المقتدر فقال: مَن قتله؟ قالوا: لا ندري. فاسترجع المقتدرُ وجعل يُكرِّرها ويقول: ما كان يدخلُ عليَّ في دار مؤنس في هذه الأيام ويُسلِّيني سواه، هذا مع ما لأهله علينا من الحقوق السَّالفة، وظهر عليه من الكآبة أمرٌ عظيم، فبينا هو على ذلك سمع ضجَّةً عظيمة، وجاءه خادمٌ يعدو فقال: هذا محمَّد قد أُخذ يعني القاهر. وجيء به فأُجلس بين يديه، فاستدناه وقبَّل جَبينه وقال له: يَا أخي، أَنْتَ والله لا ذنبَ لك، قد علمتُ أنَّك قُهرتَ على أمرك، والقاهر يبكي ويقول: اللهَ اللهَ يَا أمير المُؤْمنين في نفسي، فقال: والله وحقِّ رسوله لا جَرى عليك منِّي سوة أبدًا، ولا وصل إليك أحدٌ بمكروه وأنا حيٌّ، فطِبْ نفسًا ولا تجزع، والليلةَ أُوصلكَ إلى منزلك. وكان الرَّجالة لما انتهوا إلى مؤنس وصاحوا قال مؤنس: ما الذي تُريدون؟ قالوا: الخليفةَ، فقال: سلِّموه إليهم، فحملوه إلى داره، وأُخرجَ رأسُ نازوك ورأسُ أبي الهيجاء، وشُهِرا في شوارع بغداد، ونُودي عليهما: هذا جزاء مَن عصى مولاه وكَفر نعمتَه. وسكن الهَيْج، وعاد أبو علي بن مُقلة إلى وزارته، وكتب كتابًا عن المقتدر برجوعه إلى الخلافة إلى أهل المشرق والمغرب. وقال الصولي: سعى مؤنس ونازوك في خلع المقتدر، ثم عاد مؤنس إلى نُصرته والذبِّ عنه لأنَّه استماله، واستمال نازوكًا فلم يرجع، وعزم على الفَتْك بالمقتدر، وجاء في الفُرسان والرَّجَّالة، وقصد دار الخليفة فنَهبها، وهتَك الحَريم، ومَحا رُسومَ ¬

_ (¬1) في تكملة الطبري 262: سأل عن أبي الهيجاء فقيل له: هو في الأترجة.

الخلافة، ونهب من الخزائن والجواهر والكتب والأمتعة ما لا يُحصى، وجالت الخيلُ في المجالس والقصور، ونُهبت بغداد طول الليل. ثم طلَبَ الرَّجالةُ من نازوك مال البيعة فلم يُعطهم شيئًا، فثاروا به، وقالوا للمقتدر: يَا منصور، وقصدوا نازوكًا، فدخل هو وغلامُه عجيب بيتًا في التِّسعيني بدار الخلافة لا مَنفذَ له، فدخل خلفه سعيد ومُظَفَّر من شُطَّار بغداد، فقتلوه وقتلوا غلامَه، وصلبوهما على دَقَلٍ، ونهبوا دورَه. وقيل: إنَّ الرَّجالة تواطؤوا مع مؤنس على قتل نازوك؛ لأنَّه كان قد استولى على بغداد. ثم دخل مؤنس على المقتدر وسلَّم عليه بالخلافة، وبايعه بيعةً جديدة، وفعل القوَّادُ والقضاة والخواصُّ ذلك، وركب المقتدرُ في طيَّار، ورآه النَّاسُ، فخاطَبَهم مُخاطبةً جميلةً، ووعدهم، وضَمِن لهم كلَّ ما أرادوا، فرضوا وسكنوا. وقال محمود الأَصْبهانِيّ: لمَّا علم المقتدرُ أنَّهم خالِعوه صَرف العساكرَ عن بابه، وجمع أمَّه وخالتَه والقَهرمانة وحُرَمه في مكان، وجلس على سريره، ونشر المصحف بين يديه، وجعله في حِجْره وقال: أنا فاعل ما فعل عثمان بن عفان رضوان الله عليه، ولا أسلِّم حقًّا خَصَّني اللهُ به، ولا أنزعُ قميصًا ألبسني الحقُّ إياه، فلمَّا بلغهم سكنُوا. ثم أصبح نازوك إلى مؤنس، فأخرجه كُرْهًا من داره وكان قد غلب عليه، واجتمع القوَّادُ وأبو الهيجاء، وأتَوا إلى دار الخلافة وهي مُغلقة، فأحرقوا بابَها، ودخلوها -وكانوا خمسين ألفًا ما بين فارسٍ وراجل- فنهبوها، وأخذ مؤنس المقتدرَ وأمَّه وأهلَه، وبعث بهم إلى داره، وبايعوا القاهر. ثم ثارت الرَّجالة بعد يومين، وقتلوا نازوك وابنَ حمدان، قتلهما سعيد والمظفَّر، وأجلسوا المقتدرَ في الخلافة، فأحسن إلى الرَّجالة المصافية والفرسان وغيرهم، حتَّى نَفِدت الأموالُ من الخزائن، وبيعت الأمتعةُ والثيابُ والعقاراتُ والضياعُ، ودُفع الجميعُ إلى الجند. وكان عليُّ بن عيسى إذا دخل على ابن مُقْلَة قام له، وأكرمَه، وأجلَسه معه في دَسْته،

فدخل عليه يومًا وهو يبيعُ الضياع بأوكَس ثمنٍ فقال: ما هذا؟ فقال: هذه ضِياع بخْتَيشوع المُتَطبِّب، اشتراها ببضع عشرة أَلْف أَلْف درهم، آلَ أمرُها أن تُباعَ بالثَّمن اليَسير (¬1). قال ثابت بن سنان: وكان قد وصل إلى بختيشوع في مدَّة خدمته للرشيد -وهي عشرون سنة- ستَّة وخمسون أَلْف درهم، وفي رواية سبعة وسبعون أَلْف درهم من الرشيد والبرامكة. وظهر هارون بن غريب، ودخل (¬2) على مؤنس وسلَّم عليه، وقُلِّد الجبل، وخرج إلى عمله في صفر. وقلَّد المقتدرُ إبراهيم ومحمَّد ابنَي رائق الشرطةَ ببغداد، والمظفَّر بن ياقوت الحَجَبة، وكان بفارس، فقدم ودخل على المقتدر فخلع عليه فطوَّقَه وسوَّره. وفي رجب ماتت ثملُ القَهْرَمانة. وفي شوال قَبض المقتدرُ على أبي أَحْمد بن المكتفي واعتقلَه في دار الخلافة؛ لأنَّه بلغه أنَّ جماعةً سَعَوا له في الخلافة، وحُبسوا أَيضًا. قال ثابت: بَذْرَقَ المقتدرُ الحاجَّ (¬3) في هذه السنة مع منصور الدَّيلَمي، ووصلوا مكة سالمين، فوافاهم أبو طاهر القِرمطي يومَ التَّروية، فقتل الحاجَّ في المسجد الحرام قَتْلًا ذَريعًا، وفي فِجاج مكة، وفي البيت، واقتلَعَ الحجرَ الأسود، وقلع قُبَّة زَمْزَم، وقتل ابنَ محارب أمير مكة، وعَزَى البيت، وقلع بابه، وأَصعَدَ رجلًا من أصحابه ليقلَع الميزاب فوقع الرَّجل على رأسه فمات، وأخذ أموال النَّاس، وطرح القتلى في بئر زمزم، وانصرف إلى بلده هَجَر، وحمل معه الحجر الأسود. وقال محمود الأصفهاني: كان النَّاس يطوفون حول البيت والسُّيوف تأخُذُهم، وامتلأت فِجاجُ مكة من القتلى، ودخل رجلٌ من القرامطة وهو راكبٌ سكران، وبيده ¬

_ (¬1) انظر تكملة الطبري 263، وتاريخ الإِسلام 7/ 219. (¬2) في (خ ف): وخلع، والمثبت من تاريخ الإِسلام 7/ 219. (¬3) سيَّر معهم حارسًا وخفيرًا.

سيفٌ مَسلول، فصَفَر لفرسه عند البيت فبال، وقتل جماعة، ثم ضرب الحَجَر الأسود بدَبُّوس فكسره وقلَعه. وأقام القرمطيُّ بمكة أحد عشر يومًا، وبقي حول البيت ثلاثُ مئة جِيفَة، وقُتلَت جماعةٌ من الأعيان. وقيل: إنه حُمِل إلى هَجَر فهَلَك تحته أربعون جَمَلًا، فلمَّا أُعيدَ إلى مكة حُمِل على قَعود هَزيل فَسَمِن، وكان بجكم التركي قد دفع فيه خمسين أَلْف دينار، فلم يَردُّوه وقالوا: أخذناه بأمر وما نردُّه إلَّا بأمر. وقال عبد الله بن أَحْمد بن عَيَّاش القاضي: أخبرني بعضُ أصحابنا أنَّه كان بمكة، وأنَّ الذي ضرب الحَجَر وقلعه صاح: يَا حمير، أنتم قلتم: ومَن دخله كان آمنًا، فأين الأمنُ وقد فعلْنا ما فعلنا؟ ! فأخذْتُ بلجام فرسه، وتيقَّنتُ القتلَ، وقلتُ له: اسمع، إنَّ الله تعالى أراد: ومَن دخله فأَمِّنوه. وتوقَّعتُ أن يقتلَني، فلوى رأسَ فرسه وخرج ولم يكلِّمني. وقد غلط السِّمْناني فقال في تاريخه (¬1): الذي قلع الحجرَ أبو سعيد الجَنَّابي، وحمله إلى الكوفة، وعلَّقه في الأُسْطُوانة السابعة ممَّا يلي صحنَ الجامع من الجانب الغربي، اعتقادًا منه أنَّه يَنقلُ الحجَّ إلى الكوفة. قال: ثم قصد أبو سعيد نهرَ الملك في خمس مئة فارس، فجهَّز إليه المقتدرُ ابنَ أبي السَّاج في ثلاثين ألفًا، فتقاتلا وبينهما النَّهر، فاستقلَّ ابنُ أبي السَّاج عَسكرَ القرمطي، وأمره المقتدرُ بقطع الجسر فلم يفعل. وكان ابنُ أبي الساج قبلَ ذلك بزمان قد نزل على أبي سعيد فأكرمه، فأرسل إليه يقول: لك عليَّ حق قديم، وأنت في قِلَّة وأنا في كثرة، والمَصلحة أن تَنصرفَ سالمًا. فلمَّا دخل الرسول على القرمطي وأدَّى الرسالة قال له: كم مع صاحبك؟ قال: ثلاثون ألفًا، فقال: ما معه ولا ثلاثة، ثم دعا بعبدٍ أسود وقال له: خرِّق بَطْنَك بهذه السّكين، ففعل، وقال لآخر: غَرِّق نفسَك في هذا النهر، ففعل، وقال لآخر: اصعد على هذا الحائط وأَلْقِ نفسَك على رأسك، ففعل، ثم قال للرسول: إنْ كان معه مَن يفعل مثل هذا وإلا فما معه أحدٌ. ¬

_ (¬1) نقله عنه الذهبي في تاريخ الإِسلام 7/ 221، والسير 15/ 322.

إبراهيم بن نصر الكرماني

وكان على باب خيمة القرمطي كلبٌ مربوط في سلسلة، فقال: كأنِّي غدًا بصاحبك مربوطٌ مع هذا الكلب، فطلب منه الرسولُ أمانًا له ولكلِّ مَن لجأ إليه فأعطاه. فلمَّا كان وقت المغرب عبر القرمطيُّ النَّهرَ، والتقَوا عند الفجر، فهزمه القرمطي، وأخذ ابنَ أبي السَّاج فربطَهُ مع الكلب في سلسلة. وجاء فنزل غربيَّ بغداد، وأفنى خلقًا عظيمًا، وباع الحَجَرَ للمقتدر بثلاثين أَلْف دينار، وأشهد جماعةً من أهل الكوفة على رسول المقتدر أنَّه قد سلَّمه إليه، منهم: عبد الله بن عُلَيم المحدِّث، فقال أبو سعيد للجماعة: من أين علمتُم أنَّ هذا هو الحَجَرُ الأسود، لعلَّنا أحضرْنا حَجَرًا من البرية وقلنا: هو هذا؟ -وكان قد انكسر- فقال ابن عُلَيم: لنا فيه علامة، فقال: وما هي؟ فقال: حَدَّثَنَا فلان، عن فلان ورفعه إلى النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: "الحَجَرُ الأسود يُحشَرُ يوم القيامة وله عينان يَنظُر بهما, ولسان يتكلَّم به، يَشهدُ لمَن اسْتَلمَهُ بالإيمان والنِّفاق، وأنَّه حجرٌ يطفو على رأس الماء، ولا يحترق بالنار" (¬1). قال: فأحضر القرمطيُّ طَشتًا فيه ماء، فألقاه فيه، فطَفا على رأس الماء، ثم أحضر نارًا وألقاه فيها فلم يحترق، فعجب القرمطيُّ وقال: هذا دينٌ مضبوط، ثمَّ ردَّ المقتدرُ الحَجَرَ إلى مكة. وهذا غلط فإنَّ أَبا سعيد هَلَك سنة إحدى وثلاث مئة، وابن أبي السَّاج جهَّزُه المقتدرُ سنة خمس عشرة وثلاث مئة إلى أبي طاهر، والحديث الذي رواه ابن عُليم لا يصح. وفيها تُوفِّي إبراهيم بن نَصْر الكِرْماني أحد الأبدال (¬2). كان مُقيمًا بجبل لبنان، قال ابن عساكر: قال محمَّد بن مانك (¬3) السِّجِسْتاني: ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرج أَحْمد (2215)، والتِّرمذيّ (961)، وابن ماجه (2944)، وابن خزيمة (2735) عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يُبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد لمن استلمه بحق". (¬2) تاريخ دمشق 2/ 554 (مخطوط). (¬3) في (خ ف): فاتك، والمثبت من تاريخ دمشق.

خرجتُ من دمشق مع جماعة إلى جبل لبنان نَلْتمسُ مَن فيه من العُبَّاد، فمشينا ثلاثةَ أيام فلم نجد أحدًا، فجلسنا تحت شجرة، ومضى أصحابي يَطلبون أحدًا من الزهَّاد، فنمتُ، فلمَّا طلع الفجرُ نزلتُ إلى الوادي أطلبُ الماء، وإذا بعين صغيرة تخرجُ من كهف، فتوضَّأتُ وصلَّيتُ، وسمعتُ صوتَ قراءةٍ فقَصَدتُه، وإذا بكهفٍ في جانب الجبل، فدخلتُه وفيه مَغارة، وإذا بشيخٍ ضَرير جالس، فسلَّمتُ عليه فقال: إنسيٌّ أم جنّيٌّ؟ قلتُ: إنسي، فقال: لا إله إلَّا الله، ما رأيتُ إنسيًّا منذ ثلاثين سنة غيرَك. قال: وكنتُ مَتْعوبًا، فنمتُ في جانب الكهف، فلما جاء وقتُ الظهر أيقظَني، فخرجتُ فتوضَّأتُ وصليتُ معه، ودعا وقال: اللهم ارحَم أمةَ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأصلحهم وفرِّج عنهم. فلمَّا صلينا العشاء الآخرة قال: تأكل؟ قلتُ: نعم، قال: قم فأدخل المَغارةَ، فدخلتُ، فوجدتُ أنواعَ الفاكهة: زبيبًا، وجوزًا، وتفاحًا، وفستقًا، وحبَّةَ الخضراء، وكلُّ صِنْفٍ مَعزولٌ ناحيةً، وإذا بثلاثة قبور مُصْطَفَّة، فتقدَّمتُ وأكلتُ، ثم خرجتُ فقلتُ: من أين هذه الفاكهة؟ فقال: سوف ترى، وإذا بطائرٍ قد أقبل، وله جناحان أبيضان وصدره أخضر، وفي مِنقاره حَبَّةُ زَبيب، وفي رجليه جَوزة، فدخل فوضع الزَّبيبةَ على الزَّبيب والجَوزةَ على الجوز، قال: أرأيت؟ قلت: نعم، قال: هذا قوتي منذُ ثلاثين سنة. قال: وعليه ثوبٌ من التَّوَّز بغير كُمَّين، فقلتُ: مَن يأتيك بهذا؟ قال: الطائر، وعنده مِسَلَّةٌ يَخيطُه بها. فلمَّا كان في الليل دخل علينا سبعةُ أنفسٍ، ثيابُهم شُعورهم، وعيونُهم مُشَقَّقة حُمر، فخفتُ منهم فقال: لا تخف، هؤلاء الجن، فقرأ عليه واحد سورة طه، وآخر سورة الفرقان، وآخر سورة الرَّحْمَن، وتلقَّن بعضهم، ومضوا. فقلتُ: كم لك ها هنا؟ فقال: أربعين سنةً، أقمتُ منها عشرَ سنين أَجني المُباحَ، فذهب بصري منذ ثلاثين سنة، فقيَّضَ الله لي هذا الطائر يحملُ ما ترى. ثم قال: أخبرني هؤلاء القوم -يعني الجنَّ- أنَّ القرمطيَّ دخل مكة فقتل الحاجَّ قَتْلًا ذَريعًا وفعل وفعل، وكان ذلك في سنة سبع عشرة وثلاث مئة، فقلتُ: قد كثُرَ دُعاء

النَّاس عليهم، فلم مُنعوا الإجابة؟ فقال: منعهم من ذلك خصال: أقرُّوا بالله وتركوا أمرَه، وقالوا: نؤمن بالرُّسُل وخالفوا شَرْعَه (¬1)، وقرؤوا القرآن ولم يعملوا به، وقالوا: نحبُّ الجنةَ وتركوا طريقها، وقالوا: نكره النارَ وسلكوا طريقها، وقالوا: إبليسُ عدوُّنا ووافقوه، ودفنوا موتاهم ولم يَعتبروا، واشتغلوا بعيوب النَّاس وتركوا عيوبَ أنفسهم، وجمعوا المال ونَسُوا يوم الحساب، ونقضوا القبورَ وزيَّنوا القصور (¬2). قال: فأقمتُ عنده أيامًا، فقال لي: حدِّثني كيف وصلتَ إلى ها هنا؟ فحدثتُه، فقال: أخطأتَ حيث فارقتَ أصحابك، وتركتَ قلوبَهم متعلِّقةً بك، ارجع إليهم، فقلتُ: ما أعرفُ الطريق، فقال: قم، فقمتُ وقام معي، فخرجنا وإذا بسبُعٍ واقف على باب الكهف فقال: لا تخف واتْبَعْه، وإذا حججْتَ فاطلُب بين المقام وزمزم رجلًا أشقرَ خفيفَ العارِضَين، فسَلْه أن يدعو لك فإنَّك تنتفعُ بدعائه. ثم فارقتُه والسبع يمشي بين يدي إلى عَقَبة دمشق فغاب عنِّي. ودخلتُ دمشق، فأتيتُ أصحابي ففرحوا بي وقالوا: شغلتَ قلوبَنا، فأخبرتُهم خبري، فقالوا: قوموا بنا، فخرجنا من دمشق نحو عشرين رجلًا إلى لبنان، فأقمنا أيامًا نطوف فلم نَقَع على المَغارة، فقالوا: هذا شيءٌ كُشِفَ لك دوننا فرجعنا. وخرجتُ إلى الحجِّ، وقصدتُ بين الركن والمقام وزمزم، وإذا بذلك الشخص الذي وصفه جالسٌ، فسلَّمتُ عليه فردَّ عليَّ السلام، فقلت: إبراهيم الكرماني يُسلِّم عليك، قال: وأين رأيتَه؟ قلت: في مغارة لبنان، قال: إنَّه تُوفي إلى رحمة الله، قلتُ: مات؟ قال: نعم، قلتُ: متى؟ قال: الساعة، دفنَّاه في المغارة عند إخوانه، وكنَّا جماعةً، فلمَّا دفنَّاه إذا بذلك الطائر الذي رأيتَ قد جاء، فما زال يضرب بمِنقاره وجناحَيه الأرض حتَّى مات، فدفنَّاه تحت رجليه، ثم قال لي: طُفْ بالبيت، فشرعتُ في الطَّواف وغابَ الرَّجل عنِّي. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 2/ 556: قالوا نحب الرسول ولم يتبعوا سنته. (¬2) في تاريخ دمشق: وبنوا القصور.

أحمد بن الحسين

أَحْمد بن الحسين أبو سعيد، البَرْدَعيُّ (¬1)، الإِمام، شيخ الحنفية في زمانه. دخل بغداد ودخل الجامعَ، فوقف على حَلْقة داود بن عليّ الظاهري وهو يُناظرُ رجلًا من أصحاب أبي حنيفة، وقد ضعُف الحنفيُّ في يده، فجلس البردعيُّ في حلقته وقال لداود: ما تقول في بيع أُمَّهات الأولاد؟ قال: يجوز، قال: ولم؟ قال: لأنَّا أجمعنا على جواز بَيعهنَّ قبل العُلوق، فلا نزول عن هذا الإجماع إلا بإجماع مثله، فقال البردعيُّ: أجمعنا على أن بعد العُلوق قبل الوَضْع لا يجوز بيعُهنَّ حتَّى يضَعْنَ، فلا نزول عن هذا الإجماع إلا بإجماعٍ مثله، فانقطع داود وقال: نَنظر في هذا. وعزم أبو سعيد على المقام ببغداد والتَّدريس بها لما رأى من غَلَبة أصحاب الظاهر، فلمَّا كان بعد مُديدة رأى في المنام قائلًا يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17] فانتبهتُ، وإذا بالباب يُدقُّ وقائلًا يقول: مات داود الظَّاهري، فإن أردتَ أن تُصلي عليه فاحضُر. وأقام أبو سعيد ببغداد يُدرّس سنين كثيرةً، فخرج في هذه السنة إلى الحجّ، فقتلته القرامطةُ وهو يطوف بالبيت. أَحْمد بن محمَّد ابن أَحْمد بن حَفْص، أبو عمرو، الحِيريّ، النَّيسابوري (¬2). شيخ نَيسَابُور في عصره في الرِّئاسة والعَدالة والعلم والمال، وكان نبيلًا. سمع الحديث، وروى عنه العلماء، وتوفي بنيسابور في ذي القعدة رحمه الله. ¬

_ (¬1) قال القُرشيّ في الجواهر المضية 1/ 165: والبردعي؛ بالباء الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهملة وفي آخرها العين المهملة، هذه النسبة إلى بردعة، وهي بلدة من أقصى بلاد أذربيجان. اهـ. قلت: وذكر يَاقوت هذه المدينة في الذال المنقوطة 1/ 379 وقال: وقد رواه أبو سعد بالدال المهملة، وانظر الأنساب 2/ 137، 143، وتاريخ بغداد 5/ 160، وتاريخ الإِسلام 7/ 316. (¬2) المنتظم 13/ 283، والسير 14/ 492، وتاريخ الإسلام 7/ 317.

أحمد بن مهدي بن رستم

أَحْمد بن مَهدي بن رُسْتم (¬1) كان ذا مالٍ كثير نحو ثلاث مئة أَلْف درهم، أنفقه كله على العلم، ولم يُعرَف له فراش أربعين سنة. وقال: جاءتني امرأةٌ ببغداد ليلةً من الليالي، فذكرَت أنَّها من بنات النَّاس، وقد امتُحِنَت بمِحْنة وقالت: أسألك بالله أن تَستُرني، فقلتُ: وما مِحنتُك؟ قالت: أُكرِهتُ على نفسي وأنا حُبلى، وذكرتُ للنَّاس أنَّك زوجي، وأنِّي حبلى منك، فلا تفضحني واستُرني سترَك الله، فسكتُّ عنها. ومضت فلم أشعر حتَّى وَضعت غلامًا، وجاء إمام المَحلَّة وجيرانُ المَحلَّة يُهنِّؤوني بالولد، فأظهرتُ [لهم التَّهَلُّل] , فدفعتُ إلى الإِمام دينارين وقلتُ: ادفعهما إلى المرأة فإنَّه سبق منِّي ما فرَّق بيننا، وكنتُ أدفع إليها في كلِّ شهر دينارين على يد الإمام وأقول: هذه نَفَقة ابنك، إلى أن أتى على ذلك سنتان، ثم تُوفِّي المولود، فجاءني النَّاس يُعزُّونني، فأظهرتُ لهم الرِّضى والتَّسليم، وجاءتني المرأةُ ليلةً بعد شهر ومعها الدَّنانير التي كنتُ أبعث بها، فردَّتْها وبَكَت وقالت: جزاك الله عنِّي خيرًا، وسَترك كما سترتَني، فقلت: هذه الدنانير كانت صِلةً للمولود، وهي لك فاعملي بها ما تُريدين. بدر بن الهَيثم بن خَلَف أبو القاسم، اللَّخْمي، القاضي، الكُوفيّ (¬2). نزل بغداد وحدَّث بها، وسمع الحديث وقد مضى من عمره أربعون سنة، وعاش مئةً وسبع عشرة سنة، ومات ببغداد في شوال وحمل إلى الكوفة. حدث عن أبي كُرَيب وغيره، وروى عنه ابن شاهين وغيره، وكان ثقةً نبيلًا. عبد الله بن محمَّد ابن عبد العزيز بن المَرْزُبان بن سابور بن شاهنشاه، أبو القاسم، البَغَويّ، وهو ابن ¬

_ (¬1) أخبار أَصبهان 1/ 85، والمنتظم 13/ 284. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 602، والمنتظم 13/ 285، والسير 14/ 530، وتاريخ الإِسلام 7/ 319.

بنت أَحْمد بن مَنيع (¬1). قال أَحْمد بن مَنيع: وُلد ابن ابنتي أبو القاسم يوم الإثنين في رمضان سنة أربع عشرة ومئتين. وقيل: سنة ثلاث عشرة ومئتين ببغداد. وهو بغويُّ الأصل، وأول ما كتب سنة خمس وعشرين ومئتين، وسافر، ولقي الشيوخَ، وسمع الكثيرَ، وروى عنه الأئمةُ، وتوفي ببغداد ليلة الفطر، ودُفن يوم الفطر بمقبرة باب التِّبْن وله مئة وثلاثُ سنين وشهر واحد وهو صحيحُ الجَوارح والسَّمع والبَصر. وسمع الإِمام أَحْمد بن حَنبل، ويحيى بن مَعين، وابن المَديني، وعلي بن الجَعْد، وخَلَف بن هشام، وعبد الله بن محمَّد بن عائشة التَّيمي، وأبا نَصْر التمَّار، وحاجب بن الوليد، وشَيبان بن فَرُّوخ، وزهير بن حَرْب وغيرهم. وكان يقول: أحصيتُ المشايخَ الذين لا يروي عنهم اليوم أحدٌ غيري فكانوا سبعة وثمانين شيخًا. وقال الحسن بن عبد الرَّحْمَن بن خلاد: لا يُعرف اليوم في الإِسلام من يُوازي البَغَويّ في قِدَم السماع؛ فإنَّه تُوفِّي سنة سبع عشرة وثلاث مئة، وسمعناه يقول: حَدَّثَنَا إسحاق بن إسماعيل الطَّالْقاني في سنة خمس وعشرين ومئتين. وقال الخَطيب: سمع البَغَويّ جزءًا على الإِمام أَحْمد بن حنبل وابن مَعين وابن المَديني، فأخذه موسى بن هارون، فألقاه في دجلة وقال: أتُريد أن تَجمع بين الثلاثة الرواية. وروى عنه يحيى بن محمَّد بن صاعد، وابن شاذان، وابن شاهين، والدارقطني، وخلقٌ كثير. وقال الخَطيب: اجتاز البغويُّ بنهر طابَق، فسمع مُسْتَملٍ فقال: مَن هذا؟ قالوا: ابنُ صاعد، فقال: ذاك الصبيُّ؟ قالوا: نعم، فقال: والله لا أبرحُ من مَوضعي حتَّى أُملي ¬

_ (¬1) الكامل لابن عدي 4/ 1578، وسؤالات السهمي 237، وتاريخ بغداد 11/ 325، والمنتظم 13/ 286، وميزان الاعتدال (4333)، والسير 14/ 440، وتاريخ الإِسلام 7/ 323.

عبد الرحمن بن عبد الله بن الزبير

ها هنا، فصعد الدِّكَّة وجلس، ورآه المُحدِّثون فقاموا وتركوا ابن صاعد، فقال: حَدَّثَنَا أَحْمد بن حنبل الشَّيباني قبل أن يُولَد المحَدِّثون، حَدَّثَنَا طالوت بن عبَّاد قبل أن يولد المحدثون، حَدَّثَنَا أبو نصر التمَّار قبل أن يولد المحدثون، فأملى ستة عشر حديثًا عن ستة عشر شيخًا، ما كان في الدنيا مَن يروي عنهم غيره. واتَّفقوا على صدقه وثقته ودينه ووَرَعه. سئل عنه موسى بن هارون فقال: ثقةٌ صدوق، لو جاز أن يقال فوق الثقة لقيل له، فقيل له: فإنَّ هؤلاء يتكلَّمون فيه؟ ! فقال: يحسدونه، ابنُ بنتِ مَنيع لا يقولُ إلَّا الحقَّ. وسئل ابن أبي حاتم عنه: أيدخل حديثه في الصحيح؟ قال: نعم. وقال الدارقطني: كان أبو القاسم ابنُ بنت مَنيع قلَّ ما يتكلَّم على الحديث، فإذا تكلَّم كان كلامُه كالمِسمار في السَّاج. وعابه ابن عديٍّ وقال: كان وَرَّاقًا (¬1). وذلك لا يَقدَح فيه؛ لأنه كان يُوَرِّقُ على عمِّه وجده. عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن الزُّبير أبو بكر، الرُّهاوي (¬2). من بيت العلم والفضل، حدَّث عن أَبيه وغيره، وروى عنه أبو الحسين وغيره، وكان ثقةً، قتلته القرامطةُ بمكة. علي بن بابويه الصُّوفي (¬3) كان يطوف بالبيت، وهجم القرمطيُّ مكة، فأوقع بالنَّاس في الطَّواف وابن بابويه يطوف، فما قطع طوافَه والسيوفُ تأخُذُه وهو يُنشد يقول: [من البسيط] تَرى المُحبِّين صَرْعى في ديارهم ... كفتِية الكهف لا يَدرون كم لَبِثوا ¬

_ (¬1) تراجع ابن عدي عن الحطّ عليه، وعطف وأنصف، انظر كلامه في الكامل 4/ 1579، وميزان الاعتدال، والسير 14/ 455. (¬2) تاريخ الإِسلام 7/ 223، 327، والعقد الثمين 5/ 370. (¬3) المنتظم 13/ 281، وتاريخ الإِسلام 7/ 223، والعقد الثمين 6/ 143.

نازوك

وهذا من أبيات منها: والله لو حَلَف العُشَّاقُ أنَّهم ... سَكرى من البَيْن يومَ البَيْن ما حَنَثوا قومٌ إذا هُجِروا من بعد ما وُصِلوا ... ماتوا وإن عاد مَن يَهْوَوْنه بُعِثوا نازوك صاحبُ شرطة بغداد (¬1). كان شُجاعًا، فاتكًا، غَلَب على التَّدبير، وحكم على الدولة، وعلم مؤنس أنَّه متى وافقه على خَلْع المقتدر ازداد تَحكُّمُه، فأجابه ظاهرًا، وواطأ الرَّجَّالة على قتله، وقد ذكرنا مَقتلَه. وقال الخَطيب (¬2): غضب نازوك على بعض مَماليكه وكان غلامًا حَدَثًا، فخرج من الدار، فمرَّ برجلٍ يَكتبُ كتاب العَطْف، فقال له: إنَّ مولاي قد غضب عليَّ، وما أعرفُ أحدًا، وقد دلُّوني عليك، فاكتب لي كتابَ عَطْفٍ. قال الرَّجل: فكتبتُ له كتابًا فيه آيةُ الكرسي، والمعوذتين، و {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} إلى آخر السِورة [الحشر: ] و {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَينَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَينَهُمْ} الآية [63: الأنفال] {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 103]. ثم دفع الورقةَ إلى الغلام وقال: علِّقها في عَضُدك الأيمن، فأخذها ودفع إليه دينارًا. قال الرَّجل: فدعوتُ الله أن يَردَّ عليه قلبَ مولاه. ومضى، فلمَّا كان بعد ساعتين إذا بغلمان نازوك يطلبونني، فأدخلوني عليه وهو في دَسْت عظيم، بين يديه نحوٌ من ثلاث مئة غلام وأكثر سِماطَين، وكاتبُه أبو القاسم جالس، فأهويتُ لأُقبِّلَ الأرض فقال: مَهْ، عافاك الله، هذه من سُنن الجَبَّارين، اجلس لا بأس عليك، فجلستُ، فقال: جاءك اليوم غلامٌ فكتبتَ له كتابًا فيه عطف؟ فقلت: ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 17/ 490، وتاريخ الإِسلام 7/ 223. (¬2) لا توجد ترجمة لنازوك في تاريخ بغداد، والخبر أخرجه التنوخي في الفرج بعد الشدة 1/ 224 عن أَحْمد بن يوسف الأزرق، عن أبي الحسين بن البواب المقرئ.

نعم، جاءني وبكى وقال: طَردَني مولاي، وما أعرفُ أحدًا ألتجئُ إليه، فرقَّ له قلبي وبكيتُ، وكتبتُ له كتابًا فيه آياتٌ من القرآن، فأعطاني هذا الدينار، فقال: قم عافاك الله، هذه الدار وما فيها بحُكمك، ومهما كان لك من الحوائج قضيتُها. قال: فخرجتُ، وإذا بالغلام واقفٌ ينتظرني، فسألتُه ما الخبر فقال: لما علَّقتُ عليَّ الورقة إذا بالغلمان يطلبونني، فدخلتُ على الأمير فقال لي: أين كنتَ؟ فحدَّثتُه الحديث، فقال: قد رضيتُ عنك، وهذا الرَّجل شيخٌ صالح، إيش أعطيتَه؟ قلتُ: دينارًا، قال: ما أنصفتَه، أعطِهِ خمس مئة درهم، فأخذتُها. وصار الغلامُ من خواصِّ نازوك. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [17]

السنة الثامنة عشرة وثلاث مئة

السنة الثامنة عشرة وثلاث مئة فيها في المحرم صرَفَ المقتدرُ ابنَي رائق عن الشرطة ببغداد، وقلَّدها أَبا بكر محمَّد بن يَاقوت. وفي ربيع الآخر ظهر في الجوِّ أعمدةٌ بيضٌ في الآفاق كلِّها مع ريح هائلةٍ، وهبَّت ريح من المغرب في آذار، فحملت رملًا أحمر يُشبه رملَ الصَّاغة، امتلأت به أسواقُ بغداد ومنازلُهم، وقيل: إنَّه من جبل زَرُود من الهَبير بطريق مكة. وفيها قبض المقتدرُ على الوزير أبي علي بن مُقْلَة، وكان متَّهمًا له، مستوحشًا منه، وخرج مؤنس إلى أَوانا مُتصيّدًا، وانحدر ابنُ مقلة إلى دار السلطان في جمادى الأولى، فاغتنم المقتدرُ غيبةَ مؤنس عن الحَضرة فقبض عليه. وكان ابن ياقوت مُعاديًا له، فبعث إلى داره مَن أحرقها، وكانت بمكان يقال له: الزَّاهر شرقي بغداد، فلمَّا احترقت نَهبت العامةُ خشبَها ورصاصَها ورُخامَها وجميعَ ما فيها. وكان ابن مُقْلَة قد أنفق عليها مئة أَلْف دينار غير ما أخذَه من أنقاض دور النَّاس وآلاتهم، وكان من عادته أن يُصادر النَّاس لمَّا كان كاتبًا قبل الوزارة، ويَنقُضَ دورَهم، ويبني بأنقاضها هذه الدار، فيأتي مَن يَحرقُها في الليل، واحترقت مرارًا، وكان يجلس عند الصُّنَّاع ويقرأ القرآن، وفي كُمِّه اسطرلاب يأخذُ به طالعَ الوقت. فلما احترقَت مرَّ بها بعضُ شعراء العراق فكتب على حائطها: [من البسيط] قُل لابن مُقْلَةَ [مَهْلًا] لا تكن عَجِلًا ... واصبر فإنَّك في أضغاثِ أحلامِ تَبني بأنقاضِ دُورِ الناسِ مُجْتَهدًا ... دارًا ستُنْقَضُ قَهْرًا بعد أيامِ وعادةُ الدَّهرِ فيها أن نُغادِرَها ... والنَّارُ تُضْرَم فيها أيَّ إضرام ما زلتَ تختارُ سعدَ المُشْتري بَلَهًا ... فلم تُوَقَّ به من نَحْس بَهْرامِ

تَتلو القُران عليها ثمَّ تُتْبِعُه ... أحكامَ هرْمسَ تلك شرُّ أحكام إنَّ القُران وبَطْليموسَ ما اجْتَمَعا ... في حال نَقْضٍ ولا في حال إبرامِ (¬1) ثم دخل مؤنس بغداد في اليوم الذي قبض فيه ابن مُقْلَة، وكان المقتدرُ قد عزم على أن يَستوزرَ أَبا علي الحسينَ بن القاسم بن عبيد الله، فامتنع مؤنس من ذلك، وراسل المقتدرَ على يد علي بن عيسى يسألُه ردَّ ابن مُقْلَة، فانحرج المقتدر وتهدَّد ابنَ مُقْلَة، فسكَّن منه علي بنُ عيسى. وأقام مؤنس على الاستيحاش من الحسين بن القاسم، وكان المقتدرُ لمَّا قبض ابنَ مُقْلَة أحضرَ الحسين وتَلَبَّثَه عنده، وخاطبه، واعتمد عليه في أمر وزارته، وعزم على أن يخلع عليه خِلعة الوزارة صَبيحة تلك الليلة. وعَزَّ على مؤنس حيث انفرد المقتدرُ بهذا الأمر ولم يشاوره، وراسل المقتدرَ مرةً ثانيةً وثالثةً في إعادة ابنِ مُقْلَة فامتنع، وقال مؤنس: لا تستوزر الحسين، فشاور المقتدرُ عليَّ بنَ عيسى: مَن نستوزر؟ فأشار عليه بسليمان بن الحسن بن مَخْلَد، فاستوزره. وكانت وزارةُ ابن مُقْلَة سنتين وأربعة أشهر وثلاثة أيام. وكان [سليمان بن] الحسن (¬2) بن مَخْلَد لا يصدر عن أمرٍ حتَّى يُشاور علي بن عيسى. ثم أمر المقتدر سليمان بن الحسن بن مخلد وعليّ بنَ عيسى بمُناظرة ابن مُقْلَة، فأحضروه، ووَبَّخه سليمان وقال: ضَريتَ (¬3) بين السلطان وبين أوليائه، وأغلَظَ له. ثم تقرَّر أمرُه على مئتي أَلْف دينار، فأرسل مؤنس إلى المقتدر يسألُه أن يُعفى من المصادرة، وأن يكون مُعتَقلًا عند مُرشد الخادم، فأجابه إلى ذلك. وحجَّ بالنَّاس عبد السميع بن أَيُّوب بن عبد العزيز الهاشمي، وقيل: عمر بن الحسن بن عبد العزيز، والظاهر أنَّه لم يحج أحدٌ سنة سبع عشرة وثلاث مئة إلى سنة ست وعشرين وثلاث مئة خوفًا من القِرمِطي. ¬

_ (¬1) تكملة الطبري 299، والمنتظم 13/ 394، وتاريخ الإِسلام 7/ 560 - 561، والسير 15/ 228، والبداية والنهاية 11/ 195 وما بين معكوفين منها. (¬2) ما بين معكوفين سقط من (خ ف)، وأثبتناه من الكامل 8/ 218. (¬3) أغريت وأوقعت بينه وبينهم العداوة.

أحمد بن إسحاق

وفيها تُوفِّي أَحْمد بن إسحاق ابن البُهْلول بن حسَّان بن سِنان، أبو جعفر، التَّنُوخيّ (¬1). ولد بالأنبار في المُحرَّم سنة إحدى وثلاثين ومئتين، وطلب الحديث، وسمع الكثير. وكان عالمًا بالنحو، والعربية، والتفاسير، والسير، شاعرًا، فصيحًا، لَسِنًا، وَرِعًا، مُتَخَشِّيًا في القضاء، عظيمَ القدر، واسعَ الأدب، تامَّ المروءة، حسنَ المعرفة بمذهب أهل العراق. ولي قضاء الأنبار، وهِيت، وطريق الفرات، والأهواز، ومدينة أبي جعفر، وقُطْرَبُّل، ومَسْكِن، فما زال على هذه الأعمال حتَّى صُرف عنها سنةَ سبع عشرة وثلاث مئة. قال ولدُه محمَّد: كنتُ مع أبي في جنازةٍ، فأخذ يَعِظُ صاحبَ المُصيبة ويُسلِّيه، وينشدُه الأشعار، ويروي له الأخبار، وإلى جانبه أبو جعفر الطَّبري، فداخَلَه في ذلك، واتَّسع الأمرُ بينهما، وخرجا إلى فنونٍ من الآداب استَحْسَنها الحاضرون. وافترقا، فقال لي أبي: يا بني، مَن هذا الشيخ الذي داخلَنا اليوم في المذاكرة؟ فقلتُ: هذا أبو جعفر الطبري، فقال: إنالله، ما أحسنتَ عِشْرَتي، هلَّا قلتَ لي حتَّى كنتُ أذاكرُه غيرَ تلك المُذاكرة؟ ! هذا رجلٌ مشهور بالحفظ والاتساع في صنوف العلم، ما ذاكرتُه بحسب ذلك. ومضت مدةٌ، فحضرْنا في جنازة، فإذا بالطبري فيها، فأخبرتُه فجاء، فأومأ إليه أبي بالجلوس عنده، وأخذ يحادثُه، فكلَّما ذكر الطَّبرِيُّ أبياتًا من قصيدة تمَّمها أبي، وكلَّما ذُكر شيءٌ من العلوم والسير بَيَّنه أبي ويقول: هذا كان في وقت كذا وكذا، فما سكت أبي إلى الظُّهر، فبان للحاضرين تقصيرُ الطبري، فلمَّا قمنا قال أبي: الآن شفيت صدري. وقال القاضي علي بن المُحَسِّن التنوخي: طلبت السيدةُ أمُّ المقتدر من القاضي أبي جعفر كتابَ وَقْفٍ لضيعة اشترتْها (¬2)، وأرادت تمزيقَ الكتاب وتَملُّكَ الوقف، فأرسلتْ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 51، والمنتظم 13/ 292، والسير 14/ 497، وتاريخ الإِسلام 7/ 335. (¬2) في (خ ف): كتاب مضيعة وقف اشترتها، والمثبت من نشوار المحاضرة 1/ 242، والمنتظم 13/ 294.

جعفر بن محمد بن يعقوب

إليه، فقال لأمِّ موسى القهرمانة: هذا الكتاب عندي، وأنا خازنُ المسلمين، فإن مكَّنتُموني من خَزْنه كما يَجب وإلا فاصرفوني، والله لا أُعطيكم إيَّاه ولو عُرِضتُ على السيف. فشكَتْه أمُّ المقتدر إلى ابنها وقالت: اعزِلْه، فقال له المقتدر: كيف الحال؟ فكشَفَه له، فقال: مثلُك يَا أَحْمد مَن قُلِّد القضاء، أقم على ما أَنْتَ عليه، بارك الله عليك. فلمَّا عاودَتْه أمُّه قال لها: الأحكام لا طريقَ إلى اللَّعب بها، وأَحمد مأمونٌ عندنا، مُحبٌّ لدولتنا، وكشف لها الحال، فقالت: ما علمتُ أنَّ هذا لا يجوز، فارْتَجعَت المال، وفَسخت البيع، وشكرت أَبا جعفر على ذلك، فقال أبو جعفر: مَن قدَّم أمرَ الله على أمر المخلوقين كفاه الله شرهم. ذكر وفاته: تُوفِّي في ربيع الآخر من هذه السنة، وقيل: في سنة سبع عشرة وثلاث مئة. سمع أباه، وكان أبوه فاضلًا صنَّف "المسند" وغيره، وروى أبو جعفر أَيضًا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، ومؤمَّل بن إهاب، وأبي سعيد الأشَجّ، وغيرهم. وروى عنه الدارقطني، وأبو حفص بن شاهين، وآخرون. وحمل النَّاسُ العلمَ عن أَبيه وجده، وعنه وعن ابنه محمَّد، وعن ابن أخيه داود بن الهيثم بن إسحاق، وهم بيتُ العلم، واتَّفقوا عليه. جعفر بن محمَّد بن يعقوب أبو الفضل، الصَّنْدَلي، البغدادي (¬1). كان صالحًا من الأبدال، سمع علي بن حَرْب وغيره، واتَّفقوا عليه. سعيد بن عبد العزيز بن مروان أبو عثمان، الحَلَبيّ، الزَّاهد (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 120، والمنتظم 13/ 295، وتاريخ الإِسلام 7/ 337. (¬2) حلية الأولياء 10/ 366، وتاريخ دمشق 7/ 297 (مخطوط)، وتاريخ الإِسلام 7/ 340، والسير 14/ 513.

عبد الواحد بن محمد بن المهتدي

كان من أوتاد الأرض (¬1)، نزل دمشق، وحدَّث عن أَحْمد بن أبي الحَواري، وقاسم الجُوعي، وسَرِيّ السَّقطي، وصَحبِه، وهو من جلَّة مشايخ الشَّام وعلمائها، وروى عنه أبو الحسين الرَّازيّ وغيرُه، ومات بدمشق. عبد الواحد بن محمَّد بن المهتدي (¬2) أبو أَحْمد، الهاشمي. سمع يحيى بن أبي طالب، وروى عنه الدارقطنيُّ وغيرُه. وكان ثقةً، ويُسمَّى راهبَ بني هاشم دينًا وورعًا وزهدًا. عبد الله بن محمَّد بن مسلم أبو بكر، الإسْفَراييني (¬3). ولد في رجب سنة تسعٍ وثلاثين ومئتين بقريةٍ من أعمال إسفرايين يقال لها: جُوْرْبَذ، وسافر إلى البلاد في طلب الحديث، وكان من الأثبات المجوِّدين. سمع محمَّد بن يحيى الذُّهلي وغيره، وروى عنه أَحْمد بن عليّ بن شهريار وغيره. محمَّد بن سعيد بن محمَّد أبو عبد الله، البُوْرَقي (¬4). قدم بغداد وحدَّث بها، وروى عنه أبو بكر الشَّافعيّ وغيرُه. وقد تكلَّموا فيه، قال الخَطيب: هو الذي وضع على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "سيكون في أُمَّتي رجلٌ يقال له: أبو حنيفة هو سراجُ أمتي، ويكون فيهم رجلٌ يقال له محمَّد بن إدريس، فتنتُهُ على أمتي أضرُّ من إبليس". ¬

_ (¬1) الأوتاد في اصطلاحات الصوفية: أربعة أشخاص من أولياء الله تعالى، معيَّنون لأركان العالم الأربعة، يحفظ الله بهم تلك الجهات؛ لكونهم محلّ نظره تعالى. انظر معجم مصطلحات الصوفية 28، 264، وكشاف اصطلاحات العلوم 2/ 1755. وهذا مما نبرأ إلى الله منه، ولا دليل عليه من كتاب أو سنة. (¬2) كذا في النسخ والمنتظم 13/ 296، وفي تاريخ بغداد 12/ 252، وتاريخ الإِسلام 7/ 343: عبد الواحد بن محمَّد المهتدي بالله. (¬3) تاريخ دمشق 32/ 367، ومعجم البلدان 2/ 180، وتاريخ الإِسلام 7/ 341، والسير 14/ 547. (¬4) سؤالات السهمي 267، وتاريخ بغداد 3/ 244، وتاريخ الإِسلام 7/ 346، وميزان الاعتدال (7175).

يحيى بن محمد بن صاعد

قال أبو عبد الله الحاكم: حدَّث بنصف الحديث الذي يتعلَّق بأبي حنيفة بخُراسان، ثم زاد فيه بالعراق ذكر الشافعي. وقال الحاكم أيضًا: وضع البُورقيُّ على الثقات من المناكير ما لا يُحصى، وكانت وفاتُه بمَرْو. يحيى بن محمَّد بن صاعِد أبو محمَّد مولى أبي جعفر المنصور (¬1). ولد سنة ثمانٍ وعشرين ومئتين، وسافر في طلب الحديث إلى البلاد، وكتب الحديثَ، وسمع وحفظ، وله تصانيف في السُّنن تدلُّ على فقهه وفَهمه. وقال الدارقطني: بنو صاعد ثلاثةٌ: يوسف، وأحمد، ويحيى بنو محمَّد بن صاعد، [ولهم عمٌّ يقال له: عبد الله بن صاعد] حدَّث عن سفيان بن عُيينة (¬2). توفي يحيى ببغداد في هذه السنة وقد بلغ تسعين سنةً، ودُفن بباب الكوفة. سمع محمَّد بن إسماعيل البُخاري وخلقًا كثيرًا، وروى عنه الدارقُطنيّ. وحكى الخطيب عن بعض طلبة الحديث قال: حضرتُ عند ابن صاعد ومعي جُزءٌ من سماع أبي القاسم البَغَويّ عن شيوخه، فغلِطْتُ وقرأتُه عليه وهو مصغٍ إليَّ، فلمَّا فرغتُ من القراءة تذكرتُ فقلتُ: أيها الشيخ، إنِّي غلطتُ وليس هذا من حديثك بل من حديث البغوي، قال: بل هو سماعي من الشيوخ الذين ذكرتَهم، ثم قام وأخرج أصولَ المشايخ، وأراني كلَّ حديثٍ قرأتُه عليه مكتوبٌ في جزء، رحمة الله عليه. أبو جعفر الهِلاليّ الزاهد من [أهل] أعمال صَرْخَد (¬3). كان مُرابطًا بالساحل لا يُجالس أحدًا، وأنشد: [من السريع] علامةُ الخائف في قلبه ... بأنه أصفرُ مَنْحوفُ ليس كمَن كانت له جُثَّةٌ ... كأنَّه للذَّبحِ مَعْلوفُ ¬

_ (¬1) سؤالات السهمي 258، وتاريخ بغداد 16/ 341، وتاريخ دمشق 18/ 176 (مخطوط)، والمنتظم 13/ 298، والسير 14/ 501، وتاريخ الإِسلام 7/ 348. (¬2) ما بين معكوفين من مصادر ترجمته، توفي ابن عيينة سنة (198 هـ)، وولد يحيى بن صاعد سنة (223 هـ). (¬3) مختصر تاريخ دمشق 3/ 36 واسمه عنده: أحمد بن جعفر، وما بين معكوفين منه.

السنة التاسعة عشرة وثلاث مئة

السنة التاسعة عشرة وثلاث مئة فيها قدم مؤنس الوَرْقانيّ بالحاج سالمين إلى بغداد، وضُربت له القِباب في جانبي بغداد، وكان عددها مئةً ونَيِّفًا وثلاثين قُبَّةً، وسُرَّ الناس بتمام الحجِّ وانفتاح الطريق. وكان مؤنس لمَّا انصرف من مكة بلغه أنَّ القِرمطيَّ على الطريق، فعدل بالحاجِّ، وتاه في البرية، ووجد آثارًا عجيبةً، وعظامًا مُفرِطةً في الكبر، وصُوَرَ ناسٍ من حجارة، فحمل بعضها إلى الخليفة، فوجد امرأةً على تَنُّور وهي من حَجَر، والتَّنُّور فيه الخبزُ من حجارة (¬1). وفيها قبض المقتدر على الوزير سليمان بن الحسن، وكان قد أضاق إضاقةً شديدة، وكَثُرَت عليه المُطالبات، فلمَّا كان يوم السبت لخمسٍ بقين من رجب صار بليق وبشرى إلى دار الوزير بباب المُحَوَّل، وقبضا عليه وعلى أبي القاسم عبيد الله بن محمَّد الكَلْوَذاني معه، فارتاع الكَلْوذاني وجَزع جَزَعًا شديدًا، فلمَّا تقلَّد الوزارة ردَّه إليه، فكانت مدَّةُ وزارة سليمان سنةً واحدةً وشهرين وتسعة أيام. وكان المقتدر يميلُ إلى وزارة الحسين بن القاسم، فلم يُمكِّنه مؤنس، وأشار بالكَلْوَذاني، فاستحضَره من دار مؤنس، وخلع عليه، وشافَهَه بالوزارة، وأمر علي بنَ عيسى أن يكون على عادته في الإشراف على الأمور مع الكلوذاني. وفيها كانت وقعةٌ بين هارون بن غَريب وبين مَرْداويج الدَّيلميّ بنواحي هَمَذان، فانهزم هارون، وملك الدَّيلميّ الجَبلَ بأسره إلى حُلْوان. وفيها استوزر المقتدر الحسين بنَ القاسم بن عبيد الله، وصرف الكَلْوَذاني، وكانت الأموال قد قلَّت، وكَثُرَت النفقات، فكتب الحسين إلى المقتدر رقعةً يقول: أنا أقوم بالنَّفَقات بمبلغ ألف ألف دينار في كلِّ سنة. وبعث المقتدر بالنفقة إلى الكَلْوَذاني مع طفل الخادم، فقال الكلوذاني: قد يجوز أن يتمَّ لهذا الرجل ما لا يتمُّ لي، وسأله تقليده ولم يعلم مَن هو، واستعفاه. ¬

_ (¬1) انظر صلة تاريخ الطبري 135، والمنتظم 13/ 299.

وكان مؤنس شديدَ البُغض للحسين بن القاسم، فدخل مُفلحٌ في قضيَّته، وأصلح حاله معه ومع غيره، وضمن لهم الأموال، والكَلْوذاني يُواصل الاستعفاء، واتَّفق أنَّ جماعةً من الجند تأخَّرت أرزاقُهم، فصاروا إلى باب الكلوَذاني، ورَمَوه بالآجُرّ، ونالوا منه -وكان في طيَّاره- فدخل دارَه، وأغلق بابَه، وحلف لا ينظر في الوزارة، فكانت مُدَّة وزارته شهرين وثلاثة أيام. وخلع المقتدر على الحسين خِلَع الوزارة، وفوَّض إليه الأموال والأمور في رمضان، وصار إليه علي بن عيسى فهنَّأه. وكان الحسين قد شرط أن لا يَنظُرَ علي بن عيسى في شيءٍ من الأمور، ولا يجلس للمظالم، فأُجيب إلى ذلك، وحمل الحسين إلى جارية المقتدر وحَظِيَّته مالًا كثيرًا؛ لأنَّها كانت تُوصل إلى المقتدر رِقاعَه. وفيها استوحش مؤنس المُظَفَّر من المُقتدر في ذي الحجة، وسببه: أنَّه بلغه اجتماعُ الوزير وجماعة من القُوَّاد والحجرية على التدبير عليه، فتَنكَّر له مؤنس، وعزم خواصُّه على كَبْس الوزير في الليل في منزله والقَبْضِ عليه، فكان ينتقل من دارٍ إلى دار ولا يبيت في داره، وراسلَ مؤنس الخليفة بعزله فأجابه وقال: ننفيه إلى عُمان، فامتنع المقتدر. وأوقع الوزيرُ في قلب المقتدر أنَّ مؤنسًا يريد أن يأخذَ الأميرَ أبا العباس من داره بالمُخَرِّم، ويذهب به إلى الشام ومصر، ويَعقدَ له الأمرَ هناك، وأشار بردِّ أبي العباس إلى داره بدار الخلافة، ففعل، فحَقدها على الحسين، فلمَّا أفضَتْ إليه الخلافة أنزل به ما سنذكره إن شاء الله تعالى في السنة الثانية والعشرين عند مقتل الشَّلْمَغاني. وكتب الحسين إلى هارون وهو بدير العاقول بأن يَحضُرَ إلى الحضرة، فصح عند مؤنس أنَّ الوزير يُدَبِّر عليه، ومعه مُفلح الأسود -وكان مفلحٌ صديقًا للحسين ومُباينًا لمؤنس- فخرج مؤنس إلى الشَّمَّاسية بأصحابه، ونزل في مضاربه، وكتب إلى المقتدر أنَّ مُفلحًا صديق مطابقٌ الحسين، وأنَّ نفسه لا تسكُن حتى يُنفذَ إليه مفلحًا ليقلِّده أجلَّ الأعمال، ويخرج إليها، فكتب إليه المقتدر: أنَّ مُفلحًا الخادم خادم يوثَقُ به في خدمته، وليس يُدخل نفسَه فيما نظنُّه به.

فلمَّا بلغ مؤنسًا الجواب، وأنَّ الوزير قد جمع الرجال وشَرع يُنفق فيهم، وأنَّ هارون قد قَرُب من بغداد: أظهر الغضبَ وخرج إلى المَوصل، ولحق به أصحابه، ووجَّه بشرى خادمَه ليؤدِّي الرسالة إلى المقتدر، فقال له الوزير: أدِّها إليَّ، فقال: هي إلى الخليفة، ولا أُؤدِّيها إلا إليه. فعرَّف الوزير الخليفةَ، فقال: يؤدِّيها إليك، فامتنع وقال: حتى أرجِعَ إلى صاحبي، فإن أمرني أدَّيتُها. فشَتمه الوزيرُ وشتم صاحبه، وضربه عشرين مِقْرَعةً وحَبسه، وأخذ خطَّه بثلاث مئة ألف دينار ومئتي ألف درهم، وأحضر زوجتَه وتهدَّدها، فأقرَّت بثلاثة وثلاثين ألف دينار ومئتي ألف درهم. وسار مؤنس إلى الموصل، فكتب الوزير إلى عسكره وقوَّاده بالانصراف عنه إلى الخليفة، فانصرف أكثرُهم، وسار إلى الموصل في خواصِّه وغلمانه، وقبض الوزيرُ على أسبابه وأمواله وضياعه، وأفرد لها ديوانًا سمَّاه: ديوان ضياع المخالفين. وهنَّأ الناسُ الوزيرَ بانصراف مؤنس عن بغداد، وزاد مَحلُّه عند المقتدر، وكنَّاه عميدَ الدولة، وكتب ذلك على الدنانير والدراهم. وكُتبت الكتب إلى الآفاق بذلك، وأطلق الحسين للجُند أرزاقَهم، ونفى الغلمان السَّاجيَّة من بغداد لميلهم إلى مؤنس، وكتب إلى داود وسعيد ابني حَمدان والحسن بن عبد الله بن حمدان بمحاربة مؤنس ودفعه عن المَوصل، وأنَّه عاصٍ، فامتنع داود، فما زال به أهلُه إلى أن ثنَوا رأيَه، وخوَّفوه وقالوا: بعد، ما غَسَلْنا رؤوسَنا ممَّا عمله الحسين بن حمدان، ثم مما عمله أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان بالأمس، ويريد أن يعمل لنا حديثًا ثالثًا؟ فخرج معهم وكانوا في ثلاثين ألفًا، ومؤنس في ثمان مئة رجل، فنُصِر عليهم وهزمهم -وذلك في صفر سنة عشرين وثلاث مئة- وقال: يا قوم، يُقاتلُني داود وفي حِجري طُهِّرَ وإخوتُه؟ ! وقال محمود الأصبهاني: وفي سنة تسع عشرة وثلاث مئة استوحش مؤنس من محمَّد بن ياقوت؛ لأنَّه كان قد استظهر بالرجال، فقيل لمؤنس: يريد أن يَكبس دارَك الليلة، فخرج إلى الشَّمَّاسية، وراسل المقتدرَ بأن يَصرفه من الشرطة، وأباه من

الحسن بن علي

الحِجابة، فامتنع، وبعث إلى مؤنس بالوزير وخواصِّه يَستعرضونه فقال: لا بدَّ من إبعاد محمَّد بن ياقوت وأبيه، ثم حبس الوزير ومَن معه عنده، وعلم ياقوت فخرج بابنيه إلى المدائن. ولمَّا خرج ياقوت أطلق مؤنسٌ الوزيرَ ومَن معه، وسار ياقوت فأقام بشيراز. وقدم هارون بن غَريب إلى بغداد، وكذا محمَّد بن ياقوت من الأهواز، وقُبِضَ على محمَّد بن المعتضد المسمّى بالقاهر، وعلى أبي أحمد بن المكتفي، وأُحْدِرا من دار ابن طاهر فاعتُقِلا بدار الخليفة، وكانت السيدة تُكرِم محمَّد بنَ المعتضد وتُنزِّهُه في البساتين، وتُشرف على طعامه، وتتولَّى ذلك بنفسها. وفيها نزل القرمطيُّ الكوفة، فهرب أهلُها إلى بغداد. وفيها دخل الدَّيلَم الدِّينَوَر، فقتلوا أهلها وسَبَوا، فورد بعضُهم بغداد قد سوَّدوا وجوههم، ورفعوا المصاحفَ على رؤوس القُضُب، وحضروا يوم عيد النَّحر إلى الجامع واستغاثوا، وساعدهم العوامُّ، ومنعوا الخطيبَ من الخطبة والصلاة، وثار معهم عوامُّ بغداد، وأعلنوا بسبِّ المقتدر، ولازم الناس المساجد والصَّلوات، وأغلقوا أسواقَ بغداد خوفًا من القِرمطي. وفيها ولد أبو تميم المُعِزُّ رابع الخلفاء المصريين، ولم يحجَّ في هذه السنة أحدٌ (¬1). وفيها توفي الحسن بن علي ابن أحمد بن بشار، أبو بكر، الشاعر، ويعرف بابن العلَّاف (¬2). أحد نُدماء المعتضد، مات في هذه السنة عن مئة سنة (¬3). حدّث عن أبي عمر الدُّوري وغيره، وروى عنه ابنُ شاهين وغيرُه. ¬

_ (¬1) في صلة الطبري 141: وحج بالناس في هذه السنة جعفر بن علي الهاشمي من أهل مكة خليفة لأبي حفص عمر بن الحسن بن عبد العزيز. وانظر تاريخ الإِسلام 7/ 225. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 375، والمنتظم 13/ 300، والسير 14/ 514، وتاريخ الإِسلام 7/ 338. (¬3) وقيل: في السنة السالفة (318) انظر مصادر ترجمته.

الحسن بن علي

ومن رواياته عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] قال: الذين تَبْيضُّ وجوهُهم أهلُ السنة والجماعة، والذين تَسودُّ وجوهُهم أهلُ البدع (¬1). الحسن بن علي ابن زكريا بن صالح بن عاصم بن زُفَر، أبو سعيد، العَدَويّ، البَصْري (¬2). ولد سنة عشر ومئتين، حدَّث عن مُسَدَّد بن مُسَرْهَد وغيره، وروى عنه الدارقطني وغيره، وعاش مئةً وثماني سنين. قال ابن شاذان: رأيتُه وقد اسودَّت طاقاتٌ يسيرةٌ من شعر لحيته بعد بياضها لفَرْط الكبر. واتَّفقوا على أنَّه كان يَضَع الحديث، ويَسرقُ، ويُلْزِق الحديث بآخر ويضعه على آخرين. علي بن الحسين بن حَرْب أبو عُبيد، القاضي، البغدادي، ويعرف بابن حَرْبويه (¬3). ولي قضاء مصر، وأقام بها دهرًا طويلًا، قال ابن يونس: وكان شيخًا عجيبًا (¬4)، ما رأينا مثلَه لا قبله ولا بعده، وكان يتفقَّه على مذهب أبي ثَور، وعُزل عن القضاء سنة إحدى عشرة وثلاث مئة، وسبب عزله أنَّه كتب يَستعفي من القضاء، وبعث رسولَه إلى بغداد، وأغلق بابَه وامتنع من القضاء بين الناس، فأُعفي، فرجع إلى بغداد فتوفِّيَ بها ودُفن بداره، وصلى عليه يحيى الإصْطَخْري (¬5). ¬

_ (¬1) في (ف): البدعة، والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1139)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (74)، والخطيب في تاريخه 8/ 375، وأبو نصر في الإبانة -كما ذكر السيوطي في الدر المنثور 2/ 63 - وفيه مجاشع بن عمرو متروك، وميسرة بن عبد ربه يضع الحديث. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 378، والمنتظم 13/ 301، وتاريخ الإِسلام 7/ 353، وميزان الاعتدال (1818). (¬3) تاريخ بغداد 13/ 334، والمنتظم 13/ 302، وتاريخ الإِسلام 7/ 356، والسير 14/ 536، وطبقات الشافعية 3/ 446، وفي هوامشها مصادر أخرى. (¬4) في تاريخ بغداد 13/ 337 وعنه بقية المصادر: وكان شيئًا عجبًا. (¬5) كذا؟ ! والذي في مصادر ترجمته: وصلى عليه أبو سعيد الإصطخري. وأبو سعيد هو الحسن بن أحمد بن يزيد، انظر السير 15/ 250.

محمد بن سعيد

قال الدارقطني: كان فاضلًا، جليلًا، نبيلًا، ثقةً، مأمونًا. قال الرّقاشي: سألتُ عنه الدارقطنيَّ فقال: ذاك الجليل الفاضل، حدَّث عنه أبو عبد الرحمن السُّلمي (¬1). حدَّث القاضي عن الحسن بن عَرَفة وغيره، وروى عنه ابن شاهين وغيره. محمد بن سعيد - وقيل: ابن سعد- أبو الحسين، الوَرَّاق، النَّيسابوري، صاحبُ أبي عثمان الحِيريّ (¬2). من كبار المشايخ، وكان عالمًا بعلم الشَّريعة والباطن وعلوم المُعاملات، من كبار مشايخ خُراسان وجِلَّتهم (¬3). ومن كلام محمَّد بن سعيد (¬4) المذكور قال: مَن غضنَّ بصرَه عن محارم الله تعالى أورثه الله بذلك حكمةً على لسانه يهتدي بها سامعوه، ومَن تورَّع عن شُبهةٍ نوَّر الله قلبَه بنور يهدي به إلى طريق مَرضاته. وقال: الكرمُ في العفو أن لا تذكر خيانةَ (¬5) صاحبك بعد أن عفوتَ عنه. وقال: كنَّا في مسجد أبي عثمان الحِيري في مبادئ أمرنا نؤثر بما يُفتَح علينا, ولا نَثبتُ على معلوم، ومَن استقْبَلَنا بما نكره لا نَنتقمُ لأنفسنا بل نتواضع له ونَعتذر إليه، وإذا وقع في قلوبنا حَقارةُ أحدٍ قُمنا بخدمته والإحسان إليه حتى يزول ذلك. ¬

_ (¬1) كذا؟ ! والذي في مصادر ترجمته: قال البرقاني: ذكرت لأبي الحسن الدارقطني أبا عبيد بن حربويه، فذكر من جلالته وفضله وقال: حدث عنه أبو عبد الرحمن النسائي في الصحيح، ولعله مات قبله بعشرين سنة. (¬2) طبقات الصوفية 299، والمنتظم 13/ 304، ومناقب الأبرار 2/ 5، والبداية والنهاية 11/ 167، والنجوم الزاهرة 3/ 231. (¬3) في (ف خ) بعد: وجلتهم ما نصه: ولم يكن أبو عثمان الحيري يميل إلى أحد ميله إليه، وكان يقول: لو وجدت من نفسي قوة لرحلت إلى أخي محمَّد بن الفضل ليرتاح سري برؤيته فإنه سمسار الرجال. وهذا موضعه في ترجمة محمَّد بن الفضل الآتي، وسننقله إلى حاق موضعه ثمة. (¬4) في (خ ف): الفضل، وهو سبق قلم. (¬5) في طبقات الصوفية 299: جناية.

محمد بن الفضل بن العباس

وقال: خوفُ القطيعة أذابَ نفوسَ المحبِّين، وأحرق أكبادَ العارفين، وأسهر ليالي العابدين، وأَظْمأ نهارَ الزَّاهدين، وأكثرَ بكاء الباكين. وقال: الأُنسُ بالخلق وَحْشةٌ، والطُّمأنينة إليهم عَجْزٌ، والاعتمادُ عليهم وَهْنٌ، والثقةُ بهم خِذلان، وإذا أراد الله بعبد خيرًا جعل أُنْسَه به، وتوكُّلَه عليه، وصان سرَّه عن النَّظَر إليهم، وظاهرَه عن الاعتماد عليهم. وقال: مَن أسكن قلبَه شيئًا من أمور الدنيا فقد قتل نفسَه بسيف الطَّمع، ومَن طَمِع في شيءٍ ذَلَّ له، وذُلُّه يُهلكُه وأنشد: [من الطويل] أتَطْمَعُ في ليلى وتعلمُ أنَّما ... تُقَطِّعُ أعناقَ الرجالِ المَطامعُ قال السُّلمي: مات أبو الحسين قبل العشرين وثلاث مئة. محمَّد بن الفضل بن العباس أبو عبد الله، البَلْخيّ، الزَّاهد (¬1). ولم يكن أبو عُثمان الحِيريّ يَميل إلى أحدٍ مَيلَه إليه، وكان يقول: لو وَجَدتُ من نفسي قُوَّةً لرَحَلْتُ إلى أخي محمَّد بن الفضل ليرتاح سِرِّي برؤيته، فإنه سِمْسار الرِّجال (¬2). قال: ما خَطوتُ أربعين سنةً خُطوةً لغير الله، وما نظرتُ أربعين سنةً في شيء فاستحسنتُه حياءً من الله تعالى، وما أمليتُ على مَلَكَيَّ منذ ثلاثين سنةً خَطيئةً، ولو فعلتُ ذلك لاستحيَيتُ منهما. وقال: العَجَبُ لمَن يقطعُ الأوديةَ والمَفاوزَ ليصلَ إلى البيت والحَرَم الذي فيه آثارُ الأنبياء، كيف لا يَقطعُ نفسَه عن هواها حتى يصلَ إلى قلبه فيشاهدَ فيه آثار مولاه؟ ! فمات أربعة نَفَرٍ ممَّن سمعوا كلامَه. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 10/ 232، وطبقات الصوفية 212، والرسالة القشيرية 92، والمنتظم 13/ 303، وصفة الصفوة 4/ 165، ومناقب الأبرار 1/ 373، والسير 14/ 523، وتاريخ الإِسلام 7/ 331 (وفيات سنة 317 هـ)، ووهَّم الذهبي من قال بوفاته في هذه السنة. (¬2) من قوله: ولم يكن أبو عثمان الحيري ... إلى هنا جاء في ترجمة محمَّد بن سعيد السالفة، وهنا موضعها.

وقال: خطأ العالم أضرُّ من عَمْد الجاهل. وقال: العلوم ثلاثة: فعلمٌ بالله، وعلمٌ من الله، وعلم مع الله، فالعلمُ بالله معرفةُ صفاته، والعلمُ من الله علمُ الظَّاهر والباطن، والعلم مع الله هو علمُ الخوف والرَّجاء، والمحبَّة، والأُنس، والشَّوق ونحوه. وقال: البكاء نوعان: بكاءُ الزَّاهدين بعيونهم، وبكاء العارفين بقلوبهم، وأنشد: [من الكامل] ومن البَلاء وللبلاء علامةٌ ... أنْ لا يُرى لك عن هواك نُزوعُ والعبدُ عبد النَّفْسِ في شَهَواتِها ... والحُرُّ يَشبعُ تارةً ويجوعُ وقال ابنُ خَميس: أصلُه من بلخ لكنَّه أُخرج منها بسبب المذهب، فدعا عليهم وقال: اللهم امنَعْهم الصِّدق، فلم يخرج منها بعدَه صِدِّيق، ورحل إلى سَمَرْقَند فأقام بها حتى مات هذه السنة (¬1). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار لابن خميس 1/ 373، ونقل الذهبي في السير 14/ 525، وتاريخ الإِسلام 7/ 332 عن السلمي قال: لما تكلم محمَّد بن الفضل ببَلْخ في فهم القرآن وأحوال الأئمة أنكر عليه فقهاء بلخ وعلماؤها وقالوا: مبتدع، وإنما ذاك بسبب اعتقاده مذهب أهل الحديث .....

السنة العشرون وثلاث مئة

السنة العشرون وثلاث مئة فيها عزل المقتدرُ الحسين بن القاسم من الوزارة، واستَوزر أبا الفتح بن جعفر بن الفرات، وخَلَع عليه، وسلَّم إليه الحسين في جُمادى الأولى، فاعتقَلَه في داره، وقرَّر عليه أربعين ألف دينار، فلمَّا أدَّاها سأل الفضل (¬1) المقتدر أن يُقلِّدَه الإشراف على الشام ومصر، فأذن له، ثم توقَّف حالُه وطُلِب منه المال، فيقال: إنه استتر. وفيها أرسل مرداويج بن زيار الدَّيلَميّ يسأل أن يُقاطَع على الأعمال التي غَلَب عليها من المَشرق، فأُجيب إلى ذلك، وأُنفذت له الخِلَع والعهد واللواء، وكان العهد يشتمل على كُوَر أذْرَبِيجان وأَرْمينية ونَهاوَنْد وقُم وسِجِسْتان، وغير ذلك من الأعشار والصَّدقات ووجوه الجِبايات. وفيها نَهبت الجُند العوامُّ دورَ الوزير الفضل بن جعفر وإصْطَبْلاته، وهرب الوزير إلى طيَّاره، فوقف في وَسْط الشَّطِّ، وشَغَب الجند، وأحرقوا الطيارات والحَرَّاقات، وسَوَّد الهاشميون وجوهَهم وصاحوا: الجوعَ الجوعَ، وكان القِرمطيُّ قد منع الغَلَّة، وهو حول بغداد يتردَّد من الكوفة إلى الأنبار، ونَهَب السَّواد، ومنع مؤنس الغلَّة والمِيرَه من ناحية المَوصل، ولم يحجَّ في هذه السَّنة أحد. وفي شوال قُتِل المقتدرُ، وسنذكره إن شاء الله تعالى. الباب التاسع عشر في خلافة محمَّد القاهر بن المُعْتَضد وكنيته أبو منصور، وأُمُّه أمُّ ولد يقال لها: قَبول، ماتَتْ قبل خلافته، ومَولدُه في جمادى الأولى سنة سبع وثمانين ومئتين، فكان عمره يوم وَلي ثلاثًا وثلاثين سنة (¬2). ذكر بيعته: قال ثابت: لمَّا قُتِل المقتدر انحدَر مؤنس من الرَّاشِديّة إلى الشَّمَّاسِيَّة آخرَ نهار الأربعاء لثلاث بقين من شوال، ورأى رأسَ المقتدر فبكى وقال: قتلتُموه، والله لَنُقتَلَنَّ ¬

_ (¬1) هو ابن جعفر بن الفرات أبو الفتح. (¬2) في صلة الطبري 154: وهو ابن خمس وثلاثين سنة، والمثبت موافق للمنتظم 13/ 306.

كلُّنا، فأقلُّ ما يكون أن تُظهِروا أنَّ ذلك جرى عن غير قَصْد منكم، وأن تَنصِبوا في الخلافة ابنَه أبا العباس، فإنَّه تَرْبيتي، وإذا جلس في الخلافة سَمَحَت نفسُ جدَّته وإخوته وغلمان أبيه بإخراج ما عندهم من المال، فقال إسحاق بن إسماعيل النُّوبَخْتي لحِينه: من بعد الكَبَد (¬1)؛ استرَحْنا ممَّن له والدة وخالة وحُرَم وخَدَم، فنعود إلى تلك الحال، وما زال بمؤنس حتى ثَنى رأيَه عن أبي العباس، وعدَلَ إلى القاهر. وقال: إنَّ والدةَ المقتدر لمَّا بلغها قتلُه أرادت الهَربَ، وأنَّه وكَّل بها، وأنَّ محمَّد بن المعتضد ومحمد بن المكتفي مُعتقَلان في يده في دار الخلافة، فأمر بإحضار محمَّد بن المعتضد ومحمد بن المكتفي، فقال مؤنس لمحمد بن المكتفي: تولَّى هذا الأمر، فقال لا حاجةَ لي فيه، وعمِّي محمَّد أحقُّ به. فخاطب محمَّد بنَ المعتضد فأجاب، فاستحلفَه مؤنس لنفسه ولبليق ولعلي بن بليق وكاتب بليق يحيى بن عبد الله الطبري، فلما توثَّقوا منه بالأيمان والعهود بايعوه، وبايعه مَن حضر من القضاة والقوَّاد، ولُقِّب القاهر بالله، وكان ذلك سحر ليلة الخميس لليلتين بقيتا من شوال. وقال الصولي: لمَّا قُتِل المقتدر بالشمَّاسية أَحضر مؤنس محمَّد بنَ المُعْتَضد وأبا أحمد بنَ المُكْتَفي، فباتا عنده في مكان واحد، فقال محمَّد بن المعتضد لأبي أحمد: أنا فقيرٌ لا مال لي، فتولَّى أنت الأمر، فقال أبو أحمد: أنت شيخي وعمِّي، وقد وُلِّيت هذا الأمر وسمِّيتَ له، فأنت أحقُّ به منِّي من جميع الجهات. وعزم مؤنس على مبايعة أبي أحمد لأنَّهم رأَوه أتمَّ رأيًا، وأكثرَ أدبًا، وأوفرَ عقلًا، فبات النُّوبَخْتي يمشي إلى أرباب الدولة ويقول: ابنُ المعتضد أحقُّ، فقيل له: فلم تكَرَّهت من ابن المكتفي مع ما هو عليه؟ فقال: أخاف أن يَنْتَقِض الأمر علينا بخليفةٍ كنَّا قد سمَّيناه وبايعناه -يعني القاهر- فيطولَ تَعَبُنا, ولم يَدْر أنه سعى في حَتْفه، فبايعوه، ¬

_ (¬1) في الكامل 8/ 244: بعد الكد والتعب استرحنا. ولعل العبارة: فقال إسحاق لحَينه من بعد الكيد: استرحنا، وانظر تكملة الطبري 273 فالخبر فيه أوضح مما هنا.

فضَمِن لهم مال البيعة بعد عشرة أيام، ونقش على سِكَّة الدنانير والدراهم: محمَّد رسول الله، القاهر بالله، المنتقم من أعداء الله [لدين الله] (¬1). وكان رَبْعَةً ليس بالطويل ولا بالقصير، أسمر، معتدلَ الجسم، أَصْهبَ الشعر، أَقْنَى الأنف. وأول ما شَرع فيه: أنَّه بحث عن المستورين من ولد المقتدر وأُمَّهات أولاده وحُرَمه وخواصِّه ووالدته فصادرهم، وعذَّبهم بأنواع العَذاب، وأحضر أمَّ المقتدر وهي مريضة، فضربها بيده ضربًا مُبَرِّحًا، فلم تُظهر من مالها سوى خمسين ألف دينار، وأحضر القضاةَ والشُّهودَ فشهدوا عليها ببيع أملاكها بعد أن كَشَفَت وجهَها ونظروا إليها، فلمَّا رأَوا ما بها من الضُّرِّ بَكَوا، وما انتفعوا بعيشهم في ذلك اليوم، وما زال يُعذِّبها حتى ماتت معلَّقةً بحَبْل البَرَّادة (¬2). وضرب أمَّ موسى القَهْرَمانة وعذَّبها، ووجد عندها أبا العباس بن المقتدر فقبض عليه، وما أبقى في الإساءة إلى عِيال المقتدر، ولم يَظفَر منهم بطائل، ونَفَرَت قلوبُ الناس عنه. وكان المقتدر قد نفى أبا علي بن مُقْلَة إلى الأهواز، فكتب إليه القاهرُ رُقْعةً بخطِّه: يا أبا علي، أدام الله إمتاعي بك، مَحَلُّك عندي جليلٌ، ومَكانك من قلبي مَكين، وأنا حامدٌ لمذهبك، مُرتَضٍ لأفعالك، عارفٌ بنصيحتك، ولم أجد مع قصور الأحوال عن ما أُضمِره لك ما يَزيد في محلِّك وكمال سرورك غيرَ تَشريفِك بالكُنية، وأنا أسأل الله عَونًا على ما أحبُّه لك، والسلام (¬3). وأحضره، واستوزَره، وخلَع عليه، وفوَّض الأمورَ إليه. وقال ثابت: أشار مؤنس بعلي بن عيسى ووَصَفَه، فقال بليق وابنه: الحالُ لا يَحتملُ أخلاقَه، ويُحتاجُ إلى مَن هو أسمَحُ منه وأوسعُ أخلاقًا، فأشار بابن مُقْلَة، وأن يُستَخلَف له أبو القاسم الكَلْوَذاني إلى حين يَقدم. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من المنتظم 13/ 306. (¬2) البرادة: إبريق من الطين مدور الشكل ذو عنق ضيق طويل يُبَرَّد فيه الماء. تكملة المعاجم 1/ 280. (¬3) المنتظم 13/ 316.

وكتب إلى ابن مقلة بالقدوم وكان بشيراز. وصُرِف محمَّد بن المكتفي إلى داره بحريم دار ابن طاهر، واستَحْجَب القاهر عليَّ بنَ بليق، وقلَّد مؤنسٌ الشرطةَ ببغداد غلامَه يُمنًا الأعور. وكتب مؤنس إلى علي بن عيسى وكان بالصافية أن يَحضُر، فقدم بغداد، ودخل على القاهر فأكرمه ووعده جميلًا، ثم صرفه إلى منزله. وكتب القاهرُ كتابًا إلى الآفاق بإشارة مؤنس: أنَّ المقتدر قتله بعضُ جنده ورجالٌ من عسكره. وفي مُستهلِّ ذي القعدة دخل بليق وابنُه وأبو القاسم الكلوذاني على القاهر، فطالبوه بمال البيعة ورِزقِ الجند، فحدَّثهم بما فعل بوالدة المقتدر، وأنَّه ضربها مئةَ مِقْرَعة على المقاتل فما أقرَّت إلا بعَقار ثمنُه ثلاثون ألف دينار، ثم قال: وها هي بين أيديكم إن شئتم سلَّمتُها إليكم، ثم أدخلهم إلى الدار التي فيها الصناديق، وفيها ثيابُ وَشْيٍ وديباجٌ، وصياغاتٌ من ذهب يسيرة وفضةٌ، وطيبٌ وغيره ما قيمتُه مئةٌ وثلاثون ألف دينار وثلاثُ مئة ألف درهم، فتسلَّمَه أصحابُه، وتفرَّق على الجند. قال ثابت: وتقدَّم القاهر بكَبْس الأماكن التي فيها أولادُ المقتدر مُستَترين، فكُبست، ووُجد أبو العباس وعلي وهارون والعباس وإبراهيم والفضل، فحُمِلوا إلى دار السلطان، وسُلِّموا إلى الحسن بن هارون كاتب بليق، فأحسن إليهم إحسانًا كثيرًا، وكتب لهم أماناتٍ، وكتب القاهرُ عليها خطَّه، وحُمِّلوا نحوًا من ثلاث مئة ألف دينار مُصادرةً. وكان شَفيع المُقْتَدري قد استَتَر يوم قُتل المقتدر، وكانت بينه وبين أبي القاسم الكلوذاني مَودَّةٌ، فكتب إليه رُقعةً يسأله عَرْضَ حاله على القاهر، ففعل، فوقَّع القاهرُ عليها: يَحضُر آمنًا من مَكروه يَنالُه، ويُصادر امنًا من مَكروه يَلْحقُه، فظهر شفيع، فصادره الكَلْوَذاني على عشرين ألف دينار، فأمضاها القاهر، فقال الحسن بن هارون كاتب بليق: هذا مالٌ قليل، وليس عندنا ما نَدفع به مال البيعة إلا من شفيع وأمثاله.

واستأذن القاهرَ في الدُّخول على شفيع ومُخاطبته، فأذِن له، فدخل عليه، وخاطبه ولاطَفه فلم يُذْعِن بشيء، فأغظ له وقال: يا شفيع، إن لم تعرف حقَّ مولاك، ولم تُعاونْه على أمره بما يُثَبِّتُ دولتَه وإلا صُفِعْتَ بالنِّعال، فبكى شَفيع، ولَطَم على رأسه، ولم يُفارقه الحسن حتى أخذ خَطَّه بخمسين ألف دينار مُعَجَّلةً، ودخل بالخطِّ إلى القاهر، فوَقَع منه أحسنَ مَوْقع. ودخل شفيعٌ على مؤنس فشكا إليه، فخاطبه مؤنس بمَحْضَرٍ من الناس أغلظَ خِطاب، فقال: أنت غلامي، اشتريتُك بعد أن أعتقَني المعتضَّدَ، وضَمَمْتُك إلى المقتدر، وولَّيتُك البصرة، وجعلتُ لك الإقطاعات، وتَبِعك الرجال، وضُرِبَت على بابك الدَّبادِب في أوقات الصَّلوات، وبلَّغتُك أعلى المراتب، فكافئتَني بأن سعيتَ في دمي ودم خواصِّي الذين هم عندي أولادي، ثم لم يكن لي عندكَ من المقدار ما تُكاتبني وتَعتذرُ إليَّ، أوتنافقني وتطلب منِّي أمانًا، وأن أُوصلَك إلى أمير المؤمنين؟ ! وبعد هذا، فلستُ أعارضُ أمير المؤمنين في أمرك وأمانِه لك، ولكنِّي ما بعتُك من المقتدر ولا وهبتُك له، وقد حلفتُ يمينًا غليظةً على أنَّني متى تمكَّنتُ منك ناديتُ عليك، وبعتُك كما يُباع مثلُك. ثم أمر مُناديًا فنادى عليه، فبلغ سبعين ألف دينار بحضرة مؤنس في داره، فاشتراه الكلوذاني للقاهر، وكتب العُهْدةَ بالبيع، وأشهد فيها القُضاة والعُدول، فقال مؤنس: يُعتَقلُ في دار بليق حتى يؤدِّي المال. وأحسن إليه بليق وكان يأكل معه، وأشهد عليه القاهر بعتقه، وأدَّى بعض مال المُصادرة، وبقي عليه عشرون ألفًا فضمنها بليق والكلوذاني وبشرى. وأُطلق شَفيع إلى داره، ثم صار إلى دار مؤنس واستعطفه، فعَطَف عليه، وأحسن إليه، وضمَّ إليه خمسين فارسًا ورجَّالةً يَخدمونه، وأطلق ضياعه وأسبابه. وأمر القاهرُ القضاةَ والعُدول بأن يَشهدوا على والدة المقتدر بأنَّها قد حَلَّت أوقافَها، وأذِنَت في بيعها لعلي بن العباس النُّوبَختي، وقالت: هذه أماكنُ وقفتُها على مكة والثغور والفقراء والمساكين، فلا يَحِلُّ لي حَلُّها، فاستدعى القاهر القاضي عمر بن محمَّد والشهود، وأَشهَدَهم على نفسه أنَّه قد حلَّ وُقوفَها، وأذن في بيعها النوبختي.

إبراهيم بن محمد

وفيها عزم مؤنس على تقليد الوزارة لعلي بن عيسى لمَّا تأخَّر قدوم ابن مُقْلة من شِيراز، وأنَّه يُكاتب ابن مُقْلَة ليرجع إلى شيراز، وبلغ زوجةَ ابن مُقْلَة، فأرسلت إلى عيسى طبيب القاهر مئة ألف درهم ليُلاطفَ الحال، فخاطب القاهرَ ومؤنسًا، فتوقَّف الأمرُ. وقدم ابنُ مُقْلَة بغداد يومَ النَّحْر، وكتب إلى القاهر يسألُه أن يجتمع به في الليل بطالع الجَدْي، وفيه أحد السَّعْدَين، والآخر في وسط السماء، فجلس له في الوقت المُعَيَّن، واجتمعا وأكرمه، وأصبح فخلع عليه خِلْعَة الوزارة، ومضى إلى دار مؤنس فسلَّم عليه، وانصرف إلى داره بدرب جردة -وكانت لابن مقلة- وجلس للتهنئة، وراح إليه في آخر النهار علي بن عيسى فلم يَقُم له، فاستَقْبح الناس ذلك. وفيها توفي إبراهيم بن محمَّد ابن علي بن بَطْحاء، أبو إسحاق، التَّميمي (¬1). وَلي حِسْبَةَ بغداد من الجانبين، وكان صارمًا، مرَّ على باب قاضي القضاة أبي عمر، فرأى الخصومَ جلوسًا ببابه ينتظرونه للنظر بينهم وقد هَجَّرت الشمسُ عليهم، فوقف، وقال لحاجبه: تقول للقاضي: الخصومُ جلوسٌ بالباب قد بلغتهم الشمسُ وتأذَّوا بالانتظار، فإما خرجتَ إليهم فحكمتَ بينهم، أو عرَّفتَهم عُذْرَك لينصرفوا ويعودوا. روى عن علي بن حَرْب الطَّائي وغيره، وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة رحمه الله. أحمد بن عُمَير (¬2) بن يوسف أبو الحسن، ابن جَوْصا، الحافظ، الدِّمشقي، مولى بني هاشم. ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 307، وذكر الخطيب في تاريخه 7/ 100، والذهبي في تاريخ الإِسلام 7/ 659 أن وفاته في سنة (332 هـ). (¬2) في (خ ف): عدي، وهو تحريف، والمثبت من تاريخ دمشق 2/ 51 (مخطوط)، والمنتظم 13/ 306، وتاريخ الإِسلام 7/ 363، والسير 15/ 15.

أحمد بن القاسم بن نصر، أبو بكر

شيخ الشام في وقته، رحل إلى البلاد، ولقي الشيوخ، وصنَّف، وتوفي بدمشق، ودُفن بالباب الصغير. سمع الرَّبيع بن سليمان وغيره، وروى عنه أبو أحمد بن عدي وغيره. ووَثَّقه أبو أحمد الحاكم، وقال الدارقطني: تفرَّد بأحاديث وليس بالقوي. أحمد بن القاسم بن نَصْر، أبو بكر (¬1) ولد سنة اثنتين وعشرين ومئتين، وسمع الحسن بن حَمَّاد سَجَّادة وغيره، وروى عنه ابن شاذان وغيره، وكان ثقةً، وأنشد: [من البسيط] لا تَتْرُك الحَزْمَ في أمرٍ هَمَمْتَ به ... فإن سَلِمْتَ فما في الحَزْمِ من باسِ العَجْزُ ضُرٌّ وما بالحَزْم من ضَرَرٍ ... وأحْزَمُ الحَزْم (¬2) سوء الظَّنِّ بالناسِ جعفر المُقْتَدر بن أحمد المُعْتَضد ابن أبي أحمد المُوَفّق بن المُتَوكّل (¬3). قد ذكرنا خبرَ مؤنس ونفوره منه، واستيلائه على الموصل وديار ربيعة، ولمَّا بلغ الفُرسانَ المقيمين بالحَضْرة ذلك، وما أخذ من أموال بني حَمْدان؛ تَسلَّلوا إليه، وحملوه على العَوْد إلى بغداد بعد أن أقام بالموصل تسعة أشهر. ولمَّا بلغ الجُندَ المُقيمين بالحَضْرة انحدارُه شَغَبوا وطلبوا المال، فأطلق لهم المقتدر أموالًا عظيمةً، وأخرج مِضرَبَه إلى باب الشَّمَّاسيَّة، وبعث أبا العلاء سعيد إلى سامُرَّاء في ألف فارس، ثم أرْدَفه بمحمد بن ياقوت في مثلها وجماعة من الحُجَريَّة، فلما قَرُب مؤنس من عُكْبَرَا انعطَفُوا راجعين إلى باب الشمَّاسية، فعسكروا به. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 578، وتاريخ الإِسلام 7/ 366، والسير 14/ 466. (¬2) في (خ ف): وأحزم الناس، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬3) مروج الذهب 8/ 247، 272، وصلة الطبري 142، وتكملته 269، وتاريخ بغداد 8/ 126، والمنتظم 13/ 59، 308، والكامل 8/ 241، وتاريخ الإِسلام 7/ 226، 368، والسير 15/ 43.

واجتهد المقتدرُ بهارون بن غريب أن يحارب مؤنسًا [فلم يفعل، وقال: أخاف من عسكري] (¬1). وقيل: إنه خرج وعسكر. ثم اجتمعوا إلى المقتدر وقالوا: إنَّ الرجال لا يقاتِلون إلا بالمال، وإن أُخرِجَ المال استأمن رجالُ مؤنس، ودفعَتْه الضرورةُ إلى الهرب والاستتار، وسألوه مئتي ألف دينار. فتقدَّم بجمع الطَّيَّارات والشَّذا (¬2) لينحدر وأولاده وحُرَمه وأُمُّه مع الحُجَريّة إلى واسط، ويَستنجدَ مَن بالبصرة والأهواز وفارس على مؤنس، فقال محمَّد بن ياقوت: اتَّق الله يا أمير المؤمنين في المسلمين وفي غِلمانك وخَدَمك، ولا تُسلِّم بغداد بغير حرب، واخرُج إلى العَسْكر ليراك الناسُ ويقاتلون بين يديك، وإذا رآك رجال مؤنس أَحْجَموا عن قتالك. فقال له المقتدر: أنت رسول إبليس. فلمَّا أصبح ركب ومعه الجماعة، وعليه البُرْدَة وبيده القضيب، وبين يديه الأُمراء والقُوَّاد وأولاده، ومعهم المَصاحفُ المَنشورة، والقُرَّاء يقرؤون القرآن، وخلفه الفضل بن جعفر الوزير، وشَقَّ بغداد إلى الشمَّاسية والناس يَدعون له بالنَّصر. وجاء عسكر مؤنس، ووقع الحرب، والمقتدر على تلٍّ، ومؤنس بالرَّاشدية لم يباشر الحرب، وثبت محمَّد بن ياقوت وهارون بن غريب، فجاء أبو العلاء سعيد بن حَمْدان ومحمد بن ياقوت إلى المقتدر وقالا: تقدَّم، فإذا رآك أصحاب مؤنس استأمنوا، فلم يَبْرَح، وتردَّدَت إليه رسائلُ القُوَّاد بالتقدُّم، وألَحُّوا عليه فتقدَّم، ولم يزالوا يَستدرجونَه (¬3) حتى أوقعوه في وَسَط الحرب في جماعة يسيرة، وقد قدَّم الغِلْمان والحُجَريّة، وابنُ حمدان (¬4) وابن ياقوت ومُفلح وغيرهم بين يديه يقاتلون، فانكشف أصحابُ المقتدر، واستُؤسر (¬5) منهم جماعة. ¬

_ (¬1) في (خ ف): يحارب مؤنسًا ولا يثق بهم وربما يخرج من منزله. والمثبت من الكامل 8/ 241. (¬2) ضرب من السفن الصغار. (¬3) هنا ينتهي السقط المشار إليه في (م 1). (¬4) بعدها في (م 1): والحجرية بين يديه يقاتلون والذين أشاروا عليه بالتقدم ابن حمدان. (¬5) كذا في النسخ وأصل تكملة الطبري 272، وفي صلة الطبري 150، وتاريخ الإسلام 7/ 226: وأُسر منهم جماعة.

وأبلى هارون [بن غريب] ومحمد بن ياقوت بلاءً حسنًا، وبقي المقتدر في نَفَرٍ يسيرٍ. وكان مُعظمُ عسكر مؤنس البَرْبرَ، فبينا المقتدر واقف في المعركة وقد انهزم أصحابُه رآه علي بنُ بليق، فعرفه، فترجَّل وقال: مولاي أمير المؤمنين، وقبَّل الأرضَ وقبَّل رُكْبتَه. ووافى جماعةٌ من البَرْبر فأحاطوا بالمقتدر، فضرَبه رجلٌ منهم من خلفه ضَرْبةً سقط إلى الأرض، فقال له: ويلَك، أنا الخليفة، فقال البربري: فأنت المطلوب، [وأضجعه] وذبحه بالسيف، وشال رأسَه على خشبة، ثم سلب ثيابَه وسراويلَه، وبقي (¬1) مَكشوف العَورة، حتى مرَّ به بعضُ الأَكَرَةِ (¬2) فسَتَرَ عَورتَه بحَشيش، ثم حفر له في الموضع، ودُفِن وعُفِّي أثَرُه، وأنفذ بليق وابنُه إلى دار السلطان مَن يحفظها. وجاء مؤنس من الرَّاشِدية، فنزل الشمَّاسية فبات بها، ومضى هارون بن غريب ومحمد بن ياقوت وابنا رائق ومفلح الأسود إلى المدائن. ولمَّا أُحضِرَ رأس المقتدر إلى مؤنس تمثَّل يحيى بن عبد الله الطَّبَري كاتب بليق: [من الكامل] وإذا المَنيَّةُ أنْشَبَتْ أظْفارَها ... أَلْفَيتَ كلَّ تَميمَةٍ لا تَنْفعُ [قال ثابت بن سِنان: وكان ما فعلَه مؤنس من قَتْل المقتدر، والضرب في وجهه بالسيف، ودخوله بغداد على ذلك: سَببًا لجُرْأة الأعداء وطمعهم في الخلافة، وانخراق الهيبة، وابتداء ضَعْف الخلافة، وتفاقُم الأمور. قلت: وقد وهم ثابت بن سنان؛ فإن الذي جرَّأ الموالي على الخلفاء بالقتل إنما هو باغر (¬3) قاتل المتوكِّل، وهو الذي أطمعهم في قتل المستعين والمعتز والمهتدي والمقتدر.] (¬4) ¬

_ (¬1) في (ف): وألقي. (¬2) بعض الحُرَّاث. (¬3) في (ت): جرأ الموالي على قتل الخلفاء باغر، وانظر الطبري 9/ 227، 278. (¬4) ما بين معكوفين من (ف م 1).

وقال الصولي: لمَّا كان يوم الأربعاء لثلاثٍ بقين من شوال ركب المقتدر وعليه قَباءٌ فضِّي وعمامة سوداء، وعلى كتفَيه البُرْدَة، وبيده القَضيب، وحوله أصحابُه، والمصاحف بأيديهم منشورة، وكان وزيرُه الفضل بن جعفر قد أخذ له طالعَ الوقت، فقال له المقتدر عند رُكوبه: أيُّ وقتٍ هو؟ قال: وقت الزَّوال، فتطيَّر وهمَّ بالرُّجوع، فأشْرَفَت خيلُ مؤنس وبليق في أوائلها، ونَشِبت الحرب، وتفرَّق عن المقتدر أصحابُه، وقتله البَرْبري على ما ذكرنا. وقيل: إنَّ الذي قتله غلامٌ لبليق. [وهذا هو المشهور في قتل المقتدر. وقد] حكى أبو القاسم السِّمْناني في قَتْله (¬1) [وجهًا آخر] فقال: كان المقتدر قد حَبَس محمدً القاهر، وكان له نديمٌ يلعب معه بالشِّطْرَنج، فلعب معه يومًا، فتوجَّه الغَلَبُ على القاهر، شاه مات، فرمى بالقطعة من يده وبكى، فقال له النَّديم: مالك؟ ! فقال: لا أنا حيٌّ ولا ميت، يا ليته قتلني وأراحني أو أطْلَقني، والله ما أخرج عليه أبدًا. ودخلت جاريةٌ من دار القاهر تَفْتَقد أحواله (¬2)، فرأتْه يبكي، فخرجت وهي باكيةٌ، فلَقيها بعضُ الجُند يقال له: البَرْبري، فسألها عن حالها فأخبرته، فقال [لها]: ارجعي إليه وقولي له: غدًا ضَحْوة تنقضي الحاجة، فرَجَعت إليه وأخبرَتْه، فعاد إلى اللعب [بالشطرنج] وقال: إن غلبتُ صاحبي زال المقطوع، فتوجَّه له الغَلب [على صاحبه]. واتَّفق خروجُ المقتدر من الغد إلى الشمَّاسية، وركب البربري معه، وأظهر على ظَهْر الفَرَس صناعاتٍ من الشجاعة واللَّعب بالسيف والرُّمْح، وعَجِب الناسُ منه، ثم حمل على المقتدر فضربه بحَرْبةٍ أخرجها من ظهره، وصاح الناس عليه، وساق [البربري] نحو دار الخلافة (¬3)، ليُخرجَ القاهرَ، فصادَفَه حِمْلُ شَوك وهو من فزعِه لا يلتفتُ [يمينًا ولا شمالًا] وهناك قصَّاب، والقِنَّارة (¬4) معلّقة يريد أن يعلِّقَ فيها اللَّحْمَ، فزَحَمَه ¬

_ (¬1) في (ف): قتلته، وما بين معكوفين منها ومن (م 1). (¬2) في (ف م 1): أخباره، والمثبت من (خ). (¬3) في (خ): الخليفة، والمثبت من (ف م 1). (¬4) خشبة يعلق القصاب عليها اللحم، ويصح أن تطلق على ما يسميه العامة "سيبة"، أخذوها من الفارسية لأنها ثلاث خشبات متصلة الرؤوس منفرجة من طرفها الآخر. معجم متن اللغة.

الشَّوكُ إليها وهو غافل، فضربه الكُلَّابُ فعلَّقَه، وخرج الفرسُ من تحته فبقي معلَّقًا فمات، فحطَّه الناس وأحرقوه بالحِمْل الشَّوك. [قلت: وليس هذا بصحيح] , والأصحُّ أنَّ المقتدر قُتِل في المعركة، كما قال ثابت بن سنان والصولي وغيرهم (¬1). وكان سنُّه يوم قُتِل ثمانيًا وثلاثين سنةً وشهرًا وخمسةَ أيام، وخلافتُه أربعًا وعشرين سنةً واحد عشرَ شهرًا وأربعة عشر يومًا، منها (¬2) خمسةُ أيامٍ خُلِع فيها من الخلافة، يومان في نَوْبة ابن المعتز، وثلاثةُ أيام في نوبة القاهر. وقال جدِّي في "التلقيح": وكانت (¬3) خلافتُه أربعًا وعشرين سنة [وأربعة عشر يومًا، وقيل: ] وشهرين، وقيل: خمسًا وعشرين سنةً إلا أيامًا (¬4). وقال الصولي: عاش المقتدر في الخلافة أكثرَ مما عاش الخلفاء فيها قبله، فإنَّ المعَمَّرين من الخلفاء: معاوية (¬5)، وعبد الملك، وهشام، والمنصور، والرشيد، والمأمون، والمعتمد، وزاد هو عليهم، ثم كلُّهم ماتوا على فُرُشهم وخُتِم له بالشهادة. ومن العجائب أنَّه لم يلِ الخلافةَ (¬6) مَن اسمه جعفر ويكنى أبا الفضل إلا هو والمتوكل، وكلاهما قُتِل يوم الأربعاء. ولا يُعرَفُ خليفةٌ قُتل في رمضان غيرُه. وقال الخطيب: رثاه الراضي قبل أن يَلِيَ الخلافة فقال: [من الطويل] بنَفسي ثَرًى ضاجَعْتَ في ساحة البِلى ... لقد ضمَّ منكَ الطِّيبَ والغَيثَ والبَدْرا ولو أنَّ عُمْري كان طَوعَ مَشيئتي ... وأَسْعَدَني المِقدارُ شاطَرْتُه العُمْرا ولو أنَّ حيًّا كان قبرًا لميِّتٍ ... لصَيَّرتُ أحشائي لأَعْظُمه قَبْرا (¬7) ¬

_ (¬1) في (خ): كما ذكرنا، والمثبت من (ف م 1)، وما بين معكوفين منهما. (¬2) في (ف م 1): من جملتها. (¬3) في (خ): وقيل كانت، والمثبت من (ف م 1). (¬4) تلقيح فهوم أهل الأثر 92، وما بين معكوفين منه. (¬5) في (خ): أكثر ما عاش المعمرين فيها قبله، وهم معاوية، والمثبت من (ف م 1)، وانظر المنتظم 13/ 309. (¬6) في (خ): وختم له بالشهادة ولم يل الخلافة، والمثبت من (ف م 1). (¬7) لم أقف عليها في تاريخ بغداد، وهي في تكملة الطبري 323، والكامل 7/ 366، ونسبها المرزباني في معجم الشعراء 425، وعنه ياقوت في معجم الأدباء 17/ 135 إلى ابن دريد يرثي عبد الله بن عمارة.

ذكر طرف من أخباره: [قال الصولي: ] كان النساء قد غَلَبْنَ على المقتدر؛ حتى كانت ثَمَلُ القَهْرَمانة تجلس للمظالم ويحضرها القضاة. وكان جوادًا، سخيًّا، يَصرفُ في كلِّ سنةٍ في طريق مكة والحَرَمَين ثلاثَ مئة ألف دينار ونيِّفًا وخمس عشر ألف دينار، ويُجري على مَن يتولَّى الحِسْبَةَ والمَظالمَ في جميع البلاد أربعةً وثلاثين ألفَ دينار وزيادة، وعلى أصحاب البريد تسعةً وسبعين ألفًا، وكان في داره أحد عشر ألف خادم خِصيان غير الصَّقالبة والروم والسودان [وقد ذكرنا ما كان في داره لما بَعَث ملكُ الروم إليه الرسول في سنة خمسٍ وثلاث مئة.] وكانت جواهرُ الأكاسِرةِ وغيرِهم من الملوك قد صارت إلى بني أمية، ثم إلى السَّفَّاح، ثم إلى المنصور، ثم إلى المهدي، وفيها الجبل الياقوت الذي اشتراه المهدي بثلاث مئة ألف دينار (¬1)، واشترى الرشيد جوهرًا بألف ألف دينار، ولم يزل الخلفاءُ يحفظون ذلك إلى أن آلت الخلافة إلى المقتدر، فأخرج الجميعَ على النساء وغيرهنَّ، وأعطى بعضَ حَظاياه الدُّرَّة اليتيمة، وزنُها ثلاثة مَثاقيل، ووهب بعضَه للخدم: صافي الحرمي وغيره، ووَجَّه منه إلى وزيره العباس بن الحسن، فردَّه وقال: هذا الجوهر عِدَّةُ الخلافة ولا ينبغي أن يُفرَّق. وكانت زَيدان القَهْرمانة متمكِّنةً من الجوهر، فأخذت سُبْحَةً لم يُرَ مثلُها، فكان يُضرَب بها المثل فيقال: سُبحةُ زيدان، فلمَّا ورد علي بنُ عيسى على المقتدر قال له: ما فعلت سبحة جوهر قيمتُها ثلاثُ مئة ألف دينار أُخذَت (¬2) من ابن الجَصَّاص؟ فقال: في الخزانة، فقال: تُطْلَب، فطُلِبَت فلم تُوجَد، فأخرجها علي من كُمِّه وقال: إذا كانت خزانة الجوهر لا تُحفَظ فما الذي يُحفَظ؟ فقال المقتدر: فمن أين لك هذه؟ قال: عُرضَت عليَّ فاشتريتُها. فاشتدَّ ذلك على المقتدر. [ولما قتل المقتدر] كان قد بقي منه في الخزانة شيءٌ يسير، فامتدَّت إليه أيدي الخَزَنة في أيام القاهر والراضي، فلم يبق منه شيءٌ. ¬

_ (¬1) في ثمار القلوب 194، والمنتظم 13/ 64: واشترى المهدي الفص المعروف بالجبل بثلاث مئة ألف دينار. (¬2) في (ف م 1): ما فعلت بسبحة زيدان قيمتها ثلاث مئة ألف دينار التي أخذت، والمثبت من (خ).

وقال صافي الحُرَمي: مشيتُ يومًا بين يدي المعتضد وهو يُريد دورَ الحُرَم، فلمَّا بلغ باب شَغَب أُمِّ المقتدر وقف يَتَسَمَّع ويَطَّلع من خَلَلٍ في السّتر، وإذا بالمقتدر -وله إذ ذاك خمسُ سنين أو نحوها -وهو جالس وحواليه مِقدارُ عَشْر وصائف من أقرانه في السنِّ، وبين يديه طَبَقٌ فيه عُنقودُ عِنَبٍ في وقت لا يوجد فيه العِنَب، وهو يأكل عِنَبةً واحدة، ثم يُطعم الوصائف عِنَبةً عنبةً على الدَّور، حتى إذا بلغ الدَّور إليه أكل عنبةً واحدةً مثل ما أكلوا، حتى فَنِيَ العنقود، والمعتضد يَتميَّز غَيظًا، فرجع ولم يدخل الدار. ورأيتُه مَهمومًا فقلت: يا مولاي ما سببُ ما فعلتَه وقد بان عليك؟ فقال: يا صافي، والله لولا النار والعار لقتلتُ هذا الصبيَّ، فإنَّ في قَتْله صلاحَ هذه الأمة، فقلتُ: يا مولاي، إيش عمل، أُعيذُك بالله يا مولاي، العَن إبليس، فقال ويحك، أنا أبصرُ بما أقول، أنا رجلٌ قد سِسْتُ الأمورَ، وأصلحتُ الدنيا بعد فسادٍ شديدٍ، ولا بدَّ من موتي، وأعلمُ أنَّ الناس بعدي لا يختارون غيرَ ولدي، وسيُجلسون ابني عليًّا -يعني المكتفي- وما أظنُّ عمرَه يطول للعلَّة التي به -يعني الخنازير (¬1) التي كانت في حَلْقِه- فيَتْلَفُ عن قُرْبٍ، ولا يرى الناس إخراجَها عن ولدي، ولا يَجدون بعده أكبرَ من جعفر -يعني المقتدر- فيُجلسونه وهو صبيٌّ، وله من الطَّبْع في السَّخاء ما قد رأيتَ من أنَّه يُطعم الوَصائف مثل ما أكل، وساوى بينه وبينهنَّ في شيءٍ عَزيزٍ، والشحُّ على مثله في طبائع الصبيان، فيحتوي عليه النساء لقرب عَهْده منهنَّ، فيَقْسِم ما جمعتُه من الأموال كما يقسم العنب، ويُبَذِّر ارتفاع الدنيا ويُخرِّبُها (¬2)، ويُضَيِّع الثُّغور، وتنتشر الأمور، وتخرجُ الخوارج، وتحدثُ الأسباب التي يكون فيها زوالُ المُلْك عن بني العباس أصلًا، فقلتُ: بل يُبقيك الله حتى يَنشأ في حياتك، ويَصيرَ كَهْلًا في أيامك، ويَتأدَّبَ بآدابك، ويَتخلَّقَ بأخلاقك، ولا يكون هذا الذيَ ظَننتَ، فقال: احفظ ما أقول لك وسوف ترى. وضرب الدهرُ ضَرَباته، ومات المعتضد، وولي المكتفي، فلم يَطُل عمرُه ومات، وولي المقتدرُ فكانت الصورةُ كما قال بعَينها، فكنتُ كلَّما وقفتُ على رأس المقتدر، ¬

_ (¬1) قروح تحدث في الرقبة. القاموس. (¬2) وكذا في تاريخ بغداد 8/ 130، والمنتظم 13/ 66.

ورأيتُه يدعو بالأموال والجواهر، ويُفرِّقُها في الجواري، ويمَزِّقها ويَمْحَقُها: ذكرتُ قولَ المعتضد فأبكي. وقال صافي: كنتُ واقفًا على رأس المعتضد فقال للخادم الذي على خزانة الطِيب: كم عندك من الغالية؟ فقال: نيِّفٌ وستون حُبًّا صينيًّا ممَّا عمله عِدَّةٌ من الخلفاء (¬1). فقال: أيُّها أطيب؟ قال: ما عمله الواثق. قال: أحضِرْنيه، فأحضَر حُبًّا يَحمله عِدَّةٌ من الخَدَم بدَهَق (¬2)، ففتحه وإذا بغاليةٍ قد ابيضَّت من التَّعْشِيب، فأعجب المعتضد، فأخذ من حول رأس الحُبِّ يَسيرًا، فلطَّخ به لحيتَه من غير أنْ يُشَعِّثَ رأسَ الحُبّ، ثم رفعه. ومات المعتضد وولي المكتفي، فسأل الخادمَ عن الطِّيب، فأخبره بمثل ما أخبر به المعتضد، فأمر بإحضار الحُبِّ، فأخذ منه شيئًا يسيرًا، وخَتَمَه ورُفِع. ومات المكتفي وولي المقتدر، فاستدعى الخادم، وسأله عن الطِّيب، فأخبره كما أخبر أباه وأخاه، فقال: هاتوا الحِبابَ كلَّها، فأُحضِرَت، ففرَّقها في الجَواري، ورأى ذاك ناقصًا، فسأل الخادمَ فأخبره، فأخذ يُبَخِّل الرَّجُلَين، وجعل يُفرِّقُه على الجواري، حتى بقي فيه شيءٌ يسير، وأنا أتمزَّقُ غيظًا، وأذكر كلام المعتضد، فبكيتُ وقلتُ: هذه غالية لا يوجد مثلُها، فلو فرَّقتَ من غيرها وأبقيتَها لك فاستحيى منِّي، وما مضت إلا سنينٌ من خلافته حتى فَنِيَت تلك الغَوالي، واحتاج إلى عَجْن غاليةٍ بمالٍ عظيم. وحكى القاضي التَّنوخي: أنَّ امرأةً يقال لها: نظم كانت تَخْدُم السيدةَ أمَّ المقتدر، وكانت دايةَ أبي القاسم يوسف بن يحيى، فرفعَتْه حتى أَثْرى وصار له مالٌ عظيم، فعزم على تطهير ابنه، وعرفت السيدةُ فأرسلت إليه من الحيوانات والفواكه شيئًا عظيمًا، ومن الثياب والآنية والمال شيئًا كثيرًا، فقال لنظم: قد بقي يُعْوزُنا شيءٌ واحد؛ وهو القريةُ التي للخليفة -وكانت له قرية من فضة، فيها البيوتُ والشَّجرُ والبقر والغنم والجِمال والجَواميس والفلاحون والزرع وكل ما يكون في القرى- فقالت له: متى سمعتَ بخليفة يُعيرُ شيئًا؟ وهل يجوز أن يكونَ في دار الخليفة شيءٌ فيُخْرَج إلى الناس؟ ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 8/ 131: نيف وثلاثون حبًّا ... والمثبت موافق للمنتظم 13/ 67. والحب: الخابية، أو الجرَّة الكبيرة. (¬2) هما خشبتان.

ولكن أُعرِّفُ السيدة، ثم دخلَت عليها وأظهرت الانكسار، فقالت: ما لكِ؟ فقالت: عبدُكِ يوسف يريد أن يُطَهِّر غدًا ابنَه، وهيَّأ أسبابَه وقال: كنتُ أحبُّ أن أتشَرَّف بما لم يحصل لغيري؛ ليُعلَمَ مكاني من الخليفة، قالت: وما هو؟ قالت: عاريةُ القرية ليتجمَّلَ بها وَيرُدَّها من الغد، فقالت: هذا شيءٌ عَملَه الخليفةُ لنفسه، كيف يَحسُنُ أن يُرى في دار غيره؟ وكيف يحسُن أن يقال: إن الخليفة استعار منه بعضُ خَدَمه شيئًا ثم استردَّه؟ هذا فضيحةٌ. ثم قامت فدخلت عليه، فقام قائمًا، وعانقها، وقبَّل رأسَها، وأجلسها معه في دَسْته -وهذه كانت عادتُه معها- وقال لها: يا ستِّي -وهكذا كان يُخاطبها- ليس هذا من أوقات تفضُّلِك وزيارتك، فحدَّثَتْه ساعةً، ثم التفتَتْ إلى نظم وقالت: متى عَزَم يوسف على تطهير ابنه؟ فقالت: غدًا، فقال الخليفة: إن كان يحتاجُ إلى شيء آخر أمرتُ له به، فقالت: قد اكتفى، ولكن يسأل القرية عاريةً ليتجمَّلَ بها ثم يَردُّها. فقال: يا ستِّي هذه ظَريفة، يستعيرُ خادمٌ لنا منَّا شيئًا وتكونين أنت شفيعُه، فنُعيرُه، ثمَّ نرجع نأخذُه منه؟ ! هذا من عمل العوام لا الخلفاء، إذا كان محلُّه ما أوجب تَجَشُّمَك وزيارتك في غير أوقات الزِّيارة فقد وَهَبتُ له القرية. فخرجت نظم فأخبرته فقال: أمَّا الطَّعام فعندي شيءٌ كثير (¬1)، وأخذ القرية، وبلغ المقتدر فقال: يُحمَل إليه قيمةُ الطعام، فكانت قيمتُه ألفًا وخمس مئة دينار، فحُمِلت إليه. وقال الصُّولي (¬2): كان المقتدرُ يُفرِّق يوم عرفة ثلاثين ألف رأسٍ من البقر، ومن الإبل عشرة آلاف، ومن الغنَم خمسين ألفًا، ويقال: إنَّه أَتْلَف من المال ثلاثين ألف ألف دينار. ¬

_ (¬1) في المنتظم 13/ 72: وهبت له القرية، فمري بحملها بجميع آلاتها إليه، وقد رأيت أن أشرفه بشيء آخر، قالت: ما هو؟ قال: يحمل إليه غدًا جميع وظائفنا ولا يطبخ لنا شيء البتة، بل يوفر عليه، ويؤخذ لنا سمك طري فقط. (¬2) من قوله: وقال صافي الحرمي: مشيت يومًا ... إلى هنا ليس في (ف م 1).

وكان في داره عشرةُ آلاف خادم من الصَّقالِبَة، وفي إصطَبْل الخاصة عشرةُ آلاف فرس، وخمسةُ آلاف بَغْلة، وعشرون ألف بُخْتيّ، ومن الأموال والأثاث والمتاع ما لا يُحصى، فأتلَف الجميع، وأتلَف نفسه بيده وبسوء تدبيره، [ومُعاداة مؤنس، وسماع كلام الأعداء، حتى زالت أيامُه، وجرى عليه ما جرى. ويقال: إنَّه أتلف من المال ثمانين ألف دينار.] (¬1) ذكر أولاده: محمَّد الراضي، وإبراهيم المتَّقي، وإسحاق والد القادر، والمُطيع، وعبد الواحد، وعباس، وهارون، وعلي، وعيسى، وإسماعيل، وموسى، وأبو العباس. ولمَّا انهزم هارون بن غريب وابن ياقوت وابنا رائق ومُفلح إلى المدائن وإن معهم عبد الواحد، ومضَوا إلى واسط، وأقاموا يَجْبُون الأموال. ذكر حُجَّابه: سوسن مولى المكتفي، ونَصْر وابنُه أحمد، وياقوت وابنه محمَّد، وإبراهيم ومحمد ابنا رائق (¬2)، وطبيبه ثابت بن سِنان، وابن بُخْتَيشوع، وقاضيه أبو عمر. ذكر وزرائه: وإن مغرًى بتغيير الوزراء، استوزر العباس بن الحسن أربعة أشهر وأيامًا وقُتل، ثم استوزر أبا الحسن علي بن محمَّد بن الفرات، ثم قبض عليه في المُحَرَّم، واستوزر محمَّد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان في ذي الحِجَّة، وقبض عليه في المُحرَّم سنة إحدى وثلاث مئة، ثم استوزر علي بن عيسى بن داود بن الجَرّاح، ثم قبض عليه، ثم ولَّاه النَّظَر في الدواوين والوزارة مرارًا، ثم أُعيد علي بن الفرات، ثم عزله، واستوزر حامد بن العباس، ثم عزله ومات، ثم استوزر علي بن الفرات مِرارًا، ثم قتله وولدَه ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م 1) وجاء بعده فيهما: انتهت سيرة المقتدر والحمد لله وحده. السنة الحادية والعشرون وثلاث مئة. (¬2) في (خ): وياقوت وابنه أبو محمَّد وأحمد ابنا رائق، وهو خطأ، والمثبت هو الصحيح، انظر المنتظم 13/ 62، والعقد الفريد 5/ 128.

الحسين بن صالح

المُحَسِّن، ثم استوزر عبد الله بن محمَّد بن عُبيد الله بن خاقان، ثم استوزر أبا العباس الخَصيبي (¬1)، ثم الفضل بن جعفر بن الفرات. وقال ثابت: بلغ من تبذير المقتدر أنَّه أتلف نيِّفًا وسبعين ألف [ألف] دينار (¬2)، أكثر ممَّا جمعه الرشيد، وأوقفني بعضُ كتَّاب أبي الحسن بن الفرات أنَّه كان في بيت مالك الخاصَّة لمَّا ولي المقتدرُ أربعة عشر ألف [ألف] دينار، ثم ذكر ارتفاع الوزراء وما جمعه كلُّ وزير فكان مالًا عظيمًا (¬3). الحسين بن صالح أبو علي بن خَيران، الفقيه، الشافعي (¬4). كان من أفاضل الشيوخ، وأماثل الفُقهاء، مع حُسْن المَذْهب، وقوَّة الوَرَع. وأُريدَ على القضاء فلم يفعل، فوَكَّل علي بن عيسى الوزير ببابه وختم عليه، فبقي بِضعةَ عشر يومًا، فكُلِّم فيه فأعفاه، وقيل: بقي حتى احتاج إلى الماء، فلم يَقْدر عليه إلا من عند الجيران، وبلغ الوزيرَ فأزال التَّوكيلَ عنه، وقال في مجلسه والناسُ حضور: ما أردْنا بالشيخ أبي علي إلا خيرًا، أردنا أن نُعلِمَ الناسَ أنَّ في مملكتنا رجلًا يُعرَض عليه قضاءُ القضاة شرقًا وغربًا وهو لا يقبل. وتوفي في ذي الحجة، وكان فاضلًا وَرِعًا زاهدًا عابدًا. عبد الملك بن محمَّد بن عَدِيّ أبو نُعَيم، الجُرْجاني، الأَسْتَراباذيّ (¬5). ¬

_ (¬1) ثم أبا علي محمَّد بن علي بن مقلة، ثم أبا القاسم الكلواذي، ثم سليمان بن الحسن بن مخلد، ثم الحسين بن القاسم بن عبيد الله، ثم الفضل. انظر العقد الفريد 5/ 128، المنتظم 13/ 61 - 62. (¬2) ما بين معكوفين من تاريخ الإِسلام 7/ 228، والسير 15/ 56، والكامل 8/ 243. (¬3) انظر المنتظم 13/ 60. (¬4) تاريخ بغداد 8/ 593، والمنتظم 13/ 310، والسير 15/ 58، وتاريخ الإِسلام 7/ 378. (¬5) تاريخ جرجان 276، تاريخ بغداد 12/ 182، تاريخ دمشق 43/ 226، معجم البلدان 1/ 175، المنتظم 13/ 311، تاريخ الإِسلام 7/ 476، السير 14/ 541.

عبد الوهاب بن عبد الرزاق

أحد أئمة المسلمين، من أهل الفقه والوَرَع، والضَّبط والإتقان، سمع علي بن حَرْب وغيره، وروى عنه الدَّارقطني وغيره. قلت: قد كرَّر المصنّف رحمه الله ذكر عبد الملك الجُرْجاني في سنة ثلاثٍ وعشرين وثلاث مئة، وأثنى عليه بنحو مما ذكره هنا (¬1)، وزاد فقال: وُلد سنة اثنتين وأربعين ومئتين. وقال الخطيب: كان أحدَ أئمة المسملين، ومن الحُفَّاظ لشرائع الدين، مع صدقٍ ووَرَعٍ، وضبْطٍ وإتقان، سافر الكثير، وكتب بالعراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد قديمًا وحدَّث بها، وكانت وفاتُه بأستراباذ في ذي الحجة -يعني سنة ثلاث وعشرين- وهو ابنُ ثلاثٍ وثمانين سنة. وقال الحاكم في "تاريخه": وَرَد نَيسابور سنة ست عشرة وثلاث مئة وهو متوجِّهٌ إلى بُخارى، ثم انصرف عن بخارى، وعاد إلى نيسابور فأقام بها حتى توفّي. وقال ابن عساكر: مات سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة، وقال الخطيب: مات في حدود العشرين وثلاث مئة. وأجمعوا على فضله وفقهه وصِدْقه وزُهْده ووَرَعه. عبد الوهَّاب بن عبد الرزَّاق ابن عمر بن مسلم، أبو محمَّد. القرشي مولاهم. دمشقي، وُلد ولأبيه خمسٌ وتسعون سنة، حملَته أمُّه على صَدْرها (¬2) وهو زَمِنٌ، فواقعها، فحملَت بعبد الوهاب، وجاوز عبد الوهاب مئةَ سنة، حدَّث عن هشام بن عمار وطبقته، وروى عنه أبو الحُسين الرَّازي، وكان ثقةً. محمَّد بن إبراهيم ابن حَفْص بن شاهين، أبو الحسن، البغدادي (¬3). ¬

_ (¬1) هذا الكلام يصدق على مرآة الزمان الذي لم يصلنا، أما هذا المختصر فلم تكرر فيه الترجمة. (¬2) في تاريخ دمشق 44/ 99: حملته امرأته على صدرها. (¬3) تاريخ بغداد 2/ 304، والمنتظم 13/ 312، وتاريخ الإِسلام 7/ 373.

محمد بن يوسف

سمع الكثير، وحدَّث عن يوسف بن موسى القَطَّان وغيره، وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقةً. خرج من الحمَّام يوم الإثنين لخمسٍ خلون من رمضان وهو في عافية، فمات فجأة. محمد بن يوسف ابن يعقوب بن إسماعيل بن حَمَّاد بن زيد بن دِرْهم، أبو عمر، القاضي، الأَزْدي، مولى [آل] جرير بن حازم (¬1). ولد بالبصرة لتسعٍ خلون من رجب سنة ثلاثٍ وأربعين ومئتين، وسمع الشيوخ، ولقي العلماء، وولي قضاءَ مدينة المنصور سنة أربعٍ وثمانين ومئتين، ولم يكن له نَظيرٌ في الحُكَّام عقلًا، وحِلمًا، وذكاءً، وتمكُّنًا، واستيفاءً للمعاني الكثيرة بالألفاظ اليَسيرة، مع المعرفة بأقدار الناس، والتأنِّي في الأحكام، وكان يُضرَب المَثَلُ بعقله وسَداده وحِلْمه. ووصفه الخطيب بأوصافٍ جَليلة من الجود، والفَضْل، والحياء، والكَرَم، والإحسان إلى القاصي والدَّاني، قال: ثمَّ استُخْلف لأبيه يوسف على القضاء بالجانب الشَّرْقي من بغداد، فكان يَحكُم بين أهل مدينة المنصور رياسةً، وبين أهل الجانب الشرقي من بغداد نيابةً إلى سنة اثنتين وتسعين. ولمَّا توفي أبو حازم القاضي عن الشَّرْقية نُقِلَ أبو عمر إليها، فكان على ذلك إلى سنة ستٍّ وتسعين، فصُرف هو ووالده عن جميع ما كان إليهما، وتوفي والدُه سنة سبع وتسعين. وما زال أبو عمر مُلازمًا لمنزله إلى سنة إحدى وثلاث مئة، فأشار علي بن عيسى الوزير على المقتدر به، فقلَّده الجانبَ الشَّرقي من بغداد، وعِدَّة نَواحٍ من السَّواد، والشام، والحَرَمَين، واليمن وغير ذلك، ثم قلَّده قضاءَ القُضاة سنة سبع عشرة وثلاث مئة. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 635، والمنتظم 13/ 313، وما بين معكوفين منهما، والسير 14/ 555، وتاريخ الإِسلام 7/ 376.

أبو عمرو الدمشقي

وحمل عنه الناس علمًا كثيرًا من الحديث والفقه، وصنَّف مُسندًا كبيرًا، ولم ير الناسُ ببغداد أحسنَ من مَجلسه؛ كان يجلس للحديث وعن يمينه أبو القاسم بن مَنيع، وهو قريبٌ من أبيه في السنِّ والسَّنَد، وعن يساره ابنُ صاعد، وأبو بكر النَّيسابوري بين يديه، وسائر الحُفَّاظ حول سريره، وما عَثَروا عليه بخطأ قطُّ، لا في روايته للحديث، ولا في أحكامه. وتقدَّم إليه ابنُ النَّديم وابنُ المُنَجِّم في شيءٍ كان بينهما، فقال ابن المنجم: إنَّ هذا يَدِلُّ بخاصَّةٍ له عند القاضي، فقال: ما أُنكِرُها، وإنَّها لنافِعَةٌ له عندي، غير ضارَّةٍ لك، إن كان الحقُّ له كفيناه مؤونة اجتدائه (¬1)، وإن كان لك سلَّمناه إليك من غير استذلال له. وحضر عنده يومًا ثوبٌ يَمانيّ قيمتُه خمسون دينارًا، وعنده جماعةٌ من أصحابه وشهودِه الذين يأنَسُ بهم، فاستحسنوه، فقال: عليَّ بالقَلانِسيّ، ففَصَّله قَلانِس على عددهم وقال: لو استَحْسَنَه واحدٌ منكم لوَهَبْتُه له، فلمَّا اشتركتم في استحسانه وَجَب قِسمتُه بينكم، وهو لا يقوم بمَلابسكم، فجعلتُه قَلانِس لكم. قال الخطيب: توفي ببغداد في رمضان، ودُفن بداره وهو ابن ثمانٍ وسبعين سنةً. ورؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أدركَتْني دعوةُ العبد الصالح إبراهيم الحَرْبي، وكانا قد اجتمعا في مكان، فقال القاضي لغلامه: ارفع نَعْلَي إبراهيم في مِنديلك، ففعل، فلمَّا قام الحَرْبي قال القاضي لغلامه: قَدِّم نَعْلَيه، فأخرجهما من المِنديل، فقال إبراهيم للقاضي: رفع الله قَدْرَك في الدنيا والآخرة. أسند عن محمَّد بن الوليد، ومحمد بن إسحاق الصَّاغاني، وعثمان بن هشام بن دَلْهم وغيرهم، وروى عنه الدارقطني، ويوسف بن عُمر، وأبو القاسم بن حَبابَة وآخرون. أبو عَمرو الدِّمشقيّ أحدُ مشايخ الصُّوفية (¬2). ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 4/ 638: مؤنة اجتذابه. (¬2) حلية الأولياء 10/ 346، طبقات الصوفية 277، مناقب الأبرار 1/ 506، تاريخ الإِسلام 7/ 379.

صحب ابن الجَلَّاء، وأصحابَ ذي النُّون، وكان من كبار مشايخ القوم وعلمائهم، وله المَقامات المشهورة. سئل: أيُّ الخلقِ أعْجَزُ؟ فقال: مَن عَجَز عن سياسة نفسه، قيل: فأيُّهم أقوى؟ قال: مَن قَوِي على مُخالفة هواه، قيل: فأيُّ الناس أعقل؟ قال: مَن ترك المُكوَّنات وأقبل على مُكوِّنها. وقال له رجل: إنِّي أُريدُ السَّفَر؟ فقال: لا تَصْحَب سوى الله تعالى؛ فإنَّه يَكفيك المُهِمَّات، ويَشكُرُك على الحَسَنات، ويَستُر عليك السَّيئات، ولا يُفارقُكَ خُطْوةً من الخُطُوات. وقال: كما افترض الله تعالى على [الأنبياء إظهارَ المعجزات ليؤمنوا بها، كذلك فرض على] الأولياء إخفاءَ الكرامات لئلَّا يَفتَتِنُوا بها. وقيل: إنَّه توفي في سنة أربعٍ وعشرين وثلاث مئة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ذكر ذلك ابن زبر في تاريخ مولد العلماء 272.

السنة الحادية والعشرون وثلاث مئة

السنة الحادية والعشرون وثلاث مئة فيها شَغَب الجُند على القاهر، وهَجَموا عليه دارَ الخلافة، فنزل في طَيَّارٍ إلى دار مؤنس، وشكا إليه، فأرسل إليهم وقال: اصبروا عشرة أيام، فصبروا. وفيها استوحش مؤنس المُظَفَّر، وبليق، وعلي ابنُه، وابن مُقْلَة من القاهر، وسببه: أنَّ ابن مُقْلَة كان مُنحَرفًا عن محمَّد بن ياقوت، فنقل إلى مؤنس أنَّ ابنَ ياقوت يُدبِّر عليهم، وعيسى المُتَطَبِّب يمشي بينه وبين القاهر، فبعث مؤنس غِلمانَ بليق إلى دار الخليفة يطلبون عيسى، فقيل: هو عند القاهر، فهجموا عليه وأخذوه من حَضْرة القاهر، فنفاه مؤنس في الحال إلى الموصل، وذلك في ربيع الآخر. واتَّفق ابنُ مُقْلَة ومؤنس وبليق وابنُه على الإيقاع بمحمد بن ياقوت، وعلم بها أحمد بن زيرك (¬1)، وأمره بالتَّضييق على القاهر، وتفتيش مَن يدخل ويخرج من الرجال والنساء والخدم، فبلغ من الحال أنَّه فَتَّش لَبنًا اشتُري للقاهر لئلَّا يكون فيه رُقعةٌ، وطالب ابنُ بليق القاهرَ بما كان عنده من أثاث أمِّ المقتدر، فأعطاه إياه، فبيع وجُعِل ثمنُه في بيت المال، وأُطلق [إلى] الجُند من مال البيعة (¬2). ونقل علي بن بليق والدةَ المقتدر إلى عند والدته، فأقامت مُكَرَّمةً عشرة أيام، وماتت يوم الإثنين لستٍّ خلَوْن من جُمادى الآخرة لزيادة العِلَّة عليها، ولما جرى من القاهر في حقِّها من المَكاره. وفيها وقع الإرْجافُ بأنَّ علي بن بليق والحسنَ بن هارون كاتبَه عَزَما على سبِّ معاوية بن أبي سفيان على المنابر، فاضطرَبَت العامَّة من ذلك، وتقدَّم علي بن بليق بالقَبْض على أبي محمَّد البَرْبَهاري رئيس الحنابلة فاستَتَر، فقبض على جماعةٍ من أصحابه، ونُفوا إلى البصرة. ¬

_ (¬1) في الكامل 8/ 251، وتاريخ الإِسلام 7/ 403: ووكل علي بن بليق على دار الخلافة أحمد بن زيرك. (¬2) في تاريخ الإِسلام 7/ 403 وما بين معكوفين منه: فبيع وجعل في بيت المال وصرف إلى الجند.

وقال ثابت: لمَّا ضَيَّق علي بن بليق على القاهر اشتدَّ القاهرُ في الحيلة على مؤنس وأسبابه، وبلغَه فسادُ [نِيَّة طَريف السبكري وبشرى] لبليق وابنه (¬1)، ومنافستهما لهما على المراتب التي بلغاها، فكاتَبَهما في ذلك، وبعث إليهما بخاتمه على يد بعض ثقاته. وعلم القاهر أنَّ أكثر اعتماد مؤنس وبليق على السَّاجِيَّة، وكان قد وَعدهم مؤنس إذا دخل بغداد أن يَجعلَهم برسْم الحُجَرية، ولم يَفِ لهم لئلَّا يصيروا غلمانًا للقاهر، فراسل القاهر السَّاجِيَّة ورَغَّبهم، [وحَرَّضَهم] على مؤنس وبليق وابنه، وضَمِن لهم أن ينقلَهم إلى رَسْم الحجرية. وكان بين اختيار القَهْرَمانة وبين أبي جعفر محمَّد بن القاسم بن. عبيد الله معرفةً قديمة، فأشارت على القاهر بمكاتَبته، وأن يَعِدَه بوزارته ليُعاونَه على التَّدبير على مؤنس، فكانت اختيار تخرج في الليل وتجتمع بأبي جعفر، فتؤدِّي إليه الوسائلَ عن القاهر. وبلغ ابنَ مُقْلَة أنَّ القاهر يُدبِّر عليه وعلى مؤنس وبليق وابنه، فحذَّرهم منه، واتَّفق معهم على خَلْعه وتقليد أبي أحمد بن المُكْتَفي الخلافةَ، فتحالفوا على ذلك، وقال مؤنس: قد أوحشتُم القاهرَ وأهنتُموه، فلا تَعْجَلوا عليه حتى تؤنسوه، ثم بعد ذلك تقبضون عليه. فدبَّر ابن مُقْلَة تدبيرًا انعكس عليه، وأشاع بأنَّ القِرمطيَّ قد غَلب على الكوفة، وكتب إلى القاهر يُخبره ويقول: المَصلحةُ خروجُ علي بن بليق إلى قتاله، وأمر ابن بليق بإخراج مَضاربه إلى باب الكوفة، فأُخرِجت، ثم أرسل إلى القاهرِ يقول: ما بقي إلا أن يدخل علي بن بليق يقبِّل يد مولانا ويُودِّعه ويتوجَّه -وإذا دخل ابنُ بليق على القاهر قبَضَه- ففهم القاهر المقصود فسكت، فأردف ابنُ مقلة الورقة بأخرى، فاستراب القاهر، فراسل الحُجَرية وفرَّقهم في الدَّهاليز (¬2). وراح ابن بليق بعد العصر إلى دار القاهر في عدد يسيرٍ، فقام إليه السَّاجِيَّة وشَتموه، وعملوا على القبض عليه، فهرب إلى طَيَّاره، ثم عَبر إلى الجانب الغربي، واستتر من ليلته هو وكاتبُه الحسن بن هارون وأبو بكر [بن] قَرابة (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من المنتظم 13/ 317، والكامل 8/ 251. (¬2) انظر تفصيل الخبر في تكملة الطبري 280، والكامل 8/ 252 - 253. (¬3) ما بين معكوفين من تكملة الطبري.

واضطرب البلد وأصبح الناس يوم الأحد مُسْتَهل شعبان في اضطراب، فبعضهم صار إلى دار الخليفة، وبعضهم إلى دار مؤنس، فجاء بليق إلى دار الخليفة ومعه القُوَّاد ليعتذر عن ابنه، فقبض عليه وعلى أحمد بن زيرك ويُمن الأعور صاحب الشرطة، وحُبِسوا، وصار الجيش كلُّه في دار الخليفة، فحينئذٍ راسل القاهر مؤنسًا وقال: قد تمَّت هذه الحادثة، وأنت عندي مثل الوالد، وما أحبُّ أن أعملَ شيئًا إلا بمَشُورتك، وأحبُّ أن تأتيني، فاعتذر لثقل الحركة، فقال له طريف السبكري: ما هو مَصلحة تتأخَّر، فانحدر، ولمَّا صار في دار الخليفة قُبض عليه. واستتر ابن مُقْلَة، فكانت مُدَّة وزارته للقاهر تسعةَ أشهرٍ وثلاثةَ أيام. واستوزر القاهر أبا جعفر محمَّد بن القاسم بن عُبيد الله يوم الأحد مُسْتَهل شعبان، وخلع عليه، واستقدم القاهر عيسى المُتَطبِّب من المَوصل (¬1). وطُرِحَت النار في دار ابن مُقْلَة فاحترقت، وهذه المرة الثانية من حريقها، ويقال: إنَّ الشِّعر الذي ذكرناه (¬2) في حريقها إنَّما قيل في هذه المرَّة، وموضعها يقال له: [باب] البستان. وهرب محمَّد بن ياقوت إلى أبيه بفارس، فكتب إليه القاهر يؤنسه ويقول: ما أردتُ بك إلا الخير، وقلَّده أصبهان. وقلَّد القاهر حجابته بعد علي بن بليق سَلامةَ الطُّولوني، وطلب أبا أحمد بن المُكتفي، فوجدَه مستترًا في دار عبد الله بن الفتح، فقبض عليه، وحُمل إلى دار السلطان، وأقيم المكتفي في باب وسُدَّ عليه بالآجُرّ والجصّ وهو حيٌّ. ونهب القاهر (¬3) دور المُخالفين، فظفر بعلي بن بليق لعشرٍ خلون من شعبان، جاء بعضُ الفرسان إلى القاهر ودلَّه على موضعه، فبعث الرَّجَّالة في طلبه إلى الدار التي كان فيها، فكُبِسَت، وفتَّشوا عليه فلم يجدوه، واختبأ في تَنُّور فاستخرجوه، وجيء به على ¬

_ (¬1) من قوله: وفيها استوحش مؤنس ... إلى هنا ليس في (ف م 1). (¬2) في (ف م 1): الذي ذكر. (¬3) في (خ) وأقيم فتح في باب .... ونهب المقتدر، وهو خطأ، وليس في (ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا. وانظر تكملة الطبري 281، والمنتظم 13/ 317، والكامل 8/ 260، وتاريغ الإِسلام 7/ 404.

بَغْل بإكافٍ (¬1)، فحُبِس في دار الخليفة وضُرِب ضَرْبًا مُبَرِّحًا، فأقرَّ بعشرة آلاف دينار، وكان الحسين بن القاسم أخو محمَّد الوزير مُستترًا، فانحدر، فاحتال أخوه الوزيرُ وكتب له أمانًا وحلَف له، فلمَّا ظهر نفاه إلى الرَّقة. ذكر مقتل مؤنس وأصحابه: ولمَّا حُبس مؤنس اضطرب رجالُه وشَغبوا، وشَغَب معهم سائر الجيش الذي بالحَضْرة، وقصد دارَ الوزير محمَّد بن القاسم، وأحرقوا رَوْشَنَه (¬2)، ونادَوا باسم مؤنس، وذلك في يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان، فدخل القاهر إلى المَوضع الذي فيه مؤنس وبليق وابنه مُعْتَقَلين، فذُبح علي بن بليق وأبوه والقاهر قائم، ورُمي برأسهما إلى مؤنس، فلعن قاتلَهما، فأمر به القاهر فجُرَّ برجله إلى البالوعة وذُبِح كما تُذبح الشاة والقاهر يراه، ثم أُخرجَت الرؤوس إلى الناس، وطِيفَ بها في جانبَي بغداد، ورُدَّت إلى خزانة الرؤوس، ولمَّا أُخرج رأس مؤنس قُوِّر وفُرِّغ منه دِماغُه، فكان فيه ستة أرطالٍ. وقتل القاهر يُمنًا الأعور في ذلك اليوم، ورمى أحمد بن زيرك إلى بِرْكة السِّباع، فلمَّا أكلت بعض لحمه أمر أن يُخرَج منها وهو حيّ، وقُطعت يداه ورجلاه، ثم ذُبح. وأطلق للجند أرزاقَهم فسكتوا، واستقامت الأمور للقاهر، وعظُمَت هيبتُه، وتَلَقَّب بالقاهر المنتقم من أعداء دين الله، وضرب ذلك على الدَّراهم والدنانير وآلات الحرب، وأمر ألا يركبَ أحدٌ في طَيَّار سوى الوزير، والحاجب، والقاضي، وعيسى المُتَطبِّب. قال الصوفي: حدثني الرَّاضي بالله وهو خليفة قال: كنتُ مُعْتَقَلًا عند المَقهور -يعني القاهر- فبعث إليَّ برأس مؤنس وبليق وابنه علي كالمُتَهدِّد لي، وكان قد أخذ أبا أحمد بن المُكتفي، فأقدمه في باب وسدَّ عليه، وأراد أن يُعلمني أنِّي عنده مثلُهم، فقلتُ ¬

_ (¬1) الإكاف: البَرْذَعة، وهي للحمير والبغال كالسرج للفرس. (¬2) الروشن: الشرفة.

ليس إلا مُغالطتُه، فدعوتُ له وقلتُ: أنا المَسعود بمقتل مؤنس؛ لأنَّه قتل أبي، وقطع عني كلَّ سَبب كان بيني وبينه، فسكت عني، وما كنتُ أنام الليل خوفًا منه لا يَسُدُّ عليَّ كما سَدَّ على ابن المكتفي، فرأيتُ في المنام قائلًا يقول: ستنجو، فطاب قلبي. وفيها خلع القاهر على أحمد بن كَيْغَلَغ وقلَّده أعمال مصر. وفيها استحضر القاهرُ إلى داره أعيانَ أهل بغداد على يد سَلامة الحاجب والوزير أبي جعفر، مثل: سليمان بن الحسن، والفضل بن جعفر، وأبي القاسم الكَلْوَذاني، وأبي العباس الخَصيبي، وأبي يوسف عبد الرحمن بن محمَّد، والقاضي أبي الحسين عمر بن محمَّد، والحسن بن عبد الله بن أبي الشَّوارب القاضي، وأبي طالب بن البهلول القاضي، والعدول من الجانبين، فاستُحلِفوا بالأيمان المُغَلَّظة على أنَّه ليس عند واحدٍ منهم محمَّد بن علي بن مُقْلَة، ولا أحدٌ من أسبابه وكتَّابه وإخوته وأولاده، ولا الحسن بن هارون، ولا أحمد بن قرابة (¬1)، ولا مال عندهم ولا وديعة، ومتى ظهر عند أحدهم شيءٌ من ذلك فقد حلَّ لأمير المؤمنين مالُه ودمُه، واستحقَّ من العقوبات أغلظَها، وكتب القاضي أبو الحسين عمر بن محمَّد النسخةَ وأخذ خطوطَهم فيها، ثم حلفوا وأطلقوا، واستحلفهم ثانيًا وأكَّد الأيمان. وفيها أمر القاهر بتحريم القِيان والخمر وسائر الأنبِذة، وقبض على المغنِّين، ونفى المَخانيث، وكسر آلات اللَّهو، وقبض على جماعةٍ من الجَواري المملوكات المغنِّيات، وتقدَّم ببيعهن على أنهن سَواذِج (¬2)، ومنع أصحابَ قُدور النَّاطِف (¬3) أن يُعيروا قدورَهم لمَن يَطبخ فيها التمرَ والزَّبيب للأنبذة، وكان مع ذلك يشرب المَطبوخ والسُّلاف، ولا يكاد يَصحو من السُّكر، ويختار من الجواري القِيان المُغَنِّيات ما يريد، ويَسمع غناءهنَّ. ¬

_ (¬1) كذا سماه الصولي (132) (ما لم ينشر من الأوراق)، والقرطبي في صلة الطبري 99، وسماه ابن الأثير في الكامل 8/ 491: محمَّد بن أحمد بن قرابة. (¬2) في الكامل 8/ 273: على أنهن سواذج لا يعرفن الغناء، ثم وضع من يشتري له كل حاذقة في صنعة الغناء، فاشترى منهن ما أراد بأرخص الأثمان. (¬3) نوع من الحلوى يصنع من اللوز والجوز والفستق.

أحمد بن محمد

وفيها حبس القاهر أبا عبد الله محمَّد بن عَبْدوس الجَهْشَياري صاحب كتاب "الوزراء"، اتَّهمه بابن مُقْلَة، ثم أطلقه. وفيها عزل القاهر أبا جعفر بن القاسم من الوزارة، واستوزر أبا العباس الخَصيبي، وسببه أنَّ عيسى المُتَطبِّب كان مُنحرفًا عن أبي جعفر لأنَّه كان غائبًا بالموصل لمَّا وَلي، فلم يكن له مَدخلٌ في وزارته، فطعن علي هذا الرأي، وقَلَّت النَّفقات والغَلَّة، فأشار عيسى على القاهر بتقليد الخصيبي، وأنَّه يستخرج الأموال من اليَزيديِّين ومن القاسم، فاستوزره، فكانت مدة وزارة محمَّد بن القاسم للقاهر ثلاثة أشهر واثني عشر يومًا (¬1). وحجَّ بالناس مؤنس الوَرْقاني، ولم يتعرَّض لهم القِرمطي، وقيل: لم يحجَّ أحدٌ خوفًا منه. [فصل: ] وفيها توفي أحمد بن محمَّد ابن سَلامة (¬2) بن عبد الملك، أبو جعفر، الطَّحاوي، الأزْدي [المصري. وقد ذكره جدي في "المنتظم" فقال: ، ولد سنة تسعٍ وثلاثين ومئتين، وكان ثبتًا فَهْمًا فقيهًا عاقلًا من طَحا] , وطحا مدينة من ديار مصر] (¬3). انتهت إليه رئاسةُ أصحاب أبي حنيفة بمصر، وكان يتفقَّه على مذهب الشافعي، فقرأ على إبراهيم المُزَني يومًا، فقال له المُزَني: والله لا جاء منك شيء، فغضب الطَّحاوي وانتقل إلى حلقة ابن أبي عِمران، وقرأ عليه، وصنَّف "مختصره" على ترتيب كتاب المزني، فمات المزني قبل أن يتم الكتاب، فلمَّا تمَّ قال الطحاوي: يرحمُ الله أبا إبراهيم، لو كان حيًّا لكفَّر عن يمينه. ¬

_ (¬1) من قوله: وهرب محمَّد بن ياقوت إلى ابنه بفارس ... ليس في (ف م 1). (¬2) في (ف م 1): وفيها توفي أبو جعفر الطحاوي واسمه أحمد بن محمَّد بن سلامة. وانظر ترجمته في تاريخ دمشق 2/ 176 (مخطوط)، والسير 15/ 27، وتاريخ الإِسلام 7/ 439. (¬3) ما بين معكوفين من (ف م 1)، وانظر المنتظم 13/ 318.

أحمد بن محمد

وقال الطَّحاوي: أولُ مَن كتبتُ عنه الحديث المزني، وأخذتُ يقول الشافعي، فقدم علينا مصر أحمدُ بن أبي عمران قاضيًا عليها، فصحبتُه، وكان يَتَفقَّه على مذهب الكوفيين، فأخذتُ بقوله وتركتُ قولَ الأول، فرأيتُ المزني في المنام، فقال في: يا أبا جعفر، عَصَيتَ عصيت، ويكرِّرُها. وقال أبو سليمان بن زَبْر (¬1): كان الطحاوي إمامًا عالمًا فاضلًا، وخصوصًا في علم الحديث، والأحكام بالقرآن، والشُّروط، والعقيدة وغيرها، وكل كتاب فريدٍ في فنِّه (¬2). [قال أبو سعيد بن يونس: ] توفي أبو جعفر ليلة الخميس مُستهل ذي القعدة، ولم يُخَلِّف مثلَه (¬3). سمع هارون بن سعيد الأَيلي، والربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى وغيرهم. وروى عنه أبو بكر بن المقرئ، وأبو الحسن الإخْمِيميّ، وأحمد بن القاسم الخَشَّاب وآخرون. واتَّفقوا على فضله، وصدقه، وزهده، وورعه. أحمد بن محمَّد ابن موسى بن النَّضْر بن حَكيم، أبو بكر، البَغداديّ، ويُعرف بابن أبي حامد صاحب بيت المال (¬4). كان جَوادًا، عَزيز المروءة. قال الدارقطني: كان بعض المُتفقِّهة يتردَّد إلى مجلس أبي حامد المرْوَرُّوذي ثم انقطع، فسأل عنه، فلمَّا حضر قال: ما سببُ انقطاعِكَ؟ قال: اشتريتُ جاريةً، ¬

_ (¬1) في (خ): سليمان بن زين، وهو خطأ، وليس في (ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا، والمثبت من تاريخ دمشق 2/ 177، والسير 15/ 29. (¬2) من قوله: انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة ... إلى هنا ليس في (ف م 1). (¬3) في (ف م 1): مستهل ذي القعدة من هذه السنة وكان قد سافر من مصر إلى الشام سنة ثمان وستين ومئتين ولم يخلف مثله. (¬4) تاريخ بغداد 6/ 266، والمنتظم 13/ 318، وتاريخ الإِسلام 7/ 441. وهذه الترجمة ليست في (ف م 1).

تكين الخاصة

وانقطعت عنِّي النَّفقةُ من بلدي، وركبني دينٌ، فاحتجتُ إلى بَيعها فبعتُها، وقد ندمتُ، وشَغلَتْ خاطري، قال: ومَن اشتراها؟ قال: ابن أبي حامد صاحب بيت المال. فقام المَرْوَرُّوذي، فدخل عليه، فأعظم ذلك وأكرمه وقال: ما الذي عنَّاك؟ فقصَّ عليه القصَّةَ، فقال: ما علمتُ بشيءٍ. ثُمَّ قام فدخل على امرأته، فسألها عن الجارية، فأخرجتها وقد ألبسَتْها الثيابَ الفاخرةَ والحُلي وقالت: اشتريتُها لك، فسُرَّ حيث كانت الجارية في داره لأجل قضاء حاجة أبي حامد. ثم أخرج الجارية وقال للشاب: أهي هذه؟ قال: نعم، قال: خذ جاريتَك -وكان قد باعها بثلاثة آلاف درهم- فقال له أبو حامد: لا بُدَّ من قَبْض المال، وإنَّما جئتُ شافعًا في ردِّها لا غير، فقال: هذا رجلٌ غريبٌ وفقيهٌ، وما لاعها إلا من حاجةٍ، ومتى أُخِذ هذا المالُ منه خِيف أن يبيعَها ثانيًا ممَّن لا يردُّها عليه، والثمنُ يكون في ذمَّته، فإذا جاءه من بلده نفقةٌ جاز أن يرُدَّ ذلك، وقد وهبتُ له المال. فقال أبو حامد: فإن رأيتَ أن تَبعثَ مَن يأخذ هذه الثيابَ والحُلي، فقال: سبحان الله، ما أسعفْنا به هذه الجاريةَ ووهبناهُ لها كيف نأخذُه منها؟ فلما أرادوا الخروج قال لها ابن أبي حامد: يا جارية، أيُّما أحبُّ إليك نحن أو مولاك؟ فقالت: أمَّا أنتم فأحسن الله عونَكم، فقد أحسنتم إليَّ وأغنيتموني، وأمَّا مولاي هذا، فلو مَلكتُ منه ما ملك منِّي ما بعتُه بالدنيا وما فيها، فاستحسن الحاضرون منها ذلك العقل مع ما هي عليه من الصِّبا. سمع خلقًا كثيرًا منهم: عباس الدُّوري وغيره، وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان صدوقًا ثِقة ثَبْتًا، توفي في رمضان. [وفيها توفي] تِكِين الخاصَّة أبو منصور، الخَزَري (¬1)، مولى المُعْتَضِد. ¬

_ (¬1) في (ف م 1): الجزيري، وهو خطأ، والمثبت من (خ)، وانظر ترجمته في: ولاة مصر للكندي 286، 293، 298، وتاريخ دمشق 3/ 518 (مخطوط)، والإكمال لابن ماكولا 1/ 511، والسير 14/ 223 و 15/ 95، وتاريخ الإِسلام 7/ 442، والمقفّى للمقريزي 2/ 601.

شغب أم المقتدر

[قال الحافظ ابن عساكر: ] ولاه المقتدر دمشقَ ومصرَ، وأقرَّه القاهر عليهما. وكان جبَّارًا، وهو الذي أخرج (¬1) أبا الحسن الدِّينَوَري من مصر إلى القُدس. ومات تكين [في هذه السنة] بمصر، فحُمل في تابوت إلى القدس على بغل، فعاد الدِّينوري على ذلك البغل إلى مصر، وسنذكر القصة في سنة ثلاثين وثلاث مئة إن شاء الله تعالى. حدَّث تكين عن القاضي يوسف بن يعقوب وغيره (¬2). [فصل: وفيها توفيت] شَغَب أمُّ المقتدر (¬3) كانت دَيِّنةً صالحةً متصدِّقةً، يرتفع لها في كلِّ عام من مَغَلِّها ألف ألف دينار فتتصدق بها، وتُخرج من عندها مثلَها. وكانت تُعين الحاجَّ، وتبعثُ معهم بالأشربة والأطباء (¬4)، ومَن يُصلح الحياضَ والبِرَك. مرضت قبل أن يُقتل المقتدرُ، وأُخبِرت (¬5) بأنَّه قُتل ولم يُدفَن، فجزعَت جزعًا شديدًا، وامتنعت من الأكل والشرب حتى كادت تَتْلَف، ثم ما زالوا بها حتى أكلت كِسْرةً بملح. ثم دعاها القاهر فقرَّرها باللُّطف والتَّهديد، فحلفت أنَّه لا مال عندها, ولو كان عندها مالٌ لما أسلمت ولدها إلى القتل، فضربها بيده، وعلَّقها برِجل واحدةٍ في حبل البرَّادة وهي تقول له: اتَّق الله، أنا أمُّك في كتاب الله تعالى، وأنا خَلَّصْتُكَ من القتل وأحسنتُ إليك، وهو لا يَلتفتُ. ¬

_ (¬1) في (ف م 1): أخذ. (¬2) بعدها في (ف م 1): رجعنا إلى الحديث في ذكر ابن مقلة لما أن احترقت داره ولمن يكتب بعث شعرًا العراق (كذا؟ )، فكتب على حائطها أبيات: قل لابن مقلة ... وقد سلف هذا كله في حوادث سنة (318 هـ). (¬3) صلة الطبري 155، وتكملته 274، والمنتظم 13/ 321، والكامل 8/ 245، وتاريخ الإسلام 7/ 405. (¬4) في (خ): وتبعث معهم مالًا والأطباء، والمثبت من (ف م 1). (¬5) في (ف م 1): يقتل ابنها ثم أخبرت.

عبد السلام بن محمد

ثم أُخرجَت إلى دار ابن ياقوت، فأقامت بعد ابنها سبعة أشهر وثمانية أيامٍ، ثم ماتت في جُمادى الأولى، وقيل: إنها ماتت في العذاب مُعلَّقةً برجلها [، والأول أصح، ذكره ثابت بن سنان، وقد ذكرناه]، ودُفنت في تربتها بالرُّصافة، ولم يظهر لها غير ما أقرَّت به، وهو مئةٌ وثلاثون ألف دينار. وذكرها القاضي علي بن المحسِّن التنوخي، فحكى عن أبيه قال: عذَّبها (¬1) القاهر بصنوف العذاب، حتى قيل: إنَّه عَلَّقها مُنَكَّسةً، فكان يجري بولُها على [وجهها] , فقالت: لو كان معنا مالٌ ما جَرى في أمرنا من الخَلَل ما آل إلى جلوسك، حتى تُعاقبني هذه العقوبة، وأنا أمُّك، وخَلَّصْتُك من ابني من القتل في الدَّفْعَة الأولى. ثم أحضر القضاة والشهود ليشهدوا عليها في بيع أملاكها، فتوقَّفوا، فقال: ما لكم؟ قالوا: نريد أن نُشاهدَها ونَسمع كلامها، فقال: دونكم، قالوا: سمعْنا من وراء السِّتارة بكاءً [شديدًا] ونَحيبًا، ثم رُفعَت الستارة فقلنا هي هذه؟ فقال القاهر: نعم، هذه شغب مولاةُ أبي وأمُّ أخي. وإذا هي عَجوزٌ دَقيقةٌ سَمراءُ، عليها أثر الضُّرِّ والبَلاء، فما انتفعوا بعَيشهم في ذلك اليوم. وقد ذكرنا [فيما تقدَّم] أنَّها امتنعت من الإشهاد وقالت: هذه أوقفتُها لله تعالى فلا أرجع فيها، وأن القاهر باع ضياعها مُكْرَهةً (¬2). عبد السَّلام بن محمَّد ابن عبد الوهاب بن سَلَام بن خالد بن حُمْران بن أبيان، مولى عثمان - رضي الله عنه -، أبو هاشم بن أبي علي رئيس المُعتزلة (¬3). ¬

_ (¬1) في (خ): وقال المحسن التنوخي: عذبها، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في نشوار المحاضرة 2/ 76، وعنه المنتظم 13/ 321. (¬2) في سنة (320 هـ). وجاء عقب هذا في (ف م 1): وشغب أم المقتدر ماتت في هذه السنة والله أعلم. السنة الثانية والعشرون وثلاث مئة. (¬3) تاريخ بغداد 12/ 327، والمنتظم 13/ 329، وتاريخ الإِسلام 7/ 444، والسير 13/ 63.

محمد بن الحسن

ولد سنة تسعٍ وأربعين ومئتين، وصنَّف المقالات على مذهب المعتزلة، وتوفي في شعبان وله اثنان وسبعون سنة وثمانية أشهرٍ وأيام (¬1). محمَّد بن الحسن ابن دُرَيد بن عَتاهيه، أبو بكر، الأزديّ، النَّحْوي، اللُّغوي، البَصري، ونسبه الخطيب إلى قَحْطان (¬2). ولد بالبصرة في سِكَّة صالح سنة ثلاث وعشرين ومئتين، وكان يقول: جدِّي حَمامي (¬3) أولُ مَن أسلم من أجدادي، وهو من السَّبعين راكبًا الذين خرجوا من اليمن (¬4) مع عمرو بن العاص لمَّا بلغه وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أوصلوه إلى المدينة، وفي ذلك يقول [قائلهم]: [من الطويل] وَفَيْنا لعمرٍو يومَ عمر وكأنَّه ... طَريدٌ نَفَتْهُ مَذْحِجٌ والسَّكاسِكُ (¬5) ونشأ ابن دُريد بعُمان، وتنقَّل في جزائر البحر، والبصرة، وفارس، وطلب الأدب، وتعلَّم النحو والعربية وبرع فيهما. وكان أبوه من الرؤساء ذوي اليسار، وقدم بغداد بعد ما أسنَّ فأقام بها باقي عمره. وصَنَّف الكتُب الحِسان: "الجمهرة" و"المقصورة" و"المجتبى" و"الممدود والمقصور" وغير ذلك، وقال الشِّعرَ، وصنَّف في الأنساب وأيام الناس. وكان يقال: ابن دريد أعلمُ الناس والشعراء العلماء (¬6). ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد والمنتظم: أنه توفي وكان عمره ستًّا وأربعين سنة وثمانية أشهر وأيامًا. (¬2) في تاريخه 2/ 594، وانظر ترجمته في مروج الذهب 8/ 304، وتكملة الطبري 278، والمنتظم 13/ 329، ومعجم الأدباء 18/ 127، وتاريخ الإِسلام 7/ 446، والسير 15/ 96 وفي حواشيه مصادر أخرى. (¬3) هو جده الخامس، فهو محمَّد بن دريد بن عتاهية بن حنتم بن الحسن بن حمامي. (¬4) كذا في (خ) وهو خطأ، وفي تاريخ بغداد 2/ 595، ومعجم الأدباء 18/ 129، وإنباه الرواة 3/ 93، والإصابة (حمامي)، وتوضيح المشتبه 3/ 302: عُمان. (¬5) ما بين معكوفين من تاريخ بغداد، ومعجم الأدباء. (¬6) في تاريخ بغداد 2/ 595 وعنه سائر المصادر: أعلم الشعراء وأشعر العلماء.

وحكى السِّيرافي عنه أنَّه قال: نزلتُ سيراف، فوجدتُ الجهلَ غالبًا عليهم، فكنتُ أجلس في الجامع ساكتًا لا يُكلِّمني أحدٌ ولا أُكلِّمه، فعملتُ هذه الأبيات، وكتبتُها في رُقعة، وألصقتُها بالأسطوانة التي كنت أقعُد عندها وهي هذه: [من البسيط] قالوا نَراك تُطيلُ الصَّمْتَ قلت لهم ... ما طولُ صمْتيَ من عِيٍّ ولا خَرَسِ لكنه أجْمَلُ الأمرَين مَنزلةً ... عندي وأحسنُ لي من مَنْطِقٍ شَكِسِ قالوا نَراك أديبًا لستَ ذا خَطَلٍ ... فقلت هاتوا أروني وجْهَ مُقْتَبِسِ لو شئتُ قلتُ ولكن لا أرى أحدًا ... يَروي الكلامَ فأُعطيه مَدى النَّفَسِ أَأَنْثُرُ الدُّرَّ فيمن ليس يَعرفه ... وأَنْشُرُ البَزَّ بين العُمْي في الغَلَسِ (¬1) ذكر وفاته: توفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان، فلمَّا خرجت جنازتُه إذا بجنازة أبي هاشم الجُبَّائي رئيس المُعْتَزلة، فقال الناس: اليوم مات علم العربية وعلم الكلام، ودُفنا جميعًا في مقابر الخَيزُران في يوم مَطير، ولم يعلم بموته أكثر الناس، وكنا جُمَيِّعَةً في الجنازة (¬2)، فبينا نحن ندفنه وإذا بجنازةٍ أخرى معها جُمَيِّعة عرفتُهم بالأدب، فسألتُ عنها فقيل: هذه جنازة ابن دُرَيد، فذكرتُ حديثَ الرَّشيد لمَّا دفن محمَّد بن الحسن والكسائي بالرَّي في يوم واحدٍ، فأخبرتُ أصحابنا، فبَكَينا على العربية والكلام طويلًا، ثم افترقنا. حدَّث ابن دريد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، وأبي حاتم، والرِّياشي وغيرهم، وروى عنه أبو سعيد السِّيرافي، وأبو عبيد الله المَرْزُباني، وأبو بكر بن شاذان وآخرون. وقال محمَّد بن أحمد الكاتب: كان ابن دُريد يَتَشوَّق إلى بغداد، فلمَّا قدمها لم تُعجبْه قواعدُها فقال: [من الطويل] سمعتُ بذِكْر النَّاسِ هندًا فلم أزل ... أخا صَبْوَةٍ حتى نظرتُ إلى هند ¬

_ (¬1) انظر معجم الأدباء 16/ 205. (¬2) القائل: وكنا جميعة في الجنازة؛ هو راوي الخبر: الحسن بن سهل القاضي، كما في تاريخ بغداد 12/ 328، وعنه المنتظم 13/ 331، وقد اختصر هنا وأغفل اسمه.

فلمَّا أراني الله هندًا وزُرْتُها ... تَمنَّيتُ أنْ أزدادَ بُعدًا على بُعدِ (¬1) ووُصِفَت له خُراسان فكان يتمنَّى أن يراها، فلمَّا رآها قال: [من الوافر] تَمَنَّينا خُراسانَ زمانًا ... فلم نُعْطَ المُنى والصَّبرَ عنها فلمَّا أن حَلَلْناها زمانًا ... رأيناها بحَذْف النِّصفِ منها (¬2) وروى ابنُ دريد، عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمِّه قال: كان أسيرٌ في بكر بن وائل فقال: ما في مُقامي عندكم فائدةٌ، فاندبوا لي رجلًا أُرسله إلى أهلي لعلهم يفادونني، فقالوا: لا يكون ذلك إلا بحَضْرتنا -وكانوا قد أزْمَعوا غَزْوَ قومه- فخافوا أن يُنذِرَهم، فجاؤوا بعبدٍ أسود، فقال له: أتعقِل؟ قال: نعم، فقال: ما هذا؟ وأشار إلى الليل، فقال: الليل، ثم ملأ كفَّيه من الرَّمْل وقال: كم هذا؟ قال: لا أدري وإنَّه لكثير، فقال: أيُّما أكثر، النُّجوم أو النيران؟ فقال: النجوم، أو كُلٌّ كثير، فقال: أبلغ قومي التَّحيةَ وقيل لهم: إنَّ العَرْفَجَ قد أَدْبَى، وشَكَّت النساء، ومُرْهم أنْ يُعْرُوا ناقتي الحمراء فقد أطالوا رُكوبها، وأن يَركبوا جَمَلي الأصْهَب بآية ما أكلتُ معهم حَيسًا، واسألوا الحارثَ عن خَبري. فجاء العبدُ فأدَّى إليهم الرسالة، فقالوا: قد جُنَّ الأعور (¬3)؛ ما نَعرف له ناقةً حمراء ولا جَمَلًا أصهب. وسَرَّحوا العبد. فدَعَوا بالحارث، وقَصُّوا عليه القصة فقال: ويحَكم قد أنذَرَكم، أمَّا قوله: أتعقل؛ فإنَّما أراد أن يَختبرَه، وأما الليل فيقول: قد جاؤوكم مثل الليل والنُّجوم والرَّمْل والنِّيران، وأما قوله: قد أَدْبى العَرْفَجُ؛ يريد: أنَّ الرجال استَلْأموا الدُّروع (¬4)، وشَكَّت النساء؛ أي: اتَّخَذوا الشِّكاء (¬5) للسَّفَر، وناقتي الحمراء، أي: ارتَحِلوا عن ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا الخبر، والبيتان دون نسبة في المنتخل للميكالي 1/ 515. (¬2) الخبر في الأذكياء لابن الجوزي 192 لشاعر لم يذكر اسمه. (¬3) في (خ): الليل، ولعلها تحريف عن: الأسير، والمثبت من الملاحن لابن دريد 56، وأمالي القالي 1/ 6، والأعور هذا اسمه ناشب بن بَشامة العنبري كما في سمط اللآلي 1/ 21. (¬4) أي: لبسوها. (¬5) أوعية من جلد يوضع فيها الماء واللبن، وتجعل زوادة للمسافر.

الدَّهْناء (¬1)، واركبوا الصَّمَّان وهو الجَمَل الأَصْهب، وأراد بالحَيس: اختِلاط الناس؛ لأنَّه من التَّمْر والسَّمْن والأَقِط، أي: جاؤوكم بالخَلْق الكثير، فارتَحَلوا من ذلك المكان، فصَبَّحهم الجيش. قال ابن دريد: وإنَّما أخذ هذا من قول أسير بني تميم، فإنَّه كتب إلى قومه (¬2): [من البسيط] حُلُّوا عن النَّاقة الحمراءِ أَرْحُلَكم ... والبازِلَ الأَصْهَبَ المَعْقولَ فاصْطَنِعوا إنَّ الذِّئابَ قد اخضَرَّت بَراثِنُها ... والناسُ كلُّهمُ بَكْرٌ إذا شَبِعوا يريد: أن الناس كلهم إذا أخْصَبوا عدوٌّ لكم. قال المصنف رحمةُ الله عليه: وقد رُوي عن الأصمعي من غير طريق ابن دريد: أنَّ الأسير هو صاحبُ هذا الشعر وكان من بني تَميم، وأنَّه أنفذ هذه الرسالة إلى قومه مع عبدٍ بغير مَحْضَرٍ من الذين أسروه، وهو الأصحُّ؛ لأنَّ هذا الكلام لا يَخفى أنَّ فيه تحذيرًا لقومه، فكيف معروفه يمليه؟ ! (¬3) وقد تكلَّموا في ابن دريد من حيث الديانة لا من حيث الرواية, قال ابن شاهين: كنَّا إذا دخلنا على ابن دريد نَستحي ممَّا نرى من العيدان المُعَلَّقة والشراب المُرَوَّق، وقد جاوز تسعين سنة. وقال الأزهري: دخلتُ يومًا على ابن دريد فرأيتُه سكران، فلم أعُد إليه. وقال الخطيب: جاءه سائلٌ فقال: ادفَعوا له دَنًّا من نَبيذ، فقيل: الناس يتصدَّقون بالدَّراهم والخُبز وأنت تتصدَّق بالنَّبيذ؟ فقال: ما عندي غيره. وقيل: إنَّه كان يَشربُ المَطْبوخَ المثلَّث على رأي أهل العراق، وهو فصل مجتَهدٌ فيه (¬4). ¬

_ (¬1) موضع ببلاد بني تميم. (¬2) كذا في (خ)؟ وفي الملاحن 57، وأمالي القالي 1/ 7: وأخذ هذا المعنى رجل من بني تميم كان أسيرًا فكتب إلى قومه. (¬3) كذا في (خ)، ولم أتبينها. (¬4) انظر في مسألة شرب المطبوخ قبل الثلاث وبعده: المغني لابن قدامة 12/ 512.

محمد بن موسى

محمد بن موسى أبو بكر، الواسِطيّ (¬1). أصلُه من فَرْغانَة، وهو من أكابر أصحاب الجُنيد والنُّوري. وكان عالمًا بأصول الدين والعلوم الظاهرة، وكلامه بمَرْو؛ لأنَّه خرج من العراق وهو شابٌّ، ومشايخه في حال الحياة. ومن كلامه: ابتُلينا بزمانٍ ليس فيه آدابُ الإسلام، ولا أخلاقُ الجاهلية، ولا أحلامُ ذوي المروءة. وسئل: ما الذي يُزعِج الخَواطرَ في وقت السَّماع؟ فقال: بروقٌ تَلْمَعُ لْم تَخْمُد، وأنوارٌ تبدو ثم تَخْفى، ما أحلاها لو أقامت، ثم أنشد: [من الرمل] خَطَرَتْ في القلب منها خَطْرَةٌ ... خَطْرَةَ البَرْق ابتدى لْم اضْمَحَلّ أيُّ زَوْرٍ لك لو حقًّا سَرى ... ومُلمٍّ بك لو حقًّا نَزَلْ (¬2) وقال: الوقايَةُ للأشباح، والرِّعايَةُ للأرواح. وقال: الناس ثلاث طبقات؛ فالطبقة الأولى مَنَّ الله عليهم بالهِداية، فهم معصومون من النِّفاق، والثانية منَّ الله عليهم بأنوار العناية، [فهم مَعصومون من الصغائر والكبائر، والطبقة الثالثة مَنَّ الله عليهم بالكفاية، فهم معصومون من الخَواطر الفاسدة وحركات أهل الغَفْلَة (¬3). وقال: إذا غَلَب الحقُّ على السَّرائر لم يَبْق فيها فَضْلَة لرجاء. وسئل عن قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فقال: لأنَّه جاد بالكونيين، واكتفى بالمُكَوِّن. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 10/ 349، طبقات الصوفية 302، الرسالة القشيرية 104، المنتظم 13/ 331، مناقب الأبرار 1/ 495، تاريخ الإِسلام 7/ 617. (¬2) مناقب الأبرار 1/ 496، والبيتان للبحتري، وهما في ديوانه 3/ 1711 من قصيدة عدتها (40) بيتًا. (¬3) طبقات الصوفية 306، ومناقب الأبرار 1/ 498 وما بين معكوفين منهما.

مؤنس الخادم مولى المعتضد

وسئل أن يدعو فقال: أخشى أن يقال لي: إن سألتَنا ما ليس لك عندنا فقد أَسَأتَ الثَّناء علينا، وإن سألتَنا ما لك عندنا فقد اتَّهَمْتَنا. وأنشد: [من الطويل] ذَرِيني تَجِئْني مِيتَتي مُطمئنَّةً ... ولم أتَجَشَّم هَوْلَ تلك المَوارِدِ فإنَّ عُلَيَّات الأمور مَنُوطَةٌ ... بمُسْتَودَعاتٍ في بُطون الأساودِ (¬1) وقال: مَن أراد مَسْلَك السَّلامة فلْيَتَباعَد عن مَوارِد الأهوال. وخرج يومًا إلى الجمعة فانْقَطَع شِسْعُ نَعْله، فعاد إلى بيته واغتسل غُسل الجمعة، ولم يكن اغتسل قبل الخروج وقال: إنَّما انقطع شِسْعُ نعلي لأنِّي ما اغتسلتُ. مُؤنِس الخادم مولى المُعْتَضد كان شُجاعًا فاتكًا، ولم يَحضُر بيعةَ المقتدر، كان المعتضد قد تَخَيَّل منه، فأبعده إلى مكة، فلمَّا بويع المقتدر أحضره وفوَّض إليه الأمور، وكان هذا أولَ ما نَقضَ المقتدرُ من قواعد أبيه، فأثمرت مخالفتُه أنَّ مؤنسًا استَدَلَّ عليه وقتله، وكان عزمُه أن يقتلَ القاهر؛ فإنَّه بعث إليه يقول: قد ظَفِرنا بخُوارِزم، والمَصْلَحة أن تَحْضُرَ لترى فيها رأيك (¬2)، فاغترَّ ولم يظنَّ أنَّ القاهر يُقدِم على قتله، فجاء إلى دار الخلافة وقد ضرب له القاهر في الدَّهاليز أقوامًا، فعدلوا به إلى بعض الحُجَريّة وقتلوه، وعاش تسعين سنةً؛ منها ستون أميرًا مُطاعًا يَنفُذ أمره كما ينفذ أمر الله إلى أن قُتل. ¬

_ (¬1) ورد هذان البيتان في طبقات الصوفية 305، ومناقب الأبرار 1/ 497 بعد القول الآتي. وهما للعَتَّابي كلثوم بن عمرو في الأغاني 13/ 123، والعقد الفريد 3/ 208 وغيرهما كثير. (¬2) كذا وردت هذه العبارة في (خ)، ولم أتبين المراد منها، وقد سلف في أول السنة أن مؤنسًا وبليقًا وابنه عليًّا والوزير ابن مقلة عزموا على الفتك بالقاهر، فكشف أمرهم، وقبض القاهر على بليق وابنه، وهرب ابن مقلة، ثم أرسل إلى مؤنس ليرى رأيه، فاعتذر مؤنس بثقل حركته، فلم يزل به حتى استقدمه إلى دار الخلافة، ثم ذبحه كما سلف. وانظر في ترجمة مؤنس: تاريخ دمشق 17/ 433، والسير 15/ 56، وتاريخ الإِسلام 7/ 451.

[أبو] جعفر المجذوم

[أبو] جعفر المَجْذوم (¬1) كان مُعتزلًا للعالم، وهو من أقران أبي العباس بن عَطاء. قال لي (¬2) أبو الحسين الدَّرَّاج: كنتُ أحجُّ فيَصْحَبُني جماعةٌ، فكنتُ أحتاجُ إلى القيام معهم والاشتغال بهم، فخرجتُ في بعض السنين إلى القادِسيَّة، فدخلتُ المسجدَ فإذا رجلٌ في المِحراب مَجْذومٌ، وعليه من النبلاء شيءٌ عظيمٌ، فسلَّم عليَّ وقال لي: يا أبا الحسين، عَزَمتَ على الحجِّ؟ قلتُ: نعم، على غَيظٍ وكراهيةٍ له، فقال: فالصُّحْبة؟ فقلتُ في نفسي: هَربتُ من الأَصِحَّاء أقعُ في أيدي المُجَذَّمين! فقلتُ: لا والله، فقال: يا أبا الحسين، يَصنَعُ الله للضَّعيف حتى يَعجَبَ القويُّ، فقلت: نعم، على الإنكار عليه. وخرجتُ أمشي، فأتيتُ المُغِيثَة بعد يوم وليلة، وإذا به قد سبقني فقال: يصنع الله للضعيف حتى يعجب القوي. ثم سِرْنا، وإذا به سَبَقَنا إلى النَّاطِف (¬3)، فأتيتُه في بعض المنازل، فاعتذرتُ إليه وقلتُ: الصُّحبة، فقال: ما نُحْنِثُكَ في يمينك. وقدمتُ مكة، فاجتمعتُ بأبي بكر الكتَّاني وأبي الحسن المزيِّن وجماعة، فذكرتُ لهم حديثَه فقالوا: يا أحمق، ذاك أبو جعفر المجذوم، ونحن نسألُ الله أن نراه، فإن رأيتَه فتعلَّق به لعلَّنا نراه، قلتُ: نعم. وخرجنا إلى عرفات فلم أره، فبينا أنا أرمي الجِمار جَذَبني إنسان من ورائي وقال: السَّلام عليك يا أبا الحسين، فالتفتُّ فإذا به، فلَحِقَني من رؤيته شيءٌ عظيم، وغُشِيَ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 596، والمنتظم 13/ 332 وما بين معكوفين منهما، وحلية الأولياء 10/ 333، وصفة الصفوة 2/ 463. (¬2) القائل هو محمَّد بن خفيف كما في المصادر. (¬3) كذا في (خ)؟ ! وفي المصادر: القَرْعاء، وهو منزل في طريق مكة من الكوفة بعد المغيثة، وبين المغيئة والقرعاء: الزبيدية ومسجد سعد والخبراء. انظر معجم البلدان 4/ 325. وثمة مكان يقال له: قُسّ الناطف قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي كانت عنده وقعة بين المسلمين والفرس. انظر معجم البلدان 4/ 349، والروض المعطار 480، وتاج العروس 16/ 374.

عليَّ، وذهب عنِّي، وأتيتُ مسجد الخَيف، فأخبرتُ أصحابنا، فلمَّا كان يوم الوداع صلَّيتُ خلف المقام ركعتين، وإذا بإنسان قد جَذَبني، فالتفتُّ فإذا به فقال: يا أبا الحسين، عزمتَ على أن تصيح؟ قلت: لا، أسألك أن تدعو لي، قال: فأسأل ما شئت، فسألتُ الله ثلاث دعواتٍ، فأمَّن على دُعائي، وغاب عنِّي فلم أره. فقيل له: ما كانت الأدعية؟ قال: قلت: يا ربّ، حَبِّب إليَّ الفقرَ فليس شيءٌ أحبَّ إليَّ منه، وقلت: اللهم لا تجعلْني أبيتُ ليلةً ولي شيءٌ أَدَّخِرُه، وها أنا منذ كذا وكذا ما لي شيءٌ أَدَّخِره، وقلت: اللهم إذا أَذِنتَ لأوليائك أن ينظروا إليك فاجعلني منهم، وأنا أرجو ذلك.

السنة الثانية والعشرون وثلاث مئة

السنة الثانية والعشرون وثلاث مئة فيها ظَهرَت الدَّيلَم؛ وذلك لأنَّ أصحاب مرداويج دخلوا أصبهان، وكان علي بن بُوَيْه من جُملة قُوَّاد مَرداويج، فاقتطع مالًا جليلًا، وانفرد عن مرداويج، والتقى ابن ياقوت فهزمه، واستولى على فارس وأعمالها. وكان بُوَيه فقيرًا جدًّا لا يُؤبَه له، فرأى في المنام كأنَّه بال فخرج من ذَكَره عمود من نار، ثم تَشعَّب يَمْنةً وَشرة وأمامًا وخَلْفًا، حتى ملأ الدنيا وألهب، فقصَّ رؤياه على مُعَبِّر فقال: ما أُعَبِّرها إلا بألف درهم، فقال: والله ما رأيتُها قطُّ ولا عشرها، وإنَّما أنا صَيَّاد أصيد السمك، ثم مضى وصاد سمكةً فأعطاه إيَّاها ووَعَده بخير، فقال له المُعَبِّر: ألك أولاد؟ قال: نعم. قال: أبْشِر فإنَّهم يَملكون الدنيا، ويَبلُغ سُلطانهم فيها على قَدْر ما احتوت النار التي رأيتَها، فقال له: ويحَك أنا ومُلْك الدنيا من أين؟ ! لقد أخذتَ السَّمكةَ حَرامًا، وكان معه أولادُه الثلاثة: علي والحسن وأحمد، فعليٌّ أول ما بقل عارِضُه (¬1)، والحسن دونه، وأحمد دونه. ثم مضت السَّنوات، ونَسي بويه المنام، وخرج بولده إلى خُراسان، وكان أحمد يحتطبُ على رأسه، وصار عليٌّ من قُوَّاد مرداويج بن زيار، فأرسله إلى الكَرَج يَستخرج له مالًا، فاستخرج خمسَ مئة ألف درهم، ثم استوحش من مرداويج فأخذ المال وأتى هَمَذان، فغَلَّق أهلُها الأبواب في وجهه، فقاتلهم، ففتحها عَنوةً، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، ثم صار إلى أصْبَهان وبها المظفَّر بن ياقوت، فلم يُحاربه، وخرج منها إلى أبيه بشِيراز، ثم صار علي إلى أَرَّجان فاستخرج منها مالًا عظيمًا، ثم تنقل إلى البلاد، وانضَمَّ إليه خلقٌ كثير، وصار معه خمسُ مئة ألف دينار، فجاء إلى شيراز وبها ياقوت، فخرج إليه في بِضْعَةَ عشر ألفًا من الفُرسان والرَّجَّالة، وكان علي في ألف رجل، فهابَه علي هَيبةً شديدةً، وسأله أن يُفْرِجَ له عن الطريق لينصرفَ حيث شاء، فأبى ياقوت وطَمِع في ماله، فسار علي بين يديه إلى البَيضاء عن إصْطَخْر يومين، والتقَوا، فظهر ¬

_ (¬1) أول ما نبت شعر خدّه.

عليه ياقوت أول يوم، وفي الثاني ظهر عليٌّ، فعاد ياقوت إلى شيراز وعلي خلفه، وخرج منها ودخلها عليٌّ. ثم إنَّه ضاق ما بيده، وأشرف [أمره] على الانحلال (¬1)، فنام يومًا على ظهره، وإذا بحَيَّةٍ خرجت من سَقْف البيت فدخلت مَوضِعًا آخر، فأمر بنَقْض السقف، فنُقِض، فخرجت صناديق فيها أموالٌ، ففرَّقها في أصحابه واستقام أمرُه. ثم ضاق ما بيده، فطلب خَيَّاطًا يَخيطُ له ثيابًا، وكان الخياط أطْرَشًا، فظنَّ أنَّه قد سُعي به إليه فقال: والله ما عندي شيءٌ سوى اثني عشر صندوقًا لا أدري ما فيها، فأمر بإحضارها، فوجد فيها مالًا عظيمًا، ففرَّقه في أصحابه. ثم ركب يومًا يدور حول شيراز، فنَزلت قَوائمُ فَرَسه في مكان، فحفروه فوجدوا فيه أموالًا كثيرةً. فأقام بشيراز، واستولى على البلاد، وخرجت خُراسان وفارس وكَرْمان وتلك النواحي عن حُكم الخلافة، ولقَّب المُسْتَكْفي (¬2) عليًّا بعماد الدولة، وكَناه بأبي شُجاع، وكان يُكنى أبا الحسن، ولقَّب الحسنَ رُكْنَ الدولة، وأحمدَ مُعِزَّ الدولة، وملكوا الدنيا. وقيل: إنهم كانوا يُنسَبون إلى سابور ذي الأكتاف (¬3). وفيها قدم مؤنس الوَرْقاني بالحاجِّ إلى بغداد سالمين من القِرمطيّ، ودخل على االقاهرة فشكره. وفي صفر قبض القاهر على خاطف خالة المقتدر، وعلى أبي العباس بن المقتدر وأمِّه، وحبسهم عند سابور، ثم تتبَّع أولاد المقتدر وأمَّهاتهم فاعتقلهم. وفيها قتل القاهرُ أبا السَّرايا نصرَ بن حَمدان وإسحاق بن إسماعيل النُّوبَخْتي، وهو الذي أشار على مؤنس بخلافة القاهر، فلمَّا كان يوم الخميس لليلةٍ خلت من ربيع الأول استحضر القاهر إسحاق وطالبه بمال، فقال: والله ما عندي مال، فأمر بضربه بين يديه. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من الكامل 8/ 276. (¬2) بعد أن تولّى الخلافة. (¬3) من أول السنة إلى هنا ليس في (ف م 1).

قال ثابت: وحدثني خادمٌ من خدم القاهر أنَّه أمر أن يُرمى في بئر في دار الخلافة، فأُرمي فيها على رأسه وهو حيٌّ مُقيَّد، ثم أمر بإحضار أبي السَّرايا، فألقاه على جهة رأسه في تلك البئر، وما زال أبو السَّرايا يَتضرَّع إليه ويسأله العفو، فلم يلتفت إليه، فتعلَّق بسَعَفَةٍ في نَخْلة كانت بالقرب من البئر، فأمر بضرب يده، فقُطعت، ووقع في البئر، وأمر بطَمِّها. قال الخادم: فطَرحنا فيها التُّراب إلى أن امتلأت والقاهر واقفٌ، فلمَّا كان من الغد جاء فوقف على رأس البئر، وأمر بإخراجهما، فرَفَعْنا التراب وأخرجناهما ميِّتين، فأمر بإعادتهما في البئر والطَّمِّ عليهما، ففعلنا، وكان ذنبهما أنَّهما زايدا القاهر قبل خلافته في جاريتين واشترياهما، فحقد عليهما. قال ثابت: سبحان الله، ما أعجب أمر المقادير، أراد مؤنسٌ بالخلافة أبا العباس بن المقتدر، فما زال إسحاق به يعني [حتى] عدل إلى القاهر، وهو لا يعلم أنَّه قاتلُه، وأنَّه يسعى في حتف نفسه؛ ليتمَّ الأمرُ المَقدور. ومات مؤنس الوَرْقاني الذي حجَّ بالناس. ذكر استيحاش الحُجَرية والسَّاجِيَّة من القاهر: قال ثابت: كان أبو علي بن مُقْلَة في استتاره من القاهر يُراسل السَّاجِيّةَ والحُجَريّةَ، ويُضْرِيْهم على القاهر، ويُوحِشُهم منه، وكذا الحسن بن هارون كاتب بليق، وكان الحسن يخرج بالليل في زِيِّ المُكَدِّيين ومعه زِنْبِيل (¬1)، وتارة في زِيِّ النساء، إلى أن جمع كلمتَهم على الفَتْك بالقاهر، وكان يقول لهم: قد بنى لكم المَطاميرَ ليَحْبسكم فيها. واحتال الحسن من جهة مُنجِّم لسيما المناخلي، وكان سيما شديدَ الثِّقة به والقَبول منه، فكان يُلقِّن المُنجِّمَ بما يقوله لسيما ويقول: خَوِّفه من القاهر، وأعطى المنجمَ دنانيرَ كثيرة، فكان المنجم يقول لسيما: إنَّه يقبض عليك في الوقت الفلاني. ¬

_ (¬1) في زي السؤَّال والشحاذين ومعه القُفَّة.

فلمَّا كان يوم الاثنين لأربعٍ بقين من ربيع الآخر وقع بين الغِلمان الحُجَرية والسَّاجيَّة خلاف: بلغ الساجية أنَّ القاهر يريد أن يقتل سيما المناخلي -وهو رئيس قُوَّاد [الساجية] (¬1) - فخرج سيما إلى داره، واجتمع إليه الساجية، وتحالفوا وتعاقدوا على الفَتْك بالقاهر، واجتمعوا إلى دار السلطان وقالوا: قد بلغَنا أنَّ القاهر قد بنى لنا مطامير ليَحتَبِسَنا فيها، فدخل سَلامَة الطُّولوني الحاجبُ فأخبر القاهر، فحلف بالله أنَّه ما فعل ذلك، وإنَّما هذه حَمَّامات رومية للحرم، وحضر الوزير الخَصيبي وعيسى المُتطَبِّب عند القاهر، فقال القاهر لسلامة: اخرُج إليهم واحلِفْ لهم على بُطلان ما بلغهم، فحلف لهم فسكتوا في ذلك اليوم، ثم غَدَوا على حالهم إلى دار القاهر، فقال الخَصيبي لعيسى: ادخل إليه وعرِّفه الخبر ليحترز، فجاء عيسى فوجده نائمًا سَكران، وكان قد شرب إلى أن طلعت الشمس، فاجتهد أن يُنبِّهه فلم ينتبه لشدَّة سُكره. وكانت الحجرية والساجية قد اجتمعوا على سيما وأنَّه رأس الجميع، فقال لهم: إن كنتم عَزمتُم على شيءٍ فقوموا الساعةَ حتى نُمضي الأمر، فقالوا: نصير إلى غدٍ فإنَّه يوم مَوكب يجلس للسَّلام فنقبضه، فقال: إن تفرَّقتُم الساعةَ اتَّصل به الخبر فأهلكنا كلَّنا، فصَوَّبوا رأيَه، ورجعوا إلى دار السُّلطان، ووكَّلوا الرجال بأبوابها، وهرب الوزير الخَصيبي في زِيِّ امرأةٍ وخرج من الدار، ودخلوا على القاهر فأفاقَ من سُكره، وهرب إلى سطح حمَّامٍ في دار الحرم فاستتر فيه. ودخلوا مَجلسَ القاهر وفيه عيسى المتطبب وزَيرك الخادم واختيار القَهْرَمانة، فسألوهم عنه فقالوا: ما نعرف له خبرًا، فوُكِّل بهم، ووقع في أيديهم خادمٌ له، فضربوه ضربًا مُبَرِّحًا، فدلَّهم عليه، فجاؤوا وإذا به على سطح الحمَّام، وبيده سيفٌ مسلول، فقالوا: انزل فامتنع، فقالوا: نحن عَبيدُك فلمَ تستوحش منَّا؟ فلم ينزل، ففَوَّق واحدٌ منهم سهمًا وقال: انزل وإلا قتلتُك، فنزل إليهم، فقبضوا عليه، وذلك ضَحوةَ نهار يوم الأربعاء لستٍّ خلون من جمادى الآخرة، وحملوه إلى الحبس الذي فيه طريف السبكري، فكسروا القفلَ وأخرجوه وكسروا قيدَه، وحبسوا القاهر مكانَه، ووكَّلوا بالباب جماعةً. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من الكامل 8/ 279، ومكانها في (خ) بياض، وليست في (ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا.

واستَدلُّوا على الموضع الذي فيه أبو العباس محمد بن المقتدر، وأخرجوه هو ووالدته، وسلَّموا عليه بالخلافة، وأجلسوه على سرير الملك، وبايعه القوَّاد، وطَريف السبكري، وبدر الخَرْشَني، ولقَّبوه الراضي بالله. وأحضر علي بن عيسى، والقاضي أبا الحسين عمر بن محمد، والقاضي أبا محمد الحسن بن عبد الله بن أبي الشَّوارب، والقاضي أبا طالب بن البُهلول، وجماعة من الشُّهود، فدخلوا على القاهر، فقال له طريف السبكري: ما تقول؟ فقال القاهر للقاضي أبي الحسين: ألستَ تعرفُني؟ قال: بلى، قال: أنا محمد أبو منصور بن المُعْتَضد، لي في أعناقكم بَيعةٌ، وفي أعناق سائر أهلي والقواد، ولستُ أُبرئكم منها ولا أُحلُّكم فقوموا، فلمَّا بعُدوا عَدلَ القاضي إلى طريف وقال: وأيُّ شيءٍ كان مَجيئُنا إلى رجل هذا اعتقادُه؟ ثم دخلُوا على عليِّ بن عيسى فأخبروه، فقَطَّب ثم قال: يُخلَع ولا يفكَّر فيه، أفعالُه مَشهورة وأعمالُه مَعروفة، فقال له القاضي: فإيش كان الحاجة إلى اجتماعنا به؟ فنحن لا تقوم بنا الدُّول، وإنَّما نُراد للشهادة وللاستسقاء. قال القاضي أبو الحسين: فدخلتُ على الراضي، وأعدتُ عليه ما جرى سرًّا، وأعلمتُه أنِّي أرى إمامته فَرْضًا، وكنتُ أُفاوض مؤنسًا في ذلك، وأُقوِّي عزمَه فيه لمَّا قُتل المقتدر، وكان رأيُ مؤنس كرأيي حتى عارَضَنا القَدَر، وقد وقع الخطأ من علي بن عيسى حيث جمعنا وإياه، فقال الراضي: انصرف ودعني وإياه. وأشار (¬1) سيما على الراضي سَمْلَ القاهر، فستر ذلك عن علي بن عيسى، وأرسل سيما وطريفًا السبكري إلى البيت الذي فيه القاهر، فكُحِّل بمِسمارٍ مُحَمَّى، ثم ظنَّ أنَّه لم يستقص عليه فأعاد كحله ثانيًا، وذلك بعد أن حضر إلى بين يديه وبايعه. وطلب الراضي من علي بن عيسى أن يتقلَّد الوزارة فقال: ليتقلَّدها أخوك عبد الرحمن، فقال: لا، فقال سيما للراضي: عليك بابن مُقْلَة فهو كان السبب فيما علمت، فاستوزره بعد أن كتب له أمانًا وللحسن بن هارون. ¬

_ (¬1) في (خ): فأرسل، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ الإسلام 7/ 408.

وقال محمود الأصفهاني: كان سبب خَلْعِ القاهر سوء سيرته، وسَفْكه الدماء، وقتله الأولياء، وغضب على علي بن مقلة، فاستتر وراسل الجند، وكذا الحسن بن هارون .... وذكر ما ذكرنا. قال: لما حاط به الغلمان الساجية والحجرية، فهرب إلى سطح حَمَّام، وأراد أن يَرميَ بنفسه إلى الطريق، فأنزلوه، وحبسوه في بيت مُظلم، ونهبوا دارَ الخلافة وبغداد، ثم أتوه وطالبوه بالخَلْع فأبى، فخلعوه في يوم السبت لثلاث خَلَون من جُمادى الأولى، وسَمَلوا عينيه حتى سالتا على خَدَّيه فعَمِي. وقال الخطيب: ارتُكِبَ منه أمر عظيم لم يُسمَع بمثله في الإسلام، وهو أولُ مَن سُمِل من الخلفاء، وإنَّما سَمَلوه خوفًا من شرِّه، وكانت خلافتُه إلى يوم سُمِل سنةً وستةَ أشهر وسبعةَ أيامٍ أو ثمانية (¬1). ذكر طرف من سيرته: قال الصولي: كان (¬2) أهْوَجَ، سفَّاكًا للدماء، مُحبًّا للمال، قَبيحَ السِّيرة، كثيرَ التلَوُّن والاستحالة لا يثبت على رأيٍ واحدٍ، مُدمِنًا على شُرب الخمر، فإذا شربه تغيَّرت أوصافُه، وذهب عقلُه، وقتل وعذَّب بأنواع العذاب، ويبدو منه من الأقوال والأفعال ما يَقبُح ذكرُه، لولا أن مَنَّ الله على الناس بحاجبه أبي القاسم سلامة لأهلك الحَرْثَ والنَّسْلَ، وكان إذا نام وأنتبَه أنكر جميعَ ذلك، ومضى في حال سُكره بما همَّ به. [قال الصولي: ] وكنا نجتنب مُجالستَه لسوء عشرته، ولمَّا بويع [بالخلافة] أنشدتُه: [من السريع] الآن أرسى المُلْكُ أوتادَه ... وانتَصَف المسلم من كافر أنْ نصر الدِّين بقَهْر العِدى ... ملك أبي المنصور القاهر (¬3) ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 194. ومن قوله: وفي صفر قبض القاهر على خاطف خالة المقتدر ... إلى هنا ليس في (ف م 1) (¬2) في (ف م 1): حكى الصولي قال: كان. (¬3) البيتان من (خ)، ولم أقف عليهما في مكان آخر.

فأعطاني يدَه فقبَّلتُها، ووَعَدني بكلِّ خير، فكان ذلك أولَ العهد به وآخرَه، ما دخلْنا عليه بعد ذلك، وكان كلُّ واحدٍ منَّا يسألُ الله تعالى أن يُنسيَه ذكرَه لما كان يبدو منه في حال سكره. [قال: ] وأباد جماعةً من أعيان الدولة في مدَّةٍ يسيرة، وكان قد صَنع حَرْبةً يحملها [في يده]، فلا يَطْرَحها حتى يقتل بها إنسانًا. وقال محمد بن علي الخُراساني: أحضرني القاهرُ يومًا والحربةُ بين يديه وقال لي: قد علمتَ حالي إذا وضعتُ هذه الحربة بين يديَّ؛ لا أنتهي حتى أقتل بها إنسانًا، فقلت: الأمان، فقال: على الصِّدْق، قلتُ: نعم، فقال: أسألك عن خلفاء بني العباس في أخلاقهم وشِيَمهم من السَّفَاح إليّ، قلتُ: نعم، فقال: أسألُك عن خلفاء بني العباس، قلت: أما السَّفاح فكان مُسارِعًا إلى سَفْك الدِّماء، سفك ألفَ دمٍ، واتَبعه عُمَّالُه في ذلك، واستنُّوا بسيرته، مثل: محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالح بن علي بمصر، وخازم بن خُزَيمة، وحُمَيد بن قَحْطَبة وغيرهم، وكان مع ذلك بَحْرًا، سَمْحًا، وَصولًا بالمال، وسَلك مَن كان في عصره سيرتَه. قال: فالمنصور؟ قلت: كان أولَ مَن أوقع الفُرْقَةَ بين وَلَد العباس وولد أبي طالب، وكانوا قبله أمرُهم واحد، وهو أولُ خليفةٍ قرَّب المُنَجِّمين وعَمِلَ بقولهم، وكان عنده نُوبَخْت المُنَجِّم، وعلي بن عيسى الأَسْطُرْلابي، وهو أولُ خليفةٍ تُرجِمَت له الكتبُ من اللغات اليونانية والأعجمية إلى العربية، ككتاب: "السند هند"، وكتاب أرسطاطاليس في المَنْطق، و"المِجِسْطي" و "إقليدس" وسائر الكتُب اليونانية، فنظر الناس فيها وتعلَّقوا بها، ولمَّا رأى ذلك محمد بن إسحاق المَدَني جمع المغازي والسير والمبتدأ، ولم تكن مجموعةً قبل ذلك، والمنصورُ أولُ مَن استعمل مواليه وقدَّمهم على العرب، [فسقطت قيادات العرب وزالت] رئاستها (¬1). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من مروج الذهب 8/ 292، وانظر السير 15/ 100، وتاريخ الإسلام 7/ 409.

قال: فما تقول في المَهدي؟ قلت: كان جَوادًا، سَمْحًا، عادلًا، مُنصِفًا، وكان يَحمل البِدَر معه فيفرِّقُها، ورَدَّ ما أخذ أبوه من أموال الناس غَصْبًا، وبالغ في إتلاف الزَّنادِقة، وأحرق كتبهم لما أظهروا من الاعتقادات الفاسدة، كابن دَيصان، وماني، وابن المُقَفَّع، وحَمَّاد عَجْرَد وغيرهم، وبنى المسجد الحَرام، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، وفعل وفعل. قال: فالهادي؟ قلت: كان جَبَّارًا مُتكبِّرًا، فسلك عُمَّاله طريقه على قِصَر أيامه. قال: فالرَّشيد؟ قلت: كان مواظبًا على الحجِّ والجهاد، وعَمَر القصور والبِرَك والمَصانع، وطريقَ مكة، وبنى الثُّغور والحُصون والمدن كأَذَنَة، وطَرَسُوس، والمَصِّيصَة، وعين زَرْبى، والحَدَث، ومَرْعَش وغيرها، وعمَّ الناسَ إحسانُه، وكان في أيامه البرامكة، وهو أول خليفة رمى النُّشَّاب في البُرْجاس (¬1)، ولعب الشِّطْرَنج من بني العباس، وكانت زوجتُه أمُّ جعفر بنت جعفر من أكمل النساء، أوقفت الأوقاف، وعَملت المَصانع والبِرَك، وعَمَرَت الحرمَين، وفعلت وفعلت. قال: فالأمين؟ قلت: كان جَوادًا سَمْحًا، إلا أنَّه انْهَمَك في لذَّاته ففسدت عليه الأمور. قال: فالمأمون؟ قلت: غلَب [عليه] الفضل بن سَهْل فاشتغل بالنجوم، فلمَّا قدم العراق من خراسان اشتغل عن ذلك، وجالس العلماء والفقهاء والأدباء، وكان أحْلَمَ الناس، جَوادًا، سَمْحًا. قال: فالمُعْتَصم؟ قلت: سَلَك طريقَه، وغَلب عليه حبُّ الفروسية، والتشبُّه بملوك الأعاجم، واشتغل بالغَزْو والفتوح. قال: فالواثق؟ قلت: سلك طريقَةَ أبيه. قال: فالمُتوكّل؟ قلت: خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقادات، ونهى عن الجِدال والمُناظرات في الأهواء، وعاقب عليها، وأمر بقراءة الحديث وسماعه، ونهى عن القول بخَلْق القرآن، فحَسُنَت أيامُه، وأحبَّه الناس. ¬

_ (¬1) كلمة يونانية معناها: رمح أو سارية في أعلاه كرة من ذهب أو فضة، يرميها الحُذَّاق وهم على الجياد. المعجم الوسيط.

ثم سأل عن باقي الخلفاء وأنا أجيبه بما فيهم، فقال لي: قد سمعتُ كلامك وكأنِّي مشاهدٌ القومَ، ثم قمتُ وقام على أَثَري والحَرْبة في يده، فاستسلمتُ للقتل، فعطف إلى دور الحُرَم. وقال المَسعودي: أخذ القاهر من مؤنس وأصحابه أموالًا كثيرةً، فلمَّا خُلع وسُمِل طُولبَ بها فأنكر، فعُذِّب بانواع العذاب فلم يُقِرَّ بشيء، فأخذه الراضي، وقرَّبه وأدناه وقال له: قد ترى مُطالبة الجُنْد بالمال، وليس عندي شيءٌ، والذي عندك ليس بنافعٍ لك، فاعترِفْ به، فقال: أمَّا إذا فعلتَ هذا فالمالُ في البُستان. وكان قد أنشأ بستانًا فيه أصناف الشجر والثمر، وحمل إليه فنون الثِّمار من البلاد، وعمل فيه البِرَك والماذِيانات (¬1)، وزخْرَفها، وبنى فيه قصرًا عظيمًا. وكان الراضي مُغرَمًا بالبستان والقصر لا يجلس [إلا] فيه، فقال: وفي أيِّ مكانٍ المالُ منه؟ فقال: أنا رجلٌ مَكْفوف لا أهتدي إلى مكانٍ، فاحفُر البستانَ كلَّه وأساسات القصر والماذيانات فإنَّك تجده، فحفر الراضي البستان كلَّه، وقلع الشَّجر، وأخرب القصر، ونزل في الأساس إلى الماء، فلم يجد شيئًا، فقال له: وأين المال؟ فقال: وهل عندي مالٌ؟ وإنَّما كان حَسْرتي في جلوسك في البستان وتَنَعُّمِك، وهو كان غايةَ أمَلي، فأردتُ أن أُفجِعَك فيه. فندم الراضي وأبعده عنه خوفًا منه على نفسه أن يُدنيَه منه فيتناول بعض أطرافه، ثم حبسه بدار السلطان، فأقام إلى سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مئة، ثم أُخرج إلى دار ابن طاهر. وكان تارةً يحبسه، وتارةً يُطلِقه، فوقف يومًا بجامع المنصور بين الصُّفوف وعليه مِنطَقةٌ بيضاء وقال: تصدَّقوا عليَّ، فأنا ممَّن قد عرفتم، وكان قصدُه أن يُشَنِّعَ على المستكفي، فقام إليه أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي فأعطاه خمس مئة درهم، وقيل: ألف درهم، ثم مُنِعَ من الخروج، فعاش إلى سنة تسعٍ وثلاثين وثلاث مئة خامِلًا، ومات وله ثلاثٌ وخمسون سنة. ¬

_ (¬1) بكسر الذال وفتحها، وهي أمهات السواقي، وقيل: هي السواقي الصغار كالجداول، وقيل: الأنهار الكبار، وليست بعربية. انظر مشارق الأنوار 1/ 376، والنهاية 4/ 313، والمعرب 376.

وكان له من الولد: عبد الصَّمد، وأبو الفضل، وأبو القاسم، وعبد العزيز، وكانوا ولاةَ العهود. واستوزر أبا علي بن مُقْلَة ثم عزله، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عُبيد الله ثم عزله عنها، واستوزر أحمد بن عبيد الله الخَصيبي، وسلب وزيره محمد بن القاسم واستصفاه، وكان محمد بن القاسم جَبَّارًا ظالمًا. قال أبو الحسن بن أبي طاهر محمد بن الحسن كاتب الجيش: قبض محمد بن القاسم في أيام وزارته للقاهر عليَّ وعلى أبي، فكان يُخرجنا كلَّ يوم يُطالبنا بمال المُصادَرة، ويضربني بحضرة أبي، ولا يضرب أبي، فلَقِينا منه بلاءً وشدَّةً، فلمَّا كان بعد أيام قال لي أبي: إنَّ هؤلاء الموكَّلين بنا قد صارت لنا بهم حُرْمة، فتوصَّل إلى مُكاتَبة فلان الصَّيرفي حتى يُنفِذ لنا ثلاثة آلاف درهم نُفرِّقها فيهم ففعلت، واستدعيتُهم وقلت: قد وَجَب علينا حقُّكم، فخذوا هذه فانتفِعوا بها، فامتنعوا أشدَّ الامتناع وقالوا: نستحي أن نأخذَ منكم شيئًا، وقد بلغنا أمرٌ، قلت: وما هو؟ فامتنعوا، فقلت: لا بدَّ من ذكره، قالوا: قد عَزم الوزير الليلةَ على قتلكما، فيَقْبُح بنا أن نأخذَ منكما شيئًا. فدخلت على أبي وعرَّفتُه فقال: ارْدُد إلى الصَّيرفي الدَّراهم. وكان أبي صائمًا، فلم يُفطر تلك الليلة، واغتسل وتطهَّر ثم قال: اجلس جاثيًا على رُكبتك، وفعل هو كذلك كأنَّا نُخاصم أحدًا، ثم قال: يا ربّ، إنَّ ابن القاسم قد ظَلَمني وحَبسَني، وقد استعديتُ عليه إليك، وأنت أحكمُ الحاكمين، فاحكُم بيننا. ثم بكى واستغاث إلى رُبع الليل، وإذا بالأقفال تُفتَح، فتَيقنَّا، وإذا بسابور خادم القاهر وسيفِ نقمته قد دخل وبين يديه الشُّموع، فقال: اذهبا إلى منازلكما، فذهبنا، وقبض على محمد بن القاسم، وحَدَره إلى دار السلطان، واعتقله فمات بعد ثلاثة أيام، وقيل: إن القاهر قتله (¬1). وكان صاحب شرطة القاهر أحمد بن خاقان. ¬

_ (¬1) الفرج بعد الشدة 1/ 277. ومن قوله: وقال محمد بن علي الخراساني ... إلى هنا ليس في (ف م 1).

الباب العشرون في خلافة الراضي بالله

انتهت سيرة القاهر والقاعدة تقتضي [ذكر] سيرة (¬1) الرجل عند وفاته، لكن لمَّا تأخَّرت وفاتُه إلى سنة تسعٍ وثلاثين [وثلاث مئة] وسُمِل فلم ينتفع بنفسه صار كأنَّه قد مات (¬2). الباب العشرون في خلافة الراضي بالله (¬3) وهو أبو العباس محمد بن جعفر المُقْتدر، ولد في ربيع الآخر، وقيل: في رمضان سنة سبعٍ وتسعين ومئتين، وأمُّه ظَلُوم أمُّ ولد رومية أدركت خلافتَه. وكان مَرْبوعًا، خفيفَ الجسم، أسمرَ، بويع في اليوم الذي خُلِع فيه عمُّه القاهر وهو يوم الأربعاء لستٍّ خلَون من جُمادى الأولى، وكان الراضي وأخوه مَحبوسَين في دار الخلافة في حبس القاهر، وقد عزم على قتلهما، فهجم عليهما الغِلمان الحُجَريّة والسَّاجية فأخرجوهما. وقال الصُّولي: كانت بيعةُ الرَّاضي باتِّفاق الجميع من غير مُواطأةٍ بينه وبين أحدٍ من الدولة، ولا مُراسلة؛ سوى ما كانوا يخافونه من القاهر، وكان المتولِّي للبيعة سيما المناخلي، وعاش سيما بعد البيعة مئة يوم. ولمَّا بويع الراضي بعث إليَّ لأختار لَقَبًا، فاخترتُ له المُرتَضى، فبعث إليَّ يقول: كنتَ حدَّثتَني أنَّ إبراهيم بن المهدي عَهِد إلى منصور بن المهدي ولقَّبه المرتضى، وما أحبُّ أن أُلقَّبَ بلقبٍ وَقَع على غيري ولم يَتمَّ أمرُه، وقد اخترتُ: الراضي بالله ورضيتُ به (¬4). وأمَّن الراضي ابنَ مُقْلَة واستوزره، وتقدَّم إلى علي بن عيسى بمُساعدته، وأطلق جميعَ مَن كان في حبس القاهر، وولَّى أبا بكر بن رائق إمارةَ الجيش ببغداد، ثم أمر ابنُ مُقْلَة عبد الله بنَ ثوابة بأن يكتبَ كتابًا يَذكر فيه مثالبَ القاهر، ويُقرأ على الناس، فقال ¬

_ (¬1) في (ف م 1): انتهت سيرة القاهر وقضية الترتيب سيرة. (¬2) بعدها في (ف م 1): لأن الأعمى بمنزلة الأعمى (كذا؟ ! ). (¬3) الباب هذا كله إلى ترجمة خير النساج ليس في (ف م 1). (¬4) أخبار الراضي والمتقي لله لأبي بكر الصولي 1 - 4.

علي بن عيسى: هذا شيءٌ لم يُفعل قبلَ اليوم مع أحدٍ من الخُلفاء، فلم يقبل، وكتب ثلاث نُسخ قُرئت يوم الجمعة على المنابر بجامع القصر والرُّصافة ومدينة المنصور، وصُودر عيسى المتطبِّب على مئتي ألف دينار، منها عشرون ألف دينار، ومئةٌ وخمسون ألف درهم، وألف مِثقال عَنْبر اعترف بها عيسى. واستحجب الراضي من أصحاب المناطق أربعَ مئة وثمانين حاجبًا، وقدَّم على جميع القواد والأمراء محمد بن رائق. وفيها قُتل مرداويج مُقدَّم الدَّيْلَم بأصبهان، وكان قد عَظُمَ أمرُه، وتحدَّث الناس أنَّه يريد قَصْدَ بغداد، وأنَّه مُسالِمٌ لصاحب البحرين، ثم إنَّه أساء السيرةَ في أصحابه وخصوصًا الأتراك، فتواطؤوا على قتله، وكان رئيسهم قائدًا يقال له: بَجْكم، فقتلوه في حمَّام، ويقال: إنَّ ياقوت كاتبهم فيه. وفيها بعث عليُّ بن بُوَيه إلى الراضي يُقاطِعُه على البلاد التي استولى عليها فارس وغيرها، على أنَّه يَحمل إليه في كل سنة ثمان مئة ألف ألف درهم (¬1) خارجًا عن المُؤَن والنَّفَقات، فأجابه إلى ذلك، وبعث له لِواءً وخِلَعًا مع حَرْب بن إبراهيم (¬2) المالكي الكاتب، وقال له ابن مُقْلَة: لا تُسلِّم الخِلَع واللواء إليه حتى يُسلِّم إليك المال. فلمَّا وصل إلى شِيراز تلقَّاه علي بن بُوَيه على بعدٍ، وطالبه بتسليم الخِلَع واللواء، فقال: رُسِم لي أن لا أُسلِّمَها إلا بعد تسليم المال، فتَهدَّده، وأخذ ذلك منه كَرْهًا، ولبس الخِلَع ودخل شيراز، وأقام المالكي عنده مدةً يَعِدُه ويُمنِّيه، فاعتلَّ ومات، وحُمِل في تابوت إلى بغداد. وفيها أخرج الراضي مَن كان في دار الخليفة من إخوته إلى منازلهم التي كانت لهم في أيام المقتدر، بعد أن أحضَرَ القُضاةَ والشهودَ والقوَّاد والخاصَّة والعامَّة، فرأَوهم سالمين في غاية الصِّحَّة. ¬

_ (¬1) في تكملة الطبري 292، والمنتظم 13/ 342: ثمانية آلاف درهم، وفي الكامل 8/ 277: ألف ألف درهم، وفي تاريخ الإسلام 7/ 411، والنجوم الزاهرة 3/ 246: ثمانية آلاف ألف درهم. (¬2) كذا ورد هنا وفي النجوم الزاهرة 3/ 246، وفي تكملة الطبري 292: وأنفذ إليه ابنُ مقلة أبا الحسين بن إبراهيم.

وفيها ظهر رجلٌ يقال له: الشَّلْمَغاني، ويُعرف بابن أبي العَزاقِر، قد شاع عنه أنَّه يَدَّعي الإلاهية، ويُحيي الموتى، وكان له أصحابٌ يوافقونه، وتعصَّب له ابنُ مُقْلَة، وأحضره عند الرَّاضي فسمع كلامه، وقيل: إنه أنكر بحضرة الراضي ما قيل عنه وقال: إن لم تنزل العقوبةُ على الذي باهَلَني بعد ثلاثة أيام، وأكثره تسعة أيام؛ وإلا فدَمي حَلالٌ، فضُرِب ثمانين سَوْطًا، ثم قُتل وصُلب، وقُتل بسببه الحسينُ بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وَهْب وزير المقتدر، وكان متَّهمًا بالشَّلْمغاني، وفي قلب الراضي منه لكونه قال في زمن المقتدر: إنَّ مؤنسًا يريد أن يُقلِّده الخلافة، فلمَّا ولي الخلافة نفاه إلى الرقَّة، ثم قتله، وحُمل رأسه إلى بغداد في ذي الحجة فجُعل في سَفَط، فلمَّا قُطعت يد ابن مُقْلَة جُعِلت في ذلك السَّفَط مع رأس ابن القاسم (¬1). وفيها أقام ياقوت بالأهْواز، وكتب له أبو عبد الله أحمد بن محمد بن البَرِيديّ. وفيها قُتل أبو سعيد إسرائيل بن موسى الرَّازي النَّصْراني كاتب علي بن بُوَيه، وكان قد تَمكَّن منه جدًّا، وله غلمان ... ونفوذ (¬2) الجيش وتحمل السلاح، ولمَّا حارب ياقوت .... والأمير لا يقبل، ونهاه عن ذِكره فقال: هذا رجلٌ صَحِبني وأنا فقيرٌ، وقد استَغنيت وتَبرَّكت به، فلا تُعاودني فيه. وكان بين أبي سعيد هذا وبين خَطْلَج حاجب علي بن بُوَيه ورئيس جيشه عَداوةٌ، فاتَّفق أن النَّصراني عمل دعوةً عظيمةً للأمير، غَرِم على الخِلَع والمأكول مالًا عظيمًا، وحضرها القواد، واجتهد على خطلج أن يَحضرها فامتنع، فرأى خطْلَج تلك الليلة في منامه كأنَّ أبا سعيد يريد قتلَه، فانتبه فَزِعًا وقال لأصحابه: رأيتُ في المنام كأن أبا سعيد قد قتلني، ولا بُدَّ من قتلَه، فمنعه خواصُّه من ذلك فلم يفعل، وركب إلى دار أبي سعيد، وحمل معه في خُفِّه كرسنيا مجرَّدًا، وقصد أبا سعيد، فقيل له: قد جاء خطلج، فقعد في المجلس وهو مُنْحَنٍ، ثم ضرب بيده إلى خُفِّه وأخرج الدسني (¬3)، وأراد أن ¬

_ (¬1) انظر تكملة الطبري 289، والمنتظم 13/ 342، والكامل 8/ 290، وتاريخ الإسلام 7/ 413، ومعجم البلدان (شلمغان) 3/ 359، ومعجم الأدباء 1/ 235. (¬2) مكان النقط في (خ) بياض، وهذا الخبر لم أقف عليه فيما بين يدي من مصادر. (¬3) وردت هذه الكلمة وكلمة كرسنيا؛ مهملة في (خ)، ولم أعرفهما.

يضرب به أبا سعيد، فصاح بغلمانه فدخلوا، فضربوا خطلج بالدَّبابيس في رأسه فدوَّخوه، وحُمل إلى داره فمات بعد يومين، فبادر الخيَّاط إلى علي بن بويه فأخبره، فلما توَحَّش من أبي سعيد (¬1)، ولم يزل الخيَّاطُ يُغريه به حتى دخل على أبي سعيد جماعةٌ من الأتراك فقتلوه، واستكتب ابنُ بُوَيه الخيَّاطَ. وفيها قُتل هارون بن غَريب الخال، كان مُقيمًا بالدِّينَوَر، وإليه أعمال ماسَبَذَان ومِهْرِجان وحُلْوان، فلمَّا ولي الراضي كاتب قوَّاد بغداد بأنَّه أحقُّ بالحضرة ورئاسة الجيش، فأجابوه، وسار إلى بغداد في جمادى الآخرة فبقي بينه وبينها عشرة فَراسخ، فعَظُم ذلك على ابن مُقْلَة ومحمد بن ياقوت والحُجَرية والسَّاجية، وخاطبوا الراضي، فعَرَّفَهم كراهيَّتَه له، وأمرهم بمُمانعته ومحاربته إن احتيج إلى ذلك، فبعث ابن مُقْلَة إليه بأن يَرجع، فقال: قد اجتمع إليَّ رجالٌ لا يَكفيهم عَملي. فأرسل إليه الراضي والوزيرُ وابن ياقوت القَراريطيَّ بأنَّهم قد قلَّدوه أعمال طريق خُراسان، فقال للقراريطي: إنَّ رجالي لا يَقْنَعون بهذا، ومَن أحقُّ منِّي بخدمة أمير المؤمنين؟ ولي قَرابةٌ، وابنُ ياقوت غلامٌ بنُ غلام، وقد كان بالأمس يقعد بين يديَّ ويمتثل أمري، فقال له: لو كنتَ تُراعي ما بينك وبين أمير المؤمنين ما عصيتَه (¬2)، فأغْلَظ له، وقام من عنده وأدَّى الرسالةَ إلى الوزير. وشرع هارون في جِباية أموال طريق خُراسان، وقَويَت شوكتُه، وشَخَص إليه معظم مَن كان ببغداد من الجيش، ونزل النَّهْرُبِين، فبعث إليه محمد بن ياقوت أبا جعفر بن شيرزاد رسالةً ثالثةً يتلطَّف به، ويزيده في الرجال والبلاد، فلم يَلتفت، ووقعت طلائعُه على طلائع ابن ياقوت فظَهر عليها، ثم تقدَّم إلى القَنْطَرة التي على النَّهْرَوان (¬3)، واشتبكت الحرب، فعبر هارون القَنْطَرة، وانفرد عن أصحابه على شاطئ النهر وهو يظنُّ أنَّه يَظفر بمحمد بن ياقوت فيقتله، فتَقَنْطَر به فرسُه (¬4) فوقع، فبادره يُمْن غلام ابن ياقوت فضربه على رأسه، وبادره ¬

_ (¬1) كذا (؟ ! ). (¬2) في تاريخ الإسلام 7/ 417: ولو كنت تراعي أمير المؤمنين ما عصيته. (¬3) وكذا في تاريخ الإسلام 7/ 414، والذي في أخبار الراضي 7، وتكملة الطبري 287، والكامل 8/ 288: قنطرة نَهْرُبِين. (¬4) يعني كبا فسقط عن ظهره إلى قُدَّامه. تكملة المعاجم 8/ 397.

أبو جعفر السجزي

الغلمان فذبحوه، وانهزم عسكرُه، ومُزِّقوا كلَّ مُمَزَّق، ونَهبهم عسكر ابن ياقوت، ووارى ابن ياقوت جُثَّةَ هارون، ودخل بغداد لخمسٍ بقين من جمادى الآخرة ورأس هارون بين يديه، فصُلِب بباب العامة (¬1)، وخُلع على محمد بن ياقوت وسوِّر وطُوِّق. وفيها توفي أبو جعفر السِّجْزي في رجب، وكان من الحُجَّاب، وبلغ من العمر أربعين ومئة سنة وهو صحيح السمع والبصر والثَّغْر، مُنْتَصب القامة، وكان يركب الدَّوابَّ وحده من الأرض بغير [معاون، وكان الوزير علي بن عيسى] قد منعه رِزقَه، فقيل له في ذلك، فقال: هو كذَّابٌ في سنِّه، فقال السِّجزي: انظروا في جرائد سُرَّ من رأى تجدوا فيها حليتي، فأحضر علي بن عيسى الجَرائد وإذا هي كما قال، فأجرى رزقَه، واعتذر إليه، وقيل: إنَّه عاش بعد ذلك مدَّةً، وقال ابن أبي داود السِّجستاني: أنا أعرف هذا الرجل وأهلَ بيته، وإنَّ جميعهم مُعَمَّرون (¬2). وفيها ردَّ الراضي شبابيك تربة أُمِّ المقتدر، وأذن للناس في زيارتها، وكان القاهر قد قَلَعها. وفيها قبض ابن مُقْلَة على أبي العباس الخَصِيبي [وسليمان بن] الحسن بن مَخْلَد (¬3)، ونَفاهما إلى عُمان، ثم هربا إلى بغداد مستَتِرَين، وكيفية ذلك: أنَّ محمد بن ياقوت كان مُنْحَرِفًا عن الخَصِيبي، وكان ابن مُقْلَة يُظهر للخَصِيبي الجميل ويُبْطِنُ غيرَه، فأرسل إليه يومًا بثَلْج، وكان الثلج قد أعْوَز، ودعاه إلى حضرته، وأوصى محمد بن ياقوت باعتقاله إذا خرج. وجاء الخَصِيبي في طيَّاره إلى دار ابن مقلة، فأقام عنده إلى المغرب، ثم قام فنزل في طيَّاره، وقد أقام له ابن ياقوت جماعةً، فأخذوه، وحملوه إلى دار محمد بن ياقوت فاعتقلوه، واتَّفق ابنُ مقلة وابن ياقوت، ثم قبضا على [سليمان بن] الحسن، وسلَّماه مع الخَصِيبي إلى ابن مسمار، فسار بهما إلى عُمان، ثم سلك بهما البحر في الجانب ¬

_ (¬1) في تكملة الطبري والكامل: ونصب، يعني رأسه، وهو الصحيح. (¬2) تكملة الطبري 287 - 288، وما بين معكوفين منه، مكانه في (خ) بياض. (¬3) ما بين معكوفين من تكملة الطبري 288، والمنتظم 13/ 394.

[أحمد بن] سليمان بن داود

الشرقي من سواحل فارس، فعَصَفَت الريح بالمَرْكب فردَّته إلى عُمان، وكان يوسف بن وَجيه بها، وكان صديقًا للخَصِيبي، فانتَزَعه من يد ابن مسمار، واعتقل ابنَ مِسمار عنده مدَّةً طويلةً، وأحسن إلى الخَصِيبي و [سليمان بن] الحسن وأطلقهما، فصارا إلى بغداد مستَتِرَين. وقلق ابن مقلة وابن ياقوت لذلك، ولمَّا خَبَّ البحرُ بهما قال الخَصِيبي: اللهم إنِّي أستَغفرك وأتوبُ إليك من مَعاصيك كلِّها إلا من إيقاع المكروه بابن مُقْلَة، فقال له [سليمان بن] الحسن: في مثل هذا الوقت تقول هذا؟ ! قال: نعم، أُريح منه العبادَ والبلاد، وتسليطه البَريديِّين الكَفَرة على الناس. وفي ذي الحجة توفِّي موسى بن المقتدر، واسم أُمِّه سلوة، وحُمل إلى تربة جدَّته أمِّ المقتدر فدفن بها، وركب في جَنازته أخوه هارون والوزير ابن مُقْلَة والحاجب محمد بن ياقوت، ولم يَحُجَّ أحدٌ إلى سنة سبع وعشرين وثلاث مئة. وفيها توفي [أحمد بن] سليمان بن داود أبو عبد الله (¬1). قدم مع أبيه سليمان مكة، فأهدى أبوه للزُّبَير بن بَكَّار هدايا، فأهدى إليه الزُّبير كتاب "النَّسَب" تأليفَه، فقال له: أحبُّ أن تقرأه علينا، فقرأه وسمعه ولدُه أحمد بن سليمان. وتوفي أحمد وله ثلاثٌ وثمانون سنة، وروى عن غير الزبير أيضًا، وروى عنه ابن شاذان وغيره، وكان صدوقًا. أحمد بن عبد الله بن مُسْلم ابن قُتَيبَة، أبو جعفر الكاتب، الدِّينَوَري، ابنُ صاحب "المعارف" و "أدب الكاتب" وغيرهما (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 289، وتاريخ الإسلام 7/ 453 وما بين معكوفين منهما. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 378، والمنتظم 13/ 342، والسير 14/ 565، وتاريخ الإسلام 7/ 454، ومعجم الأدباء 3/ 103.

خير بن عبد الله

ولد أحمد ببغداد، ثم قدم مصر فأقام بها حتى مات في ربيع الأول، ووَلي القضاءَ بها، حدَّث عن أبيه بتصانيفه، وحدَّث عنه عبد الرحمن بن إسحاق الزَّجَّاجي وغيره، وكان ثقةً. [فصل: وفيها توفي] خير بن عبد الله أبو الحسن (¬1)، النَّسَّاج. [قال الخطيب: ] اسمه: محمد بن إسماعيل، أصلُه من سُرَّ مَن رأى، ونزل بغداد وأقام بها. وقال السُّلَمي: تاب في مجلسه إبراهيم الخوَّاص، وأبو بكر [الشِّبْلي، وهو أستاذ الجماعة، قال: وكان يقال له: محمد بن إسماعيل السَّامَرِيّ، ثم سُمِّي خَيرًا، وصَحِب سَرِيًّا] السَّقَطِي، وأبا حَمْزة الصُّوفي وغيرهما (¬2). [واختلفوا لم غيَّر اسمَه، فقال السُّلَمي: ] خرج إلى الحجِّ وكان أسود (¬3) اللون، فلمَّا وصل الكوفة أخذه [رجلٌ] قال: أنت عبدي، واسمُك خَير، [فلم يُكلِّمه، واستعمله سنين] في نَسْجِ الخَزِّ (¬4)، ثم قال له بعد مدَّة [يَسيرة]: ما أنت عبدي، ولا اسمُك خير، وقد غَلِطتُ، فقيل له: ألا ترجع إلى اسمك؟ فقال: لا أُغيِّرُ اسمًا سمَّاني به رجل مسلم. وحكى أبو نُعَيم (¬5)، عن جعفر الخُلْدي قال: قلتُ لخير: أكان النَّسْجُ حِرْفَتَك؟ قال: لا، قلت: فلم سُمِّيتَ به؟ قال: كنتُ عاهَدْتُ اللهَ أن لا آكل الرُّطَبَ، فأكلت ¬

_ (¬1) في (ف م 1): الحسين، وهو خطأ. وانظر في ترجمته: طبقات الصوفية 322، وحلية الأولياء 10/ 307، وتاريخ بغداد 2/ 380، 9/ 307، والرسالة القشيرية 106، والمنتظم 13/ 345، ومناقب الأبرار 2/ 16، وتاريخ الإسلام 7/ 459، والسير 15/ 269. (¬2) طبقات الصوفية 322. (¬3) في (ف م 1): أسمر، والمثبت من (خ). (¬4) في (ف م 1): الحرير. (¬5) في الحلية 10/ 307.

رُطَبةً واحدة، وإذا برجل قد قبض على يدي وقال: يا خير، أَبَقْتَ منِّي، وكان له غُلامٌ اسمُه خير قد هرب منه، فوقع عليَّ شَبَهُه، فاجتمع علينا الناس فقال: هذا غلامي خير الذي هرب، فصَدَّقه الناس، وبقيتُ مُتَحيِّرًا، وعرفتُ من أين أُتيت، فحَملني إلى حانوته الذي يَنْسُج فيه غلمانُه، فلمَّا رأوني قالوا: يا عبدَ السُّوء، أَبَقْتَ من مولاك، عُدْ إلى النَّسْج كما كنت تعمل. قال: فجلست على بئر الكِرْباس (¬1)، ودلَّيتُ رجلي لأعمل، فكأنِّي كنتُ أعمل من سنين، فأقمتُ عنده أعمل أربعةَ أشهر أنْسِجُ، فقمتُ ليلةً وقتَ السَّحَر، فصلَّيتُ وسجَدتُ وقلتُ: يا إلهي لا أعود إلى ما فعلتُ، فأصبحتُ وقد زال عنِّي الشَّبَه، فأُطلقتُ، ورجعتُ إلى صورتي، وثَبَت عليَّ هذا الاسم، وكان السبب إتياني شَهوةً عاهدتُ الله أن لا آكُلَها فعاقبني. ثم قال: لا نَسَبَ أشرفُ من نسب مَن خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلَّمه الأسماء كلَّها، فلم يعصمه ولم ينفعه في وقت جَرَيان القدر عليه (¬2). وذكر في "المناقب" بمعناها فقال: كان خير [النسَّاج] يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكر، فأُوذي أذًى كثيرًا، فخرج هاربًا من البلد، قال [خير: ] فمررتُ بقريةٍ فيها دَكاكين، فجلستُ على باب دُكَّان، وإذا بصاحب الطِّرَاز قد خرج فقال: أين ذهبتَ؟ فنظرتُ وإذا أنا أسودُ مُفَلْفَلُ الشَّعَر، فاستعملني في النَّسج شهرًا، فعاهَدْتُ الله أنِّي أعود إلى ما كنتُ عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، فعاد إليَّ لَوني وحالي، فخرجتُ من الطِّراز، وجلستُ على بابه أحفظُه لصاحبه حتى يعود، فجاء فسلَّم عليَّ وقال: عافاك الله، رأيتَ غلامًا أسودَ خرج من هذا الطِّراز؟ قلتُ: لا، فدخل طِرازه، وانصرفتُ (¬3). ¬

_ (¬1) في (ف م 1): فجلست بين الكرباس، وفي الحلية وتاريخ بغداد: فأمرني بنسج الكرباس. والكرباس: ثوب من القطن الأبيض غليظ، وهو معرب عن الفارسية. القاموس المحيط. (¬2) قال الخطيب في تاريخه 9/ 309: جعفر الخلدي ثقة، وهذه حكاية ظريفة جدًّا يسبق إلى القلب استحالتها، وكتب أبو نعيم هذه الحكاية عن أبي الحسن بن مِقْسَم عن الخلدي، وكان ابن مقسم غير ثقة، فالله أعلم. (¬3) مناقب الأبرار 2/ 19.

وقال خير: تقدَّم (¬1) إليَّ شابٌّ من البغداديين وقد انطبقَت يدُه، فقلتُ له: ما لك؟ فقال: رأيتُك أمس بِعتَ غَزْلًا بدرهمين، فجئتُ خلفك فحَلَلْتُهما من إزارك، وقد صارت يدي مطبوقةً (¬2) [فانظر إليَّ]، فأومأ خيرٌ بيده إلى يد الشاب فانفتحت، فقال: خُذ الدِّرهمين، فقال: اذهب فاشتر بهما شيئًا لعيالك ولا تَعُد. وقال خير (¬3): طُرِقَ عليَّ البابُ وأنا جالسٌ في بيتي، فوقع في خاطري أنَّه الجُنَيد، ونَفَيتُ ذلك عن خاطري، ثم طرقه ثانيًا وثالثًا وأنا على ذلك الخاطر، فخرجتُ وإذا بالجنيد على الباب، فقال لي: لم لم تَخرج مع الخاطر الأول. وقال خير: دخلتُ (¬4) بعضَ المساجد وإذا فيه فقيرٌ، فقام وتعلَّق بي وقال: يا شيخ، تعطَّف عليَّ فإنَّ مِحْنَتي عظيمةٌ، قلتُ: وما هي؟ [فقال: فَقَدتُ البَلاء وقُرِنْتُ بالعافية، فنظرتُ] فإذا قد فُتِح عليه بشيءٍ من الدنيا. وقال أبو الخير الديلمي (¬5): كنتُ جالسًا عند خير، فأتته امرأة فقالت: أعطني المِنديلَ الذي دفعتُه لك، فدفع إليها مِنديلًا، فقالت: كم الأُجرة؟ فقال: درهمان، فقالت: ما معي الساعة شيءٌ، وغدًا آتيك بالدِّرهمين، فإن لم أجِدْك فما أصنع بهما؟ فقال: ارمي بهما في دجلة، فإذا أتيتُ أخذتُهما، فقالت: كيف تأخذُهما من دجلة، فقال: التَّفْتيش فُضولٌ منك، افعلي ما آمُرُك به، قالت: نعم. وجاءت المرأة من الغد وأنا قاعد وخيرٌ غائبٌ، ومعها دِرهمان في خِرقة، فجلست ساعةً تنتظره، فضَجِرَت، فألقتهما في دجلة، وإذا بسَرَطان قد تعلَّق بها وغاص في الماء، وجاء خير [ففتح بابَ حانوته، وجلس] على جانب دجلة يتوضَّأ، وإذا ¬

_ (¬1) في (ف م 1): وحدثنا غير واحد عن أبي بكر الصوفي بإسناده عن عيسى بن محمد يقول: سمعت خيرًا النساج يقول: أتى، والمثبت من (خ)، والخبر دون إسناد في مناقب الأبرار 2/ 18 - 19، وصفة الصفوة 2/ 453. (¬2) في (ف م 1): وقد انطبقت يدي وصارت مطبوقة. (¬3) في (ف م 1): وحكى في المناقب أنه قال. والمثبت من (خ). (¬4) في (ف م 1): وحكى أيضًا عن خير قال دخلت. والخبر في مناقب الأبرار 2/ 18 وما سيرد بين معكوفين منه. (¬5) في (خ): أبو الحسين الديلمي، وفي (ف م 1): وحكى أبو نعيم عن أبي الحسن الديلمي قال، والمثبت من حلية الأولياء 10/ 308، وتاريخ بغداد 2/ 380.

بالسَّرَطان قد خرج من دجلة يَسعى والخرقة على ظهره، فجاء إلى خير، فألقاها بين يديه، ثم عاد إلى دجلة وأنا أنظر إليه، فقال لي: اكتُم عليَّ أيامَ حياتي، فقلتُ: نعم إن شاء الله تعالى. قال: وكان إذا حضر السَّماع قام ظَهرُه، ورَجَعَت إليه قوَّةُ الشَّباب، فإذا ذهب السَّماعُ عاد إلى حاله (¬1). وقال [السُّلَمي: قال] خير: الخوف سَوطُ الله يُقَوِّم به أَنْفُسًا قد (¬2) تعوَّدَت سوءَ الأدب، ومتى أساءت الجَوارحُ الأدب فهو من غَفْلَة القلب وظُلْمَة السِّرِّ. وقال: العملُ الذي يُبَلِّغُ الغايات هو رؤية التَّقصير. [وحكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: الصَّبرُ من أخلاق الرجال، والرِّضا من أخلاق الكرام. [قال: ] وقال: قصَّ موسى - عليه السلام - يومًا علي بني إسرائيل فزَعَقَ رجلٌ، فانتَهره موسى، فأوحى الله إليه: يا موسى بحبي باح، وبوجدي صاح، وعلى نفسه ناح، فلم تُنكِرُ على عبادي (¬3)؟ ذكر وفاته: روى الخطيب (¬4) عن أبي الحسين المالكي قال: صَحِبتُ خَيرًا سنينَ كثيرةً، ورأيتُ له من كرامات الله ما يَكْثُرُ ذِكرُه غير أنَّه قال [لي قبل وفاته بثمانية أيام: إنِّي أموتُ يوم الخميس وقتَ المغرب، وأُدْفن يوم الجمعة قبل الصلاة، وستنسى فلا تنسى. قال] أبو الحسين: فأُنسيتُه إلى يوم الجمعة، فلقيني مَن خبَّرني بموته، فخرجتُ لأَحْضُرَ جَنازتَه، فوجدتُ الناسَ راجعين، فذكروا أنَّه يُدفَن بعد الصلاة، فبادَرْتُ ولم ¬

_ (¬1) هكذا ورد هذا الخبر، وفيه اختصار مخل، وسياقه عند الخطيب في تاريخ بغداد 9/ 309، وابن خميس في مناقب الأبرار 2/ 20: قال أحمد بن عطاء: كنت مع خير النساج وهو من شيوخ خالي في السماع، وكان قد احدودب، فكان إذا سمع السماع قام ظهره، ورجعت قوته كالشاب الطلق، فإذا غاب عن الوجود عاد إلى حاله. (¬2) في (ف م 1): أنفسنا إذا، والمثبت من (خ)، والخبر في طبقات الصوفية 325، ومناقب الأبرار 2/ 18. (¬3) مناقب الأبرار 2/ 17، 18. (¬4) في (خ): قال أبو الحسين المالكي، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 2/ 381.

عبيد الله بن محمد

ألتفِت فوجدتُ الجنازةَ قد أُخرجَت قبل الصلاة [أو كما قال، ] فسألتُ مَن حضره [عن حاله عند] خروج روحه، فقال: لمَّا احتُضِر غُشي عليه، ثم فتح عينيه وأومأ إلى ناحية البيت وقال: قف عافاك الله؛ فإنَّما أنت عبدٌ مأمور وأنا عبدٌ مأمور، وما أُمرتَ به لا يفوتُك، وما أُمِرتُ به يفوتُني، فدعني أَمضي لما أُمِرتُ به. ثم دعا بماءٍ فتوضَّأ للصلاة، ثم تمدَّد وغَمض عينيه وتشهَّد ومات. [قال: ] وأخبرني بعضُ أصحابنا أنَّه رآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: لا تسألني أنت عن ذا، ولكن استَرَحْنا من دُنياكم الوَضِرة، وعاش خيرٌ رحمة الله عليه مئة وعشرين سنة. عبيد الله بن محمد ابن مَيمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق - عليه السلام -، وكنيتُه أبو محمد، ويلقَّب بالمَهْدي (¬1). جدُّ الخلفاء المصريين، وأمُّه أمُّ ولد، ومَولده بسَلَمْيَة، وقيل: ببغداد سنة ستين ومئتين، ودخل مصر في زِيِّ التُّجَّار سنةَ تسعٍ وثمانين، ومضى إلى المغرب، ثم ظهر بسِجِلْماسَة من أرض المغرب سنة ستٍّ وتسعين سابع ذي الحجة يوم الأحد، وسُلِّم عليه بإمرة المؤمنين في أرض الجَوَّانِيَّة، ثم انتقل إلى رَقَّادة من أرض القَيرَوان، وبنى المَهديَّة واستقرَّ بها في سنة ثمانٍ وثلاث مئة، وملك إفريقيَّة وطرابلس وصِقِلِّية وبلاد القيروان، وطرد مَن كان بها من بني الأَغْلَب، وسَيَّر ولدَه أبا القاسم إلى مصر دفعتين إحداهما في سنة إحدى وثلاث مئة، فيقال: إنَّه ملك الإسكندرية والفَيُّوم، ودفعه تِكين عنها فعاد إلى إفريقيَّة، والمرة الثانية في سنة ستٍّ وثلاث مئة، ملك الإسكندرية ثم دفعه مؤنس عن البلاد. ¬

_ (¬1) انظر الكامل 8/ 24، 284، وتاريخ الإسلام 7/ 411، 460، والسير 15/ 141، ووفيات الأعيان 3/ 117، والروضتين 2/ 214، والمقفى 4/ 528، والنجوم الزاهرة 3/ 246. وفي حواشيها مصادر أخرى.

وكانت وفاةُ عبيد الله يوم الإثنين رابع وعشرون ربيع الأول (¬1) هذه السنة، وعمرُه اثنتان وستون سنةً وأشهر، ومدَّةُ أيامه خمسٌ وعشرون سنة وثلاثة [أشهر وسبعة] أيام، وقيل: وستة (¬2) أيام. وكان له من الولد ستة ذكور وثماني بنات تُوفِّينَ بمصر، وولي بعده ولدُه أبو القاسم محمد القائم بأمر الله، ومولده سنة ثمانين ومئتين بإفريقيَّة، هذا قولُ القاضي أبو عبد الله القُضاعي (¬3). وقال الرئيس أبو يَعْلى حَمزة بن أسد بن علي بن محمد التَّميمي الدِّمشقي: أولُ مَن ظهر من أئمة الدولة الفاطمية في المغرب الإمام أبو محمد عُبيد الله بن محمد بن عبد الله بن مَيمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان من بعض الدُّعاة لهم محمد بن أحمد بن أبي الشَّلَغْلَغ، فلمَّا أشرف على الموت ردَّ الأمرَ في الدَّعوة إلى ولده سعيد الأصغر إلى أن يكبر، وبعث إلى المغرب داعيَين أخوَين أبا عبد الله الحسين وأبا العباس محمد ابنَي أحمد بن محمد بن زكريا الكوفي، فوصلا إلى كُتامَة من ناحية اليمن في ربيع الأول سنة ثمانين ومئتين، فأخذا العَهْدَ على البَرْبر لأبي محمد عُبيد الله، وأحكما ذلك مع الوجوه والمقدَّمين فيهم. وبلغ الخبرُ المعتضدَ أبا العباس أحمد بن الموفق بن المتوكل فجدَّ في طلبه، وكتب إلى الجهات بسببه، وكان عبد الله مُقيمًا بسَلَمْيَة، وله بها الأملاكُ الوافِرةُ، والنِّعمةُ الظَّاهرة، فأجْفَلَ منها يُريدُ المغربَ، وكان الوالي في ذلك الوقت عيسى النُّوشَرِيّ، وكان عُبيد الله فَطِنًا ذكيًّا، فدخل على النُّوشَري، ولاطَفَه وعاشَره، فاعجبه، وتمكَّنت منزلتُه من قلبه، فبلغ خبره المعتضد، فكتب إليه يَحُضُّه على كَشْف خبره، والجدِّ في أمره، فوصل الكتاب إلى النُّوشري فقرأه وفي مجلسه ابن المُدَبِّر الكاتب، وكان قد صادق عُبيد الله وصافاه، وأمره النُّوشَري بالقبض عليه، فأرسل ابن المُدَبِّر إليه فأخبره، فسار من ساعته إلى الإسكندرية والوالي بها علي بن وهشودان الدَّيلَمي، فلم ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، وفي مصادر ترجمته أنه توفي منتصف ربيع الأول. (¬2) ما بين معكوفين من المقفى 4/ 564. (¬3) في تاريخ القضاعي 559 أنه ولد بسلمية.

يعرض له، فسار إلى المغرب ونزل إلى سِجِلْماسَة في سنة ستٍّ وتسعين ومئتين، ثم انتقل إلى إفريقية في سنة سبع وتسعين، وكان في زِيِّ التجار، وتقرَّب إلى واليها فأحبَّه، فكُتِبَ إليه بالقبض عليه، فقبض عليه واعتقله في قلعة سِجِلْماسة. وبلغ خبرُه أبا عبد الله الدَّاعي وهو مُقيمٌ بالبَرْبَر قد أحكم أمرَه، فنهض بالبَرْبَر إلى القلعة، وقتل واليها، وأخرج عُبيدَ الله وأظهرَ أمره وعمره يومئذٍ سبعٌ وثلاثون سنة، ولم يلبث إلا قليلا حتى دَبَّر في قتل أبي عبد الله الداعي وأخيه أبي العباس، فقتلهما يوم الإثنين للنصف من جُمادى الآخرة سنة ثمانٍ وتسعين، وملك الأمرَ بعدهما، وقَلَع بني الأغلب وُلاةَ المغرب، وتَلقَّب بالمَهديّ، وبنى المَهديَّة في سنة ثمانٍ وثلاث مئة، وتوفي يوم الإثنين رابع عشر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة، وعمرُه اثنتان وستون سنة وأشهر، ومُدَّةُ إقامته في الأمر خمسٌ وعشرون سنة وثلاثةُ أشهر وستة أيام، ونَقْشُ خاتمه: بنصر الإله الممجَّد ينتصرُ الإمام أبو محمد، وكان جَميلًا، جَسيمًا، عالمًا، فاضلًا، حَسَنَ التَّدبير والسِّياسة. وقال القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار البصري (¬1): جدُّ الخلفاء المصريين اسمُه سعيد، ويُلَقَّب بالمهدي، وكان أبوه يهوديًّا حدَّادًا من أهل سَلَمْيَة من أرض حِمص، زعم سعيد هذا أنَّه ابن الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القَدَّاح بن دَيْصان بن سعيد الغَضْبان الخرمي، وأهل الدَّعوة من هذه الطائفة منهم أبو القاسم بن الأبيض العلوي وغيره يزعمون أنَّ سعيدًا هذا ليس هو ابن الحسين، وأنَّ الحسين لما تزوَّج بأمِّه ربَّاه وعلَّمه أسرارَ الدَّعوة، وزوَّجه ببنت أبي الشَّلَغْلَغ من ولد عبد الله بن مَيمون القدَّاح، فجاء لسعيد منها ابنٌ سمَّاه عبد الرحمن، ولمَّا دخل سعيد هذا إلى أرض المَغْرب وأقام بسِجِلْماسَة تسَمَّى بعُبَيد -مُصغَّر- وتَكَنَّى بأبي محمد، وسَمَّى ابنَه عبدَ الرحمن الحسنَ. وقال المغاربة: إنَّه من أهل الأهواز، وإنَّه يتيمٌ في حِجْره وليس بابنه، وإنَّ أباه من أهل البيت عليهم السلام، ولمَّا تمكَّن عُبيد من المغرب قال: هو ابني، وكنَّاه أبا القاسم، وجعله وليَّ عهده. ¬

_ (¬1) في كتابه تثبيت دلائل النبوة 2/ 597.

ومات عُبيد بعدما قتل خلقًا كثيرًا، واستصفى أموالهم، وقتل العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث، وأخرب القِلاع، وسلَّط الجُهَّال على العلماء يَذبحونهم على فُرُشهم، وكانت له شيعةٌ بخراسان وبغداد والشام ومصر يقولون: إنه المَهدي ظهر بالمغرب، وكان الخليفة إذ ذاك جعفرًا المقتدر، وذلك في سنة ثلاث مئة، وبعث ابنَه المسمَّى عبد الرحمن إلى مصر دَفعتَين، فعاد بالخيبة في إحداهما في سنة اثنتين وثلاث مئة، والثانية في سنة سبع وثلاث مئة. ثم بثَّ سعيدٌ دعاتَه في الأرض، فطائفةٌ تزعم أنَّه الخالق الرَّازق، وطائفة تزعم أنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطائفة تقول: إنَّه المهدي ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقام نَيِّفًا وعشرين سنة، ثم ظهرت قبائحُه ومِحاله. وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطَّيِّب البَصري المتكلِّم (¬1): القدَّاح جدُّ عُبيد الله كان مجوسيًّا، ودخل عبيد الله المغرب، وادَّعى أنَّه عَلويٌّ من ولد فاطمة عليها السلام، ولم يعرفه أحدٌ من علماء النَّسَب، وكان باطنيًّا خَبيثًا يُظهِر خلاف ما يُبطِن، حَريصًا على إزالة ملَّة الإسلام، أعدم الأعيان والعلماء والفقهاء ليبقى العالم مثل البهائم فيتمكَّن من إضلالهم، وجاء أولادُه على أسلوبه حدود الملوك (¬2)، أباحوا الخمورَ والفروجَ، وأشاعوا الرَّفْضَ، وبثُّوا الدُّعاةَ في الأرض، فأفسدوا عقائدَ أهل الجبال التي في الشام كالنُّصَيريَّة والدُّرزيَّة وغيرهم، وتمكَّن دُعاتُهم من أهل الجبال لضعف عقولهم، والقَدَّاح الذين يَنتمون إليه دَعيٌّ كَذَّابٌ مُمَخْرِق، وهو أصل دعاة القرامطة. وقال أيضًا في كتاب "كشف أسرار الباطنية": وأولُ مَن وضع هذه الدعوة طائفةٌ من المَجوس وأبناء الأكاسرة من الفُرْس، والباعِثُ لهم على ذلك زَوالُ مُلْكهم، وعُلوُّ الإسلام عليه، وإلزامُهم الجِزْية، فخافوا من تَطاوُل العهد، ويئسوا من عَوْد مُلْكهم إليهم، فاتَّفقوا على وَضْع دعوةٍ يُدخِلون الشُّبهة بها على العوامِّ، فأولُ مَن وضعها الهُرمزان، فسلَّط أبا لؤلؤة على عمرَ بن الخطاب رضوان الله عليه فقتله، ثم الإفشين في أيام المُعْتَصم، فكان من أمره ما كان، ثم اتَّفقوا على عبد الله بن ميمون بن عمرو ¬

_ (¬1) هو ابن الباقلاني، وقد نقل كلامه وكلام القاضي عبد الجبار: الذهبي في تاريخ الإسلام 7/ 411 - 412. (¬2) كذا وردت هذه الجملة في (خ) ولعلها مقحمة، أو لعل في النص سقطًا.

عبد الرحمن بن إسماعيل

القدَّاح الأهوازي، وأمَدُّوه بالأموال، وذلك في سنة ثلاثين ومئتين، وقيل: في سنة عشر ومئتين، وكان مُشَعْوذًا مُمَخْرِقًا، يُظهِر الزُّهدَ والوَرَعَ، ويدَّعي أنَّ الأرض تُطوى له، وأنَّه يَعرف أخبار العالم، وكان يختفي أيام الحجِّ ويُظهر أنَّه كان بعرفة، ويُرسِل أصحابَه إلى البلاد معهم طيور ليَكتبوا إليه بما يَتجدَّد، فيُخبر الناس بذلك. وجدُّ القدَّاح هو دَيْصان أحد الثَّنَويَّة، وكان دَعيًّا بنفسه إلى علي - عليه السلام - وليس منه. ومحمد بن عبد الله بن مَيمون بن عمرو القدَّاح تغيَّا على أسلوب أبيه وجدِّه، وكذا ابن ابنه أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون، [وابن ابنه سعيد بن حسين بن أحمد بن محمد بن عبد الله] هو الذي يقال له: عُبيد الله صاحب القَيروان، ويلقَّب بالمَهْدي (¬1)، وذكر كلامًا طويلًا في هذا الباب، وقال: وكان ظهورُ القدَّاح بعَسْكَر مُكْرَم، فطُلِب فهرب إلى البصرة، فطُلب فهرب إلى الشام، فنزل سَلَمْيَة ومات بها، وبقي ابنه محمد، فخرج إلى القَرامِطَة وانتسب إليهم. [وفيها توفي عبد الرحمن بن إسماعيل ابن علي، أبو محمد، الرَّقِّي، يقال له: ابن كَرْدَم (¬2). سكن دمشق وحدَّث بها عن الحسن بن عَرَفَة، والربيع بن سليمان، ويونُس بن عبد الأعلى وغيرهم، وروى عنه أبو الحسن الرَّازي، ومات بدمشق في جُمادى الآخرة، ودُفن بالباب الصَّغير، والله أعلم. وفيها توفي] محمد بن علي بن حبعفر أبو بكر، الكَتَّاني (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ الإسلام 7/ 412، والمقفى 4/ 546. (¬2) تاريخ دمشق 9/ 867 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 7/ 460، وهذه الترجمة من (ف م 1). (¬3) حلية الأولياء 10/ 357، طبقات الصوفية 373، تاريخ بغداد 4/ 127، الرسالة القشيرية 111، مناقب الأبرار 2/ 87، تاريخ الإسلام 7/ 467، السير 14/ 533.

أصلُه من بغداد، وجاور بمكة حتى مات بها. وكان من خيار (¬1) مشايخ الصوفية، وأحدِ الأئمة المُشار إليه في علوم الحقائق والوَرَع والزُّهْدِ والعبادة. [وقد أثنى عليه الأئمة، فحكى الخطيب عن المرتَعِش أنه قال: ] الكَتَّاني سِراجُ الحَرَم (¬2). وقال السُّلَمي (¬3): خَتم الكتَّاني في الطواف اثني عشر ألف خَتْمة. وقال أبو جعفر الأصبهاني: صَحِبتُ الكتَّاني سنين، وكان يزيد على الأيام ارتفاعًا وفي نفسه اتِّضاعًا. ويُحكى عنه في "المناقب" أنَّه استأذن (¬4) أمَّه في الحجِّ، فأذِنَت له، فلمَّا دخل الباديةَ أصابَ ثوبَه بولٌ، فقال: هذا خَلَلٌ، فعاد إلى بيته، وإذا بأُمِّه جالِسَةٌ خلف الباب، فقال: ما هذا؟ قالت: اعتقدتُ مع الله أن لا أبْرَحَ من هذا المكان حتى تَعودَ. [وحكى في "المناقب" عنه أنه] قال: رأيتُ هِمْيانًا (¬5) بطريق مكة يَلْمَع ذَهبًا، فقلتُ: آخُذُه فأفرِّقُه في فقراء مكة، فهتف بي هاتفٌ: إن أخذتَه سَلَبْناكَ فقرَك، فتركتُه. [وحكى عنه في "المناقب" أنه] قال: رأيتُ في منامي شابًّا ما رأيتُ أحسنَ منه، فقلتُ: مَن أنت؟ فقال: التَّقوى، فقلتُ: فأين تَسكُن؟ قال: في كلِّ قلبٍ حَزين. [قال: ] ورأيتُ أسْوَدَ مُشَوَّهَ الخَلْق، فقلتُ: مَن أنت؟ قال: الضَّحِكُ، قلتُ: فأين تسكن؟ قال: في كلِّ قلب فَرحٍ مَرِحٍ (¬6)، فانتبهتُ، وعاهدتُ الله أن لا أضحك أبدًا. ¬

_ (¬1) في (ف م 1): كبار. (¬2) في (خ): وقال المرتعش، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 4/ 128. (¬3) فيما نقله عنه الخطيب في تاريخه. (¬4) في (ف م 1): وحكي عنه أنه استأذن، والمثبت من (خ)، والخبر في مناقب الأبرار 2/ 91. (¬5) كيس تجعل فيه النفقة يُشدّ في الوسط. (¬6) في مناقب الأبرار 2/ 91: فإذا بامرأة سوداء أوحش ما تكون فقلت من أنت فقالت الضحك قلت فأين تسكنين فقالت في كل قلب فرح مرح.

وقال: رأيتُ في منامي حَوْراء ما رأيتُ في الدنيا أحسنَ منها، فقلت: زوِّجيني نفسَك، فقالت: اخطُبني من سيدي، فقلتُ: ما مَهْرُك، فقالت: حَبْسُ النفسِ عن مألوفاتها. [وذكر في "المناقب" أيضًا عن الكتاني] قال: كان عندنا بمكة فتًى عليه أَطْمارٌ رَثَّة، وكان لا يُجالسنا، فوقع في قلبي محبَّتُه، ففُتِح عليَّ بمئتَي درهم من وَجْهٍ حَلال، فأتيتُه بها ووضعتُها بين يديه، فنظر إليَّ شَزَرًا وقال: اشتريتُ هذه الجِلْسَة مع الله على الفَراغ بسبعين ألف دينار غير الضِّياع والمُسْتَغَلَّات، تُريد أن تَخْدَعَني بهذه، ثم بدَّدَها وقام، فقَعدتُ ألتقطُها، فما رأيتُ مثلَ عِزِّه حين قام، ولا مثلَ ذُلِّي حين قعدتُ ألتقطها. [ذكر] نُبذة من كللامه: [حكى عنه في "المناقب" أنه] قال: إنَّ لله رِيحًا تُسمَّى الصَّبيحة، مَخزونةٌ تحت العرش، تَهُبُّ عند الأسحار، فتحمل الأنينَ والاستغفار إلى الملك الجبَّار. وقال: كن في الدنيا ببَدَنك، وفي الآخرة بقلبك. ونظر إلى شيخٍ أبيضَ الرَّأس واللّحية يسأل الناس فقال: هذا رجلٌ (¬1) ضَيَّع أمرَ الله في صغره، فضَيَّعه الله في كِبَره. وقال: الذَّاكِرون يعيشون في ظلِّ ذِكرهم، والعارفون يعيشون في ظلِّ لُطفِ الله، والصَّادقون في ظلِّ قُرْبه، والغافلون في ظِلِّ سِتْره. وقال: إذا تَجَلَّت حقائقُ الحقِّ لسرٍّ أزالت عنه الظُّنونَ والأماني؛ لأنَّ الحقَّ إذا استولى على سرٍّ قَهَرَه، فلا يبقى فيه لغيره أَثَر. وقال له فقيرٌ: أوْصِني، فقال: اجتَهِد أن تكون كلَّ ليلةٍ ضيفَ مسجدٍ، وأن تموتَ بين منزلين. وقال: النُّقباءُ ثلاثُ مئة، والنُّجَباء سبعون، والأبدال أربعون، والأخيار سبعةٌ، والعُمُد أربعةٌ، والغَوْث واحد، فمَسْكَن النُّقَباء المغرب، ومَسْكَنُ النُّجَباء مصر، ¬

_ (¬1) في (ف م 1): شيخ، والمثبت من (خ).

ومسكن الأبدال الشام، والأخيار يَسيحون في الأرض، والعمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة، فإذا وقعت الحاجة من أمر العامة ابْتَهَلَ النُّقَباء، ثم ذكر الجميع على الترتيب، فإن أُجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فتُجابُ دَعوتُه (¬1). وقال: مَن باع الحِرصَ بالقناعة ظَفِرَ بالعزِّ والمروءة. وقيل له: أيُّ فائدةٍ في الحكايات؟ فقال: هي جُندٌ من جنود الله، يُقوِّي بها قلوبَ المُريدين، ثم قرأ: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] الآية. وقال: مَن طلب الرَّاحةَ بالراحة عُدِمَ الراحة. وسئل عن التوبة فقال: التَّباعُدُ عن المَذْمومات كلِّها إلى المَمْدوحات كلِّها. وقيل له: ما أشْهى الطعام؟ فقال: لُقمةٌ من ذكر الله، رُفِعت من مائدة الرِّضى عن الله، وجُعِلَت في فمِ اليقين بيد التوحيد. [وقال في "المناقب"] كان ينشد: [من مخلع البسيط] الشَّوقُ والوَجْدُ في فؤادي ... قد مَنَعاني من القَرار هما معي لا يُفارِقاني ... فذا شِعاري وذا دِثاري [قال الخطيب وغيره: ] تُوفي الكتَّاني رحمه الله بمكة في هذه السنة، وقيل: في سنة ثمانٍ وعشرين [وثلاث مئة، والأول أصح]، وصَحِب الجُنَيد، والخرَّاز، والنُّوري، وعباس بن المهتدي [وغيرهم] (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 129 - 130، ومناقب الأبرار 2/ 92 - 95. قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 11/ 167: كل ما يروى في عدة الأولياء والأبدال والنقباء ... فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ، إلا بلفظ الأبدال، وروي فيهم حديث منقطع ليس بثابت. (¬2) تاريخ بغداد 4/ 128، 130، وما بين معكوفين من (ف م 1). وجاء في (خ) بعد هذا الكلام ما نصُّه: وعزم على قصد بغداد، واستولى على شيراز، وتقدم فنزل أصبهان، وأساء السيرة ... وكتب على هامش النسخة حاشية: مرّ هذا في الأصل، كذا في الأصل ولعله سقط. اهـ. قلت: وهذا الخبر سلف في أول السنة، وهو خبر مقتل مرداويج.

هارون بن غريب، خال المقتدر

هارون بن غَريب، خالُ المقتدر قد ذكرنا أنَّه كان يَتَقَلَّد حُلْوان، وأنَّه حَشَد وقَصد بغداد، ونزل النَّهْرَوان، وكان الرَّاضي يَتَخَيَّل منه، فبعث إليه محمد بن ياقوت، فحاربهم هارون فقتلوه، وقد ذكرنا كيفيَّة قتله، وحَملوا رأسَه إلى الرَّاضي فسُرَّ به، ثم بعث به إلى أهله، فجَمعوا بين رأسه وجسده، ودَفنوه عند قبر أبيه بقصر عيسى قريبًا من الكَرْخ، رحمه الله. يعقوب بن إبراهيم ابن أحمد بن عيسى، أبو بكر، البَزَّاز، بغداديُّ (¬1). ولد سنة سبع وثلاثين ومئتين، وكان مُتَعبِّدًا، توفي ببغداد ليلة الجمعة في ربيع الآخر وهو ساجدٌ. حدَّث عن الحسن بن عَرَفَة وغيره، وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقةً مأمونًا. [وفيها توفي] أبو علي الرُّوْذَبارِيّ الصُّوفي [واختلفوا في اسمه، فقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: ] اسمه: أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور بن شَهْرَيار بن مُهْرَقاذاز بن فُرْغُدُد بن كِسرى (¬2). [وكذا ذكر ابن خَميس في "المناقب" (¬3). وقال الخطيب (¬4): اسمه: محمد بن أحمد بن القاسم. وقال قوم: اسمُه كنيتُه، وهو الأشهر، ولا يُعرف إلا بها، فلذلك ذكرناه في آخر السنة (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 430، والمنتظم 13/ 346، وتاريخ الإسلام 7/ 469. وهذه الترجمة وسابقتها ليست في (ف م 1). (¬2) طبقات الصوفية 354. (¬3) مناقب الأبرار 2/ 55. (¬4) في تاريخ بغداد 2/ 180 وصححه. (¬5) وانظر في ترجمته غير ما ذكر: حلية الأولياء 10/ 356، والرسالة القشيرية 109، والمنتظم 13/ 343، والسير 14/ 535، وتاريخ الإسلام 7/ 469.

ذكر طرفٍ من أخباره: قال الخطيب: ] أصلُه من بغداد، وكان من أبناء الوزراء والرُّؤساء والكَتَبَة، صَحِب الجُنَيد، ولزمه وأخذ عنه، وصار أحدَ أئمَّة الزَّمان، وأقام بمصر وصار شيخَ الصوفية ورئيسَهم بها إلى أن مات (¬1). [وحكى عنه أبو عبد الرحمن السُّلَمي أنَّه] كان يقول: أستاذي في التَّصوف الجُنَيد، وفي الحديث والفقه إبراهيم الحَرْبي، وفي النَّحْو ثَعْلَب، وفي رواية: وفي الحديث إبراهيم الحَرْبيّ، وفي الفقه أبو العباس بن سُرَيج (¬2)، [وكان يفتخر بمشايخه]. وصحب النُّوري، وابن الجَلاء، والمسوحي وغيرهم. وقال الحافظ محمد بن عمر الجِعابي: أتيتُ مسجدَ عَبْدان الأهوازي لأراه، فدخلتُ فرأيتُ شيخًا جالسًا وحده، مَليحَ الشَّيبة، وعليه هيئةٌ، فجلستُ إليه، فذاكَرَني بأكثر من مئتي حديث في الأبواب، وكنتُ قد سُلِبتُ في الطريق، فأعطاني الذي كان عليه، فلمَّا دخل عَبْدان المسجدَ ورآه اعتنقَه وبشَّ به، فقلتُ: مَن هذا الشيخ؟ قالوا: أبو علي الرُّوْذَباري. [وحكى الخطيب عن أبي علي الروذباري أنَّه] قال: أنفقتُ (¬3) على الفُقراء كذا وكذا ألفًا، فما وَضَعتُ شيئًا في يد فقير، بل كنتُ أضَعُ ما أُعطي في يدي، فيأخذه الفقير من يدي، حتى تكونَ يدي تحت أيديهم، ولا تكون يدي فوق يد فقير. [وحكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال (¬4): رأيتُ في البادية غلامًا حَدَثًا، فقال لي: يا أبا علي، أما كفاه أنَّه أبلاني بحُبِّه (¬5) حتى أعَلَّني، ثم قال: [من الهزج] أيا مَن ليس لي منه ... وإن عَذَّبَني بُدُّ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 180. (¬2) طبقات الصوفية 360، وتاريخ بغداد 2/ 181. (¬3) في (خ): وقال الروذباري، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 2/ 183. (¬4) ما بين معكوفين من (ف م 1)، والخبر في مناقب الأبرار 2/ 60. (¬5) في المناقب: أما يكفيه أن شغفني بحبه.

ويا مَن حلَّ في قلبي ... محَلًّا ما له حدُّ إذا لم يَرْحَمِ المَولى ... إلى مَن يَشتكي العبدُ ووقع ميتًا. [وحكى عنه أيضًا] قال: دخلتُ مصرَ فرأيتُ الناس مجتمعين على شابٍّ مَيِّت، فقلتُ: ما هذا؟ فقالوا: سمع قائلًا يقول: [مجزوء الرمل] كَبُرَتْ هِمَّةُ عينٍ (¬1) ... طَمِعَتْ في أن تَراكَ أوما يَكْفي لعيني ... أن ترى مَن قد رآكَ فشَهَق ومات. [وحكى عنه أيضًا أنه] قال: قدم علينا فقير، فأقام أيامًا ثم توفي، فلمَّا أردتُ أن أُواريه في التراب فتح عينيه وقال: يا أبا علي، أَتُذَلِّلُني بين يدي من يُدَلِّلُني؟ ! فقلتُ: يا حبيبي، أحَياةٌ بعد الموت؟ ! فقال: ما أنا ميت بل أنا حيّ، وكلُّ محبٍّ لله فهو حيٌّ، ولأنْفَعَنَّك غدًا بجاهي يا رُوذَباريّ. ذكر نبذة من كلامه: [حكى عنه في "المناقب" أنه قال: ] (¬2) فَضْلُ المَقال على الفِعال مَنْقَصَة، وفضلُ الفِعال على المَقال مَكْرُمَة. قال: وقال: لو تكلَّم أهلُ التَّوحيد بلسان التَّجْرِيد لما بقي مُحِقٌّ إلا مات. وقال: كيف تُشاهِدُه الأشياء وبه فَنِيَت، وكيف تغيبُ عنه وبه ظَهَرَت. وقال: تَشوَّقَت القلوبُ إلى مُشاهَدة الذَّات، فأُلْقيت إليها الأسامي فسَكَنت، والذَّاتُ مُسْتَتِرةٌ لا إلى أوان التَّجَلِّي، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] أي: وَقِفوا معها عن إدراك الحقائق. وقال: المُشاهَداتُ للقلوب، والمُكاشَفاتُ للأسرار، والمُعايَنات للبَصائر، والمَرْئيَّات للأبصار. ¬

_ (¬1) في (خ): عبد، وهو تحريف، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في مناقب الأبرار 2/ 60. (¬2) في (خ): نبذة من كلامه قال الروذباري، والمثبت من (ف م 1)، والقول في المناقب 2/ 57.

وقال: إذا قال الصُّوفيُّ بعد خمسة أيام: أنا جائعٌ فألْزِموه بالسُّوق (¬1) [، وأمروه بالكَسْب]. وقال: الخَوف والرَّجاء كجَناحَي طائر، إذا اسْتَوَيا قَويَ الطَّائر على الطَّيَران، فإن نَقَص أحدُهما وقع النَّقْص في الطائر، وإن عُدِما مات الطائر. وقال: كان أربعةٌ في زمانهم: واحدٌ لا يَقبل من الإخوان ولا من السُّلطان، والثاني يَقبل من الإخوان والسُّلطان جميعًا، والثالث يأخُذ من الإخوان ويُكافئ عليه، ولا يأخذ من السُّلطان، والرابع يأخذ من السلطان ولا يأخذ من الإخوان. فأما الذي لا يقبل من الإخوان ولا من السلطان فيوسف بن أَسْباط، وَرِث من أبيه سبعة آلاف دينار، أو سبعين ألف درهم، لم يأخذ منها درهمًا واحدًا، وكان يَسِفُّ الخُوصَ (¬2) ويأكل من ثمنه. وأما الذي يأخذ من الإخوان ومن السلطان فأبو إسحاق الفزاري، فكان ما يأخذه من الإخوان يُنفِقُه في المَستورين الذين لا يَلْبَسون (¬3)، وما يأخذه من السلطان يُخْرِجُه إلى أهل طَرَسوس. وأما الذي يأخذ من الإخوان ويُكافئ عليه فعبد الله بن المبارك، ولا يأخذ من السلطان. وأما الذي يأخُذُ من السلطان ولا يأخذ من الإخوان فمَخْلَد بن الحسين، كان يقول: السُّلطان لا يَمُنُّ، والإخوان يَمُنُّون. وسئل أبو علي عن السَّماع فقال: مُكاشَفَة الأسرار إلى مُشاهَدَة المَحْبوب، وقد بلَغْنا فبه إلى مكانٍ مثلِ حَدِّ السَّيف، إنْ مِلْنا كذا فإلى النار. وقال: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) في (خ): بالتسوق، والمثبت من (ف م 1). وما يرد بين معكوفين من مناقب الأبرار 2/ 58. (¬2) ينسج الحصير. (¬3) في مناقب الأبرار 2/ 59: الذين لا يتحركون. فلعل كلمة يلبسون محرفة عن يكتسبون، والله أعلم.

بك كِتْمانُ وَجْدِه بك عنه ... لك منه وعنك مالك منه ومتى لاحَ لائحٌ مَعْنَويُّ (¬1) ... هام وَجْدًا عليك إنْ لم تَكُنْهُ يا فَتى الحُبِّ بل فتى الحَقِّ سِرِّي ... فيك مُسْتَودَعٌ لديكَ فَصُنْهُ وقال: أظْهَر الله الأسامي إلى الخَلْق ليَسْكُنَ بها شوقُ المحبِّين، وتأنَسَ بها قلوبُ العارفين. وأنشد لنفسه يقول: [من الكامل] إنَّ الحقيقة (¬2) غيرُ ما تَتَوَهَّمُ ... فانْظُرْ لنفسِكَ أيَّ حالٍ تَعْزِمُ أتكون في القوم الذين تأخَّروا ... عن حقِّهم أم في الذين تَقَدَّموا لا تُخْدَعَنْ فتَلُومَ نفسَك حين لا ... يُجْدي عليك تأسُّفٌ وتَنَدُّمُ وقال أيضًا: [من الطويل] تَشاغَلْتُمُ عنِّي فكُلِّيَ أُنْكِرُ ... لأنَّكمُ منِّي بما بيَ أَخْبَرُ فإن شئتُمُ وَصْلي فذاك أُريدُه ... وإن شئتُمُ هَجْري فذلك أُوْثِرُ ألستُ أُرى أَهْلًا لحالٍ يَسُرُّكمْ ... بذلك أَزْهُو ما حَيِيتُ وأَفْخَرُ (¬3) وقال أيضًا (¬4): أَدْرِكْ بَقيَّةَ رُوحٍ فيكَ قد تَلِفَتْ ... قبل الفِراقِ فهذا آخِرُ الرَّمَقِ ولو مَضى الكلُّ منِّي لم يكن عَجَبًا ... وإنَّما عَجَبي في البعض كيف بَقي (¬5) ¬

_ (¬1) في طبقات الصوفية 359: من إذا لاح لائح لمشوق، وفي مناقب الأبرار 2/ 57، وطبقات الشافعية 3/ 52: من إذا لاح لائح مشرقي. (¬2) في (خ): الخليفة، وليس في (ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا، والمثبت من مناقب الأبرار 2/ 58، وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 51. (¬3) من قوله: وقال: الخوف والرجاء كجناحي الطائر ... إلى هنا ليس في (ف م 1). والأبيات في مناقب الأبرار 2/ 62، وطبقات الشافعية 3/ 52. (¬4) في (ف م 1): وذكر له الخطيب أبياتًا منها ما أنشده الخطيب عن أبي طالب يحيى الدسكري، والمثبت من (خ). (¬5) البيتان في تاريخ بغداد 2/ 183، وعنه المنتظم 13/ 345، وطبقات الشافعية 3/ 52 بتقديم ثانيهما على الأول.

ذكر وفاته: توفي (¬1) بمصر في هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة. ولمَّا احتُضر كان رأسه في حِجْر زوجته أم أيمن عَزيزة، وقيل: فاطمة (¬2)، ففتح عَينيه وقال: هذه أبواب السماء قد فُتِحَت، وهذه الجِنان قد زُخْرِفَت وزُّيِّنَت، وهذا قائل يقول: يا أبا علي، قد بَلَّغناك المَرْتبةَ القُصوى وإن لم تسألها، وأعطيناك دَرجةَ الأكابر وإن لم تَطْلُبها. أسند أبو علي الحديث، ومن إسناده إلى ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] قال: مَخافَةَ الإجلال. قال المصنِّف رحمه الله (¬3): وزوجته فاطمة هذه كانت تَخرُج في كلِّ سنة من مصر لتودِّع الحاجَّ، فإذا رأت الجِمال وهي تمرُّ بها تنشد: [من الطويل] فقلتُ دَعوني واتِّباعي رِكابَكم ... أكن طَوْعَ أيديكم كما يَفْعَلُ العَبْدُ وما بالُ زَعْمي لا يَهونُ عليهمُ ... وقد عَلِموا أنْ ليس لي منهم بُدُّ ثم تقول: واضَعْفاه، هذه حَسْرَةُ مَن انقطع عن البيت، فكيف حَسْرَةُ مَن انقطع عن ربِّ البيت (¬4). ¬

_ (¬1) في (ف م 1): قال السلمي: توفي، والكلام ليس في طبقات الصوفية، والمثبت من (خ). (¬2) كذا في النسخ؟ ! وفي تاريخ بغداد 2/ 180 أن أخته فاطمة بنت أحمد أم سلمة، وزوجته أم اليُمن عزيزة بنت محمد بن عمرو بن فارس. وقد روى هذا الخبر القشيري في رسالته 465، وابن خميس في مناقب الأبرار 2/ 59 وفيهما: أن رأس الروذباري كان في حجر أخته فاطمة، وكذا أورده السبكي في طبقات الشافعية 3/ 50. (¬3) في (ف م 1): قلت. (¬4) ذكر النسوة المتعبدات للسُّلَمي 86 ونسبها إلى فاطمة أم اليُمن امرأة أبي علي الروذباري.

السنة الثالثة والعشرون وثلاث مئة

السنة الثالثة والعشرون وثلاث مئة (¬1) فيها قلَّد الراضي ابنَيه الأميرَين أبا جعفر وأبا الفَضْل المشرق والمغرب، واستكتب لهما أبا الحسين علي بن محمد بن مُقْلَة، وخلع عليه، فاستخلف سعيد بن عمرو بن سنجلا، ونُفِّذَت الكتب إلى الحسن بن عبد الله بن حمدان وكان على الموصل والجزيرة وغيرها بذلك. وفيها بلغ الوزير أبا علي بن مُقْلَة أنَّ ابن شَنَبُوذ يُغيِّر حُروفًا من القرآن، ويَقرأ بخلاف ما أُنْزِل، فاستَحْضَره في أول ربيع الآخر، واعتقَلَه، واستَحْضر عمر بنَ محمد القاضي، وأحمد بن موسى بن مُجاهد، وجماعةً من أهل القرآن، ونُوظِر، فأغلظ للوزير في الخطاب والقاضي وابنِ مجاهد، ونسبهم إلى الجهل، وأنَّهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر، فأمر الوزير بضَرْبه، فنُصِبَ بين الهِنْبازَين، وضُرب سبْعَ دِرَرٍ، وهو يدعو على الوزير بأن تُقْطَعَ يدُه، ويُشتَّتَ شَمْلُه. ثم أُوقِف على الحروف التي قيل إنَّه يقرأ، فأَنْدَر (¬2) منها ما كان شَنيعًا، وما سواه قال: قد قرأ به قومٌ، فاستتابوه، فتاب ورجع عن ما كان يَقرأ به، وأنَّه لا يقرأ إلا بما في مُصحف عثمان رضوان الله عليه وبالقراءة المشهورة، وكتب عليه الوزيرُ مَحْضَرًا بما سمع من لَفْظه، وأخذ خطَّه عليه، وقيل للوزير: إن رجع إلى منزله نهارًا قتلَتْه العامة، وسأل أن يُبْعَد إلى المَدائن ليقيمَ بها أيامًا، ثم يرجع منها إلى بغداد مُسْتَخفيًا ولا يظهر، فأجابه. وممَّا أُخذ عليه أنَّه كان يقرأ: "إذا نُودِي للصَّلاةِ من يوم الجمعة فامْضُوا إلى ذِكْرِ الله"، ومنها "وتجعلون [شُكْرَكم] أنَّكم تكذِّبون"، "وكان أمامَهم ملكٌ يَأخُذُ كلَّ سفينةٍ صالحةٍ غَصْبا"، "وتكون الجِبالُ كالصُّوفِ المَنْفُوش"، و"تَبَّتْ يَدا أبي لهَبٍ وقد تَبَّ"، "فلمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الإنسُ أنَّ الجِنَّ لو كانوا يَعلَمون [الغَيبَ] لَما لَبِثوا حَوْلًا في العَذابِ ¬

_ (¬1) ليس في (ف م 1) من أخبار هذه السنة سوى خبر هبوب الريح، وغلاء السعر، وسنثبت منهما ما زاد على نص (خ) بين معكوفين دون إشارة. (¬2) أسقط، وفي تاريخ الإسلام 7/ 415: فأهدر، وفي المنتظم 13/ 348: فأنكر.

المُهِين"، "واللَّيلِ إذا يَغْشَى والنَّهارِ إذا تَجَلَّى والذَّكَرِ والأُنْثى" (¬1). وأشياءَ من هذا الجِنْس، فاعْتَرف بها، ويقال: إنَّه نُفِيَ إلى البَصْرة أو إلى الأهْواز، فماتَ بها (¬2). وفيها صَرَف الرَّاضي أئمَّةَ المساجد الجامعة؛ لأنَّه بلغه أنَّهم يَدْعون على المنابر لمحمد بن ياقوت بعده. وفي شهر ربيع الآخر (¬3) شَغَب الجُند، وصاروا إلى دار محمد بن ياقوت، وطَلبوا أرزاقَهم، فأغْلَظَ لهم، فغضبوا، وهَجَموا عليه ليقتلوه، فدافع عنه غِلمانُه، ودخل إلى دار الحُرَم، فجاء الوزير إليهم وسكَّنَهم، ثم عادوا في اليوم الثاني، وخرجوا إلى الصحراء، وعاوَنَهم العامةُ، فعَبَروا إلى الجانب الغربي، وفتحوا السُّجونَ والمُطْبِق (¬4)، وحُبِس القاضي، وأخرجوا مَن كان بها، وعَظُمَت الفِتنة، ووقع القتال والنَّهْب، فنَهبوا جميعَ ما كان في دَكاكين الناس، وركب بدر الخَرْشَني ليُسَكِّنَهم، فرَمَوه بالنُّشَّاب، واتَّفقَت الحُجَرِيَّة والسَّاجيّة، وقصدوا دارَ الخليفة فمنعهم الحُجَّاب، فكاشفوا محمدَ بنَ ياقوت وقالوا: لا نرضى أن تكون رئيسًا علينا، وكان قد أمر بإخراج رجاله من البلد، فلم يلتَفِتوا، وأحاطوا بدار الخليفة، وحَصَروها، وأقاموا أيامًا على ذلك، ثم أرضاهم فسَكَنْوا. ¬

_ (¬1) الآيات وسورها على الترتيب: الجمعة: 9، الواقعة: 82، الكهف: 79، القارعة: 5، تبت: 1، سبأ: 14، الليل: 3. (¬2) أخبار الراضي 62 - 63، وتكملة الطبري 291، والمنتظم 13/ 348، وتاريخ بغداد 2/ 103، وتاريخ دمشق 60/ 120، 123، والمرشد الوجيز لأبي شامة 187 - 192، وتاريخ الإسلام 7/ 415، والسير 15/ 264، ومعرفة القراء الكبار 2/ 550، وغيرها من الكتب التي ترجمت لابن شنبوذ. قال الذهبي في تاريخ الإسلام: ولا ريب أنها -يعني الحروف- قد رُويت، ولم يخترعها الرجل من عنده، وكان إمامًا في القراءة. وقال أبو شامة في المرشد الوجيز -ونقله عنه الذهبي في السير وفي معرفة القراء الكبار: كان الرفقُ بابن شنبوذ أولى من إقامته مقام الدُّعَّار والمفسدين، وكان اعتقاله وإغلاظ القول له كافيًا، وإن كان ليس بمُصيب فيما ذهب إليه، لكن خطأه في واقعة لا يُسقط حقَّه من حُرمة أهل القرآن والعلم. (¬3) في المنتظم 13/ 348، وتاريخ الإسلام 7/ 416: وفي يوم السبت لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول. (¬4) كذا ضبطها الزبيدي في شرح القاموس -كمُحْسِن- قال: هو سجن تحت الأرض، وضبطها دوزي في تكملة المعاجم 7/ 22 بتشديد الباء المفتوحة.

وفيها قَبض الرَّاضي على المُظَفَّر ومحمد ابنَي ياقوت، وحبسهما في دار الخليفة، وكان ابن مُقْلَة قَلِقًا من غَلَبَة محمد بن ياقوت على تدبير الأمر واستيلائه على الدَّواوين، فأخذ في الحيلة عليه سِرًّا، فتمَّ له ذلك، ولمَّا كان يوم الإثنين لستٍّ خَلَون من جمادى الأولى ركب القُوَّادُ إلى دار السُّلطان على رَسْمهم في أيام المَواكب، وحضر الوزيرُ على عادته، وحضر محمد بن ياقوت وكاتبُه أبو إسحاق القَرارِيطيّ، وجلسوا في الصَّحْن التّسْعيني، فخرج بعضُ الخدم فقال لمحمد بن ياقوت: الخليفةُ يطلبُك. فقام مُبادرًا ودخل، فعَدَلوا به إلى حُجْرة في الدِّهْليز، فاعتقلوه بها، وأخذوا سيفَه ومِنْطَقَتَه، وفعلوا بالقَراريطي والمُظَفَّر بن ياقوت كذلك، وجلس عند أخيه. ورتَّب الوزير الغِلْمان الحُجَريّة والسَّاجِيّة في دار السُّلطان ليَحفظوها، وبعث بمُفْلِح الخادم الأسود إلى دار محمد بن ياقوت ليحفظها، ونُهِبَت دورُ القراريطي وأصحابِ ابن ياقوت. وقلَّد الرَّاضي حُجْبَتَه مكان ابنِ ياقوت أبا فَهْم مولى الراضي، وأخذ الوزيرُ خطَّ القراريطي بخمس مئة ألف دينار، واستقامت الأمورُ لابن مُقْلَة في الأمر والنَّهي، والولاية والعَزْل من غير مُنازع. وفيها شَغَب الجُنْدُ على ابن مُقْلَة، ونَهبوا دارَه، فأرضاهم بمالٍ، فسَكَنوا. وفي جُمادى الأولى جَرت فتنةٌ عظيمة ببغداد من البَرْبَهاري الحَنْبَلي وأصحابه، فأمر الراضي بدرًا الخرشني أن يركبَ ويُنادي في جانبي بغداد: أن لا يجتمع أحدٌ من أصحاب البَرْبهاري، واستتر [البَرْبَهاري]، وكتب الراضي كتابًا إلى الحنابلة أغلظ لهم فيه (¬1). وفي هذا الشهر هَبَّت ببغداد ريحٌ عظيمةٌ (¬2)، واسْوَدَّت الدنيا وأظْلَمت من العصر إلى المغرب، وجاءت رُعودُ عظيمةٌ، وبُروق هائلة. وفي جُمادى الآخرة شَغَب الجُندُ بالمطالبة بالأرزاق، وصاروا إلى دار ابن مُقْلَة وابنه، ونَقَبوا الدَّار، ورَماهم الغِلمان بالنُّشَّاب، ودخلوا الدار ومَلَكوها، وخرج ابن ¬

_ (¬1) أخبار الراضي 65، وتكملة الطبري 294، والمنتظم 13/ 349، والكامل 8/ 307، وتاريخ الإسلام 7/ 416 وما بين معكوفين منها. (¬2) في (ف م 1): وفيها في جمادى الآخرة هبت ببغداد ريح وأرياح عظيمة. والمثبت من (خ)، وانظر المنتظم 13/ 349، وتاريخ الإسلام 7/ 417.

مُقْلَة وولدُه منها إلى الجانب [الغربي]، وركب السَّاجِيَّةُ، ورَفَقوا بالجُند، وراسلوهم، فانصرفوا، وعاد الوزير [وابنه] إلى منازلهما، ونُودي في أصحاب ابن ياقوت وغلمانه وأسبابه: لا يُقيمُ أحدُ منهم ببغداد؛ لأنَّ ابن مُقْلَة اتَّهَمهم بذلك (¬1). وفي رجب قُبِض على العباس بن المقتدر من داره بالرُّصافَة، وحُمِل إلى دار الخليفة، وطُلب أخوه عبد الواحد فلم يُظْفَر به؛ لسَعْيٍ وقع لهما في الخلافة. وفيها وصل أبو العباس الخَصِيبي من البحر مُسْتَترًا لمَّا أفلت من عُمَان، وعلم ابنُ مُقْلَة، فكبَسَ عدَّة مواضع، فلم يَظْفَر به، فأمسك عن طَلَبه. وفيها هدم ابنُ مُقْلَة مَنازلَ أبي الفَرَج محمد بن جعفر بن حَفْص، وسببُه أنَّ ابنَه أبا جعفر كتبَ رُقْعَةً إلى الرَّاضي يَطلبُ الوزارة على يد مُفْلح الخادم، فبعث الرَّاضي بالرُّقْعَة إلى ابن مُقْلَة، وحَبَس الخادم، فهدم ابن مُقْلَة مَنازلَ ابن حفص ودورَ أهله، وقطع شجرَ بساتينهم، وواصل الكَبْسات في طَلَب أبي جعفر والخَصيبي، فلم يَظْفَر بهما. ذكر قصة سعيد بن حَمْدان: كان قد ضَمِن المَوْصِلَ وديارَ ربيعة سِرًّا من ابن أخيه الحسن بن عبد الله بن حَمْدان، وخُلِع عليه ببغداد، وكان ابن أخيه ضامِنًا للبلاد، فخرج أبو العلاء سعيد في صورة مَن يُساعد ابنَ أخيه في تَخْليص الضَّمان في خمسين فارسًا من غلمانه، فدخل الموصل، وعرف ابن أخيه خبرَ مُوافاته، فخرج نحوه مُظْهِرًا لتَلَقِّيه، واعتمد أن يُخالِفَه في الطريق. ومضى أبو العلاء إلى دار ابن أخيه فنزلها، وسأل عنه فقيل: خرج للقائك، فجلس ينتظره، ولمَّا علم الحسن بأنَّ عمَّه في داره وَجَّه غِلمانَه، فقبضوا عليه وقَيَّدوه، فلمَّا كان ليلة نصف رجب وجَّه غلمانه إلى عمِّه فقتلوه، ولم يَجتمعا، وحُمل إلى الحُسَينية فدُفِن بها. وعلم الرَّاضي فأنكر ذلك إنكارًا عظيمًا، وتقدَّم إلى أبي علي بن مُقْلَة بالخروج إلى الموصل والإيقاع بالحسن، فخرج في السَّاجِيَّة والحُجَرِيّة وجميعِ الجيش، وشَيَّعه أربابُ الدولة وابنُه أبو الحسين، واسْتَخْلَفَه مَوْضِعَه. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من الكامل 8/ 312، وانظر المنتظم 13/ 349، وتاريخ الإسلام 7/ 417.

وكان ابن مُقْلَة قد سعى في مُصادَرَة علي بن عيسى على خمسين ألف دينار بكتاب افْتَعَلَه إلى الحسن بن عبد الله بن حَمْدان عن الرَّاضي، مَضْمونُه: أن لا يفرج عن ضَمانه، ولا يحمل من ماله شيئًا إلى الحَضْرة، وأن يمنع مَن يحمل المِيرَة إلى بغداد. فلمَّا اتَّفق تسيير ابن مُقْلَة إلى الموصل؛ أُطْلِق علي بن عيسى من المَوْصِل [إلى منزله بعد أداء المال، وانحدر إلى ضيعته بالصَّافِيَة، و] خرج (¬1) منها الحسن يوم الأربعاء لستٍّ بقين من شعبان، فتبعه ابن مُقْلَة، فصَعِد جبلَ التِّنِّين، ودخل بلد الزَّوْزان، فعاد ابنُ مُقْلَة إلى المَوْصل، وأقام يَسْتَخرج الأموال، ويَسْتَسلِفُ من التُّجّار مالًا على أن يُطلِقَ لهم من غلَّات البلد، فاجتمع له أربعُ مئة ألف دينار. ولمَّا طال مُقامُه بالمَوْصل احتال سَهْلُ بن هاشم كاتبُ الحسن، وكان مُقيمًا ببغداد، فبذل لأبي الحسين بن الوزير عشرةَ آلاف دينار حتى يكتب لأبيه بأنَّ الأمور بالحَضْرَة قد اضطربت، وأنَّه متى تأخَّر لم تُؤمَن حادثةٌ يَبْطُل بها التَّدبير، فانزعج الوزيرُ وقلَّد المُعاون بها ما كرد الدَّيلَمي من السَّاجِيَّة (¬2)، وانصرف إلى الحَضْرة، فدخل بغداد مُسْتَهَلَّ ذي القعدة، وخرج الأميرُ أبو الفضل [مُتَلقّيًا]، ولقي الوزيرُ الرَّاضي، فرحَّبَ به، ومضى إلى منزله، وكان قد كتب إلى ابنه أبي الحسين بأن يكتب كتابًا إلى علي بن عيسى يُطيِّبُ قلبَه فيه، ويَعِدُه وَعْدًا جميلًا، ويُخيِّرُه بين الانصراف إلى منزله بمدينة السَّلام أو المُقام بالصَّافِيَة، فكتب إليه فقال: أختارُ المُقامَ بالصَّافِيَة. وكان السَّبب في ذلك ابن مُقْلَة؛ لمَّا وَصل إلى المَوْصِل كتب إلى الحسن بن عبد الله بن حَمْدان كتابًا يُطيِّبُ فيه قلبه، ويَعِدُه فيه بالخير، ويؤمِّنُه إن عاد إلى الطَّاعة، فقال ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من أخبار الراضي 66 - 67، وانظر تكملة الطبري 295، والكامل 8/ 309 - 310، وتاريخ الإسلام 7/ 417. (¬2) في تكملة الطبري 295، والكامل 8/ 310: واستعمل على الموصل علي بن خلف بن طياب وماكرد الديلمي وهو من الساجية، وفي أخبار الراضي 68: وخلف بالموصل علي بن خلف بن طياب على الخراج، ويانسًا المؤنسي على الحرب.

الحسن للرسول: ليس بيني وبين هذا الرجل حديثٌ، ولا أقبل ضَمانَه؛ لأنَّه لا عَهْدَ له ولا وَفاءَ ولا ذِمَّةَ، ولا أقبل منه شيئًا، اللهمَّ إلا أن يَتوسَّطَ أبو الحسن علي بن عيسى بينه وبيني، ويَضمنَ لي عنه؛ فإنَّني أسكنُ إلى ذلك وأقبَلُه. وفي رمضان بلغ ابن مُقْلَة أنَّ في بعض الدُّور المُلاصِقَة للزَّاهِر رجلًا (¬1) يأخذ البيعةَ على الناس لإنسانٍ لا يُعرَف، ويَبذلُ لهم الرِّزق والصِّلَة، ويُعطيهم خواتيمَ، فاحتال ابن مُقْلَة عليه، وبعث رجلًا يقال له: أبو محمد الشّكري (¬2)، فاجتمع به، وأخذ البَيعةَ عليه لجعفر بن المُكْتَفي، وذكر أنَّ جماعةً من القوَّاد قد أجابوه منهم يانس المؤنسي وفلان وفلان، واجتمع ابن مُقْلَة بالرَّاضي وأخبره، فقبض على الرَّجل، وعلى جعفر بن المُكْتفي، وحَبَسه، واستحى من يانس أن يَقبض عليه، فولَّاه قِنَّسرين والعَواصم، فخرج إليها، ونَهب مَنزل جعفر بن المكتفي. وفي شوال بعث الرَّاضي للوزير ابن مُقْلَة خِلْعَةً وهديّة، وطيبًا وشرابًا، وأمره بالتَّخَلِّي للشّرب، ففعل ذلك. وفيها عاد الحسن بن حَمْدان إلى المَوْصل، وطرد عنها ماكرد الدَّيلَمي بعد أن التقيا، فكانت الدَّبَرَة أولًا على الحسن، ثم التقيا على باب الرُّوم بنَصيبِين، فهزمه ابنُ حَمْدان، فهرب إلى الرَّقَّة، ونزل منها إلى بغداد، وكتب الحسن إلى بغداد يَسأل الصَّفْحَ عنه، وأنَّه يعود إلى الضَّمان، فأُجيب إلى ذلك. وخرج الناس يحجُّون ومعهم لؤلؤ غلام المُتَهَشِّم يُبَذْرِقُهم، فاعترضه أبو طاهر سَحَر يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، فانهزم لؤلؤ وبه ضَرباتٌ كثيرة، وقتل أبو طاهر الحاجَّ، وسَبى منهم شيئًا كثيرًا، والتجأ الباقون إلى القادسية، ثم تسلَّلوا إلى الكوفة وبغداد، وبطل الحجُّ في هذه السنة. ¬

_ (¬1) في (خ): للزاهر بن جلاء، وهو تحريف، وانظر تكملة الطبري 295، والمنتظم 13/ 349، وتاريخ الإسلام 7/ 417. (¬2) كذا ولم أعرفه.

وفي ليلة الأربعاء المذكورة بعينها انْقَضَّت النُّجوم من أول الليل إلى أن أسْفَر الصُّبح انقضاضًا مُسْرِفًا جدًّا لم يُعْهَد مثلُه ولا ما يقاربه. وفي ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة مات أبو بكر محمد بن ياقوت في الحَبْس في دار الخليفة، وأُحضِر القاضيان أبو الحسين وأبو الحسن محمد بن صالح والشُهود، وأُخرج محمد بن ياقوت، ففَتَّشوه فلم يَرَوْا به أَثَرًا، فعلموا أنَّه مات حتْفَ أنفِه، ثم سُلِّم إلى أهله فكفَّنوه ودفنوه، وباع الوزيرُ ابن مُقْلَةَ أملاكَه وضِياعَه. وفيها غَلا السِّعرُ ببغداد، فبيع الكُرُّ [من الحِنْطَة] بمئة وعشرين دينارًا (¬1)، والشعيرُ بتسعين دينارًا، وأقام الناس أيامًا لا يَجدون القمح، فأكلوا خُبزَ الذُّرَة والدُّخْن والعَدَس. وفيها قدم غلمان مَرْداويج الدَّيلَمي إلى بغداد وفيهم بَجْكَم، فاضطربت الحُجَريّة لذلك، وظنُّوا أنَّها حِيلةٌ عليهم، فاجتمعوا إلى الوزير، وسألوه أن يُرضِيَهم وَيرُدَّهم، فاستدعى جماعةً منهم، وعرض عليهم أن يَنضَمُّوا إلى محمد بن علي غُلام الرَّاشدي، ويُقلِّدَه الجَبَل، ويُطلَق لهم مالٌ مقدارُه أربعة عشر ألف دينار برَسْم نفقاتهم، فعرَّفوا أصحابَهم فلم يَقْنَعوا. وكان خبرُهم قد اتَّصل بأبي بكر محمد بن رائق وهو بواسط يتقلَّد أعمال المعاون والبصرة (¬2)، فكاتَبَهم، ووَعدهم الإحسان، فمضَوا إليه، فقَبِلَهم وأحسنَ إليهم، وزاد في أرزاقهم، ورأَس عليهم بَجْكَم التُّركيّ، ورفع منه، ومَوَّلَه، وأحسن إليه وأفرط في ذلك، وأمرهم بأن يكاتبوا كلَّ مَن في الجَبَل من الأتراك والدَّيلَم وغيرَهم بأن يَصيروا إليه، ففعلوا، فصار عنده منهم عدَّةٌ وافِرة، فأثْبَتَهم، وضمَّهم إلى بَجْكَم. وفيها كتب محمد بن رائق إلى الرَّاضي أن يُضمِّنَه أعمال الخَراج بواسِط والبصرة، وكان أبو يوسف البَريدي قد ضَمِنَها من ابن مُقْلَة، وكان ابن رائق على المعاون، وكان ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تكملة الطبري 296، وانظر المنتظم 13/ 352، وتاريخ الإسلام 7/ 418، والكر: مكيال لأهل العراق. (¬2) في تكملة الطبري 296: وهو يتقلد أعمال المعاون بواسط والبصرة، وانظر الكامل 8/ 303، وتاريخ الإسلام 7/ 418.

إبراهيم بن حماد

محمد وأحمد ابنا علي بن مُقاتل قد انحدرا إلى ابن رائق واعتصما به؛ لعِظَم ما نالهما من المُصادرات من وزراء بغداد، فقَبِلَهما أحسنَ قَبول، وغَلبا عليه، فأشارا عليه بضَمان هذه الأماكن، فبعث الحُسينَ بن علي إلى ابن مُقْلَة في ذلك، وقدَّم ثلاثين ألف دينار، فضمَّن ابن مُقْلَة الحسينَ بن علي، فرجع إلى ابن رائق، ومضى أبو يوسف البريدي إلى الأهواز، وأراد ابنُ رائق القبضَ عليه فلم يقدر. [فصل]: وفيها توفي إبراهيم بن حَمَّاد ابن إسحاق بن إسماعيل بن حَمَّاد بن زيد، أبو إسحاق، الأزْديّ (¬1). ولد في رجب سنة أربعين ومئتين، وسمع خَلْقًا كثيرًا، وكان فا ضلًا، زاهدًا، عابدًا. [وحكى الخطيب قال: قال لنا أبو الحسن الجرَّاحي: ] (¬2) ما أتيتُ إبراهيم بن حَمَّادٍ قطُّ إلا وجدتُه قائمًا يصلِّي، أو جالسًا يقرأ. وكانت وفاتُه ببغداد في صفر. حدث عن الحسن بن عرفة وغيره، وقال [أبو بكر النيسابوري]: ما رأيتُ أعبَدَ منه (¬3). [وفيها توفي] إبراهيم بن محمد ابن عَرَفة بن سُليمان بن المُغيرة بن حَبيب بن المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة، أبو عبد الله، الأَزْدي، العَتَكي، الواسِطي، النَّحوي، ويُعرَف بنِفْطَوَيه (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 570، والمنتظم 13/ 352، وتاريخ الإسلام 7/ 472، والسير 15/ 35. (¬2) في (خ): وقال القاضي أبو الحسن الكرخي، والمثبت من (ف م 1) ومصادر ترجمته. (¬3) ما بين معكوفين من مصادر ترجمته. (¬4) تكملة الطبري 290، وتاريخ بغداد 7/ 93، والمنتظم 13/ 350، ومعجم الأدباء 1/ 254، وتاريخ الإسلام 7/ 472، والسير 15/ 75 وفي حواشيه مصادر أخرى.

ولد بواسط سنة أربعين [ومئتين، وقال ثابت بن سنان: ] سنة خمسين ومئتين (¬1)، وقرأ النحو والأدب، وبرع في العلوم، وسكن بغداد، وله التَّصانيفُ الحِسان، والشِّعرُ الجيِّد (¬2)، فمنه (¬3): [من الطويل] أحبُّ من الإخوان كُلَّ مُواتي ... وكلَّ غَضِيضِ الطَّرْفِ عن عَثَراتي يُطاوعُني في كلِّ أمرٍ أُريدُه ... ويَحْفَظُني حيًّا وبعد وَفاتي ومَن لي به يا ليتني قد أَصَبْتُه ... أُقاسِمُهُ رُوحي ومن حَسَناتي وله (¬4): [من البسيط] أستغفرُ الله ممَّا يعلمُ الله ... إنَّ الشَّقيَّ لمَن لا يَرْحَمُ الله هَبْهُ تَجاوَزَ لي عن كلِّ مَظْلَمَةٍ ... واسَوْأتا من حَيائي يومَ ألقاه وله (¬5): [من البسيط] أهْوى المِلاحَ وأهوى أن أُجالِسَهم ... وليس لي في حَرامٍ منهمُ وَطَرُ كم قد خَلَوتُ بمَن أهوى فيَمْنَعُني ... منه الحَياءُ وخوفُ الله والحَذَرُ كم قد خَلَوْتُ به يومًا فتُقْنِعُني ... منه الفُكاهَةُ والتَّحْديثُ والنَّظَرُ كذلك الحُبُّ لا إتيانُ مَعْصِيةٍ ... لا خيرَ في لَذَّةٍ من بعدها سَقَرُ وقال الخرائطي: أنشدني سَلامة بن عَبَّاد قال: أنشدني نفطويه: [من مجزوء الكامل] إنَّ المَرائي (¬6) لا تُريـ ... ـكَ خُدُوْشَ وجهكَ معْ صَداها وكذاك نفسُك لا تُريـ ... ـكَ عُيوبَ نفسكَ معْ هواها ¬

_ (¬1) في (خ): سنة أربعين، وقيل سنة خمسين ومئتين، والمثبت من (ف م 1). (¬2) في (ف م 1): المليح. (¬3) بعدها في (ف م 1): قال الخطيب بإسناده عن إبراهيم بن محمد بن عرفة هذه الأبيات، والمثبت من (خ)، والأبيات في تاريخ بغداد 5/ 411 وعنه في المنتظم 13/ 351. (¬4) في (ف م 1): وأنشد له الخطيب أيضًا، والمثبت من (خ)، والبيتان في تاريخ بغداد 7/ 95. (¬5) في (ف م 1): وأنشد له الخطيب أيضًا، والمثبت من (خ)، والأبيات في تاريخ بغداد 7/ 96 ومصادر ترجمته. (¬6) جمع مرآة، وفي (خ): المراة، وليست في (ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا، والمثبت من اعتلال القلوب للخرائطي 68.

أحمد بن جعفر

وكان نفطويه يتكلَّم بالنحو دائمًا، قال أبو بكر بن شاذان: بكَّر إبراهيم يومًا إلى دَرْب الرَّوَّاسِين، فلم يعرف المَوْضع، فتقدَّم إلى رجلٍ يَبيع البَقْل فقال: أيُّها الشيخ، كيف الطَّريقُ إلى دَرْب الرَّوَّاسين؟ فالتفت الشيخ إلى جارٍ له فقال: يا فلان، ألا ترى إلى الغلام فعل الله به وصَنع، فقد احتبس عليَّ، فقال: وما الذي تُريدُ منه؟ قال: يجيئُني بباقَةِ سِلْقٍ حتى أصْفَع بها هذا الماصَّ بَظْرَ أُمِّه، قال نِفطويه: فانصرفتُ من غير أن أجيبَه بشيء (¬1). ذكر وفاته: [حكى الخطيب عن أحمد بن كامل القاضي قال: ] مات [نفطويه] يوم الأربعاء لستٍّ خَلَون من صفر، ودُفن يوم الخميس في مَقابر باب الكوفة، وصلَّى عليه البَرْبَهاري الحَنْبَليّ، وكان يَخضِبُ بالوَسْمَة، ومات عن ثلاثٍ وثمانين سنة. حدَّث عن إسحاق بن وهب وغيره، وروى عنه المُعَافى بن زكريا وغيره، وكان صدوقًا ثقةً صالحًا. [وفيها توفي] أحمد بن جعفر ابن موسى بن يحيى بن خالد بن بَرْمك، أبو الحسن، النَّديم، ويعرف بجَحْظَة (¬2). ولد في شعبان سنة أربع وعشرين ومئتين، وكان حسن الأدب، كثيرَ الرواية للأخبار والأشعار، متصرِّفًا في فنون العلوم، عارفًا بصناعة الشِّعر والنجوم، حاذِقًا باللغة والنحو. [قال الخطيب: ] وأما في صنعة الغِناء فلم يلحَقْه أحدٌ في زمانه (¬3). ¬

_ (¬1) من قوله: وقال الخرائطي ... إلى هنا ليس في (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 7/ 96. (¬2) بعدها في (ف م 1): والجاحظ الثاني المعلسن (كذا؟ )، وانظر ترجمة جحظة في: تاريخ بغداد 5/ 105، والمنتظم 13/ 359، ومعجم الأدباء 2/ 241، والكامل 8/ 328، وتاريخ الإسلام 7/ 485، والسير 15/ 221. (¬3) تاريخ بغداد 5/ 106.

ومن شعره (¬1): [من الطويل] لنا صاحبٌ من أَبْرَعِ الناسِ في البُخْل ... وأفْضَلِهم فيه وليس بذي فَضْلِ دَعاني كما يَدعو الصَّديقُ صَديقَه ... فجئتُ كما يأتي إلى مِثلِه مثلي فلمَّا جَلَسْنا للغَداء رأيتُه ... يرى أنَّما من بعض أعضائه أكلي ويَغْتاظُ أحيانًا وَيشْتُمُ عبدَه ... وأعلم أنَّ الغَيظَ والشَّتْمَ من أجلي أَمُدُّ يدي سرًّا لآكلَ لُقمةً ... فيَلْحَظُني شَزْرًا فأعبَثُ بالبَقْلِ إلى أن جَنَتْ كفِّي لحَيني جِنايةً ... وذلك أنَّ الجوعَ أَعْدَمَني عقلي فأهْوَت يميني نحو رِجْلِ دجاجةٍ ... فجُرَّتْ كما جَرَّت يدي رِجْلَها رجلي وقال (¬2): [من الكامل] قُلْ للَّذين تَحصَّنُوا عن راغِبٍ ... بمَنازلٍ من دونها حُجَّابُ إن حال دون (¬3) لقائكم بوَّابُكم ... فالله ليس لبابه بَوَّابُ وقال أيضًا: [من السريع] قد نادَتِ الدُّنيا على نفسها ... لو كان في العالم مَن يَسمَعُ كم واثقٍ بالعُمْرِ وارَيتُهُ ... وجامِعٍ بَدَّدْتُ ما يَجمَعُ وقال أيضًا: [من الطويل] رَحَلْتُم فكم من أَنَّةٍ بعد أَنَّةٍ ... مُبَيِّنَةٍ للناس حُزْني عليكمُ وقد كنتُ أعْتَقْتُ الجُفونَ من البُكا ... وقد رَدَّها في الرِّقِّ شَوقي إليكمُ وكان بين جَحْظة وبين ابن مُقْلَة صداقةٌ قبل أن يُستوزَر، فلمَّا استُوزِرَ استأذَن عليه جَحْظة فلم يأذن له، فكتب إليه: [من البسيط] قُل للوزير أدام الله دَوْلَتَه ... اذْكُرْ مُنادَمَتي والخُبْزُ خُشْكَارُ إذ ليس بالباب بِرْذَونٌ لنَوْبَته ... ولا حمارٌ ولا في الشَّطِّ طَيَّارُ (¬4) ¬

_ (¬1) جاء في (ف م 1) بدل قوله: ومن شعره؛ ما نصه: وذكره أبو الفرج الأصبهاني، وذكر من أشعاره هذه الأبيات في بعض من هذه صفته، والخبر في المنتظم 13/ 361 من طريق أبي الفرج الأصبهاني. (¬2) من هنا إلى خبر وفاته ليس في (ف م 1). (¬3) في (خ): دونكم، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ بغداد 5/ 110، وعنه المنتظم 13/ 361. (¬4) المنتظم 13/ 395، والخشكار: الخبز الأسمر غير النقي، فارسي معرب. المعجم الوسيط.

محمد بن إبراهيم بن عبدويه

وكتب له ابنُ مُقْلَة بصِلَةٍ، فمَطَلَه الجِهْبِذ، فكتب إليه: [من الوافر] إذا كانت صِلاتُكُم رِقاعًا ... تُخَطَّطُ بالأنامِلِ في الأَكُفِّ ولم تُجْدِ الرِّقاعُ عليَّ نَفْعًا ... فها خَطِّي خُذوه بألفِ ألفِ وقال جَحْظَة: أضَقْتُ إضاقةً شديدةً، حتى لم يبْقَ في داري غيرُ البَواري، وكان جاري ابنَ أبي عَبَّاد الكاتب، وقد ترك الخدمة ولَزِم بيتَه لِنِقْرِسٍ أصابه، وكان يُحمَل في مِحَفَّة، وكان كبيرَ النَّفْس، عالي الهِمَّة، واسِعَ النِّعمة، فكتبتُ إليه: [من المجتث] ماذا تَرَى في جُدَيٍّ ... وفي غَضارٍ بَوارِدْ ومُسْمِعٍ ليس يُخطي ... من نَسْلِ يحيى بن خالد فلم أشعُر به إلا وهو في المِحَفَّة على رؤوس الناس، فقمتُ إليه وقلتُ: ما الذي جاء بك؟ قال: أنت، قلت: إنَّما قلتُ لك: ماذا ترى؟ فو الله إنَّ بيتي لأَفْرَغُ من فؤاد أمِّ موسى، فقال: قد جئتُ، كان يمكن ولا يمكن رجوعي (¬1)، ودخل فلم يَرَ في بيته شيئًا، فقال: يا أبا الحسن، هذا والله الفقرُ. ثم أرسل إلى داره، فاستدعى أطعمةً وأشربةً وآنيةً وقماشًا وفُرُشًا، وبات عندي، فلمَّا أصبح جاؤوه بالمِحَفَّة، فقال: يا أبا الحسن، احتفظ بما حُمِل إليك، وقف مكانك فالكلُّ لك، فحسبتُه فكان بألوف الدَّنانير. [توفي جحظة في هذه السنة، ] وقيل (¬2): إنَّ جحظة مات في سنة أربعٍ وعشرين وثلاث مئة ببغداد (¬3)، وحمل تابوتُه إلى واسط. محمد بن إبراهيم بن عَبْدَويه أبو عبد الله، الهُذَليّ، من ولد عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، نَيسابوري (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، وليس في (ف م 1) لاختصار أشير إليه قريبًا، وفي الفرج بعد الشدة 2/ 366، وتاريخ بغداد 5/ 108، والمنتظم 13/ 361، ومعجم الأدباء 2/ 259: قد جئت الآن ولا أرجع، ولكن أدخل إليك وأستدعي من داري ما أريد، قلت ذاك إليك. (¬2) ما بين معكوفين من (ف م 1). (¬3) وكذا ذكر مترجموه، وذكروا قولًا آخر: أنه توفي سنة (326 هـ). (¬4) تاريخ دمشق 60/ 333، والكامل 8/ 313، وتاريخ الإسلام 7/ 481. وهذه الترجمة ليست في (ف م 1).

فاطمة النيسابورية

رحل في طلب العلم، وصنَّف الكتب، وكان فاضلًا. خرج حاجًّا، فأصابتْهُ جِراحةٌ في نَوْبَة القِرْمِطيّ، فرُدَّ إلى الكوفة فمات بها. حدَّث عن أبي الحسن بن جَوْصا وغيره، وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة. [وفيها توفيت] فاطمة النَّيسابورية [العابدة]، الزَّاهدة، [لها الكلام المَليح. حكى أبو عبد الرحمن السُّلَميّ، عن محمد بن مِقْسَم قال: ] قيل (¬1) لذي النُّون المِصري: مَن أجلُّ مَن رأيتَ؟ قال: [أجلُّ مَن رأيتُ] امرأةً بمكة يقال لها: فاطمة النَّيسابورية، كانت تتكلَّم في فَهْم القرآن ونتعَجَّب منها. [قال ذو النون: ] وكانت وليَّةً من أولياء الله، وهي أستاذتي، سمعتُها تقول: مَن لم يكن الله منه على بال؛ فإنَّه يَتخطَّى في كل مَيدان، ويتكلَّمُ بكلِّ لسان، ومَن كان الله منه على بالٍ أَخْرَسَه إلا عن الصِّدق، وألزَمَه الحَياءَ منه والإخلاصَ. قال: وقالت: مَن عَمل لله على المُشاهَدة فهو عارفٌ، ومَن عمل على مُشاهَدة الله إياه فهو مُخْلِص، وقال السُّلَميّ: كانت فاطمة من قُدَماء [نساء] خُراسان، أتى إليها أبو يزيد البِسْطامي فزارها، وكان ذو النُّون يسألها عن مسائل، وكانت مُجاورَةً بمكة، وتأتي إلى القُدس ثم تعود إلى مكة. وقال أبو يزيد البِسْطامي: ما رأيتُ في عمري مثلَها، ما سألتُها عن مَقامٍ من المَقامات إلا وكان عندها منه خَبَرٌ؛ كأنَّها تُعاينُه. خرجت فاطمة من مكة لتعتمر، فتُوفِّيَت في طريق العُمرة [رحمها الله. ¬

_ (¬1) في (خ): الزاهدة، قال محمد بن مقسم قيل، والمثبت من (ف م 1)، وانظر ترجمتها في ذكر النسوة المتعبدات للسلمي 61، وصفوة الصفوة 4/ 123. هذا وقد تأخرت ترجمة فاطمة في (ف م 1) إلى ما بعد ترجمة ابن بلبل الآتية.

محمد بن عبد الله

وفيها توفي] محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن زياد بن يزيد بن هارون، أبو عبد الله، الزَّعْفَراني، ويُعرَف بابن بُلْبُل (¬1). كان صالحًا ثِقةً، [روى عنه الخطيب أنه] قال: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام سنة نَيِّفٍ وتسعين ومئتين، وفي رأسه ولحيته بَياضٌ [كثير، فقلتُ: يا رسول الله، بلَغَنا أنَّه لم يكن في رأسك ولحيتك بياضٌ كثير] إلا شَعَراتٍ بيض؟ ! فقال: "ذلك لدخول [سنة] ثلاث مئة". حدَّث عنه الدَّارقُطني، وكان صَدوقًا ثِقةً. موسى بن العباس بن محمد أبو (¬2) عِمران، النَّيسابوري، الحافظ. رحل إلى الأمصار، وسمع الحديث، وصنَّف "الصَّحيح" على ترتيب مُسلم، ورجع فتوفِّي بجُوَين. سمع عباس بن الوليد وغيره، وروى عنه الحسن بن سفيان وهو أكبر منه وغيره، وكان ثقةً. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 466، والمنتظم 13/ 355، وتاريخ الإسلام 7/ 482، والسير 15/ 234. (¬2) في (خ): بن، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ دمشق 17/ 281 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 7/ 484، والسير 15/ 235، وهذه الترجمة ليست في (ف م 1).

السنة الرابعة والعشرون وثلاث مئة

السنة الرابعة والعشرون وثلاث مئة فيها توفي الأمير هارون بن المقتدر في ربيع الأول، واغتمَّ عليه أخوه الرَّاضي غمًّا شديدًا، وأمر بنفي بُخْتَيشوع بن يحيى المُتَطَبِّب من بغداد؛ لأنَّه اتَّهمه به بتَعَمُّد الخطأ في تدبير مرضه، فأُخرج إلى الأنبار، ثم شَفعَت فيه والدة الراضي، فعفى عنه، وأمر بردِّه إلى منزله فرُدَّ. وفي يوم الجمعة سَلْخ ربيع الأول أُطلق المُظَفَّر بن ياقوت من حبسه من دار السلطان بمسألة الوزير أبي علي بن مُقْلَة فيه، وحلف المظفَّر للوزير على الوَلاء والمُصافاة، وأن لا يَسعى له في مَكروه. وكان ابن مُقْلَة قد طلب منه أن يَحلف له بمَحْضَر من القُضاة والشُّهود والغلمان الحُجَريّة والسَّاجِية، فمضى القاضي أبو الحسين إلى دار المظفَّر، واستحضر الحُجَرية، فكانوا يَحلفون وهم يتضاحكون ويَسْخَرون من القاضي والشهود، فعلم القاضي أنَّ الأمر لا يَتمُّ، وأنَّهم سيغدرون بابن مُقْلَة. وفيها قلَّد ابن مُقْلَة أبا بكر محمد بن طُغْج أعمال المعاون بمصر مُضافًا إلى ما كان بيده من أعمال الشام، وأوصل إلى الرَّاضي القُضاةَ والعُدولَ، حتى عَرَّفهم تقليدَه إياه، وأمرهم بمُكاتبة أصحابهم بذلك؛ لئلّا ينازعه أحمد بن كَيغَلَع فإنَّه كان يتولَّى مصر. وفيها قلَّد ابن مُقْلَة أبا بكر، وقطع محمد بنُ رائق الحِمْلَ عن بغداد مما كان ضَمِنَه من أعمال واسط والبصرة، واحتجَّ باجتماع الجيش عنده، وحاجته إلى صَرْف المال إليهم. ذكر قَبْض المظفَّر بن ياقوت على ابن مُقْلَة: كان في نفس المُظَفَّر الحِقْدُ عليه، لأنَّه كان السببَ في نَكْبَته ونكبة أخيه محمد، فلمَّا خرج من الحبس أحبَّ أن يأخذ بثأره وثأر أخيه، ولم يلتفت إلى اليمين التي حلف بها، وأخذ يَسعى في هلاكه، ويُضَرِّب (¬1) الغِلمان الحُجَرِيّة عليه سرًّا، وعلم الوزير فاحترز، ¬

_ (¬1) يفسد، ويغري به. المعجم الوسيط.

واعتَضَدَ ببدر الخَرْشَني صاحب الشرطة ليُوقعَ بالمظفَّر والحُجَريّة، وقَوَّى يده، فقال له بدر: أنا أسبِقُ إلى دار الخليفة، فأحصل أنا وأصحابي فيها ونمنع الحُجَرية؛ لأنَّه بلغه أنَّهم قد عملوا على المصير إلى الدار، وأن يقيموا فيها. وانحدر بدر وأصحابُه بالسِّلاح إلى دار الخليفة، ومنعوا الحُجَرية من دخولها، وذلك بعد أن جمع ابن مُقْلَة بين بدرٍ والسَّاجيّة، واستحلف بعضهم لبعض، وقَدَّر أنه يَستظهِر بهم على الحُجَرية، فلمَّا وقف المظفَّر والحُجَرية على ذلك ضَعُفَت نفوسُهم، واستتر بعضُهم، ولم يُظْهِر ابن مُقْلَة أنَّ الذي دبَّره بدر برأيه، فأشار المُظَفَّر على الحُجَريّة بالتَّذَلُّل لابن مُقْلَة، فسألوه الصَّفْحَ عنهم، وأظهر له المُظَفَّر أنَّه على أيمانه، فاغترَّ بذلك، وسأله ابن ياقوت والحُجَريّة أن يَصرفَ السَّاجيَّةَ وبدرًا من دار السلطان، فصرفهم. فلمَّا خَلَت الدار منهم مشى الحُجَريّة إلى السَّاجِيّة، وأوحشوهم من ابن مُقْلَة ومن بدر، وتحالفوا، وصارت كلمتُهم واحدة، وصاروا إلى دار السلطان جميعًا، وأحْدَقوا بها، وضربوا خيامَهم فيها، وصار الراضي في أيديهم مثل الأسير. وندم ابن مُقْلَة، وعلم أنَّها كانت حيلةً، فأمر بدرًا وأصحابه بأن يخرجوا إلى المُصلَّى، فخرج، وطالب الحجرية والساجية الراضي بأن يَخرج معهم إلى المسجد الجامع فيصلِّي بالناس؛ ليعلموا أنَّه من حزبهم، فخرج يوم الجمعة لستٍّ خَلَون من جُمادى الأولى، ومشى الغِلمان السَّاجِيَّةُ والحُجَريّةُ بين يديه وحوله بالسلاح، وصلى بالناس، وقال في خطبته: اللهم إنَّ هؤلاء الغلمان بِطانتي وظِهارَتي، فمَن أرادهم بسوء فأَرِدْه، ومَن كادهم فكِدْه. وقلَّد بدرًا الخَرْشَني دمشق، وأمرَه بالخروج إليها من المُصلَّى، ولا يدخل البلد. وكان المُظَفَّر في هذا كلِّه مع الغلمان يجمع كلمتَهم، ويُظهِر لابن مُقْلَة أنَّه مُجْتَهدٌ في الصُّلْح، فاصطلحوا، وحَلَفوا للوزير ولبدر، وأُقِرَّ على شرطة بغداد، وانقضت هذه القصة وفي القلوب ما فيها من العَداوة. وشرع الوزيرُ يُشيرُ على الراضي سرًّا بأن يَخرجَ بنفسه والجيشُ معه؛ ليَدفعَ محمد بنَ رائق عن واسط والبصرة، وقال: هذه بُلدانُ المال، وقد انْغَلَقَت بامتناع ابن رائق من حمله، ومتى

رآه غيرُه قد تمَّ له ذلك تأسَّى به، فخَرِبت البلاد، وبَطَلت المملكة، ومتى زال أمر ابنِ رائق انْحَسَم طَمَعُ غيره، ودَرَّت الحُمول، واستقامت الأمور، فعمل على ذلك. ثم بعث ابن مُقْلَة إلى ابن رائق ينال الكبير من الحُجَرِيّة، وماكرد من السَّاجِيَّة؛ برسالة تتضمَّن طلب الحُسين بن علي النُّوْبَخْتي ليواقَفَ على ما جرى على يده من ارتفاع واسط والبصرة، فامتنع من تسليمه، وأحسن إليهما، وحمَّلَهما رسالةً إلى الراضي سرًّا مضمونُها: أنَّه إن استُدعِيَ إلى الحضرة قام بالتَّدبير، وكفى أميرَ المؤمنين كلَّ همٍّ. فقَدِما على الراضي، وأدَّيا الرسالةَ سرًّا عن الوزير، فلم يَلتفت الرَّاضي إليهما. ولمَّا رأى ابنُ مُقْلَة امتناعَ ابن رائق من تسليم الحُسين؛ عَمِل على أن يكون خروجُ الراضي إلى الأهواز، وأنْ يُنفِذَ إلى ابن رائق القاضي أبا الحُسين برسالة تُعرِّفُه ذلك لئلَّا يَستوحش. فلمَّا كان يوم الإثنين لأربع عشرة بقيت من جمادى الأولى انحدَر أبو علي بن مُقْلَة إلى دار السُّلطان، ومعه القاضي ليُوصِلَه إلى الراضي فيسمع الرسالة. فلمَّا حصل الوزير في دِهْليز الصَّحْنِ التِّسعيني شَغَب الغلِمانُ ومعهم المُظَفَّر، وأظهروا المُطالبةَ بالرِّزق، وقبضوا الوزيرَ، وبعثوا إلى الراضي يعرِّفونه قَبْضَهم عليه، إذ كان هو المُضَرِّبُ عليهم عنده، والمُفْسِد للأحوال، ويسألونه أن يَسْتَوزِر، فبعث إليهم يَسْتَصْوبُ رأيَهم، ويُعرِّفُهم أنَّه كان عازِمًا على ذلك، وأنَّهم لو لم يفعلوه لفعله هو، ثم قال: سَمُّوا مَن شئتم حتى أستوزره، فسَمَّوا أبا الحسن علي بن عيسى وقالوا: هو مأمون كافٍ ليس في الزمان مثلُه، فاستحضره الرَّاضي، وخاطبه بتقليد الوزارة فامتنع، فخاطبه مرةً ثانية وثالثةً فامتنع، فقال: فتُشيرُ بمَن ترى، فأومأ إلى أخيه عبد الرحمن بن عيسى. ذكر وزارة أبي علي عبد الرحمن بن عيسى (¬1): في هذه السنة بعث الراضي للمُظَفَّر بن ياقوت فأحضره، وخاطبه الراضي بالوزارة، وخلع عليه، وركب الجيشُ بين يديه إلى داره (¬2). ¬

_ (¬1) في (خ): عبد الرحمن بن علي بن عيسى، وهو خطأ، وليس في (ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا. وهو عبد الرحمن بن عيسى بن داود، أخو علي بن عيسى بن داود بن الجراح. (¬2) من قوله: وفي يوم الجمعة سلخ ربيع الأول أطلق المظفر ... إلى هنا ليس في (ف م 1).

[وفيها] أُحْرِقَت دارُ ابن مقلة، وهذه المرَّةُ الثالثة، وقيل: الرابعة. وكان ابن مُقْلَة قد أمر بإحراق دار سليمان بن الحسن بباب المُحَوَّل في [مثل] هذا اليوم (¬1)، فكُتب على حائط دار ابن مُقْلَة: [من البسيط] أحسنْتَ ظَنَّك بالأيام إذ حَسُنَتْ ... ولم تَخَفْ سوءَ (¬2) ما يأتي به القَدَرُ وسالمَتْك الليالي فاغتَرَرْتَ بها ... وعند صَفْو الليالي يَحْدُثُ الكَدَرُ (¬3) واستتر (¬4) ابن الوزير وأصحابُه وأسبابُه، فظهر أبو العباس الخَصيبي وأبو القاسم سليمان بن الحسن، وصارا يَصلان إلى الراضى مع عبد الرحمن وأخيه علي بن عيسى، ويصل معهما أبو جعفر محمد بن القاسم الكَرْخِيّ وغيرُه من الأعيان. وسُلِّم أبو علي بن مُقْلَة إلى الوزير عبد الرحمن، فحمله إلى داره، وضُرِبَ بالمَقارع، وأُخِذ خطُّه بألف ألف دينار، وكان الذي تولَّى ذلك منه ينال الكبير من الحُجَريّة، ثم سُلِّم إلى أبي العباس الخَصِيبي، فدخل إليه يومًا وقال: إن كان يحتاجُ إلى الفَصْد فتقدَّم إلى مَن يَفْصِدُه بحضرتك (¬5). قال (¬6): فدخلتُ إليه، فوجدتُه مُطروحًا على حَصيرٍ خَلَقٍ على بارِيَّة، وتحت رأسه مِخَدَّة وَسِخة، وهو عُرْيان في وسطه سَراويل، ورأيتُ بَدَنَه من رأسه إلى أطراف أصابع رجلَيه كلون الباذَنْجان، وبه ضِيقُ نَفَسٍ شديد، وكان الذي تولَّى عذابه ودَهَق صدره الدَّسْتَوائي، قال ثابت: فقلتُ للخَصيبي: لا بدَّ من فَصْده، فقال: وكيف نعمل بتعذيبه، لا بدَّ من عذابه كلَّ يوم، قال: فيَتْلَف، فقال: افصِدْه، ففَصَدْتُه ورفَّهتُه ذلك اليوم. ¬

_ (¬1) بعدها في (ف م 1): بعد سنة. (¬2) في (خ): شر، والمثبت من (ف م 1)، وانظر أخبار الراضي 82، والمنتظم 13/ 357، وتاريخ الإسلام 7/ 419. (¬3) بعدها في (ف م 1): وهذه ثالث مرة احترقت دار ابن مقلة وقيل رابع مرة. (¬4) من هنا إلى ما قبل ترجمة ابن مجاهد ليس في (ف م 1) لاختصاره. (¬5) قال ذلك الخصيبي لثابت بن سنان وقد كلفه الدخول إليه. انظر تكملة الطبري 299، وتاريخ الإسلام 7/ 420. (¬6) ثابت.

واتَّفق أنَّ الخَصيبي استتر في ذلك اليوم، وبقي ابن مقلة مُرَفَّهًا ليس أحدٌ يُطالبه، وكُفِيَ أمرَ عدوِّه من حيث لا يَحتسب، وطابَت نفسُه، وحضر أبو بكر بن قَرابة، وضَمِن ما عليه وتسلَّمه، وقد كان أدَّى نيِّفًا وخمسين ألف دينار بعد أن أشهد عليه العُدولَ أنَّه قد باع ضِياعَه وأسبابَه من السلطان. وفي يوم الخميس لأربعٍ بقين من جُمادى الأولى قبض الراضي على المُظَفَّر بن ياقوت، وحبَسه، وهَدم دارَه، ثم أطلقه يوم الخميس لثلاثٍ خلَون من جُمادى الآخرة، وأَحْدَره إلى أبيه. وفي جمادى الآخرة عَزل بدرًا الخَرْشَني من شرطة بغداد، وقلَّدها كاجو من السَّاجِيَّة، وتقلَّد سخرباس الجانبَ الشَّرقي وهو من الحُجَرِيَّة (¬1)، وإنَّما فعل الراضي ذلك تطييبًا لقلوب الفريقين؛ لما جرى من بدر الخَرْشَني، وقَلَّد بدرًا الخَرْشني أعمال أصبهان وفارس وخَلَع عليه؛ لأنَّ الحُجَريّة والسَّاجية كرهوا مُقامَه بالحَضْرة، ثم توقَّف حالُه. وعجز الوزيرُ عبد الرحمن بن عيسى عن النَّفَقات، وضاق المال، فاستعفى من الوزارة، فقبض عليه الراضي يوم الإثنين لسبع خلَون من رجب. ذكر وزارة أبي جعفر الكَرْخِيّ: لمَّا قبض الراضي على عبد الرحمن قبض على أخيه علي بن عيسى، واعتُقِلا في دار الخليفة، وأحضر الكَرْخي، وخَلَع عليه واستوزره، وسلَّم الراضي عبدَ الرحمن وعلي بنَ عيسى إلى الكَرْخي، فصادَرَهما مُصادَرَةً جميلة، وكانا عنده مُكرَّمَين، وأدَّى كلُّ واحدٍ منهما سبعين ألف دينار، وانصرفا إلى منازلهما. وفي يوم الخميس لستٍّ خلَون من رمضان قُتِل ياقوت بعسكر مُكْرَم، فأراد الحُجَرية قتلَ أبي الحسين البَريدي ببغداد، وكان يَخْلُف أخاه [في الكتابة لياقوت]، فاختفى، وانحدر سرًّا إلى أخيه إلى الأهواز. وكان ياقوت قد سار بقَضِّه وقَضِيضِه لحرب علي بن بُوَيه، فالتقيا بباب أرَّجان، فهزمه ابن بويه، فعاد إلى الأهواز، وتواترت الأخبار بأنَّ ابن بُوَيه وافى إلى رامَهُرْمُز ¬

_ (¬1) انظر أخبار الراضي 82.

مُقْتَفيًا أثَر ياقوت ومُشَرِّدًا به، فعبر ياقوت إلى عسكر مُكْرَم، وقطع الجِسْرَ المَعْقودَ على المَسْرُقان، وأقام علي بن بُوَيه أيامًا برامَهُرْمُز إلى أن وقع الصُّلح بينه وبين السلطان. ثم كتب أبو عبد الله البَريدي إلى ياقوت أن يُقيمَ بعسكر مُكْرَم إلى أن يقع التأمُّل في أمره، وكان غرضُه ألا يجتمعا في بلد، فقَبِل ياقوتُ، ونزل دارًا بالقرب من المسجد الجامع غربي عَسْكَر مُكْرَم، وأقام شهورًا، فوافاه أبو يوسف البَريدي دون أخيه متوجِّعًا له من الاحرية (¬1)، ومُهَنِّئًا له بالسَّلامة. ثم توسَّط بينه وبين أخيه أبي عبد الله أن يُطلق له خمسين ألف دينار يُنفقُها في عسكره؛ حتَّى يكتبَ إلى السلطان ويستأمِرَه فيما يُطلق له ولرجاله، وعرَّفه أنَّ مَن بالأهواز من الجُند لا يُمَكِّنونه أن يُخرج منها مالًا، وأنَّ رجالك (¬2) إذا أُعطوا اليسيرَ من المال قَنَعوا. فقَبِل ياقوت هذا العُذْر، وأوصى ياقوت مَن كان معه من الحُجَرية والسُّودان بذلك المال، وأقام على ذلك شهورًا، فضَجَّ رجالُه من القِلَّة وقالوا: لا صَبْرَ لنا، والعَسكرُ الَّذي بالأهواز يتناولون الأرزاقَ دارَّةً، ونحن نُقاسي الجوعَ، وكان من العسكر بالأهواز: البَرْبَر، والنَّازُوكيَّة، والهارونيَّة، وأصحاب تِكين الخاقاني، وغيرهم. [وانصرف طاهر الجيلي] من قُوَّاد ياقوت في ثمان مئة من العَجَم، واتَّصل بأبي الحُسين أحمد بن بُوَيه، فكان مُعْظَمُ جيش ياقوت ومَن يَرْكَن إليه [ثلاث مئة رجل] (¬3). فضَعُفَت نفسُ ياقوت، واستطال عليه باقي رجاله، وخاف أن يَعقدَ لبعض قُوَّاده بالرئاسة ويقبضوه، فكاتب أبا عبد الله البَريدي، وكان ياقوت واثقًا بحِرْبه، فجرى الآن على صنعة التبلِّي وسقوطِه (¬4)، فكتب إليه البريدي على يده: أنَّ عَسكره مَفْسودٌ، وطلب أعيانَ عسكر ياقوت وقال: لنا معهم حساب، فإنَّهم اقتطعوا الأموال وأخذوها، لنستخرجَ منهم ما أخذوه من الزيادات. ¬

_ (¬1) كذا وردت هذه الكلمة، ولعلها: الأخزية، جمع الخزي، أو الأجرية: ما جرى عليه. والله أعلم. (¬2) في (خ): رجال البريدي، وهو خطأ، والمثبت من الكامل 8/ 316. (¬3) ما بين معكوفين من تكملة الطبري 300 - 301، وانظر الكامل 8/ 316. (¬4) كذا في (خ)! ؟

وسمَّى جماعة، فبعث إليه ياقوت مَن طلب، فاستغواهم أبو عبد الله البريدي وجرَّهم إلى نفسه، فأقاموا عنده، وصحبوه، ولم يعودوا إلى ياقوت، وانتخب أبو عبد الله البريدي رجال ياقوت، فاقتطعهم إليه، فطلب الراضي من أعيان أصحاب ياقوت جماعةً، فبعث بهم إليه. وشغب جُنْدُ ياقوت وقالوا: لا بدَّ من مكاتبة البَريدي بِحَمْل المال، ثم زاد الإلحاح على ياقوت، فخرج بنفسه إلى الأهواز في ثلاث مئة فارس لئلَّا يَستوحِشَ أبو عبد الله البريدي. وكان البريدي كاتبًا لياقوت، فظنَّ ياقوت أنَّه إلى كاتبه يمضي، فتلقَّاه البريدي في السَّواد الأعظم، فلمَّا رأى ياقوتَ تَرَجَّل، وطرح ياقوت نفسَه عليه حتَّى كاد يَقَعُ من دابته، وسار، فأنزله البريدي في داره، وخَدَمه بنفسه، وقام بين يديه إلى أن طَعِم، وغسل يديه، وناوله المِنديل، وبَخَّره بيده. فبينا هم كذلك إذ ارتَفعَت ضَجّةٌ عظيمةٌ، وشَغَب الجُنْدُ وقالوا: إنَّما وافى ياقوت واجتمع بالبريدي ليقبضا علينا (¬1)، وكان هذا بمُواطأةٍ من البريدي، فقال البريدي لياقوت: اخرُج أيها الأمير عاجلًا وإلا قُتِلنا جميعًا. فخرج ياقوت خائفًا يَتَرَقَّب، ولم يُحدِّث نفسَه بنَجاةٍ، وعاد من طريق آخر، فنزل بعَسْكَر مُكْرَم، فكتب إليه أبو عبد الله البريدي: إنَّ الرجال بالأهواز قد استوحشوا منه، والمَصْلَحةُ أن تَرحلَ إلى تُسْتَر، فإنَّ بينها وبين الأهواز ستةَ عشر فَرْسَخًا، وبين عَسْكَر مُكْرَم والأهواز ثمانية فراسخ، وإنَّ الدار إذا نأت زال الاستيحاش. وكتب له على عامل تُسْتَر بخمسين ألف دينار التي على تُسْتَر، فَفرَّقها في العسكر، كلُّ واحد شيئًا يسيرًا، وأقام بتُستَر فضجَّ الرجال. وكان لياقوت مولًى يقال له: مؤنس، فقال: أيها الأمير، البَريدي يَحُزُّ مَفاصِلَنا مَفْصِلًا مَفْصِلًا، ويَسْخَرُ منَا، وقد حاز شَطْرَ رجالنا ووجوه قُوَّادنا إلى نفسه، وأنت تَغْتَرُّ ¬

_ (¬1) في (خ): واجتمع بالبريدي إلا ليقبضا علينا، والمثبت من تكملة الطبري 301، وانظر الكامل 8/ 317 - 318.

به، ولا تُعطينا إلا اليسير، وقَصْدُه هلاكُنا، وقد كتب إليك الحجريةُ: لم يَبق لنا شيخٌ سواك، فإما دخلتَ إلى بغداد فجميع مَن بها يُسلّم إليك الرِّئاسة؛ أوَّلُهم محمد بن رائق لسنِّك، فإنك عنده مثل الوالد، وإما أن تسير إلى الأهواز فتَطْرُدَ البريدي عنها، ونحن في خمسة آلاف، وهو في عشرة آلاف، لكنَّه بمنزلة كاتب، وأيُّ قُدرة له؟ ! فقال: حتَّى أنظر. فغضب مؤنس وقال: العسكر بمُقَدَّمه، وأنت أنت، وقد قال بُوَيه: لو كان في عسكر ياقوت مئةٌ مثله ما لقيتُه، فقال: اصبر. فخرج مؤنس من عنده مُغضَبًا في ثلاثة آلاف رجل، ووافى عسكر مُكْرَم يريد الأهواز وقال: أنا لا أعصي مولاي، ولكن أفتح الأهواز وأسلِّمها إليه. وكان على شُرطة عَسْكَر مُكْرَم رجلٌ يقال له: درك، فكتب إليه ياقوت: إنَّ مؤنسًا خرج بغير إذني، فسَلْه أنْ يَلْبَث حتَّى أصل، فخاطبه درك خطابًا عظيمًا، وعَذَلَه، وجرى له معه خُطوبٌ حتَّى أجاب، ووافاه ياقوت في اليوم الثاني، فوافى عسكر البريدي بأسره مع غلامه أبي جعفر الحَمَّال. ووقعت المُنازلة فقال ياقوت لمؤنس: الخليفةُ لنا بالنيَّة التي قد علمتَها، وقد فعل بابنَيَّ ما فعل، فما يَنْصَلح لي أبدًا، وفارس فقد غُلِبنا عليها، وقد جرى علينا ما قد علمتَه، ولا مَذْهَب لنا في الدنيا ولا زاوية إلا هذا البلد، والحَرْب سِجال، وقد كَثُر عسكر هذا الرجل، فإن نحن قاتلناه؛ كنَّا بين أن نَنهزم فنُحمَل إلى الخليفة، فنُشهَر ونركب الفيل، ثم يُظَنُّ بي أنِّي كفرتُ نعمةَ مولاي، فأُلعَن، وإما أن أُقتَل، والمَصْلحةُ المُقارَبَة لهذا الرجل، ونعود إلى تُسْتَر، ونسير منها إلى الجَبَل، فإن استقام لنا أمرٌ وإلا لحقنا بخُراسان. وشاع هذا الكلام، فضَعُفَت نفوسُ أصحابه، وطالت الأيام، وتسلَّل أصحابه إلى البريدي، حتَّى بقي في ألف رجل، ومؤنس يَحُثُّه على القتال ويقول: مضى أصحابُنا، وهو يقول: مَن مضى لا ينفعنا. ولمَّا علم البريدي بحاله راسلَه بالقاضي أبي القاسم التنوخي أنَّه على العَهْد والميثاق، وأنَّه كاتبُه، والإمْرَةُ ما تَصلُح إلا له، وإنَّما قد ابتُلي بهؤلاء الرجال، وأنَّه

يعود إلى تُسْتَر ليَحمِلَ إليه ما يُفرِّقه فيمَن بقي معه، وإنَّما يُصاهرُه ليزدادَ ثقةً به، ووَكَّل القاضي في تزويج ابنة البريدي من أحمد بن ياقوت. فوافاه القاضي، وأدَّى إليه الرسالة، فقَبِلها، وانعقد الصّهر، ورحل في الوقت إلى تُسْتَر. ووافى بعد ذلك بأيام غلامٌ من عند الخليفة من الحُجَريّة ومعه المُظَفَّر بن ياقوت، وكتابٌ إلى ياقوت يَذكر فيه أنَّه قد وَهَب له ابنَه هذا، ومَنَّ عليه به. فالتقاه المُظَفَّر بتُسْتَر، وأشار عليه المُظَفَّر بالنزول إلى الحَضْرة؛ ليَشكُرَ إنعامَ الخليفة على إنفاذه إليه بالمُظَفَّر، وأن ينزل بدَير العاقول، ويَستأذنَ في الدخول، فإن أَذِن له وإلا تقلَّد المَوْصل وديارَ ربيعة، وخرج إليها، فإن مُنع منها قَصد الشام، فلم يقبل ياقوت منه، وقال له: أقم حتَّى نَظْفَر، فاستعفى من المُقام عنده، وسأله أن يأذن له في المقام بعَسْكَر مُكْرَم، فأذِن له. وكان مع المُظَفَّر رجلٌ يقال له: الجياني (¬1)، فما زال يَسْفِر بين البريدي والمُظَفَّر حتَّى قال البريدي: إن استأمن إليَّ جعلتُه اسْفِهْسِلّار (¬2) عسكري، فاستأمن إليه، فأنزله في بستان له بالأهواز، وأقام مَن يَحفَظُه من حيث لا يَعلم. ثم خاف البريدي من الياقوتية الذين عنده أن ينثنوا عليه، فكتب إلى ياقوت بأنَّ السلطان قد طلبه أن يَسير إلى الحَضْرة في خمسة عشر غلامًا، أو المُضيّ إلى الجبل مُتَقَلِّدًا له، وإلا قصده البريدي إلى تُسْتَر وأخرجه قَهْرًا. فدعا ياقوت غلامَه مؤنسًا وقال: ما ترى؟ فقال له: الآن وقد مضى ما مضى، والله لا صَحِبَك إلى بغداد أو إلى الجَبَل أحدٌ ممّن معك. فكتب ياقوت إلى البريدي بأن يُمْهِلَه شهرًا لينظر، فلم يلتفت، وبعث إليه بالعسكر، وأرسل ياقوت جَواسيسه، فجاءه واحدٌ فكَذَبه وقال: العسكر الَّذي بعث به إليك البريدي قد نزل في عَسْكَر مُكْرَم، وانبسطوا في الدُّور، فقال ياقوت لمؤنس: ظَفِرنا ¬

_ (¬1) هذه الكلمة مهملة في (خ)، ولم أقف على النص بتفصيلاته فيما بين يدي من مصادر. (¬2) كلمة تركية أو فارسية تطلق على أمير الأجناد، أو مقدم العسكر. معجم متن اللغة.

والحمد لله، نسير إليهم بالليل فنَكْبِسُهم والقوم غارُّون (¬1)، ثم نَسير إلى الأهواز وقد شَرَدْناهم فيهرب البريدي، فقال له مؤنس: أرجو أن يكون هذا صوابًا. وسار ياقوت في الليل، فأصبح وقت طلوع الشمس بعَسْكَر مُكْرَم، فلم ير فيه أحدًا، فنزل بنهر جارود عند ناعورة السَّيل، وخيَّم، وتعجَّب من مرور جاسوسه، فلمَّا كان وقت العصر جاء عسكر البريدي مع أبي جعفر الحَمَّال، فنزل قريبًا من ياقوت بمقدار فرسخ، وأصبحوا يَتَناوشون. وتَرَبَّص الحَمَّال ليَصل إليه باقي العسكر، فلمَّا كان اليوم الثالث اقتتلوا إلى الظُّهر، وثبت ياقوت ومَن معه، وظهر ياقوت، وبلغت القلوبُ الحَناجر، وإذا قد ظهر للبريدي كَمينٌ في ثلاثة آلاف حامين (¬2)، فأومأ إلى مؤس، فالتقاهم في ثلاث مئة رجل، وبقي مع ياقوت خمسُ مئة رجل، واقتتلوا، فظهر عليه الحَمَّال وانهزم ياقوت ومؤنس، ورمى ياقوت نفسَه عن دابَّته، ونَزع سلاحَه، وأوى إلى رِباطٍ يُعرف برباط الحسين بن زياد، وجاءه الليل، فجلس إلى ظلِّ الرِّباط، وغطَّى وجهه كأنَّه سائلٌ يسأل، وجاء إليه قومٌ من البَرابِرة، فنزلوا وكشفوا وجهه، فقال: أنا ياقوت احملوني إلى البريدي، فقتلوه، وأخذوا رأسه، وحملوه إلى الحَمَّال، فأطلق طائرًا إلى البريدي يُخبره، فكتب إليه: اجمَع بين رأسه وبدنه وادفنه، ففعل. وأُسر مؤنس وخواصُّ أصحاب ياقوت، فشَغَبت الياقوتية وقالوا: قد قُتل مَولاهم فلم يقتلون؟ فقال البريدي: أنا أكتب إلى الحضرة فأُطلِقُهم، ثم قتلهم في الليل. ولم يوجد لياقوت سوى اثني عشر ألف دينار لا غير، ووُجِدَت في صناديقه كتُبُ الحُجَريّة إليه بالإصعاد إلى بغداد ليولُّوه الرئاسة عليهم. وبعث البريدي بالمُظَفَّر بن ياقوت إلى بغداد، ثم طغى البريدي بعد ذلك، وشَهَرَ نفسه بالعِصيان لما نذكر إن شاء الله تعالى. وفيها استَوزر الرَّاضي أبا القاسم سليمان بن الحسن، وسببه: أنَّ ابن رائق قطع الحِمْل من واسط والبصرة، والبَريدي من الأهواز، وعلي بن بُوَيه بفارس قد تغلَّب عليها. ¬

_ (¬1) غافلون. (¬2) كذا؟ ! وفي الكامل 8/ 320: ظهر الكمين من وراء عسكر ياقوت.

وضاقت الدنيا على الوزير أبي جعفر الكَرْخيّ، وكان غيرَ ناهِضٍ بالوزارة، وفيه إبطاءٌ شديد [في الكتابة والقراءة] (¬1)، وكثُرت المُطالبات عليه، وانقطعت المَوادُّ عنه، فاستتر يوم الإثنين لثمانٍ خَلَون من شوال؛ بعد ثلاثة أيام ونصف من تقلُّده الوزارة (¬2)، فاستُحضر سليمان يوم الأربعاء لعشرٍ خلون من شوال، وقلَّده الراضي وزارته، وخلَع عليه، فكان في التحيُّر وانقطاع الأموال والمَوادّ عنه مثلَ الكَرْخيّ وزيادة. فدعت الضَّرورة إلى أن كاتب الراضي محمد بنَ رائق وهو بواسِط، وذكر ما كان ضَمِنه من النَّفقات، وإزاحَة عِلَل الجيش، وبعث إليه كاجو بألف دينار. وعاد كاجو إلى الراضي بالجواب، فبعث إليه بالخِلَع واللواء، وانحدر إليه أعيانُ السَّاجية، فقيَّدهم، وألقاهم في المَطامير وجماعةً من الكُتَّاب، فاستوحش الحُجَرِيَّة ببغداد، وأحْدَقوا بدار السُّلطان، وضربوا خِيمَهم حولها. ووصل ابن رائق في جيشه إلى بغداد يوم الأحد لخمس بقين من ذي الحجة، ودخل على الراضي ومعه بَجْكَم والقُوَّاد ورؤساء القرامطة، وخرج فنزل بباب الشَّمَّاسيَّة في مِضْرَب، وبعث له الراضي الخِلَع والإقامة. وأمر ابن رائق الحُجَريّة بقَلْع خيامهم من حول دار السلطان فلم يفعلوا، وبَطَل حينئذٍ أمرُ الوزارة والدَّواوين، وبقي الاسم لا غير، وتولّى الجميع محمد بنُ رائق وكتَّابُه، وصارت الأموال تُحمل إليه، وبَطل أمرُ بيوت المال وحَمْلها إلى السلطان. وفيها (¬3) وقع الوَباء بأَصْبهان، فمات بها (¬4) أكثر من مئتي ألف، وامتدَّ إلى بغداد، فبطل الغُسْل والتكفين، فكانوا يَحْفِرون الحُفْرة، فيُلقون فيها جماعةٌ من غير غسلٍ ولا تكفين، وبقي الناس مَوتى على الطُّرق ليس لهم مَن يَدفِنهم، وغَلت الأسعار، واضطربت الأمور ببغداد بحُكم ابن رائق عليها، وبقي الراضي مثلَ الأسير معه، ولم يحجَّ أحدٌ في هذه السنة. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تكملة الطبري 303، وانظر الكامل 8/ 322، وتاريخ الإسلام 7/ 421. (¬2) وكذا في تكملة الطبري، وفي الكامل: بعد ثلاثة أشهر ونصف من وزارته. (¬3) من قوله: واستتر ابن الوزير وأصحابه وأسبابه ... إلى هنا ليس في (ف م 1). (¬4) في (خ ف): منها.

أحمد بن موسى

[فصل]: وفيها توفي أحمد بن موسى ابن العبَّاس بن مُجاهد، أبو بكر، المقرئ، البغدادي، الإمام العلّامة (¬1). ولد في ربيع الآخر سنة خمسٍ وأربعين ومئتين، وكان إمام القُرَّاء في زمانه، وانفرد بالقراءات في عصره. قال ثعلب: ما بقي أحدٌ في عصرنا أعلمَ بكتاب الله من ابن مُجاهد. [وقرأ عليه خلقٌ كثير. وحكى الخطيب عن النَّهْرَواني قال: صلَّيتُ خلف ابن مجاهد، ففتح الصَّلاةَ بالحمد، ثم سكت، ثم فعل ذلك ثانيًا وثالثًا، ثم قرأ، فلما سلَّم سألتُه عن ذلك؟ قال: لمَّا كبَّرتُ تكبيرةَ الإحرام انكشفَت الحجُبُ بيني وبين ربّي، واجتمع بين عَينَيَّ كلُّ حمدٍ لله تعالى في كتابه، فلم أدر بأيِّ حَمْدٍ أبتدئ، اكتُم عليَّ حتَّى أموت.] (¬2) وقال الأزهريّ [: سمعتُ عيسى بن علي بن عيسى الوزير يقول]: أنشدني (¬3) ابن مُجاهد وقد جئتُه عائدًا في مرضه، وعنده جماعةٌ قد أطالوا القُعودَ: [من البسيط] لا تُضجِرَنَّ مريضًا أنت عائدُه ... إنَّ العيادَةَ يومٌ إثْرَ يومَينِ بل سَلْه عن حالِه وادْعُ الإلهَ له ... واقعُدْ بقَدْر فُواقٍ بين حَلْبَينِ مَن زار غِبًّا أخًا دامت مَودَّتُه ... وكان ذاك صلاحًا للخَليلينِ وقال الخطيب: رأى أبو الفضل الزُّهري (¬4) في منامه قائلًا يقول: قد مات الليلةَ مُقَوِّمُ وَحْي الله منذ خمسين سنة، فلمَّا أصبح قال: مَن مات الليلة؟ فقيل له: أبو بكر بن مجاهد. [وقال الخطيب: ] توفي ابن مجاهد يوم الأربعاء وقت العصر، وأُخرِج يوم الخميس لعشرٍ بقين من شعبان، ودُفن بمَقبرة باب البستان من الجانب الشَّرقي ببغداد، وهناك كان يسكن. ¬

_ (¬1) أخبار الراضي 84، تكملة الطبري 300، تاريخ بغداد 6/ 353، المنتظم 13/ 357، معجم الأدباء 5/ 65، الكامل 8/ 328، تاريخ الإسلام 7/ 487، معرفة القراء الكبار 2/ 533، السير 15/ 272. (¬2) ما بين معكوفين من (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 6/ 354. (¬3) في (ف م 1): وحكى الخطيب عن الأزهري قال أنشدني، والخبر في تاريخ بغداد 6/ 354 وما بين معكوفين منه. (¬4) في (خ): الأزهري، وهو خطأ، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 6/ 356، ومصادر ترجمته.

جعفر بن عبد الجبار

[وحكى أيضًا عن] عيسى (¬1) بن محمد الطُّوماري: رأيتُ ابنَ مُجاهد في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال كُنْتُ أدعو الله عند خَتْم القرآن أن يَجعلني ممَّن يَقرأ في قَبره، فأنا ممَّن يقرأ في قبره. قال الخطيب: وخلَّف مالًا صالحًا (¬2). حدَّث عن محمد بن إسحاق الصَّغاني، وعباس الدُّوري وغيرهما. واتَّفقوا على فضله، ودينه، وأمانته، وصلاحه. وفيها توفي جعفر بن عبد الجبَّار [ويقال: ] ابن عبد الرزَّاق، أبو محمد، القَراطيسي (¬3). حدث عن أبي زُرْعَة، وروى عنه أبو الحُسين الرَّازي بدمشق. [وفيها توفي] الحسن بن محمد بن أحمد أبو القاسم، السُّلَمي، الدِّمشقي، ويُعرَف بابن بُرْغوث (¬4). [وذكره الحافظ ابن عساكر وقال: ] توفي بدمشق [في هذه السنة]. وحدَّث عن العباس بن الوليد بن مَزْيد، [وإسماعيل بن محمد بن قيراط، وأحمد بن مروان (¬5) المالكي. روى عنه أبو الحسين الرازي وهو نسبه (¬6). ¬

_ (¬1) في (خ): وقال عيسى، والمثبت من (ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 6/ 356 - 357. (¬2) هذا الكلام لم أقف عليه للخطيب في ترجمة ابن مجاهد من تاريخه، وإنما ذكره ابن الجوزي في المنتظم 13/ 358. (¬3) مختصر تاريخ دمشق 6/ 75، وتاريخ الإسلام 7/ 475، وما بين معكوفين منهما، وذكرا أن وفاته سنة (323). وهذه الترجمة ليست في (خ). (¬4) تاريخ دمشق 4/ 578 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 7/ 489. (¬5) في (ف م 1): مسروق، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ دمشق. (¬6) كذا في (ف م 1) وتاريخ دمشق، ولعلها نسيبه.

الحسن بن [يوسف بن] يعقوب

قال: ] وروى عن صالح (¬1) بن الإمام أحمد بن حنبل أنَّه خرج مع أبيه إلى المسجد، فإذا برُقْعةٍ فيها مكتوب: [من السريع] عِشْ موسِرًا إن شئتَ أو مُعْسِرًا ... لا بُدَّ في الدُّنيا من الغَمِّ وكلَّما زادك من نِعْمةٍ ... زادَ الَّذي زادك من هَمِّ إنِّي رأيتُ الناسَ في دهرنا ... لا يَطلبون العلمَ للعلمِ إلا مُباهاةً لأقرانِهم ... وحُجَّةَ الخَصْمِ (¬2) على الخَصْمِ وفيها توفي الحسن بن [يوسف بن] يعقوب أبو سعيد، الطَّرْمِيسي (¬3). وطَرْمِيس قرية من قُرى دمشق، مولى الحسين بن علي - عليه السلام -. حدّث عن هشام بن عمَّار وغيره، وروى عنه أبو الحُسين الرَّازي وغيره. صالح بن محمد بن شاذان أبو الفَضْل، الأصبهاني (¬4). رحل إلى الأمصار، وسمع الكثير، ومات بمكة في رجب. حدَّث عن أبي جعفر الدِّمَشقي وغيره، وروى عنه أبو بكر المُقرئ وغيره، وكان ثقةً، وحدَّث بمكة بتاريخ البخاري. عبد الله بن أحمد ابن محمد بن المُغَلِّس، أبو الحسين، الفقيه الظَّاهِري (¬5). ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 4/ 579: الحسن بن محمد، حدثنا علي بن جعفر، حدثني إبراهيم بن عبد الله الفرغاني، حدثنا صالح. (¬2) في (ف م 1): منهم، والمثبت من (خ). (¬3) تاريخ دمشق 4/ 644، ومعجم البلدان (طرميس)، وتاريخ الإسلام 7/ 475، والسير 14/ 500، وما بين معكوفين منها، ووفاته عندهم سنة (323). وهذه الترجمة ليست في (خ). (¬4) أخبار أصبهان 1/ 349، والمنتظم 13/ 362، وتاريخ الإسلام 7/ 495، وهذه الترجمة وتاليتها ليست في (ف م 1). (¬5) أخبار الراضي 83، وتاريخ بغداد 11/ 26، والمنتظم 13/ 362، والكامل 8/ 328، وتاريخ الإسلام 7/ 490، والسير 15/ 77.

عبد الله بن محمد

أخذ العلم عن أبي بكر بن داود صاحب المَذْهَب، ونشر علم داود في البلاد، وصنَّف في مذهبه. وحدَّث عن عبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله وغيره، وروى عنه الدارقطني وأقرانُه، وكان صدوقًا، ثقة، أصابته سَكْتَة فتوفي في بغداد. عبد الله بن محمد ابن زياد بن واصِل بن مَيمون، أبو بكر، النَّيسابوري، الفقيه الشافعي، مولى أبان بن عُثمان بن عَفَّان (¬1). ولد بنيسابور سنة ثمان وثلاثين ومئتين، ورحل في طلب العلم إلى العراق، والشام، ومصر، وكان إمامًا فاضلًا، جمع بين علم الحديث والفقه، والدِّين والوَرَع، والزُّهد والعبادة. وأثنى عليه الأئمة؛ فقال أبو عبد الله الحاكم في "تاريخه": سكن بغداد، وكان إمام الشافعية في عصره، وكان أحْفَظَ الناس للفقهيات واختلاف الصحابة، وسمع بنَيسابور، والعراق، والجزيرة، والشام، ومصر، والحجاز. وقال الخطيب: كان من الرَّحَّالين الثِّقات، مُوثقًا في روايته. وقال الدارقطني: ما رأينا في مشايخنا أحفظَ منه للأسانيد والمتون، وكان أفقه المشايخ. قال الخطيب عنه أنَّه قال: أعرف (¬2) مَن أقام أربعين سنةً لم يَنَم الليل، ويَتَقَوَّتُ كلَّ ليلة بخمس حَبَّاتٍ، ويُصلِّي صلاةَ الغَداة على طهارة العشاء [الآخرة]، ثم قال: أنا هو، وهذا كلُّه قبل أن أعرف أمَّ عبد الرحمن، أيش أقول لمَن زوَّجني؟ ثم قال على إثْر هذا: ما أراد إلا الخير. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 339، وتاريخ دمشق 32/ 183 (طبعة علي شيري)، والمنتظم 13/ 363، والكامل 8/ 328، وتاريخ الإسلام 7/ 491، والسير 15/ 65، وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 310. (¬2) في (ف م 1): وسمع بنيسابور والعراق والجزيرة والشام ومصر والحجاز، وذكره الخطيب، وكان أفقه المشايخ، وقال الخطيب عن أبي بكر النيسابوري أنَّه قال أعرف. والمثبت من (خ)، وانظر تاريخ بغداد 11/ 340، 341.

وقال أبو عبد الله بن بَطَّة: [كنا نحضر] في مجلس أبي بكر النيسابوري، وكان يُحْزَر في مَجلسه ثلاثون ألف مِحْبَرة، ومضى على هذا مدَّة يسيرة، ثم حَضَرْنا مجلس أبي بكر النَّجَّاد، وكان يُحْزَر في مَجلسه عشرة آلاف مِحْبَرة، فعجَّب الناس من ذلك فقالوا: في مثل هذه المدة ذهب ثُلُثا الناس (¬1). وقال الدارقطني: كنَّا يومًا ببغداد نتذاكر، في المجلس جماعة من الحُفَّاظ، فقال رجل من الفقهاء: مَن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث: "وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجدًا، وجُعِلَت تُرْبَتُها لنا طَهورًا"؛ قالوا: رواه فلان وفلان، فقال: أريد هذه اللفظة: "وتُربَتُها طَهورًا" فقالوا: ما لنا إلا أبو بكر النَّيسابوري. فقاموا إليه بأجمعهم، وسألوه عنها فقال: نعم، حدثنا فلان، عن فلان، وذكره. قال الخطيب: وقد أخرج مسلم هذه اللفظةَ (¬2)، والحديث رواه أبو عَوانة، عن أبي مالك الأشْجَعي، عن رِبْعي بن حِراش، عن حُذَيفة بن اليَمان، وتفرَّد أبو عوانة بهذه اللفظة (¬3). [قال الخطيب: ] مات أبو بكر في ربيع الأول أو الآخر ببغداد، ودُفن بباب الكوفة. ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 364. (¬2) في صحيحه (522) من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 340 - 341، وهذا الخبر ليس في (ف م 1). أبو عوانة: هو الوضاح بن عبد الله اليشكري، وأخرج الحديث من طريقه: الطيالسي في مسنده (418)، والنسائي في السنن الكبرى (7968)، والبزار في مسنده (2836)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (4490)، وابن حبان في صحيحه (1697)، وأبو عوانة الإسفراييني في مسنده 1/ 303، والدارقطني (669)، والبيهقي في سننهما 1/ 213 عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة - رضي الله عنه -. وقول الخطيب: تفرّد بها أبو عوانة؛ غير مسلَّم له، فقد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1674) و (32306)، ومسلم (522)، والبزار (2845)، وابن خزيمة في صحيحه (264)، والطحاوي (1024)، وابن حبان (6400)، والبيهقي 1/ 213 من طريق محمد بن فضيل بن غزوان. وأحمد في مسنده (23251)، وابن خزيمة (264) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم الضرير. ومسلم (522) من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة. والدارقطني (670) من طريق سعيد بن مسلمة؛ أربعتهم عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة - رضي الله عنه -، وفيه هذه اللفظة.

عبد الرحمن بن [سعيد بن] هارون

حدّث ببغداد عن محمد بن يحيى الذُّهْلي النَّيسابوري، وعبد الله بن هاشم الطُّوسِي، ويوسف بن سعيد المِصِّيصي، والعباس بن الوليد بن مَزْيد البيروتي، ومحمد بن عَوْف الحِمْصي، وأبي بكر [محمد بن] عبد الرحمن بدمشق، وغيرهم (¬1). وروى عنه دَعْلج بن أحمد، والدارقطني، وابن شاهين، وخلقٌ كثير، وأجمعوا على فضله وأمانته. وفيها توفي عبد الرحمن بن [سعيد بن] هارون أبو صالح، الأصبهاني (¬2). سكن بغداد وبها توفي في جمادى الأولى، حدث عن عباس الدُّوري (¬3) وغيره، وروى عنه أبو سليمان بن زَبْر وغيره. وفيها توفي عثمان بن جعفر ابن محمد بن حاتم، أبو عمرو، ويُعرَف بابن اللبَّان (¬4). سمع عمر بن شَبَّة، وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة. [وفيها توفي] علي بن محمد بن الحسن أبو القاسم، النَّخَعي، [الحَنَفي، الإمام، الفقيه، ] ويُعرف بابن (¬5) كاس. ¬

_ (¬1) في (خ): حدث عن محمد بن يحيى الذهلي وعبد الله بن هاشم الطوسي والعباس بن الوليد بن مزيد وغيرهم، والمثبت من (ف م 1)، وما بين معكوفين من تاريخ دمشق 32/ 183 - 184. (¬2) أخبار أصبهان 2/ 113، وتاريخ بغداد 11/ 584، والمنتظم 13/ 364، وتاريخ الإسلام 7/ 493 وما بين معكوفين منها. وهذه الترجمة والتي تليها ليستا في (خ). (¬3) في (ف م 1): ابن عباس الدوري، وهو خطأ، والمثبت من المصادر. (¬4) تاريخ بغداد 13/ 183، والمنتظم 13/ 364، وتاريخ الإسلام 7/ 607. (¬5) تاريخ بغداد 13/ 540، وتاريخ دمشق 12/ 502 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 7/ 498، والجواهر المضية في طبقات الحنفية 2/ 593. وما بين معكوفين من (ف م 1).

محمد بن أحمد

[قال أبو الحسن الرازي: ] وهو من وَلَد الأَشْتر النَّخَعي، وقيل: من ولد الكُمَيل بن زياد. [قال الخطيب: ] ولي القضاء بدمشق وبالرَّمْلَة، وقدم بغداد، فركب في سُمارَيَّة (¬1) يوم عاشوراء، فغرق، فأُخرج حيًّا ومات. وكان إمامًا، عالمًا بالفقه على مذهب أبي حنيفة، والفرائض، والقرآن، وكان ثقةً فاضلًا. حدّث [ببغداد] عن أحمد بن يحيى بن زكريا الأَوْديّ (¬2) [، وعبد الله بن رَوْح المدائني، والحسن بن علي بن عَفّان، وغيره، وروى عنه الدَّارَقُطني وغيره. [قلتُ: كان ابن كاس أعرفَ الناس بفقه أبي حنيفة، فريدُ عصره في زمانه، وله الاختيارات. وروى في مسألة الأرض إذا أصابتها نجاسة، فجفَّت بالشمس وذهب أثَرُها؛ في ظاهر المذهب أنَّه تجوز الصَّلاةُ عليها، ولا يجوز التيمُّم نصًّا في ظاهر المذهب، وروى ابن كاس عن أصحابنا أنَّه يجوز التيمُّم منها، كما تجوز الصلاة عليها لذهاب أثَرها، والفرقُ على ظاهر الرواية أنَّ المندوبَ في التيمُّم الصَّعيدُ الطَّاهر، وهذا ليس كذلك، وقد بينَّاه في شرح "البداية" (¬3). وفيها توفي محمد بن أحمد ابن صالح بن علي بن سَيَّار بن علي بن أبي طالب بن أبي ليلى، الأزدي (¬4). أصله من سرَّ من رأى، سمع الحسن بن عَرَفة العَبْديّ، والزُّبَير بن بَكَّار، وعلي بن حَرْب وغيرهم. وروى عنه ابن شاهين، والمُخَلِّص، وتوفي في ذي الحجة، وكان ثقةً. ¬

_ (¬1) نوع من السفن. (¬2) في النسخ: أحمد بن زكريا الأودي، والمثبت من المصادر. (¬3) انظر هذه المسألة في الاختيار لتعليل المختار 1/ 116 - 117. (¬4) تاريخ بغداد 2/ 145، وتاريخ الإسلام 7/ 499.

محمد بن الفضل بن عبد الله

وفيها توفي] (¬1) محمد بن الفَضْل بن عبد الله أبو ذَرّ، التَّميمي، الفقيه الشَّافعي، الجُرْجاني (¬2). كان رئيسَ جرجان، وكان جوادًا مُمَدَّحًا، [وكانت] دارُه مَجمعَ الفُضلاء والعلماء. رحل إلى البلاد، وسمع خلقًا كثيرًا منهم: الحسن بن علي بن خلف [سمع منه بدمشق] وغيره، وروى عنه الدارقطني وأقرانُه، وكان ثقةً نبيلًا. [وفيها توفي محمد بن خالد بن يحيى (¬3) أبو علي، الحَضْرَميّ، قاضي بيت لِهْيا، قرية على باب دمشق. حدَّث عن جدِّه لأمِّه أحمد بن محمد بن يحيى وغيره. وقيل: إنَّه مات في سنة تسعٍ وعشرين (¬4) وثلاث مئة، وكان ثقة. وفيها توفي محمد بن عبد الله أبو عبد الله، الكِنْدي، الرُّهاوي، ويُعرَف بالمنَجِّم (¬5). حدَّث بدمشق عن الرَّبيع بن سليمان وغيره، وكتب عنه أبو الحسين الرَّازي، وكان ثقةً.] (¬6) ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م 1). (¬2) تاريخ جرجان 417، وتاريخ دمشق 64/ 149، والمنتظم 13/ 364، وتاريخ الإسلام 7/ 501. (¬3) في (ف م 1): محمد بن يحيى بن خالد، وهذه الترجمة ليست في (خ)، والمثبت من تاريخ مولد العلماء 272، وتاريخ دمشق 61/ 398، وتاريخ الإسلام 7/ 613. (¬4) في تاريخ دمشق: سبع وعشرين. (¬5) تاريخ دمشق 63/ 3، وتاريخ الإسلام 7/ 550. وهذه الترجمة ليست في (خ). (¬6) بعدها في (م 1): والله سبحانه أعلم بذلك.

السنة الخامسة والعشرون وثلاث مئة

السنة الخامسة والعشرون وثلاث مئة (¬1) فيها أشار أبو بكر محمد بن رائق على الراضي بأن يَنحدرَ معه إلى واسط ليَقْرُب من الأهواز، فخرج من بغداد يوم السبت غُرَّةَ المُحرَّم مُنْحَدِرًا إلى واسِط، فوصلها يوم الاثنين لعشر خَلَون منه، واستخلف بالحَضْرة أبا محمد الصِّلْحي، وأمر القُوَّاد له بالطَّاعة. واضطربت الحُجَريّة وقالوا: هذه حِيلةٌ علينا ليَعمل بنا مثل ما عمل بالسَّاجية، فأقام بعضُهم وانحدر البعض، ثم بعد ذلك انحدروا جميعًا، فاستخدم ابن رائق ستين حاجبًا وأسقط الباقين -وكانوا أربع مئة وثمانين حاجبًا- ونَقَّص أرزاقَ الحَشَم والسَّاجِيَّة وغيرهم، فثاروا وحاربوا ابن رائق، وجرى بينهم قتالٌ شديد، فانهزم مَن بقي من الساجية إلى بغداد، وكان لؤلؤ صاحب الشرطة، فقتل بعضَهم، ونهب دورَهم، ولم يَبْق من الحُجَرية إلا قليل، مثل: صافي الخازن، والحسن بن هارون، فأُطلقا. ولمَّا فرغ ابن رائق من الساجية والحجرية أشار على الراضي بالتقدُّم إلى الأهواز، فأُخرجت المَضارب، وبعث ابن رائق أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد والحسن بن إسماعيل الإسكافي إلى أبي عبد الله البريدي برسالة من الراضي مضمونُها: أنَّه قد أخَّر الأموال واستبدَّ بها، وأفسد الجيوش، وحسَّنَ لها المُروق، وأنَّه ليس طالبيًا فينازع على المُلك، ولا جُنديًّا فيبتغي الإمارة، ولا ممَّن يَحمل السلاح فيُؤهَّل لفَتْح البلاد المُغلقة، وأنَّه كان كاتبًا صغيرًا رُفع بعد خُمولٍ، وعاملًا من أوسط العمال فطغى وبغى، وكفر النِّعمةَ، وجازى على الإحسان بالسوء، وخلع الطّاعة، وركب المعصية، وإن رجع إلى الطاعة سُومح عن الماضي. فلمَّا وصلا إليه أبلغاه الرّسالة، فأجاب إلى أنَّه يَحمل مالًا عيَّنه، وأنَّ الجيش الَّذي عنده لا يَقومُ بهم مالُ الحَضْرة، فيُجهِّزُهم إلى فارس يحاربوا مَن بها. فأمَّا ابن رائق فقَبل منه ذلك، وأما الحسن بن علي النُّوبَخْتي فقال: الواجب إخراجُه من الأهواز؛ فإنَّه كذَّاب غَدَّار لا يَفي بقولٍ ولا يَمين. ¬

_ (¬1) لم يرد من أخبار هذه السنة في (ف م 1) سوى مسير ابن حمدان إلى مصر.

وبعث إليه الراضي بالخِلَع، فما حَمل المال، ولا جهَّز الجيش إلى فارس. وكان أبو الحسن البريدي ببغداد، فجهَّزه ابنُ رائق إلى أخيه أبي عبد الله. وفيها عاد الراضي إلى بغداد بعد أن ضَمِن البريدي البلاد، وقلَّد ابنُ رائق بَجْكَم التُّركي الشرطة ببغداد، وخرج مَن بقي من الحُجَرية من بغداد إلى الأهواز، فقبلهم البريدي، وأجرى أرزاقَهم، وأحسن إليهم، ورثى لهم ممَّا جرى عليهم. وقد دَخِلَ الرَّاضي (¬1) وضاق ما بيده؛ لأنَّ الأهواز والبصرة في يد البريدي، وفارس في يد علي بن بُوَيه، وكِرْمان في يد أبي علي محمد بن إلياس، والرَّيِّ وأصبَهان والجَبَل في يد الحسن بن بُوَيه، والمَوْصِل وديار ربيعة وبكر في يد بني حَمْدان، والشّام ومصر في يد محمد بن طُغْج، والمغرب وإفريقية في يد أبي تميم مَعَدّ، وصاروا مثل ملوك الطَّوائف، ولم يَبْق بيد الراضي غير بغداد والسَّواد، وليس في هؤلاء المُتَغَلِّبين مَن يطيع الآخر، بل يَخافُه ويَحْتَرِز منه، ونَقَص قدرُ الخلافة، وضَعُف أمرُ الملك، وعمَّ الخراب. وفيها ظهرت الوَحْشَةُ بين محمد بن رائق وبين أبي عبد الله البريدي، ووافى أبو طاهر القِرْمِطي الكوفة، فدخلها في ربيع الآخر، فخرج ابن رائق من بغداد في جمادى الأولى، فنزل في بستان ابنِ أبي الشَّوارِب بقَنْطرة الياسِرِيّة، وأنفذ أبا بكر محمد بن علي بن مُقاتل رسالةً إلى الهَجَريّ، وكان الهَجَري يَطلب من الخليفة مالًا وطعامًا في كلّ سنةٍ بنحو من مئة وعشرين ألف دينار ليُقيمَ في بلده، وتردَّدت الرسائلُ بينهما، ولم يَتَقرَّر شيء، وسار الهَجَري إلى بلده، وعدل ابن رائق إلى واسط، وكاشف بني البَريدي (¬2). وفيها استوزر الراضي أبا الفتح الفضل بن جعفر بن الفُرات بمَشورة ابن رائق، وكان ابن الفرات بالشام، فأرسل وراءه فحضر، فقلَّده الوزارةَ في شوال. ¬

_ (¬1) يعني فسد أمره، انظر تكملة الطبري 307، والمنتظم 13/ 366، وتاريخ الإسلام 7/ 423. (¬2) في تكملة الطبري 307: وسار ابن رائق إلى واسط، وقد جاهر البريدي بالخلاف.

ولزم سليمان بن الحسن منزله، فكانت مدَّةُ مُقدمه في الوزارة عشرةَ أشهر وأيامًا، واستتر ابن مُقْلَة، وكتب الراضي تقليدًا عظيمًا لابن الفُرات، وعظَّمه في ألقابه، وبسط يده. وأمَّا ابن رائق فراسل البريدي، فلم يلتفت وماطَلَه، وبعث البريدي جيشًا إلى البصرة يحفظُها من ابن رائق، وطيَّب قلوبَ أهلها، وبلغ ابنَ رائق فقَلِق من ذلك، وبعث إلى البصرة جيشًا، وكان بها من أصحابه جماعة، فانهزموا من عسكر البريدي. والتقى أصحاب ابن رائق وأصحاب البريدي، وساعدهم أهل البصرة، فهزموا جيشَ ابن رائق مرارًا، وكان ابن رائق قد ولَّى عليهم ابنَ يَزْداد، فأساء السيرة فيهم، وأحسن إليهم البريدي. وكان بدر الخَرْشَني قد خرج من مصر لمَّا ضاقَت به، فنزل هِيت، فكاتبه ابن رائق، فوصل إليه، فاشتد ظهرُه به، وخَلَع عليه خِلَعًا سلطانية. وأشار ابن مقاتل على ابن رائق أنْ يُنفذ بدرًا الخَرْشَني وبَجْكَم التركي إلى الأهواز؛ بعد حديث كان لبجكم مع ابن مقاتل بداره فيما بعد، فسيَّرَهما، وجعل الإمرةَ لبجكم، فسار في مئتَين وتسعين غُلامًا، فجهَّز إليه البريدي أبا جعفر محمدًا الحَمَّال في ألف رجل (¬1)، والتقوا على السُّوس. وكان بدر الخَرْشَني بالطِّيب يريد اللَّحاق ببجكم، فالتقى بَجكم بالحَمَّال، فهزمه وقال: إنَّما التقيتُ هذه العُدَّة العظيمة بهذه الطائفة اليسيرة لئلَّا يَشْرَكني بدر في الفتح. ووصل الحَمَّال مُنهَزمًا إلى البريدي، فشَتمه ولَكَمه، وقال: أنت كنتَ تظنّ أنَّك تُلاقي ياقوتًا المُدْبِر (¬2). ¬

_ (¬1) في تكملة الطبري 309، وتاريخ الإسلام 7/ 423: عشرة آلاف رجل، وفي الكامل 8/ 335: ثلاثة آلاف مقاتل. (¬2) في تكملة الطبري 309: فلما أتى أبو جعفر البريديَّ قام فلكمه وقال: ظننت أنك تحارب ياقوتًا وقد أدبر بلقاء الأتراك، وفي الكامل 8/ 335: فضرب البريدي محمدًا الحمال وقال: انهزمت بثلاثة آلاف من ثلاث مئة؟ فقال له: أنت ظننت أنك تحارب ياقوتًا المدبر، قد جاءك خلاف ما عهدت، فقام إليه وجعل يلكمه بيديه.

وجاء بَجْكَم وأصحابه إلى جسر تُسْتَر -وقد شَحنه البريدي بثلاثة آلاف- فخاض بَجكم الماء سباحةً، فانهزم أصحابُ البريدي بغير حَرْبٍ، وعادوا إليه، فخرج للوقت ومعه أخواه في طيَّار، وحملوا معهم ثلاث مئة ألف دينار كانت في خزانته، فبينا هم كذلك إذ غرق الطيَّارُ وهم فيه بمكان يقال له: الهِنْدُوان (¬1)، فأخرجهم الغوَّاصون، وأُخرِج لبجكم بعض المال، ووافَوه بالبصرة، ودخل بجكم الأهواز، وكتب إلى ابن رائق بالفتح. ودخل البريديون البصرة، ونزلوا الدُّور واطمأنُّوا وكانوا ثلاثة. وشَغَب أصحاب بدر الخَرْشَني عليه، فانصرف إلى واسِط، وبقي بجكم بالأهواز. وسار ابن رائق بنفسه إلى البصرة يوم السبت للنصف من شوال على الظَّهْر، وكتب إلى بدر أن يوافيه في الماء، وإلى بجكم أن يوافيه، وسار بدر فملك كَلأ البَصْرة (¬2)، فهرب البريدي إلى جزيرة أُوال، ووافاه بَجْكَم. وسار ابن رائق وبدر وبجكم نحو البصرة ليدخلوها، فخرج إليهم أهلُها فقاتلوهم، فرأى بَجكم أمرًا عظيمًا، فقال لابن رائق: ما الَّذي فعلتَ بهؤلاء حتَّى أحوجهم إلى ما ترى؟ ! ومضى البريدي إلى فارس، واستجار بالأمير علي بن بُوَيه فأجاره، وأنفَذَ معه أخاه أبا الحسين لفتح الأهواز، وبلغ ابن رائق ذلك فقال لبجكم: اذهب إلى الأهواز فاحفَظْها، فقال بجكم: لستُ أحاربُ الدَّيلَم وأدفعُهم عن الأهواز إلا بعد أن تَحصلَ لي إمارتُها وخَراجُها، فقال ابن رائق: أنا أُضمِّنُك إياها بمئة وثلاثين ألف دينار مَحمولة في السنة، بعد أن تقومَ بنفقات الجُند والمُؤَن، فقال: رضيتُ. وأقام أهل البصرة على عِصيان ابن رائق، ومالوا إلى البريدي لسوء معاملته، وكان قد حَلَف أنَّه إنْ تمكَّن منهم أحرَق البصرة وجعلَها رَمادًا، فازداد غيظُهم عليه. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) وأصل تكملة الطبري 309، وهو الصواب إن شاء الله، وفي مطبوع تكملة الطبري نقلًا عن تجارب الأمم 1/ 371 كما ذكر محققه: النهروان. (¬2) كل مكان تُرفأ فيه السفن وهو ساحل كل نهر؛ يسمى كلأ، وفي الكامل 8/ 336: الكلّاء، دون إضافة، وهو اسم محلة مشهورة. انظر معجم البلدان 4/ 472.

قصة جرت لبجكم

قصة جرت لبَجكم قال سنان: قال لي بجكم: يميل الملك إذا حزَبَه أمرٌ من الأمور أن يكون جميع ما يَملك من مالٍ وغيره أقلَّ في عينه من التُّراب، ولم يَخْذِفْه كما يخذف الحَصاة (¬1)، فإنِ اندفَع عنه المَكروه كان قادرًا على استخلاف أضعاف ما يخرج عنه، وإنْ هو بَخِل ذهبَت روحُه مع ما في يده. لمَّا قلدني ابن رائق الأهواز، ولم يكن ذلك برأي أبي بكر بن مُقاتل كاتبِه، فلمَّا بلغه الخبرُ قامَت قيامتُه، وقال لابن رائق: عزمتَ على أن تقلِّد بَجكم الأهواز؟ قال: نعم، قال: أخطأتَ على نفسك غاية الخطأ، أنت لا تقوى علي بني البَريدي، وهم كُتَّاب أصحاب دَراريع، ولا تقدر على صَرْفهم، ولا على تَخْليص المال ولا البلد من أيديهم، تُقلِّدُ رجلًا تركيًّا صاحبَ سيف -وإنَّما صحِبك قريبًا- مثلَ الأهواز؟ ! وقد عرفتَ نفوس الأتراك، وما هو إلا أن يحصلَ البلد في يده، ويرى حُسْنَه وكثرةَ أمواله، وكثرة مَن معه من الجيش، حتَّى تُحدِّثه نفسُه بالتغَلُّب عليه، وربَّما تغلَّب عليك وأزالك عن مَرْتَبتك، فتكون أنت الجاني على نفسك، فثَنى رأي ابن رائق عما كان عزم عليه. وبلغني، فضاق صدري، واغتَمَمْتُ غَمًّا شديدًا، وشاورتُ محمد بن ينال فلم يكن عنده رأيٌ، وهوَّن عليه، فقلتُ في نفسي: ابنُ مقاتل تاجرٌ عامِّي، وأنفُسُ التجار دَنِيَّة، والدِّرهم يكبر في نفوسهم. فأخذتُ عشرة آلاف دينار، ونزلتُ في سُمارَّية ومعي محمد بن ينال تَرْجُمانٌ ليس معي غيرُه، وصرتُ إلى باب ابن مُقاتل فوجدتُه مغلقًا، وطرقتُه فكلَّمني البَوَّاب من وراء الباب فقال: الرجلُ نائم، وبيني وبينه أبواب، قلمتُ: اطرُقها فإنِّي قد حَضَرتُ في مُهمٍّ لا يجوز تأخيرُه، فدقَّها، وكلَّمه من ورائها، وأخبره ففتح. ودخَلْنا وهو في فراشه، فانزعج لحضوري وقال: ما الخبر؟ قلتُ: أمرٌ أردتُ أن أُلقيَه إليك على خَلْوَة. فقال: قل، قلتُ: ما أطلعتُ عليه أحدًا إلا هذا التَّرْجُمان لثقتي ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، وقد ذكر هذه القصة الهمداني في تكملة الطبري 313 مختصرة جدًّا.

به، قال: قل ما تحبُّ، فقلتُ: قد علمتَ ما كان عليه الأمير من تقليدي الأهوازَ، وقد توقَّف، ولستُ أدري سببَ تَوَقُّفه، وفي إبطال ما كان عَزم عليه بعد إشهاره غضٌّ مني، وإبطالٌ لجاهي، وأنا صنيعتُه وصنيعتُك، وإنْ لم أحْظَ في أيَّامكما فمتى أحظى؛ وأيّ قَدْرٍ يكونُ لي عند الناس؟ وهذه عشرة آلاف دينار قد حملتُها إلى خزانتك، وأُريد منك أنْ تُشير عليه بإمضاء ما كان قد تقرَّر، فإنَّه ما يُخالفك، قال: فلمَّا رأى الدنانير انْحَلَّ وقال: اذهب في دَعَة الله، ودَعْني على ما أعمل، وانصرفنا. فلمَّا كان بعد ثلاثة أيام قال ابن مُقاتل لابن رائق: إنِّي قد فكَّرتُ في أمر بَجْكم فوجدتُ الصَّوابَ معك، لأنَّك متى تركتَ الأهواز في يد بني البريدي لم يَقنعوا بها، ومَدُّوا أيديَهم إلى غيرها من أعمالك، وفازوا بالمال، وأفسدوا قلوبَ أصحابك بالعطاء فصاروا إليهم، فإن بعثتَ إليهم الجيوش أفسدوهم، وإن خرجتَ بنفسك خاطرتَ بها، وما تدري ما يكون، وليس لهم مثل بجكم، لأنَّهم لا يَطمعون في مُقاومته، ويخافون من شَوكَته، فأمْضِ أمرَه، فإن أطاع وإلا فأنت مالكُ أمرك، متى شئتَ استبدلْتَ به. فقبل رأيَه، وقلَّدني الأهواز، فباع ابنُ مُقاتل روحَه وروحَ صاحبه ونعمتَه بعشرة آلاف دينار، وتعوَّضَت الدنانير أضعافَها، وحصل لي مُلكُ ابنِ رائق. وفيها ولَّى محمد بن طُغْج بُدَيرًا مولاه إمرةَ دمشق، فأقام بها إلى سنة سبع وعشرين وثلاث مئة، فقدم محمد بن رائق إلى دمشق فأقام بها، وزعم أنَّ المُتَّقي ولَّاه إياها، وأخرج بُدَيرًا عنها، ثم وليها بُدَير بعد ذلك من قبل كافور الإخشيدي، ثم قُبِض على بُدَير في سنة سبع وثلاثين. وأما البريديون فهم ثلاثة: أبو عبد الله وأبو الحسين وأبو يوسف، كان أبوهم كاتبًا على البَريد بالبصرة، فغَلَبوا على الأهواز والبصرة، وجرت لهم قصصٌ، ثم اختلفوا فتمزَّقوا كلَّ مُمزَّق. وفيها سار علي بنُ عبد الله بن حَمْدان إلى مصر، فتغلَّب عليها لمَّا خرج منها بدر الخَرْشَني، ولم يحجَّ في هذه السنة أحدٌ.

أحمد بن محمد بن الحسن

[فصل]: وفيها توفي أحمد بن محمد بن الحسن أبو حامد، ابن الشَّرْقي، النَّيسابوري (¬1). ولد في رجب سنة أربعين ومئتين، وطاف الدنيا [وسمع الكثير] وكان حافظًا مُتقِنًا، [وكان] أوحدَ عصره، وكان كثيرَ الحجِّ. وقال الحاكم [أبو عبد الله: ] نظَرَ محمد بن إسحاق بن خُزَيمة إلى أبي حامد فقال: ما دام هذا حيًّا لا يَتهيّأ لأحد أن يَكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت وفاتُه في رمضان. [سمع خلقًا كثيرًا منهم: الزُّبير بن بَكَّار، ومسلم بن الحجَّاج وغيره.] وأجمعوا على صدقه وأمانته (¬2). عدنان ابن الأمير أحمد بن طولون قدم بغداد، وحدَّث بها عن الربيع بن سليمان، والمُزَنيّ، وأصحاب الشافعي رحمة الله عليه، وقدم دمشق وحدَّث بها، وكان ثقةً رحمه الله (¬3). محمد بن أبي موسى العَبَّاسي، أبو عبد الله وكان نبيلًا، قال إبراهيم بن محمد الطَّبَري: رأيتُ ثلاثة لا يَتقدَّمُهم أحدٌ من أبناء جِنسهم: محمد بن أبي موسى يتقدَّم العباسيين فلا يُزاحمُه أحد، وأبا عبد الله الحسين بن أحمد الموسوي يتقدَّم الطالبيِّين فلا يزاحمُه أحد، وأبا بكر بن الأَكْفاني يتقدَّم الشُّهودَ فلا يزاحمُه أحد (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 109، والمنتظم 13/ 367، وتاريخ الإسلام 7/ 504، والسير 15/ 37. (¬2) بعدها في (ف م 1): انتهت ترجمته، والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. السنة السادسة والعشرون وثلاث مئة. (¬3) تاريخ بغداد 14/ 271، وتاريخ دمشق 47/ 52، وتاريخ الإسلام 7/ 511. (¬4) تاريخ بغداد 3/ 708، والمنتظم 13/ 371، وتاريخ الإسلام 8/ 835 فيمن مات قبل الأربع مئة. ولم يذكر الخطيب تاريخ وفاته.

موسى بن عبيد الله

موسى بن عُبيد الله ابن يحيى بن خاقان، أبو مُزاحِم. كان أبوه وزيرَ المُتوكِّل، وكان موسى ثقةً من أهل السنة، نقَشَ على خاتمه: دِنْ بالسُّنَن موسى تُعَن. وتوفي في ذي الحجة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 15/ 62، والمنتظم 13/ 372، وتاريخ الإسلام 7/ 516، والسير 15/ 94.

السنة السادسة والعشرون وثلاث مئة

السنة السادسة والعشرون وثلاث مئة فيها سار أبو عبد الله البَريدي [إلى الأهواز] لمُحاربة بَجْكم. قد ذكرنا أنَّ البريدي قد مضى إلى فارس، واستعان بالأمير علي بن بُوَيه، وأنَّ ابن بُوَيه بعث معه أخاه أبا الحسن أحمد بن بُوَيه لدَفْع بَجْكَم عن الأهواز، وخلَّف البريدي عند علي بن بُوَيه ولدَيه أبا الحسن محمدًا [وأبا جعفر الفياض رهينة] (¬1). ووَرَدَ الخبر على بَجْكَم بنزول أحمد بن بُوَيه على أَرَّجان، فخرج لحربه، وعاد مُنهزمًا بعد ثلاثة أيام، وكان أوكد الأسباب في هزيمته أنَّ المطر اتَّصل أيامًا كثيرة، فمنع الأتراك الذين مع بَجْكم أن يَرْموا بالنُّشَّاب لِلِين أوتارهم، وبطلان العمل بها، وقطع قَنْطرة أَرْبُق، فاحتال ابن بُوَيه في عبورها. وكان بَجكم قد أرسل محمد بن ينال التَّرْجُمان، فلقي أحمد بن بُوَيه، فهزمه أحمد، فمضى إلى تُسْتَر، وعاد غلمانُه إلى بَجْكم، فقبض على وجوه أهل الأهواز، وحمَلَهم معه، وسار إلى واسِط بأصحابه فأقام بها. ودخل أحمد بن بويه والبَريدي الأهوازَ، فأقام البريدي عنده أيامًا، ثم هرَب منه في الماء إلى الباسِيان (¬2) فأقام بها، وكان قد سلَّم إلى أبي علي العارض كاتب أحمد خمسة آلاف درهم إلى يوم هرب، وإنَّما طُولب بإنفاذ عسكره إلى البصرة ويُبقي جَريدة (¬3)، فاستوحش، وكان الدَّيلَم ينالون منه ويُسمعونه ما يَكره (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من الكامل 8/ 340. (¬2) في (خ): المارستان، وهو خطأ، وليس في (ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا، والمثبت من تكملة الطبري 312، والكامل 8/ 341. (¬3) هي خيل تنتدب من سائرها لوجه، أو خيل لا رجّالة فيها. معجم متن اللغة. (¬4) هذا الخبر يوضحه ما في تكملة الطبري 312 من أن معز الدولة بن بويه سبّب على البريدي بعد أن أقام معه خمسة وثلاثين يومًا بخمسة آلاف ألف درهم بإحضار عسكره لينفذهم إلى الأمير ركن الدولة بأصبهان، فأحضر أربعة آلاف رجل وقال لمعز الدولة: إن أقاموا بالأهواز جرى بينهم وبين الديلم فتنة، وكان الديلم يهينونه ويزعجونه، وكان ابن بويه يكرمه، وأبو علي العارض يجلس بين يديه ويخاطبه بسيدنا. وانظر الكامل 8/ 342.

وكتب البريدي إلى غلامه أبي جعفر محمد الحَمَّال بأن يُوافي بباقي الجيش إلى البصرة، وكتب [إلى] (¬1) أحمد بن بويه ليُخلي له قَصَبةَ الأهواز، ويقوم بما ضَمنه من المال لعلي بن بُوَيه -وهو ثمانية عشر ألف ألف درهم- فأجابه أحمد خوفًا من عَتَب أخيه علي بن بُوَيه، وانتقل إلى عَسْكر مُكْرَم، فبعث إليه البريدي يقول: انتقل إلى السُّوس وأُعطيك ثلاثين ألف دينار، وجعَلَ يُدَرِّجُه المنازلَ، ولا يَبعثُ له شيئًا، فقيل لأحمد: إنَّه قد سلك معك طريقًا سَلَكَه مع ياقوت، وما قَصْدُه إلا إبعادُك إلى السُّوس، ويَستميل الذين معك كما فعل بياقوت، فامتنع أحمد من الخروج من عَسْكَر مُكْرَم وهي على سَمْت طريق فارس، وقال: لا أُفارق طريقًا أبعد فيها عن أخي. وأقام البَريدي أسفلَ الأهواز، ولا حُكمَ لأحمدٍ إلا على عَسْكر مُكْرَم، وقلَّ المال عنده (¬2)، وشَغَب رجالُه، وأرادوا الرجوع إلى فارس، فضبطهم، وكتب إلى أخيه بشرح الحال، فبعث إليه قائدًا في ثلاث مئة رجل من الدَّيلَم ومعه خمس مئة ألف درهم، ففرَّقها في رجاله، ووَلي على كُور الأهواز، ونزل في دار أبي عبد الله البريدي، وأقطع ضياعه، واستولَى على أمواله. واستقرَّ أمر أحمد، وبَجْكم مقيمٌ بواسِط يُنازع إلى الملك ببغداد، وقد جمع ابن رائق أطرافَه وأقام ببغداد، والبريدي هاربٌ في أسفل الأهواز. ذكر ما جرى بين الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر وبين محمد بن رائق: لمَّا رأى الوزيرُ اختلال الحَضْرة، واستيلاء المُخالفين على البلاد؛ أطمع ابنَ رائق في أن يَحمل إليه الأموال من مصر والشام، وأعلمه أنَّ ذلك لا يَتِمُّ مع بُعْده عنها، وصاهره فزوَّج ابنه أبا القاسم بابنة محمد بن رائق، وعقد بينه وبين ابن طُغْج صِهْرًا، فزوَّج مُزاحم بن محمد بن رائق بابنة ابن طُغْج. وخرج الوزير إلى الشام في ربيع الآخر على طريق الفُرات، واستخلف عبد الله بنَ علي النِّقَّري بالحَضْرة، وسَفَر ابن شيرزاد بين البريدي ومحمد بن رائق في الصُّلْح، وأن ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من الكامل 8/ 342. (¬2) يعني عند معز الدولة بن بويه، انظر تكملة الطبري 313، والكامل 8/ 343.

يكون عسكرُ البريدي بالبصرة يُقيم الدَّعوة للراضي ولابن رائق، ويجتهدوا في فتح الأهواز، وكتبوا الكتاب، وأخذوا عليه خطَّ الراضي، وسار جيش البريدي من البصرة إلى واسِط لقتال بَجكم، فخرج إليه بَجكم، فأوقع به بالدرمكان (¬1) وعاد إلى واسط، فجلس ابن رائق ببغداد في الهينة (¬2). ذكر هذه الواقعة: بلغ بجكم صُلْح ابن رائق مع البريدي، وقَصَده البريدي، وبعث محمدًا الحَمَّال في ألف رجل، والتقوا، فانهزم الحَمَّال من الدرمكان، وكان البريدي وأخوه مقيمَين بمَطارا ينتظران الخبر، وجاءهما الفَلُّ ولم يُقتَل منهم أحد، وراسله بجكم وقال: أنت قد اتَّفقْتَ [مع] (¬3) ابن رائق عليَّ، وقد عفوتُ عنك، وأنا أُعاهدك إنْ مَلَكتُ الحَضْرةَ أنْ أُقَلِّدك واسِطًا، فسجد البريدي شُكرًا لله عزَّ وجلَّ، وحلف له، واتَّفقا. وفيها جرَت فتنةٌ عظيمة من الحنابلة وسببها البَرْبَهاري، فكتب إليه محمد بن رائق يَتهدَّدُه، فاسْتَتَر، ونَهى أصحابه عما كانوا عليه (¬4). وفيها قُطعَت يدُ ابن مُقْلَة، ثم قُطع لسانُه؛ وسببه أنَّ محمد بن رائق لمَّا صار إليه تدبيرُ المملكة في وزارة سليمان بن الحسن للراضي قبض على ضياع أبي علي بن مُقْلَة وابنه، فسأله ابنُ مُقْلَة إطلاقَها، فوعده، ثم مَطَلَه، فأخذ في السَّعي عليه من كلِّ وَجْه، وكتب إلى بَجكم يُطمِعه في الحَضْرة، وكتب إلى الرَّاضي يُسْير عليه بالقبض على ابن رائق وأسبابه، ويَضْمَن له إذا فعل ذلك وقلَّده الوزارة لَيَستخرج له منه ثلاثة آلاف ألف دينار، وأشار باستدعاء بجكم ونَصْبِه مكان ابن رائق، فأَطْمعه الراضي في ذلك، فكتب ابن مُقْلَة إلى بجكم يُخبره ويَحُثُّه على القُدوم. ¬

_ (¬1) في تكملة الطبري 314: بشابرزان، والمثبت موافق لما في تجارب الأمم 1/ 384. (¬2) كذا، ولم أتبينها، وأنظر أخبار الراضي 101، 103، والكامل 8/ 343 - 344، وتاريخ الإسلام 7/ 426. (¬3) ما بين معكوفين من تاريخ الإسلام 7/ 426. (¬4) من قوله أول السنة: قد ذكرنا أن البريدي ... إلى هنا ليس في (ف م 1).

واتَّفق أنَّ ابن مُقْلَة يَنحدر إلى الراضي سِرًّا، ويُقيم عنده إلى أن يَتِمَّ التَّدبير، فركب من داره بسوق العَطَش وعليه طَيلَسان، وذلك ليلة الخميس لثلاث بقين من رمضان، وتعمَّد تلك الليلة لأنَّ القمر تحت الشُّعاع، وهو يُختار للأمور التي تَصْلُح للكِتمان (¬1). فلمَّا وصل إلى دار الخليفة لم يُوصِله إليه، وعدل به إلى حُجرةٍ فاعتُقل فيها. وبعث الراضي إلى ابن رائق في أمره فاخبره الخَبَر، وما زالت الرسائل تتردَّد بين الخليفة وابن رائق في أمره، فلمَّا كان يوم الخميس لأربع عشرة خلَت من شوال أظهر الخليفة أمرَه، واستفتى العلماء في أمره، وذَكر ما أشار به من مجيء بجكم وقَبْض ابن رائق، فيقال: إنَّ القضاة أفتَوا بقطع يده (¬2) لأنَّه سعى في الأرض بالفساد، فأخرجه الراضي إلى دِهْليز التِّسعيني، وأُحضر فاتك حاجبُ ابن رائق وجملة من القُوَّاد، وقُطعت يدُه اليمين، ورَدَّه إلى محبسه (¬3). قال ثابت بن سنان: فاستدعاني الراضي، وأمرَني بالدخول عليه وعلاجِه، وفتح لي الخدم باب الحبس (¬4)، فدخلتُ عليه، فإذا به جالسٌ يبكي، ولونُه مثل لون الرَّصاص، فلمَّا رآني شكا إليَّ ما يُلاقيه من ضَرَبان ساعِده (¬5)، فحَلَلْتُ الخِرْقَة وعلى القَطْع سِرْقين الدَّوابّ (¬6)، فطَلَبتُ كافورًا، فبعث به الراضي من عنده (¬7)، فطليتُ به ساعِدَه، فسَكَنَ الضَّرَبان. وخرجتُ من عنده بعد أنْ أطعمتُه مقدار عشرين لُقمة من طعام، وكنتُ أتردَّد إليه فعرضت له علَّة النِّقْرِس في رِجْله اليسرى، فكان يتألَّم من ذلك، فدخلتُ عليه يومًا وهو ¬

_ (¬1) تكملة الطبري 315، وفي الكامل 8/ 345: فحضر متنكرًا آخر ليلة من رمضان وقال: إن القمر تحت الشعاع، وهو يصلح للأسرار، فكان عقوبته حيث نظر إلى غير الله أن ذاع سره وشهر أمره. (¬2) قال الذهبي في تاريخه 7/ 426: ولم يصح. (¬3) من قوله: وسببه أن محمد بن رائق لما صار إليه تدبير المملكة ... إلى هنا ليس في (ف م 1). (¬4) في (ف م 1): السجن. (¬5) في (ف م 1): من ألم ساعده قبل أن يقطع لسانه، والمثبت من (خ). والضربان: الألم والوجع. (¬6) هو الزِّبْل. (¬7) في (ف م 1): فشاور الخادم الراضي فبعث به من عنده.

يَنوح على نفسه ويبكي ويقول: يدٌ خَدمْتُ بها الخِلافةَ ثلاثَ دَفْعات لثلاثة من الخلفاء، وكتبتُ بها القرآن دَفْعتَين، تُقطَع كما تُقْطَع أيدي اللُّصوص؟ ثم قال: أتذكُرُ وأنت تقول لي: [إنك] في آخر نَكْبة، ولعلَّ الفَرج قريب؟ قلتُ: بلى، قال: فقد ترى ما حلَّ بي، فقلتُ: ما بقي بعد هذا شيء، وينبغي أن تتوقَّع الفَرَج، فإنَّه قد عُمل بك ما لم يُعمَل بنَظيرٍ لك، وهذا انتهاءُ المَكروه، ولا يكون بعد الانتهاء إلا الانحطاط. فقال له: لا تغفل، فإنَّ المِحْنةَ قد تشبَّثت بي تشبُّثًا يَنْقُلُني من حالٍ إلى حال، إلى أنْ تؤدِّيني إلى التَّلَف، كما تتشبَّث حمَّى الدِّقِّ بالأعضاء، فلا تفارقُ صاحبها [حتى] تُؤدِّيه إلى التَّلَف، ثم تمثَّل: [من الوافر] إذا ما مات بعضُك فابْكِ بعضًا ... فبعضُ الشَّيء من بعضٍ قريبُ فكان الأمرُ كما قال؛ لمَّا قَرُب بَجْكَم من بغداد قطع ابن رائق لسانَه، وبقي في الحبس مدةً طويلة، ثم لَحِقه ذرَبٌ ولم يكن عنده مَن يَخدُمه، فبلغني أنَّه كان يَستقي الماء بيده اليُسرى، ويَجْذِبُ الحَبْلَ ويُمْسِكه بفيه، ولحقه شَقاءٌ عظيم إلى أن مات بدار الخليفة. ثم سأل أهلُه بعد مدة في تسليمه إليهم، فنُبِش وسُلِّم إليهم، فدفنه ابنه أبو الحسين في داره في مُرَبَّعَة أبي عبد الله (¬1)، ثم أحبَّت زوجتُه أنْ تَدفُنَه في دارها، فنُبش وحمل إلى دارها في قصر أمِّ حبيب، فدُفن هناك (¬2). [قال ثابت: ] ومن العجائب أنَّه كان يُراسل الراضي من الحبس بعد قطع يده، قبل أن يقطع لسانه، ويُطمعه في المال الَّذي وعدَه أنَّه يُصَحِّحه له، ويقول: إنَّ قَطْعَ يده ليس مما يَمنعُه أنْ يَستوزره؛ لأنَّه يُمكنه أن يوقِّع بحيلة يحتالها [أو بيده اليسرى، وكان يَشُدُّ القلمَ على ساعده الأيمن، ويكتب بيده اليسرى]، فلمَّا علم ابن رائق أنَّه يسعى بلسانه في التدبير عليه قطعه (¬3). ¬

_ (¬1) في (ف م 1): أي عبيد الله. (¬2) ثمار القلوب 210 - 211 وما بين معكوفين منه. (¬3) في (خ): ابن رائق قطع لسانه، والمثبت من (ف م 1) وما بين معكوفين منهما.

ومن العجائب أنَّه تقلَّد الوزارة ثلاث دَفْعات لثلاثة من الخلفاء، وسافر في عمُره ثلاث سَفَرات، منهنَّ اثنتان في النَّفي إلى شِيراز، وواحدة إلى المَوصل في قتال ابن حمدان وهو وزير، ودُفن بعد موته ثلاث دفَعَات في ثلاثة مواضع، وخُصَّ به من خدمه ثلاثة: شكر، ووردي، وشمائل [وهذا قول ثابت بن سنان في ترجمة ابن مُقْلَة]. وذكره الشيخ جمال الدين ابن الجوزي رحمه الله في "المنتظم" وقال: إنَّ رُقْعَةً جاءت من ابن مُقْلَة إلى الراضي يَضْمَن فيها ابنَ رائق وابنَي مقاتل بألفي ألف دينار، وأنَّه يقبض عليهم بحيلةٍ لَطيفة، فقال الراضي: صِرْ إليَّ حتَّى تُعَرِّفَني وَجْهَ هذا، فجاء إليه، وعلم ابنُ رائق، فجاء في جيشه إلى دار الراضي وقال: لا أبرح إلا بتسليم ابنِ مُقْلَة، فأُخرج، فأمر بقَطْع يده اليمنى وقال: هذا سعى في الأرض بالفساد (¬1). قلت: ومات ابنُ مقلة في سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى (¬2). وورد الخبر بمسير بَجكَم من واسِط يُريد الحَضْرة، وكان قد أزال اسمَ ابن رائق من أعلامه وتِراسِه، وكان مسيرُه من واسِط يوم الخميس غُرَّة ذي القعدة، وبعث ابن رائق إلى دَيالى، فبَثَق إليه بَثْقًا من النَهروان، وقطع الجِسرَ ليصير خَنْدقًا بينه وبين بجكم، وطالب ابنُ رائق الراضي بأن يكتبَ إلى بجكم يأمرُه بالرجوع إلى واسِط، فكتب إليه كتابًا فلم يَلْتفت، ويمَّم قَصْدَه، ووصل إلى دَيالى، وبه عسكرُ ابن رائق، فانهزم إلى عُكبَرا. واستتر ابن رائق ببغداد، ودخل بجكم يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلَت من ذي القعدة على الراضي، فأكرمه، ورَفع منه، وخَلَع عليه، وعاد بالخِلَع إلى عسكره بدَيالى، واستتر أبو بكر بن مُقاتل كاتب ابن رائق. ثم خلع الراضي على بجكم في اليوم الثاني والثالث، وأنزله دار مؤنس بسوق الثلاثاء، وانقضت أيام محمد بن رائق، وكانت مدَّتها سنةً واحدة وعشرة أشهر وستة عشر يومًا، ولقَّب الراضي بجكم بأمير الأمراء، وخلع عليه خِلَع المُنادَمة (¬3). ¬

_ (¬1) المنتظم 13/ 373. وانظر تكملة الطبري 314، والكامل 8/ 345 - 346، وتاريخ الإسلام 7/ 426. (¬2) في (خ): ومات سنة ثمان وعشرين، وسنذكره إن شاء الله تعالى. والمثبت من (ف م 1). (¬3) هذا الخبر بطوله ليس في (ف م 1).

وفيها ورد كتابٌ من ملك الروم إلى الراضي في رمضان، وكانت الكتابة بالرُّومية بالذَّهَب، والترجمة بالعربية بالفِضة، وعنوانه: من رومانس وقسطنطين وإسْطَفانوس عُظَماء ملوك الروم، إلى الشَّريف البَهِيّ ضابط سلطان المسلمين؛ باسم الأب والابن وروح القدس الإله الواحد، الحمد لله ذي الفضل العظيم، الرؤوف بعباده، الجامع للمفترقات، والمؤلِّف للأمم المختلفة في العداوة حتَّى تصير شيئًا واحدًا، والحمد لله الَّذي جعل الصُّلحَ أفضلَ الفضائل، إذ هو محمود العاقبة في السماء والأرض. ولمَّا بلغنا ما رُزِقْتَه -أيها الأخ الشّريف الجليل- من وُفُورِ العقل، وتمامِ الأدب، واجتماع الفضائل أكثر (¬1) ممَّن تقدَّمك من الخلفاء، حمدنا الله تعالى حيث جعل في كلِّ أمة مَن يَميل إلى طاعته، ويَمتثل أمره. وذكر كلامًا طويلًا حاصلُه أنَّهم طلبوا الهُدْنَة، ومُفاداة الأُسارى الذين بأيدي المسلمين وأيديهم، وأهْدَوا للراضي هديَّةً سَنيَّة [فاخرة]، وذكروها في الكتاب فقالوا: وقد وجَّهْنا إلى شريف حَسَبك شيئًا من الألطاف، منها: أقداحٌ من ذهب مُطَعَّمَةٌ بالجوهر، وفوق كلِّ قَدَحٍ أَسَدُ بَلُّور مُطَعَّم، وكيزان، وجِرارٌ من ذهب كلُّها مُطَعَّمَة، وأواني من الذَّهب مُجَوهَرة، وثياب كثيرة، ومِسْكٌ وعَنْبَرٌ وطِيبٌ كثير، وألوان اللطائف شيء ما في خزانة الخلفاء مثلُه. فكتب إليهم الراضي كتابًا من إنشاء أبي عبد الله أحمد بن محمد بن ثَوابَة مضمونه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عبد الله أبي العباس الإمام الراضي بالله أمير المؤمنين إلى رومانس وقسطنطين وإسْطَفانوس رؤساء الروم، سلامٌ على مَن اتَّبع الهُدى، وتمسَّك بالعُروة الوُثْقى، وسَلك سبيلَ النَّجاة والزُّلْفى، وإنَّ أمير المؤمنين يَحْمَد الله الواحدَ الأحد، الفَرْدَ الصَّمد، الَّذي لا صاحبةَ له ولا وَلد (¬2)، ولا شريكَ ولا عَضُد، تَنَزَّه عن المُضاهاة لعَظَمته، وتقدَّس عن المُناوأة بحكمته، وتعظَّم عن شَبَه (¬3) العباد برُبوبيته، واستغنى عن الضرورات بمُلْكه وقُدْرته، فهو كما وَصَف نفسَه: ¬

_ (¬1) في (م 1): أفضل، وليس في (ف) لخرم نشير إليه قريبًا، والمثبت من (خ). (¬2) في (م 1): الَّذي لم يتخذ صاحبة ولا ولد. (¬3) في (م 1): تشبيه.

إبراهيم بن داود

لا إله إلا هو الحيُّ القيوم، له ما في السماوات وما في الأرض، وذَكر آيات التوحيد والجهاد، وصلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرهم أنَّه قَبِل الهَديَّة [والهُدْنَة]، وأجابهم إلى ما التمسوا [، وهذا كتاب يطول ذكره، ذكره ثابت بن سِنان]. وفيها قَلَّد الراضي بَجْكم إمارة بغداد وخراسان، وابنُ رائق مستترٌ ببغداد، ولم يحجَّ في هذه السنة أحدٌ. [فصل]: وفيها توفي إبراهيم بن داود أبو إسحاق، الرَّقِّي، القَصَّار (¬1). [قال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: كان] من جِلة مشايخ الشام، [من أقران الجنيد وابن الجلَّاء، عاش طويلًا، وصحبه أكثر مشايخ الشام، ] وكان مُلازِمًا للفقراء، محبًّا لله تعالى، مجرَّدًا من الدنيا. ذكر نبذة من كلامه (¬2): قال: الأبصارُ قوية والبصائرُ ضعيفة، ومَن اكتفى بغير الكافي افتقَرَ من حيث استغنى. وقال: الكفايات تصل إليك بغير تَعَب، والتَّعَبُ في الفُضول. وقال: أضعفُ الخَلْق مَن ضَعُف عن رَدِّ شَهواته، وأقوى الخَلْق من قَوي على ردِّها. وسئل عن التوكُّل فقال: السُّكونُ إلى مَضمون الحقِّ. وقال: المعرفةُ إثباتُ الربِّ خارجًا عن كلِّ مَوهوم، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَفكَّرُوا في آلاء الله، ولا تفكَّروا في الله فتَهْلكوا" (¬3). ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 319، وحلية الأولياء 10/ 354، والرسالة القشيرية 105، والمنتظم 13/ 374، وصفة الصفوة 4/ 197، ومناقب الأبرار 2/ 9، وتاريخ الإسلام 7/ 520. (¬2) أثبت في كلامه سياق (خ)، وسأشير في نهاية كلامه إلى سياق (م 1). (¬3) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (6315)، وأبو الشيخ في العظمة (1)، وابن عدي في الكامل 7/ 2555 والبيهقي في شعب الإيمان (119) من طريق الوازع بن نافع، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه ابن عمر. والوازع بن نافع؛ قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال أحمد وابن معين: ليس بثقة، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، انظر ميزان الاعتدال (8803)، وكشف الخفاء 1/ 371.

وقال: ما دام لأعْراض الكون عندك خَطَر، فلا خَطَرَ لك عند الله. وقال: القُدرةُ ظاهرةٌ، والأعين مفتوحة؛ غير أن البَصائر ضعيفةٌ. وقال: سافرتُ ثلاثين سنةً أُصلح قلوبَ الناس للفقراء. وسأله سائلٌ فقال: هل يُطيقُ المُحِبُّ كِتْمانَ مَحَبَّته؟ فقال: [من الطويل] ظَفِرْتُم بكِتْمان اللِّسان فمَن لكم ... بكِتمانِ عَينٍ دَمْعُها الدَّهرَ يَذْرِفُ حَملْتُم جبال الحُبِّ فوقي وإنَّني ... لَأَعْجَزُ عن حَمْل القميص وأَضْعُفُ (¬1) [ذكر حكاية الفقير والجندي: ذكر في "المناقب": قال إبراهيم: حدثني الدَّرَّاج قال: خرجتُ أنا وابن الحَنوطي (¬2) إلى الأُبُلَّة، وكانت ليلةً مُقْمرةً، فبينما نحن نسير على شاطئ الأُبُلَّة وإذا بقصرٍ لجنديٍّ، وفيه جاريةٌ تضرب بالعود وتقول (¬3): [مجزوء الرمل] في سبيل الله وُدٌّ ... كان منِّي لك يُبْذَل كلَّ يوم تتَلَوَّن ... غيرُ هذا بك أجْمَل قال: وفي ظلِّ القصر فقيرٌ عليه خِرْقتان، فصاح: يا جارية، بالله عيديه، فهذا حالي مع مولاي، فقال لها مولاها: أَقبلي على الفقير وأعيديه، والفقير يصيح ويبكي إلى أنْ وقع مغشيًّا عليه، فحرَّكناه وإذا به ميِّت، فنزل صاحب القصر، فاغتممنا وقلنا: هذا يكفنه من غير وجهه، ثم صعد الجندي القصر، فكسر كلَّ ما كان بين يديه، فقلنا ما بعد هذا إلا الخير. ¬

_ (¬1) سياق كلام القصار في (م 1): حكى السلمي عنه أنَّه قال: المعرفة إثبات الرب سبحانه خارجًا عن كل موهوم، قال: وقال الأبصار ... قال: وقال: الكفايات تصل إليك ... قال: وقال: أضعف الخلق ... من قوي على ردها، قلت: وقد حكى عنه صاحب "مناقب الأبرار" أكثر مما حكى السلمي قال: سئل القصار عن التوكل فقال: السكون ... قال وقال: المعرفة إثبات الرب ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - ... قال: وقال: ما دام الأعراض ... وذكر أيضًا ما ذكره السلمي من قوله: القدرة ظاهرة ... قال: وقال: سافرت ... قال: وسأله سائل ... القميص وأضعف. اهـ. قلت: وما ذكر في (م 1) من أن صاحب مناقب الأبرار -وهو ابن خميس- نقله عن القصار، إنما نقله قبله السلمي في طبقاته عنه، ولم يتفرد بنقله ابن خميس. (¬2) كذا في (م 1) وهذا الخبر منها، وليس في (خ ف)، وفي مناقب الأبرار 2/ 10: وابن الغوظي (؟ ! ) وذكره ابن قدامة في التوابين 253 من طريق محمد بن داود الدينوري، عن أبي إسحاق الهروي قال: كنت مع ابن الخيوطي بالبصرة، وذكره كذلك ابن الجوزي في صفة الصفوة 4/ 52 عن أبي إسحاق الهروي قال: كنت مع ابن الخروطي. (¬3) من قوله: باسم الأب والابن وروح القدس ... إلى هنا وقع خرم في (ف).

أحمد بن زياد

ولمَّا طلع الفجر إذا بالناس يهرعون من الأبُلَّة كأنَّما نودي فيهم، وخرج القضاة والعدول والأشراف، وخرجت الجنازة، وإذا بالجندي يمشي وراءها حافيًا حاسرًا. فلمَّا دُفن الفقير وهمَّ الناس بالانصراف قام الجندي فقال: يا قوم، ألستُم تعرفوني؟ قالوا: بلى. قال: فإني أُشهدكم أنَّ كلَّ جارية لي حرَّةٌ، وكلّ ضياعي وعقاري في سبيل الله، ولي في صندوق أربعة آلاف دينار، وهذا القصر بما فيه في سبيل الله. ثم نزع الثوب الَّذي كان عليه فرمى به، وبقي في سراويله، فقال القاضي: عندي مِئزران من وجهٍ حلال، أسألُك قَبولهما لله، فأخذ واحدًا فاتَّزر به، وارتدى بالآخر، وهام على وجهه فلم يُعْلَم له أثَر، ولا وَقفوا له على خَبَر، فكان بكاء الناس عليه أكثر من بكائهم على الفقير. قال السُّلَمي: توفي القصَّار في سنة ستٍّ وعشرين وثلاث مئة (¬1). وفيها توفي أحمد بن زياد ابن محمد بن زياد بن عبد الرحمن، اللَّخْمي، الأندلسي (¬2). وزياد بن عبد الرحمن صاحب مالك بن أنس، ويُلقَّب شَبَطُون، وشبطون أول مَن أدخل فقه مالك بن أنس إلى المغرب. وعرض على أحمد القضاء بالأندلس فلم يقبله، وكانت وفاته بالأندلس. وفيها توفي] (¬3) عبد الله بن محمد بن سفيان أبو الحسين، الخَزَّاز، النَّحْوي (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 319. (¬2) تاريخ ابن الفرضي (101)، والمنتظم 13/ 374، وتاريخ الإسلام 7/ 518. وهذه الترجمة ليست في (خ). (¬3) ما بين معكوفين من (م 1 ف). (¬4) تاريخ بغداد 11/ 343، والمنتظم 13/ 369، وإنباه الرواة 2/ 135، وتاريخ الإسلام 7/ 509.

عبد الرحمن بن محمد بن عصام

له التصانيف في علوم القرآن [، ومات ببغداد في ربيع الأول في هذه السنة (¬1). وحدَّث عن المبرّد، وثعلب وغيرهما، وروى عنه عيسى بن علي الوزير وغيره]. وقال: حدثنا المبرِّد، عن المغيرة (¬2)، عن الزُّبَيْر بن بَكَّار، عن عمِّه مصعب قال: قال مالك بن أنس: لهؤلاء الشُّطَّار مَلاحَةٌ، دخل أحدهم يُصلّي خلف إمام، فأُرْتج على الإمام، فجعل يتعوَّذ من الشيطان، فقطع الشَّاطر الصلاة وقال: يا هذا (¬3)، ليس للشيطان ذنبٌ، إنَّما أنت ما تُحسِن تقرأ شيئًا. [وفيها توفي عبد الرحمن بن محمد بن عصام أبو القاسم، القُرَشيّ مولاهم. قال الحافظ ابن عساكر: كان يسكن لؤلؤة؛ مَحَلَّةٌ كبيرة خارج باب الجابية، توفي بدمشق. حَدَّث عن هشام بن عمَّار وغيره، وروى عنه أبو الحسين الرازي وغيره، وكان ثقةً، والله أعلم (¬4). وفيها توفي محمد بن جعفر ابن رُمَيْس بن عمرو، أبو بكر، القَصْريّ، البغدادي. كان ينزل قصر الخلافة فنُسب إليه. قال الخطيب: أنفق في طلب الحديث دَنانيرَ كثيرة، وفي رواية: ألوف الدنانير، وسمع ولقي الشيوخ.] (¬5) ¬

_ (¬1) في مصادر ترجمته أنَّه توفي (325 هـ). (¬2) قوله: عن المغيرة، من تاريخ بغداد 11/ 344. (¬3) في (ف م 1) بدل: يا هذا، بالله. (¬4) تاريخ دمشق 41/ 365، وتاريخ الإسلام 7/ 536، ووفاته عندهما سنة (327 هـ). (¬5) ما بين معكوفين من (ف م 1)، وانظر ترجمة القصري في: تاريخ بغداد 2/ 514، والمنتظم 13/ 376، وتاريخ الإسلام 7/ 525، وجاء عقب الترجمة في (ف): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

السنة السابعة والعشرون وثلاث مئة

السنة السابعة والعشرون وثلاث مئة (¬1) فيها خرج الراضي وبَجْكَم من بغداد إلى الموصل لمُحاربة الحسن بن عبد الله بن حَمْدان، وكان قد أخَّر الحِمْل عما ضَمِنَه من الموصل والجزيرة وديار ربيعة، فلمَّا كان يوم الثلاثاء لثلاثٍ خلَون من المُحرَّم خرج الراضي وبَجكم من بغداد، وصارا إلى تكرِيت، فأقام الراضي بها، وسار بجكم من الجانب الشَّرقي من دجلة يريد المَوصل، فتلقَّته زواريق بعث بها الحسن بن حمدان إلى الراضي، فيها دَقيقٌ وشَعير وغنم هدية، فأخذها بجكم، وفرَّق ما فيها على أصحابه، وعَبر فيها إلى الجانب الغربي. ولقيه ابنُ حَمْدان بالكُحَيل، وجرت بينهما وقعةٌ انهزم فيها أصحاب بجكم، واستؤسر بعضُهم، فحقَّق بجكم الحَمْلَة بنفسه، فانهزم ابنُ حَمْدان، واتَّبعه بجكم إلى أن بلغ إلى نَصِيبِين فأقام بها، وهرب ابنُ حَمْدان إلى آمِد، وكتب بَجكم إلى الراضي بأن يسيرَ من تَكْرِيت إلى المَوْصل، فسار في الليل. وكان قبل ورود كتاب بجكم قد لَحِق القرامطة الذين مع الراضي بتَكْريت ضائقة، فانصرفوا مُغاضِبين إلى بغداد. وظهر محمد بن رائق من استتاره، فانضمُّوا إليه، وكانوا ألفَ رجل، ويقال: إنَّ ابن رائق كاتَبهم، فخاف الراضي أن يَسريَ إليه ابنُ رائق والقرامطة فيأخذوه، فخرج من الماء وسار مُجِدًّا على الظَّهر إلى المَوصل، فدخلها يوم الأحد لستٍّ خلَون من صفر، فنزل دار ابنِ حَمْدان، وكتب إلى بجكم يُعرِّفُه الخبر، ويأمرُه بالرجوع إلى المَوصل، فقلَّد بجكم نَصِيبيِن وديارَ ربيعة لجماعةٍ من قُوَّاده، وعاد إلى الموصل لستٍّ بقين من صفر يوم الخميس وهو قَلِقٌ من أمر ابن رائق. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة، وهذه نسخة (م) تبدأ في أول هذه السنة وتنتهي بآخر سنة (449 هـ)، وجاء على طرتها: الجزء الثاني عشر من مرآة الزمان في تواريخ الأعيان للإمام العالم العلامة شيخ المشايخ وبقية السلف الصالح أبي الفرج بن الجوزي (كذا؟ ! ) قدس الله روحه ونور ضريحه وصلى الله على محمد وآله. هذا ولم يرد من أخبار هذه السنة في (م ف م 1) سوى الخبر الآتي مختصرًا، وخبر بطلان الحج الَّذي ذكره الصولي. وسنشير إلى ما وقع فيها من اختصارات، وما أضفناه منها أثبتناه بين معكوفين.

ولمَّا كان يوم الأحد لثلاث بقين منه وقعت بين أهل المَوْصل وأصحاب بَجكم فتنةٌ، فركب بجكم، ووضع السيف في أهل الموصل، وأحرق عدَّةَ محال منها، فسكنوا. وورد الخبر بأنَّ ابنَ حَمْدان عاد إلى نَصيبين، وأنَّ مَن كان بها من أصحاب بجكم هربوا، فزاد ذلك في قلقه، وأخذ أصحابُه يتسلَّلون من الموصل إلى بغداد إلى ابن رائق، حتَّى احتاج بجكم إلى أن يَسُدَّ أبواب دروب الموصل. ولمَّا وصل ابن حَمْدان إلى نصيبين ولم يعلم بخروج ابن رائق ببغداد بعث إلى بجكم يُصالحه على أن يحمل إليه خمسَ مئة ألف درهم مُعَجَّلة، فما صَدَّق بجكم، وكان في نيته أن يُسلِّم الموصل إلى ابن حَمْدان من غير صُلْح، ويَمضي إلى بغداد ليَدفعَ ابنَ رائق عنها. فاستأذن بَجكم الراضي في الصلح، فامتنع من شدَّة غَضَبه عليه، وقال: أخْرَجَ دارَ الملك من أيدينا، فقال بجكم: الصَّواب الصلح، فأذن فيه، وبعث إلى ابن حَمْدان الخِلَع واللواء مع القاضي [أبي] الحسين بن أبي الشَّوارِب (¬1)، فاستحلف ابن حمدان، وأنفذ مال التعجيل. ذكر ظهور ابن رائق: لمَّا عادت القرامطةُ إلى بغداد ظهر ابن رائق في صفر، وانضمَّ إليه جماعة، واستتر أصحابُ الدواوين والكُتَّاب، وقاتلَه جماعة من أصحاب السلطان فهزمهم، فصار إلى دار الخليفة، فلم يدخلها احترامًا لمَن فيها من الحُرَم، وراسل والدةَ الراضي وحُرَمه رسالةً جميلة، واستعرض حوائجَهم. وأُصْعِدَ محمد بن ينال من واسِط في أربعة آلاف من التُّرك والدَّيلَم، فالتقاه ابن رائق فهزمه. وراسل ابنُ رائق الراضي وبَجكم على لسان أبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد يَلتمس الصُّلح، وأن يُقلَّد طريق الفرات، وجند قِنَّسْرِين (¬2) والعواصم، ويخرج إليها، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تكملة الطبري 317، وانظر أخبار الراضي 108، والمنتظم 13/ 377، والكامل 8/ 353، وتاريخ الإسلام 7/ 427. (¬2) في تكملة الطبري 317: وجند يسابور، والمثبت موافق لما في الكامل 8/ 354، وتاريخ الإسلام 7/ 428.

فأجابه إلى ذلك، وحلف بجكم، وخرج ابن رائق متوجِّهًا إلى هذه الأعمال في ربيع الآخر. ذكر دخول الراضي وبجكم بنداد: وذلك في ربيع الآخر، وبلغ الراضي أنَّ عبد الصَّمَد بن المُكتفي راسل ابنَ رائق لمَّا ظهر ببغداد أن يقلِّده الخلافة، وبذل له مالًا، فاعتقله الراضي في دار الخلافة، ويقال: إنَّه قتله، ولمَّا مات الراضي نُبِش عبد الصمد، وحُمل إلى تربةٍ له فدفن بها. وفي جُمادى الأولى صاهر بَجْكم الحسنَ بن عبد الله بن حَمْدان. وفي جمادى الأولى مات الوزير أبو الفتح بن جعفر بن الفرات بغَزَّة، وقيل: بالرَّمْلَة، ودُفن بالرَّمْلَة، وكان الراضي لمَّا وصل إلى المَوصل بعث يستدعيه، فجاء الخادم وقد مات، فكانت مُدَّة وقوع اسم الوزارة عليه سنةً وثمانية أشهر وخمسةً وعشرين يومًا. وفيها استكتب بجكم أبا جعفر محمد بن شيرزاد، وسَفَر بينه وبين أبي عبد الله البَريدي في الصُّلْح، وأن يَضمن البريدي واسِطًا من بجكم بستٍّ مئة ألف دينار في السنة، فتمَّ الصُّلْح. وفيها استوزر الراضي أبا عبد الله أحمد بن محمد البريدي؛ وسببه: أنَّ ابن شيرزاد أشار بذلك وقال: نكتفي شرَّه، ونأخذ ماله، فبعث الراضي قاضي القضاة أبا الحسين عمر بن محمد إليه بالخِلَع والتَّقليد، واستَخْلَف بالحَضْرة أبا بكر عبد الله بن علي النَّفَري؛ كما كان يَخْلُف أبا الفتح الفضلَ بن جعفر (¬1). قال الصُّولي: وكان الحجُّ قد بَطَل من سنة سبع عشرة وثلاث مئة، فكتب أبو علي عمر بن يحيى العَلَوي إلى القِرمِطيّ -وكان يحبُّه لشجاعته وكَرَمه- يَسأله أن يُطْلق الحاج، ويُعطيه عن كلِّ جمل خمسة دنانير، وعن المَحْمِل سبعة دنانير، فأذن القِرْمِطي، فحجَّ الناس، وهي أولُ سنة مُكِسَ الحاجُّ فيها. ¬

_ (¬1) من قوله أول السنة: وكان قد أخر الحمل ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

إبراهيم بن بنان

وخرج [في هذه السنة] مع الرَّكْب القاضي أبو علي بن أبي هريرة الشافعي، فلمَّا طُولب بالخِفارَة لَوى رأسَ راحلته ورَجع، وقال: لم أرجع شُحًّا على الدراهم (¬1)، ولكن قد سقط الحجُّ بهذا المَكْس. [فصل: وفيها توفي إبراهيم بن بُنان (¬2) ويقال: بَيان، أبو يعقوب، الجَوهَريّ. أصله من البصرة، وسكن دمشق ومات بها في شعبان، حدَّث عن أبي أمية والربيع بن سليمان (¬3) المرادي وغيرهما، وروى عنه أبو الحسين الرازي، وعبد الوهاب الكِلابي وغيرهما وكان ثقةً. وفيها توفي أحمد بن عثمان بن أحمد أبو الطَّيِّب، السِّمسار، والد أبي حَفْص بن شاهين. سمع الحديث وتوفي ببغداد في رجب، ودفن بمقبرة باب التِّبن، وكان ثقة (¬4). فصل] وفيها توفي عبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد بن أبي حاتم الرَّازي الحافظ، مُحَدِّث بن مُحَدِّث (¬5). ¬

_ (¬1) في (خ): هذا الدرهم، والمثبت من (ف م م 1). (¬2) كذا ورد سمه في (م ف م 1) وهو خطأ، وهذه الترجمة والتي تليها ليس في (خ)، وصواب اسمه كما في تاريخ دمشق 2/ 708 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 7/ 530: إسحاق بن إبراهيم بن بنان. (¬3) في (ف م 1): حدث عن أبيه الربيع وسليمان، وفي (م): حدث عن أبيه والربيع بن سليمان، وكل ذلك خطأ، والمثبت من المصادر. (¬4) تاريخ بغداد 5/ 488، وتاريخ الإسلام 7/ 528. (¬5) تاريخ دمشق 41/ 336، والكامل 8/ 358، وتاريخ الإسلام 7/ 533، والسير 263/ 13، وطبقات الشافعية للسبكي 3/ 224.

[رحل في طلب العلم والحديث إلى الأمصار مع أبيه، قال: ولم يدعني أبي أشتغل بالحديث حتَّى ختمت القرآن على الفضل بن شاذان، ثم كتبتُ الحديث.] وكان إمامًا فاضلًا، صنَّف "الجرح والتعديل". وقال أحمد بن عبد الله النيسابوري (¬1): كنا عنده وهو يقرأ علينا (¬2) كتاب "الجرح والتعديل" الَّذي صنَّفه، فدخل يوسف بن الحُسين الرَّازي، فجلس وقال: يا أبا محمد، ما هذا؟ فقال: الجرح والتعديل، قال: وما معناه؟ قال: أُظهر أحوال العلماء مَن كان ثقة ومَن كان غير ثقة، فقال له يوسف: أما استحييتَ من الله؟ ! تذكرُ أقوامًا قد حَطُّوا رَواحِلَهم في الجنّة أو عند الله منذ مئة سنة أو مئتي سنة تَغتابُهم؟ فبكى عبد الرحمن وقال: يا أبا يعقوب، والله لو طَرَق سمعي هذا الكلام قبل أن أُصنِّفه ما صنفتُه، وارْتَعَد وسقط الكتابُ من يده، [وقام] ولم يقرأ في ذلك المجلس شيئًا. [قلت: وقد فات ابنَ أبي حاتم الجوابُ، فإنه كان يقول: ما كلامي فيمن حَطُّوا رواحِلَهم عند الله، وإنما كلامي مع أقوامٍ أفسَدوا الشَّريعة، وقصدوا إيقاعَ الشكِّ في قلوب العوام، والتَّلاعبَ بالدين؛ بوضع أخبارٍ أحلوا فيها الحرام وحرموا فيها الحلال، كما فعل عبد الكريم بن أبي العَوْجاء وغيره.] وقال ابن أبي حاتم: قدمتُ مع أبي إلى الشام، فدخلنا مدينةً، فرأينا [فيها] رجلًا قائمًا، بيده حَيَّةٌ يلعبُ بها ويقول: مَن يُعطيني درهمًا حتَّى أبلَعَها؟ فالتفت إليَّ أبي وقال: احفظ دراهمَك يا بُنيّ، فمن أجلها تُبلَع الحَيَّات. أسند ابن أبي حاتم عن خلق كثير، واتَّفقوا على فَضْله، وصدْقه، وأمانته، ومَعْرِفته [وعبادته. ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): وحكى أحمد بن عبد الله النيسابوري قال، والمثبت من (خ). (¬2) القائل: كنا عنده وهو يقرأ علينا؛ هو محمد بن الفضل العباسي كما في تاريخ دمشق 41/ 343، إذ روى الخبر من طريق أحمد بن محمد بن عبد الله النيسابوري، عن علي بن محمد البخاري، عن محمد بن الفضل العباسي: كنا عند عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو ذا يقرأ علينا.

عثمان بن الخطاب

وفيها توفي] عثمان بن الخَطَّاب ابن عبد الله بن العَوَّام، أبو عمرو البَلَوي، المَغْرِبي، ويعرف بالأَشَجِّ، وبأبي الدُّنيا (¬1). كان يزعم أنَّه رأى علي بن أبي طالب - عليه السلام - وروى عنه. [وقد ذكر قصَّتَه الخطيب فقال: حدثنا أبو بكر أحمد بن موسى بن عبد الله الرَّوشناني قال: حدثنا] محمد بن أحمد بن يعقوب [المفيد قال: ] سمعت أبا عمرو عثمان بن الخَطَّاب [بن عبد الله البَلَوي من مدينة بالمغرب يقال لها: مرندة، وهو المُعَمَّر، ويعرف بابن أبي الدنيا] يقول: وُلدتُ في أول خلافة أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، فلمَّا كان في زمن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه خرجتُ أنا وأبي نُريد لقاءَه، فلمَّا صِرْنا قريبًا من الكوفة، أو من الأرض التي هو فيها؛ لَحِقَنا عَطَشٌ شديد في طريقنا أشفينا (¬2) منه على الهَلَكة. وكان أبي شيخًا كبيرًا، فقلتُ له: اجلس حتَّى أدور أنا في البَرِّيَّة، فلعلِّي أرى ماءً أو مَن يدلُّني عليه، أو ماءَ المطر، فجلس. ومَضَيتُ أطلب الماء، فلمَّا كُنْتُ غير بعيد عنه لاح لي ماءٌ، فإذا بعَينٍ وبين يديها شبيهٌ بالبركة (¬3) من مائها، فنَزعتُ ثيابي، واغتسلتُ من ذلك الماء، وشَرِبتُ حتَّى رَويتُ، ثم أتيتُ أبي فقلتُ: قم فقد وقعتُ على عين ماء، وقد فرَّج الله (¬4). فجئنا نحو العين، فدُرْنا فلم نَرَ (¬5) شيئًا، وضَعُف أبي، واشتدَّ الحرُّ، ولم يزل يضطرب حتَّى مات من العَطَش، فواريتُه. ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وبابن أبي الدنيا. اهـ. وكلاهما صحيح، وانظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 184، وتاريخ دمشق 45/ 208، والمنتظم 13/ 378، والكامل 8/ 358، وميزان الاعتدال (5224)، وتاريخ الإسلام 7/ 536. (¬2) في (ف م م 1): أشرفنا، وهما بمعنى. (¬3) في (م 1): بالركوة، وفي (ف م): بالركية، والمثبت من (خ). (¬4) في (م ف م 1): فقام وقد فرح لما فرج الله عنا. (¬5) في (م ف م 1): نجد.

ثم جئتُ فلقيتُ أمير المؤمنين وهو خارج إلى صِفِّين، وقد أُسرجت له بَغْلةٌ، فجئتُ فأمسكتُ الرّكاب ليَرْكبَ، وانكببتُ لأُقبْل فَخِذه، فنَفَحَني الرِّكاب، فشَجَّني في وجهي [شَجَّةً]. قال المفيد: وأنا رأيتُ الشَّجَّةَ في وجهه واضحةً. قال: ثم سألني عن خَبَري، فأخبرتُه بقصة العين ووفاة أبي، فقال: تلك عينٌ ما شرب منها إلا مَن عُمِّر طويلًا، فأَبْشِر فإنَّك تُعَمَّر، ما كنتَ تجدها بعد شربك منها. قال المفيد: فسألناه فحدَّثنا عن علي - عليه السلام - بأحاديث؛ خمسة عشر حديثًا. [قال: ] وكان معه شيوخ من أهل بلده، فسألتُهم عنه فقالوا: هو مشهورٌ عندنا بطول العُمر، حدثنا بذلك آباؤنا عن آبائهم عن أجدادهم، وأنَّ قوله في لُقِيّه لعلي [بن أبي طالب]- عليه السلام - معلوم عندهم أنَّه كذلك. [وهذه رواية الخطيب (¬1). وروى الخطيب أيضًا عن الأشج أنَّه دخل بغداد، فقال: ] (¬2) حدثنا أبو القاسم عُبيد (¬3) الله بن أحمد الرَّقِّي، حدثنا يوسف بن أحمد بن محمد البغداديّ؛ وكان شاهدًا بالرَّقَّة فقلتُ له: إنَّ المفيد حَدَّث عن الأشَجِّ، عن علي بن أبي طالب؟ فقال: إنَّ الأشجَّ دخل بغداد بعد سنة ثلاث مئة بسنين، فنزل (¬4) دارَ إسحاق، فاجتمع عليه الناس وضايقوه، وكنتُ حاضرًا، فقال: لا تُؤذوني، فإنِّي سمعتُ علي بن أبي طالب يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مُؤْذٍ في النار" (¬5). قال: وحدَّث ببغداد خمسةَ أحاديث، حفظتُ مثها ثلاثة هذا أحدُها، وما علمتُ أنَّ أحدًا من أهل بغداد كتب (¬6) عنه حرفًا [واحدًا]، ولم يكن عندي بالثقة، وعلماء النَّقْل لا يُثبتون قولَه، ولا يُصدِّقون خبرَه. [وهذه روايات الخطيب. ¬

_ (¬1) في تاريخه 13/ 184 - 185. (¬2) ما بين معكوفين من (م ف م 1)، وجاء بدله في (خ): وقال الخطيب. والخبر في تاريخ بغداد 13/ 186. (¬3) في النسخ: عبد الله، وهو خطأ. والمثبت من تاريخ بغداد، ونقلته عنه سائر المصادر. (¬4) في (م ف م 1): دخل بغداد سنة ثلاث مئة فنزل، والمثبت من (خ). (¬5) أخرجه من طريق الخطيب هذه: ابن عساكر 45/ 214، وابن الجوزي في المنتظم 13/ 380، وفي العلل المتناهية (1251). (¬6) في (م ف م 1): وما علمت أحدًا ببغداد كتب.

أبو بكر الخرائطي

وقد ذكره الحافظ ابن عساكر قال: وروى المفيد عن الأشج عن علي أربعة عشر حديثًا.] وقال له أبو الحسن علي القَزويني: كم تَعُدُّ من السنين؟ فقال: ثلاث مئة إلا خمس سنين، قيل له: فكم تذكر من الصحابة؟ قال: كلهم ما خلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفاطمة، قيل له: أفتذكر علي بن أبي طالب رضوان الله عليه؟ فقال: كيف لا وأنا من تربيته؟ وكنتُ الرسولَ بينه وبين عثمان بن عفان، فحَمَلني على دابَّته، وهذه الشَّجَّة التي في وجهي منه، أو في رأسي، كان خارجًا إلى صِفّين، أو إلى قتال النَّهْرَوان، ضرب البَغْلَةَ بمِهْماز فأخطأها، فوقعَت في رأسي، وكشف رأسه فإذا بالشَّجَّة (¬1). [وفي رواية: أنَّه لما ذكر له أنَّه شرب من العين قال عليٌّ: اللهم عَمِّرْه ثلاثًا. قال ابن عساكر: وقد روى عنه جماعة غير المفيد، منهم: أبو الحسن محمد بن يحيى بن أخي طاهر العَلَوي، وأبو الحسن علي بن جابارة القَزويني، وأبو الحسين أحمد بن يحيى الدِّينَوَري وغيرهم.] (¬2) وقال المفيد: بلغني أن الأَشَجَّ رجع إلى بلده فمات في الطريق في هذه السنة، [وأخبرني بعض أصحابنا أنهم، ] كانوا يكنونه أبا الحسن، ويسمُّونه عليًّا (¬3). فصل: وفيها توفي أبو بكر الخَرائطي صاحب "اعتلال القلوب" (¬4)، ذكره جدي في "المنتظم" وقال: محمد بن جعفر بن محمد بن سَهْل (¬5)، أبو بكر الخرائطي، من أهل سُرَّ مَن رأى، سمع إبراهيم ابن ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 45/ 209. (¬2) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، وانظر تاريخ دمشق 45/ 208. (¬3) بعدها في (ف م 1): انتهت ترجمة الأشج والحمد لله وحده. (¬4) أثبت في ترجمة الخرائطي هذه سياق النسخ (م ف م 1) لوضوحه وتمامه، وسأشير إلى ما في (خ) وما أضفته منها بين معكوفين. (¬5) في (خ): محمد بن أبي سهل، وفي (م 1 ف): محمد بن شهاب، والمثبت من (م)، وهو موافق لما في المنتظم 13/ 381، وانظر في ترجمته تاريخ بغداد 2/ 515، ومعجم الأدباء 18/ 98، والكامل 8/ 358، وتاريخ الإسلام 7/ 539، والسير 15/ 267.

الجنيد، والحسن بن عَرَفَة، وخلقًا كثيرًا، وكان حسن التَّصنيف، سكن الشام وحدَّث بها، وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة. وذكره الحافظ ابن عساكر فقال: قدم دمشق (¬1) في سنة خمس وعشرين وثلاث مئة، وحدث بها وبغيرها. واختلفوا في وفاته، فقال أبو الحُسين الرَّازي: مات بيافا بعد أن أقام بدمشق سنة، وكانت وفاته في أول سنة سبع وعشرين وثلاث مئة. وقال أبو محمد عبد العزيز الكتاني: مات بعَسْقلان في ربيع الأول. روى عنه أبو القاسم بن أبي العَقَب، وأبو بكر بن أبي الحديد، وأبو الحسين الرَّازي، وغيرهم، وأجمعوا على ثقته وفضله (¬2). وقد روينا كتابه المسمَّى بـ "اعتلال القلوب"، وذكرنا طرفًا منه مفرقًا في الكتاب، ومن أحسن ما ختم به "اعتلال القلوب": قال الخرائطي: أنشدنا أبو العباس الكندي، أنشدني أبو القاسم عبد العزيز لأبي بكر الصَّنَوْبَري: [من الوافر] دُخولُ النَّارِ للمَهْجور خيرٌ ... من الهَجْرِ الَّذي هو يَتَّقيه لأنَّ دخولَه في النَّار أدْنى ... عَذابًا من دخول النار فيه (¬3) قلتُ: وهذان البيتان لأبي بكر أحمد بن محمد بن الحسن الحلبي الشاعر، المعروف بالصَّنوبري، شاعرٌ قديم، مُفْلِق، فصيح، من كبار الشعراء، له أشعارٌ في دمشق ورياضها ومُتنَزَّهاتها، وإنَّما سُمِّي جدُّه الحسن الصنوبري لأنَّه كان حادَّ المِزاج في المُناظرة، ناظر رجلًا بين يدَي المأمون فافحمه، فأُعجب المأمون، فقال له: ما أنت إلا صَنَوبَريَّ الشَّكل، يريد بذلك الذَّكاء وحدَّة المزاج، ولم يذكر لنا تاريخ وفاته (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ): وتوفي في ربيع الأول، وصنف الكثير، وكان من الأعيان الثقات، قدم دمشق. (¬2) تاريخ دمشق 61/ 231 - 233. (¬3) تاريخ دمشق 2/ 114 (مخطوط) وليس فيه ذكر للخرائطي، وهذان البيتان ليسا في مطبوع اعتلال القلوب، والله أعلم. (¬4) ذكره الذهبي في تاريخه 7/ 676 في وفيات سنة (334 هـ).

وقد أنشدنا أشياخنا مقطعات من شعره، فقال بإسناده أنشدنا أبو القاسم بن بِشران، أنشدنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الكندي، أنشدنا أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله، أنشدنا أبو بكر الصَّنَوبري لنفسه (¬1): [من البسيط] إن كان في الصَّيف رَيحانٌ وفاكهةٌ ... فالأرضُ مُسْتَوقَدٌ والجوُّ تنُّورُ وإن يكن في الخريف النَّخْلُ مُخْتَرَفًا (¬2) ... فالأرض مأسورةٌ والجوُّ مَحْسورُ وإن يكن في الشِّتاء الغَيثُ مُتَّصِلًا ... فالأرض عُرْيانةٌ والجوُّ مَقْرُور ما الدَّهرُ إلا الرَّبيعُ المُسْتَنيرُ إذا ... جاء الرَّبيعُ أتاك النَّوْرُ والنُّورُ فالأرضُ ياقوتةٌ والجَوُّ لؤلؤةٌ ... والنَّبتُ فَيروزَجٌ والماءُ بِلَّور ما يَعْدَمُ النَّبتُ كأسًا من سَحائبه ... فالنَّبتُ ضَرْبان سَكْرانٌ ومَخْمورُ فيه لنا الوَرْدُ مَنْضودٌ مُوَرَّدُهُ ... بين المَجالس والمَنْثُور مَنْثُورُ هذا البَنَفْسَجُ هذا الياسَمِينُ وذا النـ ... نِسْرينُ مذقُرِنا فالحُسْنُ مَشْهورُ تَظَلُّ تَنْثُرُ فيه (¬3) السُّحبُ لؤلُؤَها ... فالأرضُ ضاحِكةٌ والطَّيرُ مَسْرور حيثُ التفَتَّ فقُمْرِيٌّ وفاخِتَةٌ ... يُغنِّيانِ وشُحْرُورٌ وزَرْزُور إذا الهَزَارانِ فيه صَوَّتا فهما ... بحُسْنِ صَوْتَيهما عُودٌ وطُنْبُور تَطيبُ فيه الصَّحارى للمقيم بها ... كما تَطيبُ له في غيره الدُّورُ مَنْ شمَّ رِيحَ تحيَّاتِ الرَّبيع يَقُلْ ... لا المِسْكُ مِسْكٌ ولا الكافورُ كافورُ قلت: وقد ضَمَّن جَدِّي هذه الأبيات في عدَّةٍ من مُصَنَّفاته، وأسقط منها بيتَ القَصيد وهو قوله: فالنبت ضربان سكران ومخمور (¬4) ¬

_ (¬1) في (خ): قال المصنف رحمه الله: وهذان البيتان لأبي بكر أحمد بن أبي الحسن الحلبي الشاعر المعروف بالصنوبري، ومن شعره ... والمثبت من (ف م م 1)، وقد ذكر الأبيات الآتية ابن عساكر 2/ 116 بإسنادين غير إسنادي المصنف. (¬2) تجنى ثماره. وهذا البيت ليس في (خ م 1). (¬3) في (م ف م 1): فيها. (¬4) من قوله: قلت وقد ضمن ... إلى هنا ليس في (خ).

ودخل يومًا دارَه، فسمع بكاءَ ولدٍ له رَضيع، فقال: ما له؟ قالوا: فَطَمْناه، فكتب على مَهْده: [من الخفيف] مَنَعوه أحبَّ شيءٍ إليه ... من جميع الوَرى ومن والدَيه مَنَعوه غِذاءَه ولقد كان ... مُباحًا له وبين يديه عَجَبًا منه ذا على صِغَرِ السِّنْـ ... ــنِ هَوى فاهتَدى الفِراقُ إليه (¬1) وقال أيضًا: [من الخفيف] هَدَمَ الشَّيبُ ما بناه الشَّبابُ ... فالغَواني وما عُصِينَ غِضابُ قُلِبَ الآبَنوسُ عاجًا فللأعـ ... ـــيُنِ منه (¬2) وللقلوبِ انْقِلابُ وضَلالٌ في الرَّأي أن يُشْنَأ البا ... زي على حُسْنه ويُهْوى الغُرابُ وكتب على قبر ابنته: [من مجزوء الخفيف] آنَس اللهُ وَحْشَتِكْ ... رحم الله وَحْدَتكْ أنتِ في صُحبةِ البِلى ... أحسَنَ الله صُحْبَتِكْ (¬3) ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 117 (مخطوط). (¬2) لم يجود البيت في النسخ، والمثبت من تاريخ دمشق 2/ 115. (¬3) تاريخ دمشق 2/ 114، وجاء عقب البيت في (م): انتهت ترجمته والله أعلم.

السنة الثامنة والعشرون وثلاث مئة

السنة الثامنة والعشرون وثلاث مئة (¬1) [قال ثابت بن سنان: ] في ليلة [يوم] الخميس مُستهلِّ المُحرَّم ظهر في الجوِّ حُمْرَةٌ شديدة من ناحية الشَّمال والمغرب، ثم دارت إلى الشمال، وظهر منها أعمدةُ بياضٍ عظيمةٌ، كثيرةُ الضَّوء والعدد، ثم اضمَحَلَّت، ثم عادت. [قال: ] وفي هذا اليوم ورد الخبرُ إلى بغداد بأنَّ عليًّا بن عبد الله بن حَمْدان لقي الدُّمُسْتُق فهزمه. وفي يوم الخميس لثلاثٍ بقين من المُحرَّم تزوَّج بَجْكَم سارةَ بنت أبي عبد الله البَريدي بحضرة الراضي، وكان الصداق مئتي ألف درهم. وفيها ورد الأميرُ أبو علي الحسن بن بُوَيه إلى واسط فأقام بشَرقيِّها، وكان البريديون بها في الجانب الغربي. وسببُ مجيء الحسن إليها: أنَّ أبا عبد الله البريدي أنفذ جيشًا إلى السُّوس، فقتل قائدَين من كبار الدّيلَم، وتَخَلَّص أبو جعفر الصَّيمَري إلى قلعة السُّوس، وخاف الحسنُ بن بُوَيه من البريدي أن يسير إلى الأهواز، وكان الأمير أبو علي مقيمًا بباب إصْطَخر، فكتب إليه أخوه فوافاه، فخرج الراضي وبَجْكَم من بغداد إلى واسط، فانصرف أبو علي عنها، فرجع الراضي وبجكم إلى بغداد. وفي شعبان توفي القاضي أبو الحسين عمر بن محمد، وتقلَّد مكانه من جانبَي بغداد ابنُه أبو نصر. وفيها خرج بجكم إلى الجبل وعاد، وفَسَد الحالُ بينه وبين البريدي. وسببُه: أنَّ بجكم لمَّا صاهر البريدي وصفا الحال بينهما كتب بجكم إلى البريدي وهو بواسط أنَّه قد عزم على قَصْد الجبل لفتحه، وأمر البريدي أن يسيرَ إلى الأهواز ليدفعَ الأميرَ أبا الحسن بن بُوَيه عنها (¬2). ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) في الكامل 8/ 361 أن البريدي هو الَّذي أشار على بجكم بالسير إلى الجبل، وأنه إن فعل سار هو إلى الأهواز.

فلمَّا قطع بجكم حُلْوان طمع البريدي في العراق، وأنَّه يدخلُ بغداد فيأخذ من دار بجكم دفائنَ عظيمةً (¬1)، وكانت سَنِيَّة، وأقام يُقَدِّمُ ويؤخِّرُ، ويُقْدِمُ وَيجْبُن، وتارةً تَشْرَهُ نفسُه إلى المال، وتارةً يخاف من مُكاشَفة بجكم، ويتوقَّع أن يُهزَم بجكم أو يُقتلَ فيتمكَّنَ مما يريد. وكان بجكم قد بعث أبا زكريا السُّوسي بالرسالة إلى البريدي، فأقام عنده شهرًا، وعلم السُّوسي ما قد عَزم عليه، فأرسل السُّوسي (¬2) إلى بجكم فأخبره، فركب بجكم الجَمَّازات (¬3)، وسار إلى بغداد، وخلَّف عسكرَه وراءه. ووقع الطَّيرُ على البريدي بدخول بجكم بغداد، فتحيَّر، وهمَّ بالقبض على السُّوسي، ثم أطلَقَه، وعَزل بجكم البريدي عن وزارة الراضي -وكان اسمُ الوزارة واقعًا عليه، والأمور يُدَبِّرها أبو جعفر بن شيرزاد كاتب بجكم- واستُوزِرَ أبو القاسم سليمان بن مَخْلَد (¬4) في ذي القعدة، وخُلِع عليه. وكانت مدةُ وقوع اسمِ الوزارة على البريدي سنةً واحدة وأربعة أشهر وأربعة عشر يومًا. وخرج بجكم إلى واسط في ذي القعدة، وأراد أن يكتمَ أمرَه عن البريدي، فضبط الطريقَ بأسرها، واحترز ليهجم واسِطًا فيأخذَ البريدي، فوصل إلى واسِط يوم السبت لليلة بقيت من ذي القعدة، فوجد البريدي قد انحدر منها ولم يقف، وقلَّد بجكم كتابتَه أبا عبد الله أحمد بن علي الكوفي، وعُزل عنها أبو جعفر بن شيرزاد. وفي شوال ورد الخبر إلى بغداد بأنَّ محمد بن رائق صار إلى حمص فملَكها، وإلى دمشق والزملة وملك الجميع، ووصل إلى عَرِيش مصر، ولقيه الإخشيد محمد بن طُغْج، فحاربه فانهزمَ، واشتغل أصحابُ ابن رائق بالنَّهْب، ونزلوا في خِيَم أصحاب ¬

_ (¬1) في تكملة الطبري 321 أن البريدي طمع أن يخرج الدفائن من داره هو، لا من دار بجكم. (¬2) في (خ): البريدي، وهو خطأ، وليس في (م ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا، والمثبت من الكامل 8/ 362. (¬3) المراكب السريعة شبه العربة يجرها فرسان. (¬4) هو سليمان بن الحسن بن مخلد، انظر أخبار الراضي 144، وتكملة الطبري 321، والمنتظم 13/ 383، والكامل 8/ 362، وتاريخ الإسلام 7/ 429.

ابنِ طُغْج، فخرج عليهم كمينٌ لابن طُغْج فأوقع بهم، وهزمهم أقبحَ هزيمة، وأفلَتَ ابنُ رائق إلى دمشق في سبعين رجلًا. وفيها مات أبو علي محمد بن مُقْلَة في الحَبْس بدار الخليفة لثلاث عشرة خلت من شوال. وفي يوم الخميس لليلتين بقيتا منه مات أبو العباس أحمد بن عبيد الله الخَصيبي بسكتةٍ لَحقتْه، فكان بين وفاته ووفاة ابن مُقْلَة سبعة عشر يومًا. وفي ذي القعدة وصل إلى بغداد رسولُ أبي طاهر القِرْمِطي يطلب من الخليفة خمسين ألف دينار كانت مقرَّرةً عليه في كل سنة، فأُعطي من جملتها عشرون ألفًا على أنْ يُبَذْرِق (¬1) الحاج، فبَذْرَقَهم في هذه السنة. وفيها واقع محمد بن رائق أبا نصر بنَ طُغْج في اللَّجُّون بالسّاحل، فانهزم أصحابُ ابن طُغْج، واستؤسر وجوه قوَّاده، وقُتِلَ في المعركة، فعَزَّ على ابن رائق، فكفَّنه وحَنَّطه، وأنفذ معه ابنَه مُزاحِمًا إلى الإخشيد، وكتب معه كتابًا يُعزِّيه في أخيه، ويعتذرُ إليه، ويحلف أنَّه ما أراد قتلَه، وأنَّه أنفذ إليه ابنَه مُزاحِمًا ليُقِيدَه به إنْ أحبَّ. فتلقى الإخشيدُ فِعْلَه بالجميل وخَلَع على مُزاحِم ورَدَّه إلى أبيه، واصطلحا على أنْ يُفْرِجَ ابنُ رائق للإخشيد عن الرَّمْلَة، ويَحْمل إليه الإخشيدُ في كل سنةٍ مئة وأربعين ألف دينار، ويكون باقي الشام في يد ابن رائق. وفي عيد الأضحى مات أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار النَّحْوي الأنباري. وفي ذي الحِجَّة أشهد أبو عبد الله (¬2) محمد بن أبي موسى الهاشمي ثلاثين عَدْلًا أنَّه لا يَشْهَد عند القاضي أبي نصر يوسف بن عمر؛ بعد أن أخذ خطوط الشهود بأنَّه عَدْلٌ ¬

_ (¬1) يخفرهم ويجيرهم ويحميهم في طريقهم. (¬2) في المنتظم 13/ 383: أبو علي، والمثبت موافق لما في أخبار الراضي 144، وتكملة الطبري 320.

أحمد بن إسحاق بن إبراهيم

مَقبولُ القول، وكان ذلك يوم السبت لثلاث عشرةَ خلَت من ذي الحجة، فلمَّا كان يوم الاثنين لثمانٍ بقين منه قامت البينة عند القاضي أبي نصر بأنَّ أبا عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي ساقطُ العَدالة بشهادة عشرين عَدْلًا، فأسجل القاضي بما ثبت عنده (¬1). وفيها (¬2) غَرقت بغداد في شعبان غَرَقًا عظيمًا، بلغت الزيادةُ تسعة عشر ذِراعًا، وانبثق بَثْقٌ من نواحي الأنبار، فاجتاح القُرى، وغرق بنو آدم والسباع والبهائم، وصبَّ الماء في الصَّراة، ودخل بغداد من الجانب الغربي، وتساقطت الدُّور، وانهدمت المنازلُ، وانقطعت القَنْطرتان العَتيقة والجديدة عند باب البصرة [، وجرت في هذه السنة عجائب من هذا الجنس. فصل وفيها توفي أحمد بن إسحاق بن إبراهيم أبو بكر، القاضي، الخُزاعيّ، البغدادي، ويعرف بالمُلْحَمي، أخو محمد بن إسحاق (¬3). حدَّث عن محمد بن عبد الرَّحمن (¬4) بن بَحِير الكَلَاعي وغيره، وعن أبي عقيل أنس بن سَلْم (¬5) الخَولاني بأَنْطَرَسُوس (¬6)، وأبي عامر بن إبراهيم السُّلمي بُصور، ومحمد بن حَمَّاد المِصِّيصي بالرَّمْلَة وغيرهم، وكان ثقةً. ¬

_ (¬1) في أخبار الراضي أن سبب هذه الشهادة استيحاش ابن أبي موسى من القاضي أبي نصر، وكان ذلك بسبب اتهام القاضي لابن أبي موسى أنَّه يميل إلى أخيه أبي محمد، وأنه يسعى له في ولاية بغداد. (¬2) من قوله أول السنة: وفيها ورد الأمير أبو علي ... إلى هنا ليس في (م ت م 1). (¬3) تاريخ بغداد 5/ 56، وتاريخ الإسلام 7/ 543، والسير 15/ 247، ومختصر تاريخ دمشق 3/ 22. (¬4) في (ف م م 1): حدث عن عبد الرَّحمن، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬5) في (م ف م 1): أنس بن مسلم، وهو تحريف، والمثبت من تاريخ دمشق 3/ 140 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 6/ 722. (¬6) في (ف م م 1): بطرسوس، وهو تحريف، فإن طرسوس من بلاد الروم، وهي مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب، كما ذكر ياقوت، وأنس بن السلم من أنطرسوس، وهي بلد بسواحل بحر الشام، وهي آخر أعمال دمشق من البلاد الساحلية وأول أعمال حمص.

المرتعش الزاهد

وأخرج له الدَّارقطني حديثًا عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان يومُ القيامة يدعو اللهُ العبدَ، فيسألُه عن جاهه كما يسأله عن ماله (¬1) "] (¬2). وفيها توفي المُرتَعِش الزَّاهد واختلفوا في اسمه، فقال الخطيب: اسمه جعفر، وقال أبو عبد الرَّحمن السُّلمي: اسمه عبد الله بن محمد، وكذا قال ابنُ خَميس. وكنيتُه أبو محمد (¬3). كان من ذَوي الأموال (¬4)، له مالٌ جَليل، فتخلَّى عنه وصحب الفقراء مثل الجُنَيد، وأبي حَفْص، وأبي عثمان النَّيسابورَّيين، وأقام ببغداد بالشُّونِيْزِيَّة حتَّى صار شيخَ الصُّوفية وأحدَ الأئمة. وقال (¬5): كان سبب خروجي إلى هذا الأمر أنِّي كُنْتُ ابنَ دِهْقان، فَبينا أنا جالس على باب داري بنَيْسابور إذا بشابٍّ عليه مُرَقَّعة، وعلى رأسه خِرْقة، فأشار إليَّ مُتَعَرِّضًا ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 3/ 22، وأخرجه الدينوري في المجالسة (11)، وابن حبان في المجروحين 3/ 137، والطبراني في معجمه الأوسط (448)، والصغير (18)، وابن عدي في الكامل 7/ 2628، وتمام الرازي في فوائده (1749)، والخطيب في تاريخه 8/ 668، وفي الفصل للوصل المدرج في النقل 2/ 749، وابن عساكر في تاريخه 60/ 283 - 284، وابن الجوزي في الموضوعات (1075)، وفي العلل المتناهية (1534). قال الخطيب هذا الحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه، وقال ابن حبان: هذا لا أصل له من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي إسناد هذا الحديث يوسف بن يونس الأفطس؛ قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، وقال ابن عدي: كل ما روى يوسف عن الثقات منكر. وانظر ميزان الاعتدال (9348). (¬2) ما بين معكوفين من (م ف م 1)، وليس في (خ)، وجاء بعد هذا في (م 1 ف): والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. (¬3) في (خ): المرتعش الزاهد واسمه جعفر، وقيل: عبد الله بن محمد، وكنيته أبو محمد، والمثبت من (م ف م 1)، وانظر ترجمته في: طبقات الصوفية 349، حلية الأولياء 10/ 355، الرسالة القشيرية 108، تاريخ بغداد 8/ 137، المنتظم 13/ 384، مناقب الأبرار 2/ 51، السير 15/ 230. (¬4) في (م ف م 1): قال السلمي: وكان من ذوي الأموال. وهذا الكلام ليس للسلمي بل للخطيب، انظر المصادر في الحاشية السابقة. (¬5) في (م ف م 1): وحكى في المناقب أن اسمه ملقاباذ، وأقام بالعراق حتَّى صار أحد أئمة الصوفية، وقال في المناقب أيضًا عن المرتعش قال، والخبر الآتي في تاريخ بغداد 8/ 137، ومناقب الأبرار 2/ 54.

إشارة لطيفة، فقلت في نفسي: شابٌّ صحيحُ البَدَن ما يأنَفُ من هذا! ؟ فصاح في وجهي صيحةً عظيمةً، وقال: أعوذ بالله ممَّا اخْتَلَجَ في صدرك، وخامَرَ سِرَّك، فغُشِي عليَّ، وسقطتُ على وجهي، فخرج خادمٌ لنا، فرفع رأسي من الأرض وجعله في حِجره. فلمَّا أفقتُ لم أرَ الشابَّ، فتحَسَّرتُ ونَدمتُ على ما كان منِّي، وبِتُّ ليلتي مَغمومًا، فرأيتُ عليَّ بن أبي طالب - عليه السلام - في المنام ومعه الشاب، وهو يُوَبِّخني ويُؤنِّبني (¬1) على ما كان منِّي، فانتبهتُ، وخَرَجتُ عن جميع ما كنتُ فيه، ثم سافرتُ، وسمعتُ بوفاة أبي بعد خمس عشرة سنة، فسألتُ الله العَوْنَ على خلاصي مما وَرِثتُ فأعانني، وكان معي للشاب عينٌ ما فارقَني الحياءُ منه، ولا يُفارقني حتى ألقى الله تعالى. وقال أبو عبد الله الرازي (¬2): كان يقال: عجائبُ بغداد ثلاثة: إشاراتُ الشِّبْلي، وحكاياتُ إبراهيم الخَوَّاص، وبكتُ المُرتَعِش. وقال المرتعش (¬3): سافرتُ ثلاثين سنةً أمشي كل سنة ألفَ فَرسَخ، لا أُرافقُ أحدًا، وإن فُتِح لي بنصف رغيف طالبتُ نفسي بالمُواساة. [وحكى السُّلمي عنه أنه] قال: مَن ظنَّ أنَّ أفعاله تُنْجيه من النار، وتُبلِّغُه الرِّضوان؛ فقد جعل لنفسه ولفعله خَطَرًا، ومَن اعتمد على فَضْل الله بلَّغه الله منازلَ الرضوان (¬4). [قال: ] وقيل له: إنَّ فلانًا يمشي على الماء فقال: إنْ مكَّنه الله من مُخالفة هواه كان أعظمَ من المَشْي على الماء (¬5). [وقال السُّلمي: ] قال رجل للمُرْتَعش: قد طال الليلُ وبَرَد الهواء، فأنشد يقول: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) في (م م 1): ويلومني. (¬2) في (م ف م 1): وحكى الخطيب عن أبي عبد الله الرازي قال. والمثبت من (خ)، والخبر في تاريخ بغداد 8/ 147. (¬3) في (م ف م 1): وحكى في المناقب عن المرتعش قال. والمثبت من (خ)، والخبر في مناقب الأبرار 2/ 52. (¬4) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، والخبر في طبقات الصوفية 352. (¬5) في (خ): إن من مكنه ... والمثبت من (م ف م 1)، وفي طبقات الصوفية 352: عندي أن من مكنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم من المشي على الماء.

لستُ أدري أطال ليليَ أم ... لا كيف يَدْري بذاك مَن يَتَقَلَّى إنَّ للعاشقين في قِصَرِ اللّيـ ... ـــــلِ وفي طوله عن النَّوم شُغْلا لو تفرَّغْتُ لاستطالة ليلي ... ولرعي النُّجوم كنتُ مُخِلّا [فبكى الحاضرون، واستدلوا بذلك على عِمارة أوقاته. وهذه رواية السُّلَمي (¬1)، ورواها غيره وفيها زيادة وهي هذه: ] أيُّها الملك الذي سَهري فيـ ... ـــه كطَعم الرُّقادِ بل هو أحلى غَرَضي ما يُريده بي (¬2) حَبيبي ... لو سَقاني مُهْلًا لما قلتُ مَهْلا وغَرامُ الفؤادِ مُذْ حِلْتَ عنه ... لم يَحُل عن هواكَ حاشا وكلَّا [وحكى عنه في "المناقب" أنه] قال: ذهبت حقائقُ الأشياء وبقيت أسماؤُها، فالأسماء موجودةٌ، والحقائق مَفقودة، والدَّعاوى في السَّرائر مَكنونةٌ، والألسُن بها فَصيحة، والأمور عن حقائقها مَصروفة، وعن قريبٍ تُفقَد (¬3) هذه الألسنُ والدَّعاوى، فلا يوجد لسانٌ ناطق، ولا مُدَّعٍ صائب. وقال له رجل: أوصِني، فقال: اذهب إلى مَن هو خيرٌ لك منِّي، ودَعْني مع مَن هو خيرٌ لي منك. ذكر وفاته: حكى الخطيب عن محمد بن مأمون (¬4): أنَّه سمع أبا عبد الله الرازي (¬5) يقول: حضرتُ وفاةَ المُرْتَعِش في مسجد الشُّونيزِيَّة [في هذه السنة]، فقال: انظروا ديوني، فنظروا فقالوا: بضعةَ عشر درهمًا فقال: انظروا خُرَيقاتي فاجعلوها في ديوني، وقد سألتُ الله ثلاثًا عند موتى وقد أعطانيها: إحداها أن يُميتَني على الفقر، الثانية: أن ¬

_ (¬1) في طبقاته 350. (¬2) في (ف م 1): ما تريد مني، والمثبت من (خ م)، والأبيات في المدهش لابن الجوزي 222 ونسبها لابن المعتز. (¬3) في (م ف م 1): تصرف، والمثبت من (خ)، والخبر في مناقب الأبرار 2/ 51، وطبقات الصوفية 350. (¬4) في (ف م م 1): مقاتل، والمثبت من تاريخ بغداد 8/ 138، والمنتظم 13/ 384. (¬5) في (ف م 1): البزار، وفي (م): أبا عبد الله محمد الزراد، وفي (خ) والمنتظم: الرزاز، والمثبت من تاريخ بغداد ونسخة (ت) من المنتظم كما أشار محققه.

الحسن بن أحمد

يُميتَني في هذا المسجد فقد صَحِبتُ فيه أقوامًا، وسألتُه أن يكونَ حولي مَن آنسُ به وأُحبُّه، ثم غَمَّض عينيه ومات بعد ساعة، رحمة الله عليه (¬1). [فصل: وفيها توفي الحسن بن أحمد ابن يزيد بن عيسى بن الفضل بن بشار، أبو سعيد، الإضطَخْري، الشافعي، قاضي قُم (¬2). أحدُ الأئمة العلماء، كان زاهدًا، مُتقلِّلًا وَرِعًا، فاضلًا. ألَّف كتابًا في القضاء يدل على سَعَة علمه ومعرفته وقوة فهمه، وسمَّاه: "أدب القضاء". ولد سنة أربع وأربعين ومئتين. وقد أثنى عليه الأئمة وأرباب السِّيَر، وقد أثنى عليه أبو الطيِّب (¬3) الطَّبَري فقال: كان أبو سعيد من الزهد والوَرَع بمكانٍ لم يَصلْه سواه، وكان قميصُه وسراويله وعِمامته من شُقَّة واحدةٍ، وكان يَتَقَوَّتُ الباقِلَّاء. قال: وسئل عن امرأةٍ مات عنها زوجُها وهي حامل، هل يجب لها النَّفَقة؟ قال: نعم، فعارضه أبو العباس بن سُرَيج وقال: ليس هذا للشافعي، فقال أبو سعيد: هو مذهب علي وابن عباس، فقال له ابن سُرَيج: كثرة أكل الباقلَّاء تذهب بدِماغك -يُعَيِّره بالفقر- فقال له أبو سعيد: وأنت كثرة الحلوى قد ذهبت بدينك. فقد أفتى الإصطخري بمذهب أحمد، وليس ما ذكره مذهبًا للشافعي. ¬

_ (¬1) بعدها في (ت م م 1): انتهت ترجمته والله أعلم. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 206، والمنتظم 13/ 385، وتاريخ الإسلام 7/ 548، والسير 15/ 250، وطبقات الشافعية 3/ 230. (¬3) في (ف م م 1): أبو طالب، وهو تحريف، والمثبت من المصادر، وهذه الترجمة وتاليتها ليست في (خ).

علي بن شيبان بن بنان

قال أبو الطَّيِّب الطبري: وكان قد وَلي الحِسْبَة ببغداد، فأحرق طاق اللَّعب، من أجل ما كان يُعمَل فيه من الملاهي، وكان القاهر أخو المقتدر (¬1) قد استفتاه في الصَّابئة فقال: إنْ كانوا يعبدون الكواكبَ فيقتلوا، فجمعوا للقاهر مالًا عظيمًا فكفَّ عنهم. وكانت وفاتُه ببغداد في جمادى الآخرة، وكان ثقة. وفيها توفي علي بن شَيبان بن بنان أبو الحسن، الجَوهريّ (¬2). وكان ثقة، أصلُه من البصرة، وسكن دمشق، وكان بها في سوق اللؤلؤ، وبنوه يُعرفون ببني بنان الصائغ، قال الحافظ ابن عساكر: حدَّث بدمشق، وكان ثقة صَدوقًا. وفيها توفي] (¬3) علي بن محمد أبو الحسن، المُزَيِّن الصَّغير (¬4). أصلُه من بغداد، صحب الجُنَيد، وسَهْلَ [بن عبد الله] التُّسْتَري، وجاور بمكة حتى توفّي بها. وكان أوحَد المشايخ، وأورَعهم، وأحسنَهم حالًا. [وله الوقائع العجيبة: حدثنا غير واحد عن أبي بكر العامري بإسناده، عن أبي عبد الله بن خَفيف قال: سمعتُ أبا الحسن المزيِّن يقول: ] (¬5) كنتُ في بادية تبوك، فتقدَّمتُ إلى بئرٍ لأستقي منها فزَلَّت رجلي، فوقعتُ في جَوْف البئر، فرأيتُ فيه زاويةً ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وكان القاهر ابن المقتدر، وهو خطأ. (¬2) تاريخ دمشق 49/ 246، وتاريخ الإسلام 7/ 552. (¬3) ما بين معكوفين من (م ف م 1). (¬4) طبقات الصوفية 382، تاريخ بغداد 13/ 544، الرسالة القشيرية 113، المنتظم 13/ 388، مناقب الأبرار 2/ 102، تاريخ الإسلام 7/ 566، السير 15/ 232. (¬5) ما بين معكوفين من (م ف م 1).

واسعة، فأصلحتُ مَوْضعًا، وجلستُ فيه وقلت: إنْ متُّ لا أفسدُ على الناس الماء، وطابَت نفسي وسكَنَ قلبي. فبينا أنا قاعدٌ إذا بخَشْخشةٍ، فتأمَّلتُ وإذا بأفعى قد تَدَلَّى علي، فرجعتُ إلى نفسي فإذا هي ساكنة، فدار بي وأنا هادئُ السرِّ لا أضطرب، فلفَّ ذَنَبَه عليَّ، وأخرجني من البئر، وحلَّ عني، ولا أدري أين ذهب، فلا أدري أسماءٌ رَفعَتْه أو أرضٌ بَلَعَتْه. [وحكى عنه في "المناقب" أنه] قال: كنتُ بمكة، فوقع في خاطري انزعاج، فخرجتُ إلى المدينة، فبينا أنا أسيرُ ببئر مَيمون وإذا بشابٍّ مَطروح، فعدلتُ إليه وهو يَنْزع، فقلت: قل لا إله إلا الله، ففتَح عينَيه وقال: [من الخفيف] إنْ أنا متُّ والهوى حَشْوُ قلبي ... فبِداء الهوى يموتُ الكرامُ وماتَ، فغَسَّلتُه وكفَّنتُه ودفنتُه، وسكَنَ ما بي فرجعتُ إلى مكة (¬1). [وحكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: متى ظَهرت الآخرةُ فنمِت فيها الدنيا. و: مَن استغنى بالله أحوج اللهُ الخلقَ إليه. وسئل عن المعرفة فقال: أن تَعرفَ الله بكمال الرُّبوبية، وتعرفَ نفسك بالعبودية. وقال: الذَّنْب بعد الذنب عقوبةُ الذنب. وقال: المُعْجَب بعمله مُسْتَدرَجٌ، والمُسْتَحْسِنُ لشيءٍ من أعماله ممكورٌ به، وكانت وفاتُه بمكة. وهما مُزَيِّنان، صغير وكبير (¬2)، فالصغير صاحبُ هذه الترجمة، والكبير كنيتُه أبو جعفر، قال المصنِّف رحمه الله: لم أقف على تاريخ وفاته وكان بمكة، [إلا أن الخطيب ذكر له حكاية فقال بإسناده عن] جعفر الخُلْدي [قال: ] وَدَّعتُ (¬3) المُزَيِّن الكبير في بعض حجَّاتي وقلتُ: زوِّدني شيئًا، فقال: إنْ ضاع منك شيء، أو أردتَ أنْ ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 2/ 103 - 104. (¬2) قال الذهبي في السير 15/ 232: وما يظهر لي إلا أنهما واحد. (¬3) في (خ): وكان بمكة قال جعفر الخلدي ودعت، والمثبت من (م ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 8/ 148، وعنه المنتظم 13/ 388 - 389.

عمر بن محمد

يجمعَ الله بينك وبين إنسان فقل: يا جامعَ الناس ليوم لا ريبَ فيه، اجمَع بيني وبين كذا وكذا، فإنَّ الله يَجمعُ بينك وبين ذلك الشيء أو ذلك الإنسان. قال: وجئتُ إلى الكَتَّاني فودَّعتُه، وقلتُ له: زَودني، فأعطاني فَصًّا عليه نقشٌ كأنَّه طِلَّسم فقال: إذا اغتَمَمتَ فانظر إلى هذا فإنَّه يَزول عنك، فانصرفتُ، فما دعوتُ الله تعالى بتلك الدَّعوة إلا استُجيب لي، ولا رأيتُ الفَصَّ وقد اغتَمَمت إلا زال عنِّي غَمِّي. فبينا أنا ذات يومٍ قد توجَّهتُ أعبرُ إلى الجانب الشرقي ببغداد، إذ هاجت ريحٌ عظيمة، وأنا في سُماريَّة والفَصُّ في جيبي، فأخرجتُه لأنظرَ إليه فوقع من يدي، فلا أدري أين ذهب في دجلة أو في السفينة؟ فاغتمَمتُ غَمًّا شديدًا، ودعوتُ الله بالدَّعوة، وعَبَرتُ دجلةَ، وما زلتُ أدعو بها أيامًا، فلمَّا كان في بعض الأيام أخرجتُ صُندوقًا لي فيه ثيابي لأُغير منها شيئًا، ففرَّغتُ الصُّندوقَ، وإذا بالفَصِّ في أسفل الصندوق، فأخذتُه وحَمِدتُ الله على رجوعه. عمر بن محمد ابن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حَمَّاد بن زيد بن درهم، أبو الحُسين، القاضي، الأزْدي، المالكي (¬1). ناب عن أبيه وهو ابن عشرين سنةً، ثم توفي أبوه فأقام على القضاء إلى آخر عُمُره، وكان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بفنون العلوم والفرائض والحساب واللغة والنحو والشعر والحديث، صنَّف "المسند" وغيره. وكان عددُ شهوده ألفًا وثمان مئة، ليس فيهم مَن استُشهِد إلا لفَضْلٍ أو دِين أو مالٍ أو شَرَف. وكان دميمَ النَّفْس (¬2)، شريفَ الأخلاق، وكان أبوه يقول: ما زلتُ مُرَوَّعًا من مسألةٍ تجيئني من السلطان حتى نشأ أبو الحسين. ¬

_ (¬1) أخبار الراضي 141، وتكملة الطبري 320، وتاريخ بغداد 13/ 81، والمنتظم 13/ 389، والكامل 8/ 364، ومعجم الأدباء 16/ 67، وترتيب المدارك 2/ 278، وتاريخ الإسلام 7/ 553. وهذه الترجمة ليست في (ف م م 1). (¬2) كذا في (خ)؟ ! وقد أجمع مترجموه على مدحه، فلعلها: كريم النفس.

وقال جعفر بن وَرْقاء: حَجَجْتُ وعُدتُ، فتأخَّر عن تهنئتي القاضي أبو عمر وابنُه أبو الحسين، فكتبتُ إليهما: [من الوافر] أأسْتَجْفي أبا عُمرٍ وأشكو ... أو اسْتَجْفي فَتاهُ أبا الحسينِ بأيِّ قضيَّةٍ وبأيِّ حُكمٍ ... أَلَحَّا في قَطيعةِ واصِلَينِ فما جاءا ولا بَعَثا بعُذْرٍ ... ولا كانا لحَقِّي موجِبَين وإن نُمْسِكْ ولا نَغتِبْ تمادى ... جَفاؤهما لأَخْلَصِ مُخْلِصَينِ وإنْ نَعتِبْ فحَقٌّ غيرَ أنَّا ... نُجِلُّ عن العِتابِ القاضِيَينِ فلمَّا وقف أبو عمر على الأبيات قال لابنه أبي الحسين: أَجِبْه، وكان أبو عمر على شُغل، فأجابه أبو الحسين: [من المنسرح] تَجَنَّ واظْلِم فلستُ مُنْتَقِلًا ... عن خالصِ الودِّ أيُّها الظَّالم ظننتَ بي جَفْوةً عَتبْتَ لها ... فخِلْتَ أني لحَبلكم صارِمْ حَكَمتَ بالظَّنِّ والشُّكوك ولا ... يحكُمُ بالظَّنّ والهوى حاكم تركتَ حقَّ الوَداع مُطَّرِحًا ... وجئتَ تَبغي زيارةَ القادِم أمران لم يَذهبا على فَطِنٍ ... وأنت بالحُكْم فيهما عالم وكلُّ هذا مَقالُ ذي ثِقَةٍ ... وقلبهُ من جَفائه سالم ذكر وفاته: قال المعافى بن زكريا: كنتُ أحضُرُ مجلسَ أبي الحسين بن أبي عمر يوم النَّظَر، فحضرتُ يومًا أنا وجماعةٌ من أهل العلم في المَوْضع الذي جَرَت العادةُ لجلوسنا فيه ننتظره حتى يخرج، فدخل أعرابيٌّ لعلَّ له حاجةً إليه، فجلس بقربنا، فجاء غُرابٌ فقعد على نَخْلةٍ في الدَّار وصاح ثم طار، فقال الأعرابي: هذا الغُرابُ يقول: إنَّ صاحبَ هذه الدَّار يموتُ بعد سبعة أيام، فصِحْنا عليه وزَبَزناه، فقام وانصرف، واحتَبَسَ خروج أبي الحسين، وإذا قد خرج إلينا الغلام وقال: القاضي يستدعيكم، فقُمنا ودخلنا إليه، فإذا هو مُتَغَيِّرُ اللون، مُنكَسِرُ البال، مُغْتَمٌّ، فقال: أحَدِّثُكم بشيءٍ قد شَغَل قلبي، رأيتُ البارِحَةَ في المنام شخصًا يقول: [من الطويل]

محمد بن أحمد

مَنازِلَ آلِ حمَّاد بن زيدٍ ... على أهليكِ والنِّعم السَّلامُ وقد ضاق صدري لذلك، فدعونا له وانصرفنا، فلمَّا كان اليومُ السَّابع من ذلك اليوم دُفِن رحمة الله عليه. وتوفي يوم الخميس لثلاث عشرة ليلةً خلَت من شعبان، وصلَّى عليه ابنُه أبو نصر، ودُفن إلى جانب أبيه في دار إلى جانب داره. وكان قد بلغ من العلوم مَبْلغًا عظيمًا، وتوفي وهو ابن أربع وثلاثين سنة (¬1)، ووجَدَ عليه الراضي وَجْدًا شديدًا، حتى إنَّه كان يبكي ويقول: كنتُ أَضِيقُ بالشيء ذَرعًا فيُوسعه علي، ووالله لا بَقيتُ بعده. ولمَّا توفي خَلَع الراضي على ابنه أبي نَصْر يوسف بن عمر يوم الخميس لخمسٍ بقين من شعبان، وقلَّده الحَضْرةَ بأسْرها وبعضَ السَّواد، وخلع على أخيه أبي محمد الحسين بن عمر وولَّاه أكثرَ السواد، ثم صَرَف الراضي أبا نصر عن مدينة المنصور بأخيه الحسين سنة تسع وعشرين وثلاث مئة، وأقرَّه على الجانب الشرقي. محمد بن أحمد ابن أيوب بن الصَّلْت (¬2)، أبو الحسن بن شَنَبوذ، المُقرئ. كان تخيَّر لنفسه حروفًا من شَواذِّ القراءات، فقرأ بها بحضرة ابن مُقْلَة الوزير، فأنكر عليه، وضرَبه سبع دِرَرٍ، فدعا على ابن مُقْلَة بقطع اليد، وكانت وفاته ببغداد في صفر. محمد بن عبد الوَهَّاب أبو علي، الثَّقَفي، إمام الصُّوفية بنَيسابور (¬3). ¬

_ (¬1) في أخبار الراضي 141، وترتيب المدارك 2/ 281 أنه توفي وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وفي المنتظم 13/ 392 ابن سبع وثلاثين سنة. (¬2) في (خ): أيوب بن أبي الصلت، وهذه الترجمة والتي تليها ليستا في (م ف م 1)، والمثبت من مصادر ترجمته: تاريخ بغداد 2/ 103، والمنتظم 13/ 392، وتاريخ الإسلام 7/ 553، والسير 15/ 264، وقد سلفت أخباره في أحداث السنة (323 هـ). (¬3) طبقات الصوفية 361، والرسالة القشيرية 110، ومناقب الأبرار 2/ 63، وتاريخ الإسلام 7/ 557، والسير 15/ 280.

محمد بن علي بن الحسين

كان إمامًا في علوم الظَّاهر والباطن، وبه ظهر التَّصوف بخُراسان. لقي أبا حَفْص، وحَمدونًا القَصَّار، وأبا عُثمان الحِيري وصَحِبهم. وكان أبو عثمان يقول: إنِّي لأنتفعُ في نفسي إذا نظرتُ إلى خُشوع هذا الفتى، يعني: أبا علي. وكان يتكلَّم على الناس. قال أبو بكر الرَّازي: حَضَرتُ مَجلسَ الثَّقفي، فتكلَّم في المَحبَّة والمُحبين وأنشد: [من الطويل] إلى كم يكون العَتْب في كلِّ ساعةٍ ... وكم لا تَمَلِّينَ القَطيعةَ والهجْرا رُويْدَكِ إنَّ الدهرَ فيه كِفايةٌ ... لتَفْريق ذاتِ البَين فانتظري الدَّهرا وقال: مَن صحب الأكابرَ على غير طريق الاحترام حُرِم فوائدَهم، ولم يظهر عليه من أنوارهم شيء. وقال: مَن غَلَبه هواهُ توارى عنه عقلُه. وقال: لا تطلُب تقويمَ ما لا يستقيم، ولا تأديبَ مَن لا يتأدَّب. وقال: يأتي على الناس زمانٌ لا تَصِحُّ المَعيشة فيه لمؤمن حتى يستند إلى مُنافق. وقال: يا مَن باع كل شيءٍ بلا شيء، واشترى لا شيءَ بكلِّ شيء. وكان عبد الله بن محمد بن مُنازِل في زمانه، وكان مُجَرَّدًا من الدنيا، فتكلَّم الثقفي يومًا في التَّجْريد عن الدنيا، وشَبَّهه بالموت، فناداه ابنُ منازل وراعَهُ وقال: بها قد متُّ، فانقطع الثقفي لأنَّه كان له عَلائقُ، وابن مُنازِل كان مُجَرَّدًا (¬1). محمد بن علي بن الحسين أبو علي، المعروف بابن مُقْلَة، الوزير (¬2). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 2/ 65، وتحرف فيه ابن منازل إلى ابن المبارك. (¬2) المنتظم 13/ 393، وتاريخ الإسلام 7/ 558، والسير 15/ 224، وقد سلفت جملة صالحة من أخباره في السنين الماضية.

ولد ببغداد سنة اثنتين وسبعين ومئتين، وأولُ تصرُّفه مع أبي عبد الله محمد بن داود بن الجَرَّاح سنة ثمان وثمانين، فأقام معه ثمانيةَ أشهرٍ، ثم انتقل إلى أبي الحسن بن الفرات قبل تقلّده الوزارةَ. ثم آل أَمرُه أنْ وَزَرَ لثلاثة خلفاء؛ للمقتدر سنة ستَّ عشرة وثلاث مئة، وقبض عليه في آخر سنة سبع عشرة، ووزر للقاهر سنة عشرين، [واستتر عنه خوفًا منه سنة إحدى وعشرين] فلم يظهر حتى بُويع للرَّاضي. وقال: كنتُ مُسْتَترًا في دار أبي الفضل بن ماري النَّصراني بدَرب القَراطيس، فسُعِيَ بي إلى القاهر، وعرف موضعي، فإنِّي لَجالسٌ نصف الليل وإذإ بالشارع قد امتلأ بالخَيل والمَشاعل، وهجموا الدار، فدخلتُ بيتًا فيه تِبْنٌ، فدخلوه وفتَّشوه بأيديهم، وأيقنتُ أنِّي مأخوذٌ، فعاهدتُ الله على تَرْك ذنوبٍ كثيرة، وأنَّني متى تقلَّدتُ الوزارة أمَّنتُ المستَتِرِين، وأطلقتُ ضِياع المَنكوبين، ووقفتُ وقوفًا على الطَّالِبيين، وخرج الطَّلَبُ وكفاني الله أمرَهم (¬1). وكان ابنُ مُقْلَة قد نفى أبا العباس أحمد بن عبييد الله الخَصِيبي وسليمان بن الحسن إلى سَرَنْدِيب، وكلاهما وَزَر للمقتدر، فقال الخَصيبي لسليمان لمَّا خبَّ بهما البحرُ: اللهم إنِّي أتوبُ إليك من مَعاصيك، إلا من مَكروهٍ أُوقِعه بابن مُقْلَة، فردَّهما البحر إلى عُمان، فعادا إلى بغداد مستَتِرَين، فلمَّا عزل الراضي ابنَ مُقْلَة من الوزارة ضَمِنَه الخَصيبي بألفي ألف دينار، وحلَّت به المَكاره من قِبَله. وكان ابن مُقْلَة إذا صادر أحدَهم هدَم دارَه، وأخذ أنقاضَها فبنى بها دارَه بالزَّاهِر، ولمَّا أراد أن يَضعَ أساسَها جمع المُنَجِّمين، فاختاروا له وقتًا لبنائها، فكان يجلس يقرأ القرآن والأسْطُرلاب بيده، فكتب إليه بعضُهم: [من البسيط] قل لابن مُقْلَةَ [مَهْلًا] (¬2) لا تكن عَجِلًا ... واصبِر فإنَّك في أضْغاثِ أحلامِ ¬

_ (¬1) تكملة الطبري 321، والمنتظم 13/ 394. (¬2) ما بين معكوفين من تكملة الطبري 299، والمنتظم 13/ 395، وتاريخ الإسلام 7/ 561، والسير 15/ 228.

تَبْني بأنقاضِ دُورِ الناسِ مُجْتَهِدًا ... دارًا ستُنقَض قَهْرًا بعد أيَّامِ وعادةُ الدَّهْرِ فيها أنْ يُغادِرَها ... والنَّارُ تُضْرَمُ فيها أيَّ إضْرَامِ تَتْلو القُرانَ عليها ثمَّ تُتْبِعُه ... أحكامَ هِرمِسَ تلكم شَرُّ أحكام إنَّ القُرانَ وبَطْلَيمُوسَ ما اجتمعا ... في حال نَقْض ولا في حال إبرام وكان له بستانٌ عِدَّةُ أجْرِبَة (¬1)، شجرٌ بلا نخل، عمل له شبك إبْرَيسَم، وكان يُفرخ فيه الطيور التي لا تُفَرِّخ في الشَّجَر، كالقَمارِي، والهزار، والببَغ، والبَلابِل، والطَّواويس، والقَبَج، وكان فيه الغزال والبقر والنَّعام وحُمُر الوَحْش، ووقع طائرٌ بحريٌّ على طائر برِّي فازدوجا وباضا وأَفْرَخا، فأعطى مَن بَشَّره بذلك مئةَ دينار. وكان جَحْظَة يُعاشِرُه في زمان الفقر، فلمَّا وليَ الوزارة حَجَبه، فكتب إليه: [من البسيط] قل للوزير أدام الله دولَتَهُ ... اذْكُر مُنادَمَتي والخُبْر خُشْكارُ إذ ليس بالباب بِرْذَونٌ لنَوبَتكم ... ولا حمارٌ ولا في الشَّطِّ طَيَّارُ (¬2) وأكل يومًا حَلْوى فنقطَ على ثوبه نقطةً صفراء، فأخذ المِدادَ وسوَّدَها وأنشد: [من الخفيف] إنَّما الزَّغفَرانُ عِطْرُ العَذارى ... ومِدادُ الذُويِّ (¬3) عِطْرُ الرِّجالِ ومن شعره عند قَطْع يده: [من الخفيف] ما سَئمتُ الحياةَ لكن تَوَثَّقْـ ... ــــتُ بأيمانهم فبانَتْ يَميني بِعتُ دِيني لهم بدُنْياي حتى ... حَرَموني دُنياهمُ بعد دِيني ولقد رمتُ ما استطعتُ بجَهْدي ... حِفْظَ أيمانهم فما حَفِظوني ليس بعد اليمين لَذَّةُ عَيشِ ... يا حياتي بانَتْ يَميني فبِيني وكانت وفاتُه في شوال. ¬

_ (¬1) الجريب من الأرض مَبْذَر الجريب الذي هو المكيال. مختار الصحاح. (¬2) سلف البيتان في ترجمة جحظة سنة (323 هـ)، والأبيات التي قبله في حوادث سنة (318 هـ). (¬3) جمع دواة، وانظر المنتظم 13/ 397 - 398 فجلُّ الترجمة منه.

محمد بن القاسم

[وفيها توفي] محمد بن القاسم ابن محمد بن بشَّار، أبو بكر بن الأنباري، النَّحوي، الإمام، العَلَّامة (¬1). ولد يوم الأحد لإحدى عشرة ليلةً خلَت من رجب سنة إحدى وسبعين ومئتين. وقرأ القرآن، وسمع الحديث، واشتغل بعلم العربية حتى فإنْ أهل عصره، ولم يكن في زمانه أحفظ منه، [فحكى الخطيب أنَّه] كان يحفظ ثلاث مئة ألف بيت من الشَّواهد في القرآن. [قال: ] ومرض فحَزِنَ عليه أبوه حُزْنًا شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: كيف لا أحزن على مَن في صَدره هذه الخَزائن، وكانت ثلاثة عشر صندوقًا مَملوءةً كُتبًا. وكان إذا دخل الحَمَّام يقفُ أبوه قائمًا حتى يخرج ويقول: أخافُ أنْ يَقَعَ عليه الحَمَّام وفي صَدْره هذه الصَّناديق. [قال: ] وكان يحفظُ مئةً وعشرين تفسيرًا للقرآن بأسانيدها. وحكى الخطيب: أن جاريةً سألته عن مسألة من تَعبير الرُّؤيا، فقال: الجواب غدًا، ومضى تلك الليلة، فحفظ كتاب "تعبير الرُّؤيا" للكرماني. قال الخطيب: وأملى (¬2) كتاب "غريب الحديث" من حِفْظه في خمسة وأربعين (¬3) ألف وَرَقة، وأملى "شرح الكافي "في ألف ورقة، وكتاب "الهاءات" في ألف ورقة، وكتاب "الأضداد"، و"المذكر والمؤنث"، وكتاب "المشكل" بلغ فيه إلى (طه) ومات، وغير ذلك. وكتب الناسُ عنه وأبوه حيٌّ، وكان يُملي في ناحية المسجد، وأبوه يُملي ناحية. ¬

_ (¬1) أخبار الراضي 144، وتكملة الطبري 321، وتاريخ بغداد 4/ 299، والمنتظم 13/ 397، والكامل 8/ 365، ومعجم الأدباء 18/ 306، وتاريخ الإسلام 7/ 564، والسير 15/ 274. (¬2) في (خ): بأسانيدها، وسألته جارية عن مسألة من تعبير الرؤيا للكرماني وأملى، والمثبت من (م ف م 1)، وانظر تاريخ بغداد 4/ 302. (¬3) في (خ): خمسة وعشرين، والمثبت من (م ف م 1).

وكان [مع هذا الحفظ] مُتواضِعًا، صَدوقًا، ثِقةً، دَيِّنًا، قال الدارقُطني: حضرتُ يومًا مجلسَ إملائه، فصحَّف حَيَّان بحِبَّان، فأعظمتُ أنْ يُحمَلَ عنه -في فَضْله وجَلالة قَدرِه- وَهمٌ، وهِبْتُه أنْ أفاوضَه في ذلك، فقلتُ للمُسْتَملي وبينتُ له الصَوابَ وانْصَرَفتُ، وعَرَّفه المُسْتَملي، فلمَّا كان في الجمعة القابِلة حضرتُ وحضر الجماعة، فقال أبو بكر للمستملي: عَرِّف الجماعةَ أنَّنا صَحْفنا الاسمَ الفُلاني في المَجْلس الماضي في حديث كذا وكذا، ونبَّهنا ذاك الشاث عليه وأشار إليَّ، وأنَا كَشَفْنا الأصلَ فوَجدناه كما قال. [قال الخطيب: وكان لا يأكل إلا القَلايا، ولا يشرب إلا الماء البارد. قال: ] وقال (¬1) أبو الحسن العَرُوضِي: اجتمعتُ أنا وأبو بكر بن الأنباري عند الرَّاضي، وكان الطَّباخ قد عرف ما يأكل، فكان يشوي له قَلِيَّة يابسة، ونحن نأكل ألوانَ الطَّعام وأطايبَه، وهو يُعالجُ تلك القَليَّة، ولما فَرَغْنا أكلنا الحَلوى، وشربنا الماء المَمزوج بالثَّلج، ولم يشرب [بعد القَليَّةِ] ماءً إلى العصر، فشرب من ماء الحبِّ غير مبرَّدٍ بالثلج، فقلتُ له: لم تُعَذِّب نفسَك في الدنيا؟ قال: أُبقي على حِفظي وعلمي، فقلتُ: قد أكثر الناس في حفظك، فقال: أحفظُ ثلاثة عشر صندوقًا. [قال: ] وحضر بين يدَيه رُطَبٌ، فجعل يُقلِّبه ويقول: إنَّك لَطَيّب، وأطيبُ منك حِفْظُ ما وهبه الله لي من العلم. [قال: ] فلمَّا وقع في الموت أكلَ كلَّ ما يَشتهيه وقال: إنَّما هي عِلَّة الموت. وكان يدرُسُ في كلِّ جمعة عشرةَ آلاف ورقة [وكان هذا دأبَه]. وقال: دخلتُ مارَسْتانَ باب مُحَوّل، فسمعتُ رجلًا في بيتٍ يقرأُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: 19] ثم قال لنفسه: أنا لا أقفُ على قوله {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بل على قوله: {كَيفَ يُبْدِئُ اللَّهُ} فأقف على ما عَرفه القوم وأقرُّوا به؛ لأنَّهم لم يكونوا يقِرُّون بالبعث، ثم أبتدئُ بقوله {ثُمَّ يُعِيدُهُ} فيكونُ خبرًا. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1). وانظر تاريخ بغداد 4/ 301. القلايا جمع قَلِية، وهي مرقة تتخذ من اللحوم والأكباد.

وأما قرأءةُ علي بن أبي طالب "وادَّكَرَ بعد أَمَهٍ" (¬1) بفتح الميم فوَجْهٌ حسَنٌ، فإن الأمَه النِّسيان. فقال: فقلتُ للمارَسْتاني: مَن في هذا البيت؟ فقال: إبراهيم المُوَسوس، فقلتُ: هذا أُبَيُّ بن كَعب، افتح لنا الباب، ففتح، وإذا به رجلٌ فاضلٌ، كان يجتمع معنا عند ثعلب، وإذا به قد انغَمَسَ في النَّجَاسة، فلمَّا رآني أشار إلى البَوْل وقال: ما هذا؟ قلتُ: الخُرْء، فقال: وما جمعُه؟ قلتُ: خُرُوء، قال: فما الشاهدُ؟ قلتُ: قول الشاعر: [من الطويل] كأنَّ خُروءَ الطَّيرِ فوقَ رؤوسهم فقال: صدقتَ، والله لو لم تأتِ بالجواب لأطعمتُك منه، فقلتُ: الحمد لله الذي نجَّاني مثك. وقال المصنف رحمه الله: والشعرُ للجَوَّاس بن نُعيم: كأنَّ خُروءَ الطَّيرِ فوقَ رؤوسهم ... إذا اجتمعتْ قيسٌ معًا وتَميمُ يصفُ ذُلَّهم (¬2). ذكر وفاته: [حكى ابن ناصر بإسناده عن] عبد الله ابن عيسى قال: لمَّا مرض أبو بكر بن الأنباري مرضَه (¬3) الذي مات فيه انقطع عن الخروج إلى المسجد أيامًا، فدخل عليه الجماعةُ وسألوه عن حاله، فقال له بعضُهم: أضْبِطِ الماءَ من غدٍ وآتيك بثابت بن سِنان (¬4) المُتَطَبِّب -وكان يجتمع في حلقته الأشرافُ وأولاد الوزراء- فلمَّا كان من الغد حضر المتطبب مع ذلك الرجل، فلمَّا توسَّط المنزل قال: أروني الماء ما دمتُ في الضوء، فنظر إليه، ثم دخل فسأله عن حاله فقال: رأيتَ الماء؟ قال: نعم، وهو يدلُّ ¬

_ (¬1) من سورة يوسف الآية 45، والخبر في تاريخ بغداد 4/ 303 - 304، وعنه المنتظم 13/ 400. (¬2) شرح ديوان الحماسة 3/ 1454، والمؤتلف والختلف للآمدي 101. (¬3) في (خ): ذكر وفاته قال عبد الله بن عيسى لما مرض مرضه، والمثبت من (م ف م 1). والخبر في المنتظم 13/ 402. (¬4) في المنتظم: سنان بن ثابت.

أم عيسى بنت إبراهيم الحربي

على إتعابك جسمَك وتكليفك نفسَك أمرًا عظيمًا لا يُطيقه الناس، فقال: قد كنتُ أفعل ذلك، فوصف له ما يستعملُه ثم خرج فتبعه الرجلُ، فسأله عنه فقال: ارفُقوا به فهو تالِفٌ ما فيه حِيلة. فسأله الرجل فقال: يا أستاذ، ما الذي كنتَ تفعلُ حتى استدلَّ الطبيبُ عليه من حالك؟ قال: كنتُ أدرسُ في كلِّ جمعة عشرةَ آلاف ورقة. وتوفي ليلةَ النحر ببغداد، وحَزِن عليه الرَّاضي، ورثاه العلماء. واتَّفقوا على صدقه وثقته وفضله، قال أبو العباس الكاتب: أنشدنا محمد ابن الأنباري (¬1): [من الخفيف] لي صَديق قد صِيغَ من حُسْنِ عَهدِ (¬2) ... ورَماني الزَّمانُ منه بصَدِّ كان وَجْدي به فصار عليه ... وظَريفٌ زوال وَجْدٍ بوَجْدِ [وفيها توفيت أم عيسى بنت إبراهيم الحربي (¬3) كانت عالمة فاضلة، تفتي في الفقه، توفيت في رجب، ودُفنت إلى جانب قبر أبيها، وقد ذكرناها في ترجمة أبيها فيما تقدَّم، واتفقوا على صدقها وثقتها.] (¬4) ¬

_ (¬1) نسبها الخطيب في تاريخه 12/ 110 - وعنه في المنتظم 14/ 332، ونزهة الألباء 302 - إلى أبي العباس الكاتب عبيد الله بن أحمد الزراري نفسه. (¬2) في المصادر: من سوء عهد. (¬3) تاريخ بغداد 16/ 631، والمنتظم 13/ 402، وتاريخ الإسلام 7/ 568. (¬4) ما بين معكوفين من (م ف م 1)، وجاء فيها عقب هذا: والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

السنة التاسعة والعشرون وثلاث مئة

السنة التاسعة والعشرون وثلاث مئة (¬1) فيها استكتب بَجكم أبا عبد الله الكوفي، وعزل ابن شيرزاد عن كتابته، وصادره على مئة ألف وخمسين ألف دينار. وفي يوم الخميس لخمسٍ خلَون من المُحرَّم صُرف أبو نصر يوسف بن عمر عن القضاء بمدينة المنصور، وتقلَّده أخوه أبو محمد بن عمر بسفارة أبي عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي له في ذلك، وشهد عنده يوم تقلَّد فقبل شهادته. وفي صفر وصلت الرُّومُ إلى كفرتوثا من أعمال الجزيرة، فقتلوا وسَبَوا. وفي ربيع الأول انحدر أبو عبد الله الكوفي إلى بجكم برسالة الراضي لما اشتدَّت عِلَّتُه، يسأله أن يولِّيَ العهدَ ابنَه أبا الفضل وهو الأصغر، وكان بَجكم بواسِط، وقاء الرَّاضي في يومين أربعة عشر رَطْلًا من الدَّم، ووَلي المُتَّقي. الباب الحادي والعشرون في خلافة المُتَّقي واسمُه إبراهيم بن جعفر المُقْتدر بن أحمد المُعتَضد، وكنيتُه أبو إسحاق، وأمّه أُمُّ ولد اسمُها خَلُوب أدركت خلافتَه، ولد في شعبان سنة سبع وتسعين ومئتين، وهو أخو الراضي. ذكر بيعته: قال الصولي: لمَّا مات الراضي كان بجكم بواسط، فتوقَّف الأمرُ على اختياره، وبلغَهُ الخبر فكتب إلى كاتبه أبي عبد الله أحمد بن علي الكوفي يأمرُه أن يَجمع القُضاة والعُلماء والأشراف بحضرة الوزير أبي القاسم سليمان بن الحسن وزير الرَّاضي، ويُشاورهم في مَن يصلح للخلافة، ويكون الاجتماع في دار بجكم. وبعث الحسين بن الفضل بن المأمون إلى الكوفي بعشرة آلاف دينار له، وبأربعين ألفًا يفرّقها في الجند إنْ ولَّاه الأمرَ، فلم تسكن نفسُه إليه، وجمع الجماعة، وقرأ عليهم كتاب بجكم. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة.

وكان عثمان كاتب الكوفي مائلًا إلى المُتَّقي، فما زال حتى اتَّفقوا عليه، وأَحدَروه من داره -وكانت بأعلى الحَريم الطَّاهري- إلى دار الخلافة، وذلك في يوم الأربعاء لعشرٍ بقين من ربيع الأول، فبايعوه وهو ابن أربع وثلاثين سنة. وكان حَسَن الوجه، مُعتَدلَ الخَلْق، مُشْرَبًا حُمرةً، أشهلَ العينين، كثَّ اللحية. ولمَا صَعِد إلى رِواق التَّاج صلَّى ركعتين على الأرض، ثم جلس على السرير، وبايَعَه الناس. ولم يُغيِّر شيئًا قط، ولم يَتَسَرَّ على جاريته التي كانت له، وكان كثير الصوم والتعبد، ولم يَشرَب النَّبيذ قط، وكان يقولُ: المُصحف نَديمي وجَليسي ما أريد جَليسًا غيره، فغضب جلساؤه من ذلك. وقال ثابت بن سِنان: كان الراضي قد أَحْدَرَ قبل موته أبا عبد الله الكوفي إلى بجكم يسأله أنْ يُولِّيَ العهدَ ابنَه أيا الفضل، وبقي الأمر موقفًا إلى أنْ يَقدم الكوفي من واسِط، وعاد إلى بغداد ليَحْفَظَ دار الخلافة، وينتظرَ جوابَ كتاب بجكم. فلمَّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول وَرَد كتابُ بجكم على الكوفي يأمره بأن يجمع [أبا القاسم] (¬1) الوزير، وكل مَن تقلَّد الوزارةَ، وأصحاب الدواوين، والقضاةَ والعدولَ، والفقهاء، والعباسيين والعلويين، ووجوة البلد، ويُشاورَهم فيمَن يُنصِّب ممَّن يُرتضَى مَذْهبُه، وتُحمَد طريقتُه، وتجمع فيه أوصاف الدّين والخير، فيَعقِدَ له الأمر. فجمعهم الكوفيُّ، وكان يكره المتَّقي لأجل كاتبه أبي الحسين بن مَيْمون، فميَّله عثمان كاتب الكوفي إلى المتقي، وضمن له أنْ يُحسن إليه، ولا يَسعى له في مَكروه، فأجاب، وقال الكوفي للجماعة: ما تقولون في إبراهيم بن المُقْتدر؟ ! فأثنَوا عليه وبايعوه، وبعث المتقي إلى بجكم بالخِلَع، وأقرَّ أبا القاسم سليمان بن الحسن على الوزارة؛ وإنما كان له منها الاسم والتَّدبيرُ للكوفي، واستحجَبَ المتقي سَلامةَ الطُّولوني، وولَّى علي بن عيسى المَظالم (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من الكامل 8/ 371. (¬2) من أول السنة إلى هنا ليس في (م ف م 1)، وما سيرد بين معكوفات منها.

[قال ثابت بن سِنان: ] وفي يوم الثلاثاء لسبعٍ خَلَون من جُمادى الآخرة سقطت القُبَّةُ الخضراء بمدينة أبي جعفر التي بناها [أبو جعفر] المنصور. [هذا قول ثابت بن سنان، وقد ذكرها الخطيب أتمَّ من هذا وقال: سقط رأس القُبَّة الخضراء التي في قصر أبي جعفر المنصور في التاريخ المذكور، ] وكانت (¬1) تلك الليلة ليلة مَطيرة، فيها رَعْدٌ هائل وبَرْقٌ شديد، وكانت هذه القُبَّةُ تاجَ بغداد، ومأثُرَةَ بني العباس، [بناها المنصور أول ملكهم] وكان بين بنائها وسقوطها مئةٌ وسبع وثمانون سنة. وفيها تمّ عِمارة جامع بَراثا ببغداد، وكان المقتدر قد هدَمه إلى الأرض، اتَّهم أقوامًا هن أهل الكرخ أنَّهم يجتمعون فيه ويسبون الصحابة، [فلما كان في هذه السنة] أمر بجكم بعمارته وتوسيعه وتسقيفه بالساج، ونُقِش بالجَصِّ والآجُرّ، وجعل إمامه أحمد بن الفضل الهاشمي، وكتب اسم الراضي على حائط القِبلة (¬2). واشتد الغَلاء ببغداد، فبلغ الكُرُّ مئةً وثلاثين دينارًا، وأكل الناس النُّخالة والحَشيشَ، ووقع الوَباءُ [بمكة وبغداد] حتى كان يُرمى جماعةٌ في قبر [واحد] من غير غُسل ولا تكفين. وأجدبت الأرض ببغداد (¬3)، فرأت امرأةٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام يقول لها: قولي للناس يخرجوا فيستسقوا، وكُتب إلى المتقي بذلك، فأمر مُناديه بخروج الناس، فقال بعضهم: وهل يُقبل في مثل هذا منامُ أمرأةٍ؟ فأمر المتقي بالخروج، فخرجوا وليس في السماء غَيْمٌ، فلمَّا بَرزوا إلى المُصَلَّى لم يَتخلَّف أحدٌ مع أحمد بن الفَضْل الهاشمي، فاستقبل القبلة ودعا وأمَّن الناس، فنَشأت سَحابةٌ، ثم طَبَّقت الآفاق، وأسْبَلَت عَزالِيها (¬4)، فرجع الناس يَخوضون في الوَحْل. ¬

_ (¬1) في (خ): بناها المنصور وقال الخطيب سقط رأس القبة وكانت، والمثبت من (م ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 1/ 383، وعنه المنتظم 14/ 6. (¬2) المنتظم 14/ 4 - 5. (¬3) في (م ف م 1): وذكر المحسن عن أبيه أن الأرض أجدبت ببغداد، والمثبت من (خ). والخبر في المنتظم 14/ 7 - 8 من طريق علي بن المحسن، عن أبيه، عن أحمد بن يوسف الأزرق، عن أبي محمد الصلحي الكاتب. (¬4) يُشَبَّه انصباب الماء واتساع المطر واندفاقه بمصب الماء من أسفل القربة والزادة. معجم متن اللغة.

وحجَّ الناسُ ولم يدخلوا المدينة؛ لأجل طالِبِيٍّ خرج بناحيتها. [فصل] وفيها قُتل بجكم فاضطرب الناس وعسكرُه، ومضى دَيلَمُه إلى أبي عبد الله البَريدي، وكانوا ألفًا وخمس مئة، وكان بالبصرة فأحسن إليهم، وزاد في أرزاقهم. وفيها عَزل المُتَّقي سليمان بنَ الحسن عن الوزارة، فكانت مدةُ إقامته فيها أربعةَ أشهر وأيامًا، واستوزر أبا الحسين أحمد بن محمد بن مَيمون، وكان كاتبه أولًا، وخلع عليه، وكانت وزارتُه في شعبان، فاستناب أبا عبد الله الكوفي. وفيها قدم أبو عبد الله البَريدي من البصرة إلى بغداد، وطلب الوزارة فأجابه المتقي، وصار إليه الوزير ابن مَيمون فأكرمه، وكانت وزارته شهرًا وثلاثة أيام. ولمَّا استوزر البريدي شَغَب الجُنْد والدَّيالِمة والبَجْكَمية وغيرهم عليه يَطلبون أرزاقَهم، فأرسل إلى المتَّقي يقول: إنَّهم يقولون: قد أخذتَ أموال بجكم من دارٍ وغيرها، فلم يلتفت إليه، فخرج هاربًا من بغداد إلى البصرة، فكانت وزارته أربعة وعشرين يومًا. ثم استوزر المُتَّقي أبا إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي، ويُعرَف بالقَراريطي، فأقام بها ثلاثة وأربعين يومًا، ثم عزله وولَّى أبا جعفر محمد بن القاسم الكَرخي، ثم عزلَه، فكانت وزارتُه ثلاثةً وخمسين يومًا، ودبَّر الأمور بعده أبو عبد الله الكوفي من غير اسم الوزارة. وفي ربيع الآخر قبض المتقي على أبي بكر بن قَرابَة (¬1). [وفيها كتب المتقي إلى محمد بن رائق يستدعيه من الشام، وسنذكر السبب. وفيها قَلَّد المتقي الإمارة بعد قتل بَجكم] (¬2) كورتكين (¬3) الدَّيلَمي، وخلع عليه، وعقد له لواء، وجعله أمير الأمراء، وجعل علي بن عيسى وأخاه عبد الرَّحمن على الدواوين من غير تسمية الوزارة. ¬

_ (¬1) من قوله: وفيها عزل المتقي سليمان بن الحسن ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬2) ما بين معكوفيين من (م ف م 1)، وفي (خ): بن قرابة وفيها قُلِّد الإمارة. (¬3) في (م ف م 1): كوركين، أينما وردت، وفي تكملة الطبري 328: كورنكج، والمثبت من (خ)، ومثله في أخبار الراضي 204، والكامل 8/ 374، وتاريخ الإسلام 7/ 432، والسير 15/ 106.

وفي شوال اجتمعت العامةُ في جامع السلطان، وتَظَلَّموا من الدَّيلَم ونزولهم في دورهم وسوء معاملاتهم، فلم يقع لذلك إنكار، فمَنَعَت العامة الإمامَ من الصلاة، وكَسَرت المنبرَ، ومنعهم الدَّيلَم من ذلك، فقُتل من الفريقيق جماعةٌ [في يوم الجمعة]. واستوزر المُتَّقي القَراريطي، فكانت مُدَّةُ نَظَر علي بن عيسى وأخيه تسعة أيام، وخلع المُتَّقي على بدرٍ الخَرشني، وقلَّده الحجابة، وجعله حاجب الحُجَّاب. ذكر مَسيرِ ابن رائق من الشام إلى بغداد: كان جماعة من الأتراك مثل توزون وكورتكين وصيغون وغيرهم من البَجْكَمية بعد قتل بَجْكم لما أصعد البريدي إلى بغداد صاروا إلى المَوْصل، فحاد عنهم الحسن بن عبد الله بن حَمدان، وراسلوه في إطلاق نَفَقاتهم، فأنفذ إليهم مالًا، وصاروا إلى الشام إلى ابن رائق، واستدعاه المتقي إلى الحَضْرة، فسار من دمشق في رمضان، وخلَّف أبا الحسن أحمد بن علي بن مُقاتِل يَخْلُفه على أعمال الحَرب والخَراج بالشام وديار مُضَر، فلمَّا قَرُب من المَوْصل كتب كورتكين إلى أصبهاني ابن أخته (¬1) بأنْ يصعدَ من واسِط، فأصعد، ودخل بغداد فخُلع عليه وطُوِّق وسُوِّر. ولما وصل ابن رائق إلى المَوْصل حاد عنه الحسن بن عبد الله بن حَمدان، وجرت بينهما مُراسلات، وتقرَّر أنْ يَحمل ابنُ حَمدان إليه مئةَ ألف دينار فحملها، وانحدر ابن رائق إلى بغداد، وعاد ابن حَمدان إلى المَوْصل، وخطب البريدي بواسِط والبصرة لابن رائق، وكتب اسمه على أعلامه وترَسِه. ولمَّا قَرُب ابن رائق من بغداد خرج منها كورتكين في ذي الحجة إلى عُكبَرا، يتوقَّع مُوافاة ابن رائق يدخل بغداد، فأقام كورتكين بعُكبَرا، وكان ذلك لتسعٍ بقين من ذي الحجة، ودخل على المُتَّقي. ولما كان وقت الظُّهر من هذا اليوم دخل كورتكين بغداد بجيشه وهم في غاية التَّهاون بابن رائق، وكانوا يُسمُّون جيشه: القافِلَةَ، وكان نازلًا بالنَّجْمي غربي بغداد، وقد عزم على العود إلى الشام، ثم قال في نفسه: أتوقَّف، فعَبر في سفينة إلى الجانب الشرقي ومعه بعضُ الأتراك، واقتتلوا، ورماهم الدَّيلَم بالنُّشَّاب، فبينا هم كذلك ¬

_ (¬1) في (خ): أصهار بن أخيه، والمثبت من أخبار الراضي 204. وليس في (ف م م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا.

بجكم التركي أبو الخير

أخذتهم زَعَقاتُ العامَّة من ورائهم، وطرحوا عليه ستر السُّطوح والآجُرّ، فانهزم كورتكين واستتر، وقُتل أصحابه في الطُّرُقات وسُلبوا، وكانت إمارتُه ثمانين يومًا. ولمَّا استتر تقطَّع جيشُه، وبَطَل أمرُه، وظهر الكوفي فاستكتبه ابنُ رائق، وأمر المُسْتأمِنَة من الدَّيلَم برمي أسلحتهم، وأنفذ خاتمه إلى أربع مئة من أعيانهم تحصَّنوا بحصن بالنَّهْرَوان، فرجعوا إلى بغداد، فأنزلهم دار الفيل، ثم أمر الهودان فضربوا أعناقَهم بها، وكان قد استأسَرَ من قُوَّاد الديلَم بضعة عشر قائدًا، وضرب أعناقَهم. وانهزم جماعة من الدَّيلَم إلى طريق خُراسان، فوقع عليهم خانٌ باتوا فيه فهلَكوا، ولم يبقَ ببغداد من الدَّيلَم أحدٌ. وخلع المتقي على محمد بن رائق وطوَّقه، وسوَّره بسوارَين مرصَّعَين بالجوهر، وعقد له لواءً، وجعله أميرَ الأمراء، ومات بُخْتَيشوع بن يحيى المُتَطَبِّب. وفيها أمر المتقي أبا جعفر الكوفي أنْ يلزم بيتَه، وكانت مدَّة وزارته ثلاثة وخمسين يومًا، ودبر الأمور أبو عبد الله الكوفي من غير تسمية بوزارة (¬1). وفيها توفي بَجْكم التركي (¬2) أبو الخير كان أمير الأمراء قبل مُلْك بني بُوَيه، وكان عاقلًا يفهم بالعربية ولا يتكلم بها بل بالترجُمان، ويقول: أخاف أن أخْطِئَ، والخطأ من الرئيس قبيحٌ. وكان يقول: أنا وإن كنتُ لا أُحسن العلمَ والأدب فأحبُّ ألا يكونَ في الأرض أديبٌ ولا عالم إلا تحت ظلِّي. وكان قد استوطَن واسِطًا، وقرَّر مع الراضي أنه يَحمل إليه في كلِّ سنة ثمان مئة ألف دينار بعد أن يزيح العلَّة (¬3) في مؤونة خمسة آلاف فارس يقيمون بها. ¬

_ (¬1) من قوله: وفيها استوزر المتقي القراريطي ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬2) في (ف م م 1): فصل ونعود لذكر وفاة بجكم التركي. وانظر في ترجمته ووفاته: تكملة الطبري 326، والمنتظم 9/ 14، والكامل 8/ 371، وتاريخ الإسلام 7/ 432. (¬3) في (م): ربح العامة، وفي (ف م 1): يربح العامة، وفي مطبوع المنتظم 14/ 10: يخرج الغلة، والمثبت من (خ)، وهو موافق لما في (ص ك ل) والأصل من المنتظم كما أشار محققه.

وأظهرَ العدل، وكان يتولَّى رفعَ المظالم بنفسه، وبنى دار الضِّيافة للضعفاء والمساكين بواسط، وابتدأ بعمارة المارستان ببغداد، وهو الذي جدَّده عضد الدولة بالجانب الغربي. وكانت له أموالٌ كثيرة [عظيمة]، فكان يَدفِنها في داره وفي الصحارى، وكان يأخذُ رجالًا في صناديق فيُقْفلُها عليهم، ويأخذ صناديقَ فيها مالٌ ويخرج بها إلى الصحراء، ثم يفتحها عليهم ويدفنون المال، ثم يعيدُهم إلى الصّناديق، فلا يدرون أين دفنوها، وكان يقول: إنَّما أفعلُ هذا لأني أخافُ أن يُحال بيني وبين داري، فضاعت بموته الدفائن. وقال ثابت بن سِنان: كان بَجْكم يُؤثر أن يكون أبي عنده، وكان أبي خَصِيصًا بالراضي، فلمَّا مات الراضي استدعاه إلى واسِط وقال له: أُريد أنْ أعتمدَ عليك في تدبير بَدَني، وفي أمر آخرَ هو أهمُّ إليَّ من بَدَني وهو تهذيب أخلاقي، فقد غلب عليَّ الغَضَبُ وسوءُ الخُلُق حتى أَخرج إلى ما أندَمُ عليه من قَتْلٍ وضَرب، وأنا أسألك إذا وقفتَ على عَيْبٍ لم تحتشم أنْ تَصدُقَني عنه، وتُنَبِّهني عليه، ثم تُرشدني إلى علاجه، فقال له: سمعًا وطاعةً أفعل ذلك، ولكن يسمع الأمير منِّي عاجلًا جُملةً يَتَّسِعُ بها إلى أن يأتي التفصيلُ في أوقاته: اعلم أنَّك قد أصبحتَ وليس أحدٌ يحولُ بينك وبين ما تُريد أيَّ وقتٍ شئتَ، واعلم أنَّ الغضب يُحدث في الإنسان حالةً أشدّ من سُكْرِ النَّبيذ وأبلغ، فإذا سكن الغضبُ نَدِم على ما فعل، كما أنَّ السَّكْران إذا أفاق نَدِم على ما بدا منه، فإذا رأيتَ الغضبَ قد استولى عليك فضَعْ في نفسك أنَّك تُؤخِّر العُقوبةَ إلى غدٍ، فإنَّك إذا بتَّ ليلةً سكن غضبُك، ثم قدِّم أمرَ الله والخوفَ منه، فمَن شفى غيظَه أَثِم، واذكر قُدرةَ الله عليك، وأنك مُحتاجٌ إلى رحمته وخصوصًا في أوقات شدائدك، فكما تحبُّ أنْ يعفوَ الله عنك فكذا غيرُك يؤمِّل عفوَك، واذكر قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ} [النور: 22] ثم يصيرُ العفوُ عادةً وخُلُقًا لك، فعمل بجكم بما قاله (¬1). ¬

_ (¬1) هذا الخبر ليس في (م ف م 1)، وانظر المنتظم 14/ 10 - 11 (وعنه ينقل)، وتاريخ الإسلام 7/ 432.

وروى القاضي التَّنوخي [عن أبيه قال: ] جاء (¬1) رجل من الصُّوفية إلى بَجكم فوَعظه بالعربية والفارسية حتى أبكاه، فلمَّا خرج الرجل قال بجكم لرجل: احمِل معك ألفَ درهم وادفعها إليه، فأخذها الرجل ولَحِقه، وأقبل بجكم على مَن كان عنده وقال: ما أظنُّه يقبلُها، وهذا محترق (¬2) بالعبادة إيش يعمل بالدَّراهم، فما كان بأسرع من أن عاد الغلامُ ويده فارغةٌ، فقال: أخذها؟ قال: نعم، فقال بجكم: كلُّنا صيادون ولكن الشباك تختلف. ذكر وفاته: [قال ثابت بن سِنان: ] ورد جيش البَريدي إلى المَذار، فأنفذ بجكم كورتكين وتوزون (¬3) في جيش للقائه، فالتقَوا على المَذار في رجب، فكانت أولًا على أصحاب بجكم، فكتبا إلى بجكم يسألانه أنْ يلحقَ بهما لتقوى نفوسُهما به، فخرج من داره بواسط يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلَت من رجب يريد اللَّحاقَ بهما، فورد كتابُهما بأنَّهما هزَما البريدي، وقد استغنيا عن انزعاجه. فبعث بالكتاب إلى بغداد فقُرئ على المنابر، وهمَّ بالرُّجوع إلى واسِط، وكانت خزانته (¬4) قد سارت، فقال له يحيى بن سعيد السُّوسي: لا ترجع بل نتصيَّد ونعودُ، فقال: نعم، فوصل إلى نهرُجُوْر وهناك قوم أكراد مياسير، فشَرِه إلى أموالهم وقصدَهم مُتهاونًا بهم في عدب يسير من غلمانه، وعليه قَباءٌ طاق بلا جُبَّة (¬5)، فهرب الأكراد من بين يديه وتفرَّقوا، وبقي غلامٌ منهم أسود، فطعنه بالرُّمح في خاصرته وهو لا يعلم أنَّه بجكم، فقتله بين الطِّيْب والمَذار يوم الأربعاء لتسعٍ بقين من رجب، وكان بجكم لا يَحتَقر من السَّلاح إلا الرُّمح [ويقول: أيُّ شيءٍ الرمح حتى يَقتل؟ ! ]، فكانت مدَّتُه سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال القاضي التنوخي جاء، والمثبت من (م ف م 1). والخبر في نشوار المحاضرة 2/ 359، والمنتظم 14/ 12. (¬2) في النسخ: منحرف، ولعلها تصحيف منحرق، والمثبت من نشوار المحاضرة، وفي المنتظم: متخرق. (¬3) في النسخ: بوركين وبوري، والمثبت من تاريخ الإسلام 7/ 432. (¬4) كذا في (خ)، وفي (م ف م 1): جرافته، ولعلها تصحيف عن حَرَّاقته، وهي سفن فيها مرامي نيران يُرمى بها العدو في البحر، أو سفينة خفيفة المرّ. المعجم الوسيط. (¬5) في تكملة الطبري 326: في عدد يسير من غلمانه في قميص، وفي الكامل 8/ 371: في قلة من أصحابه بغير جنة تقيه، وفي تاريخ الإسلام 7/ 432: في عدد يسير من غلمانه وهو متخفف، والجبة: الدرع.

الحسن بن علي بن خلف

ومضى معظمُ دَيلَمِه إلى البريدي، وبعث الكوفي مَن حفظ داره ببغداد بأمر المتقي [حذرًا أن يصحّ خبر لبجكم وأنه في الحياة]. فلمَّا تيقَّن قتلَه ركب المُتَّقي، فنزل في داره، فنقل ما كان فيها، وحفر فيها أماكن، فحصل له من ماله ما يزيد على ألفي ألف دينار عَينًا ووَرِقًا، وقال للرُّوْزْجاويَّة (¬1): خذوا التراب بأجرتكم، فأبَوا، فأُعطوا ألفَي درهم، وغَسل التُّرابَ فخرج منه ستةٌ وثلاثون ألف درهم، وظهر له من الجواهر والياقوت والأواني والخيل والثياب والإماء والعبيد بمقدار ما وجد له من العَين، ثم ظهر بعد ذلك وبعد ما نُهب من داره ما نُهب ستة عشر قُمْقُمًا، يَحمل كلَّ قُمْقُم بالدُّهُوق (¬2) جماعةٌ. وكان بين موت الراضي وقَتْل بجكم أربعةُ أشهر وأيام. الحسن بن علي بن خَلَف أبو محمد البَربَهاري الحَنْبَلي (¬3). كان قد جمع بين العلم والزهد، وتنزَّه عن ميراث أبيه سبعين ألف درهم، وصحب أبا بكر المَرُّوذي، وسَهْلَ بن عبد الله التُّسْتَري. وكان شديدًا على أهل البِدَع، وكان ينزل بباب مُحَوَّل. وكان يُجَرِّئُ العَوام على الخلفاء، فأباح الراضي دمَه، فانتقل إلى الجانب الشَّرقي، واستتر عند أخت توزون فبقي نحوًا من شهر، ثم أخذه قيام الدَّم فمات، فقالت المرأة لخادمها: انظر مَن يُغَسِّله، وغلَّقت الأبواب حتى لا يَعلَم أحدٌ به، فجاء الغاسل فغسَّله، ووقف يصلي عليه وحده، فاطَّلعت المرأة فإذا الدار مُمتلئة رجالًا بثيابٍ بيض وخضر، فقالت للخادم: ما الذي فعلت؟ فقال: يا سيدتي رأيتِ ما رأيتُ؟ قالت: نعم. قال: هذه مفاتيح الأبواب، فقالت لهم: ادفنوه في داري، وإذا متُّ فادفنوني عنده، ¬

_ (¬1) نسبة إلى روزجار، الذي يعمل بالنهار. الأنساب 6/ 186. (¬2) هي الرافعة أو العتلة. تكملة المعاجم 4/ 420. (¬3) طبقات الحنابلة 2/ 18، المنتظم 14/ 14، الكامل 8/ 378، تاريخ الإسلام 7/ 571، السير 15/ 90. وسياق هذه الترجمة في (م ف م 1) مخالف لسياقها في (خ)، وسأشير إلى ذلك في نهايتها، وما بين معكوفين من النسخ (ف م م 1).

عبد الله بن أحمد بن ربيعة

فدفنوه في دارها بالمُخَرَّم، [وكان] عمرُه ستًّا وتسعين سنة، ثم ماتت فدُفنت عنده (¬1). [قال جدي: وقال شيخنا أبو الحسن ابن الزَّاغوني: ] كُشف عن قبره بعد سنين وهو صحيح لم يَرِم، وفاحَت من قبره روائحُ الطيب حتى ملأت بغداد (¬2). عبد الله بن أحمد بن رَبيعة أبو محمد، القاضي، الدِّمشقي، ويُعرف بابن زَبْر (¬3). ولد سنة خمس وخمسين ومئتين، وولي قضاء دمشق من قبل المُقْتَدر، وكان قدم بغداد وعلي بن عيسى وزير، فسأل المقتدر أن يولِّيَه قضاء دمشق، فشاور عليَّ بن عيسى فقال: لا يَصلُح، فكتب ابن زَبْر إلى المقتدر يقول: رأيتُ العباس بن عبد المطلب في المنام وهو يبني ببغداد دارًا، وكلما بنى منها شيئًا هدَمه علي بن عيسى، فانزعج المقتدر، وولَّى ابن زَبْر القضاء على دمشق [ثم عزله]، بهارون بن إبراهيم بن حَمَّاد، وَولَىَ ابنُ زَبْر القضاء على مصر [مرارًا] ومات بها (¬4). وكان من الدُّهاة، مُمَشِّيًا لأموره، عارفًا بالأخبار والسِّيَر في الدولَتين، ولمَّا مات قال أبو هُريرة الوَرَّاق: [من الوافر] أتانا من دمشقَ وليس شيءٌ ... أحبَّ إليه من نَهْيٍ وأَمرِ فغَادَرَه الزَّمانُ فصار جِسْمًا ... حَليفَ حُفَيرةٍ وأَليفَ قَبْرِ لقد حكَمَ الإلهُ بغير جَورٍ ... وقد وَعَظَ الزَّمانُ بابِن زَبْرِ ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): وفيها توفي البربهاري الحنبلي واسمه الحسن بن علي بن خلف شيخ الحنابلة ببغداد، وقال محمود الأصبهاني كان يجرئ العوام على الخلفاء ويوقع الفتن، فأباح الراضي دمه فاستتر، فلما مات الراضي ظهر، وذكره جدي في المنتظم فقال جمع بين العلم والزهد ... بباب محول وما زالوا يثقلون قلب السلطان عليه حتى انتقل إلى الجانب الشرقي ... فدفنوه عندها في دارها ثم ماتت فدفنت عنده وكانت دارها بالمخرم. (¬2) بعدها في (م): من تلك الروائح، وفي (م 1): رحمة الله تعالى على أهل الخير العارفين بالله تعالى. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 29، وتاريخ دمشق 32/ 315، وتاريخ الإسلام 7/ 575، والسير 15/ 315. وهذه الترجمة ليست في (م ف م 1). (¬4) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 32/ 319.

عبد الله بن طاهر بن حاتم

[وفيها توفي] عبد الله بن طاهر بن حاتم أبو بكر، الأَبهري (¬1). كان من أقران الشِّبْلي، [وروى أبو عبد الرَّحمن السُّلمي قال: ] سئل [الأبهري: ] ما بالُ الإنسان يَحتملُ من معلِّمه ما لا يحتمله من أبويه؟ فقال: لأنَّ أبويه سببٌ لحياته الفانية، ومعلِّمه سببٌ لحياته الباقية (¬2). قلتُ (¬3): ثم ذكره المصنف رحمه الله في سنة إحدى وثلاثين وثلاث مئة (¬4) فقال: شيخُ الجبال، جمع بين العلم والوَرَع. وقال: احتياجُ الأشرار (¬5) إلى الأخيار صلاحُ الطائفتَين، واحتياجُ الأخيار إلى الأشرار فساد الطائفتَين. وسُئل عن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه لَيُغانُ على قلبي" (¬6) فقال: أطْلَع الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - على ما يكونُ من أمته بعده، فكان إذا ذكر شيئًا استغفر الله لأمته. وقال: إذا أحببتَ أخًا في الله فأقْلل من مُخالطته في الدُّنيا. ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 391، وحلية الأولياء 10/ 351، والرسالة القشيرية 114، والمنتظم 15/ 14، ومناقب الأبرار 2/ 110. (¬2) في (م ف م 1): عبد الله بن طاهر بن حاتم أبو بكر الأبهري وروى عنه أبو عبد الرَّحمن السُّلمي ... لحياته الباقية، صحب يوسف بن الحسين الرازي وكان من أقران الشبلي. اهـ. والكلام الآتي ليس في هذه النسخ. (¬3) القائل هو مختصِر مرآة الزمان. (¬4) ورد ذكره في النسخ (م ف م 1) في سنة (331) كما ذكر المختصر هنا، وسنشير إلى ما خالفت فيه هذه النسخ نسخة (خ). (¬5) في (م ف م 1): وفيها توفي عبد الله بن طاهر أبو بكر الأبهري شيخ الجبال من أقران الشبلي جمع بين العلم والورع، ذكره في المناقب وقال: قال الأبهري: احتياج الأشرار. والكلام في مناقب الأبرار 2/ 110، وطبقات الصوفية 393. (¬6) أخرجه أحمد (17848)، ومسلم (2702) (41) من حديث الأغر المزني - رضي الله عنه -، وتمامه: "فإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة".

محمد بن جعفر المقتدر

وقال: المَوَدَّةُ من المَحبة بمَنزلة الرَّأسِ من الجسد والعينِ من الوجه، لأنَّ المودةَ تُبدي عند الرؤية السُّرورَ، وعند (¬1) الفَقْد الكَمَدَ، فهي حالة في الجَوارح. [وقال: ما قدر طاعات نقابِلُ بها نعمه، وما قدر ذنوب نُقابل بها كرمه.] ورأى جنازةً وأصحابُ الميِّت يبكون عليه فأنشد (¬2): [من الطويل] ويَبْكي على الموتى ويَتركُ نفسَه ... ويعلَم أنْ قد عَزَّ فيهم عَزاؤهُ ولو كان ذا عقلٍ ورأيٍ وفِطْنَةٍ ... لكان عليه لا عليهم بكاؤه [وفيها توفي] محمد بن جعفر المُقتدر ابن أحمد المُعْتَضد الراضي بالله (¬3) [ذكر الصولي وثابت بن سنان والخطيب وغيرهم قالوا: ] كان [الراضي] سَمحًا، واسعَ النفس، أديبًا، شاعرًا، حسنَ البيان، كريمَ الأخلاق، فصيحًا، محبًّا للعلماء مجالسًا لهم، سمع من البغوي قبل الخلافة، ووصله بمال [كثير]. ورُفع إليه [أن] عبد الرَّحمن بن عيسى [احتاز] مالًا عظيمًا، ثم قَرَّر عليه الوزير أبو جعفر الكَرْخي مئة ألف دينار وأخذ خَطَّه، وضَمِنه جعفر بن وَرقاء، واوقفَ الرَّاضي على الخَطّ، فاستدعى جعفر بن وَرْقاء وقال له: يا أعرابي، جلْفٌ جاف، أردتَ أن تُعلِمَ الناس أنَّك أوسع نفسًا مني، وضاقت نفسي عن خادمي وغلامي، ومزَّق الوَرَقة ولم يأخذ من عبد الرَّحمن شيئًا (¬4). وكان للراضي فضائلُ كثيرةٌ، وخَتَم الخلفاء في أمورٍ عدة، منها: أنَّه آخرُ خليفة له شعرٌ مُدوَّن، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش والأموال، وآخر خليفة خطب على منبرٍ ¬

_ (¬1) في (خ): عند الرؤية للسرور عند الفقد. والمثبت من (ف م م 1)، وانظر مناقب الأبرار 2/ 111. (¬2) في (ف م م 1) وما بين معكوفين منها: وحضر يومًا جنازة فرأى أصحاب الميت يبكون فأنشد، والمثبت من (خ)، وانظر مناقب الأبرار 2/ 112، وطبقات الصوفية 395. (¬3) في (م ف م 1): وفيها توفي الراضي بالله واسمه محمد بن جعفر المقتدر بن أحمد المعتضد. والمثبت من (خ)، وانظر ترجمته في: أخبار الراضي والمتقي للصولي 3 - 185، تكملة الطبري 284، 323، مروج الذهب 8/ 308، تاريخ بغداد 2/ 520، المنتظم 13/ 335، 14/ 17، الكامل 8/ 366، تاريخ الإسلام 7/ 579، السير 15/ 103. (¬4) المنتظم 13/ 336 وما بين معكوفين منه.

يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس النُّدَماء وأوصلهم إليه، وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه وعطاياه وخزائنه ومجالسه وأسبابه تجري على ترتيب المتقدِّمين من الخلفاء، ووقع حريقٌ بالكَرْخ فأطلق خمسين ألف دينار لعِمارة ما احترق. وقال الصولي: سئل الراضي أن يخطُبَ يوم الجمعة ويصلِّي بالناس، فصَعِد المِنْبَر بسُرَّ مَن رأى، فحضرتُ أنا وإسحاق بن المعتمد في المقصورة، فلمَّا خطب شَنَّف الأسماع، وبالغ في المَوْعظة، فوقعت عينُه علينا فأوجز في خطبته، ثم نزل فصلَّى بالناس، فما وصلتُ إلى داري إلا ورسوله قد سبقني، فدفع إليَّ رُقعة ففتحتُها، وإذا هي بخطِّه يقول فيها: أبقاك الله يا محمد، لقد لحَظَك طَرْفي وأنا أخطُبُ وإلى جانبك إسحاق، فَعرِّفني على تجريد (¬1) الصِّدق واتِّباعك الحق؛ هل تهجَّنَ الكلام بزيادةٍ فيه، أو اختَلَّ بنقصان منه، أو وقع ذلك في اللفظ، أو إحالة في المعنى، جاريًا على عادتك في حال الإمرة غير مقصِّر عنها للخلافة إن شاء الله تعالى. فكتبتُ إليه بعد الدعاء له: وأميرُ المؤمنين أجلُّ خَطَرًا وقَدرًا، وأسنى مَجْدًا وفَخْرًا، وأوسعُ خاطرًا وفِكْرًا، من أن يبلغَ خطيبٌ خطبتَه، أو يَروم بليغٌ بلاغتَه، وهو أدام الله دولته، وأطال في العزِّ مدَّتَه، كما قال حسان بن ثابت في وصف جدِّه عبد الله بن عباس: [من الطويل] إذا قال لم يَترُك مَقالًا لقائلٍ ... بمُلْتَقَطاتٍ لا نرى بينها فَصْلا كفى وشفى ما في الصُّدور فلم يَدَع ... لذي إرْبةٍ في القول جِدًّا ولا هزْلا يقول مقالًا لا يقولون مثلَه ... كنَحْتِ الصَّفا لم يُبْقِ في غايةٍ فَضْلا (¬2) وقال الخطيب: حدثنا علي بن المُحَسِّن التَّنوخي، عن أبيه قال: سمعت أبا بكر محمد بن يحيى الصولي يحكي أنه دخل على الراضي (¬3) وهو يبني شيئًا [أو يهدم شيئًا]، وهو جالس على آجُرَّةٍ حيال الصُّنَّاع، وكنتُ أنا وجماعةٌ من الجُلَساء قيامًا، ¬

_ (¬1) في أخبار الراضي 78: تحري. (¬2) من قوله: ورفع إليه أن عبد الرَّحمن بن عيسى ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) في (خ): وقال الصولي دخلت عليه. والمثبت من (م ف م 1). والخبر في نشوار المحاضرة 1/ 298، وتاريخ بغداد 2/ 521، والمنتظم 13/ 337 - 338.

فأمَرَنا بالجلوس، فأخذ كلُّ واحدٍ منا آجُرَّة فجلس عليها، واتَّفق أن أخذتُ أنا آجُرَّتَين مُلتصقتَين [بشيءٍ من إسْفِيداج] فجلستُ عليهما، فلمَّا قُمنا أمر أن تُوزنَ كلُّ آجرَّةٍ، ويُدفع إلى الذي كان جالسًا عليها دراهم أو دنانير -الشك من الراوي- قال الصُّولي: فتضاعفَت جائزتي على جوائز الحاضرين بأني كنتُ جالسًا على آجرَّتَين. وجلس يومًا في بعض مُتَنَزَّهاته وهناك ألوانٌ من الزَّهر، فقال لجُلَسائه: هل رأيتم أحسنَ من هذا النهر؟ فأخذوا في مدحه، فقال: والله إنَّ لَعِبَ الصُّولي بالشِّطْرَنْج أحسنُ من لون هذا النهر ومن كلِّ ما تصفون (¬1) [، فعجب الحاضرون من كلامه]. وكان مُغْرى بنَقْض قصور دار الخلافة وتصييرها بساتين. وقال وقد تكلَّم الناسُ في إنفاقه للأموال: [من الكامل] لا تَعذِلي كَرَمي على الإسرافِ ... رِبْحُ المَحامدِ مَتْجَرُ الأشراف أَجري كآبائي الخلائفِ سابقًا ... وأَشيد ما قد أَسَّسَت أسلافي إنِّي من القوم الذين أكُفُّهم ... مُعتادةُ الإتلافِ والإخلافِ (¬2) وقال أيضًا: [من المنسرح] يَصْفَرُّ وجهي إذا تأمَّلَه ... طرفي وَيحمَرُّ وجهُه خَجَلا حتى كأنَّ الذي بوَجْنَته ... من دم جسمي إليه قد نُقِلا (¬3) وقال الصُّولي: قلتُ أبياتًا وأنشدتُها للرَّاضي وهي هذه: [من الخفيف] نَطَق السُّقْمُ بالذي كان يَخفى ... فسَلِ الجسمَ إن أردتَ سُؤالا قد أتاه في النوم منك خَيالٌ ... فرآه كما اشتهيتَ خَيالا تَتحاماه للضنى ألْسُنُ العُذَّلِ ... فأضحى لا يَعرفُ العُذَّالا فجذب الدواة وعمل بديهًا في وقته: [من مخلع البسيط] قلبيَ لا يَقبلُ المِحالا ... وأنت لا تَبْذُلُ الوصالا ¬

_ (¬1) مروج الذهب 8/ 311، وهذا الخبر ليس في (م ف م 1). (¬2) أخبار الراضي 54، والمنتظم 13/ 337. (¬3) مروج الذهب 8/ 310، والمنتظم 13/ 338، والكامل 8/ 366.

ضَلَلْتُ في حُبِّكم فحَسْبي ... حتى متى أتْبَعُ الضَّلالا قد زارني منكم خَيالٌ ... فزدتُ إذ زارني خَبالا رأى خَيالًا على فِراشي ... وما أُراه رأى خَيالا (¬1) وقال يخاطب ابن رائق: [من الطويل] أيَطلُبُ كَيدي مَن يَهونُ كيادُه ... ويوقدُ نارًا مثلَ نارِ الحُباحِبِ لقد رام صَعْبًا لم يَرُمْه شَبيهُه ... وراض شَموسًا لا يَذِلُّ لراكب وأظهر لي حُبًّا يَطيفُ به قِلى ... كخُلَّبِ بَرقٍ في عِراض سَحائب أتَعْقِدُ لي كَيْدَ النِّساء بَمرَصدٍ ... وإني فَتيُّ السِّنِّ شيخُ التَّجارِبِ ألا رُبَّما عَزَّتْ على الحازم الذي ... تراها بكَفَّيه فريسةُ طالبِ (¬2) ذكر وفاته ومرضه: [قد ذكرنا عن الصُّولي أنه قال: إن الراضي] قاء في يومين أربعة عشر رَطْلًا دمًا، وقيل: إنه استسقى وأصابه ذَرَبٌ عظيم، وكان من أعظم آفاته كَثرةُ الجِماع، وكانت وفاته ببغداد منتصف ربيع الآخر من هذه السنة وهو ابن إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر. وكانت خلافته ست سنين وأحد عشر شهرًا [، وقال جدي في "التلقيح": توفي ليلة السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاث مئة، فكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، وقيل: وتسعة أيام (¬3). وقال الصُّولي: ] (¬4) وصلى عليه القاضي يوسف بن عمر، وغسله أبو الحسن محمد بن عبد الله الهاشمي القاضي، ولم يوجد له حَنوط لأن الخزائن أغلقت عند موته، فبعثوا إلى الكَرخ فاشتروا له حَنوطًا من بعض الدَّكاكين، وحُمل إلى الرُّصافة في طَيَّار ¬

_ (¬1) أخبار الراضي 46، والمنتظم 13/ 338. (¬2) أخبار الراضي 157. ومن قوله: وقال وقد تكلم الناس ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) تلقيح فهوم أهل الأثر 92، والمنتظم 14/ 17. (¬4) ما بين معكوفين من (م ف م 1)، بدله في (خ): وقيل ست سنين وعشرة أيام.

فدُفِن بها (¬1)، وكان له بها تربةٌ عظيمة، أُنفقت عليها أموال كثيرة، والآن فقد عُمل موضعها سور، ودَرَست التُّربة فلا عَين ولا أَثَر، ودُفنت عنده أمه ظَلوم. وأنشد في مرضه وهي له: [من مجزوء الخفيف] كلُّ صَفْوٍ إلى كَدَرْ ... كلُّ أمْنٍ إلى حَذَر ومَصيرُ الشَّبابِ للـ ... ـــموتِ فيه أو الكِبر دَرَّ دَرُّ المَشيبِ من ... واعظ يُنْذِرُ البَشَرْ أيُّها الآمِلُ الذي ... تاه في لُجَّةِ الغَرر أين مَن كان قبلَنا ... دَرَسَ الشَّخصُ والأثَر ربِّ إني ذَخرتُ عنـ ... ـدك أرجوكَ مُدَّخَر إنني مؤمنٌ بما ... بَيَّنَ الوَحيُ في السُّوَر ربِّ فاغفر لي الخَطيـ ... ــــــــئةَ يا خيرَ مَن غَفَر (¬2) ذكر أولاده ووزرائه وحُجَّابه: كان له من الولد أحمد وعبد الله، ووَزَر له أبو علي بن مُقْلَة، وعلي بن عيسى، وأخوه عبد الرَّحمن، وأبو جعفر الكَرْخي، وسليمان بن مخلد، والفضل بن الفُرات، وأبو عبد الله البَريدي، وقاضيه يوسف بن عمر وقبله أبوه (¬3). وقال ثابت بن سنان: مات بعِلَّة الاستسقاء والسَّحَح ليلة الأحد (¬4) لمضيِّ خمس ساعات لأربع عشرة خلَت -أو بقيت- من ربيع الأول، وغسَّله [لوقوع الإجماع على اختياره] القاضي أبو نصر يوسف بن عمر. وكان الراضي حسَنَ البيان، أديبًا، جيد العبارة [والفصاحة، مختارًا للشعر، وكان] يُعاشِر الرجال، ويُحبُّ محادثةَ الأدباء والعلماء، ولا يفارقه الجلساء، وهدم أبنيةً ¬

_ (¬1) أخبار الراضي 182 - 183، وانظر المنتظم 14/ 17. (¬2) أخبار الراضي 185، وتاريخ بغداد 2/ 522، والكامل 8/ 367، وتاريخ الإسلام 7/ 579. (¬3) من قوله: وأنشد في مرضه ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬4) في (م ف م 1): ليلة الأربعاء.

يوسف بن يعقوب

كثيرةً، وأراد أن يعملَ بستانًا يكون المجلسُ الأربعيني في وَسَطه، فحالت المَنيَّة بينه وبين ذلك رحمه الله (¬1). [وفيها توفي] يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن البُهْلُول، أبو بكر، التَّنوخي، ويعرف بالأزرق الكاتب (¬2). وُلد بالأنبار سنة ثمان وثلاثين ومئتين، وكان أزرق العينين، فاضلًا زاهدًا. [قال الخطيب: ] تصدَّق بمئة ألف دينار، وكان آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، توفي في ذي الحجة ببغداد وله اثنان وتسعون سنة، ودفن بمقابر باب الكوفة. [سمع جدَّه إسحاق، والزبير بن بَكَّار، والحسن بن عَرَفَة وغيرهم، وكتب كثيرًا من النحو واللغة والأخبار] وكان صدوقًا ثقة ورِعًا، رحمة الله عليه. ¬

_ (¬1) بعدها في (ف م 1): انتهت ترجمة الراضي بالله والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (¬2) تاريخ بغداد 16/ 471، والمنتظم 14/ 18، وتاريخ الإسلام 7/ 584، والسير 15/ 289.

السنة الثلاثون وثلاث مئة

السنة الثلاثون وثلاث مئة (¬1) فيها في يوم الأحد لثلاثٍ خلَون من المُحرَّم وُجد كورتكين الدَّيلَمي في درب سليمان، فحُمل إلى دار ابن رائق، فحمله إلى دار السلطان، فحُبس هناك. وفيها استوحش محمد بن رائق من البريديِّين لأنَّهم ما حملوا إليه شيئًا من مال البَصرة وواسِط، فانحدر إلى واسط في المُحرَّم، وانحدر البريديون إلى البصرة، وانحدر أبو عبد الله الكوفي إلى واسط، وسَفَرَ بين ابن رائق والبريدي، ووقع الصُّلح على مال، وعاد ابن رائق إلى بغداد في ربيع الأول (¬2). وفي المُحرَّم صُرِف بدر الخَرشني عن الحِجْبة، وولاها المتقي لسَلامة الطُّولوني. وفي يوم الثلاثاء لستٍّ بَقِين من المُحرَّم ظهر كوكبٌ مُذَنَّبٌ في أول بُرج القوس أو آخر برج العقرب فيما بين الغرب والشمال، رأسُه في المغرب وذنبه في المشرق، وكان عظيمًا مُنْتَشِرَ الذَّنَب، وسار في القوس والجَدي حتى حاذى المشتري، واضمَحَلَّ بعد ثلاثة عشر يومًا من ظهوره. وفي ربيع الأول بلغ الكُرُّ ببغداد من الحِنْطَة مئتي دينار وعشرة دنانير، والكُرُّ الشَّعير بمئة وعشرين دينارًا، وأكل الناس المَيتةَ، ودام الغَلاء، وكَثُر الأموات على الطُّرق، وشُغل الناس عن المَلاهي بالمَرض والفقر. وفي يوم الجمعة لسبعٍ (¬3) خلَون من ربيع الآخر قام رجلٌ من [العامة] في جامع الرُّصافَة والإمام يخطب، فلمَّا دعا للمتقي قال العامي للإمام: كذبتَ ما هو بالمتقي لله، فأُخذ وحُمل إلى دار الخليفة. وفي هذا اليوم خرج الحُرَم من قصر الرُّصافة يَستغيثون في الطُّرُقات: الجوعَ الجوعَ. وخرج توزون والأتراك إلى المصلَّى، وشَغَبوا على ابن رائق وقالوا: قد أخذ في التدبير علينا، ومَضَوا إلى البريدي بواسِط. ¬

_ (¬1) في (م): السنة الثلاثون بعد الثلاث مئة. (¬2) من أول السنة إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) في (م ف م 1): لتسع، وفي المنتظم 14/ 19: لأربع.

وفي ربيع الآخر وصلَت الرومُ إلى بلد حَلَب إلى [مكان يقال له: ] حموص، وهو على ستِّ فراسخ من حلب، فأخربوا وأحرقوا وقتلوا [من كان بها] وسَبَوا، فبلغ السَّبْي عشرة آلاف إنسان، واستوزر المتَّقي أبا عبد الله البريدي وسببه: لمَّا سار الأتراك إليه وقوي جانبه احتاج ابن رائق إلى مُداراته، فكاتبه بالوزارة في نصف ربيع الآخر، وبعث إليه بالخِلَع السُّلْطانية، فاستخلف له بالحَضْرة أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد، وأوصله ابن رائق إلى المتقي، وكان المدبِّر للمملكة أبو عبد الله الكوفي. وفيها توفي المَحامِلي، وتقلَّد القضاء أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخِرَقي في جانبي مدينة السلام ومدينة أبي جعفر والسَّواد، مُضافًا إلى أعماله الأولى، وتَعجَّب الناسُ من تقليد مثله. وفيها استوزر المتَّقي أبا إسحاق القَراريطي مرةً ثانية، وسببه أنَّ الأخبار وَرَدت بإصعاد البريدي إلى بغداد، فعزَّ على المتقي وابن رائق، فعزله عن الوزارة، فكانت مدةُ وقوع اسم الوزارة عليه خمسةً وعشرين يومًا، وخُلِع على القراريطي لعشرٍ خلَون من جُمادى الأولى، واستتر ابن شيرزاد في منزله (¬1). [وفيها] في يوم الثلاثاء لإحدى عشرة خلَت من جُمادى الأولى ركب المتقي على الظَّهر، ومعه ابنه الأمير أبو منصور ومحمد بن رائق [والوزير] القراريطي والجيش، وساروا على الظَّهر وبين أيديهم المصاحفُ المُنَشَّرة والقُرَّاء، واستنفروا العامة لقتال البريديين، ثم انحدر من الشَّمَّاسِيّة إلى داره في دجلة، واجتمع الناسُ من كل مكان على كُرسيّ الجِسر، فثَقُل بهم وانكسر، فغرِق خلقٌ كثير ممَّن كان عليه وتحته، وأمر ابن رائق بلَعْن البريديين على المَنابر. وفيها أصعد أبو الحسين علي بن محمد البريدي إلى بغداد، وحارب المتقي وابن رائق فهزَمَهما، وكان خروجه من واسط يوم الأربعاء لأربعٍ بقين من جُمادى الأولى في الجيش، ومعه غلمان أخيه أبي عبد الله والأتراكُ والدَّيلَم والقرامطة إلى ابن رائق، واستعد ابن رائق للقتال، وعمل على أن يتحصن في دار السلطان، وسدَّ أكثرَ أبوابها ¬

_ (¬1) من قوله: واستوزر المتقي أبا عبد الله البريدي ... إلى هنا ليس في (م ف م 1).

والثُّلَم في سورها، ونصَب عليها وعلى شاطئ دجلة المَجانيق، وطرح حولها الحَسَك، واستصرخ العامةَ ونهضوا، ووقعت الفتنة بين العامة ليلًا ونهارًا، ووقعت الكبسات على أصحاب الأموال، وفُتِحت الحبوس، وزحف البريدي إلى الدار، وقابله ابن رائق والعامة والجيش على الظَّهر وفي الماء، وقوي الحرب يوم السبت لسبعٍ بقين من جمادى الآخرة، ودخل جماعةٌ من الدَّيلَم دارَ الخليفة، وقتلوا جماعة، فخرج المُتَّقي ومعه ابنُه هاربَين إلى الموصل، ومعهما ابنُ رائق، واستتر القَراريطي ببغداد فكانت وزارته أربعين يومًا، ومدةُ إمارة ابن رائق ستة أشهر وعشرة أيام. ونهب الدَّيلَم وأصحاب البريدي دار الخلافة نَهْبًا عظيمًا، ودخلوا إلى دار الحُرَم، ووُجِد في جيش السَّلطان كورتكين الدَّيلَمي وأبو الحسن بن سنجلا وعلي بن يعقوب، فجيء بهم إلى أبي الحسين البريدي فقيَّد كورتكين وبعث به إلى أخيه أبي عبد الله إلى البصرة، فكان آخرَ العهد به، وأما الاثنان الآخران فأطلقهما، ووجدوا القاهر أعمى في مَحْبَسه، فأمر بإبقائه مكانه. ونزل أبو الحسين في دار مؤنس التي كان ابن رائق نازلًا بها، وقلَّد توزون الشرطة ببغداد في الجانب الشرقي، وأبا منصور تورتكين (¬1) في الجانب الغربي، ونُهبَت بغداد، ونُزلت الدورُ، وأُخرج منها أهلها، ولقوا شدَّةً، ولمَّا تقلَّد توزون وتورتكين الشرطة سكن الأمر، وكفَّ بعضُ الجند، وأخذ أبو الحسين البريدي حُرَم توزون وغيره من الأتراك والدَّيْلَم، فأحدرهم إلى أخيه أبي عبد الله رهائن في يده (¬2). وبلغ الكُرُّ الحِنْطة ببغداد ثلاث مئة وستة عشر دينارًا، وظَلَم البريدي وأخذ الأموال، وجرت حربٌ بين الأتراك والقرامطة، فانهزم القرامطة وخرجوا من بغداد. وفيها زادت دجلة في نيسان تسعة عشر ذراعًا ونصفَ ذراع، وبلغت عشرينَ ذراعًا وأكثر. وزاد البلاء بأهل بغداد من البريدي والدَّيلَم، وكَبْس المنازل، والنَّهْب، والتعرُّض للحريم، ووقع الحرب بين أهل بغداد والدَّيلَم، واتَّفق توزون وتورتكين والأتراك على ¬

_ (¬1) في تكملة الطبري 332، والكامل 8/ 380، والنجوم الزاهرة 3/ 275: نوشتكين، والمثبت موافق لما في تاريخ الإسلام 7/ 434، وانظر المنتظم 14/ 20. (¬2) من قوله: وفيها أصعد أبو الحسين علي بن محمد البريدي ... إلى هنا ليس في (م ف م 1).

كَبْس البريدي والإيقاع به، فغدر تورتكين وبَلَّغ الخبر البريدي، فاحترز بالدَّيلَم، وقصد توزون إلى دار أبي الحسين البريدي ليلة الثلاثاء لخمسٍ خلَون من رمضان، فغلَّق الأبواب دونه، ووقعت الحرب، وخذله تورتكين فلعنه توزون. وانصرف توزون يوم الثلاثاء ومعه جماعة وافرة من الأتراك إلى المَوْصل، وبعث البريدي وراءه جيشًا فلم يَظفَر به، وكان أبو عبد الله البريدي يُكاتب القواد الذين مع أخيه أبي الحسين ببغداد، فانحدر إليه منهم أعيانُهم، وخفَّ عسكرُ أبي الحسين. ولما وصل توزون إلى المَوْصل قَوي قلبُ الحسن بن عبد الله بن حمْدان، وعزم على أنْ يَنحَدر إلى بغداد بالمتقي، وبلغ أبو الحسين فكاتب أخاه أبا عبد الله بذلك، فبعث إليه جماعةً من الدَّيلَم. ذكر مقتل أبي بكر محمد بن رائق: لمَّا وصل المُتَّقي وابن رائق إلى تكريت وَجَدا هناك أبا الحَسن علي بن عبد الله بن حَمْدان سيف الدولة؛ لأنَّ محمد بن رائق كان قد كتب إلى أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمْدان لمَّا قَرُب البريدي من بغداد أنْ يَبعثَ إليه بمَن يُعاونه على قتاله، فأنفذ أخاه أبا الحسن فالتقوا بتَكريت، ومع علي ابن حَمْدان الإقاماتُ والمِيرَة والفُرُش والثياب والمال، فحَمل إلى المُتَّقي وابن رائق والقُوَّاد على أقدارهم ما يحتاجون إليه، وساروا جميعًا إلى الموصل، فلمَّا وصلوا إليها حاد الحسن بن عبد الله بن حمدان عنها، وعبر إلى الجانب الشرقي منها، ومضى إلى نواحي مَغلَثايا. وما زالت الرسائل تتردد بينه وبين محمد بن رائق [إلى أن توثَّق] (¬1) بعضهم من بعض بالأيمان والعُهود، حتى أنِسَ الحسن، وعاد فنزل بإزاء المَوْصل بالجانب الشرقي، فعبر إليه الأمير أبو منصور بن المتقي ومحمد بن رائق يوم الاثنين لسبعٍ بقين من رجب، فسلَّما عليه، فأظهر السُّرور، ونثر على الأمير أبي منصور الدنانير والدراهم. فلما أرادا أن يَنصرفا قُدِّم فرسُ الأمير أبي منصور فركبه، وقُدِّم فرس ابن رائق ليركب من داخل المِضْرَب، فتعلَّق به الحسن وقال: تُقيم عندي اليوم حتى نُدبِّر ما فيه ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ الإسلام 7/ 435، وانظر الكامل 8/ 382.

المصْلَحة، فقال ابن رائق: ما يَحسُن بي أنْ أتأخَّر عن الأمير أبي منصور، فألحَّ عليه الحسن إلحاحًا لم تَجْرِ به عادة، فاستراب، وجذب كُمَّه من يده فَتخَرَّق، [فصاح الحسن] بغلمانه: لا يفوتكم اقتلوه (¬1)، فضربوه بالسيوف حتى بَرَد، واضطرب أصحابُه خارج المضرب، وجاء مطرٌ فتفرَّقوا، وحُمل ابن رائق إلى قرية بإزاء الموصل تُعرف بالكار، فدُفن بها وعُفّي قبره. وبلغ المتقي فخاف وقال: وأين الأيمان والعهود؟ فبعث إليه الحسن يُعرّفه بأنَّ ابن رائق أراد أن يغتاله [ويوقع به، فجرى من أمره ما جرى]، فردَّ الجوابَ يُعرِّفه أنَّه المَوثوقُ به، وأنَّه لا يَشك فيه، ويأمره بالمصير إليه، فعبر إليه، فخَلَع عليه ولقَّبه ناصر الدولة، وجعل أمير الأمراء، وخلع على أخيه سيف الدولة، وعلى الحسين بن سعيد بن حمْدان، وعاد إلى بغداد ومعه ابن حَمْدان، وهرب البريدي إلى واسِط، فكانت مدَّة إقامته ببغداد ثلاثةَ أشهر وعشرين يومًا. ولمَّا دخل المتقي بغداد كان بين يديه ناصر الدولة وأخوه أبو الحسن وجميع الجيش، وعُقِدت القِباب، وأعاد القَراريطي إلى الوزارة، وبدرًا الخَرشَني إلى الحِجابة، [ثم صرف الحسن بدرًا الخرشني] وتقلَّدها أحمد بن خاقان (¬2)، فكان دخولُ المتقي بغداد يوم الاثنين لثلاث عشرة بقيت من شَوَّال. وفي شوال خلَع المُتَّقي على ناصر الدولة وعلى أخيه سيف الدولة، كلّ واحد طوقَين وأربعةَ أَسْورة ذهبًا، وخلع على الحسين بن سعيد، وطُوِّق بطوقٍ واحد وسوارَين، وقَلَّد بدرًا الخَرشَني طريق الفُرات، فخرج إليها من يومه، وسار إلى مصر، فقبله الإخشيد أحسَنَ قَبول، وقلَّده أعمال المعاون بدمشق، فلما كان بعد قليل حُمَّ بدرٌ حمَّى حادةً ومات بدمشق. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ الإسلام 7/ 435، وانظر تكملة الطبري 333، والكامل 8/ 382. ومن قوله: وزاد البلاء بأهل بغداد ... إلى هنا ليس في (م ف م 1)، جاء بدله: وفيها قتل أبو بكر محمد بن رائق، أمر أبو محمد الحسن غلمانه لا يفوتكم اقتلوه. والمثبت من (خ). (¬2) ما بين معكوفين من أخبار الراضي 228.

وفيها ورد الخبر إلى بغداد [بأن البريدي يريد بغداد، فاضطرب الناس] (¬1) وعبر المُتَّقي إلى الزُّبَيديّة يوم الأربعاء لستٍّ بقين من ذي القعدة ليكون مع ناصر الدولة، وقَدَّم حُرَمه إلى سُرَّ مَن رأى، وخرج وجوه أهل بغداد هاربين. ولثلاث بقين منه عبر جيش ناصر الدولة من الجانب الشرقي من بغداد إلى الجانب الغربي، وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت منه سار أبو الحسن بن حمْدان للقاء البريدي. وكان مع أبي الحسين البريدي لمَّا أصعد من واسِط الدَّيلَمُ وأبو بكر بن قَرابة وابن شيرزاد وجيش عظيم، ولم يحضره أبو عبد الله البريدي، وكانت الوقعة بالقرية المعروفة بالكال (¬2) أسفل المدائن بفرسَخَين، والتقَوا: أبو الحسين البريدي في الدَّيلَم، وأبو الحسن بن حَمدان وتوزون والأتراك، وتخلَّف ناصر الدولة ابن حَمدان في المدائن، فاقتتلوا يوم الخميس شلْخ ذي القعدة يوم الجمعة، فكانت أولًا علي بني حمدان، وانهزم أصحابهم، فردَّهم ناصر الدولة من المدائن، ثم صارت على البريدي فانهزم، وقُتل جماعةٌ من قُوَّاده، وأسر جماعة. وعاد البريدي إلى واسِط، ولم يَتْبعه أحدٌ من أصحاب ناصر الدولة لضَعْفهم من الجِراح والإعياء، وعاد المتقي إلى الزُّبيدية إلى دار الخلافة، وعادَ من كان هرب إلى سُرَّ مَن رأى. ودخل ناصر الدولة يوم الخميس لثلاث عشرة بقيت من ذي الحِجَّة إلى بغداد، وبين يدَيه الأسرى: يانس غلام البريدي وغيره، وكتب أبو عبد الله بن ثوابه كتابًا إلى الآفاق عن المُتَّقي بالفتح، وبعث به إلى سيف الدولة ابن حمْدان، وبعث إليه بالخِلَع، وكان سيف الدولة قد انحدر إلى واسِط لطلب البريدي، فوجده قد انهزم إلى البصرة، فأقام بواسِط ومعه جميع الأتراك والدَّيلَمُ والجيش (¬3). وحجَّ بالناس القِرمِطيُّ، وقيل: لم يحجَّ أحدٌ [في هذه السنة خوفًا من المتغلِّبين. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ الإسلام 7/ 436، وانظر تكملة الطبري 333، والكامل 8/ 384. (¬2) في أخبار الراضي 228: بالجال، وفي تكملة الطبري 333: بالكيل، وكل ذلك صحيح، انظر معجم البلدان 2/ 95 (جال)، 4/ 498 (كيل). (¬3) من قوله: فرد الجواب يعرفه أنه الموثوق به ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

أحمد بن إبراهيم بن سعد الخير

فصل: وفيها توفي أحمد بن إبراهيم بن سَعد الخَير أبو عمر، الأَزْدي، الحمْصيّ (¬1). سكن دمشق وتوفي بها في شعبان. حدَّث عن عمِّه الخَطَّاب بن سعد الخير وغيره، وروى عنه أبو الحسين الرَّازي وغيره. ومن رواياته عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ما كان أحدٌ منا يقول على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا سِيلَ ظهرُه دمًا، أو يأتي على ذلك ببيِّنة. فصل: ] وفيها توفي إسحاق بن محمد أبو يعقوب النَّهْرَجُوري (¬2). من كبار مشايخ الصُّوفية وعُلمائهم، جاور بالحَرَم بمكة سنين كثيرةً، ومات بها [في هذه السنة (¬3)، وكان ديِّنًا فاضلًا. ذكر طرف من أخباره: حكى عنه في "المناقب" أنه] قال: رأيتُ رجلًا في الطَّواف بفَرد عَينٍ وهو يقول: أعوذ بك منك، فقلتُ له: ما هذا الدعاء؟ فقال: نظرتُ يومًا إلى شخصٍ مُستَحسَن، فإذا بلَطْمَةٍ قد وقعت على عيني فسألت، وسمعتُ قائلًا يقول: نَظْرةٌ بلَطْمَة ولو زِدتَ لزِدناك. وقال [أبو يعقوب]: كنتُ بمكة، فجاءني فقيرٌ ومعه دينار فقال: إذا كان غدًا فأصلِح لي بنصفه قَبْرًا، وجَهِّزني بنصفه، فقلتُ في نفسي: أصابه يَبْسُ الحجاز، فلمَّا كان من ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 3/ 11، وتاريخ الإسلام 7/ 586، وهذه الترجمة ليست في (خ). (¬2) طبقات الصوفية 378، حلية الأولياء 10/ 356، الرسالة القشيرية 112، المنتظم 14/ 20، مناقب الأبرار 2/ 98، تاريخ الإسلام 7/ 587، السير 15/ 232. (¬3) بعدها في (م 1 ف): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

الغد طاف بالبيت، ثم جاء وامتدَّ على وجه الأرض، فقلتُ: هو ذا يَتَماوَتُ، فذهبتُ إليه وحرَّكتُه فإذا هو ميتٌ، فدفنتُه كما أمر. ومن كلامه: مَفاوزُ الدُّنيا تُقطَع بالأقدام، ومَفاوزُ الآخرة بالقلوب. وقال: العابد (¬1) يَعبُد الله تحذيرًا، والعارف يَعبد الله تشريفًا. وقال: احتَرِزُوا من الناس بسوء الظنِّ بأنفسكم لا بالناس. وقال: مَن كان شَبَعُه بالطعام لم يزل جائعًا، ومَن كان غِناهُ بالمال لم يَزل فقيرًا، ومَن قَصَدَ بحاجته الخَلْق لم يزل مَحرومًا، ومَن استعان على أمره بغير الله كان مَخْذولًا. وقال: الدنيا بحرٌ والآخرة ساحل، والمَركبُ التَّقوى، والناس سَفْرٌ. وقال في تفسير قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]: لو جعلوا ثمنَه الكونَين لكان بَخْسًا في جانب مُشاهدته (¬2). ذكر وفاته: حكى في "المناقب" عن أبي الحسن المُزَيِّن قال: جلستُ عند رأس يعقوب (¬3) وهو في النَّزْع، فقلتُ له: قل: لا إله إلا الله، فتبسَّم وقال: إيَّايَ تعني! وعِزَّةِ مَن لا يذوقُ الموتَ، ما بقي بيني وبينه إلا حجاب العِزَّة (¬4)، ثم طَفئ من ساعته، فكان المُزَيِّن يقبضُ على لحيته ويقول: حَجَّام مثلي يُلَقِّن أولياءَ الله الشهادة، ثم يبكي ويقول: واخَجْلَتاه. صحب النَّهْرَجوري سَهْلَ بن عبد الله التُّسْتَري والجُنَيد وغيرهما. ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): كما أمر وحكى عنه أبو عبد الرَّحمن السلمي أنه قال: مفاوز ... وحكى عنه في المناقب أنه قال: العابد. والمثبت من (خ)، وانظر طبقات الصوفية 379، ومناقب الأبرار 2/ 98 - 99. (¬2) بعدها في (ف م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. (¬3) في (خ): ذكر وفاته قال المزين جلست عند رأسه، والمثبت من (م ف م 1)، والخبر في مناقب الأبرار 2/ 104. (¬4) في (خ م): المغفرة.

الحسين بن إسماعيل

[وقول ابن خميس في "المناقب": إن المزين لقَّنه، هو وهمٌ، المزين تقدَّمَت وفاتُه، وقد ذكرناه، اللهم إلا أن يكون المزيّن الكبير فيحتمل] (¬1). الحسين بن إسماعيل ابن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان، أبو عبد الله، الضَّبِّي، القاضي، المَحامِليّ (¬2). ولد في المُحرَّم سنة خمس وثلاثين ومئتين، وشهد عند القُضاة وله عشرون سنة، وسافر في طلب الحديث، ولقي المشايخ، وأثنى عليه العلماء، فقال الدارقطني: كان قاضيًا، نَبيلًا، مُقَدَّمًا في العلم والفقه والحديث، مَحمودًا في أموره كلِّها، ولي القضاء بالكوفة فحُمِدَت آثارُه في ولايته، وولي القضاء بفارس وأعمالها مُضافًا إلى الكوفة، ثم استعفى فأُعفي، وما زال مجلسُ العلم والمُناظرة بداره إلى أن تُوفّي ببغداد في ربيع الأول. وقال ابن شاهين: أقام المَحاملي قاضيًا على الكوفة ستِّين سنةً، وكان يَحضر مجلسَ إملائه عشرةُ آلاف رجل. وقال الخطيب: اجتمع المبرِّد وثعلب عند محمد بن طاهر في بغداد، فتناظرا في مسألةٍ في أصول النَّحْو، ودَقَّقا الكلامَ فيها، وكان المَحامِلي حاضرًا، فقالا: إن رأى القاضي أن يَحكُمَ بيننا؟ فقال: لا يَسَعُني ذلك، قال: لم؟ قال: لأنَّكما تجاوزتُما ما أعرفُه، ولا يجوز حُكمي إلا بعد مَعرفة (¬3). وقال محمد بن الحسين بن الإسكاف: كنتُ أُفضِّل عبد الرَّحمن بن أبي حاتم على المَحاملي، فرأيتُ في النوم قائلًا يقول: استغفر الله في أمر المحاملي، فإنَّ الله يَدفعُ به عن أهل بغداد البلاءَ، فلا تستصغر أمرَه. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (م ف م 1). (¬2) أخبار الراضي 230، تاريخ بغداد 8/ 536، المنتظم 14/ 21، الكامل 8/ 392، تاريخ الإسلام 7/ 589، السير 15/ 258. وهذه الترجمة ليست في (م ف م 1). (¬3) تاريخ بغداد 8/ 538.

علي بن محمد بن سهل

واتَّفقوا على صِدقه وثقته ودينه وزُهْده وأمانته. وقال ثابت بن سِنان: مات عن ستٍّ وتسعين سنة. علي بن محمد بن سَهل أبو الحسن، الصَّائغ الدِّينَوَري، الزّاهد (¬1). قال [جدّي في "المنتظم": حدثنا أبو بكر العامري، حدثنا أبو سعد بن أبي صادق، حدثنا ابن باكويه قال: سمعت الحسين بن أحمد الدينوري يقول: سمعت] مَمشاذ الدِّينَوري [يقول: ] خرجتُ يومًا إلى الصحراء، فإذا بنَسْرٍ قد فتح جناحَيه، فعَجِبتُ منه، فنظرتُ وإذا بأبي الحسن الصَّائغ الدينوري قائمٌ يصلِّي وكان يومًا حارًّا، والنَّسْرُ يُظِلُّه. [هذا صورة ما ذكر جدي، وكان الدينوري عظيمًا، وقد استقصيتُ أخباره.] كان الدينوري من كبار مشايخ مصر، وأصحاب الكرامات والإشارات؛ ساعةَ وُلد وسقط إلى الأرض قال: الله، أو قال: لا إله إلا الله، سمعها كلُّ مَن في البيت. وقال أبو عثمان المَغْرِبي: لم أرَ أكثرَ هيبةً من أبي الحسن الصائغ من دون مَن رأيتُ من المشايخ. وقال ممشاذ: أتى أبو الحسن إلى شيخنا ابن بشار (¬2) وعمره خمس عشرة سنة، فسأله أن يَسألَ أُمَّه أن تَهبَه لله تعالى، قال: فصرنا معه إلى أُمِّه، فسألها الشيخُ ذلك، فقالت: كيف أهبُه لله تعالى، أخاف أن لا يَحصل لا لي ولا له، ولكن أبحتُه أنْ يَصعَدَ إلى الجبل، فإن وَجَد الله فقد وهبتُه له، وإن لم يجده كنتُ أنا خيرًا له مما دعاه (¬3). ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): فصل وفيها توفي الدينوري الزاهد واسمه علي بن محمد بن سهل أبو الحسن الصائغ. والمثبت من (خ)، وانظر ترجمته في: طبقات الصوفية 312، حلية الأولياء 10/ 353، الرسالة القشيرية 105، المنتظم 14/ 23، مناقب الأبرار 2/ 7، تاريخ الإسلام 7/ 647 وفيات سنة (331 هـ). (¬2) في (م ف م 1): والإشارات حكى أبو عبد الرَّحمن السلمي عنه أنه ساعة ولد ... وكان أبو عثمان المغربي يقول لم أر ... وحكى السلمي عن ممشاذ الدينوري قال أتى أبو الحسن إلى شيخنا ابن يسار، والمثبت من (خ)، ولم أقف على هذه الأخبار. (¬3) في (خ): كنت أنا له خيرًا مما يشقى، والمثبت من (م ف م 1).

[قال: فصعد الجبل، ] فغاب خمسين ليلةً، ثم عاد وهو كالخِلال (¬1) اليابس، فقلنا له: كيف حالُك؟ فقال: ما فيَّ جارحةٌ إلا وهي تشتهي (¬2) المَزيد، ولا دَفَعني إلى فاقَةِ قطُّ. فقمنا إلى أُمِّه، فسألتْه عن حاله، فأخبرها كما أخبرنا، فاعتَنَقَتْه وبكَت وقالت: اللهم إنَّه وَديعتي عندك، فقد صَلُح لك ووَهبْتُه لك. فخرج من عندها فغاب سنتين، فلقيتُه بعد ذلك بمدَّة فذكَّرُته بالحكاية (¬3)، فبكى بكاءً شديدًا، وجعل يَنوحُ على نفسه بالفارسية ويقول: واخَرابَ قلباه، ويُردِّدها ويبكي. وكان (¬4) يقيمُ أربعين يومًا لا يأكل ولا يشرب ولا يتوضأ، ويُقيمُ أربعة أشهر كذلك، ويَصعد إلى جبل الدِّينَوَر فيقيم فيه، وفيه السباع والوحوش [مُنْهمِكَة]، لا يتجاسر شيءٌ منها أن يدنو منه، ثم ينزل بعد أربعين يومًا إلى الدِّينَوَر، فتُغلَقُ الأسواق، ويقوم الناس ينظرون إليه من بعيد تعظيمًا له. [وقال مَمشاذ الدِّينَوري: ] كان يَضربُ بيده الأرضَ في أسفاره فيَنْبُع الماء، فيتوضَّأ ويَشرب، وكان يَقِدُ على رأسه قِنْديل من السماء طول الليل. وقال قاسم بن عمرو المَعافِري (¬5): كنتُ ألزم مسجدَ الدِّينَوَري كلَّ جمعة، فخرجتُ في يوم جمعة، فرأيتُ الناس يَزدَحِمون على الخُبز، فقلتُ: أشتري رغيفًا أعِدُّه لإفطاري وكنتُ صائمًا، فاشتريتُه، وخبَّأتُه في مكان، ثم قصدتُ الجامع فجلستُ عند أبي الحسن، فلما تكلَّم سألتُه عن التوكل فقال: أن لا تهتمَّ لإفطارك قبل صلاة الجمعة. ¬

_ (¬1) كالعود. (¬2) في (خ): تقتضي. (¬3) في (م): بالحديث. (¬4) في (م ف م 1): وحكى في المناقب أنه كان، والمثبت من (خ)، والأخبار التي ينقلها عن السلمي والمناقب لم أجدها فيهما. (¬5) في (م ف م 1): وحكى في المناقب عن قاسم بن عمرو المعافري قال، والمثبت من (خ).

وكان أبو الحسن علي بن عثمان القَرافي يقول: لا ينبغي أن يتكلَّمَ على الناس إلا مَن يكون حالُه مثل حال أبي الحسن الدِّينَوري؛ كانت بَواطِنُ الخَلْق مُنْكَشفة بين يديه. ولقد خطَر لي خاطرٌ يومًا فالتفت إليَّ وقال: حَرامٌ على قلبٍ مأسورٍ بحُبِّ الدنيا أن يَسيح في عالم الغيب (¬1). [ذكر قصته مع تِكِين والي مصر: ] كان الدينوري (¬2) أنكر على تِكِين والي مصر أشياء [وكان ظالمًا]، فسيَّره إلى القُدس. قال محمد بن الليث: فحدَّثني جماعةٌ من الشيوخ الذين كانوا بالقدس قالوا: لمَّا وصل الدينوري إلى القدس خرجنا نتلقَّاه، فلمَّا وصل إلى باب سليمان - عليه السلام - قال: كأنِّي بالبائس -يعني تِكين- وقد جيء به في تابوت إلى ها هنا، فإذا دنا من الباب عَثَر البغلُ، ووقع التابوت فبال عليه البغلُ. قال: وأقام الدِّينَوري بالقُدس مدةً يسيرة، وإذا بقائل يقول: قد وصل تِكِين وهو ميتٌ في تابوت، فلمَّا وصل إلى باب سليمان - عليه السلام - عَثَر البغل في المكان الذي أشار إليه الدِّينَوري، فوقع التابوت، وغَفَل عنه المُكاري فبال عليه البَغْل، وخرج الدِّينَوري فقال للتابوت: جئتَ بالبائس إلى المكان الذي نفانا إليه، ثم ركب الدينوري ذلك البغلَ وعاد عليه إلى مصر. [قال محمد بن الليث: فحدثني المُكاري الذي حمل الدينوري إلى القدس قال: كان في مئة بغل، فلما مات تكين طلبوا مني بغلًا يحملونه عليه إلى القدس، فأحضرتُ البغال كلها، وجعلت كما وضعت التابوت على بغل عَرطَز فرماه، ووقع في خاطري أنه لا يحمله إلا البغل الذي حمل عليه الدينوري، فأتيته به، ووضعته عليه فحمله، فلما وصلنا به إلى القدس وقع التابوت به عند باب سليمان، فغفلنا عنه فبال عليه، ورددنا الدينوري على البغل.] ¬

_ (¬1) قول المعافري والقرافي في الأربعين في شيوخ الصوفية للماليني 189 - 190، وانظر تاريخ الإسلام 7/ 647. (¬2) في (م ف م 1): ذكر في المناقب أن أبا الحسن الدينوري.

محمد بن أحمد

وكانت وفاة الدينوري بمصر، ودُفن بالقَرافة، وقبرُه ظاهر يُزار. قال المصنف رحمه الله: وقد زرتُه مرارًا، ودعوتُ الله عنده، ورأيتُ أثر الإجابة. أسند الدينوري الحديث، وأخرج له أبو طاهر السَّلَفي حديثًا عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "انتظارُ الفَرَج عبادةٌ" (¬1). محمد بن أحمد ابن صالح بن الإمام أحمد -رحمة الله عليه- ابن حَنْبل الشَّيباني، أبو جعفر (¬2). وحدَّث عن أبيه وعمه عبد الله (¬3) وغيرهما، وروى عنه الدارقطني وغيره. محمد بن رائق أبو بكر الأمير (¬4)، قد ذكرناه، وكان جوادًا مُمَدَحًا، وقد مدحه أبو عمار بن إسماعيل الأَسدي صاحب أَطرَابلس فقال: [من الوافر] حُسامٌ لابن رائقٍ المُرَجَّى ... حُسامِ المُتَّقي أيامَ صالا (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه الماليني في الأربعين 188 - 189، وعنه الخطيب في تلخيص المتشابه 1/ 228 من طريق أبي الحسن الدينوري، عن محمد بن عبد العزيز الدينوري، عن عمرو بن حميد قاضي الدينور، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر. ومحمد بن عبد العزيز منكر الحديث، ضعيف، يأتي ببلايا، كما ذكر الذهبي في الميزان (7422)، وعمرو بن حميد: قال الذهبي في الميزان (6016) وأورد له هذا الحديث: هالك، أتي بخبر موضوع اتهم به، وقد ذكره السليماني في عداد من يضع الحديث. وللحديث شواهد عن علي وابن مسعود وأنس، لا يخلو واحد منها من مقال، انظر كشف الخفاء 1/ 239، والمقاصد الحسنة 172، وسلسلة الأحاديث الضعيفة (492، 1572). (¬2) تاريخ بغداد 2/ 145، وطبقات الحنابلة 2/ 64، والمنتظم 14/ 23، وتاريخ الإسلام 7/ 594، وهذه الترجمة ليست في (م ف م 1). (¬3) يعني عم أبيه، انظر طبقات الحنابلة 2/ 64. (¬4) تاريخ دمشق 62/ 71، وتاريخ الإسلام 7/ 595، والسير 15/ 325، وهذه الترجمة ليست في (م ف م 1). (¬5) كذا ورد هذا النص في (خ) وفيه سقط ظاهر، فإن البيت للمتنبي يمدح فيه أبا الحسن بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي، وكان بدر هذا من قواد ابن رائق، وقد تقلد له حرب طبرية سنة (328 هـ) كما في تكملة الطبري 323. والبيت في ديوان المتنيي 2/ 148 (بشرح المعري)، قال شارحه: وحسام المتقي جُرَّ لأنه صفة لابن رائق، وابن رائق قائد كبير كان للخليفة المتقي، وكان ابن عمار من قِبَل ابن رائق.

مفلح بن عبد الله

[وفيها توفي] مُفلِح (¬1) بن عبد الله أبو صالح، الدِّمَشْقي، الزَّاهد، الذي يُنسب إليه مسجد أبي صالح خارج باب شرقي. كان من الأبدال، [حكى عنه الحافظ ابن عساكر أنَّه] قال: كنتُ أدورُ في جبل اللُّكَّام لطلب الزُّهَّاد والعُبَّاد، فرأيتُ رجلًا صالحًا [جالسًا] على حَجَرٍ، وعليه مُرَقَّعةٌ، وهو ينظر إلى الأرض، فقلتُ: ما تصنع ها هنا؟ فقال: أنظرُ وأرعى، قلتُ: ما أرى بين يديك إلا الحجارة، فما الذي تنظرُ وترعى؟ فتغيَّر لونُه وقال: أنظرُ خواطرَ قلبي، وأرعى أوامرَ ربي، فبالذي أظهرَك عليَّ إلا ما جُزْتَ عنِّي، فقلتُ: كلِّمني بكلمةٍ أنتفع بها، فقال: مَن لزم الباب أُثبِتَ في الخَدَم، ومَن أكثَر الذنوب أكثرَ الندم، ومَن استغنى بالله أَمِنَ العَدَم، ثم غاب عني. حدَّث أبو صالح عن حَمدَويه وغيره. وكان حَمدَويه من الأبدال أيضًا، واسمُه محمد بن أحمد بن سَيِّد، أبو بكر، التميمي، مولى بني هاشم، كان له كرامات، صحب قاسمًا الجُوعي وحدث عنه، ومات هو وأبو صالح في هذه السنة [بدمشق] (¬2). وقال أبو صالح: أقمتُ أربعين يومًا ما شربتُ ماءً (¬3)، فأخذ حمدويه بيدي، وأدخلني داره، وأتى بشربة ماءٍ وقال: اشرب، ثم التفَتَ إلى امرأته وقال: هذا له أربعون يومًا ما شرب، قال أبو صالح: وما اطَلع على حالي إلا الله تعالى. [روى عن أبي صالح أبو بكر محمد بن داود الدينوري، ومن كلام أبي صالح: الدنيا حَرام على القلوب، حلال على النفوس؛ لأن كلَّ شيءٍ] تنظر إليه بعين رأسك حرامٌ عليك أنْ تنظرَ إليه بعين قلبك. ¬

_ (¬1) في (م): فصل وفي هذه السنة توفي مفلح. وانظر ترجمته في تاريخ دمشق 17/ 109، 19/ 80 (مخطوط)، والسير 15/ 84، وتاريخ الإسلام 7/ 598. (¬2) أرخ ابن عساكر في تاريخه 60/ 163، والذهبي في السير 14/ 112، وفاته في سنة (301 هـ). (¬3) في (م): ما شربت لا ماء ولا لبنًا.

نصر بن أحمد

وقال: البَدَنُ لباس القلب، والقلبُ لباس الفؤاد، والفؤاد لباس الضمير، والضمير لباس السرِّ، والسرُّ لباس المعرفة. نصر بن أحمد أبو القاسم، البَصريّ، الخُبْزَأُرزي الشاعر (¬1). قدم بغداد وأقام بها دهرًا طويلًا [، وروى عنه كثيرًا من شعره المعافى بن زكريا وغيره، وذكره الخطيب أيضًا]. وله ديوانٌ مشهور. قال أبو محمد الأَكْفاني: خرجتُ مع عمي أبي عبد الله، وأبي الحسين بن لَنْكَك، وأبي عبد الله المُفَجَّع، وأبي الحسن السَّبَّاك في بطالة عيد، فانتهوا إلى الخُبْزَأُرزي وهو يَخْبِز على طابقه، فجلسوا يُهنِّؤنه، وهو يُوقد السَّعَف تحت الطَّابَق، فزاد في الوقود حتى خَنَقَهم الدُّخان، فقاموا، فقال الخُبْزَأُرزي لأبي الحسين بن لَنْكَك: متى أراك؟ فقال: إذا اتَّسَخَت ثيابي، وكانت ثيابُه يومئذٍ جُدَدًا على أنقى ما يكون من البياض، فلما انفصلوا دعا ابن لَنْكَك بدواة وبيضاء، ونَظَم في الحال وهم قعودٌ عنده: [من الوافر] لنصرٍ في فؤادي فَرطُ حُبٍّ ... أُنيفُ به على كُلِّ الصِّحابِ أتيناه فبخَّرَنا بَخُورًا ... من السَّعَفِ المُدَخِّن للثّياب فقمتُ مُبادِرًا وظننتُ نَصْرًا ... أراد بذاك طَردي أو ذَهابي فقال متى أراك أبا حسين ... فقلتُ له إذا اتَّسخَت ثيابي وبعث بها إلى الخُبزَأرزي، فأعاد جوابَها في الحال فقال: [من الوافر] مَنَحتُ أبا الحسين صَميمَ وُدِّي ... فداعَبَني بألفاظٍ عِذابِ أتى وثيابُه كقَتيرِ شَيبٍ ... فعُدنَ له كرَيعان الشَّباب ظننتُ جلوسه عندي لعُرسٍ ... فجُدتُ له بتمسِيك الثِّيابِ فقلتُ متى أراك أبا حسينٍ ... فجاوبني إذا اتَّسخت ثيابي ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): فصل وفيها توفي الخبزأرزي الشاعر واسمه نصر بن أحمد أبو القاسم البصري، وانظر ترجمته في: تاريخ بغداد 15/ 404، والمنتظم 14/ 24، ومعجم الأدباء 20/ 218، وتاريخ الإسلام 7/ 619.

فإنْ كان التَّقَزُّزُ فيه فَخْرٌ ... فلِم كُنِيَ الوصيُّ أبا تراب ومن شعره أيضًا: [من الطويل] تجافيتُ عنكم طاعةً لهواكُمُ ... وإنِّي لأرضى أن أكونَ لكم أرضا فلا هجْرُكم يُغْني (¬1) ولا وَعدُكم يَفِي ... ولا عَهْدُنا يُرعى ولا دَينُنا يُقْضى رَضيتُ بقَتْلي في هواكم لأنَّني ... أرى حُبَّكم حَتْمًا وطاعَتَكم فَرضا حَبَسْت عِنانَ القَولِ فيكم صِيانةً ... لكم وخُيولُ الشَّوق تركُضُ بي رَكْضا لقد ضاقَت الدُّنيا عليَّ بأسْرها ... فلستُ أرى للأرض طُولًا ولا عَرضا وحقِّ الهوى إنِّي أُحِسُّ من الهوى ... على كبدي جَمرًا وفي أعظُمي رَضَّا فإن لم تجُد بالعفو جُدْ بتَعَطُّفٍ ... فمَن لم يَجِد كلَّ المُنا طلب البعضا وقال: [من المنسرح] كم شَهوةٍ مُسْتَقرَّةٍ فَرَحًا ... قد انْجَلَتْ عن حُلولِ آفاتِ وكم جَهولٍ تَراه مُشْتَريًا ... سُرورَ وقتٍ بغَمِّ أوقاتِ كم شَهواتٍ سَلَبْنَ صاحبَها ... ثَوبَ الدِّياناتِ والمُروءاتِ وقال: [من الطويل] لسانُ الفتى حَتْفٌ له حين يَجْهلُ ... وكلُّ امرئٍ ما بين فَكَّيه مَقْتَلُ إذا ما لسانُ المَرءِ أكثَرَ هذْرَه ... فذاك لسانٌ بالبَلاء مُوَكَّلُ وكم فاتحٍ أبوابَ شرٍّ لنفسه ... إذا لم يكن قُفْلٌ على فيه مُقْفَلُ كذا كلُّ مَن يَرمي شَراراتِ لَفْظِه ... تلقَّتْه نيرانُ الجَوابات تُشْعَلُ ومَن لم يُقيِّد لفظه متجمِّلًا ... سيُطلَقُ فيه كلُّ ما ليس يَجْمُلُ ومَن لم يكن في فيه ماءُ صِيانةٍ ... ففي وجهه غُضنُ المَهابَةِ يَذْبُلُ إذا قلتَ (¬2) قولًا كنتَ رَهْنَ جوابه ... فحاذِرْ جوابَ السُّوء إن كنتَ تَعقِلُ أُعلِّمُكم ما علَّمتْني تجاربي ... وقد قال قبلي قائلٌ مُتَمَثِّل إذا شئتَ أن تحيا سعيدًا مُسَلَّمًا ... فدَبِّر ومَيِّز ما تقول وتفعلُ ¬

_ (¬1) كذا، ولعلها: يفنى. ولم أقف على الأبيات. (¬2) من قوله: قال أبو محمد الأكفاني ... إلى هنا ليس في (م ف م 1)، جاء بدله فيها: فمن شعره من أبيات له: إذا قلت.

السنة الحادية والثلاثون وثلاث مئة

السنة الحادية والثلاثون وثلاث مئة (¬1) فيها في المُحرَّم زوَّج المتقي ابنه أبا منصور إسحاق بعَدويّة، وقيل: بعلوية، بنت ناصر الدولة [أبي محمد ابن] حَمدان على صَداق مبلغه (¬2) مئتي ألف دينار، وحضر المُتَّقي العقد، ولم يحضُر ناصر الدولة، ووكَّل [في العقد] أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشمي، وأمر المتقي ولده [أبا منصور] أن يمضي بعد العقد إلى دار ناصر الدولة فمضى [إليه بعد ما عقد العقد]. وفي صفر وصلت الرُّوم إلى أَرزَن وميَّافارِقِين ونَصِيبِين، ووصلوا إلى سرجَة وهي على فرسَخَين من نَصِيبين، وعاثوا في الجزيرة، وقتلوا وسَلَبوا، وطلبوا مِنديلًا في كنيسة الرُّها تَزْعم النصارى أن المسيح - عليه السلام - مسح به وجهه فصارت صورتُه فيه، وأنَّهم يُطلقون ما عندهم من أسارى المسلمين ولو كانوا ألوفًا. فجمع المُتَّقي الفقهاء، وتكلَّموا في ذلك، فقال بعضهم: فيه غَضاضة على الإسلام، وإن صحَّ أنَّ سورة عيسى - عليه السلام - فيه فالمسلمون أولى به، فقال علي بن عيسى: تخليصُ رجلٍ مسلم عند الله أحبُّ إليه مما طلَعت عليه الشمس، مما يُقاسونه من الضر والبلاء، ووافقه الجماعة، فأرسلوه وأطلقوه، وأطلقوا الأسارى. وفيها ضيَّق ناصر الدولة على المُتَّقي في نفقاته، وأخذ ضِياعَه وضياعَ والدته، وصادر الكُتَّاب ببغداد وعذَّبهم، واستَصْفى أموالًا كثيرةً، وكرهه الناس. وفيها وافى الأمير أحمد بن بويه من الأهواز بقَصْد قتال البريديّين، فاستأمن إليه جماعةٌ من الدَّيلَم. وفيها استوحش سيف الدَّولة بن حَمدان من التُّرك، وكان يقيم بواسِط يُعمِل الحيلة على البريدي بالبصرة، وفي عَزْمه أن يسير إليه بالأتراك وغيرهم، وضايقه أخوه ناصر الدولة في حَمْل المال، وكان توزون التُّركي [وجوجوخ] (¬3) يُسيئان على سيف الدولة ¬

_ (¬1) في (م): السنة الحادية والثلاثون بعد الثلاث مئة. (¬2) في (خ): جملته، والمثبت من (م ف م 1). (¬3) ما بين معكوفين من تكملة الطبري 337، واسمه في الكامل 8/ 396: خجخج.

الأدب، ويُسمعانه ما يكره، ويتَحكَّما عليه حتى ضاق بهما ذَرعًا، فأرسل إليه ناصر الدولة بأبي عبد الله الكوفي وبألف ألف درهم في زَوْرَق. وكان سيف الدولة لمَّا رأى استطالتهما عليه أقطع توزون المَذار وجوجوخ الجامدة (¬1)، ولم يبق إلا أن يَخرجا، فوصل المال، وطمعوا فيه، وكَبسوا عسكر سيف الدولة ليلًا في شعبان، فهرب في البرية يُريد يغداد، ونهبوا عسكَره والمال. وبلغ ناصرَ الدولة وهو ببغداد، فضرب خيامَه بياب الشمَّاسية، وركب إليه المتقي في طيَّاره، وسأله التوقف، فلما كان يوم الجمعة لأربع خلَون من رمضان سار يُريد الموصلَ، ونُهِبَت داره. وأفلت يانس غلام البريدي إلى البصرة، واستتر الكوفي وأبو بكر بن مقاتل ببغداد، وضَبَط القراريطيُّ [الأمور] من غير اسم الوزارة، وكانت مدّة وزارة أحمد بن عبد الله الأصبهاني أحدًا وخمسين يومًا، ومدة إقامة ناصر الدولة ببغداد ثلاثة عشر شهرًا وأيامًا. ثم اختلف توزون وجوجوخ في الرئاسة، ثم اتَّفقا على أنَّ الرئاسة لتوزون وتقدِمَة الجيش لجوجوخ، ثم وثب توزون على جوجوخ فسمله بواسط، وسكنت الفتنة، واستوزر المتقي أبا الحسين علي بن محمد بن علي بن مُقْلَة. وفيها عاد سيف الدولة مُنهزمًا من واسط إلى بغداد، ونزل بباب الشماسية (¬2)، وراسل المتقي يطلب مالًا يقاتل به توزون، فبعث إليه الضيافة أيامًا وأربعَ مئة ألف درهم وخمسين ألف درهم، فانهزم سيف الدولة إلى المَوْصل، وخلع المُتَّقي على توزون، ولقَّبه أميرَ الأُمراء، وصادر توزون الناس بسبب بني حَمدان. وفيها وقعت الوَحشَةُ بين المُتَّقي وتوزون، اتَّهمه بالمَيل إلى بني حمدان حتى فعل به ما فعل، وعاد توزون إلى واسط، وعزل الوزيرَ ابن مُقْلَة، وأخذ منْه مئة ألف دينار، فكانت وزارتُه ثلاثين يومًا، ثم أُعيد إلى الوزارة (¬3). ¬

_ (¬1) في الكامل 7/ 396: وأمر توزون أن يسير إلى الجامدة ويأخذها وينفرد بحاصلها، وأمر خجخج أن يسير إلى مذار ويحفظها ويأخذ حاصلها. (¬2) في تكملة الطبري 338، والكامل 8/ 389: باب حرب. (¬3) من قوله: وفيها وافى الأمير أحمد بن بويه ... إلى هنا ليس في (م ف م 1).

بدر الخرشني

وفيها خرج خلقٌ كثير من بغداد مع الحاج إلى الشام ومصر خوفًا من اتِّصال الفتن ببغداد [وتواتر المِحَن عليهم. قال الصولي: ] وفيها وُلد لأبي طاهر القِرمِطي ولدٌ، فأهدى إليه أبو عبد الله البريدي هدايا عظيمةً، فيها مَهْدُ ذهبٍ مُرَصَّعٌ بالجواهر (¬1). وكان المُتَّقي قد بعث بخِلَعٍ إلى أحمد بن بُوَيه، فلبسها وسُرَّ بها. وحجَّ بالناس القِرْمِطيّ بالخِفارة، وقيل: لم يحجَّ أحد. وفيها توفي بدرٌ الخَرْشَني كان أميرَ الأمراء ببغداد، فلمَّا تغلَّب ابن رائق عليها خرج إلى الشام، فولَّاه الإخشيدُ دمشقَ سنة ثلاثين، فوَليها شهرَين، وأقام حتى مات، وكان شجاعًا جوادًا. سِنان بن ثابت أبو سعيد، المُتَطَبِّب، والد ثابت الذي صنَّف التاريخ (¬2). أسلم على يد القاهر بالله، وكان فاضلًا في الطبِّ وعلومٍ كثيرة، وطب كثيرًا من الخلفاء، وكانت وفاتُه ببغداد في ذي القَعْدة. علي بن إسماعيل ابن أبي بِشْر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بُرْدَة بن أبي موسى الأشعري، أبو الحسن، البَصْري، المُتَكلِّم (¬3). سكن بغداد إلى أن توفّي بها، ومولده سنة ستين ومئتين، تشاغل بعلم الكلام، وكان على مذهب المُعْتَزلة زمانًا طويلًا، ثم عنَّ له مخالفتُهم، وأظهر مقالةً خَبَطَت عقائدَ الناس، وأوجبَت الفتن المتّصلة، وكان الناس لا يختلفون في هذا المسموع أنَّه كلامُ ¬

_ (¬1) أخبار الراضي والمتقي لله 233. (¬2) أخبار الراضي والمتقي لله 245، والمنتظم 14/ 28، والكامل 8/ 405، وتاريخ الإسلام 7/ 624. (¬3) تاريخ بغداد 13/ 260، والمنتظم 14/ 29، وتاريخ الإسلام 7/ 494، والسير 15/ 85.

الله تعالى، وأنَّ جبريل ينزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والأئمةُ المُعْتَمد عليهم قالوا: إنَّه قديمٌ، والمعتزلة قالوا: إنَّه مخلوقٌ، فوافق الأشعريُّ المعتزلةَ في أنَّه مخلوق، وقال: ليس هذا كلامُ الله، وإنَّما كلامُ الله صفةٌ أزلية قائمةٌ بذات المتكلّم، ما نزل، ولا هو مما يُسمَع، وما زال منذ أظهر هذه المقالة خائفًا على نفسه، حتى استجار بدار أبي الحَسن التميمي حَذَرًا من القتل، ثم تبعه أقوامٌ من السلاطين فتعصَّبوا لمذهبه، وكثُر أتباعُه، حتى تركت الشافعيةُ مُعْتَقدَ الشافعي رحمة الله عليه، ودانوا بقول الأشعري. وقال الأشعري: أقمتُ مُعْتَزلًا أربعين سنة، وكان تلميذَ الجُبَّائي لا يُفارقُه، ويدرُس عليه ويتعلَّم منه، ورجع عن مذهب المُعْتزلة، فطلع يوم الجمعة بعد الصلاة المنبر وبيده شريطٌ، فشدَّ به وَسَطَه، ثم قطعه وقال: اشهدوا أنِّي أتيتُ تائبًا مما كنتُ فيه من القول بالاعتزال. وتوفي ببغداد، ودُفن بمَشْرَعة الرَّوايا، وقبرُه عافٍ لا يُلتفَت إليه. وقال: لمَّا نفَت المعتزلةُ كلام الله وقالوا: إنَّه مخلوقٌ؛ وضعتُ هذه المقالة. وله مقالتان؛ صنَّف كتاب "الإبانة" في أول أمره، وقرَّر فيه مذاهبَ السَّلَف وأهلَ السُّنة، ثم صنَّف المقالة الثانية. وقال الحسن بن علي بن يَزداد: كان الأشعري جالسًا في سطح داره، فبال، فسال بولُه في المِيْزاب، فاجتاز والي البصرة فقطَرَ على ثيابه، فوقف وقال: اهدموا هذه الدار، فسمع أبو الحسن كلامَه، فنزل وفتح الباب وقال: أيها الأميرُ، أنا من ولد رجلٍ بال على الإسلام بسوء رأيه، فأنا أولى مَن عُذِر، فضَحِك الوالي ولم يتعرَّض له. وكان يأكلُ من غَلَّة ضيعةٍ أوقفها جدُّه بلال بن أبي بُرْدَة على عَقِبه، فكانت نفقتُه في كلِّ سنة سبعة عشر درهمًا، وله خمسٌ وخمسون مُصَنَّفًا. وحكي عنه العجائب والغَرائب مما يتعلَّق بالدّيانة، وليس له روايةٌ ولا سمع حديثًا، وتوفي في هذه السنة، وقيل: سنة أربعٍ وعشرين وثلاث مئة (¬1). ¬

_ (¬1) من قوله: وفيها توفي بدر الخرشني ... إلى هنا ليس في (م ف م 1)، جاء بدلها ترجمة عبد الله بن طاهر الأبهري، وقد سلفت في السنة الماضية، ونبهنا على ذلك ثمة.

محمد بن أحمد بن يعقوب

[وفيها توفي] محمد بن أحمد بن يعقوب أبو بكر، السَّدوسِيّ مولاهم، ويعرف بابن عُصفور (¬1). بغداديٌّ، وُلد سنة أربع وخمسين ومئتين. [وحكى الخطيب عنه أنه] قال: لما وُلدت قال أبي لأمي: إنَّ المُنَجِّمين قد أخذوا مَولدَ هذا الغلام، وحسبوا أنَّه يعيش كذا وكذا سنة، وقد حسبتُها أيامًا، وقد عَزَمْتُ أن أُعِدَّ له لكلِّ يومٍ دينارًا مدَّةَ عمره، فإنَّ ذلك يكفي الرجل المتوسط ولعياله، فأَعِدِّي حُبًّا، فأعدَّتْه وتركته في الأرض، وملأه دنانير، ثم قال: أعدِّي حُبًّا آخر أملأه مثل هذا [يكون له] استظهارًا (¬2)، فأعدَّته، فملأه ودفن الاثنين، فما نَفَعني ذلك من حوادث الزمان، وها أنا على ما ترون، وكان فقيرًا، فكانوا إذا سمعوا عليه يَبَرُّونه بشيء، وكان يأتيهم بغير إزار. وكانت وفاته في ربيع الآخر ببغداد، وكان ثقة [مأمونًا، صدوقًا]. محمد بن عبد الله أبو بكر، الفقيه، الشافعي. له تصانيف في أصول الفقه، روى عنه وَهْب بن مُنَبِّه أنَّه قال: الدَّراهِمُ خَواتيمُ الله في الأرض، فمَن ذهب بخاتم الله قُضِيت حاجتُه (¬3). محمد بن عَبْدُوس ابن عبد الله، الجَهْشَيارى، مُصَنِّف كتاب "الوزراء" (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 248، والمنتظم 14/ 30، والسير 15/ 312، وتاريخ الإسلام 7/ 648. (¬2) ما بين معكوفين من تاريخ بغداد 2/ 249. (¬3) تاريخ بغداد 3/ 472، وتاريخ الإسلام 7/ 596، وأرّخا وفاته سنة (330 هـ). وهذه الترجمة والتي تليها ليست في (م ف م 1). (¬4) الكامل 8/ 405، وتاريخ الإسلام 7/ 624، والفهرست 141، والنجوم الزاهرة 3/ 279.

محمد بن مخلد] بن حفص

كان فاضلًا مداخلًا للدول، مات ببغداد في ذي الحجة مستترًا فاستتر أولادُه وحاشيتُه. [وفيها توفي محمد بن مَخْلَد] بن حَفْص أبو عبد الله، الدُّوري، العَطَّار، البغدادي (¬1). ولد سنة ثلاث وثلاثين ومئتين [، وكان ينزل الدُّور، مَحلَّة في آخر بغداد من الجانب الشرقي أعلى البلد، وقد دَثَرَت فلا عينٌ ولا أَثَر]. وكان عالمًا فاضلًا، واسعَ الرواية، مشهورًا بالديانة، مَذكورًا بالعبادة. [حكى الخطيب عنه أنه] قال: ماتت والدتي، فنزلتُ أَلحِدُها، فانْفَرَجت لي فُرْجَة عن قبرٍ بلزْقها، فإذا رجل عليه أكفان جُدُدٌ، وعلى صدره طاقة نرجس أو ياسمين طَريَّة، فأخذتُها وشَممتُها، فإذا هي أذكى من المِسْك، وشمَّها الجماعة الذين كانوا معي في الجنازة، ثم أعدتُها إلى موضعها، وسَدَدْتُ الفُرْجَة. مات ببغداد في جُمادى الآخرة، وقد أتت عليه ستٌّ وتسعون سنة وثمانية أشهر وأيام. [حدَّث عن يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي، والحسن بن عَرَفَة، والزُّبير بن بَكَّار، ومسلم بن الحجَّاج، وخلق كثير]، واتَّفقوا على صدقه، وثقته، وزهده، ووَرَعه، وفَهْمه، وحِفْظه. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 499، والمنتظم 14/ 32، وتاريخ الإسلام 7/ 651، والسير 15/ 256، وما بين معكوفين من (م ف م 1).

السنة الثانية والثلاثون وثلاث مئة

السنة الثانية والثلاثون وثلاث مئة (¬1) فيها قدم أبو جعفر بن شيرزاد إلى بغداد من قبل توزون، وكان توزون بواسِط، فأمر ونهى وحكم على بغداد، فكاتب المُتَّقي بني حَمْدان [بالقدوم عليه، فقدم أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حَمْدان (¬2)] في جيش كَثيفٍ، فنزل بباب حَرْب لليلتين خلتا من صفَر، فخرج إليه المُتَّقي وأولادُه وحُرَمُه، والوزير ابن مُقْلَة، وأبو نصر التَّرْجُمان، واستتر ابن شيرزاد، وسار المُتَّقي إلى تَكْريت ظنًّا منه أنَّ ناصر الدولة يَلقاه في بعض الطريق، ويعودون جميعًا إلى بغداد، وظهر ابنُ شيرزاد ببغداد فأمر ونهى، وقدم سيف الدولة ابن حَمْدان على المُتَّقي بتَكْريت، وأشار عليه بالإصعاد إلى الموصل ليتَّفقوا على رأي، فقال المتقي: ما على هذا عاهدتُموني، وتفَلَّل أصحاب المتقي إلى الموصل، وبقي في عدد يسيير مع الحُسين بن حَمْدان. وقدم توزون بغداد، واستعدَّ لقتال بني حَمْدان، وجمع ناصر الدولة جمعًا عظيمًا من بني نُمَير وبني قُشَير وبني كلاب وبني أسد، وانضم إليه ابن مسكويه الكُرْدي في جيش كثيف، وجاء ناصر الدولة إلى تكريت فقال للمتقي: ابعث حُرَمك إلى المَوْصل، فبعثهم في ربيع الأول. وفي يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلةً بقيت منه سار توزون بالأتراك من باب الشَّمَّاسِيَّة إلى عُكْبَرا، وسار سيف الدولة إلى لقائه فالتقوا بعُكْبَرا، واقتتلوا أيامًا، وانهزم بنو حَمْدان إلى الموصل والمتقي معهم، وراسل ناصر الدولة توزون في الصُّلح على يد [ابن] أبي موسى الهاشمي، وكان توزون قد نزل بتكريت، فأقام، وشَغَب أصحابُه، وتسلَّل بعضهم إلى ناصر الدولة بالموصل، وعاد توزون إلى بغداد. وجاء سيف الدولة إلى تكريت، وخرج إليه توزون فالتَقَوا على حَرْبى في شعبان، واقتتلوا، وانهزم سيف الدولة إلى الموصل، وتبعه توزون، فخرج ناصر الدولة وسيف ¬

_ (¬1) في (م): السنة الثانية والثلاثون بعد الثلاث مئة. وليس في النسخ (م ف م 1) من أحداث هذه السنة سوى خبر حمدي اللص الآتي. (¬2) ما بين معكوفين من تاريخ الإسلام 7/ 624.

الدولة والمُتَّقي وحُرَمه والوزير إلى نَصِيبِين، ودخل توزون إلى الموصل ومعه ابن شيرزاد، فاستخرج منها مئة ألف دينار، ورحل المُتَّقي وبنو حَمْدان إلى الرَّقَّة. وراسل المتقي توزون في الصُّلْح وقال: ما خرجتُ من بغداد وأهلي إلا بلغني أنك اتَّفقت مع البريدي عليَّ، والآن فإنْ آثرتَ رضائي فصالِحْ ناصر الدولة، وأنا أرجع إلى داري. وأشار ابن شيرزاد على توزون بالصُّلح، وتواترت الأخبار من بغداد أنَّ أحمد بن بويه نزل واسِطًا وهو يريد بغداد، فأجاب توزون إلى الصُّلح، ورجع إلى بغداد، وكان السَّفير بينهم يحيى بن سعيد السُّوسي، فحصل له مئة ألف دينار، وعقد توزون البلد على ناصر الدولة ثلاث سنين، بثلاثةِ آلاف ألف درهم وستِّ مئة ألف درهم. وفيها قَتَلَ أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف، ثم مات بعده بيسير. وفيها وَلَّى الإخشيدُ الحسين بن لؤلؤ إمرةَ دمشق، فأقام عليها سنةً وشهورًا، ثم نقله إلى حمص واليًا، وولَّى دمشق يانس المؤنسي. وفيها وصل الدُّمُسْتُق إلى رأس العين في ثمانين ألفًا، فقتل وسَبَى خلقًا كثيرًا، وقيل: كان ذلك في السنة الماضية، وقد ذكرناه. وفيها ولَّى ناصر الدولة الحسينَ بنَ سعيد بن حَمْدان قِنَّسرين والعواصم والشام، فسار إلى حلب. وفيها كتب المُتَّقي للإخشيد بمصر أن يَجْهَز إليه، فخرج من مصر، فلمَّا وصل الشام هرب الحُسين بن حَمْدان من حلب، وجاء إلى الرقة فلم يُمكِّنه المتقي من دخولها لأجل سيف الدولة. وفيها بان للمتقي من بني حَمْدان الضَّجَر والمَلَلُ بمقامه عندهم، فراسل توزون على يد محمد بن أبي موسى الهاشمي والحسن بن هارون، وأمرهما أنْ يَستوثقا منه، فأحضر توزون القضاةَ والشهود والعباسيين والطالبيِّين والقُوَّاد وجميع الأشراف والأعيان، وحلف للمتقي على ما اقترحه، وأكثر العُهود والمَواثيق المغلَّظة. وسار الإخشيد من حلب إلى الرَّقَّة، فلما قارَبَها خرج إليه المتقي، فلمَّا رآه الإخشيد ترجَّل، وقبَّل الأرض، ومشى بين يديه، فأمره بالركوب فلم يفعلْ حتى نزل المتقي،

وحمل إليه الإخشيد من الأموال والهدايا شيئًا كثيرًا، وإلى جميع مَن معه، وبلغه ما يُقرَّر بينه وبين توزون فقال له: يا أمير المؤمنين، أنا عبدك وابن عبدك وربيبُ دولتك، وقد عرفتَ الأتراك وغَدْرَهم وفجورَهم، فالله الله في نفسك، سِرْ معي إلى الشام ثم إلى مصر فهي لك، والدنيا بين يديك، لتأمنَ على نفسك، فلم يقبل، فقال: أقم ها هنا وأُمِدُّك بالأموال والرجال، فلم يسمع منه، فعدل إلى الوزير وقال له: سِرْ معي، وضَمِن له ما أراد، فلم يُجبه مُراعاةً للمتقي، فلمَّا نُكب المتقي، كان ابن مُقْلَة الوزير يقول: يا ليتَني قَبِلتُ نصْحَ الإخشيد. وذكر المسعودي أنَّ الإخشيد لم يقطع الفرات، وإنما عبر المُتَّقي إليه، وجرَت بينهما أيمانٌ وخطوب، ورجع الإخشيد إلى الشام (¬1). وفيها قُتل حَمْدي (¬2) اللّص، كان [لصًّا] فاتكًا، ضمنه ابن شيرزاد أموال الناس ببغداد في كل شهر بخمسة وعشرين ألف دينار، فكان يَكبس بيوت الناس بالشَّمع والمَشاعل، ويأخذ الأموال، ويَفتك بالناس، وكان أسكورَج الدَّيلَمي صاحب شُرطة بغداد، فأخذه، وضرب وَسَطه نصفَين، وأراح الناس منه. ودخل أحمد بن بُوَيه واسِطًا، وهرب أصحابُ البريدي إلى البصرة. وفي شوال قتلَ سيف الدولة محمد بنَ ينال التَّرْجُمان، وكان قد مضى إلى المَوصل من عند المتقي، فقال له: أنت عاملتَ العجم عليَّ، وأردتَ الإمرة لنفسك، فجَحَد وحَلَف، فلما خرج ليركبَ دابَّتَه ضربه غِلمان سيف الدولة بالسُّيوف حتى بَرَد. وفي شوال كان توزون جالسًا ببغداد على سرير الملك، والناس قيامٌ بين يديه، فعرض له صَرَعٌ، فوثب ابن شيرزاد فضرب بينه وبين الناس سِتارةً وقال: قد حدثت للأمير حُمَّى. ولم يحجَّ في هذه السنة أحدٌ لموت القِرْمِطي. ¬

_ (¬1) مروج الذهب 8/ 348. ومن أول السنة إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬2) في تكملة الطبري 343، والكامل 8/ 416: ابن حمدي، والمثبت موافق لما في تاريخ الإسلام 7/ 626.

أحمد بن محمد

وفيها توفي أحمد بن محمد ابن سعيد بن عبد الرَّحمن، أبو العباس، الكوفيّ، ويعرَف بابن عُقْدَة، وهو لقبُ أبيه محمد (¬1). وكان عُقْدَةُ عالمًا فاضلًا وَرِعًا ناسِكًا، علَّم ابن هشام الخزَّاز الأدب، فوجَّه إليه أبوه دنانيرَ، فرَدَّها، فأضعَفَها له فردَّها وقال: ما رَدَدْتُها استقلالًا لها، ولكن سألني الصبيُّ أنْ أُعَلِّمَه القرآنَ، فاختلط تعليمُ النحو بتعليم القرآن، فلا أَستَحِلُّ أنْ آخذَ شيئًا، ولو أعطاني الدنيا بأسرها ما أخذتُها. وأما صاحب هذه الترجمة فوُلد في المحرَّم سنة اثنتين وثلاثين ومئتين (¬2)، وكان من أكابر الحفَّاظ، أجمع أهل الكوفة على أنَّه لم يكن من زمن ابن مسعود أكثر منه وأحفظ منه، وكان يحفظ في فضائل أهل البيت خاصةً ثلاث مئة ألف حديث، وكان يقول: أقلُّ شيخ عندي سمعتُ منه مئة ألف حديث، وكانت كتبه ست مئة حِمْل، ومع هذا فقد ذمَّه الناس وتكلَّموا فيه، وكانت وفاته ببغداد في ذي القعدة (¬3). [فصل: وفيها توفي] سليمان بن أبي سعيد الجَنَّابي أبو طاهر، القِرْمِطيّ الذي فعل بالحاجِّ ما فعل، واقتلَعَ الحجر الأسود من البيت وحمله إلى هَجَر، وأفنى الخلائق [وقد ذكرنا ذلك] (¬4). وكانت وفاتُه بهَجَر في رمضان [بالجُدَرِي]، وبطل الحاج بموته [؛ لأنهم لم يكن لهم مَن يُبَذْرِق لهم]. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 147، والمنتظم 14/ 35، والسير 15/ 340، وتاريخ الإسلام 7/ 655. (¬2) في مصادر ترجمته أنه ولد سنة (349 هـ)، انظر تاريخ بغداد 6/ 159، والسير 15/ 341، وتاريخ الإسلام 7/ 657، وميزان الاعتدال (516). (¬3) من قوله: ودخل أحمد بن بويه واسطًا ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬4) تكملة الطبري 344، والمنتظم 14/ 34، والكامل 8/ 415، والسير 15/ 320، وتاريخ الإسلام 7/ 626.

أبو يوسف البريدي

وكان الباقي من إخوته ثلاثة، أبو القاسم سعيد، وهو الرئيس الذي يُدبّر الأمورَ، وأبو العباس كان ضعيفًا كثيرَ الأمراض، مشغولًا بقراءة الكتب، وأبو يعقوب يوسف، كان مشغولًا باللَّعب، إلا أنَّهم كانوا متَّفقين على كلمة واحدةٍ ورأي واحد، وكان لهم سبعةُ وزراء من بني سَنْبَر (¬1). أبو يوسف البريدي (¬2) كان يتكبَّر على أخيه أبي عبد الله ويُؤذيه، ويُطلق لسانه فيه، ويعامل أحمد بن بُوَيه وتوزون عليه، وينسبُه إلى الغَدْر والظُّلم، والبُخل والجُبن، فعزم على قَبْضه، فاستدعاه إلى داره بالبصرة، وكان قد أقعد له جماعةً من غلمانه في الدِّهْليز، وأمرهم بقتله، فلمَّا دخل قاموا إليه وضربوه بالسَّكاكين وهو يصيح: يا أخي قتلوني، وأخوه يقول: إلى لعنة الله، ولمَّا قُتِل شَغَب أصحابُه، فأخرجه إليهم مَلْفوفًا في كِساء فسكنوا، ودخل عليه بعضُ إخوته فقال: قتلتَه؟ فقال: اسكُت وإلا ألحقتُك به. ثم مات بعد ثمانية أشهر وثلاثة أيام، وأَخَذَ من ماله بعد قتله ألف ألف دينار عينًا، ومئتي ألف دينار وعشرة آلاف ألف درهم، ومن الكسوة والفُرُش والآلة ما قيمتُه ألفُ ألف دينار وألف رِطْل نَدًّا، وعشرين ألف رطل عود، منها ألفا رطل هنديٍّ، وصادر أصحابَه على ألف ألف دينار، وقيل: إنه قتله بالأُبُلَّة، ودفنه من غير غسل ولا تكفين. ¬

_ (¬1) بعدها في (ف م م 1): والحمد لله وحده وصلواته وصلامه على نبيه محمد وآله وسلم، السنة الثالثة والثلاثون وثلاث مئة. (¬2) المنتظم 14/ 35، والكامل 8/ 409، وتاريخ الإسلام 7/ 630.

السنة الثالثة والثلاثون وثلاث مئة

السنة الثالثة والثلاثون وثلاث مئة (¬1) فيها سُمِل المُتَّقي ووُلِّي المستكفي. قد ذكرنا أنَّ توزون حلف للمتقي على ما أراد منه، واستوثق بالأيمان، ولمَّا كان يوم الخميس رابع محرَّم توجَّه المتقي من الرَّقَّة إلى بغداد، فلمَّا وصل هِيت أقام بها، وبعث القاضي أبا الحسن بن عبد الله الخِرَقي إلى توزون، فأعاد الأيمان عليه، وخرج توزون فأقام ببَثْق السِّنْدية، وتقدَّمه ابن شيرزاد، فالتقى المُتَّقي على بَثْق السِّندية، ترجَّل وقبَّل الأرض، فأمرَه بالركوب فلم يفعل، ومشى بين يديه إلى المِضْرَب الذي ضربه له على بثق السِّندية، فلمَّا نزل قبض عليه وعلى ابن مُقْلَة ومَن كان معه، ثم كَحَلَه، فصاح المُتَّقي وصاح النساء، فأمر توزون بضَرْب الدَّبادِب حولَ المضرب فخَفِيَت الأصواتُ، وأُدخل بغداد مَسْمولَ العينين، وقد أخذ منه الخاتم والبُرْدَة والقَضيب، وبلغ القاهرَ فقال: صِرْنا اثنَين ونحتاجُ إلى ثالث، يُعَرِّض بالمُسْتكفي، فكان كما قال، سُمِل بعد قليل. وقال ثابت بن سنان: نزل توزون في نهر عيسى، وابن شيرزاد على شاطئ الفرات من الأنبار، وأقبلت خزائنُ المتقي والوزير والناس على طبقاتهم، فأقبلت غَبَرةٌ عظيمة من ناحية الأنبار، وإذا بتوزون قد أقبل، والمتقي قد نزل من مضربه، فركب فالتقاه، فلمَّا رآه توزون ترَجَّل وقَبَّل الأرض، ثم سار بين يديه، ووكَّل به جماعةً من الدَّيلَم والأتراك وبالوزير، حتى أنزلوهم في مِضرب المتقي ووالدته وحُرَمه، وأذن للجماعة في الانحدار إلى السِّنْدِيَّة، ونُهِبَت خزائنُ المتقي. وكان توزون قد بعث إلى بغداد فأحضر عبد الله بن المكتفي، وبايعه بالخلافة، ولُقِّب: المُسْتَكْفي بالله، وسلَّم توزونُ المتقي إلى المُستكفي، فبايعه المتقي، وأشهدَ على نفسه بالخَلْع، وذلك في يوم السبت لعشرٍ بقين من المحرَّم، ثم أُخرج المتقي إلى جزيرة مقابل السِّندية، فسُمل حتى سالت عيناه في يوم خلعه، وقيل: إنما خُلع لعشرٍ بقين من صفر، ولم يَحُل الحولُ على توزون حتى مات. ¬

_ (¬1) في (م): السنة الثالثة والثلاثون بعد الثلاث مئة، ولم يذكر في النسخ (م ف م 1) من أحداث هذه السنة شيء، وورد فيها ترجمة عمرو بن جامع فقط.

الباب الثاني والعشرون في خلافة المستكفي عبد الله بن المكتفي

الباب الثاني والعشرون في خلافة المستكفي عبد الله بن المكتفي وكنيته أبو القاسم، وأمه أمُّ وَلَدٍ يقال لها: عَبْدَة، مُوَلَّدة، وقيل: رُومية، وقيل: عربية، وقيل: اسمُها غُصْن، لم تُدرك خلافتَه، بويع في يوم خلع ابن عمه المتقي، وعمُره يومئذ إحدى وأربعون سنة وسبعةُ أيام، سنُّ أبي جعفر المنصور لمَّا ولي الخلافة؛ لأنَّه وُلد في صفر سنة ستٍّ وتسعين ومئتين، وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وكانت له بيعتان، إحداهما هذه، والثانية ببغداد يوم الاثنين لسبعٍ بقين من صفر، نزل من السِّنْدِيَّة في طَيَّار إلى بغداد، وعلى رأسه توزون وابن شيرزاد، وبويع ببغداد البيعة العامة، وخَلَع على توزون وطَوَّقه وسوَّره، وجعل له كُرسيًّا يجلس عليه. وكان مَليحَ الوجه، رَبْعةً من الرجال، مُعْتَدِلَ الجسم، أبيضَ مُشربًا بحُمْرة، خفيفَ العارِضَين. وكان السبب في خلافته: أنَّ بعض الدَّيالمة تزوَّج امرأةً من أهل بغداد، وكان الدَّيلَميُّ خَصِيصًا بتوزون، فقالت له المرأة يومًا: هل لك بشيءٍ تَسْفِر فيه، يكون فيه صلاحُ الأمير وصلاحُك وصلاحُ الأمة، قال: وما هو؟ قالت: هذا الخليفة المتقي قد عاداكم، فتارةً يَستَنصرُ عليكم ببني حَمْدان، وتارةً ببني بُوَيه، وقد اجتهد في بَواركم فلم يتمَّ له ذلك، وها هنا رجلٌ من أولاد الخلفاء، عاقلٌ لَبيبٌ، ومن صفته كذا وكذا، فإن ولَّيتُموه الخلافَةَ يثير لكم أموالًا عظيمةً، وتخلُصون من عدوٍّ تخافونه، فقال لها: من أين لك هذا؟ فقالت: أعرفُ امرأةً تُدبِّر هذا الأمر. وجاءته بامرأةٍ من أهل شيراز، فكلَّمته بالفارسية والعربية، وعرَّفته أنَّه عبد الله بن المُكْتَفي، وأنَّه يُعطي توزون ستَّ مئة ألف دينار، يُعجِّل له منها بمئتي ألف دينار، ويعطي الرجل مالًا.

فجاء الرجل فأخبر توزون، وجمع بينه وبين المستكفي سرًّا، وغيَّرت الشِّيرازِيَّةُ اسمَها وجعلته عَلَمًا، وصارت قَهْرَمانةَ الخليفة، واستولَت على أمره، ولمَّا سَمَله أحمد بن بُوَيه سَمَل القَهْرَمانة وقطع لسانَها (¬1). ذكر سيرة المتقي: كان كثيرَ العبادة والصيام والصَّلاة، وما شَرب مُسكِرًا قطُّ، وقطع دواوين النُّدَماء والمُغنِّين، وكسر المَلاهي ونفى أهلَها، واجتمعت في أيامه إسحاقات كثيرة سحقت الخلافة، منها وقوعُ رأس القُبَّة الخضراء، وكان يُكْنى أبا إسحاق، ووزيرُه القَراريطي يُكنى أبا إسحاق، وقاضيه الخِرَقي يُكنى أبا إسحاق (¬2)، ومُحْتَسِبه ابن بَطْحاء يُكْنى أبا إسحاق، وصاحب شُرطته [أبو إسحاق بن أحمد، وكانت داره القديمة في دار إسحاق ابن] إبراهيم المُصْعَبي (¬3) يُكنى أبا إسحاق، وكان يَسكن دار إسحاق بن كَنْداج، وكَفَّ عن كثيرٍ مما كان يَرتَكبه مَن تقدَّمه، وكان فيه وَفاءٌ وقَناعة. وكانت خلافتُه ثلاثَ سنين وأحد عشر شهرًا وعشرين يومًا، وعاش طويلًا بعد خَلْعه وسَمْله خمسًا وعشرين سنة، وقيل: أربعًا وعشرين سنةً؛ لأنَّه مات سنة سبع وخمسين وثلاث مئة وعمُره ستون سنة. ولمَّا ولي الخلافة أقرَّ سليمان بن الحسن بن مَخْلَد على الوزارة، ثم استوزر أحمد بن مَيمون، ثم القَراريطي، ثم أبا العباس أحمد بن عبد الله الأصبهاني (¬4)، ثم البريدي، ثم أبا الحسين علي بن محمد بن مُقْلَة، قال المصنِّف رحمه الله: وزر للراضي، وتوفي في هذه السنة الماضية (¬5). وفيها استولى أحمد بن بُوَيه على الأهواز والبصرة وواسِط في غيبة توزون، وخرج إليه توزون، وجاء أحمد فالتقَوا على دَيالى، وما زال الحرب بينهما تسعة أشهر، ¬

_ (¬1) انظر تكملة الطبري 347 - 349، والكامل 8/ 420 - 421. (¬2) كذا قال، وإنما هو أحمد بن عبد الله بن إسحاق أبو الحسن، انظر تاريخ بغداد 5/ 381، وتاريخ الإسلام 7/ 675. (¬3) ما بين معكوفين من تاريخ بغداد 6/ 555، والمنتظم 14/ 6. (¬4) في (خ): ثم العباس بن أحمد الأصبهاني، وهو خطأ، والمثبت من مروج الذهب 8/ 345. (¬5) كذا (؟ ! ).

أحمد بن محمد

وهي كلُّها على توزون، والصَّرَع يعتريه، فقَطَع الجسر الذي على ديالى بينه وبين أحمد بن بويه، وضاق بابن بويه الحال، وتعذَّر عليه الطَّعام والعَلَف، فرجع إلى الأهواز، وصُرع توزون في ذلك اليوم، فعاد إلى بغداد مَشغولًا بنفسه. واستقام أمرُ المستكفي ظاهرًا، وهو في الباطن مقهور، واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السَّامَرِّي لستٍّ بقين من صفر، فأقام أربعين يومًا، ثم صرفه توزون بعد أن صادره على ثلاث مئة ألف دينار، فكانت وزارته أربعين يومًا، ثم استوزر أبا جعفر بن شيرزاد بإشارة توزون، وأطلق توزون الوزيرَ ابن مُقْلَة بعد أن صادره بثلاثين ألف دينار. وفيها سار سيف الدولة ابن حَمْدان إلى حلب فمَلَكَها، وكان أميرُها يانس المؤنسي، فخرج منها إلى مصر، وجهَّز الإخشيد جيشًا إلى سيف الدولة، فالتقوا على الرَّسْتَن، ثم سار إلى دمشق فملكها، وجاء الإخشيد فنزل طَبَرَيَّة، فتسلَّل أكثرُ أصحاب سيف الدولة إلى الإخشيد، فخرج سيف الدولة إلى حلب، فجمع القبائل من العرب وحَشد، وسار إليه الإخشيد، والتقَوا على قِنَّسْرِين، واقتتلوا، فهزمه الإخشيد، فهرب إلى الرَّقَّة، ودخل الإخشيد حلب. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق، ووقف بالناس عمر بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي. واشتدَّ الغَلاء ببغداد، فهرب الرجال إلى البلاد وبقي النساء، فكُنَّ المُخَدَّرات يَخرُجْنَ عشرين عشرين من بيوتهن، مُعْتَمِداتٍ بعضُهن على البعض يصِحْن: الجوعَ الجوعَ، فإذا سقطَت واحدةٌ منهنَّ سقطت الباقيات موتى. وفيها توفي أحمد بن محمد أبو عبد الله، البَريدي، المُتَغَلِّب على الأهواز والبصرة وغيرها (¬1). وهو الذي قتل أخاه لأنَّه طلب منه مالًا فلم يُعطه، فقتله. ¬

_ (¬1) أخبار الراضي والمتقي 259، تكملة الطبري 345، الكامل 8/ 410، تاريخ الإسلام 7/ 631.

عمرو بن جامع بن عمرو

وَزَرَ البريدي للمُتَّقي، واستولى على واسِط، ولم يُمَتَّع بالحياة بعد أخيه، وأخذته الحُمَّى في الدار التي قتله فيها، فدامت به سبعة أيام مُطْبِقةً، ومات في اليوم الثامن من شَوَّال. وقام أخوه أبو الحسين مُقامَه، وكان له جيشٌ بنهر الأمير مقابلًا لأحمد بن بُوَيه، وعسكرٌ آخر بمَطارا، وكان المُقَدَّم على العساكر يانس مولى البريدي، وكان بينه وبين أبي الحُسين مُبايَنةٌ في الباطن، والجُندُ يميلون إلى يانس، فلمَّا تمكَّن أبو الحسين استطال على الدَّيلَم والتُّرْك، وحَطَّ من أقدارهم، فشَكَوه إلى يانس، فقال يانس لأبي القاسم بن أبي عبد الله البريدي: إنْ كان عندك مالٌ عَقَدْتُ الرئاسة لك، وأزَلْتُ عمَّك عنها، فقال: عندي ثلاثُ مئة ألف دينار، فأخذها يانس، فأصلح بها قلوبَ العَسْكر، وعقد لأبي القاسم. وقصدوا أبا الحسين ليقتلوه فهرب ليلًا من تحت الكِلَّة ماشيًا مُتَنكِّرًا إلى هَجَر، فاستجار بالقَرامِطة فأجاروه، وبعثوا معه جيشًا إلى البصرة، واحترز أبو القاسم منهم، فأقاموا مدَّةً فضَجِروا، فأصلحوا بين أبي الحسين وابن أخيه على أنْ يدخلَ أبو الحسين البصرة، ثم أصعد إلى بغداد. وطمع يانس في الملك، فواطأ الدَّيلَم على قتل أبي القاسم، وعلم أبو القاسم، فاحتال حتى قبض على يانس، فقتله، وأخذ منه مئة ألف دينار، واستقام الأمر لأبي القاسم. [وفيها توفي] عَمرو بن جامع بن عمرو أبو الحسن، الكوفي (¬1). سكن دمشق [وحدَّث بها، قال الحافظ ابن عساكر: كان ينزل] بباب البريد، ومات بدمشق في شوال. [حدَّث عن عمران بن موسى الطَّرَسوسي، وروى عنه أبو الحسين الرازي وغيره.] ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 13/ 411 (مخطوط).

روى عنه ابن عساكر حكايةً أسندها قال: كان في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شابٌّ مُتَعبِّدٌ، قد لزم المسجد، وكان عمر مُعْجَبًا به، وكان له أبٌ شيخ كبير، وكان إذا صلى العتمة انصرف إلى أبيه، وكان على طريقه امرأة، فافتُتِنت به، فكانت تتعرَّضُ له، فما زالت تُغويه حتى تَبِعها ليلةً، فلمَّا أتت باب بيتها دخلت، فذهب ليدخل خلفها فذكر الله، ومرَّت على لسانه {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا} الآية [الأعراف: 201] فوقع مَغْشيًّا عليه على بابها، فتعاونت المرأة وجاريتها عليه، فحَملاه إلى باب بيته، وخرج أبوه فرآه، فلمَّا أفاق سأله عن حاله فأخبره، فلمَّا أفاق قال: يا أبت، تذكَّرتُ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا} ثم غُشي عليه مرةً ثانية، فحرَّكوه فإذا به مَيِّت. وبلغ عمر رضوان الله عليه، فجاء إلى أبيه يُعزِّيه وقال: هلَّا آذَنْتَني به، فقال: يا أمير المؤمنين كان الليل، فذهب عمر إلى قبره ومعه أبوه، فناداه: يا فلان {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46] فأجابه الفتى من القبر: يا عمر، قد أعطانيهما ربِّي في الجنة مرَّتين (¬1). ¬

_ (¬1) بعدها في (م 1 ف): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

السنة الرابعة والثلاثون وثلاث مئة

السنة الرابعة والثلاثون وثلاث مئة (¬1) فيها توفِّي توزون التُّركي بهِيْت، وكان معه كاتبُه أبو جعفر بن شيرزاد، فطمع في المملكة، وحَلَّف العساكر لنفسه، فنزل باب حَرْب، وخرج إليه الدَّيلَم وباقي الجُند، وبعث إليه المستكفي بالإقامات وخِلَعٍ بيض، ولم يكن معه مال، وضاق ما بيده، فشَرَع في مُصادرات الناس، وأخذ من الكُتَّاب والتُّجَّار الأموال، وسلَّط الدَّيلَم والتُّرْكَ على الناس، وتجرَّد لإيذاء الخلق، وهرب أعيان أهل بغداد، وانقطعَ الجَلَب عنها فخَرِبَت. وفيها تمَّ الصُّلْح بين سيف الدولة والإخشيد، على أن تكون حمص وحلب وأنطاكية لسيف الدولة، ومصر والشام للإخشيد، وتزوَّج سيف الدولة بنتًا لعُبيد الله بن طُغْج أخي الإخشيد. وفيها لقَّب المُسْتَكفي نفسَه إمام الحقِّ، وضرب ذلك على الدَّراهم والدَّنانير (¬2). وفيها قصد مُعزُّ الدولة أحمد بن بُوَيه بغداد، فلمَّا نزل باجِسْرى استتر المستكفي وابن شيرزاد، وسار التُّرك إلى المَوْصل، وبقي الدَّيلَم ببغداد، ثم ظهر الخليفة وعاد إلى داره، ونزل أحمد بن بُوَيه بباب الشَّمَّاسِيَّة، وبعث إليه الخليفة بالهدايا والإقامات، وأقام ابن شيرزاد على استتاره -وكان الخليفة يكرهه- فبعث معزُّ الدولة إلى الخليفة يسألُه فيه، وأن يأذن له في استكتابه، فلمَّا ألحَّ عليه أجابه. وفي يوم الخميس لأربع عشرة بقيت من جُمادى الأولى دخل أحمد بن بُوَيه من باب الشماسيَّة إلى دار الخلافة، ووقف بين يدي الخليفة طويلًا، وأُخِذَت عليه البيعةُ، واستُحلف بالأيمان المُغَلَّظة، وأُدخِلَت القهرمانةُ في اليمين، وجماعةٌ من الخواص، وكُتبت نُسَخُ الأيمان، وشهد القضاة والعدول والأشراف في النسخ. ثم خَلَع الخليفة على أحمد بن بُوَيه خِلَع السَّلْطَنة (¬3)، ولُقِّب مُعِزَّ الدولة، ولُقِّب أخوه أبو الحسن علي عمادَ الدولة، وأخوه أبو علي الحسن رُكْنَ الدولة، وضُربت ¬

_ (¬1) في (م): السنة الرابعة والثلاثون بعد الثلاث مئة. (¬2) من أول السنة إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) من قوله: فلما نزل باجسرى ... إلى هنا ليس في (م ف م 1).

ألقابُهم على الدنانير والدراهم، ونزل مُعزّ الدولة دارَ مؤنس، [ونزل] الدَّيلَم في دور الناس وأخرجوهم من منازلهم. وظهر ابن شيرزاد، واجتمع بمعزِّ الدولة، وقرَّر معه أشياء، وقَرَّر للخليفة كلَّ يوم برَسْم النَّفَقَة خمسةَ آلاف درهم، وكتب مُعزُّ الدولة إلى ناصر الدولة بأن يحمل إليه من المَوْصل ما كان يحمله إلى مَن تقدمه من المال. وأحمد بن بويه أولُ مَن ملك العراق من الدَّيلَم، [وحكى القاضي علي بن المُحَسِّن عن أبيه: أنَّ مُعِزَّ الدولة] أولُ مَن أظهر ببغداد السُّعاة والصِّراع؛ وذلك لأنَّه احتاج إلى السُّعاة ليجعلهم فُيُوْجًا بينه وبين أخيه رُكْن الدولة إلى الرَّي، فيقطعون تلك المسافةَ البعيدة في مدَّةٍ قريبة، وأعطى على ذلك الأموال، فانْهَمَك أحداثُ بغداد وصغارهم على ذلك، أسلمهم آباؤهم، ونشأ لمعزِّ الدولة ركابيان: فَضْل ومَرْعوش، كلُّ واحد يمشي في كلِّ يوم [ستة وثلاثين فَرْسَخًا من طلوع الشمس إلى غروبها، يتردَّدون] ما بين عُكبَرا وبغداد. وكان يجمع (¬1) المُصارِعين في المَيدان بحضرته، ويُقيم خَشَبة يُعلِّق عليها الثِّيابَ الدِّيباجَ والعَتَّابي (¬2) وغيرهما، وأكياس الدَّراهم، ويجمع على سُور المَيدان المخانيث بالطُّبول والزُّمور والدَّبادِب، ويأذن للعامة فيدخلون الميدان، فمَن غَلَب أعطاه الدراهم والثياب. وشرع في تعليم السِّباحة، فكان السَّابحُ يَسبح قائمًا وبيده كانونٌ فوقه حطَبٌ وعليه قِدْر، فيوقَدُ وهو يسبح حتى يَنْضَج اللحمُ، ويأكل منه إلى أن يصل إلى دار السُّلطان. وفيها ولَّى الخليفةُ القاضي أبا السائب عُتْبَة بن عُبيد الله القضاءَ في الجانب الشرقي، وأقرَّ القاضي أبا طاهر على الجانب الغربي. ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): ونشأ لمعز الدولة ركابيان أحدهما يعرف بفضل والآخر بمرعوش فكان كل واحد .... وبغداد، وأما الصراع فكان معز الدولة يجمع، والمثبت من (خ)، والخبر في المنتظم 14/ 43، وتاريخ الإسلام 7/ 633. (¬2) صنف من الثياب الغليظة المتموجة المرقشة، نسبة إلى أحد أحفاد أمية واسمه عتاب. انظر تكملة المعاجم 7/ 139 - 140.

وفيها خُلع المُستكفي وسُمِل، وسببُ ذلك: أنَّ عَلَمَ القَهْرَمانة عَملت دعوةً عظيمة حضرها خرشيد الكوهي الدَّيلَمي، وكان مُقَدَّم الدَّيلَم، وجماعة من القواد، فاتَّهمها معزُّ الدولة، وخاف أنْ تفعل كما فعلَت مع توزون، وتُحلِّف الدَّيلَمَ للمستكفي، وتَزول رئاستُه. وكان أصفهدوست الدَّيلَمي من كبارهم قد شَفَع إلى الخليفة في رجل شيعي من أهل باب الطَّاق يقال له: الشافعي، كان يُثير الفِتَن، فلم يقبل الخليفةُ شفاعتَه، فحقد على الخليفة، وقال لمعز الدولة: إنَّ الخليفةَ راسلني في أمرك، وأن ألقاه في الليل مُتنكِّرًا، فزاد ذلك مُعزّ الدولة سوءَ ظنٍّ. فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من جُمادى الآخرة -أو لثلاث بقين منه- دخل معزُّ الدولة على الخليفة وهو جالسٌ على سريره، فوقف على عادته، والناس وقوف على مَراتبهم، فتقدَّم رجلان من الدَّيلَم، وطلبا من الخليفة الرِّزقَ، فمدَّ يده إليهما ظنًّا منه أنَّهما يريدان تقبيلها، فجذباه من السَّرير، وطرحاه إلى الأرض، ووضعا عِمامتَه في عُنقه وجرَّاه. ونهض معزُّ الدولة، واضطرب الناسُ، وهجم الدَّيلَم دارَ الخليفة، ودخلوا على الحُرَم ونهبوها، وقبضوا على القَهْرَمانة وخواصِّ الخليفة، ومضى مُعزُّ الدولة إلى دار مؤنس، وساقوا المستكفي ماشيًا من قصره إلى دار مؤنس، ولم يبق في دار الخليفة شيءٌ، وخُلع المستكفي من الخلافة، وسُمِلَت عيناه يوم خَلْعه، فكانت خلافتُه سنة وأربعة أشهر ويومين، وتوفي بعد خَلْعه في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وسنُّه ستٌّ وأربعون سنة وشهران. وقال المسعودي: لمَّا وَلي المستكفي الخلافةَ اجتهد في تحصيل الفَضْل بن المُقْتَدر، فلم يقدر عليه، وكان قد استتر، فهدم دارَه، وأخرب جميع ما كان فيها، وقطع أشجار بساتينه، وكان بينهما عَداوةٌ شديدة، وكان المستكفي خائفًا منه أن يَلي الخلافة ويُسلَّم إليه ليحكم فيه بما يريد، فما نفعه حَذَرٌ، وسُلِّم إليه، فسَمَله وفعل به ما أراد (¬1). ¬

_ (¬1) مروج الذهب 8/ 379.

الباب الثالث والعشرون في خلافة المطيع لله أبو القاسم الفضل بن جعفر المقتدر

الباب الثالث والعشرون في خلافة المطيع لله أبو القاسم الفضل بن جعفر المقتدر وأمُّه مَشْعلة (¬1)، وقيل: ضرار، أمُّ ولد، أدركت خلافتَه. بويع في اليوم الذي خُلِع فيه المستكفي، وهو يوم الخميس لثمان بقين من جُمادى الآخرة، وسنُّه يومئذ ثلاثٌ وثلاثون سنة وخمسةُ أشهر وأيام؛ لأنَّ مولده لستٍّ بقين من المحرَّم سنة إحدى وثلاث مئة، وهو ابن عمِّ المستكفي لَحًّا (¬2). وأُحضر المستكفي، فسلَّم عليه بالخلافة، وأشهد على نفسه بالخَلْع، ثم سُمِل واعتُقِل في دار الخلافة، وصادر المطيعُ خواصَّه، وأخذ منه ألوفًا كثيرة، ووصل العباسيين والعلويين في يوم واحد بنيِّفٍ وثلاثين ألف دينار، واستبدَّ بالأمور ابن شيرزاد (¬3). وفيها اشتدَّ الغَلاء ببغداد في شعبان، وأكل الناس الجِيَف والرَّوْث، وماتوا على الطُّرُقات، فكانت الكلاب تأكلُ لحومهم، وبيع العقار بالرُّغْفان (¬4)، ووُجِدت امرأةٌ عَلَويَّة قد سَرَقت صبيًّا، وشَوَته في تَنُّور وهو حَيّ، وأكلت بعضَه، فقُتلت، ووجدت امرأة علوية قد شقَّت صَبيةً نصفين، وطَبخت نصفَها سِكْباجًا، والنِّصف الآخر بماء وملح، فذَبحها الدَّيلَم، وخرج الناس هاربين إلى البصرة [وواسط]، فمات أكثرهم في الطريق. وكثر القَمْلُ في الغِلال والثِّمار، فيئس الناس من غِلالهم وثمارهم، فأرسل الله تعالى طَيرًا على جِرْم العصفور أصفر، فكان يلتقط القَمْل من الزَّرع والثِّمار حتى أفناه، واشتدَّ الحصار من جانبي بغداد، فاشتُري لمعز الدولة [كُرُّ] حِنْطَةٍ بعشرة آلاف درهم، وقيل: بعشرين ألفًا. ¬

_ (¬1) كذا في (خ)، والتنبيه والإشراف 361، والنجوم الزاهرة 3/ 315، وفي تكملة الطبري 355، وتاريخ بغداد 14/ 356، والمنتظم 14/ 46، وتاريخ الإسلام 8/ 231، والسير 15/ 113: مشغلة (بغين معجمة). (¬2) يعني لاصق النسب. انظر القاموس المحيط. (¬3) من قوله: وفيها خلع المستكفي ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬4) في (م ف م 1): بالرغيفين.

وسبب الحِصار [ببغداد] أنَّ الحال تغيَّرت بين معزِّ الدولة وناصر الدولة، فجمع ناصرُ الدولة، وكان قد انضمَّ إليه جماعة من الأتراك، وجاء فنزل سُرَّ مَن رأى، وخرج إليه معزُّ الدولة ومعه المُطيع في شعبان، وابتدأت الحرب بينهم بعُكبَرا. وكان معزُّ الدولة قد تغيَّر على ابن شيرزاد، واستخانه في الأموال، فأحْفَظَه ذلك، ووقع القتال بين الفريقين، واندفع معزُّ الدولة والمطيع بين يديه (¬1). وجاء ناصر الدولة فنزل بغداد من الجانب الشرقي ومَلَكها، وجاء مُعزُّ الدولة ومعه المُطيع في الاعتقال، فنزل الجانب الغربي، وكان قد وكَّل به جماعة خوفًا لا يمضي إلى ناصر الدولة، [وكان الطعام والمِيرة كثيرة في عسكر ناصر الدولة] ومعزُّ الدولة في ضِيقٍ وشِدّة، فعزم على المَسير إلى الأهواز، فقال: رُوزوا لنا الشَّطَّ، فإن قَدَرْنا على العبور كان أهون علينا، فعبر من الدَّيلَم جماعةٌ منهم أصفهدوست والصَّيمَري، وكان حافظَ الشَّطِّ في تلك الليلة [لناصر الدولة رجلٌ تركي يقال له: ينال كوشاه، وكان قد شرب تلك الليلة] وسَكِر هو وأصحابه وناموا، فلمَّا عَبرت الدَّيالمة اضطرب عسكرُ ناصر الدولة وانهزموا، وهرب ناصر الدولة. وعبر معزُّ الدولة إلى الجانب الشرقي، وأحرق الدَّيلَم سوقَ يحيى، ووضعوا السَّيف في الناس، وسبَوا الحَريم، وخرج النساء مُشاةً إلى عُكبَرا، ومات منهنَّ خَلْق كثير من العَطَش، فروي أنَّ امرأةً حسناء كان عليها حُليٌّ وجواهر تساوي ألف دينار، فجعلت تصيح: مَن يأخذ ما معي ويَسقيني شربةَ ماء؟ فما التفت إليها أحدٌ، فوقعت ميتة، وما تعرَّض أحدٌ لما معها. وفي تلك الليالي التي أقام ناصر الدولة في الجانب الشرقي [من بغداد] عَبر رجلٌ من الشُّطَّار من عسكر مُعزِّ الدولة [إلى خيمة ناصر الدولة] (¬2)، فرآه نائمًا والشَّمْعَة عند ¬

_ (¬1) في (خ): بين يدي ناصر الدولة، ومن قوله: فجمع ناصر الدولة ... إلى هنا ليس في (م ف م 1)، والمثبت من تاريخ الإسلام 7/ 634، وانظر تكملة الطبري 356، والمنتظم 14/ 47، والكامل 8/ 453. (¬2) في النسخ: من عسكر معز الدولة إلى معز الدولة، وهو خطأ، والمثبت من تكملة الطبري 357.

أحمد بن عبد الله بن إسحاق

رأسه وقد نام الحُرَّاس والغلمان، فعرف موضع رأسه من المِخَدّة، فعاد وأطفأ الشمعة، واتَّفق أنَّ ناصر الدولة انقلب عن المخدة، فجاء الرجل فوضع السّكّين في المخدَّة ظنًّا منه أنَّها رأسُ ناصر الدولة، وخرج من تحت أطناب الخيمة، وجاء في ليلته إلى معزِّ الدولة فقال للغلمان: قد جئتُ في أمرٍ عظيم، فقالوا: الملك نائم، فقال: أيقظوه فأيقظوه، وحضر الرجل فقال: قد قتلتُ ناصر الدولة، فقال: نعتقلُك إلى الصَّباح، فإن صدقتَ أغنيناك وإن كذبتَ قتلناك، فاعتقله. فأصبح ناصر الدولة، فرأى السكين في المِخَدَّة، فشكر الله على السَّلامة، وشاع ذلك في العسكر، وبلغ الخبر معز الدولة فقال: مثلُ هذا لا يؤمَن، فغرَّقه. ولم يحجَّ من العراق أحدٌ، ووقف بأهل مكة عمر بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي. وفيها توفي أحمد بن عبد الله بن إسحاق أبو الحسن (¬1) القاضي، الخِرَقي، التاجر، كان من العدول، لم يكن له اشتغالٌ بغير التجارة، وكان يَخدمُ المُتَّقي في حياة أبيه، فلمَّا ولي الخلافة نوَّه باسمه، وخَلَع عليه سنة ثلاثين وثلاث مئة، وولَّاه قضاء بغداد من الجانبين، وواسِط، والبَصرة، والشام، ومصر، والمَغرب، والدنيا، فعجب الناس وقالوا: ما قرأ العلم، ولا جالس الأدباء والعلماء، فلمَّا جلس للحُكم ظهر من رئاسته ونَزاهته وعِفَّته وأحكامه ما حيَّر أهل الفضل، فلم يتعلَّقوا عليه بزلَّة، ولا لَحقه عيبٌ، وذلك من توفيق الله تعالى، ثم خرج إلى الشام فمات به. توزون التُّركي كان من خواصِّ أصحاب بَجْكم، وقد ذكرنا غَدْرَه بالمُتَّقي وسَمْلَه إياه، وكان يَعتريه عِلَّةُ الصَّرَع، ولم يَحُل عليه الحول بعد ما فعل ذلك. ¬

_ (¬1) في (خ): أبو إسحاق، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ بغداد 5/ 381، وتاريخ الإسلام 7/ 675، وهذه الترجمة والتي تليها ليست في (م ف م 1).

عمر بن الحسين بن عبد الله

وكان جبانًا، ظالمًا فاسقًا، فاتكًا، أخذ وقتل خلقًا كثيرًا، وأخذ الأموال، وظَلم الناس، فلا جَرَم أخذه الله أخْذَ عَزيزٍ مُقتدر، وهلك لثمانٍ بقين من المُحرَّم (¬1). [فصل: وفيها توفي] عمر بن الحُسين بن عبد الله أبو القاسم، الخِرَقي، الحَنْبليّ، مصنِّف "المختصر" على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه (¬2). ذكره الخطيب، وأثنى عليه بالفضل والدين، قال: وكان حسن العبارة بليغًا، وله المُصَنَّفاتُ الكثيرة، وتخريجات على مذهب الإمام رحمة الله عليه لم تظهر؛ لأنَّه خرج من بغداد لمَّا ظهر سبُّ الصحابة، فأودع كتُبَه في دَرْب سليمان، فاحترقت الدَّار التي كانت فيها الكتب، وقيل: لم تحترق الكتب. وكانت وفاته بدمشق، ودُفن بالباب الصغير، وقبره أول المقابر إذا خرج الإنسان من الباب الصغير (¬3). وفيها توفي محمد بن طُغْج بن جُفّ المُلقَّب بالإخشيد، أبو بكر، الفَرْغاني (¬4). ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 48، والكامل 8/ 448، وتاريخ الإسلام 7/ 632. (¬2) تاريخ بغداد 13/ 87، وطبقات الحنابلة 2/ 75، وتاريخ دمشق 12/ 702 (مخطوط)، والمنتظم 14/ 49، والكامل 8/ 465، وتاريخ الإسلام 7/ 682، والسير 15/ 363. (¬3) في (ف م م 1): فاحترقت الدار التي كانت فيها الكتب، وكانت وفاته بدمشق .... وقبره أول المقبرة .... من الباب الصغير، وقيل إن الدار التي كانت فيها الكتب احترقت ولم تحترق الكتب وإنما خرج من بغداد لما كثرت الفتن بها فتوجه إلى دمشق. والمثبت من (خ). (¬4) تكملة الطبري 358، وتاريخ دمشق 62/ 346، والمنتظم 14/ 50، وتاريخ الإسلام 7/ 635 و 683، والسير 15/ 365.

لقَّبه الرَّاضي بالإخشيد (¬1) لأنه ابن ملك فَرْغانة، وكلُّ مَن مَلَك فَرْغانة يقال له: الإخشيد، أي: ملك الملوك، كما أنَّ الأصبهبذ ملك [أذربيجان، وسالار ملك] طَبَرِسْتان (¬2)، وصول ملك جُرْجان، وخاقان ملك التُّرْك، والأفشين ملك أُشْرُوْسَنَة، وسامان ملك سَمَرْقَنْد ونواحيها، ونحو ذلك. ولد محمد ببغداد، وكان شُجاعًا، مَهيبًا، شديدَ اليَقَظَة (¬3) في حروبه. [وذكره ابن عساكر فقال: ] ولِيَ دمشق سنة ثمان عشرة وثلاث مئة [في أيام المقتدر]، ووَلي مصر من قبل القاهر سنة أحدى وعشرين [وثلاث مئة] في رمضان، وكانت ولايتُه بدمشق اثنين وثلاثين يومًا، ولم يدخلها، ثم ولَّاه الراضي إياها سنة ثلاث وعشرين [وثلاث مئة]، فاستقرَّ له الشام ومصر. [واجتمع بالمتقي في الرقَّة، وأعطى سيفَ الدولة ابن حَمْدان حلبَ، وقد ذكرنا جميع ذلك.] وكانت وفاته بدمشق في ذي الحجة بحُمَّى حادَّة وله ستون سنة، وحُمل في تابوت إلى القدس (¬4). [وقال جدِّي في "المنتظم" (¬5): ] كان جيشه قد احتوى على أربع مئة ألف رجل، وكان له ثمانيةُ آلاف مَمْلوكٍ يحرُسونه بالنَّوبة، كلَّ يوم ألفُ مملوك، ويُوكِل الخَدَم بجوانب خيمته، ثم لا يَثِقُ بأحدٍ حتى يمضي إلى خِيَم الفرَّاشين فينام فيها. فقام بعده ولده أنوجور، وكنيتُه أبو القاسم، وكان قد عهد إليه أبوه وهو بمصر، ثم غَلَبَ كافور على الأمر، [وسنذكره في موضعه مرتبًا إن شاء الله تعالى]. ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): وذكره ابن عساكر وقال: هو الإخشيد وقال: لقبه به الراضي، والمثبت من (خ)، والكلام في المنتظم لا تاريخ دمشق. (¬2) ما بين معكوفين من المنتظم 14/ 50. (¬3) في (ف م 1): التيقظ. (¬4) تاريخ دمشق 62/ 347. (¬5) 14/ 50.

محمد بن عبيد الله

محمد بن عُبيد الله صاحب المَغْرب، ويُلقَّب بالقائم بأمر الله (¬1). ولد بسَلَمْيَة سنة ثمان وسبعين ومئتين، وأمُّه أمُّ ولد، ودخل مع أبيه إلى المغرب، وبُويع له يوم مات أبوه عُبيد الله في السنة الثانية والعشرين وثلاث مئة. [وقد خرج عليه في سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مئة أبو يزيد مَخْلَد بن كَيداد، ] وكانت بينهما وقائع مشهورةٌ، وحَصَره بالمَهْديَّة وضَيَّق عليه، واستولى على بلاده، فعرض للقائم وهو محصورٌ وَسواسٌ، فاختلَط عقلُه لما رأى من الذُلِّ والهَوان، فمات في تلك الحال. وقال القاضي عبد الجبَّار (¬2): كان شرًّا من أبيه بأضعافٍ مُضاعفة، أظهرَ سبَّ الأنبياء صلوات الله عليهم، وكان مُناديه يُنادي: العنوا الغار وما حوى، وسبَّ عائشة رضوان الله عليها وبعلَها صلوات الله وسلامه عليه، وقتل خَلْقًا كثيرًا من العلماء، وكان يُراسل أبا طاهر القِرْمِطي بالبحرين، ويأمرُه بإحراق المساجد والمصاحف، وأبوه وهو جرَّأا أبا طاهر على ما فعل بالحاج بمكة. ولمَّا كثُر فِسقُه وفُجوره اجتمع أهل الجبال على رجلٍ من الإباضِيَّة يقال له: أبو يزيد مَخْلَد بن كَيْداد، وكان شيخًا ضعيفًا لا يقدرُ على ركوب الخيل، فركب حمارًا، وكان وزيرُه أعمى، فسار إلى المَهْدية فحَصَر محمدًا بها حتى مات كما ذكرنا، وخلَّف من الولد سبعةَ ذكور وأربع بنات، وأقام بعده ولده إسماعيل المنصور. والإباضية فرقةٌ من الخوارج، وهم أصحاب عبد الله بن يحيى بن إباض، خرج في أيام مروان بن محمد، وانتشر مذهبُه بالمغرب والجبال، ومذهبه أنَّ أفعال العباد مَخْلوقةٌ لهم، ويُكفِّر بالكبائر، وليس في القرآن خصوص، ومَن خالفه من أهل القبلة كفارٌ، وغنيمةُ أموالهم حلالٌ، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) الكامل 8/ 455، وتاريخ الإسلام 7/ 635 و 685، والسير 15/ 152، والمقفى للمقريزي 6/ 169. وهذه الترجمة ليست في (م ف م 1). (¬2) في تثبيت دلائل النبوة 601.

أبو بكر الشبلي

وفيها توفي أبو بكر الشِّبْلي (¬1) واختلفوا في اسمه ونسبه على أقوال؛ أحدها: جَحْدر بن دُلَف، والثاني: دُلَف بن جَحْدر، والثالث جعفر بن يونس، حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الرَّحمن السُّلَمي، قال: وعلى قبره ببغداد مكتوب: جعفر بن يونس. والرابع: دُلَف بن جبغويه (¬2)، والخامس: دُلَف بن جعفر (¬3). وأصله من أُشْرُوْسَنَة، من قرية يقال لها: شِبْليَّة. وكان خالُه أميرَ الأمراء بالإسكندرية. ولد الشِّبلي بسُرَّ مَن رأى، وكان صاحبَ الموفَّق أبي أحمد، فجعل طُعمته دُماوَنْد، وكان أبوه حاجبَ الحجَّاب للموفق. [وذكره الخطيب وابن خَميس والسُّلمي وأثنَوا عليه، وذكره الحافظ ابن عساكر وقال: ] كان فقيهًا على مذهب مالك بن أنس، وكتب الحديث الكثير، ثم صَدَف عن ذلك، ولزم العبادة حتى صار رأسًا في المُتَعَبِّدين، ورئيسًا في المجتهدين. [ذكر طَرَفٍ من أخباره: ] قال السُّلَمي (¬4): ولَّاه الموفَّق دُماوَنْد، فحضر يومًا مجلس خَير النَّسَّاج، فوقع كلامُه في قلبه فتاب، ومضى إلى دماوند فقال لأهلها: إنَّ الموفَّق ولَّاني بلدكم، وقد تُبت من الولاية، فاجعلوني في حِلٍّ، فبكوا وجعلوه في حِلٍّ. ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 337، حلية الأولياء 10/ 366، تاريخ بغداد 16/ 563، الرسالة القشيرية 107، المنتظم 14/ 50، مناقب الأبرار 2/ 28، تاريخ الإسلام 7/ 687، السير 15/ 367، مختصر تاريخ دمشق 28/ 167. (¬2) في (خ م): جعونة. (¬3) في (خ): أبو بكر الشبلي رحمه الله الزاهد، واسمه جحدر بن دلف وقيل: دلف بن جحدر، وقيل: جعفر بن يونس، وقيل: دلف بن جعونة. (¬4) في (م ف م 1): حكى السُّلمي قال، والمثبت من (خ).

وخرج عن الدنيا، وصحب الفقراء، وصار أوحدَ زمانه حالًا ومَقالًا، فكان الجُنَيد يقول: [لا] تنظروا إلى الشِّبلي بالعين التي ينظرُ بها بعضُكم إلى بعض، فإنَّه عين من عيون الله. ولكلِّ قومٍ تاجٌ، وتاج [هؤلاء] القوم الشِّبلي. وقال القُشَيري (¬1): كان الشِّعبلي نسيجَ وَحْده حالًا وظَرْفًا وعلمًا، ومُجاهداتُه فوق الحدِّ. وقال [: سمعت الأستاذ أبا علي] الدَّقَّاق [يقول]: بلغني أنَّه اكتحل بالمِلح ليَعتادَ السَّهَر. وكان إذا دخل رمضان جَدَّ في الطَّاعات ويقول: هذا شهرٌ عظيمٌ، يجب على الناس تعظيمُه. وقال الشِّبلي: خَلَّف أبي ستين ألف دينار سوى الضِّياع والعَقار، فأنفقتُها كلَّها، وقعدتُ مع الفقراء، حتى لا أرجع إلى مادّي، ولا أستَظْهِر بمعلوم. وكتبتُ الحديث عشرين سنةً، وحفظتُ الموطَّأ، فلمَّا دخلتُ في الطريق غرَّقتُ الكلَّ في دجلة، وكانت كتبُه سبعين قِمَطْرًا فألقاها في الماء. [وحكى عنه في "المناقب" أنه] رأى الحقَّ تعالى في منامه وهو مقبلٌ عليه، وقال له: مَن نام غَفَل، ومَن غَفَل حُجِب، فكان لا ينام. وقال: اكتحلتُ بمِيلٍ مُحَمًّى لئلَّا أنام، ثم تمنَّيتُ النوم بعد ذلك، وأنشد: [من الوافر] رأيتُ سرورَ قلبي في مَنامي ... فأحببتُ التَّنَعُّسَ والمَناما (¬2) ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): وقال أبو بكر القشيري، وهو خطأ، فإن كنيته أبو القاسم، انظر الرسالة 108، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 170. (¬2) في (م ف م 1): فكان لا ينام إلا قليل، وحكى أنه كان بعد ذلك يتكلف النوم ويقول: رأيت سرور ... وكان يقول: اكتحلت بميل محمى لئلا أنام ثم تمنيت النوم بعد ذلك، والمثبت من (خ). وهذا الخبر الذي نقله عن مناقب الأبرار هو فيه 2/ 39، وفي الرسالة القشيرية 560 ولفظه: وقال الشبلي: اطلع الحق تعالى علي فقال: من نام غفل، ومن غفل حجب، فكان الشبلي يكتحل بالملح بعد ذلك حتى لا وأنشد في المعنى: =

ودخل أبو بكر بن مجاهد عليه (¬1) فسأله الشبلي عن حاله فقال: أختمُ كلَّ يومٍ خَتمتَين، فقال له الشِّبلي: أيُّها الشيخ، قد ختمتُ في تلك الزاوية ثلاثة عشر ألف خَتْمة، إن كان فيها شيءٌ قد قُبل فهو لك، وإنِّي لفي خَتْمَةٍ منذ ثلاث وأربعين سنةً ما انتهيتُ إلى رُبعها. وأعرف رجلًا (¬2) ما دخل في هذا الشأن حتى أنفق جميع ما يَملكه، وغَرَّق في دِجلة سبعين قِمَطْرًا بخطِّة، وجالس الفقهاء عشرين سنةً، يعني نفسَه. [وحكى عنه في "المناقب" أنه] قال: اعتقدتُ أن لا آكلَ إلا من الحلال، فخرجتُ أدور في البَرِّيَّة، فإذا شجرةُ رُمَّان، فمددتُ يدي لآخذَ منها رُمَّانةً، فنادتني الشجرةُ: احفظ عَقدك فإنِّي ليهودي. وقال: رأيتُ رجلًا في السَّاحل عليه عَباءةٌ قد خَلَّها في عُنقه بخلال، فقلت: ما اسمُك؟ فقال: أبو مُدافِع الأوقات. قال: وكنتُ جالسًا في الزَّاوية، فخطر في خاطري أنِّي بخيل، فقلتُ: مهما فُتِح عليَّ اليوم دفعتُه لأول فقير يلقاني، فبينا أنا في هذا الخاطر إذ دخل عليَّ رجلٌ من أصحاب مؤنس الخادم ومعه خمسون دينارًا، فقال: استَنْفق هذه في مَصالحك، فأخذتُها وخرجتُ، وإذا بفقير مَكفوفٍ في عَباءة بين يدي مُزَيِّن يحلق رأسَه، فناولتُه الصُّرَّة فقال: ناولْها للمُزَيِّن، فقلتُ: إنَّها دنانير، فقال: أوليس قد قيل لك إنك بخيل؟ فناولتُها للمزين، فقال [المزيِّن]: أنا إذا قعَد بين يديَّ فقيرٌ لا آخذُ منه أُجرةً، فأخذتُ الصُّرَّةَ، ورميتُ بها في دجلة وقلت: ما أَعزَّك أحدٌ إلا أذلَّه الله تعالى (¬3). ¬

_ = عجبًا للمحب كيف ينام ... كل نوم على المحب حرام وأما الذي ساقه المصنف من أن الشبلي قال: ثم تمنيت النوم بعد ذلك وأنشد: رأيت سرور ... فإنما هو لشاه ابن شجاع الكرماني كما في الرسالة القشيرية 560، ومناقب الأبرار 1/ 399، ولفظه: تعوّد شاه الكرماني السهر، فغلبه النوم مرة، فرأى الحق سبحانه في النوم، فكان يتكلف النوم بعد ذلك، فقيل له في ذلك فقال: رأيت سرور قلبي ... (¬1) في (م ف م 1): وقال الخطيب دخل أبو بكر بن مجاهد على الشلبي، والمثبت من (خ)، والخبر في تاريخ بغداد 16/ 568. (¬2) في (م): وإني لأعرف. (¬3) الأخبار الثلاثة في مناقب الأبرار 2/ 39، 42، 44.

[وقال الخطيب: ] كان للشبلي في كلِّ جُمعةٍ [في الجامع] نظرةٌ وبعدها صَيحة، فصاح يومًا فتشوَّش مَن حوله، وكانت حَلْقتُه إلى جانب أبي عمران الأَشْيب، فقال الشّبلي: ما للناس؟ فقيل له: قد تَشوَّشوا من صَيحتك وحَرِد أبو عمران، فقام الشبلي وجاء إلى حَلْقة أبي عمران، فقام إليه وأجلسه إلى جانبه، فأراد بعضُ أصحاب أبي عمران أنْ يُسكِتَ الشبلي [ويبين للناس أنه جاهل]، فقال له: يا أبا بكر إذا اشتبه على المرأة دمُ الحيض بدم الاستحاضة كيف تصنع؟ فأجاب [الشبلي] بثمانية عشر جوابًا، فقام أبو عمران فقبَّل رأسَه وقال: يا أبا بكر أعرفُ اثني عشر جوابًا، وستةً ما سمعتُها قطُّ (¬1). وقال الشبلي (¬2): مررتُ بالشام براهبٍ، فقلتُ: لمن تعبد؟ فقال: لعيسى، قلت: ولم؟ قال: لأنَّه أقام أربعين يومًا لم يأكل ولم يشرب [ولم ينم]، فقلت: استوفها مني (¬3)، وأقمتُ تحت صومعته أربعين يومًا لم آكل ولم أشرب ولم أنم، فنزل وأسلم. وقال: [قال الشبلي: ] خرجتُ إلى الشام في قافلة، فخرج علينا قُطَّاع الطريق، فأخذوا المال، وقعدوا يأكلون السكر باللوز، ورئيسُهم جالس لا يأكل، فقلتُ له: لم لا تأكل؟ فقال: إنِّي صائمٌ، فقلتُ: تقطعُ الطريق، وتُخِيف السبيل، وتَسفِكُ الدَّم الحرام، وتأخذ المال، وتقول: إنِّي صائم؟ فقال: نعم، أجعلُ للصُّلح مَوضعًا. ومضى زمانٌ، فحججتُ [سنةً]، فبينا أنا في الطَّواف إذا به يطوف مُحْرِمًا مُلَبيًا، فتأملتُه وقلتُ: أنت صاحبي في يوم كذا وكذا [وفي مكان كذا وكذا]؟ ، قال: نعم، قلتُ: ما الذي أوصلك إلى ها هنا؟ قال: ذاك الصَّوم الذي رأيت (¬4). وحكى الحافظ ابن عساكر عن محمد بن عمر قال (¬5): كنتُ عند أبي بكر بن مُجاهد المقرئ، فجاء الشِّبلي، فقام إليه واعتنقه وقبَّل ما بين عينيه فقلت له: تفعل هذا وأنت وجميعُ أهل البلد يقولون: إنَّه مجنون، وأنت لا تقوم لعلي بن عيسى الوزير وتقوم ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 16/ 568. (¬2) في (م ف م 1): وحكى السلمي عن الشبلي أنه قال، والمثبت من (خ) والخبر في مختصر تاريخ دمشق 28/ 168. (¬3) في مختصر تاريخ دمشق: فقلت له: ومن يعمل ذلك يستحق العبادة له؟ قال نعم، فقلت: فاستوفها مني. (¬4) مختصر تاريخ دمشق 28/ 169. (¬5) في (خ): وقال محمد بن عمر، والمثبت من (ف م م 1)، والخبر في مختصر تاريخ دمشق 28/ 172، وبرواية أخرى في تاريخ بغداد 16/ 570.

لهذا؟ ! فقال: أفعلُ كما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يفعل، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] في المنام وقد أقبل الشبلي، فقام إليه واعتنقه، وقبَّل ما بين عينيه، ثم التفتَ إليَّ وقال: يا أبا بكر، هذا رجلٌ من أهل الجنة فأكرِمْه، فقلتُ: يا رسول الله، بم استحقَّ الشبلي منك هذا؟ فقال: منذ ثمانين سنةً يقرأ عقيب صلاته: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ} الآية [التوبة: 128]. وقال الشبلي (¬1): رأيتُ مَعتوهًا يوم جُمعةٍ عند جامع الرُّصافة قائمًا عُريانًا وهو يقول: أنا مجنون، فقلتُ له: لِمَ لا تدخل الجامع وتتوارى وتُصلِّي؟ فقال: [من الطويل] يقولون زُرْنا واقْضِ واجبَ حَقِّنا ... وقد أسقَطتْ حالي حقوقَهمُ عنِّي إذا ما رأوا حالي ولم يأنَفوا لها ... ولم يأْنَفوا منها أنِفْتُ لهم منِّي وحكى الخطيب عن عيسى بن علي بن عيسى الوزير قال (¬2): كان ابن مجاهد يومًا عند أبي إذ دخل الشبلي، فقال ابن مجاهد لأبي: الساعةَ أُسكتُه، وكان من عادة الشبلي إذا لبس شيئًا خرَّق فيه موضعًا، فقال له ابن مجاهد: يا أبا بكر، أين في العلم إفسادُ ما يُنتَفَع به؟ فقال: يا أبا بكر، فأين في العلم {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33]؟ فسكت ابن مجاهد، فقال له أبي: أردتَ أن تُسكتَه فأسكتك، ثم قال له الشبلي: قد أجمع الناس على أنَّك مُقرئ الوقت، فأين في القرآن أنَّ المحبَّ لا يُعذِّب حبيبه؟ فقال: ما أدري، فقال: في قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] لمَّا ادَّعت اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه ردَّ عليهم، وهذا دليلٌ على أنَّه لا يعذِّب أحباءه، فقال ابن مجاهد: ما كأنِّي سمعتُها قط. [وحكى الخطيب: أنَّ الشبلي مرَّ بطنجير الحَلاوي وهو يفور، فأدخل يده فيه، وأخرج منه ما ملأ رُقاقتَين، في حكاية طويلة (¬3). ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): وحكى ابن سمعون قال: سمعت الشبلي يقول، والمثبت من (خ)، والخبر في المنتظم 14/ 33. (¬2) في (خ): وقال عيسى بن علي بن عيسى الوزير، والمثبت من (ف م م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 16/ 567. (¬3) تاريخ بغداد 16/ 570.

وحكى الحافظ ابن عساكر عن أبي الحسين بن سَمْعون قال: ] اعتلَّ الشبلي (¬1)، فبعث إليه المقتدر أو علي بن عيسى الوزير طبيبًا نصرانيًّا، فتردَّد إليه أيامًا، فقال له الطبيب: والله لو علمتُ أنَّ شفاءك في قَرْض لحمي لقرضتُه، فقال: شفائي في قَطْع زُنَّارك، فقطع زنَّاره وأسلم، [فبرئ الشبلي] وقام يمشي، فبلغ المقتدر فقال: أَنفَذْنا طبيبًا إلى مريضٍ، وما علمنا أنَّنا أنفذنا مريضًا إلى طبيب. نبذة من كلامه (¬2): [قال الخطيب: حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الفوارس، حدثنا الحسين بن أحمد الصفَّار قال: ] سئل الشبلي [وأنا حاضر] أيُّ شيءٍ أعجبُ؟ فقال: قلبٌ عرف ربَّه ثم عصا (¬3). [وحكى أبو نعيم عن الشبلي أنه] قال: ليس للأعمى من الجوهر إلا مسُّه، وليس للجاهل من الله إلا ذكرُه باللسان. [وحكى عنه ابن باكويه أنه] قال (¬4): يا مَن باع كلَّ شيء بلا شيء، واشترى لا شيء بكلِّ شيء. وقال: ليس مَن استأنس بالذِّكر كمَن استأنس بالمذكور. وقال: أفلا سَخاءٌ بحنين، أفلا رنَّةٌ بأنين من قلب حَزين، أفلا شاربٌ بكأس العارفين، أفلا مُستيقظٌ من سِنة الغافلين، يا مسكين ستَقدَمُ فتعلم، وينكشف الغطاء فتندم. وقال: أمهلك فتناسَيت، وأسقطك من عينه فما باليت، وللحقوق ما أدَّيت، وكم أراك عبرةً وتعامَيت. وكان يقول: ليتَ شعري ما اسمي عندك يا علَّامَ الغيوب؟ وما أنت صانعٌ في ذنوبي يا غفار الذنوب؟ وبم تَختِمُ عملي يا مقلِّبَ القلوب. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، وبدله في (خ): وقال أبو الحسين بن سمعون، والخبر مختصر تاريخ دمشق 28/ 175 - 176. (¬2) في (م ف م 1): ذكر المختار من كلامه. (¬3) تاريخ بغداد 16/ 565. (¬4) ما بين معكوفات من (ف م م 1).

وقال: إذا وجدتَ قلبك مع الله فاحذَرْ من نفسك، وإذا وجدتَ قلبك مع نفسك فاحذر من الله. [وقال ابن باكويه: كان الشبلي يقول: أحبَّكَ الناس لنعمائك، وأنا أُحبُّك لبلائك.] وقال الخطيب: حدثنا علي بن محمود الزُّوزني قال: سمعتُ عليَّ بن المُثَنَّى التَّميمي يقول: دخلتُ (¬1) على الشبلي في دارِه يومًا وهو يهيج ينشد: [من الهزج] على بُعْدِكَ لا يصبـ ... ـــــــــــــرُ مَن عادَتُه القُرْبُ ولا يَقْوى على حَجْبِـ ... ــــــــكَ مَن تيَّمَه الحبُّ فمَهْلًا أيُّها السَّاقي ... فقد أسكرني الشُّربُ فإن لم تَرَك العينُ ... فقد يُبصرُكَ (¬2) القلبُ وقال الشبلي (¬3): إذا أردتَ أن تنظرَ إلى الدُّنيا بحَذافيرها فانظر إلى مَزْبَلَة، وإذا أردتَ أن تنظر إلى نفسك فخُذْ كفًّا من تُراب وقل: أنا هذا، [وفي رواية: ] إذا أردتَ أن تنظُرَ إلى مَن أنت فانظر إلى ما يخرج منك. [وحكى ابن خميس عن الشبلي في "المناقب" قال: ] قيل له: إنَّ أبا تراب النَّخْشَبي جاع يومًا في البادية، فرأى البريَّةَ كلَّها طعامًا بين يديه، فقال الشبلي: عبد رُفِقَ به، ولو بلغ إلى مَحَلِّ التحقيق لكان كما قال صلى الله عليه وسلم: "أظلُّ عند ربي فيُطْعمُني ويَسقيني" (¬4). وقال: تلطَّفت الأرواحُ فتعلَّقت بلَذَعات الحقائق، فلم تَرَ غيرَ الحقِّ معبودًا يستحقُّ العبادة، وتيقَّنت أنَّ المُحدَث لا يُدرك القديمَ بصفاتٍ مَعلولة. وقال عبد الله بن محمد الدِّمشقي: كنت واقفًا على حَلْقة الشبلي وهو يبكى ولا يتكلَّم، فناداه بعضُ الحاضرين: ما هذا البكاء كلُّه؟ فأنشد الشبلي: [من الوافر] ¬

_ (¬1) في (خ): وقال علي بن المثنى التميمي دخلت، والمثبت من (ف م م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 16/ 567. (¬2) في (ف م م 1): أبصرك. (¬3) في (م ف م 1): وحكى الخطيب عنه أنه قال، والمثبت من (خ)، والخبر في مختصر تاريخ دمشق 28/ 186. (¬4) مناقب الأبرار 2/ 29، وأخرج الحديث البخاري (1961 - 1965)، ومسلم (1102 - 1105) عن أنس وابن عمر وأبي سعيد وعائشة وأبي هريرة - رضي الله عنهم -.

إذا عاتَبْتُه أو عاتَبوه ... شَكا فِعْلي وعَدَّد سيِّئاتي أيا مَن دهرُه غضَبٌ وسُخْطٌ ... أما أحسنتُ يومًا في حياتي [وقال في "المناقب": ] وسئل عن الزُّهد فقال: تحويلُ القلب من الأشياء إلى ربِّ الأشياء. وقال: مَن عَرف الله خَضَع له كلُّ شيء؛ لأنَّه عاين آثار صُنعه فيه. وقال: ليس يَخْطُر الكونُ وما فيه ببال مَن عَرَف المُكَوِّن. وقال له رجل: ادعُ لي، فقال: [من الطويل] مضى زمنٌ والناس يَسْتَشفعون بي (¬1) وقيل له: نراك جَسيمًا والمَحبَّة تقتضي الضَّنى؟ ! فقال: [من المنسرح] أحَبَّ قلبي وما دَرى بَدَني ... ولو دَرى ما أقام في السِّمَنِ وكان يقول: أعمى الله بَصَرًا لا يراني، ولا يرى آثارَ القُدرة فيَّ، فأنا أحدُ آثار القُدرة، وأحدُ شواهد العَظَمة والعِزَّة، لقد ذَلَلْتُ حتى عزَّ فيَّ كلُّ ذليل، وعَزَزْتُ حتى ذَلَّ (¬2) فيَّ كلُّ عَزيز (¬3). وقال له الجُنَيد يومًا: يا أبا بكر، لو رَدَدْتَ أمرَك إلى الله لاسترحتَ، [فقال له: يا أبا القاسم، لو ردَّ الله إليك حالك لاسترحتَ] فقال الجنيد: سيوفُ الشبلي تَقْطُرُ الدَّم. وقال الشِّبلي: ليس مَنِ احتَجَب بالخَلْق عن الحقِّ كمَن احتجَبَ بالحقِّ عن الخلق، وليس مَن جذَبَتْه أنوارُ قُدْسِه إلى أُنسه كمَن جَذبتْه أنوارُ رَحمته إلى مَغفرته. وكان كلَّ ساعةٍ يُنشد (¬4): [من المتقارب] ولي فيك يا حَسرتي حَسْرةٌ ... تَقَضَّى حياتي وما تَنقضي ¬

_ (¬1) تمامه: فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع، والأقوال في مناقب الأبرار 2/ 29 - 30. (¬2) في (ف م 1): حتى عرفني، وفي (م): عزَّ في، والمثبت من (خ)، وانظر مناقب الأبرار 2/ 30. (¬3) في (م ف م 1): كل شيء عزيز. (¬4) في (م ف م 1): وكان الشبلي كثيرًا مما ينشد، والمثبت من (خ)، وانظر مناقب الأبرار 2/ 31.

ووقف عليه رجلٌ وقال: يا جَواد، فتأوَّه الشبلي وقال: نعم، يا جواد يعلو على كلِّ جواد، وبه جاد مَن جاد، كيف أصِفُه بالجود ومَخلوقٌ يقال في حقِّه مثلُه: [من الطويل] تعوَّدَ بَسْطَ الكفِّ حتى لوانَّه ... ثَناها لقَبْضٍ لم تُطِعْهُ أناملُهْ (¬1) وأخَّر يومًا صلاةَ العصر إلى غروب الشمس، فقيل له: كادت الشمسُ أن تَغْرُب فأنشد: [من الوافر] نَسيتُ اليومَ من عشقي صَلاتي ... فما أدري عشائي من غدائي وذِكْرُك سيدي أكلي وشُرْبي ... ووجهُك إنْ رأيتُ شفاءُ دائي وقال: كيف يصِحُّ لك التوحيد وكلَّما مَلَكتَ شيئًا مَلَكَك، وكلَّما أبصرتَ شيئًا أسرك؟ وقيل له: إلى ماذا تستريحُ قلوبُ المُشتاقين؟ فقال: إلى مُشاهدة من اشتاقوا إليه. وقال: ما أحْوجَ الناس إلى سَكْرة تُفنيهم عن مُلاحظة (¬2) نفوسهم وأحوالهم، ثم أنشد: [من الطويل] وتَحسبُني حيًّا وإنِّي لَميِّت ... وبعضي من الهِجْران يَبكي على بعضِ فحتَّى متى روح الحَيا لا تَنالُني ... وحتَّى متى أيَّامُ سُخْطِك لا تَمْضي وتشَوَّش مِزاجُه فأُدخل دار المَرضى ليُعالج، فدخل عليه علي بن عيسى الوزير عائدًا، فقال له الشبلي: ما فعل ربُّك؟ فقال: في السَّماء يَقْضي ويُمضي، فقال: ما سألتُك عن الربِّ الذي لا تعبدُه، وإنَّما سالتُك عن الربِّ الذي تعبده، يُريد المُقتدر. ودخل عليه أصحابه فقال: مَن أنتم؟ فقالوا: أحبابك، فأخذ يَرميهم بالحصا فهربوا فقال: لو كنتُم أحبابي لصبرتم على عَذابي [، وفي رواية: لو كنتم أحبابي لرضيتم ببلائي]. ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 346، وحلية الأولياء 10/ 373، ومناقب الأبرار 2/ 31، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 177، والبيت لأبي تمام، انظر ديوانه 3/ 29 (بشرح التبريزي). (¬2) في (م ف م 1): مشاهدة.

وقال خير النَّسَّاج: كنَّا في المسجد، فجاء الشبلي وهو في سُكْره، فنظر إلينا ولم يُكلِّمنا، ثم هجم على الجُنَيد في بيته وهو جالس مع زوجته وهي مكشوفة الرأس، فهمَّت أن تُغطِّيَ رأسَها، فقال لها الجنيد: لا عليك أن تُغَطِّيه فإنَّ الشبلي ليس ها هنا، فصفَّق بيديه على رأس الجنيد وقال: [من الخفيف] عَوَّدوني الوصال والوَصْلُ عَذبٌ ... ورَمَوني بالصَّدِّ والصَّدُّ صَعْبُ زعموا حين أَعْتَبوا أنَّ جُرْمي ... فَرْطُ حبِّي لهم وما ذاك ذَنْبُ لا وحُسْن (¬1) الخضوع عند التَّلاقي ... ما جَزا مَن يُحِبُّ ألا يُحَبُّ فقال الجنيد: هو ذاك يا أَبا بكر، ثم بكى الشبلي بكاءً شديدًا، فقال الجنيد لزوجته: غَطِّي رأسك فقد أفاق. وسئل عن قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فقال: ادعوني بلا غَفْلَة، أَستجِبْ لكم بلا مُهْلَة. وقال: ليس القبورُ قبورَ الأموات بل القبورُ أنتم؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منكم مقبورٌ في قَبْر شَهَواته، مَدْفونٌ في لَحْد إرادته وأنشد: [من الطويل] قبورُ الوَرى تحت التُّراب وللهوى ... رجالٌ لهم تحت الثِّياب قبورُ وعندي دموعٌ لو بَكَيتُ ببعضها ... لفاضَتْ بحورٌ دونَهنَّ بحورُ وسئل: لِمَ تَصْفَرُّ الشمس عند الغروب؟ فقال: لأنَّها عُزِلَت عن مَقام التَّمام، فاصفرَّت لخَوْف المَقام، وكذا المؤمن إذا قارَبَت روحُه الخروجَ يَصفرُّ، فإذا بُعث خرج من قبره ووجهُه يُشرِقُ كما تُشرق الشمس إذا طَلَعت. وقال له رجلٌ: أشكو إلى الله وإليك كثرةَ العيال، فقال: اذهب إلى بيتك وانظر مَن كان رزقُه عليك فأخرجه. وقال أليس الحقُّ سبحانه يقول: "أنا جَليسُ مَن ذَكَرني" (¬2)؟ فما الذي استفدتُم من مُجالسته؟ ¬

_ (¬1) في (خ ف): لا وحق، والمثبت من (م م 1)، وهو موافق لما في حلية الأولياء 10/ 367، ومناقب الأبرار 2/ 35، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 183. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1231) و (35428) عن كعب الأحبار قال: قال موسى: أي رب، أقريب أنت فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ قال: يا موسى أنا جليس من ذكرني. =

وقال: الغَيرةُ غيرتان، غَيرةُ البشرية على النفوس، وغَيرة الإلهية على القلوب. ودخل مسجدًا ليصلِّي، فقرأ الإمام: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيكَ} [الإسراء: 86] فزَعَق الشبلي زَعْقةً كادت روحه أن تطير من بدنه، وقال: أبمثل هذا تُخاطب الأحباب. وسمع مناديًا ينادي [على الخيار]: الخيار عشرةٌ بدانِق، فصاح وقال: إذا كان الخيار [كذا] فكيف الأشرار؟ . وقال: المحبُّ إذا سكت هلك، والعارف إذا سكت مَلَك. وكان يقول لأصحابه: إنْ خطَرَ ببالكم من اليوم الذي أتكلَّم عليكم فيه إلى اليوم الآتي مثلُه غَير الله فحرامٌ عليكم سماعُ كلامي. وكان أبو الحسن بن بشار ينهى الناسَ عن مجلس الشبلي، فالتقاه يومًا فقال له: يا أبا بكر، كم في خمسٍ من الابل؟ فقال: عندكم أو عندنا؟ فقال: وكيف؟ فقال: أمَّا عندكم فشاةٌ، وأما عندنا فالكُلُّ، قال: ومن أين أخذتَ هذا؟ قال: من أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، خرج عن ماله كلِّه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أبقيتَ لعيالك؟ فقال: اللهَ ورسولَه. فكان ابن بشار بعد ذلك يَحْضُر مجلسه. وسئل عن قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] فقال: أبصارُ الرؤوس عمّا حرَّم الله، وأبصارُ القلوب عمّا سوى الله. وسمع قارئًا يقرأ (¬1): {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] فقال: يا سيدي، املأها من الشبلي واعفُ عن عَبيدك. وخرج يومًا وعليه ثيابٌ مُخَرَّقة، فقيل له: ما هذا (¬2)؟ فأنشد: [من الطويل] ويومًا ترانا في الثَّريد نَبُسُّه ... ويومًا ترانا نأكلُ الخُبْزَ يابِسا ¬

_ = وأخرجه الدينوري في المجالسة (2362) عن عبيدة قال: لما كلم الله موسى ... وفي صحيح البخاري (7405)، ومسلم (2675) ما يغني عنه، فقد أخرجا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ... " الحديث. (¬1) في (خ): قائلًا يقول، والمثبت من (م ف م 1). (¬2) في (م): ما هذا الذي أنت فاعله؟

ويومًا ترانا في الخُزوز نَجُرُّها ... ويومًا ترانا في الحديد عَوابِسا (¬1) وحضر ليلةً سماعًا فتحرَّك، ففيل له: ما بال هؤلاء [لا] يتحرَّكون؟ فأنشد: [من الكامل] لو يَسمعون كما سمعتُ كلامَها (¬2) وقال: المَعارف تبدو فتُطْمِع، ثم تخفى فتؤنس الطَّامع، وتُطمع الآيس، وأنشد يقول. [من الطويل] أظلَّتْ علينا منك يومًا سحابةٌ ... أضاءتْ لنا بَرْقًا وأَبطا رَشاشُها فلا غيمُها يَجلو فييأسَ طامعٌ ... ولا غَيثُها يأتي فيُروى عِطاشُها (¬3) وكان إذا دخل عليه خادم يقول: هل عندك خَبَر، هل عندك أَثَر؟ ثم ينشد: [من الطويل] أُسائلُكمْ عنها فهل من مُخَبِّرٍ ... بأنَّ له علمًا بها أين تنزلُ ثم يقول: لا وعِزَّتك ما في الدارَين عنك مُخَبِّرٌ. وكان ينشد: [من الطويل] أُسائلُكمْ عنها فهل من مُخَبِّرٍ ... فما لي بنُعْمٍ بعد مُكْثَتنا علمُ فلو كنتُ أدري أين خَيَّم أهلُها ... وأيَّ بلاد الله إذْ ظَعَنوا أَمُّوا إذًا لسَلَكْنا مَسْلَكَ الرِّيح خلفَها ... ولو أصبحتْ نُعْمٌ ومن دونها النَّجمُ (¬4) وقال ما ظَنُّك بمَعانٍ هي شموس، بل الشُّموس فيها ظُلْمة (¬5)، وأنشد: [من الطويل] إذا ما دَجاها الليلُ كنا كواكبًا ... جُلوسًا حواليها وكانت هي البَدْرُ ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 2/ 44، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 191، والخزوز جمع خَزّ، وهو ثوب الحرير. (¬2) مناقب الأبرار 2/ 44، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 189، وتمام البيت: خرُّوا لعزَّةَ رُكَّعًا وسجودا وهو لكثير عزة، انظر ديوانه 113. وجاء تمام البيت في (ف): ذابت قلوبهم لذاك المسمع. (¬3) حلية الأولياء 10/ 374، ومناقب الأبرار 2/ 45. (¬4) الخبران في مناقب الأبرار 2/ 45، 47، ومختصر تاريخ دمشق 179، 180. (¬5) في (خ): ما ظنك بمضي الشموس فيه ظلمة، وليست في (م ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا، والمثبت من مناقب الأبرار 2/ 46، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 188.

وقيل له: هل يُعرَفُ المُحبُّ أنَّه مُحب؟ فقال: نعم، إذا كَتَمَ حُبَّه فظهرت شواهُده عليه، وأنشد: [من البسيط] قد سَحَّب الناسُ أذيال الظُّنون بنا ... وفرَّق الناس فينا قولَهم فِرَقا فكاذبٌ قد رَمى بالظنِّ غيرَكم ... وصادقٌ ليس يَدري أنَّه صَدقا (¬1) وقال يومًا لأصحابه: أليس أنا عندكم مجنون وأنتم أصِحَّاء، زاد الله في جنوني، وزاد [الله] في صِحَّتكم، وأنشد يقول: [من البسيط] قالوا جُنِنْتَ بمَن تَهوى فقلتُ لهم ... ما لَذَّةُ العيشِ إلا للمجانين (¬2) وقيل له [يوما]: ما الحِيلة؟ فقال: تركُ الحيلة، وأنشد: [من الطويل] تداويتُ من ليلى بليلى من الهوى (¬3) وسئل عن معنى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ} [آل عمران: 97] فوصَفَ أوصافًا لم يَضْبِطْها أهلُ المَجلس، وأنشد: [من الخفيف] لستُ من جُملة المُحبِّين إن لم ... أَدَعِ القلبَ بيتَه والمَقاما وطَوافي إجالةُ السرِّ فيهِ ... وهو رُكْني إذا أردتُ استلاما وقيل له: مات بعضُ أصحابك وَجْدًا، فأنشد: [من الطويل] قضى الله في القَتْلى قِصاصَ دمائهم ... ولكنْ دِماءُ العاشقين جُبارُ وقال: ضاقت عليَّ أوقاتي ببغداد، فخطر في خاطري النُّزول إلى البصرة، فنزلتُ في سُماريّة، فلمَّا حاذينا تاج (¬4) الخليفة إذا بجارية تُغَنِّي وتقول: [من الطويل] أيا قادمًا من سَفْرة الهَجْر مرحبًا ... أنا ذاك لا أنساك ما هَبَّت الصَّبا قَدِمتَ على قلبي كما قد تركتَه ... كئيبًا حزينًا بالصَّبابة مُتْعَبا ¬

_ (¬1) من قوله: وقال: المعارف تبدو فتطمع ... إلى هنا ليس في (ف م م 1)، والقول والشعر في مناقب الأبرار 2/ 46، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 182. (¬2) حلية الأولياء 10/ 372، ومناقب الأبرار 2/ 47، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 194. (¬3) مناقب الأبرار 2/ 48 وتمامه: كما يتداوى شارب الخمر بالخمر. (¬4) في (ف): دار، والتاج اسم دار من دور الخلافة مشهورة ببغداد. انظر معجم البلدان 2/ 3.

فطرحتُ نفسي في دجلة والمقتدر يراني، فقال: أدركوه، فأخرجوني في آخر رَمَقٍ، فأحضرني عنده وقال: يا أبا بكر، يبلُغنا عنك أعاجيبُ؟ ! فحدَّثتُه بما خَطَر لي (¬1). [وحكى السُّلميّ قال: ] صنع ابنه أبو الحسن سماعًا للفقراء، فقالوا: لا يدخل علينا أبوك، فبينا هم كذلك إذ دخل الشبليُّ وبين أصابعه شَمْعٌ صغار، بين كلِّ أُصبعين شمعةٌ، ثمان شمعات، فاحتشموه، فقال: يا سادة مالكم؟ احسِبوني طِسْت شَمْعٍ، ثم قال للقَوَّال؟ قل، فقال: [من الهزج] فلمَّا عاين الحِيرَ ... ةَ حادي جَمَلي حارا فقلتُ احْطُطْ بها رَحْلي ... ولا تَعْبأ بمَن سارا فتغيَّر وجهُه، ورمى الشَّمْعَ، وقام فخرج. وخرج يوم عيد إلى المصلَّى، وعليه ثيابٌ زُرقٌ وسودٌ، وهو يبكي ويَنوح، فاجتمع الناس إليه، وسألوه عن حاله، فأنشد: [من البسيط] تَزَيَّن النَّاسُ يوم العيد للعيد ... وقد لَبِسْتُ ثيابَ الزُّرق والسُّودِ والناس بالعيد قد سُرُّوا وقد فَرحوا ... وما فرِحتُ وربّ العيدِ بالعيد وأصبح الناسُ قد سُرُّوا بعيدهم ... ورحتُ فيك إلى نَوْحٍ وتَعْديد فالناسُ في فَرَحٍ والقلبُ في تَرَحٍ ... شتَّان بيني وبين الناس في العيد وأنشد أيضًا [في المعنى] يقول: [من المجتث] للناس فِطْرٌ وعيدُ ... إني فريدٌ وَحيدُ يا غايتي وسُروري ... إنْ تَمَّ لي ما أُريدُ وأنشد أيضًا: [من الهزج] إذا ما كنتَ لي عيدًا ... فما أصنعُ بالعيد جَرى حبُّكَ في قلبي ... كَجَرْيِ الماء في العود وأنشد أيضًا [في معناه]: [من البسيط] الناسُ بالعيد قد سُرُّوا وقد فَرِحوا ... وما فَرحتُ به والواحدِ الصَّمَدِ لمَّا تيقَّنْتُ أنِّي لا أُعاينُكم ... غَمَّضْتُ طَرْفي فلم أنظُر إلى أحدِ ¬

_ (¬1) الأخبار الثلاثة في مناقب الأبرار 2/ 48 - 49، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 190 - 191.

وأنشد أيضًا: [من البسيط] عيدي مُقيمٌ وعيدُ الناس مُنصَرفُ ... والقلب منِّي عن اللَّذات مُنْحَرفُ ولي قَرينانِ ما لي منهما خَلَفٌ (¬1) ... طولُ الحنين وعينٌ دَمعُها يَكِفُ وأنشد أيضًا: [من الخفيف] ليس عيدُ المحبِّ قَصْدَ المُصَلَّى ... وانتظارَ الخطيبِ والسلطانِ إنَّما العيدُ أن يكون لدى الحِبْـ ... ــــــبِ سعيدًا مُقَرَّبًا في أمان وخرج وقد غيَّر ثيابه في يوم عيد، فقيل له: الناسُ يتزيَّنون اليومَ وأنت قد غيَّرت مَلْبُوسَك؟ فقال: [من البسيط] قالوا أتى العيدُ ماذا أنت لابِسُه ... فقلتُ خِلْعَةُ ساق جُبّةُ جَزَعا فَقْرٌ وصَبرٌ هما ثوباي تحتهما ... قلبٌ يَرى إِلْفَهُ الأعيادَ والجُمَعا الدهرُ لي مَأْتَمٌ إن غِبْتَ يا أمَلي ... والعيدُ ما دُمتَ لي مَرْأى ومُستَمَعا أحْرى الملابسِ أن تلقى الحبيبَ به ... يومَ التَّزاورِ في الثَّوب الذي خَلَعا واجتمع إليه الناسُ وسألوه الدعاء فقال: اضْرِبْهُم بسياط الخوف، أَقْبِلْ بهم بأَزِمَّة الشَّوق، أَغِثْهم بمُلاحظات الفُهوم، كُنْ لهم كما كنتَ لمَن لم تكن له بأنْ صِرتَ كُلًّا له (¬2). ذكر وفاته: دخل قومٌ على الشِّبلي في مرض موته فقالوا: كيف تجدُك؟ فقال على البَديه هذه الأبيات: [من مجزوء الخفيف] إنَّ سُلطانَ حُبِّه ... قال لا أقبلُ الرِّشا فسَلوه فَدَيتُهُ ... لِمْ بقتلي تَحرَّشا (¬3) وحكى الخطيب عن جعفر بن نُصَير [أن بكران] (¬4) الدِّينَوَري -وكان يخدمه- قيل له: ما الذي رأيت منه -يعني عند وفاته- فقال: قال لي: عليَّ درهمٌ مَظْلَمة، وقد ¬

_ (¬1) في (م): بدل. (¬2) من قوله: وخرج وقد غير ثيابه ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) تاريخ بغداد 16/ 571، وقد أثبت في هذا الخبر سياق النسخ (م ف م 1) لتمامه ووضوحه. (¬4) ما بين معكوفين من تاريخ بغداد 16/ 571.

تصدَّقتُ عن صاحبه بألوف، فما على قلبي شُغلٌ أعظمُ منه، ثم قال: وضِّئني للصلاة، ففعلتُ، ونسيتُ تخليلَ لحيته، وقد أُمسكَ على لسانه، فقبض على يدي وأدخلَها في لحيته، ثم مات [رحمه الله]. وبكى جعفر وقال: ما تقولون في رجل لم يَفُتْه أدبٌ من آداب الشريعة في آخر عُمُره. وقال [الخطيب: قال] أبو نَصْر الهَرَوي: كان الشبلي يقول: إنِّما يُحفَظ هذا الجانبُ من الدَّيالِمَة بي، يعني الجانب الشَّرقي من بغداد، فمات الشبلي يوم الجمعة، وعَبَرت الدَّيالمة يوم السبت إلى الجانب الشرقي. وقال بُكير خادمه (¬1): وَجَد الشبلي خِفَّةً يوم الجمعة من وجعٍ كان به سَلْخ ذي الحجة [سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة]، فقال لي: يا بُكير، تعز [إلى] الجامع؟ قلتُ: نعم، فخرجنا واتَّكأَ على يدي، فلمَّا حصلنا في الورَّاقين من الجانب الشرقي تلقَّانا رجلٌ شيخ، فقال الشبلي: غدًا يكونُ لي مع هذا الشيخ شأنٌ من الشأن، فقلتُ: يا سيدي مَن هو؟ فقال: هذا المُقبِل (¬2)، وأومأ إليه بيده، وصلَّينا ورجعنا. فلمَّا كانت ليلة السبت قضى، فقيل: في موضع كذا وكذا من درب السَّقَّائين شيخٌ صالح يغسل الموتى، فجئتُ إلى بابه فطرقتُه، فقال لي من داخل الدار: مات الشبلي، ثم خرج فإذا هو الشيخُ الذي لقيناه بالأمس، فقلتُ: لا إله إلا الله! فقال: ما لك؟ فقلت: بالله يا سيدي، من أين لك أنَّ الشبلي قد مات؟ فقال يا أبْلَه، فمن أين يكون لي مع الشبلي شأنٌ من الشأن إلا اليوم (¬3)؟ ! [وحدثنا غير واحد عن أبي القاسم الحَريري بإسناده، عن أبي القاسم النَّحاس قال: سمعتُ يوسف بن يعقوب الأصبهاني يقول: قال الأدمي القارئ: رأيتُ في المنام كأنَّ كلَّ مقبرة الخَيزُران أهلها جلوسٌ على قبورهم، فقلتُ: مَن تنتظرون؟ قالوا: قد وُعِدنا ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): وقال بكر خادم الشبلي، والمثبت من (خ). وانظر تاريخ بغداد 16/ 572. (¬2) في (ف): شأن من الشأن ثم مضينا إلى الجامع وصلينا جميعًا فقلت يا سيدي من هو الذي تعنوه فقال هذا المقبل. (¬3) في (خ): إلى، والمثبت من (م ف م 1)، وفي تاريخ بغداد 16/ 572: شأن من الشأن اليوم. وانظر المنتظم 14/ 52.

يَجيئنا رجلٌ يُدفَن عندنا، يَهَب الله مُحْسِنَنا ومُسيئنا له، فبَكَّرتُ وجلستُ في المقابر، وإذا بجنازة الشبلي، فدُفِن عندهم (¬1). وكانت وفاته في ذي الحجَّة من هذه السنة، وقيل: في سنة خمس وثلاثين [وثلاث مئة]، مات هو وعلي بن عيسى الوزير في يوم واحد، وقيل: إنَّ عليًّا مات في السنة الآتية، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى. ومات الشبليُّ وله سبعٌ وثمانون سنة، ودُفن بمقابر الخَيزُران قريبًا من مَشْهد أبي حنيفة، وعليه قُبَّةٌ، وقبره ظاهرٌ يُزار. [وحكى ابن خَميس في "المناقب" أنه] رُئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: لم يُطالبْني بالبَراهين على الدَّعاوى إلا على شيءٍ واحد، قال: قلتُ يومًا: لا خَسارةَ أعظم من خُسْران الجنَّة ودخول النار، [فقال: ] وأيُّ خسارةٍ أعظمُ من خُسران لقائي (¬2)؟ ! وقد ذكرنا أنَّه كتب الحديث الكثير، ولكنه اشتغل بحاله عن الرِّواية، وقد أخرج له الخطيب حديثًا عن أبي سعيد الخُدْريّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال: "اِلْقَ اللهَ فقيرًا ولا تلْقَهُ غَنيًّا" قال: وكيف لي بذلك؟ فقال: "ما سُئلتَ فلا تَمنَع، وما رُزقتَ فلا تَجمع، أو لا تَخْبأ"، فقال: يا رسول الله، وكيف لي بذلك؟ فقال: "هو ذاك وإلا فالنار" (¬3). ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 52. (¬2) مناقب الأبرار 2/ 39 - 40. (¬3) تاريخ بغداد 16/ 564 - 565، وطبقات الصوفية 338 - 339 من طريق طلحة بن زيد، عن أبي فروة الرهاوي يزيد بن سنان، عن عطاء، عن أبي سعيد، به. وطلحة بن زيد منكر الحديث، ويزيد بن سنان ضعيف، انظر ميزان الاعتدال (3804) و (9162). وأخرجه الطبراني في الكبير (1021)، وأبو نعيم في حلية الأولياء 1/ 149 - 150 من طريق طلحة، عن يزيد، عن أبي المبارك، عن أبي سعيد، به. وأبو المبارك، قال الذهبي في الميزان (9837): لا يدرى من هو، وخبره منكر. وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 316 من طريق الحسين بن موسى، عن أبي فروة الرهاوي قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي سعيد، به، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: واهٍ.

فصل وقد أثنى عليه العلماء والأئمة، [منهم أبو عبد الرَّحمن السُّلمي، والقُشيري، والخطيب، وابن خَميس في "المناقب"، وابن باكويه وغيرهم] وشَنَّع عليه أقوامٌ بألفاظ تقتضي الشَّطْح، منها أنَّهم قالوا عنه: إنَّه قال: كتبتُ الحديث والفقه أربعين سنةً حتى أسفَرَ الصُّبح، فجئتُ إلى كلِّ مَن كتبتُ عنه أُريد فِقْه الله فما كَلَّمني أحد. وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: وقف عليّ بن مَهْدي على حَلْقة الشبلي وبيده مِحْبَرةٌ، فلمَّا رآها الشبلي أنشد: [من المتقارب] تَسَرْبَلْتُ للحُزنِ ثَوبَ الغَرَق ... وهِمتُ (¬1) البلادَ لوَجْدِ القَلَقْ وفيك هتكتُ قناعَ العزاء ... وعنك نَطَقْتُ لدى مَن نَطَقْ إذا خاطَبوني بعلم الوَرَقْ ... بَرَزْتُ عليهم بعلم الخِرَقْ وقال علي بن عَقيل: قال الشبلي: قال الله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5] قال: يُشفِّع محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في أُمَّته، والله لا يرضى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وفي النار من أُمَّته أحد، ثم قال الشبلي: وأنا أشفَعُ بعده حتى لا يبقى في النار أحد (¬2). وقال المصنف رحمه الله: جاء في الحديث أنَّ لكلِّ مؤمنٍ شفاعةً (¬3)، فإذا انتهت شفاعةُ الشافعين يقول الله: قد بقيت شفاعتي، لا يبقى في النار أحدٌ، يعني من المُوَحِّدين، وأدنى أحوال الشبلي أن يكونَ كآحاد المؤمنين. وقال علي بن محمد بن أبي صابر الدَّلّال: وقفتُ على حَلْقة الشبلي في قُبَّة الشُّعراء بجامع المنصور والناسُ مُجتمعون عليه، فوقف في الحَلْقة غُلامٌ أمرد يُعرَف بابن مُسلم، لم يكن بالعراق أحسن وَجْهًا منه، فقال له الشبلي: تَنَحَّ، فلم يَبْرَح، فقال له: ¬

_ (¬1) في تلبيس إبليس 318: تسربلت للحرب ... وجبت. (¬2) تلبيس إبليس 336، قال ابن عقيل عقبه: والدعوى الأولى على النبي - صلى الله عليه وسلم - كاذبة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرضى بعذاب الفجار، ودعواه بأنه من أهل الشفاعة في الكل وأنه يزيد على محمد - صلى الله عليه وسلم - كفر؛ لأن الإنسان متى قطع لنفسه بأنه من أهل الجنة كان من أهل النار، فكيف وهو يشهد لنفسه بأنه على مقام يزيد على مقام النبوة. (¬3) أخرجه ابن النجار في تاريخه عن أنس - رضي الله عنه - كما في الجامع الصغير للسيوطي، ورمز لضعفه، انظر فيض القدير 1/ 500.

تَنَحَّ وإلا خَرَّقْتُ كلَّ ما عليك، وكان عليه ثيابٌ لها قيمة، فانصرف الغلام، فأنشد الشبلي: [من مجزوء الخفيف] طَرَحوا اللَّحمَ للبُزا ... ةِ على ذِرْوَتَي عَدَنْ ثمَّ لاموا البُزاةَ إذْ ... خَلَعوا فيهم الرَّسَنْ لو أرادوا صَلاحَنا ... سَتَروا وَجْهَك الحَسَنْ قال ابن أبي صابر: فجعلتُ أُكرِّرُ الأبيات وكان أبي معي، فقال: ألا أُنشدك أحسنَ من هذا؟ قلتُ: بلى، قال: أنشدني أبو علي بن مُقْلَة الوزير: [من المتقارب] أيا ربِّ تَخْلُق أقمارَ ليلٍ ... وأغصانَ بانٍ وكُثبانَ رَمْلِ وتُبدعُ في كلِّ طَرْفٍ بسِحْرٍ ... وفي كلِّ عضوٍ رَشيقٍ بشَكْلِ وتَنْهى عبادَك أن يَعْشَقوا ... أيا حَكَمَ العَدْلِ ذا حُكْمُ عَدْلِ (¬1) وهذا خطأ مَحْض (¬2). ومنها أنَّه أُنكِر عليه اكتحالُه بالمِلْح والمِيل المُحَمّى. [قلت: ] وهذا موضع الإنكار، [فإن الشرع لم يوجب غَسْل باطن العينين بالماء خوفًا من الإضرار، فكيف بالملح والنار؟ ! ] غير أنَّ طريقة أرباب المُجاهَدات والرِّياضات غيرُ طريقة أرباب البَطالات، ولا خلاف أنَّ الشبلي كان من أرباب الكرامات، والأولى تسليمُ حاله إليه، ولا يُعْتَرَض عليه (¬3)، رحمة الله عليه. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 13/ 576 - 577. (¬2) من قوله: وشنع عليه أقوام ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) بعدها في (م): والله أعلم، انتهت ترجمة الشبلي رحمه الله، وفي (ف م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

السنة الخامسة والثلاثون وثلاث مئة

السنة الخامسة والثلاثون وثلاث مئة (¬1) فيها لما توجَّه ناصرُ الدولة إلى الموصل جَدَّد معزُّ الدولة الأيمان بينه وبين المُطيع، وأنَّه لا يُمالئ عليه، وأزال عنه التَّوكيل، وأعاده إلى دار الخلافة. وصُرف القاضي محمد بن الحسن بن أبي الشَّوارب عن القضاء بالجانب الغربي من بغداد، وتقلَّد أبو الحسن محمد بن صالح ويعرف بابن أُمِّ شَيبان القضاء مضافًا إلى الجانب الشَّرقي من بغداد. وفيها بعد موت الإخشيد سار سيفُ الدولة من حَلَب فمَلَك دمشق، واستأمن إليه يانس المؤنسي، ثم سار سيفُ الدولة فنزل الرَّمْلَةَ، وجاء أنوجور بن الإخشيد من مصر بالجيوش، والقَيِّم بأمره كافور الإخشيدي، فرجع سيفُ الدولة إلى دمشقَ، وسار خلفه أنوجور فانهزم إلى حلب، فسار خلفه فانهزم إلى الرَّقَّة، ثم اتفقا على أن يكون لسيف الدولة ما كان أوفى من الإخشيد (¬2)، حلب وحمص وأنطاكية، وعاد أنوجور إلى مصر. وفيها اتَّفق ناصرُ الدولة ومعزُّ الدولة على أن يكون لناصر الدولة من تَكْريت إلى الشام، وكان ناصر الدولة قد عاد من الموصل فنزل عُكبَرا، فلمَّا اتَّفقا وبلغ التُّركَ -وكانوا نازلين شرقي عُكبَرا- عبروا إلى ناصر الدولة ليقتلوه حيث صالح، فانهزم إلى المَوْصل، وكان السَّفيرُ في الصُّلح أبا بكر بن قَرابة، فقبضوا عليه، وقدَّموا عليهم تِكِين الشِّيرازي -وكانوا خمسةَ آلاف- فساروا يطلبون ناصر الدولة، واستأمن ينال كوشاه ولؤلؤ إلى معزِّ الدولة. وسار ناصر الدولة سريعًا ومعه أبو جعفر بن شيرزاد، وكان قد هرب من معزِّ الدولة إلى ناصر الدولة، فلمَّا قَرُب من الموصل سمَلَه خوفًا منه، وحبسه في قلعة الموصل، وقيل: إنَّ ابن شيرزاد أشار على توزون بسَمْل المُتَّقي، فعوقب بمثل ما أشار به. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة، وليس في (م ف م 1) من أحداث هذه السنة شيء. (¬2) في تاريخ الإسلام 7/ 637، والنجوم الزاهرة 3/ 292: إلى ما كان بيده من حلب وغيرها.

الحسن بن حمويه بن الحسين

وبعث ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدولة بحلب يَستَمِدُّه على الأتراك، وبعث إلى معزِّ الدولة أيضًا، فأمدُّوه، وسار إلى سِنْجار والتُّرك خلفه، فنزل الحَديثة، وجاءته العساكر من بغداد وحلب، وكان مُقَدَّم العساكر البغدادية أبو جعفر الصَّيمَري وأصفهدوست الدَّيلَميَّان، والتَقَوا على الحَديثة، فانهزم تِكِين والتُّرْك، وقُتلوا وأُسروا، وهَلَك منهم خلقٌ عظيم. ورجع ناصر الدولة إلى المَوْصل، وترك أصفهدوست بالجانب الشَّرقي، وعبر ناصر الدولة إلى خَيمة أصفهدوست، وخرج من عنده ولم يَعُد إليه، ونَدم على عُبوره إليه وقال: فَرَّطْتُ في نفسي، وقال أصفهدوست: ضَيَّعتُ الحَزْم حيث لم أقدر على ناصر الدولة. وقيل: إنما كان القائل لهذا الصَّيمَري وكان قد قال لمعزِّ الدولة: أقبضُه؟ فنهاه عن ذلك وقال: هذا قبيحٌ بين الملوك. وطلب الصَّيمَري من ناصر الدولة جماعةً كانوا عنده من أصحاب مُعزِّ الدولة والمال المُقَرَّر عليه، فأعطاه المال والجماعة، وفيهم ابن شيرزاد مَسْمولَ العينَين، وأخذ الصَّيمَري هبةَ الله بن ناصر الدولة رَهينةً. وفيها دخل ركن الدولة الرَّي والجبال واستولى عليها. ولم يحجَّ أحدٌ في هذه السنة. وفيها توفي الحسن بن حَمُّويه بن الحسين أبو (¬1) محمد، [القاضي]، الأَسْتَراباذي. كان على قَضاء أَسْتَراباذ مدةً طويلةً، وكان من قُوَّام الليل المتَهَجِّدين في الأسْحار، يُضرَب المثل به في قَضاء حوائج الناس، والقيامِ بأمورهم بنفسه وماله. [وعقد مجلسَ الإملاء بأَسْتراباذ، وروى عنه أهلُها، ] ومات فجأةً على بطن جاريته. [حدَّث عن محمد بن إسحاق بن راهَوَيه، وخلقٍ كثير، وكان مشهورًا بالصلاح.] ¬

_ (¬1) في النسخ: بن، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ جرجان (261)، وتاريخ أستراباذ (1090 بذيل تاريخ جرجان)، والمنتظم 14/ 55، وتاريخ الإسلام 7/ 691.

علي بن عيسى

[وفيها توفي] علي بن عيسى ابن داود بن الجَرَّاح، أبو الحسن، الوزير، البغدادي (¬1). ولد سنة خمس وأربعين ومئتين، وكان جدُّه داود من دَير قُنَّى ضَيعةٍ بالعراق، وكان أبوه عيسى من وجوه الكُتَّاب، وأصلُهم من الفُرْس. [وذكره الخطيب فقال: ] كان عالمًا (¬2)، فاضِلًا، عاقِلًا، دَيِّنًا، عادِلًا، صالحًا، عَفيفًا في ولايته، محمودَ الأثرِ في وزارته، حسنَ الطريقة في سيرته، كثيرَ المعروف والبرِّ وقراءةِ القرآن والصَّلاة والصيام، مُحِبًّا لأهل العلم، كثيرَ المُجالسَة لهم. وكان يقول: كَسَبتُ سبع مئة ألف دينارٍ أو ثمان مئة ألف دينار، أخرجتُ منها في وجوه البِرِّ ستَّ مئة ألف دينار وثمانين ألفًا. [قال: ] وكان مَعروفًا بالسِّتر والأمانة، والصَّلاح والدِّيانة، والعِفَّة والصِّيانة. [قال: ] ودخل عليه القاضي عمر بن أبي عمر وعليه ثوبٌ استحسنه الوزير، فأدخل يده فيه يَسْتَشِفُّه وقال: بكم أشترى القاضي هذا الثوبَ؟ فقال: بسبعين دينارًا، فقال الوزير. لكنِّي لم ألبَس ثوبًا قطُّ يرْيدُ ثَمَنُه على ستة دنانير أو سبعة، فقال له القاضي: الوزْيرُ يُجَمِّلُ الثياب، ونحن نتجَمَّلُ بالثياب. [وحكى الصُّولي قال: ] كان أبو بكر بن مُجاهد يأتي في كلِّ جُمعة إلى دار الوزير علي بن عيسى، فيُجلسُه في مَرْتبته، ويَقعدُ بين يديه، ويقرأ عليه القرآن، ويخاطبه بالأستاذ، ويقول للحاجب: لا تأذن لأحدٍ في ذلك الوقت. [وحكى الحافظ ابن عساكر عن أبي عمر الأنماطي قال: ] ركب (¬3) علي بن عيسى يومًا، فقال الناس: مَن هذا [مَن هذا]؟ وامرأةٌ قائمةٌ على الطَّريق فقالت: كم تقولون: ¬

_ (¬1) تحفة الأمراء 207، تكملة الطبري 359، تاريخ بغداد 13/ 459، تاريخ دمشق 51/ 120، المنتظم 14/ 56، معجم الأدباء 14/ 68، تاريخ الإسلام 7/ 680، السير 15/ 298. (¬2) في (خ): وأصلهم من الفرس وكان الوزير عالمًا، والمثبت من (م ف م 1). (¬3) في (خ): وقال أبو عمر الأنماطي ركب، والمثبت من (م ف م 1)، والخبر في تاريخ دمشق 51/ 125.

مَن هذا؟ هذا عبدٌ سقط من عين الله، فابتلاه بما تَرون، وسَمعها علي بن عيسى، فرجع واستعفى من الوزارة، وذهب إلى مكة فجاوَر بها. وحكى الخطيب عن أبي سَهْل بن القَطَّان قال (¬1): كنتُ مع علي بن عيسى لما خرج من بغداد إلى مكة، فطُفنا في يومٍ شديد الحَرِّ، فوقع مثل الميت وقال: أشتهي شَربةً من ماءٍ بثَلْج، فقلت من أين هنا ثلج؟ ! هذا معدوم. فبينما نحن كذلك إذ نشأت سحابةٌ عظيمة في الحال، فأمطرت بَرَدًا كثيرًا، بحيث جمع الناس منه ما ملؤوا به الحِباب والجِرار، فقلت له: أنت رجل موفَّق، وهذه علاماتُ الإقبال، وكان صائمًا، فلمَّا صَلَّينا المغرب قَدَّمْتُ الكاسات فيها الأسْوقَة والسُّكَّر مَخلوطًا بالماء والبَرَد، فقال: ليتني تمنَّيتُ المغفرة، فسقى كلَّ مَن في الحَرَم من الصُّوفية والمُجاورين وغيرهم، وشرب هو قليلًا. وحكى الحافظ ابن عساكر عن محمد بن خَفيف قال (¬2): لمَّا عُزل علي بن عيسى من الوزارة وخرج مُجاورًا إلى مكة خرج معه الماذَرائي وابن زُنْبُور، فقال لهما: اعزِما على المُجاورة معي، فقال الماذرائي: أنا لا أصبر على (¬3) حرِّ مكة، وقال ابن زنبور: أنا أُقيم معك. وأخذ علي بن عيسى في العبادة العظيمة والمُجاهَدة القويَّة، وكان شيخ بالحرم ينظر إليه، فقال لي: مَن هذا؟ قلتُ: الوزير، قال: ليس لله فيه شيء، قال: فاستَجْهَلْتُه، ثم لقيتُه مرةً أُخرى فقال لي كذلك، واجتمعتُ بالوزير في منزله وأخبرتُه، فرمى باللُّقْمَة من يده، ثم أطرق ساعة، ثم قال: إنْ عاوَدَك فسَلْه. [قال: ] فلقيتُه، فسألني عنه وقال لي كذلك، فقلتُ له: بم ذا؟ قال: وَجَد مُناه لا بارك الله له فيه. ¬

_ (¬1) في (خ): وقال أبو سهل بن القطان، والمثبت من (م ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 13/ 460، وذكره الهمذاني في تكملة الطبري 359، وعن الخطيب أوردته سائر المصادر. (¬2) في (خ): وقال محمد بن خفيف، والمثبت من (م ف م 1)، والخبر في تاريخ دمشق 51/ 124 - 125. (¬3) في (م ف م 1): أنا لا صبر لي على، والمثبت من (خ).

[قال: ] فأخبرتُ الوزير فقال: ويْحَك، ما رأيتُ أعجبَ منك، رأيتَ الخَضِرَ ثلاثَ مَرَّات وأنت لا تعرفُه، فلمَّا كان بعد أيام قدم حاجب الخليفة، ومعه خمسُ مئة راحلة وكتاب إلى علي بن عيسى يستدعيه، فما رؤي بعد ذلك في المسجد. [قلت: وهذه الحكاية تدلّ على فضل الوزير لا على ذَمِّه؛ لأنه عرف الخضر والرجل لم يعرفه، وقول الخضر: ما فيه شيء لله؛ أراد مرتبة الكمال وترك الدنيا، ولا خلاف في دين الوزير وصلاحه، وكذا قول الخضر: وجد مناه، أراد له الدنيا.] وكان الوزير مُمَدَّحًا، وفيه يقول الشاعر: [من الطويل] وَحَسبُك أنِّي لا أرى لك عائبًا ... سِوى حاسدٍ والحاسدون كثيرُ وأنَّك مثل الغيث أمَّا سَحابُه ... فمُزْنٌ وأمَّا ماؤه فطَهورُ (¬1) [قال الخطيب: ] وكان الوزير فَصيحًا أديبًا (¬2) ومن شعره: [من الطويل] فمَن كان [عنِّي] سائلًا بشماتة ... لما نابني أو شامتًا غير سائلِ فقد أبرَزَتْ منِّي الخطوبُ ابنَ حُرَّةٍ ... صَبورًا على أهوال تلك الزَّلازل [ذكر حكايته مع الأسارى: حكى القاضي مُكْرَم بن بكر قال: دخلتُ على علي بن عيسى ذات يوم وهو مَهْموم، فقلتُ: ما الذي بالوزير؟ فقال: كتب إليَّ عاملُ الثَّغْر يقول: إنَّ الأُسارى الذين عند الرُّوم من المسلمين كانوا في رِفْقٍ حتى وَلِي ملك الروم آنفًا، فعَسَفَهم وأجاعهم [وأعراهم] وعاقبهم، وأنهم في ضُرٍّ شديد وعذابٍ أليم، ولا حيلة لي في هذا، والخليفة لا يُساعدني على إنفاق الأموال وإنفاذ الجيوش إلى القُسْطنطينية، فقلتُ: هاهنا أمرٌ أسهل من هذا، قال: وما هو؟ قلتُ: بأنطاكية عظيمٌ لهم يُقال له: البَطْرك، وبالقدس آخر يُقال له: الجاثليق، وأمرُهما نافذٌ على ملك الروم، وهما في ذِمَّتنا، ¬

_ (¬1) من قوله: وكان الوزير ممدحًا .... إلى هنا ليس في (م ف م 1)، والأبيات في تكملة الطبري 359، وتاريخ بغداد 13/ 461، وتاريخ دمشق 51/ 126. (¬2) في (ف م 1): فاضلًا، والمثبت من (م)، وليست في (خ)، والخبر في تاريخ بغداد 13/ 461.

فيأمر الوزير بإحضارهما، ويأمرهما بإزالة ما تَجدَّد على الأسارى، فإن لم يُزَل لم يَطلُب بتلك الجريرة غيرهما (¬1)، فكتب يستدعيهما. فلمَّا كان بعد شهرين دخلتُ عليه وهو مَسرورٌ، فقال: جزاك الله خيرًا عن الإسلام وعن دينك وعنِّي [وعن المسلمين]، هذا رسول العامل قد ورد، ثم قال له: أخبِرْه بما جرى، فقال: نَدَبَني العامل مع رسول (¬2) البَطْرك والجاثليق إلى القُسْطنطينية، وكتبا معي كتابًا إلى الملك: إنَّك قد خرجتَ بما فعلتَ من مِلَّة المَسيح، وليس لك الإضرارُ بالأسارى، فإن أزلتَ ما فعلتَ وإلا أخرجناك من دين المسيح، ولَعنَّاك على [هذين] الكُرسيين. قال الرسول: فلمَّا وَرَدْنا على الملك دفعنا إليه الكتابَين، فأخذهما وأنزلَنا وأكْرَمَنا، فلمَّا كان بعد أيام استدعانا، وأحضر الأُسارى وقد صَلُحَت أحوالُهم وكساهم، وكانوا قبل ذلك موتى، كأنَّهم قد نُبِشوا من القبور. [قال: ] فسألني واحدٌ من الأسارى عن السَّبب، فأخبرتُهم أنَّ الوزير علي بن عيسى بلغه ما أنتم فيه، فكتب وفعل [ما فعل]، فضجُّوا بالدُّعاء له، وقالت امرأةٌ: قِرَّ يا علي (¬3) ابن عيسى، لا نسي الله لك هذا الفعل. وسجد الوزيرُ شكرًا لله عزَّ وجل وجعل يبكي، فقلتُ: أيُّها الوزير، سمعتُك وأنت تتبَرَّم بالوزارة، فهل كنتَ تقدر على تحصيل هذه المَثوبة لولا الوزارة، فشكرني وانصرفتُ. [ذكر حكايته مع العَطَّار: حكاها القاضي التَّنوخي، عن أبيه قال: حدثني جماعة أنه] كان (¬4) بالكَرْخ عَطَّارٌ، فركبه دَينٌ وكان مَستورًا، فقام من دُكَّانه، ولزم المسجد والصلاة والدُّعاء، فنام ليلةً، فرأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في منامه وكانت ليلةَ الجمعة، فقال له: يا فلان اقصِد علي بن عيسى فقد أمرتُه أن يُعطيَك أربع مئة دينار، فخُذْها وأصلحْ بها حالك -قال: وكان عليَّ ستُّ ¬

_ (¬1) في تحفة الوزراء 240: ومتى لم يزل ذلك طولبا بجريرة ما يفعل هناك وسلك في معاملة النصارى مثل ذلك، والنقل عن المنتظم 14/ 59. (¬2) في (م ف م 1): فقال له رسول العامل رحت مع رسول، والمثبت من (خ). (¬3) في النسخ والمنتظم 14/ 60: مر يا علي، والمثبت من تحفة الوزراء 241. (¬4) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، بدله في (خ): وقال القاضي التنوخي كان. والخبر في الفرج بعد الشدة 2/ 276، وتحفة الوزراء 244، والمنتظم 14/ 60.

مئة دينار- فانتبهتُ وقلتُ: منام هو، ثم قلتُ: فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من رآني في المنام فقد رآني، فإنَّ الشيطان لا يَتَمثَّل بي" (¬1). فقصدتُ باب الوزير فمُنعتُ منه، فقعدتُ حتى ضاق صدري، وهَمَمتُ بالانصراف، وإذا بحاجبه قد خرج فقال: أين كنتَ والوزير من وقت السَّحر إلى الساعة ينتظرك، وقد جدَّ في طلبك [وبثَّ الرسل]. ثم أدخلني على الوزير فقال: أنت فلان من أهل الكَرْخ؟ قلتُ: نعم، فقال: جائني البارحةَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام وقال: أعط فلانًا العَطَّار أربعَ مئة دينار، وهذه أربعُ مئة دينار امتثالًا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وستُّ مئة دينار منِّي لك، فقلتُ: أيُّها الوزير، ما أُحبُّ أن أزيدَ على عطاء (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، فقال: هذا هو اليقين (¬3)، وأخذتُ الأربع مئة دينار وخرجتُ، واصطلحْتُ [مع] غُرمائي بالبعض وأبقَوا البعض، وفرَّقت فيهم مئتي دينار، وأخلوني ثلاث سنين، وفتحتُ دُكَّاني بمئتي دينار، فما حال عليَّ الحول إلا ومعي ألف دينار، فقضيتُ دَيني، وصَلُحَت حالي. وقال عيسى بن علي بن عيسى: كان لأبي بكر الصُّولي على أبي في كل سنة شيءٌ يعطيه، فشُغل عنه، وتَردَّد إليه مرارًا فلم يصل إليه، فكتب إليه: [من الطويل] خَلُقْتُ (¬4) على باب ابن عيسى كأنَّني ... قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ إذا جئتُ أشكو طولَ فَقْرٍ وحاجةٍ ... يقولون لا تَهْلِك أسىً وتَجَمَّلِ وفاضَتْ دموعُ العين من قُبْح رَدِّهم ... على النَّحْرِ حتى بَلَّ دَمْعي محْملي لقد طال تَرْدادي وقَصْدي إليهم ... فهل عند رَسْمٍ دارِسٍ من مُعَوَّلِ قال الصُّولي: فنَمَّ الخبر، فاستدعاني وقال: فهل عند رَسْمٍ دارسٍ من مُعَوَّل؟ فاستحييتُ وقلتُ: أصلح الله الوزير، ما بقي عندي شيءٌ، وأنا كما ترى، فأمر لي بخمسة آلاف درهم، فأخذتُها وانصرفتُ. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (7168)، والبخاري (110)، ومسلم (2266) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) في (م ف م 1): عطية. (¬3) بعدها في (ف م م 1): وبكى قلت فإني أرجو البركة في عطاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) في (خ): خلعت، وهذا الخبر ليس في (م ف م 1) وخلقت: بَليت. والخبر في تاريخ دمشق 51/ 127، والمنتظم 14/ 69.

محمد بن أحمد

واختلفوا في وفاته على قولين؛ أحدهما: في هذه السنة، والثاني: في السنة الماضية، مات هو والشبلي في يومٍ واحد. أسند الحديث عن خَلْقٍ كثير، وكان يسمع عليهم في داره، وسمع شيوخ الشام بدمشق في سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة، وقدم الشام مرَّتين (¬1). ومن رواياته عن ابن عباس قال: ما رأيتُ قومًا خيرًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما سألوا إلا بضعة عشر مسألة كلُّهن في القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ} [البقرة: 219]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، ما كانوا يسألون إلا عمَّا ينفعُهم (¬2). [وفيها توفي] محمد بن أحمد ابن الربيع بن سليمان، أبو رجاء، الشافعي، الفقيه، الشاعر. [ذكره جدي في "المنتظم (¬3) " وقال: ] له قصيدةٌ ضَمَّنها أخبار العالم، وذَكَرَ قصَصَ الأنبياء [نبيًّا نبيًّا] وسئل قبل موته بنحوٍ من سنتين: كم بلغت قصيدتُك إلى الآن؟ فقال: ثلاثين ومئة ألف بيت، وقد بقي الطبُّ والفلسفة. [قلتُ: وهذه القصيدة من جنس "أخبار الزمان" للمسعودي.] وكانت وفاته في ذي الحجة ببغداد [، وكتب عن علي بن عبد العزيز وغيره]. هارون بن محمد ابن هارون بن علي [بن عيسى] بن موسى، أبو جعفر، الضَّبِّي (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ): وكانت وفاة علي بن عيسى في هذه السنة، وقيل في السنة الماضية، أسند الحديث عن خلق كثير. والمثبت من (م ف م 1). (¬2) أخرجه الدارمي (127)، والطبراني في المعجم الكبير (12288)، والخطيب في تاريخ بغداد 13/ 460، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2053). (¬3) 14/ 61، وانظر تاريخ الإسلام 7/ 694، وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 70. (¬4) تاريخ بغداد 16/ 49، والمنتظم 14/ 62 وما بين معكوفين منه، وتاريخ الإسلام 7/ 697.

كان أسلافُه ملوكَ عُمان من قديم الزمان، وأول مَن انتقل منهم إلى بغداد هارون بن محمد، فأقام بها، وارتفع قدرُه عند السلطان، وانتشرت مكارمُه وعطاياه، وانتابه الشعراء من كلِّ مكان وامتدحوه، وأجزل صِلاتهم، وأنفق أموالًا عظيمةً في العلماء والأشراف من الطَّالبيِّين والعباسيِّين وغيرهم، واقتنى الكتبَ المَنسوبة. وكان مُبرِّزًا في اللغة والنحو والشعر ومعاني القرآن والكلام، وكانت داره مَجمعًا لأهل العلم حتَّى توفي بها، رحمة الله عليه.

السنة السادسة والثلاثون وثلاث مئة

السنة السادسة والثلاثون وثلاث مئة (¬1) فيها خرج معزُّ الدولة والمُطيع من بغداد إلى البصرة لمحاربة أبي القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي، فسلكوا طريقَ البَرِّيَّة، فجاءهم رسولُ القَرامطة من هَجَر يلومهم على سلوك البرية بغير أمرهم، فسبَّ معزُّ الدولة الرسول والقِرمطي وقال: مَن أنتم حتَّى تُستَأذنوا، إذا فرغنا من البصرة عُدنا إليكم فاستأصلناكم، ومزَّق كتابهم ولم يقرأه، وطرَدَ الرسول. ولمَّا قارب البصرةَ استأمَن إليه جيش البريدي، وهرب البريدي إلى القرامطة، واستولَى معزُّ الدولة على البصرة وعلى أموال البريدي، وأقطع المطيعَ ضياعًا عِوَضَ ما كان يُعطيه وهو ألفا درهم كلَّ يوم، وكان مَغلُّ الضياع كلَّ سنة مئة ألف دينار، ثم تناقصت إلى خمسين ألف دينار. وفيها وصل عمادُ الدولة أبو الحسن علي بن بُوَيه إلى الأهواز، فسار أخوه معزُّ الدولة لتلقِّيه، وتأخَّر المُطيع بالبصرة ومعه الصَّيمَري، ووصل معزُّ الدولة إلى أَرَّجان في شعبان وقد نزل بها عماد الدولة، فقبَّل معزُّ الدولة الأرض بين يديه، ووقف قائمًا، فأمره بالقعود فلم يقعد، وكان يأتي كلَّ يوم إلى خدمة أخيه بُكرةً وعشيًّا فيقف ولا يجلس، وأرجَفَ الناسُ: وإنَّما جاء عماد الدولة ليسترجعَ الأهواز من مُعزّ الدولة، وبلغ عماد الدولة فقال لبعض أصحاب معزِّ الدولة: قد بلغني كذا وكذا، وضرب بيده إلى لحيته وقال: سَوْءةً لي إن اتَّضَعْتُ إلى هذه الحالة، هذا معزُّ الدولة وركن الدولة أخواي وابناي (¬2) في المَرْتبة، وما أُريد الدنيا إلا لهما، ووالله ما جئتُ إلى هنا إلا لأعقِدَ بينهما الرئاسة حتَّى لا يختلفا إن حدث بي حادث؛ فإنِّي مريضٌ، وأسألُه تقديمَ أخيه الكبير على نفسه على ما جرت به العادة، فأخبَرَ الرجلُ معزَّ الدولة، فحضر عند عماد الدولة وبكيا، واتَّفقا ثم ودَّعه. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة، ولم تذكر في (م ف م 1) أحداث هذه السنة اختصارًا. (¬2) كذا في (خ).

أحمد بن جعفر

وعاد معزُّ الدولة والمُطيع إلى بغداد وقد استولى على البصرة وواسط وتلك النَّواحي. ولمَّا وصل معزُّ الدولة والمُطيع إلى بغداد أطلق هبةَ الله بن ناصر الدولة وردَّه إلى أبيه، واصطلحا على مال، ولم يحجَّ أحدٌ من بغداد. وفيها توفي أحمد بن جعفر ابن محمد بن عُبيد الله بن يزيد، أبو الحسين، المعروف بابن المُنادي البغدادي (¬1). ولد سنة سبع وخمسين ومئتين لثمان عشرة خلت من ربيع الأول، وسمع الكثير، وصنَّف كتبًا كثيرة، وجمع علومًا جَمَّة. قال أبو يوسف القَزْويني: صنَّف في علوم القرآن أربع مئة ونيِّفًا وأربعين كتابًا، ليس فيها شيءٌ من الحَشْو، جمع فيها بين حُسن العبارة، وعلوِّ الرِّواية، والدِّراية. ولم يسمع الناس منه إلا الشيء اليَسير لشَراسة أخلاقه، وقال أبو الحسن بن الصَّلْت: كنا نَمضي إلى بابه لنسمعَ منه، فتخرج إلينا جاريةٌ فتقول: كم أنتم؟ فقالت لنا مرةً: كم أنتم؟ فقلنا: ثلاثةَ عشر، وكان قد تبعنا رجلٌ عَلَويٌّ، وما كنا حَسَبناه ولا غلامه، فأذن لنا فدخلنا، فلمَّا رآنا خمسة عشر قال: انصرفوا اليوم فلستُ أحدّثكم، فانصرفنا، وظننَّا أنَّه قد عرض له شغل، ثم عدنا إليه وجلسنا ثانيًا ولم يحدثنا، فقلنا: ما السبب؟ فقال: لأنكم كذبتُم في عددكم، ومَن يكذب في هذا المقدار لا يؤمَن أن يكذب فيما هو أكبر منه، فاعتذرنا إليه وقلنا: نحن نتحفَّظ فيما بعد إن شاء الله تعالى. وكانت وفاته في المحرَّم ببغداد، ودُفن في مقابر الخَيزُران. محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكرٍ، الشَّاشي، ويعرف بالقَفَّال، أحد أئمة الشافعية. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 110، طبقات الحنابلة 2/ 3، المنتظم 14/ 65، السير 15/ 361، تاريخ الإسلام 7/ 698.

محمد بن يحيى

كان إمامًا فاضلًا، وهو أول مَن صنَّف في الجَدَل، وتوفي في صفر (¬1). ومن شعره: [من المتقارب] أُوَسِّع رَحْلي على مَن نَزَلْ ... وزادي مُباحٌ على مَن أكلْ نُقدِّمُ حاضرَ ما عندنا ... وإن لم يكن غيرَ خُبزٍ وخَلّ فأمّا الكريمُ فيرضى به ... وأمَّا اللئيمُ فمَن لا أُبَلْ (¬2) [وفيها توفي] محمد بن يحيى ابن عبد الله بن العبَّاس بن محمد بن صُول، أبو بكر، الصُّوليّ (¬3). [وكان جدُّه] صُول من ملوك خُراسان وجُرْجان. وكان محمد أحدَ العلماء بفنون الأدب، حسنَ المَعرفة بأيام الناس، وأخبار الملوك والخلفاء، ومآثِر الأشراف، وطبقات الشعراء، واسعَ الرواية، كثيرَ الحفظ، حسنَ الشعر، جميلَ الطَّريقة، صنَّف كتاب "الأوراق" وكتاب "الوزراء" وغيرهما، وانتهى إليه علم الهندسة والشِّطْرَنْج، ونادم جماعةً من الخلفاء [ذكرهم في "الأوراق"، وذكرنا طرفًا من سيرته مفرَّقًا في الكتاب. وحكى الخطيب عن أبي بكر محمد بن شاذان قال: رأيت للصُّولي بيتًا عظيمًا مملوءًا كتبًا، وجلودها حُمْرٌ وصُفر وخُضر وسود، فقال: هذا البيت كلّ ما فيه سَماعي. ¬

_ (¬1) تبع المصنف في ذكر القفال هنا وإدراجه في وفيات هذه السنة أبا إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء 112، وقد ذكر الذهبي في تاريخه 8/ 245، وفي السير 15/ 283 أن قول الشيرازي هذا وهم بيّن، فقد أرخ الحاكم وفاته في آخر سنة خمس وستين وثلاث مئة بالشاش، وكذا ورَّخه أبو سعد السمعاني [انظر الأنساب 7/ 244]، ولعله تصحف عليه ثلاثين بلفظ ستين. اهـ. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق 63/ 272، 273 قول الحاكم وأتبعه قول الشيرازي دون ترجيح أحدهما. وانظر طبقات الشافعية الكبرى 3/ 200. (¬2) من أول السنة إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) تاريخ بغداد 4/ 675، والمنتظم 14/ 68، ومعجم الأدباء 19/ 109، والسير 15/ 301، وتاريخ الإسلام 7/ 694.

وقال الخطيب: أنشدني أبو القاسم الأزهري، أنشدني عبيد الله بن محمد المقرئ قال: أنشدني الصُّولي لنفسه: ] (¬1) [من البسيط] أحببتُ من أجله مَن كان يُشبِهُه ... وكل شيء من المعشوق مَعشوقُ حتَّى حَكَيتُ بجسمي ما بمُقْلَته ... كأنَّ سُقْميَ من جَفْنَيه مَسروقُ وله (¬2): [من مجزوء الكامل] شكا إليك ما وَجَدْ ... مَن خانَه فيك الجَلَدْ لَهْفَان إن شئتَ اشتكى ... ظَمْآن إن شئتَ وَرَدْ صَبٌّ إذا رامَ الكَرى ... نَبَّهَهُ لَذْعُ الكَمَدْ يا أيُّها الظَّبْيُ الَّذي ... تَصْرَعُ عَيناه الأَسَدْ أما لأَسْراكَ فِدًى ... أما لقَتْلاك قَوَدْ ماذا على مَن جار في ... أحكامه لو اقْتَصَدْ ما ضَرَّه لو أنَّه ... أنْجَزَ ما كان وَعَدْ هان عليه سَهَري ... في حُبِّه لمَّا رَقَدْ [من أبيات عديدة.] ذكر وفاته: لحقته إضافةٌ شديدة (¬3) ببغداد؛ لأنَّ مَوادّ الخلفاء انقطعت عنه، فخرج إلى البصرة، فمات بها في هذه السنة، وقيل: في سنة خمس وثلاثين [وثلاث مئة، والله أعلم. واتّفقوا على صدقه وثقته وحفظه. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، بدله في (خ): ومن شعره يقول، وانظر- تاريخ بغداد 4/ 679، 681، والمنتظم 14/ 69. (¬2) في (م ف م 1): وبالإسناد من شعر الصولي، والمثبت من (خ). والأبيات في تاريخ بغداد 4/ 680 وعنه في المنتظم 14/ 69 بغير الإسناد السابق. (¬3) في (م ف م 1): حكى الخطيب عن ابن شاذان قال: لحقت الصولي إضاقة شديدة، والمثبت من (خ)، والخبر في تاريخ بغداد 4/ 681 بنحوه من غير رواية ابن شاذان.

ابنة أبي الحسن المكي الزاهد

وفيها توفيت ابنة أبي الحسن المَكّي الزَّاهد حدثنا غير واحد، عن محمد بن أبي طاهر البزاز، عن القاضي علي بن المُحَسّن التنوخي، عن أبيه قال: حدثني عبيد الله بن أحمد ابن بُكَير قال (¬1): ] كان لأبي الحسن المكي ابنةٌ مقيمة بمكة، وكانت أشدَّ وَرَعًا من أبيها، وكانت تقتاتُ في كل سنة بثلاثين درهمًا يبعثُها أبوها إليها من سَفِّ الخُوص، فأخبرني ابن الرَّوَّاس (¬2) وكان جارًا لأبي الحسن [المكي] قال: عَزَمْتُ على الحجِّ، فأتيتُه أستعرِضُ حَوائجَه، فدفع إليَّ قِرْطاسًا فيه دراهم وقال: تُوصِلُه إلى ابنتي بمكَّة في المَوْضع الفلاني، فأخذتُه، فلمَّا وصلتُ إلى مكة سألتُ عنها، فوجدتُها بالزُّهد والعبادة أشهر من أبيها، ففتحتُ القرطاسَ، وجعلتُ الثلاثين خمسين، وأتيتُ إليها فسلَّمتُ عليها وقلتُ: أبوكِ يُسلِّم عليك، وقد بعث لك هذه الدَّراهم، فلما حَصل القرطاسُ في يدها قالت: إيش خبرُ أبي؟ قلتُ: على خيرٍ وسَلامة، قالت: هل خالطَ أبناء الدنيا وترك الانقطاعَ إلى العبادة؟ قلتُ: لا، قالت: فأسألك بمَن حجَجْتَ إلى بيته هل خلطْتَ هذه الدراهمَ بشيءٍ من مالك؟ قلتُ: ومن أين علمتِ؟ فقالت: ما كان أبي يزيدُني على الثلاثين شيئًا؛ لأنَّ حاله لا يحتمل أكثر من ذلك، إلا أن يكون خالطَ أهلَ الدنيا، ثم رمت إليَّ بالقرطاس وقالت: خُذْه فقد عَقَقْتَني وأجعْتَني طولَ السنة، وأحوَجْتَني أن أقتات من المَزابل إلى الموسم الآخر؛ لأنَّ هذه كانت قُوتي طول السنة، ولولا أنك ما قصدتَ أذاتي لدعوتُ عليك، فقلتُ لها: خذي الثلاثين ورُدِّي الباقي، فقالت: ما أعرفُها بعينها، وقد اختلطَت، ولا آخذُ مالًا لا أدري من أين هو، فاغتَمَمْتُ وعُدتُ إلى أبيها، فأخبرتُه واعتذرتُ إليه فقال: لا آخذُها وقد اختلطَت بغير مالي، وقد عققتني وإياها، قلتُ: فما أصنع بها؟ قال: تصدَّق بها، وكانت وفاتها بمكة. ¬

_ (¬1) في (خ): أبي الحسن المكي الزاهد، قال عبيد الله بن أحمد بن بكر، والمثبت من (م ف م 1)، والخبر في المنتظم 14/ 70. (¬2) في (خ) فأخبرني الرواس، وفي (م): ابن أبي الرواس، وفي (ف م 1): ابن أبي العباس، والمثبت من المنتظم، وصفة الصفوة 2/ 276.

السنة السابعة والثلاثون وثلاث مئة

السنة السابعة والثلاثون وثلاث مئة (¬1) فيها زادَت دجلة إحدى وعشرين ذراعًا، وغرقَت بغدادُ غَرَقًا شنيعًا، ووقعَت الدُّورُ، وهرب الناس من الجانب الشرقي، ومات تحت الهَدْم خلقٌ كثير. ودخل أبو القاسم البَريدي بغداد بأمان معزِّ الدولة، فأنزله [دار] الموزه بمَشْرَعة السَّاج، وأقطعه ضياعًا. وفيها اختلف معزُّ الدولة وناصر الدولة، وخرج معزُّ الدولة إلى المَوْصل، وسار ناصر الدولة إلى نَصِيبِين، ودخل بينهما أبو بكر بن قَرابة، فصالحه ناصر الدولة على مال مَبْلَغه في كلِّ سنة ثمانيةُ آلاف ألف درهم، وعاد مُعزُّ الدولة إلى بغداد في ذي الحجَّة وكان قد خرج منها في رمضان. وفيها لقي سيف الدولة الرومَ على مَرْعَش، فهزموه وأخذوا مَرْعَش، وأوقعوا باهل طَرَسُوس (¬2)، ولم يحجَّ في هذه السنة أحدٌ [خوفًا من الخوارج]. وفيها توفي إبراهيم بن شَيبان أبو إسحاق، القِرْمِيسينيّ الصُّوفي (¬3). صحب أبا عبد الله المَغْربي [في طريق الحِجاز، فلما وصل إلى مَعان اشتهى العَدَس بالخَلِّ، وقد ذكرناه في ترجمة أبي عبد الله المغربي] وغيره. وكان يُسمَّى حجة الله على الفقراء وأرباب المُعاملات. وكان من أورع مشايخ الجَبَل وأحسنهم حالًا. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) من قوله: وفيها اختلف معز الدولة وناصر الدولة ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) طبقات الصوفية 402، وحلية الأولياء 10/ 361، والرسالة القشيرية 115، وتاريخ دمشق 2/ 446 (مخطوط)، والمنتظم 14/ 119 (وفيات سنة 348)، ومناقب الأبرار 2/ 117، وتاريخ الإسلام 7/ 706، والسير 15/ 392.

عبد الله بن محمد

نزل قِرْمِيسين وماته بها، وقبره ظاهرٌ يُزار. ومن كلامه: علمُ الفَناء والبقاء يدور على إخلاص الوَحْدانية، وصِحَّة العبودية، وما كان غير هذا فهو من شدَّة المَغاليط والزَّنْدَقة. وقال: الخلقُ محلُّ الآفات، وأكثر منهم آفةً مَن أَنِسَ بهم أو سكن إليهم. [وفي المشايخ آخر يقال له: القِرْميسيني، نذكره في سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة. وفيها توفي] عبد الله بن محمد ابن حَمْدويه بن نُعيم بن الحَكَم، أبو محمد البَيِّع، والد الحاكم [أبي عبد الله] النَّيسابوري (¬1). أذَّن بمسجده ثلاثًا وثلاثين سنةً، وغزا اثنتين وعشرين غَزاة، وأنفق على العلماء والزهَّاد مئةَ ألف درهم، وكان كثيرَ العبادة. روى عن مسلم بن الحَجَّاج وغيره، وكانت وفاته في هذه السنة بنَيسابور عن ثلاث وتسعين سنة، وكان ثقة. قُدامة بن جَعْفر أبو الفَرَج، الكاتب، صاحب المصنَّفات الحِسان؛ ككتاب "البلدان" و "الخراج" وكتاب "صناعة الكتابة" وغيرها. وكان عالمًا، فَطِنًا، ثقةً، جالس العلماء كالمُبرِّد وثعلب وغيرهما، وأخذ عنهم (¬2). ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 73، وتاريخ الإسلام 7/ 726 (وفيات سنة 339). (¬2) المنتظم 14/ 73. قال ياقوت في معجم الأدباء 17/ 13 بعد أن أورد ما ذكر ابن الجوزي: وأنا لا أعتمد على ما تفرد به ابن الجوزي لأنه عندي كثير التخليط، ولكن آخر ما علمنا من أمر قدامة أن أبا حيان ذكر أنَّه حفر مجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات وقت مناظرة أبي سعيد السيرافي ومَتَّى المنطقي في سنة عشرين وثلاث مئة. اهـ. قلت: والذي في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي أن ذلك كان في سنة (326 هـ). ونقل الصفدي في الوافي بالوفيات 24/ 206 عن ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد أنَّه توفي في سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة. وذكر الذهبي قدامة في تاريخ الإسلام 7/ 190 فيمن لم يعرف موتهم من أهل الطبقة (301 - 310 هـ).

السنة الثامنة والثلاثون وثلاث مئة

السنة الثامنة والثلاثون وثلاث مئة (¬1) فيها تقلَّد القاضي أبو السَّائب عُتبة بن عُبيد الله الهَمَذاني قضاء القُضاة ببغداد. وورد رسولُ أنوجور بن الإخشيد من مصر بالأموال والهدايا، وسأل معزَّ الدولة يَدخل أخوه عليّ في الضمان، ويكون من بعده فأجابه، وتحرَّكت القرامطةُ، ولم يحجَّ أحدٌ بسببهم، وقيل: حجَّ الناس. وفيها توفي أحمد بن محمد ابن إسماعيل بن يونس، أبو جعفر، النَّحوي، المعروف بابن النَّحَّاس (¬2). كان فاضلًا، وصنَّف التصانيف الحِسان، وله كتاب "إعراب القرآن"، وكانت وفاته ببغداد في ذي الحجة. أحمد بن محمد بن علي أبو بكر، المَراغي. سافر إلى مصر وأقام بها، وروى عن الرَّبيع بن سليمان أبياتًا سمعها من الشافعي وهي هذه: [من الطويل] شهدْتُ بأنَّ الله لا ربَّ غيره ... وأشهدُ أنَّ البعثَ حقٌّ وأخلص وأنَّ عُرى الإيمان قولٌ مُحَسّنٌ ... وفعلٌ زَكيٌّ قد يَزيد ويَنقُصُ وأنَّ أبا بكرٍ خليفةُ ربِّه ... وكان أبو حَفْصٍ على الخير يَحْرَصُ وأُشْهِدُ ربِّي أنَّ عثمان فاضِلٌ ... وأنَّ عليًّا فضْلُهُ مُتَخَصِّصُ (¬3) ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) المنتظم 14/ 75، معجم الأدباء 4/ 224، تاريخ الإسلام 7/ 713، السير 15/ 401. (¬3) تاريخ دمشق 1/ 197 (مخطوط). ومن قوله: وورد رسول أنوجور ... إلى هنا ليس في (م ف م 1).

الحسن بن حبيب بن عبد الملك

[وفيها توفي الحسن بن حَبيب بن عبد الملك الفقيه، الدِّمَشْقي، ويُعرَف بالحَصائري (¬1). ولد في سنة اثنتين وأربعين ومئتين، ورحل إلى العراق ومصر والحجاز، وسمع الشيوخ وأكثر، وكان إمام مسجد باب الجابية بمدينة دمشق، وتوفي بدمشق في هذه السنة.] عبد الله المستكفي بالله أميرُ المؤمنين بن علي المُكتفي (¬2). كان معتَقَلًا في دار مُعزِّ الدولة، فمات بها بنَفْثِ الدَّم، وعمره ستٌّ وأربعون سنة وشهران. علي بن بُوَيه أبو الحسن، عماد الدولة. أولُ من ظهَرَ من الدَّيلَم، قد ذكرنا مبدأ أمرهم في سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة. وكان عاقلًا، شجاعًا، وكانت به قَرْحَةٌ في الكُلَى طالت مدَّتُها فأنهكت جسمه، وتوفي بشِيراز وعمُره تسعٌ وخمسون سنة. وكانت إمارتُه ستَّ عشرة سنة، وهو أكبر أولاد بُوَيه، وأقام المطيع أخاه أبا علي ركن الدولة مقامَه، وجعله أميرَ الأمراء. ولمَّا مات اضطرب الجيش لموته، فكتب معز الدولة إلى أبي جعفر الصَّيمَري وهو بالأهواز، فشخص إلى شِيراز، ولم يَعُد إلى العراق (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 4/ 423 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 7/ 716، والسير 15/ 383، وهذه الترجمة ليست في (خ). (¬2) تاريخ بغداد 11/ 179، والمنتظم 14/ 76، وتاريخ الإسلام 7/ 679، 718، والسير 15/ 111. (¬3) تكملة الطبري 369، والمنتظم 14/ 77، والكامل 8/ 482، وتاريخ الإسلام 7/ 718، والسير 15/ 402. وهذه الترجمة والتي قبلها ليست في (م ف م 1).

علي بن حمشاذ

[وفيها توفي] علي بن حَمْشاذ ابن سَخْتَويه (¬1) بن نَصْر، أبو الحسن، العدل (¬2). مُحدِّث عصره بنيسابور، سافر إلى البلدان والبر، وجمع "المسند الكبير" في أربع مئة جزء و "الأنوار" (¬3) في مئتين وستين جزءًا، و"التفسير" في مئتين وثلاثين جزءًا. وكان من الصالحين، قال أبو بكر بن إسحاق: صحبتُه سَفَرًا وحَضرًا، فما أعلمُ أنَّ الملائكة كتبت عليه خَطيئةً، وكان صائمًا قائمًا، وروى عن خَلْقٍ كثير. مات فجأةً وقد خرج من الحمَّام في شوال بنيسابور [في هذه السنة، وكان ثقة. وفيها توفي علي بن محمد ابن أحمد بن الحسن، أبو الحسن (¬4)، الواعظ، البغدادي، المصري. ولد في المحرَّم سنة إحدى وخمسين ومئتين، ثم سافر إلى مصر فأقام بها مدة طويلة، ثم رجع إلى بغداد فقيل له: المصري. وقد أثنى عليه الخطيب فقال: كان ثقةً أمينًا عارفًا، جمع حديث اللَّيث بن سعد، وابن لَهِيعة، وصنَّف كتبًا كثيرة في الزُّهد وغيره، وكان له مجلسٌ يتكلَّم فيه بلسان الوَعْظ؛ قال: فحدثني الأزهري: أن أبا الحسن المصري كان يحضر مجالسَ وَعْظه رجالٌ ونساء، وكان يجعل على وجهه بُرْقُعًا خوفًا أنْ تُفْتَتَنَ النِّساء به من حُسن وجهه. ¬

_ (¬1) في (خ): محمد بن حشاد بن بحنونه، وهو تصحيف، والمثبت من سائر النسخ. (¬2) في (خ): المعول، تصحيف، وفي (م): المعدَّل، والمثبت من (م 1 ف) وكلاهما صحيح، انظر المنتظم 14/ 76، وتاريخ الإسلام 7/ 719، والسير 15/ 398. (¬3) كذا في النسخ والمنتظم، وفي السير وتاريخ الإسلام: الأبواب، وهي الأشبه بالصواب. (¬4) في (م ف م 1): الحسين، وهو خطأ، وهذه الترجمة ليست في (خ)، والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 548، والمنتظم 14/ 77، والسير 15/ 381، وتاريخ الإسلام 7/ 719.

محمد بن عبد الله بن دينار

قال الأزهري: وكان أبو بكر النَّقَّاش قد حضر مجلسَه مُسْتَخفيًا، فلما سمع كلامه قام قائمًا، وشهر نفسه وقال: يا أبا الحسن، القَصَص بعدك حَرام. وكانت وفاته ببغداد في ذي القعدة، سمع مشايخ مصر وبغداد، وروى عنه الأئمة، وكان صدوقًا ثقةً صالحًا. وفيها توفي] محمد بن عبد الله بن دينار أبو عبد الله، الفقيه، الزاهد، [الحنَفي] العَدْل (¬1)، النَّيسابوري. رغب عن الفتوى لاشتغاله بالعبادة. وكان صائمًا [قائمًا] صالحًا؛ مع صبره على الفقر وكَسْب الحلال من يده، وكان يحجُّ دائمًا ويغزو، وتوفي عند مُنصرَفه من الحج في صفر [في هذه السنة]، ودُفن بقرب أبي حنيفة [وكان صالحًا ثقة] (¬2). ¬

_ (¬1) في (ف م): المعدل، وهما سواء، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 3/ 474، والمنتظم 14/ 78، وتاريخ الإسلام 7/ 721، والسير 15/ 382. (¬2) بعدها في (م 1): والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

السنة التاسعة والثلاثون وثلاث مئة

السنة التاسعة والثلاثون وثلاث مئة (¬1) فيها استولَى قراتكين على الرَّي والجبال، ودفع عنها عسكر ركن الدولة ابن بويه. وفي جُمادى الآخرة غزا سيفُ الدولة بلادَ الروم في ثلاثين ألفًا، ففتح حُصونًا كثيرةً، وغنم غنائمَ كثيرة (¬2)، وقتل وسَبى خلقًا كثيرًا، فأخذ عليه الروم الدُّروبَ عند خروجه، فاستولَوا على أصحابه قَتْلًا وأسْرًا، واستردُّوا جميعَ ما أخذ المسلمون منهم، وأخذوا خزائنَه وسلاحَه وجميعَ ماله، وأفلَتَ سيف الدولة في عدد يَسير. وفيها رُدَّ الحجر الأسود إلى موضعه إلى مكة من البيت، بعث به أخو أبي طاهر الجَنَّابي مع محمد بن سَنْبر إلى المطيع، وكان بَجكم قد دفع فيه خمسين ألف دينار وما أجابوا، وقالوا: أخذناه بأمر وما نردُّه إلا بأمر، فلما كان في هذه السنة ردُّوه وقالوا: ردَدْناه بأمرِ مَن أخذناه بأمره، وقد ذكرناه في سنة سبع عشرة وثلاث مئة، فأقام عندهم اثنتَين وعشرين سنة، فأعطاهم المطيع مالًا، وبعث به إلى مكة، وحُجَّ بالناس، وتمَّت مناسكهم [برجوع الحجر إلى مكانه، وأمن الناس، وفرحوا بعود الحجر إلى مكة] (¬3). وفيها توفي الحسين بن أحمد النَّاصر ابن يحيى الهادي بن الحسين بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسين بن الحسن (¬4) علي بن أبي طالب، أبو عبد الله الكوفي. أحد وجوه بني هاشم وساداتهم وعُظمائهم وَرَعًا وفَضْلًا، فقيهًا ثقةً صدوقًا. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) في (م) عظيمة. (¬3) لم ترد في النسخ (م ف م 1) تراجم هذه السنة. (¬4) في تاريخ بغداد 8/ 513: يحيى الهادي بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وانظر المنتظم 14/ 81 - 82، وتاريخ الإسلام 7/ 725.

عبد الرحمن بن إسحاق

عبد الرَّحمن بن إسحاق أبو القاسم، الزَّجَّاجي، النَّحوي. من أهل بغداد، سكن طَبَريَّة، وأملى وحدَّث بدمشق، وصنَّف في النحو مختصرًا وسماه "الجُمَل"، وكانت وفاته في رمضان بطَبَرَيَّة، وقيل: مات سنة أربعين وثلاث مئة (¬1). محمد القاهر بن أحمد المعتضد كان مَحبوسًا في دار الخليفة، فأُخرج إلى داره بالحريم الطاهري، فمات ودُفن إلى جانب قبر أبيه وعمُره ثمان وخمسون سنة، وقيل: اثنان وخمسون (¬2). محمد بن عبد الله بن أحمد أبو عبد الله، الصَّفَّار، الأصْبَهاني (¬3). محدِّثُ عصره بخُراسان، كان مُجابَ الدعوة، أقام أربعين سنةً لم يرفع رأسه إلى السَّماء حياءً من الله، وكان يقول: اسمي اسمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واسمُ أبي اسمُ أبيه، واسمُ أمي آمنة، وكانت وفاته في ذي القَعدة. أبو جعفر الصَّيمَريّ كاتب مُعزِّ الدولة. لمَّا توجه من الأهواز إلى فارس حُمَّ في طريقه، وتقدَّم على الجيوش، وكان بالأهواز يُحارب عمران بن شاهين الخارجي، ولمَّا مات ركن الدولة اختلف العَسْكَرُ والرسل إلى معزِّ الدولة بالمُضيّ إلى فارس ليُدبِّرَ الأمور، فسار إلى فارس، فمرض بقرية الجامدة. ¬

_ (¬1) وقيل سنة (337 هـ)، انظر طبقات النحويين واللغوين للزبيدي 119، وتاريخ دمشق 9/ 866 (مخطوط)، وإنباه الرواة 2/ 160، وإشارة التعيين 180، وتاريخ الإسلام 7/ 738، والسير 15/ 475. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 193، والمنتظم 14/ 82، وتاريخ الإسلام 7/ 728، والسير 15/ 98. (¬3) أخبار أصبهان 2/ 271، والمنتظم 14/ 83، وتاريخ الإسلام 7/ 729، والسير 15/ 437.

ولما مات اشرأب لكتابة معزّ الدولة جماعةٌ، منهم أبو علي الطَّبري وأبو محمد المُهَلَّبي وغيرهما، وبَذَل الطبريُّ مالًا لخزانة معزِّ الدولة، وسَفَرَت له أختُ معز الدولة، فقال: يُحضر المال، فاستقرضه من أخت معز الدولة، فلمَّا حصل في الخزانة عَدَل معزُّ الدولة إلى المُهَلَّبي؛ لأنَّه كان صاحب رأيٍ جَوادًا، وكان الطَّبري أمينًا لا يعرف شيئًا، وكان أولًا نَخَّاسًا يبيع الرَّقيق. وخلع معزُّ الدولة على المُهَلَّبي، وأحْدَرَه إلى الأهواز، فاستخلف على كتابته ببغداد أبا الحسن علي بن الأنباري، وكان جيشُ ركن الدولة قد اضطرب، فأرسل إليهم عمادُ الدولة بمال، فاتَّفقُوا وزال الشَّغَب (¬1). ¬

_ (¬1) تكملة الطبري 369 - 370، والكامل 8/ 485.

السنة الأربعون وثلاث مئة

السنة الأربعون وثلاث مئة (¬1) فيها قصد صاحب عُمان البصرةَ، وساعده أبو يعقوب الهَجَري القِرْمِطي، فسار إليهم أبو محمد المُهَلَّبي في الدَّيلَم والجيوش فاقتتلوا، فهزمهم المُهَلَّبي، وأخذ مراكبَهم، وغَنم أموالهم وعساكرهم، وانهزم صاحبُ عُمان إلى عُمان، والهَجَري إلى هَجَر، وعاد المُهَلَّبي إلى بغداد بالأسارى والمراكب. وفيها جمع سيف الدولة العساكر من الموصل والجزيرة والشام ومصر والقبائل، ودخل بلاد الروم فأوغل فيها، وجعل على كلِّ مَضيق جُندًا، وقتل وسبى شيئًا كثيرًا، وخرج إلى حلب سالمًا غانمًا، وحج الناس في هذه السنة. وفيها توفي عُبيد (¬2) الله بن الحسين ابن دَلَّال (¬3) بن دَلْهم، أبو الحسن، الكَرْخي، وهو منسوب إلى كَرْخ جُدَّان، رئيس أصحاب أبي حنيفة (¬4). ولد في سنة ستين ومئتين [واشتغل بالفقه على مذهب أبي حنيفة]، وسكن بغداد، ودَرس بها وبَرَع [، وانتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة، وانتشر أصحابه في البلاد. وذكره جدي في "المنتظم" فقال: ] كان متعبِّدًا كثيرَ الصلاة والصوم، صَبورًا على الفقر، عَفيفًا عمَّا في أيدي الناس، إلا أنَّه كان رأسًا في الاعتزال. [قلت: هذا قول الخطيب، فإنهم لما أجمعوا على فضله ودينه وزهده وتعبُّده وورعه حار بأيِّ شيءٍ يَعيبه، فرماه بالاعتزال، ثم إنَّ الخطيب قد أثنى عليه فقال: ] أصابه ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) في النسخ: عبد، وهو خطأ، والمثبت من المصادر. (¬3) في (م): بلال، وهو خطأ. (¬4) في (م ت م 1): فصل وفيها توفي أبو الحسن الكرخي رئيس أصحاب أبي حنيفة واسمه عبد الله بن الحسين ... والمثبت من (خ)، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 12/ 76، وتكملة الطبري 373، والمنتظم 14/ 85، وتاريخ الإسلام 7/ 742، والسير 15/ 426.

الفالجُ في آخر عُمره [، فاتَّفق أصحابه: أبو بكر الدَّامَغاني، وأبو علي الشَّاشي، وأبو عبد الله البَصْري فقالوا: ] (¬1) هذا رجلٌ عَفيف عمَّا في أيدي الناس، وقد أصابه هذا المرض (¬2)، ويحتاج إلى نَفَقة، ولا ينبغي أنْ نكلِّمَ له الناس، فنكتب إلى سيف الدولة علي بن حَمْدان نطلب له نَفَقةً، فكتبوا [له]، وعلم [أبو الحسن] فبكى وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عوَّدتَني، فمات قبل أن يَحمل إليه سيف الدولة شيئًا، ثم ورد كتابُ سيف الدولة ومعه عشرةُ آلاف درهم، ووَعَد أن يَمُدَّه بأمثالها، فتصدَّقوا بها. وصنَّف كتاب "المختصر" وغيره. [وقال الدَّامَغاني: ] كان شديدَ المَقْت لمَن يَلي القضاء، فوَليَه من أصحابه علي بن محمد التَّنوخي، فهجره الكَرْخي، فعُوتِبَ فيه فقال: إنه كان يُعاشرني وهو فقير، ويتعذَّر عليه القوتُ، وقد بلغني أنَّه يُنفق كلَّ يوم على مائدته دينارًا، وما علمتُه وَرِث مالًا، ولا اتَّجر فرَبِح، ولا أعرفُ لهذه النفقة وجهًا إلا من الجهة التي تَولَّاها، لا حاجة لي فيه، فمات ولم يُكَلِّمه. [ذكر وفاته: ] مات الكَرْخي (¬3) ليلة النّصف من شعبان ببغداد، وصلى عليه القاضي أبو تَمَّام الحسن بن محمد الزَّينبي الهاشمي، [وكان من أصحابه، ودُفن بِحذاء مسجده في دَرْب أبي زيد على نهر الواسِطيِّين، وقد دثر هذا المكان فلا عين ولا أثر] وقيل: مات سنة تسع (¬4) وثلاثين، وقيل: سنة ثلاث وأربعين. واتفقوا على صدقه وأمانته، ومن شعره (¬5): [من البسيط] كم لَوعةٍ في الحَشا أبقَتْ به سَقَمًا ... خَوْفًا لهَجْرِك أو خوفًا من النَّائي ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (م ف م 1)، وبدله في (خ): فقال أصحابه. (¬2) في (م): هذه العلة. (¬3) في (ف م م 1) وما بين معكوفين منها: حكى الدامغاني أنَّه مات، والمثبت من (خ). (¬4) في (خ): سبع. (¬5) في (م ف م 1): وقيل سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة، حدث عن جماعة وقال الدامغاني أنشدنا الكرخي لنفسه، والمثبت من (خ)، والأبيات في تاريخ بغداد 12/ 75 من غير رواية الدامغاني.

لا تَهجروني فإنِّي لستُ ذا جَلَدٍ ... ولا اصْطبارٍ على هَجْرِ الأحبَّاءِ لو أنَّ أعضاءَ صبٍّ خاطبت بشَرًا ... لخاطبتْك بوَجْدي كلُّ أعضائي وما هَمَمْتُ بشُرْب الماء من عَطَشٍ ... إلا رأيتُ خَيالًا منك في الماء [واتَّفقوا على أنَّه إمام وقته في العلم، والزُّهد، والوَرَع، والصِّدق، والأمانة.]

السنة الحادية والأربعون وثلاث مئة

السنة الحادية والأربعون وثلاث مئة (¬1) فيها اطَّلَعَ أبو محمد المُهَلَّبي على جماعة من التَّناسُخِيَّة، فيهم غلامٌ شاب يَزْعم أنَّ روح علي بن أبي طالب رضوان الله عليه انتقلت إليه، وفيهم امرأة يقال لها: فاطمة تزعم أنَّ روح فاطمة عليها السلام انتقلت إليها، وفيهم فتًى من بني بسطام يدَّعي أنَّه جبريل - عليه السلام -، فضُربوا وقُرِّروا، فتعزَّزوا بالانتماء إلى أهل البيت، فأمر معز الدولة بإطلاقهم لميله إلى أهل البيت (¬2). وفيها دخلت الرّوم مدينة سَروج من ديار ربيعة، فقتلوا وأسروا وسَبَوا، وأحرقوا المساجد، وأخربوا البلد. وحج بالناس أبو محمد العَلَوي، وقيل: كنيتُه أبو عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العَلَويّ. وجرت بينه وبين المصريين وَقْعةٌ قُتل فيها جماعة، وكان الظَّفَر للعلوي، فأقام الحجَّ، ودعا لمُعزّ الدولة [على منبر مكة والمدينة وفي الموسم]. وفيها توفي أحمد بن محمد ابن زياد بن بِشر بن دِرْهَم، أبو سعيد، ابن الأعرابي (¬3). بصري الأصل، نزل مكة، وجمع علوم الصوفية، وصنَّف الكتب. وكان زاهدًا، عابدًا، ورعًا، وصار شيخَ الحرم، وصحب الجُنَيدَ، والنُّوري، والمُسوحي وغيرهم، ومات بمكة في ذي القعدة، وأسند الحديث. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) المنتظم 14/ 87، وتاريخ الإسلام 7/ 755، وهذا الخبر ليس في (م ف م 1). (¬3) طبقات الصوفية 427، حلية الأولياء 10/ 375، الرسالة القشيرية 116، تاريخ دمشق 2/ 170 (مخطوط)، المنتظم 14/ 88، مناقب الأبرار 2/ 146، تاريخ الإسلام 7/ 733، السير 15/ 407. وهذه الترجمة ليست في (م ف م 1).

أحمد بن محمد

وقال: الوَعْد والوَعيد من الله، فإذا كان الوعد [قبل الوعيد] فالوعيد تهديدٌ، وإذا كان الوعيد قبل الوعد، [فالوعيد] منسوخ، وإذا اجتمعا فالغَلَبةُ للوَعْد لأنه حقُّ العبد، والوعيدُ حقُّ الله تعالى، والكريم يتغافلُ عن حقِّه (¬1). وقال: إنَّ الله تعالى جعل نعمتَه سببًا لمعرفته، وتوفيقَه سببًا لطاعته، ورحمتَه سببًا للتوبة. وقال: إنَّ الله طيَّب الدنيا للعارفين بالخروج منها، وطيَّب الجنَّةَ لأهل الجنَّة بالخلود فيها، فلو قيل للعارف: إنَّك تبقى في الدنيا لمات كَمَدًا، ولو قيل لأهل الجنّة: إنكم تخرجون منها لماتوا كمدًا، فطابَت الدنيا بذكر الخروج منها، وطابَت الجنّةُ بذكر الدُّخول فيها. وقال: مَدارجُ العلوم بالوسائط، ومدارج الحقائق بالمُكاشفة. وسئل عن أخلاق الفقراء فقال: أخلاقُهم السُّكوت عند الفقد، والاضطراب عند الوجود، [والأنس] بالهموم (¬2)، والوحشة عند الأفراح. وقيل: إنه مات في السنة الماضية (¬3). [وفيها توفي] أحمد بن محمد الواعظ، أبو العباس، الدِّينَوَري (¬4). ورد نَيسابور، وأقام بها مدة، وكان من أفتى المشايخ وأحسنهم طريقةً، وكان [يعظ الناس] ويتكلَّم على لسان أهل المعرفة بأحسن كلامٍ، ثم دخل إلى سَمَرقَنْد فأقام بها إلى أن توفي. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من طبقات الصوفية 429. (¬2) في طبقات الصوفية 430 وما بين معكوفين منها: السكون عند الفقر ... (¬3) ذكر ذلك ابن عساكر والذهي. (¬4) طبقات الصوفية 475، حلية الأولياء 10/ 383، الرسالة القشيرية 123، مناقب الأبرار 2/ 191، تاريخ الإسلام 7/ 917.

ثالث الخلفاء المصريين إسماعيل بن محمد بن عبيد

[حكى عنه ابن خميس في "المناقب" أنَّه] تكلّم يومًا، فصاحت عجوزٌ في مجلسه، فقال لها أبو العباس: موتي، فقامت وخَطَت خُطُواتٍ، ثم التفتت إليه وقالت: ها قد متُّ، ووقعت ميتةً (¬1). وقال: مُكاشَفات الأعيان بالأبصار، ومُكاشَفات القلوب بالاتّصال. وقال: العلمُ علمان: علمُ قيام العبد مع الله تعالى، وعلمُ الله في العبد، وهو المُغَيَّب عن العباد، إلا مَن كُشِف له عن طُرُقٍ منه مثل نبيٍّ أو وَليٍّ. ولما أراد الخروج من نَيسابور قيل له: ما الَّذي يَحملُك على الخروج منها مع محبَّة أهلها لك؟ فقال: [من الكامل] إذا عَقَدَ القضاءُ عليك عَقْدًا ... فليس يَحُلُّه إلا القَضاءُ فما لك قد أَقمْتَ بدار ذُلٍّ ... وأرضُ الله واسِعةٌ فَضاءُ وكان ينشد (¬2): [من الطويل] رأيتُكَ يُدنيني إليك تَباعُدي ... فباعَدْتُ نفسي لابتغاء التقرُّبِ وكان يقول: نَقَضوا أركان التصوُّف، وهَدموا سبُلَها، وغيَّروا معانيها بأسامي أحدثوها، فسَمَّوا الطمعَ زيادةً، وسوءَ الأدب إخلاصًا، والخروجَ عن الحقِّ شَطْحًا، والتلذُّذَ بالمَذْموم طِيبةً، واتِّباعَ الهوى بَلْوى، والرُّجوعَ إلى الدنيا وصولًا، وسوءَ الخُلُق صَولةً، والبخلَ جَلادةً، والسؤال عَملًا، وبذاءةَ اللسان ملامةً، وما كان هذا طريق القوم. ثالث الخلفاء المصريين إسماعيلُ بن محمد بن عُبَيد ويُلقَّب بالمنصور (¬3). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 2/ 192. (¬2) في (م ف م 1): مع محبة أهلها لك فقال: إذا عقد القضاء عقدًا ما يحله غير القضاء ثم أنشد في المعنى: إذا عقد القضاء ... قال وكان ينشد: فما لك قد أقمت ... وقال أيضًا، والمثبت من (خ). (¬3) الكامل 8/ 497، والسير 15/ 156، وتاريخ الإسلام 7/ 767، والمقفى الكبير 2/ 129.

إسماعيل بن محمد بن إسماعيل

ولد بالمَهْدِيَّة من أرض المغرب سنة اثنتين وثلاث مئة أو إحدى وثلاث مئة. وكان فاضِلًا، فَصيحًا يخترعُ الخُطَبَ ويَرْتَجلُها لوقته، ونزل المنصورة مدينةً بناها واستوطنها. ولما مات أبوه بالمَهْدِيَّة في حصار أبي يزيد بن كَيداد كلَّمه الناس في حُسن السيرة، وشكوا إليه ما كان عليه أبوه، فضَمِن لهم أن يغيِّر سيرة أبيه وجدِّه، وحلف على ذلك. وكان ابن كيداد قد أظهر مذهب الإباضِيَّة، فكَرِهَه الناس، وأقام خمس سنين مُستوليًا على البلاد، فخرج إليه إسماعيل من المَهْدِيَّة فحاربه، فلم يزل حتَّى أخذه أسيرًا، فحبسه في سنة ستٍّ وثلاثين، فمات في حبسه، فسلخ جلده وحشاه تِبْنًا، ثم صلبه وحَرَّقه بالنار، ثم وفي للناس بما حلف عليه، وبَقَّى ولاة أبيه، وأقام التَّراويح والسُّنن. ثم مات يوم الجمعة وعمرُه تسعٌ وثلاثون سنة، فكانت ولايتُه سبعَ سنين، وقام بعده ولدُه المُعزّ، فسار في الناس بسيرة أبيه، فأحبَّه الناس، وصفَت له المغرب، وهو الَّذي خرج إلى مصر، وسنذكره إن شاء الله تعالى في سنة خمس وستين وثلاث مئة (¬1). [وفيها توفي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل أبو علي، الصَّفَّار، النَّحْوي (¬2). قال الدَّارقطني: صام إسماعيل أربعةً وثمانين رمضانًا، وكان من أهل السنة. وتوفي في المحرَّم، ودفن عند قبر مَعْروف الكَرْخي بينهما عرض الطريق، وكان صالحًا، ثقةً، مأمونًا، ورِعًا. ¬

_ (¬1) من قوله: وكان يقول: نقضوا أركان التصوف ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬2) تاريخ بغداد 7/ 301، والمنتظم 14/ 88، ومعجم الأدباء 7/ 33، وتاريخ الإسلام 7/ 766، والسير 15/ 440، وهذه الترجمة ليست في (خ).

الحسن بن أحمد

وفيها توفي] الحسن بن أحمد أبو علي المقرئ [، ويعرف بابن الكاتب المصري] (¬1). من كبار مشايخ مصر [له الكلام الحَسَن، والعبارة الحُلوة، والإشارة اللَّطيفة. حكى أبو نعيم الأصبهاني عنه أنَّه] قال: إذا انقطع العبدُ إلى الله بالكلِّية فأول ما يفيده الاستغناء به عن مَن سواه. وقال: يقول الله تعالى في بعض الكتب: مَن صبر علينا وصل إلينا. وقال: إذا سكن القلبَ الخوفُ لم يَنطق اللسانُ إلا بما يَعنيه. [وحكى السُّلَمي عن ابن الكاتب أنَّه] قال: روائحُ المحبَّة تفوح من المُحبِّين وإنْ كتموها، وتظهرُ دلائلُها عليهم وإنْ سَتَروها [وتبدو عليهم وإن أخفَوها، فهذه إشارة الأحباب، وأنشد: [من الطويل] إذا ما أسرَّتْ أنْفُسُ (¬2) القوم ذكرَه ... تبيَّنْتَهُ فيهم ولم يَتكلَّموا تطيبُ به أنفاسُهم فيُذيعُها ... وهل سِرُّ مِسْكٍ أُودِعَ الرِّيحَ يُكتَمُ وقيل: إنَّه مات سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة (¬3) [، صحب أبا علي الرُّوْذَباري، وأبا عثمان المغربي، وكان المغربي يُعظِّمه ويُوَقِّره. وفيها توفي محمد بن النَّضْر ابن مُرّ بن الحُرّ، أبو الحسن، المقرئ، الدمشقي، ويعرف بالأخْرَم (¬4). ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 386، حلية الأولياء 10/ 360، الرسالة القشيرية 113، مناقب الأبرار 2/ 106، المنتظم 14/ 90. (¬2) في (م ف م 1): ألسن. والمثبت من (خ)، وهو الموافق للمصادر. (¬3) وكذلك أورده ابن الجوزي في المنتظم في وفيات سنة (343 هـ). (¬4) تاريخ دمشق 65/ 123، وتاريخ الإسلام 7/ 773، والسير 15/ 564. وهذه الترجمة ليست في (خ).

أبو الخير التيناتي

قرأ القرآن على هارون بن موسى الأخفش وغيره، وقرأ عليه علي بن داود الداراني، وكان صالحًا. وقال الحافظ ابن عساكر: مات في يوم صائف بدمشق، فلما أخرجت جَنازته جاءت سحابة فأظلَّت الجنازة حتَّى دُفن. وفيها توفي] أبو الخَيْر التِّيْناتي [ولا يعرف اسم له] وقيل: اسمُه حَمّاد بن عبد الله (¬1). أصلُه من المغرب، وسكن تينات قرية من قرى أنطاكية. [كذا ذكر ابن خَميس، وقال الصُّولي: قرية على] أميال (¬2) من المِصِّيصَة، وأقام بلبنان مُدَّةً. [كان صاحب كرامات وآيات وإشارات، وكانت السِّباع والوحوش تأنَس به، وأثنى عليه الأئمة، وذكر كراماته السُّلَمي، وابن خَميس، وابن جَهْضَم، وأبو نُعيم، والحافظ بن عساكر، حتَّى قال في "تاريخه": كان أبو الخير من العبَّاد المشهوربن، والأولياء المذكورين. وقال القُشَيري: كان كبير الشأن، وكان يُسمَّى الأقْطَع لأنَّ يده كانت مقطوعةً. ذكر سبب قطع يده: كان إذا سئل عنها يقول: هذه يدٌ جَنَت فقُطعِت، وذكر سبب قطعها السُّلَمي وابن جَهْضَم وأبو نُعيم وابن خَميس في "المناقب" وابن عساكر، وغيرهم. ¬

_ (¬1) وقيل: عباد بن عبد الله، كما في معجم البلدان (تينات)، وانظر ترجمته في: طبقات الصوفية 370، حلية الأولياء 10/ 377، الرسالة القشيرية 111، المنتظم 14/ 96، مناقب الأبرار 2/ 81، تاريخ الإسلام 7/ 917، السير 16/ 22، مختصر تاريخ دمشق 28/ 258. (¬2) في (خ): أنطاكية وقيل هي أميال، والمثبت من (م ف م 1).

حدثنا غير واحد عن أبي الفَضْل محمد بن ناصر بإسناده، عن بكر بن محمد قال: كُنْتُ عند أبي الخير بالتِّينات، فباسَطَني] فحادثتُه (¬1)، فذكر بدايتَه، فهَجَمتُ (¬2) عليه وسألتُه عن سبب قَطْع يده، فقال: يدٌ جنَت فقُطِعَت، ثم سكت، واجتمعتُ به بعد ذلك بسنين مع جماعة من الشيوخ، فتذاكروا مواهبَ الله تعالى لأوليائه، وأكثروا ذكرَ الكرامات وقَطْعَ المسافات (¬3)، فتَبَرَّم الشيخ وقال: كم تقولون: فلان مشى في ليلة إلى مكة، وفلان مشى في يوم، وأنا أعرفُ عبدًا [حَبَشيًّا] من عبيد الله كان جالسًا في جامع طَرابُلُس ورأسُه في مُرَقَّعَته، فخطر بباله طِيب الحَرَم، فقال في سرِّه: يا ليتني فيه، فأخرج رأسه وإذا به فيه. وأمسك عن الكلام، وتغامَزَ الجماعةُ، وأجمعوا على أنَّه ذلك الرجلُ، فسأله واحدٌ عن سبب قطع يده فقال: خرجتُ من المغرب، فأقمتُ بالإسكندرية اثنتي عشرة سنة [، ثم انقلبتُ (¬4) إلى مكان بين شَطا ودِمْياط، فأقمتُ فيه اثنتي عشرة سنة] أتقوَّتُ بعُروق البَرْدي، أَنبُشُه من تحت التراب، فآكلُ العِرْقَ الأبيض وأرمي بالباقي، وفي رواية: وكنتُ قد بَنيتُ لي كُوخًا، فكنتُ أجيءُ من ليل إلى ليل، وأفطر على ما نَفَضه المُرابطون، وأُزاحم الكلابَ على قُمامة السُّفَر، فنُوديتُ في سرِّي: يا أبا الخير، تَزعُم أنك لا تُزاحم الخلقَ في أقواتهم، وتُشيرُ إلى التوكُّل، وأنت في وسط المعلوم جالس؟ فقلتُ: إلهي، وعِزَّتك لا مَدَدتُ يدي إلى شيءٍ مما تُنبتُه الأرضُ حتَّى تكونَ أنت الَّذي توصل إليَّ رزقي من عندك [من حيث لا أكون أنا فيه]. فأقمتُ اثني عشر يومًا أُصلِّي الفَرْض [، وأتَنَفَّل، ثم عجزتُ عن النَّافلة، فأقمتُ أُصلِّي الفرضَ والسُّنة اثني عشر يومًا، ثم عجزت عن السنة، فأقمتُ اثني عشر يومًا ¬

_ (¬1) في (خ): وكان من العباد المشهورين والأولياء المذكورين صاحب كرامات وآيات وإشارات، ويسمى الأقطع لأن يده كانت مقطوعة، وكانت الوحوش والسباع تأنس به، قال بكير بن محمد كنت عنده بالتينات فبسطني، والمثبت من (م ف م 1). (¬2) في (م ف م 1): فتقحمت. (¬3) في (م ف م 1) بعدها: وقد ذكرها في المناقب أيضًا قال. (¬4) في (م): انتقلت.

أصلي الفَرْض] لا غير، ثم عجزتُ عن القيام، فأقمتُ اثني عشر يومًا أُصلِّي الفرضَ قاعدًا، فعجزتُ عن الجلوس، فلجأتُ بسرِّي إلى الله تعالى وقلتُ: إلهي، ضَمِنتَ لي رزقًا، وافترضْتَ عليَّ فرضًا تسألني عنه، فتفضَّل عليَّ برزقي لأقومَ بفرضك [حتى لا أعجز]، فوَعِزَّتك لأجتهدَنَّ أن لا أَحُلَّ عَقْدًا عَقَدْتُه معك، وإذا بين يدَيَّ [قُرْصان أو] رَغيفان بينهما شيءٌ، فكنت آخذهما دائمًا من ليل إلى ليل. ثم طُولبتُ بالمَسير إلى ثَغْر الشام (¬1)، فسرتُ حتَّى دخلتُ الفَرَما، فوجدتُ في جامعها قاصًّا يذكرُ قصةَ زكريا - عليه السلام - والمِنْشار، ودخولَه إلى الشجرة، وأنَّ الله أوحى إليه حين نُشِر: لئن تأوَّهْتَ أو صَعِدَت إليّ منك أنَّةٌ لأَمْحُوَنَّك من ديوان النبوة، فصبر حتَّى قُطع نصفين، فقلت [: لقد كان زكريا صابرًا، ثم قلت] في نفسي: إلهي لئن ابتليتَني لأَصبِرَنَّ. وسِرتُ فدخلتُ أنطاكية (¬2)، فرآني بعضُ إخواني وعلم أنِّي أريد الثَّغْرَ، فدفع إليَّ سيفًا وتُرْسًا وحَرْبةً للسَّبيل، وكنتُ أحتشمُ من الله أن أُرى وراء سور خِيفةً من العدوّ، فخرجتُ إلى غابةٍ هناك، فكنتُ أكون فيها بالنَّهار، وأخرجُ بالليل إلى ساحل البحر، فأَغْرِزُ الحَرْبَة في الأرض، وأُسند التُّرْسَ إليها، وأتقلَّد السيف وأُصلِّي إلى الغَداة، فإذا صليتُ الصُّبحَ غَدوتُ إلى الغابة فكنتُ فيها نهاري، والقُرْصان يَحضُران عندي كلَّ ليلة. فخرجتُ يومًا أمشي في الغابة، وإذا بشجرة بُطْم، [بعضه] قد بلغ، وبعضُه أخضر، وبعضه أحمر، وقد وقع عليه النَّدى وهو يَبْرُق، فاستحسنتُه، وأُنسيتُ عهدي مع الله تعالى، فمَدَدتُ يدي فقطعتُ منها عُنقودًا، وجعلتُ بعضَه في فمي، فبينا أنا أمْضُغُه ذكرتُ العَقْد، فرميتُ به من فمي وقلتُ: جاءت المِحْنةُ، ورميتُ التُّرْسَ والحَرْبةَ، وجَلَسْتُ ويدي على رأسي، فما استقرَّ بي جُلوسي حتَّى استدار بي فُرْسان ورَجَّالة وقالوا: قم إلى الأمير. ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): الثغر بالشام. (¬2) في (م ف م 1): قال وسرت حتى دخلت أنطاكية.

وساقوني إلى أمير بين يديه جماعةٌ من السُّودان جماسين (¬1)، وكانوا يقطعون الطريق في ذلك المكان، فلمَّا رآني وبيدي الحَرْبة والسَّيف والتُّرْس وأنا أسودُ اللون قال لي: إيش أنت؟ قلتُ: عبدٌ من عبيد الله، فظنَّني منهم فقال: أتعرفونه؟ قالوا: لا والله ما رأيناه قبل اليوم، قال: بلى، هو رئيسكم وإنَّما تَفدونه بأنفسكم، لأُقَطِّعَنَّ أيديكم وأرجلكم. ثم قدَّم واحدًا واحدًا فقطع يدَه ورجلَه، حتَّى أتى على آخرهم، ثم قال لي: مُدَّ يدك، فمددتُها فقطعها، ثم قال لي: مُدَّ رجلك، فرفعتُ طَرْفي إلى السماء وقلتُ: إلهي يدي جَنَت فقُطعت، ورجلي إيش عملت؟ وإذا بفارس قد وقف على الحَلْقة، فلما رآني رمى بنفسه إلى الأرض وقال: وَيْحَكم، إيش تريدون أن تفعلوا؟ تريدون أن تنطبق الخضراء على الغَبْراء؟ ! هذا رجل صالح [يُعرف بأبي الخير المُناجي- قال: وكنتُ أُعرف يومئذٍ بالمناجي] فرمى الأميرُ نفسه عن الفرس، وأخذ يدي المقطوعة من الأرض، وجعل يُقبِّلُها ويبكي، وتعلَّق بي وقال: اجعلني في حِلٍّ، سألتُك بالله، فقلتُ: قد جعلتُك في حلٍّ من أوَّل ما قطعتَها، وأنا أعرف ذنبي، وهذه يدٌ جنَت فقُطعت، ثم بكى وقال: أيُّ ذنبٍ أعظمُ من ذنبي، قطعت يدي، وانقطعت عنِّي القرصان. [وذكر جدي في "الصَّفوة" (¬2) وقال: إن أبا الخير كان قد عاهد الله أن لا يأكل من ثمار الجبال شيئًا إلا ما طرحتْه الريح، فخرج إلى جبال أنطاكية، فرأى شجرةَ كُمَّثْرى، فاشتهى منها شيئًا، فأمالتْها الريح، فأخذ منها واحدة فأكلها، وذكر قطع يده. وذكر جَدّي (¬3) أبا الخير وعاب عليه فقال: انظروا رحمكم الله إلى عَدَم العلم كيف صنع بهذا الرجل، وقد كان من أهل الخير، ولو كان عنده علمٌ لعلم أنَّ ما فَعَلهُ حرامٌ عليه. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ ومناقب الأبرار 2/ 86، ولم أجد لها معنى يناسب هذا السياق، ولعلها بشين معجمة، يعني محلوقي الرؤوس عقوبة، والله أعلم. وانظر مختصر تاريخ دمشق 28/ 264. (¬2) 4/ 282. (¬3) في تلبيس إبليس 303، وساق قصته.

قلت: والذي ذكره جدي صحيح، وقد كان قادرًا على أنْ يُعرِّفَهم بنفسه، ولو فعل ذلك ما قطعت يده، ثم هذا أمرٌ لا يوافقه الشَّرعُ عليه ولا العقل، أما الشرع فإنه لو سرق جميع فواكه الدنيا لم يجب عليه القَطْع، وأما العقل فالله تعالى أكرم من أن يُعذِّب عبدًا على تناول عنقود من البُطْم، وقد كان يكفيه التوبة والاستغفار، ولكن نرجع إلى الأقدار؛ فإنه يحتمل أنَّه لو عرَّفهم بنفسه لم يُطلقوه، وأنَّ الله طمس على أعينهم حتَّى أنفذ فيه أمرَه. وقد روى الحافظ ابن عساكر الحكاية وقال فيها: إنهم لما أخذوني وأنا ساكتٌ، وقد كانوا يعرفونني، ولكنْ طمس الله على قلوبهم حتَّى أنفذ أمره في يدي، قال: فلما أرادوا أن يقطعوا رجلي كشف الله لهم فعرفوني (¬1)، وكلُّ مَقدورٍ كائن لا مَحالة.] وقال ابن عساكر في تمام الحكاية: قال أبو الخير: ثم أغْلَوا الزَّيت ليدي فلم أفعل، ودخلتُ غارًا فبتُ فيه بليلةٍ عظيمة، فرأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فأخذ يدي المقطوعة فقبَّلها، فأصبحتُ ولا أجدُ للقطع ألَمًا وعوفيتُ (¬2). [قلتُ: وقد عوَّضه الله، وكان يَسُفُّ الخُوصَ باليد المقطوعة، فذكر جدي في "المنتظم" عن محمد بن الفضل قال: ] (¬3) خرجتُ من أنطاكية إلى التِّينات، فدخلتُ على أبي الخير على غَفْلة [منه بغير إذن]، فإذا هو يسفُّ زنْبيلًا بيده (¬4)، فعجبتُ، ونظر إليَّ وقال: يا عدوَّ نفسِه، ما الَّذي حملَك على هذا؟ قلتُ: هَيَجان الوَجْد لِمَا بي من الشَّوق إليك، فضحك ثم قال لي: اقعُد ولا تَعُد إلى مثلها، واستر عليَّ أيام حياتي. [وروى الحافظ ابن عساكر عن] إبراهيم بن عبد الله قال (¬5): دخلت على أبي الخير مسجدَه وهو يحدِّث شخصًا، فقال: اخرج ورُدَّ الباب، فخرجتُ وجلستُ على الباب طويلًا، وكانت لي إليه حاجة فقلت: إنْ كانا في سرٍّ فقد فَرَغا، فدخلتُ فلم أجد عنده ¬

_ (¬1) مختصر تاريخ دمشق 28/ 261. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 28/ 261 - 262، وما سلف ويأتي بين معكوفات من (م ف م 1). (¬3) ما بين معكوفين من (م ف م 1)، وجاء بدلها في (خ): وقال محمد بن الفضل، والخبر في المنتظم 14/ 96 - 97. (¬4) في (م): يسف الخوص، وبيده زنبيل يعمل فيه. (¬5) في (خ): وقال إبراهيم بن عبد الله، والمثبت من (ف م م 1)، والخبر في مختصر تاريخ دمشق 28/ 269.

أحدًا، فقلتُ: وأين الشخصُ الَّذي كان عندك، ما رأيتُه خرج من الباب؟ ! فقال: مثل هذا لا يخرجُ من باب، قلتُ: لعلَّه الخَضِر؟ قال: نعم، فبكيتُ وقلتُ: يا ليتَني سلَّمتُ عليه وسألتُه الدعاء. ومضت مدةٌ وفُتح على الشيخ بشيء فقال: خُذه واذهب إلى أَذَنَة، واشتر لنا حوائجَ سمَّاها، فمضيتُ إلى أَذَنَة، واشتريتُ الحوائج، وحملتُها على ظهري في كساء، فتعبتُ، فجلستُ أستريح، وبيني وبين التِّينات ستةُ أميال، فوقف عليَّ شخصٌ وسلَّم علي وقال: يا أخي قد تعبتَ، فناولني لأحملَ عنك، فناولتُه، فحمله إلى قريب التينات وقال: الله معك، وسَلِّم على الشيخ عنِّي، قلتُ: من أقول؟ قال: هو يعرف، فلمَّا دخلتُ على أبي الخير قال: يا إبراهيم: أما استحيَيتَ حَمَّلْتَ الرجل ستة أميال، فما [حسدتك، و] (¬1) قد غَبَطْتني على كلامه واجتماعه بي، فقلتُ: الخضر هو؟ قال: نعم، فبكيتُ، فقال: تبكي إن لقيتَه وإن لم تلقَه؟ ! وقال أبو عبد الرَّحمن السُّلَمي (¬2): قال أبو الخير: دخلتُ مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولي خمسةُ أيام لم آكل شيئًا، فتقدَّمُت إلى القبر، وسلَّمتُ عليه وقلتُ: يا رسول الله أنا ضيفك الليلة (¬3)، ونمتُ فرأيتُه في المنام، فناولني رغيفًا، فأكلتُ نصفَه، ثم انتبهتُ وفي يدي النصفُ الآخر. [وحكى عنه ابن باكويه] قال: أقمتُ بمكة سنةً فأصابتني فاقةٌ، فلما أردتُ الخروجَ إلى المسألة هتف بي هاتفٌ: أما تستحي، الوجهُ الَّذي تبذُلُه لي تبذله لغيري؟ ! وقال الأنصاري: دخلتُ (¬4) على أبي الخير، فناولني تفاحتين وقال: أنا أعلمُ أنَّك ما تحمل مَعلومًا، ولكن احمل هذه، فجعلتهما في جيبي وقلتُ: أتبرَّك بهما، فأصابتني فاقةٌ، فأخرجتُ واحدةً فأكلتُها، ثم أدخلتُ يدي لأخرجَ الأخرى وإذا بالتفاحتين على حالهما، فما ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من مختصر تاريخ دمشق 28/ 270. (¬2) في (خ): وقال أبو عبد الله السلمي، والمثبت من (م ف م 1)، والخبر في طبقات الصوفية 370. (¬3) في (م): أنا الليلة في ضيافتك. (¬4) في (م ف م 1): وقال أبو بكر المصري حدثني فقير يعرف بالأنصاري [في م: بالأصبهاني] قال دخلت، والمثبت من (خ). وانظر مناقب الأبرار 2/ 82، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 260.

زلتُ آكلُ منهما إلى الموصل، فاجتزتُ بخَرابٍ، وإذا بعَليل يُنادي: يا قوم، اشتهيتُ على الله تفاحتين، ولم يكن وقت التفاح، فأخرجتُ التفاحتين ودفعتُهما إليه، فأكلهما ومات، فعلمتُ أنَّ الشيخ إنما أعطاني إياهما من أجله (¬1). [وحكى عنه في "المناقب" قال: ] قال إبراهيم الرَّقِّي (¬2): أتيتُ لزيارته، فصلَّيتُ خلفه المغرب، فما أقام [الفاتحة]، فقلتُ في نفسي: ضاعت سفرتي، ثم نمتُ فاحتلمتُ، فخرجتُ من البيت أريد النهر [لأغتسل]، وكان البردُ شديدًا، فلما نزلتُ النهر وخلعتُ ثيابي جاء السَّبُع فقعد عليها وأطال، وكدتُ أتلَفُ من البرد [ووجدتُ ألمه]، وإذا بأبي الخير قد خرج فصاح على الأسد وقال: أما قلتُ لك لا تتعرَّض لضيفاني، فقام يُهَرْول، فصعدتُ ولبستُ ثوبي، فقال لي: أنتم اشتغلتُم بتقويم الظواهر فخفتُم من الأسد، ونحن اشتغلنا بتقويم البواطن فخافنا الأسد. وقال إبراهيم: دخل عليه (¬3) جماعة من البغداديين، فتكلَّموا في الشَّطْح والدَّعاوى، فضاق صدره، وقام فخرج، فجاء الأسد فدخل البيتَ، فسكتوا وانضمَّ بعضُهم إلى بعض، وخافوا وتغيَّرت ألوانُهم، فدخل عليهم أبوالخير وقال: أين تلك الدَّعاوى؟ ! ثم صاح على الأسد فخرج من البيت. وقال (¬4): جاء إبليس إليَّ وأنا أُصلِّي في صورة حَيَّة، فتطوَّق عليَّ في سجودي (¬5)، فقبضتُه وقلتُ: يا لَعين، لولا أنك نَجِسٌ لسجدتُ على ظهرك. [ذكر نبذة من كلامه ووعظه: حكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال (¬6): لن يَصفوَ قلبُك إلا بتصحيح النيَّة لله تعالى، ولن يصفو بدنُك إلا بخدمة أولياء الله. ¬

_ (¬1) في (م): إياهما لأجل ذلك المريض. (¬2) في (خ): وقال إبراهيم الرقي، والخبر في المناقب 2/ 83، ومختصر تاريخ دمشق 28/ 265. (¬3) في (م ت م 1): وفي رواية إبراهيم الرقي قال دخل على أبي الخير، والمثبت من (خ). (¬4) في (ت م م 1): وحكى في المناقب أنَّه قال، والخبر ليس في ترجمته في المناقب، ورواه ابن عساكر في تاريخه انظر مختصره 28/ 269. (¬5) في مختصر تاريخ دمشق: فتطوق بين يدي سجودي. (¬6) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، والقول في المناقب 2/ 82، وطبقات الصوفية 371.

وقال: حَرام على قلبٍ مأسور بحبِّ الدنيا أن يَسيح في روح الغيب. وقال: القلوب ظروفٌ، فقلبٌ مملوءٌ إيمانًا وعلامتُه الشَّفقةُ على خَلْق الله، وقلبٌ مملوءٌ نفاقًا وعلامته الغِلُّ والحقد والحَسد. وقال: مَن لم يكن [له] مع الله صحبةٌ دائمة اعترضَت عليه الأحزان، من ظهور المِحَن وتَغيُّر الزَّمان. وقال: الدَّعوى رُعونةٌ، لا يحتمل القلبُ إمساكَها، فيُلقيها إلى اللسان، فتنطقُ بها ألسنةُ الحَمْقى. ذكر وفاته: [حكى السُّلَمي أنَّه] توفي في هذه السنة، وحكى أيضًا أنَّه مات في سنة تسع وأربعين وثلاث مئة، وقيل: في نيِّفٍ وأربعين أو ثلاث وأربعين وثلاث مئة (¬1)، وعاش مئةً وعشرين سنة، وصحب أبا عبد الله بن الجَلَّاء وطبقته (¬2). ¬

_ (¬1) الَّذي في طبقات الصوفية 370: مات سنة نيف وأربعين وثلاث مئة، وكذا في الرسالة القشيرية 111، ومناقب الأبرار 2/ 81، ونقل ابن عساكر 28/ 271 (مختصر تاريخ دمشق) عن السلمي: سمعت أبا الأزهر يقول: عاش أبو الخير مئة وعشرين سنة ومات سنة تسع وأربعين وثلاث مئة أو قريبًا منه، وانظر تاريخ الإسلام 7/ 920، والسير 16/ 23، وأورد ترجمته ابن الجوزي في المنتظم 14/ 96 في وفيات سنة 343 هـ. (¬2) بعدها في (ف م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

السنة الثانية والأربعون وثلاث مئة

السنة الثانية والأربعون وثلاث مئة (¬1) فيها عاد سيف الدولة من الرُّوم سالمًا غانمًا، وأسر قُسْطَنطين بن الدُّمُسْتُق، وقتل خلقًا عظيمًا وسبى، وعاد إلى حلب. وفيها جاء صاحبُ خراسان -ويقال له: ابن مُحتاج- إلى الرَّي، فحارب ركن الدولة، وجرت بينهما وقائعُ، وعاد إلى خُراسان على غير صُلْح. وفيها وُلد العزيز بن المنصور خامس الخلفاء المصريين. وحجَّ بالناس أبو محمد العَلَوي، وجرى بينه وبين المصريين حربٌ فظهر عليهم، وسببُه: أنَّ المصريين طلبوا أن يخطب لابن طُغْج، فخطب لمعز الدولة (¬2). وفيها توفي الحسن بن طُغْج بن جُف أبو المُظَفَّر، الفَرْغاني (¬3). ولي إمرةَ دمشق خلافةً عن أخيه أبي بكر محمد [بن طغج] في أيام القاهر، ثم عزله أخوه وولَّى دمشق أخاه عبيد الله، ثم وليها الحسنُ مرةً أخرى في أيام المطيع في سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة، ثم رُدَّ إلى الرَّمْلَة فمات بها [في هذه السنة]، وحُمل في تابوت إلى القدس فدُفن بها، وكان شُجاعًا [جَوادًا كريمًا]. عثمان بن محمد بن علي أبو الحسين، الذَّهبي، البغدادي (¬4). ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) من قوله: وفيها جاء صاحب خراسان ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) تاريخ دمشق 4/ 461، وتاريخ الإسلام 7/ 780. (¬4) حكى الخطيب في تاريخه 13/ 190 عن الصوري أنَّه توفي نحو سنة أربعين وثلاث مئة، وقال غيره: توفي سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة بحلب، ونقله ابن عساكر في تاريخه 47/ 28 عن الخطيب، وأورده الذهبي في تاريخ الإسلام 7/ 679 في وفيات سنة (334 هـ). ومن هذه الترجمة إلى نهاية السنة ليس في (م ف م 1).

علي بن محمد

سكن مصر، وحدَّث بها وبدمشق، وكانت وفاته بها، وقيل: بحلب. ومن شعره (¬1): [من المنسرح] المُلْكُ والعِزُّ والمُروءةُ والسْـ ... ؤْدد والنُّبْلُ واليَسار معا مُجتمعاتٌ في طاعة العبد ... لله إذا العبدُ أعملَ الوَرَعا والفقرُ والذُّلُّ والضَّراعَةُ والـ ... ـفاقَةُ في أصل أُذنِ مَن طَمِعا وآثَرَ الفانيَ الخَسيسَ من الدُّ ... نيا وأمسى لأهلها تَبَعا علي بن محمد ابن أبي الفَهْم داود بن إبراهيم بن تَميمٍ، أبو القاسم، التَّنوخي (¬2). وأصله من ملوك تَنوخ الأقدمين من ولد قُضاعة، وهم حيٌّ من اليمن. وأبو القاسم مصنِّف كتاب "الفرج بعد الشدة" (¬3). وُلد بأنطاكية سنة ثمان وسبعين ومئتين في ذي الحجة، وقدم بغداد في حداثته، وتفقَّه على مذهب أبي حنيفة، وبرع في علوم الأصول والنجوم، وقال الشِّعرَ الجيد، وله ديوان، وولي قضاء الأهواز وأعمالها، وولي جُنْدَ حِمصَ من قبل المطيع، وكان فاضلًا نبيلًا. قال: سمعتُ أبي يُنشد يومًا ولي إذ ذاك خمسة عشر سنة بعضَ قصيدة دِعْبِل التي يَفخر فيها باليمن ويُعدِّد مَناقِبَهم، ويَرُدُّ على الكُميت فيها فَخْرَهُ بنزار، وأوّلها: [من الوافر] أفيقي من مَلامِكِ يا ظَعينا ... كفاك اللَّومَ مَرُّ الأربعينا ¬

_ (¬1) كذا؟ ! ، وفي تاريخ دمشق 47/ 26: أخبرنا أبو القاسم، أخبرنا رشأ بن نظيف، أخبرنا الحسن بن إسماعيل، أخبرنا عثمان بن محمد -هو الذهبي البغدادي- أخبرنا الحارث، حدثني محمد بن حسين، عن أي يعلى الكوفي قال: أنشدنا بعض أصحابنا. فبان بهذا أن الشعر الآتي من راويته لا من شعره. ونسب ابن عبد البر الأبيات إلى إسحاق الموصلي في بهجة المجالس 1/ 395. (¬2) تاريخ بغداد 13/ 550، المنتظم 14/ 90، معجم الأدباء 14/ 162، تاريخ الإسلام 7/ 782، السير 15/ 499. (¬3) كذا قال، وإنما الكتاب لابنه المحسِّن، وقد طبع في خسة أجزاء بتحقيق عبود الشالجي. وانظر السير 16/ 524.

[القاسم بن] القاسم بن مهدي

وهي ستُّ مئة بيت، فاشتهيتُ أن أحفَظَها لما فيها من مفاخر اليمن أهلي، فقلتُ: يا سيدي، ادفَعها إليَّ حتَّى أحفظَها، فدافَعَني، فألحَحْتُ عليه فقال: كأني بك تأخذُها فتحفَظُ منها خمسين بيتًا أو مئة بيتٍ ثم تَرمي بالكتاب فتُخْلِقَه عليَّ، فقلتُ: ادفعها إليَّ فدفعها، فدخلتُ الحُجْرَةَ فحفظتُها يومي وليلتي، ثم خرجتُ إليه غُدوةً فقال: كم حفظتَ منها؟ فقلتُ: الكلَّ، فقد رآني كذبتُه فقال: أنشدها من هاهنا، فأنشدتُه الجميع، فهاله حِفْظي، وضمَّني إليه، وقبَّل ما بين عينَيَّ وقال: بالله لا تُخبر بهذا أحدًا؛ فإنِّي أخاف عليك العين. قال: وحفظتُ من شعر القدماء والمُحْدَثين مئتي قصيدة، [وكان أبي وشيوخنا بالشام يقولون: من حفظ للطائيين أربعين قصيدةً و] لم يقل الشِّعر فهو حمار في مِسْلاخ إنسان، فقلتُ الشعرَ وسنِّي دون العشرين سنة (¬1). ذكر وفاته: خرج إلى البصرة في ربيع الأول فتوفي بها، ودُفن في شارع المِرْبَد، وكان صَدوقًا ثقةً. [القاسم بن] القاسم بن مَهْدي أبو العباس، السَّيَّاري (¬2). من أهل مرو، كتب الحديثَ الكثير، وتفقَّه، وكان شيخَ أهل مرو، وأولَ مَن تكلَّم عندهم في حقائق الأحوال. قال: مَن حفظ قلبَه مع الله تعالى بالصِّدق أجرى الله الحكمةَ على لسانه. وقال: ظلمُ الأطماع يَحجب أنوار المشاهدات. وسئل عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فقال: إظهار غائبٍ وتغييبُ ظاهر. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 13/ 553، وما بين حاصرتين منه. (¬2) طبقات الصوفية 440، حلية الأولياء 10/ 380، الرسالة القشيرية 118، المنتظم 14/ 92، مناقب الأبرار 2/ 156، تاريخ الإسلام 7/ 784، السير 15/ 500 وما بين معكوفين منها كلها.

محمد بن داود

وقال: لو جاز أن يُصَلَّى ببيتٍ من الشعر لكان قولُ القائل: [من الخفيف] أتمنَّى على الزَّمان مُحالًا ... أن ترى مُقْلَتايَ طَلْعةَ حُرِّ محمد بن داود ابن سليمان بن جعفر، أبو بكر، الزَّاهد، النَّيسابوري (¬1). قدم بغداد، وأقام بها مدةً طويلة، وكتب الحديث الكثير، ودخل الشام والحجاز والعراق، وكان شيخ الصوفية في عصره بخُراسان والعراق، ومن المقبولين بالعراق والحجاز والشام ومصر وخُراسان، وصنَّف المسندَ والأبواب، وجمع أخبار الصُّوفية والزُّهَّاد، وتوفي بنيسابور عند رجوعه إليها في ربيع الأول. وكان ثقةً، فَهْمًا، ثَبْتًا، صالحًا، من الأولياء. محمد بن موسى ابن يعقوب بن عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، أبو بكر، الهاشمي (¬2). ولي مكة سنة ثمانٍ وستين ومئتين، وقدم مصر فحدَّث بها عن علي بن عبد العزيز بالموطَّأ عن القَعْنَبيّ عن مالك، وتوفي بمصر في ذي الحجة، وكان ثقةً. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 171، تاريخ دمشق 62/ 39، المنتظم 14/ 93، تاريخ الإسلام 7/ 785، السير 15/ 420. (¬2) المنتظم 14/ 93، وتاريخ الإسلام 7/ 786.

السنة الثالثة والأربعون وثلاث مئة

السنة الثالثة والأربعون وثلاث مئة (¬1) فيها كانت وقعة عظيمة بين سيف الدولة والدُّمُسْتُق على الحَدَث، وكان الدُّمُسْتُق قد جمع جمعًا لم يجمع قبله مثله من التُّرك والرُّوس والبُلغار والخَزَر، فكانت الدَّبَرة على الدمستق، قُتل فيها معظمُ البَطاركة والرُّوس والتُّرك، وهرب الدُّمستق، واستؤسر صِهرُه وجماعة من أعيان البطارقة، فأما القتلى فلا يُحصَون، وغنم سيف الدولة عسكرَهم بما فيه من الخزائن والسلاح والدواب وغيرها. وفيها خطب أبو علي بن مُحْتاج صاحبُ خراسان للمطيع، ولم يكن خُطب له قبل ذلك، ووصل رسوله إلى بغداد، فأوصله معزُّ الدولة إلى المطيع، فعقد لابن مُحتاج على خُراسان، وخَلَع عليه، وبعث له لواءً، وأرسل معه معزُّ الدولة جيشًا يساعده على مُحاربة ابن نَصْر، وكان يحارب صاحب خراسان (¬2). وفيها مرض معز الدولة بعلَّة الإنعاظ الدائم، وأُرجف بموته، واضطربت بغداد، فاضطر إلى الركوب، فلمَّا رآه الناس سكنوا، وحجَّ بالناس أبو محمد العَلَوي. وفيها توفي إبراهيم بن أحمد ابن محمد بن المُوَلَّد، أبو إسحاق، الصُّوفي، الرَّقِّي [الواعظ (¬3). ذكره أبو عبد الرَّحمن السُّلَمي في "الطبقات" وأثنى عليه وقال: ] كان من كبار مشايخ القوم وأفتاهم وأحسنهم سيرة. قال: مَن توَلَّتْه رعاية الحقّ كان خيرًا ممَّن تولته سياسة العلم. وقال: حلاوةُ الطَّاعة بالإخلاص تَذهب بوَحْشَة العُجْب. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) من أول السنة إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬3) طبقات الصوفية 410، حلية الأولياء 10/ 364، تاريخ دمشق 2/ 366 (مخطوط)، مناقب الأبرار 2/ 133، تاريخ الإسلام 7/ 778.

إبراهيم بن جعفر

وقال: جُبلت الأرواح في الأفراح فهي أبدًا تعلو إلى مَحَل القَرَح، وجُبلَت الأجساد في الكَمَد فلا تزال تَسْتَفل حتَّى ترجع إلى كَمَدها. وقال: الفترة بعد المُجاهدة من فساد الابتداء، والحَجْب بعد الكَشْف من السكون إلى الأحوال (¬1). وقال: نفسُك سائرةٌ بك وقلبك طائرٌ، فكن مع أسرعهما وصولًا. وأنشد يقول: [من البسيط] لولا مَدامعُ عُشَاقٍ ولَوْعتُهم ... لَبان في الناس عزُّ الماء والنارِ فكلُّ نارٍ فمن أنفاسهم قُدِحَت ... وكلُّ ماءٍ فمن أجقانهم جاري وأنشد أيضًا: [من الخفيف] لك منِّي على البِعادِ نَصيبُ ... لم يَنَلْه على الدُّنوِّ حَبيبُ وعلى الطَّرْفِ من سِواكَ حِجابٌ ... وعلى القلب من هَواك رقيبُ (¬2) إبراهيم بن جعفر المُتَّقي بالله أمير المؤمنين، قد ذكرناه في سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مئة، وعاش بعد خَلْعه إحدى عشرة سنة (¬3). [وفيها توفي] خَيْثَمَة بن سُليمان أبو الحسن، الأطْرابُلُسي، ويعرف بابن الحُرِّ، وبحَيدرة (¬4). أحد الرَّحَّالين المُكثرين، عُمِّر طويلًا فيقال: إنَّه وُلد سنة سبع عشرة ومئتين (¬5)، وعاش عشرين ومئة [سنة، وطاف الدنيا في طلب الحديث، وسمع الكثير. ¬

_ (¬1) من قوله: وأفتاهم وأحسنهم سيرة ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬2) تاريخ دمشق 2/ 367، ونقل ابن عساكر عن ابن البيع أن وفاته في سنة (342 هـ)، وكذا ذكره الذهبي في وفيات سنة (342 هـ). (¬3) انظر السير 15/ 104 والمصادر فيه. (¬4) تاريخ دمشق 5/ 697 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 7/ 788، والسير 15/ 412. (¬5) ذكر الذهبي أن الأصح في ولادته قول ابن أبي كامل سنة (250 هـ).

علي بن [محمد بن] محمد

وقال الحافظ ابن عساكر: أملى بجامع دمشق عن شيوخ الشام، وحكى عنه أنَّه] قال: خرجتُ في غزاة فاستؤسرتُ أنا وجماعة، فرأيتُ في المنام جماعةً من الحور العين، فقالت لي واحدةٌ منهنَّ: إيش فاتَك يا مَحروم؟ فقالت أخرى: إيش فاته؟ قالت: الشهادة، لو قُتل مع أصحابه لكان عندنا في الجنّة، فقالت لها: يا فلانة لئن [رزقه الله الشهادة في عزٍّ من الإسلام وذُلٍّ من الكفر خيرٌ من أن] يرزقَه الله الشهادةَ في ذلٍّ من الإسلام وعزٍّ من الكفر، فما مضَت إلا أيام حتَّى خلصتُ من الأسر، مات بدمشق. حدَّث عن عبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله وغيره، وروى عنه خلق كثير، وكان ثقه. وفيها توفي علي بن [محمد بن] محمد ابن عُقْبة بن هَمَّام، أبو الحسن، الشَّيباني، الكوفي (¬1). قدم بغداد وحدَّث بها عن جماعة. وقال الخطيب: كان ثقةً، أمينًا، مقبول القول عند القضاة، وأقام يَشهد ثلاثًا وسبعين سنة، قال: وأذَّنتُ في مسجدي نيِّفًا وسبعين سنة، وأذَّن أبي نيِّفًا وسبعين سنة، وهو مسجد حَمزة بن حبيب الزَّيَّات بالكوفة. قال: وولي قضاء الكوفة، وتوفي بها في رمضان، وكان صالحًا ثقةً مأمون الغَوائل (¬2). محمد بن العباس بن الوليد أبو الحسين، البغدادي (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 13/ 553، المنتظم 14/ 95، تاريخ الإسلام 7/ 791، السير 15/ 443 وما بين معكوفين منها، وهذه الترجمة ليست في (خ). (¬2) بعدها في (ف م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. (¬3) تاريخ بغداد 4/ 198، وميزان الاعتدال (7296).

كان قاضيًا بكَلْواذى، كتب إليه ابن لَمحة يَسْتَزيره، فكتب إليه محمد: [من مجزوء الرمل] أَنِسَتْ نفسي بنفسي ... فهي في الوَحْدَة أُنْسي وإذا آنَسْتُ غيري ... فأحقُّ الناس نفسي فسَدَ الناسُ فأضحى ... جِنسُهم من شرِّ جِنْسِ فلزمتُ البيتَ إلا ... عند تأذيني لخَمْس وكانت وفاته ببغداد في شوال، وكان ثقةً صدوقًا.

السنة الرابعة والأربعون وثلاث مئة

السنة الرابعة والأربعون وثلاث مئة (¬1) فيها في يوم الجمعة لثمان خلَون من المحرم عقَدَ معزُّ الدولة إمرةَ الأمراء لولده أبي منصور بُختيار بسبب مرضه. وفيها تحرَّك صاحب خُراسان على ركن الدولة، فبعث إليه جماعةُ معز الدولة الحاجبَ الكبير في جيشِ نَجْدةَ لأخيه. وفي صفر دخل ابن ما كان الدَّيْلَمي صاحبُ خُراسان إلى أصبهان، وخرج منها أبو منصور بُوَيْه بنُ ركن الدولة، وانصرف عنها ولم يَجْرِ قتال، فتبعه ابن ما كان، وأخذ خزائنه وسوادَه. وعارضه أبو الفضل بن العَميد وزير ركن الدولة ومعه القرامطة في مكان يُعرَف بالخان، فأوقعوا به، وأسروه وبه ضَرَبات مُثْخِنَة، وأسروا قوَّاده، وقتلوا أصحابه قتلًا ذَريعًا، وحملوه إلى القلعة، وصار ابن العميد إلى أصبهان فأوقع بمَن فيها من أصحاب ابن ماكان، ورجع الأمير بويه (¬2). وفيها وقع وباءٌ شديد بالرَّي ونواحيها، وكان أبو علي بن مُحتاج قد أتى إلى الرَّي فمات في هذا الوباء، وكان قد صالحه ركن الدولة على مال يحملُه إليه إلى خراسان كلَّ سنة، وتكون الرَّي والجبال بيد ركن الدولة، فاتفق موتُ ابن محتاج. وفيها فُلج أبو الحسين علي بن محمد بن مُقْلَة في ذي القعدة، وعَرضَت له لَقْوَة، ومُسك لسانه، وعُمُره تسع وثلاثون سنة. وفيها ورد أبو الفضل القاساني صاحبُ ركن الدولة بطلب تقليد خُراسان لأبي الفَوارس عبد الملك بن نوح صاحبِ خُراسان، فبعث المطيع إليه بالخِلَع واللواء والعَهْد. وحجَّ الناس من غير أن يبعث معهم السلطان مَن يُبَذْرِقُهم. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) من قوله: وفيها تحرك صاحب خراسان ... إلى هنا ليس في (م ف م 1).

الحسن بن زيد

وفيها توفي الحسن بن زيد ابن الحسن بن محمد بن حَمْزة بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن جَعْفر بن أبي طالب، أبو محمد، الجَعْفري، من أهل وادى القُرى (¬1). ولد سنة إحدى وخمسين ومئتين، وتوفي في طريق الرَّي في ربيع الآخر، وكان ثقةً صَدوقًا جَوادًا. وأخرج له الخطيب حديثًا حسنًا عن ابن عباس، عن عثمان بن عَفَّان - رضي الله عنه - أنَّه سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال: "اسمُ الله الأعظم، ما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سَوادِ العَين وبَياضِها" (¬2). شُعْلَة بن بدر أبو العباس، الإخشيدي. ولي إمرةَ دمشق سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة من قبل أبي القاسم وأبي الحسن علي بن محمد بن طُغْج في أيام المطيع، وكان شجاعًا بطلًا، قُتل في هذه السنة بطبرية (¬3) في حربٍ كان بينه وبين مُلْهَم العُقيلي (¬4). [وفيها توفي عبد الله بن إبراهيم ابن محمد بن عمر بن هَرْثَمة، أبو محمد، الهَرَويّ (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 274، المنتظم 14/ 98، تاريخ الإسلام 7/ 800. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 274 - 275، وأخرجه العقيلي في الضعفاء الكبر 2/ 162، وابن أبي حاتم في تفسيره (5) طبعة الزهراني، والحاكم في المستدرك 1/ 552، والبيهقي في شعب الإيمان (2123)، والذهبي في ميزان الاعتدال (3205)، وفيه سلّام بن وَهب الجَنَدي، قال الذهبي: عن ابن طاوس بخبر منكر بل كذب. (¬3) ذكره الذهبي في وفيات سنة (345 هـ) من تاريخ الإسلام 7/ 820. (¬4) من قوله: وفيها ورد أبو الفضل القاساني ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬5) في (ف م م 1): العلوي، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 57، والمنتظم 14/ 99، وتاريخ الإسلام 7/ 800، وهذه الترجمة والتي تليها ليست في (خ).

عثمان بن أحمد بن عبد الله

نزل بغداد بسوق العَطَش من الجانب الشرقي، وتوفي بها في صفر، وحدَّث عن الحارث بن أبي أسامة وغيره، وكان ثقة. وفيها توفي عثمان بن أحمد بن عبد الله أبو عَمرو الدَّقَّاق، ويعرف بابن السَّمَّاك، البغدادي (¬1). كان زاهدًا، صالحًا، سمع الكثير، وكتب الكثير، وكان كل ما عنده من الكتب بخطه. توفي ببغداد في ربيع الأوَّل، ودُفن بمقبرة الدَّير عند مَعْروف الكَرْخي، وحُزر الذين صَلَّوا عليه فكانوا خمسين ألفًا، وكان يومًا مَشْهودًا. سمع حَنْبل بن إسحاق وطبقتَه وخَلْقًا كثيرًا، وروى عنه جماعة. وفيها توفي] محمد بن علي ابن أحمد بن رُسْتم أبو بكر، المادَرائي، الكاتب، نزيل مصر (¬2). ولد بالعراق سنة سبع وخمسين ومئتين، وقدم مصر هو وأخوه أحمد بن علي مع أبيهما، وكان أبوهما عاملًا على خراج مصر لخُمارَوَيه بن أحمد [بن طولون]، ووزر محمد له، وقدم معه دمشق. وكان فاضلًا جليلَ القدر، يفتقد أربابَ البيوت ويَصِلُهم بالأموال. وتوفي بمصر في شوال عن نَيِّفٍ وتسعين سنة. [قال الخطيب: كتب محمد الحديث ببغداد عن أحمد بن عبد الجَبَّار العُطاردي وطبقته، وحدَّث عنه بمصر، واحترقت دار محمد بمصر وكتبُه فيها، وبقي عند أصحابه أجزاءً من سماعه عن العُطاردي فكانت تُسمَع عليه. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 13/ 190، والمنتظم 14/ 99، وتاريخ الإسلام 7/ 801، والسير 15/ 444. (¬2) تاريخ بغداد 4/ 136، تاريخ دمشق 63/ 259، المنتظم 14/ 106، تاريخ الإسلام 7/ 826، السير 15/ 451 وعندهم أن وفاته سنة (345 هـ).

محمد بن يوسف بن الحجاج

وحكى عنه الخطيب حكايةً تدلّ على مكارم أخلاقه، قال: كان ببابي شيخٌ من مَشيخة الكُتَّاب قد طالت عطلتُه، فأغفلتُ أمره، فرأيتُ أبي في منامي يَعتبني فيه ويقول: يا بُنَي، أما تستحي من الله، تتشاغل عن أرباب البيوت، هذا فلان قد أفضى به الحال إلى أن تقطع سراويلُه، وهو يموت جوعًا، وأنت لا تنظر في أمره! قال: فانتبهتُ مَذعورًا، فلما طلَع الصباح ركبتُ إلى دار خُمارويه، وإذا بالشيخ [راكب] على دابّة ضعيفة، فأومأ إليَّ بالتَّرَجُّل، فانكشف فخذه، وإذا به لابس خُفًّا بغير سَراويل، فذكرتُ المنام، فقامَت عليَّ القيامة، ثم استدعيتُه وأنا واقفٌ في مَوضعي وقلت له: يا سبحان الله، أما كان في الدنيا مَن يوصل لك إليَّ رُقعةً؟ قد قلَّدتُك المكان الفُلاني، وأجريتُ لك رزقًا في كل شهر مئتي دينار، وأطلقتُ لك من خزانتي ألفَ دينار وثيابًا وكسوةً وطيبًا (¬1). [وفيها توفي] محمد بن يوسف بن الحَجَّاج أبو النَّضْر، الطُّوسي، الزَّاهد، العابد (¬2). كان يصوم النهار ويقوم الليل، ويتصدَّق بالفاضل من قُوته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ورحل في طلب الحديث إلى العراق والشام ومصر والحجاز، وسمع الكثير. وكان قد جزَّأ الليل ثلاثة أجزاء، جزءًا لقراءة القرآن، وجزءًا لتصنيف الكتب، وجزءًا يستريح فيه، وكانت وفاته في شعبان. [ذكره الحاكم أبو عبد الله في "تاريخ نيسابور" وأثنى عليه، قال: ] ورآه بعض أصحابه في النوم فقال له: وصلتَ إلى ما تطلبه؟ فقال: إي والله، أنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبشر بن الحارث يَحْجُبنا بين يديه ويرافقنا، وقد عَرَضتُ مُصَنَّفاتي كلها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرضيها وقَبِلها، وسررتُ بذلك سرورًا عظيمًا (¬3). ¬

_ (¬1) بعدها في (م 1 ف): والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. (¬2) المنتظم 14/ 100، تاريخ الإسلام 7/ 809، السير 15/ 490. (¬3) بعدها في (ف م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

السنة الخامسة والأربعون وثلاث مئة

السنة الخامسة والأربعون وثلاث مئة (¬1) فيها وزر أبو محمد المُهَلَّبي لمُعزِّ الدولة، وزاد في إقطاعه. وفيها أوقع الروم بأهل طَرَسوس في البحر، وقتلوا منهم ألفًا وثمان مئة رجل، وأحرقوا القرى التي من حولها، وسَبَوا، أهلها. وفيها خرج رُوزْيَهان الدَّيلَمي على معز الدولة، وكاشفه بالعصيان، وكان بالبَطيحَة يقاتل عمران بن شاهين الخارجي، فسار أبي الأهواز، وكان أخوه بلكا بشيراز، فجاهروا كلهم بالعصيان، وكانت القلاع بأيديهم. وجهَّز معز الدولة إلى الأهواز الوزير المُهَلَّبي لقتاله، فلما وصل إليه استأمن رجال الوزير إلى روزبهان، فانحاز الوزير بمن معه، وأظهروا ما كان في نفوسهم عليه من العَتْب، وكاشفوه، وشرعوا يستأمنون إلى روزبهان. فخرج معز الدولة يوم الخميس لسبع خلون من شعبان من بغداد متوجِّهًا إلى قتال روزبهان، ولم يبق مع الوزير المُهَلَّبي من الدَّيلَم أحد، فانصرف إلى الأُبُلَّة، وخرج المطيع إلى معز الدولة [لأن ناصر الدولة] بن حَمْدان [لما بلغه] خروج معز الدولة (¬2) والخليفة من بغداد حَدَّث نفسَه بقَصْدها، فبعث المطيع الحاجب الكبير من واسط إلى بغداد بين يديه، ووصل إلى تكريت ومعه أخ له، وشَغَب الدَّيْلَم ببغداد، وأسرع الحاجب في استقراض أموال التُّجَّار. وفي يوم الخميس لثلاثٍ خَلَوْن من شَوَّال وصل كتابُ معز الدولة إلى بغداد بأنه واقَعَ روزبهان بقَنْطَرة أرْبُق من الأهواز يوم الاثنين سَلْخَ رمضان، وأنه أسر روزبهان وبه ضَربات، وأسر قُوَّاده، وفعل وفعل، فاشتد على الدَّيلم وقالوا: نَعَم، دَجاجٌ كالكواكب عليهم مِكَبَّة (¬3)! فلما تَيقَّنوا الخبر ضَعُفت نفوسهم. وكان معزّ الدولة قبل الحرب منعهم من عبور القَنْطَرة، فما عبر معه إلا القليل ممَّن يَثق به، وكان اعتماده على غلمانه الأتراك، وقاتل طول النهار بنفسه، فلما كان في آخر النهار صَدق الحملةَ بنفسه فرزقه الله الظَّفَر، فأسروا رُوْزبهان وقُوَّاده، وقتلهم قتلًا ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) ما بين معكوفين من الكامل 8/ 514. (¬3) كذا العبارة في (خ).

محمد بن جعفر

ذَريعًا، وعزم على المقام بالأهواز، فبلغه خبر ناصر الدولة، فعاد إلى بغداد في شوال وبين يديه روزبهان على جَمل. ووصل أبو المُرَجّى وأخوه عُكْبَرا، وخرج معز الدولة، وروزبهان في بيت، على بابه داره وعنده جماعةٌ يحفظونه، فحَدَّثت الدَّيلَم نفوسها بأن يَكبِسوا المكان الذي هو فيه ويُخرجوه، فأشار جماعة: على معزّ الدولة بإتلافه، فامتنع كَراهيةَ سَفْك الدَّم، فقاتلوا وزالت الدولة، فأخرج بالليل في سُمارَيَّة وغرِّق، ونفى معز الدولة الدَّيالمة الروزبهارية من بغداد، وقبض على جماعةٍ عن قُوَّادهم، فسكنت الفتنة، وكتب الخليفة إلى الأطراف يخبرهم بالظَّفر بروزبهان جرى (¬1). وفيها غزا سيف الدولة بلاد الروم، فبلغ إلى خَرْشَنة، وفتح حصونًا كثيرة وسبى وأسر، وعاد إلى حلب سالمًا. وفي ذي القعدة عاد الخليفة إلى بغداد، ومات أبو عُمر غُلام ثعلب، وماتت أم المطيع بعلَّة الاستسقاء، ودُفنت بالرُّصافة. وفيها وصلت الروم إلى مَيَّافارِقين، قتلوا أهل الضِّياع وسَبَوا، وبَذْرَقوا بالحاجّ في هذه السنة. وفيها توفي محمد بن جعفر ابن محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن العَلَوي، نقيب الطَّالبيين ببغداد، وكانت وفاته بها في ذي الحجّة (¬2). [وفيها توفي] محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم أبو عمر، الزَّاهد [ويعرف بغُلام ثَعْلب] (¬3). ¬

_ (¬1) من قوله: وفيها خرج روزبهان ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬2) تاريخ بغداد 2/ 525، والمنتظم 14/ 106، وتاريخ الإسلام 7/ 824. وهذه الترجمة ليست في (م ف م 1). (¬3) تاريخ بغداد 3/ 618، وتكملة الطبري 281، والمنتظم 14/ 103، ومعجم الأدباء 18/ 226، وتاريخ الإسلام 7/ 825، والسير 15/ 508.

محمد بن محمد

ولد سنة إحدى وستين ومئتين، وبَرع في علم العربية والنحو واللغة، وكان غزيرَ العلم، زاهدًا، وَرِعًا، وكان إبراهيم بن أيوب يبعث إليه بنَفَقته كفايته، فقَطع عنه ذلك مدَّةً لعُذر، ثم أنفذ إليه ما قطعه عنه، وكتب إليه يعتذر من تأخيره [، فردَّه]، وأمر (¬1) مَن بين يديه أن يكتب على ورقته: أكرَمْتَنا فمَلَكْتنا، ثم أعرضتَ عنا فأرحتَنا. وكان هو في الحَمَّام فكتب (¬2) على بابه: [من المتقارب] وأعجَبُ شيءٍ سَمِعْنا به ... مريضٌ يُعادُ فلا يوجَدُ [وروي عن محمد بن عبد الباقي، عن علي بن أبي علي، عن أبيه قال: أملى أبو عمر غلام ثعلب من حفظه ثلاثين ألف ورقة لغة، ولسَعَة علمه اتُّهم بالكذب. ذكر وفاته: قال الخطيب: ] توفي أبو عمر يوم الأحد، ودفن يوم الإثنين لثلاث عشرة خَلَت من ذي القعدة، ودُفن في الصُّفَّة المقابلة لمعروف الكَرْخي [، ودفن فيها بعده أبو بكر الأدَمي وعبد الصَّمد بن علي الطَّسْتي، بينهم وبين معروف عرض الطريق، وكان واسع العلم في العربية. وفيها توفي محمد بن محمد ابن عبد الله بن حمزة، البغدادي، أبو جعفر، نزيل سَمَرْقَند (¬3). ذكره الحاكم في "تاريخه" وأثنى عليه وقال: كان محمد بن محمد محدّث خُراسان في عصره، وسافر إلى العراق والشام ومصر، وعَبر ما وراء النَّهر، وسمعنا عليه، وحدَّث عن ابن أبي الدنيا، وأبي زُرْعَة الدِّمَشْقي، وخلق كثير. وكان حافظًا، فاضلًا، صَدوقًا، ثِقةً، مأمونًا، كثيرَ العبادة والوَرَع]. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ بغداد 3/ 619 وعنه سائر المصادر. (¬2) كذا في (خ)، وهذا الخبر ليس في (ف م م 1)، وصواب النص كما في تاريخ بغداد: أن إبراهيم بن أيوب اعتل، فتأخر عن مجلس أبي عمر الزاهد، فسأل عنه فقيل: إنه كان عليلًا، فجاء من الغد يعوده، فاتفق أنَّه كان في الحمام، فكتب الزاهد بخطه .... (¬3) تاريخ بغداد 4/ 354، تاريخ دمشق 64/ 244، المنتظم 14/ 111، السير 15/ 547، تاريخ الإسلام 7/ 841. وهذه الترجمة ليست في (خ).

السنة السادسة والأربعون وثلاث مئة

السنة السادسة والأربعون وثلاث مئة (¬1) فيها في يوم الخميس ثاني عشر المُحَرَّم توفي أبو الحسين علي بن محمد بن مُقْلَة، وفي هذا اليوم عاد معز الدولة من قُطْرُبُّل إلى داره ببغداد. وفيها في تشرين كثر الوَباء ببغداد، وأورام الحَلْق، والماشَرا، وكثر الموت، ومَن افْتَصَد انْصَبَّ إلى ذِراعه (¬2) مادَّةٌ حادة فتلف منها، ونقص البحر ثمانين ذراعًا، وقيل: ثمانين باعًا، فظهر فيه جبال وجَزائر لم يعرفوها قط، وكانت السنة قليلةَ المطر جدًّا. ووَرَد قوم من الثَّغْر إلى بغداد يشكرون سيف الدولة ابن حمدان على جهاده، فكتب إليه المطيع كتابًا يشكره، يقول في أوله بعد البسملة: من عبد الله الفضل الإمام المطيع لله أمير المؤمنين إلى سيف الدولة أبي الحسن علي، سلامٌ عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الَّذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يُصلي على محمد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأمتع أمير المؤمنين بالنِّعمة فيك وعندك، فإن أحقَّ الآثار بالإبهاج والاستبشار إعزاز الإسلام ونَصْره، وإذلال الشّرك ودَحْره، وإنه وإن كان حقًّا لله عليك؛ فقد صار حقًّا بتوفيق الله إياك أوجبتَه ووكَّدْتَه، ولذلك لا يزال أمير المؤمنين يتحدَّث به ويَشْهَرُه، ويُثْني بما أُتيح لك منه ويَنْشُره، حتَّى يَخْلُص لكم مَخايل الصَّدَقة، ويجتمع على مَوَدَّتك والاعتداد بك جميع الجمهور، واللهَ يسأل أمير المؤمنين أن يُديم بك الإمتاع، ويُحسن عنك الدِّفاع، ويُجْزِل حَظَّك من الثواب، ويَصون مَوقعَك في ذوي الألباب، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جَدير (¬3). وفيها كان بالرَّي ونواحيها زلازل كثيرة أتت على كثير من الناس. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) في (ف م م 1): دماغه، والمثبت من (خ) والمنتظم 14/ 109، والكامل 8/ 520. والماشرا في عرف الأطباء: ورم حار عن دم صفراوي يعم الوجه وربما غطى العين. نقلًا عن هامش سير أعلام النبلاء 18/ 308. (¬3) من قوله: وورد قوم من الثغر ... إلى هنا ليس في (م ف م 1).

[وذكر القاضي علي بن المحُسِّن، عن أبيه قال: حدثني] أبو الفرج الأصفهاني (¬1) أن لصًا نَقَب حائطًا ببغداد في هذه السنة في زمن الطاعون، فمات مكانه على النَّقْب، وأن إسماعيل القاضي لبس سَواده ليَخرج إلى الجامع ليَحكم، ولبس أحد خُفَّيه وأخذ الآخر ليَلْبسَه، فمات قبل أن يَلبسه. [وذكر أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد، ويعرف بابن الجَزَّار القَيرواني في "تاريخه" قال: وفي سنة ستٍّ وأربعين وثلاث مئة في خلافة المطيع] خُسِف بيلد الطَّالقان ورَساتيقها في ذي الحجة يوم الأربعاء لثلاث بقين منه على ساعتين من النهار، ولم يفلت منهم إلا نحو من ثلاثين رجلًا، وصارت كلها رَمادًا، وخُسِف بالباقين، وعين بعضهم تنظر إلى بعض، وخُسِف بخمسين ومئة قرية من قرى الرَّي، واتصل الأمر إلى حُلْوان فخسف بأكثرها، وخُسِف [بمكان يقال له: قصر شيرين، وبموضع يقال له: مرج القلعة، وبمكان يقال له: طَفْر، وقذفت] الأرض ما فيها، وألقت عظام الموتى، وتفجَّرت منها المياه، وتقطَّع بالرَّي جبل يقال له: طَبَرَك وبجبال حلوان حتَّى كان يقال: ها هنا جبال، وعُلِّقت قريةٌ بين السماء والأرض بمن فيها من غُدوةَ إلى الظُّهر، ثم خسف بها وبمن كان فيها، وانخرقت الأرض خُروقًا عظيمة، الخَرْق منها أكثر من ثلاث مئة ذِراع، وخرجت منها مياه مُنْتنة ودُخان عظيم. وفيها انهدم بيت بمدينة جَيّ من أعمال أصبهان، فظهر في البيت خمسون عِدْلًا من جلود، فيها خطوط مختلفة مكتوبة في لحاء الشَّجَر لم ير الناس مثلَها، فبحثوا عنها فإذا هي علوم الفُرْس في النجوم والأفلاك والهندسة وما يحدث في العالم، ويقال لهذه البَنيَّة: سارويه، وكانت قائمة من عجائب الدنيا كالأهرام [التي عليها الأعلام، وكانت الكتب مُودعة فيها، وحكي عن أبي جعفر أنَّه قال: ] المأمون بناها، وأودعها هذه الكتب [، والدفائن، وليس بصحيح] (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، وجاء بدله في (خ): وقال أبو الفرج الأصبهاني، والخبر في المنتظم 14/ 109. (¬2) ما بين معكوفات من (ف م م 1)، وفي (خ): وقال أبو معشر: المأمون ... ، وجاء بعد هذا الكلام في (ف م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. وتنتهي السنة في هذه النسخ (م ف م 1).

علي بن محمد بن مقلة

وفيها توفي علي بن محمد بن مُقْلَة أبو الحسين، الوزير. وكان فُلج وأقام مَفْلوجًا، وعولج فبرأ، ثم عاوده الفالج لتخليط جرى منه في تدبيره، وكان قد خرج إلى الحائر لزيارة قبر الحسين - رضي الله عنه - لنَذْرٍ كان عليه، فتوفي هناك، وحمل في تابوت إلى بغدإد، ودفن في داره بمُرَبَّعَة أبي عُبيد الله (¬1). محمد بن يعقوب ابن يوسف بن مَعْقِل بن سِنان، أبو العباس، الأموى مولاهم، النَّيسابوري (¬2). ولد سنة سبع وأربعين ومئتين، ورحل به أبوه إلى الآفاق، وظهر منه الصَّمَم بعد انصرافه من الرِّحلة، ثم استحكم. أذَّن في مسجده سبعين سنة، وحَدَّث ستًّا وسبعين سنة، فألحق الصغار بالكبار، وكان يُوَرِّق ويأكل من كَسْب يده، وكانت الرحلة إليه من الدنيا مُتَّصلة. وقال أبو عبد الله الحاكم: خرج علينا الأصَمُّ ونحن في مسجده وقد امتلأت السِّكَّة من الناس، فقام الناس يحملونه على أعناقهم ويُطَرِّقون له إلى المسجد (¬3)، فلما بلغ إليه جلس على جداره، وبكى طويلًا ثم قال: كأني بهذه السِّكة ولا يدخلها أحدٌ منكم، فإني لا أسمع، وقد ضَعُف البَصَر، وقَرُب الرَّحيل، وانقضى الأجَل. فما كان إلا نحو شهر حتَّى كُفَّ بَصرُه، وانقطعت الرِّحلة، وآل أمرُه إلى أنَّه كان يُناوَل قلمًا، فيعلم بذلك أنهم يطلبون الرواية، فيقرأ أحاديث كان يَحفظها أربعة عشر حديثًا وسبع حكايات. وكانت وفاته في ربيع الأول في نَيسابور، ولم يُختَلَف في صدقه، وصِحَّة سماعه، وثقته، ودينه، ووَرَعه، وعبادته. ¬

_ (¬1) تكملة الطبري 383. (¬2) تاريخ دمشق 65/ 305، والمنتظم 14/ 112، والسير 15/ 452، وتاريخ الإسلام 7/ 841. (¬3) يوسّعون له الطريق.

السنة السابعة والأربعون وثلاث مئة

السنة السابعة والأربعون وثلاث مئة (¬1) فيها في المحرَّم استأمن أبو الحسن النَّصْراني كاتب ناصر الدولة إلى مُعزّ الدولة، وقدم بغداد فخرج الوزير المهلبي إلى لقائه، وأمرمه معز الدولة، وأنزله في دار الحسن بن هارون، وحمل إليه مالًا وثيابًا وطيبًا، وأقطعه أقطاعًا بعشرة آلاف دينار في السنة. وعادت الزَّلازل بحُلْوان وقُم وقاشان والجبال، فأتلفت خلقًا عظيمًا، وهدمت الحصون والأبنية، وظهر جَرادٌ فطَبَّق الدنيا من المشرق إلى المغرب، فأتى على جميع الغَلَّات والرِّطاب والمباطِخ والشَّجَر (¬2). وفي ربيع الأول خرجت الروم إلى آمِد وأَرْزَن ومَيَّافارِقين وديار ربيعة، ففتحوا حصونًا كثيرة، وقتلوا خلقًا عظيمًا، وآخر ما فتحوا سُمَيساط، وأخربوها وقتلوا مَن كان بها. وفي ربيع الآخر شَغَب الأتراك والدَّيلَم بالمَوْصِل على ناصر الدولة، وزحفوا إلى داره وأحاطوا بها، وتَسوَّروا عليه وأرادوا قتلَه، فحاربهم بغلمانه وبالعامة، وظفر بهم، فقتل منهم جماعةً في الوَقْعة، وقبض بعدها على الآخرين، وهربوا إلى بغداد (¬3). وفيها في جُمادى الآخرة زُفَّت بنت مُعزِّ الدولة على أبي منصور بُوَيه بن ركن الدولة، وحملها معه إلى أصبهان. وفي شعبان كانت وقعة عظيمة بين الروم وسيف الدولة بنواحي حَلَب، كانت على سيف الدولة، فقتلوا مُعظمَ رجاله وغلمانه، وأسروا أهلَه، وأفلت في عَددٍ يسير، ثم مالوا على سُمَيساط فأخربوها. وفي جُمادى الآخرة خرج معز الدولة من بغداد يريد الموصل لتأخر حمل المال إليه، وبلغ ناصر الدولة فسار إلى نَصِيبين (¬4). ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) من أول السنة إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) هذا الخبر ليس في (م ف م 1)، وانظر تاريخ الإِسلام 7/ 759. (¬4) هذا الخبر وسابقه ليسا في (م ف م 1).

قال ثابت: ولليلتين بقيتا من جُمادى الآخرة ظهر لنا بالجَوِّ ونحن بنواحي السّنّ في ناحية المشرق والشمال أعمدة كبيرة (¬1)، بينها حمرة شديدة، والأعمدة مُضيئة. ودخل مُعزّ الدولة المَوْصل لليلة بقيت منه، وبعث رسولًا إلى مصر وهو أبو الحسن بن حسمويه الكاتب يطلب من كافور المال الذي تقرَّر بين المطيع وبين الإخشيد، فاعتقل الرسول. وفي منتصف رجب خرج معز الدولة من المَوْصِل يريد نَصِيبين، وخلَّف بالموصل سُبُكْتكين الحاجب الكبير، ووصل إلى بَرْقَعيد، وأنفذ منها سَرِيَّةً إلى سِنجار؛ لأنه بلغه أن أبا المُرَجَّى وأخاه بها، فانصرفا منها، فنزلا بالخابور، وجاء الدَّيلَم فأعجلوهما، فتركا خيمتهما ومتاعَ عسكرهما بحاله، فنزل الدَّيلَم في الخيام، واشتغلوا بالنَّهْب، فرجع أبو المُرَجَّى وأخوه عليهم، فقتلوا وأسروا، وقتلوا ابن مالك الدَّيلَم قتله هبة الله وأبو المرجى، وأسروا من أعيان الدَّيلَم خمس مئة رجل، وبقي مُعزّ الدولة ببَرْقَعيد في عدد يسير، فأرسل إلى بغداد فجاءته العساكر، فسار إلى نصيبين فدخلها في شعبان. وسار ناصر الدولة منها إلى مَيَّافارِقين، واستأمن مُعظَم عسكره إلى مُعزّ الدولة، ورحل إلى حلب مُستجيرًا بأخيه سيف الدولة، فتلقاه وخدمه بنفسه؛ حتى تولَّى نَزْع خُفَّيه بيده، وما زال طريف خادم ناصر الدولة وهو أمْرَد وغلامه يتلطَّفان في الجانب الشرقي من الموصل عُمَّال معز الدولة، ويمنعان الغَلَّة أن تدخل الموصل والميرة، فكانت كأنها مُحاصرة (¬2). وورد عمر النَّقيب في ذي القَعدة إلى نَصيبين من ناصر الدولة، وسَفَر في الصُّلح فلم يَتمّ، وطال الخَطْب، فاستأمن النَّقيب إلى معز الدولة، وأقام عنده ولم يعد إلى ناصر الدولة. ثم سفر سيف الدولة بينهما، فأجاب معز الدولة، ورحل من نَصيبين طالبًا الموصل لليلتين خلتا من ذي الحجة، فلما صار قريبًا من المُوْنِسَة هَبَّت ريحٌ باردة، ووقع ¬

_ (¬1) في (ف م): كثيرة. (¬2) من قوله: ودخل معز الدولة الموصل لليلة بقيت منه ... إلى هنا ليس في (م ف م 1)، والأخبار التي يسوقها المصنف بتفصيلاتها لم أقف عليها فيما بين يدي من مصادر، وانظر تكملة الطبري 385، والكامل 8/ 522 - 523، وتاريخ الإسلام 7/ 760.

أحمد بن سليمان

نُداف (¬1) فهلك في ساعة واحدة ثمان مئة رجل غير الدواب ومَن لم يُعْرَف، ودخل مُعزّ الدولهُ الموصل لعشرٍ خَلَون من ذي الحجة يوم الثلاثاء، فنزل دار تغلب بن ناصر الدولة. وفي يوم السبت لعشر بقين من المحرم وافى أبو محمَّد القاضي كاتب سيف الدولة إلى الموصل، فقرر الأمر على أن تكون المَوْصِل وديار ربيعة والرَّحْبَة على سيف الدولة بألفي ألف درهم وتسع مئة ألف درهم في السنة، وإنما عقدها سيف الدولة لأن معز الدولة لم يشق بناصر الدولة، فإنه غدر به مرارًا، فقال معز الدولة لسيف الدولة: أنت عندي الثقة، وأنْ يُقدِّم ألف ألف درهم, ويطلقوا الذين أُسروا بسِنْجار. وانحدر معز الدولة إلى بغداد فدخلها سَلْخ المحرَّم سنة ثمان وأربعين، وتأخَّر الوزير المُهَلَّبي والحاجب الكبير بالموصل إلى أن يُحمل مال التعجيل والأسرى، ثم قدم المهلبي والحاجب الكبير وكاتب سيف الدولة بعد ذلك بغداد (¬2). وفيها توفي أحمد بن سليمان ابن أيوب بن داود بن عبد الله بن حَذْلَم، أبو الحسن، الأسَدي، قاضي دمشق (¬3). ولد سنة تسع وخمسين ومئتين، وكان ثقة، ثبتًا، مأمونًا، فقيهًا على مذهب الأوزاعي. [ولي قضاء دمشق نيابةً عن الحسين بن عيسى بن هَرَوَان.] وكانت حلقته بجامع دمشق. وكان حَذْلَم نصرانيًّا، أسلم على يد الحسين بن عمران صاحب خراج دمشق [، ومات في ربيع الأول في هذه السنة. ¬

_ (¬1) ثلج كبير وبَرَد. (¬2) من قوله: وفي يوم السبت لعشرة بقين من المحرم ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) مختصر تاريخ دمشق 3/ 91، وتاريخ الإِسلام 7/ 848، والسير 15/ 514.

إسماعيل بن الحسين

أسند عن أبيه، وأبي زُرْعَة الدمشقي، وبَكَّار بن قُتَيبة وغيرهم]. وقال تَمَّام بن محمَّد: دخلنا على أحمد مجلسه بداره بعد الجمعة فقال: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وعن يمينه أبو بكر وعمر، وعن يساره عثمان وعلي، فجئتُ فجلستُ بين يديه في هذا المجلس، فقال: يا أبا الحسن، قد اشتقنا إليك أنهما اشتقت أنت إلينا؟ [قال تمام: ] فما مضت جمعة حتى مات في ربيع الأول، وقيل: في النِّصف من شوال. إسماعيل بن الحسين ابن أحمد بن إسماعيل بن محمَّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو محمَّد. ولي النِّقابة بدمشق من قبل المقتدر بالله، وكان زاهدًا، عَفيفًا، عالمًا. توفي يوم السبت لثمان خَلَون من رجب، وكانت له جنازة عظيمة لم يتخلَّف عنها أحد، وصلى عليه الأمير فاتِك في المصلّى (¬1). [وفيها توفي عبد الوهَّاب بن محمَّد ابن موسى، أبو أحمد، الغُنْدِجاني (¬2). ولد سنة ستٍّ وستين ومئتين، وسمع الحديث بالأهواز وببغداد، وتوفي بالمبارك قرية من قرى بغداد، ودفن بالنُّعْمانية. حدَّث عن أحمد بن عَبْدان سمع منه بالأهواز، وغيره، وكان ثقةً صالحًا وَرِعًا.] (¬3) ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 2/ 829 (مخطوط). (¬2) ضبطها السمعاني في الأنساب 9/ 179 بفتح الغين والدال، والمثبت من معجم البلدان 4/ 216. (¬3) هذه الترجمة ليست في (خ)، وأثبتناها من (م ف م 1)، وجاء بعدها في (م 1 ف): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمَّد وآله وصحبه وسلم. وإيراد هذه الترجمة في هذه السنة وهم تابع فيه المصنف جدّه إذ أوردها في المنتظم 14/ 116، والصحيح ما ذكر الخطيب والسمعاني وابن الأثير والذهبي من أنه توفي سنة (447 هـ) وأنه ولد سنة (366 هـ)، انظر تاريخ بغداد 12/ 296، والأنساب 9/ 180، واللباب 2/ 390، وتاريخ الإِسلام 9/ 697، والسير 17/ 661. وأحمد بن عبدان ولد سنة (293 هـ) وتوفي سنة (388 هـ) انظر السير 16/ 489.

علي بن أحمد

علي بن أحمد ابن سَهْل، أبو الحسن، البُوشَنْجي (¬1). شيخ وقته في العلوم والحقائق، كان أعلم الناس بعلوم التَّوحيد والمعاملات، وأحسنهم طريقةً في الفُتُوَّة والتَّجريد، دَيِّنًا، عفيفًا، كريم الأخلاق، مُتَعاهِدًا للفقراء، سافر إلى الأقطار، ولقي المشايخ، وبنى دار التَّصوف بنَيسابور وانقطع إليها. وقال: الناس على ثلاث مَنازِل: الأولياء وهم الذين باطِنُهم أفضل من ظاهرهم، والعلماء وهم الذين سِرُّهم وعَلانيتُهم سواء، والجُهَّال وهم الذين عَلانيتهم تُخالف سَريرتهم، لا يُنصفون من أنفسهم، ويطلبون الإنصاف من غيرهم. وسُئل عن التَّوحيد فقال: قريبٌ من الظُّنون، بعيد عن الحقائق، وأنشد: [من الطويل] فقلتُ لأصحابي هي الشَّمسُ ضوؤها ... قريبٌ ولكن في تَناوُلها بُعْدُ وسئل عن التوبة فقال: إذا ذكرتَ الذَّنْبَ ولم تجد حَلاوته عند ذكره فهو التوبة. وسئل عن التصوف فقال: اسم ولا حقيقة، وقد كان قبلُ حقيقةً ولا اسم. محمَّد بن الحسن ابن عبد الله بن علي بن محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشَّوارِب، أبو الحسن، القُرَشي، الأُموي (¬2). ولد سنة اثنتين وتسعين ومئتين، وكان واسعَ الأخلاق، كريمًا، جَوادًا. ولي القضاء بمدينة السلام في أيام المُسْتَكفي، ثم قُبض عليه، ثم قَلَّده المطيع الشَّرقيَّة، والحَرَمَين، واليمن، ومصر، وسُرَّ مَن رأى، وقطعةً من أعمال السَّواد، وبعض أعمال الشام، وسَقْي الفُرات، وواسِطًا، ثم صُرِف عن جميع ذلك في رجب سنة خمس وثلاثين. ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 458، حلية الأولياء 10/ 379، الرسالة القشيرية 120، المنتظم 14/ 120، مناقب الأبرار 2/ 174، الكامل 8/ 525، تاريخ الإِسلام 7/ 854، طبقات الشافعية الكبرى 3/ 344. وعندهم أن وفاته في السنة الآتية، خلا ابن الأثير والسبكي. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 601، والمنتظم 14/ 117، وتاريخ الإِسلام 7/ 857.

محمد بن عبد الله

وقد ذَمَّه الخطيب فقال: كان قبيحَ الذِّكر فيما يتولَّاه، مَنسوبًا إلى الارتشاء في الأحكام، والعمل فيها بما لا يجوز، وقد شاع ذلك عنه وكَثُر الحديث به، وكانت وفاته في رمضان. محمَّد بن عبد الله ابن جعفر بن عبد الله بن الجُنَيد، أبو الحُسين، الرَّازي. رحل في طلب الحديث، ولقي الشّيوخ، وصنَّف الكتب، وكان عالمًا، فاضلًا، زاهدًا، عابدًا، ورعًا، واتَّفقوا على فضله ودينه وصدقه وورعه (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 62/ 397، تاريخ الإِسلام 7/ 857، السير 16/ 17، والتراجم الثلاث الأخيرة ليست في (م ف م 1).

السنة الثامنة والأربعون وثلاث مئة

السنة الثامنة والأربعون وثلاث مئة (¬1) فيها خلع المطيع على بُخْتيار بن مُعزّ الدولة خِلَع السَّلْطنة، وعقد له لواءً، ولقَّبه عِزّ الدولة وأمير الأُمراء، وتزوَّج بُختيار بنت أبي علي محمَّد بن إلياس صاحب كَرْمان، بسِفارة القاضي أبي بكر أحمد بن سِنان الصَّيمَري. وفيها توفي عبد الرَّحمن بن عيسى بن داود بن الجَرَّاح. وفيها خرج محمَّد بن ناصر الدولة في سَرِيَّة نحو بلاد الروم، فأسرته الروم وغلمانَه ومَن كان معه (¬2). وفيها وصلت الروم إلى الرُّها وحَرّان، فأسروا أبا الهيثم ابن القاضي أبي حُصَين من قريةِ بحَرَّان، وسَبَوا وقتلوا، ورجعوا إلى بلادهم. [وقال ثابت بن سنان: ] وفي يوم الثلاثاء لسبعٍ خلون من ذي القعدة غرق من الحاج الواردين من المَوْصِل إلى بغداد في دجلة بضعة عشر زَوْرَقًا، فيها من الرجال والنساء والصبيان نحو ست مئة نَفْس [، وقد حكاه جدي في "المنتظم"] (¬3). وفيها مات ملك الروم بالقُسْطَنْطينية، وأُقعد ابنُه مكانه، ثم قُتل ابنه ونُصِّب غيره. ووصلت الروم إلى طَرَسوس، فقتلوا جماعةَ من أهلها، وفتحوا حصن الهارونيَّة، وقتلوا مَن فيه وأخربوه. وانقطع الغَيث بأرض العراق، فخرج الناس يَسْتسقون فما سُقوا، وبَذْرَق بالحاج أبو علي بن محمَّد بن عُبيد الله العَلَوي. وفيها جاءت الروم مرةً ثانية إلى ديار بَكْر، ووصلوا مَيّافارِقين، فعمل عبد الرَّحيم بن نُباتَة الخُطَب النُّباتيّة الجهادية [، وحرض الناس على الجهاد]. وفيها هرب عبد الواحد بن المُطيع من بغداد إلى دمشق، فنزل بمَحَلَّة لؤلؤة من باب الجابية. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) من أول السنة إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، وانظر المنتظم 14/ 118.

أحمد بن سلمان

وفيها توفي أحمد بن سلمان ابن الحسن بن إسرائيل، أبو بكر، النَّجَّاد، الحَنْبلي (¬1). ولد سنة ثلاث وخمسين ومئتين، وطلب الحديث، وكان يمشي حافيًا ويقول: لا أنْتَعِل في طلب العلم. وجمع "المسند" و"السنن" كتابًا كبيرًا، وكانت له في جامع المنصور حَلْقتان؛ قبل الصلاة وبعدها إحداها لإملاء الحديث، والثانية للفتوى والفقه أعلى مذهب أحمد بن حنبل. وقال الخطيب: حدثني الحسين بن علي الفقيه قال: سمعتُ أبا إسحاق الطَّبَري يقول: ] كان أحمد بن سلمان يصوم الدَّهر، ويُفطر كلَّ ليلةٍ على رغيف، ويترك منه لُقمة، فإذا كانت ليلة الجمعة تصدَّق بذلك الرَّغيف، وأكل تلك اللُّقَم التي استفضلها. [وقال الخطيب: ] توفي ليلة الجمعة لعشرٍ بقين من ذي الحجة عن خمس وتسعين سنة، ودُفن قريبًا من بشر الحافي، واتفقوا على صدقه وثقته وزُهده ووَرَعه. جعفر بن حَرْب الوزير كان يتقلَّد كبار الأعمال للسلطان، وكانت نعمتُه تُقارب نعمة الوزراء، فاجتاز يومًا في مَوْكبٍ عظيم، فسمع قارئًا يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]؟ فصاح: بلى والله قد آن، يُكَرِّرها ويبكي، ونزل عن دابّته، ودخل الماء في دِجْلة، ولم يخرج منه حتى فرَّق جميع أمواله، وردَّ المظالم إلى أربابها، فاجتاز به رجلٌ فرآه في الماء، فوهب له قميصًا ومئزرًا، فلبسه وخرج إلى المسجد، فلزم العبادة حتى مات (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 309، المنتظم 14/ 118، الكامل 8/ 527، تاريخ الإِسلام 7/ 860، السير 15/ 502. (¬2) المنتظم 14/ 127 (سنة 349 هـ)، وصفة الصفوة 2/ 469، والتوابين 182.

جعفر بن محمد بن نصير

[وفيها توفي] جعفر بن محمَّد بن نُصَيْر أبو محمَّد، الخُلْدي، الخَوَّاص (¬1). بغدادي المولد والمنشأ، ولد سنة ثلاث وخمسين ومئتين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين. صحب الجُنَيد وكان إليه يَنتمي، وكان المرجع إليه في علوم القوم وسِيَرهم. [واختلفوا لم سُمِّي الخُلْدي؛ فقال قوم: كان يسكن الخُلْد موضع ببغداد، وقيل: إنه سئل لم سُمِّيت الخُلْدي؟ فقال: كنت جالسًا يومًا عند الجُنَيد، فسئل عن مسائل، فقال: يا محمَّد، أجِبْهم، فأجبتُهم، فقال: من أين لك هذه المسائل (¬2) يا خُلْدي؟ فجرى عليَّ هذا الاسم، والأول أصحّ؛ لأن قول الجنيد: يا خُلْدي؛ ليس له معنى. ذكر طرف من أخباره وحكاياته: ذكر طرفًا منها الخطيب والسُّلَمي وابن خَميس وابن باكَوَيه وغيرهم. قال ابن خَميس في "المناقب": كان الخُلْدي] (¬3) أفتى المشايخ، وأحسنهم، وأكملهم خُلُقًا، حجَّ قريبًا من ستين حجة قال: وما حَجَجْتُ إلا على التوكُّل، وكنت أرى الأطعمةَ في البَرِّية حولي كثيرة. [وحكى الخطيب عن أبي القاسم القَصْري قال: ] (¬4) رأيت الخُلْدي في آخر عُمره وفي إحدى رجليه جَوْرب من جلود والأخرى مَكشوفة، فسألتُه عن السبب فقال: حَجَجْتُ آخر حجة، فجاز عليّ فقير فقال: ما عندك رُمَّانة؟ قلت: من أين في الرَّمْل رُمَّان؟ قال: أفتريد أنت رُمَّانة؟ قلت: نعم، فأخرج من كُمِّه رمانة فرمى بها إلى، ثم ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 434، حلية الأولياء 10/ 381، تاريخ بغداد 8/ 145، الرسالة القشيرية 117، المنتظم 14/ 119، مناقب الأبرار 2/ 147، الكامل 8/ 528، تاريخ الإِسلام 7/ 862، السير 15/ 558. (¬2) في تاريخ بغداد 8/ 147: الأجوبة. (¬3) ما بين معكوفين من (م ف م 1). (¬4) في (خ): وقال أبو القاسم البصري، والمثبت من (ف م م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 8/ 151.

أخرج أخرى وأخرى حتى ملأ الدنيا، فأطعمتُ منه أهل القافلة، وحملتُ منه إلى بغداد، فلما كان بعد أيام اجتاز بي ذلك الففير، فرآني نائمًا ورجلي الواحدة مكشوفة فقال: أما يكفيك أن تنام بين يدي سَيِّدك حتى تَمُدَّ رجلَك؟ وضرب رجلي بكُمِّه، فوقع عليها مثل النار، فإذا غطَّيتُها ضَرَبت علي، وإذا كشَفْتُها سكن الضَّرَبان. [وحكى الخطيب عن جعفر الخُلْدي] قال: رأيت في منامي (¬1) قائلًا يقول: اذهب فاحفر موضع كذا، فحفرتُه فإذا صندوق فيه دفاتر وحُزمة، ففتحتها وقرأتها، فإذا فيها أسامي ستة آلاف شيني من الأولياء وأرباب الحقائق من لدن آدم - عليه السلام - إلى وقتنا هذا، ونعوتُهم، وكلُّهم يدعو إلى مذاهب أهل الحقائق، وكان في تلك الكتب عجائب، فدفنتُها خوفًا أن تسألني المشايخ غدًا بين يدي الله تعالى ويقولون: لمَ أخرجتَ أسرارنا إلى الخلق. [وحكى عنه في "المناقب"] قال: بقيتُ أياما في البادية ما أكلت شيئًا، فجئت إلى كوخ، فرأيت شابًّا قائمًا يصلي، فقلت في نفسي: وقت المغرب يؤتى هذا بطعام فآكل معه، فأقمت ثلاثًا لم يؤت بطعام، فقلت: هذا شيطان، فانصرفتُ، فناداني: يا جعفر، أنت كما سُمِّيت: جاعَ فَرَّ (¬2). [وحكى عنه أيضًا أنه] قال: رأيتُ ببيت المقدس رجلًا مُلتفَّا في عباءة طول الليل -أو النهار- ثم وثب ورفع رأسه إلى السماء وقال: أيُّما أحب إليك: تُطعمني مَضِيرَة وفالوذَج (¬3) أو أكسر قناديلك؟ ثم نام، فقلت: إما أن يكون وليًّا لله تعالى أو به سَوداء، وإذا برجل دخل المسجد، فجعل ينظر يَمْنَةً وَيَسْرة وبيده زِنْبيل، فجاء فقعد عند رأس الرجل، فأيقظه، وأخرج من الزِّنْبيل مَضيرة وفالوذجًا حارًا، فأكل الفقير حتى شبع، ثم قال له: رُدَّ الباقي إلى صِبيانك، فقام الرجل من عنده، فتبعتُه وقلت له: بالله، هل بينك ¬

_ (¬1) في (م): اليمن، وما بين معكوفين من (م ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 8/ 148. (¬2) في (خ): جائع فقير، والمثبت من (ف م م 1)، والخبر في مناقب الأبرار 2/ 153، وأخرجه الخطيب 8/ 149. (¬3) المضيرة: طبيخ يتخذ من اللبن الحامض واللحم، والفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل، والخبر في مناقب الأبرار 2/ 153.

وبين هذا الرجل مَعرفة قبل هذا؟ فقال: لا والله، ولا رأيتُه قبل هذه الساعة، وإنما اشتهى عليَّ صبياني مَضيرة وفالوذجًا، وأنا رجل حَمَّال فقلت: ما يمكن اليوم، فإذا فتح الله علي بشيء اشتريتُ لكم، فكَسِبتُ اليوم دينارًا، فاشتريتُ حوائج المضيرة والفالوذج، ثم نمت فهتف بي هاتف: قم واحمل هذا إلى المسجد؛ ففيه فقير عليه عَباءة في الموضع الفلاني، فقَدِّمه بين يديه، وما فَضَل منه فأطعمه لعيالك [فجئت به إلى هذا الفقير النائم فأيقظته] فكان كما رأيت، فقلت له: لقد وُفِّقْتَ إن شاء الله تعالى. [وحكى في المناقب عن جعفر] قال: سمعت أبا يعقوب الأقطع البَصريّ يقول: جعتُ مرةً في المسجد الحرام، فبقيت أيامًا لم آكل شيئًا، فخرجت إلى الوادي، فإذا بسَلْجَمةٍ (¬1) مطَرْوحة، فقلت: آخذها فأُسكّن بها ما بي، فأخذتُها فوجدت في قلبي وَحْشة كأني زُجِرتُ وقيل في: كان حَظُّك من جوع أيام سَلْجَمَةٌ مُنْتِنَة؟ ! فرميتُ بها، وجلستُ في المسجد، وإذا برجل من نَواتيَّة البحر قد دخل ومعه قِمَطْر، فقال: خذ هذا فإنه لك، قلت: وكيف؟ قال: هاج علينا البحر منذ عشرة أيام، وأشرفْنا على الهلاك، فنَذَرتُ لئن سَلَّمنا الله لأُعطين هذا القِمَطْر لأول من أراه من المُجاورين، قال: ففتحتُه، وإذا بسَويق وسُكَّر، فقلت: إلهي، هذا رزقي يسير إلى من مسيرة عشرة أيام، وأنا أخرج إلى الوادي فأطلب منه ما آكله، فأخذتُ منه قَبضَتين، وقلت له: رُدَّ الباقي إلى صِبيانك فهو هَديَّةٌ مني إليهم ففعل. [وحكى في المناقب عن أبي] الحسن العَلَوي قال (¬2): كنت ليلةً عند الخُلْدي، وكنتُ أمرتُ في بيتي أن يُعَلِّقوا طائرًا في تَنُّور، وتَعلَّق قلبي به، فقال الخُلْدي: أقم عندنا الليلة، فتعلَّلْتُ عليه، ورجَعتُ إلى منزلي، فأُخرج إليّ الطائر من التنور، ووضعته الجارية بين يدي وشَرعتُ آكل، وإذا كلبٌ قد هجم من باب الدار، فأخذه ومضى، وجاءت الجارية بالجوذاب (¬3) الذي كان عليه الطائر، فتعلَّق بذيلها فتبدَّد، فتعجَّبتُ، ¬

_ (¬1) نبات يعرف باللفت. والخبر في مناقب الأبرار 2/ 151 - 152. (¬2) في (خ): وقال أبو الحسن العلوي، والمثبت من (م ف م 1)، والخبر في المناقب 2/ 150. (¬3) الجوذاب: طعام يصنع من الأرز والسكر واللحم. المحكم والمحيط الأعظم. (جذب).

فلما أصبحتُ دخلتُ على الخُلْدي، فلما رآني قال: مَن لم يَحفظ قلوب المشايخ سلَّط الله عليه كلبًا يُؤدِّبه (¬1). [ذكر نبذة من كلامه: حكى عنه في "المناقب" أنه قال لرجل: كن بعيد الهِمَّة -أو شريف الهمة (¬2) - فإن الهِمَم تبلُغُ بالرِّجال لا المجاهدات. وقال: السِّياحة سياحتان: فسِياحة بالنَّفْس في الأرض ليُشاهد آثار قدرة الله تعالى وأوليائه، وسياحة بالقلب في الملكوت الأعلى، يجول فيه فيَرِد على صاحبه بركات المشاهدات في الغيوب (¬3). وأنشد: [من المتقارب] يقولون ثَكْلى ومَن لم يَذُق ... فِراقَ الأحبة لم يَثْكَلِ لقد جَرَّعَتني ليالي الفِراقِ ... شَرابًا أمرَّ من الحَنْظَلِ (¬4) [وقال الخطيب: ] توفي الخُلْدي يوم الأحد لتسعٍ خَلَون من رمضان، ودُفن بمقبرة الشُّونيزية عند الجُنَيد وسَرِيٍّ السَّقَطي، وسمع الحديث الكثير، وسافر إلى البلاد، وروى علمًا كثيرًا [ولقي العلماء والمشايخ، وسمع الحارث بن أبي أسامة التَّميمي وغيره] , وكان يقول: لو تركني الصوفية لجئتكم بأسانيد الدنيا (¬5). ¬

_ (¬1) بعدها في (م): فقلت له: يا أستاذ نستغفر الله تعالى. (¬2) في (خ): وقال الخلدي: كن شريف الهمة، والمثبت من (م ف م 1)، والقول في المناقب 2/ 149 عن طبقات الصوفية 437. (¬3) هذا القول كما أورده المصنف فيه خلل، صوابه ما في طبقات الصوفية 438: المجاهدات في السياحات، والسياحة سياحتان سياحة النفس بالسير في الأرض ليرى أولياء الله أو يعتبر بآثار قدرته وسياحة القلب ليجول في الملكوت فيورد على صاحبه بركات مشاهدات الغيوب فيطمئن القلب عند الموارد لمشاهدة الغيوب وتطمئن النفس عن المرادات لبركة آثار القدرة عليه. (¬4) وهذا الخبر أيضًا مختصر، تمامه في طبقات الصوفية 437: سمعت بعض أصحاب جعفر يقول: مررت بمقبرة الشونيزية وامرأة تبكي بكاء بحرقة وتندب على قبر، فقال لها جعفر: ما لك؟ فقالت: ثكلى بولدي، فأنشد: يقولون ثكلى ... (¬5) تاريخ بغداد 8/ 145 - 146.

محمد بن إبراهيم بن يوسف

[وحكى عنه في "المناقب" أنه قال: ] عندي مئة ونَيِّفٌ وثلاثون ديوانًا من دواوين الصوفية، قيل: فهل عندك من كتب محمَّد بن علي التِّرْمِذيّ شيء؟ قال: ما عَددتُه من الصُّوفية (¬1). واتَّفقوا على صِدق الخُلْدي وثقته ووَرَعه وفضله ودينه. [وفيها توفي] محمَّد بن إبراهيم بن يوسف أبو عمرو، الزَّجَّاجي، النَّيسابوري (¬2). أوحد المشايخ في وقته، صحب أبا عثمان، والجُنَيد، والنُّوري، والخَوَّاص، وغيرهم، وجاور بمكة، وصار شيخَ الحَرَم، وحجَّ ستين حجة، ولم يَبُلْ ولم يَتغَوَّط في الحرم [وهو مقيم به] أربعين سنة، وكان يخرج إلى الحِلّ فيقضي حاجته ثم يرجع. وكان [شيخ مكة في وقته، والمنظور إليه فيها، وكان يجتمع الخلق: للكتَّاني حَلْقة، وللنَّهْرَجُوري حلقة، وكذا للمُرْتَعِش وغيرهم,] وحلقته في صدر الكل، فإن اختلفوا في شيء رجعوا إلى قوله. [قال في "المناقب": ] جاءه رجل أعجمي بعد فراغ الناس من الحج، فقال له: قد حججتُ وأريد منك براءة بقبول حجي، فإن أصحابي دلّوني عليك، فعلم سَلامةَ صدره فقال له: اذهب إلى الملتزم وقيل: يا رب، أعطني براءة، فجاء الرجل فوقف عند الملتزم ودعا، فوقع عليه قِرْطاس فيه مكتوب بالخُضرة: هذه براءة فلان بن فلان من النار باسم ذلك الرجل. [وحكى عنه في "المناقب" أيضًا] قال: ماتت أمي، فورثتُ منها دارًا بعتُها بخمسين دينارًا، وخرجت إلى الحج، وإذا برجل في البَرِّية راكبٌ على فَرَس، فقال: أيش معك؟ قلت: الصِّدق أنجى، معي خمسون دينارًا، فأخذها وعَدَّها فوجدها كما قلت، ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 2/ 147 - 148 عن طبقات الصوفية 434. (¬2) طبقات الصوفية 431، حلية الأولياء 10/ 376، الرسالة القشيرية 117، المنتظم 14/ 120، مناقب الأبرار 2/ 144، تاريخ الإِسلام 7/ 868.

محمد بن جعفر

فرمى بها إلى وقال: قد أخذني صِدقُك، ثم نزل عن الدابة وقال: اركبها فأنا على أثرك، ولحقني إلى مكة فجاور بها حتى مات (¬1). وقال: المعرفة على ستة أوجه: معرفة الوَحْدانية، ومعرفة التَّعظيم، ومعرفة المِنَّة، ومعرفة القُدرة، ومعرفة الأَزَل، ومعرفة الأسرار [، وله الكلام المليح. وفيها توفي] محمد بن جعفر ابن محمَّد بن فَضالة، أبو بكر، الأدَميّ، القاري، صاحب الألحان (¬2). ولد في رجب سنة ستين ومئتين، وكان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، يُسمع صوتُه من فَرْسَخ (¬3). [ذكر حكايته مع الضرير: قال الخطيب: حدثنا علي بن المُحَسِّن، عن القاضي أبي محمَّد عبد الله بن محمَّد الأسدي، عن أبيه قال: ] حَجَجْتُ أنا وأبو القاسم البَغَويّ وأبو بكر الأدَمي، فلما صرنا بمدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - رأينا رجلًا ضَريرًا قائمًا، يروي أحاديثَ موضوعة وأخبارًا مَعْلولة، فقال بعضنا لبعض: نُنكر عليه، فقال الأدَمي: ما ينفع، وتثور علينا العامة، ولكن اصبروا، وشَرع يقرأ، فما هو إلا أن أخذ في القراءة، فانفضَّت الحَلقةُ عن الضَّرير، ومال الناس إليه وتركوا الضرير وحده، فقال لقائده: خذ بيدي هكذا تزول النِّعَم عن الناس. [ذكر وفاته: حكى الخطيب أنه] توفي لليلتين بقيتا من ربيع الأول، ودُفن إلى جانب أبي عمر الزاهد في الصُّفَّة التي تقابل مَعروف الكَرْخي. [وحكى الخطيب أيضًا عن أبي] جعفر الإِمام قال: رأيت الأدَمي في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: قاسيتُ شدائد وأمورًا صعبة، قلت: فتلك الليالي والمواقف ¬

_ (¬1) الخبر في مناقب الأبرار 2/ 146، وما بين معكوفين من (م ف م 1). (¬2) تاريخ بغداد 2/ 526، وتكملة الطبري 387، والمنتظم 14/ 122، وتاريخ الإِسلام 7/ 868. (¬3) في (م ف م 1): من فراسخ أو فرسخ، الشك من الراوي.

محمد بن سيما

والقرآن؟ فقال: ما كان شيءٌ أضرَّ عليَّ منها؛ لأنها كانت للدنيا، قلت: إلى أي شيء انتهى أمرُك؟ فقال: أوقفَني بين يديه وقال: آلَيتُ على نفسي أن لا أُعذِّب أبناء الثمانين (¬1). [وفيها توفي محمد بن سيما أبو الحسن، النَّيسابوري، مولى محمَّد بن شُعيب القَطّان (¬2). قدم بغداد، وكتب عن (¬3) عبد الله بن محمَّد البَغَوي وطبقته، فروى عنه الحاكم أبو عبد الله وغيره، وذكر أنه مات ببغداد. قلت: وفي الرواة واحد آخر اسمه محمَّد بن سيم ابن الفتح، أبو بكر، الحَنْبلي، البغدادي. وروى عنه أبو نُعَيم الحافظ، وكان صدوقًا, لم يُذكر لنا تاريخ وفاته. وأخرج له الخطيب حديثًا مسندًا عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادْرَؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلمين فَرَجًا فخلُّوا سبيلهم، فلَأَن يُخطئ الإمامُ في العفو خيرٌ من أن يُخطئ في العقوبة" (¬4).] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 528 - 529، وما سلف بين معكوفات من (م ف م 1). (¬2) كذا قال، والذي في تاريخ بغداد 3/ 282 أن أباه سيما هو مولى محمَّد بن شعيب القطان. وهذه الترجمة ليست في (خ). (¬3) في (ف م م 1): عنه، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬4) تاريخ بغداد 3/ 282، وطبقات الحنابلة 2/ 162، وأخرج الحديث إضافة إليهما: الترمذي في سننه (1485)، وفي علله (241)، والدارقطني (3097)، والحاكم في المستدرك 4/ 384، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 238 و 9/ 123، وفي إسناده يزيد بن زياد الدمشقي، قال البخاري: منكر الحديث ذاهب.

السنة التاسعة والأربعون وثلاث مئة

السنة التاسعة والأربعون وثلاث مئة (¬1) فيها أوقع نجا غلام سيف الدولة بالروم بناحية حِصن ذي القَرْنَين، فقتل منهم وأسر. وفيها وقعت فتنةٌ عظيمة بناحية بغداد في شعبان بين السُّنة والشيعة عند القَنْطرة الجديدة بباب البصرة، وتعطَّلت آثار الصلوات في الجوامع (¬2) من جانبي بغداد، سوى جامع بَراثا فإنَّ الجمعة أُقيمت فيه، وكان جماعة من بني هاشم أهم الذين، أثاروا الفتنة، فاعتقلهم معزُّ الدولة، فسَكنت [الفتنة]. وفي شعبان ظهر لعيسى بن المكتفي بأمر الله ابنٌ بناحية أرمينية، وتَلقَّب بالمستجير بالله، يدعو إلى الرِّضا من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولبس الصُّوف، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ومضى إلى جماعة الدَّيلَم بالجبال فاستنصر بهم؛ وهم طائفة يقال لهم: المَعْروفية والمُسَوِّدة، وهم المنتسبون إلى مذهب السنة، فخرج جماعةٌ منهم وساروا إلى أذربيجان، فاستولى على عدة بلدان بها مما كان في يد سالار الدَّيلَمي، فسار إليه سالار فهزمه، ويقال: إنَّه قتله، وقيل: بل أسره حيًّا. وفي رمضان توفي أحمد بن محمَّد بن ثوابة كاتب مُعزّ الدولة، وكان قد خرج عن بغداد للنظر في البلاد، فنعاه ابن بويه (¬3)، وقُلِّد ديوان الرسائل مكانه أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصَّابئ (¬4). وفي شوال عرض لمعزِّ الدولة في كُلاه علَّةٌ، فبال الدَّم، ثم احتبس بولُه، ثم رمى حصًى صغارًا ورملًا، وأُرجف بموته، فلما بال سكن الناس. وفيها غزا سيف الدولة بلاد الروم في جَمْعٍ كثير، فأسر وقتل وسبى، فكَثُرت (¬5) الروم عليه، فعاد في ثلاث مئة من غلمانه، وذهب جميع ما كان جمعه، وقُتل معه ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) في (م ف م 1): وتعطلت الأحوال والصلوات بطلت في الجوامع، وانظر المنتظم 14/ 126، وتاريخ الإِسلام 7/ 761. (¬3) في (خ): فعابا بويه (؟ ! )، وليس في (م ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا، وانظر تكملة الطبري 391، والكامل 8/ 533، وتاريخ الإِسلام 7/ 762. (¬4) من قوله: وفي شعبان ظهر لعيسى ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬5) في (م ف م 1): فكَرَّت، وكلاهما صحيح.

حسان بن محمد

أعيان القُوَّاد والقاضي أبو حُصين بدر بن الهيثم، وكان خروجه من ناحية طَرَسوس [ولو خرج من الدرب ما رجع معه أحد]. وفي آخر هذه السنة مات أنوجور بن الإخشيد، وتقلَّد أخوه علي مكانه، والمُدَبِّر للدولة كافور الإخشيدي. وفيها أسلم من الأتراك مئتا ألف خَرْكاه (¬1). وفيها بَدَل القاضي الحَسَنُ بن محمَّد الهاشمي مئتي ألف درهم على أن يُقَلَّد قضاء البصرة، فأُخذ منه المال ولم يُقَلَّد، وحجَّ بالناس العَلَوي. وفيها توفي حَسَّان بن محمَّد ابن أحمد بن هارون، أبو الوليد، القُرَشي (¬2). إمامُ أهل الحديث بخُراسان في عصره، وأكثرُهم اجتهادًا في العبادة والزُّهد. قرأ الفقه على أبي العباس بن سُرَيج، وسمع الحديث وصنَّف الكتب. وقال الحاكم: سمعتُه يقول في مرضه الذي توفي فيه: قالت لي والدتي: كنتُ حاملًا بك وكان للعباس بن حَمزة مجلسٌ، فاستأذنتُ أباك أن أحضره في أيام العشر، فأذن لي، فلما كان في آخر المجلس قال العباس بن حمزة: قوموا، فقاموا فقمتُ معهم، ودعا العباس، فقلتُ: اللهم ارزقني ولدًا صالحًا عالمًا، ثم رجعتُ إلى منزلي، فنمتُ في تلك الليلة، فرأيتُ فيما يرى النائم كأنَّ رجلًا أتاني فقال: أبشري، فإن الله قد استجاب لك، ورزقك ولدًا ذكرًا عالمًا، ويعيش كما عاش أبوكِ، قالت: وكان أبي قد عاش اثنتين وسبعين سنة. ¬

_ (¬1) تطلق هذه الكلمة على المحل الواسع، وبالأخص على الخيمة الكبيرة التي يتخذها أمراء الأكراد والأعراب والتركمان مسكنًا لهم، ثم أطلقت على سرادق الملوك والوزراء، انظر معجم الألفاظ الفارسية المعربة 53 - 54. وأراد هنا أصحابها، والخبر في المنتظم 14/ 127، والكامل 8/ 532، وتاريخ الإِسلام 7/ 762. (¬2) المنتظم 14/ 128، تاريخ الإِسلام 7/ 874، السير 15/ 492، طبقات الشافعية 3/ 226. ومن هذه الترجمة إلى آخر السنة ليس في (م ف م 1).

الحسين بن علي

قال حسان وهذه قد تمَّت لي اثنتان وسبعون سنة. قال الحاكم: فعاش بعد هذه الحكاية أربعة أيام، وتوفي ليلة الجمعة خامس ربيع الأول. الحسين بن علي ابن يزيد بن داود، أبو علي، الصَّائغ، النَّيسابوري (¬1). ولد سنة سبع وسبعين ومئتين، وكان أوحدَ دهره في الحفظ والإتقان والوَرَع، مُقَدَّمًا في مذاكرته الأئمة، كثيرَ التصانيف، ذِكْرُه في المَشْرق والمَغْرب بالحفظ والزُّهد والصِّدق والأمانة والثّقة. رحل إلى الآفاق البعيدة في طلب الحديث، وكانت وفاته بنيسابور في جُمادى الأولى. حَمْدان بن إبراهيم بن الخَطَّاب وبعضهم يقول: حُميد (¬2). الإِمام الفاضل، سمع الكثير، وصنَّف التصانيف الحِسان، منها: "مَعالم السُّنن" شرح فيها سنن أبي داود، و"الأعلام" شرح فيها البخاري، و"غريب الحديث". وكان عارفًا بكلِّ فَنٍّ، فصيحًا، وله أشعار كثيرة منها: [من البسيط] ما دمتَ حيًّا فدارِ الناسَ كلَّهم ... فإنَّما أنت في دار المُداراة مَن يَدْرِ دارى ومَن لم يَدْرِ سوف يُرى ... عمَّا قليلٍ نَديمًا للنَّداماتِ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 622، والمنتظم 14/ 128، والسير 16/ 15، وتاريخ الإِسلام 7/ 875، وطبقات الشافعية 3/ 276. (¬2) كذا ورد اسمه والاختلاف فيه في (خ)، وليس في النسخ (م ف م 1) لاختصار أشرنا إليه قريبًا، وأخشى أن يكون هذا تحريفًا وتصرفًا من الناسخ؛ لأنهم اختلفوا في اسمه على قولين: أحدهما: أحمد بن محمَّد بن إبراهيم بن خطاب، والآخر: حَمْد بن محمَّد بن إبراهيم بن خطاب، وهو الصواب في اسمه، وهو أبو سليمان الخطابي. ثم إن المصنف تبع جدّه في ذكر الخطابي في وفيات هذه السنة [المنتظم 14/ 129] , وقد ردّ ذلك ياقوت في معجم الأدباء 4/ 250 فقال بعد أن أورده: وهذا ليس بشيء. اهـ. والصواب أنه توفي سنة (388 هـ)، انظر يتيمة الدهر 4/ 383، والأنساب 2/ 210، 5/ 145، ومعجم الأدباء 4/ 246، 10/ 268، وإنباه الرواة 1/ 125، ووفيات الأعيان 2/ 214، وتاريخ الإِسلام 8/ 632، والسير 17/ 23، وطبقات الشافعية 3/ 282 ومصادر أخرى في هوامشها.

علي بن المؤمل

علي بن المؤمَّل ابن الحسن بن عيسى، أبو القاسم بن ماسَرْجِس (¬1). قال الحاكم: كان يُضرب المَثَل بعقله، وكان من أوْرَع مشايخنا، حَدَّث سنين، وحججتُ معه سنة إحدى وأربعين، فكان أكثر الليل يقرأ في العَمَّارِّيَة (¬2)، فإذا نزل قام إلى الصلاة لا يشتغل بغير ذلك، وما أعلم أني دخلتُ الطواف إلا وجدتُه يطوف، وسمعتُ ابنه أبا عبد الله يقول: ضَعُفَ بصرُ أبي ثلاث سنين ولم يخبرنا به، حتى ضعفت العين الأخرى، فحينئذٍ أخبرنا. وكانت وفاته في صَفَر، وأجمعوا على صِدقه وفضله. محمَّد بن أحمد بن يوسف أبو الطَّيِّب، المُقرئ، ويُعرف بغلام ابن شَنَبوذ (¬3). قال: قرأتُ على إدريس بن عبد الكريم: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] فقال لي: ضَعْ يدَك على رأسك فإنَّ شيخي أمرني بهذا، وسَلْسَل الحديث إلى ابن مسعود، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قرأها ابن مسعود قال له: "ضَعْ يدك على رأسك؛ فإنَّ جبريل أمرني بهذا، قال: وفيها شِفاءٌ من كلِّ داءٍ إلا السَّام، والسَّام الموت" (¬4). ¬

_ (¬1) الأنساب 11/ 80، والمنتظم 14/ 129، وتاريخ الإسلام 7/ 880. (¬2) محمل أو مِحَفَّة شبيه بالهودج. تكملة المعاجم 7/ 308. (¬3) لعل السبط ذكره في وفيات هذه السنة اعتمادًا على ما قاله أبو نعيم في أخبار أصبهان 2/ 288، ونقله عنه الخطيب في تاريخه 2/ 254: قدم علينا قبل الخمسين، وسماعي منه سنة تسع وأربعين وثلاث مئة. وذكره ابن الجوزي في وفيات سنة (352 هـ) من المنتظم 14/ 154، وذكره الذهبي في تاريخه فيمن لم تحفظ وفاته من أهل الطبقة السادسة والثلاثين (351 - 360 هـ)، وقال ابن الجزري في غاية النهاية 2/ 92: توفي فيما أحسب سنة بضع وخمسين وثلاث مئة. (¬4) أخرجه الخطيب في تاريخه 2/ 254، والذهبي في معرفة القراء الكبار 2/ 628 وقال: رواته أعلام أثبات سوى أبي الطيب فهو المتهم به، وقال في ميزان الاعتدال (6773): زعم أنه قرأ على إدريس بن عبد الكريم، وروى عنه حديثًا باطلًا بإسناد ما فيه متهم، فالآفة هو. وانظر الفوائد المجموعة 312، وتنزيه الشريعة 1/ 295.

السنة الخمسون وثلاث مئة

السنة الخمسون وثلاث مئة (¬1) فيها بني مُعزّ الدولة داره المعروفة بالمعزِّية شرقي بغداد، وسببه أن [مُعزَّ الدولة] مرض في أول المحرم بعُسْر البول، فأقام ليلةً فكاد يَتْلَف، فبال آخر الليل رملًا كثيرًا وحصًى صغارًا، فخَفَّ ألمُه، فلما أصبح سلَّم داره وأمواله وأسبابه إلى ولده الأمير عِزّ الدولة بُخْتيار، وخرج في عدَّة يسيرةٍ من غلمانه ليمضيَ إلى الأهواز، فأشار عليه وزيرُه أبو محمَّد المُهَلَّبي بالمُقام إلى أن يَتماثَل، فأقام بكَلْواذى، ثم تنقّل إلى قُطْرَبُّل، فعَزم على أن يبنيَ قصرًا من قُطْرَبُّل إلى باب حَرْب، وأقام يتروَّى، وأمر بضَرْب اللِّبْن وطَبْخ الآجُرّ، ثم انثنى رأيُه إلى الجانب الشرقي، فشَرَع في بناء القصر من البِيعَة التي يقال لها: دار الروم إلى دجلة وبستان [الصَّيمري، وأخذ يهدم ما يلي البستان من العقارات والدور المجاورة له، وعمل ميدانًا من باب بستان] الصَّيمَري وإلى حدود داره عند البِيعة، وبنى الإصْطَبْلات على نهر مهدي، وقَلَع الأبواب الحديد التي على باب مدينة [أبي جعفر] المنصور، والتي بالرُّصافة، ونقض قصورَ الخلافة بسُرَّ مَن رأى. ووكَّل بابتياع كلِّ العَقارات من الناس العَدْلَين أبا العباس بن مكرم وأبا القاسم بن حَسَّان، ونزل في الأساسات ستةً وثلاثين ذراعًا، وأحكم البناء بالكِلْس والآجُرّ، ولزمه من الغَرامات إلى أن مات ثلاثة عشر ألف ألف درهم، وكان المُشرف على العمارة أبو الفرج محمَّد بن العباس بن فَسانْجِس. وكان معزُّ الدولة مُقيمًا في بستان الصَّيمَري، وانتقل إلى الدار في ذي القعدة قبل أن يَكْمل بناؤها, ولحق الناسَ في هذا الصُّقْع شدائدُ من الجُند ونزوَلهم دور الناس. وصادر معزُّ الدولة الكُتَاب أبا علي الخازن (¬2)، وأبا الفرج محمَّد بن العباس صاحب الديوان، وأبا الفَضْل الشِّيرازي وغيرَهم، على ألف ألف درهم وست مئة ألف درهم، وجعل ما يُؤخذ منهم (¬3) مَصروفًا إلى عِمارة الدار المَذْكورة. ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) في (م ف م 1): الحارث، والمثبت من (خ). (¬3) في (م ف م 1): من هؤلاء المصادرين.

أبو علي الخازن

قال المصنف رحمه الله: وقد درسَت (¬1) هذه الدار فلم يبقَ لها أثرٌ، وبقي مكانها دَحْلَة (¬2) تأوي إليها الوحوش، والبِيعة قائمةٌ بحالها, ولم يبقَ من آثار الدار سوى قطعةٍ يسيرة من المُسَنَّاة (¬3)، أبقاها الله ليَعْتَبر بها مَن يأتي على مَمَرِّ الأيام، والحَجَرُ المغصوب في البناء أساسُ الخراب والانعدام، فليت الحلال سلم فكيف بالحرام. وفيها مات أبو علي الخازن فوُجد في بيته ثمانيةٌ وتسعون ألف دينار، وجواهر وحُليٌّ وفُرُش وغيرها تساوي مئة ألف دينار، وقُلد الخُزُن مكانه محمَّد بن العباس بن فَسانْجِس. وفي شعبان تقلَّد القاضي أبو العباس عبد الله بن الحسن بن أبي الشَّوارب القضاء في جانبي بغداد ومدينة المنصور وقضاء القُضاة، وخُلع عليه من دار معزّ الدولة، وركب في الخِلَع وبين يديه الدَّبادِب والبُوقات، وفي خدمته الجيش والأتراك، وكان سفيرُه أرسلان جامدار (¬4) مُعزّ الدولة، وشرط على نفسه أن يحمل في كلِّ سنةٍ إلى خزانة معز الدولة مئتي ألف درهم، وكتب عليه بها كتابًا، وجعلها نجومًا معروفة، وامتنع الخليفةُ من تقليده ومن الوصول إليه، وأمر أن لا يدخل عليه يوم موكبٍ ولا غيره، وضمن معز الدولة الحسبةَ ببغداد والشرطةَ وغيرها (¬5). وفي شعبان مات أبو بكر محمَّد بن علي بن مقاتل بمصر، فوجدوا في داره ثلاث مئة ألف دينار مَدفونة، وكان يتقلَّد أمر الضّياع الخَراجية بمصر (¬6). ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): هذا قول ثابت بن سنان، قلت: وقد درست، والمثبت من (خ)، وانظر تكملة الطبري 392، والمنتظم 14/ 132، والكامل 8/ 534، وتاريخ الإِسلام 7/ 762. (¬2) نَقْب ضيق الفم متسع الأسفل، يعني أنها صارت خرابًا. (¬3) سَدٌّ يبنى لحجز ماء السيل أو النهر، فيه مفاتح للماء تفتح على قدر الحاجة. (¬4) موظف يتصدى لإلباس السلطان أو الأمير ثيابه، وهي مركبة من لفظين فارسيين: جاما: الثوب، ودار: الممسك. التعريف بمصطلحات صبح الأعشى 90. (¬5) من قوله: وجواهر وحلي وفرش ... إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬6) بعدها في (م 1 ف): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وتنتهي فيهما وفي (م) هذه السنة.

عبد الملك بن نوح

وفيها دخل نجا غلامُ سيفِ الدولة إلى الرُّوم، فسبى ألفَ فارس، وأسر جماعة، وغَنِم ما مقداره ثلاثين ألف دينار. وفيها مات عبد الملك بن نوح صاحب خُراسان، تَقَنْطَرَ به فرسُه، ونُصِّب مكانه أخوه منصور، ودخل بُخْتيار على الخليفة، فأخذ المنصور تقليدًا بالولاية، وقيل: إنما أخذ تقليدًا لسالار صاحب أَذْرَبيجان، وبَذْرَق العَلَويّ الحُجَّاج. وفيها توفي أحمد بن محمَّد ابن عبد الله بن زياد، أبو سَهْل، القَطَّان (¬1). كان يُكثرُ تلاوةَ القرآن، فصار نَصْبَ عينيه يَنتزع منه ما شاء من غير تَعَب، وكان يقوم الليلَ ويصوم النهار، زاهدًا في الدنيا. توفي ببغداد في شعبان، ودُفن عند مَعْروف الكَرْخي، وكان ثقةً. إسماعيل بن علي ابن إسماعيل بن بَيان، أبو محمَّد، الخُطَبي، كان يرتجل الخُطَب (¬2). ولد سنة تسع وستين ومئتين، وكان فاضلًا، نبيلًا، عارفًا بأيام الناس وأخبار الخلفاء والملوك، فصيحًا، يتحرَّى الصِّدق والتواضع. وقال: وجَّه إليَّ الراضي بالله ليلة عيد، فحُملتُ إليه راكبًا على بغلة، فدخلتُ عليه وهو جالس في الشُّموع، فقال لي: يا إسماعيل، إنّي قد عزمتُ على الصلاة بالناس في المُصلَّى، فماذا أقول إذا انتهيتُ في الخطبة إلى الدعاء لنفسي؟ فأطرقتُ ثم قلتُ: يا أمير المؤمنين، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 194، والمنتظم 14/ 133، والسير 15/ 521، وتاريخ الإِسلام 7/ 886. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 304، الأنساب 5/ 147، المنتظم 14/ 134، معجم الأدباء 7/ 19، السير 15/ 522، تاريخ الإِسلام 7/ 888.

الحسين بن القاسم

تقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} الآية [19: النمل] فقال لي: حسبك، وأمرني بالانصراف، واتَّبعني خادمٌ فدفع إليَّ خريطة فيها أربع مئة دينار. توفي الخُطَبي في جُمادى الآخرة، وقيل: في المحرَّم، واتَّفقوا على صدقه، وثقته، وأمانته، وفضله. الحُسين بن القاسم أبو علي، الطَّبري، الفقيه الشافعي (¬1). صنّف كتبًا كثيرةً منها "المُحَرَّر"، وهو أول كتاب صُنِّف في الخلاف، وكتاب "الإفصاح" في المذهب وغيره، وتوفي في جمادى الأولى. عبد الله بن إسماعيل ابن إبراهيم بن عيسى بن أبي جَعْفر، أبو جعفر، الهاشمي (¬2). ولد سنة ستين ومئتين، وكان جليلًا، نَبيلًا، خَطيبًا بجامع المنصور، وكان يفتخر به ويقول: رَقي هذا المِنْبَر -يعني منبر جامع المنصور- الواثقُ بالله سنة ثلاثين ومئتين، ورَقيتُ هذا المنبر سنة ثلاثين وثلاث مئة، وبين الرَّقيتين مئة سنة، وأنا وهو في القُعْدُد (¬3) إلى المنصور سواء، هو الواثق بن المُعْتَصم بن الرَّشيد بن المَهْدي بن المنصور، وأنا عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن المنصور. وكانت وفاتُه في صقر، وقيل: في سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة، وكان ثقةً. عبد الرَّحمن بن محمد ابن عبد الله [بن محمَّد] بن عبد الرَّحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرَّحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، أبو المُطَرِّف، والي الأندلس (¬4). ¬

_ (¬1) اختلف في اسمه هل هو الحسن أو الحسين؟ انظر تاريخ بغداد 8/ 648، طبقات الشيرازي 94، المنتظم 14/ 135، وفيات الأعيان 2/ 76، السير 16/ 62، تاريخ الإِسلام 7/ 889، طبقات الشافعية الكبرى 3/ 280. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 63، المنتظم 14/ 136، تاريخ الإِسلام 7/ 890، السير 15/ 551. (¬3) يعني النسب. (¬4) العقد الفريد 4/ 498، جذوة المقتبس 12، الكامل 8/ 535، تاريخ الإسلام 7/ 891، السير 15/ 562.

ولي سنة ثلاث مئة لمَّا مات جدُّه لأبيه عبد الله بن محمَّد بن عبد الرَّحمن، وله ألقابٌ منها: النَّاصر لدين الله، أمير المؤمنين، وهو أول من لقَّب نفسه بالناصر، وبأمير المؤمنين بالأندلس، وكانوا قبله يُسمَّون بني الخلائف ويُسلَّم عليهم بالإمرة، فلمَّا ضعُف أمرُ الخلافة ببغداد في أيام المقتدر وغيرها تلقَّب بنو أمية بإمرة المؤمنين، وكذا بنو عُبيد الله بالقَيْروان والمَهْدية، وتلقَّب عبد الرَّحمن بالقَمر الأزْهَر، والأسد الغَضَنْفَر، وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: مُزْنَة. وكان شُجاعًا، شَهمًا، محمودَ السّيرة، مَيمونَ النَّقيبة، لم يزل يستأصل المُتَغلِّبين حتى تمَّ أمرُه بالأندلس، فأقام واليًا خمسين سنة، ولم يبلغ أحدٌ من بني أمية هذه المدة. وأخذ المُلك عن جدِّه وهو شابٌّ وبالحَضْرة أكابرُ أعمامه وأعمام أبيه، وذوو القُعْدُد في النسب من أهل بيته فلم يتعرَّض له أحدٌ، واجتمع في دولته من العلماء والفُضَلاء ما لم يجتمع في دولة غيره، وله غزوات عظيمة. قال ابن عبد ربِّه: وقد نظمتُ أرجوزةً ذكرتُ فيها غزواته من سنة إحدى وثلاث مئة إلى سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة (¬1). قال: وافتتح سبعين حصنًا من أعظم الحصون، ومدحه بقصائدَ كثيرةٍ منها قوله: [من البسيط] قد أوضح الله للإسلام منهاجا ... والناسُ قد دخلوا في الدِّين أفواجا وقد تَزيَّنَت الدنيا لساكنها ... كأنَّما أُلبسَت وَشْيًا وديباجا يا بن الخَلائف إن المُزْنَ لو علمت ... نَداك ما كان منها الماء ثَجَّاجا مات النِّفاق وأخطأ الكفرُ رَمْيتَه (¬2) ... وذَلَّت الخيلُ إلْجامًا وإسراجا وأصبح النَّصْرُ مَعْقودًا بألويةٍ ... تَطْوي المَراحِلَ تَمهْجيرًا وإدلاجًا غادرْتَ في عَقْوَتَي جَيَّان مَلْحَمةً ... أبكيتَ منها بأرض الكفر أعلاجا ¬

_ (¬1) ذكرها في العقد 4/ 510 - 527. (¬2) في العقد 4/ 499: وأعطى الكفر ذِمَّته.

عتبة بن عبيد الله

تُمْلا بك الأرضُ عَدْلًا مثل ما مُلئت ... جَوْرًا وتُوضِحُ للمعروف مِنْهاجا إنَّ الإمارةَ لا تَرضى ولا رضيت ... حتى عَقَدتَ لها في رأسها تاجا (¬1) وكانت وفاة أبي المُطَرِّف في رمضان، وكان له من الولد: الحكم وعبد الجبار وسليمان وعبيد الله وعبد الملك وغيرهم، فقام بعده ولده الحكم بعهدٍ من أبيه. عُتْبة بن عُبيد الله ابن موسى بن عُبيد الله، أبو السَّائب، من أهل هَمَذان (¬2). ولد سنة أربع وستين ومئتين، وكان أبوه تاجرًا موسرًا، أديبًا، يؤمُّ الناس في مسجدٍ بهَمَذان فوق ثلاثين سنة، ونشأ أبو السَّائب يطلب العلم، وغلب عليه في ابتداء عُمُره علمُ التَّصوف، والميلُ إلى الزُّهد، ثم خرج عن بلده، واتَّصلت أسفارُه، ولقي العلماء، وقرأ القرآن، وكتب الحديث، وتفقَّه على مذهب الشافعي، وعرف الأمير أبو القاسم بن أبي السَّاج خبرَه وما هو عليه، فقلَّده الحكمَ بأذْرَبيجان، وعَظُمَت حالُه، وقُبِض على ابن أبي السَّاج، فعاد إلى الجبل، وتقلَّد هَمَذان، ثم دخل بغداد، وتقلَّد أعمالًا جليلةً بالكوفة، وديار مُضَر، والأهواز، وعامة الجبل، وقطعة من السواد، ثم تقلَّد مدينة أبي جعفر، ثم تقلَّد قضاء القُضاة. وكانت وفاتُه في ربيع الآخر، ودفن بداره في سوق يحيى. وقال ابن القَطَّان: رأيتُ أبا السَّائب في منامي بعد موته فقلتُ: ما فعل الله بك مع تخليطك؟ فقال: غفر لي، فقلتُ: وكيف ذاك؟ فقال: إنَّ الله عرض عليَّ أفعالي القبيحةَ، ثم أمر بي إلى الجنة، وقال: لولا أني كتبتُ على نفسي أنِّي لا أُعَذِّب من جاوز الثمانين لعَذَّبْتُك. فاتِك بن عبد الله أبو شُجاع، الإخشيدي، ويعرف بالمجنون (¬3). ¬

_ (¬1) في العقد: في رأسك التاجا، وهي الأشبه. (¬2) تاريخ بغداد 14/ 272، المنتظم 14/ 137، السير 16/ 47، تاريخ الإِسلام 7/ 894. (¬3) وفيات الأعيان 4/ 21 - 23، وتاريخ الإِسلام 7/ 894.

وكان من أكبر غلمان الإخشيد، وهو الذي رثاه المتنبي بقوله: الحُزْنُ يُقلقُ والتَّجَمُّلُ يَرْدَعُ (¬1) الأبيات. ولي إمرة دمشق وغيرها (¬2)، وكان صارمًا شجاعًا. ¬

_ (¬1) تمامه: والدمع بينهما عَصيٌّ طَيِّع، وهو في ديوانه 3/ 12. (¬2) قال الذهبي في تاريخه 7/ 895: وليس هو بفاتك الخزندار الإخشيدي الذي ولي إمرة دمشق سنة خمس وأربعين، توفي فاتك المجنون في شوال بمصر.

السنة الحادية والخمسون وثلاث مئة

السنة الحادية والخمسون وثلاث مئة (¬1) فيها نُقلَت سنةُ خمسين وثلاث مئة [من حيث المُغِلات] إلى سنة إحدى وخمسين الخَراجية، وكتب الصابئ كتابًا عن المطيع في المعنى منه (¬2): ففضل الله تعالى بين الشمس والقمر، وأنبأنا أنَّ لكلِّ منهما طريقًا سُخِّر فيها، وطبيعةً جُبل عليها، وأنَّ تلك المُخالفة والمُبايَنة في المَسير يؤدِّيان إلى مؤالفة ومُوافَقة في التدبير، فمن هناك زادت السنة الشمسية فصارت ثلاث مئة وخمسةً وستين يومًا ورُبعًا بالتقريب المُعَوَّل عليه، وهي المدة التي تقطع فيها الشمس الفَلَك مرةً واحدة، ونَقَصت السنة الهِلالية فصارت ثلاثَ مئة وأربعةً وخمسين يومًا وكَسْرًا، وما زالت الأمم السالفة تَكْبِس زيادات السنين على اختلاف مذاهبها، وفي كتاب الله شهادةٌ بذلك، قال الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] فكانت هذه الزيادة بإزاء ذلك. فأما الفُرس فإنَّهم أجْرَوا معاملاتهم على السَّنة المُعْتَدِلة التي شهورُها اثنا عشر شهرًا، وأيامها ثلاث مئة وستُّون، ولقَّبوا المشهور اثني عشر لَقبًا، وسمَّوا الأيام بأسامي، وأفردوا الأيام الخمسة الزَّائدة وسَمَّوها المُسْتَرقَةَ، وكَبسوا الرُّبُع في كلٍّ مئةٍ وعشرين [سنة] (¬3) شهرًا، فلمَّا انقرض مُلكهم بَطَل ذلك. وأما الرُّوم فرتَّبوا شهورَ السنة على ما عُرف، وساقوا الخمسةَ أيام معها، وكبسوا الرُّبع في كلِّ أربع سنين يومًا، واقتدى المعتضد بالله بهم، وذكر كلامًا طويلًا حاصلُه تعجيلُ الخَراج وحساب أيام الكَبيس. ذكر دخول الروم زَرْبَة: قال ثابت: دخلوها مع الدُّمُسْتُق في مئة وستين ألفًا، وهي في سفح جبل مُطِلٍّ عليها، فصعد بعضُ جيشه الجبل، ونزل هو على بابها، وشرع الروم في نَقْب السور، ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) في (خ): مرحلة، وليس النص في (م ف م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا، والمثبت من المواعظ والاعتبار 349، وانظر تاريخ الإِسلام 7/ 8 وما بين معكوفين منه. (¬3) ما بين معكوفين من المواعظ والاعتبار، وتاريخ الإِسلام 8/ 7.

فأرسلوا يطلبون الأمان، فأمَّنهم وفتحوا له أبواب المدينة فدخلها، وندم حيث أمَّنهم، ونادى بأن يخرجَ جميعُ مَن في البلد إلى الجامع، فلمَّا أصبح بث رَجَّالته وكانوا ستين ألفًا، فكلُّ مَن وجدوه في منزله قتلوه، فقتلوا عالمًا لا يُحصى، وأخذوا جميع ما كان فيها، وكان في الجملة سبعون ألف رُمْح، وقطع من حوالي البلد أربعين ألف نَخْلة، وهدم المنازل وأحرقها. ونادى: مَن كان في الجامع فليذهب حيث شاء، ومَن أمسى فيه قُتل، فازدحم الناس في أبوابه حتى مات منهم خلقٌ عظيم، ومرُّوا على وجوههم حُفاةً عُراة لا يدرون أين يأخذون، فماتوا في الطُّرُقات عَطَشًا وجوعًا. وأخرب أسوار البلد، وأحرقَ الجامع والمِنْبَر، وهدم حولها أربعةً وخمسين حِصْنًا، منها بالأمان ومنها بالسيف، كذا ذكر ثابت بن سنان، وأقام في بلاد الإسلام عشرين يومًا، وأخذ من أهل بَغْراس مئة ألف درهم وأقرَّهم، ولمَّا عاد إلى بلاده أعاد سيف الدولة عين زَرْبة إلى بعض ما كانت عليه بعد مدة. ذكر دخول الروم حلب: وهي حادثةٌ لم يَجْر في الإسلام مثلُها، كان سيف الدولة قد ظنَّ أنَّ الدُّمُسْتُق لا يعود إلى بلاد الإسلام في هذه السنة، فأقام بحلب غير مُسْتعدٍّ، فبينا هو غافلٌ وإذا بالدُّمُسْتُق قد أقبل ومعه ابنُ أخت الملك، ولم يعلم سيفُ الدولة به حتى بَغَتَه، فخرج إليه، وحاربه الدمستق في مئتي ألف، منهم ثلاثون ألف راجل بالجَواشِن (¬1)، وثلاثون ألف فاعل للهَدْم بطريق البلخ، فلم يثبت له سيف الدولة، فانهزم في نفرٍ يسير، وكانت دارُه بظاهر البلد، فجاء الدمستق إليها، فوجد فيها ثلاث مئة وتسعين بَدْرة دراهم، وألفًا وأربع مئة بغل، ومن السلاح ما لا يُحصى، فأخذ الجميع، وأحرق الدار، وملك الرَّبَض. وقاتله أهل حلب من وراء السُّور، فقتلوا [جماعةً من الروم، فسقطت ثُلمةٌ من السُّور على جماعة] من أهل حلب، فطمع الروم في تلك الثُّلْمَة فأكبُّوا عليها، ودافع ¬

_ (¬1) الدروع.

أهلُ البلد عنها، فلمَّا جاء الليل بنَوها, ولمَّا أصبحوا صَعِدُوا عليها وكبُّروا، فعدل الروم عنها إلى جبل جَوْشَن فنزلوا به، ومضى رَجَّالةُ الشُرَط بحلب إلى منازل الناس (¬1) فنهبوها، وإلى خانات التجار، فقيل لمَن على السُّور: اِلحقوا منازلكم، فنزلوا وأخلَوا السور، وتسوَّروه الروم، ونزلوا ففتحوا الأبواب، ودخلوا فوضعوا السيف في الناس. وكان في البلد ألفٌ ومئة من الروم أُسارى، فتخلَّصوا وحَملوا السِّلاح، وعادوا الروم فما زالوا يقتلون حتى كَلُّوا ومَلُّوا، وسَبَوا من الرجال والنساء بضعة عشر ألف صبي وصَبية، وأخذوا من الأموال والأمتعة والأسلحة وأموال التجار ما حَمل الدُّمُسْتُق بعضَها على البغال التي أخذها لسيف الدولة، فلمَّا لم يبقَ معه شيء أحرق الباقي، وعمد إلى الحُبابِ التي فيها الزيت فصبَّ فيها الماء حتى فاضَ الزيتُ على وجه الأرض فشربَتْه، وأخرب الجامع والمساجد، وأقام فيها تسعة أيام، وكان معه أربعة آلاف بغل عليها حَسَكُ حديدٍ مُطرَّحةً حول العسكر بالليل إلى غير ذلك، وما نجا منه إلا مَن صَعِد قلعة حلب بنفسه. ولمَّا كان اليوم التاسع أراد أن ينصرفَ بما معه، فقال له ابنُ أخت الملك: هذا بلدٌ قد حصل في أيدينا, وليس ثَمَّ مَن يدفعنا عنه، والوزراء والقُوَّاد والأعيان والكُتَّاب والأموال والجواهر في القلعة، فبأيِّ سبب ننصرفُ وما فتحناها؟ فقال الدُّمُسْتق: قد وصلنا إلى ما لم يَكن في الحساب من القتل والسَّبْي والأسر وأَخْذ المال والسلاح والكُراع، وغنمنا غنيمةً ما غنمها أحدٌ ولا سمع بمثلها، والذي في القلعة ما عندهم غيرُ نفوسهم، وإذا نزلوا هلكوا؛ لأنَّهم لا يجدون قوتًا، والرأي أن ننصرف فإن طلب الغايات رَديء، فقال ابنُ أخت الملك: لا بدَّ لي من القلعة، فقال: انْزِل عليها وقاتلها وحاصرها، ولا تُلِحَّ في قتالها، فإنْ حصَرْتَها أيامًا أخذْتَها، فقال: لا آخذُها إلا بالسيف، فقال الدمستق: أنا مقيمٌ على باب البلد في عسكري. فأصبح ابنُ أخت الملك، وأخذ تُرْسًا وسيفًا، وأتى القلعة ومَسْلَكُها ضَيِّقٌ لا يحمل أكثرَ من واحد، فصَعِد وصعد خلفه جماعةٌ من أصحابه، واحدٌ بعد واحد، فكان في ¬

_ (¬1) في (خ): منزلهم، والمثبت من الكامل 8/ 540، وانظر تكملة الطبري 394، والمنتظم 14/ 140 - 141، وتاريخ الإِسلام 8/ 8.

الحسن بن محمد بن هارون

القلعة جماعةٌ من الدَّيلَم، فتركوه حتى قَرُب من الباب، وأرسلوا عليه حَجَرًا، فوقع عليه فانقلب، ثم وثب وهو مَشْدوخ، فرماه واحدٌ من الدَّيلَم بخِشْت (¬1) في صدره فقتله، وأخذه أصحابُه وانصرفوا به إلى الدُّمُسْتق. وكان الدمستق قد أسر من أعيان المسلمين ألفًا ومئتي رجل، فضرب أعناقهم بأسرهم، وسار إلى بلد الروم، ولم يتعرَّض لقرى حلب، وقال لأهلها: ازرعوا واعمُروا فإذا البلد قد صار لنا، وبعد قليل نعود إليكم. وفيها ملك ركنُ الدولة بن بُوَيه جُرْجان، ومضى وَشْمَكير أَبِي الجبل (¬2)، وفيها كتبت العامةُ ببغداد على حيطان المساجد لعنةَ معاوية بن أبي سفيان، ولعنة مَن غصب فاطمة عليها السلام حقَّها من فَدَك، ومَن منع الحسن رضوان الله عليه أن يُدفَن مع جده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولعنة مَن نفى أبا ذر الغفاري، ولعنة مَن أخرج العباس بن عبد المطّلب من الشُّورى [ولم يمنعهم السلطان من ذلك] ثم إنَّ ذلك مُحي في أول الليل، فأراد معزُّ الدولة إعادته، فأشار عليه [أبو محمَّد] المُهَلَّبي الوزيرُ أن يكتب مكان ما مُحي: لعن الله الظَّالمين لآل رسولًا الله - صلى الله عليه وسلم - من الأوَّلين والآخرين، وصرَّحوا بلعنة معاوية لا غير. وفيها أسرت الروم أبا فراس بن أبي العلاء سعيد بن حَمْدان من مَنْبج وكان واليها. [وفي هذه السنة] وقع بالعراق بأرض الجامدة بَرَد، كلُّ بَوَدَةٍ رَطْل ونصف بالعراقي ورطلان. وفيها توفي الحسن بن محمَّد بن هارون أبو محمَّد، المُهَلَّبي، من ولد المُهَلَّب بن أبي صُفْرة، وزير مُعزِّ الدولة (¬3). ¬

_ (¬1) هي الحربة بالفارسية. (¬2) من أول السنة إلى هنا ليس في (م ف م 1). (¬3) يتيمة الدهر 2/ 265، المنتظم 14/ 142، الكامل 8/ 546، معجم الأدباء 9/ 118، وفيات الأعيان 2/ 124، تاريخ الإِسلام 8/ 10 و 42، السير 16/ 197 المستفاد من ذيل تاريخ بغداد 216، وهذه الترجمة ليست في (م ف م 1).

أقام في وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وكان فاضلًا، شاعرًا، فصيحًا، حليمًا، أديبًا، نبيلًا، كثيرَ المعروف، جَوادًا، سَمْحًا، ذا مروءةٍ وأناة واصطناعٍ للرجال. قال أبو إسحاق الصَّاغاني (¬1): صاغ الوزير دواةً ومَرْفَعًا (¬2)، وحلَّاهما حِليةً ثقيلة، وكانت طولَ ذِراع وكسر في عرض شبر، فأُحضرت بين يديه، وكان الفضل بن عبد الرَّحمن الشِّيرازي جالسًا عن يمينه، وأنا على جانب الشيرازي، فاستحسنها الشيرازي وقال لي فيما بيننا: ما كان أحوجني إلى ثمنها لأنتفع به، قلتُ: وما يصنع الوزير؟ فقال: يدخل في حِر أُمِّه. وسمع الوزير ما جرى بيننا، فلمَّا كان من الغد دخلتُ على الشيرازي فقال: عرفتَ خبرَ الدواة؟ قلتُ: لا، قال: جاءني بها البارحة رسولُه بمَرْفَعها ومعها خمسة آلاف درهم، ومِنديل فيه عشرُ قطع ثياب، وقال: الوزيرُ يقول: أنا عارفٌ بانقطاع الموادِّ عنك، وكثرةِ المؤن وتضاعفها عليك، وقد آثرتُك بهذه الدواة لما رأيتُ من استحسانك لها، وأضفتُ إليها ما تكتسي به، وما تَصرفُه في بعض نَفَقتك، فعجبتُ في اتِّفاق ما تجارَينا فيه وجاء هذا على أثَره. وتقدَّم الوزير بصياغة دواةٍ أخرى فصِيغَت، ودخلنا مجلسه وهي بين يديه، وهو يوقع منها، فنظر إلينا ونحن نلحظها فقال: هي، مَن منكما يُريدها على الإعفاء من الدخول، فاستحيينا منه، وعلمنا أنَّه قد سمع قولَنا، وقلنا: بل يُمتِّع الله الوزيرَ بها ويُبقيه حتى يَهَب لنا ألفًا مثلَها. وكانت وفاتُه ببغداد عن أربع وستين سنة، ودُفن بمقابر قريش، وقيل: إنَّه كان توجّه إلى عُمان فمات بها في الطريق، فحُمل في تابوت إلى بغداد، وقبض معزّ الدولة على أولاده، وكتَّابه، وأسبابه، وصادرهم، ثم استوزر أبا الفَضْل العباس بن الحسن الشِّيرازي. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) والمنتظم 14/ 142، وفي معجم الأدباء 9/ 130: قال هلال [بن المحسن بن إبراهيم الصابئ]: وحدثني أبو إسحاق جدي. فلعل ما في المنتظم ومختصر المرآة تحريف. (¬2) حمالة للدواة.

دعلج بن أحمد

[وفيها توفي] دَعْلَج (¬1) بن أحمد ابن دَعْلَج بن عبد الرَّحمن، أبو محمَّد، السِّجِسْتاني، الفقيه، المُعَدَّل، نزيل بغداد. سمع الحديث بخُراسان، والرَّي، وحُلْوان، وبغداد، ومصر، والكوفة، ومكة وغيرها، وكان من ذوي اليَسار، والمشهورين بالبِرِّ والإفضال، وله صدقات جاريةٌ، ووقوف على أهل الحديث ببغداد ومكة وسِجِسْتان. وأثنى عليه الأئمة (¬2)، وقدم نَيسابور مرَّتين [وسمع المصنَّفات من أبي بكر بن خُزَيمة] , وكان يُفتي على مذهبه، ثم جاور بمكة وعاد إلى بغداد. وسبب عوده -[وقد حكاه الخطيب، عن القاضي أبي العلاء الواسطي، عن دَعْلَج]- قال: خرجتُ ليلةً من الليالي بمكة أريد المسجد، وإذا بثلاثة من الأعراب قد لزموني وقالوا: لك أخ من أهل خُراسان [قتل أخانا، فنحن نقتلك به، قال: فقلتُ: يا قوم، اتقوا الله فإنَّ خُراسان] ليست بمدينة واحدة، ولم أزل أُداريهم حتى اجتمع الناس علينا، فخَلَّوا عني، فانتقلتُ إلى بغداد. وحكى الخطيب، عن الأزهري عن ابن حَيُّويه أبي عمر قال: أدخلني داره -يعني دَعْلَج (¬3) - فأراني بِدَرًا من المال مُعَبأة في منزله، فقال: خذ منها ما شئت، فقلتُ: أنا عنها في كفاية وغنى، ولا حاجة لي فيها، وشكرتُه ودعوتُ له. [ذكر حكايته مع الرجل المديون: قال الخطيب: حدثني] محمَّد بن علي [بن عبد الله] الحَدَّاد (¬4)، عن شيخ سمَّاه قال: حضرتُ يوم جمعةٍ في الجامع بمدينة المنصور، فرأيتُ رجلًا بين يديَّ في الصف ¬

_ (¬1) في (م): فصل وفي هذه السنة توفي دعلج، والمثبت من (م 1 ف)، وانظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 366، وتاريخ دمشق 6/ 85، والمنتظم 14/ 143، وتكملة الطبري 394، وتا ريح الإِسلام 8/ 35، والسير 16/ 30. (¬2) في (م ف م 1): وذكره الأئمة وأثنوا عليه فقال الحاكم أبو عبد الله: دعلج شيخ أهل الحديث في عمره، له وقوف وصدقات جارية على أهل مكة والمدينة وغيرهما. والمثبت من (خ). (¬3) في (خ): وقال أبو عمر: أدخلني دعلج داره، والمثبت من (ف م م 1)، وانظر هذا الخبر وسابقه في تاريخ بغداد 9/ 368. (¬4) في (خ): حكى محمد بن علي الحداد، والمثبت من (م ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 9/ 368 - 369.

حسنَ الوَقار، ظاهرَ الخشوع، دائمَ الصلاة، ولم يزل يتنفَّل منذ دخل المسجد إلى قريب قيام الصلاة، ثم جلس، ودخلت قلبي مَحبَّتُه. ثم أقيمت الصلاة فلم يصلِّ مع الناس الجمعة، فكَبُر عليَّ ذلك، وغاظني فعلُه، فلما قضيتُ الصلاة تقدَّمتُ إليه وقلتُ له: أيها الرجل، ما رأيتُ أعجبَ منك، أطلتَ صلاةَ النافلة وأحسنتَها، ثم تركتَ الفريضةَ وضيَّعتَها؟ ! فقال: لي عذرٌ مَنعني من الصلاة، قلتُ: وما هو؟ قال: أنا مَديون اختفيتُ في منزلي مدَّة بسبب الدَّين، ثم حضرتُ اليوم الجامع، فقبل أن تُقامَ الصلاة التفتُّ فرأيتُ صاحب الدين ورائي، فمن خوفي منه أحدثتُ في ثيابي، قلتُ: ومَن صاحبُ الدين؟ فأشار إلى دَعْلَج، وكان صاحبٌ لدعلج إلى جانبه، فسمع ما نقول وهو لا يعرفه، فقام ومضى إلى دَعلج فأخبره بالقصة، فقال دعلج للرجل: خذه واذهب به إلى الحمَّام، واطرح عليه خِلْعةً من ثيابي، وأجلسه في منزلي حتى أنصرف من الجامع، ففعل الرجل ذلك. فلما انصرف دعلج إلى منزله أمر بالطعام وأُحضر، وأكل هو والرجل، ثم أخرج حسابه، فإذا عليه خمسةُ آلاف درهم، فقال له دعلج: انظر لا يكون عليك في الحساب غلط، فقال الرجل: لا والله، فكتب دعلج تحته بالوفاء، ثم دفع إليه خمسة آلاف درهم وقال: أما الحساب الأول فقد أحلَلْتُك منه، وأسألك أن تقبلَ هذه وتجعلَني في حلٍّ من الروعة التي دخلت قلبك في الجامع لمَّا رأيتَني، فقال: أنت في حلٍّ، وانصرف الرجل شاكرًا داعيًا. [ذكر قصته مع ابن أبي موسى الهاشمي: قال الخطيب: حدثني أبو منصور محمَّد بن أحمد العُكْبَري قال: حدثني] أبو الحسين أحمد بن الحسين الواعظ قال: أُودِعَ أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي عشرة آلاف دينار [ليتيم] فضاقت يدُه، وامتدَّت إليها فأنفقها، فلما بلغ الغلام [مبلغ الرجال] أمر السلطان بفكِّ الحَجْر عنه، وتسليم المال إليه. قال ابن أبي موسى: فضاقت عليَّ الأرضُ بما رَحُبَت، وتحيَّرتُ في أمري لا أدري من أيِّ وجهٍ أغرَم المال، فركبتُ من داري بُكرةً وقصدتُ الكَرْخ، ولا أدري أين أتوجَّه، وانتهت بي البغلةُ إلى دَرْب السَّلولي، فوقفتْ على باب مسجد دَعْلَج [بن

أحمد] , فنزلتُ ودخلتُ المسجد، وصليتُ خلفه صلاة الفجر، فلما فرغ قام ورحَّب بي، وأخذ بيدي وأدخلني منزله، فلمَّا جلسنا جاءت الجارية بمائدة لَطيفة وعليها هَرِيسة، فقال: يأكلُ الشريف، فأكلتُ وأنا لا أدري كيف آكل، فلما رأى تقصيري قال: أراك مُنْقَبضًا فما الخبر؟ فقصَصْتُ عليه القصة، فقال: كل فإنَّ حاجتك تقضى (¬1). ثم أحضر حَلْواء، فأكلنا وغسلنا أيدينا، فقال: يا جارية، افتحي لنا ذاك الباب، ففتحت وإذا بخزانة مملوءة زُبُلًا (¬2) مُجَلَّدة، فأخرج بعضها وفتحها إلى أن أخرج النقد التي كانت الدنانير منه، فوَزَن عشرة آلاف دينار بالطيار وقال: يأخذُ الشريف هذه، فقلت: يُثبتُها الشيخ عليَّ، فقال: أفعل. فقمتُ فركبت بغلتي، وتركت الكيس على القَرَبوس، وقد كاد عقلي يطير فَرَحًا، وغَطَّيتُه بطَيْلَساني، وعدتُ إلى داري، وانحدرتُ إلى دار السلطان بقلبٍ قويٍّ وجنان ثابت، وحضر القضاةُ والشُّهود والنُّقباء ووُلاة العهود، وأُحضر الغلام ففَكَّ الحَجْر عنه، وسلم إليه المال، وعظُم الشُّكر والثناء عليَّ [وظنُّوا أني فرطتُ في المال]. فلمَّا عدتُ إلى منزلي دعاني أحدُ الأمراء من أولاد الخليفة -وكان كثير المال- فقال: [قد] رغبتُ في معاملتك، وأُضَمِّنك أملاكي [ببادوريا ونهر المَلِك]، فضَمنتُ ذلك بما تقرَّر بيني وبينه، وجاءت السَّنة، ووَفَّيتُه الضَّمان، وحصل في يدي من الرِّبح ما له قدرٌ كبير. وكان ضمانُ هذه الضياع [ثلاث] سنين، فلمَّا مضت حَسبتُ حسابي وقد حصل لي ثلاثون ألف دينار، فأخذتُ عشرةَ آلاف دينار ومضيتُ إلى مسجد دَعلج، وصلَّيتُ خلفه، ودخلنا منزله، فقدَّم المائدة والهَريسة والحَلْواء، وأكلنا، وعرَّفتُه حالي، ودعوتُ له وشكرتُه وقلتُ: قد حصل لي ببركتك ثلاثون ألف دينار، وقد أحضرتُ عشرة آلاف دينار عوض ما أخذت منك، فقال: يا سبحان الله، والله ما خرجت الدنانير من يدي ونويتُ أن آخذ منك عِوَضًا، حَلِّ بها أنت الصبيان، فقلتُ: يا شيخ، أيش أصلُ هذا الذي وهبتَ منه عشرة آلاف دينار؟ ! ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): قد قضيت. (¬2) في (ف م م 1): زنبلات، وهما بمعنى القُفَّة.

[فقال: اعلم] أني نَشأتُ في قراءة القرآن، وسمعتُ الحديث، وكنتُ أتَّجِر، فجاءني رجل من تُجَّار البحر فقال لي: أنت دَعلج بن أحمد؟ قلتُ: نعم، قال: قد رَغِبتُ في تسليم مالي إليك لتتَّجر به، فما سهَّل الله به من فائدة كانت بيننا، وما كان من جائحةٍ كانت في أصل المال. فسلَّم إلى بارنامجات بألف ألف درهم، وقال في: ابْسُط يدَك، ولا تعلم مكانًا يَنْفَقُ فيه هذا المتاع إلا حملتَه إليه، ولم يزل يتردَّد إليَّ سنةً بعد سنة والبضاعة تنمي، وهو يحمل إليَّ شيئًا بعد شيء، فلما كان في آخر السنة اجتمعنا قال: أنا كثيرُ الأسفار في البحر، فإن قضى الله عليَّ بما قضى على خلقه فإذا المال لك، تصدَّق منه، وابْنِ المساجد، وافعل الخير، وغاب عنِّي مدةً، والظاهرُ أنَّه هلك، فأنا أفعل بالمال ما أمرني به، فاكتُم عليَّ هذا الحديث أيام حياتي. وقال الدَّارَقُطني: استرجع مُعزّ الدولة من غلامه جاشتكين أموالًا، فطلب شهودًا يشهدون عليه أنَّه غيرُ مُكرَه، وجعلوه وراء سِتْر، وجُمع الشُّهود، وحضر دَعْلج، وشهدوا وقالوا له: اِشْهَد، فقال: وأين الذي أشهد عليه، لعلَّه مُكْرَه أو مُقَيَّد، أخرجوه لي حتى أراه، ولم يشهد، وبلغ معزَّ الدولة فقال: ما كان فيهم مسلمٌ غيره (¬1). ذكر وفاته: مات هذه السنة، وقيل: سنة ثلاث وخمسين يوم الجمعة (¬2) حادي عشر ذي الحجة ببغداد، وله خمس وتسعون سنة. وأسند عن خلق كثير، وكان ثَبْتًا، صدوقًا، ثقة، قَبِل الحكَّام شهادته وأثنَوا عليه، وكان الدارقطني هو المُصنِّفَ له كتبه، والناظِرَ في أصوله، وصنَّف له "المسند"، ولمَّا تمَّ بعث به إلى أبي العباس بن عُقْدَة لينظر فيه، وجعل بين كلِّ ورقتين دينارًا. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 87 (مخطوط). (¬2) في (م ف م 1): ذكر القاضي أحمد بن كامل أنه مات في هذه السنة، وذكر أبو بكر النيسابوري أنه مات في سنة ثلاث وخمسين يوم الجمعة، والمثبت من (خ). وقد ذكر الخطيب في تاريخه 9/ 371 - 372 القول الأول منسوبا إلى محمَّد بن الحسين القطان والحسن بن شاذان، ونقلته عنه سائر المصادر، وذكر ابن عساكر في تاريخه 6/ 89 القول الثاني منسوبًا إلى أبي عبد الله الحافظ الحاكم النيسابوري.

محمد بن الحسن

وقال الدارقطني: ما رأيتُ في مشايخنا أثبتَ منه، كان إذا شكَّ في حديث ضَرب عليه. وخلّف (¬1) ثلاث مئة ألف مِثقال ذهب، فأخذها معزُّ الدولة، وكان قبل ذلك لا يتعرَّض للتَّركات، لكنَّه لم يصبر عن أموال دَعلج حتى أخذها, ولم يتعرَّض لأوقافه، وكانت في جميع البلاد [والأماكن والأقطار كالمدينة ومكة وغيرهما]. محمَّد بن الحسن ابن محمَّد بن زياد بن هارون، أبو بكر، النقَّاش، مولى أبي دُجانة الأنصاري (¬2). ولد سنة ستٍّ وستين ومئتين، وأصله من المَوْصل، وسكن بغداد، وكان عالمًا بالقراءات والتفسير، وصنَّف في التفسير كتابًا سماه "شفاء الصدور"، وله تصانيف، وسافر شرقًا وغربًا، وتوفي في بغداد يوم الثلاثاء ثاني شوال، ودفن يوم الأربعاء في داره، وكان يسكن دار القُطْن. وقال أبو الحسن بن الفَضْل القَطَّان: حضرتُه وهو يجود بنفسه، فجعل يُحرِّك شفتَيه بشيءٍ لا أعلمه، ثم نادى بأعلى صوته: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] يُردِّدها ثلاثًا، ثم خرجت روحه. وقد تكلَّموا فيه. [وفيها توفي] محمَّد بن داود أبو بكر، الدِّينَوري، ويعرف بالدُّقِّي (¬3). من أجلِّ المشايخ وأحسنهم حالًا، وأقدمهم صحبةً للمشايخ. ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): ذكر ما خلّف من المال، قال الخطيب: خلّف، وهذا القول لم أجده في ترجمته من تاريخ بغداد، وذكره ابن عساكر 6/ 89 دون نسبة، وذكره الذهبي منسوبًا إلى أبي ذر الهروي. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 602، تاريخ دمشق 61/ 328، المنتظم 14/ 114، تاريخ الإِسلام 8/ 36، السير 15/ 573، وميزان الاعتدال (6994)، وهذه الترجمة ليست في (م ف م 1). (¬3) طبقات الصوفية 448، تاريخ بغداد 3/ 172، الرسالة القشيرية 118، الأنساب 5/ 327، تاريخ دمشق 62/ 45، المنتظم 14/ 209، مناقب الأبرار 2/ 162، تاريخ الإِسلام 8/ 154، السير 16/ 138.

[أثنى عليه أبو عبد الرَّحمن السُّلَمي، وأبو نُعيم، والحافظ ابن عساكر، وابن خَميس وغيرهم، فقال السُّلَمي: كان من كبار المشايخ] أقام ببغداد مدة، ثم انتقل إلى دمشق فسكنها، [وله الكلام الحسن والحكايات الغريبة. حكاية الصورة: ذكرها الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" قال: ] اجتاز الدُّقِّي ببِيعَة النَّصارى بالشام، فقال له أصحابه: نريد أن ندخلَ هذه البِيعة، فنهاهم، فألحُّوا عليه فقال: ادخلوا، فدخلوا ثم خرجوا، فقال لهم: إيش استفدتُم من دخولكم؟ قالوا: لا شيء. فقام ودخل إليها، فرأى في الحائط صورة عيسى - عليه السلام -، فرفع عصاه عليه وقال: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَينِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] فرفعت الصورة يدها (¬1) وقالت بلسان فصيح: لا لا لا، وكان هناك جماعةٌ من الرُّهبان، فأسلموا كلُّهم على يده، وخرجوا من البِيعة وصاروا صوفية، فقال لأصحابه: إذا دخلتُم البِيَع فادخلوا هكذا، وإلا فلا تدخلوا. [وحكى عنه ابن جَهْضَم] قال: فُتح عليَّ بنصف دينار وأنا بالرَّمْلَة، وكان عليَّ بالقدس نصفُ دينار دين، وقدم عليَّ فقراءُ من الحجاز وبهم فاقةٌ، فجعلتُ أُميِّزُ هل أنفقه عليهم أو أقضي به دَيني؟ وبات الفُقراء جياعًا، فلما كان بالليل ضَرب عليَّ ضِرْسي فلم أنم، فقلعتُه، ثم ضرب [عليَّ] آخر [ثم آخر] , فهَمَمْتُ بقَلْعه، فأخرجتُ النِّصْف دينار قبل طلوع الفجر وقلتُ: هذا للفقراء، فهتف بي هاتف: لو لم تخرجه لقلعنا أضراسَك كلَّها (¬2). وقال (¬3): حدَّثني أبو الخير العَسْقلاني قال: كنتُ مارًّا ببغداد وبين يديَّ فقيرٌ يمشي، وإذا بقائل يقول: [من مخلع البسيط] أمدُّ كَفَّيَّ بالخُضوعِ ... إلى الذي جاد بالصَّنيعِ فصاح الفقير ووقع ميتًا. ¬

_ (¬1) في (م ف م 1): رأسها، والخبر في تاريخ دمشق 62/ 50. (¬2) تاريخ دمشق 62/ 48 - 49. (¬3) القائل هو عبد الملك بن محمَّد القشيري كما في تاريخ بغداد 3/ 173، وعنه تاريخ دمشق 62/ 51.

[وحكى عنه ابن جَهْضم قال: ] (¬1) نزلتُ على قبيلة من العرب في البادية، فأضافوني، فرأيتُ غلامًا أسودَ مُقيَّدًا، وجِمالًا مَيتة بفِناء البيت، فناداني الغلام: أنت ضيفٌ، ولك حقٌّ، فاشفع فيَّ إلى مولاي فإنَّه لا يَرُدُّك. فلما حضر الطعام قلتُ لصاحب البيت: لا آكلُ طعامَك حتى تُطلق هذا العبد، فقال: إنه أفقرني وأتلف مالي، قلتُ: وكيف؟ قال: كنتُ أعيشُ من هذه الجمال التي ترى، وصوته طَيِّبٌ، فحمَّلها أحمالًا ثقالًا وحَدا لها، فقطعت مسيرةَ ثلاثة أيام في يومٍ واحد، فلمَّا حطَّ عنها أحمالها وقعت ميتةً كما ترى، ولكن قد وهبتُه لك، وحَلَّ القيدَ من رجله، فقلت: أحبُّ أن أسمعَ صوتَه، فحَدا وهناك جملٌ يُستقى عليه الماء، فهام الجمل على وجهه وقطع حِباله، ووقعتُ مَغشيًّا عليَّ، وما سمعتُ صوتًا أطيبَ من صوته. وأنشد الدُّقِّي يقول: [من مجزوء الكامل] إنْ كنتَ تُنكر أنَّ للأصـ ... ــــواتِ فائدةً ونَفْعا فانظُر إلى الإبل اللواتي ... هنَّ أغلظُ منك طَبْعا تُصغي إلى حَدْو (¬2) الحُدا ... ةِ فتقطعُ الفَلَواتِ قَطْعا [ذكر نبذة من كلامه: حكى عنه السُّلَمي أنه] قال: كلامُ الله تعالى إذا أشرف على السَّرائر أزال عنها رُعونةَ البشرية (¬3). وقال: بُني أمرُنا هذا على أربع: لا نأكلُ إلا عن فاقة، ولا ننامُ إلا عن غلبة، ولا نتكلَّم إلا عن وَجْد (¬4)، ولا نسكت إلا عن خِيفة. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، والخبر في تاريخ دمشق 49/ 62 من طريق ليس فيه ذكر لابن جهضم. وانظر مناقب الأبرار 2/ 163. (¬2) في (خ): نغم، وكلاهما صحيح. (¬3) طبقات الصوفية 446، وما بين معكوفين من (ف م م 1). (¬4) في (ف م م 1): رفد.

وقال: كلُّ أحدٍ يُنسب إلى نسبٍ إلا الفقراء؛ فإنَّهم يُنسبون إلى الله، نَسَبُهم الصِّدق، وحسَبُهم الفقر. [وحكى عنه في "المناقب" أنه] قال (¬1): المعدة حَوْضُ البدَن، إذا وُضع فيها حلال صدر إلى الأعضاء بالصِّحَّة، وإذا وُضع فيها الحرام أو الشُّبَه صدر إلى الأعضاء بالسُّقْم، فصارَت بينه وبين الله حجابًا. وقال: كم مسرور سرورُه بلاؤه، وكم مغموم غمُّه نجاتُه (¬2). وأنشد بين يديه قوَّال: بالله فارْدُد فؤادَ مُكْتَئبٍ ... ليس له من حبيبه خَلَفُ فقام طوال الليل يبكي ويَسقط، والفقراء يبكون حوله. وقال: مَن ألِف الاتِّصال، ثم ظهر له عين الانفصال؛ تنغَّص عليه عيشُه، وانْمَحَق عليه وقتُه، وصار مُتلاشيًا في مَحَلِّ الوَحْشة، وأنشد: [من الطويل] لوَ أنَّ الليالي عُذِّبت بفراقنا ... لأصبحتِ الأيام شُهْبَ الذَّوائب ولو جُرع الأيامُ كاسَ فراقنا ... مَحا دمعُ عينِ الليل ضوءَ الكواكب (¬3) وقال: سألتُ الزَّقَّاق: لمَن أصحب؟ فقال: لمَن تسقُط بينك وبينه مُؤنة التحفُّظ، وفي روايةٍ: لمَن يعلمُ منك ما يعلمُه الله منك فتأمنه على ذلك (¬4). ذكر وفاته: [واختلفوا فيها؛ فقال السُّلَمي: ] مات في هذه السنة وزاد على مئة سنة. [وحكى عنه في "المناقب" أنه مات سنة تسع وخمسين وثلاث مئة (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، والخبر في المناقب 2/ 163، وطبقات الصوفية 449. (¬2) بعدها في (م ف م 1): من كلام كثير. (¬3) تاريخ دمشق 62/ 48، ومناقب الأبرار 2/ 167، وتاريخ الإِسلام 8/ 154، وفيها عجز البيت الأول للثاني. (¬4) من قوله: وأنشد بين يديه قوال ... إلى هنا ليس في (م ف م 1)، والخبر في تاريخ بغداد 3/ 174. (¬5) كذا نقل عن السلمي وصاحب المناقب، والذي في مطبوع كتابيهما أنه توفي بعد الخمسين وثلاث مئة، انظر طبقات الصوفية 445، ومناقب الأبرار 2/ 162. وأرخ الخطيب وفاته في تاريخه 3/ 175 سننة (360)، وعنه ابن عساكر والذهبي.

محمد بن سعيد

حدَّث عن ابن مجاهد وقرأ عليه القرآن، وسمع الخرائطي وغيره، وقال في "المناقب" (¬1): وكان ينتمي إلى أبي عبد الله بن الجَلَّاء، وكان من أقران أبي علي الرُّوْذَباري، وكان أوحد زمانه في وقته.] محمد بن سعيد أبو بكر، الحَرْبيّ، الزاهد (¬2). توفي في ربيع الأول ببغداد، وكان صالحًا، عابدًا، ثقة، فقال: دافعتُ الشَّهَوات حتى صارت شهوتي المدافَعَةُ فحسب. [وفيها توفي] محمَّد بن محمَّد بن الحسن أبو عبد الله، التُّرُوْغْبَذيّ (¬3). كان من جلَّة مشايخ طُوس، [ذكره في "المناقب" وقال: صحب أبا عثمان الحيري وطبقته] وصار أوحد زمانه، مُجَرّدًا، عالي الهِمَّة، كبيرَ الشأن، خرج يومًا من طُوس (¬4)، وقال لصاحبٍ له: اشتر خبزًا كثيرًا، فلمَّا صاروا إلى الجبل إذا قومٌ قد قطع عليهم اللصوصُ الطريق، ولم يأكلوا منذ مدَّةٍ، فقدَّم إليهم الخبزَ، فأكلوا [حتى شبعوا]. وقال: ترك الدنيا للدنيا من علامات جمع الدنيا. وقال: مَن ضيَّع اللهَ في صغره أذلَّه اللهُ في كبره. وقال: الأسماء مكشوفةٌ والمعاني مستورةٌ. وقال: ليس في اجتماع الإخوان أنسٌ مع وَحْشَة الفِراق، [ومات في هذه السنة] (¬5). ¬

_ (¬1) مناقب الأبرار 2/ 162، ولم يتفرد به ابن خميس، بل سبقه السلمي والخطيب وابن عساكر. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 251، والمنتظم 14/ 149، وتاريخ الإِسلام 8/ 38، وهذه الترجمة ليست في (م ف م 1). (¬3) طبقات الصوفية 494، والمنتظم 14/ 159، ومناقب الأبرار 2/ 214. (¬4) في النسخ في الموضعين: طرسوس، والمثبت من مصادر ترجمته. (¬5) أرّخ وفاته ابن الجوزي في المنتظم 14/ 159 سنة (353). وما بين معكوفين من (ف م م 1)، وجاء بعده في (م 1 ف): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمَّد وآله وصحبه وسلم.

السنة الثانية والخمسون وثلاث مئة

السنة الثانية والخمسون وثلاث مئة (¬1) فيها: قال ثابت بن سنان: وفي يوم الأحد العاشر من المُحرَّم طالب [السلطان يعني] مُعزّ الدولة الناسَ بغَلْق الأسواق ببغداد، وتعطيل البيع والشراء، ومنع الهَرَّاسين والطباخين من الطبخ، ومنع القصَّابين من الذِّباحة، والسَّقّائين من إسقاء (¬2) الماء، ونصبُوا القِباب في الأسواق، وعلَّقوا عليها المُسوح، وأخرجوا النساء مُنْشَرَات الشعور، مُسَوَّدات الوجوه، يَلطِمْنَ في الأسواق والشوارع [والطرقات] , ويُقِمن المآتم على الحسين بن علي عليهما السلام، [ولم يمكن أهل السنّة مقاومة الشيعة، وكانت الشيعة أكثر، وقالوا: ] هذا أولُ يوم نِيح على الحسين - رضي الله عنه - ببغداد. وفي رجب (¬3) قُلِّد القاضي أبو بشر عمر بن أكثم القضاء بمدينة السلام بأسرها، على أنْ يتولَّى ذلك بغير رزق، وأُعفي أبو العباس بن أبي الشَوارب مما كان تقرَّر أنْ يحملَه إلى خزانة معز الدولة، وأمر أنْ لا يُمضَى شيءٌ من أحكام ابن أبي الشَّوارب (¬4). وفيها قُتل ملك الروم، وصار الدُّمُسْتُق [الذي فتح حلبًا] هو الملك، واسمُه نقفور (¬5)، [وهذا قول ثابت بن سنان] (¬6). وفيها أصاب سيفَ الدولة طرفُ فالجٍ في يده ورجله اليسرى، وكان قد دخل بلاد الروم [ولم يوغل] , ووصل قونِيَة، ثم عاد. وكان (¬7) هبة الله بن ناصر الدولة الذي استأمن إلى معزِّ الدولة لم يستقم له ببغداد أمرٌ، فقَصَد سيفَ الدولة وأقام عنده، فبينا هبة الله يومًا راكب ظاهرَ حلب سايره أبو الحسين، وكان سيفُ الدولة مريضًا، فما زال هبة الله يحادثه حتى أخرجه إلى ¬

_ (¬1) في (م): بعد الثلاث مئة. (¬2) في (ف): استسقاء، وفي (م) و (م 1): استقاء، والمثبت من (خ)، وانظر المنتظم 14/ 150. (¬3) في المنتظم 14/ 150: وفي جمادى الآخرة، والمثبت موافق لما في تكملة الطبري 397. (¬4) من قوله: وفي رجب قلد القاضي ... إلى هنا ليس في (ف م م 1) وما سلف بين معكوفين منها. (¬5) سماه الذهبي في تاريخ الإِسلام 8/ 11: تقفور، بتاء ثالث الحروف كما ذكر محقق الكتاب. (¬6) في المنتظم 14/ 150: وفي شعبان مات الدمستق الذي فتح بلدة حلب واسمه نقفور، والمثبت موافق لما في الكامل 8/ 549، وتاريخ الإِسلام 8/ 11. (¬7) من هنا إلى قوله: وفي يوم الخميس ثامن عشر ذي الحجة، ليس في (ف م م 1).

الصحراء، ورماه بخشبٍ (¬1) كان في يده، فوقع في لَبَّتة فسقط، فقال: لغلمانه حُزُّوا رأسَه فحزُّوه، وقيل: إنما فعل به ذلك لأنَّه تعرَّض لغلام من غلمانه. وبلغَ هبةَ الله أن عمَّه قد أفاق من مرضه، فاستوحش، وسار من فوره إلى حَرَّان، وتبعه نجا غلامُ سيف الدولة، فلحق سوادَه فأخذه، ورجع به إلى سيف الدولة، ودخل هبةُ الله حرَّان، فأوهم أهلَها أنَّ عمَّه مات، وأنَّه قد كتب إلى أبيه ليُنْجِدَه بالرجال ويقيم بحَرّان، وطلب من أهلها أنْ يَحلِفوا له، ويكونوا معه على مَن حاربه، فحلفوا واستثْنَوا في أيمانهم إلا أنْ يكون الذي يُحاربه عمُّه فإنَّهم لا يحاربونه، وكانوا قد أغلقوا أبواب البلد في وجهه قبل ذلك، فأرادوا أنْ يَغسلوا ما فعلوا. فلمَّا كان بعد أيامٍ وافى أخو نجا غلامُ سيف الدولة، فأغلقوا الأبواب في وجهه، فأظهر أنَّه قاصدٌ مَيَّافارِقين، وكتب إلى نجا يُخبره، فسار نجا بنفسه، فانهزم هبةُ الله إلى أبيه بالموصل، ونزل نجا بظاهر حَرَّان وذلك في شوال، وخرج إليه وجوه أهلها للسلام، فوكَّل بهم وتهدَّدهم بالقتل وقال: أغلقتُم الأبواب في وجه أخي؟ فاعتذروا، وطالبَهم بألف ألف درهم خيانةً، وتردَّدت الرسائل بينهم على ثلاث مئة ألف وعشرين ألف درهم، وقال: أُريد المال. وبعث معهم الفرسان والرَّجَّالة، وألزمهم الأجعال الثقيلة، فدخلوا البلد، وقسَّطوا المال عليهم، على الأغنياء والسُّوقة والنساء وغيرهم، فباع الناس ما يساوي درهمًا بدانِق، ولم يجدوا مَن يشتري، فاشتراه أصحاب نجا بأوكس ثمنٍ، وخرِبت حَرَّان، وافتقر أهلُها، واستوفى نجا المال، وسار إلى مَيّافارِقين عاصيًا على مولاه سيف الدولة، وبقي البلد شاغرًا بغير سلطان، وتسلَّط العيَّارون على أهله. وفي يوم الخميس ثامن عشر ذي الحجة -وهو يوم غدير خُمّ- أُشعلت النيرانُ ببغداد، وضُربت الدَّبادِبُ (¬2) والبوقات، وأصبح الناس إلى مقابر قريش للصلاة هناك، وإلى مشهد الشيعة. قال ثابت بن سنان: وأنفذ بعض البطارقة الأرمن إلى ناصر الدولة (¬3) رجلين ¬

_ (¬1) حربة صغيرة، انظر تكملة المعاجم 4/ 98، والمعجم الذهبي 239. (¬2) هي الطبول. (¬3) في (ف م م 1): وذكر ثابت بن سنان في هذه السنة عجائب، منها أن بعض بطارقة الأرمن أرسل إلى ناصر الدولة. والمثبت من (خ)، وانظر المنتظم 14/ 151، وتاريخ الإِسلام 8/ 11، والنجوم الزاهرة 3/ 334.

خولة

مُلْتَصِقَين، سنهما خمس وعشرون سنة، مُلتحمَين (¬1)، ومعهما أبوهما، وأن الالتصاق كان في المعدة، ولهما بطنان وسرتان ومعدتان، وتختلف أوقات جوعهما وعطشهما وبرازهما (¬2) وبولهما, ولكل واحد منهما صدر وكتفان وذراعان ويدان وفخذان وساقان وإحليل، وكان أحدهما يميل إلى النساء، والآخر يميل إلى الغلمان. وذكر القاضي علي بن المحسن التَّنوخي، عن أبيه، عن جماعة من شيوخ الموصل أنه أُحضر إلى ناصر الدولة رجلان من هذا النَّمط، وأن ناصر الدولة عجيب منهما، ومات (¬3) أحدهما وبقي أيامًا، فأنتن وأخوه حي، ولا يمكن إلا دفن الحي مع الميت، وجمع ناصر الدولة الأطباء على أن يقدروا على الفصل بينهما فلم يكن لهم حيلة، فلحق الحيَّ من رائحة الميت ما كان سببًا لموته، فدُفنا جميعًا [، وكان لهما جوف واحد، ومعدة واحدة، فسبحان من جَلّت قدرته أن تُحدّ، كما عزّت نعمته أن تُعَدّ. فصل: ] (¬4) وفيها توفّيت خولة أخت سيف الدولة بحلب، وحُمل تابوتها إلى مَيّافارِقين، وهي التي رثاها المتنبي فقال (¬5): [من البسيط] يا أختَ خيرِ أخٍ يا بنتَ خيرِ أبٍ ... كنايةً بهما عن أشرفِ النَّسَبِ [وكانت صاحبة حِشْمَةٍ وحُرمة.] (¬6) عُمر بن أَكْثَم ابن أحمد بن حيّان، أبو بِشْر الأسدي. ولد سنة أربع وثمانين ومئتين، وولي القضاء ببغداد (¬7). ¬

_ (¬1) في (خ) و (م): ملتحيين، والمثبت من (ف م 1). (¬2) في (ف م م 1): وأوقات تبرزهما. (¬3) من قوله: وذكر القاضي علي ... إلى هنا من (ف م م 1)، وجاء بدله في (خ): قال القاضي التنوخي ومات. (¬4) ما بين معكوفين من (ف م م 1). (¬5) بعدها في (م): قصيدة منها هذا البيت. اهـ. والبيت الآتي أول القصيدة في شرح البرقوقي 1/ 215. (¬6) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، ومن هنا إلى نهاية السنة ليس في هذه النسخ، والاعتماد على (خ) وحدها. (¬7) المنتظم 14/ 152 - 153، وذكر الخطيب في تاريخه 13/ 109، والذهبي في تاريخ الإِسلام 8/ 117، والسير 16/ 111 أن وفاته في سنة (357 هـ).

السنة الثالثة والخمسون وثلاث مئة

[السنة الثالثة والخمسون وثلاث مئة قال ثابت بن سنان: وفي يوم عاشوراء فعل ببغداد ما فعل عام أول من تعطيل الأسواق والنوح وغيره,] (¬1) فلما كان وقت الضحى وقعت فتنة عظيمة في قطيعة أم جعفر [قريبًا من مقابر قريش] بين السنة والشيعة، وجرت بينهم جراحات، ونهب الناس [بعضهم بعضًا] (¬2). وفيها قدم رجل علوي من خراسان ثم إلى إرمينية ثم إلى مَيَّافارِقين، واجتمع بنجا غلام سيف الدولة، فأوقعا بأبي الوَرْد وهو من العرب، وكان بيده بعضُ بلدان إرمينية، فقُتل في الوقعة، وقيل: قتله نجا, ولم يحضر العلويّ، وأخذ نجا خِلاط وقلاعَها من يد أبي الورد، وسار العلوي إلى حران ثم إلى حلب، فلما اجتمع بسيف الدولة خرج معه إلى المَصِّيصَة. وفيها نزل الدُّمُسْتُق على المَصِّيصَة مع جيشٍ ضخم، وأقام عليها سبعةَ أيام، ونقب سورها نيّفًا وستين نَقْبًا، وقاتله أهلُها ودفعوه عنها، وضاق به الأمر، وعَدِم الميرة، وغلا السّعر، فرحل عنها بعد أن أقام في بلاد المسلمين خمسة عشرة يومًا، وأحرق رُسْتاق المَصِّيصة وأَذَنة وطَرَسوس، وخرج سيف الدولة والخُراساني إلى المَصيصَة، فوجد الدُّمُسْتُق قد انصرف، وتفرَّقت جُموع الخُراساني من شدة الغلاء في السواحل وحلب والشام، ورجعوا إلى بغداد، ثم مَضَوا إلى خراسان. وقيل: لما انصرف الدُّمُسْتُق عن المَصِّيصَة بعث إلى أهلها وقال: إني مُنصرفٌ عنكم لا لعَجزٍ عن فتح بلدكم ولكن لضيق العَلوفَة، وأنا عائدٌ إليكم بعد هذا الوقت، فمَن أراد منكم الانتقال إلى بلد آخر قبل رجوعي فلينتقل، فمَن وجدتُه بعد عَودي قتلتُه. وتفاقم الغَلاءُ بالشام والثُّغور حتى فقد الناس القوت (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، وجاء بدله في (خ): وولي القضاء ببغداد كما فعل عام أول، وانظر المنتظم 14/ 155، وتكملة الطبري 401، والكامل 8/ 551 - 559، وتاريخ الإِسلام 8/ 13 - 17، والنجوم الزاهرة 3/ 336. (¬2) ما بين معكوفين من المنتظم 14/ 155. (¬3) من قوله: وفيها قدم رجل علوي ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

وفيها كتب القرامطة إلى سيف الدولة يستهدونه (¬1) حديدًا، فقلع أبواب الرَّقَّة وهي من حديد وسدَّها (¬2)، وأخذ كلَّ حديد وجد بديار مُضَر؛ حتى انتهى إلى أخذ مَوازين الباعة والبقَّالين، حتى كتب القرامطة إليه: قد استغنينا عنه، فأخذ القاضي أبو حُصين الأبواب فكسرها، وصاغ منها أبوابًا لداره، ثم طلب القرامطة حديدًا فبعث إليهم القاضي بأبواب داره، وكان الحديد يُحمل إليهم في الفرات إلى هِيت، ثم يُحمل في البَرِّيَّةِ إلى هَجَر (¬3). وفيها (¬4) خرج معزّ الدولة في ربيع الآخر إلى الموصل لأمرٍ جرى بينه وبين ناصر الدولة، وقيل: في جمادى الآخرة (¬5)، فانحدر من داره إلى دار الخليفة مودِّعًا له، فودعه وخرج إلى مَضاربه بباب الشَّمَّاسِيِّة. قال أبو الحسن الخُراساني حاجب معزّ الدولة: كنت معه بحضرة المطيع، فلما تَقوَّض المجلس قال لي: قل للخليفة: إني أريد أن أطوفَ هذه الدار وأشاهدَ صُحونها وبساتينها، فتأمر مَن يمشي معي ويُريني ذلك، فقلت للخليفة، فتقدَّم إلى خادمه شاهك وحاجبه ابن أبي عمرو (¬6)، فمشيا بين يديه وأنا وراءهما، وبَعُدْنا عن الحَضْرة، فقالا لمعز الدولة: لا يجوز أن نتَخَرَّق الدار في أكثر من اثنين أو ثلاثة، فاختر من تريد ورُدَّ الباقين، فاختار أبا جعفر الصَّيمَريّ وعشرة أنفس من غلمانه وحُجّابه، ووقف باقي الجند والحاشية في صحن السلام، ودخلنا، ومضى مُعزّ الدولة مُسرعًا، فجذبتُ قَباءه من خلفه، وقلت له بالفارسية: في أيِّ موضع أنت حتى تسترسل وتعدو من غير تَحفُّظٍ ولا استظهار؟ ! ألا تعلم أنه قد فُتك في هذه الدار بألف أمير وألف وزير؟ ! فلو وقف لنا عشرة في مضيق لأخذونا في هذه المَمَرَّات، فقال له الصَّيمَريّ: لقد صدقك، فقال: ¬

_ (¬1) في (ف م 1): يسألونه، وفي (م): يستمدونه. (¬2) في (م): وشدها. (¬3) بعدها في (ف): والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم. (¬4) من هنا إلى أول السنة (354 هـ) ليس في (ف م م 1). (¬5) في الكامل 8/ 553 أن ذلك كان في رجب، وانظر المنتظم 14/ 156، وتاريخ الإِسلام 8/ 13، والنجوم الزاهرة 3/ 336. (¬6) في (خ): خادمه ساهل، وحاجبه عمرو، والمثبت من المنتظم 14/ 156.

قد كان ذلك غَلَطًا، وإن رجعنا الساعة يقال: إنا فَزِعنا، وسقطنا من أعينهم، وقلَّت هيبتُنا في صدورهم، ولكن احتفوا بي فإن مئةً من هؤلاء لا يقاومونا. فسعينا سَعْيًا حثيثًا، وانتهينا إلى دار فيها صَنَم من صُفْر على صورة امرأة، وبين يديها أصنامٌ صغار كالوصائف، فتحيَّر معز الدولة، وسأل عن الصنم فقيل له: هذا حُمِل في أيام المقتدر من بلد الهند، فتح صاحب عمان بلدًا، وبعث به إلى الخليفة وقال: إنه كان يُعبد، فقال: قد استَحسنتُ هذا الصنم وشُغفت به، ولو كان مكانه جارية لاشتريتُها بمئة ألف دينار؛ على قلَّة رَغبتي في الجواري، وأريد أن أطلبَه من الخليفة، فقال له الصَّيمَريّ: لا تفعل فإنه يَنْسِبُك في ذلك إلى ما ترتفع عنه. وبادرنا بالخروج، فما رجعت إلينا عقولنا إلا بعد اجتماعنا بأصحابنا. وقال معز الدولة للصَّيمري: [قد ازدادت محبتي للمطيع لله وثقتي به؛ لأنه لو كان يُضْمِر لي سوءًا أو يُريده بي لكنا اليوم في قبضته، فقال الصَّيمَريّ: ] (¬1) الأمر على ذلك. وصعد معز الدولة إلى داره، وبعث إلى نقيب الطالبيين بعشرة آلاف درهم ليفرِّقها في العلويين شكرًا لله على سلامته. قال المصنف رحمه الله: في هذه الحكاية تخليط؛ فإن الصيمري مات سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة، وقول الخراساني: قد قُتل في هذه الدار ألفُ أمير وألف وزير! ما قتل فيها أحد، ثم إن معزَّ الدولة كان فَوَّض الأمور إلى ولده عز الدولة، وأخو معز الدولة ركنُ الدولة ملكُ المشرق، فكيف يُتصوَّر أن يبدو من المطيع في حقِّ معز الدولة ما يكره. قال ثابت: وكان ناصر الدولة قبل أن يَحمل مال التعجيل قد بذل زيادة عشرة آلاف دينار بأن يَعقد لولده أبي تغلب فَضْل الله الغَضَنْفَر مكان أبيه، فلم يُجِبْه معز الدولة، وقدم قتلة الحاجب الكبير وجماعة القوّاد، ثم خرج في رجب، وعبر دجلة، وسار إلى الموصل على الظَّهر، وجاءه أبو الحسين الباهلي رسول ناصر الدولة يضمن له ثلاث ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من المنتظم 14/ 157.

مئة ألف درهم عِوضًا عما لزمه من النفقة ويرجع عنه، فما أجاب، وسار إلى الموصل، ولما قرب منها خرج ناصر الدولة إلى نَصِيبين. ولما كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان وصل معز الدولة إلى بلده في الما (¬1)، وكان قد لحقه ذَرَبٌ شديد، وخلَّف بالمَوْصِل جماعة من الأتراك والدَّيلَم لحفظ البلد، وبلغ ناصر الدولة، فسار إلى مَيَّافارِقين من نَصِيبين، وترك معز الدولة نَصِيبين، وسار الحاجب الكبير وجماعة من القوّاد إلى مَيَّافارِقين، ولا يدري أين ذهب، فعاد الحاجب الكبير إلى معز الدولة يريد الموصل خوفًا عليها، وصار أبو تغلب وإخوته إلى الموصل، فوافقوا أصحاب معز الدولة، فكانت بينهم حروب في رمضان، فكانت على أولاد ناصر الدولة، فأحرقوا زَبازِبَ (¬2) معز الدولة التي كانت ببلده، وزواريق الغِلال التي كانت بالموصل، ثم جاء ناصر الدولة واجتمع عليهم، واستأمن إليه الدَّيلَم، واستأمن جميع الترك، وأخذ ما كان لمعز الدولة من سلاح وكُراع وغيره مما يساوي مئتي ألف درهم، وبعث ناصر الدولة بالأسارى إلى القلعة. وسار معز الدولة يريد الموصل، وخرج منها ناصر الدولة وأولاده فصاروا إلى سِنْجار، ونزل معز الدولة بَرْقَعيد، ولم يعلم ما جرى على أصحابه، وكانت نفسه ساكنة إلى من فيها من عسكره وخواصّه، وبلغه أن ناصر الدولة عدل إلى الجزيرة، فسار من بَرْقَعيد خلفَه، فاعترضه في الطريق أبو لمُظَفَّر حمدان بن ناصر الدولة، فوقف معز الدولة مكانه طول نهاره، وفرَّق الجَواشِن (¬3) والتَّخافيف على غلمانه، وجمع سَوادَه، ورتَّب رجاله، وبات ليلته مكانه، فسار من غدٍ على عقبه يريد الجزيرة، فدخلها فلم يجد بها ناصر الدولة، وبلغه ما جرى على أصحابه بالموصل، فكاتب الحاجب الكبير ومعظم العسكر معه بنَصِيبين، فكتب إليه معز الدولة أن يَلحق به، فلحق به إلى بَلَد لليلتين بقيتا من شهر رمضان (¬4). ¬

_ (¬1) كذا، وفي الكامل 8/ 553: ووصل معز الدولة إلى الموصل وملكها في رجب، وصار يطلب ناصر الدولة حادي عشر شعبان. (¬2) مفردها: زَبْزَب، ضرب من السفن. (¬3) هي الدروع. (¬4) انظر الخبر بأوضح مما هنا في الكامل 8/ 553 - 554.

ووصل أبو لهَيجاء حَرْب بن أبي العلاء سعيد بن حَمدان إلى معزّ الدولة مستأمنًا، فأكرمه ووصلَه، ورجع معز الدولة إلى نَصِيبين، ثم إلى بَرْقَعِيد، ثم دخل الخابور، وسار مستأمنًا (¬1)، وعاد معز الدولة إلى المَوصل، ونزل شرقيّ دجلة، وجاء أبو تغلب إلى بَلَد، وكاتب معز الدولة، وتكررت بينهما الرسائل على أن يُضَمِّنه ما كان بيد أبيه، ويطلق الأسارى، فأجابه، وتعجَّل له ببعض المال وهو ست مئة ألف درهم، وبعث بالمال والأسارى، وعاد معز الدولة وعساكره إلى بغداد في ذي الحجة. وجاء الدُّمُسْتُق فنزل على طَرَسوس، ثم رحل عنها، وأهدى لسيف الدولة هدايا، فاحتفل للرسول، وجلس على سريره وعلى رأسه تاج. فيها (¬2) سار سيف الدولة إلى مَيَّافارِقين يُريد غلامَه نَجا، وكان قد عصى عليه، وكاتب معزَّ الدولة أن يكون معه على مواليه، ويساعده عليهم، وعاد من القلعة التي أخذها من أبي الوَرْد (¬3)، فنزل مَيَّافارِقين، وأحرق رَبَضَها، ووقعت عليه حِيلةٌ من أصحاب سيف الدولة، فأخذوا القلعة التي كان يحتمي بها, ولما وصل سيف الدولة إلى مَيَّافارِقين انحاز عنها، وحصل في يد سيف الدولة قلاعُه، وجماعةٌ من غلمانه وكُتَّابه، وأخٌ له، فقتلهم سيف الدولة، ولم يقتل أخا نجا، وكتب إليه يَعِدُه ويتوعَّدُه، وعُمل لسيف الدولة خيمةٌ ارتفاع عُمُدها خمسون ذراعًا؛ تَسَعُ خمس مئة إنسان، وصار نجا إلى سيف الدولة؛ فأعاده إلى مرتبته، وأحسن إليه، وعفا عنه. ¬

_ (¬1) كذا، وفي تكملة الطبري 401: فأقبل معز الدولة إلى برقعيد، فأتاه حمدان بن ناصر الدولة مستأمنًا، وأتاه أبو الهيجاء بن أبي العلاء بن حمدان مستأمنًا أيضًا، وأتى معز الدولة الموصل، واستأمن إليه المهيا والمسيب غلاما أبي تغلب، فخلع عليهما وطوقهما وسورهما، وأتاه أبو الحسن علي بن ميمون ورهن نفسه عنده ... فرحل حيئنذ ومعه عمرو إلى الحديثة ... (¬2) قبلها في (خ): السنة الثالثة والخمسون وثلاث مئة. اهـ. وإيراد هذه الجملة في هذا الموضع خطأ؛ لأن ما قبلها من أحداث السنة (353 هـ) كما ورد في النسخ الأخرى. (¬3) في (خ): ابن أبي الورد، والمثبت موافق لما في الكامل 8/ 551، وقد سلف أنه أبو الورد في أحداث أول السنة.

إبراهيم بن أحمد

وفيها توفي إبراهيم بن أحمد ابن محمَّد بن موسى، أبو اليُسْر الأنصاري المَوْصِليّ. قدم بغداد حاجًّا، وحدَّث بها، وكان فقيهًا شاعرًا، كتب إليه أبو الطاهر الهاشمي (¬1): [من الخفيف] يا أخي يا عَديلَ روحي ونَفْسي ... وصَفيِّي من بين أهلي وجِنسي وَحْشَتي بالبعاد منك على حَسْـ ... ــــبِ سروري بالقرب منك وأُنْسي فابْقَ لي سالمًا على كلِّ حالٍ ... ما دَجا الليل أو بدا ضوء شمسِ فكتب إليه بديهًا يقول: أنا أَفديكَ من رئيسٍ جَليلٍ ... وقليل له الفداء بنفسي كنتَ بالقربِ مني في كلِّ وقت (¬2) ... في سرورٍ مُجَدّد لي وأُنسِ ونعيمٍ مُؤَبَّدٍ وحُبورٍ ... كلَّ يومٍ لديه أُضحي وأُمسي فكأن الأيامَ أيامُ عيدٍ ... وافقت باجتماعنا يومَ عُرسِ وكأن الظَّلامَ زاد ضَحاءً ... حين ألقاه فيه أو ضوء شَمسِ فنأى واغْتَديتُ بعد تَنائيـ ... ــــهِ كأني في ضِيقِ لَحْدٍ وحَبْسِ وتَبدَّلْتُ بعد طائرِ سَعْدٍ ... لفراقي له بطائرِ نَحْسِ بي إليه على اقترابِ مَزارٍ ... ظَمَأٌ فوق ما بَوارِدِ خِمْسِ يا رئيسًا آباؤه السَّادة الصِّيـ ... ــدُ نَمَتْهُ من خير أصلٍ وغَرْسِ والأديب الذي أَبَرَّ على كُـ ... ـــلِّ أديبٍ في كلِّ مَعنى وجِنسِ قد أتتني أبياتُك الغُرَرُ الزُّهْـ ... ـــرُ اللواتي تحيى بها كلُّ نَفْسِ فأزالتْ عنّي هُمومي بفَقْدَيـ ... ـــكَ وأَحْيَتْ مُوَسَّدًا تحت رَمْسِ وتَسَلَّيتُ عن بِعادك لا عنـ ... ــــكَ بدُرٍّ أودعتُه بَطْنَ طِرْسِ ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 6/ 501: كتب إلى أبو منصور طاهر. (¬2) في تاريخ بغداد: كنت في القرب منه في كل وقت.

أحمد بن محمد بن سعيد

من قَريضٍ حكى الَّلالئَ في جِيـ ... ـــدِ فتونٍ لكلِّ جِنٍّ وإنْسِ فاسْلَمِ الدَّهرَ وابْقَ لي أبدًا أنـ ... ــــتَ مُعافًى فأنت سَيفي وتُرْسي أحمد بن محمَّد بن سعيد أبو سعيد النَّيسابوري، له التصانيف في علوم الحديث وغيرها، و"التفسير الكبير"، وخرَّج على كتاب مسلم، وكان واعظَ أهل نيسابور، وشيخ الصُّوفية، وعظيمَ الشأن، خرج من نَيسابور بأموال عظيمة وعَسْكرٍ عظيم يريد القراءة، فاستُشهد بطَرَسوس. وكان صَدوقًا زاهدًا وَرِعًا (¬1). بُنْدار بن الحسين ابن محمَّد بن مُهَلَّب، أبو الحسين الشّيرازي. سكن أَرَّجان، وكان عالمًا بالأصول، وله لسانٌ في علوم الحقائق، وكان الشِّبليّ يُعَظِّمه. ومن كلامه: حروف الصُّوفي تحت كلِّ حرفٍ منها معنى؛ فالصاد دِلالة صِدقه وصبره وصفائه، والواو دِلالة ودِّه وورْده ووَفائه، والفاء دِلالة فَقْره وفَقْده وفَنائه، والياء للإضافة والنسبة. وقال: القلب مَحلُّ الأنوار، وموارد الفوائد، وقد جعله الله أميرًا بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] , وأسيرًا بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]. وقال: رؤي مجنون ليلى في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وجعلني حُجَّةً على المحبِّين. قال المصنف رحمه الله: إذا كانت مَحبَّةُ مَخلوق أوصلتْه إلى هذا المقام الشَّاهق فكيف بمن شَغل قلبَه بمحبة الخالق! ؟ وأنشد يقول: [من الطويل] أحبُّ حبيبًا لا أُعاب بحبِّه ... وأحببتُمُ مَن في هواه عُيوبُ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 159، وتاريخ الإِسلام 8/ 52، والسير 16/ 29.

ثوابة بن أحمد

وقيل لبُنْدار: ما الدنيا؟ فقال: ما دنا من القلب، وشَغَل عن الحقّ. وقال: السماع على ثلاثة أوجه؛ سماعٌ بالطّباع، وسماعٌ بالحال، وسماع بالحق، فسماع الطَّبع يشترك فيه الخاص والعام، فإن جِبِلَّة البشرية تَستلذُّ الصوتَ الطيِّبَ، وسماع الحال هو الذي يتأمَّل ما يَرِد عليه من عِتابٍ، أو خِطاب، أو وَصْلٍ، أو هِجران، أو قُربٍ، أو بُعدٍ، أو تَأسُّفٍ على فائت، أو تَعَطُّشٍ إلى آتٍ، أو خوفِ فراقٍ، أو فرحٍ، أو وصالٍ، أو حِذارٍ واتصال، وما يجري مجراه، وأما سماعُ الحقّ فهو الذي يسمع بالله، ولله، ومع الله، ولا يتصف بهذه الأحوال التي هي مَمزوجة بالحظوظ البشرية (¬1). ثَوابة بن أحمد ابن ثوابة، أبو الحسن، الموصلي (¬2)، مات بمصر في المحرَّم، وقيل: سنة ثمان وخمسين (¬3)، وكان ثقة. وقال: حدثنا علي بن إسحاق الغَسَّاني، حدثنا عبد الله بن الهيثم، حدثنا الأصمعي قال: رأيتُ بالبصرة جاريةً كأنها الشمس، وهي تتكلَّم بكلامٍ ما سمعتُ مثلَه، ثم رفعت صوتَها وقالت: [من الطويل] أنوحُ على دهرٍ مضى بغَضارةٍ ... إذ العيشُ غَضّ والزمانُ مواتي وأبكي زمانًا صالحًا قد فَقَدْتُه ... يُقطِّع قلبي ذِكرُه حَسَراتِ فيا زَمنًا ولَّى على رَغْم أهله ... ألا عُدْ كما قد كنتَ مُذْ سَنواتِ تَمطَّى علينا الدَّهرُ في مَتْنِ قوسِه ... ففرَّقَنا منه بسَهمِ شَتاتِ عبد الله بن محمَّد ابن عبد الله الرَّازي، الشَّعْراني. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 10/ 384، وطبقات الصوفية 467، والسير 16/ 108، وتاريخ الإِسلام 8/ 54. (¬2) المنتظم 14/ 158، وفي تاريخ بغداد 8/ 24، وتاريخ دمشق 3/ 592 (مخطوط)، وتاريخ الإِسلام 8/ 123: ثوابة بن أحمد بن عيسى بن ثوابة أبو الحسين الموصلي. (¬3) وكذا ذكر الخطيب وابن عساكر والذهبي، وتابع المصنفُ جدَّه في ذكر ثوابة في وفيات (353 هـ).

علي بن يعقوب

ولد ونشأ بنيسابور، وكان من كبار مشايخها في وقته، قيل له: ما بالُ الناس يعرفون عيوبَهم ولا ينتقلون عنها إلى الصواب؟ فقال: لأنهم اشتغلوا بالعلم للمُباهاة به، ولم يشتغلوا به لاستعماله، وأصلحوا الظَّواهر دون البَواطن؛ فأعمى الله قلوبَهم عن النَّظَر في الصواب، وقيَّد جوارحَهم عن العبادة. وقال: إنما يَتَولَّد ضيقُ الصَّدر والهَمُّ من قلَّةِ المعرفة بالله تعالى (¬1). علي بن يعقوب ابن إبراهيم بن شاكر، أبو القاسم، المعروف بابن أبي العَقَب، محدِّث شامي مشهور، ثقة، زاهد، ثبت، ومن شعره: [من الوافر] أَنِسْتُ بوَحْدَتي ولَزِمتُ بيتي ... قدام العيشُ لي ونما السُّرورُ وأدَّبَني الزمانُ فصِرْتُ فَرْدًا ... وَحيدًا لا أُزارُ ولا أَزورُ ولستُ بقائلٍ ما عِشتُ يومًا ... أسار الجيشُ أم ركب الأميرُ متى تَقنع تَعِشْ مَلِكًا عزيزًا ... يَذِلُّ لعزِّك الملكُ الفَخورُ (¬2) ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية 451، والمنتظم 14/ 158. (¬2) تاريخ دمشق 52/ 40 (مجمع اللغة)، والسير 16/ 38، وتاريخ الإِسلام 8/ 59.

السنة الرابعة والخمسون وثلاث مئة

السنة الرابعة والخمسون وثلاث مئة (¬1) فيها عُمل يوم عاشوراء ببغداد ما جرى به الرسم من النوح ونحوه، ومُنع الناس من البيع والشراء. وفيها وثب غِلمان سيف الدولة على غلامه نجا بحضرة مولاهم، وضربوه بالسيوف حتى برد، ولحقت سيفَ الدولة غَشية مقدار ساعة، فأمرت زوجته وهي ابنة [أبي العلاء] سعيد بن حمدان بأن يُجَرَّ برِجل نجا، ففُعل به ذلك إلى أن اخرج من قصرها [وفيه كانت الحادثة] , وطُرح في مَصبِّ الأقذار (¬2) والمياه النجِسة طول ليلته ومن الغد إلى وقت العصر، ثم أُخرج وكُفِّن بشقة (¬3)، ودُفن عند سور مَيافارِقين، [وقد ذكرنا غزواته وعصيانه على مولاه.] وكان قد عزم على هلاك بيت مواليه، واتَّفق مع معز الدولة، وقال غلمان سيف الدولة لسيف الدولة: نقتله، فنهاهم عنه، فما انتَهوا حتى قتلوه. وقيل (¬4): إنه جرى بينه وبين سيف الدولة كلامٌ على الشَراب، فأفحش له نجا، فقام نَجاح غلامُ سيف الدولة فقتله. وسار سيف الدولة إلى خِلاط فملَكها وكانت لنجا. وفيها قلَّدَ المطيعُ أبا أحمد خَلَفَ بن أبي جعفر سِجِسْتان، وخلَع عليه، ووصل إليه بسفارة معز الدولة. وفيها مُطر العراق في نيسان بَرَدًا؛ وزن البَرَدة مئةُ درهم. وفي جُمادى الأولى (¬5) تقَلَّد الحسين بن موسى الموسوي نقابة الطالبيين بأسرهم سوى أبي الحسين بن أبي الطيب وولده؛ فإنهم استَعْفَوا منه، ورَدَّ أمرَهم إلى أبي الحسين علي بن موسى الحمولي (¬6). ¬

_ (¬1) في م: بعد الثلاث مئة. (¬2) في (ف م م 1): الأمطار، والمثبت من (خ). (¬3) في (م 1): بسيفه. (¬4) من هنا إلى وفاة أخت معز الدولة ليس في (ف م م 1). (¬5) في تكملة الطبري 403، والمنتظم 14/ 161، والكامل 8/ 565: وفي جمادى الآخرة. (¬6) في المنتظم 14/ 161: أبي الحسن علي بن موسى حمولي.

وفي جمادى الأولى توفيت (¬1) أخت معز الدولة، ودُفنت بمقابر قريش، ونزل الخليفة في طياره إلى دار معز الدولة ليُعزّيه، فنزل معز الدولة إليه، ولم يُكلّفه الصعود، وعَزَّاه الخليفة، فقَبَّل معز الدولة الأرضَ [بين يدي الخليفة] دَفَعات، ورجع الخليفة إلى داره. وفيها بني نقفور ملك الروم قَيسارِيَّة قريبة من بلاد الإِسلام، وأقام بها، ونقل إليها أهلَه وعياله؛ ليقرب من بلاد الإِسلام فيغير عليها، [فخيَّبَ الله سَعيه وأمله، وترك أباه بالقسطنطينية، وبعث إلى نقفور أهلُ المَصِّيصة وطَرَسوس رسولًا يسألونه أن يَقبل منهم إتاوة، ويؤدُّونها إليه كل سنة، على أن يُنفذ إليهم صاحبًا من عنده يقيم عندهم، فأجابهم. ثم بلغه أن أهل البُلدان قد ضعفوا جدًّا، وأنه لا ناصر لهم، ولا دافع له عنها، وأنه لم يبق لهم أقوات، وقد أكلوا الكلاب والميتات، وأنه يَخرج من طَرَسوس كلَّ يوم ثلاث مئة جنازة، فانصرف رأيه عما كان أجابهم إليه، وأحضر رسولهم وقال له: مَثَلُكم كمثل الحيَّة في الشتاء؛ إذا لَحِقها البَرد ضَعُفت وذَبُلَت حتى يُقَدِّر مَن رآها أنها ميتة، فإن أخذها إنسان وأحسن إليها انتَعشَت ولَدَغَتْه فقتلته، فإن أنا تركتُكم حتى تستقيم أحوالكم تأذَّيتُ بكم. وأخذ الكتاب الذي أورده، فأحرقه على رأس الرسول، فاحترقَتْ لحيته ووَجْهُه فقال له (¬2): ارجع إليهم، وعَرِّفهم أن ما لهم عندي غير السيف، فانصرف. فأقام ملك الروم على عَزْم أن يقسم جيوشَه ثلاثَ فِرق؛ فرقة إلى مَيَّافارِقين، وأخرى إلى الشام، وأخرى إلى الثُّغور. وكان بميافارقين ستة آلاف كُرّ حِنطة، فمزَّقها سيف الدولة وفرَّقها؛ لئلا يأخذها الروم (¬3). ¬

_ (¬1) في (خ): وفيه توفيت، بدل: وفي جمادى الأولى توفيت، والمثبت من (ف م م 1). (¬2) في (خ): وفيها فقال له. (¬3) من قوله: وبعث إلى نقفور أهل المصيصة وطرسوس ... إلى هنا، ليس في (ف م م 1).

وسار ملك الروم (¬1) بنفسه إلى المَصِّيصَة، ففتحها بالسيف في رجب، وقتل من أهلها خلقًا عظيمًا (¬2)، وأمر بأن يُساق الباقون من الرجال والنساء والصبيان إلى بلد الروم، ففعل بهم ذلك، وكانوا نحوًا من مئتي ألف إنسان. ثم صار (¬3) منها إلى طَرَسُوس فحاصرها، فطلب أهلُها أمانًا فأعطاهم، ففتحوا له أبوابَها فدخلها, ولقيَ أهلَها بالجميل، ودعا رؤساءهم إلى طعامه فأكلوا معه، وأمرهم بالانتقال عنها، وأن يَحمل كلّ واحد منهم من ماله وسلاحه ما أطاق، ويدع لهم الباقي، ففعلوا، وبعث معهم من بَطارقته نفرًا يَحمونهم من الأرمن إلى أنطاكية، فتعرَّض لهم طائفةٌ من الأرمن، فقطع الملك آنافهم، وعاقبهم، وحمل بعضهم في البحر حتى وصلوا إلى أنطاكية سالمين، وجعل جامعها إصطَبلًا لدوابّه، ونقل ما كان فيه من القناديل إلى بلده، وقَلَّدها بطريقًا من بَطارقته في خمسة آلاف، وكذا فعل بالمَصِّيصة، وأمر بعمارة البَلَدين، وعمل على أن يجعلهما (¬4) معقلًا؛ لقربهما من ديار الإِسلام فيغير منهما، ويتمكن من البلاد، وجلب (¬5) المِيرَة إلى البلدين من كل مكان. وقيل: إن المصيصة رجع إليها بعض أهلها وتَنصَّروا. وفيها في يوم الغَدير عُمل ما جرى به الرسْم من ضَرب الدبادِب والبوقات، وزيارة قبر موسى بن جعفر - رضي الله عنهما -. وفيها أنفذ أبو تغلب بن ناصر الدولة إلى معز الدولة ما كان بقي من الأتراك الذين أُسروا بالمَوصل، وحمل ما كان أخذه من المال والثياب الذي خَلَّفها معز الدولة بالموصل، فأما المال فأخذه، وأما الثياب فإن نفسه شَرُفت عنها وقال: لعل أبا تغلب أعجبه شيء منها، فردَّها، وكان لها قيمة (¬6). ¬

_ (¬1) قبلها في (ف م م 1) ما نصه: ذكر فتوح الروم المصيصة: سار ملك الروم، والمثبت من (خ). (¬2) في (ف م 1): كثيرًا. (¬3) في (م): سار. (¬4) في (ف م 1): جعلهما. (¬5) في (خ): وجلبت. (¬6) من قوله: وفيها من يوم الغدير .. إلى هنا ليس في (ف م م 1).

أحمد بن الحسين

وفي هذه السنة سار بالحاج أبو أحمد الحسين بن موسى النَّقيب. [فصل: ] وفيها توفي أحمد بن الحسين ابن الحسن بن عبد الصَّمد، أبو الطَّيِّب، الجُعْفيّ، الشاعر، المعروف بالمتنبي، وكان أبوه يعرف بعِيدَان (¬1). [قال الخطيب: ولد المتني] بالكوفة بكِنْدَة سنة ثلاث وثلاث مئة، ونشأ بالشام فأكثر المقام بالبادية، وطلب الأدب وعلم العربية، وفاق أهلَ عصره في الشعر، واتصل بالأمير سيف الدولة أبي الحسن علي بن حمدان فانقطع إليه، وأكثر القولَ في مديحه، ثم مضى إلى مصر فمدح بها كافورًا الخادم، ثم ورد بغداد. وقال [الخطيب: حدثنا علي بن المحَسِّن التَّنوخي، عن أبيه قال: حدثني] أبو الحسن محمَّد بن يحيى العَلَويّ قال: كان المتنبي وهو صبيّ ينزل في جواري بالكوفة، وكان أبوه يُعرف بعِيدان السَّقَّاء يستقي لنا الماء ولأهل المحلَّة، ونشأ وهو محبًّا للعلم والأدب، وصحب الأعراب، فجاءنا بعد سنين بدويًّا، وكان (¬2) قد تعلم العربية والكتابة والقراءة، وأكثر مُلازمةَ الورَّاقين، فأخبرني وَرَّاقٌ كان يجلس إليه قال: ما رأيتُ أحفظَ من هذا الفتى ابن عيدان، قلت له: وكيف؟ قال: كان اليوم عندي وقد أحضر رجل كتابًا من كتب الأصمعي نحو ثلاثين ورقة، فأخذه فنظر فيه طويلًا، فقال له الرجل: يا هذا، أُريد بيعه وقد قَطَعْتَني عن ذلك، فإن كنتَ تُريد حفظَه فهذا يكون بعد شهر إن شاء الله، فقال له: فإن كنتُ قد حفظتُه في هذه الساعة فمالي عليك؟ قال: أَهَبه لك، قال: فأخذتُ الدفترَ من يده، فأقبل يتلوه عليّ إلى آخره، ثم استلَبه (¬3) فجعله في كُمِّه، فقام صاحبه وتعلَّق به، وطالبه بالثمن فقال: قد وهبتَه لي، فمنعناه منه وقلنا: قد شرطْتَ شَرطًا على نفسك، هذا للغلام فتركه. ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): بعَبْدان، وانظر حواشي تاريخ بغداد 5/ 165، والمتنبي لمحمود شاكر رحمه الله 137. (¬2) في (ف م 1): بعد سنتين بدويًّا فجاء وكان، والمثبت من (خ م). (¬3) في (ف م م 1): استله.

وقال المحسِّن عن أبيه: سألتُ المتنبي عن نسبه، فما أقرَّ لي به، وقال: أنا رجل أَخْبِط القبائل وأطوي البوادي وحدي، ومتى انتسبتُ لم آمَن أن يَأخُذني بعض العرب بطائلة بيننا وبين القبيلة التي انتسبتُ إليها، وما دمت غير مُنتَسِبٍ إلى أحد فأنا أسلم على جميعهم. قال: واجتمعتُ بعد وفاته [بسنين مع القاضي أبي الحسن ابن] أمِّ شَيبان (¬1)، وجرى ذكره فقال: كنتُ أعرف أباه بالكوفة شيخًا يُسمّى عِيدان؛ يستقي الماء على بعير له، وكان جُعفيّا صحيحَ النَّسب. قال التّنوخي: وكان المتنبي لما خرج إلى كَلْب أقام فيهم، وادَّعى أنه عَلَويّ حَسَني، ثم ادَّعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدَّعي أنه علَويّ؛ إلى أن شهدوا عليه بالشام أنه كاذب في الدَّعوَتين، وحُبس دهرًا طويلًا، وأشرف على القتل، ثم استُتيب [وأشهد عليه بالتوبة] فأطلق. [قال المحَسِّن: وحدثني] أبو علي بن أبي حامد قال: سمعتُ خلقًا كثيرًا بحلب يحكون والمتنبي بها إذ ذاكٍ أنه تنبأ (¬2) في بادية السَّماوة ونواحيها إلى أن خرج إليه لؤلؤ أمير حمص، فقاتله وأسره، وشَرَّد مَن كان قد اجتمع إليه (¬3) من كلب وكلاب وغيرهما [من قبائل العرب] , وحبسه دهرًا طويلًا، فاعتلَّ وكاد يَتلف، فسئل في أمره، فاستتابه، وكتب عليه كتابًا ببُطلان ما ادَّعاه، ورجوعِه إلى الإِسلام. وكان قد تلا على أهل البراري كلامًا زعم أنه قرآن نزل عليه، فمنه: والنَّجْم السَّيَّار، والفَلَك الدَّوَّار، والليل والنهار؛ إن الكافر لفي أخطار، امض على سُنّتك، واقْفُ أثرَ مَن كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامِعٌ بك زَيغَ مَن ألحد في دينه، فضَلَّ عن سبيله. [قال المحَسِّن: ] وكان المتنبي إذا شُوغِب في مجلس سيف الدولة، وذكر له هذا القرآن (¬4) وأمثاله يَجْحَده. ¬

_ (¬1) في (خ): بعد وفاته بابن أم شيبان القاضي، والمثبت من (ف م م 1). (¬2) في (خ): وقال أبو علي بن أبي حامد إنه تنبأ، والمثبت من (ف م م 1). (¬3) في (م): من كان معه ممن اجتمع إليه. (¬4) في (خ): الهذيان، والمثبت من (ف م م 1)، وما سلف بين معكوفين منها.

قال المُحَسِّن: [فأما أنا فإني] سألتُه (¬1) بالأهواز في سنة أربع وخمسين عن معنى المتنبي، فأجابني بجواب مُغالِط وقال: هذا شيء كان في الحَداثة أوجبَتْه الصُّورة (¬2)، فاستحييتُ أن أستقصي عليه فسكتُّ. وهذا قول المحسن، وأما أبو القاسم عبد الله بن عبد الرَّحمن الأصفهاني فإنه ذكر في كتابه المسمى بـ "الواضح" أن الذي حبس المتنبي بحمص ابنُ كيغلغ، وكان أمير حمص، وأراد قتلَه (¬3)، وكان خروجه ببلد اللاذقية بين النُّصَيريّة، ثم انتقل إلى جبل جَوْشَن من بلاد الشام (¬4). [وقال أبو القاسم الأصفهاني: ] وقد هجاه الضَّبِّي فقال: [من الكامل] الزم مَقال الشّعرِ تَحْظَ برُتْبةٍ ... وعن النُّبُوَّةِ لا أبا لك فانتَزِحْ تَرْبَحْ دمًا قد كنتَ توجب سَفْكَه ... إن الممتَّعَ بالحيا لم يَسْتَرِحْ (¬5) [وقال الأصفهاني: ] قال المتنبي لكافور: وَلِّني صَيدا، فقال: كيف أُوَلّيك صيدا وفي رأسك ما فيه؟ ! من كان يُطيقك بعد هذا؟ (¬6) ذكره مقتله: [روى الخطيب عن علي بن أيوب قال: ] خرج المتنبي من بغداد إلى فارس، فمدح عضد الدولة [، وأقام عنده مدةً، ثم رجع من شيراز إلى بغداد، فقُتل في الطريق قريبًا من النُّعْمانية في رمضان (¬7)، وقيل: في شعبان. ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 5/ 168: قال لنا التنوخي: قال لي أبي: فأما أنا فإني سألته. والمثبت موافق لما في المنتظم 14/ 165، وما بين معكوفين من (ف م م 1). (¬2) في (ف م م 1): الضرورة. (¬3) في (خ): وقال عبد الله بن عبد الرَّحيم الأصفهاني بن كيغلغ أمير حمص هو الذي حبس المتنبي بحمص وأراد قتله، والمثبت من (ف م م 1)، وانظر الأعلام 4/ 96، والصبح المتنبي 269، والمتنبي للعلامة محمود شاكر 142، والخزانة 2/ 347. (¬4) في (خ): جبل جوشن ثم في بلاد الشام، والمثبت من (ف م م 1). (¬5) في الواضح للأصفهاني ص 1: إن المتع بالحياة لمن ربح. (¬6) في (ف م 1): يطيقك بعدها، وانظر الواضح ص 2. (¬7) تاريخ بغداد 5/ 169.

وفي سبب قتله أقوال؛ أحدها أنه كان معه مال كثير، فقتله العرب لأجل مالِه؛ وكان قد وصل له من عضد الدولة] أكثر من مئتي ألف درهم (¬1)، وارتحل من شِيراز بغير خَفير، فخرج عليه الأعراب فقتلوه وابنه مُحَسَّدًا بمكان يقال له: الصَّافية، واسم قاتله: فاتك بن أبي الجَهْل الأسدي. [والثاني: أن سبب قتله كلمة قالها عن عَضد الدولة، فدس إليه مَن قتله؛ وذلك] أنه لما وَفَد (¬2) على عَضُد الدولة أكرمه ووصله بثلاثة آلاف دينار وثلاث خِلَع، في كل يوم خِلْعَة سبع قِطَع، وثلاثة أفراس بسروج مُحَلاة، ثم دس عليه مَن مسألة: أين هذا [العطاء] من عطاء سيف الدولة؟ فقال [المتنبي]: هذا أجزل إلا أنه عطاءُ متَكَلِّف، وسيف الدولة معطي طَبْعًا، فغضب عَضد الدولة، وأذن لقوم (¬3) من بني ضَبة فقتلوه. وقال المُظَفَّر بن علي الكاتب (¬4): اجتمعتُ برجلٍ من بني ضَبَّة يُكنى أبا راشد (¬5) فقال: إنا حضرت قتل المتنبي؛ أذن لنا عضد الدولة في قتله، فخرجتُ مع أبي وكنا ستين راكبًا، فكَمَنَّا في وادٍ، فمرّ بنا في الليل ولم نعلم به، فلما أصبحنا تبعناه (¬6)، فلحقناه وقد نزل تحت شجرة كُمَّثْرى وعندها عَين، وبين يديه سُفْرة فيها طعام، فلما رآنا قام ونادى: هلمُّوا يا وجوهَ العرب، فلم يُجِبْه منا أحدٌ، فأحسَّ بالدَّاهية، وركب ومعه ولده وخمسة عشر غلامًا، وجمعوا الجماهل والبغال، فلو ثبت مع (¬7) الرجالة لم يقدَر (¬8) عليه، ولكنه بَرَز إلينا فتَطارَدْنا، فقتل ولده وغلمانه، وانهزم شيئًا يسيرًا، فقال غلام له: أين قولك [يا مولاي بالأمس]: ¬

_ (¬1) في (خ): فمدح عضد الدولة بأكثر من مئتي ألف شعر، والمثبت من (ف م م 1)، وانظر المنتظم 14/ 165. (¬2) في (خ): وقيل إنه لما وقد، والمثبت من (ف م م 1). (¬3) في (ف م م 1): فاغتاظ عضد الدولة وأمر قومًا، والمثبت من (خ). (¬4) في (ف م م 1): فذكر المظفر بن علي الكاتب قال. (¬5) في المنتظم 14/ 166: أبا رشيد. (¬6) في (ف م م 1): تبعنا أثره. (¬7) في (ف م م 1): فلو ثبتت معه. (¬8) في (ف م 1): نقدر، وفي (م): يقدروا.

الخَيلُ والليلُ والبَيداءُ تعرِفُني ... والضَّربُ والطَّعنُ والقِرْطاسُ والقَلَمُ؟ ! فقال له: قتلتَني قتلك الله، والله لا انهزمتُ أبدًا ثم رجع كارًّا علينا، فطَعَن زعيمَنا في عنقه فقتله، واختلفت عليه الرّماحُ فقُتل، فرجعنا إلى الغنائم -وكنت جائعًا- فلم يكن لي همّ إلا السُّفرة، وأنا يومئذ صبيّ حين راهَقْتُ، فأخذتُ آكل منها، فجاء أبي وضَربني بالسَّوط وقال: الناسُ في الغنائم وأنت مع بطنك، اكفُ ما في الصُّحَيفة وأعطني إياها، فأكفأتُها ودفعتُها إليه وكانت فضَّة، ورميتُ الدَّجاج والفِراخ في حجري. وكان المتنبي قد هجا ضَبَّةَ الأسَديَ بقوله: [من الرجز] ما أَنصفَ القومُ ضَبَّه ... وأمُّه الطرطبَّه (¬1) وقال الأصفهاني: كان قد هرب من كافور إلى أرَّجان، ومدح بها ابن العَميد وزيرَ ركن الدولة بن بُويه [وكنيته أبو الفضل] فأعطاه في دفعات [ثلاثين] ألف درهم، ثم مضى [من عنده] إلى عَضُد الدولة، فأعطاه ما قيمته ثلاثين ألف دينار، وقال له: امضِ وأحضر عيالك -وكانوا بالكوفة- فلما سار إلى بَنُورا قرية عند النُعمانية، وجد هناك خيلًا قد كَمَنوا له، فحملوا عليه، فطُعن فوقع، فنزل رجل فحَزَّ رأسَه وقتل ابنَه مُحَسَّد وبعضَ غلمانه. والقول الثالث: أن (¬2) الذي قتله كَثْرة ماله وبخله، فكان يحمل معه أمواله ولا يعطي خَفيرًا درهمًا، فلما رحل من شيراز سأله الخُفَراء أن يعطيهم خمسين درهمًا ويخفروه، فلم يفعل. وكان آخرَ ما مدح به عَضُد الدولة قصيدته التي يقول فيها (¬3): [من الوافر] ولو أني استطعتُ غَضَضتُ طَرفي ... فلم أُبصر به حتى أراكا [وأنَّى شئتِ يا طُرُقي فكوني ... أذاةً أونَجاة أوهَلاكا وجعل قافية البيت الهلاك فهلك] (¬4). ¬

_ (¬1) ديوانه بشرح البرقوقي 1/ 330، والطرطبة: المسترخية الثديين. (¬2) في (خ): وقيل إن، والمثبت من (ف م م 1). (¬3) في (خ): عضد الدولة قوله في قصيدة، والمثبت من (ف م م 1). (¬4) المنتظم 14/ 165 - 166، والبيتان في ديوانه 3/ 127، 133، وما بين معكوفين من (ف م م 1).

وكان مقتلُه يوم الأربعاء لثلاثٍ بقين من شعبان، وقيل: من رمضان [في هذه السنة] وله ثلاثٌ وخمسون سنة. وقد رثاه [أبو القاسم] المُظَفَّر الزَّوْزَنيّ فقال: [من الرمل] لا رعا الله صَرْفَ (¬1) هذا الزمانِ ... إذ دَهانا في مثل ذاك اللسانِ ما رأى الناسُ ثانيَ المتنبي ... أيُّ ثانٍ يُرى لبِكْرِ الزَّمانِ كان في شعره نبيًّا ولكن ... ظَهرتْ مُعجزاتُه في المعاني فصل مما يتعلق بشعره: قال أبو الفتح بن جني: أسقط المتنبي من شعره الكثير، وبقي ما يتداوله الناس فكان يُنْشَد. [وكان قد أُحصي ما أخذ من] سيف الدولة في مدة أربع سنين فكان خمسةً وثلاثين ألف دينار. ولما هجا كافورًا أراد قتلَه فهرب في البَرِّيَّة إلى الشام؛ ولهذا عَدد المنازلَ في قصيدته التي يقول فيها: [من المتقارب] ألا كلُّ ماشِيةِ الخَيزَلى (¬2) لأنه وقع في تنيه بني إسرائيل، ومر على الحَسا والمفاوز (¬3) وحِسْمى وغيرها (¬4). ولما قُتل وُجد في رَحْله دواوين أبي تَمّام وأبي نُواس والبُحتريّ وغيرهم. وقد شرح ديوان المتنبي أبو الفتح بن جنّي، فيقال: إنه أعطاه ألف دينار، ثم أبو الحسن الواحدي، ثم أبو العلاء المَعَرِّي، ثم جاء أبو زكريا التَّبريزي فجمع بين كلام ابن جنّي والمعري. ¬

_ (¬1) في وفيات الأعيان 1/ 124، وتاريخ الإِسلام 8/ 66: سرب. (¬2) تمامه: فدا كل ماشية الهيذبي، وهو في ديوانه بشرح البرقوقي 1/ 160، والخيزلى: مشية للنساء فيها استرخاء وتثاقل. (¬3) في (ف م م 1): والمنازل. (¬4) بعدها في (ف م 1): وشعره مشهور، انتهت ترجمة المتنبي، وفي (م): وشعره مشهور بين الناس، وله ديوان معروف، انتهت ترجمته.

علي بن محمد

قلت: وقد أثبت المصنّف رحمه الله في هذه الترجمة جملةً وافرةً من شعر المتنبي، وشرح ما فيها من الغريب، وهي على حروف المعجم، فأضربتُ عن ذكر شيءٍ منها؛ وذلك لاشتهار شعر المتنبي بين الناس، والله أعلم. علي بن محمَّد ابن [أحمد بن] إسحاق [بن] البُهلول، أبو الحسن (¬1). تفقَّه على مذهب أبي حنيفة، وتقلَّد قَضاءَ الأنبار وهِيت وغيرها، وكانت وفاته في بغداد في ربيع الأول. [وفيها توفي] محمَّد بن حِبّان [بكسر الحاء] ابن أحمد بن حِبّان، أبو حاتم، البستي، الحافظ. [رحل إلى العراق والبصرة والأهواز والكوفة وبغداد والجزيرة والشام ومصر والحجاز، وكتب بنيسابور وبُخارى. وأثنى عليه الأئمة؛ فقال الحاكم في "تاريخ نيسابور": كان حافظًا، عالمًا، حجة، توفي بداره ببُسْت] (¬2)، وهي اليوم مدرسةٌ لأصحاب الحديث والفقه، وعليهم الجِرايات، وفيها خزائن كُتبه. وكان عارفًا بالحديث والفقه والطب والفلسفة والهندسة والوَعْظ. وله التصانيف الحِسان، [والمسند وهو الصحيح، والتاريخ, وغير ذلك. وكان قد] ولي القضاء بسَمَرْقَند مدّةً طويلة [، ثم انتقل إلى بسْت وتوفيها كما ذكر الحاكم. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ بغداد 13/ 557، والمنتظم 14/ 170. وهذه الترجمة ليست في (ف م م 1). (¬2) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، جاء بدلها في (خ): كان بسجستان، وانظر في ترجمته: تاريخ دمشق 61/ 256، وتاريخ الإسلام 8/ 73، والسير 16/ 92 والمصادر في حواشيها.

محمد بن الحسن

وقال غيره: توفي بسجستان. وقول الحاكم أصح. وذكره ابن ماكولا فقال: العالم الجليل كثير التصانيف، سمع خلقًا كثيرًا من أهل الأمصار منهم: الحسن بن سفيان وطبقته، ومن أهل الشام: مَكْحولًا البَيروتي، وأبي الحسن بن جَوصا، وأبي يَعلى المَوْصلي وغيرهم. وروى عنه الحاكم أبو عبد الله، وأبو بكر النُّوقاني، والدارقطني، وشيوخ الخطيب وغيرهم، واتفقوا عليه. والله أعلم بالصواب]. محمَّد بن الحسن ابن يعقوب بن الحسن بن الحسين بن مِقْسَم، أبو بكر، العَطَّار، المُقرئ. ولد سنة خمس وستين ومئتين ببغداد، سمع الحديث الكثير، ولم يكن له ما يُعاب به؛ إلا أنه قرأ بحروفٍ خالف فيها الإجماع، ولما شاع عنه ذلك أنكر عليه العلماء، وارتفع أمرُه إلى السلطان، فأحضره، واستتابه بحضرة الفقهاء فتاب، وقيل: إنه لم يرجع. وقال أبو أحمد الفَرضي: رأيتُ في المنام غير مرة كأني في المسجد الجامع أصلي مع الناس، ورأيتُ ابنَ مِقْسم يَستدبر القبلة وظهرُه إليها، فأوَّلْتُ ذلك مخالفتَه الإجماع فيما اختار لنفسه من القراءات. وكانت وفاتُه في ربيع الآخر ببغداد، وكان ثقةً في الحديث، جاهلًا فيما ابتدع من القراءات (¬1). محمَّد بن عبد الله ابن إبراهيم بن عَبدويه، أبو بكر الشافعي. وُلد سنة ستين ومئتين، وسكن بغداد. وكان إمامًا، عالمًا، نبيلًا، عاقلًا، صَنَّف كتبًا كثيرة فأحسن التصنيف. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 608، والمنتظم 14/ 170، وتاريخ الإِسلام 8/ 74.

ولما مَنعت الدَّيلَمُ الناسَ أن يذكروا فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، وكتبوا بسبِّ السَّلف على المساجد كان أبو بكر يتعمَّد في ذلك الوقت إملاءَ فضائل الصحابة في الجامع ومسجدٍ قُرْبَه (¬1). وكانت وفاته في ذي الحجّة، ودُفن قريبًا من الإِمام أحمد رحمة الله عليه. وأجمعوا على صدقه، وثقته، وديانته، وزَهادته (¬2). ¬

_ (¬1) في تاريخ بغداد 3/ 483، والمنتظم 14/ 173، وتاريخ الإِسلام 8/ 76: إملاء الفضائل في جامع المدينة وفي مسجده بباب الشام ويفعل ذلك حسبة ويعده قربة. (¬2) هذه الترجمة والتي قبلها ليستا في (ف م م 1).

السنة الخامسة والخمسون وثلاث مئة

السنة الخامسة والخمسون وثلاث مئة وفيها في يوم عاشوراء عُمل مثل ما عُمل في السنة الماضية ببغداد من النَّوْح وغيره، وورد الخبر بأن بني سليم قطعوا الطريق على قافلة الحاج من المغرب ومصر والشام في سنة أربع وخمسين وثلاث مئة، وكانت قافلةً عظيمة فيها عشرة آلاف جمل من دق مصر (¬1)، ومن متاع المغرب اثنا عشر ألف جمل، وكانت الأموال في الأعدال، [قال ثابت بن سنان: ] وكان لقاضي طَرَسوس -ويعرف بالخواتيمي- فيها مئةٌ وعشرون ألف دينار، وأخذ بنو سليم الجِمال بأحمالها، وتلف أكثر الناس بالمشي والجوع والعطش كما جرى في نَوبة القِرمطي، ومن الناس من عاد (¬2) إلى مصر، ومنهم من قصد الشام، والغالب على أكثرهم التلف. وفيها فتح مُعِزُّ الدولة عُمان؛ جَهَّز إليها جيشًا فقتل من أهلها مَقتلةً عظيمة، وكان صاحبها عمران بن شاهين، فانهزم منها، وكان مُعزُّ الدولة مُقيمًا بواسط، فرجع إلى بغداد، وخلف غلمانه وعسكره بواسط على أن يعود، وكان عَليلًا. وفيها عاد سيف الدولة من مَيّافارِقين إلى حَرّان، وجرى من عُمَّاله على أهل حَرَّان جَورٌ شديد، وظُلمٌ وعَسْف. وفي رجب تمَّ الفداءُ بين سيف الدولة والروم، وتَسَلَّم سيف الدولة أبا فراس بن حمدان [واسمه: الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان] , والقاضي أبا الهيثم بن أبي الحُصَين. وفيها أمر معزُّ الدولة أن يُبنى موضعُ السِّجن المعروف بالجديد ببغداد مارَسْتانًا، وأمر أن يوقف عليه الأوقاف، وشرعوا في بناء المُسَنّاة، وأن يكون مَغَلُّ الضياع الموقوفة عليه في كل سنة خمسة آلاف دينار، فمات قبل أن تتم. وفيها وَرَد جيشٌ عظيم إلى الرّيِّ من خُراسان، فيه بضعة عشر ألف رجل من التُّرك وغيرهم يريدون غزو الروم، فحمل إليهم ركن الدولة من الأطعمة والدواب والثياب شيئًا كثيرًا، ثم إن هؤلاء الغُزاة ركبوا يومًا ودخلوا الرَّي، فقتلوا من وجوه قوَّاد ركن ¬

_ (¬1) بعدها في (م م 1): اثني عشر ألف حمل من المغرب. وانظر المنتظم 14/ 174، وتاريخ الإِسلام 8/ 17. (¬2) في (م م 1): رجع.

أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل

الدولة جماعةً، ونهبوا دار أبي الفضل بن العَميد وزير ركن الدولة، فحاربهم ركن الدولة، فقتل منهم نحوًا من خمسة آلاف، وقيل: ألفًا وخمس مئة، وتفرَّقوا في النَّواحي فلم يجتمعوا. وفيها ردَّ مُعزُّ الدولة مَواريثَ ذوي الأرحام، وقيل: في أول ولايته. وفيها وصلت الروم إلى آمِد، فأقاموا عليها أيامًا، فلم يقدروا على فتحها، فنهبوا ضياعها وضياع مَيّافارِقين، وجاؤوا إلى نَصيبين، فأخرَبوا وسَبَوا وقتلوا، وعادوا إلى بلادهم. وفيها حاصر ملك الروم أنطاكية، فقاتله أهلها، فلم يَقدر على فتحها، فانصرف عنها إلى طَرَسوس بعد أن أخرجه ما حول أنطاكية. وملك أبو الفضل بن العميد وزير ركن الدولة أذْرَبيجان، وأقام بها. وحج بالناس أبو أحمد الحسن بن موسى نقيب الطالبيين. [فصل وفيها توفي أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل أبو بكر، العِجْليّ، البغدادي، الدَّقَّاق، ويعرف بالوليّ. سمع الحديث وتوفي ببغداد في رجب، سمع عبد الله بن محمَّد بن ناجية وغيره. وروى عنه أبو إسحاق الطبري وغيره. وأخرج له الخطيب حديثًا عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أُتي أحدكم بهدية فجُلساؤه شُركاؤه فيها"، والله أعلم.] (¬1) وفيها توفي الحسين بن داود ابن علي بن عيسى بن محمَّد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام. ¬

_ (¬1) هذه الترجمة من (ف م م 1)، وليست في (خ)، وانظر تاريخ بغداد 5/ 410، وتاريخ الإِسلام 8/ 80.

[ذكره الحاكم أبو عبد الله في "تاريخه" وقال: كان الحسين بن داود] شيخ آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عصره بخراسان، وسيد العَلَوية في أيامه، وكان من أكثر الناس صلاةً وصدقةً ومحبَّةً لأصحاب (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [صحبتُه بُرْهة من الدهر، فما سمعتُه] ذكر عثمان إلا قال: أمير المؤمنين الشهيد - رضي الله عنه - وبكى، وما سمعته يذكر (¬2) عائشة - رضي الله عنها - إلا وقال: الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبكى. وما زال آباؤه محترمين مُعَظَّمين، فكان أبوه داود بن علي المُنْعِم على آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عصره، وكان علي بن عيسى زاهد العلوية في عصره، ويلقب بالفَيَّاض لكثرة عطاياه (¬3)، وجدُّه محمَّد بن القاسم نادم المأمون، ويقال للقاسم: راهب ال محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في عصره، وكان الحسن بن زيد أميرَ المدينة في عصره، وشيخَ مالك بن أنس وأستاذَه، وروى عنه في "الموطأ". وقال الحاكم أبو عبد الله: سمعتُ الحسين بن داود يقول في ربيع الآخر من هذه السنة: رأيتُ رؤيا عجيبة، فسألته عنها فقال: رأيتُ في المنام كأني على شطِّ بحر، وإذا بَزورقٍ كأنه البرق يمرّ، فقالوا: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: السلام عليك يا رسول الله، [فقال: وعليك السلام، فما كان بأسرع من أن رأيت زورقًا آخر قد أقبل، فقالوا: هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقلت: السلام عليك يا أبه، فقال: وعليك السلام، فما كان بأسرع من أن جاء زورق آخر، فقالوا: هذا الحسن بن علي، فقلت: السلام عليك يا أبه، فقال: وعليك السلام، فما كان بأسرع من أن جاء زورق آخر ليس فيه أحد، فقلت: لمن هذا الزورق؟ فقالوا: لك. قال الحاكم: فما أتى عليه بعد هذه المدة أو الرؤيا أقل من شهر حتى توفي (¬4). ¬

_ (¬1) في (خ): لآل، والمثبت من (ف م 1)، وانظر المنتظم 14/ 176، وتاريخ بغداد 8/ 578، وتاريخ الإِسلام 8/ 18. (¬2) في (خ): ويبكي وما ذكرت، والمثبت من (ف م م 1). (¬3) في المنتظم 14/ 176: وكان عيسى يلقب بالفياض لكثرة عطاياه. (¬4) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، والخبر في المنتظم 14/ 117.

محمد بن الحسين

وكانت وفاته يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة بين الظهر والعصر [في هذه السنة. سمع من جعفر بن أحمد الحافظ، وعبد الله بن محمَّد بن شيرويه، وأبي العباس الثَّقَفي وغيرهم. وروى عنه الحاكم وغيره.] محمَّد بن الحسين ابن علي بن الحسن بن يحيى بن حسَّان بن الوضَّاح، الأنباريّ الشاعر. انتقل إلى نيسابور فسكنها، وكانت وفاته بها في رمضان. ومن شعره: [من الطويل] سقى الله بابَ الكَرْخِ رَبْعًا ومَنزلًا ... ومَن حَلَّه صَوْبَ السَّحابِ المُجَلْجِلِ رأى عَرَصاتِ الكَرْخ أو حَلَّ أرضَها ... لأَمْسَكَ عن ذكرِ الدَّخولِ فحَوْمَلِ (¬1) [وفيها توفي] محمد بن عمر ابن سالم بن البراء بن سَبْرة، أبو بكر، ابن الجِعابي، قاضي المَوْصل. ولد في صفر سنة أربع وثمانين ومئتين، وكان أحدَ الحُفَّاظ المجَوِّدين [، صحب أبا العباس بن عُقْدة، وأخذ عنه الحفظ] , وله تصانيف كثيرة في علوم الحديث. [وحكى الخطيب عنه أنه] دخل الرقّة، فقال لغلامه: لي عند فلان قِمَطْران من كتب، فاذهب فأتني بهما، فعاد الغلام مَغْمومًا وقال: ضاعت الكتب، قال: فقلتُ له: لا تَغتمّ فإن فيها مئتي ألف حديث لا يُشْكِل عليَّ منها إسناد ولا متن. وكان أحفظَ أهل بغداد، وأعرفَهم بعلل الحديث، وأسماء الرجال وأنسابهم وكُناهم وضعفائهم، وانتهى إليه العلم حتى لم يبق في زمانه مَن يتقدَّمه فيه في الدنيا. ¬

_ (¬1) بين هذا البيت وسابقه سبعة أبيات، انظر تاريخ بغداد 3/ 34، والمنتظم 14/ 177، وتاريخ الإِسلام 8/ 84. وهذه الترجمة ليست في (ف م م 1).

[وحكى الخطيب عنه أنه] قال: أحفظ أربع مئة ألف حديث، وأُذاكر بست مئة ألف وكانت وفاته في رجب ببغداد (¬1). وقد تكلموا فيه: قال البرقاني: ما علمتُ فيه إلا خيرًا، وقال الخطيب: كان يسكن باب البصرة ويَتشيَّع، وصُلِّي عليه بجامع المنصور، وحُمل إلى مقابر قريش فدُفن بها. وكانت سُكينة نائحة الرَّافضة تنوحُ عليه في جنازته، وكان أوصى أن تُحرق كتبُه بعد موته، فأحرقت جميعها [، وأحرقت معها كتب الناس، منها مئة وخمسون جزءًا لأبي الحسين بن البوَّاب. وحكى الخطيب أيضًا عن البرقاني أنه قال: كان له علم بمعرفة الشيوخ والإِخوة والأخوات وتواريخ الأمصار، وكان كثير الغرائب، ومذهبه مذهب الشيعة معروف. وحدّث ببغداد وأصفهان ودمشق وحلب والعواصم وغيرها، وسمع خلقًا كثيرًا، وروى عنه جمٌّ غَفير، إلا أنه] تغير في آخر عمره، [وأمر بإحراق كتبه لأنه] عاشر المتكلّمين، وترك الصلاة والصوم فسقط من عيون البغداديين، فخرج من بغداد إلى دمشق، فأخرجه أهلُها، فرجع إلى بغداد [فمات بها في هذه السنة. وقال الخطيب: ] كان يشرب الخمر مع [الرئيس أبي الفضل بن] العَميد. وقال الدارقطني: كان يكتُب على رجله بالمِداد وهو نائم، وكان يبقى أيامًا لا يغسلها. [وحكى الحاكم أن البرقاني قال وقد سئل عنه: خلط، وكذا قال الدارقطني. وقد ذكر له الخطيب معظمًا (¬2) من شعره، منها أنه قال: ] (¬3) [من الخفيف] يا خليلي جَنِّباني الرَّحيقا ... إنني لستُ للرَّحيقِ مُطيقا ¬

_ (¬1) في (ف م م 1) بعدها: سمع أبا بكر النيسابوري وابن رزقويه وشيوخ الخطيب. والذي في تاريخ بغداد 4/ 42، والمنتظم 14/ 179، وتاريخ الإسلام 8/ 85 أنه رأى أبا بكر النيسابوري وروى عنه ابن رزقويه والدارقطني وابن شاهين وابن الفضل القطان وأبو نعيم الحافظ وغيرهم. (¬2) كذا, ولعلها قطعًا. (¬3) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، بدله في (خ): وقال الخطيب من شعره. وانظر تاريخ بغداد 4/ 47.

غير أني وَجَدتُ للكأس نارًا ... تُلهِبُ الجسمَ والمِزاجَ الرَّقيقا ومنه أيضًا (¬1): [من الخفيف] وإذا جُدتَ للصَّديقِ بوَعْدٍ ... فصِلِ الوَعْدَ بالفَعالِ الجَميلِ ليس في وَعْدِ ذي السَّماحةِ مَطْلٌ ... إنما المَطْلُ (¬2) في وعود البخيلِ قال المصنف رحمه الله: يا سبحان الله (¬3)، أما كان في محاسنه ما يُغَطِّي بعضَ مساوئه، ولله در الشّبلي حيث يقول: [من الوافر] إذا عاتبتُه أو عاتبوه ... شكا جُرْمي وعَدَّد سَيئاتي أيا مَن دَهرُه غَضَبٌ وسُخْطٌ ... أما أَحْسَنْتُ يومًا في حياتي (¬4) ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وأنشد له أيضًا، والمثبت من (خ)، والبيتان في تاريخ دمشق 63/ 464. (¬2) في (خ): الوعد. (¬3) في (ف م م 1): قلت يا سبحان الله. (¬4) سلف البيتان في ترجمة الشبلي ص 241 من هذا الجزء.

السنة السادسة والخمسون وثلاث مئة

السنة السادسة والخمسون وثلاث مئة فيها عُمل يوم عاشوراء ما عُمل في السنين الماضية، ومات سيف الدولة بن حَمْدان في صفر، ومات مُعزُّ الدولة في ربيع الآخر، وقبض أبو تَغْلب الغَضنْفَر على أبيه ناصر الدولة في جُمادى الأولى، وكان قد ساءت أخلاقُه، وتَغَيَّرت أحوالُه، فقبضه وهو نائم في فراشه، وبعث به إلى القلعة المعروفة بكواشى، وأنفذ معه أخاه أبا البركات بن ناصر الدولة مُوَكَّلًا به -وهو أمرد- وطريف الخادم، فانتبه وهو محمولٌ على فراشه، ورآهم متوجّهين به إلى ناحية دجلة فقال: أتريدون أن تُغرقوني؟ فقالوا: لا, ولكن نَمضي بك إلى القلعة، فقال: غَطوني حتى أنام. ولما وصل إلى أسفل القلعة حملوه وأصعدوه، وكانت عادته إذا جاء إلى هذه القلعة، وأصعَدَه إليها أهلُها؛ أعطى كلَّ واحد خمسةَ دنانير، فلما رَقوه في هذه النَّوبة وقفوا ينتظرون ما جرت به العادة، ولم يعلموا أنه مَقبوضٌ عليه، فقال لهم: أي شيءٍ تريدون؟ ! فوالله لقد أصبحت لا أملك لا صَفراء ولا بيضاء، فانصرفوا عنه. وكان الغَضَنْفَر قد طالب أباه بميراثه من أمه الكردية -وهي فاطمة بنت أحمد بن علي الكردي- فتهدَّد بمكروه، وخاف منه. ولما بعث به إلى القلعة أمر مَن يَحفظُه أن لا يُجيبه عن شيءٍ يسأله عنه البتّة، وكان قد وَكَّل به في القلعة رجلًا من الأكراد شديدَ البُغْضِ له، وخادمًا كان بهذا الوصف له طَرَده دفعات، وكان إذا سألهما عن خبر أولاده وخبر أبي تَغْلب، وأين هو، وأي شيء يعمل؛ يُجيباه بغير هذا فيقولان: تريد أن تأكل، تريد أن تشرب! ؟ فيقول: ليس عن هذا سألتُكم، فيقولون: بهذا أمِرْنا أن نُخاطبك لا غير، فكان هذا أمرَّ عليه من الحبس. وفي شعبان خُلع على القاضي أبي محمَّد عُبيد الله بن أحمد بن مَعروف، وقُلّد القضاء بالجانب الغربيِّ من مدينة السلام، ومدينة أبي جعفر، وحَريم دار السلطان، وقُلّد القاضي أبو بكر أحمد بن سيار القضاءَ مما بقي من الجانب الشرقي من بغداد، وبعد مُدَيدة قُلد القاضي ابن مَعروف الإشرافَ على الحكماء (¬1) على ما ذكرنا أنه قُلّده من القضاء (¬2). ¬

_ (¬1) كذا، وفي المنتظم 14/ 182: الإشراف على الحكم والحكام. (¬2) من قوله: وقبض أبو تغلب الغضنفر ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

وفي شعبان مات الأمير هارون بن المعتضد. وفيها (¬1) ورد الخبر بأن غلمان سيف الدولة نَصَّبوا ابنَه أبا المعالي شريف مكان أبيه، ومَضَوا إلى مَيَّافارِقين حتى يسيروا به إلى حلب، واجتازوا بديار مُضَر، وأقطع بها ضياع هبة الله بن ناصر الدولة لبني نهر (¬2)، ثم سار إلى حلب. وسار أبو المُظَفَّر حَمْدان بن ناصر الدولة من الرَّحْبَة إلى الرقَّة فأقام بها، وكان قد قلَّد حربَها وخراجَها أبا الهيثم بن القاضي أبي حُصين، فأوقع بأهلها المَكاره، وأخذ منهم ثلاث مئة ألف درهم فدفعها إلى حَمْدان، ومن جُملة من صادر قاضيها ابن حبيب من أهلها. وكان مسير حمدان إلى الرقة مُقارَبةً لأخيه أبي تغلب حيث قبض أباه، واستوحش من أخيه، وبعث إليه، وطلب أباه، فسار إليه أبو تغلب بعسكر حلب، فتحصّن حمدان بالرَّافقة، وأغلق أبوابها. وبعث أبو تغلب أخاه أبا البركات إلى الرَّحْبَة ليَنزعها من نائب حمدان أخيه، فأغلقت زوجتُه -وهي بنت أبي العلاء سعيد بن حمدان- أبواب الرَّحْبة. واتفق إخوة أبي تغلب على رئاسته عليهم، وكتب أبو تغلب إلى عزّ الدولة بختيار يسأله أن يقومَ مقام أبيه في ضمان البلاد بما كان في زمن معزّ الدولة؛ وهو ألف ألف ومئتا ألف درهم في كل سنة، فدخل عز الدولة على الخليفة في ذي القعدة -وهو أول يوم دخل عليه فيه بعد موت أبيه- فقرَّر أمر أبي تغلب، وأخذ له الخِلَع واللواء والعهد، وأضاف إلى الجزيرة قِنَّسْرين (¬3) والعواصم وما كان بيد سيف الدولة، وقرَّر عليه مالًا آخر عن هذه البلاد. وحج بالناس أبو أحمد النَّقيب. ¬

_ (¬1) من هنا إلى قوله: وحج بالناس أبو أحمد النقيب، ليس في (ف م م 1). (¬2) كذا، ولم أقف على صوابها. (¬3) في (خ): وجند قنسرين؟ !

أحمد بن بويه

وفيها توفي أحمد بن بُوَيه أبو الحُسين، الدَّيلَميّ، الملقب مُعزُّ الدولة. كان يَحتطب على رأسه، ثم ملك البلاد، وقدم بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة، ودخل على المستكفي، وسَمَلَه، ونهبَ دار الخلافة، وقد ذكر ذلك في السنين. ذكر وفاته: أصْعَدَ من واسط وهو عَليل من تَنْعيظةٍ لحقته في ذلك اليوم؛ وهو يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول، وعرض له قَذْفٌ مُتَّصل (¬1)، وخَلّف عَسكرَه وغلمانَه وجميعَ جيشه بواسط مع الحاجب سُبُكْتِكين، على أن يُقيم ببغداد عشرين يومًا، ثم يعود لاستتمام ما شرع فيه من أمر العُمران، ووصل إلى بغداد يوم السبت لليلة خلت من شهر ربيع الآخر، وزادت علَّته، ولحقه شخٌّ عظيم، ولم يكن يبيت الغداءُ في معدته، فمات يوم الاثنين لثلاث عشرة بقيت من ربيع الآخر بعد المغرب؛ وهو أول يوم من نيسان، ودُفن بداره التي بناها من الغد بعد أن أظهر التَّوبةَ من ذنوبه، ورفع ضمان الشّرط والحِسْبة والقَبّان ببغداد، ورَدَّ على القاضي أبي تمام الحسن بن محمَّد الهاشمي ما أخذ من ضِياعه، واعتقد أنه بردِّ المظالم يُمَدُّ له في العمر. وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة واحد عشر شهرًا ويومين. وقال الخطيب (¬2): لما نزل به الموت أمر بأن يُحْمَل إلى بيت الذَّهب، وطلب القاضي أبا تَمَّام؛ وكان قد صادره وأخذ ماله وضياعه فردها عليه، وبكى وتاب، وحضر وقتُ الصلاة، فقام القاضي ليخرج، فقال له: إلى أين؟ قال: أصلي، قال: صل ها هنا، قال: هذه دار مَغصوبة لا تصحُّ الصلاةُ فيها (¬3). ¬

_ (¬1) ذكر مترجمو معز الدولة أنه توفي بعلة الذَّرَب أو الإسهال أو داء البطن، انظر تكملة الطبري 407، والمنتظم 14/ 183، والكامل 8/ 575، وتاريخ الإسلام 8/ 92، والسير 16/ 189، والمختصر في أخبار البشر 2/ 106، والوافي بالوفيات 6/ 278، والبداية والنهاية 263/ 11، والنجوم الزاهرة 4/ 14، وشذرات الذهب 3/ 18. (¬2) كذا نسب القول إلى الخطيب، ولم نقف عليه في تاريخه، ولم يترجم لمعز الدولة، وهو في المنتظم 14/ 183 من كلام ابن الجوزي. (¬3) هذه الحادثة في تكملة الطبري 407 منسوبة إلى أبي عبد الله البصري وصاحبه أبي القاسم الواسطي.

وكان معزُّ الدولة أوَّلَ مَن أحدث ببغداد سبَّ الصحابة، ويوم عاشوراء، ويوم الغَدير، ونحو ذلك، وسأل القاضي عن الصحابة -رضي الله عنهم-، فذكر سَوابقَهم، وأن عليًّا رضوان الله عليه زَوَّج عمر رضوان الله عليه ابنتَه أم كلثوم، فاستعظم ذلك وقال: والله ما علمتُ بهذا، وتصدَّق بأموالٍ كثيرة، وأعتق مماليكه، وردَّ كثيرًا من المظالم، وبكى حتى غُشي عليه. وقال أبو الحسين العَلَويّ: بينا أنا في داري على دجلة بمَشْرَعة القَصَب؛ في ليلة ذات غَيمٍ ورَعدٍ وبَرقٍ ومَطر إذ سمعتُ هاتفًا يقول: [مجزوء الكامل] لمَّا بَلغتَ أبا الحسين ... مُرادَ نَفْسِك في الطَّلَبْ وأَمِنْتَ من نُوَبِ اللّيالي ... واحْتَجَبْتَ عن النُّوَبْ مُدَّت إليك يدُ الرَّدى ... فأُخِذْتَ من بيتِ الذَّهَبْ (¬1) فمات في تلك الليلة. وكان له هَناتٌ وحَسَنات، أما الحسنات فكان قد سَدَّ فُوَّهةَ نهر الرُّفَيْل، وشَقَّ النَّهْرَوانات، وعمل المغيض بالسندية، وردَّ مواريثَ ذوي الأرحام. ولما توفي جلس مكانَه ولدُه بختيار بعهدٍ منه، وجاء في ذلك اليوم مطرٌ شديد، وبعث بختيار مَن حفظ شوارع بغداد، وبعث إلى الحاجب سُبُكْتِكين بأن يَقْدم من واسط بالعساكر، فقدم، وركب بختيار للقائهم -ويقال: إن المطيع أيضًا ركب- فلما أقبل عزُّ الدولة؛ وأذناب خيله مُهْلَبة (¬2)، وسُروجه مُقْلَبة، ولم يره الناس في صدر الموَكب على عادته ارتفع الضجيجُ والصُّراخ، وبكا بختيار والمُطيع والرجال والنساء، فلم يُرَ ببغدادَ باكيًا مثل ذلك اليوم، واشتغل الناسُ بالحُزن عليه عن الحركة؛ حتى الشطار والجُند، ودفع بختيار للجُنْد رزقًا منه، وقام بالأمر أحسن قيام. ¬

_ (¬1) تكملة الطبري 409، والمنتظم 14/ 183، ووفيات الأعيان 1/ 176، والوافي 6/ 279. (¬2) يعني مقطوعة أو منتوفة الشعر.

أحمد بن عبد الله

أحمد بن عبد الله ابن محمَّد المُزَنيّ، أبو محمَّد، الهَرَوي، المُغَفَّلي. منسوب إلى عبد الله بن مُغَفَّل الصحابي - رضي الله عنه -. من أعيان أهل خُراسان، سافر إلى البلاد، وتوفّي ببُخارى في رمضان، وحمل الوزير أبو عبد الله البَلْعَمي بهَراة (¬1). وكان قد جاور بمكة، وحجَ بالناس، وخطب بمكة، وقُدّم إليه المقام وهو قاعد في البيت جوفَ الكعبة، ولم يكن هذا لغيره. وكان لما جاور بمكة جاءه كتاب من مصر بأن يُقيم الحج للناس، ويصلي بعرفات ومنى، ففعل، وأتمّ الصلاة بمنى، فأنكروا عليه فقال: أنتم سَفْر وأنا مُقيم. أسند عن خلقٍ كثير، وأجمعوا على فضله ودينه وصدقه وأمانته. ومن شعره: [من الوافر] نَزلْنا كارهين بها فلما ... ألِفْناها خَرَجْنا مُكْرَهينا وما حُبُّ الدِّيارِ بنا ولكن ... أَمَر العيشِ فُرْقَةُ مَن هَوينا جعفر بن أحمد بن الحارث أبو محمَّد، المَراغيّ. مُحَدِّث مَشهور قال: أنشدني منصور بن إسماعيل الفقيه: [مجزوء الكامل] الكَلْبُ أحسنُ عِشْرةً ... وهو النِّهايةُ في الخَساسَهْ ممَّن ينازع في الرئاسةِ ... قبلَ أوقات الرّئاسهْ (¬2) قال: وأنشدني منصور أيضًا: لي حِيلة فيمَن يَنُمُّ ... وليس في الكذَّابِ حيلهْ مَن كان يَخلُق مايقولُ ... فحيلتي فيه قليلهْ (¬3) ¬

_ (¬1) في تاريخ الإِسلام 8/ 94، والسير 16/ 183، وطبقات السبكي 3/ 19: قال الحاكم: ورأيت الوزير أبا علي البلعمي وقد حمل في تابوته وأحضر إلى باب السلطان يعني ببخارى للصلاة عليه. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 6/ 80، وشعب الإيمان (7915)، وجامع بيان العلم (984)، وانظر تاريخ الإِسلام 8/ 97. (¬3) مختصر تاريخ دمشق 6/ 80، والسير 14/ 238.

علي بن الحسين

عليّ بن الحسين ابن محمَّد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرَّحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن محمَّد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص، أبو الفَرَج، الأصْبَهاني، الأُمويّ، الكاتب. ولد سنة أربع وثمانين ومئتين، وكان عالمًا بأيام الناس، والأنساب، والسِّيَر، والآداب، والأخبار. وكان شاعرًا مُحْسِنًا، وصنَّف كُتبًا كثيرة منها: "الأغاني الكبير"، و"مُجَرَّد الأغاني"، و"مقاتل الطالبيين"، و"الدِّيارات"، و"آداب الغُرباء"، و"أخبار الإماء الشواعر"، و"مرج البحرين" (¬1)، و"أيام العرب" ذكر فيه ألفًا وسبع مئة يوم، ووقع له بالأندلس مصنَّفات لم تصل إلى هذه البلاد، منها كتاب: "نسب بني عبد شمس"، وكتاب "التَّعديل"، و"نسب بني شيبان"، و"نسب المَهالبة"، و"بني ثعلب" و"بني كلاب"، وكتاب "الغلمان"، وغير ذلك. ومات ببغداد في ذي الحجة هذه السنة، وقيل: سنة سبع وخمسين وثلاث مئة. حدَّث عن خلق كثير، وكان الغالب عليه رواية الأخبار والآداب، وقد طُعن عليه من حيث الديانة لا من حيث الرواية, وكان يتشيّع. قلت: وقد ذكره قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خَلِّكان رحمه الله في كتابه المسمى بـ "وفيات الأعيان"، وقال: كان مُنقَطِعًا إلى الوزير المُهَلَّبي، وله فيه مدائح، فمن شعره فيه: [من الطويل] ولما انْتَجَعْنا لائذين بظِلِّه ... أعان وما عنَّى ومَنَّ وما منَّا ورَدْنا عليه مُقتِرين فراشَنا ... ورُدْنا نَداه مُجْدِبين فأَخْصَبْنا قال: وله فيه من قصيدة يُهَنِّئه بمولودٍ جاءه من سُرِّيّة رومية: [من الكامل] اسْعَد بمولودٍ أتاك مُباركًا ... كالبَدْرِ أشرقَ جُنْحَ ليلٍ مُقْمِرِ سَعْد لوقتِ سعادةٍ جاءت به ... أمٌّ حَصانٌ من بناتِ الأصْفَرِ ¬

_ (¬1) لم أقف على من ذكره له.

سيف الدولة

مُتَبَجِّحٌ في ذِرْوَتَي شَرَفِ الورى ... بين المُهَلَّبِ مُنْتَماه وقيصرِ شمسُ الضُّحى قُرِنتْ إلى بدرِ الدُّجى ... حتى إذا اجتمعا أتتْ بالمُشْتري وكتب إلى بعض الرؤساء وكان مريضًا: [من البسيط] أبا محمدٍ المحمود يا حَسَنَ ... الإحسان والجود يا بحرَ النَّدى الطَّامي حاشاك من عَوْدِ عُوَّادٍ إليك ومن ... دواءِ داءٍ ومن إلمام آلام (¬1) [وفيها توفي] سيف الدولة علي بن عبد الله أبي الهيجاء بن حَمْدان بن حَمْدون، أبو الحسن (¬2). سيّدُ بني حمدان وصَدْرُهم ومَن يدور عليه أمرُهم. [قال الحافظ ابن عساكر: ] وُلد في ذي الحجة سنة إحدى وثلاث مئة، وقيل: سنة ثلاث وثلاث مئة، ونشأ في الجزيرة، وتعلَّم الفروسية وبَرَع فيها، وقدم الشام سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مئة، وجرت له مع الإخشيد وقائع، فلما مات الإخشيد بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة، وتوجَّه كافور مع أنوجور إلى مصر، جاء سيف الدولة فأخذ دمشق، وركب فسايره الشَّريف العَقيقي، فجَرت مُباحثة، فقال سيف الدولة: مُمازحًا للعقيقي: ما تصلح هذه الغوطة إلا لرجل واحد، فأخبر العقيقي أهلَ دمشق، فكتبوا إلى كافور وأنوجور بالقدوم عليهم ليساعدوهما على سيف الدولة، فجاءا فدفعاه عنها، وصالحاه على أن يكون بيده ما كان بيده زمن الإخشيد وهي: حمص وحلب وأنطاكية والثغور، فعاد إلى حلب وأقام يجاهد الروم إلى أن مات (¬3). وذكره أبو منصور الثعالبي في كتاب "يتيمة الدهر" فقال: كان بنو حَمْدان ملوكًا (¬4)، أوجُههم للصَّباحة، وألسنتُهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعُقولهم للرَّجاحة، ¬

_ (¬1) وفيات الأعيان 3/ 308، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 13/ 337، ومعجم الأدباء 13/ 94، والمنتظم 14/ 185، وتاريخ الإِسلام 8/ 100، والسير 16/ 202. ومن ترجمة أحمد بن بويه إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬2) بعدها في (ف م م 1): وسنذكر سنه في ترجمة أخيه ناصر الدولة وبدايتهم، وكان أبو الحسن علي بن عبد الله يلقب بسيف الدولة. (¬3) تاريخ دمشق 51/ 19 - 20. (¬4) في (خ): وقال الثعلبي: كانوا بنو حمدان ملوكًا، والمثبت من (ف م م 1).

وسيف الدولة مَشهور بسيادتهم، كان غُرَّةَ الزمان، وعماد الإِسلام والإيمان, وبه سِدادُ الثُّغور، وقِوام الأمور، ووقعاتُه في طوائف العرب مشهورة، وصَرْعاته لهم مأثورة، ولم يزل يَفُلُّ أنيابها، ويُذِلُّ صِعابَها، وغزواته تُدرِك من طاغية الروم بالثار، ويُحسِن في الإِسلام الآثار, وحضرتُه مَقْصِدُ الوفود، ومَطْلَع السُّعود والجود، ومَحَطُّ الرِّحال، وقِبلةُ الآمال، ومواسم [الأدباء، ومراسم] العلماء والفضلاء والشعراء. قال: ويقال: إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك ما اجتمع ببابه من أهل العلم وشيوخ العصر. وكان شاعرًا، أديبًا، فصيحًا، شديدَ الاهتزاز عند المدائح (¬1)، أقام المتنبي عنده أربع سنين، فوَصَله بنيِّفٍ وثلاثين ألف دينار. وقال عبد الله بن أحمد بن معروف: كنت بحلب عند الحسن بن محمَّد الصّلحي وأبي القاسم ابن المغربي كاتبَي سيف الدولة، فدخل شيخ ضرير، فسلَّم عليهما وقال: لي إلى الأمير سيف الدولة حاجةٌ، ومعي رُقعةٌ إليه، وأخرجها وإذا فيها طول، فقالا: هذه رقعة طويلة، وربّما لا يَنبسط الأمير لقراءتها فاختصِرْها، فقال: ما أريد [إلا] أن تعرضاها عليه، فدفعاه، فقام يَجُرُّ رجلَيه وهو مُنكسِرُ القلب، فتداخَلَتْني له رِقَّةٌ، ودخلتُ على سيف الدولة فجلستُ، وإذا بالحاجب قد عرض عليه رقعة وفيها: فلان ابن فلان المَوصليّ الضَّرير -وما كان يدخل عليه أحد حتى يُكتَب اسمُه ويعرَض عليه- فقال: وهذا يعيش؟ ! إئذن له، فما أظنُّه مع ما كنتُ أعرفُ من زُهده في الملوك، وتركه الدنيا، قَصَدني إلا من شِدَّةٍ شديدة. فدخل الشيخ بعينه فسلَّم، فاستَدْناه ورحَّب به وقال: إليَّ إلى، أما سمعتَ بنا في الدنيا، أما آن أن تزورَنا مع مالك عندنا من الخِدمة والحُرْمَة والسبب الأكيد؟ ! فقام الضرير قائمًا، وسلَّم إليه الرُّقعةَ بعينها، فقرأها كلَّها فقال: أين يونس بن بابا؟ -وكان خادمه (¬2) -فحضر فأَسَرَّ له بشيء، وأسرَّ إلى جماعة بشيء، فأحضر بعضُهم دنانير، وبعضهم كسوة، وبعضهم فُرُشًا وطيبًا وفرسًا وبغلًا؛ يساوي البغل ثلاثة آلاف ¬

_ (¬1) يتيمة الدهر 1/ 37، وعنه تاريخ دمشق 51/ 20. (¬2) في الفرج بعد الشدة 3/ 39: خازنه.

درهم، وترك الجميعَ بين يدي الشيخ وكان يساوي ألوفًا، ثم قال لهم: أخلوا له دارًا سَمَّاها، وكتب إلى الموصل بأن يُجرى على عياله ما يكفيهم. ثم قال لكاتبه أبي إسحاق بن شهرام: اعتذر إليه، وعَرّفه أنه جاءنا في آخر السنة وقد اقتَسمت أموالنا الحقوقُ والزُّوَّار والجيوش. فجاء ابن شهرام إلى الشيخ، فأخبره بما أطلق له والكلُّ حاضر، وكان يُعجبه إذا أطلق شيئًا لإنسان أن يُشاهده. قال ابن معروف: فقلتُ لأبي إسحاق: لا تُورد على الشيخ هذا عَقيب اليأس العظيم الذي لحقه فتَنشقَّ مَرارتُه، فبكا بكاءًا شديدًا وقال: أيها الأمير، قد زدتَ على ما كان في ضميري بدرجات، فإن رأيتَ أن تأذنَ لي بتقبيل يدك؛ فإنه أعظم عندي من كلِّ عَطيَّة، فدنا الشيخُ منه فقبَّل يده، فسارَّه سيف الدولة بشيء. وانصرف الشيخ إلى الدار التي أُعِدَّت له، وقال له: أقم عندنا حتى نَنْظُرَ في أمرك. قال ابن معروف: فسألتُ الخادم ما الذي أسرَّ إليه؟ فقال: أمر له بجاريةٍ وَصيفةٍ بِكْر من جواري أخته، ومعها حُليّ وجواهر تزيد على عشرة آلاف درهم، فحُملت إليه. قال ابن مَعروف: فقلتُ، أيها الأمير، لم نسمع عن أحدٍ من أهل الأرض قديمًا ولا حديثًا بمثل هذا العطاء إلا عندك، فقال: دعني من هذا وأخبرني عن قولك: لا تورد على الشيخ هذا عَقيب الإياس فتَنشقَّ مَرارتُه! فقلت: كنتُ عند الصُّلحي وابن المغربي منذ ساعة، وجاء هذا الشيخ ومعه الرُّقْعَة، وقصصتُ عليه القصة، وقلتُ في آخرها: انصرف هذا الشيخ أخزى مُنْصَرف، وجاء إلى الأمير فعامله بمثل هذا، فخفتُ عليه. فغضب غضبًا شديدًا وقال: عليَّ بالصّلحي وابن المغربي، فحضرا فقال: وَيحَكما، ألم أُحسن إليكما، ألم أَصطَنِعْكما وأُنوِّه بذكركما، وأُسني أرزاقكما وجوائزَكما، وعدَّد إحسانَه إليهما، وهما يشكرانه، فقال: ما أُريد هذا، وإنما أُريد أن تقولا: لا أو نعم، فقالا: بلى وزيادة، فقال: من حَقّي عليكما وشكري أن تقطعا رجاء مُؤَمِّلٍ مني، وتؤيسا قاصِدي من بِرّي، وتَنسباني إلى الضَّجَر والمَلَل؟ ! ما كان عليكما لو أخذتُما رُقعةَ الضَّرير، فإن أجرى الله على يدي شيئًا كنتما شَريكَي فيه، وإن ضجرتُ كان الضجَر منسوبًا إليّ وأنتما بريئان منه؛ وقد قضيتما حقَّ قاصِدِكما، فلا حَقه قضيتُما،

ولا حقَّ الله فيما أخذه على ذي الجاه من بذل جاهه، ولا حقَّ إنعامي عليكما، وبالغ في ذَمّهما حتى كأنهما قد جَنيا جِناية، فأخذا يَحلفان: ما أرَدْنا إلا التَّخفيف عن الأمير بقراءة رقعةٍ طويلة، لينقلها إلى لطيفة (¬1)، وجعل الحاضرون يتعجَّبون أن هذا التَّأنيب لهما أحسن من عطائه للشيخ ما أعطاه. ومن شعره: [من الطويل] وساقٍ صَبوحٍ (¬2) للصَّبوحِ دَعوتُه ... فقام وفي أجفانه سِنَةُ الغَمْضِ يَطوفُ بكاساتِ العُقارِ كأنْجُمٍ ... فمن بين مُنْقَضٍّ علينا ومُنْفَضِّ وقد نَشَرت أيدي الجَنوبِ مَطارِفًا ... على الجَوّ دُكْنًا والحواشي على الأرضِ يُطَرِّزها قوسُ السَّحابِ بأصفَرٍ ... على أحمَرٍ في أخضَرٍ إثْرَ مُبْيَضِّ كأذيال خَودٍ أقبلتْ في غَلائل ... مُصَبَّغَةٍ والبعضُ أقصرُ من بعضِ قلت: قال قاضي القضاة شمس الدين رحمه الله: وهذا من التَّشبيهات الملوكيَّة التي لا يكاد يَحضُر مثلها للسُّوقة (¬3)، والبيت الأخير أخذ معناه أبو الفرج بن محمَّد ابن الإخوة، فقال في فَرَسٍ أدْهَم مُحَجَّل: [من الخفيف] لَبِسَ الصُّبْحَ والدُّجُنَّةَ بُرْدَينِ ... فأرخى بُرْدًا وقَلَّص بُرْدا وقال: كان لسيف الدولة جاريةٌ من بنات ملوك الروم في غاية الجَمال، فحسدها بقيَّةُ الحَظايا لقُربها منه، ومَحَلِّها من قلبه، وعَزَمْنَ على إيقاع مَكروهٍ بها من سُمٍّ وغيره، فبلغه الخبر، فخاف عليها، فنقلها إلى بعض الحصون احتياطًا، وقال فيها: [من الخفيف] راقَبَتْني العيونُ فيك فأشفقتُ ... ولم أَخْلُ قطّ من إشفاقِ ورأيتُ العدوَّ يَحْسُدني فيكِ ... مُجِدًّا يا أَنْفَسَ الأعلاقِ فتَمنَّيتُ أن تكوني بعيدًا ... والذي بيننا من الوُدِّ باقِ رُبَّ هَجْرٍ يكون من خوفِ هَجْرٍ ... وفراقٍ يكون خوفَ فراقِ ¬

_ (¬1) في (خ): بقراءة رقعة غيرها لطيفة، والخبر بطوله ليس في (ف م م 1)، والمثبت من الفرج بعد الشدة 3/ 42. (¬2) في يتيمة الدهر 1/ 53، وتاريخ دمشق 51/ 21، ووفيات الأعيان 3/ 402: صبيح. (¬3) هذا الكلام للثعالبي في يتيمة الدهر 1/ 35، نقله عنه قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان في وفيات الأعيان 3/ 402.

ومن شعره: [من مجزوء الوافر] أُقَبِّلُه على جَزَعٍ ... كشُرْبِ الطائرِ الفَزعِ رأى ماءً فأطمعه ... فخافَ عَواقِبَ الطَّمَعِ وصادفَ خُلْسَةً فدنا ... ولم يَلْتَذَّ بالجُرَعِ ومن شعره: [من الطويل] تَجَنَّى علي الذَّنْبَ والذَّنْبُ ذَنْبُه ... وعاتبني ظُلمًا وفي شِقِّه العَتْبُ إذا بَرِمَ المَولى بخِدْمةِ عَبْده ... تَجَنَّى له ذَنْبًا وإن لم يكن ذَنْبُ وأعْرضَ لما صار قلبي بكَفِّه ... فهلّا جَفاني حين كان ليَ القَلْبُ ويحكى أن سيف الدولة كان يومًا بمجلسه والشعراء يُنشدونه، فتقدَّم رجلٌ رَثُّ الهيئة وأنشد: [من المنسرح] أنت عليٌّ وهذه حلبُ ... قد نَفِد الزَّادُ وانتهى الطَّلَبُ بهذه تَفخرُ البلاد وبالـ ... أمير تُزهى على الوَرى العَربُ وعبدُك الدهرُ قد أضرَّ بنا ... إليك من جَور عبدك الهَرَبُ فقال سيف الدولة: أحسنتَ والله، وأمر له بمئتي دينار. وقال: لما وصل الخالديَّان إلى حضرة سيف الدولة ومدحاه؛ أنزلهما، وقام بواجب حقِّهما، وبعث لهما مرَّةً وَصيفًا ووصيفة، ومع كلِّ واحدٍ منهما بَدْرة، وتخت ثياب من عمل مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة: [من الكامل] لم يَغْدُ شُكرُك في الخلائق مُطلقًا ... إلا ومالُك في النَّوال حَبيسُ خَوَّلْتَنا شمسًا وبدرًا أشرقت ... بهما لدينا الظُّلْمَةُ الحِنْديسُ رَشَأٌ أتانا وهو حُسْنًا يوسفٌ ... وغَزالة هي بهجةً بَلْقيسُ هذا ولم تَقنَعْ بذاك وهذه ... حتى بَعَثْتَ المال وهو نفيسُ أتت الوَصيفةُ وهي تَحملُ بَدْرَةً ... وأتى على ظَهر الوَصيفِ الكيسُ وأَجَزْتَنا مما أجادت حَوْكَه ... مصرٌ وزادت حُسْنَه تِنِّيسُ فغدا لنا من جُودك المأكول والـ ... مشروب والمَنْكوحُ والمَلْبوسُ

فقال له سيف الدولة: أحسنتَ إلا في لفظة المنكوح؛ فليست مما يُخاطَب الملوك بها. وكتب إلى أخيه ناصر الدولة: [من الطويل] وَهَبْتُ لك العليا وقدكنتَ أهلَها ... وقلتُ نعم بيني وبين أخي فَرْقُ وما كان بي عنها نُكولٌ وإنما ... تَجاوزْتُ عن حقِّي فتمَّ لك الحَقُّ أما كنتَ ترضى أن أكون مُصَلِّيًا ... إذا كنتُ أرضى أن يكون لك السَّبْقُ (¬1) ذكر وفاته: مرض بعلةِ الفالج قديمًا، ثم أخذه عُسْر البول. [قال الحافظ ابن عساكر: ] توفي بحلب يوم الجمعة عاشر صفر أو لخمس بقين منه (¬2). وتولى أمره القاضي أبو الهيثم بن أبي الحُصين، وغسله عبد الحميد بن سهل المالكي قاضي الكوفة، غسَّله تسع مرات أولًا بالماء والسِّدر، ثم بالصَّنْدَل، ثم بالذَّريرة، ثم بالعَنْبر، ثم بالكافور، ثم بماء الوَرْد، ثم بماء المِسك، ثم بماء القَراح أخيرًا، ثم غسله غُسلين، ونُشِّف بثوب دَبيقي ثمنه خمسون دينارًا، وكُفِّن في سبعة أثواب تساوي ألفي دينار فيها قميصُ قَصَب؛ بعد أن صُبر بمئة مثقال غالية، ومَنَوين كافور، وصلى عليه أبو عبد الله بن الأقساسي العلوي الكوفي، وكبَّر عليه خمسًا، وحُمل في تابوت إلى مَيَّافارِقين مع مملوكه تقي، فوصل إليها في ربيع الآخر، فلما وصل إلى التوبة التي بناها لنفسه أخرجه من التابوت بوصيَّةٍ منه، ووضعه في لَحْده، وجعل تحت خَدِّه لَبِنَةً صغيرة من تُرابٍ جَمعه من دِرْعه وقت لقائه للعدو ودخوله بلاد الروم، ودفن عند أمه وأخيه، وعمره ثلاث وخمسون سنة (¬3) [على حسب ما ذكرنا من مولده]. وكانت إمارته ثلاثًا وعشرين سنة. ¬

_ (¬1) انظر فيما سلف من أشعار: تكملة الطبري 412، ويتيمة الدهر 1/ 42 - 56، وتاريخ دمشق 51/ 21، والكامل 8/ 580 - 581، ووفيات الأعيان 3/ 402 - 405، وتاريخ الإِسلام 8/ 103. (¬2) تاريخ دمشق 51/ 22، وما بين معكوفين من (ف م م 1). (¬3) الأعلاق الخطيرة 1/ 313 - 315.

يوسف بن عمر

وملك أبو المعالي سعد الدولة وبين يديه قرغويه. وقيل: لما حمل تقيّ تابوتَه إلى مَيَّافارِقين قدمها سعد الدولة، فأراد تقي أن يقبضه ويستولي على الأمر، وعلم به سعد الدولة، فقبض على تقي، واستأصله، وحبسه في حصن كيفا. وقد مدح سيف الدولة خلق كثير (¬1)، واختصّ به المتنبي، وممن اختصَّ به الخالديّان، وهما شاعران مُجَوِّدان من قرية ببلد الموصل، وهما محمَّد وسعيد ابنا هاشم، وهما يشتركان في النظم، ولهما ديوان مشهور، وأنشد أحدهما يومًا سيف الدولة قصيدته التي يقول فيها: [من الهزج] تَصُدُّ ودارُها صَدَدُ ... وتُوعِدُه ولا تَعِد إلى أن قال في المديح: بوجهٍ كلّه قمرٌ ... وسائرُ جِسْمِه أَسَدُ فعجب سيف الدولة، وجعل يُرَدّد هذا البيت، وكان عنده الشَّيظَمي الشاعر، فقال لسيف الدولة: احْمَد ربَّك فقد جعلك من عجائب البحر (¬2). ومن شعر محمَّد بن هاشم الخالدي في دعي مُرَّان: [من البسيط] يا ديرَ مُرَّان لا تَعْدَم دُجى وضُحى ... سِجال غَيثٍ مُلِثِّ الوَدْقِ سَحَّاحِ (¬3) إن تُفْنِ كأسَك أكياسي فإن بها ... يَفُلُّ جَيشُ هُمومي جيشَ أفراحي يوسف بن عمر ابن محمَّد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حمَّاد بن زيد بن دِرْهم، أبو نصر، الأزديّ، القاضي. ¬

_ (¬1) بعدها في (ف م م 1): انتهت ترجمة سيف الدولة والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمَّد وآله وصحبه وسلم، السنة السابعة والخمسون وثلاث مئة. (¬2) تاريخ دمشق 51/ 21. (¬3) في (خ): سقاك غيث ... سجاج، والمثبت من يتيمة الدهر 2/ 220.

ولد سنة خمس وثلاث مئة، وما زال منذ نشأ فتى، نبيلًا، عفيفًا، جميلًا، حاذقًا بصنعة القضاء، بارعًا في علم الأدب والكتابة، حسنَ الفصاحة، واسعَ العلم باللغة والشعر، تامَّ الهَيبة. ولي القضاء بمدينة السلام في حياة أبيه وبعد وفاته. قال الخطيب: ولا يُعرف في القضاء أعرف منه ومن أخيه الحسين، فإنهما وليا القضاء بالحيرة، وكذا أبوهما عمر، وجدُّهما محمَّد، وأبوه يوسف، فأما يعقوب فإنه وَلي قضاء مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تقلَّد فارس. وكان أبو نصر فصيحًا، وله شعر، فمنه: [من المجتث] يا مِحْنةَ الله كُفِّي ... إنْ لم تَكُفِّي فخِفِّي ما آنَ أن تَرْحَمينا ... من طولِ هذا التَّشَفِّي خَرجتُ أطلبُ بَخْتي ... فقيل لي قد تُوفّي (¬1) ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 473، والمنتظم 14/ 183، وتاريخ الإِسلام 8/ 108.

السنة السابعة والخمسون وثلاث مئة

السنة السابعة والخمسون وثلاث مئة فيها عمل بختيار يوم عاشوراء أعظم ما كان يعمله أبوه من تعطيل الأسواق، ولُبس المُسوح، وإنشاد الأشعار، والنياحة في الطُّرُقات ونحوه، وكذا فعل (¬1) في يوم غدير خُمّ. وفيها توفي وَشْمكير المحارب لركن الدولة؛ خرج يريد الري في العسكر الوارد من خراسان، فأخذ يَتصيَّد، فاعترضه خنزير، فرماه وَشْمكير فأخطأه، فحمل عليه الخنزير، فعثرت به (¬2) الفرس فرمت به، ووقعت فوقه فمات. وفيها مات ناصر الدولة بن حَمْدان في قلعة كواشى (¬3). وفيها تزوّج بختيار بابنة عسكر الكردي على صَداقٍ مَبلغُه ثلاث مئة ألف دينار، وعقد العقد في داره. وفيها قُتل أبو فراس بن حمدان الشاعر. وفيها وصلت الروم إلى حلب، فخرج إليهم قَرَغويه فأسروه، ثم أفلت، وقتلوا وسَبَوا وعادوا. وفيها مات كافور الإخشيدي صاحب مصر، ودُفن في داره. وفيها مات المتقي لله. وفيها ملك عضد الدولة كَرْمان، وهرب صاحبها اليَسَع إلى ما وراء النَّهر، وغَنِم خزائنَه وأمواله. ¬

_ (¬1) من هنا إلى أواسط ترجمة كافور في السنة الآتية (358 هـ) ليس في (خ) لخرم وقع فيها. وسنعتمد على (ت م م 1) إلى أوائل سنة (358 هـ)، ثم على نسخة باريس. (¬2) في (م 1): فعقرته. (¬3) هذا الخبر والذي قبله أورده الهمداني في تكملة تاريخ الطبري 410 - 411، وابن الأثير في الكامل 8/ 578، 579 في أحداث سنة (356 هـ).

المتقي لله

وفيها هلك الحاجُّ وجِمالُهم من العَطَش، ولم يقف بعرفة إلا القليل. وفيها توفي المتَّقي لله واسمه إبراهيم بن جعفر المقتدر. قد ذكرنا خَلْعَه وسَمْلَه في ثلاث وثلاثين وثلاث مئة، وعاش إلى هذه السنة، توفي وله ستون سنة وأيام، فقد عاش بعد خَلْعه خمسًا وعشرين سنة. وفيها توفي أحمد بن مَحْبوب بن سليمان أبو الحسن، البغدادي، ثم الرَّمْلي، الفقيه، ويعرف بغلام أبي الأديان. سافر إلى الأمصار، وسمع الشيوخ، وجاور في آخر عمره في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -. سمع بأطرابلس الشام أبا عقيل بن مسلم الخَولاني وطبقته من شيوخ الشام وغيرهم. وروى عنه أبو الحسن علي بن جَهْضَم، والحاكم أبو عبد الله، وغيرهما. وكان ثقة صالحًا (¬1). وفيها توفي أبو فراس بن حَمدان واسمه: الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حَمْدان، التَّغْلبيّ، العَدَوي. الأمير، الشجاع، الفاضل، الشاعر، الفصيح، وأبو العلاء كنية أبيه سعيد. وكان مولده بمَنْبج، ونشأ بها. ولد في سنة عشرين وثلاث مئة، وكان يتنقَّل في بلاد الشام في دولة ابن عمه سيف الدولة علي بن حمدان، وكان سيف الدولة قد ولّاه مَنْبج، ولما نزلت الروم حلب خرج يتصيَّد حوالي مَنْبج -ولم يعلم- في سبعين راكبًا، فتبعه ابن أخت ملك الروم فأسره، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 395، وتاريخ دمشق 2/ 235 (مخطوط)، وتاريخ الإِسلام 8/ 111.

ولما وقعت عليه الروم قيل في: خذ لنفسك، فقال: لا والله، لا يراني الله مُوَلّيًا أبدًا، فحُمِل إلى القسطنطينية، فأقام في الأسر سنين، وكان يكاتب سيف الدولة بالأشعار وغيرها، فقال له ملك الروم: اشتر نفسَك دون أصحابك، فقال: لا والله، وقاطع على نفسه وعلى مَن معه بمئتي ألف دينار، فقال له ملك الروم: أبصِرْ كم يَنوبُك من هذا المال وأُطلِقُك، فقال: لا والله إلا أنا وأصحابي. وحكى الحمصي: كان في زمان أبي فراس امرأةٌ جميلة، وكان مُغْزى بها، ويبعث إليها بالأموال والهدايا، ويسألُها أن يجتمع بها وهي تأبى عليه، فبينما هو جالس في بعض الأيام إذا بها قد جاءت إليه، فقال: أنا أبعث إليك بالأموال والهدايا وتمتنعين، فكيف جئتِ ابتداءً؟ ! فقالت: كنتُ أنا الساعةَ وزوجي نَذكرك، فأثنى عليك وقال: ومن أين في الدنيا مثل الأمير أبي فراس، الفاضل، الشجاع، الجواد، الفصيح؟ فلما أثنى عليك وقع في قلبي مثل النار، فقال: ويحك، ومَن يُثني عليَّ هذا الثناء أخونُه في زوجته؟ ! لقد خِبْتُ إذًا وخَسِرْتُ، قومي إليه، ودفع إليها مالًا، فأخذتْه وانصرفت. ذكر طرف من أشعاره: وله ديوان مشهور، فمن شعره: [من الوافر] رأيتُ الشَّيبُ لاحَ فقلتُ أهْلًا ... ووَدَّعْتُ الغِوايةَ والشَّبابا وما إن شِبْتُ من كِبَرٍ ولكن ... لَقيتُ من الأحبَّةِ ما أشابا وقال أيضًا: [من الخفيف] لم أُؤاخِذْك إذ جَنيتَ لأني ... واثِق منك بالإخاء الصَّحيحِ فجَميلُ العدوِّ غيرُ جميلٍ ... وقَبيحُ الصَّديقِ غيرُ قبيحِ وقال أيضًا: [من الهزج] غِنى النَّفْسِ لمَن يَعْقلُ ... خيرٌ من غِنى المالِ وفَضْلُ الناسِ في الأنْفُسِ ... ليس الفَضْلُ في الحالِ وقال وقد سمع صوتَ حَمامةٍ وهو في الأسْر: [من الطويل] أقولُ وقد ناحَتْ بقُربي حَمامةٌ ... أيا جارتي ما فاقَ حالُك حالي

مَعاذَ الهوى ما ذقت طارِقَةَ النَّوى ... ولا خَطَرَتْ منكِ الهُمومُ ببالي أيَحملُ مَحزونُ الفؤادِ فُؤادَه ... إلى مَرْقَبٍ نائي المَحَلّةِ عالي تعالي تَرَي روحًا لَدَيَّ ضَعيفةً ... على بَدَنٍ مُضْنًى يُعَذِّبُ بالي أيَضْحَكُ مأسورٌ وتبكي طَليقةٌ ... ويسكُتُ مَحزونٌ ويَنْدُبُ سالي لقد كنتُ أولى منكِ بالدَّمع مُقلَةً ... ولكنَّ دَمْعي في الحوادثِ غالي وقال أيضًا: [من البسيط] ما كنتُ مُذْ كنتُ إلا طَوعَ خِلّاني ... ليست مؤاخَذَةُ الإخوان من شاني إذا خليلِيَ لم تَكْثُرْ إساءتُه ... فأين مَوقعُ إحساني وغُفراني يَجْني الليالي وأستحلي جِنايتَه ... حتى أَدُلَّ على عَفوي وإحساني يَجني عليَّ وأَحْنو دائمًا أبدًا ... لا شيءَ أحسن من حانٍ على جاني وقال أيضًا وأحسن فيه: [من المجتث] قَلبي يَحِنُّ إليه ... نعم ويَحنو عليه وما جَنى أو تَجَنَّى ... إلا اعتَذَرْتُ إليه وكيف أَملِكُ أمري ... والقَلْبُ رَهْنٌ لديه وكيف أدعوه عَبدي ... وعُهدتي في يديه ذكر مقتله: ذكر ثابت بن سنان وقال: في سنة سبع وخمسين وثلاث مئة في يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الآخرة أو الأولى ورد الخبر بأن وَحْشَةً جرت بين أبي فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حَمْدان وبين أبي المعالي شريف الدولة بن حَمْدان، وخرج أبو المعالي يَطلبه، وكان أبو فراس بحمص، فانحاز (¬1) أبو فراس إلى قريةٍ في طَرَف البَرِّيَّة تُعرف بصَدَد، وأنفذ أبو المعالي غِلمانه ليجمعوا له الأعراب، وكان ظالم العُقَيليّ في جملته، فاستدعاه فتقاعد عليه، فخرج أبو المعالي من حلب، فنزل سَلَمْية بأرض حمص، وجمع بني كلاب، وقَدَّمَهم على مُقَدمته مع قَرَغويه غلام أبيه سيف الدولة، وقطعة من الجيش، فكبسوا أبا فراس على صَدَد، فناوشَهَم ساعة، واستأمن من ¬

_ (¬1) في (م 1): فاجتاز.

محمد بن أحمد

أصحابه إلى قَرَغويه واختلط بمَن استأمَن، فقال قَرَغويه -لا عفا الله عنه- لبعض غلمانه الأتراك: اقتلْه، فضَرَبَه بدَبُّوس فسقط، فنزل الغلامُ فاحتز رأسَه، وبقيت جُثته في البريَّة مُلقاةً، حتى مَرَّ به بعض الأعراب، فكفَّنه ودفنه، وعاد ابنُ سيف الدولة، وقلَّد دكا غلام قرغويه حمص. وهذا قول ثابت بن سنان. وقال الحافظ ابن عساكر ولما بلغ أمه قتله -واسمها سَخينة- قَلعت عينَها حُزنًا عليه، وقتل وهو ابن سبع وثلاثين سنة. واختلفوا في مقتله، فذكر ثابت بن سنان أنه قتل في هذه السنة وهي سنة سبع وخمسين وثلاث مئة، وقال قوم: في سنة خمسين وثلاث مئة (¬1). وفيها توفي محمَّد بن أحمد ابن علي بن مَخْلَد، أبو عبد الله، الجَوهري، المُحْتَسِب، ويعرف بابن المُحْرِم، أحد تلامذة أبي جعفر الطَّبري. حكى عنه الخطيب أنه قال: تَزَوَّجتُ امرأةً، وجلستُ على العادة أكتب، فجاءت أمُّها، فأخذت المِحْبَرة وضربت بها الأرض فكسرتها، وقالت: هذه أشدُّ علي بنتي من ثلاث مئة ضَرَّة. قال: وقال محمَّد بن أبي الفَوارس: وُلد في سنة أربع وستين ومئتين، ومات في ربيع الآخر في هذه السنة. وحدَّث عن الكُدَيميّ وغيره، وروى عنه ابن رِزْقويه وغيره، وضعَّفه ابنُ أبي الفوارس وقال: في كُتبه مَناكير (¬2). ¬

_ (¬1) انظر في ترجمته وأشعاره: نشوار المحاضرة 1/ 225 و 2/ 255، ويتيمة الدهر 1/ 57، وتاريخ دمشق 4/ 97 (مخطوط)، والكامل 8/ 588، والمنتظم 14/ 227، (وفيات سنة 363 هـ)، ووفيات الأعيان 2/ 58، والسير 16/ 196، وتاريخ الإِسلام 8/ 113. (¬2) بعدها في (ف م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمَّد وآله وصحبه وسلم، وانظر ترجمة ابن المحرم في تاريخ بغداد 2/ 165، والمنتظم 14/ 192، وتاريخ الإِسلام 8/ 119.

السنة الثامنة والخمسون وثلاث مئة

السنة الثامنة والخمسون وثلاث مئة وفي يوم عاشوراء فُعل ما جَرت به العادةُ من النَّوحِ وغيره. وفيها سَعَّر السُّلطان ببغداد، فازداد الغَلاء، وبيع الكُرّ بتسعين دينارًا، فأسقط التسعير، فعاد الأمر كما كان عليه. وفيها وصلت الروم إلى الجزيرة، ودخلوا كَفَرْتُوثا، فقتلوا من أهلها ثمان مئة، ومضوا إلى حمص وقد انتقلوا عنها فأحرقوها. وفيها توفي أبو أحمد الفضل بن عبد الرَّحمن الشيرازي بحُمَّى حادة ووَرَم الحَلْق في المحرَّم. وفيها نزل ملك الروم أنطاكية، وسرت سراياه في الشام، وأحرق ربَضَ طَرابُلس، وحاصر مدينة عِرْقَة، وفتح حصنها وهدمه، وأخذ منه خلقًا كثيرًا كانوا قد التجؤوا إليه من طرابلس وغيرها، وأخرج أرباض الساحل، ثم قصد حمص وأحرقها ولم يجد فيها أحدًا، ثم قصد حَلبًا، فوجد قرغويه قد حَصَّنها، ويقال: إنه أسر من المسلمين في هذه السنة مئة ألف رأس، ولم يكن يأخذ إلا الشباب والصبايا، ويقتل الشيوخ والكهول والعجائز، ويقال: إنه فتح في هذه السنة ثمانية عشر مِنبرًا للإسلام، فأما القرى فما يُحصى ما أخرجه وأحرق منها، وعبرت خيلُه الفُرات، ووصلت إلى كَفَرْتوثا على ما ذكرنا، وكانت إقامتُه ببلاد الإِسلام شَهرين يفعل هذه الأفاعيل، لا يلقاه أحدٌ من المسلمين، ولا يدفعه دافع، فوقع الوَباءُ في عسكره والفناء، فرجع بالأسارى والغنائم إلى بلده. ذكر ما جرى بين أولاد ناصر الدولة (¬1): بعث أبو تَغْلِب أخاه أبا البركات إلى قتال أخيه أبي المظفَّر حَمدان صاحب الرَّحْبة، فخرج حمدان بأمواله وعياله إلى بغداد، فأكرمه عز الدولة، وأهدى له هدايا كثيرة ¬

_ (¬1) هنا يبدأ الجزء السادس عشر من مختصر مرآة الزمان من نسخة باريس (ب)، وسيكون الاعتماد عليه، وعلى النسخ (ف م م 1) إلى أن ينتهي الخرم في نسخة الخزائنية (خ)، هذا، وما جرى بين أولاد ناصر الدولة ليس في (ف م م 1).

وألطافًا، وسَفَر بينه وبين أخيه أبي تَغْلب في الصُّلح فأجابه، وعاد حمدان إلى الرَّحْبة، وخَلَّف أهلَه وأسبابه ببغداد، فراسله أخوه أبو تَغْلب بالمسير إليه ليتَّفقا على أمر، فامتنع وقال: ما وقع الصُّلح على هذا، فبعث إليه أبو تغلب أخاه أبا البركات، فخافه حَمدان، فخرج من الرَّحْبة يريد بغداد، فأخذ عليه أبو البركات المخاض، فدخل بَرّيَّة تدمر، فكاد يَهلك من العطش، فأرسل إلى أخيه أبي البركات يُقَبِّح فِعلَه ويقول: إن أقمتَ على ما أنت عليه قصدتُ دمشق، فرجع أبو البركات إلى عَرَبان، ورجع حَمْدان إلى الرحبة، فراسله أبو البركات واجتمعا، فقال له: المصلحةُ أن تجتمع بأخيك أبي تغلب لتزولَ الوَحْشة، فامتنع حمدان وافترقا. وسار أبو البركات إلى ماكِسين، ووصل إلى حمدان مئتا فارس من بني نُمير، فقَوي قَلبُه، وسار خلف أبي البركات واقتتلا، فاتفق أنه وقعت من يد حَمدان في رأس أخيه أبي البركات ضَربة ولم يقصده فقتله، فحَزِن عليه، وبعث به إلى أخيه أبي تغلب في تابوت، وحلف أنه ما قصده، فبكى أبو تغلب وقال: والله لأُلْحِقَنَّه به ولو خرجْتُ من الملك. وجَهَّز أخاه أبا عبد الله في خمس مئة فارس إلى حَمْدان، وقال: سِرْ فإنّا على إثرك، ثم أردفه بأخيه محمَّد بن ناصر الدولة، فبلغه أن محمدًا واطأ حَمدان على الفَتْك بأبي تَغْلب، فرَدَّه وقَيَّده، وبعث به إلى قلعة تُعرف بمليصا (¬1)، وبعث إلى أخيه الحسين -وكان مُقيمًا بالحَديثة- يُخبره بما كان في عَزْم أخيه محمَّد من الفَتْك، وأرسل إلى إخوته أبي القاسم وإبراهيم -وكان بعضهم بسِنْجار- فأخبرهم، فصَوَّبوا رأيَه، ثم كاشفوه بعد ذلك، واتفقوا مع حَمدان على قتاله، فجمع وسار إليهم إلى ديار ربيعة، فلم يكن لهم به طاقة، فراسله أخواه الحسين وإبراهيم أن الذي أوحَشَهما ما فعل بأخيهما محمَّد، ودخلا في طاعته، وإنما قصدا الحيلة عليه، وسارا من سِنجار إلى المَوْصل، فقصد إبراهيم بالِس، ومضى أبو الحسين إلى أبي تغلب، ثم سار إبراهيم إلى بغداد، فتلقاه نائب عز الدولة، وأنزله بباب البستان. ¬

_ (¬1) في الكامل 8/ 595: كواشى، وفي نسخة منه: ملاسي.

وقصد أبو تغلب أخاه حَمْدان إلى الرَّحْبة، وبعث في مُقَدّمته أخاه هبة الله، فدخل حمدان البرية، وأقام أبو تغلب بَقْرقيسيا، ثم دخل حمدان بغداد، فنزل في الدار التي فيها عِيالُه، وتعرف بدار زُريق الكاتب (¬1)، وكان عزُّ الدولة غائب أبو اسِط، فلما قدم بغداد أكرمَهَما وأحسن إليهما إحسانًا كثيرًا. وقال ثابت بن سنان: لما وقع الخلاف بين أبي تغلب وأخيه حمدان -وكان حمدان بالرقَّة- كتب إلى أخيه أبي تغلب يَحلف له بالإيمان المُغَلَّظة، وبطلاق زوجته بنت سعيد بن حَمدان؛ أنه إن أحوجه ليستعينَنَّ عليه بعزِّ الدولة والدَّيلَم، فإن بلغ ما يريد وإلَّا استعان عليه بالقرامطة الهَجَرِيِّين، فإن بلغ ما يريد وإلا استعان عليه بملك الروم، فلما وقف أبو تغلب على كتابه استشاط، وقبض ضِياعَه، وطرد غِلمانه، وبعث إليه أخاه أبا البركات لقتاله، فوصل إلى الرحبة في شعبان، فاستأمن أكثرُ أصحاب حمدان، فصار حمدان إلى مكان يعرف بالدَّالية في مئة رجل، وأخذ عياله وماله، وانحدر إلى بغداد فدخلها في شهر رمضان، فتلقَّاه عز الدولة والحاجب الكبير والجيش، وأنزله في دار قريبة منه وأكرمه. وكان عزُّ الدولة قد بعث سُبُكْتِكين العَجميّ مولى مُعزّ الدولة للقاء حَمدان من البرية، فلقيه عند هِيت، وانفصل عنه ومضى يتصيَّد، فعَنَّ له حَمير وَحْش، فركض يطلبها، فصرع منها ثلاثة، وصَدَمه غلام له وهو يركض، فوقع على رأسه فأسكت، ومات يوم الجمعة في رمضان ببغداد، وكان قد حُمل إلى منزله، فدفن بمقابر قريش لإحدى عشرة ليلة خلت من رمضان. وحمل بختيار إلى حمدان مئة وخمسين ألف درهم، وثلاث مئة ثوب من ألوان الخزِّ، والدِّيباج، والعتابيّ، والقَصَب، والدَّبيقي، وعشرة أفراس، وعشرة أبغُل، وأطواق الذهب والفضة، وغير ذلك من الفُرش والمتاع والأثاث، وسفر بينه وبين أخيه في الصُّلح، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) في تكملة الطبري 418: دار ابن رزق الكاتب النصراني.

وخرج حمدان من بغداد لخمسٍ بقين بن جمادى الآخرة إلى الرَّحبة، وحمل إليه عز الدولة مثل ما حمل إليه أولًا، وشيَّعه إلى ظاهر بغداد، وخلَّف زوجتَه وأمواله ببغداد، وأفرج أبو تغلب عن الرَّحبة فدخلها، وذكر بمعنى ما ذكرنا من قبل عن أبي البركات، وعودِ إبراهيم وحمدان إلى بغداد، وحمل إليهما عز الدولة الأموال والثياب والهدايا. وفي رمضان قدم الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين من الأهواز، وتلقاه الأمير عزُّ الدولة بالوادي والجيشُ والقواد. وفيها لما قدم عز الدولة بغداد نقل أباه معز الدولة من داره إلى تربة بُنيت له بمقابر قريش، مجاورة لقبر موسى بن جعفر - عليه السلام -، وهي قائمة إلى هلمَّ جَرا، ومشى بختيار بين يدي تابوته، ولم يتخلَّف أحد من الدولة إلا المطيع. وفيها استولى القائد أبو الحسن جَوْهر غلام المنصور بن القائم بن عبيد الله المهدي على مصر، وكان أرسله إليها المعز لدين الله أبو تميم مَعَدُّ بن المنصور، وبعث معه الجيوش والقبائل والبربر والخزائن، فدخلها في شعبان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وخطب للمعزّ بها على جميع المنابر، وكان الخطيب عبد السَّميع بن عمر العباسي، وانقطعت دعوة بني العباس في هذه السنة من مصر والحجاز واليمن ونواحيها والشام، وصارت للمصريين، وهربت الإخشيدية من مصر إلى الشام، ولم تزل الدعوة للمصريين بهذه الأماكن من هذه السنة إلى سنة خمس وستين وخمس مئة، مئتي سنة وثمان سنين، ومضى بعد المطيع سبعة من الخلفاء، حتى عادت الدعوة في زمن المستضيء لما نذكر إن شاء الله تعالى. ولما وصل القائد جوهر إلى مصر كان الحسن بن عبيد الله بن طُغْج بالرَّمْلة، والشام بيده، فبعث إليه القائد جوهر قائدًا يقال له: جَعفر بن فلاح، فقاتلهم فأخذوه أسيرًا، وبعث به جعفر إلى مصر، فبعث به جوهر إلى المُعِزّ إلى المغرب، فكان آخر العهد به، وهذا الحسن -وكنيته أبو محمَّد- هو الذي مدحه المتنبي بقوله: [من الطويل] أيا لائمي إن كنتَ وقْتَ اللوائمِ ... علمتَ بما بي بين تلك المَعالِمِ (¬1) ¬

_ (¬1) ديوانه 4/ 236.

القصيدة. ثم سافر ابن فلاح إلى دمشق، فدخلها في المحرم سنة تسع وخمسين وثلاث مئة، وخطب بها للمعز يوم الجمعة بالجامع، وهي أول خطبة خطب بها للمعزيين بدمشق، وبطلت خطبة بني العباس، وعاد ابن فلاح إلى الرَّملَة. قال ابن عساكر: وقام الشريف أبو القاسم إسماعيل بن أبي يعلى بدمشق، وقام معه الأحداث، ولبس السَّواد، ودعا للمطيع، وأخرج إقبالًا والي المصريين. وبلغ ابن فلاح، فعاد إلى دمشق في ذي الحجة، فنازلها، فقاتله أهلُها، فظهر عليهم ودخلها، وهرب الشريف أبو القاسم إلى بغداد على البَرِّيَّة، فقال ابن فلاح: مَن جاء به فله مئة ألف درهم، فلقيه ابن عليان العَدَويّ في البرية، فجاء به إلى ابن فلاح، فشَهره على جَمل، وعلى رأسه قَلَنْسوة من لُبود، وفي لحيته ريشٌ مَغروز، ومن ورائه رجل من المغاربة يوقع به الفعل، ثم حبسه، وبعث إليه ابن فلاح بطعام، فامتنع من أكله، فقال له: كُل فالذي تَحذرُ منه وقعتَ فيه. ثم استدعاه ليلًا وقال له: ما حَملَك على ما صنعتَ وقطعتَ دعوة مولانا، ومن وَثَّبَكَ على هذا الأمر؟ ووَبّخه فقال: ما وَثَّبني عليه أحد، وإنما هو رأي سَبَّحَ لي، وأوقَعَني فيه القضاء والقدر، وأنا في يديك فاصنع بي ما شئتَ، والتَعييرُ أشدُّ من القتل، فرَقَّ له ابن فلاح وقال: لا بأس عليك، ووعده أن يُكاتب فيه جوهرًا ويُخَلِّصَه، ثم قال للذين أَتَوْا به: لا جَزاكم الله خيرًا، غَدَرْتُم بالرجل؟ ! واسترجع منهم المئة ألف درهم، ولم يَنَلْه بسوء لشرفه وكرمه وحسن سيرته، وكان ابنُ فَلاح يحبُّ العَلويين (¬1). [فصل: ] وفيها مات أحمد بن الراضي بالله بمرض البواسير، وطالت عليه، ودُفن عند أبيه بالرُّصافة، وكان في عَزْم ملك الروم أن يَقْصِد البيت المقدس فصرفه الله عنه. وفي ذي الحجة كتب المطيع لأبي شُجاع عضد الدولة عَهْدَه على كِرْمان، وأنفذ إليه الخِلَع واللواء وطَوْقًا وسِوارَيْن. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 67/ 138 - 140. ومن قوله: ولما وصل القائد جوهر إلى مصر ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

إبراهيم بن أحمد بن الحسن

وفيها توفي سابور بن أبي طاهر القِرْمُطي في ذي الحجة، كان قد طالب عُمومته بتسليم الأمرِ إليه، فحَبَسوه، فأقام أيامًا، وأخرج مَيتًا من الحبس (¬1). وعمل في ذي الحجة ببغداد غَديرُ خُمّ على ما جرت به العادة. وفيها قصد هبة الله بن ناصر الدولة مَيافارِقين وبها زوجة سيف الدولة بنت أبي العلاء سعيد بن حَمدان، فأغلقت الأبواب في وجهه، فأظهر أنه يُريدُ الغَزْوَ، وطلب مالًا، وكان قَصْدُه البلد، فراسلت مَن كان معه من غلمان سيف الدولة واستمالَتْهم، فتقاعدوا عنه، فرحل على أقبح حال (¬2). وحج بالناس أبو محمَّد نَقيبُ الطَّالبيين من بغداد، وحج من مصر قائدٌ معه أموالٌ عظيمة، ففرَّقها في أهل الحَرَمين، وخُطب للمعز بمكة والمدينة واليمن، وبَطلت الخطبةُ لبني العباس. وفيها توفي إبراهيم بن أحمد بن الحسن أبو إسحاق، القِرْمِيسينيّ، الصوفي. شيخُ الجبال (¬3) في وقته، وله مقامات في الوَرَع، صحب المشايخ، وكان مُتَمَسِّكًا بالكتاب والسنة. وقال (¬4): بقيتُ أربعين سنة ما بتُّ في مَوضع فيه سَقْف، وبقيتُ مدَّةً أشتهي شَبعة (¬5) عَدَس، فخرجتُ يومًا، فرأيتُ قواريرَ مُعَلَّقة، فقيل: هذه خَمر وعندها دِنان، فكسرتُ ¬

_ (¬1) هذا الخبر والذي قبله ليسا في (ت م م 1). (¬2) هذا الخبر ليس في (ت م م 1). (¬3) في (ف م م 1): قال ابن خميس في المناقب كان شيخ الجبال، والمثبت من (ب). (¬4) في (ف م م 1) وحكى عنه أيضًا أنه قال، والمثبت من (ب). (¬5) في (ف م م 1): أكلة.

أحمد بن رميح بن وكيع

الجميع، فحملوني إلى ابن طولون، فضربني مئتي (¬1) خَشَبة وحَبَسني، وبلغ أستاذي أبا عبد الله المغربي فخلصَني، ولما وقعت عينُه على قال: أيش فعلت؟ قلت: شبعة عدس ومئتي خشبة، فقال: لقد نجوتَ مَجَّانًا. وقال: أتيتُ الرقَّة لأَعْبُرَ الفرات إلى الشام ومعي جماعة، فنزلنا في سفينة، وفيهم غلامٌ حَدَث، فقال: بالله لا تُعبروني في الفرات، فوالله إني لأفزع من ساقية، فشدَدْنا عينيه، وأمسك (¬2) بيدي حتى عبر، فلما صرنا إلى ذلك الجانب قمتُ أُصلّي، ومعنا مقرئ، فقرأ شيئًا من القرآن، فتواجد الغلام، وألقى نفسَه في الفرات، فقطعها يَشُقّها شَقأوما ابتلَّ ثوبُه، فلما صار في ذلك الجانب وقف باهتًا، فأرسلتُ إليه السفينة فعبر فيها. استوطن إبراهيم المَوْصِل، وكان صالحًا ثقة (¬3). أحمد بن رُمَيح بن وَكيع أبو سعيد، النَّخَعيّ (¬4). ولد بالشَّرْمَقان، ونشأ بمَرْو، ومضى إلى اليمن فأقام عند الزيديّة. وقال الحاكم: سألتُه المقامَ بنَيسابور فقال: عند مَن أُقيم، ما الناس اليوم بخُراسان إلا كما أنشدني بعضُ أشياخنا: [من الطويل] (2) ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): بمئتي. (¬2) في (ف م م 1): ومعهم غلام حدث ... لا تعبروا بي ... قال فشددنا عليه وأمسكته. (¬3) وقع بعدها في (ف م م 1) ما نصه: قلت قد جاء القرميسيني في المشايخ جماعة، أحدهم ذكرناه في سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة، واسمه إبراهيم بن شيبان، صحب أبا عبد الله المغربي وإبراهيم الخواص وغيرهما، وذكره ابن خميس في المناقب، وصاحب هذه الترجمة اسمه إبراهيم بن أحمد، يقال: إنه صحب أبا عبد الله المغربي والخواص أيضًا، والخطيب ذكر هذا صاحب الترجمة وقال: طاف البلاد شرقًا وغربًا، وكان صالحًا ثقة، أسند إبراهيم بن أحمد عن النسائي والحسن بن سفيان وغيرهما وروى عنه الدارقطني وغيره، واستوطن الموصل ومات بها، قلت: وذكر في المناقب قرميسيني آخر وقال: اسمه مظفر، وذكر له كلامًا حسنًا. انتهى. وانظر ترجمة إبراهيم بن أحمد في: تاريخ بغداد 6/ 503، وتاريخ دمشق 2/ 361 (مخطوط)، وتاريخ الإِسلام 8/ 123، والسير 16/ 136. (¬4) هو أحمد بن محمَّد بن رميح بن عصمة بن وكيع بن رجاء أبو سعيد النخعي، انظر تاريخ بغداد 6/ 136، وتاريخ الإِسلام 8/ 111، والسير 16/ 169 وذكروا أنه توفي سنة (357 هـ)، وهذه الترجمة ليست في (ف م م 1).

كافور بن عبد الله

كفى حَزَنًا أن المروءةَ عُطِّلَتْ ... وأنّ ذوي الألبابِ في الناس ضُيَّعُ وأن ملوكًا ليس يَحظى لديهمُ ... من النَّاسِ إلا مَن يُغَنِّي ويُصْفَعُ [وفيها توفي] كافور بن عبد الله الخادم الإخشيدي، أبو المِسْك، صاحبُ مصر. اشتراه سيّده أبو بكر محمَّد بن طُغْج بثمانية عشر دينارًا -وقيل: بخمسة عشر- من الزَّيَّاتين، فاستولى على مصر والشام، وتوفي الإخشيد سنة أربع -أو خمس- وثلاثين وثلاث مئة، فأُقعِد ابنُه أبو القاسم أنوجور، وأبو الحسن علي مكانه، ودخلا مع الخليفة في ضَمان البلاد، وكان المُدَبِّر لأمرهما كافور، وسار إلى مصر فقتل غَلْبون ومَلَكها- وكان غَلْبون قد تَغلَّب عليها. وكان كافور شجاعًا، مِقدامًا، جَوادًا، يُفَضَّل على الفحول، وقصده المتنبِّي ومَدَحه، فأعطاه أموالًا كثيرة، ثم فارقه إلى العراق. وقال أبو الحسن بن آذِن النَّحْوي (¬1): حضرتُ مع أبي مَجلسَ كافور وهو غاصٌّ بالناس، فقام رجل فدعا له وقال في دعائه: أدام الله أيامِ مَولانا، بكسر الميم من أيام، فأنكر كافور والحاضرون ذلك، فقام رجلٌ من أوساط الناس فقال: لا غَرْوَ أن لَحَن الدَّاعي لسيِّدنا ... أو غَصَّ من بَهَرٍ (¬2) بالرِّيق أو بَهَرِ فمِثلُ هَيبَته حالت جَلالتُها ... بين الأديب وبين القَوْلِ بالحَصَرِ وإن يكن خَفَض الأيامَ من غَلَطٍ ... في موضعِ النَّصْبِ لا عن قِلةِ البَصَرِ فقد تفاءلْتُ من هذا لسيِّدنا ... والفَألُ مَأثَرة عن سيِّدِ البَشَرِ بأنَّ أيَّامَه خَفْضٌ بلا نَصَبٍ ... وأنَّ أوقاتَه صَفْوٌ بلا كَدَرِ فعجب (¬3) الحاضرون وكافور، ووصَلَه وأحسن جائزتَه. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق 59/ 206: بن أد بن النضر النحوي، وفي النجوم الزاهرة 4/ 3: بن أذين النحوي، وهذا الخبر ليس في (ف م م 1). (¬2) في تاريخ دمشق، والنجوم الزاهرة، ووفيات الأعيان 4/ 102: من دهش. (¬3) هنا ينتهي الخرم في (خ).

وذكر له جدي في "المنتظم" حكاية من أحسن ما يُخَلَّد في بطون الأوراق مما يدلُّ على مكارم الأخلاق فقال: حكى أبو جعفر المسلم بن عُبيد الله بن طاهر العَلويّ النَّسابة قال: ما رأيتُ (¬1) أكرمَ من كافور، كنتُ أُسايره يومًا وهو في مَوكب خفيف يُريد التَّنَزُّه، وبين يديه عِدَّةُ جَنائب بمراكبِ ذهب وفضَّة، وخلفَه بِغالُ الموكب، فسقطت مِقْرَعَتُه من يده ولم يرها ركابيته، فنزلتُ عن دابتي، وأخذتُها من الأرض، ودفعتُها إليه، فقال: أيها الشَّريف، أعوذ بالله من بلوغ الغاية، ما ظننتُ أن الزمان يُبلّغني حتى تفعل بي أنت هذا، وكاد يبكي، فقلت: أنا صنيعة الأستاذ ووليّه، فلما بلغ باب داره وَدَّعني، فلما سرتُ التفتُّ فإذا بالجنائب والبغال كلها خلفي، فقلت: ما هذا؟ قالوا: أمر الأستاذ أن يُحمل مركبه كله إليك، فأدخلتُه داري، فكانت قيمتُه تزيد عن خمسة عشر ألف دينار (¬2). وقال المصنف رحمه الله: كان (¬3) المسلم [بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى النَّسَّابة] من صالحي العَلويين وساداتهم. [ذكر حكاية له: ذكرها أبو العباس النَّسابة مصنف كتاب "ترجمة المشتاقين" فقال: ] كان له غلام قد ربّاه، وكان من أحسن الغِلمان، فرآه بعضُ القُوَّاد، فبعث إليه ألف دينار مع رجل وقال: [اذهب إلى الشريف و] اشتر لي منه الغلام. [قال الرجل: فوافيتُه وهو في الحمَّام، ورأيتُ الغلام عريانًا، فرأيتُ منظرًا حسنًا] فقلتُ في نفسي: لا شكَّ أن الشريفَ لا يَفوتُه هذا الغلام، [وظننتُ ظنَّ السُّوء] وأدَّيتُ الرسالة، فقال: ما دفع فيه هذا الثَّمن إلا وهو يُريد أن يعصي الله، ارجع إليه بماله فلا أبيعُه، [قال الرجل: فعُدتُ] إليه فأخبرتُه. ¬

_ (¬1) في (ب خ): وقال أبو جعفر المسلم ... ما رأيت، والمثبت من (ف م م 1). (¬2) المنتظم 14/ 200. (¬3) في (ف م م 1): قلت كان، والمثبت من (ب خ).

محمد بن أحمد بن جعفر

ونمتُ تلك الليلة، فرأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فسلَّمتُ عليه فما رَدَّ، وقال: ظَنَنْتَ في ولدي مُسلم الخَنا مع الغلام، امض إليه واسأله أن يجعلك في حِلّ. [قال الرجل: ] فلما طلع الفجر مضيتُ إليه، وأخبرتُه بالمنام، وبكيتُ، وقَبَّلتُ يديه ورجليه، وسألتُه أن يَجعلني في حِلّ، فبكى وقال: أنت في حِلّ والغلام حرٌّ لوجه الله تعالى. ذكر وفاته: مات كافور سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة ست وخمسين، وقيل: سنة سبع وخمسين وثلاث مئة، في جمادى الأولى، قبل وصول القائد جوهر إلى مصر بيسير، وكتب على قبره، وحمل تابوته إلى القدس (¬1): [من البسيط] ما بالُ قبرِك يا كافورُ مُنْفَردًا ... بالصَّحْصَح المَرْتِ بعد العَسْكَرِ اللَّجِب يَدوسُ قبرَك آحاد الرجال وقد ... كانت أُسودُ الشَّرى تَخشاك من كَثَبِ وقال الوليد بن بكر الغَمْري: وَجَدْتُ على قبر كافور مكتوبًا: [من البسيط] انظُرْ إلى عِبَر الأيام ما صَنعتْ ... أفنتْ أُناسًا بها كانوا وما فَنِيَتْ دُنياهم ضَحكتْ أيامَ دولتهم ... حتى إذا فَنِيتْ ناحَتْ لهم وبَكَتْ وكانت إمارته اثنتين وعشرين سنة. وقيل: لما دخل جوهر مصر خرج كافور إلى الشام فمات به، والأصح أن جوهرًا دخل بعد موت كافور، والله أعلم. [وفيها توفي] محمَّد بن أحمد بن جعفر أبو بكر، الشَّبَهِيّ (¬2)، النيسابوري. ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): حكى الحافظ ابن عساكر قال: مات كافور في سنة ست وخمسين وثلاث مئة بمصر، وحمل تابوته إلى بيت المقدس، وقيل مات في سنة سبع وخمسين وثلاث مئة، وحمل في جمادى الأولى، وذلك قبل وصول القائد جوهر إلى مصر بيسير وكتب على قبره، والمثبت من (ب خ)، وانظر تاريخ دمشق 59/ 207، ووفيات الأعيان 5/ 99، والسير 16/ 190، وتاريخ الإِسلام 8/ 105 و 118، والكامل 8/ 581. (¬2) تحرفت في النسخ كلها إلى: البيهقي، والمثبت من طبقات الصوفية 505.

[قال ابن خميس: ] كان من أفتى مشايخ نَيْسابور في زمانه [، صحب أبا عثمان الحِيري]. سئل عن الفتوة فقال: هي حسنُ الخُلُق، وبَذْلُ المعروف. وقال له بعض أصحابه: إنني إذا دخلتُ السُّوق يقول الناس: انظروا إلى خشوعِ هذا المُنافق، فقال له: فخف الله على نفسك؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلمون شهداء الله في الأرض". مات قبل الستين وثلاث مئة (¬1). ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): قال ابن خميس: مات محمَّد قبل الستين وثلاث مئة، وانظر مناقب الأبرار 2/ 219، وأخرج الحديث أحمد (12939)، ومسلم (949) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

السنة التاسعة والخمسون وثلاث مئة

السنة التاسعة والخمسون وثلاث مئة فيها عُمل ببغداد يوم عاشوراء ما جرت به العادة. وفيها في صفر أخذت الروم أنطاكية، نزلت الروم على حصنٍ قريب منها يُعرف بحصن لوقا (¬1) وأهله نصارى، فوافقوهم على أن ينتقلوا منه إلى أنطاكية، ويُظهروا أنهم إنما انتقلوا منه خوفًا من الروم، حتى إذا حصلوا بأنطاكية وجاءت الروم فنازلتها عاونوهم على فتحها، وانصرفوا عنهم على ذلك، فانتقل النصارى إلى أنطاكية، وفي أحد جوانبها جبل، فنزلت النصارى فيه، واستوطنوه، ولم يعلم أهل أنطاكية بما كان بين النصارى والروم. ثم جاء الروم بعد شهرين مع أخي نقفور الملك، فحصروا أنطاكية، فصَعِد أهلها على الأسوار، وجاءت طائفة فقصدوا الجبل الذي فيه النصارى، ففتحوا لهم الأبواب فدخلوا، ووضعوا السيف في أهلها، وسَبَوا وقتلوا خلقًا عظيمًا، وساقوا من النساء والصبيان ما أرادوا وقيل: سَبَوا عشرين ألفًا، وبعثوا بهم إلى بلادهم، وقالوا للشيوخ والعجائز والأطفال: اذهبوا حيث شئتم. ثم أنفذ الملك جيشًا إلى حلب في عشرة آلاف، فملكوا الرَّبض، وكان شريف بن سيف الدولة يحاصرها وفيها قَرغويه، فانحاز شريف إلى خُناصِرة طرف البرية ليبعد عن الروم، وبقي قرغويه وأهل حلب في القلعة. فخرج إلى الروم رجلٌ هاشميٌّ من أهل حلب يقال له: طاهر، ومعه جماعة من الأعيان، فتوسَّط (¬2) بين قرغويه وبين الروم، وترَدَّدت الرسائل حتى تقرَّر الأمرُ بينهم على صُلحٍ وهُدنةٍ مؤبَّدة، وكتبوا بينهم كتابًا مضمونه: أن الصلح تقرر بين قرغويه الحاجب السَّيفي الدمشقي وفتاه بَكجور وجماعة من أعيان الحلبيين وبين الخادم الطربادي صاحب مائدة نَقفور -وكان هذا الخادم يقود الجيوش ولم يكن له منزلة الدُّمُسْتق- وتاريخ الكتاب في صفر سنة تسع وخمسين وثلاث مئة على أن يدفعوا لهم كل سنة وزن ثلاثة قناطير من الذهب، وقيل: من الفضة، على أن يؤمنوهم على ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): توما، وفي (ب خ): فرقا، والمثبت من الكامل 8/ 603. (¬2) في (ف م م 1): فتوسطوا.

أموالهم وأنفسهم وأهاليهم وجميع المسلمين، وتدخل في الصُّلح حلب وأعمالها، وحمص وأعمالها، وسَلَمية، وجُوسِيَة، وشَيزر، وكَفَرْطاب، وأفامية، ومَعرّة النُّعمان، وجبل السُّمَّاق، ومَعَرّة مَصْرِين، وقِنَّسْرِين، والعَمْق، والزَّرَّاعة. وذكروا الأماكن المختصَّة بهذه البلاد، ولم يذكروا حماة، والظاهر أنها لم تكن عامرة يومئذ، وجعلوا الحدَّ الفاصل من الشرق الفرات، ومن الغرب البحر وأنطاكية، ومن الشمال أَعْزاز، وجعلوا ما يأخذونه في أقساط مُقسَّطة في ثلاث دفعات، ففي كانون الأول قنطار، وفي أواخر حزيران قنطار، والثالث في أواخر تشرين الثاني، ووزن كل قنطار سبعة آلاف ومئتي مثقال بالرومي، وزن كل مثقال درهم ونصف إسلامي. وشرطوا على المسلمين شروطًا منها: أن المسلمين من سُكَّان حلب والبلاد التي ذكرنا والقرى يُؤدّون عن كل إنسان يَتمُّ له خمسة عشر سنة ستة عشر درهمًا، سوى العِميان والزَّمْنى، وأن لا يؤخذ من النصارى جِزية، وأن لا يكون للمسلمين سلطان إلا مَن يُنَصّبه ملك الروم، ومتى غزا الملك بلادَ الإسلام يكون عَسكرُ هذه البلاد في خدمته، ومتى ورد جاسوسٌ يريد بلاد الروم حَمله مُقَدَّم حلب إليهم، وأن لا يَعْمُرَ المسلمون حصنًا، ويمكِّنوا النصارى من عِمارة (¬1) البِيَع والكنائس والصَّوامع، وأن يعطوهم رهائنَ من حلب ممن يختارونه ويسمُّونه من الأشراف، وذكروا أشياءَ أُخَر. فأعطاهم قرغويه ما طلبوا، ورجعوا عن البلاد إلى بلادهم ومعهم رهائن من أهل حلب: أبو الحسن بن أسامة، وأبو طالب الهاشمي، وأبو الفرج العطار وغيرهم. وسببُ هذا اختلاف المسلمين، أما بغداد فكان الخُلفاء من بني بُوَيه مثل الأسرى، وأما الجزيرة فكان الخلاف بين أولاد حَمْدان واقعٌ، وأمورُهم مُخْتَلَّة، وأما مصر فكانت فتوحًا متجددة، ولم يتمكَّن جَوْهر بعدُ من البلاد. [فصل: ] وفيها قُتل نقفور ملك الروم، وبسبب قتله صالح الروم ورجعوا إلى بلادهم. ¬

_ (¬1) في (خ ب): بناية.

وفيها في ربيع الأول انتظم الصُّلْحُ بين أبي المعالي بن سيف الدولة وبين قرغويه، وأقاما الخطبة بحلب للمُعزّ، وبعث إليهما جوهر القائد بالأموال والخِلَع. وفي رجب جاء أبو تَغْلب بن ناصر الدولة من الموصل، فحَصر حَرَّان شهرًا فلم يقدر عليها، وأفسد أصحابُه ثمارَها وزَرْعَها، وقَلَّت المِيرةُ عنده، فخرج إليه المحسن بن أبي عبيد الله العلوي والحسن بن صغير من حيث لم يعلم أهل البلد، فأخذا لهم أمانًا، ودخل أبو تغلب وإخوته يوم الجمعة إلى حَرَّان، فصلَّوا الجمعة وخرجوا إلى العسكر، وجعل أبو تغلب الخيار إلى أهل حَرّان فيمَن يولّي عليهم، فاختاروا سَلامة البَرْقَعيديّ لحُسن سيرته فولاه، ثم رجع أبو تغلب إلى الموصل، وأخذ معه أربعين من أحداث حران (¬1). وفي ربيع الآخر نادى الهَجَريّون: لا يخرجْ من البصرة قافِلة، ولا من الكوفة، ولا إلى مكة، ومَن خالف فلا ذِمامَ له. وفيها صُرف القاضي أبو بكر أحمد بن سيَّار عن القضاء في حَريم دار السلطان، ورُدَّ القضاء إلى أبي محمد بن مَعروف، وتقلَّد ابن سَيّار القضاء بطريق خُراسان مضافًا إلى ما كان بيده. وفيها كتب جماعة من أهل مَيّافارِقين إلى أبي تغلب بتسليم ميافارقين إليه، وعلمت والدةُ أبي المعالي، فجمعت أهلَ البلد عندها، واعتقلت منهم جماعة، وجدَّدت الأيمانَ عليهم لولدها، وكان بالشام يُصلح الحال. وفيها استوزر بختيار أبا الفرج محمد بن العباس بن فَسَانْجس الشِّيرازي، وخلع عليه، وسلم إليه الكتاب والدواوين، وكان قد ضمن له سبعة آلاف ألف درهم، فأخذها من الكُتّاب، منهم أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصَّابئ، أخذ منه مئتي ألف درهم، ومن الحاشية بأسرهم، ثم انحدر إلى واسط والبصرة والأهواز على تسع مئة ألف درهم، وصادر عامل واسط والبصرة، وأخذ خطوطهم بستة آلاف ألف درهم، وجمع أموالًا عظيمة، وكتب إلى بختيار أنه قد خان، فقبض عليه وعلى أهله وأسبابه، واعتقل في البصرة (¬2). ¬

_ (¬1) هذا الخبر ليس في (ف م م 1)، ولم أقف على تفصيله لغير المصنف. (¬2) من قوله: وفيها صرف القاضي ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

صالح بن عمير العقيلي

[قال ثابث بن سنان: ] وفيها وصلت هدية إسحاق بن إبراهيم بن زياد صاحب اليمن من البصرة، وفيها فيل، ودَقَل من عودٍ قَماري، طوله عشرة أذرع، ووزنه ثلاثون منًّا. قال ثابت: وكان فيه قشر بيضة ذكروا أنها بيضة حية، فكانت تسع من الماء على التقدير خمسة عشر رطلًا بالعاقي. [قال: وظننت أنها بيضة نَعامة إلا أن قشرها كان أغلظ، ولونها مُخالف للون النَّعام. وكان فيها ببغاء بيضاء وسوداء المِنقار والرجلين، وعلى رأسها ذؤابة. وأظرف ما كان في الهدية: حمارة كبيرة عظيمة الخَلْق في قدر البغل الصغير، مُخطَّطة أحسن تخطيط، وذكروا أن هذه الأتان من بلدة من بلاد الحَبَش تملكها امرأة، وبينها وبين اليمن ألف وثمان مئة فرسخ (¬1). وفيها انقض كوكب عظيم ثلث الليل الأول أشرقت الدنيا به، حتى صار كأنه شعاع الشمس قد طلعت، وسُمع بعد انقضاضه صوتٌ عظيم كالرعد الشديد؛ من غير أن يكون في السماء غَيمٌ. وحج بالناس أبو أحمد [النقيب، واسمه] الحسين بن موسى، نقيبُ الطَّالبيين، وجاء كتابه إلى بغداد في أول سنة ستين وثلاث مئة أنه لم يَرِد أحدٌ من مصر، وأنه أقام الخطبة للمُطيع والهَجَريّين بعده، وعَلَّق القناديل التي بعثها المطيع معه في البيت، وكان فيها قنديل من ذهب فيه ست مئة مثقال والباقي فضة، وأنه نصب الأعلام الجُدد التي كانت معه وعليها اسمُ الخليفة. وفيها توفي صالح بن عُمير العُقَيليّ ولي إمرة دمشق خلافةً عن الحسن بن عُبيد الله بن طُغْج سنة سبع وخمسين وثلاث مئة لما انهزم فاتك الكافوري، وكان صالح يتولّى الجَيْدور، فأرسل إليه شيوخ البلد، فجاء فسلَّموا إليه دمشق، وغلب القُرمطيّ على الشام، فخرج صالح إلى الرَّمْلَة، فلما عاد القرمطيّ إلى الأحساء عاد صالح إلى دمشق فمات بها، وكان شجاعًا جوادًا (¬2). ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وثلاث مئة فرسخ. (¬2) تاريخ دمشق 23/ 360، وتاريخ الإسلام 8/ 135، والوافي بالوفيات 16/ 268، والنجوم الزاهرة 4/ 56.

فاتك

فاتِك أبو شُجاع، الخازن، الإخشيديّ. ولي إمرة دمشق سنة خمس وأربعين وثلاث مئة من قبل ابنَي الإخشيد، وكان شجاعًا، وهو غير فاتك الذي رثاه المتنبي، ذاك مات سنة خمسين وثلاث مئة بمصر، وهذا مات بدمشق (¬1). [فصل: وفيها توفي] نقفور ملك الرُّوم لم يكن من بيت المُلك، وذكر مَن زعم أنه يعرف أمره أنه وَلَدُ رجلٍ مسلم من أهل طرسوس يعرف بابن الفَقَّاس (¬2) تَنَصَّر. وكان نقفور رجلًا شُجاعًا، شَهمًا، مُدَبِّرًا سائسًا، لم يُرَ مثلُه منذ عهد الإسكندر ذي القَرْنَين، وهو الذي فتح حلب ولم يفتحها أحدٌ قبله، فعَظُم في عين الروم، وجَلّت منزلتُه، وارتفع قَدرُه، فوثب على الملك الذي كان في زمانه، فقتله، وجلس مكانه، وتزوج امرأته على كُرْهٍ منها، وكان لها ولدان (¬3) من المقتول. وصرف نقفور هِمَّته إلى بلدان الإسلام، وحيازة الأول فالأول منها، حتى ملك طَرَسوس، وأنطاكية، وعين زَرْبى، وأَذَنة، والمِصّيصة، وما يُجاورها من الحصون، وأحرق رَساتيقَ كثيرة [، وفعل ما شرحناه]. وكان يَرْصُد البلاد، فإذا جاء استواء الغِلال (¬4) خرج فأحرقها، فيموت أهلُ البلاد جوعًا، وقتل من أهلها ما لا يُحصى، وسبى من النساء والغلمان والشباب ما لا يُحصيه حَدّ، ولم يلْقَه أحد، وساعدته المقادير بما وقع بين المسلمين من الخُلف، وشُغل بعضهم ببعض، ولم يَشُكَّ أحدٌ في أنه يأخذ بلاد الشام وديار ربيعة ومُضَر (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 57/ 447، والنجوم الزاهرة 4/ 56. (¬2) في (ف م م 1): العقاس. (¬3) في (ف م م 1): كره منها حيث قتل زوجها وكان لهذه المرأة التي قتل زوجها ولدان. (¬4) في (ف م م 1): وكان يترصد البلاد فإذا استوت الغلال. (¬5) في (ف م م 1): ولم يشك أحد في أنه يملك بلاد الإسلام يعني بلاد الشام وديار ربيعة ومضر في يده.

فلما استوثق له الأمر، وانتظم له التدبير؛ انقضت مدَّتُه، وأتاه الله من حيث لا يحتسب، فقُتل بأضعف سبب وأهونه؛ وذلك لأنه عمل على أن يَخصي ابني زوجته من الملك الذي قتله، ويَهديهما إلى البِيعة ليستريح منهما ومن أن يكون لهما نَسلٌ يَصلُح للملك، فيَأمَن بذلك على نفسه ومُلكه ومُلك مَن بعده من ولده وعقبه. وبلغ زوجتَه فقَلِقت (¬1) لذلك، واحتالت في أن أرسلت إلى الدّمُسْتق -وهو ابن الشَّمشق، واتفقا على أن يصل إليها في زي النساء ومعه جماعة ممن يثق بهم في مثل زيه، وكان ابن الشمشق شديد الخوف من نقفور لعظم هيبته، فاستجاب للمرأة ليستريح منه ويأمن على نفسه، فاحتالت حتى أدخلتهم الكنيسة التي تتصل بدار الملك في ليلة الميلاد من سنة تسع وخمسين وثلاث مئة في شهر ربيع الأول، وقد صلَّى نقفور ونام واستثقل في نومه، ففتحت المرأة الباب الذي بين الكنيسة والدار، فدخلوا عليه فقتلوه، وثار جماعة من أصحابه، فقتلوا منهم سبعين رجلًا، وأجلسوا في الملك الأكبر من وَلَدي المرأة، وصار المدبِّر له ابن الشمشق. وكان نقفور يبات في الحديد (¬2)، إلا تلك الليلة فإنه نام عُريانا للأمر المقدور، وعجل الله بروحه الخبيثة إلى النار، وأراح المسلمين منه، وكانت قِتلته بالقسطنطينية (¬3). ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وبلغ زوجته ما قد عمل عليه في أمر ولديها. (¬2) في (ف م م 1): ويقال إن نقفور ما بات إلا في الحديد. (¬3) بعدها في (ف م م 1): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. وانظر في هلاك نقفور: المنتظم 14/ 201، والكامل 8/ 606، وتاريخ الإسلام 8/ 26، والنجوم الزاهرة 4/ 56.

السنة الستون وثلاث مئة

السنة الستون وثلاث مئة فيها في يوم عاشوراء فعل ببغداد ما جرت به العادة من النَّوح وغيره. وفي صفر لحقت الخليفة سَكتةٌ، فاسترخى جانبُه الأيمن، وثَقُل لسانُه. ومات أبو الفضل محمد بن الحسين بن العَميد وزير رُكن الدولة بن بُوَيه، واستكتب ركن الدولة أبا الفتح علي بن محمد بن الحسين. وفيها في ربيع الأول زَوَّج عزُّ الدولة ابنتَه [واسمها] بلكندر وعمرها ثلاث سنين من أبي تَغْلب [بن ناصر الدولة] على صداق مبلغه مئة ألف دينار، وكان العقد في دار عز الدولة ولم يحضره، وقبل العقد عن أبي تغلب صاحبه علي بن عمرو بن مَيمون. وفيها تقَلَّد القاضي أبو محمد بن مَعروف قضاء القُضاة، وقضاء الجانب الشَّرقي من مدينة السلام، مُضافًا إلى القضاء بالجانب الغربي ومدينة المنصور، وخُلع عليه بين يدي المطيع، وركب معه الوزير أبو الفضل العباس بن الحسن الشِّيرازي إلى جامع الرُّصافة، وقُرئ عهده، وصُرف أبو بكر بن سَيَّار من الجانب الشرقي، وقبل ابن معروف شهادة أبي سعيد الحسن بن عبد اللَّه السِّيرافي، واستخلفه على الحُكم في الجانب الشرقي، وقبل أيضًا شهادة أبي الحسن علي بن عيسى الرُّمَّاني النَّحْويّ. وفيها قبض أبو تغلب على أخيه محمد في شعبان وحمله إلى القلعة (¬1). قال المصنف رحمه الله (¬2): وإلى هذه السنة انتهى تاريخ أبي الحسن ثابت بن سنان، وقيل (¬3): إلى سنة ثلاث وستين، وهذا أصح، [ذكره ابن الصابئ وغيره، وختم ثابت كتابه في هذه السنة، انتهى بذكر بعضها. والدليل أن تاريخ ثابت بن سنان انتهى إلى سنة ستين وثلاث مئة قولُ أبي الحسن هلال بن المُحَسِّن بن إبراهيم الصَّابئ في تاريخه الذي ذيَّله على تاريخ ثابت بن سنان، قال: وآخره سنة ستين وثلاث مئة لما نذكر. ¬

_ (¬1) من قوله: وفيها تقلد القاضي أبو محمد ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬2) في (ف م م 1): قلت. (¬3) في (ف م م 1): وقال بعضهم.

ذكر ما ختم به ثابت بن سنان تاريخه من العجائب: قال: ومنه ما شاهدته، ومنه ما أخبرني به مَن أثق به لصدق لهجته، من بني آدم والحيوان والنبات، فمن ذلك قال: رأيت امرأة في صدر خلافة المقتدر ببغداد بلا ذراعين ولا عَضُدَين، ولها كَفَّان وأصابع مُعَلَّقات في رأس كتفيها لا تعمل بهما شيئًا، وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها، وتفعل بهما كل ما تريد حتى الغَزْل، وتسرِّح رأس امرأة غيرها، و] منها (¬1) أن مَلَّاحًا كان يَنْقُط اللَّبَنُ من ثديه، وأنه كان يُرضع ابنًا له (¬2) من ذلك اللبن، وعاش مدة. ومنها أن امرأةً كان لها قَرْنان في جانبَي رأسها. ومنها أن رجلًا قدِم من مصر إلى بغداد وله قَرْنان، فقطعهما وكواهما، وكانا يَضربان عليه، فبرئ. ومنها سِنَّورٌ أحمر لونه كلون العُنَّاب، وله أَلْيَةٌ عِوضُ ذَنَبِه [، وذكر أشياء من هذا الجنس]، ومَبدأُ كتابه من خلافة المقتدر في سنة خمس وتسعين ومئتين إلى هذه السنة، وهي سنة ستين وثلاث مئة، خمس وستون سنة. وفيها سار أبو محمد الحسن بن أحمد القرمطي من هَجَر والأحساء إلى الشام ومعه محمد بن عَضودا وظالم بن مَوهوب العُقَيلي في قبائل العرب، فحاصر دمشق في ذي الحجَّة، فخرج إليه القائد جعفر بن فَلاح، فاقتتلوا أيامًا، فلما كان في آخرها حَمل القِرمطيُّ بنفسه على جعفر فقتله، وقتل عامَّة عسكره، وملك دمشق، وولّاها ظالم العُقيلي، وأقام القرمطيُّ بها أيامًا ثم عاد إلى هجر، وخرج بعده ظالم من دمشق (¬3). وحج بالناس أبو أحمد النَّقيب. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، جاء بدله في (ب خ): وذكر في تاريخه أشياء ختمه بها منها. (¬2) في (ف م م 1): وأنه أرضع ابنًا له. (¬3) هذا الخبر ليس في (ف م م 1).

إبراهيم بن محمد

[فصل: وفيها توفي إبراهيم بن محمد ابن صالح بن سِنان بن يحيى بن الأركون، أبو إسحاق، الدِّمَشْقيّ. قال الحافظ ابن عساكر: هو مولى خالد بن الوليد؛ لأن خالدًا سبى الأركون حين فتح دمشق، فأسلم على يده، قال: وإلى جده سنان تُنسب قَنْطَرة سنان بنواحي باب توما. سمع إبراهيم الكثير، وتوفي بدمشق وقد جاوز الثمانين. حدَّث عن أبي زُرْعَة الدِّمَشْقي وطبقته، وروى عنه ابن مَنْده وغيره، وكان ثقة.] (¬1) وفيها توفي جعفر بن فلاح أحد قُوَّاد المِصريين، وأول أمير ولي لهم دمشق، وكان فيمن خرج مع جَوْهر من المغرب، وشهد معه فتوحَ مصر، ثم بعثه جوهر فغلب على الرَّمْلَة سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة، وأقام بدمشق. ولخمس (¬2) خلون من صفر من هذه السنة أمر المؤذنين بجامع دمشق أن يؤذنوا بحي على خير العمل، وكذا بالمساجد، وأن يُثَنُّوا الإقامة [كما هو مذهب أبي حنيفة]. وكان ينزل بمكان يقال له: الدّكّة، بين نهر يزيد وتورا، وقيل: هي فوق يزيد قريبًا من دير مُرَّان، فجاء أبو محمد الحسن بن أحمد القرمطي إلى دمشق ويُلقَّب بالأعصم، وكان جعفر مريضًا، فخرج فقاتله، فقتله القرمطي في ذي القعدة، وقيل: في شوال، ولما علم بقتله بكاه ورثاه؛ لأنهما وإن كانا عَدوَّين غير أن التشيع يجمعهما (¬3). وكان جعفر شاعرًا، كتب إلى الوزير يعقوب ويقال: إنها له، وهي هذه الأبيات: ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، وانظر تاريخ دمشق 2/ 507 (مخطوط). (¬2) من قوله: وفيها توفي جعفر بن فلاح ... إلى هنا؛ ليس في (ف م م 1) بدله فيها: قال الحافظ ابن عساكر ولخمس، والمثبت من (خ ب). (¬3) بعدها في (ف م م 1): وسنذكر القصة بعد هذا.

سليمان بن أحمد بن أيوب

ولي صديقٌ ما مَسَّني عَدَمٌ ... مُذْ نَظَرتْ عينُه إلى عَدَمي أعطى وأقنى ولم يُكَلِّفني ... تَقبيلَ كفٍّ له ولا قَدَم قام بأمري لما قَعَدْتُ به ... ونِمتُ عن حاجتي ولم يَنَمِ (¬1) سليمان بن أحمد بن أيُّوب أبو القاسم، الطَّبَراني، اللَّخْمِيّ. ولَخْم قبيلة من المغرب، قدموا الشام من اليمن، فنزلوا بيت المقدس، بالمكان الذي وُلد فيه عيسى عليه الصلاة والسلام، وبينه وبين بيت المقدس فرسخان، والعامة تقول: بيت لَحْم بالحاء المهملة وهو خطأ. ولد سليمان سنة ستين ومئتين، وكان أحدَ الحُفَّاظ المكثِرين الرحَّالين، فاضلًا، كبيرًا، نبيلًا، وله التصانيف الحسان "المعجم الكبير" في أسامي الصحابة، و"الأوسط" في غرائب شيوخه، و"الأصغر" في أسامي شيوخه. أقام بأصبهان محدّثًا ستين سنة، وتوفي بها ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من ذي القعدة، فبلغ مئة سنة، ودُفن إلى جانب قبر حُمَمَة الدَّوْسي صاحب رسول - صلى الله عليه وسلم - بباب مدينة جَيّ، وروى عنه الأكابر والأعلام ما لا يُعدُّ كثرةً، واتفقوا على صدقه وفضله وأمانته وورعه (¬2). [فصل: وفيها توفي] محمد بن جعفر بن محمد أبو عمرو (¬3)، الزَّاهد، البغدادي. ¬

_ (¬1) نسبت الأبيات إلى علي بن النعمان في يتيمة الدهر 1/ 400، ووفيات الأعيان 5/ 418، وتاريخ الإسلام 8/ 404، وانظر ترجمة جعفر في وفيات الأعيان 1/ 361، وتاريخ الإسلام 8/ 142، والنجوم الزاهرة 4/ 59. (¬2) تاريخ دمشق 7/ 530 (مخطوط)، والمنتظم 14/ 206، وتاريخ الإسلام 8/ 143، والسير 16/ 119. وهذه الترجمة ليست في (ف م م 1). (¬3) في (ب ف م م 1): أبو عمر، وكذا في أصل المنتظم 14/ 208 (كما أشار محققه)، والوافي 2/ 302، والمثبت من (خ)، وهو كذلك في المنتظم، وتاريخ الإسلام 8/ 151، والسير 16/ 162، والبداية والنهاية 11/ 271، والنجوم الزاهرة 4/ 62.

محمد بن الحسين بن عبد الله

[سافر إلى البلاد، فسمع ببلد نَيسابور إبراهيم بن أبي طالب وطبقته، وبالرَّي محمد بن أيوب البَجَليّ وأقرانه، وببغداد جعفر الفريابي وأمثاله، وبالكوفة عبد الله بن سوار ونُظرائه، وبالبصرة أبا خليفة القاضي، وبالأهواز عَبدان بن أحمد، وبالحجاز أحمد بن يزيد وأمثالهم، و] روى عنه حُفَّاظ نَيسابور وغيرهم. وكان صائمًا قائمًا، ] وأثنى عليه الحاكم، وكان، قَنوعًا، يضرب اللَّبِن لقبور الفقراء، ويُفطر على رغيفٍ وجَزَرة ونحو ذلك، وكانت وفاتُه بنيسابور في جمادى الآخرة عن خمس وتسعين سنة، وأجمعوا عليه. [وفيها توفي] محمد بن الحسين بن عبد الله أبو بكر، الآجُرِّي، البغدادي. كان ديِّنًا، صالحًا، عَفيفًا، حدَّث ببغداد [سنة ثلاثين وثلاث مئة]، ثم انتقل إلى مكة فجاور بها، وصَنَّف الكتب الكثيرة منها: كتاب "العُزْلة" وغيره. [وروى محمد بن أبي طاهر البزَّاز قال: ] لما دخل الحرم استطابه واستحسنه فقال: اللهم أحيني في هذا المكان سنة، فهتف به هاتف: يا أبا بكر لم سنة؟ بل ثلاثين سنة. [فأقام به ثلاثين سنة] فلما كان في آخر يوم من السنة الثلاثين هتف به هاتف: يا أبا بكر، قد وَفَينا بالوَعْد، فمات في المحرَّم. [أسند عن خلقٍ كثير، منهم أبو مسلم الكَجِّي وطبقته، وروى عنه محمد بن أبي الفوارس وغيره، ] وأجمعوا عليه (¬1). محمد بن الحسين أبو الفضل، ابن العَميد، وزير ركن الدولة. ¬

_ (¬1) بعدها في (ف م م 1): وقد ذكرنا فيما تقدم من اسمه الآجري، وذكرنا طرفًا من أخباره. وانظر ترجمة الآجري في تاريخ بغداد 3/ 35، والمنتظم 14/ 208، وتاريخ الإسلام 8/ 153، والسير 16/ 133.

محمد بن سليمان بن أحمد

كان شجاعًا، مُدَبِّرًا، فاضلًا، يلتقي الجيوش، ويفتح البلاد، ويُحبُّ العلماء، وكانت وفاتُه في صفر (¬1). محمد بن سليمان بن أحمد (¬2) أبو طاهر، البَعْلَبَكّي، المؤدِّب. سكن صيدا، وقرأ القرآن على هارون الأخفش، وروى عنه أبو عبد الله بن مَنْدَه وغيره، وكان ثقةً رحمة الله عليه. ¬

_ (¬1) تكملة تاريخ الطبري 422، وتاريخ الإسلام 8/ 153، والسير 16/ 137 وفي حواشيه مصادر أخرى. (¬2) في (خ): محمد بن أحمد بن سليمان، وهو خطأ، والمثبت من (ب)، وهذه الترجمة وسابقتها لم ترد في (ف م م 1)، وانظر ترجمته في تاريخ دمشق 62/ 175، وتاريخ الإسلام 8/ 155.

السنة الحادية والستون وثلاث مئة

السنة الحادية والستون وثلاث مئة فيها عُمل ببغداد يوم عاشوراء ما جرت به العادة من النَّوْحِ وغيره. وفيها استتر محمد بن العباس بن فَسانْجس ببغداد وأهله وأسبابه. وفيها مات أبو القاسم سعيد بن أبي سعيد الجَنَّابي في هَجَر، وقام بالأمر بعده أخوه أبو يعقوب يوسف، ولم يبق من أولاد أبي سعيد الجنابي غيره، وعقد القَرامطة الأمر بعد يوسف لستة نَفَرٍ من أولادهم شِركةً بينهم، وكانت وفاة سعيد في جمادى الأخرى. وفي رجب وُلد أبو القاسم عبد الله بن عزّ الدولة بُختيار بواسط (¬1). وفيها تواترت الأخبار أن ملك الروم عَزم على القصد إلى بلاد المسلمين في ست مئة ألف مقاتل، فانزعج أهل الشام والجزيرة، وأنه يريد العبور من عند مَلَطْيَة إلى ديار ربيعة؛ ليفعل فيها ما فعل بحلب، فدفعه الله تعالى. وفيها (¬2) سلَّم أخو حَمْدان بن ناصر الدولة قلعةَ ماردين إلى أبي تَغْلب، وكانت أموالُ حمدان فيها وجواهرُه وحُرَمه، فنقل أبو تغلب الجميع إلى المَوْصِل، وكان حَمدان قد وثق بأخيه فخانه. ومن ها هنا نبتدئ بشيء مما ذكره أبو الحسن هلال بن المُحَسِّن بن إبراهيم الصَّابئ؛ فإنه ذكر تاريخًا من أول سنة إحدى وستين وثلاث مئة إلى سنة أربع وسبعين وأربع مئة (¬3)، سلك فيه أسلوب خاله ثابت بن سنان وألحقه به. قال ابن الصابئ: في جمادى الأخرى ورد الخبر بأن أبا علي الحسن بن أبي منصور أحمد القِرمطيّ سار إلى مصر، ونزل بعَين شَمس، وجرت بينه وبين جَوهر القائد وقعة، وكان الاستظهار فيها لجوهر، وانهزم القرمطي. قال ابن الصابئ: لما دخل جوهر مصر سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة، ووَطَّأ الأمور للمُعزّ، وأقام الخطبة له؛ سيَّر القائد جعفر بن فَلاح إلى الشام، فأسر الحسنَ بن ¬

_ (¬1) من قوله: وفيها استتر محمد ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬2) من هنا إلى قوله بعد صفحات: وفيها وردت الأخبار أن بني هلال ... ليس في (ف م م 1). (¬3) كذا (؟ ! ) وهو خطأ، فإن الصابئ توفي سنة (448 هـ)، انظر تاريخ بغداد 16/ 117، وتاريخ الإسلام 9/ 719، والسير 16/ 524.

عُبيد الله بن طُغْج، وبعث به إلى مصر، ولما نهب الرَّمْلَة قصده النَّابُلْسي الزَّاهد، واستكفَّ جعفرًا عن النهب فكفّ، ثم استخلف ابنَه على الرَّمْلَة، وسار إلى طَبَريّة، وبلغه أن ابن أبي يَعْلى الشريف قد أقام الدعوة بدمشق للمُطيع، فسار إلى دمشق، فعَصَوا عليه وقاتلوه، فظهر عليهم، وهرب ابنُ أبي يعلى إلى البَرْبر، وجيء به إليه، فأحسن إليه، وبعث به إلى مصر مع جماعة من الأحداث الذين قاموا معه. وعرف القرامطة استيلاءَ المغاربة على الشام، وأخذَهم ابنَ طُغْج، فانزعجوا من ذلك؛ لما يفوتهم من المال الذي كان قَرَّره ابنُ طُغْج لهم -وهو في كل سنة ثلاث مئة ألف دينار- فبعثوا أبا طَريف عَديّ بن محمد بن المعمّر صاحبهم إلى عز الدولة بختيار، والوزير يومئذ أبو الفرج محمد بن العباس، يطلبون المساعدة على المغاربة بالمال والرجال، فاستقر أن عزَّ الدولة يعطيهم ألف ألف درهم، وألف جَوْشَن (¬1)، وألف سيف، وألف رمح، وألف قوس، وألف جَعْبَة، وقال: إذا وصل أبو علي الجَنَّابي إلى الكوفة حمل إليه جميع ذلك، ولما وصل الجنابي إلى الكوفة كان في عَددٍ كثير من أصحابه ومن الأعراب، فبعثوا إليه بالمال والسِّلاح، وسار يُريد الشام، وبلغ جعفر بنَ فلاح خبرُهم، فاستهان بأمرهم، ثم لم يَشعر بهم حتى كَبسوه بدمشق بمكان يقال له: الدّكَّة، فقتلوه، واحتَوَوْا على سواده وأمواله وكُراعه. ومَلك أبو علي دمشق، وأمَّن أهلَها، وأحسن السِّيرةَ فيهم، وغلب على الشام، واجتمعت إليه العرب، وسار إلى الرَّمْلَة وبها سعادة بن حيَّان، فخرج إلى يافا، وتحصَّن بحصنها، ودخل أبو علي الرَّمْلَة، وقتل مَن وجد من المغاربة، ثم رحل طالبًا مصر، وخلَّف بالرَّمْلَة أبا محمد عبد الله بن عُبيد الله الحسني، ومعه دَغْفل بن الجراح الطَّائي، وجماعة من الإخشيدية والكافورية، وجاء فنزل عين شمس على باب مصر، واقتتلوا أيامًا، وظهر القرمطيُّ على المغاربة، وقتل منهم زهاء خمس مئة رجل، وغنم أموالهم وأسلحتَهم ودوابَّهم. فلما كان يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول وقف الهَجَريّ على الخندق والمغاربة من ورائه، ونَشِبت الحرب، واقتتلوا إلى العصر، فخرجت المغاربةُ من الخنادق، وحملوا على الهَجَريّ، فانْدَقَّ عَسكرُه لا يلوي على أحد، وجعل يَرُدُّهم ¬

_ (¬1) هو الدرع.

وهم منهزمون، فما وقفوا إلى الرَّمْلَة، وظنَّ جوهر أن هزيمةَ القرمطيّ مَكيدةٌ، فلم يتعرَّض لما كان في عسكره إلى ثلاثة أيام، حتى تحقَّق الخبر، فاستولى على الجميع. ونادى جوهر في الإخشيدية فاجتمعوا، فعمل لهم طعامًا، وحلف لهم على المصافاة، ثم قبضهم وقيَّدهم وحبسهم، وكانوا ألفًا وثلاث مئة مقاتل. وقال القرمطي في هذه الوَقعة: [من الكامل] زعمت رجالُ الغَرْب أني هِبْتُها ... فدمي إذًا ما بينهم مَطْلولُ يا مِصرُ إن لم أَسْقِ أرضَك من دمٍ ... يَروي ثَراك فلا سَقاني النِّيلُ (¬1) وقال أيضًا: [من الخفيف] زعموا أنني قصيرٌ لَعَمْري ... ما تُكالُ الرّجال بالقُفْزانِ إنما المَرْءُ باللسانِ وبالقلـ ... ــبِ وهذا قلبي وهذا لساني ثم عاد الهَجَريُّ إلى بلده، وتَفرَّقت الأعراب في البريَّة. وفي جُمادى الآخرة اجتمعت الأتراك ببغداد، وتحالفوا على الاتّفاق والتَّعاضد، وفعلت الدَّيلَم بواسط مثل ذلك، وتجدَّدت منهم جُرأةٌ واستطالة لم يعهدوا فيه. وقلّد أبو طاهر ابن الوزير أبي الفضل العباس بن الحسين وزارة أبي العباس سلار بن عز الدولة بختيار والنظر في أموره. وفيها عاد الهَجَرِيُّ إلى الشام، فلما وصل الأردن انصرفت المغاربة إلى مصر، ونزل الهجري الرملة في آخر شعبان، وصرف عنه أهل البادية، وأقام في أصحابه الهجريين. وفيها وقع الصُّلح بين منصور بن نوح صاحب خُراسان وبين ركن الدولة بن بُويه وولده عَضُد الدولة أبي شُجاع؛ بأن يحمل ركن الدولة إلى ابن نوح في كل سنة مئة ألف دينار، ويحمل عَضُد الدولة خمسين ألفًا. وفيها وردت الأخبارُ أن بني هلال اعترضوا الحاجّ البصريين والذين جاؤوا من خُراسان، فنهبوهم، وقتلوا خلقًا كثيرًا، وبطل الحج، ولم يَسلم إلا مَن مضى من بغداد مع الشَّريف أبي أحمد الموسَوي (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق لابن القلانسي 4، والكامل 8/ 616. (¬2) من هنا إلى نهاية السنة ليس في (ف م م 1).

عبد الرحمن بن أحمد بن عمران

وفيها توفّي سعيد بن أبي سعيد أبو القاسم، الجَنَّابيّ، القِرمطيّ، الهَجَريّ. ولم يكن بقي من أولاد أبي سعيد غيره، وغير أخيه يوسف، وقام مكانه أخوه يوسف، وعقد القرامطةُ الأمرَ بعد يوسف لستة نَفَرٍ من أولادهم على وجه الشّركة بينهم، لا يَستبدُّ أحدهم بشيءٍ دون الآخر. عبد الرحمن بن أحمد بن عمران أبو القاسم، الدِّينَوَرِيّ، الواعظ. مات بدمشق، وكان يُنشد: [من الكامل] يا أيُّها الرَّجلُ المُعَلِّمُ غيرَه ... هلا لنفسك كان ذا التَّعليمُ تصف الدَّواءَ لذي السَّقام من الضَّنا ... ومن الضَّنا يَصِفُ الدَّواءَ سَقيمُ لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَه ... عار عليك إذا فعلْتَ عظيمُ وقال أيضًا: ابدأ بنفسك فانْهَهَا عن غَيِّها ... فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ وهناك يُسْمَعُ ما تقولُ ويُقْتَفَى ... منك المقالُ ويَنْفَعُ التَّعليمُ (¬1) عثمان بن عمر (¬2) بن خَفيف أبو عمرو، المقرئ. كان من الأبدال، صاحب كرامات، من أهل القرآن، والفقه، والدّيانة، والصِّيانة. توفي ببغداد في رمضان. علي بن إسحاق بن خَلَف أبو الحسن، الزَّاهي، الشاعر، البغدادي. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 9/ 843 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 8/ 194. والأبيات التي أنشدها الدينوري جميعها من قصيدة نُسبت للمتوكل الكناني الليثي، أو للأخطل، أو لسابق البربري، أو للطرماح، أو لأبي الأسود الدؤلي، انظر خزانة الأدب 8/ 564 - 569، وديوان أبي الأسود 403 - 405. (¬2) في (خ ب) وأصل المنتظم 14/ 211: عثمان بن عثمان، والمثبت من تاريخ بغداد 13/ 195، والمنتظم، وتاريخ الإسلام 8/ 195.

محمد بن فارس بن حمدان

كان فصيحًا، ومن شعره: [من مجزوء الرمل] قُم نُهَنِّئ عاشقَين ... أصبحا مُصْطَلِحَين جُمعا بعد فِراقٍ ... فُجِعا منه ببَين ثم عادا في سُرورٍ ... من صُدودٍ آمِنَين فهما روح ولكن ... رُكِّبا في بَدَنَين (¬1) [فصل: وفيها توفي محمد بن فارس بن حَمْدان ويعرف بالمَعْبَدِيّ. كان يقول: إنه من ولد أم مَعْبَد الخُزاعية، ويعرف بالعَطَشيّ؛ لأنه كان يسكن سوق العطش ببغداد، ومات في ذي الحجة ببغداد. حدَّث عن جماعة منهم جعفر بن محمد القَلانِسيّ الرَّمْلي، وخَطَّاب بن عبد الدائم الأَرْسُوفيّ، ومَخْلد بن محمد الماحُوزي وغيرهم. وروى عنه الدارقطني في المتقدمين، وابن رزقويه في المتأخرين وغيرهما. وقال الخطيب: سألتُ أبا نُعيم الأصبهاني عنه فقال: كان ضعيفًا. روى أحاديث لا تثبت، منها عن ابن عباس قال: قلت: يا رسول الله، للنار جواز؟ قال: "نعم، حُبُّ علي بن أبي طالب". والثاني عن ابن عباس أيضًا قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "شفعت في أبي وعمي وأخي من الرضاعة -يعني ابن السَّعديَّة- ليكونوا بعد البعث هَباءً مَنثورًا". قال الخطيب: وهذان الحديثان باطلان، والله أعلم (¬2).] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 13/ 265، والمنتظم 14/ 212، والسير 16/ 111. (¬2) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، وانظر تاريخ بغداد 4/ 271، وتاريخ الإسلام 8/ 198.

السنة الثانية والستون وثلاث مئة

السنة الثانية والستون وثلاث مئة فيها لم يُعمل في يوم عاشوراء ما جَرت به العادةُ من النَّوح وغيره، وسببُه ما جرى على المسلمين من الروم بالجزيرة ونَصِيبين وغيرهما مما سنذكره إن شاء الله تعالى، وكان الحاجب سُبُكْتِكين مقيمًا ببغداد، وبختيار بواسط، فمنعهم سبكتكتين، وكان يميل إلى السنة. [ذكر دخول الروم نصيبين: قال علماء السير: ] وفي يوم السبت مُستَهلّ مُحرَّم دخل ملك الروم نصيبين، فقتل وسَبى، واستأسر عامَّة أهلها، وهدم وأحرق، ووصل الخبر إلى بغداد فاضطرب أهلُها، ووافق ذلك ورودُ خبر الحاج للسنة الماضية، وما فعل بهم بنو هلال، ومات أكثرُهم، وشَغَب العوام، وقامت (¬1) الفتن. وقال ابن الصَّابئ: خرج الدُّمُسْتُق في جموعٍ كثيرة إلى بلاد الإسلام، فوَطئها، وأثَّر آثارًا قبيحة، وغلَب على ديار ربيعة بأسرها، ودخل نَصِيبين فاستباحها، وقتل أكثرَ أهلها، وسبى السَّبْيَ العظيم من نسوانها وصبيانها، وأقام فيها نَيِّفًا وعشرين يومًا، ولم يكن من أبي تَغْلِب نَهْضَةٌ إليه؛ لكنه دفع إليه مالًا صانعه به عن نفسه. ووَرد مدينةَ السلام خَلْقٌ كثير من أهل تلك البلاد، فاستَنفروا الناس في المساجد الجامعة والأسواق، وكسروا المنابر، ومنعوا الخُطباء من الخطبة، وصاروا إلى دار المُطيع، وحاولوا الهجومَ عليه، واقتلعوا بعضَ شبابيكها، حتى غُلِّقت أبوابُها، ورماهم الغلمان بالنُّشَّاب من رَواشِنها وحيطانها، ونسبوه إلى العَجْزِ عما أوجبه الله على الأئمة، وتَعَدَّوا في القول إلى الغِلظة القبيحة، والسَّبِّ الفَظيع. ووافق ذلك شُخوص عزِّ الدولة من واسط إلى الكوفة للزيارة، فخرج إليه أهلُ السَّتر والدَّيانة من أهل بغداد، منهم أبو بكر الرَّازي الفقيه، وأبو الحسن علي بن عيسى النَّحْوي، وأبو القاسم الدَّارَكيّ، وابن الدَّقاق الفقيهَين، وشَكَوا إليه ما طرق المسلمين من هذه الحادثة العظيمة، وعاتبوه على أن شَغل نَفْسَه وجيشَه بصاحب البَطِيحة، ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وثارت.

وأهمل أمر الرّوم، فوعدهم بالعَوْدِ إلى واسط، ومُصالحة عمران، والانكفاء إلى الثغور، فسكنوا وانصرفوا. ورجع إلى واسِط، وكتب إلى أبي تغْلب يُخبره أنه على نية الغزو، ويُلزِمه أن يُعِدَّ له الأزواد والعُلوفات، وبعث في ذلك أبي بكر محمد بن عبد الرحمن بن قُرَيعَة القاضي، وأخرج أبا طاهر بن بَقيَّة إلى سبكتكين ليُصلح ما تَشَعَّث بينه وبين العبَّاس الوزير، ويُعيده له إلى الصفاء والمَودَّة، ويُنهِضه معه إلى الغزو، ويأمره باستنفار المُطُّوِّعة ومَن يرغب في الجهاد من العامة. فأما أبو تَغْلب فأجاب جوابًا، ووعد في المُلتَمَس منه. وأما سبكتكين فأظهر صلاحَ النيَّةِ في الوزير، وأسرَّ خِلافَه، وركب مع الأمير أبي إسحاق ببغداد، واستنفر الناسَ والعوامَّ، فثار منهم عَددُ الرَّمل بأصناف السلاح، حتى بَهَره ما شاهد منهم، وكان ذلك من أقوى الأسباب في أن استَجاش على عزِّ الدولة أيامَ خَلْعِه طاعتَه بهم، وجرَّ هذا الاستنفار وقوعَ الفتن. وورد الخبرُ بمصير الدُّمُسْتُق (¬1) إلى آمِد، وكان بها هَزارمرد غلامُ أبي الهيجاء بن حمدان، فكاتب أبا تغلب مُستصرِخًا به، فبعث إليه أبا القاسم هبة الله أخاه في جيشٍ كَثيف، فأغَذَّ السَّيرَ حتى وصل إلى آمد ليلةَ الفِطر، وجاء الدُّمُستق فتلقّاه هبة الله وهزارمرد، وقاتلاه أشد قتال، فنصر الله الإسلام، وقتلوا من الرُّوم خلقًا كثيرًا، وأسروا الدُّمستق؛ فكان في عدَّةٍ كثيفة لكنه التقى هبة الله اتّفاقًا في مَضيق، وهو في أول عسكره، وعلى غير أُهْبَةٍ من أمره، فأخذه أسيرًا، وأسر جماعةً من البَطارِقة، وأُنفِذَت رؤوس القتلى إلى بغداد. وكتب أبو تَغْلب كتابًا إلى الخليفة بالفتح منه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لعبد الله أبي القاسم الفَضل، الإمام، المطيع لله، أمير المؤمنين، من عبده وصنيعته ابن حَمْدان: سَلامٌ على أمير المؤمنين، فإني أحمد إليه الله الذي لا إله إلا هو، وأسألُه أن يُصلِّي على محمد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، أما بعد: أطال الله بقاءَ سيِّدنا ومولانا أمير ¬

_ (¬1) من قوله: ورجع إلى واسط وكتب إلى أبي تغلب ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

المؤمنين، أدام الله عزَّه وتأييده، وكرامتَه، وسعادتَه وحِراستَه، وأتمَّ نعمتَه عليه، وزاد في إحسانه لديه، والحمد لله الذي نصر أولياءه، وقهر أعداءه، وذكر الإسلام وفضلَه وأطال إلى أن قال: وقد عَلم سيدنا ومولانا ما كان من طاغية الروم في استحكام طَمَعِه، وتسلُّطه، واستيلائه، وتَبسُّطِه على الثُّغور الشامية عند تشاغل المسلمين عنها، وبُعدِ ذَوي الثَّبات والبَصائر منها، وأنه أتى إليها وإلى نَصيبين بَغتةً، وفعل بها ما فعل، وذكر أَسْرَ هبةِ الله له، وأنه في قَبْضَتهِ وبطارقته، وذكر كلامًا طويلًا. فأجابه المُطيع بكتابٍ يَشكوه فيه، ويُقوِّي عزيمتَه وهِمَّتَه (¬1). وحبس أبو تغلب الدُّمُستق عنده، وأحسن إليه إحسانًا كثيرًا رجاء أن يَبلُغ به من صاحب الروم ما يَرومُه، فخرج به خُراجٌ عظيم فمات منه. وفيها قدم بَخْتكين أرادرويه (¬2) واسِطًا على عزّ الدولة، فأكرمه وأعظمه، وكان من الأتراك، فعقد له على الأهواز؛ وذلك برأي العبَّاس الوزير ليَجذبَ الأتراك إليه عن سبكتكين، وثبت عنده أن الوزير يُدبِّر الأمرَ عليه، وثبت عند الوزير أن سبكتكين يريد الخروج على عز الدولة، وأنه قد استمال الدَّيلَم إليه. ولما أحسن عز الدولة إلى بختكين فهم سبكتكين المراد، فانضاف إليه جماعة، فرأى عز الدولة إصلاحَه، فراسله واستصلحه، وأصلحه الوزير، فأظهر الانقياد إلى الطاعة، وفي القلب ما فيه، وخلع عليه عز الدولة الخِلَع الجليلة، وزاد في ألقابه الأسفَهْسَلار (¬3). وفي صفر توفي عبد الصمد بن محمد القاهر [بالله. قال ابن الصابئ: ] وفيها في شعبان احترقَت الكَرْخ؛ [وذكر كلامًا طويلًا حاصله (¬4): ] أن أهل الكَرْخ قتلوا رجلًا من أهل المَعونة، فبعث الوزير [أبو الفضل الشِّيرازي] مَن طرح النار من النَّخَّاسين إلى السَّمَّاكين، فاحترقت أموال عظيمة، من ¬

_ (¬1) من قوله: وكتب أبو تغلب كتابًا إلى الخليفة ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬2) انظر الكامل 8/ 635. (¬3) هذا الخبر ليس في (ف م م 1). (¬4) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، بدله في (ب خ): وذلك.

جملتها سبعة عشر ألف دُكَّان وثلاث مئة دكان، وثلاث مئة وعشرون دارًا، أجرة ذلك في الشهر ثلاثة وأربعون ألف دينارًا، واحترق ثلاثة وثلاثون مسجدًا. والتقى رجلٌ من الصالحين الشّيرازي فقال له: أيها الوزير، قد أريتنا قُدرتَك، ونحن نُؤمِّل أن يُرينا الله قدرتَه فيك، فلم يُجبه بشيء لتفاقُم الأمر [وكان الشيرازي يميل إلى السنة، وما فعل ذلك إلا لينتقم من أهل الكَرْخ، ] وكَثُر الدُّعاءُ عليه، فسخط عليه عزُّ الدولة، وسَلَّمه إلى الشريف أبي الحسن محمد بن عمر العَلَوي، فأنفذه إلى الكوفة، وعذَّبه بأنواع العذاب، وسقاه ذَراريح (¬1) فتَقَرَّحَت مَثانتُه، فمات في ذي الحجة [من هذه السنة. وذكر غير ابن الصابئ] في حريق الكَرْخ وجهًا آخر [فقال: ] (¬2) لما أمر عزُّ الدولة سبكتكين الحاجب بأن يُنَفِّر الناس للغزاة، ونادى، وظهر ما ظهر من العُدَّة والسلاح؛ انقلب الأمر، فصار أهل بغداد قسمين سنة وشيعة، ثم إنهم وجدوا إلى القتال طريقًا بإشهار السلاح. ويقال: إن سبكتكين فرَّق فيهم سلاحًا كثيرًا ليصل ذلك إلى الروم، فلما حملوا السلاح وقعت الفتنة، وأظهر كلُّ فريقٍ ما كان في نفسه، فدخل سبكتكين بينهم، فأرادوا قتلَه، فكتب إلى عز الدولة، فقدم بغداد ليُسَكِّن الفتنة، فزاد الأمرُ وتفاقم، واستولى العَيَّارون والشُّطَّار على بغداد، وكبسوا الدُّور، وتعرَّضوا للحريم، فألجأت الضَّرورةُ إلى أن رمى السُّلطان النارَ في الجانب الغربي من بغداد؛ لأن الفتنة كانت فيه أقوى، فرمى النار من حدّ بِرْكةِ زَلْزَل إلى عند السمَّاكين، فأحرق الكَرْخَ كلَّه، ومنع الناس من إطفائها، فأخذت يمينًا وشمالًا، فأحرقت ألوفًا من الناس والبهائم، وكان يومًا عظيمًا لم يَجْرِ في الإسلام مثلُه، وأعطى السلطان العَيَّارين الأمان، فسكنت الفتنة. وفيها زُلزلت بلاد الشام، وهُدِمت الحصون، ووقع من أبراج أنطاكية عدَّة، ومات تحت الهَدْم خَلْقٌ كثير. ¬

_ (¬1) هي السموم. (¬2) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، بدله في (ب خ): فمات في ذي الحجة وقيل في حريق الكرخ وجهًا (كذا) آخر وهو أنه.

[فصل في ذكر دخول أبي تميم المُعِزّ مصر: ] قال ابن الصابئ: وفي يوم الجمعة الثامن من شهر رمضان دخل المعزُّ إلى مصر ومعه توابيتُ آبائه، وقد مهَّد له جوهر الأمور، وبنى له القاهرة، فكان نزوله فيها. [هذه صورة ما ذكر ابن الصابئ، وحكاه جدي في "المنتظم" (¬1). قلت: ولابدَّ من ذكر السبب في مجيء المعزِّ إلى مصر، وترك بلاد المغرب مع سَعَتها وكثرة مُدنها، فذكر القاضي] عبد الجبار البصري [وقال: ] كان السبب في مجيئه إلى مصر أن الروم كانوا قد استولوا على الشام، والثُّغور، وطَرَسوس، وأنطاكية، وأَذَنة، وعين زَرْبَة، والمِصِّيصة وغيرها، ففرح بمُصاب المسلمين، وبلغه أن بني بُويه قد غَلَبوا علي بني العباس، وأنهم لا حُكْمَ لهم معهم، فاشتدَّ طَمَعُه في البلاد، وكان له بمصر شيعةٌ يكاتبونه ويقولون: إذا زال الحَجَر الأسود ملك مولانا المعزُّ الدنيا كلها، ويعنون بالحجر الأسود كافورًا، وكان كافور يومئذ أميرَ مصر نيابةً عن أبي محمد الحسن بن عُبيد الله بن طُغْج، وكان الحسن قد دخل مع الشيعة في الدَّعوة، وكان ضعيفًا رِخْوًا، قد طمع فيه الجند وكرهوه وكرههم، فقال له أبو جعفر بن نَصْر -وكان من دُعاة المعزّ: هؤلاء القوم قد طمعوا فيك، والمعزُّ لك مثلُ الوالد، فإن شئتَ كاتبتَه ليَشُدَّ منك، ويكونَ من وراء ظهرك، فقال: إي والله قد أحرقوا قلبي. فكتب إلى المعزّ فأخبره، فبعث القائد جوهرًا -وهو عبد روميّ- لهم في مئة ألف مقاتل، فدخل مصر في سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة بغير حَرْب، فاستولى على الخزائن والأموال والذَّخائر، وخرج الحسن ابن طُغْج إلى الرَّمْلَة، فبعث إليه ابن فلاح فأسره، وبعث به إلى جوهر، فبعث به إلى المعزِّ، فلما دخل عليه قَرَّبه وأدناه وبَشّ به، وقال له: أنت ولدي، وإنما بعثتُ جوهرًا لينصرَك، وقد لحقني بتجهيز الجيوش أربعة آلاف ألف دينار وخمس مئة ألف دينار، فظنَّ الحسنُ أن الأمر كما قال، فسعى إليه بجماعةٍ من قُوَّاد مصر والأمراء وأرباب الأموال، وكان كلُّ واحدٍ منهم مثل قارون في ¬

_ (¬1) 14/ 215.

الغنى، فكتب المعزُّ إلى جَوهر باستئصالهم، وأخذ أموالهم، وأن يبعث بهم إليه، ففعل جوهر، فحبسهم مع الحسن، فكان آخر العهد بهم. [قال عبد الجبار: ] ولما دخل المعزُّ إلى القاهرة احتجب في القصر، وبثَّ عيونه (¬1) ينقلون إليه أخبار الناس، وهو متوفر على التنعُّم (¬2)، والأغذية المسمّنة، والأطلية التي تُنقّي البشرة وتحسِّن اللون، ثم ظهر للناس بعد مدة وقد لبس الحريرَ الأخضر، وجعل على وجهه اليواقيت والجواهر تلمع كالكواكب، وزعم أنه كان غائبًا في السماء، وأن الله رفعه إليه، فامتلأت قلوب العامَّة والجُهّال منه رُعبًا وخوفًا، وقطع ما كان على ابن الإخشيد كل سنة من الأتاوة للقرامطة، وهو ثلاث مئة ألف دينار. وفيها ضاق الأمر على عزّ الدولة، فبعث إلى الخليفة يطلب إسعافه، فباع المطيع له ثيابَه وأنقاضَ داره من ساجٍ ورصاص، وجمع من ذلك أربع مئة ألف درهم، وبعث بها إليه، ثم ازدادت ضائقتُه، فقبض على وزيره [أبي الفضل] العباس [بن الحسين الشيرازي]، وصادره على ألفي ألف درهم، واستوزر أبا طاهر محمد بن [محمد بن] بَقيَّة. والسبب في ذلك: أن عز الدولة لما عاد من واسِط، وصالح عمران صاحب البَطيحَة؛ طلب من وزيره الشِّيرازي المال ليدفعه إلى الرجال، فعدل إلى المصادرات حتى لأهل الذِّمَّة، فكثر الدعاءُ عليه في الجوامع والبِيَع والكنائس، واتفق أنه أحرق الكَرْخ، وطالب المطيع بمال وقال: إن مساعدةَ الغُزاة تجب على الإمام، فقال له المطيع: إنما يلزم الإمام ذلك إذا كانت الدنيا في يده، فأما وليس في يدي منها إلا القوت القاصر عن كفايتي، وهي في يد غيري، ما يَلزمني غَزوٌ ولا حجٌّ ولا شيءٌ مما تنظر الأئمة فيه، وإنما لكم مني هذا الاسم الذي يُخطَب به على المنابر، فإن أحببتم أن أعتَزِل. ¬

_ (¬1) في (ف): وبعث أعوانه. (¬2) في (ف م م 1): النعم.

وقويت الشَّناعات على الشِّيرازي، واجتمع جماعةٌ إلى سبكتكين وقالوا: هذا عدوُّك، وهذا وقتُك، وأشاروا بأبي طاهر محمد بن بَقيَّة -ولم يكن من بيت الوزارة- فأجابهم إلى ذلك (¬1). [شرح حال ابن بقية قبل وزارته: قال ابن الصابئ: ] كان ابن بقية أحدَ أربعة أخوة من أهل أَوانا، وكلهم يُسمَّى محمدًا، وكان أبوهم أحد المُزارعين، ويسمَّى محمدًا أيضًا [، وبقيّة جدهم، وإنما نسبوا إليه اختصارًا]. وخدم محمدًا وكنيته أبو الحسن أخو أبي طاهر (¬2). وكان أوجه أولاد بقية محمد بن جعفر الأصبهاني، ويلقب بنَمْلة (¬3). وكان صاحبَ مطبخ معزّ الدولة، وكان ضامنَ تكريت وأعمالها، وتدرَّج أبو الحسن محمد بن بقية معه من حال إلى حال حتى استعمله على ذلك كله، واستخلف أبو الحسن محمد أخاه أبا طاهر في المطبخ، وفسد حال مهله (¬4) عند معز الدولة، ولحقته علَّةٌ منعته من الخدمة، فضمن أبو طاهر تلك الأعمال، وترقَّى قليلًا قليلًا حتى مات معزُّ الدولة وولي عزُّ الدولة، فأقام على المطبخ إلى يوم ولي الوزارة. وكان يقدِّم لعزّ الدولة الطعامَ بنفسه، ويذوق الألوان لونًا لونًا، فلما وَزَر شرع يفعل ذلك، فنهاه عزُّ الدولة، فقال الناس: انتقل ابن بقية من الغضارة إلى الوزارة. وكان ابن بقيّة كريمًا يُغطِّي كرمُه عيوبَه، وزر أربع سنين وأيامًا، وكان واسعَ النَّفس، وكانت وظيفته من الثَّلج في كل يوم ألف رطل، وراتبه من الشَّمْع في كل شهر ألفا رطل، ثم آل أمره إلى أن سمَله عَضُد الدولة، وصَلَبه وهو ابن نيِّفٍ وخمسين سنة -وسنذكره في ترجمته- وقيل: إنما سَمَله عزُّ الدولة (¬5). ¬

_ (¬1) من قوله: والسبب في ذلك ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬2) هكذا جاءت العباره في (خ ب)، وفي (ف م م 1): وجد محمد أيضًا أبو الحسن أخو أبي طاهر، ولم أتبين صوابها. (¬3) في (ف م م 1): مملة، وفي (ب): بنهلة. (¬4) كذا، وفي (ف م م 1): مملة. (¬5) المنتظم 14/ 216، ووفيات الأعيان 5/ 118، وتاريخ الإسلام 8/ 278، والسير 16/ 220.

إبراهيم بن محمد بن سختويه

وفيها سار القرمطي إلى مصر، وسنذكره إن شاء الله في ترجمته في سنة ست وستين وثلاث مئة. وحج بالناس أبو أحمد النَّقيب العَلَوي [الذي حجَّ بهم في السنة الماضية. فصل: وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن سَخْتَويه أبو إسحاق، المُزَكّي، النَّيسابوري. طاف البلاد، وأنفق على الحديث أموالًا كثيرة. حكى الخطيب عنه أنه قال: أنفقتُ على الحديث بِدَرًا من الدَّنانير، وقدمتُ بغداد في سنة ست عشرة وثلاث مئة لأسمع من ابن صاعد ومعي خمسون ألف درهم بضاعة، فرجعتُ إلى نيسابور ومعي أقلّ من ثُلثها، أنفقتُ ما ذهب منها على أصحاب الحديث. وقال الخطيب بإسناده عن محمد بن عبد الله الحافظ قال: كان ابن سختويه من العبَّاد المجتهدين الحجَّاجين، المُنفقين على العلماء والمستورين. عُقِد له الإملاء بنيسابور سنة ست وثلاثين وثلاث مئة، وهو أسود الرأس واللحية، وزُكِّي في تلك السنة، وكان يُعدُّ في مجلسه أربعة عشر مُحَدِّثًا منهم أبو العباس الأصَمّ. وتوفي بسوسنقين في شعبان، وحُمل في تابوت إلى نَيْسابور فصلَّينا عليه، ودُفن في داره وهو ابن سبع وستين سنة. وسوسنقين منزل بين هَمذان وساوة. سمع بنيسابور من محمد بن إسحاق بن خُزيمة وغيره، وببغداد من أبي حامد الحَضْرمي وطبقته، وبسَرْخَس من محمد بن عبد الرحمن الدَّغولي وغيره. وكان ثَبْتًا، حُجَّة، مُكثرًا، مواصِلًا للحج، روى كُتبًا كبارًا، وكان ثقةً] (¬1). ¬

_ (¬1) هذه الترجمة من (ف م م 1)، وليست في (خ ب)، وإلى نهاية السنة ليس في (ف م م 1). وانظر في ترجمة إبراهيم: تاريخ بغداد 7/ 105، والمنتظم 14/ 216، وتاريخ الإسلام 8/ 200، والسير 16/ 163.

السري بن أحمد بن السري

وفيها توفي السَرِيُّ بن أحمد بن السَّرِيِّ أبو الحسن، المَوْصِليّ، الرَّفَّاء. شاعر، فصيحٌ، مُجَوِّد. فمن شعره يمدح أبا المُرَجَّى بن ناصر الدولة وقد رَمِدت عينُه: [من الكامل] شَكتِ العُلى لما شَكَتْه جُفونُه ... فشَكاتُه مقرونةٌ بشَكاتها قد قلتُ للأعداء مَهْلًا إنها ... نُوَبٌ تَجلَّى الصبحُ من ظُلُماتِها قالوا اشتكى رَمدًا حَمى أجفانَه ... سِنَة الرُّقادِ وغَضَّ من لَحَظاتها فأجبتُهُم لم تَرْمَد العينُ التي ... تَحمَرُّ بأسًا يومَ حَرْبِ عِداتها لكنْ رأتْه مُحاربًا أموالُه ... بنَوالِه فجَرتْ على عاداتها وقال يمدح أبا الهيجاء حَرْب بن سعيد بن حَمْدان (¬1): [من الوافر] بَلاني الحبُّ فيكَ بما بَلاني ... فشَأْني أن تَفيضَ غُروبُ شاني أبيتُ الليلَ مُرْتَفقًا أُناجي ... بصِدْقِ الوَجْدِ كاذِبةَ الأماني فتَشهَدُ لي على الأَرَقِ الثُّريَّا ... ويَعلَمُ ما أُجِنُّ الفَرْقدانِ إذا دَنَتِ الخيامُ بهم فأهْلًا ... بذاك الخِيمِ والخِيَمِ الدَّواني فيا وَلَعَ العَواذِلِ خَلِّ عنِّي ... ويا كَفَّ الغَرامِ خُذي عِناني وقال يمدح حَمدان بن ناصر الدولة ويُهَنِّيه بمولود سمّاه تَغْلِب، وكَناه أبا السرايا: غدًا تُبدي مدامِعُنا الخفايا ... إذا زُمَّت لِطيَّتها المَطايا وَقفْنا نَحْمَدُ العَبَراتِ لما ... رأينا البَينَ مَذْمُومَ السَّجايا كأن خُدودَهنَّ إذا استَهَلَّت ... شقائقُ فيه من طَلِّ بقايا وقد فَوَّقْنَ بالألْحاظِ نَبْلًا ... قلوبُ العاشقين له رَمايا تمنَّينا اللقاءَ فكان حَتْفًا ... وكم أُمنيَّةٍ جَلبتْ مَنايا أرى الآفاقَ قد مُلئتْ سُرورًا ... بتَغْلِبٍ الأميرِ أبي السَّرايا ¬

_ (¬1) ذكرها الثعالبي في يتيمة الدهر 2/ 185، وياقوت في معجم الأدباء 11/ 186 من غرر شعره في الغزل.

بمولودٍ براه الله ليثًا ... وغَيثًا يَستهلُّ على البَرايا نَجيبًا نَجَّبَتْهُ كرامُ قومٍ ... فجاء شَبيهَهم حَزْمًا ورايا ثَنايَ عليهمُ ما دمتُ حيًّا ... ثناءَ المُسْتهامِ على الثنايا حياةُ المجدِ أن يَحيى وتُفني ... أعادِيه الحوادثُ والرَّزايا فقُلْ لأبي المُظَفَّر قد ظَفِرْنا ... بما نَرجو لديكَ من العَطايا ومَن يَهْدِ الحَيا لرِياضِ مَدْحٍ ... يَفُزْ منها بأطرافِ الهدايا كما جادَ السَّحابُ الجُودُ أرضًا ... فأبْرزَ من مَحاسنها الخَفايا وقد جاءت مَدائحُنا نُقودًا ... فلا تَجعلْ جوائزَها نَسايا وقال يمدح أهل البيت والحسين عليهم السلام دائمًا أبدًا: [من البسيط] إذا عَدَدْنا قُريشًا في أباطِحها ... كانوا الذَّوائبَ منها والعَرانينا أغنَتْهُمُ عن صفاتِ المادحينَ لهم ... مدائحُ الله في طه وياسينا أقامَ رَوْحٌ ورَيحان على جَدَثٍ ... ثوى الحُسين به آمين آمينا كأن أحشاءنا من ذِكرِه أبدًا ... تُطوى على الجَمْر أو تُحشى السَّكاكينا مَهْلًا فما نَقَضوا أوتارَ والدِه ... وإنما نَقَضوا في قتله الدِّينا آلَ النبيِّ وَجَدْنا حُبَّكم سَببًا ... يَرضى الإلهُ به عنّا ويُرضينا فما نُخاطبُكم إلا بسادَتِنا ... ولا نُناديكمُ إلا مَوالينا إن أَجْرِ في حُبِّكم جَرْيَ الجَواد فقد ... أضحَتْ رِحابُ مَساعيكم مَيادينا وكيف يَعدوكُمُ شِعري وذِكرُكُمُ ... يَزيدُ مُسْتَحْسَنَ الأشعار تَحسينا من أبيات. وكان بين السَّرِيّ وبين الخالِدِيَّين الشاعرين مُهاجاة، فبالغا في أذاه عند سيف الدولة حتى قطع رُسومه، فانحدر إلى بغداد، ومدح الوزير أبا محمد المُهَلَّبيّ بمدائح، منها قوله: [من الكامل] أصبحتَ أعلا الناسِ قِمَّةَ سُؤددٍ ... والناسُ بعدك كلُّهم أكفاءُ أيمينُك البحرُ الخِضَمُّ وقد طَمَتْ ... أمواجُه أم صَدْرُكَ الدَّهْناءُ

العباس بن الحسين

أذكَرْتَنا شِيَمَ المُهَلَّبِ في النَّدى ... والبأسِ إذ هي شِدَّةٌ ورَخاءُ وشَمائلٌ شهِدَ العدوُّ بفضلها ... والفَضْلُ ما شَهِدَت به الأعداءُ وبلغ الخالديَّين، فانحدرا خلفه، وتوصَّلا إلى المهلَّبي حتى صارا من نُدمائه، وجعلا هِجِّيراهُما ثَلْبَه، فأعرض عنه ولم يُعطه شيئًّا، فآل أمرُه إلى أن عَدِم القُوتَ، ومات ببغداد (¬1). العباس بن الحسين أبو الفَضْل، الشِّيرازي، الوزير. كان جبَّارًا، فاتكًا، ظالمًا، قُتل بالكوفة بسقية الذَّراريح، ودُفن بمشهد علي عليه السلام وهو ابن تسع وخمسين سنة. عبد الصمد بن محمد القاهر بالله كان القاهر بالله قد رشَّحه للخلافة لأنه أكبر ولده، فلما ولي الراضي بالله قطع لسانَه، فنبت بعد أربع سنين، فكتمه، فخَلَت به عمَّتُه أم سلمة بنت المُعْتَضد -وكانت عاقلةً فَاضلة- فقالت له: قد تحدَّث بنبات لسانك الخدمُ، وتسهيلِ الكلام عليك، فأنكر، فألحَّت عليه، فقال لها بلسانٍ ثقيل: يا عمتي، إن اعترفتُ ذهب رأسي، فلما كلَّمها سجدت لله شكرًا وقالت: اكتم حالَك، وأرى لك من المصلحة الخروج من هذا البلد، فربَّما شاع خبرُك فتهلك. فخرج إلى مصر، فاستقبله كافور وأعظمه، وذلك في سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة، ثم إن عبد الصمد قصَّر في حقِّ كافور، فغاظه، فأعرض عنه، فأُشير عليه بقصد كافور، والاعتذارِ إليه واستنزال ما عنده، ، فقَصده في داره، فرجع إلى ما كان عليه من الإحسان إلى عبد الصمد، وواصل برَّه، وقام بأمره أحسنَ قيام، فكان يركب بالقباء، ويَحضر دارَ كافور في المواسم والأعياد وأيام المواكب، فيُعظّمه الناس ويخدمونه. ¬

_ (¬1) انظر في ترجمته: تاريخ بغداد 10/ 269، ويتيمة الدهر 2/ 137، والمنتظم 14/ 218، ووفيات الأعيان 2/ 359، والسير 16/ 218، وتاريخ الإسلام 8/ 334.

واستدعى أخاه أبا الفضل محمد بن القاهر، فخرج إليه، وأقاما وأمرُهما على السَّداد حتى مات كافور، ودخل جوهر مصر سنة سبع أو ثمان وخمسين، فخرجا إلى الشام، وعرف المطيع خبرَهما فقال: ما أعجب أمرَ هذين الرجلين، أتُراهما يخافان مني أكثر مما يخافانه من المغاربة والقرامطة! وأعطاهما أمانًا أكَّده على نفسه، وكُتب عنه بأمره، وقال: ما أرى التَّعَرُّضَ لأحد من أهلي، ولا الإساءة إلى أولاد الخلفاء، فقد كان لحقني من المُسْتكفي ما أحسن الله لي العاقبةَ فيه، وعاد بسوء العاقبة عليه. وكوتب عبد الصمد وأخوه محمد بذلك، فوردا بغداد في سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة، وأقاما ببغداد على حالِ صِيانةٍ وحراسة، ومات عبد الصمد في هذه السنة (¬1). ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا الخبر.

السنة الثالثة والستون والثلاث مئة

السنة الثالثة والستون والثلاث مئة فيها أعاد عزّ الدولة النَّوحَ يوم عاشوراء إلى ما كان عليه. وأظهر الوزير أبو طاهر بن بقيَّة العَدْلَ والإنصافَ والإحسان، فشكره الناس، وذَمّوا الشّيرازي، وشَهر ابنُ بقية السُّعاةَ بالناس على الجِمال بجانبَي بغداد، وحَبَسهم، ثم نفاهم. وخلع عليه المطيع الخِلَعَ السُّلطانية، وكَناه، ولَقَّبه النَّاصح للدَّولة، وسعى في إصلاح الحال بين الحاجب سُبُكْتِكين وعزِّ الدولة، وتحالفا على التَّصافي، وركب الحاجب إلى عز الدولة، وخَدَمه، ولم يعد بعدها اجتمع به إلا في المواكب، وعلى حالة الاحتراز. وفي المحرَّم تقلَّد القضاء أبو الحسن محمدُ بن صالح ابن أم شَيبان الهاشميّ قضاءَ القُضاة، صارِفًا لأبي محمد عُبيد الله بن أحمد بن مَعروف، وركب معه أبو طاهر بن بقية، ووجوه الناس إلى داره بباب البصرة. وسببه: أن ابن معروف طولب ببيع دار أبي منصور بن أبي عَمرو الشِّيرازي من أبي بكر الأصبهاني صاحب سُبكتكين، فامتنع، فقيل له: إن الوكيل الذي يبيع نَصَبه الخليفةُ، وليس يُراد منك إلا سماع الشهادة والإسجال، فأقام على الامتناع، وأغلق بابَه، وسأل الإعفاءَ من القضاء، فأُعفي، وطولب ابنُ أم شَيبان بأن يُقَلَّد القضاء فامتنع، فألَحّوا عليه، فأجاب بعد أن شرط لنفسه شروطًا؛ منها: أنه لا يَرتزق على القضاء، ولا يُخلَع عليه، ولا يُشْفَع إليه في تغيير حقٍّ، ولا يُنْقَض ما يوجبه الشَّرع، ويُجعل لحاجبه وللفارض على بابه، ولخازن ديوان الحكم، ولكاتبه، وللأعوان ما يكفيهم. فأجيب إلى ذلك، وكُتب عهدُه على بغداد من الجانبين، وشقّ الفرات، وواسط، ودجلة، وطريق خُراسان، وحُلْوان، وديار بكر وربيعة، والمَوصل، والحَرَمَين، واليمن، ودمشق، وحمص، وجُنْد قِنَّسْرين، والعواصم، ومصر، والإسكندرية وغيرها، وكُتب عهدُه على ما جرت به العادة في العهود، وكان العهد من إنشاء أبي منصور أحمد بن عُبيد الله

الشّيرازي صاحب ديوان الرسائل، وحضر أبو طاهر مع ابن أمِّ شَيبان إلى المطيع، وسلّم العهد إليه. وفي ربيع الأول لعشرٍ بقين منه سار عزُّ الدولة إلى الموصل، وسُبُكتكين الحاجب في مُقدّمته، وسببه: أن أبا الفضل الشيرازي حَسَّن لعزِّ الدولة الاستيلاءَ على المَوْصل، وأطمعه في تلك البلاد ليَشْغَلَه عنه، وقوَّى تلك المشورة أبو طاهر بن بقية، ووردت على ابنِ بقيَّة كتبُ أبي الحسن علي بن عُمر (¬1) كاتب أبي تَغْلب، يُخاطبه فيها بدون ما كان يخاطبه قبل ذلك، فغاظه، وشتم كاتب أبي تغلب في مجالسه، وبلغ الكاتب فكتب إليه بالكتابة المستوفاة، فلم يرُدَّه ذلك. وانضاف إلى هذا أن حَمْدان وأبا طاهر إبراهيم ابنَي ناصر الدولة كانا عند عزّ الدولة، فكاتب أبو تغلب أخاه أبا طاهر، ووَعده بكلِّ خير، وأراد أن يَقتطعه عن حَمْدان، فأجابه، وطلب منه خيلًا تقف له في مكان عَيَّنه، فأرسل بها إليه، وهرب أبو طاهر من بغداد إلى الموصل، فعزَّ ذلك على عز الدولة وقال: هذا غَدْر. وصغَّر حَمدان أبا تغلب في عين عزّ الدولة، وأطمعه في البلاد، وحَلَف على الوفاء له، وسار إلى الموصل وسُبكتكين في المقدمة؛ بينه وبين عزّ الدولة مرحلة من الجانب الغربي، واستمر سُبكتكين في الجانب الشرقي، ووصل عز الدولة إلى الموصل وقد انصرف عنها أبو تغلب إلى سِنْجار بجيوشه، وقد أخلى الموصل من كل شيء، ثم عطف من سِنجار يُريد بغداد، وعلم به عزُّ الدولة. وكان سُبكتكين قد تأخَّر بحَديثة الموصل، فكتب إليه عز الدولة بالعبور إلى الجانب الغربي، والمسير في إثر أبي تغلب، ورد إليه حَمدان وجماهيرَ القُوَّاد، ورد أبا طاهر بن بقية في الزَّبازب (¬2) إلى بغداد. وسبق أبو تغلب، ونزل القرية المعروفة بالفارسية على نهر الرُّفَيل، وبينها وبين بغداد فرسخان، وعامَلَ أهلَ السَّواد بالجميل، وأحسن إليهم، وضربت طلائعُه إلى باب بغداد، وخرج إليه جماعةٌ من العَيَّارِين والشُّطَّار مَسرورين به. ¬

_ (¬1) في الكامل 8/ 634: علي بن أبي عمرو. (¬2) يعني السفن.

وبرز عمدة الدولة أبو إسحاق بن مُعزّ الدولة -وكان يَخْلُف أخاه عز الدولة- إلى باب الشَّمَّاسِيَّة، وانتقل المطيع وأهلُه وجميع أسبابه إلى قصر معز الدولة، وعبر عمدة الدولة بطائفة من الجيش إلى الجانب الغربي لقتال أبي تغلب، ووصل ابنُ بقية فشدَّ من عمدة الدولة، وجاء الحاجب سُبكتكين إلى أَوانا، ورجع أبو تغلب إلى أوانا، ووقع الطِّراد بين العَسكَرَين، ثم تكافَّا وتراسلا في الصُّلح. وأصعد أبو طاهر بن بقية من بغداد، واجتمع بسبكتكين، وحضرهما رسل أبي تغلب، واستقرَّ العقد على ما كان عليه في الأول وزيادة ألف كُرٍّ في كل سنة، وزيادة مال. وسار أبو تغلب يريد الموصل، وعز الدولة في خفَّةٍ من العَسْكر، وتحدَّث الناس بأن المواطأة كانت من سبكتكين على عز الدولة؛ ولهذا لم يقاتل أبا تغلب، ولا جَرَّد العَزْم في قتاله مع القدرة، ودخل سُبكتكين بغداد، وأسلم عزَّ الدولة، وقامت القيامة على ابن بقية، وطالب سبكتكين بالعود إلى الموصل فتَثَقَّل. وقيل: إنه همَّ في ذلك الوقت بالقبض على ابن بقية وعُمدة الدولة ووالدة عز الدولة وأولاده وأسبابه، فتوقَّف، ثم سار بالعسكر وبابن بقية إلى الموصل. ولما عرف عزُّ الدولة رجوعَ أبي تغلب إلى الموصل جمع أطرافَه، وردَّ قُوَّادَه من النواحي التي كان فرَّقهم فيها، ونزل الدَّير الأعلى من الموصل، وعبَّى مَصافّه واستعدَّ. وجاء أبو تغلب فنزل الحَصباء مستعدًّا للقتال، ولم يبق بينهما من المسافة إلا طول قَصبة الموصل، وأحجَمَ كلُّ واحدٍ منهما عن مُناجَزة صاحبه تَجنُّبًا لركوب الخطَر، إلا أن أبا تغلب كان الأظهر لكثرة عَدده، وكون أهل الموصل معه. وكان الدَّيْلَم قد آذَوا الناس، وخاض الناس بينهما في إتمام الصُّلح الذي تقدَّم ذِكرُه، فاشتطَّ أبو تغلب، واستام النَّقيصَةَ من المال الذي قُرِّر عليه، وطلب من عزِّ الدولة أن يُسلِمَ إليه ابنتَه، وأن يُلَقَّب لَقبًا سُلطانيًّا، فأجابه عز الدولة إلى ذلك. وطلب عز الدولة من أبي تغلب إزالةَ الاعتراض عن ضياع حمدان وأسبابه، وإعادةَ ما أخذ منها، وتسليمَ قلعة ماردين إلى حمدان فإنّ أباه أعطاه إياها، فامتنع أبو تغلب من ذلك كلِّه، ولم يَلتزم في الصُّلح شيئًا من ذلك، فسكت عن ذلك.

واتفق غيبة حمدان ببغداد، وجرت الأيمانُ بينهما على يد الشَّريف أبي أحمد الحسين بن موسى الموسَويّ. وانحدر عزُّ الدولة إلى الحَديثة، ودخل أبو تغلب الموصل، وكَحَل جماعة من أهلها تصرَّفوا مع عز الدولة، وقتل رجلًا من بني عَقيل يُعرف بأبي العجاج وكان قد استأمن إلى عز الدولة، ووصل سبكتكين وابن بقية بالجيش إلى الخدمة، واجتمعوا بعزّ الدولة. وعلم حَمدان بالصُّلح، فعزَّ عليه كونُه لم يدخل في الصُّلح، وأَنِفَ أبو طاهر بن بقية من انصراف عز الدولة على الحالة التي انصرف عليها، وجعلوا كَحْل الجماعة الذين كَحلهم أبو تغلب وقَتْلَ العُقيليّ سببًا للرجوع إلى الموصل، فعادوا. وهرب أبو تغلب إلى تل أعْفَر، وبعث بأبي الحسن بن عمرو كاتبه (¬1) إلى عزّ الدولة يُعاتبه على النَّقْضِ والغَدْر، فقبض ابن بقية عليه، وأهانه، وأذلَّه، وأنكر عليه كحْلَ الجماعة وقتلَ العُقيليّ، فاعتذر بأن أبا تغلب لم يَعلم بشيء من ذلك، وأن بعضَ غلمانه فعله. ثم تقرَّر الصُّلح على أن يُفرِج عن ضياع حَمْدان دون قلعة ماردين، وأن يُنفِذ إلى عز الدولة القوم الذين كحلوا العمال وقاتلَ العقيلي، فبعث بهم أبو تغلب إلى عز الدولة، فعفى عنهم لعلمه بأنهم لا صُنْعَ لهم في ذلك. وعاد عز الدولة إلى بغداد، وبعث الخِلَع السُّلْطانية لأبي تغلب مع كاتبه علي بن عمر، ولُقِّب بعدَّة الدولة، وحُملت إليه ابنةُ عزِّ الدولة مع بدر الحرمي في رمضان (¬2). وفي شعبان توفي أبو الحسن محمد بن بقية أخو أبي طاهر، وكان أبو الحسن هو الأكبر، فمشى أخوه أبو طاهر في جنازته، وجلس للعزاء، وجاءه عزُّ الدولة معزِّيًا. وفيها في شعبان خرج عز الدولة من بغداد إلى الأهواز، ووقعت فتنة الأتراك، ولحق أبو طاهر بن بقية به. ¬

_ (¬1) سلف قريبًا أنه أبو الحسن علي بن عمر، وأنه في الكامل 8/ 634 أبو الحسن علي بن أبي عمرو، وفي تكملة الطبري 431 أبو الحسن بن عمرو، كما هنا. (¬2) من قوله في أول السنة: وأظهر الوزير أبو طاهر ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

ذكر السبب في ذلك: كان عز الدولة قد ضاق ما بيده من المال، وكَثُرت عليه المُطالبات من الجند وغيرهم، فأشار عليه ابنُ بقية بالانحدار إلى الأهواز لمُحاسبة أرادرويه (¬1)، وصَرْفِه عن البلاد، والنَّظر في المال وجمعه، وتفرقة الأتراك عن سبكتكين، والاحتيال عليه ليستريحا منه، ويتَّسعا بأمواله وإقطاعاته، فانحدر إلى الأهواز، فلقيهما أرادرويه بالمال والتَّقدمة، وخَدَمهما. وأقام عز الدولة بالأهواز، فوقع بين غلامين من التُّرك والدَّيلَم مُنابذة على بناء مَعْلَفٍ على باب دار أحدهما، فمنعه الآخر، وثارت الفتنة بين التُّرْك والدَّيلَم، وكان لأرسلان التُّركي خيمةٌ على باب عز الدولة يقضي فيها الأشغال، فسمع أرسلان الضَّوْضاء، فركب، فعارضه بعضُ الدَّيلَم، فشتمه أرسلان، فضربه الدَّيلمي فقتله. وثار الأتراك يطلبون بدم أرسلان، ورَمَوا الدَّيلمَ بالنُّشَّاب، فقتلوا منهم رجلًا، وجرحوا نفرًا، وخرجوا بأجمعهم إلى الصحراء. واجتهد عز الدولة في كفّ الفريقين فلم يقدر، فاجتمع إليه رؤساء الدَّيلَم -وكانوا مُطَّلعين على اعتقاده في سُبُكْتِكين والأتراك- فقالوا له: هذا أمر قد انتشر، وفي نفسك من سبكتكين ما فيها، والوجه أن تَقبض رؤساءَ الأتراك الذين عندك، وتنزل إلى بغداد فَتقْلَعَ سبكتكين عنها، وتستريح منه ومن الأتراك، فقَبِل منهم ذلك، فبعث إلى رؤساء التُّرك: بختكين أرادرويه وغيره، فقبض عليهم، وقيَّدهم، واستولى على إقطاع سبكتكين بالأهواز وأسبابه، وكتب إلى البصرة بالنِّداء في الأتراك والإيقاع بهم، فنُهبت منازلهم وهربوا. وكان عز الدولة قد عهد إلى والدته وإلى عمدة الدولة أخيه أنه إذا أرسل إليهما على جناح طائر من الأهواز أنه قد مات، فإذا جاء إليهما سبكتكين للعزاء قبضاه، فلما قَبض على رؤساء الأتراك كتب في تلك الساعة إليهما على جناح طائر بوفاته، وظن أن سبكتكين لا يتأخَّر عنهما، وكان أثبتَ وأعقلَ من ذلك، ولو حضر ما التفت؛ لأن غِلمان داره كانوا أربع مئة سوى الحُجَّاب والأتباع، وكان هذا الرأي ضعيفًا مع ما فيه ¬

_ (¬1) في الكامل 8/ 635: آزادرويه، وفيه خلاف كثير.

من الطِّيَرة والإشاعةِ المكروهة، فأرسل سبكتكين إليهما يسألهما عن الخبر، وكيف وَرَد، وتوقَّف عن الركوب إلى أن جاءته كتب أصحابه بما جرى، فجمع الأموال إليه، وأخبرهم أن السّتر قد انخرق، وأن دماءهم قد استُحِلَّت، وعَرَّفهم ما جرى على أصحابهم، فسألوه أن يتأمَّر عليهم فتوقف، وأرسل إلى عُمدة الدولة يقول: إن الأمر قد انتقض بين الأتراك وعز الدولة انتقاضًا لا يلتئم أبدًا، وإنهم قد أرادوه على الأمر فأبى أن يَخرج عن طاعة مواليه، وسأله أن يَعقد له الأمر، ويبقى عزّ الدولة مكانَه، ويَستميل له من بقي من الترك والدَّيلم، فأجابه، ووافقه على البكور في غدٍ ليَتِمَّ الأمر. وبلغ والدته فخافت أن يؤول الأمر إلى هلاك أحد وَلَديها، فمنعته، وصار إليها مَن كان من الدَّيلم مُقيمًا ببغداد، وقَوَّوا عَزمها على مُحاربة سبكتكين ومَن معه من الأتراك، فانتقض ما قرَّره مع عمدة الدولة. واجتمع الدَّيْلَم في دار مؤنس التي ينزلها عمدة الدولة، وركب سبكتكين إليهم، وناصبهم الحَرْبَ، وأحرق جوانب الدار فاستسلموا، وسألوا سبكتكين الإفراجَ عنهم لينحدروا إلى واسط، وأن لا يَفْضَح حَرمَ مولاه وأولادَه، فاستحيا منهم، وجمع عُمدةَ الدولة أبا إسحاق وأخاه أبا طاهر محمدًا ووالدتَهما والحرم وجميعَ مَن في الدار في زورق حديدي، وأحدرهم إلى واسط، وتفرَّق الدَّيلَم وضَعُفوا. وكان المطيع عند هذه الفتنة انحدر مع المُنْحَدِرين في زورق، فبعث سبكتكين فرَدَّه. وقيل: إنهم جاؤوا به فأوقفوه على باب سبكتكين ساعة حتى استؤذن في أمره، فأمر بردِّه إلى داره، ووَكل به فيها على الوجهِ الجميل، واستولى على ما كان لعز الدولة ببغداد من السِّلاح والكُراع والأثاث وغيره. ونزل الأتراك إلى دور الدَّيلم بعد أن نهبوها، وتعَدَّوا إلى دور أهل بغداد، والتجار، وأرباب الأموال، ووافقوهم العوامّ على النَّهب، فهُتكت الحريم، وتفرَّقت الأموال، وافتقر كثيرٌ من الناس، فركب صاحب الشُّرطة، ونادى في الناس، وصَلب جماعةً من العَيَّارِين عند الجسر، فسكنت الفتنةُ قليلًا، وتضافرت الألسنةُ بطاعة سبكتكين ونُصرته، فعرَّف منهم العُرَفاء، ونَقَّب النُّقَباء، وقَوَّد القُوَّاد، وخَلَع عليهم، وحملهم على الدَّوابّ، وصار له منهم جندٌ استجاش بهم.

الباب الرابع والعشرون في خلافة الطائع لله

وفيها أظهر المطيع ما كان يَسترُه من عِلَّته، وثِقَلِ لسانه، وتَعَذُّرِ الحركة عليه للفالج الذي ناله قديمًا، فانكشف ذلك لسبكتكين، فدعاه إلى خَلْعِ نفسه، وتسليم الأمر إلى ولده الطائع لله، ففعل ذلك، وعقد له الأمر يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة، فكانت خلافتُه إلى أن خَلَع نفسَه تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر وأربعة وعشرين يومًا، وصورة ما كتب: هذا ما أشهد على مُتضمَّنه أميرُ المؤمنين الفضلُ المطيعُ لله بنُ المقتدر بالله حين نظر لدينه ورَعيَّته، وشُغل بالعلَّة الدائمة عما كان يُراعيه من الأمور الدينية اللازمة، وانقطع إفصاحه عما يَجب عليه لله في ذلك، فرأى اعتزال ما كان عليه من هذا الأمر، وتسليمَه إلى ناهِضٍ به، قائمٍ بحقّه، عَقده له، وأشهد بذلك طَوعًا. وذكر التاريخ المذكور، وفي آخره بخط القاضي أبي الحسن محمد بن صالح: شهد عندي بذلك أحمد بن حامد بن أحمد (¬1)، وعمر بن محمد بن أحمد، وطلحة بن محمد بن جعفر، وتوفي المطيع سنة أربع وستين، وكان بعد خَلْعه يُسمَّى الشيخَ الصَّالح. الباب الرابع والعشرون في خلافة الطائع لله واسمه: عبد الكريم بن الفضل المطيع، وكنيته أبو بكر، وأمه أمُّ ولد يقال لها: عَتب، أدركت خلافته. وبويع يوم خلع أبوه نفسَه طائعًا لا مُكرهًا، وذلك يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذي القَعدة سنة ثلاث وستين وثلاث مئة، وسِنُّه ثمانية وأربعون سنة، وقيل: خمسون، ولم يلِ الخلافة أكبرُ سنًّا منه، ولا مَن له أبٌّ حيٌّ غيره وغير أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وكلاهما كنيته أبو بكر. ¬

_ (¬1) كذا في (خ ب) وأصل النجوم الزاهرة 4/ 105، وفي المنتظم 14/ 224، وتاريخ الإسلام 8/ 138، ومطبوع النجوم الزاهرة: أحمد بن حامد بن محمد.

وكان الطائع أبيضَ، أشقر، حسنَ الجسم، شديدَ القُوى؛ كان في دار الخلافة أُيَّلٌ عظيم يقتل الدَّوابَّ بقَرْنَيه، ولا يتمكَّن منه أحد، فرآه الطائع يومًا وقد صال على بَغلٍ فشقَّ راويته، فحمل عليه، فأمسك بقَرْنَيه، فلم يقدر على الإفلات منه، ودعا بنجَّار وقال: انْشُر قَرْنَيه، فنشرهما، حتى إذا بقيا على شيءٍ يسير فقطعه بيده، وهرب الأيل على وجهه، وسقطت فَرَجِيَّةُ الطائع عن كتفه، فتطأطأ بعض الخدم ليأخذها، فغمزه الطائع، وأشار إليه: ادفعها إلى النجَّار -وكانت من الوَشْي- فأخذها النجَّار وباعها بمئة وسبعين دينارًا. وركب الطائع يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي القعدة في الجانب الشَّرقي من بغداد، وعليه البُردة، ومعه الجيش، وسُبكتكين بين يديه. ومن غد هذا اليوم خَلَع على سبكتكين الخِلَع السُّلطانية، وعقد له لواء الإمارة، ولُقِّب نصر الدولة، وحضر عيد الأضحى، فركب إلى المصلَّى من الجانب الشَّرقي، وعليه السَّواد: قَباء وعمامة رُصافية، فصلَّى بالناس، ثم خطب فقال: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر متقرِّبًا إليه، ومُعتمدًا عليه، ومتوسِّلًا بأكرم الخلائق لديه، الذي صيَّرني إمامًا مَنصوصًا عليه، ووهب لي حُسنَ الطَّاعة فيما فوَّضه إليَّ من أمر الخلافة على الجماعة، الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر مُقِرًّا بجميل آلائه فيما أسنده إليَّ من حِفظ الأمة وأموالها وذَراريها، وقَمع بي الأعداء في حَضَرها وبَواديها، وجعلني خير مُسْتَخْلَف على الأرض ومَن عليها. الله أكبر الله أكبر تَقَرُّبًا بنَحْرِ البُدْنِ التي جعلها الله من شعائره، وذكرها في مُحكَم كتابه، واتّباعًا لسنَّة نبيه وخليله - صلى الله عليه وسلم - في فدية أبينا إسماعيل وقد أُمر بذَبْحه، فاستسلم لإهراق دمه وسَفْحه، غيرَ جَزعٍ فيما يأتيه، ولا نَكَل عن ما أمر به فيه، فتقرَّبوا إلى الله في هذا اليوم العظيم بالذبائح فإنها من تقوى القلوب. الله أكبر الله أكبر الله أكبر، وصلى الله على محمد خِيرته من خلقه، وعلى أهل بيته وعِترته، وعلى آبائي الخُلفاء النُّجَباء، وأيَّدني بالتوفيق فيما أتوَلّى، وقمصني (¬1) من ¬

_ (¬1) في المنتظم 14/ 226: وسددني.

الخلافة فيما أعطى، وأنا أُخوِّفُكم معاشرَ المسلمين غُرورَ الدنيا، فلا تركَنوا إلى ما يَبيد ويَفْنى، ويَزول ويَبلى، فإني أخاف عليكم يوم الوقوفِ بين يدي الله غدًا وآدم ومحمد المصطفى، وصُحُفكم تُقرأ عليكم، فمَن أوتي كتابَه بيمينه فلا يَخاف ظُلمًا ولا هَضْمًا، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضَنْكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، أعاذنا الله وإياكم من الرَّدى، واستعملَنا وإياكم بأعمال أهل التُّقى، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين. ثم نزل (¬1). وفيها ازداد تَنشُّط (¬2) العامة، وصاروا حِزبين، فالشيعةُ ينادون بشعار عزّ الدولة، والدَّيْلَم والسنة ينادون بشعار سُبكتكين، وكَثُرت الفتن، وكُبست المنازل، وأُحرق الكَرْخُ ثانيًا. وكان حَمدان بن ناصر الدولة قد توجَّه إلى الرَّحْبَة، فراسله سُبكتكين، فعاد إلى بغداد في نصف ذي القعدة، وورد بدر الحرمي بغداد عائدًا من المَوْصِل بعد تسليم بيت معز الدولة إلى أبي تغلب، ولما عَرف في طريقه ما جرى استتر ورجع إلى أبي تغلب، وخلَّى ما كان معه من أمواله وأموال التجَّار، فنُهب جميعُه. وأما عز الدولة فإنه أدخل يده في إقطاع الأتراك بأسرها، وانقسم الأتراك بالأهواز قسمين؛ فقسم لحق بسبكتكين، وقسم تلافاهم عزُّ الدولة، وقالت الدَّيلم: لا بد لنا في الحرب من أتراك (¬3)، فأطلق بختكين أرادرويه، ورتَّبه موضع سُبكتكين، ولقَّبه حاجب الحُجَّاب، وقدَّر أن الأتراك يأنَسون به، ويعدلون عن سُبكتكين إليه، وردَّ الأتراك الذين نفاهم من البصرة إليها، وردَّ عليهم أموالهم، وأمَّنهم. وبلغه خبر والدته وإخوته ووصولهم إلى واسط، فسار إليهم، واجتمع بهم، وكتب إلى رُكن الدولة يُعرِّفه حاله، ويَستصرخ به، وتابع إليه المكاتبة، وكتب إلى أبي تَغلب يَستنجد به، ويعده بإسقاط ما عليه من المال إن جاء بنفسه وعسكره، وراسل عمران بن شاهين صاحب البَطيحَة، وأنفذ له خِلَعًا وفرسًا بمركب ذهب، وتوقيعًا بإسقاط ما عليه ¬

_ (¬1) من قوله: ذكر السبب في ذلك كان عز الدولة قد ضاق ما بيده ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬2) في (ب خ ف): تبسط، والمثبت من (م م 1). (¬3) هكذا وردت العبارة في (خ ب)، وهذا النص بتفصيلاته لم أقف عليه، وانظر الكامل 8/ 634.

من مال الصُّلح الذي كان صالحه عليه مع إبراهيم حاجبه، وسأله المصاهرةَ على إحدى بناته، وطلب منه عسكرًا يُنفذه في السُّفن ليَستعين به على قتال الأتراك. ولما صار عزُّ الدولة بين واسِط والأهواز هرب من الأتراك أربعُ مئة غُلامٍ من أنْجادهِم إلى بغداد، وبقي عزُّ الدولة في الدَّيلَم. وأما رُكن الدولة فأجابه، وعَظَّم عليه الخَرْقَ الذي خَرَقَه، وقال: هذا يحتاج إلى رجالٍ وأموالٍ وسِلاح وتَثَبُّت وتدبير، وأنه يَضعُف عن الحركة، وقد عَوَّل على عَضُد الدَّولة في المَسير إليه ومعونته، وكتب إليه عضد الدولة يقول: الواجبُ أن لا تُفارقَ واسِطًا حتى نَلْحقَ بك، ونتَّفقَ على ما فيه الرَّأيُ. وأما أبو تغلب فإنه احتاط في أمره، وبعث إليه رسولًا فأخذ خَطَّه، وأشهد عليه القُضاةَ والشُّهود والقُوَّادَ، واتفقا على أنه متى سار من واسِط سار أبو تغلب من المَوْصِل. وأما عِمران بن شاهين فقال لرسوله إبراهيم: قد جئتنا في أمورٍ غير مُتَوجِّهة عندنا، أما المال المتروك فالتَّحَمُّدُ به علينا مع العلم بأنه باطل غير واقع موقعه، لكنا نَقْبَله، وأما الوُصْلَةُ فقد خطب إلينا الطالبيُّون وهم موالي فما أجبناهم، ولي أولاد أخ هم أكْفَاءُ لبناتي، ومع هذا فما زوَّجْتُهم لأني لا أَطيبُ نَفْسًا بتسليم بناتي إلى الرِّجال، وأما الفَرَس والخِلْعَة فلستُ ممن يَلْبَس ثيابَكم ولا أركَبُ مَراكبكم، مراكبي هذه السفن، لكن ابني أبو محمد يَقْبَل ذلك ولا يَرُدُّه، وأما إنفاذُ عَسكري إليكم فإن رجالي لا يَسكنون إلى رجالكم لكثرة مَن قتلوا منهم، وبعد هذا فقل له: ينبغي أن تَثْبُتَ وتَتدبَّر وقل له: قد قَصَدْتَ مُحارَبتي فرجعتَ خائبًا، وقصدتَ ابنَ حمدان فانصرفتَ كذلك، وقَصَدْتَ الأهواز وعُدْتَ على مثل هذه الصُّورة من الفِتنة، وإني أعلم أن أمرَك سَيَتأدى، وتجيء إلى عندي، وسأُذَكِّرُك هذا القول، وأُعامِلُك من الجميل بخلاف ما عامَلْتَني به. وصار إلى عزِّ الدولة أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوي مُفارقًا لسُبكتكين، وصار إليه أيضًا أبو الحسن محمد بن عمر بن يحيى العَلَوي من الكوفة مُقاطعًا لسبكتكين.

ذكر رسالة سبكتكين إلى عزّ الدولة: بعث إليه فوهيار الدَّيلَميّ -وكان قد اختار المقام عند سبكتكين- يقول لعز الدولة: قد جنيتَ على نفسك جِنايةً عظيمة بما دبَّرْتَه، وإني لك على ما عاملتَني به خيرٌ لك ممن تَسْتَجيش به علي، هؤلاء الغلمان قد نَفروا عنك نُفورًا لا يَسكنون إليك أبدًا، فاقبل منّي، وأفرج عن واسط لتكون هي وبغداد في يدي بإزاء أموالهم، وخذِ البَصرة والأهواز بإزاء مالِ الدَّيلَم، واجعل أمري وأمرَك واحدًا، ولا تفتح بابًا للحرب فلستَ من أهلها ورجالها، واعلم بأنني ناصِحٌ لك، ومُشفِق عليك من عُقبى المخالفة، حافظٌ به لك وصيَّةَ مولاي رحمه الله فيك -يعني معزّ الدولة- التي ما حفظتَها أنت فيّ، والسلام. فعرض عزُّ الدولة هذه الرسالة على الدَّيْلَم فأكبروها، ورَدُّوا فوهيار أقبحَ ردّ، فلما أُخبر سُبكتكين بذلك شرع في الاستعداد للحرب، وعَمل على المسير إلى واسط، وقدَّم أمامَه كتابًا من الطائع إلى عزِّ الدولة مع رجلٍ عَلَوي فيه: من عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى عزِّ الدولة أبي منصور مولى أمير المؤمنين: سلامٌ عليك، أما بعد، فإن أميرَ المؤمنين يَحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يُصلِّي على محمدٍ عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر الإسلامَ وفضلَه، والخلفاءَ المتقدِّمين، وحذَّر فيه من الفتنة، ووَعَد وأوعد، ثم قال: فإن انتقَلْتَ إلى حيث تُقلَّد من الأصقاع، وتَعدل في أهله، وتَصْدِفُ عن سَنن الجَوْرِ في معاملتهم؛ قابلناك بما تستحقُّ من الإكرام، وإن أبيتَ وأقمتَ على ما لا يَسوغُ الصَّبْرُ عليه في الدِّين والسِّياسَة؛ قَصدْناك بجيوشنا، ونَفَرنا إليك كالنُّفور إلى الثغور، وهذا كتابُ الإنذار قبل بادِرَةِ القَصْد، فاخترِ الأَعْوَدَ والأجدى، وعَجِّل بالإجابة فإنا نتَوَكَّفُها (¬1)، وإن كنَّا غيرَ لابِثينَ إلا رَيثَ وصول الجواب، والسلام. فلما وقف عزُّ الدولة وأبو طاهر بن بَقية على الكتاب استَفْحَشا ألفاظَه لما فيه من التَّقصير في خطاب عز الدولة، والتَّحَكُّمِ عليه ونسبته إلى الجَوْرِ والظُّلْم، وما فيه من ¬

_ (¬1) يعني ننتظرها.

الوَعْدِ والوَعيد، ولم يَريا إجابةَ الطَّائع بالاعتراف له بالخلافة، لئلا يُلْزِمَهما لوازم الطَّاعة، ولم يَريا تَرْكَ الجواب فيكون ذلك ممولًا عن الحُجَّة، فأمر أبا إسحاق إبراهيم بن هِلال الصَّابئ أن يُجيب عنه بجوابٍ يُخاطبه فيه بالإمرة، وأن يُغْلِظَ له فيه، فكتب إليه جوابًا منه: للأمير أبي بكر عبد الكريم بن أمير المؤمنين المطيع لله من عز الدولة أبي منصور بن مُعزّ الدولة أبي الحسين مولى أمير المؤمنين المطيع: سَلامٌ على الأمير، أما بعد: فإنه وصل كتابُه أحسن الله توفيقَه وتسديدَه، وهدايتَه ورُشْدَه، مُفْتتحًا بالاعْتزاء إلى إمرة أمير المؤمنين، والتَّقَلُّد لأمور المسلمين، وقد علم أن الخلافة تحتاجُ إلى إجماعٍ لا يَختلِفُ فيه رأيان، ولا يَختصم فيه اثنان، فإن تَعذَّر اجتماعُ الكُل لانبساطهم في الأرض ذات الطُّول والعَرْض؛ فلا بدَّ من اتفاق أشرافِ كل قُطرٍ وأفاضلِه، وأعيانِ كل صُقْعٍ وأماثله، ليَحصل الإجماعُ حينئذٍ حُصولًا لا يَعْتَلّ، ويَنْتَظِمَ انتظامًا لا يَخْتَلّ، أو من عهدِ إمامٍ جائزٍ أمرُه وحُكمُه، أصيلٍ رأيُه وفَهْمُه مُمَكَّنٍ مما يُورِدُ ويُصْدِر، مُخَيَّرٍ فيما يأتي ويَذَر، غيرِ مَحجوبٍ عن الإرادة، ولا مَحْمولٍ على الكَراهة، ولا مُضْطَهَدٍ بالإخافة، ومع ذلك فليس له أن يُمضِيَ ذلك على المسلمين إلا بعد عَرْضِه على صُلَحائهم وخيارِهم، وكُبَرائهم وعُظَمائهم؛ ليَرجعَ الأمرُ إلى الاتفاق الذي هو القُطْبُ المُدارُ عليه، والعَمودُ المُشارُ إليه. وقد علم الأمير أن الأئمةَ كانت إذا أرادت أن تَعْهَد عَهْدًا أحْكَمت له الأُصول، ومَهَّدت له السَّبيلَ، وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو القُدْوَة العُظْمى، وفيه الأُسْوَةُ الكُبرى، سُئل لمَّا احتُضِر عن الخليفة بعده فقال: لم أكن لأَتَحَمَّلها حيًّا وميتًا، وكيف أفعل ذلك وقد مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَسْتَخْلِف؟ فلمَّا ألحَّ عليه المسلمون جعلها شُورى في الستَّة المعروفين، وفَوَّض إلى المسلمين أن يَختاروا لأنفسهم مَن يَرتَضونه ويختارونه ويوَلُّونه، فإذا لم يكن البِناءُ -أيَّد الله الأمير- موضوعًا على أحد هذين الاثنين، ولا مَعقودًا على أحد هذين الوَجْهَين، بل كان مَعدولًا عنهما، ومُخَالفًا فيه شرطهما فما أَخْلَقَ به أن تَتَقَوَّضَ أعاليه، ونَزِلَّ قدمُ بانيه.

ومعلوم أن أمير المؤمنين المطيع لله -تَولَّاه الله بالحراسة حيًّا، وبالمغفرة مَيتًا- بَرزَ عن داره هاربًا خائفًا من الخَطَر الذي أُكرِه عليه، وإن هَرَبَه كان إلى جِهتي، وسُكونَه إلى جَنْبَتي، وأنه رُدَّ العُصاة، وحُصِرَ حَصْر العُتاة، وأقر في جيشه، وأُخيف على نفسه، ولم تُرْعَ له ذِمَّة ولا حُرْمَة، ولا وُقِّرَت له شَيْبة ولا كَبْرَة، فأصبح فريدًا وَحيدًا، مَسلوبًا مَغلوبًا، قد أُبعد عنه أنصارُ الدولة، وأحاط به غُواةُ الفتنة، لا يَملك لنفسه ضَرًّا ولا نَفْعًا، ولا يستطيع نَصْرًا ولا دَفْعًا، ولا يَصحُّ من مثله اختيار، ولا يثبت عليه بالإقرار، ولا تَقَدَّمت منه مُشاورةٌ لأحد، ولا مُكاتَبةٌ إلى طَرَف، بل أقدم عليه الطَّائفة النَّاشِزة التي لا تَتِمُّ بهم بَيعة، ولا أُقيمت لهم خُطبة (¬1)، ولا رضيت الأمة، ولا اجتمعت الكافَّة. والأمير يعلم أنه لو أراد واحد من هؤلاء المماليك أن يَعقِدَ لنفسه عَقْدَ نكاح ما تمَّ إلا بأمري، ولا خرج عن حُكمي، ومَن فعل ذلك منهم بغير أمري فهو مَلْعون على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من تولَّى غيرَ مَواليه فعليه لعنةُ الله" الحديث (¬2). وجميعهم بين مُسْتَرَقّ مُلكُه عائدٌ عليّ، وبين مُعْتَق وَلاؤه مَنسوبٌ إليّ، ولا يَنعقد بمثلهم أمرٌ، ولا يَنْفُذُ بقولهم حُكم، ولا يكون الأمرُ الذي انفرد به حُجَّةً على أعيان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأسافلها وأعاليها، وأقاصيها وأدانيها، وكيف يكون الأمرُ تامًّا بشِرْذِمةٍ من العبيد، مَحصورة العَدَد، مُنقطعة المَدَد، لم يخرج سُلطانهم ببغداد عن طَرَفها، ووراءها مني طالبٌ يَطلبها وينحوها، وقاصدٌ يَبتغيها ويَقفوها. وقد علم الأميرُ أن من شرط وُلاةِ العهود تعريفَ اللُّقَطة، وردَّ الضَّالَّة، وحَبْسَ الأُبَّاق من أَرِقَّاء المسلمين والمعاهَدين عليهم، وإعادتهم إلى الانقياد إليهم، فما الحُجَّةُ عليَّ في الاشتمال على مَن هو في هؤلاء الغلمان من عَبيدي الذين لم يَخرجوا عن مِلْكي ببيعٍ ولا إعتاق، ولا إذنٍ ولا انطلاق، مع الدَّعوى أنه للبَرِيَّةِ سائس، وعليها رائس، وقد سمع اللهَ تعالى يقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ... وذكر فُصولًا أُخَر. وهذا الكتاب هو الذي أوجَبَ نكبةَ الصَّابئ. ¬

_ (¬1) في هامش (ب): ولا أقيمت لهم حقيقة. وعليها إشارة الصحة. (¬2) قطعة من حديث علي - رضي الله عنه -، أخرجه أحمد (615)، والبخاري (3172)، ومسلم (1370).

وكتب عزُّ الدولة إلى سُبكتكين كتابًا يَتضمَّن عِتابَه، فمنه: أما بعد؛ أطال الله يا أخانا على الطَّاعة اللائقةِ بك، والهداية المشاكِلة لفضلك بَقاك، وأدام عُلُوَّك وأبقاك، وأمتَعَنا بك في عَودِك إلى المَعْهود منك، وانصرافَ (¬1) عنا نَزْغَ الشيطان بك، إن أوْلى ما اعتمد عليه العاقلُ وأتاه، وذهب إليه وتَوخَّاه: أن يَعرف الحقَّ الذي عليه، فيُؤَدِّيَه كما يَنبغي له ويَقتضيه، وأن يَحتَرِز في مَجاري كَلِمِه، وَيَتَوَقَّى في مَساعي قَدَمِه، مما يوقع النَّقْصَ في الدِّين، ويُسْخِطُ ربَّ العالمين، وإذا نزلت به نعمةٌ قَراها بغاية شُكرِه وحَمدِه، وأحسنَ ضِيافتَها بوُسْعِه وجُهدِه، وصانها عن عَواقب إنكارِه وجَحْدِه، إذ كان المنعم شَرَط ألا يَريم (¬2) ألا يَريم ما وجدته، ولا يُقيم ما فقدته، وكثيرًا ما يُسْكِر الواردين حِياضُها، ويُغْشي عُيونَ المُقْتَبِسين إيماضُها، فيَذْهَلون عن الامتراء لدِرَّتها، ويَعْمَهون عن الاستمتاعِ بنَضْرَتها، ويكونون كمَن أطار طائرَها لما وَقَع، ونَفَّر وَحْشِيَّها لما أنِس، ولا يَلبثون أن يَتَعَرَّوا من جِلبابها، ويَنْسَلخوا من إهابها، وَيتَعَوَّضوا منها بالحَسْرَةِ والغَليل، والأَسَفِ الطَّويل {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ونُعيذُك بالله من الاستمرار على ذلك، ونَسأله أن يَأخُذَ قبل التَّمادي فيه بيدك. وأنت - أدام الله عِزَّك - الرجلُ الرَّاجِح، الذي قد حَلَبَ الدَّهْرَ أَشْطُرَه، وعَرف خَيرَه وشَرَّه، وتَحلَّى بحِلْيةِ الكُهول، وتَجَلَّل بملابس أرباب العقول، وقبيح بك أن تَهفُوَ هَفْوَة الجَذَعِ وقد قَرَحْتَ واحتَنكْتَ، وأن تَغْلَطَ وقد مارَسْتَ ودارَسْت، وقد أجرى الله لك على أيدينا، وعلى يد الأمير معزِّ الدولة نَضَّر الله وَجْهَه قِبَلَنا نِعمًا، ما ندَّعي عليك شيئًا منها إلا وأنت له مُسَلِّم، ولسانُ حالك به مُتَكَلِّم؛ لأن ذلك السيد الماضي غفر الله له أعطاك ما لم تَسْمُ لك إليه هِمَّة، وخَوَّلَك ما لم يَبْلُغ منك إليه أُمنيَّة، وفَضَّلك على كثير من عبيده وأوليائه، وأدانِيه وأقربائه، ولم يَدُرْ في خَلَدِه أنَّ مِثلَ إحسانه إليك يُكْفَر، ولا أن مِثلَ مَتْجَرِه فيك يَخْسَر، وقد جَذَب بضَبْعَيك من مَطارحِ الأرِقَّاء العَبيد، إلى مراتب الأحرارِ الصِّيد، وأوْطَأ الرِّجال عَقِبَك، وأكثر مالك ونَسَبك، وعَظَم خَطَرَك وقَدْرَك، وأبعَدَ صِيتَك وذِكْرَك. ¬

_ (¬1) كذا، ولعلها: وصرف. (¬2) في يتيمة الدهر 2/ 298، والتذكرة الحمدونية 2/ 265: للنعم شروط من الشكر لا تريم ما وجد ولا تقيم ما فقد.

وكنتَ في أيامنا مُوَفَّرًا مَصونا، مُوَقَّرًا مأمونا، مُتَرَفِّعًا عن بَذْلِ الخِدْمَة، مَحمولًا على دالَّةِ الحُرْمَة، مُسامَحًا بما تَطلُبه، مُسَوَّغًا ما تَقْتَرِحُه، مُشَفَّعًا فيما تسألُه، مُجابًا إلى ما تَلْتَمِسه، نُقَرِّبُ مَن قَرَّبْتَ، ونُبعِدُ مَن أبعدْتَ، ونرضى ما رَضيتَ، ونَكره ما كَرِهت، إقطاعاتُك مُقَرَّةٌ عليك، ومَوادُّكَ مُنْصَبَّةٌ إليك، لا تَعرِفُ إلا الصَّبوحَ والغَبوق، ولا نُلزِمُك شيئًا من الحقوق المؤدِّية إلى العُقوق، وأنت مَشغولٌ باقتناء الذَّخائرِ النَفيسَة، وبناء الأبنية الرَّفيعة المَشِيدَة، ونحن في نَوائبَ تُلِمُّ بنا، وجَوائحَ تَرِدُ علينا، وعَدُوِّ نَهْدٍ نُساورُه، وأمرٍ مُضَيَّعٍ نُباشِرُه، وأنت مَشغولٌ بنفسك، لا ترى لنا ما يَراه الشَّريكُ لشَريكه، فَضْلًا عن المَولى لمَليكه. وما زلتَ تَترقَّى في العُقوق؛ إلى أن صِرتَ لا تَحضُرُ عندنا في مَجلس، ولا تركبُ معنا في مَوكِب، ولا تهنِّئنا بعَطيَّة، ولا تُعَزِّينا عن رَزِيَّة، وتَدَّعي مع ذلك علينا أنا نَبْغيكَ بالغَوائل، ونَنْصُبُ لك الحَبائل، وما مُرادُك إلا أن تَتداولَ الناسُ دَعواك، ويَتفاوَضُوا شَكواك، فيتَخَمَّر في قلوبهم، ويَتقرَّر في نفوسهم أن ذلك رُخصةً في المَرْكِب الذي ارتكَبْتَه، وفُسْحَةً في الإثم الذي احْتَقَبْتَه. وعَلَّامُ الغيوب المُطَّلِعُ على ضَمائر القلوب يَشهد عليك باستحالةِ ما تَذْكُره، ويَشهد لنا بصَفاء ما نُضمِرُه، وإنا بريئون من كل ما زَعَمْتَ وظَنَنْتَ واتَّهَمْتَ، ولو كنَّا نُريد بك سُوءًا لكان مَرامُه أسهلَ وأيسرَ، وطَريقُه أخصَرَ وأقصر، وكنا قادِرين على انتهازِ فُرَصٍ منك كثيرة، منها: شَغَبُ غِلمانِك عليك، وإحاطتُهم بك، وهَرَبُك منهم وَحيدًا، وخُروجُك من بينهم فَريدًا، وقد علمتَ أنا وَقَيناك منهم، وكفَيناك إيَّاهم، وأنْفَذْنا إليك مَن حَماك وحَرَسَك، وصانَك وحَفِظَك، وفَعلْنا في ذاك ضدَّ فِعلك في إفساد غِلماننا علينا، وتجرئتهم بالمكروه إلينا ... وذكر فُرَصًا كثيرة وكلامًا طويلًا، فلم يلتفت سُبكتكين إلى ذلك، وأصرَّ على لقائه (¬1). وحجَّ بالناس أبو منصور محمد بن عُمر العَلَوي، ولم يصلوا إلى مكة لعدم الماء، فعدلوا إلى المدينة، فلما وصلوا إليها بَرَكت الجمالُ مَيتةً من العَطَش، فوقفوا يومَ عَرفة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخُطب بمكة للمُعزّ ولم يُخْطَب للمُطيع. ¬

_ (¬1) من قوله: وكان حمدان بن ناصر الدولة قد توجه إلى الرحبة ..... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

عبد العزيز بن أحمد بن جعفر

[فصل: ] وفيها توفي عبد العزيز بن أحمد بن جعفر (¬1) [أبو بكر] الفقيه الحَنْبَليّ [، ويعرف بغُلام الخَلَّال]. ولد سنة اثنتين وثمانين ومئتين، وتَفَقَّه وصنَّف المصنَّفات في مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، منها كتاب "المقنع" مئة جزء، وكتاب "الكافي" نحو مئتي جزء (¬2)، و"الشَّافي "ثمانون جزءًا، و"زاد المسافر" و"التفسير" و "القولين"، وفي الأصول. وكان زاهدًا. وحكى الخطيب عنه أنه مرض فقال لأهله (¬3): أنا عندكم إلى يوم الجمعة، فقالوا: الله يعافيك، فقال: سمعتُ أستاذي أبا بكرٍ الخَلّال يقول: سمعتُ المَرُّوْذِيَّ يقول: عاش أحمد بن حنبل ثمانيًا وسبعين سنة، ومات يوم الجمعة، ودُفن بعد الصلاة، وعاش أبو بكر المَرُّوذِيُّ ثمانيًا وسبعين سنة، ومات يوم الجمعة، ودفن بعد الصلاة، وعاش الخلال ثمانيًا وسبعين سنة، ومات يوم الجمعة، ودفن بعد الصلاة، وأنا لي ثمان وسبعون سنة، وأنا عندكم إلى يوم الجمعة، وأموتُ وأُدفن بعد الصلاة. فلما كان يوم الجمعة لسبعٍ بَقينَ من شَوَّال في هذه السنة مات، ودُفن بعد الصلاة بمقبرة باب الأَزَج عند دار الفيل. [حدَّث عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وأبي خليفة الفضل بن الحُباب، والبغوي، وابن صاعد وغيرهم. وروى عنه الدارقطني، وابن رزقويه]. وكان صدوقًا، وَرِعًا، ثقة، [صالحًا مأمونًا] رحمه الله (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في النسخ و (ل ص) من المنتظم 14/ 230 كما أشار محققه، والنجوم الزاهرة 4/ 105، وفي تاريخ بغداد 12/ 229، والمنتظم، والكامل 8/ 647، والسير 16/ 143، وتاريخ الإسلام 8/ 214، وطبقات الحنابلة 2/ 119: عبد العزيز بن جعفر بن أحمد. (¬2) كذا؟ ! ولم يذكروا من كتبه هذا الكتاب، وإنما يصدق هذا الوصف على كتابه الخلاف مع الشافعي. (¬3) في (ب خ): ولما مرض قال لأهله، والمثبت من (ف م م 1). (¬4) ما بين معكوفين من (ف م م 1).

أبو الفتح علي

أبو الفتح علي ابن محمد بن أبي الفَتح (¬1)، البُسْتي، الكاتب، الشاعر. كان فاضلًا يُعاني التَّجانُس، فمن شعره: [من المتقارب] تَرَحَّلْتُ عنكم لفَرْطِ الشَّقاءِ ... وخَلَّفْتُ رُشْدي وَرائي وَرائي فَنائي قريبٌ إذا غِبْتُ عنك ... وإمَّا رَجَعْتُ فنَاءٍ فنائي وقال: [من الوافر] كتبتُ ولم تُجِبْني عن كتابي ... فأهَّلَني لتَسْرِيح الجَوابِ أرِحْني بالإجابةِ من هُمومٍ ... أحاطَتْ من تَبارِيحِ الجَوى بي وقال: [من الرمل] إنما الجاهل إنْ لا يَنْتَه ... فهو من غَفْلَتِه لا يَنْتَبِهْ خُذْه بالغِلْظَة كي تَنفعَه ... فلقد أضرَرْتَ أن لا تنتبه وقال: [من المتقارب] إذا مَلِكٌ لم يكن ذا هِبَهْ ... فدَعْه فَدوْلَتُه ذاهِبَهْ وقال: [من المتقارب] إذا ما ظَفِرْتَ بوُدِّ امرِئٍ ... قليلِ الخِلافِ على صاحِبِهْ فلا تَغْبِطَنَّ به نِعمةً ... وعَلِّق يَمينَك يا صاحِ به وقال: [من السريع] إذا أتى خَطْبٌ فآراؤه ... تُغني عن الجَيشِ وتَسْريبِهِ وإنْ دجا ليلٌ فأنوارُه ... تُضيءُ للرَّكْب وتَسري بهِ وقال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) كذا في (خ ب) والنجوم الزاهرة 4/ 106، وهذه الترجمة ليست في (ف م م 1). واسمه في سائر المصادر: علي بن محمد -ويقال: ابن أحمد- بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز. وقيل: علي بن محمد بن حسين بن يوسف بن عبد العزيز. انظر يتيمة الدهر 4/ 345، وتاريخ دمشق 51/ 157، والمنتظم 14/ 231، ووفيات الأعيان 3/ 376، والسير 17/ 147، وتاريخ الإسلام 9/ 32، والبداية والنهاية 11/ 278، وديوانه 21.

مَواعيدُه بالوَصْلِ أحلامُ نائمٍ ... أُشَبِّهُها بالقَفْرِ أو بسَرابِه فمَن لي بوَجهٍ لو تَحَيَّر في الدُّجى ... أخو سَفَرٍ في ليله لَسَرى بهِ وقال: [من البسيط] نَزَّهْتُ نَفسي عن الدُّنيا وزُخْرُفِها ... لا فِضَّةً أبتغي فيها ولا ذهَبَا نَفْسي التي تَملِكُ الأشياءَ ذاهِبَةٌ ... فكيف آسَى على شيءٍ إذا ذَهَبا وقال: [من السريع] يا أيُّها الذَّاهِبُ في مَكْرِهِ ... مَهْلًا فما المَكْرُ من المَكْرُماتْ عليك بالصِّحَّة فهي المُنى ... تحيي مُحَيَّاكَ إذا المَكْرُ ماتْ (¬1) وقال: [من البسيط] يا مَن يُؤَمِّلُ في دُنياه عافِيَةً ... أبْعَدْتَ ما أنت في دار المُعافاةِ دُنيا تَغُرُّ فكُنْ منها على حَذَرٍ ... والدَّهْرُ يأتي بحالاتٍ وآفاتِ (¬2) وله من مُنكراته رحمة الله عليه: [من البسيط] إذا عَلا مَلِكٌ باللَّهْو مُشْتَغِلًا ... فاحْكُمْ على مُلْكِه بالوَيلِ والعَطَبِ (¬3) أما تَرى الشَّمسَ في الميزانِ هابِطَةً ... لأنه بُرْجُ أهلِ اللَّهْو والطَّرَبِ وقال: [من البسيط] إذا رَضيتَ بمَيْسورٍ من القُوتِ ... بَقيتَ في النّاسِ حيًّا غيرَ مَمْقُوْتِ (¬4) يا قُوتَ يَومي إذا ما دَرَّ خَلْفُك لي ... فلَسْتُ آسَى على دُرٍّ وياقوتِ وقال: [من السريع] طُوبى لمن زالتْ مُهاجاتُه ... وطال لله مُناجاتُه يا ربِّ مَن أوْبَقَه ذَنْبُه ... ففي مُناجاتك مَنْجاتُه ¬

_ (¬1) روايته في صلة الديوان 231: عليك بالصحبة فهي التي ... تحيي فتحييك إذا المكر مات (¬2) روايته في الديوان 52: دنياك ثغر فكن فيها على حذر ... فالثغر مثوى مخافات وآفات (¬3) في يتيمة الدهر 4/ 359: إذا غدا ملك ... بالويل والحرب. (¬4) في صلة الديوان 230: في الناس حرًّا.

وقال: [من السريع] اُرْثوا لمَن ليس له إرْثُ ... وأَبِّنُوْهُ وله فارْثُوا يا باغِيَ الخُلْدِ ألسْتَ الذي ... غُذِّي بما جاوَرَه فَرْثُ ولأبي الفتح: [من البسيط] لا تُغْبَنَنَّ ولا تَخْدَعْك بارِقَةٌ ... من ذي ودادٍ [يُري] بِشْرًا وإلْطافا فلو قَلَبْتَ جميعَ النَّاسِ قاطِبَةً ... وسِرْتَ في الأرضِ أوْساطًا وأطرافًا لم تَلْقَ فيها صَديقًا (¬1) صادِقًا أبدًا ... ولا أخًا يَبْذُلُ الإنْصافَ إن صافى وقال: [من الطويل] بنفسيَ مَن أهدى إليَّ كتابَه ... فأَهْدى ليَ الدُّنيا مع الدِّينِ في دُرْجِ كتابٌ مَعانيه خِلال سُطورِه ... لآلئُ في دُرْجٍ كواكبُ في بُرْجِ وقال: [من الوافر] لئن كَذَبَتْ ظُنوني في مَقامي ... لديكَ وخانَني الأملُ الفَسيحُ فإنِّي لا أُخالِفُ قولَ ربِّي ... فأرضُ اللهِ واسِعَةٌ فسِيحوا وقال (¬2): [من الطويل] وأشتاقُكُم يا أهلَ وُدِّي وبيننا ... كما يَزْعُمُ البَين المُشِتّ فراسِخُ فأمَّا الفَيافي بيننا فطَويلَةٌ ... وأمَّا هَواكُم في فُؤادي فراسِخُ وقال: [من البسيط] يا آمِري باقتناءِ المالِ مُجْتَهِدًا ... كيما أَعيشَ بمالي في غَدٍ رَغَدا هَبْني بجُهديَ قد حَصَّلْتُ رِزْقَ غَدٍ ... فمَن ضَمِيني بتَحصيلِ النَّجاةِ غَدا وقال: [من الكامل] يا مَن يُخاطِبُ قومَه ليَقودَهم ... بخِطابِه نَحْوَ الأَسَدِّ الأنْفَعِ قلْ ما تقولُ لهم بوَزْنِ عُقولِهم ... وبوَزنِ عَقْلِكَ ما يُقالُ لك اسْمَعِ ¬

_ (¬1) في الديوان 127: لا تعتبن ... من ذي خداع، فلو فليت، لم تلف منها صديقًا. (¬2) في (ب): وله.

وقال: [من الطويل] ومن هِمَّتي عِشْقُ السَّماحِ وليس لي ... ثَراء على معنى السَّماحِ مُساعِدُ وفي الكَفِّ قَبْضٌ للأمورِ وبَسْطَةٌ ... ولكنْ إذا ما ساعَدَ الكفَّ ساعِدُ وقال: [من الطويل] دَعوني وأَمْري واخْتِياري فإنني ... عَليمٌ بما أَفْري وأَخْلُقُ من أمري إذا مرَّ بي يومٌ ولم أصْطَنِعْ يدًا ... ولم أسْتَفِدْ عِلمًا فما ذاك من عُمْري وقال: [من الوافر] وأهوى من بني الأتراكِ ظَبْيًا ... دَقيقَ الخَصْرِ سَمَّوه قَراجا بعثْتُ إليه أسْتهدي وصالًا ... بلا مَطْلٍ فلما أن قَرا جا وقال: [من مجزوء الكامل] كم مُذْنبٍ قد ضافَني ... فَقَريتُه صَفْحًا وغُفْرا كم حاسِدٍ صابَرْتُه ... فقَتَلْتُه بالصَّبْرِ صَبْرا وقال في ابن عَبَّاد الصّاحِب: [من البسيط] يا من أعاد رَميمَ المُلْكِ مَنْشُورا ... وضمَّ بالرَّأي أمْرًا كان مَنْشُورا أنت الوزيرُ وإن لم تُؤتَ مَنْشُورا ... والأمرُ بعدَكَ إن لم تُؤتَمَن شورى وقال: [من مخلّع البسيط] إذا خَدَمْتَ المُلوكَ فالْبَسْ ... من التَّوَقِّي أعزَّ مَلْبَسْ وادْخُلْ إذا ما دَخَلْتَ أعْمَى ... واخْرُجْ إذا ما خَرَجْتَ أَخْرَسْ وقال: [من الطويل] فلو نَسيَ اللهُ العبادَ دَعَوْتُه ... ليَذْكُرَني لكنَّه ليس بالنَّاسي ولو كُنتُ أَدْري أين رِزْقي طَلَبْتُه ... ولكنَّه عِلمٌ طَواه عن النَّاسِ وقال: [من الوافر] فلا مَثْوى أَحُطُّ به رِحالي ... وأرْفَأُ فيه رَثًّا من مَعاشي (¬1) ومَن يكُ من مَعاشٍ في ضَياعٍ ... فإنِّي من مَعاشي في مَعاشِ ¬

_ (¬1) في (خ ب): وأريا فيه ريا من معاشي، والمثبت من الديوان 112.

وقال: [من البسيط] إذا تَحَدَّثْتَ في قومٍ لتُؤْنِسَهم ... بما تُحَدِّثُ من ماضٍ ومن آتِ فلا تُعيدَنَّ قَولًا إنَّ طَبْعَهُمُ ... مُوَكَّلٌ بمُعاداةِ المُعاداتِ وقال: [من المديد] أقولُ للحائكِ الظَّريفِ وفي ... بَنانِه طاقةٌ يُخَلِّصُها هلْ لك في ردِّ مُهْجَةٍ لفتى ... ليس له طاقةٌ يُخَلِّصُها (¬1) وقال: [من الطويل] وقالوا رُضِ النَّفْسَ الحَرونَ وكُفَّها ... تُطِعْكَ وأَلْزِمْها أداءَ الفَرائضِ فإن لم تَرُضْها أنت وحدَك مُصْلِحًا ... وَجَدْتَ لها من دَهرِها ألفَ رائضِ وقال: [من الطويل] لنا صاحِبٌ فيه انْخِنَاثٌ وإنَّه ... يقول بأنِّي مُوْلَعٌ بلِواطِ فتَبًا له من كاذِبٍ مُتَزَيِّدٍ ... وشَيخِ لِواطٍ يَسْتَجيبُ لِواطِ وقال: [من مجزوء الكامل] يا قومُ إنّي جائعٌ ... والجوعُ من إحدى الفَجائعْ ولعلَّني قد كنتُ أُشْـ ... بِعُ كلَّ يومٍ ألفَ جائعْ وقال: [من السريع] يا فَرْحَةَ القَلْبِ ونَيلَ المُنَى ... وصَفْوَ عَيشِ الصَّبِّ إن صافَى ومالِكًا يَظِلمُني عامِدًا ... عن قُدْرَةٍ إن رُمْتُ إنْصافا وقال: [من الطويل] سقى البارقُ الغَوريُّ عَذْبًا من الحَيا ... مَحَلَّتَنا بين العُذَيبِ وبارِقِ وأَغنى مَغانيها وأَرْضى رِياضَها ... وشَقَّ بلَطْمِ القَطْرِ خَدَّ الشَّقائقِ (¬2) ¬

_ (¬1) في هامش (ب): هما لأبي نواس الحسن بن هانئ. قلت: ولم أقف عليهما لأبي نواس ولا للبستي فيما بين يدي من مصادر، وهما في ذيل تاريخ بغداد 1/ 406، والوافي بالوفيات 19/ 334 لعبد الوهاب بن ناصر الأقفالي البصري. (¬2) نسبهما الثعالبي في يتيمة الدهر 5/ 210 إلى أبي بكر اليوسفي محمد بن أحمد.

وقال: [من الطويل] عَفاءٌ على هذا الزَّمانِ فإنه ... زَمانُ عُقوقٍ لا زَمانُ حُقوقِ فكُلُّ رَفيقٍ فيه غيرُ مُوافقٍ ... وكل صَديقٍ فيه غيرُ صَدوقِ وقال: [من الطويل] يقولون ذِكْرُ المَرْءِ يَحْيَى بنَسْلِهِ ... وليس له ذِكْرٌ إذا لم يكن نَسْلُ فقلتُ لهم نَسْلي بدائعُ حِكْمَتي ... فمَنْ سَرَّه نَسْلٌ فإنا بها نَسْلو وقال: [من المنسرح] مَنْ جَعلَ الصَّبْرَ في مقاصِدِه ... وفي مَراقيه سُلَّمًا سَلِما كم صَدْمَةٍ للزَّمانِ مُنْكَرَةٍ ... لما رأى الصَّبْرَ صَدَّ ما صَدَما فاصْبِرْ فإنَّ الزَّمانَ عن كَثَبٍ ... يأْسُو على الرَّغْمِ كُلَّ ما كَلَما وقال: [من الطويل] رأيتُكَ تَكويني بِمِيسَمِ ذِلَّةٍ ... كأنكَ قد أبْدَعْتَ عِلَّةَ تَكويني وتَلْوينيَ الحَقَّ الذي أنا أهلُه ... وتَذْهَبُ في أَمْري إلى كلِّ تَلْوينِ فأَمْسِكْ ولا تَمْنُنْ عليَّ فبُلْغَةٌ ... من العَيشِ تَكفيني إلى يومِ تَكفيني وقال: [من الكامل] يا مُغْرَمًا بوصالِ عَيشٍ ناعمٍ ... سَتُصَدُّ عنه طائعًا أو كارِها إن المَنِيَّةَ تُخرِجُ الآسادَ عن ... غاباتها والطَّيرَ عن أَوْكارِها وقال: [من الطويل] أَنِسْتُ بأيَّامِ الشَّبابِ وظِلِّها ... وآنسْتُ دَهْرًا في جِوارِي الجَواريا فلمَّا رأيتُ الشَّيبَ يَبْسِمُ ضاحِكًا ... بَكَيتُ فأخْجَلْتُ العيونَ الجَوارِيا مات البُسْتيُّ بما وراء النَّهر، وقيل: بدمشق، والأوَّلُ أصحّ.

عيسى بن موسى

[وفيها توفي] عيسى بن موسى ابن أبي محمد بن المتوكل على الله، أبو الفَضْل، الهاشميّ. ولد سنة ثمانين ومئتين، وسمع الحديث [ورواه. وروى الخطيب عنه أنه] قال: مَكَثْتُ ثلاثين سنة أشتهي أن أُشارِكَ العامَّةَ في أكل الهَرِيسة من السُّوق، فلم أقدِرْ على ذلك لأجل البُكور إلى سماع الحديث. وكانت وفاته ببغداد في ربيع الأول. [سمع محمد بن خَلَف بن المَرْزُبان، وأبا بكر بن أبي داود ولزمه نَيِّفًا وعشرين سنة، وروى عنه أبو علي بن شاذان وغيره، ] وكان ثقة مأمونًا (¬1). [وفيها توفي] محمد بن أحمد بن سَهْل أبو بكر، الرَّمْليّ النَّابُلسيّ، الزَّاهد. [قال الحافظ ابن عساكر: كان مقامه بالرَّمْلَة] بعث إليه كافور الإخْشيدي بمالٍ، فردَّه وقال للرسول: قل لكافور: قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالاستعانةُ بالله تكفي، فرَدَّ كافور الرسولَ بالمال إليه وقال: قل له: قال الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَينَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6] فأين ذكر كافور ها هنا؟ المُلْكُ والمالُ لله، فقال أبو بكر: صدق كافور، هو والله صوفي لا أنا، ثم قَبِل المال. وكان هذا الشيخ (¬2) ينزل أكواخَ بانياس تارةً، وتارةً الرَّمْلَة، فلما نزل المُعِزُّ مِصرَ كان يُفتي بقتالهم، وينال منهم، ثم عاد من الرَّمْلَة إلى دمشق خوفًا منهم، فلما ولي ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 12/ 513، والمنتظم 14/ 233، وتاريخ الإسلام 8/ 216. (¬2) في (ف م م 1) قبلها: وقال ابن عساكر: كان هذا الشيخ، والمثبت من (خ ب)، والنص الآتي بتفصيلاته مجموع من روايتي ابن عساكر 60/ 157، وابن الجوزي 14/ 245. وانظر تاريخ الإسلام 8/ 216، والسير 16/ 148.

أبو محمد الكُتاميّ دمشق أخذه، فجعله في قَفَصٍ من خَشَب، وبعث به إلى المُعِزّ، فلما دخل عليه قال له: أنت القائل: لو كان معي عشرة أسهم لرميت بتسعة في المِصْرِيّين وواحدٍ في الروم؟ قال: نعم، قال: ولمَ؟ قال: لأنَّكم غَيَّرتُم المِلَّة، وقتلتُم العلماء والصالحين، وادَّعيتُم أن نورَ الإلهية فيكم، فامر أن يُشْهَر ثلاثة أيام، ويُضْرَبَ كلَّ يومٍ ألْفَ سَوْط، ثم يُسْلَخ في اليوم الثالث، ففُعل به ذلك، فقال في اليوم الأول وهو يُشْهَر: هذا امتحان، وفي اليوم الثاني: هذه كفَّارات، وفي اليوم الثالث: هذه درجات. ثم سَلَخَه بعض اليهود من رأسه إلى قدمه وهو لا يتأوَّه، قال اليهوديُّ: فَرحِمْتُه، فطَعَنْتُه بالسكِّين في فؤاده فمات، فأرَحْتُه، وحُشي جِلدُه تِبنًا، وصُلِبَ. ورُوي عنه أنه كان يقول: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58]. فرأى ابن الشَّعشاع المصريّ أبا بكرٍ في المنام وهو في هَيئةٍ حَسَنة فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: [من الوافر] حَباني مالكي بدَوامِ عِزٍّ ... وواعَدَني بقُرْبِ الانتصارِ وقَرَّبَني وأدْناني إليه ... وقال انْعَمْ بعَيشٍ في جِواري [قال ابن عساكر: حَدَّث الرَّمْليُّ عن أبي سعيد بن الأعرابي وغيره، وروى عنه تمَّام بن محمد، وعبد الوهَّاب المَيداني، و] روى عنه الدَّارقطنيُّ وقال: حدَّثني الشَّهيدُ بالرَّمْلَة، وكان يذكره ويبكي [عليه ويقول: نِعمَ الرجلُ الرَّمْلي الشَّهيد] رحمة الله عليه.

السنة الرابعة والستون وثلاث مئة

السنة الرابعة والستون وثلاث مئة [وفي المحرَّم قدم الحاج إلى بغداد وأميرهم أبو منصور محمد بن عمر بن يحيى العَلَوي، وأخبروا أنهم ما لحقوا الوقفة، وأنهم وقفوا بالمدينة.] وفيها خرج سُبكتكين والطَّائع من بغداد في أول المحرَّم، فوصلا دَير العاقول يُريدان واسطًا لقتال عز الدولة، فمات المطيع يوم الاثنين لثمانٍ بقين من المحرم، وكان قد انْحَدر مع ابنه الطَّائع، فحُمل إلى بغداد في تابوت، ثم مات سبكتكين بعده بيوم واحد، فحمل في تابوت إلى بغداد، وكان هذا من أعجب الحوادث. ولما مات سُبكتكين تماسك الأتراك، وعَقدوا الرئاسةَ لهفتكين (¬1) التركي مولى معز الدولة، وأمَّروه وأطاعوه، وكان أعور، وعَرض عليه الطَّائعُ اللَّقَبَ فامتنع منه، واقتصر على الكُنية، وأقرَّ أصحابَ سُبكتكين على ما كانوا عليه، وعمل على لقاءِ عزِّ الدولة. وكان حَمدان قد عاد من الرَّحْبَة إلى بغداد بكتاب سُبكتكين، وبلغه اتِّفاقُ أبي تَغْلب مع عزِّ الدولة، فسار على مُقدِّمة سبكتكين، فالتقى مقدمةَ عز الدولة وفيها دبيس بن عَفيف الأَسدي فأوقع بهم، وكان فيها جماعةٌ من الدَّيلَم، وكانت الوَقْعَةُ بين جَبُّل وفَمِ الصُّلح، فقتل وأسر منهم، وذلك في المحرَّم يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت منه. فلما مات سُبكتكين كتب إليه هفتكين كتابًا يُعرِّفُه وفاتَه، وأنه قد صار موضعَه، ويستدعيه إليه ليتَّفِقا على ما يُدَبِّرانه، فاعتقد حَمدان عند ذلك الانحياز إلى عز الدولة، وأن الأتراك قد انحلَّ أمرُهم بوفاة سُبكتكين، فبعث بالكتاب إلى عزّ الدولة، وأخبره أنه صائر إلى هفتكين، واشترط عليه شروطًا، وكان عز الدولة قد عبر إلى الجانب الغربي من واسط، وأخلى الشَّرقي، وجمع السُّفن إليه، وأقام ينتظر عَضُد الدولة، وكان عضد الدولة قد خرج من شِيراز. ولما ورد على عز الدولة كتابُ حَمدان استبشر، وهمَّ بالإصعاد إلى بغداد، وظنَّ أن أمر الأتراك قد انحلّ، فلما عرف ثُبوتَه، وأن هفتكين قد قام مقام سبكتكين؛ راسل هفتكين مع الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي بما يؤنسه، ودعاه إلى طاعته، ¬

_ (¬1) في (ب): للفتكين، حيثما ورد، والمثبت من (خ)، وكلاهما صحيح، انظر السير 16/ 307.

وكانت الوَحْشَةُ قد تمكَّنتْ فلم تُغْنِ الرّسالةُ شيئًا، فقال حمدان لهفتكين: أنا أكون في مقدّمتك، فقال: افعل، فعبر من الجانب الشرقي إلى الغربي، ومعه ابنه وغلمانه وأسبابُه، فاستأمن إلى عزّ الدولة، فتلقَّاه، وأكرمه، وحمل إليه مالًا ودوابًا وثيابًا. وبلغ ذلك الأتراك، فضَعُفَت قلوبُهم، وتوقَّفوا عن المسير أيامًا، ثم عَزموا عليه، ورجعوا، ونزلوا قريبًا من فَرْسَخ عن واسط، وعَقدوا جِسرًا من السُّفن التي كانت معهم، ولهم زَبازِب كثيرة فيها المقاتلة، وحَصَل في أيديهم الجانب الشرقي بأسره، وكانوا يَعبرون على الجسر فيُقاتلون الدَّيلَم، فأقاموا كذلك خمسين يومًا، وركب يومًا حَمدان يقاتل الأتراك، فعرفوه، فأكبُّوا عليه بالدَّبابيس حتى أثْخَنوه، وأخذوه أسيرًا، ووقع في وَرِكه دَبُّوسٌ فعرج منه إلى آخر عمره، وحملوه إلى الهفتكين، وأشرف الدَّيلَم على الهزيمة مرات، وكانت الأيام كلُّها للأتراك. واشتدَّ الحِصار على عزِّ الدولة، وضاقت عليه المِيرَة، واستولى الأتراك على واسِط من الجانبين، وتواترت كتب عز الدولة إلى أبي تَغْلِب بالقدوم عليه، وإلى عَضُد الدولة بالإسراع إليه. فأما أبو تَغْلب فبعث أخاه أبا عبد الله الحسين في طائفةٍ من الجيش، فنزل تكْريت، فأقام ينتظر ما تَنكشف الحربُ عنه، وانْحَدر بنفسه وبجميع جيشه إلى مدينة السَّلام، وأما عضد الدولة فقدم بغداد بعد هذا، وسنذكر قُدومَه في موضعه إن شاء الله تعالى. وفيها في المحرَّم تُوفِّي أبو منصور إسحاق بن المتقي لله عن إحدى وخمسين سنة، وكان ممن تَرشَّح للخلافة، ودُفن بداره في دار ابن طاهر. وفي المحرَّم توفّي أبو دُلَف كيخسرو بن عضد الدولة بشيراز (¬1). وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم أوقع العَيَّارون ببغداد حريقًا من الخَشَّابين إلى دَرْب الشَّعير، فاحترق شيءٌ كثير، ونهب العَيَّارون مالًا عظيمًا، وغلبوا على الأمور وتَلَقَّبوا بالقوَّاد، فأخذوا الخفائر عن الأسواق والدُّروب، ونُهب الناسُ في الجوامعُ يوم الجمعة من الجانبين. ¬

_ (¬1) من قوله: ولما مات سبكتكين تماسك الأتراك ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

وكان في جُملة العَيَّارين (¬1) رجلٌ أسود يعرف بأسود الزُّبْد لأنه كان يأوي إلى قَنْطَرة الزُّبْد، ويَستطعم الناس وهو عريان ليس عليه ما يُواريه، فلمّا رأى مَن هو أضعفُ منه قد أخذ السيفَ ونَهب أخذ هو سيفًا، وانضاف إليه جماعة، فأخذ الأموال، واشترى جاريةً بألف دينار، فأرادها على نفسها فمنَعتْه، فقال: لِمَ تمنعيني؟ فقالت: أكرهُك، فقال: ما تكرهين مني؟ فقالت: كُلّك، قال: فما تُحبّين؟ قالت: تَبيعُني، قال: أو أفعل خيرًا من ذلك؟ فحملها إلى القاضي، وأعتقها، ووَهَب لها ألفَ دينار، فعجب الناس من مُروءته حيث لم يُجازِها على كراهيتها له إلا بالإحسان. وفيها سار عَضُد الدولة من فارس، فنزل أرَّجان في غُرَّةِ ربيعٍ الأول، ووافتْه العساكر من الرَّيِّ والأهواز، وسار يَطلب العراق. وفي ربيع الأول ورد أبو تغلب إلى بغداد، ونزل بدُرْتا في الخيم، فماج الناس ببغداد، وتحرَّك العيَّارون، وظهر من كان مُسْتَترًا من أصحاب عز الدولة، وقتل أبو تَغْلِب جماعةً من العَيَّارين، وأنفذ أخاه إبراهيم إلى النجمي (¬2) فأنزله به، وسيَّر أبا السرايا بن سعيد بن حَمدان إلى واسط مَدَدًا لعزِّ الدولة، وعَقَد الجِسر بقطيعة أمّ جعفر، وعبر بنفسه إلى الجانب الشرقي فاخترقه، وعاد إلى عسكره، وقبض على أصحاب الأتراك، وتتبَّع أسبابهم (¬3)، وأدخل يده في أموالهم. ولما بلغ ذلك الأتراك ساروا بأجمعهم مع الطائع لله إلى بغداد، فوَرَد أوائلهم يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر، ومعهم جمعٌ كثيرٌ من العامَّة والعَيَّارِين، وصاروا إلى قصر فرح بإزاء معسكر أبي تَغْلب، وهَتفوا به، وشتموه أقبحَ شَتْم. ودخل الطَّائعُ والأتراك بغداد من الغد، ورحل أبو تغلب إلى الجَلْحاء، وخَلَّى عن الجانب الغربي، واستتر مَن كان ظَهرَ من أصحاب عزّ الدولة، وملك الأتراك الجانبين، وعسكروا بباب الشَّمَّاسِيَّة، ونزل الخليفة في داره، وخلع هفتكين على حَمدان، وجَدَّد الأيمان معه. ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وقال الخطيب كان في جملة العيارين، ولم أقف على الخبر في تاريخه، وذكره الهمداني في تكملة الطبري 435، وابن الجوزي في المنتظم 14/ 235. (¬2) كذا، ولم أتبينها، ولم أقف على الخبر بتفصيلاته هذه. (¬3) في (خ): آثارهم.

ووصلت الأخبار بوصول عضد الدولة إلى واسِط، وانفصاله عنها إلى بغداد، فأحضر الطَّائعُ القُضاةَ والأشرافَ والقوَّادَ مُستهلّ جُمادى الأولى، وأخذ الأيمانَ على الأتراك بالطَّاعة، والمُناصحة في العِيال، وركب من غدٍ إلى باب الشَّمَّاسِيَّة، واستنفر الناسَ لقتال عضد الدولة، وعاد إلى داره. ذكر حال عضد الدولة مع الأتراك حتى هزمهم: كان عز الدولة لما مات سُبكتكين كتب إلى ركن الدولة بإيثاره بالمدد من العَسْكر، وأن لا يُقوِّي عَزْمَ عضد الدولة على المسير بنفسه إلى بغداد، وقناعته بالمَدَد الذي يُنفذه إليه مع بعض أصحابه، وكاتب عضدَ الدولة بمثل ذلك؛ لأن خواصَّه أشاروا عليه: لا يدع عضد الدولة يدخل مملكتَه، ويشاهد نِعمتَه، فأجابه ركن الدولة بأن الخَطْب الذي هو بإزائه مع بقاء الأتراك على حالهم مُحتاج إلى مِثْلِ عَضُدِ الدولة في كثرة ماله ورجاله، وقيام هَيبته، وحُسْنِ تدبيره، وأجابه عضد الدولة بأن المَدَد فيما يُراد له لا يفيدا حتى يتولَّى ذلك بنفسه، وكان غرضُ عضد الدولة ما أنف أصحابُ عزِّ الدولة منه (¬1). وسار حتى نزل الأهواز، وتَلَوَّم تلوُّمًا طويلًا حتى دخل واسطًا تاسع عشر ربيع الآخر، ولما حصل بالأهواز وانحدر أبو تغلب إلى بغداد تماسك أمر عز الدولة، وأمَّلَه مَن كان آيسًا منه، واستأمنت إليه طائفة من الأتراك قَويت بهم نفسُه. ولما قَرب عضد الدولة من واسِط تلقَّاه عزُّ الدولة وأخواه أبو إسحاق ومحمد وأبو طاهر بن بقية، فترَجَّلوا، وقَبَّلوا الأرض بين يديه، ما عدا عِزُّ الدولة فإنه لم يترجَّل، وأكبَّ عليه عَضُد الدولة وعانقه، وكان رُكن الدولة قد كتب إلى عز الدولة يُوصيه بتعظيمِ عَضُد الدَّولة وخدمته. ونزل عضد الدولة بالجانب الشرقي من واسط ومعه أبو الفتح علي بن محمد بن العَميد -وكان قد قَدِم عليه بعسكر الرَّيّ- ورتَّبَ المسيرَ إلى بغداد على أن يكون عزُّ الدولة في الجانب الغربي، وهو في الجانب الشرقي، ورحل حتى نزل ديرَ العاقول وعز ¬

_ (¬1) في (خ ب): وكان غرض عز الدولة ما أنفق أصحاب عز الدولة منه، وليس في (ف م م 1) لاختصار طويل يشار إليه في موضعه، ولعل المثبت هو الصحيح، انظر الكامل 8/ 644، 645، 648.

الدولة بإزائه، وورد عليه تأهُّبُ الطَّائعِ والأتراكِ للقائه، فَعبَّأ عَسْكَرَه، وجعلَ موكبَ خاصَّته في القَلْب، وفي مَيمنته أبا الفتح بن العَميد في جيش الريّ، وفي ميسرته عُمدة الدولة وأبا إسحاق وابن بقية مع طائفة من عسكر عز الدولة، ونزل بإزاء المَدائن. وكان انحدار الطائع والأتراك ليلة السبت لأربع عشرة خلت من جمادى الأولى، ووصلوا إلى دَيالى، والتَقَوْا على أرضٍ مُستويةٍ قريبة من ديالى، وكانوا قد عَقدوا عليه جُسورًا، واقتتلوا فكانت الدَّبْرَةُ أولًا على عَسْكَرِ عَضُد الدولة من ناحية المَيسرة، وكان فيها عسكر عز الدولة، فاستَجَرَّهم الأتراك، وقتلوا منهم جماعة نحو المئتين، وزحف عليهم عضد الدولة فانهزموا، وقتل من أكابرهم عِدَّة، وجاؤوا إلى جسور دَيالى فازدحموا عليها، وغَرِقَ منهم خلقٌ كثير، وركبهم الدَّيلَم، وكان معهم من العَيَّارِين خلقٌ كثير، فأفناهم الدَّيلَمُ بالقَتْلِ والغَرَق، واستباحوا عَسكرَهم، وأحوقوا خيامَهم، وجاءهم الليلُ فحال بينهم، وكان عز الدولة في الجانب العْربي فكتب إلى عَضُد الدولة بخطِّ يده: ولكنَّ الجوادَ أبا شُجاعٍ ... وفِيُّ العَهْدِ مأمونُ المَغيبِ بَطيءٌ عنك ما استغنيتَ عنه ... وطَلَّاعٌ عليكَ مع الخُطوبِ (¬1) ودخل التُّرك بغداد مُقَطَّعين، ومضى الطائع إلى عُكْبَرا، وأصبح الأتراك فأخذوا معهم مَن أمكن أخذه من عيالاتهم وأولادهم، وتَبِعَهم العددُ الكثير ممن يَخاف من المقام بعدهم، وساروا نحو الشام. وسار عَضُد الدولة من الجانب الشَّرقي، وعزُّ الدولة من الجانب الغربي، ودخل ابن بَقيَّةَ بغداد، ونادى في الناس فسكنوا، ونزل عضد الدولة بباب الشمَّاسيّة وعز الدولة بإزائه من الجانب الغربي، وأظهروا أنهم يتَّبعون الأتراك، فلما وصل الخبر أنهم وصلوا تكريت مُمزَّقين مَسْلوبِين دخل عضد الدولة إلى دار سبكتكين فنزلها، وعز الدولة في دار المتّقي لله. ¬

_ (¬1) نسبا إلى إبراهيم بن العباس الصولي في ديوانه 129 (الطرائف الأدبية)، ومعاني العسكري 2/ 195، والتذكرة الحمدونية 4/ 47، وفيها: ولكن الجواد أبا هشام.

وكان الطائع قد راسَلَ عَضُد الدولة لما كان بدير العاقول، فأجابَه إلى ما يُريد، وبعث إليه من عُكْبرا القاضي ابن مَعْروف، فحَلَّفه، واستَوْثَق منه. ثم أقبل الطائع في طَيَّارِه يوم الخميس لتسعٍ خَلَوْن من الشهر، وخرج عَضُد الدّولة في طياره، فتلقَّاه من قَطيعة أم جعفر، وصَعِد معه، وقَبَّل البِساط الذي تحته ويدَه، وطُرِحَ له كُرسي فجلس عليه بين يديه، وكان على عضد الدولة قَباء أسود، وعِمامة سوداء، وسيف ومِنطَقة ذهب، وأحدقت الطَيَّارات والزَّبازِبُ بطيَّار الخليفة مملوءةً من الدَّيلَم وغيرهم، وانحدر كذلك إلى دار الخلافة، وبعث إليه عضد الدولة بمالٍ وَفُرُش وطيب، وخطب له يوم الجمعة لعشرٍ بقينَ من جُمادى الأولى، وإلى هذه الغاية لم يُخْطَب في هذه المدة لأحد. وأمر الطَّائعُ بأن يُكتَب إلى الآفاق بعَوْدِه إلى داره، واستقامةِ الأمور والأحوال، فكتب أبو إسحاق إبراهيم بن الصابئ كتابًا بليغًا في ذلك. ذكر ما جرى لعز الدولة مع عضد الدولة: لما استقرَّ عَضُد الدولة ببغداد، وانهزم الأتراك، اجتمع أصحابُ عزِّ الدولة من الدَّيلَم والترك، وشَغَبوا عليه بالزَّاهِر، وطالبوه بالعطاء، واشتَطُّوا عليه، فغضب، وتبرَّأ منهم، وقال لعضد الدولة: تولَّ أمورهم. ووجد عضد الدولة ذلك طريقًا إلى ما نازعتْه نفسُه إليه. وقيل: لما رأى عضد الدولة مُلْكَ العراق أعجبه، وحَسَد عزَّ الدولة، فوضع الدَّيلَم فشغبوا عليه، فأرسل إليه عضد الدولة في المصير إليه؛ ليَجتمعا على ما فيه المصلحة من تدبير الأمور، فجاء عز الدولة إليه ومعه أخواه عمدة الدولة وأبو طاهر، فلما صاروا عنده اعتقلهم، ووكَّل بهم، وذلك في يوم الجمعة لخمس بقينَ من جُمادى الآخرة، ولم يَعرِض لابن بَقيَّة، ووعده بالجميل، وأنه يَستخدمه ويجريه على رسمه ومنزلته، وأمره أن يَمضي إلى دار عز الدولة، وبعث معه جماعة من الدَّيلَم والحاشية، فختم على أمواله وخزائنه، ووَكَّل بإصطبلاته، ومضى إلى داره. وقبض عَضُد الدولة على خَواصِّ عز الدولة، فلما كان من الغد جمع عضد الدولة القُضاةَ والشُّهودَ والأشرافَ والعلماء، وقرأ عليهم كتابًا مَضمونُه: أن عزَّ الدولة استَثْقَل

النَّظَرَ في الأمر فاعتزله، واستعفى منه، وسأل توفيره على ما هو أرْوَحُ له منه، فأُجيب إلى ذلك، وأن للخاصَّة والعامَّة عندنا كلَّ ما يَسُرُّ من حُسنِ السِّيرةِ والحِراسَةِ والصِّيانةِ والعَدْلِ وإزالةِ الظُّلْمِ والإحسان، وأخَذ جماعةً من العَيَّارين فقتلَهم وصَلَبهم في عدَّةِ مواضع، وهرب المفسدون. ثم كتب عَضُد الدولة إلى أبيه في معنى عزِّ الدَّولة، وكتب عن الطَّائع كتابًا في هذا المعنى، وبعث بالكتابَين مع أبي الفتح ابن العَميد على الجَمَّازات (¬1)، فمن كتاب الطَّائع: قد عرفتَ أطال الله بقاءك ما انعقَدتْ به البيعةُ لأمير المؤمنين في أيام المطيع لله رحمة الله عليه، وما اكتنَفَه في تلك الحال من غَواشي فَسادِ جِهات، فأصبح أميرُ المؤمنين بينها مُشْتَرَك (¬2) الرَّأي، مَغلوبًا على الاختيار، حتى استَنْقَذه الله بنَجْلِك الكريم، وسَليلك النَّجيبِ عَضُدِ الدولة، أدام الله به الإمتاعَ، فأخلَصَ في نُصْرةِ أمير المؤمنين نيَّتَه، وأرْهَف ليُثبِتَ أمرَه عَزيمتَه، وتَحَمَّل باستطاعته طاعتَه ... إلى أن قال: ورأيُ أمير المؤمنين في عَضُد الدولة أن يُقيمَ بقُربِه، ولا يتغيَّر من دار السَّلام ... وذكر فصولًا في هذا المعنى. وأما كتاب عضد الدولة فمَضْمونُه: إن الأمورَ كانت قد اضطَرَبَتْ، وهَذَّبْتُ مَملكةَ العراق، وخاطَرْتُ بنفسي ومالي وجُندي، ورَدَدْتُ الخليفةَ إلى داره، وإن بختيار لا يُحسِنُ أن يُقيمَ دولةً، ومتى خرجتُ عن العراق اضطَرَبَت الممالك. ثم إن عضد الدولة ساس الأمورَ، وبعث بالشَّريف أبي أحمد الموسَوي إلى أبي تَغْلب بإسقاطِ ما عليه من مال، وبعث كذلك إلى عمران بن شاهين وغيرهما. وفيها قَدِمت أمُّ عزِّ الدولة من واسِط ومعها أولادُه وحُرَمُه، فخَيَّرها عَضُدُ الدولة بين أن يَجمع بينها وبين ولدها أو المُقام في دارها، فاختارت المقام عندهم، فأقامت، ونزل الحرم والأولاد في الدار الغربية، وأقام لهم الوظائف والرَّواتب. ¬

_ (¬1) مراكب سريعة تتخذها الناس في المدن، شبه العجلة التي تجرها الخيل. المعجم الوسيط. (¬2) في (ب): مستنزل.

ذكر قصة الأتراك: ساروا من بغداد إلى عُكْبَرا وسامُرّاء وتكريت، وتَفَرَّق بعضُهم، ولم يبق مع الهَفْتَكين سوى ثلاث مئة غُلام، فسار إلى الشَّام، وأقام بحمص أيامًا، ثم سار إلى دمشق والعَيَّارون قد مَلَكوها، فنزل بظاهرها، وخرج إليه أشرافُها وشيوخُها، وخدموه، وأظهروا السُّرورَ به، وسألوه المقامَ عندهم، ودَفعَ أذى العَيَّارِين عنهم، فأجابهم إلى ذلك، وتَوثَّق منهم بالأيمان والعُهود، ودخلها فأحسن السّيرة، وقَمَعَ أهلَ الفساد، وقامت له الهَيبَةُ في قلوبهم، فأحَبُّوه، وأطاعته العرب المتغلِّبون على ضواحي دمشق، وكتب إلى المعزِّ بالطاعة، فاستدعاه إلى حَضْرَتِه ليُحْسِنَ إليه وَيرُدَّه إلى دمشق، فخاف منه، فتعَلَّل عليه، ومات المُعزُّ، وقام ابنُه العزيز، فجَهَّز إليه جيشًا مع القائد جَوْهَر، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وقيل: إنه كان بدمشق قائدٌ من قُوَّاد المصريين يقال له: رَيَّان قد آذى أهلَها، فأخرجوه، ووَلَّوا الهفتكين -وهو الأصحّ- فدخلها في شعبان، وأقام الدَّعوةَ للمُطيع. وخرج ابن الشَّمْشَقيق (¬1) الرُّومي في هذه السنة إلى الثُّغور، فمَلَكها، واستولى على أكثرها، فدَعَتِ الضَّرورةُ أبا بكر بن الزَّيَّات صاحبَ طَرَسوس إلى مُصالحتِه، فصالحه، وخرج إليه في عِدَّةٍ من أهل طَرَسوس، فأحسَنَ إليهم وأمَّنَهم، وسار إلى حمص وافتتحها، وقصد بَعْلَبك فافتتحها، فكتب ابن الزيات إلى الهَفْتَكين وأهلِ دمشق يقول: لا طاقةَ لكم بصاحب الروم، والمصلحة أن تَدخلوا في طاعته، وتُقَرِّروا عليكم مالًا. فأجابه الهفتكين، ورَدَّ الأمرَ إليه فيما يفعلُه، فدخلَ ابنُ الزيَّات على ابن الشمشقيق وحادثه، فأعطاهم الأمانَ على نفوسهم وأموالهم، وأن يؤدُّوا إليه في كل سنةٍ ثلاث مئة ألف درهم. فكتب ابنُ الزيَّات إلى الهفتكين وشيوخ دمشق بأن يَخرجوا للقائه، فتلقَّوه من الزَّبَداني في أحسَنِ زِيّ، فأقبل عليه، وقَرَّبه، وأكرَمَه، وخاطب الدِّمشقيين بأحسنِ خِطاب، وأكرَمهم. ¬

_ (¬1) في (خ ب): السمسق، والمثبت من تكملة الطبري 444، وتاريخ دمشق لابن القلانسي 22، وكنز الدرر 6/ 169.

ولما رأى دمشقَ أعجبته، فأمر أصحابَه ألا يتَعرَّضوا لها، وأقام أيامًا بظاهرها والهفتكين يخرج إليه كلَّ يوم، ويُسايره، ويَلعَبُ بين يديه بآلة الحرب، فقال ابن الشمشقيق لابن الزَّيَّات: ما رأيتُ أحسنَ من هذا الغلام، وقد أعجَبَني وأحببْتُه، وكان يركب في المماليك في الزّيّ الإسلامي، ويتطاعنون بين يديه، وَيرْمون بالنُّشَّاب، فعرَّفَ ابنُ الزَّيَّات الهفتكين قولَ الروميّ، فتَرجَّل وقَبَّلَ الأرضَ بين يديه، فقال الرومي لابن الزيات: عَرِّفْه أنني قد وَهَبْتُ له الخَراجَ، فترجَّل ثانيًا وقبَّلَ الأرضَ بين يديه. ثم إن الهفتكين بعث إليه بالفرس الذي كان تحته والسلاح -وكان قد طلَبه من ابن الزيَّات- وبعث معه عشرين فَرَسًا بتَجافيفها (¬1)، وعِدَّةً ورِماحًا، وشيئًا كثيرًا من أصناف الثِّياب والطِّيب والطُّرَف، فردَّ الجميع، وأخذ الفَرَس والسِّلاح، وبعث له مُكافأةً على الهديَّة أثوابَ دِيباج كثيرة، وبغلات وغيرها، وسار إلى السَّاحل، ووَدَّعه الهفتكين ورجع إلى دمشق. ونزل الروميُّ على صَيدا، فخرج إليه أبو الفتح بن الشَّيخ -وكان رجلًا جَليلَ القَدْر- ومعه شيوخ البلد، وطلبوا الأمان فأعطاهم، وقَرَّروا على نفوسهم مالًا، وأهْدَوا له هَدِيَّةً، فرحل عنهم على موادَعةٍ، ونزل على بيروت فقاتلوه، ففتحها عَنوةً، ونهبها وسبى أهلَها، وفعل بجُبيل كذلك، ثم نازل طرابلس فأقام عليها نيفًا وأربعين يومًا يُقاتل أهلَها ويقاتلونه، فبينا هو كذلك إذ دسَّ إليه بسيل وقسطنطين سُمًّا في شرابٍ فاعتَلَّ، ونزل على أنطاكية فقطع أشجارَها، ورحل عنها، واستخلف على حصارها بِطريقًا يقال له: البرجي، وسار إلى القُسْطَنْطينية فمات بها، وفتح البرجي أنطاكية. ذكر ما جرى لابن بَقيَّة: لما أقام عضد الدولة ببغداد ينتظر جواب أبيه استمال ابنَ بَقيَّة، وقَرَّبه، وجعله برسْم وزارة الأمير أحمد بن عضد الدولة، وخيَّره فيما يريد من الأعمال، فاختار واسِطًا وتكريت وأَوانا، فأعطاه ذلك، وخلع عليه الخِلَع السُّلطانية، وحمله على فَرَسٍ بمركب ذهب، وأعطاه في كل سنة خمسَ مئة ألف درهم إقطاعًا، وضمَّ إليه جماعةً من الدَّيْلَم والقُوَّاد. ¬

_ (¬1) التِّجْفاف: آلة للحرب يُلْبَسُه الفرس والإنسان ليقيه في الحرب.

وانحدر، فلما صار بواسِط أظهر الخلاف على عضد الدولة، والإنكار لما جرى على عزِّ الدولة، وقَبَض على القُوَّاد الذين ضَمَّهم إليه -وذلك في شعبان- وكاتبَ عمران بن شاهين وغيرَه، فأجابوه لما يريد. وكان أبو كاليجار بن عز الدولة بالبصرة، فكاتبه، وجعل في نفسه متى قصده عضد الدولة صار إلى البصرة، ثم لم ير أن يذهب إلى البصرة خوفًا من عامله، فعوَّل على قصد عمران بن شاهين متى دَهَمه أمر. وتبيَّن لعضد الدولة فسادُ الرأي في ابن بقية، وتخلية سبيله، فراسله بأبي الفَضْل أحمد الشِّيرازي وأبي طاهر المقنعي الشاهد يقول: قد عرفتَ ما عاملناك به، وأسْدَينا الصَّنيعةَ إليك فيه، ولم يَتجدَّد بعد انحدارِك من حَضرتنا ما يُوحِشُك ويَحملُك على ما بدا منك، فإن كان بلغَك شيءٌ فعَرِّفْنا حتى نُبْطِلَه، ونُعطيك من الوَثيقةِ ما يَتكامل لك السُّكونُ به، وإن كنتَ تُريد زيادةً على ما أعطيناك زِدناك. فلم يلتفت إلى رسالته، وكان جوابُه لعضد الدولة: وَقَفْتُ على الرسالة والأمان، فوَجدْتُ معانيهما مبنيَّةً على المَخْرَقَة (¬1) المستمِرَّة، والزَّخْرفَة المُستحيلة، وما زال الله يَلْطُفُ بي عند وقوعي في تلك الوَرْطة التي لا أرانا الله في مولانا عزِّ الدولة شِبْهَهَا، حتى تَخَلَّصْتُ منها خلاصَ المَظْلوم (¬2)، وأفلتُّ منها إفلاتَ المَكْلوم، وقد جَعلتُ دوني سيوفًا حِدادًا، وسواعدَ سِدادًا، وقد أعطيتَ قبلي أُناسًا أمانًا قولًا، وأسقطْتَهُ فعلًا، فلم تَفِ بشيءٍ منه، بل صَدَفْتَ عنه، فيا ليتَ شِعري أيَّ أمانٍ تُعطيني وقد حلفتَ أيمانًا ونكثتَها، ومنها قصَّةُ مولانا عز الدولة: لما اطمأنَّ إليك انتهَزْتَ فُرْصَتَه، واستَلَبْتَ غُرَّتَه، وفرَّقْتَ بين ولده وبينه، واستَولَيتَ على ممالكه وأَنْشَبْتَ مَخالِبَك فيها، والله يأخذُ الباغي، ويُهلِكُ الظَّالم، وكتب إليه: [من الطويل] إذا المَرْءُ لم يَحْتَلْ وقد جَدَّ جَدَّه ... أضاعَ وقاسى أمرَه وهو مُدبِرُ ولكنْ أخو الحَزْمِ الذي ليس نازِلا ... به الخَطْبُ إلا وهو للقَصْدِ مُبْصِرُ ¬

_ (¬1) في (ب): المحزمة، وفي (خ): المحرفة، ولعل المثبت هو الصواب، ولم أقف على نص الرسالة. (¬2) أورد الهمداني في تكملة تاريخ الطبري 440 نص إلرسالة من هذا الموضع.

وكتب أيضًا إلى عضد الدولة في جواب كتاب أُعيد عليه فيه بإطلاقه واستخدامه إياه: [من الوافر] وما بُقْيا عليَّ تَرَكْتُماني ... ولكن خِفْتُما صَرَدَ النِّبَالِ فانظروا إلى هذا الجاهل الأحمق الذي أوقعه لسانُه فيما أوقعه؛ فإن عَضُدَ الدولة تمكَّن منه بعد ذلك، فقَتَله أقْبَحَ قِتْلَة، ومَثَّل به شَرَّ مُثْلَة. وعاد ابنُ بقية إلى بغداد، وزادت منزلتُه عند عز الدولة أضعافَ ما كانت. وكان عضد الدولة قد عَوَّل على إنفاذ عَسْكَرٍ في الماء إلى أبي كاليجار ليأخذَ البَصْرةَ منه، فلما حَدَث من ابنِ بقيةَ ما حَدَث جعل ابتداءه به، فبعت إليه الجيشَ، وبعث ابنُ بقية إلى عمران، فأرسل إليه عَسْكرًا في السُّفُن مع أخيه أبي المعربان، وجاؤوا إلى واسِط، واقتتل الفريقان، وانتشرت الأمورُ على عضد الدولة من جميع الجوانب، وابنُ بقية مُتَحَصِّن بواسِط مُسْتَظْهِر، فبينا هم على ذلك والأمور قد اختفَت على عضد الدولة، وخاف أصحابُ الأطرافِ منه لما فعل بابن عمه عز الدولة، وجاءه جوابُ أبيه رُكن الدولة مع ابن العَميد يقول: أنا بعثتُكَ لتُنْجِدَ ابنَ أخي أو لِتَنْزِعَه من المُلْك؟ ! والله لئن لم تُفْرِج عنه، وتُسَلِّم إليه مُلْكَه، وتَخْرُج من العراق لأَسِيرَنَّ إليك بنفسي، وصاحَ في ابن العميد وشَتَمَه. ولما جاءت عَضُدَ الدولة هذه الرسالةُ لم يجد بُدًّا من طاعة أبيه، وكان وُرودُ الجواب في شعبان. وتَردَّدَتْ بين عز الدولة وعضد الدولة مُراسلات بأنه يكون نائبًا عنه، وأخذَ منه الأهواز، وشَهَّد فيه الشهود، وثبت على الحكام، ومضمونه: السَّمْعُ والطَّاعَةُ لعضد الدولة، وأن عز الدولة نائبُه في البلاد، وأنه سامِعٌ مطيعٌ، وأول الكتاب: هذا كتابٌ لمولانا الملك الجَليل عضد الدولة أبي شجاع بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين، كتبه له عزُّ الدولة وعُمدة الدولة ابنا معز الدولة، وأشهدا جميعًا على أنفسهما وكلِّ واحد منهما بما يثبت على قاضي القُضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي، والقاضي أبي تمَّام، والحسن بن محمد الهاشمي، والقاضي أبي محمد عبد الله بن مَعْروف وغيرهم، ومَن حَضَر من الأشراف والعلماء والشُّهود والخواصّ والقُوَّاد وغيرهم؛ أن عَضُدَ الدولة استَخْلَفَنا على مدينة السَّلام وواسِط

والبَصْرة، وما يجري مُجراها من أعمال العراق خاصّة دون ما سواها من كُوَر الأهواز، فإنها خارجةٌ عن تدبيرنا، ومُفْرَدَةٌ لمولانا عضد الدولة، وعلى أنّا نَسمَعُ له ونُطيع، ونَنتهي إلى أوامره، من غير عُدولٍ عن ذلك ولا مُخالفة، وأننا نُطيع مولانا الطَّائعَ لله أمير المؤمنين، ونَحرُسُه حِراسةً تامة، ونَطوي ضَمائرَنا على خُلوصها له، حتى لا يَلْحَقَه نقصٌ في نفسِه وسُلطانِه وأسبابِه، ونُقيم له الدَّعوةَ على منابر الإسلام، ولمولانا عضد الدولة دائمًا ما عِشْنا. ثم ذكر كلامًا طويلًا إلى أن قال: والله وتالله وبالله، وذكر الحجَّ والصِّيامَ والعِتاقَ والطَّلاق، والبراءة من محمد سيِّد المرسلين، ومن وَلاء مولانا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ولَقيتُ اللهَ بدمه وبدم الحسين وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين، وذكر ما جرت به العادة في الأيمان. ولما شَهد الشُّهود، وأثبتت النُّسخة على القضاة، وحُملت إليه؛ أطلق عزَّ الدولة وأخوَيه عُمدة الدولة وأبا طاهر في رمضان، وردَّ على عز الدولة جميعَ ما أَخَذ منه من الخزائن والأموال وغيرها. وركب عز الدولة، وارتفع ضَجيجُ العوامّ، وأكثروا من الدُّعاء له، وذكروا عضد الدولة بما لا يَليق، وصاحوا عليه من الجانب الغربيِّ بإزاء داره، فنَبا به المقام، فخرج إلى الزَّعْفَرانيَّة لخمسٍ مَضَينَ من شَوَّال، وزوَّج ابنَه أبا الفوارس ببنت عز الدولة، ووصل إلى واسط في النصف من شوَّال، فخرج ابنُ بقية عنها، ولمَّا أبعَدَ عضد الدولة رجع إليها. ذكر ما أخذ عضد الدولة من المُصادرات مُدَّةَ مُقامه ببغداد: ومَبلغُه خمسة آلاف ألف وتسع مئة وخمسين ألف درهم (¬1). وفي ذي القعدة خلع الخليفةُ على عزِّ الدولة خِلَع السَّلْطَنة، وتزوج ابنة عزّ الدولة (¬2) على صداق مبلَغُه مئة ألف دينار، وكان العَقدُ بحضرة الطائع وعز الدولة، والخاطب القاضي أبو بكر محمد بن قُرَيعَة، واسم البنت شاه زنان. ¬

_ (¬1) في تكملة تاريخ الطبري 442: ألف ألف وتسع مئة وخمسين ألف درهم. (¬2) في (ب خ): وتزوج أبا الفوارس ابنة عز الدولة، والمثبت من تكملة الطبري 449، والمنتظم 14/ 236، وتاريخ الإسلام 8/ 185.

سبكتكين

وفي ليلة يوم الاثنين لتسعٍ بقين من ذي القعدة طلع كوكبُ الذُّؤابة من ناحية المشرق، وذؤابته مقدار رُمحين، ولم يزل يطلع إلى عشر بقين من ذي الحجة. وفي سَلْخ ذي القعدة صُرف أبو الحسن محمد بن صالح عن قضاء القُضاة، وتقلَّده أبو محمد عُبيد الله بن مَعروف، وخُلع عليه من دار الخلافة، وركب ابن بقية إلى داره. وفيها في ذي الحجة قُبض على أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصَّابئ بعد أن أُعطي الأمان، وظهر من الاستتار، وطالت مُدَّتُه في النَّكْبَة والحبس، ثم أُفرج عنه، ولولا عز الدولة لتَلفَ، وسبب نكبته الكتاب الذي كتبه للطائع، وقد ذكرناه. وفيها خُلع على الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى الموسَوي، وقُلِّد نقابةَ الطالبيين. وفي آخر ذي الحجة دخل عضد الدولة إلى داره بشيراز. ولم يحج بالناس أحدٌ من العراق من قِبَل السلطان، وخرج جماعةٌ من أهل خُراسان فلَقُوا شدَّةً ورجعوا، وحجَّ أهل مصر، وأقيمت الخطبة للمعزّ متولّي مصر وحده (¬1). [فصل: ] وفيها توفي سُبُكْتكين حاجبُ معزِّ الدولة ومولاه. [وقد ذكرنا أخباره، وعصيانه على عز الدولة، وأن الطائع طوَّقه وسَوَّره، ولقَّبه نصر الدولة. وكان قد] ركب يومًا، فوقع من على الفرس، فانكسر ضِلعُه، فاستدعى المُجَبِّر فردَّ ضلعَه على ما كان عليه، [وأدخلوه الحمَّام فأعطى المجبِّرَ] ألفَ دينار وخِلعةً وفرسًا. وكانت داره بالمُخَرَّم ولم يكن بالعراق مثلُها، يقال: إنه غَرِم علي بنائها خمسة آلاف ألف درهم، وكانت عند الزَّاهر، وقد دَثَرت فلا عينٌ ولا أثر. ¬

_ (¬1) من قوله: وفيها سار عضد الدولة من فارس ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

المطيع لله

ذكر وفاته: قد ذكرنا أنه خرج مع الطائع لقتال عز الدولة في هذه السنة، فنزلا (¬1) بدير العاقول، فمرض، ولحقه ذَرَبٌ عظيم، فتوفي يوم الثلاثاء لسبع بقينَ من المحرَّم، فكانت مدَّةُ إمارته شهرين وثلاثة عشر يومًا، وحُمل تابوته إلى بغداد، فدُفن في تربة ابنته بالمُخَرَّم. [قال ابن الصَّابئ: ] وخلَّفَ غير ما كان مُودَعًا عند أبي بكر الأصفهاني البَزَّاز صاحبِه ألفَ ألف دينار مُطِيعيَّة، وعشرة آلاف ألف درهم ورقًا، وستّين صُندوقًا منها صندوقان فيهما جواهر والباقيات مملوءات آنية ذهب وفضة، ومئة وثلاثين مركبًا ذهبًا، وزن كلِّ مَرْكب ألف مثقال، وست مئة مركب فضة، وأربعة آلاف ثوب ديباجًا، وعشرة آلاف ثوب دبيقيًّا وغير ذلك، وثلاث مئة غلام، وأربعين خادمًا، وثلاثة آلاف فرس وجمل وبغل، وثلاث مئة حِمل قماش. [وقال الخطيب: ] كان يسكن دار السَّلْطَنة التي عند الزاهر، وجاء عضد الدولة فزاد فيها، وكلُّ مَن جاء بعده زاد فيها (¬2). [قلت: ] بقيت إلى زمن أبي العباس أحمد الناصر لدين الله فأخربها [، وسنذكرها هناك إن شاء الله تعالى. فصل: وفيها توفي] المُطيع لله واسمه الفضل بن جعفر المقتدر، وكنيته أبو القاسم. خلع نفسَه طائعًا لا مُكْرَهًا، وفوَّض الأمر إلى ولده عبد الكريم الطائع، وكانت ولايته إلى حين خَلَع نفسه تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر وأحد عشر يومًا. وأقام يتعبَّد في داره -وكان قد أسنَّ- واحتجب عن الناس شُغلًا بمرضه [، وكان يُسمَّى بعد خلعه الشيخ الصالح أو الفاضل]. ¬

_ (¬1) في (ب خ): وقد دثرت وقد ذكرنا عصيانه على عز الدولة وخروجه مع الطائع لقتاله فنزلا، والمثبت من (ف م م 1) وما سلف بين معكوفين منها. (¬2) انظر تكملة الطبري 434 - 435، والمنتظم 14/ 238، وتاريخ الإسلام 8/ 228.

محمد بن بدر

وكان عاقلًا، سَمْحًا، قنوعًا من الدنيا، سالمًا مما كان فيه غيره من طلب الدنيا. وكان الطائع قد خرج إلى واسِط وحمله معه، فنزل دير العاقول، فاشتدَّ مرضُه، ومات في المحرَّم قبل سبكتكين بيوم واحد، وكان عمره ثلاثًا وستين سنة [لأنه ولد في سنة إحدى وثلاث مئة]، وحمُل إلى بغداد فدُفن بتربة جدَّته أم المقتدر بالرُّصافَة. وكانت وفاتُه ليلة الاثنين لثمانٍ بقينَ من المحرَّم، وصلَّى عليه أبو محمد عبيد الله بن مَعْروف القاضي. وكان له من الولد ثلاثة: عبد الكريم الطَّائع، وعبد العزيز، وجعفر. وقضى له أبو السَّائب عُتبة بن عُبيد الله الهَمَذاني، وأبو القاسم بن أبي الشَّوارب، وعبيد الله بن مَعروف، وأحمد ابن أم شَيبان على الجانب الشرقي، ولم يكن له وزير، كان الوزراء لبني بُوَيه. وقد أسند المطيع الحديث، وقال أبو الفضل بن عبد العزيز الهاشمي (¬1): سمعتُ المطيع يقول وقد أحدَقَ به خلقٌ كثير من الحنابلة حُزروا ثلاثين ألفًا فقال: سمعتُ شيخي ابنَ مَنيع يقول: سمعتُ أحمد بن حنبل (¬2) يقول: إذا مات أصدقاء الرجل ذَلَّ (¬3). محمد بن بدر أبو بكر الحَمامي. كان والده بدر مولى أحمد بن طولون، وكان يُسمَّى بدرًا الكبير، ويعرف بالحَمامي، كان أميرًا على فارس وتلك النَّواحي، وكان حسنَ السّيرة، فتوفي وقام ولده محمد في تلك الناحية مقامه، وأطاعه القُوَّاد والناس. قدم بغداد وحدَّث بها، قال أبو نُعَيم: وكان ثقةً، ومات ببغداد، وقال الخطيب: كان يتشيَّع، ولم يكن من أهل هذا الشأن، يعني الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) في تكملة الطبري 432، وتاريخ بغداد 14/ 356، وتاريخ الإسلام 8/ 231: أبو الفضل التميمي. وهو عبد الواحد بن عبد العزيز، ترجمه الخطيب في تاريخه 12/ 265 وليس في نسبه أنه هاشمي. (¬2) في (ف م م 1): وقد أسند الطيع الحديث وروينا عنه أثرًا يقول سمعت أحمد بن حنبل. والمثبت من (ب خ). (¬3) بعدها في (ف م م 1): انتهت ترجمة المطيع والله أعلم، السنة الخامسة والستون وثلاث مئة. (¬4) تاريخ بغداد 2/ 468، والمنتظم 14/ 241، وتاريخ الإسلام 8/ 232.

السنة الخامسة والستون وثلاث مئة

السنة الخامسة والستون وثلاث مئة فيها في المحرَّم انحدر أبو طاهر بن بَقيَّة إلى واسِط والبَصْرة على اتِّفاقٍ بينه وبين عزِّ الدولة في أن يجمع الأموال، ويَسْتَظهرا بها من معاودة عَضُد الدولة، لما تحدِّثُه به نفسه من العَوْد إلى العراق، فلما وصل إلى واسِط جاهر عضدَ الدولة بالقَبيح قولًا وفعلًا، وخلع على الجند، ونَصب لهم المَوائد، وجدَّد العهدَ بينه وبين عمران بن شاهين، واستظهر بذلك على عزّ الدولة أيضًا. ثم أصعد إلى بغداد في شعبان، والتقاه عز الدولة، وخلع عليه بعد دخوله، وتجدَّدت بينهما وَحْشة لأن أبا طاهر كان يخافُه، ويُسيءُ به الظنَّ، وكان عزُّ الدولة معه كالمَحْجور عليه، فكان يرى القبيحَ فيه. وكان عز الدولة قد أشار عليه طائفة من العَسْكر بقَبْضِ أبي طاهر بالبصرة وواسط، ولم يتَّفِق له ذلك حينئذٍ، فلما عاد إلى بغداد علم باستمالته للدَّيلم والأتراك بالمال، وبما ملأ عيونهم حتى شَغَبوا بعضَ الشَّغَب، فعاتبه عز الدولة، فأنكر وأظهر له خلافَ ذلك، وأقام على هذه الوَحْشة، وكان رأس المشغبين سَهْلَ بنَ بِشر ضامنَ الأهواز، فاحتال عليه ابن بقية حتى حصل في يده فقتله. وفي جمادى الأولى اتفق الحال بين عز الدولة وأبي يعقوب الهَجَري، على أن يُقْطعه عز الدولة من سَقْي الفرات ما ارتفاعه أربع مئة ألف درهم، وكتب له عز الدولة كتابًا بذلك، وقصد أن يتألَّفه، ويؤمّن السُّبُل للحاج وغيرهم، واستفتى الفقهاء فأفتَوْه بذلك. وفيها كتب ركن الدولة كتابًا إلى عَضُد الدولة يُعَرِّفه فيه كِبَرَ سِنِّه، وقُرْبَ ما يتوقَّعُه من أمر الله تعالى الذي لا بُدَّ منه، وإيثاره قبل نزول ذلك مُشاهدتَه، والخروجَ بما في نفسه إليه، واتَّفقا على أن يجتمعا في أصبهان. وسار رُكنُ الدَّولة من الرَّيِّ، وعضد الدولة من شِيراز ومعه أبو الفوارس وأبو كاليجار ولده، ووزيره المطهر بن عبد الله، والتقَوا بأصبهان في ربيع الآخر، وحضر ركن الدولة وأولاده أبو منصور مؤيَّد الدولة، وأبو الحسن فخر الدولة، وأبو العباس

خسروفيروز، وأبو الفتح بن العَميد، وخَدَم عضدُ الدولة أباه خدمةً أبان فيها عن بِرِّه، وأوسع الصلات على إخوته وأصحابِ ركن الدولة وحاشيته. واتفق ركن الدولة مع عضد الدولة، وقسم ركن الدولة البلاد والممالك بين أولاده، فجعل لعَضُدِ الدولة فارس وأرَّجان وكَرْمان، ولمؤيَّد الدولة الرَّيّ وأصبهان، ولفخر الدولة هَمَذان والدِّينَور، وجعل أبا العباس في كَنَف أخيه عضد الدولة، وأوصاه به، وكتب وصيَّته بما توافق عليه الإخوة، وكانت الوصيَّةُ بخطِّ أبي الفتح بن العميد إلى عضد الدولة، وأن يَنظُرَ في جميع الممالك، وأوصى كلَّ واحد منهم بأن لا يخرج عن طاعة الآخر، ومضمونها: هذا عهدٌ عَهِده ركن الدولة إلى عضد الدولة ولده، مُستخيرًا لله فيما يأتيه، راجعًا إليه فيما يُدَبِّرُه ويَقضيه، مُهتديًا به فيما يأمر به ويُمضيه، ومَن يَعتمد على الله يَهدِه ويَكفيه، حين رأى ولَدَه عضدَ الدولة أكفأ مَن استكفاه، وأوفر مَن استرعاه، وأولى مَن عَهِد إليه واعتمد في أموره عليه، وعَصَب برأيه نواصي أموره، وألقى إلى عَزْمِه أزِمَّة تدبيره، ارتضاه للنَّظر في أمور ممالكه ووُلاتها، وبلاده وحُماتها، مُشيرًا ومُستندًا، ومؤازرًا ومُنْفَردًا ... وذكر الأماكن التي وقع عليها التَّعيين، وشَرط أن لا يُنازع أحدٌ صاحبَه فيما أُفرد به، ووقعت الشَّهادةُ على الإخوة بمَحْضَرٍ من القُضاة والعُلَماء والأشراف والقُوَّاد والأعيان، وفي آخر الكتاب: وكتب ذو الكِفايتَين أبو الفتح بن العَميد في رجب من هذه السنة. وفيها في رجب جلس قاضي القُضاة أبو محمد بن معروف في دار عزِّ الدولة، ونظر في الأحكام؛ لأن عز الدولة اقترح عليه ذلك ليُشاهد حُكمَه، وما يجري في مجلسه (¬1). وفيها مات ابن الشمشقيق ملك الروم. وفيها سار ركنُ الدولة إلى الرَّيّ، وعاد عضد الدولة إلى شِيراز فقدمها في شعبان. وفيها مات المعزُّ صاحبُ مصر، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) من بداية السنة إلى هنا ليس في (ف م م 1).

إبراهيم بن أحمد

وفيها عاد جوابُ ركن الدولة إلى عز الدولة بما يُطيِّب قلبَه، وكان لما بلغ عزَّ الدولة ما فعل ركن الدولة من قسمة البلاد بين أولاده كتب إليه يُخبره ما عليه عَضُد الدولة من سوء النية، وأن في قلبه من بغداد ما فيه، ويسألُه زَجْرَه عنه، وأن يُؤمِّنه مما يخاف من عائلته، وكانت الرسالة مع أبي سَهْل عيسى بن الفضل الروابي (¬1)، فخاطب ركنُ الدولة عضدَ الدولة في الكفِّ عنه، فشكا إليه ما عاملَه به، وما بدا من ابن بقية، فلم يزل به ركنُ الدولة حتى أجابه من غير نيَّةٍ صحيحة، وعاد عيسى إلى عزِّ الدولة، فعرَّفه ما وصَّى ركن الدولة عضدَ الدولة، ويبعثه على مُلاطفته وطاعته، ويأمرُه باجتناب ما يوحشه ويُنفِّره. وفيها توفي الأمير أبو صالح منصور بن نوح صاحب خُراسان، فقام أبو القاسم نوح بن منصور مقامه وسِنُّه ثلاث عشرة سنة. وفيها خُلع على أبي عبد الله أحمد بن محمد بن عبيد الله العلوي لإمارة الحاج من دار عز الدولة، وركب معه أبو طاهر بن بقية إلى داره (¬2). [وفيها توفي أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قُرَّة صاحب التاريخ]. وحج بالناس من بغداد الموسوي، وحجَّ من مصر من جهة العزيز بن المُعزّ عَلَويّ، وأقيمت له الدعوة بمكة والمدينة بعد أن منع أهل مكة والمدينة من الميرة، ولاقوا شدائد من الغلاء، [وقطعت الميرة عنهم من مصر. فصل: وفيها توفي إبراهيم بن أحمد ابن محمد بن رَجاء، أبو إسحاق (¬3)، النَّيسابوري، الأبْزاري، الوَرَّاق. قال الخطيب: رحل وطلب الحديث، وكان صالحًا زاهدًا ثقةً. ¬

_ (¬1) كذا، ولم أعرفه. (¬2) من قوله: وفيها عاد جواب ركن الدولة ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬3) في (ف م م 1): أبو الحسن، وهذه الترجمة ليست في (ب خ)، والمثبت من تاريخ دمشق 2/ 367 (مخطوط)، وتاريخ الإسلام 8/ 226، والسير 16/ 152.

ثابت بن سنان

قال بلال بن سعد: إبراهيم من المسلمين الذين سلم المسلمون من يده ولسانه. طلب الحديث على كِبَر السنّ، وعُمِّر حتى احتاج الناس إليه، وكان مزحًا فَكِهًا، يقال له: ما اغتسلْتَ من حرامٍ قط؟ ! فيقول: لا، ولا من حَلال؛ لأنه لم يتزوَّج. سمع الحسن بن سفيان، وأبا القاسم البغوي وغيرهما. وروى عنه أبو عبد الله الحاكم، وأبو عبد الرحمن السُّلَميّ، وأجمعوا عليه]. وفيها توفي ثابت بن سِنان ابن ثابت بن قُرَّة، أبو الحسن، صاحب التاريخ. كان طبيبًا فاضلًا، عاشر الخُلفاء والملوك، وكان فريدًا في فَنِّه، [وفي الطب، وذكره ابن الصابئ وقال: هو صابئ، وتوفي في هذه السنة، ] وكان ثقةً (¬1). الحسين بن محمد ابن أحمد بن ماسَرْجِس، أبو علي، الماسَرْجِسيّ، النَّيسابوريّ، الحافظ. أسلم ماسَرْجِس على يد عبد الله بن المبارك وكان نصرانيًّا. صنَّف الحسين بن محمد على تراجم الرجال ألفَ جزء وثلاثَ مئة جزء، ولم يصنّف في الإسلام أكثر منه مُهذّبًا، وجمع حديثَ الزُّهري جمعًا لم يُسبَق إليه، وصنَّف المغازي، وكتاب القبائل، وخرَّج على كتاب البخاري ومسلم الصَّحيحين، وتوفي بنيسابور يوم الثلاثاء تاسع رجب، ودفن في داره وهو ابن ثمانٍ وستين سنة، وأجمعوا عليه (¬2). عبد الله بن عَديّ بن عبد الله أبو أحمد، الحافظ، الجُرْجَانيّ. ¬

_ (¬1) معجم الأدباء 7/ 142، ووفيات الأعيان 1/ 314، وتاريخ الإسلام 8/ 210 (وفيات 363). وما بين معكوفين من (ف م م 1). (¬2) تاريخ دمشق 5/ 110 (مخطوط)، والمنتظم 14/ 244، وتاريخ الإسلام 8/ 239.

عبد السلام بن محمد بن أبي موسى

أحدُ أئمّة الحديث المُكْثِرين منه، ولد يوم السبت غُرَّةَ ذي القَعدة سنة سبع وسبعين ومئتين بجُرْجان، وصنَّف كتابَ الجرح والتعديل مِقدارَ ستين جزءًا، ذكر فيه ضُعَفاء المحدِّثين، وسماه "الكامل"، وسئل الدارقطني أن يُصنِّفَ كتاب الجرح والتعديل فقال: يكفي كتابُ ابن عدي، ولم يكن في زمانه مثلُه في الحفظ والثِّقة؛ إلا أنه كان يَلْحَن. وكانت وفاتُه بجُرْجان يوم السبت غُرَّةَ جُمادى الآخرة، ودُفن عند مسجد كُرْز بن وَبْرَة بجُرجان، وأجمعوا عليه (¬1). عبد السلام بن محمد بن أبي موسى أبو القاسم، الصُّوفي، البغدادي. سافر الكثير، ولقي الشُّيوخ من أهل الحديث والتصوُّف، وجمع بين علم الشريعة والحقيقة، والفُتُوَّة وحُسنِ الخُلُق، وجاور بمكةَ سنين، وتوفِّي بها، وكان شيخَ الحَرَم في وقته، زاهدًا عابدًا ثقة (¬2). [وفيها توفي] عبد العزيز بن عبد الملك بن نَصْر أبو الأصْبَغ، الأموي، الأندلسي. [سمع بالأندلس والعراق والشام ومصر وخُراسان. وذكره الحاكم فقال: ] ولد بقُرطبة، ثم [سافر إلى خراسان] فاستوطن بُخارى وتوفي بها. [أدرك بدمشق أصحاب هشام بن عمار، وسمع خَيثَمة بن سليمان وأبا سعيد بن الأعرابي، وخلقًا كثيرًا. وروى عنه الدارقطني والحاكم.] ¬

_ (¬1) تاريخ جرجان 266، وتاريخ دمشق 9/ 771 (مخطوط)، والمنتظم 14/ 244، وتاريخ الإسلام 8/ 240، والسير 16/ 154. (¬2) تاريخ بغداد 12/ 329، والمنتظم 14/ 240، وتاريخ الإسلام 8/ 230، ووفاته عندهم في سنة (364 هـ)، والتراجم الثلاث السالفة ليست في (ف م م 1).

معد بن إسماعيل بن عبيد الله

قال الحاكم أبو عبد الله: سمعته ببُخارى يروي أن مالك بن أنس كان يحدِّث فجاءت عَقْرَبٌ فلَدَغَتْه [ستَّ عشرة مرة]، فتغيَّر لونُه ولم يتحرَّك، فقيل له في ذلك فقال: كَرهتُ أن أقطعَ حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [فصل: وفيها توفي] مَعَدّ بن إسماعيل بن عُبيد الله أبو تميم، المُلَقَّب بالمُعِزِّ لدين الله، صاحب مصر. ولد بالمَهديَّة يوم الاثنين حادي عشر رمضان سنة تسع عشرة وثلاث مئة، وبويع بالخلافة يوم الجمعة التاسع والعشرين من [رمضان، وقيل: ] شوّال، سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة. وهو أول خليفة ظهر بمصر من بني عُبيد، فأقام واليًا ثلاثًا وعشرين سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يومًا، منها بمصر ثلاث سنين [؛ لأنه دخل القاهرة سنة اثنتين وستين وثلاث مئة. وقال هلال بن المُحَسِّن الصَّابئ: كان المعز لدين الله مُغْرًى بالنجوم (¬2)، والنظر فيما يقتضيه الطَّالع، فنظر يومًا في مَولده وطالعه فحكم له بقطع فيه، فاستشار مُنَجِّمه فيما يُزيله عنه، فأشار عليه أن يَعمل سِردابًا تحت الأرض ويَتوارى فيه إلى حين جواز الوقت، فعمل على ذلك، وأحضر قُوَّاده وكُتَّابه، وقال لهم: إن بيني وبين الله عهدًا في وَعْدٍ وَعَدَنيه، وقد قَرُبَ أوانُه، وقد جعلت نزارًا ولدي وليَّ عهدي بعدي، ولقَّبتُه العزيز بالله، واستخلفتُه عليكم وعلى تدبير أمورِكم مدّةَ غيبتي، فالزموا الطاعةَ، واتركوا المُخالفةَ، واسلكوا الطَّريق (¬3) السَّديدة، فقالوا: الأمرُ أمرُك، ونحن عَبيدُك وخَدَمُك. ووصَّى العزيزَ بما أراد، وجعل القائد جوهرًا مُدَبِّرَه (¬4)، والقائمَ بأمره بين يديه، ثم نزل إلى سِردابٍ اتَّخذه، وأقام فيه سنة. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 42/ 344. (¬2) في (خ ب): بمصر ثلاث سنين وكان مغرى بالنجوم، والمثبت من (ف م م 1). (¬3) في (ف م م 1): الطرائق. (¬4) في (م): مدبر أمره.

وكان المغاربةُ إذا رأَوْا غَمامًا سائرًا ترجَّل الفارسُ منهم إلى الأرض، وأومأ بالسلام إليه؛ يشير إلى أن المعزَّ فيه. ثم خرج بعد ذلك وجلس للناس، فدخلوا عليه على طَبقاتهم، ودَعَوا له، فأقام على ما كان عليه أولًا مُدَيدة، ثم مرض وتوفّي يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيعٍ الأول [سنة خمس وستين وثلاث مئة]، وقام ولدُه العَزيز بعده. وقال القاضي عبد الجبَّار البَصري: بثَّ دُعاتَه في الأرض، وزعم أنه المهديّ الذي يملك الدُّنيا، واحتجب عن الناس ثم ظهر، وكانت المغاربة في مُدَّة غَيبته إذا رأى أحدُهم طائرًا سَجَد له؛ يعتقد أن روح المعز فيه، وكان له جواسيسُ ينقلون إليه الأخبار، فيُخبرُ الناسَ بها، فامتلأت القلوبُ منه هَيبةً (¬1) [وهو الذي قتل فقيه الشام النابلسي الرَّمْليّ]. وكان له أولاد: نزار وعبد الله وعقيل، وسبع بنات، وقام بأمر العزيز ولدِه جوهرٌ القائد (¬2). ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): من هيبته. (¬2) انظر ترجمة المعز في: تكملة الطبري 446، تاريخ دمشق لابن القلانسي 27، المنتظم 14/ 245، الكامل 8/ 663، وفيات الأعيان 5/ 224، تاريخ الإسلام 8/ 247، السير 15/ 159، النجوم الزاهرة 4/ 69، كتر الدرر 6/ 119، 173 وفي حواشيها مصادر أخرى.

السنة السادسة والستون وثلاث مئة

السنة السادسة والستون وثلاث مئة فيها في المحرَّم تُوفِّي رُكنُ الدولة أبو علي الحسن بن بُوَيه [والدُ عَضُد الدولة]، ومرض أبو طاهر بن بَقيَّة مرضًا أشرف منه على الموت، ثم عوفي، فلو أراد الله به خيرًا لقبضه قبل المُثْلَة. وأظهر عضد الدولة ما كان يُخفيه في قصد بغداد، وعلم عزُّ الدولة، فكاتب فخرَ الدولة بن بُوَيه، وأبا دُلَف سَهْلان، وأبا الفوارس صاحب الخيل، وصاحب البَطيحة، وأبا تَغْلب على أن يكونوا معه، ويساعدونه على عضد الدولة، وكلُّ ذلك بتدبير ابن بقية. وفيها في ربيع الآخر قُبض على ذي الكِفايتين أبي الفتح علي بن محمد بن العميد بالرَّيِّ، وكان قد تَبسَّط التّبَسُّطَ الشديد في أيام رُكن الدولة، واستمال الدَّيلَم إلى نفسه، وكان في نفس عضد الدولة عليه؛ لأنه هو الذي بعثه إلى ركن الدولة بتلك الرسالة في كون عزِّ الدولة لا يَصلح للعراق، وعاد برسالة ركن الدولة ينهاه عن عزّ الدولة، فاتَّهمه في الأمر، وقَوَّى تُهَمَتَه أن عضد الدولة لما فارق بغداد إلى شِيراز أقام ابنُ العميد بها، فأعطاه عز الدولة من الأموال والخِلَع السُّلطانية وغيرها شيئًا كثيرًا، فكان عَضُد الدولة يقول لما خرج من بغداد: خرجتُ من بغداد وأنا زريق الشارب، وخرج ابن العميد وهو ذو الكفايتين أبو الفتح (¬1). واتَّفق أن الصَّاحب إسماعيل بن عباد كان قريبًا من مؤيَّد الدولة بن ركن الدولة، فباعده ابنُ العميد، ووضع الدَّيلم على أن يطالبوا مؤيد الدولة بإبعاده عنه -وكان كاتِبَه- فأبعده إلى أصفهان، وكان ابن العميد إذا ركب إلى دار مؤيَّد الدولة مشى جميعُ الناس والدَّيلمُ بين يديه ومن خلفه، فإذا انصرف انصرفَ الكلُّ معه. واتَّفق أيضًا أنه زايد عَضُدَ الدولة في جاريةٍ كان عضد الدولة يميل إليها، فاشتراها بثمن زائد، فكاتب عضد الدولة مؤيَّدَ الدولة بالقبض عليه، فقبض عليه، وأعاد الصَّاحبَ أبا القاسم بن عَبَّاد إلى وزارته إلى حين وفاته، وقتل ابن العميد بعد ذلك. ¬

_ (¬1) انظر تكملة تاريخ الطبري 450.

وفي جمادى الأولى نُقلت بنت عز الدولة إلى الطائع. وشَرَع عضد الدولة في الاستعداد لنزول العراق، والتأهُّبِ لقتال عز الدولة، وكاشفه عز الدولة، وقطع خُطبته، وجاهر ابنُ بقية عضدَ الدولة بالعَداوة، ونال منه بلسانه في مجالسه، وكتب كتابًا عن الخليفة مَضمونه: أن الاتِّفاق وقع من ركن الدولة على قسمة البلاد بين أولاده، وأن لا يتعرَّض لعز الدولة ببغداد، وأن الخليفة لا يرضى بغير ذلك. وجمع ابن بقية القُضاة والشُّهود والأعيان والحُجَّاج الخُراسانية، وأحضرهم إلى الطَّائع، وأشهدهم عليه بذلك. وكتب الطائع على رأس الكتاب: المُلكُ لله وحده، وكتب القُضاة والأشراف خطوطَهم فيه بالشَّهادة على الخليفة، وأمر ابنُ بقية أبا إسحاق بن هِلال الصابئ أن يكتب كتابًا إلى عضد الدولة عن الخليفة، فكتب كتابًا طويلًا منه: من عبد الله عبد الكريم الطائع لله أمير المؤمنين إلى عَضُد الدولة أبي شُجاع بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين، سلامٌ عليك، أما بعد؛ فإن من سُنن العَدْلِ التي يؤثر أميرُ المؤمنين أن يُحييها، وآداب الله التي يَرى أن يأخُذَ بها ويَقْتَفيها: إقامةَ المُحسن بإحسانه، والإيفاءَ به على أقرانِه، والمجازاةَ له عن راشِدِ مَساعيه وصائب مَراميه؛ ليكون قضاءً لما أسلف وقدَّم، وكِفاءً لما أكَّد وأَلْزم، وقد علمتَ وعلم غيرُك بعيانِ ما أدركتْه الأعمار، وسماعِ ما نقلتْه الأخبار؛ أن الدولةَ العباسية لم تزلْ تَعْتَلُّ طَورًا وتَصحُّ أطوارًا، وتَلْتاثُ (¬1) مَرَّةً وتَستقلُّ مِرارًا، من حيث أن أصلَها راسِخٌ لا يَتَزَعْزَع، وبُنيانَها ثابتٌ لا يَتَضَعْضَع ... إلى أن قال: وأن المُطيع أبقى الأمرَ على عز الدولة، فليس لأحدٍ أن يُنازعه فيه، وذكر ابنَ بقية وقال: هو نصيرُ الدولةِ النَّاصحُ، وأثنى عليه ثناءً عظيمًا، واستوفى شروطًا كثيرة، وأشار في الكتاب إلى مُباينة عضدِ الدولة وقتاله. وكان هذا الكتاب سببًا لنِقْمة عضد الدولة على إبراهيم الصابئ، ونَكبه لأجله، ولما قال: أُكْرِهتُ قال: مَن أكرهك على تجويده واستيفائه واستقصائه. ¬

_ (¬1) تضعف.

قال المصنف رحمه الله: وقد نكب الطَّائعُ أبا إسحاق الصابئ قبل هذا بسبب الكتاب الذي كتبه إلى الطائع، وقد تقدَّم ذِكره. وسار عزُّ الدولة وابنُ بقية من بغداد إلى المَشْهَدَين فزارا، ودخلا واسِطًا في جُمادى الآخرة. وصاهر عزُّ الدولة عمرانَ بن شاهين، فزوَّجه عمران ابنتَه، وتزوج الحسن بن عمران بنتَ عز الدولة. وبعث ابن بقية إلى بغداد، فأتلف جماعةً من الكُتَّاب، منهم سهل بن بشر، وإبراهيم بن السرَّاج وغيرهما. وكتب عز الدولة إلى الطائع يأمره بالانحدار إلى واسِط، فانحدر في شعبان ومعه القاضي ابن معروف والأشراف، وسار عز الدولة وابن بقية إلى الأهواز برأي ابن بقية، وما كان عز الدولة يُريد أن يَخرجَ من واسِط، وتبعهم الطائع والعساكر. وورد الخبر بوصول عضد الدولة إلى أَرَّجان، فانزعج عز الدولة وابن بقية، وأمر الطَّائعَ أن يَكتب إلى عضد الدولة كتابًا يتضمَّنُ إصلاحَ ذات البَين، وكان ذلك خديعةً منه ليجمع لهما عساكر المعاهدين، فكتب إليه الطائع: أما بعد، فإن أمير المؤمنين إذا احتاج في استِصْلاحِ وليٍّ من أوليائه، وصَفيٍّ من أصفيائه؛ وَجد مَن يَستغني عن ذلك بالوَثيقِ من دينك، والصَّحيح من يَقينك، والوافر من حَزْمِك، والرَّاجح من حِلْمك، إذ كنتَ ترجع إلى مَنْشأ كريم، وعَرْفِ مَحْتِدٍ قديم (¬1)، وأمير المؤمنين ينظر في الجانبين، ويرى إصلاحَ ذات البَين، وقد أمر الله بالأُلْفَة، ونهى عن الفُرْقَة، ولم يزل أمير المؤمنين منذ نَزَغَ الشيطان بينكما مَغْضوضَ الجُفونِ على قَذى، مُنْطَوي الجوارحِ على أذى، وقد أمن أن تنتقضَ نِعم الله بينكما، أو ينافس بقدح في نفاستكما، وبقاطع يعترض ذات بينكما، وأنت أولى مَن هُدي إلى أرشدِ طريقة وأحسن خَليقة، فتأمَّلْ كلام أمير المؤمنين، واحْقِنِ الدّماء، وسَكِّن الدَّهْماء، وأطعِ الإمام، وصِلِ الرَّحِم، ومتى خالفتَ كُنتَ بخلاف ما ذكَرْنا من المساعي الصَّالحة؛ التي تَرفعُ قَدْرَك، وتَنْشُرُ ذِكْرَك. ¬

_ (¬1) العرف بفتح العين: الرائحة الطيبة، وبضمها: الجود، والمحتد: الأصل.

وبعث بالكتاب مع خادم من خَدَمه، فلما قرأه قال للخادم: الجوابُ يكون مُشافهةً لأمير المؤمنين. ولما أشرفت الحالُ على الحرب ردَّ عزُّ الدولة الطائعَ إلى بغداد، ونزل عضد الدولة برامَهُرْمُز، ونزل عز الدولة عند قَنْطَرة أرْبَق وقطعها بينهما، فعمل عضد الدولة سُفنًا، وعبر عليها هو وعسكرُه. فلما كان يوم الأحد لإحدى عشرة ليلةً خلت من ذي القَعدة التقى الفريقان، فاستأمن إلى عضد الدولة مُعظَمُ خواص عز الدولة وأعيانُ عسكره، فانهزم هو وابن بقية وعمدة الدولة إلى ناحية البصرة، وعبروا دُجَيل الأهواز، وألقى عز الدولة سلاحَه عن نفسه، وتلثَّم لئلا يُعرَف، وجُرح فرسُه، وعاين التَّلَف، ولَحِقه ابن بقية، وعُمدة الدولة، وحَمدان بن أبي تغلب، واجتمعوا في مَطارا، ونُهِبت الخزائنُ والأموال، وشيءٌ لا يُحصيه إلا الله تعالى (¬1). ثم وَردوا قريبًا من البَطائح على حالي سَيِّئة، وبعث إليهم عمران بن شاهين زَواريقُ فيها طعامٌ وثيابٌ وسِلاح، ونزلوا في الماء واخترقوا البطائح، فتلقَّاهم عمران في عسكره، وقبَّل يد عز الدولة، وأنزله، وأكرمه، وأقاموا عنده ثلاثة أيام، وصحَّ قولُ عمران لما راسلَ عز الدولة وقال: إنك ستحتاج إليَّ، وتحصل في يَدي، ثم ساروا إلى واسِط. وفيها تَنكَّر عز الدولة على أبي طاهر بن بقية لما وصل إلى واسط، وقال: كنتُ على عَزْمِ المُقام بواسط، ومالي مَحروز، وعَسكري بحاله، أشرتَ عليَّ أن أَمضيَ إلى الأهواز حتى جَرى ما جَرى، أنت أخرجْتَني من نعمتي، وضَيَّعتَ أموالي، وشَتَّتَّ عساكري، فقال له ابن بقية: قد يجري على الملوك ما هو أعظم من هذا، وعليَّ أن أَلُمَّ شَعَثَك، وأُصلحَ أحوالك، ورجع إليه كثيرٌ من الدَّيلَم والأتراك، واستَجدَّ خِيَمًا وسلاحًا، وانضاف إليه مَن كان بالبصرة وبغداد، وكان لابن بقية بواسِط ذَخيرةٌ، فرجع إليها، وأطلق، وخَلَع على الجُنْد. ¬

_ (¬1) انظر تكملة تاريخ الطبري 454.

وجاءت كتب أبي تَغْلب إلى عزِّ الدولة بما يُطَيِّب قلبَه، وضرب الله عز الدولة ببَلْوى كان فيها أعظم الفَضيحةِ له؛ وذلك لأنه أُسِر بالأهواز في الوَقْعة غلامٌ له تركيّ يقال له: باتكين، لم يكن قبل بأَحْظى غِلمانه عنده، ولا بأقربهم منه (¬1)، فجُنَّ عليه جُنونًا عظيمًا، وحَزِن لفَقْده حُزنًا شديدًا، وتسلَّى عن كلِّ شيءٍ خرج عن يده إلا عنه، وحَدث له من الوَجْدِ به ما أزاله عن تماسُكه، فاطَّرح القَرار والهدف (¬2)، وامتنع من الطعام والشّراب، وانقطع إلى البكاء، واحتجب عن الناس، وكان إذا وصل إليه وزيرُه أو خواصُّه أخذ في الشَّكوى، وقَطَعهم عما جاؤوا فيه، فاستَعْجزَ الجُندُ رأْيَه واطَّرحوه، وقالوا لابن بقية: دَبِّر أنت الأمور، ودع هذا ونحن معك، فاستهان بعز الدولة واطَّرحه. وحمل عز الدولة ما كان في نفسه من الغلام على أن كاتب عضد الدولة قبل أن تَضعَ الحربُ أوْزارَها، وتَستقرَّ الأمورُ قرارَها، يسألُه ردَّ الغلام عليه، وكتب إلى خواصِّه المُطْبِقين به يسألُهم مَعونَتَه على ما رَغِب إليه، فافتُضح بين الناس، وعاتبه الأقاربُ والأباعد فما ارعوى، وبعث الشّريفَ أبا أحمد الحسين بن موسى رسولًا في هذا الأمر، وبذل في فِديةِ الغلام جاريتين عَوَّادَتَين (¬3) مُحَبَّبتين كانتا نَشأتا عنده، لم يكن ببغداد أبْرَع منهما، ولا أحْذَق بالصّناعة -وكان أبو تَغْلب قد بَذَل له فيهما مئتي ألف درهم، فأبى أن يَبيعهما- وقال للشريف: لا تتوقَّف في زيادة، ولا تفكِّر في شيء؛ فقد رضيتُ أن آخُذَ الغلام وأمضي إلى أقصى الأرض. فجاء الشريف إلى عضد الدولة، وأدَّى الرسالة، وكان الغلام قد اختلط مع الغلمان في يوم الوَقْعة، وبعث به عضد الدولة إلى شيراز إلى ولده أبي الفوارس، فلما علم عضد الدولة بغَرام عز الدولة بالغلام كتب إلى ولده يأمره برَدِّه وإعطاءه للشريف، وأخذ عَضُد الدولة الجاريتين. ¬

_ (¬1) انظر تكملة الطبري 455، والمنتظم 14/ 247، والكامل 8/ 673، وتاريخ الإسلام 8/ 187، والنجوم الزاهرة 4/ 126. (¬2) كذا، وفي الكامل: وامتنع من لذاته والاهتمام بما رفع إليه من زوال ملكه وذهاب نفسه. (¬3) تضربان على العود.

قال: وأعطاني عز الدولة عِقْدًا من اللؤلؤ، ما رأيتُ أكبرَ ولا أحسنَ، وقال: إن قَنَع بالجاريتين وإلا فادفع له العِقْد، فلما رضي بالجاريتين لم أذْكُر له العِقْد، ورَدَدْتُه إلى عز الدولة فأوهبني إياه، ثم عَلِم به عضد الدولة بعد ذلك، فكان سببًا لنِقْمَته عليَّ، وواقفني عليه. فقلت: إن بختيار أعطاني إياه، فلما قَنِعْتَ بالمحمول إليك لم يَحْسُن بي أن أخونَه فيما جعلني فيه أمينًا. وحَمَّل عضد الدولة للشريف رسالة إلى عز الدولة، وأمره أن يؤدِّيَها على خَلْوةٍ من ابن بقية، وضم إليه بَهرام بنَ أرْدشير. فلما عاد الشريف إلى عز الدولة، وأدَّى إليه الرسالة، ولم يَحْضُرها ابن بقية، فاستوحش ابن بقية من عز الدولة، وقَدَّر أن عضد الدولة أمر بالقبض عليه وتسليمه عوضًا عن الغلام، وأن عز الدولة يفعل ذلك لعِظَم ما عنده من الغلام، فهمَّ بالعِصيان -وكان بالجانب الغربيِّ من واسط، وعنده الأموال والرجال- وعلم عز الدولة فتلافاه وقال: أنت الوزير والمدبِّر، والرأيُ لك، فتوقَّف إلى أن تمَّ له القبضُ عليه. وعاد الشريف إلى البصرة ينتظر مجيء الغلام، وأشار إبراهيم الحاجب على عز الدولة بأن يُقيم بواسط ويتماسك، ووبَّخه على قَبْضِه الغلام، وقال له: اصْدِفْ عنه، وكان الغلام قد وصل إلى البصرة، فكتب عضد الدولة إلى الشريف يقول: لا تَرْحَلْ بالغلام إلى عز الدولة حتى يَرْحَلَ عن واسط، ويُخلِّي بين نُوَّابنا وبينها، فشقَّ ذلك على عز الدولة، وكاتب الشريف بسببه، فلم يُذْعِن عضد الدولة بتسليم الغلام حتى يَرحل عز الدولة عن واسِط، فحَمله ما في قلبه من الغلام على أن رحل عنها، فدخل بغداد في صَفر سنة سبع وستين، فكان الغلام سببًا لفَضيحة عز الدولة، وسُقوطِ حُرْمَته، وزوالِ مُلْكه، وقدم الشريف بالغلام. وكان بين إبراهيم بن إسماعيل حاجب عز الدولة وبين أبي طاهر بن بقية تباعُدٌ وتنافُر، وكان عز الدولة قد استخلفه ببغداد لما خرج لقتال عضد الدولة، فلما عاد إلى واسط استدعاه إليه، وشكا ابنَ بقية، فأمره بالقبض عليه، فقال عز الدولة: أخاف من الجيش، فشَجَّعه إبراهيم وقال: أنا ارضي الجيشَ بماله.

إسماعيل بن نجيد

فلما كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلةً بقيت من ذي الحجة عبر أبو طاهر في زَبْزَبه على العادة إلى عز الدولة، فلما حصل عنده قبض عليه وعلى أمواله وأسبابه، فكانت وزارتُه أربعَ سنين وأحد عشر يومًا، وشَغَب الجندُ، فعزم عز الدولة على قتل ابن بقيه، وكان ذلك قبل وصول الغلام إليه (¬1). وفيها وردت جَميلة بنت ناصر الدولة تُريد الحج ومعها أخواها إبراهيم وهبة الله، وأخذت معها مالًا عظيمًا لتُفرّقه على أهل الحَرَمين، وتُنفقَه في طريق مكة، فجرى بين أصحابها وبين الحاجِّ الخُراسانية قتالٌ على الماء، فأصاب أخاها هبةَ الله سَهمٌ عائرٌ فقتله، فدفنَتْه بالمدينة، ثم نقلتْه بسوء رأيها إلى الموصل عند عودها من الحج (¬2)، وضُرب المثل بحجتها، وكان معها أربع مئة مَحْمِل على لونٍ واحد، ولم يُعلَم في أيِّها كانت، ونَثَرت على الكعبة لمَّا شاهدتها عشرة آلاف دينار من ضَرْب أبيها، وكَسَت المُجاورين بالحَرَمَين، وأنفقت فيهم الأموال الجليلة، وتصدَّقَت بدم أخيها هبة الله [، وذلك من دينها وزُهدها]. وفيها خُلع على أبي الفتح أحمد بن عمر بن يحيى العَلويّ، وقُلِّد الحج، وحجَّ بالناس أحمد بن أبي الحسين العلوي، وخطب للعزيز بمكة والمدينة ولم يخطب للطائع. وفيها توفي إسماعيل بن نُجَيد ابن أحمد بن يوسف بن سالم، أبو عمرو السُّلَميّ. كان من كبار المشايخ، له قَدمُ صِدق وحكايات مشهورة. قال أبو سعيد بن أبي بكر بن أبي عثمان: كان جدّي قد طلب على رؤوس الناس شيئًا لبعض الثُّغور، فتأخَّر عنه، فضاق به ذَرْعًا وبكى، فجاءه أبو عمرو بن نُجيد بعد العَتَمة ومعه كيس فيه ألفا درهم، فقال له: اجعل هذا في الوجه الذي تأخَّر، ففرح أبو عثمان، ودعا له، فلما جلس قال: قد رجوتُ لأبي عمرو بما فعل، فإنه قد ناب عن ¬

_ (¬1) من قوله أول السنة: ومرض أبو طاهر بن بقية ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬2) في (ف م م 1): ثم نقلته إلى الموصل عند عودها من الحج وهذا من سوء رأيها.

ركن الدولة الحسن بن بويه أبو علي

الجماعة في ذلك الأمر، وحمل كذا وكذا، فقام أبو عمرو على رؤوس الناس وقال: يا أبا عثمان، إنما حملتُ إليك ذلك المال من مال أبي، فينبغي أن تَرُدَّ عليَّ المال لأرُدَّه إليه، فأمر بردِّ الكيس إليه على رؤوس الناس، فلما كان وقت العتمة جاء إلى أبي عثمان ومعه الكيس، فقال: يمكن أن تَصرِف هذا في ذلك الوجه ولا يعلم به غيرُنا، ثم رمى بالكيس وقام، فبكى أبو عثمان، وكان يقول بعد ذلك: مَن مثلُ هِمَّة أبي عمرو. وقال أبو عمرو: مَن كَرُمَت عليه نفسُه هان عليه دينُه، ومن لم تهذبه مروءتُه (¬1) فاعلم أنه غيرُ مُهَذَّب. وقال: إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا رزقه خدمةَ الصَّالحين، ووفَقه لقَبول ما يُشيرون به عليه، وسَهَّل له سُبُلَ الخيرات وحجَبه عن رؤيتها. وقال: إنما تتولَّد الدَّعاوى من فَساد البدايات، فمَن صَحَّت بدايتُه صحَّت نهايتُه، وقرأ قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيرٌ} الآية [109: التوبة]. وقال: من سَهُل عليه إسقاطُ جاهه عند الخلْق سَهَّل الله عليه الإعراضَ عن الدنيا وأهلها. وقال: مَن استقام لا يَتعوَّج به أحدٌ، ومن اعْوَجَّ لا يستقيم به أحد. واجتمع مع جماعةٍ فيهم النَّصراباذي، فقال للقوَّال: قل شيئًا فهو خير لنا من أن نغتابَ أحدًا، فقال له أبو عمرو بن نُجَيد: لأن تغتاب ثلاثين سنة أنجى لك من أن تُظهِرَ في السَّماع ما لستَ به (¬2). ركن الدولة الحسن بن بُوَيه أبو علي كان عاقلًا، شُجاعًا، نَبيلًا، لم يدخل مع الخلفاء في شيء، ولم يَطمع في غير ما في يده، وكان يُراعي وصيَّةَ أخوَيه في أولادهم، ويَحفظ عُهودَهم في أصحابهم ¬

_ (¬1) في المصادر: من لم تهذبك رؤيته. (¬2) طبقات الصوفية 454، ومناقب الأبرار 2/ 171، والمنتظم 14/ 248، والسير 16/ 146، وتاريخ الإسلام 8/ 237 (وفيات سنة 365 هـ).

الحسن بن أحمد

وخواصِّهم، وكان عظيمًا عند الملوك والخلفاء، بمنزلة وزير الوزراء، يَرجعون إلى رأيه وحُسنِ تدبيره. وكان عادلًا، مُنْصِفًا، مَحبوبًا إلى الناس. ذكر وفاته: أصابه قُولَنْج شديد، فمات ليلة السبت ثامن عشرين المحرَّم، وقيل: ثامن عشرة، فكانت إمارته أربعًا وأربعين سنة وشهرًا وتسعة أيام، وعمره ثمان وسبعون سنة. وكانت وفاتُه بالرَّيِّ، وكان ولدُه مؤيَّد الدولة بأصبهان، فجاء إلى الرّيّ، فدخلها يوم السبت لخمسٍ بقينَ من المحرم، وورد الخبر إلى بغداد يوم الجمعة ثامن صفر، فكتمه ابن بقية؛ لأنه كان قد استعدَّ لدعوةٍ عَملها لعز الدولة، فلما كان من غد يوم الدعوة أظهر ذلك، وجلس عز الدولة في العزاء والدولة ثلاثة أيام (¬1). الحسن بن أحمد ابن أبي سعيد الحسن بن بَهْرام، أبو علي، وقيل: أبو محمد، القِرْمِطيّ، الجَنَّابيّ. ولد بالأحْساء في رمضان سنة ثمان وسبعين ومئتين، وغلب على الشام سنة تسع وخمسين وثلاث مئة في رمضان، وقتل جعفرَ بن فَلاح، واستخلف على دمشق ظالم بن مَوهوب العُقيليّ، ثم عاد إلى الأحساء. وفي سنة اثنتين وستين وثلاث مئة توجَّه إلى مصر، ونزل بمَشْتول الطَّواحين، وكان المعز يُصافيه لما كان بالمغرب ويُهاديه، فلما وصل إلى مصر قطع ذلك عنه، فوافى القِرمطيُّ بغداد، وسأل المطيعَ على لسان عز الدولة أن يُمِدَّه بمالٍ ورجال، ويولّيه الشام ومصر ليُخْرِجَ المعزَّ منها، فامتنع المطيع وقال: كلهم قرامطة على دين واحد، أما المصريون فأماتوا السُّنَن، وقتلوا العلماء، وأما هؤلاء فقتلوا الحاجّ، وقلعوا الحَجَر الأسود، وفعلوا وفعلوا، فقال عز الدولة للقرمطي: اذهب فافعل ما تراه، وذكروا أنه أعطاه سلاحًا ومالًا، فسار إلى الشام ومعه أعلام سُود، وأظهر أن المطيع ولاه، وعلى الأعلام اسم المطيع، وتحته مكتوب: السَّادة الرَّاجِعين إلى الحقّ، ومَلَكَ ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 249، والكامل 8/ 670، والسير 16/ 203، وتاريخ الإسلام 8/ 254.

الشام، ولَعن المعزَّ على منبر دمشق وأباه، وقال: هؤلاء من وَلَدِ القَدَّاح، كذَّابون مُمَخْرِقون أعداء الإسلام، ونحن أعلم بهم، ومن عندنا ظهر القَدَّاح. ثم أقام الدعوة لبني العباس، وسار إلى مصر، وحصر المعزَّ في القاهرة، فأرضاه بمال، فرجع إلى الأحساء، ثم عاد إلى الشام، فنزل الرَّمْلَة فمات بها في رجب وهو يُظهر طاعةَ عبد الكريم الطائع، وجدُّه أبو سعيد الجَنَّابيّ أول القرامطة، وقد ذكرناه. وكان أبو علي الحسن صاحب هذه الترجمة شاعرًا فصيحًا، قال الحسين بن عثمان الخِرقيّ الحَنبلي: كنتُ بالرملة سنة ست وستين وثلاث مئة، فوردها أبو علي الحسن القِرمطيّ القصير الثياب -ويُلقَّب بالأَعْصَم- فاستدعاني، فحضرتُ عنده ليلةً، وأحضر الفَرَّاشون الشُّموع، فقال لكاتبه أبي نَصْر بن كُشاجِم: يا أبا نَصْر، ما يَحضُرك من صفةِ هذه الشُّموع؟ فقال: إنما يَحضر العبدُ مجلسَ الأمير ليَستفيدَ منه، فقال القرمطي بديهًا: [من المتقارب] ومَجْدولَةٍ مثلِ صَدْرِ القَناةِ ... تَعرَّتْ وباطنُها مُكتسي لها مُقْلَةٌ هي رُوحٌ لها ... وتاجٌ على هَيئةِ البُرْنُسِ إذا غازَلَتْها الصَّبا حَرَّكَتْ ... لِسانًا من الذَّهبِ الأَمْلَسِ وإن رَنَّقَتْ لنُعاسٍ عَرا ... وقُطَّت من الرأسِ لم تَنْعَسِ وتُنْتِجُ في وقتِ تَلقِيحها ... ضِياءً يُجَلِّي الدُّجى الحِنْدِسِ فنحن من النُّور في أسْعُدٍ ... وتلك من النَّارِ في أنْحُسِ فقام ابن كُشاجِم فقبَّل الأرض بين يديه، وسأله أن يأذنَ له في إجازتها فأذن، فقال: وليلتُنا هذه ليلةٌ ... تُشاكِلُ أشكال إقْليدِسِ فيا رَبَّةَ العود حُثِّي الغِنا ... ويا حامِلَ الكأسِ لا تَحْبِسِ فخَلَع عليه وعلى الحاضرين، ووصَلَهم بِصِلات. ومن شعر القرمطيّ أيضًا: [من الكامل] يا ساكنَ البلدِ المُنِيفِ تَعَزُّزًا ... بِقِلاعِه وحُصونه وكُهوفِهِ لا عزَّ إلا للعزيز بنفسه ... وبخَيله وبرَجْلِه وسيوفه وبُقبَّةٍ بيضاءَ قد ضُرِبَت إلى ... جَنْبِ الخيامِ لجارِه وحَليفِه

محمد بن إسحاق

قَرْمٌ إذا اشتَدَّ الوَغى أردى العِدا ... وشَفى النُّفوسَ بضَرْبه ووقوفه لم يَرْضَ بالشَّرَفِ التَّليدِ لنفسه ... حتى أشادَ تَليدَه بطَريفه وقال لما فُلَّ جيشُه بعَين شَمس بمصر: [من الوافر] ولو أنِّي مَلَكْتُ زِمامَ أمري ... لما قَصَّرتُ في طلبِ النَّجاحِ ولكني مَلَكْتُ فصار حالي ... كحالِ البُدْنِ في يوم الأضاحي يُقَدْنَ إلى الرَّدى فيَمُتْنَ كُرْهًا ... ولو يَسْطِعْنَ طِرْنَ مع الرِّياحِ وقال أيضًا: [من الطويل] له مُقْلَةٌ صَحَّت ولكنْ جُفونُها ... مِراضٌ بها تُسبى العقولُ وتَتْلَفُ وخَدٌّ كلَوْنِ الوَرْدِ يُجنى بأعيُني ... وقد عزَّ حتى إنه ليس يُقْطَفُ وعَطْفَةُ صُدْغٌ لو تعلَّمَ عَطْفَها ... لكان على عُشَّاقِه يَتعَطَّفُ وقال وكتب بها إلى جَعفر بن فَلاح والي دمشق قبل لقائه: [من البسيط] الكُتْبُ مُعْذِرَةٌ والرُّسْلُ مُخْبِرَةٌ ... والحقُّ مُتَّبَعٌ والخيرُ مَوجودُ والحَرْبُ ساكِنةٌ والخيلُ صافِنَةٌ ... والسِّلْمُ مُبْتَذَلٌ والظِّلُّ مَمْدودُ وإن أَنَبْتُم فمَقْبولٌ إنابَتُكم ... وإن أَبَيتُم فهذا الكُورُ مَشْدودُ على ظُهورِ المَطايا أو يَرِدْنَ بنا ... دمشقَ والبابُ مَهْدومٌ ومَرْدودُ إني امرؤٌ ليس من شأني ولا أَرَبي ... طَبلٌ يَرِنُّ ولا نايٌ ولا عُودُ ولا اعتكافٌ على خَمرٍ ومَجْمَرَةٍ ... وذاتِ دَلٍّ لها دَلٌّ وتَفْنيدُ ولا أَبيتُ بَطينَ البَطْنِ من شِبَعٍ ... ولي رَفيقٌ خَميصُ البَطْنِ مَجهودُ ولا تسامَتْ بي الدُّنيا إلى طَمَعٍ ... يومًا ولا غَرَّني فيها المواعيدُ (¬1) محمد بن إسحاق ابن إبراهيم بن أَفْلَح بن رافِع بن إبراهيم بن أفلح بن عبد الرَّحمن بن عُبيد بن رِفاعَة، أبو الحسن، الأنصاريّ، الزُّرَقيّ. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 4/ 400 (مخطوط)، والسير 16/ 274، وتاريخ الإسلام 8/ 20 - 21 و 254.

محمد بن الحسن بن أحمد

كان نَقيبَ الأنصار ببغداد، عارفًا بأمورهم ومَناقِبهم، ومات ببغداد في جُمادى الآخرة، ودفن عند أبيه بمقبرة الأنصار، وكان ثقةً حَسنَ السِّيرة، وجدُّه رفاعة بن رافع شهد العَقَبةَ وأحُدًا، وكان نقيبَ الأنصار - رضي الله عنه - (¬1). [فصل وفيها توفي] محمد بن الحسن بن أحمد أبو الحسن، السَّرَّاج، البغداديّ. كان زاهدًا عابدًا مجتهدًا، صلّى حتى أُقْعِد، وبكى حتى عَمي، وتوفي يوم عاشوراء. [سمع أبا شُعيب الحَرَّاني وغيره، وروى عنه محمد بن أبي الفَوارس وغيره، ] وكان صالحًا ثقةً (¬2). [فصل وفيها توفي] أبو عبد الله بن أحمد، المقرئ، الزَّاهد [صحب يوسف بن الحسين الرازي وطبقته. قال في "المناقب": ] كان من أعلى المشايخ هِمَّةً وأفتاهم. [وحكى عنه أنه] قال: ما قَبِلتُ من أحدٍ شيئًا (¬3) إلا رأيتُ له عليَّ مِنَةً لا أقوم بها أبدًا. وَرِث من أبيه خمسين ألف دينار سوى الضِّياع، فأنفقها كلَّها على الفقراء. وكان له أخٌ صالح يُكنى أبا القاسم، مات في سنة ثمان وسبعين وثلاث مئة [، وكان على منهاج أخيه في الزُّهد والوَرَع والعبادة.] (¬4) ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 73، والمنتظم 14/ 250. والتراجم الأربعة الأخيرة ليست في (ف م م 1). (¬2) المنتظم 14/ 251، والسير 16/ 161، وتاريخ الإسلام 8/ 259. (¬3) في طبقات الصوفية 511، ومناقب الأبرار 2/ 222: ما قبل مني أحد شيئًا. (¬4) بعدها في (ف): والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

السنة السابعة والستون وثلاث مئة

السنة السابعة والستون وثلاث مئة فيها وصل عضد الدولة إلى الأهواز، فقرَّر أمورَها ورتَّب الحُماةَ في طُرُقها، وسار إلى البصرة لخمسٍ بقين من المحرَّم وقد انصرف أبو كاليجار مَرْزبان بن عز الدولة، فوجد الفتنةَ قائمةً بين مُضَر وربيعة، فنظر في ذلك، وما زال حتى ألَّف بين القبيلَتَين، وضَمِن بعضُهم بعضًا، وكتب بينهما كتابَ اتِّفاق، وأصلح بينهما، فانْحَسَمت موادُّ الفتنة، وسار إلى واسط فدخلها في ربيع الأول، فعمل كما عمل في الأهواز والبصرة. وفيها توفي يوسف بن الحسن الجَنَّابي، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ما نقله عز الدولة بعد دخوله بغداد حتى خرج عنها: ولما دخل عز الدولة بغداد تجدَّد لابن بقية طَمعٌ في أن يُراسِلَه، وبذل له ثلاث مئة ألف دينار يُصَحّحها من كُتَّابه وأسبابه ومن باقي النواحي إذا رَدَّه إلى وزارته، وأن يقومَ بالحرب وتدبير الجيش، وبلغ أصحاب عز الدولة والقُوَّاد الذين كانوا أشاروا بالقبض عليه، فقالوا لعز الدولة: إنما هذا طَمَعًا للخلاص مما هو فيه، فإذا مَلك نفسَه أثار الفتنة وقلب الدولة، ولا يؤمَن أن يواطئ عضدَ الدولة عليك وعلينا، فقال: ما الرَّأي؟ قالوا: حَسْمُ مَوادّه بسَمْله، فسَمَله في ربيع الأول. ثم استشار قُوَّادَه في المقام ببغداد أو الخروج عنها، فأشار بعضُهم بالثَّبات، وقال بعضهم: نَجمعُ عسكرنا، ونقصد الأهواز مُخالفين لعَضُد الدولة، ونقصد بلادَ فارس، فإذا عاد إلينا عُدنا إلى بغداد. فبرز بعسكره إلى باب الأَزَج، وعقد جسرًا هناك، وتردَدَّت الرسائل بينه وبين عضد الدولة على أن يُسلِم إليه بغداد، ويَدخلَ في طاعته، ويُقيمَ في كَنَفه، أو يخرج إلى الشام فيفتح البلاد، فقال: أخْرُجُ إلى الشام، وتقرَّر الأمرُ بينهما على هذا، وشَرَط عليه عضد الدولة أن لا يَتعرَّض لبلاد أبي تَغْلب بن حَمْدان إلا مُختارًا في أعماله، وكان قَصْدُ عضد الدولة تأييسَ أبي تَغْلِب (¬1)، فقال: نعم. ¬

_ (¬1) في الكامل 8/ 691 أن ذلك لمودة ومكاتبة كانت بين عضد الدولة وأبي تغلب.

ووقع النِّداءُ ببغداد في الجانبين بالصُّلْح، وطابت قلوبُ الناس وسكنوا. ورحل عز الدولة يوم الجمعة لليلةٍ خلت من شهر ربيع الآخر إلى قُطْرَبُّل، وتفرَّق دَيلَمُه عنه؛ فطائفةٌ ثبتت معه وسارت بمَسِيره، وطائفة انحازت مع الحسن بن فيلسار، فسار بها إلى جِسر النَّهْرَوان، وطائفة دخلت في طاعة عضد الدولة. ودخل أوائلُ أصحابِ عضد الدولة بغداد لليلتين خلتا من ربيع الآخر، ونزل عضد الدولة بالخِيَم بالشَّفيعي (¬1)، وخرج الطَّائع إلى لقائه، وضُربت له القِباب في الجانب الشرقي وزُيِّنَت، وسار إلى باب الشَّمَّاسِيَّة في أحسنِ هَيئة، وأجمل تعبئة، وبين يديه خمسة أَفْيِلَة مُزَيَّنة بالمقاتلة، وكان يومًا عظيمًا، وأقام بباب الشماسية إلى حادي عشر ربيع الآخر، ثم نزل دارَ السَّلْطَنة التي كان ينزلها سُبكتكين بالمُخَرّم. وسار الحسن بن فيلسار من النَّهْرَوان متأمِّرًا على مَن معه من الدَّيلَم يقصد بعضَ الجِهات التي يَتمكَّن فيها من الفساد، فأنفذ إليه عضد الدولة أبا القاسم سعد بن محمد الحاجب في عِدَّةٍ من الدَّيلَم، فأوقع به، وأخذه أسيرًا وبه ضَرَبات قد أثْخَنَتْه، فلَبِث قليلًا ثم مات، وقُتل أكثر مَن كان معه. ذكر ما جرى عليه أمر عز الدولة: لما سار عن بغداد وكان معه حَمدان بن ناصر الدولة سار لمسيره واتِّقائِه، واجتمع إلى عز الدولة ألفا رجلٍ، وحَصل له من الخيل والسلاح ما استقلَّ به واستَظْهَر، ونهب خيولَ المزارعين والبُناة بنواحي دُجَيل ومَسْكِن، وكانت عِتاقًا، ونهب الغِلال، واتَّفق مع حمدان على قَصْدِ أبي تغلب ومُحاربَتِه، وأخذِ البلاد منه، ومتى رجع عن هذا الرأي كان حمدان آمنًا من أن يُسْلِمَه إلى أخيه، واستَوْثَق منه بالأيمان والعهود المُغَلَّظة. فلما وصل إلى تكريت قدم عليه أبو الحسن علي بن عمر كاتبُ أبي تغلب بهدايا يسيرة، وسار معه إلى الحَديثة، وأغواه، ودعاه إلى القَبْض على حَمدان، وتسليمه إلى أخيه أبي تغلب؛ على أن يجتمع معه أبو تَغْلِب، ويُنفق أمواله، ويَبْذُلَ رجاله وسلاحَه، ¬

_ (¬1) انظر المنتظم 14/ 252.

ويعودَ معه إلى بغداد يُحارب عضد الدولة، فامتنع من ذلك وقال: كيف أصنع بالأيمان والحِنْث؟ فاستعان عليه بوالدته وأخيه عُمدة الدولة أبي إسحاق وخواصّه، فلم يفعل، واتَّصلت الهدايا والمُلاطفات من أبي تغلب، ولم يزل أبو الحسن علي بن عمر بأصحاب عز الدولة في أمر حَمْدان. وكان أبو تغلب وأختُه جَميلة في قلبهما من حَمدان، طالبِين بثأر أخيهما أبي البركات عنده. وأقام عز الدولة على المنع، ولما قَرُب من الموصل اجتمع أبو تغلب بعُمدة الدولة، وتقرَّر بينهما الأمر على قبض حَمدان من حيث لا يَدخل عز الدولة في الأمر، لئلا يَحْنَث بيمينه. وكان عز الدولة بحَديثَة الموصل، فرجع عمدة الدولة إليه، وخَوَّفه وقال: نحن في قبضة أبي تغلب، وإن لم تَفْعل قَصَدَنا وحارَبَنا، وما لنا به طاقة، وقد حلَف لنا على المساعدة بنفسه وماله ورجاله على خلاص بغداد. فخاف عز الدولة وطمع، فسلَّم حمدان إلى أخيه يوم الخميس لعشرٍ بقين من جمادى الأولى، فحبَسه في بعض القِلاع ثم قتله، وهرب أبو السَّرايا بن حمدان إلى عضد الدولة، فحصل في حملته. وجمع أبو تغلب وحَشَد، وأخرج المال واستكثر منه، واجتمع بعز الدولة على ظهور الخيل، فتحالفا وتعاهَدا وتخالصا، وانحدرا في خمسة وعشرين ألف مقاتل، ويكون عز الدولة مُواجِهًا مُلاقيًا، وأبو تغلب مُرادِعًا ومُستَدْبِرًا لظهر عسكر عضد الدولة. ذكر ما فعله عضد الدولة بعد دخوله بغداد: ركب إلى دار الطَّائع في جُمادى الأولى يوم الأحد لتسعٍ خلون منه، ومعه أصنافُ الجُند والأشراف والقُضاة والأمائل ورسولُ أبي القاسم نوح بن منصور بن نوح صاحبِ خُراسان، فخلع عليه الطائع الخِلَع السُّلطانية، وتوَّجه بتاجٍ مُرَصَّعٍ بالجوهر، وطَوَّقه،

وسَوَّره، وقَلَّده سيفًا، وعقد له لِوائين بيده؛ أحدهما مُفَضَّض (¬1) على رسم الأمراء، والآخر مُذْهب على رسم ولاة العهود، ولم يُعقَد هذا اللواء الثاني لغيره ممن يجري مجراه، ولا خُلِع التاجُ على مَلكٍ قبله، ولُقِّب تاجَ الملَّة مُضافًا إلى عضد الدولة، وكتب له عهدًا على ما وراء بابه، وقُرئ بحضرة الخلفاء، فإذا أخذه الرجل منهم قال له الخليفة: هذا عهدي، خُذْه إليك واعمل به، وحمله على فَرسٍ بمركب ذهب، وقاد بين يديه آخر بمركبٍ مثله. وخرج من حَضرته فاشتق الجانب الشرقي وقد نُصِبت له القِبابُ المُزَيَّنة إلى باب الشَمَّاسِيَّة. ثم انحدر في طَيَّارٍ إلى داره، وجلس من الغد يوم الاثنين بالخِلعَ، والتَّاجُ على رأسه، وهو على السَّرير، ودخل إليه الناس على طبقاتهم فهَنَّؤوه، وأنشد الشُّعراء. ثم ركب في يوم الثلاثاء في الجانب الغَربيّ، فاخترقه من النَّجْمِيّ إلى باب التِّبْن وقد نُصِبت له القِباب، ثم نزل في الطَّيَّار إلى داره، وتصدَّق بعشرين ألف درهم. وذكر أبو الحسن علي بن عبد الله بن حاجب النعمان صِفةَ الخَلْع على عضد الدولة فقال: لما حَضَر عضد الدولة إلى الطائع في مَورِده الثاني إلى بغداد سألَه أن يَزيد في لقبه تاجَ المِلَّة، ويُلْبِسَه التاج، وسبعَ جِباب، وفَرَجِيَّة، وعِمامة، فأجابه إلى ذلك، وصِيغ التاج والطَّوق والسِّوارَين من ألفين وخمس مئة مِثقال. وكان ترتيبُ الأمر أن جلس الطائع على سرير الخلافة في صدر السِّدِلَّى (¬2) من داره في دَسْت خزٍّ أسود مُحَوّم بالذهب، وحوله من خدمه الخواصّ نحو مئةُ خادم بالثياب الجميلة، والمَناطق، والسيوف المُحَلّاة، وقد أحدقوا بالسَّرير، وبأيديهم المَذَابّ، والحُجَّاب والأشراف والأعيان خارج السِّدِلَّى، والطائع جالس وبين يديه مصحف عثمان رضوان الله عليه، وعليه البُردة، وبيده القَضيب، وعلى رأسه الرُّصافِيَّة، وضُربت على الأساطين الوُسْطى سِتارةُ دِيباجٍ أنفذها عضد الدولة، وسأل أن تكون حجابًا بين الخليفة والناس؛ لئلا تقع عين أحد من الجُند عليه قبله. ¬

_ (¬1) أي مُوَشى بالفِضَّة. وينظر المنتظم 14/ 253 وتاريخ الخلفاء 1/ 168. (¬2) معرب، وأصله بالفارسية: سه دله، كأنه ثلاثة بيوت. تاج العروس، وفي تكملة المعاجم لدوزي 6/ 51: سِدِلَّة: مصطبة، صُفَّة، أريكة.

وامتلأت الدَّارُ من الدَّيلَم، والتُّرك، والقُضاة، وأرباب المناصب والمراتب، والأشراف الطالبيين والعباسيين وغيرهم، وجاء عضد الدولة، فحين قَرُب من الستارة رُفعت، وحينئذٍ وقع طَرْفُه على الخليفة، فقال له مؤنس الصِّقِلّي: قَبِّل الأرض، فقبَّلها من أول الصَّحن، ولم يُقبّلها أحدٌ ممن معه لئلَّا يُشاركه، وكان بين يديه زيار القائد، فارتاع لما شاهد وقال: أيها الملك، أهذا هو الله عزَّ وجلَّ؟ فقال: لا بل خليفة الله في الأرض. ثم قَبَّل الأرضَ سبعَ مرات حتى وصل إلى السَّرير، فقال له الطائع: ادْنُ، فدنا، فقبَّل يدَ الخليفة ورِجلَه، وثنى الخليفةُ يمينَه عليه، وبين يدي السّرير كرسيّ، فأشار الخليفةُ إلى عضد الدولة بالجلوس عليه، فأومأ إليه، ولم يَجلس حتى أقسم عليه الطائع، فجلس، فقال له: ما كان أشوَقَنا إليك، وأتْوَقَنا إلى مُفاوضتك، فقال: العُذْرُ مَعلوم عند مولانا، فقال: نيَّتُك مَوثوقٌ بها، وعَقيدَتُك مَسكونٌ إليها، وقد فَوَّضْتُ إليك ما وَكَل الله تعالى إليّ من أمور الرَّعِيَّة في شرق الأرض وغربها، سوى خاصّتي وأسبابي وما وراء بابي، فتولَّ ذلك مُستجيرًا بالله تعالى، فقال: يُعينني الله على خِدمةِ مولانا وطاعته. ثم قال عضد الدولة: أُريد وجوهَ القُوَّاد الذين دخلوا معي يَسمعون هذا، فقال الطائع: يُحضَروا ويُحضر ابن مَعروف وابن أم شَيبان والزَّينَبيّ، وسمَّى جماعةَ القُضاة والأشراف، فحضروا، وأعاد عليه القولَ بحضرتهم. ثم أُفيضت عليه الخِلَع، فعاد وأراد أن يُقَبِّل الأرضَ فلم يقدر من ثِقَلِ التاج، وأعطاه الطائع من بين المِخَدَّتين سيفًا آخر مُحلَّى، فقلَّده به مُضافًا إلى سيف الخِلعة. فلما أراد عضد الدولة أن يَنصرف قال للطائع: إني أتطَيَّرُ أن أعودَ على عَقبي، وأريد أن يُفتَح لي باب إلى دجلة، فأذن في ذلك، فحَضر في الحال ثلاث مئة صانعٍ كان عضد الدولة قد أعدَّهم، ففتحوا له بابًا، وركب الفرس بمركب الذهب والطائع يراه إلى أن خَرج من البلد. ذكر هديَّةِ الطائع لعضد الدولة في اليوم الثالث من الخِلْعَة: فَرَجِيَّةُ وَشْي مُثقلة، وغِلالةُ قَصَبٍ، وقَلَنْسُوَةُ وَشْيٍ مُذَهَّب، وصينيَّة ذهب وزنُها ثمان مئة مِثقال، فيها مَغْسَلُ ذهب، وطاساتٌ وكاسات مُطَعَّمة، وثيابُ دِيباج، وتُحَفًا كثيرة.

وبعث إليه عضد الدولة خمسَ مئة حِمْل، منها ألفُ ألف دِرهم فِضَّة، وخمسون ألف دينار، وخمس مئة ثوب أنواعًا من الدِّيباج وغيره، وثمانون صينية ذهب وفضة، فيها أنواعُ الطِّيب من المِسْكِ والعَنْبَر والنَّدِّ والكافور، وعشرة أفرسٍ بمراكب الذهب، وسَهَّارِيّ (¬1)، وغيرها. وقبض عَضُد الدولة على مَن بقي من أصحاب عز الدولة، واستخرج منهم أموالًا كثيرة، وحمل أبو سعد بن بَهْرام أبا الطاهر بن بَقيَّة إلى عضد الدولة وهو مَسْمول، وطولب بالمال فلم يكن عنده شيء، فشُهِر في جانبَي بغداد على جَمَل وعليه بُرْنس، ثم قتله. وفيها جلس الطائع لرسول أبي القاسم نوح، وعقد له على خُراسان، ودفع إليه الخِلَع واللواء سِفارةَ عضد الدولة؛ لأن أبا صالح منصور بن نوح كان مُصاهرًا لعضد الدولة، فلما مات أقاموا ابنه أبا القاسم نوحًا مكان أبيه، فهؤلاء ملوك ما وراء النهر. وهذا أبو القاسم نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن أسَد بن سامان خُداه بن حيثمان (¬2) بن طُمغاث بن نُوشرد بن بهرام جوبين بن بهرام جُشْنس بن فيرزاد بن خسرو بن نَرْسِي بن بهرام بن أردشير بن سابور بن يزدجرد الأثيم. وفي رجب وَرَد رسولُ شريف بن سيف الدولة صاحب حلب إلى عضد الدولة، وهما ابن الناصر العلوي وعبد الله بن أحمد الإسكافي، يَبْذُلان الطاعة عن شريف، فقبل عضد الدولة منهما ذلك، وخاطب الطائع، وتنجَّز له الخِلَع واللواء والعهد، وخادمًا من خَدَم الخليفة (¬3). وفيها زادت دجلة زيادةً عظيمة في نيسان؛ بلغت إحدى وعشرين ذراعًا وثلثًا، وانفجر بالزَّاهر من الجانب الشَّرقي بَثْقٌ غَرَّق الدُّور والشَّوارع، وهرب الناس إلى السُّفُن، وهيَّأ عضد الدولة الزَّبازب تحت داره، وأطلق المال، وجلب القَصَب من كل ¬

_ (¬1) في المعجم الوسيط: السهاري: مصباح ضئيل النور ينير البيت ليلًا بعد نوم أهله. (¬2) كذا، وفي الكامل 7/ 279: جثمان، وفي الأنساب 7/ 12، والإكمال 5/ 148، ومعجم البلدان (سامان): جُبا، أو حيا. (¬3) من أول السنة إلى هنا ليس في (ف م م 1).

مكان، واتَّفق أن زَورقًا كبيرًا جاء وفيه قَصَب، فساقه الماء إلى الفُوَّهة التي انفتحت عند الزَّاهر فسدَّها، وعاجلوا بالتُّراب فوقه وطَمَروه فيها، ودُفن في موضعه، فكان سببًا في سدِّ الفُوَّهة، ثم أصبح الماء ناقصًا ففرح الناس. وفي يوم الاثنين الثاني من شَوَّال خرج عضد الدولة من بغداد قاصدًا عز الدولة وأبا تغلب، وخرج الطائع معه بالجيش كله، ودخل أبو علي الفارسي على عضد الدولة لما أراد الخروج لقتال عز الدولة، فقال له: ما رأيناك في صُحبتنا (¬1)! فقال: أنا من رجال الدعاء لا من رجال اللقاء، فخار الله للملك في عزيمته، وأنجح قَصْدَه في نهضته، وجعل العافيةَ زادَه، والظَّفَرَ تُجاهَه، والملائكةَ أنصارَه، وأنشد: [من المنسرح] ودَّعْتُه حيث لا تُودِّعُه ... نفس ولكنها تسيرُ معه ثم تولَّى وفي الفؤاد له ... ضِيقُ مَحَلٍّ وفي الدُّموعِ سَعَه فقال له عضد الدولة: بارك الله فيك، فإني أَثِقُ بطاعتك، وأتيقَّن صفاءَ طَويَّتِك، وقد أنشدنا بعض أشياخنا بفارس فقال: [من مخلع البسيط] قال لهم (¬2) إذ سار أحبابُه ... وبدَّلوه البُعدَ بالقُربِ والله ما شَطَّت نَوى ظاعِنٍ ... سار من العَينِ إلى القَلْبِ فدعا له أبو علي وقال: أيأذن مولانا في نقل هذين البيتين؟ قال: نعم، فاستملاهما منه. والتقوا يوم الأربعاء لاثنتي عشرةَ ليلةً بقيت من شوّال، ووقف عَضُد الدولة في القلب، ووقف الناس بين يديه، واشتدَّت الحرب، وقُتل من الفريقين جماعة، وكان الطائع في عِدَّةٍ من الفُرسان والرجال مع الأثقال والسّواد، فنصر الله عضد الدولة، وانهزم عز الدولة عند ارتفاع النهار فأُخِذ أسيرًا، وهرب أبو تَغْلِب ومعه عمدة الدولة وأبو طاهر ابنا معز الدولة وأبو كاليجار بن عز الدولة. ذكر السبب في هزيمتهم: كان عضد الدولة لما اتفق عز الدولة عليه وأبو تغلب وتحالفا أعمل الحيلة في إفساد ما بينهما، فدسَّ كتابًا إلى أبي تغلب على لسان بعض ثِقاته يقول: قد صحَّ عندي أن عزَّ ¬

_ (¬1) في المنتظم 14/ 252: ما رأيك في صحبتنا؟ (¬2) في المنتظم 14/ 253: قالوا له.

الدولة وعضد الدولة قد اتَّفقا في السرِّ عليك، وأن يأخذوك أسيرًا يوم الحرب، ويَمضي عز الدولة فيأخذ الموصل ويقيم بها، ويعود عضد الدولة إلى بغداد، فاستَظْهِرْ لنفسك. فاحترز أبو تغلب من مُخالطة عز الدولة، فلما وَقَعت الحرب قاتل عز الدولة، وأرسل إلى أبي تغلب أن يَحمل على المَيْمَنة مرارًا، فتوقَّف لما كان خامَرَ سِرَّه من الكتاب، فوقف على تلٍّ مُشْرِفٍ من بعيد، ولم يخالط العسكر، فكانت الهزيمةُ، وتبعوا أبا تغلب، وخرج فنجا ومعه أخو عز الدولة وولده أبو كاليجار. وعاد الطائع إلى بغداد، وحمل الأُسارى من الدَّيلَم والتُّرْك في الزَّواريق، فمنهم من غرق، ومنهم من بقي، ومنهم من استُبقي. وسار عضد الدولة إلى الموصل، فوصلها يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة، فنزل دارَ أبي تغلب، وولَّى العمَّال في النواحي، وبعث وراء المنهزمين، وهم عمدة الدولة، وأخوه أبو طاهر، وأبو كاليجار بن عز الدولة، ووالدة عمدة الدولة وأخيه، وتفرَّقوا، وسار بعضهم إلى دمشق مع زوجة معزّ الدولة وبها هفتكين التركي، فأنزلهم وأحسن إليهم، وأقاموا عنده. وأما أبو تغلب فسار إلى مَيَّافارِقين ومعه أختُه جميلة، وكانت مُشاركةً له في الأمر والنَّهي، ومعه أخواته الباقيات وحُرَمُه، وبعث إليه عضد الدولة أبا الوفاء طاهر بن محمد، فلما قَرُب من مَيَّافارِقين سار أبو تغلب بعياله إلى قلعة بَدْليس، ونزل بميافارقين هزارمرد الحَمْداني غلام جدِّه أبي الهيجاء، وجاء أبو الوفاء فنازلها، وسار أبو تغلِب إلى قلاعه، واستنزل منها مالًا حمله معه، وتبعه أبو الوفاء، ثم عاد فحصر مَيَّافارقين، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة جرَت لعضد الدولة لما دخل بغداد قصَّةٌ مع أبي الحسين بن سَمعون نذكرها إن شاء الله تعالى في ترجمة أبي الحسين (¬1)، وحجَّ بالناس أبو عبد الله العلوي. ¬

_ (¬1) من قوله: وفي يوم الاثنين الثاني من شوال خرج عضد الدولة ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

أبو القاسم إبراهيم بن محمد

وفيها توفي أبو القاسم إبراهيم (¬1) بن محمد ابن أحمد بن مَحْمويَه النَّصْراباذِيّ، النَّيسابوريّ. ونصراباذ مَحلَّةٌ من مَحالّ نَيسابور [، وثمَّ جماعة يُنسَبون إلى هذه المحلَّة. وأما أبو القاسم صاحب هذه الترجمة سمع الحديث الكثير، وأثنى عليه الحاكم أبو عبد الله، وأبو عبد الرَّحمن السُّلَميّ، وابن خَميس (¬2) وغيرهم، وقالوا: هو نيسابوري المولد والمنشأ]. وكان شيخَ خُراسانَ في وقته، وإليه يُرْجَع في علوم القوم، والسُّنَن، والتَّواريخ، وعلوم الحقائق. [وقال القُشَيري: ] صحب الشِّبليّ وغيره، [وكان عالمًا بالحديث، كثير الرواية. وقال السُّلمي في "الطبقات": هو شيخ الصوفية بنيسابور] وله لسان الإشارة مَقرونًا بالكتاب والسُّنَّة [، وما كانت تُشَبَّه أوقاتُه وبكاؤه إلا بأوقات الشبلي وبكائه. ذكر نبذة من كلامه: ] قال: إذا بدا لك شيء من مبادئ الحقِّ فلا تلتفت معه إلى جنَّةٍ ولا إلى نار، وإذا رجعتَ إلى ذلك الحال فعَظِّم ما عظَّمه الله تعالى. وقيل له: الكلُّ مُلْكُه فكيف اشترى؟ فقال: اشترى كشِرى الأب للطفل. وقال: العبادات إلى طَلَب العَفْو عن التَّقْصيرِ فيها أحوج إلى طلب العِوَض عنها (¬3). وقال: أهلُ المحبَّةِ واقفون مع الحقِّ على مقامٍ إن تقدَّموا غَرِقوا، وإن تأخَّروا حُجِبوا. ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وفيها أبو القاسم النصراباذي واسمه إبراهيم، والمثبت من (خ ب). (¬2) انظر: تاريخ بغداد 7/ 107، وطبقات الصوفية 484، والرسالة القشيرية 124، ومناقب الأبرار 2/ 201، وتاريخ دمشق 2/ 491 (مخطوط)، والمنتظم 14/ 256، والسير 16/ 263، وتاريخ الإسلام 8/ 263. (¬3) في طبقات الصوفية 487: العبادات إلى طلب الصفح والعفو عن تقصيرها أقرب منها إلى طلب الأعواض والجزاء بها.

وقال: أثقالُ الحقِّ لا يَحملها إلا مَطايا الحقّ. وقال: جَذْبَةٌ من جَذَباتِ الحقِّ تُربي على عَمل الثَّقَلَين. وقال: أنت بين نِسبتين؛ نِسْبَةٍ إلى الحقّ ونِسْبةٍ إلى آدم، فإذا انتسبتَ إلى الحقِّ دخلتَ في مقامات الكَشْفِ والعِصْمَة، وتلك نسبة تحقيق العبودية {إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وإذا انتسبتَ إلى آدم دخلتَ في مقامات الظُّلمِ والجهل {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. [وحكى عنه في "المناقب" أنه] قال: سِجْنُك نفسُك، فإذا خرجتَ منها وقعتَ في راحة الأَبَد. وقال: إنما سُمّي أهلُ الكهف فِتْيةً لأنهم آمنوا بغير واسطة. وقال: الحقُّ غَيور، ومن غَيرته لم يجعلْ إليه طَريقًا سواه. وقال: نهاياتُ الأولياء بدايات الأنبياء. وقال: دخلتُ البادية [في بعض أسفاري] فصُعِقْتُ، فكُشِف لي عن القمر، فإذا في وجهه مَكتوب: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الآية [137: البقرة]، فاستَقْلَلْتُ من وقتي ومَشَيت (¬1). وقيل له: إنه ليس لك في المحبة شيء؟ فقال: محبَّةٌ توجبُ سَفْكَ الدِّماء، ومحبةٌ توجب حَقْنَها، وإن كان كما قالوا فلي حَسَراتٌ أحترِقُ منها، وأنشد: [من الطويل] ومَن كان في طولِ الهوى ذاقَ سَلْوَةً .. فإني من لَيلى لها غيرُ ذائقِ وأكثرُ شيءٍ نِلْتُه من وصالها ... أمانيُّ لم تَصدُقْ كلَمْحَةِ بارِقِ وقال: للخلق كلِّهم مقامُ الشَّوق، وليس لهم مقام الاشتياق، ومَن دخل في مقام الاشتياق هام فيه حتى لا يُرى له أَثَرٌ ولا قَرار. وقال: للنَّفس قوت، وللقلب قوت، وللسرِّ قوت، وللرُّوح قوت؛ فقُوتُ النَّفسِ الطُّمَأنينة، وقوت القلب الرُّوحانيّة، وقوت السرِّ الفكرة، وقوت الرُّوحِ السَّماعُ الصَّادرُ ¬

_ (¬1) في مناقب الأبرار 2/ 204: فاستقللت وفتح عليَّ من ذلك الوقت.

بختيار أبو منصور عز الدولة

عن الحق، وقوت الأقوات على الحقيقة هو الله تعالى؛ لأن الكفايات منه، وأنشد: [من الطويل] إذا كُنتَ قُوتَ النَّفْسِ ثم هَجَرْتَها ... فلم تَلْبَثِ (¬1) النَّفْسُ التي أنت قوتُها ستبقى بقاءَ الضَّبِّ في الماء أو كما ... يعيشُ ببَيداءِ المهامِه حُوتُها واستسقى يومًا فجاء المطر فقال: [من الكامل] خرجوا ليَسْتَسقوا فقلتُ لهم قِفوا ... دَمعي يَنوبُ لكم عن الأنْواءِ قالوا صَدَقْتَ ففي دُموعِكَ مَقْنَعٌ ... لو لم تكن مَمزوجَةً بدماءِ (¬2) ذكر وفاته: خرج إلى مكة سنة خمس (¬3) وستين وثلاث مئة، وكان يَعِظُ على المنابر ويُذَكِّر، ومات بمكة [في سنة سبع وستين وثلاث مئة، ودُفن] عند تربة الفُضَيل بن عِياض - رضي الله عنه -. وكان صدوقًا، ثقةً، أجمعوا عليه. [حكى في "المناقب" (¬4) وقال: ] رآه بعضُ الصَّالحين في المنام بعد موته فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: عُوتِبْتُ عِتابَ الأشراف، ثم نُوديتُ: يا أبا القاسم، هل بعد الاتّصال انفصال؟ فقلت: لا، يا ذا الجلال والإكرام، وما وُضِعْتُ في اللَّحْدِ حتى لَحِقْتُ بالأحد (¬5). [فصل وفيها تُوفّي] بَخْتِيار أبو منصور عزُّ الدولة ابن مُعزّ الدولة أبي الحسين بن بُوَيه. ¬

_ (¬1) في مناقب الأبرار 2/ 204: فكم تلبث، وهي الأشبه، والمثبت موافق لما في تاريخ دمشق 2/ 493. (¬2) من قوله: وقيل له إنه ليس لك في المحبة شيء ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬3) في (ف م م 1): ذكر الحاكم أبو عبد الله قال: خرج النصراباذي إلى مكة في سنة خمس. (¬4) مناقب الأبرار 2/ 204. (¬5) في (ف م م 1): بالأبد، وبعدها في (م): انتهت ترجمته.

عبد الله بن محمد

كان من أحسن الناس خُلُقًا، وأشدِّهم قُوَّةً، كان يَصرَعُ الثَّورَ الشَّديدَ وحده، ويبارز الأُسودَ في صُيودها (¬1). وكان المطيع قد خلَع عليه، وسَلْطَنَه، وطَوَّقَه، وسَوَّره، وقد ذكرنا أخبارَه في السنين. وانتهى أمرُه إلى أن جاء عَضُد الدولة وأخرجه من بغداد، فعاد وحارَبَه ومعه أبو تَغْلِب بن حَمْدان، فانهزم أبو تغلب. ذكر مقتل عز الدولة: [قال ابن الصابئ: ] لما التقى عز الدولة بعضد الدولة قاتل قتالًا شديدًا، وثَقُل به سلاحُه، فقصَّر به فرسُه، فوقع إلى الأرض، فظَفِرَ به بعضُ الأكراد، فأخذ ما عليه وهو لا يَعرفه، وخلَّى عنه، وأدركه أرسلان كورموش فتعرَّف عليه، وجاءه أرسلان تكين الكوركيزي، فأخذاه وحملاه إلى عضد الدولة، وقيل: إن رأسَه حُمل إلى عضد الدولة في طشت، فتأمَّلَه، وتفَقَّد طاقات شَعَرٍ أبيض كانت في عوارضه. وكان سِنُّه لما قُتل ستًّا وثلاثين سنة، ومدةُ إمارته إحدى عشرة سنة وشهورًا، وقُتل جماعةٌ من خواصّه صَبْرًا بين يدي عضد الدولة [، وكان بين مَصْرَعِ عز الدولة وابن بَقيَّة اثني عشر يومًا (¬2). فصل وفيها توفي عبد الله بن محمد أبو القاسم الحَرَّاني، إمامُ جامع دمشق. كان زاهدًا، صالحًا، وكانت وفاته بدمشق، ودُفن بباب كَيسان عند أبي إسحاق البَلُّوطيّ. حدَّث عن محمد ابن أبي شيخ الحرَّاني وغيره. وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقةً صدوقًا] (¬3). ¬

_ (¬1) كذا، وفي المنتظم 14/ 256: متصيداته. (¬2) وفيات الأعيان 1/ 267، وتاريخ الإسلام 8/ 266، والسير 16/ 231. (¬3) مختصر تاريخ دمشق 13/ 289، وتاريخ الإسلام 8/ 268، وما بين معكوفين من (ف م م 1)، وبعد هذا فيها: السنة الثامنة والستون وثلاث مئة.

محمد بن عبد الرحمن

محمد بن عبد الرحمن أبو بكر، البغداديّ، ويعرف بابن قُرَيعَة. وكان خَفيفَ الرُّوح، كثيرَ المَزْحِ، مَليحَ العِبارَةِ، طَيِّبَ النَّادِرة، وخُصَّ بأبي محمد المُهَلَّبي الوزير في أيامه، ولازمه، ونفق على عز الدولة من بعده، وقَرَّبه، ولَطَفَ به عنده، ونادمه، وكان لا يُفارقه، ويُحَمِّله الرسائل، وله ألفاظ مُدَوَّنة. كتب إليه أبو عبد الله الزُّبَيرِيّ وَرَقةً يقول فيها: المملوك أبو عبد الله الزبيري، الموسوم بالدُّعاء للملوك في المواكب، والأذان في الجوامع، له مدّةٌ ما وصل إليه جائزة. فوقَّع عليها: ذكرتَ أنك منذ مدة لم تَقْبِض ما أجريتُه لك من باب البرِّ شيئًا، فشُوهَة بُوهَة، وأحوالٌ مَكروهة، أيكون أحدٌ أحقَّ منك نَسَبًا في المهاجرين، وزَعَقاتٍ في الدِّين، وصَيحاتٍ بمنافع المسلمين؟ اللهم غَفْرًا، نتلافى ما فرطت منك تلافيًا شافيًا كافيًا إن شاء الله تعالى. وحضر عند عزِّ الدولة جماعة من الفقهاء فيهم هَرَويّ، فقال: أيها الأمير، هذا من بلد القِشْمِش (¬1)، ومَعْدِن المِشْمِش، من أهل هَراة، رجالُها سَراة، وجبالُها شَراة، فضحك عز الدولة. وحضر يومًا عند عَضُد الدولة وقد خرج من بين يديه أبو العباس أحمد بن علي النَّفَّاط العامل، فقال: هذا أبوه كان يَبيع النَّفْط، فقال له ابن قُرَيعَة وكان واقفًا بحضرته: هذا لقبُ تعريف، لأن اللقب ثلاثة؛ لقبُ تَشريف، ولَقَبُ تعريف، ولَقَب تَسخيف، فقال له عضد الدولة: مثل ماذا؟ فقال: أما التَّشْريف فمثلُ ركن الدولة وعضد الدولة وما كان في معناه، وأما التعريف فمثل ابن النَّفَّاط، وابن اللَّقَّاط، وابن المَقَّاط (¬2)، وأما التَّسخيف فمثل زيقط وبطبط وقطقط، فضحك عضد الدولة منه وقال: ¬

_ (¬1) الزبيب الصغير لا نوى له. (¬2) المِقاط: الحبل.

شارَكْنا بختيار في لَهْوه وطَنْزِه (¬1)، فقال: أيها الملك، لكان زمانٌ وآل والملوك تُعاشَر بمثل أخلاقها، وإن كان بختيار أَخَذَ من اللهو بنَصيب وأخذنا معه فإن مولانا يَجِدُنا في الجِدِّ بحيث يَختار ويؤثر ويحبّ (¬2). وكان أبو الحسين الزاهري (¬3) يستفتي ابنَ قُرَيعة دائمًا في تَعَضُّلاتٍ يَضَعُها، فكتب إليه يومًا: ما يقول القاضي أيَّده الله في رجلٍ باع حِجْرًا (¬4) على رَجُل، فلما رفَع المُشتري ذَنَبَها ليُقَلِّبَها بعد وَزْن ثمنها، فخرج منها ريح مُصَوِّتَة؛ اتَّصلت بحَصاةٍ ففَقأتْ عين الرَّجُل، ما الواجب فيها الدِّيَةُ أو الرَّدّ؟ فكتب ابنُ قريعة تحت خطِّه: الجواب وبالله التوفيق: لم تَجْرِ عادة بمثل هذه البَدائعِ بين مُشْتَرٍ ولا بائع، فلذلك لم تثبت في فَتاوى الفُقهاء، ولم تُسْطَر في كُتب العلماء، ولكن هذا وما شاكَلَه يَجري مُجرى الفُضول، المُسْتَخْرَج من أحكام العُقول، فأقول: إن دِيَةَ ما جَنَتْهُ الحِجر مُلْغاةٌ في حُكم المُهْدَار؛ لأن "العَجْماءَ جَرْحُها جُبار (¬5) "، لحديث النَّبِيّ المختار - صلى الله عليه وسلم -، لا سيّما والمُشتري عند كَشْفِ عَورتها اسْتثَارَ [كامِنَ] سَوْرَتَها (¬6)، ولكن رَدُّ السِّلْعَة واجب، وعلى البائع لها إرجاعُها (¬7) وردُ ما قَبض؛ لأنه دَلَّس حِجْرًا، مَضِيقُها مَنْجَنيقُها، ومُطْلِقُها بَيدَقُها, ولم يَبْرَ من ذلك، وإن السِّهام إذا كانت طائشة فتلك من العيوب الفاحِشة، وأغراضها نواظِرُ الحَدَق، وقلّما يَستظهرُ المُقَلِّبون للخيل بالدَّرَق. وأمره المُهَلَّبي أن يُشْرِف على بناءٍ في داره، فحضر رجلٌ من العامَّة، فادَّعى أن وَكيلَ المُهَلَّبيّ اشترى منه ثلاثين بيضةً لتزويق السقوف، ولم يعطِه شيئًا، فقال ¬

_ (¬1) سخريته. (¬2) انظر التذكرة الحمدونية 9/ 356. (¬3) كذا، ولم أقف على أكثر هذه الأخبار، وفي تاريخ بغداد 3/ 555 خبران بين ابن قريعة وأبي الحسن الزهراني، فلعله هو، والله أعلم. (¬4) هي أنثى الخيل الكريمة. (¬5) أخرجه أَحْمد (7254)، والبخاري (1499)، ومسلم (1710) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬6) جنى آثار غضبها. (¬7) في (ب): ارتجاعها.

ابن قُرَيعة: يَا هذا بَيِّن دَعواك، وأفْصِحْ عن نَجواك، فمن البَيض بيضٌ نَعامي، وهندي، وبطي، ونَبَطي، وحَمامي، وعَصافيري، حتَّى إن الدُّودَ يَبيض، والسَّمك يبيض، فمن أيِّ أجناسه تدَّعي؟ فقال الرجل: ما أدري ما تقول، لي ثلاثون بيضةً من بيض الدَّجاج النَّبَطيّ والسلام. وكان له بستان وفيه أكَّارٌ يقال له: صاعِد، فبلغه أنَّه قد سَرق طَوْقَ دولاب البستان وزُجَّه، فكتب إليه: يَا صاعد، حَدَر الله بروحك إلى جهنم ولا أصعدها، ومن الخيرات أبعدَها، بلغني أن عاتيًا عَتا على الدُّولاب في غَفْلَةِ الرُّقَباء والأصحاب، فسَلَبه طَوْقَه وزُجَّه من غير دلالة ولا حُجَّة، فهَمَمْتُ بالدّعاء عليه، ثم عَطَفْتُ بالحُنُوِّ عليه، وقلت: اللهم إن كان أخَذه من حاجة فأَغْنِه عن المعاودة إلى مثله، وإن كان أخذه من غير حاجة فابْتُر عُمُرَه، واكْفِ المسلمين شَرَّه، فكتب إليه صاعد: قد عَمّرتُ الدولاب من عندي، والسلام. وزحمه رجلٌ راكِبٌ على حمار فقال: [من مخلع البسيط] يَا خالقَ اللَّيلِ والنَّهارِ ... صَبْرًا على الذُّلّ والصَّغارِ كم من جَوادٍ بلا حمارٍ ... ومن حمارٍ على حمارِ وركب ابن قُرَيعة مع القاضي ابن مَعْروف بواسط، فدخلا دَرْبَ الصَّاغة، فتأخَّر ابنُ قريعة وتقدَّم ابن معروف، فقال ابن قريعة: إن تقدَّمت فحاجب، وإن تأخرت فواجب. تُوفِّي ابن قريعة ببغداد يوم السبت لعشرٍ بقين من جمادى الآخرة عن خمس وستين سنة. قال الخَطيب: ولاه أبو السَّائب عُتبة بن عُبيد الله قضاءَ السِّنْدِيّة وأعمال الفُرات، وكان كثيرَ النَّوادر، حسنَ الخاطر، يُسْرع بالجواب المطبوع من غير تصنُّع، وله أخبار طريفة، وكان فاضلًا، ولا أعلمه أسْنَدَ الحديث (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 550، والمنتظم 14/ 258، ووفيات الأعيان 4/ 382، وتاريخ الإِسلام 8/ 277، والسير 16/ 326.

أبو طاهر محمد

أبو طاهر محمَّد ابن محمَّد بن بَقيّة، وزير بَختيار. قد ذكرنا بدايته وأخبارَه أيام وزارته، وكان عضد الدولة قد بعث إليه يُميلُه عن بختيار، فقال: الخيانةُ والغدر ليسا من أخلاق الرِّجال. ذكر مقتله: قد ذكرنا أن عز الدولة لما خرج من بغداد ودخلها عضد الدولة سلَّمه إليه أبو سعد بن بهرام مَسْمولًا، فشَهره في بغداد من الجانبين وعلى رأسه بُرْنُس، ثم أمر أن يُطْرَح تحت أرجل الفِيَلَة فقتلتْه، ثم حُمِل فصُلِب في طَرَف الجِسْر من الجانب الشَّرقيّ، ولم يَشفع فيه الطائع لأمرٍ كان في نفسه منه، وأُقيم عليه الحَرَس. وقيل: إن عز الدولة بعث به إلى عضد الدولة لما خرج عن بغداد لقتاله، وكتب أهلُ بغداد لعنَة عضد الدولة على حيطان الجوامع والأسواق؛ لأنه كان عادلًا جَوادًا مُحسِنًا إلى الجُند والرَّعِيَّة، سَخيًّا، فاجتاز به أبو الحسن محمَّد بن عمر الأنباري الصُّوفيّ الواعظ، وكان صَديقًا له، فرثاه بأبيات، وهي: [من الوافر] عُلوٌّ في الحياةِ وفي المَماتِ ... بحقٍّ أَنْتَ إحدى المُعْجِزاتِ كأنَّ النَّاسَ حَولك حين قاموا ... وُفودُ نَداكَ أيامَ الصِّلاتِ كأنَّكَ قائمٌ فيهم خَطيبًا ... وكلُّهم قِيامٌ للصَّلاةِ مَدَدْتَ يديك نحوَهم اقتفاءً ... كمَدِّهما إليهم بالهِباتِ ولما ضاقَ بَطْنُ الأرض عن أن ... يَضُمَّ عُلاكَ من بعد المَماتِ أصاروا الجوَّ قَبْرَكَ واستنابوا ... عن الأكْفانِ ثَوْبَ السَّافياتِ لعُظْمِكَ في النُّفوس تَبيتُ تُرْعى ... بحُفَّاظٍ وحُرَّاسٍ ثِقاتِ وتوقَدُ عندك النِّيرانُ ليلًا ... كذلك كنتَ أيَّامَ الحَياةِ ولم أرَ قبلَ جِذْعِكَ قطُّ جِذْعًا ... تَمكَّن من عِناقِ المَكْرُماتِ رَكِبتَ مَطيَّةً من قبلُ زيدٌ ... عَلاها في السِّنينِ الذَّاهِباتِ وتلك فَضيلةٌ فيها تأسٍّ ... تُباعِدُ عنك أسبابَ الدِّناتِ وكنتَ لمَعْشَرٍ سَعْدًا فلما ... مَضيتَ تَفرَّقوا بالمُنْحِساتِ

وكنتَ تُجيرُ من صَرْفِ الليالي ... فعاد مُطالبًا لك بالتِّرات أسأْتَ إلى النَّوائبِ فاسْتَثارت ... فأنتَ قَتيلُ ثأر النَّائباتِ وصَيَّر دَهْرُك الإحسانَ فيه ... إلينا من عَظيمِ السَّيِّئاتِ غَليلي باطنٌ لك في فؤادي ... يُخَفَّفُ بالدُّموعِ الجارياتِ ولو أني قَدَرْتُ على قيامي ... بفَرْضِك والحُقوقِ الواجباتِ مَلأتُ الأرضَ من نَظْمِ المَراثي ... ونُحْتُ بها خِلافَ النَّائحاتِ ولكنِّي أُصَبِّرُ عنك نفسي ... مَخافَةَ أن أُعَدَّ من الجُناةِ وما لك تُربةٌ فأقولُ تُسْقى ... لأنَّك نُصْبُ هَطْلِ الهاطِلاتِ عليكَ تَحيَّةُ الرَّحمنِ تَتْرى ... برَحْماتٍ رَوائحَ غادياتِ (¬1) وبلغتْ عضدَ الدولة، فأباح دمَ الأنباري، وجدَّ في طَلَبه سنةً فلم يوجَد، وبلغت الأبياتُ الصاحبَ إسماعيلَ بن عَبَّاد، فكتب له أمانًا، وكان ابنُ عَبَّاد بالرَّيِّ، فقدم الرجلُ عليه، فقال: أَنْتَ قائلُ الأبيات؟ قال: نعم، قال: أنشِدْني إيَّاها، فأنشدها، كما بلغ إلى قوله: ولم أرَ قبل جِذْعك قطُّ جِذعًا ... البيت، قام ابن عَبَّاد قائمًا، واعتنقه، وقبَّل فاه، ثم خَلَع عليه، وكتب له كتابًا إلى عضد الدولة بالإحسان إليه، فلما دخل عليه قال: ما حَمَلَك على مَرْثِيَة عَدوي! ؟ فقال: حقوقٌ سَلَفَتْ، وأيادٍ سَبَقَتْ، فجاشَ الحُزْنُ في قلبي. وكان بين يَدي عَضُدِ الدولة شُموعٌ تُزْهِر فقال له: قل فيها شيئًا، فقال: [من المتقارب] كأن الشُّموعَ وقد أظهَرَتْ ... من النَّارِ في كلِّ رأسٍ سِنانا أصابعُ أعدائكَ الخائفينَ ... تَضَرَّعُ تَطلُبُ منك الأمانا فرَضي عنه، وخلَع عليه، ووصَلَه ببَدْرَةٍ، وأعطاه فَرَسًا من مَراكبه. وذكر هِلالُ بن الصَّابئ أن الأبيات ظهرت بعد موت عضد الدولة، وأن ابنَ بَقيَّةَ بقي مَصلوبًا على خَشَبته؛ إلى أن حُطَّ في أيَّام صَمْصام الدَّولة ودفن، والأوَّلى أصحّ. ¬

_ (¬1) الأبيات في الكامل 8/ 690، ووفيات الأعيان 5/ 120، ومختصر تاريخ دمشق 6/ 96، وتاريخ الإِسلام 8/ 279، والسير 16/ 221، والنجوم الزاهرة 4/ 130.

السنة الثامنة والستون وثلاث مئة

السنة الثامنة والستون وثلاث مئة فيها في المحرَّم سار عضد الدولة خلف أبي تَغْلب بنفسه، فأجْفَلَ هاربًا من بين يديه، وفارقه كثيرٌ من رجاله وقوَّاده، وعاد عضد الدولة إلى الموصل في صفر، وبعث وراءه الجُند، فأتى بَدْليس، فتبعوه، فدخل الروم، وكان عضد الدولة قد بعث إليه قائدًا يقال له: طغان، فلحقه في مَضيقٍ من مَضائق الرُّوم، فعطف عليه أبو تَغْلِب، فضربه على رأسه ضَربةً بقي أثرُها إلى أن تُوفّي، وأسر جماعةً من أعيان قُوَّاد عضد الدولة وخواصّه، فضرب رقابَهم بين يديه صَبْرًا، وعاد طغان إلى الموصل ومَن سَلِم منهم، ووصل أبو تغلب إلى حِصن زياد، وجاءت عساكر الرُّوم، فعاد أبو تغلب إلى آمِد، وأقام [بها] إلى أن فُتحت مَيَّافارِقين (¬1). ذكر فتحها: كان أبو الوفاء قد نازلها فلم يَقدر عليها، فمضى إلى أَرْزَن ففتحها، وعاد إلى مَيَّافارِقين وبها هزارمرد، فحاصرها بعد أن فتح حصون ديار ربيعة كلها, ولما عاد إلى ميافارقين أقام ثلاثة أشهر يضربها بالمَجانيق، ونزل البَليخ وهو صابر، ومات هزارمرد، فكتبوا إلى أبي تغلب يخبرونه، فأمر أن يُنصَبَ مكانه مؤنس غلام الحَمْدانية، وكان في البلد قاضٍ يقال له: أبو الحسن بن المبارك بن ميمون (¬2)، فاستولى على تدبير مؤنس، وحَفظ البلد وحَصَّنه، وقاتل قتالًا شديدًا، فبعث إليه أبو الوفاء يَستميله ويَعِده، فلم يُجِبْه. وكان في البلد شيخ يقال له: أبو الحسين أَحْمد بن عبيد الله الفارقي، فبعث إليه أبو الوفاء فاستماله، فأجابه، واجتذَب أهل البلد إليه، وعلم القاضي، فأراد الفَتْكَ به، فحماه أهلُ البلد. فلما كان لليلتين خلتا من جُمادى الأولى ثار الفارقي ومعه أهل البلد، فلجأ مؤنس ومَن معه إلى منازلهم، وقبض الفارِقيّ على القاضي ومَن يَلوذُ به، وفيهم رجل يقال له: ¬

_ (¬1) الكامل 8/ 693 وما بين معكوفين منه. (¬2) في الأعلاق الخطيرة 1/ 322: أبو الحسين محمَّد بن عليّ بن المبارك.

ابن الطَّبَرِيّ، فأرسل مؤنس إلى الفارقيّ يَطلب الأمان، فبعث إلى أبي الوفاء فأمّنه، وفتح النَّار في الباب، ودخل جيشُ أبي الوَفاء، وبعث أبو الوفاء بالقاضي وابن الطَّبري إلى عضد الدولة وكان بالموصل فصلبهما. وأما أبو تغلب فلما علم بفتوح مَيَّافارِقين، وأن أَبا الوفاء قد مَلَكها، علم أنَّه سيسير إليه، ولا يقدر على مُقاومته، فأنفَذ أخَواته مستأمناتٍ إلى أبي الوفاء سوى جَميلة، وتبيَّن أصحابُه خَوفَه وخَوَره، فالتاثوا عليه، وهرب إلى ناحية الرَّحْبَة ومعه أختُه جَميلة وحُرَمه، وتخلَّف عنه مَن كان معه من الأتراك والكُتَّاب، وقصدوا أَبا الوفاء. وجاء أبو الوفاء إلى آمِد، ففتحوا له أبوابَها، واستولى على ديار بَكْرٍ بأسرها، وعاد إلى الموصل ومعه الأسارى والمستأمِنَة بعد أن رتَّب في الحُصون مَن يَحفظها. وأما أبو تغلب فإنَّه بعث أخاه أَبا عبد الله الحسين من طريق الرَّحبة إلى عضد الدولة يسأله العَفو، والاستخدام على ما كان عليه، وأقام بالرحبة ينتظر الجواب، فاجتمع الحسين بعضد الدولة بالموصل، وعَرَّفه رسالةَ أخيه، فقال: أنا أعفو عنه، وأردُّ عليه بلادَه؛ على أنَّه يَصير إلى الحَضْرة، ويدخلَ في الطاعة، فعلم أبو عبد الله أن أخاه لا يُجيب إلى ذلك، فوطَّد له عند عضد الدولة حالًا أنَّه يعود إلى خِدمته إن لم يُجب أخوه إلى ذلك. ومضى إلى أبي تغلب، وأعاد عليه الرسالة فلم يُجِب، وسار إلى الشَّام لاجئًا إلى أصحاب مصر، وسار معه أخوه أبو عبد الله، ثم فارقه من أَرَك قبل تَدْمُر بمرحلة، وسار يريد الفرات، فأرسل خلفه جماعة، فلم يظفروا به، ووصل إلى عضد الدولة سالمًا في شهر رمضان، فأكرمه وأحسن إليه. وبعث عضد الدولة إلى الرَّقَّة والرَّحْبَة وجميعَ حصون الجزيرة مَن تسلَّمها، وصارت في يده، وبعث إلى قِلاع أبي تغلب التي فيها أموالُه وذَخائرُه وجواهرُه وضياعاتُه وحُليُّ نِسائه وغير ذلك، وهذه القِلاعُ في جانب دجلة من الشرق على طريق الجَزيرة، وهي قلعة أَرْدُمُشْت، وقلعة الشّعباني، وقلعة هَرور، وقلعة ملاص وغيرها. وكانت قلعة أردمشت مملوءة من أصناف الثياب والجواهر والحلي والمتاع والفُرُش وغيرها، فسَيَّر إليها عضد الدولة مَن افتتحها واحتوى على جميع ما فيها، وخرج بنفسه فأشرف عليها، ورتَّب فيها الوُلاةَ والمُتَصرِّفين وفي جميع أعمال أبي تغلب.

وكان محمَّد بن ناصر الدولة مُعتقلًا في أرْدُمُشْت مُقيَّدًا وله ثماني سنين، فأطلقه عضد الدولة، وأحسن إليه، وردَّ عليه ضِياعه، وهذا محمَّد كُنيته أبو الفوارس هو الذي اتَّهمه أبو تغلب لما سار لقتال حَمدان بالرَّحْبة. قال المصنف رحمه الله: وقد ذكر قصّته القاضي التَّنوخيّ فقال: كان أبو تغلب قد استوحش من أخيه محمَّد، فقبض عليه، وقَيَّده، وحَبسه في قلعة أردمشت، وجعله في مَطمورة، ووَكَّل بحفظ طعامه وشرابه عجوزًا كان يَثقُ بها، وكانت ضابطة يقال لها: نازبانو، وأمرها أن لا يَصل إليه أحد، وأن تُخفيَ خبَرَه ومَوضعَه، ففعلت، وأقامت على ذلكَ ثماني سنين. ثم إن أَبا تغلب انحدر إلى بغداد مُعاونًا لعز الدولة على عضد الدولة، فكانت بينهم الوَقعة العظيمة بقصر الجَصّ؛ قُتل فيها بختيار، وانهزم أبو تغلب إلى الموصل، فخاف من تخليص أخيه محمَّد، فكتب إلى والي القلعة واسمُه طاشتم أن يُمكّن صالح بن بانويه الكردي من قتْلِ محمَّد، وكان صالح مُشاركًا لطاشتم في حفظ القلعة، وكتب إلى صالح بقتله، فجاء ليدخل عليه فقالت العجوز: لا سمع ولا طاعة، ولا أُمَكّنك إلَّا بكتاب أبي تغلب فإنَّه سلَّمه إلي، وبيني وبينه علامة. واتَّفق نزولُ عضدِ الدولة على الموصل، وهرب أبو تغلب من بين يديه، وبثَّ قوَّادَه في بلد الموصل، فجاء بعضُ قُوَّادِه فنازل تلك القلعة وفتحها، وبلغه خبر محمَّد، فأرسل إليه مَن يُحضره عنده، فبكى وأخذ يَتضرَّع يظنُّ أنَّه يُقتَل، فقالوا له: لا بأس عليك فأخوك قد هرب، ومَلَك عضد الدولة البلاد، فسجد شكرًا لله تعالى، وأرادوا أخذ حديده فقال: لا أفعل حتَّى يَراني الملك، فحُمِل إلى الموصل، وأُدخل على عَضُد الدولة في تلك الحال، فرَقَّ له، وأمر بأخْذِ حديده، وخَلَع عليه الخِلَع السنيَّة، وأعطاه الخيل بمراكبِ الذَّهب والفضة، والبغال عليها الصَّناديق فيها الأموال العظيمة والثياب الفاخرة، وأقطعه إقطاعًا بثلاث مئة أَلْف درهم، وصار من خواصّه (¬1). ¬

_ (¬1) الفرج بعد الشدة 2/ 184 - 189، ومن أول السنة إلى هنا ليس في (ف م م 1).

وفيها عاد عضد الدولة إلى بغداد لما قَرَّر أمورَ الموصل، وخرج الطَّائع للقائه من قُطْرَبُّل، فنُصِبت له القِباب، ودخلها في سَلْخ ذي القعدة، وأمر الطائع أن تُضْرَب على باب عضد الدولة الطُّبولُ والبُوقات في أوقات الصلوات الثلاث: المغرب والعشاء والفجر، وأن يُخْطَب له على المنابر بعد الخليفة، وهذان الأمران لم يكونا لغيره قبل. ذكر حصول والدة عز الدولة وأخويه وولده المرزبان عند هفتكين: قد ذكرنا حضورهم عنده، وأولاهم من الإحسان شيئًا عظيمًا، واتَّفق أن العساكرَ المصريَّة قَصَدت الشَّام، وخرج هفتكين إلى لقائهم، فوصل الرَّمْلَة والتَقَوا، فاستأمن أبو كاليجار المرزبان إلى المصريين، واقتتلوا فانهزم هفتكين؛ لأن المصريين كانوا أكثر عددًا، وقُتل أبو طاهر بن مُعزِّ الدولة، واستأمن أبو إسحاق في آخر الأمر، وأَسَر المُفَرّج بن دَغْفَل الطَّائي الهفتكين وجماعة من الترك، وحملهم إلى مصر، فأبقى عليهم العزيز، وأحسن إليهم، وأحسن إلى أبي إسحاق بن مُعزِّ الدولة، وأبي كاليجار المرزبان بن عزّ الدولة وأصحابهم، وأنزلهم، وأكرم مَثْواهم، وخَلُص الشَّام بأسره للعزيز، ما عدا حلب فإنَّها كانت بيد سعد الدولة بن سيف الدولة. ذكر أخبار هفتكين إلى أن توفِّي وحقيقة شرح الجملة التي ذكرناها: وقد ذكرنا حصولَه بدمشق، واستقرارَه فيها، وكان يُكاتب المعزَّ ويُطيعه، فلما مات المعز كاتبه العزيز، ووعده الاصطِناعَ ورفعَ المنزلة، والبقاءَ على ما هو عليه إن وَطئ بساطَه، فكتب إليه: إن هذا البلد أخذتُه بسيفي، وما أَدينُ لأحدٍ فيه بطاعة. فغاظ العزيزَ جوابُه، واستشار يعقوب بن كِلَّس وزيرَه، فأشار عليه بأن يُجَهِّزَ القائدَ جوهرًا في العساكر إلى الشَّام، وبلغ الهفتكين، فجمع وجوهَ الدَّماشِقَة وشيوخَها، وقال لهم: قد عرفتُم أنكم سألتموني أن أتولَّى أمرَكم، وما تصرَّفْتُ إلَّا على وَفْقِ مُرادِكم، وقد طلبني مَن لا طاقةَ لي به، وأنا داخلٌ بلادَ الروم، وأُبَصره مكانًا أكون مُقيمًا فيه؛ لئلا يَلْحَقَكم بسببي ضَررٌ ممَّن يَقصِدُني. وكان الدِّمشقيُّون يَكرهون المغاربةَ لمخالفتهم إياهم في الاعتقاد، ولأجل ما عامَلَهم به أُمراؤهم وولاتُهم، فقالوا له: أقم ونفوسُنا وأموالُنا بين يديك، ونحن نَفديك بأنفسنا.

وسار جوهر في عسكرٍ كَثيفٍ بعد أن أخذ من العزيز أمانًا لهفتكين، وخاتمًا، ودستًا من ثيابه، وكتابًا إليه بالعفو عنه، فلما حصل جوهر بالرَّمْلَة كاتب الهفتكين بالرِّفْقِ والمُلاطَفة، ودعاه إلى السِّلْم والطَّاعة، ووعده أن يُبَلِّغَه ما يُريد، وأعلمه بما معه من الأمان، فأجابه بالجميل والشُّكرِ على ما بذله، وغالطه بأن أحال على أهل دمشق. وسار جوهر وقَرُب من دمشق، فخرج إليه الهفتكين في أصحابه ومَن جمعه من العرب، وأقامت الحربُ بينهم شهرين، وقُتل من الفريقين عددٌ كثير، وظهر من شجاعة الهفتكين والغلمان الذين معه ما عَظُموا به في النُّفوس، وتَقَرَّرت لهم الهَيبةُ في القلوب، وأشار عليه أهلُ دمشقَ بمكاتبة الحسن بن أَحْمد القِرمطيّ، واستدعائه إلى الشَّام، وعرف جوهر خبره، فعلم أنَّه متى حَصل بين عدوَّين خِيفَ عليه، فرجع إلى طَبَرَيَّة. ووصل القرمطي إلى هفتكين، واجتمعا، وتعاهدا على قتال جوهر، وسارا خلفه، فسار من طَبريَّة إلى الرَّمْلَة، فأقام بها، وبعث بأثقاله إلى عَسْقَلان، وكتب إلى العزيز يُعرِّفه الصورة، ويَستأذنه إن دَعَتْه الضَّرورةُ قَصْدَ عَسْقلان. ووافى الهفتكين والقرمطي فنزلا على الرملة، ونازلا جوهرًا، وكان معهما خمسون ألفًا من الفُرسان والرَّجَّالة، وكان القتال على نهر الطَّواحِين، بينه وبين الرملة ثلاثة فَراسِخ، ولا ماءً لهم إلَّا منه، فقطعاه عن جوهر، فتَضرَّر عسكرُه، فسار إلى عَسْقلان في أول الليل، فوصل إليها في آخره، فدخل إليها، وأغلق أبوَابَها، وتَحصَّن بها. وتبعه الهفتكين والقرمطي، وحاصراه فيها، وضاقت به الميرة، وغَلَت الأسعار، وكان الوقتُ شتاءً فلم يُمكن حَملُ الأقوات في البحر، واشتدَّ الحالُ بجوهر، وأكل أصحابُه الدَّوابّ والميتة، وكان يخرج فيقاتل، فإذا وَجَد فُرصةً من الهفتكين دعاه إلى الطاعة وأرغبه، فيسترجع الهفتكين شجاعته، ويَهمُّ أن يَقبلَ منه (¬1)، فيَثْنيه القرمطي، وكاتب الهفتكين رجلًا يقال له: ابن الخَمَّار، وكان يُخالف اعتقادَ المصريّين ويقول: هؤلاء كفَّار ويجبُ قتالُهم. ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق لابن القلانسي 32: فيسترجعه الفتكين ويسترجله ويهم أن يقبل منه، وانظر الكامل 8/ 658.

واشتدَّ الأمرُ بجوهر، فاحتال في الخَلاص، فراسل هفتكين، وسألَه القُربَ منه، فأجابه، ووقفا على فَرسيهما سرًّا، وقال له جوهر: قد علمتَ ما يَجمعُني وإياك من عصمة الإِسلام وحرمة الدين، وهذه فتنةٌ قد طالت، وأُريقت فيها دِماءٌ، ونحن المؤاخذون بها عند الله، وقد دَعوتُك إلى الصُّلْحِ والمُوادَعة، وضَمِنْتُ لك ما أردْتَ فأَبيتَ، فقال: معي في الرَّأي القرمطي، وبيني وبينه أيمان، فقال: إذا كان الأمر كذا فأنا ألتَمِسُ منك أن تأذَنَ لي في الخروج من عَسْقلان إلى مصر بمن معي، ونَسير تحت ذِمامك، وسوف ترى ما أفعل، فقال: بشرط وهو أن أُعلِّق سيفي على باب عَسقلان ورُمْحَ القرمطي، وتخرج أَنْتَ وأصحابك من تحتهما، فقال جوهر: جزاك الله خيرًا فقد تفضَّلْتَ وأحسَنْتَ، لَأَحْدِرَنَّه. وعاد الهفتكين فأخبر القرمطي فقال: ما فعلت مصلحة! ارجعْ عن هذا فإنَّها خَديعة، ودعْهم يموتون جوعًا، أو تأخذهم بالسيف فإن جوهرًا صاحب مَكرٍ وخَديعة، فقال: قد كان وحَلَفْتُ له وما أَغْدِر به. وأصبح جوهر وأصحابه، فخرجوا من تحت سيف الهفتكين ورمح القرمطي، وسار إلى مصر، واجتمع جوهر بالعزيز، وشرح له الحال، فقال: ما الرَّأي؟ فقال: أن تَخرجَ بنفسك، وإلا فإنهم وارِدون على أثَري. ففتح العزيز بيوتَ الأموال، وبرَز بالعساكر، واستصحب الذَّخائرَ وتوابيتَ آبائه، وسار جوهر على مُقدِّمته إلى الرَّمْلَة والهفتكين والقرمطي بها، فنزل العزيز وبينهما مقدار فَرسخ، والتقى الصَّفَّان والهفتكين يلعب بين الصفَّينِ بسلاحه، فقال العزيز لجوهر: أرني الهفتكين، فأراه إياه وعليه كَزاغَنْد أصفر (¬1)، وهو تارةً يضرب بالسيف، وتارة باللتّ، وتارةً يطعن بالرُّمح، والناس يَتحامونه، فأَعجبَ العزيزَ ما رآه من فروسيته، فانفرد العزيز، وصعد على رابِيةٍ وعلى رأسه المِظَلَّة، وأرسل رِكابيًّا إلى الهفتكين وقال: قل له: أنا العزيز، وقد أزْعَجْتَني من سرير مُلكي، وأحْوَجْتَني إلى مُباشرة الحرب، وقد عفوتُ عنك، فاترُك ما أَنْتَ عليه ولك عليَّ عهدُ الله وميثاقُه أن أصطَنِعَك، وأجعلك اِسْفَهْسَلار عسكري، وأهَبُ لك الشَّامَ بأسرها. ¬

_ (¬1) سترة مضرّبة محشوة متخذة من القطن أو الحرير تستخدم عوضًا من الدرع. تكملة المعاجم 9/ 77.

فجاء الرِّكابيّ إليه، وأدَّى الرِّسالة، فخرج من العَسْكر بحيث يراه النَّاس، وتَرجَّل، وقبَّل الأرضَ مرارًا، ومَرَّغ خَدَّيه وقال: قل له: يَا مولاي، لو تقدَّم هذا القول منك لسارعت إلى أمرك، فالآن ليس إلَّا ما ترى، فأبلغَه ذلك، فأعاد الركابيَّ إليه وقال: قل له: يَقرُبُ مني بحيث أراه ويراني، فإن استَحْقَقْتُ منه أن يَضربَ وَجهي بالسيف فلْيَفْعل، فقال: قل لمولاي: ما كنتُ ممَّن أُشاهدُ طَلْعَتَه وأنابذُه الحرب، وقد خرج الأمرُ عن يدي. ثم حمل على مَيسرة العزيز فهزمها، فأرسل العزيز إلى الميمنة فأمرها بالحَمْلَة، وكان هو في القلب، وحمل وعلى رأسه المظلَّة، فانهزم الهفتكين والقرمطي، وقُتل من أصحابهما نحو عشرين ألفًا، وقال: مَن جاءني بالهفتكين أو القرمطي فله مئة أَلْف دينار .. وكان الهفتكين يميل إلى المُفَرِّج بن دَغْفَل بن الجرَّاح الطَّائيّ، وكان أمْرَدَ وَضيءَ الوجه، فاتَّفق أنَّ الهفتكين لما انهزم قَصدَ ساحلَ البحر ومعه ثلاثة أنفس وقد أجْهَدَه العَطَش، فلقيه المفرِّج في سَريَّةٍ من الخيل، وسقاه ماءً، فقال له: احملني إلى أهلك، فجاء به إلى قرية يقال لها: لُبْنى، فأجلسه هناك، ووَكَل به جماعة، وجاء إلى العزيز فتوثَّق منه في المال، ثم أخبره أن الهفتكين قد حَصَل في يده، ومضى، وجاء به، فأمر العزيز بأن يُضْرَب له نوبة من مَضاربه الخاص، وفَرش فيها فُرشه، وأَحضر جميع ما يحتاج إليه، وأنزله في المضرب، ولم يَشكّ أنَّه مَقتولٌ، وأمر بأصحابه الأُسَراء فضُربت لهم المضارب، وحُملت إليهم فنون الفُرُش والأطعمة، وبعث له العزيز دَسْتًا من دُسوته، فقام وقَتل الأرض، وبكى، وعَفَّر خَدَّيه في التُراب وقال: ما أستحقُّ إلَّا القتل، ولكن مولانا أبي إلَّا ما تقتضيه أعْرافُه الشَّريفة، ولم يَقْعُد في الدّست، وبعث له الخِلَع والثِّياب والتُّحَف مع الخدم، وأعلموه أن العزيزَ قد عَفى عنه. فلما كان الليل جاء العزيزُ إلى مَضْرَبِه بنفسه، فقام وقبَّل الأرض، وحثا التُرابَ على رأسه، وجعل يَبكي ويَنتَحِب، فقال له العزيز: ما نَقمتُ عليك إلَّا كوني دعوتُك إلى مُشاهدتي؛ لعلك أن تَستحي مني، فأبيتَ، والآن فقد عَفوتُ عما جرى، ورَضيتُ عنك، وسوف تَرى ما أفعلُ معك.

أحمد بن جعفر

ثم نزّل أصحابَه على مَقاديرِهم، وأسنى أرزاقَهم، ورفَع منازلَهم، واستَحْجَبه العزيز، وجعله من خاصَّته، ثم بعث العزيز النُّجُب (¬1) بالكُتب، فلَحِقوا الحسنَ بنَ أَحْمد القِرمطي بطبريَّة، فأعادوا عليه الرسائل، وأن العزيز قد عما عما جرى، وسأله أن يَطأ البِساط فامتنع، وتقرَّر الحالُ على أنَّه يَدخل في طاعة العزيز، وأن يحمل إليه في كل سنة سبعون أَلْف دينار، فرضي، وعَجَّل له برِزقِ سنةٍ، فأخذه، وعاد إلى هَجَر. ورجع العزيز إلى القاهرة، وأنزل الهفتكين في دار عظيمة، ونقل إليها الآلات والمال والتُّحَف، وسَلَّم إليه بابَه وحِجابتَه، وشرع الهفتكين في التكبُّر على وزير العزيز يعقوب، ولم يلتفت إليه، فدَسَّ إليه الوزير مَن سَقاه السمَّ فمات، فحزن عليه العزيز، واعتقل الوزير نَيِّفًا وأربعين يومًا، فأُنكرت الأموال فأَطْلَقَه (¬2). وفي رمضان ورد تابوتُ حَمدان بن ناصر الدولة إلى بغداد، فدُفِن في مقابر قريش، وُجد مقتولًا في بعض القِلاع [ولا يُعْرَف له قاتلٌ]. وحجَّ بالنَّاس أبو عبد الله العَلَويّ. وفيها تُوفِّي أَحْمد بن جعفر ابن حَمدان بن مالك بن شَبيب، أبو بكر، القَطِيعيّ، البغدادي. ولد في المحرَّم سنة أربع وسبعين ومئتين. كان عبد الله بن الإِمام أَحْمد بن حنبل يأتي إلى منزل القَطِيعيّ وهو صغير، فيُقْعِده في حجره ويُسمعه، فتقول أُمُّه وهي بنت أخي أبي عبد الله الجَصَّاص: أَبا عبد الرَّحمن إنه يؤلمك؟ يعني: قُعوده في حجرك، فيقول عبد الله: إنِّي أُحبه. وتوفي وقد جاوز التسعين، ودُفن قريبًا من الإِمام أَحْمد رحمه الله (¬3). ¬

_ (¬1) الإبل أو الخيل القوية السريعة الخفيفة العدة للبريد. (¬2) انظر تاريخ دمشق لابن القلانسي 31 - 37، والكامل 8/ 656 - 661، وتاريخ الإِسلام 8/ 188 - 190. ومن قوله: ذكر حصول والدة عز الدولة عند هفتكين ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬3) تاريخ بغداد 5/ 116، والمنتظم 14/ 260، وتاريخ الإِسلام 8/ 282، والسير 16/ 210. ومن قوله: وحج بالنَّاس أبو عبد الله العلوي ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

تميم بن معد

[فصل وفيها تُوفِّي تميم بن مَعَدّ ومَعَدّ هو المُعِزّ] خليفة مصر (¬1). كان تميم أمْيَزَ أولاده، فاضِلًا، جَوادًا، سَمْحًا، يقول الشِّعر. [وجرت له قصة عجيبة أَنْبأنا بها غيرُ واحدٍ عن عبد الوهَّاب بن المُبارك الأنماطيّ بإسناده إلى أبي علي] الحسن بن الأشكري المصري قال: كنتُ (¬2) من جُلَساء الأمير تميم بن المعزّ، فبعث إلى بغداد، فاشتُرِيَت له جاريةٌ من أحسنِ النساء وأحذَقِهم بالغناء، فلمَّا وَصلت إليه دعا نُدماءه وأنا فيهم، فلما أكلْنا مُدَّت السِّتارة وهي خلفها، فأمرها بالغناء فغنَّت تقول: [من الكامل] وبدا له من بعد ما انْدَمَلَ الهَوى ... بَرْقٌ تألَّقَ مَوْهِنًا لمَعَانُه يبدو كحاشية الرِّداءِ ودونَه ... صَعْبُ الذَّرى مُتَمَنِّعٌ أركانُه فبَدا لِيَنْظُرَ كيف لاحَ فلم يُطِقْ ... نَظَرًا إليه وصَدَّه سَجَّانُه (¬3) فالنَّارُ ما اشْتَمَلَتْ عليه ضُلوعُه ... والماءُ ما سَمَحَتْ به أجْفانُهُ فطَرِب تميم والجماعة، ثم أمرها بالغناء فغنت: [من البسيط] أَستودِعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَرًا ... بالكَرْخِ من فَلَك الأَزْرارِ مَطْلَعُه [وفي رواية: أشتاقه وبودِّي لو يُودِّعُني ... روحُ الحياةِ وأني لا أُوَدِّعُهُ] ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، بدله في (خ ب): تميم بن المعز بن معد خليفة مصر. هذا وقد تبع المصنف جدَّه في ذكر تميم في وفيات هذه السنة، وتبع ابنُ تغري بردي المصنفَ، انظر المنتظم 14/ 262، والنجوم الزاهرة 4/ 133، وذكر القاضي ابن خلكان في وفياته 1/ 303، والذهبي في تاريخه 8/ 398، والمقريزي في المقفى 2/ 588 أن وفاته سنة (374 هـ). (¬2) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، وجاء بدله في (خ ب): قال علي بن الحسن الأشكري المصري كنت، والخبر في جذوة المقتبس 71، والمنتظم 14/ 262، والمقفى 2/ 597، ووفيات الأعيان 5/ 337 - 339. (¬3) في (خ ب): سبحانه، وفي (م م 1): أشجانه، والمثبت من (ف).

فاشتدَّ طَرَب تَميم، وأفرط جدًّا، وقال لها: تَمنَّي ما شئتِ ذلك مُناك، فقالت: أتمنَّى عافيةَ الأمير وبَقاءه، فقال: والله لا بدَّ أن تتمني، فقالت: على الوفاء أيها الأمير؟ قال: نعم، قالت: أتمنَّى أن أُغنِّي هذه النَّوبةَ ببغداد، فاسْتُنقع لونُ تميم وتغيَّر، وتكدَّر المجلس، وقام وقُمنا. قال ابن الأشكري: فلَحِقَني بعضُ خَدَمه وقال: ارجع إلى الأمير فهو يَدعوك، فرَجَعْتُ إليه فقال: هل رأيتَ ما امتُحِنَّا به؟ قلتُ: نعم، قال: لا بدَّ من الوَفاءِ لها، وما أَثِقُ في هذا بغيرك، فتأهَّبْ لتَحْمِلَها إلى بغداد، فإذا غَنَّتْ هناك فأرجع بها، فقلت: سَمْعًا وطاعة. فجَهَّزها في مَحْمِل ومعها جاريةٌ سوداء تَخدِمها، ومَضَينا إلى مكة، وقضينا حَجَّنا، وسِرْنا مع القافلة إلى بغداد، فلما نَزلْنا القادِسيَّةَ جاءت الجاريةُ السَّوداء فقالت: إنها تقولُ لك: أين نحن؟ قلت: بالقادسيَّة، فأخبَرَتْها، فلم ألبث أن سَمعتُها قد انْدَفَعَتْ تُغَنِّي هذه الأبيات: [من مجزوء الكامل] لما وَرَدْنا القادِسِيَّةَ حيث مُجْتَمَعُ الرِّفاق وشَممْتُ من أرضِ الحجازِ نَسيمَ أرواحِ العِراق أيقَنْتُ لي ولمن أُحِبُّ بجَمْعِ شَمْلٍ واتّفاق وضَحِكْتُ من فَرَحِ اللِّقاءِ كما بَكَيتُ من الفِراق فتصايَحَ النَّاسُ من كل مكان: بالله أَعيدي، فما سُمع لها كلمة، ونزلْنا قريةَ الياسِرِيَّة يَبات (¬1) النَّاس بها ويُصبحون فيَدْخلون بغداد، فلما كان وقت الصَّباح إذا بالسَّوداء قد أتَتْني مَذْعورة، فقلت: ما الخبر؟ قالت: ذهبت سِتّي فلا أدري إلى أين، فلم أُحِسّ لها أثرًا، فأقمتُ، وقَضيتُ حوائجي، ورجعتُ إليه فأخبرتُه الخبرَ، فعَظُم عليه، وما زال ذاكرًا لها واجِمًا عليها (¬2). ¬

_ (¬1) في (خ): يبيت، والمثبت من (ب ف م م 1)، وهما بمعنى. (¬2) بعدها في (ف): متأسفًا، وفي (م): حتَّى مات والله أعلم. والتراجم الثلاث الآتية ليست في (ف م م 1).

الحسن بن عبد الله

الحسن بن عبد الله ابن المَرْزُبان، أبو سعيد، السِّيرافي، القاضي، النَّحْوي. كان أبوه مَجوسيًّا واسمه بَهْزاد، فسمَّاه أبو سعيد عبد الله. سكن الحسن بغداد، ووَليَ القضاء بها، وكان مُفتنًّا في علوم القرآن، والنّحو، واللغة، والفقه، والفرائض، والكلام، والعَروض، والقوافي، والحساب، وسائر العلوم، وشرح كتاب سيبويه، وله التَّصانيف الحِسان. وجمع بين هذه العلوم والزُّهدِ في الدنيا والوَرَع، فكان لا يخرج كلَّ يومٍ إلى مجلس القضاء والتدريس حتَّى يكتبَ عشرَ وَرَقات، يأخذ أُجرتها عشرة دراهم تكون قدْرَ مؤنته منها، وكان يكتب خطًّا حَسنًا يُضاهي به خطَّ ابنِ مُقْلَة، ثم يخرج إلى النَّاس. وكان نَزِهًا عَفيفًا، وكانت وفاتُه في رجب عن أربع وثمانين سنة، ودُفنَ بمقابر الخَيزُران قريبًا من قبر أبي حنيفة، وهو ثِقَة (¬1). عبد الله بن محمَّد بن وَرْقاء أبو أَحْمد الشَّيباني. من أهل البيوتات، وأسرته من أهل الثُّغور. قال: أنشدنا ثعلب، أنشدنا ابنُ الأعرابي في صِفةِ النِّساء: [من الطَّويل] هي الضِّلَعُ العَوْجاءُ أنَّى تُقيمُها ... ألا إنَّ تَقويمَ الضُّلوعِ انكِسارُها أيَجْمَعْنَ ضَعْفًا واقتدارًا على الفتى ... أليس عَجيبًا ضَعْفُها واقتِدارُها (¬2) وكانت وفاتُه ببغداد في ذي الحجة وسنُّه تسعين سنة (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 316، والمنتظم 14/ 264، ومعجم الأدباء 8/ 145، والسير 16/ 247، وتاريخ الإِسلام 8/ 287. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 354، والمنتظم 14/ 266، وذم الهوى 173. (¬3) في (ب): في ذي الحجة عن تسعين سنة.

محمد بن محمد

مُحَمَّد بن محمَّد ابن يعقوب، أبو الحُسين، النَّيسابوري. من ولد الحَجَّاج بن الجَرَّاح، قرأ القرآن، وسمع الكثير، وكان عبدًا صالحًا، ثَبْتًا، حافظًا، ثقةً، صدوقًا، صنّف "العِلَل"، و"الشيوخ"، و"الأبواب". وكانت وفاتُه في ذي الحجة عن ثلاث وثمانين سنة. وكان نَسيبَ الحاكم أبي عبد الله، وأثنى عليه فقال: أبو الحسين الحجَّاجي، العبد الصالح، الصَّدوق، المثبت، كان من الصالحين المجتهدين في العبادة، صَحبتُه نيِّفًا وعشرين سنة ليلًا ونهارًا، ما علمتُ أن الملائكةَ كتبت عليه خطيئةً، رحمة الله عليه (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 363، وتاريخ دمشق 64/ 282، وتاريخ الإِسلام 8/ 295، والسير 16/ 240.

السنة التاسعة والستون وثلاث مئة

السنة التاسعة والستون وثلاث مئة فيها لما عاد عضد الدولة إلى بغداد من الموصل وقد استولى على بلاد أبي تَغْلب بن حَمدان وأمواله وذَخائره؛ سأل الطائعَ أن يُجدِّدَ له العَهْد، ويَخلَع عليه، فجلس على سريره، واحتفل له، وخلع عليه كما خلع في أول مرة وزيادة، فقال أبو إسحاق الصابئ على البَديه وهو مسجون: [من المنسرح] يَا عَضُدَ الدولةِ الذي عَلِقَتْ ... يداه من فَخره بأعْرَقهِ لَبستَ للمُلْك تاجَ مِلَّتِه ... فحُزْتَ من غَربه ومَشْرِقهِ أَحْرَزْتَ منه الجَديدَ في عُمُرٍ ... أطاله الله غيرَ مُخْلِقِه يَلوحُ منك الجَبينُ مُبْتَهِجًا (¬1) ... لِحاظُنا من ضياء رَوْنَقِهِ كأنه الشَّمسُ في إنارتها ... ويُشبه البَدْرَ في تألُّقِهِ لما رأيتُ الرجال تُنْشِدُه ... من كُلِّ فَحْلِ القَريضِ منطقه (¬2) فقال لي خاطِري أتَطمَعُ أن ... تُساجِلَ البَحْرَ في تَدَفُّقِهِ خَفِّفْ وأوجِزْ فقلتُ مُخْتَصِرًا ... للقولِ في جِدّه وأَصْدَقِهِ يَفتَخِرُ النَّعْلُ تحت أَخْمَصِهِ ... فكيف بالتَّاجِ فوق مَفْرِقِهِ قلت: ذكرُ النَّعلِ والتَّاجِ واقترانهما غيرُ مُسْتَحْسَن (¬3). وفي المحرَّم تُوفِّي أبو الحسن عمران بن شاهين صاحب البَطيحَة فُجاءة. وفي صفر قُتل أبو تغلب بن ناصر الدولة. وفيها قَبض عضد الدولة على الشَّريف أبي أَحْمد الحسين بن موسى الموسويّ وأخيه أبي عبد الله أَحْمد، وقُلِّد أبو الحسن علي بن أَحْمد بن إسحاق العَلويّ نقابةَ الطَّالبيين ببغداد وواسِط، وقُلِّد أبو الفتح أَحْمد بن عمر بن يحيى نقابتهم بالكوفة، وأبو الحسن أَحْمد بن القاسم المُحَمَّدي نقابتهم بالبصرة والأهواز، وحَدَر بالشَّريفين أبي أَحْمد وأخيه إلى بعض قِلاعِ فارس، فاعتُقلا فيها. ¬

_ (¬1) كذا في (خ) و (ب)، ولعلها: فابتهجت. (¬2) في المنتظم 14/ 271: مفلقة، وبعده بيت لم يذكره المصنف. (¬3) من أول السنة إلى هنا ليس في (ف م م 1).

واحتجَّ عضد الدولة على أبي أَحْمد بأشياء منها: أنَّه أخرج خَطًّا مُزَوَّرًا عليه إلى أبي تغلب بإفشاء سِرٍّ كان بينه وبين عضد الدولة، فقال له: ائتمنَّاك على سِرِّنا فأفشَيتَه إلى عدوِّنا، فقال: أما الخطُّ فوالله ما كتبتُه، ولا أفشَيتُ لك سرًّا فقال: بلى، وخنتني في العقد الجوهر الذي بَذَله بختيار في الغُلام، فقال: والله ما خُنتك؛ لأنك رضيتَ بالجاريتين، فما جاز لي أن أخونَ بختيار. وأما أَحْمد أخو الشريف فما كان له ذَنبٌ، وإنما اختار أن يكون مع أخيه وقال: والله ما أُفارق أخي، فاعتُقلا. وفيها قَبض عضد الدولة على أبي محمَّد عُبيد الله بن مَعروف القاضي، وأنفذه إلى فارس، فاعتقله في قلعة، وقُلِّد قضاء القُضاةِ مكانه أبو سعد بِشرُ بن الحسين -وكان شيخًا كبيرًا- وكتب عهده من الطائع، وردَّ إليه أمرَ القُضاةِ بأسرهم، منهم: أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بن [عبد الله بن] إبراهيم بن الأكفاني (¬1)، كان على مدينة أبي جعفر، ومحمَّد بن عبد الله بن صُبَر على الرُّصافَة من باب الشمَّاسية إلى المُخَرَّم، وأبو محمَّد العُثماني على مدينة الشَّرقية، وأبو بكر بن عبد الله بن الأزرق على جسر النَّهْرَوان وطريق خُراسان، وأبو الحسن عبد العزيز بن أَحْمد الخَرَزي حَريمَ دار الخلافة وما يليها، وأبو إبراهيم إسماعيل بن الحسن العَلَوي واسطًا وما يليها، وأبو العباس المنصوري أرَّجان ورامَهُرْمُز ونواحيها، وأبو حازم علي بن عبد الله بن مكرم الأنبار وطريق الفُرات، وأبو بكر أَحْمد بن أبي موسى الهاشمي ديارَ ربيعة، ونَصِيبين، وبَرْقَعيد، وكَفَرْتُوثا، ودارا، ورأسَ عين، والخابور، وطُورَ عَبْدين ونحوهما (¬2)، وأبو تمام عبد الكريم بن عليّ بن أبي حُصين المَوْصل وأعمالها، وأبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بن عُقبة الرَّحْبَة، والدَّالية، وقَرْقِيسِيا، وعانة، والرَّقَّة ونواحيها (¬3)، وأبو بكر ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من تاريخ بغداد 11/ 370، والسير 17/ 151. (¬2) كذا في النسخ، ولعلها: ونحوها، أو وتخومهما، والله أعلم. (¬3) في (خ): وعامة الرقة ونواحيها، وفي (ب): وعامة والرقة ونواحيها, وليس في (ف م م 1) لاختصار طويل ترد الإشارة إليه، ولعل المثبت هو الصواب إن شاء الله، فإن عانة بلد مشهور بين الرقة وهيت يعدّ في أعمال الجزيرة وهي مشرفة على الفرات. انظر معجم البلدان 4/ 72 (عانة).

عبد الله بن الحسين بن إسماعيل المَحامِليّ ديارَ بكر وهي: آمِد، ومَيَّافارِقين، وأَرْزَن، وبَدْليس، وخِلاط ونواحيها وغير ذلك. ذكر ما جرى للقاضي عُبيد الله بن مَعروف مع عَضُد الدَّولة: قال أبو علي المُحَسِّن التَّنوخيّ: أراد عضد الدولة أن يجمع مجلسًا فيه القضاةُ والشُّهود والفقهاء والوجوه، وإحضار ابنِ مَعروف وتفسيقَه بحضرتهم، فقلت له: يَا مولانا، الرَّجل وَقاح، وقد يئس من نفسه، وربما أجاب جوابًا يُحفظ ويُحفظ عنه، وهو أقلّ من أن تَبلُغَ به هذا، فسكت -ومعنى يحفظ عنه: أنَّه يُفَسّقُ عضد الدولة. قال ابن معروف: لما حَبسني عضد الدولة أرسل إليَّ يقول: إنَّا أحسَنَّا إليك حالًا بعد حال إحسانًا لم يقع منك رعايةٌ له؛ لما قَدِمنا إلى الحضرة في سنة أربع وستين وثلاث مئة وجَدْناك مَصروفًا، وضُرب أخوك بالسِّياط، وشُهر على الجِمال، وتُعُوِّضَ منك بأبي الحسن محمَّد بن صالح الهاشمي الذي من صفته كذا وكذا ... ومَدَحه، فرَدَدْناك إلى العمل، وأعَدْنا من جاهك ما سَقط وبَطَل، وبَلَّغنا إقطاعَك في كلّ سنة مئةً وأربعين أَلْف درهم، وما ارتَزقها قاضٍ قبلَك، وانصرَفْنا من العراق فصِرت من المُجْلِبين علينا، وكان بختيار وابنُ بقية يَذكرانا في مجالسهما ذكرًا يتجاوزان الأدب به فتُساعدهما عليه، وتشاركهما فيه. ووردنا ثانيًا فحَضَّرتَ (¬1) رسالة من الخليفة قلت: مولانا أمير المُؤْمنين يأمر سيّدنا الملك بكذا وكذا، تقصيرًا لنا، ثم دخلتَ إلى حضرتنا بخُفِّ ديباجٍ أصفر مُستهينًا بأمرنا، ثم أمرناك أن تَستخْلِف أَبا بكر بن صُبَر فقلت: لا يَصلح، وراجعْناك وقلنا: لمَ لا يَصلح؟ فقلت: لأني قلتُ لا يَصلح، ثم لما قَبَضْنا عليك وَجَدْنا في بيتك الملاهي مما لا يكون مثلُه في دور القضاة وأهل التَّصَوُّن، وقيل لنا: إنك تجلس في مجلس الحُكم وأنت جُنُب، وتَشرب النَّبيذ وأنت غير مُتحاشٍ ولا مُحْتَشِم، وتَحضُر مجالسَ بختيار وابن بقية وتسمع أغانيهما، وتدخل معهما في هَزْلهما ولَهْوهما، ومَن كان بهذه الصفة لا يَصلُح أن يكون أهلًا للقضاء. ¬

_ (¬1) كذا, ولعلها، وحبّرت، ولم أقف على الخبر فيما بين يدي من مصادر.

فقلت للرسول: كلُّ ما ذكر مولانا فقد حُرِمت فيه التوفيق، وفارقتُ فيه الصَّواب، وفي عفْوِ مولانا الملك ما يدعو إلى مُسامحتي والصَّفح عني؛ فقال لي الرسول: قد قال لي الملك أنك ستُجيب بهذا الجواب، وأمرني أن لا أَقْنَع منك إلَّا بالجواب عن كلِّ بابٍ، فقلت: أخاف أن أقولَ قولًا يَتجدَّد لي به ذنبٌ مُستأنَف، فإن كنتُ آمنًا من ذلك قلتُ. فمضى الرسول وأخبره فقال: هو آمن، فرجع إلى وقال: أَنْتَ آمِن، قل ما عندك، فقلت: أما قول مولانا الملك: إنِّي كنتُ مَصروفًا فأعادني إلى العمل؛ فما كنتُ مصروفًا، وإنما امتنعتُ من النَّظَر، وسألني بختيار وابن بقية المُقام عليه فأَبيت. وأما تفضُّلُ مولانا في تقليدي فما أَدفعُه. وأما زيادتُه في إقطاعي فإنَّه قال لي وقد أخرجني إلى الخليفة: رُدَّه بلُطفٍ ونُقابلك عليه من الإحسان بما تؤثره، فبذَلْتُ في الخدمة جُهدي، حتَّى انتهى الأمر إلى المراد، فأنعم علي بزيادة الإقطاع مما أنا مُعترفٌ بالنِّعمةِ فيه، وشاكر عن المنَّةِ به. وأما حضوري مجالسَ بختيار وابن بقية فوالله ما شاركتُهما في قولٍ قالاه، ولا كان ذلك مما يَسوغُ لمثلي. وأما قولي في رسالة الخليفة: سيدنا الملك؛ فإن سيدنا أعظم من مولانا. وأما لُبسي الخفَّ الديباج فهو أعظم من دخولي على الحضرة بخفٍّ من جلود. وأما ابن الصُّبر فأنا مَوسومٌ بأمرٍ لا يجوز لي فيه إلَّا الصِّدقُ. وأما ما وُجد في داري من الملاهي؛ فقد كنتُ ابتعتُ جَواري ولم أدرِ ما كان معهنّ، وهن اليوم عندكم، فسَلوهنَّ هل استدعيتُ أحدًا منهن إلى مَلهاة. وأما جلوسي في مجلسِ القضاء جُنبًا فوالله ما فعلتُه، ولو فعلتُه لجاز حُكمي بإجماع الأُمّة. وأما شُربُ النَّبيذ فإنني رجلٌ حَنفيّ أعتقد شُرْبَه حلالًا، وهذا جواب عن الفضول، ومع هذا فيسَعُني عفوُ مولانا الملك.

فلما أعاد الأجوبةَ إلى عضد الدولة قال: قد علمنا أنَّه سيُجيب. ثم أمر بحَمْلِه إلى قلعةٍ بفارس، وكان قَبْضُه عليه في صفر هذه السنة، فأقام محبوسًا إلى أن أطلقه شرف الدولة عند انتقال المُلْكِ إليه. وكان عضد الدولة يظنُّ أن الطائعَ يَنزعج بقبضه عليه لكونه كان خَصيصًا به، فأرسل عضد الدولة مع ابن الحاجب النعمان إلى الطائع يُعَرِّفُه ذنوبَه، ويقول: نَزَّهْتُ مولانا أمير المُؤْمنين أن يَنتسب إلى خدمته مثلُه، فقال: نِعْمَ ما فعلتَ. وفيها جَهَّز عضد الدولة أَبا القاسم المُطَهَّر بن عبد الله إلى البَطيحة لقتال أبي محمَّد الحسن بن عمران بن شاهين، وكان قد قام مقام والده عمران لما مات، فقيل لعضد الدولة: إن الحسن لا يُقيم البطيحة بعد أَبيه، فخلع عضد الدولة على المُطَهَر، وجهَّزه بالمال والرجال والقوَّاد، فاستخلف ببغداد على الوزارة أَبا الرَّيَّان حمد بن محمَّد، فقطع المُطهّر الأنهار وسدَّ أفواهَها، وعمل المُسَنَّيات الموصلة إلى التلال والمعاقل، وأطلق المال الكثير. وكان البَطائحيون يُفسدون ما كان يعمل، وكانوا يَخرجون فيقاتلون العَسكر، وكلما سدَّ مكانًا فتحوه، فأقام شهورًا كثيرة، ونَفَقت الأموال، وتضاعفت المؤن، وكتب إليه عضد الدولة يَستبطئه، ويَنسبه إلى العَجْز، فخاف، وضاق صدرُه من طول المقام، وقد (¬1) افصدني. فقال: أَنْتَ قريبُ عهدٍ بالفَصْد، فشتمه وطَرده، وأخذ سكينًا فقطع رواشن (¬2) ذراعيه، فاستصفى ومات، وحُمل إلى بلده كازَرون، فدُفن به، واضطرب العَسكر، وبعث أبو محمَّد الحسين بن عمران يطلب العَفْوَ من عضد الدولة، وأن يَحمل إليه ما لا قرَّره عليه، فأجابه، وأعاد العسكر إلى بغداد (¬3). وفيها تزوَّج الطائع بنتَ عضد الدولة الكبرى, وعُقد العقدُ بحضرة الطائع على صَداقٍ مَبلغُه مئتي أَلْف دينار، وكان الوكيل عن عضد الدولة في العقد أبو علي الحسن بن أَحْمد الفارسيّ النَّحويّ، والخطيب القاضي أبو علي المُحَسِّن بن عليّ التَّنوخيّ. ¬

_ (¬1) في (خ ب): وقد أقصدني، وليس في (ف م م 1) لاختصار نشير إليه قريبًا، وفي النص سقط ظاهر، لعل صوابه: وقال للطبيب افصدني. (¬2) في الكامل 8/ 701: شرايين. (¬3) من قوله: وفيها قبض عضد الدولة على الشريف أبي أَحْمد ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

وفي شعبان وَرد رسولُ العزيز صاحب مصر إلى مُحَمَّد الدولة، ويكنى بأبي الوليد، وما زالت كتُبه تتواتر حتَّى أجابه عضد الدولة بصِدْقِ الطَّويَّة، وإخلاصِ النية. وذكر ابن الصابئ ما يدلّ على أن مُحَمَّد الدولة ابتدأه بالرسالة فقال: وقفتُ على هذا الكتاب وفيه: من عبد الله وليّه نزار أبي المنصور الإِمام العزيز بالله أمير المُؤْمنين إلى مُحَمَّد الدولة الإِمام ونصير ملَّة الإِسلام أبي شُجاع بن أبي علي: سلامٌ عليك، فإن أمير المُؤْمنين يَحمد إليك الله الذي لا إله إلَّا هو، ويسأله الصلاةَ على جدِّه محمَّد رسول رب العالمين، وحُجَّة الله على الخلق أجمعين، صلاةً باقيةً ناميةً مُتَّصِلةً دائمةً بعترتِه الهادِية، وذُرِّيتِه الطيبة الطاهرة. وبعد: فإن رسولك وصل إلى حضرة أمير المُؤْمنين مع الرسول المُنْفَذ إليك، فأدَّى ما تحمَّلَه عنك من إخلاصك في ولاء أمير المُؤْمنين ومَودَّته، ومعرفتك بحقِّ إمامته، ومحَبَّتك لآبائه الطائعين الهادين المهديين، فسُرَّ أمير المُؤْمنين بما سمعه عنك، ووافق ما كان يَتوَسَّمه فيك، وأنك لا تعدل عن الأحقِّ والأولى، والأفضل والأحرى، إلى الأَرذَل والأدنى ... وذكر كلامًا في هذا المعنى وقال: وقد علمتَ ما جرى على ثغور المسلمين من المشركين، وخرابَ الشَّام وضعف أهله، وغلاءَ الأسعار، ولولا ذلك لتوجَّه أمير المُؤْمنين بنفسه إلى الثُّغور، وسوف يُقدِّم الخِيَرة، وكتابُه يَرد عليك عن قريب، فتأهَّب للجهاد في سبيل الله. وذكر كلامًا هذا معناه وفي آخره: وكتب يعقوب بن يوسف عبد مولانا أمير المُؤْمنين. وكتب إليه عضد الدولة كتابًا يَعترِفُ بفضل أهل البيت عليهم السلام، ويُقرُّ للعزيز بأنه من تلك النَّبْعةِ الطَّاهرة، وأنه في طاعته، ويُخاطبه بالحَضْرة الشَّريفة وما هذا معناه (¬1). وحج بالنَّاس أبو الفتح أَحْمد بن عمر بن يحيى العَلويّ. ¬

_ (¬1) من قوله: وفي شعبان ورد رسول العزيز ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

أحمد بن زكريا بن فارس

[فصل] وفيها تُوفِّي أَحْمد بن زكريا بن فارس أبو الحُسين، اللُّغوي (¬1). صاحب كتاب "المُجمل" في اللغة، وله التصانيفُ الحِسان. وكان عالمًا بفنون العلوم، [ولكن غلب عليه علم اللغة,] وروى عنه الأئمة وكانت وفاته ببغداد. أَنْبأنا غير واحدٍ عن أبي الفضل محمَّد بن ناصر قال: أنشدنا أبو زكريا الخَطيب التِّبريزي لابن فارس عند موته (¬2): [من البسيط] يَا ربِّ إنَّ ذُنوبي قد أحطْتَ بها ... عِلمًا وبي وبإعلاني وإسراري أنا المُوحِّد لكني المُقِرُّ بها ... فهَبْ ذنوبي لتوحيدي وإقراري [ومات بعد يومين.] وفيها تُوفِّي أَحْمد بن عطاء ابن أَحْمد بن محمَّد بن عطاء، أبو عبد الله، الرُّوْذَباريّ، ابن أخت أبي علي الروذباري، شيخ الشَّام في وقته (¬3). ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وفيها تُوفِّي ابن فارس اللغوي واسمه أَحْمد بن زكريا، والمثبت من (ب خ). وقد سبق المصنفَ في إيراد اسمه ووفاته في هذه السنة ابنُ الجوزي في المنتظم 14/ 275، وابن الأثير في الكامل 8/ 711، قال ياقوت في معجم الأدباء 4/ 80: ولا يعاج به -يريد أن صواب اسمه: أَحْمد بن فارس بن زكريا- ووُجد بخط الحميدي أن ابن فارس مات في حدود سنة ستين وثلاث مئة، وكل منهما لا اعتبار به لأني وجدت خط كفه على كتاب الفصيح تصنيفه، وقد كتبه في سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة. قلت: وقد صحح الذهبي في تاريخه 8/ 746، وفي السير 17/ 105 وفاته في سنة (395 هـ)، وانظر يتيمة الدهر 3/ 463، وإنباه الرواة 1/ 92، ووفيات الأعيان 1/ 118، وفي حواشي هذه الكتب مصادر أخرى لمن أراد الاستزادة. (¬2) في (ب خ): وفاته ببغداد، وأنشد قبل موته بيومين لنفسه، والمثبت من (ت م م 1). (¬3) طبقات الصوفية 497، وتاريخ بغداد 5/ 552، والرسالة القشيرية 125، والمنتظم 14/ 272، وتاريخ دمشق 2/ 6 (مخطوط)، ومناقب الأبرار 2/ 210، والكامل 8/ 710، وتاريخ الإِسلام 8/ 299، والسير 16/ 227.

[سكن صُور، وأثنى عليه الأئمة، فقال أبو عبد الرَّحْمَن السُّلَميّ: ] كان يرجع إلى أحوالٍ اختصَّ بها، وأنواعٍ من علوم الشريعة، منها: علم القرآن (¬1)، والحديث، والحقائق، وتعظيم الفقر وصيانته، ومحبّته للفقراء والرفق بهم، وأخلاق في التجريد يُربي على أقرانه فيها. [وقال القشيري في "الرسالة": هو شيخ الشَّام والصّوفية في وقته.] نشأ ببغداد، وأقام بها مدَّةً، ثم انتقل إلى الساحل فأقام بصور. [ذكر طرف من أخباره: حكى ابن خميس عنه في "المناقب" والقشيري] قال: كنتُ راكبًا على جمل، فغاصت رِجلُه في الرَّمل فقلتُ: جلَّ الله، فقال الجمل: جلّ الله. وكان إذا دُعي إلى دعوة في دور بعض السُّوقة أطعم الفقراء طعامًا طيبًا؛ لئلَّا يَمدُّوا أيديَهم إلى طعام الدَّعوة إلَّا بالتَّعَزُّز، حفظًا لجانب الفقراء لئلا يُنسبوا إلى الشَّرَه، فيأثم النَّاسُ بطريقهم. [قال: ودعاه رجل إلى دعوة، فحضر ومعه الفقراء، فلما خرجوا قام يمشي في أثرهم,] فاجتاز برجلٍ وهو يقع في الفُقراء ويَشتُمهم، فقال له: إيش بينك وبينهم؟ قال: استقرض مني واحدٌ منهم مئة درهم ولم يَرُدَّها علي، ولا أعلم له مكانًا، فبعث إليه الشيخ بمئة درهم، وقال الرسول: هذه من الفقير الذي استَقْرَضَها منك، وكان له عُذْرٌ في تأخيرها عنك. ثم اجتاز بعد ذلك بذلك الرَّجل وهو يَمدح الفقراء ويقول: هؤلاء السَّادةُ الصُّلَحاء. [حكى السُّلَمي وابن خميس عنه قالا: ] دخل يومًا دارَ بعضِ أصحابه، فرأى فيها بيتًا مُقفَلًا، فقال: صوفي له بيتٌ مُقفَل، فكسر القُفل، وأمر ببيع كلِّ ما في البيت، وعَمِل بثمنه دعوةً للفقراء، وجاء صاحبُ البيت، فدخل فلم يجد فيه شيئًا، وجاءت زوجتُه بعده وعليها كِساء، فدخلت بيتًا وقالت: يَا أصحابنا، هذا الكِساء من مَتاع ¬

_ (¬1) في طبقات الصوفية: علم القراءات من القرآن.

البيت المُقْفَل فبيعوه، فقال لها الزوج: لمَ فعلتِ هذا؟ فقالت: اسكت، مثلُ الشيخ يُباسطنا ويَحكم علينا ونَدَّخِر عنه شيئًا. [ذكر نبذة من كلامه: حكى عنه في "المناقب" أنَّه] سئل عن القَبْض والبسط فقال: القَبضُ أوّلُ أسباب الفناء، والبسط أول أسباب البقاء. وقال: الذَّوقُ أولُ المواجِد، فأهلُ الغَيبة إذا شربوا طاشوا، وأهل الحضور إذا شربوا عاشوا. وقال: أقبحُ من كلِّ قَبيح صوفيٌّ شَحيح. وقال: من قَلَّت آفاتُه اتَّصلَت بالحقّ أوقاتُه. وقال: مُجالسةُ الأضداد ذَوَبان الرُّوح، ومجالسة الأشكال تَلقيحُ العقول. وأنشد له في "المناقب": [من الطَّويل] فما مَلَّ ساقِيها وما مَلَّ شارِبٌ ... عُقارَ لِحاظٍ كأسُها يُسْكِرُ الُّلبَّا يَدوُر بها طَرْفٌ من السِّحْرِ فاترٌ ... على شَكْلِ (¬1) نُورٍ ضَوؤه يَخطِفُ القَلْبا تُشيرُ بلَحْظٍ يَحجِبُ الخال حُسْنُه (¬2) ... تجاوزْتَ يَا مَشغوفُ في حالِكَ الحُبَّا فسُكْرُكَ من لَحْظي هو الوَجْدُ كلُّه ... وصَحْوُكَ من لَفْظي يُبيحُ لك الشُّرْبا [وحكى الخَطيب عنه أنَّه] قال: مَن خرج يريد العلم لم ينفعه العلم، ومَن خرج إلى العلم يُريد العملَ بالعلم نفعه قليل العلم. وأنشد له الخَطيب: [من الطَّويل] إذا أنتَ صاحَبْتَ الرِّجال فكن فتًى ... كأنَّكَ مَملوكٌ لكلّ صَديقِ وكنْ مثلَ طَعْمِ الماءِ عَذْبًا وبارِدًا ... على الكَبِدِ الحَرَّى لكلّ رَفيقِ ذكر وفاته: [حكى الخَطيب عن أبي عبد الله الصُّوري قال: تُوفِّي أَحْمد الرُّوذَباري] بقرية بين عكا وصور يُقال لها: مَنْوات في ذي الحجة من هذه السنة، فحُمل إلى صور فدفن بها. ¬

_ (¬1) في مناقب الأبرار 2/ 211، وطبقات الصوفية 500: على جسم. (¬2) في طبقات الصوفية: يقول بلفظ يخجل الصب حسنه، وفي مناقب الأبرار: يقول بلحظ يخجل الحب حسنه.

الحسين بن علي

وقيل: إنه وَقَع من سَطْحٍ فمات، وقيل: مات فجأة. [وقد وهم أبو نعيم فقال (¬1): مات سنة تسع وخمسين وثلاث مئة، وهو يعقد (¬2). أسند عن القاضي المحاملي، وابن الزبرقان، وأبي بكر بن أبي داود وغيرهم. وروى عنه أبو الحسن بن جُميع، وأبو الحسن علي بن جَهْضَم، وأبو عبد الله محمَّد بن عبد الله بن باكويه، وآخرون] , وأجمعوا عليه. الحسين بن عليّ أبو عبد الله، البَصريّ، ويعرف بالجُعَل. سكن بغداد، وكان من شيوخ المعتزلة، وصَنَّف على مذاهبهم، وتوفي يوم الجمعة لليلتين خلتا من ذي الحجة، وفُجِع به عضد الدولة لأنه وإن مُقدَّمًا عنده، ونازلًا في ألطَفِ منزلة منه. وكان من وجوه المتكلِّمين ومُبَرِّزيهم، ومَن له المعرفة والدولة فيهم. وكان عضد الدولة يَرى رأيَ المعتزلة، وظهروا في أيامه، وجلسوا في الجوامع، ولما قيل لعضد الدولة: هذا مَذهبٌ قد دَثَر فقال: رأي رأيُ أبي عبد الله البَصري، فلما مات عضد الدولة تَفرَّقوا ولم يجتمعوا خوفًا من العامة (¬3). [فصل وفيها تُوفِّي عبد الله بن محمَّد الرَّاسِبيّ بغداديّ الأصل، من كبار المشايخ وأرباب المعاملات. [ذكر في "المناقب" أنَّه] قال: القلبُ إذا امتُحن بالتَّقوى نُزع عنه حبُّ الدنيا والشَّهوات، وأُوقفَ على المُغَيَّبات. وقال: المحبَّةُ إذا ظَهرت افتُضِحَ المحبُّ، وإذا كُتِمتْ قَتَلَتْ، وأنشد: [من الكامل] ولقد أُفارقُه بإظهارِ الهوى ... عَمْدًا ليَسْتُرَ سِرَّه إعلانُه ¬

_ (¬1) في الحلية 10/ 383. (¬2) كذا، ولم أتبينها وليست في "الحلية" ولعلها: وهو ثِقَة. والله أعلم. (¬3) تاريخ بغداد 8/ 626، والمنتظم 14/ 272، وتاريخ الإِسلام 8/ 301. وهذه الترجمة ليست في (ت م م 1).

أبو تغلب الغضنفر

ولَرُبَّما كَتمَ الهوى إظهارُه ... ولربَّما فَضَح الهوى كِتْمانُه عِيُّ المُحِبِّ لدى الحبيبِ بَلاغَةٌ ... ولربَّما قتلَ البَليغَ لسانُه كم قد رأينا قاهرًا سُلطانُه ... للناسِ ذَلَّ بحِبِّه سُلطانُه وقال: خلق الله الأنبياء للمجالسة، والعارفين للمُواصَلة، والمؤمنين للمُجاهَدة. وقال: أعظمُ البَلاء صُحْبتُك لمَن لا يُوافِقُك، ولا تَقدِرُ على تَرْكِه. وقال: أعظم حِجاب بينك وبين الحق اشتغالُك بتدبير نفسك، واعتمادُك على عاجزٍ مثلك في أسبابك. [صَحِب الرَّاسبي ابنَ عطاء والجَريري، ودخل الشَّام، ثم عاد إلى بغداد فتوفي بها في هذه السنة.] (¬1) أبو تَغْلِب الغَضَنْفَر قد ذكرنا سيرته وأيامه على ترتيب السنين، ولما استولى عضد الدولة على الموصل، وديار ربيعة، وقلاع ابن حَمدان، انهزم إلى خَلاط، وقصد أرْزَن الرُّوم، فلَحِقه عسكرُ عضد الدولة مع أبي الوفاء، فحاربه، فأسر أبو السَّرايا أَبا تغلب، وبعث به إلى عضد الدولة، فقتله في صَفَر. قال المصنّف رحمه الله: وهذا لا يصحّ، والأصح أن أَبا تغلب لما استولى عضد الدولة على بلاده هرب إلى دمشق مُسْتَنجِدًا بصاحب مصر، وبدمشقَ عَيَّارٌ يقال له: قَسَّام قد استولى عليها وتحصَّن بها، وخالف على صاحب مصر، فلم يُمَكِّنه من دخولها، فنزل ظاهرَها، ثم ارتفع إلى نَوى، وفارقه أبو الغِطريف ابنُ عمّه، وصار إلى عضد الدولة فأكرمه. وبعث أبو تغلب كاتبَه إلى صاحب مصر يَستنجِد به، فجاء الجواب: يَحضر البِساط وعندنا كل ما يُريد، فامتنع، ورحل من نوى فنزل كَفَر عاقِب، وفارقه أخوه أبو طاهر إبراهيم باتِّفاقٍ منه، وصار إلى عضد الدولة. ¬

_ (¬1) في (خ ب): في أسبابك وتوفي ببغداد، والمثبت من (ف م م 1). وانظر ترجمته في طبقات الصوفية 513، ومناقب الأبرار 2/ 224، وذكرا أن وفاته سنة (367 هـ).

محمد بن صالح

وبعث صاحب مصر غلامًا له يقال له: الفضل لحصار دمشق، فاجتمع به أبو تغلب وكانا على ظهور خيولهما، ووعده الفضل عن صاحب مصر بكلِّ خير، وسأله المسير إلى دمشق فامتنع، وسار الفضل إلى دمشق فلم يتمّ له أمر، فعاد. وكان بالرَّمْلَة المُفَرِّج بن دَغْفَل الطَّائيّ قد استولى عليها، فسار إلى بني عُقيل ليواقِعَهم، فلجؤوا إلى أبي تغلب فأجارهم، وحشد المفرّج والفضل، وسار إليهم أبو تغلب على باب الرملة يوم الخميس لليلةٍ بقيت من صفر، فانهزمت بنو عُقيل، وضَعُف أمر أبي تغلب، وفارقه مَن بقي معه من الأتراك إلى العراق، وبقي من غِلمانه الحَمَدانية سبعُ مئة فارس، فقاتل، فضرب بعضُ الصعاليك فَرسَه من ورائه فوقع، فأخذه المفرّج أسيرًا، فشدَّ يديه ورجليه بسِلسلةٍ على ناقة، وأضمر أنَّه يُبقي عليه، وسمع به الفضل فجاء ليأخُذَه من المفرّج، فامتنع من تسليمه وقال: تُريد أن تتقرَّب به إلى صاحب مصر؟ ! فأناخ الناقةَ، وضربه بيده بسيفه حتَّى قَتله، وجاء بعض الأعراب فقطع يديه ورجليه؛ لأنه كان قد فعل بولَدٍ له كذلك. وأخذ الفضل رأسَه، وسار به إلى مصر، وبعث المفرج بأُخته جميلة وعياله إلى حلب، فبعث بها ابنُ سيف الدولة إلى عضد الدولة، فحُبِست في دار المملكة، وأخذ الله بالثأر لناصر الدولة وأولاده من أبي تغلب، وصار عِبرةً للعالمين، وبيتُ الظَّالمِ خراب ولو بعد حين (¬1). محمَّد بن صالح ابن عليّ بن يحيى بن عبد الله، أبو الحسن، القاضي، القُرَشيُّ، الهاشمي، العباسي، ويعرف بابن أمِّ شَيبان. أصله من الكوفة، وأمُّ شَيبان هي والدة يحيى بن عبد الله جدِّ أَبيه، اسمها كُنيتها، وهي بنت يحيى بن محمَّد بن إسماعيل بن محمَّد بن يحيى بن زكريا بن طلحة بن عبيد الله التَّيمي، وأمُّ زكريا بن طلحة أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق لابن القلانسي 18 - 40، والكامل 8/ 699، وتاريخ الإِسلام 8/ 270 و 292، والسير 16/ 306.

محمد بن علي بن الحسن

وُلد محمَّد يوم عاشوراء سنة أربع وتسعين ومئتين، ووَلَدَه ثلاثة من الصَّحَابَة: أبو بكر وطلحة - رضي الله عنهما - والثالث لم يُسمّه، والأصحُّ اثنان. قدم به أبوه بغداد من الكوفة سنة إحدى وثلاث مئة، وقرأ القرآن، وسمع الحديثَ الكثير، وتففه على مذهب مالك. وكان عاقلًا، مُتميِّزًا، كثيرَ التَّصانيف. قال الخَطيب: ولا أعلم قاضيًا تقلَّد القضاءَ من بني هاشم بمدينة السلام غيرُه. وكان عضد الدولة يقول: ما وقعتْ عَيني على أحدٍ من أهل بغداد يَستحقُّ التَّفضيلَ سوى رجلين: ابن أم شَيبان، ومحمَّد بن عُمر العَلوي، وهما من أهل الكوفة لا من أهل بغداد. مات ابنُ أم شيبان فجأة في جُمادى الأولى، واتَّفقوا على فضله وصدقه (¬1). محمَّد بن عليّ بن الحسن أبو بكر، التِّنِّيسِيّ. سمع منه الدارقطني بتِنِّيس (¬2)، ورآه وحده فقال: يَا أَبا بكر، ما في بلدك مسلم؟ ! قال: بلى، ولكنهم اشتغلوا بالدنيا عن الآخرة. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 338، والمنتظم 14/ 273، والسير 16/ 226، وتاريخ الإسلام 8/ 311. (¬2) في (ب) والترجمة منها: التفليسي سمع منه الدارقطني بتفليس، وهو خطأ، والتصويب من تاريخ دمشق 63/ 292، والسير 16/ 234، وتاريخ الإِسلام 8/ 312، والتراجم الثلاث الأخيرة ليست في (ف م م 1).

السنة السبعون وثلاث مئة

السنة السبعون وثلاث مئة فيها خرج عضد الدولة إلى هَمَذان فأقام بها، وقدم عليه الصاحب إسماعيل بن عبَّاد من عند أخيه مؤيَّد الدولة من الريّ، فخرج عضد الدولة للقائه بعيدًا عن همذان، وبالغ في إكرامه واحترامه، وأمر أربابَ الدولة بالتردُّد إلى خدمته كلَّ يوم، وتمارض فجاء عضد الدولة إلى عيادته مرَّتين، وكلّ ذلك فعله تأنيسًا لأخيه مؤيد الدولة. وورد كتاب مؤيَّد الدولة يستطيل مقامَ الصَّاحب، ويذكر اضطرابَ الأمور بغيبته، فخلع عليه عضد الدولة الخِلَع النَّفيسة، وحمله على الخيل العِتاق بمراكب الذهب، وأقطعه إقطاعاتٍ جليلةً، وسار إلى مؤيَّد الدولة في ربيع الآخر. وعاد عضد الدولة إلى بغداد بعد أن هَذَّب الجَبَل، وقبض على جماعةٍ من الأكراد، وأخذ قلاعَهم، فنزل النَّهْروان حادي عشر جُمادى الآخرة يوم الأربعاء، والتمس من الطَّائع أن يتلقَّاه. قال ابن حاجب النُّعمان: لم تكن العادةُ جاريةً بتلقِّي الخلفاء للأمراء، وإنما فتح هذا الباب المطيع، لما ماتت أختُ مُعزِّ الدولة ركب المطيع إليه، فعزاه فيها، فطَمِع الأمراء في الخلفاء، فلما نزل النَّهْروان أرسل أَبا الحسن محمَّد بن عُمر العَلويّ إلى الطائع، فوافى بابَ دار الخلافة نصفَ الليل، فقال أصحاب النَّوبة: لا سبيلَ لك إلى الوصول إلى الخليفة، فقال: طالعوه بأني جئتُ في مُهمّ، فأخبروا الخدم، فأمر الطائع بإحضاره، قال: فقبَّلتُ الأرضَ بين يديه وقلتُ: يَا مولانا أمير المُؤْمنين، قد وصل هذا الملك، وهو من الأكابر المُعَظَّمين، والملوك المُفَخَّمين، وقد أمَّل من مولانا أن يُميّزه على مَن تقدَّمه، ويُشرِّفه باستقباله الذي يُنبي عن جميلِ الرأي فيه، فقال الطائع: نحن على ذلك عازمون، وله مُعتَقدون. وقيل: لم يكن للطائع نيَّةٌ في ذلك، وإنما لم يَقدِر على الامتناع، فأظهر المنَّةَ ابتداءً منه. وعاد محمَّد إلى عضد الدولة فأخبره فقال: هذه خدمةٌ قد أحسنتَ المقام فيها، وبقيت أخرى لا أعرف لها سواك، قال: وما هي؟ قال: تمنع العوامّ غدًا عند لقائنا من

أحمد بن سعيد بن سعد

الدُّعاء والصِّياحِ، فقلت: يَا مولانا، بلدٌ قد غبتَ عن أهله زمانًا، ونفوس أهله متطلِّعة إليك ثم تُريد منهم السُّكوت! ؟ فقال: ما أعرف ذلك إلَّا منك. وكان أهل بغداد قد تلقَّوْه بالكلام الفاحِشِ في نَوْبة عزِّ الدولة، فما أحبَّ أن يَدعوا له بتلك الألسُن. قال محمَّد العلوي: فدعوتُ أصحابَ المعونة وقلت: قد أمر الملك بكذا وكذا، فأشيعوا أن في مُقابلةِ ذلك ضَرْبَ الأعناق، فأشاعوه، ووقفت الغلمانُ في الأماكن واحتَرزَت، فلما دخل بغداد لم يَنطق أحدٌ بحرف، فعجب من طاعة العوام للعلوي وقال: هؤلاء أضعافُ جُندنا وقد أطاعوه، فلو أراد بنا سوءًا لأوقعه، ثم عَزم على مُصادرته، فنظر في روزمانجات حسابه أَلْف أَلْف درهم باسم العلوي في معاملاته، فقبض عليه، واستولى على أمواله (¬1). وهذا محمَّد العلوي هو الذي كان عضد الدولة يَشكره ويقول: ما رأيتُ في بغداد سوى رجلين: العلوي وابن أُمِّ شَيبان، وكان هذا فعلُه معه فكيف بمن لا يَشكره، وما عسى العوام أن يفعلوا؟ ! وإنما جعل ذلك وسيلةً إلى استئصاله وأخذِ ماله. وبعد دخول عضد الدولة بغداد زُفت إلى الطائع ابنتُه، وحُمل معها من الحليّ والجواهر والثياب والأمتعة ما لم يُحمل مع غيرها (¬2). وفيها غَرِقت بغدادُ من الجانبين، وأشرف أهلُها على الهلاك، ووقَعت القَنْطَرَتان اللَّتان على الصَّراة، فغَرِم على بنائهما أموالًا كثيرة، وحجَّ بالنَّاس أبو الفتح أَحْمد بن عمر العلوي، وخُطب بمكة والمدينة لصاحب مصر، ولم يُذكر الطائع. [فصل وفيها تُوفِّي أَحْمد بن سعيد بن سعد أبو الحسين، البغداديّ، وكيل دَعْلَج بن أَحْمد. سمع الكثير، وكان زاهدًا عابدًا، خرج حاجًّا من بغداد فتوفي بمكة، وقيل: بين المكة والمدينة في المحرم. ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 275 - 277. (¬2) من بداية السنة إلى هنا ليس في (ف م م 1).

أحمد بن علي

حدَّث عن عبد الكريم بن أبي عبد الرَّحْمَن النَّسائيّ، عن أَبيه بكتاب "الضعفاء والمتروكين"، قال الخَطيب: وحدثناه عن البرقاني، وروى عنه الدارقطني هذا الكتاب وغيره. وكان صالحًا ثِقَة.] (¬1) وفيها تُوفِّي أَحْمد بن عليّ أبو بكر، الرَّازيّ، الإمام، الحَنفي. ولد سنة خمس وثلاث مئة، وهو إمام أصحاب الرأي في وقته. كان مَشهورًا بالزُّهد والوَرَع، وحالُه يَزيد على حال الرُّهبان. وَرَد بغداد في شبيبته، ودرس الفقه على أبي الحسن الكَوْخي، وانتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة، ورحل إليه المتَفَقِّهةُ من البلاد، وخوطب غيرَ مرَّةٍ في أن يَلي القضاء ببغداد فامتنع. وله التصانيف الحسان منها: كتاب "أحكام القرآن"، وما صُنِّف مثلُه، وغيره. وقال أبو بكر الأَبْهَرِيّ: خاطبني المطيع على قضاء القُضاة، وكان السَّفيرُ في ذلك أبو الحسن بن أبي عمرو الشَّرابي، فأبَيْتُ عليه، وأشرفُ بأبي بكر الرّازي، فأُحضر وخوطب فامتنع، فسألني أبو الحسن معونتَه على ذلك، فخلوتُ به وحدَّثتُه، فقال: تُشير عليَّ بذلك؟ قلت: لا. ثم قمنا إلى بين يدي الشَّرابي، فأعاد خطابَه وعُدتُ إلى معونته، فقال لي الرَّازيّ: أليس قد أشرفَ عليَّ أن لا أفعل! فوَجَم أبو الحسن الشَّرابي وقال: سبحان الله، تشير علينا بإنسان وتشير عليه أن لا يفعل! فقلت: نعم، أما لي في ذلك أسوةٌ مالك بن أنس؟ أشار على أهل المدينة أن يُقدِّموا نافعًا القارئ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشار على نافع أن لا يفعل، فقيل له في ذلك فقال: نعم، أشرتُ عليكم بنافع بأني لا أعرفُ مثلَه، وأشرتُ عليه أن لا يفعل لأنه يَحصل له أعداء وحُسَّاد، كذا أنا أشرتُ عليكم بأبي بكر لأني لا أعرف مثله، وأشرفُ عليه أن لا يفعل لأنه أسلَمُ لدينه. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1) , وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 5/ 282، وتاريخ الإِسلام 8/ 315.

أحمد بن محمد

تُوفِّي الرَّازيّ في ذي الحجة عن خمس وستين سنة، وصلى عليه محمَّد بن موسى الخُوارزمي صاحبه، ودُفن بمقابر الخيرزان. قال المصنف رحمه الله: وكتابه "أحكام القرآن" في غاية الجَودة؛ لولا ما دَسَّ فيه من الاعتزال (¬1). [وفيها تُوفِّي أَحْمد بن محمَّد ابن الفَتْح بن خاقان، أبو العباس، ابن النَّجَّاد، إمامُ جامع دمشق. قرأ القرآن على هارون بن موسى الأخفش، وسمع أَبا علي محمَّد بن سليمان أخا خَيثَمة وغيره، وروى عنه تمَّام بن محمَّد. وتوفي بدمشق، ودُفن بالباب الصغير, وكان ثِقَة وقورًا مأمونًا.] (¬2) مُحَمَّد بن جعفر ابن الحسين بن محمَّد بن زكريا، أبو بكر، الوراق، غُنْدَر. كان حافظًا، مُتقنًا، سمع بنَيسابور، ومَرْو، وبغداد، والجزيرة، والشام، ومصر، والعراق، وما وراء النهر، والتُّرك، وكتب من الحديث ما لم يكتبه أحدٌ، وسمع ما لم يسمعه أحد، ثم استُدعي إلى بخارى لينزل إلى الحضرة، فمات في المَفازَة، وأجمعوا عليه (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 513، والمنتظم 14/ 277، وتاريخ الإسلام 8/ 315، والسير 16/ 340. وهذه الترجمة ليست في (ف م م 1). (¬2) ما بين معكوفين من (ف م م 1). وانظر ترجمته في تاريخ مولد العلماء 298، وتاريخ دمشق 2/ 211 (مخطوط)، وتاريخ الإِسلام 8/ 141، وذكروا أن وفاته سنة (360 هـ). (¬3) تاريخ بغداد 2/ 533، والمنتظم 14/ 279، وتاريخ الإِسلام 8/ 327، والسير 16/ 214.

السنة الحادية والسبعون وثلاث مئة

السنة الحادية والسبعون وثلاث مئة فيها طلب الطائع من عضد الدولة إجراء الماء إلى دار الخلافة، فساقه من الخالص إليها في نهر، فهو باق إلى اليوم يدخل الدار فيسقي البساتين وينتفعون به، ثم أجراه عضد الدولة إلى داره بالزاهر. وفيها اتَّفق فخرُ الدولة وقابوس بن وَشْمَكير على عداوة عضد الدولة باطنًا، وتحالفا عليه، وراسل عضد الدولة الطائع أن يَعقِدَ لمؤيد الدولة على جُرْجان وطَبَرِستان، ويبعث إليه بالخلع والعهد ففعل، وجَهَّز عضد الدولة العساكر إلى مؤيَّد الدولة مع زيار بن شهراكويه ومعه الأموال والسلاح. وسار مؤيَّد الدولة إلى بلاد قابوس فحصره فيها، وقاتله، واستولى عليها، وأزال نعمتَه، ويقال: إنه حبسه، ولم ينفعه فخر الدولة، وكان له طَبَرِستان وما والاها. وقال قابوس عند هزيمته: [من البسيط] قلْ للذي بصُروفِ الدَّهر عَيَّرَنا ... هل عاند الدَّهرُ إلَّا مَن له خَطَرُ أما ترى البحْرَ تعلو فوقَه جِيَفٌ ... وتَسْتَقِرُّ بأقصى قَعْرِه الدُّرَرُ فإن تكن نَشِبَتْ أيدي الخُطوبِ بنا ... ومَسَّنا من تَوالي صَرْفِها ضَرَرُ ففي السَّماء نُجومٌ غيرُ ذي عَدَدٍ ... وليس يُكْسَفُ إلَّا الشَّمسُ والقَمَرُ (¬1) وفيها سَخِطَ عضد الدولة على القاضي أبي علي المُحَسِّن بن عليّ التَّنوخي، وألزمه منزلَه، وصرفه من أعماله، ولم يزل في السُّخْط حتَّى مات عضد الدولة. وحاصلُه أن عضد الدولة لما كان بهَمَذان ذكر في مجلس القاضي أنَّه يريد أن يقبض على الصاحب بن عباد، فأخبر المحسِّنُ ابنَ عباد بما عزم عليه عضد الدولة، وبلغ عضد الدولة فعزَّ عليه ونكَبه. وفيها أُطلق أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ الكاتب من الاعتقال، وصُرف إلى داره، وكان القَبْضُ عليه في سنة سبع وستين، ومدةُ اعتقاله ثلاث سنين وسبعة أشهر وأيام. ¬

_ (¬1) الأبيات في معجم الأدباء 16/ 224، والكامل 9/ 240، ووفيات الأعيان 4/ 80.

أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل

وكان سبب اعتقاله الكتبَ التي قدَّمنا ذكْرَها، وكثرةَ ماله، فأخذ منه عضد الدولة مئة أَلْف درهم وحبسه، فكان يَمدحه بالقصائد وهو مَحبوس، وخرج عضد الدولة إلى الكوفة لزيارة المَشْهَد، فلما عاد إلى بغداد كتب إليه: [من الكامل] أهلًا بأشْرَفِ أوْبَةٍ وأَجَلِّها ... لأجَلِّ ذي قَدَمٍ يُلاذُ بنَعْلِها يَا خيرَ مَن زَهَتِ المنابرُ باسمِه ... في دولةٍ عَلِقَت يداه بحَبْلِها أرْضَيتَ ربَّك والرسولَ وآلَه ... والناسَ في حَزْنِ البلادِ وسَهْلِها كانت زيارتُك الغِنى في أهلها ... بيدٍ تَعُمُّهُمُ بفائضِ بَذْلِها مَولايَ عبدُكَ حالِفٌ لك حَلْفَةً ... تَعْيى منَاكبُ يَذْبُلٍ عن حَمْلِها لقد انتهى شَوقي إليكَ إلى التي ... لا أستطيعُ أُقِلُّها من ثِقْلِها لو بِعتَني بجميع عُمري لَفْظَةً ... أو لَحظةً بالطَّرْفِ لم أَسْتَغْلِها قَضَّيتُ سابِغَةَ السّنين مُقاسيًا ... غَمَّاءَ مَحْبِسِها وحَلْقَةِ كَبْلِها لم تُخْلِني ساعاتُها من رَوْعَةٍ ... وكذا أنا من دَمْعَةٍ لم أُخْلِها بُدِّلْتُ فيها من غُرابي بازيًا ... بل بومَةً شَمْطاءَ لم أَسْتَحْلِها أَفَتَسْتَمِرُّ بي المناحِسُ هكذا ... في دَولةٍ أنا واحدٌ من أهلها (¬1) من أبيات طويلة، فلما قرأها عضد الدولة رقَّ له وقال: هذا المسكين قد طالت حَبْسَتُه، وأمر بإطلاقه، ومضى إلى داره، وشَغَله عن النَّظَر في حالة مَرضُه، وافتقده غير مرة. وفيها قَلَّد الطائع كتابَته أَبا القاسم عيسى بن عليّ بن عيسى، وخَلَع عليه، وصَرف عيسى بن مروان النصراني عنها (¬2)، وحجَّ بالنَّاس أبو عبد الله العَلوي. وفيها تُوفِّي أَحْمد بن إبراهيم بن إسماعيل أبو بكر، الجُرْجاني، الحافظ. ¬

_ (¬1) معجم الأدباء 2/ 42 - 44. (¬2) من قوله: وفيها اتفق فخر الدولة وقابوس ... إلى هنا ليس في (ف م م 1).

الحسن بن أحمد بن صالح

طاف الدُّنيا, ولَقي الشيوخ وسمع منهم، وصنَّف الكُتُبَ الحِسان، منها: "الصحيح" صنَّفه على صحيح البُخَارِيّ، و"الفَرائد"، و"العوالي"، وغير ذلك، وتوفي في رجب. وكان الدارقطني (¬1) يَتأسَّفُ على لقائه ويقول: عَزمتُ غير مرة على الرحلة إليه فلم أُرْزَق، وأجمعوا على حِفظه وصِدقه وفَضله وثقته. الحسن بن أَحْمد بن صالح أبو محمَّد، السَّبِيعيّ، الحافظ، الكُوفيّ. طاف الدنيا، وكان مُكثرًا إلَّا أنَّه كان عَسِرَ الرواية, وكان الدارقطني يجلس بين يديه كجُلوسِ الصبيّ بين يدي المعلِّم هَيبةً له، ومات في ذي الحجّة ببغداد، وأجمعوا عليه. وقال: قدم علينا حَلبًا الوزير جعفر بن الفَضْل، فتلقَّاه النَّاس، فكنتُ فيمَن تلقَّاه، فعرف أني من أصحاب الحديث فقال: أتعرِفُ حديثًا في إسناده أربعة من الصَّحَابَة كلُّ واحدٍ عن صاحبه؟ قلتُ: نعم؛ حديث السَّائبِ بن يَزيد، عن حُوَيْطِب بن عبد العُزَّى، عن عبد الله بن السَّعْدي، عن عمر بن الخطاب في العُمالة (¬2)، فعرف صِحَّةَ قولي فأكْرَمَني. قال عبد الغني بن سعيد: وثَمَّ حديثان، أحدهما يرويه أربعةٌ من الرجال، والثاني يرويه أربعة من النساء، فأما الذي يرويه أربعة من الرجال فحديث نُعَيم بن هَمَّار، عن ¬

_ (¬1) في (خ ب): وكان الرقابي، والمثبت من تاريخ جرجان 110، والمنتظم 4/ 282، وتاريخ الإِسلام 8/ 354، والسير 16/ 294. (¬2) أخرجه أَحْمد (100)، والبخاري (7163)، ومسلم (1045)، ولفظه: أن عبد الله بن السعدي قدم على عمر - رضي الله عنه - في خلافته، فقال له عمر: ألم أُحَدَّث أنك تلي من أعمال النَّاس أعمالًا، فإذا أُعطيتَ العُمالة كرهتَها؟ فقلت: بلى، فقال عمر: فما تريد إلى ذلك؟ قلت: إن لي أفراسًا وأعبُدًا وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، فقال عمر: فلا تفعل، فإنِّي قد كنتُ أردتُ الذي أردتَ، فكان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقرَ إليه مني، حتَّى أعطاني مرة مالًا فقلت: أعطه أفقر إليه مني، قال: فقال له النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "خذه فتَمَوَّلْه وتصدق به، فا جاءك من هذا المال وأنت غير مُشرف ولا سائل فخُذْه، وما لا فلا تُتْبِعْه نفسَك". وانظر ترجمة السبيعي في: تاريخ بغداد 8/ 213، والمنتظم 14/ 282، والسير 16/ 296، وتاريخ الإِسلام 8/ 356.

عبد العزيز بن الحارث بن أسد

المِقدام بن مَعْدي كَرِب، عن أبي أيُّوب الأَنْصَارِيّ، عن عَوف بن مالك في الأمر بالطَّاعة، والوَصيَّة بكتاب الله (¬1). وأما الحديث الثاني فرواه الزُّهري، عن عُروةَ بن الزُّبَيْر، عن زينب بنت أبي سلمة، عن حَبيبة بنت أم حَبيبة بنت أمِّ سَلمة، عن أمها أم حَبيبة، عن زينبَ بنت جَحْش في فتح رَدْمِ -سدِّ- يأجوج ومأجوج (¬2). عبد العزيز بن الحارث بن أَسَد أبو الحسن، التَّميميّ، الحَنْبلي. كان فاضلًا، وله تصانيف في أصول الكلام، وفي المذهب، والفرائض، وكانت وفاتُه ببغداد في ذي القَعدة (¬3). [فصل وفيها تُوفِّي علي بن إبراهيم أبو الحسن، الحُصَريّ، البَصري، الصُّوفي، الواعظ (¬4). سكن بغداد، وصحب الشِّبلي وغيره، وكان صاحبَ خَلَوات ومُجاهدات، وما كان يخرج إلَّا من الجمعة إلى الجمعة. [قال الخَطيب: ] وكان قد أسنَّ وصَعُب عليه المجيءُ إلى الجامع، فبني له الرباط المقابل لجامع المنصور، ثم عُرف بصاحبه الزوزني الذي بناه، وكان شيخَ الشيوخ ببغداد. ¬

_ (¬1) أخرجه الطَّبْرَانِيّ في المعجم الكبير (60)، وفي معجم الشاميين (1170) ولفظه: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة وهو مرعوب فقال: "أطيعوني ما كنت بين أظهركم، وعليكم بكتاب الله، أحلّوا حلاله، وحرموا حرامها. (¬2) أخرجه أَحْمد (27413)، ومسلم (2880) (1) ولفظه: استيقظ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- من نوم وهو محمرّ وجهه وهو يقول: "لا إله إلَّا الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فُتح اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحَلّق، قلت: يَا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ ! قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، إذا كثر الخبث". (¬3) تاريخ بغداد 12/ 233، والمنتظم 14/ 284، وتاريخ الإِسلام 8/ 361، والتراجم الثلاث ليست في (ف م م 1). (¬4) تاريخ بغداد 13/ 249، طبقات الصوفية 489، الرسالة القشيرية 125، المنتظم 14/ 285، مناقب الأبرار 2/ 207، تاريخ الإِسلام 8/ 362.

وقال في "المناقب": كان الحُصَري (¬1) شيخَ أهل العراق ولسانَها في وقته، ولم يُرَ في زمانه أتمُّ حالًا منه، ولا أحسنُ لسانًا، ولا أعلى كلامًا، مُتوحِّدًا في طريقته، ظريفًا في شمائله، له لسانٌ في التوحيد يَختصُّ به، ومقامٌ في التَّجريد لم يُشاركْه فيه غيره، وهو أستاذ العراقيين، وبه تأدَّب مَن تأدَّبَ منهم، وكذا قال السُّلَميّ وغيره. نبذة من كلامه: قال: كان آدم مَحَلًّا للعلل، فخوطب على قدر حالة: {وإِنَّ لَكَ أَلَّا تجَوُعَ فِيهَا وَلَا تَعرَى} [طه: 118] , وإلا فذاك المقام لا يؤثِّر فيه جوعٌ ولا عَطَشٌ ولا عُرْي. وقال: وَجَدتُ مَن يدعو إلى الله [إنما يدعو] بظاهره، ويدعو إلى نفسه بباطنه؛ لأنه يحبُّ أن يُعَظَّم، ويُشارُ إليه، ويعرَفُ مَوضعُه، ويثْنى عليه الثناءَ الحسَن، ومَن أحب ذلك فقد دعا إلى نفسه لا إلى ربِّه، وما عليَّ مني، وأيُّ شيءٍ لي فيَّ [حتى أخاف عليه، وأرجو له] إن رَحِم رحم ما له، وإن عذَّب عَذَّب ما له (¬2). قال المصنِّف رحمه الله: وهذا كلامٌ حسن، أشار فيه إلى التوحيدِ المَحْض، وسقوطِ الإرادة بالكلِّية، وطريقةِ الفَناء التي عليها قواعُد الحقائق مَبنيَّة، ولعله استنبط هذا من الكتاب الكريم: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]. وسئل: هل يَحتشم المحبُّ أو يَفزَع؟ فأنشد: [من البسيط] قالت لقد سُؤتَنا في غيرِ مَنفَعَةٍ ... بطَرْقِكَ البابَ والحُجَّابُ ما هَجَعوا ماذا يَريبُك في الظَّلْماءِ تَطْرُقُنا ... قلتُ الصَّبابَةُ هاجَتْ ذاك والطَّمَعُ قالت لَعَمْري لقد خاطَرْتَ ذا جَزَعٍ ... حتَّى وَصَلْتَ فهَلّا عاقَكَ الجَزَعُ فقلتُ هل هو إلَّا الموتُ أو ظَفَرٌ ... بما يَزولُ به عن مُهْجَتي الهَلَعُ وكان ينشد دائمًا: [من الخفيف] إنَّ دَهْرًا يلُفُّ شَمْلي بجَمْعٍ (¬3) ... لزَمانٌ يَهُمُّ بالإحسانِ (¬4) ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وذكره في المناقب فقال. والمثبت من (خ ب). (¬2) المنتظم 14/ 286 وما بين معكوفين منه. (¬3) في طبقات الصوفية 493، ومناقب الأبرار 2/ 209: بسلمى. (¬4) من قوله: نبذة من كلامه ... إلى هنا؛ ليس في (ف م م 1).

محمد بن أحمد بن طالب

وقال: النَّاس يقولون: الحُصَري لا يقول بالنَّوافل! وعليَّ أوراد من حال الشباب؛ لو تركتُ منها ركعةً لَعُوْتِبْتُ. وقال: عَرِّضوا ولا تُصَرِّحوا فالتَّعْرِيضُ أيسَر (¬1)، ويُنشد: [من الطَّويل] وأعْرِضْ إذا ما جئتَ عنا بحِيلةٍ ... وعَرِّض ببعضٍ إنَّ ذلك أسْتَرُ فما زِلتَ في إعمالِ (¬2) طَرْفِكَ نَحوَنا ... ولَحْظِك حتَّى كاد ما بكَ يَظْهرُ ذكر وفاته: [ذكر ابن خميس في "المناقب" أنَّه] مات ببغداد يوم الجمعة في ذي الحجَّة [من هذه السنة. وقال الخَطيب: ] ودُفن بمقبرة باب حَرْب وقد أناف على الثمانين. محمَّد بن أَحْمد بن طالب أبو الحسن، الأخباري. رحل وسمع الكثير، وكان فاضلًا، وقال: أنشدنا ابن الأعرابي: [من الخفيف] كنتُ دهرًا أُعَلِّلُ النَّفْسَ بالوَعْـ ... ـدِ وأخلو مُسْتأنِسًا بالأماني فمضَى الواعِدون ثُمَّ اقْتُطِعْنا ... عن حديثِ المُنى (¬3) بصَرْفِ الزَّمانِ [فصل وفيها تُوفِّي] محمَّد بن أَحْمد بن عبد الله أبو زيد، المَرْوَزيّ، الفقيه الشَّافعيّ (¬4). ولد سنة إحدى وثلاث مئة، ولقي محمَّد بن يوسف الفِرَبْريّ سنة ثمان عشرة وثلاث مئة، فحدَّثه بصحيح البُخَارِيّ عن البُخَارِيّ. وكان زاهدًا عابدًا. ¬

_ (¬1) كذا في (ب خ)، وهذا القول ليس في (ف م م 1)، وفي مناقب الأبرار 2/ 209: أستر، وهو الأشبه. (¬2) في (خ ب): إعراض، والمثبت من مناقب الأبرار 2/ 209. (¬3) في (خ ب): فمضى الواعدون لي عن حديث المنى، والمثبت من معجم الأدباء 17/ 167، وانظر تاريخ بغداد 2/ 147، وتاريخ دمشق 60/ 164، وتاريخ الإِسلام 8/ 327. وهذه الترجمة ليست في (ف م م 1). (¬4) تاريخ بغداد 2/ 154، وتاريخ دمشق 60/ 173، والمنتظم 14/ 287، وتاريخ الإِسلام 8/ 363، والسير 16/ 313.

محمد بن خفيف بن إسفكشاذ

[قال الخَطيب: كان] أحد الأئمة، حافظًا لمذهب الشَّافعيّ رحمه الله، حسن النَّظَر، مشهورًا بالوَرَع [قدم نيسابور غير مرة, ثم] حجَّ سنة خمس وخمسين وثلاث مئة، فأقام بمكة سبعَ سنين، ثم قدم بغداد وحدَّث بها، ثم مضى إلى مَرْو فتوفي بها. قال أبو بكر البَزَّاز (¬1): عادَلْتُ أَبا زيد من نيسابور إلى مكة، فما أظنُّ الملائكةَ كتبتْ عليه خطيئةً قط. وقال أبو زيد: لما أردتُ (¬2) الرجوعَ إلى مَرْو وأنا بمكة رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلتُ: يَا رسول الله، إنِّي أريدُ الرّجوعَ إلى مَرْو، والمسافة بعيدة، وأنا ضعيف، فالتفت إلى شابٍّ كان إلى جانبه وقال: يَا رُوحَ القُدس، كن معه إلى وطنه، فانتبهتُ وأنا أرى أنَّه جبريل - عليه السلام -، فخرجتُ من مكةَ إلى مَرْو، فلم أُحسَّ بشيءٍ من التَّعَب. تُوفِّي أبو زيد في رجب، وكان رُكنًا (¬3) من أركان الإِسلام، وبدلًا من الأبدال. وفيها تُوفِّي محمَّد بن خَفيف بن إسْفِكْشاذ أبو عبد الله، الشِّيرازي، الصُّوفي، شيخ بلاد فارس (¬4). قال أبو عبد الرَّحْمَن السُّلَمي: كانت أُمُّه نيسابورية، وهو اليوم شيخ المشايخ، وتاريخ الزمان، ولم يبق للقوم أقدمُ سنًّا منه، ولا أتمُّ حالًا ووقتًا، صحب رُويمًا، والجَريري، وأبا العباس بن عطاء، ولقي الحسين بن منصور، وهو أعلم المشايخ بعلوم الظاهر، ومُتمسِّكًا بعلوم الشريعة من الكتاب والسنة، فقيه على مذهب الإِمام الشَّافعيّ رحمة الله عليه. ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وحدثني أبو بكر البَزَّار قال. (¬2) في (ف م م 1): وحكى عنه أنَّه قال: لما أردت، والمثبت من (خ ب). (¬3) في (ف م م 1): تُوفِّي أبو زيد في رجب، حدث عن الفربري بصحيح البُخَارِيّ، وهو أول من رواه عنه، وخلق كثير، وروى عنه أبو عبد الله الحاكم والسلمي والدارقطني وغيرهم، وقال أبو نعيم: كان ركنًا. ولم نقف على كلام أبي نعيم في الحلية. (¬4) بعدها في (ف م م 1): وأثنى عليه الأئمة. وانظر ترجمته في: حلية الأولياء 10/ 385، وطبقات الصوفية 462، والرسالة القشيرية 120، وتاريخ دمشق 62/ 14، والمنتظم 14/ 288، ومناقب الأبرار 2/ 176، والسير 6/ 342، وتاريخ الإِسلام 8/ 365.

وكان من أولاد الملوك، أوحدَ عصره، صاحب المقامات والأحوال، والمجاهدات والرياضات. وقال أبو نعيم (¬1): أبو عبد الله بن خَفيف اللّطيف الظَّريف، له "الفصول في الأصول"، و"التحقيق في الوصول"، لقي الأكابرَ والأعلام، وكان أحد أركان الإِسلام [صحب أَبا العباس بن عطاء، وطاهرًا المقدسيّ، وأبا عمرو الدِّمشقيّ وغيرهم، وكان من أولاد الملوك بفارس. وذكره القُشيري فقال: هو شيخ الشيوخ، وأوحدُ وقته. وذكره في "المناقب" وحكى عنه العجائب. وكذا الحافظ ابن عساكر، وهو الذي قال في نسبه: إسفكشاذ. فصل في ذكر] طرف من أخباره ومجاهداته (¬2): قال: كنت (¬3) في بدايتي آخُذُ الخِرَق من المزابل وأُصلح منها ما أَلْبَسُه، وأقمتُ مدةً أُفطر في كلِّ ليلةٍ على كفِّ من الباقِلَّى. وكنتُ أقرأ في ركعة قل هو الله أحد عشرة آلاف مرة، وفي الثَّانية القرآن كلّه، وكنت أصلّي من الغداة إلى العصر أَلْف ركعة، وأُحيي الليلَ كله. وقال بعض أصحابه: أمرني أن أُقدِّمَ (¬4) إليه كلَّ ليلةٍ عشر زَبيباتٍ لإفطاره، فأشفقتُ عليه، فقدَّمتُ له خمس عشرة، فنظر إلي وقال: مَن أمرك بهذا؟ وأكل عشر حَبّاتٍ (¬5) وترك الباقي. وقال ابن خفيف: ما وَجَبت عليَّ زكاةُ الفطر منذ أربعين سنة، ولي قَبول عظيمٌ عند الخاصّ والعام. ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وذكره أبو نعيم في الحلية فقال. (¬2) ما بين معكوفين من (ف م م 1). (¬3) في (ف م م 1): حكى عنه في المناقب أنَّه قال كنت، والكلام الآتي لم نقف عليه في ترجمته في المناقب 2/ 176، وإنما ذكره ابن عساكر في تاريخه 62/ 18. (¬4) في (ف م م 1): قال القشيري: قال بعض أصحاب ابن خفيف: أمرني ابن خفيف أن أقدم. (¬5) في (ف م م 1): زبيبات.

[وحكى عنه الحافظ ابن عساكر، وفي "المناقب"] قال: استقبلني في حال حداثتي فقير، فرأى فيَّ أثرَ الجوع والضرّ، فأدخلني بيته، وقدَّم إليَّ طَبيخًا فيه كُشك ولحم مُتغيِّر، فأكلتُ الثريدَ وتجنَّبتُ اللحم، فأخذ قطعة من اللحم فلقَّمني إياها، فشقَّ علي وخَجِلتُ. ثم خرجتُ إلى مكة ومعي جماعة، فأقمنا أيامًا لم نأكل شيئًا، فجئنا إلى حيٍّ من أحياء العرب، فاشتَرَوْا منهم كلبًا بدينار، فذبحوه وشَوَوه، وأكلوا للضرورة، وناولوني قطعةً من لحمه، فلما أردتُ أكلَها ذكرتُ خَجَل الفقير مني، وأنها كانت عقوبة، فلما رجَعْنا أتيتُ الفقيرَ واعتذرْتُ إليه. وقال: دخلتُ (¬1) الباديةَ على نيَّةِ الحج، وكنتُ قد قَدِمتُ بغداد ولم أدخل على الجُنيد، وفي رأسي نَخوةُ الصوفية، وقد أقمتُ أربعين يومًا لم آكُلِ الخبزَ، ولم أشرب الماء، فعَطِشتُ، فلما وصلنا إلى زُبالة (¬2) -وكنت على طهارةٍ من بغداد- وإذا بظَبْيٍ على رأس البئر، وقد ارتفع الماء إلى رأسها وهو يشرب، فدنوتُ من البئر لأشرب فولَّى الظبي، ونزل الماء إلى أسفل البئر، فقلت: يَا سيدي مالي محلُّ هذا الظبي؟ ! فسمعتُ هاتفًا من ورائي يقول: هذا الظَّبيُ جاءنا بغير حَبلٍ ولا رَكْوَة، وأنت جئتنا بحبلٍ ورَكوة، ولكن التفت، فالتفتُّ وإذا بالماء في رأس البئر، فشرِبتُ، فلما قضيتُ الحج وعُدُت إلى بغداد دخلتُ على الجنيد، فلما رآني قال: أما إنك لو صَبَرْتَ ساعةً لنبع الماء من تحت قدميك. [وحكى عنه في "المناقب" أَيضًا] قال: خرجتُ من مصر أُريد الرَّمْلَة للقاء أبي علي الرُّوذباري، فلَقيني عيسى بن يوسف المصري الزَّاهد، فقال لي: يابن خَفيف، بصُور شابٌّ وكَهْل قد وقفا في مقام المراقبة، فلو نظرتَ إليهما لعلك أن تستفيد منهما، فدخلتُ صور وأنا جائع عطشان وفي وَسَطي خِرْقَة، وليس على كتفي شيء، فأتيتُ المسجد، فإذا بشابٍّ وكَهْل قد استقبلا القبلة، وهما جالسان لا يتكلَّمان، فسلَّمتُ عليهما فلم يَرُدَّا، فقلت: ناشَدْتُكُما الله إلَّا رَدَدْتُما عليَّ السَّلام، فرفع الشابُّ رأسَه من مُرَقعَته وقال: يَا ابن خفيف، ما أقلَّ شُغْلَك بنفسك حتَّى تَلقانا! ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وحكى عنه أَيضًا أنَّه قال: دخلت. (¬2) منزل معروف بطريق مكة من الكوفة.

قال: فذهب عَطَشي وجوعي وتعبي، فأقمتُ عندهما ثلاثة أيام لم آكل ولم أشرب، ولا رأيتُهما أكلا ولا شربا ولا ناما، فقلت لهما في اليوم الثالث: عِظاني، فقالا: نحن أربابُ مصائب، ما لنا لسانٌ في المواعظ، فقلت: بالله، فقال الشاب: عليك بصُحبة مَن يذكِّرك اللهَ برؤيته، وتقع على قلبك هَيبتُه، ويَعِظُك بلسان فعله لا بلسان قوله، اذهب عنا، فانصرفتُ (¬1). [ذكر نبذة من كلامه: حكى عنه في "المناقب" أنَّه] قال: لما خلق الله الملائكة والإنس والجن خلق العصمةَ والكفايةَ والحيلةَ وقال: اختاروا، فاختارت الملائكة العصمة، ثم قال للجن: اختاروا، فاختاروا العصمة، فقال: قد سُبِقتم إليها، فاختاروا الكفاية، ثم قيل للإنس: اختاروا، فاختاروا العِصْمةَ، فقيل: قد سُبِقتم إليها، فاختاروا الكفاية، فقيل: قد سُبقتم إليها، فاختاروا الحيلة، فبنو آدم يحتالون بجهدهم. وسئل عن التوكّل فقال: الاكتفاءُ بضمانه، وإسقاطُ التُّهمَةِ عن قضائه. وقال: ليس شيءٌ أضرَّ بالمريدين من مُسامحةِ النفس في ركوب الرُّخَص والتأويلات (¬2). وسئل عن القُرْبِ فقال: طيُّ المسافات بلطيف المنازلات (¬3). وسئل عنه أَيضًا فقال (¬4): قُرْبُك منه بملازمة الموافقات، وقُرْبُه منك بدوام التوفيق. ذكر وفاته: [حكى الحافظ ابن عساكر عن عبد الرَّحيم قال: قال ابن خفيف: ] سأَلتُ الله أن ألقاه ولا يكون على بَدَني شيءٌ من اللحم، ولا لأحدٍ عندي شيء، فمات كذلك، أقام سبعةَ عشر يومًا لم يأكل، وكانوا يَشَمُّون منه رائحةَ الطّيبِ والمِسْك شيئًا ما شَموا مثلَه قط. ¬

_ (¬1) بعدها في (م): وقد كاد قلبي يطير رعبًا. (¬2) في المناقب 2/ 177: وقبول التأويلات. (¬3) في طبقات الصوفية 466، والمناقب: بلطيف المداناة. (¬4) في (ف م م 1): وفي رواية القشيري عنه أنَّه قال. والمثبت من (ب خ)، والقول في الرسالة 120 - 121، وطبقات الصوفية 466، ومناقب الأبرار 2/ 177.

وتوفي ليلة الثلاثاء (¬1) ثالث عشرين رمضان وله مئة وأربع سنين. [وقال ابن عساكر: ] لما مات حضر أبو أَحْمد الكبير، وأبو أَحْمد الصغير, وأبو الطَّيب القزويني، وخلق كثير، وحملوه على سريره، وضَبَّبوه بضَيَّات حديد، ودخل تحته كلُّ قويٍّ وكل شاطر، ومَن يَدَّعي القوَّةَ والفتوة، وكلما تَعِب قومٌ دخل آخرون، وحوله الفرسان من الدَّيالمة، والخَدَم، والحاشيبة بالسيوف والدَّبابيس. وصلى عليه أبو بكر العَلَّاف وغيره نحوًا من مئة مرة، واجتمع في جنازته اليهود والنصارى والمجوس (¬2). [وقال ابن عساكر: حدَّث ابن خفيف بدمشق عن القاضي الحسين المحاملي، وحمَّاد بن المبارك (¬3)، ومحمَّد بن جعفر التَّمَّار، وذكر غيرهم. وروى عنه أبو الحسن علي بن جَهْضَم، وذكر غيره. قلت: وقد ذكره جدي في "المنتظم" فقال: محمَّد بن خفيف، أبو عبد الله الشيرازي، صحب الجَريري، وابن عطاء، وغيرهما.] وقد تكلَّم فيه الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى (¬4). ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): وقال أبو عبد الرَّحمن السلمي: تُوفِّي ليلة الثلاثاء. (¬2) تاريخ دمشق 62/ 29 - 30. (¬3) كذا في (ف م م 1) وهذه الزيادة ما بين معكوفين منها، وكذا في (ب س) من تاريخ دمشق 62/ 14 كما أشارت إليه محققته، والصواب حماد بن مدرك، وانظر تاريخ الإِسلام 8/ 365، والسير 16/ 342. (¬4) فقال في المنتظم 14/ 288: وقد ذكرت في كتابي المسمى بتلبيس إبليس عنه من الحكايات ما يدل على أنَّه كان يذهب مذهب الإباحة. اهـ. وقال الذهبي في السير 16/ 346 - 347: قد كان هذا الشيخ جمع بين العلم والعمل، وعلوّ السند، والتمسك بالسنن، ومُتِّع بطول العمر في الطاعة. قلت: وجاء في (ف) بعد نهاية الترجمة ما نصه: انتهت ترجمة ابن خفيف والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف خلقه محمَّد وآله وصحبه وسلم.

السنة الثانية والسبعون وثلاث مئة

السنة الثَّانية والسبعون وثلاث مئة فيها في صفر قَبض عضد الدولة على أبي الوفاء طاهر بن محمَّد، وحُمل إلى قلعة الماهكي، ثم قُتل بعد وفاة عضد الدولة. وفي ربيع الآخر فُتح المارستان الذي أنشأه عضد الدولة بالجانب الغربي من بغداد، وهو القائم الآن، ورتَّب فيه الأطباء والمعالجين والوكلاء، وحُملت إليه الأشربةُ والأدوية والفُرش وغيرها. وفي شوال توفي عضد الدولة، وأُخفي خبرُه، وكتمه خواصُّه كتمانًا اجتهدوا فيه، واستَدْعَوا صمصامَ الدولة ابنَه إلي دار المملكة، وأخرجوا عهدًا من عضد الدولة بتوليته واستخلافه. وكان في العهد: قد قَلَّدْنا أَبا كاليجار المرزبان بن عضد الدولة ولايةَ عهدنا، وخلافَتنا على الممالك والأعمال، والله يختار لنا وله حُسنَ الخيرة ... وذكر بمعناه. وبويع على ما في العهد، والتمسوا من الطائع العهد والخِلَع، فكتب به، وبعث إليه بالخلع واللواء. وجلس صمصام الدولة، وقرئ العهد بين يديه، واستمرَّ الحال على إخفاء موت عضد الدولة إلى أن تمهَّد أمرُ صمصام الدولة، واجتمعت الكلمة على طاعته، ثم خَلع على الأميرين أبي الحسين أَحْمد وأبي طاهر هارون شاه (¬1)، وحُملا على فرسين بمركبي ذهب، وخرجا إلى شيراز للنظر في أمورها. وكان عضد الدولة لما مات خاف صمصام الدولة من أخيه أبي الحسين أَحْمد فاعتقله، وكانت والدته ابنة نادر ملك الدَّيلم، فخافهم صمصام الدولة، وعزمت أمُّه على كبس دار صمصام الدولة، وتلبس ثيابَ الرجال، وتأتي معها بالديلم فتُخَلِّص ابنَها. ¬

_ (¬1) في الكامل 9/ 22: وأبي طاهر فيروز شاه.

عبد الله بن أحمد بن ماهبرد

وعلم صمصام الدولة، فأطلقه، وولَّاه شِيراز وفارس، وقال له: اِلْحَق قبل أن يصل إليها شرف الدولة، وأعطاه الأموال والرجال، فسار إليها، فوصل الأهواز وقد سبقه شرف الدولة إلى شِيراز. وأقام أبو الحسين بالأهواز، وباينَ أخاه صمصام الدولة، وتلقَّب بتاج الدولة، وأسقط خطبة أَبيه وأقامها لنفسه، وادَّعى الملك (¬1). فبعث إليه صمصام الدولة جيشًا من التُّرك والدَّيلَم، فهزمهم، وقتل جماعةً منهم، واستولى على الأهواز، ووجد فيها أربع مئة أَلْف دينار، وثلاثة آلاف وخمس مئة ثوب ديباج، وأربع مئة رأس من الدواب، وجِمالًا، وقماشًا، وغير ذلك، فاستولى على الجميع وجاءه الدَّيْلَم والتُّرك فاستخدمهم وأغناهم، فأحبوه، وسار إلى البصرة فملكها، ورتَّب فيها أخاه أَبا طاهر، ولقَّبه ضياءَ الدولة. وفيها وثب أبو الفرج بنُ عمران بن شاهين على أخيه أبي محمَّد الحسن بن عمران صاحب البَطيحة، فقتله واستولى عليها. وفيها قُلِّد أبو القاسم علي بن أبي تَمَّام الزَّينبي نقابة العباسيين، وخُلِع عليه (¬2). وحج بالنَّاس أبو الفتح أَحْمد بن عمر العلوي (¬3)، وقيل: لم يحجَّ أحد من العراق إلى سنة ثمانين وثلاث مئة بسبب الفتن والخُلْف بين العراقيين والمصريين. [فصل وفيها تُوفِّي عبد الله بن أَحْمد بن ماهبرد أبو محمَّد، الأَصْبهانِيّ. ¬

_ (¬1) الذي في الكامل 9/ 22 - 23 أن الذي فعل كل ذلك هو شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيل، وأنه استولى على فارس وملك البصرة وأقطعها أخاه أَبا الحسين. (¬2) من قوله: وكتمه خواصه كتمانًا اجتهدوا فيه ... إلى هنا ليس في (ف م م 1). (¬3) في المنتظم 14/ 290، وتاريخ الإِسلام 8/ 348: وخلع على أبي منصور بن أبي الفتح العلوي للخروج بالحاج وإقامة الموسم.

عضد الدولة

سكن بغداد، وحدَّث بها عن البَغَويّ وطبقته، وروى عنه البَرْقاني، وشيوخ الخَطيب، وكان صالحًا زاهدًا عابدًا ثِقَة. قال الخَطيب: حَدَّثني البرقاني عنه قال: صمتُ ثمانيةً وثمانين رمضانًا.] (¬1) وفيها تُوفِّي عَضُد الدولة فَنَّاخُسْرو -وقيل: بُوَيه- بن أبي علي بن تَمام بن كُوهي، والمشهور فناخسرو، ونسبه إلى أردشير بن بابك (¬2). وقد أشار إليه المتنبي بقوله: [من المنسرح] أَبا شُجاعٍ بفارسٍ عَضُدَ الدَّولةِ فَنَّاخُسْرو شَهنْشَاها (¬3) وهو أول من تلَقَّب في الإِسلام بشَهنْشاه، وقال أبو علي الفارسيّ: منذ تلقَّب بذلك تَضَعْضَع، وما كفاه هذا حتَّى مَدح نفسَه فقال: [من الرمل] عَضُدَ الدولةِ وابنَ رُكْنها ... مَلكَ الأملاكِ غَلَّابَ القَدَرْ (¬4) وسنذكر الأبيات إن شاء الله تعالى قريبًا. ذكر طرف من أخباره: قد ذكرنا دخولَه بغداد، ولما دخلها كان الخراب قد استولى عليها وعلى سوادها بانفجار بُثوقها، وقطعِ المفسدين لطُرقاتها. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين من (ف م م 1)، وانظر تاريخ بغداد 11/ 36، وذكره ابن الجوزي في المنتظم 14/ 304 في وفيات سنة (373)، وذكره الذهبي في تاريخه 8/ 400 في وفيات سنة (374). (¬2) كذا ورد فذا النص في (خ ب)، وترجمة عضد الدولة أخلَّت بها النسخ (ف م م 1). والذي في المصادر أنَّه: فناخسرو بن ركن الدولة أبي علي حسن بن بويه بن فناخسرو بن تمام بن كوهي. والذي نسبه إلى أردشير هو الأمير ابن ماكولا. انظر يتيمة الدهر 2/ 257، والمنتظم 14/ 290، والكامل 8/ 584، ووفيات الأعيان 4/ 50، والسير 16/ 249، وتاريخ الإسلام 8/ 376، والنجوم الزاهرة 4/ 142، ومصادر أخرى في حواشيها. (¬3) ديوان المتنبي 4/ 410 بشرح البرقوقي. (¬4) قال ابن كثير في البداية والنهاية 11/ 300 عقبها: قبّحه الله وقبح شعره وقبح أولاده، فإنَّه قد اجترأ في أبياته هذه فلم يفلح بعدها.

وكان بنو شَيبان قد منعوا أحدًا يسير في طريق، فبعث إليهم العساكر فقتلهم، وأسر منهم ثمان مئة رجل. وسدَّ البثوق؛ بَثْق اليهودي، وبَثْق السَّهليّة، وأمر الأغنياء بعمارة مُسَنَّياتهم التي على دجلة، وغَرس الزَّاهر الذي كان دار أبي علي بن مُقْلَة، وكانت قد صارت خَرابًا تلًّا، وغرس التَّاجي بُستانًا عند قُطْرَبُّل، وحَوَّطه على أَلْف وتسع مئة جَريب، وأمر بحفر الأنهار التي دَرَست، وعَمِل عليها أرْحاء الماء، وحَوَّل من البادية قومًا فأسكنهم بين فارس وكرمان، فزرعوا وعَمَروا البريّة، وحمى الدنيا، وأخَّر الخراج إلى النَّيروز المعتضدي، ورفع الجِبابة عن الحاج، وأقام لهم السَّواني في الطريق، وحَفَر المصانع والآبار، وأطلَق الصِّلات لأهل الحرمين، ورَدَّ رسومَهم القديمة، وأدار السُّور على مدينة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكسا المساجد، وأدرَّ الأرزاق، وأقام المؤذِّنين والأئمة والقُرَّاء. وكان كثيرَ الصَّدَقات؛ تصدَّق مرة بثلاثين أَلْف درهم، ومرة بثلاث مئة أَلْف درهم، وقيل: بثلاث مئة أَلْف دينار، وعمل الجسر، وكان الغَرَقُ قد هَدم القَنطَرتين العتيقة والجديدة التي على الصَّراة، فعَمرها، فتمَّت الجديدةُ بعد وفاته. واستحدث المارستان -وكان بجكم قد شرع في عمله فلم يتمّ- وجلب إليه العقاقير التي لا توجد إلا فيه، وعمل بين يديه سوقًا للبَزَّازين ووقفه عليه، وأوقف عليه ضِياعًا كثيرة، ومما أوقف عليه أرحاء نهر عيسى عند القرية. وكان يبحث عن سِيَر الملوك (¬1)، ويطلق للعيون الجامَكيَّات (¬2) والجوائز، فكانت أخبار الدنيا عنده، حتَّى لو تكلَّم إنسانٌ بمصر علم به، فروي أن رجلًا ذكره بمصر، فتَحَيَّل حتَّى حُمل إليه، فعاتبه وقال: قلتَ كذا وكذا، ورَدَّه إليها، وكان النَّاس يَحترزون من نسائهم وغلمانهم، ويَتحفَّظون في كلامهم ويقولون: للحيطان آذان. وكانت هيبتُه عظيمة (¬3)، فلو لَطَم إنسانٌ إنسانًا قابله شرَّ مقابلة، فانكسف النَّاس له، وكَفُّوا عن الظُّلم. ¬

_ (¬1) في المنتظم 14/ 292: وكان يبحث عن أشراف الملوك وينقب عن سرائرهم. (¬2) الرواتب، انظر المعجم الفارسيّ 198. (¬3) في المنتظم: هيمنته عظيمة.

وكان شُجاعًا، مَهيبًا، عاقلًا، ثَبْتًا، كثيرَ الفضل، شديدَ التَّيَقُّظ، بعيدَ الهِمَّة، مُحِبًّا للفضائل، مُتجَنِّبًا للرَّذائل، ناظرًا في أمور الرعيَّةِ. وكانت الأخبارُ تأتيه من بغداد إلى شِيراز في سبعة أيام، وتُجْلَب إليه الفواكه الطَّريَّة. وكان مُحافظًا على صلاته؛ فكان يُباكر الحمَّام، فإذا خرج منه أدَّى فرضَ الصلاة، ويَدخل إليه خواصُّه ووزيره أبو القاسم مُطهّر بن عبد الله، فيجلس بين يديه، ويَعرض عليه الأمور، ويستأذنه في كلِّ أمرٍ بما يراه، ثم يحضر أرباب الدَّواوين على باب قصره كما جرت به العادة يَقضون الأشغال، وإذا حضر وقتُ الطعام أكل وطبيبُه قائمٌ على رأسه يُعَرِّفه منافعَ الألوان ومضارَّها، ثم يغسل يده وينام، ثم ينتبه فيتوضّأ للصلاة ويصلي الظهر، ثم يحضر ندماؤه، وهو ينظر في القصص، ويقضي الأشغال صدرًا من الليل، ثم ينام وينتبه وقتَ الفجر فيدخل الحمام، فهذا دَأبُه، وإن كان يومُ مَوكبٍ دخل عليه النَّاس على طبقاتهم. ومن اهتمامه بأمور الرعية مالت نَفسُه إلى جارية، فشغَلَتْه عن النَّظَر في الأمور، فغَرَّقَها، وأخذ غلامٌ من رجل بِطِّيخة فقتله. وكان يحب العلم والعلماء، ويجري الرسوم على الفقهاء والقرَّاء والأدباء، ووُجد في تذكرته بعد موته: إذا فَرَغْنا من حل إقليدس تصدَّقْتُ بعشرين أَلْف درهم، وإذا فرغنا من كتاب أبي علي النَّحْوي تصدَّقتُ بخمسة آلاف درهم (¬1)، وكلُّ ابن يولد لي أتصدَّق بعشرة آلاف درهم، وإن كان من فلانة فبخمسين ألفًا، ولكل بنت بخمسة آلاف درهم. وكان يؤثر مجالسةَ الأدباء على مجالسة الأمراء، واجتمع له من الفضلاء والأدباء ما لم يجتمع لغيره إلَّا للمأمون وسيف الدولة بن حمدان؛ كان في أيامه: الصَّاحبُ بن عَبَّاد، وأبو إسحاق الصابئ والمتنبي، وابن نُباتة، والشَّريف الرَّضي، وأخوه المرتضى، وأبو علي الفارسيّ، وابن خالويه، والبَديع صاحب "المقامات"، ومن الزهَّاد ابن سمعون (¬2) وغيرهم. ¬

_ (¬1) في المنتظم 14/ 293: بخمسين أَلْف درهم. (¬2) محمَّد بن أَحْمد أبو الحسين، انظر تاريخ بغداد 2/ 95، وتاريخ الإِسلام 8/ 620.

وكان يُعطيهم الأموال، ويُدنيهم، ويُجالسهم، وكان ينظر بنفسه في المصالح والإقامات، والحقير من المال مثل الكبير، فلا يُطلق دِرهمًا في غير وجهه، ولا يمنع أحدًا ما يَستحِقُّه. وقال لبعض كتَّابه وقد بقي في الشهر ثلاثة أيام: ادفع للغلمان جامكياتهم، فأُنسي الرَّجل حتَّى خرج الشهر، فاستدعاه وسأله فقال: أُنسيتُ، فغضب وقال: المصيبةُ أنك ما تعلم ما في فعلك من الغَلَط؛ نحن إذا أطلقنا لهؤلاء الغلمان ما لهم وقد بقي في الشهر يوم كان لنا الفَضلُ عليهم، والإحسانُ إليهم، فإذا دخل في الشهر الثاني يومان أو ثلاثة رَأَوْا لهم المِنَّةَ علينا، فإن تَفضَّلوا بالصبر فنكون معهم إلى الخسارة أقرب من الرِّبْح. وجاء بعض الدَّيالمة -وكان قائدًا كبيرًا - ومعه صَكٌّ إلى كاتبٍ لعضد الدولة، وبيده كتاب لعضد الدولة يكتبه، فقال الدَّيلمي: اكتُب لي في هذا الصَّكّ، فقال: ما أتفرَّغُ لك اليوم، أنا مشغولٌ بكتاب الملك، فأخذ الكتابَ من يده ورماه وقال: اكتب لي في صَكّي، وبلغ عضدَ الدولة الخبر، فأمر بعضَ حُجَّابه أن يَجُرَّ الدَّيلميَّ برجله إلى باب البلد، ويُنفى إلى دَيلَمان، ففعل به ذلك وأخذ أمواله. ولما جاء إلى بغداد قال له إبراهيم الصابئ: أخاف على داري من الدَّيلَم، فأرسل معه بعضَ الدَّيالمة وقال: امنع مَن ينزل عنده، فجاء الرَّجل، فقعد على الباب، وعَرض له شُغلٌ فقام، وجاء بعض الديالمة، فنزل في الدار وفَرَشَها وقال: صَلُحت لي الدار انتقلوا، وجاء الرَّجل فقال له: الملك أمر أن لا يَنزل ها هنا أحد، فقام من ساعته، ونقل قُماشه وخرج. وبعث عضد الدولة صاحبًا له يُصلح طريقَ مكة ومعه جمال وآلات، فخرج عليه قومٌ من العرب، فأخذوا الجِمال وبقي جملٌ واحد عليه الكاتب راكب، وعليه قَفَصٌ فيه فاخِتة، فقال له زعيم القوم: ما هذا الطُّوَير؟ فقال: طائرٌ أعطاني إياه عضد الدولة وقال: إذا خرج عليكم أحدٌ من العرب فأطلقوه لأعرفَ خَبرَكم، فأبعثَ العساكرَ إليكم، فقال الرَّجل: أمسكْ يَا إنسان الطائرَ ولا تُطلقه، وردَّ جميعَ الجمال وما أخذ منهم. وكان عضد الدولة قد حَمى البلاد من مناحية، وأباد الأكراد والأعراب والمفسدين، واستأصل شأفَتَهم.

وقال التَّنوخي: قدم بغداد رجلٌ من خُراسان يريد الحجَّ، ومعه عِقدٌ من الجوهر له قيمة، فأودعه عند بعض التجَّار ومضى إلى الحج، فلما عاد طلبه منه فقال: ما أعرفُك، ولا أودعتَ عندي شيئًا، ونال منه، فقال له الرجل: لا تفعل فإن هذا لملك بلدي، وهو يكون سَببًا لهلاكي، وذهابًا لنعمتي، وهو مصرٌّ على إنكاره، فعرف خبرَه رجلٌ من أكابر أهل بغداد فقال له: ما لك إلا عضد الدولة، فكتب رُقعةً يشرح له حاله، فاستدعاه خلوةً وقال له: كيف حديثُك؟ فحكى له القصة، قال: وأين دكَّان الرجل؟ فقال: في الموضع الفلاني، قال: اذهب غدًا واقعد عنده على الدكان، فإذا عَبرتُ عليك فلا تكترِثْ بي، ولا تنزعج، واكتُمِ الحال. فمضى الرجل، فلما أصبح غدا إلى الرجل وقال له: يا فلان، أنا رجلٌ غريب، فخَفِ الله فيَّ، وجعل يَستعطفه وهو لا يزداد إلا قَساوة، فبينا هو يَستعطفه وإذا بموكب عضد الدولة قد أقبل، فانهزم الناس من هَيبته، فلما حاذى الدكَّان، وقف وقال للخُراساني: أهلًا وسهلًا، متى قدمتَ؟ فقال له من غير اكتراث: منذ أيام، فقال: سبحان الله! تَقدمُ هذا البلد، ولك علينا من الحقوق القديمة والخِدَم السَّالفة ما لا نَقومُ به ولا تجيءُ إلينا، ولا تُسلِّم علينا، ما هذا الجَفاء؟ ! والرَّجلُ يُعرِضُ عنه، فقال عضد الدولة: الساعةَ تَحضُر إلينا لنَبُلَّ شوقَنا منك، ونقضيَ حقَّك، وسار في موكبه. فلما رآه الرجلُ الموْدَع على هذه الحالة خاف وأبلَس، وحادثه ساعةً وقال: يا فلان، لعن الله الشيطان، أُنسيت عقدَك، وتركتُه في مكان كذا، فاصبر حتى أقومَ وأتذكَّر، ثم قام ودخل دكَّانه فأخرج له العقد وقال: اجعلني في حلٍّ، فأخذ العقدَ ومضى به إلى عضد الدولة، وأخبره الخبر، فبعث بالعقد إلى دكان المودَع، وأمر بأن يُعلَّق في عُنقه ويُصلَب، ويُنادى عليه: هذا جَزاءُ من ائتُمِن فخان (¬1). وكَثُر اهتمام عضد الدولة بالمارستان؛ لأن الصَّرَع كان يَعتريه، فصُرع في دسته مرارًا، وبعلَّة الصَّرَع مات. ¬

_ (¬1) الأذكياء لابن الجوزي 67 - 68.

وكانت نيته في بنائه جميلة فما تعرَّض لأوقافه خليفة ولا أمير، بل كانوا يَزيدون فيها، ويفتقدونه بالفُرُش والأشربة وغيرها. وكان له من البلاد فارس، وكَرْمان، وعُمان، وخُوزِستان، والأهواز، والبصرة، وواسِط، والكوفة، والعراق، والموصل، والجزيرة، وحَرَّان، والرَّقَّة، وديار بكر وربيعة، وآمِد، ومَيَّافارِقين، وخِلاط، وحُكْمه نافذٌ في الدنيا. وكان يقرأ على أبي علي الفارسي النحو، وطلب منه أن يُصنِّف له كتابًا، فصنَّف له "الإيضاح"، فنظر فيه فقال: استَصْبانا أبو علي، فعمل "التكملة". ووضع له أبو إسحاق الصابئ إسطرلابًا وأهداه إليه في يوم نَيروز، وكتب إليه: [من البسيط] أهدى إليك بنو الأملاك واختلفوا ... في مَهْرجانٍ جديدٍ أنت مُبْليهِ لكنّ عبدَك إبراهيم حين رآى ... عُلوَّ قَدْرك عن شيءٍ يُدانيه لم يَرضَ بالأرض يُهديها إليك فقد ... أهدى لك الفَلَكَ الأعلى بما فيه فبعث إليه بثلاثة آلاف دينار. وحُسِب دخلُه في السنة فإذا هو [ثلاث مئة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم، فقال: أريد أن أبلغ به إلى] ثلاث مئة ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ليكون دَخْلُنا في كل يوم ألف ألف درهم (¬1). ومع صدقاته وأفضاله كان يَنظُر في الدنيا، ويُنافس في القيراط، وأقام المكوس، وأثر آثارًا من الظُّلم. قال المصنف رحمه الله: والعجب أن الخليفة يكون دخلُه في كلّ يوم ألفي درهم أو خمسة آلاف درهم في الأكثر، وعضد الدولة مَغَلُّه هذا المقدار، فسبحان مَن قَدّر. ولعضد الدولة أشعار، خرج يومًا إلى بستان يتنزه فقال: لو ساعدنا اليومَ غيثٌ، فطَبَّق الغيم، وجاء المطر، فقال: [من الرمل] ليس شُربُ الكأسِ إلا في المطَرْ ... وغِناءٌ من جَوارٍ في السَّحَرْ غانياتٍ سالباتٍ للنُّهى ... ناغِماتٍ في تضاعيفِ الوَتَرْ ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 294 وما بين معكوفين منه.

راقصاتِ زاهراتِ نُجُلٍ ... رافلاتٍ في أفانينِ الحِبَرْ مُطرِباتٍ مُحْسِناتٍ مُجُنٍ ... رافِضاتِ الهمِّ إبان الفِكَرْ مُبْرِزاتِ الكأس من مَعْدِنها ... مُسْقياتِ الخَمْرِ مَن فاق البَشَرْ عَضُدَ الدَّولةِ وابنَ رُكْنِها ... مَلكَ الأملاكِ غَلَّابَ القَدَرْ (¬1) سَهَّلَ الله له بُغْيَتَهُ ... في مُلوكِ الأرض ما دام القَمَرْ وأراه الخيرَ في أولاده ... ليَسوسَ المُلْكَ فيهم بالغُرَرْ (¬2) وقال أيضًا: [من البسيط] يا طِيبَ رائحةٍ من نَفْحَةِ الخِيري (¬3) ... إذا تمزَّقَ جِلبابُ الدَّياجيرِ كأنما رُشَّ بالماوَرْدِ أو عَبَقَتْ ... فيه دَواخينُ نَدٍّ عند تَبْخيرِ كان أوراقَه في القَدِّ أجْنِحَةٌ ... صُفرٌ وحُمرٌ وبِيضٌ كالزَّنانيرِ (¬4) وشعره رَكيك إلا أنه من مثله كثير. ذكر وفاته لما أحسَّ بالموت تمثَّل بشعر القاسم بن عُبيد الله الوزير: [من الطويل] قَتَلْتُ صَناديدَ الرِّجالِ فلم أَدَعْ ... عَدوًّا ولم أُمْهِلْ على ظِنَّةِ خَلْقا وأَخْلَيتُ دُورَ المُلْكِ من كُلِّ نازلٍ ... وبَدَّدْتُهم غَربًا وشَرَّدْتُهم شَرقا ثم جعل يبكي ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28] يُرَدِّدُها إلى أن مات. وكانت وفاته في شوال ببغداد وله سبع وأربعون سنة وإحدى عشر شهرًا وثلاثة أيام، وقيل: ثمانية وأربعون سنة وستة أشهر وخمسة عشر يومًا. وقال ابن الصابئ: وُلد بأصبهان يوم الأحد الخامس من ذي القَعدة سنة أربع وعشرين وثلاث مئة، وكانت إمارتُه خمسَ سنين وشهورًا، ودُفن بدار المملكة، وأُخفي خبرُه حتى خرجت هذه السنة، وتقرَّرت قواعدُ المملكة لولده صَمصام الدولة، ثم حُمل في السنة الآتية ¬

_ (¬1) في هامش (ب) حاشية: هذا كفر، هل يغلب القدر؟ (¬2) في يتيمة الدهر 2/ 259، والمنتظم 14/ 294: ليساس الملك منه بالغرر. (¬3) نبات له زهر أصفر يستخرج دهنه ويدخل في الأدوية. (¬4) في يتيمة الدهر 2/ 259: صفر وحمر وبيض من دنانير، وانظر المنتظم 14/ 293.

محمد بن جعفر بن أحمد

إلى الكوفة، ودُفن عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - في تُربةٍ عُمّرت له هناك، وكُتب على قبره في مَلْبَنٍ من ساج: هذا قبر عضد الدولة وتاج الملَّة أبي شجاع بن ركن الدولة، أحبَّ مُجاورةَ هذا الإمام التقي؛ طمعًا في الخلاص يوم تجيءُ كلُّ نفسٍ تُجادلُ عن نفسها، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعِترتِه الطَّاهرة. ولما مات عضد الدولة اجتمع جماعةٌ من الأكابر وكانوا عشرة، فقال الأول: أيها الملك، كيف غَفَلْتَ عن كَيْد هذا الأمر حتى نَفِذ فيك، وهلَّا اتَّخذْتَ دونه جُنَّةً تَقيك، إن فيك عِبرةً للمُعتَبرِين وآية للمُسْتَبصرين، وقال الثاني: مَن استيقظ للدنيا فهذا نومُه، ومَن حَلَم فيها فهذا انتباهُه. وقال الثالث: لقد وَرِث هذه الدنيا بغير إرث، وأعطاها فوق قيمتها، وطلب الرِّبْحَ فيها فخَسِر روحَه. وقال الرابع: ما رأيتُ غافلًا في غفلته، ولا عاقلًا في عقله مثلَه. وقال الخامس: مَن جدَّ للدنيا هَزَلَتْ به، ومن هَزَل بها جَدَّت له. وقال السادس: ترك الدنيا شاغرة، ورحل منها بغير زاد ولا راحلة. وقال السابع: إن ماءً أطفأ هذه النار لَعَظيم، وإن ريحًا زَعْزَعَتْ هذا الرُّكن لَعاصف. وقال الثامن: إنما سَلَبَك مَن قَدَر عليك. وقال التاسع: لو كان مُعْتَبِرًا في حياته لما صار عِبرةً في مماته. وقال العاشر: الصَّاعد في دَرَجاتها إلى سَفال، والنَّازلُ في دَرَكاتها إلى مَعال. قال المصنف رحمه الله: بين كلام هؤلاء وأولئك المتقدمين المتكلِّمين على تابوت الإسكندر كما بين المَلِكَين في المساواة. [وفيها توفي] محمد بن جعفر بن أحمد أبو بكر، الحَريري، المعدَّل (¬1)، البغدادي، ويُعرف بزوج الحُرَّة. ¬

_ (¬1) في (ف م م 1): محمد بن جعفر أبو أحمد الحريري واسمه أبو بكر المعدل، والمثبت من (خ ب)، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 2/ 535، والمنتظم 14/ 297، وتاريخ الإسلام 8/ 379.

كان فقيرًا يَحمل على رأسه، فتزوَّج زوجةَ المقتدر، فوصل إليه أموال عظيمة. [وقد حكى الخطيب قصَّته فقال: حدثني علي بن المُحَسِّن، عن أبيه قال: حدثني] الأمير أبو الفضل جعفر بن المكتفي قال: كانت بنت بدر مولى المعتضد زوجة المقتدر بالله، فأقامت عنده سنين، وكان لها مُكرِمًا، وعليها مُتفضِّلًا، فلما قُتل المقتدر سَلِمتْ من النَّكْبَة، فخرجت بأموالها وذخائرها من الدار، وكان يدخل إلى مَطبخها حَدَثٌ يحمل فيه على رأسه، يُعرف بمحمد بن جعفر، وكان حَرِكًا، فنَفَق على القَهْرَمانة، فنَقَلَتْه من حال إلى حال حتى جعلتْه وكيلَ المطبخ، ثم ارتفع أمرُه حتى صار ينظر في ضِياعها، وغلب عليها، وصارت تُكلِّمُه من وراء الستر، فعَلِقَ بقلبها، فدَعَتْه إلى تزويجها فلم يَجْسُر، فأعطته مالًا كثيرًا، فصانع به القضاة والحكام والأولياء، فتزوَّجها. فأقام معها سنين فماتت، فوَرِث منها نحوًا من ثلاث مئة ألف دينار، وأوصَتْ إليه في ضياعها وأوقافها ومالها، فأُقِرَّتْ في يده. وكان يُسمَّى زوج الحُرَّةِ لأجل أن المقتدر تزوَّجها، وكذا عادة الخلفاء لغَلَبة المملوكات عليهم فقيل لها: الحرة. [وقال الخطيب: وحدثني علي بن شاذان قال: كان زوج الحرة جارنا، وسمعتُ منه مجالسَ من أماليه، وكان يَحضُر مجلسه القاضي الجَرَّاحي، وأبو الحسين بن المظَفَّر، والدارقطني، وابن حَيُّويه وغيرهم من الشيوخ.] توفي زوج الحرة ليلة الجمعة، ودُفن يوم الجمعة لأربع خلون من صفر بالقرب من مَعروف الكَرْخيّ [وحضرتُ مع أبي الصلاة عليه] وكان عَدْلًا مَرضيًّا. [حدَّث عن محمد بن جرير الطَّبَري، وعبد الله بن محمد البَغَوي، وأبي بكر بن أبي داود وأمثالهم، وروى عنه ابن رزقويه، والبَرْقاني، وشيوخ الخطيب وغيرهم. وكان] جليل القدر من الثقات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [18]

السنة الثالثة والسبعون وثلاث مئة

السنة الثالثة والسبعون وثلاث مئة فيها في أول المُحرَّم ورد أبو الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي وابنُ معروف ومَنْ حبسه عَضُد الدولة في القلعة إلى بغداد، وورد -أيضًا- أبو عبد الله الحسين بنُ عزِّ الدولة وإخوتُه. وقيل: تأخَّر حضورُهم. وفي الثاني عشر (¬1) من المُحرَّم أُظهرت وفاةُ عَضُد الدولة، وحُمِل تابوتُه إلى المشهد (¬2)، وتولَى حَمْلَه أبو الحسن علي بن أحمد نقيبُ العلويين، وجلس صَمْصام الدولة في العزاء (¬3)، وجاءه الطائع معزِّيًا، ولُطِمَ عليه في دُوره وفي الأسواق أيامًا. وفي يوم السبت لسبعٍ بَقِين من المُحرَّم ركب صَمْصام الدولة إلى دار الخلافة، وخُلِعَ عليه الخِلَع السبع، وتُوِّج وطُوِّق وسُوِّر كما فُعِلَ بأبيه، وقُرِئ عهدُه. [قال ابن الصابئ: ] (¬4) وكان الطالعُ العقرب، وعاد إلى داره وقد ضُرِبت له القِبابُ كما جرَت عاداتُ أبيه، وأَخرج في البيعة (¬5) ألفي ألف درهم، ولقَّبه الخليفةُ شمسَ المِلَّة، وكتب إلى الآفاق ببيعته. وفي صفر انقضَّ كوكبٌ عظيمٌ، وسُمِع بعدَه صوتُ الرعد (¬6). وفي صفر أيضًا شغبتِ الدَّيلمُ والأتراكُ شغبًا عظيمًا، وخرجوا بعيالاتهم وأموالهم نحو فارس، ونهبوا ما قدروا عليه من الإصطبلات من الدوابِّ وغيرها، ولم يقدِرْ صَمْصام الدولة على منعِهم، وورد أبو طاهر فيروزشاه بن عضد الدولة إلى البصرة. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وفي النجوم الزاهرة 4/ 143، لكن جاء في المنتظم 14/ 300 والخبر فيه: عاشر، إلا أنه أشير في هامشه إلى أنه في الأصل كما هنا. (¬2) وهو المشهد الغربي كما جاء في المنتظم. (¬3) جاء بعدها في المنتظم زيادة: بالثياب السود على الأرض. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (م 1)، وكل زيادة ستأتي ولم يُشَر إليها فهي منهما. (¬5) في (م): من المتعة. (¬6) الخبر في المنتظم 14/ 301، والكامل 9/ 37، لكن وقع ذكره فيه في شهر ربيع الأول.

بويه بن ركن الدولة

وفي شعبان مات مؤيد الدولة أبو منصور بُوَيْه بن ركن الدولة، وجلس صَمْصام الدولة في العزاء، وجاء الطائع مُعزِّيًا. وفيها غَلَتِ الأسعارُ بالعراق، وجاع الناس مجاعةً عظيمةً، وبلغ كُرُّ (¬1) الحنطةِ ثلاثةَ آلاف درهم، والشعيرِ ألفًا وخمس مئة درهم، ثم زاد سعرُ الحنطة فبلغ الكرُّ أربعةَ آلاف درهم، والشعيرُ ألفي درهم، ومات الناس على الطُّرق، وهلك الضعفاء، ثم تناقص، وأُنزلت جُثَّة محمد بن بَقيَّة ودُفِن، وأُطلق من كان بالحبوس. وفيها توفِّي بُوَيه بن ركن الدولة ويلقَّب بمؤيد الدولة (¬2)، وكان مقيمًا بجُرجان، ولمَّا احتُضِر قال له وزيره الصاحب بن عبَّاد: لو عهد الأميرُ الأمرَ إلى مَنْ يراه عهدًا كان أسكنَ للجند، إلى أن يتفضَّل الله بعافيته وقيامه إلى تدبير مملكته، كان ذلك من الاستظهار الذي لا ضرر فيه -وكان قد عرضت له علة الخوانيق يوم الأحد ثالث عشر شعبان (¬3) - فقال: أنا في شُغل عمَّا تخاطبني به، وما لهذا الملك قَدْرٌ مع انتهاء الإنسان إلى مثل ما أنا فيه، فافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوا، ثم أشفى. فقال له الصاحب: تُبْ يا مولانا من كلِّ ما فرَّطْتَ فيه، وتبرَّأْ من هذه الأموال التي لستَ على ثقةٍ من طيبها وحصولها من حِلِّها، واعتقِدْ -متى عافاك الله- صَرْفَها في وجوهها، ورُدَّ كلَّ ظُلامةٍ تعرفها وتقدر على ردِّها. ففعل ذلك، وتلفَّظ به، وقضى نَحْبَه. وكتب الصاحبُ في الوقت إلى فخر الدولة بالإسراع والتعجيل، وأنفذ إليه خاتمَ مؤيد الدولة، وأرسل بعض خواصِّه وثقاته، فاستخلفه على الحفظ والوفاء بالعهد، وكان فخر الدولة إذ ذاك بأسفرايين من نواحي نيسابور، وقد رأى في منامه تلك الليلة كأنَّ ركنَ الدولة وعَضُدَ الدولة في مركب في بحر أسود، وقد قَدِما إلى الساحل، وأخذا ¬

_ (¬1) الكُرّ: هو من المكاييل، مما يعادل 1583 كغ تقريبًا. ينظر معجم متن اللغة 1/ 86. (¬2) بعدها في (م) و (م 1): أخو عضد الدولة وفخر الدولة. (¬3) ما بين معترضتين جاء عوضًا عنه في (م) و (م 1) ما نصه: وقد ذكر القصة أبو الحسين هلال بن المحسن بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن الصابن، فقال: كان مؤيد الدولة قد أقام بجرجان، وجعلها داره، فعرضت له علة الخوانيق يوم الأحد ثالث عشر شعبان. قال: فحدثني القاضي أبو العباس أحمد بن محمد البارودي قال: لمَّا اشتدت العلة بمؤيد الدولة قال له أبو الهيثم إسماعيل بن عباد: لو عهد أمير الأمراء وذكر ما ذكرناه.

سعيد بن سلام

مؤيدَ الدولة، فأوَّل ذلك وفاة مؤيد الدولة، وقُدِّر له ورودُ الخبر به، فورد عليه كتاب الصاحب بِنَعْيه بعد ما رأى في المنام بخمسة أيام، فسار وهو على إضاقةٍ شديدة، وكان الصاحب قد أجلس الأمير أبا العباس خسرو فيروز أخا مؤيد الدولة، وأخذ له البيعة على الجند أنه خليفةُ فخرِ الدولة أخيه، فلما جاء فخر الدولة سلَّم له الصاحب المُلْكَ، وأطاعَه الناس، وحلفوا له على السمع والطاعة. ولمَّا استقرَّ له المُلكُ قال له الصاحب: يا مولانا، قد بلَّغكَ اللهُ وبلَّغني فيك ما أملتُه أنا وأنت، ومن حقوق خدمتي له وحرمتي بك إجابتي إلى ما أوثره من ملازمة داري، واعتزال الجند، وتوفيري (¬1) على أمر الله، الذي هو أحسنُ عاقبة، وأنفعُ لي في الآخرة. فقال له: لا تفعَلْ أيها الصاحب هذا؛ فإنَّني ما أُريد هذا المُلكَ إلَّا لك، ولا يستقيم أمري فيه إلَّا بك، وإذا كرهتَ ملابسةَ الأمور كرهتُ ذلك لكراهتِكَ، وعُدْتُ من حيث أتيتُ. فاسترجع الصاحب وقال: للهِ الأمرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ. وقبَّل الأرض بين يديه، وشكره وقال: الأمرُ أمرُكَ. ثم انصرف فخر الدولة إلى الريِّ، وخَلَع على الصاحب الخِلَع السنيَّة (¬2). وتُوفِّي مؤيد الدولة وله ثلاث وأربعون سنة وشهرٌ، وكانت إمارته سبع سنين وشهرًا (¬3) وخمسة وعشرين يومًا (¬4)، وكان قد تزوَّج بنت عمه مُعِزِّ الدولة، فأنفق في عرسها سبع مئة ألف دينار، واسمُها زُبيدة. [وفيها توفِّي سعيد بن سلَّام أبو عثمان المغربي (¬5)، وقيل: ابن سَلْم] ¬

_ (¬1) من: توفر على كذا، أي: صرف همته إليه. المصباح المنير (وفر). (¬2) بعدها في (م) و (م 1) زيادة: وفي رواية: لما قال فخر الدولة للصاحب ما قال، استرجع الصاحب وقال: لله الأمر من قبل ومن بعد. قلت: وهذه الزيادة قد مرَّت معنا آنفًا. (¬3) في المنتظم 14/ 303: سبعة وستين شهرًا. والمثبت من النسخ، وهو الموافق لما في النجوم الزاهرة 4/ 144. (¬4) جاءت العبارة في (م 1): وخمسة أيام، وقيل: وعشرين يومًا. (¬5) في (م) و (م 1): أبو عثمان المغربي، سعيد بن سلام.

ولد بقرية من قرى القيروان يقال لها: كَرْكِنْت [ضبطها الخطيب بكافين، وكان أوحد زمانه؛ قال الخطيب] (¬1): كان أوحدَ عصره في الورع والزهد والعزلة، [لقي الشيوخ بمصر، ثم دخل بلاد الشام، وصحب أبا الخير الأقطع، وجاور بمكة سنين فوق العشر، وكان لا يظهر في المواسم، ثم انصرف إلى العراق [لمحنةٍ لحقته بمكة في السنة، فسُئِلَ المُقام ببغداد، فلم يُجِبْهم] ومضى إلى نيسابور، فأقام بها، وكانت له كرامات، وكان أبو سليمان الخطابي يقول قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "قد كان في الأمم مُحدَّثون، فإن يَكُ في أمتي فعُمر (¬2) " وأنا أقول: إن كان في هذا العصر أحدٌ من المُحدَّثين فأبو عثمان. وقال أبو عثمان (¬3): كنت ببغداد، فكان بي وجعٌ في مثانتي، فكنتُ أستغيث بالله، فناداني بعض الجنِّ وقال: ما استغاثتُك [بالله] وغوثُه منك ببعيد؟ ! ثم قَرَّب إليَّ سطلًا، فبُلْتُ فيه، فخرج مني شيءٌ بقوة، فضرب وسط السطل حتى سمعتُ له صوتًا، فإذا هو حجزٌ قد خرج من مثانتي، وذهب الوجع مني، فقلت: ما أسرعَ الغوث! وكذا الظنُّ به. [وذكره ابن خميس في المناقب وقال: ] وكان أبو عثمان أوحدَ المشايخ في طريقته وتقدُّمه، ولم يُرَ مثلُه في علوِّ الحال، وصَونِ الوقت، وصحَّةِ الحكم بالفراسة، وقوةِ الهيبة. سُئِلَ عن الاعتكاف، فقال: حفظ الجوارح تحت الأوامر. وقال: من تحقَّقت عبوديَّتُه ظهر سِرُّه على مشاهدة الغيوب، فأجابته القدرة إلى ما يريد. وقيل له: إن فلانًا سافر! فقال: يجب أن يسافر عن هواه وشهوته، وإلَّا فالسفر غُربةٌ، والغربة ذِلَّةٌ، وليس للمؤمن أن يُذِلَّ نفسَه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (م 1)، وكلام الخطيب الآتي في تاريخ بغداد 9/ 112 - 113، وما بين حاصرتين منه. (¬2) أخرجه أحمد (8468)، والبخاري (3469) و (3689) من حديث أبي هريرة (- رضي الله عنه -)، وأحمد (24285)، ومسلم (2398) من حديث عائشة (- رضي الله عنها -). والمُحدَّثون: هم الذين أُلْهِمَ إليهم. (¬3) في (م) و (م 1): روي الحديث بإسناده إلى أبي عثمان قال.

عبد الله بن أحمد بن مردانه

وذُكر عنده قولُ الشافعي رحمة الله عليه: العِلْمُ عِلْمان؛ علم الأديان، وعلم الأبدان. فقال أبو عثمان: ما أحسنَ ما قال! علم الأديان علم الحقائق والمعارف، وعلم الأبدان علم السياسات والرياضات والمجاهدات. وقال: مَنْ آثرَ صحبة الأغنياء على صحبة الفقراء ابتلاه الله بموت القلب. وقال: الساكت بعلْمٍ أحمَدُ أثرًا من الناطق بجهل. وقال: من أعطى نفسه الأماني قطع عمرَه بالتسويف والتواني (¬1). [ذِكْرُ وفاته: قال الخطيب (¬2): كان مقيمًا بمكة، فسعى بعض الأعداء إلى العلوية في زُورٍ نُسب إليه، فأخرجوه من مكة، فقدم بغداد فأقام بها سنة، ثم خرج منها إلى نيسابور ومات بها] في جمادى الأولى، وصلَّى عليه القاضي أبو بكر بن فُورَك، ودُفِنَ إلى جانب أبي عثمان الحيري، [وأوصى أن يصلّي عليه القاضي ابن فُورَك، لقي عدَّةً من المشايخ؛ أبا يعقوب النهر جوري، وأبا الحسن بن الصايغ، وأبا عمرو الزَّجَّاج، وغيرهم، وكان ثقةً مأمونًا. وفيها تُوفِّي عبد الله بن أحمد بن مردانه أبو محمد الأصفهاني، ويعرف بالظريف، رحل وسمع الحديث، ومولده سنة ثلاث وسبعين ومئتين. وحكى الخطيب (¬3) عنه أنه قال: صُمْتُ ثمانيةً وثمانين رمضان، وكان زاهدًا عابدًا، سكن بغداد، وحدَّث بها عن البغوي، والباغَنْدي، وابن أبي داود، وغيرهم، وكان ثقة. ¬

_ (¬1) ينظر طبقات الصوفية ص 479 - 483. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 113، وما بين حاصرتين منه ومن (م) و (م 1)، وجاء بدلًا عنه في (خ) و (ب): مات بنيسابور. (¬3) تاريخ بغداد 9/ 392، ووقع فيه وفي المنتظم 14/ 304 اسم جده: ماهيرِذ أو ماهيزذ بدل: مردانه.

عبد الله بن العباس

وفيها توفِّي] عبد الله بن العباس ابن أحمد بن محمد بن عاصم، ويُعرف بالعُصْمي، من أهل هَراة. وُلدَ سنة أربع وتسعين ومئتين، وسافر، ولقي الشيوخ. [ذكره الخطيب فقال: ] (¬1) وكان ثقةً نبيلًا رئيسًا جليلًا، من ذوي الأقدار العالية، وله إفضالٌ كبيرٌ على الصالحين والفقراء المستورين، وكان يُضرَبُ الدينار فيه مثقال ونصف، ويقول: إن الفقير يفرح إذا ناولتَه كاغَدًا (¬2) يتوهَّم أنَّ فيه (¬3) فضةً، ثم يفتحه فيجده ذهبًا، فيفرح، فإذا وزنه ووجده قد زاد على المثقال ازداد فرحُه. استشهد [برسداق خواف من أعمال نيسابور، وأوصى أن يُحمل تابوتُه إلى هَراة، فحُمل إليها ودُفن بها، سمع بنيسابور مكيَّ بن عبدان، وبالري أحمد بن خالد الحروري، وببغداد يحيى بن صاعد وغيرهم. وروى عنه الدارقطني وابن رَزْقويه وغيرهما، وقَدِم بغداد وحدَّث بها، وسمع أيضًا، وأجمعوا عليه (¬4). [وفيها توفي] عبد الله بن محمد ابن عثمان بن المختار أبو محمد المزني الواسطي، [ويعرف بابن السَّقَّاء. قال الخطيب (¬5): ورد بغداد فحدَّث بها مجالسه كلَّها من حِفْظِه بحضرة ابن المظفَّر والدارقطني، وكانا يقولان: ما رأينا معه كتابًا إنما حدَّثنا حفظًا، وما أخذنا عنه خطأ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 120. (¬2) الكاغِد: القرطاس. المعجم الوسيط (كغد). (¬3) في النسخ: يتوهَّمه، والمثبت من تاريخ بغداد. (¬4) هذا الكلام بمعناه في المنتظم 14/ 336، إلا أنه وقع فيه اختلافان، الأول: في اسم صاحب الترجمة، حيث وقع فيه: محمد بن العباس. والثاني: أنه ذُكر في وفيات سنة ثمان وسبعين وثلاث مئة! . (¬5) تاريخ بغداد 10/ 130 - 131، وما بين حاصرتين منه، ووقع بدلًا عنه في (خ) و (ب) ما نصُّه: الحافظ، كانت وفاته بواسط، وكان ثقة، وقال.

السنة الرابعة والسبعون وثلاث مئة

في شيء، إلا أنه حدَّث عن أبي يعلى الموصلي بحديثٍ بَقِيَ في القلب منه شيء. قال أبو العلاء الواسطي: فلمَّا عدت إلى واسط أخبرتُه، فأخرج الحديث في أصله بخطِّ الصِّبا. وكانت وفاته بواسط، سمع عَبدان وأبا يعلى الموصلي والبغوي وغيرَهم، وروى عنه الدارقطني وشيوخ الخطيب، ويوسف بن عمر القوَّاس. قال يوسف: وسمعته يقول]: الذين وقع عليهم اسمُ الخلافة ثلاثةٌ: آدم وداود عليهما السلام، وأبو بكر الصديق رضوان الله عليه. قال الله تعالى في حقِّ آدم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وقال في حقِّ داود: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]، وقُبِضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثين ألف مسلم، كلُّهم يقول لأبي بكر: يا خليفة رسول الله. ولم يَتَسَمَّ به سواه. السنة الرابعة والسبعون وثلاث مئة فيها صَلُح الحالُ بين فخر الدولة وصَمصام الدولة، وكان بينهما وَحشةٌ، فلما انتصب فخر الدولة في المُلك شرع أبو عبد الله بن سعدان في إصلاح ذات البين، فكتب إلى الصاحب بن عبَّاد، وكان يخاطبه بسيدنا الصاحب الجليل، والصاحب يخاطبه بالأستاذ مولاي ورئيسي، واتَّفق الحالُ بينهما على قدوم أبي العلاء الحسن بن محمد بن سَهْلويه من الريِّ للسفارة في التقرير والخِلَع السلطانية والعهد واللقب الثاني لفخر الدولة، فأكرمه أبو عبد الله وأنزله، وحمل إليه المال والثياب والهدايا، وخوطب بذلك فأجاب، وجلس يوم الجمعة لخمسٍ بَقِينَ من جمادى الأولى، وأُحضِرتِ الخِلَعُ المعهودة ما عدا التاج، وقُرِئ عهدُه بين يدي الطائع على بلاده، ولُقِّب بفلك الأمة مُضافًا إلى فخر الدولة، [وهو لقبٌ ثقيل، وخرج أبو العلاء إلى فخر الدولة] (¬1) بالجميع فسلَّمه إليه، وعاد إلى بغداد فأقام بها نيابةً عن فخر الدولة إلى آخر أيام صَمْصام الدولة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من زيادة (ب).

وفيها دخلت القرامطةُ البصرةَ لمَّا علموا بموت عضد الدولة، ولم يكن لهم قوةٌ على حصارها، فجمع لهم أهلُها مالًا، فأخذوه وعادوا. وفيها ملكت الأكراد ديار بكر (¬1) ومَيَّافارقين (¬2)، وسببه أنه كان بجبال حِيزَان (¬3) رجلٌ كرديٌّ يقال له: أبو عبد الله الحسين بن دُوسْتَك، ولقبه باذ، اجتمع إليه خلق كثير، وكان يقطع الطريق، ويشُنُّ الغارات على ديار بكر، فلمَّا مات عَضُدُ الدولة قَويَ أمره، وكان مُقامُه في بلد حِيزان والمَعْدِن (¬4)، فحدَّث نفسه بالمُلكِ، وضايق ميَّافارقين وكاتبَ أهلَها، ووعدهم بالجميل، وحلف لهم فأجابوه، وجاء ففتحوا له الباب، وكانوا من الدَّيلم في جَورٍ عظيم، فدخلها وولَّاها أخاه أبا الفوارس، وشرع في فتوح البلاد، فبعث إليه صَمْصام الدولة جيشًا مع رجل يُقال له: أبو حرب، فكسره باذ، وغنِمَ عسكرَه، فبعث إليه صَمْصام الدولة أبا الحسن علي بن الحسين المغربي والد الوزير المغربي، فنازل مَيَّافارقين وكان باذ يُغير عليه وينهب عسكره، فعاد إلى الموصل وكان واليها أبو القاسم بن سعدان، فأصلح بين باذ وصَمْصام الدولة على بعض ديار بكر، وعاد باذ إلى الغارات، وولي بهاء الدولة فجهَّزَ إليه جيشًا مع قائدٍ يُقال له: ابن الطائي، فالتقى بباذ على طور عَبْدِين (¬5) الرأسِ المطلِّ على نَصيبين، واقتتلوا، فقُتِلَ أبو الفوارس أخو باذ، فحُمِلَ إلى ميَّافارقين، فدُفِن بقُبَّةٍ تُعرف بقُبة أبي الفوارس، وانهزم باذ إلى حِيزان، وكان أولاد ناصر الدولة بحلب، فجاء أبو طاهر وأبو عبد الله -ابنا ناصر الدولة- يريدان الملك، فقصدوا باذ وهو يهرب من مكان إلى مكان، فضايقوه إلى طور عَبْدِين، فأراد أن يُغيِّر فرسه بآخر، فوقع فمات. وقيل: كان به رَمَقٌ، فقتلوه، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ديار بكر: بلاد كبيرة واسعة تنسب إلى بكر بن وائل بن قاسط، وحدُّها ما غرَّب من دجلة إلى بلاد الجبل المطلِّ على نَصيبين. معجم البلدان 2/ 494. (¬2) ميَّافارقين: أشهر مدينة بديار بكر. المصدر السابق 5/ 236. (¬3) حيزان: بلد من ديار بكر فيه شجر وبساتين كثيرة، ومياه غزيرة. المصدر السابق 2/ 331. (¬4) المَعْدِن: بلد من ديار بكر. ينظر الروضتين 1/ 139. (¬5) طور عَبْدِين: بلدة في أعمال نصيبين في بطن الجبل المشرف عليها المتصل بجبل الجودي. المصدر السابق 4/ 48.

عبد الرحيم بن محمد

ذكر ولاية [بني] (¬1) مروان ديار بكر: لما قُتِلَ باذ؛ كان له صِهرٌ على أخته يُقال له: مروان بن كسرى، وكان له من أخت باذ أولاد: أبو علي الحسين، وسعيد، وأحمد، وولد آخر، وكانوا من قرية يقال لها: كرماص بين إِسْعِرْد (¬2) والمَعْدِن وكانوا رؤساءها، فلما خرج باذ خرج معه بنو أخته فكانوا معه في وقائعه، فلما قُتِلَ باذ صاح أبو علي الحسين بأصحاب باذ: إليَّ [إليَّ] فاجتمعوا إليه، فحمل علي بني حمدان، فانهزموا أقبحَ هزيمة، ونهبهم وأخذ أموالهم، وجاء إلى حصن كَيْفا (¬3)، وبه زوجة خاله باذ، وكانت من الدَّيلم، فدخل الحصن وتزوَّج بها، وسار إلى ميَّافارقين وغيرها من الحصون ففتحها، وأحسَنَ السيرة، وكان إخوته في خدمته، وأحبَّه الناس، وتمَّ له فتح الحصون في سنة ثمانين وثلاث مئة، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وفيها توفِّي عبد الرحيم بن محمد ابن إسماعيل بن نُباتة أبو يحيى الخطيب الفارقي، وُلدَ بمَيَّافارقين سنة خمس وثلاثين وثلاث مئة، وبرع في علم الأدب، ويقال: إنه كان يحفظ "نهج البلاغة"، وعامَّةُ خُطبه من ألفاظها ومعانيها واشتقاقاتها ومبانيها، وذلك لأنه شرب من بحرِها رَيًّا، ولم يغتبِطْ له رويًّا، فغاص ثم غاص، فلا هو هَزَّها كلامًا، ولا غيَّرها نظامًا، فسهَّلتْ خُطَبُه السعادة، ونشر الله ذِكره ووَفَر إسعادَه، وخُطَبُه في غاية الجَوْدة، إلا أنهم قد أخذوا عليه في مواضع، وما أحسن قوله: شهادةٌ أبرمَ الإيمان سببَها، وأحكم الإتقان طُنْبَهَا (¬4)، وهذَّب الزمانُ مذهبَها، وأعذبَ الرحمنُ مشربَها. وقولَه: نادوا في أقطار الربوع الهامدة، وآثار الجموع البائدة. وقولَه: أروى اللهُ ببحور الحِكَم صوادي قلوبنا، وغطَّى بستور النِّعم بوادي عيوبِنا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من (ب). (¬2) إسْعِرْد: بلدة من ديار بكر. الروضتين 1/ 138. (¬3) حصن كيفا: بلدة عظيمة مشرفة على دجلة، من ديار بكر. معجم البلدان 2/ 265. (¬4) الطُّنْبُ: حبل الخِباء والسُّرادق ونحوهما. اللسان (طنب).

محمد بن محمد

ومن أحسنها الخطبة المنامية: قال عبد الرحيم: لمَّا عملتُ الخطبةَ المناميةَ، وخطبتُ بها يوم الجمعة، رأيتُ ليلة السبت في منامي كأني بظهر مَيَّافارقين عند الجبَّانة، وهناك جمع كبير، فقلتُ: ما هذا الجمع؟ فقال لي قائل: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه الصحابة، فقصدتُه لأُسَلِّم عليه، فلَّما دنوتُ منه التفتَ فرآني، فقال لي: [مرحبًا] (¬1) يا خطيب الخطباء، كيف تقول؟ وأومأ إلى القبور: كأنَّهم لم يكونوا للعيون قُرَّة، ولم يُعَدُّوا في الأحياء مرَّة. قال: فامتثلتُ أمرَهُ، وقلتُ الكلمات، ثم قلت: أسكتهم -واللهِ- الذي أنطقَهم، وأبادَهم الذي خلقَهم، وسَيُجِدُّهم كما أخْلَقَهم، ويجمعُهم كما فرَّقَهم، يوم يُعيد اللهُ العالمين خلقًا جديدًا، ويجعلُ الظالمين لنار جهنم وَقودًا، يوم تكونوا شُهداء على الناس، ويكونُ الرسولُ عليكم شهيدًا. وأومأتُ عند قولي: "شهداء على الناس" إلى الصحابة، وعند قولي: "شهيدًا" إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]. فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحسنتَ أحسنتَ! ادْنُهْ. فدنوتُ منه، فأخذ وجهي فقبَّله، وتفَلَ في فِيَّ، وقال: وفَّقَكَ الله. فانتبهتُ من النوم، وبي من السرور ما يَجِلُّ عن الوصف، وأخبرتُ أهلي بما رأيتُ. قال أبو القاسم يحيى ولدُ ولدِ ولدِ الخطيب: بقِيَ الخطيب بعد هذا المنام ثلاثة أيام لا يطعم بطعام ولا يشتهيه، وتوجد من فيه رائحة المسك، ولم يعِشْ بعد ذلك إلا مدةً يسيرة، وكانت وفاته بمَيَّافارقِين عن تسع وثلاثين سنة. ولولده أبي طاهر محمدٍ خطبٌ أيضًا. [وفيها توفِّي] محمد بن محمد ابن مكي، أبو أحمد القاضي الجُرجاني، رحل في طلب العلم إلى البلاد، وطلب الحديث، ولقي الشيوخ، وكانت وفاته بأَرَّجان (¬2)، وكان حافظًا فاضلًا، [سمع بدمشق ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من (ب). (¬2) أرَّجان: مدينة كبيرة من ديار بكر، وهي برية بحرية سهلية، كثيرة الخيرات. معجم البلدان 1/ 143.

السنة الخامسة والسبعون وثلاث مئة

أبا الطيب أحمد بن إبراهيم بن عبادل وغيره، وببغداد يحيى بن محمد بن صاعد، وبخراسان محمد بن يوسف الفَرَبْري، وحدَّث عنه بكتاب "صحيح البخاري" وغيره، وروى عنه الحافظ أبو تمَّام عبد الملك بن أحمد بن علي بن عبدوس الأهوازي، والحاكم، وخلقٌ كثير. وقال الخطيب: أنشدني محمد بن الحسن بن أحمد الأهوازي قال: أنشدني القاضي أبو أحمد الجرجاني هذه الأبيات] (¬1): [من الوافر] مضى زمن وكان الناسُ فيهِ (¬2) ... كرامًا لا يخالطهم خسيسُ فقد دُفِعَ الكرامُ إلى زمانٍ ... أخسُّ رجالِهمْ فيه رئيسُ تعطَّلتِ المكارمُ يا خليلي ... وصارَ الناسُ ليس لهم نفوسُ السنة الخامسة والسبعون وثلاث مئة وفيها أشار أبو الفتح الرازي على صَمْصام الدولة أن يَجعلَ على الثياب الإبريسميّات والقطنِ -التي تُنسج ببغداد- ضريبةً. وقال [أبو الفتح]: هذه جهةٌ يحصل منها في كل سنةٍ ألفُ ألفِ درهم، وبلغَ العوامَّ فشغَبوا، ومنعوا الخطباء يوم الجمعة من الصلوات، وضَجُّوا، وكادت تقع فتنةٌ، فرجع صَمْصام الدولة عن ذلك، وأعفاهم من إحداث هذا الرسم. وفيها ورَدَ كتابٌ بوفاة ابن مؤيد الدولة، فجلس صَمْصام الدولة في العزاء، واحتفل الطائع، فنزل في زَبْزبِه (¬3)، وعليه أُبَّهةُ الخلافة، والقُرَّاءُ والقضاةُ والأشرافُ في الزبازب حولَه، وجاء إلى دار السلطنة مُعزِّيًا لِصَمْصام الدولة، فنزل صَمْصام الدولة إلى المَشْرَعة (¬4) وقبَّل الأرض، وعاود، ولم يُمكنه من الصعود من الزَّبزَبِ، فعاد إلى داره. ¬

_ (¬1) في (خ) جاء بدلًا من هذه الزيادة قوله: ومن شعره. وكلام الخطيب الآتي في تاريخ بغداد 3/ 223، والمثبت منه ومن النجوم الزاهرة 4/ 146، وهو الموافق لما في (م) و (م 1). (¬2) في (خ) و (ب): فيهم. (¬3) الزَّبزب: سفينة صغيرة تُتَّخذ للحرب، تشبه الزورق الطويل، وليست بعربية. تهذيب الأسماء واللغات 3/ 125. (¬4) المَشْرَعة والشريعة: هي الطريق إلى عبور الماء من حافة نهر أو بحر وغيره. شرح صحيح مسلم للنووي 6/ 53.

أحمد بن الحسين

وفيها قَدِم الكوفةَ جماعةٌ من القرامطة، منهم إسحاق وجعفر، في جموع كثيرة، فأقاموا الخطبة لشرف الدولة، وجَبَوا (¬1) البلاد، فبعث إليهم صَمْصام الدولة جيشًا فهزمهم، وعادوا إلى هجر. وفيها وصل شرف الدولة إلى الأهواز قاصدًا بغداد. وفيها وصلت الروم إلى نواحي حلب، فأسروا، وقتلوا، [وسَبَوا]، وعبروا الفرات، فأفسدوا وعاثوا. [وقد ذكرنا أنه لم يحجَّ أحد إلى سنة ثمانين وثلاث مئة]. وفيها توفِّي أحمد بن الحسين ابن علي، أبو زُرعة الرازي الحافظ [ذكره الخطيب (¬2) فقال: سافر إلى البلاد، و]، طاف الدنيا في طلب الحديث، وجالس الحُفَّاظ، وصنَّف التراجم والأبواب، [وحدَّث ببغداد وغيرها، وسمع خلقًا كثيرًا، وحدَّث عن محمد بن إبراهيم بن نُومَرد، وعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وبكر بن عبد الله المحتَسِب البخاري، والقاضي الحسين المَحاملي، وأبي العباس الأصم وغيرهم. وروى عنه القاضيان أبو العلاء الواسطي، وأبو القاسم التنوخي، وأبو عبد الله الحاكم، والأئمة، وكان متقنًا صدوقًا ثقةً، [قال الخطيب: وقال أبو القاسم بن الثلَّاج: فقدوا أبا زرعة الرازي بطريق مكة في سنة خمس وسبعين وثلاث مئة. وقال الحافظ ابن عساكر: قدم أبو زرعة دمشق في سنة تسع وأربعين وثلاث مئة، فسمع بها أبا الحسين محمد بن عبد الملك بن جعفر بن الجنيد الرازي والد تمَّام، وسمع بنيسابور أبا حامد أحمد بن محمد بن بلال، وببَلْخ علي بن أحمد الفارسي، وببغداد أبا عبد الله بن مَخْلَد، وبمصر أبا الفوارس أحمد بن محمد بن الحسين الصابوني وأبو زُرعة ¬

_ (¬1) من الجباية، وفي هذا دليل على تمكُّنهم وقوَّتهم. (¬2) تاريخ بغداد 4/ 109.

الحسين بن محمد

الرازي هو] (¬1) الذي روى حديث سعد بن أبي وقاص، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نبتَ لحمُه على السُّحت، فالنَّار أولى به، يا سعد أطِبْ مَطْعَمَك، فمن لم يُبالِ من أين مَطْعَمه، كان حقيقًا على الله أن لا يُبالي من أيِّ باب من أبواب جهنَّم أدخَلَه" (¬2). ومن رواياته عن الأصمعي قال: وقف أعرابيٌّ على مجلس قوم، فقال: أيها الناس، واللهِ ما نتَّخذ السؤال صناعةً، ولا نعُدُّ الاجتداء بضاعةً، وإنها لأصعبُ علينا من وقع ظُبَى (¬3) السيوف، وأمَرُّ من تجرُّع كاسات الحتوف، ولكن لا اختيار مع اضطرار؛ كنا في عيشٍ رقيق الحواشي، فَطَواه الدهرُ بعد السَّعة، وأفضى بنا بعد العلياء إلى الضَّعة، حتى لقد لبسنا أيدينا من القُرِّ، وأفنينا سرابيلنا من الضُّرِّ، ولم نَرَ دارًا أعزَّ من الدنيا، ولا طالبًا أغشمَ من الموت، ومَنْ عصفَ عليه الليلُ والنهارُ أردَياه، ومَنْ وُكِلَ به الموتُ أفناه، فَرَحِم الله عبدًا أعطى من سَعة، وواسى من كَفاف، وآثر من خَصاصة. قال: فلم يبقَ في المجلس إلَّا من أعانه. [وفيها توفي] الحسين بن محمد ابن علي (¬4) بن يحيى أبو محمد النيسابوري، ويقال له: حُسَينك، ولد سنة ثلاث وتسعين ومئتين، [وربَّاه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، فسمع منه الحديث ومن غيره بنيسابور وبغداد والكوفة. وحكى الخطيب (¬5) عن أحمد بن علي المقرئ عن محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري قال: حُسينك]. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب) وقع بدلًا من هذه الزيادة قوله: وفقد بمكة هذه السنة وهو. (¬2) هكذا ساقه المصنف على أنه حديث واحد، وإنما هما حديثان؛ الحديث الأول إلى قوله: "يا سعد أطِبْ مطعمَك" وتتمته "تكن مُجاب الدعوة" وأخرجه هكذا الطبراني في الأوسط (6491) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، ومن إسناده مجهولان وقوله: "فمن لم يبال. . ." الحديث، ذكره الغزالي في "الأحياء" 2/ 90 بنحوه، وتعقَّبه العراقي بقوله: أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عمر. قال ابن العربي في عارضة الأحوذي: إنه باطل لا يصح. (¬3) الظُّبى؛ جمع ظُبية: وهو حد السيف. المعجم الوسيط (ظبي). (¬4) في (م) و (م 1): علي بن محمد، بدل: محمد بن علي. (¬5) تاريخ بغداد 8/ 74، وما بين حاصرتين منه، ووقع فيه وفي المنتظم 14/ 312: محمد بن علي المقرئ، بدل: أحمد، والصواب ما أثبتُّه.

محمد بن عبد الله

كان تربيةَ أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وجارَه الأدنى، وفي حجره من حين ولد إلى حين توفِّي أبو بكر، وهو ابن ثلاث (¬1) وعشرين سنة (¬2). وكان أبو بكر إذا تخلَّف عن مجالس السلاطين بعث به نائبًا عنه، وكان يُقدِّمه على جميع أولاده، ويقرأ له وحده ما لا يقرأه لغيره، [وكان يحكي أبا بكر في وضوئه وصلاته]. وقال محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري: لقد صَحِبتُه قريبًا من ثلاثين سنة في الحضر والسفر، والحرِّ والبرد، فما رأيتُه ترك صلاة الليل، وكان يقرأ كلَّ ليلة سُبعًا من القرآن، وكانت صدقتُه دائمةً (¬3) في السرِّ والعلانية. ولمَّا وقع الاستنفار لِطَرَسُوس دخلتُ عليه وهو يبكي ويقول: قد دخل الطاغيةُ ثَغْرَ المسلمين طَرَسُوس، وليس في الخزانة ذهبٌ ولا فضة، ثم باع ضيعتين نفيستين من أجلِّ ضياعِه بخمسين ألف درهم، وأخرج عشرة من الغُزاةِ المُطوَّعةِ الأجلاد، بدلًا عن نفسه. وسمعته يقول غيرَ مرَّةٍ: اللهمَّ إنك تعلم أني لا أدَّخِرُ ما أدَّخِرُه، ولا أقتني هذه الضياع إلا لأستغني عن خلقِكَ، والإحسان إلى أهل السِّتر (¬4) والفقراء. وكان مُمَوَّلًا (¬5)، كثيرَ الصدقات، وكانت وفاته بنيسابور في ربيع الآخر، وصلَّى عليه أبو أحمد الحافظ، وروى عنه البُرقاني وغيره]، وكان ثقةً جليلًا، حجةً مأمونًا. محمد بن عبد الله (¬6) ابن محمد، أبو بكر التَّميمي، الأبْهَري، الفقيه المالكي، ولد سنة تسع وثمانين ومئتين، وصنَّف التصانيف الحِسان في مذهب مالك، وانتهت إليه رياسة أصحاب مالك، وكان مُعظَّمًا في الدولة وبين علماء وقته، لا يحضر مكانًا إلا وهو المُقدَّم على من شَهده، وكان ابنُ أمِّ شيبان إذا جلس أقعده عن يمينه، والخلق كلُّهم من القضاة ¬

_ (¬1) بعدها في (م 1) وحدها زيادة: وثلاثين سنة، وقيل وهذه الزيادة ليست في بقية النسخ، ولا هي في تاريخ بغداد. (¬2) بعدها في (م 1) وحدها زيادة: وهو أظهر. (¬3) في جميع النسخ سوى (م): دائمًا، والمثبت منها، موافقة لما في تاريخ بغداد، والأنساب للسمعاني 3/ 482، وغيرهما من المصادر. (¬4) المثبت من (م)، وفي باقي النسخ السير، والذي في تاريخ بغداد: والإحسان إلى أهل السنة والمستورين! (¬5) أي: ذو مال كثير. (¬6) تاريخ بغداد 5/ 462، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 24/ 12 (طبعة دار الفكر).

السنة السادسة والسبعون وثلاث مئة

والعدول والأشراف عن شماله، والناس كلُّهم دونه، وسُئل أن يلي القضاء فامتنع، وأشار بأبي بكر الرازي، ومات في شوال ببغداد. السنة السادسة والسبعون وثلاث مئة فيها استقرَّ الأمر على إظهارِ الطاعة لشرف الدولة، وحَمْلِ الخِلَعِ السلطانية إليه، ويُزاد (¬1): وزين المِلَّة، وتحمَّل إليه جماعة منهم: أبو نصر خواشاده، وأبو إسحاق الصابئ، وحضر صَمْصامَ الدولة القُضاةُ وغيرُهم، وحلف صَمْصام الدولة اليمين المستوفاة، وذلك في المُحرَّم، وكتب نسخةَ اليمين ابنُ الصابئ، ومضمونها: هذا ما اتَّفق عليه وتعاهدَ وتعاقدَ شرفُ الدولة أبو الفوارس، وصَمْصامُ الدولة أبو كاليجار، [وأبو النصر] (¬2) أبناء عضد الدولة بن ركن الدولة، اتَّفقوا على الطاعة لأمير المؤمنين الطائع لله ولشرف الدولة. وذُكِرَ ما جرَتْ به العادة، وكتب الطائعُ خطَّه عليه، ولمَّا نفذ إلى شرف الدولة كتب فيه: التزمتُ ذلك. وأُحْضِرتِ الخِلَعُ والتاجُ، ونُفذتْ مع العهد إليه، وكانت عساكره بواسط والبصرة، وسار أبو نصر خواشاده وأبو علي بن نجمان من صَمْصام الدولة وللطائع بالخِلَع والعهد، فوصلا إلى واسط، وبها قَراتَكين الجهشاري، فأكرمهما، وجاء كتاب شرف الدولة إلى قَراتَكين يأمره بالقبض على ابن نجمان، وأن يحمله إلى راهويه، ففعل، وبعث معه بما كان قد صحبه من الخِلَع والعهد، وسار أبو نصر إلى البصرة، ثمَّ منها إلى الأهواز إلى شرف الدولة، وقد تغيَّر الأمر عما فارقه عليه، ووافتِ الوفودُ إلى شرف الدولة من كلِّ وجهٍ؛ الدَّيلمُ والأتراكُ من بغداد، والقرامطةُ والأعرابُ وغيرُهم، وسار شرف الدولة من الأهواز يريد واسطًا في عساكره وأمواله وخزائنه، وكانت شيئًا كثيرًا، فدخل واسطًا في شعبان، وقدَّم بين يديه أبا منصور قَراتَكين إلى دير العاقول (¬3). وفيها أُفرج عن أبي محمد علي بن العباس بن فَسانْجِس، وكان معتقلًا بشيراز في قلعة. ¬

_ (¬1) يعني: يزاد في ألقابه. (¬2) ما بين حاصرتين من النجوم الزاهرة 4/ 148. (¬3) دير العاقول: بلدة على خمسة عشر فرسخًا من بغداد. الأنساب 8/ 317.

وفي رجب قُطعت خطبةُ شرف الدولة من بغداد. وفيها [في شهر ربيع الآخر] زُلزِلَتِ الموصلُ زلزلةً عظيمةً، هدمت المنزل، وقتلت خلقًا كثيرًا. وفي رمضان شغَبَ الجند على صَمْصام الدولة، وفارقه أكثرُهم، وتسلَّل الأعيان إلى شرف الدولة، منهم أبو نصر [بن] عضد الدولة، فلما رأى صَمْصام الدولة ذلك عزم على الإصعاد إلى عُكْبَرا وتبصَّر مَنْ معه منهم، فإن كان يقدر على مقاومة شرف الدولة وإلَّا أصعد إلى الموصل لينظر في أمره، فبينا هو على هذا العزم أحاطوا بداره، وصاحوا بشعار شرف الدولة، [وخرقوا الهيبة، فرأى أن ينحدر إلى شرف الدولة] (¬1) بنفسه يستعطفه ويدخل في رضاه، فانحدر يوم الأربعاء تاسع رمضان، ووصل إلى شرف الدولة، [وقد أصعد من واسط، فلقيه شرف الدولة] بنهر سائس، وأكرمه وأنزله في خيمةٍ مقابلةٍ لخيمه، وأخدمه حواشيه. وفي رواية: وكان قد أشار عليه زيار بن شهراكويه مُقدَّم عسكره بالخروج إلى عُكْبَرا؛ ليعرف مَنْ هو معه ممن هو قاعدٌ عنه، وقال له: الجيل في طاعتنا، وهم جمهرةٌ قوية، وأصحابنا الدَّيلمٍ في الموصل مع القاسم الحاجب، ويكثُر جمعَنا، ويَقوى أمُرَنا، فإن رأينا ما نحبُّ وإلَّا سِرْنا إلى فارس، فإنَّ بها أموال شرف الدولة وذخائِرَه، وليس دونها مانعٌ، فإذا حصلنا هناك لم يتمَّ لشرف الدولة بالعراق أمر، فحينئذ يحتاج إلى النزول على حُكْمِنا، واستقرَّ الرأيُ على هذا، ثم بدا لِصَمْصام الدولة العدولُ عن ذلك، وأن ينحدر إلى شرف الدولة، فلمَّا كان في الليلة المذكورة انحدر في زَبْزَبه (¬2)، فلما حصل تحت دار زيار وقف وطلبه، فنزل إليه؛ ظنًّا منه أنه ينزل في داره، فلمَّا لم يرَ ذلك قال له: إلى أين أيها الملك؟ قال: إلى أخي شرف الدولة. فقال له: لا تفعل، فإن الملوك لا تصِلُ الأرحام، ولا تراعي الحقوق، فلا تركبِ الخطرَ وتُسلِّمْ نفسَك إلى من لا يُراعي حقًّا. فقال: قد عزمتُ. فقال: خارَ اللهُ لك. فقال صَمْصام الدولة: فقل: أيَّ شيء قد عزمت أنتَ؟ قال: لي بكَ أسوة. قال: لا تضع يدك في يد أخي. فقال: فأنت ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي زيادة من (ب). (¬2) الزَّبزب: السفينة الصغيرة. وقد مرَّ قريبًا.

أعظم خطرًا مني. وسار صَمْصام الدولة نحو واسط، فلمَّا وصل نهر سائس بعثَ مَنْ يُعَرِّفُ شرفَ الدولة، فبعث له دابَّةً (¬1) فركبها من المَشْرعة، ووقف شرف الدولة في خيمةٍ وبين يديه خواصُّه، وقد ارتجَّ العسكر، فلمَّا رأى أخاه قبَّل الأرض بين يديه ثلاث دفعات، وقَرُبَ منه، فقبَّل يده، فقال له شرف الدولة: كيف أنت؟ وكيف كان حالُكَ؟ وما عملتَ إلا بالصواب في وُرودك. فدعا له صَمْصام الدولة، ووقف قليلًا، ثم قال له: امْضِ وغَيِّرْ ثيابك. وخرج وقد ضُرِبَتْ له خَركاة (¬2) فدخلها، وأطرق نادمًا على ما فعل، وحُملت إليه ثيابٌ كثيرةٌ ليتخيَّر منها ما يلبسه، فلم يُغيِّر ثيابه، وقُدِّم إليه طعامٌ -وكان في رمضان- فأكل شيئًا يسيرًا، وبعث شرف الدولة إلى بغداد فاحتاط على داره وإصطبلاتِه وأموالِه وأسبابِه. وأمَّا زيار فإنه انحدر عُقيب انحدار صَمْصام الدولة، فقَبض عليه وقتله بعد ذلك، وورد شرف الدولة بغداد، فنزل في الشَّفيعي (¬3) سابع عشر رمضان، واجتمع معه من الدَّيلم بضعةَ عشر ألفًا، ومن التُّرك ثلاثة آلاف غلام، فاستطال الدَّيلم على التُّرك، ووقعت المنازعةُ في الدور والإصطبلات، وركب الفريقان واقتتلوا، وعزم الدَّيلم على انتزاع صَمْصام الدولة. فقال صَمْصام الدولة: كنتُ بالشَّفيعي في خيمةٍ ليس بيني وبين شرف الدولة إلَّا خرقها، فسمعتُ نِحرير الخادم يُشير على شرف الدولة بقتلي، ويقول: نحن في أمرٍ عظيمٍ، والساعةَ يهجم علينا الدَّيلم ويأخذوه منا ويقتلونا، وشرف الدولة يمتنع، والقتال يعمل بين الفريقين، وأنا مُكِبٌّ على قراءة المصحف، وأدعو الله، إذ جاء غلامٌ فوقف على باب الخيمة التي أنا فيها وبيده سيف مسلول، وأظنُّه قيل له: إنْ هجم الدَّيلم فاقتُلْه، فلمَّا كان بعدَ ساعةٍ انهزم الدَّيلم وغلب التُّرك، وهجعَتِ الفتنة، وأصبح شرف الدولة فنزل دار المملكة، وجاءه الطائعُ مهنئًا، ولمَّا كان يوم عيد الفطر جلس شرف الدولة جلوسا عامًّا للتهنئة، ودخل الناس على طبقاتهم، وجاء صَمْصام الدولة ويده بيد أبي نصر خواشاده، فقبَّل الأرض، ووقف عن يمين السرير، وجاء بعده ¬

_ (¬1) في (خ): دوابه، والمثبت من (ب). (¬2) خركاة: خيمة كبيرة. المعجم الذهبي ص 237. (¬3) الشَّفيعي: بستان في بغداد. أخبار الراضي بالله ص 7.

أبو القاسم المظفر

بهاء الدولة، ففعل مثلَ ذلك، ووقف من الجانب الأيسر، وأنشد الشعراء، وعرَّضَ بعضُهم بغمز صَمْصام الدولة، فأنكر شرفُ الدولة ذلك، وقام من المجلس. ولم يُعرَفْ لصَمْصام الدولة خبرٌ بعد هذا الموقف، فقيل: إنه حُمل إلى فارس، فاعتُقل في قلعة، وكُحِّل، ثم أُعيدَ إلى المُلكِ بفارس، وسنذكره إن شاء الله تعالى، وكانت مدة إمارته بالعراق ثلاث سنين وأحد عشر شهرًا. وفيها تُوفِّي أبو القاسم المظفَّر ابن علي، الملقَّب بالموفق، أمير البَطِيحة (¬1)، واستقرَّ الأمر بعده لأبي الحسن علي بن نصر بعهدٍ من أبي القاسم، فبعث إلى شرف الدولة يبذل الطاعة، ويسأل الخِلَع والتقليد، فأُجيب إلى ذلك، ولُقِّب: مهذَّب الدولة، فسار بالناس السيرةَ الجميلةَ، إلى أن عَظُم قَدْرُه، وسارَ ذِكْرُه، واستجار به الخائف فأجارَه، واستغاث به الملهوف فأغاثَه، واستعان به المديون فأعانَه، واستماحه الضعيف فأماحَه، واعتصم به المطلوب فعَصَمَه، وصارت البَطِيحة معقلًا لكلّ مَنْ قصدها من أميرٍ ووزيرٍ وعاملٍ ومتصرِّف، وسلك بالناس طريقة العدل والنَّصَفة والحراسة والصيانة، وحسن التفقد والضيافة، فأمِنَتِ السابِلة، وسار التجار آمنين، واتسعت التجارات والبياعات، وصار إليه الأكابر من أصحاب السلطان، فبنَوا عنده الدور، وشيَّدوا القصور، وابتاعوا الضياع، واقتنوا العقار، وخدموه خدمة الملوك، وقصده الشعراء والمسترفدون من أداني البلاد وأقاصيها، فحقَّق آمالهم، وأوسَعَ في العطاء لهم، وزوَّجه بهاءُ الدولة ابنتَه، ونقلها إليه، واستعان به في عدة أوقات فأعانَه، واستقرضَ منه فأقرضَه، وخطب له بواسط والبصرة، وكاتبَه ملوكُ الأطراف، وشاع اسمُه في الدنيا بالخيرِ الذي أفاضَه، والجميلِ الذي أظهرَه، وتصرَّفت به الأمورُ على ما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) البَطيحة: أرض واسعة بين واسط والبصرة. معجم البلدان 1/ 450.

الحاكم بن عبد الرحمن

وفي يوم الأربعاء سادس ذي القعدة دخل قاضي القضاة عبد الله بن معروف من فارس إلى بغداد، وتلقَّاه الناس، وفيه قَبِلَ شهادةَ الدارقطني وأبي محمد بن عقبة ومحمد بن عبد الله الملقَّب براهويه، وندم الدارقطني على شهادته، وقال: كان يُقبَل قولي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بانفرادي، فصار لا يُقبَل قولي على بقلي إلَّا مع آخر. وفيها ردَّ شرف الدولة على الشريف أبي الحسن محمد بن عمر ما كان أخذه عضد الدولة، وأعطاه ضِياعه وعقاره، فعادت نعمتُه كما كانت، وكان مَغلُّ ضياعه في كل سنة ألفي ألف درهم وخمس مئة ألف درهم. وردَّا أيضًا على الشريف أبي أحمد الموسوي أملاكَه، وعلى جميع المُصادَرين في أيام عضد الدولة، وعفا عن المصادرات، ورفَعَ الجميع، وكتب إليه بعضُ أرباب السعاية مَدْرجًا طويلًا، فجعله في بعض مجالِسه، ثم طلبه بعد ذلك، فأُخبِر أن غزالًا دخل من البستان فأكله وأبقى منه قطعةً، وأخبِر، فقال: كفانا الغزالُ مؤنة إحراقِه، ولقد كنتُ على هذا العزم، فلعَنَ اللهُ الشرَّ وأهلَه، فانختمت المواد، وأحبَّه الناس ومالوا إليه]. وفيها تُوفِّي الحاكم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان والي الأندلس [وقد ذكرنا أن أباه عبد الرحمن مات في أيام المطيع في سنة خمس وثلاث مئة، وولي الحكم يوم مات أبوه سنة خمسين وثلاث مئة، وكنيته أبو العاص، ولقَّب نفسَه المستعين (¬1)، وأقام واليًا خمسًا وعشرين سنة، ومات في صفر، وأمُّه أمُّ ولد يقال لها: مُرجان، وكان مُحِبًّا للعلماء والعلم، وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحدٌ من ملوك العرب، لا قبلَه ولا بعدَه، وكان صالحًا ورعًا؛ قطَعَ جميع كروم الأندلس احترازًا من عصير الخمر، وكتب إلى العزيز صاحب مصر كتابًا هجاه فيه وأهلَه، وأنه دَعِيٌّ في نسبه، وأن جدَّه القدَّاح الباطني، وكتب في أوَّله: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): المستنصر.

محمد بن أحمد

إذا وُلدَ المولودُ مِنَّا تهلَّلتْ ... له الأرضُ واهتزَّت إليه المنابرُ فلمَّا وقف العزيز عليه وكان في أوَّله: ألَسْنا بني مروانَ كيف تقلَّبتْ ... بِنا الحالُ أو دارتْ علينا الدوائرُ [إلى أن قال: ] (¬1) عرفتَنا فهجوتَنا، ولو عرفناك لَهَجَوناك، والسلام. ثم ولي بعده ولده هشام بن الحكم (¬2)، ومات سنة تسع وتسعين وثلاث مئة [وسنذكره هناك إن شاء الله]. محمد بن أحمد (¬3) ابن حمدان بن علي بن عبد الله بن سنان أبو عمرو، الحيري، الزاهد، صحب جماعةً من الزُّهَّاد، وكان عالمًا بالقراءات والنحو، متعبِّدًا، أقام المسجد فراشَه نيِّفًا وثلاثين سنة، وكانت وفاتُه ببغداد في ذي القعدة، ولمَّا احتُضِر قال لزوجته: قد جاؤوا ببراءتي من السماء. وكان ثقةً. السنة السابعة والسبعون وثلاث مئة فيها في أول المُحرَّم قدم بغداد أبو منصور محمد بن الحسن (¬4) وزير شرف الدولة، وتلقَّاه القُوَّاد والحواشي والأعيان من المدائن، فلمَّا قَرُب من بغداد تلقَّاه شرفُ الدولة من الشَّفيعي وفي صحبته عشرون ألف ألف درهم وثياث كثيرة، وكان عادلًا خَيِّرًا، إذا سمع صوتَ الأذان ترك جميع أشغاله حتى يؤدي الفرض، وكان كثير العزل والولاية، فيقال: إنه ما ترك عاملًا (¬5) يستتِمُّ في ناحيةٍ سنةً؛ خوفًا على الرعية من الظلم، وكان الغلاء قد دام ببغداد، فجلب الغلَّة من فارسٍ -في البحر- ومن غيرِها، فرخصت الأسعار؛ قال ابن الصابِئ: ما رأينا وزيرًا دبَّر من الممالك مثلَ ما دبَّره؛ فإن مملكة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من النجوم الزاهرة 4/ 149، وهي زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في (م) و (م 1): هاشم بن عبد الملك، والمثبت من (خ) و (ب)، وهو الموافق لما في النجوم الزاهرة 4/ 221. (¬3) تنظر مصادر ترجمته في السير 16/ 193. (¬4) تحرف في (م) و (م 1) إلى: الحسين. والمثبت من بقية النسخ، والمنتظم 4/ 321 وغيره. (¬5) تحرفت في (م 1) إلى: واليًا، والمثبت من بقية النسخ، والمنتظم وغيره.

شرف الدولة أحاطت بما بين (¬1) الحدِّ من كَرْمان طولًا، إلى ديار بكر عرضًا، إلى الأحساء والجزيرة، وكانت له تجارات وحمولات، وكانت توقيعاتُه تُقبل بنيسابور، ووقَّع لبعض الجند بجامَكية (¬2) على الموصل النصف، وعلى عُمان النصف. [قلت: وقد بلغ نظام الملك من نفاذ الأمر أعظم من هذا؛ كان يكتب وهو بما وراء النهر توقيعات للفرَّاشين على القسطنطينية، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى]. وفي المُحرَّم خرج أبو منصور قَراتَكين الجهشِياري إلى المُصلَّى ليتوجَّه إلى قتال بدر بن حسنويه بالجبل، وخلع عليه شرفُ (¬3) الدولة، وخرج لِوَداعه، فسار في الجيش لخمسٍ خَلَوْنَ من صفر، وكان شرفُ الدولة متغيِّظًا على بدر لِمُمايلتِه إلى فخر الدولة عمِّه وعدوله عنه، فدفع الخزائنَ والعساكرَ إلى قَراتَكين، وعَلِمَ بدرٌ الخبرَ، فاستعدَّ له، ووقعت الوقعة بينهما على وادي قَرْمِيسين (¬4)، فانهزم بدرٌ بين يديه، وغاب عن عينيه، فنزل قَراتَكين وعسكرُه عن خيولهم، وتفرَّقوا في خيامهم، فعاد بدرٌ من فَوْرِه، فأعجلهم عن الاجتماع، فقتل منهم مَقتلةً عظيمةً، واحتوى على ما كان في عسكر قَراتَكين من المالِ والسلاحِ والدوابِّ وغيرِها، وأفلَتَ قَراتَكين في شِرْذِمةٍ من غلمانه، ووصل إلى النَّهْرَوان، فحُمِلَ إليه من داره من الثياب ما لَبِسه، ودخل دارَه، واستولى بدرٌ على ما كان خارجًا عنه من الجِيال (¬5)، وكان قَراتَكين قد استطال على الدولة، وتسلَّط (¬6) على الوزير والحاشية، فجرى بينه وبين الوزير كلامٌ، وقال له: أنت كسرتَ العساكرَ حيث لم تُنجِدْنا. ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): أحاطت ثمانين فرسخًا. (¬2) الجامَكية: مرتَّب الخادم أو الجندي. المعجم الذهبي ص 198. (¬3) تحرفت في (خ) إلى: سيف، والمثبت من (ب). (¬4) قَرْمِيسين؛ تعريب كرمان شاهان: بلد معروف بينه وبين همذان ثلاثون فرسخًا قرب الدِّينَوَر. معجم البلدان 4/ 330. (¬5) المراد بالجيال أعمال الجيل، والجيل: قرية من أعمال بغداد تحت المدائن. معجم البلدان 2/ 202. وينظر تاريخ ابن خلدون 4/ 461. (¬6) في (ب): تبسُط، والمثبت من (خ).

وكان في قلب شرف الدولة على قَراتَكين من استطالته، وجاءت هذه الهزيمة، فقبض عليه وقيَّده وقتله في تلك العشية، واستولى على أسبابه، وخاض التُّركُ في حبس (¬1) قَراتَكين، فلمَّا علموا أنه قد قُتِلَ سكنوا. وفي صفر عُقِدَ مجلسٌ حضره القضاة والعلماء والأشراف، وجُدِّدتِ التوثقةُ (¬2) بين الطائع وشرف الدولة. وفي ربيع الأول ركب شرفُ الدولة إلى دار الطائع، وخلعَ عليه الخِلَع السلطانية كما فعل بأبيه، وخرج من حضرة الطائع، فدخل على أخته زوجة الطائع، فأقام عندها إلى العصر يتحدَّثان، وانصرف إلى داره، ولمَّا حُمِل اللواءُ على رأسه تخرَّق، ووقعَتْ منه قطعةٌ، فتطيَّرَ من ذلك، فقال له الطائع: إنما حملَتِ الريحُ منه قطعةً، وتأويله: أنك تملك مَهَبَّ الرياح. وكان في جملة مَنْ حضرَ مع شرف الدولة القاضي أبو محمد بن معروف، فلمَّا رآه الطائع قال: [من الخفيف] مرحبًا بالأحبَّةِ القادمينا ... أوحشونا وطالما آنسونا فقبَّل ابنُ معروف الأرض ودعا. وفيها توفِّي أبو القاسم سعد بن محمد والي الموصل، وبعث إليها شرف الدولة خواشاده، فسار إليها في الجيش، ولمَّا مات أبو القاسم طمع باذ الكردي في التغلُّب على الموصل، فصار إلى طور عَبْدِين المُطِلِّ على نَصيبين، [فخرج أبو نصر إلى نصيبين] (¬3) وجمع بني عقيل، وجرَتْ بينهم مناوشات، وأبو نصر نازلٌ بظاهر نَصيبين، وباذ على الجبل، اتَّفق أنَّ أخا باذ نزل فقاتل فقُتل، وبينما أبو نصر [كذلك] إذ جاء الخبر بوفاة شرف الدولة، فكتمَ أمرَه، وعاد إلى الموصل، وجلس للعزاء، واشتغل باذ بفتح ديار بكر على ما قدَّمنا ذِكْرَه. وفيها تُوفِّيت والدة شرف الدولة، وجاءه الطائع مُعزِّيًا. ¬

_ (¬1) في (خ): جيش، والمثبت من (ب). (¬2) في البداية والنهاية 11/ 305: البيعة، والمثبت موافق لما في المنتظم 14/ 321. (¬3) ما بين حاصرتين هنا وفي المواضع الآتية زيادة من (ب).

إسحاق بن المقتدر

وفي شعبان ولد لشرف الدولة ولدان توأمان، فكنَّى أحدهما: أبا حرب، وسمَّاه: سلار، والثاني: أبا منصور، وسمَّاه: فناخسرو. وفيها قدم بُكْتِكين التركي من مصر واليًا على دمشق ومعه العساكر، وكان قد استولى عليها قسَّام الحارثي، وكان صعلوكًا من [أهل] قرية تَلْفِيتا من جبل سَنيرِ فوق مَنين وكان لفقره ينقل التراب على الدواب، فترقَّى حالُه حتى ملك دمشق، وأقام بها مدة، فحصره بُكتِكين مدةً وحاربه، ثم أخذه أسيرًا، وبعث به إلى مصر، فعفا عنه العزيز بالله. وفيها تُوفِّي إسحاق بن المقتدر (¬1) أبو محمد، والد القادر بالله، ولد سنة سبع عشرة وثلاث مئة، وتوفي ليلة الجمعة سابع عشر ذي القعدة، وغسَّله ابن أبي موسى الهاشمي، وصلَّى عليه ابنه القادر، وهو يومئذٍ أمير، وحُمِلَ إلى الرُّصافة، فَدُفن عند شغَبٍ جدَّتِه والدة المقتدر، وأنفذ الطائع خواصَّه وخدمَه وحُجَّابَه لتعزية ابنه القادر، وشيَّعه الأشرافُ والقضاةُ وغيرُهم، وبعث شرف الدولة وزيره أبا منصور محمد بن الحسن ونِحرير الخادم وخواصَّه إلى القادر يُعزُّونه، ويعتذرون عنه لشكوى وجدها، وحزن الطائع عليه، وأظهر غمًّا بوفاته، وكان عاقلًا جليلًا. وفيها توفي أيضًا جعفر بن المكتفي (¬2) في صفر، وكان فاضلًا، كنيته أبو الفضل، ولد سنة أربع وتسعين ومئتين. الحسن بن أحمد (¬3) ابن عبد الغفار، أبو علي الفارسي النحوي، ولد ببلدة فسا، وقَدِم بغداد، وسمع الحديث وبرعَ في علم النَّحْو وانفردَ به، وعَلَتْ منزلتُه، وصنَّف كتبًا كثيرةً حسنةً لم ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 324، والوافي بالوفيات 8/ 265. (¬2) المنتظم 14/ 324. (¬3) تاريخ بغداد 7/ 275 - 276، والمنتظم 14/ 324 - 325، 275 - 276، ومعجم الأدباء 7/ 232 - 261، وإنباه الرواة 1/ 273 - 275. وينظر السير 16/ 379 - 380.

ستيتة

يُسبَقْ إلى مثلها، واشتهر ذِكْرُه في الآفاق، وبرعَ له غِلمانٌ حُذَّاق، مثل عثمان بن جِنِّي وغيرِه، وخدم الملوك ونفقَ عليهم، وتقدم [عند] عضد الدولة، حتى قال: أنا غلام أبي عليٍّ في النحو. ومن تصانيفه: "الإيضاح"، و"التكملة"، وكتاب "الحجة في القراءات". وكانت وفاته ببغداد في ربيع الأول عن نيِّفٍ وتسعين سنة، ودفن بالشُّونيزية، وما رُؤيَ بعدَه مثلُه. وأخرج له الخطيب حديثًا عن عائشة رضوان الله عليها قالت: قلت: يا رسول الله، لي جاران، فإلى أيِّهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منكِ بابًا" (¬1)]. [وفيها توفيت ستيتة] وقيل: آمنة بنت القاضي أبي عبد الله الحسين المَحاملي، وتُكنى أمة الواحد. قال الخطيب (¬2): وهي أم القاضي أبي الحسين محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل المَحامِلي، وكانت فاضلةَ من أعلم الناس وأحفظهم للفقه على مذهب الشافعي رحمة الله عليه، وتقرأ القرآنَ والفرائضَ والنحوَ وغيرَ ذلك من العلوم، كثيرةُ الصدقات، مسارعةٌ إلى الخيرات، زاهدةٌ عابدةٌ ثقة (¬3)، وكانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة، وتوفيت في رمضان. [حَدَّثَتْ وكُتِب عنها الحديث. قال الدراقطني: سمعتْ أباها، وإسماعيل بن العباس الورَّاق، وعبد الغفار بن سلامة الحمصي، وذكر غيرهم، وكانت زاهدة عابدة ثقة، والله أعلم]. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 275، والحديث أخرجه البخاري (2259)، وهو في مسند أحمد (25423). (¬2) تاريخ بغداد 14/ 442 - 443. (¬3) عبارة: "زاهدة عابدة ثقة" ليست في تاريخ بغداد في هذا الموضع، وستأتي من كلام الدارقطني.

عبد الوهاب بن الطائع

عبد الوهاب بن الطائع توفِّي في ربيع الآخر، ودُفن في تربة أبيه التي جدَّدها بالرُّصافة عند تربة جدته شَغَب (¬1). علي بن محمد بن أحمد (¬2) أبو الحسن، الثقفي، الورَّاق، البغدادي، ويعرف بابن لؤلؤ. ولد سنة إحدى وثمانين ومئتين، وسمع خلقًا كثيرًا، وتوفِّي ببغداد في المُحرَّم، وكان ثقةً، إلا أنه كان يأخذ على سماع الحديث الشيء اليسير. قال التَّنوخي: حضرتُ عند ابن لؤلؤ مع أبي الحسين البيضاوي لنقرأ عليه -وكان قد ذُكر له عددُ من يحضر السماع- ودفعنا إليه دراهم وافقناه عليها، فرأى في جملتنا واحدًا زائدًا على العدد الذي ذكرناه له فأمر بإخراجه، فجلس الرجل في الدِّهليز، وجعل البيضاوي يقرأ ويرفع صوته ليُسْمِع الرجل، فقال ابن لؤلؤ: يا أبا الحسين، أتتعاطى عليَّ وأنا بغدادي من باب الطاق، ورَّاقٌ، شيعيٌّ، أزرق! ثم أمر جاريتَه بأن تدقَّ في الهاون أُشنانًا (¬3) حتى لا يسمع الرجلُ صوتَ البيضاوي. السنة الثامنة والسبعون وثلاث مئة فيها في المُحرَّم أمرَ شرفُ الدولة بأن تُرصَد الكواكبُ السبعةُ في مسيرِها وتنقُّلِها في بروجِها، على مثالِ ما كان المأمونُ يفعل، وتولَّى ذلك وَيْجَن بن رستم الكوهي، وكان له عِلمٌ بالهيئة والهندسة، فبنى بيتًا في دار المملكة في آخر البستان [مما يلي الحطَّابين]، وأقام الرَّصَد، فتمَّ لليلتين بقِيَتا من صفر. ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 326. (¬2) تاريخ بغداد 12/ 89، والمنتظم 14/ 327، وكلام التنوخي الآتي في نشوار المحاضرة 5/ 13 - 14. (¬3) الأشنان: شجر ينبت في الأرض يستعمل في غسل الثياب والأيدي. المعجم الوسيط (أشن).

أحمد بن الحسين

وفيها تُوفِّيت أم العباس بنت المُكتفي بالله، وقد أنافَتْ على تسعين سنة. وفي ذي القَعدة (¬1) كثُرَتِ العواصفُ، وهبَّتْ بفمِ الصُّلح (¬2) ريحٌ عظيمةٌ شُبِّهَتْ بالتِّنِّين، خرقَتِ الدِّجلة من غربها إلى شرقها، فأهلكَتْ خلقًا كثيرًا، وغرَّقَتْ كثيرًا من السُّفن الكبار المسوَّرة بالأمتعة، واحتملَتْ زورقًا كبيرًا مُنحدِرًا فيه دوابُّ كثيرة وطرحَتْه في بطن جوخا (¬3)، وشُوهِدَ بعد أيام. وفيها بدأ المرض بشرف الدولة، وسببُه سوء مزاج. ولحِقَ الناسَ بالبصرةِ حَرٌّ عظيمٌ في نيِّفٍ وعشرين يومًا من تموز، فكان الناسُ يتساقطون موتى في الطُّرق والشوارع. وفيها ولَّى العزيزُ بالله صاحبُ مصر على دمشق مُنيرًا الخادم، وعزل عنها بكجور التركي -وقيل: إنما أخرج منها بُكْتِكين التركي- لأنه كان قد عصى على صاحب مصر، وحجَّ بالناس على ما قيل. وفيها تُوفِّي أحمد بن الحسين ابن أحمد بن علي بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن الحسين -الأصغر- بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -، [العلوي]، الدمشقي، ويُعرف بالعَقيقي (¬4)، وصاحب الدار المشهورة بدمشق بنواحي باب البريد (¬5)، وله الحمَّام إلى جانبها، وكان من وجوه الأشراف، جوادًا، [سمحًا]، مُمَدَّحًا؛ مدحه أبو الفرج محمد بن أحمد الوأواء الشاعر، فقال: [من البسيط] ¬

_ (¬1) في المنتظم 14/ 330: شعبان. وهذا الخبر وما قبله وما بعده فيه بمعناه وباختصار. (¬2) فم الصُّلح: نهر كبير فوق واسط. معجم البلدان 4/ 276. (¬3) جُوخا: اسم نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد. معجم البلدان 2/ 179. (¬4) بعدها في (م) و (م 1) زيادة: منسوب إلى جده محمد بن جعفر، فإنه كان يقال له: العقيقي وأحمد. قلت: وهذه الترجمة في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 3/ 45 - 46. (¬5) تصحفت في (خ) و (ب) إلى: الزبد.

الخليل بن أحمد

إلى الذي افتخرَتْ أمُّ العقيقِ بهِ ... ومَنْ به صيَّرَتْ بطحاؤُها حَرَما إلى فتًى تضحَكُ الدنيا بِغُرَّتِهِ ... فما تَرى باكيًا فيها إذا ابتَسما سَما به الشَّرفُ العالي فصارَ بهِ ... مُخيِّمًا فوق أطناب العُلى خِيَما من أبيات .. وكانت وفاتُه بدمشق في جُمادى الأولى، وأُخرجَ إلى المُصلَّى، وأُغلقَتْ أبوابُ دمشق، ومشى في جنازته بكجور التركي والقُوَّادُ والأشرافُ وجميعُ مَنْ في البلد، لم يتخلف أحدٌ، [وكان يومًا مشهودًا]، ودُفِنَ بالباب الصغير. الخليل بن أحمد (¬1) ابن محمد بن الخليل، أبو سعيد السِّجْزي، القاضي، الحنفي -وقيل: اسمه محمد، والخليل لقبٌ له- ويُعرف بابن جَنْك، شيخ أهل الري في عصره، وكان أحسنَ الناس كلامًا في الوعظ والتذكير، مع تقدُّمه في الفقه. مات بسَمرْقَند -وهو قاضٍ- في جمادى الآخرة، وطاف الدنيا شرقًا وغربًا، وسمع، وكان شاعرًا فصيحًا، ومن شعره: [من الكامل] اللهُ يجمعُ بيننا في غِبطةٍ ... فيُزيلُ وَحْشَتَنا بطيبِ (¬2) تلاقِ ما طابَ لي عيشٌ فديتُكَ بعدَ ما ... ناحَتْ عليَّ حمامةٌ بفراقِ إنَّ الإلهَ لقد قضى في خلقِهِ ... أنْ لا يطيبَ العيشُ للمُشْتاقِ وقال: [من الطويل] سأجعلُ لي النُّعمانَ في الفقه قُدوةً ... وسفيانَ في نقلِ الأحاديثِ مُسنِدا (¬3) وفي تركِ ما لا يَعْنِني وعقيدتي (¬4) ... سَأَتْبَعُ يعقوبَ العُلى ومحمَّدا وأجعلُ درسي في قراءةِ عاصمٍ ... وحمزةَ بالتحقيق درسًا مُؤكَّدا ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق لابن عساكر 5/ 679 - 682 ة (مخطوط نشر دار البشير)، ومعجم الأدباء 11/ 77 - 80، وينظر السير 16/ 437 - 439. (¬2) في المصادر: بوَشْكِ، وفي بعضها: بقُرْبِ، وكلاهما بمعنى. (¬3) في المصادر: سيِّدا. (¬4) في المصادر: عن عقيدتي.

عبد الله بن علي

وأجعلُ لي نحوَ الكسائيِّ قُدوةً ... ومِنْ بَعدهِ الفرَّاءَ ما عشتُ سَرْمدا وإن عدتُ للحجِّ المباركِ مرَّةً ... جعلت لنفسي كوفةَ الله (¬1) مَسْجِدا فهذا اعتِقادي وَهْوَ دِيني ومَذهبي ... فمن شاءَ فليبرُزْ ليَلْقَى موحِّدا ومات بسمرقند في هذه السنة -وقيل: إنه مات بفَرْغانة- سنة ثلاث وسبعين، وَرَثاه أبو بكر الخُوارَزمي فقال: [من الطويل] ولمَّا رأينا الناسَ حَيرى لِهَدَّةٍ ... بَدَتْ بأساسِ الدِّينِ بعد تأطُّدِ أفَضْنا دُموعًا بالدماءِ مَشوبةً ... وقُلنا عسى ماتَ الخليلُ بنُ أحمدِ عبد الله بن علي (¬2) ابن محمد، أبو نصر، السرَّاج، الصوفي، الطُّوسي، من كبار المشايخ بطُوس وزُهَّادِهم، والمنظور إليه مع الاستظهار بعلم الكتاب والسُّنَة، وكانت وفاته بنيسابور في رجب وهو ساجد، ومن شعره: [من البسيط] ما ناصَحتك خبايا الوُدِّ من أحدٍ ... ما لم تَنَلْكَ بمكروهٍ من العَذَلِ مودَّتي لكَ تأبى أن تُسامحني ... بأن أراك على شيءٍ من الزَّلَلِ عبيد الله (¬3) بن أحمد ابن محمد، أبو العباس، الكاتب، البغدادي، كان فاضلًا؛ قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري: [من الوافر] وكم من قائلٍ قد قال دَعْهُ ... فلم يَكُ وُدُّهُ لكَ بالسَّليمِ فقلتُ إذا جزَيتَ الغدرَ غَدْرًا ... فما فضلُ الكريمِ على اللئيمِ وأينَ الإلفُ يعطفُني عليهِ ... وأينَ رعايةُ العهدِ القديمِ ¬

_ (¬1) في المصادر: الخير. (¬2) تاريخ مدينة دمشق 31/ 74 - 75 (نشر دار الفكر). (¬3) تحرف في (خ) و (ب) إلى: عبد الله، والتصويب من تاريخ بغداد 10/ 378، والمنتظم 14/ 331 - 332 والترجمة فيهما.

محمد بن محمد

محمد بن محمد (¬1) ابن أحمد بن إسحاق، أبو أحمد، القاضي، الحافظ، أمام عصره في علم الحديث، تقلَّد القضاء بخراسان على مُدنٍ كثيرة، وصنَّف على كتاب البخاري ومسلم والترمذي، وكتاب الشروط، وكتاب الشيوخ والأبواب، وتقلَّد قضاء طُوس، وكان يُصنِّف الكتب، ويقضي بين الناس، وانصرف إلى نيسابور، ولزِمَ مسجدَه ومنزِلَه مُقبلًا على التصانيف والعبادة، وأُريد على القضاء مرارًا، فلم يُجِبْ، وذهب بصرُه سنة سبع وسبعين، وكان حافظ عصره بهذه الديار، ومات في ربيع الأول عن ثلاث وتسعين سنة، ودُفن في داره في موضع جلوسه للتصنيف عند كتبه، واتَّفقوا على فضله وزهده وورعه وثقته [وأمانته] (¬2). السنة التاسعة والسبعون وثلاث مئة فيها في المُحرَّم ورد الخبر إلى بغداد بأن الجرَّاح الطائي خرج على الحاج بين سَميراءَ وفَيْد (¬3)، ونازَلَهم، ثم صالحهم على ثلاث مئةِ ألف درهم، وثيابٍ مصريةٍ ويمنية، وغير ذلك، فدفعوا له ما طلبَ، وسَلِموا. وفيها انتقل شرف الدولة إلى قصر مُعِزِّ الدولة بباب الشَمَّاسية؛ لأنه كان قد بدأ به الاستسقاء، فأشار عليه الأطباءُ وقالوا: الهواء هُناكَ أصحُّ. وشغَبَ عليه الدَّيلَم، فعادَ إلى دارِه، وقبض منهم جماعةً. وفي ربيع الآخر (¬4) بعثَ الطائعُ أبا الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان كاتبَه إلى دار القادر بالحريم الطاهري، ليقبض عليه، وهو يومئذ أمير، فهرب، وسببه أنه لمَّا توفِّي إسحاق والد القادر بالله جرى بين القادر وبين أخته آمنة بنت عجيبة منازعةٌ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 55/ 157 - 159 (نشر دار الفكر). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) سَميراء وفَيْد: منزلان في طريق مكة. معجم البلدان 3/ 255 و 4/ 282. (¬4) في المنتظم 14/ 237: جمادى الآخرة، والكلام مع الخبرين السابقين منه.

في ضَيعة، وطال الأمرُ فيها، واتَّفق أنَّ الطائع مرض، ثم أبلَّ (¬1)، فسعَتْ آمنة بأخيها القادر إلى الطائع، وقالت: قد شرعَ في تقليد الخلافة عند عِلَّتك. وراسل أربابَ الدولة، وأعطاهم الأموال، فظنَّ ذلك حقًّا، فبعث بابنِ حاجب النعمان للقبض عليه، فدخل عليه ومعه جماعةٌ، فقال: أمير المؤمنين يستدعيك. قال: سمعًا وطاعة. وقام، فقال له أبو الحسن: إلى أين؟ قال: ألبس ثيابًا تصلح للقاء الخليفة. فتعلَّق به، فعرفَ الحُرَمُ في الدار ما يُراد به، فخرجوا وانتزعوه من يده، وبادر إلى سرداب كان قد عمله، فتخلَّص وعاد أبو الحسن إلى الطائع فأخبره، فأقام القادر في السِّرداب إلى الليل، وانحدر في سفينة مُتخفِّيًا إلى البَطِيحَة عند مُهذَّب الدولة، فاستجارَ به، فأقامَ عنده حتى وَليَ الخلافة، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وقالت صفية بنت عبد الصمد بن القاهر بالله: كنت في دار الأمير أبي العباس أحمد يوم كُبِستْ بمن (¬2) أنفذه الطائع للقبض عليه، وقد جمع حُرَمَه في غَداةِ ذلك اليوم، وكنتُ فيهم، فقال لنا: رأيتُ البارحة في منامي كأنَّ رجلًا يقرأ عليَّ: {الَّذِينَ قَال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] وقد خفتُ أن يطلُبَني أو يحدُث حادثٌ. فبينا هو يُحدِّثنا إذا بزَبْزب أبي الحسن بن حاجب النعمان وقد قدم إلى درجة داره، فقال: إنَّا لله، هذا حضورٌ مُريبٌ يعقب هذا المنام. وخرج أبو الحسن ومعه أبو القاسم بن أبي تمام والعباسي الحاجب، وتبادرنا إلى وراء الأبواب، فلمَّا رأينا أبا الحسن قد عَلِقَ بكُمِّه خرجنا إليه وأخذناه من يده، وتبعه إلى السِّرداب، فوقعنا في صدره ومنعناه، فلمَّا تقلَّد أبو العباس الخلافة جعل علامتَه {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} على هذا الأصل. وفي هذا الوقت كتب شرف الدولة بكحل أخيه، وبعث إليه محمد الشيرازي الفرَّاش، وسببه أنَّ نحريرًا الخادم كان يُحرِّض شرف الدولة على قتل صَمْصام الدولة، ويقول: إن في بقائه ضررًا على دولتك. وشرفُ الدولة يمتنع من ذلك، فلمَّا اعتَلَّ قال ¬

_ (¬1) أبلَّ المريض: بَرَأ. المعجم الوسيط (بلل). (¬2) في (خ): سكنت ممن. والمثبت من (ب).

له نحرير: فإن لم تقتُلْه فاكحُلْه لتأمَنَه على ولدك. وغلَبَ على رأيه، فكتب نحريرٌ عنه إلى العلاءِ بن الحسن والي سيراف وعاملٍ يهوديٍّ كان معه -وكان صَمْصام الدولة في بعض قلاع سيراف مع محمد الفرَّاش- أن يُمكِّناه ممَّا قَدِم لأجله، وجاء الفرَّاش إلى اليهوديِّ بالكتاب، فقال: هذا أمرُ ملكٍ قد مات، فلا بُدَّ من مشاورة العلاء. فشاوره، فقال: مَكِّنْه. وقال نحريرٌ للفرَّاش: اسْتَقصِ (¬1) في كحلِه ثلاثة أيام، وأعطاه شرف الدولة كحلًا يشدُّ عينيه فيه، وتوفِّي شرف الدولة، وصعد الفرَّاش فكحلَه كحلًا ذهب به بصرُه. وكان في جملة الموكَّلين بصمْصام الدولة فرَّاشٌ يُسمى بُندارٌ، وقد أَنَسَ به صَمْصام الدولة، فقال الفراش: كيف المَلِك؟ فقال له على وجه الاسترسال والأُنس به؛ لأنَّ مدَّته معه كانت قد تطاولَتْ: قد بقيَ من نظري بقيَّةٌ أُبصِرُ [الضوء] (¬2) بها من تلك الرَّوزنة. فأعاد بندارٌ الحديثَ على محمدٍ الفرَّاش، فأدخل مِبْضَعًا في عينيه، وأخرجَ به حَدَقتَيه، فلمَّا ملك صَمْصام الدولة جرى ذلك الفرَّاش في خدمة صَمْصام الدولة على عادته في خدمته في القلعة، فثَقُل على صَمْصام الدولة أمرُه، وقال لبعض خواصِّه: ما أستطيعُ أسمعُ صوت بُندار، فأبْعِدوه عني. فقال بُندار: كذا أستحقُّ من المَلِك بعد أن خدمتُه الخدمة الكثيرة، وصحبتُه المدة الطويلة! وبلغ صَمْصام الدولة، فسكتَ على مَضَض، فلمَّا اجتمع الأمير أبو طاهر بِصَمْصام الدولة قال له: بحياتي إلَّا أخبَرْتَني بِمَ فعل بكَ بُندارٌ. فامتنَعَ، فألحَّ عليه، فأخبرَه، فلمَّا خرج من عنده أخذ بُندارًا فصلبَه حيًّا، ورماه الدَّيلم بالرُّوبينات (¬3) حتى مات، وكان صَمْصام الدولة يقول: ما سملني إلا أبو العلاء؛ أمضى أمر ملكٍ قد مات [فكان يقول: العجب من إمضاء أمر ملكٍ قد مات] (¬4)، وهرب محمد الفرَّاش إلى مصر فمات بها. وفي جمادى الأولى ظهر كوكب الذؤابة ثم اضمحلَّ. ¬

_ (¬1) في الأصل (خ): استيقض! . (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) جمع زُوبين: وهو الرمح القصير. معجم الألفاظ الفارسية المعربة ص 81. (¬4) ما بين حاصرتين وزيادة من (ب).

وفي جمادى الآخرة تُوفِّي شرف الدولة، وقام ابنُه مقامَه وكان عليه استسقاء وفساد مزاج، وامتنع من الحمية، وخلَّطَ، وأخرج ابنَه أبا علي ووالدته وحرمَه وأهله إلى فارس نائبًا عنه، وضمَّ إليه جماعة من الجند والقُوَّاد، وكان خروجُه يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى، واشتدت العِلَّةُ بشرف الدولة، فراسله القُوَّاد باستخلاف أبي نصر، فأجاب واستخلفه. ومات شرف الدولة في جمادى الآخرة عصر الجمعة ثاني يومٍ منه، وحُمِلَ إلى المشهد بالكوفة، فدُفن عند عَضُد الدولة، وكان عمرُه ثمانيًا وعشرين سنة وخمسة أشهر، ومدَّة أيامه في بغداد سنتان وثمانية أشهر (¬1). وأظهروا موته، وجاء الطانع مُعزِّيًا على العادة في أُبَّهة الخلافة، وتلقَّاه الأمير أبو نصر، وقبَّل الأرض ودعا، ولم يُمكِنْه من الصعود من الطيار، وبعث أبو نصر يطلب منه الخِلَع والتقليد، فقال: على أن تحلف لي أنك تكون كما كان أبوك. فحلف، وجُدِّدتِ الأيمانُ بينهما. ولمَّا كان عاشر جمادى الآخرة ركب أبو نصر إلى حضرة الطائع، فخلع عليه الخِلَع السُّلطانية، وقُرئ عهدُه بين يديه، ولقَّبه بهاءَ الدولة وضياءَ الملَّةِ، وعاد إلى دار المملكة وجلس للهناء على العادة، وضُرِبَتْ له القباب، وأقرَّ أبا منصور بن صالحان على الوزارة، وخلع عليه، وقُبِضَ على نحرير الخادم، وسُلِّم إلى الحسين الفرَّاش، فاعتقله في داره ثم قتله، واعتُقِلَ الفرَّاشُ في دار نحرير وقُتِلَ بها، وكان ذلك من أعجب الاتفاقات. وشرح القصة: أن بهاء الدولة كان حسنَ الرأي في نحرير أيام شرف الدولة، كثيرَ الوصف له، فلمَّا مات شرف الدولة لبس نحريرٌ الصوف وتزهَّد، وانقطع عن بهاءِ الدولة، فاستدعاه بهاءُ الدولة ولاطفه، وأراد منه أن يجري في خدمته على ما كان مع أبيه، فامتنع نحريرٌ وقال: لستُ أصلُحُ لخدمةِ أحدٍ بعد مولاي، ولا يُنتفع بي في عمل، بل الانقطاع إلى بعض المشاهد. وبهاء الدولة يسأله مرارًا وهو يمتنع، فدمعَتْ عينا بهاء الدولة، وقال: افعَلْ لله تعالى، وهو عليَّ لَجاجةٌ. ¬

_ (¬1) خبر وفاته هذا في المنتظم 14/ 340.

فاجتمع به الشريفُ أبو الحسن محمد بن عمر، فأغلظ له، وقال: يا نحرير، قد أسرفت في الدالَّةِ وسُمْتَ بنفسك ما لا تساويه، ومن أنت حتى تمتنع على هذا الملك العظيم هذا الامتناع؟ ! ولكن قد أبطرَتْكَ الأموالُ التي أخذتَها، والذخائرُ التي أعددتَها. ونحريرٌ مُطرقٌ، فلمَّا زاد عليه رفع رأسَه وقال: أيها الشريف، أين كان قولُكَ هذا في أيام مولاي؟ وأنت ترى أفضلَ أيامك إذا تبسَّمتُ في وجهكَ، وقد كنتَ تغشاني ولا أغشاكَ، وتخدُمُني ولا أخدُمُكَ، وتحتاجُ إليَّ ولا أحتاجُ إليك! . وكان حسينٌ الفرَّاش عدوَّ النحرير، فما زال يتخرَّص عليه عند بهاء الدولة، حتى قال: قد عزمَ على أخْذِ أموالهِ وذخائرِه ويهرب، وإن اعتقلتَه في غير داري شغَبَ الجندُ وقامت فتنة، فأمره باعتقاله في داره، فحبسه في عُلِّيَّة، ثم أدخل عليه أُناسًا فقتلوه، وبلغ بهاءَ الدولة، فقامت عليه القيامة، واستدعاه وقال: ويحك! ما هذا؟ قال: دخل عليه أعداءٌ له فقتلوه، ولم أعلم. فوَجَم بهاءُ الدولة، وبحث عن القصة، فلم يجِدْ لها أصلًا، فاعتقل حُسينًا الفَّراشَ مدةً، ثم أطلقه، ثم قُتِلَ بعد ذلك. وفيها ورد فخر الدولة هَمَذان طالبًا لملك العراق، ووقعت المراسلة بينه وبين بهاء الدولة، واقتتلوا أيامًا، وقُتِلَ من الفريقين خلقٌ كثيرٌ، وكان التُّرك أقوى من الدَّيلم، وكان الفريقان في الخيام بظاهر البلد، فركب بهاء الدولة ليُصلح بينهم، فلم يلتفتوا، فنزل في خيام التُّرك؛ لأنهم كانوا أظهر، ثم ما زال حتى أصلح بينهم، فتحالفوا، ومع هذا فكانت نفوس التُّرك أقوى؛ لأن بهاء الدولة كان في حَيِّزهم، ثم تسلَّل الدَّيلم بعد هذه الوقعة؛ بعضهم إلى الموصل، وبعضهم إلى هَمَذان، وبعضهم إلى الأهواز، وضَعُفُ أمرُهم، وصارت الدولة للأتراك، واشتدَّت شوكتُهم]. وفيها نزل صَمْصام الدولة من القلعة التي كان بها محبوسًا، [هو وأبو طاهر، وأقاما مدَّة مُعتَقَلَين، ولم يعلَمْ كلُّ واحدٍ منهما بصاحبه، وذلك أنه لمَّا شاع موت شرف الدولة كان صَمْصام الدولة وأخوه أبو طاهر وجماعة من أعيان الدَّيلم بها، فنزلوا وحصلوا (¬1) بسِيراف، واجتمع الدَّيلم على تمليك صَمْصام الدولة وأبي طاهر، وأظهروا طاعتهما، وساروا فملكوا فارش، وكان شرف الدولة قد بعث نائبه أبا علي وحُرَمَه إليها وأمواله، ¬

_ (¬1) في (ب): وخلصوا. والمثبت من (خ)، والمعنى: أقاموا، وهي من تعبيرات ذلك العصر.

فسبقوه إلى شيراز، واتَّفق موتُ أبي طاهر، فغلب على الأمر أبو نصر فولاذ، واستبدَّ به. وفيها سار فخر الدولة أبو الحسن بن ركن الدولة من هَمَذان طالبًا خوزستان، وكان السبب فيه أنَّ الصاحب بن عبَّاد كان يحب بغداد، ويؤثر (¬1) الرياسة فيها، فلمَّا مات شرفُ الدولة تحرَّك ما كان في نفسه، وظنَّ أنه يظفر بالفرصة، فوضع على فخر الدولة من يُعظِّم عنده ممالك العراق، ويُطمِعُه بأموالها، وكان الصاحب إذا سمع في ذلك قولًا لم يُصرِّح به، بل يُعَرِّض، وكان يؤثر أن يكون البادئ به فخر الدولة، لئلا يلزمه فيه تبعة، أو تتَّجه عليه المطالبة بنفقات ومؤونة، إلى أن قال له فخر الدولة: ما يرى الصاحب فيما نحن فيه؟ فصرَّح وقال: ما يذكر من جلالة تلك الممالك مشتهر، والخطب فيه متيسِّر، والخزائن وافرة، والعساكر كثيرة، فعمل على قصد العراق، وسار إلى هَمَذان، واستدعى الأموال، ووافاه بدر بن حسنويه، وأقام يُفكر، فرأى مسيرَ الصاحبِ وابنِ حسنويه إلى بغداد على طريق الجادة، ويسير هو إلى الأهواز، ورحل الصاحب مرحلةً فقيل لفخر الدولة: إن من الغلط مفارقةَ الصاحب لك؛ لأنَّك لا تأمن أن يَستميله أولادُ عضد الدولة، فيميلُ إليهم. فبعث في وقته، وردَّه إليه، وساروا جميعًا إلى الأهواز، ودخلوها وفيها جماعة من الدَّيلم والتُّرك، فاستشرفوا إلى ما يكون من عطائه، فلم يفعل ما كان في نفوسهم، ولا ما كانت به الآمال متعلقة، وورد في تلك السنة من الزيادة ما لم تَجْرِ به العادة، ثم دخل الماءُ العسكرَ، فأخذَ بعض الخيم، ولم يكن فخر الدولة وعسكرُه يعرفون المدود، ولا شاهدوا مثل دِجْلَة، فعَظُم في أعينهم ما رَأَوه، وخافوا وقالوا: إنما جاء بنا الصاحب إلى هذه البلاد ليُهلِكَنا، ونفرت قلوبُهم، وكان لبهاء الدولة بالأهواز عسكرٌ خمسةُ آلاف، مع رجل يُقال له: أبو جعفر، فجهَّز إليه فخر الدولة جماعة من أصحابه، وكان فخر الدولة قد مدَّ يده إلى الإقطاعات بالأهواز، وأخاف أهلَها، فاجتمعوا كلُّهم إلى أبي جعفر، ولمَّا جاءهم عسكرُ فخر الدولة اتَّفق أن زاد المَدُّ، ولم يعرفوا القتال في تلك الأرض، فهزمهم أبو جعفر، وأسر جماعة منهم، ورجع فَلُّهم إلى عسكر فخر الدولة، فقال ¬

_ (¬1) في الأصل (خ): يوافر، والمثبت من (ب).

للصاحب: ما هذا؟ فقال: هذه البلاد تحتاج إلى بذل الأموال، وأنا ضامنٌ لك أني أردُّ عليك في سنة خمسة أضعافَ ما يخرج، فما ملك العراق هيِّن، فامتنع من إخراج المال، وكان شحيحًا، وضاق صدرًا بالمقام مع اضطراب الأمر عليه، وانصراف الناس عنه، فعاد إلى الريِّ في صفر سنة ثمانين، ولو أنفق الأموال لملك البلاد. وأمَّا بهاء الدولة فإنه لمَّا بلغه أن فخر الدولة بالأهواز انزعج وخاف، وندَبَ الحسين بن علي الفرَّاش بالخروج في هذا الوجه، والقيام فيه بتدبير الحرب، ولقَّبَه بالصاحب؛ مغايظةً للصاحب بن عبَّاد، وخلع عليه كما يخلع على الصاحب، وقاد بين يديه مراكبَ الذهب، ومشى بين يديه خمسُ مئة من قُوَّاد الدَّيلم، وجهَّز معه العساكر، وخرج بهاء الدولة لِوَداعه -وذلك في ذي القعدة- وسار مثل الملوك، إذ مدَّ السّماط (¬1) لتقوم الدَّيلم والتُّرك سماطَين، ويدور عليهم فنون الأطعمة، فإذا فرغ خرجت البُقَجُ فيها الخِلَعُ للقُوَّاد، وإذا جلس للشرب فعَلَ ما لم يفعَلْه ملِكٌ قبلَه، وكان قبل ذلك يشدُّ وسطَه ويكبس الدار، وكان الذي أشار بإخراجه في هذا الوجه أبو الحسين المعلم، ليُبعِده عن بهاء الدولة؛ لأنه فإن قد غلب عليه، فلمَّا حصَلَ بواسط وبعُد عنه، حُكيت له حكاياتٌ انفسخ (¬2) بها رأيُه فيه، وقالوا له: قد طمع في الملك. فأمر بالقبض عليه، وبعث إليه جماعةً فأدركوه بمَطَارة (¬3)، فقبضوا عليه، وقيَّدوه، وبعثوا به إلى بغداد، فأنزلوه في دار نحرير الخادم، فتقدَّم بهاء الدولة بإخراج لسانه من قفاه، ففعل به ذلك في دار نحرير ومات، فرُمي به في دِجلة، فكان بين الخَلْع عليه وقتلِه شهران وأيامٌ، ولمَا بلغ بهاءَ الدولة رجوعُ فخر الدولة سجد وباس الأرض، وقال: الحمد لله الذي لم يكن للحسين الفرَّاش فيه صنع. وفيها ملك أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا ناصر الدولة الموصل. ¬

_ (¬1) السِّماط: الصف. المعجم الوسيط (عط). (¬2) انفسخ: فسد. المعجم الوسيط (فسخ). (¬3) المَطَارة: قرية من قرى البصرة على ضفة دجلة والفرات. معجم البلدان 5/ 147.

ذكر السبب: كان شرفُ الدولة قد ولَّاها أبا نصر خواشاده، وكان أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين ببغداد لمَّا مات شرف الدولة، فأصعدا إلى الموصل، فنزلا بالدَّير الأعلى، وخرج إليها عوامُّ الموصل، وقاتلهم أبو نصر خواشاده فغلب العوامُّ، ونهبوا دُور الدَّيلم، وقتلوا منهم جماعةً، وانهزم الباقون إلى بغداد، وأقام إبراهيم والحسين بالموصل في نفَرٍ يسيرٍ من الحمدانية، وطالبهم الأعراب بالأرزاق، ولم يكن لهما مالٌ، فانحلَّ أمرُهما، وأقاما على ضعفٍ، وسنذكرهما إن شاء الله تعالى. وفيها قَبضَ بهاءُ الدولة على أبي الحسن محمد بن عمر (¬1) بن يحيى العلوي، وسببُه كثرةُ ماله، فإنه كان حاصلُه كل سنة من سقي الفرات ألفا ألف درهم وخمس مئة ألف درهم، وكان عضُدُ الدولة قد نكَبَه (¬2)، وأطلَقَه صَمْصام الدولة، فحسُنَ حالُه في أيام شرف الدولة، وكثُر مالُه، وكان يؤدي في كلِّ سنةٍ خراجَ ضياعه أربعة آلاف ألف درهم، وأخذ منه في هذه النكبة ألف ألف دينار، كان بعضُها في بيته، وبعضُها ودائعَ عند الناس، وادَّعى عليه شرفُ الدولة مُطالباتٍ وحسابًا في المعاملات، وأخذ منه [من] الخيل والبغال والمراكب والمتاع ما يساوي مئة ألف دينار، وأقام معتقلًا في دار المملكة. وفيها أسقط بهاءُ الدولة ما يُؤخذ من حقوق المراعي بالسَّواد وغيره. و[فيها] (¬3) وُلِدَ لبهاء الدولة ولدٌ سمَّاه بُوَيه، وكنَّاه أبا منصور. وفي آخر السنة تحدَّث الناس أنَّ امرأة من الجانب الشرقي من بغداد رأت في منامها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لها إنها تموت من غدٍ وقت العصر، وأنه صلَّى في مسجد بقطيعة أمِّ جعفر، ووضع كفَّه في حائطه موضع القبلة، فأصبح الناس فوجدوا أثر الكفِّ، وماتتِ المرأةُ وقت العصر، فعَمَر الشريفُ أبو أحمد الموسوي ذلك المسجد (¬4)، ¬

_ (¬1) تحرف اسم عمر في (م) و (م 1) إلى: منصور. (¬2) نكبَه: صادر ماله وحبسه. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬4) بعدها في (م) و (م 1) زيادة: بالقطيعة، ولا داعي لها.

محمد بن أحمد

وصار جامعًا يُصلِّي فيه الناسُ الجُمُعات، وأقام مدَّةً، ثم نسفَه الغرقُ، و [قد رأيتُ حيطانَه قائمةً، وهذه (¬1)] قطيعة أم جعفر عند مهد موسى بن جعفر، كانت محلَّةً عظيمةً [في بغداد] (¬2) سكنَها الزُّهَّادُ والعلماءُ؛ الإمام أحمد بن حنبل، وبشر الحافي، رحمة الله عليهما وغيرهما. [وقد ذكر قصة المرأة ابن الصابي والخطيب] (¬3). وفيها تُوفِّي محمد بن أحمد (¬4) ابن أبي طالب، أبو الفيَّاض [الكاتب] البغدادي أحدَّث عن البغوي وغيره، وروى عنه شيوخ الخطيب، وتوفي] ببغداد يوم الأربعاء التاسع عشر من ربيع الآخر [في هذه السنة]، وكان أبوه قد مات قبلَه بخمسة أيام، وماتت أمُّه بعده بيومين. محمد بن المظفَّر (¬5) ابن موسى بن عيسى، أبو الحسين البزَّاز البغدادي، الحافظ، المشهور، ولد سنة ست وثمانين ومئتين في المحرَّم، ورحل في طلب الحديث، وسمع الكثير، وتوفِّي ببغداد في جمادى عن نيِّفٍ وتسعين سنة. وقال الخطيب: كتبَ عنه الدارقطني ألفَ حديثٍ، وألفَ حديثٍ، وألفَ حديثٍ، يُعدِّد ذلك مرارًا، وكان يُعظِّمه ولا يستند بحضرته. وقال محمد بن أبي الفوارس: انتهى إليه علم الحديث مع الثقة والأمانة وحسن الحفظ والتقدمة عند الشيوخ. السنة الثمانون وثلاث مئة فيها كانت وقعةٌ بين باذ بن دُوسْتَك الكردي وبين ابني ناصر الدولة إبراهيم والحسين، وسبب ذلك أنَّه لمَّا طار ابنا ناصر الدولة إلى الموصل وهما ضعيفان من ¬

_ (¬1) في (م): وهي، والمثبت من (م 1). (¬2) هذه الزيادة من (م 1) وحدها. (¬3) تاريخ بغداد 1/ 110. (¬4) تاريخ بغداد 1/ 322. (¬5) تاريخ بغداد 3/ 262، والمنتظم 14/ 342.

الرجال والمال، طمِعَ فيها باذ، وكاتَبَ أهلَها، فأجابه بعضُهم، فحشد وجمع، وسارَ إليها في ستة آلافٍ من الأكراد، ونزل في الجانب الشرقي، وخافاه، فكتبا إلى بني عُقَيل، واستمالاهم بكلِّ ما قَدِرا عليه، فقال أبو الذَوَّاد محمد بن المسيِّب أمير بني عُقَيل: أُريد الجزيرةَ بأسرِها، وسمَّى [غيرها] (¬1)، فأجاباه إلى ذلك، وكتبا بجميع ما طلبَه ونصيبين في الجملة مع الجزيرة، فسار أبو الذَّوَّاد في ألفَي فارس من بني عُقيلَ، إلى بلدٍ في أعلى الموصل على سبعة فراسخ منها إلى الجانب الغربي، وعَبَروا دِجلَة إلى باذ وهو لايعلم، وكان مشغولًا بحرب ابنَي ناصر الدولة وأهل الموصل، فلما صار بنو عُقيل معه في أرضٍ واحدةٍ خاف أن يَعبُرَ إليه ابنا ناصر الدولة ويكبِسَه أبو الذَّوَّاد في بني عُقيل، فتحوَّل من مكانه إلى الجبال التي شرقيَّ دِجْلَة، وأدركه بنو عُقَيل، واختلط الناس، فتشاغل بعضهم بالرحيل، والباقون (¬2)، وقصَّرَ بباذٍ فرسُه، فأراد الانتقال من فرس إلى فرس، فحوَّل رِجْلَه من ركابٍ إلى ركاب، فلم يَلحقْ، فسقط لِثِقَل جسمهِ، فاندقَّتْ تَرْقُوتُه، وعرفَ بنو أُختهِ حديثَه وكبيرُهُم أبو علي الحسن بن مروان، فصاروا إليه وهو على الأرض، فقالوا: تحامَلْ واثبُتْ حتى تلحقَ بالجَبَل وتتخلَّص. -وكان معهم خمسُ مئة فارس- لا تُطمِعِ العرب، فقال لهم: لا فيَّ فضلٌ من مجدٍ ولأنفسكم. فساروا إلى الجبل، وبنو عُقيل في آثارهم، فَبَطحوا (¬3) منهم جماعة، وسَلِمَ بنو مروان وأكثرُ مَنْ كان معهم ولَحِقوا بالجبل، وقصدوا ديار بكر في لِحْفِ الجبل. فأمَّا أصحاب باذٍ فإنه قُتِلَ منهم وأُسِرَ عددٌ كثير، وانهزم الباقون منهوبين مسلوبين، وحُصِّل باذٌ في جملة القتلى وبه رمقٌ، فمرَّ به رجلٌ من بني حسان وهو لا يعرفه فَقَتَله وسلَبَه، ثم عَرفَه من بَعد، فَحَزَّ رأسَه وأخذه وعَبَر به الموصل وخبأه، وقال: من يشتري مني رأسَ باذ؟ وبلغ ابني حمدان، فأحضراه واشترياه منه بِقَرْيَةٍ ومالٍ عظيم، واستدلَّاه على جثَّته، فدلَّهما عليها، فحُملتِ وقُطِعت يدُه ورجلُه اليمنى، وأُنفِذَتا إلى بغداد فشُهِرتا. وصُلِب باقي جسده على باب دار الإمارة بالموصل، فثار العامَّة وقالوا: هذا رجل غازٍ، ولا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، والمراد أنه -يعني محمد بن المسيب- طلب منهم غير الجزيرة أيضًا. (¬2) هكذا في الأصلين (خ) و (ب)، ويبدو أن ثمة سقطًا فيهما؛ إذ المعنى لم يتمّ. (¬3) أي: ألقوهم على وجوههم. المعجم الوسيط (بطح).

يَحِلُّ المُثلة به. فحُنِّط (¬1) وكُفِّن، ودُفِنَ بعد أن صُلِّي عليه، وظهر من محبة العوام له شيءٌ كثير. وسار أبو علي بن مروان من فَوره إلى حصن كيفا، وكانت فيه زوجةُ باذٍ الديلميةُ، فقال لها: قد بعثني خالي في مُهِمٍّ. ففتَحَت له البابَ، فأعلَمها بهلاكه، وتزوَّجها، ورَتَّب أصحابَه فيها، ونزل ففتح الحصونَ حِصنًا حِصنًا، حتى رتَب أمورَ الحصون كلِّها، وسار إبراهيم والحسين ابنا ناصر الدولة إلى ديار بكر والرأسُ معهما، فوجدا ابنَ مروان قد أبرم أمور الحصون، فعدَلا إلى قتالِه، فهزمَهما، وأسر أبا عبد الله الحسين، ومضى أبو طاهر إلى آمِد، فأحسَنَ ابنُ مروان إلى الحسين وأكرمه وأطلقه، فصار إلى أخيه وأشار عليه بموادعة ابن مروان، والانكفاء عن ديار بكر إلى غيرها، ومصالحة ابن مروان، فامتنع أبو طاهر عليه، وأبي إلا محاربته، وجمع جمعًا عظيمًا من بني عُقيلٍ وغيرِهم، ثم سار إليه ومعه أخوه الحسين فقاتلاه فهزَمهما، وأسرَ الحسينَ ثانيًا، فأساء إليه وضيَّق عليه، وقال: ما رأيتَ إحساني إليك حتى عُدْتَ وقاتلتني؟ ! وأقام مدةً أسيرًا حتى كاتبه العزيز صاحبُ مصر فيه، فأطلقَه، فمضى إلى مصر، وولَّاه العزيز مدينة صورٍ (¬2) بالساحل، ومات هناك، وبقي له ولدٌ يكنى أبا محمدٍ، وهو من قُوّاد المغاربة. وأما أبو طاهر فإنه انهزم إلى نَصيبين، فوافى إليه أبو الذَّوّاد محمد بن المسيّب من أمراء بني عُقيل، فأسَرَه ومعه جماعةٌ، فضرب عُنقَ أبي طاهر صَبْرًا ومَن كان معه، وسارَ في بني عُقيلٍ، فملَكوا الموصلَ وأعمالها، وكاتب بهاء الدولة بإنفاذ والٍ من قِبَله، فبعث إليه أبا الحسن بن حمدويه. ومات أبو الذَّوَّاد في سنة خمس وثمانين وثلاث مئة. ¬

_ (¬1) المثبت من (خ)، والمعنى أنه وُضِعَ لجسده الحِناط: وهو كلُّ ما يُخلط من الطيب ويوضع لأكفان الموتى وأجسامهم؛ من مسك وكافور. . . وغير ذلك. ينظر المعجم الوسيط (حنط). (¬2) في الكامل 9/ 72 أنه ولاه على ولاية حلب.

وفي جمادى الأولى سار بهاءُ الدولة فنزل الزَّعفرانية يُريد شيراز، وسار إلى واسط، فأقام بها، ثم سار إلى البصرة، ووافاه [وفاة] (¬1) أخيه أبي طاهر فيروزشاه، وأنه مات بشيراز، فقعد للعزاء، وسار إلى الأهواز، وسيَّر أبا العلاء عبيدَ الله بن الفضل على مقدِّمته ومعه جمهور عسكره، فصار إلى أَرَّجان، ففتح القلعة بالجُنْبذ (¬2)، واستولى على ما فيها من العين (¬3) والجواهر والصِّياغات وغيرها، ووصل بهاءُ الدولة إلى أَرَّجان، وعرضَ ما كان في القلعة، فإذا هو ألف ألف دينار وثمانية آلاف ألف درهم، وأما الصِّياغات والجواهر فشيءٌ كثير، وشغَبَ الدَّيلم والتُّرك، وطلبوا الأرزاق، فأرضاهم، وسار أبو العلاء من أرَّجان إلى النُّوبَنْدَجان (¬4)، فهزمَ مَنْ فيها من عسكر صَمْصام الدولة، واستأمن إليه كثيرٌ من الدَّيلم، وانتشر أصحابُه في نواحي فارس، وسار أبو نصر فولاذُ بن ماناذر في عساكر صَمْصام الدولة المتكاثفة على المقدمة، فالتقى بأبي العلاء في ذي الحجة، فهزم أبا العلاء، وقتَلَ من الأتراك مَقتلة عظيمةً، وحمل رؤوسهم إلى شيراز إلى صَمْصام الدولة، وكان ذلك مُهِمًّا في ثَلْمِ عسكرِ بهاء الدولة، وراسل (¬5) فولاذ أبا العلاء وخَدَعه، وأطمَعَه (¬6) ثم كبَسَه بغتةً، فانهزمَ إلى أَرَّجان، وعرف صَمْصام الدولة، فسار من شيراز من ذي الحجة، وغَلَتِ الأسعارُ وضاقت المِيرة على بهاء الدولة، وشغَبَ الدَّيلم، وتردَّدتِ الرسائلُ بين بهاء الدولة وصَمَصام الدولة، على أن يكون لصَمْصام الدولة فارسُ وأرَّجانُ، ولبهاء الدولة خُوزستان من حَدِّ رامَهُرْمُز والبصرة والعراق، وعُقِدتِ العقودُ، وكُتبتْ نُسخُ الأيمان المعهودة، وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز، وورد أبو عبد الله الحسين بن علي بن عَبْدان ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) الجُنْبذ: قرية من قرى نيسابور، أو من بلاد فارس. معجم البلدان 2/ 168. (¬3) العَيْن: ما ضُرب نقدًا من الدنانير. المعجم الوسيط (عين). (¬4) في الأصلين (خ) و (ب) كُتبت خطأً: النُّوبنجان -من غير دال بين النون والجيم- والنُّوبَنْدَجان: مدينة من أرض فارس بينها وبين أرَّجان ستة وعشرون فرسخًا. معجم البلدان 5/ 307. (¬5) في (خ): وأرسل، والمثبت من (ب). (¬6) في (خ): وأطعمه، والمثبت من (ب).

حمزة بن أحمد

الحضْرة نائبًا عن صَمْصام الدولة فيما أقطعه بالعراق، وكانا قد شرطا في اليمين لكلِّ واحدٍ منهما إقطاعًا في بلد الآخر، واستنابَ بهاءُ الدولة في إقطاعه بفارس أبا سعيد بُندار بن الفَيرزان. وفيها قُلِّد أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوي نقابةَ الطّالبيِّين، والنظرَ في المظالم، وإمارةَ الحاجِّ، وكُتبَ عهدُه على جميع ذلك، واستُخلِفَ ولدُه المرتضى أبو القاسم والرضي أبو الحسن على النقابة، وخُلعِ عليهما من دار الخلافة (¬1). وفيها استولى العيَّارون على بغداد من الجانبين، وأقاموا القوَّاد من كلِّ محلَّةٍ، وكبسوا الدُّور، ونهبوا الأموال، وقتلوا وسَبَوا، ولم تتجاسر السلطنة عليهم، ثم غلبت عليهم السلطنة بعد ذلك، فسكنوا. و[فيها] (¬2) مات ابن كِلِّس وزير العزيز بمصر. وفيها تغيَّر بهاءُ الدولة على الطائع حتى نكَبه في السنة الآتية. و[فيها] (2) حجَّ بالناس أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبيد الله العلوي نيابةً عن الشريف أبي أحمد الموسوي. وفيها توفِّي حمزة بن أحمد ابن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -، أبو الحسن، العلوي، الدمشقي، كان جوادًا رئيسًا، يسكن باب الفراديس، ولمَّا قُرئ نسبُ المصريين على منبر دمشق استهزأَ بهم ونال منهم، وبلغهَم، فبعث [أبو الفرج] ابن كِلِّس [وزير مصر] فسيَّره إلى الإسكندرية، فمات بها (¬3). ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 14/ 344. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق، والخبر في الكامل 9/ 77 - 78. (¬3) الخبر في تاريخ ابن عساكر 15/ 188.

يعقوب بن يوسف

[وفيها تُوفِّي] يعقوب بن يوسف أبو الفرج بن كِلِّس، وزير العزيز صاحب مصر، كان يهوديًّا من أهل بغداد، فانتقل إلى الرَّملة، وصار سمسارًا للتجار، فانكسر عليه مالٌ، فهرب إلى مصر، فتاجر لكافور الأخشيدي، فرأى منه [كافور] فِطنةً ومعرفةً، فقال: لو كان مسلمًا لصلُح أن يكون وزيرًا. فأسلم يوم الجمعة بجامع مصر طمعًا في الوزارة، فقصده الوزير ابن حِنزابة، فهرب إلى المغرب، فاتَّصل بيهود كانوا مع المُعِزِّ، وخرج المُعِزُّ إلى مصر، وخرج معه، فلمَّا مات المُعِزُّ وقام ابنُه العزيز استوزَره [في] سنة خمس وستين وثلاث مئة، فقام بأمره كما يجب، وغلب على العزيز، وكان عالي الهِمَّة، عظيم الهيبة، ناصحًا لصاحبه (¬1). ذكر وفاته [قال ابن الصابئ]: كانت أمور العزيز مستقيمةً بتدبيره وحُسن نظره، فلمَّا اعتلَّ عِلَّة الوفاة ركب العزيز إليه عائدًا، فشاهده على حال الإياس، فغمَّه أمرُه، وقال: وددتُ أنّكَ تباع (¬2) فأشتريك [من الموت] بملكي، أو تُفتدى فأفديَكَ بولدي، فهل من حاجةٍ توصيني بها؟ فبكى وقبَّل يده وتركها على عينه، وقال: يا مولانا، أمَّا فيما يخصُّني فلا؛ لأنك أرعى لحقِّي من أن أسترعيَكَ إيَّاه، وأرأفُ على من أخلِّفُه من أن أوصيك به، ولكنني أنصح لك فيما يتعلق بدولتك. فقال: قُلْ يا يعقوب، فقولُكَ مسموع، ورأيُكَ مقبول. فقال: سالِمِ الرومَ ما سالموك، واقنَعْ من الحَمْدانية بالدَّعوة والسَّكَّة (¬3)، ولا تُبقِ على المفرج بن دَغْفل بن الجراح متى أمكنَتْكَ منه فرصةٌ. ثم توفي، فحضر العزيز جنازتَه، وصلَّى عليه وألحده بيده [في قبره، (¬4)، ودفنَه في قُبَّة من دار العزيز ¬

_ (¬1) ينظر السير 16/ 442. (¬2) في (م): تشترى، وفي (م) جاءت العبارة: لو أنك تُشترى، والمثبت من (خ) و (ب)، وهو الموافق لما في المنتظم 14/ 347، والكامل 9/ 77، والخبر فيهما، وكذلك هو في السير، والزيادة الآتية منه. (¬3) في (م) و (م): والخطبة. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

بناها لنفسه، وانصرفَ من مدفنهِ حزينًا لفقده، وأغلق الدواوين، وعطَّل الأعمال بعده أيامًا. واستخدم أبا عبد الله الموصلي كاتب إنشاءٍ مديدة، ثم صرفه وقلَّد عيسى بن نَسْطورس وكان نصرانيًّا من أقباط مصر [النصارى]، وفيه جَلادة، فضبط الأمورَ، وجمعَ الأموال، واستخدم النصارى في الدواوين، وصرف المسلمين، واستناب بالشام رجلًا يهوديًّا [يُعرف] بميشا بن إبراهيم بن القرار، فسلك مع اليهود ما سلكه عيسى مع النصارى، واستخدمهم بالأعمال، فاستولى النصارى على المسلمين بمصر، واليهود بالشام]، فكتب رجل من المسلمين رُقعةً، ودفعَها إلى امرأةٍ، وبذلَ لها مالًا، على أن تقف للعزيز في طريقه وتسلِّمها إلى يده، فأخَذتْها ووقفت للعزيز -وكانت له بغلة تُدعى "بطريقة"، إذا ركبها تدفَّقت به كالموج، ولا يلحَقُها أحدٌ- ووقفت المرأة في مضيق، فلما قَرُبَ منها رمَتْ بها إليه، فأخذها الرِّكابية (¬1) وأوصلوها إليه، وفيها: "يا مولانا، بالذي أعزَّ النصارى بعيسى بن نسطورس، واليهود بميشا [بن إبراهيم]، وأذلَّ المسلمين بِكَ، إلَّا نظرتَ في أمري " فلمَّا قرأها غضِبَ، وطلب المرأةَ، فلم يقدِرْ عليها (¬2)، ورجعَ إلى قصره، واستدعى قاضي قضاته أبا عبد الله محمد بن النعمان، وكان من خواصِّه، فأعطاه الرُّقعة [وقال: قف عليها]، فلما وقف عليها قال [له: ما ترى؟ فقال: ] مولانا أعرَفُ بوجه الرأي والتدبير. قال: لقد صدقتِ المرأةُ، ونبَّهتنا على ما كُنَّا فيه من الغلط. وقَبَضَ في الحال على عيسى، وبعث إلى الشام فقبض على ميشا، وأمر أن لا يُستخدم في دواوينه أحدٌ من أهل الذمة، واستخدم المسلمين، وحمل عيسى إلى الخزانة ثلاث مئة ألف دينار، واستشفع ببنت العزيز -وكان أبوها يُحبُّها- فردَّه إلى مكانه، وشرط عليه أن لا يستخدم نصرانيًّا ولا يهوديًّا [فقبل شرطه، واستقلَّ أمره]. ¬

_ (¬1) الرِّكابية: هم الذين يحملون السلاح حول الخليفة عند ركوبه في المواكب، ولهم زيٌّ خاصٌّ بهم. ينظر التعريف بمصطلحات صبح الأعشى ص 161. (¬2) في (م) و (م): فلم توجد.

السنة الحادية والثمانون وثلاث مئة

السنة الحادية والثمانون وثلاث مئة فيها في صفر تُوفِّي [القاضي] أبو محمد معروف [وسنذكره]، وقُبِضَ على الوزير أبي نصر سابور بالأهواز. وفيها قَدم بهاءُ الدولة [إلى] بغداد في جمادى الأولى، وخرج إلى الطائع فتلقَّاه من الشَّفيعي، وكانت الفتنُ ثائرةً فسكنت. وفيها هرب أبو النصر فولاذ بن ما ناذر من شيراز، وكان قد استفحل أمرُه، وزاد على حدِّ أصحاب الجيوش، وجعل اسمَه مقترنًا باسم صَمْصَام الدولة في المناشير وغيرها، فكتب: " [من (¬1)] صَمْصام الدولة وصاحبِ جيشه نجم الدولة أبي نصر". وكان صَمْصام الدولة لا يُخالفه في شيء، وكان بينه وبين أبي القاسم بن العلاء الكاتب مودةٌ، ثم استحالت عداوةً، فعزم أبو نصر على قبضه، وقال لصمْصَام الدولة: لابُدَّ من القبض على أبي العلاء ونَكْبته. فأجابه إلى ذلك، ودخل أبو العلاء دار الإمارة، وجاء فولاذ، فقام إليه وسلَّم عليه، فأخذ بيده فولاذ وماشاه وحادَثَه، ثم وقف على باب بيتٍ، فدفع في صدر أبي العلاء حتَّى أدخله البيت، وأغلقَ بابه، ووكَّل به أقوامًا، واشتغل فولاذ بالحديث مع الدَّيلم وفي أمورهم، وكان للبيت باب آخر قد سُمِّر، فعالجه حتَّى فتحه، ودخل على صَمْصام الدولة وقال له: قد قبضَ علي هذا الرجل، وغرضُه أن لا يترُكَ بين يديك أحدًا، فإذا فرغ من هذا قبض عليك، وغلب على الملك. قال: فما الرأي؟ قال: تقبضُ عليه الساعة إذا دخل عليك. قال: فأفْعَل. فأوقف بعضَ الحاشية في الدِّهليز، وأمرهم بقبضه. وكان عند صَمْصام الدولة نديمٌ يُقال له: الأرزُباني -يتجسَّس لفولاذ، فلمَّا دخل فولاذ من باب الدِّهليز أشار إليه أن لا يدخُلَ، فرجع وانصرف إلى داره، فخرج أبو العلاء إلى العسكر، وتهيَّأ للقبض على فولاذ، ورتب العسكر في الطرقات، وبلغَ فولاذ، فأخذَ ما قَدَر عليه وهربَ إلى طائفةٍ من الأكراد، فأقام عندهم، واستولى أبو العلاء على الأمر، وبعث إلى الأكراد وخوَّفهم، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من (ب) وحدها.

فنهبوه، وأفلتَ وحده ومضى إلى الريِّ، وأقام عند فخر الدولة، وتبيَّن لصَمْصام الدولة فِعْلُ الأرزُباني، فألقاه تحت أرجل الفِيلة فقتلته. وفي يوم الاثنين السابع من شعبان جلس الطائع، ووصل إليه الوزير أبو القاسم وخواصُّ بهاء الدولة، وعرَّفوه ما تقرَّر من الصلح بين (¬1) صَمْصام الدولة، وسألوه الجلوسَ وحضورَ بهاء الدولة وأصحابَ صَمْصام الدولة ليُقَرَّ الاتفاق بين يديه، فأجابهما إلى ذلك. وفي يوم السبت التاسع عشر من شعبان قُبض على الطائعِ في دارِه ومن مجلسِه، وله أسباب: أحدها: أنَّ بهاء الدولة أراد أن يولِّي خليفة من قِبَلهِ وطوعِ يده، ولم يُظْهِر للطائع شيئًا من ذلك. والثاني: أنَّ بهاء الدولة مات له ولدٌ، فما ذهب الطائع إليه ولا عزَّاه. والثالث: مكاتبةُ مهذَّب الدولة -صاحب البطائح- إليه بسبب القادر، وكان بهاء الدولة قد صاهر المُهذَّب، ويقترض كلَّ وقتٍ منه المال. والرابع: شَرَهُ بهاء الدولة إلى ما كان في يد الطائع من الأقطاع وما في داره من الجواهر والأموال. قال هلال بن الصابئ: كان أبو الحسن المعلم قد كثَّر عند بهاء الدولة مال الطائع وذخائرَهُ، وأطمَعَه أن يملأ منه خزائنَه، فراسل بهاءُ الدولة الطائع في الجلوس، ليقرِّر ما جرى بينه وبين صَمْصام الدولة، فجلس وركب بهاءُ الدولة في الجيش، وجلس الطائعُ في مجلسه في صحن السلام على سريره وأبَّهة الخلافة وهو مُتقلّدٌ سيفًا، فلمَّا قَرُبَ بهاءُ الدولة قَبَّل الأرض -على عادته- وجلس على كرسيٍّ، وأُحضِر رسولُ صَمْصام الدولة، وقرأ أبو الحسن المعلم كتابَ الاتفاق، وقال: هاتوا دَواة أمير المؤمنين. فقُرِّبت الدواةُ، واستمدَّ أبو الحسن وناولَ القلمَ للطائع، فتقدَّم أبو شجاع بِكِرانٍ (¬2) -وقيل: تقدم اثنان من الديلم- فجذب الطائعَ من السرير بحمائل سيفه، فصاح به الطائعُ صياحَ مُنكرٍ لفعله، وتكاثرَ عليه الدَّيلمُ، فلفُّوه في كساءٍ، وحملوه إلى بعض الزَّبازِب (¬3)، وأصعدوا به إلى خزانةٍ في دار ¬

_ (¬1) هكذا في (خ) -وهي النسخة الوحيدة لذكر الخبر- والأَولى أن تكون: "مع". (¬2) الكِران: العود، أو الصنج. الصحاح (كرن). (¬3) الزَّبازِب السفن الصغيرة. وقد تقدمت مرارًا.

المملكة، واختلط الناس، وظنَّ مُعْظَمُهم أنَّ القبض على بهاء الدولة، فقُدِّم إليه في الوقت دابةٌ ليركبها، فلمَّا رآه الأولياءُ سكتوا، ووقع النَّهبُ، فأُخِذَتْ ثيابُ مَنْ حضرَ من القُضاة والأشراف والشهود والعلماء والكتَّاب، وقُبِضَ على أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان، واحتيط على الحجر وعلى الخزائن والخدم والحواشي، وحُرِسَتْ زوجةُ الطائع من النَّهب، وانصرفَ بهاءُ الدولة إلى داره، وأُظْهِرَ أمرُ أبي العباس أحمد القادر، وكُتِبَ عن الطائع كتابٌ بِخَلْعِ نفسِه وتسليمِه الأمرَ إلى القادر، وشهد عليه فيه الشريفُ أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوي، وأبو محمد بن عمر بن يحيى العلوي، وأبو القاسم بن أبي تمام الزينبي، وأبو الحسن (¬1) بن معروف القاضي، وآخرون، فكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر. وقيل: وثمانية أشهر وخمسة أيام، وأمه أم ولد، يقال لها: عتب (¬2)، وكان نقش خاتمه الَّذي في يده: الطائع لله، ونقش الخاتم الَّذي يختم به الكتب: محمدٌ رسول الله. وبعثَ بهاءُ الدولة بكتاب الخَلْعِ إلى القادر وهو بالبَطيحة، بمكانٍ يُقال له: الصَّليق، وحثَّه على المبادرة إلى بغداد، وبعث مع الكتاب بأُذن الطائع جَدَعَها -وقيل: بأنفه أيضًا، وقيل: الَّذي جَدَعَ أنفَه القادرُ جَدعًا يسيرًا رأسَ الأرنبة- وأُقيمت الخطبة في رمضان للقادر، وحُوِّل جميعُ ما كان في دار الخليفة؛ من المال والثياب والأواني والصِّياغات والفُرُش والآلات والعُدَد والسلاح والجواهر والخدم والدوابِّ والبغال وجميع ما فيها، حتَّى الرصاص والرخام والسياج، ووجدوا في الخزائن رؤوس جماعة من الخوارج في أسفاط (¬3)، فَرُمِيَتْ في دِجْلَة، إلا رأس علي بن محمد صاحب الزَّنْج، فإنَّ الرضيَّ أبا الحسن أخذه وحمله إلى داره. فطاف بهاء الدولة الدار مجلسًا مجلسًا، فانتخب (¬4) الخاصة والعامة، فدخلوها وشعَّثوا (¬5) بنيتها، وقلعوا بعض أبوابها وشبابيكها، وفعلوا بها كلَّ قبيح. ¬

_ (¬1) في (خ) الحسين. والمثبت من (ب) هو الصواب. (¬2) هكذا وقع اسمها في تاريخ بغداد 11/ 79، والكامل 9/ 80. (¬3) الأسفاط جمع سفط: وهو الَّذي يعبأ فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء. اللسان (سفط). (¬4) في (خ): فانتهب، والمثبت من (ب)، وهو الموافق لما في المنتظم 14/ 349، والخبر فيه بمعناه. (¬5) شعَّثوا: فرَّقوا. المعجم الوسيط (شعث).

وأمَّا مُهذّب الدولة أبو الحسن علي بن نصر صاحب البَطِيحة فإنه جهَّزَ القادرَ جَهازَ مِثْلِه، وحمل إليه من المال والثياب والفُرُش والآلات شيئًا كثيرًا، وأعطاه طيارًا كان بناه لنفسه، وشيَّعه وعاد، وقال أبو القاسم هبة الله بن عيسى كاتب مُهذِّب الدولة: لمَّا ورد القادر إلى عندنا إلى البَطِيحة كُنْتُ أغشاه في بعض الأوقات، يُدنيني منه، ويُباسطني، وكنتُ أجتهد في تقبيل يده فلا يُمكِّنني، فلمَّا كان في بعض الأيام دخلتُ عليه فوجدتُه باهتًا ساهيًا، ولم أرَ منه من الإكرام ما أعهَدُه، ورُمْتُ تقبيلَ يده فمدَّها إليَّ فقبَّلتُها، وشاهدتُ من أمره خلافَ ما كُنْتُ أعهَدُ، فقلت: أتوذِنُ في الكلام؟ قال: قل. قلت: أرى اليوم فيك من الانقباض عني ما قد أوحشني، فإن كان ذلك لِزَلَّةٍ مني فمن حُكْمِ التفضُّلِ إشعاري بما بدا مني، لأطلب للعذر مخرجًا. فقال: ليس الأمر على ما ظننتَ، ولكن اسمَعْ، رأيتُ البارحةَ في منامي كأن هذا -وأومأ إلى نهر الصَّليق- قد اتَّسع حتَّى صار مثل عرض دِجْلةَ دفعاتٍ، وأنا مُتعجِّبٌ، فمشيتُ على جانبه متَأمِّلًا أمرَه ومُطْرِقًا (¬1) لعِظَمِه، وإذا بقواعد قنطرة عظيمة، فقلت في نفسي: تُرى مَن قد حدَّث نفسَه بعمل قنطرةٍ على مثل هذا البحر الكبير، وصعِدْتُ عليها، وإذا بها وثيقةٌ محكمة، ومددتُ عيني، وإذا بإزائه مثله، فبينا أنا واقف وإذا بشخص من ذلك الجانب، فناداني: يا أحمد، تريد أن تعبر؟ قلت: نعم، فمدَّ يده حتَّى وصلت إليَّ، وأخذني فعبرني، فهالني، فقلت له: بالله من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، وهذا الأمر صائرٌ إليك، ويطولُ عمرك فيه، فأحسِنْ إلى ولدي وشيعتي. قال: فما انتهى القادرُ إلى هذا المكان حتَّى سمِعْنا صياحَ ملَّاحين (¬2) وضجيجَ ناس، فقلت: ما هذا؟ وإذا برسل بهاء الدولة، وفيهم أبو علي الحسن بن محمد بن نصر، وقد وردوا ليأخذوه إلى دار الخلافة، وإذا معهم قطعةٌ من أُذن الطائع، فقبَّلتُ يدَه ورجلَه، وخاطبتُه بإمرة المؤمنين، وبايعتُه، وكان من إصعاده وإصعادي معه ما كان. وكتب القادر إلى بهاء الدولة بعد البسملة: من عبد الله أحمد الإمام القادر بالله أمير المؤمنين إلى بهاء الدولة ¬

_ (¬1) في المنتظم: ومستظرفًا. (¬2) المثبت من (ب)، وهو الموافق لما في الكامل 9/ 81، ووقع في (خ): ملَّاكين، وفي المنتظم 14/ 350: الفلاحين، وما أثبتُّه هو الأولى بسياق الكلام، والملَّاح: هو السفان الَّذي يوجِّه السفينة. المعجم الوسيط (ملح).

وضياء المِلَّة، أبي نصر بن عضد الدولة وتاجِ الملَّة مولى أمير المؤمنين، سلامٌ عليك، فإنَّ أمير المؤمنين يحمد إليك اللهَ الَّذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يُصلِّي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، أما بعد: أطال الله بقاءَكَ، وأدام عزَّتَك وتأييدَكَ، وأَحْسَن إمتاع أمير المؤمنين بك وعندكَ، فإنَّ كتابَكَ وردَ باجتماع المسلمين قبلكَ، والخاصِّ والعامِّ على خَلْعِ العاصي -الملقَّب بالطائع- عن الإمامة، ونَزْعِه من منصب الخلافة؛ لبوائقه المستمرة، وسوءِ نِيَّتهِ المدخولة، وإشهادِه على نفسه بنكولِه وعجزِه، وإبرائه الكافَّة من بيعتِه، وخروجهم من عقدِه وذمَّتِه، وأنَّ الجماعة بايعوا أمير المؤمنين باتفاقٍ منهم وانشراحٍ من صدورهم، وقمتَ في ذلك بغضبكَ للهِ ولأميرِ المؤمنين، حتَّى ناديتَ بشعارِه في الآفاق، وأقمتَ له الدعوة في الأقطار، ورفعتَ من الحقِّ ما كان العاصي خَفَضَه، وأقمتَ من عماد الدين ما كان المخلوعُ رفَضَه، ووقف أميرُ المؤمنين على ذلك كلِّه، وأحاط علمًا بجميعِه، ووجدك -أدام اللهُ تأييدَك- قد انفردتَ بهذه المأثُرة، واستحققتَ بها من الله جليلَ الأثَرة، ومن أمير المؤمنين أسنى المنازل، وأعلى المرتبة، وكانت هذه المنزلة عليك موقوفة، كما كانتِ الظنونُ إليك مصروفة، حتَّى فُزْتَ بما يبقى لك في الدنيا ذِكرُه وفخرُه، وفي الآخرة ثوابُه وأجرُه، فأحسنَ الله عن هذه الأفعال مكافأتَكَ، وأجزَل عاجلًا مجازاتَكَ، وشَمِلَكَ من توفيقه وتسديده ومعونته وتأييده بما يُديم نصر أمير المؤمنين، وظفره على يدك، وجعلك أبدًا مخصوصًا بفضل السابقة في ولائِه، ومتوحدًا بتقديم القِدَم في أصفيائِه، فقد أصبحتَ سيفَ أمير المؤمنين المُبيرِ لأعدائِه، والحاظي دون غيرِكَ بجميل رأيه، والمُستبدَّ بحمايةِ حَوْزته، ورعاية رعيَّتِه، والسفارة بينه وبين ودائع الله عنده من بريَّتهِ، وقد برزَتْ رايةُ أمير المؤمنين عن الصَّليق متوَجِّهةً نحو سريره الَّذي حرسْتَه، ومستقَرِّ عِزِّه الَّذي شيَّدْتَه، ودار مملكتِه التي أنتَ عِمادُها، ورَحى دولتِه التي أنتَ قطبُها. . وذكر كلامًا هذا معناه (¬1). ووصل القادر إلى دار الخلافة يوم الأحد ثاني عشر رمضان، وتلقَّاه بهاء الدولة ووجوه الأولياء، وأنشد المدائح، فمنها: [من الكامل] ¬

_ (¬1) هذا الكتاب في المنتظم 14/ 350 - 352.

الباب الخامس والعشرون في خلافة القادر بالله

شرفُ الخلافةِ يا بني العباسِ ... اليومَ جدَّده أبو العباسِ ذا الطَّودِ بقَّاهُ الزمانُ ذخيرةً ... من ذلكَ الجبلِ العظيمِ الرَّاسي من أبيات، وهي لأبي الحسن محمد بن أبي أحمد (¬1). وبعث إليه بهاءُ الدولة ببعض الفُرش والآلات التي أخذها من دار الخلافة، وكان مُقامُه بالبَطيحة منذُ حصَلَ بها إلى اليوم الَّذي خرج منها سنتين وأحد عشر شهرًا، ولمَّا دخل دارَ الخلافة وجدها خاويةً على عروشها خرابًا، فساءه ذلك، ولم يبقَ بها سقفٌ يأوي إليه. الباب الخامس والعشرون في خلافة القادر بالله [وفيها كانت خلافة القادر بالله، واسمه] أحمد بن إسحاق بن المُقتَدِر، ويكنى أبا العباس، وهو ابن عمِّ الطائع، وأمُّه أم ولد يقال لها: تُمنى -وقيل: قطر الندى، وقيل: غزال- مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وكانت من أهل الخير والصدقات، ومولده يوم الثلاثاء تاسع ربيع الأول، سنة ست وثلاثين [وثلاث مئة]، وكانت بيعتُه بالخلافة في رمضان [من] هذه السنة [على ما جرت العادة] وحلف له بهاء الدولة، وكان القادر بالله أبيضَ، حسنَ الوجه، كذ اللحية، قد وخَطَه (¬3) الشيب، وكان يخضِبُ، وسُلِّم إليه الطائع فحبسه، فعاش محبوسًا إلى سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة. وقيل: إنما سُلِّم إليه في سنة اثنتين وثمانين [وثلاث مئة]، وسنذكره إن شاء الله. واستكتَب له بهاءُ الدولة أبا الفضل محمد بن أحمد عارض الدَّيلم، وجَعَل أستاذَ الدار عبدَ الواحد بن الحسين الشيرازي، وخُطب للقادر وبهاء الدولة على المنابر، وأضاف (¬4) إلى ألقابه: غياث (¬5) الأمة، ونقل بهاء الدولة أختَه زوجةَ الطائع إلى دار بمَشْرَعة الصخر، وأقام لها بما تحتاج إليه، وأقطعها إقطاعًا إلى أن توفِّيت. ¬

_ (¬1) هو الشريف الرضي، والأبيات في ديوانه 1/ 546 - 548. وينظر هذا الكلام وما بعده في المنتظم 14/ 353 في بعدها. (2) المثبت من (م) و (م 1)، وجاء بدلًا منه في (خ) و (ب): . قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا ورد هذا الهامش هنا ولم نتبينه (¬3) وخَطَه الشيب: فشا فيه. المعجم الوسيط (وخطَ). (¬4) يعني القادر إلى ألقاب بهاء الدولة. (¬5) في (خ) و (ب) أصناف، والمثبت من (م) و (م 1).

وصودر أبو الحسن [علي بن عبد العزيز] ابن حاجب النعمان وجماعة من أصحاب الطائع على مال. [ذِكْرُ ما يتعلَّق بحوادث الشام ذكره هلال بن الصابئ وغيره]: وفيها قُتِل بَكْجُور [التركي]، ومات سعد الدولة بن سيف الدولة بحلب، وجهَّز العزيزُ العساكرَ إلى الشام، وكان سعد الدولة لمَّا مات قد استأمَنَ إلى العزيز جماعةٌ من أصحابه، منهم: وفيٌّ الصَّقلَبي في ثلاث مئة غلام، وبشارة الإخشيذي في أربع مئة غلام، ورباح السَّيفي، وآخرون، فقبلهم العزيزُ وأحسن إليهم، وولَّى بشارةَ طبرية، ووفيًا عكا، ورباحًا غزَّةَ، وكان بَكْجُور لمَّا قُتِلَ هرب كاتبُه علي بن الحسين المغربي إلى مشهد الكوفة على البريَّة، وتوصَّل حتَّى وصل إلى مصر، واجتمع بالعزيز، وعظَّم أمرَ حلب عنده وكثَّرَها، وهَوَّنَ عليه حصونَها، فتشوَّفَت نفسُه إلى ذلك، وكان له غلامان -أحدهما يسمَّى منجوتكين والآخر بازتَكين- أمردان مُشتدَّان، فأشار عليه المغربي بإنفاذ أحدهما لينقاد له غلمان سعد الدولة، فانفذ مَنجوتَكين وقدَّمه على العساكر، وموَّله وخوَّله، وولَّاه الشام، واستكتَب له أحمد بن محمد النُّشوري، وضمَّ إليه أبا الحسن المغربي، ليقوم بالأمر والتدبير، وشيَّعه العزيزُ بنفسه، ووصل إلى دمشق، وتلقَّاه أهلُها والقُوَّادُ، وعساكرُ الشام والقبائلُ، فأقام بها مدة، ورحل طالبًا لحلب في ثلاثين ألفًا من أصناف الرجال، وكان بها أبو الفضائل ابن سعد الدولة ولؤلؤ، فأغلقا أبوابَها، واستظهرا غايةَ الاستظهار، وكان لؤلؤٌ لمَّا قَدِم عسكرُ مصر إلى الشام كاتب بسيل عظيم الروم، ومتَّ (¬1) إليه بما كان بينه وبين سعد الدولة من المعاهدة والمعاقدة، وأهدى له هدايا كثيرةً وألطافًا، وسأله المعونة (¬2) والنُّصرة، وأنفذَ بالكتاب والهدايا مع ملكونا السرياني، فوجد ملكَ الروم يقاتل ملكَ البُلغَر (¬3)، فقَبِل الهدية، ¬

_ (¬1) في (خ): بتَّ، والمثبت من (ب). (¬2) في (خ): المغفرة، والمثبت من (ب). (¬3) في (خ): البرغل، والمثبت من (ب).

وكتب إلى البرجيِّ نائبه بأنطاكية أن يسير بالعساكر إلى حلب، [ويدفع المغاربة، فسار البرجيُّ في خمسين ألفًا، ونزل جسر الحديد بين أنطاكية وحلب] (¬1)، فاستشار مَنْجوتَكين المغربيَّ والقُوَّادَ في ذلك، فأشاروا بالانصرافِ عن حلب، وقصْدِ الروم والابتداءِ بهم؛ لئلَّا يحصلوا بين عَدُوَّين، فساروا حتَّى نزلوا تحت حصن أعزاز، وقاربوا الروم، وبينهم النهر المعروف بالمقلوب، فلمَّا بصُر المسلمون بالروم رمَوهم بالنُّشَّاب، وبينهم النهر، ولم يكن لأحد الفريقين سبيلٌ إلى العبور؛ لكثرة الماء [وكان مَنْجوتَكين قد حفظ المواضع التي يَقلُّ الماء، فيها، وأقام جماعةً يمنعون أصحابه من العبور إلى وقت يختاره المُنجِّم، فخرج من الدَّيلم الذين كانوا في صحبة مَنْجوتَكين شيخٌ كبير، بيده تُرس وثلاث زُوبينات (¬2)، فوقف على جانب النهر، وبإزائه قومٌ من الروم، فرمَوه بالنُّشَّاب وهو يسْبَح، حتَّى قطَعَ النهَر وصارَ على الأرض من ذلك الجانب، والماءُ في النهر إلى صدره، فرمى المسلمون بأنفسهم في الماء فرسانًا ورجَّالةً، ومَنْجوتَكين يمنعهم ولا يمتنعون، فصاروا مع الروم في أرضٍ واحدة، وأنزل الله نصره، فولَّى الروم، وأعطوا ظهورهم، وركبهم المسلمون فأثخنوهم قتلًا وأسرًا، وأفلت البرجيُّ في عددٍ يسيرٍ إلى أنطاكية، وغَنِم المسلمون عساكرَهم وأموالهم شيئًا لا يُعَدُّ ولا يُحصى، وكان معهم ألفان من عسكر حلب، فقتل مَنْجوتَكين منهم ثلاث مئة، وتبع مَنْجوتَكين الرومَ إلى أنطاكية، فأحرق ضياعها، ونهب رساتيقها (¬3)، وكرَّ راجعًا إلى حلب، وبعث إلى مصر بعشرة آلاف رأس من رؤوس القتلى، وأقام على حلب، وكان وقت الغلَّات، وعلم لؤلؤٌ أنَّه لم يبق له ناصرٌ، وقد أظلَّته عساكر مصر، وقد أشرف على التلف، فكاتب المغربي وابن النشوري وأرغبهما في المال، وبذل لهما ما وسع عليهما فيه، وسألهما أن يُشيرا على منجوتَكين بالانصراف عن حلب إلى دمشق، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي زيادة من (ب). (¬2) جمع زُوبين: وهو الرمح القصير، وقد تقدم. (¬3) الرساتيق، جمع رستاق: وهي القرية. المعجم الذهبي ص 296.

وأن يعود في العام المقبل، فخاطباه في ذلك، وصادف قولُهما شوقَه إلى دمشق ومنتزهاتها، وكان قد أضَرسَتْه (¬1) الحرب، فكتب هو والجماعة إلى العزيز يقولون: قد تعذَّرت المِيرةُ ولا طاقة للعساكر على المقام، ويستأذنونه في الرجوع إلى دمشق، فقَبْلَ أن يجيء جوابه رحلوا إلى دمشق، وعرف العزيز ذلك، فشقَّ (¬2) عليه رحيلُهم، ووجد أعداءُ المغربيِّ طريقًا إلى الطعن عليه، فصرفه (¬3)، وقلَّدَ الأمرَ صالح بن علي الرُّوذْباري، وأنفذه عِوَضَه، وحمل العزيز من غلَّات مصر ما أمكن في البحر إلى طرابلس، وحملت إلى فامية (¬4)، ورجع مَنجوتَكين إلى حلب في السنة الآتية، وبَنَوا الدُّورَ والحمامات والخاناتِ والأسواقَ، فاشتدَّ الحصار على لؤلؤ وأبي الفضائل، وعَدِموا الأقواتَ، فكاتبوا ملك الروم، وقالوا: متى أُخِذَتْ حلب أُخِذَتْ أنطاكية، ومتى أُخِذَتْ أنطاكية أُخِذَتْ قُسْطَنطينة، فلمَّا سمع هذا ملكُ الروم سارَ بنفسه في مئة ألف، وتبعه من كلِّ بلدٍ عسكرُه، ولمَّا قَرُبَ من البلاد أرسل لؤلؤٌ إلى مَنْجوتَكين يقول: إن عصمة الإسلام الجامعة بيني وبينك تدعوني إلى إنذارِكم والنُّصحِ لكم، وقد وافاكم بَسيل (¬5) بجنوده، فخُذوا لأنفسكم. وجاءت جواسيس مَنْجوتكين فأخبروه بمثل ذلك، فأحرق الخزائن والأسواق، وولَّى منهزمًا، وأشار عليه بأن يبعث الأثقال إلى دمشق، ويُقيم على مرج قِنَّسْرين (¬6)، فلم يلتفت، وسار إلى دمشق، ووصل بسيل إلى حلب، وشاهد موضع عسكر المغاربة، فهاله ذلك، وعَظُموا في عينيه. وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤٌ وخدماه، وسار في اليوم الثالث، فنزل على حصن شيزر (¬7)، وفيه منصور بن ¬

_ (¬1) يقال: حرب ضروس، أي شديدة مهلكة. المعجم الوسيط (ضرس) (¬2) في (خ) و (ب): فدق، وهو تحريف ظاهر، والتصويب من النجوم الزاهرة 4/ 120. (¬3) يعني أن العزيز صرف المغربي. (¬4) ويقال لها: أفامية: وهي مدينة أثرية تبعد عن حماة 60 كم في اتجاه الشمال الغربي والمعجم الجغرافي 1/ 118. (¬5) هو اسم ملك الروم. (¬6) قِنَّسرين: مدينة ملاصقة لحمص، وقد كانت هي وحمص شيئًا واحدًا. معجم البلدان 4/ 403. (¬7) شَيْزَر: قلعة بالقرب من معرة النعمان تبعد عن حماة مسيرة يوم. معجم البلدان 3/ 383.

كراديس أحد قُوَّاد المغاربة، فقاتله يومًا واحدًا، ثم طلب منه الأمان، فأمَّنه، فخرج بنفسه وأهَّلَ (¬1) به، وأعطاه بَسيلُ مالًا وثيابًا، ووفَّى له وسلَّمه إليه، فَرَتَّب فيه أحدَ ثقاته، ونازَلَ حمص ففتحها، وسبى منها ومِنْ رقبتها وأعمالها أكثرَ من عشرة آلاف نسمة، ثم نزل على طرابلس أربعين يومًا يقاتلها فلم يقدر على فتحها، فرحل عائدًا إلى الروم، وانتهت أخباره إلى العزيز، فنودي في الناس بالنَّفير وفتح الخزائن، وسار في جيوشه ومعه توابيت آبائه، فنزل إلى الشام على بانياس، فأخذه القُولنْجُ فمات في الحمام، وولي ابنُه الحاكم مكانَه، وذلك في سنة ست وثمانين وثلاث مئة ورجع الحاكم إلى قصره، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفي رمضان وردَت كتُبُ أهل الرَّحبة والرقَّة إلى بغداد باستدعاء من يسلِّمونها إليه، فندب لذلك خُمارتَكين الحفصي، فخرج في شوال ومعه خمس مئة رجل من الدَّيلم والتُّرك وجماعةٌ من العرب، وكان ابنُ وشاح في الرَّحبة، فدخلها خُمارتَكين وملكها، ثم سار إلى الرقة، وبها بدر السعدي، فاعتصم بالرافعة، وقاتل خُمارتَكين دفعاتٍ ودفعه عنها، فعاد إلى الرَّحبة على الظَّهر، وبعث بأثقاله في السفن، فاعترضه قومٌ من العرب بين الدالية وعانة (¬2)، فأسروه وأخذوا جميع ما كان معه على الظَّهر، وسلَّم ما كان في السفن، فابتاع منهم نفسَه بألف دينار، ودخل بغداد في ذي الحجَّة. وفيها بعثَ بهاءُ الدولة أبا جعفر الحجاج بن هُرْمُز إلى الموصل فدخلها، واجتمعت عليه بنو عُقيل وزعيمُهم أبو الذَّوَّاد محمد بن المسيِّب، وقاتلوه بظاهر البلد، وجرت بينه وبينهم وقائع، وكان يطرح كُرسيَّه وسط المصاف ويجلس عليه والحرب قائمة، وظهرت منه شجاعة عظيمة، وتوفي أبو الذَّوَّاد سنة خمس وثمانين، وعاد بنو عُقيل واجتمعوا عليه وأخرجوه من الموصل. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): وأهله، وهو خطأ، والتصويب من النجوم الزاهرة 4/ 121. (¬2) الدَّالية وعانة: مدينتان من مدن الفرات. معجم البلدان 2/ 433، 4/ 72.

وولي إمارة الحاجِّ أبو الحسين بن يحيى العلوي وقيل: اسمه محمد بن الحسن بن يحيى وكنيته أبو الحسن. ذكر خبر أبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي كان أميرَ مكة، وكان حسان بن المفرِّج بن الجرَّاح الطائي مقيمًا بالرَّملة، وعنده أبو القاسم بن المغربي، وكان مباينًا (¬1) لصاحب مصر، فحمله على أن عظَّمَ أبا الفتوح في عين حسَّان، وقال: هذا لا مطعَنَ في نسبه، والمصلحة أن تنصِّبَه إمامًا. فوافقه، وقدِمَ ابنُ المغربي مكةَ، فأطمع أبا الفتوح في الملك، وسهَّلَ عليه الأمر، فأصغى إليه، وبايعه شيوخُ الحسين، وحسَّن له ابنُ المغربي قَلْعَ قبلة البيت وأخْذَ ما فيه من الأموال، فأخذه وأنفقه في الجند، وسار به ابنُ المغربي إلى الشام، فنزل الرملة، والتقاه حسان والقبائل، فقبَّلوا الأرض بين يديه، وخاطبوه بأمير المؤمنين وهو راكب على فرس متقلِّدًا سيفًا زعم أنَّه ذو الفقار، وفي يده قضيبٌ زعم أنَّه قضيبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحولَه جماعة من بني عمه، وبين يديه ألفُ عبدٍ من السودان، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وكان قد خطب لنفسه في مكة، وتسمَّى بالراشد بالله، وبلغَ الحاكمَ بالله [هذا] (¬2)، فانزعج وكتب إلى حسانٍ فلاطفه، وبذل له مالًا [وهدايا] وجاريةً لم يكن بالشام مثلُها، وجهَّزها بمال عظيم، وبعث بالأموال إلى [آل] الجرَّاح، فرجعوا عن أبي الفتوح، وكتب الحاكم إلى مكة إلى بني عم أبي الفتوح بولاية الحرمين، وبعث إليهم بمالٍ، ولمَّا عَلِمَ أبو الفتوح سقطَ في يده، وركب إلى المفرِّج أبي حسان مستجيرًا به، وقال: إنما فارقتُ نعمتي، وأبديتُ لصاحب مصر صفحتي سكونًا (¬3) إلى ذمامكم، وأنا الآن خائفٌ من غدر حسان، فأبلغني مأمني، وسيِّرني إلى وطني. فردَّه إلى مكة، فوجد صاحبَ مصر قد ولَّى الحرمين الحسين ابن عمِّه، فأقام بجدَّة. ¬

_ (¬1) مباينًا: مغايرًا ومخالفًا. المعجم الوسيط (بين). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من (ب). (¬3) في (خ): شكوتم، والمثبت من (ب).

أحمد بن الحسين

وفيها تُوفِّي أحمد بن الحسين (¬1) ابن مِهْران، أبو بكر، المقرئ [من قرَّاء خراسان، و] سكن نيسابور، وسافر إلى الأمصار [وقرأ القرآن على أبي الحسن بن الأخرم بدمشق، وقرأ بخراسان على أبي بكر النقَّاش]، وسمع الحديث ورواه، [وصنف الكتب في القراءات]، وكان مستجاب الدعوة، وتوفي بنيسابور وله ست وثمانون سنة [حدَّث عن أبي بكر بن خُزيمة وغيره، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله، وذكره في "تاريخه" وأثنى عليه. قال: وفي ذلك اليوم] مات أبو الحسن العامري رئيس الفلاسفة. رأى بعضُ الثقات ابنَ مِهْران في الليلة التي مات فيها في المنام، وإذا بشخص قائم بإزائه. قال: فتأمَّلتُهُ، وإذا به العامري، فقلت لابن مِهْران: ما فعل الله بك؟ فقال: إنَّ الله جعل هذا الواقفَ بإزائي فدائي من النار. [وفيها توفِّي] أحمد بن محمد (¬2) ابن الفضل بن (¬3) جعفر بن محمد بن الجرَّاح، أبو بكر (¬4) الخزَّاز، كان دَيِّنًا فاضلًا، صاحب ثروةٍ، فارسًا شجاعًا [حكى الخطيب عن التنوخي] قال [أبو بكر]: كتبي بعشرة آلاف درهم، وجاريتي بمثلها، وسلاحي بمثلها، ودوابِّي (¬5) بمثلها، فمَنْ مثلي (¬6)؟ وكانت وفاته في جمادى الأولى (¬7) ببغداد، [وروى عن المُبَرِّد وابن الأنباري وغيرهما، وروى عنه التنوخي (¬8) وغيره]، وكان ثقة. ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 358، ومعجم الأدباء 3/ 12 - 15، واللباب في تهذيب الأنساب 3/ 272. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 81، ونشوار المحاضرة 4/ 40. (¬3) المثبت من (ب)، وفي باقي النسخ زيادة: أبو. (¬4) جاء بعدها في (خ) و (ب) زيادة: بن. (¬5) المثبت من (م)، وفي باقي النسخ: وداري. (¬6) ليس في تاريخ بغداد ولا في نشوار المحاضرة عبارة: فمن مثلي. (¬7) في تاريخ بغداد: جمادى الآخرة. (¬8) تحرفت في (م) إلى: البرقي.

بكجور التركي

بَكجُور التركي أبوالفوارس، وليَ إمرةَ دمشق من قبل صاحب مصر سنة ثلاث وسبعين وثلاث مئة، وولي حمص أيضًا قبل دمشق، وأقام بدمشق يجور ويظلم، ويجمع الأموال، ويصادر الناس، فشكاه أهلُها إلى صاحب مصر، فولَّى منيرًا الخادم على دمشق سنة ثمانٍ وسبعين، فلمَّا قَرُبَ منها خرج عليه بَكْجور قاصدًا حلبَ، فأقام بنواحيها، فقُتِل في هذة السنة بمكانٍ يقال له: النَّاعورة. وقال أبو إسحاق إبراهيم بن الخضر: كان لسعد الدولة غلامٌ يقال له بَكْجُور، فرفعه ونوَّه باسمه، وقدَّمه وولَّاه الرقة والرحبة، استكتب له أبا الحسن علي بن الحسين المغربي، فلمَّا تطاولت مُدَّتُه في ولايته كبُرَتْ حالُه، واستفحلَ أمرُه، وحدَّث نفسَه بالعصيان على مولاه، واستمال جماعةً من الموالي فصاروا إليه، وأخرج سِرَّه إلى ابن المغربي، فقال له: كاتبِ العزيزَ صاحبَ مصر وانْتَمِ إليه، فكاتبه، واستأذنه في قصد بابه، فأذِنَ له، فسار عن الرقَّة، واستخلفَ عليها سلامة الرَّشيقي، ولقيَتْهُ كتُبُ العزيز وخِلَعُه وعَهْدُهُ على دمشق، فنزلها، فتلقَّاه أصحابُها وخدموه، وانصرف الوالي الَّذي كان عليها وسلَّمها إليه، وكان شُبَّانُها وأحداثُها قد استولوا عليها، فقَتَل وصلَبَ جماعةً، فاستقام البلدُ، وقامَتْ له الهيبةُ، وتردَّدَتْ بينه وبين عيسى بن نَسْطورس مكاتباتٌ خاطبَه بَكْجُور فيها بوليه، فامتعضَ عيسى من ذلك، وطالبه بأن يكاتبه بعبده وصنيعته، فامتنع وفسدَ ما بينهما، وأسَرَّ عيسى له العداوةَ، وأخَّر حوائِجَه، وذكره بما لا يليق، فقطع بَكْجُور مكاتبتَه، وكتب إلى العزيز فنهاه عنه، وأمره بقضاء حوائج بَكْجُور، فوعَدَه بذلك وعدًا لم يَفِ به، وطال الأمرُ على بَكْجُور، وخاف من كيد عيسى، فاستمال طوائفَ من العرب وصاهرهم، وعاد إلى الرقة، فكتبَ إليه العزيز يعاتبه، فاعتذر اعتذارَ التلاطف، وكان لبَكجُور بحلب رفقاء يؤثرونه، فكاتبوه وأطمعوه في الأمر، وقالوا: إن سعد الدولة مشغول باللَّذات والجواري، فأقبِلْ إلينا. واغترَّ بقولهم، وكتب إلى العزيز يذكر له جلالة حلب ومَنَعتَها (¬1)، وأنها دِهْليز العراق، فإذا ¬

_ (¬1) في الأصل (ب): وفعلها، والمثبت من (خ).

حصلت كان ما بعدها أيسرَ، فأجابه إلى ما أراد، وكتب إلى نزَّال الغوري -وكان واليًا على طرابلس- يأمره بالمسير إليه أي وقت استدعاه، ولا يحتاج إلى استئمار، وكان نزَّال من أكابر قُوَّادِ المغاربة وصنائعِ عيسى النصراني وخواصِّه، فكتب إلى عيسى سرًّا بأن يتقاعد عن بَكجُور ويدافعه، فإذا تورط مع مولاه تأخَّر عنه وأسلَمَه، ولم يعلم بَكجُور، فسار عن الرَّقة يريد حلب لمحاربة مولاه، وكتب إلى نزَّال يقول: يكون وصولُنا إلى حلب جميعًا في اليوم الفلاني، فرحل نزَّال وتباطأ في مسيره، ثم سار بَكْجُور إلى حلب، وبيان سعد الدولة قد كاتب صاحبَ الروم، فتقدَّمَ صاحبُ الروم إلى البرجيِّ بأنطاكية: متى استدعاك فاذهب إليه. وجاء البرجيُّ فنزل مرج دابق على فرسخين من حلب، ووصل بَكْجُور إلى النَّقْرة ونزل بمكان يُعرف بالناعورة، وامتدَّ عسكره إلى تل أعْرَن (¬1)، ومنها إلى حلب أربعة فراسخ، وبرز سعد الدولة في غلمانه، وبيانوا خمس مئة فارس، وجاء الروم في ستة آلاف -وقيل في ستين ألفًا- ولم يختلطوا بالمسلمين، وبعث (¬2) سعد الدولة إلى بَكْجُور يستعطفه، فما ازداد إلَّا قساوةً، فزاده بلادًا ومالًا، فلم يلتفِتْ، وبيان سعد الدولة قد كاتب الأعراب الذين مع بَكْجُور ووعدَهم ومنَّاهم، وبيان بَكْجُور بخيلًا شديدًا، فمالت العرب على سواد بَكْجُور ونهبوه، واستأمنوا إلى سعد الدولة، ولمَّا رأى بَكْجُور غدرَ نزَّالٍ والعربِ به، وتقاعُدَ غِلْمانِ سعد الدولة الذين كاتبوه بالانحياز إليه إذا عاينوه، قال لأبي الحسن المغربي: كاتِبْه. فقال: ترجع إلى الرقة وتكاتب العزيز بما فعل نزَّال، فإنه يُنجِدُك. فقال له بعض قُوَّاده: كاتِبُكَ هذا يقول: الأقلام تُنكِّس الأعلام، فإذا حقَّتِ الحقائقُ أشار علينا بالهرب، لا واللهِ إلا الموت تحت ظلال السيوف. فقال بَكْجُور: هذا هو الرأي، ونموتُ كرامًا. وكان سعد الدولة قائمًا في القلب والرايةُ بيده، فعمل بَكْجُور على قصدِه دون غيرِه وقال: إمَّا وإمَّا، ثم جمع غِلمانَه وعرَّفهم ما يقصِدُه، فقالوا: افعَلْ ما تراه. ونَدَّ واحدٌ منهم إلى لؤلؤ الجراحي فاستأمن إليه، وعرَّفه الحال، فجاء لؤلؤٌ إلى سعد الدولة، فأخذ منه الراية، ووقف موضعه وقال: هَبْ لي مكانَكَ اليومَ، وقِفْ في مكاني، فإنَّ بَكْجُور قد يئس من نفسه ويريد كذا وكذا، وأنا أفديك بروحي. فأعطاه الراية، ووقف ¬

_ (¬1) تل أعْرَن: قرية كبيرة من نواحي حلب. معجم البلدان 2/ 39. (¬2) في (خ): فبلغ، والمثبت من (ب).

مكان لؤلؤ، وحمل بَكْجُور في أربع مئة غلام بالسيوف واللُّتوت (¬1)، وخيولُهم بالتجافيف (¬2)، حتَّى خلص إلى لؤلؤٍ وهو يظنُه سعدَ الدولة، فضربَه على الخوذة بالسيف فقدَّها، ووصل إلى رأسه، ووقع لؤلؤٌ إلى الأرض، وعُمِلَ القتال، وحملَ سعد الدولة بنفسه، فانهزم بَكْجُور في سبعة أنفس، واستولى القتلُ والأسرُ على الباقين، وجاء بَكْجُور إلى رحًى تُعرف بالقُديمي على فرسخ من حلب، فالتجأ إليها، ومرَّ بهم قومٌ من الأعراب فسلبوهم ثيابهم ودوابَّهم، ولم يعرفوا بَكْجُور، ومضوا، وبقي بَكْجُور ومن معه عُراةً، فلجؤوا إلى الرَّحى، واستجاروا بصاحبها، فأجارهم، ثم خرج بَكْجُور وغلامان من غلمانه فرمَوا نفوسَهم في زرع حنطة، فمرَّ بهم قومٌ من الأعراب فعدَلوا إليهم، وكان سعد الدولة قد نادى: من جاء ببَكْجُور فله ما يريد، ولمَّا [مرَّ] (¬3) بهم الأعراب رأى بَكْجُور منهم بدويًّا، فعرَفَه، وعرَّفه نفسَه، وقال: احملني إلى الرقة وأُعطيك وقْرَ (¬4) جَمَلِكَ ذهبًا. فحمله إلى بيته، وبلغه نداءُ سعد الدولة، فجاء إليه وقال: بَكْجُور عندي، وأريد منك مئتي ألف درهم، ومئتي فَدَّان، وكذا وكذا. فقال: كل ذلك عندي. وبعث معه جماعة فأحضروه، فاستشار لؤلؤًا سعدُ الدولة فيه، فقال: بقيَ غيرُ قتله! وإلَّا شفعَتْ فيه ستُّنا يعني -أخت سعد الدولة- وصار لنا شغلٌ مُجدَّد. فأمر بقتله، فحُمِلَ إلى الموضع المعروف بحصن الناعورة، فقتله ومن معه، وعلَّقهم بأرجلهم. وسار سعد الدولة مِنْ فَوره إلى الرقة -وفيها سلامة الرَّشيقي وأبو الحسن المغربي وأولاد بَكْجُور وحُرَمُه وأموالُه وخزائنُه وذخائرُه- فراسل سلامةَ على تسليم البلد، فقال: على شرط أن يُؤمِّنَ أولادَ بَكْجُور وحُرَمَه ويأخذوا أمواله، ولي ولابن المغربي، فحلف لهم وأمَّنهم، وحلف بالأيمان المغلَّظة، وهرب المغربي إلى الكوفة، فأقام عند ضريح أمير المؤمنين رضوان الله عليه، ثم خرج إلى مصر، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) اللُّتوت: جمع لتّ: وهو الفاس العظيمة. معجم الألفاظ الفارسية المعربة ص 141. (¬2) التَّجافيف؛ جمع تِجْفاف وهو ما يُجلَّل به الفرس من سلاح وآلة يقيانه الجراح في الحرب. المعجم الوسيط (جفف). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) الوِقْر: الحمل الثقيل. المعجم الوسيط (وقر).

جوهر القائد

ثم خرج أولادُ بَكْجُور وحرمُه بأمواله (¬1)، فرأى سعدُ الدولة شيئًا هاله، وكان جالسًا في سُرادِقاته وعنده ابن أبي حصين القاضي، فقال له: ما كُنْتُ أظنُّ أنَّ بَكْجُور عنده هذه الأشياء، فقال: هو مملوكُكَ، وأولاده مماليكك، ومالُه لكَ، ولا حِنْثَ عليكَ في الأموال التي حلفتَ [عليها]، ومهما كان فيها من وزْرٍ فعليَّ. فلما سمع ذلك أمر بردِّ الجميع، واستولى على الأموال والذخائر، وكتب أولاد بَكْجُور إلى العزيز بما جرى عليهم، فكتب إلى سعد الدولة: واللهِ لئن لم تردَّ الجميع وتحفَظْ يمينَك لأسيرنَّ إليك بنفسي. فقال لرسوله: كُلْ كتابه. فامتنع، فأمر بلطمه، فأكله، فقال له: قُلْ لصاحبك: ما تحتاج تجيء إليَّ، وأنا أجيء إلى عندك، وما أنا ممَّن يمرُّ عليه تمويهُك (¬2). وأمر بالعساكر فتقدمته إلى حمص، وعزم على المسير إلى الرملة، فمرض ومات، وسنذكره إن شاء الله تعالى (¬3). [وفيها تُوفِّي] جوهر القائد [الَّذي فتح مصر، وبنى القاهرة، وذكره الحافظ ابن عساكر فقال (¬4): مولى أبي تميم [الملقب] (¬5) بالمُعِزّ، وهو الَّذي استولى على مصر [في] سنة ثمان وخمسين [وثلاث مئة]. ووطَّأ الأمور، [وهو صاحب الواقعة بالشام مع هفتكين التركي] (¬6)، وكان شجاعًا، بصيرًا بأمور الحرب، عاقلًا، لبيبًا (¬7)، جليلًا، سخيًا، لم يزل مقدَّمًا على الجيوش والدولة، حاكمًا على الكلِّ إلى أن توفي يوم الخميس لعشر بَقِين من ذي القعدة [في هذه السنة]. ¬

_ (¬1) تحرفت في النسخ إلى: وأولاده. (¬2) التمويه: التلبيس. الصحاح (مَوَهَ). (¬3) بنحوه في الكامل لابن الأثير 9/ 85 - 88. (¬4) تاريخ دمشق 4/ 53 (مخطوط). (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق. (¬6) جاء بدلًا منها في (خ) و (ب): وبنى القاهرة. (¬7) في (م) و (م 1): نبيلًا.

سعد الدولة

سعدُ الدولة أبو المعالي، شريف بن سيف الدولة، قد ذكرنا عَزْمَه على المسير إلى الرملة، فاتَّفق أنَّه لحقه قُولَنْج أشفى منه، فأشار عليه طبيبُه بالدخول إلى البلد، وملازمة الحمَّام، فقال: أنا قاصد إلى جهةٍ، فإنْ عدتُ عنها وقع الإرجافُ [بي] (¬1). فعالجه، فبرَأَ، وكان مستوليًا على أمره لؤلؤٌ الكبير -وقد ذكرناه- وزُيِّنَ البلدُ، ولم يبقَ إلا أن يصبح فيركب، وكان له أربع مئة سرية أَخصهنَّ عنده جارية يقال لها: انفراد، فجاءت إلى فراشه فحادثَتْه، فجامعها، فلمَّا فرغ منها سقطَ وجفَّ نصفُه (¬2)، وجاء طبيبه فقال: أعطني يدك أيّها الأمير، فاعطاه اليسرى؛ لأن اليمين كانت قد يبِست. فقال: يا مولانا، اليمين. فقال له: ما تركت اليمينُ لي يمينًا. يعني التي حلفها لأولاد بَكْجُور. وعهِدَ إلى ولده أبي الفضائل، ووصَّى لؤلؤًا الكبيرَ به وبأبي الهيجاء ولدِه الآخر، ومات بحلب في رمضان، وحُمِلَ تابوتُه إلى الرقة، فدُفن بظاهرها في المشهد، ورجعت العساكر إلى حلب. عبيد الله بن عبد الرحمن (¬3) ابن محمد بن محمد بن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو الفضل الزهري، ولد سنة تسعين ومئتين، وسمع خلقًا كثيرًا، وليس بينه وبين عبد الرحمن - رضي الله عنه - إلا مَنْ روى الحديث عنه، وكانت وفاتُه في ربيع الآخر ببغداد، وأجمعوا على صلاحه وصدقه وثقته. عبيد الله بن أحمد (¬4) ابن معروف، أبو محمد، القاضي، ولد سنة ست وثلاث مئة، وولي القضاء من الجانبين ببغداد، وكانت له منزلةٌ عاليةٌ من الخلفاء والملوك، خصوصًا من الطائع، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) جفَّ نصفه: يبس. الصحاح (جفف). (¬3) تاريخ بغداد 10/ 368، والتصويب منه، فقد وقعت تسميته في (خ) و (ب): عبد الله. (¬4) تاريخ بغداد 10/ 365 - 368، ووقعت تسميته في (خ): عبد الله.

وكان من العلماء الثقات العقلاء الفضلاء الفطناء، عفيفًا عن الأموال، نزهًا، وسيمَ المنظر، حسنَ المخْبَر، مليحَ المَلْبس، مَهيبًا، ذا مروءة وعصبيةٍ وفتوةٍ من ألِبَّاء الناس، مع تجربة وفطنة ومعرفة وعزيمة باقية، وهمَّةٍ تامةٍ ماضية، وكان الصاحب بن عبَّاد يقول: أشتهي أن أدخلَ بغداد وأشاهدَ جراءةَ أبي أحمد العلوي، وتَنَسُّكَ أبي محمد الموسوي، وظَرْفَ أبي محمد بن معروف. وزوَّرَ عليه رجل ورقةً إلى الوزير يستجديه ويطلب منه عمالة، فأوصلَها إلى الوزير، فقرأها، فاستراب بها؛ لأن الخط اختلف عليه، فوضعها بين يديه والرجل قائم، فاتَّفَق أنَّ ابنَ معروف جاء إلى الوزير في ذلك الوقت لمُهِمٍّ، وكان في وقت القائلة، فنظر فرأى الورقة بين يديه، فقال [له]: ما الَّذي عنّى القاضي في هذا الوقت؟ فكتم الأمر الَّذي جاء فيه، وقال: أيها الوزير، هذا الرجل صاحبي، وله عليَّ حقوقٌ، وأرسلته بهذه الورقة، وخِفْتُ أن يغفل عنها، فجئت بنفسي لتقضي شغله. ففَهِمَ الوزيرُ الحال، فأعطى الرجلَ أربعة آلاف درهم، واستكتبه، فلمَّا قام ابن معروف وخرجَ تَبعه الرجلُ، فوقع على قدميه، وجعل يبكي وهو خجلٌ، فقال له ابن معروف: طِبْ نفسًا، فما كنَّا لِنُخيِّب رجاء مَنْ قصدَنا، وعلَّق آماله بنا. ومن شعر ابن معروف: [من البسيط] يا صاحبيَّ سلا الأطلال والدِّمَنا (¬1) ... متى يعودُ إلى عُسْفانَ مَنْ ظَعَنا إنّ الليالي التي كُنَّا نُسَرُّ بها ... أبدى تَذكُّرُها في مهجتي حَزَنا أستودع اللهَ قومًا (¬2) ما ذكرتُهمُ ... إلا تحدَّرَ من عينيَّ ما خُزِنا كان الزمان بنا غِرًّا فما بَرِحَتْ ... أيدي الحوادث حتَّى ذَكَّرَتْهُ (¬3) بِنا أشتاقُكُمُ اشتياقَ الأرضِ وابِلَها ... والأمِّ واحدَها والغائبِ الوطَنا ¬

_ (¬1) في (خ): الزمنا، والمثبت من (خ)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد. والدِّمَنا جمع دِمْنة: وهي من آثار الناس وما سوَّدوا. المعجم الوسيط (دمن) (¬2) في (خ): قلبًا. (¬3) في (خ): ذكرتنا.

السنة الثانية والثمانون بعد الثلاث مئة

ذكر وفاته: تُوفِّي في صفر، ولم يُرَ مثلُه في عفَّتِه ونزاهتِه، وصلَّى عليه الشريف الموسوي في داره، وكبَّر عليه خمسًا، وحُمِل إلى جامع المنصور، فصلَّى عليه ابنُه وكبَّر أربعًا، ثم حُمِلَ إلى داره على شاطئ دِجلة، فدُفن بها، وحضر عزاءه عيسى بن علي الوزير، فقال لولده القاضي أبي الحسين: [من الخفيف] وعلى مثلِهِ يُناح ويُبكى ... وتُشَقُّ القلوبُ قبلَ الجيوبِ الحمد لله الَّذي لم ينقُلْه من داره إلى جواره، حتَّى أخرج من عنصره مثلك. وكان لابن معروف مجلسان في كلِّ سنةٍ يجلس فيهما للحديث، أول يوم من المحرَّم، وأول يوم من رجب، وكان ثقةً، وبرز خطُ القادر: لا تُقبل شهادةٌ إلَّا مَن كان شاهدًا في أيام ابن معروف. وكانت وفاتُه بضيق النَّفَس، ولم يتخلَّف عن جنازته أحدٌ من الأكابر. السنة الثانية والثمانون بعد الثلاث مئة فيها جلس القادر بالتَّاج، وحَضرَ القضاةُ والأشرافُ والأعيان، وأُحضِرَ رسولُ صاحب المولْتان (¬1)، وكان قد ورد في رسالة يذكُرُ رغبتَه في الإسلام والدخول فيه، ويسأل أن يُنفِذ إليه من يعلِّمهم السننَ والشرائعَ والفرائضَ والحدودَ، فكتب على يده كتابًا، ووعد بالجميل. وفيها شغَبَ الدَّيلم والتُّرك والجند، وخرجوا بالخِيم إلى باب الشَّمَّاسية، وراسلوا بهاء الدولة بتسليم أبي الحسين المعلِّم -وكان قد استولى على بهاء الدولة وحكم عليه، وقصَّر في حقِّ الجند وأهانهم- فراسلهم بهاءُ الدولة وتلطَّف بهم، وقال: له حُرْمة، وأنا أرفع يده عن أمركم، وأتولَّاه بنفسي. وتردَّدتِ الرسائلُ بينهم، فقالوا: إن لم تسلِّمْ إلينا وإلا مضينا كلُّنا إلى شيراز، فقيل له: سَلِّمه، وإلا زالت الدولةُ. فسلَّمه إلى خاله أبي حرب شيرزيل، فسقاه السُّمَّ مرتين، فلم يعمل فيه، فخُنِقَ بحبل الستارة، ودُفِنَ بالمخرِّم، وهذا المعلِّم هو الَّذي كان سببًا للقبض على الطائع، وعاد العسكر إلى منازلهم. ¬

_ (¬1) تحرَّفت العبارة في (ب) إلى: وأحضر رسول الله حب المولتان. وهو تحريف شنيع. ومُولْتان: ثغر من ثغور المسلمين مما يلي السند. الروض المعطار ص 564.

وفي رجب سُلِّم الطائعُ إلى القادر، فأنزله حجرةً من حجره، ووكل به من يحفظه من ثقات خدمه، وأحسن ضيافتَه ومراعاةَ أموره، فكان يطلب من الخدمة مثل ما كان يطلب وهو خليفة، فتُزاح عِلَلُه في جميع ما يستوجبه، وحُمِلَ إليه تينٌ في مراكن (¬1)، فرفَسَه برجله وقال: ما تعوَّدنا أن يُقدَّم بين أيدينا إلا المثلوج (¬2). وحُمِلَ إليه في بعض الأيام طيبٌ من العطارين، فقال: [مِن (¬3)] هذا يستعمل أبو العباس؟ قالوا: نعم. قال: قولوا له عنِّي: في الموضع الفلاني من الدار كُنْدوجٌ (¬4) فيه طيبٌ ممَّا كُنْتُ أستعملُه، فابعَثْ لي منه. وقُدِّم له يومًا عدسيَّةٌ فقال: أكل أبو العباس منها؟ قالوا: نعم. قال: قولوا له عنِّي: إذا أردتَ أن تأكل عدسيَّةً لِمَ اختفيتَ أيام هذا الأمر، وما كانت العدسية تفوتُكَ. فحينئذٍ أمر القادرُ بأن تُحمَلَ إليه جاريةٌ طبَّاخةٌ من طبَّاخاته تطبخ له ما يُلائمه كلَّ يوم، وقُدِّمت إليه في بعض الليالي شمعةٌ قد احترقَ بعضُها، فأنكرها ودفعها إلى الفرَّاش، فأرسل إليه بغيرها، وأقام مكرَّمًا إلى أن مات. وفي شوال وُلِدَ للقادر ابنٌ سمَّاه محمدًا، وكنَاه أبا الفضل، وأمُّه أمُّ ولد اسمُها: علم، وهو الَّذي جعله وليَّ عهده، ولقَّبه الغالبَ بالله، وتوفي من بعد. [قال ابن الصابئ]: وفيها غَلتِ الأسعارُ ببغداد، فبيع رطلُ الخبزِ بأربعين درهمًا، والجوزة بدرهم (¬5). وفيها خرج ملك الروم، فأخذ خِلاط، واستولى على بلادها؛ ملاذكرد وأَرْجيش، وأضافها إلى بلاده، ثم إن الحسن بن مروان راسله، وتهادنا عشر سنين، وعاد إلى بلاده. وفيها قبض صَمْصام الدولة على وزيره أبي القاسم العلاء بن الحسن، واستوزر أبا القاسم الحسين بن معمر المُدْلِجي، وكان العلاء غالبًا على أمر صَمْصام الدولة ووالدته، وكان قد اصطنع أبا القاسم المدلجي واستصحَبَه من الأهواز وأحسنَ إليه، ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): مراكف، وفي المنتظم 14/ 362: مراكز. والمراكن جمع مركن: وهو شبه تَوْرٍ من أدمَ متَّخذٌ للماء. اللسان (ركن). (¬2) في (خ) و (ب): المفلوج، وفي المنتظم: المسلوج. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) الكندوج: شبه مخزن، أو الخزانة الصغيرة. معجم الألفاظ الفارسية المعربة ص 138 وتاج العروس (كندج). (¬5) الأخبار السابقة بمعناها في المنتظم 14/ 361 - 363.

أحمد بن علي

ولمَّا ورد الأهواز وعاد إلى شيراز ما زال المُدْلجيُّ يُفسِدُ حاله عند السيدة، وتضاعفت المؤن، وكثرت النفقات، فشرع الجند في إفساد حاله، والمدلجيُّ يساعدهم؛ طمعًا في رياسته، حتَّى قبض عليه وعلى حاشيته، وعُوقبوا أشدَّ العقوبات (¬1)، وماتت ابنتُه تحت الضرب، وأُلقيَ في بعض المطامير بحيث لا يُعرَفُ له خبر، إلى أن فسد أمر المدلجِيِّ، وتغيَّرتِ السيدةُ عليه، فقُبِضَ عليه، وأُخرِجَ العلاءُ من المطمورة، وقد ضَعُفَ بصرُه، فعُولجِ في دار السيدة حتَّى صَلُحَ، ورُدَّ إلى الوزارة، وخُلِعَ عليه (¬2). [وفيها] حجَّ بالناس أبو الحسن محمد بن الحسن العلوي. وفيها تُوفِّي أحمد بن علي ابن عمر، أبو الحسن، الحَريري، ولد سنة اثنَتين وثلاث مئة، ومات ببغداد في رمضان. وأخرج له الخطيب (¬3) حديثًا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله تعالى: أنا ثالثُ الشريكين ما لم يَخُنْ أحدُهما صاحبَه، فإذا خانَه خرجتُ من بينهما". عبد الله بن محمد (¬4) ابن عبد الوهاب، أبو سعيد، الرازي، القرشي، الصوفي، نزيل نيسابور، وكان كالريحانة بين الصوفية، سيِّدًا، ثقةً. السنة الثالثة والثمانون وثلاث مئة وفيها أمر القادر (¬5) بعمارة جامع الحربية وكسوتِه، وإجرائِه مجرى الجوامع [والصلاة فيه]، وكان محمد بن الحسن بن عبد العزيز [الهاشمي] قد بنى مسجدًا بمحلَّة ¬

_ (¬1) في (خ): عقوبة. (¬2) الأخبار السابقة في الكامل 9/ 94 باختصار. (¬3) تاريخ بغداد 4/ 316، والحديث الآتي أخرجه أبو داود (3383)، والحاكم 2/ 52 وصحَّحه، إلا أن هناك من أعله، ينظر في ذلك التلخيص الحبير 3/ 49. (¬4) تاريخ دمشق 32/ 252 - 254، وينظر السير 16/ 427 - 429. (¬5) في (م) و (م 1): المقتدر.

الحربية في أيام المُطيع، على أن يجعله جامعًا يُخطَبُ فيه، فمنع المطيعُ منه، وقال: لا تجوز الصلاة فيه. فلمَّا كان في هذا الوقت استفتى الفقهاء فيه، فأفتَوا بالجواز (¬1). وفي ذي الحجة تزوَّج القادر سُكينة بنت بهاء الدولة على صَداقٍ مبلغه (¬2) مئة ألف دينار، وكان الإملاك (¬3) بحضرة القادر (¬4) والوالي (¬5) الشريف أبي أحمد الحسين (¬6) بن موسى الهاشمي، وتُوفِّيت قبل النَّقلة إليه، فحزن عليها أبوها حزنًا شديدًا، وأقام أيامًا لا يراه أحد (¬7). وفيها ابتاع أبو نصر سابور بن أَزْدَشير دارًا بالكَرْخ بين السُّورين، وعمَّرَها دارًا للعلم، ووقفها على أهله، ونقل إليها كتبًا كثيرةً، وعمل لها فِهْرِستًا، صورتُه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا فِهْرِستٌ جمعَه سابور بن أَزْدَشير من كتب القرآنِ وعلومِه، ومعانيه وتفاسيرِه، والقراءاتِ، والفقهِ، والأدعيةِ، والفرائضِ، وعلوم الشريعةِ على اختلاف المذاهب، والكلامِ، والجدلِ، والمقالات، وكُتبِ أهلِ البيت عليهم السلام والأنسابِ، واللُّغاتِ، والأمثالِ، والصفاتِ، والعربيةِ، والعروضِ، والقوافي، ودواوينِ الشعراءِ والقدماءِ والمخضرمين والمُحدَثين، والنوادرِ، والأخبارِ، والرسائلِ، والطبِّ، والنجومِ، والفلسفةِ، والهندسةِ، وغيرها، وذِكْرِ شروط الوقف، وقال: ولسابور بن أزْدَشير أجرُ ما نواهُ، ثوابَ ما عقَدَه وبناه، والويلُ كلُّ الويل لمن أقدَمَ على ما يخالِفُ شرطَه، وأُحمِلَ من الوزر ما يبوء منه بغضبٍ من الله وأليمِ عقابِهِ وشديدِ عذابِهِ، وذكر كلامًا هذا معناه. [وفيها] (¬8) حجَّ بالناس أبو الحسن محمد العلوي. ¬

_ (¬1) الكلام بمعناه في تاريخ بغداد 1/ 110، ونقله عنه صاحب المنتظم 14/ 365. (¬2) بعدها في (م) وحدها زيادة: من الذهب. (¬3) الإملاك: النِّكَاح والتزويج. الصباح المنير (ملك). (¬4) في (م) و (م 1): المقتدر، والتصويب من (خ) و (ب). والمنتظم 14 - 366، والنجوم الزاهرة 4/ 164. (¬5) في (م) و (م 1): والولي، وكذلك في المنتظم. (¬6) في (م) و (م 1): الحسن، والمثبت من (خ) و (ب)، والمنتظم. (¬7) بعدها في (م 1) وحدها زيادة: من شدة حزنه عليها. (¬8) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق.

أحمد بن إبراهيم

وفيها تُوفِّي أحمد بن إبراهيم (¬1) ابن الحسن بن شاذان، أبو بكر، البزَّاز، ولد في ربيع الأول سنة ثمان وتسعين ومئتين، ومات في شوال ببغداد، وكان ثبتًا، متديِّنًا، ثقةً، مأمونًا، فاضلًا، صاحبَ أصولٍ حِسان. وقيل له: أسمِعْتَ من الباغَنْدي شيئًا؟ قال: لا أعلم. ثم وَجَدَ سماعَه منه، فلم يُحدِّث به تورُّعًا. [وفيها تُوفِّي] عبد الله بن عطية ابن عبد الله بن حبيب، أبو محمد، المقرئ، الدمشقي، المُفسِّر، العَدلْ، إمام مسجد عطية داخل باب الجابية، وإليه يُنسب. [ذكره ابن عساكر (¬2) وقال: قرأ القراءات على أبي الحسن الأخرم وغيره، ] وكان يحفظ خمسين ألف بيتِ من شعر العرب في الاستشهادات على معاني القرآن واللغة، وكانت وفاته بدمشق في شوال، ودُفن بالباب الصغير، حدَّثَ عن مشايخ دمشق؛ [أبي علي الحصائري وأبي الحسن بن جَوْصا وغيرهما، قال ابن عساكر]: ومن شعره: [من مجزوء الكامل] احذَرْ مودَّةَ ماذِقٍ (¬3) ... مَزَجَ المرارةَ بِالحلاوهْ يُحصي الذُّنوبَ عليكَ أيـ ... ـامَ الصداقةِ لِلعداوهْ عبد الله بن محمد (¬4) ابن القاسم بن حزم، أبو محمد، الأندلسي، القَلْعي، من أهل قلعة أيوب، رَحَلَ إلى مصر والشام والعراق سنة خمسين وثلاث مئة، وسمع شيوخَها، ثم عاد إلى الأندلس، وصنَّف الكتب، وكانوا يُشبِّهونه بسفيان الثوري في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسألَه الحَكَمُ ¬

_ (¬1) ترجمته في تاريخ بغداد 4/ 18. (¬2) تاريخ دمشق 36/ 27 - 30 (طبعة دار الفكر). (¬3) الماذِق: من لم يخلص الود. المعجم الوسيط (مذق). (¬4) تاريخ علماء الأندلس 1/ 244 - 246، وتاريخ دمشق 32/ 364.

والي الأندلس -ولقَبُه المستنصر- أن يليَ القضاءَ، فلم يُجِبْه، وكانت وفاته في ربيع الآخر، وله ثلاث وستون سنة، وحديثُه ومصنَّفاته بالمغرب، ومن شعره (¬1): [من الكامل] يا دهرُ أين المُسْعِفون (¬2) ذَوو النَّدى ... ذهبوا (¬3) فنُحييهم بطِيبِ ثنائِهمْ والمُنعِمون إذا عدا دهرٌ على ... إخوانِهم بالفضلِ مِنْ نعمائِهمْ والدافعونَ الضَّيرَ عن جيرانِهمْ ... والبادِرونَ سؤالهم بعطائِهمْ فأجابني لم يَبْقَ منهم غيرُ ما ... حفِظَتْ بطونُ الكُتْبِ من أنبائِهمْ أترى الكِرامَ من الأنام تخرَّموا (¬4) ... حتَّى أُبيدَ النَّسلُ (¬5) من كُرمائِهمْ زمنٌ تواصى أهلُه بجوابِ لا ... حتَّى كأنَّ نَعَمْ طلاقُ نِسائهمْ وممَّا أنشده ابن عساكر عن ابن حزم: [من الكامل] لعِبَ الهوى في كلِّ نفسٍ حُرَّةٍ (¬6) ... والصبرُ أجملُ والتنزُّهُ أنْزَهُ والجهلُ يتَّخِذُ الحريصَ مَطِيَّةً ... إنَّ الحريصَ مُجَهَّلٌ ومُسَفَّهُ كثُرَ الرُّقادُ عن المَعادِ ونحنُ في ... غِيَرٍ (¬7) تُنَبِّهُنا وما نَسْتَنْبِهُ يا مَنْ تُحدِّثُه الحوادثُ أنَّهُ ... يفنى وليسَ عن الحوادثِ يفقَهُ أمَّا المماتُ فقد نعاك مُصرحًا ... ونَعتْكَ أزمنةٌ بها تتفَكَّهُ كُنْ للمكارهِ بالعزاءِ مُبلِّغًا ... فلعلَّ يومًا ما ترى ما تكرَهُ ولَرُبَّما استترَ الفتى فتنافَسَتْ (¬8) ... فيه العيونُ وإنِّهُ لَمُموَّهُ ولَرُبَّما خَزَنَ التقيُّ لسانَهُ ... حَذَرَ الجوابِ وإنَّهُ لَمُفَوَّهُ ¬

_ (¬1) أورده ابن عساكر في تاريخه في ترجمة عبد الله بن عطية أنَّه أنشده، وينظر تاريخ دمشق 31/ 27 - 30، ومختصر تاريخ دمشق 13/ 142. (¬2) في تاريخ دمشق ومختصره: الخيِّرون. (¬3) في تاريخ دمشق ومختصره: أغفوا. (¬4) تخرَّمُوا: فنُوا وذهبوا. المعجم الوسيط (خرم). (¬5) في تاريخ دمشق: المسك. (¬6) في تاريخ دمشق: نشوة. (¬7) غِيَرُ الدهر: أحواله وأحداثه المتغيرة. المعجم الوسيط (غير). (¬8) تنافست: تحاسدت. المعجم الوسيط (نفس).

محمد بن صالح

ولَرُبَّما ابتسم الكريمُ من الأذى ... وفؤادُهُ من حَرِّهِ يَتاوَّهُ محمد بن صالح (¬1) ابن سعد، أبو عبد الله، الأندلسي، الفقيه، المالكي، سمع بالشام ومصر والجزيرة وبغداد، ثم أقام ببخارى، ومات بها في رجب، وكان فاضلًا، ثقةً. ومن شعره: [من الكامل] ودَّعْتُ قلبي ساعةَ التَّوديعِ ... وأطعْتُ قلبيَ وَهْوَ غيرُ مُطيعِ إنْ لَمْ أُشَيِّعْهُمْ فقد شيَّعتُهمْ ... بمُشيِّعَينِ حُشاشتي ودُموعي نصر بن محمد (¬2) ابن أحمد بن يعقوب، أبو الفضل، الطُّوسي، العطَّار، الصُّوفي، أحد أركان الحديث بخُراسان، مع ما يرجع إليه من الدِّين والزُّهد والسَّخاء والعِفَّة والعصبية لأهل السُّنَّة بخُراسان، وقد سافر إلى العراق ومصر والشام والحجاز، وجمع من الحديث ما لم يَجمَعه أحدٌ، وصنَّفَ الكُتبَ، ومات وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وأما علوم الصُّوفية وأخبارهم وملاقاتُه للشيوخ فإنه لم يُخلِّفْ بخراسان مثلَه في ذلك، وسمع خلقًا كثيرًا، وروى عنه الحاكم وجمٌّ غفير، وأخرج له الحاكم حديثًا عن عبد الله بن عمرو قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معصوبُ الرأسِ، فحمِدَ الله وأثنى عليه، وقال: "أيُّها الناس، ما هذه الكتبُ التي تكتبون؟ أكِتابٌ مع كتاب الله؟ يوشِكُ أن يغضبَ اللهُ لكتابِه فلا يدعَ في رِقٍّ ولا في يد أحد منه شيئًا إلا أذهَبَه" قالوا: يا رسول الله، فكيفَ بالمؤمنين والمؤمنات يومئذٍ؟ قال: "مَنْ أراد اللهُ به خيرًا أبقى في قلبه لا إله إلا الله" (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 53/ 271 - 272. (¬2) تاريخ دمشق 62/ 43 - 45. (¬3) لم أقف عليه في مصنفات الحاكم، وإنما أخرجه الطبراني في الأوسط (3510).

السنة الرابعة والثمانون وثلاث مئة

السنة الرابعة والثمانون وثلاث مئة وفيها ظهر عَيَّار من باب البصرة ببغداد -يقال له: عزيز- واستفحَلَ أمرُه، واجتمع إليه خلقٌ عظيمٌ (¬1) من الشُّطَّار (¬2)، وطرحَ النيرانَ في محالِّ بغداد، وطلبَ أصحابَ الشُّرَط، وصالح أهلَ الكَرْخِ، وجبى الأسواق، وكاشف السلطانَ وأعوانَه، ثم تبعه أعوان السلطان، وقتلوا جماعة من العيَّارين. وقال الخطيب: مرَّ عبد الصمد الزاهد بعزيز -وقد خرج مع العيَّارين- وأمُّه تبكي، وتقول: يا عزيز، بحقِّي عليك ارجِعْ ولا تُعَرِّض نفسَكَ للقتل. فقال لها: لا تُطوِّلي عليَّ، قد قلتُ للعيَّارين أنِّي خارجٌ معهم، ومِثلي إذا قال قولًا لا يرجعُ فيه، اطلُبي عزيزًا غيري، فساروقتي (¬3) في جيبي. فبكى عبد الصمد، وأخذ إشارةً من قول عزيز، فكانت نفسُه إذا طالبَتْه بشهوةٍ يقول لها: قد تركتُ الشهواتِ لله، ولا يُمكِنُنِي أرجع فيها، اطلبي عزيزًا غيري، وساروقتي في جيبي. وفيها سار صَمْصام الدولة من شيراز يريد الأهواز، وخرج بهاء الدولة من بغداد، ونزل واسطًا، وبعثَ طُغان في ألفي فارس من التُّرك، فالتقوا بأرض خوزستان، وكان صَمْصام الدولة قد أقبلَ في جيشٍ عظيمٍ وأموالُ الدَّيلم معه وسلاحُهم، وما أبقى وراءه بقية، والتقوا فاقتتلوا، فانهزمتِ الدَّيلم عن صَمْصام الدولة وبقي على بغلةٍ، فساقوه، وانهزموا، وغَنِمَ التُّرك منهم غنيمة لم يغنمها أحدٌ، وقتلوا من الدَّيالمة أربعةَ آلاف، وعاد صَمصام الدولة إلى شيراز، ودخل طُغَان إلى الأهواز، وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح وهو بواسط. وفيها أشار أبو نصر خواشاده بمراسلة فخر الدولة وتألُّفِه؛ لئلَّا يصير موافقًا لصَمْصام الدولة، وخرج بالكتاب والرسالة أبو الحسن محمد الأَقْساسي العلوي. ¬

_ (¬1) في (ب) و (م 1): كثير. (¬2) الشُّطَّار، جمع شاطر: وهو الفاجر الخبيث. ووقع في المنتظم 14/ 369 والكلام منه بمعناه الذُّعَّار؛ جمع ذاعر، أي: ذو عيوب. ينظر المعجم الوسيط (شطر) و (ذعر). (¬3) الساروقة: قماشة مربعة الشكل غالبًا. المعجم الذهبي ص 325.

وفيها توجَّه بهاء الدولة من واسط إلى البصرة، واستقرض من مُهذَّب الدولة مالًا، وبعثَ معه بعساكر، فدخل البصرة واستولى عليها، وخطب لمُهذَّب الدولة بعدَه. وفيها وصل صَمْصام الدولة إلى أَرَّجان، وتلقَّوه بالثياب والدوابِّ وغيرِها، وتلقَّتْه أمُّه وهو في عَمَاريةٍ (¬1) سوداء، وثيابُه كلُّها سود، حتَّى عمامتُه وسراويلُه؛ حُزنًا على ما أصابه، فشجَّعَتْه وقالت: يتمُّ على الملوك أعظم من هذا! وغيَّرت ثيابه، ودخل إلى شيراز ومعه ستون رجلًا من غلمانه، وتمزَّق الباقون، وكانوا عشرين ألفًا، وكان دخولُه إليها في جمادى الآخرة. وفيها تقلَّد أبو الحسن (¬2) علي بن حاجب النعمان ديوان المصالح. وفيها عُزِلَ الشريف أبو أحمد الموسوي عن نقابة الطالبيِّين، وصُرِفَ ولداه الرضيُّ والمرتضى عن النيابة عنه، وقُلِّد الشريفُ أبو الحسن محمد بن علي بن أبي تمام الزَّينبيُّ نقابةَ العباسيين ببغداد، وقوي عهدُه بحضرة القادر والقُضاة. [وفيها] رجع الحاجُّ من الطريق، وسبُبه أنَّه كان ورد في السنة الماضية إلى بغداد صاحبُ الأُصَيفر الأعرابي] وكان خارجيًّا يقطع الطريق [، فضمِنَ على نفسه أنَّه يسيرُ بالحاجِّ سالمين ويعودَ بهم، ويخطُبُ للقادر من حدِّ الكوفة إلى عُمان، فخُلِعَ عليه وأعطيَ [مالًا و] لواءً، و [قيل: أعطي] عشرةَ آلاف دينار، وكانت الرياسة على الحجِّ لمحمد بن الحسن العلوي، فسار بالحجَّ، فلَّما وصل بين الثَّعلبية وزُبالة اعترضَهم الأُصَيفر، ومنعهم من المسير إلى مكة، وقال: الدنانيرُ التي أُعطيتُ عام أول كانت دراهمَ مَطليَّةً، وما أُمكِّنُكم من المسير حتَّى آخَذ رسمي. وضاق الوقت، فرجعوا إلى بغداد، [ولم يحجُّوا خوفًا من الأُصَيفر، فعظُم ذلك عليهم] (¬3). وفيها حكم أبو علي بن مروان على مَيَّافارقين، وكان أهلُها قد طَمِعوا فيه وفي أصحابه وأهانوهم، وغمُّوا بعضهم، فشكا إلى حاجبه تيمور -وكان صاحبَ رأيٍ - ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): عمارية. والعَمَارية: نوع من المحامِل كالهودج. (¬2) في (خ): الحسين، والمثبت من (ب). (¬3) هذه الزيادة من (م 1) وحدها، وهذا الخبر والذي قبله في المنتظم 14/ 369 - 370.

إبراهيم بن هلال

فقال له: إنك لا طاقةَ لك بهم وإن كاشَفْتَهم قهروك. قال: فما الحيلة؟ قال: أمهِلْهم إلى يوم العيد، فإذا خرجوا إلى المُصلَّى فأمسِكْ عليهم الأبواب، وأدخِلْ مَنْ تُريد، واطْرُدْ مَنْ تُريد. فصبر إلى يوم العيد، وأظهر زينةً عظيمةً، وجنائبَ (¬1) وعُدةً، وخرج الناس إلى المُصلَّى، ولم يركب هو، وأظهرَ أنَّه مريض، وأوقف أصحابَه على الأبواب، فلَّما حصلوا في المُصلَّى أباح لأصحابه نَهْبَهم، ورمى بجماعةٍ ممَّن تخلَّف من الأسوار، واختارَ هو مَن أمِنَ منه، وفرَّق الباقين في البلاد، فماتوا في الطرقات عطشًا وجوعًا، وأخذَ أموالهم، فها بَه الناسُ واستقامَ أمرُه. وفيها توفِّي إبراهيم بن هلال (¬2) أبو إسحاق الصابئ، صاحب الرسائل، كان فاضلًا في ترسُّلِه إلّا أنّ كلامَه كثيرُ الحشو، قد نُكِبَ بسبب رسائِله ومُكاتباتِه غيرَ مرة، ومولده في رمضان سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة، ودُفِنَ بالشُّونيزية. ورثاه الرضيُّ الموسوي (¬3) بمرَّات كثيرة، منها قوله: [من الكا مل] أَعلِمْتَ مَنْ حَملوا على الأعوادِ ... أرأيتَ كيفَ خبا ضياءُ الغادي جبلٌ هوى لو خَرَّ في البحر اغتَدى ... مِنْ وَقْعِهِ مُتَتابعَ الإزبادِ ما كُنْتُ أعلَمُ قبلَ حَطِّكَ في الثَّرى ... أنَّ الثَّرى يعلو على الأطوادِ (¬4) بُعْدًا ليومِكَ في الزمانِ فإنَّهُ ... أقذى العيونَ وفَتَّ (¬5) في الأكبادِ (¬6) لا ينفَدُ الدَّمعُ الَّذي تُبْكَى بهِ ... إنَّ القلوبَ له من الأمدادِ كيفَ انمحى ذاكَ الجَنابُ وعُطِّلتْ ... تِلكَ الفِجاجُ وضَلَّ ذاكَ الهادي ¬

_ (¬1) الجنائب؛ جمع جَنيبة: وهي الدابَّة التي تُقاد. اللسان (جنب). (¬2) تنظر ترجمته في معجم الأدباء 2/ 20 - 94. (¬3) ديوان الشريف الرضي 1/ 381 - 386، ويتيمة الدهر 2/ 362 - 366. (¬4) الأطواد؛ جمع طَوْد: وهو الجبل. (¬5) فتَّ: أضعَفَ وأوهَن. (¬6) في الديوان واليتيمة: الأعضادِ.

طاحَتْ (¬1) بتلكَ المَكْرُماتِ طوائِحٌ ... وعَدَتْ على ذاكَ الجلالِ عَوادي (¬2) هذا أبو إسحاقَ يَغْلَقُ رَهْنُهُ ... هَلْ ذائدٌ أو مانعٌ أو فادي لو كُنْتَ تُفدى لافتداكَ فَوارِسٌ ... مُطِروا بعارضِ كل يومِ طِرادِ وإذا تألَّقَ بارِقٌ لِوقيعةٍ ... والخيلُ تَفْحَصُ (¬3) بالرجالِ بَدادِ (¬4) سَلُّوا الدروعَ من العُيابِ (¬5) وأقبلوا ... يتحدَّبون على القنا الميَّادِ لَكِنْ رماكَ مُجَبِّنُ الشُّجعانِ عَنْ ... إقدامِهِ ومُضَعْضِعُ الأنْجادِ أعزِزْ عليَّ بأَنْ أراكَ وقد خَلَتْ ... من جانِبَيكَ مقاعدُ العُوَّادِ أعزِزْ عليَّ بأَنْ يُفارِقَ ناظري ... لَمَعانُ ذاكَ الكوكبِ الوَقَّادِ أعزِزْ علي بأن نزلْتَ بمنزلٍ ... مُتشابهِ الأمجادِ والأوغادِ في عصبةٍ جُنِبوا (¬6) إلى آجالهِمْ ... والدَّهر يُعجِلُهمْ عن الإروادِ (¬7) ضَربوا بِمَدرجةِ الفَناءِ قِبابَهُمْ ... مِنْ غيرِ أطنابٍ (¬8) ولا أعمادِ (¬9) ركبٌ أناخوا لا يُرَجَّى مِنْهُمُ ... قَصْدٌ لإِتْهامٍ ولا إنجادِ (¬10) قد كُنْتُ أهوى أن أُشاطِرَكَ الرَّدى ... لَكِنْ أرادَ اللهُ غيرَ مُرادي ولقد كبا طَرْفُ الرُّقادِ بناظري ... أسفًا عليك فلا لعًا (¬11) لرُقادي ثَكِلَتْكَ (¬12) أمٌّ لم تَلِدْ لَكَ ثانيًا ... أنَّى ومِثْلُكَ مُعوزُ (¬13) الميلادِ ¬

_ (¬1) طاحت: قضت. (¬2) العوادي: المصائب. (¬3) تفحَصُ: تبحث بأرجلها. (¬4) البَداد: الدعوة للمبارزة. (¬5) العُباب: القلوب والصدور. (¬6) جُنِبوا: مالوا. (¬7) الإرواد: التمهُّل والرفق. (¬8) الأطناب، جمع طُنُب: وهو الحبل الَّذي يُشدَّ به الخِباء. (¬9) في الديوان واليتيمة: أوتادِ. (¬10) يعني: لم يقصد تهامة ولا نجدًا. (¬11) اللَّعا: صوت معناه الدعاء للعاثر بأن يرتفع من عثرته. (¬12) في الديوان واليتيمة: أرضٌ. (¬13) العَوَز: الحاجة واختلال الحال.

عبيد الله بن محمد

مَنْ للبلاغةِ والفصاحةِ إنْ هَمى ... ذاك الغمامُ وعَبَّ (¬1) ذاكَ الوادي مَنْ للملوكِ يَجُزُّ في أعدائِها (¬2) ... بِظُبًى من القولِ البليغِ حِدادِ مَنْ للممالِكِ لا يزالُ يُلمُّها ... بسدادِ أمير ضائعٍ وسَدادِ مَنْ للمَوارق (¬3) يستردُّ (¬4) قلوبَها ... بِزَلازلِ الإبراقِ والإرعادِ أمَّا الدُّموعُ عليكَ غيرُ بخيلةٍ ... والقلبُ بالسُّلوانِ غيرُ جوادِ سوَّدْتَ ما بين الفضاءِ وناظري ... وغسَلْتَ من عينيَّ كلَّ سوادِ قُلْ للنوادِب عدِّدي أيَّامَهُ ... تَغْنَي عن التعديدِ بالتعدادِ ضاقَتْ عليَّ الأرَضُ بعدكَ كلُّها ... وتركْتَ أضيَعها عليَّ بلادي لكَ في الحَشَا قبرٌ وإنْ لَمْ تأوه ... ومِنَ الدُّموعِ روائحٌ وغوادي صَفحَ الثَّرى عن حُرِّ وجهِكَ أنَّهُ ... مُغْرًى (¬5) بِطَيِّ محاسنِ الأمجادِ وتماسكَتْ تِلكَ البَنانُ وطال ما ... عبَثَ البِلَى بأناملِ الأجوادِ وسقاكَ فضلُكَ إنَّهُ أروى حيًّا (¬6) ... من رائحٍ مُتعرِّضٍ أوغادي من أبيات. [وفيها توفِّي] عبيد الله (¬7) بن محمد ابن نافع بن مُكرم، أبو العباس، البُسْتي، الزاهد، ورث من آبائه أموالًا عظيمة، فأنفقها على العلماء والفقراء وفي سبيل الله، ولم يبلُغْ أحدٌ من العبادة مثلَ ما بلغَ، أقام سبعين سنةً لا يستند إلى جدار ولا غيره، ولا اتَّكأ على وسادة، وحجَّ من نيسابور حافيًا ¬

_ (¬1) العبُّ: ارتفاع الماء. (¬2) في اليتيمة: أعناقها. (¬3) في يتيمة الدهر: للممارق. (¬4) في اليتيمة: يسترقُّ. (¬5) المُغرى: المولع. (¬6) الحيا: المطر. (¬7) في (ب) و (خ): عبد الله، والمثبت من (م) و (م 1)، وهو الموافق لما في المنتظم 14/ 370 - والترجمة فيه- وتاريخ الخلفاء للذهبي 8/ 558.

علي بن أبي تمام

راجلًا، ودخل الشام و [الرملة]، وأقام ببيت المقدس مدةً، ثم دخل المغرب على وجه السياحة، ثم عاد إلى مكة فحجَّ ورجع إلى بُسْت، فتصدَّقَ بما بقي من أملاكه، فلمَّا احتضرَ قَلِقَ، فقيل له: ما هذا القلق؟ فقال: كيف لا أقلقُ ولا أدري أأنجو أم لا؟ وكانت وفاتُه في المحرَّم عن خمس وثمانين سنة. علي بن أبي تمام (¬1) الحسن بن محمد بن عبد الوهاب الزَّينبي، نقيبُ نقباء العباسيين ببغداد، وأول من جمع له بين النقابة والصلاة في سنة ثمانين وثلاث مئة، واستُخلِفَ ابنُه أبو الحسن نظامُ الحضرتين. علي بن عيسى (¬2) ابن علي، أبو الحسن، الرُّمَّاني، النَّحْوي، ولد سنة ستٍّ وتسعين ومئتين، وبرع في علم النحو واللغة والأصول والتفاسير وغيرها، وله كتاب "التفسير الكبير" وهو كثير الفوائد إلَّا أنَّه صرَّح فيه بالاعتزال، وسلك الزمخشريُّ سبيلَه، وزاد عليه أخْذَ الأدب عن المبرِّد وأقرانه، وسمع من البغوي وغيره، ومات ببغداد، ودُفِنَ بالشُّونيزية، وله ست أو تِسعٌ وثمانون سنة. محمد بن العباس (¬3) ابن أحمد بن محمد، أبو الحسن، ابن الفرات، ولد سنة تسع عشرة وثلاث مئة، وكتب الكثير، وجمع ما لم يجمَعْه أحدٌ في زمانه، كان عنده عن علي بن محمد المصري وحدَه ألف جزء، وكتب مئةَ تفسير ومئةَ تاريخ، وخَلَّفَ ثمانية عشر صندوقًا مملوءةً كتبًا غيرَ ما سُرِقَ منه، وأكثرُها بخطِّه، وكانت له جاريةٌ تُعارِضُ معه ما يكتُبه، ومات ببغداد في شوال، وكان مأمونًا ثقةً. ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 371. (¬2) تاريخ بغداد 12/ 16 - 17، والمنتظم 14/ 371، ومعجم الأدباء 14/ 73 - 78، وإنباه الرواة 2/ 294 - 296 وينظر السير 16/ 533. (¬3) تاريخ بغداد 3/ 122 - 123، والمنتظم 14/ 371 - 372.

محمد بن عمران

محمد بن عمران (¬1) ابن موسى بن عبيد الله، أبو عبد الله، الكاتب، المَرْزُباني، كان صاحب أخبارٍ ورِوايةٍ للآداب، وصنَّفَ كتبًا مُستحسنةً في فنون، وكان أشياخُه يحضرون عنده في داره فيسمع منهم، وكان في داره خمسون دُوَّاجًا (¬2) ما بين فراشٍ ولحافٍ مُعدَّة لأهل العلم الذين يكتبون عنده، وكان عضد الدولة يجتاز فيقف ببابه حتَّى يخرجَ إليه فيُسلِّم عليه، وكان أبو علي الفارسي يقول: هو من محاسن الدنيا. وتوفِّي في شوال ببغداد عن ثمان وثمانين سنة، ودُفِنَ في مقابر الخيزران، وقد تكلَّموا فيه؛ قالوا: كان مُتشيِّعًا، ولا فرقَ عنده بين الإجازة والسماع، واتَّفقوا على أنَّه لم يكن كذَّابًا. المُحسِّن بن علي (¬3) ابن محمد بن أبي الفهم، أبو علي، القاضي، التَّنوخي، والد علي، مصنف كتاب "الفرج بعد الشدة" وُلدَ سنة سبع وعشرين وثلاث مئة بالبصرة، وكان أديبًا شاعرًا أخباريًّا، تقلَّد القضاء بِسُرَّ مَنْ رأى وغيرِها، وتوفِّي ببغداد في المحرَّم. السنة الخامسة والثمانون وثلاث مئة فيها تحرَّكت القرامطة على البصرة، وجمعوا لقصدها، فأرسلَ أهلُها إلى القادر يستنجدونه، وهرب منها الرجال والنساء والأطفال، فجهز بهاءُ الدولة إليهم جيشًا، فلمَّا علمت (¬4) القرامطة به رجعوا إلى بلادهم، وزُلزِلَتِ الدنيا زلزلةً عظيمةً، مات تحت الهدم خلق كثير، [وكان ثمرة الزلازل موت الصاحب إسماعيل بن عباد]. وفيها أمر صَمْصام الدولة بقتل من كان بفارس من الأتراك، وكانوا قد أفسدوا وعاثوا، ونهبوا المال والحريم، وكانوا سبع مئة غلام، فلمَّا نَذَر صَمْصامُ الدولة دماءَهم هربوا إلى السند، وراسلوا صاحبها لدهرٍ في الدخول إليها، فأذِن لهم، وخرج للقائهم، وصفَّ أصحابَه صفَّين، فلمَّا صار الترك بينهم وضعوا فيهم السيوف، فلم يُفْلِتْ منهم أحد. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 135 - 136، والمنتظم 14/ 372. (¬2) الدُّوّاج: ضرب من الثياب، قال ابن دريد: لا أحسبه عربيًّا صحيحًا، ولم يُفسره. اللسان (دوج). (¬3) تاريخ بغداد 13/ 155 - 156، والمنتظم 14/ 373. وينظر السير 16/ 254. (¬4) في (م): غلب، وهو تحريف ظاهر.

طغان

وفيها توفِّي طُغَان حاجبُ بهاء الدولة بالأهواز، فسار إليها العلاء بن الحسن والدَّيلم من أصحاب صَمْصام الدولة، ووصل الخبر إلى بهاء الدولة، فانزعَجَ، وتصوَّرَ زوال الدولة، فأخرج أبا كاليجار المَرْزُبان إلى الأهواز نائبًا عنه، وكان شجاعًا شهمًا كافيًا مستقلًا، وسار بهاء الدولة في إثره، وكان قد قدَّم أبا محمد بن مُكرم بين يديه، فالتقى بالدَّيلم فهزموه، وقتلوا أصحابه، وعَرَفَ بهاءُ الدولة، فضعُفَتْ نفسُه، وعمل على الهزيمة، وخاف أن يُظهِرَها فيُطمَعَ فيه، فأعمل الحيلة، حتَّى عاد إلى مكان يقال له: عسكر أبي جعفر، في شوال (¬1). [وفيها] حجَّ بالناس [أبو عبد الله] أحمد بن محمد بن عبيد الله العلوي، [وكذا في سنة ستٍّ وسبعٍ وثمانين وثلاث مئة]، وبعثَ بدر بن حسنويه الكردي خمسة (¬2) آلاف دينار تُدفع إلى الأُصَيفر الأعرابي؛ عوضًا عمَّا كان يأخذه من الحاجِّ، وجعل ذلك رسمًا عليه من ماله، فأقام على ذلك إلى سنة ثلاث وأربع مئة، ثم تضاعفت. وفيها توفِّي إسماعيل (¬3) بن عبَّاد ابن العباس، أبو القاسم، الصاحب، الطَّالقاني [ويُلقَّب] بكافي الكُفاة، كتبَ لمؤيَّد الدولة بن بُوَيه، فقصده أبو الفتح بن العميد ذو الكفايتين وزيرُ ركن الدولة، فأزاله عن كتابة مؤيَّد الدولة، وأبعده إلى أصبهان، فنصرَه الله عليه، وأعاده إلى الوزارة. وقال إبراهيم بن علي النَّصيبي: كان ابنُ العميد قد أبعدَ الصاحبَ بنَ عبَّاد من الزيِّ إلى أصبهان، وانفرد بتدبير أمورِ مؤيَّد الدولة على ما كان عليه من ركن الدولة، فلمَّا كان في بعض العشايا سُرَّ سُرورًا زائدًا، فاستدعى ندماءه، وعبَّأَ لهم مجلسًا عظيمًا فيه آلاتُ ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه في الكامل 9/ 112 - 113. (¬2) في المنتظم 14/ 374 والخبر فيه: تسعة، والمثبت من النسخ، وهو الموافق لما في النجوم الزاهرة 4/ 169. (¬3) في (م) و (م 1): الصاحب، وشُهر بالصاحب؛ لا أنَّه صاحب الوزير أبا الفضل بن العميد. ينظر السير 16/ 512، وترجمته في المنتظم 14/ 375 - 377، ويتيمة الدهر 3/ 225 - 337، ومعجم الأدباء 6/ 168 - 317.

الذهب والفضة، وفاخرُ الزجاج والصيني والأراييح الطيبة، والفاكهة الكثيرة، وأحضر المُغنِّين، وشرب باقي ليلته، وعمل شعرًا يُغنِّي به، وهو: [من المتقارب] دعوتُ المنى ودعوتُ العلى ... فلمَّا أجابا دعوتُ القَدَحْ وقلتُ لأيّامِ شرخ الشباب ... إليَّ فهذا أوانُ الفَرَحْ إذا بلغَ المرءُ آمالهُ ... فليس له بعدها مُقتَرَحْ وشرب إلى أن سكِرَ، ثم قال لغلمانه: غطُّوا المجلس لأصطبح في غدٍ عليه. وقال لنُدمائه: باكِرونِي ولا تتأخَّروا. وقام إلى بيت منامه، وانصرف النُّدماءُ، ودعاه مؤيَّدُ الدولة في السَّحَر، فظَنَّ أنَّه لِمُهِمٍّ، فقبضَ عليه، وأنفذ إلى داره، فأخذ جميعَ ما فيها، وتطاولت به النَّكبة حتَّى مات فيها، ثم بعثَ مؤيَّدُ الدولة إلى أصبهان، فأحضر الصاحب بن عبَّاد، فاستَوْزَره، ثم وَزَر لأخيه فخرِ الدولة، وبقي في الوزارة ثمانيةَ عشر سنة وشهورًا، وفتح خمسين قلعة لفخر الدولة. وكان الصاحبُ عالمًا بفنون العلوم، لم يُقارِبْه فيها وزير، وله التصانيف الحِسان، والنثرُ البالغ، وقد عاب المتنبي في مواضِعَ، وكانت كتُبُه تُحمل على أربع مئة جَمَل، وكان يُصنِّف في أسفاره، ومعه العلماء [والأدباء]، وكان يقول لهم: نحن في الليل إخوان، وأنا في النهار سلطان. [وكان أبو منصور الثعالبي خصيصًا به، وله صنَّف فِقه اللغة وسرَّ العربية]. وسمع الصاحبُ الحديثَ وأملاه، ولمَّا عزم على الإملاء -وهو يومئذٍ في الوزارة- خرجَ مُطَيلَسًا مُتحنِّكًا (¬1) بزِيِّ أهل العلم، فقال: قد علمتُم قِدَمي في العلم. فأقرُّوا له بذلك، فقال: أنا متلبِّسٌ هذا الأمر، وجميع ما أنفقتُه من صغري إلى هذا الوقت من مال أبي وجدّي، ومع هذا فلا أخلو من تَبِعات أُشهِدُ اللهَ وأُشهِدُكم أني تائبٌ إلى الله تعالى من كلِّ ذنبٍ أذنبتُه. واتَّخذ لنفسه بيتًا، وسمَّاه بيت التوبة، ولبث أسبوعًا على ذلك، وأخذ خطوط الفقهاء بصحَّة توبته، وقعد للإملاء، وحضر خلقٌ عظيمٌ، حتَّى كان المستملي الواحدُ ينضاف إليه ستة، وكان ممَّن كتب عنه القاضي عبد الجبار. ¬

_ (¬1) مُطَيلسًا: يلبس الطيلسان من الثياب، ومُتحنكًا: أي يُدير عمامته من تحتِ حَنكِه.

وكان الصاحب يُنفِذُ في كل سنة إلى بغداد خمسةَ آلاف دينار، تُفَرَّقُ في أهل الأدب والفقهاء. وكان يُبغض من يميل إلى الفلسفة والمنطق. وكان يأمر بالمعروف، ولا تأخذه في الله لومةُ لائم. وأهدى إليه القاضي العميريُّ كُتبًا كثيرةً، وكتب معها: [من الخفيف] العميريُّ عبدُ كافي الكُفاةِ ... وإنِ اعتُدَّ في وجوهِ القُضاةِ خدمَ المجلسَ الرفيعَ بِكُتْبٍ ... مُفعَماتٍ من حُسنِها مُترعاتِ فأخذ منها كتابًا وكتب معها ورَدَّها: قد قبِلْنا من الجميع كتابًا ... ورَدَدْنا لوقتِها الباقياتِ لستُ أَستغنِمُ الكثيرَ فطبعي ... قولُ خُذْ ليسَ مذهبي قولَ هاتِ وكان حليمًا، رقيقَ القلب، استدعى يومًا بشرابٍ، فجيء بقدحٍ فيه شراب، فقال له بعضُ خواصِّه: لا تَشْرَبْه، فإنه مسموم. قال: ومِنْ أين أعلم؟ قال: جَرِّبْه في الَّذي أعطاكَه. قال: لا أستحِلُّ. قال: ففي دجاجةٍ. قال: المُثْلة بالحيوان لا تجوز. فصبَّ القدح بما فيه، وقال للغلام: لا تدخُلْ داري. ولم يقطَعْ عنه جِرايتَه. وكان الصاحبُ أفضلَ وزراء الدَّيلم، ووَزَر لهم جماعة في ملكهم، وكان مُلْكُهم مئةً وعشرين سنة، وهو أولُ من لُقِّب بالصاحب في الإسلام. وصنَّف كتبًا كثيرة في اللغة وغيرها، وله الكلام الحسن [المليح]، فمنه في صفة الحَرِّ: حَرٌّ يُشبه قلبَ الصَّبِّ، ويُذيبُ دِماغَ الضبِّ. وقال: الغيث لا يخلو من العَيْث (¬1). وقال: هو بين جاهٍ عريض وعيشٍ غريض (¬2). وقال: لا ضَيعةَ على من له صَنْعة. وقال: شِيَمُ الأحرارِ أَحْرارُ الشِّيَم، ونِعَمُ الأفاضِلِ أفاضلُ النِّعم. وقال يصف شقائقَ النُّعمان: قابلَتْني شقائقُ كالزُّنوج، تجارحَتْ فسالَتْ دِماؤُها، [وضَعُفَتْ] (¬3) فبقيَ ذَماؤُها (¬4). وقيل له: ينبغي أن تمنعَ الناس من دارك، فإنه يدخلُها مَنْ لا يليق. فقال: دارُنا هذه خانٌ ينزلها من وفَّى ومَنْ خان. ¬

_ (¬1) العَيْث: الإفساد. الصحاح (عيث). (¬2) الغريض: الطري. الصحاح (غرض). (¬3) ما بين حاصرتين من يتيمة الدهر 3/ 288. (¬4) الذَّماء: بقية الروح في المذبوح. الصحاح (ذمي).

ودخل عليه أبو القاسم عبد الصمد بن بابَك الشاعر، فقال له الصاحب: أنتَ ابنُ بابَك؟ فقال عبد الصمد: أنا ابنُ بابِك. فعجِبَ الصاحبُ من جوابه، ووصله. ولمَّا سار مع فخر الدولة إلى الأهواز مرض، فلمَّا عُوفي أباح للفقراء جميعَ ما كان في داره من مال وفُرشٍ وأثاث [وغيره]، وكانت قيمتُه خمسين ألف دينار. ذكر وفاته: مرض بالرَّيِّ بعلَّة الذَّرب (¬1) والسَّجَج (¬2)، فكان إذا قام من الطَّست ترك عنده عشرةَ دنانير فيأخذها الفراشون [فكانوا يتمنَّون دوام مرضه. وقال ابن الصابئ]: ولمَّا اعتَّل مُنِعَ عنه التركُ والدَّيلمُ والعالمُ والملوكُ [من الدخول عليه]، فكانوا يأتون كلَّ يومٍ إلى [بابه فيقبِّلون العتبة وينصرفون؛ لأنه كان محسنًا إليهم، وكان فخر الدولة يأتي كلَّ يومٍ] إلى عيادته، فلما يئس منه قال: أوصِني. قال: قد خدمتُكَ خدمةً استفرغْتُ فيها الوُسْعَ، وسرتُ في دولتك بالسِّيرةِ التي حصل لك بها حُسنُ الذِّكر، فإن أجريتَ الأمور بعدي على رسومها نُسِبَ الجميلُ إليك، واستمرت الأُحدوثة الطيِّبةُ عنكَ، وأُنسيتُ أنا في أثناء ما يُثنى به عليكَ، وإن عَدَلْتَ عن ذلك السَّننِ وغيَّرتَ كُنْتُ أنا المشكور على ذلك، وقدَح فِعلُكَ في دولتِكَ. فقال: سمعًا وطاعة. وكانت وفاته بالرَّيِّ عشيةَ ليلة الخميس، لخمسٍ بَقِينَ من صفر [من هذه السنة] ولمَّا خرج تابوتُه قام الملوك [والوزراء] (¬3) والأمراء والأعيان؛ إعظامًا له، وقبَّلوا الأرضَ، وصلَّوا عليه، وعلَّقوا التابوت بسلاسل في بيت كبير، ثم نُقِلَ إلى أصبهان، فدُفِنَ في تربةٍ كانت له هناك، وأخذَ فخرُ الدولة جميعَ ما كان في يدهِ ودارِه، وبلَغَه أنَّ القاضي عبدَ الجبار قال: إنَّ الصاحِبَ لم يَمُتْ عن توبةٍ [ظهرَتْ] منه. فأرسل فخرُ الدولة فقبضَ عليه، وصادره على ثلاثة آلاف ألف درهم، فيقال: إنه باع ألف طَيلسانٍ وألفَ ثوبٍ من الصوف. مات والده عبَّاد بن العباس (¬4) بعده بيسير في هذه السنة، وكُنيته أبو الحسن، وكان رئيسًا فاضلًا، سمع الحديث، وصنَّف كتاب "أحكام القرآن" [وسمع أبا خليفة الفضل ¬

_ (¬1) الذَّرب: الداء الَّذي يعرض للمعدة فلا تهضم الطعام، فيفسد فيها ولا تمُسكه. اللسان (ذرب). (¬2) يقال: سجَّ بطنُه سجًّا: رقَّ ما يخرج منه من الغائط. المعجم الوسيط (سجج). (¬3) ما بين حاصرتين من (م 1) وحدها. (¬4) تنظر ترجمته في أخبار أصبهان 2/ 103، وينظر معجم الأدباء في ترجمة ابنه إسماعيل الصاحب.

بشر بن هارون

ابن الحُباب]. وروى عنه [ابنه إسماعيل الوزير و] أبو بكر بن مردويه، وغيره. وأصله من الطَّالقان: وهي قريةٌ كبيرة بين قَزوين وأبْهَر، وحولها عدة قرى. وقيل: هو إقليمٌ يقع عليه هذا الاسم، وبخراسان مدينة يقال لها: طالقان غير هذه [خرج منها جماعة من المُحدِّثين]. بشر بن هارون أبو نصر، النصراني، الكاتب، كان شاعرًا هجَّاة، خبيثَ اللسان، كتب إلى إبراهيم الصابئ: [من السريع] حضرتُ بالجسمِ وقد كُنْتُ ... بالنَّفسِ وإن لَمْ تَرَني حاضرا أنْطَقني بالشعرِ حُبِّي لَكُمْ ... ولَمْ أكُنْ من قبلِها شاعِرا فكتب إبراهيم تحت خطِّه: ولا بعدَها. وكتب إلى العباس بن الحسين الشيرازي الوزير: [من الخفيف] أيُّهذا الوزيرُ واللهِ إنْ لَمْ ... تتفضَّلْ عليَّ بالتَّصريفِ وتَدَعْني بحيثُ توجِب إخْـ ... ـلاصي من المنزلِ الرفيعِ الشريفِ ليكونَنْ لي وللشِّعرِ شأنٌ ... وافتنانٌ في كلِّ معنًى ظريفِ وكتب له الوزير أبو منصور بن صالحان إلى وكيله بحِنْطةٍ ودراهمَ، فمَطَله، فكتب إلى الوزير: [من الخفيف] أيُّها السيِّدُ الكريمُ الجليلُ ... هلْ إلى نظرةٍ إليكَ سبيلُ فأُناجيكَ باشتكائي وكيلًا ... ليس حسبي وليس نِعْمَ الوكيلُ الحسن بن حامد (¬1) ابن الحسن بن حامد، أبو محمد، الأديب، كان فاضلًا يتَّجِرُ، وله مالٌ كثير، ولمَّا قدم المتنبي بغداد نزل عليه فخدمه، وقام بأموره، فقال له المتنبي: لو كُنْتُ مادحًا تاجرًا لمدحتُكَ. ومن شعره: [من الطويل] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 303 - 304، وتاريخ دمشق 13/ 48، والمنتظم 14/ 377.

خرشيذ بن دبار

شَريتُ المعالي غيرَ منتظرٍ بها ... كسادًا ولا سوقًا تُقامُ لها أُخْرَى وما أنا من أهل المِكاسِ (¬1) وكُلَّما ... توفَّرتِ الأثمانُ كُنْتُ لها أشْرَى خُرَّشيذ بن دبار (¬2) أبو نصر، الديلمي، كان مُقدَّمَ الجيوش، غضب عليه بهاء الدولة [وحبسه، فهرب إلى مُهذَّب الدولة] (¬3) إلى البَطيحة، فكتب إليه فخر الدولة وبدر بن حسنويه يُرغِّبانه في القدوم إليهما، فامَّا فخر الدولة فكان في كتابه [إليه]: يا أبا نصر، لعلَّك تُسيء الظنَّ بنا للقبيح الَّذي قَدَّمْتَه في خدمة عضد الدولة، وما كُنَّا لنؤاخِذكَ بطاعةِ مَن قدَّمك واصطنَعك، ومناصحةِ مَنْ رفَعَ قَدْرَك، وأخذ بِضَبْعيكَ، وقد علمتَ ما عامَلْنا به ابنَ عبَّاد، وأنَّنا طوينا كلَّ ما كان بيننا وبينه، واستأنفنا معه من الإكرام والإنعام والتفويض ما لم يخطُرْ بباله، ولك علينا عهدُ الله وميثاقُه أنَّك آمنٌ من كلِّ ما تخافُه وتحذرُه، وأنَّنا نُنْزِلُكَ حيثُ تُحِبُّ وتؤثر، فإنْ آثرتَ الخدمةَ رفعناكَ إلى أعلى مراتِبِها، وأرفعِ درجاتِها، وإن اخترت العُزلةَ والدَّعَةَ أجرينا لك كل سنة مال أصبهان مئة ألف درهم، ورفَّهناكَ على المقامِ بدارِكَ، والسلام. وكان في كتاب بدر بن حسنويه: لكَ القلعة الفلانيةِ، وفي كلِّ سنة مئةُ ألفِ درهم. فاتَّفَقَ أنْ ضَرَبَه قُولنج بالبَطيحَة فمات. عَقيل بن محمد (¬4) أبو الحسن، الأحنف، العُكْبَري، الأديب، الشاعر، ومن شعره: [مجزوء الرمل] مَنْ أرادَ المُلكَ والرَّا ... حةَ مِنْ همٍّ طويلِ فَليَكُنْ فردًا من النَّا ... سِ وَيرْضى بالقليلِ ويَرى بالحَزْمِ أنَّ الـ ... ـحَزْمَ في تَرْكِ الفُضولِ ¬

_ (¬1) الماكس: هو الَّذي ينقص الثمن في البيع. اللسان (مكى). (¬2) ينظر الكامل 9/ 112 وفيه اسمه: خواشاذه. (¬3) ما بين حاصرتين هنا وفي الوضع الآتي من (ب). (¬4) المنتظم 14/ 380 - 381.

علي بن عمر

ويُداوي مرضَ الوَحْـ ... ـدة بالصبرِ الجميلِ لا يُماري أحدًا ما ... عاشَ في قَالٍ وقِيل يَلزمُ الصمتَ فإن الصَّـ ... ـمتَ تهذيبُ العُقولِ يَذَرُ الكِبْر لأهليـ ... ـهِ ويرضى بالخُمولِ أيُّ عيشٍ لامرئٍ يُصْـ ... ـبحُ في حالٍ ذليلِ بين قصدٍ من عدوٍّ ... ومُداراةِ جَهولِ واعتلالٍ من صديقٍ ... وتَجنٍّ من مَلولِ واحتراسٍ من ظنونِ ... السُّوءِ أو عَذْلِ عَذولِ ومقاساةِ بغيضٍ ... ومُحاشاةِ ثقيلِ أُفٍّ من معرفة النا ... س على كلِّ سبيلِ فإذا أَكمل هذا ... كانَ في مُلْكٍ جليلِ علي بن عمر (¬1) ابن أحمد بن مهدي، أبو الحسن، الدارقطني، المُحدِّث، يُنسب إلى دار القطن، وهي محلَّةٌ غربيَّ بغداد، بنهرِ طابق، ولد سنة خمس وثلاث مئة، وكان فريدَ عصرِه، وقريعَ دهرِه، ونسيجَ وحدِه، وإمامَ وقتِه، وإليه انتهى علمُ الأثر، ومعرفةُ عللِ الأحاديث، وأسامي الرجال، وأحوالِ الرُّواة، مع الصدقِ والأمانة، والثقةِ والعدالة، وقبولِ الشهادة، وصحةِ الاعتقاد، وسلامةِ المذهب، وصنَّف "السنن" و"العلل"، ودَرس الفقهَ على مذهب الشافعي على أبي سعيد الإصطخري، وكان عالمًا بالقراءات والشعر، يحفظ دواوين، منها: ديوان السيد الحميري (¬2)، حتَّى نُسِبَ بذلك إلى التشيُّع، وسافر إلى الشام ومصر. وقال أبو الطيب الطبري: الدارقطنيّ أميرُ المؤمنين في الحديث. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 12/ 37 - 39، وتاريخ دمشق 43/ 93 - 106 (ط. دار الفكر)، والمنتظم 14/ 378 - 380. وينظر السير 16/ 449. (¬2) تحرفت في (خ) و (ب) إلى: الحريري، والمثبت من المصادر.

عمر بن أحمد

وقال الحاكم: ما رأى الدارقطنيُّ مثلَ نفسه. وذكر في "سننه" أحاديثَ الجهر بالبسملة، فلمَّا دخلَ مصرَ سأله بعضُ أهلِها أن يُصنِّف في الجهر شيئًا، فصنَّف جزءًا في ذلك، فقال له بعض المالكية: أقسمتُ عليكَ بالله أن تُخبرني بالصحيح من هذه الأخبار. فقال: كلُّ ما رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهر فليس بصحيح. وسببُ دخوله مصر أنَّ ابنَ حَنْزابةَ الوزير صنَّف مسندًا، فبلغه، فسافر إليه، وجمعه له، فحصل منه مالًا عظيمًا. وتوفِّي ببغداد في ذي القَعدة، ودُفِنَ بمقبرة باب الدير قريبًا من قبر معروف (¬1)، وله تسع وسبعون سنة، وسمعَ البغويَّ وغيرَه، وروى عنه البَرْقاني وغيرُه. عمر بن أحمد (¬2) ابن عثمان بن زاذان، أبو حفص، البغدادي، الواعظ، يُعرف بابن شاهين، وُلِد في صفر سنة سبع وتسعين ومئتين، وسافر إلى البلاد، وسمع خلقًا كثيرًا، وكتب الحديث وله إحدى عشرة سنة سنةَ ثمانٍ وثلاثٍ مئة، وجمع الأبواب والتراجم، وقال: صنَّفتُ ثلاثَ مئة وثلاثين مصنَّفًا، منها: "التفسير الكبير" ألف جزء، و"المسند" ألف وخمس مئة جزء، و"التاريخ" خمسون ومئة جزء، و"الزهد" مئة جزء، وحسبتُ ما اشتريتُ به الحبرَ فكان سبعَ مئة درهم، كلُّ أربعة أرطال بدرهم. وأقام ابنُ شاهين بعد هذا زمانًا يشتري الحبر ويكتب، وكان إذا ذُكِرَ عنده الفقهاء كالشافعيِّ -رحمة الله عليه- وغيرِه، يقول: أنا محمديُّ المذهب، يعني أنَّه لا يُقلِّدُ أحدًا. وقال الخطيب: ما كان يعرف من الفقه قليلًا ولا كثيرًا. وكانت وفاتُه ببغداد في ذي الحَجَّة، ودُفِنَ بباب حرب، سمع الباغَنْدي وغيرَه، وروى عنه البَرْقاني وغيرُه، وكان فاضلًا صدوقًا ثقة. ¬

_ (¬1) يعني معروف الكرخي. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 265 - 268، وتاريخ دمشق 43/ 534 - 538 (ط. دار الفكر)، والمنتظم 14/ 378. وينظر السير 16/ 431.

محمد بن عبد الله

محمد بن عبد الله (¬1) ابن سُكَّرة، أبو الحسن، الهاشمي، البغدادي، ويُعرف بابن رائطة، من ولد علي بن المهدي، وكان شاعرًا ظريفًا فصيحًا، فمن شعره: [من المنسرح] في وجهِ إنسانةٍ كَلِفْتُ بها ... أربعةٌ ما اجتمَعْنَ في أحدِ الوجهُ بَدْرٌ والصُّدغُ غاليةٌ ... والريقٌ خمرٌ والثَّغرُ من بَرَدِ ودخل حمَّامًا، فَسُرِقَ مداسُه، فخرج إلى داره حافيًا، وقال: [من الوافر] إليكَ أذُمُّ حمَّامَ ابنِ موسى ... وإن فاقَ المنى طيبًا وحَرَّا تكاثَرتِ اللصوصُ عليه حتَّى ... لَيَحْفى مَنْ يطيفُ به وَيعرى ولم أفقِدْ بهِ ثوبًا ولكِنْ ... دخلتُ محمدًا وخرجتُ بِشْرا ومن شعره في أبي السائب القاضي: [من السريع] إنْ شِئْتَ أن تُبصِرَ أُعجوبةً ... من جَوْرِ أحكامِ أبي السائبِ فاعْمَدْ من اللَّيلِ إلى صرَّةٍ ... وقَرِّرِ الأمرَ مع الحاجِبِ حتَّى ترى مروانَ يُقْضَى لَهُ ... على عليِّ بنِ أبي طالبِ ولمَّا ضربَ مُعِزُّ الدولة أبا محمد المُهلَّبي وطالبَه بالأموال، كتبَ إليه ابن سُكَّرة -وكانُ مُعِزُّ الدولةِ أشلَّ، وقيل: أقطع-: [من مجزوء الخفيف] أيُّها السيِّدُ الذي ... هو في جُوده مَثَلْ والذي سَيبُ (¬2) كفِّه ... طبقَ السهلَ والجبَلْ جئتُ أدعو على يدٍ ... أثَّرت فيكَ بالشَّلَلْ وتأمَّلْتُ أمرَها ... فإذا اللهُ قَدْ فعَلْ فلما وقف عليها المُهلَّبي قال: إيَّاك أن يقِفَ على هذه الرُّقعة أحدٌ، فنقعَ في أكثر ممَّا نحن فيه. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 465، والمنتظم 14/ 382، ويتيمة الدهر 3/ 3 - 29. وينظر السير 16/ 522. (¬2) السَّيْب: العطاء. المعجم الوسيط (سيب).

يوسف بن عمر

وكان ابن سُكَّرة ينوب عن أبي القاسم الزّينبي في نقابة العلويين، فأرسل إليه الزَّينبي أن يحكم بين امرأة ورجل تنازعا في جمل، فأخَّرَ ذلك، فبعثَ إليه يُعاتِبُه، فكتب إليه: هذه المرأة اسمها عائشة، والرجل اسمه علي، والخصومة في جمل، وأخاف أن أحكم بينهما فتعود الحال جَذَعَةً. فضحِكَ أبو القاسم. وكانت وفاتهُ في ربيع الأول. يوسف بن عمر (¬1) ابن مسرور، أبو الفتح، ابن القوَّاس، البغدادي، ولد سنة ثلاث مئة. [قال الخطيب]: وكان من الأبدال، مُجاب الدعوة، أخرج يومًا جزءًا من كتُبه، فوجد فيه قرض فأرة، فدعا على الفأرة التي قرضَتْه، فسقطَتْ من السقف فارةٌ، فلم تزَلْ تضطرِبُ حتَّى ماتت. وقال محمد بن [علي] العلاف: حضرتُ مجلس الوعظ عند ابن شمعون، وهو يتكلَّم على كرسيِّه وابن القواس حاضرٌ إلى جنب الكرسي، فغشِيَه النُّعاسُ، فأمسكَ ابن شمعون عن الكلام ساعةً، فاستيقظ أبو الفتح، فقال له ابن شمعون: رأيتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام؟ قال: نعم. قال: فلذلك أمسكتُ عن الكلام؛ لئلَّا ينقطع عنك ما كنت فيه. وكانت وفاةُ ابن القوَّاس في ربيع الآخر، ودُفِن قريبًا من الإمام أحمد [بن حنبل] رحمة الله عليه. سمع البغويَّ وغيرَه، وروى عنه الجوهريُّ وغيرُه، واتَّفقوا على صلاحِه وثِقَتِه. [وحكى الخطيب عن] الدارقطني [أنَّه قال]: كنَّا نتبرَّك بيوسف بن القوَّاس وهو صبيٌّ. يوسف بن أبي سعيد (¬2) أبو محمد، السِّيرافي، النحوي، كان فاضلًا صالحًا، تمَّم كتاب "شرح سيبويه" لأبيه، وتوفِّي ببغداد عن خمس وخمسين سنة. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 14/ 325 - 327، والمنتظم 14/ 382. (¬2) المنتظم 14/ 382.

السنة السادسة والثمانون وثلاث مئة

السنة السادسة والثمانون وثلاث مئة [ذكر هلال بن الصابئ أنَّ] فيها في المُحرَّم ادَّعى أهلُ البصرة أنهم كشفوا عن قبر عتيق، فوجدوا فيه ميتًا طريًّا بثيابه وسيفه، وأنه الزبير بن العوام، فأخرجوه وكفَّنوه، ودفنوه بالمِرْبد، وبنى عليه الأمير أبو المسك عنبر بناءً، وجعله مشهدًا، ونُقِلَتْ إليه القناديلُ والحصيرُ والآلاتُ، وأُقيم [فيه] قُوَّامٌ وحفَظةٌ، وأُوقِفَتْ عليه وقوفٌ (¬1). وفي المُحرَّم أيضًا توفيت بنت عضد الدولة زوجةُ الطائع وحُمِلتْ تركتُها إلى بهاء الدولة، وفيها جواهر كثيرة. وفي شوَّال خَلَعَ الخليفةُ على أبي الحسن ابن حاجب النعمان واستكْتَبَه. وفيها قُلِّد أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن المهتدي الصلاةَ [في جامع المنصور، وأبو بكر التمام بن محمد بن هارون الصلاة في] (¬2) جامع الرُّصافة. [وفيها] حجَّ بالناس أبو عبد الله بن عبيد الله العلوي، وحمل أبو النجم بدر بن حسنويه [والي الجبل] خمسة آلاف دينار مع وجوه القوافل الخراسانية؛ ليدفع إلى الأُصَيفِر عوضًا عما كان يُجبى إليه من الحاجِّ في كل سنة، وجعل ذلك رسمًا، وزاد فيه من بعد، حتَّى بلغ تسعة آلاف دينار إلى حين وفاته. وفيها تُوفِّي أحمد بن إبراهيم بن محمد (¬3) أبو حامد، النيسابوري، المُزَكِّي، وُلدَ سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة، وصام الدهرَ تسعًا وعشرين سنة، وتوفِّي ثالث عشر شعبان. قال الحاكم: وعندي أنَّ المَلَكَ لم يكتُبْ ¬

_ (¬1) جاء بعدها في (م) و (م 1) ما نصُّه: قلتُ: قد ذكرنا أن الزبير قُتل بوادي السباع بعيدًا عن البصرة، ويحتمل أن يكون الرجل طلحة بن عبيد الله، وقد ذكرنا أن ابنته نقلته من المكان الَّذي كان فيه إلى الموضع الَّذي يُعرف اليوم بقبره، وكيف يبقى الزبير نيِّفًا وثلاثين سنة، وقد ذكرنا أن قاتل الزبير أتى بسيفه إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - وخاتمه، فيحتمل أن هذا الرجل من بعض القتلى الذين قتلوا بالبصرة في بعض الفتن. قلت: والخبر -دون هذه الزيادة- في المنتظم 14/ 383، وكذلك الأخبار الآتية. (¬2) ما بين حاصرتين من المنتظم 214/ 383. (¬3) تاريخ بغداد 4/ 20، والمنتظم 14/ 384.

أحمد بن علي بن أحمد

عليه خطيئة. سمع أبا العباس الأصمَّ وطبقتَه، ولم يزل معروفًا بالعبادة من زمن الصبا إلى أن توفي، وروى عنه محمد بن المظفر الحافظ وغيره. وقال الحاكم: حدثني أبو عبد الله ابن إبراهيم أنَّه رأى أخاه أبا حامد في المنام في نعمةٍ وراحةٍ، ووصفها، فسأله عن حاله، فقال: لقد أنعمَ اللهُ عليَّ، فإن أردتَ اللَّحاقَ بي فالزم ما كُنْتُ عليه. أحمد بن علي بن أحمد (¬1) أبو علي، المدائني، ويُلقَّب بالهائم، روى عن السَّري الرفَّاء ديوانَه، وكان شاعرًا فاضلًا، مات ببغداد في صفر، ومن شعره في كَوْسَج: [من المنسرح] وَجْهُ اليمانيَّ مَنْ تأمَّلَهُ ... أبصرَ فيه الوجودَ والعَدَما قد شابَ عُثْنونُهُ (¬2) وشارِبُهُ ... وعارضاه لم يبلُغا الحُلُما محمد بن إبراهيم بن أحمد أبو بكر، السُّوسي، شيخ الصوفية بدمشق، الزاهد، العابد، ما عقدَ على درهمٍ ولا دينارٍ، ولا اغتسلَ من مباشرةِ حلالٍ ولا حرام، ومات بدمشق، حدَّث عن أحمد بن عطاء الرُّوذْباري وأقرانه، ولقي المشايخ، وروى عنه أبو نصر بن الحُباب وغيره. محمد بن علي بن عطية (¬3) أبو طالب، المكي [لزاهد]، صاحب "قوت القلوب"، من أهل الجبل، نشأ بمكة، ودخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن بن سالم، فانتمى إلى مقالته. وقال العَتيقي: كان أبو طالب رجلًا صالحًا [مجتهدًا]، صنَّف كتابًا سمَّاه "قوت القلوب"، ذكر فيه أحاديثَ لا أصل لها، وكان يعِظُ الناس ببغداد في الجامع. وقال ابن العلَّاف: قدم أبو طالب بغداد، فاجتمع إليه الناس في مجلس الوعظ، فخلط في كلامه، وحفظ عنه أنَّه قال: ليس على المخلوقين أضرُّ من الخالق. فبدَّعه الناس وهجروه، فامتنع من الكلام على ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 317. (¬2) العُثنون: ما نبت على الذقن وتحته سُفلًا. المعجم الوسيط (عثن). (¬3) تاريخ بغداد 7/ 89، والمنتظم 14/ 385. وينظر السير 16/ 536.

الناس بعد ذلك، ودخل عليه عبد الصمد الزاهد ولامه على إباحة السماع، فأنشد: [من المتقارب] فيا ليلُ كَمْ فيكَ من متعةٍ ... ويا صبحُ ليتَكَ لم تقرَبِ فخرج عبد الصمد مُغضَبًا. ذكر وفاته: قال أبو القاسم بن بِشْران: دخلتُ على شيخنا أبي طالب المكي [في] وقت وفاته، فقلتُ: أوصني. فقال: إذا علمتَ أنَّه قد خُتِمَ لي بخير، فإذا خرجت جنازتي فانثُرْ عليَّ اللوز والسُّكَّر وقُلْ هذا للحاذف. فقلت: من أين أعلم؟ فقال: خُذْ بيدي عند وفاتي، فإذا أنا قبضتُ بيدي على يدك، فاعلَمْ أنَّه قد خَتَمَ الله لي بخير، وإذا أنا لم أقبِضْ على يدك وسيَّبتُ يدي من يدك، فاعلم أنَّه لم يَختِمْ لي بخير. فقعدتُ عند رأسه عند وفاته، فقبض يدي قبضًا شديدًا، فلمَّا أُخرِجَتْ جنازتُه نثرتُ عليه السُّكر واللوز، وقلتُ هذا للحاذف كما أمرني، وكانت وفاتُه في جمادى الآخرة، ودُفِنَ قريبًا من جامع الرُّصافة شرقيَّ بغداد. حدَّث عن علي بن أحمد المِصِّيصي وغيرِه، وروى عنه محمد بن المظفر وغيرُه. ولا خلافَ أنَّه كان صالحًا عابدًا زاهدًا، وله مصنَّفاتٌ في التوحيد، والأحاديثُ التي أُنكِرَتْ عليه إنما هي مما يتعلَّق بالصِّفات وغيرِها، وكتابُ "القوت" كتابٌ مفيدٌ صدَرَ عن مجاهداتٍ وذَوْقٍ، ومعاملاتٍ وتَوْقٍ، ورياضاتٍ وشَوْقٍ (¬1)، ولم يصنَّف قبلَه في فنِّه مثلَه، وانتفع به الغزالي، فإنه سَلَكَ أسلوبه في كتاب "الإحياء"، وقد انتفع به خلق كثير، وأمَّا ما نُقِلَ عنه من الشَّطح فمحمولٌ -على ما يبدو- من القوم في حالة القبض -إن ثبت عنه- فإنه كان أورعَ من أن يتلفَّظ بمثل هذه الكلمات التي تُوقعه في المحظورات. ¬

_ (¬1) في النسخ تقديم وتأخير: وشوق ورياضاتِ، وأثبت هكذا لاستقامة السجع.

نزاز بن معد

نزاز بن مَعَدّ (¬1) أبو منصور، ويُلقَّب بالعزيز صاحب مصر، ولد بالمهديَّة بالقيروان، سنة أربع أو اثنتين وأربعين وثلاث مئة، يوم عاشوراء، في ربيع الآخر، وخرج إلى القاهرة مع أبيه أبي تميم مُعَدّ الملقب بالمُعِزّ، ولمَّا مات أبوه وَليَ الأمرَ وله اثنان وعشرون سنة، وقد ذكرنا وقائعه، وكان حسنَ التدبير، كثيرَ الحلم، قليلَ سفكٍ للدماء لا يرى ذلك، عادلًا جوادًا، وكانت وفاته بالقاهرة في رمضان -وقيل: بالشام، وقيل: ببِلْبيس- في الحمَّام، وعمره اثنان وأربعون سنة وثمانية أشهر، وكانت أيامُّه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، وولي مكانَه ولدُه أبو علي منصور، ولُقِّبِ بالحاكم بأمر الله، المنتقمِ من أعداء الله، وسِنُّه يومئذٍ خمسٌ وعشرون سنة. السنة السابعة والثمانون وثلاث مئة فيها توفِّي أبو العباس فيروز بن ركن الدولة بالرَّيِّ، وكان بهاء الدولة بواسط، فجلس في العزاء، وجلس ابنه أبو منصور ببغداد، وقيل: إن فخر الدولة سمَّه وسمَّ ولديه من بعده، فمات الكلُّ. وفي رجب توفِّي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة بن بُويه، وعادت طبرستان وجرجان إلى أبي الحسين قابوس بن وُشْمَكير، وكان فخر الدولة لمَّا مَلَكَ البلاد عزَمَ على ردِّها إلى قابوس، وكان أخوه مؤيَّد الدولة قد أخذها منه، فقال له الصاحب بن عبَّاد: هذه بلادٌ عظيمةٌ قد حصَلَتْ بيدك، ومتى أخرجتَها عنك ضيَّعتَ على نفسك من أموالِها ما لا تقتضيه السياسة والاحتياط للدولة. فأصغى إلى قوله، فلمَّا مات كتب أهل جرجان إلى قابوس يستدعونَه، فصار إليهم، وملَكَ إلى باب الريِّ، وجَرَتْ بينه وبين مجد الدولة -أبي طالب علي بن حمولا نائب فخر الدولة بجرجان- حروبٌ، فكان الاستظهار لقابوس، وكان مقيمًا بضياعٍ اشتراها بناحية أسفرايين، فكاتبَه أهلُ جُرجان، فصار إليهم، وقاموا معه فملكوه، وكان حسنَ السيرة، ناظرًا في حقِّ الرعية، ولمَّا ملَكَ رَفَع عنهم الرسومَ الجائرةَ والمكوسَ، فازدادوا حبًّا له. ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 386. وينظر السير 16/ 167.

الحسن بن إبراهيم

وفيها مات صندل مولى بهاء الدولة وصاحبُ خيله، وقام أبو مسك الأثير عنبر مقامَه. وفيها استولى الحاكمُ صاحبُ مصر على السواحل والشامات، وحجَّ بالناس أبو عبد الله العلوي. وفيها تُوفِّي الحسن بن إبراهيم (¬1) أبو محمد، المصري، ويعرف بابن زُولاق، العالم الفاضل، صنَّف "تاريخ مصر"، وكتاب "القضاة" جمع فيه أخبار بكَّار بن قتيبة وغيره، و [له] كتاب "المفاخرة بين مصر وبغداد"، و "فضل مصر بنيلها وهوائها وأماكنها وفَنارها (¬2) وعلمائها". سمع الحديث ورواه، وكان ثقةً صدوقًا، ومات بمصر في رجب. [ذِكْرُ طرف من أخبار مصر]: قال: إنَّ مصر أُسِّست قبل الطُّوفان، وإنَّ الطُّوفان كان مرَّ على الهرمين، واختارها نوحٌ لولده، ودعا لهم. قال: وبغداد أُسِّست في سنة خمس وأربعين ومئة على يد أبي جعفر المنصور. قلت: لا يلزم من هذا فضلُ مصر على بغداد، فإنَّ البيتَ المُقدَّسَ أقدَمُ من الكعبة، وفيه حديث أبي ذر، والكعبة أفضل بالاتفاق، ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء، وهو أفضل من الكلِّ. قال: ومنها نيل مصر وحلاوته ومنافعه وما يغلُّ من الأموال، وكونه أنَّه من آيات الله، وأنَّ مَنْ شرب من مائه زادت قوَّتُه. واحتجَّ بقول الشافعيِّ: دخلتُ مصر وأنا كالخَصيِّ، فرُزِقتُ بها الولد. قال: وماء دِجلة تُقلِّل شهوة الرجال، وتزيد في شهوة النساء، وتقطع صهيل الخيل، حتَّى إنَّ جماعةً من الأعراب لا يسقون خيلهم منها، ولا ينتفع بمائها إلا أسفلُ العراق، ومسافة ما يَعُمُّ البلاد من زيادة النيل دون الشهر، وإنَّ دِجْلة والفرات تنقسم ببغداد، إنها يحصل منها مثل مصر، فإن ارتفاع العراق كارتفاع مصر. وذكر الأطباء أنَّه لولا ما عندهم من الليمون والحوامض ما عاش بها أحد؛ لحلاوة الماء. ¬

_ (¬1) معجم الأدباء 7/ 225 - 230. وينظر السير 16/ 462. (¬2) المثبت من (ب)، وفي (خ): فنائها، وفي (م) و (م 1): ثمارها. الفَنار: شبه برجٍ مرتفع لإرشاد السفن في البحار والمحيطات إلى طرق السير. المعجم الوسيط (فنر).

الحسن بن عبد الله بن سعيد

قال: ومن فضائل مصر أنَّ الله ذكرها في ثمانية عشر موضعًا، وثبت أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "استوصوا بأهلها خيرًا، فإنَّ لهم ذِمَّةً ورَحِمًا" وقد ذكرنا الحديث. قال: ومنها أنَّ حرَّ مصر لا يمنع التصرُّف، وكذا شتاؤها ربيع، وبغداد يمنع حرُّها التصرُّفَ، وكذا شتاؤها. وفيها الأقوات، فإن مصر تُمير الحجاز واليمن والحرمين والهند والشام والجزيرة، وبَغداد لا تُميرُ أهلَها فضلًا عن غيرها. قال: ومنها ما يعمل بمصر من الثياب؛ الدَّبيقي والشرب والقصب، وليس في الدنيا بلدٌ يبلغ قيمة الحُلَّةِ فيه ألفَ دينارٍ وأكثرَ غيرَ مصر. قال: ومنها علماؤُها وزُهَّادُها؛ مثل الشافعي، ويوسف بن يحيى البُويطي ونُعيم بن حماد، والرَّسْعَني، والطحاوي. وفي القُضاة: بكار بن قُتيبة. وفي الزُّهَّاد: ذو النون المصري وغيرهم. وذَكر من علماء بغداد أحمدَ بن حنبل، قال: ضُرِبَ في زمن المحنة، ولم يجرِ عليه ما جرى على يوسف البويطي ونُعيم بن حماد، فإنَّ البُويطي مات في قيوده في أيام الواثق، وحُمِلَ من مصر إلى بغداد. وأما نُعيم بن حماد فحُمِلَ أيضًا في قيوده إلى بغداد، وامتُحِنَ فلم يُجِبْ، ومات في قيوده. وذكرَ موازنةً طويلةً. [وفيها توفِّي] الحسن بن عبد الله بن سعيد (¬1) أبو أحمد، العسكري، العلامة، الراوية، صاحب التصانيف الحِسان في اللغة والأدب والأمثال. قال أبو الحسن علي بن المظفر: قدمتُ البصرةَ، فقرأتُ على أبي أحمد العسكري، فقدم البصرةَ فخرُ الدولة، ومعه الصاحب بن عبَّاد، فبينا أنا أقرأ عليه إذ جاءت رُقعةٌ من الصاحب، فقرأها وكتب في ظَهرِها، وردَّها مع القاصد، فسألتُه عن ذلك، فقال: كتب إليَّ: [من الطويل] ¬

_ (¬1) المنتظم 14/ 387 - 388، ومعجم الأدباء 8/ 233 - 258. وينظر السير 16/ 413.

ولمَّا أبيتُم أن تَزوروا وقُلتُمُ ... ضَعُفنا فما نقوى على الوَخَدانِ (¬1) أتيناكُمُ من بعد أرضٍ نزورُكم ... وأشواقُنا تحْدو بِجَذْبِ عِنانِ (¬2) نُناشِدُكُمْ هل مِنْ قرًى لِنَزيلِكُم ... بقرب جوارٍ (¬3) لا بِمِلءِ جِفانِ فكتبتُ إليه: [من الطويل أيضًا] أرومُ نهوضًا ثم يَثْني عزيمتي ... تاؤُّدُ (¬4) أعضائي من الرَّجَفانِ فضمَنتُ بيتَ ابنِ الرشيدِ كأنما ... تعمَّدَ تشبيهي به وعَناني أَهُمُّ بأمرِ الحزمِ لو أستطيعُهُ ... وقد حِيلَ بين العَيرِ والنَّزَوانِ ومعنى ابن الرشيد الأمين لمَّا احيط به في حصار طاهر تمثل بهذا البيت. قلت: صوابه: ابن الشَّريد؛ فإن البيت لصخر بن الشَّريد (¬5)، في جملة أبيات، والقصة مشهورة، وكون الأمين تَمَثَّلَ به، لا يُقال: بيت الرشيد، بمجرَّدِ تمثلِه به، والله أعلم. قال: ثم نهضَ وقال: لا يقنع الصاحب مني هذا، ثم ركب دابةً إلى الخِيام، فوجدها مشتبِكَةً، فلم يصِلْ إليه، فصعد على تلٍّ ورفع صوته يقول أبي تمام: [من البسيط] ما لي أرى القُبَّةَ الفيحاءَ مُقْفَلةً ... دوني وقد طال ما استَفتحتُ مُقْفَلَها كأنَّها جنَّةُ الفردوسِ مُعرِضَةً ... وليسَ في عملٌ زَاكٍ فأدخُلَها قال: فناداه الصاحب: ادخُلْها أبا أحمد، فلكَ السابقةُ الأولى. فتبادر [إليه] (¬6) أصحابُه فحملوه حتى أجلسوه بين يديه، فسأله عن مسألةٍ، فقال [له] (¬7) أبو أحمد: الخبير فصادفت. فقال الصاحب: يا أبا أحمد، تُغرِبُ في كلِّ شيء، حتى في المثل؟ فقال: حاشا مولانا من السقوط؛ لأن المثل: على الخبيرِ سَقَطْتَ، فغيَّر العبارة وأتى بالمقصود، وكانت وفاتُه يوم التروية بالبصرة. ¬

_ (¬1) الوَخَدان: الإسراع في السير. المعجم الوسيط (وخد). (¬2) هكذا الشطر في (ب) و (خ)، وجاء في مصادر الترجمة، والخزانة 1/ 437 - 438، والوافي بالوفيات 12/ 77: فكم منزلٍ بِكرٍ لنا وعَوانِ. (¬3) في المصادر السابقة: بملء جفون. (¬4) التأوُّد: الاعوجاج والانثناء. المعجم الوسيط (أود)، وفي الخزانة: تعوُّص. وفي باقي المصادر: تعوُّذ. (¬5) صخر بن الشريد هو أخو الخنساء الصحابية المعروفة. (¬6) ما بين حاصرتين زيادة من المصادر. (¬7) ما بين حاصرتين زيادة من (ب).

الحسن بن مراون

[وفيها توفِّي] الحسن (¬1) بن مراون أبو علي، الكردي، الأمير، صاحب مَيَّافارقين، قد ذكرنا (¬2) بدايتَه وما فعل بأهل مَيَّافارقين [وإخراجهم من البلد]، فلمَّا تمكَّن من ديار بكر أرسل إلى حلب فخطبَ سِتَّ الناس بنت الأمير سعد الدولة شريف بن سيف الدولة بن حمدان، ونقدَها مئتي ألف درهم، وشرطوا عليه أن يدخل بها في آمِد، ويكونُ مُقامُه بها، فبعث إليها أعيانَ نساء ديار بكر وفي جملتهم بنت الخطيب أبي طاهر محمد بن عبد الرحيم (¬3) بن نُباتة، وجُهِّزتِ العروسُ أحسنَ [جَهاز]، وخرجت من حلب، وخرج الأمير أبو علي الحسن من ميَّافارقين إلى آمِد ليدخُلَ بها هناك، فوصلتِ العروسُ إلى الرُّها، فنزلت بظاهرها، وقد بعث إليها عسكرًا عظيمًا يتلقَّاها، وكانت ليلةً مقمرةً، فخرجت من المخيَّم في ضوء القمر، فسمعَتْ قائلًا يقول تسمع صوتَه ولا ترى شخصَه: [من المنسرح] لهفي على فارسٍ فُجِعتُ بِهِ ... أرملَني قبلَ ليلةِ العرسِ (¬4) فارتاعت وعادت إلى الخيمة وهي حزينة، فقالت لها بنت [ابن] نُباتَة: ما الذي بِكِ؟ فأخبرتها، فقالت: لا تَتوهَّمي، فكأنِّي بكِ غدًا مَلِكةَ ديار بكر. فسمعَتْ قائلًا يقول من وراء الخيمة: قد بقي إن تمَّ. فازدادت وهمًا (¬5)، وسارت يومين، وإذا بغبرةٍ قد أقبلت من أصحاب الأمير، فقالت لها: أبشري، [فهذه بشارة خير]، فلمَّا قَرُبوا خَبَّروا أنَّ الأمير قُتِلَ على باب آمِد، فرجعتِ المرأة (¬6) إلى حلب، وعاد النساء (¬7) إلى ميَّافارقين. ¬

_ (¬1) تحرف في (خ) إلى: الحسين، والتصويب من باقي النسخ. (¬2) تنظر أحداث سنة ثلاث مئة وأربع وتسعين. (¬3) في (خ) و (ب): أبي طاهر بن عبد الصمد، والمثبت من (م) و (م 1). (¬4) البيت للُبابة بنت علي ترثي زوجها محمد الأمين ابن هارون الرشيد حين قُتل عنها قبل أن يبني بها. العقد الفريد 1/ 360. (¬5) في (م) و (م 1): همًّا. (¬6) في (م) و (م 1): النساء. (¬7) في (م) و (م 1): وعادت المرأة.

وسبب قتله أنه خرج من مَيَّافارقين وأبقى الحاجب حمو بها، واستحجبَ ولده شروه، وسار بعساكره ومعه إخوته، فقال أخوه أبو نصر أحمد في نفسه وقد لاقَوا من الوحل والطين شدةً: لئِنْ ملَّكني اللهُ لأبنيَن ها هنا جسرًا يعبر الناس عليه. وساروا حتى وصلوا إلى تل العلوية قريبًا من آمِد، فنزل الأمير أبو علي هناك، فخرج إليه عبد البر شيخ آمِد، فقدم له هدايا وتُحفًا كثيرةً، وخَلَع عليه الأمير، فانفرد به شروه، وكان يحب الأمير أبا نصر، ويكره أبا علي، فقال له: أيها الشيخ، لا تغترَّ باكرام الأمير إيَّاكَ، فإن هذا خديعةً منه، وما جاء إلا ليوقِع بكم كما أوقع بأهل مَيَّافارقين، فخذوا حِذْرَكم. فقال عبد البر: نحن عبيد الأمير، وتحت طاعتِه، وحكمه فينا نافذٌ، ثم أقام إلى آخر النهار، واستأذن الأميرَ في دخول البلد ليحصل ما يحتاج إليه من الإقامة، ويرتِّبَ أهل البلد للقائه، وقد حَصَل في نفسه من كلام شروه [شيء] (¬1)، فلمَّا دخل البلد جَمَع المُقدَّمين والشُّطَّار وقال: قد علمتُم جَوْرَ هذا الأمير وظلمَه وما فعلَ بأهل مَيَّافارقين. وعرَّفهم ما قال الحاجب، وقال: أنا [إذا] دخلَ البلدَ غدًا نثرتُ عليه الدنانير، فيشتغلُ بها أصحابُه، فاكفونا أمْرَه، ومن باشر القتل فهو أمير المدينة. وتحالفوا على ذلك، فلمَّا طلَعَ الفجر ركب الأمير، وجاء يدخل من باب الماء، فصار في موضع ضيق لا يمشي فيه إلا واحدٌ بعد واحد، فنثر عبد البر على وجهه كفًّا من دنانير، فغطَّى وجهه بِكُمِّه، فوثب أبو طاهر يوسف بن دِمْنة، فصار خلفه على الفرس، وضربه بِسكِّين في خاصرته، ثم مالوا عليه بالسيوف، فقتلوه وقتلوا جماعةً من الذين دخلوا معه البلد، ولم يدخل معه شروه ولا أحدٌ من إخوته، وركبتِ العساكر، فرموا برأسه وجُثَّته إلى أرْزَن (¬2) فدُفِنَ بها، وبُني عليه قُبَّةٌ، ومَلَكَ أبو نصر أخوه ولُقِّبَ مُمهِّدَ الدولة، وفوَّض الأمورَ إلى شروه وأبيه، وجاء مروان الكردي أبو الأمراء وكان قد عميَ ومعه زوجته أمُّ أولاده، فأقام عند قبر ابنه أبي علي، والقبة فوق رأس المسجد، شرقيَّ الجسر، ولقال: إن أثرها باقٍ إلى هلُمَّ جَرًّا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (ب). (¬2) أرزن: من بلاد ديار بكر. ينظر معجم البلدان 1/ 151.

وخلَّف أبو علي المقتولُ ولدًا له اسمه الفضل -وقيل: سِنحاريب- وكنيته أبو دُلَف، وكان صغيرًا، فنشأ مع أعمامه، فلمَّا بلغ زوَّجه عمُّه نصرُ الدولة ابنتَه، فأولدَها ابنةً سمَّاها فاطمة، وأقام مُمَهِّد الدولة مالكًا لديار بكر غير آمِد، وبَعَثَ إلى حلب، فخطب ستَّ الناس على النقد الذي تزوَّجها عليه أخوه، وحُمِلَتْ إلى مَيَّافارقين، فدخلَ بها. وأمَّا عبد البرِّ ففوَّض بعض أمور آمِد إلى ابن دِمنة -وكان غلامَ عبد البرِّ- وسلَّم إليه العسكر، وعَظُمَ شأنُ عبد البرّ عند الناس حيثُ وفَّى لابن دِمْنة ولم يشْرَه إلى الملك، وكان الناس يتردَّدون إلى عبد البر، فحدَّثَ ابنُ دِمْنة نفسَه بقَتْلِه؛ لأنه اتَّهمه بشروه وتسليم آمِد إلى مُمهِّد الدولة، فصنع طعامًا، ودعا عبد البر، وأدخله في حجرةٍ صغيرةٍ وقتله، ثم جمع الناس وقال لهم: إنَّ عبد البر كان قد عزم على تسليم آمِد إلى ابن مروان، وقد فعلتُ أنا وأنتم ما فعلنا، فلو تمكَنَ أبو نصر منَّا لَقَتَلنا كُلَّنا ولم يُبقِ منَّا أحدًا، وهذا رأسُه. وأخرجه إليهم، فأجابوه بالسمع والطاعة، وفتح الخزائنَ، وفرَّق الأموال، وأحسنَ إليهم، فقويَ أمرُه، وكتب إلى شروه يقول: إنك كنت قد اتفقت أنت وعبد البر على مال يحمله إليك في كلِّ سنة، وأنا أحمل إليك ذلك المال. فأجابه شروه، فأمن من ناحيته، وهادى ممهِّدَ الدولة والخلفاءَ والملوكَ، فقبِلوا هديّتَه، وبعث إليه القادر بالخِلَع من بغداد ومن مصر، وأقام حاكمًا على آمِد من غير مُنازع، وبنى القصرَ شرقيَّ آمِد على دِجلة، وفتح له بابًا إلى الشطِّ وسمَّاه: باب الهُوة، وكان إذا ركب تُقاد بين يديه الجنائب بمراكب الذهب، وقصده الشعراءُ والعلماءُ، ومدحه التِّهامي بقصائد وأجازه، وكان في أول عمره قد حملَ كارةً من طعام، وأخرجها إلى الطاحون فطحنها، ثم عاد بها إلى دارِ صاحبِها في يومٍ شديدِ الحرِّ، فجلس يستريح بين السُّورين، فنظر فرآه قصيرًا، فقال: اللهمَّ إن ملَّكتني آمِد لأرفعنَّ السُّور. فلمَّا ملك رفعه وعلَّاه، وزاد في بنائه، وغَرِم عليه أموالًا كثيرة، فيقال: إنه القائم الآن، ولم يزل مقيمًا بآمِد على أحسن حال إلى سنة إحدى أو اثنتين وأربع مئة، وقُتِلَ، وسنذكره إن شاء الله تعالى في موضعه.

عبد الله بن محمد

عبد الله بن محمد (¬1) ابن عبد الله بن الثلَّاج، أبو القاسم، البغدادي، كان جدُّه عبد الله مسرفًا؛ يُجمع له الثلج في الشتاء، ويأكله في الصيف، فمرَّ به الموفَّق في يومٍ حارٍّ، فطلبَ الثلج، فلم يوجَدْ إلا عند جدِّه، فطلبوه منه، فكان يحمل إليهم، فسُمِّي الثلَّاج. سمع الكثير، وحدَّث ببغداد، ومات بها فجأةً في ربيع الأول، وقد تكلَّموا فيه؛ قال الخطيب: لمَّا قدم أبو سعيد الإدريسيُّ بغداد سأل عن الشيوخ، فقالوا: ها هنا ابن الثلَّاج. فقال: نمضي إليه ونستفيدُ منه. فجاء إليه، فأخرج له حديثَ قبض العلم، وفيه: حدَّثني أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد الإدريسي، فقال له: أين سمعتَ من هذا الشيخ؟ فقال: هذا شيخٌ قدِمَ علينا حاجًّا، فسمعْنا منه. فقال: أنا أبو سعيد الإدريسي، وهذا حديثي، وواللهِ ما رأيتُكَ قبل هذه الساعة. فخجل ابن الثلَّاج. عبيد الله بن محمد بن حمدان (¬2) أبو عبد الله، العُكبَراوي، الحنبلي، ويُعرف بابن بطَّة، ولد في شوال سنة أربع وثلاث مئة، وسافر إلى البلاد البعيدة؛ الكوفة والبصرة والشام وغيرها، وكان فقيهًا حافظًا، له التصانيف الحِسان، منها كتاب "الإبانة" وغيره، وأثنى عليه العلماء. قال الخطيب: حدثني القاضي أبو حامد أحمد بن محمد قال: لما رجع ابن بطَّة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة، فلم يُرَ فيها في سوق، ولا رُؤيَ مُفطرًا إلا في يوم الأضحى والفطر، وكان أمَّارًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لم يبلُغْه خَبَرُ مُنكَرٍ إلا غيَّره. وقال: حدَّثني العَتيقي قال: كان ابن بطَّة شيخًا صالحًا، مستجابَ الدعوة، لم أرَ في أصحاب الحديث ولا في غيرِهم أحسنَ هيئةً منه، وكانت وفاتُه في يوم عاشوراء بعُكْبَرا، وبها دُفِن، وقبره ظاهرٌ يُزار. سمع البغويَّ ويحيى بن محمد بن صاعد وابن أبي العقب وغيرَهم. وروى عنه أبو الفتح بن قوَّاس والبرمكي وأبو نعيم الحافظ وغيرهم. وقال أبو عبد الله الحسين بن علي الجوهري: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: يا رسول ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 135 - 138، والمتظم 14/ 389 - 390. وينظر السير 16/ 461. (¬2) تاريخ بغداد 10/ 371 - 375، والمنتظم 14/ 390 - 391، وطبقات الحنابلة 2/ 144 - 151. وينظر السير 16/ 529.

علي بن أبي علي بن بويه

الله، قد اختلفَتْ علينا المذاهبُ، فبِمَنْ نقتدي؟ قال: عليكَ بابي عبد الله بن بطَّة. فلمَّا أصبحتُ صعدتُ إلى عُكْبَرا، فدخلت على أبي عبد الله، فلمَّا رآني تبسَّم وقال: صدقَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قالها ثلاثًا. [وفيها توفِّي] علي بن أبي علي بن بُوَيه أبو الحسن (¬1)، الأمير فخر الدولة بن ركن الدولة، الدَّيلمي، قد ذكرنا أنَّ أباه أَقطَعَه بلادًا كثيرةً، فلمَّا مات أخوه مؤيَّد الدولة أرسل إليه الصاحب بن عبَّاد، فقَدِمَ الريَّ فسلَّم إليه المملكة، وكان شجاعًا، ولقَّبَه الطائعُ بفلك الأمة، وكانت وفاته في هذه السنة، في عاشر شعبان، بالريِّ. [قال هلال بن الصابئ: حدثني القاضي أبو العبَّاس أحمد بن محمد البارودي قال]: لما اشتدت العِلَّةُ [بفخر الدولة] وصف له الأطبَّاء مكانًا مرتفعًا لأجل الوباء، فأصعدوه إلى قلعة طَبَرَك (¬2)، فبقي [فيها] (¬3) أيامًا يُداوى، ثم مضى لسبيله، وكانت الخزائنُ مُقفلةً مختومةً، وقد جُعِلَتْ مفاتيحُها في كيسٍ من حديد وسُمِّرت بمساميرَ، وجُعِلَتْ عند (¬4) أبي طالبٍ رستمَ ولدِه، فلم يوجَدْ له في ليلة وفاته ما يُكفَّنُ فيه؛ لوقوع الأقفال على الخزائن، وتعذُّر النزول إلى البلد؛ خوفًا من شَغَبِ الجُند، حتى ابتيعَ له من قيِّم الجامع -الذي تحت القلعة- ثوبٌ، ولُفَّ فيه، ووقع الشَّغبُ، فأرادوا حملَ تابوتِه والنزولَ به من القلعة فلم يَقْدِروا، ولم يُمكِنِ القربُ منه، فشدُّوا تابوتَه بالحبال، وجَرُّوه على درج القلعة حتى تكسَّر، وتَقطَّع فخرُ الدولة - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)} [النازعات: 26]- وكان عمرُه ستًّا وأربعين سنةً وخمسةَ أيام، وكانت إمارتُه ثلاث ¬

_ (¬1) تحرف في (خ) إلى: الحسين، والمثبت من باقي النسخ، والمنتظم 14/ 394 والترجمة فيه باختصار، وينظر النجوم الزاهرة 4/ 197. (¬2) في (م) و (م 1): تَبرك؛ بالتاء. وطَبَرَك: قلعة على رأس جبيل بقرب مدينة الري على يمين القاصد إلى خراسان. معجم البلدان 4/ 16. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) وحدها. (¬4) بعدها في (خ) و (ب) زيادة: أم، وهي مقحمة، والمثبت من (م) و (م 1)، والمصادر.

عشرةَ سنةً وعشرةَ أشهرٍ وسبعة وعشرين يومًا، وكان يقول: قد جمعتُ من المال ما يكفيني وولدي وعساكري خمس عشرةَ سنةً إذا لم يكن لهم مادة إلَّا من الحاصل. [ذكر ما خَلَّف من المال وغيره ابنُ الصابئ على التفصيل، فنذكره جملةً]: قال ابن الصابئ: وجدت نسخةً بما خلَّفه فخرُ الدولة من المالِ عينًا ووَرَقًا، من الجواهرِ وأواني الذهبِ والفضة، والثيابِ، والفُرُشِ، والسلاح، وغيرِ ذلك إلى يوم مات؛ فمن العين على اختلاف أجناسها: العتق، والركنية (¬1)، والفخرية، والعدلية، والأبهرية، والمؤيدية، والأميرية، والأهوازية، والمعونية (¬2)، والمُعِزِّية، والعَضُدية، والبهائية، وغير ذلك ألفي ألف وثمان مئة ألف وخمس وسبعين ألفًا ومئتين وأربعة وثمانين دينارًا، ومن الوَرَق والنُّقْرة (¬3) والفضة مئة ألف ألف وثمان مئة ألف وستين ألفًا وسبع مئة وتسعين درهمًا ... وذكر نقودَها. ومن الجواهر واليواقيت الحمر والصُّفر والكحلي واللؤلؤ والبَلْخَش (¬4) والماس (¬5) وغير ذلك أربعةَ عشر ألفًا وخمس مئة وعشرين قطعة، قيمتُها ثلاثة آلاف ألف دينار [ومن أواني الذهب ما وزنه ألف ألف دينار] ومن أواني الفضة ما وزنه ثلاثة آلاف ألفِ درهم، ومن البلُّور والصِّيني ونحوه ثلاثة آلاف حمل، ومن السلاح والثياب والفرش ثلاثة آلاف حمل. وذكر غير ابن الصابئ أنه خلَّف من الخيل والبغال والجمال ثلاثين ألف رأس، ومن الغِلْمان والمماليك خمسةَ آلاف، ومن السراري خمسَ مئة، ومن الخيام عشرةَ آلاف خيمة، وذكروا شيئًا كثيرًا، وكان شحيحًا، فكانت مفاتيح خزائنه في الكيس الحديد مُسفَرًا بالمسامير لا يفارقه، وبلغ وفاتُه بهاءَ الدولة وهو بواسط، فجلس للعزاء، وجلس ابنُه أبو منصور ببغداد أيضًا. ¬

_ (¬1) في (م): الركية. (¬2) في (م) و (م 1): والمغربية. (¬3) النُّقرة: القطعة المذابة من الذهب أو الفضة. المعجم الوسيط (نقر). (¬4) نسبةً إلى بلخشان بالعامية، وهي بَذَخْشان: بلدةٌ في أعلى طخارستان متاخمة لبلاد الترك، والبَلْخَش: معدن مقاوم للياقوت. معجم البلدان 1/ 360. (¬5) المثبت من (خ)، وهو الموافق لما في النجوم الزاهرة، وفي بقية النسخ: المال.

ذِكْرُ ما جرى بعد وفاته: رُتِّبَ ولدُه أبو طالب رستُم في الأمر بعده وله أربع سنين، وبايعه الناس، وأُطلقتِ الأموال، فيقال: إنَّ الأمر أعجلَهم في إطلاق المال عن انتظار ما يَحُطُّ من القلعة على رؤوس الرجال، فنصبوا البَكَر والحبال، وحُطَّ المالُ، والوزير يومئذٍ أبو العباس الضبِّي ويُلقَّب بالكافي الأوحد، وأبو علي بن حمولة ويلقَّب بأوحد الكفاة، وبينهما عداوةٌ شديدة، وكان أبو العباس يترفَّع عليه؛ لأنه كان قبل اشتراكهما في الوزارة عاملًا له، فلمَّا مات فخر الدولة انبسط أبو علي في إطلاق المال واستمالة الرجال، وامتنع أبو العباس من مثل ذلك، واستخلف خليفة في التوقيع عنه، فمال الجند إلى أبي علي وأحبُّوه، وحصلت له عندهم أياد، وفي رقابهم مِنَن، إلا أنَّ لأبي العباس المنزلَة القديمةَ والمرتبةَ السابقةَ الجليلةَ، والناس يرونه بتلك العين، وما فيهم إلَّا مَنْ قد خدمه على مرَّ السِّنين الطويلة، وجرى الخوض في إخراج العساكر لانتزاع جُرجان وطَبرستان من يد قابوس، وكُوتِبَ بدر بن حسنويه يُستشار في ذلك، فقال: إنَّ الأميرَ الذي ورث هذا المال والملك حديثُ السِّنِّ، ولا وجه لإضاعة المال فيما لا تُعلَم عواقبُه، والصواب أن يُترك هذا الأمرُ على حاله إلى حين بلوغه، فإن خرج نجيبًا على ما عُهِدَه من خلائق آبائه قَدَرَ على ارتجاع ما أُخِذَ منه، وإن ضَعُفَ لم تكونوا قد جمعتُم عليه ذهاب مالِه وأعمالِه. فخالفوه، وجرَّدوا العساكر، وقال أصحاب أبي علي بن حمولة: الرأيُ أن تخرج إلى هذا الوجه وتستصحب الخزائن والأموال، فإنك إذا ملكت جُرجانَ كنتَ أميرًا مستقلًا لا وزيرًا مشاركًا، وكانت الحاجةُ إليك داعية، والآمالُ بكَ متعلقةً، وبَعُدتَ عن الحضرة التي أنتَ مُجاذِبٌ الأمرَ عنها. فعَمِلَ على ذلك، وخرج بالعساكر والأموال، والتقاه قابوس، فقال أبو علي لأصحابه: لا تحملوا حتى آمركم. وأخذ بيده أسطرلابًا، ووقف على فرسه ينظر فيه، يرصُد الوقتَ الذي يصلح، فلمَّا حصل الوقتُ الذي اختاره قال لأصحابه: احْمِلوا. فَحَملوا، وحمل عليهم قابوس فهزمهم، فقال أبو علي لأصحابه: لا تحملوا سوادًا، ولكن احملوا المال من الخزائن، فمن حمل شيئًا كان له نصفُه. فحملوا ما قَدَروا عليه، وغَنِمَ قابوسُ وأصحابُه الغنيمةَ العظيمةَ، وعاد أبو علي إلى الريِّ مفلولًا، وشرع في تجريد العساكر مرةً ثانية،

محمد بن أحمد

وقال: هذه نوبة أبي العباس. وتوقَّف الحال، ثم اتَّفق رأيُ السيدة وبدر بن حسنويه على القبض على أبي علي؛ ليقرِّروا أمر جُرجان، فلمَّا جاء قبضوا عليه، وقُيِّد في دار أبي عيسى شادي بن محمد، وكان من الخواصِّ، وبلغ الدَّيلَم، فثاروا وقصدوا دار أبي عيسى، فهدم حائطًا منها، فخرج إلى الصحراء ومعه ابن حمولة، وسار به إلى الدِّينَور، فاعتقله في قلعةٍ، ثم أرسل إليه مَنْ عَصَر خَصيتَيه حتى مات، وكان في الصلاة قد سجد. وكبس الديلم دار أبي العباس وقبضوا عليه، وقيَّدوه وحملوه إلى القلعة، فراسلهم وطيَّب قلوبهم، ثم صالحوه بعد ذلك وردُّوه إلى الوزارة، وقالوا: الوزير الذي فعَلْنا لأجله ما فعَلْنا قد مضى لسبيلِه، وما يجوز أن يُفعَلَ في حقِّ أبي العباس ما فعلنا مع تقدمته ورئاسته، وما يقوم أحدٌ مقامَه. فأطلقوه، وشاوروا السيدة عليه، فأجابتهم، وركب، وقبَّلَ الناسُ الأرضَ بين يديه، وفرحوا بِعَودِه إلى الوزارة. محمد بن أحمد (¬1) ابن إسماعيل بن عَنْبَس، أبو الحسين، البغدادي، الواعظ، ويعرف بابن سمعون، ويسمى: الناطق بالحكمة، وُلدَ سنة ثلاث مئة، وذكره العلماء في تواريخهم، وأثنَوا عليه. قال أبو عبد الرحمن السُّلمي: هو من مشايخ بغداد، له لسان عالٍ في العلوم، لا ينتمي إلى أستاذ، وهو لسانُ الوقت، والمرجوعُ إليه في آداب المعاملات، وهو إمامُ المتكلِّمين والمُعبِّرين عن الأحوال بألطف بيان، مع ما يَرجع إليه من صحَّةِ الاعتقاد وصحبةِ الفقراء. وقال الخطيب: كان أوحدَ دهره، فريدَ عصره في الكلام على الخواطر والإشارات ولسان المواعظ، وكان له فِراسات وكرامات، دوَّنَ الناسُ كلامَه، وكان القاضي أبو بكر الباقلاني وأبو حامد إذا رأياه قبَّلا يده، وكان أبو بكر يقول: ربما خفي عليَّ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 274 - 277، وتاريخ دمشق 51/ 9، وتبيين كذب المفتري ص 200 - 206، والمنتظم 15/ 3 - 6، وصفة الصفوة 2/ 471 - 477، وطبقات الحنابلة 2/ 155 - 162. وينظر السير 16/ 505.

بعضُ كلامه لِدِقَّته. طرفٌ من أخباره: قال أبو بكر الأصفهاني خادم الشِّبلي: كنت بين يدي الشِّبلي يوم الجمعة في الجامع، فدخل ابن سمْعون وهو صبيّ وعلى رأسه قَلَنْسوة وهو مُطَيلَش فوقَها بفوطة، فجاز علينا وما سلَّم، فنظر الشِّبليُّ إلى ظهره وقال لي: يا أبا بكر، هل تدري أيَّ شيءٍ للهِ في هذا الفتى من الذخائر؟ . وقال أبو الفتح بن القَّواس: أضقتُ إضاقةً شديدةً، ولم يكن عندي غير قوسٍ وخُفَّين، فقلتُ: أبيعُهما. وحضرتُ مجلسَ ابنِ سَمْعون، فالتفتَ إليَّ وقال: لا تَبِعِ القوسَ والخُفَّين، فإن الله يأتيك بالرزق من عنده. وقال رجاء مولى الطائع لله: أمرني الطائعُ أن أُوَجِّه إلى ابن سَمعون فأُحضِرَه إلى دار الخلافة، ورأيتُ الطائع على صفةٍ من الغضب -وكان ذا حِدَّة (¬1) - فبعثتُ إلى ابن سَمعون وأنا مشغولُ القلب لأَجلِه، فلمَّا حضرَ أعلمتُ الطائعَ، فجلسَ مجلِسَه، وأذِنَ له في الدخول، فدخَلَ وسلَّم عليه بالخلافة، ثم أخذ في وَعْظِه، فأوَّلُ ما قال: رُويَ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (- رضي الله عنه -) ... وذكر عنه خبرًا، ولم يزَلْ يجري في ميدان الوعظ حتى بكى الطائع وسُمِعَ شهيقُه، وابتلَّ منديلٌ بين يديه بدموعه، وأمسك ابن سَمْعون حينئذٍ، ودفع إلى الطائع دُرجًا فيه طيبٌ وغيرُه، فدفعتُه إليه وانصرف، وعُدتُ إلى حضرة الطائع فقلت: يا مولاي، رأيتُكَ على صفةٍ من شدة الغضب على ابن سَمعون، ثم انتقلْتَ عن تلك الصفة عند حضوره، فما السبب؟ فقال: رُفِعَ إليَّ أنه ينتقص عليَّ بن أبي طالب، فأحببتُ أن أتيقَّن ذلك لأُقابِلَه عليه إن صحَّ، فلمَّا حضر افتتَحَ كلامَه بذكر عليٍّ - عليه السلام -، وأعاد وأبدى في ذلك، وقد كان له مَنْدوحة في الرواية عنه وترك الابتداءِ به، فعلمتُ أنهُ وُفِّقَ لما تزول به عنه الظنَّةُ، وتَبْرأُ ساحتُه عندي، ولعلَّه كوشِفَ بذلك. وقال أبو الثناء شُكْر المعتضدي: لمَّا دَخل عضُدُ الدولة بغداد -وقد هلَكَ أهلُها قتلًا ¬

_ (¬1) في النسختين الموجودتين (خ) و (ب): وكان وحده. والمثبت من المصادر.

وخوفًا وجوعًا؛ للفتن التي اتصلت بها بين السُّنَّة والشيعة -فقال عضد الدولة: آفة هؤلاء القُصَّاص، يُغْرُون بعضَهم ببعض، ويُحرِّضون على سفك دمائهم. فنادى في البلدان: لا يَقُصُّ أحدٌ في جامع ولا في طريق، ولا يتوسَّلْ أحدٌ بأحدٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحب التَّوسُّلَ ففي قراءة القرآن، ومن خالفَ أُبيحَ دمُه. فرُفِعَ إليه أنَّ ابن سَمعون جلس إلى يوم الجمعة على كرسيِّه بجامع المنصور، وتكلَّم على الناس. قال شُكْر: فأمرني أن أبعَثَ إليه من يُحضِرُه ففعلتُ، فدخل عليَّ رجل له هيبة وعلى وجهه نورٌ، فلم أملِكْ أن قمتُ إليه وأجلستُه إلى جانبي، فلم يُنكِر ذلك، وجلس غيرَ مُكترِثٍ، وأشفقتُ -والله- أن يجريَ عليه مكروة على يدي، فقلت: أيها الشيخ، إنَّ هذا الملِكَ عظيم، وما كنتُ أوثرُ مخالفةَ أمرِه، وتجاوزَ رَسْمِه، والآن فأنا موصِلُكَ إليه، فكُلَّما تقع عينُكَ عليه فقبِّلِ التُّراب، وتلطَّفْ في الجواب إذا سالكَ، واستعِنْ بالله عليه، فعسى أن يُخلِّصَكَ منه، فقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬1) [الأعراف: 54]. ومضيتُ به إلى حجرةٍ في الدار قد جلس فيها الملك منفردًا خِيفةَ أن يجري من أبي الحسين بادرةٌ بكلام غليظ، فتسير به الرُّكبان، فلمَّا دنَوْتُ من الحجرة أوقفتُه وقلت: إياكَ أن تبرَحَ من مكانك حتى أعودَ إليك، وإذا سلَّمتَ فَلْيكُنْ بخشوع وخضوعٍ. ودخلتُ لأستأذنَ له، فالتفتُّ وإذا به واقف إلى جانبي قد حوَّل وجهه نحو دار بختيار، واستفتح فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102]، ثم حوَّل وجهه إلى الملك وقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس: 14]، وأخَذَ في وَعْظِه، فأتى بالعجب، فدمعَتْ عينُ الملك، وما رأيتُ منه ذلك قطُّ، وترك كُمَّه على وجهه، وتراجع أبو الحسين فخَرَجَ ومضى إلى حجرتي، فقال الملك: امْضِ إلى بيت المال، وخُذْ ثلاثةَ آلاف درهم، وخُذْ من خزانة الكسوة عشرةَ أثواب، وادفع إليه الجميع، فإنِ امتنعَ فقل له: فَرِّقْها في أصحابك، فإن قَبلَها فجِئْني برأسه. فاشتدَّ جَزَعي، وخشيتُ أن يكونَ هلاكُه على يدي، فأتيتُه بالمال والثياب، وقلت: مولانا يقول: استعِنْ بهذه الدراهم في نفقتِكَ، والبَسْ هذه الثياب. فقال: أمَّا هذه الثياب التي ¬

_ (¬1) العبارة في طبقات الحنابلة 2/ 159: الخلق والأمر لله عزَّ وجلَّ.

عليَّ فَمِنْ ثيابٍ قَطَعها لي، إنَّني منذُ أربعين سنة ألبَسُها يوم خروجي إلى الناس، وأطويها عند انصرافي عنهم، فما أصنَعُ بهذه؟ فقلتُ: فإنه يأمُركَ أن تصرِفَها في فقراء أصحابِكَ. فقال: ما في أصحابي فقيرٌ، هو وأصحابُه أفقَرُ مني. وخرج ولم يأخُذْ شيئًا، فعدتُ إلى الملك فأخبرتُه فقال: الحمد لله الذي سلَّمنا منه وسلَّمه منَّا. وقال الخطيب: ذكر ابن سَمْعون على كرسيِّه ليلةَ نصف شعبان الحلواءَ، وكانت مزنةُ جاريةُ أبي سعيد الصائغ حاضرةً، وكان الصائغ تاجرًا موسرًا، ومنزله بدرب رياح، فلمَّا أمسى ابنُ سَمعون جاءه غلامٌ ومعه طبق فيه خُشْكَنانك (¬1)، فقال: من أين هذا؟ قال: من مُزنة. فكسر واحدةً، فوجد فيها دينارًا، ثم كسر أخرى، فوجدها كذلك، فعدَّ الجميع، فإذا بها خمس مئة خُشْكَنانكة، وفيها خمس مئة دينار، فأخذه وأتى به إلى الصائغ، وقال له: قد وجدتُ هذه الدنانير، وأريد أن يكون جوابُكَ أن لا يعلم أهلُ دارِك، فلعلَّ هذا عُمِلَ ولم تعلم به. فقال: مَعاذ الله أن يحضر مجلسَكَ من فيه ريبة، واللهِ ما تركتْ مزنةُ الدنانير في الخشْكَنانك إلا بحضرتي، ولقد ساعدتُها على ذلك. وقال ابن سَمعون: كنتُ أنسخ بالأجرة، وأُنفِقُ عليَّ وعلى أمي، فقلت لها يومًا: أشتهي الحجَّ. فقالت: وأين النَّفقة التي توصِلُكَ؟ ثم نامت، وانتبهت فقالت: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: دَعيه يَحُجُّ، فهو خير الدنيا والآخرة. قال: فحججتُ، فلمَّا دخلتُ البيتَ سألتُ الله الغنى. فلمَّا عُدْتُ إلى بغداد وجدتُ الخليفةَ قد حرَّمَ على نفسه جاريةً له، وكرِة أن يَشيعَ ذلك، فسأل عن رجلٍ صالح يُزوِّجه إيَّاها، فدلَّ عليَّ، فزوَّجني إيَّاها، ونقل إليَّ من الأموال والطِّيب والثياب ما أغناني به عن الناس. وكان الرَّصَّاصُ الزاهدُ يُقبِّل رِجْلَ ابنِ سَمعون دائمًا، فلا يمنعه، فقيل له في ذلك، فقال: كانت في داري صبيَّةٌ خرج في رجلها ريح الشوكة (¬2)، فرأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: قُلْ لابن سَمعون يضَعْ رِجْلَه عليها، فإنَّها تبرأ. فأتيتُه فأخبرتُه، فجاء إلى داري ووضع رِجلَه عليها، فقامت تمشي، وبَرِئت، فأنا أُقَبل رجلَه أبدًا. ¬

_ (¬1) الخُشْكَنانك: نوع من الكعك. تكملة المعاجم 4/ 103. (¬2) ريح الشوكة: مرض سببه أخلاط حادة تنفذ في العظم فتأكله. القانون في الطب 3/ 242.

وقال محمد بن أحمد المَرَّار: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام في جامع الخليفة، وإلى جانبه رجلٌ مُتكهِّل، فسألتُ عنه، فقيل: هو عيسى ابن مريم - عليه السلام -، وهو يقول: أليسَ من أمتي الرُّهبان؟ أليسَ منهم أربابُ الصوامع؟ أليسَ منهم الأحبار؟ فدخلَ ابنُ سَمْعون، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ففي أمتك مثل هذا؟ " فسكتَ، وانتبهتُ. وقال الحسن بن محمد الخلَّال: قال لي ابن سَمعون: ما اسمك؟ فقلت: حسن. فقال: قد أعطاك اللهُ الاسمَ فسَلْه أن يُعطيك المعنى. وقال ابن سَمعون: رأيتُ المعاصي نذالةً فتركتُها مروءةً، فاستحالتْ ديانةً. وقال: اخذَروا الصغائر، فإنَّ للنُّقَط الصِّغار آثارًا في الثوب النَّقي. وقال: من الوقاحة تمنِّيك مع توانيك، استَوْفِ من نفسك الحقوقَ، ثم وَفِّها الحُظوظ. وقال: كلُّ من لم يَنْظُر بالعلم فيما لله عليه فالعلم حُجَّةٌ عليه. وقال: الصادقون الحُذَّاق هم الذين نظَروا إلى ما بذَلوا في جنب ما أمَّلوا، فصَغُر ذلك عندهم. وقال: تظَلَّمْ إلى ربِّكَ مِنْكَ، واستنصِره عليكَ يَنْصُركَ. وأنشد: [من البسيط] لو كلُّ جارحةٍ مني لها لُغةٌ ... تُثني عليكَ بما أوليتَ من حَسَنِ لكانَ مازانَ شُكري إِذْ أشَرتُ بهِ ... إليك أَزْيَدَ في الإحسانِ والمِنَنِ وقال الحسين بن غالب الحربي: كنا جلوسًا عند ابن سمعون في مسجده، فجاء قومٌ معهم كلابُ الصيد، فنبحَتْها كلابُ المحَلَّة، فقال ابن سَمْعون: سبحان الله! هل تدرون ما قالت هذه لتلك؟ قلنا: لا. قال: قالت كتاب المَحلَّة: يا مساكين، رغبتُم في مطاعم الملوك فسَوْجَروكم (¬1) بالحديد، ولو قَنِعْتُم بالمنبوذ مثلَنا لخلَصْتم من رِقِّ العبودية. فقالت لها كلاب الصيد: لمَّا رأَوْنا أهلًا للخدمة جَبَنونا عليها (¬2)، وقاموا لنا بالكفاية. فقالت كتاب المحلَّة: لو كان كما قلتُم لكان أحدُكم إذا كَبِرَ عرفوا له حقَّ ¬

_ (¬1) من الساجور: وهي القلادة التي توضع في عنق الكلب. المعجم الوسيط (سجر). (¬2) جبنونا عليها: كانوا أسخياء علينا بها. اللسان (جبن).

الخدمة، ونرى أحدَكم إذا كَبِرَ طردوه. فقالت كلاب الصيد: ما تركونا لِما ذكرتُم، ولكن لمَّا قَصَّرنا في الخدمة طردونا، وكلُّ مقصرٍ مطرود. وقال البَرقاني: قلت لابن سَمعون: أنت تدعو الناس إلى الزهدِ في الدنيا والتركِ لها، وتأكل أطيبَ الطعامِ، وتلبَسُ أحسنَ الثيابِ، فكيف هذا؟ فقال: إذا أصلحتَ حالكَ مع الله فكُلْ ما شِئْتَ، والبَسْ ما شِئْتَ، فإنه لا يضرُّكَ. قال: وكان في دار ابن سَمعون حائطٌ واقف، فأقام مدَّة سنين، فلمَّا مات جاءت امرأةٌ فرأت في ثقبٍ منه خرقةً فجذبَتْها، فوقع الحائط، وكانت الخرقة من ثوبه، وكانت له ثياب أقامت أربعين سنة لم تتَّسِخْ ولم تَبْلَ، فقيل له في ذلك، فقال: إنما يقطعُ الثيابَ ويوسخها الذنوب. وقال لجاريته: احضُري المجلس. فحضرَتْه، فسألها: كيف رأيته؟ فقالت: مجلسًا حسنًا، إلا أنكَ تُعيدُ ما تقول. فقال: إنما أُعيدُ ليفهمَ مَنْ لا يفهم. فقالت: إلى أن يفهمَ مَنْ لا يَفْهم يَمَلُّ من قد فَهِمَ. وقال أبو غالب الحربي: سمعته يقول على كرسيِّه في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 143]: مواعيد الأحباب، وإنِ اختلفَتْ إنها لا توحِش بل تؤنِس، وأنشد: [من مجزوء الخفيف] ماطِليني وسَوِّفي ... وَعِديني ولا تَفي واتْرُكيني مؤمِّلًا (¬1) ... أو تجودي وتَعطِفي ذكر وفاته: تُوفِّي يوم الخميس منتصف ذي القَعدة، ودُفِنَ بداره بشارع العباسيين، فلم يزَلْ فيها حتى نُقل في حادي عشرين رجب سنة عشرين وأربع مئة -وقيل: سنة ستٍّ وعشرين- إلى مقابر الإمام أحمد رحمة الله عليه، فدُفِنَ بباب حرب، وأكفانُه تتقعقع لم يَبْلَ منها شيء، وبين نقله ووفاته أربعٌ وثلاثون سنة. سمعَ الحديثَ الكثيرَ وأملاه، فحدَّث عن أبي بكر بن أبي داود السِّجِسْتاني وغيرِه، وروى عنه القاضي أبو علي بن أبي موسى الهاشمي وغيرُه، وأجمعوا عليه. ¬

_ (¬1) في السير 16/ 508: مُوَلَّهًا.

نوح بن منصور

نوح بن منصور (¬1) ابن نوح، أبو القاسم، السَّاماني، كانوا ملوك ما وراء النهر وسمرقند، ووَلي نوحٌ هذا وله ثلاثة عشر سنة، وتعصَّبَ له عَضُد الدولة، وأخذ له من الطائع العهدَ على خُراسان والخِلَع، فأقام على خُراسان إحدى وعشرين سنة، وتوفِّي في رجب، فأقاموا بعدَه ولدَه أبا الحارث منصور، [فبقي] (¬2) سنة وتسعةَ أشهر، ثم قبض عليه خواصُّه، وأقاموا أخاه عبد الملك، فقصدهم محمود بن سُبُكْتِكِين فهزمهم، وهربوا منه إلى بخارى، ثم أتاهم أَيْلَك مُظهرًا لِنُصرتهم، فقبض على جميعهم في سنة تسع وثمانين وثلاث مئة، وانقرض ملك السَّامانية، وكان نيفًا ومئة سنة. السنة الثامنة والثمانون وثلاث مئة فيها في يوم الأربعاء لِستٍّ بَقينَ من المُحرَّم وُلدَ الأمير أبو محمد علي بن القادر بالله، وتوفِّي في شوَّال من هذه السنة. وفي رمضان قَبضَ الخليفةُ على أبي الحسن علي بن عبد العزيز ابن حاجب النعمان، وقلَّد كتابتَه أبا العلاء سعيد بن الحسن بن تُرَيْك، فأقام في الخدمة نيِّفًا وسبعين يومًا، ثم صرفه وأعاد أبا الحسن إلى الكتابة (¬3). وفي شوال جلس القادرُ لرسلِ أبي طالب -فخرِ الدولة وبدر بن حسنويه- بإشارة بهاء الدولة، وذلك لأنَّ بدرَ بن حسنويه خدَمَ بهاءَ الدولة عند مقامه بالقنطرة البيضاء من الأهواز، وحمل إليه الميرة والعلوفة والهدايا، وأظهر له الموالاة والطاعة، وسأل بهاءَ الدولة ينجز الخِلَع السُّلطانية والعهد لأبي طالب رستم بن فخرِ الدولة وله، وبعث أبا القاسم مادرجواران رسولًا من أبي طالب، وأبا القاسم يوسف بن أحمد بن كج قاضي دَينَور رسولًا من بدر، فكتب بهاء الدولة إلى القادر في هذا الأمر، فأضاف في لقب رستم مجد الدولة وكهف الأمة، وبدر بن حسنويه ناصرَ الدينِ والدولة (¬4)، وبعث إليهما بالخِلَعَ المعهودة والعهد. ¬

_ (¬1) المنتظم 7/ 15. وينظر السير 16/ 514. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) والمصادر. (¬3) المنتظم 15/ 8، ومعجم الأدباء 14/ 35 - 39. (¬4) في النسخ: نصرة الدولة، والمثبت من المنتظم، والبداية والنهاية 15/ 478.

محمد بن أحمد بن إبراهيم

وفيها هرب عبد الله بن جعفر المعروف بالوثَّاب من الاعتقال من دار الخلافة، وكان يَقْرُبُ بالنَّسب إلى الطائع، فلمَّا قُبِضَ على الطائع هرب، وتنقَّل في البلاد، وصار إلى البَطِيحة، فأقام عند مُهذب الدولة، فكاتبه القادر في إخراجه من بلده، فأخرجه، فصار إلى المدائن، فبعث إليه القادر مَنْ قَبَضَ عليه وحمله إلى دار الخلافة، فحُبِسَ في بعض المطامير، فهرب ومضى إلى الموصل، وعاد إلى دَقوقا، وبها جبريل بن محمد، فبعث إليه القادر بالقبض عليه، فقَبَضَ عليه، وبعثَه إلى بغداد، فخرج لصوص على الرِّفقة التي كان فيها، فسألوه عن حاله، فحدَّثهم، فأفرجوا عنه، ومضى إلى الجيل، وادَّعى أنه الطائع، ومَخْرَقَ (¬1) عليهم بعلامات في دار الخلافة، فقبِلوه وعظَّموه، وزوَّجه محمد بن العباس -أحدُ أمرائهم- ابنتَه، وعاونَه، وأقام له الدعوة في بلده، فأطاعوه، وأعطوه عُشر أموالهم، [الذي يؤدُّونه إلى من] (¬2) وُلُّوا أمر دينهم، فاستقام أمرُه، وعظُمَتْ حالُه. ثمَّ ورد جماعةٌ من هؤلاء من الجِيل إلى بغداد، فأوصلهم الخليفةُ إليه، وعرَّفَهم كَذِبَه، وكُتِبَتْ على أيديهم كتبٌ إلى متولي الجيل، فلم يقدح ذلك في أمره؛ لاستقرار قَدَمِه، وتعصُّب محمد بن العباس له بالمصاهرة، وكان أهل جيلان يرجعون إلى القاضي أبي القاسم بن كَجّ، وله عندهم وجاهةٌ وقبول، فكتب إليه القادر يُعرِّفه حال ابن جعفر، فاجتمع بأعيانهم وعرَّفهم حاله، فقالوا: انصرِفْ عنا. فانصرفَ عنهم. وفيها توفِّي محمد بن أحمد بن إبراهيم (¬3) أبو الفرج، المقرئ [المعروف بغلام] (¬4) الشَّنَبوذي، ولد سنة ثلاث مئة. قال: أحفظ خمسينَ ألف بيتٍ من الشعر شواهدَ للقرآن. قال ابن عرفة: أنشد أبو الفرج: [من السريع] ¬

_ (¬1) مخرق: موَّه. اللسان (مخرق). (¬2) ما بين حاصرتين من المنتظم 15/ 9، والخبر بمعناه فيه، وفي الكامل -أيضًا-9/ 143 - 144. (¬3) تاريخ بغداد 1/ 271 - 272، وتاريخ دمشق 51/ 5 - 7، والمنتظم 15/ 11، ومعجم الأدباء 17/ 174 - 173. (¬4) ما بين حاصرتين من مصادر الترجمة.

الإلْفُ لا يصبِرُ عَنْ إِلْفِهِ ... أكثرَ من يومٍ ويومينِ وقد صَبَرْنا عنكُمُ جُمعةً ... ما هكذا فعلُ المُحِبينِ وكانت وفاته في صفر ببغداد. [وفيها قُتِل] (¬1) المَرْزُبان صَمْصام الدولة بن عَضُد الدولة، وكنيته أبو كاليجار، وقد ذكرنا (¬2) استيلاءَه على الممالك بعد أبيه، واستيلاءَ أخيه شرف الدولة عليه، واعتقاله وكحله، ولمَّا مات شرف الدولة نزل من القلعة وهو أعمى، وسار إلى فارس، وملك شيراز، وأقام بها إلى هذه السنة. ذكر مقتله: اضطربت أمورُه بفارس، واشتدَّ تبسُّط الدَّيلم عليه، وقَصُرتْ مَوادُّه عمَّا يُرضيهم به، وامتدَّتْ عيونُهم إلى إقطاعاتِ والدتِه وقائدٍ له يقال له: الرضيع والحاشية، وإلى ما كان في أيديهم، فأخذوها وانحازوا ناحيةً عن العسكر، ونزلوا بظاهر شيراز، فخرج إليهم، فثاروا في وجهه ورَمَوه، فثبَتَ لهم على بغلتِه ولاطَفَهم، وقال: ما الذي تريدون؟ قالوا: قد رقَّتْ أحوالُنا، وتأخَّرَتْ أرزاقُنا، واستولى الحاشيةُ على الضياع وغيرها. فطيَّبَ قلوبَهم، وردَّهم إلى مواضعَ بِفَسا (¬3) مدينةٍ من فارس، ثم زاد الأمر، وعَظُمَ الحالُ والمطالباتُ من الدَّيلم، فأسقط منهم نحوَ الألف، وكانوا أهلَ بأسٍ ونجدةٍ، فبقَوا مُتَحيِّرين ليس لهم موضع يأوون إليه، وكان أبو نصر شهفيرون وأبو القاسم لسنام ابنا عز الدولة بختيار محبوسَين في قلعة من قلاع فارس، فخدَعا الموَكَّلين بها، وشرطا لهم الإقطاعات، فساعدوهما وصارت القلعة في حكمهما، وسار إليهما جماعةٌ من الأكراد، وانضمّ إليهم الدَّيلم -الذين أشرنا إليهم- وسارا لطلب الملك في جيش كثيفٍ، فأخذوا أَرَّجان، وانصرف مَنْ كان بها من أصحاب صَمْصَام الدولة، وأقام أبو نصر وأبو القاسم يجبيان الأموال، ويستخدمان الرجال، ويُلقَّب أبو نصر بِنور ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من الكامل 9/ 142 - 143، والكلام فيه بمعناه. (¬2) في أحداث السنة السادسة والسبعين وثلاث مئة. (¬3) يقال: فَسا -بالفاء- وبسا -بالباء- وهي كلمة أعجمية، وهذه المدينة تبعد عن شيراز أربع مراحل. معجم البلدان 4/ 260 - 261.

الدولة ومحيي الدولة، وأبو القاسم بحسام الدولة وسيد الأمة، وأصبحت حضرة صَمصام الدولة خاليةً ممَّن يُعنى في أمر، وكان بمدينة فَسا أستاذُ هُرمُز الدَّيلمي، من كبار القُوَّاد، فاجتمع إليه أصحاب صَمصام الدولة، وقالوا: قد علمتَ حال ابني بختيار، والظاهر أنهما يَغلِبان على هذه البلاد، وأول ما يبدآن بِكَ، والصواب أن تُفرِّقَ ما معك من مال وسلاحٍ وكُراعٍ على الدَّيلم الذين عندك، وتأخذهم وتمضي إلى شيراز، وتحمل صَمصام الدولة إلى الأهواز، فتُخلِّصه من الخطر الذي يتوقعه، فإنك إذا فعلتَ ذلك أحييتَ الدولةَ، وقضيت حقَّ النعمة، وتُقرَّبُ من رجالنا الذين هناك، وإن لم تفعَلْ هذا وثَبَ عليك هؤلاء الدَّيلم الذين عندك، وأخذوا مالكَ، وأسلموك إلى ابن بختيار. فشحَّ بالمال على حفظ نفسه، وبعد أيام وثَبَ الدَّيلم عليه، فأخذوا ماله، وحملوه إلى ابن بختيار، وتمكَّن ابنا بختيار من فارس، واستطالا. [وفيها حجَّ بالناس العلوي]. واتَّفق موتُ ابن صَمصام الدولة (¬1) يقال له: [أبو] شجاع، وقد ترعرع ونشأ، و [كان] أبوه يحبُّه حبًّا شديدًا، فعدِمَ الصبرَ عليه، وكان يوم خروج جنازته يومًا عظيمًا، لم يبقَ ببلاد شيراز إلَّا من لبس السواد، وصَمصام الدولة يبكي ويتمرَّغ، وما كان يبكي إلا من أُذنه، وهذا من العجائب (¬2). ثم جاءه خبر نزول ابني بختيار من القلعة، فقال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ذهب -والله- مُلكي وولدي. ولم يبقَ عنده من أصحابه من يعتمد عليه، فأشار عليه خواصُّه أن يصعد القلعةَ التي على باب شيراز، فحاول ذلك، فلم يَفتَح له الذي هو فيها بابَها، فقال له مَنْ بقي معه وهم نحوٌ من ثلاث مئة (¬3): الرأيُ أن نَدَعَكَ أنت ووالدتَك في عَمّارِيَّة، وتَسيرَ إلى الأهواز، فتلحقَ بعسكرِكَ الذي فيها مع هُرمُز، وتنظرَ ما تراه، ونفوسُنا دونَك. فقال الرضيع: هذا فيه غَرَرٌ وخَطَرٌ، والوجه أن تستدعي الأكراد وتتوثَّق منهم، وتسيرَ معهم. فمال إلى ذلك، واستحضرَ الأكراد، واستوثقَ منهم، وأخذ أمواله ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): وفيها توفي ابن صمصام الدولة. (¬2) بعدها في (م 1) وحدها زيادة: والغرائب. (¬3) بعدها في النسختين الموجودتين (خ) و (ب) عبارة مقحمة: فقال لهم الخيل! وينظر الكامل 9/ 142 - 143، فالخبر فيه بمعناه.

وجواهرَه وأسبابَه، وساروا معه، فلمَّا بَعُدوا عن شيراز نهبوا جميع ما كان معه، وهرب إلى الدودمان على مرحلتين من شيراز، وعرف أبو نصر خبرَه، فبادر إلى شيراز، ونزل بِرُوذَبار (¬1)، وبعث جماعةً من الدَّيلم إلى صَمصام الدولة، فأخذوه وقتلوه في يوم الأربعاء الرابع عشر من ذي الحجة، وحملوا رأسَه إلى أبي نصر، فوضع في طَسْتٍ، وتُرِكَ بين يديه، فقال ابن بختيار: هذه سُنَّةٌ أبوك سنَّها؛ أشار إلى أنَّ عَضُد الدولة قتل عِزَّ الدولة بن بختيار، وحملَ رأسَه إلى بين يدي عَضُد الدولة، فكان مدة عمره خمسًا وثلاثين سنة وسبعة أشهر وسبعة عشر يومًا، ومدة إمارته بفارس تسع سنين وثمانية أيام، وقبضوا على والدته وحاشيته، وحملوهم إلى شيراز، وخرجت امرأةٌ من الدودمان يقال لها: فاطمة، فغسلت جُثَّته ودفنَتْه، وأمَّا والدته فسلَّموها إلى بعض الدَّيلم فعذَّبها حتى قتَلها، وبنى عليها دَكَّةً في داره. ولمَّا حصل بهاء الدولة بشيراز استدل على موضعها، واستخرجها وهي بخفّها ونقابها وإزارها، فنقلَها إلى تربة بني بُويه، فدُفِنت بها، ولمَّا نزل بهاء الدولة بالدودمان نهبَها وحرقها، وقتل مَنْ وَجَدَ من أهلها، وكانوا قد أعانوا على صَمصام الدولة، وأحسن إلى فاطمة ووصلَها حيثُ غسلت جثَّته، وكشف عن جُثة صَمصام الدولة، وأحسن إلى فاطمة وجدَّد أكفانه، ونقله إلى شيراز عند تربة بني بُوَيه، فدفنَه عندهم. ذكر أولاد بختيار: كان أولاد عزِّ الدولة بختيار بن مُعِزّ الدولة الذين حصلوا في قبضة عضد الدولة وحُمِلوا إلى فارس، واعتقلوا في النواحي بها: أبو عبد الله الحسين، وأبو العباس سالار، وأبو الحسين أحمد، وأبو علي الحسن، وأبو سهل كفهيار، وأبو القاسم لسنام، وأبو نصر شهفيرون، فلمَّا ملك شرف الدولة أطلقهم، وأراد الخروج إلى الأهواز، فرتب كل واحد في بلد، فتوفّي أبو عبد الله بالصِّيمَكان (¬2) في حياة شرف الدولة -وقيل: إنه سُمَّ في رُمَّان- وكانوا على ذلك إلى أن توفّي شرف الدولة، وورد صَمصام الدولة وأخوه أبو طاهر فيروز شاه إلى فيروز آباد، فجاؤوهما وخدموهما، ¬

_ (¬1) رَوْذَبار: قرية من قرى يغداد. معجم البلدان 3/ 77. (¬2) الصِّيمكان: بلدة في فارس. معجم البلدان 3/ 440.

السنة التاسعة والثمانون وثلاث مئة

وساروا إلى شيراز في صُحبتهما، وأقاموا على بابهما، ومات أبو طاهر، فأشفق صَمصام الدولة منهم؛ لأنه بالعمى كأنه مقصوص الجناح، فقبض عليهم، وحملهم إلى قلعة خُرُستا (¬1)، ثم نقلهم من القلعة إلى قرية، وجرَتْ لهم خُطوبٌ، إلى أن آل أمرهم إلى ما ذكرنا، ثم قصد بهاءُ الدولة فارسَ بعد ذلك، وسنذكره إن شاء الله تعالى. السنة التاسعة والثمانون وثلاث مئة فيها عمل بختيار يوم عاشوراء من النَّوح [مثلَ] ما كان يعْمَلُ، فاجتمع أهلُ بابِ البصرة وبابِ الأزج والحربيةُ في العشرين من المُحرَّم، ومضوا إلى قبر مصعب بن الزبير بدُجَيل بمكان يُقال له: مسكن، وقالوا: هذا في قُبالة (¬2) يوم عاشوراء. وبدا منهم [في حق أهل البيت عليهم السلام] ما لا يليقُ، وكذا فعلوا في مقابلة يوم الغدير، فقد كانت الشيعةُ تجتمع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجَّة بقبر موسى بن جعفر، ويقرؤون ويُصلُّون، ويقولون: هذا يومٌ آخى فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، ويضربون القباب بالكَرْخ، ويُظهرون الزينة، فاجتمع أهل باب الأزج وباب البصرة، وجعلوا مُقابلة الغدير اليومَ الثامن والعشرين من ذي الحجَّة، وقالوا: في هذا اليوم اجتمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضوان الله عليه في الغار، وهو خطأ (¬3)؛ لأن اجتماعهما في الغار كان في سلخ صفر [وقد ذكرناه]، وإنما كان المقصودُ الفتنَ [ونهبَ الأموال]، وكان بهاءُ الدولة بواسط، فطمعوا. وفيها وصل بهاء الدولة إلى الشيراز. قد ذكرنا توجُّه بهاء الدولة إلى واسط وخروجَ ابني بختيار وقتلَهما صَمصام الدولة، وكان الدَّيلم الذين بالأهواز مع الصاحب أبي علي بن أستاذ هرمز في طاعة بهاء الدولة، وسار بهاءُ الدولة فنزل على القنطرة البيضاء؛ ليكون قريبًا من أعمال بدر بن حسنويه، وليمتار من السوس، وبينها وبين السوس ثلاثة فراسخ، ثم ركبَتِ العساكرُ وقصَدَتِ السوسَ، والدَّيلم قد تحصَّنوا ¬

_ (¬1) خُرُستاباذ: قرية في شرقي دجلة من أعمال نينوى. معجم البلدان 1/ 358. (¬2) المثبت من (م) و (م 1)، وفي (خ): هذه قبالة. وفي (ب): هذا قاله. (¬3) في (م) و (م 1): وهذا جهل منهم.

يحيى بن [علي بن محمد

بالبلد، فأقاموا شهرين ومُقدَّمُ عسكر بهاء الدولة (¬1) بالقنطرة يمدُّهم بالإقامات، وسار بهاء الدولة يطوي البلاد، حتى قَدِمَ شيراز، وقَدَّم في مُقدِّمته الوزيرَ الموفقَ، فخرج إليه أبو نصر بن بختيار فقاتلَه، فهزمه الموفَّق، وتفرّق بنو بختيار، فصار أبو نصر إلى بدر بن حسنويه هو وأخوه أبو القاسم، ثم صار أبو نصر إلى قزوين وبلاد الدَّيلم، وأبو القاسم إلى البَطيحَة عند مهذَّب الدولة، وكتب الموفق إلى بهاء الدولة بالفتح، فسار حتى دخل شيراز، وجاءه الدَّيلم من كل مكان، وقبلَ أن يدخُلَ الدارَ وقف تحت القلعة التي على باب شيراز، وأنزل كما أختَ صَمصَام الدولة وردَّها إلى دارها، وقد كان بختيار اعتقلها، وكان الموفَّق يدلُّ على بهاء الدولة دائمًا ويتجنَّى عليه، وبهاء الدولة يداريه ويحتمله. وفيها استولى أبو القاسم محمود بن سُبُكْتِكين على أعمال خراسان بعد أن هزم عبدَ الملك بن نوح والسامانية، وأقام الدعوةَ للقادر، بعد أن كانت للطائع، وكتَبَ إلى بغداد كتابًا بالفتح. و[في هذه السنة] (¬2) حجَّ بالناس [أبو الحارث] محمد بن محمد بن عمر، وكان في الحجِّ الشريفان الرضيُّ والمرتضى، فاعترضَ الرَّكبَ أبو الجراح الطائي، فأعطوه تسعة آلاف دينار من أموالهما، وأطلق الحاجَّ. وفيها توفِّي يحيى بن [علي بن محمد ابن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين] (¬3) بن علي بن أبي طالب، أبو الحسين الزيدي، سمع الكثير، [وحدَّث عن أبي بكر بن مجاهد وغيره]، وخرج إلى الشام، فاجتاز بسيف الدولة بن حمدان بحلب، فأكرمَه وأقطعَه أرضًا بشَيزر (¬4)، ثم قدم ¬

_ (¬1) بعدها في (ب): وزمرة، وكان بدر الدين حسنويه مدة إقامة بهاء الدولة. (¬2) ما بين حاصرتين من المنتظم 15/ 15، والخبر فيه. (¬3) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق 64/ 345، والترجمة فيه. (¬4) المثبت من تاريخ دمشق، وتحرفت في جميع النسخ إلى: شيراز. وشَيزَر: كورة قرب معرة النعمان، معجم البلدان 3/ 383.

السنة التسعون وثلاث مئة

دمشق فأعقب بها، وكانت وفاتُه فيها، وأما أبوه علي بن محمد (¬1)، فكان زاهدًا منقطعًا في بيته ببغداد. ويقال: إنَّ المسجدَ الذي ببغداد -بدرب دينار (¬2) الصغير- مسجدُه، وبه قبرُه، وله فيه كتُب حِسان موقوفة على أهل العلم الشريف [ينتفعون بها]. السنة التسعون وثلاث مئة فيها ارتفعت منزلة الموفق، وكان بشيراز مع بهاء الدولة، وخرج إلى جبل جبولة في طلب أبي نصر بن بختيار، فانتهى إلى أبروقية، وعاد في صفر فلُقِّب بعمدة الملك، مضافًا إلى الموفق، وضُرِبَتِ الطُّبول في أوقات الصلوات الخمس على بابه، ولُقِّب ولدُه المعمر ابن بيت النعمة. وفي ربيع الآخر وُلدَ أبو الفوارس بن بهاء الدولة بشيراز. وفي جمادى الأولى خَلَعَ بهاءُ الدولة على الموفق خِلَعَ السلطنة؛ الفَرَجيَّة (¬3)، والعمامة، ومراكبُ الذهب تحتَه وبين يديه، وخرج لقتال أبي نصر بن بختيار بالعساكر، وكان أبو نصر قد صار في أطراف الدَّيلم، وكاتَبَ الدَّيلم الذين بفارس وكرمان والأتراك، وصار إلى أبروقية، فسار إليهم منهم جماعة، وانضاف إليه الزُّطُّ والأكراد وقُطَّاع الطريق، وصار يغارُ في أطراف فارس، فخرج إليه الموفق، وانتهى إلى أبروقية، فصار يراوغ ويدافع، ومضى إلى السِّيرجان (¬4)، وكان بها ديلم، فلم يقبلوه، وكرهوا مُقامَه عندهم، وواقَعَ أبا جعفر أستاذ هرمز من خواصِّ بهاء الدولة، فهزَمَه أبو نصر، واستولى على عسكره، وسار الموفق يطوي البلاد، وكلُّ بلدٍ يصل إليه يستأمن إليه من به من الدَّيلم والمقاتِلة، وهرب ابن بختيار منه يريد كرمان، فأخذ على طريق بَمْ (¬5) ¬

_ (¬1) في النسخ: أبي طالب. والمثبت من تاريخ دمشق. (¬2) في (خ) و (ب): بدار دينار، وهو تحريف. والمثبت من (م) و (م 1). ينظر معجم البلدان 2/ 530 - 545. (¬3) الفَرَجية: ثوب فضفاض يعمل عادة من الجوخ، وله كُمَّان واسعان طويلان يتجاوزان أطراف الأصابع قليلًا لا تفريج لهما. تكملة المعاجم لدوزي 8/ 34. (¬4) السِّيرجان: مدينة بين كرمان وفارس. معجم البلدان 3/ 295. (¬5) بَمْ: مدينة من أعيان مدن كرمان. المصدر السابق 1/ 395.

وبَرْدَسير (¬1)، فخلف الموفقُ أثقاله بِفَسا، وخاطر بنفسه وبالملك وبمن معه، وسار مُجِدَّا ليلًا ونهارًا لا يلوي على شيء، فلمَّا كَلَّ العسكرُ قالوا له: انزِلْ حتى نستريحَ فقد كلَّتْ دوابُّنا. فنزل، ودعا منجِّمًا كان معه من شيراز، فقال: ألستَ القائل: قد حكمتُ لك أن تأخذ ابن بختيار يوم الاثنين الآتي؟ قال: بلى. قال: فأين ذاك، ونحن على هذه الصورة ولا خبر له ولا أثر؟ فقال المنجم: قد بقي خمسة أيام، فإن لم تأخذه، وإلا فدمي لك حلال، وإن أخذْتَه فأيش تعطيني. فتضاحكوا منه، واستهزؤوا به، فكان كما قال. وفي رواية: أنه لمَّا عَظُمَ أمرُ ابن بختيار واستولى على أطراف فارس وملك كرمان واجتمع إليه الديلم، قلق بهاء الدولة لذلك، وطالب الموفَّقَ بالخروج إلى قتاله، فاستعفى، فقال له: لو أجبتُكَ إلى الاستعفاء لَما حسُنَ بك أن تَقبَلَ في مثل هذا الوقت، وقد علمتَ أنني ما خرجتُ إلا برأيِكَ، ولا وصلتُ إلى ما وصلتُ إليه من هذه الممالك إلا باجتهادك، وإذا قعدت في مثل هذه الضغطة فقد أسلمتَني إلى عدوي، ولكن تمضي في هذا الوجه، ويكون الاستعفاء بعده إذا دفعت هذا العدو. ولم يُمكِنْه في جواب هذا إلا القبول، فسار بالدَّيلم والتُّرك وغيرهم، حتى كان يرِدُ قومًا منهم، فيسألونه ويضرعون إليه حتى يخرجوا معه، وسار الناس يستأمنون إليه، فجاءه مَنْ أخبره أن ابن بختيار بمكان يقال له: بلازفاد، فانتخبَ ثلاثَ مئة من خواصِّ القُوَّاد والدَّيلم، وسار على الجمَّازات، فلم يجده، فسار تبيعه في الذين ذكرنا فلحقه بموضع يقال له: داروين -وهو جبل- جريدة، فقاتلهم، وانهزم ابن بختيار، فلحقه جماعة من الدَّيلم، فتنافسوا فيه، وأراد بعضهم حملَه إلى الموفق. وقال آخرون: نحن أولى. فضربَه بعضُهم فأبانَ رأسَه، وحمَلَه إلى الموفق، فقال بعض الدَّيلم: رأيتُ البارحَة صَمصمامَ الدولة في المنام وهو يقول: قُلْ للموفَق يأخذ بثأري من ابن بختيار، وكتب الموفق كتاب الفتح إلى بهاء الدولة، وسار إلى شيراز، فخرج بهاء الدولة للقائه، فلمَّا رجعا داخِلَين البلد مضى العسكر بأسره في خدمة الموفق إلى داره، وبقي بهاء الدولة في خواصِّه، فشقَّ عليه، وبلغ به كلَّ مبلَغٍ، ولم يتلق بعدها وزيرًا من وزرائه، ودخل شيراز يوم الأربعاء الثاني عشر من شعبان، وقُبِضَ لعشرٍ بَقين منه. ¬

_ (¬1) بردَسير: أعظم مدينة في كرمان. المصدر السابق 1/ 377.

ذِكْرُ سبب قَبْضِه: لمَّا عاد إلى شيراز بعد قتل ابن بختيار أقام على الاستعفاء وكرَّره، وكان في قلب بهاء الدولة منه أمورٌ قد ملأت قلبَه وغَيَّرَتْه، ونال ما كان يراعيه لأجله، وخافَه خواصُّ الملك وحاشيتُه، فأغْرَوه به، وحضر عنده أبو سعد فناخسره وأبو دُلَف بكرستان [وكانا] (¬1) يختصان به في الليلة التي قُبض في صبيحتها، فقالا له وأبو العلاء الإسكافي حاضر: أيها الموفَّق، أيُّ شيء آخر ما أنتَ عليه من ركوب الهوى ومخالفة الرأي في هذا الاستعفاء؟ وما الذي تُريده لِنُبلغه لك؟ إما بالملك أو بنفوسنا -وإن كان قد غاظَكَ أحد- وضعنا عليه مَنْ يفتِكُ به، أو كان في نفسك شيء فأطلِعنا عليه، حتى نتبع فيه [هواك. قال: ما أطوي عنكم شيئًا وقد خدمت هذا الملك وبلغت] أغراضَه، وما أريد الجندية بعدها. فقالا له: دَعْ هذا اللَّجاج، فإنه يؤدي إلى ما تندم عليه، ولا تقدِر في نفسك أنك إذا أُعفيتَ تقيم في منزلك، وقد بلغت من المنزلة ما بلغتَ، وأنك تنزل على ما تريد، هذا مُحالٌ، فَدَعنا نمضي إلى الملك ونُعرِّفَه مقامك في خدمته. فقال: لا بُدَّ. فقالا له: فأخِّر ركوبك في غَدٍ، وراجِعْ نفسَك. فلم يقبَل وبكَّر من غدٍ إلى دار الملك على عادته، وبعث يستعفي وبهاء الدولة يدفعه عن ذلك وهو مُصِرٌّ عليه، فخرج إليه جماعةٌ، وقبضوه وحبسوه في بيت وزرقوه (¬2)، وبعث بهاء الدولة إلى داره، فأخذ جميعَ ما كان فيها من المال والثياب والسلاح والخدم والغِلمان، وأخذ من إصطبلاته جميع ما كان فيها، وفوَّض بهاءُ الدولة الأمورَ إلى أبي علي الحسن بن أستاذ هُرمُز، وكان بعد فتح الأهواز قد اعتزل في منزله، وكتب بهاءُ الدولة إلى ابنه أبي نصر سابور ببغداد أن يقبض على أولاد الموفق وأسبابِه، فاستعمل الجميل، وبعث فأنذرهم فانصرفوا عن دورهم، فأنفذ إلى منازلهم فرآها خالية، فكتب إلى أبيه بأن القوم أُنذروا فاستتروا. وفيها استولى ابن سُبُكْتَكين على بُخارى، وطرد السامانية، وذلك أنَّه لمَّا نازلها صعِدَ خُطباؤها المنابرَ يستَنفِرون الناس للسامانية، ويقولون: قد عرفتُم حُسن سيرتهم فيكم، وقد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (ب). (¬2) أي: رموه بمِزْراق، والمِزراق: رمح قصير الصحاح (زرق).

محمد بن عبد الله

أظلَّهم هذا العدو، فقاتِلوا بين أيديهم. فسأل أهلُ بخارى الفقهاءَ، فقالوا: لو كانوا يُنازِعون في الدين لَوَجَبَ قتالُهم، أمَّا المنازعةُ في الدنيا فلا تُجَوِّزُ قتالهم. فهربَتِ السامانية، وانقرض ملكهم، ولمّا دخل أصحاب [ابن] سُبُكْتَكين البلد أحسنوا السيرة، ورَفقوا بأهلها. وفي شوَّال قُلِّدَ القاضي أبو عبد الله الحسين بن هارون الضبِّي مدينة المنصور مضافًا إلى الكَرخ وما بيده، وقلد القاضي أبو محمد عبد الله بن الأكفاني الرُّصافة وأعمالها، وقُلِّد أبو الحسن الحريري طريقَ خراسان، وقُلِّد أبو حازم محمد بن الحسن القضاء بواسط وأعمالها، وكُتِبَتْ لهم العهود، فقُرِئَت بدارِ الخلافة (¬1). [وفيها] حجَّ بالناس أبو الحارث العلوي. وفيها توفِّي محمد بن عبد الله (¬2) ابن الحسين بن عبد الله بن هارون، أبو الحسين، الدقاق، البغدادي، ويُعرف بابن أخي ميمي، ولد في صفر سنة أربعة وثلاث مئة، وكتب الحديث الكثير، وكان زاهدًا عابدًا ورعًا، ثقة، مأمونًا، مقيمًا في بيته أربعين سنة، لم ينَف على سطحٍ مع حرِّ بغداد. وكتب الحديث إلى أن مات، وكان حسنَ الأخلاق، كريمَ العشرة، وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر من شعبان ببغداد، سمع أبا القاسم البغوي، وابن صاعد، وغيرهما. واتَّفقوا عليه. وفيها توفِّي أحمد بن محمد بن أبي موسى أبو بكر، الهاشمي، القاضي، ولد سنة خمس عشرة وثلاث مئة، وكان مالكيَّ المذهب، تقلَّد قضاء المدائن، وسُرَّ من رأى، والجزيرة، وديار ربيعة، وغيرَها من البلاد، وولي خَطابة جامعٍ المنصور مدَّةً، ومات ببغداد في المُحرَّم، ودُفن بداره، وكتب الناسُ عنه، وكان ثقة مأمونًا (¬3). ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 15/ 17. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 469، والمنتظم 15/ 21. وينظر السير 16/ 564. (¬3) تاريخ بغداد 5/ 64، والمنتظم 15/ 19.

الحسين بن محمد بن خلف

الحسين بن محمد بن خلف (¬1) أبو عبد الله، الفرَّاء، والد القاضي أبي يعلى الحنبلي، وكان الحسين رجلًا صالحًا على مذهب أبي حنيفة، سمع الحديث وتفقَّه، وتوفِّي في شعبان ببغداد، وروى عنه ابنُه وغيرُه. عمر بن داود بن سلمون (¬2) أبو حفص، الأنطرسُوسي، الطرابُلسي، ولد سنة خمس وتسعين ومئتين، سمع خلقًا كثيرًا، وكان زاهدًا عابدًا ثقةً. قال أبو علي الأهوازي: قال لي أبو حفص: ختمتُ اثنتين وأربعين ألف ختمةً، وتزوجت مئة امرأة، وتسرَّيتُ بثلاث مئة جارية. محمد بن عمر (¬3) ابن يحيى بن الحسين بن أحمد بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -، أبو الحسن، الكوفي، ولد سنة خمس عشرة وثلاث مئة، وسكن بغداد، وكان المُقدَّمَ على الطالبيبن في وقته مع كثرة المال والعقار والضِّياع، وكان يخدُمُ عضُدَ الدولة، وكانت دارُه ببغداد عند قصر ابن المأمون، وكان عَضُد الدولة يغيظه منه كثرةُ ماله، فصادره، ولما ورد رسولُ القرامطة الكوفةَ قال عَضُد الدولة لوزيره: قُل للشريف يكتُبْ إلى نُوَّابه بالكوفة بإنزال الرسول وإكرامه، وبلغه، فكتب على أجنحة الطيور إلى الكوفة بذلك، وجاءه الجواب بعد ست ساعات، ثم دخل على الوزير، فقال له: قد أمر الملك بكذا وكذا، فينبغي أن تمضيَ إلى دارك، وتكتبَ إلى نوابك، ويعود الجواب بعد ستة أيام، وتأتي إلينا. فأخرج الورقةَ التي جاءته على جناح الطائر وتاريخها في ست ساعات من ذلك اليوم، فقام الوزير، ودخل على عَضُد الدولة، وأخبره، فانزعج، وبلغ عَضُدَ الدولة أنه عمل على طوقِ قَنِّينةٍ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 102، والمنتظم 15/ 20. (¬2) تاريخ دمشق 45/ 7 - 9 (طبعة دار الفكر). (¬3) المنتظم 15/ 22 - 24.

تكون للشراب جوهرًا قيمته مئة ألف دينار، فصادره، واستصفى أمواله وحبَسه، فبقي محبوسًا حتى مات عَضُدُ الدولة، فأطلقه ولده أبو الفوراس شرف الدولة، فأقام معه، وأشار عليه بطلب المملكة، فتمَّ ذلك، ودخل معه بغداد، فرفع أبو الحسن علي بن طاهر عاملُ سقي الفرات إلى شرف الدولة أن الشريف زرع في سنة ثمانٍ وسبعين وثلاث مئة ثمانَ مئةِ ألفِ جُريب، وأنه يستَغِلُّ ضِياعَه ألفي ألف دينار، وبلغ ابن عمرَ، فدخل على شرف الدولة، وقال له: يا مولانا، وواللهِ ما خاطبتُ بمولانا ملكًا سواك، ولا قبَّلتُ الأرض لملكٍ غيرِك؛ لأنك أخرجتني من مَحْبِسي، وحفظتَ روحي، ورددتَ عليَّ ضياعي، وقد أحببتُ أن أجعل النصف مما أملِكُ لولدك، وجميعُ ما بلغكَ عني صحيح. فقال له شرف الدولة: لو كان ارتفاعُكَ أضعافَه كان قليلًا لك، وقد وفَّر اللهُ مالكَ عليك، وأغنى ولدي عنك، فكُنْ على حالك. وهرب ابن طاهر إلى مصر، فلم يَعُدْ حتى مات ابنُ عمر، وصادرَ بهاءُ الدولة ابنَ عمر على ألفِ ألفِ دينارٍ عَينًا، وأخذَ منه شيئًا آخر، واعتقله سنتين وعشرة أشهر، وتنغَّص عيشُه بكثرة ماله. وقال القاضي التنوخي (¬1): لمَّا بنى الشريفُ دارَه بالكوفة كان فيها حائظ عظيمُ العُلوِّ، فوقف البنَّاء عليه ليُصلح شُرَّافاتِه، فسقط من الحائط، [وقام سالمًا، فعجب الناس من سلامته، وعاد ليُصلح الحائط] (¬2)، فقال له الشريف: قد بلغَ أهلَكَ سقوطُكَ، وهم لا يُصدِّقون بسلامتك، وكأنِّي بالنوائح، وقد جاؤوا إلى بابي، فاذهبْ إليهم ليطمئِنُّوا ويُصدِّقوا أنك في عافيةٍ، وارجعْ إلى عملك. فخرج البنَّاء مُسرعًا إلى أهله، فلمّا بلغَ عتبة الباب عثَرَ فوقعَ ميتًا. توفِّي الشريف في ربيع الآخر ببغداد وعمره خمس وسبعون سنة، ودُفِنَ في داره بدرب منصور بالكَرخ، ثم نُقِلَ إلى الكوفة، سمع أبا العباس بن عقدة وطبقتَه، وروى عنه أبو العلاء الواسطي وشيوخُ الخطيب. ¬

_ (¬1) نشوار المحاضرة 5/ 27 بنحوه. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو بمعناه في المنتظم.

المعافى بن زكريا

المُعافى بن زكريا (¬1) ابن يحيى بن حميد بن حمَّاد بن داود، أبو الفرج، النَّهرواني، ويعرف بابن طَرَارة، وُلدَ سنة ثلاث أو خمس وثلاث مئة، وكان عالمًا بالنحو واللغة وأصناف الآداب، وكان يذهب مذهبَ محمد بن جرير الطبري، وصنَّف كتاب "الجليس والأنيس"، وولي القضاء بباب الطاق نيابةً عن ابن صَير، وكان يُقال: إذا حضر المعافى فقد حضرت العلوم كلُّها، ولو أوصى رجلٌ بثلث ماله لأعلمِ الناس دفع إلى المعافى، وكان محترمًا في الدول، وتوفي بالنَّهروان في ذي الحَجَّة، حدَّث عن البغويِّ وغيرِه، وروى عنه الأزهريُّ وغيرُه، وقال أبو الطيب [الطبري] (¬2): أنشدني المُعافي لنفسه: [من المتقارب] ألا قُلْ لِمَنْ كانَ لي حاسدًا ... أتدري على من أسَأتَ الأدَبْ أسأتَ على اللهِ في فعلهِ ... لأنَّكَ لم تَرضَ في ما وَهبْ فجازاكَ عنِّي بأَنْ زادني ... وسَدَّ عليك وُجوهَ الطَّلَبْ وأجمعوا على فضله وصدقه وثقته. ناجية بن محمد بن سليمان (¬3) أبو الحسن، الكاتب، البغدادي، نادَمَ الخلفاء والأكابر، وكان شجاعًا شاعرًا فصيحًا، ومن شعره: [من الطويل] ولمَّا رأيتُ الصُّبحَ قد سَلَّ سيفَهُ ... وولَّى انهزامًا بيلُهُ وكواكِبُهْ ولاحَ احمرارٌ قلتُ قَدْ ذُبِحَ الدُّجى ... وهذا دم قد ضَمَّخَ الأُفْقَ ساكِبُهْ وأهدى لناجيةَ صديقٌ له مدادًا مع غلابم أسود اسمه أبزون، فكتب إليه ناجية: [من المجتث] أمدَدتَني بمدادٍ ... كَلَونِ أبزونَ بادي كمسكنيك جميعًا ... من ناظري وفؤداي ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 13/ 230 - 231 ومعجم الأدباء 19/ 151 - 154، والمنتظم 15/ 24 - 25. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) وهو في المصادر. (¬3) تاريخ بغداد 13/ 456 وفيه: سلمان، بدل: سليمان.

السنة الحادية والتسعون وثلاث مئة

أو كالليالي اللَّواتي ... رَمَينَنا بالبِعادِ أكرِم به من سَوادِ ... مُبيِّضِ للودادِ وكانت وفاته ببغداد، حدث عن الأنباري وغيره، وروى عنه التنوخي وغيرُه، وكان ثقة. السنة الحادية والتسعون وثلاث مئة وفيها جلس القادرُ للحاجِّ الخُراسانية في داره في أُبهةِ الخلافة، ودخل عليه القضاة والأشراف والعدول والأعيان وأهلُ خراسان العائدون من الحج، وأعلَمَهم أنه قد جعل الأمر في ولده أبي الفضل، ولقَّبه الغالبَ بالله، وكان له ثمانُ سنين وأربعةُ أشهر وأيام، وكتب إلى البلاد بأن يخطب له بعد أبيه، فيقال: وبلغه الأمل في ولده أبي الفضل الغالبِ بالله وفي عهد المسلمين، اللهم ثبتْ دولتَه وشعارَه، وانْصُرْ أولياءَه وأنصارَه. وكان السبب في هذه العجلة -مع صِغَر سنِّه- أن عبد الله بن عثمان الواثقي من ولد الواثق كان أحدَ شهود بغداد، وكانت إليه الخطابة، جرى بينه وبين القاضي التنوخي قصةٌ استوحشَ منها، فقيل له: لو دارَيتَه واستصلحتَه. فقال: أنا مُفكِّرٌ كيف أُريد أن أُطفئ شمع هذا الملك واخذه، ويُقال لي: استصلِحِ التنوخيَّ! وخرج إلى خُراسان، واستغوى بعض الملوك، وافتعل كتابًا على لسان القادر أنه قد ولَّاه العهد، فخطب له بعد القادر، وبلغ القادرَ فانزعج، [وعهد إلى ولده أبي الفضل، وأثبت فِسقَ الواثقي وكَذِبَه، فمضى إلى فارس، وكتب القادر] (¬1) بتتبُّعِه، فقصد خُوارَزم، وقصد بعضَ الملوك، فرقاه إلى قلعةٍ، فأقام بها موسعا عليه محروسًا حتى مات بها، وكان صاحب القلعة محمود بن سُبُكْتَكين. وفي الساعة الثالثة من يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة وُلدَ الأميرُ أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله وهو القائم بأمر الله. [وفيها] حجَّ بالناس أبو الحارث، محمد بن محمد بن عمر العلوي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين أثبت من (ب)، وهو موافق لمعنى ما جاء في المنتظم 15/ 26، والخبر فيه، وكذلك الأخبار الآتية من هذه السنة. قلت: وجاء في (خ) عوضًا عما أُثبت ما نصه: وبعث إلى ولده القادر!

جعفر بن الفضل

[وفيها] توفِّي جعفر بن الفضل [ابن جعفر] (¬1) بن محمد بن الفرات، أبو الفضل، المعروف بابن حِنْزابة، الوزير، وُلدَ سنةَ ثمانٍ وثلاث مئة، ونزل مصر، وتقلَّد الوزارة لكافور الإخشيدي، وكان أبوه وزيرَ المقتدر، وسمع الحديث ورواه، وشرع في تصنيف مسند، وبلغ الدارقطنيَّ، فسافر من بغداد إلى مصر، فأقام عنده مدةً يصنِّف له المسند، فحصل منه مالًا كثيرًا، ومن شعره: [من البسيط] مَنْ أخمَلَ النَّفْسَ أحياها ورَوَّحها ... ولم يبِتْ طاويًا منها على ضَجَرِ إنَّ الرياحَ إذا اشتدَّتْ عواصِفُها ... فليسَ ترمي سوى العالي من الشَّجَرِ وكانت وفاته بمصر في ربيع الأول، حدَّث عن محمد بن هارون الحضرمي وغيرِه، وكان يَذكُرُ أنه سمع [من] (¬2) البغويِّ جزءًا أو مجلسًا ولم يكن عنده، وكان يقول: من جاءني به أغْنَيتُه. وكان يملي الحديث بمصر، وروى عنه الدارقطني وغيرُه، وكان فاضلًا ثقةً جوادًا، مُكرِمًا لأهل الحديث، يبعثُ في كلِّ سنة إلى أهل الحرمين بمالٍ وطعامٍ وكسوةٍ، واشترى دارًا بالمدينة إلى جانب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوصى إذا مات أن يُدفَنَ بها، وسمَحَ له الأشرافُ بذلك لإحسانه إليهم، ولمَّا مات بمصر حُمِلَ تابوتُه إلى مكة في الموسم، وطافوا به طواف القدوم، ثم خرجوا به إلى عرفة ووقفوا به، ثمَّ ردُّوا به إلى مكة، فطافوا به طواف الزيارة، وحملوه إلى المدينة، فتلقَّاه الأشراف، وحملوا تابوته إلى الروضة، وصلّوا عليه، وطافوا به حول الحجرة، ودفنوه في داره. [وقد ذكرنا أنه حدَّث عن الحضرمي، وحدَّث أيضًا عن محمد بن سعيد البُرجُمي وإبراهيم بن الحارث بن الغَمْر الحمصيين، سمع منهما بحمص، وذكره الحافظ ابن عساكر في "تاريخه"] (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من النسخ سوى (خ)، ومن مصادر ترجمته، وهي: تاريخ بغداد 7/ 234 - 235، والمنتظم 15/ 28 - 27، ومعجم الأدباء 7/ 163 - 177. وينظر السير 16/ 484. (¬2) ما بين حاصرتين من معجم الأدباء 7/ 166. (¬3) وهو في القسم المفقود منه. وينظر مختصر تاريخ ابن عساكر 6/ 77 - 78.

جيش بن محمد بن صمصامة

[وفيها توفِّي] جيش بن محمد بن صَمصامة أبو الفتوح، القائد المغربي، ابن أخت أبي محمود الكُتامي، أمير أمراء جيوش المغرب بمصر والشام، [ذكره الحافظ ابن عساكر (¬1)، وقال: ] وَلي [جيش] دمشقَ في ذي القَعدة سنة ثلاث وستين وثلاث مئة، من قِبَلِ خاله أبي محمود، ثم عُزِلَ عنها، ثم وَلِيَها بعد موت خاله [أبي محمود] في سنة سبعين [وثلاث مئة]، ثم عُزِلَ عنها، ثم وَلِيَها سنة تسع وثمانين [وثلاث مئة]، فأقامَ واليًا عليها إلى هذه السنة فمات بها، وكان ظالمًا فاتكًا، سفَّاكًا للدماء، لم يبِتْ بدمشق أحدٌ إلا وهو خائف منه، فاجتمع الصُّلحاءُ والزُّهادُ ودَعَوا عليه، وابتهلوا إلى الله في هلاكه، فسلَّط اللهُ عليه الجذام، فتحتَتَ (¬2) جسمُه، وأكله الدود، ورأى بنفسه العِبَر ولم يَنْتَهِ [عمَّا كان عليه] حتى أخذَه اللهُ [أخْذَ عزيزٍ مُقتدر، ومُثِّلَ به أشرَّ مُثلةٍ]. الحسين بن أحمد بن الحجاج أبو عبد الله، الشاعر، وكان من أولاد العُمَّال والكُتَّاب ببغداد، ولَّاه عز الدولة بختيار الحِسْبَة ببغداد، فتشاغل بالشِّعر، وانفرد بالسُّخف، فصار يُتَّقى خوفًا من لسانه، وأكثرُ قولِه في الفُحش والقبيح (¬3). وقال هلال بن الصابئ: كان أولُ أمره أنه ارتَسَم بالكتابة بين يَدَي أبي إسحاق إبراهيم الصابئ جدِّي مدةً في أيام حداثَتِهِ، ثم تأتَّى له من المعيشة بالشعر ما عدَلَ إليه وعوَّلَ عليه، ولم يسبِقْه إلى السُّخف سابق، وكان مع تعاطيه هذه الطريقة مطبوعًا في غيرها، ولم يزَلْ أمرُه يتزايد، وحالُه يتضاعف، حتى حصل الأموال، واشترى الأملاك، وصار محذورَ الجانب، متَّقى اللسان، مَقْضيَّ الحاجة، مقبولَ الشفاعة، حمَلَ إليه صاحبُ مصر على مديحٍ مدحه به ألف دينار مغربية، ويقال: إنه خاف من لسانه. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 11/ 345 (طبعة دار الفكر)، والتصويب منه، وقد وقع في بعض النسخ في نسبته: الغربي، بدل: المغربي، والكافي بدل: الكتامي. (¬2) تحتت: تساقط. (¬3) ارتأى محقق هذا الجزء والدار الناشرة حذف أشعار الحسين بن أحمد بن الحجاج التي أوردها المصنف، وذلك لما فيها من إسفاف وفُحشٍ بالغ، وهي في نسخة (خ) من الورقة (4) إلى (29) من الجزء الحادي عشر.

وكانت وفاته في طريق النيل وهو عائد منها إلى بغداد، فحُمِلَ تابوتُه إلى بغداد لسبعٍ بَقين من جمادى الآخرة، فدُفن بداره بسوق يحيى من الجانب الشرقي في محلَّة الرُّصافة. وقيل: إنه دُفِنَ بمشهد باب التبن ظاهر مشهد موسى بن جعفر، وَرَثاه الشريف الرضي (¬1)، وقال: [من المتقارب] نَعوهُ على ضنِّ قلبي بهِ ... فلِلَّهِ ماذا نعى الناعيانِ رضيعُ صفاءٍ (¬2) له شُعبةٌ ... من القلبِ مثل (¬3) رضيع اللِّبانِ وما كنت أحسب أن الزمان (¬4) ... يَفُلُّ مضاربَ ذاكَ اللسانِ بَكيتُكَ لِلشُّرَّدِ السائِرا ... تِ تفتَّقُ ألفاظُها بالمعاني لِيَبْكِ الزمانُ طويلًا عليكَ ... فقَد كُنْتَ خِفَّةَ روحِ الزَّمانِ فعاب الناس على الرضيِّ ذلِكَ ولاموه، وتكلَّموا فيه بهذا السبب، وقالوا: إنما كان يُحِبُّه لأنه كان يهجو أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الرضيُّ قد اعتنى بشعره، فاختار منه قطعةً كبيرةً، إلا أنها غيرُ سالمةٍ مما يُنسَبُ إليه. وقال أبو الفرج ابن الجوزي: رآه أبو الفضل ابن الخازن في نومه بعد موته، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: [مجزوء الرجز] أفسدَ حُسْن مذهبي ... في الشِّعر سوءُ المذهبِ وحَمليَ الجِدَّ على ... ظهرِ حِصانِ اللَّعبِ لم يَرضَ مولايَ على ... سَبِّي لأصحابِ النَّبي وقال لي ويحكَ يا ... أحمقُ لِم لَمْ تَتُبِ من بُغضِ قومٍ مَنْ رَجَا ... ولاءَهم لم يخب رُمْتَ الرِّضا جهلًا بما ... أصلاكَ نارَ الغضَبِ وقال علي بن المحسن التنوخي (¬5): أنشدنا ابن الحجاج لنفسه: [من البسيط] ¬

_ (¬1) ديوانه 2/ 441. (¬2) في الديوان: ولاء، والمثبت موافق لما في معجم الأدباء والمنتظم وغيرها. (¬3) في الديوان: فوق، والمثبت موافق لما في المصادر السابقة. (¬4) هكذا في النسخ، وفي الديوان وبقية المصادر: المنون. (¬5) نشوار المحاضرة 6/ 57.

قالوا غدا العيدُ فاستبشِرْ بهِ فرحًا ... فقلتُ ما لي وما للعيد والفَرَحِ قد كانَ ذا والنَّوى لم تُمْسِ نازِلةً ... بِعَقْوَتي (¬1) وغُرابُ البَينِ لم يَصِحِ أيام لم يَخْتَرِم قُربي المنونُ ولَم ... يَغْدُ الشَّتاتُ على شملي ولم يَرُحِ فاليومَ بَعدكَ قلبي غيرُ مُنفسِحٍ ... لِما يُسِرُّ وصدري غير مُنشرِحِ وطائرٍ نامَ في خضراءَ مُغشِبَةٍ ... على شفا جدولٍ بالعُشبِ مُتَّشحِ بالغَمْرِ من واسطٍ والليلُ ما هبَطَتْ ... منهُ النُّجومُ وضوءُ الصُبحٍ لم يَلُحِ بكى وناحَ ولولا أنَّه شجِنٌ ... كمثلِ شَجْو المُعنَّى (¬2) فيكَ لم يَنُحِ يا مُزعِجَ النومِ عن أجفانِ مُغْتَبِقٍ ... على السُّهادِ وبالأحزانِ مُضطَبحِ بيني وبينكَ عهدٌ ليس يُخْلِفُهُ ... بُعْدُ المزارِ وعقدٌ غيرُ مُطَّرَحِ فما ذكرتُكَ والأقداحُ دائرةٌ ... إلا مَزَجْتُ بدمعي باكيًا قدحي ولا سمِعتُ بصوتٍ فيه ذِكْرُ نَوًى ... إلَّا عَصَيتُ عليه كلَّ مُقْتَرِحِ وقال أيضًا: [من المجتث] يا مَنْ وقفتُ هوايَ ... عليه سِرًّا وجهرا اللهُ أعلم أنِّي ... مُذْ غِبْتَ لم أُعْطَ صبرا ولا عصيتُ لداعي الـ ... أسى ولا الوجدِ أمرا ولا اطَّرحتُ ثنائي ... عليكَ نظمًا ونَثْرا قَدمِتُّ قبلكَ حتى ... تكون أطولَ عُمرا هذا لِغَيبةِ عشرٍ ... فكيف لو غِبْتَ شهرا وقال من شعره: [من السريع] باحَتْ بِسرِّي في الهوى أدمُعي ... ودَلَّتِ الواشي على موضعي يا معشرَ العُشَّاقِ إنْ كنتمُ ... مثلي وفي حالي فموتوا معي يَحِقُّ لي أبكي على زَلَّتي ... فلا تلوموني على أدمُعي وقال: [من مجزوء الرمل] ¬

_ (¬1) العَقْوة: الساحة وما حول الدار والمحلّة. اللسان (عقا). (¬2) هكذا في النسخ، ووقع في المصادر؛ المنتظم 15/ 29، ومصارع العشاق 1/ 274 وغيرهما: لشجو قلبي.

أيُّها النائمُ عمَّنْ ... عينُه ليسَ تنامْ كلُّ نارٍ غيرِ ناري ... فيكَ بردٌ وسلام وقال: [من السريع] يا مَنْ مواعيدُ رِضاهُ ظُنونْ ... ما آنَ أن يخرجَ مما يخونْ سألتَ عن حاليَ يا سيِّدي ... كلُّ عدوٍ لكَ مثلي يكونْ قلت (¬1): وقد ذكره قاضي القضاة شمس الدين بن خَلِّكان رحمه الله، فقال (¬2): الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحجاج، الكاتب، الشاعر، المشهور، ذو الخلاعة والمُجون، والسُّخف في شعره، كان فردَ زمانه في فنِّه، لم يُسبَقْ إلى تلك الطريقة، مع عذوبةِ ألفاظه، وسلامةِ شِعره من التكلُّف، وديوانه يوجد في عشر مجلدات، والغالب عليه الهزل، وله أشياءُ جيدة، ووَلي حِسْبةَ بغداد، ويقال: إنه عُزِلَ بأبي سعيد الإصطخري الفقيه الشافعي (¬3). ويُقال: إنه في فنِّه في درجة امرئ القيس؛ لأنَّ كُلًّا منهما مخترعٌ طريقةً، ومن جيِّد شعره: [من الكامل] يا صاحِبيَّ استيقِظا مِنْ رَقدةٍ ... تُزري على عقلِ اللَّبيبِ الأكيَسِ هذي المجرَّةُ والنجومُ كأنَّها ... نهرٌ تدفَّقَ في حديقةِ نَرجِس ورأى الصَّبا قَد غَلَّسَتْ بنسِيمِها ... فَعلامَ شُربي الرَّاحَ غيرَ مُغَلِّسِ قوما اسقياني قهوةً روميَّةً ... من عهدِ قيصرَ دَنُّها لم يُمسَسِ صِرفًا تُضيفُ إذا تَسلَّطَ حُكْمُها ... مَوتَ العقولِ إلى حياةِ الأنفُسِ ومن شعره أيضًا: [من الخفيف] قال قومٌ لَزِمتَ حضرةَ حَمْدٍ ... وتجنَّبْتَ سائرَ الرُّؤساءِ قلتُ ما قاله الذي أحرزَ المعـ ... ـنى قديمًا قبلي من الشُّعراءِ تسقُطُ الطيرُ حيثُ يُلتقط ... الحبُّ وتُغشى منازلُ الكرماءِ والبيت الثالث لبشار بن برد (¬4). ¬

_ (¬1) القائل هو المختصر وليس المصنِّف. (¬2) وفيات الأعيان 2/ 168 - 170. (¬3) وهذا قول غير صحيح؛ لأن أبا سعيد توفي سنة (328) هـ. (¬4) وهو في ديوانه 1/ 50.

عبد العزيز بن أحمد

عبد العزيز بن أحمد (¬1) أبو الحسن، القاضي، الخَرَزي، كان يقضي بحريم دار الخلافة، والمُخَرِّم، وباب الأزج، والنَّهروانات، وطريق خراسان، وكان على مذهب داود بن علي الأصبهاني، تقدَّم إليه وكيلان في حكومةٍ، فاختصما إليه، فبكى أحدهما، فقال القاضي: أرِني كتابَ الوكالة. فرمى به إليه، فنظر فيه، ثم قال: ما رأيتُ في كتاب الوكالة أنه جعل إليك أن تبكي عنه. فضحك الحاضرون، وافترقا. عيسى بن علي (¬2) ابن عيسى بن داود بن الجرَّاح، أبو القاسم، الوزير بن الوزير، ولد سنة اثنتين وثلاث مئة، وكتب للطائع، وكان فاضلًا، قال أبو يعلى بن الفرَّاء: أنشدني عيسى بن علي لنفسه: [من الخفيف] ربَّ مَيْتٍ قد صار بالعلم حيًّا ... ومُبقَّى قد حازَ جهلًا وغَيَّا فاقتنوا العلمَ كي تنالوا خلودًا ... لا تُعَدُّ الحياةُ في الجهلِ شيَّا وكان أبو محمد الجوهري يغشاه، فانقطع عنه، فكتب إليه: [من الطويل] رأيتَ جفاءَ الدَّهرِ لي فَجَفْوتَني ... كأنَّكَ غضبانٌ على مع الدَّهرِ وقال: خرج علينا يومًا، فقال: اللهُ بيننا وبين علي بن الجهم. فقلت له: [من هو علي بن الجهم؟ قال: الشاعر. قلت]: ورآه سيِّدنا؟ قال: لا، ولكن له بيتٌ آذانا به. قلت: وما هو؟ قال: قوله: [من الطويل] ولا عارَ إنْ زالتْ عنِ الحرِّ نعمةٌ ... ولكنَّ عارًا أن يزولَ التَّجمُّلُ وكانت وفاته ببغداد، ودُفِنَ بداره، حدَّث عن البغويّ وغيرِه، وروى عنه الزهريُّ وغيرُه، وكان ثقة، صحيحَ الأصول، ثابتَ السماع، مُفَنّنًا في العلوم، ومن كلامه: لا يصلُح للصَّدرِ إلا واسعُ الصَّدرِ. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 466، والمنتظم 15/ 30 والكلام الآتي منه. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 179، والمنتظم 30/ 15 - 31، والزيادة الآتية بين حاصرتين منه.

السنة الثانية والتسعون وثلاث مئة

السنة الثانية والتسعون وثلاث مئة فيها هرب أعيانُ أهل بغداد إلى البَطيحَة والكوفة وغيرهما؛ من كثرة المصادرات والعملات، وكبَسَ العَيَّارونَ الدور، وأخذوا الأموال. وفيها قُبِضَ على الموفَّق أبي علي بن محمد بن إسماعيل وزير بهاء الدولة، وكان قد قَبَضَ عليه أولًا بما ذكرنا، وأصعده إلى القلعة، وسلَّمه إلى أبي العباس أحمد بن الحسين الفراش، وكانت فيه غِلظةٌ وفظاظةٌ، وكان قد عرف سوء رأي بهاء الدولة في أبي علي، فاعتقله في حجرة لطيفة، وتركه في وسط الشتاء وشدة البرد بقميص واحد، وعلى كتفه كساءٌ طبري، فأشفى على التلف، وتمنَّى الموت على ما يُقاسيه، فاستمال الموكلين به، وخدعهم ومنَّاهم، وأرغبهم بالأموال فأجابوه، وعملوا له زنبيلًا، ودلَّوه بحبلٍ، وسار وقد أعدُّوا له خيلًا، فأصبح ببلاد سابور، فقيل له: اقصِن بدر بن حسنويه، وإلَّا ما لَك طاقةٌ ببهاء الدولة [فأقام على لجاجهِ وقال: أكاتبُ بهاء الدولة وأستصلِحُه. فقيل له، فلم يُصْغِ، وكاتب بهاء الدولة] (¬1)، وقال: ما خرجتُ عن طاعتِكَ، وإنَّما خِفتُ على نفسي التلف، وما أريد إلا أن أكون آمنًا على نفسي لا غير. فأجابه، وحلف له بالأيمان المُغلَّظة على ذلك، وقاد الناسُ إلى الموفق الخيلَ والبغال، وحملوا الثياب والأموال، فعادت نعمتُه إلى ما كانت عليه، فأشير عليه بأن يحمل الجميع إلى بهاء الدولة، ويطلب أن يكون منقطعًا في داره ببغداد أو في بعض المشاهد، فما التفتَ، وأصرَّ على المخالفة، ودخل شيراز، فنزل دارًا أُعِدَّت له، وفَتَحَ بابَه، وأقام الحُجَّاب والطرَّادين، وجلس في الدَّست، ودخل عليه الناسُ كما كان وزيرًا، فخاف أصحابُ بهاءِ الدولة، وقالوا: إنَّه يُكاتب أعداءك، وشمعى في خراب دولتك. فأخذه وأصعده إلى القلعة، ووكل به أبا نصر منصور بن طاس، فأحسن إليه، وخدمه ووسَّع عليه، وقال: أنا خادمك، ونفسي ومالي لك، وأُريد منك أن لا تخجلني عند صاحبي. فحلف له على ذلك، وأقام، فجاءه رجل يقال له: الشكري بن حسان، فقال: قد علمتَ فسادَ رأيِ بهاء الدولة فيك، وأنا آخُذُكَ وأذهبُ إلى الري، وتحصل ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من (ب).

على الخلاص والملك، فقد علمتَ ما في نفوس الديلم منك. فقال: قد عاهدتُ أبا نصر على أن لا أُفارق موضعي، ثم قُتل بعد ذلك، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها بعث بهاءُ الدولة عميدَ الجيوش إلى بغداد؛ لتدبير أمورها، وكان قد انحلَّ نظامُها، وطمع العيَّارون فيها، وكثُرت الكبسات والعملات، فسار إليها عميد الجيوش، ولم يقدر بهاء الدولة على المسير إليها؛ خوفًا على فارس، ولمَّا قَرُبَ من بغداد تلقَّاه الناس على طبقاتهم] (¬1)، فألانَ لهم جانِبَه، وسهَلَ أخلاقَه، وأعذَبَ ألفاظَه، مع هيبةٍ لم يُرَ (¬2) مثلُها، وزُينَتْ له الأسواق بالقِباب والأواني [ما لم يُعمل في حق غيره] وهرب الذُّعَّار والشُّطَّار [والعيَّارون] ودخلها في سابع عشر ذي الحجة يوم الثلاثاء، ونُثِرتْ عليه الدنانير والدراهم، وأُقيم الغلمان في أيديهم مجامر [العود و] البخور، وغُلِّفَتْ وجوه الخيل بالغالية (¬3)، ونزل في الزَّبزبِ إلى دار المملكة، وخدم الأميرين أبا شجاع وأبا طاهر، وصعد فنزل بباب الشعير، في الدار التي كانت لأبي الحسن محمد بن عمر، وجَدَّ في طلب العيَّارين [وكان معظَمُهم من العباسيين والعلويين] (¬4) وقد استطالوا، فجاؤوه بهم من كل مكانٍ، فكان يقرِنُ العباسيَّ بالعلوي ويغرقهما نهارًا (¬5) بمشهد من الناس، وكذا فعلَ بجماعةٍ من الحواشي والأتراك والمتعلِّقين بهم، فغرقهم، [فهدأت الفتن] فاستقامتِ الأمور، وانحسمت المواد، وأمن البلاد والسُّبل وخاف الغائب والحاضر، وكان كل علوي وعباسيٍّ يستجير بدار أحد من الخواص، فيبعث فيكبس عليه الدار ويغرقه، ويتبع العيَّارين والمفسدين، فقُتلوا وغُرِّقوا، وكفى الله المؤمنين القتال. وكان من جملة العيَّارين رجلٌ يُقال له: ابن أبي العباس العلوي، فهرب إلى ميَّافارقين، فقال عميد الجيوش: هذه مئة دينار لمن يمضي وراءه ويفتكُ به. وأودعها بعض التجار، وتعيَّن شخصٌ لِقَتْله، فبيناهم كذلك إذ ورد الخبر بوفاة العيَّار، فضحك ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين جاء بدلًا منه في (خ) و (ب): وتلقاه الناس. (¬2) في (م) و (م 1): يروا. (¬3) الغالية: أخلاط من الطيب، كالمسك والعنبر. المعجم الوسيط (غلا)، وغُلِّفَت: لُطِّخَت. (¬4) ما بين حاصرتين ليس في (خ)، وأثبت من باقي النسخ. (¬5) المثبت من (ب)، وبقية النسخ: نارًا.

عثمان بن جني

عميد الجيوش، وقال: هذا قد أراحنا الله منه بغير عزم، اصرفوا هذه الدنانير في الراحة من مُفسدٍ آخر. [واستقامت أمور بغداد على يديه]. وفي ذي الحجة وُلد لبهاء الدولة ولدان توأمان؛ أبو علي الحسن، وأبو الحسين، فعاش أبو الحسين بضع سنين ومات، وبقي أبو علي، وملك الأمر ببغداد، ولُقِّب شرفَ الدولة، ومنع عميدُ الجيوش السُّنَّة والشيعة من إظهار مذهب، ونَفَى بعد ذلك ابنَ المعلِّم فقية الشيعة من بغداد. ولم يحجَّ أحدٌ خوفًا من العرب والقرامطة، وكان قد اجتمع حجّ خراسان، فبلغهم ذلك، فرجعوا. وفيها ولَّى الحاكم على دمشق أبا منصور خُتَكينَ القائد، فأساء السيرة، وأخذ الأموال، وظلم، فعزله الحاكم، وسخط عليه، وولى طرملت بن بكار، ففعل أقبحَ ما فعل خُتَكين، فعزله وأعاد خُتَكين. وقيل: كان ذلك في سنة ثمانين وثلاث مئة. وفيها توفِّي عثمان بن جِنِّي (¬1) أبو الفتح، النَّحوي، اللُّغوي، الموصلي، العلامة، له مصنفات، منها: "اللُّمع" و"التلقين" و"التعاقب" و"شرح القوافي "و"المؤنَّث والمذكَّر" و"سرّ الصناعة" و"الخصائص" و"شرح المتنبي" وغير ذلك، وكان أبوه عبدًا روميًّا مملوكًا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي. قال الخطيب (¬2): وكان يقول الشعر، ويُجيد نَظْمه، ومن شعر عثمان بن جني: [من الهزج] فإنْ أُصبِحْ بلا نسبٍ ... فَعِلْمي في الوَرى نَسَبي على أنِّي أؤولُ إلى ... قُرومٍ سادةٍ نُجُب قياصرةٍ إذا نَطَقوا ... أرَمَّ الدهرُ في الخُطَبِ أُولاكَ دعا النبيُّ لَهُم ... كفى شرفًا دعاءُ نبي ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 311 - 312، والمنتظم 15/ 33 - 34، ومعجم الأدباء 12/ 81 - 115، وإنباه الرواة 2/ 335 - 340. وينظر السير 17/ 17. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 331.

علي بن عبد العزيز

قال المصنف رحمه الله: قول الخطيب: كان يقول الشعر، ويُجيد نظمه؛ إن كان من هذا الجنس، فسكوتُه أصلح. سكن ابن جِنِّي بغداد، ودرس بها العلم، حتى مات يوم الجمعة لليلتين بقِيَتا من صفر، وأخذ الأدب عن جماعة، منهم: أبو علي الفارسي وطبقته، وقرأ عليه النَّحوَ عَضُدُ الدولة، وكان يُعظمه. وقيل: إنه توفِّي بالموصل، وكان ثقةً صدوقًا. علي بن عبد العزيز (¬1) أبو الحسن، الجرجاني، قاضي الري، سمع الحديث الكثير، وترقَّى في العلوم، فأقَرَّ له الناس بالفضل، وله أشعار حِسانُ منها: [من الطويل] يقولون لي فيكَ انقباضٌ وإنما ... رأَوا رجلًا عن موقفِ الذُّلِّ أحجَما أرى النَّاسَ مَنْ داناهُمُ هانَ عِنْدَهم ... ومَنْ أكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِما ولم أقْضِ حقَّ العِلْمِ إنْ كان كُلَّما ... بدا طَمعٌ صيَّرتُهُ ليَ سُلَّما إذا قيلَ هذا منهلٌ قلتُ قد أرى ... ولكنَ نفسَ الحُر تحتمِلُ الظَّما ولم أبتذِلْ في خدمةِ العلمِ مُهجَتي ... لأَخدُمَ مَنْ لاقَيتُ لكنْ لأُخدَما أأشقى به غرسًا وأجنيه ذِلَّةً ... إذًا فاتِّباعُ الجهلِ قد كان أحزَما ولو أن أهلَ العلمِ صانوهُ صانَهُم ... ولو عظَّموهُ في النُّفوسِ لَعُظِّما ولكِنْ أذلُّوهُ جَهارًا (¬2) فدَنَّسوا ... مُحيَّاهُ بالأطماعِ حتَّى تجهَّما وما زلتُ منحازًا بعرضيَ جانبًا ... عن الذُّلِّ أعتدُّ الصيانَةَ مغْنَما أُنَهْنِهُها عن بعض ما قد يشينُها ... مخافة أقوال العِدى فيمَ أولما وما كلُّ برقٍ لاحَ لي يستَفِزُّني ... وما كلُّ من في الناس أرضاه مُنْعِما وأُقْسِمُ ما عِزُّ أمْرئٍ حسُنَتْ لَهُ ... مسامَرةُ الأطماعِ إنْ باتَ مُعدِما وكم طالبٍ رقى بنعماهُ لم يَصِلْ ... إليه ولو كان الرَّئيسَ المُعَظَّما وكم نعمةٍ كانتْ على الحرِّ نِقْمةً ... وكم مغْنَمٍ يعتَدُّه الحرُّ مَغْرَما ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 34 - 35، ويتيمة الدهر 4/ 3 - 29، ومعجم الأدباء 14/ 14 - 35، وينظر السير 17/ 19. (¬2) في النسخ الموجودة والمنتظم: فهان، والمثبت من المصدرين الآخرين وغيرهما من المصادر.

وماذا عسى (¬1) الدنيا وإنْ جَلَّ خَطْبُها ... ينالُ بها مَنْ صيَّر الذلَّ مَطْعَما وقد ادَّعى قومٌ أن هذه الأبيات للشافعي في هذا الوزن والقافية قصيد منها: تَعاظَمني ذنبي فلمَّا قَرَنْتُهُ ... بعفوكَ ربِّي كان عفوُكَ أعْظما وليس بصحيح، إنما هي للجرجاني، ومن شعره: [من الطويل أيضًا] إذا شئتَ أن تَسْتَقْرِضَ المال مُنْفِقًا ... على شهواتِ النَّفْسِ في زمَنِ العُسْرِ فسَلْ نَفْسَكَ الإقراضَ من كيسِ صَبْرِها ... عليكَ وأنظِرْها إلى زمنِ اليُسْرِ فإنْ فَعَلتْ (¬2) كنتَ الغنيَّ وإنْ أَبَتْ ... فكلُّ منوعٍ بعدَها واسعُ العُذْرِ وقال أيضًا: [من الخفيف] ما تطَعَّمتُ لذةَ العيش حتى ... صِرتُ للبيتِ والكتابِ جليسا ليس عندي شيءٌ أعزَّ من العِلـ ... ــــم فلم أبتغي سواهُ أنيسا إنَّما الذُّلُّ في مُخالطة النَّا ... سِ فدَعهُم وعِشْ عزيزًا رئيسا وقال: [من البسيط] قُلْ للزَّمانِ الذي أبدى عجائِبَهُ ... اللهُ منكَ ومن تصريفِكَ الكافي اجهد بجَهْدِكَ فيما قد قصَدتَ لَهُ ... ففرجةٌ منكَ بين النونِ والكافِ وقال: [من الكامل] وأغَنّ عنْ أربابِهِ أربابِهِ ... قلبي إلى أوصابِهِ أوصى بِهِ ذي شافعٍ يومَ النَّوى أضحى به ... سُكْرُ الهوى العذريّ من أصحابِهِ أسْلُو بهِ عَنْ كلِّ مَنْ أَحبَبْتُهُ ... وأظلُّ دونَ الخَلْقِ مِنْ أسلابِهِ وتصبُّري (¬3) في الحبِّ ما ألقى بِه ... فأودُّ لو وَرَّيتُ عن ألقابِهِ كم منزلٍ بالأبرقينِ ثوى بِهِ ... لم يقضِ فيه الصبُّ حقَّ ثوابِه أترى به في الحب نخوةَ قادرٍ ... فيسومني للعزِّ لَثمَ تُرابِهِ ¬

_ (¬1) في (خ): وما زاد على. والمثبت من (ب). (¬2) في النسخ الموجودة: أقرضت. والمثبت من معجم الأدباء والمنتظم. (¬3) في (ب) وتغيري.

محمد بن محمد بن جعفر

رَشَأٌ إذا عايَنْتُه أثوي بِهِ ... حَيرانَ حين يميسُ في أثوابِهِ فَرِحا بهِ الطَّلانُ حينَ رآهما ... ما بينَ رملَةِ عالجٍ فرحا بِهِ وجَوى به قلبي تضاعَفَ حُبُّهُ ... فيهِ وبردُ جَواه رَدُّ جوابِهِ إن كنتَ تطمعُ في هواهُ بِغابِهِ ... فالليثُ لا يُسطى عليه بغابِهِ بصري وسمعي في هواهُ طُلا بِهِ ... غُبنًا كما طَلِيَتْ دماءُ طُلابِهِ وشرى بِهِ قلبي غداةَ فِراقهِ ... صبرًا أمرُّ البَينِ مُرُّ شرابِهِ وجنى بِهِ ثَمَرَ الصَّبابةِ يانعًا ... صَبٌّ ألَم بدارِهِ وجنابِهِ ومن العجائبِ منزلٌ أَروَى بهِ ... وأذوبُ من ظمأٍ ولا أَروى بِهِ ومات الجرجاني بالري في هذه السنة، وحُمِلَ تابوتُه إلى جرجان، وكان يُلقب بقاضي القضاة، وكان حسنَ السيرة، صدوقًا فاضلًا. [وفيها توفِّي] محمد بن محمد بن جعفر (¬1) أبو بكر، الشافعي، ويُعرف بابن الدَّقاق، صاحب الأصول، ولد سنة ست وثلاث مئة، وتفقَّه، وقرأ القرآن، وسمع الحديث، وتوفِّي ببغداد في رمضان. الوليد بن بكر (¬2) ابن مَخْلَد بن أبي زياد، أبو العباس، الأندلسي، رحل في طلب العلم إلى مصر والشام والحجاز والعراق وخراسان وما وراء النهر، وسمع الكثير، وكان إمامًا عالمًا بالحديث والفقه، ثقةً أمينًا، وهو مقدَّمٌ في علم الأدب، توفي بالدِّينَور في رجب، وروى عنه الحاكم وغيره، ومن شعره: [من المتقارب] لأيِّ بلائِكَ لا تَدَّكِر ... وماذا يضرُّكَ لو تعتَبر فبانَ الشبابُ وحلَّ المشيب ... وحانَ الرحيلُ فما تَنْتَظِرْ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 229 - 230، والمنتظم 15/ 36. (¬2) تاريخ بغداد 13/ 481، وتاريخ دمشق 63/ 111 - 115.

السنة الثالثة والتسعون وثلاث مئة

السنة الثالثة والتسعون وثلاث مئة فيها منع عميد الجيوش أهل الكَرخ من النوح يوم عاشوراء، ومنع أهل باب البصرة من المضيِّ إلى قبر مصعب بن الزبير، فسكنت الفتن، وحُقنت الدماء، وحُفِظتِ الأموال. وفيها توفِّي الطائع [ابن المطيع] وفيها قَبَضَ بهاءُ الدولة على وزيره أبي غالب محمد بن خلف، وصادره على مئة ألف دينار (¬1). وفيها زلزلت الشام والعواصم [والثغور]، فمات تحت الهدم خلق كثير، ووقعت القلاع والحصون. وفيها أمر الحاكم صاحب مصر بقطع جميع الكروم التي بديار مصر والصعيد والإسكندرية ودِمياط، فلم يُبقِ بها كرمًا؛ احترازًا من عصير الخمر. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق؛ خوفًا من الأُصيفر الأعرابي. وفيها توفِّي إبراهيم بن أحمد بن محمد (¬2) أبو إسحاق، الطبري، المقرئ، شيخ الشهود، ومُقدَّمُهم ببغداد والبصرة والكوفة ومكة والمدينة وغيرها، قرأ القرآن، وسمع الحديث الكثير، وكان فقيهًا على مذهب مالك رحمة الله عليه، وحجِّ فأمَّ بالناس في المسجد الحرام أيام الموسم، وما تقدَّم فيه مَنْ ليس بقرشي سواه، ومولده سنة أربع وعشرين وثلاث مئة، وسكن بغداد، وحدَّث بها، وكان سخيًّا جوادًا، مفضالًا على أهل القرآن والعلم، وداره مجمعًا لهم، وقرأ عليه الرضيّ الموسويّ القرانَ، فقال له يومًا: أيها الشريف، أين مقامُكَ؟ فقال: في دار أبي بباب مُخَوِّل. فقال: مِثْلُكَ لا يُقيمُ بدار أبيه. ونَحلَه دارَه التي ببركة زلزل، فامتنع ¬

_ (¬1) تنظر هذه الأخبار في المنتظم 15/ 37 و 39. (¬2) تاريخ بغداد 6/ 19 - 20، والمنتظم 15/ 38 - 39.

عبد الكريم الطائع

الرضيُّ، وقال: إني لم أقبَلْ من أحدٍ شيئًا إلا من أبي. قال: حقِّي عليكَ أكثرُ من حقِّ أبيك، لأني حفَظتُكَ كتابَ الله. قال: صدقتَ. وقَبِلها. قدم الطبريُ من البصرة إلى بغداد في سنة ثمان وسبعين، فصلَّى بجامع المنصور، في المكان الذي عادته أن يجلس فيه، فجاءه أبو الحسين بن سمعون مُهنئًا بقدومه، وأنشد: [من السريع] الصبرُ إلا عنكَ محمودُ ... والعيشُ إلا بِكَ منكودُ ويومَ تأتي سالمًا غانمًا ... يومٌ على الإخوان مسعودُ مُذْ غِبْتَ غابَ الخيرُ من عندنا ... وإنْ تَعدْ فالخيرُ مردودُ ومات ببغداد، حدَّث عن إسماعيل بن محمد الصفَّار وغيرِه، وروى عنه أبو العلاء الواسطي وغيرُه، وأخرج له الدارقطني خمس مئة جزء، من سماعاته، وأجمعوا عليه. عبد الكريم الطائع (¬1) ابن المطيع بن المقتدر، أبو بكر، وأمُّه عُتب أم ولد، أدركت خلافتَه، ولي الخلافة سنة ثلاث وستين وثلاث مئة، وقَبَض عليه بهاءُ الدولة بن عضد الدولة سنة إحدى وثمانين، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام، وأفرد له القادر دارًا، وأحسن إليه، فأقام إلى ليلة عيد الفطر، فتوفِّي. قال هلال بن الصابئ: وفي يوم الثلاثاء، مُهَلَّ شوَّال أُظهِرَ موتُ الطائع المخلوع، وحضر من الغد الأشرافُ والقضاةُ والشهودُ والفقهاءُ والأماثلُ دارَ الخلافةِ للصلاة عليه والتعزية عنه، وأقاموا إلى المغرب، فصلَّى بهم القادرُ المغربَ، ثم أُخرِجَ التابوتُ إلى دار بدر في الفردوس، فصلَّى القادر عليه وكبَّر خمسًا، وحُمِلَ إلى التوبة التي بناها بالرُّصافة، فدُفِنَ بها، وشيَّع جنازتَه أبو الحسن ابن حاجب النعمان والحُجَّابُ والخدمُ والحاضرون من الجَمْع، وتكلَّم أهل السُّنَّة في تكبير القادر خمسًا، فقيل لهم: إن ذلك ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 79 - 80، والمنتظم 15/ 39 - 40، والكامل لابن الأثير 9/ 175.

محمد بن عبيد الله

مما جرت به العادة في الصلاة على الخلفاء من بني هاشم، وبلغ ستًّا وسبعين سنة، ورثاه الشريف الرضي (¬1) من أبيات: [من الرمل] ما رأى حيُّ نزارٍ قبلَها ... جبلًا سارَ على أيدي الرِّجالِ وإذا رامي المقادير رمى ... فدروعُ المرءِ أعوانُ النِّصالِ أيها القبرُ الذي أمسى بهِ ... عاطَلَ الأرضَ جميعًا وهو حَالي لم يُواروا فيكَ ميتًا إنَّما ... أفرغوا فيكَ جبالًا من نوالِ لا أرى الدمعَ كفاءً للجَوى ... ليس أنَّ الدَّمع من بعدِكَ غالي وبِرُغمي أنْ كسوناكَ الثَّرى ... وفرشناكَ زَرَابيَّ الرّمالِ وهجرناكَ على رُغْمِ الورى (¬2) ... رُبَّ هجرانٍ على غيرِ تقالِ لا تقُلْ تلكَ قبور إنَّما ... هي أصدافٌ على دُرِّ اللآلي محمد بن عبيد الله (¬3) ابن محمد بن حُلَيس، أبو الحسن، السلامي، كان فصيحًا، وله شعرٌ حسن، فمنه: [من المنسرح] ظبيٌ إذا لاحَ في عشيرتِه ... يطرقُ بالهمِّ قَلْبَ مَنْ طَرَقَهْ سهامُ ألحاظِهِ مفوَّقَةٌ ... فكلُّ مَنْ رامَ وَصْلَهُ رَشَقَهْ بدائعُ الحُسْنِ فيهِ مُفترِقَه ... وأنفُسُ العاشقينَ مُتَّفِقَهْ قد كتبَ الحُسْنُ فوقَ عارِضِه ... هذا مليحٌ وحَقِّ مَنْ خَلَقَهْ وله في الدِّرع يقول: [من الكامل] يا رُبَّ سابغةٍ حَبَتْني نعمةً ... كافأتُها بالسوء غيرَ مفنِّدِ أضحَتْ تصونُ عن المنايا مُهجتي ... وظلَلْتُ أبذُلُها لكلِّ مهنَّدِ وكانت وفاتُه ببغداد في جمادى الأولى. ¬

_ (¬1) ديوان الشريف الرضي 2/ 197 - 200. (¬2) في الديوان: ضنِّ الهوى. (¬3) تاريخ بغداد 2/ 335، والمنتظم 15/ 41 - 42، ويتيمة الدهر 2/ 466 - 506، والكامل 9/ 179، والأنساب 7/ 209.

محمد بن علي

محمد بن علي (¬1) ابن الحسين [بن الحسن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن] بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن، العلوي، الهمَذَاني، الصوفي، هو أحد الأشراف عِلمًا ونسبًا ومحبةً للفقراء مع ما يَرجِعُ إليه من العلوم والحديث والفقه وغيره، وصحب جعفرًا الخلدي وكان يكرمه، ودخل دويرة الرملة، ولم يتعرَّف إليهم، وأقام يخدمهم أيامًا، فدخل إنسانٌ فعرفه، فقبَّلَ رأسَه وأخبرهم به، فقاموا وقبَّلوا قدميه، وقالوا: إن كنت قد أحسنتَ إلى نَفسك فقد أسأتَ إلينا. فخرج إلى مصر، ثم عاد إلى خراسان، فمات ببَلْخ، ومولده بهمَذان، ونشأ ببغداد، ودرس الفقه على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وصحب الصوفية، وصار كبيرًا منهم، وحجَّ مرارًا على قدم الموحدة، وجاور بمكة، وكتب الحديث، وسمع من أبي العباس الأصمِّ وغيرِه، وروى عنه أبو عبد الله الحاكمُ وغيرُه، وكان سيدًا مأمونًا ثقة ورعًا زاهدًا عابدًا، ومن شعره: [من الطويل] أشارَ إليه السِّرُّ حتَّى كأنَّهُ ... معَ السِّرِّ في قلبي ممازجُ أسراري فيا عَجبي أنِّي مع السرِّ قائم ... أتيه على نفسي بمكنون إضْماري محمد بن علي (¬2) ابن الحسين بن أحمد بن إسماعيل [بن محمد بن إسماعيل] بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -، أبو الحسين، العلوي، صاحب التصانيف، وكان منقطعًا في بيته بدمشق، ملازمًا للعلم والعبادة والورع، ومات بدمشق، وكان له مشهدٌ عظيم لم يَرَ الناسُ مثلَه. [وفيها توفِّيت] ميمونة بنت ساقولة الواعظة البغدادية. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 54/ 302 - 306، وما بين حاصرتين الآتي منه ومن النسخة (ب). (¬2) تاريخ دمشق 54/ 307، وما بين حاصرتين الآتي منه، ومن النسخة (ب).

السنة الرابعة والتسعون وثلاث مئة

[حكى ابن ناصر عن أشياخه قال: إن ميمونة كانت تقول]: هذا قميصي، له اليوم سبع وأربعون سنة، ألبَسُه وما تخرَّق، غزلَتْه في أمي، الثوبُ إذا لم يُعصَ الله تعالى فيه لا يتخرَّق سريعًا. وقالت [ميمونة]: آذانا جارٌ لنا، فصلَّيت ركعتين، وقرأتُ من فاتحة كلّ سورة آيةً حتى ختمتُ القرآن، وقلت: اللهمَّ اكفِنا أمره، ثم نِمْتُ وفتحتُ عينيَّ، وإذا به قد نزل وقت السَّحَر، فزلَّتْ قدمُه فوقع فمات. وقال ابنها: كان في دارها حائطٌ له جوف، فقالت: هاتِ رُقعة ودَواةً. فناولتُها، فكتبَتْ في الرُّقعة شيئًا، وقالت: دَعْه في ثقبٍ منه. ففعلتُ، فبقي نحوًا من عشرين سنة، فلمَّا ماتت ذكرتُ ذلك القرطاس، فقمتُ فأخذتُه، فوقع الحائط، وإذا في الرّقعة: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41] يا مُمسك السماوات والأرض أمْسِكْه بقدرتك (¬1). [وقد حكينا عن ابن سمعون مثل ذلك]. السنة الرابعة والتسعون وثلاث مئة فيها دخل أبو العباس ابن واصل إلى البَطِيحَة فملكها، وانهزم مُهذب الدولة منها، وكان ابن واصل قد عصى على بهاء الدولة وأخذ البصرة، واستولى عليها، وكان مُهذِّب الدولة صديقَه وصاحبَه، وكان يُضمر له الغدر، ويقول: أنا نائبٌ بالبصرة عنك، حتى كاتب جماعة من أهل البَطيحَة، وعمل السفن، وجمع العساكر، وسار يريد البَطيحَة، وكتب إلى مُهذِّب الدولة يقول له: مِنْ حُكم الفتوة والنُّصح أن تأخذ لنفسك. فأخرَجَ إليه جيشًا مع عبد الله ابن أخت مُهذِّب الدولة، فهزمهم، وعادوا إلى البَطيحَة مهزومين، ودعت الضرورة مهذِّبَ الدولة إلى أن ركب بقرة في بعض الطريق إلى واسط، فخرج إليه وجوهُ الناس وتلقَّوه وخدموه، وحملوا إليه الدوابَّ والثياب والآلات والفرش والألطاف، واستولى ابن واصل على أمواله وذخائره وعُدده ومَنْ ¬

_ (¬1) الترجمة في المنتظم 15/ 42.

بقي من جواريه وخدمه، فوصل إلى الأموال العظيمة، وكانت السيدة بنت بهاء الدولة قد هربت إلى واسط مع بعض خدمها، فاحترز على أموالها وذخائرها، ولم يتعرَّض لها، وحمل ما كان بالبَطيحَة إلى البصرة. وأمَّا مُهذب الدولة فأقام بواسط أيامًا، ثم أصعد إلى بغداد في رمضان، فالتقاه عميد الجيوش (¬1)، فأنزله وأكرمه، وحمل إليه من الثياب والآلات والمال شيئًا كثيرًا، ووعده بردِّه إلى موضعه، ووصلت بنتُ بهاء الدولة، ونزلت ناحيةً عن مهذب الدولة، وحاول أن يجتمع بها فمُنِعَ عنها، وأقام على ذلك. وفي شوَّال برز بهاءُ الدولة من شيراز يريد الأهواز، وسببه استيلاء ابن واصل على [البصرة و] (¬2) البَطيحَة، واستخلف الوزيرُ أبا غالب على كَرمان وفارس، وكاتب عميد الجيوش إلى خُوزستان، وعزم بهاء الدولة أن يستصحب الموفَّق معتقلًا معه، فخاف الجماعةُ الذين يدبِّرون أمره أن تدعوه الضرورة في أمر ابن واصل إلى إطلاق الموفق واستخدامه، فقالوا لبهاء الدولة: إن استصْحَبْتَه معك بعد الإساءة إليه لم تأمَنْه أن يَدُسَّ إلى الدَّيلم ويعمل على انتزاع الملك من يدك، وإن تركتَه في القلعة كان الخوف أشدَّ، فأرسل إليه مَنْ خَنَقه، وكان مريضًا. وفيها (¬3) قُلِّد الشريف أبو أحمد الحسين بن موسى قضاء القضاة والحج والمظالم ونقابة الطالبيين، وكان التقليد من بهاء الدولة بشيراز، وكتب عهده على جميع ذلك، ولُقِّب بالطاهر الأوحد ذي المناقب، فلم ينظر في القضاء لامتناع الخليفة من الإذن له، وتردَّدت في ذلك أقوال انتهت إلى الوقوف فلم يحكم فيه. [وفيها] حجَّ بالناس أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوي، فاعترض الحاجَّ الأصيفرُ الأعرابيُّ من بني المنتفِق، وكان قد حجَّ من خراسان خلقٌ عظيمٌ، وفي القافلة ¬

_ (¬1) في (خ): عميد الدولة، والمثبت من (ب)، وينظر الكامل 9/ 182. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) من هنا إلى آخر أخبار هذه السنة في المنتظم 15/ 43 - 44.

أموالٌ عظيمةٌ، فحصرهم الأُصيفر وقال: أُريد ألفَ ألفِ دينار. وكان في الركب أبو الحسين بن الرفَّاء وأبو عبد الله بن الدَّجاجي، وكانا من أحسنِ الناس قراءةً، ولم يَبْقَ إلا نَهْبُ الحاجِّ، فقالوا: مَنْ يمضي إليه ويُقرِّرُ معه شيئًا نُعطيه. فندبوا [أبا الحسين] بن الرَّفاء وابن الدَّجَّاجي، فدخلا عليه، وسلَّما وجلسا بين يديه، وقرآ، فأعجبه وطرب، وقال لهما: كيف عيشُكما ببغداد؟ فقالا: نِعمَ عيشٍ؛ يصلنا من أهلها الخِلَعُ والصِّلات والهدايا. وقال: هل وهبوا (¬1) لكما في دفعةٍ واحدةٍ ألفَ ألفِ دينار؟ قالا: لا، ولا ألف دينار في مرة. فقال لهما: قد وهبت لكما] (¬2) الحاجَّ وأموالهم، وذلك يزيد على ألف ألف دينار. فشكروه وانصرفوا، ووفى لهم بذلك، فلمَّا وصل الناس إلى عرفات صَعِدا على جبل الرحمة، وقرؤوا، فقال أهل مكة و [أهل] الشام ومصر: ما سمعنا عنكم يا أهل العراق تبذيرًا مثل هذا، يكون عندكم مثلُ هذين الشخصين فتصحبونهما معًا (¬3)، فإن هلكا فبأيِّ شيء تتجمَّلون؟ كان ينبغي أن تصحبوا كلَّ سنةٍ واحدًا. ولمَّا انقضى الموسمُ بلغ أبا الحارث أنَّ أعرابًا قعدوا له بين مكة والمدينة، فعزم على العَوْدِ إلى العراق، ولا يمضي إلى المدينة، فوقفا على مضيق يأخذ إلى طريق المدينة، وقرآ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] فضجَّ الناسُ بالبكاء، ولَوَتِ الجمالُ أعناقَها إلى المدينة، وسارَ بهم الأمير إلى المدينة، وسَلِموا. وكان أبو الحسين بن بُوَيه لمَّا قدم بغداد بلَغه حُسْنُ صوتِهما وهما حَدَثان، فأمران يُصلِّيا به التراويح، وقرأ يومًا أبو الحسين: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] فصاح صوفيٌّ: بلى قد آن. ومات. ¬

_ (¬1) في (م) وحدها: دفعوا. (¬2) ما بين حاصرتين من جميع النسخ سوى (خ). (¬3) في (م) و (م 1): فتصحبونهما جملةً معكم.

الحسن بن محمد بن إسماعيل

وفيها توفِّي الحسن بن محمد بن إسماعيل أبو علي، الإسكافي، المُلقَّب بالموفق، قد ذكرنا تقدُّمَه عند بهاء الدولة، وبعضَ أحوالِه، وكان شهمًا شجاعًا منصورًا، لا يتوجَّه في أمر إلَّا ويُنصر، وارتفع أمرُه حتى قال قائلٌ لبهاء الدولة: يا مولانا، زيَّنَكَ اللهُ في عين الموفق. ثمَّ إنه قَبضَ عليه وخَنَقه. خلف بن القاسم بن سهل (¬1) أبو القاسم، الحافظ، الأندلسي، ويعرف بابن الدَّباغ، ولد سنة خمس وعشرين وثلاث مئة، وكان حافظًا مكثِرًا، جمع مسند الإمام مالك بن أنس، وحديثَ شعبة بن الحجاج، وأسامي المعروفين بالكُنى من الصحابة والتابعين وسائر المحدثين، وكتاب الخائفين، وأقضيةَ شريح، وغير ذلك، وكان أعلمَ الناس برجال الحديث والتواريخ والتفاسير، وكانت وفاته في ربيع الآخر بالأندلس، وأجمعوا على صدقه وفضله وزهده وورعه، وروى عنه أبو عمر بن عبد البر فأكثر، وكان لا يُقدِّم عليه أحدًا من شيوخه، ويقول: هو شيخنا وشيخ شيوخنا أبي الوليد الفَرَضي وغيرِه، وكتب بالشرق عن ثلاث مئة شيخ. [وفيها توفي طلحة بن أسد ابن عبد الله المختار، أبو محمد، الرقِّي؛ قال الحافظ ابن عساكر (¬2): سكن دمشق، وسمع وروى، ومات بها في ربيع الأول، ودُفن بباب كيسان، حدَّث عن أبي بكر الآجُرِّي، وأبي سليمان بن زَبْر، ويوسف بن القاسم الميانَجي، وكان شيخًا مأمونًا ثقةً، والله أعلم، والحمد لله وحده]. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 17/ 13 - 15 (طبعة دار الفكر). وينظر السير 17/ 241. (¬2) تاريخ دمشق 25/ 22 - 24.

السنة الخامسة والتسعون وثلاث مئة

السنة الخامسة والتسعون وثلاث مئة فيها زادت دجلةُ زيادةً لم تُعهد، بحيث كان الماء على رؤوس النخل، وهرب الناس في السفن إلى الجانب الغربي، وأقام الماءُ عشرين يومًا فأهلكَ الحرثَ والنَّسلَ. وفيها وصل عميد الجيوش إلى الأهواز، فأقام بها ثلاثة أشهر ينتظر بهاءَ الدولة، حتى قدم فالتقاه على فرسخ من قنطرة أَربَق، في نفرٍ قليل من أصحابه، ودخل بهاءُ الدولة الأهواز في ربيع الأول، وأمر عميد الجيوش بقصد البَطيحَة وأخْذِها من ابن واصل، فسار العميد إلى واسط، وجمع السفن والزبازب، وانحدر إلى الصَّليق، وكان ابنُ واصل قد كاتبه ليتوسَّط الحال بينه وبين بهاء الدولة، وكان خديعةً، فبينا هو كذلك إذ قال قائل: قد أقبل ابن واصل، وقد وصل إلى الهور وهو خارجٌ منه. وقد كان العميدُ سدَّ الأنهار وما أبقى إلا مكانًا واحدًا، فجاءته رسالةُ ابن واصل يقول: ما أحوجتُكَ إلى تكلُّفِ القصد لي، وقد جئتك، والأَولى أن تأخذ لنفسك وترجع إلى واسط، فإنني أخذت هذا البلد بالسيف وما أرجع عنه، وكان عميد الجيوش قد فرَّق الدَّيلم في البلد، ولم يبْقَ عنده إلا القليل، فإلى أن يجتمعوا صعد ابن واصل وأصحابه من السفن، وصدموا أوائل عسكو عميد الجيوش، فكانت الهزيمة، وانهزم عميد الجيوش، وغرق معظم أصحابه، وكان في خيمته ثلاثون ألف دينار عينًا ومئةٌ وخمسون ألف درهم، فدفنها خازنُه في الخيمة، ولم يعلم بها أحد، واستأمن من الدَّيلم قطعةٌ كبيرةٌ، وعاد عميد الجيوش إلى واسط على أسوأ حال، وعاد ابن واصل إلى البصرة، وأعلم أبو عبد الله الخازن عميدَ الجيوش أنه دفن المال، فقوي أملُه، وبعث مَنْ أحضره. وفيها توفِّي أبو الفضل محمد بن القاهر بالله عن نيِّفٍ وثمانين أو سبعين سنة، وكان محتجبًا عن الناس. وفي رجب انحدر مُهذَّب الدولة من بغداد إلى واسط، ورجع إلى البَطيحَة، وكان عميدُ الجيوش قد نُقِلَ إليه أن مُهذَّب الدولة قد غلبك ببغداد على أن يملك الحضرة،

فقال له بعض أصحابه: هذا بعيدٌ؛ فإنَّ مُهذِّب الدولة ليس بديلميٍّ فتميلُ الدَّيلم إليه، وليس له مالٌ فتميلُ غيرُهم إليه، وهذه البَطيحَة خارجةٌ عنكم، وأهلها يريدون مُهذِّب الدولة، فسَيِّرْه إليها، فإن استقام أمرُه ظهر عند الناس أنكم قضيتم حقَّه ونصرتموه على عدوه لمَّا التجأ إليكم، وإن كانت الأُخرى استرحْتُم منه. فأرسل وراء مهذِّبِ الدولة، فقدِمَ واسطاً، فجهَّزه بالزَّبازب والدَّيلمِ وغيرِهم، وانحدر الناس، فتلقَّاه أهلُ البَطيحَة، وفرحوا به، وانتظم أمرُه. وفيها خلَعَ القادرُ على القاضي أبي عبد الله الجزري الحسين بن هارون الضبِّي، وقرَّره على عمله. وفيها كبس أبو العباس بن واصل أوائلَ عسكر بهاء الدولة، فظفرَ عليهم، وعاد بهاءُ الدولة إلى قنطرة أَرْبَق، ثم راسله ابن واصل، وكان قد اجتمع عنده بالبصرة أربعة آلاف من أعيان الدَّيلم، وعنده جَراءةٌ وإقدام، وحدَّثَتْه نفسُه بطلب الملك، وشجَّعه عليه مَنْ كان عنده من الدَّيلم وممَّن أبعدَه عميدُ الجيوش عن بهاء الدولة، ولقي أصحابَ بهاءِ الدولة عدة دفعات، وظهر عليهم، وعاد بهاء الدولة إلى قنطرة أَرْبَق على عزم الرجوع إلى فارس، ودخل ابن واصل الأهواز، ونزل دار المملكة، واستولى على ما كان فيها، ثم فكَّر في العاقبة، ورأى أصحابَ بهاء الدولة يريدون قصده من كل جانب، فكاتب بهاءَ الدولة وقال: أنا عبدك، وقد تقرَّبتُ إليكَ مراراً وأبعدتَني، وسمعتَ فيَّ أقوال الوُشاة والأعادي، لو اصطنعتني لفتحتُ الدنيا بين يديك ونفعتُكَ. فأجابه بهاء الدولة إلى ما أراد، ووقعت الأيمان بينهما، وشهد القضاة والأشراف، وبعث إليه الخِلَعَ النفيسةَ، وخوطب بما يُخاطَب به مُهذِّبُ الدولة، وعاد إلى البصرة بعد أن أخذ ما كان في دِجلة الأهواز من السفن والزبازب، وما وجد في دار بهاء الدولة من الآلات وغيرها وأموال الأهواز. ذكر طرف من أخبار ابن واصل: واسمه أحمد بن الحسن بن واصل، وكنيته أبو العباس، ولم يكن من بيت الإمرة وإنما كان جِهْبذًا، انتقلت به الأحوال، وخدم مُهذِّب الدولة بالبَطيحَة، وخدم بعبادان،

أحمد بن محمد

وكان مهذِّب الدولة يبعثه برسائل إلى بهاء الدولة -وبهاء الدولة بفارس والبصرة- ولشكرستان، فقصده ابن واصل، وطمع في البصرة، واجتمع إليه الدَّيلم، فأخرجه منها، وحكم عليها، وكاتب بهاءَ الدولة يضمِّنه البصرةَ على مالٍ سمَّاه، فأجابه، وبعث بالخِلَع السلطانية والطوقِ والسِّوارين، وقصد شكرستان باتفاقٍ من مُهذِّب الدولة، وقاتله وظهر عليه، وأخذ أمواله وذخائره، فتقوَّى بها، وبعث إليه بهاءُ الدولة يطلب المال الذي قرَّره عليه، فاعتذر، وقال: كنتُ عددتُه، فلما قُصِدَ بي شكرستان احتجتُ إلى إنفاقه. ثمَّ أرسل ابن واصل إلى مُهذِّب الدولة يطلب المال الذي أنفقه -وكان قصدُه البَطيحَة- فأجابه مُهذِّبُ الدولة بجوابٍ غليظ، ثمَّ جمع ابنُ واصل المال وبعث به إلى بهاء الدولة، فأعجبه، وسأله أن يأذن له في أخذ البَطيحَة، فأذِنَ له، فسار وأخذها، وكان بهاء الدولة قد تغيَّر على مُهذِّب الدولة، ثمَّ شقَّ عليه أخذُ البَطيحَة، فجاء بنفسه من الأهواز، واتَّفقا على الصلح، ثمَّ فسد الحال بينهما، وعاد إلى الأهواز، والتقى بعسكر بهاء الدولة، فهزموه وعاد إلى البصرة. [وفيها] حجَّ بالناس جعفر بن شعيب السلَّار، ولَحِقَهم عطشٌ عظيمٌ، فهلك خلقٌ كثير، وفات بعضَهم الوقفة (¬1). وفيها خرج أبو رِكوة على الحاكم بمصر، وتعاظم أمرُه -وسنذكره إن شاء الله تعالى- وعزم الحاكم على الخروج إلى الشام، وبرز إلى بَلْبيس بالعساكر والأموال، فأُشير عليه بالمُقام، وقيل له: تقلُّ الحُرمة بالخروج. فعاد. وفيها توفِّي أحمد بن محمَّد البشري، الصوفي، رحل وطلب الحديث، وجاور بمكة مدةً، وصار شيخ الحرم، وخرج إلى مصر، فتوفي بين مصر ومكة، وكان صالحًا ثقةً. ¬

_ (¬1) هذا الخبر في المنتظم 15/ 46.

السنة السادسة والتسعون وثلاث مئة

السنة السادسة والتسعون وثلاث مئة فيها في المُحرَّم خرج الأمير أبو طاهر ابن بهاء الدولة إلى أبيه بالأهواز، ومعه أخته التي تزوَّجها مُهذِّب الدولة. وفيها ظهر كوكبٌ عظيمٌ بمقدار الزُّهرة عن يسار القبلة، وله شعاع [كشعاع الشمس أو القمر] في أول شعبان، وأقام إلى نصف ذي القعدة، ثمَّ غاب. [وفيها] وَليَ أبو محمَّد الأكفاني قضاء جميع بغداد، وجلس القادر لأبي المنيع قِرواش، وخلع عليه، ولقَّبه معتمد الدولة، وجعله أمير العرب، وكان يومًا مشهودًا، وأُحضِر حاجُّ خراسان [القادمون بسبب الحج، وكان فيهم أبو سعد عثمان زاهد خراسان] (¬1)، فقام في المجلس ودعا بين الصفَّين للقادر، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكلِّ إمامٍ عادلٍ دعوةٌ مستجابةٌ في كل يوم" فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يَجْعلَها في هذا اليوم لي. فقال الخليفة: باركَ اللهُ فيكَ وعليك (¬2). وهذا أبو سعد من أهل نيسابور وكان متقدمًا بخراسان في الزهد والورع، والناس يطيعونه مثل ما يطيعون السلاطين، وكان إذا دخل على محمود بن سُبُكْتِكين قام واستقبله خطوات، ويجلسه إلى جانبه، ولم يفعل ذلك بأحد سواه، وكان عميدُ الجيوش قد شاهد أمره لمَّا كان هناك، فلمَّا قدم بغدادَ ركبَ عميدُ الجيوش إليه في الدَّيلم والأعيان، فلمَّا دخل عليه رأى عليه قميصًا خشنًا ضيِّقًا ضيقَ الأكمام، وعلى رأسه خرقةٌ، وتحته مسح، وحوله جماعةٌ من الفقراء، فالتفتَ عميدُ الجيوش إلى الدَّيلم، وقال لهم: لا تنظُروا إلى هذا الشيخِ وتغييرِ زيِّه (¬3)، فإنَّ أمْرَه بخراسان أنفَذُ من أمرنا ببلادنا، ثمَّ حادثه ساعةً وقال: أنت ضيفُنا فكلِّفْنا حاجةً نقضي بها حقَّك. فقال: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) هذا الخبر في المنتظم 15/ 49، والثاني منهما مختصر، والحديث لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن أخرج أحمد في مسنده (9725) من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: الإمام العادل لا تُردُّ دعوته، وفي المسند أيضًا (8043) و (8743)، وعند الترمذي (3526) و (3598) وابن ماجه (1752) بلفظ: وثلاثة لا تردُّ دعوتهم: الإمام العادل. . . الحديث. (¬3) في (ب): بزَّته.

لي إليكَ حوائجُ إنْ قضيتَها شكرتُكَ. قال: قُلْ. قال: إنك حظَّرت على الناس التعاملَ بالدنانيرِ السابوريةِ والدراهمِ الحانية وما يخالف سِكَّتَكَ، فإن رأيتَ أن تفسح للحاجِّ في التعامل بما صحِبَهم من النقود، فقد تضرَّروا، حتى يفارقوا بلدك. قال: نعم، قد أذِنْتُ. ثمَّ قال: ماذا؟ قال: تمنعُ أهلَ بلدك من دخول الحمامات بغير مآزر. فقال: أفعل، ولكنَّهم لا يأتمرون، وليس طاعةُ أهل العراق لسلطانهم مثلَ طاعة أهل خراسان الذين تعرفهم. فقال: ثمَّ ماذا؟ قال: خير. فقال العميد: قد كنتُ أعلمُ أنكَ لا تسألُني حاجةً تخصُّكَ، فلا تنسني من دعائك. فقال: اللهمَّ أصلِحْه ووفِّقْه، وأصلِحْ به وعلى يديه. ثمَّ قام عميد الجيوش وخرج. ولمَّا كان سنة إحدى وأربع ومئة عرض بنيسابور وباءٌ عظيمٌ، فغسل أبو سعدٍ عشرةَ آلافٍ وواراهم، ودخل يومًا على محمود بن سُبُكْتِكين، فقال: يا محمود، قد ضاق صدري لأنك قد صِرْتَ تُكدِّي. قال: وكيف؟ قال: بلغني أنك تأخذُ أموال الضعفاء، وهذا هو التكدية. وكان محمود قد وظَّفَ على أهل نيسابور شيئًا فكفَّ عنه. وفيها توفِّي أبو الحسين بن بهاء الدولة بشيراز، فجلس عميد الجيوش في العزاء ثلاثة أيام، وكان قد أصعد العميدُ من أول هذه السنة من واسط إلى بغداد. وفيها ملك بنُ واصل الأهوازَ واستولى عليها، وحاربَه أصحابُ بهاء الدولة، فانهزم وعاد بهاء الدولة إلى القنطرة، وملك الأهواز، وهَمَّ بالقبض على الوزير أبي غالب وعميد الجيوش، وكانا قد استوحشا منه، وعلم أنهما متى فارقاه لم يرْجِعا إليه، وكانت خزائنُه قد نفدت عند مقامه على القنطرة، فشره إلى ما قيل له عن أموالها، فأطلع بعضَ خواصِّه على ذلك، وهو أبو الخطاب، فأنذر عميدَ الجيوش، وقال: فرِّقْ أصحابَك. ففرَّقهم، ثمَّ قال لبهاء الدولة: عميد الجيوش ليس له مال، وإنَّما المالُ لأصحابه، وقد فرَّقهم في الجهات، فإن قبضتَ عليه هربوا، ولم يحصل لك شيء، وأمَّا أبو غالب فأكثر أمواله بفارس، وما جاءك إلَّا جريدةً، فإن قبضتَ عليه ها هنا تمزَّقت أموالُه بفارس، ولم يتعوَّض منه شيء.

ثمَّ إنَّ عميدَ الجيوش أظهر المرضَ، وسأل الانتقال إلى عسكر مكرم -إذ هي أصحُّ ماءً وهواءً- فأذِنَ له، فخرج إلى عسكر مكرم، وبعث إلى الأهواز، فأخذ أمواله الشيء بعد الشيء، وإلى أن حصله عنده، ثمَّ سار إلى تُسْتَر، وأظهر أنَّ له فيها مالًا يريد أخْذَه، ثمَّ سار إلى جندي سابور، فبعث إليه بهاء الدولة بالرجوع، فقال لرسوله: ما تركتُ ورائي خدمةً يحتاج فيها إلى مكاني. وقصد السوس، ولم يرجِعْ. وقال أبو الخطاب لبهاء الدولة: قد فارق عميد الجيوش وهو مستوحشٌ، ومتى تعرَّضْتَ للوزير لم يبْقَ لابن واصل من يقاومه، الواجب أن تلزمه بفتح البصرة، فأمره فسار إليها بعسكر فارس، ثمَّ جهَّز بهاءُ الدولة أبا العباس عيسى بن ماسرجس عقيبه إلى البصرة، فاجتمع بأبي غالب، وقال له: أنت الوزير، وأنا تبَعٌ برسم الكتابة. فشكره، وأقاما على ذلك حتى فُتحت البصرة، ولم يزَلْ بهاءُ الدولة بعميد الجيوش حتى عاد إلى بغداد. وفيها فُتحت البصرة، وقد ذكرنا أنَّ الوزير أبا غالب سار إليها على ظهر، وكتب إلى واسط، فجاءته السُّفن والزَّبازب والرجال، وذلك في ذي الحجة، فدخلها، وانهزم ابن واصل مع حسان بن ثِمال الخفاجي إلى البرية، واستأمَنَ مَنْ كان مع ابن واصل من العساكر إلى الوزير، وشَرْحُ قصَّته أنَّ ابن واصل لمَّا عاد مهزومًا من الأهواز نزل بذاودان، فخرج إليه نساء الدَّيلم الذين قُتلوا وأُسروا معه، فشتموه، وقالوا: حملتَ رجالنا وأسْلَمْتَهم إلى القتل. وتلاحَقَ به فَلُّ الدَّيلم حتى صار عنده عددٌ كثيرٌ منهم، وجمع زبازِبَه وسُفُنَه -وكانت سبع مئة- وحشد، وأخرج الذخائر التي كانت بالبصرة، وفرَّقها على الجيش، وجاءه الوزير في الزَّبازب، وعسكر فارس، وقاتل ابنَ واصل، وما كانت زَبازبُ الوزير تقوم بزبازِبه، وأقام مدةً يناوشه، وضاق الأمر على الوزير، ونَفِد ما كان معه من المال، وطالبَه الجندُ، فبعث إلى بهاء الدولة يستمِدُّه، فقعد عنه، وراسله بأن يقوم بما يحتاج إليه من مال نفسه، وعزم على العود بالعسكر عن البصرة، وابنُ واصل يخادعه ويراسله، ويقول: واللهِ ما هِبْتُ أحدًا هيبتَكَ، ولقد قصدتُ بهاءَ الدولة وعميدَ الجيوش دفعات، فما كان لهم في قلبي مثلُ هيبتِكَ، وأُريد أن تتوسَّط في أمري مع بهاء الدولة على كل ما يريد من المال، وكان مقصودُه غِرَّة أبي غالب، حتى

إسماعيل بن أحمد

ظهرت له الفرصةُ، فعَبَر يومًا في زَبازِبه وسفنه، وصَعِد إلى معسكر أبي غالب، وهجم عليه، فانهزم أبو غالب بين يديه، وكاد يتمِّم الهزيمة، فشجَّعه بعضُ الدَّيلم، فتراجع، وحملَ على ابن واصل، فانهزمَ مع حسان إلى البريَّة، ودخل أبو غالب البصرة، فاستولى عليها وعلى أموال ابنِ واصل وأسبابه، وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح، وجاء بهاء الدولة فدخل البصرة في السنة الآتية. و[فيها] حجَّ بالناس محمَّد بن محمَّد بن عمر العلوي، وخطب بمكة والمدينة للحاكم على [جاري] العادة، وأمر الناس بالحرمين بالقيام عند ذِكْره (¬1)، وكذا كانت عادتهم بمصر والشام، وكان إذا ذكر بالمجالس الجامعة والأسواق [والطرقات] سجدوا له [من قوة هيبته]. وفيها توفِّي إسماعيل بن أحمد (¬2) ابن إبراهيم بن إسماعيل، أبو سعد، الجُرْجاني، كان عالمًا بفنون علم الحديث والفقه والعربية، وكان جوادًا سخيًّا، له تفضيلٌ على أهل العلم، وورعٌ ورياسةٌ باقيةٌ في ولده وأهل بيته، قدم بغداد غيرَ مرَّة، وعقد له مجلس المناظرة، وحضره أبو الطَّيب الطبري وأبو حامد الإسفراييني، فكتب أبو سعد إلى المعافى بن زكريا يسأله الحضور، وكان فيما كتب إليه: [من الطويل] إذا أكرمَ القاضي الجليلُ وليَّهُ ... وصاحبَهُ ألفاهُ للشُّكرِ مَوْضِعا ولي حاجَةٌ يأتي بُنَيَّ بذِكْرِها ... ويسألُه فيها التطوُّلَ أجمعا فكتب إليه المعافى: [من الطويل أيضًا] دعا الشيخُ مِطْواعًا سميعًا لأمرهِ ... يؤاتيه باعًا حيثُ يرسُمُ إصْبَعا وها أنا غادٍ في غَدٍ نَحْوَ دارِهِ ... أُبادِرُ ما قد حدَّهُ ليَ مُسْرِعا ¬

_ (¬1) هذا الخبر إلى هنا في المنتظم 15/ 49. (¬2) تاريخ بغداد 6/ 309، والمنتظم 15/ 50 - 51.

محمد بن إسحاق

دخل أبو سعد في صلاة المغرب بجرجان، فقرأ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ففاضَتْ نفسُه، وذلك في ربيع الآخر، حدَّث عن أبيه وغيرِه، وروى عنه التَّنوخيُّ وغيرُه، وأجمعوا على فضلِه وصدقِه وأمانتِه. محمَّد بن إسحاق (¬1) ابن محمَّد بن مَنْدَة، أبو عبد الله، الأصفهاني، أحد الحُفَّاظ المُكثرين والمحدِّثين الجوَّالين، من بيت الحديث والفضل، صنَّف التاريخ والشيوخ، وتوفِّي بأصبهان في ذي القعدة، وقيل: في صفر، وقال: كتبتُ عن ألف شيخ. وقال الحافظ جعفر بن محمَّد: ما رأيتُ أحفظَ من أبي عبد الله بن مندة، وسألتُه: كم يكون سماعُ الشيخ؟ فقال: يكون خمسة آلاف صِنًّا، والصِّن -بكسر الصاد-: السَّكَّة المطبقة. السنة السابعة والتسعون وثلاث مئة فيها دخل بهاءُ الدولة البصرة مالكًا، واستولى على ذخائرِ ابنِ واصل وأسبابه، وعزم على قبض الوزير، فأشار عليه أبو الخطاب بتأخير ذلك، وقال: قد انتفضت عليك فارس والخوارج من كلِّ مكان، فابعَثْه إليها، فمالها غيرُه، فخلع عليه الخِلَع السلطانية، وسار إلى فارس. ذكر ما جرى لابن واصل: لمَّا هرب من البصرة بعث إلى حسان بن ثِمال الخفاجي، وكان مُحسنًا إليه، فأخذ زِمامه على أن يسير به إلى الكوفة، فسار به، فلمَّا توسَّط الطريقَ كان معه جماعةٌ، فذهبوا عنه، وسار به حسَّان إلى مشهد الكوفة، فدعا وتصدَّق، ثمَّ سار إلى مشهد الحسين - رضي الله عنه - وفعل مثل ذلك، ثمَّ قطعَ به الفرات، وأخذ جماعةً من بني عقيل، وسار إلى تل عُكْبَرا، وقطع دجلة إلى خانقين يريد بدر بن حسنويه -وكان صديقَه- فوصل إلى قلعة خانقين، وبها جعفر بن العوام، فنزل إليه وخدَمه، وقال: أين تريد؟ فقال: أريد الأمير بدر بن حسنويه. فقال له جعفر: بدرٌ بعيدٌ عنَّا، وخبرُك لا يخفى، وقد نَمَتْ ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 52. وينظر السير 17/ 28.

عليكَ الطرقُ التي سلكتَها والمنازلُ التي نزلتَها، ولا سيَّما وأبو الفتح بن عَنَّاز منا قريبٌ، والرأيُ أن تركب الساعةَ -وأنا معك- فرسين جوادين، وتدعَ ثِقَلَكَ ها هنا، وتمضي إلى حلوان. فقال: أنا متعوبٌ، فدَعْني أنامُ ساعةً. فقدَّم له طعامًا فأكل، ثمَّ نام، وإذا بأبي الفتح بن عنَّاز قد أقبل. قال جعفر: فأيقظتُ أبا العباس فقام، ودخل القلعة، وشتمني ابن عنَّاز وشتمتُه، ورميتُ وجهَ دابَّته بحجارة، فقال: سَلِّمْ إليَّ ابنَ واصلٍ. فأبيتُ، وبعثتُ إلى حلوان وهي خاليةٌ عن العسكر، فإلى أن اجتمعوا جاء جماعةٌ إلى القلعة، منهم السعيد أبو طاهر المُشطِّب، والمخلص أبو الوفاء، والأتراك، فقلت لابن واصل: قد خالفتَني في الأول، فلا تُخالِفني ثانيًا، قُمْ حتى أشدَّ وسَطَكَ وأُدليكَ من القلعة في زنبيل -في الليل- وأبعثَك إلى حلوان. فقال: أخافُ من مصادفةٍ أؤخَذُ فيها. وتردَّدتِ الرسائلُ بينهم وبينه، على أن يخرج ويتوسَّط أبو الفتح أمرَه مع السلطان، فقلت: لا تفعل، أبو الفتح غدَّار. فما زالوا به حتى عزم على الخروج، فقلت: أقِم لعلَّه يجيئنا مددٌ. فما قَبِلَ، وخرجَ إليهم، فقدَّموا له بغلَ حمل، فحين رآه أيقن بالشر، وحُمِلَ إلى قلعة العقر من غير أن يجتمع بأبي الفتح، وحُمِلَ إلى بغداد فَقُيِّد بِقَيدين، وشُدَّت [قيوده] إلى الزَّبزب؛ لئلَّا يرمي نفسه في الماء، وجاء كتاب بهاء الدولة بحمله إلى واسط، فحُمِلَ إليها، وقتلَه الأتراك، وقطعوا رأسَه، ولُفَّ جسدُه في كساء، وحُمِلَ إلى البصرة، فأَمر بهاءُ الدولة برأسه أن يُطاف به في الأهواز وفارس والبلاد، وصُلِبَ جسدُه بالأُبُلَّة بإزاء دارٍ كان قد أنشأها، فبقي مدةً حتى تَقطَّع. وفيها ظهر بمصر [رجلٌ يقال له: ] أبو رِكوة [كما ذكرنا، وتعاظم أمرُه]، واسمه الوليد، من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان، وإنما لُقِّب بأبي رِكوة؛ لأنَّه يحمل في أسفاره رِكوةً على مذهب الصوفية، وكان من أمره أنَّه كان له عمٌّ يقال له: هشام، يدَّعي الإمامة بالأندلس، ولهشام حاجبٌ يُعرف بابن أبي عامر، قد تقدَّم عندَه، وملَكَ أمرَه، وكانت زوجة هشام تميل إليه وتُحبُّه، وهو يساعدها على ما تُريده، فلمَّا طال ذلك، وظهر للناس أطرافُ الحديث، خافا أن ينتهي خبرُهما إلى هشام، فلا يُقيلهما العَثْرة، فقال الحاجب للمرأة: الوجهُ في سلامتنا أن نُعْمِلَ الحيلةَ في هلاكه. فصنعا سِرْدابًا في

القصر، وقبضا [عليه] (¬1)، واعتقلاه فيه، وأظهر للقُوَّاد أنَّه مريضٌ محجوبٌ، وشرع الحاجبُ في استمالة القُوَّاد والبربر وإصلاحِهم لنفسه، فتمَّ له ما أراد، فأظهرَ موتَ هشام، وكان لهشام من هذه المرأة ولدٌ عمره بضع عشرة سنة، فنصَّبه مكانَه، وأخذ له البيعة على الناس، واستبدَّ ابنُ أبي عامر وزوجةُ هشام بالأمر، وتتبَّعا مَنْ يَصلُح للخلافة من الأمويين، فكلُّ من وقعَ في أيديهما قتلاه، وكان الوليد الملقَّب بأبي رِكوة من أولاد الخلفاء، فهرب خوفًا على نفسه، فخالط المتصدقين مرَّة، ثمَّ الصوفيَّة أخرى، وسنُّه إذ ذاك نيِّفٌ وعشرون سنة، فخرج من المغرب، وقصد مصر، وكتب الحديث، ولقي الشيوخ، ثمَّ انتقل إلى مكة واليمن، وعاد إلى الشام، وهو في خلال تنقُّله وتسيُّره يدعو إلى القائم من ولد هشام بن عبد الملك، ويأخذ البيعةَ على من يجدُ عنده انقيادًا له وقبولًا منه، والحاكم مستمرٌّ بمصر على قتل النفوس والإيقاع بأصحابه ورعيتِه، على مخافة له وإشفاقٍ منه، وكان قد جهَّز الحاكم جيشًا من بني قُرَّة وزِناتة، من البربر إلى الشام، فرجع منهم جماعةٌ إلى مصر بغير أمر أميرهم يَنال (¬2) القائد، فكتب يشكوهم، فقتل الحاكمُ منهم جماعةً، وانهزم الباقون إلى بَرْقة مُباينين للحاكم، وكان فيمن انهزم في غمار الناس أبو رِكْوة، فنزل بين القوم وهو في البرِّية، وفتح مُعلِّمًا، واجتمع عنده صِبيانُ العرب، وتظاهر بالزُّهد والنُّسك والصلاح، وحضر رمضانَ فصلَّى بهم، ثمَّ أخذَ مواثيقَهم وعهودَهم على ما يُلقيه إليهم، فلمَّا استوثق منهم قال: إني أدعو إلى إمامٍ منتظَرٍ قد قَرُبَ أوانُه، وعندنا في الكتب ذِكرُه، وأنه يملك الدنيا، وأنَّ أنصارَه وأعوانَه أنتم، وكان رئيسهم يقال له: الحَرْدَب والماضي، فصادف أبو رِكْوة عقولًا ضعيفةً، فبذلَ له الحَرْدَبُ من نفسه الطاعةَ، واستجاب له مع ما في قلبه من الحاكمِ من قتْلِ بني عمِّه، فدعا قومَه -وكانوا سبعَ مئة- واستَحْلفهم له، ثمَّ خلا أبو رِكوة به، وقال له: أنا الإمام، وأنت سيفي، وبِكَ آخذُ الحاكمَ بناصيته، وهذا أوان ظهوري. فقبَّل الحَرْدبُ الأرضَ بين يديه، وأحضر نساءه، وأمرهنَّ بحلب اللَّبن من ثُديِّهن، وشرب منه، ثمَّ سقى أبا رِكْوة وأعيانَ أصحابه، وتلك سُنَّة العرب في تأكيد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في النسخ: جيش، والمثبت من الكامل 9/ 194.

الزِّمام والعهود، وضربَ له الحَرْدَب بيتًا وخِيمًا، وأعطاه عبدًا وأمةً، وقال إليه فرسين بمركبين، وأخبر بني عمه أنَّ أبا رِكْوةَ هو الإمام، فأجابوه، ولقَّب نفسَه بالثائر بأمر الله المنتصر من أعداء الله، ثمَّ قام فخطبهم ووعدهم، ووعد الحاكمَ وأسلافَه، وأنهم من بني القدَّاح القرامطة، وكان بليغًا، فاستغواهم وغلب على عقولهم، وكان والي بَرْقة جعفر ابن أخي زيدان صاحب المِظلَّة، فعلم بالحال، فكتب إلى الحاكم يخبره، ويستأذنه في قصده، وفلِّ بني قرة عنه قبل أن تقوى شوكتُه، فجاء الجواب باطِّراح الفكر في أمره، ولا تجعَلْ له سوقًا، فأمسك جعفر عن المعاودة، ثمَّ استنهض أبو رِكْوة بني قرة وزناتة لطلب بَرْقة، وكان يدَّعي علم الغيب وقال: [نخرجُ و] (¬1) يخرج إلينا جعفر ويكون الاستظهار له في أول النهار، وفي وسطه يكون عليه، ونملك عسكرَه بما فيه، وساروا إلى جعفر، ولقيهم في خمسة آلاف، وأبو رِكْوة في جمع كبير، واتَّفق مع أصحابه أن يكون له السلاحُ قاطبةً والثلثُ ممَّا عداه، والثلثان بين الفريقين بني قرة وزناتة، والتَقَوا، فكانت في أول النهار لجعفر، وفي وسطه لأبي رِكْوة، وانهزم جعفر -على ما قال أبو رِكوة- إلى بَرْقة، وغنم أبو رِكْوة العسكر بما فيه، وأسر أقوامًا فأحسنَ إليهم، وسار إلى بَرْقة، فلمَّا علم به جعفر خرج من داره، وترك فيها أمواله وعُدَدَه وذخائرَه ومئتي جارية أبكارًا، ونزل في مركب ليس معه إلَّا ما على جسده من ثيابه، وقصد الإسكندرية، وكانت الجواري للحاكم قد اشتراهنَّ، وعزم جعفر ليسيِّرهُنَّ إليه، فجَرتْ هذه الواقعة، وجاء أبو رِكْوة فنزل دار الإمارة، واحتوى على ما فيها، ونادى بالكفِّ عن النَّهبِ، وأظهرَ العدلَ، وجمعَ شيوخَ البلد، وقال: قد منعتُ عسكري من النَّهب والفساد، ولا بُدَّ لهم من ميرةٍ يتقوَّون بها. فجمعوا له مئتي ألف دينار، وقبض على رجلٍ يهوديٍّ اتَّهمه بودائع، فأخذ منه مئتي ألف دينار، وقسم الجميع في بني قرة وزناتة على ما تقرَّر، وضربَ السِّكَّة باسمه، وخرج يوم الجمعة راكبًا إلى الجامع، وعلى رأسه المِظلَّة، فصعد المنبر، وخطب خطبةً بليغةً، ولَعَن الحاكم وأباه، وصلَّى بالناس، وعاد إلى دار الإمارة، وتتبَّع أموال جعفر وذخائرَه، وتقرَّب إليه الناس بالدِّلالة عليها، فحصل على جملةٍ كبيرةٍ، ثمَّ أقطع بَرْقة والصعيد ومصر بني قرة وزناتة، وعرَّف ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ب).

الحاكمَ على ما جرى على جعفر، فانزعج وكفَّ عن القتل، وانقطع عن الرُّكوب الذي كان يواصله، وأرسل إلى قتال أبي رِكوة قائدًا من الأتراك يقال له: يَنَّال الطويل، وجهَّزه في خمسة آلاف فارس، وأطلق لهم العطايا، وبعث لهم مئة ألف دينار لِما يحدث، وجعل بينهم وبين القاهرة خيلَ البريد، تحمل الأخبار يومًا بيوم، وكان معظمُ جيش ينَّال كُتامة (¬1)، وكانت مستوحشةً من ينَّال؛ لأنه قتل رؤساء كُتامة بأمر الحاكم، وجاء ينَّال فنزل الإسكندرية، وبلغ أبا رِكْوة، فقال له الحَرْدَب: ما ترى في استقبالهم؟ فقال له: اصبِرْ، فهم غنيمتُكم. وتقدم ينَّال إلى مكان يُعرف بذات الحُمام، فأقام أيامًا لعلَّه يتفكَّك مَن مع أبي رِكْوة ويكتفي أمر الحرب، وأبو ركوة ثابتُ الجأش غيرُ مفكِّرٍ فيه، وقد استمال أهل برْقة وأصحابَ جعفر وأحسنَ إليهم، وشرع لهم في المخرقة، ورأى ينَّال بَياتَ أبي رِكْوة، فسار من ذات الحُمام إلى بَرْقة وبينهما مفاوزُ شاقةٌ قليلةُ الماء، ولا مادةَ فيها، ويحتاج السالك فيها إلى حمل الماء والعلف، وعرف أبو رِكْوة عَزْمَ ينَّال على دخول المفازة، فخرج من بَرْقة، وقدَّم بين يديه الحَرْدَب في ألف فارس، فطمَّ الآبارَ، وغوَّر المياه، وسار ينَّال -على عطش وضعف- وقد نشِبَ (¬2)، والتقوا فقتل ينَّال جماعةً من الرجَّالة وزناتة، وأبو رِكْوة في بني قُرَّة واقفٌ في الميمنة، والماضي في فرسان زناتة في القلب، واستأمَنَ إلى أبي رِكْوة قطعةٌ من كُتامة؛ غيظًا من ينَّال، ولِما عندهم من طلب الثأر منه، ثمَّ حمل أبو رِكْوة، فانهزم عسكر ينَّال، وأخذَ ينَّال أسيرًا، وأحضره بين يديه، وأمره بلعنة الحاكم، فبصق في وجه أبي رِكْوة وسبَّه، فَقُطِّع إرْبًا إرْبًا، واستحيا أبو رِكْوة من العسكر مِنْ أسره، وعاد إلى بَرْقة وقد امتلأت يدُه ويدُ بني قُرَّة وزِناتة من الأموال والغنائم، وأخذ المئةَ ألفِ دينار التي كانت مع ينَّال، فقويَتْ نفوسُ أصحابه وعظَّموه، وحصل بيده من الأموال والسلاح والخيل ما يتجاوز الوصف، وبلغ الحاكمَ، فقامت عليه القيامة، وسُرَّ جند مصر والرعيةُ بما جرى، واستراحوا مما كانوا فيه معه، وكتب إليه أصحاب الأخبار بما عليه الناس، فازداد ¬

_ (¬1) كُتامة: قبيلة من البربر، نزلت ناحية من بلاد المغرب. الأنساب 10/ 351. (¬2) نشِب: ثار. المعجم الوسيط (نشب).

قلقُه، وضعُفَتْ نفسُه، وجلس للعزاء في ينَّال استمالةً للأتراك، وفتح بابَه، وسهَّل حجابَه، وكتب كتابًا يعتذر فيه عن قتل مَنْ قتلَه، وأنهم أربابُ جناياتٍ خفِيَتْ على الجمهور، وقد عفا الآن عن كلِّ مُجرمٍ، وصفحَ عن كلِّ مُذنبٍ، ودعا وجوهَ الناس إلى قصره، وقرأ عليهم الكتاب، فقبَّلوا الأرض، ودعَوا له، وقُرئ الكتاب في الجوامع، فسكنتِ النفوسُ إلى ما وعدَهم به، وكان بالصعيد الأعلى قاضٍ يُعرف بابن الزُّبير، ذو حالٍ عظيمة، بحيث تُضرب الطبولُ على بابه في أوقات الصلوات، وله خمسة آلاف عبدٍ أسود، ومن عادته أن يضمن الصعيد من السلطان، فكاتبه قائدُ القوَّاد الحسين بن جوهر - وكان وزيرَ الحاكم - بأن يُراسل أبا رِكْوة ويستميلَه إليه ويُخرِجَه من مكانه - وقيل: إن وزير الحاكم استدعى من أبي رِكْوة الأمانات فكتبها له - وكلُّ هذا يجري سرًّا من الحاكم، ولمَّا علِمَ أبو رِكْوة أنَّ ابنَ الزُّبير قد صارَ معه، وابنُ جوهر خرج من بَرْقة يريد الصعيد، وعَلِمَ الحاكمُ، فضاق ذَرْعُه، وجمع خواصَّه، وقال لهم: قد علِمْتُم حال هذا العدوِّ، فما عندكم؟ فقام الحسين بن جوهر، فقال: عندي من نعمةِ مولانا ونعمةِ آبائه ألفُ ألفِ دينار، وأسأل قبولَها والاستعانة بها. وقال آخر: كذا. وقال آخر: كذا. وبذل كلُّ إنسان ما قدر عليه، فجزاهم خيرًا. وقال: ما أردتُ هذا، ولكن أردتُ الرأي والمشورة. فقال له أبو الحسن علي بن الحسين المغربي - وكان كالضيف عنده -: يا مولانا، قد اجتمع إلى هذا العدوِّ فتَّاكُ العرب وطوائفُ قصْدُهم النَّهبُ - وكانوا صعاليكَ وقد استغنوا - وقد جبُنَ هذا العسكر عنهم، وخصوصًا من وقعة ينَّال، فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يُنفِذَ إلى الشام فيستدعيَ من غلمان الحمْدانية وطيِّئ واليمن والقبائل ممن داوس ومارس، فيندُبَهم إلى قتالِه، رجوتُ الظَّفَر. فكتب إلى الشام، فاستدعى من الحَمْدانية والقبائل والدَّيلم ستة آلاف، وفتحَ الخزائنَ، وأنفقَ الأموال، فاشتملت الجرائد (¬1) على ستة عشر ألفًا ما بين فارس وراجل، وخلع عليهم الخِلَع النفيسة، وأعطاهم الخيولَ المُسوَّمة، والأموال الكثيرة، وأمرهم بالعبور إلى الجِيزة، فعبروا، وركب الحاكم بنفسه إلى الجِيزة، ووقف عليهم ¬

_ (¬1) الجرائد: جمع جريدة: وهي الجماعة من الخيل. اللسان (جرد).

وشاهدهم، ثمَّ قال: أين فضل بن عبد الله؟ فقبَّل الفضلُ الأرضَ، فقال: قد ندبتُكَ للخروج مع هذا الجيش وقتالِ هذا العدو. فقال: سمعًا وطاعةً، وأُريد من مولاي الدعاءَ بالنصر والمعونة. فدعا له، وخلع عليه خِلْعةً من ملابسه، وفرسًا من مراكبه، وجهَّزَ الجيش بألفِ ألفِ دينار، وأعطى الفضلَ خمسَ مئة ألف دينار، وخمسةَ آلاف قطعة من الثياب، وحمل إليه الخزائنَ والسلاحَ وغيرَه، وسار الفضلُ بالعساكر، وكاتب أصحابَ أبي رِكْوة، فأمَّا الماضي زعيمُ زناتة فأجابه، وصار عينًا له، وأما الحَرْدَب فثبت على طاعة أبي رِكْوة، وصاروا كلَّما دبَّروا أمرًا على بَياتِ الفضل كتبَ الماضي إليه فيُبْطِلُه، واستمال الماضي بالأموال والتُّحف، وطلب أبو رِكْوة المنازلةَ، والفضلُ يُراوغه، وكان قد اجتمع إلى أبي رِكْوة خمسون ألفًا ما بين فارس وراجل، فأقام شهورًا على المطاولة، ثمَّ جرَتْ بينهم وقائعُ كثيرةٌ، ومن جملة ما فعل أبو رِكْوة أنَّ الحاكم أخرج مَنْ كان عنده (¬1) من الدَّيلم والتُّرك مع علي بن فلاح، في أربعة آلاف؛ ليجعلهم مددًا للفضل، وعسكر بالجيزة، فأسرى إليهم أبو رِكْوة في ليلتين - ولم يعلَم به الفضل - في ألفي فارس من بني قُرَّة وزناتة، فكبسهم ليلًا، فقتل منهم جماعةً، وهرب الباقون في السفن، وأورد أبو رِكْوة خيلَه النِّيل، وهرب المِصريُّون بعيالاتهم إلى السفن، ونزل أبو رِكْوة إلى (¬2) الهرمين، وانزعج الحاكم في القصر، وغُلِّقت أبوابُ القاهرة، وخرج مَنْ كان من غِلمان القصر وغيرهم، فوقفوا على بابها، ولم يتِمَّ لأبي رِكْوة في قصدها أمرٌ، فولى راجعًا إلى عسكره وكتب الحاكم إلى الفضل يلومُه، فرأى مُناجزَتَه، واجتمع العسكرانِ بمكان يُقال له: السَّبَخة، فيه غياضٌ وأشجار، وكان أكثرُ عسكرِ أبي رِكْوة رجالةً، فأقام منهم الكُمناء بين الأشجار، وقال للفرسان: طاردوهم، فإذا وصلوا إلى الكُمناء اخرُجوا عليهم. ورأى الفضلُ خِفَّةَ عسكر أبي رِكْوة، فطمع فيهم، فرتب الحَمْدانيةَ والشاميةَ في الميمنة، والعساكر المصرية في الميسرة، ووقف هو في القلب، وتطارق الفريقان، وحملَ بنو قُرَّة، ثمَّ انهزموا بين أيديهم ليستجِرُّوا ¬

_ (¬1) في (خ) و (م م 1): بها، والمثبت من (ب). (¬2) في (ب): على.

الفضلَ بالهزيمة، ويُطبقوا عليهم، فانعكس الحالُ، وانهزمَتِ الرجَّالةُ الكُمناء لمَّا رأوا الفرسان قد انهزموا ولم يعلموا، فحمل الفضل فمزَّقهم كلَّ مُمزَّق، وبقي أبو رِكْوة في بني قُرَّة، فانهزموا به إلى حُلَلِهم، ولعب السيفُ في الباقين، فقتلوا منهم ثلاثين ألفًا، ولمَّا وصل الحَرْدَب وبنو قُرَّة إلى حُلَلِهم قالوا لأبي رِكْوة: قد قاتَلْنا معكَ، وبذَلْنا نفوسَنا، ولم يبقَ فينا بعدَها فضلٌ، وما دمتَ بيننا فنحن مؤاخَذون بِكَ، فاختَرْ أيَّ مكانٍ شئتَ فخُذْ لنفسِكَ. فقال: ابعثا معي فارسين يوصلاني إلى بلاد النُّوبة، فإنَّ بيني وبين مَلِكها عهدًا، فبعثوا معه فارسين، وانهزموا هم إلى بَرْقة. وكتب الفضلُ إلى الحاكم بالفتح، وبعث بثلاثين ألف رأس من رؤوس القتلى، وضُرِبَتِ البشائرُ بالقاهرة، وزُيِّنتْ زينةً عظيمة، وأقام الفضلُ في موضعه، وأنفذَ في الطلبِ وراءَ أبي رِكْوة، وكان وصولُه النُّوبةَ وقد ماتَ الملكُ الذي كان مُعاهِدَه، وقام ابنُه، فقال الرسل له: هذا طلبة الحاكم، وبينه وبينكم عهود، فإن لم تُسلِموه إليه، وإلَّا قصدكم العسكر. فسَلَّمه إليهم، وأبو رِكْوة يشتمُ الرسل، ويلعنُ الحاكم، وساروا به إلى الفضل، فخرج إليه الفضل، وقَبَّل يده، وأنزله في خيمتِه، وأعظمه تأنيسًا له؛ لئلَّا يقتل نفسَه، وكان كلَّ يومٍ يدخل عليه ويُقبِّل يَدَه، ويقول: كيفَ مولاي؟ فيقول: بخير. ثمَّ يأكل معه، وسارَ به إلى الجِيزة ورسلُ الحاكم في كلِّ ساعةٍ ترِدُ على الفضل بالهدايا والتُّحف، وجاءه رسول الحاكم يأمره بعبور مصر، ويسير بالعساكر إلى القاهرة على تعبئةِ ورَسَمَ أن يُشْهَر أبو رِكْوة على جمل ويُطاف به، فدخل عليه خَتَكين - وكان صاحب دواة عضد الدولة - فقال له أبو رِكْوة: قد عرفتُ عقلَكَ وسدادَكَ، وأُريد منكَ أن تُوصل لي ورقةً إلى مولانا الحاكم. فقال: هاتِ. فكتب يقول: يا مولانا، الذنوبُ عظيمةٌ، وأعظمُ منها عفوُكَ، وقد أسأتُ وما ظلمتُ إلا نفسي، وعفوُكَ يسعُني، وذنبي أَوْبَقَني. ثمَّ كتب: [من الطويل] فررتُ ولم يُغْنِ الفِرارُ ومَنْ يَكُنْ ... مع الله لم يُعجِزْه في الأرضِ هارِبُ وواللهِ ما كان الفِرارُ لحاجةٍ ... سوى فَزَع الموتِ الذي أنا شارِبُ وقَدْ قادني جُرْمي إليكَ بِرُمَّتي ... كما اجترَّ مَيتًا في رحى الحربِ سالِبُ وأجمَعَ كلُّ الناسِ أنَّكَ قاتِلي ... فيا رُبَّ ظَنٍّ ربُّهُ فيهِ كاذِبُ وما هُوَ إلا الانتقامُ وينتهي ... وأخْذُكَ مِنْهُ واجبًا لكَ واجبُ

ذكر قصة هشام الأموي

وبعث خُتَكين بالرُّقعة إلى الحاكم، فلم يرِقَّ له؛ لما بدا منه، وكان بالقاهرة شيخٌ يقال له: الأبزاري، إذا خرج خارجيٌّ صنع له طُرْطُورًا، وعَمِلَ فيه ألوان الخِرَق المصبوغة، ويأخذ قِرْدًا، ويجعلُ في يده دِرَّةً، ويُعلِّمه [أن] (¬1) يضرب بها الخارجيَّ من ورائه، ويُعطى مئةَ دينار وعشرَ قطع قماش، فلمَّا قطع أبو رِكْوة الجِيزة، فأمر به الحاكم، فأُركِبَ جملًا بسنامَين، وأُلبِسَ الطُّرْطُورَ، وأُركب الأبزاري خلفَه، والقرد بيده الدِّرَّة وهو يضربه، والعساكر حولَه، وبين يديه خمسة عشر خيلًا مُزَيَّنة، ودخل القاهرة على هذا الوصف، ورؤوس أصحابه بين يديه على الخشب والقصب، وجلس الحاكم في منظرة على باب الذهب، والتُّرك والدَّيلم عليهم السلاح، وبأيديهم اللُّتوتُ (¬2)، وتحهتم الخيول بالتجافيف (¬3) حول أبي رِكْوة، وكان يومًا عظيمًا، وأمر به الحاكم أن يخرج إلى ظاهر القاهرة، وتُضرَبَ عنقُه على تلٍّ بإزاء مسجد ريْدان، فلمَّا حُمِلَ إلى هناك أُنزِلَ، وإذ به ميتٌ، فقُطِعَ رأسُه، وحُمِلَ إلى الحاكم، فأمر بصلب جسده، وارتفعت منزلة الفضل عند الحاكم، بحيث مرض فعاده مرتين أو ثلاثًا، وأقطعه إقطاعاتٍ كبيرة، ولما أبلَّ من مرضه وعوفي قتله الحاكم. ذكر قصة هشام الأموي: قد ذكرنا أنَّ ابنَ أبي عامر أظهرَ موتَه، وأقام ولدَه، وخلا مع زوجته بما أراد، وقيل: إنه تزوجها، وأقام يُفيض الأموال والإحسان على الخاصِّ والعام، وليس لابن هشام غير الاسم والتُّحف، فثار بابن هشام جماعةٌ من الخَدَم الصَّقالبة، وكان فيهم خادمٌ لأبيه اسمه ضاحك، وكان قبلَ هشام لخادم اسمه بَرْجُوان، قتله الحاكم سنة تسع وثمانين وثلاث مئة، وكان ابنُ هشام قد سمع خبرَه، فقال له يومًا: يا ضاحك، لِمَ قَتَل الحاكمُ أُستاذَكَ؟ فقال: كان قد حجر عليه، واستبدَّ بالأمر - والحاكم صبيٌّ - ومنعه ما يهواه، وكان للحاكم خادمٌ يقال له: رَيدان، يحمل المظلَّة على رأسه ويخلو به، فشكى إليه ما يُلاقيه من بَرْجُوان، فقال له: أنا آمِنٌ؟ قال: نعم. قال: إنه يريد الملك لنفسه، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) جمع لَتّ، واللَّتُّ: الفأس العظيمة. معجم الألفاظ الفارسية المعربة ص 141. (¬3) جمع تَجفاف: وهو ما يُجلَّل به الفرس من سلاح وآلة يقيانه الجراح في الحرب. المعجم الوسيط (جفف).

ويكون ككافور الأخشيذي، ويُعاملك بما عامل به كافورٌ ابنَ مولاه. قال: فما الرأيُ عندكَ؟ قال: مسابقتُه إلى ما يُريده بقتلِه، والراحةَ منه. فكان مِنْ قَتْلِه ما كان، فلمَّا سمع ابنُ هشام ذلك قال: يا ضاحك، أريد أن أسألك عن هشام والدي، وما كان من موته. فقال: اعفِني. فقال: فإني أخاف ابنَ أبي عامر أن يقتلني، ولا تقدِرُ على دَفْعِه عنِّي. فقال: دَعْ هذا، فإن السرَّ بيننا محفوظ، وأنت آمِنٌ مما تخاف، وأنت ثقتي وموضعُ سِرِّي. فقال له: إن والدك في الحياة، وابنُ أبي عامر حبسَه في المكان الفلاني، ونزغَ الشيطانُ بينَه وبين والدتِكَ حتى اجتمعا على الفساد زمانًا طويلًا، ثمَّ خافا أن يظهر أبوكَ عليهما، فحبساه في سرداب، ومَلَكا الأمر. قال: فما الرأيُ؟ قال: تقتلُ ابنَ أبي عامر ووالدتَك وتُخرجُ أباك. فأعطاه يدَه، وتحالفا وقال: إن تمَّ هذا فأنت الشريك في الدولة، وأُشاطرك النِّعمة. فقال: اصبِرْ حتى أُدبِّرَ ما يكون فيه النجاح. فاتَّفق الخادمُ مع خَدمِ هشام وجماعةٍ على ما يُريد، فلمَّا تمَّ ذلك قال لابن هشام: أظهرِ التنكُّرَ لي، والكراهةَ لخدمتي إياك، وأبعِدْني عنك، ثمَّ انفرِدْ في حجرةٍ، وأظهِرْ أنك مريض، وقد جعلتُ الخدم على بابِكَ. فأظهَرَ المرض، فقال ضاحك لابن أبي عامر ولأم ابن هشام: قد ذكر الخدمُ أنَّه مريض، وقد أضعفته الحمَّى. فقالا: غدًا نأتي إليه نعودُه. وأوقف ضاحكٌ الخدمَ في الدهاليز بالسكاكين من تحت ثيابهم، وجاء ابنُ أبي عامر والمرأةُ من الغد ومعهما الخَدَم والجواري، فتلقَّاهم ضاحك وقال: مولانا قَلِقٌ، لا تُدْخِل معكما أحدًا. فدخلا وجلسا عند رأسه ساعةً، وقد أغلق ضاحكٌ الأبواب، فشرع ابنُ أبي عامر وأمُّه يسألانه عن حاله، فقال الصبيُّ لابن أبي عامر: أُريد والدي. فقال: نسأَ اللهُ في أجلك، والدُكَ توفِّي منذ زمان. فقال: يا ضاحك، خُذْ رأسَ ابنِ أبي عامر. فضربه بدَشْنيٍّ (¬1) كان في يده، فصاحت أمُّه، وقامت لتمنَعَه، فخرج الخَدمُ الذين رُتِّبوا فقتلوهما، وقام ابنُ هشام من ساعته، وقصد الحُجرةَ التي فيها السِّرداب، ودخل فأخرج والده - وقد شعِثَ وطال شعرُه، وساء حالُه - وقتل الخادمَ والقَهرمانةَ الموكَّلين به، وهرب مَنْ كان في الدار من ¬

_ (¬1) الدَّشْنة: الخنجر أو المُدية. المعجم الذهبي ص 272.

خدم ابنِ أبي عامر، وشاع الخبر بالأندلس، واجتمعت صنهاجة مُنكِرين ما جرى على ابنِ أبي عامر، وهاجموا القصرَ ونهبوه، وقتلوا هشامًا وولدَه، ووقعتِ الفتن، ودامت الحرب بين العامة وصَنْهاجة أربعَ سنين، ثمَّ إن صَنْهاجة استنجدوا بالفرنج المجاورين للأندلس، فساروا في خمسين ألفًا، فقاتلوا أهلَ البلد، وفتحوه عَنوةً، وطرحوا النار في أطرافه، وقتلوا مُعظم أهله، ونهبوا الأموال وسَبَوا، ولجأ المسلمون إلى المصاحف والمساجد، فكفَّتْ صَنْهاجة حينئذ عنهم، ومنعوا الروم منهم، ثمَّ أجمعوا على أن يُنَصِّبوا خليفةً أُمويًّا، وكان بقرطبة رجلٌ من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب قد تزهَّد وانقطع إلى العبادة، فقالوا: هذا أصلح من الأموي، فإن الأموي يطالبكم بالثأر، فجاؤوا إلى العلوي وسألوه أن يتولَّى أمرَهم، فامتنع، فلم يزالوا به حتى أجاب، فملَّكوه، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأظهر العدل، فأذعنَتْ له صَنْهاجة والبربر وأهل الأندلس قاطبةً بالطاعة، فأقام إلى سنة اثنتي عشرة وأربع مئة، وقُتِلَ، وسبب قَتْلِه أنَّه مال إلى الخدم والصَّقالبة، وأُعجِبَ بصبيٍّ منهم، فَشُغِفَ به، واختصَّه وقدَّمه على الخدم، ثمَّ مال إلى صبيٍّ آخر فقدَّمه عليه، فغار الغلام، فدخل الحمام معه فقتله وهرب، فأُخِذَ وقُتِلَ، فأقاموا ابنَ عمٍّ له مقامَه. وفي جمادى الأولى قلَّد بهاءُ الدولة أبا الحسن محمَّد بن محمَّد العلوي النقابة والحج، ولقَّبه بالرضي ذي الحسبين، ولقَّب الشريف [أبا القاسم أخاه بالمرتضى ذي المجدين، ولقَّب الشريف] (¬1) أبا الحسن الزينبي بالرضي ذي الفخرين. وفيها خرج عميد الجيوش [من] بغداد لقتال بدر بن حسنويه، وذلك لأنه كان قد ساعد ابنَ واصل على قتال بهاء الدولة، فكتب بهاءُ الدولة إلى عميد الجيوش بقتاله، فسار إلى بلاده، وانتزعها من يده، وبَعُدَ بدرٌ عنه، وضاقتِ النفقةُ والميرة على العميد، وأراد الانصراف إلى بغداد، وراسله بدرٌ وقال: أنتَ صاحبي، وبيني وبينك عهود، وعسكرُكَ ثقيلٌ، وبلادي ما تَحْتَمِلُه، وفيها من الأكراد ما قد علِمْتَ، فارجعْ ووادِعْني إلى وقت. وحمل إليه الأموال، فرجع وبلغ بهاء الدولة فلم يُعْجِبْه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضعين الآتيين من (ب)، وهذا الخبر في المنتظم 15/ 54 والزيادة فيه أيضًا.

عبد الصمد بن عمر

وفيها صُرِف القاضي أبو عبد الله الضبِّي من القضاء، وخوطب في الموكب بما يكره من القبيح، وسببه أنَّه استشهد مَنْ لا يَصْلُح، فعزَّ على القادر، فعزله، ومنَعَ من السلام عليه، فانحدر إلى البصرة، وولي الأكفانيُّ [القضاء]. وفيها خرج الحاجُّ من بغداد، فلمَّا كانوا بالثعلبية هبَّت عليهم ريحٌ سوداء، أظلمت منها الدنيا، حتى لم يَرَ بعضُهم بعضًا، وأصابهم عطشٌ شديدٌ، واعتاقهم ابنُ الجرَّاح الطائي على مالٍ طلبه منهم، وضاق الوقتُ، فرجعوا إلى بغداد يوم التروية (¬1). وفيها كسا الحاكمُ الكعبةَ القُباطيَّ الأبيض، وبعثَ مالًا لأهل الحرمين. وفيها توفِّي عبد الصمد بن عمر (¬2) ابن محمَّد بن إسحاق، أبو القاسم، الدِّينَوري، الواعظ، الزاهد، قرأ القرآن، ودرس فقه الشافعي [على أبي سعيد الإصطخري]، وسمع الكثير من الحديث [من أبي بكر النجَّاد] ولزِمَ طريقة المجاهدة، وبه يُضرب المثلُ فيها، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وكان يدقُّ الشعير ويتقوَّت به، وانقطع إلى العبادة والوعظ في الجامع. وحكى الخطيب أنَّ رجلًا جاءه بمئة (¬3) دينار في يوم عيد، وسأله قبولَها، فقال: [دَعْني] (¬4) أتلذَّذْ بفقري اليوم كما يتلذَّذُ الأغنياء بغناهم. فقال: فَرِّقْها في أصحابك. فقال: ضَعْها على الأرض. ففعل، فقال عبد الصمد لأصحابه: من كان منكم محتاجًا إلى شيءٍ فليأخُذْ على قَدْرِ حاجته. فما مَدَّ أحدٌ منهم يدَه إليها، وهم على صفاتٍ (¬5) مختلفةٍ من الفقر والحاجة، فقال لصاحبها: خُذْها واذهَبْ. وجاءه ولدٌ صغيرٌ فطلب منه شيئًا، فقال: اذهَبْ إلى البقَّال فخُذْ منه عليَّ ربْعَ رطل تمر. ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 15/ 54 - 55. ومعنى اعتاقهم، أي: حبسهم. (¬2) المنتظم 15/ 55، وصفوة الصفوة 2/ 477 - 482، وتاريخ بغداد 11/ 43 - 44. والزيادتان الآتيتان من (م) و (م 1)، وهما في المنتظم. (¬3) المثبت من (م) و (م 1)، ووقعت العبارة في (خ) و (ب): وانقطع إلى العزلة جاءه رجل بمئة. (¬4) ما بين حاصرتين ليس في (خ)، وهو مثبت من باقي النسخ. (¬5) في (خ) و (ب): أصناف، والمثبت من (م) و (م 1) وهو الموافق لما في تاريخ بغداد والمنتظم.

[وهذا هو الذي ذكرنا عنه أنَّه مرَّ على عزيز العيَّار، وقد خرج عزيز مع العيَّارين وأبواه يبكيان عليه، والناس يعذلونه يقولون له: ارجِعْ إلى والديك. فقال: لقد قلت لأصحابي: إني منكم، ومثلي إذا قال شيئًا لا يرجع عنه، اطلبا عزيزًا غيري، ساروقتي (¬1) في جيبي. قال عبد الصمد: قد رأيته تابع الهوى على الوفاء، مع [علمه أنَّه إذا وقع في الشدائد لا يُجيُره، فبايَعتُ ربي على الوفاء مع] (¬2) علمي أنني إذا وقعتُ في الشدائد يجيرني، فاجتزتُ يومًا بدرب الدَّيْزَج، فشممتُ رائحةً طيبةً، فطالبتني نفسي بشيء منها، فقلت: اطلبي عبد الصمد غيري، ساروقتي في جيبي. وقال عبد الصمد السُّكَّري: اجتاز عبد الصمد يومًا بساعٍ يعدو] (¬3) وقد بقي عليه من النهار بقيةٌ، والناس يتحفونه بالتُّحف والهدايا ومعه رجل يُنهضه ويقول: مُتِ اليوم تحيا غدًا. فقال عبد الصمد في نفسه: يا نفسُ هذا لك موتي اليوم [تحيي غدًا أو] لتعيشي غدًا. [وكان يقول لأصحابه: قد فاتتكم الدنيا فلا تفوتكم الآخرة. وحكى علي بن المحسن التنوخي (¬4) عنه أنَّه اجتاز] (¬5) يومًا بعطَّارٍ يهوديٍّ، فسمعه يقول لابنه: يا بُنيَّ قد جرَّبْتُ هؤلاء المسلمين فما وجدتُ فيهم ثقةً. فقال له عبد الصمد: تستأجرني لحفظ دُكَّانِكَ. قال: وكم تأخذُ مني؟ قال: ثلاثة أرطال خبز في كلِّ يوم ودانقين فضة. فقال: قدْ رضيتُ. فأقام يحفظ دُكَّانه سنةً، فلمَّا انقضَتْ قال: انظُرْ دُكَّانك، هل تفقد منه شيئًا؟ قال: لا. قال: ما أنا من يخدِمُ مثلَك، وإنما سمعتك تقول لأبيك كذا وكذا، فأردتُ أن أُعلِمكَ أن في المسلمين [من هو] صاحب أمانة. [ذكر وفاته: قال الخطيب: حدثني التنوخي قال] (¬6): دخلَتْ عليه عند موته أمُّ الحسن بنت القاضي أبي أحمد بن الأكفاني، وكانت تقوم بأمره وتراعيه، فقالت: سألتُكَ باللهِ إلَّا ¬

_ (¬1) الساروقة: قماشة مربعة الشكل غالبًا. المعجم الذهبي ص 325. (¬2) ما بين حاصرتين من صفة الصفوة. (¬3) ما بين حاصرتين ليس في (خ) و (ب)، ووقع بدلًا منه: واجتاز بساعٍ بعدو. (¬4) نشوار المحاضرة 5/ 30 - 31. (¬5) ما بين حاصرتين ليس في (خ) و (ب) ووقع بدلًا منه: فقال التنوخي: اجتاز عبد الصمد. (¬6) ما بين حاصرتين جاء بدلًا منه في (خ) و (ب) كلمة: وفيها.

سألتَني حاجةً. فقال: كوني لِلْهَبيَّةِ (¬1) -يعني ابنتَه- بعد موتي كما كنتِ لها في حياتي. فقالت: أفعَلُ. ثمَّ انتبه فقال: أستغفِرُ الله تعالى، [الله] (¬2) لها خيرٌ منكِ. ولمَّا احتُضر جعل يبكي ويقول: يا ذُخري وذخيرتي، لمثل هذا اليوم خبأتُكَ، لهذه الساعة كنتُ أرجوكَ، فحقِّق حُسنَ ظنِّي بِكَ. ثمَّ مات بدرب شماس من نهر القلايين، محلةٍ غربي بغداد، يومَ الثلاثاء، لسبعٍ بقين من ذي الحَجَّة، ودُفِنَ في مقبرة الإمام أحمد رحمة الله عليه، بعد أن صُلِّي عليه بجامع المنصور. وقيل: دُفِن بداره. أسند عن أحمد بن سليمان النَّجاد وغيرِه، وروى عنه التنوخي [والصَّيمري] وغيرُهما، وأجمعوا على زهدِه وورعِه وثقتِه، وكان يُنكر على أبي حامد الإسفراييني وأبي بكر الأشعري والفقهاءِ سماعَهم والقولَ بالقصَب وحضورهم مجالِسه، ويقدح فيهم ويقول في مجالس وعظه بالجامع: يا عدوَّ الله، تكونُ في صلاتك، وتقول في نفسك: أمضي فآخذُ الجارية الفلانيَّة بكذا وكذا، والشرابَ الفلانيَّ من عند فلان، وأشرب وأسمع الغناء، هذه هي المعصية بعينها، وينشد: [من البسيط] يا ظالمًا يتَجنَّى جئتَ بالعَجَبِ ... شَغَبْتَ كيما تُغطِّي الذَّنْبَ بالشَّغبِ ظلمتَ سرًّا وتستعدي (¬3) علانيةً ... أضرمتَ نارًا وتستَعفي من اللَّهبِ فاجتمع الفقهاءُ وشكَوه إلى دار الخلافة، ورمَوه بالاعتزال، وانضاف إلى ذلك ما كان يشكوه أبو الحسن علي بن أبي طالب صاحبُ المعونة منه ومن أصحابه، وتعرُّضِهم في الأمر بالمعروف إلى ما يُثير الفتن، فأمر الخليفة بإحضاره وإحضار الفقهاء، وكشف ما يقال عنه، فحضر أبو حامد الإسفراييني، وأبو بكر الأشعري، والفقهاءُ، والقضاةُ، والعدول، واستُدعي، فلمَّا دخل الدارَ نزع نَعْلَيه، وأطبق واحدةً على الأخرى، وأمسكها بيده وقال: أقِفُ أم أقعُد؟ فقال له أبو الحسن علي: اجلِسْ. ¬

_ (¬1) الهَبيَّة: البنت الصغيرة. المعجم الوسيط (هبي). (¬2) زيادة لفظ الجلالة من تاريخ بغداد. (¬3) في النسختين الموجودتين (خ) و (ب): وتستدعي، وهو تحريف، والتصويب من محاضرات الأدباء 1/ 455، ودرة الغواص 1/ 124، وغيرهما.

السنة الثامنة والتسعون وثلاث مئة

ورفعه، فدعا له، وبدأه أبو الحسن، وقال: أتقول بمقالة أهل الاعتزال؟ قال: لا. قال: وبالرفض؟ قال: لا، ولكنِّي أُنكِرُ على هؤلاء سماع الغناء والضربَ بالقصب، وهو خلاف الشرع. وافترقوا. [وذكره هلال بن الصابئ وقال: حُمل من داره بقطيعة النصارى إلى المسجد الجامع بالمدينة -يعني جامع المنصور- ودُفن في جوار قبر أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى]. السنة الثامنة والتسعون وثلاث مئة فيها في يوم عاشوراء عمل أهل الكَرْخ ما جرت به العادة من النَّوح وتعليق المُسوح على رؤوسهم (¬1) وقصدوا مقابر قريش، فلم يتعرَّض لهم أحد، واتَّفق يومُ عاشوراء يومَ المهرجان، فأخَّره عميد الجيوش إلى اليوم الثاني، ثمَّ جلس وعمل سماطًا على العادة، وجلس للتهنئة. وفي المُحرَّم تعرَّض بنو هلال - وكانوا ستَّ مئة فارس - لحاجِّ البصرة الذين انفصلوا عن حاجِّ العراق عند الموضع المعروف بالسَّاج، فأخذوا أموالهم وجمالهم، وأفلتَ مَنْ دخل البصرة على أقبح حالٍ من العُري والجوع والعطش، فيقال: إنهم أخذوا منهم مئة ألف دينار. وفي كانون سقط الثلج بالعراق سقوطًا عظيمًا، فكان على وجه الأرض ذراعًا ونصفًا، وعمَّ الكوفةَ وواسطًا والبصرةَ والبطائح على هذا الوجه، ولم يُعهَدْ سقوطُ الثلج بالبصرة إلا في سنة تسعين ومئتين. وفيها سار بدر بن حسنويه إلى الري معاونًا للسيدة أم مجد الدولة على عَوْدها إلى موضعها، ومُرَتِّبًا لشمس الدولة أبي طاهر في الإمارة عوضًا عن أخيه مجد الدولة. ذكر السبب: كان الخطير أبو علي القاسم بن علي قد منعَ السيدةَ من التصرُّف، وقبضَ يدَها، وأوحشَ مجدَ الدولة منها، ووضعَ الدَّيلم، حتى قالوا: ما للنساءِ والملك؟ وكان وزيرُها أبو سعد بن الفضل بالرَّي، فأخافه، فهرب، فصَعِدت السيدة إلى القلعة ¬

_ (¬1) في (خ) و (ب): رسومهم، والمثبت من (م) و (م 1).

وتحصَّنَتْ بها، فرتَّب الخطيرُ تحتها جماعةً يمنعونها من الخروج، فكانت في صورة المعتقلة، وكانت لها جاريةٌ تشبهها، فكانت تنزل كلَّ يومٍ تأخذ لها من نهرٍ تحت القلعة وتصعد، فألِفَ الموكلون، وأرسلت السيدة إلى قوم من أهل الرسداق فيهم عصبيةٌ وفتوة، فَواثَقتْهم على حملها إلى بلاد بدر بن حسنويه، فجاؤوا فنزلوا على النهر كأنهم عابرو سبيل، ونزلت وبيدها الجرَّة كأنها الجارية، وركبت دابَّةً، وساروا بها إلى بلد بدر بن حسنويه، وذلك في سنة سبع وتسعين، وكان في نفس بدر من الخطير، فأكرمها بدر، وسار بنفسه معها، وكان ابنُها شمس الدولة بهمَذَان، فوافاها بعساكر هَمَذان، وقَبَّل بدرٌ بين يديه الأرض، وساروا إلى الريِّ، فأطلق الخطيرُ الأموال، واستخلف الدَّيلمَ، ووقع القتالُ، وجرى على الريِّ أمرٌ عظيم من الحريق والنَّهب والقتل، وظفر بدرٌ بالخطير، فقبض عليه، وقبضت السيدةُ على ابنِها مجدِ الدولة، وأصعدَتْه إلى القلعة، وأقعدت شمسَ الدولة ابنَها على السرير، وعادت إلى ما كانت عليه، وعاد بدرٌ إلى بلاده، وأخذ الخطيرَ معه وعذَّبه حتى مات، وتغيَّرت أخلاقُ شمس الدولة، وتمكَّنت منه المرة السوداء، فرجع إلى هَمَذان، وساسَتِ السيدة الملك، ودبَّرتِ الأمورَ أعظم من الرجال، وكانت تجلس من وراء سترٍ خفيفٍ، والعارضُ والوزيرُ جالسان بين يديها يخاطبانها وتخاطبهما، وهما يُنفِّذان الأمور، وكانت قد عزمَتْ على قَبْضِ شمس الدولة، فهرب إلى قُم. وفيها كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين السُّنَّة والشيعة ببغداد، وسببها أنَّ بعضَ الهاشميين من أهل باب البصرة قصدَ أبا عبد الله محمَّد بن النعمان المعروف بابن المعلم - فقيه الشيعة - في مسجده بالكَرْخ بدرب رياح، ونال منه، فثار أصحابه، واستنفروا أهل الكَرْخ، وصاروا إلى دار القاضي أبي محمَّد ابن الأكفاني وأبي حامد الإسفراييني، فسبُّوهما وشتموهما، ونشأتِ الفتنة، وركب صاحبُ المعونة، واجتهد في كفِّ العامة، وكتب إلى عميد الجيوش وهو بالنُّعمانية، واتَّفق أنَّ أبا حازم محمَّد بن الواسطي أحضر مصحفًا إلى دار الخلافة، ذُكِرَ أنَّه مصحف عبد الله بن مسعود، فقُوبِلَ بمصحف عثمان

- رضوان الله عليه - والمصاحفِ المألوفة، فخالفها، فجمع القضاةَ والأشرافَ والفقهاءَ في رجب في دار الخلافة، وأخرج المصحف إليهم، وسُئِلوا عنه، فأفتى أبو حامد الإسفراييني بتحريقه، فأُحرِقَ بمحضرٍ منهم، وبلغ الخليفةَ أنَّ رجلًا كيَّالًا - يُعرف بابن قَراح - حضر المشهد بالحائر ليلة نصف شعبان، وسبَّ مَنْ أحرقَ المصحف، فتقدَّم إلى صاحب المعونة بالقبض عليه، وأمر بقتله، وكان من الشِّيعة، وتولَّاه جماعةٌ من الأتراك، فقُتِلَ بالحَلَبة (¬1) لتسعٍ بَقِينَ من شعبان، وثارَ أهلُ الكَرْخ، ووقعت الفتنة بين السُّنَّة والشيعة، وقصَدَ أحداثُ الكَرْخ دارَ أبي حامد، فانتقل عنها إلى دار القُطْن، وصاحوا: حاكم يا منصور. وبلغ القادرَ، فأنفذ الخَوَل (¬2) الذين على بابه لمعاونة السُّنَّة، وتكاثرت الجموع، وساعدَهم الأتراك، وأحرقوا بعض الكَرْخ ومُعْظَم الأسواق ونهبوها، وركب نوَّابُ المملكة، وعاتبوا الغِلْمان التُّرك، ورَدُّوهُم وقصد من الغد الأشرافُ والطالبيُّون ووجوهُ التُّجارِ بالكَرْخ دارَ الخليفة، وتبرَّؤوا مما فعله السُّفهاء، وسألوا حِراستَهم في منازلهم، فعفا القادرُ عنهم، وروسِلَ عميدُ الجيوش، فدخل بغداد في حادي عشر رمضان يوم الخميس، فأخرج ابنَ المعلم إلى سُوراء (¬3)، وقبض على رؤوس الفتنة، وقتلَ البعض، وحبسَ البعض، وقامتِ الهَيبة، ورجع أبو حامد إلى داره، ومُنع القُصَّاصُ من الوعظ، وشفع أبو الحسن علي بن مَزْيد في ابنِ المُعلِّم، فرُدَّ إلى منزله، وراسل القادرُ عميدَ الجيوش في معنى القُصَّاص والوُعَّاظ، فردَّهم، وشرط عليهم أن لا يتكلَّموا في ما يوجب الفتنة، واستقامت الأمور. وفيها زُلزِلَتِ الدِّينَور، فَهُدِمَتِ المنازلُ، وأهلكَتْ أكثرَ الناس. وقيل: أهلكَتْ ستة عشر ألف إنسان سوى مَنْ ساخَتْ به الأرض، وخرج مَنْ سَلِمَ من البلد إلى الصحراء، وبَنَوا لهم أكواخًا من القصب، وذهب من الأموال والأمتعة ما لا يُعَدُّ (¬4) من البلد ولا يُحصى. ¬

_ (¬1) الحَلَبة: محلة واسعة في شرقي بغداد. معجم البلدان 2/ 290. (¬2) الخَوَل: الحشَم. الصحاح (خول). (¬3) سُوراء: موضع إلى جنب بغداد. معجم البلدان 3/ 278. (¬4) في (خ) و (ب): يُحدُّ، والمثبت من (م) و (م 1).

وهَبَّتْ بدَقوقا ريحٌ سوداء (¬1)، فقلعتِ المنازلَ والنخل والزيتون، وقتلت كثيرًا من الناس، وامتدَّتْ إلى تكريت، ففعلَتْ (¬2) مثلَ ذلك، وكذا فعلَتْ بفارس، وأُخرِبَتْ شيراز، وغرق بسيراف (¬3) بهذه الريح مراكبُ كثيرة. ووقع بالعراق بَرَدٌ، في كلِّ بَردة مئة درهم، سوى ما ذاب منها. وفيها هدم الحاكمُ بِيعةَ قمامة - التي بالبيت المقدَّس - وغيرَها من البِيَع والكنائس بمصر والشام، وألزمَ أهلَ الذمَّة الغيار (¬4) [قال هلال بن الصابئ: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الخضر المصري قال: ] وكانت العادةُ جاريةً بأن يخرج النصارى من مصر في كل سنة في العماريات إلى القدس؛ لحضور فِصْحِهم [في بِيعة قمامة]، فخرجوا في هذه السَّنة على العادةِ مُظهرين التجمُّلَ كما يخرج الحاجُّ إلى مكة، فسأل الحاكم خَتَكين العَضُدي [الداعي، وكان بين يديه عن أمر النصارى في قصد هذه البِيعة، وكان قد عرف أمرَها لمَّا كان يتردَّد إلى الشام]، فقال: يا مولانا، هذه بِيعةٌ يُعظِّمها النصارى ويقصدونها - يوم فِصْحِهم - من كلِّ المواضع، وربما صارَ إليها ملوكُ الروم متنكِّرين، ويحملون إليها الأموال والثياب [والستور والفُرش]، ويصوغون لها القناديل والصُّلبان والأواني من الذهب والفضة، فإذا حضروا يوم الفِصْحِ أظهروا زينتَهم، ونصبوا صُلبانَهم، ورفعوا أصواتَهم، ووقع الشَّبه في عقولهم (¬5) أنَّ قُوَّام البِيَعة يُعلِّقون القناديلَ في بيت المذبح، ويوصِلون إليها النارَ بِدُهن البَلَسان (¬6) - ومن طبيعته أنَّه يجذب النار - ويجعلون فيها دُهن الزَّنبق، ويجعلون بين كلِّ قنديلٍ وما يليه حديدًا كهيئة الخيط متصلًا من واحد إلى واحد، ويطلونه بدُهن البَلَسان حتى يسري في الجميع، وعندهم أنَّ مهدَ عيسى - عليه السلام - في البِيعة، وأنه عُرِجَ به إلى السماء منه، فإذا كان يومُ فِصْحِهم ¬

_ (¬1) في (خ): أسود، والمثبت من باقي النسخ. (¬2) في (ب) وحدها: فقلعت. (¬3) تحرفت في (م 1) إلى: بشيراز. (¬4) الغِيار: هو أن يخيطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونَه لونَها، وتكون الخياطة على الكتف دون الذيل معجم متن اللغة 4/ 338. (¬5) في (خ): قلوبهم، والمثبت من باقي النسخ. (¬6) البَلَسان: شجر لحبِّه دهن حارٌّ يُتنافس فيه. اللسان (بلس).

اجتمع النصارى والأقِسَّاء والرُّهبان [وجميع أهل دين النصرانية] في البيت الذي فيه القناديل، وأوقدوا الشموع [فيه]، وتنضاف إليه أنفاس ذلك الخلق العظيم، فيحمى المكان، ويتوصَّل بعض القُوَّام إلى أن يُقرِّب النارَ من (¬1) الخيط فتعلقَ به، [ثمَّ] تنتقل بين القناديل من واحد إلى واحد، ويُشعَلُ الكلُّ، فيُقدِّر مَنْ يشاهد ذلك أن نارًا نزلت من السماء فأشعلت القناديل، فيكثر تهليلُهم وتكبيرُهم، ثمَّ يتفرَّقون، فلمَّا سمع الحاكمُ ذلك أمر كاتب الإنشاء فكتب إلى والي (¬2) الرَّملة وإلى أحمد بن يوسف (¬3) الداعي أن يقصدا بيتَ المقدس، ويستَصْحِبا القُضاةَ والشهودَ والأشرافَ ووجوهَ البلد، وينزلا بِيعة قمامة، ويُبيحا للعامَّة نهبَها [وأخْذَ ما فيها] (¬4)، ويتقدَّما بنقضها وتعفية أثرها، [وأن] يعملا محضرًا بذلك، [وينفذانه إلى حضرته] وقد كانت النصارى بمصر علمت (¬5)، فأرسلوا إلى البطرك [الذي كان بها] يُعرِّفونه، فأخرج ما كان فيها من الجواهر والثياب والذهب والفضة، وورد أصحاب الحاكم [إلى بيعة قمامة] (¬6) فأحاطوا بها، وأباحوا للعامَّة نَهْبَها، فأخذوا من الباقي الموجود ما عظُم قَدْرُه، وقُلعِتْ حجرًا حجرًا، [وكتبوا بذلك محضرًا، وأخذوا فيه خطوط القضاة والعدول، وهدم كلَّ بِيعة بالشام ومصر] فيقال: إنه هدم ألوفًا من البِيَع والكنائس، ونودي في أهل الذِّمَّة: مَنْ أراد الدخول في الإِسلام دخل، ومَنْ أراد النقلة إلى بلاد الروم كان آمنًا، ومن أقام فليلْبَس الغيار، ويلتزم ما يشترط عليه، فخافوا أن يكون هذا خديعةً ليُقتلوا، فأسلم أكثرُهم، وخرج بعضهم إلى الروم، ومن كان ثقيلَ الظَّهر أقام، فشرط عليهم تعليق الصُّلبان في صدورهم، وشرط على اليهود تعليقَ تمثالٍ على هيئة رأس عجل، ومنعهم من ركوب الخيل والتختُّمِ في اليمين، ورخَّص لهم في ركوب الحمير والبغال بالسروج ¬

_ (¬1) في (خ): إلى، والمثبت من باقي النسخ. (¬2) تحرفت في (خ) إلى: وادي. (¬3) في (م) و (م 1): يعقوب. (¬4) هذه الزيادة من (م) وحدها. (¬5) في (خ) و (ب): عملت، والمثبت من (م) و (م 1). (¬6) هذه الزيادة من (م) وحدها.

السواذج (¬1) والرُّكُب الخشب، وفي كلِّ صليب أربعة أرطال بالبغدادي، والخشبة التي يعلِّقها اليهودي كالمِدقَّة، وزنُها ستة أرطال، وإذا دخلوا الحمامات علَّقوا في أعناقهم أجراسًا؛ ليتميَّزوا عن المسلمين. فلمَّا كان قُبيل قتل الحاكم عدلَ عن هذه الطريقة [معهم]، وفسَحَ لمن أسلم منهم أن يرجع إلى دينه، فارتدَّ أكثرُهم، وأمر بإعادة البِيَعِ المهدومة، فرجعَتْ إلى أحسنَ ما كانت عليه من العمارة، فيقال: إنه عاد في أسبوع واحدٍ من النصارى ستةُ آلاف حين أعادَ بِيَعَهم وكنائسهم، وأقرَّهم على دينهم (¬2)، [وفرحتِ العامَّة وقالوا: قد نزَّه اللهُ مساجدَنا ومواضعَ صلواتِنا عمَّن يعتقد خلافَ ما نعتقد. وقيل: إن الحاكم هو القائل: نُنزِّه مساجدنا مواضعَ صلواتنا عنهم. وهو غلطٌ على كلِّ حال، وقد كان الواجب قتل من ارتدَّ منهم عن الإِسلام. قلت: ما ذكره ابن الصابئ في صفة إشعال القناديل على الوصف الذي ذكره لا يصح؛ فإنِّي] سكنتُ في البيت المقدس عشرَ سنين، وكنتُ أدخلُ إلى القُمامة (¬3) في يوم فصحهم وغيرِه، وبحثتُ عن إشعال القناديل في يوم الأحد [ويسمُّونه] عيد النور، و [ذلك لأنَّ] في وسط القُمامة قُبَّةً فيها قبرٌ يعتقد النصارى أنَّ المسيح - عليه السلام - لمَّا صُلِبَ دُفِنَ فيه، ثمَّ ارتفع إلى السماء، فإذا كانت ليلة السبت في السَّحر دخلوا إلى هذه القُبَّة فغسلوا قناديلها، ولهم فيها طاقاتٌ مدفونةٌ في الرُّخام، وفي الطاقات قناديل قد أُوقِدت من السَّحر، ولِلقُبَّة شبابيك، فإذا كان وقتُ الظُّهر اجتمع أهلُ دين النصرانية [من كلِّ فجٍّ عميق] (¬4)، وجاء الأقِسَّاء فدخلوا القُبَّة، وطاف النصارى من وقت الظهر حولها يتوقَّعون نزول النور، فإذا قارب غروبَ الشمس تقول الأقِسَّاء: إن المسيح ساخطٌ عليكم. فيضجُّون ويبكون، ويرمون على القبر الذهب والفضة والثياب فتحصل [لهم] جملةٌ كبيرةٌ، ويُردِّد القِسِّيسُ هذا القولَ وهم يبكون ويضِجُّون ويرمون ما معهم، ¬

_ (¬1) السَّاذج: الخالص غير المشوب وغير المنقوش. المعجم الوسيط (سذج). (¬2) هكذا في (خ) (ب)، وجاء في (م) و (م 1): فيقال: إنه عاد في أسبوع واحد ستة آلاف إلى دينهم. (¬3) في (م) وحدها: القيامة. وكلاهما صحيح؛ قال ابن الأثير في الكامل 9/ 209: والعامَّة تسمِّيها القيامة. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) وحدها.

فإذا غربتِ الشمسُ أظلمَ المكانُ، فيُغافلهم بعضُ الأقِسَّاء، ويفتح طاقةً من زاوية القُبَّة بحيث لا يراه أحد، ويوقد شمعةً من بعض القناديل، ويصيح: قد نزل النور، ورضي المسيح. وتخرج الشمعةُ من بعض الشبابيك، فيضِجُّون ضجَّةً عظيمةً [ويقولون: نزل النور]، ويوقدون الفوانيس، ويحملون هذه النارَ إلى عكا وصور وجميع بلد الفرنج، حتى رومِيَّة والجزائرِ، وقسطنطينيةَ وغيرِها؛ تعظيمًا لها. وحدثني جماعةٌ من المجاورين بالقدس، قالوا: لمَّا فتح صلاح الدين -رحمه الله- القدسَ وجاء يوم الفِصْحِ، جاء بنفسه فدخل القُبَّة [التي فيها القبر] وقال: أريد [أن] أشاهدَ نزولَ النور. فقال له البطرك: تُريد أن تضيِّع علينا وعليك أموالًا كبيرةً (¬1) بقعودِكَ عندنا، فإنْ أردتَ المال فقُمْ عنَّا. فقام، فما بلغ بابَ القُبَّة حتى صاحوا [وقالوا]: نزل النور. فقال بعض الحاضرين: [من الطويل] لقد زعمَ القِسِّيسُ أنَّ إلهَهُ ... يُنَزِّلُ نورًا بُكرةَ اليومِ أو غَدِ فإن كانَ نورًا فَهْو نورٌ ورحمةٌ ... وإنْ كانَ نارًا أحرقَتْ كلَّ مُعتدِ يُقَرِّبُها القِسِّيسُ من شَعْرِ ذَقْنِهِ ... فإنْ لَمْ تُحرِّقْها وإلَّا اقْطعوا يَدي وحدثني جماعةٌ من أصحاب صلاح الدين -رحمه الله- أنَّه عزم لمَّا أخذ الفرنجَ على أن يُخرِّبَ قُمامة ويُعَفِّي أثرَها، فقال: نُحضِرُ البطركَ والأقِسَّاءَ والنصارى، ونحفِر مكانَ القبرِ حتى يطلع الماء، ونرمي الترابَ في البحر، ونقول: هذا ترابُ قبرِ إلهكم؛ لتنقطع أطماعُهم عن زيارته ونستريحَ منهم. فقال له أعيان دولته: إنَّ أطماعَهم لا تنقطع بهذا، وليس مُرادهم مكانَ القبر، إنما هم يعتقدون في نفس القدس، وقُمامةُ عندهم أفضلُ من غيرها، وربما أخربوا الجامع الذي بالقُسْطَنْطينية والمساجدَ التي في بلادهم، وقتلوا مَنْ عِنْدَهم من المسلمين، ثمَّ إنهم إنما يصانعونك على القدس لأجل قُمامة، فإذا فعلت ذلك زال ما يصالحونك لأجله (¬2)، ثمَّ تبطل عليكَ أموالٌ عظيمة، فتنضرُّ وهم لا ينضرُّون. فسكت عن خرابها. ولم يَحُجَّ في هذه السنة أحد. ¬

_ (¬1) هكذا في (خ)، وفي باقي النسخ: عظيمة. (¬2) في (م 1): زال ما يصانعونك عليه أو لأجله! .

أحمد بن إبراهيم

وفيها تُوفِّي أحمد بن إبراهيم (¬1) أبو العباس، الضَّبِّي، كان رئيسًا فاضلًا، ولمَّا احتُضر بعث ابنَه إلى أبي بكر الخُوارَزمي شيخِ الحنفية يسأله أن يبتاع له تُربةً بكَرْبَلاء من الشريف أبي أحمد الموسوي والد المُرْتضى، بخمس مئة دينار، فبعث بالدنانير إلى الشريف، فقال: معاذَ اللهِ، هذا رجلٌ رغِبَ فينا، ولجأ إلى جوار (¬2) جدي، لا آخذ لتربتِه ثمنًا. فلمَّا خرج تابوتُه خرج الشريفُ معه والأشرافُ، وشيَّعوه إلى جامع براثا، وصلَّوا عليه، ومعه القضاةُ والعدولُ، وبعثَ معه خمسين راجلًا يُوصِلونه إلى كَرْبَلاء. عبد الله بن محمَّد (¬3) أبو محمَّد البخاري، الخُوارَزْمي، الفقيه، الشافعي، كان فصيحًا أديبًا، يقول الشعر على البديهة، ويرتجل الخطب الطِّوال من غير رَويَّة، وينشئ الكتب، قصد صديقًا له ليزوره فلم يجِدْه في داره، فكتب على بابه وقال: [من الخفيف] كَمْ حَضَرْنا وليسَ يُقضَى التلاقي ... نسألُ الله خيرَ هذا الفِراقِ إنْ أغِبْ لم تَغِبْ وإنْ لَمْ تَغِبْ غِبْـ ... ـــتُ كأنَّ افتراقَنا باتِّفاقِ وقال: [من المنسرح] ثلاثةٌ ما اجتمعْنَ في رجلٍ ... إلَّا وأسْلَمْنَهُ إلى الأجَلِ ذِلُّ اغترابٍ وفاقةٌ وهوىً ... وكلُّها سائقٌ على عَجَلِ يا عاذلَ العاشقين إنَّكَ لَوْ ... أنصفتَ رَفَّهْتَهُم عن العَذَلِ فإنَّهم لو عَرَفْتَ صورتَهُمْ ... عن شُغُلِ (¬4) العاذِلينَ في شَغَلِ وكانت وفاته ببغداد. ¬

_ (¬1) معجم الأدباء 2/ 105 - 122. (¬2) بعدها في (م 1) زيادة: تربة. (¬3) تاريخ بغداد 10/ 139 - 140، والمنتظم 15/ 63. (¬4) في نشوار المحاضرة 6/ 137: عذل.

عبد الواحد بن نصر

عبد الواحد بن نصر (¬1) ابن محمَّد بن عبيد الله بن عمر بن الحارث بن المطلب المخزومي، أبو الفرج، الببَّغاء [كذا نسبه الخطيب، وقال الحافظ ابن عساكر: أصله من نَصيبين، قدم دمشق غير مرة، وله أشعارٌ يصف فيها دير مُرَّان ودمشق، وأوقاته فيهما، وإنما سُمِّي الببَّغاء] للَثْغةٍ كانت في لسانه، [وكان أديبًا، فاضلًا، شاعرًا، مجيدًا، كاتبًا، مترسِّلًا، مدح الأمراء والفُضلاء والأكابر والعلماء وغيرهم]. قال الثعالبي: كان نجمَ الآفاق، وشمَّامَة الشام والعراق، وظَرفَ الظَّرف، وينبوعَ اللُّطْف، وأوحدَ زمانه في النظم والنثر، ومن شعره - قالوا: وكان أميًّا لا يُحسن الكتابة، وهذا عجيب -: [من الوافر] أكُلُّ وميضِ بارقةٍ كذوبُ ... أما في الدَّهرِ شيءٌ لا يُريبُ تشابَهتِ الطِّباعُ فلا دنيٌّ ... يحِنُّ إلى الثناءِ ولا لبيبُ وشاعَ البخلُ في الأشياءِ حتَّى ... يكادُ يَشِحُّ بالريحِ الهبوبُ وكيفَ أخُصُّ باسمِ العيبِ شيئًا ... وأكثرُ (¬2) ما نُشاهِدُهُ مَعيبُ وقال: وكتب بها إلى عميد الجيوش: [من المتقارب] سألتُ زماني بمن أستغيثُ ... فقال استَغِثْ بعميدِ الجيوشِ فناديتُ ما لي بهِ حرمةٌ ... فجاوبَ حُوشيتَ مِنْ ذا وحُوشي رجاؤكَ إيَّاه يُدنيكَ منهُ ... ولو كانَ بالصِّينِ أو بالعريشِ نَبَتْ بيَ دارٌ وفَرَّ العبيدُ ... وأودَتْ ثيابي وبِعْتُ فروشي وكنتُ أُلقَّبُ بالببَّغاءِ ... قديمًا فَقدْ مَزَّقَ الدَّهْرُ ريشي وكانَ غذائي نقيُّ الأرُزِّ ... فها أنا مقتَنِعٌ بالحشيشِ وكتب إليه أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ من الحبس وقد زاره في محبسه فقال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 11، وتاريخ دمشق 44/ 47 - 55 (طبعة مجمع اللغة العربية)، ويتيمة الدهر 1/ 293 - 331، والمنتظم 15/ 64 - 66. وينظر السير 17/ 91. (¬2) في (خ): وأكره، والمثبت من (ب).

أبا الفرجِ اسلَمْ وابْقَ وانْعَمْ ولا تَزَلْ ... يزيدُكَ صَرْفُ الدَّهرِ حظًّا إذا نقَصْ مضَتْ مدَّةٌ تستامُ وصلَكَ غاليًا ... فأرخِصْهُ والمبيعُ غالٍ ومُرْتَخَصْ وآنَسْتَني في مَجْلِسي بزيارةٍ ... شفَتْ قَرَمًا (¬1) من صاحبٍ لكَ قَدْ خَلَصْ ولكنَّها كانَتْ كَحسْوةِ طائرٍ ... فَواقًا (¬2) كما يستَفْرِصُ السارقُ الفُرَصْ وأحسِبُكَ استوحَشْتَ من ضيقِ مَحْبِسي ... وأوجَسْتَ خوفًا مِنْ تَذَكُّرِكَ القَفَصْ كذا الكُرَّزُ (¬3) اللَّماحُ ينجو بنفسهِ ... إذا عاينَ الأشراكَ تُنصَبُ للقَنَصْ فَحُوشيتَ يا قُسَّ الطيورِ (¬4) فصاحةً ... إذا أُنشِدَ المنظومُ أو دُرِّسَ القَصَصْ من المِنْسَرِ (¬5) الأشغى (¬6) ومن حَزَّةِ المُدى ... ومن بُندقِ الرامي ومن قَصَّةِ المِقَصْ ومن صَعْدةٍ فيها من الدَّبْقِ (¬7) لَهْذَمٌ (¬8) ... لفُرْسانِكم عند الطِّرادِ (¬9) بها قَعَصْ فهذي دواهي الطيرِ وُقِّيت شرَّها ... إذا الدَّهرُ من أحداثِهِ جرَّعَ الغُصَصْ فأجابه يقول: [من الطويل أيضًا] أيا ماجدًا مُذْ يَمَّمَ المجدَ ما نَكَصْ ... وبدرَ تمامٍ مُذْ تكامَلَ ما نَقَصْ ستَخْلُصُ مِنْ هذا السِّرارِ (¬10) وأيُّما ... هلالٌ توارى بالسِّرارِ فما خَلَصْ برأفةِ تاجِ المِلَّةِ المَلْكِ الذي ... لِسُؤدُدِه في خُطَّة المشتري حِصَصْ تَقَنَّصْتَ بالإحسانِ شُكري ولم أكُنْ ... علمتُ بأنَّ الحُرَّ بالبِرِّ يُقتَنَصْ وصادفتُ أدنى (¬11) فُرصةً فانتهَزْتُها ... بِلُقياكَ إذْ بالحزْمِ تُنْتَهزُ الفُرَصْ ¬

_ (¬1) القَرَم: اشتداد الشهوة إلى اللحم. المعجم الوسيط (قرم). (¬2) الفَواق: الوقت بين الحلبتين، أو: الوقت بين قبضتي الحالب للضرع. المعجم الوسيط (فوق). (¬3) الكُرَّز: البازي. الصحاح (كرز). (¬4) المراد به قُسُّ بن ساعدة، وهو الخطيب الجاهلي المشهور، الذي يُضرب به المثلُ في البلاغة والفصاحة. (¬5) المِنسَر: هو ما ينتف به الطائرُ الجارحُ الأشياء، وهو لغير الجارح كالمنقار. المعجم الوسيط (نسر). (¬6) يقال: شغيَتْ أسنانُه؛ إذا اختلفت نبتتها وتراكبت. أساس البلاغة (شفي). (¬7) الدَّبْق: كل شيء لزج يصاد به الطير. المعجم الوسيط (دبق). (¬8) اللَّهذم: كل شيء قاطع من سنان أو سيف أو ناب. المعجم الوسيط (لهزم). (¬9) هكذا في النسخة الوحيدة التي ذكرت تلك الأبيات وهي نسخة (خ)، وفي المصادر: الطعان. (¬10) السِّرار أو السَّرار أو السَّرر: آخر يوم أو يومين في الشهر وذلك عندما يستسِرُّ الهلال. اللسان (سرر). (¬11) المثبت من اليتيمة وغيرها من المصادر، وفي النسخة الخطية: أسنى، ولا معنى لها! .

أتتني القوافي الباهراتُ تُحمِّلُ الْـ ... بدائعَ من مُسْتحْسنِ الجِدِّ والرُّخصْ فقابلتُ زهْرَ الرَّوضِ منها ولم أَكدْ (¬1) ... وأحْرَزْتُ دُرَّ البحرِ منها ولم أغُصْ فإنْ كنتُ بالببَغاء قِدْمًا مُلقَّبًا ... فكمْ لَقَبٍ بالجَوْرِ لا العدلِ مُختَرَصْ وبعدُ فما أخشى تقنُّصَ جَارحٍ ... وقلبُكَ لي وَكْرٌ وصدرُكَ لي قَفَصْ وقال: [من البسيط] سلوا الصبابةَ عنِّي هَلْ خَلْوتُ بِمَنْ ... أهوى مع الشَّوقِ إلَّا والعفافُ معي وحافظي من دواعي الحبِّ معرفتي ... أنِّي من المجدِ في مُرادِ مُستَمِعِ تأبى الدناءةَ لي نفسٌ نفائِسُها ... تسعى لغير الرِّضا بالرَّيِّ والشِّبَعِ وهمَّةٌ ما أظنُّ الخطَّ يُدْرِكُها ... إلَّا وقَدْ جاوزتْ بي كلَّ مُمتنِعِ لا صاحبَتْني نفسٌ إنْ هَمَمْتُ بأنْ ... أرمي بها غَمَراتِ الموتِ لم تُطِعِ على جناب العُلا حِلِّي ومُرْتَحَلي ... وفي حمى المجدِ مُصْطافي ومُرْتَبعي وما نضوتُ لباسَ الذُّلِّ عن أملي ... حتى جعلتُ دُروعَ اليأسِ مُدَّرعي وكلُّ مَنْ لم تؤدِّبْهُ خلائِقُهُ ... فإنَّهُ بِعِظَاتي غيرُ مُنتفعِ وقال: [من البسيط] يا سادتي هذهِ رُوحي تُشَيِّعكُمْ ... إنْ كانَ لا الصبرُ يُسليها ولا الجزَعُ قد كنتُ أطمعُ في رُوحِ الحياةِ لها ... فالآنَ مُذْ غِبْتُمُ لم يبقَ لي طَمَعُ لا عذَّبَ اللهُ رُوحي بالبقاءِ فما ... أظنُّها بعدَكُمْ بالعيشِ تنتفِعُ وقيل: إنَّها للوَأوء الدمشقي. وقال: [من البسيط أيضًا] يا مَنْ تشابَهَ منه الخَلْقُ والخُلُقُ ... فما تُسافرُ إلَّا نحوَهُ الحَدَقُ توْريدُ دَمعي مِنْ خدَّيكَ مُخْتلَسٌ ... وسُقْمُ جِسمي من جَفْنَيكَ مُسْتَرَقُ لم يبقَ لي رَمَقٌ أشكو إليكَ بِهِ ... وإنما يتشكَّى مَنْ بهِ رَمَقُ ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق: يكد، وفي اليتيمة: أرع.

وقال في سيف الدولة بن حمدان: [من البسيط أيضًا] وواصلَتْني صلاتٌ منكَ رُحْتُ بها ... أختالُ ما بين عزِّ الجاهِ والمالِ فلينظُرِ الدهرُ عُقبى ما صبرتُ لهُ ... إذْ كان من بعضِ حُسَّادي وعُذَّالِ يا عارضًا لم أشِمْ مُذْ كنتُ بارِقَهُ ... إلَّا رَويتُ بغيثٍ منهُ هطَّالٍ رُويدَ جودِكَ قد ضاقَتْ به هِمَمي ... وردَّ عنِّي برَغْمِ (¬1) الدَّهرِ إقلالي لم يبقَ لي أملٌ أرجو نَدَاك بهِ ... دَهري لأنَّكَ قد أفنيتَ آمالي وكتب إلى المحسن بن علي القاضي التنوخي (¬2) يتوجَّع له من محنةٍ لحِقَتْه: مُدَدُ النِّعم - أطال اللهُ بقاء سيدنا القاضي - بغفلات المسارِّ، وإن طالتْ، أحلامٌ، وساعاتُ المِحَن، وإن قَصُرَت بشوائب الهموم، أعوامٌ، فأحْظانا بالمواهب من ارتبطها بالشكر، وأنهضُنا بأعباء المصائب مَنْ قاومها بعُدَد الصبر، إذ كان أوَّلُها بالعِظَةِ مُذكِّرًا، وآخرها بمضمون الفرج مُبشِّرًا، وإنما [يتمسكُ بتفريط العجزِ، ويُفسد] ضالَّة الحكمة مَنْ كان بسنةِ الغفلة مغمورًا، وبضعفِ الرأيِ والمِنَّة مقهورًا، وفي انتهازِ فُرَصِ الحزم مُفرِّطًا، ولمَرْضيِّ ما اختاره الله مُتَسخِّطًا، وسيِّدُنا القاضي أنوَرُ بصيرةً، وأَطْهَرُ سريرةً، وأكملُ حزمًا، وأنفَذُ مَضاءً وعزمًا، من أن يتسلَّطَ الشكُّ على يقينه، أو يقدحَ اعتراضُ الشُّبهِ في فتوَّتِه ومروءتِه ودينِه، فليتلَقَّ قضاءَ اللهِ بالرضا والتسليم، فهو ممن قال الله فيهم: {إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]. وكانت وفاتُه في شعبان، ومن شعره: [من مجزوء الكامل] أشتاقُهُ فإذا بدا ... أطرقتُ (¬3) من إجلالِهِ وأصدُّ عنه إذا دنا ... وأرومُ طيفَ خيالِهِ لا خِيفةً بل هَيبةً ... وصيانةً لجمالِهِ فالموتُ في إعراضِهِ ... والعيشُ (¬4) في إقبالِهِ ¬

_ (¬1) في تاريخ دمشق: بعزم، والمثبت من النسخة الخطية، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد واليتيمة وغيرها. (¬2) الفرج بعد الشدة 1/ 152 وما بين حاصرتين منه. (¬3) في تاريخ دمشق: أعرضت. (¬4) في تاريخ دمشق: والموت.

أبو منصور بن بهاء الدولة

أبو منصور بن بهاء الدولة وقيل: اسمه بُوَيه، توفِّي بالبصرة يوم الأحد ثاني شعبان، وكان أبوه خائفًا عليه، وقد منع الجندَ من الكلام معه، وضيَّق عليه، وعزم على الخروج إلى تُسْتَر، فأراد الخروجَ معه، فحُمَّ حُمَّى حادَّة قبل أن يخرج أبوه، فقيل لأبيه: إنه محمومٌ ولا حركةَ به، وإن أخرجْتَه تلِف. فقال: لا بُدَّ من حَمْلِه ولو في فردة. فقال الأطباء: متى خرج لم يَسْلَم. فتركه. وخرج، واشتدَّ مرضُه، وانصبَّتْ إلى فخذه مادةٌ احتيج إلى فتحها، فقالوا: لا بُدَّ من مشاورة أبيه، فإلى أن أتى الجواب مات، وكتبوا إلى أبيه بوفاته، فلم يتجاسَرْ أحدٌ على إعلامه، فأمر أبو الخطاب الفرَّاشين أن يرفعوا المخادَّ من مجلسه إذا قام، ويجعلوا مكانها كساءً طبريًّا، ففعلوا، فأحسَّ بالقصَّة، ودخل عليه أبو الخطاب في قميصٍ ورداء، فقال: ما الذي ورد من حال أبي منصور؟ فدمعَتْ عينا أبي الخطاب، فضرب حينئذٍ بهاءُ الدولة بنفسه إلى الأرض، وجزع جزعًا شديدًا، ولبس السواد، ودخل عليه الناسُ حفاةً بالسواد، وهجر الأكل والشرب والنوم، وواصل البكاء والحزن إلى أن عاد إلى البصرة، وبقي مدةً، فاجتمع إليه وجوه الدَّيلم وعزَّوه، وسألوه أن يرجع إلى عادته، ففعل (¬1). السنة التاسعة والتسعون وثلاث مئة فيها لحقَ الحاجَّ عند عَوْدِهم من مكةَ اعتراضٌ من العرب، فقرَّر عليهم أبو الحارث محمَّد بن محمَّد بن عمر العلوي مالًا، ودخل الناسُ الكوفةَ بعد أن لاقَوا مشقَّةً شديدةً، وأقاموا بها خائفين من الطُّرق، حتى أرسل إليهم أبو الحسن علي بن مَزْيَد أخاه حمادًا، فحملهم إلى المدائن، ثمَّ دخلوا بغداد. وفيها استوهَبَ المناصحُ أبو الهيجاء من عميد الجيوش [- البستان الذي يقال له: النجمي، وكان بإزاء دار الخلافة -] (¬2) فشرع في مَرَمَّة مسناته، وإصلاح روشَنِه، فثقُلَ ¬

_ (¬1) القصة وردت مختصرةً في عيون الأنباء في طبقات الأطباء 1/ 435. (¬2) ما بين حاصرتين هنا وفي الوضع الآتي من (ب).

ذلك على القادر، وعوَّض أبا الهيجاء ما أنفقه، وقطع شجر البستان، وهدم أبنبتَه، وجعلَه أرضًا تُزْرَع. وفيها سار بهاء الدولة متوجِّهًا إلى أَرَّجان، [وفيها ملكَ صالح بن مرداس الرَّحبة، وأقام الدعوة فيها للحاكم]. وفيها صُرِف أبو عمر بن عبد الواحد عن قضاء البصرة، ووليها أبو الحسن بن أبي الشوارب، فقال العصفري الشاعر: [من المجتث] عندي حديثٌ ظريفٌ ... بمثله يُتغَنَّى من قاضِيَينِ يُعَزَّى ... هذا وهذا يُهنَّى فذا يقول اكرَهُونا ... وذا يقول اسْتَرَحْنا ويَكذِبانِ وأهذي ... فمَنْ يُصدَّقُ مِنَّا (¬1) وفيها وُلِّي الحاكمُ القائدُ حامد بن ملهم - وكنيتُه أبو الجيش - أميرًا على دمشق بعد علي بن جعفر بن فلاح، فوليها سنةً وأربعة أشهر، ثمَّ عُزِلَ بمحمد بن بزال، وكان حامد شجاعًا جوادًا مُمدَّحًا، مدحه عبد المحسن الصوري فقال وقد كتب في بحيرة طبرية: [من الطويل] وقالوا التقى الورْدانِ ورْدٌ من النَّدى ... وورْدٌ من الماء القَراحِ الذي يجري فقلتُ لهم وفُّوا أبا الجيشِ حقَّهُ ... ولا تظلِموهُ ما البُحيرةُ كالبحرِ وقال فيه: [من مجزوء الرمل] أبلغا عني أبا الجيـ ... ـــشِ أميرَ الجيشِ أمرا إنَّ لي فيكَ وفي مَجْـ ... ــــلِسِكَ اللَّيلةَ ذِكْرا من رأى جودَكَ فيَّا ... ضًا وأخلاقَك زُهْرا ظَنَّ بين البحر والبُسْـ ... ـــتانِ بستانًا وبحرا ¬

_ (¬1) الخبر المنتظم 15/ 67.

أحمد بن محمد

ولم يحُجَّ في هذه السنة أحدٌ من العراق بسبب العرب والعطش، خرجوا ثمَّ عادوا. وفيها تُوفِّي أحمد بن محمَّد (¬1) ابن عجل بن أبي دُلَف، أبو نصر، العجلي، وَلِيَ أيلة، وعاد إلى دمشق فتوفِّي بها، ودُفِنَ بباب الفراديس، حدَّث عن أبي الحسن الكَرْخي وغيره، وروى عنه تمام بن محمَّد وغيره، وكان ثقةً. تُمنى أم القادر بالله (¬2) هي مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وكانت من أهل الدين والصلاح والصدقة، توفِّيت يوم الخميس ثاني عشر شعبان، وصلَّى عليها القادر في داره وكبَّر أربعًا، وحضر القضاةُ والعلماءُ والأشرافُ والطالبيُّون والعباسيُّون، وحُملت إلى الرُّصافة ليلًا في طيَّار، فدُفنت فيها، وأعاد الصلاةَ عليها الأمير أبو محمَّد الحسن بن علي بن عيسى بن المقتدر. لؤلؤ غلام سيف الدولة صاحب حلب، كان شجاعًا مدبِّرًا، ولمَّا توفِّي ملَكَ ابنُه مرتضى الدَّولة، وهرب إلى الروم سنة أربع مئة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. محمد بن علي (¬3) ابن إسحاق المُهَلْوس بن العباس بن إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي، البغدادي، أحد الزُّهَّاد العُبَّاد والأولياء، ولد سنة ست عشرة وثلاث مئة، وقرأ القرآنَ، وسمع الحديث، وكان القادرُ يُعظِّمه لدينه وحُسن طريقته، توفِّي ببغداد في جمادى الآخرة. قال: سمعت ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 5/ 407 - 409. (¬2) تاريخ بغداد 4/ 37، والمنتظم 15/ 68. (¬3) تاريخ بغداد 3/ 93، والمنتظم 15/ 69.

هشام بن الحكم

الشِّبلي وقد سئل عن قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] فقال: أبصار الرؤوس عمَّا حرَّمَ الله، وأبصار القلوب عما سواه. هشام بن الحكم ابن عبد الرحمن، الأموي، والي الأندلس، ويُلقَّب بالمهدي (¬1)، وَلِيَ وله تسع سنين، فأقام واليًا تسعًا وثلاثين سنة، وغلب على الأمر محمَّد بن هشام بن عبد الجبار، ويلقَّب بالناصر، فأخذ رجلًا نصرانيًّا يشبه هشام بن الحكم، فقصده، وتركه حتى مات، وصلَّى عليه ودفنه، وسمَّى نفسَه بالمهدي. ودخلت سنة أربع مئة [قال هلال بن الصابئ]: وفيها نقص الماء في دجلة نقصانًا لم يُعهد مثلُه، فظهرت فيها جزائر لم تكن من قبل، فامتنع مسير السفن فيما بين أوانا والراشدية من أعالي دِجلة، فأُكرِيَتْ هذه الأماكن حتى جَرَتِ السفن، وهذا شيء ما جرى [قط] قبل ذلك، ثمَّ زادت دِجلة في هذه السنة تسعة عشر ذراعًا. وفيها ابتُدئ ببناء السور على المشهد بالحائر، وكان [أبو محمَّد الحسن بن الفضل] (¬2) بن سهلان قد زار هذا المشهد (¬3)، فأحبَّ أن يؤثِّر فيه أثرًا، فأُدير [عليه] السُّور، وعُملت عليه الأبواب الحديد، وتحصَّن المشهدُ به. وفيها أُرجف بالخليفة، فجلس للناس بعد صلاة الجمعة، ودخل عليه القضاةُ والأشرافُ وعليه أُبَّهةُ الخلافة، وقبَّل أبو حامد الإسفراييني يدَه، وسأل أبا الحسن ابنَ حاجب النعمان سؤال القادر أن يقرأ آياتٍ من القرآن، فأذِنَ له، فقرأ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} الآيات [الأحزاب: 60] فبكى الخليفةُ والناسُ، ودَعَوا وانصرفوا. وفيها راسل الحاكمُ قِرْواشَ بن المُقلِّد واستماله إليه، فبعث إليه كاتبُه برسائل وملاطفات. ¬

_ (¬1) في (ب): بالمزيد، والمثبت من (خ). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من (م) وحدها، وهي في المنتظم 15/ 70، والخبر السابق والذي يليه في المنتظم أيضًا. (¬3) في (خ) و (ب): المسجد، والمثبت من (م) و (م 1) والمنتظم.

وفيها شغَبَ الأتراكُ ببغداد، ونفروا من الدَّبلم، وصارت الأكراد مع الدَّيلم، وقُتِلَ من الفريقين جماعةٌ، فبعث القادر الشريفين المرتضى والرضي والقاضي أبا محمَّد بن الأكفاني وأبا حامد الإسفراييني وغيرَهم، وخرج إليهم عميد الجيوش، فسكنت الفتنة. وفيها قَبَضَ هلالُ بن بدر بن حسنويه على أبيه. وفيها بعَثَ الحاكمُ إلى مدينةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دار جعفر بن محمَّد الصادق مَنْ فَتَحها وأَخَذَ ما كان فيها، وكان فيها مصحفٌ وسريرٌ وآلاتٌ وقعبٌ من خشب مُطوَّقٌ بحديدٍ ودَرَقةُ خيزران وحربةٌ، ولم يتعرَّضْ أحدٌ لهذه الدار منذ وفاة جعفر، وكان فتْحُها على يد خَتَكين العضُدي الداعي، وحمل معه رسومَ الحَسنين و [رسوم] الحُسينين، وزادهم، وصار إلى مصر بما وجد في الدار، وخرج معه من شيوخ العلويين جماعةٌ، فلمَّا وصلوا إلى الحاكم أطلق لهم نفقاتٍ قليلةً، وردَّ عليهم السرير، وأخذ الباقي، وقال: أنا أحقُّ به. وانصرفوا ذامِّين له، داعين عليه، وشاع فِعْلُه [في بلاد العرب] مضافًا إلى الأمور التي خرقَ العاداتِ فيها، من مخالفة أحكام الديانة وغيرها، فلُعِنَ ودُعِيَ عليه في أعقاب (¬1) الصلوات، وظُوهِرَ بذلك مظاهرةً أُزِيلت فيها التَّقِيَّةُ [والمراقبة]، فأشفق وخاف [من دواعيها، فأراد أن يُزيلها عن النفوس] (¬2) ويستأنف ما يتجدَّد معه السُّكون، فأمر بعمارة دارٍ للعلم، وفرشَها، ونقل إليها الكتب العظيمة مما يتعلق بالسُّنَّة، وأسكنها من شيوخ السُّنَّة شيخين [من أهل مصر] يُعرف أحدهما بأبي بكر الأنطاكي، وكان لهما موضعٌ كبيرٌ عند أهل المغرب، فخلع عليهما وقرَّبهما وأدناهما، ورسمَ لهما حضورَ مجلِسِه وملازمةَ دارِ العلم، وجمع الفقهاءَ والمُحدِّثين إليها، وأمر بأن يُقرأ فيها فضائل الصحابة، ورفع عنهم الاعتراض في ذلك، وأطلق صلاة الضحى والتراويح في ليالي رمضان، وغيَّر الأذان، فجعل مكان "حيَّ على خير العمل" "الصلاةُ خيرٌ من النوم"، وركب بنفسه إلى جامع عمرو بن العاص بمصر، وصلَّى فيه الضحى، وأظهرَ الميلَ إلى مذهب مالك والقولَ به، ووضع للجامع تَنُّورًا من فضةٍ تُوقد ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): أوقات. (¬2) المثبت في (م) و (م 1)، وفي (خ) و (ب) بدلًا منه: وازداد أن.

الحجاج بن هرمز

فيه ألفٌ ومئتا فتيلة، واثنين آخَرَين دونَه، وزفَّهم بالدَّباديب (¬1) والبوقات والتهليل والتكبير، ونصبهم ليلة النصف من شعبان، وابتاع عقارًا وأوقفه على الدار، وحضر أول يوم من رمضان إلى الجامع الذي بالقاهرة، وحمل إليه الفُرشَ الكثيرةَ والحُصرَ السامانَ وقناديلَ الذهبِ والفضةِ، وعلَّق السُّتورَ على الأبواب، وجمع الناس على صلاة التراويح، فكثُرَ الدعاءُ له، ولبس الصوفَ في هذه السنة يوم الجمعة غُرَّة رمضان، وركب الحمار، وأظهر النُّسكَ، وملأَ كُمَّه دفاترَ، وخطب بالناس يوم الجمعة، وصلَّى بهم، ومَنَعَ من أن يُخاطَب بمولانا، و [منع] من تقبيل الأرض بين يديه، وأقام الرواتب لمن يأوي إلى المساجد من الفقهاء والقُرَّاء والغرباء وأبناء السبيل، واختار بحضور مجلسه جماعةً من أعيان القُرَّاء، وأجرى عليهم الأرزاق، وصاغ محرابًا عظيمًا من فضة وعشرة قناديل، ورصَّع المحراب بالجواهر، ونصبه في المسجد الجامع، فتضاعف الدعاءُ له والثناءُ عليه، وأقام على ذلك ثلاث سنين يحمل الشموع والطيب والبخور إلى الجامع في عامة الليالي، وفعَلَ ما لم يفعَلْه أحدٌ، ثمَّ بدا له من بعد ذلك أن قَتَلَ أبا بكر الأنطاكي والشيخ الآخر وخلقًا كثيرًا من أهل السُّنَّة في يوم واحد، وأغلق دار العلم، وحظر صلاة الضحى والتراويح، ومنَعَ من جميع ما فسح فيه مِمَّا تقدم، وأقام على ذلك حتى قُتِلَ [في السنة الحادية عشرة وأربع مئة]. وحجَّ بالناس أبو الحارث محمَّد بن محمَّد العلوي [وقد حجَّ بهم قبل هذه السنة] (¬2). وفيها تُوفِّي الحجاج بن هُرْمُز (¬3) أبو جعفر، استنابه بهاء الدولة بالعراق، وندبه لحرب الأعراب والأكراد، وكان مقدَّمًا في أيام عضد الدولة وأولادِه، شجاعًا، عارفًا بالحرب، وكانت له هيبةٌ عظيمةٌ، ¬

_ (¬1) الدباديب: الطبول. المعجم الوسيط (دبدب). (¬2) هذه الزيادة من (م) وحدها، والخبر في المنتظم 15/ 71، وكذلك الخبر الذي قبله فيه بمعناه مختصرًا. (¬3) المنتظم 15/ 72.

الحسن بن العباس

ولمَّا سافر عن بغداد وقعت بها الفتن، وعاش مئةً وخمس سنين، وكانت وفاتُه بالأهواز، وخلَّفَ أموالًا عظيمةً، وكان أعظم من عميد الجيوش. الحسن بن العباس (¬1) ابن الحسن (¬2) بن الحسين أبي الجن (¬3) بن علي بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ولي القضاء بدمشق خلافةً عن أبي عبد الله محمَّد بن النعمان قاضي الحاكم، وأصلهم من قُمْ، فانتقل أبو العباس إلى حلب، وانتقل الحسن وإخوته إلى دمشق، وولي القضاء بها، ثمَّ أرسله الحاكم إلى حلب في رسالة، فلمَّا دخلها أنشده أبو الحسن بن الدويدة المعري: [من الطويل] رأى الحاكمُ المنصورُ غايةَ رُشْدِهِ ... فأرسلَه للعالمينَ دليلًا أتى ما أتى اللهُ العليُّ مكانَه ... فأرسلَ من آلِ الرسولِ رسولا ومات الحسن بحلب في هذه السَّفرة، فأوصى أن يُحمل إلى دمشق، فحُمِلَ إليها، ودُفِنَ بها، ورثاه أبو الغنائم الشريف النسَّابة، فقال: [من الوافر] فُرُوْعُكَ يا شريفُ شَهِدْنَ حقًّا ... بأنَّ الطاهرينَ لها أُصولُ على حالِ الرِّسالةِ في صلاحٍ ... فُقِدْتَ وهكذا فُقِدَ الرَّسولُ وولده حمزة بن الحسن قتلَه بدر الجمَّال سنة أربع وثلاثين وأربع مئة. الحسين بن موسى (¬4) ابن محمَّد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق، أبو أحمد، الموسوي، والد الرضي والمرتضى، ولد سنة أربع وثلاث مئة، وكان عظيمًا مُطاعًا، هيبتُه أشدُّ من هيبة الخلفاء والملوك، خاف منه عضد الدولة، فاستصفى أمواله، وكانت منزلته عند بهاء الدولة أرفعَ المنازل، ولقَّبَه بالطاهرِ والأوحدِ وذي المناقب، وولَّاه قضاء القُضاة، فلم ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 13/ 119 - 120 (طبعة دار الفكر). (¬2) بعدها في النسختين (خ) و (ب) زيادة: بن العباس، والمثبت من تاريخ دمشق، وبغية الطلب في تاريخ حلب 2/ 441. (¬3) المثبت من تاريخ دمشق، وقوله: أبي الجن ليس في (خ)، وجاء بدلٌ منه في (ب): بن الحسين. (¬4) المنتظم 15/ 71 - 72.

أبو الحسين بن الرفاء

يُمَكِّنْه القادرُ خوفًا منه، ووليَ نقابةَ الطالبيين سنة أربع وخمسين، ثمَّ صُرِف عنها سنة ستين، ثمَّ أُعيد في صفر سنة ست وتسعين، ثمَّ مرض، فقُلِّد النقابةَ غيرُه، ثمَّ أُعيدَ عند وفاة محمَّد بن عمر، وأُضيف إليه المظالمُ والحجُّ، ثمَّ عُزِلَ، ثمَّ أُعيد - وهي الولاية الخامسة - فمات وهو نقيب، وكان ذا مروءةٍ ظاهرة، وكرمٍ وافر، وأخلاقٍ جميلة، وإحسانٍ متواتر، وكانت الأمراض قد استولت عليه، وأضرَّ في آخر عمره، ومات ببغداد عن سبع وتسعين سنة، وصلَّى عليه ابنُه المرتضى، ودُفِنَ في داره، ثمَّ نُقِلَ إلى مشهد الحسين - رضي الله عنه -، ورثاه ولده المرتضى فقال: [من الوافر] سلامُ اللهِ تنقلُهُ الليالي ... ويهديه الغدوُّ إلى الرَّواحِ على جدثٍ تفرَّعَ من لؤيٍّ ... بينبوعِ العبادةِ والصَّلاحِ فتىً لَم يَرْوَ إلَّا مِنْ حلالٍ ... ولَمْ يَكُ زادُهُ غيرَ المُباحِ ولا دُنِسَتْ له أُزْرٌ بِوزْرٍ ... ولا عَلِقَتْ له راحٌ براحِ خفيفُ الظَّهرِ من نقلِ الخطايا ... وعُريانُ الجوانِح من جناحِ مسوقٌ في الأمورِ إلى هُداها ... ومدلولٌ على بابِ النجاحِ من القومِ الذين لهم قلوبٌ ... بذكر اللهِ عامرةُ النَّواحي بأجسام من التقوى مِراضٍ ... لِمُبْصِرِها وأديانٍ صحاحِ أبو الحسين بن الرَّفَّاء (¬1) القارئ، المُجيد، الطيِّب الصوت، قد ذكرنا قصته مع الأُصَيفر، وكانت وفاتُه ببغداد في هذه السنة. [وفيها تُوفِّي] أبو عبد الله القُمِّي التاجر، المصري، بزَّاز خزانة الحاكم، كان ذا مالٍ عظيم، حجَّ في هذه السنة من مصر، فتوفِّي في ذي القعدة بين مصر ومكة (¬2) لعِلَّةٍ، فحُمِلَ إلى البقيع فدفن في جوار ¬

_ (¬1) ينظر ما تقدم من أحواله في أحداث السنة الرابعة والتسعين وثلاث مئة. (¬2) في (خ): والمدينة، والمثبت من (ب)، وهو موافق لما في النجوم الزاهرة 4/ 224.

السنة الحادية وأربع مئة

الحسن بن علي - رضي الله عنه -، واشتملت وصيَّتُه على ألف ألف دينار ونيِّفٍ مالًا صامتًا ومتاعًا وجواهر وغيرها. السنة الحادية وأربع مئة فيها خطب أبو المَنيع قِرْواش بن المُقَلِّد معتمدُ الدولة للحاكم بالموصل، وكان الحاكم قد استماله وبعث إليه بالأموال والهدايا، فجمع أهلَ الموصل، وأظهر طاعةَ الحاكم، فأجابوه وفي القلوب ما فيها، فأَحضرَ الخطيبَ، وخلَعَ عليه - يومَ الجمعة رابعَ مُحرَّم - قَباءً دَبيقيًّا، وعمامةً صفراءَ، وسراويلَ ديباجٍ أحمر، وخُفَّين أحمرين، وقلَّده سيفًا، وأعطاه نسخةَ ما يخطب به، وأوَّلُها: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله واللهُ أكبرُ، ولله الحمد، والحمد الله الذي انجَلتْ بنوره غمرات الغضَب، وانهدَّت بقدرتهِ أركانُ النَّصَب، وأطلع بنوره شمس الحق من الغَرْب، الذي محا بعَدْلِه جَوْرَ الظَّلَمة، وقصمَ بقوَّته ظهرَ الغَشَمةِ (¬1)، فعاد الأمر إلى نصابِه، والحقُّ إلى أربابِه، البائنِ بذاتِه، المنفردِ بصفاتِه، الظاهرِ بآياتِه، المتوحِّدِ بدلالاتِه، لم تَفُتْهُ الأوقاتُ فتسبِقَه الأزمنة، ولم يُشبهِ الصُّورَ فتحويَه الأمكنة، ولم تَرهُ العيونُ فتصِفَه الألسنة، سبقَ كلَّ موجودٍ وجودُه، وفاتَ كلَّ جودٍ جودُه، واستقرَّ في كل عقل توحيدُه، وقام في كل مرأى شهيدُه، أحمدُه كما يجبُ على أوليائه الشاكرين تحميدُه، وأستعينُه على القيام بما يشاءُ ويريدُه، وأشهد له بما شِهدَ أصفياؤه وشهودُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً لا يَشوبُها دنَسُ الشِّرك، ولا يَعتَريها (¬2) وهم الشكّ، خالصةً من الإدهان، قائمةً بالطاعة والإذعان، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه - صلى الله عليه وسلم -، اصطفاهُ واختارهُ لهدايةِ الخلقِ، وإقامةِ الحقِّ، فبلَّغ الرسالة، وهدى من الضلالة، والناس حينئذٍ عن الهدى غافلون، وعن سبيل الحقِّ ضالُّون، فأنقذهم من عبادة الأوثان، وأمرهم بطاعة الرحمن، حتى قامت حُجَجُ اللهِ وآياتُه، وتمَّتْ بالتبليغ كلماتُه، صلى الله عليه وعلى أول مستجيبٍ إليه، عليٍّ أمير المؤمنين وسيِّدِ الوصيِّين، أساسِ الفضل والرحمة، وعمادِ العلم والحكمة، وأصلِ ¬

_ (¬1) في الأصل الوحيد (خ): العتمة، والمثبت من المنتظم 15/ 74 - والكلام والخطبة فيه - وكذلك من النجوم الزاهرة 4/ 225. (¬2) في الأصل (خ): يغيرها، والمثبت من المصدرين السابقين.

الشجرةِ الكرامِ البررة، النابتةِ في الأرومةِ المقدَّسةِ المُطهَّرة، وعلى خلفائه الأغصانِ البواسقِ من تلك الشجرة، وعلى ما خلُص منها وزكا من الثمرة. أيُّها الناس، اتَّقوا اللهَ حقَّ تُقاتِه، وارغبوا في ثوابِه، واحذروا من عقابِه، فقد تسمعون ما يُتلى عليكم من كتابِه؛ قال الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71]. فالحذرَ الحذرَ، فكأن قد أفضَتْ بكم الدنيا إلى الآخرة، وقد بان أشراطُها، ولاح شَراطُها، ومناقشةُ حسابِها، والعرضُ على كتابِها، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، اركبوا سفينةَ نجاتِكم قبل أن تغرقوا، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأنيبوا إليه خير الإنابة، وأجيبوا داعيَ اللهِ على باب الإجابة، قبل {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)} [الزمر: 56 - 58] فتيقَّظوا - رحمكم الله - من الغفلة والفترة، قبل الندامة والحسرة، وتمنِّي الكرَّة والتماس الخلاص، ولاتَ حينَ مناص، وأطيعوا إمامَكم ترشُدوا، وتمسَّكوا بولاة العهود تهتدوا، فقد نصبَ اللهُ لكم عَلَمًا لتهتدوا به، وسبيلًا لتقتدوا به، جعلنا الله وإيَّاكم ممَّن تبعَ مُوادَه، وجعل الإيمان زادَه، والهمَّةَ تقواه ورشادَه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين. ثمَّ جلس وقام، فقال: الحمد للهِ ذي الجلالِ والإكرام، وخالِقِ الأنام، ومُقَدِّرِ الأقسام، المنفردِ بحقيقة البقاء والدوام، فالقِ الإصباح، وخالقِ الأشباح، وفاطرِ الأرواح، أحمدُه أولًا وآخرًا، وأستشهده باطنًا وظاهرًا، وأستعينُ به إلهًا قادرًا، وأستنصره وليًّا ناصرًا، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، شهادةَ مَنْ أقرَّ بوحدانيته إيمانًا، واعترفَ بربوبيَّتِه إيقانًا، وعَلِمَ بُرهانَ ما يدعو إليه، وعَرَفَ حقيقةَ الدِّلالةِ عليه، اللهمَّ وصَلِّ على وليِّكَ الأزهر، وصديقِكَ الأكبر، عليِّ بن أبي طالب، أبي الأئمة الراشدين المهديِّين، اللهمَّ وصَلِّ على السِّبطين الطاهِرَين، الحسنِ والحُسين، وعلى الأئمةِ الأبرار، والصفوةِ الأخيار، مَنْ قامَ منهم وظهر، ومَنْ خافَ فاستتر، اللهمَّ وصَلِّ على الإمام المهديِّ بِك، والذي بلَّغَ بأمرِك، وأظهر حجَّتَك، ونهض بالعدل في بلادِك، هاديًا لعبادِك، اللهمَّ وصَلِّ على القائم بأمورِك، والمنصورِ بنَصْرِك، اللَّذَينِ بذلا نفوسَهما في رضاك، وجاهدا عِداك،

اللهمَّ وصَلِّ على المُعزِّ لدينك، المجاهدِ في سبيلك، المُظهرِ للآيات الخفيَّة، والحُججِ الجليَّة، اللهمَّ وصَلِّ على العزيزِ بك، الذي مهَّدْتَ به البلاد، وهديتَ به العباد، اللهمَّ واجعَلْ نوامي صلواتِكَ وأزكى بركاتِكَ على سيِّدنا ومولانا إمامِ الزمان، وحصنِ الإيمان، وصاحبِ الدعوة العلوية، والمِلَّةِ النبويَّة، عبدِكَ ووليِّكَ المنصورِ أبي علي الحاكمِ بأمرِ الله أميرِ المؤمنين، كما صلَّيتَ على آبائه الراشدين، وأكرمتَ أجدادَه المهديِّين، اللهمَّ وفِّقْنا لطاعته، واجمَعْنا على كلمتِه ودعوتِه، واحشُرْنا في حزبِه وزُمرَتِه، اللهمَّ أعِنْه على ما وَلَّيتَهُ، واحفَظْه فيما استرعيتَه، وبارِكْ له فيما آتيتَه، وانصُرْ جيوشَه، و [أعلِ] (¬1) أعلامه في مشارق الأرض ومغاربها، إنك على كل شيء قدير. وسبب الخطبة مراسلةُ الحاكم، وكان قِرْواش بعث إلى الحاكم أبا الحسن علي بن الحسين بن أبي الوزير كاتِبَه، وبعث إليه هدايا وألطافًا، فكتب أبو الحسن إلى قِرْواش من طريقه يقول: أقِمِ الدَّعوةَ وقد (¬2). . .، فأقامها بالموصل، وانحدر إلى الأنبار، فأمر الخطيب بإقامتها، فهرب إلى دار القادر، وصار قِرْواش إلى الكوفة، فأقامها يوم الجمعة الثاني من ربيع الأول، وبعث إلى قصر ابن هُبيرة والمدائن فأقامها بها في التاسع من ربيع الأول، وخاف العلويُّون والعباسيُّون الذين بالكوفة، فجاؤوا إلى واسط وبغداد، ومضى مَنْ كان بها من الدَّيلم إلى واسط، وكشف قِرْواش القناع، وأظهر المُباينة، وأدخل يدَه في المعاملات السُّلطانيّة، وعسَفَ الناسَ (¬3)، وورد على الخليفة من هذا الأمر ما أزعجَه، فراسلَ عميدَ الجيوش في تجريدِ العساكر، والنهوض لهذا الحادث وتدارُكِه، وكاتب بهاء الدولة، وبعثَ إليه أبا بكر محمَّد بن الطيب الأشعري رسولًا، وحمَّله في هذا المعنى قولًا طويلًا، وكان عميد الجيوش بواسط لمعاونة ابن مَزْيَد على بني دُبيس. قال القاضي أبو جعفر السِّمناني: انحدرتُ مع ابن الطيب في هذه الرسالة إلى البصرة، ومضينا في البحر إلى جُرْجان، فوصَلْنا إلى بهاء الدولة، فسلَّم القاضي الكتبَ إلى أبي الخطَّاب، وطلب الإذْنَ على بهاء الدولة، فأدخَلَنا عليه، فسلَّم عليه القاضي وخدَمُه، وبلَّغَه الرسالةَ، فقال: واللهِ إنَّ عندنا من هذا الأمر أكثرَ ممَّا عند أمير المؤمنين؛ لأنَّ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المنتظم والنجوم الزاهرة. (¬2) بعدها في الأصل الوحيد (خ) كلمتان غير واضحتين. (¬3) أي: سامَهم ظُلمًا وجَوْرًا.

الفسادَ علينا به أكثرُ، وقد كاتبنا أبا علي ابن أستاذ هرمز -يعني عميد الجيوش- وأنكرنا عليه فِراقَه ببغداد، وأمَرْناه بالعود إليها، ورسَمنا له بمئة ألف دينار نفقاتِ العساكر، وإنْ دعَتِ الحاجةُ إلى حضوري، فأنا أول طالعٍ على أمير المؤمنين، فدعا له القاضي وخرجنا، فحمَلَ إلينا النفقة والثياب، ووقع القاضي بقضاء عُمان والسواحل، وعُدْنا إلى بغداد، فوجدنا دعوة الحاكم قد أُزيلَتْ، وسببُه أنَّ عميدَ الجيوش عادَ إلى بغداد وجهزَ العساكر لقتال قِرْواش، وبعث إليه رسالةً يتهدَّده، فاعتذر عما كان منه، وطلب الرضا والعفو من الخليفة، فتوقَّف أولًا، ثمَّ أجاب، فأعاد قِرواش الخطبة، وكان لمَّا بعث رسولَه إلى مصر أكرمه الحاكم وأعطاه لِقرواش مالًا، ووصل الرسولُ الرَّقة، وقُطِعَتِ الخطبةُ، فسلَّم المال إلى والي الرقة، وكانت في حكم الحاكم. وقال أبو جعفر السِّمناني: حدثني أبو الحسن ابن أبي الوزير كاتبُ قِرْواش قال: بعثني قِرْواش إلى مصر، فأُنزِلْتُ أكرمَ منزل، وحُمِلَ إليَّ شيءٌ كثيرٌ، وأوصلتُ إلى الحاكم، فرأيتُه رجلًا أعْيَنَ، غليظَ الصوتِ، بعيدَ الهِمَّةِ، شديدَ الهيبةِ، فأديتُ إليه الرياسة، فقال: قد عَرَفْنا خدمةَ صاحبِكَ، وهذا أمرٌ قد افتَتَحه وساعدَه عليه جميعُ أصحاب الأطراف، مثل بدر بن حسنويه وبني مروان وغيرهم، وما منهم إلا مَنْ قد أرسلنا وكتب إلينا. وعزمتُ على العود، فبعث لصاحبي على يدي من الثياب المغربية المُذْهَبة، والفرجيات المنقَّلة، ومراكب الذهب الثقيلة، والصناعات، ما قيمتُه ثلاثون ألف دينار، وأعطاني ألف دينار لنفسي، وثلاثين قطعةً من الثياب الحسنة، وسرتُ إلى الرَّقة، فورد عليَّ كتابُ صاحبي أنَّه قد أزال الخطبة للحاكم، وأعادها إلى القادر، فخِفْتُ وخلوتُ بوالي الرقة، واستجرتُ به، وقلت له: الأمر فيه كذا وكذا، وأُريد أن تكتب كتابًا وتستأذنَ في تسليم ما معي وعودي إلى الحضرة والمُقام بها. فكتب كتابًا وقال: اكتُبْ أنت أيضًا. فكتبتُ، وجاء الجواب في أيامٍ يسيرة يقول: أمَّا صاحِبُكَ فنحنُ نُدبِّر أمره بما يجب، وأما أنت فقد حَمِدْنا ما كان منك أولًا وأخيرًا، فإنْ شِئْتَ المُقامَ بمكانِكَ أقِمْ، فقد أوصيناهم ما يعتمدون في حقِّكَ، وإن شئتَ اقصِدْ بابَنا فاعْزِمْ، وأمَّا ما ذكرتَ من تسليمه فسلِّمه إلى والي الرقة. قال: فسلَّمتُه إليه، وأقمتُ على أنني مستوطنٌ عندهم، وأقاموا إليَّ بالكفاية، ثمَّ ما زِلْتُ أخرجُ شيئًا بعد شيء من رحلي ودوابِّي على وجه الخِفْية، ثمَّ سِرْتُ ليلًا مع جماعةٍ من بني نُمير حتى وردتُ الموصل.

وفيها تُوفِّي أبو إسحاق إبراهيم بن مُعِزّ الدولة بن بُوَيه بمصر. وفيها تُوفِّي [أبو] علي المحسن بن إبراهيم الصابئ. وفيها انحدر عميدُ الجيوش إلى واسط مصعدًا لأبي الهيجاء الجرجاني إلى الكوفة ليلقى الحاجَّ، وكان قد اعترض لهم بالقادسية قومٌ من العرب. وفيها قُلِّد أبو العباس أحمد بن محمَّد الماوردي الحكم من دار الخلافة نيابةً عن أبي محمَّد بن الأكفاني في الحكم بالحضرة، فامتنع ابنُ الأكفاني، وقال: أنا رجلٌ حنفيٌّ وهذا شافعيٌّ، وما جَرَتْ عادةُ الشافعيةِ أن يتولَّوا في العراق القضاءَ المُنصَّبَ للحنفية، وما أُريد أن يكون هذا نائبي. وخرج توقيعُ القادر بنيابة الماوردي، وقُرِئ في المواكب، فأقام ابنُ الأكفاني في داره، وامتنع من حضور الموكب، وأغلق بابَه، فكتب أبو حامد الأسفراييني يقول للخليفة: هذا قد خالفَ أمرَكَ، واعترضَ عليكَ في رأيِكَ، وخرجَ عن طاعتِكَ. فغاظ ذلك الخليفةَ، وكتب للماوردي توقيعًا بالقضاء رياسةً لا نيابةً، فكتب الأسفراييني إلى محمود بن سُبُكْتِكين بخراسان بأنَّ الخليفة ساخطٌ على الحنفيين، وأبعدَهَم وأبطلَ أمْرَهم، ونقل القضاءَ إلى الشافعية، وكان محمود على رأي أبي حنيفة، فما أعجبه ذلك، وانقسم الناس ببغداد حزبين حنفية وشافعية، فكان الرضيُّ الموسوي وأبو بكر محمَّد بن موسى الخُوارَزمي وابن الأكفاني والحنفيُّون حزبًا، والأسفرايينيُّ وابنُ حاجب النعمان والماورديُّ والشافعيُّون حزبًا، ووقعت الفتن، وكتب الرضيُّ إلى فخر الملك أبي غالب وهو بسابور، وكان بهاء الدولة قد ولَّاه العراق، وكان في مجلس فخر الدولة أبو القاسم بن كج القاضي الدِّينَوري، وكان سيئَ الرأي في الماوردي، فقال لفخر الدولة: هذا رجلٌ استعملناه على الحكم في قريةٍ من قُرى الجبل، فخان واقتطع أموال اليتامى والأوقاف، وطلبناه فهرب، أَمَحِلَتْ بغدادُ مِنْ رجلٍ يتولى الحكم؟ فكتب فخر الملك إلى الرضي بصورة الحال، فأشاع ذلك، وبلغ الخليفةَ، فأعاد أبا محمَّد بن الأكفاني إلى القضاء، وصرف الماوردي، وتبيَّن للخليفة تفاضُلُ الإسفراييني، فطرده عن دار الخلافة، وانحرف عنه، وشفع فيه فخر الملك بعد مدة إلى الخليفة، فقال: لو أمكنَّا فيه شفاعةً لكنتَ أولى، ولكنَّا قد لزمَتْنا أَيمانٌ، لا فُسحةَ لنا فيها. ومات أبو حامد الإسفراييني والخليفةُ ساخطٌ عليه.

وفيها سار فخر الملك أبو غالب إلى هلال بن بدر بن حسنويه، وأخذ القلعة منه. ذكر السبب: كانت أم هلال من الساذنجانية، ولمَّا ولدَتْه لم يرِقَّ أبوه عليه، ولا عادَ قَرُبَ أمَّه، وأخرجه معها إلى قرية على فرسخين من سابور خواست، وكان هلالٌ يزور أباه في الأيام ويخدمه، ويرجع إلى موضعه، فاشتدَّ، وكان يركب الخيلَ مع أبيه إلى الصيد، فخرج يومًا مع أبيه، فعرَضَ سَبُعٌ -وكان من عادة بدرٍ إذا رأى سَبُعًا أن يُمسِكَ أصحابَه عنه، ويقتُلَه بدر- فبادر هلالٌ فقتل السَّبُعَ، فغاظ ذلك بدرًا، ونال منه وشتَمَه، وكان يرى أصحابَ أبيه متمكِّنين من دولته، ولهم الأموال الكثيرة، فيَغيظُه ذلك، واستوحش من أبيه ومن أبي عيسى شاذي، ثمَّ أقطعه بدر الدامغان، وهو رسداق بعيد، وفيه عشر قُرى، ومَغَلُّها مئتا ألف درهم، وأراد إبعادَه عنه، وسَهَّلَ على هلالٍ مُقامَه بالدامغان مع انفراده بأمره وبين الدامغان وشهرزور مسافةٌ قريبة، وكان بشهرزور رجلٌ من أهلها - يُعرف بابن ماضي - قد غلب عليها وتملَّكلها، وكان قد جعل لبدر عليه في كلِّ سنةٍ مالًا وَفُورًا، فأساء هلالٌ جوارَه، ورعى زَرْعَه، وتعدَّى حدودَه، فكتب ابن ماضي إلى بدر: قد علمتَ تمسُّكي بحبلِكَ، وكوني تحت ظِلِّكَ، ولو طرقني طارقٌ ما دفعتُه إلَّا بِكَ، وقد آذاني ولدُكَ، فكتب إليه بدر: المصلحةُ مُداراةُ هلالٍ وملاطفتُه. ففعل، وقرَّر له عليه في كلِّ سنةٍ مئةَ ألف درهم، فلم يقنَعْ، وجمع ليقصده، فاستصرخَ ابنُ ماضي ببدر إلى ابنه يقول: هذه الناحية لي، وابنُ ماضي صاحبي، ولئن لم تُمسِكْ عنه وتُحسِنْ جوارَه لأسيرنَّ إليكَ بنفسي. فأجابه هلالٌ: قد حلفتُ يمينًا لابُدَّ لي منه، وأن لا أرجع عنه حتى أدخل بلدَه. فقال بدر: سِرْ إليه ومعك نفرٌ يسير، وأنا آمُرُه أن يفتحَ لكَ البابَ وتدخل، فتبرَّ في يمينك. فغالطه وسار إلى ابن ماضي، فحصره، وفتح البابَ، وقتلَ ابنَ ماضي وأهلَه، واستولى على خزائنه وأسبابه، وبلغ بدرًا فشقَّ عليه، وبعث في طلب ابنِه العسكرَ، وأخذ منه شهرزور وطردَه منها، فأقام مدةً يفسد على ابنه الطوائفَ ويُميلهم إليه، وأوسع عليهم، فحملوه على قتال ابنِه، فسار في الجيوش، وكانت طائفةٌ - يقال لها: النوربكان هي أعظم عسكره - قد أطمعوه في أبيه، فالتَقوا على باب الدِّينَوَر. وقيل: كان ذلك في ذي الحجَّة سنة أربع مئة - فانحاز النوربكان الذين كانوا

مع بدر إلى هلال، وبقي بدر في نفرٍ يسيرٍ من حاشيته، فضرب واحدٌ من الأكراد قوائمَ فرس بدر، فسقط، ووقعَتْ عمامتُه في الأرض، فأرسل هلالٌ بعضَ خواصِّه، فأركبَه دابَّةً، وركب خلفَه؛ لئلَّا تبدُرَ من النوربكان إليه بادرةٌ، فكان الذي ردَفه أبو العباس فرَّاشَ هلال، فجعل بدرٌ يرعد، فقال له أبو العباس: أيها الأمير، لا تخَفْ، فإنَّ هلالًا بمرأى منك، وما يكون منه إليك إلا الخدمة. فشتمه وقال: أي مكب (¬1)، كأنِّي أرعُدُ خوفًا، إنَّما أرعُدُ غيظًا. وقتل بدرٌ الفرَّاش، بعد هذا لمَّا عاد إلى أمره، وأجمع النوربكان إلى هلال، وقالوا: قد أوحشْتَ أباك، وأوحشناه، وهو مَنْ تعرفه، فإن لم تُرِحْنا وتُرِحْ نفسَكَ منه لم تأمَنْه. فقال: أعوذ بالله أن أقتل أبي، ومَنْ منكم يقتل والده حتى أقتدي به؟ قالوا: فطالِبْه بتسليم القلعة، واعتقله فيها، فقال: نعم، فأرسل إليه، فأجابه بجوابٍ يُعلِّله فيه، فدخلَتْ أمُّ هلال على بدرٍ ونالت منه، وقالت: ما زلتَ توحش هذا الغلام، وتحمله على عقوقِكَ حتى حصلتَ في هذه الحالة وقد أوحشْتَ النوربكان، وقد أجمعوا على قتْلِكَ، ولمَّا لم يجدوا عند هلالٍ رخصةً في قتلك وضعوه على طلب القلعة، فإن امتنعتَ كان ذلك من أكبر الحُجج على ابنك في قتْلِك، فإيَّاكَ إيَّاك. فقال لها: صدقتِ، ولكن أحبُّ أن تجمعي بيني وبين هلال وأُسلِّم إليه القلعة، فإنني ما جمعتُ المال إلا له، فإذا اجتمعنا توافقنا على ما أريد. فقامت إلى هلال وقالت له: هذا أبوكَ، وحقُّه عليكَ واجبٌ، وقد التمس اجتماعَه بِكَ، ويُسلِّمُ إليك القلعة، فقام ودخل عليه، فقام بدرٌ وقبَّلَ رأسَه وعانقه، وقال: قد علمتَ أنَّه لا ولدَ لي سواكَ، وهذه القلعة وما فيها لك ولولدك فتسلَّمْها، وأعتزِلُ أنا في بعض الأطراف. فقال له هلال: بل أنت الأمير، والتدبير لك، وتقيم بسابور خواست، وأنا خليفتُك. فقال له: إيَّاكَ أن يسمع منك هذا أحدٌ فتُهلكني وتُهلِكَ نفسك، بل أنت الأمير المدبِّر المنفرد، وخلِّني أسكُنْ ناحيةً، وإيَّاكَ أن تفرِّط في هذا المال؛ فإنَّ هؤلاء الأكراد إنما يراعونك لأجله، فأقطِعْهم البلادَ، ودعِ المال ذُخرًا لك. ثمَّ أعطاه علامةً بتسليم القلعة، فتسلَّمها، وقنع بقلعة بناحية الراوندين يقال لها: أرنبة، وأعطاه من مال القلعة دنانير ودراهم وما أراد، وسار إلى أرنبة، فأقام فيها، وحصَّنها، وآمَنَ على نفسه، ¬

_ (¬1) هكذا في النسخة الوحيدة (خ)، ولم أهتدِ لمعناها.

وشرع سرًّا في مراسلة الأطراف الذين يَلُونَ بلاده، فاشتغَلَ ابنُه هلال بقتالهم، وكاتب بهاءَ الدولة وأخبره بما جرى عليه، وكل هذا ولا يعلم هلالٌ به، فكتب إليه بهاءُ الدولة يَعِدُه بإعادته إلى موضعه، وكان بدرٌ قد استدعى عميدَ الجيوش لنصرته؛ لقُربه منه، ولم يطمع في فخر الملك؛ لأنه كان بنواحي خوزستان، بعيدَ الدار، وكان بدرٌ قد ضمن لبهاء الدولة مالَ القلعة، فكتب بهاءُ الدولة إلى عميد الجيوش أولًا أن يسير إلى نُصرة بدر، فطلب مالًا يُفرِّقه في الجند، وكان عنده شيءٌ يسيرٌ لم يقُمْ بهم، وتباطأ في المسير، ثمَّ سار قليلًا، وجهَّز بهاءُ الدولة فخرَ الملك، وكتب إلى عميد الجيوش بالرجوعِ إلى بغداد والتشاغلِ بأمر قِرْواش، فعزَّ عليه، وكتب إلى بهاء الدولة أن يُشْرِكه مع فخر الملك، فأبى وقال: أقِمْ مكانَكَ ببغداد. فكان أول أسباب علَّةِ عميد الجيوش منعُه ممَّا أراد، فانكفأ إلى بغداد مهمومًا مَغمومًا كئيبًا، ومرض مرضتَه التي مات فيها، وكان فخرُ الملك مقيمًا بشيراز، فسار منها بالعساكر نحو بدر وهو مسرور؛ كونُه لم يتوجَّه نحو بهاء الدولة؛ لأنه كان خائفًا منه، وقد تنكَّر عليه، وهَمَّ بقبضه غيرَ مرة ويمنعَهُ أبو الخطاب الحاجب، وسار فخر الملك، فنزل قريبًا من سابور، وقدِمَ جماعةٌ فنزلوا على سابور خواست، وأمِنَ أهلُ البلد، واستولوا على ما فيه من الخزائن وغيرها، فجاءهم الخبر بأنَّ هلالًا فَتح نهاوند، وقتل خلقًا من الدَّيلم، وأنه عائدٌ إلى سابور خواست، فأراد مَنْ كان فيه من أصحاب فخر الملك الخروج ليصل فخر الملك، ففكَّروا وقالوا: يطمَعُ فينا أهلُ البلد، ويكون هزيمةً، فأقاموا ليلتهم، وصبَّحهم فخرُ الملك، والقلعة عاصيةٌ يضرب أهلُها الدبادبَ والبوقاتِ فرحًا بفتح هلالٍ نهاوند، وفخر الملك نازلٌ في الخِيَم، ودخل الدَّيلم إلى البلد، وتفرَّقوا في الدُّور، وفيها آلات الشتاء من الفواكه اليابسة والمكسود (¬1) والخمور وغيرها، فاشتغلوا بالنَّهب، فبعث فخر الملك فأخرجهم من الدُّور إلى الخِيَم، وبدَّد ما كان فيها من الخمور، وفعل الاحتياط، وبينا هو على هذا إذ جيء برجلٍ معه كتابٌ من هلال إلى بعض أصحابه، عنوانُه: من نهاوند، فقال له: أين تركتَه؟ قال: بنهاوند. فتأمَّل الكتاب، وهو خطٌّ طريٌّ، فعلم أنَّه مصنوع، فأمر بتقريره، فلمَّا رأى العذاب اعترف ¬

_ (¬1) المكسود: طعام يطبخ بالدهن واللبن، وهو حار يابس يضرُّ بالقولنج. الآداب الشرعية 2/ 421.

بأنه خديعةٌ من هلال، فقال له: اذهَبْ إلى هلال وقُلْ له: لستُ ممَّنْ تجوز عليه الحِيَل، وواللهِ ما أُوثِرُ أن أظفر بهذه القلعة والمملكة وأحوزُها بغير قتال، فإنَّه ليس عليه طلاوة، ولا له حلاوة، ولستُ كمن تعرفُه فاقبَلْ على اللقاء والسِّلم. ووهب للرجل شيئًا وأطلقه، فلمَّا كان في الليل ارتفع الصياح من نواحي العسكر، وكبَسَهم هلالٌ، وجاء في تلك الساعة رسولُ بدر إلى فخر الملك يخبره بوصوله، فاستشعر، وخاف أن يكون اتَّفق هو وهلال على كبس العسكر، ثمَّ ركب الوزير في الليل، وسبق أصحابَه إلى القنطرة فملكوها، وجاء هلال في الليل ومعه الأكراد، فقتلوا من الدَّيلم جماعةً، وأسفر الصُّبحُ، ورتَّب الوزير ميمنةً فيها خُمارتكين، وميسرةً فيها بدر، ووقف هو في القلب، فأرسل هلالٌ إلى فخر الملك يقول: ما جئتُ لأقاتِلَكَ، بل لأنزل على حُكْمِكَ. فأرسل فخرُ الملكِ إلى بدر يُعرِّفه ذلك، فقال: لا تسمع منه، فإنها خديعةٌ لتُنَفِّسَ من خناقه، ويجتمعَ إليه الأكراد، فما جاء إلَّا في قلَّة، والباقون متفرِّقون، وقد بعث مَنْ يجمعهم، ثمَّ حمل بدر، فانهزم القوم، وأُخِذَ هلالٌ أسيرًا، وجيء به إلى فخر الملك، فقبَّل الأرض بين يديه، وقال: أيها الوزير، قد ملكتَ، ومن عِظَم نعم الله عليك أن تحرس دمي ولا تُسلِمَني إلى أبي. فأعطاه يدَه على ذلك، وطلب منه تسليمَ القلعة، وكانت أمُّه فيها، فأعطاهم علامةً كاذبةً، فبعث به مع جماعةٍ من الدَّيلم إلى تحت القلعة، وأوقفوه، وجرَّد واحدٌ سيفه، وقال: واللهِ لئِنْ لم تُسلم لأضربنَّ عُنقَك. فصاحت أمُّه: أُريد خاتم الوزير على الوفاء لهلال. فأعطاها خاتمَه، وبقي عندها إلى أن قُتِلَ بدرٌ، وأُطلِقَ هلالٌ، وورَدَتْ إلى بغداد، فدفعتْه إليه، وصعِدَ الوزيرُ القلعةَ، واحتاط على الأموال، فنهبَ، ورأى شيئًا لم يَرَه، فقيل: كان فيها عشرون ألف ألف بدرة وثلاث مئة ألف ألف درهم، ومن الجواهر والأمتعة ما لا يُحَدُّ ولا يُوصَف، وبعث الوزيرُ إلى بدرٍ يقول: ادخُلِ البلدَ، وانزِلْ في دارِكَ، وتصرف. فقال: أنتَ أولى بالنزول فيها. فامتنعَ فخرُ الملك وأحضره بعد أيام، وخلعَ عليه خِلَعَ السَّلطنة، وقام له، وأجلسه إلى جنبه، وأكرمَه إكرامًا عظيمًا، وكتب بدرٌ إليه ورقةً يطلب منه من مال القلعة عشرةَ آلاف دينارٍ على وجه القرض؛ ليُفَرِّقها في الحاشية، فبعث إليه بها، ولمَّا بعثَ بالأموال إلى بهاء الدولة بعث بالورقة معها، وقال: يا مولانا، اعرِفْ شُكرَ نعمةِ اللهِ

عليكَ فيما أعطاك، هذه ورقة بدر يسألني قَرْضَهُ عشرةَ آلاف دينارٍ من ماله الذي ذخره طولَ عُمُره، وشحَحِ به على الملوك. ودخلَ بدرٌ إلى داره، ودخل الوزير إليه مهنئًا له، فتلقَّاه بدرٌ وجلس بين يديه، ثمَّ شرع الوزير في حمل المال إلى أَرَّجان، فنقله في عدَّة دفعات، فكان يُطرَحُ بين يدي بهاء الدولة على الأنطاع، فيسقطُ منه تراب، فجُمِعَ الترابُ وسُبِكَ، فكان نيِّفًا وخمسين ألف درهم، وكتب فخر الملك إلى عميد الجيوش: قد حصَّلتُ من مال بدرٍ كذا وكذا. ووردَ رسولُ بهاءِ الدولة على الوزير يطلب ما بقيَ في القلعة من المال، ومعه ألفُ بغل، فقال الوزير: قد أخذنا من مال هذا الرجل ما أُخِذ، ولم يقع منه معارضةٌ، وليس بكثيرٍ أن نترُك له ما بقي. وكان سبعة آلاف بدرة، ليكون عدةً له ومعونةً على أمره، فامتنعَ الرسولُ إلَّا أن يأخذ المال، فقال: اذهَبْ إلى بدرٍ وعَرِّفه. فمضى إلى بدر وفاوضَه، فقال: واللهِ ما أعطيتُكم المال الذي جمعتُه طولَ عمري، ومن رأى أن أُعارِضَكم فيه وأستنزلَكم عن شيء منه، ولكنكم تعلمون أنِّي بإزاء عدوٍّ، وقد علموا أنَّ القلعةَ قد فرغَتْ من الأموال والذَّخائر، فَتطمَّعوا فيَّ، فإن رأيتُم أن تكون هذه الصبابةُ تحتَ ختومكم، فإن احتجتُ إليها وإلَّا فهي لكم. فرَضُوا بأن أخذوا ألفي بدرة، وتركوا الباقي. وبرز الوزير مضاربَه نحو هَمَذان، بعد أن بعث هلالٌ إلى قلعةٍ بفارس، فاعتقله، وأقام بدرٌ في بلده. وفيها ردَّ بهاءُ الدولة النظر بالعراق على فخر الملك، وسببه أنَّه لمَّا مات عميدُ الجيوش -وكان فخر الملك يريد هَمَذان- تشوَّفت نفسه إلى ولاية العراق، فوضع الدَّيلم على أن يمنعوه من المسير إلى هَمَذان، وقلعوا مضاربَه، وقالوا: قد ضجِرْنا من البَيكار (¬1)، وأفنَتِ الأمراضُ والموتُ منَّا العددَ الكثير، وما نسيرُ معك. وبلغ بهاءَ الدولة، فعلم أنها مواضعةٌ، وأنه إن أنكر لا يُفيد، فأذِنَ له بالمسير إلى بغداد، فسار إلى واسط، فتلقَّوه، وضربوا القِباب، وسُرُّوا بقدومه، فأسقط عنهم الضرائبَ والمكوس، وعدل فيهم، وأحسن إليهم ووصلهم، ثمَّ سار إلى بغداد، فتلقَّاه الناس ¬

_ (¬1) البَيكار: الحرب. المعجم الذهبي ص 185.

إبراهيم بن إسماعيل

من النعمانية ومؤيد الملك، ودخل بغداد يوم الخميس لأربعٍ خَلَوْنَ من ذي الحجَّة، واخترق الجانبَ الشرقيَّ، ونُصِبَتْ له القِباب، ونزل دارَ مُعِزِّ الدولة، وضُرِبت خيمةٌ بباب الشَّمَّاسية، وكان معه جمعٌ عظيم من الدَّيلم وغيرِهم، فأقرَّ كلَّ مَنْ كان له خدمةٌ على خدمته، وأقرَّ مؤيَّدُ الملكِ الحسينَ بنَ الحسن على النيابة، وبنى الجسور على الأنهار، ومدَّها على دِجلة والفرات، وأزال الضرائب عن الحاجِّ وما كان يؤخذ منهم، وارتفعَتْ له الأدعية، وكثُرَ الشكرُ له، وعمل يوم الغدير على ما جرت به العادة. وفيها عَدِمت الأقواتُ بنيسابور، فأكلتِ الناسُ الكلابَ والسنانيرَ والأطفال [والصبيان]، وصار الناسُ يَثِبون على كلِّ من يرونه جسيمًا [لحيمًا] فيقتلونه ويأكلونه. ولم يحجَّ فِي هذه السنة أحدٌ خوفًا من الأعراب. وفيها عصى أبو الفتح الحسن بن جعفر العلوي على الحاكم، ودعا إلى نفسه، وتلقَّب بالراشد بالله (¬1). وفيها ولَّى الحاكمُ دمشقَ لؤلؤَ بنَ عبد الله الشيرازي، ولُقِّبَ بمنتجب الدولة، فقَدِم إليها فِي جمادى الآخرة من الرقَّة، ثم عُزِلَ عنها [في] يوم الأضحى من هذه السنة، وولَّى أبا المطاع ذا القرنين بن حمدان، وكان يوم العيد (¬2)، فصلّى لؤلؤٌ بالناس العيدَ، وأبو المطاع الجمعةَ، وكان لؤلؤٌ نازلًا بدار العقيقي (¬3)، فقيَّده أبو المطاع، وحمله إلى بَعْلبَك، وقُتِلَ بأمر الحاكم. وفيها توفِّي إبراهيم بن إسماعيل (¬4) ابن جعفر بن محمد بن علي بن محمد بن عبيد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر، إمام الحرمين، المكي، القاضي، ¬

_ (¬1) هذا الخبر والذي قبله فِي المنتظم 15/ 77 - 78. (¬2) فِي (خ): الجمعة، والمثبت من (م) و (م 1) قلت: والظاهر -كما سيأتي- أنَّه يوم عيد وجمعة. (¬3) تحرفت فِي (خ) إلى: الحقيقي. (¬4) تاريخ دمشق 6/ 351 - 355، (طبعة دار الفكر). والقصة الآتية أخرجها البيهقي فِي شعب الإيمان (4085). وينظر تهذيب الكمال 5/ 74.

الحسين بن أبي جعفر

الخطيب، كان من السادة الأشراف، توفِّي فِي رمضان سنة تسع وتسعين -وقيل: سنة أربع مئة- روى عن محمد بن الحسين الآجُري، عن الفضل بن العباس الشِّكلي، عن عبد الباري أخي ذي النون قال: قلت لذي النون: يا أبا الفيض، لِمَ صُيِّرَ الموقفُ بعرفات والمشْعَر، ولم يُجعَلْ فِي الحرم؟ فقال: لأنَّ الكعبةَ بيتُ الله، والحرمَ حِجابُه، والمشعرَ بابُه، فلمَّا قصده الوافدون أوقفهم بالباب الأول يتضرَّعون، ثم أذنَ لهم بالدخول، ثم أوقفهم بالباب الثاني وهو المزدلفة، فلمَّا نظر إلى تضرّعهم أمرهم بتقريب قُربانهم، وقضاءِ تَفَثِهم، وأن يتطهرَّوا من الذنوب، فيدخلوا بيتَه على طهارة. قال: قلت: فلِمَ كَرِهَ الصيامَ فِي أيام التشريق؟ فقال: لأنَّ القومَ أضيافُ الله، ولا يَنبغي للضيف أن يصوم عند مُضيفه. قال: قلتُ: فما يعني التعلّق بأستار الكعبة؟ قال: مثَلُه كَمَثلِ رجلٍ بينَه وبينَ آخرَ جنايةٌ، فهو يتعلَّق بذيله، عسى الله أن يهبَ له جنايتَه. [وفيها تُوفِّي] الحسين بن أبي جعفر (¬1) أستاذ هُرْمُز، أبو علي، عميد الجيوش، ولد سنة خمسين وثلاث مئة، وكان أبوه من حُجَّاب عضد الدولة، وجعل ابنَه أبا علي برسم ابنه صَمْصام الدولة، فخدم صَمْصام الدولة وبهاء الدولة، وولَّاه العراق، فقَدِمها [وقدم عميد الجيوش بغداد فِي] سنة اثنتين وتسعين [وثلاث مئة]، والفتنُ قامْةٌ، والذُّعَّار يفتِكون بالناس، ففتك بهم، وقتل وصلب وغرَّق (¬2) خلقًا كثيرًا، فقامت الهيبة، ومنعَ أهلَ الكَرْخ من النِّياحة يومَ عاشوراء، وأهلَ باب البصرة من زيارة قبر مصعب بن الزبير [وقد ذكرناه (¬3)]. وبلغ من هيبتِه أنَّه أعطى غلامًا له صينيةَ فضةٍ فيها دنانير، وقال: خُذْها على رأسك، وسِرْ من النَّجمي إلى المأصِر الأعلى، فإن اعترضك مُعترِضٌ فأَعْطِه إيَّاها، واعرِفِ المكانَ الَّذي أُخِذَتْ منك فيه. فجاء وقد انتصف الليل، وقال: مشيتُ البلدَ جميعَه فلم ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 78 - 80، والكامل 9/ 224 - 225. (¬2) فِي (م 1) وحدها: وعلَّق. والمثبت من (خ) و (م)، هو الموافق لما فِي المنتظم. (¬3) عند أحداث السنة الثالثة والتسعين وثلاث مئة.

يلْقَني أحدٌ، [وعميد الجيوش هو الَّذي مدحه الببَّغاء الشاعر، وقد ذكرناه فِي ترجمته] (¬1). وقال الخطيب (¬2): دخل الرُّخَّجي على عميد الجيوش، ومعه سبعون مجلدةً خَزًّا، ومنديل فيه دراهم كثيرة، وقال: مات عندنا نصرانيٌّ من أهل مصر، وخلَّفَ هذا، وليس له وارث. فقال عميد الجيوش: من حكم الاستظهار أن يُتركَ هذا بحاله، فإن حضر وارثٌ وإلَّا أُخِذَ. فقال الرُّخَّجي: يُحمل إلى خزانة مولانا إلى أن يتبيَّن الحالُ. قال: لا يجوزُ أن يدخل خزانة السلطان ما لم يصحَّ استحقاقُه، فلمَّا كان بعد مدة قدم أخو النصراني ومعه كتابٌ باستحقاق التركة، فقيل له: عليك بعميد الجيوش. فجاء إلى داره وهو قائم على رَوْشَنِهِ يصلِّي الفجر، فظنَّه نقيبًا، فدفع إليه الكتابَ، وسأله إيصاله إلى صاحب الخبر ليقضيَ له حاجتَه، فقال عميد الجيوش: سمعًا وطاعةً. وبعث إلى صاحب الخبر فدفع إليه التركة، فقال له النصرانيُّ: فبأيِّ شيء أخدُمُ النقيب الَّذي أدخل كتابي إليك؟ فقال: ويحَكَ! هذا عميد الجيوش. فقال: الَّذي تهابُه ملوكُ الأطراف؟ قال: نعم. فقال: هذا سيد المرسلين. فدخل صاحب الخبر عليه، وقال: يا مولانا، إنَّ النصرانيَّ يقول كذا وكذا، وقد كثُر الدعاءُ ببغداد لك. فلمَّا كان بعد مدَّةٍ جاءت كتُبُ ابنِ القُمِّي والتُّجار من مصر إلى عميد الجيوش تُخبر أنَّ ذلك النصرانيَّ حضر فِي مجمعٍ من التُّجار، وحكى القصة، فضجَّ الناسُ بالدعاء، وقالوا: يا ليتنا كنَّا فِي جواره وظِلِّه. ففرح عميد الجيوش، وقال: لقد أحسن المكافأة. ذِكرُ وفاته: [قال هلال بن الصابئ: وفي يوم الخميس لأربعٍ خَلَوْنَ من جمادى الأولى] دخل عميد الجيوش بربرة مُصْعِدًا إلى بغداد من الجبل (¬3)، وقد بدأتْ به العِلَّةُ، فأقام أربعة ¬

_ (¬1) عند ذكر من توفِّي سنة ثمانٍ وتسعين وثلاث مئة. (¬2) كذا فِي (خ)، ولم أقف عليه، ولعلها: جدي، فالخبر فِي المنتظم 15/ 80. (¬3) بعدها في (خ): فِي يوم الخميس لأربع خلون من جمادى الأولى. وقد أثبتت، هذه العبارة فِي موضعها آنفًا من (م) و (م 1).

السنة الثانية وأربع مئة

عشر يومًا، وتوفِّي فِي نهار الخميس لاثنتي عشرة ليلة إن بقيت منه، وكان ابن طاهر المنجم (¬1) قد قال لمَّا دخلَ عميدُ الجيوش بغدادَ: قد اقتضى الحُكْمُ أن يقيم ببغداد ثماني سنينَ وشهورًا، وبلغَ العميدَ فانزعج، فقيل له: لا تلتفِتْ إلى قول المنجِّم، فكان كما قال؛ أقام على ولاية العراق ثمان سنين وأربعة أشهر وعشرة أيام، مات وله إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر وأيام، وتولَّى أمرَه الرَّضيُّ الموسوي، ودُفِنَ بمقابر قريش. السنة الثانية وأربع مئة [و] فيها فِي يوم عاشوراء أذِنَ فخرُ الملك (¬2) لأهل الكَرْخ بالنَّوح، وتعطيلِ الأسواق، ولُبسِ المُسوح (¬3)، وما جرَتْ به العادة، ونظر فخرُ الملك فِي إقطاعات العساكر فأمضاها، وطيَّب قلوبهم، وسار إلى أوانا ومعه العساكر الدَّيلمية والشِّيرازية والعراقية والأعراب والأكراد وغيرُهم، يريد الموصل وبني عقيل، فجاءت رسلُهم بما يريد، فرجع إلى بغداد. ذِكْرُ المحضر الَّذي برز من ديوان القادر فِي القَدْح فِي أنساب المصريين، وكان منه: يشهد - مَنْ أثبت اسمه ونسبه فِي هذا الكتاب من الأشراف والقُضاة والعلماء والعدول والأكابر والأماثل بما يعرفون من نسب الدَّيصانية الكفار نُطَفِ الشياطين، المنسوبين إلى دَيصان بن سعيد الخُرَّمي - شهادة يتقرَّبون بها إلى الله تعالى، مُعتقدين بما أوجب الله على العلماء أن يُبيِّنوه للناس ولا يكتمونَه، شهدوا جميعًا: إنَّ الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقَّب بالحاكم - حكم اللهُ عليه بالبوار والدَّمار والخزي والنكال والاستئصال - ابن مَعَدّ بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد - لا أسعدَه الله - وأنَّه لمَّا صار إلى المغرب تسمَّى بعبيد الله، ولقَّب نفسه بالمهدي، ومَنْ تقدَّمه ومن سَلَفه - الأنجاس الأرجاس عليه وعليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين - أدعياءُ خوارجُ، لا ¬

_ (¬1) فِي (م) و (م 1): طاهر بن المنجم. (¬2) فِي (م) و (م 1): فخر الدولة. (¬3) الخبر إلى هنا فِي المنتظم 15/ 82.

نسَبَ لهم فِي ولد علي بن أبي طالب، ولا يتعلَّقون منه بسبب، وأنه مُنزَّهٌ عن باطلهم، وأنهم كُفَّارٌ فُجَّارٌ مُلْحِدونَ زنادقةٌ مُعطِّلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوس والثَّنوية معتقدون، قد عطَّلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلُّوا الخمور، وسفكوا الدماء، وسبُّوا الأنبياء، وادَّعوا الرُّبوبية ونحوه. وكتبَ فيه الأعيان، فمِنَ العلويين: الرِّضى والمرتضى وغيرُهما، ومن القُضاة: أبو عبد الله محمد بن الأكفاني، ومن الفقهاء: أبو حامد الإسفراييني، وأبو عبد الله الصَّيمري، وأبو عبد الله البيضاوي، وأبو عبد الله بن حمكان، ومن الشهود: أبو القاسم التنوخي، وغيرهم. وفي شهر رجب وشعبان ورمضان واصل فخر الملك (¬1) الصدقات، وحمل المال إلى مقابر قريش والحائر والكوفة، وفرَّق الثيابَ والحنطةَ والتمرَ والدراهمَ والدنانيرَ يوم العيد فِي الفقراء والمساكين، وركبَ إلى الصلاة فِي الجوامع، وأعطى الخطباء والمؤذنين الثياب والدنانير، وأطلق الحبوس، ومن كان محبوسًا فِي حبس القاضي على دينار وعشرة دنانير قضاها عنه، ومن كان عليه أكثر أقام الكفيل وخرج، فأطلق من كان فِي حبس المعونة ممَّن صَغُرت جنايتُه، وحسُنَتْ توبتُه، فكثُر الدُّعاءُ له فِي الجوامعِ والمساجدِ والأسواقِ، وتقدَّم بنقض الدار المُعِزِّيَة (¬2) التي كانت بحضرة شارع دار الدقيق، [وغرم عليها أموالًا كثيرةً، ولم ينتقل إليها، بل جعلها له مُتَنَزَّهًا، وقد دَرَسَتْ، فلا عينٌ ولا أثر]. وفي [ليلة الأربعاء خامس] (¬3) شوال هبَّتْ ريحٌ عاصفٌ سوداءُ بالعراق، فقلعَت أكثرَ من عشرة آلاف نخلة. وفيها ورد كتاب محمود بن سُبُكْتِكين إلى القادر بالله بأنه أوغل فِي بلاد الهند، فوقع فِي مفازةٍ، ولم يبق معهم ماءٌ، فكادوا يهلكون من العطش، فنشأت سحابة، فمطرت ¬

_ (¬1) فِي (خ): الدولة، والمثبت من (م) و (م 1)، والمنتظم 15/ 83 والخبر فيه. (¬2) فِي (خ): الغربية، وفي (م): العزبة، والصواب ما أثبته من (م 1)، وهو الموافق لما فِي المنتظم. (¬3) ما بين حاصرتين من المنتظم 15/ 84، والخبر فيه.

عليهم، فشربوا وسقوا، والتقاهم العدو وهم خلقٌ عظيم (¬1)، ومعهم ست مئة فيل، فنصره الله عليهم، فغَنِمَهم وعاد سالمًا. ومن العجائب أنَّه كان بين أبي الحسين عبد الله بن دنجا - عامل البصرة، ويُلَقَّب بذي الرُّتبتين - وبين أبي سعد بن ماكولا وَحشةٌ، فمرض أبو سعد مرضًا صعبًا، فأنفذ أبو الحسين [فَوكَلَ بداره، ثم اعتل أبو الحسين] ومات، وتماثل ابن ماكولا، فبعث أولئك الموكلين إلى دار أبي الحسين فاحتاطوا عليها، وقبضوا على أصحابه (¬2). وحجَّ بالناس أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر، فلمَّا وصلوا زُبالة هبَّت عليهم ريحٌ سوداءُ، ففقدوا الماءَ، ومات منهم خلقٌ كثير، وبلغت المزادة مئة درهم، وأعطى جماعةٌ الخفارةَ لبني خَفاجة، فرجعوا بهم إلى الكوفة. ذكر طرف من أخبار حلب وحوادث وقعت فِي هذه السنة وما بعدها مما يتعلَّق بذلك: كان مرتضى الدولة أبو نصر بن لؤلؤ قد أقام الدعوة للحاكم بحلب، وضَرَبَ السِّكَّة باسمه، واستمال بسيل ملك الروم بالهدايا والتُّحف، وفعل معه ملك الروم كذلك، وكان إذا خاف جانبَ الحاكم موَّه عليه بصاحب الروم، وإذا خاف صاحب الروم موَّه عليه بالحاكم، فتمَّ أمرُه على هذا مدة، وكان صالح بن مِرْداس يخدُمُه كالنقيب بين يديه، ويتوسَّط ما بينه وبين العرب، فلما كان فِي هذه السنة اعتلَّ الحاكم عِلَّةً قوي عليه الإرجاف فيها، ووردت على ابن لؤلؤ كتبٌ من مصر بتحقق وفاتِه والبعثِ له على طلب الحصون الشامية أفامية وغيرِها والبلادِ المجاورةِ بحلب، فطمِعَ وكتب إلى البطريق المقيم بأنطاكية، واستدعى منه ألفي رجل من رُماة الأرمن، وكان بَسِيل قد كتب إليه متى طلب النَّجدةَ أنْجَدَه، فبعث إليه بالرجال، فبعث ابنُ لؤلؤٍ أخاه أبا الجيش ابن لؤلؤ مع ألفي غلام من الحمدانية والأرمن إلى حصن أفامية، فنزل المعرَّة، وكان والي الحصن سَديدُ الدولة علي بن أحمد الضَّيف، وكانت له منزلةٌ متقدِّمة عند الحاكم، ¬

_ (¬1) فِي (م) و (م 1): كثير، والمثبت من (خ) والمنتظم 15/ 84، والخبر فيه. (¬2) هذا الخبر والذي يليه بمعناهما فِي المنتظم 15/ 84 - 85 وما بين حاصرتين منه.

وبعثَ ابنُ لؤلؤ صالحَ بنَ مرداس إلى الرَّحبة فِي ألفي فارس من بني كلاب، وأخذها وكتب سَديد الدولة إلى الحاكم على الطيور يعرِّفُه ويستمِدُّه، وكتب إلى حمص وبها ابن نزال، فسار إليه فِي ألف فارسٍ وراجِل، وكتب إلى طرابلس فوافاه واليها فِي ثلاثة آلاف، واجتمع إليه وُلاةُ الحصون والعرب، فبينا هو فِي الاستعداد لدفع أبي الجيش إذ جاء الخبر بركوب الحاكم وعافيته، فأشاع ذلك، وخلع على الواردين بهذه البشارة، وجاءته كتب الحاكم بقصد ابن لؤلؤ وقتاله، فنزل كفرطاب يريد حلب، وهرب ابن لؤلؤ إلى حلب، وكتب ابن لؤلؤ إلى صالح بن مِرْداس يستدعيه من الرَّحْبة، وكتب ابنُ لؤلؤ إلى سَديد الدولة وإلى الحاكم يستعطفهما ويقول: ما قصد بلاد الحاكم، وإنما كان عسكره فِي أعماله. وقدم صالحٌ إلى حلب ومعه العرب، فرأى خوفَ ابن لؤلؤ وجَزَعه، فطمِعَ فيه، وسلَّط العربَ عليه، فاستطالوا وطلبوا الإقطاعات والخِلَعَ فأعطاهم، واستشار ابنُ لؤلؤ القُوَّادَ فِي قبض صالح، فأشار به بعضُهم، وتوقَّف البعضُ، واتَّفق أنَّ صالحًا دخل حلب فِي ألف فارس من العرب، فوقفوا على باب قصر ابنِ لؤلؤ، ودخل صالح إلى القصر، فأمر ابنُ لؤلؤ بابواب المدينة فغُلِّقَتْ، وأطلق الحمدانية فِي العرب فقتلوا منهم نحوًا من مئتي رجل، وأخذ منهم مئةً وعشرين، وصالحٌ فِي الجملة، فقيَّدهم ورماهم فِي المطامير، وقتلَ أمراءهم، ووقع فِي المحبوسين جُدَرِيٌّ فمات أكثرُهم، وسأله بنو كلاب فِي البعض فأطلقهم، وبقي صالحٌ معتقلًا، وكان قد تزوَّج امرأةً من بني عمِّه تُعرف ببنت جابر، فأرادها ابنُ لؤلؤ على نفسِها فامتنعت، وكان لها ثلاثةُ إخوةٍ فِي جملة المحبوسين، فراسلهم بتزويجه إيَّاها، فاحتجُّوا بعقد صالحٍ عليها، فقال: ذلك عقدٌ باطل. ووعدهم بالخلاص، فأجابوه وزوَّجوه، ونقلوها إليه ومعها أم صالح ونساءٌ من نساء المعتقلين، فلما دخلَ بها شُغِفَ بها، وأعطاها شيئًا كثيرًا، فشفَعَتْ إليه فِي أزواج نساء عشيرتها، فوعدها بإطلاقهم، وكان قد أفرد صالحًا فِي أزجٍ صغيرٍ فِي القلعة، ووكَّلَ به من يحفظه، فاغتنم غفلة الموكَّلين، وصعِدَ سورَ القلعة، ورمى بنفسه على تلٍّ تحتها فَسَلِم، وشاع الحديثُ فِي الليل، فأوقدوا الشموع، وفتحوا بابَ القلعة، وركبتِ الخيلُ خلفَه، فما وقعوا له على أثر، وكان قد اختبأ فِي سياج لبنان

تحت القلعة، وظنَّ ابنُ لؤلؤ أنَّه إنما فعل ذلك، وقد رتَّب خيلًا ورجالًا فحملوه، وقام صالحٌ فِي الليل وقد شدَّ قيوده ولَبِنَتَهُ (¬1) إلى ساقِه، وقصد ضيعةً يُقال لها: الياسرية، وكان له بها صديق يثِقُ به، فطرق بابَه ليلًا، فقالت زوجتُه: من أنت؟ فقال: صديق له. فقالت: هو فِي الرَّحى يطحن دقيقًا لقومٍ من العرب قد طرقوه ضيوفًا. قال: وأين هم؟ قالت: فِي البيدر، وهم بنو عم صالح بن مِرْداس. فجاء إليهم، وعرَّفهم نفسَه، فقاموا وفَرِحوا به، فقال: وأين أهلي؟ قالوا: بمرج دابق. وحملوه إلى أهله، فكتب [إلى] (¬2) ابن لؤلؤ يخبره بما منَّ الله به عليه من النجاة، وأنَّه قاصدٌ حَرْبَه، واجتمعت إليه العرب، وسار إلى حلب، وخرج ابنُ لؤلؤ، واقتتلوا على باب تلِّ أعرن، فانهزم ابنُ لؤلؤ، وقُتِلَ جماعةٌ من رجاله، وأُخِذَ أسيرًا، وجيء به إلى صالح، فقيَّده بالقيد الَّذي قيَّده به واللَّبِنة، فضجَّ من ئِقَلِها، فقال صالح: هذا القيد واللَّبِنة التي طرحتَها فِي رجلي، وقد كُنْتُ اجتهدتُ عند هربي فِي كسرها، فلم أقدِرْ، فعاهدتُ اللهَ إنْ ظفِرتُ بكَ لأطرحنَّها فِي رجلك، وأراد اللهُ أن أُجازِيَكَ كيل الصاع بالصاع، وكان أبو الجيش وطارق أخوا ابن لؤلؤ قد هربا إلى حلب، فحصَّناها ومعهما جماعة من الغِلمان الحمدانية، وجاء صالحٌ فنزل على باب حلب، فراسل صالحٌ أبا نصر بن لؤلؤ فِي أسره يقول: قد وردت عليَّ كتبُ صاحب أنطاكية وابن المصيف يبذلان لي فِي تسليمِكَ الأموال والبلادَ، فاختَرْ أيَّ الجهتين تريد لأُنفِذَكَ إليها. فقال ابنُ لؤلؤ: فأين أنتَ عن القسم الثالث؟ قال: وما هو؟ قال: تعفو عني، تصطنعني، وتقترحُ ما تريد. فقال: أنا أفعل هذا على أن تُعطيَني نصفَ ما فِي قلعتِكَ، وتُطلِقَ جميعَ من فِي الاعتقال من بني كلاب، وتُقطعَني الثُّلثَ من نواحي حلب وبالِس ومنبج. فقال له: أمَّا الرّجال فأُطلِقُهم، وأمَّا المالُ فاطلُبْ مبلغًا مُعيَّنًا، فهو أرفَقُ بي. فقال: مئة ألف دينار مغربية. قال: وأزيدك خمس مئة الف درهم ومئتي ثوب. فقال: أخاف إذا عُدْتَ إلى قلعتك أن تغدِرَ بي. فقال: استوثِقْ مني بالأيمان. فاستوثَقَ منه، وأطلَقَه، فدخلَ البلدَ، وأحضرَ الشهودَ ¬

_ (¬1) اللَّبِنَة: حديدة عريضة توضع على العبد إذا هرب اللسان (لبن). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق.

أحمد بن عبد الله

والقُضاةَ، وحلفَ له على الوفاء، وكان صالحٌ قد طلب منه رهينةً، فبعث إليه بوالديه وولده وأهله، فقال صالح: أنا عبدُكَ وابنُ عبدِكَ. وجلس ابنُ لؤلؤ فِي القصر، وهنَّأه الناسُ بالسلامة. ولمَّا صارَ صالحٌ على حلب دخلت عليه والدتُه وقالت: يا صالح، قد أعطاكَ اللهُ ما لم تسأَلْهُ، وبلَّغَكَ ما لم تؤمِّلْهُ، وأجابَ دعائي فيكَ، وردَّكَ عليَّ بعد يأسي منكَ، وملَّكَكَ مَنْ كان بالأمسِ مالِكَكَ، ووفَقَكَ لاصطناعِه، وسيَشيعُ فِعْلُك وتتداولُه الألسُن فِي الأندية والمحافل، ويؤرَّخ فِي الكتب والسّير، فتَمِّمِ الصنيع بردِّ هؤلاء الرهائن، فإنَّ الرجل إذا أراد أن يفيَ لكَ وفي، وإن عزم على الغدر لم يُفكِّرْ فيمَنْ عندك، وهذه العجوزُ والدتُه قد ربَّتْكَ، ولها عليكَ حقٌّ كثير. فقال: سمعًا وطاعة. وأرسل إلى والدة ابنِ لؤلؤ يقول: اذهبي ومَنْ معكِ إلى داركِ. فقالت: حتَّى يبعث إليكَ ابني ما شرط عليه. فقال: لَعَمْري إنَّ الشَّرطَ بيننا كذا، ولكن لكِ عليَّ الحقوقُ ما يُوجِبُ حيائي منكِ، وظنِّي فِي ابنِكِ الوفاء، فإنِ اختارَ الغدرَ فهو أعلمُ بما يلقى. فخرجَتْ من الخيام ودخلَتْ دارَها بحلب، ورحل صالحٌ فنزلَ على فرسخٍ، وسُرَّ ابنُ لؤلؤ، وأطلقَ مَنْ كان عنده فِي الاعتقال من بني كلاب، وكانوا خمسين ومئة رجل، وبعث بالمال والثياب والألطاف والهدايا، وحملَ وجوهُ الحلبيين إلى ابنِ لؤلؤٍ أصنافَ الأموال وما قدروا عليه على قَدْرِ أحوالهم، وأقام ابنُ لؤلؤٍ مالكًا للقلعة إلى سنة أربع وأربع مئة. وفيها تُوفِّي أحمد بن عبد الله (¬1) ابن الخَضِر بن مسرور، أبو الحسين، السُّوسَنْجِرْدي، وُلد سنة خمس وعشرين وثلاث مئة، وكان ديِّنًا عفيفًا ثقةً، حسنَ الاعتقاد، شديدًا فِي السُّنة، اجتاز يومًا على قنطرة باب البصرة، فسمع رجلًا من أهل الكَرْخ يذكر الصحابة بسوء، فما عبر القنطرة ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 237، والمنتظم 15/ 85، وطبقات الحنابلة 2/ 168.

أحمد بن مروان

بعد ذلك، وتُوفِّي فِي رجب، ودُفِنَ بباب حرب، وعاش نيِّفًا وثمانين سنة، ورأى بعضُ أصحابه فِي المنام قائلًا يقول: السُّوسَنْجِرْديُّ من أهل حظيرة القدس. أحمد بن مروان أبو نصر - وقيل: أبو منصور - مُمهِّد الدولة، الكردي، صاحب ميَّافارقين، قد ذكرنا مقتل الحسن بن مروان على باب آمِد، وكان شِروةُ قد استولى على مُمهِّد الدولة، وصار بحالٍ أنَّه أطلَعَه على جواريه وحرَمِه، وكان يقول لِشروة: يا أخي يا أبا شجاع، يومي قبلَ يومِكَ، وكان لشِروةَ غلامٌ حدَثٌ وهو شديدُ الأُنسِ به، وقد قلَّده الشرطة، وردَّ إليه أمرَ البلد، ويقال للغلام: ابن قليوس، وكان مُمهِّد الدولة يُبغض هذا الغلام، وهَمَّ بقَتْلِه مرارًا، ويراقب شِرْوة، وعرف ابن قيلوس ذلك، فخاف منه وشرع فِي إيحاش شروة من مُمهِّد الدولة، ولفَّق تلفيقاتٍ ومُحالاتٍ وشُبَهًا، فقال له شِروةُ: ويحكَ! وبأيِّ عينٍ يراني الناس وقد غَدَرْتُ بمن خلطني بنفسِه، وجعلني أخصَّ من أهلِه؟ فقال: مُهجَتُكَ أولى، ولا عُذْرَ لكَ فِي إسلامها إلى القتل، ولم يزلْ يُكرِّر عليه ذلك حتَّى أذعن ودسَّ السُّمَّ إلى مُمهِّد الدولة مرارًا، فلم يضرَّه، فقال ابن قيلوس: فاقتُلْه. فقال: كيف يُتَصوَّرُ هذا مع محبة العشيرة والرَّعيَّةِ له؟ فقال: ما يتعذَّر ذلك. وكان مُمهِّد الدولة قد أقطع شِروة حصن الهتَّاخ، وهو يُشرف على مروجٍ كبيرة، فيها أزهارٌ ورياض، وكان من عادة مُمهِّد الدولة أن يخرج مع شِرْوة فِي زمان الربيع، فيُقيم به أيامًا، ثم يرجع إلى ميَّافارقين، فخرج إليه، فلمَّا كان فِي بعض الليالي سكر، فقال ابن قيلوس لِشِرْوةَ: هذا وقتُكَ. فقال: واللهِ، ما لي عينٌ تفعلُ هذا، وإنَّ الحياءَ من اللهِ ومن الناسِ يمنعني منه، فإن كان لا بُدَّ فدونَكَ وإيَّاه. وكان مُمهِّد الدولة نائمًا ورِجْلُه فِي حجر خادم يُقال له: مِسْرَق، فدخل ابن قيلوس والسيفُ فِي يده مشهورًا، ورآه مُمهِّد الدولة، فقام قائمًا وصرَعَه، وجلس على صدْرِه، وقال: يا شِرْوة، هاتِ سيفي من تحت المِطْرَح. فجرَّده شروة، وعلا به، فحلَّ عاتِقَه، فقال: ويحَكَ يا شِرْوة، فعلتَها، واللهِ لا أفلحتُم أبدًا. وأخذ ابنُ قيلوس السيف من يد شِرْوة وقطع رأسه، ولَفَّه فِي بساط، وخرج شِرْوة إلى

بني عم ممهِّد الدولة، فقيَّدهم، وزعم أنَّه بأمر مُمهِّد الدولة، وسار إلى ميَّافارقين وملَكَها، ودخل القصر، واستولى على ما فيه الأموال والذخائر، وكان أبو نصر أخو مُمهِّد الدولة بإسْعَرْد (¬1)، فأرسل جماعةً للقبض عليه، وكان مُمهِّد الدولة قد أبعَدَه عنه، وإذا عُوتِبَ فيه يقول: رأيتُ فِي منامي كأنَّ الشمسَ قد سقطت فِي حجري، فغلبَني عليها، وأخذها مني، فأقام أبو نصر بنواحي إسعرْد، وكان بِأَرْزَنَ (¬2) رجلٌ - يُعرف بخَواجا، وكنيتُه أبو القاسم - واليًا عليها، ولمَّا جهَّز شِرْوةُ إلى إسْعَرْد مَنْ يقبِضُ على أبي نصر جهَّز إلى أرْزَنَ مَنْ يقبضُ على خواجا، ويأخذُ القلعةَ منه، قبل أن يشيع الخبر، وبعث إلى أرْزَن عبد الرحمن بن أبي الورد الدُّنْبُلي (¬3)، وكان تحتَ يده خمسة آلاف من الديالمة، فجاء إلى أرْزَنَ وقد بقيت من اللَّيل بقيةٌ، فصاح بالحُرَّاس، فقالوا: من أنت؟ فقال: فلان، جئتُ فِي مُهِمٍّ، فأُخبر خواجا، فقال: افتحوا له الباب. ودخل، فناوله الكتاب، وعليه خَتْمُ مُمَهِّد الدولة، ولم يعلم بالخبر، فقال خواجا: سمعًا وطاعةً. وخرج طالبًا ميَّافارقين، وأوصى إلى ابن أبي الورد، وشرع ابن أبي الورد فِي إفساد أصحاب خواجا، فما التفتوا، فبينا خواجا يسير إذ لقي كُرْديًّا واردًا من ميَّافارقين يَرْكُضُ فرسَه، فاعترضَه وقال: ما الخبر؟ قال: أوَ ما علمت؟ قال: لا. قال: قتلَ شِرْوةُ مُمهِّدَ الدولة، وأنفذَ مئتي فارس إلى الأمير أبي نصر ليأخذه من إسْعَرْد، وأرسلَ إليك وإلى المقيمين فِي الحصون رسلًا يقبضون عليك وعليهم، والطرقاتُ محفوظة؛ لئلَّا - يشيع الخبر، فرجع خواجا إلى أرْزَنَ، وجَدَّ فِي السير، وأتى إلى باب قلعة أرْزَنَ، فصاح بغلمانه، ففتحوا الباب، وشاهده ابنُ أبي الورد، فيئس منه، وكان خواجا شيخَ الأكراد، ومتقدمًا فيهم، وكان شجاعًا شهمًا، فأحضرَ ابنَ أبي الورد، وجرَّد سيفَه، وقال: واللهِ لئِنْ لم تُخبِرْني بالذي جئتَ فيه لأقتلنَّكَ. فقال: وأنا آمِن؟ قال: نعم. فأخبره، فشقَّ ثيابَه وبكى، وبعث حاجبه فِي مئتي فارس إلى إسْعَرْد ليُنذِرَ أبا ¬

_ (¬1) فِي النسخة الموجودة (خ) هنا وفي المواضع الآتية: سعرد. (¬2) أرْزَن: مدينة بديار بكر. اللباب 1/ 42. (¬3) نسبة إلى دنْبُل: وهي قبيلة من الأكراد بنواحي الموصل. توضيح المشتبه 4/ 70.

نصرٍ ويستدعيه إليه، فأسرع، وسبق أصحاب شروة، وجاء إلى أرْزَنَ فدخل الحِصْنَ، وعَلِمَ شِرْوةُ، فقامت قيامتُه، وانتقضَ عليه أمرُه، وكان مروان والد الأمراء قد أضرَّ، وأقام هو وزوجتُه بأَرْزَنَ عند تربة أبي علي الحسن، فأحضرَهما، وخاطَب الأميرَ أبا نصرٍ وأحلَفَه بين أيديهما على القبول والعمل بما يُدبِّره، وإذا رتَّب فِي الإمارة وجمع عليه الكلمة أحسنَ السيرة وعدل فِي الرعية، وعرف له حقَّ الخدمة، وأحضر القاضي ووجوهَ البلد، فشَهِدوا عليه، فلمَّا توثَق منه قبَّلَ الأرض بين يديه، وحمل إليه مالًا وثيابًا وخيلًا، وكاتب الأكرادَ، فجاء منهم عددٌ كثير، وسار خواجا فِي ألفي فارس إلى ميَّافارقين، فكبسَ الرَّبَضَ ونهَبَه، وخرج إليه شِرْوةُ، فاستظهر خواجا عليه، وعاد إلى أرْزَنَ بالغنائم، ثم جمعَ وحشَد، وسارَ ومعه الأمير أبو نصر إلى ميَّافارقين، فنزلا على فرسخين منها، وكان أهلُ البلدِ قد كرهوا شِرْوة وأبغضوه، وكاشفوه، وصار يسمع لعنتَه فلا يَسعُه الإنكار، فأشار عليه ابن قيلوس باستدعاء ملك الروم، وتسليم البلد إليه، فكاتبه، وجمع ما كان فِي الخزائن من الأموال والجواهر والأواني، وبعث بها إلى آمِد وديعةً عَند ابن دِمنْة لمكان صداقته منه، وشاع فِي مَيَّافارقين بأنَّ شِرْوةَ يريد أن يُمسِكَ عليهم أبوابَ الجامع يوم الجمعة ويقتُلَهم، فلمَّا كان يومُ الجمعة اجتازَ ابنُ قيلوس على باب الجامع وبين يديه ضوضاء، فلم يشُكَّ الناسُ أنَّه يريد بهم ذلك، فثاروا، وانهزمَ ابنُ قيلوس إلى القصر، وقاتلهم أصحابُ شِرْوة وتلطَّفَ بهم، فقالوا: نُريد ابن قيلوس. فلم يُسْلِمْه إليهم، وفرَّق ابن قيلوس فِي أصحابه السلاح والخزائن، وخرج فقاتلهم، وقُتِل من أهل البلد جماعةٌ، وانهزم الباقون، وضرب رجلٌ ابنَ قيلوس فصرعَه، وقطعَ رأسَه، وسحبَ الصبيانُ جسدَه فِي البلد، ومثَّلوا به وأحرقوه، ثم قصدوا القصر فنهبوه، ونجا شِرْوة إلى البرج المعروف بِبُرج الملك، واستصرخ بشيوخ البلد، فجاؤوه وأمَّنوه، على أن يتوسَّطوا أمرَه مع الأمير أبي نصر، فنزل إلى دار شيخٍ منهم - يُعرف بأبي الطيب بن عبد - وكاتبَ العوامُّ أبا نصر، فدنا من البلد، وبعث إليهم يطلب شِرْوة، فامتنعوا، ووقع الخُلْفُ بينهم وتحزَّبوا، وأجمعوا على رجلٍ منهم يُعرف بأبي طاهر بن الحمَّامي، وقدَّموه، ورَضُوا به أيامًا، ثم اعتزل عنهم، وكان بالسوق

رجلٌ تاجرٌ يُقال له: أبو الحسين أحمد بن علي بن وصيف، وبينَه وبينَ رجلٍ - يُعرف بابي الرَّيحان - أُنسةٌ، وكان لأبي الرَّيحان رهطٌ وأصحابٌ، فسأله ابنُ وصيف أن يجعله مكانَ ابنِ الحمَّامي، فقرَّره مكانَه، وجعل له مالًا كثيرًا، وقَبِلَ ابنُ أبي الريحان، فتمَّ له مرادُه، وعصى ابنُ وصيف على أبي نصر الأمير، وقاتله، وطمع فِي البلد، ثم فكَّر فخاف أن يُسلموه إلى الأمير أبي نصر، فراسله، واتَّفقا سِرًّا، واجتمع الشيوخُ إلى ابنِ وصيف وقالوا: قد ضاقَ بنا الأمرُ، والمصلحةُ أن تتَّفقَ مع الأمير ولا تُسلِم إليه شِرْوة، بل تُصالِحُه. فبعثَ إليهم وصالحهم على ذلك، وسلَّموا إليه البلد فدخله، ووَلِيَ ابنُ وصيف طبرى (¬1) وأنفذه إليها، وطرد المفسدين منها، وحَمَلَ شِرْوةَ إلى المكان الَّذي قُتِلَ فيه مُمهِّد الدولة فقتله وصلبه - وقيل: خنقه - وقتل أخاه وجماعةً من أصحابه، وأقام ابن وصيف مدةً بطبرى، ثم استوحشَ، فخرج إلى العراق. وبعثَ ابنُ دِمْنة إلى أبي نصر يُهنِّئه بأخذ ميَّافارقين، وبعث له الهدايا والملاطفات على يد رجلٍ يُقال له: مِرِّيخ، له رهطٌ وعشيرة، وأختُه تحت ابن دِمْنة، فسَلَّم الهديةَ إلى أبي نصر، وخلا به، وقال: عندي نصيحةٌ. وأخذَ يدَه، وحلَّفه على ما أراد، وقال: ابن دِمْنة عاصٍ عليكَ، وإن جعلْتَني نائبًا قتَلْتُه وأرحتُكَ منه. فأعطاه أبو نصر خطَّه بالولاية والنيابة عنه، وعاد إلى آمِد، وشرع فِي استمالةِ الرجال، فلمَّا تمَّ أمْرُه دخل عليه - وكان خِصِّيصا به لا يُحجَبُ عنه - ومعه أربعةٌ من العرفاء، وابن دِمْنة جالسٌ وعنده كاتبه وفرَّاشه، فشكَوا إليه تأخُّرَ أرزاقهم، فوعدهم بإطلاقها، وأكبَّ مِرِّيخ عليه يُسارُّه فِي أمرٍ، ووثب عليه العرفاء، وضربوه بالسكاكين، وبادر الفرَّاش، فأغلق أبواب القصر، وفتح خزانة السلاح وفرَّقها فِي غلمان ابن دِمْنة، وخرج مِرِّيخ والعرفاءُ من القصر وابنُ دِمْنة يخور فِي دمه، فلمَّا رأوا الغلمانَ صعِدَ مِرِّيخ وكاتبُ ابن دِمْنَة القلعةَ فِي القصر، وفيها أختُ مِرِّيخ - زوجةُ ابن دِمْنة - وأولادُه وجواريه، ولم يُغلِقا البابَ من ورائهما؛ لشدة الخوف، ومال الفرَّاش والغِلْمانُ على العُرفاء فقتلوهم، وقصدوا القلعة، فوجدوا الباب مفتوحًا، وصرخ النساءُ فِي وجوههم، فقال الفرَّاش لأخت مِرِّيح: إن أخاكِ قتلَ زوجَكِ، ولا بُدَّ من قَتْلِه. وهجم ¬

_ (¬1) هكذا فِي الأصل، ولعلها طَبَرَك: وهي بالقرب من الري. معجم البلدان 4/ 16.

عثمان بن عيسى

عليه وأخذَه والكاتبَ ونزل إلى القصر فقتَلهما، وأخذ من الخزانة جواهر كثيرةً ومالًا، وأخذ معه غلامًا على فرسٍ، وسار يطلب ميَّافارقين، فلقيه جماعة من الأكراد، فأحاطوا به، وبلغ الخبرُ الأميرَ أبا نصر، فركب هو وخواجا - وكان قد استَوْزَره - وسار يطلب آمِد، فلقيه الأكرادُ الذين عندهم الفرَّاش، وعندهم أنَّه طالب له فقالوا: عندنا طلبتُكَ أيُّها الأمير. قال: ما هي؟ قالوا: فرَّاشٌ معه جواهرُ ومال، وأحضره فسأله عن القصة، فأخبره، وأعطاه الأمان، على أن يُعرِّفَه ذخائرَ ابنِ دِمْنة وودائعَه، وجاء إلى آمِد وقد عصى فيها أولادُ مِرِّيخ، فراسلَهم، فقالوا: سَلِّم الفرَّاش إلينا، فامتنع، فقال له خواجا: ما تُحِبُّ أن تباع آمِدَ بفرَّاشٍ. فسلَّمه إليهم، فقتلوه، ودخل أبو نصر البلد، واستولى على ما فيه، واستناب أبا الحارث زيدًا، فأقام حتَّى قتله بنو نمير. [وفيها تُوفِّي] عثمان بن عيسى أبو عمرو، الباقِلَّاوي (¬1)، البغدادي، الزاهد، كان يُقال له: العابدُ الصموت؛ لأنه ما كان يتكلَّم فيما لا يعنيه، وما كان له مأوى إلَّا المسجد، ولا يخرج منه إلَّا يوم الجمعة، وكان يقول: إذا كان وقتُ الغروب أحسستُ بروحي تخرج. يعني لاشتغاله بالإفطار عن الذِّكر. وكان يقول: أحبُّ الناسِ إليَّ مَنْ تركَ السلامَ عليَّ؛ لأنَّه شَغلَني بِرَدِّ سلامِه عن الذِّكر. وكان يتعمَّمُ بحبلٍ، وكان إذا سمع قارئًا يقرأ يُغْشى عليه. وسأله السعيد التركي أن يصِلَ إليه منه شيء، فامتنع، فقال: فلا أقَلَّ من دُهْنِ المسجد! فجاءه وكيلُه بدُهْنٍ، فلمَّا عاد ليحمِلَ إليه دُهْنًا قال: لا تحمِلْ إليَّ شيئًا آخر، فقد أظلم عليَّ المسجد. ¬

_ (¬1) فِي (خ): الباقلاني، والمثبت من (م) و (م 1)، ومصادر ترجمته: تاريخ بغداد 11/ 313 - 314، والمنتظم 15/ 86 و 87، وصفة الصفوة 2/ 482 - 484. قلت: ووقعت كنيته فِي النسخ: أبو عمر، والمثبت من عدد المصادر وهو الموافق لما سيأتي فِي آخر الترجمة.

علي بن أحمد بن محمد

وقال أبو القاسم التنوخي: قصَدْتُه لشدةٍ وقعتُ فيها، فطرقتُ عليه الباب، فقال: مَنْ؟ قلت: مضطرٌّ. فقال: ادْعُ ربَّكَ يُجِبْكَ. فدعوتُ وأنا واقفٌ على الباب، وَعُدْتُ وقد كُفيتُ ما كُنْتُ أخافُه. [قال الخطيب]: وكانت وفاتُه فِي رمضان، ودُفِنَ عند جامع المنصور، ورُئِيَ بعضُ أصحابِه الموتى فِي المنام، فقيل: كيفَ فرَحُكم بجوار أبي عمرو؟ قالوا: وأين أبو عمرو؟ لمَّا جيءَ [به] (¬1) سمعنا قائلًا يقول: إلى الفردوس الأعلى (¬2). [وفيها تُوفي] علي بن أحمد بن محمد (¬3) أبو الحسن، القاضي، السامري، كان صالحًا زاهدًا؛ قال ابنُ بنته محمد بن أحمد بن حسنُون: ما رأيتُ جدِّي مفطرًا بنهار قطُّ، وكان يصومُ الدَّهرَ كلَّه، وأجمعوا على صدقه وورعه وثقته. [وفيها تُوفي] علي بن داود (¬4) ابن عبد الله، أبو الحسن، المقرئ، القطان، إمام جامع دارَيًّا، ثم انتقل إلى إمامة جامع دمشق؛ قال ابن عساكر: كان إمامًا بدارَيَّا، فخرج أعيانُ دمشق؛ شيوخ البلد والقاضي أبو عبد الله ابن النَّصيبي وأبو محمد بن أبي نصر وغيرهم، فلبس أهلُ داريا السلاح (¬5)، وقالوا: لا نُمكِّنُكُم مِنْ أخْذِ إمامنا. وهمُّوا بالقتال، فتقدَّم إليهم أبو محمد بن أبي نصر وقال: يا أهل دارَيَّا، ألا ترضونَ أن يسمع أهلُ البلاد أنَّ أهل دمشق احتاجوا إلى إمام من أهل دارَيَّا يُصلِّي بهم؟ فقالوا: قد رضينا. فقُدِّمتْ إليه بغلةُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من مصادر الترجمة. (¬2) بعدها فِي (م) و (م 1) زيادة: أسند عن إبراهيم بن محمد المطوعي. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 327 - 328، والمنتظم 15/ 87 - 88. وينظر السير 17/ 86. (¬4) تاريخ دمشق 1/ 469 - 472 (طبعة دار الفكر)، وتبيين كذب المفتري ص 214 - 217. (¬5) تحرفت فِي (م) إلى: المسوح.

محمد بن أحمد بن محمد

القاضي، فأبى أن يركبها، وركب حمارَه إلى دمشق [قال ابن عساكر: قرأ القرآن على أبي الحسن بن الأخرم، وقرأ عليه أبو الحسن الربعي، ] وكان يسكن بالمنارة الشرقية من جامع دمشق، ويُصلِّي بالناس احتسابًا بغير أجرة، ولا يقبل هديةَ أحد، وكانت له أرضٌ يسيرةٌ بداريا يزرعُها بيده، ويتولَّاها بنفسه، ويطحن دقيقَها بيده، ويخبزه بيده، ويتقوَّت به، وكانت وفاتُه فِي جمادى الأولى بدمشق، ودُفِنَ بالباب الصغير عند أبي الدرداء. محمد بن أحمد بن محمد (¬1) أبو الحسين، الصَّيداوي، الغسَّاني، ويعرف بابن جُميع، طاف الدنيا، وكان زاهدًا متعبِّدًا، قام الليل - وله ثماني عشرة سنة - إلى أن ماتَ وهو ابن سبع وتسعين سنة بصيدا، وأجمعوا على صدقه وثقته. السنة الثالثة وأربع مئة فيها فِي يوم الجمعة سادس عشر مُحرَّم قُلِّد الراضي أبو الحسن الموسوي نقابة الطالبيين فِي سائر الممالك، وورد له عهدٌ من بهاء الدولة من أَرَّجان، وقُرِئ فِي دار فخر الملك بمحضرٍ من القضاةِ والفُقهاءِ والأماثِل ووُجوهِ الدَّيلمِ والأتراك. وقيل: إنه خُلِعَ عليه خِلْعةٌ سوداءُ، وهو أولُ طالبيِّ خُلِعَ عليه السَّواد. وفيها خرج فخر الملك إلى النَّهْروان، وكان قد انفتح بَثْقُ اليهودي، فكادتِ البلادُ تغرق، فبات ساهرًا طول ليلتِه، وحمل التراب والقصب على رأسه حتَّى أحكمه، وجرى الماء مجراه بالنَّهروان، فغَلَّتِ البلادُ فِي هذه السنة بضعةَ عشر ألف كُرِّ (¬2)، وخمسين ألف دينار. [وفيها] ورد الخبر بأنَّ أبا فُليتة [بن القوي] سبق الحاجَّ إلى واقصة فِي ست مئة رجل من بني خفاجة، فَنَزَح الماء من مصانع البرمكي والريان، وغوَّرها، وطرح الحنظل فِي الآبار، وأقام يرصدهم، فلمَّا وردوا العقبة فِي يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلةً خلَتْ من ¬

_ (¬1) تنظر مصادر الترجمة فِي السير 17/ 152. (¬2) الكُرّ: ما يقارب 1583 كغ، وقد تقدم.

صفر اعتقلهم هناك، ومنعهم من المسير، وطالبَهم بخمسين ألف دينار، فامتنعوا، فهجم عليهم وقد أجهدَهم العطشُ، ولم يكن لهم قوةُ الدفع، فاحتوى على الجمال والأحمال والأموال، وهلك [من] الناس [الكثير] (¬1)، ولم يُفْلِتْ إلَّا العدد اليسير، وأفلت أبو الحارث العلوي فِي أسوأ حالٍ، وكان فخر الملك مقيمًا على سدِّ البَثْق، فقامت عليه القيامة، وكتب إلى أبي الحسن علي بن مَزْيَد بأن يطلب العرب الذين فعلوا هذا، وإلا سيأتي (¬2) بنفسه، وبعث إلى بغداد فأخرج (¬3) بعضَ الغلمان إلى ابن مَزْيَد، وساروا حتَّى لحقوا القوم وقد قاربوا البصرة، فأوقع بهم، وقتَلَ أكثرَهم، وأسر الباقين، وفيهم أبو فُليتة، والأشتر، ووجوه بني خفاجة (¬4)، ووجدوا الأحمال والأموال (¬5) قد تمزَّقت، [وأخذ كلُّ فريق ما أمكنَه [فانتزع ما أمكَنَ انتزاعُه، وعاد إلى الكوفة، وبعث بهم إلى بغداد، فأُدخلوا على الجمال [و] قد أشهروا وثقلوا بالحديد، وقيل: اجتمع منهم جماعةٌ، وأُطْعِموا السمكَ المالح، وتُركوا على جانب دِجلة، فشاهدوا الماء حسرةً، وماتوا عطشًا، وأوقع أبو الحسن بن مَزْيد بخفاجة بعد سنين، فوجد عندهم من الحاجِّ جماعةً [كانوا] قد جعلوهم رعاةً لإبلِهم وأغنامهم، فاستنقذهم (¬6)، فعادوا إلى بغداد وقد قُسمت أموالُهم ونُكْحتْ نساؤهم. وفيها انقضَّتْ كواكبُ كبيرةٌ عظيمةٌ [واستعظم الناسُ ذلك وكان] لها ضياءٌ عظيمٌ، وأصواتٌ مثلُ الرعد (¬7). وفيها جلس الخليفة للْخَلْع على أبي نصر بن مروان، وحضر القُضاةُ والأشرافُ وغيرُهم، وكانت سبعَ خِلَعٍ، وعمِامةً سوداء، وطوقًا، وسوارين، وفرسًا بمركب ذهب. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من المنتظم. (¬2) فِي (م) و (م 1): سار. (¬3) فِي (م) و (م 1): فطلب. (¬4) بعدها فِي (م) و (م 1) زيادة كلمة غير واضحة. (¬5) المثبت من المنتظم، وفي تاريخ الإسلام 9/ 13: الأموال والأحمال، وفي (م) و (م 1): الأحمال والجمال، وفي (خ): الأموال والجمال. (¬6) فِي: (م) و (م 1) فاستقدمهم. (¬7) من بداية أحداث هذه السنة إلى هنا من المنتظم 15/ 89 - 91 بنحوه.

ولقَّبه نُصرةَ الدولة، وخرج مع الخِلَعِ خادمان من دار الخليفة، ومحمدُ بن أحمد بن مَزْيَد حاجبُ فخر الملك، وكان فخرُ الملك لمَّا ورد بغداد خدمه أبو نصر وهاداه ولاطفه وأطاعه، فنُسِبَتْ له فِي ذلك، ويقال: إن الخِلَع كانت من خزانة فخر الملك وماله. [وفي جمادى الآخرة تُوفِّي بهاء الدولة بن عضد الدولة بأَرَّجان]. وفي شوَّال وقعت فتنةٌ عظيمةٌ ببغداد [لم يَجْرِ مثلُها]، وسببُها أنَّه توفِّيت بنت أبي نوح الطبيب الأهوازي النصراني زوجةُ أبي نصر بن إسرائيل النصراني كاتب (¬1) المناصح أبي الهيجاء الجُرجاني، وأُخرجت جنازتُها نهارُا، ومعها النوائح والطُّبول والزُّمور والرُّهبان والصُّلبان والشُموع، فقام رجلٌ هاشميٌّ من محلة الحضريين [عند مشهد أبي حنيفة] فرجم الجنازة ولعنها، فعمد بعضُ غلمان المناصح [الذين كانوا مع الجنازة]، فضرب الهاشميَّ بدبُّوسٍ فشجَّه، وجرَتْ دماؤه، واجتمع الناسُ، وهرب النصارى بالجنازة إلى البِيعة بدار الروم، وتَبِعَهم المسلمون، ونهبوا البِيعة وأكثرَ دور النصارى المجاورةِ لها، وعاد ابن إسرائيل إلى داره، فهجموا عليه، فهرب، وحضر صاحب الشرطة فحمى داره، وهرب [به] إلى دار المناصح، وثارت الفتنةُ بين العامَّة وغلمانِ المناصح، وغُلِّقتِ الأسواقُ والجوامعُ، ورُفعتِ المصاحفُ على القصب، وقصد الناس دارَ الخليفة على سبيل الاستنفار، فأرسل الخليفةُ يُنكر على المناصح ما جرى، وبالتماس ابن إسرائيل وتسليمه، فامتنع المناصح من ذلك، فغاظ الخليفةَ، فتقدَّم بإصلاح الطيَّار ليخرج عن البلد، وجمع الهاشميين إلى داره، وجاءت العامَّةُ إلى دار المناصح، فدفعهم غلمانُه ومَنْ كان بها من الأتراك، وقُتِلَ رجلٌ - وقيل: إنه علويٌّ - فزادتِ الشناعة، وتفاقم الأمرُ، وامتنع الناس من صلاة الجمعة، وقتلت العامَّةُ جماعةً من النصارى، وتردَّدتِ الرسائلُ إلى المناصح، حتَّى حُمِلَ ابنُ إسرائيل إلى دار الخليفة فحُبِس بها، وأُلزم أهلُ الذمَّة الغيار، وأُخرِج ابنُ إسرائيل بعد أيام، وانبسط النصارى بعد ما انقبضوا، [وأمِنوا بعدما خافوا]. ¬

_ (¬1) بعدها فِي (م) و (م 1) زيادة: أبي.

أحمد بن علي

وفيها أنفذ محمود بن سُبُكْتِكين إلى القادر كتابًا ورد إليه من الحاكم على يد الباهر يدعوه إلى طاعته، وقد خَرَّقه وبصق فِي وسطه. وفيها ورد الحاجُّ من خراسان، فمُنعوا لفسادٍ [في] الطريق (¬1)، وبطل الحجُّ فِي هذه السنة (¬2). وفيها ورد على القادر كتابُ محمود بن سُبُكْتِكين يذكر وقعةً جرَتْ بينه وبين الكفار (¬3)، وأنه نُصِرَ عليهم، واستباح عسكرَهم، وغَنِمَ غنائمَ لم يغْنَمْها أحدٌ قبلَه. وفيها خلعَ القادرُ على أبي الحسن بن مَزْيَد، وهو أول من تقدَّم من أهل بيته (¬4). وفيها تُوفِّي أحمد بن علي (¬5) أبو الحسن، الكاتب، البَتِّي، كاتب القادر، وكان معه بالبَطيحَة طولَ مُقامه، وولاه البريدَ والأخبار، وكان ظريفًا فصيحًا، كثيرَ النوادر [والمُلَح]، انحدر من بغداد فِي سفينته مع الرضي والمرتضى إلى واسط ليلقى بعض الملوك، فخرج عليهم قُطَّاع الطريق، فرمَوهم بالمقاليع والحذافات، وصاحوا عليهم: تقدَّموا يا أزواج القِحاب. فقال البَتِّي: ما خرجوا علينا إلَّا بعينٍ. فقالوا: من أينَ علمْتَ؟ قال: فمِنْ أين علموا أنَّا أزواجُ قِحاب. فتضاحك القوم. و[قال الخطيب]: وكان شاعرًا، قال له بهاء الدولة: اكتُبْ إلي أبياتًا تكتبها بعضُ الجواري على تكة. فأملى عليه بديهًا: [من مجزوء الكامل] لِمَ لا أتيهُ ومَضْجعي ... بينَ الرَّوادفِ والخُصورْ وإذا نُسِجْتُ فإنَّني ... بينَ التَّرائبِ والنُّحورْ ولقَدْ نشأتُ صغيرةً ... بأكُفِّ ربَّاتِ الخدورْ ¬

_ (¬1) المثبت من (م) والمنتظم، وما بين حاصرتين منه، وجاءت العبارة فِي (خ) و (م 1) غير مستقيمة. (¬2) هذا الخبر والذي قبله فِي المنتظم 15/ 91 - 92. (¬3) فِي (خ): الجابية. والمثبت من المنتظم 15/ 85، وتلك الغزوة كانت فِي بلاد الهند. (¬4) المنتظم 15/ 92. (¬5) تاريخ بغداد 4/ 320، والمنتظم 15/ 93، ومعجم الأدباء 3/ 254 - 270.

الحسن بن حامد

وكانت وفاتُه فِي شعبان ببغداد [وقال الخطيب: حدَّث البَتِّي عن أبي بكر بن مِقْسَم المقرئ وغيره]، وكان [البَتِّي] حافظًا للقرآن، تاليًا له، [متقنًا، عارفًا بأحكامه]. [وفيها تُوفي] الحسن (¬1) بن حامد ابن علي بن مروان، أبو عبد الله، الحنبلي، الورَّاق، كان مدرسَ الحنابلة ببغداد وفقيهَهم، وله مصنفات منها: كتاب "الجامع" أربع مئة جزء، ويشتمل على اختلاف الفقهاء، و [له] مصنفات فِي أصول الدين والفروع، وهو شيخ القاضي أبي يعلى بن الفرَّاء، وكان مُعظَّمًا فِي النفوس، مُقدَّمًا عند السُّلطان والعامَّة، وكان ينسخ بالأجرة، ويتقوَّتُ منه، خرج فِي هذه السنة إلى مكة، فجرى على الحاجِّ ما ذكرناه، فاستند إلى حجرٍ، فجاءه رجل بقليل ماء وقد أشفى (¬2) على التلف، فقال: من أين هذا؟ فقال له الرجل: ما هذا وقته. قال: بلى هذا وقته عند لقاء الله تعالى. وتوفي بقرب واقصة. وأخرج له الخطيب حديثًا مسندًا عن أنس (- رضي الله عنه -)، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كفَّارةُ الاغتياب أن تستغْفِرَ الله لِمَن اغتَبْتَه". قلت: وهذا محمولٌ على حالة النسيان. فيروز أبو نصر (¬3) بهاء الدولة بن عضد الدولة، وقيل: اسمه خاشاد، وهو الَّذي قبض على الطائع، وقطع أذنه، وفعل به ما فعل، من نَهْبِ داره، وإزالةِ الخلافة عنه، وكان ظالمًا غشومًا، سفَّاكًا للدماء، فكان خواصُّه يهربون من قُربه، وجمع من المال ما لم يجمَعْه أحدٌ، وصادر الناسَ، وكان يبخل بالدرهم، وينظر فيه ويستكثره، ولم يكن فِي بني بُوَيه أظلمَ منه ولا أقبحَ سيرةً، وكان يُصرَعُ فِي دَسْته، ورِثَ ذلك عن أبيه، وكانت وفاتُه بجرجان بعلة الصَّرَع، وتقارب أدواره، وكانت معه هذه العلَّة لازمته، ولم يَحْتمِ من النبيذ ويُكثرُ ¬

_ (¬1) تحرف فِي (خ) إلى الحسين، والمثبت من (م) و (م 1) ومصادر ترجمته: تاريخ بغداد 7/ 303، والمنتظم 15/ 94، ومناقب الإمام أحمد ص 625، وطبقات الحنابلة 2/ 171 - 177. وينظر السير 18/ 203. (¬2) فِي (م) و (م 1): أشرف، وكلاهما بمعنى. (¬3) ينظر المنتظم 15/ 95.

من شُربه ليلًا ونهارًا، ويكثر التخليط، و [كانت] إمارتُه أربعًا وعشرين سنةً وتسعةَ أشهر، وحُمِلَ من أَرَّجان إلى الكوفة، فدُفن عند أبيه، وكان ورد كتابُه على فخر الملك أنَّه قد عهد إلى ولده أبي شجاع، وأقامَه مقامَه، وأن يأخُذَ له البيعة، فجمع الدَّيلم وغيرهم، وقرأه عليهم، ثم أظهر وفاتَه. وقال نصر بن الحسين بن الصقر المعني وكان خِصِّيصًا ببهاء الدولة: لمَّا اشتدَّت العِلَّةُ به وقفَتْ حركتُه دعاني وقال: قد عرفتَ ميلي إليك، وعنايتي بك، وأريد أن تتولَّى خدمتي ولا تفارقني. فقلت: سمعًا وطاعةً. فلازمتُه والصرعُ يعتريه، فانحلَّت قُواه وسقطت، ولمَّا كان يومُ وفاتِه أُغمي عليه وأسكت، ودخل أبو الخطاب حمزةُ بن إبراهيم وكان يدخل عليه بكرةً كلَّ يوم وبيده قدحُ ماء الشعير، فيسقيه ثم يخرج ولا يعود إلى مثل ذلك الوقت، فلمَّا رآني حارَ ودَهِشَ وما كان يكلِّمني قبل ذلك؛ لحقارتي عنده، فقال لي: يا حاجب، ما ترى ما نحن فيه ما بقي أحدٌ من أصحاب هذا الملك إلَّا وقد أعدَّ لنفسه مِن حَدَثِ حادثة جِهةً يهرب إليها سواي، وقد عزمتُ على إحضار الأميرين أبي شجاع وأبي طاهر وأُسْلِم إليهما الأمرَ والخزائنَ والعساكرَ بما أوصى إليَّ فيهما. ثم بكى، ففتح بهاء الدولة عينه كالمُنكِرِ لذلك، فقام أبو الخطاب وخرج، ودمعَتْ عينُ بهاء الدولة، ورُوسِلَ أبو طاهر بالحضور لسماع وصيته فامتنع، فأظهروا أنَّه أوصى إلى ولده أبي شجاع، فأنكر ذلك أبو طاهر، وقصد دار المملكة، وأراد أن يدخل من بعض أبوابها، فدفعوه عنه، وقال له خواصُّ أبيه: أخوكَ أبو شجاع أكبرُ منك، وقد أوصى إليه أبوك. فقال: أمَّا سِنُّه فما بيني وبينه إلَّا شهور، وأمَّا وصية أبي إليه فما هو صحيح، فحلفوا له عليها، واتَّفقوا على أن يُفرِدوه بالبصرة وأعمالها، وأن يُعطوه مالًا وثيابًا ودوابَّ، فرضي. وأُخرِجَ تابوتُ بهاء الدولة وصُلِّي عليه، وبُعِثَ مع أبي منصور مردوست إلى الكوفة، وجلس فخر الملك ببغداد للعزاء فِي دار المملكة ثلاثةَ أيام، ولبس السَّواد، وفعل الجند والكُتَّاب كذلك، وراسل الخليفةَ فِي إقامة الخطبة لأبي شجاع، فتوقَّف، ثم أذن، وقال الخطيب: اللهمَّ وأصْلِحِ الملِكَ السيدَ الأجلَّ أبا شجاع، مولى أمير المؤمنين، وارحَمِ الملِكَ بهاء الدولة. وكتب إلى البلاد بذلك على رسم بهاء الدولة،

قابوس بن وشمكير

وخرج فخرُ الملك والدولة إلى النُّعمانية يتلقَّون التابوت، وكتب فخرُ الملك إلى أبي شجاع وأبي الخطَّاب وأبي المِسْك الأبتر بالتعزية، وحمل مالِ البيعة، وكانوا بأَرَّجان، ولمَّا وصلوا النُّعمانية تلقَّاهم التابوت فِي زَبْزَب بهاء الدولة، فلمَّا رأَوه تلقَّوه حُفاةً حاسرين يبكون ويضعون التراب على رؤوسهم، ويُقبِّلون له الأرض، ونُقِلَ التابوتُ إلى مسجد هناك، وتُرِكَ فيه، وليس عنده غير فراش واحد، وما التفتوا إليه بعد ذلك، فسبحان الَّذي لا ملك إلَّا ملكه. وورد أبو الحسن علي بن مَزْيَد وسار مع أبي منصور مردوست والتابوت إلى الكوفة، فوصلوا المشهد يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بَقِيَتْ من رجب، ووصل فخر الملك واسط، فطالبه الأولياء بمال البيعة، فقال: لكم أسوةٌ فيَّ وبمن معي وبمن ببغداد، وسوف يُحمل إليكم. وسار إلى الأهواز، وطالبه الجندُ بمال البيعة، فقال: فِي خزانة أَرَّجان، إلَّا صبابة يسيرة، وسوف أبعث إلى شيراز، وأُنزِلُ من القلعة المال، وبلغ الدَّيلَم، فشَغَبوا وقصدوا فخرَ الملك، فردَّهم غلمانُه، وضرب لهم أجلًا، وبعث إلى أبي شجاع وهو بشيراز يطلب المال، فبعث إليه بخمسين ألف دينار وخمس مئة ألف درهم، وإلى القادر عشرة آلاف دينار وثلاثين بدرة وَرِقًا وثلاثين ألفَ درهم لابن حاجب النعمان والحاشية، وصندوقين مملوءَين مِسْكًا وعنبرًا وكافورًا وعودًا، ففرَّق فخرُ الملك المال بواسط، ونزل إلى بغداد، فلم يبْقَ أحدٌ إلَّا أعطاه، واستقرَّتِ الأمورُ، وطابت قلوب الجند، واستدان فخرُ الملك مئةً وخمسين ألف دينار أخرى، وفرَّق الجميع. قابوس بن وَشْمِكِير (¬1) شمسُ المعالي، أميرُ الجبال ونيسابور وغيرِها، كان بعدَ لينِ الجانبِ وسماحةِ الخُلُقِ قد استعمل السَّطوةَ، وقتلَ جماعةً من خواصِّه وحُجَّابِه، ففسدتِ القلوبُ عنه، وتوازرَ ستةُ نفرٍ من أصحابه على التدبير عليه، فقصدوا ابنَه منوجهر، وقالوا: مِنْ حقِّكَ علينا أن ننصحَ لك ونخرجَ إليك بسرِّ العسكر فِي أبيك، وقد أجمعوا على الفتكِ به أو القبضِ عليه؛ لما قد أنكروه من سوء سيرتِه وقُبْحِ معاملته، ومتى لم يُتدارَكِ الأمرُ بأن ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 95، ومعجم الأدباء 219 - 233، ويتيمة الدهر 4/ 67 - 70.

تكون الداخلَ فيه، وإلَّا خلطوك معه، وخرج المُلْكُ عنكم، والرأيُ أن تتولَّى القبضَ عليه، فأجابَهم وشكرَهم ووعدَهم المساعدةَ عليه، فقَبَضَ على أبيه، وحمَلَه إلى القلعة، واستمال الجُندَ وأرضاهم ووصلَهم، فطالبوه بقتل أبيه، وقالوا: قد أوحشناه نحنُ وأنتَ، وفي إبقائه خطرٌ علينا وعليك، فإنَّا لا نأمن أن يتمَّ علينا ما تمَّ لبدر بن حسنويه مع هِلال ابنه، فنندم حيث لا ينفع الندم، فصَعِد إلى القلعة، فوجد أباه قد دخل الخلاء وعليه ثوبٌ واحد، فأخذ جميعَ ما كان فِي البيت، وخرج أبوه فجعل يصيح: البردَ البردَ، أعطوني جلَّ دابةٍ. فما أعطاه شيئًا، فمات من البرد، ثم إن منوجهر قتل خمسةً من الذين أشاروا عليه بقتل أبيه، وهرب واحدٌ إلى خُراسان، فكتب منوجهر إلى محمود بن سُبُكْتِكين يطلبُه، فبعث إليه وقال: إنما أسلمتُه لئلَّا يطمع أحدٌ فِي الملوك ويُقدِمَ هذا الإقدام. فقتلَه، وكان قابوسُ مضطلعًا بكثير من العلوم والآداب، مولَعًا بأحكام النجوم. وقيل: إنه حكم لنفسه أن منيَّتَه على يدِ ولده، وكان له أولادٌ، ألينُهم جانبًا، وأشدُّهم به بِرًّا منوجهر، فكان يؤثِرُه ويُدنيه. وأخشنُهم ملمَسًا، وأكثرُهم عقوقًا، وأعظمُهم جرأةً وإقدامًا دارا، فكان يكرهُه ويُغضِبُه، ويهمُّ مرارًا بالقبض عليه، وأحسَّ دارا، ففارقه ومضى إلى خراسان، واختلط بخَواصِّ محمود بن سُبُكْتِكين وندمائه إلى أن مات عنده، فكانت منيَّةُ قابوس على يد منوجهر. ومن نظم قابوس: [من الكامل] خَطَراتُ ذِكْرِكَ تستثيرُ مودَّتي ... فأُحِسُّ منها فِي الفؤادِ دبيبا لا عضوَ لي إلَّا وفيه صبابةٌ ... فكأنَّ أعضائي خُلِقْنَ قلوبا ومن نثره: واللهُ يُمْتعُه بالفضل الَّذي استعلى على عاتِقِه وغاربِه، واستولى على مشارقِه ومغاربِه. وقال: الكريمُ إذا ضمن لم يُخلِفْ، وإذا نهضَ لفضيلةٍ لم يقِفْ، وما دام هو للفرصة مرصدًا، ولإنجاز ما نواه معتقدًا، كان الرَّجاءُ كنَورٍ فِي كِمام، ونورٍ فِي ظلام، ولا بُدَّ للنَّور أن ينفتح، وللنُّور أن يتوضَّح. وزار صديقًا له، فوجده سكرانَ، فكتب عند رأسه: رُحْنا إليكَ وقد راحَتْ بكَ الرَّاحُ

محمد بن محمد

[وفيها تُوفِّي] محمد بن محمد (¬1) ابن عمر، العلوي، أبو الحارث، نقيبُ الطالبيين بالكوفة، [و] كان شجاعًا، جوادًا، ديِّنًا، رئيسًا، وكانت إليه النقابة مع تسيير الحاجِّ، فحجَّ بالناس عشر سنين، فكان يُنفِقُ عليهم من ماله، ويحمل المنقطعين، ويؤدي الخفارة للعرب من ماله، وكانت وفاته بالكوفة فِي جمادى الأولى. محمد بن الطيب (¬2) ابن محمد، أبو بكر، الباقلاني، القاضي، المتكلِّم على مذهب الأشعري، من أهل البصرة، وسكن بغداد، وسمع الحديث الكثير، وكان ثقة، فأمَّا علم الكلام فكان أعرفَ الناس به، وأحسنَهم خاطرًا، وأجودَهم لسانًا، وأوضحَهم بيانًا، وله التصانيف الكثيرة فِي الردِّ على الرافضة والمعتزلة والجَهْمية والخوارج وغيرهم. وجاء يومًا إلى حلقة ابن المُعلِّم فقيهِ الشِّيعة، فقال ابن المُعلِّم لأصحابه: قد جاءكم شيطانٌ. وسمعه ابن الباقلاني، فقرأ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]. وبعثه عضد الدولة فِي رسالةٍ إلى الروم، فقال عظيم الروم: هذا عظيمٌ فِي المسلمين، فلا يُقبِّل الأرضَ بين يديَّ. فاحْتال بأن صنعَ بابًا قصيرًا بين يَدي سريره ليدخل فيه شبيهَ الراكع، فلمَّا نظر إليه القاضي ولَّاه ظهرَه ودخل، فلمَّا وقف قائمًا استقبل الملك، وأدار وجهه إليه، فعَظُم فِي عينه. وكان إذا صلَّى العشاء الآخرة وفرغ من ورده كتب من حفظه خمسًا وثلاثين ورقةً تصنيفًا، وما كان ينقل من كتاب أحدٍ، وكان جوادًا مُمدَّحًا، مدحه علي بن عيسى بن سُكَّرة بأبيات منها: [من الكامل] ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 95. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 378 - 383، وتبيين كذب الفتري ص 217 - 226، والمنتظم 15/ 96. وينظر السير 17/ 190.

محمد بن موسى

يا عُتْبُ هل لتعتُّبي من مُعْتِبِ ... أم هَلْ لديكِ لراغبٍ من مُرْغِبِ ملكَتْ مَحَبَّاتِ القلوبِ ببهجةٍ ... مخلوقةٍ من عفَّةٍ وتَحبُّبِ فكأنَّها من حيثُ ما قابلتُها ... شِيَمُ الإمامِ محمدِ بنِ الطَّيِّبِ وكانت وفاتُه ببغداد يوم السبت لسبع بقين من ذي القَعدة، ودُفن بداره بدرب المجوس، ثم نُقِلَ إلى مقابر الإمام أحمد رحمة الله عليه، فكانت الحنابلة إذا مرَّت بقبره تقول: تُرى هذه الصداقةُ من أين؟ . محمد بن موسى (¬1) ابن محمد، أبو بكر، الخُوارَزمي، إمام الحنفية، انتهت إليه رياستهم، وكان مُعظَّمًا عند الخلفاء والملوك، من تلامذته: الرضيُّ الشريف، والقاضي الصَّيمَري. وقال أبو بكر البَرْقاني: سمعتُه يقول: دينُنا دينُ العجائز، ولسنا من الكلام فِي شيء. وكان له إمامٌ حنبليٌّ، وما شهد الناسُ مثلَه فِي حُسن الفتوى والإصابة فيها، ودُعِيَ مرارًا إلى ولاية الحكم، فامتنع، وتُوفِّي ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى، ودُفِنَ فِي منزله بدرب عبدة. وقيل: ثم نُقِلَ إلى سويقة غالب. السنة الرابعة وأربع مئة فيها فِي يوم الخميس غُرَّة ربيع الأول انحدر فخر الملك إلى دار الخلافة، فلمَّا صَعِد من زَبْزَبه تلقَّاه أبو الحسن علي بن عبد العزيز - حاجبُ النعمان - والحُجَّاب والخَدَمُ، فقبَّل ابنُ حاجب النعمان الأرضَ بين يديه مرارًا، وكذا مَن كان معه، وقُدِّمَتْ له دابَّةٌ ركبها من المَشرعة فِي المكان الَّذي نزل فيه عضد الدولة ودخل والحُجَّابُ بين يديه، وجلس القادرُ فِي القُبَّة، واستدعى فخرَ الملك، فوصل إليه، وجاء الناسُ على طبقاتهم، وامتلأَ المكانُ، فقال الخليفة: يا فخر الملك، امنَعْ من هذا الاختلاط. فأخذ دبُّوسًا، وقام بنفسه، وردَّ الناسَ وأخرجهم، ووكَّل النقباء بباب القُبَّة، وقرأ أبو الحسن ابن حاجبِ النُّعمان عهدَ سلطان الدولة بالتقليد والألقاب، وكاتب عمادُ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 247، والمنتظم 15/ 96 - 97.

الدين - شرفُ الدولة مؤيِّدُ المِلَّة ومغيثُ الأمة - صفيَّ أمير المؤمنين، وعلَّم القادرُ عليه، وأُحضِرَتِ الخِلَعُ السبعة، وفيها التَّاج، والطوق، والسواران، ولواءان على العادة، ومراكب الذهب، وحلف الخليفةُ لسلطان الدولة، وأعطى الخليفةُ لفخر الملك سيفًا أَحمر الجَفْن، مُحلَّى الحمائل، وقال للخادم: قَلِّده به، فهو فخرٌ له ولعَقِبه، يُفتح به على يديه شرقُ الأرض وغربُها، وكان يومًا عظيمًا جليلًا (¬1). وسُلِّمتِ الخِلَعُ إلى مردوست وأبي بكر بن المُعلِّم، وبعث الخليفةُ من عنده القاضي أبا حازم محمد بن الحسن وخادمين ناجي ودوام، والعهد من إنشاء ابن حاجبِ النعمان، وكان فِي أوَّله: من عبد الله أبي العباس أحمد الإمام القادر بالله أمير المؤمنين إلى فناخسرو بن قوام الدين بهاء الدولة أبي نصر مولى أمير المؤمنين، وذكر ما جَرَتْ به العادة فِي العهود، ولمَّا وصلتِ الخِلَعُ إلى شيراز لبسها سلطان الدولة. وجاء كتاب محمود بن سُبُكْتِكين يعتِبُ على القادر قولَه لمَّا أعطى السيف لفخر الملك: إنَّك تفتحُ الدنيا من مشرقها إلى مغربها. فاعتذرَ، وبعث إلى محمود بالخِلَع السُّلطانية والتاج والطوق والسوارين. وفيها استولى الحاكم [صاحب مصر] على حلب، وزال ملك بني حمدان عنها. قال هلال بن الصابئ: كان فِي قلعة حلب والٍ يُقال له: الفتح غلامُ ابنِ لؤلؤ، فاتَّهمه أنَّه واطأ صالح بن مِرْداس على الهرب من قلعة حلب، فراسله فِي ذلك، فأنكر الفتحُ، وحلف واعتذر، فلم يقبل عُذْرَه، واستوحش الفتحُ، وفسد قلبُه وخاف، وعزمَ ابنُ لؤلؤ على عزلِ الفتح وإنزالِه من القلعة، وكان مقيمًا لا ينزل، وابنُ لؤلؤ مقيمًا بالبلد، وجميعُ أموالِه وذخائرِه فِي القلعة، ويستدعي منها ما أراد، وكان بحلب شيخ يُقال له: ابن غانم، له مال وثروةٌ، وابنُ لؤلؤٍ طامعٌ فيه ومدبِّرٌ فِي القبضِ عليه ومصادرتِه، وقد عرف ذلك، فهو يخافه ويحذَرُه، وكان بين غانمٍ والفتحِ مودةٌ، فلم يَزلْ يوحِشُه من ابن لؤلؤ ويحسِّنُ له العصيانَ عليه، ثم خلا ابنُ لؤلؤ بأخيه أبي الجيش وقال له: قد علمتَ ما عاملني به الفتحُ، وما يَقِرُّ لي قرارٌ حتَّى أشفيَ غيظي منه، وقد اخترتُ سرورًا غلامي أُوَلِّيه القلعة، وأُنزِلُ الفتحَ منها، فقال له: اكتُمْ هذا الأمرَ؛ لئلا يتِمَّ الأمرُ والخبرُ إلى ¬

_ (¬1) الخبر إلى هنا فِي المنتظم 15/ 98.

الفتح، فيتولَّد منه فسادٌ لا يُتدارك، فاستحلف سرورًا على ذلك، وأنه يكتم الأمر حتى يصعد أبو الجيش القلعة، كأنه يتفقَّد الخزائن، ويولِّي سرورًا، ويقبض على الفتح. وكان سرورٌ صديقًا لابن غانم، وكثيرَ الأُنس به، فجاءه وشكا إليه خوفه من ابن لؤلؤ، وأنه على وجَلٍ من مصادرته، فقال له سرور: اصبِرْ، فقد تجدَّد أمرٌ، أنا أُبلِّغُكَ ما تُريده. فقال: ما هو؟ فقال: لا يُمكِنُ ذِكْرُه. فألحَّ عليه، فاستحلفه على كتمانه، فحلف له، فاسترسل إليه وأخبره الخبر، فعاد ابنُ غانم إلى ذِكْرِه، وبعث إلى الفتح، فقال: قد تجدَّدَ أمرٌ لا يحتمل الرسائل، ولا بُدَّ من الاجتماع. فقال للفتح: تنكَّرْ والبَسْ ملبوسَ النساء، واصعَدْ إليَّ بين العشاءين. ففعلَ ابنُ غانم، وصعد إليه، فأخبره بما جرى، قال: فما الرأيُ عندك؟ قال: تكتُبُ إلى الحاكم، وتُسلِّمُ إليه القلعة، وتكتبُ إلى علي بن أحمد بن الضَّيف المقيم بفامية وتجعله الواسطة، ففعل الفتحُ ذلك، وأمر ابنُ لؤلؤٍ أخاه أبا الجيش بالصعود إلى القلعة، وأن يستصحب سرورًا، فبعثَ أبو الجيش أحدَ حُجَّابه إلى الفتح يُؤذِنه بصعوده، فقال له الفتح: قد شربتُ دواءً، فيؤخَّر الصعودُ اليوم، فإنِّي ما أسكُنُ إلى أحدٍ ينوب عني فِي فتح الخزائن، وإن لقيتَه فِي الطريق فرُدَّه. فعاد أبو الجيش إلى أخيه وأخبره الخبر، فقَلِق وأحضر والدتَه وعرَّفَها ذلك، فقالت: لا تقْلَقْ، واسلُكْ سبيل المُداراة مع الفتح، وأنا أصعدُ اليوم. وصعدَتْ، فأكرمها الفتحُ، واعتذر إليها من ردِّ أبي الجيش، وقال: أنا على طاعة مولانا مرتضى الدولة، وعُذري واضح. فقالت: اعتقادُكَ معروف، وعذرُك مقبول، وولدي منك على الثقة التامَّة، وإنما خاف أن يسبِقَ إلى قلبِكَ شبهةٌ، أو تعتريكَ وحشةٌ، وقد أنفذني إليك. فقال: أنا مملوكه، وقد كُنْتُ سألتُه إعفائي من هذا الموضع؛ لأني قد كبِرْتُ وضعُفْتُ وأكون ملازمًا خِدْمتَه، فنزلَتْ وهي مسرورةٌ بما سمعت منه، وأغفلَ ابنُ لؤلؤ الأمرَ مدَّةً تأنيسًا للفتح، ثم أرسل إليه يطلب صندوقين كان فيهما جوهرٌ له قيمة، فقال الفتح: هذا يومٌ مذمومٌ، والمصلحةُ لا يُنقَلُ فيه شيء. فعاد الرسول إلى ابن لؤلؤ فأخبره، فقَلِقَ، وعلم أن المكاشفة لا تغني؛ لأنَّ أمواله وذخائرَه فِي القلعة، فقال لأمِّه وأخته: ما الرأي؟ قالتا: أَظهِرْ أنك مريض، واطلُبِ الفتحَ لتوصي إليه، فتمارض أيامًا، وكان ابنُ غانم يبحث عن الأحوال، ويعرف للفتح ما يتجدَّد، فلمَّا تظاهر

ابنُ لؤلؤ بالمرض حجب الناسَ عنه، واشتدَّ الإرجاف بموته، فصَعِدت والدتُه إلى الفتح، وقالت: إنه فِي حال العدم، يريد أن يُوصي إليك. فأظهرَ الانزعاجَ لمرضه، واعتذر عن النزول بضعف البدن، وربما تولد من نزولي فسادٌ من العامَّة، فيحضر القاضي والشهود ويوصي إلى من يريد، وأكون مساعدًا فِي الأمر، فيئِستْ منه، وعادت وابنُ غانمٍ يُحذِّرُه. وكانت سيرةُ ابنِ لؤلؤ فِي الرعية سيرةً قبيحةً، ونياتُهم له فاسدةً، ففتح بابَه، وأظهر العافية، وجاءت كتبُ الحاكم إلى الفتح بما يريد، وأقطعَه صورَ وصيدا وبيروتَ وارتفاعها نحو مئة وخمسين ألف دينار، وأنه قد كاتب علي بن أحمد بن الضيف بالمسير إلى حلب، فقوي عَزْمُ الفتح، واستشار ابنَ غانم، فقال: هذا أمرٌ قد طال، وابنُ لؤلؤٍ معك فِي البلد، وأخاف عليك منه، ولم يبْقَ للصُّلحِ وجهٌ، فاستَمِلِ الرجال الذين معك فِي القلعة، وابذُلِ المال وكاشِف. فبذلَ المال، واستمال الرجال، وكتب إلى ابن الضيف بالمبادرة، وعزم على المكاشفة فِي ليلة بعينها. وكان للفتح دارٌ بالمدينة، فبعث تلكَ الليلة خادمَه حَفَّاظًا فِي ثلاثين رجلًا من غلمانه بالسلاح، فأخذوا ما كان فِي الدار من مالٍ وأثاثٍ وجَوارٍ، وصَعِدوا القلعةَ، فصادفهم صاحبُ المعونة، فقال: ما هذا؟ فشتموه، ولعنوا ابنَ لؤلؤ، وكاشفوا بالخلاف، فركب ابنُ لؤلؤ بنفسه، وصاح: يا فتح، اللهَ اللهَ أن تُشمِتَ بيَ الأعداء، وتُضيعَ ما أوجبه الله عليك من حقِّي، وأنا أبذل لك كلَّ ما تريد من يمين ووثيقة. فقال له الفتح: هيهاتَ! فاتَ الأمرُ، وخرج عن يدي، ولا يمكنُ التَّلافي، فخُذْ لنفسك، وقد أنظرتُكَ إلى نصف الليل، فإن خرجْتَ عن البلد فقد أفلَتَّ، وإن أقمتَ كنتَ مخاطِرًا مغرورًا. وانصرف الفتحُ، وعادَ ابنُ لؤلؤ إلى داره، وقال لأخيه: ما فعلَ الفتحُ هذا إلَّا عن قاعدةٍ مع المغاربة، والساعةَ نوافي صالحَ بن مِرْداس إلى باب البلد، فإن أقمنا وقاتلنا لم نأمَنْ مَنْ عندنا، وإن حاولنا لم نجدْ مذهبًا، والمصلحة الخروج. فبينما هما فِي الخطاب إذ زحَفت العامَّةُ إلى الدار، وهجموا عليهما، فخرجا هارِبَين على وجههما، وتَرَكا الأموال والحُرَمَ والكُراعَ والنَّعَم، وركب ابنُ لؤلؤ فرسَ النُّوبة، وأخذ معه عشرين ألف دينار، وخرج معه أخَواه، وأربعةُ أولادٍ، وعشرُ غِلْمَةٍ صِغار، وبعضُ حُجَّابه، وجاؤوا

إلى باب البلد، فكسروا أقفالَه، وخرج وهو يقرأ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ ... } الآية [آل عمران: 26]. واجتمعَ الجندُ والعامَّةُ فنهبوا الدارَ والخزائنَ، وطرح الجواري النارَ فِي أطراف الدار، ورفعَ الفتحُ الشُّموعَ والمشاعِلَ على سور القلعة، ونادى بشعار الحاكم، وأصبح الناسُ وقد أُحرِقَتْ دارُ ابنِ لؤلؤ، ونُهِبَ ما كان له ولأخوتِه، من مالٍ وغَلَّةٍ وفُرُشٍ وثيابٍ وأثاثٍ وكُراعٍ وغيره. وتوجَّه ابنُ لؤلؤ طالبًا أنطاكية، وذلك فِي آخر رجب من هذه السنة، وضلُّوا عن السكَّة، فالتقَوا رجلًا، فأخذوه، فدلَّهم على الطريق، وأعطاهُ ابنُ لؤلؤ دينارًا، وقال: ما اسمُكَ؟ قال: حَنين. وبلغَ بِطْريقَ أنطاكية وصولُه، فخرج إليه بصُلبانه وعساكره، فتلقَّاه وأنزله دار البُرجيِّ، وأكرمَه، وحمل إليه الضيافات، وكتب إلى بسيل ملكِ الروم يُعَرِّفُه حصولَه عنده وما جرى عليه، وكتب ابن لؤلؤ إلى الملك يَمُتُّ بخدمته وخدمة والده، وأنه قد استجارَ به، وطلب مساعدتَه ونُصرتَه. وأمَّا أمُّ ابنِ لؤلؤ فإنها جمعت بقيةَ أولادِه وحُرَمِه فِي بعض المساجد على حالٍ تُبكي العيون وتَجرح القلوب. وولَّى الفتحُ البلدَ أبا المُرَجَّى بن المستعاد، فركب، وسكَّنَ الناسَ، وأحضرَ فتحٌ القُوَّاد والوجوهَ، وأخبرهم أنَّ ابنَ لؤلؤ غدرَ به، وكان على عزم الفَتْكِ به، فصوَّبوا رأيَه فيما فعل، فأجراهم على إقطاعاتِهم، وأعطاهم الأموال، واستحلفهم للحاكم، فحلفوا، وبعث إلى والدة ابنِ لؤلؤ بالصعود إليه مع الحُرَمِ والجواري ليتولَّى رعايتهنَّ وصيانتهنَّ، وقال: إن شئتِ ألحقتُكِ بوَلَدِكِ. فأجابَتْه بالغِلْظة وقالت: ضيَّعْتَ حقوقَنا، وأخرجْتَنا عن مِلْكِنا، وسلبْتَنا نعمَتَنا، وتُخيِّرني! فقال: هذا بإزاء ما عاملْتُم أولادَ سعد الدولة مولاكم، وكفَرْتُم إحسانَه إليكم. فاختارَتْ أن تخرجَ إلى صالح بن مِرْداس، وجاء إلى الفتح وصَعِد القلعة، وهنَّأْه، وتحالفا، وحملَ إليه الفتحُ مالًا وثيابًا وآنيةَ ذهبٍ وفضَّةٍ، وقاد إليه خيلًا. وأرسلت والدةُ ابنِ لؤلؤ إلى صالح تقول: قد اخترتُ الحصولَ عندك، والمُقامَ معك. فأجابها بأحسن الوعد، فخرجت بالحُرَمِ ومئةِ جارية، وكان سببُ اختيارِها صالحًا أنها كانت

قد ربَّتْه، وخطب ابنةَ لؤلؤ - وكان يُدافِعُه ولا يراه كفؤًا لها - فظَنَّت أنَّه يتزوج البنتَ وتعتضدُ به، ويكون لها موئلًا وملجأً، فخرجت من حلب ومَنْ معها على الحمير وهُنَّ مُتَّزِراتٍ، فلمَّا حصَلْنَ عند صالح فِي الحِلَّة أحضر الجواري وفرَّقهنَّ فِي بيوته، ووهَبَهُنَّ لنسائه، فقالت له والدة ابن لؤلؤ: ما كان هذا ظنِّي فيكَ، ولقد كُنْتُ أظنُّ الوصلةَ بِكَ، وتنتقلُ الجواري مع البنتِ إليكَ. فقال: أنا رغبتُ فِي مصاهرتكم لمَّا كان ابنُكِ أميرَ حلب وصاحبَ القلعة وله الأموالُ والذخائرُ، فأمَّا الآن فأنتِ والصبيَّةُ ومَنْ معها إمائي. فقالت: يا صالح، سبَيتَنَا ونحنُ اخترناكَ! ما هذا ذِمامُ العربِ، ولا فِعْلُ الناس، وسوف ترى. فأمر بحمل والدة ابنِ لؤلؤ والصبيِّةِ وبعضِ الجواري إلى حِصْنِ مَنْبج، فاعتقلهنَّ فيه. وأمَّا العساكر الحاكمية فجاءت إلى حلب مع علي بن أحمد بن الضيف ومعه توقيع الحاكم بتسويغه (¬1) جميعَ ما فِي قلعة حلب، إلَّا السلاح، ولقَّبه مبارك الدولة، وأمره بتسليم القلعة والبلد إلى ابن الضيف، فسلَّمها إليه، فدخلَ البلدَ، وعدلَ فِي الناس، وأحسنَ السيرةَ، وأزال المُؤَنَ والرُّسومَ التي جدَّدَها ابنُ لؤلؤ، وسار الفتحُ إلى صور والأماكن التي أُقْطِعها، وخرج معه ما كان فِي القلعة من أموال بني حمدان، وبعثَ إلى الحاكم بهدايا مبلغها خمس مئة ألف دينار، وأقام بصور والأماكن إلى أن تُوفِّي الحاكم وارتُجعَتْ منه. وأمَّا ابنُ لؤلؤ فأحسنَ إليه بسيل ملك الروم، وأقطَعَه ضياعًا كثيرة، وقرَّر له المُقام بناحيةٍ تُعرف بسحلون بينها وبين حلب عشرةُ فراسخ، ووعده بما طابت به نفسُه، واستدعى منه إنفاذ أبي الجيش وطارق أخويه وولديه إلى القسطنطينية رهائن، فبعثهم، وشرع يستميل الحمدانية بموافقةٍ مِنْ بسيل، وكاتب بسيلُ البِطْريقَ المقيمَ بأنطاكية يأمره بأن يُمِدَّه بما يطلبه من مالٍ ورجالٍ، وأقام ابنُ لؤلؤ على هذه الحال، ومات بسيل، وقام أخوه قسطنطين فأقرَّه على ذلك، ولم تزَلْ حلبُ تنتقل من والٍ إلى والٍ إلى أن حصل فيها غلامٌ من الحمدانية ويُلقَّبُ بعزيز الدولة فاتك، كان الحاكم قد رفَعَه واصطنَعَه، فحدَّثتْه نفسُه بالعصيان، فسكنَ القلعةَ، وجعلَها دارَه، ومات الحاكم، ونظرت أختُه ستُّ الملوك فِي الأمور بعدَه، فزاد طمَعُه فِي البلد، فسلكَتْ معه سبيلَ اللُّطفِ والمُغالطة، وواصلَتْه بالخِلَعِ والإحسان، حتَّى وافقت بعضَ أصحابه على قتلِه، ¬

_ (¬1) أي: بإعطائه. ينظر معجم متن اللغة 3/ 250.

إبراهيم بن عبد الله بن حصن

فقتله على فراشِه، وسيَّرَتْ إلى حلبَ ابنَ الكُتامي فِي البلد، ورتَّبتْ فِي القلعة موصوفًا الخادمَ، وأجرَتْ صالح بن مِرْداس على عادتِه فِي الإقطاعات وزادَتْهُ، فأنفذَ إليها صالح ابنَه، فأكرمَتْه، وخلعَتْ عليه، وبعثَتْ لصالحٍ الهدايا والخِلَع، ولقَّبتْه أسدَ الدولة، وتوفيت، وصار الأمر إلى الطاهر، واستولى عليه معضاد الخادم، فأجرى الأمورَ على ما هي عليه، وسنذكر قصة صالح بن مِرْداس فيما بعدُ إن شاء الله تعالى، فالحاصل أنَّ مُدَّة ملك بني حمدان بحلب نيِّفًا وسبعين سنة؛ لأن سيف الدولة ملكها سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مئة، وزال ملكُهم فِي هذه السنة. وفيها تُوفِّي إبراهيم بن عبد الله بن حِصْن (¬1) أبو إسحاق، الغافقي، محتسبُ دمشق من قِبَلِ الحاكم [ذكره الحافظ ابن عساكر وقال]: سمع الحديث [ببغداد ودمشق ومصر]، وكان شهمًا فِي الحسبة، وأدَّب رجلًا، فلمَّا ضربه [دِرَّةً قال المضروب: هذه فِي قفا أبي بكر. فضربه] أخرى، فقال: هذه فِي قفا عمر. فضربه أخرى، فقال: هذه فِي قفا عثمان. فضربه أخرى (¬2)، فسكت، فقال له الغافقي: أنتَ ما تعرِفُ ترتيب الصحابة، أنا أُعَرِّفُكَ؛ وأفضلُهم أهلُ بدر، لأصفعنَك على عددهم. فصفعه ثلاث مئةٍ وستَّ عشرة دِرَّة، وحُمِلَ من بين يديه، فمات بعد أيام، وبلغ الحاكمَ، فكتبَ إليه يشكُرهُ ويقول: هذا جزاء مَنْ ينتقِصُ السلفَ الصالح. [وفيها تُوفِّي] الحسين بن أحمد بن جعفر (¬3) أبو عبد الله [ويُعرف بابن البغدادي. قال الخطيب]: كان زاهدًا عابدًا، لا ينام [الليل] إلَّا عن غلَبةٍ، ولا يدخلُ الحمام، ويأكل خبز الشعير، ويقول: هو والحنطة سواء. ويغسل ثيابَه بالماء لا غير، وكانت وفاتُه فِي شعبان، ودُفِنَ بباب حرب. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 7/ 12 (طبعة دار الفكر). (¬2) من قوله: فِي قفا أبي بكر إلى هنا ليس فِي مطبوع تاريخ دمشق. (¬3) تاريخ بغداد 8/ 15، والمنتظم 15/ 99، وطبقات الحنابلة 2/ 178.

الحسين بن عثمان بن علي

[وفيها تُوفِّي الحسين بن عثمان بن علي (¬1) أبو عبد الله، الضرير، المقرئ، البغدادي، ويعرف بالمجاهد؛ لأنه آخر من بقي فِي الدنيا من أصحاب ابن مجاهد، كان قد قرأ عليه القرآن، توفي بدمشق وقد جاز مئة سنة، ودُفِنَ بباب الفراديس، وكان أوحدَ عصره]. [وفيها تُوفي] علي بن سعيد (¬2) الإصْطَخري، أحد شيوخ المعتزلة، صنَّف للقادر "الرد على الباطنية"، وأجرى عليه جراية سنيَّة، وحبَسها من بعده على ابنتِه. السنة الخامسة وأربع مئة فيها (¬3) فِي خامس المُحرَّم ورد كتابٌ من مكَّة مع بدوَّيين من بني خَفاجة يخبر فيه بسلامة الناس وتمام حَجِّهم، ثم حضر رجلٌ وذكر أنَّ أباه وردَ من مكة بهذا الكتاب، وأنَّ هذين البدوَّيين قتلاه فِي الطريق، وأخذا الكتاب منه، فحبسهما فخرُ الملك، وأطلق لولدِ المقتول صلةً (¬4). وفيها حظَر الحاكمُ على النساء الخروجَ من منازلهنَّ والاطِّلاع من سطحٍ وطاقةٍ، ودخولِ الحمامات، ومنع [الأساكفة] من عَمَلِ الخفاف [لهنَّ] وقَتَلَ عِدَّة نسوةٍ خالفنَ أمره فِي ذلك. [قال هلال بن الصابئ: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الخضر قال]: وكان قد لهج بالركوب فِي الليل، وطَوْفِ الأسواق، ورتَّبَ فِي كلِّ دربٍ أصحابَ أخبارٍ يُطالعونه بما ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 84، وتاريخ دمشق 14/ 102 - 103، والمنتظم 15/ 99 - 100. (¬2) المنتظم 15/ 100، والكامل 9/ 246. (¬3) من هنا تبدأ نسخة المتحف البريطاني المرموز لها بـ (ف). (¬4) فِي الأصل (خ): سلبه، وهو تحريف، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما فِي المنتظم 15/ 101، والخبر فيه، وكذلك الخبر الَّذي يليه.

يعرفونه ويسمعونه [ويعطيهم العطاء الكثير]، ورتَّبَ (¬1) لهم عجائز يدخُلْنَ البيوت ويُشْرِفنَ على أحوال النساء [وأنَّ فلانة تحبُّ فلانًا، وأنَّ فلانًا يحبُّ فلانةً، ] فلم يكُن يخفى عليه من أسرار الناس شيءٌ، فإذا بلغَه عن دارٍ فيها شيءٌ بعث يقبض على المرأة التي فيها، فإذا اجتمع عنده جماعة [من النساء] أمر بتغريقهنَ فِي النيل، فافتضحَ النساء، وظهر ما كان مستورًا [من محبهنَّ]، فضجَّ النساء [من ذلك]، فأمر برُقعةٍ، ونادى: متى خرجتِ امرأةٌ من بيتها ليلًا أو نهارًا فقد أُبيح دمُها. ثم رأى بعد النداء عجائزَ خارجاتٍ، فأمر بتغريقهنَّ، فلم تُقدم (¬2) امرأةٌ بعد ذلك على الخروج، فكانت المرأةُ إذا ماتَتْ بُعِثَ نساءٌ ثقاتٌ يُشاهِدْنَها، ثم تُغسَّل وتُدفَن. وكتب النساء إليه رقاعًا يذكُرْنَ استمرارَ الضررِ عليهنَّ وعجزَهُنَّ، وأنَّ فيهنَّ مَنْ لا زوجَ لها، ولا وليَّ يُعينها [على أودها]، وأنهنَّ يَمُتْنَ خلف الأبواب فاقةً وفقرًا وجوعًا، فأمر الباعة بالطَّواف [في الدروب] ومبايعةِ النساء على الأبواب، من غير أن تبرز النساء على الرجال، وأقام على هذه الحالة مدةً [حتى ضيَّق على النساء الأرض]. [ذِكْرُ حكايةٍ جرَتْ فِي هذا الباب حكاها هلال بن الصابئ عن إبراهيم بن الخضر، قال]: واتَّفق أنَّه مرَّ قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقي فِي بعض المحالِّ، فنادَتْه امرأةٌ من طاقةٍ، وأقسمَتْ عليه [بالحاكم وآبائه] أن يقف [عليها] فوقف عليها، فبكَتْ بكاءً شديدًا، وقالت: لي أخٌ لا أملِكُ غيره [ولا يملك غيري]، وهو فِي آخر رَمَقٍ، وأنا أُقسم عليكَ إلَّا أمَرْتَ بحملي إليه لأراه قبل أن يقضي نحْبَه، [وتبقى فِي قلبي حسرةٌ منه]. فرقَّ لها [ورحمها، ولم يشُكَّ فِي قولها]، وأمرَ رجلين من أصحابه بِحَمْلِها إليه، فأغلقَتْ بابَها، ورَمَتِ المفتاح عند جارةٍ لها، [وأوصَتْها أن تُسلِّمه إلى زوجها عند انصرافه من سوقه]، ومضت [مع الرجلين] حتَّى وقفت على بابٍ فدقَّتْه [وفتح لها]، ودخلت وقالت للرجلين: انصَرِفا [مصاحَبَين]، وكانتِ الدارُ لرجلٍ [تهواه و] يهواها، فلمَّا رآها سُرَّ [بها] وسألها عن حالها، فأخبرته [بالحيلة التي تمَّت لها، وأقامت ¬

_ (¬1) فِي (خ): ورتبوا، والمثبت من (م) و (م 1). (¬2) فِي (م) و (م 1): تقدر.

عنده]، وجاء زوجُها [آخر النهار من سوقه] فوجد بابه مغلقًا [فانزعج]، فسأل الجيران [عن زوجته] فأخبروه [بما جرى لها مع القاضي، ودفعوا إليه المفتاح، فدخل بيته] فباتَ على أسوأ حالٍ [وأقبحِه]، وباكَرَ [إلى] دارَ القاضي، [فأعلن بالاستغاثة والظلامة، فأحضره القاضي] وسأله [عن حاله]، فقال: أنا زوج المرأة [التي فعلت بالأمس ما فعلت]، وقد كذَبَتْ. وقال: واللهِ ما لها أخٌ [ولا أحد]، وهي بنتُ عمِّي، وما أُفارِقُ القاضي إلَّا بها [كما أخرجها من داري]. فعَظُمَ على القاضي [ما سمعه]، وخاف سطوةَ الحاكم [إن لم يصدقه على الحال]، فقام من ساعته، ودخل على الحاكم، وقبَّل الأرضَ [بين يديه وهو مرعوبٌ، فسأله عن سبب انزعاجه، فقال]: يا مولانا، أنا لائذٌ بعفوك لِما تمَّ عليَّ أمسِ. قال: وما هو؟ فشرح له الأمر، فأمر [الحاكم] بإحضار الرجل [فأُدخل عليه] فسأله عن حاله، فأخبره وهو يبكي، فقال الحاكم للقاضي: اركَبْ، وخُذْ معكَ الرجلين الَّلذَين أنفذتَهما مع المرأة حتَّى يُرشِداكَ إلى الدار التي دخلَتْ إليها، وخُذْ معكَ أربعة من شهودك وخدمًا من القصر (¬1) واهجُمْ بهم الموضع، حتَّى يشاهدوا المرأة ومَنْ فِي الدار وما هم عليه، واقبِضْ على الجميع واحمِلْهم إليَّ. فخرج القاضي، وفعل ما أمره الحاكم، ودخلوا الدار، فوجدوا المرأةَ والرجلَ نائمين فِي إزارٍ واحدٍ على سُكْرٍ، فحُمِلا إلى بين يدي الحاكم، وشهد الشهود بما رأَوا، فقال للزوج: هذه زوجتُك؟ قال: نعم. فسألها عما كان منها، فأحالت على الشيطان وما حسَّنه لها، وسأل الرجلَ الَّذي كانت عنده، فقال: [هذه امرأةٌ] هجمَتْ عليَّ، وزعمَتْ أنها خِلْوٌ من زوج، وإنِّي إن لم أتزوَّجْها سعَتْ بي إليكَ [يا مولانا] لتقتلني، فاستَحْلَلْتُها بموافقةٍ جَرَتْ بيني وبينها. فأمر الحاكم بأن تُلَفَّ المرأةُ فِي باريةٍ (¬2) وتُحرَقَ، وأن يُحملَ الرجلُ الَّذي كانت عنده إلى باب الجامع، ويُضرَبَ ألفَ سوطٍ، فإن مات فقد مضى لسبيله، وإن لم يمُتْ أُطلِقَ، ففُعِلَ ذلك، وعاد الحاكم إلى ما كان عليه من التشديد على النساء، ومنعِهِنَّ الظهورَ والتصرُّف إلى أن قُتِلَ، ثمَّ ظهَرْنَ حينئذٍ وعُدْنَ إلى ما كُنَّ عليه من قَبْلُ. وفيها قُلِّد أحمد بن أبي الشَّوارب القضاء لمَّا مات ابنُ الأكفاني. ¬

_ (¬1) العبارة فِي (م) و (م 1): وخذ زمامًا من خدم القصر. (¬2) البارية أو البارياء: الحصيرة. وهي فارسية معربة. المعجم الوسيط (بور).

بدر بن حسنويه بن الحسين

وفيه تقلَّد علي بن مَزْيَد أعمال بني دُبَيس (¬1). وفيها جلس القادر، وأحضرَ الطالبيين والعباسيين والقُضاة والشُّهود، وأحضرَ الخِلَعَ السُّلطانية ما عدا التاجَ ولواءً واحدًا. وقويَ عهدُ أبي طاهر ركن الدين بن بهاء الدولة، ولُقِّبَ جلال الدولة، وجمال المِلَّة، وبعث الجميع إليه وهو بالبصرة. وحجَّ بالناس ابنُ الأقساسي العلوي. وفيها تُوفِّي بدر بن حسنويه بن الحسين (¬2) أبو النجم، الكردي، من أهل الجبال، ولَّاه عضُدُ الدولة الجبال وهَمَذان والدِّينَور ونهاوند وسابورخست وتلك النواحي بعد وفاة أبيه حسنويه، وكان شجاعًا، مَهيبًا، عادلًا، سائسًا، كثيرَ الصدقة، والقادرُ كنَّاه أبا النَّجم، ولقَّبه ناصِرَ الدولة، وعَقَدَ له لواءً بيده، وكانت أعمالُه آمنةً؛ لو ضلَّ جملٌ عليه مالٌ لم يتعرَّض له أحد، وكانت هيبتُه قوية، رأى يومًا رجلًا يحتطِبُ وهو يبكي وحِمْلُ الحطب على ظهره، فسأله عن حاله، فقال: ما استطعمتُ البارحةَ بطعامٍ، وكان معي رغيفان أُريد أكْلَهُما حتَّى أبيعَ الحطبَ وأتقوَّت أنا وعيالي من ثمنه، فالتقاني فارسٌ فأخذَهما. قال: هل تعرفه؟ قال: نعم. فساق [بدر] إلى مضيق، ووقف بالعسكر، ومرَّ صاحبُه، فقال: هذا هو. فأنزله بدر عن فرسه، وألزمه حَمْلَ الحطب على رأسه إلى البلد وبَيعِه وتسليمِ ثمنِه إلى صاحبه؛ [عقوبة له بما فعل]، فسألَ أن يَزِنَ الرجلُ دراهمَ بوزن الحطب، فقال بدرٌ: لا أفعل (¬3). وحمَّله (¬4) الحطبَ على ظهره إلى البلد، وفعَلَ ما أمر به بدرٌ، فخافه الناسُ، ولم يُقدِمْ (¬5) أحدٌ بعد ذلك على أحدٍ. ¬

_ (¬1) هذا الخبر وما قبله فِي المنتظم 15/ 103. (¬2) المنتظم 15/ 104 - 106. (¬3) فِي (م 1) وحدها: لا تفعل. (¬4) فِي (م) و (م 1): وحمَّل الفارس. (¬5) فِي (م 1): يقدر.

وبلَغَه أنَّ جماعةً من أصحابه [عاثوا بالبلاد، و] أفسدوا الزروع، فعمل لهم دعوةً قدَّم فيها أنواع الأطعمة، ولم يُقدِّم [فيها] خبزًا، فقعدوا ينتظرون الخبز، فقال: كلوا. فقالوا: أين الخبز؟ فقال: أفسدتُموه، واللهِ لئِنْ تعرَّضَ أحدٌ منكم لزرع لأقتُلَنَّه بسيفه. وكانت صدقاتُه جاريةً على القُضاةِ والأشرافِ والعلماءِ واليتامى والمساكين والزَّمنى والضعفاء، وكان يصرف فِي كلِّ سنةٍ ألفَ دينار إلى عشرة رجالٍ يحجُّون عن أبيه وعن عضد الدولة؛ لأنه كان السببَ فِي ولايته، ويتصدَّقُ فِي كل جمعة بعشرة آلاف درهم على الضعفاء والأرامل، ويصرف فِي كل سنة إلى الأساكفة والحذَّائين الذين بين هَمَذان وبغداد ثلاثة آلاف (¬1) دينار؛ ليقيموا الأحذية للحاجِّ والمنقطعين، و [كان] يصرف إلى تكفين الموتى كلَّ سنة عشرين ألف درهم، ويعمر القناطر والجسور، واستحدث فِي أعماله ثلاثة آلاف مسجدٍ وخانٍ للغرباء، ولم يمُرَّ بماءٍ جارٍ إلَّا وبنى عنده قريةً، وكان يُنفِذُ فِي كلِّ سنة إلى الحرمين الصدقات، ومصالحِ الطريق مئةَ ألفِ درهم، ويُعطي خِفارة الحاجِّ تسعةَ آلاف دينار، ويُنفِذُ إلى بغداد إلى العلماء والأشراف مئةَ ألف درهم، وكذا لأرباب البيوتات، وكان إذا مات أحدٌ أبقى على ولده ما كان له، وكان كثيرَ الصوم والعبادة. ذِكْرُ مقتله: وسببه أنَّ أبا الوضاح حسين بن مسعود الكردي كان مواليًا لبدر، واعتقادُ بدر فيه الجميل، فلمَّا خرج هلالٌ على أبيه قاتله مع هلال وظاهر عليه، فلمَّا عاد بدرٌ إلى حاله سار إلى حسين، وحصره فِي قلعة، ونهبَ أعماله، وأقام بدرٌ مدة طويلة على حصاره، فهمَّ حسين بالنزول إليه لمَّا ضاق عليه الأمر، ثم خافه على نفسه، وكان بدرٌ قد أفنى الأكراد النوربكان، وبقي الجُوزَقان، فهجم الشتاء وهُم على القلعة، واشتدَّ البرد، فتحالف جماعةٌ من الجُوزَقان على قتل بدر، وعرف دُلَف بن مالة الكردي ذلك، فقال له: إن الجُوزَقان قد تحالفوا على الفتك بِكَ، وراسلوا حسينًا وراسلهم، والصواب أن ¬

_ (¬1) فِي (م) و (م 1) ألف، والمثبت موافق لما فِي المنتظم 15/ 105.

تنصرف من ها هنا إلى سابور خواست، وتنظرَ فِي أمرك، وتجمعَ إليك عسكرك اللّورية وتستظهِرَ بهم، ويكونوا حولك. فقال له بدر: لم يبلغ التدبير إليك يا دُلَف، ومن هؤلاء الكلاب حتَّى أخافهم أو يُحدِّثوا نفوسهم بما أشرتَ إليه؟ فلمَّا كان غداةَ اليوم الَّذي قُتِلَ فيه بدرٌ - وقد تحقَّق دُلَف الحال - باكره وأعادَ عليه القولَ، فلم يلتفِتْ، وخرج فنزل بإزاء القلعة على تلٍّ، وإذا بستين رجلًا من الجُوزَقان قد أقبلوا وبأيديهم الخُشوتُ (¬1)، فحملوا عليه فقتلوه [وكان قد قتل من الأكراد مقتلةً عظيمةً من قبل] وساروا طالبين عيالهم، ونزل حسينٌ فغسَّله وكفَّنَه ودفنَه، ووجدوا فِي خزائنه أربعة عشر ألف بَدْرةً عينًا، وأربعين ألف بَدْرةً ورقًا، ومن الجواهر والثياب والفرش ما لا يُحصى، وكانت إمارتُه اثنتين وثلاثين سنة، وحُمِلَ إلى مشهد (¬2) أمير المؤمنين عليٍّ رضوان الله عليه، فدُفِنَ به. ذكر ما جرى لولده هلال: كان محبوسًا فِي القلعة، فلمَّا قُتِلَ أبوه أنزله سلطان الدولة وخلع عليه وأكرمه، وعَقَدَ له علي بنت شرف الدولة؛ تقويةً له على أمره، وأعطاه من المال والثياب والخيل والجمال والسلاح ما يُجمَّل به، وبعث معه من الدَّيلم والتُّركِ جيشًا كبيرًا، وقُراتَكين وأنوشتَكين وغيرَهما، وأقامه مقام أبيه، وقرَّر عليه مالًا وضماناتٍ شرطَها على نفسه، وجعل طريقه على بغداد، فأكرمه فخر الملك، وخلع عليه وعلى أصحابه خِلَعًا عظيمًا، وسار إلى حلوان، فتلقَّاه طوائفُ الأكراد، ووجد خللًا من الجُوزَقان بكرمان شاهان (¬3)، فنهبَهم ونزل الدِّينَور، وانصرف مَنْ كان بها من نُوَّاب شمس الدولة - مقيمًا بهَمَذان وعنده الجُوزَقان، فسار إلى هَمَذان، فخرج إليه شمس الدولة والنُّقباء بقنطرةِ النعمان، فاقتتلوا، فكانت الدَّبَرة على هلال، فأُسِرَ وأُسِرَ جماعةٌ من القُوَّاد الذين كانوا معه، ونُهِبَ عسكرُه، وكان مع شمس الدولة جماعةٌ من الدَّيلم، فدخلوا على هلال فِي ¬

_ (¬1) الخشوت جمع خِشْت: وهو نبلٌ حربيٌّ صغير. المعجم الذهبي ص 239. (¬2) فِي (خ): مهد، والتصويب من (م) و (م 1)، والمنتظم 15/ 106. (¬3) كرمان شاهان: هي هكذا بالفارسية، وتعريبُها: قرميسين. معجم البلدان 4/ 330.

بكر بن شاذان بن بكر

خيمة شمس الدولة فقتلوه بمن قَتَلَ منهم بنهاوند، وورد الخبر على فخر الملك، فانزعَجَ، وكتب إلى سلطان الدولة وأبي الخطاب والأبتر أبي المسك يُخبرهم الخبر، ويُشير على سلطان الدولة بقدومه العراق، ثم ندم على المكاتبة. بكر بن شاذان بن بكر (¬1) أبو القاسم، المقرئ، الواعظ، البغدادي، ولد سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة، وقرأ القرآن، وسمع الحديث، وكان زاهدًا متعبِّدًا، يعظُ الناس، ويقومُ الليل، ويصوم دائمًا، جرى بينه وبين أبي الفضل التميمي كلامٌ، ثم ندم، وقصده وقال: اجعَلْني فِي حِلٍّ. فقال: قد جعلتُكَ. ثم قال التميمي: قال لي والدي: يا عبد الواحد، احذَرْ أن تُخاصم مَنْ إذا نمتَ كان منتبهًا. وكانت وفاته يوم السبت تاسع شوال ببغداد، وله نيِّفٌ وثمانون سنة، لم تَفُتْه جمعةٌ قطُّ إلَّا التي مرض فيها؛ لأنه مات صبيحة السبت، ودُفِنَ بمقابر الإمام أحمد رحمة الله عليه، وأجمعوا على زُهدِه وصِدقِه وثقتِه. عبد الله بن محمد بن عبد الله (¬2) أبو محمد، الأكفاني، الحنفي، القاضي، الأسدي، ولد سنة ست عشرة وثلاث مئة، وكان فاضلًا ديِّنًا، ورعًا جوادًا. قال أبو إسحاق الطبري: من قال: إنَّ أحدًا أنفقَ على العلم مئةَ ألف دينار غيرَ أبي محمد الأكفاني، فقد كذب. وقال التنوخي: وَلِيَ ابنُ الأكفاني قضاءَ مدينة المنصور، ثم وَلِيَ قضاء باب الطَّاق، وضمَّ إليه سوق الثلاثاء، ثم جُمِعَ له قضاءُ جميع بغداد سنة ست وتسعين وثلاث مئة، وكانت وفاتُه فِي صفر عن خمس وثمانين سنة، وَلِيَ منها القضاء أربعين سنة نيابةً ورياسةً، ودُفِنَ بداره بنهر البزَّازين (¬3)، وكان صالحًا ثقةً. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 96، وصفة الصفوة 2/ 484 - 485، والأنساب 2/ 208، واللباب 3/ 349. (¬2) تاريخ بغداد 10/ 141، والمنتظم 15/ 107، والأنساب 1/ 339، واللباب 1/ 82. وينظر السير 17/ 151. (¬3) فِي (خ): بدرب المزارين، والمثبت من تاريخ بغداد والمنتظم وغيرهما.

عبد الرحمن بن محمد

[وفيها توفِّي] عبد الرحمن بن محمد (¬1) ابن محمد بن عبد الله بن إدريس، أبو سعد، الحافظ، وكان أبوه من إسْتِراباذ، وسكن سَمَرْقَند، وصنَّف تاريخ سَمَرْقَنْد، وعرضَه على الدارقطني فاستحسَنه، وكان ثقةً. عبد السلام بن الحسين (¬2) ابن محمد، أبو أحمد، البصري، اللُّغوي، ولد سنة تسع وعشرين وثلاث مئة، وسمع الحديث، وكان فاضلًا، وقارئًا للقرآن، سَمْحًا، جوادًا، يتولَّى النظر ببغداد فِي دار الكتب، وإذا التقاه سائلٌ ولم يكن معه شيءٌ أعطاه بعضَ كتُبِه التي لها قيمةٌ كبيرةٌ، وتوفِّي فِي المُحرَّم، ودُفِنَ بالشُّونيزية، وكان ثقةً. [وفيها تُوفِّي] عبد العزيز بن عمر (¬3) ابن محمد بن حُميد (¬4) بن نُباتة، أبو نصر [الشاعر] البغدادي، من الشعراء المُجِيدين، ولد سنة سبع وعشرين وثلاث مئة، وكان فصيحًا، وكانت وفاته ببغداد فِي شوال، وله ديوان شعر [رواه بالعراق مشايخ الخطيب. قال الخطيب: أنشدنا علي بن محمد بن الحسن الحربي قال: أنشدنا ابن نُباتة] منه: [من الكامل] وإذا عَجزْتَ عن العدوِّ فَدارِهِ ... وامزُجْ له إنَّ المِزاجَ وفاقُ فالنَّارُ بالماءِ الَّذي هو ضِدُّها ... تُعطي النِّضاجَ وطبعُها الإحراقُ وقال: [من الوافر] وتأخُذُ من جوانبِنا اللَّيالي ... كما أخذَ المساءُ من الصَّباحِ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 302 - 303، والمنتظم 15/ 107 - 108. وينظر السير 17/ 226. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 57 - 58، والمنتظم 15/ 108. (¬3) تاريخ بغداد 10/ 466، والمنتظم 15/ 108 - 109، والأنساب 12/ 27، ويتيمة الدهر 2/ 447 - 466. وينظر السير 17/ 234. (¬4) فِي تاريخ بغداد، والأنساب: بن نباتة، بدل: بن محمد! وجاء بعدها فِي (خ) زيادة: بن يحيى.

عبد الغفار بن عبد الرحمن

أما فِي أهلِها رجلٌ لبيبٌ ... يُحِسُّ فيشتكي ألمَ الجراحِ أرى التشهيرَ فيها كالتَّواني ... وحِرْمانَ العطيَّةِ كالنَّجاحِ ومَنْ تحتَ التُّرابِ كمَنْ علاهُ ... فلا تَغْرُرْكَ أنفاسُ الرِّياحِ وكيف يَكِدُّ مُهجتَهُ حريصٌ ... يرى الأرزاقَ فِي ضربِ القِداحِ عبد الغفار (¬1) بن عبد الرحمن أبو بكر، الدِّينَوري، لم يكن ببغداد من يُفتي على مذهب سفيان الثوري غيرُه، وهو آخر من أفتى بجامع المنصور على مذهب الثوري، وكان يجمع العلماءَ ويتناظرون، ووَلِيَ النظرَ فِي جامع المنصور، وتُوفِّي فِي شوال، ودُفِنَ عند جامع المنصور، وكان ثقةً. محمد بن عبد الله (¬2) ابن محمد بن حمدويه (¬3) بن نُعيم، أبو عبد الله، الحاكم، النَّيسابوري، الحافظ، الفاضل، ويعرف بابن البَيِّع الضَّبِّي، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، وأول سماعه كان سنة ثلاثين، كان أحدَ أركان الإسلام، وسيدَ المحدثين وإمامَهم فِي وقته، والمرجوعَ إليه فِي هذا الباب، وكان يُشبَّه بالإمام أحمد وسفيان الثوري رحمة الله عليهما فِي سَمْتِهما وورعِهما وزُهدِهما، طاف الدنيا، ولقي المشايخ بخراسان وما وراء النهر والعراق والبصرة والكوفة والحجاز والشام ومصر، وسمع الكثير، وعاد إلى نيسابور فِي شبيبته، ثم عاد إليها وقد عَلَتْ سِنُّه، فحدَّث بها، ثم رجع إلى نيسابور، فجعل دارَه مأوًى للغُرباء والعلماء والصُّلحاء، وكان سخيًّا جوادًا من أهل الفضل والمعرفة والحفظ، وله فِي علوم الحديث عدة مصنفات، منها: "المستدرك على الصحيحين"، وكتاب "الإكليل"، و"المدخل إلى معرفة الإكليل" و"التاريخ" وغير ذلك، روى عنه الدارقطني، وابن أبي الفوارس، والقاضي أبو العلاء الواسطي، والأزهري، وغيرُهم. ¬

_ (¬1) فِي النسختين الموجودتين (خ) و (ف): عبد الغافر، والتصويب من المنتظم 15/ 108 - والترجمة فيه - والوافِي بالوفيات 22/ 19، والنجوم الزاهرة 4/ 238. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 473 - 474، وتبيين كذب الفتري ص 227 - 231، والمنتظم 15/ 109 - 110. وينظر السير 17/ 162. (¬3) فِي (خ): حمويه، وهو تحريف.

وقال أبو القاسم الأزهري: قدم الحاكم بغداد قديمًا، فقال لأصحاب الحديث: ذُكِرَ لي أنَّ حافِظَكم -يعني الدارقطني- خرَّجَ لشيخٍ واحدٍ خمسَ مئة جزء، وتكلَّم على كلِّ حديثٍ منها، فأروني منها بعضَ تخريجه. فقالوا: نعم. وحملوا إليه بعضَها، فنظر فِي أول جزء من الأحاديث التي خرَّجها الدارقطني لأبي إسحاق الطبري، وأول الأحاديث: عن عطيّة العوفي، فقال: عطية ضعيف. ورمى الجزءَ من يده، وقال: أولُ حديث عن عطية، ولم ينظُرْ فِي شيءٍ منها. قال الخطيب: مات الحاكم بنيسابور فِي صفر، ودُفِنَ بها، وكان يومًا مشهودًا. قال المصنف رحمه الله: قد وقفتُ على "المستدرك " و"الإكليل" و"التاريخ" و"المدخل إلى معرفة الإكليل"، وذكر فِي كتاب "المدخل" (¬1) فقال: أهلُ العراق والحجاز والشام وغيرُهم يشهدون لأهل خراسان بالتقدُّم فِي معرفة الصحيح؛ لِسَبْقِ الإمامين البخاري ومسلم إليه، وقد صنَّفتُ على كتاب كل واحد منهما فِي الصحيح والسقيم ممَّا اتَّفقا عليه واختلفا فيه، وأنا مُبيِّنٌ مِنْ ذلك ما فيه مَقْنَع إن شاء الله تعالى: قال: الصحيح من الحديث ينقسم عشرة أقسام؛ خمسةٌ منها متفق عليها، وخمسةٌ منها مختلفٌ فيها: فأمَّا القسم الأول من المتَّفق عليه فأخبار البخاري ومسلم، وهو الدرجة الأولى من الصحيح، ومثالُه الحديث الَّذي يرويه الصحابيُّ المشهورُ بالرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رُواةٌ ثِقات، ثم يكون شيخُ البخاريِّ أو مسلمٍ حافظًا متقنًا مشهورًا بالعدالة بهذه الدرجة الأولى من الصحيح، والأحاديث المرويَّة على هذا الشرط لا يبلغ عددُها عشرةَ آلاف حديث. والقسم الثاني من الصحيح: فهو نقلُ العدلِ عن العدلِ برواية الثقات، وليس لهذا الصحابي إلَّا راوٍ واحد، ومثاله: حديث عروة بن مُضرِّس الطائي قال: أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمزدلفة، فقلت: أتيتُكَ يا رسول الله من جبل طيِّئ أتعبتُ ¬

_ (¬1) المدخل إلى الإكليل ص 36 - 49.

نفسي، وأكْلَلْتُ راحلتي، واللهِ ما تركتُ من حَبْلٍ إلَّا وقد وقفتُ عليه، فهل لي من حَجٍّ؟ فقال: "مَنْ صلَّى معنا هذه الصلاةَ وقد وقف بعرفة بليلٍ أو نهارٍ فقد تَمَّ حجُّه (¬1) " قال الحاكم (¬2): وهذا حديثٌ صحيحٌ عَمِلَ به الفقهاء، واتَّفقوا على العمل به، ولم يُخرِّجاه فِي الصحيحين لعدم شرطه، وهو ما ذكرناه. القسم الثالث من الصحيح: أخبارُ جماعةٍ من التابعين عن الصحابة، والتابعون ثقاتٌ، إلَّا أنَّه ليس لكلِّ واحدٍ منهم إلَّا الراوي الواحد، مثل: محمد بن حُنين، وعبد الرحمن بن فَرُّوخ، وعبد الرحمن بن مَعْبَد، وغيرُهم، فإنهم ليس لهم إلَّا راوٍ واحد، وهو عمرو بن دينار، إمامُ أَهْلِ مكة المُجْمَع على عدالته، ولم يُخرِّجا عنه فِي الصحيحين؛ لعدم شرطه. والقسم الرابع من الصحيح: الأحاديثُ الأفراد التي يرويها الثقات، وينفرد بها الواحد من الثقات، مثل: حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انتصفَ شعبانُ فلا تصوموا حتَّى يجيء رمضان" (¬3). وقد أخرج مسلمٌ أحاديث العلاء، وتركَ هذا الحديثَ وأشباهَه؛ لأنَّ العلاءَ انفرد به عن أبي هريرة. والقسم الخامس من الصحيح: أحاديثُ جماعةٍ من الأئمة عن آبائهم وأجدادهم، مثل: صحيفة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه. ونحو ذلك. وأما الأقسام المختلف فِي صِحَّتها: فالقسم الأول: المراسيل: وهو قولُ التابعيِّ وتابعيِّ التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يذكرُ الَّذي سمع منه، فهذه الأحاديث صحيحةٌ عند أهل الكوفة، مختلفٌ عليها عند أهل الحجاز؛ لما عُرِفَ. والقسم الثاني: رواياتُ المدلِّسين إذا لم يذكروا أسماءهم فِي الرواية، وفيه خلافٌ على نحو خلافهم فِي المراسيل. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (16208) و (16209)، وأبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي 5/ 263، وابن ماجة (3016). والحَبْل: المستطيل من الرمل أو الضخم منه. النهاية (حبل). (¬2) المستدرك أيضًا 1/ 463. (¬3) أخرجه أحمد (9707)، وأبو داود (2337)، والترمذي (738) والنسائي فِي الكبرى (2923)، وابن ماجة (1651).

والقسم الثالث: فحديثٌ يرويه ثقةٌ من الثقات عن إمامٍ من أئمة المسلمين، فيُسنده، ثم يرويه عنه جماعةٌ من الثقات فيُرسلوه، كحديث سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَنْ سمِعَ النداءَ ولم يُجبْ فلا صلاةَ له إلَّا من عُذْرٍ" (¬1) رواه عديُّ بن ثابت، عن سعيد بن جُبير، وعديٌّ ثقة، ولكنه خبرُ واحدٍ، وهو مختلفٌ فيه. والقسم الرابع: المُحدِّث إذا كان ثقةً، غيرَ أنَّه لا يَعرِفُ ما يُحدِّث به، فإنه لا يُحتَجُّ به. والقسم الخامس: روايات أهل البدع والأهواء للحديث الصحيح، هل تُقبَلُ أم لا؟ اختلفوا فيه، فأجازها البخاريُّ ومسلم؛ لأن البخاريَّ روى عن عبَّاد بن يعقوب الرَّواجني، وكان صاحبَ بدعة، حتَّى كان محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: حدَّثنا الصدوق فِي روايته، المتَّهم فِي ديانته، عبَّاد بن يعقوب. وكذا مسلمٌ احتجَّ برواية أبي معاوية الضرير -واسمه محمد بن خازم- وقد اشتهر عنه الغلوّ ونحوُ ذلك. وأمَّا غيرُ البخاري ومسلم فلا يأخذون إلَّا برواية العدل غير المتَّهم فِي دينه. قال المصنف رحمه الله: وعامَّة العلماء وأربابُ السِّير قد اتَّفقوا على صدقه وثقته وورعه وزهادته وحفظه وعبادته، إلَّا الخطيب ومحمد بن طاهر المقدسي فإنهما قالا: كان يميل إلى التشيُّع. وأنكر ابنُ طاهر حديث الطير، وحديث الطير قد أخرجه الترمذي (¬2) وصحَّحه، ورواه الإمام أحمد رحمة الله عليه فِي فضائل علي - عليه السلام - (¬3). وقال أبو عبد الرحمن السُّلمي: كان قد تبعه بنيسابور قومٌ من الكرَّامية أظهروا التشبيه، فراموا من الحاكم أن يرويَ لهم أخبارًا فِي التشبيه، فامتنع فكسَّروا منبره، ومنعوه الحديث، فدخلتُ عليه فِي داره فقلتُ له: لو خرجتَ وأمليتَ فِي فضل معاوية ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة (793). (¬2) سنن الترمذي (3721) من طريق السدي، عن أنس بن مالك بلفظ: كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - طير، فقال: اللهمَّ ائتني بأحبِّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير فجاء عليٌّ فأكل معه. قلت: ولم يصحِّحه الترمذي، وإنما قال: حديث غريب لا نعرفه من حديث السدي إلَّا من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أنس. بل إن الترمذي رواه فِي العلل 2/ 941، وقال: سألت محمدًا يعني البخاري عنه، فلم يعرفه من حديث السدي الكبير عن أنس، وجعل يتعجب منه. (¬3) لم أقف عليه فِي فضائل علي للإمام أحمد، ولا فِي أيِّ من مصنفاته! .

هبة الله بن عيسى

أحاديثَ لاسترحتَ من هذه المحنة. فقال: كيفَ أفعَلُ هذا، لا يجيء من قلبي. كرَّرها ثلاثًا. هبةُ الله بن عيسى (¬1) كاتبُ ممهِّدِ (¬2) الدولة البطائحي ووزيرُه، كان فاضلًا ظريفًا، راويةً للأخبار، وكان ينادم القادر لمَّا كان مقيمًا عندهم، وهو الَّذي حكى عن القادر المنامَ لمَّا جاءته الخلافةُ، وكانت وفاتُه بالبَطيحَة فِي ربيع الأول، وكان شاعرًا فصيحًا، ومن شعره: [من الطويل] أضِنُّ بليلى وَهْيَ غَيرُ سخيَّةٍ ... وتبخلُ ليلى بالهوى وأَجودُ وأُعْذَلُ فِي ليلى ولستُ بِمُنْتَهٍ ... وأعلَمُ أنِّي مُخطِئٌ وأَعودُ يوسف بن أحمد بن كجّ (¬3) أبو القاسم، قاضي الدِّينَور، كان من شيوخ الشافعية، وله نعمةٌ عظيمة وجاهٌ عند الملوك، وكان قاضيًا على أعمال بدر بن حسنويه، فلمَّا تغيَّرتِ البلادُ بعد قتل بدر قصد هَمَذان، والتجأ إلى كدنابويه زوجة شمس الدولة، وكانت مالكةً أمْرَه، وغالبةً على قلبه، فعُنِيَتْ به، ولاطَفَها، وأهدى إليها وإلى الحاشية، فخاطبت شمس الدولة فيه، وخاطبت الحاشية، فخلع عليه وأدناه، وأعاده إلى الدِّينَور مُكَرَّمًا، وكان أهل الدِّينَور طائفتين من العامة؛ إحداهما القصَّابون، والأخرى معروفةٌ بأبي خلدية، وبينهما ما يكون من السَّفاه والقتال والعصبية، وكان القاضي يميل إلى أبي خلدية، وكانت هيبةُ بدرٍ تمنع كلَّ طائفةٍ من تجاوز الحدِّ، فلمَّا مات بدرٌ وشغَرتِ البلاد، وعاد القاضي وقد استقام حالُه مع شمس الدولة، خافه القصَّابون، فكبسوه فِي الليلة السابعة والعشرين من رمضان، فقتلوه وقَتلوا أبا الفضل ابن أخيه، وكان عنده. ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 110. (¬2) فِي المنتظم: مهذب. (¬3) المنتظم 15/ 110، والأنساب 10/ 360، واللباب 3/ 85. وينظر السير 17/ 183.

السنة السادسة وأربع مئة

السنة السادسة وأربع مئة فيها مَنَعَ فخرُ الملك (¬1) يومَ عاشوراء من النَّوح مخافةَ الفتنة (¬2). وكان الشريف الرضي [أبو الحسن محمد بن الحسين بن محمد الموسوي] قد تُوفِّي فِي خامس المحرَّم، فاشتغلوا به. وكان قد وقع بالعراق وباءٌ عظيم، خصوصًا بالبصرة، حتَّى عجز الحفَّارون عن حفر القبور (¬3). وفي يوم السبت ثالثَ صفر قُلِّد الشريفُ المرتضى نقابةَ الطالبيين والحجَّ والمظالم بإشارة سلطان الدولة وفخر الملك، وكتب القادرُ تقليدَه، وجمع الناسَ فِي دار المملكة، وحضر فخرُ الملك والناسُ على طبقاتهم، فكان فِي عهد الخليفة: هذا ما عَهِدَ عبد الله أبو العباس أحمد الإمام القادر بالله أميرُ المؤمنين إلى علي بن الحسين بن موسى العلوي، حين قرَّبَتْه إليه الأنسابُ الزكية، وقدَّمَتْه لَدَيه الأسباب القوية، واستظلَّ معه بأغصان الدوحة الكريمة، واختصَّ عنده بوسائل الحرمة الوكيدة، وكان راجعًا من طيب المناصب والعناصر، واستحكام الوصائل والأواصر، إلى ما يفضلُه بالمزيَّة، ويقتضي له توفير العطية، ويُحِلُّه فِي دولة أمير المؤمنين حلولَ التخصيص، ويدخلُه فيها دخولَ التحقُّق حين أوجب له الاستقلالُ المحبورُ، والاضطلاع المشهورُ، تَقَلُّدَ الأعمالِ وولايتَها، وتحمُّلَ الأثقالِ وكفايتَها، وحين رُوعيَ لشيخه الحسين رحمه الله حقوقَ الموالاةِ التي قدَّمَها، والطاعةِ التي أسلفَها، وخدمتِه الخلفاء المهديين صلوات الله عليهم أجمعين، وحين مهَّدَ له سلطانُ الدولة عند أمير المؤمنين الأواخي (¬4) الكثيرة، وقرَّر لديه المنزلة الكبيرة، ونبَّه على عقلِه الأصيل، ورأيِه الرَّصين، وعلمِه الراجح، وفضلِه الزائد، وحين أثنى عليه فخر الملك - أبو غالب مولى أمير المؤمنين - الثناءَ الطويل، وذكره بالجميل، وشهد له بالخِلال الحميدة، والخِصال الرشيدة، والمقاصد السليمة، واستدعى له من حضرة أمير المؤمنين الإحسانَ الَّذي يستحقُّه بالسالف من ذرائعه، والقديم من وسائله، قلَّده الحجَّ الَّذي هو من معالم أمور الدين، والمظالمَ التي ¬

_ (¬1) فِي (م 1): فخر الدولة. (¬2) الخبر فِي المنتظم 15/ 111، والكامل 9/ 263. (¬3) الخبر فِي المصدرين السابقين. (¬4) الأواخي، جمع آخية: وهي العروة التي تُشدُّ إليها الدابة. الصحاح (أخو).

هي من أكبر مصالح المسلمين، ونقابةَ الطالبيين، والمتعلقة بالملاحظة من أمير المؤمنين، فِي شرق الأرض وغربها، وقريب الأعمال وبعيدها، متمسِّكًا بالثقة فِي ديانتِه، والنُّصرةِ فِي أمانتِه، ومعتقدًا أنَّ الإمام قد أحكمَتْهُ أحكامُ التثقيف والتهذيب، ووَثَّقَتْهُ أقسام التحنيك والتجريب، وأنَّ الصَّنيعَةَ عنده واقعةٌ فِي الكفؤ الوفي، والعدل الولي، والرَّحِم الواشجة التي تُدنيه، والأرومة الشامخة التي تُعليه، والدواعي التي تُوجِبُ له مزيدَ الاختصاص، وفضيلةَ الاستخلاص، والله يُمِدُّ أمير المؤمنين بالتوفيق المُبلِّغ إلى الصواب، والتأييدِ الموصِلِ إلى الأغراض، ويُعينُه على ما يتوخَّاه من اختيار الوُلاةِ الصُّلحاء، والكُفاةِ النُّصحاء، وحسْبُ أمير المؤمنين اللهُ ونِعْمَ الوكيل. وقُرِئ عهدُ سلطان الدولة بمعناه. وفي آخر صفر ورد الحاجُّ، وقد تلِفَ منهم خلقٌ كثيرٌ من العطش، كانوا عشرين ألف جمل، فوصل منها ستةُ آلاف جمل، وهلك الباقي (¬1). وفيها وصل سلطان الدولة من شيراز إلى الأهواز، فكتب إلى فخر الملك يستدعيه، فاستشعر من أبي الخطَّاب، وكتب يطلب مردوست، فقدم عليس فعرَّفه إشفاقَه من أبي الخطاب، ثم انحدر إلى الأهواز ومعه المناصح الجُرْجاني، واستحلف له أبا الخطاب، فلمَّا وصل إلى الطِّيبِ (¬2) جاءته كتائب سلطانِ الدولة تقول: قد كاتبناكَ بالتعجيل إلى حضرتِنا، وحاجتُنا إلى الاجتماع معك ماسَّةٌ، وبَلَغنا أنَّ الأولياء بواسط خاضوا فِي منعِكَ من الإلمامِ إلينا، فإن كان ذلك كذلك فنحنُ معكَ بين أن تُخالفهم وتُبادِرَ إلى ما أمرناك به، وهو الأَولى، أو تتأخَّر، فالضرورة تدعونا إلى المسيرِ بنفوسنا. فسار مُجِدًّا، فلمَّا وصل الأهواز تلقَّاه سلطان الدولة والعساكر، وأكرمَه واحترمَه، ولمَّا نزل جاءه أبو منصور مردوست، وجمع بينه وبين أبي الخطاب ليلًا، ومشى فخرُ الملك إليه، وعاتبه أبو الخطاب، وتلطَّف به فخرُ الملك، وتحالفا وتعاهدا، وصلحتِ الحالُ صلاحًا تامًّا، وكانت المِيرةُ قد ضاقت على سلطان الدولة، وعدِمَتِ الأقواتُ، فكاتب فخرُ الملك الأطرافَ، وجلب الغِلال والميرةَ، فاتَّسع الشيءُ على الناس، ثم حملَ فخرُ الملك على سلطان الدولة الهدايا والتُّحف والطُّرف، ¬

_ (¬1) الخبر فِي المنتظم 15/ 112. (¬2) الطِّيب: بليدة بين واسط وخوزستان. معجم البلدان (طيب).

وحمل إلى جميعِ الحاشيةِ المال والثيابَ ومراكبَ الذهب والملابسَ الفاخرة، حتَّى قالوا: ما لَبِسْنا مثل هذه. وأقام شهرين ونيِّفًا وعشرين يومًا، ثم وقع الاتفاق على عودِه إلى بغداد ليُقرِّر الأمور، وخلعَ سلطانُ الدولة عليه الخِلَعَ الجليلة فِي شعبان بالسيف والمِنْطَقة، وعليها الجواهر والقَباء، وحملَه على مراكب الذهب، وقادَ بين يديه الجنائب (¬1)، على كلِّ مركبٍ ألفُ مثقالٍ من الذهب، وخلع على جميع أصحابه الخِلَعَ النفيسة، وحُمِلوا على الخيل بمراكب الذهب. وفيها وصل الأميرُ أبو الفوارس ابنُ بهاء الدولة إلى محمود بن سُبُكْتِكين من كرمان إلى خراسان، فتلقَّاه وأحسن إليه، وأقام عنده أيامًا، وجهَّزه بالمال والعساكر إلى كرمان، ولم يرضَ أمورَه، وبدَتْ منه أسبابٌ أوجبَتْ إبعادَه عنه، فإنه كان إذا ركب إلى خدمة محمود يركب بالمنجوق، ويدخل عليه والدَّيلم يمشون بالسلاح بين يديه، فمنعه من ذلك، وجرى بينه وبين دارا بن قابوس بن وَشْمَكير ما جرى، بأنِ افتخر عليه أبو الفوارس وتعاظم فسقط من عين محمود. وفيها غزا محمود بن سُبُكْتِكين بلادَ الهند على رسمِه، فضلَّ أدِلَّاؤه عن الطريق، وحصل فِي مياهٍ فاضت من البحر، فغرق كثيرٌ ممَّن كان معه، وخاض الماءَ أيامًا بنفسه، وتخلَّص وعاد إلى خراسان، وكان محمود يركب الأخطار فِي أسفاره، ويهلك معه الخلق الكثير من الجند والمطوِّعةِ، والجمالِ والخيلِ وغيرِهما، ورُبَّما صحِبَه خمسون ألفًا وأكثر، فيعود فِي خمسة آلاف، ولمَّا عزم على هذه الغَزاة تخوَّفَ من كثرة الأنهار، وضِيقِ المسالك، فقصد مدينةً على بابها نهرٌ عريض لا يُمكن الخوضُ فيه، فتقدَّم بين يديه جماعةٌ فغرِقوا، فخاض بنفسه معتمدًا على السلامة فِي معظم أوقاته، وقصد أن يطوي خبرَه عن أهل البلد، فخاض بعيدًا عنه، وزاد الماءُ فِي ذلك الوقت، فغرق من الناس والجِمال شيءٌ كثيرٌ، وحمل الماءُ ذلك إلى باب البلد، فقال أهله: هذهِ واللهِ مخائلُ محمودٍ ومكايدُه. فاخذ الملِكُ ما قَدِر عليه من الأموال والجواهر والأهل وصعد الجبل، وكذا فعل أهلُ البلد، واعتصموا بالقلاع، ووصل محمود إلى ¬

_ (¬1) الجنائب، جمع جَنيبة: وهي الدابة التي تُقاد، ويقال: فلان تُقاد له الجنائب بين يديه؛ إذا كان عظيمًا. المعجم الوسيط (جنب).

أحمد بن محمد بن أحمد

المدينة وقد غَرق أصحابُه، ولاقى شدائدَ، فلم يجِدْ فيه أحدًا، وقد أحرقوا الأقوات والعلوفات، فرجعَ ولقيَ فِي طريقه أهوالًا، حتَّى ورد خراسان. وفيها ولَّى الحاكمُ ساتكين سهمَ الدولة دمشقَ، وعزلَه سنة ثمانٍ وأربع مئة. ولم يحجَّ أحدٌ فِي هذه السنة خوفًا من العرب والعطش [والجوع] (¬1). وفيها تُوفِّي أحمد بن محمد بن أحمد (¬2) أبو حامد، الإسفراييني، الفقيه، الشافعي، قدم بغداد وهو حَدَثٌ، وأقام مشتغِلًا بالعلم، حتَّى انتهت إليه الرياسة، وعظُمَ جاهُه عند الملوك والعامّة، وكان يُدرِّس فِي مسجد عبد الله بن المبارك فِي قطيعة الربيع، ويحضر درسَه من المتفقِّهة سبعُ مئة، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعيُّ فرح به. وكان يُحمل إليه من البلاد الزَّكوات والصدقات فيُفرِّقها، ويُجري على فقراء أصحابه فِي كلِّ شهرٍ مئة وستين دينارًا، وأعطى الحاجَّ فِي بعض السنين أربعة عشر ألف دينار، وكان يتوسط بين القادر ومحمود بن سُبُكْتِكين، وكان مُقدَّما عند عميد الجيوش، وفخر الملك، وتُوفِّي ليلة السبت لإحدى عشرة ليلةً بقيت من شوال، وله ثلاثٌ وستون سنة، ودُفِن بداره، ثم نُقِلَ إلى باب حرب سنة ست عشرة وأربع مئة، وكان ثقةً دَيِّنًا صالحًا. عبيد الله بن محمد (¬3) ابن أحمد بن علي بن مِهران، أبو أحمد، الفَرَضي، المقرئ؛ قال منصور بن عمر الكَرْخي: لم أرَ مَنْ تعلَّم العلم للهِ خالصًا لا يشوبه شيءٌ من الدنيا غير أبي أحمد الفرضي. وكان أورعَ الناس، يبتدئ كلَّ يومٍ بتدريس القرآن، ويحضر عنده الشيخُ الكبيرُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) وحدها. (¬2) تاريخ بغداد 4/ 368 - 370، والمنتظم 15/ 112 - 113، والأنساب 1/ 237 - 238. وينظر السير 17/ 193. (¬3) تاريخ بغداد 10/ 380 - 381، والمنتظم 15/ 13 - 114، والأنساب 9/ 272 - 273، واللباب 2/ 422. قلت: وتحرف اسمه فِي النسخة الوحيدة لهذه الترجمة (خ) وفي المنتظم إلى: عبد الرحمن. والتصويب من باقي مصادر الترجمة، وهي فِي السير 17/ 212.

محمد بن الحسين

وذو الهيبة، فيُقدِّم عليه الحدَثَ لأجل سَبْقِه، ثم يقرأ الحديث بنفسه، فلا يزال كذلك حتَّى يبلغ النِّهايةَ من جهده، وهو جالسٌ على حالةٍ واحدةٍ لا يعبَثُ بشيءٍ من أعضائه، ولا يُمازح أحدًا، وكان مع أهله على هذا الوصف، وأقام عشرين سنة لم يضحك، وكتب إليه أبو حامد الإسفراييني رُقعةَ شفاعةٍ فِي رجل يقرأ القرآن، فغضب ورمى الرُّقعة من يده، وقال: لا أقرأ القرآن بشفاعة. وكانت وفاتُه فِي شوال، وقد بلغ اثنتين وثمانين سنة، ودُفِنَ فِي مقبرة جامع المنصور، وكان إمامًا زاهدًا عابدًا ورعًا ثقةً. محمد بن الحسين (¬1) ابن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -، أبو الحسن، الشريف، الرضي، الموسوي، ولد سنة تسع وخمسين وثلاث مئة، وحفظ القرآن فِي مدَّةٍ يسيرةٍ بعد أن جاوز ثلاثين سنة، وعرف الفقه والفرائض والنحو واللغة، وقال الشِّعر وترسَّل، وكان عاليَ الهِمَّة، متديِّنًا صالحًا ورِعًا، ولقَّبه بهاءُ الدولة برضي الدين أبي الحسين، ووَليَ نقابةَ الطالبيين ببغداد، وكان جوادًا سمحًا ممَدَّحًا، طاهرَ العِرض، نقيًّا من الدَّنس، وصنَّف كتُبًا كثيرةً، منها: كتابٌ فِي معاني القرآن، يتعذَّر وجودُ مثله. وبلغ من ورعه أنَّه اشترى جزءًا من امرأة بخمسة دراهم، فوجد فيه جزءَ أبي علي بن مُقْلة، فأرسل إلى المرأة وقال: قد وجدتُ جزءًا بخطِّ ابن مُقْلَة قيمتُه خمسةُ دنانير، فإنْ شئتِ خُذي الجزء، وإنْ شئتِ خمسة دنانير. فقالت المرأة: أنا بِعْتُ الجزءَ بما فيه بخمسة دراهم، ولا آخذُ شيئًا. فألحَّ عليها، فأخذتِ الدنانير، ودَعَتْ له. وقال الخالع: مدحتُ الرضيَّ بقصيدةٍ، فجاءني غلامُه بتسعةٍ وأربعين درهمًا، فقلت: لا شكَّ أنَّ الغلام خانني. فلمَّا كان بعدَ أيام اجتزتُ بسوقِ العروس، فرأيتُ رجلًا يقول لآخر: اشترِ هذا الصحن فإنه يساوي خمسةَ دنانير، ولقد أُخرج من دار ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 246 - 247، والمنتظم 15/ 115 - 119، ويتيمة الدهر 3/ 155 - 178. وينظر السير 17/ 285.

الرضي فبِيعَ بتسعةٍ وأربعين درهمًا، فعلمتُ أني مدَحْتُه وهو مُضيَّقٌ. فباع الصحنَ، وأنفذ ثمنه إليَّ. قال أبو الحسين بن محفوظ: سمعتُ جماعةً من أهل العلم بالأدب يقولون: إنَّ الرضيَّ أشعرُ قريش. قال: وهذا صحيح؛ قد كان فِي قريش مَنْ يُجيد القول، إلَّا أنَّ شِعْرَه قليلٌ، فأمَّا مُجيد مُكثِرٌ فليس إلَّا الرَّضي. وقال أبو غالب بن بِشْران: رُفِعَ إلى القادر أنَّ الرضيَّ قال أبياتًا وهي: [من الخفيف] ما (¬1) مُقامي على الهوانِ وعندي ... مِقْوَلٌ صارمٌ (¬2) وأنفٌ حَمِيُّ وإباءٌ مُحَلِّقٌ بي عن الضَّيـ ... ـــمِ كما راغَ طائِرٌ وحْشِيُّ أيُّ عذرٍ لهُ إلى المجدِ إن ذُلَّ ... غلامٌ فِي غِمْدِه المَشْرَفيُّ ألبَسُ الذُّلَّ فِي ديارِ الأعادي ... وبِمصرَ الخليفةُ العَلويُّ مَنْ أبوهُ أبي ومولاهُ مولايَ ... إذا ضامني البعيدُ القصيُّ لفَّ عِرْقي بعرقِه سَيِّدا النَّاسِ ... جميعًا محمدٌ وعليُّ إنَّ خَوْفي فِي ذلِكَ الرَّبعِ أمْنٌّ ... ومُقامي بذلِكَ الورْدِرِيُّ (¬3) قد يُذَلُّ العزيزُ ما لم يُشمِّرْ ... لانطلاقٍ وقَدْ يُضامُ الأبِيُّ كالذي يقبِسُ (¬4) الظلامَ وقد أقْـ ... ــــمَرَ مِنْ خلفِهِ الهلالُ المُضِيُّ فلمَّا وقف عليها القادرُ قامَتْ عليه القيامة، واستدعى أبا بكر محمد بن الطيِّب وأنفذه إلى الشريف أبي أحمد والد الرضي، وقال: قُلْ له: قد علمتَ موضِعَكَ مِنَّا ومنزِلتَكَ عندنا، ومعرِفَتَنا بصدق المُوالاةِ منك، وما تقدَّم لك فِي خدمتنا، وما لَكَ على هذه الدولة من حقوق، وليسَ من الجائز أن تكون على خليقةٍ نرضاها، ويكون ولدُكَ ¬

_ (¬1) فِي (خ) و (ف) والمنتظم: كم، والمثبت من ديوانه 2/ 576. (¬2) فِي (خ) و (ف) والمنتظم: قاطع، والمثبت من ديوانه أيضًا. (¬3) البيت فِي الديوان هكذا: إنَّ ذُلِّي بذلك الجوِّ عِزٌّ ... وأُوامي بذلِكَ النَّقعِ رِيُّ والأُوام: العطش. المعجم الوسيط (أوم). (¬4) فِي الديوان: يخبط، والمثبت من (خ) والمنتظم.

على ما يُضادُّها، وقد بلَغَنا أنَّه قال شِعرًا هو كذا كذا، فيا ليتَ شعري على أيِّ مُقامِ هَوانٍ وذُلّ هو عندنا، وقد فوَّضْنا إليه أجل المراتب والمناصب، وهي نقابة الطالبيين، وإمارةُ الحج، وعساه لو كان بمصر ما خرجَ عن جُملة الرعية، وما رأينا على بلوغ الامتعاض منَا مَبْلَغه أن تخرج بهذا الولد عن شكواه إليك، وإصلاحِه على يديك. فقال الشريفُ أبو أحمد: واللهِ ما عرفتُ هذا، ولا أنا وأولادي إلا خدمُ الحضرة المقدسة، والمعترفون بالحقِّ لها وبالنعمة منها، وكان مِنْ حُكم التفضُّل أن تهذبَ هذا الولدَ بإنفاذ مَنْ يحمله إلى الدار العزيزة، ثم تتقدم في تأديبه بما تفعل بأهل الغُرَّة والحداثة. فقال له محمد بن الطيب: الشريفُ يفعلُ في هذا ما تراه الحضرةُ المقدَّسة، فيزول ما خامرها به، فاستدعى الشريفُ ولديه الرضي والمُرتضى، وعاتب الرضي العتاب المستوفى، فقال: ما قلتُ هذه الأبيات ولا أعرفها. فقال: فاكتُبْ خطَّكَ للخليفةِ مثل ما كتبتَ في أمر صاحب مصر، واذكُرْه بما ذكَرْتَه من الادعاء في نسبه. قال: لا أفعل. قال: فإنك تكذبني بالامتناع من مثل قولي. فقال: ما أكَذبكَ، ولكني أخاف الدَّيلم، ومَنْ للرَّجُلِ بهذه البلاد من الدعاة. فقال: يا لَلهِ العَجَب، تخاف مَنْ هو منكَ على بلادٍ بعيدةٍ وتراقبه، وتسخط مَنْ أنت بمرأى منه ومَسْمَع، وهو قادرٌ عليكَ وعلى أهلك. وتَرَدَّدَ القولُ بينهما، وغلظَ الرضيُّ الجواب، فصاح أبوه وقام، وحلف أن لا يُقيم معه في بلد، وآلَ إلى أن أنفذَ القادرُ أبا بكر بن الطيب وأبا حامد الإسفراييني، فأخذ اليمينَ على الرضي أنه لم يقُلِ الشعرَ المنسوبَ إليه ولا يعرفه، واندرجتِ القصةُ على هذا. ذكر وفاته: تُوفي في يوم الأحد لستٍّ خَلَوْنَ من المُحرَّم، وحضر الوزير فخرُ الملك وجميعُ الأشراف والقضاة والشهود والأعيان، ودُفِنَ في داره بالكَرْخ، ومضى أخوه المرتضى إلى مشهد موسى بن جعفر؛ لأنَّه لم يستطِعْ أن ينظر إلى تابوته، وصلَّى عليه فخرُ الملك في الدار مع جماعةٍ أمهم أبو عبد الله بن المهلوس العلوي، ثم دخل الناس أفواجًا فصلُّوا عليه، وركب فخر الملك في آخر النهار إلى المشهد بمقابر قريش، فعزى المرتضى، وألزمه العَوْدَ إلى داره، ففعل، ورثاه المرتضى بمراثٍ كثيرةٍ، منها: [من الكامل]

يا للرِّجال لِفَجْعَةٍ جَذَمَتْ يدي ... وَوَدِدْتُها ذهبَتْ عليَّ بِراسي ما زِلْتُ آتي ورْدَها حتى أتَتْ ... فحسَوْتُها في بعضِ ما أنا حاسي ومَطَلتُها زمنًا فلمَّا صَمَّمَتْ ... لم يَثْنِها مَطلي وطولُ مِكاسي لا تُنْكِرا من فيضِ دمعي عَبْرةً ... فالدمعُ خيرُ مساعدٍ ومواسي واهًا لِعُمرِكَ من قصيرٍ طاهرٍ ... ولَرُبَّ عُمْرٍ طال بالأرجاسِ وعاش الرضيُّ ستًّا وأربعين سنة. ومن شعر الرضيِّ قال يرثي والدته: [من الوافر] أبكيكِ لو نَقعَ الغليلَ بُكائي ... وأقولُ لو ذهبَ المقالُ بدائي وأعوذُ بالصبرِ الجميلِ مُعزِّيًا ... لو كانَ في الصبرِ الجميل عزائي طَوْرًا تُكاثِرُني الدُّموعُ وتارةً ... آوي إلى أُكْرومَتي وحيائي كم عَبْرةٍ مَوَّهْتُها بأنامِلي ... وستَرْتُها مُتجمِّلًا بردائي أُبدي التجَلُّدَ للعدوِّ ولو درى ... بتَملْمُلي لقد اشْتَفى أعدائي ما كنتُ أذخَرُ في فداكِ رَغيبةً ... لو كان يرجِعُ ميِّتٌ بفداءِ لو (¬1) كان يُدفَعُ ذا الحِمامُ بقوَّةٍ ... لتكدَّسَتْ عُصَبٌ وراءَ لوائي بِمُدَرَّبين (¬2) على القِراعِ تفيَّؤوا ... ظِلَّ الرماحِ لكل يومِ لقاءِ فارقتُ فيكِ تماسُكي وتَجمّلي ... ونسيتُ فيكِ تعزُّزي وإبائي ومنها: كم زفرةٍ ضعُفَتْ فصارَتْ أنَّةً ... تَمَّمْتُها بتنَفُّس الصُّعداءِ قد كنتُ آمُلُ أن أكونَ لكِ الفِدا ... ممَّا ألَمَّ فكنْتِ أنتِ فدائي وجرى الزمانُ على عوائدِ كَيده ... في قلبِ آمالي وعكْسِ رجائي وتفرُّقُ البُعداءُ بعد تألُّفٍ (¬3) ... صَعْبٌ فكيفَ تفرُّق القُرَباءِ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): أو، والمثبت من ديوانه 1/ 26. (¬2) في (خ) و (ف): بمدرَّعين. (¬3) في الديوان: مودة.

وتداولُ الأيامِ يُبلينا كما ... يُبلي الرِّشاءَ تطاوُحُ الأرْجاءِ وكأنَّ طولَ العمرِ روحةُ راكبٍ ... قَضَّى اللُّغوبَ وجَدَّ في الإسراءِ لو كان مثلَكِ كلُّ أمّ بَرَّةٍ ... غنِيَ البنونَ بها عنِ الآباءِ كيفَ السُّلوُّ وكلُّ موقعِ لحظةٍ ... أثَرٌ لفضلِكِ خالد بإزائي شهِدَ الخلائقُ أنَّها لنجيبةٌ ... بدليلِ مَنْ وَلَدَتْ من النُّجَباءِ قد كنتُ آمُلُ أن يكونَ أمامَها ... يَومي وتُشْفِقُ أن تكونَ ورائي آوي إلى بَرْدِ الظِّلالِ كأنني ... لتَحرُّقي آوي إلى الرَّمضاءِ يا قبرُ أمْنَحُهُ الهوى وأودُّ لو ... نزفَتْ عليه دموعُ كلِّ سماءِ لَهفي على القومِ الألى غادَرتُهم ... وعليهمُ طبق من البَيداءِ صُوَرٌ ضنَنْتُ على العيونِ بِلَحْظِها ... أمسيتُ أُوقِرُها (¬1) من البَوغاءِ (¬2) قَرُبَتْ ضرائحُهم على زُوَّارهم ... ونأَوا عن الطُّلَّابِ أي تنائي معروفُكِ السَّاري (¬3) أنيسُكِ كُلَّما ... ورَدَ الظلامُ بِوَحْشةِ الغَبْراءِ وضياءُ ما قَدَّمْتِهِ من صالحٍ ... لكِ في الدُّجى بَدَلٌ من الأضواءِ كَمْ آمِرٍ لي بالتَّصبُّرِ هاج لي ... داءً وقَدَّرَ أنَّ ذاكَ دوائي إنَّ الذي أرضاهُ فِعْلُكِ لا يَزَلْ ... تُرضيكِ رحمتُه صباحَ مساءِ من أبيات. وقال أيضًا: [من الخفيف] حيِّ بين النَّقا وبينَ المُصَلَّى ... وقَفاتِ الركائبِ الأنضاءِ وَرَواحَ الحجيجِ ليلةَ جَمعِ ... وبجَمْعٍ مجامِعُ الأهواءِ وتَذَكَّرْ عنِّي مُناخ مَطِيِّي ... بأعالي مِنًى ومَرْسى خِبائي وقال: [من الطويل] ولمَّا أبى الأظعانُ إلَّا فراقَنا ... وللْبَينِ وعدٌ ليس فيه كِذابُ ¬

_ (¬1) أوقرها: أحملها. المعجم الوسيط (وقر). (¬2) البوغاء: التراب. المعجم الوسيط (بوغ). (¬3) في الديوان: السامي.

رجعتُ ودمعي جازع من تجلُّدي ... يرومُ نزولًا للجوى فيَهابُ وأثقلُ محمولٍ على العينِ ماؤها ... إذا بانَ أحباب وعَز إيابُ وقال من أبيات: [من الطويل أيضًا] هل الطَّرْفُ يُعطي نظرةً من حَبيبِهِ ... أمِ القلبُ يَلقى روعةً (¬1) من وَجيبِهِ (¬2) وهَلْ للَّيالي عَطْفَةٌ بعد نَفرةٍ ... يعودُ فتُلهي ناظرًا عن غروبِهِ أحِنُّ إلى نورِ اللِّوى في بِطاحِهِ ... وأَظْما إلي ريَّا اللِّوى في هبوبِهِ وذاكَ الحِمى يغدو عليلًا نسيمُهُ ... ويُمسي صحيحًا ماؤُهُ في قليبِهِ وقال أيضًا: [من الطويل] أحبُّ الثَّرى النَّجديَّ من أجْرَعِ (¬3) الحِمى ... كأنِّي لِمَنْ بالأجْرَعِينِ نَسيبُ إذا هبَّ عُلْويُّ النَّسيمِ رأيتَني ... أَغُضُّ جُفوني أنْ يُقال مُريبُ وقال: [من الكامل] ولقد مررتُ على ديارِهم ... وطُلُولُها بيدِ البِلى نَهْبُ فوقفت حتى عجَّ من عجبٍ (¬4) ... نِضوي (¬5) ولَجَّ بِعَذْليَ الرَّكْبُ وتلفَّتَتْ عيني فمُذْ خَفِيَتْ ... عنِّي الطُّلولُ تلَفَّتَ القَلْبُ قال المصنف رحمه الله تعالى: حكى لي مؤيَّدُ الدين وزيرُ الخليفة المستعصم ببغداد في سنة أربع وأربعين وست مئة، قال: مَرَّ رجلٌ بالكَرْخ على دارٍ خراب، فوقف عليها، وتمثَّل بهذه الأبيات، فقال له بعضُ الجيران: أتدري لمن هذا الشعر؟ قال: لا واللهِ. قال: هذا للرضيِّ، وهذه دارُه. فقال: [من مجزوء الرمل] مَنْ مُعيدٌ ليَ أيَّا ... مي بجَزَعِ السَّمُراتِ ولياليَّ بِجَمْع ... ومنًى والجَمَراتِ ¬

_ (¬1) في الديوان: راحةً. (¬2) الوجيب: تحرك القلب تحت أبهره. اللسان (بهر). (¬3) الأجرع: المكان الواسع الذي فيه حزونة وخشونة. اللسان (جرع) 9. (¬4) هذا الشطر في وفيات الأعيان 4/ 417، والوافي بالوفيات 2/ 376، وفي غيرهما من المصادر: فبكيتُ حتى ضَجَّ من لغَبٍ. (¬5) النِّضْو: الثوب الخَلَق. اللسام (نضو).

يا وقوفا ما وقفْنَ ... في ظِلالِ السَّلَماتِ تتشاكى ما عنانا ... بكلامِ العَبَراتِ آهِ مِنْ جيد إلى الدَّا ... رِ طويلِ اللفَتاتِ وغرامٍ غيرِ ماضٍ ... بلقاءٍ غيرِ آتِ فسقى بطنَ مِنًى والـ ... ـخَيفَ صَوْبُ الغادياتِ غرسَتْ عندي غرس الـ ... ـشوقِ مَمْرورَ الجَناةِ أينَ راقٍ لغَرامي ... وطبيبٌ لِشَكاتي (¬1) وقال: [من الكامل] ذنْبي إلى البُهمِ الكوادنِ (¬2) أنَّني الْطِّـ ... ـرفُ (¬3) المُطَهَّمُ (¬4) والأغرُّ الأقرَحُ (¬5) من خِيفَ خَوْفَ اللَّيثِ خُطَّ له الزُّبَى (¬6) ... وَعَوَتْ لِشُهرَتِهِ الكلابُ النُّبحُ يولونَني خُزْر (¬7) العُيونِ لأنَّني ... غَلستُ في طلب العُلا وتَصبَّحوا وجَذَبْتُ بالطِّوَلِ (¬8) الذي لم يَجْذِبوا ... ومَتَحْتُ بالغَرْبِ (¬9) الذي لَمْ يَمْتَحوا لو لمْ يكُن لي في العيونِ مهابةٌ ... لمْ يطعنِ الأعداءُ فِيَّ ويَقْدَحوا نظروا بعينِ عداوةٍ لو أنَّها ... عينُ الرِّضا لاستحسنوا ما اسْتَقْبحوا وقال أيضًا: [من الطويل] خُذي نفَسي يا ريحُ مِنْ جانبِ الحِمى ... فلاقي بها ليلًا نسيمَ رُبا نَجْدِ فإنَّ بذاك الجوِّ حبًّا (¬10) عهِدْتُهُ ... وبالرغم منِّي أن يطولَ بهِ عَهْدي ¬

_ (¬1) الأبيات في ديوانه 1/ 218. (¬2) في الديوان 1/ 259: الكواذب. والكوادن جمع كودن: وهو البطيء الثقيل في مشيته. المعجم الوسيط (كدن). (¬3) الطِّرف: الكريم. المعجم الوسيط (طرف). (¬4) المُطهَّم: التام من كل شيء. المعجم الوسيط (طهم). (¬5) الأقرح: هو الذي في جبهته قُرحة، أي: بياض بمقدار الدرهم. المعجم الوسيط (قرح). (¬6) الزبى: جمع زُبَية، وهي حفرة تحفر للأسد. (¬7) الخَزر: ضيق العين وصِغَرها. الصحاح (خزر). (¬8) الطِّوَل: الحبل تُربط به قائمة الدابة. معجم متن اللغة (طول). (¬9) مَتَحَ الماء: نزعه واستخرجه، والغَرْب: الدلو العظيمة. المعجم الوسيط (متح) و (غرب). (¬10) في الديوان 1/ 389: فإنَّ بذاك الحيِّ إلْفًا.

ولولا تداوي القلبِ من ألم الجَوى ... بِذِكْرِ تلاقينا قَضيتُ من الوَجْدِ ويا صاحِبيَّ اليومَ عُوجا لِتسألا ... رُكيبًا من الغَوْرينِ أنضاؤهم تخدي عن الحيِّ بالجرعاءِ جرعاء مالكٍ ... هل ارتَبعوا واخضرَّ واديهمُ بَعْدي شممتُ بنجدٍ شِيحةً حاجِريَّةً ... فأمْطَرْتُها دَمْعي وأفرَشْتُها خَدِّي ذكرتُ بها رِيَّ الحبيبِ على النَّوى ... وهيهاتَ ذا يا بُعْدَ بينهما عِندي وإني لَمجلوبٌ إلى الشَّوقِ كُلَّما ... تنفَّسَ شاكٍ أو تألَّم ذو وَجْدِ تعرَّض رسْلُ الشوقِ والرَّكبُ هاجدٌ ... فتُوقِظني من بينِ نُوَّامِهم وَحْدي وما شَرِبَ العُشَّاقُ إلا بَقِيَّتي ... وما وَرَدوا في الحبِّ إلَّا على ورْدي وقال: [من البسيط] يا قلبُ ما أنتَ من نجدٍ وساكنِهِ ... خلَّفْتَ نَجْدًا وراءَ المُدْلجِ السَّاري أهفو إلى البانِ تعلو لي خمائلُه (¬1) ... من الحِمى في أُسَيحاقٍ وأطْمارِ (¬2) تفوحُ (¬3) أرواحُ نجد من ثيابهِمُ ... عند القدومِ لقُرْبِ العهدِ بالدَّارِ يا راكبانِ قِفا بي واقضيا وَطَري ... وحدِّثانِيَ عن نجد بأخبارِ هَلْ رُوِّضَتْ قاعةُ الوعساءِ أمْ مُطِرَتْ ... خميلةُ الطَّلْحِ ذاتِ البانِ والغارِ أم هَلْ أبيتُ ودار عند كاظمة ... داري وسُمَّارُ ذاكَ الحيِّ سُمَّاري فَلمْ يزالا إلى أن نَمَّ بي نفَسي ... وحدَّثَ الركبَ عنِّي دمعيَ الجاري وقال أيضًا: [من الرجز] يا نفسُ إِنْ عَنَّ المُرادُ فخُذي ... إن كنتِ يومًا تأخذينَ أو ذَري نُهزةُ مجدٍ كنتُ في طِلابِها ... لمثلِها يَنْصُفُ ساقي مئزري وكيفَ بالعيشِ الرَّطيبِ بعدَما ... حَطَّ المشيبُ رحْلَهُ في شَعَري عُمْرُ الفتى شبابُهُ وإنَّما ... آونةُ الشَّيب انقِضاءُ العُمُرِ ¬

_ (¬1) في الديوان 1/ 517: أهفوا إلى الركب يعلو لي ركابُهُمُ. (¬2) أُسيحاق؛ تصغير إسحاق، وهو من السَّحْق، والسحْق من الثباب: الخَلَقُ البالي. المعجم الوسيط (سحق). وأطمار؛ جمع طَمْر، وهو بمعنى أُسيحاق. (¬3) في الديوان: تضوع.

ألا صديقٌ في الزَّمانِ ماجدٌ ... أشكو إليه عُجَري وبُجَري يَعتِقُ من رِقِّ الهوى حُشاشة ... عجَّتْ من الضَّيمِ عجيجَ الأدْبَرِ (¬1) ما أنا إلَّا النَّصْلُ مغمودًا ولَوْ ... جرَّدني الرَّوعُ لَبانَ جوهري دونَكَ فانْظُرْ إن جهِلْتَ مَخْبري (¬2) ... فرُبَّما دَلَّ عليَّ منظري يا قدمي دونَكَ مَسْعاةَ العُلى ... قد ضَمِنَ الإقبالُ أن لا تَعثِرِي وقال: [من الطويل] ألا هَلْ إلى ظِلِّ الأثيلِ تخلُّصٌ ... وهَلْ لِثَنيَّاتِ الغُوَيرِ طُلوعُ وهَلْ لِليالينا الطِّوالِ تَصَرمٌ ... وهَلْ لِلَيالينا الْقِصارِ رُجوعُ (¬3) وقال: [من الكامل] لا يُبْعِدِ اللهُ الذين نَأَوا ... وقَفَ الغرامُ بنا وما وقفوا لم أنْسَ موقِفنَا وموقفَهمْ ... يومَ النَّوى ودموعُنا تَكِفُ حبلٌ غدا بأكُفِّنا طَرَفٌ ... منهُ وفي أيدي النَّوى طَرَفُ هَلْ حُسْنُ ذاكَ العهدِ مُرْتَجَعٌ ... أمْ طيبُ ذاكَ العيشِ مؤتنَفُ أم هلْ يُباحُ الورْدُ ثانية ... وَيَلذُّ ذاك الماءَ مُرْتَشِفُ (¬4) وله: [من الخفيف] أيُّها الرَّائحُ المُغِذُّ تَحَمَّلْ ... حاجة للمتيَّمِ المشتاقِ أقرِ عنِّي السلامَ أهلَ المُصلَّى ... فبلاغُ السَّلامِ بعض التلاقِ وإذا ما مررتَ بالخَيفِ فاشْهَدْ ... أنَّ قلْبي إليهِ بالأشواقِ وإذا ما سُئِلْتَ عنِّي فقُلْ: نِضـ ... ـو هَوًى ما أظنُّه اليومَ باقِ ضاع قلبي فانشُدْه لي بينَ جَمْعٍ ... ومنًى عندَ بعضِ تِلْكَ الحِدَاقِ ¬

_ (¬1) البيت في الديوان 1/ 479: يَعتِقُ من رقِّ الهوانِ عاتقًا ... عَجَّ من الضيمِ عجيجَ الموقَرِ (¬2) الشطر في الديوان 1/ 477: دونك فانظرني فإن جهلتني (¬3) البيتان في ديوانه 1/ 656. (¬4) الأبيات في ديوانه 2/ 22 - 23.

وابْكِ عنِّي فطالما كنت من قَبْلٍ ... أُعيرُ الدُّموعَ للعُشَّاقِ (¬1) وقال أيضًا: [من مجزوء الرمل] اشْتَرِ العِزَّ بما بِيـ ... ـع فما العِزُّ بِغَالِ بالقِصارِ البيض (¬2) إن شئـ ... ت وبالسُّمْرِ العوالي ليس بالمغبونِ عقلًا ... من شرى عِزًّا بمالِ إنَّما يُدَّخَرُ الما ... لُ لحاجاتِ الرِّجالِ والفتى مَنْ جَعَلَ الأَمـ ... وال أثمانَ المعالي وقال: [من الطويل] وإنِّي إذا اصْطَكَّتْ رِقابُ مَطِيِّكُمْ ... وثَورَ حادٍ بالرفاقِ عجولُ أُخالِفُ وَضْعَ الرَّاحتينِ على الحشا ... وأنظُرُ أنِّي مُلتَمٍ فأميلُ (¬3) وقال [من الطويل]: مُقيمٌ بأطرافِ الثَّنايا صبابةً ... أُسائِلُ عن أظعانِكُمْ كُلَّ قادِمِ وأسألُ خَفَّاقَ النسيمِ إذا حدا ... من الغرب أعناقَ المَطيِّ الرَّواسِمِ وأستشرفُ الأعلامَ حتى تَدُلَّني ... على طِيبها مرُّ الرِّياحِ النَّواسِمِ وما أنسُمُ الأرواحَ إلَّا لأنَّها ... تمرُّ على تلك الرُّبا والمعالِمِ (¬4) وقال أيضًا [من الطويل]: وليسَ الفتى إلَّا الذي إن رأيتَهُ ... رأيتَ غنيَّ النَّفْسِ في ثوب مُعْدمِ وفي نظري عنوانُ ما بين أضلُعي ... ورُبَّ لَحَاظٍ نائب عن تَكَلُّمِ ومن جعل القلبَ الجريء أمامَهُ (¬5) ... فكل ظلامٍ عنده غيرُ مُظلِمِ وقال: [من البسيط] ¬

_ (¬1) الأبيات في ديوانه 2/ 79. (¬2) في الديوان 2/ 244: الصفر. (¬3) البيتان في ديوانه 2/ 221 والمُلتمي من لتَمَ الشيء، أي: ضَرَبه معجم متن اللغة 5/ 148. (¬4) البيتان الأخيران في ديوانه 2/ 431. (¬5) في الديوان 2/ 401: وليله.

لا يُذكَرُ الرَّمْلُ إلَّا حَنَّ مُغترِبٌ ... لهُ بذي الرمل (¬1) أوطارٌ وأطانُ تهفو إلى البانِ من قلبي نوازِعُهُ ... وما بي البانُ بَلْ مَنْ دارُهُ البانُ أسُدُّ سمعي إذا غنَّى الحَمامُ بِهِ ... أَلَّا يُهَيِّجَ سِرَّ الوَجْدِ إعلانُ إذا تلفَّتُّ في أطلالِها ابتدرَتْ ... للعينِ والقلبِ أمواهٌ نيرانُ وقال: [من البسيط] يا طائرَ البانِ غِرِّيدًا على فَنَنٍ ... ما هاجَ نَوْحُكَ لي يا طائرَ البانِ هل أنتَ مُبْلِغُ مَنْ هامَ الفؤادُ بِهِ ... إنَّ الطليقَ يؤدِّي حاجةَ العاني جِنايَةً ما جناها غيرُ مُقْلَتِهِ ... يومَ الرحيلِ وَوَاشوقا إلى الجاني لولا تذكُّرُ أيامي بذي سَلَمٍ ... وعندَ رامةَ أوطاري وأوطاني لَما قدَحْتُ بنارِ الشَوقِ في كبدي ... ولا بَلَلْتُ بماءِ العينِ أجفاني (¬2) وقال: [من الطويل] فيا بانتَي بطنِ العقيقِ سُقِيتُما ... بماءِ الغَوادي بعدَ ماءِ شُؤوني أُحِبكما والمستجِنَّ بطَيبةٍ ... مَحبةَ ذُخْرٍ باتَ عند ضنينِ (¬3) وقال: [من الطويل] أقولُ لركْبٍ رائحينَ لعلكُمْ ... تَحُلُّونَ من بعدي العقيقَ اليمانيا خُذوا نظرةً منِّي فلاقُوا بِها الحِمى ... ونَجْدًا وكُثبانَ اللِّوى والمَطاليا ومُرُّوا على أبياتِ حيٍّ برامةٍ ... وقولوا لديغ يبتغي اليومَ راقيا وقولوا لجيرانٍ على الخَيفِ من منًى ... تُراكُمْ مَنِ اسْتبدلْتُمُ بجواريا ومَنْ وردَ الماءَ الذي كنتُ واردًا ... لهُ ورعى العُشبَ (¬4) الذي كنتُ راعيا فوالهفَتي كَمْ لي على الخَيفِ شهقةً ... تذوبُ عليها قطعةٌ من فؤاديا ¬

_ (¬1) في (خ): البان، والمثبت من الديون 2/ 449. (¬2) الأبيات في ديوانه 2/ 475. (¬3) البيتان في ديوانه 2/ 485. (¬4) في ديوانه 2/ 570: الروض.

السنة السابعة وأربع مئة

ترحَّلْتُ عنكُمْ لي أمامي نظرةٌ ... وعشرٌ وعشرٌ بَعْدَكُمْ مِنْ (¬1) ورائيا وقال أيضًا: [من الطويل] فعندي زفيرٌ ما تَرقَّى إلى الحشى ... وعندي دموعٌ ما بَلغْنَ المآقيا ولا خيرَ في الدنيا إذا كنتُ حاضرًا ... وكان الذي يغرى بهِ القلبُ نائيا وما شِبْتُ من طولِ السِّنينَ وإنَّما ... غُبارُ قضايا الدَّهرِ غطَّى سواديا وما كلُّ مَنْ أومى إلى العزِّ نالهُ ... ودونَ العُلى ضربٌ يُدَمِّي النَّواصيا (¬2) ومن نثره: وما أنا إلَّا غرسُه الذي سقاه ماء الكرم، فأثمر الكَلِم، وحسامُه الذي حَلاه، فأهدى إليه من حُلاه. السنة السابعة وأربع مئة فيها في يوم الجمعة سابعَ مُحرَّم توجَّه فخر الملك من بغداد إلى الأهواز، وقُبِضَ عليه، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها كانت وقعةٌ بين سلطان الدولة أبي شجاع وأخيه أبي الفوارس، فانهزم أبو الفوارس بعد ما دخل شيراز وملَكَها. قال هلال بن الصابئ: في يوم الاثنين سابع مُحرم خرج سلطان الدولة من الأهواز لقتال أبي الفوارس، وقدم بين يديه الدَّيلمَ والعساكرَ، وكان أبو الفوارس في شيراز، فخرجَ منها لسبع بقينَ من ربيع الآخر، ولم يتبَعْه أحدٌ من عسكر سلطان الدولة، ودخلَ سلطانُ الدولة البلدَ، وقصد أبو الفوارس كرمان، وتسلَّل إليه الدَّيلم، وكان سلطانُ الدولة قد استوزَرَ الأوحَدَ أبا محمد، فأساء إلى الدَّيلم، وقبض عليهم، فمضَوا إلى أبي الفوارس، وبعث الأوحدُ الجواسيسَ خلفَه، فعادوا، وأخبروه أنَّه (¬3) أخذَ طريقَ إصْطَخر على ضعفٍ وقلَّةٍ، فأشار الأوحدُ بتجريد عساكر خَلْفَه، فقال سلطان الدولة: أنا أتبَعُه. فخرج من شيراز، وبلغ أبا الفوارس، فقيل له: ارجِعْ إلى شيراز، فإنَّ أموال ¬

_ (¬1) في الديوان: نحوكم لي. (¬2) الأبيات في ديوانه 2/ 586 - 590. (¬3) في (خ): أنهم، والمثبت من (ف).

سلطانَ الدولة وخزائنَه بها. فلم يقبَلْ، وكان محمود بن سُبُكْتِكين قد جهَّز مع أبي الفوارس عسكرًا كثيفًا مع بعض خواصِّه، فاستشعر منه، فقبضه، وانهزم أبو الفوارس إلى خراسان وقد فسد الحالُ بينه وبين محمود. وفيها احترق مشهد الحسين - عليه السلام -، وسببه أنَّ القُوَّام أوقدوا الشمع بالليل، وغفلوا عنه، فوقعت شمعةٌ في أصل التأزير (¬1) فأحرقَتْه، ودبَّتِ النار إلى القبة وغيرِها فأحرقت الجميع. وفيها تشعَّث الركن اليماني من البيت الحرام، ووقع الحائط الذي بين يدي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانكشفتِ القبورُ، وطلَعَ كوكبُ الذؤابة، ووقعت القبة الكبيرة التي على صخرة بيت المقدس (¬2). و[فيها] تُوفِّي الأُصيفر الذي كان يمكُس الحاجَّ كلَّ سنة ويحقرهم. وفيها ملك محمود بن سُبُكْتِكين خُوارَزم، وسببه أنها كانت لمأمون بن مأمون خُوارَزم شاه، وكان قد صاهر محمود على أخته، وبينهما مودة وصداقة، وكان لمأمون أخٌ يقال له: علي، وله صاحب يُعرف بخمارتاش، وكان عليٌّ يهواه، فلمَّا تُوفِّي عليٌّ انتقل إلى أخيه مأمون، فلم يجِدْ عنده ما كان يجِدُ من مولاه، فشقَّ عليه وراسله، وقال: قد أنزلتني عن منزلتي، والواجب إنْ لم تجِدني عليها أن ترُدَّني إليها. فأجابه جوابًا لم يَرْضَه، فأفسد عليه الغلمانُ الداريَّة، ودسَّ إلى التُّرك مَنْ أوحشَهم، فأقاموا ابنًا لعليِّ وأمَّروه، وألزموا مأمونًا تسليم الأمر إليه، وتقبيل الأرضِ بين يديه، ولم يقنع خمارتاش بهذا، حتى أمرَ الغِلمانَ فقتلوه، وعُرِّفَ محمود، وكان ببَلْخ، فسار إلى خُوارَزم ففتحها، وقتَلَ خمارتاش وقَتَلَةَ مأمودب وصلبَهم، ونقل عامَّةَ أهل البلد والجُند إلى بلاد الهند، ورتب أصحابه بدلًا منهم، وأخذ الأموال والخزائن، وعاد إلى بَلْخ. وفيها خُلِعَ على الأوحدِ أبي محمد الحسن بن الفضل الرَّامَهُرمزي خِلَعَ الوزارة مِنْ قِبلِ سلطان الدولة، وهو الذي بنى سورَ الحائِرِ بمشهد الحسين (- رضي الله عنه -). ¬

_ (¬1) التأزير: هو ما يُستر به أسفل جدار المسجد وغيره من خشب وغيره. تحرير ألفاظ التنبه 1/ 327. (¬2) هذا الخبر والذي قبله في المنتظم 15/ 120، والكامل 9/ 295 بنحوهما.

أحمد بن محمد

ولم يحجَّ في هذه السنة أحدٌ من العراق خوفًا من العرب [والعطش] (¬1). وفيها تُوفِّي أحمد بن محمد (¬2) ابن يوسف بن محمد بن دُوسْت، أبو عبد الله، البَّزاز، ولد في صفر سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة، وكان حافظًا متقنًا. وقال حمزة بن محمد بن طاهر: قلت لابن دُوستْ: أراكَ تُملي المجالس من حفظك، فلِمَ لا تملي من كتاب؟ فقال: أنظرُ فيما أمليتُ، فإن كان في ذلك خطأٌ لم أُمْلِ من حفظي، وإن كان جميعُه صوابًا، فما الحاجةُ إلى كتاب؟ ! وكانت وفاتُه في رمضان، ودُفِنَ عند منارة جامع المنصور، وقد تكلَّموا فيه. سليمان بن الحكم (¬3) والي الأندلس، وثب عليه رجلان من عسكره -أحدهما اسمه علي، والآخر القاسم- وادَّعيا أنهما من ولد الحسين بن علي، وتغلَّبا على الأندلس، [وكانت مدَّة ولاية سليمان ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وانقطعت ولايتُه لبني أمية عن الأندلس]، وعادت سنة أربع عشرة وأربع مئة، فكانت مُدَّة خروجها عنهم سبعَ سنين وثمانيةَ أشهر وأيامًا، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. عبد العزيز بن عثمان بن محمد (¬4) أبو محمد، القَرْقَساني، الصوفي، شيخ الشام في وقته، وصاحب المجاهدات، سمع الكثير، وسكن دمشقَ حتى ماتَ بها، وكان ثقةً. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) وحدها. (¬2) تاريخ بغداد 5/ 124 - 125، والمنتظم 15/ 121 - 122. وينظر السير 17/ 322. (¬3) جذوة المقتبس ص 19 - 22، وبغية الملتمس ص 24 - 26. وينظر السير 17/ 133. (¬4) تاريخ دمشق 36/ 315 - 317 (طبعة دار الفكر).

عبد الملك بن محمد بن إبراهيم

عبد الملك بن محمد بن إبراهيم (¬1) أبو سعد، النَّيسابوري، الواعظ [ويُعرف بالخَرْكوشي؛ ذكره أبو عبد الله الحاكم في تاريخه، والخطيب، والحافظ ابن عساكر]. وتفقَّه وتزهد، وجالس الزُّهاد والمُجرَّدين، [وسمع بنيسابور القاضي محمد بن يحيى وأبا عمرو، وابن نُجيد، وأبا علي الرَّقاء الهروي، وغيرهم، وتفقَّه للشافعي على أبي حسن الماسَرْجسي، ثم] توجَّه إلى مكة فجاور بها، وسمع الحديث من أهلها والواردين إليها، ثم انصرف إلى وطنه بنيسابور وقد أنجزَ اللهُ موعودَه فيه، على لسان نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -[في حديث أبي هريرة (- رضي الله عنه -)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] أنه قال: "إذا أحبَّ اللهُ عبدًا أمرَ جبريل - عليه السلام - أن يُنادي في السماء: أن الله تعالى يُحِبُّ فلانا فأحِبُّوه" ... الحديث (¬2). فلزِمَ (¬3) منزِلَه، وبذلَ المال والنفس، وعمَّر القناطرَ والجسورَ والحِياضَ، وكسا الفقراءَ، وبنى المساجد، وداوى المرضى، وصنَّف في علوم الشريعة الكتبَ، ودلائلَ النبوة، وسِيَرَ العُبَّادِ والزُّهَّاد، [وأثنى عليه الحاكم ثناءً كثيرًا، وذكره الخطيب فقال: قَدِم بغداد حاجًّا فحدث بها] وكان عابدا زاهدًا ثقة [وحدَّث بدمشق]، وكان له بنيسابور قبول عظيمٌ، وجاهٌ عرض، وقبره بها ظاهِرٌ يُزار. علي بن الحسن بن القاسم (¬4) الصوفي، يُعرَفُ بابن المترفِّق، ومن شعره: [من الوافر] وأصبِرُ عن زيارتِكُمْ لأنِّي ... إذا ما زُرتُكُمْ زادَ اشتياقي تُنغِّصُني السرورَ بِكُمْ همومي ... لِما ألقاهُ من مَضَضِ الفراقِ فما لي راحةٌ في البُعْدِ عنكُمْ ... ولا لي سلوةٌ عندَ التلاقي ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 432، وتبيين كذب المفتري ص 233 - 236، والأنساب 5/ 93 - 94، واللباب 1/ 436، ومعجم البلدان 2/ 361. وينظر السير 17/ 256. (¬2) أخرجه البخاري (3347) و (7136)، ومسلم (3881)، وأحمد (8500). (¬3) في (م) و (م 1): فبذل، والمثبت من (خ) وهو الموافق للمصادر. (¬4) تاريخ دمشق 41/ 334 - 335 (طبعة دار الفكر).

محمد بن أحمد بن القاسم

[وفيها تُوفِّي] محمد بن أحمد بن القاسم (¬1) ابن إسماعيل، أبو الحسين، الضبِّي، القاضي، ويعرف بابن المَحامِلي، حفظ القرآن، وسمع الحديث، وكان جامعًا للعلوم، وتوفي ببغداد في رجب، وكان ثقة. [وفيها تُوفّي] محمد بن علي بن خلف (¬2) أبو غالب، فخر الملك الوزير، أصله من واسط، وكان أبوه صيرفيًّا، فتنقَّلت (¬3) به الأحوال إلى خدمة بهاء الدولة، فاستوزره، وبعثه نائبًا عنه إلى بغداد، وكان جوادًا سمحًا، أثر ببغداد الآثار الجميلة، ولمَّا وَليَ الوزارةَ أعطى كلَّ واحدٍ من حاشية الملك مئةَ دينار، ودستًا من الثياب، وسد البثوق، وعَمَرَ سوادَ الكوفة، وعمل الجسر ببغداد، وعَمِلَ له درابزينات، وكان قد بطل، وعمل المارستان، وكانت دارُه على الحريم الطاهري يُقال لها: الفخرية، وكانت للمتَّقي لله، وابتاعها عِزُّ الدولة بختيار، وخربت، فعَمَرَها فخرُ الملك، وغرم عليها أموالًا كثيرة، وكان الفراغُ منها في رمضان سنة اثنتين وأربع مئة، وعصَفَتْ ريحٌ ببغداد فقصفت أكثرَ من عشرين ألف نخلة، فاستعملَ فخرُ الملك أكثرَها في داره. وكان كثيرَ الصَّلاة والصِّلاتِ، يُجري على الفقراء والعلماء من بغداد إلى شيراز، وكسا في يوم ألف فقير، وسنَّ تفرقة الحلوى في النصف من رمضان، وأهمل بعض الواجبات، فعوقب (¬4) سريعًا، وذلك أنَّ بعضَ خواصِّه قتَلَ رجلًا ظلمًا، فتصدَّت له زوجةُ المقتول، فكانت تستغيثُ ولا يلتفتُ إليها، فوقفَتْ له بمشهد باب التبن وقد جاء ¬

_ (¬1) في (خ): علي، وهو تحريف، والمثبت من (ف) ومصادر الترجمة: تاريخ بغداد 1/ 333 - 334، والمنتظم 15/ 123، والأنساب 11/ 155. وينظر السير 17/ 265. (¬2) المنتظم 15/ 124. وتنظر مصادر الترجمة في السير 17/ 282. (¬3) في (م): فتقلبت. (¬4) في (خ) و (ف): فغودر، والمثبت من (م) و (م 1)، وهو الموافق لما في المنتظم.

للزيارة، فقالت [له]: يا محمد، القصصُ التي كنتُ أرفعُها إليك ولا تلتفتُ إليها قد رفعتُها إلى الله، وأنا منتظرةٌ خروج التوقيع من جهته. فلمَّا قُبِضَ عليه قال لبعض أصحابه: لا شكَّ أن توقيع تلك المرأة قد خرج. وقتله سلطانُ الدولة بالأهواز، وكان عمرُه اثنتين وخمسين سنة وأشهر، وأخذ من ماله نيِّفًا وست مئة ألف دينار سوى الضياعات والثياب والفرش والآلات، وقيل: إنَّه وُجِدَ له ألف ألف ومئتا ألف دينار، و [كان] الذي أثار هذه الأموال أبو علي الرُّخَّجي الوزير، وكانت ودائعَ عند الناس، وكان فخرُ الملك لمَّا فتح قلعة بدر بن حسنويه وأخذ منها تلك الأموال العظيمة، احتجزَ لنفسه ما يزيدُ على ثلاثة آلاف ألف دينار، وأودَعَها عند جماعة، فوقف الرُّخَّجي على تذكرة بخطِّ فخر الملك، فاستخرجها من غير أن يُفزعَ أحدًا [بعصاة، لما نذكر في ترجمة الرُّخَّجي]. وقيل: أخذ منه -زيادةً على ما ذكرنا- ثلاثين ألف ألف دينار (¬1)، ومن الجواهر واليواقيت ما يساوي ألفي ألف دينار. وقال هلال بن الصابئ: وفي يوم الجمعة سابع مُحرَّم برز فخر الملك إلى معسكره متوجِّهًا إلى سلطان الدولة إلى الأهواز الدفعة الثانية، وذلك أنَّه لمَّا عاد إلى بغداد أقام فيها ثلاثةَ أشهر، ووردتْ كتُبُ سلطان الدولة، وأبو الخطاب والأمير (¬2) أبو المسك يُعلِمونه فيها حصول أبي الفوارس بن بهاء الدولة بفارس (¬3)، وتوجّهه إلى أَرَّجان، وانصراف الأوحد وخُمارتكين البهي من بين يديه، ويحثُّونه على المبادرة، فسار إلى واسط، والكتب تتواتر إليه مع الرِّكابِيَّة، ووافى فوَّهة نهر العباس خامس صفر، وشغَبَ الجندُ، وطلبوا الأرزاق، فاتَّهمه أبو الخطاب أنه وضعهم على ذلك، وتجدَّدت الوحشة أضعافَ ما كانت، وسكَّنَ فخرُ الملك الغِلْمانَ، واتَّفق أنَّ أبا الخطاب مرض وأُرجِفَ عليه، ونُقل إليه أنَّ فخر الملك أحضر المُنجِّمين وقالوا: عليه قطع. فقال أبو الخطاب: سوف نرى مَنْ عليه القطع. قال أبو منصور بن مردُوسْت: فقلتُ لفخر الملك: أبو الخطاب متنكِّرٌ عليك، وقد بلغه عنك ما أوغر صدرَه، فقُمْ بنا الليلةَ نمضي ¬

_ (¬1) المثبت من (ف)، وفي باقي النسخ: درهم. (¬2) تحرفت في (ف) إلى: الأثير، وفي (خ) إلى: لأبتر. (¬3) في (ف): بفاس.

إليه وتعتذرُ إليه عمَّا نُقِلَ عنك. فقال: عُدْ إليَّ آخرَ النهار. فعُدْتُ، وإذا به غيرَ الذي أعهدُه، فتعلَّل عليَّ وقال: حتى أنظُر. فلمَّا كان يوم الاثنين لأربعٍ بَقِين من ربيع الأول ركبَ -على عادته- إلى مضرب سلطان الدولة، فعُدِلَ به إلى خَركاة (¬1)، وأُخِذَ قَباؤه وعِمامتُه، واعتُقِلَ فيها، واحتاطوا على خيمته وما فيها من الخزائن والأموال والغِلْمان والخيل وجميع ما فيها، وقُبِضَ على ولده الأشرف أبي الحسين وعلى حُجَّابه وخواصِّه، ثمَّ حُمِلَ من الخَركاة إلى مكانٍ فقتلوه، فكانت مدةُ عمره اثنتين وخمسين سنة وأحدَ عشر شهرًا وأربعة أيام قمرية، ومدَّةُ نظره في العراق خمس سنين وأربعة أشهر واثني عشر يومًا. وكان عزَمَ سلطانُ الدولة أن يحمِلَه معه إلى أَرَّجان ويعتقله في بعض القلاع هناك، فخُوِّفَ منه، وقيل له: ما الذي يؤمِّنُكَ أن يعمل حيلةً يتخلَّص بها ويكون شرًّا على دولتك من كلِّ أحدٍ. فاستقرَّ الأمرُ على أن يَكْحُلَه ويحمِلَه مكحولًا إلى بعض القلاع، فقال له بعض أعدائه: قد عزَمَ الغِلْمان على أن يهجموا ويأخذوه من أيديكم. ولم يكُنْ لذلك أصلٌ. فقال أبو محمد بن سهلان وأبو منصور بن مَرْدوست: ما الفائدةُ في إبقائه؟ فقُتِلَ. وكان طلق الوجهِ، حُلوَ اللفظِ، كثيرَ البِشْرِ، واسعَ الصدرِ، تنقَّل بين صغيرِ الأعمالِ وكبيرِها، واستُعمِلَ بيسير الأمور وكبيرِها، بفطنةٍ كشفت له عن بواطنِ الأسرار وخوافيها، وحنكةٍ عرَّفته مُتصرَّفاتِ الأمورِ ومجاريها. وكتب سلطانُ الدولة إلى مؤيد الدولة (¬2) ببغداد بالقبض على الأعزِّ أبي القاسم ولدِه وأسبابِه وآثارِه وودائعِه وذخائرِه، فكتم المؤيَّدُ الحال، وأرسل سِرًّا مع بعض خدمه إلى والدة الأعزِّ بأن تأخذ لنفسها وولدها قضاءً لحقِّ فخر الملك، ورعايةً لِما كان بينه وبينه، ففعلت، وصارت إلى دار الخلافة مستترة فيها، وبعث بعد ذلك مَنْ ختمَ على الخزائن وما في الدار، وقد ذكَرْنا أنَّ جُملةَ ما وُجِدَ له من العين ببغداد ستُّ مئةِ ألف ونيِّفًا وثلاثين ألف دينار، غير الجواهر والمصاغ، ووجدوا وصيَّته مكتوبةً، وفيها: ¬

_ (¬1) الخَرْكاة: الخيمة العظيمة. المعجم الذهبي ص 237. (¬2) في (ف) مؤيد الملك.

يُخرَجُ الثلثُ من أموالي يُتصدَّقُ به على الطالبيِّين والعباسيِّين والفقراء والمساكين -وسماهم كلَّ واحدٍ باسمِه ونسبِه- وفي أبواب البرِّ. ثم نُقِلَ فخرُ الملك في السنة الآتية في تابوت إلى الكوفة، فدُفِنَ في جوار المشهد، بشفاعة عينِ الكُفاة أبي القاسم فَسانْجِس، في تربةٍ بناها فخرُ الملك. ورثاه الشعراء والمرتضى أخو الرضي بقصائد منها: [من المتقارب] ألا هَلْ لِما فاتَ من مَطْلَبِ ... وهَلْ عَنْ ردى المرءِ من مهرَبِ وهَلْ لامرئٍ يبتغيهِ القضا ... ءُ مِنْ مُستجارٍ ومن مَذْهَبِ عذيريَ مِنْ حادثاتِ الزمانِ ... أجِدُّ بهِن ويلْعَبْنَ بي وإنْ هُنَّ صَفَّينَ لي مَشْربًا ... رجَعْنَ فَرَنَّقْنَ من مَشْربي فَكَمْ ذا أُعَلَّلُ بالمُبْرِضات (¬1) ... وأُخْدَعُ بالبارقِ الخُلَّبِ ولو كنتُ أعجبُ من حادِثٍ ... عجِبْتُ من الحادثِ الأقرَبِ أتاني على عُدَاوءِ (¬2) الديارِ ... لواذِعُ من نبأٍ مُنْصِبِ فكيفَ عَلقْتُمْ على ما بِكُمْ ... مِنَ العجْزِ بالحُوَّلِ القُلَّب وأينَ يمينكُمُ والعهودُ ... تطايَحْنَ في نفنفٍ (¬3) سَبْسَبِ (¬4) وأصبحَ مُلْكُكُمُ بعدَهُ ... بغيرِ ذراعٍ ولا مَنْكبِ أمِنْ بعد أنْ قادها نحوَكُمْ ... ذَلولًا مُحرَّمةَ المركَبِ تُجازونَهُ بجزاء العدوِّ ... وتجزونَه أُسوةَ المُذْنِبِ ولما مَرَرْنا على رَبْعِهِ ... خرابِ الأنيسِ ولم يخرِبِ تبدَّلَ بعد عجيجِ الوفودِ ... لحاجاتهم صُرَّةَ الجُندُبِ بَكَيْنَ على غَفَلاتٍ بِهِ ... سُرِقْنَ وعيشٍ به طيِّبِ أيا دارُ كيف لبستِ العفاءَ ... وماءُ النَّضارةِ لم يَنضُبِ ¬

_ (¬1) يقال: تبرَّضْ فلان، أي: تبلَّغ بالقليل من العيش. المعجم الوسيط (برض). (¬2) العُدَواء: البُعد. المعجم الوسيط (عدا). (¬3) النفنف: المفازة البعيدة. المعجم الوسيط (نفنف). (¬4) السَّبْسَب: المفازة. المعجم الوسيط (سبسب).

السنة الثامنة وأربع مئة

وكيف نسيتِ الذي كان فيكِ ... من العزِّ والكرمِ الأرحَبِ فإنْ تَكُ يا واحدًا في الزمانِ ... ذهبتَ ففضلُكَ لم يذْهَبِ وإنْ حجَّبوكَ بنسجِ الصَّفيحِ (¬1) ... فغُرُّ مساعيكَ لم تُحْجَبِ فلا خيرَ بعدَكَ في الطيباتِ ... فما العيشُ بعدكَ بالطَّيِّبِ حرامٌ عليَّ اكتسابُ الإخاءِ ... فمِثْلُ إخائِكَ لم أكْسِبِ من أبيات طويلة. السنة الثامنة وأربع مئة فيها ورد كتاب سلطان الدولة بتوجُّهه إلى العراق، كان قد مضى إلى فارس، وبعث عساكره إلى كرمان، وهرب أخوه أبو الفوارس إلى شمسِ الدولة بعد أن تمزَّقَتْ أموالُه، وتفرَّقَتْ عنه جندُهُ ورجالُه، فأحسن إليه شمسُ الدولة، وزوَّجه ابنتَه، وانتقل إلى حسام الدولة بن أبي الشوك، فنزل عليه، وراسل الغِلْمان ببغداد واستمالهم، فأجابه البعضُ، وأخرج المناصحُ أبو الهيجاء والسعيدُ أبو طاهر والأتراكُ خيمَهم إلى المُصلَّى ليقصدوا ابنَ أبي الشوك، ويدفعوا أبا الفوارس، وكان أبو منصور [مَرْدُوست ببغداد، فكاتبه أبو الفوارس، وطلبه إليه، فخرج إليه، واجتمع معه عند أبي الشوك، وتقرَّر الحال على أن ينحدر أبو الفوارس إلى البَطيحة وينحدر أبو منصور] إلى الأهواز، ويصالح بينه وبين أخيه سلطان الدولة وإعادته إلى كرمان، وسار أبو الفوارس إلى البَطيحَة، فالتقاه مُهذَّب الدولة، وأكرمه، وأنزله معه في داره، وحمل إليه من الأموال واللطائف (¬2) والهدايا شيئًا كثيرًا، وتوجَّه مَرْدُوست إلى الأهواز، ووفَّق (¬3) بين سلطان الدولة وأخيه، واستخلص له كرمان، وحمل إليه سلطانُ الدولة من الأموالِ والثيابِ والخيمِ وغيرِها شيئًا كثيرًا. ¬

_ (¬1) الصَّفيح: وجه كل شيء عريض. المعجم الوسيط (صفح). (¬2) في (خ): والألطاف، والمثبت من (ف). (¬3) في (ف): وفرَّق!

ومضى أبو الفوارس إلى كرمان، وزالت الوحشة، ولمَّا عاد من كرمان تلفاه الأوحد الوزير، وترجَّل له، فأعظم ذلك مَرْدُوست، ثم أنزله دارًا فيها أنواع الثياب والآلات، وسيَّر إليه المال والخيلَ والبغال والخِلَعَ السنيَّة والمراكبَ عليها الذَّهبُ، وانصرف مَرْدُوست داعيًا، وفي نفس الأوحد منه؛ لكونه ردَّ أبا الفوارس إلى كرمان، وتوسَّط له بها. وفيها عقد سلطان الدولة على جبارة بنت معتمد الدولة أبي المنيع في دار المملكة ببغداد، بوساطة أبي منصور مَرْدُوست، على صَداق مبلغُه خمسون ألف دينار (¬1)، وحضر القضاةُ والأشرافُ. وقيل في الخطبة: وهذا الأمير الأجلُّ معتمد الدولة، ذو العز، ابن ناصر الدولة (¬2)، أبو المَنيع قِرْواش، ممَّن رغب إليه مولانا شاهنشاه ملك الملوك عمادُ الدين سلطانُ الدولة في تشريفه بقبول عقدٍ لنفسه الكريمة على الحرة جبارة بنت أبي المنيع، فكرَّمه وحباه، وأهَّلَه لذلك، واصطفاه بقبول هذا العقد، ونَحَلَها من العين كذا كذا، فهنيئًا للأمير بهذه النعمةِ التي ألبِسَها، والرتبة التي ارتقاها، والدرجةِ التي علاها، قرن الله ذلك بالحَبْرَةِ التامة، والسعادة العامة، إن شاء الله تعالى. وفيها سار أبو الحسن بن مَزْيَد إلى نواحي الطِّيب ليقصد سلطان الدولة بالأهواز، فمرض، فكاتبَ الأميرَ وأبا الخطاب في ولاية العهد لابنه دُبَيس على أعماله، وبعثَ بالكتاب مع دُبَيس، فأجابه إلى ذلك وخلع عليه، وكتب له المنشور بالولاية، ومات أبو الحسن في ذلك الوجه في شوال، وولي دُبيس (¬3). وفيها استتاب القادرُ بالله أهلَ البدع والأهواء من المقالات الفاسدة، ونهى عن المناظرة والجدال في علم الكلام، وما يتعلق بالمذاهب الخارجة عن الإسلام، وأخذ خطوطَهم بذلك، وأنهم متى عادوا حلَّت دماؤهم، وبلغ محمود بن سُبُكْتِكين، ففعل في بلاده مثل ذلك، نفى المشبِّهةَ والجهميةَ وغيرَهم، وأمرَ بلَعْنِهم على المنابر، وصار ذلك سنةً في الإسلام. ¬

_ (¬1) الخبر إلى هنا في المنتظم 15/ 126. (¬2) في (خ): الدين، والمثبت من (ف). (¬3) الخبر في المنتظم 15/ 127.

شباشي السعيد

وفيها عزلَ الحاكمُ صاحبُ مصر سهمَ الدولة سُبُكْتِكين عن دمشق، [وكان قد ولَّاه إياها في سنة ستٍّ وأربع مئة]، وكان ظالمًا غشومًا فاتكًا، وهو الذي بنى جسر الحديد تحت قلعة دمشق على بردى، سخَّرَ الناسَ فيه، وأخذَ أموالهم، فكتب الناس (¬1) إلى الحاكم يشكونه، واتَّفق أن يوم فراغ الجسر قال: لا يَعْبُرْ غدًا أَحدٌ عليه. فلمَّا أصبحَ جلس على باب القلعة ينظر إليه، وقد عزم على أن يكون أولَ مَنْ يركب ويعبُرَ عليه، وإذا بفارس قد أقبل فعبر عليه، فأنكره (¬2)، وقال: مِنْ أينَ؟ قال: من مصر. وناوله كتاب الحاكم بعزلِه وظلمِه، فقال [أحمد بن عبيد الله] الماهر: [من مجزوء الرمل] عقَدَ الجسرَ وقد ... حَلَّ عُراهُ بيديه ما درى أنَّ عليهِ ... يعبرُ العزلُ إليهِ [ولم أقف في هذا الباب على أحسن من هذين البيتين، ولا أرشق من هذين الشّكلين]. ولم يحجَّ أحدٌ إلى سنة اثنتي عشرة. وفيها توفِّي شباشي السعيد ويُكنَّى أبا طاهر المُشطَّب مولى شرف الدولة [أبي الفوارس] بن عضد الدولة، ولقَّبَه بهاءُ الدولة بالسعيد ذي الفضيلتين، ولقب أبا الهيجاء بخُتَكين [الجرجاني] بالمناصح، وأشرك بينهما في مراعاة أمور الأتراك ببغداد، وكان السعيد [سعيدًا -كما سُمِّي-] كثيرَ الصدقات، فائضَ المعروف، [كثيرَ] الإحسان، حتى إنَّ أهل بغداد إذا رأوا مَنْ لبس قميصًا جديدًا قالوا: رحمَ اللهُ السعيد؛ لأنه كان يكسو اليتامى [والمساكين] والضعفاء، وهو الذي بنى [قنطرة العراق و] قنطرة الخندق عند باب حرب، والياسرية والزياتين وغيرها، وكان الناس يَلْقَون منها شدة، وأخرج الإسفهسلاريةُ يومَ العيد الجنائبَ بمراكب الذهب، وأظهروا الزينة، فقال [له] بعض أصحابه: لو كان لنا شيءٌ أظهرناه. فقال [له] السعيد: إنه ليس في جنائبهم قنطرة الخندق والياسرية والزياتين. ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): فكتب أهل دمشق. (¬2) في (خ): فأنكروه، والمثبت من باقي النسخ.

ووقف قنطرةً كبيرةً بنهر عيسى بالعراق -يُقال لها: دباها- على المارستان العضدي، وارتفاعها في كل سنة أربعون كُرًّا وألفُ دينار، ووقف على الجسر خانَ النرسي بالكَرْخ، وضيعةً بالقُفْص، وسدَّ بَثق الخالص، وحفر ذُنابة (¬1) دُجَيل، وساق الماء منها إلى مقابر قريش، وعمل المشهد بقرب واسط، وحفر عنده المصانع، وله آبار كثيرة بطريق مكة، وكانت وفاتُه في شوال، ودُفِنَ بباب حرب، وتربتُه مشهورة قريبة من الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وتُزار كثيرًا [ويتبركُ به]، وأوصى أن لا يبنوا عليه شيئًا، فخالفوه، وبنَوا عليه قبةً مزارًا، وسقطت (¬2)، واتَّفق أنَّ بعد مدةٍ من وفاته حُمِلَتْ جنازةٌ، فدخلت عجوزٌ إلى قُبَّة السعيد [وقت الحر]، ومعها نساء يطلُبْنَ الظِّلَّ، فلطَمْنَ ونِمْنَ في التربة، فانتبهتِ العجوزُ مذعورةً، وقالت: رأيتُ تركيًّا خرج من هذا القبر وبيده دبُّوسٌ، فأراد أن يضربني، وقال: بيني وبينكن قرابة [حتى أتيتنَّ من القصد] إلى عندي أنتِ وصواحِبُكِ توذونني؟ [فسألوا عن التربة، فقالوا: هي للسعيد]، فتجنَّبها النساء بعد ذلك [اليوم]. وكان يحصل له من إقطاعه في كل سنة مئة ألف دينار، فينفِقُها في أبواب الخير والبر، وأغنى فقراء الحرمين وغيرهم. [قال هلال بن الصابئ]: وتُوفي يوم السبت التاسع من شوال، فاحتاط مؤيد الملك [أبو علي] على تركته للسلطان، وحضر للصلاة عليه [مؤيدُ الملك] والقضاةُ والأشرافُ والعدولُ، ولم يتخلَّف أحد [وذكر من مناقبه ما ذكرنا وقال]: وكان بينه وبين المناصح أبي الهيجاء الجُرجاني تباعد، فقعد في العزاء، فلمَّا فرغ العزاء وقام، قال: واللهِ لقد فَتَّ فَقْدُ هذا الرجل في عضُدي، وهَدَّ رُكني، وخُيِّلَ إليَّ أني لاحقٌ به. فعاش بعده ستة أشهر. [قال]: وكان المناصح [هذا] من رجال الزمان وعقلائهم، ومن أعلاهم همة، [و] لم يخلف مثله في علوِّ الهمَّة وشدة الهيبة [وكان شجاعا] مطاعًا مهيبًا ذا همة عالية]، ولو تُصفِّحَ كلامُه ما كان فيه سقط. ¬

_ (¬1) الذُّنابة: ذَنَبُ الوادي، ومسِلْ الماء بين التَّلْعتين. (¬2) في (م) و (م 1): وهي تسقط.

خلف بن محمد

[وفيها تُوفِّي خلف بن محمد (¬1) ابن القاسم بن عبد السلام بن مُحْرِز، أبو القاسم، العبسي، قاضي داريا، كان حسن السيرة، عفيفًا، زاهدًا، مات بداريا، سمع أبا الحسن بن حذلم وغيره، وكان ثقة]. محمد بن إبراهيم (¬2) ابن محمد، أبو الفتح، الطَّرَسوسي، المجاهد في سبيل الله، استوطن البيت المقدس بنيَّة الرباط، وتوفِّي به، وكان صالحًا ثقةً. السنة التاسعة وأربع مئة فيها في المُحرَّم سار أبو محمد بن سهلان من الأهواز متوجِّهًا إلى العراق ليُدبِّر الأمورَ، وسبُبه أنَّ سلطان الدولة لما حصل بالأهواز عظُمَ أمرُ العيَّارين ببغداد وواسط، وتجاوزوا الحدَّ، وأحرقوا بغداد، ونهبوا دار المملكة، وأخذوا الأموال، وسبَوا الحريم، ووقع بين السنة والشيعة وقعاتٌ، فَنِيَ من الفريقين خلقٌ كثيرٌ، وكذا بواسط، فاحتاج سلطان الدولة إلى من ينفذه ليوطئ الأمور لمورده، فاستدعى مؤيَّدَ الملك إلى الأهواز، فانحدر في الماء، ودخل البَطيحَةَ والبصرةَ مجتازًا، واجتمع بأبي الخطاب، فدعاه إلى الوزارة مستقلًّا بها؛ لأنه كان قد لقي من شراسة أخلاق ابن سهلان وضعفه ما أشغله به، فامتنع مؤيَّدُ الملك، وقال: لا أصلح لها. قال: ولمَ؟ قال: لأنها أمرٌ فيه تغرير ومخاطرة، ويحتاج إلى البطش، وابن سهلان أولى. فقال: فإذا كان الأمرُ على هذا فتعود معه إلى بغداد تتَّفِقا على التدبير. فقال: نعم، فرجع معه، وخلَعَ على ابن سهلان الخِلَعَ الجليلة، ولُقِّبَ بفلك الملك، وأُعطيَ ألفَ ألفِ درهم برسم التدبير والنوائب، ووصل إلى واسط، فقتل جماعة من العيَّارين، فقامت الهيبةُ، والتقاه دُبَيس، فقرَّر عليه مالًا يحمله في كل سنة، ودخل بغداد في ربيع الأول، وهرَّب ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 17/ 17 - 18. (¬2) تاريخ بغداد 1/ 415 - 416، وتاريخ دمشق 51/ 233 - 235، والأنساب 8/ 232.

العيَّارين والشُطَّار، وأنزل الدَّيلم في أطراف البلد وبين الكَرْخ وباب البصرة، وقبض على ابن القصار القاص، ونفى أبا عبد الله بن النعمان فقيهَ الشيعة، ورتبَ الرَّجالة في المراكز، وأمن الناسُ، واجتمع المستورون، وهرب المفسدون، وصادر جماعة من الأعيان اتَّهمَهم بودائع لفخر الملك، وكان معه خلق من الدَّيلم، وطالبَه الأتراكُ بأرزاقهم المجتمعة، فقال: ما يلزمني إلا ما كان في أيامي. وأخذَهم بالسياسة، فاستوحشوا منه، وحدَّثوا نفوسهم بالفتك به، ووقع الفساد بين الترك وبينه وبين الديلم، وقدم سلطان الدولة واسطًا، فتولَّد بذلك طمع متجدِّدٌ، فخرجوا بخيامهم إلى ظاهر البلد، وشغبوا، واستهان ابنُ سهلان بأمرهم، وقيل له: إنك إن لاطَفْتَهم صلحوا من غير ركونٍ إليهم، وإن ركنتَ إليهم رجعوا، فلم يقبَلْ، وخرجوا من بغداد قاصدين واسطًا، فأرسل وراءهم واستعطفهم، فلم يرجِعوا، وكتب إلى سلطان الدولة يقول: قد وردتَ قبلَ أوانِ الورود، وقبلَ انتظامِ الأمور، وعدلتَ عمَّا اقتضاه الرأيُ، وقد انحدر الأتراك إليك على منافرةٍ لي، فإن قدَرْتَ أن ترُدَّهم فرُدَّهم، فإن رَدَدْتَهم إليَّ أصلحتُهم، وأقمتُ الهيبةَ، ومَهَّدتُ لكَ المُقامَ بينهم، وإن تكُنِ الأخرى فادفع بالأمر إلى أن أنحدِرَ بمَنْ معيَ من العسكر. وانحدَرَ الغِلْمانُ إلى واسط، ونزلوا بالجانب الشرقي، وسلطان الدولة في الجانب الغربي ومعه الديلم، فركب الغلمانُ بالسلاح، وشغَبوا وصاحوا، وكثرت الزعقات منهم، فبعث إليهم سلطانُ الدولة أبا بكر المعلِّم وأحَدَ الجاندارية (¬1)؛ ليَعْلَما أخبارَهم، فقتلوهما، وزالتِ الهيبةُ، وانتهتِ القصةُ، إلى أن أعفوا من ابنِ سهلان، وأن يسير معهم سلطان الدولة إلى بغداد، ويعبر إليهم، وبلغ ابنَ سهلان، فخرج من بغداد بالدَّيلم يريد واسطًا، وكان أبو الخطاب فاسدَ الرأيِ فيه؛ لتهوُّره وإقدامه، وأراد أن يقبض عليه من الاستيحاش، [وعلِمَ أنه متى كان بين الدَّيلم لا يقدر عليه، فكتب إليه يقول: قد علمتَ الأتراكَ وما هم فيه وعليه] (¬2) من الاستيحاش منك، والاستعفاءِ من نظرِك، والرأيُ أن تخرج كأنك قاصدٌ إلى الجبل، ثم تعرج إلى الأهواز، وتكون بها خليفة سلطان الدولة، ¬

_ (¬1) تصحفت في الأصلين (خ) و (ف) إلى: الجامدارية، والجاندارية جمع جاندار، وهي كلمة فارسيتها: سلاح دار، ومعناها: حامل السلاح. تكملة المعاجم لدوزي 2/ 128. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من (ف).

عبد الله بن محمد بن أبي علان

فعَلِم ابنُ سهلان باطنَ الحال، فأخذ من المال ما قَدَرَ عليه، وسارَ بغلمانِه إلى الحائر مشهد الحسين - عليه السلام -، فاستجارَ ببني خَفاجة، وأقام عندهم. وفيها قُرئ في الموكب بدار الخلافة كتابٌ فيه مذاهب أهل السنة، ومن قال بأنَّ القرآن مخلوق، فهو كافرٌ، حلالُ الدم (¬1). وفيه دخل سلطانُ الدولة بغدادَ لليلتين بقِيَتا من جمادى الأولى، والتقاه القادر ولم تكن زُيِّنتِ القباب على العادة، وعلِمَ بقدومه معظمُ الأولياء، فنزل في زَبْزَبِه إلى دار المملكة، وأمرَ بضربِ الطبول على بابه في أوقات الصلوات الخمس، ولم تكن العادةُ جاريةً إلّا في الأودات الثلاثة، وإنما زادَ هو الظهر والمغرب (¬2)، فراسله الخليفةُ، فلم يلتفِتْ، وبقي على حاله إلى أن عاد شرف الدولة، فردَّها إلى الثلاث. وفيها استوزرَ سلطانُ الدولة أبا القاسم جعفر بن محمد فَسانْجِس (¬3). ولم يحجَّ أحد (¬4). وكان علي بن أحمد بن أبي الشوارب على قضاء البَطيحَة، فقُلِّد قضاء البصرة (¬5). وفيها تُوفِّي عبد الله بن محمد بن أبي عَلَّان أبو محمد، قاضي الأهواز، أحد شيوخ المعتزلة، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، وصنَّف الكتبَ الكثيرة في الكلام وغيره، من جملتها كتابٌ جمَعَ فيه فضائلَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكر له فيه ألف معجزة، وكان له مالٌ عظيمٌ، وضياعٌ كثيرة، فكان يؤدِّي خراجَ ضِياعِه في كلّ سنة تسعين ألف دينار، وكان أصهارُه يؤدُّون في كلّ سنةٍ خَراجَ ضِياعهم ثلاثينَ ألف ¬

_ (¬1) هذا الخبر في المنتظم 15/ 128. (¬2) في (ف): والعصر. وجاء بعض هذا الخبر في الكامل 9/ 305. (¬3) الخبر في المنتظم 15/ 128. (¬4) يعني في هذه السنة. (¬5) الخبر في المنتظم 15/ 128.

عبد الغني بن سعيد

دينار، وكانت وفاتُه بالأهواز في ذي الْحِجَّة، وكان حنفيًّا من أهل الستر والديانة والنزاهة والعِفَّة (¬1). عبد الغني بن سعيد (¬2) ابن علي بن سعيد بن بشر بن مروان بن عبد العزيز بن مروان، أبو محمد، الحافظ، المصري، وُلدَ لليلتين بقِيَتا من ذي القَعدة سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مئة، وسمع الكثير، وبرَعَ في علم الحديث، وصنَّف الكتُبَ، منها كتاب "المؤتلف والمختلف"، وكان عالِمًا بأسامي الرجال وعلل الحديث، ولما قدم الدارقطني مصر أوقفَه عليه، فقال له: اقرَأه عليَّ. قال: فعنك أخذتُ أكثَرَه. وقرأه عليه، فأعجبه. وكتب عبد الغني إلى الحاكم أبي عبد الله يطلب منه "المستدرك على الصحيحين"، فبعث به إليه، فعلَّم على مواضعَ منه وهَمَ فيها الحاكم، فكتب إليه يدعو له ويشكره ويعترف له بالفضل، وكان الحاكم إذا أملى يقول: أفادني أبو محمد الحافظ عبد الغني بن سعيد كذا كذا. ولمَّا خرج الدارقطني من مصر يريد بغداد وخرج معه الناس يُودِّعونه، فبكوا، فقال: ممَّ تبكون؟ قالوا: لِما عَدِمناه من فوائدك. فقال: تقولون هذا وفيكم عبد الغني بن سعيد، وفيه الخَلَف. وكان الدارقطني يُعظِّم شأنَه ويقول: ما رأيتُ في طريقي مثلَه، ما اجتمعتُ به فانفصلتُ عنه إلَّا بفائدة. تُوفِّي بمصر في شوال، وكان له جنازة لم يُرَ قطُّ مثلُها، سمع خلقًا كثيرًا، وحدَّث بطرابلس الشام، واتَّفقوا على فضلِه وثقتِه وصدقِه، وروى عنه [خلقٌ] (¬3) كثيرٌ من مشايخه. ¬

_ (¬1) تنظر الترجمة في المنتظم 15/ 129. (¬2) تاريخ دمشق 36/ 395 - 400، والمنتظم 15/ 130 - 131، والأنساب 1/ 198. وينظر السير 17/ 268. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف).

علي بن نصر

علي بن نصر (¬1) أبو الحسن، مُهذِّب الدولة، صاحبُ البَطيحَة، كان جوادًا مُمدحًا، صاحبَ ذِمَّةٍ ووفاءٍ وعهد، وهو الذي استجارَ به القادرُ بالله، فأجاره، ومنعه من المطيع والملوك، وقام في خدمته أحسنَ قيام، وله يقول الوزير أبو شجاع: توَّجتِ الأيامُ مَفْرِقَ فخارِه، بمقام القادر في جوارِه، وصاغَتْ له هذه المنقبة من الفخار حسبًا، وصارت إلى استحقاق المدح سببًا، وكان الناس يلجؤون إليه في الشدائد، فيُجيرهم ويقوم بأمرهم، ويبذل نفسَه وماله لهم، وكان يرتفع له في كل سنة من المَغَلّ ثلاثون ألف كُرٍّ على اختلافِ أنواعها، ومن الوَرِق (¬2) ألفُ ألفٍ وسبعُ مئة ألف وخمسون ألف درهم، يُنفق مُعظَمَها على القُصَّادِ وأربابِ البيوت، وكان القادرُ يُعظِّمه ويحترمه، ويرى خدمتَه له، ولم يَزلْ معترِفًا له بذلك، وكان بهاء الدولة قد احتاج إلى مالٍ فأقرضه شيئًا كثيرًا، وأعانه وزوَّجه بهاءُ الدولة ابنتَه، وأقام بالبطائح اثنتين وثلاثين سنةً وشهورًا، وعاش نيِّفًا وسبعين سنة. وسببُ وفاتِه أنَّه افتصد، فانتفخ ساعدُه وأخذه داءُ الحُمْرة، فمات يوم الثلاثاء لثمانٍ خَلَوْنَ من جمادى الأولى، ومولده سنة خمس وثلاثين وثلاث مئة، ولمَّا كان قبل وفاته بثلاثة أيام اجتمع الجند والملَّاحون فتفاوضوا في أمر ولده أبي الحسين وإقامتِه مقامَه، ثم اتَّفق الجُندُ على أبي محمد عبد الله ابن أخت مُهذِّب الدولة، وكان أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر الشرابي خِصيصًا بمُهذِّب الدولة، فنازعته نفسُه إلى الإمارة، فتوقَّف لأجل أبي الحسين بن مُهذّب الدولة وأبي محمد عبد الله بن أخت مُهذَّب الدولة، فمال الشرابي إلى ابن مُهذِّب الدولة؛ لكونه أسلمَ جانبًا وأولى، وبلغ أبا محمد ذلك، واستدعى الأتراكَ والدَّيلمَ ومَنْ مال إليه من البطائحيين واستحلفهم لنفسِه، ووعدَهم الإحسانَ، وقرَّروا القبضَ على أبي الحسين وتسليمَه إليه، ولمَّا قبضوا ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 129 - 130 مختصرة. (¬2) في (ف): الرزق، والمثبت من (خ) والمنتظم.

محمد بن القادر بالله

عليه صارت والدته إلى الحجرة التي فيها مُهذِّب الدولة، وأصحابُه قيام على رأسه، وهتكَتْ إزارَها، فقال: ما هذه الفضيحة؟ قالت: ابنُ أختِكَ قبض على ابني. فقال: وأيُّ قُدرةٍ لي على خلاصه، وأنا على هذه الصورة؟ . وتوفِّي من الغد. واجتمع العسكر على أبي محمد، وأنفذ من ضبط الخزائن، ودُفِنَ مُهذِّب الدولة في داره، وضرب أبو محمد أبا الحسين ضربًا مات فيه، وأخرجه بعد ثلاثة أيام ملفوفًا في كساءٍ إلى والدته، فدفنته عند والده، وأخذ أبو محمد الناسَ بالعَسْفِ (¬1)، وكانت له زوجةٌ مُغنيةٌ يُقال لها: ابنة الكَرْخي، فانبسطت يدُها في أخذ الأموال، وجاءته الخِلَعُ السُّلطانية، واستقام أمرُه، فاتَّفق أنه أكل في بعض الأيام شيئًا عُمِلَ له من البَطِّ الصغار، فأخذته الذَّبْحةُ في حلقِه، واشتدَّ به الأمرُ، وقال قبل ذلك: رأيتُ مُهذِّب الدولة في منامي وقد أمسك على حلقي ليخنِقَني، ويقول: قتلتَ ابني أحمد، وقابلتَ نعمتي عليك بذلك. ولمَّا أشرف على الموت عمدت زوجتُه إلى ابنٍ صغيبر له، فأجلسَتْه موضعه في داره، وحلَّفَتْ له الجند، فلمَّا مات أبو محمد قصد الجندُ والملَّاحون الدار والخزائن وأحرقوها، وانتقضَ أمرُ الصغير، ولم يكن بالبَطيحَة مثلُ الشرابي، فأتوا إليه وسألوه وقالوا: أنتَ الثقةُ الأمينُ العدلُ. فامتنع وقال: أبصِروا غيري. فما زالوا به حتى ولي، وكتب إلى سلطان الدولة يُخبره بأنه ما أراد ذلك، فبعث إليه بالخِلَع والتقليد، واستقامَ أمرُه. محمد بن القادر بالله (¬2) أبو الفضل، كان أبوه قد رشَّحه للخلافة، وجعله وليَّ عهده، ولقَّبه الغالب بالله، ونقشَ اسمَه على السِّكَّة، ودُعي له على المنابر بولاية العهد، ومولده في شوال سنة اثنتين وثمانين وثلاث مئة، وتوفِّي في رمضان عن سبع وعشرين سنة، وكان شهمًا يصلح للخلافة، وحزن عليه القادر [حزنًا عظيمًا، وصلَّى عليه، ودُفن بالرُّصافة، وأقام القادر] (¬3) أيامًا لا يأكل ولا ينام. ¬

_ (¬1) العسف: الظلم والجَور. (¬2) تاريخ بغداد 1/ 279، والمنتظم 15/ 131. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف).

محمد بن الحسين

محمد بن الحسين أبو عبد الله، العلوي، ولَّاه الحاكمُ القضاءَ والنقابةَ والخطابةَ بدمشق سنة ثمانٍ وتسعين وثلاث مئة، وكان في القضاء نائبًا عن مالك بن سعيد ابن أخت الفارقي قاضي قُضاة الحاكم، فأقام بدمشق إلى هذه السنة، وتوفِّي في رمضان، وكان طاهرًا، عفيفًا، نزِهًا، حافظًا لكتاب الله، وله ديوانُ شعر، [ومن] قوله: [من مجزوء الرمل] أنا إِنْ رُمْتُ سُلُوًّا ... عنك يا قُرَّة عيني كُنْتُ في الإثمِ كَمَنْ شا ... رَكَ في قَتْل الحُسينِ (¬1) السنة العاشرة وأربع مئة فيها جلس القادرُ، وحضر القضاةُ والشهودُ، وكتبَ عهدَ أبي الفوارس على كَرْمان وأعمالِها، وبعثَ إليه الخِلَع السلطانية، على ما جرت به العادة. وفيها ورد كتابُ [يمين الدولة أبي القاسم] محمود بن سُبُكْتِكين على الخليفة بما فتحه من بلاد الهند ووصل إليه من غنائمهم، ومن مضمونه: أنه نظر فأدَّاه البحثُ والتفحيص إلى مملكةِ وَجّ، وهي أفخمُ بلاد الهند شأنًا، وأحكمُها بُنْيانًا، وكانت مملكةَ مَنْ سلفَ من ملوك الهند، ومن جملة كُوَرِها كورةُ وَرام وهودب وكلجند ... وذكَرَ كُوَرًا كثيرة، وقال: ولهم قلاع حصينة، وجنودٌ كثيرة، وهم يعتقدون أنَّ الأصنامَ آلهَتُهم، وذكر أنه رتب ابنَ خاله في الثُّغور، فبعث إلى المولتان عشرةَ آلاف فارس ومثلَها راجل، وإلى خُوارَزم عشرين ألف فارس وعشرين ألف رجل، وانتخب ثلاثينَ ألف فارس وعشرة آلاف راجل (¬2) لصحبة راية الإسلام، كلُّهم طُلَّابٌ للشهادة، وجماعةٌ من المُطَّوعةِ، وكان مسيرُه من خُراسان في جمادى الأولى سنة تسع وأربع مئة، ولم يزلْ سائرًا حتى قطعَ أنهار سَيحون، وجعلها وراءه، وفتح قلعةَ سرساوة، ¬

_ (¬1) في (خ): فأنا الغر ممن سره ... والمثبت من يتيمة الدهر 1/ 227، وقرى الضيف 2/ 245، والبيتان فيهما منسوبان للخَبَّاز البلدي. (¬2) في (ف): فارس.

وهرب ملكُها، وأسلم مِنْ أهلها زُهاءَ عشرين ألفًا، وأخذ من أموالها ألفَ ألفِ درهم، وثلاثين فيلًا، وجواهرَ كثيرةً ... وذكر فتوح القلاع والبلاد إلى أن قال: فأتينا مدينةً يُقال لها: عائن، وحولها ألفُ قصر، وألفُ بيتٍ للأصنام، وهي مدينة كبيرة لها سبعةُ أبواب، [عدد أبواب الجحيم، وكان سكَّانها في العذاب الأليم، حتى] كانَّها منحوتة من حجرٍ واحد [ومصنوعة من صخرٍ جامد] فلمَّا فتحت أبوابها وجدنا فيها خمسةَ أصنامٍ من الذهب، طولُ كلِّ صنمٍ تسعةُ أذرُع، وجْهُ كلِّ واحدٍ منهم مثلُ وجهِ أسدٍ عظيم، له نابان مثلُ ناب الخنزير، وعيونُهم من الياقوت الأحمر، وكلُّ أبدانهم مُرصَّعة بالجواهر، وبلغ وزنُ ياقوتة منها ستَّ مئةِ مثقال، ووُزِنَ (¬1) منها صنم فوُجِدَ فيه ثمانية وتسعون ألف مثقال وثلاثُ مئة مثقال، وقُلِعَ من الأصنام الصغار الفضية زيادةً على ألف صنم. قال: ومُلِئت بيوتُ المدينة بالحطب، واضرِمَتِ النارُ فيها [بضرام اللهب، وتقرّر عند عُبَّاد الأصنام أنَّهم كانوا في ضلالٍ مبين، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين]. ثم ذكر أنه سار إلى مركز فَرْغانة، وأنه فتحها وفتح قلاعها، ثم قال: وتحصَّل من الغنائم عشرون ألف ألف درهم، وأفرد خمس الرقيق، فبلغ ثلاثةً وخمسين ألفًا و [استعرضَ] ثلاثَ مئةٍ وستين فيلًا، وذكر أشياء كثيرة (¬2). وفيها توجَّه ابنُ سهلان إلى البصرة، قد ذكرنا أنه خرج إلى (¬3) الحائر، وأقام بقصر ابن هُبيرة مدَّة، فلمَّا دخل سلطان الدولة بغداد مضى إلى الأنبار، واجتمع مع معتمد الدولة أبي المنيع، وأخذ ذِمامَه وكتب إلى بغداد، واجتهد في إصلاح أمره مع أبي الخطاب، وأمَرَه أن يصعد إلى هِيت ويُقيم بها؛ خوفًا عليه، فطال مُقامُه، فاصعد إلى الموصل، وقُبِضَ على الوزير أبي القاسم جعفر بن محمد بن فَسانْجِس، واستقرَّ الأمرُ لأبي غالب، فانحدر ابنُ سهلان في الفرات إلى البَطيحة، وركب أخطارًا ¬

_ (¬1) في (خ): فوجد، والمثبت من باقي النسخ. (¬2) ينظر المنتظم 15/ 133 - 134. وما بين حاصرتين منه. (¬3) في (ف): من.

عظيمةً، ولمَّا قَرُبَ منها راسل الشرابيَّ صاحِبَها، فأخرج إليه الجندَ والحاشيةَ، ولم يخْرُجْ إليه بنفسه؛ مراعاةً للسلطان، وأنزله معه في داره، فقيل له: قد علمتَ حال هذا الرجلِ ومكانتَه، وقد عزَّ (¬1) عليه كونُكَ ما استقبلْتَه، ومن المروءةِ أن تنهض إلى الحُجرة التي أنزلْتَه فيها وتقضي حقَّه. فقام، ودخل إليه، فجلس قليلًا وخرج، وإذا بحاجبٍ قد ورَدَ من بغداد في معناه، فقال: سلطانُ الدولةِ والأميرُ وأبو الخطابِ والوزيرُ يقولون: قد انحدرَ ابنُ سهلان من الأنبار طالبًا للبَطيحَة، فإن حصل عندك فتحتاط عليه إلى أن ينفذ من يتسَلَّمه، وإن انحدرَ إلى البصرة فأقِمْ له الرَّصَدَ في الطريق، واجتهِدْ في تحصيله، وكانت الرسالةُ مع بختيار حاجبِ الوزير، وهؤلاء المذكورون يُسمَّون المدبِّرون للدولة، فقال لبختيار: قد وصل في هذه الساعة وأنا أنظرُ في أمره. وانصرف بختيار من حضرته، فقال الشرابي لأصحابه: قد تحيَّرتُ في أمره، إن أسلمتُه كان فضيحةً وقباحةً، وإنْ لم أُسْلِمْه عاديتُ سلطانَ الدولة والمدبِّرين. فلمَّا كان بعدَ أيامٍ وَرَدَ تكين من بغداد رسولًا عن الملك والمدبِّرين والأتراك يطلبون ابنَ سهلان، فتحيَّر الشرابيُّ، وجمع إليه وجوه البطائحيين، وقال: ما ترون؟ فقالوا: قد علمتَ أنَّ ناموس بلدنا هذا أن من لجأ إليه واستجار به يُجار، وما جرتِ العادةُ بتسليم مَنْ يحصل عندنا، لا في قديم الزمان ولا في حديثه، فدافع عن الرجل، وعرف أبو محمد، فراسله، وقوَّى نفسَه، وعقَدَ لابنه على ابنتِه سرًّا، وتحالفا وتعاهدا، وطلب من الشرابي أن يجمعَ بينه وبين تَكين، فأرسل به إليه، فلمَّا دخل عليه قبَّل الأرضَ كما كان يفعل، وابنُ سهلان صاحبُ الأمر، فلاطفَه ابنُ سهلان، وقال: قد عرفتَ إحساني إليك، فأُريد [أن] تُقبِّلَ الأرضَ عنِّي بين يدي الملك، وتقول: أنا ذلكَ العبدُ الذي لا يتغيَّر، وواللهِ ما اعتقدتُ سوءًا قطُّ، لا لكَ ولا لغلمان الأتراك، ولستُ أعرف للنُّفرة مني سببًا، إلا قولَ الأعداء وتخرُّصَهم. ثمَّ استماله ولاطفَه، فقام يمين وقد صارَ معه بعد أن كان عليه، وردَّ الشرابيُّ رسالةً إلى بغداد يقول: قد عُرِفَ عادةُ بلدنا في إجارة مَنْ استجار بنا، وما يُمكننا نقضُ هذه السُّنَّة، فإن كان الغرضُ حِفْظَ هذا الرجل ومنعَه من الإفساد فهو في داري كالمعتقل، وما أُمَكِّنُه من أمرٍ تخافه منه. ¬

_ (¬1) في (ف): عزم! .

إبراهيم بن مخلد

وقيل: إنَّ سلطان الدولة نفذَ فرَّاشًا في الباطن إلى صاحب البَطيحَة يوصيه بابن سهلان ويرسم له ترك الالتفات إلى ما يصدر منه في بابه، وقام ابنُ سهلان عند الشرابيِّ على ما يريد، إلى أن قصدَ صدقةُ بنُ فارس البَطيحَةَ وأخذَها، ومضى ابنُ سهلان إلى البصرة، وسببُ أخْذِها أبو الخطاب، فإنه حَقَد عليه، وبعثَ صدقةَ إلى البَطيحَةِ فحصره، وقاتل ابنَ سهلان قتالًا عظيمًا، فلمَّا علِمَ سار إلى البصرة في زبزبٍ، فتلقَّاه الدَّيلم وخدموه، وأقام الشرابيُّ معتقلًا عند صدقةَ على أحسنِ حال. ولم يحجَّ في هذه السنة من العراق أحد. وفيها تُوفِّي إبراهيم بن مَخْلَد (¬1) ابن جعفر بن مَخْلَد (¬2)، أبو إسحاق، الباقَرْحي، ولد سنة خمس وعشرين وثلاث مئة، وسمع الحديثَ، وكان صدوقًا، جيِّدَ النقل، حسنَ الضبط، من أهل الديانة والعلم والأدب، وكان ينتحل مذهبَ ابنِ جرير الطبري، وسكن بالجانب الشرقي من بغداد، ومات في ذي الحجة، ودُفِنَ قريبًا من أبي حنيفة، ومن شعره: [من البسيط] ما لي جُفيتُ وعندي عادةٌ لكُمُ ... موفورة من حِباء الجاهِ والمالِ أعوذُ باللهِ مِنْ حالٍ يُغيِّركُمْ ... أبوءُ منها بسوءِ القصدِ والحالِ قد أكثرَ الناسُ من عُربٍ ومن عَجَمٍ ... على وليِّكُمُ في القِيلِ والقالِ هذا يقولُ عصى أمرًا لسيِّدِهِ ... أعوذُ باللهِ من زيغٍ وإضلالِ وذا يقولُ لجُرْمٍ منهُ قابلَهُ ... فقد أطالوا لَعَمْرُ اللهِ بلبالي (¬3) واللهُ يشهدُ لي أنِّي أُحِبُّكمُ ... ديانةً ولوَ أنَّ الدَّهرَ مُغتالي وما أُسَرّ بأنَّ الأرضَ تُجمَعُ لي ... وأنت مُنحرِفٌ عنِّي ولا قالي إن كانَ ذَنْب فعفوٌ منكَ يغفِرُهُ ... وذاك أسبَقُ في ظنِّي وآمالي ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 6/ 189، والمنتظم 15/ 135. (¬2) في (خ): إسحاق، والمثبت من مصادر ترجمته. (¬3) البَلْبال: شدة الهم. المعجم الوسيط (بلبل).

محمد بن المطفر بن عبد الله

فانظُرْ لعبدِكَ لا تُشمِتْ أعاديَهُ ... بتَرْكهِ بين إغفالٍ وإهمالِ واجعَلْ له في ذراك اليومَ منزلةً ... تُعليهِ إنَّ الذي أعليتَهُ عالي محمد بن المطفر بن عبد الله (¬1) أبو الحسن، المعدَّل، كان فاضلًا، توفِّي ببغداد في جمادى الأولى، قال: أنشدني إبراهيم بن الصابئ لنفسه: [من السريع] قد كنتُ للحِدَّة مِنْ ناظري ... أرى السُّها في الليلةِ المقمِرَهْ فالآنَ ما أُبصِرُ بدرَ الدُّجى ... إلَّا بعينٍ تشتكي الشَّبْكرَهْ (¬2) لأنَّني أنظرُ منه وقَدْ ... غيَّرَ منِّي الدهرُ ما غيَّرَهْ ومن طوى السنينَ من عُمرِهِ ... رأى أمورًا فيه مُسْتَنْكَرَهْ وإن تخطَّاها رأى بعدَها ... مِنْ حادثاتِ الدَّهرِ ما حيَّرَهْ [وفيها توفِّي] هبة الله بن سلامة (¬3) أبو القاسم، الضرير، [المفسِّر]، البغدادي، كان من أحفظ الناس لتفسير القرآن، وكانت له حلقةٌ في جامع المنصور، وسمع الحديث ورواه، [وكتب عنه الخطيب، وحكى جدّي عنه في "المنتظم" منامًا، فقال بإسناده عن أبي طالب العشاري، عن هبة الله بن عبد الله المقرئ، عن هبة الله بن سلامة المفسِّر] قال: حدَّثني شيخ كنَّا نقرأ عليه القرآن بباب مُحوِّل. قال: مات بعضُ أصحابه، فرآه الشيخُ في المنام فقال له: ما فعلَ اللهُ بِكَ؟ فقال: غفَرَ لي. قال: فكيفَ كان حالُكَ مع منكرٍ ونكير؟ فقال: يا أستاذ، لمَّا أجلساني وقالا لي: مَنْ ربُّكَ؟ ومن نبتكَ؟ ألهمني الله بأن قلتُ لهما: بحَقّ أبي بكر وعمر دعاني. فقال أحدهما للآخر: قد أقسمَ علينا بعظيم (¬4)، دَعْه. وتركاني وانصرفا. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 264، والمنتظم 15/ 137 - 138. (¬2) الشبكرة: العَشا (مرض في العين). تاج العروس (شبكر). (¬3) تاريخ بغداد 14/ 71، والمنتظم 15/ 138. (¬4) في (م 1): بعظيمين.

السنة الحادية عشرة وأربع مئة

توفِّي في رجب، ودُفن عند جامع المنصور، وكان صالحًا ثقةً (¬1). السنة الحادية عشرة وأربع مئة فيها في المُحرَّم عزَمَ سلطانُ الدولة على الانحدار إلى واسط، فمنعه الغلمان وشغَبوا، وطلبوا ما استحقُّوه من الأقساط، وتكلَّم الناس في أمر شرف الدولة، وأنَّ الغِلمان قد اتَّفقوا على تقليده الأمر، وأُشير على سلطان الدولة باستدعائه إلى داره، والاحتياط عليه، فأرسل إليه، فاعتذر بمرض، وخاف على نفسه، وكان أبو منصور مردوست يتولى النظر في أموره، ولما امتنع من الحضور أرسل إليه بالانحدار إلى واسط، فأجاب وحَطَّ بعضَ رَحْلِه في السفن، فجاء الغِلمان إلى بابه، ومنعوه وردُّوا رَحْلَه إلى داره، وأقام سلطان الدولة على الخروج، فقال له الغِلمان: إذا كنتَ على عزم الخروج فابعَثْ إلى ولدك أبي كاليجار، فاستخلِفه عندنا نائبًا عنك، واذهَبْ إن (¬2) شئتَ، أو اترُكِ الأمير أبا علي أخاك بيننا نائبًا عنك. فأرسل سلطانُ الدولة إلى شرفِ الدولة في ذلك، فامتنعَ وقال: إذا لم ينهَضْ سلطانُ الدولة بهذا الأمر وهو الملك وربُّ الخزائن، فكيف أنهَضُ أنا مع ضعفي وقصور مادَّتي؟ فألَحُّوا عليه، فأجابَ، واستحلَفَ كلَّ واحدٍ منهما على الوفاء والمخالصة بمحضرٍ من وجوه الدَّيلم والتُّرك، وحلَفَ سلطانُ الدولة للغِلمان على الحراسة لهم، وأن لا يستخدم ابنَ سهلان، وركب شرفُ الدولة إلى أخيه لتسعٍ بَقِين من المُحرَّم، فدخلَ إلى دار المملكة -وبين يديه الغلمان والدَّيلم- راكبًا، ونزل قريبًا من الصُّفَّة، وخرج سلطانُ الدولة من القُبَّة ومعه غِلمانُه وحاشيتُه بالعُدَد، وكلُّ واحدٍ منهما يرعد مخافةَ الآخر، فقبَّل الأرضَ شرفُ الدولة، ووقف وقفةً خفيفةً، ولوى رأسَه، وخرج ودخل سلطانُ الدولة القُبَّة، ومضى العسكرُ مع شرف الدولة، وسار سلطانُ الدولة يوم السبت لخمسٍ بَقِينَ من المُحرَّم إلى واسط، وضُرِبَتِ القبابُ لشرف الدولة، وركب واخترقَ بغداد، ونزل بدار المملكة لثلاثٍ بَقِينَ من المُحرم. ¬

_ (¬1) هذه العبارة جاءت في (خ) و (ف) عقب قوله: سمع الحديث ورواه. (¬2) في (خ): أين، والمثبت من (ف).

وكان أبو المِسْكُ وأبو الخطَّاب قد خرجا إلى سُرَّ من رأى مستوحِشين من سلطان الدولة، ظنًّا أنه يريد منهما مالًا، فكوتِبا، فرَجعَا إلى أوانا، وخرج للقائهما مردوست والمرتضى وابنُ أبي الشوارب والأشراف والناس، وخرج شرف الدولة فتلقاهما، وعرض لأبي الخطاب مرض الفالج، فعُولج وعُوفي، ونظر أبو الخطَّاب والأمير على عادتهما، وقدمَ سُلطانُ الدولة واسطًا، وراسله ابنُ سهلان من البصرة في الورود وتدبيرِ الأمورِ، حتى استقرَّ ذاك، وسار سلطانُ الدولة، ووافاه ابنُ سهلان إلى الطيب، وسار إلى تُسْتَر وابنُ سهلان معه، وبلغ شرفَ الدولة عن سلطان الدولة كلامٌ فأوحشه وأوحش الجماعة، وقَوَّى الوحشةَ خروجُ ابنِ سهلان من البصرة، فكتب شرفُ الدولة إلى سلطانِ الدولة يتواضعُ له، ويعترفُ بالطاعة، ويذكر أنَّ الغلمان طلبوا مال البَطيحة؛ لأنها من أعمال العراق، وكان سلطان الدولة قد أخذه لمَّا حصل بواسط، ويذكر شَغَبَ الغلمان، فلمَّا وقف عليه قال للرسول: مالُ البَطيحَة ما هو داخلٌ في أعمال العراق، ولا للغلمان فيه [حق] وصرفَ الرسولَ. وأمَّا ابنُ سهلان فسار مع سلطان الدولة إلى تُسْتَر يتولَّى النظرَ في الأمور، وشرع في قصد العراق، وقرَّر ذلك مع سلطان الدولة، وخلع عليه الخِلَعَ الجليلة، ووفَّاه المكرُماتِ الكاملة، وأعطاه من مجلسه دستَ السلاح الذي كان على كرسيه لخاصَّته، ولقَّبه عميدَ الدولة وزعيمَ الأمة شمسَ الدين مضافًا إلى فلك الملك، وأمرَ بضرب الطُّبول على بابه أوقات الصلوات الخمس، وهذا شيء لا يكون إلا لملك، ووصل إلى الأهواز، وأقام ينظر في الأمور ويستخدم الدَّيلم، وكتب إلى الأطراف يطلبهم، وبذَلَ المال، وخلَعَ الخِلَعَ، ووالى مَدَّ السُّمُط (¬1)، وعزم على قصْدِ العراق، ثمَّ عبر على فوهة نهر العباس، فخيَّم بها ليتوجَّه إلى واسط وبلغ ذلك إلى بغداد، فكتب شرفُ الدولة إلى الحضرة الجلالية، وأعلمها ما عليه الغِلمان من النُّفرة، وسأله التوسُّط مع سلطان الدولة، وبعث جماعةً من الأعيان، وقال: عَرِّفوا سلطانَ الدولة الحال، وأقيموا بالبصرة حتى يأتي كتابُ جلال الدولة ورسولُه، وكتبوا كتابًا عن لسان الأتراك يستعطفونه ويخضعون له، فلمَّا وقف سلطانُ الدولة على الكتاب، وسمع الرسالة، ¬

_ (¬1) في (ف): السِّماط، وهو مفرد السُّمُط، ومعناه: ما يمُدُّ ليوضع عليه الطعامُ ونحوُه.

قال: الأمر في هذا إلى وزيري ومدبِّر أموري (¬1) أبي محمد بن سهلان، فاقصدوه، وأنهوا إليه الحال. فمضوا إلى الأهواز، واجتمعوا بابن سهلان، فكان جوابُه: قد أمرني سلطانُ الدولة بالمسير إلى جهتكم، وإذا صِرْتُ بينكم توسَّطْتُ أمرَكم وخدمتُ أمير الأمراء أبا علي، وتحمَّلْتُ الأثقال دونه. وخَلَع عليهم ووصلَهم ورَدهم. ثمَّ سارَ ابنُ سهلان من الأهواز إلى واسط، وخرج مَنْ كان بها من الأتراك إلى بغداد، وبعث شرفُ الدولة في مقدِّمته أرسلان الطويل، وسار شرفُ الدولة بالأتراك والأعراب، فنزل شرقيَّ واسط، وابنُ سهلان في غربيها، وجرَتْ بينهم حروبٌ، وأوحش ابنُ سهلان جماعةً من الدَّيلم، فصاروا إلى شرف الدولة، وجاءته العساكر من كلِّ مكان، ولمَّا تطاولتِ الحربُ بين الفريقين قيل لشرف الدولة: لو أظهرتَ نفسَكَ في تقلد الأمر، وبرزْتَ إلى المَصافِّ لدخل الدَّيلم في طاعتِكَ. وكان مِنْ قبلُ يمتنع ويقول: إنما أنا نائبٌ عن أخي، وإذا أطاع أخي مَنْ حملَه على قَطْعِ رَحِمي ونَقْضِ ما بيني وبينه، فأنا لا أدَعُ التمسكَ بطاعتِه. فما زالوا به حتى ركب يوم الخميس لسبع (¬2) بقين من شوال، فحين رآه الدَّيلم قاتلوا قتالًا شديدًا، ثم استأمنوا إليه واحدًا بعد واحد، وتقدَّم شُجعانُهم، وصار معظمُهم عنده، وانحلَّ أمرُ ابنِ سهلان وضَعُفَ، وكان بواسط، واشتد الغلاء، فأكل أصحابُه الجِيَف، فكتب إلى سلطان الدولة يستنجد به، فلم يُنْجِدْه، وشرعَ أعداؤه في الوقيعة عنده فيه وتسفيه رأيهِ، بتعزيزه بالعساكر والأموال، وإخراجِه شرف الدولة والأتراك عن الطاعة، وعلمَ ابنُ سهلان أنَّ الهربَ غيرُ مُنْج له، وأنَّ باقي الديلم لا يُمكِّنونه منه، ويُسلِمون نفوسَهم بعده، عدلَ إلى استصلاح شرف الدولة وراسلَه، واستمال أصحابه، فأجابوه، وتحالفوا، وخرج ابنُ سهلان إلى خيمةٍ ضُرِبَتْ له، وخرجَ شرفُ الدولة، ودخل عليه ابنُ سهلان، وقبَّل الأرضَ بين يديه، وذكر كلامًا معناه الاعتذارُ عما جرى، وأنه يخدُم شرفُ الدولة والأتراك الخدمةَ المستأنَفة، ثم نصب لابنِ سهلان خيمة صغيرةً، فخلا به شرفُ الدولة فيها، فقال له ابنُ سهلان: إنْ شِئْتَ كاتبتُ الدَّيلم الذين بالأهواز أن يأخذوا سلطانَ الدولة ويحملوه إليك فعلتُ. ¬

_ (¬1) في (ف): أمري. (¬2) في (ف): لخمسٍ.

أحمد بن موسى بن عبد الله

وأقام ابنُ سهلان في مضاربَ ضُربِتْ له عند شرف الدولة، وحلف له جميعُ العسكر إلا قسيمُ الدولة، فإنه قال: ما حاجة إلى يميني مع يمين الجماعة. ونهض ابنُ سهلان ليركب، فقيل له: للملك إليك شُغْلٌ، فاقعُدْ. فقعد، والأتراكُ غير راضين بما جرى، فلمَّا كان في الليل قُبِضَ على ابنِ سهلان وقُيِّد، وثُقِّل في الحديد، وأُخِذَ جميعُ ما كان له من مالٍ وخيلٍ وجِمالٍ وغِلمان، ونحو ذلك، وكُتِبَ بالفتح إلى سائر الآفاق، وخوطب شرفُ الدولة شاهِنْشاه، وضُرِبَتْ له الطُّبولُ على بابه في الصلوات الخمس. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق في هذه السنة. وفيها تُوفِّي أحمد بن موسى بن عبد الله (¬1) أبو بكر، الرُّوشنائي من أهل مَصْراثا قرية تحت كلواذى، كان نِعْمَ العبد، فيه فضلٌ وديانة، وزهدٌ وعبادة، وكان له بيت إلى جانب مسجده يُغلِقُه على نفسه يشتغل بالعبادة، ولا يخرج منه إلَّا لصلاة الجماعة، كان ابن بِشران يزوره، ويقيمُ عنده أيامًا متبرِّكًا برؤيته، ومستريحًا إلى مشاهدتِه، وتوفِّي بمَصْراثا في رجب، فخرج الناسُ من بغداد حتى حضروا للصلاة عليه، وكان الجمعُ كثيرًا جدًّا. [وفيها تُوفِّي] محمد بن عبد الله بن أحمد (¬2) أبو الفرج، الدمشقي، ويعرف باب المُعَلِّم، وهو الذي بنى الكهف بقاسيون، ويقال له: كهف جبريل، وفيه المغارة التي يُقال: إنَّ الملائكة عزَّتْ آدمَ - عليه السلام - فيها لمَّا قتلَ قابيلُ هابيلَ، وكان محمدٌ هذا شيخًا صالحًا زاهدًا متعبِّدًا، [ذكره الحافظ ابن عساكر، وكان نسيبَ الحافظ] وتُوفِّي في رجب، ودُفِنَ بمقبرة الكهف بقاسيون. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 149، والمنتظم 15/ 143 - 144. (¬2) تاريخ دمشق 53/ 321 - 323.

منصور بن العزيز

[وفيها تُوفِّي] منصور بن العزيز (¬1) أبو علي، الحاكم، صاحب مصر، كان يكتب في مكاتبته: المنصور، وكذا في خطبته. [ذِكرُ طرف من أخباره: قال هلال بن الصابئ]: تُوفِّي يوم الثلاثاء لليلتين بَقِيتا من شوال، وكان فيه كسوف الشمس [فُقد الحاكم على ما أخبرني به أبو الفرج بن زكري القرموني، وكان يومئذٍ هناك. قال]: ومولده يوم الخميس لأربع ليال بَقِينَ من ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاث مئة بالقاهرة. وقيل: ثالث عشرون منه، وولاه أبوه العهدَ في شعبان سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة، وتقلَّد الخلافة يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة ست (¬2) وثمانين وثلاث مئة، وكانت مدةُ عمره سبعًا وثلاثين سنة، ومدة ولايته خمسًا وعشرين سنة، ووليَ الخلافة وله إحدى عشرة سنة ونصف. وقيل: عشر سنين ونصف وستةُ أيام. وكانت أخلاقُه متضادَّةً؛ بين شجاعةٍ وإقدام، وجُبنٍ وإحجام، ومحبةٍ للعلم وانتقامٍ من العلماء، وميلٍ إلى الصلاح وقَتْلِ الصلحاء، وكان الغالبُ عليه السخاء، ورُبما بخِلَ بما لم يبخَلْ به أحد قَط، وأقام يلبَسُ الصوفَ سبع سنين، وامتنع من دخول الحمَّام، وأقام سنين يجلس في الشمع ليلًا ونهارًا، ثم عنَّ له أن يجلس في الظُلمة، فجلس فيها مدةً، وقتَلَ من العلماء والكُتَّاب والأماثلِ ما لا يُحصى، وكتب على المساجد والجوامع سب أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعائشةَ وطلحةَ والزبيرِ ومعاويةَ وعمروَ بنَ العاص - (- رضي الله عنهم -) - في سنة خمس وتسعين وثلاث مئة، ثم محاه في سنة سبع وتسعين، وأمر بقتل الكلاب، وبيع الفُقَّاع (¬3)، ثم نهى عنه، ورفعَ المكوسَ عن البلاد وعن ما يُباع فيها، ونهى عن النجوم وكان ينظر فيها، ونفى المنَجِّمين وكان يرصدُها، ويخدُم زُحَل وطالِعَه المريخ؛ ولهذا كان يسفك الدماء، وبنى جامع القاهرة، وبنى ¬

_ (¬1) المنتظم 1/ 139 - 143. وينظر السير 15/ 173. (¬2) في (م 1) وحدها: سنة ثلاث. وهو تحريف. (¬3) الفُقُّاع: شراب يُتَّخذ من الشعير يُخمَّر حتى تعلوه فقاعتُه. المعجم الوسيط (فقع).

جامع راشدة على (¬1) النيل في مصر، ومساجدَ كثيرة، ونقل إليها المصاحفَ المُفضَّضةَ، والسُّتورَ الحريرَ، وقناديلَ الذهبِ والفضة، ومنع من صلاة التراويح عشر سنين، ثم أباحها، وقطع الكروم، ومنَعَ من بيعِ العِنَب، ولم يُبْقِ في ولايته كرمًا، وأراق خمسةَ آلاف جرَّةٍ من عسل في البحر؛ خوفًا من أن يُعمَلَ نبيذًا، ومنعَ النساءَ من الخروج من بيوتهنَّ ليلًا ونهارًا، وجعل لأهل الذِّمَّة علامات يُعرفون [بها] (¬2)، وألبسَ اليهودَ العمائم السُّودَ، وأمرَ أن لا يركبوا مع المسلمين في سفينة، وأن لا يستخدموا غلامًا مسلمًا، ولا يركبوا حمارَ مسلم، ولا يدخلوا مع المسلمين حمَّامًا، وجعل لهم حمَّاماتٍ على حِدة، ولم يُبْقِ في ولايته ديرًا ولا كنيسةً إلا وهدمها، وهدم القمامة، وبنى مكانها مسجدًا، ونهى عن تقبيل الأرض بين يديه، والصلاةِ عليه في الخُطب والمكاتبات [ثم رجع عن ذلك]، وجعل مكان الصلاة عليه: السلام على أمير المؤمنين، ثم رجع عن ذلك، وأسلم خلقٌ من أهل الذِّمَّة؛ خوفًا منه، ثم ارتدُّوا، وأعاد الكنائس إلى حالها. وقال ابن الصابئ: [حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الخضر، قال]: كان الحاكم يواصل الركوبَ ليلًا ونهارًا، ويتصدَّى له الناسُ على طبقاتهم، فيقف عليهم (¬3)، ويسمع منهم، فمن أراد قضاء حاجته قضاها في وقته، ومن منعه سقطَتِ (¬4) المراجعة في أمره، وكان المصريُّون موتورين منه، فكانوا يدسُّون إليه الرِّقاع المختومة بالدعاءِ عليه، والسبِّ له ولأسلافه، والوقوع فيه وفي حُرَمِه، حتى انتهى فِعْلُهم إلى أن عملوا تمثال امرأةٍ من قراطيسَ بِخُفٍّ وإزار، ونصبوها في بعض الطّرق، وتركوا في يدها رُقعةً كأنَّها ظُلامةٌ، فتقدَّم وأخذَها من يدِها [ولم يشُكَّ في أنها امرأة]، فلمَّا فتحها رأى في أوَّلها ما استعظمَه، فقال: انظروا هذه المرأة مَنْ هي؟ فقيل له: إنَّها معمولةٌ من قراطيسَ، فعلم أنهم قد سخروا منه، وكان في الرّقعة كلُّ قبيح، فعاد من وقته إلى ¬

_ (¬1) في (خ): في، والمثبت من باقي النسخ. (¬2) ما بين حاصرتين ليس في (خ)، وأثبت من باقي النسخ. (¬3) في (خ) و (ت): منه، والمثبت من (م) و (م 1). (¬4) في (م 1): يتعطف!

القاهرة، ونزل في قصره، واستدعى القُوَّادَ والعُرفاءَ، وأمرَهم بالمسير إلى مصر، وضربها بالنار ونهبها، وقتل مَنْ ظفروا به من أهلها، فتوجَّه إليها العبيدُ والرومُ والمغاربةُ وجميعُ العساكر، وعلِمَ أهلُ مصر، فاجتمعوا وقاتلوا عن نفوسِهم، وأوقعوا النارَ في أطراف البلد، واستمرَّت الحربُ بين العبيد والعامَّة والرعية ثلاثةَ أيام، والحاكمُ يركبُ في كلِّ يومٍ إلى القَرافة، و [يطلعُ إلى] (¬1) الجبل، ويشاهدُ النار، يسمعُ الصياحَ ويسألُ عن ذلك، فيُقال له: العبيد يحرقون مصر وينهبونها، فيُظهِرُ التوجُّعَ ويقول: لعنَهم اللهُ، مَنْ أمرهم بهذا؟ ! فلمَّا كان اليومُ الرابع اجتمع الأشراف [والعلماء] والشيوخ إلى الجوامع، ورفعوا المصاحف، وضجُّوا (¬2) بالبكاء، وابتهلوا إلى الله بالدعاء، فرحِمهم العامَّة والأتراك والمشارقة، ورَقُّوا لهم، فانحازوا إليهم، وقاتلوا معهم، وكان أكثرُهم مخالطًا لهم، ومُداخِلًا ومصاهِرًا، وانفرد العبيد، وصار القتالُ معهم، وعظُمتِ القِصَّةُ، وزادتِ الفتنةُ، واستظهرت كُتامةُ والأتراكُ والمشارقةُ عليهم، وراسلوا الحاكم، وقالوا: نحن عبيدٌ ومماليكٌ، وهذا البلد بلدُكَ، وفيه حُرَمُنا وأموالُنا وأولادُنا وعقارُنا، وما علِمْنا أنَّ أهله جنَوا جنايةً تقتضي سوء المقابلة، وتدعو إلى مثل هذه المعاملة، فإن كان هناك باطنٌ لا نعرفه فأخبِرْنا به، وأنظِرْنا حتى نُخرِجَ عيالنا وأموالنا منه، وإن كان ما عليه هؤلاء العبيد مخالفًا لرأيِكَ فأطلِقْنا في معاملتهم بما يُعامَلُ به المفسدون والمخالفون، فأجابهم بأنه ما أراد ذلك، ولعنَ الفاعلَ له، والآمِرَ به، وأنتم على الصواب في الذبِّ عن المِصريين، وقد أذنتُ لكم في نصرتهم والإيقاع بمن تعزَض لهم. وأرسلَ إلى العبيد سرًّا يقول: كونوا على أمركم. وحمل إليهم سلاحًا قوَّاهم به، وكان غرضُه في هذا أن يطرح بعضًا على بعض، وينتقم من فريقٍ بفريق، وعَلِمَ القومُ بما فعَلَ، فراسلَتْه كُتامَةُ والأتراكُ: قد عرفنا غرضَكَ، وهذا هلاكُ هذا البلد وأهلِه وهلاكُنا معهم، وما يجوز أن تُسلِّم بنفوسنا والمسلمين لفتك الحريم وذهاب المُهج، ولئن لم تكُفَّهم لنُحرِّقَنَّ القاهرة، واستنفرتِ العربُ وغيرُهم، فلمَّا سمع الرسالة -وكانوا قد استظهروا على العبيد- ركب حمارَه، ووقف بين الصفين، وأومأ إلى العبيد بالانصراف، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من النجوم الزاهرة 4/ 181. (¬2) في (خ) و (ف): وعجُّوا، والمثبت من (م) و (م 1)، وهو الموافق لما في النجوم الزاهرة.

فانصرفوا، واستدعى كتامَةَ والأتراكَ ووجوه المِصريِّين، واعتذرَ إليهم، وحلف أنه بريء ممَّا فعل العبيد، وكذَبَ، فقبَّلوا الأرضَ بين يديه، ودعَوا له وشكروه وسألوه الأمان لأهل مصر، فكتب لهم، وقُرئ [الأمان] (¬1) على المنابر، وسكنتِ الفتنةُ، وفتح الناسُ أسواقَهم، وراجعوا معايشَهم، واحترق من مصر مقدارُ ثُلثِها، ونُهِبَ نصفُها، وتتبَّع المصريُّون مَنْ أُخذَ مِنْ أزواجهم وبناتهم وأخواتهم، وابتاعوهنَّ من العبيد بعد أن فضحوهُنَّ، وقتَلَ بعضُهنَّ نفوسَهُنَّ؛ خوفًا من عار الفاحشة المرتكبة منهنَّ، واستغاث قوم من العلويين إلى الحاكم، وذكروا أن بعض بناتهنَّ في أيدي العبيد على أسوأ حال، وسألوه أن يستخلصهنَّ، فقال: انظُروا ما يُطالبونكم به عنهن لِأُطْلِقه لكم. فقال له بعضهم: أراكَ اللهُ في أهلِكَ وولدِكَ مثلَ ما رأينا في أهلِنا وأولادِنا، فقَدِ اطَّرحا الديانةَ والمروءةَ بأن رضيتَ لبناتِ عمِّك بمثلِ هذه الفضيحة، ولم يلحَقْكَ منهنَّ امتعاضٌ ولا غَيرة. فحَلُم عنه الحاكم، وقال: أنتَ أيُّها الشريفُ مُحْرَجٌ، ونحن حقيقون باحتمالِكَ، والإغضاء عنك (¬2)، وزاد الأمر على الناس فيما يفَجؤُهم به حالًا بعد حال، من كلّ ما تنخرق به العادات، وتَفسد الطاعات. قال ابن الصابئ: ثم عنَّ له [الأمر] أن يَدَّعي الربوبية، وقرَّب رجلًا -يُعرف بالأخرم- ساعَدَه على ذلك، وضمَّ إليه طائفةً بسطهم للأفعال الخارجة عن الدِّيانة، فلما كان في بعض الأيام خرج الأخرم من القاهرة راكبًا في خمسين رجلًا من أصحابه، وقصد مصر، ودخل الجامع راكبًا دابَّته، ومعه أصحابُه على دوابّهم، وقاضي القُضاة ابنُ [أبي] (¬3) العوام جالس فيه ينظر في الحكم، فنهبوا الناسَ، وسلبوهم ثيابَهم، وسلَّموا إلى القاضي رُقعةً فيها فتوى، وقد صُدِّرت: باسم الحاكم الرحمن الرحيم، فلما قرأها القاضي رفع صوتَه مُنكِرًا، واسترجع، وثارَ الناسُ بالأخرم، فقتلوا أصحابَه، وهرب [هو] (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من النجوم الزاهرة 4/ 182. (¬2) جاءت العبارة في النجوم الزاهرة: وإلا غضبنا عليك. (¬3) ما بين حاصرتين من النجوم الزاهرة، واسمه أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوام. (¬4) ما بين حاصرتين من النجوم الزاهرة.

وشاع الحديث في دعواه [الربوبية] (¬1)، فتقرَّب إليه جماعةٌ من الجُهَّال، فإذا لقوه قالوا: السلام عليك (¬2) يا واحد يا أحد، يا مُحيي يا مُميت، وصارَتْ له دُعاةٌ يدعون أوْباشَ الناس ومَنْ سَخُفَ (¬3) عقلُه إلى اعتقاد ذلك، ومال إليه خلقٌ كثيرٌ طمعًا في الدنيا والتقرُّب إليه، وكان اليهودي والنصراني يلتقيه وقد أسلم، فيقول له: [إلهي] (¬4) قد رغبتُ في شريعتي الأولى، فيقول [الحاكم]: افعَلْ [ما بدا لك] فيرتدُّ بعد إسلامه وزاد الأمر [بالناس]. قال المصنف رحمه الله: ورأيتُ في بعض التواريخ بمصر أن رجلًا يُعرف بالدُّرْزي قَدِمَ مصر، وكان من الباطنية القائلين بالتناسخ، فاجتمع بالحاكم وساعده على ادعاء الربوبية، وصنَّف له كتابًا ذكر فيه أنَّ روح آدم - عليه السلام - انتقلت إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأنَّ روح علي انتقلت إلى أبي الحاكم، ثم انتقلت إلى الحاكم. فنفَقَ على الحاكم، وفوَّضَ الأمورَ إليه، وبلغ منه أعلى المراتب، بحيث إنَّ الوزراء والقُوَّاد والعُلماءَ كانوا يقِفون على بابه ولا ينقضي لهم شُغْلٌ إلا على يده، وكان قصدُ الحاكم الانقيادَ إلى الدُّرْزي فيطيعونه، فأظهر الدرزيُّ الكتابَ وقرأه بجامع القاهرة، فثار الناسُ عليه، وقصدوا قَتْله، فهرب منهم، وأنكر الحاكم أمره خوفًا من الرعية، وبعثَ إليه في السرِّ مالًا، وقال: اخرج إلى الشام وانشُرِ الدعوةَ في الجبال، فإنَّ أهلَها سريعو الانقياد. فخرج إلى الشام، ونزل بوادي تيم الله بن ثعلبة غربيَّ دمشق من أعمال بانياس، فقرأ الكتاب على أهله، واستمالهم إلى الحاكم، وأعطاهم المال، وقرَّر في نفوسهم التناسخ، وأباحَ لهم شُربَ الخمر والزنا وأخذ مال مَنْ خالفهم في عقائدهم وإباحةَ دمه، وأقام عندهم يُبيح لهم المحظورات، إلى أن مات بينهم، فيُقال: إنهم على اعتقاده وإلى هلُمَّ جرًّا. ذكر هلاك الحاكم: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين -أيضًا- من النجوم الزاهرة، وجاء بدلًا منه في (م) و (م 1): ما يدعيه بإرادته من الناس ما يريده فيه، فنفرت. (¬2) بعدها في (م) وحدها زيادة: يا حاكم. (¬3) في (م 1): ومن خف. (¬4) ما بين حاصرتين هنا وفي المواضع الآتية في الخبر من النجوم الزاهرة.

ذكر هلال بن الصابئ [في تاريخه، والتِّنِّيسي في تاريخ مصر، والقضاعيّ] وغيرُهم أنَّ الحاكم لمَّا بدَتْ منه هذه الأمور الشنيعة استوحش الناس منه، وكان له أختٌ يُقال لها: سِتُّ الملك، و [كانت] من أعقل النساء وأحزمهنَّ، فكانت تنهاه [عن مثل هذه الأشياء] وتقول: يا أخي، احذَرْ أن يكون خرابُ هذا البيت على يدك. فكان يُسمِعُها غليظَ الكلام، ويُهدِّدها بالقتل، وبعث إليها يقول: قد رفع إليَّ أصحابُ الأخبار أنكِ تُدخِلين الرجال إليكِ وتمكِّنيهم من نفسك. وعَمِلَ على إنفاذ القوابل لاستبرائها، فعلِمتْ أنها هالكةٌ معه. وكان بمصر سيفُ الدولة بنُ دَوَّاس من شيوخ كُتامَة، وكان شديد الحذر من الحاكم، وممتنعًا من دخول قصره ولقائه إلا في الموكب على ظهر الفرس، واستدعاه الحاكمُ إلى قصره فامتنع، فلمَّا كان يومُ الموكب عاتبه على تأخُّره، فقال له: قد خدمتُ أباك، ولي عليكم حقوقٌ كثيرة يجب لمثلها المراعاةُ، وقد قام في نفسي أنَّكَ قاتلي، فأنا مجتهدٌ في دفعك بغاية جهدي، وليس لكَ حاجة إلى حضوري في قصرك، فإن كان باطنُ رأيِكَ في مثل ظاهره فدَعْني [على] حالي، فإنه لا ضرر عليك في تأخُّري، وإن كنتَ تريدُ بي سوءًا فلأَنْ تقتلني في داري وأنا بين أهلي وولدي يُكفِّنوني ويتولَّوني أحبّ إليَّ من أن تقتلني في قصرك وتطرحني [حتى] تأكلَ لحمي الكلاب. فضحِكَ الحاكمُ وأمسكَ عنه. وراسلَت ستُّ الملك ابنَ دَوَّاس مع بعض خواصِّها: لي إليكَ أمرٌ لا بُدَّ فيه من الاجتماع، فإمَّا تنكَّرتَ وجئتني ليلًا، أو فعلتُ أنا ذلك. فقال: أنا عبدُكِ والأمرُ لَكِ. فصارت إليه ليلًا في داره متنكِّرة، ولم تصحَب معها أحدًا، فلمَّا دخلت عليه قام وقبَّل الأرض بين يديها دفعاتٍ، ووقف في الخدمة، فأمرَتْه بالقعود، وأخلى المكان، فقالت: يا سيفَ الدولة، قد جئتُكَ في أمبر أحرس به نفسي ونفسَكَ والمسلمين، ولك فيه الحظُّ الأوفر، وأُريد مساعدتَكَ فيه. فقال: أنا عبدُكِ. فاستحلفَتْه واستوثَقَت منه، [فلمَّا حلف] قالت له: أنتَ تعلَمُ ما يقصِدُه (¬1) أخي فيك، وأنه متى تمكَّن منكَ لم يُبْقِ عليك، وكذا أنا، ونحنُ على خطرٍ عظيم. ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): يعتقده.

وقد انضاف إلى ذلك تظاهُرُه بادِّعاء الإلهية، وهَتْكُه ناموسَ الشريعةِ وناموسَ آبائه، وقد زاد جنونُه، وأنا خائفةٌ أن يثورَ المسلمون عليه فيقتلوه ويقتلونا معه، وتنقضي هذه الدولة أقبحَ انقضاء. فقال: صدقتِ يا مولاتَنا، فما الرأيُ؟ قالت: نَقتلُه ونستريحُ منه، فإذا تمَّ لنا ما نُريده أقمنا ولدَه موضِعَه، وبذلنا المال، وكنتَ أنتَ صاحبَ جيشه ومُدَبِّرَه، وشيخَ الدولة، والقائمَ بأمره، وأنا امرأةٌ من وراء الحجاب، وليس غرضي إلا سلامة المهمة، وأن أعيش بينكم آمنةً من الفضيحة. ثم أقطعَتْه إقطاعاتٍ كثيرةً، ووعدَتْه الأموال والخِلَعَ والمراكبَ السنيَّة، فقال: مُري بأمركِ. فقالت: أُريد عبدينِ من عبيدكَ تثقُ بهما في سرِّكَ وتعتمدُ عليهما في مُهمَّاتِكَ. فأحضر عبدَينِ، ووصفهما بالشهامة، فاستحلفَتْهما ووهبت لهما ألفَ دينار، ووقَّعت لهما بثياب وإقطاع وخيل وغيرها، وقالت لهما: أُريد منكما أن تصعدا غدًا إلى الجبل، إنها نوبة الحاكم في الركوب، وهو ينفرد ولا يبقى معه غيرُ الرِّكابي وفَيد القَرافي وصبي (¬1)، وربما ردَّ القَرافيَّ [وبقي معه الصبي] ويدخل الشِّعب وينفرد بنفسه، فاخْرُجا عليه واقتُلاه، واقتُلا القَرافيَّ والصبيَّ إن كانا معه. وأعطَتْهما سِكينين من عمل المغاربة تُسمى يافورت، ولها رأسٌ كرأس المِبضع الذي يُفْصَدُ به، ورجعَتْ إلى القصر، وقد أحكمتِ الأمرَ وأتقنَتْه. وكان للحاكم مولدٌ وقد حُكِمَ عليه بالقَطْع في هذا الوقت، فإن تجاوزه عاش نيِّفًا وثمانين سنة، وكان لا يترك الركوبَ بالليل وطَوْف القاهرة، فلمَّا كانت تلك الليلة [التي قُتل في آخرها] قال لوالدته: عليَّ في هذه الليلة وفي غدٍ قَطْعٌ عظيم، والدليلُ عليه علامةٌ تظهرُ في السماء وطلوع نجمٍ سمَّاه، وكأنِّي بِكِ وقد انتُهكتِ وهلكْتِ مع أختي، فإني ما أخاف عليكِ أضرَّ منها، فتسلمي هذا المفتاح، فهو لهذه الخزانة، وفيها صناديقُ تشتمل على ثلاث مئة ألف دينار، خُذيها وحوِّليها إلى قصركِ تكونُ ذخيرةً لكِ. فقبَّلتِ الأرضَ وقالت: إذا كنتَ تتصوَّرُ هذا فارحَمْني، واقْضِ حقِّي، ودَعْ ركوبَكَ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): ولا يبقى معه غير القرافي والركابي وصبيّ، والمثبت من (م) و (م 1)، وعليه يدل سياق الكلام الآتي.

الليلة. وكان يُحِبُّها، فقال: أفعَلُ. ولم يزل يتشاغل حتى مضى صدرٌ من الليل، وكان له قومٌ [من أصحابه] ينتظرونه كلَّ ليلةٍ على باب القصر، فإذا ركب ركبوا معه، وتبعه أبو عروس صاحب العسس، ومن رَسْمِه أن يطوف كلَّ ليلة حول القصر في ألف رجل بالطُّبول الخِفاف، والبوقاتِ البحرية، فإذا خرج الحاكم من باب القاهرة قال له: ارجِعْ وأغلقِ الأبوابَ، فلا يفتَحُها حتى يعود. وضجِرَ الحاكمُ من تأخُّره عن الركوب، ونازعَتْه نفسُه إليه، فسألَته أمُّه وقالت: نَمْ ساعة. فنام، ثم انتبه وقد بقي من الليل ثلثُه وهو ينفخ ويقول: إن لم أركبِ الليلةَ وأتفرَّجْ، وإلَّا خرجَتْ روحي. ثم قام فركب حماره وأختُه تراعي ما يكونُ منه. وكان قصْرُها مقابلَ قصْرِه، فإذا ركب عَلِمَتْ. ولمَّا ركب سارَ في دربْ يُقال له: درب السِّباع، وردَّ صاحبَ العَسسِ ونسيمًا [الخادم] (¬1) صاحبَ السَّتْر والسيف، وخرج إلى القَرافة ومعه القَرافي والرِّكابيُّ والصبيُّ، فحكى أبو عروس أنَّه لمَّا صَعِد الجبلَ وقف على تلٍّ كبيرٍ (¬2) ونظر إلى النجوم، وقال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وضربَ بيدٍ على يد وقال: ظهرت يا مشؤوم، ثم سار في الجبل، فعارضه عشرُ فوارس من بني قُرَّة، وقالوا: قد طال مُقامُنا على الباب وبنا من الفاقة والحاجة ما نسألُ معه حُسنَ النظرِ والإحسانَ، فأمرَ القرافيَّ أن يحمِلَهم إلى صاحب بيت المال، ويأمرَه أن يُعطيَهم عشرةَ آلاف درهم، فقالوا له: لعلَّ مولانا يُنكِرُ تعَرُّضَنا له في هذا المكان فَيُوعِزَ فينا بمكروه، ونحن نريد الأمان قبل الإحسان، فما وقَفْنا إلَّا من الحاجة. فأعطاهم الأمان، ومضى القرافيُّ معهم، وبقي هو والصبيُّ، وسار إلى الشِّعب الذي جرَتْ عادتُه بدخولِه، وقد كَمَنَ العبدانِ الأسودانِ له، وقد قرُبَ الصباحُ، فوثَبا عليه وطرحاه إلى الأرض، فصاح: ويلَكُما ما تُريدان؟ فقطعا (¬3) يديه من رأس كتفيه، وشقَّا جَوْفَه، وأخرجا ما فيه، ولفَّاه في كساء، وقتلا الصبيَّ، وحملا الحاكم إلى ابنِ دوَّاس بعد أن عرقبا الحمار، فحمله ابنُ دَوَّاس مع العبدين إلى ستِّ الملك، فدفنَتْه في مجلسها، وكتمَتْ أمرَه، وأطلقَتْ لابنِ دوَّاس ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من النجوم الزاهرة 4/ 188. (¬2) في (م) (م 1): صغير. (¬3) في (م) و (م 1): فقلعا.

والعبدين مالًا كثيرًا، وثيابًا [وإقطاعًا]، وأحضرت خطيرَ الملك الوزير، وعرَّفَتْه الحال، واسْتَكْتَمَتْه واستَحْلَفَتْه على الطاعة والوفاء، ورسمَتْ له مكاتبة (¬1) وفي العهد، وكان مُقيمًا بدمشق نيابةً عن الحاكم بأن يحضر إلى الباب، فكتب إليه بذلك، وأنفذت عليَّ بنَ داود أحدَ القُوَّاد إلى الفَرَما مدينةٍ على ساحل البحر، وقالت له: إذا دخل (¬2) وليُّ العهد فاقبِضْ عليه، واحمِلْه إلى تِنِّيس، وفيه خلافٌ نذكره إن شاء الله تعالى، وكتبت إلى عامل تِنِّيس عن الحاكم بإنفاذِ ما عنده من المال، فأنفذه، وهو ألف ألف دينار وألف ألف درهم، خراجَ ثلاثَ سنين كان بتِنِّيس. وجاء وليُّ العهد إلى الفَرَما، فقُبِضَ عليه، وحُمِلَ إلى تِنِّيس، وفقدَ الناسُ الحاكمَ في [اليوم الثاني، ومنعَ أبو عروس من فتح أبواب القاهرة انتظارًا للحاكم على حسب ما أمره به، وخرج الناسُ في] (¬3) اليوم الثالث إلى الصحراء، وقصدوا الجبل، فلم يقِفوا له على أثر، وأرسل القُوَّادُ إلى أخته وسألوها عنه، فقالت: ذَكرَ لي أنه يغيبُ سبعة أيام وما هنا إلا الخير، فانصرفوا على سكون وطمأنينة، ولم تزل أختُه في هذه الأيام ترتِّب الأمورَ، وتُفرِّقُ المال، وتستحلفُ الجندَ، وبعثت إلى ابن دَوَّاسٍ فقالت: استحلِفْ لابنِ الحاكم كُتامَةَ وغيرَها. ففعل، فلمَّا كان اليوم السابع ألبَسَتْ أبا الحسن عليَّ بن الحاكم أفخرَ الملابسِ واستدعَتِ ابنَ دواس، وقالت: المُعَوَّل في قيام هذه الدولة عليكَ، وتدبيرُها موكول (¬4) إليكَ، وهذا الصبيُّ ولدُكَ، فابذُلْ في خدمته وُسْعَكَ. فقبَّلَ الأرضَ، ووعدها بالطاعة، [وبلوغ ما في القدرة والاستطاعة]، ووضعتِ التاجَ على رأس الصبي، وهو تاجٌ عظيمٌ، فيه من الجواهر واليواقيت ما لم يوجَدْ في خزانة خليفة، وهو تاج المُعِزِّ جدِّ أبيه، وتحتَه مركبٌ من مراكب الخليفة، وخرج بين يديه الوزيرُ وأربابُ الدولة، فلما صار على باب القصر صاح خطيرٌ الوزيرُ: يا عَبيد الدولة، مولاتُنا السيدة (¬5) تقول لكم: هذا مولاكم، فسلِّموا عليه. فقبَّلوا الأرضَ بأجمعهم، ¬

_ (¬1) بعدها في (م) زيادة: إلياس، وفي (م 1): المياس. (¬2) في (م) و (م 1): وصل. (¬3) ما بين حاصرتين سقط من (خ)، واستدرك من باقي النسخ، وهو في النجوم الزاهرة. (¬4) في (خ): مؤول، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في النجوم الزاهرة. (¬5) في (م) و (م 1): السعيدة.

وارتفعتِ الأصواتُ بالتكبير والتهليل، ولقَّبَتْه الظاهرَ لإعزاز دين الله، وأقبلَ الناسُ أفواجًا فبايعوه، وأطلقَ المال، وفرِحَ الناسُ، وأُقيم المأتمُ على الحاكم ثلاثة أيام. وقال القاضي القضاعي: خرج الحاكم إلى الجبل المعروف بالمُقَطَّم (¬1) ليلةَ الاثنين السابع والعشرين من شوَّالِ هذه السنة، فطاف ليلتَه كلَّها، وأصبح عند قبر الفُقَّاعي، ثم توجَّه شرقيَّ حُلوانَ؛ موضعٌ بالمُقطَّم، ومعه ركابيان، فردَّ أحدَهما مع تسعة نفرٍ من العرب -كانت لهم رسومٌ، ويُقال لهم: السُّويديُّون- إلى بيت المال، وأمَرَ لهم بجائزة، ثم أعاد الركابيَّ الآخر، وذكر أنه فارقه عند قبر الفُقَّاعي والقصبة، وأصبح الناسُ على رسْمِهم، فخرجوا ومعهم الموكِبُ والقضاةُ والأشرافُ والقُوَّادُ، فأقاموا عند الجبل إلى آخر النهار، ثم رجعوا إلى القاهرة، وعادوا ففعلوا ذلك ثلاثة أيام، فلمَّا كان يوم الخميس سَلْخَ شوَّال خرج مُظفَّرٌ صاحبُ المِظَفَةِ، ونسيمٌ صاحبُ السّتْر، وابنُ مسكينٍ صاحبُ الرمح، وجماعةٌ من الأولياء الكُتامِيين والأتراكِ والقُضاةِ والعُدولِ وأربابِ الدولة، فبلغوا دَيْر القَصير، والمكانَ المعروف بِحُلْوان، وأمعنوا في الجبل، فبينما هم كذلك بصُروا بالحمار الذي كان راكبَه على قَرْن الجبل قَدْ ضُربَتْ يداه بسيف فقُطِعتا، وعليه سَرْجُه ولجامُه، فتتبَّعوا الأثر، [فإذا أثرُ راجلٍ خلف أثرِ الحمار، وأثرُ راجلٍ قُدَّامَه، فقصوا الأثر] (¬2)، حتى انتهوا إلى البركة التي شرقي حُلْوان، فنزلها بعضُ الرجَّالة، فوجَدَ فيها ثيابَه، وهي سبع جبابٍ مُزَرَّرةٍ لم تُحَلَّ أزرارُها، وفيها أثرُ السكاكين، فتيقنوا قتله، وكان عمرُه ستًّا وثلاثين سنة وسبعة أشهر، وولايته خمسًا وعشرين سنة وشهرًا واحدًا. ذكر ما جرى بعد فقده قد ذكرنا ما فعلت أخته. وكان وليُّ عهده بدمشق، واسمه إلياس، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عبد الرحيم بن أحمد، وكنيته أبو القاسم، ويُلقب بالمهدي، ولَّاه الحاكم العهدَ سنة أربع وأربع مئة. ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): بالمقطَّب. (¬2) ما بين حاصرتين سقط من (خ)، واستدرك من باقي النسخ، وهو في النجوم الزاهرة.

قال القضاعي وغيره: إنَّ ستَّ الملك أمرت بخِلَعٍ عظيمةٍ ومالٍ كثيرٍ ومراكبَ ذهبٍ وفضةٍ، وأمرتِ ابنَ دَواس أن يشاهِدَها في الخزانة وقالت: غدًا يَخلع عليك. فقيل الأرض، وفرح، وأصبح من الغد، فجلس عند الستر ينتظر الإذن، ويأمر وينهى، وكان للحاكم مئةُ عبدٍ يختصُّون بركابه، ويحملون السيوف بين يديه، ويقتلون من يأمرهم بقتله، فبعثَتْ بهم ستُّ الملك إلى ابن دَوَّاس يكونوا في خدمته، فجاؤوا في هذا اليوم، ووقفوا بين يديه، فقالت ست الملك لنسيم صاحب الستر: اخرُجْ قِف بين يدَي ابنِ دَوَّاس، وقُلْ للعبيد: يا عَبيد، مولاتُنا تقول لكم: هذا قاتلُ مولانا الحاكم، فاقتلوه. فخرج نسيم وقال لهم ذلك، فمالوا على ابنِ دواس بالسيوف، فقطعوه، وقتلوا العبدين اللذين قتلا الحاكم، وكلُّ من اطلع على سرها [قتلَتْه] (¬1)، فقامت لها الهيبة في قلوب الناس. قال ابن الصابيء: ولمَّا قتلَتِ ابنَ دَوَّاس قتلتِ الوزيرَ الخطير (¬2) ومَنْ كانت تخاف منه. وقد حكينا عن ابن الصابيء أنه قال: إنَّ ستَّ الملك قبضت على وليِّ العهد وحبسته بتنيس. وقال القضاعي: إنَّها لمَّا كتبت إلى دمشق بحمل وفي العهد إلى مصر لم يلتفت، واستولى على دمشق، ورخَّص للناس ما كان الحاكم حظره عليهم؛ من شُربِ الخمر، وسماعِ الملاهي، فأحبَّه أهلُ دمشق، وكان بخيلًا ظالمًا، فشرع في جمع المال، ومصادرات الناس، فأبغضه الجند وأهل البلد، فكتبَتْ أختُ الحاكم إلى الجند، فقبضوه، وبعثوا به مُقيَّدًا إلى مصر، فحُبِس في القصر مكرمًا، وأقام مُدةً، وحُمِلَ إليه يومًا بِطِّيخٌ ومعه سِكِّين، فأخذ السِّكين فأدخلها في سُرَّته حتى غابت، وبلغ ابنَ عمِّه الظاهر [بن الحاكم]، فبعث إليه القُضاةَ والشهودَ، فلما دخلوا عليه اعترف أنه هو الذي فعل ذلك بنفسه، وحضر الطبيبُ، فوجد طرف السكين ظاهرًا فقال: لم تُصادِفْ مَقتلًا. فوضع وليُّ العهد (¬3) يدَه عليها فغيَّبها ومات (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من النجوم الزاهرة 4/ 192. (¬2) في (خ): الخطيب، وهو تصحيف. (¬3) في (م) و (م 1): فوضع عبد الرحيم. (¬4) جاء بعدها زيادة مكررة قد تقدمت آنفًا، وهي: وقال ابن الصابيء: ولما قتلت ابن دواس ... إلى قوله: في (خ) فعلت أخته.

قال ابن الصابئ: كانت قد نقلت [إلياس] وليَّ العهد [-كذا سمَّاه ابن الصابئ-] إلى دارٍ، وأقامت له الإقامات، ووكلت بخدمته خواصَّ خَدَمها، وواصلته بالملاطفات والافتقاد، فلمَّا يئست من نفسها أحضرت الظاهرَ ابنَ أخيها وقالت له: لقد علمتَ ما عاملتُكَ به وأقَلُّه حراسةُ نفسِكَ من أبيك، فإنه لو تمكَّنَ منكَ لقتلَكَ، وما تركتُ [لك] (¬1) أحدًا تخافه إلَّا وليَّ العهد. فبكى بين يديها هو ووالدتُه، وسلَّمت إليهما مفاتيح الخزائن، وأوصَتْهما بما أرادت، وقالت لمعضاد الخادم: امْضِ إلى وليِّ العهد وتفقَّد خدمته، فإذا دخلتَ عليه فانكبَّ كأنك تُسائله بعد أن توافق الخدَمُ على ضربه بالسكاكين، فمضى إليه معضاد وقتله ودفنه وعاد فأخبرها، فأقامت ثلاثة أيام وماتت، وتولَّى أمرَ الدولة معضاد الخادم ورجل علويّ من أهل قزوين وآخرون. قال ابن الصابئ: وكان على حلب -عند هلاك الحاكم- عزيزُ الدولة فاتِك الوحيدي، وقد استفحلَ أمرُه، وعظُمَ شأنه، وحدَّث نفسه بالعصيان، فلاطفَتْه ست الملك [وآنسته]، وراسلته، وبعثت إليه بالخِلَع والخيل بمراكب الذهب وغيرِها، ولم تَزلْ تُعمِلُ الحيلةَ حتى أفسدت غلامًا له يُقال له: بدر، وكان مالكَ أمرِه، وغلمانُه تحت يده، وبَذَلَتْ له العطاءَ الجزيل على الفتك به، ووعدَتْه أن تولِّيه مكانَه، وكان لفاتك غلامٌ هنديٌّ يهواه [ويحبُّه حبًّا شديدًا]، فاستغواه بدر، وقال (¬2): قد عرفتُ من مولاكَ مللًا لكَ وتغيُّرَ نيةٍ فيكَ، وعزمَ على قتْلِكَ، ودافَعْتُه دَفَعات، وأنا أخافُ عليك. ثم تركه أيامًا، ووهبَ له دنانيرَ وثيابًا، ثم أظهر له المحبةَ وقال: إن عَلِمَ بنا الأميرُ قتَلَنا. فقال الهندي: فما أفعل؟ فاستحلَفَه واستوثق منه، وقال: إن قبلتَ ما أقولُ أعطيتُك مالًا وأغنيتُكَ، وعِشنا جميعًا في أطيب عيش. قال: فما تُريد؟ قال: نقتُلُه ونستريحُ منه. فأجابه فقال: الليلةَ يشربُ وأنا أسقيه وأميلُ عليه، فإذا سكر فاقتُله. وجلس فاتك على الشُّرب، فلمَّا قام إلى مرقده حمل الهنديّ سيفَه وكان ماضيًا، فلمَّا دخل في اللِّحاف وبدرٌ على باب المجلس واقف، فلمَّا ثقُلَ في نومه غمزَ بدرٌ الهنديَّ فضربه بالسيف فقطع رأسَه، فصاح بدرٌ واستدعى الغِلمان، وأمرهم بقتل الهنديِّ، فقتلوه، واستولى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين ليس في (خ)، واستدركته من باقي النسخ، والنجوم الزاهرة 4/ 194. (¬2) في (خ): قالت، والمثبت من باقي النسخ.

بدرٌ على القلعة وما فيها، وكتب إلى أخت الحاكم بما جرى، فأظهرتِ الوَجْدَ على فاتك، وشكرَتْ بدرًا على ما كان منه في حفظ الخزائن، وبعثَتْ له بالخِلَع، ووهبت له جميع ما خلَّف مولاه، وقلَّدَتْه (¬1) موضِعَه، ونظرَتْ في الأمور بعد قتل الحاكم أربع سنين، أعادتِ المُلكَ فيها إلى غضاريه، وغمرتِ الخزائنَ بالأموال، واصطنعَتِ الرجال، ثم اعتلَّت عِلَّة لَحِقَها فيها ذَرَبٌ، فتوفِّيت. قال المصنف رحمه الله: وفي أيام الحاكم كان أبو الحسن علي بن محمد التِّهامي الشاعر. [ذكره الحافظ ابن عساكر (¬2) وقال]: وكان عليَّ الهِمة، شريفَ النَّفس، قارئًا لكتاب الله تعالى، طلب الخلافة بالشام، وخرج معه جماعة، فغدر به آل الجرَّاح الطَّائيين، وتقرَّبوا به إلى الحاكم، وحملوه إليه [إلى مصر]، فحبسه في خزانة البنود إلى أن مات بها. وقيل: إنَّ الحاكم عفا عنه وخلَّى سبيله، ومن شعره مرثيَّة في ولده: [من الكامل] حُكْمُ المنيَّةِ في البريَّةِ جارِ ... ما هذه الدنيا بدارِ قرارِ بينا يُرى الإنسانُ فيها مُخْبِرًا ... حتى يُرى خبرًا من الأخبارِ طُبِعَتْ على كدَرٍ وأنتَ تُريدُها ... صَفوًا من الأقذاءِ والأكدارِ ومكلِّفُ الأيامِ ضِدَّ طباعِها ... مُتطَلِّب في الماءِ جَذوةَ نارِ وإذا رجوْتَ المستحيلَ فإنَّما ... تبني الرجاءَ على شفيرٍ هارِ فالعيشُ نومٌ والمنيةُ يقظة ... والمرءُ بينهما خيالٌ سارِ والنفسُ إنْ رضِيَتْ بذاكَ وإنْ أبَتْ ... منقادةٌ بأزِمَّةِ المقدارِ فاقضوا مآرِبَكُمْ عِجالًا إنَّما ... أعمالُكُمْ سَفَرٌ من الأسفارِ وتراكضوا خيلَ الشبابِ وبادِروا ... أن تُستَرَدَّ فإنهنَّ عَوارِي فالدَّهرُ يَخدع بالمنى ويُغِصُّ إنْ ... هنَّا (¬3) ويهدِمُ ما بنى ببوارِ ليس الزمانُ وإن حرصتَ مُسالمًا ... خُلُقُ الزمانِ عداوةُ الأحرارِ ¬

_ (¬1) في (م 1): وولَّته. (¬2) تاريخ دمشق 51/ 215 - 218 (مجمع اللغة العربية بدمشق). (¬3) هنّأ: أعطى الطعام. المعجم الوسيط (هنأ).

يا كوكبًا ما كانَ أقصَرَ عُمْرَهُ ... وكذا تكونُ كواكبُ الأسحارِ وهلالُ ليلاتٍ مضى لم يستَدِرْ ... بدرًا ولم يُمْهَلْ ليومِ سِرَارِ (¬1) عَجِلَ الخسوفُ عليهِ قبلَ أوانهِ ... فمحاهُ قبلَ مَظِنَّةِ الإبدارِ فاستلَّ من أثوابهِ ولدَاتِهِ ... كالمُقلَةِ اسْتلتْ من الأشفارِ فكأنَّ قلبي قبرُهُ وكأنَّهُ ... في طيِّهِ سِر من الأسرارِ إنَّ الكواكبَ مع علو مَحلها ... لتُرى صغارًا وَهْيَ غيرُ صغارِ ولَدُ المُعَزَّى بعضُهُ فإذا مضى ... بعضُ الفتى فالكلُّ في الآثارِ جاورتُ أعدائي وجاورَ ربَّه ... شتَّانَ بينَ جوارِه وجواري أشكو بِعادَكَ لي وأنتَ بموضعٍ ... لولا الرَّدى لسمِعْتَ فيه سِراري (¬2) والشَّرقُ نحوَ الغربِ أقرَبُ شُقَّةً ... مِنْ بُعْدِ تلكَ الخمسةِ الأشبارِ ولقد جَرَيتَ كما جَرَيتُ لغايةٍ ... فبلغتَها وأبوكَ في المضمارِ فلئِنْ نطقْتُ فأنتَ أولُ منطقي ... ولئِنْ سَكَتُ فأنتَ في إضماري ثوبُ الرياءِ يَشِفُّ عمَّا تحتَهُ ... فإذا التحفْتَ بهِ فإنَّكَ عارِ والهُوْنُ في ظِل الهُوَينا كامِنٌ ... وجلالةُ الأخطارِ في الإخطارِ قَدْ لاحَ في ليلِ الشبابِ كواكِبٌ ... إنْ أَمْهَلَتْ آلَتْ إلى الإسفارِ وَتَلهُّبُ الأحشاءِ شَيَّبَ مَفْرِقي ... هذا الضياءُ شُواظُ تِلْكَ النَّارِ من أبيات. وقال يمدح الشريف أبا عبدا لله محمد بن الحسين النَّصيبي نقيب النقباء بدمشق: [من الخفيف] زارنا في دمشقَ من أرضِ نجدٍ ... لكَ طيفٌ سرى ففَكَّ الأسرا وأرادَ الخيالُ لَثْمي فصيَّرْ ... تُ لِثامي دونَ المراشِفِ سِتْرا فاختلينا بُدُورَ نجدٍ بأرضِ الشَّآ ... مِ بعد الرُّقادِ بدرًا بدرا ارحلي إنْ أردْتِ أوْ فأقيمي ... أعظمَ الله للهوى فيَّ أجرا لا تقولي لقاؤُنا بعدَ عشرٍ ... لستُ ممَّنْ يعيشُ بعدكِ عشرا ¬

_ (¬1) السِّرار: آخر ليلة من الشهر. العجم الوسيط (سرر). (¬2) السرار هنا جمع سِرّ، ويُجمع -أيضًا- على أسرار.

السنة الثانية عشرة وأربع مئة

وسِقامُ الجُفونِ أمرَضَ قلبي ... ليتَ أنَّ الجُفونَ تَبرا فأبرا فإذا قابَلَتْ محمدًا العِيـ ... ـسُ فقَبِّلْ مناسِمَ العيس شُكرا (¬1) من إذا شِمْتُ وجهَهُ بعد عُسْرٍ ... قلبَ الله ذلك العُسرَ يُسرا وإذا قَلَّ نَيلُه كان بحرًا ... وإذا ضاقَ صدرُه كان برَّا السنة الثانية عشرة وأربع مئة فيها في المُحرَّم سار سلطان الدولة من الأهواز طالبًا لأَرَّجان، وسببُه لمَّا بلغه دخولُ ابنِ سهلان والدَّيلم في طاعة شرف الدولة وقَبْضُه على ابنِ سهلان من بَعْدُ سار من الأهواز سَيرَ المنهزمِ، وترك أثقاله بها؛ لأنَّ الأمر أعجلَه، وتأخَّر عنه كثيرٌ من حَرَمِه، وتبِعَتْه أثقالُه، ونهب الأكرادُ المتلَصِّصةُ بعضَها، وفي يوم عاشوراء عبرَ شرفُ الدولة إلى الجانب الشرقيِّ من واسط قاصدًا للأهواز، ووصل سلطانُ الدولة إلى أَرَّجان. وفي ثاني عشر مُحرَّم كحل أبو غالب الحسن بن منصور أبا محمد بن سهلان، وسبَبُه أنَّ شرف الدولة لمَّا قبضَ على ابنِ سهلان اجتمع الأتراكُ وطالبوه باستحقاقاتهم التي تأخَّرت لهم، وطلبوا تسليمَ ابنِ سهلان إليهم، فدافعهم شرفُ الدولة، فلم يندفعوا، فسلَّمه إلى أبي غالب، فكحله؛ لِما كان بينهما، وأصعَدَ الأتراكُ بأُسَرِهم إلى بغداد، ولم يبقَ مع شرفِ الدولة منهم إلَّا القليل، فلو أراد الدَّيلم بشرف الدولة أمرًا لَما كان لإزائهم من يراقبونه، وعزَّ على الدَّيلم كحلُ ابنِ سهلان. وفي يوم الجمعة لأربع بَقِينَ من المُحرَّم خُطِبَ لشرف الدولة ببغداد، وخوطب بشاهِنشْاه مولى أمير المؤمنين، وقُطعتِ الخطبةُ لسلطان الدولة. وفي يوم الاثنين لليلةٍ بقيَتْ منه سار الدَّيلم الخُراسانية (¬2) وغيرُهم إلى بلادهم، وخرج أبو غالب في ثالث صفر وراءهم، وكان السببُ أنَّ شرف الدولة قصَّر في حقِّهم (¬3)، فطلبوا المسيرَ إلى أَرَّجان تقدِمةً لشرف الدولة، وأن يكون معهم مَنْ يقومُ ¬

_ (¬1) المثبت في البيت من تاريخ دمشق 51/ 217، وقد جاء البيت في (خ) و (ف) غير مستقيم ولا منسجم هكذا: فإن قابلت مجدًا لعيشٍ ... فقبِّل مياسم العيش عشر (¬2) في (خ) و (ف): الجورسانية! (¬3) في (ف): حقوقهم.

مقامَه، ويُدَبِّر أمورَهم، فندبَ الوزيرَ أبا غالب، فاستعفى وقال: القومُ على استيحاشٍ منِّي، وأخاف منهم. فقال شرف الدولة: ما ها هنا مَنْ يجوزُ أن يخرج غيري وغيرُكَ، فأمَّا أنا فقد أشرتَ أنتَ وغيرُك أنني لا أخرج معهم، ولم يبْقَ غيرُكَ. قال: أنا ماضٍ على مخاطرةٍ بنفسي، ولكن قد بذَلْتُها في طاعتك، وسافر. وفي يوم الأحد (¬1) لستٍّ خلَوْنَ من صفر وُلدَ أبو القاسم محمد بن الظَّاهر صاحب مصر، فأظهروا الزِّينة، وفرح أهلُ مصر؛ لأنَّ الظَّاهر قد أزال عنهم المظالمَ والمكوسَ، وزاد في الإحسان إليهم برأيِ عمَّتِه ستِّ الملك، فاستقامتِ الأحوال. وفي صفر قَبَضَ قِرْواش صاحبُ الموصل على الحسين بن علي المغربي وسليمان بن فهد بالموصل، وقتلَ سليمانَ، وأطلقَ المغربيَّ، وكان سليمانُ كاتبًا في حداثة سِنِّه بين يدي إبراهيم الصابئ الكبير، فلمَّا لحِقَتْه النكبةُ في أيام عضُدِ الدولة انتقل سليمانُ إلى ديوان السَّواد، ثم إلى ديوان الإنشاء، وتنقَّل من وزيرٍ إلى وزير، وكان لوالده إقطاعٌ بالكوفة، فلمَّا مات أقرَّ على سليمان، ثم طمعَ فيه الجندُ وأخذوه منه، وكان على الكوفةِ وسقي الفُراتِ المقلِّدُ بنُ المسيِّب، فخرج إليه، ورمى نفسَه عليه، وكان حَسَنَ العِشْرةِ، فردَّ إقطاعَه، وجَرَتْ له بالكوفة قصةٌ مع قومٍ من الأكرادِ ضربهم فماتوا، فخرج إلى الموصل، وابتاع ضياعًا وأملاكًا، وصادق أبا الحسن بن أبي الوزير، وحملَهُ طلبُ الجاه إلى أن خدَمَ قِرْواشَ بالموصل، فصادر الناسَ ووتَرَهم، واستوحشَ منه ابنُ أبي الوزير، فهرب من الموصل إلى بغداد، وتنقَّلت به الأحوال إلى البلاد، فلمَّا مات ابنُ أبي الوزير ونظر ابنُ المغربي لِقْرواش عاد إلى الموصل، ودخل على المغربي -وكان صديقًا له- فوعده بخلاصِ أملاكِه، فأقام في دار المغربي بمنزلة الضيف، واجتهد ابنُ المغربي في تخليص أملاكه، فلم يخلَصْ منها إلا اليسير. واتَّفقَ أن المغربيَّ خاف من أبي المنيع قِرْواش، واستشعر منه فأعمل الحيلةَ في الخلاص منه، فأشارَ عليه بمراسلةِ أبي نصر بن مروان صاحبِ ديار بكر ومصاهرتِه والاتفاقِ معه ليساعده بالمال والرجال، فقبِلَ منه، فقال المغربيُّ: ما لهذا الأمر غيري؟ فقال: اخرُجْ. فخرج ومعه سليمان بن فهد، فنزل بظاهر الموصل، فاجتاز بهما ¬

_ (¬1) في (م) تحرفت إلى: عاشوراء.

بدرانُ أخو قِرْواش -وكان باغضًا لهما- فرآهما على رحيل، فدخل على أخيه وقال: بأيِّ رأيٍ تتركُ هذين الرجلين يخرجان عن يدِكَ وقد أخذا مالكَ وها هنا بعضُه مما يكون معونةً لك؟ فأرسل فقبضَ عليهما واعتقلَهما، فأمَّا ابنُ فهد فطُولِبَ بالمال فلم يُقِرَّ بشيء، فمات تحت الضرب، وأمَّا المغربيُّ فأرسلَ إلى قِرْواش يقول: إن كنتَ تُريدُ نفسي فهي بينَ يديك، وإن كنتَ تُريدُ المال فمالي بمصر والكوفة وبغداد، وتطيبُ نفسي بتسليمه إليك، فإن حفظتَ نفسي أعطيتُكَ المال وبالعاجل، فخُذِ الحاضِرَ من رَحْلي (¬1) وما معي. فخدَعه بالقول اللطيف والوعد، فانخدع له، وأخذَ موجودَه، وأطلقه، ثمَّ أصلحَ أمرَه بعد ذلك، وقد رُويَ أنَّ سليمانَ لم يُقتَلْ. وفي صفر قُتِلَ أبو غالب الوزيرُ، قد ذكرنا أنَّه سار في ثالث صفر وراء الدَّيلم من واسط، وفي قلوبهم ما فيها من الحَنَقِ عليه بسبب ابنِ سَهْلان، فلمَّا صار بالمأمونية أُشير عليه أن يُقيمَ في الخيام ولا يدخُلَ البلد، فلم يقبَلْ، ونزل في البلد، فهجم عليه الدَّيلم في الدار وقتلوه، ونهبوا ماله، وتقرَّبوا به إلى سلطان الدولة؛ لأنهم كانوا مائلين إليه، فكانت مُدَّة وزارته ثمانيةَ عشر شهرًا وثلاثةَ أيام، وعمره ستين سنة وخمسة أشهر وثلاثةً وعشرين (¬2) يومًا، وقبضَ مَرْدوست على ولده أبي العلاء، وصادرَه على ثلاثين ألف دينار. وفيها وصل أبو كاليجار بن سلطان الدولة من فارس إلى الأهواز. وفي رمضان قُلِّد القاضي أبو جعفر محمد بن أحمد السِّمناني الحِسْبَةَ والمواريث ببغداد. وفي رمضان دخل سلطانُ الدولة شيراز. وفيه تُوفِّي أبو منصور مَرْدوست بواسط، وكان حاكمًا على الدولة، قد ذكرناه في مواضع، وكان يعتريه ضجرٌ شديدٌ في أكثر أوقاته، فيُفسِدُ عليه أمورَه، وكان شرف الدولة قد عزم على قبضه؛ لكثرة مالِه والدالِّية عليه وانبساطِه، فحالت المنيَّةُ بينَه وبينَه، وحُمِلَ تابوتُه إلى بغداد، فدُفِنَ بمقابر قريش. ¬

_ (¬1) المثبت من (م): وفي باقي النسخ: رحل. (¬2) في (ف): وثلاثة عشر.

وفي شوَّال قدِمَتْ قافلةٌ [من] خراسان، وفيها خلقٌ عظيمٌ (¬1) بسبب الحج، وتلقَّاهم مؤيَّد الملك، وأحسنَ إليهم ووصلهم، وكان السببُ لهذا الاحتفال للحجِّ من خراسان أنه لمَّا تأخَّر الحجُّ [في] سنة تسع وأربع مئة وسنة عشرة وإحدى عشرة، وكان يمينُ الدولة أبو القاسم محمود (¬2) بن سُبُكْتِكِين شديدَ المراعاة لأخبار العراق، مُحِبًّا لما يصدر منها من الأمتعة والألطاف، فاعترضه جماعة من الأعيان، وقالوا: أنت سلطانُ الإسلام، وأعظمُ ملوك الأرض، وفي كل سنة تَفتحُ من بلد الكفار عِدَّةَ مدائن، وفتحُ طريقِ مكةَ أعظمُ، وقد كان بدرُ بنُ حسنويه وما في أصحابك إلا مَنْ هو أكثرُ شأنًا منه، يسير الحاجُّ بمالِه وتدبيرِه عشرين سنة، فانظُرْ لله تعالى، واجعَلْ لهذا الأمر حظًّا من اهتمامك. وكرَّروا هذا القولَ عليه [في عدَّة مواكب في هذه السنة] فتقدَّم إلى قاضي قضاة مملكته أبي محمد المناصحي النيسابوري بالتأهُّب للحجِّ، وكان عفيفًا ورعًا، دَيِّنًا مستورًا، على قِلَّةِ ذاتِ يده، وقصورِ حالِه، وكان محمود يُكرمه (¬3) ويُجلسه في كل أسبوع يومًا في المظالم في مجلسه نيابة عنه، وأمر بأن يُنادى بما وراء النهر وخُراسان للحجِّ، فاجتمع خلقٌ عظيمٌ، وأطلق للعرب الذين بين الكوفة ومكة ثلاثين ألف دينار، سلَّمها إلى القاضي سوى ما أطلق للصدقات [وغيرها] والحرمين، وخرجَ بهم أبو الحسن بن الأقساسي، فلمَّا وصلوا فَيدَ حاصرهم العربُ، وكان مُقَدَّمُهم [رجل يقال له]: حَمَّار بن عُدي -بضمِّ العين- من بني نبهان، وكان جبَّارًا، فركب فرسَه، ولبس درعَه، وأخذَ رُمحَه بيده، وجال جولةً يُرهِّبُ بها الناس، وكان في جملة السمرقنديين غلامٌ يُعرف بابن عفان، وكان من الرُّماة، فرماه بسهم فوقع في قلبِه فخرَّ ميتًا، وسَلِمَ الحاجُّ ومضوا، وحجُّوا وعادوا ولم يَرَوا أحدًا، ووصلوا [إلى] بغداد سالمين (¬4). وقال [هلال بن المحسن] ابن الصابئ: إنما كانت هذه الواقعة عند رجوع الحاجِّ (¬5) من مكة، واسْمُ البدوي جَمَّاز، وكانت رِجلاه إذا ركب الفرسَ خَطَّتا في الأرض، ¬

_ (¬1) في (م 1): كثير. (¬2) في (م 1): محمد، وهو تحريف. (¬3) في (م): يلزمه. (¬4) الخبر في المنتظم 15/ 145 - 146. (¬5) في (م) و (م 1): الناس.

أحمد بن محمد بن أحمد

وصمَّم على أخذ الناس (¬1)، وحاصرهم بِفَيدَ خمسَ عشرة يومًا، فاضطروا إلى ذبح الجِمال وأكْلِها، وبذلوا له مالًا، وبذل له القاضي المناصحي خمسةَ آلاف دينار فلم يفعل، فرجعتِ (¬2) العربُ إلى القافلة، وهو (¬3) في أوائلهم، فرماه ابنُ عفان بسهم فقتله، وحمله أصحابُه ميتًا وانصرفوا، وخلصَ الحُجَّاجُ سالمين. وفيها تُوفِّي أحمد بن محمد بن أحمد (¬4) أبو سعيد، الماليني، الصوفي، الحافظ، سافر إلى الأقطار، وسمع خلقًا كثيرًا، وصنَّف المصنَّفات الكبار، وصحب المشايخ، وكان يُقال له: طاووس الفقراء، ثم نزل مصرَ فأقامَ بها حتى تُوفي في شوال، وكان سيِّدًا فاضلًا نبيلًا صدوقًا ثقةً. الحسن بن علي (¬5) أبو علي، الدقَّاق، النيسابوري، أحد المشايخ، وممَّن له حالٌ ومقال، وكان يعِظُ. قال القشيري (¬6): سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق يقول في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من تواضعَ لغنيٍّ لأجلِ دنياه ذهَبَ ثُلثُا دينِه" (¬7) قال: لأنَّ المرء بأصغَريه قلبِه ولسانِه، فإذا خدمه بأركانه، وتواضع له بلسانه، ذهب ثُلثا دينه، فإن خدمه بقلبه ذهب الكلُّ. وقال: عليكَ بطريق السلامة، وإيَّاكَ والتعرُّضَ لطريق البلاء، وأنشد يقول: [من الطويل] ذريني تجِئْني مِيتَتي مطمئنةً ... ولم أتجَشَّمْ هوْلَ تلكَ المواردِ ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1) الحاج. (¬2) في (م) و (م 1): فزحفت. (¬3) في (ف): وهرب. (¬4) تاريخ بغداد 4/ 371 - 372، وتاريخ دمشق 5/ 192 - 195، والمنتظم 15/ 146، والأنساب 11/ 100 - 101، واللباب 3/ 155. وينظر السير 17/ 301. (¬5) المنتظم 15/ 151 - 152. (¬6) الرسالة القشيرية ص 421. (¬7) الحديث بنحوه أخرجه البيهقي في الشعب (10045)، والخطيب في تاريخ بغداد 4/ 368 من حديث ابن مسعود مرفوعًا. ورُوي أن هذا الكلام مكتوب في التوراة؛ روي عن فرقد السبخي ووهب بن منبِّه وإبراهيم بن الأدهم، وهو في الحلية على التوالي 3/ 46 و 4/ 38 و 8/ 23.

الحسن بن منصور

فإنَّ عَليَّاتِ الأمورِ مَنوطةٌ ... بمستودعاتٍ في بطونِ الأساودِ (¬1) وقال في قوله - عليه السلام -: "حُفَّتِ الجنةُ بالمكاره" (¬2) إذا كان مخلوقٌ لا يُوصَلُ إليه إلا بتحمُّل المشاقِ، فما ظنُّك بالملك الخَلَّاقِ، وأنشد: [من البسيط] لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كلُّهمُ (¬3) وقال: سرور الطلَبِ أتمُّ من فرح الوجود؛ لأنَّ فرحَ الوجودِ على خطر الزوال، وحال الطلب حالٌ يُرجى للوصال. وقال في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] أي: اذكروني اليوم وأنتم أحياء، أذكُرْكُم وأنتم تحت التراب غدًا. الحسن بن منصور (¬4) أبو غالب، الوزير، الملقَّب بذي السَّعادتين، قد ذكرنا مقْتَلَه، وُلدَ بسيراف سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة، وتقلَّبت به الأمور حتى صحب فخر الدولة، ولقَّبَه سلطانَ الدولة، وزيرَ الوزراء، [نجاح الملوك] (¬5)، وخلَعَ عليه، وجعله ناظرًا في بغداد، فلمَّا خطب ببغداد لشرف الدولة وهو بواسط، ألزمه شرف الدولة أن ينحدر مع الدَّيلم إلى الأهواز لقتال سلطان الدولة، فامتنع، فألزمه، فسار معهم، فلمَّا وصل إلى الأهواز قيل له: لا تدخُلِ الأهوازَ، فلم يقبل، ونادى الدَّيلم بشعار سلطان الدولة، وقتلوا أبا غالب، ولمَّا بلغ سلطانَ الدولة قَتْلُه سكنَ واطمأنَّ قلبُهُ. ورثاه جماعةٌ من الشعراء، فقال المُطرِّز: [من الطويل] أبا غالبٍ مَنْ للمعالي إذادعَتْ ... ومَنْ عنكَ يسعى سعْيَها ويُثيبُ ¬

_ (¬1) هذان البيتان لكلثوم بن عمرو العتابي، كما في بهجة المجالس 1/ 348، والتمثيل والمحاضرة ص 83، ومحاضرات الأدباء 1/ 92، والعقد الفريد 3/ 208 وغيرها من المصادر. (¬2) أخرجه البخاري (6487)، ومسلم (2823) -واللفظ له- من حديث أبي هريرة، وهو في مسند أحمد (7530)، وأخرجه أحمد (12559) من حديث أنس بن مالك. (¬3) هذا صدر بيت قائله المتنبي، وهو في ديوانه 3/ 406، وعجزه: الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتَّالُ (¬4) المنتظم 15/ 147. (¬5) ما بين حاصرتين من المنتظم.

محمد بن أحمد بن محمد

فتًى يستجيرُ المُلكُ إن صرخَتْ بهِ الْـ ... حوادِثُ أو حنَّتْ عليهِ خُطوبُ ومَنْ يكْشفُ الغَّماءَ عنهُ بعَزْمةٍ ... لها في قلوبِ النائباتِ وجيبُ محمد بن أحمد بن محمد (¬1) أبو الحسن، ابن رزْقويه، البغدادي، البزَّاز، وُلدَ سنة خمس وعشرين وثلاث مئة في ذي الحِجَّة، ودرسَ الفقهَ، وسمعَ الحديثَ فأكثر، وكان شيخًا ثقةً صدوقًا، كثيرَ السماع والكتابة، حسنَ الاعتقاد، جميلَ المذهب، مُديمًا لتلاوة القرآن، شديدًا على أهل البدع، وكُفَّ بصرُه وقال: واللهِ ما أُحِبُّ الحياةَ في الدنيا لكسبٍ ولا تجارةٍ، ولكن لذكر الله، ولقرائتي الحديث. ودخل بعضُ الوزراء بغداد، ففرَّق مالًا كثيرًا، وبعث إلى الناس وإليه، فقبلوا كلُّهم إلا ابن رَزقويه، فإنَّه تورَّع وشرُفَتْ نفسُه فلم يقبَلْ منه شيئًا. وتوفِّي يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى، ودُفِنَ بمقبرة باب الدير عند معروف، وصلَّى عليه ابنُه أبو بكر. محمد بن الحسين (¬2) ابن محمد بن موسى، أبو عبد الرحمن، السُّلَمي، النيسابوري، شيخ شيوخ الدنيا في زمانه، وأوحَدُ الفُضلاء والعُلماء، ولد بنيسابور وبها نشأ، طاف الدنيا شرقًا وغربًا، ولقي الشيوخَ والأبدال، وإليه المرجع في علوم الحقائق والسنن والسير وغيرها، وله المصنفات الحِسان، ككتاب "التفسير على لسان أهل الحقائق" و"طبقات الصوفية" و"السنن" و"الأمثال" و"الاستشهادات" وغير ذلك، وبنى للصوفية دارًا بنيسابور في آخر عمره، وبها قبره. وقال أبو القاسم القشيري (¬3): كنتُ يومًا بين يدَي أبي علي الدقاق، فجرى حديثُ أبي عبد الرحمن السُّلمي، وأنه يقوم في السماع موافقةً للصوفية، فقال أبو علي: ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 341 - 342، والمنتظم 15/ 148 - 149. وينظر السير 17/ 285. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 248 - 249، والمنتظم 15/ 150 - 151، والأنساب 7/ 113، واللباب 2/ 129، وطبقات الأولياء ص 313 - 315، وينظر السير 17/ 247. (¬3) الرسالة القشيرية ص 372 - 373.

محمد بن عمر

السُّكون أولى. ثم قال: امْضِ إليه فستجِدهُ قاعدًا في بيت كتبه وعلى وجه الكتب مجلَّدةٌ حمراءُ صغيرةٌ فيها أشعار الحسين بن منصور الحلَّاج، فاحمِلْها إليَّ، ولا تقُلْ له شيئًا. قال: فجئتُ إليه وهو جالسٌ على ما ذكر الدقَّاق، فلمَّا قعدتُ قال: بعضُ الناس يُنكِرُ على بعض العلماء حركتَه في السماع، فرؤي ذلكَ المُنكِرُ وهو يدورُ في بيتِه كالمتواجد، فقيل له في ذلك، فقال: وقعتُ في مسألةٍ مشكلةٍ، ثم تبيَّن لي معناها، فلم أتمالكْ من السرور حتى قمتُ ودُرْتُ. قال القُشيري: فتحيَّرتُ في أمري عند سماع كلامِه، وقلتُ: الصِّدقُ أنجى، فقلت له: إنَّ الشيخ أبا علي أمرني بكذا وبكذا، فأخرج إليَّ كتابًا من تصانيف الحلَّاج اسمه "الصَّيهور في نقض الدهور"، وقال: احمِلْ إليه هذا، وهذه المجلَّدةُ أنا محتاجٌ إليها لأنقُلَ منها أبياتًا إلى مصنَّفاتي. وقد أجمع العلماءُ على صِدْقِ أبي عبد الرحمن السُّلمي وفضلِه وثقتِه وزهدِه وورعِه، حتى إنَّ الحاكم أبا عبد الله كان يقول: إن لم يكُنْ أبو عبد الرحمن من الأبدال فليس لله في الأرض وليٌّ. ولم يتكلَّم فيه غير محمد بن يوسف، وذلك من قِبَلِ الحسد، ولا يُقبَلُ منه. محمد بن عمر (¬1) أبو بكر، العنبري، تُوفِّي ببغداد يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى، من شعره: [من مجزوء الكامل] إنِّي نظرتُ إلى الزما ... نِ وأهلِهِ نظرًا كفاني فعرَفْتُهُ وعرفْتُهُمْ ... وعرَفْتُ عِزِّي من هواني فلذاكَ أطَّرِحُ الصَّديـ ... قَ فلا أراهُ ولا يراني وزهدتُ فيما في يَدَي ... ــــهِ ودونَه نيلُ الأماني فتعجَّبوا لمقالِهِ (¬2) ... وهَبَ الأقاصي للأداني وانْسَلَّ من بين الزِّحا ... مِ فمالهُ في الخلقِ ثاني ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 148. (¬2) كذا في (خ) وتاريخ بغداد والمنتظم، وفي البداية والنهاية 15/ 589: لمغالبٍ.

السنة الثالثة عشرة وأربع مئة

السنة الثالثة عشرة وأربع مئة فيها ورد القاضي أبو محمد المناصحي من الحجِّ، فجمع مؤيَّدُ الملك الحاجَّ (¬1) الخراسانية والقاضي، وعمل لهم سماطًا عظيمًا، لعامَّة الناس وخواصِّهم، وخلعَ على القاضي وأصحابِ محمود بن سُبُكْتِكين، وانصرفوا [داعين] شاكرين. وفي جمادى الآخرة حلف مُشرِّف الدولة لسلطان الدولة، واتَّفقا على يد الأوحد أبي محمد وزير سلطان الدولة، ودخل جلالُ الدولة في الصُّلح، وكان من جملة ما تقرَّر أن يرُدَّ على الدَّيلم الذين ببغداد ما أخذَ من إقطاعاتِهم بفارس وخوزستان، وإقامةِ الخُطبِ لسلطان الدولة ببغداد كما كانت قبل الخلاف، وتحالفا بالأيمان المُغلَّظة، وأشهدَ القُضاةَ والأعيانَ والأشرافَ. [وفيها أصابَ مشرِّفَ الدولة شناجٌ في رأسه، فتداركوه بالأدوية المرطِّبة، فصَلُح] (¬2). وفيها فُتِحَ المارستان المؤيَّدي بواسط، وذلك أنه قيل لمؤيَّد الملك: إنَّ واسطًا خاليةٌ من مارستان، مع أنَّها مصرٌ من الأمصار، وهي دِهْليزُ فارس والبلاد الشرقية، فاقتضَتْ ديانتُه وشفقتُه أنَّه عمِلَ مارستان في الكتبيين، وأنفق عليه مالًا عظيمًا، وأقام له الخُدَّام والخُزَّان، ونقل إليه من الأشربةِ والأدويةِ والفُرشِ والآلاتِ شيئًا كثيرًا، وجلبَ إليه الأطباءَ من البلاد، ووقفَ عليه وقوفًا كثيرةً. وفيها عمدَ أحدُ الحاجِّ المصريين إلى الحجر الأسود في البيت الحرام، فضربه بدَبُّوسٍ كان في يده حتى شَعَبَه وكسر قِطعًا منه، وعاجله الناسُ فقتلوه، وثار المكيُّون بالمصريين فقتلوا منهم جماعةً ونهبوهم، وركب أبو الفتوح الحسنُ بن جعفر فأطفأ الفتنة، ودافع عن المصريين، وقيل: إنَّ الرجل الذي فعل ذلك من الجُهَّال الذين استغواهم الحاكم وأفسد عقائدهم. قال هلال بن الصابئ: وجدتُ كتابًا كُتِب بمصر في سنة أربع عشرة وأربع مئة عن لسان المصريين، وهو كتاب طويل، فمنه: وذهبت طائفة من النَّصرية إلى الغلوِّ في أبينا أمير ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1) عوضًا عنها: أبو علي. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من (ف) وحدها.

المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، وادَّعت فيه ما ادَّعتِ النصارى في المسيح، ونَجَمتْ من هؤلاء الكفَرةِ فرقةٌ سخيفةُ العقول عادلةٌ بجهلها عن سواء السبيل، فغَلَوا فينا غُلوًّا كبيرًا، وقالوا في آبائنا وأجدادنا منكرًا من القول وزورًا، ونسبونا بغُلُوِّهم الأشنع وجهلهم المستفظع إلى ما لا يليقُ بنا ذِكْرُه، وإنَّا لَنبرأُ إلى الله تعالى من هؤلاء الجُهَّال الكفَرة الضُلَّال، ونسأل الله أن يُحسِنَ معونتنا إلى إعزازِ دينهِ، وتوطيد قواعدِه وتمكينهِ، والعملِ بما أمرنا به جدُّنا المصطفى، وأبونا عليٌّ المرتضى، وأسلافُنا البررَةُ أعلامُ الهدى، وقد علمتُم يا معشر أوليائنا ودُعاتِنا ما حكَمنا به من قَطْعِ دابرِ هؤلاءِ الكفَرةِ الفُسَّاقِ، والفَجرةِ المُرَّاقِ، وتفَويقْنا لهم في البلاد كلَّ مُفرَّق، وتمزيقِنا لهم كلَّ مُمزَّق، فظَعنوا في الآفاق هاربين، وشردوا مطرودين خائفين، وكان من جملة مَنْ دعاه الخوفُ منهم إلى الانتزاح رجلٌ من أهل البصرة أهوَجُ أثْوَلُ (¬1)، ضالٌّ مُضِلٌّ، سارَ مع الحجيج إلى مكة -حرسها الله تعالى- فَرَقًا من وَقْع الحسام، وتستَّر بالحجِّ إلى بيت الله الحرام، فلمَّا حصل بالبيت المُحرَّم المُعظَّم، والمَحَلِّ المُقدَّسِ المُكرَّم، أعلن بالكفر وما كان يُخفيه من المكر، وحملَه لممٌ في عقله على قصد الحجر الأسود، فضربه بدبُّوس [كان في يده] ضرباتٍ متوالياتٍ أطارت منه شظايا وُصِلَت بعد ذلك، ثمَّ إنَّ هذا الكافر عُوجِلَ بالقتل على أسوأ أحوالِه، وأضَلِّ أعمالِه، وأُلحِقَ بأمثالِه من الكفرة الواردين مواردَ الضلالة، ذلك لهم خزيٌ في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم. ولَعمري إنَّ هذه لمصيبةٌ في الإسلام فادحةٌ، ونكايةٌ قادحةٌ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، لقد ارتقى هذا الملعونُ مرتقًى عظيمًا، ومقامًا جسيمًا، أَذْكَرَ به ما كان أقدَمَ عليه غلامُ ثقيفٍ المعروف بالحجَّاج -لعنه الله- من إحراقِ البيتِ وهدمِه، وإزالةِ بُنيانِه وردمِه، وذكر كلامًا في هذا المعنى. وقيل: هذا كان في سنة أربع عشرة وأربع مئة، والأول [أصحُّ و]، أظهو، [وهذا قول هلال بن المحسن، وروى أبو الفضل] بن ناصر بإسناده إلى أبي عبد الله [بن] محمد بن [علي] (¬2) العلوي قال: وفي سنة ثلات عشرة وأربع مئة كُسِرَ الحجرُ الأسودُ؛ لمَّا ¬

_ (¬1) الأثْوَل: المجنون والأحمق. المعجم الوسيط (ثول). (¬2) ما بين حاصرتين هنا في المواضع الآتية من الخبر ليس في (خ)، واستدرك من باقي النسخ، والمنتظم 15/ 154، والخبر فيه.

دجى الخادم

صُلِّيت الجمعة يومَ النَّفر الأول بمنى، ولم يكن رجع الناس بعْدُ من منى، قام رجلٌ ممن ورد من ناحية مصر بيده سيفٌ مسلولٌ، وبالأخرى دبُّوسٌ، بعد ما قضى الإمامُ الصلاةَ، فقصدَ الحجرَ الأسودَ ليستَلِمَه على الرسم، فضربَ وجهَ الحجر ثلاثَ ضرباتٍ متوالياتٍ بالدبُّوس، وقال: إلى متى يُعبَدُ الحجر [الأسود]، ولا محمدٌ ولا عليٌّ يقْدِران على منعي عمَّا أفعله (¬1)، فإنّي أهدم هذا البيتَ وأرفعُه، فاتَّقاه الحاضرون وتراجعوا عنه، وكاد يفلت، وكان رجلًا تامَّ القامة، أحمرَ اللون، أشقرَ الشعر، سمينًا، وكان على باب المسجد عشرةٌ من الفرسان على أن ينصروه، فاحتسَبَ رجلٌ من أهل اليمن أو من أهل مكة أو غيرها، فوجأه بخنجر، واحتوشه الناس، فقتلوه وقطَّعوه وأحرقوه بالنار، وقُتِلَ من اتُّهم بمصاحبته ومعاونته على ذلك جماعةٌ [وأُحرقوا بالنار]، وثارتِ الفتنةُ، فكان الظاهر من القتلى أكثرَ من عشرين غير ما أُخفي منهم، وتقشَّر [بعضُ] وجهِ الحجر في وسَطِه من تلك الضربات وتخَشَّن، وزعم بعضُ الحاجِّ أنه سقط منه ثلاثُ قِطَع، واحدةٌ فوق الأخرى، فكأنه ثُقِبَ ثلاثةَ ثقوب، وتساقطت منه شظايا مثلُ الأظفار، وموضع المكسر أسمرُ (¬2) يضرب إلى صفرة مُحبَّبًا مثل الخشخاش، فجمع بنو شيبة ما تفرَّق منه وعَجنوه بالمِسْكِ واللَّك (¬3)، وحشَوا تلك المواضع وطلَوها بطلاء من ذلك، فهو بيّنٌ لمن تأمَّله، وهو على حاله اليوم. وفيها تُوفِّي دُجى الخادمُ غلامُ الطائع، وكنيتُه أبو الحسن، وكان خصيصًا به، يَسْفِرُ بينه وبين الملوك، وعاش طويلًا، وتُوفِّي ببغداد في ربيع الآخر، وكان سماعُه صحيحًا (¬4). ¬

_ (¬1) في الكامل 9/ 332 والخبر فيه باختصار: إلى متى يعبد الحجرُ الأسودُ ومحمدٌ وعليٌّ؟ فليمنعني مانع من هذا. (¬2) المثبت من (م) و (م 1)، وفي (خ) و (ف): اسم، وفي المنتظم: أحمر. (¬3) في (م) و (م 1): اللَّت، واللكُّ: صِبغٌ أحمر تفرزه بعض الحشرات على بعض الأشجار في جزر الهند الشرقية، يُذاب في الكحول فيكون منه دهان للخشب، المعجم الوسيط (لكك). (¬4) الترجمة في تاريخ بغداد 8/ 392، والمنتظم 15/ 155.

علي بن عيسى بن سليمان

علي بن عيسى بن سليمان (¬1) أبو الحسن، القاضي، المعروف بالسُّكَّري، الفارسي. ولد ببغداد في صفر سنة سبع وثلاث مئة، وقرأ القرآنَ والأدبَ، وتُوفِّي في شعبان، ودُفِنَ بمقبرة الدير، ومن شعره وأوصى أن يُكتب على قبره: [من الخفيف] نفس يا نفسُ كم تَمادينَ في الغيِّ ... وتأتينَ بالفِعالِ المَعيبِ راقبي اللهَ واحذَري موقفَ العر ... ضِ وخافي يومَ الحسابِ العصيبِ لا تغُرَّنَّكِ السلامةُ في العَيـ ... ـــشِ فإنَّ السليمَ رهنُ الخُطوبِ كلُّ حيٍّ فلِلْمنون ولا يَدْ ... فَعُ بأسَ المنونِ كيدُ الأريبِ واعلمي أنَّ للمنيَّةِ وقتًا ... سوف يأتي عجلانَ غير هيوبِ فأَعِدِّي لذلكَ اليومِ زادًا ... وجوابًا للهِ غيرَ كَذوبِ علي بن هلال (¬2) أبو الحسن، ابن البوَّاب، صاحبُ الخطِّ المشهور، وكان أبوه بوَّابًا لبني بُوَيه، وكان عليٌّ يقصُّ بجامع المنصور، وصحِبَ ابنَ سَمْعون الواعظ واقتبسَ منه، واخترع لنفسه طريقةً في الخَطِّ لم يُسبَقْ إليها. قال هلال بن الصابئ: دخل أبو الحسن البَتِّي دارَ فخرِ الملك، فوجدَ ابنَ البوَّاب جالسًا في عتبة الباب ينتظر خروجَ فخر الملك، فقال له: جلوس الأستاذ في العَتَبِ رعايةٌ للنَّسَب. فغضِبَ وقال: لو كان إليَّ أمرٌ ما مكَّنْتُ مِثلَكَ من الدخول. فقال البَتِّي: لا يتركُ الشيخُ صنعتَه. وكانت وفاتُه يوم السبت ثاني جمادى الآخرة، ودُفِنَ بمقبرة باب حرب، ورثاه بعضهم، فقال: [من البسيط] فللقلوبِ التي أبْهَجْتَها حَزَنٌ ... وللعيونِ التي أقرَرْتَها سَهَرُ وما لِعيشٍ وقَدْ ودَّعْتَهُ أرَجٌ ... ولا لِلَيلٍ وقَدْ فارقْتَهُ سَحَرُ ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 156. (¬2) المنتظم 15/ 155 - 156، ومعجم الأدباء 15/ 120 - 134، وينظر السير 17/ 315.

محمد بن محمد بن النعمان

محمد بن محمد بن النعمان (¬1) أبو عبد الله، فقيه الشيعة وعالِمُها، ومصنِّف الكتُب في مذهبها، قرأ عليه الرضيُّ والمرتضى وغيرُهما، وكان يسكن بالكَرْخ بدرب رياح، وله حلقةٌ في داره، وكانت له منزلةٌ من بني بُوَيه ومن ملوك الأطراف؛ لأنهم كانوا على مذهبه. قال الخطيب: كان أحدَ أئمة الضَّلال، صنَّف لهم كتبًا كثيرة في ضلالاتهم، وطعن على الصحابة (-رضي الله عنهم-)، والسلفِ الصالح، والفقهاءِ وعامةِ المجتهدين، حتى أراح الله منه المسلمين، وكانت وفاتُه بالكَرْخ في رمضان، ودُفِنَ بداره، ثم نُقِلَ إلى مقابر قريش، ورثاه المرتضى، فقال -وهو ركيك-: [من الخفيف] مَنْ لِفَضلٍ أَخْرجتَ منهُ خبيئًا ... ومعانٍ فضَضْتَ عنها ختاما مَنْ يُثيرُ العقولَ من بعدِ ما ... كُنَّ هُمودًا ويفتحُ الأفهاما مَنْ يُعيرُ الصَّديقَ رأيًا إذا ما ... سلَّهُ في الخُطوبِ كانَ حُساما السنة الرابعة عشرة وأربع مئة فيها أصعد مُشرِّفُ الدولة من واسط إلى بغداد، وراسل القادرَ بالله؛ لِتلَقِّيه، فتلقَّاه من الزلَّاقة، ولم يكن لقي أحدًا من الملوك قبلَه، ركب في طيارة يوم الاثنين لليلتين إن بقيتا من المحرم في أُبَّهة الخلافة، وعليه السَّواد والبُردة، ومعه ولداه الأميران؛ أبو جعفر من جانبه الأيمن، وأبو القاسم من جانبه الأيسر، وبين يديه أبو الحسن علي بن حاجب النعمان كاتبُه، وحوالي القُبَّة المرتضى، وأبو الحسن (¬2) الزينبي، وقاضي القضاة ابنُ أبي الشوارب، وفي الزَّبازب الأشرافُ والخدَمُ والقُرَّاءُ والعلماءُ، والتقاه مُشرِّف الدولة في زَبْزَبه، وصعد إلى طيار الخليفة، وقبَّل الأرضَ مرَّتين، واستوحش له الخليفةُ، وكانت العساكرُ وأهلُ بغداد وقوفًا من الجانبين، وكان يومًا مشهودًا، وعاد مشرِّف الدولة إلى زَبْزَبه ومضى إلى دار المملكة والخليفةُ إلى داره. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 231، والمنتظم 15/ 157. وينظر السير 17/ 344. (¬2) بعدها في (ف) زيادة: علي بن.

وفي شعبان ورد كتاب محمود بن سُبُكْتِكين إلى الخليفة يُخبره أنه أوغل في بلاد الهند، وعنوان الكتاب: عبدُ مولانا الإمامِ القادرِ بالله أميرِ المؤمنين وصنيعتُه محمودُ بنُ سُبُكْتِكين ... وذكر كلامًا طويلًا، ثم وصف البلاد التي وصل إليها، قال: ومن جملتها: إنَّ العبد وصل إلى قلعةٍ ليس لها في الدنيا نظير، وبها كلُّ جليل وخطير، تسَعُ خمسَ مئة ألف إنسان، وخمسَ مئة فيل، وعشرينَ ألفِ دابة، ومن الطعام والعلوفة ما يقوم بهذا العدد، وأنه حصرها مدةً حتى طلب مَلِكُها الأمان، ووضع عليه [محمودٌ] خَراجًا يؤدِّيه في كلِّ سنة، وأنه حمل إلى محمود هدايا عظيمةً، ومن جملتها طائرٌ على هيئة القُمْريِّ، ومن خاصيته [أنه] (¬1) إذا حضر على الخُوان طعامٌ مسمومٌ دمعَتْ عينُه وجرى منها ماءٌ فيتحجَّر، وإذا حُكَّ وطُليَتْ به الجراحاتُ ذاتُ الأفواهِ الواسعةِ التحمت. وفيها وَزَرَ أبو القاسم المغربيُّ لمؤيِّد الملك بعد الرُّخَّجي، وكان المغربي مشغولًا بالنحو [وعلم البصريين]، فقال شاعر: [من المجتث] وَيلي وعَوْلي ووَيهِ ... لدولة ابني بُوَيهِ سياسة الملك [ليست] (¬2) ... ما جاءَ عَنْ سِيبَوَيهِ (¬3) وفيها قُتِلَ عِزُّ الدولة فاتك النائب بحلب، قد ذكرنا أن [ستَّ الملك] أخت الحاكم سعَتْ في قتله. وفيها عادت دولةُ بني أمية إلى الأندلس بعد أن انقطعت سبعَ سنين من المُحرَّم سنة سبع وأربع مئة إلى رمضان هذه السنة، وسببُ عَوْدِها أنَّ عليًّا والقاسم اللَّذَين ذكرنا أنهما قتلا سليمان بن الحكم الأموي في المُحرَّم سنة سبع وأربع مئة، وكانا من ولد الحسين بن علي عليهما السلام، ويُلقَّب عليٌّ بالناصر، ويقال له: ابن حمود الفاطمي، قتله عبيده في الحمَّام سنة ثمان وأربع مئة، فكانت ولايتُه سبعةَ أشهر، وبايعوا أخاه ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من جمغ النسخ سوى (خ). (¬2) هذه الكلمة سقطت من (خ)، وهي في باقي النسخ، ولا يستقيم الوزن من دونها. (¬3) هذا الخبر واللذان قبله في المنتظم 15/ 158 - 159.

الحسن بن الفضل بن سهلان

القاسم، ويُلقَّب بالمأمون، فوثب عليه ابنُ أخيه يحيى بن علي فخنقه في سنة إحدى عشرة، فكانت مدةُ ولايته أربعَ سنين، ثم ولي يحيى بن علي، ولقَّب نفسَه بالمُستعلي، وكنيتُه أبو إسحاق، ثم قُتِلَ سكرانَ في هذه السنة، وقام بعدَه عبد الرحمن بن هشام، ولقَّب نفسَه بالمستظهر بالله وبالمستكفي، والمعتمد أيضًا، وعادت دولةُ بني أمية، فوثب عليه الجند في سنة ثماني عشرة فقتلوه، وانقطعت دولة بني أمية عن الأندلس، وسنذكرهم إن شاء الله تعالى. وحجَّ بالناس في هذه السنة من بغداد أبو الحسن محمد بن الأقساسي، و [لم يعُدْ إلى العراق، بل] عاد إلى الشام؛ خوفًا من العرب، فإنهم وقفوا له على الطريق. وفيها تُوفِّي الحسن (¬1) بن الفضل بن سَهْلان أبو محمد، وزير سلطان الدولة، وهو الذي بنى سورَ الحائرِ عند مشهدِ الحسين عليه السلام، وقد ذكرنا ما جرى عليه [مع مشرِّف الدولة بواسط والقبض عليه]، وسملَه وحملَه إلى بغداد وحبسَه، فقُتِلَ في حَبْسِه في شعبان (¬2)، وعمره ثلاث وخمسون سنة، وكان جوادًا، [إلَّا أنه أخطأ الرأي لمَّا ولَّاه سلطان الدولة العراق في قطع أرزاق الأتراك، وكان سببًا لهلاكه. وفيها تُوفِّي زيد بن عبد الله بن محمد (¬3) أبو الحسن، التنوخي، البلُّوطي، كان يسكن أكواخ بانياس يتعبَّد فيها، ثم سكن دمشق، ومات بها، ودُفن بباب كيسان، حدَّث عن أستاذه إبراهيم بن مهدي بن حاتم البلُّوطي بكتاب "الجوع والعطش"، وروى عنه أبو علي الأهوازي، وكان ثقةً. ¬

_ (¬1) في المنتظم 15/ 159: الحسين، والترجمة فيه باختصار، والمثبت موافق لما في النجوم الزاهرة 4/ 259، والوافي بالوفيات 12/ 201، والبداية والنهاية 12/ 16. (¬2) في (م) و (م 1): بغداد. (¬3) تاريخ دمشق 19/ 447 - 448.

علي بن عبد الله بن جهضم

وفيها تُوفي] علي بن عبد الله بن جَهْضَم أبو الحسن، الصوفي، صاحبُ كتاب "بهجة الأسرار"، وكان أحد المشايخ في وقته، سمع الحديث الكثير، وحدَّث ببغداد والبصرة ومكة، وكانت وفاتهُ بمكة. [وذكره جدِّي في "المنتظم" (¬1) وقال: وقد ذكروا أنه كان كذَّابًا، ويقال: إنه وضع صلاة الرغائب. قلت]: وقد تكلَّموا فيه بسبب صلاة الرغائب فإنهم اتَّهموه بوضعها. قال [جدِّي] الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في كتاب "الموضوعات" (¬2): حدَّثنا أبو الفضل محمد بن ناصر الحافظ، أنبأنا أبو القاسم ابن مندة، حدَّثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن جَهْضم الصوفي، حدَّثنا علي بن محمد بن سعيد البصري، عن أبيه، عن خلف بن عبد الله الصَّغاني، عن حُميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رجَبُ شهرُ الله، وشعبانُ شهري، ورمضانُ شهر أُمَّتي" قيل: يا رسول الله، ما معنى قولك: "رجب شهر الله"؟ قال: "لأنَّه شهر مخصوصٌ بالمغفرة، وفيه تُحقَنُ الدِّماء، وفيه تاب الله على أنبيائه، وفيه أنقذ أولياءه من أعدائه، مَنْ صامَه استوجَبَ على الله ثلاثةَ أشياء؛ مغفرةً لجميع ما سلفَ من ذنوبه، وعصمة فيما بقيَ من عمره، وأعطاه أمانًا من العطش يومَ العرض الأكبر" فقام شيخٌ ضعيفٌ فقال: يا رسول الله، إني لأعجز عن صيامه [كلِّه]؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صُمْ أولَ يومٍ منه، فإنَّ الحسنةَ بعشرِ أمثالِها، وأوسطَ يومٍ منه، وآخرَ يومٍ منه، فإنك تُعطى ثوابَ من صامَه كلَّه، ولكن لا تَغْفُلوا عن أولِ ليلةِ جمعةٍ في رجب، فإنَّها ليلةٌ تُسمِّيها الملائكةُ الرغائبَ، وذلك لأنه إذا مضى ثلثُ الليلِ لا يبقى مَلَكٌ في جميع السماوات والأرض إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها، ويطَّلِعُ اللهُ عليهم اطِّلاعةً، فيقول: يا ملائكتي، سلوني ما شئتم، فيقولون: يا ربَّنا، حاجتُنا إليك أن تغفِرَ لصُوَّام رجب. فيقول الله عزَّ وجلَّ: قد فعلتُ ذلك" ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أحدٍ يصومُ أولَ خميسٍ من رجب، ثم يُصلِّي ما بين العشاء والعَتَمة اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كلِّ ركعةٍ بفاتحة الكتاب مرةً، و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيلَةِ ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 161. وتنظر ترجمته في تاريخ دمشق 43/ 19 - 22. وينظر السير 17/ 275. (¬2) الموضوعات 2/ 47 - 48.

الْقَدْرِ} ثلاث مرات، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} اثني عشر مرة، يفصل بين كلِّ ركعتين بتسليمة (¬1)، فإذا فرغَ من صلاتِه صلَّى علي سبعين مرة؛ يقول: اللهمَّ صَلِّ على محمد النبيِّ الأميِّ وعلى آله وسلم، ثمَّ يسجد فيقول في سجوده: سُبُّوحٌ قُدُّوش [ربٌّ الملائكة والرُّوح -سبعين مرة- ثم يرفع رأسه فيقول]: ربِّ اغفِرْ وارحَمْ وتجاوَزْ عمَّا تعلَمْ إنَّك أنتَ العزيز (¬2) الأكرم -سبعين مرةً- ثم يسجدُ الثانيةَ ويقول مثلَ ما قال في السجدة الأولى، ثم يسألُ الله حاجتَه، فإنها تُقضى". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، ما مِنْ عبدٍ ولا أَمَةٍ صلَّى [عليَّ] هذه الصلاةَ إلا غفرَ اللهُ له جميعَ ذنوبِه ولو كانت مِثْلَ زَبَدِ البَحْر وعددِ أوراقِ الشجر، وشُفَعَ يومَ القيامة في سبع مئة من أهل بيته، فإذا كان في أول ليلةٍ في قبره جاءه ثواب هذه الصلاة، فيقول له بلسان ذَلْقٍ ووجهٍ طَلْقٍ: يا حبيبي، أبشِرْ، فقد نجوتَ من كلِّ شِدَّة. فيقول: مَنْ أنتَ؟ فواللهِ ما رأيتُ أحسنَ من وجهِكَ، ولا سمعتُ كلامًا أحلى من كلامِكَ، ولا شممتُ ريحًا أطيبَ من رائحتِكَ. فيقول: أنا ثواب الصلاةِ التي صلَّيتها في ليلةِ كذا، في شهر كذا، جئتُ إليكَ الليلةَ لأقضي حقَّكَ، وأونِسَ وَحْدتَكَ، وأرفَعَ عنكَ وَحْشتَكَ، فإذا نُفِخَ في الصُّور أظلَلْتُ على رأسِكَ في عَرَصة القيامة، فأبشِرْ فلن تَعْدَم الخيرَ من مولاكَ أبدًا". ثم قال [جدِّي] الشيخ أبو الفرج: هذا حديث موضوعٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اتَّهموا به ابنَ جَهْضَمْ، وسمعتُ شيخَنا الحافظَ عبد الوهاب بن الأنماطي يقول: رجالُه مجهولون، وقد فتَّشْتُ عليهم في جميع الكتب فما وجدتُهم. قال أبو الفرج: ولقد أبدَعَ مَنْ وضَعَ هذه الصلاة، وإنِّي لأَغارُ لصلاة التراويح كيفَ زُوحِمَتْ بهذه، بل هي عند العوامِّ أعظمُ وأحلى، فإنه يحضرها مَنْ لا يحضر الجماعات. قال المصنف رحمه الله: وقد رُوي عن ابن جَهْضَم أنه اعتذر عند وفاته، فحكى لي جماعةٌ من مشايخنا عن شيوخهم قالوا: لمَّا احتُضرَ ابنُ جَهْضَم جمع المشايخ بمكة، وقال: إنَّما قصدتُ برواية هذا الحديث إشغال الناس في يوم الخميس بالصوم، وليلةَ الجمعة بالصلاة؛ لكفِّهم عما يرتكبونه من الكبائر؛ فإنه قد فسدَ الزمانُ، وكثُرَ الفسقُ، وتعطَّلتِ الحدودُ، واشتغلوا بالمعاصي، وأهملوا العبادات، فأردتُ أن أشغلهم عن قبيح ما يرتكبونه. ¬

_ (¬1) في وحدها: بتسليمتين. (¬2) في (خ) و (ف): الأعز، والمثبت من (م) و (م 1)، وهو الموافق لما في الموضوعات.

محمد بن أحمد

فقال له بعض الحاضرين: فكيف تصنعُ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كذبَ عليَّ متعمدًا ... " الحديث؟ فقال: مَنْ كذب عليه ليُغيِّرَ معالم شريعَتِه، ويهدِمَ قواعدَ دينه، أمَّا مَنْ قصد ما قصدتُ فلا يدخلُ تحت هدْا الوعيد، وقد رُوِّينا عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال عنِّي ما يُوافِقُ شريعتي، وينصرُ مِلَّتي، فكأنَّني أنا قُلْتُه" (¬1) وذكر أحاديثَ في الباب. فقال بعضُ الحاضرين: ألا تغسِلُ هذا الحديثَ من الأجزاء؟ فقال: هَبْكُمْ غسلتُموه من النسخ التي بأيديكم، فكيف بالنسخ التي قد سارت بها الرُّكبان، وعمِلَ بها أهلُ الأمصار والبلدان، وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، ولن يجمع اللهُ الأمةَ على ضلالة، ولكلِّ امرئ ما نوى. محمد بن أحمد (¬2) أبو جعفر، النَّسفي، الفقيه، الحنفي، صاحب كتاب "طلبة الطلبة" (¬3) والتعليقة المشهورة، كان فاضلًا، زاهدًا، ورعًا، فقيرًا (¬4)، بات ليلةً يتفكَّر في فرعٍ من فروع الفقه، وكان قد ضاق به الشيء، فتشاغل بالفكرة في ذلك الفرع، فوقع له، فأُعجِبَ به، فقام وجعل يرقص في داره ويقول: أينَ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ عن هذا؟ فقالت له زوجته: ما الذي بِكَ؟ فأخبرها، فتعجَّبت منه. وكانت وفاتُه في شعبان. محمد بن الخَضِر بن عمر (¬5) أبو الحسين، الحمصي، القاضي، الفَرَضي، وَليَ القضاء بدمشق نيابةً عن أبي عبد الله محمد بن الحسين النَّصيبي، وكان نَزِهًا عفيفًا. قال أبو نصر بن طلَّاب: دخلتُ عليه وقد اشتدَّ حالُه في المرض، فقلت: كيفَ أصبحتَ؟ فأنشدني: [من الوافر] أرى نَفَسي تضيقُ به المجاري ... ونبضي غير متَّسِقِ النِّظامِ ¬

_ (¬1) لم أقف على من أخرجه. (¬2) المنتظم 15/ 162. (¬3) لم يذكر أحد ممن ترجم له أن هذا الكتاب له، وإنما هو لعمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل، أبي حفص النسفي. ينظر الطبقات السنية 1/ 173، والسير 20/ 126. (¬4) في (ف): فقيهًا، والمثبت من باقي النسخ، والمنتظم، والجواهر المضية 3/ 67. (¬5) تاريخ دمشق 52/ 404 - 405.

السنة الخامسة عشرة وأربع مئة

وعيني تُنكِرُ العُوَّادَ حولي ... وأضْجَرُ مِنْ مُناجاةِ الغُلامِ وكانت وفاتُه بدمشق في جمادى الأولى، ودُفن بالباب الصغير. السنة الخامسة عشرة وأربع مئة فيها اشتدَّتِ الفتنُ ببغداد، وقُتِلَ من السُّنَّة والشيعة خلقٌ كثيرٌ، ومُنِعوا من النَّوح يوم عاشوراء وعيد الغدير. وفيها عُقِدَ العقدُ لمشرِّف الدولة علي بنت علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه مُقدَّم الأكراد بالجبال، على صَداقٍ مبلغه مئة ألف دينار. وقيل: خمسين ألفًا (¬1). وفيها وَلِيَ حلبَ صالحُ بنُ مِرْداس، وقُتِلَ بالأُقحوانَة في الغور سنة عشرين، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وحجَّ بالناس أبو الحسن الأقساسي العلوي، وحجَّ معه أميرٌ من خراسان من أصحاب محمود بن سُبُكْتِكين يقال [له] (¬2): حَسَنَك، فبعث له صاحبُ مصر خِلَعًا ودنانيرَ وثيابًا فقبِلها، فلمَّا عاد [من] الحجِّ إلى العراق لم يدخُل بغدادَ حياءً وخوفًا، وكتب القادر إلى محمود يُعرِّفه، فبعث بالخِلَع إلى القادر، فأُحْرِقَتْ على باب النُّوبي. وفيها تُوفي أحمد بن محمد (¬3) ابن عمر بن الحسن، أبو الفرج، المعَدَّل، البغدادي، الفقيه، الحنفي، ويُعرف بابن المُسْلِمة، ولد سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة، وسمع الحديث، وكان عاقلًا، فاضلًا، سيدًا، صدوقًا، ثقةً، كثيرَ المعروف، وداره مألَفًا (¬4) لأهل العلم، وكان يسكن بالجانب الشرقي من بغداد بدرب سُلَيم، وهو جدُّ رئيس الرؤساء أبي القاسم علي بن الحسين بن أحمد [بن محمد]. ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 15/ 163 والكامل 9/ 341، وفها أن الصداق خمسون ألفًا. (¬2) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي زيادة يقتضيها السياق، والخبر في المنتظم 15/ 164. (¬3) تاريخ بغداد 5/ 67 - 68، والمنتظم 15/ 164 - 165.وينظر السير 17/ 341. (¬4) في (م) و (م 1): مآلًا.

تمام بن محمد

قال [الخطيب: حدثني] أبو القاسم قال: كان جدِّي أحمد يختلف إلى أبي بكر الرازي، يقرأ عليه الفقه، وكان يصوم الدهر، ويقرأ [في] كلِّ ليلةٍ سُبْعًا من القرآن بالنهار، ويعيده بالليل في وِرْده، وكانت وفاتُه في ذي القَعدة، [وكان سيدًا صدوقًا ثقةً] وقال رئيس الرؤساء: رأيتُ أبا الحسين القَدوري في المنام متغيِّرَ الوجه -وأشار إلى صعوبة الأمر فقلت: كيفَ حالُ أبي الفرج؟ فأسفر وجهُه، وقرأ: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]. تمَّام بن محمد (¬1) ابن عبد الله، أبو القاسم، الرازي، إمام ابن إمام، ومُحدِّث ابن محدِّث، ولد بدمشق سنة ثلاثين وثلاث مئة، وسمع خلقًا كثيرًا، وصنَّف كتاب الرهبان وغيره، وتوفي بدمشق، وكان فاضلًا، صدوقًا، ثقةً. سلطان الدولة (¬2) ابن بهاء الدولة، كان فاتكًا، ظالمًا، سيئَ الرأيِ والتدبير، أراد أن يقبض على أخيه مشرِّفِ الدولة، فقام الأتراكُ ومنعوه، وأخرجوه من بغداد إلى فارس، وجرَتْ له قضايا قد أشرنا إليها، ولمَّا حكم مشرِّفُ الدولة على العراق أقام هو بشيراز، فمرِضَ مرضًا مزمنًا، ومات بشيراز عن اثنتين وثلاثين سنة، ولمَّا وصل خبرُه إلى العراق جمع الوزيرُ المغربيُّ الأتراكَ والدَّيلمَ والعساكرَ ليحلِفوا لمشرِّف الدولة، وكلَّفَ مُشرِّفُ الدولة المرتضى والزَّينبيَّ وقاضي القضاةِ وجماعةً من الأشراف، فاختلفَتْ طائفةٌ من القوم، وظنَّ القادرُ أنَّ التَّخالُفَ إليه، فبعثَ يمنعُ الباقين من الحضور، وأنكر على مَنْ حضر من غير إذنه، وأظهر أنه خارجٌ من بغداد، وأمر بإصلاح الطيَّار والزَّبازب، وبلَغَ مُشرِّفَ الدولة، فعزَّ عليه وقَلِقَ، ولم يعرِفِ السبب، فأُخبِر، فبعثَ إلى القادرِ وحلَفَ له على بُطلانِ ما نُقِلَ، ثم حلف مُشرِّفُ الدولة للخليفة على الطاعة، وحلَفَ له الخليفةُ أيضًا، وكانت اليمينُ يومَ الخميس حادِي عشر صفر. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 11/ 43 - 45. (¬2) المنتظم 15/ 165. وينظر الكامل / 335.

عبيد الله بن عبد الله بن الحسين

عبيد الله بن عبد الله بن الحسين (¬1) أبو القاسم الخفاف، ويُعرف بابن النقيب البغدادي، وُلدَ سنة خمس وثلاث مئة، رأى الشِّبلي، وكان سماعه صحيحًا، وكان شديدًا في السُّنَّة. ولمَّا مات ابنُ المُعلِّم فقيهُ الشيعة جلس في التهنئة، وقال: ما أُبالي أيَّ وقتٍ متُّ بعد أن شاهدتُ موتَه. وأقام عِدَّة سنين يُصلِّي الفجر بوضوء العشاء الآخرة، ويُحيي الليل. وقال الخطيب: سألتُه كم تذكُرُ من الخلفاء؟ فقال: المقتدر، والقاهر، والراضي، والمُتَّقي، والمُستكفي، والمطيع، والطائع، والقادر، والغالب. خُطِبَ له بولاية العهد. وكانت وفاةُ عبيد الله في شعبان ببغداد، وعاش مئة وعشرَ سنين، وكان ثقةً صدوقًا. علي بن عبد الصمد (¬2) أبو الحسن، الشيرازي، تولَّى حِجبةَ القادرِ في شوَّال سنة تسع وثمانين وثلاث مئة (¬3)، فلم يزل على الحِجْبة إلى سنة ثمانٍ وأربع مئة، وكثُرت الفتن في بغداد من الجانبين، ووقع الحريقُ والنَّهبُ، فجاء إلى دار الخليفة، وأظهرَ التوبة من العمل، فوُلِّي بعدَه أبو مقاتل، فأراد دخول الكَرْخ، فمنَعَه أهلُها، فأحرقَها وعبَرَها، فأُعيد عليٌّ في سنة تسع وأربع مئة، فقتل الموسومين بالشرِّ من الفريقين السُّنَّة والشيعة، فقامت الهيبةُ، وسكن الناسُ، فلمَّا وَلِيَ الوزيرُ أبو القاسم ألَّب العيَّارين على عليٍّ فقتلوه في نصف رجب، بعد أن صادَره وأخذ منه خمسة آلاف دينار (¬4). ¬

_ (¬1) وقع اسمه في (ف) والنجوم الزاهرة 4/ 261: عبد الله، والمثبت من (خ) كما في مصادر ترجمته: تاريخ بغداد 10/ 382 - 383، والمنتظم 15/ 166، وتاريخ الإسلام 9/ 256. (¬2) المنتظم 15/ 167. (¬3) بعدها في (خ) و (ف) - والترجمة فيهما دون (م) و (م 1) - زيادة كلمة: وللشرطة، وهي ليست في المنتظم. قلت: والترجمة ليست في (م) و (م 1). (¬4) بعدها في المنتظم زيادة: مغربية.

عمر بن عبد الله بن عمر

[وفيها تُوفِّي] عمر بن عبد الله بن عمر (¬1) أبو حفص، الدلَّال، البغدادي، سمع الحديث، وقال: سمعتُ الشِّبلي ينشد: [من المتقارب] وقد كان شيءٌ يُسمَّى السُّرور ... قديمًا سَمِعْنا به فارتحلْ (¬2) خليليَّ إنْ دام هَمُّ النفوس ... قليلًا على ما نراهُ قتَلْ مؤمِّلُ دنيا لتبقى لَهُ ... فماتَ المؤمِّلُ قبلَ الأمَلْ عبد الرحمن بن عبد الواحد ابن أبي الميمون الدمشقي؛ قال الحافظ ابن عساكر (¬3): كان يسكن بمسجد أبي صالح بباب شرقي، وكانت وفاته بدمشق في رمضان، سمعٍ أبا بكر المَيانَجي وغيرَه، وروى عنه عبد العزيز الكَتَّاني وغيرُه، وكان زاهدًا صالحًا ثقةً]. محمد بن الحسن (¬4) أبو الحسن، الأقساسي، العلوي، من ولد يزيد بن علي بن الحسين - عليه السلام -، حجَّ بالناس من العراق سنينَ كثيرة نيابةً عن المرتضى [الموسوي]، وكان فاضلًا، شاعرًا، فصيحًا، وله غلام اسمه بدر وقال جدي في "المنتظم": وكان له غلامٌ مليح يُسمَّى بدر، فقال [من المجتث]: يا بَدْرُ وجهُكَ بَدْرُ ... وغَنْجُ عينيكَ سِحْرُ وماءُ خدَّيكَ وَرْدُ ... وماءُ ثغرِكَ خَمْرُ أُمِرْتُ عنكَ بصبرٍ ... وليسَ لي عنكَ صَبْرُ يا آمري بالتَّسلِّي ... ما لي معَ الشوقِ أمْرُ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 471، والمنتظم 15/ 166 - 167. (¬2) هكذا في (خ) و (ف)، والترجمة ليست في (م) و (م 1) ووقع في مصدَري الترجمة: قديمًا سمعنا بهِ ما فَعَلْ. (¬3) تاريخ دمشق 10/ 38 (دار البشير). (¬4) المنتظم 15/ 168.

أبو طاهر

ورثاه المرتضى فقال: [من المتقارب] وقد خطفَ الموتُ كلَّ الرجالِ ... ومثلُكَ من بيننا ما خَطَفْ وما كنتَ إلَّا أبِيَّ الجوارِ (¬1) ... على الضيمِ محتميًا بالأَنَفْ (¬2) خليًّا من العارِ صِفْرَ الإزارِ ... مدى الدهرِ مِنْ دنَسٍ أو نَطَفْ (¬3) أبو طاهر ابن دِمْنة، صاحب آمِد، قد ذكرنا مبدأَ حالِه، وقتلَه لابنِ مروان صاحبِ ميَّافارقين، وقتْلَه لعبد البر شيخِ أمِد، واستيلاءَه عليها، وأقام من سنة سبع وثمانين وثلاث مئة إلى هذه السنة ثمانيًا وعشرين سنة، وكان يصانع ممهِّد الدولة بن مروان وشروة، فلمَّا قتلَ شروةُ ممهِّدَ الدولة وولي أخوه أبو منصور بعثَ إليه قائدًا يُقال له: مريخ -من قوَّاد ابن دِمْنة- بهدايا، فاتَّفقَ مع أبي منصور على قتْلِه، فقتَلَه، وقد ذكرناه، وقَتَلَ فرَّاشٌ لابن دِمْنة مريخا. وجاء ابن مروان إلى آمِد، وأغلق أولادُ مريخ في وجهه الباب، حتى سلَّم إليهم الفرَّاش فقتلوه، ودخل آمِد واستولى عليها، فكان يقيم بها ستة أشهر، وميَّافارقين ستة أشهر. السنة السادسة عشرة وأربع مئة فيها في السنة الماضية كان صاحبُ مصر قد سيَّر إلى محمود بن سُبُكْتِكين خِلَعَ السَّلطنة، فبعث بها محمود إلى القادر، وتبرَّأ من صاحب مصر، فجمع القُضاةَ والأشرافَ والجندَ وغيرَهم، وأخرج الخِلَعَ إلى باب النُّوبي، وكانت سبعَ جِبابٍ وفَرَجيَّةً ومركبَ ذهبٍ، وأُضرِمَتِ النارُ، وأُلقيتِ الثيابُ فيها، وسُبِكَ المركبُ، فظهرَ منه أربعون ألف دينار وخمسَ مئة. وقيل: أخرج منه دراهم هذا العدد والمقدار، فتصدَّق بها على ضعفاء بني هاشم، وعاب الناسُ ذلك. وفيها استولى العيَّارون ببغداد على الجانبين، وخصوصًا أهل الكَرْخ، فكبسوا الدُّور والخاناتِ، ونهبوا الأموال، وكانوا يكبِسون الدُّور بالليل بالشمع والمشاعل، وخرج ¬

_ (¬1) في المنتظم: الجنان. (¬2) الأنَف: العزة والحمية. (¬3) النَّطَف: العيب والفساد.

سابور بن أردشير

أصحابُ الشُّرَط من البلد، وعجزَ مُشرِّف الدولة والجندُ عنهم، وأحرقوا دور الأكابر، أحرق أهلُ بابِ البصرة دارَ الشريف المرتضى -التي على الصَّراة- وغيرَها، وتفاقم الأمرُ، وعاد العلويُّون إلى أقبح أحوالهم، وكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره ويستخرجونها منه بالضرب كما يفعل المُصادرون، ويستغيثون فلا يجدون مُغيثًا، وقُتِلَ كثيرٌ من أصحاب الشُّرطة. وكانت هذه الفتنُ قائمةً من رجب هذه السنة إلى آخر سنة ست عشرة وأربع مئة، وكان مُشرِّف الدولة قد توفِّي في ربيع الأول، فوقع الطمعُ، وخرِبَتْ بغداد، وسافر عنها التجار والأعيان. ولم يحجَّ في هذه السنة من خراسان ولا من العراق أحدٌ. وقيل: إنَّ الحجَّ بطَلَ من هذه السنة إلى سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة، التي وَلَىَ القائمُ بأمر الله فيها (¬1). وفيها تُوفِّي سابور بن أرْدَشير (¬2) وَزَرَ لبهاء الدولة ثلاث مرات، ووَزَرَ لمشرِّف الدولة، وكان عفيفًا عن الأموال والحريم، كثيرَ الحلم، سليمَ الباطن، وكان إذا سمع صوتَ الأذان تركَ ما هو فيه من الأشغال وقام إلى الصلاة، ولا يلوي على شيء حتى يفرغ من صلاتِه، وكان كثيرَ العزل والولاية من شفقته على المسلمين، ولَّى بعضَ العمَّال عُكْبَرا، فقال له العامل: أيُّها الوزير أكتري للسُّمَّاوية (¬3) مُصعِدًا ومنحدرًا أم مُصعِدًا؛ فتبسَّم وقال: مُصعِدًا آمنًا. قد ذكرنا أنَّه بنى بالكَرْخ دارًا سمَّاها دار العلم في سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة، ونَقَلَ إليها عشرةَ آلاف مجلدة، ووقفَ عليها الأوقاف، فبقيت سبعين سنة، فلمَّا دخل طُغْرُلْبَك بغداد سنة أربع مئة وخمسين وقعتِ الفتنُ فأُحرِقَت. وكانت وفاتُه ببغداد وقد قارب سبعين سنة. ¬

_ (¬1) تنظر هذه الأخبار في المنتظم 15/ 170 - 171. (¬2) المنتظم 15/ 172. (¬3) السمارية: ضرب من السفن.

محمد بن الحسن بن صالحان

محمد بن الحسن بن صالحان (¬1) أبو منصور، وزَرَ لمشرِّف الدولة أبي الفوارس بن عضد الدولة، ثمَّ لأخيه بهاء الدولة، كان فاضلًا، مُحِبًّا لأهل العلم والخير، ويحضر مجلِسَه العلماءُ والشعراءُ، وَيرُبُّهم (¬2) ويَصِلُهم، تُوفِّي ببغداد في رمضان عن ستٍّ وسبعين سنة. مُشَرِّف الدولة (¬3) أبو علي بن بهاء الدولة. وقد ذكرنا محاربتَه لأخيه سلطان الدولة، وخروجَه إلى واسط، وعودَه إلى بغداد، ولقاءَ القادرِ له، فلمَّا كان في ربيع الأول مرض مرضًا حادًّا، فتوفِّي عن ثلاث وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا، وكانت مدَّةُ إمارته خمس سنين وشهرًا وخمسةً وعشرين يومًا. ولمَّا مات نُهِبتِ الخزائنُ، ووليَ جلالُ الدولة أبو طاهر، وخُطِبَ له على المنابر وهو بالبصرة، فتوقَّف إصعادُه إلى بغداد؛ لقلة المال، فمال الجندُ إلى تولية أبي كاليجار، وكان وليَ عهد أبيه سلطانِ الدولة، وقد استخلَفَه عليهم، وله الأهواز وأَرَّجان وفارس، فامتنع القادر من إجابتهم، فاجتمعوا يومًا ثانيًا، فخافَ منهم، فأرسلَ إليهم: افعلوا ما رأيتُم. فخطب له يوم الجمعة سادس عشر شوال، وبلغ جلال الدولة، فانحدر من واسط إلى البصرة. السنة السابعة عشرة وأربع مئة فيها في سابع المُحرَّم كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين الملك أبي كاليجار والملك أبي الفوارس، فانهزم أبو الفوارس، وعاد أبو كاليجار إلى شيراز، وكان العيَّارون قد ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 173. وتحرف اسم صالحان في (ف) إلى: صولجان. (¬2) في (ف): يبرُّهم. ومعنى يَرُبُّهم أي: يتولَّاهم ويتعهَّدهم بالغذاء والتأديب. المعجم الوسيط (ربب). (¬3) تنظر مصادر الترجمة في السير 17/ 408.

استطالوا على ما بيَّنَّا، فكُوتِبَ مَنْ بواسط من الجند، فقدم الأتراكُ والجندُ إلى بغداد يومَ الجمعة ثامن عشر مُحرَّم، فنزلوا بالخيام بمكان يقال له: الزَّبَد، وراسلوا العيَّارين بالانصراف، فلم يلتفتوا، وخرجوا إلى مضارب الترك وصاحوا وشتموا، وقاتلوهم وعادوا في الليل بالمشاعل والشمع، ففعلوا أقبحَ من ذلك، فلمَّا كان صبيحةُ يوم الخميس العشرين من المُحرَّم لبس الأتراكُ والإسْفْهسلارية آلةَ الحرب، وزحفوا بالبوقات والدبادب، وهجموا على المحالِّ التي حول الكَرْخ، فأحرقوها وأحرقوا الكَرْخ، وقتلوا من العيَّارين خلقًا لا يُحصى، وهرب أهلُ الكَرْخ إلى دار الخليفة، ولمَّا سكنت الفتنة وهرب العيَّارون قرَّر على أهل الكَرْخ مئة ألف دينار، وكان الشريفُ المرتضى قد هرب إلى دار الخليفة، فخلع عليه، وأعاده إلى داره (¬1). وفيها منع الظاهرُ صاحبُ مصر مِنْ ذَبْحِ البقر السليمة من العيوب التي تصلح للحرث، وكُتِبَ عن لسانه كتابٌ قُرئ على الناس، فمنه: إنَّ الله تعالى سابغٌ نِعْمتَه، وبالغٌ حِكْمتَه، خلق ضروبَ الأنعام، وعَلِمَ بها منافعَ الأنام، فوجب أن تُحمى البقرُ المخصوصة بعِمارة الأرض المذلَّلة لمصالح الخلق، فإنَّ في ذَبْحِها غايةَ الفساد وإضرارًا بالعباد والبلاد، وأباح ذَبْحَ ما لا يصلح (¬2) للعمل، ولا يحصل به النفع. وفي رمضان انقضَّ كوكبٌ عظيمُ الضوء، له دويٌّ كدويِّ الرعد. وفيها لمَّا عاد جلالُ الدولة إلى البصرة قبض على وزيره أبي سعد ابن ماكولا، وعلى أبي علي ابن عمِّه، وجرَتْ أسبابٌ استوجبَتْ إطلاقَ ابنِ عمِّه، واستوزره ولقَّبه يمينَ الدولة وزيرَ الوزراء، وخلعَ عليه، وأبو سعد اسمه عبد الواحد بن أحمد بن جعفر، كان فاضلًا، مات في حبسه في هذه السنة. وبطل الحجُّ من العراق، ولم يقدم من خراسان أحدٌ [في هذه السنة] (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر الخبر بنحوه في المنتظم 15/ 175. (¬2) في (خ) وحدها: يحصل. (¬3) هذا الخبر في المنتظم 15/ 176.

أحمد بن محمد

وفيها تُوفِّي أحمد بن محمد (¬1) ابن عبد الله بن العباس بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أبو الحسن، القرشي، الأموي، قاضي القضاة، ولي قضاء [البصرة قديمًا، ثم وَليَ قضاء] (¬2) القضاة بعد ابن الأكفاني في ثالث شعبان سنة خمسٍ وأربع مئة، ولم يزل على القضاء إلى حين وفاته، وكان عفيفًا، نزهًا، جليلًا، شريفًا. قال القاضي أبو العلاء الواسطي: ما رأينا مثلَه جلالةً وصيانةً وشرفًا. وقال علي بن محمد بن حبيب البصري: كان بيني وبين القاضي أبي الحسن بن أبي الشوارب بالبصرة أُنسٌ كثير، بحيث إنه كان يَعُدُّني ولدًا وأعُدُّه والدًا، فما علمتُ له سرًّا قطُّ لو اطُّلع عليه لا ستحيى منه، وكان بالبصرة رجلٌ من وجوهها، واسعَ الجاه، كثيرَ المال، يُعرف بأبي نصر بن عبدويه، دخلتُ عليه عائدًا في عِلَّة الموت، فقال: في صدري سِرٌّ أُريد إطلاعَكَ عليه؛ لمَّا ولِّيَ القاضي أبو الحسن ابن أبي الشوارب القضاءَ بالبصرة في أيام بهاء الدولة، وكان بيني وبينه من المودة ما شُهْرَتُه تُغني عن ذِكْرِه، مضيتُ إليه وقلتُ له: قد علمتُ أنَّ هذا الأمر الذي تقلَّدْتَه تحتاجُ فيه إلى مؤنةٍ كبيرةِ وقد أحضرتُكَ مئتي دينار، وإنَّني -واللهِ- لا أطلبُ منكَ قضاءً ولا شهادةً، ولا بيني وبين أحدٍ خصومةٌ أحتاج إليك عند المرافعة، وإن قدَّمني إليك خصمٌ فباللهِ عليك إلا حكمتَ عليَّ في ذلك كما تحكم على بعض الشهود، فإنْ قبِلتَ هذه الدنانير بسبب المودَّة التي بيننا فأنتَ في حِلٍّ منها في الدنيا والآخرة، وإن كرهتَ قبولَها على ذلك الوجه فهي قرضٌ لي عليك، فقال: واللهِ إني لَمحتاجٌ إليها، ولكن لا يراني اللهُ أنِّي قبِلتُ إعانةً على هذا الأمر، وأنشدُكَ اللهَ [ما] أطلعتَ على هذا السر ما دمتُ في الدنيا أحدًا. قال: فواللهِ ما ذكرتُ هذا لأحد قبل يومي هذا. قال ابن حبيب: ومات ابن عبدويه من يومه. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 47، والمنتظم 15/ 177، . وتنظر مصادر الترجمة في السير 17/ 359 (¬2) ما بين حاصرتين من (ف). ومصادر الترجمة.

عبد الواحد بن محمد

وقال أبو العلاء الواسطي: دعا المتوكِّلُ محمد بن عبد الملك ابنَ أبي الشوارب وأحمد بن المعدَّل وإبراهيم التَّيمي من البصرة، وعرضَ على كلِّ واحدٍ منهم قضاءَ القضاة، فاحتجَّ منهم محمد بن عبد الملك بالسِّنِّ العالية، واحتجَّ أحمد بن المعدَّل بضعف البصر، وامتنع إبراهيم التَّيمي، فقال له المتوكِّل: لم يَبْقَ غيرُك. وجزم عليه، فنزل حالُ إبراهيم التَّيمي، وعلَتْ مرتبةُ الآخرين، فيرى الناسُ أنَّ بركةَ امتناع محمد دخلَتْ على ولده، فولي منهم أربعةٌ وعشرون قاضيًا، منهم ثمانيةٌ تولَّوا قضاء القُضاة، آخِرُهم أبو الحسن، وما رأينا مثلَه. قال المصنف رحمه الله: لو عادَتْ بركةُ جدِّهم عليهم لَما وُلِّي أحدٌ منهم القضاءَ على المسلمين، ولَما ذُبِحَ في الدنيا بغير سِكِّين. مات أبو الحسن ليلةَ الخميس الثامن عشر من شوَّال. [وفيها تُوفِّي] عبد الواحد بن محمد ابن أحمد بن أبي الحديد، أبو الفضل، الدمشقي، الشاهد، كان فاضلًا، سمع الحديث بدمشق، وبها تُوفِّي، [وذكره الحافظ ابن عساكر (¬1). قلت]: وفي يدِ ولده (¬2) نعل، يقال: إنه نعْلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانتقل إلى الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب رحمه الله، واشترى له دارًا بدمشق، وأوقفها وجعل النعل فيها، ونقل إليها كتبًا كثيرةً، وأوقف عليها الأوقاف. علي بن أحمد (¬3) ابن عمر بن حفص أبو الحسن، المقرئ، ويُعرف بابن الحمَّامي، ولد سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة، وتفرَّد بأسانيد القراءات وعُلوِّها في وقته، وسمع الحديث، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 37/ 268 - 269. (¬2) في (خ) وحدها: وفي يده ولد. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 329، والمنتظم 15/ 179. وينظر السير 17/ 402.

محسن بن عبد الله بن محمد

وكانت وفاتُه في شعبان، ودُفِنَ بمقبرة باب حرب، وكان صدوقًا، ثبتًا، صالحًا، فاضلًا، حسنَ الاعتقاد. قال أبو الفتح ابن أبي الفوارس (¬1): لو رحلَ رجلٌ من خراسان ليسمع كلمةً من أبي الحسن بن الحمَّامي ما كانت رحلتُه ضائعةً]. [وفيها تُوفِّي] مُحَسِّن بن عبد الله بن محمد (¬2) أبو القاسم، التَّنوخي، المعرِّي، القاضي، الحنفي، [ذكره الحافظ ابن عساكر وقال]: وُلدَ يومَ الأحد لثمانٍ وعشرين خلَتْ من ربيع الأول سنة تسع وأربعين وثلاث مئة، وقدم دمشق مجتازًا إلى الحجِّ، فأدركهُ أجلُه في الطريق في ذي القعدة، فحُمِلَ إلى مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدُفِنَ بالبقيع، وله مصنَّفات، وكان شاعرًا، من شعره: [من الطويل] وكلٌّ أُداريهِ على حَسْبِ حالهِ ... سوى حاسدي فَهْيَ التي لا أنالُها وكيفَ يُداري المرءُ حاسِدَ نعمةٍ ... إذا كان لا يُرضيهِ إلَّا زوالُها السنة الثامنة عشرة وأربع مئة وفيها خُطِبَ ببغداد لجلالِ الدولة على المنابر بالسلطنة، بعد أن مَنَعَ الأتراكُ من ذلك وخطبوا لأبي كاليجار، وسببُه أنَّ الأتراك اجتمعوا على باب الخليفة وراسلوه، وقالوا: أنتَ مولانا، ومالكُ أمورِنا، وما لنا سِواكَ، وقد كُنَّا عند وفاة مُشَرِّف الدولة اخترنا جلال الدولة؛ ظنًّا منَّا أنه ينظرُ في حالنا، فلم ينظُرْ، فاخترنا أبا كاليجار؛ ظنًّا منَّا أنه يُحقِّق ما يَعِدُنا به، فكُنَّا منه على أقبح من الأول، فخرج جوابُ الخليفة: إنكم موالينا، وأبناءُ دولتنا، وأولُ ما نأمركم به أن تكون كلمتُكم واحدةً، وكنَّا قد قرَّرْنا الأمرَ لجلال الدولة، وطلبتُم نقْضَه، وساعدناكم عليه، وفيه قُبِّح علينا وعليكم، ثم عقدتُم لأبي كاليجار عقدًا لا يَحْسُنُ نسخُه من غير رَويَّة، ولبني بُوَيه في أعناقنا ذِمَمٌ وعهودٌ لا يجوز الرجوعُ عنها، والمصلحةُ أن نكاتبَ أبا كاليجار في ذلك ونستعلِمَ ¬

_ (¬1) تحرف في (ف) إلى: ابن أبي الشوراب. (¬2) تاريخ دمشق 57/ 91 - 92.

جوابَه. فقالوا: سمعًا وطاعةً. فكتب الخليفةُ إليه: إنَّكَ قد أهملتَ الأمورَ، ووقع الخلَلُ، وإن لم تتداركِ الأمرَ وإلا خرج عن يدِكَ. فلم يَرِدْ جوابٌ مَرْضيٌّ، فآلَ الأمرُ إلى أنَّ الأتراكَ [قد] سألوا الخليفةَ أن يخطب لجلال الدولة [وهذا من العجائب]، فلمَّا كان يومُ الخميس رابع عشر جمادى الأولى نُودِيَ ببغداد بشعار جلال الدولة، وضُربَتِ الدبادِبُ والبوقات [ببغداد] على باب دار المملكة، وخُطِبَ له على المنابر، وفعل الأتراك الذين كانوا بواسط كذلك، وبعث التُّركُ الذين كانوا ببغداد رسلًا إلى جلال الدولة بذلك، وأنهم على طاعته، ولمَّا وصلت كتُبُهم إليه سار من البصرة إلى واسط، فنزل دارَ الإمارة سلخ جمادى الأولى وحلف الإسْفهسلارُ والأتراكُ على الحِفظِ والحراسةِ والعفو عمَّا مضى، وتركِ المؤاخذة بمحضرٍ من رسلهم، وبعث إليهم بنسخة اليمين، وعادوا إلى بغداد، وكان في الرسل منصور بن طاس (¬1) حاجب الخليفة وأبو صالح الموقر قاضي الأتراك، وأدَّوا الرسالة، وأشار أبو الوفاء نائب المملكة بانحدار الأقوياء منهم إلى واسط، ويبقى الذين ليس لهم حَيلٌ وتحمُّلٌ ببغداد، وكتبوا إلى جلال الدولة بذلك، فكتب مُنكِرًا على أبي الوفاء ويقول: كيف يجوز أن أستدعيَ عسكري لبَيكارٍ (¬2) قبل الاجتماعِ معهم والنظرِ في أمورهم وإعانتِهم على سفرهم بالنفقاتِ، وطلب أيمانهم (¬3)، فاجتمعوا في دار المملكة، وجدَّدوا الأيمان. و[كان مسيرُه إليها من البصرة] وفي يوم الأحد لثمانٍ بَقِيَن من رجب اقترن زُحل ومريخ اقترانًا عجيبًا بَحيث ركب أحدُهما الآخرَ بمرأى العين. وتُوفِّي أبو القاسم ابن [الخليفة] القادر بالله (¬4). وفيها وردَ كتاب محمود بن سُبُكْتِكين إلى الخليفة يذكر ما فتحه من بلاد الهند وكَسْرِه الصَّنمَ المعروفَ بسومنات [عنوان الكتاب مثل ما تقدَّم في كتبه ويُسلِّم على الخليفة ¬

_ (¬1) في المنتظم 15/ 183: رطاس، والخبر فيه بنحوه. (¬2) البَيْكار: الحرب. المعجم الذهبي ص 175. (¬3) في (ف): أموالهم. (¬4) سترد هذه الترجمة قريبًا في وفيات هذه السنة.

على جاري العادة ويدعو له، فقال: أمَّا بعد، فأطال الله بقاء سيِّدنا ومولانا الإمام، وأدام له العِزَّ والتأييد، والعلوَّ والتمهيد، والبسطةَ والسُّموَّ والغبطة، وأمضى شرقًا وغربًا أحكامَه، ونصر برًّا وبحرًا أعلامَه، ولا أخلى من الدولة مكانَه، ومن النضارة زمانَه، ثم ذكر آدم والأنبياء صلى الله عليهم وسلم بألفاظ طويلة، منها: والحمد لله الذي خلق صفة آدم - عليه السلام - لاتِّحاد البريَّة، وأجراه في أحواله على سابق المشيَّة، وشرَّفه بسجود ملائكته الكرام، فخصُّوه بالتحية والإعظام، وابتلاه بمواقعة خطيئته، ثم تاب عليه عقيب إنابته، ورحِمَه عقيب استغفاره، وجعل الدنيا دار قراره، ثم صلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم -]. ومن جُمْلَتِه: أصدر العبدُ كتابَه من مستقرِّه ببلْخٍ لخمسٍ بَقِين من المُحرَّم [من هذه السنة]، وقد تناهى إلى الموقف (¬1) الأشرف ما يسَّره اللهُ من الفتوح التي زهَتْ على سائر الأنام، وانتهت راياتُها إلى بقاعٍ من (¬2) بلاد الكفار ما كانت تخطر على الأوهام، وكُسِرتْ أصنامُها التي كانت تُعبد من دون الله؛ اغترارًا بطول زمانها، وانقراضِ القرونِ بعدَ القرونِ على تعظيم شانها، حتى فقدَ الكفارُ كلَّ صنمٍ منحوتٍ من الحجر والخشب، ومصوغٍ من الفضة والذهب، وأيقنوا ببُطلان اعتقاداتهم في معبودهم، وتحيَّروا في أمرِ دينهم الذي ورثوه عن آبائهم وجدودهم، وكان لهم صنمٌ عظيم يقال [له]: سومنات، وهو أعظمُ أصنامهم، وجاهروا بأنَّه يُحيي ويميت، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنَّه إذا شاء أبرأ من جميع العلل، حتى من البرص والعمى والشَّلل، وربما كان يتَّفق لسُفائِهم إبراءُ عليلٍ يقصِدُه، فيزدادون به افتتانًا، ويأتونه من أقصى البلاد رجالًا ورُكبانًا، ويزعمون أنَّ الأرواح إذا فارقتِ الأجسامَ اجتمعت لديه على مذهب التناسخ، فينشِّئها فيمن شاء قبل الولادة، ويُجريها بعد دخولها في الوجود على ما يختاره لها من أسباب الشقاء والسعادة، وأنَّ ظهورَ مَدِّ البحر المتَّصل به وجَزْرِه عبادةٌ له على قَدْر طاقتِه ووُسْعِه، فكانوا بحكم هذا الاعتقاد يحجُّونه من كل صَقْعٍ [بعيد]، ويأتونه من كلِّ فَجٍّ عميق، ويُتحِفونه بكلِّ مالٍ جزيل، ويتصدَّقون على سَدَنتِه بكل مُدَّخرٍ جليل، ولم يَبْقَ في بلاد الهند والسِّند -على تباعُدِ أقطارِها، وتبايُنِ ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): المقام. (¬2) في (م) و (م 1): إلى أقصى.

أمصارها- مَلِكٌ ولا سوقةٌ إلَّا وقد تقرَّب إلى هذا الصنم بما عزَّ (¬1) عليه من أموالِه وذخائِره وحُليِّه وجواهرِه، حتى بلغت أوقافُه عشرةَ آلاف قرية من مشهورات القُرى في تلك البقاع، وامتلأت خزائِنُه من أصناف الأموال والمتاع، ولأهل الهند نهرٌ كبير [يُعرف بكَنك] يُعظِّمونه غاية التعظيم، ويُلقون فيه عظامَ كُبرائهم [على تقدير أنها تُساق إلى جنَّات النَّعيم]، وبينهم وبين سومنات الصنم المذكور مسافةُ مئتي فرسخ على التحقيق، وكانوا يغسلون وجهَ هذا الصنم كلَّ يوم بماء هذا النهر إكرامًا يخصُّ به على طول الدهر (¬2)، فرتبوا في كلِّ مرحلةٍ قاصدين يتعاقبون البِدار بهذا الماء في بُكرة كلِّ يوم إلى الصنم [المذكور]، وقد وقفوا الأوقافَ على هذا البريد [المأمور]، فكانوا كلَّ يومٍ يغسلون وجَه [هذا] الصنم بالماءِ الجديد، المشوبِ بالعسل واللبن الحليب، ورتبوا حولَه ألفَ رجل من البراهمة لخدمتِه، وتقديم الوفودِ إلى عبادتِه، وأقاموا ثلاثَ مئةِ رجلٍ يحلقون رؤوسَ حجيجه ولحاهم عند الوفود، وثلاثَ مئة رجلٍ يُغنُّون ويرقصون على باب بيت الصنم [المعبود] (¬3)، وثلاثَ مئة جارية برسم زوَّاره، وقيل: خمس مئة. وكان العبد يتمنَّى طولَ عمره قلْعَ هذا الوثن الفتَّان، ويطلب فيه فُرصة الإمكان، ويسأل الصادرَ والواردَ، ويستقصي عن ممالِكها، ويخبر عن مفاوزِها، وصعوبةِ مسالِكها، واستيلاءِ الرمل السيَّال على طرقِها، ما يُحيِّر المسامع، ويُبلِّد العزائم، فاستخار العبدُ اللهَ تعالى في الانتداب لهذا الواجب، ومَثَلَ في وَهَمه أضعافُ المسموعِ من المتاعب، فنهض من غرَّته صبيحةَ يوم الأربعاء لثمانِ ليالٍ بَقِين من شعبان سنة ست عشرة وأربع مئة، فسلَكَ سَمْتَ المُلْتَان، فانتهى إليها في نصف [شعبان أو] (¬4) رمضان، وسأل عن سلوك المفازات، فأُخبِرَ بصعوبتها من جميع الجهات، فاختار من جماهير الأولياء الذين هذَّبَتْهم الحروب، وثقَّفتْهُم الخطوب، ثلاثينَ ألف فارس، بعد أن رتب في كلِّ ثغرٍ وأطرافِ كلِّ بلدٍ من العساكر جمعًا لدفع من غشاه، يتطلب فرصةً في امتداد هذه الغيبة، وفرَّق في المُطَّوِّعة خمسين ألف دينار، بعد أن أخبرهم بصعوبة المفازات، ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): بما يقدر. (¬2) في (م) و (م 1): إكرامًا بحفرته على توالي الدهر. (¬3) في (م) و (م 1): الورود. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) وحدها.

فاختاروا الجهاد في سبيل الله، وسار من المُلتَان يقصد الصنم [المعبود]، وجهادَ أهلِ الشرك، وذلك يوم الجمعة الثاني من شوال، فاخترق المفاوزَ الموصوفة، فوجدها أعظمَ ممَّا وُصِفَتْ به من صعوبة المسالك المتلفة للسالك، وسارت المواكب والنفوس راضيةٌ بدرك الشهادة، والقلوب خاليةٌ من الأوطار المعتادة، وكان بين يديه قلاع كثيرة، فيسَّر اللهُ افتتاحَها بعد قَتْلِ سُكَّانِها، وقَلْعِ أوثانِها، وعَرَضَ في بعض الغَدَواتِ ضَبابٌ سدَّ الآفاق، ومَنَعَ ضوءَ الشمس من الإشراق، فزعمت طائفةٌ من الهنود أن هجوم هذا الظلام من مكايد [هذا] الوثن المقصود. وذكر في الكتاب أنه فتح بلادًا (¬1) كثيرةً، وقطع مفازاتٍ عظيمةً، وقتل خلقًا من الأمم والملوك، وذكر قلعة سومنات، وأنها قلعة عظيمة قد بُنِيَتْ على جانب البحر المحيط، وبحيث يبلغها إمدادُه إذا جزَرَت (¬2)، [ويضرب أمواجُه حيطانَها إذا اضطربت]، وصَعِد أهلُها على أسوارها بأكمل عدة، وأيقنوا من معبودهم بالنَّصر والتأييد، والظَّفر والتسديد (¬3) في قتالهم، فلمَّا عاينَ أحزابُ الشياطين من قتال المسلمين شأنًا، وشاهدوا من معبودهم خذلانًا، خابَتْ آمالُهم، وتغيَّرتْ أحوالُهم، ووافق الوقتَ الذي نطقت (¬4) فيه ألسنُ الخطباء بالدعاء لجيوش الإسلام بالنصر [في أقطار الشرق والغرب والحضرة]، فزلَّت حينئذٍ أقدامُهم، ونُكِّسَتْ أعلامُهم، وخلَتِ البروج من أبطالهم، فنصب المسلمون عليها السلالمَ، وما كان إلا قليلٌ، حتى دُرِسَتْ منها المعالم، والتجؤوا إلى وثنهم يقبِّلونه تقبيلًا، فأُخذوا عليه وقُتِّلوا تقتيلًا، وحين خَلَتِ القلعةُ من سُكَّانها [وصفَتْ عن اتِّباع شيطانها]، صُرِفتِ الأبصارُ إلى مشاهدة الصنم [المذكور]، وكان بيتُه في صدر القلعة على جانب البحر المحيط، وأساس البيت من الصخور العِظام، وارتفاعُه على ستٍّ وخمسين سارية، وعلى شرافاته رُمَّان الذهب يلوح من بعيد كالشموس [ويحلُّ محل لمعانها من القلوب والنفوس]، وحولَه ¬

_ (¬1) في (م): مدائن. (¬2) في (خ) و (ف): زجرتُ، والمثبت من (م) و (م 1). (¬3) المثبت من (م) و (م 1): ، وفي (خ): وأيقن بالنصر محمد العبد. (¬4) في (م) و (م 1): دعت.

أصنامُ الذهب والفضة، وكلُّ صنمٍ قد بولِغَ في نقْشِه، ووُضِعَ الأصنامُ حولَه بمنزلة الملائكة حولَ عَرْشِه، وعلى بابه ستورٌ مُرخاةٌ، ومواقفُ الحُجَّاب مُهيَّأةٌ، وكان يجتمع إليه أيامَ الكسوف نحوٌ من مئة ألف إنسان، [ويحجُّون من كلِّ مكان]، وبين يديه جرسٌ معلَّقٌ من ذهب، في سلسلةٍ وزنُها مئتان وسبعون منا (¬1)، يُحرِّكونه في أوقات الصلوات [وساعات العبادات، وكان] إلى جانب الصنم خزانةٌ فيها من الأصنام الذهبية والفضِّية والمَناطق والقلائد وغيرِها ما بلغت قيمتُه عشرين ألف ألف درهم، غير الذهب (¬2)، ثم أَمر العبدُ بكسر الصنم وقَلْعِه، فأُزيلَ في ساعةٍ (¬3) عن قرارِه، [واستولى المحوُ على آثاره]، وأُوقِدَتْ عليه النارُ حتى صار جُذاذًا، وتقطَّع أفلاذًا، ولعبتِ النارُ في القلعة وجدرانِها، واشتمل القتلُ على خمسين ألف قتيل من سُكَّانها، [وهو كتاب طويل حاصله ما ذكرناه]. وفيها في رمضان دخل جلالُ الدولة بغداد، وخرج القادر لتلقِّيه على العادة، وصَعِد إلى طيار الخليفة، وقبَّل الأرض، ثم نزل في زَبْزَبه إلى دار المملكة، وضُربَ الطبلُ على بابه في أوقات الصلوات، فراسله الخليفةُ، وقال: هذا فيه مماثلةُ الخلافة. فاقتصر على الثلاث، وقيل: إنه دام على الخمس مدة أيام، وقال (¬4): لي أسوةٌ بعضد الدولة والصَّمْصام وبَهاء الدولة وغيرهم، فأجابه الخليفة لمَّا أصرَّ. وفي شوال قُبِضَ على شمس الملك أبي الحسين بن علمكار، وكان في داره نخلةٌ غضَّةٌ صحيحة، والدار بدرب النخلة ببغداد، فلمَّا قُبِضَ عليه بالحِلَّة يبست النخلة في ذلك اليوم ببغداد. وفيها توجَّه أبو كاليجار من شيراز إلى الأهواز، فدخلها في رمضان، واستخلف على فارس بَهرام بن مافنة، وسببه أنَّ أبا كاليجار كان قد صالح أبا الفوارس واتَّفقا، ¬

_ (¬1) المنا المصري ما يقارب 413 غ، والمنا الرومي ما يقارب 542 غ، والمنا الطبي ما يقارب 619 غ. ينظر معجم متن اللغة 1/ 86. (¬2) في (م) و (م 1) وقع بدلًا من قوله: "غير الذهب ما نصُّه: سوى ما أُخِذ من أنقاض البلاد، ولم يبق لها أثر إلا موضع مسنَّاتها. (¬3) بعدها في (م) وحدها زيادة: واحدة. (¬4) في (ف): وكان.

وعَلِم بخروج العراق عن يده، وأنَّ وزيره أبا محمد ابن بابشاذ أتسز خاطب أبا منصور بَهرام في النيابة عنه بفارس، فامتنع واعتذر، فراجعه مرارًا، فأجاب على شروط أنَّه لا يُلَقَّب لقبًا، ولا يلبَس خِلْعةً، وأن يُدبِّر الأمورَ على ما يقتضيه رأيُه، من غير توقُّفٍ على إذنٍ ينتظره، إذْ كان بُعْدُ المسافة لا يحتمل تأخير ما يوجب الصلاحُ إنجازَه، وأن تُجعلَ الأعمالُ كلُّها إليه من غير مشاركة ولا مشارفة، فأجابه إلى جميع ذلك، وسار يوم السبت تاسع عشر شعبان، ولمَّا فصل عن فارس رتبَ أبو منصور الأمورَ الترتيبَ الحسن، ورفعَ المصادراتِ، وأفاض العدلَ، وأمَّنَ الناسَ كافَّةً، وأسقطَ التأويلات، حتى سُمِّي الأجل العادلَ، واستناب الوزيرَ أبا علي بن بُندار في ذلك، وكان الأكرادُ قد أفسدوا البلاد، فجمع العسكر وخرج إليهم، فلمَّا بلغَهَم سيرتُه أطاعوه، وجاؤوا إلى خدمته، فزال الفساد، وارتفع شَنُّ الغارات على الأطراف، وأمِنَتِ السُّبلُ، وأحسن إليهم، وأقطعهم الإقطاعات، ولزموا خدمته، ومما فعل أنه كان بفارس معايشُ ورواتبُ وتَشريفاتُ الأكابر من الكُتَّاب وذوي الحرُمات والبيوتات ما هو مُجرًى على طول الزمان، ما مقداره ألف ألف درهم في كل سنة، فلمَّا ضاق المالُ على السلطان قطعَ هذه الرسوم، وأحال على أربابها بما عسفوا فيه أشدَّ العسف، فأعادَ أبو منصور الرسومَ إلى أربابها، وأزال عنهم العَسْف والظُّلمَ، فأحبَّه الناس. وفي ذي القَعدة شغب الجند ببغداد على جلال الدولة، وقالوا: كم مواعيد؟ وخرجوا إلى ظاهر البلد، وسُئلوا (¬1) فلم يلتفتوا، فقبضَ جلالُ الدولة على جماعةٍ من الأعيان، وصادرهم، وأرضى به الترك. وفيها نُقِضتْ دارُ مُعِزِّ الدولة بباب الشَّماسية، وكان غرم عليها اثني عشر ألف ألف درهم، سوى ما أخذ من أنقاض البلاد [ولم يبقَ لها أثر إلا مسناتها، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم]. ولم يحُجَّ أحدٌ من خراسان ولا من العراق. ¬

_ (¬1) في (ف): وروسلوا.

أحمد بن محمد

وفيها تُوفِّي أحمد بن محمد ابن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي، أبو عبد الله المعدَّل، الخطيب، [سمع أبا عمر الزاهد، وكتب عنه الخطيب (¬1)]: كان زاهدًا ورعًا عفيفًا صالحًا، أقام خطيبًا بجامع المنصور ثلاثًا وثلاثين سنة، [من سنة ستٍّ وثمانين إلى هذه السنة، يخطب بخطبةٍ واحدةٍ [لم يُغيِّرها]، وإذا سمع الناس ضجُّوا وبكوا، [وقامت عليهم القيامة، ومات في هذه السنة]، ودُفِنَ بباب حرب (¬2). الحسين بن علي (¬3) ابن الحسين، أبو القاسم، الوزير، المغربي. ولد بمصر في ذي الحِجَّة سنة سبعين وثلاث مئة، وهرب منها لمَّا قتل الحاكمُ أباه عليًّا وعمَّه محمدًا. وقيل: [إنَّ] (¬4) أباه وَزَرَ للعزيز بمصر، وللحاكم بعده مُدَّة قَبْضِه وحَبْسِه، فهرب إلى العراق، وخدمَ بني بُوَيه مُشرِّف الدولة وغيرَه، وولَّى الحاكمُ ولدَه أبا القاسم، ثم قبَضَ عليه وسَجَنه في خزانة البنود، فهرب منها، ويقال: إنه ما هرب منها سواه، وقصد العراق، وأقام عند أبيه مدةً، ومات أبوه بالعراق، فأصعد إلى الموصل، فخدم قِرْواشًا مدةً، ثم قبضه، وقبض معه سليمان بن فهد، ثم أطلقه، فخرج إلى ديار بكر، وقصد نصر (¬5) الدولة بن مروان، فأقامَ عنده، وطلبه قِرواشٌ فمنعه، وقال: واللهِ لا سلَّمتُه إليكَ بعد أن استجارَ بي. ومات وزير نصر الدولة أبو القاسم خواجا صاحب أرْزَن سنة ستَّ عشرة وأربع مئة في رمضان، فاستوزَرَ صاحبَ هذه الترجمة، ورُدَّتِ الأمورُ إليه، وفي "تاريخ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 49، وينظر المنتظم 19/ 184 - 185. (¬2) الذي في تاريخ بغداد أنه دفن في داره بالنصرية من باب الشام. (¬3) تاريخ دمشق 5/ 9 - 11 (نشر دار البشير)، والمنتظم 15/ 185 - 187. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف). (¬5) في (ف) هنا وفي الموضع الآتي: نصير، وكلاهما صحيح.

مَيَّافارقين" أنَّ الحسين بن علي خرج من الموصل ومعه سليمان بن فهد، وأنَّ قِرواشًا لم يقتُلْه، وأنَّ سليمان أقام عند ابن مروان في ضيافته حتى أصلح حالهُ مع قِرْواش، وعاد إليه. وقيل: إن الحسين قَدِمَ بغداد ووَزَرَ لمشرِّف الدولة، ثم عاد إلى ميَّافارقين، فأقام عند مروان [حتى مات] (¬1) عنده، وكان [الحسين] عاقلًا فاضلًا، شهمًا شجاعًا، شاعرًا، كافيًا في فنِّه، حتى قيل: إنَّه لم يَلِ الوزارةَ لخليفة ولا لملك أكفى منه، ولا أحسنَ سياسةً، وكان إذا دخل عليه الفقيهُ سأله عن النَّحْو، والنحويُّ سأله عن الفرائض، والشاعرُ سأله عن القراءات تبكيتًا لهم، فدخل عليه شيخٌ صالحٌ، فسأله عن العلم، فقال: ما أدري، ولكني رجلٌ يُودِعني الغريبُ الذي لا أعرفهُ الأموال العظيمةَ، ويعودُ بعد سنين وهي بختومها [قال] فأخجله لذلك. وزار رجلًا من المنقطعين إلى الله، فقال له: أيها الشيخ، لو صحِبْتَنا لاستَفَدْنا منكَ، واستَفدْتَ مِنَّا. فقال: رَدَّني عن هذا بيتٌ [من] شعر، وهو قول القائل: [من الطويل] إذا شِئْتَ أن تَحيا غنيًّا فلا تكُنْ ... بمنزلةٍ إلَّا رضيتَ بدونها فقال له: يا شيخ، ما هذا بيتُ شعر، ذا بيتُ مال. ثم قال: اللهمَّ أغْنِنا كما أغنيتَ هذا الشيخ. واعتزل السلطانَ، وانقطع إلى العبادة، فقيل له: [لو] تركتَ المناصب في عنفوان شبابِكَ. فقال: [من الخفيف] كنتُ في سفرةِ البطالةِ والغـ ... ــــيِّ زمانًا فحانَ مني قدومُ تُبْتُ عن كلِّ مأثمٍ فعسى يُمْـ ... حي بهذا الحديثِ ذاكَ القديمُ بعد خمسٍ وأربعينَ لَقدْ ما ... طَلْتُ إلَّا أنَّ الغريمَ كريمُ [وله الأشعار المستحسنة، وذكر الخطيب (¬2) وابن عساكر طرفًا منها، وأنبأنا غير واحدٍ عن أبي القاسم السمرقندي قال: أنشدني أبو محمد التميمي للوزير أبي القاسم بن المعزى هذه الأبيات] فقال: [من المجتث] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف). (¬2) لم أقف على ترجمة له عند الخطيب في تاريخ بغداد.

الدَّهْرُ سهلٌ وصعبُ ... والعيشُ مُرٌّ وعَذْبُ فاكسِبْ بمالِكَ حَمْدًا ... فليسَ كالحمدِ كَسْبُ وما يدومُ سرورٌ ... فاختِمْ وطينُكَ رَطْبُ وقال: [من الطويل] وما ظبيةٌ أدماءُ تحنو على طَلى (¬1) ... ترى الإنسَ وحشًا وهي تأنسُ بالوحشِ غدَتْ فارْتَعَتْ ثمَّ انثنَتْ لرضاعِهِ ... فلم تُلْفِ شيئًا من قوائمه الحُمشِ فطافَتْ بذاك القاعِ وَلْهى فصادَفَتْ ... سباعَ الفَلا يَنْهَشْنَهُ أيَّما نَهْشِ بأوجَعَ منِّي يومَ ظَلَّتْ أنامِلٌ ... تُودِّعني بالدُّرِّ من شبَكِ النقشِ وأجمالُهم تحدى وقد خَيَّل الهوى ... كأنَّ مطاياهُمْ على ناظري تمشي وأعجَبُ ما في الأمرِ أنْ عِشْتُ بعدَهُمْ ... على أنَّهم ما خَلَّفوا فيَّ مِنْ بَطْشِ وقال أيضًا: [من الطويل] أيا وطني إنْ فاتَني بِكَ فائِتٌ ... من الدَّهرِ فلْتَنْعَمْ بساكنِكَ الحالُ وإن أستطِعْ في الحشر أنَّكَ زائري ... وهيهاتَ لي يومَ القيامةِ أشغالُ وقال: [من مجزوء الكامل] إني أبُثُّكَ عن حَديـ ... ـثي والحديثُ لهُ شجونْ غيَّرْتُ موضعَ مرقدي ... ليلًا فنافرني السُّكونْ قُلْ لي فأَوَّلُ ليلةٍ ... في القبرِ كيف تُرى تكونْ ذكر وفاته: [ذكر جدي رحمه الله في "المنتظم" قال]: لمَّا أحسَّ بالموت كتب كتابًا إلى كل مَنْ يصل إليه من الأمراء والرؤساء الذين بين ديار بكر والكوفة أن حَظيَّةً للوزير توفِّيت، وأنَّ تابوتها يجتاز بهم إلى مشهد أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه، وخاطبهم في المراعاة لمن يصحبه [ويَخْفرهُ]، وكان قصدُه أن لا يتعرَّض أحدٌ لتابوته، وأن ينطوي خبرُه، فتَمَّ [له] ذلك، ومات بميَّافارقين عن ستٍّ وأربعين سنة، وحُمِلَ إلى مشهد علي - عليه السلام - فدُفِنَ هناك. ¬

_ (¬1) الطَّلى: ولد الظبية ونحوه. المعجم الوسيط (طلا).

وفي "تاريخ ميَّافارقين" أنه كتب كتابًا إلى النقيب بالكوفة ليدفنه في عتبة باب المشهد، وقال للنقيب في الكتاب: وقد أوصيتُ أن يُجعلَ في التابوت ألف دينار في كيس، فإذا وصل إليك التابوتُ فافتَحْه، فهي العلامة، وأوصى إلى أبي طاهر محمد بن عبد الرحيم بن نُباتة صاحب الخُطَب وعرَّفه بما يجعل في التابوت، ومات، فغسَّله الخطيبُ، وجعل المال في التابوت، فلما وصل [إلى] الكوفة قال النقيب: من هذا؟ قيل: الوزير المغربي. [فأنكر ذلك و] قال: [أنا] لي فيه علامةٌ: ففتح التابوتَ فوجدَ الكيس، فأخذه ودفنه تحت العتبة، وكتب عند رأسه: يا جامع الناس لميقات يومٍ معلوم، اجعَلِ الحسين بن علي من الفائزين. ورأيت في "تاريخ ميَّافارقين" عن أبي الحوار الواسطي قال: أوصى الوزير أن يُحمَلَ إلى مشهد الحسين بن علي - عليه السلام -، ويُدفَنَ تحت رجلَي الحسين عليه السلام، وأن يُكتَبَ عند رأسه بيتين وهُما له فقال: [من مجزوء الرجز] سقى الإلهُ الأزلي ... من السحابِ الهُطَّلِ قبرَ الحسينِ بنِ علي ... عندَ الحسينِ بنِ علي ففعلوا به ذلك. [قلت: وهذه الرواية أحسن] وقيل: إنه مات [في] سنة ثمان وعشرين وأربع مئة. وقال ابن عساكر: كان مع أبيه بمصر، فلمَّا قَتلَ الحاكمُ أباه وعمَّه بمصر هرب، فاستجار بحسان بن المُفَرِّج بن دَغْفَل بن الجرَّاح الطائي، ومدحه، فأجازه، وأقام عنده مُكرَّمًا، ثم رحل عنه، وتوجَّه إلى العراق، واجتاز بالبلقاء، ووَزَرَ لِقِرْواشٍ أميرِ بني عقيل، ولابنِ مروانَ صاحبِ ديار بكر. وكان أديبًا، شاعرًا، فاضلًا، مترسِّلًا، ذا معرفةٍ بصناعة الكتابة والإنشاء والحساب، ومن شعره: [من الكامل] من بعْدِ وصلٍ رُمْتُمُ أنْ تهجُروا ... من بعد فرقٍ بائعين تخيَّروا ردُّوا الفؤادَ كما عهدتُ إلى الحشا ... والمُقلتين إلى الكرى ثم اهجروا وزعمتمُ أنَّ اللَّيالي غيَّرَتْ ... عهدَ الهوى لا كانَ مَنْ يتغَيَّرُ

عبد الرحمن بن هشام

عبد الرحمن بن هشام والي الأندلس، الذي لقَّب نفسَه في سنة أربع عشرة وأربع مئة بالمستظهر والمستكفي والمعتمد، وعاد مِلْكُ بني أمية إلى الأندلس بسببه، فلمَّا كان في هذه السنة وثبَ الجندُ عليه فقتلوه، وانقطعَتْ ولاية بني أمية عن الأندلس، واختلَّتِ الأمورُ إلى سنة ثلاثٍ وأربعين وأربع مئة، أو إحدى أو اثنتين وأربعين وأربع مئة، فخطب ابن باديس الصنهاجي للقائم بها، وما زالتِ الدعوةُ لبني العباس قائمةً بها أيامَ المقتفي، وانقطعت لما نذكرُ إن شاء الله تعالى. فصل في ولاية الأندلس من بني أمية: وعِدَّةُ ملوكهم أربعةَ عشر على عددِ أسلافِهم، ومُدَّة سنينهم مئتان وثمانون سنة، فأوَّلهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان أبو المُطرِّف، [ويُسمَّى] الداخل، بُويعَ [في] سنة تسع وثلاثين ومئة، في أيام [أبي جعفر] المنصور، وكان المنصور يُثني عليه، ومات [في] سنة اثنتين وسبعين ومئة في أيام [هارون] الرشيد، فأقام واليًا ثلاثًا وثلاثين سنة، ثم وَليَ بعدَه ابنه هشام بن عبد الرحمن [في] سنة اثنين وسبعين ومئة، ومات في صفر سنة ثمانين ومئة في أيام هارون [الرشيد أيضًا]، فكانت ولايتُه سبع سنين وعشرة أشهر، ثم وَليَ ابنُه الحكم بن هشام سنة ثمانين [ومئة]، وتوفِّي سنة ستٍّ ومئتين في أيام المأمون، فأقام واليًا [سبعًا وعشرين سنة، ثم وَلِيَ ابنُه عبد الرحمن بن الحكم في سنة ستٍّ ومئتين، ومات في سنة ثمان وثلاثين ومئتين، فأقام واليًا] (¬1) اثنتين وثلاثين سنة، وكانت وفاته في أيام المتوكِّل، ثم وَلِيَ ابنُه محمد بن عبد الرحمن سنة ثمانٍ وثلاثين [ومئتين]، ومات [في] سنة ثلاث وسبعين ومئتين في أيام المعتمد، فأقام واليًا أربعًا وثلاثين سنة، ثم وَليَ ابنُه المنذر (¬2) بن محمد، فأقام واليًا سنتين، واستُشهد في غَزاةٍ له سنة خمس وسبعين [ومئتين] في أيام المعتمد، ولم يكن له ولد [ذَكَر]، فانقرَضَ نسلُه، ثم وَلِيَ عبد الله بن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من جميع النسخ سوى (خ). (¬2) تحرف في (ف) إلى: المقتدر، والمثبت موافق لما في النجوم الزاهرة 4/ 267 وغيره من المصادر.

محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أخو المنذر [بن محمد بن عبد الله بن محمد]، فأقام واليًا إلى سنة ثلاث مئة [و] خمسًا وعشرين سنة، ثم وَلَيَ [بعدَه ابنُ] ابنه عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد [بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل] في سنة ثلاث مئة في أيام المقتدر، فأقام واليًا خمسين سنة، ثم مات [في] سنة خمسين وثلاث مئة في أيام المُطيع، ثم وَليَ بعدَه الحكم بن عبد الرحمن [بن محمدٍ]، فأقام واليًا خمس عشرة سنة، ومات في أيام الطائع (¬1) [في] سنة ستٍّ وسبعين وثلاث مئة، ثم وَليَ بعدَه ابنُه هشام بن الحكم المؤيد (¬2)، فأقام واليًا تسعًا وثلاثين سنة، ومات [في] سنة تسع وتسعين وثلاث مئة في أيام القادر [بالله]، وقد كان غلب عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الملقَّب بالناصر [وغيَّبه] (¬3)، ولقَّبَ محمدٌ نفسَه بالمهدي، ثم قويَ عليه سليمان بن الحكم، وغلبَ على الأمر، فهربَ محمد بن هشام إلى المُشرِّف، ثم عاد إلى الأندلس. وقيل: قَتَلَه سليمان، والأشهر أنه عاد إلى المغرب، وَوَليَ مدَّةً، ثم قتلَه سليمانُ في أيام القادر، ووَلِىَ هشام بن الحكم بن عبد الرحمن وعبد الرحمن بن هشام أخي محمد بن هشام المتغلِّب على المؤيَّد، فقُتِلَ، وزالتْ أيامُ بني أمية. وقيل: إن محمد بن هشام المتغلِّب على المؤَّيد لمَّا هرب من سِليمان بن الحكم أقام ببيت المقدس سنتين يتقوَّت من عمل الحُصَرِ، فلمَّا عاد إلى الأندلس واقعَ سليمانَ بن الحكم مرارًا، فسُمِّي الحُصَرِي. وقيل: إنَّ الحُصَرِيَّ لم يكُنْ من بني أمية. قال ابن عبد البر: الذي ظهر بالمغرب وقيل له: الحُصَرِي، رجلٌ من آحاد الناس، لا يؤبَهُ إليه، خُطِبَ [له] (¬4) على المنابر بجميع الأندلس بعد نيِّفِ وعشرين سنة من موت هشام الملقَّب بالمؤيد، فأقام الحُصْري نيِّفًا وعشرين سنة تتصادم الجيوش بسببه، وهو حُصْريٌّ. ¬

_ (¬1) تحرف في (ف) إلى: المطيع. (¬2) في (م) و (م 1): هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن محمد، ولقَّب نفسه المؤيَّد بالله. (¬3) هذه الزيادة من (ف) وحدها. (¬4) هذه الزيادة من (ف).

عبد الوهاب بن جعفر بن علي

[وفيها تُوفِّي] عبد الوهاب بن جعفر بن علي (¬1) أبو الحسين، الميداني، الدمشقي [ذكره الحافظ ابن عساكر وقال]: وُلدَ سنة ثمان (¬2) وثلاثين وثلاث مئة، وسمع الكثير (¬3)، وكتب بقنطار حبر (¬4) بالشامي، ومات بدمشق، ودُفِنَ بمقبرة باب الفراديس، [سمع أبا سليمان بن زَبْر والدارقطني وخلقًا كثيرًا، وروى عنه رشَأ بن نظيف وأبو العبَّاس بن قُبيس وجَمٌّ غفير]، وكان عظيمًا صدوقًا ثقةً. [وفيها تُوفِّي] أبو القاسم بن القادر بالله (¬5) تُوفِّي ليلةَ الأحد لليلةٍ خلَتْ من جمادى الآخرة، وصلَّى عليه أخوه أبو جعفر، ومشى أربابُ الدولة [والخلق] في جنازته إلى الرُّصافة [وأعاد الصلاة عليه أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر]، وحزن الخليفةُ عليه حزنًا شديدًا، وامتنع من الطعام والشراب، وقطع ضرب الطَّبلِ ببابه (¬6) في أوقات الصلاة أيامًا (¬7). أبو الحسن بن طباطبا العلوي (¬8) كان فاضلًا شاعرًا فصيحًا، تُوفِّي ببغداد في ذي القعدة، كتب إليه رجلٌ ورقة فأجابه في ظهرها بديهًا: [من الخفيف] وقرأتُ الذي كتبتَ وما زا ... لَ نَجيِّي ومُؤْنِسي وسميري ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 44/ 77 - 80 (طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق). (¬2) تحرفت في (م) و (م 1) إلى: ثلاث. (¬3) في (م 1): الحديث، والعبارة في تاريخ دمشق: وكتب الكثير. (¬4) العبارة في تاريخ دمشق: كتب بنحو مئة رطل حبر. (¬5) المنتظم 15/ 188. (¬6) في (م) و (م 1): بداره. (¬7) جاء بعدها في (م): ولم يحزن على أحد كحزنه عليه. (¬8) المنتظم 15/ 188 - 189، والكامل 9/ 364.

السنة التاسعة عشرة وأربع مئة

وغدا الفألُ في امتزاجِ السُّطورِ ... حاكمًا بامتزاجِنا في الضَّميرِ واقترانُ الكلامِ لفظًا وحظًّا ... شاهدًا باقترانِ وُدِّ الصُّدورِ وتبرَّكتُ باجتماعِ الكلامَيْـ ... نِ رجاءَ اجتماعِنا في سرورِ وتفاءلتُ بالظُّهور على الوا ... شي فصارَتْ كتابتي (¬1) في الظُّهورِ السنة التاسعة عشرة وأربع مئة فيها في يوم الأحد ثاني عشر المُحرَّم اجتمع الأتراكُ بسوق يحيى، وتحالفوا على اجتماع كلِمتهم، وأخرجوا الخيم إلى ظاهر البلد، وبعثوا رسالةً إلى الخليفة يقولون: نحن عبيدُ مولانا وخدَمُه، وكان اختيارُنا لهذا الملك الوارد إلينا على ظنِّ أنه ينظُر في حالنا، وأنَّه رجلٌ متوفرٌ على لذَّاته، ومستعملٌ بما لا تنتظم سياسةٌ بمثلِه، ونسأل أميرَ المؤمنين أن يتوسَّط بيننا وبينه، ويوعِزَ إليه بالعَوْد إلى البصرة، وإنفاذِ ولدِه يقيمُ بيننا نائبًا عنه في مراعاتنا، ومتى لم يفعل هذا لم نأمن أن يجري من الغلمان ما يتطرَّقُ إلى القباحة والوهن، فاستدعى الخليفةُ الشريفَ المرتضى ونظامَ الحضرتين أبا الحسن الزَّينبي، وأنفذَهما إلى الملك ومعهما أبو نصر بن طاس الحاجب بما قاله الأتراك ويوصيه بهم، فلمَّا أعادوه عليه (¬2) قال: كلُّ ما ذكروه من إغفالنا لهم صحيحٌ، ونحن معترفون ومُعتَذِرون منه، وعفا الله عما سلف، ونستأنفُ الطريقةَ التي ترضيهم، ونُطْلِق لهم الآن ما يُمكن إطلاقُه. وعاد الرسلُ إلى الخليفة وبلَّغوه ما قال، فأرسل إليهم وأخبرهم بما قال، فقالوا: نريد ما وعدنا به عاجلًا. فباع من الضياعات بمئة ألف درهم، وبعث بها إليهم، فلم يَقنعوا، وعادوا في اليوم الثاني، وشَغَبوا ونهبوا دارَ الوزيرِ يمينِ الدولة، ودُورَ الخواصِّ والعامَّة، وعظُمَتِ الفتنةُ، وانخرقَتِ الهيبةُ، وظهر العيَّارون ونَهَبوا، وكبسوا الدُّورَ، وجاء جماعةٌ من الأتراك، فوكِّلوا بباب دار المملكة، ومَنعوا من دخول الطعام والماء إليها، واشتدَّ الحصار بجلال الدولة، ¬

_ (¬1) في المصدرين السابقين: إجابتي. (¬2) في (ف): عليهم.

وشربوا الماء المالح من الآبار، ففتح جلالُ الدولة باب الميدان، ودعا الموَكَّلين بالأبواب، فامتنعوا وبعُدوا عنه قليلًا، فكتب رقعةً إلى الإسْفَهسلارية بيده يقول: أنا أرجِعُ إلى كلِّ ما تريدون، وأُطلِقُ لكم قسطًا في ثلاثة أيام، وأُحضِرُ الأموال من البصرة وأُعطيكم فوقَ ما تريدون. فعاد جوابهم: لو أعطيتنا ملء (¬1) بغداد ما صَلُحْتَ لنا ولا صَلُحنا لك. فأعاد الرسالة إليهم: إذا كنتم قد كرهتموني هذه الكراهة فمكِّنوني من الانحدار، وأعطوني من السُّفن ما يَحمِلُني ويَحمِلُ حرمي، ولا يحلُّ لكم أن تمنعوني الماء والطعام. فقالوا: تنحدر. وابتيع له زبْرَبٌ شَعِبٌ (¬2) من بعض الغِلمان، وأكتَرَوا له سُفنًا، وبكَّروا فأحاطوا بالدار، وراسلوه بالانحدار، ودخل قومٌ منهم فختموا الخزائن، وكان جلال الدولة قد نقل ما كان فيها سرًّا وخبأه، فأرسل إليهم وقال: يا قومِ، أنْظِروني إلى الليل، فإنه أستر للحُرَمِ. فأبَوا، وقالوا: لا، بَلْ يكون في هذه الساعة، فإنَّا لا نأمن من الغلمان أن ينهبوك. فأنزل في الزَّبْزَبِ بعضَ قِماشِه وفي السفن، وشدَّ سُرادِقَين في سفينة، وأنزل الجواري فيها وهُنَّ على حالِ تهتُّكٍ، والجندُ والعامَّةُ وقوفًا صفَّين على دجلة، وهربَتْ حاشيتُه، وبقي وحدَه، والأتراكُ في الدار وقريبٌ منه، ولا يُسلِّمون عليه، ويدعوهم فلا يَلوون عليه، وجاء قومٌ من الغلمان إلى السُّرادق، فظنَّ أنهم يريدون النساء، فخرج وبيده طَبَرْزين، وقال: يا فتيان، قد بلغَ الأمرُ إلى الحُرَم. فقال له بعضهم: ارجِعْ يا ملك يا شاهِنشاه، فأنتَ ملِكُنا ومولانا. وصاحوا بأجمعهم: جلال الدولة يا منصور. وانتُضيَتْ السيوفُ، وجُرِّدت اللُّتوت، وأركبوه فرسًا، وجاؤوا كلُّهم فقبَّلوا الأرضَ بين يديه، ولمَّا رأى الأكابرُ والإسْفَهسلارية ما فعلَ التركُ خافوا على نفوسهم، فَلَوَوا رؤوس خيولهم، وخرجوا إلى معسكرهم، ثم قال الترك للملك: نريد السلاح. فقال: خُذوا ما في الخزائن. فنهبوها، ثم طالبوه بقصد الإسْفَهسلارية، فامتنع وقال: هؤلاء شيوخُكم وأعوانُ ¬

_ (¬1) المثبت من (ف)، وهو الموافق لما في المنتظم 15/ 191 والخبر فيه، وفي خ: مثل، وفي تاريخ الإسلام 9/ 186: مال. (¬2) أي: فيه شَعْبٌ والشَّعْبُ: الصَّدع والشِّقُّ. اللسان (شعب).

الملك. وأنفذَ إليهم القاضي أبا صالح المُوَقَّر وجماعةً بخاتمه وقال: أنتم العُمُد، وعليكم المُعَوَّل، ونحنُ لكم على أفضل ما عهدتموه، وما خرج أحدٌ عن طاعة، وإنما طلبوا أرزاقَهم، وجرى مقدورُ الله إلى غاية، ومضى القاضي والرسلُ إليهم، وأبلغوهم الرسالة، وقبَّلوا قرابيسَ (¬1) سروجهم، وقالوا: نحنُ عبيد شاهِنْشاه ومماليكُه، وما كان هذا الانحياز والتفرُّد منا إلَّا للقبيح الذي عامَلَنا به صاحبُنا، فإنهم أكرهونا على الخروج معهم، ثم عدلوا عن رأيهم الأول، من غير أن يؤذنونا بما يُجدَّدُ من رأيهم، فنساعدهم عليه، وقد بلغَنا أنهم أشاروا على مولانا بقصدنا والإيقاع بنا، ونحنُ وإيَّاهم عبيده، فليعتزِلْ عنَّا وعنهم. فأعاد الرسُلُ إليه الرسالة، فبعث إليهم رسالةً أخرى يقول: إن لم يُعجِبْكم مقامي بينكم انحدرْتُ عنكم. فدعوا له، وأخرج الملِكُ ما بقيَ في داره من الصياغاتِ والأواني وحُليِّ الجواري وجواهرِهم والطُّسوتِ والأباريقِ والسُّفَرِ، ولم يَفِ بما لَهم، وسكتوا على مضض، وحلَفَ للإسْفَهسلارية وحلفوا له بمحضر من القُضاة والأعيان والمرتضى وغيرِه، وكانوا قد نزلوا في الجانب الغربيِّ مجاهرين، وأصبح الملِكُ وجلسَ لهم في داره ليعبروا إلى الخدمة، فهبَّتْ ريحٌ عاصفٌ، فأغرقَتِ السفُنَ، وأرسل إليهم، فاحتجُّوا بالريح، فاحتاج أن خاطَرَ بنفسه وعبَرَ إليهم في زَبْزَبٍ وكاد يغرق، فالتقَوْه من المَشْرَعة (¬2)، وقبَّلوا الأرضَ بين يديه واعتذروا، ولم يكُنْ معهم أحدٌ، وحلف لهم وحلفوا له، وعادوا إلى دُورهم، واستقرَّ المُلكُ له. وفي ربيع الأول فتح حسام الدين ابن أبي الشوك بلدة دَقُوقا وأخرج مالك بن بدران (¬3) بن المُقَلِّد منها. وفيها بيعَ ببغداد التمرُ كلُّ ثلاثة أرطال (¬4) بدينار، وسببُه أنَّ ريحًا سوداءَ هبَّتْ فأحرقتِ النَّخلَ، وجمَّدَتِ المياه، وكثُر الجليدُ. ¬

_ (¬1) القرابيس؛ مفردها قَرَبوس: وهو حِنْوُ السَّرج، وهما قَرَبوساه، وهما متقدَّم السرج ومؤخَّره، تاج العروس (قربس). (¬2) المَشْرعة: المكان الذي يرِدُه الناس للشرب والسقاية. ينظر اللسان (شرع). (¬3) تحرف في (ف) إلى: حمدان، والمثبت من (خ) والكامل 9/ 397 والخبر فيه ولكن في أحداث سنة 421 هـ. (¬4) بعدها في (خ): بذاك الرطل، ولا معنى لها، والخبر في المنتظم 15/ 191.

حمزة بن إبراهيم

وفي شوَّال قُبِضَ على أبي منصور بن طاس حاجب القادر. وبطل الحجُّ من العراق ومصر، ولم يحُجَّ إلَّا قومٌ من خُراسان ركبوا البحر من البحرين ومُكْران (¬1)، فأرسوا على جدَّة، وحجُّوا. وفيها تُوفِّي حمزة بن إبراهيم أبو الخطاب، بلغَ من بهاء الدولة منزلةً لم يبلُغْها غيرُه، كان يُعلِّمه النجوم، وكان حاكمًا على الدولة، و [كان] الوزراءُ والقُوَّادُ يخافونه، والخلفاءُ يَألفونه، وحكم على الملوك، وما كان يقنعُ من الوزراء بالقليل لمَّا فتح فخرُ الملك قلعةَ سابور وحُمِلَ إليه مئة ألف دينار فاستقلَّها، وما كان بهاءُ الدولة يخالفُه أبدًا، وآلَ أمْرُه إلى أن مات بكَرْخ سامرَّا غريبًا وحيدًا، وذهب مالُه وجاهُه. وقال هلال بن الصابئ: وُلدَ سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة، وكان في بدايته عاملًا لأبي جعفر بن المُكتفي بالله، ربَّاه وخرَّجه وعلَّمه علم النجوم الذي كانت معيشته منه، وكان يُحوِّل المواليد للوزراء والكُبراء، وتدرَّج إلى أن خدم في دار بهاء الدولة، في جملة المنجِّمين، فتقلَّبت به الأحوال، حتى صار من خواص بهاء الدولة، لا يفارقه إلا وقتَ النوم، وكانت فيه جلادةٌ وتوصُّل وحِيَلٌ، فاستولى على بهاء الدولة، وأدخل يده في المعاملات، ومات بهاءُ الدولة وأكثرُ أموره متعلِّقةٌ به، وقام سلطان الدولة فاستولى على الأموال والخزائن والقِلاع، وفُوِّضَ إليه الحَلُّ والعقدُ، والولايةُ والعزلُ، واستمرَّت به السعادةُ إلى آخر عمره، وكان مع هذا متوسِّطًا في مأكوله ومشروبه وملبوسه، وخلف أموالًا عظيمةً، وكان فخر الملك يقول: حملتُ إليه مرةً مئةَ ألف دينار فاستقلَّها، فجعلتُها مئةً وخمسين ألفًا، وهذا في دفعة واحدة. ولمَّا وَليَ سلطانُ الدولة لم يقبَلْ، فخرج إلى سُرَّ مَنْ رأى لما نذكر. وقال بعض أصحابه: استأذنْتُ عليه، وإذا به يبكي، فمسح عينيه، فقلت له: ما لي أرى مولانا على هذه الصورة؟ فقال: انعكسَ ما كنتُ عليه من الإقبال، وآذَنَت مُدَّتي ¬

_ (¬1) في الكامل 9/ 370: كرمان! والخبر فيه بنحوه، وكذلك في المنتظم 15/ 191.

عبد المحسن بن محمد

وسعادتي بالزَّوال، وإذا أراد الله بامرئٍ خيرًا وفَّقه للخير، وإذا أراد به سوءًا حسَّن له السوء، وقد كنتُ أحرسُ الناسَ من الملوك والوزراء وأدفعُ عنهم، وأسعى في حفظ نفوسهم ونَعَمِهم، وقد دُفِعْتُ إلى ضرب الأبشار (¬1)، وأخذِ الأموال، وهذا علامة الإدبار، ولو كنتُ سعيدًا لعفَوْتُ عمَّن عاملني بالقبيح، إما لله تعالى، وإمَّا للقدرة، أو لاتِّباع مكارم الأخلاق. ولمَّا أصعد سلطانُ الدولة من واسط إلى بغداد خرج أبو الخطاب والأمير إلى سُرَّ مَنْ رأى، وكان الأمير مُقدَّمًا في الدولة، فلمَّا انحدرَ سلطانُ الدولة إلى واسط واستقرَّ الأمر لمشرِّف الدولة قال أبو غالب الحسن بن منصور الوزير لبعض أصحابه: ما انحدر سلطان الدولة إلى واسط إلا ليُدبِّر الأمر علينا. وراسل الأميرَ وأبا الخطاب، وتحالفوا وتعاهدوا على أن تكون كلمتُهم واحدةً، وأن يوفوا الأتراك أقساطهم، وعزم أبو الخطاب على العود إلى بغداد، فأصبح وقد ضربه الفالجُ، وكانت منيَّتُه فيه، فسبحان الله الذي أطال مُدَّته، وأدام سعادتَه، وأعلى منزلتَه عند اعتقادِ الخيرِ وفِعلِه إيَّاه، ومحافظتِه على حقوق الناس، ومنعِه المصادرات، وحؤولِه بين الملوك والوزراء وبين ما كانوا يرومونه من ذلك، ثم رماه بهذه العلة التي قاسى منها الزَّمانةَ والآلامَ وغربةً في البلاد، وشتَّتَه في الأسفار لمَّا غيَّر النيَّة، وعدلَ عن تلك الطريقة، وهمَّ بما همَّ به من الشرِّ والقبيح، فترامت به الحالُ إلى الوفاة من غير أن يحضر أهلُه وولدُه، وتشتَّتَ بعدَه ولدُه أبو سعد، ومات وانقرض عقبُه، وتمزَّقت أموالُه، وذهبت ذخائرُه، إن في ذلك لعبرةً. عبد المحسن بن محمد (¬2) ابن أحمد بن غالب بن غَلْبون، أبو محمد، الصُّوري، الشاعر، له ديوانٌ مشهور، ومن شعره: [من الخفيف] وأخٍ مسَّه نزولي بقَرْحٍ ... مثلَ ما مسَّني من الجوعِ قَرْحُ ¬

_ (¬1) الأبْشَار: جمع البَشَر، وهي جمع البَشَرة، والمراد بها هنا الوجه. معجم متن اللغة 1/ 297. (¬2) تاريخ دمشق 43/ 131 - 134 (طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق)، ويتيمة الدهر 1/ 363 - 378. وينظر السير 17/ 400.

بِتُّ ضيفًا له كما حكمَ الدَّهـ ... رُ وفي حُكْمه على الحرِّ قُبْحُ فابتداني يقولُ وهو من السَّكْـ ... رة بالهمِّ طافحٌ ليسَ يَصحو لِمْ تغرَّبْتَ قلتُ قال رسولُ اللـ ... ـــــهِ والقولُ منهُ نُصْحٌ ونُجْحُ سافِروا تَغْنموا فقال وقَدْ ... قال تمامَ الحديثِ صوموا تصِحُّوا (¬1) وقد ذكر ابن السمعاني في "الذيل" بمعناه، فقال: أنشدني حامد بن صالح بن عبد الله: قد نزَلْنا بصالحِ بنِ جُرَيجٍ ... وبأكبادِنا من الجوعِ قَرْحُ قال قَدْ جئتمُ وفي الحال ضِيقٌ ... وطعامُ العيالِ خبزٌ ومِلْحُ قلتُ نَرْضى بهِ فهاتِ وعَجِّلْ ... قال لا يُفْلِحُ السَّؤولُ المُلِحُّ لِمْ تغرَّبْتُمُ فقُلنا لِما قا ... لَ رسولُ اللهِ والقولُ نُجْحُ سافروا تغنموا فقال وقد قا ... لَ تمامَ الحديثِ صوموا تصِحُّوا وقال الصوري في المعنى: [من المنسرح] إذا عزمْتُمْ على زيارتِهِ ... فودِّعوا الخبزَ حيثُ ما كنتمُ فليس يحتاجُ أن يقول لكُمْ ... صوموا أضيفوا بهِ وقد صُمْتُمُ وقال: [من السريع] يا حارِ إنَّ الركبَ قد حاروا ... فاذهَبْ تحسَّسْ لمنِ النَّارُ تبدو وتخبو إن خبَتْ وقَفوا ... وإنْ أضاءَت لهم ساروا ما نظرةٌ إلَّا لها سَكرةٌ ... كأنَّما طَرْفُكَ خمَّارُ وقال: [من المتقاربُ] صددتَ فكُنتَ مليحَ الصُّدودِ ... وأعرضْتَ أفديكَ مِنْ مُعْرِضِ ومَنْ كان في سُخطِهِ محسنًا ... فكيفَ يكونُ إذا ما رضي ¬

(¬1) لم أقف على رواية الحديث بهذا اللفظ "سافروا تغنموا، وصوموا تصِحُّوا"، وقد رُوي -كما عند القضاعي (623) - بلفظ: "سافروا تصِحُّوا وتغنموا" من حديث أبي هريرة، ورُوي -كما عند الطبراني في الأوسط (7396)، وابن عدي في الكامل 6/ 2198، والقضاعي (622) - بنفس اللفظ لكن من حديث ابن عمر، ورُوي أيضًا -كما في الكامل 7/ 2521 - بلفظ: "سافروا تصِحُّوا، وصوموا تصِحُّوا، واغزوا تغنموا" من حديث ابن عباس، وفي لفظ البيهقي 7/ 102: "سافروا تصِحُّوا وتغتنموا". قلت: وكل هذه الروايات ضعيفة جدًّا ينظر الكلام عليها في مسند أحمد برقم (8945).

وقال: [من السريع] عهدتُكمُ من يومِ عاهدتُكُمْ ... ما تعرِفوا شيئًا سوى الغَدْرِ فما لكم حينَ نذرتُمْ دمي ... صِرْتُمْ من الموفينَ بالنَّذرِ [ومن الكامل] يا حامليهِ توقَّفوا بسريرهِ ... للهِ في ذاكَ السَّريرِ سرائِرُ قال ابن عساكر: كان عبد المحسن قد سمع الحديث بعسقلان، غير أنه لم يُحدِّث، وكان أبو الفتيان بن حيُّوس مُغْرًى بشعره، يُفضِّله على أبي تمام والبحتري وغيرِهما من المتقدمين، واجتمع بأبي العلاء المعَرِّي، وكان يعيب الصوري بقِصَر النَّفَس، فأنشد المعَرِّيُّ أبياتًا للصُّوريِّ وقال: هذا القصيريُّ. فقال له أبو الفتيان: هذا أشعَرُ من طويلِكَ يعني المتنبي. فقال المعرِّي: الأمراء لا يُناظَرون. وكان أبو الفتيان يقول: إنَّ أغزَلَ ما قيل قولُ جرير (¬1): إنَّ العيونَ التي في طَرْفِها مَرَضٌ (¬2) ... قتَلْنَنا ثم لم يُحيينَ قَتلانا يَصْرعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حَراكَ بهِ ... وهُنَّ أضعفُ خلقِ الله أركانا (¬3) قال الصوري: أغزل [منها] (¬4): [من مجزوء الرمل] بالذي أَلْهَمَ تعذيـ ... بي ثناياكَ العِذابا ما الذي قالتْه عينا ... كَ بقلبي فأجابا وكان أبو الفتيان يقول: إنِّي لَيعرُض لي الشيءُ من شعر أبي تمامٍ والبُحتريِّ وغيرِهما من المتقدِّمين، ولا أقدر على أن أبلغ موازنة الصُّوري؛ لسُهولة لفظه، وعُذوبة معانيه، وقِصَرِ أبياته. وقال الصُّوري: [من الكامل] ¬

_ (¬1) ديوان جرير ص 492. (¬2) في الديوان وغيره من المصادر الشعرية: حَوَرٌ، والمثبت موافق لما في تاريخ دمشق. (¬3) في (ت): إنسانا، والمثبت موافق لما في الديوان وغيره. (¬4) هذه الزيادة من تاريخ دمشق.

مبارك

وتُريكَ نفسُكَ في مُعاندةِ الورى ... رُشْدًا ولستَ إذا فعلْتَ براشدِ شغلَتْكَ عن أفعالِها أفعالُهُمْ ... هلَّا اقتصرتَ على عدوٍّ واحدِ توفِّي الصوري يوم الأحد تاسع عشر شوال عن نيِّف وثمانين سنة، ويقال: إنه مات بصور. [وفيها تُوفِّي] مبارك (¬1) الأنماطي، البغدادي، التاجر، كان له مالٌ عظيمٌ، فخرج إلى مصر، فتوفِّي بها، وكان معه ثلاثُ مئة ألف دينار، فسأل صاحبُ مصر: هل له وراث؟ قالوا: نعم، له بنتٌ ببغداد. فترك ذلك كُلَّه للبنت. [وفيها تُوفِّي] محمد بن محمد ابن إبراهيم بن مَخْلَد، أبو الحسن، البغدادي، الفقيه، الحنفي، وُلِدَ سنة تسع وعشرين وثلاث مئة، وسمع الحديثَ الكثيرَ ورواه، وكان يتَّجر، وله مالٌ عظيمٌ، خرج إلى مصر فأقام بها، ثم عاد إلى بغداد، واتَّفقتِ المصادراتُ بسبب الأتراك والتقسيط، [وصودِرَ أهلُ الكَرْخ، وكان في الجملة] (¬2) فأُخِذَ جميعُ مالِه وافتقر، وتُوفِّي ولم يكن له كفنٌ، فبعث له الخليفة إهابًا (¬3) من عنده، سمع إسماعيل بن محمد الصفَّار ومحمد بن عمرو الرزَّاز وعمر بن الحسين الشيباني، وهو آخر من روى عنه، ويقال: إن الخطيب كتب عنه] ولم يكن في زمانه أعلى إسنادًا منه، وكان صدوقًا، صالحًا، ثقةً، فاضلًا، فقيهًا، [عارفًا بفنون العلوم]. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 231 - 232. وتنظر الترجمة في المنتظم 15/ 192. (¬2) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (م) وحدها. (¬3) في (م): أكفانًا، وفي تاريخ بغداد: بأكفانه، والترجمة فيه 231 - 232. وينظر السير 17/ 370.

أبو الفوارس

[وفيها تُوفِّي] أبو الفوارس قِوامُ الدولة بن بهاء الدولة [أخو أبي كاليجار]، توفِّي في نصف ذي القَعدة، وقد سار قاصدًا فارسَ عازمًا على نقض الصُّلح بينه وبين أخيه أبي كاليجار، وعَمِلَ على كبس فارس، وبلغَ الأجلَّ العادلَ أبا منصور، فاستعدَّ له، فجاءه الخبرُ بوفاتِه وإقامةِ الخطبةِ لأخيه أبي كاليجار، وأنَّهم احتاطوا على ما في قلعة كرمان من الخزائن والأموال وغيرها، وكان أبو الفوارس كثيرَ الإقدامِ والهجمِ، شديدَ البطشِ والفتكِ، وإذا سكر هجم على حاشيته بالقبيح ووزرائه وحُجَّابه ومُدبِّري دولَتِه وأوقَعَ بهم، وربما ضرب أحدَهم مئتي مِقْرَعة، فإذا فرغ منه حلَّفه بالطلاق والمصحف أنَّه لا يُشعِرُ أحدًا بذلك، ولا يتأوَّه، ولا يتأخَّر في غدٍ عن الخدمة، وربما جرح وقطَّع الأيدي، وكان إذا بلغه أنَّ امرأة جميلةً عند بعض الحاشية أحضرها في مجلسِه ومدَّ يدَه إليها، وبدا منه ما لا يليق، ووُلدَ له ولدٌ في آخر عمره، فاجتمع بعض خواصِّه إلى طبيبين نصرانيين كانا له يقال لأحدهما: العُدَّة، والآخر: العُمدة، وقالوا: قد عرفْتُما صورتَنا مع هذا الملك وقُبْحِ أفعاله وما يبدو منه، ونحن خائفون منه، وضرره عامٌّ لنا ولكم، وقد حصل له هذا الولد، والرأيُ أن ندفعَ شرَّه عنَّا وعنكما، ونُقيمَ الولدَ مَقامَه ونستريحَ منه. فقالا: نعم. وأشار [الطبيبان] عليه بشُربِ دواءٍ مسهل، وعَمِلا فيه ما يُزمِنُه منه، فشربه فكانت فيه منيَّتُه، وأراح اللهُ الناسَ منه، وحُمِلَ تابوتُه إلى شيراز، فدُفِنَ في تربة عماد الدولة علي بن بُوَيه، وحُمِلَ ولدُه إلى الأهواز صغيرًا، فيقال: إنَّه وُضِعَ على وجهه مَخَدَّة فمات، ومات أحدُ الطبيبين، وانهزم الآخر. [وفيها تُوفِّي] قُسطنطين (¬1) أخو بَسيل ملك الروم، مات وانتقل الملك إلى بنتٍ له وزوج لها -هو ابنُ خالها- ويُسمَّى أرمانوس، ولم يكن من بيت الملك، وجُعلت [له] ولاية العهد في أرمانوس، ولبس الخُفَّ الأحمر، وتسمَّى بقيصر، وبرزَ هو وزوجتُه الملِكة في تاجين. ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 194.

السنة العشرون وأربع مئة

السنة العشرون وأربع مئة فيها وقع بالعراق بَرَدٌ في الواحدة مئةٌ وخمسون رطلًا، كانت كالثور النائم، ونزلت في الأرض مقدار ذراع. وفيها قَبَضَ جلالُ الدولة على وزيره عميد الدولة، وبعث إلى القادر يقول: أرسِلْ من يتسلَّمه. فقال القادر: وكيف بأيماننا التي حلفناها له؟ هذا ممَّا لا يجوز فِعْلُه، والصوابُ إطلاقُه. فلم يفعل، فركب الأتراكُ إلى دار المملكة وهجموها، وصاحوا، واجتمع الناسُ، فخرج الملكُ والوزيرُ معه، فقالوا له: قد عَدلْتَ أيُّها الملكُ عمَّا كنتَ قررَّته معنا في الإحسان إلى هذا الوزير، ولم تَفِ بيمينك التي حلفْتَ. فقال: إنما أمسكتُه عندي ليقوم لكم بمالكم، ولأفاوضه في أمورٍ. فجذبوه من يدِه، وعبروا به إلى داره بالجانب الغربيِّ، واستبشر الجندُ والرعيةُ بخلاصه؛ لأنه كان محسنًا إليهم، وطالبوه بالمال، فقال: أجِّلوني أيامًا وأحمِلُه إليكم. فدَعَوا له، وجلسَ في داره، وأصبح الجندُ والإسْفَهسلارية، فراسلوا الملك بأن يخرج إلى واسط ويُقيم بها ليجمع المال، فإن العرب قد استولوا على البلاد، فأرسل إليهم: لا بُدَّ من الاجتماع بأكابركم لنُقرِّرَ الأحوال، فاستشعروا منه، وبلغهم أنَّه قد استمال الأصاغِرَ من التُّركِ، وقد اتَّفقوا على الأكابر، فراسلوه في ذلك، فأنكر وحلف، فصدَّقوه، وشرع الوزيرُ في مصادرات الكُتَّاب والحُجَّابِ، ومات جماعةٌ منهم تحت الضرب، وخلع الملكُ على الوزير خِلْعةً الوزراء؛ ليمحوَ آثارَ ما فعلَ من اعتقاله. وفيه فسدَ الحالُ بين قِرواشٍ صاحبِ الموصل وأبي نصر بن مروان صاحبِ ميَّافارقين، وسببُه أنَّ قِرواشًا زوَّج ابنتَه أبا نصرٍ، وحملَها إليه، فأقامت عنده مدةً فأضارها وهجرها، فكتبت إلى أبيها تطلب نقلها إليه، فنقلها، ثم كتب أبو المنيع إلى نصر يطلب صداقَها عشرين ألف دينار، ويطلب منه نَصيبين، وجمعَ جمعًا كبيرًا [من الأكراد وغيرهم، ونزل برقعيد] (¬1) بمرج الروم، وبعث قِرواشٌ فحاصر نَصيبين، فقاتله مَنْ بها، وطال عليه الأمرُ، وضاقت به المِيرةُ، فقال أبو الحسن بن الجُلْبان ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف).

لابن مروان: لا طاقةَ لكَ بهذا الرجل، فاجعل المِنَّة لكَ عليه. فقبِلَ منه، وأعطاه نَصيبين، ومِنْ صَداقِ ابنتِه عشرةَ آلاف دينار، واصطلحا. وفي جمادى الآخرة وردَ الخبرُ بأنَّ محمود بن سُبُكْتِكين نزل الريَّ، وقبض على مجدِ الدولة أبي طالب بن فخر الدولة وولدِه أبي دُلَف، وأَسَرَ [رؤساءَ] الدَّيلم ووجوهَهم، وورد كتابُ حسام الدولة ابن أبي الشوارب إلى حاجِبِ الحُجَّاب أبي المُظفَّر في هذا المعنى يقول فيه: كتابي هذا من ظاهر قَرْميسين يتضمَّن حصولَ صاحبِ خراسان بجرجان وولدِه مسعود بالريِّ، وقبضَه على مجد الدولة بن فخر الدولة، واستيلاءَه على البلاد، وأنهما سائران إلى بغداد، وهم في خمسين ألف فارس، ومعهم مئتا فيل، وأربعون ألف حمارة، عليها خزائن السلاح، وكان مجد الدولة قد أطلق النظر في أمور دولته، وكل ذلك إلى السيدة والدته، واشتغل هو بالنسخ والدفاتر، وصرفَ زمانَه كلَّه إلى ذلك وإلى النساء، حتَّى جعل لنفسه خيولًا من الجوار، وكانت السيدةُ والدتُه تُراعي الأمورَ، وتُباشر الحروبَ، ولها هيبةٌ قائمةٌ، وسطوةٌ مخوفةٌ، فتوفِّيت في السنة الماضية، فانحلَّ النِّظام، وطمع فيه الدَّيلم، وزادوا في الشغْب، وتمادَوا في الطلب، فضاق صدرُه بما يسمعه ويُلاقيه منهم، وكانت معه بقيةٌ من المال والجواهر الَّذي خلَّفه أبوه، وكان وزيرُه أبو العلاء بن كليل لا يُوصِلُ إلى الجند إلَّا ما يأخذه من المصادرات، مع تسلُّطِ الدَّيلم، ورفعِهم الحشمة، فدعَتْ فخرَ الدولة الضرورةُ إلى أنْ كاتبَ محمود بن سُبُكْتِكين يشكو ما هو فيه، ويبذلُ الطاعة، وإقامةَ الخُطبة، وأن يتولَّى تدبير أمورِه، فطمع محمود في أعمال الريِّ، وكان قد ورد نيسابور بسبب الأتراك، فإن طائفةً منهم أفسدوا في البلاد، وجاء إلى جُرجان فنزل بظاهرها، وانصرف منوجهر بن قابوس بن وَشْمكير من بين يديه خوفًا منه، وأقام له الضيافاتِ والهدايا، وحمل إليه ثلاث مئة ألف دينار، واعتذرَ عن حضوره، ووقف الأمر، وبعث محمودٌ إلى فخر الدولة رسالةً مع فقيهٍ يقول: أنت أيها الأمير بين جندٍ قد فارقوا طاعتَك، وخرقوا هيبتَك، وملكوا عليكَ أمرَك، وحالوا بينك وبين رأيِكَ، وهذا السلطان المُعظَّم يعتقد فيكَ الجميل، وناظِرٌ في حقِّك، وإذا رجعتَ إلى رأيه كنتَ واحدًا من أولادِه، وزوَّجَكَ إحدى بناتِه، وشملَكَ من ظِلِّه ما ينتظم به أمرُكَ، ويخافه

أعداؤك. فقال: أنا عبدُهُ مهما فعل، فقد رضيتُ به على هذا الشرط. وعاد الفقيه إلى محمود فأخبره، فأرسل مُقدَّمَ عساكره أبا الحسن عليًّا خشاوند في عدَّةٍ كبيرةٍ من العسكر إلى الريِّ، فخرج مجدُ الدولة لتلقِّيه على القاعدة المقرَّرة مع الفقيه، ومعه طائفةٌ من وجوه الدَّيلم، فلقيه بظاهر الريِّ وقد ضرب خيمةً، فقال: تنزل فيها لننظر في الأمر، فأحسَّ بالغدر، وامتنع من النزول، فقال له عليٌّ: لا تخَفْ، نحن ما جِئْنا إلا لنصرِكَ وخدمتِكَ. فنزل، فقبض عليه وعلى ولده الأكبر أبي دُلَف، وانهزم الدَّيلم، وورد محمود بعد أيام، وخرج الدَّيْلم لاستقباله، فقبض على أكابرهم، وقتل بعضَهم، وصلب آخرين، وأرسل إلى فخر الدولة يطلب المال، فأنكر، فضربه مقارع، وأخذ منه ما قيمتُه ألف ألف دينار، وصادر الحاشية وشتَّتهم قتلًا وأسرًا، وأخذ أموالهم، وبحث بأعيانهم إلى خراسان، وبعث مجدَ الدولة وابنَه أبا دُلَف إلى بعضِ قلاع خُراسان مُضيِّقًا عليه، وقتل الوزيرُ أبو العلاء نفسَه؛ لأنه طُولِبَ بمالٍ لم يكُنْ عنده، وكان الَّذي حمل فخر الدولة إلى خُراسان ملك الهند، فقال له في الطريق: هل لعبتَ بالشِّطرنج قَطُّ؟ قال: نعم. قال: هل رأيتَ شاهًا يدخلُ على شاه؟ وما الَّذي حملك على أن سلَّمتَ نفسَك إلى هذا الملك؟ . ولمَّا بلغ محمودًا قتلُ الوزيرَ نفسَه، قال: لعنَهُ الله، أهلك نفسَه، وشنَّع علينا. وقد كان محمود في تلك الليلة رفع المطالبةَ عنه، وأمر له بالخِلَع السنيَّة، ولمَّا فارق مجدُ الدولة الريَّ قال الشاعر (¬1): [من الطويل] لنا ملِكٌ ما فيه للملْكِ آلةٌ ... سوى أنَّه يومَ السَّلامِ (¬2) مُتوَّجُ أُقيمَ لإصلاحِ الورى وهْوَ فاسِدٌ ... وكيفَ استواءُ الظلِّ والعودُ أعوَجُ وكتب محمود إلى القادر كتابًا من الريِّ، منه: أصدر العبدُ كتابَه من معسكره بظاهر الريِّ غُرَّة جمادى الأولى سنة عشرين وأربع مئة، وقد أزال الله عن أهل تلك البقعة أيدي الظلمة، وطهَّرها من دعوةِ الباطنيَّةِ الكفَرَةِ، والمبتدعةِ الفَجَرة، فالحَقُّ في أكنافها باهرُ الأنوار، والباطلُ في أرجائها داثرُ الآثار، وقد تناهت إلى الحضرةِ المُقدَّسة حقيقةُ الحال ممَّا قصَّرَ العبدُ عليه سعيَه واجتهادَه، من غَزو أهل الكفر والضلال، وقَمْعِ مَنْ ¬

_ (¬1) قائله الحسين بن علي بن هندو كما في يتيمة الدهر 5/ 160، وعيون الأنباء 1/ 434. (¬2) المثبت من (ف) وعيون الأنباء، وفي باقي النسخ: السلاح.

نبغ ببلاد خُراسانَ، وصَقْع المولتان من الفئة الباطنية الفجَّار، حتَّى خلَتْ بقاع الهند والسند من فراعنة أغتامها (¬1)، وطُهِّرت من عُبَّاد أصنامها، وبُدِّد من الباطنية في البلادِ والممالكِ المعصومةِ برأيه وحسامه الموكولة إلى نقضه وإبرامه كلُّ شملٍ كاد يلتَئِم، وفُرِّق كلُّ جمعٍ كاد ينتظِم، وتشرَّد الناجون منهم إلى أبعد الأقطار، وتساقطوا إلى أغمض البقاع وأبرح الأمصار، وكانت مدينةُ الريِّ من بين البلاد مخصوصةً بالتجائهم إليها، واجتماعِهم بها، وإعلانهم فيها بالدعاء، إلى كفرِهم وإلحادِهم وغيِّهم وفسادِهم، يختلطون بالمعتزلةِ المبتدعةِ والغاليةِ والروافضِ المخالفةِ للكتاب والسنة، فيُجاهرون بشتم الخلفاء الراشدين من الصحابة، ويسِرُّون اعتقادَ الكفر ومذهبَ الإباحة، وكان زعيمهم رستم بن علي الدَّيلمي -يعني فخر الدولة- يُحيي عادةَ سلَفِه من المحاماةِ عليهم، والموافقةِ لهم، لا ينكر عليهم قولًا ولا فعلًا، ولا يُغيِّر فيهم مثالًا ولا رسمًا، قد نضَّبوه بينهم صنمًا كالأصنام، واقتسموا مملكتهم فيما بينهم، قِسمة الجزور بالأزلام، وكان العبدُ يعزم على هذا الجهاد، فيحول القضاءُ بينه وبين المراد، فحين بلغ الكتابُ أجلَه، واستكملَ منتهاه وأملَه، سار العبد بالعسكر نحو جُرجان، وتوقَّف بها إلى انصراف كلَبِ الشتاء، ثم سار منها إلى الدامغان، ووجَّه غالِبًا الحاجبَ في مُقدِّمة العساكر إلى الريِّ، فأحاط بها في نهار الاثنين التاسع من جمادى الأولى، وبرز رستم بن علي من وجاره (¬2) على حكم الاستسلام، فقبض عليه وعلى أعيان الباطنية من قُوَّداه، وخرج الدَّيالمة من خيامهم معترفين بذنوبهم، شاهدين على نفوسهم بالكفر والرفض، فبرِئَتْ منهم الذمَّة، وحلَّت بهم النقمة، وبَرِمَتْ بهم النِّعمة حين أساؤوا جوارَها، ونفرَتْ عنهم العامَّةُ حين أغفلوا مقدارَها، واستعفَتْ من ألقابهم المنابرُ، واشتاقَتْ إلى قَتْلِهم وصَلْبِهم القلوبُ والنواظر، وحين رُجعَ إلى الفقهاء والأعيان في تعرُّف أحوالِهم -بعد ما عمَّتْ منهم أنواعُ الأذيَّة، ووضح من إقدامهم على هَتْكِ المحارِم، وسَفْكِ الدماء واغتصابٍ لأموال طبقات الرعية، فاتفقت فتاواهم على أنَّ جميع الدَّيالمة داخلون في أهل الفساد، مستمِرّون على السرقة والغارة ¬

_ (¬1) جمع غُتْمي: وهو الَّذي لا يُفصح في منطقه معجم من اللغة 4/ 267. (¬2) الوجَار: جحر الضبع والذئب ونحوهما. المعجم الوسيط (وجر).

والعِناد، خارجون عن طاعة واليهم في عامة الأحوال، غاصبون لصنوف الأموال، وأنه يجب عليهم القطعُ والقتلُ والنفيُ على مقدار جناياتهم، ومراتب حالاتهم، هذا إذا لم يكونوا من أهل الإلحاد، فكيف واعتقادهم يؤول إلى الفساد؛ لأنهم لا يَعْدون ثلاثةَ أوجهٍ تسوَدُّ بها الوجوهُ يومَ القيامة: الإلحاد، والرفض، وخُبْث الباطن، لا يُقيمون الصلاةَ، ولا يُؤتون الزكاةَ، ولا يعرفون شرائطَ الإسلام، ولا يُميِّزون بين الحلال والحرام، وأنَّ الأكثر من هذه الطوائف يُقلِّدون في الكلام مذاهب الاعتزال، ويتكثَّرون بهذا الانتحال، وأن الباطنيَّةَ منهم لا يؤمنون باللهِ وملائكتهِ وكتبِه ورُسُلِه واليومِ الآخرِ والثوابِ والعقاب، وأنَّهم يعتقدون ذلك من مخاريق الحكماء، ويعتقدون مذهب الإباحة في الفروج والدماء، فحكَمَ الفُقهاء عليهم بما ذكرنا، وحكموا بأنَّ رستم بن علي كان يُظهر التسنُّنَ في مذهبه، ويتميَّز به عن سلفه، إلا أنَّ في حياله زيادةً على خمسين (¬1) امرأة من الحرائر، وَلَدْنَ له ثلاثة وثلاثين نفسًا من الذكور والإناث، ولمَّا سُئِلَ عن هذا ذَكَرَ أنَّ الرسم الجاري لسلفه في ارتباط الحرائر، وكان مستمرًا على هذه الجملة، فاعترف بأنَّ أمرَ الدَّيلم لم يكن أَسَدَّ، وأنَّهم ما كانوا في دينهم على بصيرة، وأنَّ هذا مذهب المزدكية وأهل التناسخ، ولمَّا أفتى الفقهاءُ بقتْلِهم وصَلْبِهم، ونفيِهم صُلِبوا على شوارع مدينةٍ طالما ملكوها غصبًا، واقتسموا أموالها نهبًا، فأمسوا هباءً منثورًا، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وحُمِلَ رستم بن علي وابنُه وجماعةٌ من الدَّيالمة إلى خُراسان في الاحتياط التام، وضمَّ إليه أعيانَ المعتزلة والغُلاةَ من الروافض، ليَسْلَم من فتنتهم وإغوائهم الخاصُّ والعامُّ، ونظَرَ فيما احتجزه رستُم لنفسه، فعُثِرَ من الجواهر على ما يقارب قيمتُه خمسُ مئة ألف دينار، ومن النقد على مئتين وستين ألف دينار، ومن الذهبيات والفضيات على ما بلغ قيمتُه ثلاثين ألف دينار، ومن أنواع الثياب النسيج والثياب الفاخرة على خمسة آلاف ثوب وثلاث مئة ثوب، وأُحرِقَ من الكتب خمسون حملًا من كتب الفلاسفة والمعتزلة والنجوم والمبتدعة تحت خُشُبِ المُصَلِّين، وخلَتِ البُقعةُ من دُعاة البدع، وانتصرتِ السُّنَّةُ وقد كانت من وراء حجاب، وخمدَتْ نيرانُ الكفر من هذا الجناب، وخرسَتِ الألسنُ عن سبِّ الصحابة ¬

_ (¬1) بعدها في (ف) زيادة: ألف، وهذه الزيادة ليست في المنتظم 15/ 196، ولا في تاريخ الإسلام 9/ 188.

بعد الانطلاق، واختصَّ العبد بشرف هذه الفضيلة من بين ملوك الآفاق، وطالعَ العبدُ بحقيقةِ ما يسَّره الله تعالى من هذا الفتح العظيم، وإباحة ما يسَّره الله تعالى لأنصار الدولة القاهرة، أدامَ الله لها السموَّ والبسطة، والعلوَّ والرفعة، وأمضى شرقًا وغربًا أحكامَه، ونصرَ برًّا وبحرًا أعلامَه. وفي رمضان عاد محمود بن سُبُكْتِكين من الريِّ إلى خراسان، واستخلفَ بالريِّ ولدَه أبا سعيد مسعودًا. وفيها جمع القادر كتابًا فيه أحاديثُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والردُّ على المبتدعة، وفِسْقُ من يقول بخلق القرآن، وفي آخره مواعظُ وزواجرُ، وجُمِعَ القُضاةُ والعلماءُ والأعيانُ، وقُرئ عليهم في داره، وكان يخطب بجامع براثا خطيبٌ يذكر مثالبَ الصحابة، فقبض القادرُ عليه، وتقدَّم إلى أبي منصور بن تمام الخطيبُ بجامع براثا، وبعث معه جماعةً من الشُّرَط، فخطب خطبة قصيرةً، ولم يذكر ما جرَتْ به العادة من فضائل عليٍّ رضوان الله عليه، فرُجِمَ بالآجُرِّ، وأدْمَوا وجهَه، ونزل وصلَّى ركعتين خفيفتين، وحماه الشُّرَطُ، وإلا قُتِلَ، وبلغ القادرَ فعزَّ عليه، وأحضرَ الشريفَ المرتضى وأبا الحسن الزينبي والأشرافَ، فأنكر عليهم، وكتب كتابًا عامًّا إلى جلال الدولة، والوزير أبي علي بن ماكولا، وإلى الإسْفَهسلارية يقول من جملته: إذا بلغَ الأمرُ، أطال اللهُ بقاءَ صاحب الجيش إلى الجرأة على الدين، وتسليط الأوباش على الدولة، فلا صبرَ دون ما تُوجِبُه الحميَّةُ والسياسة، وقد بلَغَنا ما جرى بالأمسِ بجامع بَرَاثا الَّذي يجمع الكفَرةَ والزنادقةَ ومَنْ قد برئ الله [منه] (¬1) ورسوله، فصار أشبهَ شيء بمسجد الضرار، وقد ذكر خَطيبٌ بالأمس فيه ما جاءت به السُّنَّةُ، وقد كان الخطيبُ الماضي -قبَّحه الله- يقول بعد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: وعلى أخيه أميرِ المؤمنين مُكلَّمِ الجُمْجُمة، ومُحيي الأمواتَ البشريَّ الإلهيَّ. فلو كان عليٌّ حيًّا لقتَلَ قائِلَه، كما فعلَ في الغُواةِ أمثالِ هؤلاء الغوغاء الجُهَّال، والعملِ على الركوب في الجمعة الآتية بالعساكر، وإقامةِ الدعوة بالخطبة الإسلامية على ما جرَتْ به العادةُ في الجوامع والمنابر، فإنَّ هؤلاء الشِّيَعَ قد درسوا الإسلام، وقد بقيت منه بقيةٌ، وإن لم يُدفَع هؤلاء الزنادقة وإلا ذهبتِ البقية، وذكر كلامًا في هذا المعنى. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف).

أحمد بن إبراهيم

ولمَّا وقفوا عليه أشاروا بأن لا تُقام خطبةٌ بجامع بَرَاثا خوفًا من الفتنة، وتأهُّبِ الأحداث والسُّفهاء، وامتنع شيوخُ الشِّيعة من الحضور، وبَطَلتِ الخطبةُ في تلك الجمعة (¬1). وانحدرَ جلالُ الدولة مع الأتراك إلى واسط، وبها أبو كاليجار والدَّيلم، فلم يقدِرْ عليها. وفيها قُلِّد القضاءَ أبو عبد الله الحسين بن علي بن ماكولا، وخُلِعَ عليه، وقُرئ عهدُه بجامع الرُّصافة وجامع المنصور، وحضر المرتضى وشيوخُ الشيعة إلى دار الخليفة، وسألوه الصَّفح، وأنَّ ما بدا من الجُهَّال، وقالوا: لا ينبغي أن يُخلى هذا الجامع من خطيب، فأذن لهم في ذلك بعد أن عُمِلَتْ خطبةٌ ووقفَ عليها القادرُ، وأعفاهم الخطيبُ من دَقِّ المنبر بعقب سيفه؛ لأنهم لا يَرون ذلك، وكانوا قبل هذا كَبسوا دارَ أبي تمام بالمشاعل على أنهم لصوص، وأخذوا كلَّ ما كان فيها، وما انتطَحَ فيها عنزان. ولم يحجَّ في هذه السنة من العراق أحد. وجهَّز صاحبُ مصر الحجَّ من مصر. وفيها تُوفِّي أحمد بن إبراهيم ابن إسماعيل بن الحسين بن أبي الجِنِّ، أبو القاسم، العلوي، الدمشقي، كان فاضلًا جليلًا، وكانت وفاته بدمشق، فاوصى أن يُحمَلَ تابوتُه إلى الكوفة فيُدفنَ في المشهد، فحُمِلَ. [وفيها تُوفِّي] الحسن بن أبي الهُبَيش (¬2) أبو علي، الكوفي، الزاهد، لم يكن في زمانه أعبدَ منه، دخل عليه الوزير [أبو القاسم بن] المغربي، فقبَّل يده، فقيل له في ذلك، فقال: كيف لا أُقَبِّلُ يدًا ما امتدَّتْ قطُّ إلا لله تعالى. ¬

_ (¬1) ينظر المنتظم 15/ 197 - 200 (¬2) المنتظم 15/ 202.

صالح بن مرداس

وقال أبو عبد الله محمد بن علي العلوي: بِتُّ عنده ليلةً فلم أتمكَّنْ من النوم؛ لكثرة البَقِّ وهو قائمٌ يُصلِّي، فلا أدري أَمُنِعَ البقُّ منه أم صبرَ عليه؟ ورأيتُ مئزره قد انحَلَّ وسقط عن كعبه، ثم استوى وعلا إلى سُرَّته، فلا أدري أرتفع المئزرُ أم طالتْ يدُه حتَّى أعادته؟ ولمَّا مات بنى عليه أهل الكوفة قُبَّةً، وقبرُه بها ظاهرٌ يُزار (¬1). [وفيها تُوفِّي] صالح بن مِرْداس (¬2) أسد الدولة، ويُعرَف بابن الزَّوقلية. قال هلال بن الصابئ: في هذه السنة جهَّزَ صاحبُ مصر جيشًا مع القائد أنوشْتِكين الدِّزْبِري التركي أمير الجيوش؛ لقتال صالح وحسان بن المُفرِّج بن الجراح، وكانا قد جمعا الجموعَ، واستوليا على الأعمال، وانتَهيا إلى غزَّة، فلمَّا بلغهما خبرُ الدِّزْبِري انصرفا من بين يديه وتبِعَهما إلى الفجاوين أسفل عقبة فِيق واقتتلوا، فانهزم حسان بن المُفَرِّج، وقُتِلَ صالحٌ وابنُه الأصغر، وبعث الدِّزْبِري برأس صالح إلى مصر، وأُفلِتَ نصرُ بن صالح الأكبر إلى حلب، واستولى الدِّزْبِري على الشام، ونزل دمشق، وكتب إلى صاحب مصر كتابًا مضمونه: إلى سيدنا ومولانا، ونوضح للعلوم الشريفة أنَّه كان قد عرف اصطناع الدولة لآل الجرَّاح، ومقابلتِهم إحسانهَا بسوء الاجتراح، وكان أخلقَهم بالشُّكر لما أولاه حسان، وأحقَّهم بالكفِّ عن الإساءة إذ لم يكن منه في الطاعة إحسان، ولكن أبي إلَّا طبعَه اللئيم، ومعتقدَه الذميم، وكم له من غَدْرةٍ في الدين واضحة، ومَرْزِئةٍ في أموال المستضعفين قادحة، وأمَّا صالح بن مِرْداس زعيمُ بني كلاب فإنه اتَّفق مع حسان مُدِلًّا بحدِّه وحديدِه، مُجلِبًا على الدولة بعد إحسانها إليه بعمده وعديدِه، فتوامرا على الفساد، وتَوازرا علة العِناد، ونهبا البلاد، وكان صالحٌ أشدَّهما كفرًا، وأعظمَهما أمرًا ومكرًا، ووافى الملعونان الأقحوانة الصغرى عند ¬

_ (¬1) بعدها في (م) وحدها زيادة: ويُتبرَّك به. (¬2) تنظر مصادر الترجمة في السير 17/ 375.

شاطئ كفر الأردن، ووقعتِ الحرب، واشتدَّت بالطعن والضرب، فانهزم حسان مفلولًا، والعاقبةُ للمتقين، ومَنْ أصدقُ مِنَ الله قيلًا. وأمَّا الخائن صالح فلم يزَلْ يواصل الحملات حتَّى أتعسَ اللهُ جَدَّه، وأخذ سيفُ الله منه حَدَّه، فخرَّ صريعًا، قد أزهق الله نفسَه، وأخبَثَ مغرسَه، وغنِمَ المجاهدون سيفَه وفرسَه، وأنفذوا إلى الحضرة رأسَه، وقُتِلَ عامةُ أصحابه ممن كفر النِّعمةَ وفجر، ولم يُقْتَل من الأولياء الميامين عليه غيرُ ثلاثة نفر. والدِّزْبِري أنوشْتِكين لقبه منتخب الدولة، وقيل: مصطفى الدولة، مظفر الدين، مدحه ابن حَيُّوس في هذه الوقعة بأبيات: [من الكامل] هَلْ للخليطِ المستقلِّ إيابُ ... أمْ هَلْ لأيامٍ مضَتْ أعقابُ يا مَيُّ هَلْ لدنوِّ داركِ رجعةٌ ... أمْ للعتابِ لديكمُ إعتابُ لا أرتجي يومًا سُلوِّي عنكمُ ... هيهاتَ سُدَّتْ دونَه الأبوابُ أوصابُ جسمي من جنايةِ بُعدِكُمْ ... والصبرُ صبر بعدكُمْ أوصابُ ولمصطفى الملكِ اعتزامُ المصطفى ... لمَّا أحاطَ بيثرِبَ الأحزابُ يومان للإسلامِ عزَّ لَدَيهِما ... دينُ الإلهِ وذلَّتِ الأعرابُ طلبوا العُقابَ ليسلَموا بنفوسِهمْ ... فابتزَّهم دونَ العُقابِ عِقابُ واستشعروا نصرًا فكانَ عليهمُ ... وتقطَّعَتْ دونَ المُرادِ رِقابُ كانوا حديدًا في الورى لكنَّهُمْ ... لمَّا اصطَلَوا نارَ المُظَفَّرِ ذابوا مَنْ يُبلِغِ الأتراكَ أنَّ أميرَهُمْ ... بفَعالِهِ تتجمَّلُ الإنسابُ وقد أخطأ ابن حَيُّوس في التشبيه غايةَ الخطأ، والله أعلم، والعُقاب عُقاب فِيق. ولمَّا انهزم شِبلُ الدولة نصرُ بن صالح إلى حلب طَمِعَ صاحبُ أنطاكية في حلب، فجمع الرومَ، وسار إليها، وأحاط بها، فكبسه نصرٌ وأهلُ البلد، فقتلوا مُعظمَ أصحابه، وانهزم هو إلى أنطاكية في نفرٍ يسير، وغنِمَ أموالهم وعسكرَهم. وقيل: كبسه على إعزاز، فغنم منه أموالًا عظيمة.

علي بن عيسى بن الفرج

علي بن عيسى بن الفرج (¬1) أبو الحسن، الرَّبَعي، صاحب أبي علي الفارسي، ولد سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة، وقرأ الأدب ببغداد على السِّيرافي، وخرج إلى شيراز، فدرس بها النحو على الفارسي عشرين سنة، ثم عاد فأقام ببغداد باقي عمره. خرج يومًا يمشي على جانب الشطِّ، فرأى الرضيَّ والمرتضى في سفينة ومعهما عثمان بن جني، فصاح: من أعجب أحوال الشريفين أن يكون عثمانُ جالسًا في صدر السفينة، وعليٌّ يمشي على الحافَة. فضحكا وقالا: بسم الله. وكان فاضلًا، فكان أبو علي الفارسي يقول: قولوا له: لو سِرْتَ من الشرق إلى الغرب لم تجد أحدًا أنحى منك. وكانت وفاته عن اثنتين وتسعين سنة، ودُفِنَ جوار معروف في المُخرِّم. قال ابن خيرون: لم يتبع جنازته سوى ثلاثة أنفُس. السنة الحادية والعشرون وأربع مئة فيها في يوم عاشوراء علَّق أهلُ الكَرْخ المُسوح، وعطلوا البيوع والشراء؛ رجوعًا إلى العادة الأولى، وأطمعهم بُعدُ (¬2) الأتراك، فقامت الفتن، وقُتِلَ بين الفريقين جماعة. وفيه خُطِبَ للأمير أبي سعيد مسعود بن محمود بن سُبُكْتِكين بعد والده بأرمينية والأطراف، ولقبه شهاب الدولة. وفي صفر وردتِ الأخبارُ إلى الأجل العادل أبي منصور بشيراز أنَّ مسعود [بن محمود بن سُبُكْتِكين] وصل [إلى] أصبهان، وانهزم علاء (¬3) الدولة بن كاكويه (¬4) من بين ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 12/ 17، والمنتظم 15/ 203، ومعجم الأدباء 14/ 78 - 85. وينظر السير 17/ 392. (¬2) في (م 1): بعض، وهو تحريف، والمثبت من باقي النسخ والمنتظم 15/ 204 والخبر فيه. (¬3) تحرف في (خ) و (ف) إلى: عماد، والمثبت من (م) و (م 1). (¬4) تحرف في (ف) إلى: باكويه، والمثبت من باقي النسخ.

يديه، ووافتِ الأجلَّ رسلُ (¬1) مسعود، فأكرمهم وردَّهم بالجواب الجميل، وشرع في الاستعداد، وتقدَّم إلى العساكر بأَخْذِ الأُهبة، وبينا هو يستعدُّ لهذا الخَطْبِ جاءه كتابٌ أنَّ جلال الدولة دخل الأهواز، فسار إليها مساعدًا لأبي كاليجار، لثلاثٍ بَقِينَ من ربيع الآخر، فوصلها سلخ جمادى الأولى، فوجد البلدَ منهوبًا، والسلطانَ منكوبًا، فرجع إلى فارس بسبب الخراسانية. ومن العجائب أنَّه اتَّفق في هذه السنة اجتماعُ خمسةِ ملوك، كلُّ واحدٍ منهم يرومُ صاحبَه، ولم يتهيَّأ لواحدٍ منهم ما أراد، [وهم]: جلال الدولة، وابنه أبو منصور، وأبو كاليجار، ومسعود بن محمود، وابن كاكويه، ثم عاد جلال الدولة إلى العراق، وأبو كاليجار إلى الأهواز، ومسعود إلى خُراسان، وابن كاكويه إلى الريِّ، واستولى مسعود على أصبهان والريِّ وهَمْدان. وفي ربيع الأول خرج أبو كاليجار والدَّيلم من واسط إلى الأهواز، وقد ذكرنا أنَّ جلال الدولة لمَّا وصل إلى واسط لم يقدِرْ على مقابلة أبي كاليجار، فقصد الأهواز، فخرج أبو كاليجار إلى الأهواز، وتأخَّر جماعة من التُّرك، فخُطِبَ بها لجلال الدولة، ومضى إلى الأهواز، فشاور أبو كاليجار أصحابَه، فاتَّفقوا أنَّه يُنفِذُ بعضَ العسكر إلى بغداد، فيستولي عليها، ويُحيطُ بدار الخلافة، ويأخذُ ما فيها، ويُقيمُ هو بواسط، فإن رجع الأتراكُ إليها دفعهم، فبينا هم (¬2) كذلك وقعوا بكتاب من حسام الدولة ابن أبي الشوك إلى جلال الدولة وأصحابه، مضمونه أنَّهم مشغولون بأمر مُصَغَّر في جنب ما قَدْ دَهَمَ الدولةَ، هذا مسعود بن محمود قد استولى على الريِّ وأصبهان وهمدان، وأطاعه الخلقُ، وهو عازمٌ على قصد العراق، والمصلحةُ الصلح، وتكونون يدًا واحدةً وتدافعون هذا العدو. فوقف عليه أبو كاليجار والجماعةُ، ورأوا أن يبعثوا بالكتاب إلى جلال الدولة وإلى الإسْفهسلارية، ويتَّفقوا على الصلح، فكتبوا الكتاب، وبعثوا به، وقال الدَّيلم لأبي كاليجار: المصلحةُ أن تُدرِكَهم، فقد مضَوا إلى بلدٍ فيه أموالُكَ وخزائِنُكَ وأولادُكَ ووالدتُكَ، وتدافعهم وتمنعهم من ذلك. فقال: هذا هو المصلحة. ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): رجال. (¬2) في (خ): فيما بينهم، والمثبت من (ت).

ومالت الدَّيلم الخوزستانية إلى هذا لأجل أهلهم وأوطانهم، وجاء كتاب جلال الدولة: أنت ولدي، وسلطانُ الدولة أبوكَ أخي. ومال إلى الصلح، إلا أنَّه قال: اخرُجْ من بلادي ليتقرَّر الأمرُ. وبلغ أبا كاليجار أنَّ التُّركَ قد وصلوا إلى المأمونية، فسار مُجِدًّا والدَّيلم، فورد كتاب الطير إلى بغداد في حادي عشر ربيع الآخر أنَّ جلال الدولة دخل الأهواز فضُربَتِ البشائر. فصل: قد ذكرنا أن الأتراكَ البغادِدة لمَّا وصلوا إلى واسط وجدوا أبا كاليجار قد احترز بها، وأطلق المياه، فحالت بين الفريقين، وخاف الإسْفَهسلارية أن يطول المُقامُ فيهم بين أن ينصرفوا إلى بغداد، فتكون الهزيمة، أو يدخلوا في طاعة أبي كاليجار بحكم الضرورة، فعملوا على قصد الأهواز، وأطمَعوا صغارَهم فيما ينهبون من الأموال، فساروا [على كلمةٍ مختلفةٍ، ودعائم ضعيفة، وخافوا على أهلهم ببغداد، فساروا] يطوون المنازل، وينهبون كلَّ ما يجدونه، إلى أن وصلوا إلى المأمونية لسبعٍ بَقِين من ربيع الأول، فوجدوا الماء زائدًا، والسُّفنَ معدومةً، والمِيرةَ متعذِّرةً، فتحيروا، ثم حصلوا مِصْرين من بعض السواد، وكان بها جماعةٌ من الدَّيلم والأتراك، فواقعوهم، فانحاز التُّرك إلى التُّرك، وانهزم الدَّيلم وقُتِلَ بعضُهم، وهجموا البلد، فنهبوا المنازل والخانات والدُّور، وأخذوا من الحُليِّ والجواهر والأمتعة ما يتجاوز الحصر، واستمرَّ النَّهبُ ستة عشر يومًا، حتَّى أتَوا على كل مذخور، وارتكبوا كلَّ محظور، وأخذوا من دار رجلٍ واحدٍ -يُقال له: ميمون البيع- ما مِقدارُه سبع مئة ألف دينار، فيقال: إنهم أخذوا من البلد زيادةً على خمسة آلاف دينار، وألفَي جاريةٍ رقيقًا، وأمُّهاتِ أولادٍ وحرائرَ من أبكارٍ وثُيَّبٍ، وأتلفوا من الأمتعة بمقدار ما أخذوا، وكان المُقامِرون يُقامرون بالجواهر والسبائك من الذهب، ولحِقَ هذا البلد من هذه المصيبة ما أهلَكَه واستأصَلَه، وأتلفَ أهلُ البلد جماعة من الأعيان كانوا يدخلون الدُّور فيقتلونهم، ودخل جلالُ الدولة دارَ الملك فوجدها مملوءةً بالثياب والفُرش والأواني، فاستولى على الجميع، وقبض على والدةِ أبي كاليجار وأختِه -المُزوَّجة من أمير الأمراء أبي منصور- وابنتِه وأمِّ ولدِه وزوجتِه، ولجا باقي الحُرَمِ إلى دار الأخت بنت بهاء

الدولة، فدخل الأميرُ أبو منصور فأخذهُنَّ من يدها، ورجع الأتراك إلى المأمونية فطالبوه بالقسط، فقال: قد نهبتُم ما نهبتُم، وقد عرفتُ مقدارَه، فما هذه المطالبة؟ وإنما ينبغي أن أُقاسِمَكم. وركب وخرج من بينهم، فأرضاهم ببعض القسط، وبينما هم على ذلك -وقد امتلأت أيديهم من الغنائم- جاءهم الخبرُ بنزول علاء الدولة بن كاكويه تُسْتَر منهزمًا من أصبهان، ووصولِ الملكِ أبي كاليجار، فأشفقوا من المقام وساروا، فالتقوا بأبي كاليجار، واقتتلوا، فانهزم، وقتلوا من الذيلم مقتلةً عظيمةً، وأسروا أعيانَ أصحاب أبي كاليجار، وكان من المأسورين أبو الفرج بن أبي القاسم بن فَسانْجِس، وعاد جلال الدولة إلى واسط والأتراكُ معه، وأمَّا أبو كاليجار فإنه لمَّا انصرف من الوقعة وراسل جلال الدولة، وأعطاه بلدَ واسط والبصرة وأماكنَ، وأن يحمل إليه ما لا ويخطب له، وانفصل جلالُ الدولة على هذا، ودخل أبو كاليجار الأهوازَ، فوجدها خاويةً على عروشها، ثم خرج منها إلى عسكر مكرم، وعزم على أَرَّجان، فوافاه الأجَلُّ العادلُ أبو منصور بَهْرام بمالٍ من فارس، وعساكرَ وخيلٍ وفُرُشٍ ومتاعٍ، فتعمَّرت خزائنُه وإصطبلاتُه، وتراجعت حالُه، فكتب إلى جلال الدولة في معنى المأخوذات من حرمة والدته وغيرها، وما أخذ منهنَّ، وكانت أمُّه لمَّا وصلت إلى واسط ماتت، ولم يُفرِجْ عن الباقيات، وأُجيب بجواب التعليل وتسليم ما استقرَّ. وفيها خطب القادرُ لابنه أبي جعفر عبد الله بولاية العهد، وكان مذ توقَّف قبل ذلك مرض، فجلس للناس، فدخلوا عليه، وظهر لهم، فسأله الخواصُّ والإسْفَهسلارية أن يُخطَبَ له، فأمر بالخطبة، ومرت السِّتارةُ بينه وبين الناس، وتقدَّم أبو الحسن بن حاجب النعمان فقبَّلَ يده وهنَّاه، فقال الأمير أبو جعفر: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيرًا} [الأحزاب: 25] وكان يتَّهمه بأنه هو الَّذي أفسد ما بينَه وبين أبيه، فجعل يبكي ويُقبِّل الأرضَ بين يديه، فلمَّا كان يوم الجمعة لسبعٍ بقين من جمادى الأولى خُطِبَ له على المنابر، ولُقِّب بالقائم بأمر الله، وضُرِبَ اسمُه على الدراهم والدنانير، وفي السنة الماضية ما كان يُصرَّح باسمه، بل يُقال بعد الدعاء للقادر: اللهمَّ وأمْتِعْه بذخيرة الدِّين المرجوِّ لولاية العهد في العالمين، ثم جاء عقيب هذا كتابُ جلال الدولة إلى القادر يسأله أن يعهد إلى القائم، فكان في كتابه: عِلْمُ سيِّدنا ومولانا الإمام القادر

أحمد بن عبد الله بن أحمد

بالله أميرِ المؤمنين -أطال اللهُ بقاءَه، وأدامَ عليه نعماءَه- مُحيطٌ بانَّ الله سبحانه قد جعل لكلِّ شيء أمدًا، لا يزال أبدًا، وسوَّى بين العالم في قضائه المحتوم، وقدَرِه المبروم، فلم يُخْلِ منه نبيًّا ولا صفيًّا ولا وليًّا، وقد سار مولانا في العالم أحسنَ السِّيَر، حاميًا للخواصِّ والعوامِّ من الغِيَر، والأولى إنعامُ النَّظر في حاضر يومه لغدِه، واعدادُ ما يُستظهر به من عُدَدِه؛ لئلَّا يسألَه الله يوم المَعادِ عن حقٍّ أهمَلَه من أمر العباد، والحضرةُ الأميريةُ الجعفريةُ مستحِقَّةٌ لولاية العهد بعد الأمد الفسيح، الَّذي نسأل الله أن يُطيله، والعبدُ يرغب إلى المواقف المقدسة النبوية المحفوفة بالأسرار الإلهية، أن يشُدَّ أزْرَ الخلافة بإمضاء العهد لها، وذكر كلامًا طويلًا. وفيها غزا فَضْلُون الكردي، فوصل إلى الخزر، فقتل وسبى، وغنم أموالًا كثيرةً، وخرج من بلادهم، فنزل بمكانٍ قريب منهم، ولم يحترز، ونام هو وأصحابه، وكانوا قد تبعوه، ولم يكن له طلائعُ فكبسوه، وقتلوا من أصحابه عشرة آلاف، واستعادوا الغنائم والأسرى، وأفلَتَ في نفرٍ يسير. وفيها وقعت فتنةٌ عظيمةٌ بين الأتراك والهاشميين ببغداد، ورفع الهاشميون المصاحف على رؤوس القصب، ورفع التُّركُ الصُّلبانَ على الرِّماح، وكانت الفتنة بين أهل باب البصرة والكَرْخ، وكان الأتراكُ مع أهل باب البصرة، والهاشميونَ مع أهل الكَرْخ، وركب نائبُ السلطنة فلم يقدِرْ أن يفصل بينهم حتَّى قُتِلَ من الفريقين جماعةٌ، وانفصلوا، وأصلح الوزيرُ بينهم. وفيها عاد جلالُ الدولة إلى بغداد من واسط. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق في هذه السنة (¬1). وفيها تُوفِّي أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن، يُعرَف بابن الرَّان، أصله من الجزيرة، وأذكره الحافظ ابن عساكر فقال]: سكن دمشق، وكان يعظ في باب الزيادة بجامع دمشق تحت اللازوردية وهناك ¬

_ (¬1) تنظر الأخبار في المنتظم 15/ 205 - 209.

علي بن عبد العزيز بن إبراهيم

كان يجلس الوُعَّاظ، وكان له تصانيفُ في الوعظ وأشعارٌ، وكان صاحبَ معاملات وكرامات، وأنشد ليلةَ العيد لنفسه: [من مجزوء الرمل] أنا ما أصنعُ باللَّذَّاتِ ... شُغلي بذنوبي إنَّما العيدُ لِمَنْ فا ... زَ بحَظٍّ من حبيبِ أصبحَ الناسُ على رُوْ ... حٍ ورَيحانٍ وطِيبِ ثمَّ أصبحتُ على نَوْ ... حٍ وحُزْنٍ ونحيبِ فرحوا حين أهلُّوا ... شهرَهم بعد المغيب وهلالي متوارٍ ... من ورا حُجْبِ القُلوبِ فلهذا يا خليلي ... قلتُ للذَّاتِ غيبي وجعلتُ الهمَّ والحُزْ ... نَ من الدُّنيا نصيبي يا حياتي يا مماتي ... يا سَقامي يا طبيبي خُذْ لصَبٍّ يتلظَّى ... منكَ من حرِّ اللَّهيبِ وأنشد: [من السريع] أحببتُه فردًا لأنَّ الهوى ... توحيدُه أحسنُ من شِرْكِهِ ملكْتَني أحسنَ ملك الهوى ... قد يُحسِنُ المولى إلى مِلْكِهِ فلو أرادَ اللهُ سَتْرَ الهوى ... ما سلَّطَ الدمعَ على هَتْكِهِ إنْ كان لا يُرضيكَ إلَّا دمي ... فقَدْ أذنَّا لك في سَفْكِهِ وكانت وفاته بدمشق في جمادى الأولى، ودُفِنَ بمشهد القدم. [وفيها تُوفِّي] علي بن عبد العزيز بن إبراهيم (¬1) أبو الحسن، الكاتب، ويُعرف بابن حاجب النعمان، كاتب القادر بالله، ولد في شعبان سنة أربعين وثلاث مئة، وكان أبوه يخدم أبا عمر المُهلَّبي في أيام وزارته، وكتب عليٌّ للطائع لله، ثمَّ للقادر بالله، سنة ست وثمانين وثلاث مئة، فكتب للخليفتين ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 12/ 31، والمنتظم 15/ 210.

محمود بن سبكتكين

أربعين سنة، وهو الَّذي بعثه الطائع ليقبض على القادر، وكان يضرب بين القادر وأبيه القائم، وما كان يؤثر خلافة القائم، فلمَّا خُطِبَ له خاف، واتَّفق موتُه يوم الجمعة وقتَ الظهر لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، ودُفِنَ ببركة زلزل، ثم نُقِلَ تابوتُه إلى مقابر قريش سنة خمس وعشرين وأربع مئة، وكان كاتبًا فصيحًا بليغًا. [وفيها تُوفِّي] محمود بن سُبُكْتِكين أبو القاسم، يمين الدولة، أمير خراسان، وكان أبوه سُبُكْتِكين -وكنيته أبو منصور- صاحبَ جيش الملوك السامانية ملوك سمرقند وفَرْغانة وما والاها [أكثر من مئة سنة وقد ذكرناهم]، فاستولى سُبُكْتِكين على خُراسان بعد وفاة منصور بن نوح، وتُوفِّي سُبُكْتِكين سنة تسع وثمانين (¬1) وثلاث مئة. ووُلدَ محمود يوم الخميس الرابع عشر من ذي الحجَّة سنة إحدى وستين وثلاث مئة، ولما تُوفِّي أبوه تنازع محمود وأخوه إسماعيل، فظهر عليه محمود، واستولى على خُراسان، ثمَّ سار إلى السامانية، فاستولى على ملكهم، وأقام الخطبة للقادر، ولم يكونوا يخطبون له، وراسَلَ (¬2) بهاءُ الدولة أبا نصر بن بويه بأبي عمر البسطامي، وبعث معه هدايا وفِيَلَة، وسأله خطابَ الخليفة في توليته، فسفر بينهما، وكتب إلى فخر الملك يتولَّى ذلك ويقول: قد خطبَ للخليفة في أماكن لم يخطب له فيها غيرُه. فأجابه القادر، وبعث إليه الخِلَع في شعبان سنة أربع وأربع مئة، ولقبه يمينَ الدولة وأمينَ الملة، ثم أُضيفَ إلى ذلك: بسطامُ الدين ناصرُ الحق. ومَلَكَ [محمود] بلاد سِجِسْتان، ودخل الهندَ والسندَ، وفتح أماكن عظيمةً (¬3) لم يصِلْ إليها غيرُه [وقد ذكرنا بعضها]، ونزل على بعض البلاد. [وقيل] (¬4): على القلعة ¬

_ (¬1) تحرفت في (م 1) إلى: وثلاثين. (¬2) في (ف): أرسل. (¬3) في (م): كثيرة. (¬4) هذه الزيادة من سائر النسخ سوى (خ).

التي ذكرنا أنها تسَعُ خمس مئة ألف إنسان، فصالحه صاحبُها (¬1) على خمس مئة فيل وثلاثةِ آلاف بقرة، وبعث محمود إلى الملك قَباءً وعِمامةً وسيفًا ومِنْطَقَةً وفرسًا بمركب ذهب، وخاتمًا عليه اسمُه، وأمره أن يقطع أصبُعَه، وهي عادة التوثُّق (¬2) عندهم، وكان عند محمود عِدَّةُ أصابع ممَّن هادنه، فلبس الخِلْعةَ، وأخرج حديدةً فقطع بها أصبعه الصغرى من غير أن يتغيَّر وجهُه، وأحضر دواءً فطرحه عليها وشدَّها. وغَنِمَ محمود من الهند أموالًا لم يغنَمْها غيرُه [وقبضَ على رستم بن علي بن بُوَيه صاحب الريِّ، وكتب إلى القادر أنَّه وجد عنده خمسين امرأةً، وقد ذكرنا القصة]. وخُطِبَ له في عامة بلاد المشرق، وعقَدَ جسرًا على جَيحون غَرِمَ عليه ألفي ألف دينار، ولم يقدِرْ على ذلك غيرُ الإسكندر، وكان في عسكره ألفُ فيلٍ يُقاتل عليها، وبلغَتْ جريدةُ عساكره مئةَ ألف فارسٍ وراجلٍ، وحُمِلَ إليه من النَّسْناس بِغَزْنة (¬3) شخصان، والأتراك يصيدون النسناس ركضًا على الخيل؛ لِشدَّة عَدْوهم، فإذا قصروا أخذوهم، وللنسانس قضيبٌ -يخرج من بين الشَّعر الَّذي على جسده إذا أنْعَظَ (¬4) - أحمرُ مثلُ قضيب الكلب، ويغوِّط كما تغوِّط البهائم، ولحومُهم أطيبُ اللحوم، فاستفتى محمود الفقهاءَ، فقالوا: لا يجوز أكلُ لحومِهم، وهم يَصْفِرون مثل الوحش، ويَرْعَون الحشيش. ذكر وفاة محمود: عرض له سوءُ مزاج وانطلاقُ بطنٍ، وهو على غزواته لا ينثني، فلمَّا نزل به الموتُ أحضر الجواهرَ التي اقتناها من ملوك خُراسان وما وراء النهر و [عظماء] التُّرك والهند، وكانت سبعين رطلًا، فصُفَّتْ بين يديه، فلمَّا رآها بكى بكاءً [شديدًا]، (¬5)، فتحسَّر ¬

_ (¬1) في (م): ملكها. (¬2) في (خ): وهي عادية الهدية! والمثبت من باقي النسخ. (¬3) هذه الكلمة في (خ) وحدها وتحرفت فيها إلى: بعنزية، والتصويب من المنتظم 15/ 212، والسير 17/ 494 وغيرهما من المصادر. (¬4) أَنعظَ الذَّكرُ ونَعَظَ: قام. اللسان (نعظ). (¬5) هذه الزيادة من (م).

عليها، ومات بغَزْنة يوم الخميس لسبعٍ بَقِينَ من ربيع الآخر وهو ابن ثلاث وستين سنة، ملَكَ منها ثلاثًا وثلاثين سنة، ومات وهو مستندٌ في دَسْتِه، لم يضَعْ جنْبَه إلى الأرض. وكان ديِّنًا، كثيرَ الصدقاتِ والصِّلات والمعروف، وقام ولدُه مسعودٌ مقامَه وله نوادر، منها [ما ذكره محمود الأصبهاني] أنَّه مرض مرضًا مُزْمِنًا، واعتُقِل لسانُه، فاتَّفق الأطبَّاء أن يُحمل على سريره ويُطاف به المارستانات على المرضى ليهون ما به، فأدخلوه بعض المارستانات، فجاء إلى بيتٍ مُقفَلٍ وعليه سلاسلُ، فأشار إليهم بيده أنِ افتحوه، فقال قَيِّم المارستان: فيه مجنون، لو ظهر لتأذَّتْ به المملكة. فقال: لا بُدَّ [من فتحه]. ففتحوه، وإذا بشابٍّ في عنقه سلسلةٌ، وفي رجليه قَيدٌ، ويداه مغلولتان إلى عنقه، فلمَّا رآه ناداه: يا محمود، ما نفعَكَ مِلْكُكَ وسلطانُكَ حتَّى أتيتَ إلى المرضى تطلُبُ عندهم الشفاء؟ فأنطقَ اللهُ محمودًا وقال: نَعَمْ، إنما جئتُ لأضَعَ سلاسِلَكَ في عنقي، وأُفَوِّضَ إليكَ مملكتي. فقال له المجنون: لو فعلَ سيِّدي هذا ما احتَجْنا إلى وساطتِكَ. ثم قال: يا محمود، أنا راضٍ بما أنا فيه عن سيِّدي، فهل أنتَ راضٍ عن سيِّدِكَ؟ فبكى محمود وقال له: قد وجدتُ الشفاءَ ببركتِكَ، فسلني حاجةً. فالتفتَ المجنونُ إلى بعض مماليك محمود وسأله، فقال له محمود: أنا أقولُ لكَ: سَلْني، وأنتَ تسألُ مملوكي؟ فقال له المجنون: وكذا أنا أخافُ غدًا أن يقول لي سيدي: تركتَ المالِكَ وسألتَ المملوكَ. فبكى محمود وقال: لا بُدَّ من حاجة. فقال: عِدْلُ قمح؟ قال: وما قيمةُ عِدْلِ قمح؟ اطلُبْ عِدْلَ جوهر. فقال: ما أُريد إلا عِدْل قمح. فقال: احْمِلوه إليه. فقال: ما أُريد أن يحمله إلا أنت. فقال محمود: واللهِ ما لي طاقةٌ أحمِلُ مُدًّا، فكيف أحمِلُ عِدْلًا؟ فقال: يا مسكين، إذا كنتَ لا تقدِرُ على حَمْلِ مُدٍّ [من] قمح فكيف تقدِرُ غدًا أن تحمل حقوقَ العباد كلِّهم؛ فبكى محمود، وخرج من عنده، وأقام أيامًا وتُوفِّي، وكان كلَّما ذَكَرَ كلامَ المجنون يبكي. وقال هلال بن الصابئ: كان ابنُه مسعود بأصبهان، وبلغه خبرُ موتِه، فلبس السواد، وجلس للعزاء، ورتب صاحبًا له بأصبهان، ورحل طالبًا خراسان، فلمَّا سار قليلًا وثب

أهلُ البلد على أصحابه، فقتلوا منهم جماعةً، ولحِقَ به مَنْ أفلت، فعاد إلى البلد، فخرج إليه أهله وقاتلوه قتالًا شديدًا، فلم يثبتوا له، فهزمهم ودخل البلد، وألقى فيهم السيف، فقتل أربعين ألفًا في المساجد والجوامع؛ لأنهم لجؤوا إليها، ونهب البلد، وسبى الحريم، وفعل فعلًا قبيحًا، وجاء إلى الريِّ فاستخلف بها بعضَ أصحابه، وسار إلى خُراسان. ولقد عَظُمَ أمرُ محمود عِظَمًا كبيرًا، وقهر ملوكَ الهند قهرًا كبيرًا، وفعل الأفاعيل المذكورة، ووقف المواقفَ المشهورة، وجمع من الأموال ما ملأ به القلاع والخزائن. وكان ظاهِرُه التديُّن والتسنُّن مع شُربِه للنبيذ على الدوام والاتصال، وتصرُّفه على الأخلاق التركية في أكثر الأحوال، وكان في مسيره شديدَ الغِلْظة، ثقيلَ الوطأة، قاصدًا أخْذَ الممالك على أحسن طريقة وأصعب مطالبة، إلَّا أنَّه مع ذلك يحمي النواحي ويحوطُها، ويحرس الطُّرقَ ويضبطُها، ويقيم السياسة على أفضل رسومِها وأكمل شروطِها، وكان مرضُه بالعِلَّة التي كان يُقاسيها منذُ ثلاث سنين، وهي سوء المزاج وانطلاق البطن في الأسبوع أيامًا حتَّى يمسك بالأدوية، وهو في جميع ذلك لا ينثني عن مقاصده وغزواته، ولا يُخِلُّ بأسفاره ونهضاته، ولم يترُكْ إلى آخر أيامه في مرضه الجلوسَ للإذْنِ العامِّ مرتين بالغداة والعشيِّ، وكان أطِبَّاؤه يأمرونه بالرفاهة فيقول لهم: تريدون أن أعتزِلَ الإمارةَ. ولم يضَعْ جنبَه إلى الأرض عند موته، و [لمَّا مات محمود] حُمِلَ تابوتُه من قصره إلى قصرٍ كان بظاهر البلد يُدعى بالفيروزي كان أيامَ مُقامِه بغَزْنَة، يؤثره على سائر قُصوره. وضبط عليٌّ الحاجبُ الأمورَ مع اضطراب البلد، وواصل الكَتْبَ إلى الأمير محمد بن محمود بالحثِّ على التعجيل، وكان بالجُوزْجان، فخرج منها بعسكره، فوصل إلى غَزْنة بعد أربعين يومًا. وقال العباس بن الحسين البَنْدنيجي: كان رجلٌ من السَّامانية يُكنى بأبي إبراهيم، وكان الصعاليك يجتمعون إليه، فيقصِدُ بهم ناحيةً ناحيةً يجبي خَراجها، وربما فعل

ذلك فيما وراء النهر، وكان محمود يُكاتبه ويستميلُه، وبَذَلَ له أن يُزوِّجَه ابنتَه، فلم يقبَلْ، وقال: يريد مني أن أخْدُمَه، وأقِفَ في مجلسه، وأُقَبِّلَ الأرض بين يديه، وهذا شيء لا تطاوعني نفسي عليه أبدًا، وأنا أجول في هذه البلاد بقيةَ عمري ولا أذِلُّ لأحد. وكان محمود يُنفِذُ السرايا في طلبه، وهو ينتقل من مكان إلى مكان، ويتعرَّف محمود خبرَه، فيسترحِلُه ويستجلِدُه، فجرد إليه أرسلان الحاجبَ أميرَ طوسَ، وقال له: إذا وقع في يدك فلا تُحدِثْ فيه حَدَثًا وأحضِرْنيه حيًّا. وهذه كانت عادتُه في وصاياه بجنوده إذا قصدوا عدوًّا؛ ينهاهم عن قتله. وسار أرسلان، والتقَوا، فانهزم أبو إبراهيم، وأتبعه أرسلان، فلمَّا دنا منه قال: أمَّا تستحيي مني؟ تُريد أن تقتُلَني وأنتَ مولاي ومولى آبائي؟ فرجع عنه؛ لأنه كان من مماليك السَّامانية، فانتهى أبو إبراهيم إلى حِلَّةِ قومٍ من العرب يقال لهم: بنو خَمَّان، فعرفوه وأنزلوه وأكرموه، ونام من شِدَّة التعب، فقال رئيس الحِلَّة: هذا رجلٌ مطلوبٌ، والصواب أن يُقبَضَ عليه، فإنه طَلِبةُ محمود. فقالوا: ما هذا فِعْلُ العرب، ولا يحسُنُ، ولا جرَتْ به عادة. فلم يقبَلْ، وقتَلَه وهو نائم، وجعل رأسه في مِخْلاةٍ، وجاء به إلى محمود، واستأذن وقال: معي سِرٌّ لا أذكرُه إلَّا للملك. فأحضره بين يديه، وأخرج الرأسَ من المِخْلاة، وألقاه إليه، فوجَمَ محمود وقال: كيف فعلتَ به؟ فحكى له صورةَ ما جرى، فبكى بكاءً شديدًا، وأمَرَ بصَلْبِ الأعرابي، وبعثَ أرسلان إلى العرب، فقتل جميعَ مَنْ في الحِلَّة حتَّى النساء والصبيان، وقال: واللهِ لا تركتُ منهم نسمةً تشمُّ الهواء. وقال محمود: هؤلاء قومٌ قتلوا ملكًا، وخرقوا ذِمامًا، وفارقوا رسومَ العرب، أفلا أقتُلُهم؟ . وأياز مملوك محمود صاحب الحكايات. ولمَّا عبر محمود وراء النهر ووصل إلى بلاد مَدْرخان وكان ملكًا عظيمًا، مشى السُّفراء بينهما في إصلاح الحال، واستقرَّ أن يركب كلُّ واحدٍ في عشرين غلامًا من خواصِّه ويجتمعا، فلمَّا اجتمعا أخذ أيازُ قوسًا، وفَوَّقَ سهمًا (¬1)، فقال محمود: ما هذا؟ قال: رأيتُ واحدًا من أصحاب مَدْرَخان قد فَوَّقَ سهمًا، ففعلتُ مثله شفقةً عليك، ثم اجتمعا، وسأله محمود الممالحة، فأبى، ¬

_ (¬1) فَوَّق السهم: عمِلَ له فُوقًا، وفُوق السهم: هو المكان الَّذي يثبت الوتر منه. المعجم الوسيط (فوق).

وقال: هذا يومُ سلام لا يومَ طعام. فلم يزل يُراجعه حتَّى أجاب، وضرب له محمود خَرْكاةً (¬1) من ذهب، وغشَّاها بالسَّبَج (¬2)، وأحضر منقلًا من ذهب، وعِوَضَ الجمر أُكَرًا (¬3) من ذهب، فأكلا، وتعاهدا، وقَدِمَ الخَرْكاة، وكشفها حتَّى شاهدها، فقال مَدْرَخان: نحن ما نعرف هذه، ولا تصلح لنا. فقال محمود: الذهب لا يُستغنى عنه. ولم يزل به حتَّى قَبِلها. ولمَّا أوغل محمود في بلاد الهند في السنة التي انقطع فيها خبرُه، وأرجف بهلاكه، عبر جَيحون مع أيلك التركي في مئة ألف غلام، فاستولى على بَلْخ وهَراة ومرو ونيسابور، وهرب نُوَّاب محمود، وعرف ذلك، فرجع إلى غَزْنة في أربعة آلاف رجل، ونزل بقية عسكره وراءه، فتلاحقوا، حتَّى اجتمع عنده خمسون ألفًا، وكان معه فيلٌ عظيمٌ، وسار فقطع جَيحون، وخرج أيلك في مئة ألف من بَلْخ، فقال الفيَّال لمحمود: اركب الفيل فركبه وحمل، فقال محمود للفيَّال: اقصد الراية. فقصدها، فحمل عليه صاحبُ الراية، فأخذها الفيل بخرطومه فكسرها، وانهزموا، وكان مَنْ غرِقَ في جَيحون أكثر ممَّن قُتِل، وغنِمَهم وأخذ جميع ما كان معهم، ولمَّا وصلوا إلى جَيحون أمر محمود أصحابَه بالكفِّ عنهم، وهذه كانت عادتُه، وكان خُوارَزم شاه يومئذٍ من بعض مماليكه، وجيشُه عشرة آلاف. وجلس يومًا بين يديه ولداه محمد ومسعود، فقال لمحمد: إن حدَثَ فيَّ أمرُ الله ما تصنع؟ فقال: ألزَمُ تربتكَ، وأصومُ، وأتصدَّقُ عنكَ، وأقرأُ وأترحَّمُ عليك. فقال لمسعود: وأنت؟ فقال: إنِ اتَّفق أنك تستشهد في أرضٍ قتلتُ أهلَها، ولم أترُكْ فيها أحدًا، وأخذتُ بثأرِكَ، وأُواصِلُ الغزو، وأجعلُ لكَ حظًّا من كلِّ غزوة، وأتصدَّق عنك، وأُخرِجُ في كلّ سنةٍ مَنْ يحجُّ عنك. فقال: فما تعمل مع أخيك؟ قال: ما فعلتَه أنتَ بأخيك. وكان محمود قد أحضر أخاه إسماعيل في قلعة وقبض عليه وقتله، فغضب محمود، وكانت رجله في حجر مسعود، فجذبَها وأقامه، وكان مقصود محمود من فتح ¬

_ (¬1) الخَركاة: الخيمة الكبيرة. معجم الألفاظ الفارسية المعربة ص 53. (¬2) السَّبَج: الخرز الأسود، وهي كلمة معرَّبة أصلها: سَبَه. اللسان (سبج). (¬3) الأُكَر؛ جمع أُكْرَة: وهي عقدة على شكل التفاحة تستعمل للزينة. تكملة العاجم لدوزي 1/ 166.

الريِّ أن يرتب ولده مسعودًا فيها، ويُبعِدَه عن محمد. وضمَّ إليه سبعةَ عشر ألف رجل، لم يُعْطِه مالًا، وقال: استخرِجْ من الارتفاع ما يكفيك. وكان عفيفًا عن أموال الناس، فاحتاج إلى نفقة الجند، فكسر أواني داره، وأنفقها فيهم، واستدعاه وقال: أُريد أن تحلِفَ لي إنْ حدث بي حادثٌ أنك لا تُقاتِلُ محمدًا أخاكَ ولا تنازعُه. فقال: أفعل هذا بعد أن يشهد مولانا عليه أنني لستُ ولدَه. قال: فكيف يكون ذلك؟ قال: لأنني إن كُنْتُ ابنَه فلي حقٌّ في خراسان وفي المال. قال: فهو يحمل إليك حقَّكَ. فقال: إذا حضر هاهنا والتزم هذا فعلتُ، أمَّا أن يكون بغَزْنة وأنا بالريِّ فلا ألتزم له ذلك. وجرَتْ بينهما محاورات، وقال له في آخر كلامه: فاحلِفْ لي أنك لا تتزوج من الدَّيلم. فقال: أمَّا هذا فنعم. وحلف له. وكان أبو القاسم أحمد بن الحسن المِيمَنْدي قريبًا من محمود، ولم يكن نافذًا في الكتابة، وإنما قدَّمه محمود لمقامٍ قام به في خدمته، وذلك لأنه غزا بلادَ قشمير، فنزل على قلعتها، وكانت حصينةً، فتأخَّر عنها إلى بُعْدِ، وركب يومًا في بعض خواصِّه منهم المِيمَندي، وقصد تلًّا قريبًا من القلعة ينظر من أين يصل إليها، ورآه القوم من رأس القلعة، فأرسلوا مَنْ أحاط بالتلِّ، وشاهد محمود وأصحابُه الهلاكَ عيانًا، فقال [له] (¬1) المِيمَندي: لا تضطرِبْ، فسأحتال في خلاصنا، فتقدَّم إلى الهند وكلَّمَهم، فقالوا: من أنتَ؟ فقال: محمود الملك. فقالوا: لك نريد. فقال: عندي من ملوككم فلانٌ وفلاد، وأنا أفدي نفسي بهم، وأُحضِرُهم هاهنا، وأنزِلُ على حُكمِكُم فيما تقترحونه. فَسُرُّوا بهذا القول، وقالوا: أحضرِ القومَ. فقال لبعض الغلمان: امْضِ إلى ولدي وعسكري، وعرِّفْهم خبري، وأحضِرْ فلانًا وفلانًا وفلانًا؛ لأُخلِّص بهم نفسي. فلمَّا توجَّه ردَّه وقال: هذا صبيٌّ ما يُحسِنُ أن يُؤدِّي ما أُريده. ثم التفتَ إلى محمود وقال: أنت عاقل، فامْضِ وعَجِّل. فمضى، فلمَّا وصل إلى عسكره التقاه قومٌ، وقبَّلوا الأرضَ بين يديه، ورآهم الهنود من أعلى القلعة، فسألوا المِيمَندي عنه، فقال: هو محمود، وقد احتَلْتُ في خلاصه، فأَعْجَبَ الملكَ فِعْلُه وقال: فتوسَّطِ الحال بيننا وبينه. ففعل ذلك، ورحل ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف).

عنهم، وكان محمود يرى للمِيمَندي ذلك، ودخل عليه يومًا وقال: يا مولانا، قد وصلتُ ابنتي بابن أخي، وأريد الغلمان يحضرون عندي. فقال: نعم، وما يُستكثر لك. وكان يوسف أخو محمود حاضرًا، فقال محمود للمِيمَندي: ما اسمُ العروس؟ فقال: أزليخا. قال: والصِّهر؟ قال: أحمد. فقال له محمود: لا تظلِمْها، فإنَّ الله زوَّجَ يوسفَ بأزليخا، وقد رأيتُ أن أُزَوِّجَها بأخي. فقبَّلَ الأرض وقال: هذا أمرٌ ما حدَّثْتُ به نفسي قطُّ؛ لأنه أكبرُ من قدري. وقال محمود ليوسف: ما ترى في هذا الأمر؟ فقال: السلطان المُعظَّم يملك نفسي. فقال محمود للمِيمنَدي: غدًا أجيء عندك. فقبَّلَ الأرضَ ومضى، فلمَّا كان من الغد جاء محمود وأخوه يوسف إلى دار المِيمندي، فأكبر الناسُ ذلك، فقال محمود: لا بُدَّ من تشريف أخي بحضوري. ثم عقد العقد، وأكلوا وشربوا، واستدعى محمودٌ ابنَ أخي المِيمَندي وقال: كسَرْنا قلبَكَ، هذه ألفُ دينار، اشتَرِ بها جاريةً حسناء، ونحن نُحسِنُ إليك فيما بعدُ. وعظُمَتْ منزلةُ المِيمَندي، وتزايد محلُّه، ثم قبضَ عليه محمود بعد ذلك واستأصله، وأخذ منه ألفَ ألفِ دينار، وحبسه في القلعة، وسببُه أنَّه دعاه إلى ضيافته، ووضع بين يديه قرصًا مسمومًا، فغمز بعضُ غِلمان المِيمَندي محمودًا، فأمر برفعه، وتغيَّر وجْهُ المِيمَندي، وقام محمود فأطعم منه حيوانًا فمات، وأراد المَيمَندي أن يقتل محمودًا ويُجلِس أخاه يوسف مكانَه، فقال محمود: ما جازانا المِيمَندي. واستشاره محمود في قطع جَيْحون، فأشار عليه بعبوره، فغرم ألفي ألف دينار، ولم يحصُل له غرض، فقال للمِيمَندي: أنت غرَّرتني، وغرَّمه إيَّاها، ولم يقتُلْه مراعاةً لما فعل معه قديمًا، وأقام محبوسًا في القلعة حتَّى مات محمود، وأطلقه مسعودٌ واستوزَرَه. وكان محمود رَبْعةً من الرجال، صغيرَ العينين، أشقرَ الشعر، مستديرَ اللحية، خفيفَ العارضين، قد وخَطَه الشيبُ فيها، وكان يتوصَّل إلى أخذ الأموال بكل حيلة (¬1)، وكان بنيسابور رجلٌ تاجرٌ له مالٌ عظيم، فاستدعاه إلى غَزْنة وقال: بلَغَنا أنك قِرْمطيٌّ. فقال: واللهِ ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) عبارة: وكان أمر الذين من أخذ النواويس في ذلك. ولم نتَبيّنها، والخبر في الكامل 9/ 399.

السنة الثانية والعشرون وأربع مئة

ما أعرِفُ هذا المذهب، ولا أنا من أهله، بلى لي مالٌ كثيرٌ فخُذْ منه ما تريد، واعفِني من هذه السِّمة. فضحك وقال: اجتمع مع المِيمَندي [-وكان المِيمَندي يستخلص له المال-] فاجتمع به، فَقَرَّر عليه مالًا، فلمَّا عاد إلى محمود قال [له]: أسألك أن تكتب لي كتابًا إلى نيسابور بأنني ما أنا قرمطيٌّ بل سُنَيٌّ. فضحِكَ وكتبَ له. وكان سُبُكْتِكين قد أخرب مشهدَ (¬1) علي بن موسى الرِّضا بطُوس، وأجرى الخيلَ عليه، ودثره وعَفَّى آثاره، فلمَّا وَلِيَ محمودٌ [ولدُه] رأى أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه في المنام وهو يقول له: إلى كم هذا؟ فوقر (¬2) في نفسه أنَّ ذلك لأجل المشهد، فتقدَّم ببنائه، وردَّه إلى أحسن ما كان عليه، ورَدَّ أوقافه، وكان أهلُ طُوسٍ يؤذون (¬3) أكثر مَنْ يزوره، فزجرهم عن ذلك، وعادَتْ حالُه إلى أجمل ما كانت [عليه]، وقصده الناس بالزيارة من بلاد خُراسان [كلِّها] ما وراء النهر، وأمر أن يُجرى لزوَّاره ما يحتاجون إليه. وأَمَّا ولدُه مسعود فإنَّ كتابَه ورد على الأجلِّ العادلِ بفارس من نيسابور، أنَّه قد استولى على خُراسان، وملَّك أخاه محمدًا، وأبقى عليه وتركه في بعض القلاع مُوسَّعًا عليه، مصونًا، وأنه قد جرد إلى أبي جعفر بن كاكويه إلى الري العساكر، وكان أبو جعفر قد دخلها بسبعة عشر ألفًا يدفعونه عنها، والتمس من الأجَلِّ مخاطبةَ ابنِ كاكويه بالخروج من الريِّ، فأحسن الأجلُّ إلى الرسُلِ وخلع عليهم، وكتب الجواب، وعادوا به إليه. السنة الثانية والعشرون وأربع مئة فيها في المُحرَّم نقب اللُّصوص دارَ المملكة وجلالُ الدولة فيها، وأفضَوا إلى حجرةٍ من حُجَر الحرم وأخذوا منها ثيابًا، ونَذِرَ بهم فهربوا، فرتَّب الملكُ حُرَّاسًا يطوفون حولها كلَّ ليلة (¬4). ¬

_ (¬1) في (م 1): مسجد. (¬2) في (م) و (م 1): فوجد. (¬3) في (خ): يقتلون، المثبت من (م) و (م 1). (¬4) الخبر في المنتظم 15/ 213. ومعنى "نَذِر" هنا: عَلِمَ.

وفي آخر ليلة بقيت من المُحرَّم استتر الوزيرُ عميدُ الدولة، ثم هرب إلى تِكريت، وقد كان استترَ قبل ذلك وسكن دارَ الخلافة، ثم توسَّط القادرُ حاله وخرج، ثم استترَ ثانيًا وخرج إلى تِكريت، وسببُه سوءُ رأيِ جلال الدولة وإطماعِه الأتراكَ فيه والمصادرات. وفي يوم الثلاثاء خامس ربيع الأول صرف أبو الفضل محمد بن علي بن عبد العزيز ابن حاجب النعمان عن كتابة القادر، وكانت مدةُ كتابته سبعةَ أشهر وعشرين يومًا، وتوصَّل عميدُ الرؤساء أبو طالب محمد بن أيوب إلى التعلُّق بخدمة القائم، فتمَّتْ له كتابتُه، وعاونَه ريحانٌ خادمُ القائم، ونُقِلَ إلى الخليفة عن أبي الفضل أشياءُ أوحشَتْه منه، فأبعدَه وسلَّم الكتابة إلى أبي طالب. وفيها وَزَرَ النفيسُ مُعِزُّ الملك أبو الفتح محمد بن الفضل بن أزدشير لجلال الدولة. قال هلال: وفي هذا الوقت وردَ مَنْ أخبر بما جرَتْ عليه الأمور بخُراسان بعد وفاة محمود، فقال: لمَّا مات محمود اتَّفق أبو الحسن علي خشاوند الحاجب وأبو علي حُسينك الوزير، وبينهما مودَّةٌ ومصافاةٌ على إمضاء وصية محمود في ترتيب محمدٍ ولدِه من بعدِه، فكاتباه، فورد، واجتمعت كلمةُ الجند على تأميره، وأطلقَ لهم الأموال، واستولى على البلاد والقلاع، وورد مسعود إلى نيسابور، وقد جرَتِ الأمورُ على ذلك فأقام، واختلفت بينه وبين أخيه محمدٌ مراسلاتٌ، ومال الجند إلى مسعود؛ لقوَّةِ نفسه، وزيادةِ فضله، وتمامِ هيبتِه، وكثرةِ حشمتِهِ، وراسلَه القُوَّاد، واستمال عليًّا الحاجبَ واجتذبه، وحدث بين الحاجب وحُسينك الوزير فسادٌ، فقبض عليه، واعتقله في القلعة، وسار محمدٌ يُريد قتال أخيه، فبرك بكساباذ، وقد تغيَّر الجند عليه، ومالوا إلى مسعود، فخاف الحاجبُ أن يعلنوا بذكر مسعود من غير أن يظهر منه أثرٌ في خدمته، فقبض على محمد، وأصعده إلى قلعةٍ هناك، ونَهَبَ العسكرُ سوادَه وكراعَه، وسارَ أكثرُهم إلى مسعود، وبعث الحاجب أخاه مدركًا إلى مسعود يُعرَفه بما فعل، فخلع عليه الخِلَعَ الجليلة، ولقَّبه بحاجب الحُجَّاب، فقال: أيها الملك، إذا عامَلْتَني هذه المعاملة، فأيُّ شيء يبقى لعبدك أخي؟ فقال: ذاك خليفتي على ممالكي، والمقدَّمُ على

عساكري. فكتب إلى أخيه بذلك، فاغترَّ وسعار إلى هَراة، فلمَّا دخل على مسعود أمر به وبمدرك أخيه، فقبض عليهما، وأخذ أموالهما. وفي رواية: قال ابن الصابئ: لمَّا وَلِيَ محمدٌ انهمك على الشرب واللَّذات، وسلم بابه إلى الحاجب والوزير، واعتمد عليهما، فوثب الحاجبُ على الوزير، فقبضه لمنافسة بينهما، ولم يعلم محمدٌ؛ لاشتغاله بما هو فيه، فلمَّا علم أمرَهما بالمصالحة، فثقُلَ ذلك على الحاجب وتغيَّر عليه، ووافى [مسعودٌ] (¬1) نيسابور، فخرج محمدٌ لقتاله، ولمَّا وصل إلى بكساباذ يوم الخميس سلخ رمضان أقامَ يومَه صائمًا، ثم عيَّدَ وأفطر، ورجعَ إلى عادته من الشُّرب، واتَّفق الجندُ على عَزْلِه، ووافقهم يوسفُ عمُّه وعليٌّ الحاجبُ، فراسلوه وقالوا: أضعتَ الأموال، وأهملتَ الأمور، وتشاغَلْتَ بالشُّرب على التدبير، ولا يستقيم [بكَ أمرٌ، ولا يستتمُّ] على يدِكَ ملكٌ، فإمَّا مضَيتَ مع عمِّكَ إلى أخيك مسعود، وإمَّا أن تقصد هذه القلعة فتقيمَ فيها، فلمَّا رأى الجندَ عليه، وفارقَه حاشيتُه، صَعِدَ إلى القلعة، فوكلوا به فيها، ومضى يوسفُ وعلى الحاجبُ إلى مسعود، فقبض عليهما وعلى وجوه الدولة وقتلَهم، وأخذ أموالهم، وكان مسعود قد أظهر بنيسابور، وورد كتابُ الخليفة عليه بتقليده خراسعان، وتلقيبِه إيَّاه الناصر لدين الله، الحافظ لعباد الله، ظهير (¬2) خليفة الله، ولبس خِلَعًا وتاجًا وطوقًا وسِوارين، وركب وتحته فرسٌ بمركب ذهب، وبين يديه مثلُه، وعلى رأسه لواءان، وادَّعى أنَّها خِلَعُ الخليفة، فكان هذا ممَّا زاد أمرَه قوةً، والناسَ رغبةً فيه وطاعةً له، وكتب إلى الخليفة في هذا المعنى، وأطلق المِيمَندي واستَوْزَره، وكان محمود قد صادره، وأخذ منه خمسة آلاف ألف دينار عينًا، وبألف ألف دينار جوهرٍ وثيابٍ وأثاثٍ وغيرِه، وقتل مسعودٌ عليًّا الحاجبَ وأخاه مدركًا، وهَمَّ بإطلاق الوزير حسينك، فأُغري به، وأظهر ورود كتاب الخليفة بقَتْلهِ وصَلْبِه ورَجْمِه، فصُلِبَ، فكان الرجل يرميه بحجر ويقول: هذا بأمر مولانا أمير المؤمنين. ثُمَّ حُطَّ وسُلِّمَ إلى أهله، فدفنوه، وسَمَلَ محمودٌ أخاه محمدًا في القلعة. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة والزيادة الآتية من (ف). (¬2) في (خ): ظهر، والمثبت من (ف).

وفي ربيع الأول تجدَّدت ببغداد فتنةٌ عظيمةٌ، وسببُها أنّ الحركي (¬1) الصوفي طلب الجهاد من الخليفة، فأذِنَ له، وأُعطيَ المُنْجوقَ (¬2) والمنشور (¬3) بذلك من دار الخلافة، فاجتمع إليه لفيفٌ كثيرٌ، وعبر إلى جامع المنصور للصلاة فيه وقراءة المنشور، فاجتاز بالمحالِّ العربية -وبين يديه العامة- بالسلاح، وأعلنوا بذكر أبي بكر رضوان الله عليه، فخرج إليهم أهل الكَرْخ، وثارتِ الفتنةُ، ومزَّقوا المُنْجوقَ، ونادى الناسُ: النفيرَ النفيرَ، ووقع القتالُ، ومُنِعَتِ الصلاةُ، ونُهِبَتْ دارُ المرتضى، واحتمى له الأتراك جيرانُه، ووقعتِ الحربُ، واحترق الكَرْخُ، وركبَتِ العساكرُ، وأشرف أهلُ الكَرْخِ على خُطَّةٍ عظيمةٍ، فكتب الخليفةُ إلى الملك والإسْفَهسلارية، وأنكر عليهم إنكارًا عظيمًا، ونسَبَ إليهم تمزيقَ المُنجوق، فركبَ الوزيرُ، ودخل بين الصفَّين، فجاءته آجُرَّةٌ في صدره، وسقطَتْ عِمامتُه من رأسه، وعاد موهونًا، وقُتِلَ جماعةٌ من أهل الكَرْخِ ومن الأتراك، وقُتِلَ الغازي، واحترق الجانبُّ الغربيُّ، وكان السبب سقوطَ هيبة السلطنة. وفيها نقِبَتْ دارُ المملكة ثانيًا، ولم يَبْقَ إلا أخذُ حُرَمِ الملك أبي كاليجار المعتقلين بها وبدربهم، فهربوا، ونُقِلَ الحُرَمُ إلى مكان آخر، ثم أُطْلِقوا بعد ذلك. وفي شعبان لَحِقَتِ الخليفةَ شَكاةٌ، وأُرجِفَ عليه، فانتقل مَنْ كان ملتجئًا إلى داره عنها، ونَقَلوا أموالهم، وطولِبَ القائمُ بمال البيعة، وضجَّ الأتراكُ، ثم عُوفيَ الخليفة، فسكن الناس. وفي رمضان اجتمع الأتراكُ، وشكَوا جلال الدولة وإغفاله أمورَهم، وراسلوا الحُجَّاب بقَطْعِ خُطبَتِه يومَ الجمعة إلى أن يستقِرَّ حالُهم ورأيُهم على من يرونه أهلًا، وعرَفَ الملكُ ذلك، فقَلِقَ، وأرسل إلى الإسْفَهسلارية وجميعِ العساكر، ووعدهم وأعطاهم، وعزَمَ الملكُ على الركوب إلى الجامع ليُطفئَ هذا الأمرَ، وحلفَ لهم، واستمال الكبارَ منهم، فتوقَّفَ الحالُ، ثمَّ اجتمع الغِلمانُ، وعاتبوا المُقدَّمين، وبعثوا إلى الخليفة يقولون: نحن عبيد مولانا، وقد علم ما عليه هذا الملك من اطِّراحنا، ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ (خ) (ف)، وفي المنتظم 15/ 123: الخزلجي، وفي تاريخ الإسلام 9/ 342: الحرمي. (¬2) المُنجوق: الراية. المعجم الذهبي ص 548. (¬3) المنشور: بيان العسكر. المعجم الوسيط (نشر).

ونريد [أن] (¬1) نقطع خطبتَه، فخرج الجواب: أنَّنا على النيَّة التي تعرفونها في المراعاة لكم، وهذا الرجل مولاكم، وشيخُ بني بُوَيه اليوم، وله في عُنُقِنا عهودٌ، وإذا أنكرتم منه أمرًا ردَدْناه عنه. فانصرفوا غيرَ راضين، فلمَّا كان من الغد حضر قومٌ منهم جامع الرُّصافة، ومنعوا الخطيبَ من ذِكْرِ الملك، وضرب أحدُهم يدَه بخشبة زوبين، وخاف الناسُ الفتنةَ، فتفرَّفوا من غير صلاة، وتكرَّرتِ الرسائلُ بالشَّكوى إلى الخليفة والحُجَّاب، ثم تقرَّر الحالُ في التوسُّط بينهم، فاجتمع الأكابر، وضَمِنوا عن الملك ما اقترحَ الغِلمانُ، فسكنوا، وخرج توقيعُ الخليفة يقول بأن لبني بُوَيه علينا حقوقًا وعهودًا يلزمُنا الوفاءُ بها، ولم يَبْقَ منهم إلا جلالُ الدولة شيخُهم المقيمُ عندنا، وأبو كاليجار ابنُ أخيه المقيمُ بالأهواز، والأَوْلى أن تعرِفوا حَقَّ مولاكم الحاضِرِ عندكم، والمتولِّي لأموركم، وتقبلوا من أكابركم، ونحن نكتبُ إلى جلال الدولة بما ذكرتُم، ونبعثُه على النظر في أموركم، وكتب الخليفة إليه، فجاء الجواب: قد كُنَّا في قُطرٍ من المملكة وأمورُنا مستقيمة، وهيبتُنا قائمة، ومواردُنا دارَّةٌ، ومعنا أموالٌ ووزيرٌ وخيلٌ وغِلمانٌ وتجمُّلٌ، فدعونا إلى هذه الحضرة، فتركنا الأمور على حالها، وأقررنا الجماعةَ على رسومها، ولم نتعقب أحدًا بإزالةِ نعمة، ولا أخذناه بتقديم إساءة، ثم اقترح علينا صرفَ الوزير الَّذي كان معنا المتخرم بنا، ففعلنا، وولَّوا من أرادوه، وتوجَّهنا إلى الأهواز، فغنموا ما غنموا من الأموال، ولم يُتعرَّضْ لهم، ولم يقنعوا حتَّى طالبونا مطالبةً أخذوا بها ما كان حصل لنا، وأقمنا على أصعب خِطَّة (¬2)، والآن فلا مال في أيدينا، والمطالبة لنا به ضربٌ من العبث، فإن قصدوا الصلاح فطريقه واضح، وإن أرادوا التجنِّي فما يُدفع بشيء، ونسألُ اللهَ حُسنَ المعونة. فقُرئ الكتاب، فبعضُهم قال: صدق، وفريقٌ قالوا: أَيش نعمل. وانفصل الحالُ أنَّ الملك وحاجبَ الحُجَّاب والأكابرَ ينحدرون إلى واسط ليُدبِّروا أمر البصرة، ويكون بعد الإفطار، وسكنت الفتنةُ، واستمرَّت الخطبة للملك. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف). (¬2) في (ف): على أضعف خطبة.

الباب السادس والعشرون في خلافة القادر بأمر الله

وفي سلخ رمضان كان المهرجان، فلم يجلسِ السُّلطان، ولا ضُرِبَتِ البوقاتُ والطبولُ، وأصبح يوم الفطر، واستمرَّ الحالُ ولم يُضرَبْ طبلٌ ولا بوقٌ، ولا نُشِرَ عَلَمٌ [ولا فُعِلَ شيءٌ ممَّا جرت به العادة]، وعادت الفتنُ إلى حالها. وفيها قُتِلَ أبو علي الحسن بن علي بن ماكولا بالأهواز، قتله غلامٌ له يُعرف بعدنان، كان يجتمع مع امرأةٍ في داره [على فاحشةٍ]، وعَلِمَ، فخافا منه، وساعدهما فرَّاشٌ كان في داره، فغَمَّوْه وعصروا خُصاه، فمات، وأظهروا أنَّ قومًا كبسوه ليلًا، وأُخِذَ الغلامُ والفرَّاشُ وضُرِبا، فأقَرَّا، فصُلِبا، وحُبِسَتِ المرأةُ (¬1). وفي ذي الحجَّة تُوفِّي الإمام القادرُ بالله أمير المؤمنين. الباب السادس والعشرون في خلافة القادر بأمر الله (¬2) واسمه عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن جعفر، المقتدر، أبو جعفر، وأمُّه بدر الدُّجى أمُّ ولد، أرمينية. وقيل: قطر الندى، أدركت خلافتَه، وصبرت على الشدائد أيام البابسيري، وتوفِّيت في رجب سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة. ومولده يوم الجمعة ثامن عشر ذي القَعدة سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة، وقُتِلَ يوم الخميس، وبُويع في الحادي عشر من ذي الحِجَّة يوم الاثنين. وقيل: يوم الثلاثاء ثالث عشره وسِنُّه إحدى وثلاثون سنة. وقال هلال بن الصابئ: في ليلة الاثنين الحادي عشر من ذي الحجَّة على ساعةٍ مضَتْ منها تُوفِّي القادر، وأُظهِرَ موتُه في صبيحتها، وحضر حاجبُ الحُجَّاب أبو المظفر والمتبجِّج (¬3) والمختصُّ أبو غانم والإسْفَهسلارية ومؤيَّد الملك أبو علي والأشراف والقُضاة والعدول وطبقات الناس، وقام حاجب الحجاب والمتبجِّج على باب المراتب، والمختص على باب الحلبة؛ إشفاقًا من فتنةٍ تحدث، فلم يكن إلَّا السكون، فلمَّا كان وقت العصر استُدعيَ الخواصُّ ومنهم مَنْ ذكرنا، والشريفُ ¬

_ (¬1) ينظر المنتظم 15/ 221. (¬2) المثبت من (خ)، وفي (ف): القائم بأمر الله، ووقع في مصادر الترجمة: القادر بالله. (¬3) هكذا وقع رسمها في النسختين (خ) و (ف)، والله أعلم بالصواب.

المرتضى، ونظامُ الحضرتين أبو الحسن الزينبي، وقاضي القُضاة أبو عبد الله الحسين بن علي، والأشراف، والعلماء إلى دار السلام، فأُجْلِسوا هناك، وخرج القائم من وراء سَبَنيَّة (¬1)، فصلَّى بالحاضرين المغرب، وصلَّى بعدها على تابوت القادر، وكبَّر عليه أربعًا، ثم جلس في دار الشجرة على كرسيٍّ، وعليه قميصٌ ورداء، ووصل القومُ إلى حضرته حتَّى بايعوه، وكان يقال للرجل: بايِعْ أميرَ المؤمنين الإمامَ القائمَ بأمر الله على الرضا بإمامته، والالتزام بشرائط طاعته. فيقول: نعم، ويأخذ يدَه فيُقبِّلها، وأول من بايعه الشريف المرتضى، وأنشده شعرًا في المعنى، وحضر من الغد الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر فبايعه، وكتب إلى الآفاق بالبيعة، وأخذ حاجبُ الحُجَّاب البيعةَ على الملك والأسْفَهسلارية والأتراكِ وغيرِهم، ولم يحضُرْ جلالُ الدولة البَيعة؛ لأنَّ الأتراك شغبوا لأجل مال البيعة، وتكلَّم تركيٌّ بما لا يليق في حق الخليفة، فقُتِلَ، وبلغ الأتراكَ، فخافوا وراسلوا حاجبَ الحُجَّاب، وقالوا: إن كان هذا برأي الخليفة انصرَفْنا عن هذا البلد، وإلا فنريد القتال لنُقيدَه بصاحبنا. فطالع الخليفةُ، فخرج الجواب: نحن مُنكِرون من هذا الأمر ما أنكروه، والذي جرى ما كان عن رأي ولا إرادة، وإنما هو من فِعْلِ رَعاعٍ لا يعرفون، وسفهاءَ لا يُضبَطون، وفي مقابلة قولٍ من المقتول تجاوزَ فيه قَدْرَه، وتعدَّى فيه طورَه، والآن فهؤلاء الغِلمانُ جندُنا، وأبناءُ دولتِنا، وأنصارُ دعوتِنا، ونحن لهم حامدون، وما ندبّ أن يتخالجهم شَكٌّ ولا ارتيابٌ بجميل الاعتقاد فينا، وعلى هذا فما يُدفَعُ طلبُ القاتل وإمضاءُ حدِّ الله فيه، والسلام. وقُرِئَتْ عليهم هذه الورقة، فأزالت كثيرًا من نفورهم، وجلسوا للعزاء سبعةَ أيام، وتأخَّر الملك عن البيعة، وأظهر أن ذلك بسبب الأتراك؛ محاماةً لهم، وراسلوا الخليفة بسبب مال البيعة، فقال: إن الخليفة المتوفَّى لم يُخلِّفْ مالًا ولا ذخيرةً، ولو كان عندنا مالٌ لدفعناه لمن هو مقيمٌ عندنا من الغِلْمان، ثمَّ مَنْ تقدَّم من الأمراء لم يُطالبوا الخلفاءَ بمثل هذا، ولا يُفتَحُ هذا البابُ علينا. فأفضتِ الحالُ أن باع الخليفةُ بستانًا وخانًا من أنقاض داره وأعطاهم ثلاثة آلاف دينار. ¬

_ (¬1) السَّبَنيَّة: ضربٌ من الثياب تُتَّخذ من مُشاقة الكتان أغلظ ما يكون. اللسان (سبن).

وفيها بعث ملكُ الروم عسكرًا فأخذ الرُّها، وسبَبُه أنَّ أبا نصر بن مروان صاحب ميَّافارقين كان قد انتزعها من يد رَجُلٍ -يقال له: عُطير- وابنِ شِبْلٍ كانا من بني نمير، وقتل عُطَيرًا، فتعصَّب لهما صالح بن مِرْداس، وتوسَّط لابن عُطَير ولابن شبل بردِّها عليهما وتكون مناصفةً بينهما، فأجاب ابنُ مروان، وكان بها بُرْجان عظيمان، فأخذ ابنُ عُطَير البُرجَ الأكبر، وابنُ شبل الأصغر، واستناب ابنُ عُطَيرٍ في بُرجه رجلًا يقال له: سليمان الكوجري، فاستوحش من ابن عُطَير، فراسلَ الرومَ، وباع البُرجَ بعشرين ألف دينارٍ روميَّةٍ، وأربعِ ضياعٍ في نواحي الروم، وسلَّمه إليهم، فجاء الرومُ وأقاموا فيه، فاستوحش أهلُ الرُّها، وخرجوا بأولادهم وأموالهم بعد أن نال منهم النصارى وهدموا المساجد، فبعث ابنُ مروان عسكرًا من الأكراد فحصروا الرُّها، وهدموا بعضَ سورها، وانهزم الرومُ إلى البُرج، والنصارى إلى البِيعة المشهورة، فنازلهم العسكرُ حتَّى فتح الكنيسة، وسبى النصارى ونهبَهم، وحاصروا البُرجَ -وكان وثيقًا- ونزل الثلج، فلم يُمكنهم المُقام، وكان مُقدَّمَ العسكر رجلٌ يُكنى أبا سليمان بن بلاسون، فرجع إلى ميَّافارقين، وكتب ابنُ مروان إلى ملك الروم: قد علمتَ ما جرى عليكَ في قصد حلب -وكان قد قصدَها في أربع مئة ألفٍ، فرجع خائبًا، بعد أن أخذوا جميعَ ما كان معه، وقتلوا رجاله- وأنَّ المسلمين لا يفارقونك على أخذ الرُّها، وأُشير عليك بالرجوع عن هذا. فلم يلتفِتْ، وبعث عشرة آلاف رجل، فبنَوا ما هدمه سليمانُ من سورها، وخرجوا فنهبوا صرحها. وكان ابنُ وثَّاب النُّميري بحرَّان (¬1)، فهادنهم على حرَّان وسَرُوج، وقُرِّر عليه أتاوةٌ في كلِّ سنة يحملها إليهم الدِّزْبِري الَّذي قتل صالح بن مِرْداس، وقد طلبَ حسانَ بن المُفرِّج الطائي وشرَّدَه وشرط فاميا كلَّها، وكان حسان ينتقل من مكان إلى مكان، فألجأتْه الضرورةُ أن دخلَ في طاعة ملك الروم، ورفع الصليبَ على رأسه، وضمَّ إليه ملكُ الروم عسكرًا، وبعثَه إلى أفامية فكبسها، وسبى كثيرًا منها، وبلغ الدِّزْبِريَّ، فنادى في الشام بالاستنفار والغزو. ¬

_ (¬1) في (ف): بخراسان، وهو تحريف.

القادر بالله

وفيها استولَتْ عساكرُ خراسان على الريِّ، وأخرجوا منها علاءَ الدولة بن كاكويه بعد قتالٍ شديد جرى بينهم، وكان مُقدَّمَ العساكر الخراسانية ياسٌ الفرَّاشُ ورَدَ إليها في ذي الحجَّة ومعه ثلاثةُ أفيِلَة من فِيَلَةِ مسعود بن محمود، فهجم الريَّ والفِيَلَةُ بين يديه، فانهزم ابنُ كاكويه. ولم يحجَّ في هذه السنة أحد من العراق. وفيها تُوفِّي القادرُ بالله (¬1) واسمه أحمد بن إسحاق بن جعفر المقتدر، وكنيته أبو العباس، وأمُّه يمنى مولاة عبد الواحد بن المقتدر، ولد يوم الثلاثاء تاسمع ربيع الأول سنة ست وثلاثين وثلاث مئة، وتقلَّد الخلافة سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة، وكان أبيضَ، حسنَ الجسم، كثَّ اللحية، [وكان] يخضب. [قال الخطيب]: وكان من [أهل] الستر والصيانة، [والعفَّة والديانة، وإدامة الصلوات، وكثرة الصيام] والصدقات، وحُسْنِ الطريقة، وصحةِ الاعتقاد، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، على مذهب مشهور، وصنَّفَ كتبًا كثيرةً في فنون، منها: كتابٌ في أصول الدين، وكتابٌ في فضائل الصحابة وعمر بن عبد العزيز، وكتابٌ كفَّر فيه القائلين بخَلْقِ القرآن، وكانت كتبه تُقرأ في كلِّ جمعة بجامع المهدي، وبحضرة القُضاة والعلماء والأعيان، و [ذكر محمد بن عبد الملك الهَمْداني أن القادر] كان يتنكَّرُ ويلبَسُ زِيَ العوام، ويقصد الأماكن المعروفة بالبركة، كقبر معروف الكَرْخي وتربة (¬2) ابن يسار. وقال الحسين بن هارون القاضي: كان بالكَرْخ يتيمٌ وله دكَّانٌ له قيمة، فأمرني ابنُ حاجب النعمان أن أفُكَّ عنه الحَجْرَ ليبتاع منه الدكَّان، فلم أفعل، فأنفذ يستدعيني، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 37 - 38، والمنتظم 15/ 220 - 221. (¬2) تصحفت في (خ) و (ف) إلى: يزيد، والمثبت من (م) و (م 1)، وابن يسار هذا هو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السيرة، واسم التربة المدفون فيها: تربة الخيزران، وهي شرقي قبر معروف الكرخي. ينظر تاريخ بغداد 1/ 123.

فقلت لغلامه: تقدَّمْ حتَّى ألحقَكَ. ففعَلَ، وجئتُ إلى قبر معروف، فدعوتُ الله أن يكفيني شرَّه، وجئتُ إلى قبر ابن يسار، فرآني شيخٌ وأنا أدعو، فقال: أيها القاضي على مَنْ تدعو؟ فقلت: على ابنِ حاجبِ النعمان، أمرني بكذا وكذا. فأمسكَ عني، وجئتُ إلى ابنِ حاجب النعمان، فجعل يخاطبني خطابًا غليظًا في فكِّ الحَجْر عن اليتيم، وأعتذِرُ فلا يقبَلُ عُذري، وإذا قد وافاه خادمٌ بتوقيع، ففتحه وقرأه، فتغيَّر لونُه ثم عدل من الغِلْظة إلى الاعتذار، وقال: كتبتَ إلى الخليفة قصةً؟ قلتُ: لا واللهِ، وعلمتُ أنَّ الشيخ الَّذي التقاني هو القادر، وأنه كتب إليه ينهاه عني. وكان القادرُ يوصل الرسوم في كل سنةٍ إلى أربابها من غير أن يكتبوا له قصصًا، فإن مات أحدٌ منهم أُعيد ما يخصُّه إلى ورثته، وبعث يومًا إلى ابن القزويني الزاهد يسأله أن يُنفِذَ إليه من طعامه الَّذي يأكله، فأنفذ إليه طبقًا من خِلاف (¬1)، فيه من غضائرَ (¬2) لِطاف، بانذنجان، وباقِلَّاء، ودبس، وعليها رغيفان من خبز البيت، وشدَّ ذلك في مئزر قطن، وبعث به إليه، فتناول الخليفة من كلِّ لون، وفرَّق الباقي، وبعث إلى ابن القزويني بمئتي دينار، فلمَّا كان بعد أيام أنفذ يلتمس منه شيئًا من إفطاره، فأنفذ طبقًا جديدًا فيه زباديُّ جِياد، فراريجُ وقطعةُ فالوذٍ وخبزُ سعيد ودجاجةٌ مشوية، وقد غطَّى ذلك بفوطة جديدة، فلمَّا وصل ذلك إلى الخليفة تعجَّب وقال: قد كلَّفْنا الرجُلَ ما لم تَجْرِ له به عادة، وأرسل إليه: لِمَ تكلَّفْتَ؟ فقال: ما تكلَّفتُ، وإنما اعتمدتُ ما أمرني الله به، إذا وسَّعَ عليَّ وسَّعتُ على نفسي، وإذا ضيَّقَ عليَّ ضيَّقتُ، وقد كان من إنعام أمير المؤمنين ما عُدْتُ به على نفسي وجيراني. فعجبَ القادرُ من دينه وعقله، ولم يزَلْ يواصله بالعطاء. وكان القادر يقسم الطعام الَّذي لإفطاره ثلاثةَ أقسام؛ فقِسمٌ يتركه بين يديه، وقِسمٌ يبعثه إلى جامع الرُّصافة، وقِسمٌ إلى جامع المنصور، فاتَّفق أنَّ الفرَّاش حمل إلى جامع المنصور جُؤْنةً فيها طعام، ففرَّقه على المنقطعين، فأخذوا، إلَّا شابٌّ [فإنه] (¬3) لم يأخُذْ، فلمَّا صلَّى المغربَ خرج الشابُّ من الجامع، فتبِعَه الفرَّاشُ، فوقف على باب ¬

_ (¬1) الخِلاف: نبات الصفصاف. المعجم الوسيط (خلف). (¬2) الغضائر: أواني فخارية أو خزفية مصنوعة من الصلصال. ينظر تكملة المعاجم 7/ 419. (¬3) هذه الزيادة من (ف).

فاستطعم، فأطعموه كُسيراتٍ، فأخذها وعاد إلى الجامع، فتعلَّق به الفرَّاش وقال: أما تستحي، يُنفِذُ إليك خليفةُ الله في أرضه طعامًا حلالًا فتردُّه، وتخرج فتستَطْعِمُ من الأبواب؟ فقال: ما ردَدْتُه إلَّا لأنَّك عَرَضْتَه عليَّ قبل الإفطار، وكنتُ غيرَ محتاجٍ إليه حينئذٍ، فلمَّا جاء وقتُ الإفطار استطعَمْتُ وقتَ الحاجة. فعاد الفرَّاشُ وأخبر القادرَ، فبكى، وقال: راعِ مثلَ هذا، واغتنِمْ أجرَه، وأقِمْ إلى وقت الإفطار، وادفَعْ إليه ما يُفطِرُ عليه. وقال أبو الحسن الأبهري: بعثني بهاءُ الدولة من الأهواز برسالة إلى القادر بالله، فلمَّا أذن لي في الدخول عليه، سمعتُه ينشد: [من الكامل] سبقَ القضاءُ بكُلِّ ما هو كائنُ ... واللهُ يا هذا لرزقِكَ ضامِنُ تَعنى بما تُكفى وتترُكُ ما بِهِ ... تَغْنَى كانَّك للحوادثِ آمِنُ أوَ ما ترى الدنيا ومصرعَ أهلِها ... فاعمَلْ ليومِ فِراقِها يا خائِنُ واعلَمْ بأنَّكَ لا أبا لَكَ في الَّذي ... أصبحْتَ تملِكُهُ لغيرِكَ خازِنُ يا عامر الدُّنيا أتعمُرُ منزلًا ... لم يَبْقَ فيه مع المنيَّةِ ساكِنُ الموتُ شيءٌ أنتَ تعلَمُ أنهُ ... حقٌّ وأنتَ بذِكْرِهِ مُتهاونُ إنَّ المنيةَ لا تؤامِرُ مَنْ أتَتْ ... في نفسِهِ يومًا ولا تستأذِنُ (¬1) فقلتُ: الحمد لله الَّذي وفَّقَ أميرَ المؤمنين لإنشادِ مثلِ هذه الأبيات، وتدبُّرِ معانيها، والعملِ بمضمونها. فقال: يا أبا الحسن بل لله مِنَّةٌ علينا إذ ألهَمَنا بذِكْرِه، ووفَّقَنا لِشُكرِه، ألم تسمع قول الحسنِ البصريِّ وقد ذُكِرَ عنده أهل المعاصي، فقال: هانوا عليه فعصَوه، ولو عزُّوا عليه لعصَمَهُم. ذكر وفاته: تُوفِّي القادر [بالله] ليلةَ الاثنين الحادي عشر من ذي الحجَّة، ودُفِنَ ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء في دار الخلافة بعد أن صلَّى عليه ابنُه القائمُ بأمر الله ظاهرًا، وعامَّةُ الناس وراءه، وكبَّر عليه أربعًا، ولم يزَلْ مدفونًا في الدار حتَّى نُقِلَ تابوتُه، وحُمِلَ في الطيَّار ¬

_ (¬1) قائل هذه الأبيات أبو العتاهية، وهي في ديوانه ص 381 - 382.

عبد الوهاب بن علي

ليلًا إلى الرُّصافة فدُفِنَ بها ليلة الجمعة لخمسٍ خَلَوْنَ من ذي القَعدة سنة ثلاث وعشرين وأربع مئة، وعمره ستٌّ وثمانون سنة وعشرةُ أشهر وواحدٌ وعشرون يومًا، و [كانت] مدة خلافته إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر وواحد وعشرين يومًا، ولم يبلُغْ هذا العمر من الخلفاء أحدٌ قبلَه، ولا أقامَ في الخلافة قبلَه هذه المدة، وبيان امرءًا صالحًا، تقيًّا ورِعًا، حسنَ الخليقةِ، جميلَ الطريقةِ، صَلِفَ النفسِ (¬1)، كثيرَ المعروف، أقام ابنَ حاجب النعمان في كتابته اثنتين وثلاثين سنةً وستةَ أشهرٍ وأيامًا، وحجب جماعة آخرهم منصور بن طاس، وأبو منصور بن بكران، وقاضيه أبو عبد الله الحسين بن هارون الضبِّي، وعبد الله بن محمد الأسدي، وعبد العزيز بن أحمد الجزري، وأحمد بن محمد بن أبي الشوارب، ومحمد بن الحسن الواسطي، ومضَتْ هذه الجماعةُ في أيامه، وآخِرُ من قضى له ووقعت الوفاةُ عنه أبو عبد الله الحسين بن علي ابن ماكولا. [وفيها تُوفِّي] عبد الوهاب بن علي ابن نصر بن أحمد، أبو محمد، القاضي، البغدادي، [المالكي]، الفقيه، المصنِّف، [ذكره الخطيب (¬2) وأثنى عليه وقال: كتبتُ عنه]، لم يكُنْ في المالكيين أفقهَ منه، ولي القضاء بباكسايا وغيرِها، وخرج من العراق لإضاقته إلى مصر، فأقام بها. وحصَلَ [له] (¬3) من المغاربة مالٌ عظيمٌ، وبيان شاعرًا فصيحًا، قال يتشوَّقُ إلى بغداد: [من الطويل] سلامٌ على (¬4) بغدادَ في كلِّ موقفٍ ... وحُقَّ لها منِّي سلامٌ (¬5) مُضاعَفُ فواللهِ ما فارقتُها عن قِلًى (¬6) لها ... وإنِّي بشَطَّي جانبيها لَعارِفُ ¬

_ (¬1) صَلِفُ النفس: قليل حظِّ النفس. اللسان (صلف). (¬2) تاريخ بغداد 11/ 31. (¬3) ما بين حاصرتين من المنتظم 15/ 221، والكلام منه. (¬4) في (خ): إلى، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في المنتظم وغيره. (¬5) في (خ): السلام. (¬6) في (م) و (م 1): عن قليلها.

السنة الثالثة والعشرون والأربع مئة

ولكنَّها ضاقَتْ عليَّ بأسرِها ... ولم تكُنِ الأرزاقُ فيها تُساعِفُ فكانَتْ كخِلٍّ كُنْتُ أهوى دُنُوَّهُ ... وأخلاقُهُ تنأى بهِ وتُخالِفُ [قال الخطيب]: وتوفي بمصر في شعبان. [وذكره ابن عساكر (¬1) وقال]: قدم دمشق سنة تسعَ عشرة وأربع مئة مُجتازًا إلى مصر، فعبر بالمعرَّة على أبي العلاء، فأكرمه وأضافه، ومدحه بأبيات منها: [من البسيط] والمالكيُّ ابنُ نصرٍ زارَ في سفرٍ ... بلادَنا فحَمِدْنا النأيَ والسَّفرا [وذكره أبو الحسن علي بن بسَّام في كتاب "الذخيرة " وأبو إسحاق الشيرازي وأثنى عليه. وقال ابن بسَّام والخطيب]: ولمَّا خرجَ من بغداد ودَّعه جماعةٌ من أهلها، فقال: واللهِ لو وجدتُ عندكم كل يومٍ رغيفي خُبزٍ ما طلعتُ (¬2) من عندكم. والخبزُ يومئذٍ ثلاثُ مئة رطلٍ بدينار، وهذا [في] غاية الذمِّ [لهم؛ لأنَّه] أرادَ يُعرِّفهم سقوطَ همَّتِهم [وخِسَّةَ نفوسهم، فقال أبو إسحاق الشيرازي: ولمَّا خرج من بغداد] قال: [من البسيط] بغدادُ دارٌ لأهلِ المالِ واسعةٌ (¬3) ... وللصَّعاليكِ دارُ الضَّنْكِ والضيقِ أصبحتُ فيها مُهانًا في أزِقَّتِها ... كانَّني مُصْحَفٌ في كفِّ زِنْديقِ حدَّث عن ابن شاهين وغيرِه، وروى عنه [الخطيب و] أبو إسحاق الشيرازي وغيرُهما، وكان ثقةً. السنة الثالثة والعشرون والأربع مئة فيها في يوم الجمعة لستٍّ خَلَونَ من المُحرَّم خرج الناس يستسقون بأمر الخليفة، فتردَّدوا أيامًا إلى المساجد الجامعة، فلم يُسقَوا. وفي يوم عاشوراء فعل أهل الكَرْخ ما جرت به العادة من النَّوح، وتولَّى ذلك العيَّارون، ولم يلتَفِتوا إلى السَّلطنة (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 44/ 103 (طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق). وليس فيه ذكر البيت. (¬2) في (م) و (م 1): خرجت، وكلاهما بمعنى. (¬3) في (م) و (م 1): طيبة. (¬4) الخبران بنحوهما في المنتظم 15/ 222.

[وقال ابن الصابئ]: وفي يوم الاثنين سادس عشر منه خرج توقيعٌ من دار الخليفة من إنشائه وكلامه بإقرار قاضي القضاة على ما يتولَّاه، وفيه دليل على فضل القائم. [وكان منه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله العظيم الوهَّاب الكريم، التوَّاب الواحد، ربِّ الأرباب الماجد، مُعْتِق الرقاب، مُنزلِ القطرِ من السحاب، المنعم على المحسنين بجزيل الثواب، المتفضِّل عليهم بكريم المآب، أحمده كما حمده أولو الألباب، وأستعينه استعانة مخلصٍ أوَّاب، وأتوكَّل عليه وأجعله عُدَّةً ليوم المآب والحساب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الخلْقِ من تراب، ومُقدِّرُ آجالهم في الهرم والشباب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اختاره من أطهر الأصلاب، وانتخبه من أشرف الأنساب، فقام بالحقِّ وتعلَّق بالصواب، وقمع به أهل الطغيان، وهدى به إلى أقومِ الأديان، وشرع بعده ولاية الخلفاء المهدييِّن صلوات الله عليهم أجمعين، ولم تزَلْ تتنقَّل في الأئمة الراشدين إلى أن انتقل وآثرَ به اللهُ الإمامَ القائم بأمره أميرَ المؤمنين الذابَّ عن حريم الله، الحافظ لحدود الله، الآمر بأمر الله، النَّاهي عمَّا نهى الله، المجاهد في الله حقَّ جهاده، القائم بعَرْضه (¬1) في عباده وبلاده، واللهُ تعالى يُثيبه على ما يعمله من صحَّة نيَّتِه، ونقاء سريرتِه، ويعينه على العدل والإحسان إلى رعيتِه، وبعد فإنَّ أميرَ المؤمنين لم يَزَلْ منذ أنهضه الله بالخلافة، وأكرمه بالإمامة، وألقى إليه أزِمَّةَ الأمور، وقلَّده سياسة الجمهور، وكان القَضاءُ أَوْلى الأمور بالترتيب، وأجراها بالتهذيب، وقد أعمل أميرُ المؤمنين فِكْرَه فيمن يُسْنِد إليه الأحكام، ويقلِّده القضاء بين الحلال والحرام، ويجعله حجَّةً بينه وبين الله تعالى في هذا المقام، وبين رسوله - عليه السلام -، فكان الحسين بن علي قاضي القضاة منتهى رأيه، ومقرَّ اختياره، لما هو عليه من عفافه وديانته، واستقامت طريقته بعد أن اختبر أحواله فيما ولَّاه، وعرف أنحاءه فيما استقضاه. ثم ذكر كتابًا أوصاه فيه بتقوى الله تعالى واتِّباع رضاه، وفيه: وآسِ (¬2) بين الناس في مجلسك، لئلَّا يطمع شريفٌ في حَيفك، ولا يُحافَ ضعيفٌ من جَورِك، البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر، والصُّلح بين ¬

_ (¬1) العَرْض: سعة القدرة والطاقة، وسعة العلم والعرفة. تكملة المعاجم 7/ 177. (¬2) أي سَوِّ بينهم واجعل كل واحدٍ منهم إِسْوَة خصمه. اللسان (أسا).

المسلمين، ولا يمنعك قضاءٌ قضيتَه بالأمس أن تُراجِعَ نفسَك فيه اليوم، فإنَّ مراجعة الحقِّ خيرٌ من التَّمادي في الباطل. وذكر آيات العدل والأحاديث الواردة فيه، وذكر حكاية المأمون والمرأة التي كتبت إليه: يا خير مُنْتَصِفِ يُهدَى له الرشد وأنه حكم لها على ولده، وقد ذكرنا الحكاية في ترجمة المأمون، وذُكِرَ في هذا الكتاب: حُدِّثنا عن الشَّعبيِّ، عن ابن عباس قال: ذُكر عيسى ابنُ مريم عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بخِ بخٍ، إن عيسى مرَّ بمقبُرةٍ في يومٍ صائفٍ فقال: يا أهل القبور، ما لكم لا تتكلَّمون، إن لم تُخبرونا بما صنع اللهُ بكم فنحن نخبركم أنَّ نساءكم قد استبدلوا بعدكم أزواجًا، وأنَّ أولادكم قد حُشِروا في زمرة اليتامى، وأنَّ دُورَكم التي بنيتُم قد سكنها غيرُكم، وَوزْرُها عليكم. قال: ونظر إلى قبرٍ متَنحٍّ، فسأل اللهَ أن يُكلِّمه. قال: فخرجَتْ من القبر جُمجُمةٌ فقالت: ما لكَ يا روح الله؟ فقال: منذ كم مِتِّ؟ قالت: منذ سبعين عامًا. قال: فكيف رأيتِ الحساب؟ فقالت: ما زِلْتُ أُحاسَبُ حتَّى سمعتُ النداء: أجِبْ عيسى بنَ مريم. فقال له عيسى: لقد كثُرَ بؤسُكَ في الدنيا، فما كانت معيشتُك؟ فقال: كُنْتُ أكتسبُ بلاغًا، وأُنفِقُ قصدًا، ولم أكُنْ أدَّخِرُ لغدٍ شيئًا، وكنتُ حمَّالًا أحمل القصب، فحملتُ يومًا لجارٍ لي قصبًا، فتناولتُ مه شظيَّةً فتخلَّلتُ ورميتُ بها، فقيل لي: لقيتني ولم تستحِلَّ صاحبَها استخفافًا بحقِّي. قال: فشاب مُقدَّم رأس عيسى وقال: هؤلاء أصحاب الشظايا، فكيف بكم يا أصحاب الأجذاع؟ قال: ومرَّ عيسى بقبرٍ يخرج منه دخانٌ، فقال له عيسى: يا صاحب القبر، ما كنت تصنع في الدنيا؟ فقال: كُنْتُ ملكًا جبَّارًا ظالمًا، أسأتُ السيرة، وأضعفتُ الرعية، وجرْتُ في العصبية، وقتلتُ البريَّة. فقال عيسى: فأخبرني بشيءٍ من سيرتك، فقال: كنت آخذُ الباطل، وأدَعُ الحق، أو أمنعُ الحق. فقال عيسى: ومن أعوانُكَ على ذلك؟ قال: شياطين الإنس. قال: فكيف أطاعوك؟ قال: أرغبتُهم بالدنيا، فنسوا الله فأطاعوني. قال: قال لي: ما صار عاقبةُ أمرك؟ قال: جاءني ملَكُ الموت على غِزَةٍ فأخذني بِكَظْمي (¬1) ما نَهْنَهني (¬2) حتَّى أوقفني على ربي، فلم يسمع لي قولًا، ولا قبِلَ لي عملًا، ¬

_ (¬1) الكظم: مخرج النفس من الحلق. المعجم الوسيط (كظم). (¬2) يقال: نهنههُ، أي: زجره وكفه. اللسان (نهنهه).

وأمر بي إلى النار، فينزعون روحي كما يُنزع السفُّود الكبير من الصوف المبلول. قال: فما فعل أصحابك؟ قال: هم مُقرَّنون في الأصفاد، سرابيلُهم من قطران، وتغشى وجوهَهم النار. قال عيسى: فما دعاؤك فيها؟ قلت: يا ليته كان كلبًا ينهش العظام على المزابل أو خنزيرًا يأكل العذرات، ويا ليته يأكل التراب، ويأوي إلى الخراب. قال عيسى: فما الَّذي أحاط بكم؟ قال: سوء الظنِّ بالله. قال عيسى: فما مُنيتُك منها أن تُعطى؟ فقال: أُرَدُّ إلى الدنيا فآكلُ ترابًا، وأعبدُ ربي حتَّى يَجيئني الموت. فقال عيسى: اللهمَّ إن كان عبدك صادقًا فأعْطِه سؤلَه، وإن كان كاذبًا فأبعِدْ دارَه. قال: فغاب الرجل فلم يُسمع له حِسٌّ. فقال عيسى لأصحابه: انظروا إلى هذا الخبيث لو رُدَّ إلى الدنيا لجاء بالعظمى، ولم يُبالِ بالنُّهبى، ولم يخشَ العُقبى، وأنزل الله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] ". وفي صفر ورد كتابٌ من أبي كاليجار إلى الخليفة يُعزِّيه ويُهنئه بالخلافة، فقُرئ بدار الخلافة بعد أن عُرض على جلال الدولة. وفي صفر وُلدَ الأميرُ أبو نصر فناخسره ابن الملك أبي كاليجار بأَرَّجان. وفيها وُلدَ بإسكاف ولدٌ له رأس وبقية بدنه كالحيَّة [أو المِصْران]، فنطق ساعةً وقال: الناسُ تحتَ غضب منذ أربع سنين، والواجب أن يخرجوا فيستسقوا ليُكشَفَ عنهم البلاء. [قال ابن الصابئ]: فكتب قاضي إسكاف إلى الخليفة بذلك، [وذكر كلامًا طويلًا بذلك]، واجتمع الناس في الجوامع والمساجد بإسكاف (¬1) أيامًا فلم يُسْقَوا ولم يُغاثوا. وفي يوم الجمعة ثالثَ ربيع الأول قطع الأتراكُ الخطبة لجلال الدولة بجامع المنصور، وبلغه فانزعج، ونقل ابنتَه السيدة إلى حيثُ أمِنَ عليها، وأنفذَ بعضَ جواريه إلى دار الخلافة، وخيَّر الباقيات في العتق أو الأخذ لنفوسهنَّ، فبعضهُنَ اختار العتق، وبعضهُنَّ مضى إلى من كُنَّ له من قَبْلُ، وتفرَّقَ عنه حواشيه وأصحابُه، واستتروا، فلمَّا كان يوم السبت راسلوه الانحدار إلى واسط، وقالوا: اليومَ موعِدُك فاخرُجْ، فإنَّ الجماعة مجتمعون على هذا الرأي. فامتنعَ، وطلب الخواصَّ من الدولة بالخروج معه، مثل حاجب الحُجَّاب وغيرِه، وشغَبَ التُركُ، فقال القاضي أبو صالح الموقَّر: أيها ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): ببغداد، والمثبت من (م) و (م 1).

الملك، الصواب خروجُكَ، فقد أخرج المشركونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من مكةَ إلى المدينة، ثم رجع وفعل بهم ما فعل، وكانت المخاطبةُ له بهذا من تحت رَوْشنِ دارِه؛ لأنه كان قد أغلق الأبواب، فعاتبه الغِلْمان فقال: إنما قصدتُ تطييبَ نفْسِه، وكتب الإسْفَهسلارية رقعةً إلى الخليفة يقولون: قد عرفَ مولانا أميرُ المؤمنين ما عليه الأمورُ من الفساد، وما اجتمع عليه الغِلمانُ من إخراج الملك، والرأيُ أن يشير إليه مولانا بالانحدار على وجه جميل، فإن قَبِلَ وإلَّا كان مولانا شاهدًا لنا عليه. وبلغ جلال الدولة، فلمَّا كان يومُ الاثنين سادسَ ربيع الأول خرج في نفرٍ من غلمانه وأصحابِه، ومضى إلى عُكْبَرا، وعَلِمَ به الغِلمانُ، فبادروا إلى دار المملكة ونهبوها، وأخذ جميع ما كان فيها، وله قيمةٌ وافرٌ، وركب حاجبُ الحُجَّاب ومنعهم من تشعيثها، وكتبوا إلى كمال الدولة أبي سنان يقولون: قد خرج إلى بلدك والي دُبيس يخبرونه بما فعلوا، وكتبوا إلى أبي كاليجار بما فعلوا، وسألوه أن يُرسل إليهم مَنْ ينوب عنه. وأمَّا جلال الدولة فاستقبله كمالُ الدولة أبو سنان، وقتلَ الأرضَ بين يديه وقال: خزائني بين يديك. وزوَّجه ابنتَه، وحمل إليه الأموال والثياب والخيل وغيرَها، ثم إنَّ الأتراك تلاوموا فيما بينهم، وخرج أكابِرُهم إليه واستعطفوه واعتذروا، وأعادوا الخطبة له في جوامع بغداد، وبعثَ الخليفةُ إليه حاجبَه أبا منصور بن طاس وخادمين بكتاب يستوحش له ويهنِّئه باستقامة الأمور، وكان القائمُ قد سيَّر القاضي الماوردي ومبشِّر الخادم إلى الأهواز إلى أبي كاليجار بوفاة القادر وإقامة القائم، فلمَّا كان يومُ الجمعةِ لليلتين خَلَتا من ربيع الآخر قَدِما بغداد، وذكرا أنَّ الملك بعث لتلقِّيهم القُضاةَ والأشراف والقُوَّاد، وحمل إليهما أموالًا كثيرة، ودخلا إليه، فأدَّيا الرسالة، فقام وقبَّلَ الأرض، ثم أقام الخطبة للقائم، والتمسَ أن يُلقَّب بالسلطانِ المُعظَّم مالكِ رقاب الأُمم، فقال له الماوردي: لا يُمكن هذا؛ لأن هذه ألقاب الخليفة. فعدل إلى ملك الدولة، وبعث معهما بمالٍ وثيابٍ وطِيبٍ وغيرِه للخليفة. ثم في ربيع الآخر عاد جلالُ الدولة إلى بغداد، وتلقَّاه الأشرافُ والعساكرُ، فكانت غيبتُه عن بغداد ثلاثةً وأربعين يومًا، وحضر الوزيرُ إلى الخليفة، واستحلَفه بجلال الدولة، وحلف جلالُ الدولة، وخلع على الوزير أبي القاسم، ولمَّا كان يومُ الجمعة

لسبعٍ بَقِينَ من جمادى الأولى فارقَ الوزيرُ أبو القاسم بغدادَ، وخرج إلى أَوانا (¬1)، وكانت مدةُ وزارته شهرين وأيامًا؛ لأنه عجز عن القيام بمصالح الغِلْمان وما يطلبونه، ثم وَزرَ عميدُ الدولة واختفى في داره، وقيل: في دار الخليفة، فلمَّا كان يومُ الأربعاء الحادي عشر من شوال نزل جلالُ الدولة من داره على سُكْرٍ في سُميريَّة، وانحدر إلى دار الخلافة ومعه ثلاثةُ نفرٍ من حاشيته، وصَعِد إلى البستان، وجلس تحت شجرة، واستدعى نبيذًا وزامرًا فزُمِرَ له وشرب، فشَقَّ على الخليفة وانزعج، وغُلِّقَتْ أبوابُ الدار، وخرج إليه القاضي أبو علي بن أبي موسى وأبو منصور بن بكران الحاجب، وقالا له: قد سُرَّ مولانا أميرُ المؤمنين بقُربِكَ وانبساطِكَ، لكنِ النَّبيذُ والزمرُ ما هذا موضعه. فلم يمتنِعْ، وقال لابن بكران: قل لمولانا أمير المؤمنين: أنا عبدُكَ، ووزيري في دارِكَ، وقد وقفتُ أموري. فأراد أن يحبسه فقال: ليس الخطاب معكَ، اذهَبْ ورُدَّ الجوابَ، فمضى وعاد وقال: ما تعلَمُ أنَّ وزيرَه في دارنا؟ فقال: أُريد جوابًا أبلَغُ من هذا. فذهب وعاد وقال: يجري الأمرُ على ما تُريده. فقام ونزل في زَبْزَبه، وعاد إلى داره، واستدعى الخليفةُ المستخصَّ أبا غانم وأبا الوفاء القائد، وقال لهما: قد عَرَفْتُما ما جرى أمس، وإنَّه أمرٌ زاد على الحدِّ، وتناهى في القُبح، وقابلناه بالاحتمال والحِلْم، وقد ارتكب معنا هذا حالًا بَعد حال، فإمَّا أن يرجع إلى الأول ويسلك معنا الطريقةَ المُثلى، وإلَّا فارقنا هذا البلد فمضينا إلى الملك. وذكروا له ذلك فاعتذر عمَّا بدا منه، وركب في اليوم في زَبْزَبِه، وجاء إلى باب الغرفة فوقف، ونفذ عميد الرؤساء (¬2) فقبَّلَ الأرض بين يدي الخليفة، واعتذر عمَّا جرى، وصلُحتِ الحالُ. وفي شوَّال ورد كتاب مسعود بن محمود من خُراسان بالتعزية والتهنئة. وفي ذي الحجَّة وردتِ الأخبارُ بما كان من الوباء والموت في بلاد الهند وغَزْنَة وخُراسان وجُرجان والرَّيِّ وأصبهان ونواحي الجبل كلِّها، إلى حُلْوانَ والموصل، وفني الناسُ، ولم يشاهدوا مثلَه، وخرج من أصبهان في مدةٍ قريبةٍ أربعون ألف جنازة، وامتدَّ ذلك إلى بغداد، فمات خلقٌ كثير. ¬

_ (¬1) أوانا: مدينة ذات بساتين كثيرة، تبعد عن بغداد عشرة فراسخ. معجم البلدان 1/ 274. (¬2) في (ف) عميد الجيوش.

علي بن أحمد

[وورد كتاب من الموصل يذكر فيه أنَّه] مات بالموصل أربعة آلاف صبيٍّ بالجُدري. وقال محمود الأصبهاني: رأى رجلٌ من أهل أصبهان في النوم أنَّ شخصًا وقف على منارة أصبهان وقال: سكت نطق، نطق سكت. فانتبه الرجلُ فَزِعًا، وحكى للناس ذلك، فما عرَف أحدٌ معناه، فقال رجل: يا أهل أصبهان، احذروا فإنَّ أبا العتاهية يقول: [من الرمل] سكتَ الدهرُ زمانًا عنهمُ ... ثمَّ أبكاهُمْ دمًا حين نطَقْ فما كان إلا بعدَ قليلٍ ودخلَها عسكرُ مسعود [بن سُبُكْتِكين]، فنهبَ البلدَ، وقتلَ عالمًا لا تُحصى. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق ولا [من] خُراسان. وبعث صاحب مصر بكسوة إلى الكعبة (¬1). وفيها تُوفِّي علي بن أحمد (¬2) ابن الحسن بن محمد بن نُعيم، أبو الحسن، البصري، كان حافظًا شاعرًا فصيحًا. قال محمد بن علي الصوري: لم أرَ ببغداد أكملَ منه، جمَعَ بين معرفة الحديثِ، والكلامِ، والأدبِ، والفقهِ، ومن شعره: [من المتقارب] إذا أظمأتْكَ أكفُّ اللئام ... كفَتْكَ القناعةُ شِبْعًا ورِيَّا فكُنْ رجلًا رِجْلُه في الثَّرى ... وهامةُ همَّتهِ (¬3) في الثُّريَّا أبيًّا لنائِلِ ذي ثروةٍ ... تراه بما في يديه أبيَّا فإنَّ إراقةَ ماءِ الحياة ... دونَ إراقةِ ماء المُحَيَّا وكانت وفاتُه ببغداد في ذي القَعْدة. ¬

_ (¬1) هذه الأخبار في المنتظم 15/ 229 - 330. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 331، وتبيين كذب المفتري ص 250 - 252، والمنتظم 15/ 231 - 232. وينظر السير 17/ 445 - 447. (¬3) في (خ) و (ف): وهمة هامته، والتصويب من مصادر الترجمة.

محمد بن الطيب

[وفيها تُوفِّي] محمد بن الطيب (¬1) ابن سعيد بن موسى، أبو بكر، الصبَّاغ، البغدادي، وُلدَ سنةَ ثمانٍ وثلاثين وثلاث مئة، وسمع الحديثَ الكثير، وقال [الخطيب: حدثني] رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن [قال]: تزوَّج محمد بن الطيب زيادة على تسع مئة امرأة، وتُوفِّي ببغداد في ربيع الآخر، [وحدَّث عن أحمد بن سلمان النَّجاد وأبي بكر القَطيعي وغيرهما]. [و] قال الخطيب: كتبتُ عنه، وكان صدوقًا (¬2). السنة الرابعة والعشرون وأربع مئة فيها عاد الوزيرُ عميدُ الدولة إلى وزارة جلال الدولة، وكانت الأحوالُ قد توقَّفت، فما زال جلال الدولة يرفق به حتَّى ظهر، وكان مُستَتِرًا. وفي المُحرَّم وردَتْ كتبُ أبي كاليجار والأجلِّ العادلِ أبي منصور بَهْرام بن مافَنَّة الوزيرِ إلى جلال الدولة يذكُرانِ عَوْدَهما إلى الأهواز بعد ما كانا قد عزما على قصد البصرة، وأنهما على الطاعة وإيثار الأُلفة، وكان أصحابُ أبي كاليجار قد حسَّنا له قَصْدَ البصرة، فمال إلى قولهم، فردَّه الأجلُّ العادلُ وكان وزيرًا صالحًا، عاملًا ناصحًا، لم يَزِرْ لبني بُوَيهٍ بعد عبَّاد مثلُه، وكان قد بنى دار كُتبٍ ووقفها على طلاب العلم، وجمع فيها عشرة آلاف مجلدٍ ما فيها إلا أصلٌ منسوب، منها أربعة آلاف ورقة بخطِّ ابن مُقْلة. وفي شهر صفر (¬3) ظهر ببغداد عيَّارٌ -يُقال له: البُرْجُمي- يكبِسُ المحالَّ في الجانبِ الشرقيِّ ودربِ أبي الربيع بالحضرتين، وصار إلى مخازنَ فيها مالٌ عظيم، فاستولى عليها، وأخاف الناسَ، فنقلوا أموالهم إلى دار الخلافة (¬4)، بحيثُ إنَّ جماعة من ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 5/ 383، والمنتظم 15/ 232. (¬2) بعدها في (ف) و (م) زيادة: ثقة، وهي ليست في النسختين الأخريتين، وليست في تاريخ بغداد. (¬3) في (م) و (م 1): رمضان. وينظر المنتظم 15/ 233. (¬4) في (م) (م 1): الخليفة.

الإسْفَهسلارية والقُوَّاد أخذوا ذِمامه على منازلهم، وأُقيم الحرسُ على دار الخلافة، وزاد الخوفُ منه، حتَّى ما بقي أحدٌ يتجاسر أن يقول: العيَّار، بل: القائد أبو علي، وما كان يتعرَّض للنساء، ولا يأخذ من امرأةٍ شيئًا، وزاد أمرُه، وتعاظَم خَطْبُه، وشاع فسادُه، وكان يأوي إلى أَجَمَةٍ من قصبٍ شرقيَّ بغداد، وحولَها ماءٌ كثير، وفي وسطها تَلٌّ قد جعله له معقِلًا وملجًا، فاجتمع جماعةٌ من الإسْفَهسلارية وخرجوا إليه في جُملة العساكر، فخرج إليهم البُرْجُمي وعلى رأسه عَلَمٌ، وقال: من العجب أنكم تأتون إليَّ وأنا كلَّ ليلةٍ عندكم، فإن شئتم أن ترجعوا وأنا أجيء إليكم فعلتُ، وإن شئتم أن تدخلوا إليَّ فادخلوا، فراسلَه كُبراؤهم، وقَوَّوا نفسَه، وردُّوا عنه الغِلمان. وفي شوال (¬1) اشتدَّ فسادُه، وكبسَ الدورَ جَهارًا، فاجتمع العوامُّ يومَ الجمعة إلى الرُّصافة، ومنعوا الخطيب [أبا الحسين بن العريف] من الخطبة وقالوا: إن خطبتَ للعيَّار البُرْجُمي وإلَّا فلا تخطُب للخليفة [-من عِظَم ما نالهم من البُرْجُمي-] ورجموه، وبلغَ من أفعال البُرْجُمي أنَّ أحد وجوه الأتراك بسوق يحيى أراد أن يختِنَ ولدَه فلم يقدِرْ حتى أهدى للبُرْجُمي حملانًا وفاكهةً وشرابًا، وقال: هذا نصيبُكَ من طهور ولدي واستذمَّ منه على داره. [قلت: انظروا يا قوم إلى هذا الوهن العظيم البائن مع وجود الخليفة والملك وعشرين ألفًا من العساكر]. وفي جمادى الأولى تغيَّرت نيَّة الغِلمان على جلال الدولة، وأتَوا إلى بابه، فنهبوا الخيل التي كانت عليه، وشكَوا من إهمالِه أمورَهم، وطالبوه بالانحدار إلى واسط والبصرة، وأن يكون بعضُ أولاده عندهم، وهجمت عليه طائفةٌ من باب البستان، وضربه واحدٌ بآجُرَّة في صدره، وأحاطوا به وأخرجوه إلى دِجلة، وأنزلوه في سُفَارية ثم قالوا: ما هذا مصلحة، فربما عبر إلى الجانب الغربي واحتمى بالكَرْخ، والصواب حَمْلُه إلى مجمع الغلمان لينظروا فيه. ومالتِ السفينةُ، فابتلَّت ثيابهُ، فأخرجوه وشتموه شتمًا قبيحًا، وأقاموه في الشمس، وجاؤوا به، فلمَّا وصل إلى باب داره تكاثر عليهم الناس، فدخل المسجد، وشرع في الصلاة والدعاء، وجاء القائد أبو الوفاء فاستنقذه ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): شعبان.

أحمد بن الحسين بن أحمد

منهم، وعبر به إلى داره، فلمَّا كان في الليل نقل ما بقي في داره إلى الكَرْخ، وعبرَ هو وحُرَمُه، فخرج أهل الكَرْخ والمرتضى فقبَّلوا الأرضَ بين يديه، وأنزله المرتضى في داره مع حُرَمِهَ، وكانت بدرب جميل، ونزل الوزير أبو القاسم في دارٍ مقابلها، ثم اجتمع الغلمان من الغد، وعقدوا الجسور، وعزموا على قصد الكَرْخ ليأخذوه منها، ثم اختلفوا، فقال الخائفون مِنْ عُقبى ما جَنَوا: هذا الملكُ قد أخذ أموالنا، وأجاعنا، وما ينفع فيه عدلٌ، ولا يُصلِحُه قبيحٌ ولا جميل، وقد كان منَّا إليه ما لا تصفو له معنا نيَّةٌ. وقال آخرون: فما الَّذي نفعل؟ فهل ها هنا مَنْ نجعله عوضًا عنه؟ وما بقي من بني بُوَيه إلَّا هو وأبو كاليجار، وقد اصطلحا! ومضى إلى فارس، فاتَّفقوا على أن يكتبوا إليه ورقةً يقولون: نحن عبيدك، وقد ضيَّقْتَ علينا مرةً بعد مرةٍ، وتَعِدُنا ولا نَجِدُ له أثرًا، ولك [ممالكُ كثيرةٌ، فاطرَحْ كَلَّك (¬1) عليهم مُدَّة، ووفِّرْ علينا هذه الصُّبابة (¬2) من المادّة، وانحدِرْ إلى واسط فاجمَعْ لنا ذلك] (¬3). فأجاب بأن هذه أيام صومٍ وحَرٍّ، وإذا انقضَتْ خرجنا، فقالوا: هذه مدافعةٌ، وما نتركه إلا ينحدر اليوم أو غدًا، وهو يماطلهم، وبعث إلى أصاغرهم فاستمالهم، وعلموا، فباكروا دارَ المرتضى، ودخلوا فقتلوا الأرضَ بين يديه، وسألوه الرجوعَ إلى داره، فرجع، وارتفعَتْ منزلةُ المرتضى عنده بما فعل معه. قال المصنف رحمه الله: قبَّح اللهُ همَّة هذا الملك. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق. وفيها تُوفِّي أحمد بن الحسين بن أحمد (¬4) أبو الحسين، ابن السمَّاك، الواعظ، البغدادي، ولد سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مئة، وكان يعظ بجامع المنصور والمهدي، ويتكلَّم على طريقة الصوفية. ¬

_ (¬1) الكَلُّ: الَّذي يكون عبئًا على غيره. العجم الوسيط (كلل). (¬2) الصُّبابة: البقية القليلة من الماء ونحوه. المعجم الوسيط (صبب). (¬3) هذه الزيادة من (ف) وحدها. (¬4) تاريخ بغداد 4/ 110، والمنتظم 15/ 237 - 238.

السنة الخامسة والعشرون وأربع مئة

سُئل عن ألِفِ أباييل: هي ألِفُ وصل أم قطع؟ فقال: ألِفُ سخط. وذكر عن أنس بن مالك (¬1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلَّتْ موعظَتُه عن القلوب كما يزِلُّ المطرُ عن الصَّفا". وقد تكلَّموا فيه، وكانت وفاته ببغداد في ذي الحجَّة. السنة الخامسة والعشرون وأربع مئة فيها جرى على بغداد من العيَّارين (¬2) ما لم يَجْرِ مثلُه [في بلدٍ]، وسببُه البُرْجُميُّ، فإنَّه واصل العَمْلات، وجعل القطيعةَ في كل يوم على الأسواق، ونهبَ الخاناتِ والدُّور نهبًا جَهارًا (¬3)، ولبس الناسُ السلاحَ ليلًا ونهارًا، وجَدَّ الخليفةُ والسلطانُ في طلبه (¬4)، ثم راسل [البُرْجُميُّ] أصحابَ المعونة أنَّه يحفظ البلد، ويأخذ منه دَخْلَ الخاناتِ والقِيان، فأُجيبَ [إلى ذلك، وجَرَتْ فضائحُ لم يرَوا مثلَها]، ثم إنَّ العيَّاربن طمعوا وأدخلوا أيديهم في أعمال السلطان، وجَبوا البلد، وعملوا لهم أعلامًا (¬5) مُذْهَبة، وسُمُّوا بالقادة، ونهبوا بغداد من الجانبين، فبذل معتمدُ الدولة في البُرْجُمي مالًا كثيرًا، ورصده حتَّى خرج من الأَجَمَة، وقد كَمَنَ له جماعةٌ، فأخذوه غيلةً، فأمر معتمد الدولة بتغريقه، فبذل في نفسه أموالًا عظيمةً وجواهر، فقال [له]: قتلتَ النفوسَ، وأخذتَ الأموال، وأستبقيك؟ ! لا واللهِ، فغرَّقَه، وسكنتِ الدنيا، وزالتِ الفتن، وتاب بعضُ العيَّارين، وهرب البعضُ. وفيها هبَّتْ بنَصيبين ريحٌ سوداءُ قلعَتْ مُعظمَ شجرها، وبيان بين البساتين قصرٌ من حجارة، فرمَتْه من أصله. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين (خ) و (ف)، وهو وهم، والصواب: عن مالك بن دينار من قوله، وليس مرفوعًا. وجاء على الصواب في الزهد لعبد الله بن أحمد ص 323، وتاريخ بغداد 4/ 110، واقتضاء العلم العمل (97)، والحلية 6/ 288 وغيرها من المصادر. (¬2) في (م) و (م 1): العيار. (¬3) المثبت من (م 1)، وفي باقي النسخ: ونهب الخانات والدور نهارًا. (¬4) في (م) و (م 1): في طلب البرجمي. (¬5) تحرفت في (خ) و (ف) إلى: أعمالًا، والمثبت من (م) و (م 1).

أحمد بن محمد بن غالب

وحدَثَ في الرملة حادثٌ عظيمٌ جزر البحر مقدار ثلاثة فراسخ، فنزل الناس يصيدون السمك، فرجع فأغرَقَ من لم يُحسِن السباحة، وزُلزِلَتِ الرملةُ زلزلةً هدمَتْ ثلث البلد، ورَمَتِ الجامع [وخرج الناس هاربين بعد أن تلِفَ معظمُهم، وامتدَّت إلى نابلس فهدمتها] (¬1) وقلبَتْ قريةً من قُراها يُقال لها: جِيت [غربي نابلس] وهي على رأس جبل قلَبَتْها الزلزلةُ فجاست بأهلها وبقرها وغنمها، وسقطت منارة عسقلان وغزة وحائط بيت المقدس والخليل - عليه السلام - وبعضُ محراب داود - عليه السلام -، وخُسِفَ بنصف عكا. وفي رمضان جاءت الأعراب إلى جامع المنصور، فسلبوا الرجال عمائِمَهم، والنساءَ ثيابهنَّ في المقابر. وفي ليلة الأربعاء لسبعٍ بَقِينَ من ذي القعدة انقضَّ كوكبٌ عظيمٌ، وسُمِعَ له صوتٌ مثلُ صوت الرعد، وضوءٌ مثل المشاعل، ويقال: إن السماء انفرجت عند انقضاضه، ووقع الوباءُ عقيبه، فيقال: مات مُعظَمُ أهل شيراز [ولم يجدوا حفَّارًا ولا من يغسِّل الموتى، وذلك] (¬2) بحيث كانت الدُّور تُسدُّ أبوابُها على أصحابها لا يجدون من يدفنهم، ثم تعدَّى إلى الأهواز والبصرة وواسط وبغداد، فيقال: إنه مات من بغداد سبعون ألفًا. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق. وفيها تُوفِّي أحمد بن محمد بن غالب (¬3) أبو بكر، البَرْقاني، الخُوارَزمي، الحافظ، وُلدَ سنة ست وثلاثين وثلاث مئة، ورحل إلى البلاد، وسمع الكثير، وكتب الكثير، وحفظ القرآن والفقه والنحو واللغة، وكان إمامًا عالمًا، ثقة ورعًا فهمًا، وله المصنَّفاتُ الكثيرة. [وذكره الخطيب وأثنى عليه، وقال: سمع خلقًا كثيرًا، واستوطن بغداد، فكتبنا عنه، وحفِظْنا منه]، صنَّف مسندًا اشتمل على صحيح البخاري ومسلم، وجمع حديثَ ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف) وحدها. (¬2) هذه الزيادة من (م) وحدها. (¬3) تاريخ بغداد 4/ 373 - 375، وتاريخ دمشق 5/ 195 - 200 (طبعة دار الفكر)، والمنتظم 15/ 242 - 243.

أحمد بن محمد بن عبد الرحمن

سفيان الثوري وغيره، ولم يقطع التصنيف إلى حين وفاته، وكان عنده ثلاثة وستون سفطًا وصندوقًا مملوءةً كتبًا، ومن شعره: [من المتقارب] أُعلِّل نفسي بكَتْبِ الحديثِ ... وأحمِلُ فيه لها المَوْعِدا وأُشْغِلُ نفسي بتصنيفهِ ... وتخريجهِ دائمًا سَرْمدا وطَوْرًا أُصنِّفهُ في الشيوخِ ... وطَوْرًا أُصنفهُ مُسنَدا وأقفو البخاريَّ فيما نحاهُ ... وصنَّفهُ جاهدًا مُجهَدا ومسلمُ إذْ كانَ زينَ الأنام ... بتصنيفهِ مُسلِمًا مُرشِدا وما ليَ فيه سوى أنَّني ... أراهُ هوًى صادفَ المقصِدا وأرجو الثوابَ بكَتْبِ الصلاة ... على السيِّدِ المصطفى أحمدا فأسألُ ربي إلهَ العبا ... دِ جَرْيًا على ما لهُ عَوَّدا وقال أبو عبد الله الصُّوري: دخلتُ على البَرقاني أعودُه قبل موته بأربعة أيام، فقال لي: هذا هو اليوم السادس والعشرون من جمادى الآخرة، وقد سألتُ الله أن يؤخِّر وفاتي حتَّى يُهِلَّ رجب، فقد رُوي أنَّ لله فيه عتقاءَ من النارِ (¬1)، فعسى أن أكون منهم. وكان هذا القول يوم السبت، فمات غُرَّة رجب يوم الأربعاء، وصلَّى عليه القاضي أبو علي بن [أبي موسى الهاشمي، ودُفن عند جامع المنصور مما يلي] (¬2) سكة الحربي. [وفيها تُوفِّي] أحمد بن محمد بن عبد الرحمن (¬3) أبو العباس، القاضي، الأبيوردي [الفقيه الشافعي]. وُلِدَ سنة سبع (¬4) وخمسين وثلاث مئة [وتفقَّه]، وولِيَ القضاء على الجانبين ببغداد [في أيام ابن الأكفاني، ثم عُزِل]، وكان يدرِّس في مسجدٍ بقطيعة الربيع، وله بجامع ¬

_ (¬1) ذكره القاسمي كتابه قواعد التحديث ص 157 في جملة الأحاديث الموضوعة في فضيلة شهر رجب. (¬2) هذه الزيادة من (ت)، وهي موافقة لمصادر الترجمة. (¬3) تاريخ بغداد 5/ 51، والمنتظم 15/ 243. وجاء بعدها في (م) زيادة مقحمة: القاضي. (¬4) في (م) وحدها: خمس.

عبد الرحمن بن محمد بن يحيى

المنصور حلقة للفتوى. [قال الخطيب]: وسمع الحديث ورواه، وكان يصوم الدهر ويفطر على الخبز والملح، وكان فقيرًا ويظهر المروءة، وأقام شتوةً لا يملك جُبَّةً، وعليه ثوب واحد، وعانى من البرد شدَّةً، وكان يقول لأصحابه: بي عِلَّةٌ تمنعني من لبس الحشوة، وكانوا يظنُّونه مريضًا وما كان به إلا الفقر، ولا يظهره تصوُّنًا، ومات في جمادى الأولى، ودُفِنَ بباب حرب. [وفيها تُوفِّي عبد الرحمن بن محمد بن يحيى (¬1) أبو الحسن، التَّميمي، الدمشقي، كان يسكن زقاق الرمان ظاهر دمشق، سمع الكثير، ومات في صفر بها، حدَّث عن أبي القاسم بن أبي العقب وغيره، وروى عنه أبو العباس بن قُبيس وغيرُه، وكان ثقةً صدوقًا. وفيها تُوفِّي عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر (¬2) أبو نصر، الشُّروطي، الدمشقي، ويعرف بابن الجبَّان، وقيل: أصله من أذرعات، فيقال له: الأذرعي، كان إمامًا فاضلًا، له كتب مصنَّفات في علم الحديث وغيره، وكانت وفاته بدمشق، وبالباب الصغير دُفِن، سمع محمد بن سليمان الرَّبَعي، وجُمح بن القاسم، وأبا سليمان بن زَبْر، والدارقطنيَّ، وخلقًا كثيرًا. وروى عنه أبو علي الأهوازي، وعبد العزيز الكتَّاني، وأبو القاسم الحِنَّائي، وغيرُهم، وكان ثقةً صدوقًا حجةً في الحديث]. [وفيها تُوفِّي] عبد الوهاب بن عبد العزيز (¬3) ابن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أُكينة بن عبد الله، أبو الفرج، التميمي، الفقيه، الحنبلي، الواعظ، ولد سنة ثلاث وخمسين وثلاث ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 35/ 390 - 392. (¬2) تاريخ دمشق 37/ 327 - 330. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 32.

محمد بن رزق الله

مئة، وسمع الحديث [ووعظ]، وكانت له بجامع المنصور حلقةٌ للوعظ والفتوى، وروى الحديث [عن أبيه وغيره]، وكانت وفاتُه في ربيع الأول، ودُفِنَ عند قبر الإمام أحمد رحمة الله عليه في الدَّكَّة، وكان زاهدًا عابدًا فاضلًا، ثقةً صدوقًا، وقد أخرج له الخطيب أثرًا، فقال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيز قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب رضوان الله عليه يقول وقد سُئِلَ عن الحنَّان المنَّان، فقال: الحنَّان الَّذي يُقبِلُ على من أعرض عنه، والمنَّان الَّذي يبدأ بالنَّوال قبل السؤال. [قال الخطيب: بين أبي الفرج] (¬1) وبين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه تسعة آباء آخرهم أُكينة. [وفيها تُوفِّي محمد بن رزق الله (¬2) الزاهد، ابن عبيد الله، أبو بكر، المَنِيني، من قرية مَنِين بجبل سَنير شمالي دمشق، وفيها العين المشهورة، قال الحافظ ابن عساكر: لم يكن في الشام من يُكنى أبا بكر سواه. وقال: يحتمل أن ذلك لأجل المصريين في ذلك الوقت، وإلَّا فأبو بكر في الشاميين كثير، مثل: أبي بكر بن أبي الحديد وغيره. وكان ثقة]. [وفيها تُوفِّي] محمد بن عبد الله (¬3) أبو عبد الله بن باكويه، الشيرازي، الصوفي، أوحد المشايخ في وقته، وله الكرامات والإشارات والسياحات والحكايات والواقعات، لقي خلقًا من المشايخ، وحكى عنهم، وسمع الحديث، وروى عنه خلقٌ كثير. ¬

_ (¬1) وقع بدلًا منها في (خ) و (ف): وبينه. (¬2) تاريخ دمشق 53/ 19 - 20. (¬3) تاريخ دمشق 53/ 370 - 372، وينظر السير 17/ 544.

السنة السادسة والعشرون وأربع مئة

السنة السادسة والعشرون وأربع مئة فيها استولى العيَّارون على بغداد، وملكوا الجانبين، ولم يبقَ للخليفة ولا لجلال الدولة حكم، وهجم بعضُ المماليك على دار الخليفة [ودخل بستانَه، وأكل من ثمرته ثم خرج، فكتب الخليفة إلى] الملك يطلبه، فضَعُف عن تحصيله (¬1)؛ لقلَّة الهيبة، فتقدَّم الخليفة إلى القضاة والفقهاء بترك الحكم والفتوى، ولا يعقد أحدٌ عقد نكاح، وأمر بغلق أبواب الجوامع والمساجد، وهيَّأ السفن لينحدر إلى البصرة، فحُمِلَ الغلامُ إلى دار الخليفة، فوكل به ساعةً، ثم أُطْلِقَ، وكان العيَّارون في دور الأتراك والحواشي يقيمون فيها نهارًا ويخرجون ليلًا، فيعملون العَمْلات، ومنعوا أهل المحالِّ النائية عن دِجلة شربَ الماء إلا بالخُفارة (¬2)، وأخذوا الدراهم عن الزوايا، وكاشف اللصوصُ بالإفطار في نهار رمضان، وشرب الخمور، وارتكاب الفروج قهرًا، ولم يمنعهم من ذلك أحد، وكان الجميع بمواطأة من الأتراك والحاشية، ولا حُكْمَ للخليفة ينفذ. ومن العجائب أن الخليفةَ ببغداد والملكَ والجندَ، وكان الأعراب يأتون إلى حيطان بغداد فيأخذون مَنْ خرج منها [ويبيعون الناس ويفادوهم مثل أسارى الروم، ولا ينتطح فيها عنزان]. وفيها ورد كتابُ مسعود بن محمود بأنه فتح جرجان وطبرستان، وغزا الهند (¬3)، ففتح بلادًا كثيرةً، وسبى سبعين ألفًا، وقتل خمسين ألفًا، وغنم ما مقداره ثلاثون ألف ألف درهم. ولم يحجَّ في هذه السنة أحدٌ من العراق [خوفًا من الأعراب] (¬4). ¬

_ (¬1) في (ف) وحدها: عن تخليصه. (¬2) الخُفارة هنا: الضريبة التي تؤخذ دون مقابل بتكملة المعاجم 4/ 150. (¬3) بعدها في جميع النسخ كلمة غير واضحة، وأظنُّها مقحمة، فهي ليست في المصادر التي ذكرت الخبر. وينظر النجوم الزاهرة 4/ 281، وتاريخ الإسلام 9/ 352. (¬4) هذه الزيادة من (م) وحدها.

أحمد بن كليب

وفيها تُوفِّي أحمد بن كُلَيب (¬1) الشاعر [الأديب] المغربي. ذكر له أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي في "تاريخه" [حكايةً طويلةً بألفاظٍ سمِجةٍ حاصِلها أنَّه] كان أحمدُ يهوى [غلامًا من أهل الأندلس يُقال له]: أسلم بن أحمد بن سعيد قاضي قضاة الأندلس، وكان أسلمُ من أحسن أهل زمانه، فافتتن به، [وكان أحمد بن كليب أديبًا فاضلًا]، فقال فيه الأشعار، وأهدى إليه كتاب "الفصيح" لثعلب، وكتب معه [هذه الأبيات]: [من المجتث] هذا كتاب الفصيحِ ... بكلِّ لفظٍ مَليحِ وهبتُهُ لكَ طوعًا ... كما وهبتُكَ روحي وشاع شِعْرُه فيه، [وغُنِّي فيه بالأسواق]، وكان أسلمُ يحضر المجالس للحديث، ويجلس على بابه، فامتنع من ذلك، فمرض أحمد [بن كُلَيب] من محبَّتِه. قال محمد بن خطاب النَّحْوي: فدخلتُ عليه وهو بأسوأ حال، فقلت له: ألا تداوى؟ فقال: دوائي معروف، ولا حيلةَ للأطباء فيَّ. قلتُ: وما هو؟ قال: نظرةٌ من أسلم، فلو سعيتَ في أمري بأن يزورني لأعظمَ اللهُ أجرك. فمضيتُ إلى أسلم وسألتُه فامتنع وقال: يكفي أنَّه فضحني وشبَّبَ بي وهتكني، وواحيائي من أبي. فلم أزَلْ أُرقِّقه حتَّى خرج فمشى معي، ثم خجل وعاد من بعض الطريق. [قال]: فدخلتُ على أحمد وهو ينتظرني، فلما رآني يئس وذهب عقله، [ثم آبَ إليه عقلُه] وقال: [من المخلع البسيط] أسلمُ يا راحةَ العليلِ ... رفقًا على الهائمِ النَّحيلِ وصلُكَ أشهى إلى فؤادي ... من رحمةِ الخالقِ الجليلِ فقلت له: اتَّقِ الله، ما هذه [الكلمة] العظيمة (¬2)؟ فقال: قد كان فخرجتُ من عنده، فما (¬3) بلغتُ وسط الزقاق حتَّى سمعتُ الصُّراخَ [والنَّوح] عليه وقد مات، فكان أسلمُ إذا رأى غفلةً من الناس زار قبره. [وإنما أخذ هذا المعنى من المتنبي، وقد ذكرناه في ترجمته]. ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 246 - 250، ومعجم الأدباء 4/ 108 - 126. (¬2) في (خ): العصمة، والمثبت من بقية النسخ. (¬3) في (خ) و (ف): فلما، والمثبت من (م) و (م 1).

الحسن بن أحمد

الحسن بن أحمد (¬1) ابن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان، أبو علي، الرزَّاز، مُحدّث مشهور، بغدادي، ولد سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة، وسمع خلقًا كثيرًا، وكان صالحًا صدوقًا ثقةً. قال محمد بن يحيى الكرماني: كُنَّا يومًا بحضرة أبي علي بن شاذان [إذ دخل شابٌّ لا يعرفه منَّا أحد، فسلَّم علينا وقال: أيُّكم أبو علي بن شاذان؟ ] فأشرنا إليه، فقال: أيها الشيخ، رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: اذهَبْ إلى أبي علي بن شاذان، وأقرِئْه عنِّي السلام. فبكى أبو علي وقال: ما أعرِفُ لي عملًا أستحِقُّ به هذا إلا أن يكون صبري على قراءة الحديث عليَّ، وتكرارُ الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلَّما جاء ذِكْرُه. قال: ولم يكتُبْ أبو علي بعد ذلك إلا شهرين أو ثلاثة حتَّى مات في المُحرَّم، ودُفِنَ بمقبرة باب الدير. [وفيها تُوفِّي] الحسن بن عثمان (¬2) ابن أحمد بن الحسين بن سَوْرة، أبو عمر، الواعظ، البغدادي، ويعرَفُ بابن الفَلْو، وُلِد سنة تسع وأربعين وثلاث مئة، وسمع الحديث، وكان سخيًّا، ومن شعره: [من الطويل] دخلتُ على السلطانِ في دار عِزِّهِ ... بفقرٍ ولم أجلِبْ بخيلٍ ولا رَجْلِ فقلتُ انظروا ما بينَ فقري ومِلْكِكُمْ ... بمقدارِ ما بين الولايةِ والعَزْلِ وكانت وفاته في صفر، ودُفِنَ بباب حرب. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 279 - 280، وتبيين كذب المفتري ص 245 - 246، والمنتظم 15/ 250. وينظر السير 17/ 415. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 362، والمنتظم 15/ 250 - 251.

السنة السابعة والعشرون وأربع مئة

السنة السابعة والعشرون وأربع مئة فيها في المُحرَّم ظهر بالعراق جرادٌ أسود لم يُعهد قبلَ ذلك. وفيها قبضَ جلالُ الدولة على الوزير أبي القاسم بن ماكولا، وحبسه في دار المملكة، فشغَبَ الغِلْمان بسببه، فنقله إلى دار المرتضى، ثم نقله إلى دار المملكة، فمرض مرضًا وقع الإياس منه، فرُوسِلَ الخليفةُ في معنى أخيه قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا، وقيل: هو يعرف أمواله، فدافع الخليفةُ عنه، فعزم الأتراكُ إمَّا على تسليمه وإلَّا خرقوا خرقًا لا يُتلافى، فخرج جواب الخليفة أنَّه لم يبْقَ من أمرنا إلَّا هذا الناموس في حراسة مَنْ عندنا، وهذا القاضي لم يتصرَّفْ تصرُّفًا سلطانيًّا تلزمه فيه تبِعة، فزاد الشغَبُ، فكتب الخليفة إلى حاجب الحُجَّاب يقول: قد زاد الأمر في اطِّراح مُراقبتنا، وإسقاط حِشْمتِنا، والأَولى أن نُغلِقَ بابَنا، ونُدبِّر أمورنا بما نحرس به جاهنا. فأمسك عن المراجعة (¬1). وفي يوم السبت الرابع من جُمادى الأولى شغَبَ الغِلمانُ شغبًا عظيمًا، وأخرجوا الخِيَم إلى باب الأزَجِ، ومن الجانب الغربي إلى النَّجمي، ثمَّ اتَّفقوا على أن يكونوا يدًا واحدةً، فعبر مَنْ كان بالنَّجمي إلى الجانب الشرقي، وأشاعوا المسير إلى الأهواز، وأنَّ أبا كاليجار كاتبَهم وبعث إليهم با لأموال، فبعث الملك المرتضى ونظامَ الحضرتين والماورديَّ إلى الإسْفَهسلارية والحُجَّاب فقالوا: أنفذنا الملِكُ إليكم لنتعرَّف أخبارَكم البارحةَ في المطر والريح، وقد اشتغل قلبُه بمفارقتكم منازِلَكم. قالوا: وأيُّ شيء قال: قالوا: هذه الجملة لا غيرُ موجودة. قالوا: انصرفوا في دَعَةِ الله. وعَزَّ عليهم ذلك، وقالوا: هذه لهوٌ وسُخريةٌ بنا. ثم نفروا نفرة قويةً، وقالوا: ما بقي بعد هذا بقيةٌ. فراسلوه: اخرُجْ من بيننا، فقد بالغتَ في هلاكنا، وأعطيتَ إقطاعنا لغيرِنا، وهذا البلدُ ما يحمِلُكَ وإيَّانا. فأبطأَ عليهم الجوابُ، فركبوا بأجمعهم، وأحدقوا بداره، وقالوا للحاجب: نريد المَلِكَ يقف على الرَّوشَنِ يُكلِّمنا، فأخبره، فخرج ووقف على ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 15/ 253 - 254.

الرَّوشَن، فما استحَوا منه، ولا ترجَّلوا عن خيولهم، ولا خدَموه، وقال (¬1) له أبو منصور جرادة قولًا أغلَظَ له فيه، وتجاوز الحدَّ والأدب، ثم قال: قد اجتمع العسكر كلُّهم على إخراجك من بينهم، فاخْرُجْ، فإنه أولى لكَ وأصلَحُ. ثم التفتَ إلى الغلمان وقال: أليس كذا تقولون؟ قالوا: نعم. فقال الملك: أمهلوني ثلاثةَ أيام حتَّى آخذ حرمي وأولادي. فقالوا: لا نفعَل، وصاحوا، ورموه بآجُرَّةٍ في صدره، فتلقَّاها بيده، وأصابته أخرى في كتفه، ورماه أبو سُكَين الدَّيلمي بِزَرْبينٍ (¬2) فحاد عنه، وتوارى عنهم، فأحرقوا أحد الأبواب، فرماهم غِلْمان الدار بالنُّشَّاب، وأطفؤوا ما علقت النار فيه، فجاؤوا إلى باب البستان فضربوه بالدبابيس حتَّى كسروه، فأمر الملك الغلمان والحاشية، فقاتلوهم ورموهم بالنُّشَّاب، ودعا مَنْ كان تحت الدار من العامة بالدخول، وإلى من كان بالجانب الغربي بالعبور، فصاحوا صياحًا خاف منه الغلمان، وانكشفوا من الميدان، وأحضروا خيامهم فنصبوها عند دار الفيل على وجه الإحاطة بالدار، وتوقَّفوا خوفًا من العامة، وخرج الملك نصف الليل في زقاق غامض، فنزل في سُمَّارية، وعبر إلى الجانب الغربي متنكرًا في الظُّلمة إلى دار المرتضى، وقد غيَّر لباسَه، ومعه ثلاثة نفر، وعبَرَ خلفَه خُدَّامه وبعضُ أصحابه في سفينة، وأدركهم الغلمان، فغرَّقوها ظنًّا منهم أنَّه فيها، وأفلتَ مَنْ أفلتَ من تحت السيف والخوف، وحصل في دار المرتضى، ونهب الغلمانُ الدارَ وأخذوا ما فيها، حتَّى أبوابها وسقوفَها وساجَها، وقد كان في تلك الليلة بعث بحرمه وما يخاف عليه إلى دار الخليفة، وخلص الوزير ابن ماكولا من المطالبة، وراسل الغلمان الخليفة بقطع خطبة جلال الدولة، فقال: حتَّى ننظر في ذلك (¬3)، وخرج الملك إلى أوانا، ثم انتقل إلى كَرْخ سامراء، فكاتبه الغلمان، واعتذروا وتنصَّلوا ممَّا بدا منهم، فخرج إليه مؤيَّد الملك أبو علي ونظام الحضرتين والماوردي في رسالة الخليفة لأجل الغلمان وما شرطوه عليه من طلب المال والأقساط في وقتها، وعاد الملك إلى بغداد في شعبان، والتقوه واعتذروا ¬

_ (¬1) في (خ): وقالوا. (¬2) الزَّربين: نوع من الأحذية. ينظر تكملة المعاجم 5/ 299. (¬3) في (ف): أمرك.

إليه، وصلُحَتِ الحال، ودخل حاجب الحُجَّاب إلى دار الخليفة مستجيرًا به من الملك؛ لأنه اتَّهمه بما جرى، فراسله الخليفة فأسكن منه وقال: إن أردتَ الاعتزال خاطبتُ الملكَ فيك، وكانت داري موطَّأةً لك ومستقرَّكَ، وإن أردتَ العَوْدَ إلى أمرك توسَّطْتُ بينكما، ووجدتَ عندي من المراعاة لكَ ما يقتضيه اعتقادي فيك. فدعا وشكر وقال: ما أريد إلا الاعتزال. فأراد الخليفةُ مراسلةً، فبادر جلالُ الدولة وراسل الخليفة وقال: هذا قد حصل في دارك، وقد كفر نعمتي، وسعى في فساد دولتي، وعفوتُ عنه مرارًا، فعدل إلى إتلاف مهجتي، وحمل الغلمان على ما فعلوا، ومع هذا فهو بدار الخلافة (¬1) يُراسِل ويُفسِد، ويوثب ويؤلِّب، ويبذل الأموال، وأسأله أن لا أخاطب في معناه، فأرسل إليه الخليفة بأنه رجلٌ شيخٌ، وقد تقدَّمَتْ له خدمةٌ ومناصحة، وليس يخلو أمرُه إمَّا أن يكون ما قيل عنه صحيحًا، فأين العفو الَّذي أمر الله به؟ ! وإن كان كذبًا فالأناةُ والتثبُّتُ أولى، وهذه الخيانة الواقعة دخلت فيها الجماعة، وقد عفا الملك عنها، فليسَعْه عفوُه، وما علِمْنا منه إلا خيرًا. فعاد الجواب مع أبي الحسين القُدُوري وأبي طاهر الحمَّامي أنَّ الدولةَ دولتُه، والفسادَ عليها فسادٌ عليه، وما يجوز لنا أن نأمنه على هذه الحال، وأن نقبل نُصحَه بعدما فعل، وهو عبدٌ من عبيدنا، لا يسوغ مَنْعُنا منه، ولكنَّ أوامرَ مولانا متقبلةٌ ممتثلةٌ لا نَرى مخالفتَها، والعسكر قد باينوه في طاعتنا، فإن عفَونا عنه فسدوا علينا، وعاد ذلك الضررُ على أمير المؤمنين، وإذا أمسكنا عن طلب تسليمه فلا أَقَلَّ من إخراجِه وإبعادِه، فإنَّه مقيمٌ على أمره في إيحاش الغلمان وحملهم على القبيح، وجرَتْ مراسلات كثيرةٌ، ووقف أمرُه، وقيل: إذا انقضى شهر الصيام خرج إلى حيث يقيِّضه الله تعالى له. وفي شعبان قبض جلال الدولة على الوزير عميد الدولة وقيَّده، وهرب أخوه كمال الملك واستتر، وهذا الوزير وَزَرَ دفعات ويُعزَلَ، وهذه السادسة أقام فيها تسعة أشهر. وفيها بعث صاحب مصر خمسةَ آلاف دينار يُصلِحُ بها نهرًا ينتهي إلى الكوفة، وَيرِدُ إليه ماء الفرات، وجاء أهل الكوفة يستأذنون الخليفة، فثَقُلَ عليه، وسأل الفقهاء، فقالوا: هذا مالٌ يغلب عليه من فيء المسلمين، تصرفه في هذا الوجه. ¬

_ (¬1) في (ف): الخليفة.

أحمد بن محمد بن إبراهيم

وفيها غشيَتْ بغدادَ ظُلمةٌ عظيمةٌ بحيث لم يَرَ [أحدٌ] (¬1) أحدًا، وأخذت بالأنفاس [فلو دامت ساعة لمات الناس]. وفي رجب انقضَّ كوكبٌ (¬2) ضوءُه مثلُ ضوء الشمس، وظهر في آخره مثل التنِّين أزرق يضرب إلى السواد، ودام ساعة (¬3). ولم يحجَّ من العراق أحدٌ، وحجُّوا من الشام ومصر والبلاد. وفيها تُوفِّي أحمد بن محمد بن إبراهيم (¬4) أبو إسحاق، الثعلبي، صاحب التفسير المشهور، ليس فيه ما يُعاب به إلا ما ضمَّنه من الأحاديث الواهية التي هي في الضعف متناهية خصوصًا في أوائل السور، وذكر في خطبة التفسير أنَّه سمع من ثلاث مئة شيخ من أصحاب الحديث، وذكرهم في أثناء الكتاب. الحسن (¬5) بن وهب بن المُوصَلايا أبو علي، الكاتب، المجوِّد، وفضله وخطُّه معروف. حمزة بن يوسف بن إبراهيم (¬6) الجُرْجاني، الحافظ، من ولد هشام بن العاص بن وائل التميمي، كان عالمًا فاضلًا، رحل إلى البلاد في طلب العلم، وسمع الكثير، وقال: أنبأنا الحسين بن عمر الضراب، أنشدنا سمعان الصيرفي: [من مخلع البسيط] ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف) و (م) و (م 1). والخبر في المنتظم 15/ 254، والكامل 9/ 451. (¬2) بعدها في (م) وحدها زيادة: عظيم. (¬3) الخبر في المنتظم 15/ 255، والكامل 9/ 451. قلت: ووقع بعد هذا الخبر في (م) و (م 1) زيادة: وفيها توفي الطاهر صاحب مصر. (¬4) معجم الأدباء 5/ 36 - 38. وينظر السير 17/ 435. (¬5) تحرف الحسن في (خ) إلى: الحسين. والترجمة في المنتظم 15/ 255 مختصرة جدًّا. (¬6) المنتظم 15/ 251، وتاريخ دمشق 15/ 244 - 246. وينظر السير 17/ 469.

عبد العزيز بن علي بن الحسن

أشدُّ من فاقة الزَّمانِ ... وقوفُ حُرٍّ على هوانِ فاسترْزِقِ اللهَ واسَتْعِنْهُ ... فإنَّهُ خيرُ مُستعانِ وإنْ نبا منزلٌ بِحُرٍّ ... فمِنْ مكانٍ إلى مكانِ عبد العزيز بن علي بن الحسن (¬1) أبو القاسم، الشَّهْرزوي، المالكي، عابر الأحلام، كان عالمًا فاضلًا، قدم دمشق وحدَّث بها، وكتب من علم التفسير عشرة آلاف ورقة، ودخل المغرب غازيًا، فقتلته الروم بمكان -يقال له: بُونة- شهيدًا. سمع خلقًا كثيرًا، وكان ثقةً، أنشد ليعقوب بن إسحاق الكندي: [من المتقارب] أنافَ الذُّبانى على الأرؤُسِ ... فغَمِّضْ جفونَكَ أو نَكِّسِ وضائِلْ سوادَكَ واقبِضْ يديكَ ... وفي قعرِ بيتِكَ فاستجْلِسِ وعندَ مليكِكَ فابْغِ الهدى ... وبالوَحْدةِ اليومَ فاستأْنِسِ فإنَّ الغنى في قلوب الرجالِ ... وإنَّ التعزُّزَ بالأنفُسِ وكائِنْ ترى من أخي عُسْرةٍ ... غنيٍّ وذي ثروةٍ مُفْلسِ ومن قائمٍ شخصُهُ ميِّتٍ ... على أنَّه بعدُ لم يُرمَسِ (¬2) علي بن منصور (¬3) [الحاكم]، أبو الحسن، الظاهر لإعزاز دين الله، صاحب مصر، ولد بالقاهرة ليلة الأربعاء لعشرٍ خَلَوْن من رمضان سنة خمس وتسعين وثلاث مئة، ووَلِيَ الأمرَ يوم عيد النحر سنة إحدى عشرة وأربع مئة، وله ستَّ عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام بترتيب [عمَّته ستِّ الملوك، وكان سخيًّا، سمحًا، جوادًا، عاقلًا، أزال الرسوم التي جدَّدها أبوه الحاكم إلى خيرٍ وعدلٍ في الرعية، وأحسَنَ السيرة، وأعطى الجندَ والقُوَّادَ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 42/ 348 - 349 (طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق). وصُوِّب منه نسبة: الشهرزوري، فقد وقعت في (خ) و (ف): المهرزوري. (¬2) في (خ) و (ف) يغمس، والمثبت من تاريخ دمشق، ويُرمَس: يوضع في الرمس، وهو القبر. (¬3) الترجمة في المنتظم 15/ 255.

محمد بن إبراهيم بن أحمد

الأموال، وملك الشامَ وحلبَ وغيرَها، وكانت وفاته يوم الأحد النصف من شعبان، وعمره إحدى وثلاثون سنة، وكانت ولايتُه ست عشرة سنة وتسعة أشهر، وولي بعده ولده [إبراهيم]، ولُقِّبَ بالمستنصر وسِنُّه ثمان سنين، وقام علي بن أحمد الجرجاني الوزير بالأمر، وأخذ له البيعة، وقرَّر للجند أرزاقَهم ووَصَلَهم، واستقامَتِ الأحوال، وكانت وفاةُ الظاهر بعِلَّة الاستسقاء، تطاولت به نيفًا وعشرين سنة من عمره. محمد بن إبراهيم بن أحمد (¬1) أبو بكر [الأَرْدَسْتاني]، كان مقيمًا بأصبهان، وكان صالحًا زاهدًا، يحجُّ ماشيًا من أصبهان إلى مكة كثيرًا، وتوفِّي بهَمَذان [قال الخطيب: قدم بغداد، وحدَّث بها عن الدارقطني وغيره، وكتبنا عنه] وكان ثقة (¬2). السنة الثامنة والعشرون وأربع مئة فيها في المُحرَّم خلعَ الخليفةُ على الأفضل أبي تمام محمد بن محمد بن علي الزَّينبي، وفوَّض إليه ما كان إلى نظام الحضرتين أبيه من نقابة الهاشميين والصلاة، وأمره باستخلافِ أبي منصور محمد على ذلك، وأحضر الخليفةُ القضاةَ والأعيانَ، ووصلوا إليه، ودَعَوا له، فقال: قد عوَّلنا على محمد بن محمد بن علي الزَّينبي في نقابة أهله من العباسيين، رعايةً لحقوقٍ سألفة. فقبَّل أبو تمَّام الأرض، وخَلَعَ عليه السوادَ والطيلسان، وقرأ بعضَ عهده عميدُ الرؤساء وقال: الزَّينبي يُتمِّم هذا بمحضر من الجمع، ويُخفِّف عن هذه الحضرة العزيزة الزيادة على هذا القدر. وخرج الزينبيُّ فعبر إلى الجانب الغربي، ومعه المرتضى وقاضي القضاة وريحان الخادم وسائرُ الحُجَّاب. وفيه اجتمع الغلمان عند مسجد القَهْرَمانة، وراسلوا الملكَ، وقالوا: نُريد أرزاقنا. وعَلِمَ أنَّ نيَّاتِهم فسدت، فأرسل إليهم وقال: ما تقدَّم لكم نطالبه، ونحن نرجع إلى ما طلبتُموه، ويكون جوابُنا يوم الاثنين. فلم يرضَوا بذلك، وأجمعوا على حصاره في ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 417، والمنتظم 15/ 255، والأنساب 1/ 178. وينظر السير 17/ 428. (¬2) بعدها في (م) و (م 1) زيادة: صدوقًا. وفي تاريخ بغداد: يفهم الحديث.

داره، فبعث أولادَه وحرمَه إلى دار الخليفة، وعبر ليلًا إلى دار المرتضى ومعه وزيره المتجدِّد قوام الملك (¬1)، واجتمع قوامُ الملك بالإسْفَهسلارية وبعضِ الغلمان، فأظهروا الانزعاج من مفارقةِ الملكِ دارَه. وفي صفر ورد رسول مسعود بن محمود إلى بغداد، وأدَّى ما يحمله من الرسالة عن صاحبه، وأنه تزوَّج الأميرُ أبو شجاع بن مسعود بنتَ أبي كاليجار بشيراز، وعقد العقد هناك، ونثرَ الأجَلُّ العادلُ الوزيرُ الدنانيرَ والدراهمَ والمسكَ والعنبرَ، وتزوَّج أبو كاليجار أختَ مسعود بخراسان، ونُثِرت الدنانير والدراهم، وقَويَت الأخبار بورود أبي كاليجار إلى العراق، فكاتبه حاجب الحُجَّاب (¬2)، وأنه استحلف له الغلمان، وراسل الملكُ الإسْفَهسلارية وقال: قد علمتُم حالي معكم، وما لي إلا البلغةُ القاصرةُ، والبلاد لكم، ومتى ورد الدَّيلم هذه البلاد نزلوا في دوركم، وأخذوا نعمتكم، وهذا بارسطغان يَسعى في خراب الدولة، فإن كنتم دخلتم معه خرجتُ من بينكم. فقالوا: نحن عبيد مولانا. ثم اختلفوا، فضربَتْ كلُّ طائفةٍ عسكرًا في مكان، وأرسل إليه الغلمان وقالوا: قد قنِعْنا بالخبز والشعير. ثم اتَّفقوا على الملك، ولم يبْقَ معه منهم إلا اليسير وحاشيتُه، فانفذ إلى الخليفة الماوردي يقول: ما يدَع بارسطغان فساده، وإذا كنتَ لا تُسلِمُه إليَّ فلا أقل من أن تنقُلَه من جوارك إلى باب [النُّوبي] (¬3)، فأرسل الخليفةُ إلى الحاجب يقول: قد راسَلْنا الملِكَ بكذا وكذا، والتمَسَ منَّا حسم المواد بنقلك إلى باب النُّوبي. فقال: [أمْرُ] أمير المؤمنين ممتثَلٌ، وأمَّا انتقالي من موضعي فما أفعله، فإمَّا أن أُقيَّد ويُفعَلَ بي ما يُراد، وإمَّا أن يُرسَمَ لي بالانصراف، فأخرجَ الساعة وقد خدمتُ الخليفةَ الماضي ومولانا، وقد استجار بهذه الدار مَنْ هو دوني فأُجيرَ، فلا أَقلَّ من أن أنزل أو أنصرف مُختارًا كما جئتُ [مختارًا]، وليس كلُّ ما يقال عنِّي حقٌّ، وبلغ الخليفةَ قولُه، فأمَّا الملِكُ فسكَتَ، وأمَّا الخليفةُ فأعاد إليه مبشِّرًا الخادم سِرًّا وقال: ما عندنا جوابٌ عما عرفتَه من رأينا فيك، وإنما جاء رسولٌ وما أمكَنَنا إلا أن ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) كلمتان غير واضحتين، وهما ليستا في النسخة (ف). (¬2) في (ف): الكتَّاب. (¬3) هذه الزيادة من (ف).

نسمع رسالتَه. فدعا وشكر، وكان نفسُ الحاجب مع أبي كاليجار وقد يئس من جلال الدولة، ولمَّا كان تاسع عشر جمادى الأولى ركب الغلمان وقصدوا دار الملك، وصاحوا وسبُّوا، وطلبوا أرزاقهم، فأرسل الملك إلى [أبي] المنيع ودُبيس بن مَزْيَد بالاستدعاء إلى بغداد، وكان بعضُهم بالأنبار، وبعضُهم بأوانا، وعزم على مفارقة بغداد، وركب الغِلمانُ إلى دار الخليفة وراسلوه يقولون: نريد الحاجب، فقد هلَكْنا من الفقر والجوع، وهذا الملك غافلٌ عنَّا بلَذَّاته، فنريد الحاجبَ ليُدبِّر أمرنا. فقال الخليفة: هذا الحاجب مقيمٌ عندنا على سبيل الإجارة، وحالُه مع الملك ما قد علمتُم، فكيف نُطلقه على وجه المراغمة، وإن شئتم خاطَبْنا الملِكَ فيكم لينظر في حالكم. فقالوا: ما نريد إلا الحاجب. فقال: قد ضاق الوقتُ اليومَ، تعالوا غدًا حتَّى ننظر. فلمَّا كان من الغد حضر بالسلاح خلقٌ كثيرٌ من باب النُّوبي إلى باب المراتب، وصاحوا وشَغَبوا، وغُلِّقت الأبواب، وخِيفَ من حدوث فتنة، فأرسل الخليفة إلى الحاجب ما ترى؟ فقال: الخروجَ؛ لأدبِّر أمرهم، وإلَّا خفتُ على الدار وخرْقِ الهيبة. ففُتِحَ البابُ، فقبَّلَ الحاجبُ العتبة دفعتين، وخرج، وقدَّموا له مركبَة، وسار، فنزل الغلمان، وقبَّل الأرض بين يديه، فقال لهم: قد عرفتُم جلال الدولة وجرَّبتُموه طويلًا، وصلاحكم في الملك أبي كاليجار، فإنه أقْوَم بتدبير الملك، وله مال وأعمال وقلاع، وهو فيكم راغب، قريبٌ منكم بالأهواز، فأخرِجوا هذا الملك من بينكم، وعندي من المال ما تريدون، ونائب الملك أبي كاليجار واصلٌ معه المال، وهو يُدبِّر أمرَكم، وكان يوم الجمعة، فأظهروا شعارَ أبي كاليجار، ونادَوا باسمه، ودخل منهم قومٌ إلى الجامع المجاور لدار الخلافة، وقد صلَّى الخطيبُ الجمعةَ، فقالوا له: كيفَ خطبتَ؟ فقال: على الرسم. فقالوا: ارجِعْ واصعَدِ المنبر واخطُبْ لأبي كاليجار. فقال: لا يجوز ذلك، ولو جاز ما أمكن إلا بإذن الخليفة. وبلغ الملكَ، فأزعجه ذلك، وأراد الخروج من بغداد، فتنبَّه أصحابُه وقالوا: اصبِرْ، فمَعَنا كبراؤهم، وهم يراسلونك. فتوقَّف، ثم استحلفهم الحاجب على طاعة أبي كاليجار، فإنهم يموتون دونه، فحلفوا، وأعطاهم من المال ما أرضاهم به، وانصرف إليه جماعةٌ من الإسْفَهسلارية، فكسر الأواني وأرضاهم، وبلغ الملكَ -وكان معسكرُه بالكَرْخ عند دار المرتضى- أنَّ الحاجب على

عَزْم العبور إليه، وكان قد أنفذ ولدَه وحريمَه إلى دار الخلافة، فلمَّا كان في الليل لسبعٍ بَقِين من الشهر خرج نصفَ الليل، فقصد أوانا، ولحِقَه الوزيرُ قوام الملك وجماعةٌ من أصحابه وأبو الحارث البساسيري -وكان مريضًا- وحُمِلَ معه الوزيرُ قوامُ الملك في عَمَارية (¬1)، وتأخَّر عنه الأعيان، وعَبَروا إلى الحاجب، فرحَّب بهم، وكتب إلى أبي كاليجار والأطرافِ ممَّن هو معه يُخبرهم، ونهب الغلمانُ دورَ الذين خرجوا مع الملك، فمنعهم الحاجب، ونادى مناديه: العدلُ شامل، والخوفُ زائل، والحراسةُ واقعة، والصيانةُ جامعة، وسيرةُ الملك أبي كاليجار السيرةُ المشهورةُ في حفظ الرعية وكفِّ الأذية، فليُبلِّغ الشاهدُ الغائب، ولينبسطِ الناسُ آمنين في معايشهم. فدعا الناسَ واطمأنُّوا. [وقال ابن الصابئ]: وفي ربيع الآخر ورد كتابٌ من فم الصلح بأنَّ قومًا من أهل الجيل حَكَوا أنهم مُطِروا مطرًا كان فيه سمكٌ، في السمكة رطل ورطلان. [قال: وقد شُوهدت الضفادعُ تُمطَر من السحاب، فكذا السمك إذا جاز أن يتولَّد الضفادع من السحاب جاز أن يتولَّد السمك من البحر، فما المانع أن يُغترف السمك، وخصوصًا في الأماكن القريبة من البحر كما ذكرنا في قصة يأجوج ومأجوج، أنَّ السحاب يُمطِر عليهم الأفاعي من البحر]. وفيها ورد أبو كاليجار الأهواز على طريق كازْرُون (¬2) على أصلٍ تقرَّر بينه وبين الحاجب، وكاد يهلك من البرد، وهلك من أتباعه خلقٌ كثير، وعاد الأجلُّ العادل إلى شيراز. وفيها خرج الوزير كمال الدولة من داره بباب المراتب ناظرًا في الأمور إلى دار الفيل ومعه الحاجب والغلمان، وبين يديه البوقات والدبادب على مواطأةٍ متقدمةٍ كانت بينه وبين حاجب الحجَّاب، وكان قد استجار بدار الخليفة من الملك، فلمَّا خرج الحاجبُ اجتمع الغلمان وسألوا الخليفة فيه، فجرى في قصته ما جرى في قصة الحاجب، ونزل في العسكر في خِيَمٍ ضُربت له، ونظر في الأعمال. ¬

_ (¬1) العَمَارية: الهودج. وقد تقدمت. (¬2) كازْرُون: مدينة بفارس بين البحر وشيراز. معجم البلدان 4/ 429.

وفي جمادى الأولى راسل الغلمانُ الخليفةَ بأن يخطب لأبي كاليجار، فقال لجلال الدولة: عندنا عهودٌ لا يمكن العدول عنها، فإن أجريتُم الأمورَ على ما هي عليه، وإلَّا قطعنا الخطبة بمرة. وقصد الغلمانُ جامع المنصور، وطالبوا الخطيب بالخطبة، فقال: ما رُسِمَ لنا شيء، ولكنني أترك الخطبة لجلال الدولة. ثم نزل وصلَّى، وحضر منهم جماعة بجامع براثا، وطالبوا الخطيب بذلك، فخاف منهم، وخطب له، وأحضر حاجبُ الحجَّاب بالعسكر منبرًا، وألبس فقيهًا قَباءَ ديباج أسودَ، وعمامةً سوداءَ، وأمره فخطب ودعا لأبي كاليجار، وهذا من أعظم الأشياء أن يخطب بحضرة الخليفة بغير أمره. وفي يوم الأحد لليلة بقِيَتْ منه وقع ببغداد كتاب طائر من واسط، فيه أنَّ الأتراك اتفقوا هناك على أبي كاليجار كما فعل الغلمان ببغداد، وكان بينهم أمير الأمراء أبو نصر بن جلال الدولة، فخاف منهم وفارقهم ولم يخطب ببغداد في الجمعة الآتية لأحد. وفي يوم الخميس ثالث جمادى الآخرة ركب حاجبُ الحُجَّاب والوزيرُ والغلمان إلى الحلبة، وبعثوا إلى الخليفة في الخطبة، فقال لجلال الدولة: علينا حقوقٌ لا يجوز اطِّراحها، وأبو كاليجار بعيد الدار عنا، ولم يُراسِلْنا في ذلك، فأغلظوا في الجواب، وقالوا: هذا الملِكُ قد أجاعنا وأعرانا وأذلَّنا، وفعل معنا كلَّ قبيح، فإن كنتَ تريد المال فما جَرَتْ بهذا عادةٌ. وأصبحوا فبعثوا إلى الجوامع، فأقاموها لأبي كاليجار من غير أمر الخليفة، وخاف من الفتنة، فسكت. وفي هذا الشهر أخرج الحاجبُ رؤساءَ الأتراك إلى الأهواز بما فعلوا، ويستعجلونه في القدوم، وضربوا السكك باسمه، وعليها الملك العادل شاهنشاه، وفي الجانب الآخر اسم الخليفة، وورد كتابه بشكرهم (¬1)، وكان بعسكر مكرم، وكتب إلى أهل بغداد يَعِدُهم العدلَ والإحسانَ، وقُرئ في دار الشريف المرتضى، ووقعت بيد الحاجب ملطفات من صغار الغلمان إلى جلال الدولة وإخوته، وأنهم قد شرعوا في نقض ما أبرمه الحاجب، فجمع الأكابرَ وقال: ما بذلَتُ نفسي وما لي إلَّا لأجلكم، وقد ¬

_ (¬1) في (ف): يشكره.

بلغني ما يكون سببًا لهلاكي وهلاككم، فقالوا: افعَلْ ما شئتَ ممَّن تخيَّلْتَ منه بالقتل والتغريق وغير ذلك. فقال: لا، بل أخرج عنكم وأُخليكم. ثم تسلَّل جماعةٌ منهم إلى الملك، وفي كلِّ يوم يخرج إليه جماعة من الأعيان، والحاجب ينقض دورهم، وينهب أموالهم، وشكا ذلك إلى الخليفة فلم يقدِرْ على منعهم. وفي جمادى الآخرة قدم أبو الحارث البساسيري ومعه جماعةٌ من العرب والأكراد، ووصلوا بغداد، فخرج إليهم الحاجب والغلمان، واقتتلوا، فقُتِلَ من الفريقين جماعةٌ، وتبعهم الحاجب إلى عَقَرْقُوف (¬1)، وعبر الحاجبُ والترك إلى الجانب الشرقي خوفًا على دورهم وأموالهم، وكثُرَ التسلُّلُ إلى جلال الدولة، وفسدت النيَّات، وورد جلال الدولة ومعه الوزير كمال الملك والبساسيري والترك الذين جاؤوا فنزلوا عند المارستان العَضُدي من الجانب الغربي، وحالتْ دِجلةُ بينهم، وأُحرِقَ الجسر، واستأمن إلى الملك جماعةٌ منهم، ووصل الأميرُ أبو منصور ولدُه إليه مع العرب، وأمر الملك أن تُضرب له الطبول في أوقات الصلوات الخمس، واجتمع ببغداد أربعُ طبول؛ طبلُ الخليفة، والملك، والحاجب لأبي كاليجار، ومعتمدِ الدولة بباب التين في عسكره، ووافتِ الملكَ الأمدادُ من كلِّ ناحية من الجزيرة والموصل والفرات وتكريت ودَقوقا وغيرها، فاجتمع وجوهُ الغلمان إلى الحاجب، وقالوا: أنت سيدنا وكبيرنا وقبِلْنا (¬2) منك، ووعدتنا بوصول أبي كاليجار والنجد من كلِّ مكان، وقد طال علينا ذلك، فإن كان لذلك أصل وإلَّا دبَّرنا نفوسَنا فاصدُقْنا، فإن هذا الملك قد جمع الجموع، ووافته الأمداد، وملَكَ علينا دورَنا وأقطاعَنا، فأخبِرْنا حتَّى ننظر في أمورنا، فإن كنت صادقًا صبَرْنا، وإن كان غير ذلك دبَّرنا أمورنا، أو نعبر إلى القوم فنطرح نفوسنا عليهم، فإمَّا لنا، وإمَّا علينا، وإمَّا أن نميلَ إلى الصلح، ونستوثِقَ لك من الملك، وإمَّا أن نرُدَّكَ إلى دار الخليفة، وإمَّا أن نسير معك من هذا البلد على حمية، فإذا بلغْتَ مأمنَكَ رجع منَّا مَنْ رجع، وصحِبَك مَنْ صَحِبَك. فقال لهم: ما قلتُ وفعلتُ إلا عن قاعدةٍ صحيحة، ¬

_ (¬1) عَقَرْقُوف: قرية من نواحي دجيل، بينها وبين بغداد أربعة فراسخ. معجم البلدان 4/ 137. (¬2) في (خ): وقبلتنا، والمثبت من (ف).

وعلى بينةٍ وبصيرة، وكأنَّكم بعسكر شهاب الدولة منصور بن الحسين عندنا بعد ثلاثة أيام. فسكنوا واطمأنُّوا. وفي يوم الجمعة العاشر من رجب خُطِبَ لجلال الدولة في الجانب الغربي، ولأبي كاليجار في الجانب الشرقي. وفي الثاني عشر منه ورَدَ دُبيس بن علي بن مَزْيَد إلى جلال الدولة في سبع مئة فارس من بني أسد وخفاجة، وورد حسام الدولة إلى الحاجب في خمس مئة فارس، ونزل بباب الشَّمَّاسية، ولمَّا رأى جلالُ الدولة هذه الجموع، وأنَّ الأتراك كذَّبوه في كونهم قالوا: نعبر إليك، قال لأبي المنيع: ما ترى؟ قال: المصلحةُ رَواحُنا إلى الموصل، وننظرُ في أمرنا، فما لنا بهم طاقة. فرحل نحو الأنبار، فضلُّوا عن الجادَّة، وعطشوا، وكادوا يتلفون، ووافى شهابَ الدولة عقيب (¬1) انصراف جلال الدولة، والتقاه الوزير وحاجب الحُجَّاب. ولمَّا رحل جلالُ الدولة عبر الأتراك، فنهبوا الجانب الغربي بأسْرِه، ووصلوا إلى مشهد موسى بن جعفر، فأغلق العلويُّون الأبواب، فراسلوا المرتضى بأنَّ فيه جماعةً من المخالفين، فنَفِّذْ صاحبًا لك يفتح الباب ويُسلِّم ما فيه إلينا. فأرسل مَنْ فتح لهم الباب، فلم يجدوا فيه إلا دوابَّ يسيرةً، فقلعوا ضَبَّات القبور التي فيها أولاد الملك، وكانت فضةً، ثم تناهوا في هتكِ الحريم، وارتكابِ العظيم. وعبر الوزير جمالُ الدولة بنفسه، ومنع من نهب الكَرْخ، وكان أهلُ الجانب الغربي قد بالغوا في سبِّ الأتراك وشَتْمِهم على جانب دِجلة، وبرز توقيعُ الخليفة إلى المرتضى والوزير يتنصَّل مما فعله الحاجب ويقول: واللهِ ما كانت لنا معه مباطنةٌ، ولا عَلِمْنا بما فعل إلا بعد وقوعه. ثم تفرَّقتِ الجموع، وبقي الحاجبُ والتركُ ومَنْ لا بُدَّ منه، وسار جلال الدولة وأبو المنيع إلى تكريت، وتأخَّر وصول أبي كاليجار، فكتب الحاجب [إليه] (¬2) يُعتِبُه ويقول: قد ملكنا الحضرة، وفعلنا ما فعلنا، ولا خبر ولا أثر. فجاءت (¬3) الرسلُ والكتبُ بوصول الملك ووزيرِه الأجَلِّ العادل، ولمَّا وصل جلالُ الدولة إلى ¬

_ (¬1) بعدها في (ف) زيادة: أبو نصر! (¬2) هذه الزيادة من (ف). (¬3) تصحفت في (خ) إلى: فخاف، والمثت من (ف).

تكريت ومعه أبو المنيع، وكان خميس بن تغلب في القلعة، فأغلق في وجوههم أبواب البلد، وكان في شعبان، فقاتلوهم، فطلبوا الأمان، فأمنوا أهل البلد ودخلوا، ونصب معتمد الدولة على القلعة مِنْجَنيقًا، وتطاولت المدَّة، وكتب خميس إلى الحاجب يستمِدُّه، فتأخَّر عنه، فراسل الملكَ فأمَّنَه، ونزل إليه واجتمع [به] (¬1) وبأبي المنيع، وحمل ثلاثين ألف دينار، فاقتسمها الجند والملك وأبو المنيع، وعاد خميس إلى القلعة، ومرض أبو المنيع، فحُمِل في الماء إلى الموصل، وسار الملك على الظَّهر إليها، واستشعر الملك من معتمد الدولة، فأرسل ابنَه أبا نصر وحرَمه فأخذوا ذِمام سراهتك جاريةِ معتمد الدولة، وأصعدوا معها، ثم رأى جلال الدولة من أبي المنيع تقصيرًا في حقِّه، فقال له: ما معي منك. فقال: ما أقعد عن تدبيرٍ أفعلُه معك، والحاجب معه عسكر كثير، وليس معنا مَنْ نلقاه به، وقد مرضت، فيرى الملأ رأيَه، فعلم أنَّه تقاعد عنه. فقال: فعلامَ أبني حالي معك؟ قال: تمضي إلى هِيت مع عساكري من الأكراد والعرب، وتُقيم هناك حتَّى ننظر. فركب الملك يوم السبت، وسار إلى هِيت، ولم يتبَعْه من الغلمان أحدٌ إلا الحاشية، ونزل الخُرَيبة (¬2)، فقال له العرب: الطريق إلى هِيت صعب، والزمان صيف، والماء قليل. فرجع إلى السنِّ، وكان جلال الدولة قد كتب إلى ابن أخيه أبي كاليجار كتبًا يشكو فيها ما عُومِلَ به، ويستعطفه، فكتب جوابه كتابًا عنوانه: عبده وخادمه المَرْزُبان بن عماد الدين، كتابي: أطال اللهُ بقاءَ سيدنا الملك الجليل شاهنشاه، ركن الدين، جلال الدولة، وكمال المِلَّة، ونصر الأمة، يوم الأحد لستٍّ بَقِين من شعبان. ودعا له وقال: وأمَّا ما حدَثَ في ذلك البلد من الخلاف عليه فقد جرى على غيره أعظمُ منه، ولمَّا جرى من اتفاق العسكر ما جرى وحضرت رسلُهم عندي لم يمكن مخالفتُهم؛ لأني لو دافعتُ لم آمَنْ أن يخرجوا الأتراك من يُنصِّبونه، فأظهرتُ ما أظهرتُ وأنا مضمرٌ من طاعته ما يعلمه، وأنا خادمُه وطَوْعُه والنائبُ عنه ومُتَّبِعُه، ولا أعصي له أمرًا، ولا أخالفه. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف). (¬2) الخُريبة: موضع بالبصرة. معجم البلدان 1/ 363. قلت: وجاءت في النسختين (خ) و (ف): الخريبية، والظاهر أنها تحريف.

وفي رمضان قُبِضَ على الوزير كمال الدولة أبي الفضل بن فسانْجس. وفيه وصل جلال الدولة إلى الأنبار، فهلك معه خلقٌ كثيرٌ من العطش، وعبر إلى الجانب الغربي من الفرات آخذًا بالاحتياط، مانعًا الذين معه من الانصراف إلى بغداد، وراسل دُبيسًا، وكان أبو كاليجار بالأهواز، والأجَلُّ العادلُ يَحرِفُه عن العراق، لقلة رغبته فيه وإلفِه لشيراز، وكُتُبُ الحاجب متواترةٌ إليه بالقدوم، ولمَّا علم الحاجبُ بوصول الملك إلى الأنبار أسرى في سِرْبه، فبلغ عَقَرْقُوف ثم عاد. وفيه قبض الحاجبُ على إبراهيم بن عبد الله قاضي كَلْواذى (¬1)، لأنه بلغه أنَّه خرج إلى الملك في رسالة من الخليفة [يستوحش أن يجيزه بجميل اعتقاده، ويحلف أنَّ الأمر الَّذي دبَّره الحاجب لم يعلَمْ به، وبلغ الخليفةَ] (¬2)، فأنكر، وطلب القاضي، فبعث به إليه، فسُئِلَ عَمَّا قيل عنه، فأنكر، وكُتِبَ محضرٌ في الديوان بإنكاره، وردَّه إلى الحاجب، فأعاده إلى الاعتقال، وبعث إلى الخليفة يقول: قد اختلَّ هذا الأمر، وانحلَّ هذا النظام بإنفاذ هذا القاضي إلى الأنبار، فأنكر الخليفة، وجرى في هذا كلام طويل. وفي ذي القَعْدة ورد الخبر بوصول جلال الدولة إلى السِّنْدية (¬3)، فركب الحاجبُ في الأتراك، وهم عددٌ يسير، وكانوا قد تفرَّقوا، ثم عاد وعبر إلى باب الأزج، وانحل أمرُه، وخرج من بغداد، ودخلها جلال الدولة في نصف ذي القَعْدة، وكثُرتِ الأراجيفُ بأنَّ أبا كاليجار عاد إلى فارس والأجَلُّ العادلُ بالأهواز، وهذا أوجَبَ انحلال الأمر، وكان مع الملك دُبَيس والحسنِ بن أبي البركات بن ثُمال والبساسيري وأعيان القُوَّاد، وبعث الملك البساسيري في جماعة من القُوَّاد والعرب بني شيبان لاتباع الحاجب، وقد نزل بدير العاقول، فرحل وتبعوه وناوشوه القتال، وكانوا قد كتبوا إلى جلال الدولة يستمدُّونه، فسار بنفسه، فقطع ثلاثةً وأربعين فرسخًا في يومين، ووقف ما كان معه من الدواب، فلمَّا رآه الحاجب حمل حملاتٍ كثيرة، وكان معه ¬

_ (¬1) كَلْواذى: ناحية من نواحي بغداد. معجم البلدان 1/ 477. (¬2) ما بين حاصرتين من (ف). (¬3) السِّندية: قرية من قرى بغداد. معجم البلدان 3/ 268.

أحمد بن محمد

الغلمان وعسكر الشيرازيين، فاستأمن إلى الملك جماعةٌ وولَّوا منهزمين، فأحاطت العرب بعسكرِهم وثَقَلِهم، فاستولَوا على الجميع، وكان من جملة ما أخذوا سبعة آلاف رأس من الخيل (¬1)، وأما المَّال والثياب والسلاح فلا يُحصى، وسقط الحاجبُ من فرسه، فلم يكن له قوةٌ أن يركب، فالتجأ إلى أَجَمَةٍ فأُخِذَ، وأُخِذَ عامةُ أصحابه، وبلغت الوقعةُ الأجلَّ العادلَ وهو بالأهواز، فلحق بشيراز، وحلف الخليفةُ لجلال الدولة، وعادَتْ خطبتُه، وكان جلالُ الدولة يقول: إجازةُ الخليفة للحاجب هي التي أوجبَتْ ذلك كلَّه. وكان الملك قد حلف للخليفة بالأنبار، ودخل واسطًا لسبع بَقِينَ من ذي القَعدة، وبين يديه الحاجب على بغل بإكاف وقد قُيِّد بقيدين، ووكِّلَ به جماعةٌ من الخواص، فقال دُبيس: أنا أُقرِّر عليه مالًا يشتري به نفسه على أن يُسلِّمه إلى أن يكون عندي تحت الاحتياط. فقال أصحاب الملك للملك: قد علمتَ ما فعَلَ بنا وبِكَ، فإن سلَّمْتَه إلى دُبيس لم يأمن ثورة الغلمان أن يخلصوه، ولا أثرَ بعد عين، ونعود إلى ما كُنَّا عليه من قبل. فأمر (¬2) بقتله ليلة الثلاثاء لليلةٍ بقِيَت من ذي القَعدة. وأُخرِجَ رأسُه فَطِيفَ به، ثم بُعِثَ به مع فرَّاشٍ إلى بغداد، فَطِيفَ به على خشبةٍ، فكان بين خروجِه من دار الخلافة وقتْلِه ستةُ أشهر وعشرةُ أيام، وعمره سبعون سنة، وقُتِلَ جماعةٌ ممَّن كان معه، وكتب جلالٌ إلى أبي كاليجار والعادل كتابًا يدعو فيه إلى الصلح، ويحيل على الحاجب. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق. وفيها تُوفِّي أحمد بن محمد (¬3) ابن أحمد بن جعفر، أبو الحسين، القُدُوري، البغدادي، ولد سنة اثنتين وستين وثلاث مئة، وكان ممَّن أنجبَ في الفقه لذكائه. ¬

_ (¬1) المثبت من (ت)، وتحرفت العبارة في (خ) إلى: سبعة آلاف فارس من الجليل. (¬2) في (خ): فأقرَّ، والمثبت من (ت). (¬3) تاريخ بغداد 4/ 377، والمنتظم 15/ 257، والأنساب 10/ 76. وينظر السير 17/ 574.

الحسن بن شهاب

[وذكره الخطيب وقال]: وانتهت إليه بالعراق رئاسةُ أصحاب أبي حنيفة، وارتفع جاهُه، وكان عالمًا فاضلًا زاهدًا ورعًا صدوقًا، حسن العبارة في النظر، مُديمًا لتلاوة القرآن. وتُوفِّي يوم الأحد خامس رجب، ودُفِنَ بداره بدرب [أبي] (¬1) خلف. الحسن بن شهاب (¬2) ابن الحسن بن علي بن شهاب، أبو علي، العُكْبَراوي، الحنبلي، ولد بعُكْبَرا في المُحرَّم سنة خمس وثلاثين وثلاث مئة، وكان فقيهًا، صدوقًا، ثقةً، يُقرئ القرآنَ والنحو، ويقول الشعر، وقال: كسِبْتُ في الوراقة خمسةً وعشرين ألف درهم، كنت أشتري كاغَدًا بخمسة دراهم، فأكتبُ فيه "ديوان المتنبي" في ثلاث ليال، فأبيعه بمئتي درهم. وكانت وفاتُه ليلةَ النصف من رجب. الحسن بن عبد الله (¬3) ابن حمدان بن ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان، أبو المطاع، التَّغلبي، ويعرف بذي القرنين ووجيه الدولة، ولي إمرة دمشق سعنة إحدى وأربع مئة، فأقام واليًا عليها ستة أشهر، ثم عزل عنها ووليها لؤلؤ، ثم أُعيد إليها أبو المطاع سنة اثنتي عشرة وأربع مئة، ثم عزل عنها وأُعيد إليها سعنة خمس عشرة وأربع مئة، وتُوفِّي بدمشق، وقيل: بمصر، وكان شاعرًا فصيحًا، ومن شعره: [من مجزوء الرمل] مُوعِدي بالبينِ ظنًّا ... أنَّني بالبينِ أشقى ما أرى بين مماتي ... وفراقي لك فَرْقا لا تُهدِّدْني ببَينٍ ... لستُ منه أتوقَّى إنَّما يشقى ببينٍ ... منكَ من بعدَكَ يبقى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من الصادر. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 329 - 330، والمنتظم 15/ 257 - 258، وطبقات الحنابلة 2/ 186 - 188. وينظر السير 17/ 542. (¬3) هكذا ورد اسمه في النسخ، وهو خطأ، فاسمه ذو القرنين بن الحسن ... تُنظر ترجمته في تاريخ دمشق 17/ 361 - 364، والوافي بالوفيات 4/ 432، والسير 17/ 516 وغيرها.

الحسين بن محمد

وقال: [من الخفيف] بأبي مَنْ هويتُه فافترَقْنا ... وقضى اللهُ بعد ذاك اجتماعا وافترقنا حولًا فلمَّا التَقينا ... كان تسليمُه عليَّ وداعا وقال: [من الكامل] لو كنتَ ساعة بينِنا ما بينَنا ... وشهِدْتَ كيفَ نُكرِّرُ التوديعا أيقنتَ أنَّ من الدموعِ مُحدِّثًا ... وعلمتَ أنَّ من الحديثِ دموعا وقال: [من مجزوء الكامل] يا مَنْ أقامَ على الصُّدو ... دِ بغير جُرْمٍ كان مِنَّا أخطِرْ بقلبكَ عند ذِكـ ... ـرِكَ كيف نحنُ وكيفَ كُنَّا لم يَغْنَ عنِّي صاحبٌ ... إلا وعَنْهُ كُنْتُ أغنى وإذا أساء فلستُ أحْـ ... ـمِلُ في الضَّميرِ عليه ضِغْنا يفنى الَّذي وقع التنا ... زعُ بيننا فيه ونفنى الحسين بن محمد (¬1) ابن الحسين بن عامر، أبو طاهر، الأنصاري، ويعرف بابن خراشة، قرأ القرآن على المظفر بن برهان الأصفهاني، وأقام يؤمُّ بجامع دمشق سنين، وكان نَزِهًا عفيفًا، وتوفِّي بدمشق. [وفيها تُوفِّي] لُطف الله بن أحمد بن عيسى (¬2) أبو الفضل، الهاشمي، ولي القضاء والخطابة بدرْزَنْجان، قريةٍ بأرض بغداد، وكان يروي الحكايات. قال: أنشدني البَرقاني لنفسه: [من المتقارب] وإنِّي لأعرِفُ كيفَ الحقوقْ ... وكيف يَبرُّ الصديقُ الصديقْ وكَمْ من جوادٍ وسيعُ الخُطى ... تُقصِّرُ عنه خُطاه مضيقْ ورَحْبُ فؤادِ الفتى محنةٌ ... عليه إذا كان في الحال ضيقْ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 14/ 309 - 310. (¬2) تاريخ بغداد 13/ 19، والمنتظم 15/ 258 - 259.

محمد بن أحمد

محمد بن أحمد (¬1) ابن محمود بن أبي موسى عيسى بن أحمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب، أبو علي، الهاشمي، القاضي، أحدُ أعيانِ الحنابلة وفقهائهم والمصنفين في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وُلدَ في ذي القَعدة سنة خمس وأربعين وثلاث مئة، ومات في ربيع الآخر، ودُفِنَ عند الإمام رحمة الله عليه، وكان ثقةً صدوقًا. قال: أضقتُ إضاقةً شديدةً، فدخل علي رجلٌ فأنشدني: [من الخفيف] ليس من شِدَّةٍ تصيبُكَ إلَّا ... سوفَ تمضي وسوفَ تُكشَفُ كَشْفا لا يضِقْ ذَرْعُكَ الرحيبُ فإنَّ الـ ... ـنَّارَ يعلو لهيبُها ثم تطفا [وفيها تُوفِّي] مِهْيار بن مَرْزويه أبو الحسن، الفارسي، الكاتب، الشاعر، المشهور. [ذكره الخطيب (¬2) فقال]: كان شاعرًا جَزْلَ القول، مُقدَّمًا على أهل وقته [وكنت أراه بجامع المنصور في الجمع يقرأ عليه ديوان شعره، فلم يقدِرْ أن يسمع منه شيئًا. قال]: وتوفي ليلة الأحد لخمسٍ خَلَوْنَ من جمادى الآخرة، ودُفِنَ بمقابر قريش. وقيل: بالشُّونيزية. قال أبو القاسم بن برهان النحوي: كان مجوسيًّا، أسلم في سنة أربع وتسعين وثلاث مئة، فقلت له: يا أبا الحسن، انتقلتَ من زاويةٍ إلى زاويةٍ في جهنم. قال: وكيف؟ قلتُ: لأنك كنتَ مجوسيًّا، ثم صِرْتَ تتعرَّض لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمجوسيُّ والرافضيُّ في النار. فقال: ما أنا رافضيٌّ، ولكني أُحِبُّ أهل البيت عليهم ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق، والترجمة في تاريخ بغداد 1/ 354، والمنتظم 15/ 259، وطبقات الحنابلة 2/ 185. (¬2) تاريخ بغداد 13/ 276، والمنتظم 15/ 260 - 261. وينظر السير 17/ 472.

السلام وأمدحهم. وكان يسكن الكَرْخَ بدرب رباح، وكان جلال الدولة قد حبسه ثم أطلقه، وسببه أنَّ امرأةً كانت تخدُمُ دارَه، فكنست يومًا الدار، فوجدت خيطًا فجرَّته، فإذا هو خيط هميان فيه دنانير، فأخبرته فقال: أنا دفنتُه، وكان فيه ألفا دينار. فسعَتْ به إلى جلال الدولة (¬1)، فأنكره، وكان قد نزل بذلك البيت حاجٌّ من أهل خراسان. وقال له [أبو القاسم] ابن برهان [يومًا]: يا أبا الحسن، أنت رجلٌ أعجميٌّ، وفي العجم غلاظةٌ، فمِنْ أينَ لك هذه الرقة (¬2) وهذه الجزالة؟ ثم إنك تصِفُ أماكنَ ما رأيتَها أحسنَ ممَّا يصِفُها مَنْ قد رآها. فأطرق ساعةً ثم رفع رأسه، وأنشد [هذه الأبيات] بديهًا: [من الطويل] فإن لم يكُنْ نظْمُ القصائدِ شيمتي ... وليس جدودي يَعْرُبٌ وإيادُ فقد تسْجَعُ الورقاءُ وَهْيَ حمامةٌ ... وقد تنطِقُ الأوتارُ وَهْيَ جمادُ وقال: [من البسيط] أستنجِدُ الصبرَ فيكم وهو مغلوبُ ... وأسألُ النومَ عنكم وهو مسلوبُ وأبتغي عندكم قلبًا سَمحْتُ بهِ ... فكيفَ يرجِعُ شيءٌ وهو موهوبُ ما كُنْتُ أعرفُ ما مقدارُ وصلِكُمُ ... حتَّى هَجَرتُمْ وبعضُ الهجرِ تأديبُ وقال: [من الكامل] أهفو لعلويِّ الرِّياحِ إذا جرَتْ ... وأظنُّ رامةَ كلَّ دارٍ أقْفَرَتْ ويشوقني روضُ الحِمى مُتنفِّسًا ... يصِفُ الترائبَ والبروقَ إذا سَرَتْ يا دينَ قلبٍ من ليالي حاجِرٍ ... مكرَتْ بهِ يومًا عليه وانقضَتْ وقال: [من الطويل] هل السابقُ الغضبانُ يملِكُ أمرَهُ ... فما كلُّ سيرِ اليَعْمَلاتِ (¬3) وخيدُ (¬4) رويدًا بأخفافِ المَطيِّ فإنَّما ... تُداسُ جِباهٌ تحتَها وخدودُ ¬

_ (¬1) في (خ): جلال الملك، والمثبت من باقي النسخ. (¬2) تحرفت في (خ) إلى: الورقة. (¬3) اليَعْمَلَات جمع يَعْمَلَة: وهي الناقة السريعة. اللسان (عمل). (¬4) الوَخْدُ: سعة الخطو في المشي. اللسان (وخد).

وقال: [من السريع] كم ذا النوى قَدْ جزِعَ الصابرُ ... وقَنَطَ المهجورُ يا هاجِرُ أأحمدَ البادونَ في عيشهِمْ ... ما ذمَّ من بعدهِمُ الحاضرُ أم كان يومُ البَينِ حاشاكُمُ ... أولَ شيءٍ ما لَهُ آخِر وقال: [من الوافر] متى رُفِعَتْ لها بالغورِ نارُ ... وقَرَّ بذي الأراكِ لها قرارُ فكلُّ دمٍ أراقَ السيرُ فيها ... بحُكْمِ الشَّوقِ مطلولٌ جُبارُ (¬1) وقال [من البسيط]: لو كنتَ تبلو غداةَ السَّفح أخباري ... علمتَ أنْ ليس ما عيَّرْتَ بالعارِ شوقٌ إلى الوطنِ المحبوبِ جاذَبَ أضـ ... ـلاعي ودمعٌ جرى (¬2) من فُرْقةِ الجارِ ووقفةٌ لم أكُنْ فيها بأولِ مَنْ ... بانَ الخليطُ فداوى الوجدَ بالنارِ ولُمْتَ في البرقِ زفْراتي فلو عَلِمَتْ ... عيناكَ من أين ذاك البارقُ الساري طارَتْ شرارتُهُ من حَرِّ كاظمةٍ ... تحتَ الدُّجى بلُباناتي وأوطاري هَلْ بالديارِ على لومي ومعذرتي ... عَدْوى تُقامُ على وجدي وتَذْكاري أم أنتَ تعذُلُ فيما لا تُريد بِهِ ... إلَّا مداواةَ حرِّ النَّارِ بالنَّارِ وقال: [من الرجز] سَلْ بالغُوير السائق المُغلِّسا ... هل يستطيع ساعةً أن يحبسا (¬3) فإنَّ بالدارِ بقايا لوعةٍ ... نُوقًا ضِعافًا وعيونًا نُعَّسا وثَمِلِين ما أداروا بينهم ... إلَّا السهادَ والدموعَ أكؤسا ما علِمَتْ نفوسُهم أنَّ الرَّدى ... ميقاتُهُ الصبحُ إذا تنفَّسا تركْتَ من خلفِكَ أجسامَهُمُ ... وسُقْتَ ما بين يديكَ الأنْفُسا ¬

_ (¬1) المطلولُ والجُبار: المهدور. اللسان (طلل) و (جبر). (¬2) في (خ) و (ف): ودمع عين جرت، وعليه لا يستقيم الوزن. (¬3) في (خ): يجلسا، والمثبت من (ف).

أين تريدُ عن حياضِ حاجرٍ ... وماؤها يروي العليلَ اليبسا وهل على ماء النخيل موردٌ ... إذا ورَدْتَ مُثلِثًا ومُخْمِسا وقال: [من الطويل] يقولون قبلَ البَينِ عينُكَ تدمَعُ ... دعوا مُقلَتي تذري غدًا مَنْ تُودِّع ودونَ انصداعِ الشَّملِ لو يسمعونَهُ ... أنينٌ حصاةُ القلبِ منه تَصدَّعُ أعِدْ ذِكْرَ نَعمانٍ أعِدْ إنَّ ذِكْرَهُ ... من الطِّيبِ ما كرَّرْتَهُ يتضوَّعُ فإن قَرَّ قلبي فاتَّهِمْهُ وقُلْ لَهُ ... بمَنْ أنتَ بعد العامريَّةِ مُولَعُ وقال: [من مجزوء الكامل] يا ليلتي بحاجرٍ ... إنْ عادَ ماضٍ فارْجِعي أرضى بأخبارِ الرِّيا ... حِ والبروق اللُّمَّعِ وأينَ من أرض الحمى ... شائمةٌ بلَعْلَعِ أفرشَني الجمرَ وقا ... لَ إنْ أردتِ فأجعي وقال: [من مجزوء الرجز] لعلَّهمْ لو وقفوا ... أبَلَّ هذا المدنَفُ قالوا غدًا وعدُ النَّوى ... يا بردَها لو لم يفُوا هل أنتَ يا قلبُ معي ... أو معهم منصرفُ وقال: [من الخفيف] ذكَرَ العيشَ بالحِمى فبكى لَهْ ... ورأى العذْلَ حظَّهُ فاستقالهْ من تناسى بالبانِ مغنى هواهُ ... فبنفسي غصونُه الميَّالهْ لا وأيامِ حاجرٍ ولياليـ ... ـهِ تقضَّتْ قصيرةً مُستطالهْ لا يقول الوُشاةُ عنِّي مُحِبٌّ ... غيَّرَ النَّايُ وُدَّهُ وأحاله كلَّما قلتُ قَرَّ قلبي على با ... بِكَ هبَّتْ فهيَّجَتْ بلبالهْ (¬1) ¬

_ (¬1) البلبال: شدة الهمِّ والوسواس في الصدور. اللسان (بلل).

وقال: [من الطويل] أجيرانُنا بالغَوْرِ والركبُ مُتهِمُ ... أيعلَمُ خالٍ كيفَ باتَ المُتيَّمُ رحلتُمْ وعمرُ الليلِ فينا وفيكُمُ ... سواءٌ ولكِنْ ساهرونَ ونُوَّمُ فيا أنتمُ مِنْ ظاعِنينَ وخلَّفوا ... قلوبًا أبَتْ أنْ تعرفَ الصبرَ عنهمُ ولمَّا جلا التوديعُ عمَّا حذرتُهُ ... ولم يبقَ إلا نظرةٌ تُتَغَنَّمُ بكيتُ على الوادي فحرَّمْتُ ماءَهُ ... وكيف يحِلُّ الماءُ أكثرهُ دمُ وقال: [من الرمل] وبجرعاء الحمى قلبي فعِجْ ... بالحمى واقرأْ على قلبي السلاما وترجَّلْ فتحدَّثْ عجبًا ... أنَّ قلبًا سار عن جسم أقاما قُلْ لجيران الغضا آهٍ على ... طِيبِ عيشٍ بالغضا لو كانَ داما حَمِّلوا ريحَ الصَّبا نَشرَكُمُ ... قبلَ أن يحمِلَ شيحًا وثُماما وابعثوا أشباحَكُمْ لي في الكَرى ... إنْ أذِنْتُم لجفوني أن تناما وقال: [من الطويل] صحا القلبُ لكن صبوةٌ وحنينُ ... وأقصَرَ إلَّا أن يخِفَّ قَطينُ وقال: [من الطويل] قالوا يكونُ البَينُ والمرءُ رابِطٌ ... حشاهُ بفضلِ الحزْمِ قلتُ يكونُ وقد يُضمِرُ القلبُ الصَّرامةَ لو وفى ... ويصدُق وعدُ الصبرِ ثم يَمينُ دعوني فلي إن زُمَّتِ العيسُ وقفةٌ ... أُعلمُ فيها الصخرَ كيفَ يلينُ وخلُّوا دموعي أو يقال نعم بكى ... وزفرةَ صدري أو يُقال حزينُ فلولا غليلُ الشوقِ أو دمعةُ الأسى ... لما خُلِقَتْ لي أعينٌ وجفونُ وجوهٌ على وادي الغضا لا عَدِمْتُها ... وكلُّ عزيزٍ بالجمالِ يهونُ تشبَّثْتُ بالأقمارِ عنها عُلالةً ... وباناتِ سَلْعٍ والفروقُ تَبينُ وعَوَّذني عَرَّافُ نجدٍ بذِكْرِها ... فأعلَمني أنَّ الغرامَ جنونُ تَعوَّدَ داءً ظاهرًا أن يَطُبَّهُ ... فكيفَ لهُ بالدَّاءِ وهْوَ دفينُ

هبة الله بن الحسن

وقال: [من الرجز] سقى الحيا عهدَ الحمى أعذبَ ما ... تسقي السماواتُ بهِ الأرْضِينا وخصَّ باناتٍ على كاظمةٍ ... وزادها نضارةً ولِينا وواصلَتْ ما بينَها ريحُ الصَّبا ... فعانقَتْ غصونُها الغصونا ورَدَّ أوطارًا بها ماضيةً ... عليَّ أو أحِبَّةً باقينا هبة الله بن الحسن (¬1) أبو الحسين، البغدادي، ويُعرف بالحاجب، كان أديبًا شاعرًا فصيحًا، وكانت وفاتُه ببغداد فجأةً في رمضان، ومن شعره: [من مجزوء الكامل] يا ليلةً سلَكَ الزما ... نُ بطيبِها في كلِّ مَسْلَكْ إذْ أرتقي روضَ المسرَّة ... مُدرِكًا ما ليسَ يُدْرَكْ والبدرُ قد فضحَ الظَّلا ... مَ فسِترُهُ فيكَ مُهتَّكْ وكأنَّما زُهْرُ النجو ... مِ بلَمْعِها شُعَلٌ تَحرَّكْ والغيمُ أحيانًا يلو ... حُ كأنَّهُ ثوبٌ مُمسَّكْ وكأنَّ تجعيدَ الرِّيا ... حِ لدجلةٍ ثوبٌ مُفرَّكْ وكأنَّما المنثورُ مُصفـ ... ـرُّ الذُّرا ذهَبٌ مُسبَّكْ والنورُ يَبْسِمُ في الريا ... ضِ فإنْ نظرتَ إليه سَرَّكْ وكأن نشْرَ المسكِ ينفـ ... ـحُ في النَّسيمِ إذا تَحرَّكْ شارطْتُ نفسي أن أقو ... مَ بشرطها والشَّرطُ أملَكْ حتَّى تولَّى الليلُ مُنْـ ... ـهزمًا وجاء الصبحُ يضحَكْ واهِ الفتى لو أنَّهُ ... في ظل طيبِ العيشِ يُترَكْ والدهرُ يَحْسُبُ عمرهُ ... فإذا أتاه الشَّيبُ فَذْلَكْ (¬2) ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 14/ 70، والمنتظم 15/ 261 - 262، ومعجم الأدباء 19/ 271 - 273. (¬2) فَذْلَكَ: يُقال: فَذْلك الحساب: أنهاه وفرغ منه، وهي منحوتة من قوله: فذلك من كذا وكذا إذا أجمل حسابه. المعجم الوسيط: (فذلك).

السنة التاسعة والعشرون وأربع مئة

السنة التاسعة والعشرون وأربع مئة فيها في المُحرَّم جاء أبو الحسن بن القزويني الزاهد إلى جامع المنصور، فلمَّا دخل ارتجَّ بالصياح، وظنَّ الناسُ أن الجمعة قد قامت، وكان حواليه من يضرب الناس إشفاقًا عليه، فكان الناسُ يرمون عليه مناديلهم يتبرَّكون به، وجلس تحت منبر الخطيب، فقام ابن التميمي الواعظ، وقال: إن رأى الشيخُ أن يقول في القرآن قولًا يسمعه الناس منه، فيروونه عنه. فقال: نعم، بَلِّغْهُم عنِّي أنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوق، وأن المتكلِّمين على ضلالة (¬1). وكان جلال الدولة قد كتب إلى ابن أخيه أبي كاليجار من واسط كتابًا يسأله الصلح، وأقام ينتظر جواب الرسل، فجاءه كتابهم في سابع ربيع الآخر يذكرون أنَّه أجاب إلى ما التمس منه، فسار جلال الدولة مصعدًا إلى بغداد، ثم وافاه بعد ذلك كتاب بأن الرسل عادوا على غير شيء. وسببه أنَّه قيل لأبي كاليجار: الأتراك معك والأطراف، فإن صالحتَ خرجوا عن يدك. وكان في نفسه من بغداد، فأحضر وزيرَه وعرَّفه ما في نفسه، فقال: أنا رجل غريب عن تلك البلاد، وما أثِقُ من نفسي بمقاومة أمورها وعساكرها ومؤنها. فقال شهاب الدولة أبو الفوارس منصور: أنا أعرِّفُ وأقوم بما تحتاج العساكر إليه. وكان الوزير وهو الأجَلُّ العادل ما يؤثر العراق، ويطلب السلامة، وكان من عقلاء الرجال. وجاء الرسل إلى جلال الدولة وأخبروه بما جرى في نصف جمادى الأولى، فكتب إلى أبي كاليجار كتابًا: إلى السيد الملك الجليل أدامَ اللهُ توفيقَه، وتأمَّلنا ما عاد به الرسل، فلم يؤدِّ ذلك (¬2) إلى بيان، ولا أفصح عن برهان، وذكر كلامًا استعطفه، وكتب إلى الأجلِّ العادل كتابًا من جنسه، وخاطبه بمولاي الأجَلِّ الأوحد المنصور، أدام الله عُلوَّه، فجاء الجواب بما يريد، ووقعت المهادنة والصلح، وكان في كتاب الأجلِّ العادل، وأنَّ الخادم متعلِّق بأهداب طاعة الحضرتين بما خوَّلَه الله من جميل الرأيين ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 15/ 263. (¬2) في (ف): به.

العاليين، وبعث الخليفةُ الماورديَّ ومعه جماعةٌ من الأعيان إلى أبي كاليجار في هذا المعنى، وعاد الماوردي من عند أبي كاليجار بالسمع والطاعة للخليفة ولجلال الدولة، وقال الأجلُّ العادل لهما: ما زِلْتُ حتَّى ألقيه عما كان عليه. وحصل الاتفاق على أن يكون من البصرة إلى فارس لأبي كاليجار، ومن واسط إلى بغداد وأعمالها لجلال الدولة، وكتبوا الكتاب، وشَهَّدوا فيه القضاة والقُوَّاد والأشراف، وأخذوا عليه خطَّ الخليفة. وفيها ظهرت الغُزُّ، فاستولوا على أذربيجان ونواحيها، وقتلوا خلقًا كثيرًا وسَبَوا. [وذكر هلال بن الصابئ في أول هذه السنة أنَّ الفرَّاش الَّذي حمل رأس حاجب الحجَّاب رهنه عند خمَّار على جرَّة نبيذ]. وفيها خرج توقيع القائم بأن يُلزِمَ أهلَ الذِّمَّةِ ما تقتضيه مراسيمُ الشرع من شَدِّ الزنانير والغيارات (¬1)، وما جرت به العادة. وفي رمضان سأل جلالُ الدولة الخليفةَ أن يزيد في ألقابه، فيقال: شاهنشاه الأعظم، ملك الملوك؛ ليميزه على أبي كاليجار، فخطب له على المنابر، فثارت العامَّة، ورجموا الخطباء بالآجر، ورماهم الغلمان بالنُّشَّاب، واقتتلوا، وصاحت العامة: هذا اسمٌ من أسماء الله لا يجوز أن يُشاركه فيه غيره، ولا يجوز للخليفة التلقيبُ به، وبلغ الخليفةَ، فأمر بجمع الفقهاء إلى الديوان في داره، واستُفتوا في الألقاب المتجدِّدة وهي شاهنشاه الأعظم، ملك الملوك. وقال الخليفة: ليُكتَبْ فيها جميعُ المذاهب، فرخَّص البعضُ، ومنع البعض. قال محمد بن عبد الملك الهَمَذاني: منع الماوردي من جواز ذلك، وكان مختصًا بجلال الدولة، له منه منزلةٌ رفيعةٌ، فاستحضره، فحضر على وجل، وتوقع مكروهًا، فقال له جلال الدولة: لا بأس عليك، فإنك لو حابيتَ أحدًا لحابيتَني؛ لما بيني وبينك، وكونِك أكثر الفقهاء مالًا، وأوفاهم جاهًا، وما حملك على مخالفتي إلا الدِّين، وقد قرَّبك ذلك مني، وزاد محلُّك في قلبي، وارتفع موضِعُك عندي، فجزاك الله خيرًا، ¬

_ (¬1) الغيارات، جمع غيار: وهو علامة أهل الذمة، كالزنار للمجوسي ونحوه، يُشدُّ على وسطه. المعجم الوسيط (غير).

فطِبْ نفسًا، وقَرَّ عينًا. وأمر القائمُ بالخطبة بالألقاب المتجددة، وأقام الغِلمانُ بالجوامع عند المنابر خوفًا من الفتنة، ولم يحضر من الناس إلا القليل. وفيها حكم الغُزُّ على الريِّ وأصبهان وبعضِ خراسان، وكاتبوا الخليفةَ بأننا قومٌ من المسلمين أغزانا محمود بن سُبُكْتِكين، ونريد أن نكون من جملة أولياء الخليفة والملك. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق ولا من خراسان، وكانت الجِمالُ قد حصلت بأيدي الغُزِّ، وكانت مئة ألف جمل، وانتشر الأمر على مسعود بن محمود؛ لتوفُّرِه على لذَّاتِه واطِّراح تدبير الممالك، وفسد جندُه عليه بإقلاله لمراعاتهم، وقَطْعِه المواد عنهم، وتمكَّنَتْ هيبةُ الغُزِّ من قلوبهم، وقيل: إنهم أخذوا خراسان كلَّها إلا الريَّ، وكان مسعودٌ بغَزْنة. وقال محمد بن مؤيد الملك: كان أبو صالح سيدُ الدولة صاحبُ حلب قد أنفذ إلى مصر رجلًا -يقال له: الأيسر- بعدما هزم الروم على أعزاز، وبعث من غنائمهم شيئًا كثيرًا من الصياغات والآلات والأواني والخيل والبغال، فأعجب ذلك الجَرْجَرائي الوزير، وأكرم رسولَه، وخلع عليه، وبعث معه الخِلَع الجليلة لشِبْل الدولة، وكان أنوشْتِكين الدِّزْبَري صاحبُ الشام مقيمًا بدمشق، فلم يزَلْ رجلٌ -يُقال له: ابن كليد- يُغري بين الدِّزْبَري وشبل الدولة حتَّى أوقع بينهما، وكان ابن كليد بحمص، فبعث الدِّزْبَري رافعَ بن أبي الليل أمير الكلبيين إلى قتال نصر بن صالح إلى حلب، فخرج شبل الدولة نصر بن صالح لقتالهم، فاقتتلوا، فقُتِلَ نصر في المعركة، وذلك في شعبان، وسار الدِّزْبَري فنزل على جبل جَوْشَن ظاهر حلب، وأغلق أهلُ حلب أبوابها وقاتلوه، فاستمالهم، وأمَّنهم، ففتحوا له الأبواب، فدخلها، وكان في القلعة المقلِّد بن كامل ابنُ عم شبل الدولة، فتراسلا، واستقرَّ الأمرُ على أنَّ المقلِّدَ يأخذ من القلعة ثمانين ألف دينار وثيابًا وأواني ذهب وفضة ويُسلِّمها إلى الدِّزْبَري، وكانت خديعةً، فأجاب الدِّزْبَري فأخذ جميع ما كان في القلعة من الأموال والذخائر والجواهر، وما ترك إلا ما ثَقُلَ حَمْلُه، وتركه (¬1) ومضى إلى حِلَّته، وحصل جمهور ما كان في القلعة (¬2)، وأخذ عِزُّ الدولة ثِمال بن صالح أخا نصر، وكان قد انهزم إلى القلعة يوم ¬

_ (¬1) في (خ): ونزل، والمثبت من (ت). (¬2) بعدها في (خ) زياده: المقلد. وهي ليست في (ف).

عبد الرحمن بن عبد الله بن علي

الوقعة، وأراد أن يعصي، فلم يتَّفِقْ، فأخذ خمسين ألف دينار وانصرف، وبلغ الوزيرَ بمصر فعزَّ عليه قتلُ نصر، وما جرى في أموال القلعة من التفريط، وكلُّ ذلك مضافٌ إلى سواري الدِّزْبَري، فكانت ولايةُ شبلِ الدولة نصرٍ على حلب تسعَ سنين. وفيها تُوفِّي عبد الرحمن بن عبد الله بن علي أبو علي، العَدْل، ويُعرف بابن أبي العجائز، ولد سنة أربعين وثلاث مئة بدمشق، وتُوفِّي بها في المُحرَّم، وكان ثقة. وقال [ابن عساكر] (¬1): حدثنا محمد بن سليمان الرَّبَعي، عن محمد بن تمام البَهْراني، عن محمد بن قدامة قال: أتينا سفيان بن عيينة فحَجَبَنا، فجاء خادمٌ لهارون الرشيد -يقال له: حسين- في طِلْبتِه، فأخرجه، فقُمْنا إليه وقلنا: أمَّا أهلُ الدنيا فيَصِلون إليك، وأمَّا نحن فلا نصِلُ. فنظر إلينا وقال: لا أفلح صاحبُ عيال، ثم أنشد: [من البسيط] اعمَلْ بعلمي ولا تنظُرْ إلى عملي ... ينفعْكَ علمي ولا يضْرُرْكَ تقصيري ثم قال: بِمَ تُشبِّهون قولَه - عليه السلام - إخبارًا عن ربِّه تعالى: "ما شغلَ عبدي ذكري عن مسألتي إلَّا أعطيتُه أفضلَ ما أُعطي السائلين" (¬2)؟ فقلنا: قُلْ يرحمُكَ الله. فقال: قول القائل: [من مجزوء الكامل] وفتًى خلا من مالِهِ ... ومن المروءةِ غيرُ خالِ أعطاكَ قبلَ سؤالِهِ ... وكفاكَ مكروهَ السُّؤالِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين سقط من النسخ، والترجمة والكلام الآتي في تاريخ دمشق 35/ 55 - 57. (¬2) الحديث أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد ص 108 - 109، وفي التاريخ الكبير 2/ 115، والبيهقي في الشعب (572) من حديث عمر بن الخطاب، وفي إسناده صفوان بن أبي الصهباء، وهو منكر الحديث. وأخرجه البيهقي (573)، والقضاعي (584) من حديث جابر بن عبد الله، وفي إسناده الضحاك بن حمرة، وهو ضعيف، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، وهو مدلس، وقد عنعن فيه. وأخرجه الترمذي (2926) من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: من شغله القرآن وذكري ... الحديث، وحسَّنه! وفي إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف، وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، وهو ضعيف جدًّا؛ وتعقب الذهبي الترمذيَّ في الميزان 3/ 515 بقوله: حسَّنه الترمذي فلم يُحسِن.

السنة الثلاثون وأربع مئة

السنة الثلاثون وأربع مئة فيها في المُحرَّم جلس الخليفةُ جلوسًا عَامًّا لتلقيبِ الملك أبي كاليجار والخَلْعِ عليه، وحضر الوزيرُ كمالُ الملك ووجوهُ الحواشي والقضاةُ والشهودُ والأشرافُ والعلماءُ، وحضرَ الوزيرُ عميدُ الدولة أبو سعد، وتقدَّم الوزيرُ كمالُ الملك وقال للخليفة: العبد ملكُ الملوك شاهنشاه الأعظم يسأل مولانا ما سبق به الإنعام في معنى المَرْزُبان ابن أخيه، فقال: نفعل. وأُحضِرتِ الخِلَعُ المعهودة، وقُرئ عهدُه على ما جرت به العادة. وفي شعبان صاهر أبو كاليجار مسعود بن محمود [بن سُبُكْتِكين] على أخت مسعود، ومضى الرسلُ إلى غَزْنة، وقيل: إنما كان العقدُ لسعيد بن مسعود على ابنةِ أبي كاليجار، وكان يومًا مشهودًا. [وحكى ابن الصابئ عن] بعض الرسل: دُعينا إلى باب مسعود بغَزْنة، فشاهدنا بالباب أصنافَ العساكر، وملوكَ جُرجان وطبرستان وخراسان والهند [والسند] والترك، وقد أُقيمت الفِيَلَةُ عليها الأسِرَّة والعَمَاريات الملبَّسة بالذهب، مرصعةً بأنواع الجواهر، ودخلنا وإذا بأربعة آلاف غلام وقوفٌ سِماطين، وفي أوساطهم مناطق الذهب [والفضة]، وبأيديهم أعمدة الذهب، ومسعودٌ جالسٌ على سريرٍ من الذهب لم يوضَعْ على الأرض مثلُه، وعليه الفُرُش الفاخرة، وعلى رأسه تاجٌ مُرصَّعٌ بالجواهر واليواقيت، وقد أحاط به الغِلمانُ الخواصُّ بأكمل زينة، ثم قام مسعود فانتقل إلى سِماطٍ من فضة عليه خمسون خِوانًا من الذهب، على كلِّ خُوان خمسة أطباق ذهب، فيها أنواعٌ من الأشربة، فسقاهم الغِلمانُ، ثم قام مسعود إلى مجلس عظيم الأقطار فيه ألف دَسْتٍ من الذهب، وأطباقٌ كبارٌ خَسْروانيةٌ فيها الكِيزان، وعلى كلِّ طبق زَرافةُ ذهب، وأطباقٌ كبارٌ ذهب، فيها المسك والعنبر والكافور، وأشجار الذهب [والفضة] مرصعةٌ بالجواهر واليواقيت، وشموعٌ من ذهب، في رأس كل شمعة قطعةٌ من الياقوت الأحمر، يلمع كلمعان النار، وأشجارُ العود قائمةٌ بين ذلك، وفي آخر المجلس رحًى من الذهب يطحن المسك والكافور والعنبر، [وفي جانب المجلس بحيرةٌ في جوانبها

من الجواهر والعنبر] (¬1) والفصوص واللؤلؤ شيء يقصر الوصف [عنه]. وذكر أشياء أُخَر تُحيِّر الأسماع. [قلت: فما بقينا ولا بقوا]. وبعث مسعودٌ خادمًا ليتسلَّم البيت، وأكرم الرسلَ وردَّهم، فمات الخادم والرسل قبل أن يصلوا إلى شيراز، [وهذا من العجائب]. وفيها سأل جلالُ الدولة الخليفةَ أن يُلقِّبَ ابنَه لقبًا، فلقَّبه الملك العزيز، وكان مقيمًا بواسط، وبرز إلى ملك بني بُوَيه. وفيها استولى الغُزُّ على هَمَذان وما قاربها، واستفحل أمرُهم. وفيها استولى بنو سلجوق على خراسان والجبال، وهرب مسعود بن محمود منهم إلى غَزْنة، واقتسموا البلاد. ذِكْرُ بدايتهم: أصلُهم تركمان، ينزلون في الخركاوات (¬2) بالبراري من وراء النهر، فزوَّجَ سلجوق ابنتَه من رجل يُعرف بعلي تِكين، فأفسد على محمود بن سُبُكْتِكين البلادَ بالنهب والغارات، فقصدهما محمود، فأمَّا عليٌّ فأفلِتَ، وأمَّا سلجوق فأسره، وبقي طُغْرُلْبَك -واسمه محمد بن ميكائيل بن سلجوق- في أربعة آلاف خَرْكاة ينتقلون من مكان إلى مكان، فلمَّا توفي محمود اشتغل ابنُه مسعود بلذَّاته وغرق فيها، ولم ينظر في الأمور، فاجتمع إلى طُغْرُلْبَك خلق عظيم من التركمان، فورد نيسابور وقد استولى عليها اللصوص فهذَّبها، ومال إليه المستورون وأحبُّوه، فسار إلى مسعود فهزمه، واستولى على خراسان، وولَّى أخاه داود مرو وسَرْخَس وبَلْخ، وابنَ عمه الحسن بن موسى هَراةَ وبُوشَنج وسِجِسْتان، وولَّى أخاه لأمه إبراهيم ينَّال دهستان، وقصد بنفسه الريَّ، فوقع على دفائن كثيرةٍ فتقوَّى بها، وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. وفيها جلس الخليفةُ، وخلع على قاضي القضاة أبي عبد الله الحسين بن علي بن ماكولا عُقيب ما جرى على أخيه من النكبة، وقُرئ توقيعٌ جميلٌ في أمره بمحضرٍ من ¬

_ (¬1) هذه الزيادة والتي بعدها من (ف) وحدها. (¬2) الخركاوات جمع خَركاة: وهي الخيمة الواسعة، وتقدمت مرارًا.

أحمد بن عبد الله

الخليفة، وكان أخو هبة الله أبو القاسم وَزَر (¬1) لجلال الدولة مرارًا، وكان حافظًا للقرآن، عالمًا بالأخبارِ وأيامِ الناس، خُنِقَ بِهِيت في جمادى الآخرة. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق ولا من الشام ولا من مصر. و[فيها] تُوفِّي أبو الفتوح الحسن بن جعفر، العلوي، أمير مكة. وفيها استوزرَ أبو نصر بنُ مروان صاحبُ ميَّافارقين أبا نصر محمد بن محمد بن جَهير -وكان من الموصل- صهرَ ابن أبي العقارب رئيس الموصل، فجرَتْ بينهما مشاحنةٌ أورثَتْ عداوةً، وكان ابنُ أبي العقارب حاكمًا على الموصل، فأرسل إلى قِرْواش، وقال: لا بُدَّ من إخراجه. فأخرجه، فمضى إلى ميَّافارقين، فاستوزره ابنُ مروان ولقَّبَه كافي الكُفاة، فساس الأمور، وأحسن إلى الناس. وكان كريمًا مِفضالًا مُمدَّحًا، امتدحه الشعراء؛ ابنُ حَيُّوس والخَفاجي وغيرُهما، وراسل الخلفاءَ والملوك، وحمل دولة بني مروان، ووَزَر للقائم، وسنذكره. وفيها تُوفِّي أحمد بن عبد الله (¬2) ابن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم، أبو نُعيم الأصفهاني، صنَّف الكثير، وكان يميل إلى مذهب الأشعري ميلًا كثيرًا. قال الخطيب: كان يخلط المسموع بالمجاز له ولا يوضح أحدَهما من الآخر. وقال عبد العزيز النَّخْشبي: لم يسمع أبو نُعيم مسندَ الحارث بتمامه من أبي بكر بن خلَّاد، فحدَّث به كلَّه. وتُوفِّي في ثاني عشر المُحرَّم بأصبهان، أسند الحديث عن جماعةٍ، وروى عنه حَمْد بن أحمد الحداد كتاب "الحلية"، وقد أودع كتاب "الحلية" الأخبارَ الموضوعة، والأحاديثَ الباطلة، ولم يُبيِّن الصحيحَ من السقيم، وسجع في تراجم الرجال سجعًا ¬

_ (¬1) المثبت من (ف)، وفي باقي النسخ: وزير. (¬2) المنتظم 15/ 268، وصفة الصفوة 1/ 20 - 32. وتنظر بقية مصادر الترجمة في السير 17/ 453.

الحسن بن الحسين

باردًا وما كان فنَّه، وأضاف التصوُّفَ إلى أبي بكر وعمر والصحابة -رضي الله عنهم-، وإلى سفيان الثوري ومالك والشافعي، رحمة الله عليهم أجمعين. ثم إنه ذمَّ الصوفية فقال في ترجمة الشافعي: قال الشافعي: التصوُّف مبنيٌّ على الكسل، ولو تصوَّفَ رجلٌ أولَ النهار لم يأتِ الظُّهرَ إلا وهو أحمق. [وفيها تُوفِّي] الحسن بن الحسين (¬1) أبو علي، الرُّخَّجي، الوزير، وزر لمشرِّف (¬2) الدولة [أبي علي بن بهاء الدولة] سنتين، ثم عُزِلَ، وكان في زمان عطلته عظيمَ الجاه، وتوفي [في هذه السنة] وقد قارب الثمانين، وقيل له: إن واسطًا خاليةٌ عن مارستان [وهي مصر من الأمصار الكبار]. فبنى بها مارستانًا، وأنفق عليه أموالًا عظيمة، ووقف عليه الضِّياع، وهو الَّذي تولَّى إثارة أموال فخر الملك أبي غالب (¬3) من غير عسفٍ، ولا ضربَ أحدًا بعصا، واستخرجها بألطف الوجوه، وسببه أنَّه وقع بجريدة بخطِّ فخر الملك، وقد أودع الأموال عند جماعة، وكنَّى عن ألقابهم وغيَّر أسماءهم، فكان فيها عند الكَوْسج اللِّحياني كذا وكذا ألف دينار، وعند بُسرة بقُمْعِها كذا وكذا ألف دينار، فلم يعرِفْ من هذين، فدخل عليه رجل كان يأنس بفخر الملك متظلِّمًا من جارٍ له، فقال: يا مولانا، قد كان فخر الملك يُحبُّني ويُطلِعُني على أسراره، ويُلقِّبني بالكوسج اللِّحياني. فقال له: تعال أحضرِ العشرين ألف دينار التي عندك وديعةً. فأنكر، فأمر بتقريره، فحملها بختومها، ثم فكَّر في بُسرة بقُمعِها، وكان هلال بن المحسن الصابئ المؤرِّخ كاتبًا لفخر الملك، فأخذ الباءَ من الصابئ والسينَ من المحسن، فاستدعاه وخاطبه سرًّا في مالِ فخر الملك، فاعترف وقال: عندي منه شيء. فقال له الرُّخَّجي: قُمْ أيُّها الرئيس آمنًا، ولا تُظْهِرْ هذا الحديث لأحد، وأنفقِ المال على نفسك وولدك. ثم دخل هلالٌ بعد ذلك على أبي سعد بن عبد الرَّحيم في أيام وزارته، فقال له: قد علمتُ ما دارَ بينك وبين الرُّخَجي، ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 269 - 270. (¬2) في (م 1) وحدها: لشرف، والصواب ما أثبتُّه من باقي النسخ ومن المصادر. (¬3) في (ف): أبي كاليجار، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في المنتظم 15/ 269.

عبد الملك بن محمد

وأنتَ تعلمُ حاجتي إلى الحبَّة الواحدة وتأوُّلي على مَنْ لا معاملةَ بيني وبينه، ولا يسبقني الرُّخَّجي إلى مكرُمةٍ، وما كُنْتُ لأُنكِّبَ مثلَكَ، والصواب أن تشتغل بتاريخ أخبار الناس. فاشتغل ابنُ الصابئ من ذلك الوقت بتاريخه الَّذي ذَيَّله على تاريخ سنان بن ثابت، فاستخدمه الملوك، فلم يحتَجْ إلى إنفاق شيء من المال، وخلَفَ ولده أبا الحسن محمد المعروف بغرس النعمة، وظهر له دفائنُ في داره تشتمل على اثني عشر ألف دينار، وما كانوا يظنُّون أنَّ تَرِكَته تبلغ ألف دينار، وتمزَّق الكلُّ في أسرع وقت. [وفيها تُوفِّي عبد الملك بن محمد (¬1) ابن عبد الله بن محمد بن بِشْران بن مِهْران، أبو القاسم، الواعظ، البغدادي، وهو أخو أبي علي الحسين بن بِشْران، وكان الأصغر، ولد سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة في شوال، وكان فاضلًا، يتكلّم على الناس، وله قبولٌ عظيم، وكان يعِظ بجامع المنصور والرُّصافة، وكان يسكن بالجانب الشرقي من بغداد بدرب الديوان عند جامع المهدي، وكانت وفاته في ثاني عشر ربيع الآخر، ودُفِنَ بمقبرة المالكية إلى جانب أبي طالب المكي بوصيةٍ منه، سمع أحمد بن سلمان النجَّاد وَدَعْلَج بن أحمد وغيرَهما. قال الخطيب: وكتبتُ عنه، وكان يشهد عند الحكَّام ثم ترك الشهادة رغبةً عنها]. [وفيها تُوفِّي] الفضل بن منصور أبو الرِّضا، البغدادي، ويقال له: ابن الظريف، كان شاعرًا فصيحًا، ومن شعره: [من المنسرح] يا قالةَ الشِّعرِ قد نصحتُ لكُمْ ... ولستُ أُدهى إلَّا من النُّصْحِ قد ذهبَ الدهرُ بالكرامِ وفي ... ذاكَ أمورٌ طويلةُ الشَّرحِ أتطلبونَ النَّوال من رجلٍ ... قد طُبِعَتْ نفسُهُ على الشُّحِّ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 432 - 433، والمنتظم 15/ 270 - 271.

محمد بن الحسين

وأنتُمُ تمدحونَ بالحُسن والظَّ ... ـرفِ وجوهًا في غاية القُبحِ (¬1) من أجلِ ذا تُحرَمون رِزْقَكُمُ ... لأنَّكمْ تكذِبون في المدحِ صونوا القوافي فما أرى أحدًا ... يَعْلَقُ فيه الرجاءُ بالنَّجْحِ فإن شكَكْتُمْ فيما أقولُ لكُمْ ... فكذِّبوني بواحدٍ سَمْحِ وقال: [من البسيط] ومُخْطَفُ الخصرِ (¬2) مطبوعٌ على صَلَفٍ (¬3) ... عَشِقْتُهُ ودواعي البَينِ تعشَقُهُ وكيفَ أطمعُ منه في مواصلةٍ ... وكلَّ يومٍ لنا شمل يُفرِّقُهُ وقد تسامحَ قلبي في مساعدتي ... على السُّلوِّ ولكِنْ مَنْ يُصدِّقُهُ أهابُهُ وَهْوَ طلْقُ الوجهِ مبتسمٌ ... وكيف يُطمِعُني في السيفِ رَوْنَقُهُ محمد بن الحسين (¬4) ابن محمد بن خلف، أبو خازم، ابن الفرَّاء، أخو القاضي أبي يعلى، سمع الحديث ببغداد، وسافر إلى مصر، فنزل بتِنِّيس، وتوفِّي بها يوم الخميس سابع عشر المُحرَّم، وحُمِل إلى دمياط فدُفِنَ بها، سمع الدارقطنيَّ وغيرَه، وحدَّث بدمشق عن عيسى بن علي الوزير، وقال الخطيب: كتبنا عنه، ولا بأس به. [وفيها تُوفِّي] محمد بن عبد الله أبو بكر، الدِّينَوري، الزاهد، كان جلال الدولة يزوره ويمشي إليه، سأله يومًا في مَكْسٍ كان يُؤخذ من الملح مقداره في كلِّ سنة ألفا دينار، فأطلقه. وكان زاهدًا عابدًا ¬

_ (¬1) البيت في (خ) هكذا: وأنتم تمدحون بالجود والـ ... ـذلِ لئامًا في غاية السرحِ وكذا في المنتظم، لكن جاء في آخره: الشح، بدل: السرح، والمثبت من (ف) كما في وفيات الأعيان 5/ 131، والوافي بالوفيات 1/ 124، والبداية والنهاية 12/ 46. (¬2) مُخطَفُ الخصر: ضامر البطن والحشا. ينظر اللسان: (خطف). (¬3) الصَّلَفُ: مجاوزة القدر في الظَّرْف والبراعة والادعاء فوق ذلك تكبُّرًا. اللسان (صلف). (¬4) تاريخ بغداد 2/ 252 - 253، والمنتظم 15/ 271.

السنة الحادية والثلاثون وأربع مئة

وكان ابنُ القزويني أبو الحسن يُثني عليه ويقول: عبر الدِّينَوري قنطرةً، وخلَّفَ مَنْ بعده وراءه. [وحكى الخطيب أن أبا] الوفاء الواعظ حُمِلَ إلى الدِّينَوري وقد رمدت عينه، وكان الرمد يعتريها كثيرًا، فأدخل خِنصرَه فيها ومسحَ عليها. [قال أبوالوفاء]: فأقمتُ ستين سنة لم أرمد. تُوفِّي الدِّينَوري في شعبان، وكان يسكن شرقيَّ بغداد، واحتفل الناس بجنازته، وصُلِّي عليه بجامع الرُّصافة، ثم عبروا به إلى جامع المنصور فَصُلِّي عليه، [واجتمع في جنازته] خلقٌ كثير، وحُمِلَ إلى مقابر الإمام أحمد -رحمةُ الله عليه- فدُفِنَ بها. السنة الحادية والثلاثون وأربع مئة فيها نهبتِ العرب نهرَ الملك وضِياع بغداد، وساقوا المواشي، وحملوا الأقوات، وأحرقوا عِدَّة قرى ودواليبَ، وخرقوا الهيبة، وسببُه قِرْواش، فإنه جرَّأهم على ذلك وأمرهم به، فغاظ ذلك جلال الدولة، وعزم على قصده، وكان الثلثُ من مَغَلِّ العراق قد جعله جلالُ الدولة لقِرْواش، فقطعه عنه، وجهز أبا الوفاء القائد وخلع عليه، وبعث معه العسكَر وأبا الفتح ابن وَرَّام، فنزل السندية سادس صفر، ولليلةٍ بقيت منه يوم الأحد كان في دار المملكة إملاكان في أحدهما لأبي علي فناخسره بن جلال الدولة على جهان بابويه بنت أبي كاليجار، والثاني لأبي نصر فيروز بن أبي كاليجار على السيدة زينب بنت جلال الدولة، والصَّداق في كلِّ واحد منهما خمسون ألف دينار، وحضر جلال الدولة، وكان وكيلَه في العقد على ابنتِه وقبولِ العقد لابنه المرتضى الموسويُّ، ووكيلَ عزِّ الملوك أبي كاليجار في مثل ذلك أبو القاسم بن عبد العزيز الحسين بن مرشد الفرَّاش سلار (¬1)، وحضر القُضاة والأعيان والوزراء وخَدَمُ الخليفة والحُجَّاب، وخطب القاضي أبو الحسين ابن الغريق، ونُثرت دراهمُ ودنانير، وكُتب بذلك كتابٌ أنشأه المرتضى. وفي ربيع الآخر مات شبيب بن وثَّاب النميري صاحب حرَّان، وكان الدِّزْبَري قد قصده فخطب لصاحب مصر بالرقة خطبة واحدة، ثم قطعت، واستنجد ابنُ وثاب بالعرب. ¬

_ (¬1) هكذا وقع الكلام في (خ)، وهي النسخة الوحيدة لذكر هذا الخبر!

وفيه ورد أهل الكوفة بغداد يذكرون ما يعاملهم به بنو خفاجة من قَتْلِ النفوس، وأَخْذِ الأموال والحريم، ويحملون الناس إلى حللهم فيعاقبونهم، ويتبعونهم نفوسهم بما يريدون، وأنَّ السُّبُلَ تقطَّعت عن زيارة المشهدين، وخُرِّبَ قصرُ ابنِ هُبيرة، وكان فيه ألوفٌ من الناس ونيِّفٌ وعشرون حمامًا، وكان ضمانُ سوقِ غزله سبعَ مئة دينار في كل سنة، وكانت السفن تتردد إليه من سُوراء (¬1) بصنوف الأمتعة، فآلَ أمرُه إلى الخراب، ولم يبقَ فيه من أهله إلا نحوُ خمسين نفسًا من رجال ونساء في زقاق واحد، ومضى الباقون على وجوههم، وسألوا جلال الدولة أن يُعيد على بني خفاجة إقطاعاتهم ليأمنوهم، قال: هذا شيءٌ ما إليه سبيل ما دام لي ولاية، ولكن أكاتب أصحاب الأطراف فيهم واستئصالهم. وكاتَبَ حسامَ الدولة ابنَ أبي الشوك وغيره في معناهم، فوعده بكَفِّ شرِّهم. وفي يوم الجمعة سادس جمادى الآخرة وُلدَ للخليفة أبو العباس محمد، وسُرَّ الناس، وزُيِّنت بغداد من الجانبين، ودُعي له على المنابر، وبعث الخليفةُ إلى البلاد بذلك. وفيها وردَ الأجَلُّ العادل البصرة، ورتب فيها أبا الفرج بن فَسانْجِس، فسار فيها السيرةَ العادلةَ، وألزمهم بعمارة المساجد، وكانت قد هُجِرَت، وأسقط الوزيرُ المواريثَ الحَشْرية (¬2)، ووفر ما يحصل منها على عمارة المساجد. وفي رجب خرج جلال الدولة من بغداد لزيارة المشهدين الحائر والكوفة، ولمَّا قَرُبَ من كل مشهد مشى مقدار فرسخ حافيًا، وأقام عند قبور آبائه ثلاثةَ أيام، وفرَّقَ في المشهدين أموالًا جليلةً، وعاد إلى بغداد في شعبان، وكان الوزير كمالُ الملك قد خرج مع جلال الدولة إلى الحائر والكوفة فقيل لجلال الدولة: إنَّ بني خفاجة ليس لهم معقل إلا العين، ومتى انتُزِعَت منهم لم يبقَ لهم في هذه الديار مقام، فسار إليها الوزير ¬

_ (¬1) سُوراء: محلة بجانب بغداد. معجم البلدان 3/ 278. (¬2) المواريث الحَشْرية، أي: المحشورة، يعني المجموعة. والمراد: أن الأموال التي تُوفِّي عنها أصحابُها ولم يكن لهم وارث شرعي فإنها تُجمع وتُردُّ إلى بيت المال. ينظر المصباح المنير ص 137، وصبح الأعشى 3/ 460.

في جماعة من الغلمان، وقال لدُبَيس: تسيرُ معنا. فاحتجَّ وقال: أنا أسير من عسكري؟ مَنْ يقوم مقامي؟ فبعث ستَّ مئة رجل، وكان مع الوزير مئة وعشرون غلامًا وحاشيتُه، فنزل بسفايا وفيها القلعة، وكان بها الحسن بن أبي البركات بن ثِمال قد صار إليها في نحو خمسين فارسًا؛ لأنَّ أهلها راسلوه: بأنك متى لم تحصَلْ عندنا لنقاتل بين يديك سلَّمناها إلى السلطان. وكان سور المدينة منيعًا، فقاتلهم وقاتلوه، ونصب عليهم المِنْجَنيق، ونقب النقَّابون السور، فرمَوا منه قطعة، وهجم العسكرُ البلد وقد كانوا صعدوا حريمهم وأموالهم إلى القلعة، ولم يتركوا في الرَّبَض إلَّا الثقل والمواشي والغَلَّة، وتشاغل العسكر بالنهب، وطلب القومُ القلعةَ وازدحموا في بابها، فهلك منهم نيِّفٌ وسبعون نفسًا، ورمى العسكرُ النارَ في الدُّور، وهبَّتْ ريحٌ عاصفٌ فساعدتها، ودام الحريقُ ثلاثةَ أيام، حتَّى أتى على المدينة فصاح صائحٌ من القلعة: أتوكم بنو خفاجة. وكان الوزير قد مرض وتفرَّق عنه أصحاب دُبيس إلَّا القليل، فلم يبقَ معه سوى ثلاث مئة رجل، وبعضُ الغلمان مجروح، وبعضهم مريض، ولم يبقَ للوزير طمع في القلعة إلا بالمصابرة والمدد، وعزم على الرجوع عنهم، فكتب الحسن بن أبي البركات إليه يقول: أنا خادم السلطان، وما فارقتُ طاعتَه، وما فَعَلَ ما فُعِلَ إلا طائفةٌ لم يكن لي عليهم أمر، ولو وَثقْتُ لنزلتُ إلى الوزير وطرحتُ نفسي بين يديه، وعوَّلْتُ في إصلاح أمري عليه. فكتب له الوزير جوابًا لطيفًا، وعاد لمرضه، وضَعْفِ مَنْ معه، وفَلِّهم إلى بغداد، وأمَّا العَين فإنها تُعرف بِعَين التمر، لكثرة نخلها ومائها، والقلعة على حدبة منها حصينة مبنية بالحجارة المركبة بعضها على بعض، تحوي ألفَ إنسان وأكثرَ، وكانت في أيام مُعِزِّ الدولة في يد ضبة الأسدي الَّذي هجاه المتنبي بقوله: ما أنصف القوم ضبَّة وقيل: إن الشعر بلغه، فأقام له عند رجوعه من فارس مَنْ قتله وقَتَلَ ابنَه معه، وأخذ ما كان معه، والذي جهَّزه ضبة لقتله فاتك بن أبي جهل الأسدي، وكان ضبَّةُ يقطع

الطريق، ويُخيف السبيل، ويأخذ الأموال، ويشُنُّ الغارات، ويلجأ إلى هذه القلعة فلا يتمكَّنُ منه، فلمَّا ورد عضد الدولة بغداد سنة تسع وستين وثلاث مئة أنفذ مَنْ قبض عليه، وأخذ منه الناحية قهرًا، ورتب في القلعة حُرَّاسًا، فلمَّا مات وقام صَمْصام الدولة قصدها أخو ضبَّة وملكها، وسلك فيها طريقَ أخيه، ووافى شرف الدولة فأرسل إليه مَنْ حاصره خمسة أشهر، وخرج بأمان، فقبض عليه، وانتقلت إلى مبادر بن ضبَّة، فقتله دُبَيس بن مَزْيَد، ثم استولى عليها بنو خَفاجة، فهي معقِلٌ لهم وإلى هَلُّمَّ جرًا. وفي هذا الوقت حاول أبو الحارث البساسيري قَصْدَ أبي الفتح بن وَرَّام لمشاجرةٍ جَرَتْ بينهما في شيء من أمور النهروانات [فمنعه القائم منعًا أثار ما أثار. وفي ذي القعدة شغب الأتراك] (¬1) وضربوا خيامهم ظاهر بغداد من الجانبين، وضجُّوا مِنْ تأخُّر الأرزاق والأقساط ووقوعِ الاستيلاء على إقطاعاتهم، فكتب جلال الدولة إلى دُبَيس وابن وَرَّام وأبي الفوارس بن سعدي بالقدوم عليه ليستظهر بهم على الترك، وراسل الأتراك يعتبهم، ويقول: كان ينبغي أن نجتمع في دار المملكة وتُعرِّفونا أحوالكم لنُزيل شكواكم. فلم يلتفتوا، وقالوا: ما يُزيل شكوانا إلا الخليفة. ثم جاء منهم جماعةٌ فكَمنوا تحت داره، فنزل بعضُ الحاشية فثاوروهم، فقتلوا بعضَهم، وألقى بعضُهم بنفسه في دِجلة، وركبوا على أن يحيطوا بدار السلطان، فأرسل إليهم الملك يقول: إن قنعتُم بما قُرِّر لكم وإلا فأعطوني مقدار ما يقوم بي، وتسلَّموا البلاد. وعبر إلى الجانب الغربي، وبعث حرمه إلى دار الخليفة، وثارت الفتن، وأُحرقت الدواليب، ونهب الناس، ثم سكنت الفتنة. [وفيها مات شبيب بن وثَّاب النُّميري صاحب حرَّان]. ولم يحجَّ [في هذه السنة] من العراق أحد. وولَّى صاحبُ مصر على دمشق ناصرَ الدولة الحسن بن الحسين بن حمدان التغلبي. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف).

بشرى بن مسيس

وفيها توفي بُشرى بن مَسيس (¬1) أبو الحسن، الرومي [مولى فاتن مولى المطيع لله. قال الخطيب: حدثني أنَّه] أُسِرَ من بلد الروم وهو كبيرٌ، فأهداه بعضُ أمراء بني حمدان لفاتن مولى المطيع لله، فأدَّبه، وأسمعه الحديث. قال: وورد أبي مَسيس إلى بغداد ليسرقني ويحملني إلى بلد الروم، فلمَّا رأى اشتغالي وتردُّدي إلى المشايخ وما أنا عليه عَلِمَ ثبوت الإسلام في قلبي، فيئس مني وانصرف. توفي بُشرى يوم السبت يوم عيد الفطر، [سمع خلقًا كثيرًا] وكان صدوقًا [فاضلًا] صالحًا [ثقةً]. محمد بن علي (¬2) ابن أحمد بن يعقوب بن مروان، أبو العلاء، القاضي، الواسطي، ولد في صفر سنة تسع وأربعين وثلاث مئة، وأصله من فَمِ الصلح، ونشأ بواسط، وحفظ بها القرآن، وكتب بها الحديث، ثم قدم بغداد فسمع من الشيوخ، ورحل إلى الكوفة والدِّينَور، ثم عاد إلى بغداد، فأقام بها، وقُبِلَتْ شهادتُه، ورُدَّ إليه القضاء بالحريم شرقي بغداد وبالكوفة، وسَقْيُ الفرات، وتُوفِّي ببغداد في جمادى الآخرة، ودُفِنَ بداره. وكان خرَّجَ أبوابًا وشيوخًا وتراجم كُتِبَتْ عنه، وقد غمزه الخطيب وقال: أخذ بيدي أبو العلاء وقال: أخذ بيدي عبد الله بن محمد بن عثمان المزني الحافظ قال: أخذ بيدي أبو يعلى الموصلي وقال: أخذ بيدي أبو الربيع الزهراني قال: أخذ بيدي مالك بن أنس قال: أخذ بيدي نافع قال: أخذ بيدي ابنُ عباس قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي وقال: "من أخذ بيد مكروب أخذ الله بيده " ثم قال الخطيب: هذا حديث موضوع على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 135 - 136، والأنساب 9/ 208، واللباب 2/ 401، والمنتظم 15/ 274 - 275. وينظر السير 17/ 548. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 95، والمنتظم 15/ 76.

السنة الثانية والثلاثون وأربع مئة

السنة الثانية والثلاثون وأربع مئة فيها ورد قِرْواش إلى خُصَّا (¬1) مُظهرًا للخلاف على جلال الدولة، فأُخِيفَت السُّبُل، واستولت بنو خَفاجة على السواد، وجاؤوا إلى الكوفة، وقاتلهم أهلُها، وخرج الملك إلى قِرْواش، فانهزم، وكان خميس صاحبُ تكريت مع الملك، فنهب أثقال قِرْواش، [ونزل] (¬2) الملك كَرْخَ سُرَّ مَنْ رأى، وأقام مُدَّةً يحاصرها، فلم يقدِرْ عليها، ولم يجد الغلمانُ في قتالها، فصالحوه على خمسين ألف درهم، فرجع عنهم، وعاد قِرْواش إلى الأنبار، وواصل أصحابُه إلى السِّندية فنهبوا القلعة. وفيها وردت الأخبار أنَّ مسعود بن محمود سار إلى غَزْنة وأخلى خراسان، فاستولى عليها الغُزُّ، وسارت منهم فرقة إلى أذربيجان، وبنى أبو جعفر بن كاكويه على أصبهان سورًا عظيمًا، عرض أسفله اثنان وثلاثون ذراعًا، وأعلاه عشرة أذرع، وعمل عليه الأبواب الحديد، ودخل الغُزُّ الريَّ ونهبوها، وقتلوا وفعلوا في بلاد خراسان ما لم يُفعَلْ قبلهم، وكان مسعود بغَزْنة وطُغْرُلْبَك بنيسابور. ذِكْرُ ما جرى بين مسعود وطُغْرُلْبَك: لمَّا استولى طُغْرُلْبَك وأخوه داود على نيسابور وخراسان وملكوا البلاد، جمع مسعود عساكره قاصدًا إليهم ليدفعهم عن البلاد، فحادوا من بين يديه، واعتصموا بالمفاوز، وقطعوا السُّبُل، وأقاموا على هذا، فضاقت صدورُ أصحابه بتطاول المدة وانقطاع المادة، فخاطبوه على الرجوع إلى غَزْنة، فلم يُجِبْهم، ففارقوه، وبقي في غلمانه في مفازة على منزلتين من مرو، ولا ماء فيها، فهلك جماعة من أصحابه بالعطش، ورجعوا إلى غَزْنة، وأقام هو في المفازة في نفر قليل، وتبِعَه الغُزُّ طامعين في تخطُّفِ سواده، فقال له مَنْ معه: أنتَ في خطرٍ عظيم، أصحابُكَ قد فارقوك، والعدوُّ ¬

_ (¬1) خُصَّا: قرية كبيرة في طرف دُجيل بنواحي بغداد. معجم البلدان 2/ 374. (¬2) الزيادة من (ف).

صاعد بن محمد

خلفَكَ. فسار طالبًا غَزْنة على مضضٍ وغيظٍ من أصحابه، فطمع الغُزُّ، واستولوا على خراسان، وفعلوا ما فعلوا، وجاءت طائفة إلى الريِّ، ففعلوا أبلغَ ما فُعِلَ بخراسان. وفيها اتفق جلال الدولة مع قِرْواش وحلف له. وفيها سار ابنُ أبي الشوك من البنْدَنيجَين (¬1) وحلوان إلى دَقوقا ففتحها بعدما قاتله أهلُها، وقتل منهم جماعةً في رجب، ورتب أصحابه فيها وعاد إلى حلوان. وفيها كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين عسكر الدِّزْبَري وبين الروم بناحية حماة وفامية، وقُتِلَ من الروم عددٌ كبير، وسببها أن الهدنة كانت بين صاحب مصر وملك الروم، فنقض ملكُ الروم الهدنةَ، وأنفذ إلى ابن صالح والمقلِّد اللَّذين كانا بقلعة حلب مالًا وثيابًا، وقَصدَ أن يميلا إلى جهته، وعلم الدِّزْبَري فكتب إليهما ينهاهما، فجاء جوابهما بالاعتذار، ثم جرى في حلب ما جرى، وجاء عسكر الروم على ذلك الطمع إلى فامية وحماة، فبعث الدِّزْبَري إليهم جيشًا فقتلوا منهم عدةً كثيرةً، وأسروا خادمًا متقدِّمًا عند ملك الروم وابنَ عمِّ الملك، فبذل فيهما أموالًا عظيمةً، فلم يقبل الدِّزْبَري، وأطلق بهما عددًا كبيرًا من المسلمين، واستعدَّ لغزو الروم، فبعث إليه ملك الروم وهادنه، وصاهر أبو نصر بن مروان صاحب ميَّافارقين الدِّزْبَريَّ، فتزوَّجَ الدِّزْبَريُّ بنتَ أبي نصر، وزوَّجَ ابنَيهِ ببنتَي الدِّزْبَري. و[في هذه السنة] لم يحجَّ أحد من العراق. وفيها تُوفِّي صاعد بن محمد (¬2) أبو العلاء، النَّيسابوري، وَلِيَ القضاء بنيسابور، وانتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة بخراسان، وتوفِّي بنيسابور، وكان عالمًا فاضلًا صدوقًا. ¬

_ (¬1) البَنْدَنيجَين: بلدة مشهورة في طرف النهروان من ناحية الجبل من أعمال بغداد. معجم البلدان 1/ 499. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 344، والمنتظم 15/ 278، والأنساب 1/ 221، واللباب 1/ 52. وينظر السير 17/ 507.

السنة الثالثة والثلاثون وأربع مئة

السنة الثالثة والثلاثون وأربع مئة فيها شغَب الغلمان بواسط على [الملك] (¬1) العزيز، وسألوه أن يُسلِمَ إليهم وزيرَه أبا الفضل بن الطيب فلم يقبَلْ، وأصعد إلى النُّعمانية، وكاتب أباه جلال الدولة في إنفاذ العساكر إليه ليدفع الغلمان عن واسط ويُكاتب دُبَيسًا والأطرافَ بمعاونته، وكتب إليه أبوه: هذا ما لا تقتضيه سياسة، وقد عرفتَ الأتراك، والرأيُ إبعاد الوزير، وإرضاءُ الغلمان، والسلوكُ بهم طريق اللطف. فقبض على الوزير، وعاد إلى واسط، وأخذ من الوزير ما قيمتُه عشرةُ آلاف دينار، وقرَّر عليه خمسة عشر ألف دينار، وقنع منه بها، ولمَّا عاد العزيز إلى واسط وجد الأتراك على حالهم في الاستيحاش منه، ولم يلتقوه، ونهبوا دور الناس، وقتلوا جماعةً، فكتب إلى أبيه يسأله أن ينحدر إلى واسط لإقامة الهيبة والعمل بالسياسة، وضَمَّنَ الكتابَ أبياتًا، وكان شاعرًا فاضلًا لطيفًا، فأوَّلُها: [من الوافر] أَجَدَّ اليومَ جيرتُكَ اختلاطًا ... غداةَ رمَوا بعيسِهمُ البَلاطا سَرَوا ونِياطُ قلبِكَ في يديهِمْ ... فلمَّا أبعَدوا قطعوا النِّياطا أحقًّا ما تُطيقُ لآلِ نجدٍ ... ولا لفؤادِكَ اليومَ ارتباطا أسُكَّانَ اليمامةِ هل فؤادي ... يُطيقُ على فراقكمُ انبساطا أحَطْنَ بِدَلِّهِنَّ (¬2) على فؤادي ... ولم أقدِرْ عليهنَّ احتياطا ألا يا أيُّها المُزْجي قِلاصًا (¬3) ... إذا وُجِدَتْ نظنُّ به خِباطا (¬4) زُرِ الزَّورا وأبلِغْ من مقالٍ ... رسائلَ ما أُربدَ بها اشتِطاطا وقُلْ للشيخِ شيخِ بني بُوَيهٍ ... وعِزَّ ملوكِها انهَضْ لا تَباطا فإنَّ الناسَ قد سئِموا ومَلُّوا ... دوام العذلِ واختلطوا اختلاطا ¬

_ (¬1) الزيادة من (ف). (¬2) الدَّلُّ: الحالة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار في الهيئة والمنظر والشمائل وغير ذلك. المعجم الوسيط (دلل). (¬3) القِلاص؛ جمع قَلوص: وهي الفتيَّةُ المجتمعة الخلق من الإبل. المعجم الوسيط (قلص). (¬4) الخِباط: الغبار. المعجم الوسيط (خبط).

فحَكِّمْ سيفَك الماضي عليهِمْ ... فقد ضلُّوا ببغيهِمُ السِّراطا ولا تضعِ السياطَ تُريدُ عفوًا ... فمَنْ رامَ العُلا وضعَ السِّياطا وخُضْ بالخيل في دمِ مَنْ تُلاقي ... تَزِدْها في لقائهمُ نشاطا وكُنْ بالعفو عنهُمْ ذا انقباضٍ ... كما ازدادوا على الملكِ انبساطا أتنسى فِعْلَهُمْ لمَّا تعاطى (¬1) ... كبيرُهُمُ بعينِكَ ما تعاطى فزَعْزَعَ عن سريرِ الملكِ رُكنًا ... فصيَّرهُ القضاءُ له بساطا فإن تترُكْ لهم رأسًا يسودوا ... فكَمْ راموا برأسهِمُ ارتباطا (¬2) [ولا تغفَلْ عن الجُهَّالِ واجعَلْ ... صدورَهُمُ لأرؤسهِمْ سِماطا] (¬3) وخَلِّ كبيرَهُمْ فَرَقًا وخوفًا ... يوَدُّ لوَ انَّه سكن القِماطا بهذا الفعلِ تحذَرُكَ اللَّيالي ... وتحظى في ممالِكِكَ ارتباطا فبرز جلال الدولة من بغداد يوم الخميس سابع صفر إلى باب الأزج منحدرًا إلى واسط؛ ليصلح الحال، ومعه البساسيري، وكان تقرَّر أن الملك يسير إلى واسط، ويسير البساسيري بجماعة من الغلمان إلى بادَرايا (¬4) وأعمال أبي الفتح بن وَرَّام، وكان عدوَّه، وعزم البساسيري على قصده غير مرة والخليفةُ والملكُ يمنعانه، وانحدر الملك في ربيع الأول إلى واسط، ودخل دُبَيس في قضية ابن وَرَّام وإصلاح حاله مع الملك. [وفيها في شهر شعبان ورد الخبر بوفاة مسعود بن محمود بن سُبُكْتِكين بغَزْنة، وسنذكره]. وفيها قدم قوم من البَلْغَر بغدادَ قاصدين الحج، وكانوا خمسين رجلًا، ومعهم بعض رؤسائهم، فأنزلهم الخليفةُ وأكرمهم، وسُئِلوا عن حالهم [وبلادهم ومن أيِّ الأمم] فقال رئيسهم: البَلْغَر قومٌ تولَّدوا بين الترك والصقالبة، وبلادهم أقصى بلاد الترك، ولهم عيونٌ وآبارٌ وزروع، وعندهم العسلُ كثير، ويقصر الليل عندهم حتَّى يصير ستَّ ¬

_ (¬1) في (ف): تعالى. (¬2) في (خ): سماطا، وهي من البيت الآتي وهو ليس فيها، والمثبت من (ف). (¬3) هذا البيت من (ف)، والسِّماط هنا: ما يُمَدُّ ليوضع عليه الطعام في المآدب ونحوها. المعجم الوسيط (سمط). (¬4) البادَرايا: بلدة بالنهروان قريبة من واسط. معجم البلدان 1/ 316.

ساعات، وكذا النهار، وكانوا كفارًا، وهم مقدار خمسين ألف خَرْكاة، فأسلموا جميعُهم، وصاروا [كلُّهم] على مذهب أبي حنيفة. [وذكر الفقيه ابنُ الصابئ فقال: خرج هذا البَلْغَري وأصحابه إلى مكة مع أبي القاسم الأقساسي المتولِّي أمرَ الحاجِّ، فلمَّا توسَّط الطريق قطع عليه العرب]. وفيها قُرئ الاعتقادُ القادريُّ في ديوان الخليفة. قال أبو الحسين محمد بن محمد بن الفراء: أخرج القائم بالله اعتقاد أبيه فقُرئ على القضاة والأشراف والعلماء والزُّهَّاد، وحضر أبو الحسن ابن القزويني الزاهد، فمِنْه بعد حمد الله تعالى والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: فإنه يجب على الإنسان أن يعلم أنَّ اللهَ وحدَه لا شريكَ له، لم يَزلْ أولًا وآخرًا، قادرًا على كل شيء، لا تُخْلِقُه الدهور والأزمان، ولا اختلافُ الليل والنهار، ولا يحويه مكان، وأنه خلق العرش لا لحاجته إليه، ثم استوى عليه كما شاء، لا استواءَ راحة، ولا ما يُشبه المخلوقين، ولا نَصِفه إلا بما وصف به نفسَه ووصفه به أنبياؤه، وأنَّ كلامه قديمٌ غيرُ مخلوق، كلَّم به موسى - عليه السلام - تكليمًا، وأنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - على لسان جبريل - عليه السلام - بعدما سَمِعه جبريلُ - عليه السلام - من الله تعالى، وتلاه على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتلاه محمد - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، وتلاه أصحابُه على الأمة، ولم يصِرْ بتلاوة المخلوقين له مخلوقًا؛ لأنه ذلك الكلام بعينه الَّذي تكلَّم به اللهُ تعالى متلوًّا ومحفوظًا ومكتوبًا ومسموعًا، فمن قال بأنه مخلوق فهو كافر حلالُ الدم، وأن الإيمان قولٌ باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا يعلم الإنسان ما يُفعَلُ به، ولا بماذا يُختم له. ثم ذكر الصحابة على طبقاتهم وقرابتهم، وترحَّم عليهم، وقال: مَنْ دخل بينهم فلا حظَّ له في الإسلام، جعلنا الله لآلائِه شاكرين، وبالسُّنَّة معتصمين، وغفَرَ لنا ولجميع المسلمين. ولمَّا فرغ من قراءته كتب الشيخ أبو الحسن علي ابن القزويني الزاهد قبل أن يكتب أحد: هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد كفر، وكتب الناس بعده (¬1). ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 15/ 279 - 283 مطول.

الأجل العادل بهرام بن مافنة

وفيها ختن أبو كاليجار ابنَه أبا منصور ختانةً مخفيةً، ولم يشعر بها أحد، وذلك بشيراز، وعمِلَ للنساء سِماطًا ذُبحَ فيه ألفٌ ومئةُ رأس من الغنم، ومن الدجاج خمسة آلاف، ومن الحلوى خمس مئة جام، ومن الفواكه ألف سلة، وحصل للخاتن ما قيمتُه ألف دينار. وفي رجب عاد جلال الدولة إلى بغداد، وزادت دِجلةُ زيادةً عظيمةً، بحيث دخل الماء من الرواشن، وعاين الناسُ الهلاك، وكان الماء تسع عشرة ذراعًا، وغرق من بلاد العراق عشرون ألف كُرٍّ من الغلَّة. وفيها تُوفِّي الأجلُّ العادل بَهْرام بن مافنَّة (¬1) ابن سهل، أبو منصور، وزير أبي كاليجار، وولد بكازْرُون سنة ست وستين وثلاث مئة، ونشأ عفيفًا، وعمل بفيروزآباذ (¬2) خزانة كتُبٍ تشتمل على سبعة آلاف مجلد، فيها أربعة آلاف ورقة، بخطِّ أبي علي وأبي عبد الله ابني مُقْلة، وتُوفِّي يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الأولى (¬3) في داره بشيراز بعد عوده من سيراف، وكان مُهذَّبُ الدولة هبةُ الله بن الفضل نائبًا عنه، فكتم موتَه، ودعا وجوهَ الدَّيلم والأتراك إلى داره، ثم خرج إليهم كأنه من عنده، وقال: العادل يقول: قد عرفتُم جميلي إليكم، وحقوقي عليكم، وأنا في غمرات هذه العِلَّة العارضة لي، ولستُ أدري إلى أيِّ شيء يُفضى بي، وفي داري مالٌ وثيابٌ ومتاعٌ وأثاثٌ وغِلمان، وفي إصطبلي دوابُّ وبغال، فإن حسَمْتُم الأطماع عنه وحرستموه ومَنعْتُم منه، ثم تفضَّلَ الله بالعافية لم تَعْدَموني حَسنَ المكافأة، وإن تكن الأخرى فجميعُ ذلك للسلطان، وهو مالكه والمطالبُ بقليله ¬

_ (¬1) الكامل 9/ 502. (¬2) في (خ): بروزباذ، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في المنتظم 15/ 282، والكامل 9/ 502، والترجمة فيهما باختصار. (¬3) في (ف): الآخرة.

محمد بن جعفر

وكثيره، والعهدةُ لازمةٌ لكم فيه. فأظهروا الانزعاج والجزع، وبذلوا الخدمة في الحفظ والحراسة، واستدعى كبارَ الديلم وأعيانَهم ورتبهم في الدار والإصطبل، وكان يَثِقُ بهم ويعتمد عليهم، وكان الملك أبو كاليجار بظاهر شيراز، فكتب إليه بخبره، فأمره بالتوقف حتَّى يحضر، ووصل في اليوم الثاني يوم الخميس وقد كُفِّنَ العادلُ ووُضِعَ في تابوته على أن يُدفَنَ بمشهد أم كلثوم، ولحقه فصلَّى عليه بين الظهر والعصر، وتقدم إلى الجماعة بحمله إلى فيروزآباذ ليُدفن عند أهله بعد أن أظهرَ الحزن الشديدَ على فقده، ثم شكر المهذَّب على حفظ الدار وما فيها، وندَبَه إلى القيام مقام العادل فامتنع، وقال: لا أقدر. فندبه ثانيًا، فأجاب، فخلع عليه خِلَعَ الوزارة القميصَ والقَباءَ والفَرَجيَّةَ والعِمامةَ والقصبَ والسيفَ والمِنْطَقة، وحُمِلَ على فرس بمركب ذهب، وقُيِّد بين يديه بغلةٌ بمركب ذهب والسلاح المذهب، ودَواةٍ من ذهب، وأعطاه الملك من يده خاتمين من ذهب فَصَّاهما ياقوت وفيروزج، وبعث إليه دَسْتَ الوزارة، وخلع على الكُتَّاب وأصحابِ الدواوين وغيرِهم، وفقد الناس من العادل -رحمه الله- ما لا يخلف مثله رأيًا وعقلًا وسياسةً وعدلًا وشرفًا ونُبلًا ونباهةً في كلِّ خَلَّةٍ جميلةٍ وفضيلةٍ جليلةٍ كانت فيه. [وفيها تُوفِّي] محمد بن جعفر أبو الحسين [المعروف بالجهرمي]، البغدادي [قال الخطيب: هو أحد الشعراء الذين لقيناهم وسمعنا عنهم]، كان يجيد الغزل، ولد في سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة، وسكن دار القطن، وتوفي يوم السبت تاسع عشر جمادى الآخرة، ومن شعره: [من الكامل] يا ويحَ قلبي من تقلُّبِهِ ... أبدًا يحِنُّ إلى مُعذِّبِهِ قالوا كتمتَ هواه عن جَلَدٍ ... لو كان لي جَلَدٌ لبُحْتُ بِهِ بأبي حبيبٍ غيرِ مُكترثٍ ... يجني ويُكثِرُ من تَعتُّبِهِ حسبي رضاهُ من الحياةِ ويا ... قلقي وموتي من تَغَضُّبِهِ

مسعود بن محمود

[وفيها تُوفِّي] مسعود بن محمود (¬1) ابن سُبُكْتِكين، أبو سعيد، صاحب خراسان. [قال جدي في "المنتظم" (¬2): تُوفِّي وقام أخوه مقامه، وخرج مودود بن مسعود على عمِّه محمد فقبض عليه، وعاد إلى غَزْنة، واستتبَّ له الأمر. قلت: هذا صورة ما ذكر جدي]. قال هلال بن [المحسن بن] الصابئ: ورد في النصف من شعبان كتابٌ من غَزْنة يذكر فيه وفاة [أبي سعيد] مسعود [بن محمود] في سنة اثنتين وثلاثين ببلاد الهند. كانت عادةُ مسعود جاريةً بالخروج من غَزْنة في فصل الشتاء، والدخول إلى بلد الهند؛ لكثرة البرد بغَزْنة، فلمَّا كان سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة أخذ أهلَه وولدَه وحرمَه وعسكرَه وقطعةً من ماله وسار إلى بلاد الهند على رسمه، وأخذ معه أخاه محمدًا وهو ضرير، وكان مسعود قد سمله في القلعة خوفًا منه، فلمَّا وصل إلى نهر حالم ويقال: هو سَيْحون، وهو بمقدار دِجْلة، فنزل عليه، وواصل الشرب والسُّكر على رسمه في الإكثار منها، وأمر بعبور حرمِه وولدِه ومالِه، فلمَّا تكامل ذلك عبر بنفسه وسبق إلى قلعة كان أبوه بناها على قرب حالم، فصعد إليها، وتبعه خصيٌّ يُعرف بأبي سُكَين البلخي في ألف غلام إلى الموضع الَّذي نزل فيه، ومدُّوا أيديهم إلى نهب ما كان خارج القلعة من المال والرجال، وسمع مسعود الضجَّةَ، وكان نائمًا فانتبه، وأشرف عليهم من أعلى القلعة، فرآهم قد خرقوا الهيبة، وأظهروا المباينة، فتحصَّن بموضعه، وأغلق أبوابها، فعادوا راجعين إلى بقية العسكر، فوجدهم قد عبروا النهر، فاتَّفقوا بأسرهم على كراهية مسعود والقبض عليه، ووصلوا إلى القلعة ومعهم أخوه محمد أعمى، وقد أركبوه فيلًا وملَّكوه، وطالبوا مسعودًا بالخروج إليهم، فامتنع، فقالت له والدته: لا تفعَلْ، فإنَّ مكانك لا يعصمك منهم، ولأن تخرج إليهم على ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 159، والمنتظم 15/ 283، والكامل 9/ 503. (¬2) المنتظم 15/ 283 - 284.

موافقة وعهد أولى من أن يأخذونا أسرى. فخرج إليهم، فقبضوا عليه وسلَّموه إلى أخيه محمد، فلما تسلَّمه قال: يا أخي، واللهِ لا قابلتُكَ بما عاملتني به، ولأعامِلَنَّكَ بالجميل الذي تقتضيه الرَّحِمُ بيني وبينك، فانظُرْ أيَّ مكان تؤثر لأحمِلَكَ إليه، تُقيم فيه، وأُنزلك ومن تختار من حرمك ومالك وثيابك وما تستدعيه. فاختار قلعةً كبرى، فأنفذه إليها محروسًا مُكرَّمًا مصونًا موقرًا، ثم اتفق ابن محمد وابنُ يوسف ابنُ عمهم وابنُ علي خوشاند على قتل مسعود، فأعملوا الحيلة، ولم يعلم محمد، فدخل ابنُ محمد إلى والده وطلب خاتمه ليختم به الخزائن، فأعطاه إيَّاه، فمضى ابن محمد وابن يوسف وابن خوشاند في جماعة إلى القلعة التي فيها مسعود، فأرَوا المقيمَ بها الخاتمَ، وسألوه أن يفتح لهم ليوردوا على مسعود رسالةً يحملوها من محمد إليه، وعلم مسعودٌ فأحسَّ بالشرِّ منهم، فقال له: لا تفتَحْ. ووعدَه وأرغبَه فلم يقبَلْ، وفتح فصعدوا ودخلوا على مسعود، فقتلوه وحملوا رأسه إلى محمد، فوضعه ابنُه بين يديه، فقال: ما هذا؟ قال: رأس مسعود. فلطم وجهه، وشقَّ ثيابه، وجزع جزعًا شديدًا وأنكر على ابنِه فِعْلَه، وقال: واللهِ لنُقتَلَنَّ كلُّنا. ثم انفرد في بيت حزينًا، فاجتمع إليه خواصّه وقالوا: لا تفعل، فإنَّ هذا ممَّا يوحشُ عسكرك منك وينفرهم عنك، وقد مضى ما مضى، ولن يعود الفائت، فأطلق للجند وأعطاهم، وبلغ أبا الفتح مودود بن مسعود، وكان بغَزْنة وبينه وبين المكان الذي فيه محمد والعسكر عشرة أيام، فانتخب من عسكره عشرةَ آلاف فارس، وقيل: خمسة آلاف، وأغذَّ (¬1) السير ليلًا ونهارًا حتى كبسهم ليلًا، وكانوا عشرين ألفًا، فظهر عليهم، وقبض على محمد وابنِه وابنِ يوسف وابنِ علي خشاوند وجميعِ من كان معهم في القصر، فثقب كعابهم، وجعل فيها الحبال، وجرَّهم ذاهبين وعائدين في أرجل الخيل إلى أن تقطَّعوا، ومناديه يُنادي: هذا جزاء مَنْ غدرَ وكفرَ وأقدمَ على قتل وليَّه ومولاه. ثمَّ قتل عمَّه محمدًا وعددًا كبيرًا من الغلمان ومَنْ شك فيه واستراب منه، وأفنى الغلمان الذين غدروا بأبيه ونهبوه وقبضوا عليه، وعاد إلى غَزْنة مالكًا، ووزر له وزير أبيه أبو نصر بن عبد الصَّمد، وأظهر العدلَ وحُسنَ السيرة، وسلك طريقَ جدِّه محمود في السياسة، وعاد إليه بعضُ خراسان، وكان طُغْرُلْبَك مقيمًا ¬

_ (¬1) في (ف): أجَدَّ.

أنوشتكين الدزبري

بنيسابور مع التركمان، فاستولى (¬1) على خراسان، وأقام أخوه داود بمرو، وسنذكر القصة إن شاء الله تعالى. [وفيها تُوفِّي] أنوشْتِكين الدِّزْبَري قسيمُ الدولة، نائب صاحب مصر (¬2) بالشام، وكان يُدِلُّ على صاحب مصر إدلالًا عظيمًا، بتهذيبه الأمور، وقيام الهيبة، وحُسن السياسة، وطرد العرب عن الشام، وقد ذكرنا وقائعه وأخباره واستيلاءه على الشام. وصار الرومُ يراعونه، وأصحابُ الأطراف يخافونه ويتَّقونه، ورعيةُ البلاد يُؤثرونه ويُحبُّونه، والتجارُ المتردِّدون يدعون له ويشكرونه، وبلغ أبا القاسم الجَرْجَرائي وزيرَ مصر بأن كاتب الدِّزْبَري أبا سعيد يأمره بالفساد، فكتب إليه بإبعاده عنه، وإنفاذه إلى مصر، فامتنع، فنفر الوزير منه، وشرع في إعمال الحيلة عليه، فكاتب رؤساء الأجناد، وأمرهم بالعصيان عليه، والتخلِّي عنه، واستدعى جماعةً منهم إليه، وعرَّفهم ما في قلبه منه، وعادوا إلى دمشق فأغروا الجندية، وعلم الدِّزْبَري، فقطع أرزاقَ الجند، وكاشف بالعصيان، فاجتمعوا إلى ظاهر دمشق وهو نازل في قصره، وحاولوا الهجوم عليه، فقاتلهم وقاتلوه، وحال بينهم الليل وقد نهبوا الخزائن، فعلم أنه لا طاقة له بهم، فسار إلى بَعْلَبَك في جماعة من غلمانه، وبها رجل يُعرف بالحواري، فأغلق الباب في وجهه، فسار إلى حماة، وبها خليفة بن جابر الكلابي، فأراد نهْبَه، فسار إلى حلب، فتلقَّاه أهلُها إلى جبل جَوْشَن، ولولا المُقلِّد بن منقذ الكفرطابي ما وصل، لأنه سار في خدمته من كفر طاب، ولمَّا دخل حلب فرح به أهلها وزَّينوها، وأقام بها متأسِّفًا على ما فارقه من ملك الشام حزينًا، فلمَّا كان يوم الأحد الرابع عشر من جمادى الأولى تُوفي، ودُفِنَ بحلب، وحزن الناس عليه؛ لإحسانه إليهم، ولم يَلِ الشامَ أعفُّ ولا أعدلُ منه، وولي دمشق بعده ابنُ أبي الجن. ¬

_ (¬1) في (ف): فاستولوا. (¬2) تحرفت في (خ) و (ف) إلى: حلب، والمثبت من (م) و (م 1) ويدل عليه سياق الكلام، وهو الموافق لما في الكامل 9/ 500 وغيره من المصادر.

السنة الرابعة والثلاثون وأربع مئة

السنة الرابعة والثلاثون وأربع مئة فيها جَرَتْ بين الخليفة وجلال الدولة مراسلات ومعاملات ومعاتبات بسبب الجوالي. قال هلال: افتتحت الجوالي في أول المحرم، فمنع الملكُ أصحابَ الخليفة منها، وأخذ ما استخرجوه، وأقام من يتولَّى جبايتها، فعزَّ على الخليفة وراسله، فلم يلتفت، فأظهر الخليفةُ العزمَ على مفارقة البلد، وتقدَّم بإصلاح الطيَّار والزبازب، وأمر القُضاة والأشراف والأعيان بالخروج صُحبَتَه، وراسل الملكَ بأقضى القضاة الماوردي، فكان جوابه: نحن نائبون عن الخلافة نيابة لا تنتظم إلا بقوة اليد (¬1) وزيادة الهيبة، وقد توالى من الخدم ما أظهر الوهن، وذلك في إلجائهم كلَّ صائر إلى الحريم، وذكروا من ذلك زَوجَةَ أبي الخطاب، وقال: قد احتجزَتْ من أموالنا ما هو مشهور، وما نقدر أن نطالبها به، وهي في حريم الخلافة، ومعلوم أنَّ أقلَّ ما أخذ زوجُها من خزائننا وقلاعنا في دفعة واحدة تسعُ مئة بدرة، قاسَمَ عنبرَ الخادم عليها، إلى غير ذلك، وأمَّا الجوالي فنحن معذورون فيها للضرورة، ولقد كان في عزم الغلمان أخذُها، ولو أخذوها لخرجت عن الإقطاع، وتعدَّى الطَّمَعُ إلى غيرها، فحسَمْنا بهذا الفعل موادَّهم، ونحن على كل الأحوال في الخدمة والطاعة، فكان جواب الخليفة أنه ذكر آيات الوفاء والعهود، ثم قال: وقد عُلِمَ أنَّ قواعد النيابة والتفويض إلى بني بُوَيه إنما كانت مستقرة على الأيمان والوفاء بالعهود، ولا يمكن المقامُ على قصور الموادِّ، فإن أمكن وإلا انتقلنا إلى بعض الموادِّ. فقال الملك في الجواب: أمَّا الجوالي فقد أجَبْنا عنها، وأمَّا إجارة مَن التجأ إلى الحريم فنسأل أن تكون الأمورُ فيها على ما كانت أيام سلطان الدولة. فأجاب الخليفةُ: أمَّا ما التمس من الرجوع إلى أيام سلطان الدولة فالرضا واقع بما كانت الحال جارية عليه، فإن سلطان الدولة كان يخدم في الأيام القادرية كل سنةٍ بثمان مئة ألف درهم، وعشرة آلاف دينار، ومئتي منًا عود، وخمسين منًا كافور، وخمس مئة قطعة من أصناف الثياب الفاخرة، ومن الطيب ما قد نسي مبلَغه، وإذا أَعوَزَ مثلُ هذا فلا أقلَّ من أن لا تُزاحَم في أوساخ أهل الذمة، ولم يُفرِجْ عن الجوالي. ¬

_ (¬1) تحرفت في (خ) إلى: البلد.

وفي صفر اختلَّتْ أمورُ الشام، واستولى مُعِزُّ الدولة صالح بن مِرْداس الكلابي على شام حلب وحصرها، وصعِدَ مَنْ كان في البلد من أصحاب الدِّزْبَري إلى القلعة، واستولى حسان بن المفرِّج بن الجرَّاح على شام دمشق -كما كان- والسواحل، وأخذ صاحب مصر في تجريد العساكر إليه، ثم إنَّ صالحًا ملك قلعة حلب بموافقةِ بينَه وبين مَنْ كان فيها؛ لأنهم ضاق عليهم القوت، فصالحوه وصعِدَ إليها. وفي صفر ورد رسول مودود بن مسعود إلى الخليفة ومعه كتاب يذكر فيه ما جرى على أبيه. وفيها استولى طُغْرُلْبَك والغُزُّ على خُوارَزم. وفي جمادى الأولى ورد الخبر الصحيح من توريز (¬1) أنَّ زلزلةً عظيمةً هدَّمَتْ قلعة توريز وسورَها ودورَها وحماماتِها ومساكنَها وأسواقَها، ونجا أميرُها؛ لأنه [كان في بعض البساتين، وسَلِمَ جندُه؛ لأنه] كان قد أرسلهم إلى أماكن. وأُحصيَ من مات تحت الهدم، فكانوا خمسين ألفا. وأنَّ الأمير جلس على المسوح ولبس السواد (¬2)؛ لعظم (¬3) هذا المصاب، وأنه على عزم الصعود إلى بعض قلاعه والتحصُّن بها خوفًا من الغُزِّ، وزُلزِلَتْ [تدمر] وبَعْلبَكَ، ومات تحت الهدم معظم أهل تدمر، وجاءت طائفة من الغُز من الريِّ إلى ديار بكر، فنهبوا وقتلوا، واستجاش عليهم أبو نصر ملوكَ الأطراف فأَنْجَدوه، ورجع الغُز إلى خراسان. وفي ذي الحجَّة قَدِم الملكُ العزيز إلى بغداد، وتلقاه الأشرافُ والقُوَّاد وأخوتُه، ونزل أبوه في الزَّبزب والتقاه وخلعَ عليه فَرَجيَّةً كانت عليه، وعمامةَ ملونة. وفيه ورد طُغْرُلْبَك من خُوارَزم إلى الريِّ، وأنفذ أخاه من أمه إبراهيم يَنَّال إلى سجستان، وعوَّضه بها عن الريِّ، وكان معه مرداويج بن بسُّو، وكان يأخذ برأيه؛ ¬

_ (¬1) هكذا في (خ) و (ت)، وفي المصادر: تبريز. ينظر المنتظم 15/ 286، والنجوم الزاهرة 5/ 35، وتاريخ الإسلام 9/ 496. (¬2) في (م) و (م 1) العبارة مقلوبة: جلس على السواد ولبس المسوح. وينظر النجوم الزاهرة 5/ 35. (¬3) بعدها في (خ) زيادة كلمة مقحمة: الذنب.

حمزة بن الحسن

لتقدُّمه وتدبيره، وخرج إليه أبو كاليجار بن مجد الدولة والتقاه، وصار في جملته، فأخذ منه قلعة طَبْرَكْ وهو مقيمٌ في خدمته، وولَّى القائمُ على قضاء واسط أبا القاسم علي بن غسان. ولم يحجَّ أحد في هذه السنة. وفيها تُوفي حمزة بن الحسن (¬1) ابن العباس بن الحسن بن [أبي الجنّ، واسم أبي الجنّ] (¬2) الحسين بن علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن جعفر الصادق رحمه الله، [وقد تقدم هذا، وكنية حمزة أبو يعلى، وكنية أبيه الحسن أبو محمد القاضي، وتلقَّب حمزة بفخر الدولة، وذكره أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه وقال] (¬3): وُلدَ في المُحرَّم سنة تسع وستين وثلاث مئة، ووَليَ قضاء دمشق نيابة عن الظاهر بن الحاكم، وَولي النقابة بمصر، وجدَّد بدمشق منابر ومساجد وقنيًا، وهو الذي أجرى الفوَّارة بجيرون، وبنى قيسارية الأشراف، وتُعرف بالفخرية ووجد في تذكرته صدقة في كل سنة سبعة آلاف دينار وسمع الحديث ورواه [عن أبي عبد الله بن أبي كامل، سمع منه سنة أربع وسبعين وثلاث مئة]، وكانت وفاته بدمشق يوم الأربعاء لعشر خلون من ربيع الأول، وكانت له جنازة لم يرَ الناس مثلها. وقال [الحافظ ابن عساكر: قرأت في كتاب] الشريف أبي الغنائم عبد الله بن الحسين [بن محمد] النسَّابة الحسني: أردتُ السفر من [دمشق إلى] مصر فأتيته لأودِّعه وأنشدته: [من البسيط] أستودعُ اللهَ مولايَ الشريفَ وما ... يحويه من نعمٍ تبقى ويوليها فإنَّني عند توديعي بحضرتِهِ ... ودَّعْتُ من أجلِه الدُّنيا وما فيها ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 15/ 198 - 199. (¬2) ما بين حاصرتين سقط من (خ)، واستُدرك من بقية النسخ. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (م 1)، وجاء بدلٌ منه في (خ) و (ف): أبو يعلى فخر الدولة.

عبد الودود بن عبد المتكبر

فأقسم عليَّ أن لا أُسافر، فأقمت [عنده]، فأنعم عليَّ، وأنشدني [أبياتًا] لقُسِّ بن ساعدة في النجوم: [من الكامل] علمُ النجومِ على العقولِ وبالُ ... وطِلابُ شيءٍ لا يُنالُ ضلالُ مأوى طِلابُكَ علمُ شيءٍ أُغلِقَتْ ... من دونهِ الأبوابُ والأقفالُ افهَمْ فما أحدٌ بغامضِ فطنةٍ ... يدري متى الأرزاقُ والآجالُ إلا الذي من فوقِ سبعٍ عرشُهُ ... فلوجهِهِ الإكرامُ والإفضالُ وكان فخرُ الدولة مُمدَّحًا مدحه ابن حَيُّوس وغيره. [وفيها تُوفِّي عبد الودود بن عبد المتكبِّر (¬1) ابن هارون بن محمد بن عبيد الله بن المهدي، وُلدَ في سنة أربعين وثلاث مئة، ومات في شعبان، ودُفن عند جامع المنصور تحت القبة الخضراء، سمع أبا بكر الشافعي وغيره، وكتب عنه الخطيب، وكان ثقةً]. [وفيها تُوفِّي] عبد الله بن هشام (¬2) ابن عبد الله بن سَوَّار، أبو الحسين، من أهل داريا، أنشد لعبد الله بن عطية: [من الخفيف] إنَّ مَنْ لم يكُنْ على الناس ذئبًا ... أكَلتْهُ في ذا الزمانِ الذئابُ [وفيها تُوفي] محمد بن الحسين بن محمد (¬3) أبو الفتح، البغدادي، [قال الخطيب]: ويعرف بقُطَيط. ولد سنة خمس وخمسين وثلاث مئة، وطاف الدنيا، وسمع خلقًا كثيرًا، وكان شيخًا كيِّسًا ثقةً، حسنَ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 11/ 140، والمنتظم 15/ 287. (¬2) تاريخ دمشق 33/ 349 - 350. (¬3) تاريخ بغداد 2/ 253 - 254، وفي تاريخ دمشق 52/ 352 - 353، والمنتظم 1/ 2885.

السنة الخامسة والثلاثون وأربع مئة

المحاضرة، كثيرَ النوادر، وخرج إلى الأهواز فمات بها، وكان يقول: كان جدّي محمد يسكن البادية، فلمَّا وُلدتُ سمَّاني قُطَيطًا على عادة العرب في البراري. قال المصنف رحمه الله: إلى هاهنا انتهت المطالعة والانتقاء من تاريخ هلال بن المحسن الصابئ من نسخة في وقف الملك الأشرف رحمه الله، وقد سقط من ها هنا إلى سنة سَبْعٍ وأربعين وأربع مئة؛ لأنَّ ولدَه غَرْسَ النعمة محمدًا أرَّخَ من سنة ثمان وأربعين وأربع مئة وقال: وإلى ها هنا انتهى تاريخ والدي رحمه الله. السنة الخامسة والثلاثون وأربع مئة فيها دخل أصحاب طُغْرُلْبَك الريَّ فنهبوها، وهدموا منازلها ومساجدها، وسَبَوا الحريم، وقتلوا معظم أهلها، ولم يبقَ فيها سوى ثلاثة آلاف بعد أن كانوا مئة ألفِ أو يزيدون، وكتب طُغْرُلْبَك إلى جلال الدولة كتابًا يقول فيه: من طُغْرُلْبَك بن محمد بن ميكائيل مولى أمير المؤمنين إلى الملك الجليل جلال الدولة، [وكتب إليه جلال الدولة] (¬1) بمثل ذلك، وكتب الخليفةُ إلى طُغْرُلْبَك كتابا يوبّخه ويلومه على ما فعل أصحابُه بالريِّ، وخرج بالكتاب أقضى القضاة الماوردي، فتلفاه طُغْرُلْبَك من أربعة فراسخ إجلالًا للخليفة، وأعطاه ثلاثة آلاف دينار وخِلَعًا وخيلًا وغيرهما للخليفة وحاشيته. وفيها دخلت الغُزُّ الموصل، فقتلوا وسبَوا حريم قِرْواش، وخرج قِرْواش منها، واستنجد عليهم بالعرب ودُبَيس وأبي نصر صاحب ميَّافارقين، فتبعوهم، فرجع الغُزُّ عليهم، فقتلوا من العرب (¬2) مقتلةً عظيمةً يقال: إنها كانت عشرين ألفًا، وغنموهم. وفيها تُوفِّي جلال الدولة، وخطب ببغداد للملك أبي كاليجار [صاحب فارس]. ولم يحجَّ في هذه السنة أحد من العراق. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف). (¬2) تحرفت في (خ) إلى: الغز، والمثبت من (ف)، وهو الذي يدل عليه سياق الكلام.

الحسين بن عثمان

وفيها تُوفِّي الحسين بن عثمان (¬1) ابن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلف، أبو سعد، العجلي، سافر إلى خراسان، وعاد فحدَّث ببغداد، وانتقل إلى مكة، فتوفِّي بها في شوال، وكان صدوقًا (¬2). [وفيها تُوفِّي] عبيد الله (¬3) بن أحمد ابن عثمان بن الفرج بن الأزهر، أبو القاسم، الأزهري، السِّيرافي، ولد في صفر سنة خمس وخمسين وثلاث مئة، ومات في صفر، ودُفِنَ قريبا من نهر عيسى، [سمع أبا بكر القَطيعي وغيره]، وكان صالحًا صدوقًا ثقةً، مكثرًا في الحديث كتابة وسماعًا، [جامعًا] (¬4) له مع صدق وأمانة وصحة واستقامة وسلامة واعتقاد جميل، ودَرْسٍ للقرآن، [وكان يسكن درب الآجر بنهر طابق]، ودفن بتربته بنهر طابق [قريبًا من نهر عيسى] عن ثمانين سنة وعشرة أيام. [وفيها تُوفِّي] أبو طاهر جلال الدولة (¬5) ابن بُوَيه، وُلدَ في ذي الحجَّة سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة، وقد حكينا سيرته، وكان يحبُّ الصالحين، ويزور الدِّينَوري والقزويني ويتبرَّك بهم، ولقي من الأتراك شدائدَ، ولحقه ورمٌ في كبده فتوفي ليلة الجمعة خامس شعبان، وغسَّله أبو القاسم بن شاهين الواعظ وأبو محمد عبد القادر بن السمَّاك، ودُفِنَ في بيته بدار المملكة في بيت ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 84، والمنتظم 15/ 290. (¬2) جاء بعدها في (ف) زيادة: ثقة. وفي تاريخ بغداد، والمنتظم: متنبهًا. (¬3) تحرف في (م) و (م 1) إلى: عبد الله، وفي (خ) و (ف) على الصواب، كما في مصادر الترجمة: تاريخ بغداد 15/ 385، والمنتظم 15/ 290 - 291، والكامل 9/ 522 على الهامش على أنها نسخة. (¬4) هذه الزيادة من (ف) وحدها. (¬5) المنتظم 15/ 291، والكامل 9/ 516. وينظر السير 17/ 577.

السنة السادسة والثلاثون وأربع مئة

دُفن فيه عضد الدولة وبهاء الدولة قبل نقلهما إلى الكوفة، ثم نُقِلَ بعد سنة إلى مقابر قريش، وكان عمره إحدى وخمسين سنة وشهورًا، ومدة ولايته على بغداد ست عشرة سنة وأحد عشر شهرًا، وخلف من الولد إحدى وعشرين؛ من الذكور ستة، ومن الإناث خمس عشرة. ولمَّا مات اطَّلع أولادُه من الزَوشَن على الإسْفَهسلارية والأتراك وغيرهم وقالوا: أنتم مشايخ دولتنا وأصحابنا والقائمون مقام والدنا، فارْعَوا حقوقَنا، وصونوا حريمَنا، وقد علمتُم أن أبانا لم يُخففْ شيئًا ولا مال عندنا، فبكوا بكاء شديدًا، وقبَّلوا الأرض وقالوا: سمعًا وطاعة. وكان ابنُه الملقبُ بالملك العزيز بواسط، وكتب إليه الخليفة بغَزْنة ثانيةً، وجاء الجواب يقول: أنا العبد القِنّ. السنة السادسة والثلاثون وأربع مئة فيها نُقِلَ تابوتُ جلال الدولة وابنتِه الكبرى إلى مقابر قريش إلى تربة بناها لنفسه شمالي ضريح موسى بن جعفر رحمة الله عليهما، وآثار القُبَّة باقية. وفيها نظر رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المُسْلِمة في كتابة القائم، وكان عنده في منزلة عالية، فلا زال يضرب بينه وبين البساسيري ويُسيء التدبير حتى جرى ما نذكره. وفيها صُرِفَ أبو المعالي بن عبد الرَّحيم [من] (¬1) وزارة الدَّيلم، ووليها محمد بن جعفر بن العباس بن فَسانْجِس. وفيها تُوفي الشريف المرتضى، فتقلَّد أبو أحمد عدنان بن الرضي ما كان يتقلَّده عمُّه المرتضى. وتوفي وزيرُ مصر، فوزر أبو نصر أحمد (¬2) بن يوسف، وكان يهوديًّا فأسلم. وفيها دخل أبو كاليجار بغداد، ولم يخرج الخليفة إلى لقائه، فنزل دارَ المملكة، وأخرج منها عيال جلال الدولة، وضرب الدبادبَ على بابه في أوقات الصلوات الخمس، فروسل بالاقتصار على ثلاثة كما كانت عادة الملوك، فلم يلتفِتْ، وراسل الخليفة بأن يَخلَع عليه على العادة، فقيل له: قد نفذت إليك الخِلَعُ إلى فارس، فيقال: ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ت) وحدها. (¬2) تحرف في (م) و (م 1) إلى: محمد، والتصويب من (خ) و (ت) والمنتظم وغيره.

الحسين بن علي

إن الخليفة خلع عليه ثيابًا (¬1) وقيل: لم يَخْلَعْ عليه. وقيل: إنه لم يقدُم بغدادَ أصلًا، وكان مقيمًا بالأهواز، وبها مات، وكانت الخطبة له ببغداد (¬2). ولم يحجَّ في هذه السنة أحد. وفيها تُوفِّي الحسين بن علي (¬3) ابن محمد بن جعفر، أبو عبد الله، الصَّيمري، ولد سنة إحدى وخمسين وثلاث مئة، وكان أحد الفقهاء المذكورين، جيّد النظر، حسن العبارة، وافر العقل، صدوقًا، وكان إمامَ الحنفية ورئيسَهم ببغداد، وليَ قضاء المدائن، ثم وليَ القضاء بربع الكَرْخ، وكان نزهًا عفيفًا فاضلًا، وتُوفِّي ببغداد ليلة الأحد حادي عشرين شوال، ودُفِنَ بداره بدرب الزرَّادين، وكان يحضر مجلس الدارقطني، فقُرئ عليه حديث غُورَك السعدي (¬4) في زكاة الخيل، فقيل للدارقطني: غُورَك ضعيف؟ قال: ومن دونه أضعف منه. فقالوا للدارقطني: فراويه عن غُورَك أبو يوسف القاضي؟ فقال: أعور بين عميان. قال الصَّيمري: فهجرتُ الدارقطنيَّ ولم أعُدْ إليه. [وفيها تُوفِّيت طاهرة بنت أحمد بن يوسف الأزرق (¬5) التنوخيَّة، ولدت في شعبان سنة تسع وخمسين وثلاث مئة، وسمعت الحديث، وكانت صالحة عابدةً، وتُوفِّيت بالبصرة، سمعت من أبي محمد بن ماسي. ومخلد بن جعفر الباقَرْحي وأبي الحسن بن لؤلؤ وغيرهم، وروى عنها أبو القاسم التنوخي الخطيب والأزهري]. ¬

_ (¬1) في (خ): ثانيًا، والمثبت من (ف). (¬2) تنظر هذه الأخبار مختصرة في المنتظم 15/ 292 - 293. (¬3) تاريخ بغداد 8/ 78 - 79، والمنتظم 15/ 293، والكامل 9/ 527، والأنساب 8/ 128. وتنظر بقية مصادر الترجمة في السير 17/ 615. (¬4) وغُورك السعدي: هو ابن الحِصْرِم، وحديثه الآتي في سنن الدارقطني (2019). (¬5) تاريخ بغداد 14/ 445، والمنتظم 15/ 293.

عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

عبد الله بن محمد بن عبد الرَّحمن (¬1) أبو محمد، الأصبهاني، ويعرف بابن اللَّبَّان قال: ختمتُ القرآنَ وأنا ابن خمس سنين. وكان صائمًا قائمًا صدوقًا ثقةً، أحدَ أوعية العلم، وله التصانيف الحِسان، وكانت وفاتُه بأصبهان في جمادى الآخرة. [وفيها تُوفي] علي بن الحسن بن إبراهيم (¬2) أبو الحسن، الصوفي، الوكيل، سكن مصر، ومات بها في شعبان [وحدَّث عن القاضي القضاعي وغيره، وحكى عنه أحمد بن عطاء الرُّوذباري] وقال: أنشدنا منصور الفقيه: [من البسيط] حالُ العيادةِ يومٌ بين يومينِ ... وجلسةٌ كممرِّ الميلِ في العينِ لا تسألنَّ عليلًا عن شكايتِهِ ... يكفيكَ ما تنظرُ العينانِ في العينِ [وفيها تُوفي] علي بن الحسين (¬3) ابن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق، أبو الحسن (¬4)، المرتضى، ذو المجدين، ولد سنة خمسين وثلاث مئة، وهو أسَنُّ من أخيه الرضا، وكان عالمًا فاضلًا، شاعرًا، عاقلًا، جوادًا، ممدحًا، وله المصنفات في مذهب الشيعة والشعر الحسن، وكانت إليه نقابة الطالبيين ببغداد والحجِّ، وكانت وفاته في رجب، ودُفِنَ بداره في الكَرْخ، وحضر الوزراءُ وأربابُ الدولة وخدمُ الخاصة والقُضاةُ والشهودُ والأشرافُ، وصلَّى عليه ابنُ أخيه عدنان بن الرضي، وجلس للتعزية، وجاء ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 10/ 144. (¬2) تاريخ دمشق 41/ 310 - 311. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 402 - 403، والمنتظم 15/ 294 - 300، ومعجم الأدباء 13/ 146 - 157، وينظر السير 17/ 588. (¬4) لم ترد هذه الكنية في مصادر ترجمته، وجاء في معظم المصادر: أبو طالب، وفي بعضها: أبو القاسم.

خدم الخاصة من عند الخليفة فأقاموه من العزاء، وحزن عليه أهل بغداد، وخصوصًا أهلُ الكَرْخ، ولم يُنقل من داره إلى غيرها. وقيل: إنه حُمِلَ إلى مقابر قريش. ونقل علي بن عقيل عنه مسائل: منها: أنه لا يجوز السجود على ما ليس بأرض، كالصوف والجلود والوبر ونحوه. ومنها: أنَّ الاستنجاء يكون من الغائط دون البول. ومنها: أنَّ الطلاق المُعلَّق بالشرط لا يقع وإن وُجِدَ الشرط. ومنها: أنَّ الطلاق لا يقع إلا بشهادة شاهدين عدلين كالنكاح. ومنها: أنَّ من نام عن صلاة العشاء حتى يمضي نصف الليل وجب عليه القضاء، وأن يُصبحَ صائمًا كفارة لذلك. ومنها: أنَّ المرأة إذا جزَّت شعرها فعليها كفارة قتل الخطأ. ومنها: أنَّ من شقَّ ثوبه في ابن له أو زوجة فعليه كفارة اليمين. ومنها: أنَّ من تزوَّج امرأةً لها زوجٌ وهو لا يعلم فعليه أن يتصدق بخمسة دراهم. ومنها: أنَّ قطع السارق يجب من أصول الأصابع. ومنها: أنَّ ذبائح أهل الكتاب مُحرَّمة، وكلُّ طعام تولاه اليهودي والنصراني فأكله حرام. وهذه مسائل خرقوا بها الإجماع، أعجَبُ منها قول المرتضى في تصانيفه في إنكاح علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عمرَ بن الخطاب ابنتَه أمَّ كلثوم: أنَّه يجوز أن ينكح إلى الفاسق، وكذا إلى الكافر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوَّج ابنتَه من عثمان بن عفان. ثم قال في موضع آخر: وإنَّ اللَّتَينِ زوَّجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان ما كانتا ابنتيه، إنما هما ابنتا أبي هالة من خديجة. ثم قال: إن عمر رضوان الله عليه أكره عليًّا رضوان الله عليه حتى زوَّجه أم كلثوم. وحكى عن جعفر الصادق أنه قال: ذاك فرجٌ أُكْرِهنا عليه. وحكى أيضًا في مصنفاته أن الصحابة كفروا بجحد النص، وهو خلافة علي رضوان الله عليه.

محمد بن أحمد بن بكير

قال المصنف رحمه الله: ثم ذكر جَدِّي من هذا الجنس فُصولًا، وأجاب عنها، وقال في آخر الأجوبة: إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شئت. وقال: كان يميل إلى الاعتزال، ويناظَر عنده في كل مذهب، وله تصانيف وفقه على مذهب الإمامية. وقال: أنبأنا ابن ناصر عن أبي الحسين بن الطيوري قال: سمعت أبا القاسم بن برهان يقول: دخلتُ على المرتضى في مرضه وقد حوَّلَ وجهه إلى الحائط، فسمعتُه يقول: أبو بكر وعمر وَليا فعدَلا، واستُرحِما فرَحِما، وأنا أقول: ارتدَّا بعدما أسلما. فقمتُ عنه، فلمَّا بلغتُ عتبة الباب سمعتُ الصراخَ عليه. [وفيها تُوفي] محمد بن أحمد بن بُكير (¬1) أبو بكر، التنوخي، الخياط، الدمشقي، إمام مسجد أبي صالح خارج الباب الشرقي [قال الحافظ ابن عساكر: حدَّث عن عبد الوهَّاب الكلابي وغيره بدمشق، كان صالحًا ثقة. [وفيها تُوفي محمد بن الحسين (¬2) أبو طالب، التاجر، البغدادي، تُوفي في جمادى الاخرة، ودُفِنَ في محلة التُّوثة غربي بغداد، وحدَّث عن أبي بكر القَطيعي وغيره، وروى عنه الخطيب]. [وفيها تُوفي] محمد بن علي بن الطيب أبو الحسين، البصري، المتكلِّم، سكن بغداد، وكان يُدرِّس على مذهب المعتزلة، وله التصانيف الكثيرة، منها كتاب "المعتمد في أصول الدين"، لم يصنَّف في فنه مثله، وكانت وفاته في ربيع الآخر، ودفن بمقبرة الشونيزية. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 51/ 20. وتصحف اسم بكير في (م) و (م 1) إلى: بكين. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 254، والمنتظم 15/ 300.

محسن بن محمد

[وفيها تُوفِّي] محسن بن محمد (¬1) ابن العباس بن الحسن بن أبي الحسن، أبو تراب بن أبي طالب، الحسيني، كان نقيب الطالبيين بدمشق، ولي القضاء بها بعد أخيه لأمه فخر الدولة نيابةً عن ابن النعمان قاضي قضاة خليفة مصر، وكانت وفاتُه بدمشق في المُحرَّم، وقيل: في رجب، وكان فاضلًا جوادًا مُمدَّحًا. السنة السابعة والثلاثون وأربع مئة فيها جاء إبراهيم يَنَّال إلى قَرْمِيسين، وأخذها من محمد بن فارس [المعروف] بابن أبي الشوك (¬2). وفي جمادى الأولى استوزر القائمُ أبا القاسم علي بن الحسن بن المُسلمة؛ استدعاه إلى داره، وجلس له، وخلع عليه خِلْعة بطيلسان، وحمله على بغلة بمركب ذهب، وخرج بين يديه الخدم والقضاة والعدول والحُجَّاب والأعيان وغيرهم إلى داره بدرب سليم من الرُّصافة. وفيها مات بواسط رجلٌ نصرانيٌّ يُقال له: ابن سهل، فجلس قومٌ من النصارى على باب المسجد، وأُخرجت جنازتُه نهارًا، فثارت العامَّة، وجرَّدوا الميت من أكفانه وأحرقوه، ورموا رماده في دِجلة، ومضَوا إلى الدير فنهبوه (¬3). وكان الملك العزيز بن جلال الدولة بواسط وأبو كاليجار ببغداد، ولم يكن له تلك الهيبة، وكانوا قد أحسُّوا بانقراض دولتهم بظهور طُغْرُلْبَك، وأمَّا طُغْرُلْبَك فإنه أقام بخراسان، ثم تنقَّل في البلاد، وجاءه الغُزُّ فرحل في طلبهم، فجاؤوا إلى الري، ثم اتفقوا معه على نهب العراق، وأمَّا صاحب مصر فجهز الجيوش إلى حلب، فحصروا ابن مِرْداس فيها، واستظهروا عليه، فاستنجد بالروم فلم ينجدوه. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 100، والمنتظم 15/ 300. وينظر السير 17/ 587. (¬2) العبارة في المنتظم 15/ 303 والخبر فيه: وأخذها من يد أبي الشوك فارس بن محمد. (¬3) هذان الخبران بنحوهما في المنتظم 15/ 302 - 303.

الحسن بن محمد

ولم يحجَّ في هذه السنة أحدٌ من العراق. وفيها تُوفِّي الحسن بن محمد (¬1) ابن أحمد، أبو محمد، الدمشقي، ويعرف بابن السكن. [قال الحافظ ابن عساكر] صام الدهر، وله اثنتا عشرة سنة، وعاش سبعًا وثمانين سنة، وكان لا يشرب الماء في الصيف، وأقام سنة وخمسة أشهر لا يشربه، فقال له طبيب: معدتُكَ تشبه الآبار، في الصيف باردة، وفي الشتاء حارة، اشرَبِ الماء وإلَّا تلفَتْ كبِدُك. وكانت وفاته بدمشق، [حدَّث عن أحمد بن عطاء الرُّوذباري وغيره، وروى عنه أبو علي الأهوازي وغيره] وكان ثقة صالحًا. [وفيها تُوفِّيت] خديجة بنت موسى (¬2) ابن عبد الله، الزاهدة، العابدة، البغدادية، وتُكنى أم سلمة، وتُعرف ببنت البقَّال، كانت تروي الحديث، وتعظ النساء، وكانت ورعة، وتُوفيت في جمادى الآخرة، ودُفنت بالشُّونيزية، سمعت أبا حفص بن شاهين وغيره، وروى عنها الخطيب وأثنى عليها، وكانت من الصالحات]. [وفيها تُوفي] محمد بن محمد (¬3) ابن علي بن الحسن بن علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن الحسين الأصغر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن، العلوي، الحسيني، البغدادي، النسَّابة، شيخ الشرف، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة، وكان فريدًا في علم ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 13/ 352 - 354. (¬2) تاريخ بغداد 14/ 446، والمنتظم 15/ 303. (¬3) تاريخ دمشق 55/ 210.

السنة الثامنة والثلاثون وأربع مئة

الأنساب؛ ولهذا سَمَّوه شيخ الشرف، وله تصانيف كثيرة (¬1)، وله شعر جيد، انتقل من بغداد إلى الموصل، ثم رجع إلى بغداد سنة خمس وثلاثين وأربع مئة، وله إذ ذاك مئة سنة إلا سنتين، ثم تُوفِّي في هذه السنة، ويقال: إنه توفي بدمشق. السنة الثامنة والثلاثون وأربع مئة وفيها غارت الترك على ما وراء النهر، واستولَوا على بُخارى وسمرقند وخُوارَزْم، فقطع طُغْرُلْبَك جيحون، وبعث أخاه إبراهيم يَنَّال (¬2) إلى العراق، فوصل حُلوان، واستولى عليها، ثم عاد إلى الريِّ والتقى طُغْرُلْبَك بالترك، فقاتلهم، فظهر عليهم وهزمهم، وعاد إلى خراسان، ووقع المُوتان ببغداد في الخيل (¬3) فأفناها، وكان أهلها يحضرون الأطباء فيسقونها ماء الشعير ويدبِّرونها كما يدبِّرون المرضى، وكان ببغداد رجل صاحب شرطة يُقال له: أبو محمد بن النَّسوي، حفر في داره بئرًا، وكان يستدعي الصيارف ومن يعرف [أنَّ] معه مالًا فيقتلهم ويأخذ أموالهم، وقتل جماعة من الهاشميين، وعلم العوام، فثاروا ورفعوا المصاحف على [رؤوس] (¬4) القصب، ومنعوا الخطباء من الجُمع، فأمر الخليفة بحبسه، وكان القاضي يومئذ أبو الطيب الطبري، وشهد عنده الشهود، وقامت البيِّنة، وكبسوا داره، وأخرجوا القتلى منها وعُرفوا، فبعث السلطان فأخذ منه خمسة آلاف دينار وأطلقه، ولم يقدر الخليفةُ على منعه من الخروج من الحبس. وفيها مالت الغُزُّ إلى أذربيجان وأرمينية وشهرزور، فقتلوا خلقًا كثيرًا (¬5). وفيها زُلزِلَتْ خِلاط (¬6) وديار بكر زلازلَ هدمت القلاع والحصون، وقتلت خلقًا كثيرًا. ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) و (ف): ومن شعره. والظاهر أنها مقحمة. (¬2) تحرفت في (م 1): إلى: بمال. (¬3) العبارة في (م) و (م 1): ومن العجائب أن الموتان وقع في الخيل. (¬4) هذه الزيادة هن (م 1) وحدها. (¬5) في (م) و (م 1) هنا وفي الموضع الآتي: خلقًا عظيمًا. (¬6) في (م) و (م 1): أخلاط، وخِلاط: بلدة عامرة كثيرة الخضار والفواكه، وهي قصبة أرمينية الوسطى. معجم البلدان 2/ 380 - 381.

عبد الله بن يوسف

وفيها ورد رسول طُغْرُلْبَك إلى بغداد، فأكرمه الخليفة، وخلع عليه، وكتب لطِغْرُلْبَك عهدًا على خراسان، وأعطى الرسول سرًّا، وقيل له: لا تُظهِرْه ها هنا. ولم يقدم من خراسان حاجٌّ، وقدم من أطراف بغداد، واجتمعوا إلى الحِلَّة فوقفت له بنو خَفاجة بين الكوفة والحِلَّة، فرجعوا إلى بغداد، وحجَّ الناسُ من الشام ومصر، وبعث المستنصر كسوة البيت ونفقات أهل الحرمين، وخُطِبَ له على العادة. وفيها تُوفِّي عبد الله بن يوسف (¬1) ابن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيُّويه، أبو محمد، الجُويني، الشافعي، والد أبي المعالي، وجُوَين من أعمال نيسابور، وأصلهم من العرب من بني سِنْبِس. قرأ القرآن، وسمع الحديث، وتفقَّه بمرو على [أبي بكر عبد الله بن أحمد] القفَّال، [ثم عاد إلى نيسابور، فدرس مذهب الشافعي وبرع فيه، وكان له مجلسٌ للمناظرة بنيسابور]، وكان مجلسُه مهيبًا كمجلس الملوك لا يجري فيه إلا الجِدُّ، وصنَّف التصانيف الكثيرة في أنواع العلوم، [وكان قد قرأ الأدب على أبيه أبي يعقوب يوسف]، وكان زاهدًا ورعًا، لا يدقُّ وتدًا في حائط مشترك بينه وبين آخر، ويحتاط في أداء الزكاة، فربما أدَّاها في السنة دفعتين، وتوفي بنيسابور، [سمع الحديث بمرو على جماعة، وبنيسابور وبهمذان وبغداد ومكة، وروى عن القَطيعي وغيره، وكتب عنه الخطيب]. محمد بن يحيى (¬2) ابن محمد بن محمد، أبو بكر، من قرية بالعراق يُقال لها: الزيدية، كان عالمًا بالقرآن والفرائض، وسمع الحديث، وكانت وفاته في رمضان. قال الخطيب: كتبتُ ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 306 - 381. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 334 - 335.

السنة التاسعة والثلاثون وأربع مئة

عنه، وكان ثقةً، وأخرج له عن عائشة - رضي الله عنها - أثرًا قالت: كُنْ لِما لم تَرْجُ أرجى منك لما ترجو، فإنَّ موسى - عليه السلام - خرج يقتبس نارًا فعاد بالتكليم والنبوة. السنة التاسعة والثلاثون وأربع مئة فيها وقع الوباء بالموصل [والجزيرة] وبغداد، ووصل كتابٌ من الموصل أنهم أكلوا الميتة، وصلَّى الجمعة أربع مئة نفس، ومات الباقون، وكانوا زيادة على ثلاث مئة ألف إنسان، وبِيعَتْ الرُّمانة ببغداد بقيراطين واللينوفرة بقيراطين، والخيارة بقيراط، وكان سُرْخاب بن محمد بن عنّاز أميرُ حُلوان قد خطب لإبراهيم ينَّال، ثم غدر به، فأرسل الذهب إلى أصحابه الأكراد، فغدروا به، وسلَّموه إلى إبرا هيم، فقلع إحدى عينيه ومثَّل به، واستولى على حُلوان. وفيها قُبِضَ على الوزير أبي السعادات أبي الفرج محمد بن جعفر بن فَسانْجِس. وفيها استولى رئيس الرؤساء على أعمال العراق وانبسطت يده. وفيها قصدت الغُزُّ نيسابور، فقال لهم إبراهيم ينَّال: هذه البلاد قد خربت وما تحملكم، اطلبوا بلاد الروم فهي أحملُ لكم (¬1). فساروا إلى الروم، ومرُّوا بأطراف بلاد ابن مروان، فتحصَّن منهم بالقلاع، وخاف الناس منهم، فأوغلوا في بلاد الروم، فقتلوا وأسروا، ونهبوا شيئًا كثيرًا، وعادوا إلى أطراف أرمينية. وقيل: إنهم بلغوا إلى [خليج] القسطنطينية، وكان معهم محمد بن إبراهيم يَنَّال، فغنم وحده مئة ألف رأس، وأخذ من السلاح والمال ما حملوه على عشرة آلاف عجلة. وقيل: بل كان إبراهيم يَنَّال بنفسه معهم، وفي غَيبتهم هذه أُديرت الأسوار على البلاد الخراسانية [بنيسابور وغيرها]، وكذا على شيراز وفارس. ولم يحجَّ أحد من العراق. ¬

_ (¬1) المثبت من (م 1) وهو المناسب لقوله: وما تحملكم. وفي بقية النسخ: فهي أجمل بكم.

أحمد بن أحمد بن محمد

وفيها تُوفِّي أحمد بن أحمد بن محمد (¬1) أبو عبد الله، القَصْري، من قصر ابن هُبيرة، ولد سنة ست وأربعين وثلاث مئة، وسمع الحديث، وكان من أهل العلم والقرآن، يختم القرآن في كل يوم، مشهورًا بالسنة، وتوفي في رجب، ودُفن بباب حرب، وكان صدوقًا صالحًا ثقة. [وفيها تُوفِّي] أحمد بن عبد العزيز بن الحسن (¬2) أبو يعلى، الطاهري، من ولد عبد الله بن طاهر، ولد سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة، وقرأ الأدب، وسمع الحديث [قال الخطيب: كتبت عنه]، وكان فصيحًا صدوقًا (¬3)، [حدَّث عن المُخَلِّص وابنِ أخي ميمي] (¬4) وأَمَةِ السلام بنت أحمد بن كامل، وتوفي في شوال، وأخرج له الخطيب حديثًا عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بوجه الله فأعطوه" (¬5). [وفيها تُوفِّي] أحمد بن محمد (¬6) ابن عبد الله بن أحمد، أبو الفضل، الهاشمي، من ولد هارون الرشيد، ولي القضاء بسجستان، وسمع الحديث وتأدَّب، ومن شعره: [من الكامل] قالوا اقتصِدْ في الجودِ إنك منصفٌ ... عدلٌ وذو الإنصاف ليس يجورُ فأجبتُهم إني سلالةُ معشرٍ ... لهم لواءٌ في النَّدى منشورُ تاللهِ إني شائدٌ ما قد بنى ... جدِّي الرشيدُ وقبلَه المنصورُ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 4 - 5. (¬2) تاريخ بغداد 4/ 258. (¬3) قوله: كتبت عنه، وكان فصيحًا صدوقًا ليس في تاريخ بغداد. (¬4) ما بين حاصرتين من الإكمال 1/ 420 ليتم المعنى. (¬5) أخرجه هكذا من حديث ابن عباس: أحمد (2248)، وأبو داود (5108)، وغيرهما. (¬6) تاريخ بغداد 5/ 50، والمنتظم 15/ 309، ويتيمة الدهر 5/ 269 - 270.

الحسين بن علي بن عبيد الله

[وفيها تُوفِّي الحسين بن علي بن عبيد الله (¬1) أبو الفرج، الطَّناجيري. قال الخطيب: ولد سنة خمسين وثلاث مئة، وكان يسكن بدرب الدنانير قريبًا من نهر طابق، وسمع الكثير، وتُوفِّي في ذي القعدة، ودُفن بباب حرب، حدَّث عن محمد بن المظفر وأبي بكر بن شاذان وغيرهما، وروى عنه الخطيب وغيره، وكان ثقةً]. [وفيها تُوفِّي] عبد الواحد بن محمد (¬2) ابن يحيى بن أيوب، أبو القاسم، البغدادي، الشاعر، ويُعرف بالمُطرِّز، وكان فصيحًا عالمًا بالأدب، سمع الحديث، وتوفي في جمادى الآخرة ببغداد، [وروى عنه الخطيب شيئًا من شعره فقال: أنشدني المطرِّز لنفسه] في الزهد: [من البسيط] يا عبدُ كَمْ لكَ من ذنب ومعصيةٍ ... إنْ كنتَ ناسيها فاللهُ أحصاها لابُدَّ يا عبدُ من يوم تقومُ له ... ووقفةٍ لكَ يُدمي القلبَ ذكراها إذا عرضتُ على قلبي تَذَكُّرَها ... وساءَ ظني فقلتُ استغفرُ اللهَ [وفيها تُوفِّي] محمد بن أحمد (¬3) ابن موسى بن عبد الله، الشيرازي، الواعظ، ويقال له: النذير، سافر إلى الشام وغيره، [وسمع بأكواخ بانياس وغيرها]. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 79، والترجمة -أيضًا- في المنتظم 15/ 309. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 61، والمنتظم 15/ 310 - 311، والكامل 9/ 543. (¬3) تاريخ بغداد 1/ 359 - 360، والمنتظم 15/ 311 - 312 دون قصة صاحب الترجمة مع ابن فارس، لكن نقلها عن الخطيب ابنُ عساكر مع الترجمة في تاريخ دمشق 51/ 139.

وقال الخطيب: حدثني النذير أنه دخل على أحمد بن فارس اللُّغوي وكان قد وُصِفَ له -فقال له: هاتِ يا أبا عبد الله. قال النذير: فسكتُّ، فقال ابن فارس: ما لَكَ؟ فقال: استولَتْ عليَّ صفاتُكَ فأنسيتني كلَّ شيء. فقال: أشهَدُ أنك من فارس. أراد قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان العِلمُ بالثُّريا لناله رجالٌ من فارس" (¬1). [قلت: ] وذكر الخطيب رجلًا اسمه: محمد بن أحمد بن موسى، أبو عبد الله الشيرازي الواعظ، وقال: قدم بغداد، فأقام بها مدةً يعِظُ الناس، ويشير إلى الزهد، ويلبس المرقَّعة، ويُظهر عزوفَ النفس عن طلب الدنيا، فافتتن به الناس [لِما رأوا من حُسن طريقته]، وكان يحضر مجلس وعْظِه خلقٌ لا يُحصَون، وعمر مسجدًا خرابًا بالشُّونيزية وسكنه ومعه جماعة من الفقراء، ثم إنه قَبِلَ بعد ذلك ما كان يُوصل إليه بعد امتناع شديد، فحصل له [ببغداد] مالٌ كثير، فرمى المُرقَّعة، ولبس الثياب الفاخرة، وجَرَتْ له قصص، وصار له أصحاب وأتباع، ثم أظهر أنه يريد الغزو، فحشد الناس إليه، واجتمع له عسكر كثير بظاهر البلد من أعلاه، وكان يُضرَبُ له الطبل في أوقات الصلاة، ثم سار إلى الموصل، ثم رجع عنه جماعة [من أتباعه، وبلغني أنه] صار إلى نواحي أذربيجان، واجتمع إليه جمع، وضاهى أميرَ تلك الناحية [وقد كان حدَّث ببغداد عن علي بن محمد بن عمران الجندي، وكتبت عنه أحاديث يسيرة في سنة عشرة وأربع مئة، وحدَّثني بعض أصحابنا بشيء يدلُّ على ضعفه في الحديث]. قال: وأنشدني لبعضهم: [من الطويل] إذا ما أطعتَ النفسَ في كلِّ لذةٍ ... نُسِبْتَ إلى غير الحِجْى والتكرُّمِ إذا ما أجبتَ النفسَ في كل دعوةٍ ... دعَتْكَ إلى الأمرِ القبيحِ المُحرَّمِ ويقال: إنه مات بنواحي أذربيجان في هذه السنة. قال المصنف رحمه الله: فلا أدري هو صاحب الترجمة أم غيره. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3261)، وابن حبان (7123) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

محمد بن الحسين

[وفيها تُوفِّي] محمد بن الحسين ابن علي بن عبد الرَّحيم، أبو سعد، وزير جلال الدولة، وزر له ستَّ سنين، ولاقى من المصادرات شدائدَ ومن التُّرك، فخرج من بغداد مستترًا، فأقام بجزيرة ابن عمر، حتى مات في ذي القعدة عن ست وخمسين سنة، وكان فاضلًا عارفًا بأمور الوزارة. [وفيها تُوفِّي] محمد بن علي (¬1) [بن محمد] بن إبراهيم، أبو الخطاب، الشاعر، الجَبُّلي، من قرية جَبُّل عند النعمانية ببغداد، كان فصيحًا حسن الشعر، [قال الخطيب]: سافر من بغداد إلى الشام، فاجتاز بمعرة النعمان، فمدح أبا العلاء المعري بأبيات، فأجابه أبو العلاء: [من الكامل] وأرى أبا الخطَّاب نال من الحِجى ... حظًّا زواه الدَّهرُ عن خُطَّابِهِ لا يطلبنَّ كلامَهُ متشبِّهٌ ... فالدرُّ ممتنعٌ على طُلَّابِهِ ألبستَني حُلَلَ القَريض (¬2) ووَشْيَهُ ... متفضِّلًا فرفلْتَ في أثوابِهِ وظلمتَ شِعْرَكَ إذ حبَوْتَ بنظمِهِ ... رجلًا سواهُ من الورى أولى بِهِ كَلِمٌ كنظمِ العقد يَحْسُنُ تحتَهُ ... معناهُ حُسْنَ الماءِ تحت حَبابِهِ (¬3) [فتشوَّفَتْ شوقًا إلى نغماتِهِ ... أفهامُنا ورَنَتْ إلى آدابِهِ] ثم قدم دمشق فسمع بها، ثم عاد إلى بغداد وقد ذهب بصره. [قال الخطيب: خرج الجَبُّلي إلى السفر ومعه عينان كأنهما نرجستان، فعاد وقد عمي]، فأقام ببغداد حتى توفي بها في ذي القعدة (¬4)، وكان يميل إلى التشيع. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 101 - 102، وفي تاريخ دمشق 54/ 380 - 382، وجاءت الترجمة في المنتظم 15/ 312 مختصرة جدًّا. (¬2) القريض: الشعر. المعجم الوسيط (قرض). (¬3) الحَباب: الفقاقيع على وجه الماء. المعجم الوسيط (حبب). (¬4) في (خ) و (ف): ذو الحجة، والمثبت من (م) و (م 1)، وهو الموافق لما في المصادر.

السنة الأربعون وأربع مئة

ومن شعره: [من المنسرح] ما حكَمَ الحُبُّ فهو ممتثَلُ ... وما جناهُ الحبيبُ محتمَلُ تهوى وتشكو الضَّنى وكلُّ هوًى ... لا يُنْحِلُ الجسمَ فهو مُنْتَحَلُ السنة الأربعون وأربع مئة فيها رجع الغُزُّ من بلاد الروم إلى أذربيجان بالغنائم التي ذكرناها، وكان معهم إبراهيم يَنَّال. وفيها تُوفِّيت زوجةُ الخليفة أختُ الأمير أبي نصر بن بُوَيه، وجلس رئيسُ الرؤساء في صحن السلم للعزاء، وقُطِعَ ضربُ الطبل بدار المملكة أيام العزاء. وفيها تَمَّ سور شيراز، ودوره اثنا عشر ألف ذراع، وارتفاع حائطه عشرون ذراعًا، وله عشرة أبواب، وقبل القاضي عبد الله بن ماكولا شهادةَ القاضي أبي يعلى الفرَّاء. وفي شعبان خَتَنَ الخليفةُ ابنَه أبا العباس محمد [بن القائم] ويلقب بالذخيرة، وذُكِرَ اسمُه على المنابر، ولم يَلِ الخلافة (¬1). وفيها ولَّى المستنصرُ دمشقَ القائدَ طارق الصقلي، فكان عليها ناصر الدولة الحسن بن الحسين بن حمدان، فقبض عليه وبعث به إلى مصر، ثم صرف المستنصر طارقًا في سنة إحدى وأربعين وولَّاها عدة الدولة رفق المستنصري، ثم صرفه عنها وبعث به إلى حلب، ثم وليها حيدرة بن الحسين بن مفلح، ويُعرَفُ بأبي الكرم المؤيد، فأقام واليًا عليها تسع سنين إلى سنة خمسين وأربع مئة. ولم يحجَّ أحدٌ من العراق. وفيها تُوفِّي الحسن بن عيسى (¬2) ابن المقتدر بالله، أبو محمد، الهاشمي، ولد في المُحرَّم سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة، وقرأ القرآن، وسمع الحديث، وكان عاقلًا، فاضلًا، ديِّنًا، صالحًا، ¬

_ (¬1) هذه الأخبار بمعناها في المنتظم 15/ 313 - 314. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 354 - 355، والمنتظم 15/ 314 - 315، والأنساب 11/ 438.

محمد بن جعفر

حافظًا لأخبار الخلفاء، عارفًا بأيام الناس، زاهدًا، ترك الخلافة عن قدرة، وآثر بها القادر بالله، ولمَّا احتضر أوصى بأن يُصلِّي عليه ويغسِّلَه القاضي أبو الحسين بن الغريق، ويُحمل في النهار إلى باب حرب ويُدفَنَ في غير تابوت، ففُعِلَ ذلك به، ومشى الأمراء والأشراف، منهم البساسيري، مشى من داره إلى قبره، ودُفِنَ بقرب الإمام أحمد -رحمة الله عليه- في رجب على ما قيل، وأمرَ القائمُ بأن يُجلَسَ له في العزاء، فجلس رئيس الرؤساء من الغد في صحن السلم، وحزن القائم عليه ومحني بأمره، وأمر أن يمشي القضاة والأشراف بين يدي جنازته. [وفيها تُوفِّي] محمد بن جعفر (¬1) ابن أبي الفرج بن فَسانْجِس، أبو الفرج، ويلقب بأبي السعادات، وزر لأبي كاليجار بفارس وبغداد، وكان فاضلًا عادلًا صاحبَ مروءة، كتب إليه بعض شهود الأهواز: إنَّ فلانًا مات وخلف خمسين ألف دينار مغربية، وعقارًا بمثلها، وخلف ولدًا له ثمانية أشهر، فإن رأى الوزيرُ أن يقترض العينَ إلى حين بلوغ الطفل. فكتب على ظهر الرُّقعة: المتوفَّى رحمه الله، والطفل جبره الله، [والمال ثمرة الله]، والساعي لعنه الله، لا حاجة لنا في أموال اليتامى. ومن شعره: [من الوافر] أودِّعكُمْ وإنِّي ذو اكتئابِ ... وأرحَلُ عنكمُ والقلبُ آبي وإنَّ فراقَكُمْ في كلِّ حالٍ ... لأَوجَعُ من مفارقةِ الشَّبابِ أسيرُ وما ذَمَمْتُ لكُمْ جِوارًا ... وما مَلَّتْ منازلُكُمْ ركابي وأشكرُ كلَّما أوطنتُ دارًا (¬2) ... لياليَنا القصارَ بلا احتسابِ وأَذكُركُمْ إذا هبَّتْ جَنوبٌ ... تُذكِّرني عَلالاتُ (¬3) التَّصابي ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 316، والكامل 9/ 542 - 543. (¬2) ووقع في النسخ: وأسلو كلَّما وطنت ديارًا. والمثبت من المنتظم والكامل. (¬3) في المصدرين السابقين: غرارات، أو: غزارات.

محمد بن محمد

لكم منِّي المودةُ في اغترابي ... وأنتُمْ إلفُ نفسي في اقترابي يسَقَى عهدَ الأحبَّةِ حيث كانوا ... سجال القطرِ من خِلَلِ السحابِ فروعاتُ الفراقِ وإن أغامَتْ ... تُقشِّعُها مَسرَّاتُ الإيابِ قد ذكرنا أنه عزل ببغداد، وأُمر أبو كاليجار بحمله إلى قلعة بني وَرَّام بِبَهَنْدَف (¬1)، فأقام أحد عشر شهرًا، ثم بعث أبو كاليجار مَنْ قتله بها وقد بلغ إحدى وخمسين سنة [فلا رَحِمَ اللهُ من قتله]، ولم يطُلْ عمر قاتله؛ [فإن أبا كاليجار عاش بعده أقلَّ من شهر؛ لأنَّ أبا الفرج] قُتِلَ في صفر، وأبا كاليجار مات في ربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى. محمد بن محمد (¬2) ابن إبراهيم بن غَيْلان، أبو طالب البزَّاز، وُلدَ سنة ست وأربعين وثلاث مئة، وسمع الكثير، وعُمِّرَ حتى بلغ مئة وخمس سنين، وكانت وفاتُه في شوال، وصلَّى عليه أبو الحسين بن المهتدي، ودُفِنَ بداره بدرب عبدة في قطيعة الربيع، وأخرج له الدارقطني أحاديثَ مشهورة وسمَّاها الغيلانيات، وسمعها عليه خلقٌ كثير، وكان ثقةً صدوقًا صالحًا. وقال أبو عبد الله محمد بن محمود الرشيدي: أردتُ الحجَّ، فقلت لأبي منصور بن حيدر: أريد أن أسمع من ابن غيلان. فقال: إنه مريض مبطون. قلت: ومَنْ لي أن يعيش حتى أرجع من الحج وهو ابن مئة وخمس سنين؟ فقال: اذهب، فأنا ضامنٌ لكَ حياتَه. قلت: وكيف؟ قال: [له] ألف دينار حُمرٍ جعفرية، كلَّ يوم يقلِّبها ويتقوَّى بها، فخرجتُ إلى الحجِّ وعُدْتُ وهو في الحياة، فسمعتُ عليه الغيلانيات وغيرها. [وفيها تُوفِّي] المَرزُبان بن سلطان الدولة ابن بهاء الدولة، أبو كاليجار، الملك، ولد بالبصرة سنة تسع وتسعين وثلاث مئة في شوال، مرض بالأهواز في بُرَيه (¬3) في جمادى الأولى، وفُصِدَ في يومٍ ثلاثَ مرات، ¬

_ (¬1) بَهَنْدَف: بليدة من نواحي بغداد في آخر أعمال النهروان. معجم البلدان 1/ 516. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 234 - وتحرفت فيه كنيتُه إلى: أبي طاهر- والمنتظم 15/ 317 - 318، والكامل 9/ 542. (¬3) بُرَيه: نهر شرقيَّ دجلة. معجم البلدان 1/ 407.

السنة الحادية والأربعون وأربع مئة

فجُعِلَ في المهد، فشَقَّ عليه، فحُمِلَ على أعناق الرجال في مِحَفَّةٍ (¬1)، فمات ليلة الخميس منتصف جمادى، وانتهب الغلمانُ الخزائنَ والسلاحَ والكُراعَ ما قيمتُه ألفُ ألفِ دينار، وأحرقت الجواري الخِيَم والخَرْكاوات، فما تركْنَ خيمةً ولا خركاة إلا أحرقنها سوى الخَرْكاة التي كان فيها والخيمة، وكان قريبًا من قرية (¬2) له فيها ألف ألف دينار، فصعد الغلمان وأخذوا ما فيها، وحُمِلَ في تابوت فدُفِنَ بالأهواز، وقيل: حُمِلَ إلى شيراز، فدُفِنَ عند آبائه. وكانت مدةُ عمره إحدى وأربعين سنة، وقيل: أربعين، ومدة ولايته على العراق أربع سنين وشهرين وأيامًا، ومدة ولايته على فارس والأهواز خمسًا وعشرين سنة، وكان شجاعًا فاتكًا، مشغولًا بالشرب واللهو، ولمَّا مات كان ولدُه أبو نصر ببغداد نازلًا في دار المملكة نيابةً عن أبيه، وأكان، العسكر حوله، فوقع المُوتان في الخيل والدواب [فمات منهم اثنا عشر]، وكانت أختُ أبي نصر [مع الخليفة، وهي التي تُوفِّيت أول هذه السنة، فلقَّبَ الخليفةُ ولده أبا نصر] الملك الرَّحيم، وخلَعَ عليه خِلَعَ السلطنة، واستدعاه في صحن السلم، وكان الخَلْعُ سبعَ جِباب كاملة، والتاج والطوق والسِّوارين واللِّواءين كما فُعِلَ بعضد الدولة، وقُرئ عهدُه بين يدي الخليفة، وخرج [من دار الخليفة] ومراكب الذهب بين يديه، والعساكر والقُضاة والأشراف والخَدَم بين يديه إلى الشطِّ، فنزل في زَبْزَبه، وعاد إلى دار المملكة، وجلس في اليوم الثاني وهنَّأه الناس [وكان يومًا مشهودًا] (¬3). السنة الحادية والأربعون وأربع مئة فيها جرى ببغداد بين السُّنَّة والشيعة فتنةٌ عظيمةٌ حاصِلُها أنَّ أهل الكَرْخ بنَوا عليه سورًا من أنقاض دكاكين الناس، فعمل أهلُ نهر القَلَّائين مثلَ ذلك، واجتمع الدَّيلمُ إلى الكَرْخ والغِلمانُ إلى نهر القَلَّائين، وجرى بين الفريقين شيءٌ لم يجرِ قبلَه، وامتنع على ¬

_ (¬1) المحِفَّة: هودج لا قبَّة له، تركب فيه المرأة. المعجم الوسيط (حفف). (¬2) في (ف) وحدها: قلعة. (¬3) الترجمة مختصرة جدًّا في المنتظم 15/ 317.

أحمد بن حمزة

السلطان إصلاحُ الفريقين، وأُلقيت النيرانُ في المحال، وزاد الأمرُ والنَّهبُ، فقال القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي: أهل الكَرْخ طائفة نشأت على سبِّ الصحابة، وليس للخلافة عليها أمرٌ، ولقد أذكر وأنا أحمل رقاع القادر وهي بخطِّ ابن حاجب النعمان إلى الشريف الرضي فلا يقرؤها، ويقول: إن كانت لكَ حاجةٌ قضيتُها. وبلغ الخليفةَ، فعزَّ عليه، وتقدَّم إلى قاضي القضاة أن لا يسمع شهادةَ التنوخي، ثم رضي عنه، فتعجَّب الناسُ من الإنكار عليه في أمر ظاهر. وفيها هبَّتْ رِيحٌ سوداءُ ببغداد، فأظلمت الدنيا، وقُلِعَتْ رواشنُ دار الخلافة (¬1) ودارُ المملكة ودورُ الناس، وقلعَتْ من الشجر والنخل شيئًا كثيرًا، [فلو دامت ساعةً لمات الناس، ودَرست آثار بغداد]. وفيها نزل طُغْرُلْبَك الريَّ، ولم يتيقَّنْ وفاةَ أبي كاليجار، فأقام يفحص عن ذلك. وفيها لمَّا بَعُدَ طُغْرُلْبَك عن نيسابور دخل مودود بن مسعود الهندَ وغزا، ووصل إلى الأماكن التي وصل إليها جدُّه، وكتب إليها جدُّه، وكتب إلى الخليفة بذلك. ولم يحجَّ أحد من خراسان ولا العراق. وفيها تُوفي أحمد بن حمزة ابن محمد [بن حمزة] بن خزيمة، أبو إسماعيل، الهروي، الصوفي، ويُعرف بعمُّويه، وُلدَ سنة سبع وأربعين وثلاث مئة، وكان شيخ الصوفية بهَراة، سمع الكثير بالعراق والشام، وتوفي بهَراة في رجب، وأنشد بطرابلس المرشديُّ إسماعيل بن أحمد: [من الطويل] يُعيِّرني قومي على المَلْبسِ الدُّونِ ... وما أنا فيما قد لبستُ بمغبونِ إذا كنتُ مولًى للقناعةِ مالكًا ... فإنَّ ملوكَ الأرضِ كُلَّهم دوني ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): الخليفة، والمثبت موافق لما في المنتظم 15/ 321.

إسماعيل بن أحمد بن محمد

[وفيها تُوفِّي] إسماعيل بن أحمد بن محمد (¬1) أبو البركات [بن أبي سعد] الصوفي، المعروف بشيخ الشيوخ، [كان أبوه من أهل نيسابور، واستوطن بغداد، ووُلِدَ له أبو البركات ببغداد]، وسافر إلى الشام. [قال الحافظ ابن عساكر]: ونزل بخانكاه السُّمَيساطي بدمشق، وحدَّثَ بها وعاد إلى بغداد، فمات في جمادى الأولى، ودُفِن بالشُّونيزية، [سمع أبا الفوارس وأبا نصر الرئيس ومالكًا البانياسي وغيرهم، وكتب عنه الخطيب وغيره]، وكان صالحًا ثقة. [وفيها تُوفِّي] محمد بن علي بن عبد الله (¬2) أبو عبد الله، الصُّوري، الحافظ ولد بصور سنة ست وسبعين وثلاث مئة، وقدم بغداد سنة ثماني عشرة وأربع مئة، وسمع الحديث على كِبَر السِّن، وعُني به حتى صار فيه إمامًا. [قال الخطيب: لم يقدم علينا من الغرباء أفهمَ منه بعلم الحديث]، وكان صحيحَ النقل، دقيقَ الخطِّ، يكتب في الوجهة من الكاغَد الخراساني ثمانين سطرًا، ويكتب المجلَّدة في جزء، وكان صائمًا قائمًا لا يفطر إلا في العيدين وأيام التشريق، وكان من أحرص الناس على طلب الحديث وأورعهم في تحصيله، وربما كرَّر الحديث على شيخه مرات، ومضى إلى الكوفة فسمع بها من أكثر من أربع مئة شيخ، وكان يُظهر هناك السُّنَّة ويترحَّم على الصحابة، فثار عليه أهل الكوفة ليقتلوه، فالتجأ إلى أبي طالب بن عمر العلوي فأجاره، وقال له: اقرأ عليَّ فضائل الصحابة. فقرأ عليه، فتاب من سبِّهم، [وقال أبو طالب: قد عشتُ أربعين سنة في سبِّهم] (¬3) تُرى أعيشُ مثلَها حتى أذكرهم بخير. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 8/ 361 - 362. (¬2) تاريخ بغداد 3/ 103، وتاريخ دمشق 54/ 371، والمنتظم 15/ 322 - 324، والأنساب 6/ 108. وينظر السير 17/ 627. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) وحدها، وهو في المصادر.

[وقال جدي في "المنتظم": حدثنا جماعة من أشياخنا عن أبي الحسن الطيوري قال]: أكثر كتب الخطيب سوى "تاريخ بغداد" [هي] مستفادة من كتب الصوري، ابتدأ بها، وكان قد قسم أوقاته في نيِّفٍ وثلاثين فنًّا، وكانت له أخت بصور خلف عندها اثني عشر عدلًا من الكتب، فأعطاها الخطيبُ شيئًا وأخذ بعض الكتب، وكان الصوري حسن المحاضرة، وذهبت إحدى عينيه. ومن شعره: [من المتقارب] تولَّى الشبابُ بريعانِهِ ... وجاء المشيبُ بأحزانِهِ فقلبي لفقدان ذا مؤلمٌ ... كئيبٌ بهذا ووُجدانِهِ وإنْ كان ما جار في سيرِهِ ... ولا جاء في غير إبَّانِهِ ولكِنْ أتى مُؤْذِنًا بالرحيل ... فويليَ من قُرْبِ إيذانِهِ ولولا ذنوبٌ تحمَّلْتُها ... لمَا راعني حال إتْيانِهِ ولكِنَّ ظهري ثقيلٌ بما ... جناهُ شبابي بطُغيانِهِ فمَنْ كان يبكي زمانًا مضى ... ويندب طَيِّبَ أزمانِه وليس بكائي وما قد تَرَوْ ... نَ مني لوَحشةِ فُقدانِهِ ولكِنْ لِما كان قد جَرَّهُ ... عليَّ بوثباتِ شيطانِهِ فولَّى وبقَّى عليّ الهموم ... بما قد تحمَّلْتُ من شانِهِ فوَيلي وعَوْليَ إنْ لمْ يَجُدْ ... عليّ مَليكي برضوانِهِ ولم يتغمَّدْ ذنوبي وما ... جنيتُ بواسعِ غفرانِهِ ويجعَلْ مصيري إلى جنة ... يَحُلُّ بها أهلُ قُربانِهِ وإنْ كنتُ ما ليَ من قُربةٍ ... سوى حُسنِ ظنِّي بإحسانِهِ فإنِّي مُقِرٌّ بتوحيدِهِ ... عليمٌ بعزَّةِ سُلطانِهِ وقال الخطيب (¬1): أنشدنا الصوري: [من الخفيف] قُلْ لمنْ عاندَ الحديثَ ... وأضحى عائبًا أهلَه ومَنْ يَدَّعيهِ ¬

_ (¬1) شرف أصحاب الحديث ص 77 - 78.

أبِعِلْمٍ تقولُ هذا أبِنْ لي ... أم بجهلٍ فالجهلُ خُلْقُ السَّفيهِ أتعيب الذين هم حفظوا ... الدِّين من التُّرَّهاتِ والتَّمويهِ وإلى قولهم وما قَد روَوْهُ ... راجعٌ كل عالمٍ وفقيهِ قال (¬1): وأنشدني لنفسه: [من المجتث] نِعْمَ الأنيسُ كتابُ ... إنْ خانَكَ الأصحابُ تنالُ منه فنونًا ... تحظى بها وتُثابُ لا مُظِهرٌ لكَ سرًّا ... ولا عليه حجابُ ولا يصُدَّكَ عنُه إن ... جئتهُ بَوَّابُ ولا يسوؤُكَ منهُ ... تغضُّبٌ أو عِتابُ ولا يَعيبُكَ (¬2) يومًا ... إنْ كان شيءٌ يُعابُ خلافُ قومٍ تراهم ... ليست لهم ألبابُ لكنَّهمْ كذئابٍ ... طِلْسٍ (¬3) عليها ثيابُ إذا تقرَّبْتَ منهم ... أرضاكَ منهم خطابُ وإن تباعدْتَ عنهم ... فكلُّهم مُغتابُ فالبُعدُ عنهم ثوابٌ ... والقُربُ منهم عِقابُ ذكر وفاته: قال الخطيب: وسبَبُ موته أنه افتصد فتورَّمت يده، وكان الطبيب قد أُعطيَ مِبْضَعًا مسمومًا ليفصِد به غيرَه، فغلط ففصد به، فمات في المارستان العَضُدي في تاسع عشرين جمادى الأولى، وصلَّيتُ عليه، ودُفِنَ بمقبرة جامع المنصور، سمع خلقًا كثيرًا [منهم أبو الحسن بن جُميع، سمع منه بصيدا]، وروى عنه خلقٌ كثير [الخطيب وقاضي ¬

_ (¬1) تقييد العلم ص 132. (¬2) البيت في التقييد: ولا يعيبُكَ إن كا ... نَ فيك شي يُعابُ (¬3) الطِّلْس من الذئاب: هي ما كان في لونها طُلسة، يعني غُبرة مائلة إلى السواد. المعجم الوسيط (طلس).

السنة الثانية والأربعون وأربع مئة

القضاة أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني وغيره]، وأجمعوا على حفظه وفضله وصدقه وثقته ودينه. السنة الثانية والأربعون وأربع مئة فيها من العجائب أنه اصطلح السُّنَّة والشِّيعة، وصارت كلمتُهم واحدة، وسببه أن السلطان وَلَّى شُرط بغداد من الجانبين أبا محمد بن النَّسَوي الذي ذكرنا أنه كان يقتل الناس في داره، وكان فاتكًا، [فلمَّا ولَّاه السلطان] اجتمع أهلُ باب البصرة والكَرْخ وتلك المحالُّ التي كان يجري بينهم القتال على أنه متى عبر إليهم ابن النَّسوي قتلوه وأحرقوا الجانب الغربيِّ وانصرفوا، واجتمعوا وتحالفوا، وأُذنَ في باب البصرة بحيَّ على خير العمل، وقُرئ في الكَرْخ فضائل الصحابة، وترحَّموا عليهم، ومضى أهل السُّنَّة والشيعة إلى مقابر قريش، واجتمعوا عند موسى بن جعفر، وقُرئ بباب البصرة فضائلُ أهل البيت، وخرج أهلُ باب البصرة والكَرْخ وتلك المحال إلى زيارة المشهدين الحائر والكوفة، وهذا من العجائب، فإن الفتنَ كانت قائمةً، والدماء تُسفَك، والأموال تُنهَب، وكان الملوك والخلفاء يعجزون عن رذهم، وإنما حملهم على ذلك بُغْضُ ابن النَّسوي، وعند الحفائظ تذهب الأحقاد، فلمَّا كان يومُ [عيد] الغدير أقبل أهلُ المحالِّ بالأعلام المذهبة والبوقات والطبول، واختلط الفريقان [السُّنَّة والشيعة والدَّيلم والأتراك]، وجاء أهل نهر القلَّائين وبين أيديهم رايةٌ سوداء، عليها مكتوب اسم الخليفة، والدَّبادب بين يديها، فمرُّوا بالكَرْخ، فنثر عليهم أهلُ الكَرْخ الدنانيرَ والدراهم، وكذا فعل أهل باب البصرة، [وخرج معهم من أهل السُّنَّة إلى زيارة المشهدين الحائر والكوفة من لم تجْرِ له عادةٌ بالخروج]. وفيها وصل الغُزُّ إلى نيسابور والأهواز، فقتلوا مَنْ كان بهما من الدَّيلم والترك، فاضطربت بغداد، وراسل الخليفةُ طُغْرُلْبَك، وهرب أهل البصرة وواسط إلى بغداد. ولم يحجَّ في هذه السنة أحد من العراق.

علي بن عمر

وفيها تُوفِّي علي بن عمر (¬1) ابن محمد بن الحسن، أبو الحسن، الزاهد، المعروف بابن القَزويني، وُلِدَ بالحربية ببغداد في المُحرَّم سنة ستين وثلاث مئة الليلة التي مات فيها أبو بكر الآجري الزاهد [البغدادي]، وأبوه من قزوين، قرأ القرآن [على أبي حفص الكتَّاني]، وتفقَّه [على أبي القاسم الداركي الشافعي]، وقرأ النحو [على عثمان بن جِنّي] وسمع الحديث الكثير، و [ذكره الخطيب فقال: كان أبو الحسن] أحدَ الزُّهَّاد المذكورين، ومن عباد الله الصالحين، وكان يُقرئ القرآن، ويسمع الحديث، ومنذ نشأ كان حسنَ الطريقة، ملازمًا للصمت عمَّا لا يعنيه، وافرَ العقل، لا يخرج من بيته إلا إلى الصلاة، وله الكرامات الظاهرة، والكلام [الحسن] على الخواطر، وكان القائم يأتي إلى زيارته ليالي الجُمع، وتجتمع عنده قصص الناس فيوقع على الجميع. [وحكى أبو غالب البرَدَاني قال: ] قام [أبو الحسن] ليلةً يستقي ماءً لوَضوئه، فصعد الدلو وهو ملآنُ دنانير، فأعادها إلى البئر، وقال: ما طلبتُ إلا ماءً، أيش أعمل بالدنانير [وقد وقفت بالحربية على مجلد من كراماته، ورواها شيخنا عبد المحبّ الحربي رحمه الله، وقد حكينا أن القادر كان يبعث إليه في وقت يطلب من إفطاره يتبرَّك به]. ذكر وفاته: قال أبو ياسر عبد الله بن محمد البَرَداني: انتبه أخي أبو غالب يوسف في الليلة التي مات [فيها أو] في صبيحتها ابنُ القزويني وهو يبكي، فسكَّن والدي منه، وكانت قد أخذَتْه رعدةٌ، فقال له: ما لكَ يا بُني؟ فقال: رأيتُ الساعةَ في المنام كأنَّ أبوابَ السماء قد فُتِحَتْ، وابنَ القزويني يصعد فيها، فلمَّا كان صبيحة تلك الليلة سمعنا المنادي ينادي بموته، وكانت وفاته في شعبان، وتولَّى أمره أبو منصور بن يوسف، وغسَّله أبو محمد التميمي [وكانت وفاته بمحلة الحربية]، واجتمع أهل بغداد، وغُلِّقت أسواقها، ولم يتخلف أحد، ولم تَسَعِ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 12/ 43، وتاريخ دمشق 43/ 106 - 110، وصفة الصفوة 2/ 488 - 490، والمنتظم 15/ 327 - 326. وينظر السير 17/ 609.

قرواش بن المقلد

الحربية الناس للصلاة عليه، فصُلِّي عليه بين الحربية والعتابيين ولم يُحَطَّ على الأرض؛ لكثرة الخلق، وإنما كان على أيدي الرجال حيث اتَّجهوا صلُّوا عليه. وقال أبو الوفاء بن عقيل: شهدتُ [جنازته، وكان يومًا لم يُرَ في الإسلام مثلُه بعد] جنازة الإمام أحمد رحمة الله عليه، غُلِّقت له المكاتب والحمامات، وبلغت المعبرة بباب الطاق مع كون الجسر ممدودًا أربعة دنانير، ولم يمكن أن يُصلِّي عليه إمامٌ مُعيَّن، فجُعِلَ كلّ قبيلٍ فيه ألوف من الناس يُصلِّي بهم رجل يصلح للتقدّم. وكانت الضجَّةُ تمنع التبليغَ بالتكبير، فصلَّى عليه أكثر الناس وحدانًا. [وقال ابن عقيل: ورأيت عدة سلاسل فيها مداساتٌ كثيرة يُنادى عليها: ليأخُذْها أصحابُها، فما يأخذها أحد]. وقال عبد العزيز بن عبد الله الصائغ: صلَّيتُ على ابن القزويني، فهالني كثرةُ الخلق الذين حضروا جنازته، فرأيتُه في المنام في تلك الليلة، فقال لي: يا عبد العزيز، استعظمتَ الخلقَ الذين قد صلُّوا عليَّ؟ قد صلى عليَّ في السماء ملائكةٌ أكثرُ من ذلك. ثم ردُّوه إلى الحربية فدفنوه في داره، وقبره ظاهرٌ يُزار، ويُقال: إنَّ الدعاء عنده مستجاب. [قلت: وقد أقمتُ في الحربية مدة سنتين وجاورتُه، وكنت كل وقت أزوره، ورأيتُ بركة زبارته. أسند الحديث عن ابن كيسان النحوي وأبي عمر بن حيُّويه وابن شاذان وأبي الحسين بن سمعون وغيرهم، وروى عنه الخطيب وأقرانه]. وقال ابن عساكر: قدم دمشق، وكانت له كرامات ظاهرة، وكلام على الخواطر [وكان يتفقَّه على مذهب الشافعي، واتفقوا على أنه كان أوحدَ عصره]. [وفيها تُوفِّي] قرواش بن المُقلِّد (¬1) أبو المَنيع، صاحب الموصل والكوفة والأنبار وسقي الفرات، جلس له القادر في سنة ست وتسعين وثلاث مئة ولقَّبه معتمد الدولة، وخلع عليه وزارةَ نهر الملك، وكان قد جمع بين أُختين، فلامه الناس، فقال: خَبِّروني ما الذي نستعمله مما تبيحه ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 327.

مودود بن مسعود

الشريعة؟ وكان الحاكم صاحب مصر قد استماله، فخطب له بالموصل وسقي الفرات، ثم قطع خطبته، ولمَّا دخل الغُزُّ إلى الموصل سَبَوا حريمه، وأخذوا من داره ما يزيد على مئتي ألف دينار، ولمَّا مات ولي مكانه قريش بن بدران بن المُقلِّد. [وفيها تُوفي] مودود بن مسعود (¬1) ابن محمود بن سُبُكْتِكين، مرض بغَزْنة فتوفي، وقام مقامَه عمُّه عبد الرَّشيد بن محمود، اختاره أهل المملكة فأقاموه. السنة الثالثة والأربعون وأربع مئة فيها هبَّتْ بالعراق ريح [سوداء] عظيمة، فقلعت النخل والشجر ورواشِنَ دار الخلافة ودارِ المملكة وغيرها، وغرقت السفن. وفي صفر تجدَّدت الفتنة بين السُّنَّة والشيعة ببغداد؛ [لأن ذلك الاتفاق على الفساد، لما في النفوس من الضغائن والأحقاد، وتبقى حزازات النفوس كما هي]، وكتب أهل الكَرْخ على برج الباب مما يلي باب البصرة: محمدٌ وعليّ خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر، فثارت الفتنة، وغلقت الأسواق (¬2)، وبطلت المعايش، وجاء أهل باب البصرة ومَنْ تبعهم (¬3) إلى باب دار الخلافة، وهجموا دهليزها، وخرقوا الهيبة، ولم يقدر على منعهم الخليفةُ ولا السلطانُ [ولا العساكرُ]، واستُنجد بعيار من أهل درب ريحان، فأُحضِرَ إلى الديوان، واستُنيب [وسُلِّط] على أهل الكَرْخ، فقتل منهم جماعةً، ورمى برؤوسهم إلى الكَرْخ، وقال: يا أهل الكَرْخ، أنا الطقطقي، فعُدُّوا رؤوس هؤلاء. وأتى جماعةٌ إلى مشهد موسى بن جعفر - رضي الله عنهما - فنهبوه وأخذوا ما فيه، وأخرجوا جماعةً من قبورهم فأحرقوهم، مثل: العَوْني الشاعر، والناشئ، والجُذوعي، وطرحوا النار في ¬

_ (¬1) المنتظم 15/ 328. (¬2) في (ف) وحدها: الأبواب، والمثبت موافق لما في المنتظم 15/ 329. (¬3) العبارة في (م) و (م 1): وجاء أهل البصرة ومن هو على مثل رأيهم.

أحمد بن عثمان

[الضريحين] ضريح موسى ومحمد، فاحترق الضريحان والقباب والساج، وحفروا ضريح موسى ليخرجوه ويدفنوه عند الإمام أحمد، فمنعهم النقيب والعلويُّون، وبلغ أهلَ الكَرْخ، فجاؤوا إلى قطيفة الربيع، فأحرقوا الدور ونهبوها، وجلسوا في العزاء لما جرى على المشهد، وعلَّقوا المسوح، وناحوا وبكَوا، وجرى ما تعمُّ به البلوى. وفيها عَمَّرَ طُغْرُلْبَك بالريِّ دارًا وهدم دورًا إلى جانبها، فوجد في بعضها أموالًا عظيمة، وبراني (¬1) صينية فيها جواهر نفيسة، ودخل أصبهان واستولى عليها. وسار الغُزُّ إلى فارس، فنزلوا على شيراز، فخرج إليهم الملك الرَّحيم بن أبي كاليجار في الترك والديلم، فقتل الغُزُّ منهم مقتلةً عظيمةً، وانهزم ابنُ أبي كاليجار في الترك والدَّيلم، فقُتِلَ منهم وفُقِدَ وزيرُه كمال الملك (¬2). وفيها أقام ابنُ المُعِزِّ بن باديس الصَّنهاجي الدعوةَ بالمغرب للقائم، وكان المُعِزُّ الفاطمي لمَّا خرج من المغرب سَلَّمها إلى المعز بن باديس، فأقام بها حتى توفي، وقام ابنُه، فأقام مدةً، ثم خطب بها للقائم، فلم تزل قائمةً حتى ظهر محمد بن تُومَرْت بالمغرب، وتلقَّب بالمهدي، وقام بعده عبد المؤمن بن علي، فقطع الدعوة في أيام المقتفي. ولم يحجَّ في هذه السنة أحد من خراسان [ولا العراق]. [وفيها تُوفي] أحمد بن عثمان ابن عيسى، أبو نصر الجلَّاب (¬3) ولد سنة اثنتين وستين وثلاث مئة، وكان ثقة، ومنزله بدرب الزعفراني، وأخرج له الخطيب حديثًا عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُرِئت عنده سورةُ الرَّحمن، فقال: "ما ليَ أرى الجِنَّ أحسنَ جوابًا لردِّها منكم؟ " قالوا: ¬

_ (¬1) البَراني: جَمعُ بَرْنيَّة، وهي شِبهُ فخار؛ ضخمةِ خضراء، وربما كانت من القوارير الثخان الواسعة الأفواه. اللسان (برن). (¬2) تنظر هذه الأخبار في المنتظم 15/ 329 - 331. (¬3) تصحفت في (خ) إلى: الحلاف، والصواب كما في تاريخ بغداد 4/ 301، وتاريخ الإسلام 9/ 644، والنجوم الزاهرة 5/ 51 قلت: والحديث الآتي أخرجه الترمذي (3291) لكن من حديث جابر - رضي الله عنه -.

إسماعيل بن علي

وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "ما أتيتُ على قول الله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا وقالت الجِنُّ: ولا بشيءٍ من نِعَمِك يا ربَّنا نكذِّب". [وفيها تُوفِّي] إسماعيل بن علي (¬1) ابن الحسين بن زنجويه، أبو سعد، الرازي، الحافظ، الحنفي، طاف الدنيا، ولقي الشيوخ، وأثنى عليه العلماء، وكان ورعًا زاهدًا فاضلًا، أقام زمانَه بغير مدافعة، وما رأى مثلَ نفسه في كلِّ فن، ولم يكن لأحد عليه مِنَّة، ولم يضَعْ يده في قصعة أحد طول عمره، ووقَفَ كُتبَه التي لم يوجد مثلُها على المسلمين، وكان يقال له: شيخ العدلية (¬2)، ومات بالريِّ، ودُفِنَ بجبل طَبْرَك إلى جانب محمد بن الحسن (¬3)، وقرأ على ألف وثلاث مئة شيخ، وقرأ عليه ثلاثة آلاف، وصنَّف كتبًا كثيرة، ولم يتزوج، وتُوفِّي في شعبان وله أربع وتسعون سنة، لم تفُتْه فريضةٌ، وقال ابن عساكر: سمع نحوًا من أربعة آلاف شيخ. [وفيها تُوفِّي] محمد بن محمد بن أحمد (¬4) أبو الحسن، البُصروي، [الشاعر]، وبُصرى: قرية بِدُجيل دون عُكْبَرا، وكان شاعرًا، فصيحًا، فاضلًا، ظريفًا، مطبوعًا، وله نوادر، منها أنه قال له رجل: لقد شربتُ الليلةَ كثيرًا، فاحتجْتُ القيامَ للبول كلَّ ساعة، كأنِّي جَدْيٌ. فقال له: لِمَ تُصغَرْ نفسَك يا سيدنا؟ وكانت وفاته ببغداد في ربيع الأول، ومن شعره: [من الوافر] ترى الدنيا وزهرتَها فتصبو ... وما يخلو من الشَّهواتِ (¬5) قَلْبُ فضولُ العيشِ أكثرُها همومٌ ... وأكثرُ ما يضرُّكَ ما تُحِبُّ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 9/ 21 - 24. وينظر السير 18/ 57. (¬2) يعني مذهب المعتزلة. (¬3) تحرف في (خ) إلى: الحسين، ومحمد بن الحسن: هو الشيباني صاحب أبي حنيفة. (¬4) تاريخ بغداد 3/ 236، والمنتظم 15/ 332 - 333، والكامل 9/ 580 - 581. (¬5) في (خ) و (ف): الشبهاتِ، والمثبت من المصادر: الشهوات.

المفضل بن محمد بن مشعر

فلا يغرُرْكَ زخرفُ ما تراهُ ... وعيشٌ لَيِّنُ الأطرافِ (¬1) رَطْبُ إذا ما بُلْغَة جاءتْكَ عفوًا ... فخُذْها فالغنى مرعى وشُربُ (¬2) إذا حصلَ القليلُ وفيه سِلْمٌ ... فلا تُرِدِ الكثيرَ وفيه حربُ [وذكر جدي هذه الأبيات الخمسة، ووقفت على ثلاثة أبيات، ولم يذكر هذه الثلاثة منها]: ولكن في خلائقها نِفاز ... ومطلبُها بغيرِ الحظِّ صعبُ كثيرًا ما نلومُ الدهرَ فيما ... يمرُّ بنا وما للدهر ذنبُ ويُعتِبُ بعضُنا بعضًا ولولا ... تعذرُ حاجةِ ما كان عَتْبُ [وفيها تُوفِّي] المُفضَّل بن محمد بن مِشعر (¬3) أبو المحاسن، التنوخي، المعرِّي، الفقيه، الحنفي، ناب في القضاء بدمشق عن ابن أبي الجِن، وولي القضاء ببعلبك، قرأ الفقه على القُدوري، والأدب ببغداد على علي بن عيسى الرَّبَعي، وعاد إلى الشام، وصنف "تاريخ النُحاة وأهل اللغة"، وتُوفِّي بدمشق، وكان فاضلًا جليلًا نبيلًا نزِهًا عفيفًا صدوقًا. السنة الرابعة والأربعون وأربع مئة فيها برز محضرٌ من ديوان الخليفة بالقَدْح في أنساب المصريين، وأنهم دِيصانية (¬4) خارجون عن الإسلام، من جنس المحضر الذي برز في أيام القادر، وأخذ فيه خطوط القضاة والشهود والأشراف وغيرهم. ¬

_ (¬1) في المصادر: الأعطاف. (¬2) في (م) و (م 1): وخصب. (¬3) تاريخ دمشق 60/ 91 - 92، ومعجم الأدباء 19/ 164. وتحرف في النجوم الزاهرة 5/ 52 اسم جده إلى: مسعود. (¬4) الدِّيصانية: أصحاب ديصان، أثبتوا أصلين: نورًا وظلامًا، فالنور يفعل الخير قصدًا واختيارًا، والظلام يفعل الشر طبعًا واضطرارًا. الملل والنحل للشهرستاني ص 190.

الحسن بن علي

وفيها كانت بأَرَّجان والأهواز زلازلُ عظيمةٌ ارتجَّت منها الأرض، وقُلِعت الجبال، وخربت القلاع، فحُكي أن رجلًا كان جالسًا بأَرَّجان في إيوان داره، فانفرج حتى رأى منه السماء، ثم عاد إلى حاله، وامتدَّت هذه الزلازل إلى قنطرة أرْبَق (¬1) فأخربَتْها، وغاض ماءُ البحر من الأُبُلَّة ثلاثة أيام، ثم عاد. وفيها استولى طُغْرُلْبَك على هَمَذان ونواحيها، وطمع في قصد العراق، وكُوتِبَ منها بالقدوم إليها سرًّا، فتوقَّف بسبب خوفه على البلاد من الغُزّ. ولم يحجَّ أحد من العراق. وفيها تُوفِّي الحسن بن علي (¬2) ابن محمد بن علي، أبو علي، التميمي الواعظ، ولد سنة خمس وخمسين وثلاث مئة، وسمع الحديث الكثير، وروى "مسند الإمام أحمد" رحمة الله عليه عن القَطيعي، وتُوفِّي ليلة الجمعة سلخ ربيع الآخر، ودُفِنَ بباب حرب، وروى عنه أبو القاسم بن الحصين "مسند الإمام أحمد" وغيره، وكان خَيِّرًا دَيّنًا لا يُعرف منه إلا ذلك، وقد غمزه الخطيب. [وفيها تُوفِّي] رشا بن نظيف بن ما شاء الله (¬3) أبو الحسن، أصله من المعرَّة، وسكن دمشق، [قرأ القرآن على جماعة من أهل الشام والعراق ومصر بروايات كثيرة، وقرأ بدمشق على الحسن بن داود الداراني ¬

_ (¬1) أرْبَق، ويقال: أرْبَك -بالكاف-: ناحية من نواحي رامهُرْمُز من نواحي خوزستان. معجم البلدان 1/ 136. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 390، والمنتظم 5/ 336 - 337. (¬3) تاريخ دمشق 18/ 148 - 149.

سهل بن محمد بن الحسن

بحرف ابن عامر، وقرأ عليه جماعة]، وانتهت إليه رئاسة القراءة في حرف ابن عامر، وكان زاهدًا عابدًا ورعًا، وتُوفِّي بدمشق في المُحرَّم، ودُفِنَ بالباب الصغير، [سمع عبد الوهَّاب الكلابي وعبد الوهَّاب الميداني والشريف أبا القاسم الميمون بن حمزة الحسني وخلقًا كثيرًا، وروى عنه أبو علي الأهوازي وغيره]، وأجمعوا على فضله وصدقه، وثقته وأمانته، [وجميل طريقته]. [وفيها تُوفي] سهل بن محمد بن الحسن أبو الحسن، الفاسي، الصوفي، سمع الكثير وحدَّث بالعراق ودمشق وصور، وكانت وفاته بمصر، ومن شعره: [من الطويل] إذا كنتَ في دارٍ يُهينُكَ أهلُها ... ولم تَكُ محبوسًا بها فتَحوَّلِ وأيقِنْ بأنَّ الرزقَ يأتيك أينما ... تكونُ ولو في قعرِ بيتٍ مُقفَّلِ ولا تَكُ في شَكٍّ من الرزقِ إنَّ ... مَنْ تكفَّلَ بالأرزاقِ فَهْو بها مَلِي وقال: [من المتقارب] كفاني لذنبيَ عند الإله ... محمدٌ المصطفى شافعي وقَولي بمذهبِ أهلِ الحجاز ... ورأيِ ابنِ إدريس الشَّافعي وقال: [من الوافر] شفيعي في القيامةِ عند ربي ... محمدٌ النبيُّ الهاشميُّ وقُدوتيَ الذي اختارَ ربي ... محمدٌ الإمامُ الشافعيُّ قال المصنف: ومرَّ بي بيتان في هذا المعنى: [من الخفيف] [مَنْ أراد الهدى بقولِ ابنِ إدريـ ... ـس هداهُ وأين كالشافعي] (¬1) وشفاءُ العِيِّ السؤالُ وأنَّى ... بإمامٍ سواهُ كشَّافِ عِيّ ¬

_ (¬1) هذا البيت من الوافي بالوفيات 2/ 180.

محمد بن أحمد بن محمد

[وفيها تُوفي] محمد بن أحمد بن محمد (¬1) أبو جعفر، السِّمناني، ولد سنة إحدى وستين وثلاث مئة، وسكن بغداد، وسمع الحديث، وداخل بني بويه، وعاشر الوزراء، وصنَّف الكتب، وكان فاضلًا سخيًّا، وولي قضاء الموصل، ومات بها وهو على قضائها في ربيع الأول بعدما أضرَّ، وكان يعتقد الأصول على مذهب الأشعري. السنة الخامسة والأربعون وأربع مئة فيها وصل الغُزُّ (¬2) إلى حُلوان، فقتلوا وسَبَوا، واضطربت بغداد؛ [لأنه لم يكن بها من يدفعهم، ونقل معظمُ الناس رحالهم إلى الجانب الغربي]، وأظهروا أنهم قاصدون بغداد، ثم انكفؤوا راجعين [حيث جاؤوا]، ويقال: إن طُغْرُلْبَك هو الذي نهاهم عن قصد بغداد. وفيها وقف طُغْرُلْبَك رحمه الله بنيسابور على مقالة الأشعري، [وكان طُغْرُلْبَك على مذهب أبي حنيفة، فأمر بلعن الأشعري] (¬3) على المنابر وقال: هذا يُشعر بأن ليس لله في الأرض كلام، فعزَّ ذلك على أبي القاسم القُشيري، وعمل رسالة سمَّاها "شكاية أهل السُّنَّة لما نالهم من المحنة"، وقال فيها: أيُلعن إمامُ الدين ومُحيي السُّنَّة؟ وأنكر أصحابُ الأشعري بنيسابور مقالة الأشعري، وقالوا: هذه المقالة مُحال (¬4)، فقال طُغْرُلْبَك رحمه الله: نحن إنما نوغر بلعن الأشعري الذي قال هذه المقالات، فإن لم تَدينوا بها ولم يكن الأشعري قال شيئًا منها فلا عليكم مما نقول. قال القشيري: فأخَذَنا ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 355، والمنتظم 15/ 338. (¬2) تحرفت في (خ) إلى: العراق، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في المصادر. (¬3) هذه الزيادة من (ف) وحدها. (¬4) في (ف): مخالفة.

إبراهيم بن عمر بن أحمد

في الاستعطاف، فلم (¬1) يسمع لنا حُجَّةً، ولم يقْضِ لنا حاجةً، فأغضينا على قذى الاحتمال، واحِلْنا على بعض العلماء، فحضرنا عنده وظنَنَّا أنه يُصلح الحال، فقال: الأشعريُّ عندي مبتدعٌ يزيد على المعتزلة؛ لأنهم أثبتوا أنَّ القرآن في المصحف، وهو نفاه. قال القشيري: فقلتُ: يا معاشر المسلمين، الغياثَ الغِياث. قال الشيخ أبو الفرج الجوزي (¬2): لو أنَّ القشيريَّ لم يعمل في هذا رسالةً كان أسترَ للحال؛ لأنه إنما ذكر فيها أنه وقع اللعنُ على الأشعري، وأن السلطان سُئِلَ أن يرفع ذلك فلم يُجِب، ثم لم يذكر له حجةً، ولا دفع للخصم شُبهةً، وذِكْرُ مثلِ هذا نوعُ تغفُّل. وفيها (¬3) جهَّز ملكُ الروم الجيوشَ إلى الشام، وأمرهم أن يطلبوا الغُزَّ أينما كانوا، فخرجوا على (¬4) ناحية أرمينية، فقيل لهم: إن الغُز قصدوا عسكر مكرم فرجعوا، وخاف أهل الشام من الروم، ونزل الثلج فحال بينهم. ولم يحجَّ من العراق أحد. وفيها تُوفِّي إبراهيم بن عمر بن أحمد (¬5) أبو إسحاق، الفقيه، الحنبلي، ويُسمى البرمكي؛ لأن أهلَه كانوا يسكنون البرمكية، ولد في رمضان سنة إحدى وستين وثلاث مئة، وكان عارفًا بمذهب الإمام أحمد رحمه الله، وله حلقةٌ للفتوى بجامع المنصور، وتوفي يوم الأحد سابع ذي الحجَّة، ودُفِنَ بباب حرب، سمع خلقًا كثيرًا، وروى عنه الخطيب وغيره، وكان صالحًا، زاهدًا، ورعًا، دَيِّنًا، صدوقًا، ثقةً. ¬

_ (¬1) في (ف): فإن لم، وهو غير مستقيم. (¬2) المنتظم 15/ 341، والخبر فيه، وكذلك الخبر الذي قبله. (¬3) قبلها في (م) و (م 1) زيادة: وقال جدي في المنتظم. قلت: لم أقف على هذه الزيادة في المنتظم؛ لذا لم أثبتها. (¬4) في (خ): من، والمثبت من باقي النسخ. (¬5) تاريخ بغداد 4/ 296، والمنتظم 15/ 341 - 342، وطبقات الحنابلة 2/ 190، والأنساب 2/ 168.

أحمد بن عمر بن روح

[وفيها تُوفي] أحمد بن عمر بن روح (¬1) أبو الحسين، النَّهْرواني، كان فاضلًا شاعرًا، توفي في ربيع الآخر ببغداد، قال: كنت على شاطئ دِجلة، فمرَّ بي إنسان في سفينة وهو يقول: [من مجزوء الوافر] وما طلبوا سوى قتلي ... فهانَ عليَّ ما طلبوا فقلتُ له: قِفْ ثم قلت بديهًا: أضِفْ إليه: على قتلي الأحبة بالتَّـ ... ــمادي في الجفا غلَبُوا وبالهجران طِيبَ النَّو ... مِ من عينيَّ قد سلبوا وذكر البيت الأول. مُطهَّر (¬2) بن محمد بن إبراهيم أبو عبد الله، الصوفي، الشيرازي، أحد الشيوخ الصالحين، جاور بمدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة، وقدم بغداد، وكانت وفاته بدمشق في رجب. السنة السادسة والأوبعون وأربع مئة فيها استوحش القائمُ من البساسيري، واستوحش البساسيريُّ منه، وكان البساسيريُّ قد عظُمَ أمرُه، واستفحل لعدم النظر، واستولى على البلاد، وطار اسمُه، وهابه أمراء العرب والعجم، ودُعي له على كثير من منابر العراق والأهواز، وجبى الأموال، ولم يكن القائمُ يقطع أمرًا دونه، ثم صحَّ عند الخليفة سوءُ عقيدته، وشهد عنده جماعة من الأتراك أنه قال لهم بواسط: لا بُدَّ لي من نهب دار الخلافة والقبض على الخليفة. فكاتب الخليفة طُغْرُلْبَك وهو بنواحي خراسان يستنهضه إلى المسير إلى العراق، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 296، والمنتظم 15/ 341، والكامل 9/ 604 في وفيات سنة 546 هـ. (¬2) تحرف اسم في (خ) و (ف) إلى: مظفر، وفي الأنساب 11/ 15 إلى: مسهر، والتصويب من مصادر الترجمة: تاريخ بغداد 13/ 220، وتاريخ دمشق 58/ 364 - 366.

فانتقض أكثرُ مَنْ كان مع البساسيري وعادوا إلى بغداد، وسنذكر تمام القصة في السنة الآتية إن شاء الله تعالى. ولمَّا دخلت هذه السنة اجتمع الأتراك في دار المملكة، وتفاوضوا فيما بينهم الشكوى من وزير السلطان وما يُسعِّره عليهم من الأمتعة، وأنه قد اعتصم بحريم الخليفة، ثم خرجوا إلى ظاهر البلد، وضربوا خيامهم بباب الشَّمَّاسية، وراسلوا الخليفةَ: إمَّا أن تقوم بأمورنا، أو تُسلِّم إلينا الوزير، وشغبوا، وركبوا بالسلاح، وقصدوا دار الخليفة، فغُلِّقت أبوابها، ولم تُصَل فيها في ذلك اليوم جُمعُة، وخاف أهل بغداد، فنقلوا أموالهم إلى دار الخليفة، ونُودي في البلد: من وجد الوزيرَ ولم يُطلِعْ به حَل دمُه ومالُه، ومن دلَّ عليه كان له كذا وكذا. فلم يقنع الأتراكُ بهذا حتى خرجوا إلى دار الروم وعندها دارُ أبي الحسن بن عبيد وزيرِ البساسيري وكاتِبه وقد استولى عليه، فنهبوها ونهبوا البيعة التي في دار الروم ودور كثيرة، وخاف أهلُ الجانب الغربي على دار الخليفة، فعَبروا بأجمعهم، أهلُ باب البصرة والكَرْخ والسُّنَّة والشيعة، وجاؤوا فباتوا بباب الغربة، وأرسل الخليفة إلى الأتراك يقول: قد عرفتُم طلبَنا للوزير، وقَبْضَنا على أصحابه، وهذا غاية ما يُمكنَّا، ولم يبقَ إلا الفتنة التي تهلك فيها النفوس، فإن كانت مطلوبَكم فأمهلونا أيامًا نتأهَّب فيها للسفر، ونفارق [فيها] (¬1) هذا البلد إلى مكان يُعرف فيه حقُّنا، وقرَّر لهم مالًا، فأجابوه بالسمع والطاعة، وسكنوا، وكان البساسيري غائبًا قد خرج لقتال بني خَفاجة، فقدم بغداد وبلغه ما فُعِلَ بكاتبه، فسار إلى داره بالجانب الغربي، ولم يلمَّ بدار الخليفة على رسمه، وتأخَّر عن الخدمة، وخرج إلى أوانا وعاث في الأرض، فراسله الخليفة، وطيَّب قلبه، فلم يلتفت، وسار إلى الأنبار ومعه دُبيس، ففتحها وقتل بها جماعة عصوا عليه، وقطع أيدي آخرين، وأحرق ضياعًا من نهر عيسى الفلوجة ودِمِمَّا وغيرهما، فراسله الخليفة ولاطفه، فاستقرَّ أنه يحضر إلى بيت النُّوبة ويخلع عليه، وجاء إلى الجانب الغربي، فوقف بإزاء بيت النُّوبة، وخدم ولم يعبر، ومضى إلى داره، وبعث إلى الخليفة يقول: ما أشكو إلا من النائب بالديوان. يعني رئيس الرؤساء. ولم يحجَّ أحد من العراق. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف).

الحسن بن علي بن إبراهيم

وفيها تُوفِّي الحسن بن علي بن إبراهيم (¬1) أبو علي، الأهوازي، ولد سنة ثلاث وستين وثلاث مئة، قرأ القرآن بالروايات الكثيرة، وصنَّف كتبًا كثيرة في القراءات، وانتهت إليه الرئاسة بالشام في القراءة، وسمع الحديث الكثير، قدم دمشق سنة أربع وتسعين فأقام بها، حتى توفي في ذي الحجَّة، وكانت له جنازة عظيمة. وقال ابن عساكر: صنَّف كتابًا سمَّاه "البيان في شرح عقود أهل الإيمان" أودعه أحاديث منكرة، منها: أنَّ الله تعالى لمَّا أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق وما أشبه. هذا من الأحاديث المنكرة، وهذا حديث موضوعٌ، ركيكُ الألفاظ، تنفِرُ منه الطِّباع، وما قصد واضعُه إلا شَينَ الشريعة. قال ابن عساكر: كان أبو علي من السالمية: وهم قوم يتمسَّكون بالظواهر، ويقولون: هي أسلم. وكان يُزيِّف مذهب الأشعري ويُضعِّفه، ومن أجله صنف ابنُ عساكر كتابه المسمى بـ "تبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري" (¬2). الحسين بن جعفر بن محمد (¬3) أبو عبد الله، السَّلَماسيُّ، كان مشهورًا بأفعال البر والصدقات، ينفق ماله على الفقراء والصالحين وأرباب البيوت، وما كانت النفقة على أبي الحسن بن القزويني الزاهد تُعلَمُ من أين هي حتى توفي السَّلَماسي، فوجدوا في رُزمانجه في كل شهو عشرة دنانير نفقة أبي الحسن بن القزويني، وكان له بساتينُ، فجاء قومٌ فضمنوا منه بستانًا بخمس مئة دينار، فسكت، ودخل قوم آخرون. فأضعفوا الضمان، فقال: خاطري قد سكن للأول، فلا أُغيِّر نيتي. ودخل السلطانُ بغداد، فاستقرض من التجار، وأخذ من ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 13/ 145، ومعجم الأدباء 9/ 34 - 39. (¬2) ينظر تبيين كذب المفتري ص 415 - 417. (¬3) تاريخ بغداد 8/ 29، والمنتظم 15/ 345 - 346، والأنساب 7/ 107.

طرفة بن أحمد

السَّلماسي عشرة آلاف دينار، واشترى السَّلماسي زيتًا بعشرة آلاف دينار، فباعه بعشرين ألف دينار، فلمَّا بعث إليه السلطان بمال القرض ردَّه وقال: قولوا للسلطان: أنت في حِلٍّ منها. فقال السلطان: وما سبب هذا؟ ومن ذا الذي يهون عليه مثلُ هذا؟ فسألوه، فقال: إنني رجل يأكل من مالي قومٌ لو علموا أنني أخذت من مال السلطان لامتنعوا من أكل مالي، وقد أخلَفَها اللهُ من ثمن الزيت. وكانت وفاته في جمادى الأولى، وكان ثقة أمينًا ورعًا. [وفيها تُوفِّي طرفة بن أحمد (¬1) ابن محمد بن طرفة، أبو صالح، الماسح، قال الحافظ ابن عساكر: كان من أهل قرية حرستا من أعمال غوطة دمشق، سمع عبد الوهَّاب الكلابي وغيره، وروى عنه نجاء بن أحمد العطار وغيره، وكان ثقةً صدوقًا]. [وفيها تُوفِّي] عبد الله بن محمد (¬2) ابن عبد الرحمن، [أبو عبد الله، الأصبهاني، [ويُعرف بابن اللبَّان]، سمع الحديث الكثير، ودرس فقه الشافعي [على أبي حامد الإِسفراييني، وولي قضاء إيْذَج]، وكان زاهدًا، ورعًا، صائمًا، قائمًا، يصلي بالناس التراويح في رمضان بمسجده بدرب الآجر [في نهر طابق]، ثم يقوم إلى الفجر، ولا يضع جنبه إلى الأرض في رمضان ليلًا ولا نهارًا، وتُوفِّي في جمادى الآخرة [سمع بأصبهان أبا بكر بن المقرئ، وببغداد المخلِّص، وبمكة أبا الحسن بن فراس، وغيرهم]، وكان ثقةً. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 24/ 463 - 464. (¬2) تاريخ بغداد 10/ 144، وتبيين كذب المفتري ص 261 - 262، والمنتظم 15/ 346، والكامل 6/ 604.

السنة السابعة والأربعون وأربع مئة

السنة السابعة والأربعون وأربع مئة فيها عظُمت نوبة البساسيري، ما زال به القائم حتى أحضره الديوان واستحلفه على الطاعة وإخلاص النية، ثم إن الأتراك شغَبوا بسببه، وقالوا: إنه كان يأكل أرزاقنا ولا يوصلها إلينا، وحضروا في الديوان، وضجُّوا منه، ثم استأذنوا الوزير في نهب داره ودور أصحابه، فأطلق لهم ذلك، وقال: هذا قد بان فسادُه. وكاتب صاحبَ مصر، وخلع ما في عنقه من طاعة الخليفة، وأطلق لسانه فيه بالقبيح، وروجع الخليفةُ فيه، فقال: ليس إلا هلاكُه بعد أن سعى في هلاك الدولة، وكاتب أعداءها، فقصد الأتراكُ دارَه بالجانب الغربي بقرب الحريم الطاهري في درب صالح، فنهبوها وأحرقوها وأهدموا أبنيتَها، وقدم السلطان طُغْرُلْبَك رحمه الله بغداد فهرب البساسيري إلى الرَّحبة، ولحق به خلقٌ كثير من الأتراك البغداديين، وكاتب صاحب مصر يذكر كونَه في طاعته، وأنَّه على عزم إقامة الدعوة له ببغداد، فأمدَّه بالأموال والرجال، وولاه الرحبة والرقة. قال المصنف رحمه الله: وحدثني بعض أشياخنا أن أصحاب الخليفة لمَّا نهبوا دار البساسيري وهدموها وأحرقوها وكان بواسط، فخرج أهلُه منها ومعهنَّ زوجته كاشفات الوجوه، ناشرات الشعور، يُنادين بالويل والثبور، وأخذوا كاتبَه ابنَ عبيد النصراني فألقوه في مطمورة، وسُبيتْ نساؤه، فلمَّا بلغه ذلك قال: [من الطويل] هُمُ هدَّموا داري وجرُّوا حليلتي ... إلى سجنهِمْ والمسلمونَ شهودُ وهُمْ مَنعوها أنْ تلوثَ خمارَها ... فللهِ درُّ الدَّهرِ كيفَ يعودُ فكان كما قال، وسار على الفرات، فنهب الأنبار وهِيت، وصار إلى الرَّحبة، وبعث إلى صاحب مصر يطلب منه شفاعةً إلى القائم، فكتب: نَشْفَع فيه، فكتب القائم على رأس الكتاب بخطِّه: من أنتم؟ من أنتم؟ خبِّرونا من أنتم؟ فحنق صاحبُ مصر، وقوَّى البساسيري بالمال والرجال، حتى أخرج القائم من بغداد، وجرى ما جرى، وكل ذلك مضاف إلى سوء تدبير رئيس الرؤساء.

ذكر دخول طُغرُلْبَك بغداد: لمَّا قرُبَ من بغداد انزعج الناس وخافوا، فكتب إلى القائم يقول: إنما قصدُ العبد الخدمةُ الشريفة؛ ليتبرَّك بها، ويسير إلى الحجِّ وعمارة الطريق، ثم يتوجَّه إلى قتال أهل الشام ومصر. فطابت قلوبُ الناس، ولمَّا وصل النَّهروان خرج إليه وزير القائم أبو القاسم وأرباب الدولة لتلقِّيه، ولم يتخلَّف إلا القائم، فلقيه حاجب السلطان ومعه شهري (¬1)، وقال: هذا الفرس من مراكب السلطان الخاصة، وقد رسم أن تَرْكبَه. فنزل عن بغلته وركبه، واستقبله عميد الملك أبو نصر الكُنْدُري وزير السلطان ورام أن يترجَّل، فمنعه أبو القاسم، وتعانقا على ظهور دوابهما، ووصل إلى السلطان فأكرمه، وسلَّم عليه عن القائم، فأومأ إلى تقبيل الأرض، وقال: ما وردتُ إلا امتثالًا للمراسيم العالية، ومتميزًا عن ملوك خراسان بالقرب من السُّدَّة الشريفة، ومنتقمًا من أعدائها، فقال له الوزير: إن الله تعالى قد أعطاك الدنيا بأسرها فاشترِ نفسَك ببعضها {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ} الآية [القصص: 77] وسأله في الملك الرَّحيم أن يُجريه مجرى أولاده ولا يُغيِّر عليه شيئًا، فإنَّ لأسلافه حقوقًا قديمة، فأعطاه يدَه على أن لا يؤذيه، وكان دخولُه إلى بغداد في رمضان، وخطب له وبعده للملك الرحيم، ثم قطعت خطبة ابن بُوَيه سلخ رمضان، وحُمِلَ إلى قلعة فاعتُقل فيها اعتقالًا جميلًا، فطُغْرُلْبَك رحمه الله أولُ من ملَكَ العراق من السلجوقية، والملكُ الرَّحيمُ آخرُ مَنْ مَلَكها من بني بُوَيه، وانتهت دولة الدَّيلم، فكانت أيامهم مئةً وتسعًا وعشرين سنة، وعددُ ملوكِهم أربعةَ عشر ملِكًا، فأوَّلهم الثلاثة الأخوة الذين استولَوا على فارس وما والاها، وهم: عمادُ الدولة أبو الحسن علي بن بُوَيه، وكان أكبرَهم، ولم يدخل بغداد، والمستكفي لقَّبه وبعث إليه بالخِلَع. وركنُ الدولة أبو علي الحسن، وكان له أربعة أولاد: عَضُد الدولة، ومؤيَّد الدولة، وفخر الدولة، وأبو العباس، وتوفِّي ركن الدولة سنة ست وستين وثلاث مئة، فكانت إمارتُه أربعًا وأربعين سنة وشهورًا. ومُعِزُّ الدولة أحمد بن بُوَيه، وهو أول من دخل بغداد من ملوكهم سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة، وتوفِّي سنة ست وخمسين وثلاث مئة، وقام ¬

_ (¬1) البرذون الشهري: يتولد بين الرّمكة والفرس العتيق. أساس البلاغة 1/ 250.

بعده ولدَه عزُّ الدولة بختيار، ثم ملك عَضُد الدولة سنة ست وستين، ومات سنة اثنتين وسبعين وثلاث مئة، فكانت إمارتُه على بغداد خمسَ سنين وشهورًا، ثم وَليَ ابنُه صمصام الدولة، اعتقله أخوه شرف الدولة وسَمَلَه، وقتله أبو نصر بن بختيار سنة ثمان وثمانين وثلاث مئة، وملَكَ شرفُ الدولة بن عَضُد الدولة بغداد سنة سبع وتسعين، فأقام سنتين وثمانية أشهر، ثم مات سنة تسع وسبعين، ومؤيَّد الدولة أخو عَضُد الدولة لم يدخل بغداد، ومات بجُرجان بعد عَضُد الدولة بسنة، فكانت إمارتُه أربعَ سنين، ووَلِيَ أخوه فخر الدولة فأقام واليًا ثلاث عشرة سنة، ولم يدخل بغداد، ومات سنة سبع وثمانين، ولمَّا مات شرفُ الدولة ببغداد سنة تسع وسبعين عهد إلى ولده أبي نصر بهاء الدولة فأقام حاكمًا على بغداد أربعًا وعشرين سنة، وتوفِّي سنة ثلاث وأربع مئة، وولِيَ ابنُه سلطان الدولة فيها واستناب جلال الدولة سنة خمس وثلاثين وأربع مئة، وكان لجلال الدولة الملك العزيز، ثم وَلِيَ أبو كاليجار المَرْزُبان بن سلطان الدولة، ومات سنة أربعين وأربع مئة، وقام بعده ولده الملك الرَّحيم، وبه زال ملكُهم، وفي ثاني شوال نزل السلطان دار المملكة، وتفرَّق أصحابُه في دور الأتراك والناس، واستدعاه القائم، فقبَّل الأرضَ بين يديه، ونصب له كرسيًّا، فلم يقعد عليه، فأقسم عليه، فجلس وخلع عليه الخِلَع السلطانية المعهودة وزاده، وخطب له على المنابر، ولقَّبه ركن الدولة شاهنشاه، وقُرِئ عهدُه بين يدي الخليفة، ثم عاد إلى دار المملكة وجلس للتهنئة، ثم نظر في إقطاع الخليفة فاستقلَّه، فزاده في كل سنة خمسين ألف دينار وخمس مئة كُرٍّ غَلَّةً، وزاد الوزير خمسة آلاف دينار وخمسين كُرًّا، وزاد الحُجَّاب والخدم وغيرهم، وقال: واللهِ لولا أنَّ هذه البلاد تحتاج إلى العساكر وكثرة الأعداء لمَّا تعرَّضْتُ لملك العراق، وكان كتب بعضُ شعراء العراق إلى طُغْرُلْبَك رحمه الله إلى خراسان: [من الخفيف] العراقَ العراقَ يا طُغْرُلْبَكي ... سِرْ إليها ولو تلكَّمت فَكِّي قد سَئِمنا ملكَ الدَّيالمِ فينا ... فعسى بملك الممالكِ تُرْكي فقوي عزمُه على ذلك، فصعد العراق، وقبض على أبي الحسن بن سعيد بن نصر النصراني -كاتب البساسيري- وأموالِه وأسبابِه، وحُمِلَ إلى دار الخليفة، وكان في عسكره ثمانية أفْيِلة، وعسكرُه ستين ألفًا.

الحسين بن علي

وفي عاشر ذي القعدة قُلِّد الخليفةُ محمد بن علي الدامغاني قضاءَ القضاة، وخَلَع عليه السلطان أيضًا. وفيها استولى أبو كامل علي بن محمد الصُّلَيحي (¬1) على اليمن، وانتمى إلى صاحب مصر وخطب له، وأزال خطبة القائم في بلاد اليمن. وفيها تُوفي الحسين بن علي (¬2) ابن جعفر بن عَلَّكان بن محمَّد بن دُلَف، أبو عبد الله، العجلي، القاضي، ويُعرف بابن ماكولا، من أهل جُرْباذقان، ولد سنة ثمان وستين وثلاث مئة، وولي قضاء البصرة، ثم استدعاه القادر سنة عشرين وأربع مئة فولَّاه القضاء على بغداد، وولي القائمُ فأقرَّه إلى حين وفاته، وكان شافعيًّا، مَهيبًا، نَزِهًا، عفيفًا، لم يُرَ قاضٍ أعفَّ ولا أنزهَ منه ولا أشرفَ نفسًا. قال ابن عبيد المالكي وكيل القائم: أمرني الخليفة أن أحمل نَبْقًا عيَّن عليه في مراكن إلى النقيبين وقاضي القضاة ابن ماكولا، وإلى جماعة، ففعلتُ، فكلُّهم قبِل غير ابن ماكولا واجتهدت به فلم يفعَلْ، فعُدْتُ بالنَّبْق وكتبتُ إلى الخليفة بشرح الحال، فلمَّا قرأ الورقة جعل يقول: ما أغثَّه! أتُرى تقع لي إليه حكومة فيحابيني فيها؟ ! . ومن شعر ابن ماكولا يقول: [من الوافر] تصابى بُرهةً من بعدِ شيب ... فما أغنى المشيبُ عن التَّصابي وسوَّدَ عارضيه بلونِ خَضْبٍ (¬3) ... فلم ينفَعْهُ تسويدُ الخِضابِ وأبدى للأحبَّةِ كلَّ لُطفٍ ... فما ازدادوا سوى فرطِ اجتنابِ سلامُ الله عودًا بعد بدءٍ ... على أيامِ رَيعانِ الشَّبابِ ¬

_ (¬1) تحرف في (ف) إلى: الصيلحي، والمثبت موافق لما في المصادر، والخبر مع الذي قبله في المنتظم 15/ 349 - 350. (¬2) الترجمة بتمامها في المنتظم 15/ 351 - 352، وببعضها في تاريخ بغداد 8/ 80. (¬3) في (ف): خطر، وفي المنتظم: خضر.

ستيتة بن القاضي أبي القاسم

تولَّى غيرَ مذمومٍ وأبقى ... بقلبيَ حسرةً تحت الحجابِ وتوفِّي في شوال ودُفن في داره بحريم الخلافة قريبًا من باب العامة، وولي القضاء سبعًا وعشرين سنة. [وفيها تُوفِّيت سُتيتة بن القاضي أبي القاسم (¬1) عبد الواحد بن محمد بن عثمان، المعروف بابن أبي عمرو. قال الخطيب: كانت فاضلةً زاهدةً عابدةً صالحة، توفِّيت في رجب، وسمعت أبا القاسم عمر بن محمد بن سنبك وغيره، وكتبتُ عنها]. [وفيها تُوفي] علي بن المُحسِّن (¬2) ابن علي بن محمد بن أبي الفهم، أبو القاسم، التنوخي، ولد بالبصرة في شعبان سنة خمس وسبعين وثلاث مئة، وأول سماعه سنة سبعين، وقُبِلتْ شهادتُه عند الحكَّام في حداثته، وتقلَّد القضاء في عدة نواحي منها المدائن ودَرْزيجان (¬3) وقِرْمِيسين وغيرها، وسمع الحديث الكثير، وصنَّف الكتب، وتوفِّي ببغداد في المُحرَّم، ودُفِنَ بداره في درب التل، وكان صدوقًا، محتاطًا في الحديث. وقيل: كان معتزليًّا يميل إلى الرفض. [وفيها تُوفِّي] محمد بن القائم بالله (¬4) ذخيرة الدين، أبو العباس، كان قد نشأ نشوءًا حسنًا، ورشَّحه القائم للخلافة، فتوفِّي في ذي القَعدة، وحزن عليه أبوه حزنًا شديدًا، وخرج بنفسه فصلَّى عليه وبينه ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 12/ 115، والمنتظم 15/ 353. (¬2) تاريخ بغداد 14/ 446، وفي المنتظم 15/ 353. (¬3) دَرْزيجان: قرية كبيرة تحت بغداد على دجلة. معجم البلدان 2/ 450. (¬4) المنتظم 15/ 353.

السنة الثامنة والأربعون وأربع مئة

وبين النَّاس سرادق وهم يصلون خلفه بصلاته، وجلس رئيس الرؤساء للعزاء ثلاثة أيام، وحضر أرباب الدولة، ومنع القائم من ضرب الطبول ثلاثة أيام، وكذا السلطان، فلمَّا كان اليوم الرابع حضر عميد الملك وزير السلطان بين يدي القائم، وأدَّى عن السلطان رسالةً تتضمَّن التعزيةَ والسؤال بقيام الوزير والجماعة من مجلس التعزية، فقاموا، ثم حُمِلَ تابوتُه بعد ذلك إلى الرُّصافة. السنة الثامنة والأربعون وأربع مئة فيها من أول هذه السنة ابتدأ أبو الحسن محمَّد بن هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ الكاتب -ويُسمَّى غرس النعمة- تاريخَه وذيلَه على تاريخ أَبيه هلال، وزعم أن تاريخ أَبيه انتهى إلى هذه السنة، فقال: وفي أول سنة ثمان وأربعين وأربع مئة يوم الخميس عقد عميد الملك أبو نصر منصور بن محمَّد الكُنْدُري وزيرُ السلطان رُكنِ الدين طُغْرُلْبَك أبي طالب محمَّد بن ميكائيل بن سلجوق لتاج الملوك أبي كاليجار هزارسب بن بَنكير بن عياض الكردي على ضمان البصرة والأهواز وأعمالها لهذه السنة، بثلاث مئة أَلْف دينار وستين ألفًا، وأُطلِقَتْ يدُه في جميع الإقطاعات والمعاملات بالبصرة وخوزستان، وأُقطِعَ أَرَّجان، وأُذِن له في ذكر اسمه في الخطبة بهذه الأعمال دون غيرها، وعرَفَ الدَّيلم البصرية والخوزستانية الواردون إلى باب طُغْرُلْبَك، فقلقوا، فقال السلطان: يفعل تاج الملوك فيها ما يراه. فانصرفوا وقد يئسوا، وثقُلَ ذلك على الأمير أبي علي بن أبي كاليجار بن بُوَيه؛ لأنه كان ورد باب السلطان مؤمِّلًا لذلك، وراسل السلطان بزوجته وولده بحكم قرابتهما منه، وكان السلطان قد زوَّج أخاه فلم يُجِبْه، وعوَّضه قُوماسين إقطاعًا عوضًا مما أخذ منه، وخرج جماعة من الغلمان البغدادية إلى البساسيري، فغمز عليهم، فكمن لهم خُمارتِكين الطُغْرُلْبي خادمُ السلطان ومعه جماعة بأمر رئيس الرؤساء، فقتلوهم وكانوا أكثر من عشرين من الأعيان والمُقدَّمين، فلم يُفْلِتْ منهم إلَّا قليل، ولم يتجاسر أحدٌ من أهل المُقتَّلين بقربهم من رئيس الرؤساء، فغُسِّلوا في سقاية بباب الأزج ودُفنوا.

وفي المُحرَّم كتب السلطان كتابًا إلى خراسان يخبرهم بدخوله بغداد وما جرى له، وولى الكُنْدُريُّ أَبا الغنائم بن فَسانْجِس واسطًا وأعمالها، فسار إليها. وفي ليلة الخميس لثمانٍ بَقِينَ من المُحرَّم عقد الخليفة على خديجة المدعوَّة أرسلان خاتون بنت الأمير جُغْري بك أبي سليمان داود أخي طُغْرُلْبَك، وحضر في التاريخ الخليفة وعميد الملك وأبو علي بن الملك أبي كاليجار وأعيان الدَّيلم والدولة والقضاة والعدول، واجتمعوا في بيت النوبة ما عدا الخليفة، وكتب الوزير إلى الخليفة يُعَرِّفه حضورهم، فأمر بوصول مَنْ أراد منهم، وقام الوزير رئيس الرؤساء فقال: أطال اللهُ بقاءَ سيدنا ومولانا الإِمام أمير المُؤْمنين، هؤلاء أكابر المشرق قد حضروا داعين شاكرين. فقال عميد الملك: نحن عبيدُ مولانا وخدمُه وغرسُه وصنائعُه. فقال الخليفة: بارك الله لنا فيكم. وقرأ رئيس الرؤساء خطبة النكاح، ثم قال: إن رأى سيدنا ومولانا أن يُنعِمَ بالقبول فعلتُ. فقال: قد قبِلْنا هذا النكاح بهذا الصَّداق، جعل الله لنا ولكم ما فيه الخير (¬1) والنجاح. وكان الصَّداقُ مئة أَلْف دينار، وخرج القوم. وفي صفر أخرج السلطان المبارك الخادم إلى هَمَذان ليُحضِرَ بنتَ أخيه زوجةَ الخليفة إلى بغداد، وزُفَّت إلى الخليفة في شعبان، وسبب هذه الوصلة لمَّا ورد السلطان بغداد أراد الاتصال بالخليفة بمصاهرة يتجمَّل بها على الملوك، فسمَّى خاتون على الذخيرة بن القائم، فتوفي، فعدل إلى القائم وتكررت رسائل الخليفة بطلبها، فجمع السلطانُ الأمراءَ والقضاةَ والشهودَ والعلماءَ والتجارَ إلى داره، وأُدخلوا إلى بيوت مزينة قد عبئ فيها الجهاز حتى شاهدوه. وفي يوم الأحد سادس شعبان نُقِلَ إلى دار الخليفة -وكان شيئًا لم يُرَ مثلُه- من الجنائب والبغال والعَماريات والمال والجواهر واليواقيت وأواني الذهب والفضة، وثمانون جارية من الأبكار، عليهنَّ أقبية الديباج والمناطق المجوهرة، وتحتهنَّ الخيل المسوَّمة والبغلات الرومية، وستُّ عَماريات على البغال، على قَبائها الجواهر وغيرُ ذلك، ودخل رئيس الرؤساء على السلطان، وقال: أمير المُؤْمنين يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وقد أذِنَ في نقل الوديعة إلى الدار المعمورة، ¬

_ (¬1) في (ف): الخيرة.

فقال: سمعًا وطاعةً للأوامر الشريفة. ومضت السيدةُ والدةُ الخليفة في الزبازب إلى دار المملكة، وراسلت (¬1) زوجةَ السلطان في تسليم خاتون، فأرسلت (¬2) بها إليها من غير أن تخرج إلى أم الخليفة، فانحدرت بها، ودخلت من باب الغربة، وقد ضربَتْ سُرادقاتٍ على دِجْلة، ودخلت خاتونُ على الخليفة، وقبَّلتِ الأرضَ مرارًا، فأدناها إليه، وأجلسها إلى جنبه، وطرح عليها فَرَجِيّةً مطمومةً بالذَّهب كانت عليه، وتاجًا مُرصَّعًا بالجواهر، وأعطاها من الغد مئةَ ثوب من الديباج وقصب الذهب، وطاسةَ ذهب مُثبتًا فيها الياقوت والفيروزج، وعِقْدَ حَبٍّ له قيمة، وبعث السلطان لزوجته بنت أبي كاليجار بن بُوَيه هديةً عشرةَ أحمال ثيابًا وآلاتٍ وصناعاتٍ وغيرَها، وأمر بحملها إلى الري، وأمر السلطانُ الأتراكَ الذين ببغداد بالمسير إلى خراسان، فشقَّ عليهم، وتضرَّعوا فلم يُغْنِ شيئًا، ووقفوا للسلطان، فخاطبهم بالجميل ثم سكت عنهم، وهؤلاء هم الذين أخذوا بغداد، وابتدأ طُغْرُلْبَك بعمارة سور عريض على داره، دخل فيه قطعة كبيرة من الحرم ودار الفيل، وجمع الصنَّاع لتجديد دار المملكة العَضُدية، وبنى عليها الأبراج، وخَرِبت الدور والمحالُّ والأسواق المجاورة لها بالجانب الشرقي، وقُلِعت أخشاب دور الأتراك من الجانب الغربي وحُمِلت إليها. وفيها عمَّ الوباء والقحط ببغداد والشَّام ومصر والدنيا، وكان النَّاس يأكلون الميتة، وبلغت الرمانةُ والسفَرْجَلَةُ دينارًا، وكذا الخيارة واللينوفرة، وانقطع ماء النيل بمصر، فكان يموت كلَّ يوم عشرةُ آلاف، وباع عطارٌ بمصر في يوم ألفَ قارورة شراب، وعمَّ القحط في الدنيا كلها. [وقال محمَّد بن هلال بن الصابئ: وقفت على كتاب ورد من مصر] (¬3) أن ثلاثة من اللصوص نقبوا نقبًا، فوُجِدوا عند الصباح موتى [كلُّهم] أحدهم على باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثِّيابِ المكوَّرة (¬4). ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) و (ف) -والخبر فيهما- زيادة: خاتون، وهي زيادة مقحمة، والله أعلم. (¬2) في (خ): فراسلت، والمثبت من (ف). (¬3) في (خ) و (ف): وورد كتاب من مصر. (¬4) في (خ) و (ف): الكارة، والمثبت من (م) و (م 1)، وهو الموافق لما في المنتظم 16/ 6.

وفي غُرَّة صفر كان بين مَنيع بن شبيب بن وثَّاب النُّميري صاحب حَرَّان وبين مُعِزِّ الدولة أبي علوان ثِمال بن صالح بن الزَّوقلية صاحب حلب حربٌ على الرقة، وكانت لشبيب والد منيع، واتَّفق أنَّه مات وخلف منيعًا صغيرًا، وتزوجت أمُّه بثِمال، وسلَّمتِ الرقة إليهِ، فلمَّا كبر ولدُها وانضافت إليه القبائل واسترجع حَرَّان، وكتب [له] (¬1) طُغْرُلْبَك المنشور وبعث إليه الخِلَع أرسل إلى ثِمال يطلب الرقة، فمنعه، فقامت الحربُ بينهما. وفي يوم الأربعاء ثاني عشر صفر تقدَّم رئيس الرؤساء بنصب أعلام سود في الكَرْخ، فخاف أهلُه، وكان مجتهدًا في هلاكهم وعميد الملك يمنعه. وفي صفر ورد الخبرُ بأنَّ البساسيري على عزم المسير إلى بغداد، فعزم السلطان بنفسه على المسير إلى الرحبة، فمنعه رئيس الرؤساء، وقال: بعض الإسْفَهسلارية يفعل هذا. وفيها سار مقبل [بن بدران] (¬2) أخي قُرَيش (¬3) من بغداد إلى الجزيرة والخابور والرحبة ومعه ابن وَرَّام وجماعة العرب والأكراد إلى البساسيري، داخلين في طاعته، ومفارقين قريشًا، نافرين عنه، وسببه أنَّ البساسيري كان اصطنع مقبلًا، وأخذ له خِلْعةً من الملك الرَّحيم لمَّا كان بواسط، وسلَّم إليه البلاد العليا التي كان البساسيري انتزعها من قريش، وحصلت بينه وبين أخيه وحشة، فلمَّا قرب طُغْرُلْبَك من بغداد ومضى البساسيري إلى الرحبة خاف مقبلٌ من أخيه، فصالحه ونزل عليه، وفي نفس كلِّ واحد منهما على صاحبه، فلمَّا سار البساسيري إلى الرحبة صار قريش ونور الدولة بن مَزْيَد في طاعة طُغْرُلْبَك طمعًا في حراسة بلادهما من النهب، فوضع مقبل العرب على أن قالوا لقريش: أليس هؤلاء الغُزَّ الذين قتلنا في سنة خمس وثلاثين أولادَهم وأصحابَهم وسبيناهم، ولهم في رقابنا دماءٌ يطلبونها؟ فإن دخلنا في زمرتهم سلَّمنا إليهم أرواحَنا وأهلَنا وأموالنا وبلادَنا. فقال لهم قريش: أنتم مُحِقُّون في قولكم، غير أنَّ هذا سلطانٌ ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف). (¬2) ما بين حاصرتين من الكامل 9/ 626. (¬3) في (خ): دبيس، والمثبت من (ف).

عظيم، ومعه عسكر كبير، ومتى لم ندخل معهم أخربوا بلادنا، ونهبوا أموالنا, ولم يكن لنا قدرة على دفعهم، والرأيُ ملاطفتُه وخدمتُه، فإننا نتعجَّل السلامة، وندفع الأذى. فلم يقبَلْ أكثرُهم، وشاع ورودُ مال من مصر إلى البساسيري، وأنه على تفريقه في العرب، وانحدر إلى بغداد، فمالوا إلى البساسيري، وعدلوا عن قريش، وكان صاحب مصر مائلًا إلى قريش وهو له كاره، وكان الوزير اليازوري يكاتبه ويستعطفه، وكان عنوان كتابه إليه: من الناصرِ للدين، غياثِ المسلمين، الأجلّ، الأوحدِ، المكينِ، سيدِ الوزراء، وتاجِ الأصفياء، وقاضي القُضاة، وداعي الدُّعاة، علمِ المجد، خليلِ أمير المُؤْمنين وخالصِه، أبي محمَّد الحسين بن عليّ بن عبد الرَّحيم، إلى الأمير مصطفى الدولة وخِصِّيصِها أبي المعالي قريش بن بدرانَ -أدام الله سلامته وسعادته ونعمته- أما بعد، فإنك بِبَيتٍ أَهلُهُ على الولاء لأهل البيت عليهم السلام نَبَتتْ لُحومُهُم، وإلى محبتهم انتمت أرواحُهم وجسومُهم، وإن الدولة النبوية -أدامها الله- على غاية من حُسن الرأي فيك، وقد تعجب (¬1) لمفارقتك صاحب الجيش -يعني البساسيري- ومصيرك إلى محلٍّ لو كان آمنًا الأمنين وملجأ الأبدين لكان الواجبُ يكون بينه وبينك بُعدُ المشرِقَين والمغرِبَين، وذكر كلامًا طويلًا. وفي ربيع الأول وردت هدية أبي نصر بن مروان إلى السلطان، وكانت ثيابًا ألوانًا، وخيلًا، وثلاث زواريق طعم، وشيئًا كثيرًا. وفي سلخ ربيع الأول تقدم الخليفة إلى السلطان بالمسير إلى الشَّام، ويبدأ بالرحبة، ويأخذ البساسيري ويعبر الفرات، ويقيم الدعوة على منابر الإِسلام، فأمر السلطانُ العساكرَ بأن يتجهَّزوا ويبعثوا ليحضروا خَرْكاواتهم، وأولادهم وأهلهم يكونوا بالعراق، ويتوجَّهوا معه إلى الشَّام، فقالوا: هذه بلاد خَرابٍ، وليس بها أقوات ولا عُلوفات، ولم يَبْقَ معنا نفقات، ونحن عاجزون عن المُقام على ظهور خيولنا، فكيف إذا جاء أهلونا وخيولُنا ودوابُّنا وقد طالت غيبتُنا, ولا بُد لنا من الإلمام بأهلنا، ونحن نستأذن في العَودِ إليهم، ونعود حيث يُرسَمُ لنا، فقبض السلطان على جماعة منهم، وضربهم وقيَّدهم واعتقلهم أيامًا، ثم شفع فيهم فأُطلقوا، وضمن عليهم أنَّهم بعد ¬

_ (¬1) في (خ) الكلمة غير واضحة، وأثبتت من (ف).

المهرجان يسيرون إلى الشَّام، وأمرهم أن يستصحبوا الملك الرَّحيم من قلعة السيروان إلى قلعة الري فيعتقلونه بقلعة طَبْرك، ففعلوا. وفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الآخر ورد ديلمٌ من دار السلطان إلى زوجة البساسيري المعتقلة بباب المراتب، وقد أُحيلوا بأرزاقهم عليها فعاقبوها، فضمنها حاجب باب المراتب على ألفي دينار، وأخذها منهم إلى داره، فلم يقدِرْ على إبقائها، فأعادها إلى اعتقالها، فاتصلت العقوبةُ والمطالبةُ لها. وفي هذا الوقت قَلَّ العسكرُ ببغداد، ومضى أكثرهم إلى خراسان، وشنَّتْ بنو شيبان الغارات، وطلبوا الخفارات، وكثرت الأراجيف بانضمام جماعة من العرب إلى البساسيري ووصول أبي نصر بن أبي عمران الداعية رسولًا من مصر إليه بمالٍ كثيرِ وخِلَعٍ وألقاب، وأنه أخذ البيعة عليه وعلى من معه من الأتراك والأكراد والعرب، وأنهم على عزم قصد بغداد، وبعث السلطانُ عميدُ الملك إلى الخليفة يقول: إن العساكر قد تفرَّقت، وبقي منهم نفرٌ يسير، ولا بُدَّ لهم مما يقوم بهم، وإلا لحقوا بالباقين وخلا البلد، وكان رئيس الرؤساء قد ضمن لي ثلاثَ مئة أَلْف دينار إذا قدمتُ العراق، فأوصل إليَّ مئة وثمانين ألفًا، وارتدَّ الباقي، وتردَّد الكلامُ، فقال رئيس الرؤساء: إنما كنتُ أُحصِّلُها من أموال البساسيري وأصحابه، وقد ذهبت، ولكن أنا أقوم في هذا الوقت بعشرين أَلْف دينار. ثم صادر النَّاس حتَّى حصلَها، واعتقل زهرة جارية البساسيري وأولادها منه، وطُولِبَتْ بمال، فلم يكن لها شيء. وفي سابع جمادى الأولى ولدت جاريةٌ كانت للذخيرة بن القائم ولدًا ذكرًا، وكان قد تُوفِّي عنها وهي حامل، يُكنى أَبا القاسم، وسُمِّي عبدَ الله، ولُقِّب عدة الدين عماد الإِسلام والمسلمين، وفرح الخليفة، وجلس وزيره للتهنئة، ولم يكن للقائم ولدٌ، ووَليَ هذا المولود الخلافةَ، وحمل السلطان وخاتون والوزير للخليفة أموالًا وثيابًا. وفي هذا الوقت تجدَّدت العقوبة على زوجة البساسيري. وفي هذا الشهر وردت طائفة من عسكر السلطان فأُنزلوا في دور النَّاس، وفرض عليهم لهم خمس مئة دينار، فاجتمعوا إلى عميد العراق، فقال: هذه عادتنا في بلادنا، وأنتم تُرجفون على الدولة وبُعدِ العساكر، وقد أعاد السلطانُ العساكرَ إليكم، فإقامتُها

عليكم، فبادروا إلى جمعِه وحملِه، فجمعوا خمس مئة، وقسطوها على الكَرْخ وما حوله، فاجتمعوا إلى دار الخليفة وقالوا: هذا شيء ما ألِفْناه، وقد أفنى الحريقُ والنَّهبُ أموالنا. فبعث الخليفة إلى الكُنْدُري يقول: قد قَبُحَتِ السيرةُ، وساءتِ السُّمعةُ، وكثُرتِ الشَّناعة. فيُقال: إنه أسقطها عنهم. وفي هذا الوقت مضى قوم من الخراسانية إلى محلَّة الحربية فطالبوهم بمال، فقالوا: نحن قوم مستورون، وبمساجدنا مشتغلون، ولما تقصَّدَنا [الناسُ] (¬1) به من زكواتهم وصدقاتهم محتاجون، فلم يلتفتوا إليهم وضربوهم، وأخذوا ما وجدوا لهم، وباع أهل الحربية نفوسَهم بما جمعوه من معارفهم، ثم جاؤوا إلى قصر عيسى فأخرجوا أهلَ الدور ورمَوْهم على الشوارع، فبَنَوا أكواخًا من قصب تحت دار الخليفة، وأقاموا بها، وفرشوا البواريَ على باب الغربة والمسوحَ وضجُّوا، وكان فيهم جماعةٌ من أهل البيوتات لهم حالٌ، فقُبِضَ عليهم من باب الدار، وصُودروا على قدر أحوالهم من الألف دينار إلى عشرة دنانير، واشتدَّ النبلاء على أهل بغداد وشحذوا، ومات أكثرهم تحت الضرب وفي الحبوس. وفي هذا الوقت ورد الخبرُ من واسط بأنَّ أَبا الغنائم بن فَسانْجِس والتُّرك عصَوا على السلطان، وكان عميد الملك قد ولَّاه، فبلغه أنَّهم على عزم عزله ومصادرته، فاستمال الأتراكَ، وورد عليه طائفةٌ من الديلم والأكراد والرجَّالة فقدَّموه عليهم، فأنفق فيهم الأموال، وزوَّر كتبًا عن البساسيري يَعِدهم الإحسان والإقطاعات، ويَعِد أهلَ البلد العدل، وكان الترك قد نفروا من السلطان؛ لأنه قتل منهم جماعةً، وكاتبَ أهلَ البَطيحة فوافقوه، وحفر الخنادق حول واسط، وبنى أسوارًا عاليةً، وركَّب عليها أبوابَ الحديد، وبعث الكُنْدُريُّ رسولًا يصلح الحال، فاجتمع ابن فَسانْجِس والأتراك، فقالوا: نحن الخدم الطائعون، إلَّا أنَّ السلطان غيرُ محتاجٍ إلينا, ولا مهتمٍّ بنا، ومعه من العساكرِ الجمَّةِ المختلفة ما نصغُر نحن فيهم، وقد رأينا ما جرى على إخواننا البغدادية -وهم أعزُّ جانبًا منا- كيف أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، وصُودرت إسْفَهْسَلاريتُهم، وقُتِلَ من قُتِلَ منهم، وبَقُوا مُطرحين على الطرق، وقد نفرت قلوبُنا من ¬

_ (¬1) هذه الزيادة في (ت).

هذا، فإن قنع منا بإقامة الخطبة ونقشِ السَّكَّة، وحَمْلِ مالٍ من غير أن يُولِّي علينا خراسانيًّا، فنحن سامعون مطيعون، وإلا خلعنا الطاعة، واغتربنا إلى غير هذه الجهة، فإمَّا أن نعيش أعِزَّاء، أو نهلك عزيزين. وفي ثاني عشر جمادى الآخرة استدعى الخليفةُ رئيسَ الرؤساء، وأظهر التذمُّرَ والامتعاض مما الرعية عليه، وقال: قد أُنهي إليَّ ما سمِعَتْه أُذني وشاهدَتْه عيني، ومن ارتفاع الدعاء ما أنا به مُطالب، هذا إلى ما أخافه من سريع المكافأة، وأنا مع ركن الدين بين قسمين؛ إمَّا اعتمادُ الحقِّ، واستعمالُ العدل، وإنصافُ الرعية وإعفاؤهم من كل أذيَّة، وإعادتُهم إلى مساكنهم، وصيانتُهم في معيشتهم، وأمانُهم على نفوسهم، وحراسةُ أموالهم، أو المساعدةُ على مفارقتي لهذا البلد، وبُعدي عن هذه البدع، ولا أقلَّ من اعتزالٍ عنها، والتبرِّي عند الله منها. فيستدعي منصور بن محمَّد الكُنْدُري، ويعرفه ذلك من غير مراقبةٍ في إيرادِهِ يستعملها, ولا مجافاةٍ في شَرحِهِ يقصدها، ويُحقِّق ما يكون من الجواب ويطالع به، فأرسل إلى الكُندُريّ فحضر، وأعاد عليه ما جرى، فمضى الكُنْدُريُّ إلى السلطان، وأعاد عليه ما قال، فردَّه بالجواب، وقال: أنا الخادم الطائع في كلِّ حال، وما علمتُ بما جرى، ولا أمرتُ به، ولا هو من عادتي، إلَّا أن هذا العسكرَ كثيرٌ لا قدرةَ لي على حفظه، وربما بدَتْ منهم أفعالٌ لا أرضاها، وسأتقدم بما يَبينُ أَثَرهُ، ويَحسُنُ موقعُه. قال الكُنْدُريُّ: ومضيتُ من عنده، فلما كان وقت السحر استدعاني وقال لي: اعلَمْ أنني نِمْتُ البارحةَ وأنا مشغولُ الفكر في الرسالة، عالمٌ بأن ما يجري من هذا العسكر في رقبتي، وأنني مسؤولٌ عنه، فرأيت في منامي كأنني بمكة إذ شاهدتُ شخصًا وقع لي أنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقصدتُه لأُسَلِّمَ عليه، فلوى وجهه عني، وبَعُدَ مني، وقال: قد ملَّكَكَ اللهُ البلاد والعباد، وجعل يدَكَ عليهم عالية، وأوامركَ فيهم نافذة ماضية، فأحسِنِ السيرةَ فيهم، وأجمِلِ المعاملةَ معهم، وامنعِ الأذى عنهم، وارفَعِ الظلمَ، واستأمِنْ هذا الجيش [، ثم استيقظتُ فزعًا من هذه الرؤيا التي] (¬1) قد روَّعتني، فاذهب إلى الديوان، واشرَحْ ما جرى، ففعل ذلك، فخرج جواب الخليفة ¬

_ (¬1) مكانها بياض في الأصل (خ)، وفي (ف) الكلام متصل من دون وجود هذا البياض! والخبر ليس في (م) و (م 1)، وما بين حاصرتين من الكامل 9/ 635.

ببشارة السلطان بما رآه من مشاهدة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهي أعظم مِنَّةً، ثم كتب توقيعًا إلى السلطان يتضمن العدل والإنصاف والوعظ، فقرأه رئيسُ الرؤساء، فبكى السلطان، وتقدم بالعدل وإخراج العساكر من دور النَّاس، وعاد إليها أربابُها، وطابَتْ قلوبُهم، وفتحوا دكاكينَهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه. وفي يوم الأحد سابع عشر جمادى الآخرة برز بعض العساكر السلطانية إلى الشَّمَّاسِية، وأمر أَبا الفوارس قُتُلْمِش بالتقدمة عليها. وسبب ذلك تردُّد الرسائل (¬1) بين السلطان وبين قريش ودُبيس تتضمَّن الشكوى من الجند، ويسألان أن ينحدرا إلى تِكريت، ويخرج إليهم عميد الملك، ويُقرِّر ما يجب تقريره في بلادهما أُسوةً بتاج الملوك، وأعفاهما من الغُزِّ، فأرسل إليهما أن عميدَ الملك خارجٌ إلى تِكريت لتعزُّز ذلك، فجمعا أصحابهما وانحدرا، فأُشيع بأنَّ انحدارهما على نية فاسدة، وقاعدةٍ بينهما وبين البساسيري مستقرة، فتقدم عميد الملك إلى العسكر بالخروج إلى عُكْبَرا، ونهب الأعمال العليا والبلاد المريدية، فنُهِبَتْ سُوراء (¬2) ومطارياد (¬3) وغيرُهما، وحُمِلت المواشي إلى بغداد فبِيعت، وخربت البلاد، واندرست آثار القرى، وهَجَّ من كان بقي فيها، وجاء كتاب قريش يقول: بلغنا أنَّه أُرجِفَ علينا أنَّنا سِرْنا على نيةٍ فاسدةٍ وطويَّةٍ مخالفة، ومَعاذَ الله أن نشُقَّ عصا، أو نعِدَ وعدًا وما نفي به، وما نحن إلَّا الخدم الطائعون. فبعث عميدُ الملك إلى قُتُلْمِش أن يتوقف بعُكْبَرا حتَّى تتضح الحال. وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السَّحر في مطالع برج الأسد الجنوبية ذؤابةٌ بيضاءُ طولها في رأي العين نحوُ عشرة أذرع في عرض الذراع، ولبثت على هذه الحالة إلى نصف رجب، ثم اضمحلَّت وقيل: لرئيس الرؤساء [أبي القاسم] ¬

_ (¬1) في (خ): الرسل، والمثبت من (ف). (¬2) سُوراء: موضع إلى جانب بغداد. معجم البلدان 3/ 278. (¬3) هكذا في الأصلين (خ) و (ف)، ولم أقف على موضع بهذا الاسم، وإنما وجدت مَطارة: وهي قرية من قرى البصرة على ضفة دجلة والفرات. معجم البلدان 5/ 147.

أنَّه كان بمصر ويسمع مستفاضًا بين أهلها أنَّه لمَّا طلعت هذه الذؤابة ملك الغُزُّ مصر. قال: وأظنُّ أن القوم يملكون بغداد، فكان كما قال. قلت: وقد ظهر مثلُ هذه الذؤابة من ناحية الشرق، إلَّا أنها كانت ذوائب [مثل هذه] (¬1) فكان خروج التتر عقبها [وذلك في] سنة سبع عشرة وست مئة. ولما تحقَّق السلطان أنَّ ما قيل عن قريش وابن مَزْيَد لا أصل له أمر الكُنْدُري بإنفاذ أبي الفتح المظفر بن محمَّد العميد وجماعة من الأعيان إلى تِكريت ليجتمعوا بقُريش ودُبيس، فاجتمعوا في خيمة قريش، فقال العميد: السلطان على نية الانحدار إلى شيراز، فهذه البلاد ما تحمله، ويفوِّض الأمور إليكما لتكونا نائبين عنه بالعراق، ويريد أن تخلُفا. فقال قريش: هذا ولدي يكون في دار الخلافة رهينةً. فطلبوا من دُبَيس رهينة. فقال: السلطان قد أعفاني. فقال العميد: فهذا قريش قد أعطانا رهينةً، ولستَ بخير منه. فقال: ما أعطيكم شيئًا. فقال له العميد: فأحد أولادك عند اللعين البساسيري، وأعيان أصحابك، وهذه أمور تُوجِبُ الارتياب بك، وقلَّةُ السكون إليك، وهذا علم الدين أبو المعالي المبرَّأُ من هذه الأسباب، والموالي للسلطان في كل حال، والذي يجب أن نكون به واثقين، قد أعطانا الرهائن، وحلف لنا بالأيمان المؤكدة مع أننا لا نرتاب بصحة موالاته وخالص طاعاته، فأنت أولى. فقال: ما انحدرتُ إلَّا معتقدًا للطاعة، وأنتم الذين رجعتم عمَّا قررتموه، ونهبتم بلادي بعد انحداري، وكسرتم جاهي، وقطعتم معاشي، وإذا كان هذا حالي معكم فلِمَ أغِلُّ يدي وأنت خليٌّ (¬2) ممن يبذل الأموال، ويوسعني في الأعمال؟ وأغلق للرسل، ثم قام فركب راحلته ومضى إلى البساسيري، وسلَّم قريشٌ ولدَه عليًّا إلى الرسل رهينةً وعمره ثلاث سنين، ومعه دابة وبدوي، وقال: تكون في الدار العزيزة عند الخليفة. ثم إن العرب نفرت عن قريش، وصوَّبَتْ رأي دُبيس، وأصعد قريش إلى الموصل خائفًا منهم ومن أخيه مقبل، ثم بعث إلى بغداد في رجب يطلب نجدةً ومالًا يُفرِّقه في العشيرة، فإن البساسيري على قصْدِه، فجهَّز إليه خمسَ مئة غلام، فأقاموه بباب الشَّمَّاسية مع باتكين الحاجب. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف) وحدها. (¬2) في (خ): وأنتم حيلي، والمثبت من (ف).

وفيه نقضت الروم الهدنةَ التي كانت بينها وبين صاحب مصر، وجاؤوا بالمراكب، فنزلوا على طرابلس الشَّام، وأحدقوا بها، فبعث محمَّد بن أبي عقيل قاضي صور إلى الروم جمعًا كبيرًا، ووقعت بين الفريقين وقائعُ قُتِلَ فيها خلقٌ عظيم، فرحلوا عن طرابلس، وصعدوا من المراكب، ووصلوا إلى الخوابي وأنطَرسوس (¬1) فسبوا وقتلوا ثم عادوا فنزلوا على اللاذقية. وفي تاسع شعبان برز قُتُلْمِش بالعساكر نحو واسط لقتال ابن فَسانْجِس، ثم أعيدت الخيم في ذلك اليوم، وسببه ورود كتاب قريش إلى البساسيري ودُبيس ومقبل وابن وَرَّام وابن خَفاجة نزلوا الخابور قاصدين الموصل، فَردَّ الكُنْدُري العسكرَ، وبعث الخليفةُ رسالةَ إلى واسط بتطييب قلوب مَنْ فيها، فقالوا: نحن طائعون بحيث نبقى على ما نحن عليه. وجرَّد السلطانُ ابنَ عمه قُتُلْمِش والحاجب الكبير وغيرهما في ألفي فارس من الأتراك والغُز والتركمان وعشرةِ آلاف دينار ومئتي ثوب؛ ليفرِّقها قريش في بني عقيل، وخِلعةٍ جميلة لقريش، وقريشٌ بمركب ذهب ومُنجوق، ولمسلم بن قريش مثلُ ذلك، ثم ورد الخبر بأن القوم في الرحبة على عزم إنفاذ مقبل لقتال أخيه وانتزاع الموصل من يده، فكوتب قتلْمِش بالإصعادِ على حالة إلى الموصل، وقَصْدِ القوم ومناجزتهم أينما كانوا. وفي رمضان أخرج الخليفةُ والسلطانُ جميعَ من كان ببغداد من الأتراك العُتَّق الذين كانوا يفعلون بجلال الدولة ما فعلوا، فلم يبْقَ لهم أثر، ونفاهم إلى الدِّينَور وحُلوان، ومزَّقَهم كل مُمزَّق. وفيه أسلم كاتب البساسيري من شدة العقوبة والمطالبة بالأموال، فَزِيد في عقوبته. وفيه عزم السلطان على الخروج بنفسه إلى البساسيري، فمنعه القائم وقال: أقِمْ وابعَثِ العساكر. وفي شوال سار عميد العراق أبو نصر إلى واسط، ناصر جماعةَ من الأتراك، وغَرَّق آخرين، وقَتَلَ، وانهزم الباقون في السفن إلى البَطيحة هاربين، وهدم سورَ واسط، وطمَّ الخنادق، وكتب إلى السلطان بالفتح، وكان ابن فَسانْجِس قد هرب إلى البَطيحَة. ¬

_ (¬1) هكذا في الأصلين (خ) و (ف)، وفي معجم البلدان 1/ 270: أنطَرْطوس -بطاء ثانية بعد الراء-: وهي بلدة من سواحل بحر الشام، وهي آخر أعمال دمشق عن لبلاد الساحلية وأول أعمال حمص.

وفيه كانت وقعة سنجار بين البساسيري وقُتُلْمِش، فكانت الدَّبَرة (¬1) على قُتُلْمِش، وسببه أنَّه سار من بغداد بالغُزِّ، فنهبوا بلاد العرب، وسبَوا نساءهم، فمالوا إلى البساسيري، وكان قريشٌ نازلًا بتلِّ أعفر، فلما قربوا منه حَذِرَ مقاربتهم، وسار بعيدًا عنهم، ولم يختلط بهم، وراسل دُبيس بني عقيل الذين مع قريش، وبذل لهم العطاء، وخوَّفهم ما يؤول إليه أمر العرب مع الغُزِّ، وكان البساسيري ودُبيس ومقبل وابن وَرَّام وبطون العرب والغلمان البغدادية والأكراد نزولًا على فرسخين منهم، وكاتبوا قريشًا، فلم يلتفت إليهم، فأفسدوا القبائل، فلما كان أول ذي القعدة ظهر أوائل خيل البساسيري، فركب أصحاب قريش نحوها، ثم انضووا إليها أولًا أولًا، وقليلًا قليلًا، حتَّى بقي قريش في عدد يسير من أصحابه وحاشيته، وأظلَّه القوم، ولحقه دُبيس فأغلظ له، وقال: انْجُ بنفسك. فترك قُريشٌ التجافيف، وركب فرسًا خفيفًا، ونجا بنفسه، وأراد مقبل أن ينهب حلةَ قريش، فمنعَتْه أختُه وزوجة دُبيس، ونزلت في الحلة فحمتها، وعرفت الغُزُّ [الذين فيها] (¬2) الخبر، فجاؤوا صفوفًا، والتقوا، فاقتتلوا إلى العصر، فحمل البساسيري ودُبيس ومَنْ معهم عليهم حملةً واحدةً، فهزموهم وقتلوهم وشردوهم، وقتل الحاجب الكبير، وهرب قُتُلْمِش ومن معه، وغنم البساسيري وأصحابُه غنائمَ كثيرةً، وقتل خلقًا كثيرًا، وبعث إلى مصر بألفي فارس (¬3) ومئتي رأس. وفي رواية: كان مسير البساسيري من الرحبة عاشر رمضان بعدما فرَّق الأموال الواردةَ إليه من مصر والخِلَع، وكانت خِلَعًا نفيسةً؛ طميم الذهب، وعمائم ملونة، ومراكب الذهب، والأعلام على القصب والفضة، ومهد على رأسه رصافية ذهب عليها اسم صاحب مصر، وسِجافُه دَبيقيٌّ (¬4) أزرقُ مُصْمَتٌ بالذَّهب، وحمل إليهم الأموال، فإلى دُبيس ثلاثين أَلْف دينار، وإلى أمراء العرب على أقدارهم، وأعطى دُبيسًا ثلثَ الموصل، ومقبلًا الثلثين، وأقطع الجزيرة للعرب، وسار إلى الخابور وقريشٌ بتلِّ أعفر ¬

_ (¬1) الدَّبَرة: الهزيمة. المعجم الوسيط (دبر). (¬2) هذه الزيادة من (ف). (¬3) تحرفت في (ت) إلى: رأس. (¬4) السِّجاف: الستر, والدِّبيقي، نسبة إلى دَبيق: وهي قرية في مصر. المعجم الوسيط (سجف) و (دبق).

في بني عقيل، ولم يعلم البساسيري أن السلطان قد أنجده بقُتُلْمِش، ونزل البساسيري بالشَّمَّاسية وبينها وبين تل أعفر عشرون فرسخًا، وبين سنجار اثنا عشر فرسخًا، ثم علم بنجدة السلطان لقريش، فانزعج وخاف، واتفق مع الجماعة على إفساد بني عقيل عن قريش، وتمَّ لهم ذلك، وساروا وقد جعل البساسيري في الميمنة دُبيسًا، وفي الميسرة جابر بن ناشب والأكراد، ووقف في القلب والإماء بين أيديهم يضرِبْنَ بالدفوف، ويُنشِدْن الأشعار التي فيها ذكرُ الحروب، وتوافى العسكران وقريش في عشرة آلاف فارس، وعسكر السلطان عنهم نحو فرسخ، وتطاردوا [فبرز من عسكر قريش نحو مئتي فارس، وتطاردوا] (¬1) وقلبوا أرماحهم واستأمنوا، ثم تلاهم آخرون وآخرون حتَّى تقوَّض مَنْ كان مع قريش وبقي وحدَه، وبلغ السلطان، فكتب إلى أخيه لأمه إبراهيم يَنَّال بالمسير إليه في العساكر، وكتب إلى عميد العراق يستدعيه من واسط، وعرض على الجند من الديلم وغيرهم، وأنفق فيهم الأموال والسلاح، وتأهَّب للمسير بنفسه. وفي خامس عشرين شوَّال أُخرِجَ أبو الحسين بن عبيد كاتب البساسيري إلى النَّجمي ومعه ابن النسوي، فقدَّمه وضرب عنقه بعد ما أسلم، وجاء الخبر إلى السلطان بأن البساسيري دخل الموصل، وخطب لصاحب مصر بها، وأمن النَّاس، وأنه على عزم الانحدار إلى بغداد، فبرز السلطان بعسكره إلى باب الشَمَّاسية في ذي القعدة، وكان لم يزل مُؤثِرًا للمسير إلى العرب ومناجزتهم استطالةً لمُقامه بالعراق، وطلبًا للعود إلى خراسان، والخليفةُ يراسله بالتوقف عن خروجه بنفسه، ويُهوِّن الأمرَ عليه، ومضى لهذه الوقعة نيِّفٌ وثلاثون يومًا، لم يقِفْ لهم على خبر، فيئس من سلامتهم، ووصل الخبر بأن البساسيري وصل الموصل، وضرب معسكره على سمت بغداد، فراسل الخليفةَ في الخروج إلى الموصل، فما أمكنَه دَفْعُه؛ لأنه دفعه مرات فقال: افعَلْ ما تراه، فنحن ما نُؤثِرُ بُعدَكَ عنا. ثم بعث إليه رئيس الرؤساء وهو بالمخيم، وقال: [إنَّ] أمير المُؤْمنين ما يُؤثِرُ خروجك، وإذا أقمتَ وبعثت العساكر كان أكثرَ للهيبة. فقال: قد كان الصواب أن أخرُجَ إلى هؤلاء، وعسكري متوفر، والهيبة قائمة فمنعتَ، فأُشير عليَّ بإنفاذ العساكر إليهم والمُقام، فجرى ما جرى، وقد قووا وكثروا, ولا بُدَّ من مسيري ¬

_ (¬1) هذه الزيادة والتي ستأتي من (ف).

إليهم قبل أن يتفاقم الأمر. وأغلظ لرئيس الرؤساء وقال: أنتم فعلتُم هذا. فثقُلَ عليه ما سمع، وظنَّ أنَّه قد تغيَّر اعتقادُه، فرجع واجمًا (¬1)، وطالع الخليفة بذلك، فعزَّ عليه. وسار السلطان في سادس ذي القعدة، ومعه الخزائن وآلات الحصار، فكان مُقامه ببغداد ثلاثة عشر شهرًا وثلاثة عشر يومًا، ولم يلقَ الخليفة على العادة. وفي تاسعه سُلِّمتْ زوجةُ البساسيري وزهرةُ جاريتُهُ ابنتُه منها إلى أصحاب السلطان من محبسهم (¬2) بباب المراتب، وحملوهم إلى الجبل ليعتقلوهم في بعض القلاع، وأقام عميد العراق في دار المملكة. وفي هذا الشهر عاد ابن فَسانْجِس ومَنْ معه من الديلم والترك إلى واسط، ونهب قرية عبد الله من ضياع الخليفة، وقتل مَنْ فيها، وأخذ سفنًا فيها متاع للخليفة، وبيَّضَ حائط جامع واسط، ومحا ما كان على قبلته من ألقاب بني العباس، ونصب على المنبر لواءين أبيضين، وخطب لصاحب مصر، ونقش على الدنانير والدراهم اسمَه، وخطب لصاحب مصر -أَيضًا- بالكوفة، وفرَّق في المشهد مالًا على العلويين، وبيَّضَ حائط الجامع، وأُزيل اسمُ القائم، وكُتب مكانه اسم صاحب مصر، والذي فعل ذلك بدر بن علي أخو دُبيس. وقيل: محمود بن الأخرم الخفاجي. وفيه سار قريش إلى دُبيس ونزل عليه، فتكفَّل بأمره، وأزال الوحشة بينه وبين أخيه والبساسيري، ولبس قريش خِلْعة آتيةً من مصر، وأخذ مالًا بعث به إليه، وسار السلطان من عُكْبَرا رابع عشر منه بعد أن نهبها العسكر، وجمع تلك البلاد، وهرب الرجال والنساء على أقبح صورة. وفي سابع ذي الحجَّة فتح السلطان تِكريت، وكان لمَّا نزل مقابِلَها راسل عيسى بن خميس صاحبَها، وطالبَه بمال وغَلَّة، فأذعن بذلك، فلما عبر الرسولُ لقبضه -وكان الغلاءُ قد عمَّ البلاد- فقام أهل تِكريت، وشتموا الرسول، وقالوا: هذه البلاد للبساسيري. فعبر السلطان إليهم من الجانب الشرقي فحاربهم، وصَعِدها ودخل أكثرُ أهلها إلى القلعة، وهلك في الزحمة جماعةٌ، ونهب البلد، وسبق الحريم، وقُتِلَ خلقٌ ¬

_ (¬1) وجَمَ: عبس وأطرق وسكت عن الكلام من شدة الحزن. المعجم الوسيط (وجم). (¬2) في (خ): مجلسهم، والمثبت من (ف).

جعفر بن محمد بن عبد الواحد

كثير، واتصل الحصار، وراسل صاحبُها السلطانَ في الصلح، وقرَّر على نفسه ثلاثة آلاف دينار، وطلب أعلامًا سوداء تُعلَّق على القلعة، ففعل السلطان، وسار منها سادس عشرة متوجهًا إلى الموصل بعد أن أفرج عن النساء المأخوذات من تِكريت وردَّهُنَّ إلى أهاليهنَّ، وكُنَّ زيادةً على ثلاثة آلاف امرأة، وسار إلى البَوازيج، وأقام ينتظر إبراهيم يَنَّال والنجدة التي تأتيه من الشرق، ونهبَ أصحابُه النواحي، وجَلا أهلُها عنها، وأمَّا أهل الموصل فأجفلوا هاربين، ولم يبقَ فيها إلَّا الضعفاء والفقراء، وسار البساسيري ومن معه عن الموصل سبع فراسخ، وخطب محمَّد بن الأخرم الخفاجي للمصريين في الكوفة والحِلَّة والعين وشفاثا وسُوراء والوقف، وخطب ابن فَسانْجِس لهم بواسط وجميع أعمالها, ولم يبقَ غيرُ بغداد. وفيها أُقيم الأذان في مشهد موسى بن جعفر ومساجد الكَرْخ بالصلاة خير من النَّوم، وأزيل ما كانوا يقولونه من: حيَّ على خير العمل، ودخل من أهل باب البصرة قوم، فأنشدوا الأشعار في مدح الصَّحَابَة، وتقدَّم رئيس الرؤساء إلى النسوي صاحب الشرطة بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ البزَّازين بباب الطاق؛ لِما كان يتظاهر به من سبِّ الصَّحَابَة، فقُتِلَ وصُلِب على باب دُكَّانه، وهرب أبو جعفر الطوسي فقيهُ الشيعة ومُصنف التفسير، فنُهبت دارُه. ولم يحج أحد من العراق [في هذه السنة]. وكان صاحب حلب ثِمال بن صالح بن مِرداس ووالي دمشق حيدرة بن الحسن بن مفلح. وفيها تُوفي جعفر بن محمَّد بن عبد الواحد أبو طالب، الجعفري، الشريف، الطُّوسي، شيخ الصوفية بنوقان، سافر إلى البلاد في طلب الحديث، وسمع بالعراقين وخراسان والشَّام وغيرها، وكان زاهدًا عابدًا ورعًا صدوقًا ثقةً، قال الشَّافعيّ: [من المنسرح] صبرًا قريبًا ما أقربَ الفرجا ... مَنْ راقبَ اللهَ في الأمور نجا مَنْ صدقَ اللهَ لم ينلهُ أذى ... ومَنْ رجَاهُ يكونُ حيثُ رَجا

علي بن أحمد بن علي

وأخرج له القشيري أبياتًا وهي: [من الطَّويل] فكيف وما استدعانيَ الذِّكرُ ساعةً ... لغيرِكَ إلَّا كنتَ فاتحةَ الذِّكرِ ولا سنحَتْ لي خطرةٌ نحوَ حاضرٍ ... ولا غائبٍ إلَّا وأنتَ لها المُجري بفقري بوجدي باغترابي بوحدتي ... بطولِ البُكا مني على فائتِ العمرِ تَلافَ الذي قد ماتَ مني بنظرةٍ ... أصولُ بها يوم القيامةِ في الحشرِ [وفيها تُوفِّي] علي بن أَحْمد بن عليّ (¬1) أبو الحسن، المؤدِّب، من قرية ببلد البصرة يقال لها: فالله، بفاء. أقام بالبصرة مدة، وسمع الحديث، وقدم بغداد، وأقام بها، وتُوفي في ذي القعدة، ودفن بمقبرة جامع المنصور، وكان شاعرًا فصيحًا، ثقةً، ومن شعره: [من الكامل] لمَّا تبدلتِ المجالسُ أوجهًا ... غيرَ الذين عهدتُ من علمائها ورأيتُها محفوفةً بسِوى الأُلى ... كانوا ولاةَ صدورِها وفِنائها أنشدتُ بيتًا سائرًا متقدمًا ... والعينُ قد شرقَتْ بحَمَّةِ (¬2) مائها أمَّا الخيامُ فإنها كخيامهم ... وأرى نساءَ الحيِّ غيرَ نسائها وقال: [من الطَّويل] تصدَّرَ للتدريسِ كلُّ مُهوِّسِ ... بليدٍ يُسمَّى بالفقيهِ المدرِّسِ فحُقَّ لأهل العلم أن يتمثَّلوا ... ببيتٍ قديمٍ شاعَ في كلِّ مجلسِ لقد هزُلَتْ حتَّى بدا من هُزالِها ... كُلاها وحتى سامها كلُّ مُفْلِسِ وكان قد باع "الجمهرة" لابن دريد وندم بعد ذلك، فقال: [من الطَّويل] أنِسْتُ بها عشرين حولًا وبِعْتُها ... فقد طال وجدي بعدها وحنيني وما كان ظنِّي أنني سأبيعُها ... ولو خلَّدَتْني في السجونِ ديوني ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 9 - 10، ومعجم الأدباء 12/ 228 - 229، وتاريخ بغداد 11/ 334، والأنساب 9/ 233. وينظر السير 18/ 54. (¬2) في المنتظم ومعجم الأدباء: بجاري.

فاطمة بنت القادر [بالله

ولكن لضعفٍ وافتقارٍ وصبيةٍ ... صغارٍ عليهم تستهِلُّ شؤوني فقلتُ ولم أملِكْ سوابقَ عَبْرتي ... مقالةَ مكويِّ الفؤادِ حزينِ لقد (¬1) تخرج الحاجاتُ يَا أمَّ مالكٍ ... ذخائرَ من ربٍّ (¬2) بهن ضنين [وفيها تُوفِّيت] فاطمة بنت القادر [بالله (¬3) أمير المُؤْمنين] أخت القائم بالله، توفيت فأُخرج تابوتُها، ونُقل معها الذخيرة بن القائم، فصلى عليهما الخليفة في صحن السلام، وأُنزِلَ التابوتان في الطيار، ونزل معهما رئيس الرؤساء، وحُمِلا إلى الرُّصافة فدُفِنا، وجلس رئيس الرؤساء للعزاء، فلم يجلس معه (¬4) أربعون رجلًا؛ لاشتغال قلوب النَّاس بالموت والوباء والغلاء والخوف من كل ناحية. [وفيها تُوفِّي] محمَّد بن أَيُّوب (¬5) أبو طالب، عميد الرؤساء، ولد سنة سبعين وثلاث مئة، وكتب للقائم ستة عشر سنة، وتوفي عن ثمان وسبعين سنة، وكان فاضلًا شجاعًا. [وفيها تُوفِّي] محمَّد بن عبد الواحد (¬6) ابن محمَّد، أبو الفرج، الدَّارميّ، البغدادي، ولد سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة، وقيل: سنة ثمانين وثلاث مئة، سكن دمشق، وكان أحد العلماء، موصوفًا بالفهم ¬

_ (¬1) هكذا في المنتظم، وأما في باقي المصادر: وقد. (¬2) في المنتظم وحدده: رزء. (¬3) المنتظم 16/ 11. (¬4) بعدها في (خ) زيادة كلمة: إلَّا، وهي ليست في باقي النسخ، ولا في المنتظم. (¬5) المنتظم 16/ 11. (¬6) تاريخ دمشق 54/ 157 - 160، وتاريخ بغداد 2/ 361 - 362. وينظر السير 18/ 53.

هلال بن المحسن

والذكاء والفطنة والفقه والحساب وقول الشعر، سافر عن بغداد، وسكن الرَّحبة، ثم انتقل إلى دمشق فاستوطنها، وتوفي بها ليلة الجمعة، وصُلِّي عليه يوم الجمعة مُستهلَّ ذي القعدة، ودُفن بباب الفراديس، وحضر جنازته خلقٌ عظيم، وكان صدوقًا، وقال: مرضتُ فعادني أبو حامد الإسفراييني، فقلت: [من السريع] مرضتُ فارتَحْتُ إلى عائدِ ... فعادني العالمُ في واحدِ ذاك الإِمام ابنُ أبي طاهرٍ ... أحمدُ ذو الفضلِ أبو حامدِ وقال: [من المنسرح] أعراضُ قلبي غَدَتْ معرَّفةً ... فاجتمعَتْ في الحبيب أعراضي لا بُدَّ منه ومِنْ هواهُ ولو ... قرَّضني سيِّدي بمقراضِ تودُّه مُهجتي وإن تَلِفَتْ ... تَوَدُّهُ في التُّراب أبعاضي [وفيها تُوفِّي] هلال بن المُحسِّن (¬1) ابن إبراهيم بن هلال، أبو الحسين، الكاتب، الصابئ، صاحب التاريخ, ولد سنة تسع وخمسين وثلاث مئة، وجدُّه [أبو أبيه أبو إسحاق] إبراهيم صاحب الرسائل، وكان أبوه المحسن صابئًا أَيضًا، فأمَّا هو فأسلم متأخرًا [وكان يطلب الأدب] , و [كان] سبب إسلامه [ما أَنْبأنا به غير واحد عن أبي الفضل بن ناصر، حَدَّثَنَا الرئيس أبو علي محمَّد بن سعيد بن نبهان الكاتب قال: حَدَّثني هلال بن المحسن الصابئ قال: رأيتُ في المنام سنة تسع وتسعين وثلاث مئة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد جاء إلى الموضع الذي أنا فيه، والزمان شتاء، والبرد شديد، فأقامني، فأرعدتُ حين رأيتُه، فقال لا تُرَعْ، فإنِّي رسول الله، وحملني إلى بالوعة في الدار عليها دورق خزف وفيه ماء، وقال: توضأ، فتوضأت وضوء الصلاة، وكان الماء في الدورق جامدًا، فكسرته، ثم قام فصلَّى بي، وجذبني إلى جانبه، وقرأ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وركع وسجد، وأنا أفعل مثل فعله، وقام ثانيًا وقرأ الحمد وسورة، ثم سلَّم وأقبل عليَّ وقال: أَنْتَ رجل عاقل ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 13 - 14، وتاريخ بغداد 14/ 76، ومعجم الأدباء 19/ 294.

محصل، واللهُ يريد بك خيرًا، فلِمَ تدَعُ الإِسلامَ الذي قامت عليه الدلائل والبراهين، وتقيمُ على ما أَنْتَ عليه، هاتِ يدَكَ وصافِحْني، فأعطيتُه يدي، فقال: قل: أسلمتُ وجهيَ لله، أشهد أن لا إله إلَّا الله الواحد الصَّمد (¬1)، الذي لم يكن له صاحبةٌ ولا ولد، وأنك يَا محمَّد رسولُ الله إلى عبادة بالبينات والهدى، فقلت ذلك، ونهض ونهضتُ معه، فرأيتُ نفسي قائمًا على الصُّفَّة، فصِحْتُ صياحَ الانزعاج والارتياع، فانتبه أهلي، وسمع أبي، وجاؤوا فقصصتُ عليهم القصة، فوجموا إلَّا أبي، فإنَّه تبسَّم وقال: ارجعْ إلى فراشك، فالحديث يكون عند الصباح، وتأملنا الدَّورق، فإذا الجمد الذي فيه متشعب بالكسر، وتقدَّم والدي إلى الجماعة بكتمان ما جرى، وقال: هذا منام صحيح، وبشرى محمودة، إلَّا أن إظهار هذا الأمر فجأةً والانتقال من شريعة إلى شريعة يحتاج إلى مقدمةٍ وأُهبةٍ، ولكنِ اعتقِدْ ما وُصِّيتَ به، فإنني معتقدٌ مثلَه، وتصرَّفْ في صلاتك ودعائك على أحكامه، ثم شاع الحديث، ومضت مدةٌ، فرأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ثانيًا على دِجلة في مشرعة باب البستان، فتقدَّمتُ إليه وقبَّلْتُ يده، فقال: ما فعلتَ شيئًا مما وافقتني عليه وقرَّرتَه معي. قلت: بلى يَا رسول الله، تصرَّفتُ في صلاتي ودعائي على موجبه. فقال: لا، وأظنُّ أنَّه بَقِيَتْ في نفسك شبهةٌ، تعال. وحملني إلى باب المسجد الذي في المَشرعة وعليه رجلٌ خراسانيٌّ نائمٌ على قفاه وجوفه كالغِرارة (¬2) المحشوَّة من الاستسقاء، ويداه وقدماه منتفختان، فأمرَّ يدَه على بطنه وقرأ عليه، فقام الرَّجل صحيحًا معافًى، فقلت: صلَّى اللهُ عليكَ يَا رسول الله، وانتبهتُ ثم رأيتُه في سنة ثلاث وأربع مئة في بعض الليالي راكبًا على باب الخيمة التي أنا فيها، فوقف وانحنى على سرجه، حتَّى أراني وجهَه، فقمتُ إليه وقبَّلتُ ركابه، فنزل، وطرحتُ له مِخَدَّة، فنزل وجلس وقال: يَا هذا، كم آمُرُكَ بما فيه الخير لك وأنت تتوقف عنه؟ فقلتُ: يَا مولاي، ما أنا متصرِّفٌ عليه. قال: بلى، ولكن لا يُغني الباطنُ الجميل مع (¬3) الظاهر القبيح، وإن كنتَ تراعي أمرًا فمراعاتُكَ اللهَ أولى، قُمِ الآنَ وافعَلْ ما يجب ولا ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): الأحد. (¬2) الغِرارة: وعاء من الخيش ونحوه يوضع فيه القمح ونحوه. المعجم الوسيط (غرر). (¬3) في (م) و (م 1): من.

تخالف. قلت: السمع والطاعة، وانتبهتُ فدخلتُ الحمام، وجئتُ إلى المشهد فصليتُ فيه، وزال عني الشك، فبعث إليَّ فخرُ الملك فقال: ما الذي بلغني عنك؟ فقلت: هذا أمر كنت أعتقده وأكتمه، حتَّى رأيت البارحة كذا وكذا. فقال: قد كان أصحابنا يُحدِّثوني أنك [كنت] (¬1) تصلِّي صلاتنا، وتدعو دعاءنا، وحَملَ إليَّ دستَ ثياب ومئتي دينار، فرددتُها وقلت: ما أُحِبُّ أن أخلط بفعلي شيئًا من الدنيا. فاستحسَنَ ذلك مني، وعزمتُ أن أكتب مصحفًا، فرأى بعضُ الشهود رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يقول له: تقول لهذا المسلم القادم: نويتَ أن تكتب مصحفًا، فاكتُبْه فيه يتِمُّ إسلامُك. قال: وحدَّثتني امرأةٌ تزوجتُها بعد إسلامي قالت: لمَّا اتصلتُ بك قيل لي: إنكَ على دينِكَ الأول، فعزمتُ على فراقك، فرأيتُ في المنام رجلًا - قيل: إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه جماعة -قيل: هم الصَّحَابَة- ورجل معه سيفان -قيل: إنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه- وكأنك قد دخلتَ، فنزع عليٌّ أحدَ السيفين فقلَّدكَ إياه وقال: ها هنا ها هنا، وصافحك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفع عليٌّ رضوان الله عليه رأسه إليَّ وأنا مُطَّلعةٌ من الغرفة فقال: ما تَرَينَ إلى هذا؟ هو أكرم عند الله وعند رسوله وعندي منكِ ومن كثير من النَّاس، وما جئناه إلَّا لنُعرِّفك موضِعَه، ونُعلِمَك أننا زوجناكِ به تزويجًا صحيحًا، فقرِّي عينًا، وطيبي نفسًا، فما ترينَ إلَّا خيرًا. قالت: فانتبهتُ وقد زال عني كل شكِّ وشبهة. وفي رواية: أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له في المرة الثالثة: وتحقيقُ رؤياكَ إيايَّ أن زوجتَكَ حاملٌ بغلام، فإذا وضعَتْه فسمِّه محمدًا، فكان كما قال، وُلدَ له ذكرٌ فسمَّاه محمدًا، وكناه أَبا الحسن، وهو صاحب التاريخ أَيضًا (¬2). وكان [أبو الحسين] هلال من كبار العلماء الأدباء، وله التاريخ الذي ذيَّله (¬3) على تاريخ سنان بن ثابت، وبدأ به من سنة إحدى وستين وثلاث مئة إلى سنة سبع وأربعين وأربع مئة. [قلت: وكان هلال من الفصحاء، وله الكلام المليح، والنثر الفصيح، والمِلَح والنوادر، والفضائل والفواصل]. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من المنتظم. (¬2) إلى هنا من الترجمة في المنتظم 16/ 13 - 14. وينظر تاريخ بغداد 14/ 76. (¬3) في (م) و (م 1): دل به.

وكانت وفاة هلال في رمضان ببغداد، وكان قد سمع قبل أن يسلم جماعة من النُّحاة وتأدَّب بهم، منهم: أبو علي الفارسيّ، وعلي بن عيسى الرُّمَّاني، وغيرهما. وقد ذكره ولده غرس النعمة في "تاريخه" فقال في خطبة الكتاب: وبعد، فكان والدي وصَّى إليَّ لما أحسَّ بقدوم الوفاة، ويئس من أيام الحياة، ولمعَتْ له لوامع المنية، وقرعت سمعَه قوارعُ البلية؛ رغبةً في زيادة الذكر ونمائه وانتشاره وبقائه، بصلة كتاب التاريخ الذي ألَّفه إلى آخر سنة سبع وأربعين وأربع مئة تأليفًا يعجز عنه من يروم مثلَه، يفتضح فيه من يتعاطى فضله، إذ هو السحر الحلال، والعذب الزلال، والصادر عن أوْحَدِ دهره، وفريدِ عصره، وشَرَع فيه وقد أتَتْ عليه سنة جرَّب فيها الأمور ومارسها وخبرها ولابسها، وأنا عارٍ من جميع صفاته، وخالٍ من سائر سِماته: [ومن البسيط] وابنُ اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطِعْ صولةَ البُزْلِ القناعيسِ (¬1) لكنَّ قوله مستمَعٌ، ومرسومَه متَّبعٌ، وأمرَه مطاع، ورأيَه غيرُ مُضاع. ثم إنه قال في سنة ثمان وأربعين وأربع مئة: وفي يوم الأربعاء سادس عشر رمضان تُوفِّي والدي الرئيس أبو الحسين هلال بن المُحسِّن بن إبراهيم بن هلال، ومولده يوم الأحد النصف من شوال سنة تسع وخمسين وثلاث مئة، فانتقض السُّؤدَدُ بمصابه، وانثلم الفضلُ بذهابه، فهو كما قيل: [من البسيط] لا أُمَّ للموتِ كم يُبلي بجِدَّتِهِ ... في كل يومٍ حكيمًا ما لَهُ خلَفُ أصابَ قصدًا هلَالًا في تكامُلهِ ... وبحرُ منطقِهِ ما ليسَ يُغتَرَفُ لم يُبلِهِ الدهرُ ما دامَتْ بدائِعُهُ ... تُطوى على جَمْعِها الأخبارُ والصُّحفُ وأَنشد أَيضًا: [من البسيط] ماتَ البديعُ وغارَتْ دُرَّةُ الفَطِنِ ... واستدرجَ الموتُ بحرَ الفضلِ في كفنِ للهِ دَرُّ المنايا ما صنعْنَ به ... وما تضمنتِ الأكفانُ من بدنِ ¬

_ (¬1) قائله جرير، وهو في ديوانه ص 250، والبُزْل؛ جمع بزول: وهو الجمل، والقناعيس؛ جمع قِنْعاس: وهو الجمل الضخم العظيم. اللسان (بزل) و (قنعسَ).

قولُه: للهِ دَرُّ المنايا ما صنعْنَ بهِ، فيه نظر؛ لأن لفظة "دَرّ" إنما تُستعمل في استحسان الأفعال، وقد كان هلال من الفصحاء؛ قال يمدح رجلًا: هو خارجٌ من منبع الصفا، والجٌ في مربع الوفا. وقال: فلانٌ مَعلَمُ الرُّبا، منعم للرِّبا، حاضر الدعوى، غائب العدوي، جلَّت عنده الحِباء، لمَّا جلَتْ عنده النِّهاء. وقال: واللهُ يجعل أبكارَ عرائسِه مقبولةَ المُجتلى، وثمارَ غرائسه مَعْسولَةَ المُجتنى. وقال: امتناع اللقاء يحلُّ عقد الإجار بحبل عهد الوفاء. وقال: أنا واحد من أوليائك، وإن كنت واحدًا في ولائك. وقال: تولَّاه الله فيما ولَّاه، ووالى إليه جميلَ ما أولاه. وقال: دوامًا لا انفصامَ لِعُراه، ولا انفصال لِعُلاه. وقال: وليس شكري إياك عن بِرٍّ ائتَسَيتَه لما أسْدَيتَه، وعُرفٍ واليتَه لما أوليتَه، ولا لمُهجةٍ حويتَها ما أجبتَها، وحُشَاشَةٍ ملَكْتَها لما تداركتها، بل لأجل الحُرمة التي تمكَّنت فتملَّكت، والثقة التي استحكمت فتحكَّمت. وقال: فلأن روضة الدهر وزهرتُه، ومستراد الطَّرف ونزهتُه، وخِلْسةُ العيش ونُهزَتُه، وأريحية السرور وهزَّتُه. وقال: ذو العلم المشهور، والعلم المنشور. وقال: في دولةٍ مؤذِنةٍ بالمقام والاستقرار، ضامنةٍ للدوام والاستمرار. وقال: هو لأسباب المعالي جائز، ولغايات المساعي حائز. وقال: أقتدي بالخلفاء فيما حكَوه من ذلك المثال، أو حاكُوه على ذاك النَّوال. وقال: صحيفة مجلوَّة، وصحيفة مملوَّة. وقال: الحمد لله الذي أعطى الإنسان بفضيلة النُّطْق، مزيَّة السَّبْق، وجعل له من العقل الصحيح، واللسان الفصيح، مُبينًا عن نفسه، ومخبرًا عما وراء شخصه، فأضحى بذلك قويًّا على استنباط واستخراج المستنبَطات. وقال يذمُّ رجلًا: لا يبدو له وجه حياء، ولا يندى منه كفٌّ حِباء. وقال: عَدلَ عن التجبُّر والاستعلاء، إلى التحتُّر (¬1) والاستجداء. وقال: ذلك ما جنَيتَه على نفسك، وجنَّبتَه من غرسك. وقال: عَلِقَتْهم النحوس، فعقلتهم الحبوس. ¬

_ (¬1) التحتُّر: التضيق في الإنفاق. المعجم الوسيط (حتر).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [19]

السنة التاسعة والأربعون وأربع مئة

السنة التاسعة والأربعون وأربع مئة فيها في المحرَّم استعفى ابن النسوي من ولاية الشرطة ببغداد؛ لاستيلاء العيَّارين واللصوص عليها، بحيث أُقيم تحت تاج الخليفة مَنْ يحفظ الزبازب والطيار الذي للخليفة من الحريق. وفيه فُتحت واسط، وهرب ابن فَسانْجِس وابن يانس في ثالث عشرة، وأُقيمت الدعوة للقائم، وفي العشر الآخر منه اشتدَّ الغلاء ببغداد، فبِيعت العقارات بالرُّغفان، وأُكِلت الميتات والكلاب والقطاط. قال غرس النعمة: لقد شاهدتُ امرأةً بنهر مُعلَّى ومعها فخذ كلب ميت قد اخضرَّ وجفَّ وهي [تنهشه و] (¬1) تأكله. ورأيتُ امرأةً رمَتْ من سطح طائرًا ميتًا، فاجتمع عليه خمس أنفُس واقتسموه وأكلوه. وخرب البلد (¬2) والسواد جميعه خرابًا دارسًا، ونقضت الدور الشاطية وغيرها، وسُدَّت أبوابٌ كثيرةٌ مات أهلها [وخلا منها من كان بها] وكان الإنسان يمشي ببغداد في الجانبين فلا يرى إلَّا الواحد بعد الواحد. وفي المُحرَّم مات [عيسى بن] خميس بن ثعلب صاحب تِكريت، وقَتلَتْ زوجتُه أميرةُ بنت غُريب أخاه أَبا الغشَّام (¬3)، وكان معتقلًا في القلعة، فخافت منه أن يستولي عليها وعلى القلعة، وتسمَّت بعيسى، وقيل: إن عيسى أمرها بقتله، وأصعدت إلى الموصل، فنزلت على [نور الدولة] دُبَيس [بن مزيد] وكان [أبو المعالي] قريش قد خطبها وأرغبها، فمالت إلى عيسى [بن خميس هذا المتوفى وتزوَّجته] , ووقع بين عيسى وقريش لأجلها، وخطب البساسيري، ونزع طاعة قريش، فلما أصعدت إلى الموصل بعث إليها قريش فأطاعته. [وقال ابن الصابئ: ووجدت في أتون بباب البصرة إنسانًا بصيرًا وآخر ضريرًا كانا يُكديان (¬4) على القنطرة، قد شويا صبيةً صغيرةً في نار التنور وهما يأكلانها، وقد بقي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (م 1)، وما سيأتي في هذا الجزء من زيادات لم يُشر إليها فهو منهما. (¬2) تحرفت في (خ) إلى: الولد، والمثبت من باقي النسخ. (¬3) بعدها في (خ) و (ف) زيادة: عيسى. (¬4) يُكديان: يُلِحَّان في المسألة. المعجم الوسيط (كدي).

رأسها وأطرافها، فقتلوا الضَّرير ورموا به في بئر، ونكسوا البصير من باب القنطرة على رأسه إلى الصراة، وكان الضعفاء يعملون مثل ذلك، ولا يُعلم بهم]. وفيه قبض عميد العراق على صندل خادم الخليفة، فقامت عليه القيامة، وكتب إلى رئيس الرؤساء رقعةً طويلةً بخطِّه يقول فيها: قد عرفت ما كان الانقباض واقعًا منه عند النص على استخدام أَحْمد بن عليّ -يعني العميد- على الباب العزيز، فإن أسباب الكراهة لذلك كانت باديةً، ثم ظنَّ أنَّ ما سوَّفه به من اللفظ العالي السامي المعظَّم يوم الوداع كافٍ لملوك الأرض، فضلًا عنه، وذكر أفعال العميد وما عامل به أمراء الأطراف، وقال: ومن العناء رياضة الهَرِم (¬1)، فأطلق الخادمَ، واعتذر بأنه لم يعلم أنَّه من خدم الخاصة، وفي هذا الوقت أُسِرَ أبو الغنائم بن فسانْجِس، وسببه أن أَبا الفضل الهَمَذاني عميد العراق خرج من بغداد في جماعة من الجند والعجم والعرب لاعتراض ابن فسانْجِس في إصعاده من واسط، فصادفوه يوم الثلاثاء رابع عشر صفر، وهو في جمع كثير من الغلمان الواسطية والدَّيلم وبين خَفاجة ورجاله، وكان الهَمَذاني في نَوْشير (¬2)، فلما رآه العميد رمى بنفسه ومَنْ معه عليهم، فهزمهم وقتلهم، وأَخذَ ابنَ فسانْجِس أسيرًا وأخاه وأهلَه، وكتب إلى بغداد على جناح طائر، فضُربت البشائر، وحُمل إلى بغداد يوم الأحد تاسمع عشر صفر على [جمل] (¬3) وعليه قميص أحمر، وطرطور أحمر بوَدَعٍ، وأُخِذَ من رَحْله دراهم عليها اسم صاحب مصر، فعُلِّق بعضُها في عصابة على جبينه، وطِيفَ به بغداد من الجانبين، وصعد الخليفة ورئيس الرؤساء إلى المنظرة بباب الحلبة حتَّى شاهداه، ووراءه النَّاس يضربونه، ويُنادى عليه: هذا جزاء من كفر النعمة، وأساء إلى من أحسن إليه. فلمَّا بلغ النجميَّ حُطَّ وقد نُصِبت له خشبة فصُلِبَ عليها، وشُدَّت رجلاه في رأسه، وقُطِعَ رأسُه، ورُميت جثَّتُه إلى الكلاب فأكلتها، وبعث العميد رأسه إلى السلطان مع المنجوق الذي له، وعليه اسم صاحب مصر، فأمر السلطان بأن يُعلَّق رأسُه على المنجوق ويُطاف به في العسكر. ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت لمثل شعريٍّ من الكامل صدرُه: أتروضُ عِرسكَ بعد ما هَرِمت. وهو في المستقصى من أمثال العرب 2/ 349، وجمهرة الأمثال 2/ 40، ومجمع الأمثال 2/ 301. (¬2) هكذا في النسخ، ولعلها: نَوْشَار: وهي قرية ببَلْخ. ينظر معجم البلدان 5/ 310. (¬3) هذه الزيادة من (ف).

وفي صفر كُبِسَت دارُ أبي جعفر الطُّوسي فقيه الشيعة بالكَرْخ، وأُخِذَ ما كان فيها من الكتب وغيرها، وكرسيٌّ كان يجلس للكلام عليه، وسَناجق (¬1) بِيض كان الزوَّار من أهل الكَرْخ قديمًا يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة المشهدين، فأحرق الجميع في سوق الكَرْخ، وكان ببغداد الزهيريُّ وابنُ اليدن، وكانا فاتِكَين، فجرى منهما في هذا اليوم على أهل الكَرْخ من السب والشتم شيءٌ عظيم، وقالا: أنتم أعداء الخليفة، ولم تستعملوا مع ابن فَسانْجِس قبيحًا في قول ولا فعل لمَّا شهروه في محالِّكم، وأطلق رئيس الرؤساء لسانَه في الشيعة، وتهدَّدهم بالقتل والصلب. وفي ربيع الأول عقد السلطان جسرًا على الزاب الأول وعبر إلى قلعة كُشاف (¬2)، وكانت لمحلي بن درع، ففتحها وأخذ منها غلَّاتٍ كثيرة، وأصنافًا مختلفةً، وكان قد ضاقت به الميرة. وفي مستهلِّ ربيع الآخر قصد الزُّهيري وابن اليدن وجماعةٌ من أهل باب البصرة والحربية ونهر طابق ودرب الشعير والقلَّائين مشهدَ موسى بن جعفر، ومعهم النوائح فيه بقصائد في حريق المشهد، وسنَّموا قبور المشهد، وفعلوا كلَّ قبيح، وانتقل العلويُّون منه، ولم يبقَ فيه إلَّا القليل، فمن القصائد: [من السريع] يَا مُوقِدَ النيرانِ (¬3) بالمشهدِ ... بُورِكَ في كفَّيكَ من مُوْقِدِ طهَّرتَ أرضًا كلُّ سُكَّانها ... ما بين زنديقٍ إلى مُلحدِ لا حافظ للذِّكر فيهِمْ ولا ... مقدِّسٌ يركعُ في مسجدِ من كلِّ بِدْعيٍّ له مذهبٌ ... متخذًا للرِّفضِ بالمسندِ لا تابِعٌ للدين فيهمْ ولا ... معتقِدٌ للبعثِ من مرقدِ بلى يظنُّون وويلٌ لهم ... أنَّ المنايا آخرُ المَورِدِ وأنَّهم مثلُ حشيشٍ ذوي ... بعد اخضرارٍ ليس بالعُوَّدِ ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): مناجيق، وفي المنتظم 16/ 16: مجانيق. والسناجق جمع سنجق، وهو: الراية. (¬2) كشاف: موضع من زاب الموصل. معجم البلدان 4/ 461. (¬3) في (ف): النَّاس.

فهل بهذا أحدٌ راضيًا ... كلَّا وربِّ الحجرِ الأسودِ فلا سقاهم أبدًا وابلًا ... من بارقٍ يلمعُ أو مُرْعِدِ ولا رعى من عهدهم ذمةً ... في مولدٍ يولد أو والدِ ومن أخرى: [من المجتث] سَلْ دارساتِ الطُّلولِ ... كم بينها من قتيلِ واربَعْ على عَرَصاتٍ ... بين النَّقَا والدَّخولِ فسلِ القبابَ العوالي ... بالمشهدِ المخذولِ وللعيونِ اللواتي ... تجري ببول (¬1) الوُعول عن كلِّ زنديقِ كفرٍ ... عن كلِّ حقٍّ عَدولِ يا مشهدًا يشهد الكفْـ ... ـرَ في ليالي القَبولِ تجولُ فيه البغايا ... على ذكورِ الفُحولِ يُمازحون البلايا ... بسبِّ صَحْبِ الرسولِ حبلُ الرَّوافضِ أهونُ ... بالرَّفضِ من شُرَحبيلِ وفي ثامن ربيع الآخر عاد الزهيري وابن اليدن والجماعة المُقدَّم ذِكْرُهم إلى المشهد وسنَّموا ضريح موسى بن جعفر والجواد وجميع القبور، وصَعِد على شريح الإِمام رجلٌ وقال: يَا موسى بن جعفر، إن كنت تُحِبُّ أَبا بكر وعمر فرحمك الله، وإن كنت تبغضهما، وذكر اللعنة. وصَعِد آخرُ يُعرف بابن فهد، فركض عليه، فيقال: إنه انتفخت قدماه، وعالجهما الطبيب وبطَّهما، وأخذ الزُّهيري طاسة فضة كانت عند رأس الإِمام يُطرح فيها الخَلوق، وقال: هذه يُثرد فيها، وأنت يَا موسى ممَّن يدَّعي الروافض؛ أنك تسمع الكلام وتردُّ الجواب، وما قدرتَ على منعي مما فعلت، وصارت الجماعة في كل سبت يقصدون المكان ومعهم النوائح، فينوحون ويلعنون الشيعة، وكذا في جميع مشاهد الشيعة، وكانوا يدخلون الكَرْخ فينهبون ويقولون: أسلموا يَا كفار. وفتح في المشهد باب إلى الحربية، وجُعِلَ طريقًا للسابلة، وكل هذا يتقدم رئيس الرؤساء، وجاء كتاب سيف الدولة إبراهيم ينَّال إلى أخيه السلطان يتعلَّل ويُسوِّف، فغاظ ذلك ¬

_ (¬1) في (خ): ببوس! والمثبت من (ف).

السلطان، وكان ينَّال مقيمًا بطُوس، ووصل داود ابن أخي السلطان بِنيَّة غزاة الروم، وكان معه خلقٌ كثير، فتعوَّض به عن إبراهيم يَنَّال، وسار السلطان إلى الموصل، واندفع البساسيري عنها مقدار عشرة فراسخ، ونزل السلطان تل بُوَيه، وهرب أهلُ الموصل، وعبر السلطان إليها يوم الثلاثاء رابع الشهر، فنزل دار الإمارة، ونزل أصحابه دور النَّاس، وكانت قد خَلَتْ منهم، وكتب السلطان إلى الخليفة يخبره بنزوله الموصل، وسار منها، فنزل الدَّكَّة، والبساسيري ومَنْ معه بِنَوْشَرى (¬1) وبينهم عشرة فراسخ، وأقطع السلطان الموصل لهزارسب، وطالبه العسكر بنهبها، فقال: هذا بلد قد أقطعناه لهزارسب وقد خَدَمنا، ونحن محتاجون إلى الإقامات والعلوفات. فقالوا: إمَّا تأذن لنا في نهبه، وإلَّا انصرفنا. وسأله هزارسب في حريم المسلمين وأموالهم، فقال: قد دافعتُ عنهم وما أطقتُ، ولا بدَّ لهم من إقامات أو عطاء، وما معي مال، فنمضي الليلة ونُخرِجُ مَنْ في البلد إلى معسكرك ليحرزوا نفوسهم، فأرسل إلى أهل البلد، وأخبرهم، فارتاعوا، وخرج مَنْ قَدَر منهم، وأصبح العسكر فدخلوا البلد، فما أمسى إلَّا وهو خراب دارس، وحمي لهزارسب النساءُ والرجالُ، وفرَّق فيهم مالًا، وأعادهم إلى البلد. ذكر ما جرى بين عسكر السلطان والعرب: لمَّا طالت المدة في المقام ضجر كلُّ واحد من الفريقين، فقال هزارسب للسلطان وكان عنده في المنزلة العالية يستشيره في أمور المصلحة: أسير وأُشرف على حلل العرب، فإما أن نُنتج صلحًا، أو نُثير حربًا، فقد طال المُقام، وإني أجود معي ألفَ غلام [ممن أختار. فقال له السلطان: أَلْف غلام] (¬2) لا يكفونك، فخذ ثلاثة آلاف. فقال: في أَلْف كفاية، وفي الزيادة عليهم تعب. وإنما أسري جريدةً (¬3). فقال: افعَلْ. وسار وأقام الكمناء، فوافق العربَ راحلين إلى بَرْقعيد، فلما رأوا طلائعه لم يشكُّوا أنَّه السلطان بنفسه، فانهزموا، وتبعهم أسرًا وقتلًا، وأُخذ محمَّد بن منصور أسيرًا، وعاد ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ، ولعلها: نَوْشَهر: وهي اسم لنيسابور ونواحيها بخراسان. ينظر معجم البلدان 5/ 311. (¬2) هذه الزيادة من (ف). (¬3) الجريدة: الخيل التي لا رجَّالة فيها. المعجم الوسيط (جرد).

فجلس السلطان على كرسي، وأحضر منهم جماعةً وأرماهم تحت أرجل الفِيَلة، وفيهم غلامٌ أمردُ وضيء الوجه، فامتنع الفيل من قتله، فعفا عنه السلطان. ولمَّا جرَتْ هذه الواقعة جاءت رسلُ قريش ودُبيس إلى السلطان يسألان (¬1) العفو والصفح ويدخلان في الطاعة، ويقولان: إنَّ البساسيري حُكْمُه حُكْمُنا، ويدخل فيما دخلنا فيه، ويؤدي في كل سنة ما جرَتْ به العادة، ويخطب للدولة العباسية، ويعود إلى ما كُنَّا عليه. فقال السلطان: إننا لكما مؤثرون، وبما جرى منكما مسامحون، ويجب أن تُنفِذا مَنْ تَثِقا به ليتوثَّق منا، ويسمع لفظنا لتسكن نفوسكما إلينا، وتطآ بساطنا، ونُفيض الإنعام عليكما، وأما البساسيري فالعفو فيه راجع إلى أمير المُؤْمنين، فإن عفا عَفونا وسلَّمنا إليه من الأعمال ما يختار، فقد بلَغَنا من شهامته ما يقتضي الاهتمام بمراعاته. وانصرف الرسلُ ثم عادوا بالشكر، وسألوا إبعادَ ابن وَرَّام ليقرر ذلك، وذكروا أن البساسيري لمَّا عرف ذلك رحل إلى الرَّحبة ومعه الغلمان البغدادية ومَنْ تَبِعه من بني شيبان والأكراد ومقتبل وجماعة، ومضى خائفًا وقد ثَقُل عليه حديث الصلح. وفي رواية: أن سبب هذه الرسالة من السلطان أنَّ محمَّد بن منصور لمَّا أُسِر قال لهزارسب: قد أنعم عليَّ السلطان ببقاء نفسي، وأنا واللهِ أُشير عليه بما أنصحه فيه، وأجلب به الخير لبني عمي وعشيرتي والناس أجمعين، وقد خربت بلاد العراق، وضاعت الأموال، وهلكت الدنيا التي يقع عليها القتال، والمصلحة أن تأمرني أن أدخل بينه وبين العرب، وأرُدَّ الجميع إلى طاعته وخدمته، وتُقرِّرَ ما في أيديهم على ما كانوا عليه مع (¬2) ملوك العرب، فلو أمنوا ثغرة هذا الجيش ما عصوا، وتحقِنَ هذه الدماء، وتكون أَنْتَ الواسطة، فعرف هزارسب السلطان، فقال: مصلحة، أُطلقه وأبعثه رسولًا إليهم. فقال محمَّد: بل أبقى ها هنا وأُراسلهم. فبعث إليهم بعضَ العرب، وبيَّن لهم وجه الصواب، فأجابوا, ولمَّا عرف البساسيري رحل عن الحلل مغاضبًا لقريش ودُبيس، فنزل على فرسخ منهم، فركبا إليه وعايناه وقالا: قد خرِبَتْ بلادُنا، ¬

_ (¬1) هكذا في (خ) -وهي النسخة الوحيدة لذكر هذ الخبر- بالتثنية، وكذلك في الكلام الآتي، والصواب أن يكون بضمير الجمع كما سيأتي في آخر الخبر. (¬2) في (ف): من.

وقُتِلَ رجالُنا، وسُبي حريمُنا بسببك، والحرب سِجال، وما ندري ما يكون، وهذا السلطان معه أممٌ لا طاقةَ لنا بهم، وما راسلناه حتَّى اقترحنا عليه أن تكون البصرة لك، وحكمك حكمنا في صلحنا، وإلا فقد خربت ديارنا. فقال: لستُ لما يُبذل لكم متحققًا، وما غرضُه إلَّا تبديدُ جمعنا، وإنهاءُ حيلةٍ علينا، وسخرية بنا، وبعد فأنا صاحب سلطانٍ بعيدِ عني، ولستُ مالكًا لأمري، ولا بُدَّ من مطالعته، واستدعاء إذنه فيما أفعل. وأغلظَ لهم فانصرفوا، وعاد رسولُهم ابنُ وَرَّام وقرَّر ما أرادوه، فأفرج السلطان عن محمَّد بن منصور والجماعة المأسورين، واستقرَّ الأمر على مسير هزارسب إليهم؛ لاستخلافهم وإحضارهم إلى الخدمة، وقال: أنا رهينةٌ عندكم، فإن رأيتم ما تُحِبُّون وإلا فنفسي لأولادكم وأهليكم. فقالوا: نحن له طائعون، وإذا ردَّ علينا بلادَنا وانحدر إلى العراق نطأ بساطه بين يدي العتبة الشريفة، ويكون الخليفة هو المتوثق لنا منه. فقال هزارسب: إذا كنتم لهذا الأمر كارهين، فأنا أضمن عنه الإجابة إلى ما سألتم. فانتدبوا سبعين فارسًا من أعيانهم ووجوه القبائل، وساروا مع هزارسب وابن وَرَّام، فركب عميد الملك لاستقبالهم، وأنزلهم هزارسب في خيمته، وبعث لهم السلطان خيمةَ كبيرةً ينزلونها إكرامًا لهم وتشريفًا، وجاء غلمانٌ من الترك في الليل، فضربوا خيل العرب بالنُّشَّاب، فقتلوا منها أربعةَ أفراس لها قيمة، وبلغ السلطان فأنكر ذلك، واعتقل الغلمان، وحضر القوم من الغد عند السلطان، فأكرمهم، واعتذروا إليه، فقَبِلَ عذرهم، وخاطبهم بالجميل والصفح، وأنه مُؤثِرٌ لخدمتهم، مختارٌ لقُربهم، وتوثَّق منهم، وطابت قلوبُهم، وتقدَّم بكَتْبِ أعمالهم لهم، وزاد في إقطاعهم، وخلع على أبي الفتح بن وَرَّام وأعيان القوم، وعادوا طائعين. ولمَّا رأى العسكرُ الصلحَ قد تمَّ سألوا السلطان نَهْبَ بلاد ابن مروان، وقالوا: قد خرج عن الطاعة. وساعد البساسيري، فأذن لهم، فشفعت الجماعة الذين حضروا فيه وقالوا: قد أخطأ مثل ما أخطأنا، وقد وقع العفو عنا، فكذا هو. فقال السلطان: لا أدري هل هو مقيم على طغيانه أو رجع إلى الطاعة؟ فقالوا: نحن نسير إليه وننظر ما يكون منه. ثم ساروا نِصفَ جمادى الآخرة، وسار السلطان ثامن عشرة، فنزل على ظاهر بَلَد (¬1)، واتفق أن أَبا الفضل ¬

_ (¬1) بَلَد: مدينة قديمة على دجلة فوق الموصل بينهما سبعة فراسخ. معجم البلدان 1/ 481.

ناصر بن إسماعيل العلوي كان قد نفذه السلطانُ -لما قدم بغداد- إلى ملك الروم في المهادنة، فجعل طريقه في رجوعه على ابن مروان، ومعه رسول ملك الروم بهدايا كثيرة، فلما اجتمع بهما ابنُ مروان أنزلهما وأكرمهما، وقال: أَقيما عندي، فإن الطريق مَخوفٌ، والعرب قد انتشرت في الجزيرة، وأخاف عليكما. فأقاما، وبعث إليه البساسيري وقريش ودُبَيس يطلبون النجدة، فأنجدهم، ووقع للعلويِّ إنما احتبسهما انتظارًا لما يكون من السلطان مع العرب، فإن كانت لهم عليه أخذ ما معهما وفاز به، فكتب العلويُّ إلى السلطان يُعرِّفه ذلك، فوقر في صدر السلطان، ولمَّا وقع الصلح، وتفرَّق العرب، وانفصل البساسيري عنهم، أرسل ابنُ مروان خادمًا إلى خاتون زوجة السلطان، واستجار بها، وأهدى إليها هديةً، وقال: إنما فعلتُ ما فعلتُ خوفًا على بلادي، وأمَّا احتباس الرسولين فإنما كان شفقة عليهما، وأنا شيخٌ قد نيَّفْتُ على السبعين، وما قصدي إلَّا حفظ هذه الثغور من النهب والخراب. فأعادت خاتون على السلطان ما قال، وسألَتْه فيه، فقال: قد تيقَّنتُ احتباسه للرسولين طمعًا فيما كان معهما ومعاونته لأعدائنا، وتربُّصه الدوائر بنا، وهذا ذنبٌ لا يُغفر، وكان الأمير قوني بن داود -نسيب السلطان- أغار على بلاده وسبق، ولمَّا كان رسول الروم بميَّافارقين كتب إلى خاتون كتابًا عنوانه: عبدُ مولاتنا الملكة الجليلة والخاتون الكريمة البطريقُ غلامُ الملكِ القدِّيسِ المنفردِ بممالك الروم، وذكر فيه أن الأمير قوني بن داود قد شنَّ الغارات، ونهب أعمال الملكية، وأتى عليها بالكلية، ولولا تعويل الملك القِدِّيس صاحبي على ما بينه وبين الحضرة السلطانية من العهود والمواثيق لكانت عساكره قد خرجت إلى الأطراف، وأمرهم بالانصراف عنها، وذكر كلامًا طويلًا. وأما العرب فتفرقوا في البلاد (¬1)، وسار بعضهم إلى البساسيري، وبعضهم إلى الجزيرة (¬2). وفي جمادى الآخرة ورد كتابٌ من بخارى [من وراء النهر] أنَّه وقع عندهم وباءٌ لم يُعهَدُ مثلُه ولا سُمِعَ به، حتَّى إنه خرج من هذا الإقليم في يوم واحد ثماني عشرة آلاف جنازة، وحُصِر من مات منه، فكانوا أَلْف أَلْف وست مئة وخمسين ألفًا إلى تاريخ الكتاب، ومن بقي من النَّاس يمرُّون في هذه البلاد فلا يرَون إلَّا أسواقًا خاليةً، وأبوابًا ¬

_ (¬1) في (خ): البادية، والمثبت من (ف). (¬2) بعدها في (م) و (م 1) زيادة: وفي ربيع الأول تُوفِّي أبو العلاء المعري. قال ابن الصابئ.

مغلقة، وتعدَّى الوباءُ إلى أذربيجان، ثم إلى الأهواز والبصرة وواسط وتلك الأعمال، حتَّى كانت تُحفر زُبية (¬1) فيُلقى فيها عشرون وثلاثون من النَّاس، وسببه قلة القوت والجوع، ومن مات قريبًا من دجلة سحبوه برجله وألقوه فيها، وكان الضعفاء ينبِشون الموتى ويشوونهم ويأكلونهم [وكذا الكلاب كانت تنبِش الموتى وتأكلهم] وكان لرجل أرض يسأل في بيعها بعشرة دنانير فلم يفعل، فباعها بخمسة أرطال خبز، فأكلها ومات من وقته. ووصل إلى بغداد نسخة كتابٍ كُتِبَ من سمرقند إلى إلخ مضمونه أنَّه يُدفن في كلِّ يوم من صالحي المسلمين خمسة آلاف وستة آلاف وأكثر، وغُلِّقت الأسواق، واشتغل النَّاس ليلًا ونهارًا بدفن موتاهم وغسلهم وتكفينهم، وكلُّ دار يدخلها الموت يأتي على الجميع، وكان المريض ينشقُّ قلبه عن دم المُهجة، فتخرج من فمه قطرة فيموت، أو دودةٌ لا يدري ما هي فيموت. وغُلِّق من البلد من دور المُقدَّمين وأعيانهم أكثرُ من ألفي دار، ولم يبقَ فيها كبير ولا صغير ولا [حرٌّ ولا عبدٌ ولا] وارث، وتاب النَّاس [كلهم] , وتصدَّقوا بمعظم أموالهم، وأراقوا الخمور، وكسروا المعازف، ولزموا المساجد وقراءة القرآن، والنساءُ في البيوت يفعلن كذلك، وكلُّ دار فيها خمر يموت أهلها في ليلة واحدة، ومن كانت معه امرأة حرام ماتا معًا، ومات قيِّمُ مسجد وله خمسون أَلْف درهم، فلم يقبَلْها أحد، ووُضعت في المسجد تسعةَ أيام بحالها، فدخلت أربعة أنفُس من الخُلْجِ (¬2) ليلًا، فأخذوها فماتوا عليها. وكلُّ من أوصى إلى إنسان مات الموصى [له] قبل الموصي، وكلُّ مسلِمَين كان بينهما هجران فلم يصطلحا ماتا، وكان عند الفقيه عبد الجبار بن أَحْمد سبع مئة فقيه، فمات عبد الجبار والفقهاء بأسرهم، وكان في دار رجل من الأغنياء من الأولاد والأهل والغلمان ما يوفي على الخمسين، فماتوا كلُّهم في ثلاثة أيام، وخلفوا أكثر من ألفي أَلْف دينار، ولم يبقَ منهم إلَّا طفل صغير ابنُ خمس سنين، والمال جميعه في الدار لا يجسر أحدٌ أن يدخلها، ونزل تركى على مريض من السطح وعليه لحاف ديباج، فأخذه التركي، فمات ويده في طرف اللحاف، وباقيه على صاحبه. ¬

_ (¬1) الزُّبية: الحفرة التي تُحفر لصيد السباع. اللسان (زبي). (¬2) الخُلْج: المُتعَبون والمرتعدو الأبدان. اللسان (خلج).

قال: ودخلنا على مريض قد طال نزعه سبعةَ أيام، فأشار بإصبعه إلى بيت في الدار، فدخلناه وفتَّشناه وإذا بخابية خمر، فأقلبناها، فخلَّصه الله تعالى من الموت. [قال: ولم يكن مثل هذه الواقعة منذ مات آدم وإلى الآن] ولا يعلم من مات في أرض المشرق، بل قيل: إن سمرقند من غُرَّة شوال وإلى سلخ ذي القعدة أُحصي مَنْ خَرَجَ من أبوابها من الجنائز، فكانوا مئتي أَلْف وستة وثلاثين ألفًا. قال: وأصل هذا الوباء من تركستان بلاد الكفار، ثم خرج منها إلى بلاد ساغون وكاشغر والشاش وفَرغانة وتلك النواحي، ووصل إلى سمرقند في سابع عشرين رمضان في هذه السنة، ولم يعبر النهر، حتَّى إن جماعة من أهل بخارى عبروا إلى بَلْخ، فنزلوا في رباط منها، فماتوا بأجمعهم دون أهل بَلْخ، وكان الموت في الشباب والكهول والصبيان والنساء من العوام، فأما الملوك والعساكر والمشايخ والعجائز فلم يَمُتْ منهم إلَّا القليل، ثم انفجرت فوهة بما وراء النهر من مكان تجتمع فيه المياه من الأمطار والثلوج، فغرقت الجبال والقلاع والبلاد والضياع وعامة النَّاس، فلم يبقَ إلَّا القليل. ورَدَّ عميد الملك على دُبيس ضياعَه فوجدها خرابًا لا أكَّار (¬1) فيها ولا حيوان، فبعث رسولًا إلى بعض النواحي ليجمع له الرجال، فلقيه جماعةٌ فقتلوه وأكلوه. ووقع حريقٌ ببغداد لم يُعهَدْ مثلُه قبلَه (¬2). قال ابن الصابئ: عبرتُ إلى الجانب الغربي يوم الأربعاء لسبعٍ بَقِينَ من جمادى الآخرة وقد احترقت قطيعة عيسى وسوق الطعام والكنيس وأصحاب السقط وباب الشعير و [سوق] العطارين وسوق العروس وغير ذلك، فرأيت أمرًا موحشًا يدلُّ على خراب البلد وانقراضه، ورأيت المساكن قد علاها التُّراب وعليها دلائل السخط والانتقام (¬3). ولم تقع عيني على من عليه ثوب صحيح ولا نظيف، ورأيت في قطيعة عيسى خمسةَ أنفُس، وبطلت الصلاة في جوامع بغداد إلا جامع الخليفة {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إلا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58]. ¬

_ (¬1) الأكَّار: الحرَّاث. المعجم الوسيط (أكر). (¬2) العبارة في (ف) و (م) و (م 1): لم يحترق قبله مثله. (¬3) بعدها في (م) و (م 1) زيادة: والإدبار. وما بين حاصرتين من المنتظم 16/ 18، والبداية والنهاية 12/ 71.

[وفي هذا الشهر لمَّا سار طُغْرُلْبَك إلى مرج باغيدا من بَلَد، وقرُب من حلل العرب، أجفلوا منه إلى العين الباردة، وظفِرَ قوم من العسكر بأعقاب رحالهم فنهبوها، وكتب قريش وابنُ مزيد إلى هزارسب: أَنْتَ كنت الواسطة بيننا وبين السلطان، وضمنتَ لنا انصرافه عن جزيرتنا، وقد نهبَنا قوم من أصحابه. وبلغنا أن إبراهيم ينَّال ورد هَمَذان سائرًا نحونا، فعرض الكتاب على عميد الملك، فقال: ما نحن إلَّا على ما بذلناه، ولا كان مسيرنا لقُبح رأي تجدَّد لنا، وإنما قصدنا بلاد ابن مروان، وما أقدر أن أقول للسلطان: ارجِعْ عن بلادك، ولكن إذا تنجَّز أمر ابن مروان سألته أن يخفف الوطأة عن هذه الديار -واتَّفق أن ابن مروان سرَّح الرسولين ومعهما هدية فيها خمس مئة ثوب ديباج، وخيل، وغيرها- وسأل هزارسب للسلطان فيه شفاعة، ولا قبِلَ له هدية، وردَّها، وفي هذا الوقت أُخذ جاسوس في بغداد وعُوقب، فأقرَّ أنَّه من الرَّحبة، وأن البساسيري على عزم قصد بغداد، فانزعج النَّاس، وجمع عميد العراق أصحابه من البلد إلى دار المملكة، وأصعد إلى سورها الحجارة والنفط، وعمل الدَّبَّابات والعرادات والمجانيق، ووقع التشاغل بالتحصين، فصارت الدارُ مثل القلعة، فبينا هم على هذا ورد كتاب من عسكر السلطان يقول: وصل سيف الدولة إبراهيم ينَّال من همَذان في عشرين أَلْف رجل، فخرج النَّاس للقائه، ولم يتخلَّف إلَّا السلطان، ولمَّا وقعت عينه على عميد الملك قال له بالتركية: صالحت بين العرب والسلطان وجعلتهم أهلًا لذلك، وإنما يكون الصلح بين النُّظراء، ومَنْ هؤلاء الكلاب حتَّى لا يُقلَعَ أصلُهم؟ فقال: يَا أمير المُؤْمنين ما اقتضته الحال، فإن جموعهم كانت كثيرة، وكان الصلح الذي التمسوه سببًا لتشتُّتهم، فبلغت منهم من غير أن يُسفك دمٌ، والآن فأتِ نائب السلطان ونحن تبعٌ لك، فافعل ما تراه. وقال له: انزِلْ في خيمتك اليوم، وأرحْ واسترِحْ، وغدًا تُجمع بالسلطان. فنزل، وقُدِّمت إليه الهدايا وهو يفرِّقها في الغُزِّ الذين على رأسه، إلَّا عقد جوهر قدَّمه عميد الملك، فتركه في قَبائه، ولمَّا كان من الغد دخل على السلطان، فقام له، ومشى إليه، وقبَّل إبراهيم يده، فأكبَّ السلطان على رقبته فقبَّلها، وتحادثا ساعة، وعاد إلى خيمته، وأجفلت العرب من العين الباردة] (¬1). ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف).

وفيها دخل الأمير أبو منصور بن الملك أبي كاليجار على الوزير هبة الله بن أَحْمد النسوي إلى داره بشيراز ومعه الديلم، فقتله في دَسْته، وقتل أصحابه، ونهب ماله وأسبابه، وكان هذا الوزير جلدًا شهمًا، واسع الصدر، عزوف النفس، وهو كان السبب في تملُّك هذا القاتل شيراز وردِّه إليها بعد خروجه منها دفعات، وتكفَّل به وبأخيه أبي سعد تكفلًا أخلص ونصح فيه، ولم يعرف سبب قتله. وسار السلطان إلى الجزيرة وحاصرها، فلاذَ أهلُها بالعفو، وقرَّروا على نفوسهم مالًا، فقُبِلَ منهم، وتقدَّم بعضُ العساكر إلى ميَّافارقين وقد خرج ابن مروان منها إلى آمِد، فنهبوها ودخلوها، وقتلوا وسبَوا، وبعث ابن مروان إلى إبراهيم ينَّال، واستجار به، فوعده أن يشفع فيه إلى السلطان. و[فِي هذه السنة] صَعِد عشرون غلامًا (¬1) من الغُزِّ إلى دير النصارى في بلد ميَّافارقين فيها أربع مئة راهب، فذبحوا منهم مئة وعشرين، واشترى الباقون نفوسَهم بستِّ مكاكيك ذهبًا وفضة. وفي شعبان نادى عميد الملك: لا يبقى غدًا أحدٌ إلَّا ويحضر إلى دار المملكة، فلم يتخلَّف أحد، وشرعوا في تتمة السور الجديد، وعمل فيه القضاة والشهود والطالبيون والعباسيون والتجار وغيرهم، [وكان القضاة يعملون والطيالس عليهم ينقلون فيها الآجرَّ والتراب]. وفي شعبان ورد دُبيس إلى هِيت قاصدًا بلاده، متسلمًا لها، وعاد قريش إلى الرَّحبة يريد البساسيري، وكان قد قال لدُبيس: أَنْتَ تنحدر إلى بلادك، وقد خَلَتْ من العساكر، فيمكنك المُقام بها وعمارتها، وأما أنا فبلادي خراب، والسلطان فيها، وما أرى من نِيَّتِهِ ما تطيب به نفسي، وأنا قاصد الرَّحبة، وأدبِّر أمري مع أبي الحارث. وفي هذا الوقت نظر عميد الدولة (¬2) في المارستان العضُدي، وكان قد خلا من دواء وطبيب وشراب، وكان المرضى على وجه الأرض، وعند رأس المريض بصلة يشمُّها، وعطش أحدهم فقام بنفسه إلى جُبِّ الماء فوجده حمأة ودودًا، وكان أبو الحسين بن ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): رجلًا. (¬2) في (م) و (م 1): عميد الملك.

المهتدي [ويُعرف بابن الغريق] قد ردَ أمره إلى يهودي [يُعرف بالهاردين] , فاستولى عليه، وأكل أوقافه، وبلغ عميد الملك، فصرف العنايةَ إليه، فأول ما فعل انتزع أوقافه من أيدي الطامعين فيها والمتغلبين عليها، وضمنها بما وفر به ارتفاعها توفيرًا لم يعهد مثله. وشرع في العمارة، فقال: إنه طبق المارستان بخمسة آلاف طابق. وقيل: بعشرة آلاف، وكان على بابه سوق فيه مئة دكان قد دثرت، فأعادها وجمع فيه من الأشربة والأدوية والعقاقير التي يعزُّ وجودها شيئًا كثيرًا. وأقام الفُرش واللُّحف للمرضى، والأرانيج الطيبة، والأشربة والثلج، والمستخدمين والأطباء والفراشين، فكان فيه ثمانية وعشرون طبيبًا، ونساء طبَّاخات، وبَوَّابون، وحُرَّاس، والحمام والبستان إلى جانبه فيه أنواع الثمار والبقول، والسفن على بابه تنقل الضعفاء والفقراء، والأطباء يتناوبونهم بكرةً وعشيًّا، وينامون عندهم بالنوبة. وكان فيه عدة جباب فيها السكر الطَّبَرزَذ والأُبلوج واللوز والمشمش والخشخاش وسائر الحبوب، والبراني الصيني، وفيها العقاقير، وأربع قواصر فيها الإهليلج الأصفر والكابلي والهندي، وأربع قواصر تمر هندي وزنجبيلٌ وعودٌ ونَدٌّ (¬1) ومسكٌ وعنبر، والراوند الصيني في البراني، والترياق [و] الفاروق وجميع العقاقير، وصناديق فيها ثياب جُدُد للمرضى، ومناديل، وصناديق فيها أكفان، وقدور صغار وكبار، وآلات، وأربعة وعشرون فراشًا، و [ذكر ابن الصابئ] أشياء ما توجد في دور الخلفاء والملوك، وكذا فعل في مارستان باب محول، [وقد دُثِر، فلا عين ولا أثر، أما المارستان العضدي فقائم، ولكن على هذا الوجه فلا]. وخُتِن فيه في هذه السنة ثلاث مئة واحد وثمانون صبيًّا، وكان راتب المقيمين فيه من المستخدمين في كل يوم ألفًا وثمان مئة وسبعين رطلًا من الخبز، [ولعلَّ ما فيه اليوم عشرون رطلًا، وكان المتولي لهذه الأشياء الشيخ الأجلُّ ابنُ يوسف]. وفي هذا الوقت أصعد البساسيري من الرحبة إلى بالِس وهي بلد عطية بن الزَّوقلية صاحب حلب، وأخذ الرقَّةَ -من أصحاب ثِمال بن صالح بن الزَّوقلية- أميرُ حلب، وردَّها ¬

_ (¬1) النَّدُّ: ضرب من النبات يتبخَّر به. المعجم الوسيط (ندد).

على منيع بن وثَّاب صاحب حَرَّان، وفي هذا الوقت صالحَ ابنُ مروان السلطانَ بعد جهد ومشقة على مئة أَلْف دينار، وسار إلى سنجار، فصعد أهلها على الأسوار وشتموه، وقالوا: قد غزونا أول في قُتُلْمِش لمَّا هزمه البساسيري، واليوم يغزو فيكم، وأخرجوا قلانِسَ الغُزِّ وجماجِمَهم ومَنْ قتلوه عام أول على القصب، وعرَّف قُتُلْمِش السلطانَ ما فعلوا به لمَّا انهزم، فزاد ذلك في حَنَقه، وكان أميرها مجلي بن جرجي، ففتحها السلطانُ عنوة، وسبى نساءَها وأطفالها، ونهب أموالها، وأحرق جامعَها، ونُقِضت أخشابُها، ودَرَسَتْ آثارُها -على (¬1) أن القتل أتى على أربعة آلاف نفس وأكثر- وخاف المنزل، فارتحل السلطان نحو فرسخ، ثم عاد إلى تل أعفر، وعزم على أن يُلحِقَها بسنجار، فراسلوا إبراهيم [ينَّال] (¬2) فسفر لهم عند أخيه، فقال: أمَّنتُهم على أنَّهم لا يقيمون بالبلد، فأجابوه، فأوقف العسكر صفَّين، وقال: من تعرَّضَ لأحد قتلتُه. فخرج النَّاس بأموالهم وذخائرهم ونسائهم وأولادهم، وجاء إلى السلطان رجلٌ فقال: لي ذخيرة في بيتي قدرها ثلاثة آلاف دينار، فابعَثْ معي من يستخرجها. فبعث معه، وعاد الرَّجل بالدنانير إلى السلطان، فقال له إبراهيم يَنَّال: هذا المال لي. فقال: هذا لصاحبه خُذْه والحَقْ بأهلك. ورتب أَبا علي الخازن بتل أعفر، وعاد إلى الموصل، وطالبه أخوه إبراهيم بإقطاع يُصْرَف وارتفاعه في إقامته، فقال: ما أُعطيك إلَّا ما تفتحه أَنْتَ، وإذا سِرْتَ إلى الرحبة فهي لك. فثَقُل عليه، وسرَّح جماعةً ممَّن كان معه إلى خراسان؛ لعدم الأقوات، وتجدَّد للسلطان رأيٌ في العود إلى بغداد، فسلَّم إلى إبراهيم ينَّال الموصل وأعمالها، وخلع عليه، وأعطاه عشرين أَلْف دينار، وانحدر السلطان إلى بغداد، فنصب إبراهيم خشبًا في العسكر، وقال: من تعرَّض لنهبٍ قتلتُه. فقامت الهيبة، ورجع النَّاس إلى أوطانهم، وعدل بهم فأحبُّوه. وجاءه رجل فقال: أنا أحمل إلى الخزانة كلَّ يومٍ مئةَ دينار من ضرائب البلد، فأحضر القاضي وأعيان البلد وقال: هذا من بلدكم، وقد قال كذا وكذا، فهل أنتم راضون بفعله؟ فقالوا: إذا أعفيتَنا من العجم رضينا. فقال: إن الله قد وهب لكم ذاك، ¬

_ (¬1) في (ف): قيل. (¬2) هذه الزيادة من (ف).

وقد اقتصرنا منكم على الخراجات عند إدراك الغلَّات. فدَعَوا له وشكروه، ونادى بذلك في البلد، وأظهر من حُسن السيرة ما سكنت إليه النفوس. وفي [يوم السبت] سادس شوال وهو سادس كانون الأول طار بعُكْبَرا جراد أسود [يسمى الكيلون وكان كثيرًا] جاء من المشرق، وعبر الفرات [ولم يُسمع جراد طار في كانون إلَّا هذا] وعاش أهل العراق به، فإنهم كانوا يأكلونه نيئًا ومطبوخًا. ونزل السلطان على باب تِكريت سادس عشر شوال، وسبق العسكر إلى بغداد، فنزلوا دور النَّاس، وأقام السلطان بقلعة تكريت إنسانًا يقال له: النَّسائيّ، وتسلَّم الحصين الذي بكرخ سامراء. وفي نصف الشهر قدم بغدادَ بدرانُ بن دُبيس وأبو الفتح بن وَرَّام، فتلقَّاهما عميد العراق، وحمل إليهما الإقامة، واستدعاهما من الغد رئيسُ الرؤساء، وعَتَبَ على ابن وَرَّام بميله إلى البساسيري، فقال: أنتم أحوجتمونا إلى ذلك، فإن السلطان لمَّا ورد هذه البلاد أبعدتُم النَّاس كلَّهم بنهب عساكره الأموال والأولاد والأهل، فلم يبقَ لنا مكانٌ نأويه، فأصعدنا خوفًا على جوعنا وأموالنا. فخاطبه بالجميل، ووعده عن الخليفة بكل خير، ووصل السلطان إلى القُفْص (¬1) لستٍّ بقِينَ من الشهر، وخرج رئيس الرؤساء لاستقباله ومعه بدران وابن وَرَّام والخدمُ الخاصُّ، وبين يديه الأعيان والأمراء والجنائب والعَمَارية، وعلى رأسه مِطْرَد (¬2)، وأصحبه الخليفةُ للسلطان فَرَجية ديباج مشجَّرة بالذَّهب، وعمامة قصب مُذهبة، وفرسًا أدهم بمركب ذهب، وتلقَّاه عميد الملك، ودخلوا إلى السلطان وهو جالس في خَرْكاة (¬3) على سرير وعليه قَباءٌ أسود وقَلنسوة سمُّور، فلمَّا قَرُبَ منه جيشًا السلطان على ركبتيه، وتطاول له، وعانقه بيديه، ثم طرح كرسيًّا من ذهب مُرصَّعًا بالجواهر، فجلس عليه، ثم قام وأدَّى رسالة الخليفة، وهي تشتمل على الأُنس بقُربه، والسرورِ بسلامته، والإحماد لسعيه، فأومأ إلى تقبيل الأرض [وقال: أنا خادم هذه الدار العزيزة، ومتشرِّفٌ بخدمتها، ومبتهجٌ بقربي منها. ¬

_ (¬1) القُفْص: قرية مشهورة بين بغداد وعُكْبَرا. معجم البلدان 4/ 382. (¬2) المِطْرَد: الراية والعلم. تكملة المعاجم 7/ 37. (¬3) الخَرْكاة: الخيمة الكبيرة، وقد تقدمت مرارًا.

ولبس الفَرَجية، ووضع العمامة على المخدَّة، وأحضر الفرس، وأوى إلى تقبيل الأرض] وقال: قد تتابع الإنعام عليَّ من غير استحقاق، فقال له رئيس الرؤساء: موضِعُك من أمير المُؤْمنين الكبير، ومَحلُّك الخطير، وأنت النائب عنه في رعيته، وقد حصل -بحمد الله- من الثقة ما لم يبقَ معه احتشام، وسيتواصل إنعام أمير المُؤْمنين على ما يوجبه حُسنُ رأيه، وجميلُ اعتقاده، فقال: قد زاد شوقي إلى مشاهدة تلك الطلعة الكريمة، وكثُر ارتياحي إلى رؤية تلك الغرة الشريفة. فقال: لن يتأخر ذلك. ثم التفت السلطان إلى ابن وَرَّام وبدران وقال: كيف نور الدولة؟ فقاما وخدما، وذكر قريشًا فقال: ذاك الغدَّار الكذَّاب الخوَّان. فشكر رئيس الرؤساء دبيسًا وقال: ما فعل الذي فعل مع البساسيري الملعون إلَّا رعايةً لنزوله عليه، وانضوائه إليه، وإلا فنور الدولة الموثوق بعهده المرغوب في مثله. وفي يوم السبت الخامس والعشرين من ذي القعدة وصل السلطان إلى الخليفة، وكانت الرسائل منه قد تكرَّرت بطلب الاجتماع، وكان جلوس الخليفة جلوسًا عامًّا مشهودًا، جلس رئيس الرؤساء في صحن السلام، واستدعى النقباءَ والقضاةَ والشهودَ والأعيانَ وبدرانَ وابنَ وَرَّام وعميدَ العراق وحواشي السلطان، وبعث إلى السلطان ابنَي المأمون الهاشميين وخادمين وحاجبين، واستدعاه إلى دار الخلافة، فنزل في طيار الخليفة، وكان قد زيَّن وأرسل إليه، وانحدر خواصُّه في الزبازب وعلى الظهر فِيلان يسيران بإزاء الطيار والعساكر، والناس من جانبي بغداد، ثم قُدِّم له مركبٌ من مراكب الخليفة، فنفر من الفيلين، فقُدِّم له من خيله فرسٌ أشهبُ، فركبه وعليه قَباءُ ديباج أسود، وعمامة مثلَّثة مذهبة، ودخل الدار وبين يديه أولاد الملوك أبو علي وأبو طالب كامروا ابنا أبي كاليجار بن بُوَيه، وقُتُلْمِش ابنُ عمه، وأشراف القُوَّاد والديلم، ونحوٌ من خمس مئة غلام من الترك، والكلُّ بغير سلاح، فلما بلغ باب دهليز صحن السلام وقف طويلًا على فرسه إلى أن فتح له الباب، فنزل ودخل ماشيًا، وتلقَّاه رئيس الرؤساء، وكان الخليفة في بيت في صدر البهو، وعلى بابه ستور ديباج، فرُفِعت، وإذا بالخليفة جالسٌ على سرير ارتفاعُه من الأرض سبعةُ أذرع في دَسْتِ ديباج منقوشًا وعليه العمامة والقميص المُصْمَتان، وعلى منكبه بردة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيده القضيب، فلمَّا رآه

السلطان قبَّلَ الأرض دفعاتٍ كثيرة، ونُصِبَ له كرسيٌّ دون السرير لطيفٌ، فقال الخليفة لرئيس الرؤساء: أصعِدْ ركن الدولة إليه، وأصعِدْ معه محمَّد بن منصور الكُنْدُري مفسِّرًا له ومعبِّرًا عَنه. فصَعِدا، وقال الخليفة لرئيس الرؤساء: قُلْ لركن الدين: أمير المُؤْمنين حامدٌ لسعيك، شاكرٌ لفضلك، زائدُ الشغف بك، وقد ولَّاك جميعَ ما ولَّاه الله من بلاده، وردَّ إليك مراعاةَ عبادة، فاتَّقِ الله فيما ولَّاك، واعرِفْ نعمته في ذلك، واجتهِدْ في عمارة البلاد، وصلاح العباد، ويسِّر العدل، وكُفَّ الظلم. ففسَّر له عميدُ الملك القول، فقام وقبَّل الأرض، وقال: أنا خادم أمير المُؤْمنين وعبدُه ومتصرِّفٌ على أمره ونهيه، ومتشرِّفٌ بما أهَّلني به واستخدمني فيه، ومن الله أستمدُّ المعونة والتوفيق. ثم أذن أمير المُؤْمنين أن تُفاض (¬1) عليه الخِلعُ، فنزل إلى بيتٍ في جانب البهو، وخلع عليه الخلع المعهودة، وعاد فجلس بين يدي الخليفة، ومنعه التاج أن يُقبِّل الأرض، وقلَّده الخليفةُ سيفًا، وخاطبه بملك المشرق والمغرب، وزاده لواءً ثالثًا عقده بيده، وأحضر العهدَ وقال: ليُسلَّمْ إليه. وقُرِيء صدرٌ منه، وقال له: اعمَلْ بموجبه. ثم قال: آمرك بما أمرك الله به، وأنهاك عما نهى الله عنه، وهذا منصور بن محمَّد نائبُنا لديك، وخليفتُنا عندك، فاحتفِظْ به، وارْعَه فإنَّه الثقة الأمين، انهض -على اسم الله تعالى- مصاحَبًا محروسًا. فسأله مصافحته، فأعطاه يده فقبَّلها ووضعها على وجهه دفعتين، وخرج والأكابر بين يديه، ورُفعت الألويةُ من سطح صحن السلام، وخطب من الرَّواشن لئلا يكسر في الأبواب، وجلس للهناء، وبعث في اليوم الثالث للخليفة خمسين غلامًا أتراكًا على الخيول بالسيوف والمناطق، وعشرين رأسًا من الخيل، وخمسين أَلْف دينار، وخمس مئة ثوب أنواعًا، ولرئيس الرؤساء خمسة آلاف دينار وخمسين ثوبًا. وفي ذي الحجَّة قبض صاحبُ مصر على وزيره أبي محمَّد الحسن بن عبد الرَّحْمَن اليازوري وعلى ثمانين من أصحابه، وقُرِّرت عليهم أموالٌ عظيمة، وكتب خطة بثلاثة آلاف أَلْف دينار، وأصله من يازور؛ قريةٍ بالساحل من أعمال الرملة، وترامت به الحال إلى أن صار قاضيها, وله بها أملاك نفيسة، فاتَّفق أنَّه لحقها أمرٌ عجز به عن ارتفاعها، ولم يوفِ للسلطان ما يجب له عليها، وأدى البعض، وبقي البعض، فطالبه مُعِزُّ الدولة ¬

_ (¬1) العبارة في (ف): ثم إن أمير المُؤْمنين أفاض.

والي الرملة، فقال: ليس لي طاقة. فكتب إلى مصر، فأمر بحمله إليها، فأقام على باب الديوان مطالبًا، وخرج النَّاس إلى الحجِّ، فسأل السيدةَ والدة المستنصر بالله أن تفسح له في الحج، فأذِنَتْ له في الإشراف على خزانتها الخارجة إلى مكة، فحجَّ وعاد إلى المدينة، فزار قبرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجلس يدعو، فسقطت على كتفه من حائط حجرة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قطعةٌ من الخَلوق (¬1) الذي عليه، ورأى ذلك أحد الخُدَّام، فجاء إليه وقال له: يُهنيك ولايةٌ كبيرة جليلةٌ، تملك بها أمور المسلمين. قال: ومن أين لك هذا؟ فقال: هذه عادة هذا الحائط إذا وقع منه قطعة على أحد، فعاهِدْني على ما تفعله معي إذا صحَّ ذلك. فقال: مهما شئتَ. وعاد إلى مصر فلم يَحُلِ الحولُ عليه حتَّى تقلَّد الوزارة، ووفَّى للخادم بما ضمن له، وصارت له بالمسجد وساكنيه عناية عظيمةٌ، ومراعاةٌ شديدة. وقال ابن الصابئ: وفي العشر الآخر من ذي الحجة قُبِضَ بمصر على الوزير أبي محمَّد الحسن بن عبد الرَّحْمَن البازوري وعلى ثمانين نفسًا من أصحابه، وقُرِّر عليه ثلاثةُ آلاف أَلْف دينار، وعلى ابن زكريا القاضي -وكان خِصِّيصًا به- مئةٌ وخمسون أَلْف دينار، ومن أبي الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي مثلُه، ومن قرابته خمسون أَلْف دينار، واختلفت الروايات في سبب ذلك، وكانت فيه سماحةٌ وكرمٌ وجودٌ وسَعةُ صدر، وله ألقاب كثيرة: الناصر لدين الله، غياثُ المسلمين، الأوحد، الأجَلُّ، سيد الوزراء، وتاج الأصفياء، وقاضي القضاة، وداعي الدُّعاة، وعلم المجد، خليل أميم المُؤْمنين وخاصته، أبو الفرج البابلي، صاحب الديوان لتنفيذ الأمور. وكان البازوري حنفيَّ المذهب. وقال أبو يوسف القزويني: التقاني يومًا وهو متوجِّهٌ إلى الديوان، فلما رآني وقف، فوقف النَّاس لأجله، فقال لي: إلى أين؟ فقلت: إليكَ. قال: في أيِّ شيء؟ قلت: قصدني النَّاس في حوائج التزمتُ قضاءها. فقال: لا أبرحُ من مكاني حتَّى تذكرها. فجعلتُ أذكر له حاجةً حاجة وهو يقول: نعم وكرامة، حتَّى قال في الحاجة الأخيرة: السمع والطاعة. ومضى، فانفرد أميرٌ كان معه إلي وقال لي: أيُّ شيء أَنْتَ؟ قلت: لا شيء. قال: لا شيء، يقول له الوزير: السمع والطاعة، عرِّفني ما أَنْتَ؟ قلت: من أهل العلم. فقال: استكثِرْ مما معك، فإنَّه إذا كان في شخص أطاعَتْه الملوك. ¬

_ (¬1) الخَلوق: ضرب من الطِّيب يُتَّخذ من الزعفران. تاج العروس (خلق).

أحمد بن عبد الله

وفيها تُوفِّي أَحْمد بن عبد الله (¬1) ابن سليمان بن محمَّد بن سليمان بن داود بن المُطهّر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النُّعمان بن عدي بن عبد بن غطفان بن عمرو بن بَريح بن جَذيمة بن تيم الله بن أسد بن وَبْرة بن تَغْلِب بن حُلوان بن عمران [بن الحافِ] (¬2) بن قُضاعة، أبو العلاء، التنوخي، المعرِّي، وتنوخ: قبيلةٌ من اليمن، تُوفِّي يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول بمعرة النُّعمان من الشَّام، ومولده يوم الجمعة لثلاثٍ بَقِينَ من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاث مئة، وأصابه جُدريٌّ في سنة سبع أواخر سنة ست وستين وثلاث مئة، فغشي حدقتيه بياضٌ فعمي، وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، أو اثنتي عشرة، وسمع اللغة وأملى فيها كتبًا، وله بها معرفة تامة، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين، وأقام بها سنةً وسبعة أشهر، ثم عاد إلى منزله، فلزم منزله، وسمَّى نفسه: رَهينَ المحبِسَين -يعني منزلَه وبصرَه- وأقام خمسًا وأربعين سنة لا يأكل اللحم ولا البيض ولا اللبن، ويُحرِّم إيلام الحيوان، ويقتصر على ما تنبت الأرض، ويلبس خشن الثياب، وأقواله تدلُّ على اختلاط عقيدته. وقال الخَطيب التبريزي: قال لي المعرِّي: ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي: اليومَ أعرف اعتقاده، فقلتُ: ما أنا إلَّا شاكٌّ. فقال: وكذا شيخك. وكان ظاهرُ أمره الميل إلى مذهب البراهمة؛ لأنهم لا يرون ذبح الحيوان، ويجحدون الرسل. وقد رماه جماعة بالزندقة والإلحاد، وذلك أمر ظاهر في كلامه وأشعاره، وأنه يردُّ على الرسل، ويَعيب الشرائع، ويجحد البعث. وقال أبو الوفاء بن عقيل: ومن العجائب أنَّ المعرِّي أظهر ما أظهره من كفره البارد الذي ما بلغ فيه مبلغ شبهات الملحدين، بل قصَّر فيه كلَّ التقصير، وسقط من عيون ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 240 - 241، والمنتظم 16/ 22 - 27، ومعجم الأدباء 3/ 107 - 218. وينظر السير 18/ 23. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من عدد من مصادر الترجمة.

النَّاس، ثم اعتذر بأنَّ لقوله باطنًا، وأنه مسلمٌ في الباطن، فلا عقلَ ولا دين؛ لأنه يظاهر بالكفر، وزعم أنَّه مسلم في الباطن، وهذا عكس قضايا المنافقين والزنادقة، فإنهم تظاهروا بالإسلام، وأبطنوا الكفر، فهل كان في بلاد الكفار حتَّى يحتاج إلى هذا، فلا أسخفَ عقلًا ممن سلك هذه الطريقة التي هي من طريقة الكفار والمنافقين والزنادقة، وهو مثل ابن الرِّيوَندي وأبي حيان، فإنهم انكشف كلامُهم عن مثل هذا، يتكلمون في التوحيد والتحميد والتقديس، ويدسُّون في أثناء ذلك المحن. قال ابن الصابئ: وله شعر كثير، وفيه أدب غزير، ويرمى بالإلحاد، وأشعاره دالَّةٌ على ذلك، ولم يَكُ يأكل لحوم الحيوان ولا البيض ولا اللبن، ويقتصر على ما تُنبته الأرض، ويُحرِّم إيلام الحيوان، ويظهر الصوم في زمانه جميعه، ونذكر طرفًا مما بلغَنا من شعره الدال على إلحاده، فمنه: [من الكامل] صَرْفُ الزمانِ مُفرِّقُ الإلفَينِ ... فاحكُمْ إلهي بينَ ذاكَ وبيني أَنهَيتَ عن قتلِ النفوس تعمُّدًا ... وبعثْتَ تقبضُها مع الملَكَينِ وزعمتَ أنَّ لها مَعادًا ثانيًا ... ما كان أغناها عن الحالينِ (¬1) ومنه: [من البسيط] تناقضٌ ما لنا إلَّا السكوتُ لَهُ ... وأن نعوذَ بمولانا من النَّارِ يدٌ بخمسِ مئينٍ عسجدٍ وُدِيَتْ ... ما بالُها قُطِعَتْ في ربعِ دينارِ (¬2) ومنه: [من الوافر] قِرانُ المشتري زُحلًا يُرجَّى ... لإيقاظِ النواظرِ من كراها وهيهاتَ البريةُ في ضلالٍ ... وقد فَطِنَ اللبيبُ لما اعتراها تقضَّى النَّاسُ جيلًا بعد جيلٍ ... وخُلِّفَتِ النجومُ كما تراها تقدَّمَ صاحبُ التوراة موسى ... وأوقَعَ بالخسارِ من اقتراها فقال رجالُهُ وحيٌ أتاهُ ... وقال الناظرونَ بلِ افتراها وما حجِّي إلى أحجارِ بيتٍ ... كؤوسُ الخمرِ تُشرَبُ في ذُراها ¬

_ (¬1) معجم الأدباء 3/ 170 و 174. (¬2) لزوم ما لا يلزم 2/ 737، ومعجم الأدباء 3/ 169.

إذا رجع الحكيمُ (¬1) إلى حِجاه ... تهاونَ بالمذاهبِ وازْدَراها ومنه: [من الوافر أيضًا] عقولٌ يستخِفُّ بها حليمٌ ... ولا يدري الفتى لمن الثُّبورُ كتابُ محمدٍ وكتابُ موسى ... وإنجيلُ ابنِ مريمَ والزَّبورُ (¬2) ومنه: [من الطويل] إذا كانَ لا يحظى برزقِكَ عاقلٌ ... وترزقُ مجنونًا وتُعطي أحمقا فلا ذنبَ يَا ربَّ السماءِ على امرئ ... رأى منكَ ما لا يشتهي فتزندقا ومنه: [من الطَّويل أَيضًا] ضَحِكنا وكان الضِّحكُ منا سفاهةً ... وحُقَّ لسُكَّانِ البسيطةِ أن يبكوا تُحطِّمُنا الأيامُ حتَّى كأنَّنا ... زجاجٌ ولكن لا يُعادُ لهُ سَبْكُ (¬3) ومنه: [من الكامل] خبرُ المقابرِ في القبورِ ومَنْ لهُمْ ... بمبشِّرٍ يأتي بصدقِ المحشرِ هيهاتَ يُرجى ميتٌ في قبرِهِ ... لو صحَّ ذاكَ لكانَ عينَ المتجرِ خسِرَتْ تجارتُهم فهَلْ من ميِّتٍ ... يرجو التِّجارةَ من ضريح المحفرِ ومنه: [من البسيط] في كلِّ أمرِكَ تقليدٌ تدينُ بِهِ ... حتَّى مقالُكَ ربي واحدٌ أحدُ وقد أُمِرْنا بفكرٍ في بدائعهِ ... فإنْ تَفَكَّرَ فيه معشرٌ لَحدوا لولا التنافسُ في الدنيا لما وُضِعَتْ ... كتبُ التناظرِ لا المغني ولا العمَدُ (¬4) ومنه: [من البسيط أَيضًا] أستغفِرُ اللهَ في أمني وأوجالي ... مِنْ غفلتي وتوالي سوءِ أعمالي قالوا هَرِمْتَ ولم تطرُقْ تِهامةَ في ... مُشاةِ وفدٍ ولا ركبانِ أجمالِ ¬

_ (¬1) في لزوم ما لا يلزم 3/ 1689 - والأبيات فيه-: الحصيف، وفي معجم الأدباء 3/ 167: الحليم. (¬2) لزوم ما لا يلزم 2/ 595، ومعجم الأدباء 3/ 170. (¬3) لزوم ما لا يلزم 3/ 1154، ومعجم الأدباء 3/ 127 و 169. (¬4) معجم الأدباء 3/ 171.

فقلتُ إنِّي ضريرٌ والذينَ لهمْ ... رأيٌ رأَوا غير فرضِ الحجَ أمثالي ما حجَّ جدِّي ولم يحجُجْ أبي وأخي ... ولا ابنُ عمي ولم يعرِفْ منًى خالي وحجَّ عنهم قضاءً بعدما ارتحلوا ... قومٌ سيقضون عني بعد ترحالي فإن يفوزوا بغفرانٍ أَفُزْ معهُمْ ... أو لا فإنِّي بنارٍ مثلُهمْ صالِ ولا أرومُ نعيمًا لا يكونُ لهمْ ... فيه نصيبٌ وهم رهطي وأشكالي فهَلْ أُسَرُّ إذا حُمَّتْ محاسبتي ... أم يقتضي الحكمُ تَعْتابي وتَسْآلي مَنْ لي برضوانَ أدعوهُ فيرحمُني ... ولا أُنادي مع الكفارِ أمثالي باتوا وحتفي أمانيٌّ لباكيهم ... وبِتُّ لم يخطروا منِّي على بالِ قالوا وهم لقبولٍ في كنافهمُ ... ولا نجاحَ لأفيالٍ كأفيالِ لمَّا هتفتُ بنصرِ اللهِ أيَّدني ... كأَنْ نُصِرْتُ بجبريلٍ وميكالِ وجاءني ذاك عزرائيل يغضب لي ... فيقبض الروحَ مغتاظًا بإعجالِ فما ظنونُكَ إذْ جندي ملائكةٌ ... وجندهُمْ بين طوَّافٍ وبقَّالِ تباركَ اللهُ لا أرجو مثوبَتَهُ ... لكن تعبُّدَ إعظامٍ وإجلالِ ومنه: [من الكامل] هَفَتِ الحَنيفَةُ وَالنصَارى ما اهتَدَتْ ... ويَهودُ حارَتْ وَالمَجوسُ مُضَلَّلَهْ اِثنانِ أَهلُ الأَرضِ ذو عَقلٍ بِلا ... دينٍ وَآخَرُ دَيِّنٌ لا عَقلَ لَهْ (¬1) ومنه: [من الوافر] كَأَنَّ مُنَجِّمَ الأَقوامِ أعمى ... لَدَيهِ الصُّحْفُ يَقرَؤُها بِلَمْسِ لَقَد طال العَناءُ فَكَم يُعاني ... سُطورًا عادَ كاتِبُها بِطَمْسِ أتى عيسى فعطَّلَ دينَ موسى ... وجاءَ مُحَمَّدٌ بِصَلاةِ خَمْسِ وقيلَ يَجيءُ دينٌ بعد هَذا ... وأَودى النَّاسُ بَينَ غَدٍ وَأَمْسِ ومَن لي أَن يَعودَ الدينُ غَضًّا ... فيقنعَ مَنْ تنسَّكَ بالتأسِّي ومَهما كانَ من دُنياكَ أَمرٌ ... فَما تُخليكَ مِن قَمَرٍ وشَمْسِ ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 3/ 1269، ومعجم الأدباء 3/ 168.

لَحا الرحمنُ دارًا لا تُدارى ... بمِثلِ المَينِ في لُجَجٍ وقَمْسِ قُدومُ أَصاغِرٍ ورَحيلُ شيبٍ ... وهِجرَةُ مَنزِلٍ وحُلولُ رَمْسِ إذا قُلتُ المُحال رَفَعتُ صَوتي ... وإِن قُلتُ اليَقينَ أطلْتُ (¬1) هَمْسي ومنه: [من مخلع البسيط] قلتُمْ لنا خالِقٌ قديمٌ ... صدقتمُ هكذا نقولُ زعمتموهُ بلا زمانٍ ... ولا مكانٍ ألا فقولوا هذا كلامٌ له خبيءٌ ... معناهُ ليستْ لكم (¬2) عقولُ ومنه: [ومن البسيط] دينٌ وكُفرٌ (¬3) وأنباءٌ تُقال وفُرْ ... قانٌ ينُصُّ وتوراةٌ وإنجيلُ في كلِّ جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها ... فهلْ تفرَّدَ يومًا بالهدى جيلُ ومن ذلك أَيضًا: [من البسيط] الحمدُ للهِ قَدْ أصبحتُ في لُجَجٍ ... مُكابِدًا من همومِ الدهرِ قاموسا (¬4) قالت معاشرُ لم يَبعَثْ إلهكُمُ ... إلى البريَّةِ عيساها ولا موسى وإنما جعلوا الرَّحْمَن مأكلةً ... وصيَّروا دينهم للملك (¬5) ناموسا ولو قدَرْتُ لعاقبتُ الذين طغَوا ... حتَّى يعودَ حليفُ الغيِّ مغموسا (¬6) ومنه: [من الوافر] ولا تحسَبْ مقال الرُّسْلِ حقًّا ... ولكِنْ قولُ زورٍ سطَّروهُ ¬

_ (¬1) في (خ): ظلمت، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في لزوم ما لا يلزم 2/ 920، ومعجم الأدباء 3/ 164، وتاريخ الإِسلام 9/ 726. (¬2) في لزوم ما لا يلزم 3/ 1227، ومعجم الأدباء 3/ 172: لنا، والأبيات فيهما. (¬3) في النسختين (خ) و (ف): بيض، وهو تحريف ظاهر، والمثبت من لزوم ما لا يلزم 3/ 1225، ومعجم الأدباء 3/ 172، وتاريخ الإِسلام 9/ 725. (¬4) في النسختين (خ) و (ف): ناموسا، والمثبت من لزوم ما لا يلزم 2/ 892، ومعجم الأدباء 3/ 172. (¬5) في اللزوم وتاريخ الإِسلام: وصيَّروا لجميع النَّاس. (¬6) في اللزوم: مرموسا.

وكانَ النَّاسُ في عيشٍ رخيٍّ (¬1) ... فجاؤوا بالمِحالِ فكدَّروهُ ومنه: [من البسيط] والروحُ أرضِيَّةٌ في رَأي طائِفَةٍ ... وعِندَ قَومٍ تَرقَّى في السماواتِ تَمضي عَلى هَيئَةِ الشَّخصِ الَّذي سَكَنَتْ ... فيه إلى دارِ نُعمى أو شَقاواتِ وكَونُها في صفيحِ (¬2) الجِسمِ أَحوَجَها ... إلى مَلابِسَ عَنَّتها وَأَقواتِ وإنَّما حَمَّلَ التَّوراةَ قارِئَها ... كَسبُ الفوائِدِ لا حُبُّ التلاواتِ إنَّ الشَّرائِعَ ألقَت بَينَنا إِحَنًا ... وأَورثَتْنا أَفانينَ العَداواتِ وهَلْ أُبيحَتْ نساءُ الرومِ عن عُرُضٍ ... للعُربِ إلَّا بأحكام النبوَّاتِ ومنه: [من المتقارب] لعمري لقدْ طال هذا السَّفَرْ ... عليَّ وأصبحتُ إحدى النُّكَرْ (¬3) أأخرجُ من تحتِ هذي السماءِ ... فكيفَ الإباقُ وأينَ المفرّ لحا اللهُ قومًا إذا جئتَهُمْ ... بصدقِ الأحاديثِ قالوا كفَرْ وإنْ غُفِرَتْ موبقاتُ الذُّنوبِ ... فكلُّ معايبهمْ تُغتَفَرْ هنيئًا لجسمي إذا ما استقَرّ ... وصارَ لعنصرهِ في العفَرْ (¬4) ومنه: [من الطَّويل] أفيقوا أفيقوا يَا غواةُ فإنَّما ... ديانتُكُمْ مكرٌ من القُدماءِ (¬5) ومنه: [من السريع] لا يكذبِ النَّاسُ على ربِّهمْ ... ما حُرِّكَ العرشُ ولا زُلْزِلا (¬6) ¬

_ (¬1) في معجم الأدباء 3/ 173: رغيدٍ. (¬2) في لزوم ما لا يلزم 1/ 282: طريح. (¬3) في لزوم ما لا يلزم 2/ 823: وأصبحتُ أحدو النَّفَر. (¬4) لزوم ما لا يلزم 2/ 823، والعَفَر: التراب. (¬5) لزوم ما لا يلزم 1/ 60. (¬6) لزوم ما لا يلزم 3/ 1275.

ومنه: [من البسيط] كونٌ يُرى وفسادٌ جاء يتبعُهُ ... تباركَ اللهُ ما في خلقهِ عبَثُ وإنْ يُؤذِّنْ بلالٌ لابنِ آمنةٍ ... فبعدَه لسَجاحٍ قد دعا شَبَثُ (¬1) وله كتاب عارض به السور والآيات، سمَّاه "الفصول والغايات" وغير ذلك، [وشعره فيه إلحادٌ ما اشتهيتُ أذكرُه. قال ابن الصابئ: وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر بن خميس قال: حدثني] المنادي الشاعر [قال]: اجتمعتُ بأبي العلاء بمعرة النعمان، فقلت له: ما هذا الذي يُحكى عنك؟ فقال: حسدني قوم، فكذبوا عليَّ. فقلتُ: علامَ حسدوك، وقد تركتَ لهم الدنيا والآخرة؟ فقال: والآخرة؟ ! قلت: إي والله. ثم قلتُ: فلِمَ تمتنِعُ من أكل الحيوان، وتلوم من يأكله؟ فقال: رحمةً مني له، وإنهم يأكلون ما تأكلون. قلت: لا، بل تقول: إنه من شرِّ الناس، فلَعمري إنهم يجدون ما يأكلون، وعن اللُّحمانِ يتعوَّضون. [قلت]: فما تقول في السباع والجوارح التي خُلِقَتْ لا غذاءَ لها غير لحوم الناس والبهائم، ولا طعامَ تعتاضُ به عنها، وما أنت بأرأفَ من الخالق بخلقه، ولا أحكمَ منه في تدبيره وإن كانتِ الطبائع المحدثة لذاك على مذهبك، فما أنتَ بأحذقَ منها، ولا أتقنَ صنعًا له، ولا أحكمَ عملًا حتى تعطِّلها ويكون رأيُكَ وعقلُكَ أرجحَ منها؟ فسكت. وقال محمد بن الصابئ: أذكر عند ورود الخبر بموته، وقد تذاكرنا أمرَه وكفرَه ومعنا غلام يُعرف بأبي غالب بن نبهان من أهل الخير والسلامة والعفة (¬2) والديانة، فلمَّا كان من غد ذلك اليوم قال: رأيتُ البارحةَ في منامي رجلًا شيخًا ضريرًا وعلى كتفيه أفعيان قد تدلَّيا إلى فخذيه، وكلٌّ منهما يرفع فمه إلى وجهه، فيقطع منه قطعةَ لحم فيزدردها وهو يصيح ويستغيث، فقلت: مَنْ هذا؟ وقد أفزعني ما رأيتُه، وروَّعني ما ¬

_ (¬1) شَبَث: هو ابن رِبْعي، كان مؤذِّن سَجاح -زوج مسيلمة- ثم أسلم، ثم كان ممَّن أعان على عثمان، ثم صحب عليًّا، ثم صار من الخوارج عليه، ثم تاب. تقريب التهذيب (ترجمة شبث بن ربعي). (¬2) في (م) و (م 1): والفقه.

شاهدتُه، فقيل لي: هذا المعرِّي الملحد. قال: فعجِبْنا من ذلك، فاستظرفناه حيث وقع عقيب ما تفاوضناه من كفره (¬1). وقال الشيخ أبو الفرج [ابن] (¬2) الجوزي: مات المعرِّي بمعرة النعمان عن ستٍّ وثمانين سنة إلا أربعة وعشرين يومًا، في ربيع الأول، وذُكِرَ لنا أنه أُنشِد على قبره ثمانون مرثيةً رثاه بها أصحابُه ومَنْ قرأ عليه ومال إليه، حتى قال بعضهم: [من الكامل] إنْ كنتَ لم تُرِقِ الدماءَ زهادةً ... فلقَدْ أرَقْتَ اليومَ من عيني دما (¬3) وهؤلاء بين أمرين، إمَّا جُهَّالٌ بما كان عليه، وإمَّا قليلو الدِّين، ومن سبر خفيات الأمور بانت له، فكيفَ بهذا الكفر الصريح في هذه الأشعار؟ ! [قلت: وقد ذكره الغزالي في كتاب له سمَّاه "سر العالمين وكشف ما في الدارين" وقال: ] (¬4) حدثني يوسف بن علي بأرض الهركار قال: دخلتُ معرة النعمان وقد وشى وزيرُ محمود بن صالح صاحب حلب إليه بأنَّ المعرِّي زنديق لا يرى إفساد الصور (¬5)، ويزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل، فأمر محمود بحمله إليه من المعرَّة إلى حلب، وبعث خمسين فارسًا [إليه] ليحملوه، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة، فدخل عليه عمُّه مسلم بن سليمان وقال له: يا ابن أخي، قد نزلَتْ بنا هذه الحادثة، الملك محمود يطلبك، فإن منعناك عجزنا، وان أسلمناك (¬6) كان عارًا علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخًا العارُ والذِّلةُ. فقال له: هَوِّنْ عليك يا عم، فلا بأس علينا، فلي سلطانٌ يذُبُّ عني. ثم قام فاغتسل وصلَّى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظُرْ أين (¬7) المريخ. فقال: في منزلة كذا وكذا. فقال: زِنْه واضرِبْ تحته وتدًا، وشُدَّ في رجلي خيطًا واربُطْه إلى الوتد. ففعل غلامُه ذلك، فسمعناه وهو يقول: يا قديمَ الأزل، يا علةَ العِلَل، يا صانعَ ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): أمره. (¬2) هذه الزيادة من (ف). (¬3) قائله علي بن الهمام، وهو في معجم الأدباء 3/ 126، وفيه: جفني، بدل: عيني. (¬4) في (خ) و (ف) بدلًا منها: وقال الغزالي. (¬5) تحرفت في (م) إلى: الصوم. (¬6) في (م) وحدها: أرسلناك. (¬7) في (ف) وحدها: إلى.

المخلوقات، وموجدَ الموجودات، أنا في عزِّكَ الذي لا يُرام، وكنفك (¬1) الذي لا يُضام، الضيوفَ الضيوفَ، الوزيرَ الوزير، ثم ذكر كلمات لا تُفهم، وإذا بهدَّةٍ عظيمة، فسأل عنها، فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها، فقتلت الخمسين. وعند طلوع الشمس وقعَتْ بطاقةٌ من حلب على جناح طائر، فيها: لا تُزعجوا الشيخ، فقد وقع الحِمامُ على الوزير. قال يوسف بن علي: فلمَّا (¬2) شاهدتُ ذلك دخلتُ على المعرِّي، فقال: من أين أنت؟ قلت: من أرض الهركار. فقال: زعموا أني زنديق. ثم قال: اكتُبْ. وأملى عليَّ [أبياتًا من شعره] وقال: [من البسيط] باتوا وحَتْفي أمانيهم مصوَّرةٌ (¬3) ... وبِتُّ لم يخطروا منِّي على بالِ وفوَّقوا لي سهامًا من سهامهمُ ... فأصبحَتْ وقَّعًا عنِّي بأميالِ فما ظنونُكَ إذْ جندي ملائكةً ... وجندهُمْ بين طوَّافٍ وبقَّالِ لقيتُهم بعصا موسى التي منعَتْ ... فرعونَ مِلكًا ونَجَّتْ آلَ إسرالِ أُقيمُ خمسي وصومُ الدَّهرِ آلَفُهُ ... وأُدمِنُ الذِّكرَ (¬4) أبكارًا بآصالِ عيدَينِ أُفطرُ في عامي إذا حضرا ... عيدُ الأضاحيِّ يقفو عيدَ شوَّالِ إذا تنافستِ الجُهَّالُ في حُلَلٍ ... رأيتني من خشين القطن سربالي لا آكلُ الحيوانَ الدَّهرَ مأثُرةً ... أخافُ من سوءِ أعمالي وآمالي وأعبدُ اللهَ لا أرجو مثوبتَهُ ... لكنْ تعبُّدَ إكرامٍ وإجلالِ أصونُ دينيَ عن جُعْلٍ أُؤمِّلُهُ ... إذا تعبَّدَ أقوامٌ بأجعالِ قال المصنف رحمه الله: ولا خلاف في سَعةِ علم الرجل، وغزارةِ فضله، وصحةِ نسبه، وأنه أوحد زمانه، وله المصنفات الحِسان، [التي فاق بها على أبناء الزمان] منها: "لزوم ما لا يلزم" في عدة مجلدات، و"استغفِرْ واستغفري" في ست مجلدات، و"رسالة الغفران" و"رسالة الملائكة" و"زجر النابح" و"بحر الرجز" و"سَقط الزَّنْد" ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): سلطانك. (¬2) في (م) و (م 1): وأنا. (¬3) في (خ): وحتفي أما في أمانيهم، وفي (ف): وحتفي أماني بصورةٍ، والمثبت من الوافي بالوفيات 7/ 109. (¬4) في (خ): الدهر، والمثبت من (ف)، والوافي بالوفيات.

و"اللامع العزيزي في شرح المتنبي" و"السجع السلطاني" و"الأيك والغصون" وغير ذلك. وقال التبريزي: كان لأبي العلاء عشرة من الكُتَّاب يملي على كلِّ واحدٍ فنونًا غيرَ ما يملي على الآخر، وهم يكتبون له النثر البليغ، فمنه: القولُ ذهبَ في الهواء، والقومُ غرقوا في الأهواء. و: إذا حانَ القضاء ضاق الفضاء. و: نِعْمَ النساءُ المُغتَزِلات، وأبعدَ الله المُتغزِّلات؛ الأول من الغَزْل، والثاني من الغَزَل. وقال: قبضَ ما شاء وبسط، وأقسطَ وما قسط. وقال: الْقَ مقاديرَ الله ولا تَلِقْ (¬1)، وخَلِّقْ لفظَكَ ولا تختلِقْ، وأضِئ بالمعروف وأْتلِقْ (¬2)، وأطلِقْ يمينك فغدًا تنطلِق. وقال: أين النَّثْرةُ من العَثْرة، والفَرْقَدُ من الغَرْقَد. وقال: الساعي في أثره فارس عصا بصير، لا فارس عصا قصير. وقال: سَعْفُ النخيل خيرٌ من إسعاف النحيل. وقال: وأين موضع السَّيل من مطلع سُهيل. وقال: إذا لقيتَ جارك فحَيِّه، وإن نزح بك الزمنُ عن حَيِّه. وكان يقول: أورَدني أبي موردًا لا بُدَّ أن أرِدَهُ، وواللهِ لا أوردتُه أحدًا بعدي. ولمَّا احتضر قال: [من مجزوء الكامل] هذا جناه أبي عليَّ ... وما جنيتُ على أحد ¬

_ (¬1) من الوَلْق: وهو الإسراع بالشيء في إثر الشيء. المعجم الوسيط (ولق). (¬2) العبارة في النسختين (خ) و (ف): وارض بالمعروف وأقلق، والتصويب هن الفصول والغايات لأبي العلاء المعري ص 93، وتألَّقَ البرقُ وأتْلَقَ: لمع. الصحاح (ألق).

[وذكر ابنُ الهَبَّاريَّة في "فلك المعاني" وقال]: بلغَ أبا نصر بن أبي عمران داعي الدُّعاة لصاحب مصر حديثُه، فاستدعاه إلى حلب وكان بها، فسمَّ أبو العلاء نفسه فمات. [قلت] ولم يوافق ابنَ الهبارية على هذا أحد، وقد أجمعوا على أنه مات على فراشه الموت الطبيعي، ومن شعره: [من الخفيف] يا مريضًا أحلَّ بي كلَّ داءِ ... إنَّ نفسي تفديكَ كلَّ الفداءِ حلَّ ما بي فليس يُرجى شفائي ... كيفَ يَشفى المريضُ من ألفِ داءِ وقال: [من الطويل] إذا ما خَبَتْ نارُ الشَّبيبةِ ساءَني ... ولو نُصَّ لي بينَ النُّجومِ خِباءُ [وقال: من البسيط] يأتي على الناسِ إمساءٌ وإصباحُ ... وكلُّهمْ لصُروفِ الدَّهر نَسَّاءُ وكم مضى من قبيلٍ أو يماثِلُهُ ... من المَقاولِ سرُّوا الناس أم ساؤوا تتوى (¬1) الملوكُ ومصرُ في تغيُّرِهِمْ ... مصرٌ على العهدِ والأحساءُ أحساءُ خَسِسْتِ يا أُمَّنا الدنيا فأُفِّ لنا ... بني الخسيسةِ أوباشٌ أخِسَّاءُ وقد نطقتِ بأصنافِ العِظاتِ لنا ... وأنتِ فيما يظنُّ القومُ خَرْساءُ يموجُ بحرُكِ والأهواءُ غالبةٌ ... لِراكِبيهِ فهلْ للسُّفْنِ إرساءُ إذا تعطَّفْتِ يومًا كنتِ قاسيةً ... وإنْ نظرتِ بعينٍ فهي شَوساءُ نالوا قليلًا من اللَّذاتِ وارتحلوا ... برَغْمِهم فإذا النَّعماءُ بأساءُ وقال: [من الكامل] البابِليَّةُ بابُ كلِّ بليَّةٍ ... فَتَوقَّيَنَّ هجومَ ذاكَ الباب جَرَّتْ مُلاحاةَ الصديقِ وهجْرَهُ ... وأذى النديمِ وفُرقةَ الأحبابِ (¬2) قال المصنف رحمه الله: من ها هنا أخذ جدي رحمه الله فقال في "المدهش" (¬3): محبة الدنيا مِحنة، عيونها بابلية، كم فتحت باب بلية؟ ولا حيلة كحيلة، من عين كحيلة. ¬

_ (¬1) تتوى: تذهب. المعجم الوسيط (توي). (¬2) لزوم ما لا يلزم 1/ 204. (¬3) المدهش ص 155.

وقال: [من المتقارب] تجيءُ يهودُ بتوراتها ... وفيها مواعيدُ عرقوبِها وإسحاقُها جرَّ إسحاقَها ... وقائبةُ الطير من قُوبِها (¬1) ورَقُّوا لأملاكهم عنوةً ... وقالوا أحاديث رَقُّوا بِها إسحاقُها الأول النبي - عليه السلام -، والثاني إبعادُها. وقال: [من الخفيف] سلكَ النَّجْدُ في قِطار المنايا ... قَطَرِيّ ونَجدةٌ وشَبيبُ (¬2) شبَّ فِكرُ الحصيفِ نارًا فما يَحْـ ... ـسُنُ يومًا بعاقلٍ تشبيبُ (¬3) وقال: [من الخفيف أيضًا] زارَه حتفُهُ فقطَّبَ للمو ... تِ وألقى من بعدها التَّقطيبا زوَّدوه طِيبًا ليلحقَ بالنَّا ... سِ وحَسْبُ الدَّفينِ بالتُّربِ طيبا باتَ في قبرهِ وَوُسِّدَ يُمنا ... هُ فخِلناهُ قامَ فينا خطيبا للمنايا حواطِبٌ لا تبالي ... أهشيمًا جَرَّتْ لها أم رطيبا صرفَتْ كأسَها فلم تَسْقِ شَرْبًا ... مرةً خالصًا وأخرى قطيبا (¬4) وقال: [من الخفيف] أسطرٌ لابَ حولَهنَّ جهولُ ... فهو يرجو هدًى بأَسْطُرْلابِ والبرايا لفظُ الزمانِ ولا بُدَّ ... له من تغيُّرٍ وانقلابِ (¬5) وقال: [من البسيط] الحمدُ لله قد أصبحتُ في دعةٍ ... أرضى القليلَ ولا أهتمُّ بالقوتِ وشاهِدٌ خالقي أنَّ الصلاةَ لهُ ... أجَل عنديَ من دُرِّ وياقوتِ ¬

_ (¬1) القُوب: البَيض. المعجم الوسيط (قوب). (¬2) هؤلاء الثلاثة هم: قَطري بن فجاءة، ونجدة بن عويمر، وشبيب بن يزيد، وهم من زعماء الخوارج. (¬3) لزوم ما لا يلزم 1/ 119، والتشبيب: الغَزَل. (¬4) لزوم ما لا يلزم 1/ 150، والقَطيب: الممزوج (¬5) لزوم ما لا يلزم 1/ 210.

ولا أعاشِرُ أهلَ العصرِ إنَّهمُ ... إنْ عُوشِروا بين محبوبِ وممقوتِ يسيرُ بي وبغيري الوقتُ مبتدرًا ... إلى محلٍّ من الآجالِ موقوتِ (¬1) وقال: [من المخلع البسيط] الصَّونُ (¬2) في جملةِ العوافي ... لا الكونُ في جُملة العُفاةِ (¬3) قد خَفَتَ القومُ واستراحوا ... آهِ منَ الصَّمتِ والخُفاتِ أرى انكفائي إلى المنايا ... أغنى عن الأسْرةِ الكُفاةِ (¬4) ومن صِفاتِ النِّساءِ قِدْمًا ... أنْ لَسْنَ في الوُدِّ مُنصفاتِ وما يبينُ الوفاءُ إلَّا ... في زَمَنِ الفَقدِ والوفاةِ وقال: [من البسيط] خلَصتُ من سَبَرات في السّباريتِ ... ورُبَّ يومٍ كَريتِ دونَ تكريتِ (¬5) كم بالسَّماوةِ من صِلٍّ ومن أسدٍ ... كلاهما خُصَّ في شِدْقٍ بتهْريتِ (¬6) ما زُرْتُ داركَ حتى شفَّني تعبي ... وخارَتِ العِيسُ في آثار خِرِّيتِ (¬7) والخيرُ في الأرض كالأترجِّ مَنبِتُهُ ... شافي وأُلزمَ تدخينًا بكبريتِ (¬8) وقال: [من الطويل] ثيابيَ أكفاني ورمسيَ منزلي ... وعَيشِي حِمامي والمنيةُ لي بَعْثُ تحلَّي بأسنى الحَلْيِ واحتلبي الغنى ... فأفضَلُ من أمثالكِ النُّفَرُ الشُعْثُ يسيرونَ بالأقدامِ في سُبُلِ الهدى ... إلى الله حَزْنٌ ما تَوَطَّأْنَ أو وَعْثُ (¬9) ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 1/ 278. (¬2) في (خ) و (ف): الكون، والمثبت من لزوم ما لا يلزم 1/ 295 والأبيات فيه. (¬3) العوافي: الدوارس. والعُفاة: الفقراء. (¬4) الكفاة: الكافلون. (¬5) السَّبَرات؛ جمع سَبْرة: وهي الغداة الباردة. والسَّباريت؛ جمع سبروت: وهي الأرض لا نبات فيها. وكَريت: تام. وتِكريت: موضع بالعراق. (¬6) السَّماوة: بادية الشام. والصِّلّ: الحيَّة. وتِهْريت الشِّدق: اتساعه. (¬7) شفَّه التعب: أنحله وأهزله. وخارت العيس: تعبت. والخِرِّيت: الدليل الحاذق. (¬8) لزوم ما لا يلزم 1/ 277. (¬9) لزوم ما لا يلزم 1/ 304.

وقال: [من الوافر] تجمَّعَ أهلُهُ زُمرًا إليهِ ... وصاحَتْ عِرْسُهُ أَودى فصاحوا تُخاطِبُنا بأفواهِ المنايا ... من الأيامِ ألسنةٌ فِصاحُ (¬1) وقال يرثي أبا حمزة الفقيه الحنفي: [من الخفيف] غيرُ مُجْدٍ في مِلَّتي واعتقادي ... نَوْحُ باكٍ ولا ترنُّمُ شادِ وشبيهٌ صوتُ النَّعيِ إذا قيـ ... ـسَ بصوتِ البشيرِ في كلِّ نادِ أَبَكَتْ تلكُمُ الحمامةُ أم غنَّـ ... ـت على فَرْعِ غُصنِها الميَّادِ صاحِ هذي قبورُنا تملأُ الأرْ ... ضَ فأينَ القبورُ من عهدِ عادِ خَفِّفِ الوطءَ ما أظنُّ أديمَ الْـ ... أرضِ إلا من هذه الأجسادِ سِرْ إنِ اسطعتَ في الهواءِ رُويدًا ... لا اختيالًا على رُفاتِ العبادِ فقبيحٌ بِنا وإنْ بَعُدَ العَهْـ ... ـدُ تناسي الآباءِ والأجدادِ رُبَّ لحدٍ قد صار لحدًا مرارًا ... ضاحكٍ من تزاحُمِ الأضدادِ ودَفينٍ على بقايا دَفينٍ ... من قديمِ الأزمانِ والآبادِ فسَلِ الفرقدَينِ عن ما أحسَّا ... من قَبيل وآنَسا من بلادِ كم أقاما على البياض نهارًا ... وأنار لمُدْلجٍ في سوادِ تعبٌ كلُّها الحياة فما أَعْـ ... ـجَبُ إلا من راغبٍ في ازديادِ إنَّ حُزنًا (¬2) في ساعةِ الموتِ أضعا ... فُ سرورٍ في ساعةِ الميلادِ خُلِقَ الناسُ للبقاءِ فضَلَّتْ ... أمةٌ يحسبونَهُم لِلنَّفادِ إنَّما يُنقَلون من دارِ أعما ... لٍ إلى دارِ شِقْوةٍ أو رشادِ ضجعةُ الموتِ رقدةٌ يستريحُ الْـ ... ـجِسْمُ فيها والعيشُ مثلُ السُّهادِ أبَناتِ الهديلِ أسْعِدْنَ أوْ عِدْ ... نَ قليلَ العزاءِ بالإسعادِ إيهِ للهِ دَرُّكُنَّ فأنتنَّ الـ ... ـلَواتي تُحْسِنَّ حِفْظَ الودادِ ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 1/ 364. (¬2) بعدها في النسختين (خ) و (ف) زيادة: يكون، ولا يستقيم الوزن بها، والبيت على الصواب في تاريخ بغداد 4/ 140، ومعاهد التنصيص 1/ 136، والحماسة المغربية 2/ 881، وغيرها من المصادر.

ما نسيتُنَّ هالكًا في الأوانِ الـ ... خالِ أودى من قَبْلِ هُلْكِ إيادِ بَيدَ أنِّي لا أرتضي ما فعلتُنَّ ... وأطواقُكُنَّ في الأجيادِ فتَسَلَّبنَ واستَعِرْن جميعًا ... مِنْ قميصِ الدُّجى ثيابَ حِدادِ ثُمَّ غَرِّدْنَ في المآتمِ واندُبْـ ... ـنَ بشَجْوٍ مع الغواني الخِرادِ (¬1) قصدَ الدهر من أبي حمزة الأوَّابِ ... مولى حِجًى ومولى اقتصادِ وفقيهًا أفكارُه شِدْنَ للنُّعـ ... ـمانِ ما لم يَشِدْهُ شِعرُ زيادِ راويًا للحديث لم يُحْوجِ الـ ... ـراوي من صدقِهِ إلى الإسنادِ أنفق العمرَ (¬2) دائبًا يطلب العِلْـ ... ـمَ بكَشْفٍ عن أصلهِ وانتقادِ [وَدِّعا أَيُّها الحَفِيّانِ ذاكَ الـ. . . ـشَخْصَ إنَّ الوداعَ أَيسَرُ زادِ (¬3)] فاغسِلاه بالدَّمعِ إنْ كان طُهْرًا ... وادفِناه بين الحشا والفؤادِ واتْلُوا النَّعْشَ بالقراءةِ والتَّسبيحِ ... لا بالنَّحيب والتَّعدادِ رُبما أخرجَ الحزينُ جوى الثُّكْـ ... ـلِ إلى غيرِ لائقٍ بالسَّدادِ مِثْلَ ما فاتَتِ الصلاةُ سُليما ... نَ فأحنى على رقابِ الجيادِ وهو من سُخِّرت له الإنس ... والجِنُّ بما صحَّ من شهادةِ صادِ كيفَ أصبحتَ في محلِّكَ بعدي ... يا جديرًا منِّي بحُسْنِ افتقادِ قد أقرَّ الطبيبُ منهُ بعجْزٍ ... فتقضَّى تردُّدُ العُوَّادِ والذي حارتِ البريَّةُ فيهِ ... حيوانٌ مستخرَجٌ من جمادِ واللبيبُ الأريبُ مَنْ ليس ... يغترُّ بِكَوْنٍ مصيرُه لفسادِ وقال: [من المنسرح] سِرْتُ ثمانينَ طالبًا أجَلي ... والحَينُ إثري كأنَّهُ حادي ما أنا بالمُلْحدِ الكفورِ ولا ... أسألُ مولايَ غيرَ إِلحادي ناديتُ أينَ الذين كان بهم ... يشرُفُ هذا الفناءُ والنَّادي ¬

_ (¬1) الخِراد؛ جمع خرود: وهي البكر التي لم تمُسّ. المعجم الوسيط (خرد). (¬2) في (ف): العلم. (¬3) ما بين حاصرتين ليس في (خ) و (ف) وهو في بغية الطلب في تاريخ حلب 2/ 453.

مزادتي الآنَ لا بِلال بها ... ومِزْوَدي مُنفِضٌ من الزَّادِ والمسفرُ الدائمُ المواصَلُ يَحْـ ... ـتاجُ إلى عُدَّةٍ وعتادِ وقال: [من الطويل] ألا إنَّ أخلاقَ الفتى كزمانهِ ... فمنهنَّ بِيضٌ في العيونِ وسُودُ وتأْكُلُنا أيامُنا فكأنَّما ... تمرُّ بنا الساعاتُ وهْيَ أسودُ وقَدْ يخملُ الإنسانُ في عُنْفوانِهِ ... ويَنْبُهُ من بعد النُّهى ويسودُ فلا تحسُدَنْ قومًا على فضلِ نعمةٍ ... فحسبُكَ عارًا أن يُقال حسودُ عرفتُ سجايا الدَّهرِ أمَّا شرورُهُ ... فنقدٌ وأمَّا خيرُهُ فوعودُ إذا كانتِ الدُّنيا لذاكَ محلُّها ... ولو أنَّ كلَّ الطالعاتِ سُعودُ رقَدْنا ولم نملِكْ رُقادًا عن الأذى ... وقامت بما (¬1) خِفْنا ونحن قُعودُ وكَمْ أنذَرَتْنا بالسيولِ صواعقٌ ... وكَمْ خبَّرَتْنا بالغمامِ رُعودُ حياتيَ بعد الأربعينَ منيةٌ ... ووجدانُها في الأربعين فُقودُ فما لي وقد أدركتُ خمسةَ أعقُدٍ ... أبيني وبينَ الحادثاتِ عُقودُ كأنَّا من الأيامِ فوقَ ركائبٍ ... إذا قِيدَتِ الأنضاءُ فهْيَ تَقودُ ألا إنَّما الدنيا نُحوسٌ لأهلها ... فما في زمانٍ أنتَ فيه سُعودُ ويوصي الفتى عندَ الحِمامِ كأنَهُ ... يمرُّ فيقضي حاجةً ويعودُ وما يئسَتْ من رَجْعَةٍ نفسُ ظاعنٍ ... مضَتْ ولها عند القضاءِ وُعودُ تسيرُ بنا الأيامُ وهْيَ حثيثةٌ ... ونحنُ قيامٌ فوقَها وقُعودُ وقال: [من البسيط] جاءَتْ أحاديثُ إنْ صحَّتْ فإنَّ لها ... شأنا ولكنَ فيها ضعفَ إسنادِ فشاورِ العقلَ واترُكْ غيرَهُ هدَرًا ... فالعقلُ خيرُ مُشيرٍ ضمَّهُ النادي وعظتُ قومًا فلم يُرْعُوا لموعظتي ... مثلَ امرئِ القيسِ ناجى طائرَ الوادي والعفوَ (¬2) آمُلُ من ربي إذا حُضِرَتْ ... نفسي وفارقْتُ عُوَّادي لأعوادي ¬

_ (¬1) في النسختين (خ) و (ف): وما، والمثبت من لزوم ما لا يلزم 1/ 406، والأبيات فيه. (¬2) في (خ): والعقل، والمثبت من (ف) كما في لزوم ما لا يلزم 1/ 499، والأبيات فيه

وقال: [من الوافر] تلفَّعَ بالعَبا إخوانُ صِدْقٍ ... وأُوسِعَ غيرُهمُ سَرَقًا ولاذا فلا تعجب لأحكام (¬1) الليالي ... فإنَّ صروفَها بُنيَتْ على ذا وقال: [من الخفيف] ما مُقامي إلا مُقامةُ عانٍ ... كيف أسري وفي يدِ الدَّهرِ أسري إنَّ جَسْرًا (¬2) على المنيةِ حَزْمٌ ... والبرايا من فوقِهِ فوق جَسْرِ تبِعَتْ تُبَّعًا وفي القصرِ غالتْ ... قيصرًا وانتحَتْ لكسرى بكَسْرِ وطَوَتْ طَيِّنًا وآدَتْ (¬3) إيادًا ... وأصابَتْ ملوكَ قَسْرٍ بقَسْرِ ولقابوسَ (¬4) كان قيسٌ وفَنَّا ... خُسْرُ (¬5) أروَتْهُ من فناءٍ وخُسْرِ سوفَ ألقى من الزمانِ كما لا ... قَوا بعنفٍ لا باستقالٍ ودَسْرِ (¬6) ولوَ أنِّي السُّها أو النَّسرُ قد شا ... هَدْتُ عصرينِ من يَغوثٍ ونَسْرِ وقال في بني شيبة: [من الوافر] وفي بطحاءِ مكةَ شرُّ قومٍ ... وليسوا بالحُماةِ ولا الغَيارى وإنَّ رجال شيبةَ سادِنيها ... إذا راحَتْ لكعبتها الجُمارى (¬7) قيامٌ يدفعون الناس شفعًا ... إلى البيتِ الحرامِ وهم سُكارى إذا أخذوا الزوائفَ أولجوهُمْ ... وإن كانوا اليهودَ أو النصارى لعلَّ قِرانَ هذا النَّجمِ يهدي ... إلى طُرقِ الهدى أممًا حيارى فقد أودى بِهِمْ نصبٌ وَظِمءٌ ... وأَينُقُهُم بمَهلكةٍ نفارى أَتَتهُم دَولَةٌ قَهَرَت وعَزَّتْ ... فَباتوا في ضلالتِها أُسارى ¬

_ (¬1) في النسختين: لأيام، والمثبت من لزوم ما لا يلزم 1/ 538، والبيتان فيه. (¬2) الجَشر: الإقدام. (¬3) في (خ) و (ف): وأردت، والمثبت من لزوم ما لا يلزم 2/ 804. وآدَتْ: دَهَتْ. (¬4) قابوس هذا: هو ابن النعمان. (¬5) فنَّاخَسر: هو عضد الدولة البُويهي. (¬6) الدَّسْر: الطعن. (¬7) الجُمارى: الجميع.

وظَنُّوا الطُّهرَ مُتَّصلًا بِقَومٍ ... وأحلِفُ أَنَّهُم غَيرُ الطَّهارى لَهُم كَلِمٌ تُخالِفُ ما أَجَنُّوا ... صُدورُهُمُ بِصِحَّتِهِ تَمارى وقال: [من المتقارب] أرى الشُّهدَ (¬1) يَرجِعُ مِثلَ الصَّبِرْ ... فَما لابنِ آدمَ لا يَعتَبِرْ وخَبَّرَهُ صادِقٌ في الحَديثِ ... فإنْ شَكَّ في ذاكَ فَليَختَبِرْ وجَبرٌ وكَسرٌ لَهُ في الزَّمانِ ... ويُكسَرُ يَومًا فلا يَنجَبِرْ ولَكِنَّني أَستخيرُ المليكَ ... وإِن يَأتِني حادِثٌ أَصطَبِرْ ودُنيايَ أَلقى بِطولِ الهَوانِ ... فهَل هِيَ إِلّا كَجِسرٍ عُبِرْ وقال: [من الكامل] يا ظالمًا عقَدَ اليدين مُصلِّيًا ... من دونِ ظُلمك يُعقَدُ الزُّنَّارُ أتظُنُّ أنَّكَ للمحاسنِ كاسِبٌ ... هيهاتَ هذا العارُ ثم النَّارُ (¬2) وقال: [من البسيط] نادَتْ على الدِّينِ في الآفاقِ طائفةٌ ... يا قومُ مَنْ يشتري دينًا بدينارِ جَنَوا كبائِرَ آثامٍ وقد زعموا ... أنَّ الصغائرَ تجني الخُلْدَ في النَّارِ (¬3) وقال: [من الوافر] تَمرُّ حوادث ويطولُ دهرٌ ... ويفتقرُ المجيزُ إلى المُجازي وليس على الحقائقِ كلُّ قولي ... ولكن فيه أصنافُ المَجازِ (¬4) وقال: [من الطويل] تُشادُ المغاني والقبورُ دوارِسُ ... ولا يمنعُ المطروقَ بابٌ وحارسُ ¬

_ (¬1) في (خ): الشعر، وهو تحريف، والمثبت من لزوم ما لا يلزم 2/ 829، والأبيات فيه. والشهد: العسل بشمعه. (¬2) لزوم ما لا يلزم 2/ 630، لكن عجز البيت الثاني فيه: وخَبِيُّ أمرِكَ شِرَّةٌ وشَنارُ (¬3) لزوم ما لا يلزم 2/ 736. (¬4) لزوم ما لا يلزم 2/ 844.

يقولون إنَّ الدِّين يُنسَخُ مِثْلَ ما ... تولَّتْ بإقبالِ الحنيفةِ فارسُ وما لم يكُنْ فاللهُ ليسَ بزائلٍ ... ويجني الفتى من بعدُ ما هو غارسُ وقال: [من الطويل أيضًا] جزى اللهُ عنِّي مُؤْنِسي بصدودِهِ ... جميلًا ففي الإيحاشِ ما هُوَ إيناسُ يخافون شيطانًا من الجنِّ ماردًا ... وعنديَ شيطانٌ من الإنسِ خنَّاسُ (¬1) وقال: [من المديد] المَشيداتُ الَّتي رُفِعَتْ ... أَربُعٌ مِن أَهلِها دُرُسُ (¬2) قامَ لِلأيَّامِ في أُذُني ... واعِظٌ مِن شَأنِهِ الخَرَسُ كَم أبَنَّ الغابُ مِن أسَدٍ ... أَيُّ لَيثٍ ليسَ يفترسُ مُهجَتي ضِدٌّ يُحارِبُني ... أنا مِنِّي كيفَ أحتَرِسُ إنّما دُنياكَ غانِيَةٌ ... لم يُهَنِّئ زَوجَها العُرُسُ فالقَها بِالزُّهدِ مُدَّرِعًا ... في يدَيكَ السَّيفُ والتُّرُسُ إنَّ من حانَتْ مَنيَّتُهُ ... لم يُدافِعْ دونَهُ حَرَسُ ليسَ يبقى فَرعُ نابِتَةٍ ... أَصلُها في الموت مُنغرِسُ (¬3) وقال: [من البسيط] قد يُخطِئُ الموتُ سارٍ في تَنوفتِهِ (¬4) ... ويَهلِكُ المرءُ في قصرٍ له حَرَسُ ظنَّ الحياةَ عروسًا خَلْقُها حسنٌ ... وإنَّما هي غُوْلٌ خُلْقُها شَرِسُ ونحنُ في غيرِ شيءٍ والبقاءُ جرى ... مجرى الرَّدى ونظيرُ المأتمِ العُرُسُ (¬5) وقال: [من البسيط أيضًا] هل يغسِلُ الناسَ عن وجهِ الثَّرى مطرٌ ... فما بَقُوا لم يفارِقْ وجهَها الدَّنَسُ ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 2/ 858. (¬2) أربُعٌ دُرُس: منازل خالية طامسة. (¬3) لزوم ما لا يلزم 2/ 868 - 869. (¬4) التنوفة: الصحراء. (¬5) لزوم ما لا يلزم 2/ 875 - 876.

تناسلوا فنمى شرٌّ بنسْلِهمُ ... وكم فُجورٍ إذا شُبَّانُهمْ عَنَسوا (¬1) وقال: [من الوافر] تعالى اللهُ أينَ ملوكُ لَخْمٍ ... لقد خَمدوا فما لهمُ حَسيسُ تُحدِّثُ هذه الأيامُ جهرًا ... وتحسبُ أنَّ ما نطقَتْ هَميسُ وزوجُكِ أيُّها الدنيا تمنَّى ... طلاقَكِ قبلَ أن يقعَ المَسيسُ (¬2) وقال: [من الرجز] يا ربِّ أخرِجْني إلى دارِ الرِّضا ... عَجِلًا فهذا عالمٌ منكوسُ ظلُّوا كدائرةٍ تحوَّلَ بعضُها ... من بعضِها فجميعُها معكوسُ وأرى ملوكًا لا تحوطُ (¬3) رعيةً ... فعلامَ تؤخذ جزيةٌ ومكوسُ وقال: [من الطويل] خصاؤُكَ خيرٌ من زواجِكَ حُرَّةً ... فكيفَ إذا أصبحتَ زوجًا لمومسِ وإنَّ كتابَ المهرِ فيما التمسْتَهُ ... نظيرُ كتابِ الشاعرِ المتَلَمِّسِ (¬4) ولُبْسُكَ ثوبَ السُّقمِ أحسَنُ منظرًا ... وأبهَجُ من ثوب الغَويِّ (¬5) المُنَمِّسِ (¬6) وقال: [من الطويل أيضًا] إذا قصَّ آثاري الغواةُ ليحتذوا ... عليها فوُدِّي أن أكون قَصيصا وكَمْ مَلِكٍ في الأرضِ لاقى خَصاصةً ... وكانَ بإكرامِ العُفاةِ خَصيصا (¬7) وقال: [من المتقارب] أرى جوهرًا حَلَّ فيه عَرَضْ ... تباركَ خالِقُنا ما الغرَضْ يُداوي العليلَ لِكَيما يصحَّ ... وهَلْ صِحَّةُ الجسمِ إلَّا مَرَضْ ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 2/ 870. (¬2) لزوم ما لا يلزم 2/ 883. (¬3) في (خ): تحيط، والمثبت من (ف)، ولزوم ما لا يلزم 2/ 888، والأبيات فيه. (¬4) المتلمِّس: اسمه جرير بن عبد العُزَّى، وهو خال طرفة بن العبد. (¬5) في (خ) و (ف): العري، والمثبت من لزوم ما لا يلزم، والأبيات فيه. (¬6) المنَمِّس: القذر المنتن. (¬7) لزوم ما لا يلزم 2/ 960.

فلا تترُكَنْ ورَعًا في الحياةِ ... وأدِّ إلى ربِّكَ المُفتَرَضْ فكَمْ ملكٍ شيَّدَ المَكْرُماتِ ... ونال بها الصِّيتَ ثم انقرَضْ (¬1) وقال: [من الطويل] ظمئتُ إلى ماءِ الشَّبابِ ولم يزَلْ ... يغورُ على طولِ المدى ويَغيضُ تراهُ مع الإخوانِ حِبًّا مُكرَّمًا ... فإن زال عنه الماء فهو بغيضُ (¬2) وقال: [من الكامل] أمَّا اليقينُ فإنَّنا سَكَنُ البِلى ... ولنا هناكَ جماعةٌ فُرَّاطُ (¬3) ولكلِّ دهرٍ حليةٌ من أهلِهِ ... ما فيهمُ حَيفٌ ولا إفراطُ كم لاحتِ الأشراطُ في جُنْحِ الدُّجى ... فمتى تَبينُ لِبَعْثِنا أشراطُ وكأنَّ هذا الخلقَ أهلُ قيامةٍ (¬4) ... ولهم من الموتِ الزُّؤامِ (¬5) سِراطُ لوْ لم تكُنْ مثلَ الجماعَةِ زائفًا ... لم يَشْجُكَ الدِّينارُ والقيراطُ وقال: [من الخفيف] يَسبُكُ الصائِغُ الزُّجاجَ ولا يَسْـ ... ـتَطيعُ سَبْكًا للدُرِّ إن يَتَشَظَّى ليَخَفْ صاحِبُ الديانةِ والصَّو ... نِ مَقالًا مِن جاهِلٍ يَتَحَظَّى كيفَ لي أن أكونَ في رأسِ شمَّا ... ءَ وأَرعى آسًا وبُطْمًا ومَظَّا (¬6) وقال: [من البسيط] مَنْ رامَ أن يُلزِمَ الأشياءَ واجِبَها ... فإنَّهُ بحياةٍ ليسَ يَنتَفِعُ أُرْضِي انتباهي بِما لَمْ يَرضَهُ حُلُمي ... قِدْمًا وأَدفَعُ أوقاتي فَتَندَفِعُ وَخَفَّ بِالجَهلِ أقوامٌ فَبَلَّغهُمْ ... منازِلًا بِسَناءِ العِزِّ تَلتَفِعُ ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 2/ 979. (¬2) في لزوم ما لا يلزم 2/ 969: تراه مع الإخوان لا تستطيعُهُ ... حبيبٌ متى تبعُدْ فأنت بغيضُ (¬3) الفرَّاط: المتقدمون. (¬4) في لزوم ما لا يلزم 2/ 991: جهنَّم. (¬5) الزُّؤام: العاجل. (¬6) في لزوم ما لا يلزم 2/ 1009: وأرعى في الوحشِ آسًا ومظَّا.

أما رَأَيتَ جِبال الأرضِ لازِمَةً ... قَرارَها وغُبارُ الرَّكْضِ يَرتَفِعُ (¬1) وقال: [من الطويل] إذا خَطَبَ الحسناءَ كَهلٌ وناشِئٌ ... فإنَّ الصِّبا فيها شَفيعٌ مُشَفَّعُ وَلا يُزْهِدَنْها عُدْمُهُ إنَّ مُدَّهُ ... لأَبرَكُ مِن صاعِ الكَبيرِ وَأنفَعُ (¬2) وقال: [من المتقارب] أخو سَفَرٍ قَصْدُهُ لَحْدُهُ ... تَمادى بِهِ السَّيرُ حَتَّى بَلَغْ ودُنياكَ مِثلُ الإناءِ الخَبيثِ ... وصاحِبُها مِثلُ كَلب وَلَغْ (¬3) وقال: الفِكرُ حَبلٌ متى يُمْسَكْ على طَرفٍ ... مِنهُ يُنَط بالثُرَيّا ذلكَ الطَّرَفُ والعقلُ كالبحرِ ما غيضَتْ غَوارِبُهُ ... شيئًا ومنهُ بَنو الأيَّامِ تَغتَرِفُ أبني بجهليَ دارًا لَستُ أسكُنُها ... أُقيمُ فيها قليلًا ثُمَّ أنصَرِفُ أَأُنكِرُ اللهَ ذَنبًا خَطَّهُ مَلَكٌ ... وبالَّذي خَطَّهُ الإنسانُ أَعتَرِفُ سَرِفْتُ واللهَ أرجو أن يُسامِحَنا ... وفي القديمِ خَلا مِن أهلِها سَرِفُ تَرومُ رِزقًا بأَن سَمَّوكَ مُتَّكِلًا ... وأَدْيَنُ الناسِ من يَسعى ويحتَرِفُ إذا افتكَرنا عَلِمنا أنَّ ذا ضَعَةٍ ... أعلى النُّجومِ وللهِ انتَهى الشَّرَفُ (¬4) وقال: [من البسيط] لا تَشْرُفَنَّ بدنيا عنكَ معرِضةً ... فما التشرُّفُ بالدنيا هو الشَّرفُ واصرِفْ فؤادكَ عنها مثلَما انصرفَتْ ... فكُلُّنا عن مغانيها سينصرِفُ يا أُمَّ دَفْرٍ لحاكِ اللهُ والدةً ... فيكِ العناءُ وفيكِ الهمُّ والسَّرَفُ لَوْ أنَّكِ العِرْسُ أوقعتُ الطلاقَ بها ... لكنَّكِ الأمُّ ما لي عنكِ مُنصَرَفُ وقال: [من الوافر] ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 2/ 1024، وفيه: الأرض، بدل: الركض. (¬2) لزوم ما لا يلزم 2/ 1016. (¬3) لزوم ما لا يلزم 2/ 1056. (¬4) لزوم ما لا يلزم 2/ 1065.

رددتُ إلى مليكِ الخلقِ أمري ... فلمْ أسأَلْ متى يقعُ الكسوفُ وكم سَلِمَ الجَهولُ من المنايا ... وعُوجِلَ بالحِمامِ الفيلسوفُ (¬1) وقال: [من الطويل] فؤادُكَ خَفَّاقٌ وبرقُكَ خافِقٌ ... وأعياكَ في الدنيا خليلٌ موافقُ أرَدْتَ رفيقًا أن ينالكَ رِفْقُهُ ... فدَعْهُ إذا لم تأتِ منه المرافقُ (¬2) وقال: [من الطويل أيضًا] مَنْ مُبلِغٌ عنِّي الممالِكَ معشرًا ... عليًّا ومحمودًا وخانًا وآلِكا (¬3) فما أتمنَّى أنَّني كأقلِّهم (¬4) ... ولكِنْ أُضاهي المُقتِرين الصعالِكا (¬5) فما فيهمُ من ناهضٍ يُدَّعَى بهِ ... يُفَرِّجُ عنِّي بالمضيقِ المسالِكا وينفر عقلي مغضبًا إنْ ترَكْتُهُ ... سُدًى واتَّبعْتُ الشافعيَّ ومالكا وقال: [من السريع] يا خالقَ البدرِ وشمسِ الضُّحى ... مُعَوَّلي في كلّ أمرٍ عليكْ وكُلُّ مَلكٍ لَكَ عَبدٌ وما ... يبقى لهُ مُلكٌ فَيُدعى مُلَيكْ قد رامَتِ النَّفسُ لها مَوئلًا ... فقلتُ مَهلًا ليسَ هذا إلَيكْ إنَّ الَّذي صاغَكِ يقضي بما ... شاءَ ويمضي فازْجُري عاذلَيكْ البحرُ (¬6) في قُدرَتِهِ نُغبَةٌ (¬7) ... والفَلَكُ الأعظَمُ فيها فُلَيكْ وقال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 2/ 1073. (¬2) لزوم ما لا يلزم 2/ 1100. (¬3) في (خ) و (ف): وخانكا، والمثبت من لزوم ما لا يلزم 3/ 1170، والأبيات فيه، وآلك: هو أيلك خان، وعلي: هو فخر الدولة أخو عضد الدولة، ومحمود: هو ابن سُبُكتِكين، وخان: هو لقب لأيِّ ملك من ملوك الأتراك. (¬4) في اللزوم: كأجلِّهم. (¬5) المقترين والصعالك: الفقراء. (¬6) في (خ): البدر، والمثبت من (ف)، ولزوم ما لا يلزم 3/ 1202، والأبيات فيه. (¬7) النُّغبة: الجرعة.

ذَرِ (¬1) الناسَ واصحَبْ وَحْشَ بَيداءَ قَفرةٍ ... فإنَّ رِضاهُم غايَةٌ ليس تُدرَكُ إذا ذكروا المخلوقَ عابوا وأطنَبوا ... وإن ذكروا الخَلَّاق حابوا وأَشرَكوا كَلِفْتَ بِدُنياكَ الَّتي هي خُدعَةٌ ... وهلْ خُلَّةٌ منها أغَرُّ وأفرَكُ إذا فاتَكَ الإثراءُ من غيرِ وَجهِهِ ... فإنَّ قليلَ الخَلِّ خيرٌ (¬2) وأَبرَكُ وقال: [من الطويل أيضًا] تسمَّى رجالٌ بالملوكِ سفاهةً ... ولا مُلْكَ إلَّا للَّذي خلقَ المُلْكا أرى فلكًا ما دارَ إلَّا لحكمةٍ ... فلا تنسَ مَنْ أجرى لحاجَتِكَ الفُلْكا وقال: [من البسيط] في الوحدةِ الراحةُ العظمى فأحيِ بها ... قلبًا وفي الكونِ بين الناس أثقالُ إنَّ الطبائعَ لمَّا أُلِّفَتْ جَلَبَتْ ... شرًّا تولَّدَ منه القيلُ والقالُ (¬3) وقال: [من السريع] كم تنصحُ الدنيا ولا نقبَلُ ... وفائزٌ مَنْ جَدُّهُ مُقبِلُ إنَّ أذاها مثلُ أفعالِنا ... ماضٍ وفي الحالِ ومُستقبَلُ أجبَلَتِ الأبحرُ في عصرِنا ... هذا كما أبحَرَتِ الأجبُلُ فاتْرُكْ لأهلِ المُلكِ لذَّاتِهمْ ... فحسبُنا الكمأةُ والأحبُلُ (¬4) ونشربُ الماءَ براحتِنا ... إنْ لم يكُنْ في بيننا جُنْبُلُ (¬5) لا تأمنُ الأغفارُ في النِّيقِ أنْ ... تُصبِحَ موصولًا بها الأحبُلُ (¬6) لو نطقَ الدَّهرُ هجا أهلَهُ ... كأنَّه الرُّوميُّ أو دِعْبِلُ (¬7) ¬

_ (¬1) في لزوم ما لا يلزم 3/ 1155: دع، والأبيات فيه. (¬2) في اللزوم: أولى. (¬3) لزوم ما لا يلزم 3/ 1223. (¬4) الأحبُل: نبات اللوبياء. (¬5) الجُنْبُل: القدح الضخم من الخشب. (¬6) الأغفار؛ جمع غُفْر: الذكر من أولاد تيوس الجبل. والنِّيق: أرفع موضع في الجبل. (¬7) الرومي: هو الشاعر العباسي علي بن العباس المعروف بابن الرومي. ودِعبِل: هو ابن علي الخزاعي، وهو معاصرٌ لابن الرومي.

وَهْو لَعمري شاعرٌ مُفْلِقٌ (¬1) ... بالفعلِ لكنْ لفظُهُ مجبِلُ (¬2) يذبُلُ غصنُ العيشِ حقًّا ولَوْ ... أضحى ومِنْ أوراقِهِ يذبُلُ فليتَ حوَّاءَ عقيمًا غَدَتْ ... لا تلِدُ الناسَ ولا تحبَلُ تفكَّروا باللهِ واستيقظوا ... فإنَّها داهيةٌ ضِئْبِلُ (¬3) في حبَّةٍ تُخلَقُ من سُنبُلٍ (¬4) ... ثَمَّتَ منها يُخلَقُ السنبُلُ يكرَهُ عولَ الشيخِ أبناؤه ... وهَلْ تَعولُ الأُسُدَ الأشبُلُ ننزل من دارٍ لنا رحبةٍ ... تُطَلُّ بالآفاتِ أو تُوبَلُ (¬5) وكلُّ مَنْ حَلَّ بها يكره الـ ... ـنقلةَ عنها وهي تسْتَوبِلُ وقال: [من الطويل] أَسَكْنُ الثَّرى هل تبعثون رسالةً ... إلينا ولستُمْ سامعي كلمِ الرُّسْلِ ولم تَسْلُ نفسي عنكمُ باختيارِها ... ولكنَّ طولَ الدهرِ يُذهِلُ أو يُسلي وما بردَتْ أعضاءُ مَيْتٍ مُكَرَّمٍ ... وإنْ عَزَّ حتى أُغليَ الماءُ للغَسْلِ (¬6) وقال: [من الوافر] إذا ما شئتَ موعظةً فعرِّجْ ... بيثربَ سائلًا عن آل قيلهْ وقِفْ بالحيرةِ البيضاءِ وانظُرْ ... منازلَ منذرٍ وبني بقيلهْ (¬7) وقال: [من السريع] لو تعلَمُ النَّحلُ بمُشْتارها (¬8) ... لم ترَها في جبلٍ تعسِلُ ¬

_ (¬1) في لزوم ما لا يلزم 3/ 1240: مُغْزِرٌ. والشاعر المُفلِق: هو الذي يأتي بالشعر الذي يُعجب الناس. (¬2) المُجْبل: هو الذي حفر ليجد ماءً فانتهى إلى الصخر. (¬3) الضِّئبِل: الداهية. (¬4) في لزوم ما لا يلزم 3/ 1241: في سنبل يخلق من حبةٍ، والأبيات فيه. (¬5) الطَّلّ: المطر الخفيف. والوابل: المطر الغزير. (¬6) لزوم ما لا يلزم 3/ 1285. (¬7) لزوم ما لا يلزم 3/ 1268. (¬8) المُشتار: الذي يجني العسل.

والخيرُ محبوبٌ ولكنَّهُ ... يعجزُ عنه الفَسْلُ (¬1) أو يكسَلُ والأرضُ للطُّوفانِ مشتاقةٌ ... لعلَّها من دَرَنٍ تُغْسَلُ قد كثُرَ الشرُّ على ظهرها ... وأُتْهِمَ المُرْسِلُ والمُرْسَلُ وقال: [من الكامل] كم توعظون (¬2) ولا تلينُ قلوبكُمْ ... فتباركَ الخلَّاقُ ما أغناكُمُ إنَّ الغوايةَ كالغريزة فيكُمُ ... يأوي إليها كهلُكُمْ وفتاكُمُ وقال: [من الوافر] دموعي لا تُجيب على الرَّزايا ... ولولا ذاكَ ما فَتِئَتْ سُجوما (¬3) رِضًا بقضاءِ ربِّكَ فَهْوَ حَتْمٌ ... ولا تُظِهرْ لحادثةٍ وُجوما (¬4) وقال: [من الطويل] ومولِدُ هذي الشمسِ أعياكَ حَدُّهُ ... وخَبَّرَ لُبٌّ أنَّهُ مُتقادِمُ وما آدمٌ في مذهبِ العقلِ واحدًا ... ولكنَّهُ عندَ القياسِ أوادِمُ تخالفَتِ الأغراضُ ناسٍ وذاكرٌ ... وساقٍ وسبَّاقٌ وبانٍ وهادِمُ (¬5) وقال: [من الوافر] وما دنياكَ إلَّا دارُ سَوْءٍ ... ولستَ على إساءتِها مُقيما أرى ولد الغنى عِبْئًا عليهِ ... لقد سَعِدَ الذي أمسى عقيما أما شاهدتَ كلَّ أبي وليدٍ ... يؤمُّ طريقَ حتفٍ مستقيما فإمَّا أن يُرَبِّيهِ عدوًّا ... وإمَّا أن يُخَلِّفَهُ يتيما (¬6) وقال: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) في لزوم ما لا يلزم 3/ 1242: الحيُّ، والأبيات فيه. والفَسْل: الذي لا مُروءة له ولا جَلَد. (¬2) في (ت): تعظون. (¬3) سجومًا: منهمرة. (¬4) الوُجوم: الكآبة. (¬5) لزوم ما لا يلزم 3/ 1388. (¬6) لزوم ما لا يلزم 3/ 1445.

كلُّ ذِكْرٍ من بعدِه نسيانُ ... وتَغيبُ الآثَارُ والأعيانُ إنَّما هذهِ الحياةُ متاعٌ ... فلتُخَبِّرْكَ عن أذاها العِيانُ نَفَسٌ بعدَ مِثْلهِ يتقضَّى ... فتمرُّ الدُّهورُ والأحيانُ قد ترامَتْ إلى الفسادِ البرايا ... واستوَتْ في الضلالة الأديانُ (¬1) أنا أعمى فكيفَ أُهدي إلى المَنْـ ... ـهجِ والناسُ كُلُّهم عُميانُ والعصا للضريرِ خيرٌ من القا ... ئدِ فيه الفُجورُ والعِصيانُ ليس في هذه المجرَّةِ ماءٌ ... فيُرَجِّي وُرودَه الصَّدْيانُ (¬2) وقال: [من الخفيف أيضًا] المُجبرون يناظرونَ بباطلٍ ... فاسمَعْ مقالهُم بغيرِ بيانِ كلٌّ يقولُ أرى الإلهَ أضلَّني ... وأرادني ما كانَ عنه نهاني إنْ صَحَّ ذا فتعوَّذوا من ربكم ... ودَعوا تعَوُّذَكُمْ من الشيطانِ وقال: [من الطويل] أرى الحِيرةَ البيضاءَ حارَتْ قُصورُها ... خلاءً ولم تثبُتْ لكسرى المدائِنُ وهَجَّنَ (¬3) لَذَّاتِ الملوكِ زوالُها ... كما غدَرَتْ بالمُنذِرَينِ (¬4) الهجائِنُ (¬5) ركِبْنا على الأعمارِ والدَّهرُ لُجَّةٌ ... فما صَبَرَتْ للموجِ تِلكَ السَّفائِنُ تجيءُ الرَّزايا بالمنايا كأنَّما ... نفوسُ البرايا للحِمام رهائِنُ لَعمري لقدْ خادعتُ نفسيَ بُرهَةً ... وصدَّقْتُ في أشياءَ مَنْ هو خائِنُ (¬6) وخانَتْنيَ الدُّنيا مرارًا وإنَّما ... يُجَهَّزُ بالذَّمِّ الغواني الخوائِنُ أُعلِّلُ بالآمالِ قلبًا مُضَلَّلًا ... كأنِّيَ لم أشعُرْ بأنِّيَ خائِنُ يصونُ الكريمُ العِرْضَ بالمالِ جاهدًا ... وذو اللؤمِ للأموالِ بالعرضِ صائِنُ ¬

_ (¬1) تحرفت في (ف) إلى: الإتيان. (¬2) لزوم ما لا يلزم 3/ 1546، والصَّدْيان: شديد العطش. (¬3) في (خ): ويعجز، والمثبت من (ف)، ولزوم ما لا يلزم 3/ 1525، والأبيات فيه. (¬4) المنذِران هما: المنذر بن ماء السماء، وهو الأكبر، والثاني: ابنه المنذر بن المنذر، وهو الأصغر. (¬5) الهجائن: الإبل ذات البياض الخالص. (¬6) في اللزوم: مائن، والمائن: الكاذب.

وقال: [من الطويل] لعمرُكَ ما الدُّنيا بدارِ إقامةٍ ... ولا الحيُّ في حالِ السلامةِ آمِنُ وإنَّ وليدًا حَلَّها لَمُعذَّبٌ ... جَرَتْ لِسواهُ بالسعودِ أيامِنُ عجبتُ لكهلٍ قاعدٍ بينَ نِسْوَةٍ ... يُقاتُ بما جَرَّتْ عليه الرَّوادِنُ (¬1) تُحارِبُنا أيامُنا ولنا رضًا ... بذلك لو أنَّ المنايا تُهادِنُ إذا كانَ جِسمي لِلرَّغام أكيلَةً ... فكيفَ يَسُرُّ النَّفسَ أنِّيَ بادِنُ ومِنْ شَرِّ أَخدانِ الفَتى أَمُّ زَنْبَقٍ ... وتلكَ عَجوزٌ أهلَكَتْ مَنْ تُخادِنُ تُخَبِّرُ عن أسرارِهِ قُرَناءَهُ ... ومِنْ دويها قُفْلٌ مَنيعٌ وَسادِنُ (¬2) وقال: [من الطويل] أيا أنفُسًا ما صومُها وصلاتُها ... بدينٍ لها بل تَرْكُها الظُّلمَ دينُها يؤثِّرُ في حرِّ الجباه سجودُها ... ويشكو أذاها جارُها وخَدينُها وقال: [من الطويل] رأيتُ سوادَ الرأسِ يسلُبُ لونَهُ ... من الدَّهرِ بِيضٌ يختلِفْنَ وجُونُ (¬3) فلا يغَترِرْ بالمُلْكِ صاحبُ دولةٍ ... فكَمْ من مليكٍ غيَّبَتْهُ دُجونُ (¬4) وإنِّي أرى أنصارَ إبليس جَمَّةً ... ولا مِثْلَ ما أوفى به الزَّرَجونُ (¬5) وإنْ كانتِ الأرواحُ بعد فراقِها ... تنالُ رخاءً فالجسومُ شُجونُ (¬6) وقال: [من الطويل] كأنَّ نجومَ الليلِ زُرْقٌ أسِنَّةٌ ... بها كلُّ مَنْ فوقَ الترابِ طَعينُ ¬

_ (¬1) الرَّوادن: النساء اللواتي يعملن بالمِرْدَن، يعني المِغْزَل. (¬2) لزوم ما لا يلزم 3/ 1528. (¬3) البيض والجُون: الأيام والليالي. (¬4) الدُّجون: الغيوم. (¬5) الزَّرجون: الخمرة والمطر الصافي المستنقع في الصخرة، ومعناه بالفارسية لون الذهب. معجم الألفاظ الفارسية ص 77. (¬6) لزوم ما لا يلزم 3/ 1529.

ولائحُ هذا الفجرِ سيفٌ مُجرَّدٌ ... أعانَ به صَرْفَ الزَّمانِ لَعينُ (¬1) وقال: [من الطويل] حياتيَ تعذيبٌ وموتيَ راحةٌ ... وكلُّ ابنِ أُنثى في التراب سجينُ توهَّمتَ يا مغرورُ أنَّكَ دَيِّنٌ ... عليَّ يمينُ اللهِ ما لكَ دِينُ تسيرُ إلى البيتِ الحرامِ تنسُّكًا ... ويشكوكَ جارٌ بائسٌ وخَدينُ (¬2) وقال: [من الخفيف] بِئستِ الأُمُّ لِلأنامِ هِيَ الدُّنيا ... وبِئسَ البَنونَ لِلأُمِّ نَحنُ فَسَدَ الأَمرُ كُلُّهُ فاترُكوا الإعْـ ... ـرابَ إنَّ الفَصاحَةَ اليومَ لَحنُ (¬3) وقال: [من البسيط] لقدْ أتَوا بِحَديثٍ لا يُثَبِّتُهُ ... عَقلٌ فَقُلنا عنَ أيِّ النَّاسِ تَحكونَهْ فَأَخبَروا بِأَسانيدٍ لَهُم كَذِبٍ ... لم تَخْلُ مِن ذكر شَيخٍ لا يُزكُّونَهْ عَجِبتُ لِلأُمِّ لَمَّا فاتَ واحِدُها ... بَكَتْ وَساعَدَها ناسٌ يُبَكُّونَهْ هُمُ أَسارى مَناياهُم فَما لَهُمُ ... إذا أتاهُم أَسيرٌ لا يَفُكُّونَهْ فَلَو تَكَلَّمَ دَهرٌ كانَ ساكِنهُمْ ... كَما تَراهُم على الإحسانِ يَشكونَهْ أما تَرَونَ دِيارَ القَومِ خالِيَةً ... بَعدَ الجماعاتِ والأَجداثَ مَسكونَهْ يصومُ ناسٌ عن الزَّادِ المباحِ لهُمْ ... ويغتذون بلحمٍ لا يُزكُّونَهْ (¬4) وقال: [من الوافر] إذا ما شئتُمُ دَعَةً وخفضًا ... فعيشوا في البريَّةِ خامِلينا ولا يُعقَدْ لكم أملٌ لخلقٍ ... وبيتوا للمهيمنِ آمِلينا (¬5) وقال: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 3/ 1530. (¬2) لزوم ما لا يلزم 3/ 1531، والخدين: الصديق. (¬3) لزوم ما لا يلزم 3/ 1544. (¬4) لزوم ما لا يلزم 3/ 1559 - 1560. (¬5) لزوم ما لا يلزم 3/ 1571.

إذا جاءكَ الموتُ فافرَحْ بِهِ ... لِتَخلُصَ من عالم قد لُعِنْ هُمُ ضربوا حيدرًا ساجدًا ... وحسبُكَ من عُمَرٍ إذْ طُعِنْ (¬1) وقال: [من الطويل] إذا ما ذكَرْنا آدمًا وفِعالهُ ... وتزويجَ إبْنيهِ لبنتَيهِ في الدُّنا (¬2) علِمْنا بأنَّ الخلق من أصل زِنْيةٍ ... وأنَّ جميعَ الناسِ من عنصرِ الزِّنا فأجابه القاضي أبو محمد الحسن بن أبي عُقامة من اليمن -وكان فاضلًا- فقال: لَعمرُكَ أمَّا فيكَ فالقولُ صادقٌ ... وتكذِبُ في الباقينَ مَنْ شَطَّ أو دنا كذلِكَ إقرارُ الفتى لازمٌ لَهُ ... وفي غيرِهِ لغوٌ كذا جاءَ شَرْعُنا وقال أبو العلاء: [من الوافر] [عليك السابغاتِ فإنَّهُنَّهْ ... يُدافِعْنَ الصَّوارِمَ والأسِنَّهْ (¬3)] ومَنْ شَهِدَ الوغى وعليه درعٌ ... يُلَقَّاها بنفسٍ مُطمئِنَّهْ وحبَّاتُ القلوبِ يَكُنَّ حَبًّا ... إذا دارَتْ رحاها المُرْجَحِنَّهْ على أنَّ الحوادثَ كائناتٌ ... وما تُغني الدروعُ ولا الأكِنَّهْ وقال: [من المنسرح] تَسَوَّقوا بِالغِنى لِرَبِّهمُ ... وأَظهَروا خِيفَةً لَهُ وَدَعَوا سعَوا لِدُنياهُم بِآخِرَةٍ ... فَبِئسَ ما حاوَلوا غَداةَ سَعوا ولَمْ يَعوا ما يَقولُ واعِظُهُم ... لَكِنَّ قَولَ المُخَرِّصينَ وَعَوا (¬4) وقال: [من السريع] بِخِيفَةِ اللهِ تَعَبَّدْتَنا ... وأنتَ عَينُ الظَّالِمِ اللَّاهي تأمُرُنا بِالزُّهدِ في هَذِهِ ... الدُّنيا وما هَمُّكَ إلّا هي (¬5) ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 3/ 1650. (¬2) هكذا في النسخ، وفي معظم المصادر: الخَنا. (¬3) هذا البيت من (ف). (¬4) لزوم ما لا يلزم 3/ 1710. (¬5) لزوم ما لا يلزم 3/ 1703.

وقال: [من مخلع البسيط] يا أمةً ما لها عقولٌ ... وقُبْحُ ألبابِها (¬1) دهاها بأيِّ جُرْمٍ وأيِّ حُكْمٍ ... سُلِّطَ ليث على مهاها [فحدِّثوني بغيرِ مَيْنٍ ... عن الثُّريا وعن سُهاها] (¬2) وعُذِّرَتْ حاجَةٌ بِعُسرٍ ... على لبيبٍ قَدِ اشتَهاها وظالِمٌ عِندَهُ كُنوزٌ ... من أُمِّ دَفرٍ ومِن لُهاها (¬3) كانَ إذا ما دجى ظَلامٌ ... صاحَ بِأَجمالِهِ وَهاها (¬4) وقال: [من الوافر] وجدتُ غنائِمَ الإسلام نَهبًا ... لأربابِ المعازِفِ والملاهي تُنازعُني إلى الشَّهواتِ نفسي ... فلا أنا مُنجِحٌ أبَدًا وَلا هي وكيف يصِحُّ إجماعُ البَرايا ... وَهُمْ لا يجمِعونَ على الإلهِ (¬5) وقال: [من الخفيف] لا تُهادِ القضاةَ كي تظلمَ الخَصْـ ... ـم ولا تَذْكُرَنَّ ما تُهديهِ [إنَّ من أقبحِ المعايب عارًا ... أن يَمُنَّ الفتى بما يُسديهِ] (¬6) وقال: [من السريع] نُمسي ونُصبِحُ في ضلالاتنا (¬7) ... وما على الغبراء إلَّا سفيهْ فنسألُ الواحدَ (¬8) إنقَاذنا ... من عالم السوءِ الذي نحنُ فيه وقال: [من البسيط] ¬

_ (¬1) في لزوم ما لا يلزم 3/ 1686: وفقد ألهابها، وفي (خ): وفتح أبوابها، والمثبت من (ف). (¬2) هذا البيت من (ف). (¬3) اللُّهى: العطايا. (¬4) لزوم ما لا يلزم 3/ 1686، ووهاها: زجرها. (¬5) لزوم ما لا يلزم 3/ 1701. (¬6) هذا البيت من (ف)، والبيتان في لزوم ما لا يلزم 3/ 1704. (¬7) في لزوم ما لا يلزم 3/ 1704: نُضحي ونُمسي كبني آدمٍ. (¬8) في اللزوم: العالم.

إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد

لو كان جسمك متروكًا بهيئتِهِ ... بعد التَّلافِ طمِعْنا في تلافيهِ كالدَّنِّ عُطِّلَ من راحٍ تكونُ بهِ ... ولم يُحطَّمْ فعادَتْ مرَّةً فيهِ لكنَّهُ صارَ أجزاءً مُقسَّمةً ... ثم استمرَّ هباءً في سوافيهِ (¬1) وذاكَ في هذه الدنيا ويبعثُهُ ... يومَ القيامةِ مُخفيهِ وخافيهِ [وفيها توفِّي] إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد (¬2) أبو عثمان، الصابوني، النيسابوري، الحافظ، الواعظ، المفسِّر، طاف الدنيا في طلب الحديث، وسمع بهَرَاة وخراسان ونيسابور وما وراء النهر والعراق والشام والحجاز [واليمن] والهند وطبرستان وغزنة وغيرها، ووعظ بنيسابور وله سبع سنين، ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاث مئة، [وله الكلام المليح. قال: وقدم الشام حاجًّا في سنة اثنين وثلاثين وأربع مئة، وحدَّث بدمشق ووعظ بها]، ومن شعره: [من الطويل] إذا لم أُصِبْ [أموالكُمْ] (¬3) ونوالكُمْ ... ولم آمُلِ المعروفَ منكُمْ ولا البِرَّا وكنتُمْ عبيدًا للذي أنا عبدُهُ ... فمِنْ أجلِ ماذا أُتْعِبُ البدَنَ الحُرَّا وقال أيضًا: [من البسيط] ما لي أرى الدَّهرَ لا يسخو بذي كَرَمٍ ... ولا يجودُ بمعوانٍ ومِفْضالِ ولا أرى أحدًا في الناس مشتريًا ... حسنَ الثناءِ بإنعامٍ وإفضالِ صاروا سواسيةً في لومهِمْ شرعًا ... كأنَّما نسجوا فيه بمنوالِ ذكر سبب وفاته: [حكى أبو الحسين الفاسي قال]: وقع وباء عظيم بنيسابور، فصعد المنبر، واجتمع الناس، ودعا، فورد كتاب من بخارى يذكر فيه أن رجلًا تقدَّم إلى خباز يشتري منه خبزًا، فدفع إليه درهمًا والخباز بخبز، فمات الخبازُ، وصاحبُ الدكان والمشتري في ساعة واحدة، فلمَّا قرأ الكتاب هاله ذلك، ثم أمر القارئ فقرأ: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ ¬

_ (¬1) لزوم ما لا يلزم 3/ 1697 دون البيت الأخير، والسَّوافي: الرياح تسفي الغبار. (¬2) تاريخ بغداد 8/ 108، وتاريخ دمشق 9/ 5، والمنتظم 16/ 27 - 28. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف) وتاريخ دمشق 9/ 5.

الحسين بن أحمد

الْأَرْضَ} [النحل: 45] ثم بالغ في الوعظ والتخويف، وتغيَّر في الحال، وأُنزل من المنبر وهو يصيح من وجع بطنه، وحُمِلَ إلى الحمام ثم إلى بيته فأقام سبعة أيام ومات، وصلَّى عليه خلق عظيم، وقيل: مات سنة خمسين وأربع مئة، وقيل: إنه تكلم على المنبر، فغرق في علم المشاهدة، وغلب فوقع، فأقام سبعة أيام لا يفيق، وتوفي فلم يبْقَ بنيسابور بِكْرٌ ولا عانس إلا وحضَرْنَ جنازته، وكان يومًا مشهودًا في المُحرَّم. حدَّث عن الحاكم أبي عبد الله وغيرِه، وروى عنه الخطيب وغيرُه، وكان يحضر مجالسه الأئمة، وجلس مكان أبيه وكان عمره سبع سنين، وكان أبوه عبد الرحمن من كبار العلماء الزُّهَّاد، وكان يعظ بنيسابور، ففتكوا به؛ لأجل التعصُّب في المذهب، فجلس أبو عثمان مكانَه، واتَّفقوا على فضله وزهده وورعه وصدقه وثقته. الحسين بن أحمد (¬1) ابن القاسم بن علي بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن طَباطَبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -، النسَّابة، وُلدَ في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وثلاث مئة، وتوفي في صفر، وكان مميزًا من بين أهله بعلم النسب ومعرفة أيام الناس. سعد بن أبي الفرج (¬2) محمد بن جعفر، أبو الغنائم، علاء الدين بن فسانْجِس، وزَر للملك أبي نصر بن أبي كاليجار، ونظر بواسط أول قدوم طُغْرُلْبَك إلى بغداد، ثم عصى وخطب للمصريين بواسط، وقد ذكرنا مقتله وكان يوم قُتِلَ ابنَ سبع وثلاثين سنة. عدنان بن الشريف (2) الرضي، الموسوي، ولي نقابة الطالبيين بعد عمه المرتضى، وكان فاضلًا، وتوفي في رجب، روى عن أبيه وعمه. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 8/ 108، -وفيه: الحسين بن محمد- والمنتظم 16/ 27 - 28. (¬2) المنتظم 16/ 28.

علي بن هندي

علي بن هندي (¬1) أبو الحسن، قاضي حمص، ولد سنة أربع مئة، وكان فاضلًا [نزهًا عفيفًا فصيحًا]، وتوفي بدمشق ودفن بالباب الصغير، ومن شعره: [من البسيط] تَخلُّقٌ حسنٌ إنْ لم يكُنْ خُلُقٌ ... تورُّعٌ حسنٌ إنْ لم يكُنْ ورَعُ فما أرى قيمة الدنيا وإن عظُمَتْ ... أنْ تأتيَ الحرَّ ما من نفسِه يضَعُ السنة الخمسون والأربع مئة فيها استولى البساسيري على بغداد، وأخرج منها القائم بأمر الله، ودرس آثارها [والمعالم]، وجرى على الخليفة وداره وأهله منه ما لم يَجْرِ من الكفار، ثم إن الله تعالى أخذ [له] منه بالثأر [وكان مآلُه إلى الاستئصال والبوار]، وردَّ [اللهُ] الخليفةَ إلى مقرِّه، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وفي المحرَّم صرف أبو علوان ثِمال بن صالح بن الزَّوقلية أمير حلب منها، وأقطعه عكَّا وقيسارية وصيدا والبلاد الساحلية عوضًا عنها، وولَّاها صاحبُ مصر لأبي علم بن ملهم الخويلدي، وخرج صحبتَه القاضي ابن أبي عقيل قاضي صور حتى تسلَّم ابنُ ملهم حلبَ، وعاد القاضي إلى صور، وكان بقلعة حلب أبو نصر بن أبي عمران الداعي، فرتباه بحلب، وعاد الداعي إلى مصر، وفي المحرَّم بعث السلطان بِتارْتكِين إلى الخادم الخاص ومعه فَرَجيَّة ديباج مطمومةٌ بالذهب، وعمامةٌ مكبة مذهبة، وفرس بمركب ذهب إلى أخيه إبراهيم ينَّال، وأحبَّ أن يزُفَّه بملابس الخليفة، وكان إبراهيم بالموصل، وأمره السلطان بالمسير إليه عاجلًا. وفي صفر ورد الخبرُ بأن البساسيري أقطعَ الرحبة لخاصَّته، وارتفاعها ثمانون ألف دينار، ووعد بإنفاذ ستين ألف دينار من مصر في كلِّ سنة، مضافةً إلى ذلك تنصرف في إقامة العسكر البغداديين الذين معه، وكتب إليه من مصر أن لا يعبر الفرات، ولا يتعرَّض لأعمال العراق إلى أن يرى صاحب مصر رأيه في المسالمة أو المنافرة. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 41/ 426 - 433.

وقدم إبراهيم ينَّال بغداد سلخ المُحرَّم، وقيل: في صفر. وفي صفر قصد الوزيرُ رئيسُ الرؤساء دارَ المملكة، واجتمع بالسلطان، وخاطبه في معنى أخيه إبراهيم ينَّال، وقال عن الخليفة: قد راسلتُك أيها السلطان عند وقوع الإرجاف عليه بعصيانه عليك، بأن لا تقبلَ فيه قولَ قائل، ولا تعجَلَ عليه، فللناس أغراض يبلغونها بك، ويتشوَّفون بها عندك، وقد قال الله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] وما يبلغني عنه إلا الطاعة الخالصة، والمحبة الصادقة، والموالاة المؤكدة، بحيث إنني قد اشتهيت أن أراه، وقد شوَّقني ما أسمع عنه إلى مشاهدته. فقال السلطان: إذا أمرَ أميرُ المؤمنين سيَّرتُه إلى خدمته. ثم شرع يشكوه فقال: لمَّا سلَّمتُ إليه الحبل وعوَّلتُ عليه عصى عليَّ وجاهرني، فسِرْتُ إليه، فظفِرتُ به، وعملتُ معه الجميل، ولو كان ما ذُكِرَ عنه الآن من العصيان حقًّا لسرتُ إليه بنفسي، وأخذتُه برقبته، وما أخاف إلَّا من شغلي به، فتبْقَون أنتم ها هنا بحيث يتمكَّن العدوُّ من انتهاز الفرصة فيكم. فقال له رئيس الرؤساء: بعد قَصْدِه بابَك، ووَطْئِه بساطَك، وتشرُّفه بالحضرة الإمامية المقدسة ما يكون منه ما يتوزَّع الخاطرُ لأجله، أو يقع الاهتمام بأمره. ثم شكا إليه رئيسُ الرؤساء فسادَ الجند، فقال: الأمر إليك في هذا، افعَلْ ما تراه، وقد كنتُ الساعةَ قبل حضورك تقدَّمت إلى عميد الملك بأن يتقدَّم إلى الحواشي والحُجَّاب ويقول لهم: مَنْ أرجفَ بأنِّي عائدٌ إلى خراسان أدَّبتُه وعذَّبتُه، وقد كنتُ أجوبُ الأرض حتى أصِلَ إلى هذه الرتبة من خدمة الدار العزيزة، وقد بلغتُ منها نهاية الأمنية، ولم يبقَ بخراسان مَنْ أخاف منه على بلادي، كلُّهم لبسوا خِلَعي، ودخلوا تحت طاعتي، ولا بُدَّ لي من نطحةِ الشام بعد تقضِّي الصيف، وحضورِ المهرجان. ثم خرج رئيس الرؤساء من عنده، واجتمع بإبراهيم ينَّال، وقال له: أمير المؤمنين قد أنِسَ بقربك، وسكن إلى سلامتك، وصرَّ بما يبلغه من طاعتك. فقام وقبَّلَ الأرض وقال: أنا خادمُ الدار العزيزة، وباذلٌ مهجتي في نصرتها، وحيث ورد كتابُكَ وأمرُكَ إليَّ بالحضور سارعتُ متشرفًا بهذا المحلِّ الشريف، ومتجمِّلًا بهذا الاستدعاء الكريم، وأنا واقفٌ على الأوامر والمراسيم. فشكره الوزير، ودعا له.

وفي هذا الشهر أنفذ أهل شفاثا وقلعة العين التي لمحمود بن الأخرم أمير بني خفاجة -وهي معقل الخفاجيين- إلى السلطان، فسلَّموها إليه، فأعطاها أنوشروان زوجتَه، فتسلَّمها أصحابُه. وفيه أُخرِجَ خُمارتاش الحاجب في جماعة من العسكر إلى الأنبار، وباتِكين ويارختِكين الحاجبان إلى الموصل، وسببه أنه ورد الخبر أن البساسيري وقريش بن بدران ومَنْ معهما من الغلمان البغدادية والأكراد، قطعوا الفرات، ومدُّوا أيديَهم في أعمال الجزيرة. وفيه ورد الخبر بأن الغلمان البغدادية شغبت على البساسيري، وقالوا: قد أقطعت الرَّحبة، وليس لنا ما يقوم بنا. وانفصل عنه جماعة إلى دمشق. وفيها أتوا نصر بن أبي عمران الداعية، وشكوا إليه، وطلبوا أن يذهبوا إلى مصر، فنهاهم عن مصر، ووقَّع لهم بما سألوا وأرضاهم، وأعادهم إلى البساسيري، فعادوا كارهين له، فقطع عليهم الطريق بنو كلاب، فقاتلوهم، فنُصِرَ الغلمان عليهم، فقتلوا منهم، ونهبوا خيولهم، وجاؤوا إلى حلب وبها أبو علي بن ملهم، فشكوا إليه حالهم، وعرف منهم أنهم يكرهون العود إلى البساسيري، فارتبطهم عنده، وقرَّر لهم ما يرضيهم، ودخلوا إلى حلب فأقاموا بها. وفي مستهلِّ ربيع الآخر ورد البساسيري وقريش إلى تل أعفر، وخرج عنها نائب السلطان إلى الموصل، وجاءا فنازلا الموصل، وكان غلمان السلطان يخرجون فيقاتلونهم، واستظهروا على العرب، وبلغ السلطان، فأنفذ إلى الجبال بطلب الحلباشية، وجهَّز إليهم سبع مئة غلام مع الحُجَّاب، وورد بغداد سلطان بن دُبَيس في عسكره نجدةً للسلطان، فتلقاه عميد الملك، وقبَّل الأرض بين يدي السلطان. [وفيها في ربيع الآخرة توفِّي الملك الرحيم بن نوبة في قلعة الريِّ، ودُفِنَ بقيده]. وفي جمادى الأولى برز إبراهيم ينَّال من بغداد متوجهًا إلى الموصل، وكان بقلعتها ابنانجيل الذي خلفه السلطان بقلعة تل أعفر، جاء منهزمًا من البساسيري، وكانت كتبه متواترة إلى السلطان تطلب النجدة، وأنهم في ضيق، فأراد السلطان يسير بنفسه، فمنعه الخليفة، وأشار بتسيير إبراهيم يَنَّال، وأشار على السلطان بمداراته وإزالة علله، فامتثل

وطيَّبَ قلبه، وخلع عليه خلعةً نفيسةً من ثيابه، وأعطاه مالًا، وبعث إليه الخليفة خِلَعًا وثيابًا وفرسًا من مراكبه، وراسله بألطف الرسائل، وسار نحو الموصل. وفي جمادى الآخرة ولَّى الخليفةُ نقابة الطالبيين لأبي عبد الله بن أبي طالب نقيب الكوفة والمظالم والحج، وخلع عليه، ولقَّبه بالمرتضى ذي العِزَّين، وحضر قاضي القضاة أبو عبد الله الدامَغاني والأعيان عند رئيس الرؤساء ببيت النوبة، وخلع عليه فيه، وقرأ رئيس الرؤساء عهده، وخرج القاضي معه والحُجَّاب، وعبر إلى الجانب الغربي إلى الدار التي كان ينزلها المرتضى أبو القاسم الموسوي عند بركة زلزل، فلما كان يوم الأربعاء لخمس بَقِين من جمادى الآخرة عبر الأعيان ليهنِّؤوه، وفيهم أبو منصور بن يوسف، والشريف أبو الحسين بن المهتدي الخطيب، وأبو محمد التميمي، وجماعة، فأخذت عمائمهم في الطريق من قِلَّة الناس ببغداد وكثرة اللصوص، ومضى أبو نصر بن الصباغ إلى الجامع يوم الجمعة، فأُخِذَتْ عمامته، وكان العجم من أصحاب السلطان يفتحون الدكاكين نهارًا ويأخذون الأموال، ولا يتجاسر أحدٌ أن ينطق، وخاف الناس خوفًا عظيمًا، وعزم السلطان على نهب الجانب الغربي، وقتل من فيه من كثرة إرجافهم عليه، فمنعه عميد الملك وقال: هذا يُفضي إلى خراب البلد واندراسه. ولمَّا سار إبراهيم يَنَال من بغداد إلى واسط أجفل بين يديه أهل تلك البلاد، وكان قد مضى إلى أزبك آل بن موسك، وعاد وهو مريض والعسكر مرضى من الوباء وجماعة المقدَّمين، فأُنزلوا في سفينة إلى بغداد، فلمَّا وصلوا إليها ماتوا، ولحق عميد الملك على خُمارتاش حزنٌ عظيمٌ، وقعد على التراب، وامتنع من الطعام والشراب، وكان يحبُّه ويعتمد عليه، ثم نقله في تابوت إلى خراسان. وفي يوم الاثنين مستهل رجب برز السلطان خيمة نحو الموصل، فخرج إليه رئيس الرؤساء، وحمل معه خِلْعةً من خِلَع الخليفة وفرسًا، وقال: قد رسم أنَّ السلطان يسير يوم الأربعاء عاشر الشهر، فإنه اختبر من طريق النجوم، وكان الخليفةُ قد أشار على السلطان أن لا يخرج بنفسه وقال: أصحابي محصورون بالموصل، وقد قلَّ زادُهم، والبساسيريُّ قريبٌ منهم، وكنتُ قد قلت في أول الأمر: إنني أخرجُ، فمُنِعتُ، فجرى

على عسكري ما جرى، ولا بُدَّ من الخروج، فخرج وطلب من الخليفة مالًا ينفقه في الغلمان، فبعث إليه بمال سرًّا لا يدري ما مَبْلَغُه، ولمَّا خرج السلطان رأى في عسكره قلَّةً، فشقَّ عليه، وقال لعميد الملك: هلَّا أخبرتني لأتوقف حتى تجتمع العساكر. وكان عدة من معه نحوٌ من ألفي غلام. وفي رابع رجب هرب جماعةٌ من أصحاب السلطان من قلعة الموصل، فسَلِمَ البعضُ، وغَرِقَ البعض، وبقي منهم جماعةٌ في القلعة، وكانت العامة عليهم تقاتل، ثم جاء البساسيري فنزل دار الإمارة، وكان يقيم فيها نهاره، ويخرج منها إلى عسكره ليلًا، ووصل أصحاب السلطان من الجبل، وجاءته العساكر، وسار يوم الجمعة لأربع بَقِينَ من رجب، ولمَّا قَرُبَ من الموصل هرب البساسيريُّ وقريش بن بدران وأهل الموصل، فهدم السلطان قلعة الموصل، ونزل العسكر في دور أهل الموصل، ولم يكن بقي منهم بها أحد، وكان شتاء، فنقض العسكر أخشابها وأوقدوها، وخرب أكثرها، وإنما هرب أهل البلد لأنهم قاتلوا أصحاب السلطان الذين كانوا في القلعة، ولم يَطُلْ مقامُ السلطان بها، وسار إلى نَصِيبين، فلمَّا قَرُبَ منها ولم يَبْقَ بينها وبينه إلا ليلة واحدة خرج إليه شيوخها، وبذلوا عن البلد ثلاثين ألف دينار تُدفع إلى العسكر، فالتمس منهم مئة ألف دينار، وقال: ما يكفي العسكر أقلُّ منها. وبات أهل البلد على أسوأ حال، فأصبحوا فلم يروا للسلطان والعساكر أثرًا، وذلك يوم الأربعاء ثالث عشر رمضان، والسبب فيه أنَّ إبراهيم يَنَّال استشعر من السلطان وما زال إبراهيم عنه نافرًا، وقيل: إنه كان يكاتب البساسيري باطنًا، وأشار عليه البساسيري بالعصيان لأخيه، وأطمعه أن ينفرد بالملك ويساعده على ذلك، وكان رئيس الرؤساء قد ظفر بكتاب المصري والبساسيري إلى إبراهيم يَنَّال بذلك، فأخذ الوزير الكتب من الجاسوس وأطلقه، ولم يُسِئْ إليه ليتألَّف قلب إبراهيم، فعاد فِعْلُه بالوبال وسوء الحال، فإن الجاسوس مضى من فوره إلى إبراهيم يَنَّال، والتقاه في تلك الليلة وأخبره، فانزعج وسار في الليل في قطعة عظيمة من الجيش إلى هَمَذان، ولم يشعر السلطان لأنه كان بعيدًا عنه، ولمَّا علم سار فعدا خلفه خوفًا أن يسبقه إلى هَمَذان وبها حلل التركمان فيملكها، ويأخذ من هَمَذان ما بها من خزائن السلطان وأمواله وذخائره وسلاحه، وتقدَّم إلى خاتون وعميد

الملك وأنوشروان بن خاتون وجميع الحاشية حتى طبيبه ومنجمه الذين لم يخلوا قط من صحبته بالانحدار سرعة إلى بغداد، ليمضي هو جريدة بنفسه خلف إبراهيم، ثم يكاتبهم من هناك بما تقتضيه الحال، فانحدروا مُجِدِّين، فدخلوا بغداد يوم الاثنين رابع شوال، وأمَّا السلطان فإنه وصل إلى هَمَذان ليلة الخميس الحادي والعشرين منه، ثم وصل إبراهيم يَنَّال بعده إلى حلل التركمان، فحلَّفهم واستوثق منهم أن لا يصالح أخاه، ولا يُكلِّفهم المسير إلى العراق من بلادهم ولا إلى غيرها، ولا يستوزر وزيرًا إلا برأيهم، فحلف لهم، وتحصَّن السلطان بهَمَذان، وقاتل أهلُها بين يديه، ووردت كتبه إلى عميد الملك وخاتون بالإسراع إليه والعسكر الذين معهم ليتقوَّى به، فعزمت خاتون على المسير، فمنعها الخليفة خوفًا من انصراف الجند وخلوِّ البلد، وقال لها عميد الملك: مَنْ يوصلنا إلى هَمَذان والعساكر مُحيطةٌ بها، ومتى ظفر بنا إبراهيم كان وهنًا عليكِ وعلى السلطان؟ ! ودفعها رئيس الرؤساء عن ذلك، وشرع عميد الملك باطنًا في ترتيب أنوشروان ابنها من خُوارَزم شاه في الإمارة، وطالبه العسكر بالمال، فأنفق فيه عميد الملك قطعةً من ماله ومال خاتون ومال أنوشروان، وساعدهم الخليفة بالغِلال، ومن الناس أيضًا، وأعلم عميد الملك لرؤساء الترك بما عزم عليه، وأطلع ابنانجيل وعمر على شيء منه، فلم يَرَيا أنوشروان أهلًا، فنقضا عليه ما دبَّره، وبلغ عميد الملك ذلك، فأحفظه، فلمَّا كان يوم السبت الخامس والعشرين من شوال حضروا في دار المملكة، فقال عميد الملك لعمر: ما تدع الفساد على السلطان، ولا تصفي نيَّتك له، وقد بلغني أنك تفسد العسكر لإبراهيم، وتحملهم على مفارقة باب الخليفة، ونحن بإزاء هذا العدو -يعني البساسيري- فقال له عمر: أنت تعلم من هو ذا يسعى في الفساد -يشير إليه- ولكن قد كرهتَ كوني معك، وأنا ألحقُ بالسلطان، وأدَعُكَ، فنفر من ذلك، ونهض عازمًا على القبض عليه، وأحسَّ عمرُ، فخرج وجرَّد سيفه، وركب فرسه، ومضى إلى داره، واعترضه جماعة من أصحاب عميد الملك، فلم يقدروا عليه، واتَّبعه ابنانجيل مائنًا لعميد الملك، خائفًا منه، ووصل عمر من ساعته في غلمانه وخاصَّته بالأسلحة والسيوف المسلَّلة إلى الجبل، وجاءت رسالة خاتون إلى رئيس الرؤساء بإصلاح ما بين ابنانجيل وبين عميد الملك؛ لئلَّا يلحق بعمر فيتضاعف

الضرر، فأحضره رئيسُ الرؤساء، واستحلفه على الطاعة للخليفة والسلطان وعميد الملك، وأخرج له من حضرة الخليفة دست ثياب تشريفًا له وتطييبًا لقلبه، فخرج من دار رئيس الرؤساء وقت العتمة، فسار متبعًا لعمر من غير التفات إلى ما حلف عليه في الديوان، ودخل عميد العراق إلى بغداد لمَّا مضى السلطان إلى الجبل واختلَّت الأمور عليه، وكان مقيمًا بواسط لجباية الأموال، فأصعد إلى بغداد، ودخلها في شوال. وفي ليلة السبت ثامن شوال نقب جامع المنصور، وأخذ منه المطرز الذي ينصب عليه المنبر والستر والسجادة وثياب المكبرين. وفي ليلة الثلاثاء ثامن عشره كانت بين المغرب والعشاء زلزلةٌ عظيمةٌ، ولحق الناس منها خيفةٌ شديدة، ووصلت الأخبار بأنها اتصلت من هَمَذان إلى بغداد وواسط وسَقي الفرات وعانة وتكريت، وكان ببغداد رَحًى تدور فبطلت، وبعد هذه الزلزلة بشهر أخرج القائم من داره وجرى ما جرى، ولمَّا خرج ابنانجيل وعمر اتبعهما جميع من كان ببغداد من التركمان والأتراك، ولم يرضَ أحد منهم بتأمير أنوشروان عليه، وقد كان عميد الملك خاطب الخليفة على أنوشروان وإظهاره في الملك، فقال الخليفة: هذا أمرٌ ينبغي [أن] يُستر، فقد تحدَّث الناس (¬1) بوفاة ركن الدين، فإن فعلنا ذلك صحَّ ما أرجفوا به، وطمع فينا العدو، والمصلحة الآن تدبير العساكر؛ لئلا يخلو البلد منهم، وهذا الأمر لا يفوت. وبعث رئيس الرؤساء إلى أبي الأغر دُبيس يستحِثُّه في القدوم إلى بغداد خوفًا من البساسيري، فقدم يوم الاثنين ثاني ذي القعدة في مئة فارس، فنزل النجميَّ مقابل دار الخليفة، واستأذن في ضرب الطبل على باب خيمته في أوقات الصلاة، فأذن له في بعضها، فلمَّا كان يوم الأربعاء إذا بعميد الملك وأنوشروان قد عبرا دجلة وهجما على دُبيس الخيمة في مئة غلام، فاستشعر وظنَّ السوء، فخرج إليهما وعرَّفاه أنهما هربا من خاتون، وأنها أرادت القبض عليهما، فضرب لهما خيمةً وأنزلهما فيها. وقيل: إن خاتون كانت على اللحاق بالسلطان خوفًا من أن ينحدر البساسيري إلى بغداد، وأيضًا فبلغها أن السلطان قد دخل ببنت الملك أبي كاليجار بن بويه، وأنه قد مال إليها، وخافت أيضًا أن يعلم السلطان بما عزم عليه أنوشروان وعميد ¬

_ (¬1) في (ف): جرت الأخبار.

الملك، فربما أنه يحيد عن رأيهما، فعزمت على القبض عليهما. وقيل: إن كتاب السلطان ورد عليها بالقبض عليهما؛ لأن الخبر وصله بما شرعوا فيه، فأطلعَتْهُما على الكتاب، وأشارت عليهما بالانصراف، فلمَّا عبرا دجلة ونهبَتْ دورَهما، واستدعَتْ الحلباشية والتركمان وحاشية السلطان، وأخبرتهم بذلك، وأطلقت لسانها في عميد الملك وأنوشروان، وأنهما منعاها من اللحاق بالسلطان لسوء نيتهما، وأظهرت الندم على إفلاتها لهم (¬1)، وتقدَّمت إلى الجماعة بالمسير، ورحلت بكرة يوم الأربعاء خامس ذي القعدة، فبعث إليها الخليفة بالتوقف، فزبرت الرسول وسارت، وخاف الحريم من عبث العرقية يعني حريم دار الخلافة، فرمى الناس أقمشتهم في الآبار، وأقام الوزير على أبواب الدروب من يحفظها وباتوا على وجل، وسار الغُزُّ مع خاتون ونهب من تخلَّف منهم دارَ المملكة وما فيها من السلاح والرجال، وكان شيئًا كثيرًا، وعبر عميد الملك من خيم ابن مَزْيد وقت العصر إلى بيت النُّوبة، واجتمع رئيس الرؤساء، واستقرَّ الرأي مع الخليفة عبور ابن مَزْيد إلى الجانب الشرقي لتهمتهم إيَّاه بالبساسيري، وجرَتْ بينهم وبينه مراسلاتٌ إلى أن عبر يوم الخميس سادس ذي القعدة، وتواترت الأخبار بانحدار البساسيري وقريش ونزولهما على هِيت منتهزين الفرصة في بغداد، ولم يبقَ مع عميد الملك غير غلمانه، فانحدر إلى دير العاقول يوم الخميس طالبًا خُوزستان، فلقي في طريقه أبا كاليجار هزارسب، وكان قد استُدعِيَ إلى بغداد، فعرَّفه مسير خاتون بالعساكر، فرجع معه ومضيا جميعًا إلى الأهواز، وأما أنوشروان فسار لاحقًا بوالدته، وكثُرت الأخبار بقرب البساسيري، وضعُفَتْ نفس الخليفة ووزيرِه، ورجع الناس وخصوصًا حاشيةُ الخليفة وخدمُه، وقال الخليفة: مَنْ أراد الانصراف فلينصرِفْ فإني خارج من البلد. فأخرج الناسُ أموالهم وأولادَهم إلى شاطئ دجلة، وضجَّ النساء والأطفال، وأنزل الحاشيةُ والعجمُ أموالهم إلى السفن. وفي وقت هذه الثورة صاح على دار الخليفة نحو عشر بومات صياحًا مزعجًا، وكرَّرت تكريرًا موحشًا. [قلت: وأهل العراق يتطيَّرون من صياح البوم ويتشاءمون بهنَّ، وليس في صياحهنَّ بؤسٌ ولا شؤم، وقد يوافق صياحهنَّ جريان القدر في بعض الصور، وفي الخبر الذي اشتهر: "لا ¬

_ (¬1) في (ف): منها، والمثبت من (ف).

عدوى ولا طِيرة ولا هامة ولا صفر" (¬1)]. ولمَّا تحقَّق أبو الأغر دُبيس وصولَ البساسيري قال لرئيس الرؤساء: مَنْ بقي من ها هنا من هؤلاء العجم يدافع، والرأي عندي خروجي وخروجك عن البلد وانحداركما ومَنْ يتعلَّق بكما في دجلة إلى البلاد السفلية، بحيث تأمنا عدوَّكما، ويجتمع هزارسب معي في خدمتكما، ويجتمع إليكما مَنْ نقوى به. فوافق على هذا الرأي، وخاطب الخليفةَ مراتٍ، فأجابه إليه، ثم صعب عليه مفارقةُ داره وماله، وسمع من والدته ما قوَّى قلبه وعزمه في المقام، فاجتهد به رئيس الرؤساء في الانحدار، فأبى، فقال دُبيس: قد محَّصتُ الرأي، وأنا أتقدم إلى ديالى، فإن قبلتُم انحدرتُ في خدمتكم، وإن تكن الأخرى فالله يقيكم ويدافع عنكم وانصرف إلى ديالى، وأقام متوقعًا خروج الخليفة، ولم يُقبل، وانحدر معه قوم من الحواشي، وخاف الغُزُّ من غدره فتوقَّفوا، وأقام الخليفة على كُرْهٍ وضرورةٍ لا عن رأي وإرادة، وجمع إليه من بقي، وأمر بإصعاد العجم من السفن التي كانوا يبحرون فيها، وخرج عميد العراق أبو نصر أحمد المستوفي لينحدر، فخرج الخليفة بنفسه إليه فردَّه، واجتمع مع الخليفة نحو مئة فارس وألف راجل، وأمر أهلَ الجانب الغربي أن يعبروا إلى الجانب الشرقي، وأمر الزُّهيري وابن اليدن الحنان وابن المُذْهِب -وهم رؤوس الفتن- أن يعبروا إلى الجانب الشرقي إلى الحريم، ومضى رئيس الرؤساء وعميد العراق إلى دار المملكة، وأخذ من الساج الذي فيها ما صلح، وضربا الباقي بالنار، واحترق بيتٌ كبير يقال له: السُّبُكْتِكيني، بناه سُبُكْتِكين حاجب مُعِزِّ الدولة، كان فيه السلاح، ولمَّا بنى عضد الدولة دار المملكة وغيرها لم يتعرَّض لهذا البيت، وقال: هذا فخر بني بويه، يشاهده الناس في دار المملكة. ودخل يوم الجمعة سابع ذي القعدة أو سادس عشره غلمان من البغدادية الذين مع البساسيري إلى بغداد إلى الجانب الغربي، واجتازوا بالكَرْخ، فوثب إليهم أهل الكَرْخ، وخلفوا دوابهم، ودَعَوا لهم وللبساسيري ولصاحب مصر، وسبوا رئيس الرؤساء، وكان أبو طالب كامرو بن الملك أبي كاليجار محبوسًا في دارٍ في الجانب الغربي، فأخرجوه وشدُّوا له علمًا أحمر، وأقاموه بإزاء دار المملكة، وبعثوا إلى البساسيري يخبرونه بدخولهم بغداد وما فعلوا، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5707)، ومسلم (2220) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ويستحثونه على لحاقهم، وأقاموا مع كامرو إلى وقت المساء، ثم حمله إلى قرية عَقْرَقُوف (¬1)، فباتوا بها، ووافاهم البساسيري، وقيل: لم يُصلِّ الناسُ الجمعة بجامع المنصور، وإنما صلُّوا الظهر بغير خطبة، ونزل البساسيري يوم السبت بعَقْرَقُوف، ولقيه كامرو فلم يَرَ عنده ما قدَّره، وجهده بما يكره، وحصل في جملته غيرَ مُهتَمٍّ بأمره، ولا مُراع لحقِّه، فلما كان يوم الأحد ثامن ذي القعدة دخل بغداد، فخرج إليه أهل الكَرْخ، وتضرَّعوا في أن يجتاز عندهم، فعدلَ معهم، ودخل الكَرْخ، فنثروا عليه الدنانير والدراهم، وعليه جبة عتابي، وعمامة خَزٍّ، وكان دائمًا ينتخب الملابس الفاخرة، وعن يمينه أبو الحسن بن عبد الرحيم، وعن يساره من الغلمان البغدادية العددُ القليلُ، وعلى رأسه نحو من عشرين قصبة من القنا، منها عشرة ملبَّسة بالفضة مشدودة، عليها تسعة مطارد سقلاطون، مكتوب عليها بالذهب والفضة: الإمام المستنصر بالله أبو تميم مُعِدُّ أمير المؤمنين، ومنها عشرة ملبَّسة بالحرير الأحمر، على واحدة منها راية بيضاء، منسوجٌ فيها بالذهب اسم المستنصر أيضًا، فنزل بمشرعة الزوايا، ونزل قريش في نحو من مئتي فارس في مشرعة لباب البصرة في بني عقيل، ولمَّا استقرَّ بالقوم المنزل ركب عميد العراق من الجانب الشرقي في العسكر وحواشي الدار والخدم والهاشميين والعلويين والعوام، وقد ألبسهم السلاح، فكانوا عددًا كثيرًا، ومعهم فيلٌ صغيرٌ حمله السلطان إلى الخليفة لمَّا زفَّ إليه ابنةَ أخيه، وضربوا الدَّبادب والبوقات، وصاحوا عليهم إلى آخر النهار، ثم انصرفوا ولم يجاوَبوا بكلمة من عسكر البساسيري بكلمة ولا فعل، ونُهِبَتْ دارُ قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني، وكانت بالجانب الغربي، وتلف أكثرُ السجِلَّات والكتب الحكمية، ونُهِبَتْ دور المتعلقين على الخليفة والعجم، إلا من كان في داره فإنهم لم يتعرضوا له ولا لداره، وأوصى البساسيريُّ الغلمان أن لا ينهبوا ويُحسِنوا العشرة مع الناس، وطرحت النار في باب البصرة، وكان أكثرُ أهلها قد عبروا (¬2) إلى دار الخليفة، فنُهِبَتْ وأُحرِقَتْ، واجتهد البساسيري في منع ذلك فلم يقدر؛ لأن أهلَ الكَرْخ أظهروا ما كان في قلوبهم، وخرج مَنْ بقي من أهل باب البصرة ¬

_ (¬1) عَقْرَفُوف: قرية من نواحي دجيل، بينها وبين بغداد أربعة فراسخ. معجم البلدان 4/ 137. (¬2) في (ف): دخلوا.

عراةً ومعهم النساء والأطفال، وقعدوا على الطرق والدكاكين، وكان الزمانُ شتاءً، والبرد شديد، فمات أكثرُهم، وأعاد أهل الكَرْخ الأذان بحيَّ على خير العمل، وأظهروا الفرح والسرور والتشفي بإزاء ما قاسوه من الخوف والذُّلِّ، وعملوا راية بيضاء وكتبوا عليها اسم المستنصر، ونصبوها في وسط الكَرْخ، وعقد البساسيري الجسر عند باب الطاق ليضيِّق رجله، وجرى بينه وبين عميد العراق حربٌ على عقده، وجمع إليه البساسيري العوامَّ وأهلَ الكَرْخ، وأطمعهم في نهب دار الخليفة، واجتمع إليه العيَّارون، وكان كلُّ مَنْ عبر إليه إلى الجانب الغربي خلع عليه وزفَّه بالبوقات والدبادب، وخطب بجامع المنصور للمستنصر، وألبس الخطيب والمؤذنين الثياب البيض، وزيد في الأذان: حيَّ على خير العمل، وركب عميد العراق إلى جامع الرُّصافة، وأقام الخطبة للقائم على العادة، ولمَّا تكامل الجسر والقتالُ يُعمَلُ عليه سيَّر جماعةً يوم الاثنين سادس عشر ذي القعدة، فوافاهم عميد العراق عند الزاهر، واقتتلوا، فانهزم عميد العراق ومَنْ كان معه، وقُتِلَ من الدَّيلم نحو من ثلاثين رجلًا، وعبر البساسيري بعسكره، وخرج إليه عميد العراق وبنو هاشم وغيرهم، وقاتلوه من نهر مُعلَّى إلى باب أبْرَز، وكان القتالُ يُعمل كلَّ يوم، وخُطِبَ يومَ الجمعة بجامع الرُّصافة للمستنصر أيضًا، وكان الخطيب في جامع المنصور والرُّصافة يقال له: ابن شعيب الأَرَّجاني، وكان شريرًا مبغضًا، وكان البساسيري يعرفه بالشر، فنال من الخليفة ومن رئيس الرؤساء [على المنبرين، وكان عميد العراق ورئيس الرؤساء] (¬1) والخدم والزهيري وابن اليدن وابن المذهب القاص يقفون بباب النُّوبي، ويقاتلون ويجمعون العوامَّ ورئيسُ الرؤساء يحرِّضهم ويقول: اقتلوهم حيث ثقفتموهم، وكان النساء يقاتِلْنَ وبأيديهنَّ الدفوف، وحُفِرَتِ الخنادق والآبار حول دار الخلافة، وخلا جانب الحلية من المقاتلين، واشتغلوا بحفظ باب النُّوبي، فلما كان يوم الأحد التاسع والعشرين من ذي القعدة قصد البساسيريُّ دارَ الخلافة من ناحية باب النُّوبي، وعرف العوامُّ خلوَّ باب الأزج والحلبة، فجاؤوا إلى ناحية باب الأزج، وهدموا حائطًا، وأحرقوا أماكِنَ، وعلم البساسيري، فساق إليهم، فوجدهم قد اشتغلوا بالنهب من باب الأزج، ولمَّا ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف).

رآهم أصحابُه ينهبون شرعوا في النهب، فبقي في عسكر قليل، وحمل أصحاب عميد العراق إليه، وقتلوا أحدَ مماليكه، فانصرف وقد غاظه ما جرى، ونادى في أصحابه: من نهبَ حلَّ دمه، وباكر القتال من غدٍ عند الحلية، وكان عميد العراق واقفًا بباب أبْرَز في أصحابه وهو مستظهرٌ عليهم، ولو قبل رئيس الرؤساء رأيه لطال الأمرُ، ولكنه عدل إلى رأي نفسه، وجاء إلى باب الحلية فشجَّعه القاضي أبو الفضل الهَمَذاني، وقال: افتَحْ لي الباب لأخرُجَ إلى هذا الكلب وآخذ به برقبته، ولم يكن رئيس الرؤساء يقيم الحرب، ولا له به خبرة، ففتح الباب، فخرج أبو الفضل فيمَنْ يخلف عن عميد العراق من العجم، ومعه الخدم والخواصُّ والهاشميون والعوام إلى الحلية، وانتشروا فيها، وعميد العراق في باب أبْرَز، ووقف رئيس الرؤساء بالباب يُفرِّق النُّشَّاب، فاستجرَّهم البساسيري إلى آخر الحلية، ثم أكَبَّ عليهم فانهزموا، وقُتِلَ من الخدم والخواصِّ جماعةٌ، وكذا من الهاشميين، منهم: أبو علي بن أبي تمام نقيب الهاشميين، وجماعةٌ كبيرة، واستأمن بعضُهم، وازدحم في باب الحلية خلقٌ فمات منهم جماعةٌ، منهم القاضي أبو الفضل الهَمَذاني وجماعةٌ من العوام حتى امتلأ العقد بهم، وصَعِد الناس على القتلى، وازدحموا فوقهم، وهرب رئيس الرؤساء إلى دار الخلافة، ورجع البساسيري إلى معسكره، وعبر العوام وغيرهم من دار الخلافة إلى الجانب الغربي، وأخذوا نساءهم وأموالهم، ونهبوا حريمَ الخلافة، وخرج رئيس الرؤساء إلى باب النُّوبي، واستدعى عميدَ العراق وقال له: احفَظْ باب العامة، وكُنْ على سور دار الخلافة. ودخل إلى القائم وقد أطاف بالقائم خدَمُه وخواصُّه، فقال له: ما الرأيُ يا علي؟ فقال: تحفظ الدار، ويكون القتال على السور، ونسألُ الله حُسنَ المقدور. فقال له بعض الهاشميين: يا رئيس الرؤساء، قامرتَ في الدولة العباسية فقمرتَها، وبينا هم على ذلك إذ سمعوا صراخًا في الدار، فقال: انظروا ما هذا؟ قالوا: العوامُّ والعسكر دخلوا الدار، ونهبوا ديوان الخاص، ودواب الخدم والخواص، وأشاروا على الخليفة بالركوب ليشاهده الناس، فإمَّا يرجعوا، وإمَّا استُذِمَّ قريشٌ، فركب وعليه السواد، وعلى كتفه البردة، وبيده سيفٌ مُجرَّد، وعلى رأسه اللواء (¬1)، والهاشميون حولَه ¬

_ (¬1) في (ف): اللؤلؤ.

والجَواري حاسراتٌ [ناشراتٌ] (¬1) الشعورَ، معهنَّ المصاحف على رؤوس القصب، وبين يديه الخدم بالسيوف المسلَّلة، فوجدوا جماعةً من النَّهابة قد وصلوا باب الفردوس (¬2)، فقتلوهم ورجع إلى باب العامة يريد عميد العراق، فوجده قد استأمن إلى قريش بن بدران، ورمى أكثرُ أصحابه سلاحهم، واستأمنوا معه، فعاد إلى الحلية الصغيرة، وعرف أن البساسيري وقريشًا في الحلية الكبيرة، فصعد إلى منظرة له، واطَّلع رئيس الرؤساء وصاح بقريش: يا علم الدين، أمير المؤمنين يستدنيك. فدنا إلى تحت المنظرة، فقال: قد آتاك الله رتبة لم ينَلْها أمثالُك، وأحلَّكَ منزلةً لم يُحِلَّها أشكالَك، فإن أمير المؤمنين يستذمُّ منك على نفسه وأهله وماله وأصحابه بذمام الله تعالى وذمام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذمام العرب. فقال قريش: قد أذمَّ الله له. قال: ولي ولمن معه؟ قال: نعم. وخلع قَلنسوةً من تحت عِمامته، وأعطاها ذمامًا للخليفة، وأعطى مِخْصَرته لرئيس الرؤساء ذمامًا، ففتح الباب، ونزل الخليفة ورئيس الرؤساء إلى قريش، وحصلا معه، فقبَّل قريش الأرضَ دفعاتٍ، وكان ابنُ المسلمة قد تسرَّح من الحائط فنزل، وبلغ البساسيري، فأرسل إليه يقول: أتذمُّ لهما وقد استقرَّ بيني وبينك ما اسْتَحلفتُكَ عليه؟ ! وكانا عند انحدارهما قد تحالفا أن لا ينفرد أحدهما عن الآخر بشيء، ويكون العراق بينهما نصفين. فقال قريش: ما عدلتَ عن ما استقرَّ بيننا عدول ابن المسلمة -يعني رئيس الرؤساء- فخُذْه وأنا آخذ الخليفة. فرضي بذلك، وبعث رئيسُ الرؤساء إليه مع منصور بن مَزْيَد، فحين رآه البساسيري قال: مرحبًا بمدمِّرِ الدولة، ومُهلِكِ الأمم، ومُخرِّبِ البلاد، ومُبيدِ العباد. فقال له: أيها الأجلُّ، العفو عند المقدرة. فقال: قد قدرتَ فما عفوتَ، وأنتَ تاجرٌ صاحبُ طيلسان، ولم تُبْقِ على الحريم والأطفال والأموال، فكيف أعفو عنك وأنا صاحب سيف، وقد أخذتَ أموالي، وعاقبتَ حرمي، ونفيتَهم إلى البلاد والقلاع، واعتقلتَهم فيها، وقتلتَ أصحابي، ودرسْتَ دوري، وسبيتني وأبعدتني، وفعلتَ تلك الأفاعيل، ولكن هذا من تصوُّرك الفاسد، وعقلك الناقص. واجتمع العامة على ابن المسلمة، ولعنوه وسبُّوه ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف). (¬2) في (خ): الفراديس، والمثبت من (ف).

وهمُّوا به، فأخذ البساسيري بيده، وسيَّره إلى جنبه؛ خوفًا عليه من العامة، ولم يزَلْ يوبِّخه ويُعنِّفه -وهو يعتذر إليه- ويستعطفه، وحلَّ الركابية حزامَ البِرْذَون الذي كان تحته ليسقط ويتمكن منه العامة، فسقط، فوقف البساسيري حتى أركبه، ومضى به إلى خيمته، وانتزع أحدُ الأتراك ما كان عليه، وألبسه قميصَ خَزٍّ وعمامةً لطيفةً بيضاءَ، وقيَّده بقيدٍ، ووكَلَ به، وحصل في يده جميعُ مَنْ كان يطلبه، مثل: ابن المردوسي، وأبي عبد الله بن الدامغاني قاضي القضاة، وهبة الله بن المأمون، وأبي علي بن السيرواني، وأبي عبد الله بن عبد الملك، وكان من التجار الكبار، وبينه وبين البساسيري عداوةٌ، وكان قد سكن دار الخليفة خوفًا منه على ماله ونعمته، وظفر بالسيدة خاتون بنت الأمير داود زوجة الخليفة، فأحسن معاملتها، ولم يتعرَّض لها، وسلَّمها إلى أبي عبد الله بن جردة البيع، وأما قريش فحصل في يده الخليفة، وعميد العراق، وأبو منصور بن يوسف وولده، فحُمِلَ الخليفةُ إلى معسكره راكبًا، عليه الثياب السُّود، وعلى كتفه البُردةُ، وبيده سيفٌ مسلول، وعلى رأسه اللواء، فمال، فأنزله قريش خيمةً لطيفةً، ومعه من خواصِّ خدمه ريحانُ وموفق وعفيف، ووكل بالخيمة قومًا من أصحابه، ولحق الخليفةَ ذَرَبٌ عظيم، فامتنع من الطعام والشراب، فسأله قريش وألحَّ عليه حتى أكل وشرب، ثم إن قريشًا أذمَّ لأبي عبد الله بن جردة، وكان تاجرًا، لم يُدخِلْ نفسَه في غير التجارة، وأخذ أبا منصور بن يوسف وابنيه إلى حُلَّته وأكرمَه، وأصلح حاله مع البساسيري، وكان ابن جردة قد ضمن لقريش عشرةَ آلاف دينار إن حمى له داره وما فيها من أموال التجارة، فحماها، وعبر العوامُّ من الكَرْخ وغيرِه يوم الثلاثاء، فأحرقوا رباط أبي سعيد الصوفي بباب المدرسة النظامية، ثم صعدوا إلى دار الخليفة وفتحوا أبوابها ونهبوها، وأُخذ منها من الأموال والجواهر والثياب والأواني والياقوت والمصاغ وجميع الأشياء ما لا تُحصر قيمتُه، واستغنى أهلُ الكَرْخ والعرب والغلمان، فلما كان يوم الأربعاء رفع البساسيريُّ النَّهبَ عن دار الخليفة، واستُخرجَتِ الأموالُ منها، واقتسمها البساسيريّ وقريشٌ على ما اتَّفقا عليه، وقُتِلَ ابنُ المُذْهِب القاص بباب النُّوبي، وأفلت الزُّهيري وابنُ اليدن الحيَّان، وكان هؤلاء الثلاثة القائمين القاعدين المتهدِّدين والمتوعِّدين، وكان في قلوب الناس منهم ما فيها، وعبر

البساسيريُّ بابن المسلمة إلى حريم ابن طاهر، واعتقله فيه، وثقَّله بالحديد، وضربه بيده ضربًا مُبرِّحًا حتى انتفخت قدماه، فَفُكَّ قيدُه حتى سكنت، ثم أُعيد القيد، واعتُقل أيضًا القاضي ومَنْ سَمَّينا، وواصل العقوبة عليهم، وأقام بالحريم، وجعله داره، وشدَّ الفِيلَة على بابه، وطلب الخليفةَ من قريش فلم يفعل، فاتَّفقا على أن أيديهما متساوية في حفظه، وأن لا يكون في يد أحدهما إلى أن يتقرَّر لهما عزمٌ في بابه، وأن يبعثا به إلى مهارش صاحب الحديثة، وأن يكون معتقلًا عنده، وعرف الخليفة ذلك، فخاف أن تكون مكيدة، فراسل قريشًا في المجيء إليه، فامتنع، فقام الخليفة ومشى إلى خيمة قريش، ودخل عليه، وعلق بذيله، وقال: قد عرفتَ ما استقرَّ من إبعادي عنك، وإخراجي من يدك (¬1)، وما سلمتُ نفسي إليك، إلَّا لمَّا أعطيتني ذمامك الذي يلزمك الوفاء به، وقد دخلتُ عليك بذمام آخر، فاللهَ اللهَ في نفسي، فإنك إن أسلمتني أهلكتني وضيَّعتني، وما ذاك معروف في العرب. فقال له: ما ينالُكَ سوءٌ، ولا يلحقُكَ ضيمٌ، غير أن هذه الخيمة ليست لك بدار مقام، وأبو الحارث لا يُؤثِر مقامك معه في هذا البلد، وقد جرى ما جرى في أمرك، وأنا أنقلك إلى الحديثة وأُسلِّمك إلى ابن عمي مهارش، وفيه دين وتألُّه، فلا تخَفْ، واسكُنْ إلى مراعاتي لك، وعُدْ إلى مكانك. فلمَّا يئس منه قام عنه وهو يقول: لله أمرٌ هو بالِغُه. واسترجع، وعبر قريش ليلة الأربعاء تاسع ذي الحجة إلى الجانب الغربي، فضرب خيمةً بقرب جامع المنصور، وحُمِلَ الخليفةُ إلى المشهد بمقابر قريش، وقيل له: تبات الليلة فيه. فامتنع وقال: هؤلاء العلويُّون الذين به أعدائي ويشنؤوني، وربما جرى منهم قولٌ قبيح. فلم يلتفت إليه، وأُلزم الدخول، وبات في بعض البيوت، وكان القصد في إدخاله المشهد لما جرى على المشهد من الحريق والهوان، وفِعْلُ الزُّهيري وابن اليدن إنما كان عن أمره وإيثاره، فأرادوا الموافقة له على ذلك، وأنه عوقب بدخوله إليه، فأصبح أصحاب البساسيري وأصحاب قريش فتسلموه وأقعدوه في هودج على جمل وحده، وساروا به إلى الحديثة، فلمَّا بلغ الأنبار شكا وصولَ البرد إلى جسمه، وطلب شيئًا يلبسه، فلم يجد، وعرف شيخ من مشايخ الأنبار -يقال له: ابن مهدويه- ذلك، فأنفذ إليه جُبَّةَ بُرْدٍ ¬

_ (¬1) في (خ): وإخراجي عنك، والمثبت من (ف).

فيها قطنٌ، وبقيارًا (¬1) ولحافًا، وكتب الخليفة رقعةً من هناك إلى بغداد يتلطَّف فيها بالبساسيري وقريش، ويسألهما إعادتَه إلى بغداد، وإحسانَ العشرة، وحلف بالأيمان المؤكِّدة على براءة ساحته من جميع ما نُسِب إليه، فلم يقع التفات إليها، ولا رَدَّ جوابًا عنها، وركب البساسيريُّ يوم الخميس العاشر من ذي الحجة إلى المُصلَّى في الجانب الشرقي، وعلى رأسه الألوية المضربة، وأكثرُ مَنْ في موكبه من العجم، وكانوا سبع مئة، فدنا منهم ولم يتعرَّضْ لهم، وعبر في طيار الخليفة، وعلى الطيار أعلام المصريين، فصلَّى العيد ونحن بين يديه، وأبو منصور بن بكران حاجب الخليفة على رأسه في النحر، وعليه ثياب بياض، وضرب البساسيري دنانير سمَّاها المستنصرية، وكان على جانبه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، عليٌّ وليُّ الله. وعلى الجانب الآخر: عبد الله، ووليُّه الإمام المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين، وأما دُبَيس فإنه كان مقيمًا بديالى، ولمَّا بلغه ما جرى رحلَ منها، ودخل بغداد يوم السبت الثاني عشر من ذي الحجة، والتقاه البساسيري وقريش، وفي جملتهم أبو عبد الله المردوسي وجماعة من الحاشية؛ طمعًا أن يُصلحَ حالهم مع البساسيري، وضرب خيمةً على الصراة، وكان البساسيريُّ يقبض في الليل على جماعةٍ ويُفرِّقهم، وقدم عليه مَنْ كان بواسط من الغلمان والعجم، فاستخدمهم وطيَّب قلوبهم، وأقفر حريم دار الخلافة، ولم يبقَ فيه إلا عددٌ يسير، وخربتِ الدُّور والمساكن والأسواق، وكان بتكريت أصحابُ السلطان طُغْرُلْبَك، رتبهم عند عوده من الموصل، فندب البساسيريُّ رجلًا -يقال له: حيدر- من العجم، كان قد خدم البساسيريَّ، وقال: تمضي مع قريش لحصار تكريت. وفي ذي الحجة غرَّق البساسيريُّ قومًا من العجم همُّوا بالفتك به، وغرَّق معهم جماعةً من العيَّارين ظفر بهم، فيهم الزُّهيري، وكان الزُّهيري لمَّا أُنزل في السفينة ليُغرَّق سأل بعض الملَّاحين -وكان من أهل السنة- أن يَحُلَّ كِتافَه (¬2) ففعل، وسبح، ¬

_ (¬1) بقيار: كلمة فارسية، تعني العمامة الكبيرة التي يعتمرها الوزراء والقضاة والكُتَّاب. تكملة المعاجم لدروزي 1/ 407. (¬2) الكِتاف: ما شُدَّ به من حبل ونحوه. المعجم الوسيط (كتف).

وانحدر إلى مشرعة القصب، وصعد إلى زورق، فاستكَنَّ فيه من البرد، وأنكره ملَّاحوه، فضمن لهم خمسة دنانير، [على أن يحملوه إلى مربعة القطانين، فحملوه، فدخل دار العُكْبَري معلِّم أولاد ابن المسلمة، وأخذ من أحد أقاربه خمسة دنانير] فدفعها إليهم، وخاف العسكر أن يشيع ذلك فيُغَرِّمَه البساسيري عوضه، فبعث إلى البساسيري وأخبره، فأخذ الزهيري فقتله، وطُرِح في دجلة، وأمَّا ابن اليدن فإنه هرب إلى النهروان، فبعث به ناظر النهروان إلى البساسيري، فجاء به فارسان إلى الزاهر ليلًا، فناما، وهرب في الليل، وسبح (¬1) إلى باب البصرة، واختبا عند امرأةٍ فسَلِم. وفي يوم الاثنين لليلتين بقِيتا من ذي الحجة قُتل رئيس الرؤساء، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفي هذا اليوم ورد ركابيٌّ إلى بغداد ومعه كتابٌ إلى دور أحد حُجَّاب السلطان يخبر فيه أن السلطان كان محاصرًا بهَمَذان، وورد الخبر إلى أخيه إبراهيم يَنَّال أن زوجة السلطان واصلةٌ بالعساكر والخزائن، فحرص على أخذها، وبعث بقطعة كبيرة من العسكر وراءها، وتبعها أكثر التركمان طمعًا في نهب ما معها، ففلَّ عسكر إبراهيم يَنَال منهزمًا، وسار السلطان إلى الريِّ، ولحقت به خاتون، وفاتت التركمان، وعادوا فوجدوا أموالهم قد نُهبت، ووصلت خاتون بالسلطان وسلمت، وكان ابنُها أنوشروان معها مقيَّدًا، وقد كان لحقها بحلوان، فقيَّدَتْه واستصحبَتْه معها، فلمَّا رآه السلطان على تلك الصورة رَقَّ له، وفَكَّ قيدَه، وأفرج عنه. وكان البساسيريُّ لمَّا دخل بغداد أسر يارَخْتِكين حاجب السلطان، وكانت زوجتُه مع خاتون، فسألت السلطان أن يفدي زوجَها بنساء البساسيري وأولادَه، فأجابها، وبعث كتابًا إلى بدر بن المهلهل الكردي ليتسلَّم يارَخْتِكين، ويُسَلِّمَ أولاد البساسيري. وفيه أفرج البساسيريُّ عن قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني بعد أن قرَّر عليه ثلاثة آلاف دينار، وضمنه حموه ابن السِّمناني عليها، وأدَّى سبع مئة دينار، وسكت البساسيريُّ عن الباقي، ووصل الخليفة إلى الحديثة، والتقاه مهارش البدري، وكان حسنَ الطريقة، يخدم الخليفة بنفسه. ¬

_ (¬1) في (خ): وسلم، والمثبت من (ف).

داود جغري بك

وفيها قدم الحسن بن الحسين (¬1) بن حمدان -الملقب بناصر الدولة ذي المجدين- من مصر أميرًا على دمشق، فأقام بها واليًا إلى سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة، وندب إلى حلب لقتال بني كلاب، فتوجَّه إليهم، وجرت له معهم وقعات، منها وقعة الفنيدق، فكُسِرَ ابنُ حمدان كسرةً عظيمةً قُتِلَ أكثرُ عسكره، وأُسِرَ الباقون، ومضى إلى مصر جريحًا. وقيل: كانت في شعبان. وقال الرئيس أبو يعلى حمزة بن أسد بن علي التميمي: وفي سنة خمسين وأربع مئة وصل الأمير ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن الحسين بن حمدان إلى دمشق واليًا عليها دفعةً ثانيةً بعد أن ولي (¬2) يوم الاثنين النصف من رجب، فأقام يجمع أموالها، ويسوس أحوالها، إلى أن ورد عليه الأمر من مصر بالمسير إلى حلب، فتوجَّه إليها في ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين، واتفقت الوقعة المشهورة عند الفنيدق بظاهر حلب يوم الاثنين مستهلَّ شعبان، فانهزم ناصر الدولة مفلولًا جريحًا، واستولت العرب على ما كان معه. قال المصنف رحمه الله: ومعنى قوله: ورد دمشق دفعة ثانية؛ أن ناصر الدولة كان قد ولي دمشق سنة ثلاث وثلاثين بعد أمير الجيوش أنوشْتِكين، وورد في صحبة ناصر الدولة إلى دمشق الشريف فخر الدولة أبو يعلى حمزة بن الحسن بن العباس بن الحسن بن الحسين أبي الحسن نقيب الطالبيين، فأقام ناصر الدولة إلى سنة أربعين، فعُزِلَ في رجب، وحُمِلَ مقبوضًا عليه إلى مصر. [وفيها] تُوفِّي داود جُغري بك (¬3) أخو السلطان طُغْرُلْبَك، وهو الأكبر، ولم يقدم بغداد، وكان مقيمًا بخراسان بإزاء أولاد محمود بن سُبُكْتِكين وداود حمو القائم، وكان عاقلًا شجاعًا مدبِّرًا حليمًا جوادًا، رضي بخراسان، وكانت وفاته ببَلْخ، ومضى ولداه ياقوتي وقاوَرْت بك من ¬

_ (¬1) في الأصلين (خ) و (ف): الحسين بن الحسن، والصواب: الحسن بن الحسين، كما سيأتي قريبًا، وكما في معظم المصادر. (¬2) في (ف): بعد أولى. (¬3) ما بين حاصرتين من (ف).

طاهر بن عبد الله بن طاهر

حضرة السلطان؛ جهَّزهما إلى أخيهما المتملِّك الأمر بعد أبيهما، واسمه أَلْب أرسلان، وقرَّر (¬1) السلطان أمورهم، وكان بأصبهان، وقد عزم على قصد العراق. [وفيها تُوفِّي] طاهر بن عبد الله بن طاهر (¬2) أبو الطيب، الطبري، القاضي، الشافعي، ولد سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة بآمُل، وتفقَّه بخراسان والعراق، وابتدأ بدرس الفقه والعلم وله أربعة عشر سنة، فلم يُخِلَّ به يومًا واحدًا حتى مات، وولي القضاء بربع الكَرْخ [بعد موت الصَّيمري. وذكره أبو إسحاق الشيرازي في "طبقات الفقهاء" (¬3) وأثنى عليه، وقال]: وكان حسن الخُلق، دفع إلى خفَّافٍ خُفًّا ليصلحه، فكان يمرُّ عليه فيتقاضاه، فإذا رآه الخفَّاف أخذ الخُفَّ وغمسه في الماء وقال: الساعةَ أُصلحه. فلمَّا طال عليه ذلك مرَّ به يومًا، فأخذ الخُفَّ وغمسه في الماء على العادة، فقال له [أبو الطيب]: يا هذا، إنما دفعتُه إليك لتُصلِحه لا لتُعلِّمه السباحة. [قال الخطيب]: وتُوفِّي يوم السبت لعشر بَقِين من ربيع الأول، وصلَّى [عليه] أبو الحسين بن المهتدي بجامع المنصور، [وحضرتُ الصلاة عليه]، ودفن بباب حرب، وقد بلغ [من السنِّ] مئة سنة وستين سنة، وهو صحيح العقل، ثابت الفهم، سليم الأعضاء والسمع والبصر، على رسمه في الجدال والنظر يقضي، ويفتي إلى حين وفاته، وكان يقول: رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: يا فقيه. وكان يفرح بذلك، ويقول: سمَّاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقيه. وقال الخطيب: أنشدني أبو الطيب لنفسه: [من البسيط] ما زلتُ أطلبُ علمَ الفقهِ مُصطبرًا ... على الشدائدِ حتى أُعقَبَ الظَّفَرا فكان ما كان من درسٍ ومن سهرٍ ... في عُظْمِ ما نِلْتُ في عُقباهُ مُغتَفَرا ¬

_ (¬1) في (خ): وقرأ، والمثبت من (ف). (¬2) تاريخ بغداد 9/ 358 - 360، والمنتظم 16/ 39 - 40، وصفة الصفوة 2/ 492 - 494. وينظر السير 7/ 668. (¬3) لم أقف على الكلام الآتي في طبقات الفقهاء، وإنما نقله المصنف عن جده من المنتظم، عن أبي إسحاق الشيرازي، والله أعلم.

عبد الله بن علي بن عياض

حفظتُ مأثورَهُ حفظًا وثِقْتُ بهِ ... وما يُقاسُ على المأثورِ مُعتَبَرا صنَّفتُ في كلِّ نوعٍ من مسائلِهِ ... غرائبَ الكُتْبِ مبسوطًا ومختصَرا إذا انتضيتُ بياني عن غوامضِهِ ... حَسَرتُ عنها قناعَ اللَّبْسِ فانحَسرا وإنْ تحرَّيتُ طُرْقَ الحقِّ مجتهدًا ... وصلتُ منها إلى ما أعجزَ الفِكَرا وكنتُ ذا ثروةٍ لمَّا عُنيتُ بهِ ... فلم أدَعْ ظاهرًا منها ومُدَّخَرا أقولُ بالأثرِ المرويِّ متَّبِعًا ... وبالقياسِ إذا لم أعرفِ الأثَرا وما أُبالي إذا ما العلمُ صاحبَني ... ثم التقى فيه أنْ لا أصحبَ البَشَرا ثَنَتْ عناني عنه هِمَّةٌ طمِحَتْ ... إلى الهوى فاستطابَتْ عندهُ الصَّبرا إذا أضقتُ سألتُ اللهَ مقتنِعًا ... كفايتي فأطابَ الورْدَ والصَّدَرا وقال أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي: حكى لي بعض أهل العلم أن أبا الطيب الطبري صعد من سُمَّارية وقد تمَّ له عَشر المئة، فقفز منها إلى الشطِّ أمدًا بعيدًا، فقال له بعض مَنْ حَضَر: يا سيدنا، لا تفعَلْ هذا، فإن أعضاءك تضعف عنه، وربما أورثَتْ هذه الطفرةُ فتقًا. فقال له: يا هذا، إن هذه أعضاءُ حفظناها من معاصي الله في الصِّغَر، فحفِظَها علينا في الكِبَر. عبد الله بن علي بن عياض (¬1) أبو محمد، الصُّوري، ويُلقَّب بعين الدولة، كان جليلًا نبيلًا، ولي القضاء بصور، وسمع الكثير، وخرَّج له الخطيب فوائد في أربعة أجزاء، وقرأها عليه بصور، وكانت وفاته فجأةً في الزِّيْب قريةٍ بين عكا وصور، في شوال، وكان فاضلًا صدوقًا ثقةً. ويقال: إن الخطيب قطعه من تصانيفه وادَّعاها لنفسه. علي بن الحسن (¬2) ابن أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن بن عبيد بن عمرو بن خالد بن الرُّفَيل، أبو القاسم، الوزير، [ابن المُسْلِمَة] (¬3)، والرُّفَيل من أولاد كسرى أبرويز، أسلم في ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 31/ 71 - 74. (¬2) تاريخ بغداد 11/ 391 - 392، والمنتظم 16/ 41 - 43. وينظر الكامل 9/ 644. (¬3) زيادة من مصادر الترجمة.

زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهم أهل بيت رئاسة ومكانة، وتقدُّمٍ وعدالةٍ وفضائل، والمُسلمة جدَّتُهم من قِبَل الأم، واسمُها حميدة بنت عمرو، أسلمت سنة ثلاث وستين وثلاث مئة، وتزوَّجت يزيد بن منصور الكاتب، فأولدها ابنَه أبا جعفر محمد بن يزيد، وأولدها أبو جعفر أمَّ كلثوم واسمها قُرَّةُ العين، وهي ابنةُ المُسلمة، فتزوَّجها أبو القاسم الحسن بن عبيد بن عمر بن خالد، وبنوه بها يُعرفون ببني المُسلمة، وكان الوزير أحدَ الشهود العدول المبدئين ببغداد، ثم استكتبه القائم بأمر الله، واستوزره ولقَّبه رئيس الرؤساء، شرف الوزراء، جمال الوزراء، ومولده في شعبان سنة تسع وتسعين وثلاث مئة، وكان مضطلعًا بعلوم كثيرة، مع سداد رأي، ووفور عقل. قال: رأيتُ في منامي كأنَّني وَطِئت على نَبْقةٍ كبيرةٍ، فأخذتُها فملأتْ كفي، وأُلقي في رُوعي أنها من الجنة، فعضضتُ منها عضةً، ثم نويتُ بذلك حفظ القرآن، وعضضتُ أخرى ونويت درس [الأصول، وعضضتُ أخرى ونويتُ درس] الفرائض، وأخرى ونويتُ النحو والعربية، فما عِلْمٌ من هذه إلا وقد رزقني الله منه. وقال لأبي إسحاق الشيرازي في قول القائل لزوجته: إن دخلتِ أو خرجتِ إلَّا بإذني فأنتِ طالق، هل يُكتفى بإذنه فيه مرةً واحدة؟ قال: لا. قال الوزير: أليس قولُه: إن دخلتِ شرطٌ، وهو لا يقتضي التكرار، فلا حاجة إلى اعتبار الإذن في كل مرة؟ فقال أبو إسحاق: عَوِّلوا على هذا الدليل في المسألة. ذِكْرُ مقتله: [حكى الخطيب وقال]: لمَّا كان يوم الاثنين لليلتين بَقِيتا من ذي الحجة، أُخرِجَ [الوزيرُ أبو القاسم ابن المُسلمة] من حبس البساسيري بالحريم الطاهري مقيَّدًا، وعليه جُبَّة صوف وطرطور من لُبدٍ أحمر، وفي رقبته مخنقةٌ فيها جلود مثل التعاويذ، على جمل، ووراءه إنسان يضربه بقطعة من جلود، وابن المُسلِمة يقرأ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26]، وشُهِّرَ ببغداد، ومرُّوا به في الكَرْخ، فنثروا عليه خُلْقان المداسات، ولعنوه وسبُّوه، وأُوقف بإزاء دار الخلافة ساعةً، ثم أُعيد إلى العسكر عند سوق المارستان، وقد نُصِبت له خشبةٌ بباب خراسان بإزاء تربة الحال، فحُطَّ من الجمل، وخيَّطوا عليه جلد ثور قد سُلِخَ في الحال، وجُعِلَتْ قرونُه على رأسه، وعُلِّق

علي بن محمد بن حبيب

بكُلَّابين من حديد في فكَّيه (¬1)، ولمَّا أصعدوه الخشبة قال: قولوا للأجلِّ: قد بلغتَ أغراضَك مني، فاصطنعني لتنظر خدمتي، وإن قتلتني فغدًا يأتي سلطان خراسان فيُهلك العباد والبلاد. فسبُّوه واستقوه (¬2)، وكان البساسيريُّ قد أمر أن يُتْرَكَ الكُلَّابان في تَرقوته ليبقى حيًّا أيامًا، يُعذَّب ويُطعم في كلِّ يوم رغيف لحفظ نفسه، فخاف متولِّي أمره أن يعفو البساسيري عنه، فضرب الكُلَّابين في مقتله، فقال عند موته: الحمد لله الذي أحياني سعيدًا، وأماتني شهيدًا. ولم يزل يضطرب عامة نهار الاثنين، ومات في آخره (¬3). [وذكر محمد بن عبد الملك الهَمَذَاني في تاريخه وقال]: ومن أعجب الاتفاقات أنَّه لمَّا ولي [الوزير أبو القاسم، الوزارة ركب إلى جامع المنصور بعدما خلع عليه، فأتى إلى تلٍّ وهو في موكبه، فقال: هذا مكانٌ مباركٌ، وفيه صُلِبَ الحلَّاج، وكان بيتَ عبادة قديمًا، ثم نزل فصلَّى ركعتين، وأخذَتْه رعدةٌ شديدةٌ، فقال الناس: هو حلَّاجيُّ المذهب. فأقام في الوزارة اثنتي عشرة سنة، ثم صلب في ذلك المكان بعينه، فعلم الناس (¬4) أنَّ رعدته كانت لذلك، وبلغ من العمر اثنين وخمسين سنة. [وقال الخطيب: سمع أبا أحمد الفرضي وغيره]، وكان بين مقتله ومقتل البساسيري سنة. [قيل: في السنة الآتية في ذي الحجة أيضًا، وطيف برأسه ببغداد، في الجانبين، وسنذكره. وفيها تُوفِّي] علي بن محمد بن حبيب (¬5) أبو الحسن [القاضي]، الماوردي، البصري، الإمام، الفاضل، الشافعي [كان أحد الأئمة الفضلاء]، له تصانيفُ حِسان، منها: التفسير، وسمَّاه: "النكت"، وكتاب ¬

_ (¬1) في (ف): كفيه، وفي (م): مقتله. (¬2) هكذا في (خ) و (ب) -والخبر فيهما- وفي المنتظم، ولعلها: وشتموه، والله أعلم. (¬3) لم أقف على القصة في تاريخ بغداد. (¬4) في (خ) و (ف): فقال الناس وعلموا، والمثبت من (م). (¬5) تاريخ بغداد 12/ 102 - 103، والمنتظم 16/ 41، ومعجم الأدباء 15/ 52 - 55. وتنظر بقية مصادر الترجمة في السير 18/ 64.

السنة الحادية والخمسون وأربع مئة

"الحاوي"، و"الأحكام السلطانية"، و"قوانين الوزارة"، وكتاب "الأمثال والحكم"، وكتاب "الإقناع"، وولي القضاء ببلدان كثيرة، وكان محترمًا عند الخلفاء والملوك [وقد ذكرنا قصته مع جلال الدولة، وامتناعه من الفتوى في قولهم: شاهنشاه، وأرسله القائم إلى طُغْرُلْبَك، فأعطاه ثلاثين ألف دينار، وقد ذكرناه]، وكان زاهدًا عابدًا ورعًا مَهيبًا، ما رأى أصحابُه شيئًا من بدنه قط، [وكان يقول: بسطتُ الفقه في أربعة آلاف ورقة. وقال محمد بن الصابئ وغيره]: تُوفِّي بعِلَّة الفالج يوم الثلاثاء سلخ ربيع الأول، ودُفن بمقابر باب حرب، وقد بلغ ستًّا وثمانين سنة [وبينه وبين أبي الطيب عشرون يومًا]، وكان ثقةً صالحًا، سيِّدَ أهل زمانه. السنة الحادية والخمسون وأربع مئة فيها في يوم الخميس ثاني المُحرَّم انصرف أبو الأغر دُبيس بن صدقة عن بغداد على غضب ومنافرة، وخيَّم على صرصر، فركب البساسيريُّ إليه، فردَّه وحدَه بغير مُخيَّمه، وبلغ له بعض غرضه، وانصرف يوم الأحد رابع المُحرَّم إلى بلده غير راضٍ، وسببه أنه كان قد احتجم عن المجيء إلى بغداد لمعاونة البساسيري؛ لعلمه ما اتَّفق عليه البساسيريُّ وقريش، ووقع فتحُها، فخاف من التأخَّر، واضطُرَّ إلى المجيء، وعرف ما أُخِذ من دار الخلافة وما أخذ قريش من الأموال الجليلة والأعمال المقسومة على تأخُّره، ونقم البساسيريُّ عليه بسبب ذلك، وخاطب البساسيريُّ في أمر أبي عبد الله بن المردوسي وحاشية الخليفة، وأن يُؤمنهم على نفوسهم، ويردَّهم إلى منازلهم، فلم تقع إجابة، ونسب البساسيريُّ أبا عبد الله المردوسي أنه منع زهرة جاريته وولديها المعتقلين بالجبل من الهرب حتى التجؤوا إلى داره، وسلَّمهم إلى ابن المُسلمة، فاعتذر المردوسي وأنكر، وقال: غُلِبتُ عليهم. فلم يقبَلْ عذره، ثم طالبه دُبيس بإقطاعه من السلطان، فما ردَّه، فرحل إلى بلاده وفي نفسه ما فيها. وفي هذا الشهر تصالح أبو منصور بن يوسف مع البساسيري بواسطة قريش، وركب البساسيري وقريش إليه، وكان قد ضمن على نفسه مالًا يحمله إليهما.

وفي هذا الشهر كتبت والدة القائم إلى البساسيري -من مكان كانت فيه مستترةً- رقعةً تشكو إليه ما لَحِقَها من الأذى والضرر، وهي جارية أرمنية قد ناهزت التسعين، فأفرد لها دارًا في الحريم، وأعطاها من جواريها جاريتين تخدمانها، وأجرى عليها في كل يوم اثني عشر رطلًا من الخبز، وأربعة أرطال لحم (¬1). وفي يوم الثلاثاء لليلتين بقِيَتا من المُحرَّم أصعد قريشٌ إلى تكريت ومعه خاتون بنت أخي السلطان زوجة القائم، وعميد العراق مقيدًا، وكان قد راسل (¬2) البساسيريُّ قريشًا في معناه، وقال: ما يجيءُ منه خير، وما في أصحاب طُغْرُلْبَك أشرُّ منه، فدعني أصلُبْه إلى جانب ابن المُسلمة، وأُعطيك من مالي خمسة آلاف دينار. فلانَ قريشٌ -وكان شحيحًا- وعلم عميدُ العراق، فراسل قريشًا وقال: أنا أفتَحُ لك قلعة تكريت، فإنَّ فيها من لا يخالفني، ثم أعطيك مالًا كثيرًا، وأُنفِذُ زوجتي إلى خراسان تُحضره. فبعث إليه البساسيريُّ بسببه، فقال قريش: أنا ما أستبقيه، وقد استقرَّ أنه يدفع إليَّ القلعة [ومالًا، فابعَثْ معي صاحبك، فإذا فُتحتِ القلعةُ] (¬3) سلَّمتُه إليكَ فتقتله، فبعث معه سُخْتِكين أحدَ غلمانه الأتراك، ولم يعلم العميد بذلك، ولمَّا وصل قريشٌ إلى تكريت لم تكن له على فتح القلعة قدرةٌ ولا حيلة، فقال لعميد العراق: قد حفظتُ مُهجتَكَ من أبي الحارث مع علمِكَ بما تردَّد منه فيك، فراسلِ القومَ بتسليم القلعة كما وعدتني. فاستدعى قومًا من العجم، وراسلَ مَنْ في القلعة بالتسليم، فلمَّا حصلوا في القلعة اجتمع من فيها ووقفوا على سورها، وسبُّوا قريشًا ولعنوه، وقالوا: يا ملعون، أين ذِمامك للخليفة ورئيس الرؤساء وأعهُدِكَ وقد جرى عليهما ما جرى؟ وبالغوا في لعنته، وظنَّ قريش أن العميد وطن إليهم بذلك، فرحل عن البلد يوم الاثنين ثاني عشر صفر طلبًا للموصل بعد أن سلَّم عميد العراق إلى سُخْتِكين، وأنفذ معه صاحبًا له، فحطُّوه في سُمَّارية، وكتَّفوه وغرَّقوه. وفي يوم الاثنين ثاني عشر صفر جمع البساسيريّ قاضي القضاة أبا عبد الله الدامغاني وأبا منصور بن يوسف وأبا الحسين بن الغريق الهاشمي الخطيب وجماعةً من ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 16/ 44. (¬2) في (خ): أرسل، والمثبت من (ف). (¬3) هذه الزيادة من (ف).

وجوه العباسيين والعلويين، وأخذ عليهم البيعة للمستنصر، واستحلفهم له، وكان ذلك في دار الخليفة، وهو معهم جالس في مجلس الخليفة (¬1). وفي صفر أصعدَ ابنُ البساسيري الأصغر إلى الرَّحبة للمُقام فيها، ومجيءِ أخيه الأكبر فيها، وكتب البساسيريُّ كتابًا إلى مصر مع ختِكين، وبعث أبا طالب كافور بن الملك أبي كاليجار بن بُوَيه والفِيلة الصغيرة فقط، ولم يبعث مالًا ولا غيره، وكان البساسيريُّ مستوحشًا من أبي الفرج بن المغربي وزير مصر؛ لقبيحٍ كان يبدو منه في حقِّه، وإهمالٍ لمراسلته، واطراحِ جانبه، وإزراءٍ على رسله، وصوَّر ابنُ المغربي في نفس صاحب مصر أنَّ هذا قد أخذ الأموال، واستولى على البلاد، وهو بين أمرين؛ إمّا أن يقوى علينا فيفعلَ بنا كما فعل بالغير، أو يكون طريقًا إلى مجيء العساكر الخراسانية إلى بغداد ثم إلى الشام، وأنَّ الذي فعله ما كان برجاله ولا باجتهاده، وإنما كان بسعادتنا ومالنا، وكان في الكتاب إلى مصر: سلامُ الله على سيدنا ومولانا الإمام المستنصرِ بالله أميرِ المؤمنين -وصلاتُه وتحيّاتُه- المُنتجبِ من العنصر الطاهر، والشيخِ ذي المفخر الباهر، والكوكب الطالع الزاهر، المستخلَص لحفظ الدين ورعاية الأمم أجمعين، أصدرَ مملوكُ المواقف المقدسة- زاد الله في أنوارها، وأعَرَّ (¬2) كافر (¬3) أنصارها -وأطال الدعاء، إلى أن قال: وأمكنتِ الفرصةُ في بلوغ الغرض؛ من قصد العراق، والانتقام من أهل الشقاق، وإقامة الدعوة الشريفة في الآفاق، فحينئذ سار في خَفارة (¬4) أدعية المواقف الشريفة، والبركاتُ عليه غادية ورائحة، وأيدي الرشيد ليمينه معاهدةٌ مصافِحة، فكان دخولُه بغداد في يوم الأحد ثاني ذي القعدة في طالعٍ توفَّرَتْ سعودُه، وعظُمَتْ جدودُه، وانتظمَتْ عقودُه، فألفى مدينة السلام متهدِّمةَ البنيان، ساقطةَ الجدران، قائمة على عروشها، مَرْتعا لِبُومِها ووُحوشِها، ووجد أهلَها كما [لو] نُبِشوا من القبور؛ لما قاسوه من تصاريف الأمور، فوقع دخولُه عندهم موقعَ الشفاء من ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 16/ 44. (¬2) من المعَرَّة، وهي الأمر القبيح والأذى والإساءة. تاج العروس (عرر). (¬3) في (ف): كافور! (¬4) الخَفارة -بفتح الخاء-: الذمة والعهد. اللسان (خفر).

الألَم، والبرء من السَّقَم، وتلقَّوه مُتنسِّمين نسيمَ السلامة، راجين افتتاح تلك الغمامة، مُتمسكين به تمسّكَ الولد بالوالد، والطالب للواجد، فتعطَّفَ عليهم بقلبٍ خاشع، وطَرْفٍ دامع، ثمَّ إنه أقام الدعوة في الجانب الغربي، وعقد الجسر وأقامها في الجانب الشرقي، وخيَّم بمكان يقال له: الزاهر، وهو على دجلةَ في وسط البلد قريب من الدار، التي احتقنَتْ فيها الآثامُ والأوزار، فآذَنَتْ بالخِذْلان والبوار، وكان أعداءُ الله الطاغون قد جمعوا ما يزيد على أحد عشر ألف نفْسٍ من التُّرك والعجم والهاشميين والخَوَل، ظنّا منهم أنهم يُثبِتون المقارعة والمساجلة والمنازعة، إلى أن تأتيهم من خراسان نجدةٌ تُخلِّصهم من الحصار، ويكون بعدوّهم سببًا إلى الرجوع والانكسار، وكانوا في مضايقَ لا تجول فيها الخيول ولا تتمكن، وإن كثُرَ فهو مقهور إلى يوم الاثنين سلخ ذي القعدة، فإنهم فتحوا بابًا من الأبواب، ورشقوا بالنُّشّاب، فأكبَّ عليهم الشجعان، وركبتهم الفرسان، فما كانت إلا ساعة من ساعات الزَّحْف، حتى حلَّ بهم الخَسْف، وصاروا تحت أيدي الخيول كالسحيق، ودماؤهم تنزل كالرحيق، فأجلَتِ الوقعةُ عن القتلى، وهم ثمان مئة نفس، فيهم نقيب الهاشميين والقاضي النائب عن عميد العراق، وابن المأمون، وغيرهم، فاستأمن منهم جَمّ غفيرٌ، منهم: العميد، وخلقٌ كثير، وملك العباسي -يعني الخليفة- وقاضي القضاة، والحجَّاب، والأعيانُ، والأصحاب، ووقعوا كالسمك تحت الشبك، ونُهِبَتِ الدار، وأُخِذَ منها من الأموال والجواهر واليواقيت والخيل والثياب ما يكثر عددُه، ولا يُحصى أمدُه، وحُمِلَ العباسيُّ إلى حديثة عانة محتاطًا عليه إلى أن يخرج الإذن الشريف في معناه، وأمَّا ابن المُسلمة فإنَّه عذَّبه بأنواع العذاب، وصلبه على أقبح الوجوه، وجعله عبرةً لمعتَبِر، وموعظةً لمفتَكِر، وذكر كلامًا طويلًا، وكتب إلى العزيز كتابًا من هذا الجنس، وصادر البساسيريُّ كتابَ الخليفة والوزير وغيرهم على ألوف كثيرة. وفي ربيع الأول خرج البساسيري إلى زيارة المشهدين، وكان دُبيس بمُطيراباذ، فراسله بأن يجعل طريقه عليه، فجاء إليه، فخرج واستقبله وأضافه، وسأله في معنى أبي عبد الله المردوسي، فاستعفاه من الخطاب في أمره، وعدَّد أشياء كانت في نفسه، ثمَّ استقر بينهما الانحدار إلى واسط، وتدبَّر أمر أبي كاليجار هزارسب -وكان بالبصرة-

إما صلحًا وإما حربًا، وعاد البساسيري إلى المدائن، وأقام ينتظر الغلمان، وأنفذ مَن ابتدأ بنقض تاج [قصر] الخليفة، فنقضت شرافاته، فقيل له: هذا ممَّا لا معنى له، والقباحة فيه أكثر من الفائدة. فأمسَكَ عنه، وجاءته كتب الوزير ابن المغربي، وكان كاتَبَ صاحبَ مصر أبي نصر بن أبي عمران بصفات (¬1) ما تأثَّل له من الحرمات بهذا الفتح، ولم يكتب إليه صاحب [مصر] (¬2) جوابًا. وفي يوم السبت سلخ ربيع الأول عاد البساسيري إلى بغداد، وتلقى ابنَه الواصلَ من الرَّحبة في ثاني ربيع الآخر، وقَدِم صُحْبتَه يارَخْتِكِين الحاجب المأسور بالموصل مُقيَّدًا في عَمّارية، وضُرِبَتِ القبابُ بالجانب الغربي لابن البساسيري، وطيَّبَ ابنُه قلوبَ الناس ومحالَّ أهل السنة، وحمل الناس على شرع واحد. وفي هذا اليوم وصل غلام ليارَخْتِكِين يخبره بحصول حرم البساسيري بشَهرزُور عند بدر بن المهلهل، وذكر أن السلطان ظفر بإبراهيم ينَّال ومحمد وأحمد ولدي أرباش أخوي إبراهيم ينّال وقتلهما، وخَنَقَ إبراهيمَ بوتر قوسه، وقَتل ألوفًا من التركمان، وهربوا، وجاء السلطان بعد أن كسرَ إبراهيمَ والتركمانَ إلى الري، واجتمع بخاتون. قال محمَّد بن الصابئ: لما انهزم إبراهيم عن هَمَذان كاتبَ إخوته محمدًا وأحمدَ، واستعان بهما، فسار إليه في نحو ثلاثين ألفًا، ونزل بقزوين وبينها وبين الري عشرون فرسخًا، وخرج السلطان من الريِّ إليه وواقعه، فظهر عليه إبراهيم، فعاد إلى الريِّ، فاستولى إبراهيم، وقوي، فورد على السلطان الأمراءُ قاروت بك صاحب كرمان وياقوتي وألب أرسلان أولاد أخيه داود، وقوي بهما، فخرج إلى إبراهيم، فانهزم إبراهيم من بين يديه، وقُتِلَ من أصحابه مقتلةٌ كبيرةٌ، وأُسِرَ إبراهيمُ فانهزم، وأُسِرَ أحمد (¬3) ومحمد أخواه، وحُملوا إلى السلطان، فأمر بقتلهم، فسُئِلَ فيهم، فتوقَّف وفي قلبه النار ممَّا تمَّ على الخليفة وهم ينصّون أن إبراهيم فعل ذلك، ثمَّ أحضرَ إبراهيمَ بين يديه وخنقَه بوتر قوسه، وقتل أخويه محمدًا وأحمد، وبعث إلى هزارسب بقَباء ¬

_ (¬1) في الأصلين (خ) و (ف): أبي نصر بن أبي عمرو بن بصفان. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق، والخبر ذُكر مختصرًا في المنتظم 16/ 45. (¬3) جاء في الأصلين (خ) و (ف): إبراهيم، وهو سبق قلم من أحد النُّسَّاخ.

إبراهيم؛ ليتحقَّق الحال، وكان هزارسب مقيمًا بالأهواز، وعنده الكُنْدُري عميد الملك، فأخذ منه دنانيرَ وثيابًا وخيلًا، وسار نحو السلطان على أصبهان. وفي ربيع الآخر انحدر البساسيري إلى واسط متيممًا غَزْنة في أمر هزارسب، بعد أن أنفذ أنوشْتِكين أحدَ حُجّابه إلى قريش يشير عليه بأن يُنفِذَ أرسلان خاتون إلى السلطان، وكان السلطان قد أرسل قريشًا يلتمسها، ويخلط بذاك ذكر الخليفة، ورَدِّهِ إلى مكانه، ويكون البساسيري وأصحاب الأطراف على عادتهم بالعراق بعد أن ينقشوا السّكَّة باسم السلطان، وبعث لها البساسيري ثلاثَ مئة دينار تنفقها في سفرها، فردَّتها على الحاجب استقلالًا لها، وقالت: هذه نفقة يوم، وقد وهبتُها لك. وشرع قريش في تجهيزها، وهيَّأ لها عَمّاريةً، وجلَّلها بالديباج، وبعث لها دنانير وثيابًا وخيلًا وبغالًا، ولم يبْقَ إلا مسيرُها، وكان عميد الملك قد كتب إلى السلطان يقول: ما كان سبب ما جرى ببغداد إلا من ابنابجيل وعمر، فإنهما فسخا التدبير، وفلّا المجموع، فخافا من السلطان، واستوحشا منه، وتحصنا بقلعتين. وفي جمادى الأولى عاد أنوشْتِكين الحاجب من الموصل، وذُكِرَ أنه ورد إلى قريش خادمٌ من جهة السلطان يقال له: زيرك، ومعه ثيابٌ، ومالُ أرسلان خاتون، وكتابٌ إلى قريش يتضمَّن شُكره على ما فعله، من استصحاب خاتون، والإرهاب فيما يتعلَّق بالخليفة، والإشارة إلى إعادته إلى داره وإعادة الخطبة والدعوة له، وأن يكون للبساسيري على باب الخليفة، ويقيم السلطان في بلده إلى حين ما يرى من مسيره إلى العراق، وكتب قريش في الجواب: إنني العبد الخادم، وما جرى كان عن قضاء الله -عزَّ وجلَّ- وقَدَرِه، وفِعْلِ ابنِ المُسلمة -ذلك الغالط- وقلَّةِ تدبيره، وقد جرى على البلاد ما أخربَها ودرسَها، وليس ها هنا ما نُثابر عليه، وتطمح العينُ إليه، ومتى وقع تسرع في المسير إلى العراق، فلستُ آمَنُ أن يتِمَّ على الخليفة أمرٌ يفوت، وسببٌ يسوء، ولسنا بحيث نقِفُ لكَ ولا نُحاربُكَ، بل نَبعُدُ عنكَ، وأمَّا هذا الرجل -يعني البساسيري- فأنا أتوصَّل إلى كلِّ ما يُراد منه، والسلام. وراسل قريشٌ البساسيريَّ مع أنوشْتِكِين، وقال له: إن السلطان قد التمس كذا وكذا، فإيّاك والمخالفَةَ، ونحن قد خدمنا سلطانًا بيننا وبينه ستُّ مئة فرسخ، وفعلنا معه

ما لم يظُنَّه، وقد مضى لنا منذ ستة أشهر منذ فتحنا العراق ما كتب إلينا حرفًا، ولا التفت إلينا، وقد [عادت] (¬1) رسلنا بعد سنة منه صِفْرًا، ولم يُنفِذْ لنا رسالة فضلًا عن مال ورجال، ومتى تجدَّد أمر فما يشقى به إلا أنا وأنت، وما المطلوب سواي وسواكَ، والصواب المهادنة، وردُّ الخليفة إلى أمره، وتستكتبُ له مَنْ تأمنُه، وتحقنُ الدماء، وتحفظ الأموال، ونعيش باقي العمر في سكون وطمأنينة، والسلام. وكان البساسيريُّ قد انحدر إلى واسط، فلمّا كان يوم الاثنين لتسعٍ بَقِين من جمادى الأولى سار من واسط يُريد الأهواز، وابتدأ بالبصرة، فرتب أصحابَه فيها ولم يدخلها، وكان معه دُبيس وصدقة بن منصور وأبو الفتح بن وَرّام، واجتمع إليه جماعةٌ كثيرةٌ من الدَّيلم والأكراد والتُّرك والعرب، وكتب هزارسب إلى دُبيس يقول: ما أُخالف أبا الحارث في شيء، وإنما بيني وبين السلطان متاخمةٌ في الأعمال، ومجاورةٌ في البلاد، ومتى انحرفتُ عن طاعته لم آمَنْه، وجاءني من قِبَلِه ما لا طاقة لي به، وكذا أمري معكم، لا أقاتلكم، ولا أواجهكم، بل أبعُدُ عنكم، والمصلحة مصالحةُ السلطان، وأن يُجاب إلى ما أمر به، من رَدِّ الخليفة إلى داره، وهو مع ذلك يكاتب السلطان ويستنجده، ويُهوِّن عليه أمرَ البساسيري. وفي جمادى الأولى سيَّر قريشٌ أرسلان خاتون إلى السلطان، ومضى معها جماعةٌ من العجم الذين سَلِموا من القتل، وكانوا قد أصعدوا مع قريش إلى الموصل، وبعث أيضًا بأولاد عميد العراق وزوجتِه، وهي مظهرةٌ الشكر لقريش، مُبطنةٌ الشكوى منه. وفي جمادى الآخر ورد رسولُ البساسيري من مصر، وكان قد أنفذه من الرَّحبة قبل فتوح بغداد يطلب الأموال، فأقام سنة وعاد بغير شيء، وذكر أنَّ بعض أصحاب المستنصر خلا به وقال [له] لمّا وصل الخبر بفتوح بغداد: لم يصِلْ من صاحبك كتابٌ بصورة الحال على الفور، وإنما سمعناه من نُوَّابنا بالشام، وليست العادةُ جاريةً بهذا، وهذا الرجل قد التجأ إلينا فآويناه، ونصرناه وأمددناه وأعطيناه، وكان العسكرُ منه شاكين، والرعيةُ في الأعمال عنه نافرين؛ لما استعمله معهم في طريق العراقيين من الظلم والعسف، واستبدَّ برأيه فيما يفعله، وكنا نكاتبه ولا يفعل إلا ما يريد، ولا يجيب عن شيء، ومضى إلى ¬

_ (¬1) هذه الزيادة هنا وفي الموضعين الآتيين من (ف).

الموصل بغير أمرنا، وقلنا له: سالِمْ أهل العراق إلى أن نأمرك، فما التفتَ، وسار إلى العراق بغير إذن، ثم فتح دار العباسي التي هي قلعة أموال العباسيين والناسِ، وذخيرةُ أهل الدنيا من سائر الأقطار، وأخذَ أموالهم، ونهبَ الرعية وصادرهم، وفعل ما لا يحِلُّ ولا يسوغُ ولا يُحمَلُ عليه، واحتجز الأموال لنفسه، وأخذ منها ما عَظُم خطرُه، وأخذ العباسيَّ واعتقلَه، بحيثُ لا يدَ لنا عليه، ولا أمرَ ينفُذُ لنا فيه، وقتلَ أصحابَه وصلبَهم من غير استئمار ولا استئذان، ولا رأى على نفسه أن يُعيد بعض الأموال [التي حُمِلت إليه، ونحن إنَّما نُطلق الأموال] لنفتح بها البلاد، ثمَّ نستعيدَها وأضعافَها، وكلُّ هذا جميعُه داخلٌ في حكم العصيان، خارجٌ عمّا ألِفْناه من أوليائنا، وقد بَلَغَنا أنَّ حاجبه ابن خِتِكين واصلٌ إلينا، وإذا وصل أنفذنا صحبتَه الجواب، وأنتَ مُخيَّرٌ في المُقام والمسير. قال: فقلتُ: المسيرُ إلى أهلي وولدي أحبُّ إليَّ، وانفصلتُ عنهم. وورد الخبرُ بأنَّ السلطان عاد من هَمَذان إلى أصفهان؛ إطماعًا للبساسيري، وتسكينًا إليه، وإظهارًا للبُعد عن العراق؛ ليكون ذلك داعيةً إلى خلاص الخليفة، وردِّه إلى وطنه، وحراسة مُهجته. وفي تاسع عشر جمادى الآخرة وصلت زوجةُ البساسيري بنت الحازم وزهرة جاريته وولداها منه، فأفرج ابنُ البساسيري أبو البركات عن يارَخْتِكِين الحاجب، وخلع عليه، وحمله على عدة دواب، وسار يوم الجمعة لسِت بَقِين من الشهر، وخرج معه مَنْ بقي ببغداد من العجم، وحكَتْ زوجةُ البساسيري وزهرةُ بما قاسيا من القلعة بعد المصادرة والضرب العظيم من الجوع، فإن والي القلعة كان يُعطيهم كلَّ يوم من الخبز الشعير ما لا يكفيهم، وكانوا يغزلون الصوف ويبيعونه ويتقوَّتون به، وكان مع زوجة البساسيري صبيٌّ من أهل بغداد، وكان يحتطب ويبيع الحطب وينفق عليهم من ثمنه، وعاد البساسيريُّ إلى واسط بعد أن دخل قريبًا من الأهواز. ذكر السبب: لمّا قرب البساسيري من المأمونية ونزل بها، جاء وليُّ الدولة أبو العلاء بن هزارسب في رسالة إلى البساسيري تتضمَّن: بذل المال والمصالحة عن خُوزستان، وعَود العساكر عنها؛ لئلا يشعثها، فأجاب البساسيريُّ واقترح الخطبة لصاحب مصر،

ونقش السِّكَّة باسمه، فامتنع هزارسب من ذلك، ونزل أبو العلاء على دُبيس، وبعث فأخذ أمواله وأسبابه من الأهواز ولم يعُدْ إليها، وكان صديقَ البساسيري قديمًا، وكان هزارسب في ثلاث مئة ألف وخمس مئة فارس وألف راجل، والبساسيريّ كذلك وأكثر، وكانوا قد وصلوا إلى المأمونية جياعًا عطاشًا قد ضاقت بهم العلوفات، وسبق هزارسب حتى نزل على قنطرة دون الأهواز، ونزل البساسيريُّ في مقابلته وبينهم نهران، أحدهما الذي هم عليه نزول، والآخر يلي عسكر البساسيري، ثم وقعت المراسلة على هدنة مقدارها ستة أشهر، آخرها سلخ ذي الحجة، ولا يتعرَّض أحد إلى بلد أحد، وأن تكون الخطبة للمستنصر بعد هذه المدة أول المُحرَّم، وأشاع هزارسب كراهيته لعسكر السلطان، وكان قصده المغالطة، ووقعت الأيمان عن المصافاة، وكان بين العسكرين نهر مقداره رمية سهم، ولم يُسمَعْ بعسكرين بينهما مقدار هذا، فقاتلوا أسبوعًا، ثم ورد أنوشروان إلى هزارسب من عند السلطان بالنجدة، فعاد البساسيريُّ مسرعًا إلى واسط، وكان قد عبر من رجالة البساسيري خلقٌ كثيرٌ إلى الأهواز بسبب النهب، فقتلهم أهلُها، وأقام البساسيري بواسط يجمع العساكر على نية العود إلى حرب هزارسب، وأصعد الأمراءُ الذي كانوا معه إلى بلادهم؛ دُبيس وأبو الفتح بن وَرّام وأبو منصور وغيرهم، وكتب البساسيريُّ إلى قريش، وبعث الرسول يشكو من دُبيس والجماعة، ويسأله الانحدار إلى واسط [ليُدبِّر] (¬1) على هزارسب تدبيرًا، وشكا إليه تقاعد دُبيس وابن وَرّام وكونَهما تخلَّيا عنه، وقال: مهما فتحتَ من خُوزستان فهو بيننا نصفان. وبعث إلى حلب يطلب الغلمان البغدادية، وكانوا قد انصرفوا عنه لمّا كان بالرحبة كراهية له، ولما كان يعاملهم به، وكانوا جمرةً قوية، ولمّا فتح بغداد قال له قريش: رُدَّهم فما نستغني عنهم. فامتنع، فلمّا كان في هذا الوقت راسلهم بكاتبه أبي علي بن فضلان، فلم يلتفتوا، وقالوا: قد فتح بغداد، ونهب أموالنا، فلمّا لم يبقَ إلا الخوف من طُغْرُلْبَك والقتال طلبنا ما لنا عنده حاجة، ووردت كتب ابن خُتِكين رسولِه الذي سار بكتابه بفتوح بغداد يقول بأنَّ ابن المغربي الوزير توقَّف في أمورك كلِّها، وقد كان أبو الفتوح بن المغربي هذا هرب من البساسيري إلى مصر [ووَزَرَ لصاحبها وفي ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف).

قلبه ما فيه، فظنَّ عليه عند صاحب مصر] وقال له: ما قدَّمناه -وذكر ابن خُتِكين- في كتابه أنَّ الوزير أحضره وقال: صاحبُك فعل وفعل، وافتاتَ على أمير المؤمنين بكذا وكذا، وذكر بمعنى ما ذكرناه، وقال: قد أخذ الأموال العظيمة، وما هان عليه أن يُقدِّم للخزانة شيئًا، ثمَّ أخْذُه العباسيَّ واعتقالُه بالحديثة ولا سيَّره إلى ثابتة، واتفاقه مع قريش على مقاسمة البلاد كأنها كانت مِلْكَه، وصَلبُه لابن المُسلمة من غير استئمارٍ وإذنٍ منا، ثمَّ يكاتبنا بعد الفراغ من الأمور، ولَعمري إنَّ هذه لَعادةُ تلك البلاد في العصيان، واطِّراح أمر السلطان، وكان الوزير قد قال لصاحب مصر: إن الذي جرى ببغداد من أمر العباسي غير مأمون العاقبة، وربما يتأتَّى من عسكر خراسان على الشام ما لا يُمكِنُ استدراكُه، ويجب أن تدع العراق وما فيه، ولم يُجاوب البساسيري عن كتابه بحرف، وكلُّ غيظ المستنصر منه، حيث لم يبعث بالخليفة إليه، وقد كان عَزْمُه أن يبعث به إليه، لولا ذمام قريش إليه واتفاقهما، ثم أظهر السلطان التجهز إلى العراق، فكتب بدر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي إلى البساسيري يقول: السلطان قد قرُبَ، وقد كان التمس منك أن تُعيد الخليفة إلى مكانه، وتكون على بابه، ولا تطأ العراق، فلم تفعل، وأنا أدخل في القضية، وأُعطيك ولدي رهينةً، فلم يُجِبْه عن كتابه. وفي شوال لاح في الليل في السماء ضوءٌ عظيمٌ كالبرق يلمع في موضعين؛ أحدهما أبيض، والآخر أحمر، وأقام إلى ثلث الليل، وكبَّر الناس وهلَّلوا. وفي شوال عاد صاحب قريش إليه، وكان قد بعثه مع أرسلان خاتون، وورد معه أبو بكر بن أحمد بن أيوب المعروف بابن فُوْرَك وزَيرَك الخادم صاحب السلطان بكتاب إلى قريش، عنوانه: للأمير الأجَلِّ علمِ الدين عزِّ الدولة أبي المعالي قريش بن بدران، مولى أمير المؤمنين، من شاهنشاه المُعظَّم ملكِ المشرق والمغرب، ركنِ الدين، غياثِ المسلمين، سلطانِ بلاد الله، مُغيثِ عباد الله، طُغْرُلْبَك أبي طالب، محمد بن ميكائيل بن سلجوق، يمين خليفة الله أمير المؤمنين، وعلى رأسه بخطِّ السلطان: حسبي الله، ومضمونه: كتابنا: أطال الله بقاء الأمير علم الدين، أدام الله عِزَّه وتأييده وتمكينه وتمهيده، إنَّ نِعم الله علينا متظاهرة، وآلاؤه متوالية، ورَدَ كتابُه ووقفنا عليه، واعتدَدْنا

بصنع الله له، وسابغ إحسانه إليه، فأمَّا ما بلغه الرسل من حُسنِ اعتقاده في خدمتنا، وسلامةِ صدره في طاعتنا فقد علمناه، ولمّا ورَدْنا العراقَ كان في عزمنا تسليمُ الأمر إلى علم الدين في تلك الولايات، استقلَّ بالخدمة الشريفة، والمواقف المقدسة، وحدثَتْ حوادثُ، وعرضت عوارض، ولم يحدُثْ منها -بحمدِ الله- في حقِّه ما يقدح في الاعتقاد السليم، وإزالةِ الحقِّ عن السنن المستقيم، وقد ظهرت نيّته الجميلة، وهِمَّتُه العالية الجليلة في خدمة سيدنا ومولانا الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين، أطال اللهُ بقاءه، وأعزَّ أنصاره وأولياءه، حتى لم يظفرِ الأعداءُ منه بما حاولوه، ولم يدركوا فيه ما أمَّلوه، وهذه مِنَّةٌ عظيمة على الإِسلام وأهله، وأثرٌ جميلٌ في الدين، لم يوفَّق أحدٌ لمثله، ثم الذي وُفِّقَ له من المحافظة على سَنن العرب -من رعاية حُسن العهد- ما عظُمَتْ علينا وعلى المسلمين مِنّته، وزادَتْ عندنا مكرُمَتُه، فلو أعطيناه جميعَ ما حويناه ولا استقللناه، واحتقرناه واستصغرناه، وقد أقبلنا بخيول المشرق إلى خدمة سيدنا ومولانا الإمام، ولا فُسحةَ لنا في التأخير عنه ساعةً من الزمان، بعد أن أهلَكنا أعداءَنا، وذلَّلنا حُسّادنا، والمقصودُ أحدُ أمرين؛ إمّا أن يُقبِلَ الأميرُ سيدنا ومولانا إلى مقرِّ خلافته وسرير عظمته، وينتدب الأمير بين يديه متوليًا حكمه، ممتثلًا رسمه، فذلك هو المراد، وهو خليفتُنا في تلك الخدمة المفروضة، وتولية العراق بأسرها، وتصفية مشاريع بَرِّها وبحرِها، وإمّا أن يحفظ علينا شخصَ مولانا العالي بتحويله من القلعة إلى حين لحاقنا بخدمته، ويكون الأميرُ مُخيَّرًا بين أن يكتفي بنا، وبين أن يُقيم حيث شاء، فنولِّيه العراق، ونستخدمه في الباب الشريف، ونصرف أعيننا إلى الممالك الشرقية، وعشائره كلُّهم إخوانُنا، وهم في أماننا، فلا يدخُلُ قلوبَهم رهبةٌ منا، وكذا جميع العساكر المنسوبين إلى خدمته، ولكلِّ مُذنبٍ عندنا في العراق عفوُنا وأمانُنا، إلا الفاجرَ الكافرَ البساسيريَّ عدوَّ اللهِ ورسولِه، فإنه لا عهدَ له ولا أمانَ عندنا، فلقد ارتكب في دين الله عظيمًا، وخطبًا جسيمًا، وهو إن شاء الله مأخوذٌ حيث وُجِد، ودلَّتْ أفعالُه على سوء عقيدته، وخُبْثِ طويَّته، فإن سرِبَ في الأرض لحِقَه المكتوبُ على جبهته، وإن وقف فالقضاءُ سابقٌ إلى مُهجَتِه، وقد حَمَّلنا الأستاذَ العالم أبا بكر أحمد بن محمَّد بن أيوب -أدامَ الله عِزَّه- والشيخَ معتمِدَنا أبا الوفاء

زَيرَك ما يؤدِّيانه من الرسالات، ويُبلِّغانه من التحملات، وهو يصغي إليهما، ويعتمد عليهما، ويُسرِّحهما إلى القلعة ليخدما مجلس سيدنا ومولانا الإمام عنا، ويأتيا ببشارة عالي شخصه المحفوف بالبركات، والبلاد كلُّها والقلاع للأمير مبذولة، في جنب مساعيه والثقة به، وكان مع رسولَي الخليفة أربعون ثوبًا أنواعًا، وعشرُ دُسوت ثيابًا مخيطةً، وخمسة آلاف دينار، وخمس دسوت مخيطةً من خاتون زوجة الخليفة، وحكى الرسولُ كثرةَ العساكر مع السلطان، فخاف قريش وانزعج، وبعث إلى الجِفار (¬1) من أصلح المياه، وعزم على دخول البرية، وبعث بالكتاب إلى البساسيري والرسالة، وحذَّر من الرسول ليعود الجواب بسرعة، وكان قريش يكاتب السلطان سرًّا، ويطيعه في البلاد حسدًا للبساسيري وتغيرًا عليه، فإذا صحَّ من السلطان عزمٌ أجفَلَ (¬2) من قرية ولم يجتمع به، وبعث البساسيريُّ إلى بغداد، فأخذ دوابَّه وماله وسلاحَه إلى واسط، وتقدَّم بأن يسلخ جلد ثور ويكسى به رِمَّة ابن مُسلمة، ويجعل قرنيه على رأسه، وفوقهما طرطور أحمر، وكان السلطان قد اقترح فيهما أن يحطَّ رِمَّة ابن مُسلمة، وورد رسول قريش من عند البساسيري، وقال: قد أجاب بحيث لا يذكر السلطان ببغداد في الخطبة، وقَويتِ الأراجيفُ بقرب السلطان من بغداد، وأُقيمت له الإقامات بِحُلوان، وكتب أبو البركات بن البساسيري إلى أبيه يسأله ما يصنع، فكتب إليه يأمره بالمقام والثبات، ووصلت مقدمات السلطان إلى قصر شيرين، وانحدر حرم البساسيري وأولاده وأصحابه وجميع من يتعلق به إلى واسط، وذلك يوم الثلاثاء خامس ذي القعدة، وتبعهم أهل الكَرْخ، ووصلوا إلى صرصر، وهلك منهم في (¬3) عبورهم خلقٌ كثير، ولحقهم العيّارون ونهبوهم، ومَنْ بقي منهم نهبهم بنو شيبان، وقتلوا أكثرهم، وسَبَوا نساءهم وغرقوهم. واتَّفق دخولُ البساسيري بغداد يوم الأربعاء سادس ذي القعدة، وخروجُ أصحابه منها سادس ذي القعدة، فكان يملكها سنةً كاملة. ¬

_ (¬1) الجِفار؛ جمع جَفْرة: وهي البر الواسعة التي لم تُطو. اللسان (جفر). (¬2) أجفل: مضى وأسرع. اللسان (جفل). (¬3) في (ف): على.

وثار الهاشميون وأهل باب البصرة إلى الكَرْخ فنهبوه، وطرحوا النار في أسواقه ودُوره ودُروبه، فاحترق منه ألفٌ ومئتا دار، وكلّ دار تساوي ثلاث آلاف دينار، وفيها دور تساوي كلّ دار ثلاثين ألف دينار. ذكر أحوال الخليفة: كان قد استخلف مهارش العقيلي وتوثَّق منه في حراسة نفسه، وأن لا يُسلِمَه إلى عدوِّه، وكان مهارش قد تغيَّر على البساسيري لبذول بُذِلَتْ له، ولم يقع الوفاءُ بشيء منها، وبعث قريش أبا الحسن بن المُفرِّج إلى مهارش يقول: قد كنّا أودعنا الخليفة عندك ثقة بأمانتك، وسكونًا إلى ديانتك، ولنكُفَّ به عاديةَ الغزو عن بلادنا ونفوسنا وعشائرنا، وقد عادوا الآن وأطلّوا علينا، وربما قصدوك وحاصروك وأخذوه منك، فخُذْه وارحَلْ به وبأهلك وولدك إليَّ، فإنهم إذا علموا حصولَه في أيدينا لم يقدَموا علينا خوفًا على نفسه، فإذا طلبوه منا اشترطنا عليهم أن لا يتعرَّضوا لبلادنا ولا لعشائرنا، ونقترح عليهم ما شئنا من المال والبلاد، وما أرومُ تسليمه إليَّ، بل يكون على حاله في يدك، بحيث لا يُؤخَذُ قهرًا من أيدينا. فقال مهارش لرسوله: قُلْ له: البساسيريُّ غدر بي، ولم يَفِ بما ضمن، ما بقي لكم في رقبتي أيمان، وقد قلتُ: أرسِلْ خُذْ صاحبَكم الذي عندي، فلم يفعل، وعرف الخليفةُ خلاصَ رقبتي من اليمين، فاستحلفني لنفسه، فعاد ابن المُفرِّج بغير شيء. وقال مهارش للخليفة: الرأيُ أن نخرج ونقصد بلد ابن مهلهل، ونكون في موضع نأمن به على نفوسنا، فلا نأمن أن يأتي البساسيري فيحاصرنا ولا نقدر أن ندفعه عنا. فقال: افعَلْ ما تراه. فخرجا من الحديثة يوم الاثنين حادي عشر ذي القعدة، وسارا حتى قطعا دجلة، وحصلا بقلعة تل عُكْبَرا. قال ابن فورك: عُدْتُ من عند قريش إلى حُلَّةٍ لبدر بن مهلهل وأنا على وجَلٍ من أمر الخليفة لِما سمعتُه من قريش في معناه، وحذرًا أن يقصد الحديثةَ فيأخذه معه، ويصير بحكمه، فبينا أنا مفكر في ذلك وعودي إلى السلطان بميله، إذ جاءتني رسالة بدر بن مهلهل، فحضروا عنده، وإذا بسواديٍّ قد حضر (¬1) إليه، فقال: أعِدْ ما حكيتَه. فقال: ¬

_ (¬1) جاء فوقها في (خ): ورد، وأشير على أنها نسخة.

رأيتُ البارحةَ عسكرًا يقصد تل عُكْبَرا، فسألتُ عنه، فقيل: هذا الخليفة مع مهارش قد جاء من الحديثة. قال: فاستبعدتُه، فلم أبرَحْ من مكاني حتى ورد رسولٌ من قلعة تلّ عُكْبَرا يقول: قد نزلوا تلَّ عُكْبَرا، فحققت الحال، وطِرْتُ فرحًا، وقمنا إلى القلعة، وضرب له بدرٌ خيمًا ونزل إليها، وسلَّمتُ إليه ما كان معي من المال والثياب، وجاء السلطان فدخل بغداد، وعبر إلى الجانب الغربي، ونزل بالنَّجمي، وكتبتُ إليه وعرَّفتُه صورةَ الحال، وطلبتُ للخليفة خيمًا وسرادقًا وفرشًا، ولمَّا وقف على كتابي طار فرحًا، وجاءه ما لم يكن في حسابه ولم يخطُرْ بباله، وأنفذ أنوشروان في ثلاث مئة غلام ومن استعقله من الحُجّاب، ومعهم البَخاتي، عليها السرادق الكثيرة، وعدة خيم وخركاوات وآلات، وفرشًا كثيرة، وبغالًا عليها الأواني والثياب، وغير ذلك، وبغلًا عليه مهدٌ مُسَجَّفٌ (¬1) بالديباج الأسود، وثلاثة أفراس بمراكب الذهب، وبعث بالجميع مع عميد الملك، وعرفتُ خبرهم، فركبتُ واستقبلتُهم، فسألني عميد الملك عمّا جرى من ذلك، فشرحتُه له، فقال: تقدَّمْ واضرِب السُّرادقَ والخِيمَ، وانقُل أمير المؤمنين إليها لتلقاه فيها، وإذا حضرنا فلتؤخِّرِ الإذن لنا ساعةً كبيرة، فسبقتُ وطالعتُ الخليفةَ بذلك، فأجاب إليه، وضُربَتِ السُّرادِقُ والخِيمُ، وانتقل إليها، وجاء عميد الملك والأمير أنوشروان، فنزلوا عليَّ في خيمة لهم ساعةً، ثمَّ أذن لهم فدخلوا، وقبَّلوا الأرض، وذكر عميد الملك رسالةً عن السلطان وسرورِه بخلاصِ الخليفة، وشكر مهارشًا على فعله، وقال: نُسَمِّ اللهَ ونسير. فقال: قد تعِبْنا ونستريح يومين. ثم ترجَّل، فكتب عميد الملك إلى السلطان كتابًا يخبره بصورة الحال، وأحبَّ أن يأخذ خطَّ الخليفة عليه تصديقًا لما تضمَّنه، ولم يكن عند الخليفة دَواةٌ، فأحضر عميد الملك من خيمته دواةً على مرقع فيها ألف وسبع مئة مثقال من الذهب، فتركها بين يديه، وأضاف إليها سيفًا مُحلًّى، وقال: هذه خدمة منصور بن محمد -يعني نفسه- خدم بها، وقد جمع بين السيف والقلم، فشكره الخليفة، وكتب من الدَّواة، وسِرْنا بعد يومين إلى النَّهروان، فوصلنا إليه يوم الأحد رابع عشرين ذي الحجة، وجاء السلطان للقاء الخليفة، فلمّا وقعت عينُه على السُّرادق ترجَّل ومشى إلى أن وصل، فلمّا دخل قبَّل ¬

_ (¬1) مُسجَّف: مستور. اللسان (سجف).

الأرضَ سبع مرات، فقال الخليفة: يا ركن الدين، ماذا لقينا بعدَك؟ وأخذ مخدَّةً من دَسْتِه فطرحها بين يديه، وقال: اجلِسْ عليها. فأخذ المِخَدَّة وقبَّلها وجلس عليها، وأخرج من بند قَبائه الحبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بويه، فقبَّله وطرحَه بين يديه، ثم أخرج اثنتي عشرة لؤلؤة كبارًا مثمنة، وقال: هذه تقدمة أرسلان خاتون -يعني زوجة الخليفة- أنفذَتْها معي، وسألت أن يُسبِّح بها أمير المؤمنين، وكان السلطان يكلِّم عميد الملك وهو يفسره للخليفة، واعتذر من تأخُّره بعصيان أخيه إبراهيم ينّال، وقال: قد عصى غيرَ مرة، وعفوتُ عنه، فلمّا دخل الضررُ على أمير المؤمنين بسببه كان جوابُه: إنني خنقتُه بوتر قوسي، وقتلتُ ولدَي أخيه الذين استنجد بهما، ثم شفع ذلك وفاة الأخ الأكبر داود، فاحتجتُ إلى المقام حتى رتَّبتُ أولادَه مكانه، وكنتُ على نية المسير إلى الخدمة لأُخلِّص المُهجة الشريفة، فوصلني الخبر بما كان -بفضل الله تعالى- بخلاصها، وخدمةِ هذا الرجل -يعني مهارشًا- في معناها، بما أبان من صحيحِ ديانته، وصادقِ عقيدته، وأنا إن شاء الله أمضي وراء هذا الكلب -يعني البساسيري- وأقتنصه، وأُيمِّم إلى الشام، وأفعل بصاحب مصر ما يكونُ جزاءً لفعل البساسيري. فدعا له الخليفة، وشكره وقلَّده بسيفٍ كان إلى جنبه، وقال: لم يسلَم معي وقتَ خروجي من الدار غيرُه، وقد تبرَّكتُ به، فقبَّل الأرض وقام، فاستأذن في دخول العسكر إلى الخدمة ليشاهدوا الخليفة، فأذِنَ، فكشف السُّرادق والخليفة في خَرْكاة، فدخلوا وشاهدوه، وقبَّلوا الأرضَ وانصرفوا، وقال الخليفة: اضربوا خيمتي عند خيم السلطان، فإني أريد أن أكون معه حتى يقضي الله في هذا اللعين -يعني البساسيري- فقال السلطان: هذا ممَّا لا يجوز فِعْلُه، ونحن الذين نصلح للحرب والسفر والتهجم والخطر دون أمير المؤمنين، فإذا خرج بنفسه فأيُّ حكمٍ لنا؟ وأيُّ خدمةٍ تقع منا؟ والمصلحة دخول أمير المؤمنين إلى داره، فأجاب على كُرهٍ، وكان يقول: أخاف من غائلة اللعين. وجرَتْ لمهارش خطوبٌ في اقتراحاته أن إلى أن أطلق له السلطان عشرة آلاف دينار أُحيلَ منها بسبعة آلاف على مال الأهواز، وسَلَّمت إليه هَيت بالثلاثة آلاف الباقية، ولم يَكُ راضيًا بما فَعَلَ معه، ولا طيِّبَ النفس بما جعل له (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر المنتظم 16/ 246 - 252.

ولمّا كان لخمسٍ بَقِينَ من ذي الحجة ركب القائم وعساكر السلطان بين يديه والجنائب والملوك الأسفهسلارية، والمهد بين يديه، والأعلام على رأسه، وعليه السَّواد وأُبَّهة الخلافة، وبيده سيف مسلول، والعجم مُحدِقون به، ولم يبقَ مَنْ يستقبله من أهل بغداد سوى القاضي وثلاثةُ أنفُسٍ من الشهود؛ لهرب الناس من مصادرات البساسيري والضرب والعقوبات. وسبقَ السلطانَ وجلس على دَكَّة الباب النُّوبي مكان الحاجب، وكان قد سأل الخليفةَ أن يمشي بين يديه من النهروان فامتنع، فلمّا ورد الخليفةُ باب النُّوبي قام السلطان وقبَّل الأرض، وأخذ بلجام دابَّته، ودخل يمشي إلى باب حجرة الخاص، فدخل الخليفة بالبغلة إلى أماكن قد فُرِشَتْ بفُرشٍ عظيمة من عند السلطان، واعتذر من قِلَّتها، ثمَّ قبَّل الأرض واستأذنه في المسير وراء البساسيري، فأذِنَ له، فعَبرَ من وقته إلى النَّجمي، وتجهَّز للمسير خلفَه، وقال أبو علي الحسن بن جعفر الضرير البندنيجي -ويعرف بابن الهَمَذاني- من أبيات: [من الوافر] ولمّا أن طغَتْ عُصَبٌ وطاشَتْ ... حُلومٌ أورثَتْ لهمُ ضِراما وقادهمُ القضاءُ إلى عُتُل ... زنيمٍ قاد للفتن السُّواما أتاحَ اللهُ ركنَ الدين لطفًا ... وتأييدًا فأخزى مَنْ ألاما وأردى العبدَ لا جادَتْ يداهُ ... سوى النِّيرانِ تضطرمُ اضطراما وأتعس جَدَّهُ فأدال منهُ ... وأقعصَهُ وقد جَدَّ انهزاما أقام ثقافه الإِسلام لمّا ... تأوَّدَ إذ بأمرِ الله قاما أميرَ المؤمنينِ رضًا وعفوًا ... لعارضِ نَبْوةٍ طرقَتْ لِماما فإنَّ اللهَ أبلاكَ امتحانًا ... كما أبلى النبيينَ الكِراما لقد قَرَّتْ بأوبتهِ عيونٌ ... [تجافَتْ] (¬1) منذ زايل أن تناما وأسفرتِ الخلافةُ بعد يأسٍ ... وحال قطوبُ دولتِها ابتساما ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين سقط من الأصلين (خ) و (ف)، وأثبت من خريدة القصر 1/ 176.

ذكر مقام الخليفة بالحديثة: أقام عند مهارش البدري هذه المدة يخدمه بنفسه، وقال الخليفة: لما كنت بحديثة عانة قمتُ في بعض الليالي إلى الصلاة، فوجدتُ في قلبي حلاوة المناجاة، فدعوتُ الله تعالى بما سنح لي، ثمَّ قلتُ: اللهمَّ أعِدْني إلى وطني، واجمَعْ بيني وبين أهلي وولدي، ويسِّر اجتماعنا، وأعِدْ روض الإنس زاهرًا، ورَبْعَ القرب عامرًا، فقد قلَّ العزاء، ونزح الجفاء، فسمعتُ قائلًا يقول على شاطئ الفرات بأعلى صوته: نعم نعم. فقلتُ: هذا رجل يخاطب آخر، ثمَّ أخذتُ في السؤال والابتهال، فسمعتُ ذلك الصائح بعينه يقول: إلى الحول. فعلمتُ أنَّه ناطقٌ أنطقه الله تعالى بما جرى عليه الأمر. وكتب القائم في السجن دعاءً وسلَّمه إلى بدويِّ، وقال: اذهب إلى الكعبة وعلِّقه عليها، وكان في الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إلى الله العظيم، من عبده المسكين، اللهمَّ إنك العالم بالسرائر، المحيط بمكنونات الضمائر، اللهمَّ إنك غنيّ بعلمك واطِّلاعك على أمور خلقك، عن إعلامي بما أنا فيه عبدٌ من عبادك، قد كفر نعمتك وما شكرها، وألقى العواقب وما ذكرها، أطغاه حِلْمُك، واغترَّ بأناتك، حتى تعدَّى علينا، وأساء إلينا عتوًا وعدوانًا، اللهمَّ قَلَّ الناصر، وأُعِز الظالم، وأنت المُطَّلع العالِم، والمنصف الحاكم، بك نُعَزُّ عليه، وإليك نهرب من بين يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتزُّ بك يا رب العالمين، اللهمَّ إنّا حاكمناه إليك، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، وقد رفعتُ ظُلامتي إلى حرمك، ووَثِقتُ في كشفها بكرمك، فاحكُمْ بيني وبينه وأنت أحكم الحاكمين، اللهمَّ أظهِرْ قدرتَك فيه، وأرِنا ما نرتجيه، فقد أخذته العِزَّة بالإثم، اللهمَّ فاسلُبْه عِزَّه، ومَلِّكْنا ناصيتَه، يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وسلَّم وكرَّم. فحملها البدويُّ وعلَّقها على الكعبة، فحسب ذلك اليوم، فوجد البساسيريَّ قُتِلَ وجيء برأسه بعد سبعة أيام من التاريخ، ومن شعر القائم قاله في الحديثةِ: [من البسيط] خابَتْ ظنوني ممَّنْ كنتُ آمُلهُ ... ولم يَجُلْ [ذِكْرُ] (¬1) من واليت في خَلَدي تعلَّموا من صروف الدهر كُلِّهمُ ... فما أرى أحدًا يحنو على أحدِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين سقط من الأصلين (خ) و (ف)، وأثبت من البداية والنهاية 12/ 78.

وقال أيضًا: [من الرجز] ما لي من الأيام إلَّا موعدٌ ... فمتى أرى ظفَرًا بذاك الموعدِ يومي يمرُّ وكلَّما قضَّيتُهُ ... علَّلتُ نفسي بالحديثِ إلى غدِ أحيا بنفسٍ تستريحُ إلى المنى ... وعلى مطامعِها تروح وتغتدي وأقام القائم مدةَ مقامه يتوقَّع البساسيريَّ وحصارَه القلعة ساعةً بعد ساعة، ويحسب أنَّه يبعث به إلى مصر، فكان ذلك أشدَّ عليه من الحبس، ويتمنى الموتَ على عدد الأنفاس، إلى أن أتاه الفرج. ذكر مسير السلطان خلف البساسيري ومقتله: لمّا عبر الخليفةُ دارَه عبر السلطانُ دجلة، ونزل بالنَّجمي قاصدًا للبساسيري، فجاءه سرًّا من باب منيع مُقدَّمه من خفاجة، وقال له: أيها السلطان، الرأيُ أن تُنفِذَ معي ألفي غلام من العسكر لأمضي على طريق الكوفة، وأُشغِلَ البساسيريَّ عن الإصعاد إلى الشام، وتنحدر أنت وراءه فتأخذه من غير فوتٍ، فلم يُعجبِ السلطانَ ذاك، إلا أنَّه قد خلع عليه وأعطاه سبع مئة دينار، فلمّا انتصف الليل انتبه السلطان واستدعى خُمارتِكين الطغرائي، وقال له: رأيتُ الساعةَ في منامي كأني قد ظفرت بالبساسيريّ وقتلتُه، فالواجب أن تُسيِّر إليه عسكرًا من طريق الكوفة -كما قال- سرايا، فخُذْ معكَ ألفَي غلام وسِرْ. فقال: سمعًا وطاعةً. واشتغل بتجريد الغلمان، فدخل أنوشروان على السلطان، واستأذنه في المسير إليه مع الغلمان، وانضاف إليهما يارختِكين، وسارتِكين الحاجب، وجماعة من العرب محمد بن منصور العقيلي، وساروا إلى طريق الكوفة، وسار السلطان بنفسه إلى واسط يوم الجمعة تاسع عشرين ذي القعدة منحدرًا على دجلة، ولمّا فارق بغدادَ شرع أصحابُه في خراب البلد، فأحرقوا الأسواق والدروب، وأخذوا الناس فعاقبوهم، واستخرجوا الدفائن، ودام النهب والحريق والقتل حتى خربت بغداد ودُثِرَتْ من الجانبين، ولم يبقَ غيرُ حريم دار الخلافة، وما فيه إلا آحادُ الناس، ومات بالجوع والبرد كثيرٌ من الناس، وأمَّا البساسيريُّ فإنَّه أقام بواسط مستهينًا بالسلطان، متشاغلًا بجمع الغلّات والتمور يصعد بها إلى بغداد، فبلغه دخول الخليفة والسلطان إلى بغداد، فعزم على الهرب، وتحيَّر في أمر الغلّات والتمر ماذا يفعل فيها،

فوقعت نار في زورق كبير فاحترق فتطيَّر، وكان فارسطغان الحاجب لمّا عصى على جلال الدولة سنة ثمان وعشرين وأربع مئة ونزل بدير العاقول جمع الزواريق، فاحترق زورق كذا، فقُتِلَ بعد سبعة أيام، وكذا البساسيري، فاحتاج أن ينزل على دُبيس ويستجير به، وقد كان شاكًّا فيه؛ لما يعرفه من انحرافه عنه، وما فعل معه لمّا فتح بغداد، وإنما ألجأَتْه الضرورةُ إليه، وكان دُبيس خائفًا من السلطان ولم يحضر إليه، فنزل البساسيري عليه، وطرح نفسه بين يديه، واستجار به، واجتمعت العرب عند دُبيس وهو بين الحلَّة وواسط على الفرات، وحدر دُبيس ماله ورجاله إلى البَطيحة، وصاحبها أبو نصر بن الهيثم، وانحدر معهم جماعةٌ من أهل بغداد، منهم أبو عبد الله المردوسي وغيره، ولمّا وصلت السرية التي بعثها السلطان إلى حِلل دُبيس نزلوا قريبًا منهم، فأرسل البساسيريُّ إليه، وقال: المصلحة تواقعهم الليلة، فإنهم كالُّون، وخيلُهم قد تعبت. فامتنع عليه، وقال: نُباكرهم غدًا، وأصبحوا، فراسل أنوشروان بن مَزْيَد، والتمس به الاجتماع، فمضى إليه، واجتمعا، فقال له: عميد الملك يُسلِّم عليك ويقول: قد مكَّنْتُ في نفس السلطان منكَ ما جعلْتُ لك منه المحلَّ اللطيف، والموقعَ المنيف، وشرحْتُ له ما أنت عليه من طاعته، ويجب أن تُسلِّم هذا الرجل، وتَسْلَم أنت ومَنْ في صحبتك، فما المطلوب سواه لما اقترفه من عظيم ذنبه، وارتكبه من كبير جُرْمه، وإن امتنعتَ واحتجبتَ بالعربية وذمامها وحرمة نزوله عليك والتزامها فانصرِفْ عنه ودَعْنا وإيّاه. فقال: ما أنا إلا خادم السلطان، سامعٌ مطيع لأوامره ومراسيمه، إلَّا أنَّ البدرية حلمها وذمامها، وقد نزل هذا الرجل عليَّ نزولًا ما آثرتُه ولا اخترتُه، بل كرهتُه وأبيته، وقد عرفتَ ما فعلتُ معك ومع عميد الملك ببغداد لمّا التجأتما إليَّ ونزلتُما عليَّ، وكيف خدمتكما وسَيَّرتكما، والصواب أن تُسرع في صلاح حال البساسيري مع السلطان وتصطنعه وتستخدمه، فما يُستغنى عن مثله وقد فات ما ذبح، وعفا الله عما سلف. فقال له أنوشروان: هذا هو الرأيُ، ونحن نبعد [عنكم من حِلَّة، وتبعدون عنا مثلها؛ لئلا يتطرَّق البعض إلى البعض] (¬1) بوقوع العين في العين، والسلطان قد وصل إلى النعمانية، وأنا أراسله في هذا وما نخالفك، وما فيهما إلا من ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف).

قصد خديعة صاحبه، أما دُبَيس فإنَّه قصد مدافعة السلطان لما تحقَّق وصولُه، حتى يبعد عنه السرية، فإنه يصعد في البرية إلى حيث يأمن على نفسه وحِلَّته وعشيرته، ويدبِّر أمر البساسيري في مُضيّه عنه، وأما أنوشروان فإنه قصد أن يبعد عن القوم، ويفسح لهم في البرية، فإذا رحلوا تبعهم وأكبَّ عليهم؛ لأنهم حينئذ يكونون قد اشتغلوا برحيلهم وأهلهم عن الحرب، فكان ما قصد صحيحًا، وفعله الله تعالى، وعاد دُبيس إلى البساسيري وأخبره، فقال: الأمر إليك، قد أشرتُ بما أشرتُ وما قُبِلَ مني، افعَلْ ما تراه. وأصبح دُبيس يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة هو والبساسيري، فرحلا ورحل أنوشروان بمقابلتهم قُذًّا (¬1) كمن يراصدهم، فلمّا أخذوا في الرحيل أكبُّوا عليهم، فثبت البساسيري، وتبيَّن لدُبيس غلطُه، فسارع إلى أوائل الظعن ليردَّه فلم يقبلوا منه ولا التفتوا إليه، وصار الواحدُ يُردف ولدَه خلفه وامرأتَه، وتشاغلوا بنفوسهم، وألقى الله في قلوبهم الرعب، فانهزم دُبيس بن مَزْيَد، ووقف البساسيري فقاتل، وكثروا عليه وأسروا أبا الفتح بن وَرّام أميرَ الأكراد بالحِلَّة، فأفرج عنه أنوشروان واصطنعه، وثقُلَ ذلك على السلطان لمّا بلغه، وأسر منصورًا وبدرانَ وحمادًا أولادَ مَزْيَد، وانهزم البساسيري بعد أن تورَّط فيهم على فرس بتجافيف، فلم يتَّجِه، وضربه بنُشّابة، واجتهد في قطع التجافيف فلم ينقطع، وأدركه بعض الغلمان فضربه في وجهه بالسيف ولم يعرِفْه، ورآه بعض العرب المجروحين وأسره كُمُشْتِكين، فنازعه عليه أردم الخادم، فنزل إليه، وحزَّ رأسه، وجاء به إلى السلطان. وقال محمد بن هلال الصابئ: اعتبرتُ دخولَ أصحاب البساسيري بغداد، فكان اليوم السادس من ذي القعدة سنة خمسين، وخرج أهلُه وأولادُه منها في مثل ذلك من السنة الآتية، وانتزع الخليفةُ من داره يوم الثلاثاء ثامن عشر كانون الثاني في سنة خمسين، وقُتِلَ البساسيريُّ يوم الثلاثاء الثامن عشر منه في السنة الآتية، وهذا من الاتفاقات الغريبة، ودخل الأتراك في الظعن جميعه فساقوه، وكان فيه أموالُ بغداد جميعُها مع الأكابر، وأموالُ العرب بأسرها مع نسائها وأولادها، وكان في السبي نساءُ البساسيري وأولادُه وبناتُه وزهرة وزوجتُه وأختان لابن مَزيَد وابنتان له، وارتكب من ¬

_ (¬1) من قوله: حَذو القُذَّة بالقُذَّة، وهو مثل يضرب للشيئين يستويان ولا يتفاوتان. المعجم الوسيط (قذذ).

النساء المحظور، ونجا من نجا على فرسه دون ماله وحرمه، وبقيت الثياب والأموال مطروحةً في البرية لكثرتها، وعجز الغلمان عن حملها، وهلك مِن الناس العددُ الكثيرُ، والجمُّ الغفير. وكان الفتكُ من العرب، فإنهم أفسدوا، والتُّرك لم يفسدوا، وإنما أخذوا الأموال، وأحضر السلطانُ جماعةً، فعرفوا رأس البساسيري، فوجدوا في جيبه خمسة دنانير، فدفعها السلطان إلى من قوَّر رأسَه، وأخرج مخَّه، ثمَّ بعث به إلى بغداد، فوصل يوم السبت منتصف ذي الحجة، فتُرِك على قفاه، وطِيفَ به، وضُربت بين يديه الدبادب والبوقات، وعُلِّقَ مدةً، ثمَّ حُمِلَ إلى خزانة الرؤوس، فيقال: إنه باقٍ إلى هلُمَّ جرًّا. وهرب ابن مَزْيَد إلى البَطيحة، ومعه أبو البركات بن البساسيري وأخواه الصغيران -وقيل: زهرة والدتهما وأخته- ووصل السلطان إلى واسط، فرأى أصحابه قد نهبوها، فعزَّ عليه، ولام أريسغى، وكان قد تقدَّم إليها، وعبر السلطان إلى الجانب الشرقي قريب من البطائح، وجاءه هزارسب، وتوسَّط خالُ ابن مَزْيَد معه، وحضر باب السلطان، وداس بساطه، ثمَّ أصعد في خدمته إلى بغداد، وكذا صدقة بن منصور، وردَّ السلطانُ على ابن مَزْيَد وأولاده وإخوته الأسرى، وقَبْلَ إصعادِ السلطان أنفذَ من واسط والدةَ الخليفة ووالدةَ الأمير أبي القاسم علاء الدين بن ذخيرة الدين وصلف -وقيل: اسمها وصال القهرمانة- وتبعهم خلقٌ كثيرٌ من أهل بغداد، وكانوا في أسر البساسيري ومعه في الوقعة فأُخِذوا. ذكر ما جرى لابن البساسيري الصغير: كان نائبًا عن أبيه في الرحبة، فوصله الخبر في يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة، فارتاع وخاف المقام، وبلغه أن مهارشًا قد خرج من بغداد في ثلاث مئة غلام من الأتراك يريد الرحبة، فأراد أن يقصد بالِس، وكانت لعطية بن الزَّوقلية الكلابي، وكان بينه وبين أبيه مودةٌ وصداقة، وأغارت بنو شيبان على سواد الرحبة وأحرقوا، فخاف الصبيُّ أن يخرج لقبيح فعل بني شيبان وغَدْرِهم، فاستدعى وجوههم وقال: تسيرون معي إلى بالِس، وجعل لهم على ذلك خمس مئة دينار، واستحلفهم وتوثَّق منهم، وأودع الذهب عند مَنْ رضوا به، فإذا قاربوا بالِس رجعوا، واستدعى جماعةً من

العجم ممن استأمن إلى أبيه، فأعطاهم ثلاثة آلاف درهم وسلاحًا، فأظهروا طاعتَه، وأبطنوا مخالفتَه، والتجؤوا إلى محلة في الرحبة يُقال لها: القصر، وعليها سور، واجتمع القاضي وابن محكان وأبو الكرم كاتب الديوان على الخطبة للسلطان طُغْرُلْبَك والقائم، ولم يتحقَّقوا حقيقة الحال، إلا أن مهارشًا البدري قصد الرحبة في سرية، وخرج ابن البساسيري في خامس عشرين ذي الحجة مبرزًا، فأغلقوا وراءه الأبواب، ورماه العجم الذين أعطاهم الأموال والسلاح والنُّشّاب، وسبُّوه وشتموه، وخرج معه خلقٌ كثير من أهل البلد كانوا مع أبيه، وسار طالبًا بالِس، ولم يقنع بنو شيبان بما قرَّره لهم، فتخطَّفوا (¬1) الناسَ ونهبوهم، ولو لم يكن في جماعة كثيرة لنهبوه، ووصل إلى بالِس واجتمع بعطية ولم يتعرَّض له، كلّ هذا وما عند أحدٍ خبرُ ما جرى للبساسيري، إلا أنهم على انتظاره، وابنُه يُمنِّيهم رجوعَه، ثم سار يطوي المنازل إلى حلب، فأقام على بابها. وفي هذا الشهر عزل القائمُ أبا الحسن محمد بن أحمد بن المهتدي عن خطابة جامع المنصور؛ لأجل خطبته لصاحب مصر، وولَّى مكانه أبا علي الحسن بن عبد الودود بن المهتدي، وخلع عليه خِلْعةً سوداء، وبرز له توقيع، فيه خرجت الأوامرُ الشريفة، والمراسيمُ العالية المتقنة (¬2) أنفذها الله شرقًا وغربًا، وبُعدًا وقُربًا، بترتيب الشريف الجليل بهاء الشرف -أدام الله تأييده- في الخدمة وإقامة الدعوة الشريفة على المنبر بالمسجد جامع المنصور -صلواتُ الله على الآمر ببنائه- وأن يعتمد على المداومة في الخدمة وإيصالها، فليُتمثَّلِ المأمور، وليُعتمَدِ المرسوم إن شاء الله تعالى. ذكر ما اعتمده الخليفة بعد رجوعه: لمّا عاد إلى بغداد من الحديثة لم ينَمْ على وطاء، ولم يدَعْ أحدًا يحمل إليه فطوره؛ لأنه نذر أن يتولى ذلك بنفسه، وعقد مع الله العفوَ عمَّن أساء إليه، والصفحَ عن جميع من تعدَّى عليه، فوفى بذلك، وأشرف في بعض الأيام على البنّائين في داره، فأمر الخادم بإخراج واحد منهم، ثمَّ رآه في الدار، فقال للخادم: أعطِه دينارًا وأخرِجْه، ¬

_ (¬1) أي: قتلوهم وسلبوهم. وتحرفت لفظة فتحظفوا في الأصل (خ) إلى: فتحفطوا. (¬2) في (ف): المتثقة!

الحسن بن أبي الفضل

وتهدَّده إن عاد ثانيًا. فأتاه الخادم وأعطاه دينارًا، وقال: إن عُدْنا رأيناك ها هنا قتلناك. فسأل الخليفةَ عن السبب، فقال: إنَّ هذا أسمعني يومَ خروجي من الدار الكلامَ الشنيع، وما كفاه حتى تبِعَني إلى المكان الذي بِتُّ فيه في المشهد، وجعل يشتمني، وما كفاه حتى تبِعَني إلى عَقْرَقُوف يُسمِعني ما أكره، فأمسكت عن معاقبته رجاءَ ثواب الله تعالى، وما عاقبتُ مَنْ عصى الله فيَّ بأكثرَ مِنْ أن نُطيعَ الله تعالى فيه. وفيها كان بمكة رُخْصٌ لم يُعهَدْ مثلُه، بلغ البُرُّ والتمرُ مئتي رطل بدينار، وهذا غريب في ذلك المكان. وفيها قُتِلَ أرسلان التركي أبو الحارث البساسيري، وكان يُلقَّب بالمظفَّر، وكان مُقدَّمًا على الأتراك، لا يقطع القائم أمرًا دونه، فتجبَّر وطغى، وأراد نقل الدولة؛ لفسادِ نيَّتِه وخُبثِ طويَّتِه، فقبِلَها وفعل ما فعل، فقُتِلَ أقبحَ قتلة، ويقال: إنهم أحرقوا جسده، وأطعموا بعضَه الكلاب. وقال أبو يعلى بن القلانسي: لم تَزلِ الأخبارُ متواترةً من ناحية العراق بظهور المظفَّر أبي الحارث أرسلان البساسيري، وقوَّةِ شوكته، وغلَبَةِ أمره على الإمام القائم بأمر الله، وقَهْرِ نُوَّابِه، وامتهانِ خواصِّه وأصحابه، وخوفِهم من شرِّه، حتى أفضى أمرُه بأخذ الجائي من حريم الخلافة لأدافع عنه، وهو واحد من الغلمان الأتراك، عَظُم أمرُه، واستفحلَ شأنُه؛ لعدم نُظرائه من الغلمان الأتراك والمُقدَّمين، فاستولى على العباد والأعمال (¬1)، ومدَّ يده في جباية الأموال، وشاع بالهيبة أمرُه، وانتشر ذِكرُه وتهيبته العرب والعجم، ودُعي له على كثير من منابر العراق والأهواز، وقد ذكرنا سيرته مفصَّلة. [وفيها تُوفِّي] الحسن بن أبي الفضل (¬2) أبو علي الشَّرْمَقاني، -وشَرْمَقان: قريةٌ من قرى نيسابور -وقدم بغداد، وكان حدثنا حافظًا للقرآن ووجوه القراءات، زاهدًا، عابدًا، ورعًا، سليم الصدر، طاهر البدن (¬3)، كان يخرج إلى دجلة فيقعد عند أقوام يغسلون الخسَّ فيأخذُ من الورق ما يحدره الماء [قال ¬

_ (¬1) في (ف): والأموال. (¬2) تاريخ بغداد 7/ 402، والمنتظم 16/ 57 - 58. (¬3) في (م 1): البطن.

أبو البركات، عقيل بن العباس

الخطيب: وكان الشَّرمقاني] يقرأ على ابن العلَّاف، و [كان] يأوي إلى مسجد بدرب الزعفران غربي بغداد، فاتَّفق أنَّ ابن العلّاف خرج يومًا يتوضأ على دجلة، وكان زمان مجاعة، فرأى الشَّرْمَقانيَّ يأخذ ما يرمي به أصحابُ الخسِّ من الورق فيأكلُه، فشقَّ عليه، وكان ابن العلّاف ينبسط إلى [أبي القاسم] رئيس الرؤساء الوزير، فأخبره بحاله، فقال: نبعث له شيئًا. قال: ما يقبل. فقال: نتحيَّل فيه. فقال لغلام له: اذهَبْ إلى مسجد الشَّرْمَقاني، واعمل لغَلَقِه مفتاحًا من حيث لا يشعر. ففعل الغلام، فقال له: احمِلْ في كل يوم ثلاثةَ أرطال خبز ودجاجةً مشوية وقطعةَ حلوى بسُكَّر. فكان الغلام يرصده، فإذا خرج من المسجد فتح الباب وترك ذلك في القبلة، وكان الشَّرْمَقاني يتعجَّب ويقول: المفتاح معي، وما هذا إلا من الجنة. فسكتَ ولم يُخِبرْ أحدًا خوفًا أن ينقطع، فأخصب جسمُه وسمِنَ، فقال له ابن العلَّاف: قد سَمِنْتَ [وحَسُنَ حالك] فأيش تأكل؟ فأنشده يقول: [من البسيط] مَنْ أطلعوه على سرٍّ فباحَ به ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا وأخذ يُورِّي ولم يُصرِّح، [ويُكني ولا يُفصح]، فلم يزَلْ به حتى أخبره وقال: هذه كرامة لي، يبعثها اللهُ لي كلَّ يوم من الجنة، كذا وكذا. قال: من أين لك ذلك؟ قال: لأنَّ الباب مغلق، والمفتاح معي. فقال: ينبغي أن تدعو للوزير [ابن المُسلمة] ففهم، وانكسر قلبُه، وتنغَّص عيشُه، وتوفِّي عقيب ذلك اليوم السابع [سمع ابن شاهين وغيره، وكتب عنه الخطيب وغيرُه. وفيها تُوفِّي] أبو البركات، عَقيل بن العباس (¬1) ابن الحسن بن أبي الجِنّ الحسين بن علي، وُلِدَ بدمشق سنة اثنتين وتسعين وثلاث مئة، وولي نقابة العلويين بها، وكان جوادًا سمحًا، توفي بطرابلس، وحُمِلَ إلى دمشق ودُفِنَ بها، رحمه الله تعالى. [قال ابن عساكر: حدَّث عن عبد الله بن أبي كامل وغيرِه، وروى عنه أبو القاسم النسيب شيخ الحافظ ابن عساكر]. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 41/ 25 - 26.

علي بن الحسين بن هندي

علي بن الحسين بن هندي (¬1) قاضي حمص، [ذكره الحافظ ابن عساكر، وقال]: ولد سنة أربع مئة، وبرع في علم الأدب والشعر، وتوفي بدمشق، ودُفِنَ بباب الفراديس، ومن شعره: [من الكامل] يا ضاحكًا بمن استقلَّ غُبارهُ ... سيثورُ عن قدميكَ ذاكَ العِثْيَرُ (¬2) لا فارسٌ بجنودها منعَتْ حمى ... كسرى ولا للرُّومِ خلِّدَ قيصرُ جددٌ مضَتْ عادٌ عليه وجُرْهُمٌ ... وتلاه كهلانٌ وعقَّبَ حِمْيَرُ وسطا بغسَّانَ الملوكُ وكِنْدةٌ ... فلها دماءٌ عندهُ لا تثأرُ لعبَتْ بهم فكأنَّهم لم يُخلَقوا ... ونُسوا بها فكأنَّهم لم يُذكَروا علي بن محمود بن إبراهيم (¬3) أبو الحسن، الزَّوزَني، المنسوب إليه الرباط المقابل لجامع المنصور، والرباط إنما بُني للحصري، والزَّوزَني صاحب الحصري، فنُسِبَ إليه، ولد عليٌّ سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة، وصحب الحصري، وكان يقول: صحبتُ ألف شيخ، وأحفظ من كل شيخ حكاية. وكانت وفاتُه في رمضان، ودفن بباب الرباط. قريش بن بدران أبو المعالي، ويُلقَّب بعلم الدين، أمير بني عقيل، كان داهيةً، بخيلًا، سفاكًا للدماء، بعيدَ الغور، غدارًا، حمله شحُّه وقلَّةُ دينه على موافقة البساسيري على تغيير الدولة العباسية، شرهًا إلى ما كان في دار الخلافة، وطمعًا في الزيادة من صاحب مصر، وفعل تلك الأفاعيل، وذمَّ الوزير رئيس الرؤساء وغدر به، وسلَّمه إلى البساسيري، حتى فعل به ما فعل، ولم يمنعه، ولو منعه ما خالفه، وكان قد احتال على مهارش، وقال له: خُذِ الخليفة، وتعال إلينا، وكان قصدُه أن يُدخل الخليفةَ إلى الجِفار ويُسلِمَه إلى صاحب مصر، فبعثه السلطان، وخلص الخليفة، ولم يستصحِبْه البساسيري ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 41/ 427 - 433. (¬2) العِثْيَر: التراب. تاج العروس (عثر). (¬3) المنتظم 16/ 59، وتاريخ بغداد 12/ 115.

السنة الثانية والخمسون والأربع مئة

لأجل عسكره، فإنه كان شحيحًا والعرب ذامةٌ له، متفلِّلةٌ عنه لأجل اسمِه وذِكْرِه، فبذل له أن يُقطِعه أملاكَ الخليفة وإقطاعَه، وأن يكون ما عدا ذلك بينهما نصفين من البلاد والغنائم، وأن لا يكون لقريش ذمامٌ ولا إجارةٌ عليه، وتحالفا على ذلك وتكاتبا وتعاهدا، فلمّا دخلا بغداد تسلَّم قريش الأملاك والإقطاعات التي للخليفة، وخرج أصحابه إلى الضياع، فصادروا أهلها، وأخذوا ما قدروا عليه، ولمّا استوليا على دار الخليفة اقتسما ما كان فيها من مال وجوهر وقماش وثياب وخيل، وطلب قريشٌ أن يُسلِّم إليه نصف الإقطاعات المنحلَّة عن الغلمان البغدادية وغيرهم، فامتنع البساسيري من ذلك، ثمَّ اتَّفقا على الثلث، إلى أن وصل السلطان البلاد، فزال ذلك كلُّه، ودخل الخليفةُ إلى داره، وقُتِلَ البساسيري، ومات قريشٌ بالموصل خائفًا من السلطان، وقام بعده ولده مسلم، وكنيتُه أبو البركات. وقيل: إن قريشًا مات في السنة الآتية، وكان السلطان قد أباح دَمَه، وقال: لا عهدَ له عندي ذاك الكَذّاب الغَدّار المستبيحُ أموال الخليفة وبُلَغَه، فمات في صفر. السنة الثانية والخمسون والأربع مئة فيها في صفر نزل عطية صاحب بالِس إلى الرحبة وحصرها وفتحها، فلمّا دخلها أحسن معاملة أهلها، وخطب للمستنصر بعد أن كان قد خطبوا فيها للقائم والسلطان. وفي يوم الخميس سابع عشره دخل السلطانُ بغداد مصعدًا من واسط، وفي خدمته أبو كاليجار هزارسب، وأبو الأغر بن مَزْيَد، وأبو الفتح بن وَرّام، وصدقة بن منصور بن الحسين، وجلس الخليفة للسلطان، ووصل إليه يوم الاثنين الحادي والعشرين منه، وخلع عليه عمامةَ قصب مُذْهَبة مينا، وفَرَجية ديباج مُذْهَبة، وعمل الخليفةُ سِماطًا عظيمًا في رُواقِ رَوْشَن المكتفي المشرف على دجلة بعد أن أُعيدت شرافاته التي قلعها البساسيري، وحضر السلطانُ ومَنْ سمَّينا، واستحلفوا على طاعة السلطان والخليفة وخلع على الأمراء. وفي ثاني ربيع الأول توجَّه السلطان إلى الجبل، وتأخَّر عميد الملك بعده ليدبر الأمور، ثم لحق بالسلطان بعد أن دخل على الخليفة وخدمه، فشكره وخاطبه بالجميل الذي شرح صدره، ولقَّبه سيِّدَ الوزراء مضافًا إلى عميد الملك.

وفي يوم الثلاثاء تاسع جمادى الآخرة ورد الأمير عُدَّةُ الدين أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين وجدته وعمته مع أبي الغنائم بن المحلبان وسِنُّه أربع سنين، واستقبله أبو الفتح المظفَّر بن الحسين عميد بغداد، ولّاه السلطان في هذه السنة، والتقاه أيضًا الخدم والحُجّاب والأعيان في الماء وعلى الظهر، وجلس الأمير في الزبزب وعلى رأسه أبو الغنائم بن المحلبان والخدم والخواصُّ، وصعد بباب الغربة، وقُدِّم له فرسٌ فأركبه ابنُ المحلبان، ودخل به إلى حضرة الخليفة، وكان الخليفة قد أعدَّ لابن المحلبان مالًا وخِلَعًا، فامتنع مِنْ أخْذِه، وقال: ما أُريد إلَّا أن أُسلِّم الأمير من يدي إلى يد أمير المؤمنين. فأذن له، فدخل عليه، وقبَّل الأرض ويدَه، وسلَّم الأميرَ إليه، فشكره القائم، وأثنى عليه، ورفع منزلته. ذكر السبب في سلامة الأمير وما جرى لهم: قال أبو الغنائم بن المحلبان: لمّا فُتحت دارُ الخليفة دخلتُ إلى داري بباب المراتب، فوجدتُ بها زوجةَ رئيس الرؤساء ابنِ المُسلمة وأولاده، والبساسيري (¬1) يطلبهم أشدَّ الطلب، فقلتُ: من أنتم؟ قالت: أنا زوجة الوزير، وقد تحيَّرنا وما ندري ما نصنع ولا أين نهرب؟ وكنا قد استشرنا صاحِبَنا -يعني ابن المُسلمة- فقلنا: إلى من نقصد؟ فقال: ما لكم غير أبي الغنائم بن المحلبان، فإن كان لكم خلاصٌ فما أرجوه إلا منه (¬2) وعلى يده، فاقصدوه فإنه يتعصَّب لكم، ويتوصَّل إلى حفظكم. فقلتُ: طيبوا قلوبَكم، نفسي دون نفوسكم، وخلطتُهم بأهلي عند سكون الثائرة، وأنزلتُهم بدار الخليفة، فلمّا صُلِبَ الوزير أخرجتُهم إلى من أثِقُ به إلى ميّافارقين، وقلت: هؤلاء أهلي أخاف عليهم، وخرجوا في محمل، فاتَّفق خروجُ البساسيري يودعُّ قريشَ بن بدران ومحملَهم إلى جانب البساسيري، وسلَّمَ اللهُ، ومضَوا سالمين، ثم جاءني محمد الوكيل فقال: قد عرفتَ [أنَّ] (¬3) ابنَ الذخيرة وبنتَ الخليفة وأمَّها يبيتون في المساجد ¬

_ (¬1) في (خ): وأولاد البساسيري، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في المنتظم. (¬2) في (خ): منكم، والمثبت من (ف). (¬3) ما بين حاصرتين من (ف).

مع المُكْدين (¬1)، وينتقلون من مكان إلى مكان وما يشبعون بالخبز وهم عُراة، ولمّا علموا بما فعلتَ مع أهل الوزير واختلاطي بك سكنوا إليكَ وإليَّ، وأطلعوني على أمرهم، وسألوا في خطابك في معناهم وتدبير أمرهم، وقد ذكروا أنَّ أبا منصور بن يوسف أرشدهم إليك، فما رأيُكَ؟ وكان البساسيري قد أذكى (¬2) عليهم العيون، فشدَّد في طلبهم، وقد عميت عليه أخبارُهم، واستعجبت آثارُهم، فقلت له: واعِدْهم المسجدَ الفلانيَّ حتى أُنفذ زوجتي إليهم. ففعل، وحصلوا في داري، فحملتُ إليهم ثيابًا سنيَّةً وكسوةً، وقلتُ: سَلْهم كم كانت مشاهرتُهم على الخليفة؟ فقالوا: كذا وكذا. فأضعفتُ ذلك، وأقاموا عندي ثمانية أشهو على أحسن حال، فلمّا تواترتِ الأخبار بمجيء السلطان وعسكره (¬3) خافوا وراسلوني، وقالوا: لا نُقيمُ في هذا البلد مع دخول العسكر، فإنَّ خوفَنا منهم مثلُ خوفِنا من البساسيري، من أجلِ هذا الصبي، فإنَّ أرسلان خاتون ضرة جدته، وهي كارهة لسلامته، ونريد أن تخرجنا مع ثقة لك بحيث نأمنُ على نفوسنا، وننصرفُ على حسب اختيارنا، فانتدبتُ لهم صاحبًا لي ولم أُعلِمْه بهم، بل قلتُ: هؤلاء أهلي، وأُريد أن أُخرجهم خوفًا من البساسيري، واشتريتُ لهم الجمال، وجهَّزتُهم إلى قرية من قرى سِنْجار تُعرف بالحِيال، وجاء الغُزُّ فدخلوا بغداد، فخرجتُ نحوهم، وحملتُهم إلى حَرّان، فلمّا دخل الخليفةُ بغداد حملتُهم إليه (¬4). قال المصنف رحمه الله: وقفتُ على تاريخ ميّافارقين، وفيه أن أبا نصر بن مروان الكردي -صاحب ديار بكر- أنزلهم في قصر بآمد، وأجرى عليهم الجرايات، فقال له القاضي أبو علي بن البغل: أُحِبُّ أن تكون ضيافتُهم عليَّ. فقال مروان: كيف يُسمَعُ عني أنَّ ابنَ الخليفة أقام عندي ولم يكن في ضيافتي. فقال: يسمع الناسُ أنَّ بعضَ خدمك أقام بابن الخليفة فلم يُجِبْه. ¬

_ (¬1) المُكْدي من الرجال: السائل المُلحُّ في المسألة وحرفته الكُدْيَة. تاج العروس (كذا). (¬2) أذكى: أرسل. المعجم الوسيط (ذكي). (¬3) في (ف): بمجيء عسكر السلطان. (¬4) تنظر هذه الأخبار بنحوها في المنتظم 16/ 60 - 61.

وفي رجب وُقِفَتْ دارُ الكتب، فسارع ابنُ أبي عوف من غربي بغداد ونقل إليها ألف كتاب، وذلك لأنَّ الدار التي وقفها سابور الوزير -بين السُّورَين في الكَرْخ، سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة- احترقَتْ لمّا دخل طُغْرُلْبَك بغداد، وتمزَّقت الكتب، ونُهِبَ الباقي، وحُمِلَ [أكثرها إلى خراسان، ودَرَس العلم، والمكان الذي كانت فيه] (¬1) من حساب الكَرْخ ورواصعه (¬2). وفي رجب ملَكَ محمود بن شبل الدولة بن الزَّوقلية ومنيعٌ ابنُ عمه حلبَ والقلعة، وأخرجا منها أبا علي بن ملهم النائب من قِبَل مصر، بعد أن أذمّا له، وسببُه: لمّا حصل عطية بن الزَّوقلية بالرحبة، ورأى أهلها قد أنفذوا إلى بغداد بالطاعة، وأقاموا الخطبة والسلطان، خاف من سرية من العساكر السلطانية، فأحدر صاحبًا له إلى بغداد في الطاعة والخدمة، فطلب من الخليفة خِلَعًا ولقبًا ليخطب له، وعرف أبو علي بن ملهم بذلك، فكتب إلى مصر، فانزعجوا وعملوا على من يقصد الرحبة ويُخرِجُ منها عطية، وكاتبوا إلى الرحبة، وأنفذوا جلال الدولة -مُقدَّم كتابه- والقاضي العلوي الزيدي -قاضي دمشق- إلى حلب شدًا من ابن ملهم، وعرفت بنو كلاب بمسير بني كلب إلى أرضهم، فخافوا وقصدوا ابن ملهم وجلال الدولة والقاضي، وقالوا: قد بلَغَنا مجيءُ بني كلاب إلى ها هنا لأجل عطية والرحبة، ونحن نعطيكم رهائن، ونكفيكم أمرَ عطية الرحبة، من غير أن تطأ بنو كلاب ديارنا، ومتى فعلتم ذلك أخرجتمونا إلى العصيان. فقالوا: هذا أمر جاء من مصر، ليس لنا فيه رأيٌ. فأيسوا منهم، وكتبوا إلى عطية بما جرى، واستدعوه ليؤمروه ويدفعوا بني كلب، فأصعد من الرحبة إليهم، واستحلفهم وتوثَّق منهم، واتفق أن خاتون يئست وقطعت من بني عقيل وبني سنان، وخَفاجةُ كانوا نازلين علي بني كلاب، فساروا بأجمعهم مع عطية إلى حمص وحماة، فأخذوهما وهما من أعمال بني كلب، وأخربوا سور حمص، ونهبوا الغلّات، وجاء أبو تغلب بن حمدان في جماعةٍ من أصحابه وبني كلب إلى فامية، ووصلتِ الكتب إلى عطية من ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف). (¬2) ينظر المنتظم 16/ 61 - 62.

مصر باستعطافه، فرجع عن ذلك، وانصلحت نيّتُه، وقد كانت علوية بنت وثاب أم محمود بن شبل الدولة -عند هذا الاختلاط- قد أفسدت جماعةً من أحداث حلب واستمالتْهم، وكتبت إلى محمود ولدها ومنيع ابن عمه -وكانا بالقرب من البلد- فقَرُبا، وفتح الأحداثُ الأبوابَ لهما، ونادَوا بشعارهما، فدخلا في جماعة من بني كلاب، وظفروا بجلال الدولة الكناني والعلوي القاضي قبل أن يصعدوا إلى القلعة، وقتلوا جماعةً من المغاربة والمصريين، وصعد قومٌ من الغلمان البغدادية إلى القلعة، وحصلوا مع المغاربة ومع أبي علي بن ملهم، وصارت الحربُ بينهم، ووثق محمود ومنيع بمن معهما من الأحداث واطَّرحا بني كلاب ولم يوصلا إليهم ما كان وعداهم به، فانحرفوا وقصدوا أبا تَغْلِب بن حمدان، وحصلوا معه، وثقُلَ على عطية تملُّكَها البلد، فانصلح لصاحب مصر، وحلف له، فسار أبو تَغْلِب بن حمدان حينئذ إلى حلب، وعرف محمودٌ ووالدتُه ومنيعٌ ذلك، فلم يقدروا على ذلك، فخرجوا ومعهم الكناني والقاضي مقيَّدَين، ونزل ابن ملهم من القلعة، وفتح الباب لأبي تَغْلِب، فدخل فقتل الأحداث وصلبهم، وأحرق أكثر البلد، وجاء عطية إلى أبي تَغْلِب فقيَّده بقيد من ذهب كان حُمِلَ معه من مصر، ثم فكَّ عنه، وأُفيضت عليه الخِلَعُ، وأُعطي مالًا كان ضُمِنَ له، وعزم أبو تَغْلِب على الخروج إلى بني كلاب الذين نزل عليهم محمودٌ ومنيع، فأُشير عليه أن لا يفعل، فلم يقبَلْ، وانعزل عطية عنهم بأهله، ومعه قطعةٌ من الغلمان البغدادية والنفيس (¬1) بن البساسيري الأصغر، وقد كان سلم من الحرب التي قُتِلَ أبوه فيها، ولمّا أصعد إلى حلب أكثر ابنُ حمدان القتل والنهب، وقرَّر عليهم مئتي ألف دينار التي أنفقها على العساكر المجردة، فرضُوا بذلك، ثم سار في عشرة آلاف من المغاربة والكلبيين وخفاجة وبني عقيل وبني شيبان إلى بني كلاب ليثبتهم، فثبتوا له، وقاتلوه يومهم، فلمّا كان من الغد نُصروا عليه، فهزموه وأسروه وأخاه، ووقع القتلُ في أصحابه بقيةَ يومه وليلتهم، فكان القتلى من المغاربةِ وغيرِهم سبعةَ آلاف رجل وخمس مئة، وقُتِلَ نبهان القرمطي أمير بني كلب، وأفلتَ ابنُ البساسيري، وأُخِذَ منه جميعُ ما كان معه من مال أبيه، ورجع محمودٌ ومنيعٌ وعلوية إلى حلب، وأمنوا ابنَ ملهم، وحلفوا له، فنزل ¬

_ (¬1) لم يتبين لي اسمه، ولكن هكذا جاء رسمه في الأصلين (خ) و (ف).

وسلَّم إليهم القلعة بما فيها، وسار إلى فامية، واعتقلوا الكناني والقاضي في القلعة، وعاد عطية وابن البساسيري إلى الرحبة، وبلغ صاحبَ مصر، فأعاد أبا علوان وثِمال بن صالح بن الزَّوقلية إلى إمارة حلب، وأنفذه إليها بعد ما عزله [عنها] (¬1)، فدخلها وفكَّ ابنَ حمدان وأخاه من الأسر، وأفرج عن جلال الدولة والقاضي، وأطاعته العشيرة واحتشمَته، وكان محمود لمّا صعد القلعة أنشده ابن أبي حصين: [من الطويل] صبرْتَ على الأهوالِ صَبْرَ ابنِ حُرَّةٍ ... فأعطاكَ حُسنُ الصبرِ حُسنَ العواقبِ وأتعبتَ نفسًا يا ابن نصرٍ نفيسةً ... إلى أن أتاك النصرُ من كلّ جانبِ وأنتَ امرؤٌ تبني العلا غيرَ عاجزٍ ... وتسعى إلى طَرقِ الرَّدى غير هائبِ تطوَّلَ محمود بنُ نصرٍ وفِعْلَهُ ... كلابٌ كما طالتْ تميمٌ بحاجبِ وفي شعبان انحرف السلطان عن حصار توريز، وكان مقيمًا عليها من حين خرج من بغداد، وخربت تلك الأماكن من النهب، ومات أهلُها جوعًا، وتقدم فنزل بسامراء، وأمر العساكر بالمقام بها إلى حين يعبر الشتاء والثلج ويُعادوا إلى حصار توريز، فتعذَّرتْ على العساكر الأقواتُ والعلوفاتُ، فاجتمع الأعيانُ، ونزلوا على فرسخ من العسكر، وراسلوه بأنك قد فعلتَ ما فيه هلاكُنا وبلوغُ غرض العدو منا، فإن هذا المكان لا يحملنا، ولا نجد ما نأكل نحن وخيلُنا، ومتى أقمنا سقط الثلج علينا ومِتْنا، والرأيُ أن ننصرف إلى الريّ ونشتوا بها، وإذا جاء النَّوروز سِرْنا حيث نشاء، فلمّا سمع ذلك صَعُبَ عليه وتهدَّدهم، فنفروا وقالوا: ما نخرجُ عليك ولا نُغضِبُك، ولكن نمضي إلى بغداد ونستولي على أموالها، ونتفرَّق في أعمالها، ونستريحُ من هذه الأسفار المتَّصلة والتعب العظيم، ونَدَعُكَ ورأيَكَ، ومتى منعْتَنا حاربناك، وكان الخليفةُ معنا. فلمّا سمع ذلك صَعُبَ عليه وتهدَّدهم، وبان له منهم هذه المكاشفة، أعاد الجواب بأنكم أولادي، وما قلتُ ما قلتُ إلا بحكم الدالة، وإذا اخترتم الري فبعد خمسة أيام أتوجَّه إليها، وتقدَّم بضرب السرادق إلى ناحية الري، وحلف لهم وحلفوا له، ورتب أنوشروان وابنابجيل في تلك الأعمال، وسار نحو الري، وكان الذي أصلح هذه الأحوال خُمارتِكين الطغْرُلْبي، وهو المهتمُّ بوضع العساكر على السلطان، فأظهر له ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف).

أحمد بن عبد الله بن فضالة

السلطان جميلًا، وخلع عليه، واستخلفه عميدُ الملك، وكان بينهما عداوةٌ متقدمة، وكان السلطان قد قلَّد أمر بغداد إلى أبي الفتح المظفَّر بن الحسين العميد، فشرع في عمارتها من الجانبين، وأحسن إلى الناس، وأقام الهيبة، ونهى أهلَ الكَرْخ عن العبور إلى الحريم والجانب الشرقي، فما كان إلَّا القليل حتى عمرت الأسواق، وكان قد ضمن بغداد في هذه السنة بمئة ألف دينار، وفيما بعدها بثلاث مئة ألف. وفيها تُوفِّي أحمد بن عبد الله بن فَضالة أبو الفتح، الموازيني، الحلبي، الشاعر، ويُعرف بالماهر، [قال ابن عساكر: وقد روى عنه أبو عبد الله الصوري شيخ الخطيب وغيره، وقال ابن الأكفاني: كان من أهل حلب فسكن دمشق، ومات بها في صفر، ودُفِنَ في داره، ثمَّ نُقِلَ إلى الباب الصغير، وكان ينظم الدرة ورأسَ الحرة، ويقول الجيدَ والرديء [ولا يُفرِّق بينهما]، ومن شعره: [من الكامل] من صحَّ قبلَكَ في الهوى ميثاقُهُ ... حتى يصِحَّ ومَنْ وفي حتى تفي عرفَ الهوى في الخلقِ مُذْ خُلِقَ الهوى (¬1) ... بمذلَّةِ الأقوى وعِزِّ الأضعفِ يا مَنْ توقَّدُ في الحشا بصدودِهِ ... نارٌ بغيرِ وصالهِ لا تنطفي وظننتُ جسمي أنْ سيخفى بالضَّنا ... عن عاذِليَّ فقد ضَنيتُ وما خفي وقال أيضًا: [من الوافر] أرى نفسي تجِدُّ بها الظُّنونُ ... بأنَّ البَينَ بعدَ غدٍ يكونُ وما تركَ الفراقُ عليَّ دمعًا ... يسِحُّ ولا تسِحُّ به الجفونُ وفرضُ البينِ (¬2) منهزمٌ فقُلْ لي ... عليكَ بأيِّ دمعٍ أستعينُ كأنِّي من حديثِ النفسِ عندي ... جهينةُ عندها الخبرُ اليقينُ وقال أيضًا: [من المنسرح] ¬

_ (¬1) هكذا في الأصلين (خ) و (ف)، وفي فوات الوفيات 1/ 152، والوافي بالوفيات 7/ 174: الورى. (¬2) في المصدرين السابقين: وجيش الصبر.

الترنجان

الشِّعرُ كالبحرِ في تلاطُمِهِ ... ما بينَ ملفوظِهِ وسائغِهِ فمنهُ كالمِسْكِ في لطائمِهِ ... ومنهُ كالمَسْكِ (¬1) في مدابغِهِ الترنجان زوجة السلطان طُغْرُلْبَك، أمّ أنوشروان، زوجة خُوارَزْم شاه، كانت أم ولد، وفيها دينٌ وافر، ولها معروف ظاهر، وكانت تتصدق كثيرًا، وتفعل أفعال البرِّ، صاحبةَ رأيٍ وحزمٍ [وعزم] (¬2)، وكان السلطانُ سامعًا لها مطيعًا، والأمور مردودةٌ إلى عقلها ودينها، وكانت وفاتُها بجُرْجان بعلة الاستسقاء، فحزن السلطان عليها حزنًا شديدًا، وحمل تابوتها معه إلى الري، فدفنها بها، ولمّا احتضرت قالت للسلطان: اجتهِدْ في الوصلة بابنة الخليفة لتنال شرف الدنيا والآخرة، وأوصَتْ بجميع مالها بأن يكون لبنت القائم. [وفيها تُوفِّي] الحسن بن أبي الفضل (¬3) أبو محمَّد، النَّسَوي، صاحب شرطة بغداد، [و] كان صارمًا فاتكًا، يقتل الناس، ويأخذ أموالهم، وشهد عليه الشهود عند القاضي أبي الطيب، فحكم بقتله، فصانع بمال فسَلِم، وعُزِلَ من الشرطة، ثم بذل مالًا فرُدَّ، فاتَّفق أهل [باب] (¬4) البصرة والكرْخ ومَحالّ السنة والشيعة أنهم متى ظفروا به قتلوه [واصطلحوا على ذلك، وقد ذكرناه فيما تقدم]. وكانت فيه فطنة، [وله واقعاتٌ عجيبة، منها أنه] سمع في ليالي الشتاء صوتَ برادة تحطُّ، فأمر بكبس الدار، فوجدوا رجلًا مع امرأة، فقيل له: من أين علمت؟ فقال: برادة لا تكون في الشتاء، فعلمتُ أنها إشارة بين اثنين. [ومنها أنه] أُتيَ بجماعة من المُتَّهمين فأقامهم بين يديه، واستدعى بكوز من ماء، فشرب، ثم رمى بالكوز من يده، فانزعجوا إلا واحدًا منهم، فإنه ما تغيَّر، فقال: ¬

_ (¬1) المَسْك: الجلد. المعجم الوسيط (مسك). (¬2) ما بين حاصرتين من (ف)، والنجوم الزاهرة 5/ 67. (¬3) المنتظم 16/ 63. (¬4) ما بين حاصرتين من (ف) و (م).

أم القائم بأمر الله

العملة مع هذا. فقرَّروه فاعترف، فقيل له: من أين علمت؟ فقال: اللصُّ يكون قويَّ القلب. [ومن هذا شيء كثير] و[كان قد] سمع الحديث [من ابن شاهين وغيره]، وكان أصحاب الحديث إذا جاؤوا للسماع عليه يقول: ويحكم، هذا سمعناه على أن يكون فينا خير. أم القائم بأمر الله (¬1) واسمها قطر الندى، وقيل: بدر الدجى، وقيل: علم، وهي التي حبسها البساسيري، ولمّا انحدرت إلى واسط وأخذها معه فكانت في أسره، فلما وصل السلطان إلى واسط حُمِلَتْ إليه، كانت في الوقعة مع البساسيري، فبعث بها إلى الخليفة، وكانت قد أسنَّت وجاوزت التسعين سنة، وكانت أرمينيةً، وتوفيت يوم السبت الحادي والعشرين من رجب، وصلَّى عليها القائم في صحن السلام المغرب بمن حضر للخدمة، وكبَّر عليها أربعًا والتابوت بين يديه، ثمَّ حُمِل إلى الرُّصافة ودُفِنت عند القادر بالله، وجلس للعزاء عليها ببيت النُّوبة. [وفيها تُوفِّي] محمَّد بن عبيد الله بن أحمد (¬2) أبو الفضل، المالكي، المعروف بابن عُمْروس، ولد سنة اثنتين وسبعين وثلاث مئة [واشتغل بالفقه على مذهب مالك وبرع فيه حتى] انتهت إليه رئاسة المالكية ببغداد، وكان من القُرّاء المجوِّدين، وتُوفِّي في المُحرَّم [سمع أبا القاسم بن حَبابة والمخلِّص بن شاهين وغيرهم، وقال الخطيب: كتبتُ عنه] وكان ثقةً ديِّنًا، وأخرج له الخطيب حديثًا عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عيَّر أخاه بذنبٍ لم يمُتْ حتى يعمَلَه" (¬3). ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 63 - 64. (¬2) تاريخ بغداد 9/ 339، وفي المنتظم 16/ 64. (¬3) في (خ) و (ف): يفعله، والمثبت من (م) و (م 1)، وهو الموافق لما في تاريخ بغداد، ومصادر التخريج. والحديث أخرجه الترمذي (2505) وحسنه! لكن في إسناده انقطاع، وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، وهو متروك.

السنة الثالثة والخمسون والأربع مئة

السنة الثالثة والخمسون والأربع مئة فيها في يوم الجمعة غُرَة المُحرَّم تُوفِّي السلطان ابن أبي الأغر دُبيس بن مَزْيَد، وكان أبوه قد أهَّله أن يكون موضعه، وكان المميز لذلك من بين إخوته، وكان الخليفة في السنة الماضية قد طلب رد خاتون زوجته إلى دار الخليفة، وكان قريش قد بعث بها إلى السلطان بالري، فتأخَّرت عن الوصول، حتى ورد في هذا الشهر أبو يحيى سعد بن صاعد قاضي الري، مع صلف قهرمانة الخليفة [وموفق خادم الخليفة الخاص، وكان الخليفة] قد بعث بهما ليحملا إليه أرسلان خاتون زوجته، فعادا بغير شيء، وكان مع القاضي رسالةٌ من السلطان إلى الخليفة تتضمن خطبة السيدة بنت الخليفة، فثَقُل ذلك عليه. وقيل: إن صلفًا عرضت للسلطان بذلك وأطمعته فيه، وتكلَّم قاضي الري في بيت النُّوبة كلامًا يشبه التهدُّد، فأجاب الخليفة إلى ذلك إجابةً خلطها بالاقتراحات التي ظنَّ أنَّها تبطل الأمر، وقال: ما جَرَتْ بهذا عادة لأحد من الخلفاء، وركنُ الدين عضدُ الدولة وركنُها، والمحامي عنها، والماحي لكلِّ أذى منها، وما هذا ممَّا يجوز؛ سومُنا إيّاه، ومطالبتُنا به. وتردَّد في ذلك ما انتهى إلى إجابته، ثم اقترح عن ذلك تسليمَ واسط وما كان لخاتون زوجة السلطان من الأملاك والرسوم في سائر الأصقاع، وثلاث مئة ألف دينار قهرًا، وأن يكون مقام السلطان ببغداد ولا يرحل عنها. فقال العميد أبو الفتح -وكان المُخاطَب مع ابن صاعد يُحكم نظره ببغداد- أمَّا الملتَمَس من المهر وغيرِه فمُجابٌ إليه من جهتي عن السلطان، ولو أنه أضعافُه، فإن أمضيتم الأمر، وعقدتُم العقد، سَلِمَ جميعُه، وأما مجيء السلطان إلى بغداد ومقدمه فيها فهذا أمر لا بُدَّ من عرضه عليه. وندب في جواب هذه الرسالة للخروج إلى الري أبا محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي القاضي، وأصحبه بذكره، ورسم له الخطاب بالاستعفاء من ذلك، فإن تمَّ فهو المراد، وإلا سلَّم ليذكره إليه على مضض وكُره، ورسم (¬1) له أن يستعين بعميد الملك على ذلك، وأنفذ معه الكامل أبا الفوارس طراد بن أبي تمام نقيب ¬

_ (¬1) في (ف): وسلم.

الهاشميين وأبا نصر غانم صاحب قريش بن بدران في رسالة من الخليفة في العفو عن قريش، وإظهار رضا السلطان عنه، والتقدُّم بردِّ أعماله المأخوذة عنه، وكان قد بذل للخليفة عشرة آلاف دينار، وقدَّم منها ثلاثة آلاف، وحلف له الخليفة على صفاء النية والتجاوز عما مضى والعفو عنه، وبعث الخليفة للسلطان خلعًا وهدايا (¬1). وفي ربيع الأول قَبِلَ قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني شهادةَ أبي جعفر بن أبي موسى الهاشمي وأبي يعلى يعقوب بن إبراهيم الحنبلي وأبي الحسن المبارك بن عمر الخرقي (¬2). وفيه ورد الأمير أبو الفتح منصور بن أحمد بن دارست من شيراز للنظر في أمور الخليفة، فاستدعى له، وشرح القصة أن الخليفة لمّا عاد من الحديثة استَخْدَمَ أبا تراب بن الأثيري في الإنهاء وحضور المواكب، ولقَّبه حاجبَ الحُجّاب عِزَّ الأمة، وجلس على باب الغربة، وقد كان خرج مع الخليفة إلى الحديثة وخدمه، وقام بكبير أمره وصغيره، وجميع خدمه وأغراضه، وصلح له، وقيل للخليفة: إن عميد الملك يؤثر هذا المنصب. فكَرِه أن يعلم إيثار عميد الملك له فلا يرشِّحه، فراسله بالجميل، وقال: ما بقي بعد أبي القاسم مَنْ يصلُح لهذا إلا أنت، ويجب أن يُقرَّر مع ركن الدولة (¬3) ذلك، فأظهر عميد الملك الامتناع إظهارًا أَراد في جوابه إلزامًا، فأمسك الخليفة عن الخطاب، وكان عميد الملك إذا دخل دار الخليفة تجنَّب المكان الذي فيه أبو تراب، وخرج عميد الملك من بغداد وهو غير طيب القلب بهذا السبب، واتفق أن أبا منصور بن يوسف عاد إلى بغداد من أسر البساسيوي، فآذاه (¬4) أبو تراب، فاستوحش منه، ثم وقع الخوض فيمن يصلح لخدمة الخليفة، فذكر ابنُ يوسف أبا الفتح بن دارست، وقال: رجل غني، واسع الحال، مأمون الأفعال، وكان على خزائن الملك أبي كاليجار بن بُويه، مع سلامة صدره وثقته. فكتب الخليفةُ إليه يستدعيه [فوصل فاستكتبه ¬

_ (¬1) الخبر بمعناه في المنتظم 16/ 65 - 66. (¬2) الخبر في المنتظم 16/ 67. (¬3) في (ف): ركن الدين. (¬4) في (خ): فإذا هو، والمثبت من (ف).

وخلع عليه، وعزَّ على عميد الملك، فكتب إلى الخليفة، (¬1) عن لسان السلطان كراهيته له، ويشير بأن لا يُستخدم، فقال الخليفة: لو ورد هذا الكتاب قبل أن نَسْتَدعيه لكان، أمَّا بعد ما فارق بلدَه وأهلَه وعرف الناس خبرَه فلا يمكن. ولزم أبو تراب دارَه، واستقلَّ ابنُ دارست في الخدمة، وأوصله الخليفة إليه، وكانت خِلعتُه قميصَ قصب، وجُبَّةَ سِقْلاطون (¬2)، ودُرّاعةً سوداء، وعِمامةً سوداء مُشبكةً مُذهَبةً بذؤابة، وبغلةً بمركب ذهب، ودَواةً مُحلّاةً، وسيفًا تحت ركابه، وكتب عهده. وفيه عَزَلَ السلطانُ أبا الفتح عميد العراق، وولَّى أبا أحمد بن عبد الواحد بن الخضر النهاوندي، ولقَّبه رئيسَ العراقَين، وأذِنَ له في القبض على أبي الفتح عميد العراق، وبلَغَه، فالتجأ إلى دار الخليفة، فلم يقدروا عليه. وفي ربيع الآخر جهَّز السلطانُ العساكر إلى قلعة كُردكوه، وكان بها ابنُ عمه قُتُلْمِش، قد تحصَّن بها، وانضمَّ إليه التركمان والأتراك، فكسرَ عسكرَ السلطان، وأوقع بهم. وفيه دخل رئيس العراقَين بغداد، واجتاز بدار الخليفة، ولم يدخل إليها، ونزل في خيم تحت دار المملكة، ومنع أصحابه من العبور إلى الجانب الغربي، وأذِنَه الناس، ومدَّ يده إلى إقطاع الخليفة وغيره، وصرف أناسٌ من الهاشميين غلامين له، فبعث غلمانه في السفن، فرموا التاج بنُشّابَتيِن، وأخذوا زورق الخليفة فيه شعير، وانزعج الخليفة والناس، وجرت منه أسباب ثقُلَت على الخليفة، ثمَّ عُوتب، فلم يُفِدْ معه عتاب. وفي ربيع الآخر قَدِمت أرسلان خاتون إلى دار الخلافة ومعها عميد الملك وجماعة من الحُجّاب، ومعهم المهر والجهاز؛ لتحرير أمر الوصلة ببنت الخليفة. ذكر القصة: قد ذكرنا وصية خاتون للسلطان وإرساله لابن صاعد مع الكامل أبي الفوارس التميمي وغانم صاحب قريش وابن المعوج، ورَدَّ بكُتب ابن وثّاب تتضمن خدمتَه، وأن يقطع خطبة صاحب مصر من حَرّان والرقة، ويقيم الخطبة للخليفة والسلطان، فلمّا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من (ف). (¬2) سِقلاطون: نوع من الحرير المزركش بالذهب، والذي يُنسج منه في بغداد، ذو شهرة عظيمة. تكملة المعاجم لدوزي 6/ 96.

وصلنا إلى هَمَذان -وكان السلطان بها- اجتمعوا به، وأعطوه الكتب، وقدَّم التميمي هدية الخليفة وهي جُبَّةُ ديباج مُذْهبة مفرجة، وفَرَجيةَ نسيج بالذهب، وعمامةً مُشبكةً مُذْهبةً، وطرح الفَرَجية على كتفيه، وقاموا وحضروا من الغد في دار المملكة. وقيل: هذه الجُبَّة الكريمة الملتمَسة جهاز أُعِدَّ لها، وخدمةٌ عُجِّلَ بها، وكان فيها صدر بيت مُوزَر مفروش فيه سِماط ذهب، فيه تماثيل. قال عميد الملك: يوفي وزنه على أربع مئة ألف مثقال، وبيت مثله من السنجاب، قيل: قيمته مئة ألف دينار، وبيت سِمَّور مثله، وبيت أبو قَلَمُون (¬1)، وعدة بيوت من ذلك الجنس، وشيئًا كثيرًا من الجواهر واليواقيت، وانصرفوا، وبقي أبو محمد التميمي، فإنه خلا بعميد الملك، وفاوضه فيما ورد فيه، وعرض عليه التذكرة بعد المشافهة بالاستعفاء، فقال له: هذه الرسالة والتذكرة لا يَحسُنُ عرضُها، فإن الامتناع لا يَحسُنُ بعد السؤال والضراعة، ولا المطالبة بالبلاد والأموال، بإزاء الرغبة في الافتخار والجمال، ومتى طَرَقَ هذا سمعَ السلطان علم أن الرغبة في الشيء لا فيه، فربما تغيَّرت نيّته، وكان منه ما لا يؤثره، وهو يفعل في جواب الإجابة أكثرَ مما يُطلَبُ منه. فقال له التميمي: الأمر إليك، والتعويل عليك، فافعَلْ ما تراه. والآن له القول، فسكن عميد الملك إلى ذلك، وبنى عليه، وطالع السلطان بأنَّ الإجابة قد حصلت، فسُرَّ بذلك، وجمع الوجوه والأكابر وعرَّفهم، وذكر عميد الملك لهم في هذا فصلًا مضمونه: أن السلطان يذكر نعمة الله عنده، وبلوغَه ما لم يبلغه أحد من قبله، بسبب هذه الوصلة بأمير المؤمنين، فأظهرت الجماعةُ السرورَ، ثمَّ تقدَّم السلطان إلى عميد الملك بالمسير مع خاتون إلى بغداد متولي العقد، وبعث معها فرّوخًا الخادمَ الخاص، وأصحبها مئةَ ألف دينار من مهر بنت الخليفة، وآلاتِ ذهب وفضة، وقال: إن لم يُنعمِ الخليفةُ ويُجِبْ إلى تسليمها. فأخذ فروخ (¬2) برسم خدمتها، والقيام على باب حجرتها، وجهَّز معها جماعةً من الأكابر، فأُشير على عميد الملك بأن يأخذ خَطَّ التميمي بذلك، فراسله وقال: السلطانُ شاكرٌ لِما عرفته من خدمتك، وأُريد أن تكتب ¬

_ (¬1) أبو قَلَمون: ضرب من ثياب الروم يتلوَّن للعيون ألوانًا. مختار الصحاح (قلم). (¬2) في (ف): فأقعد فروخًا.

خطَّك بذلك لنقف عليه، فنتحقَّق خدمتك، ونختصَّ مجازاتك، وأكون أنا على بينةٍ من أمري. فلم يقدم على ذلك، وقال: الذي وردَتْ فيه ما تضمَّنَته التذكرة إن لم تقع الإجابة إلى الإعفاء من هذا الأمر الذي لم تَجْرِ به عادة. وكتب خطَّه بهذا، فثَقُل على عميد الملك ما فعله، وقد كان وقع تقصيرٌ في تفقُّده والجماعةَ الذين في صُحبته، وسببُه عميدُ الملك؛ بأن كان متغيِّظًا على الخليفة، وعَلِم أنه لا شيء في يده منه، وأنه لم يتمَّ مُرادُه حيث لم يكتب [خطَّه] (¬1) ليجعله حجة على الخليفة، وخاف في إتمام العزم في المضيّ إلى بغداد، فيكون بصورة عاجز، ولم يتمَّ الأمر على يده، فدافع بالمسير، وأمره السلطان فقال: قد كتبتُ إلى هزارسب حتى يحضر مئة ألف دينار، ولا يُخرج من الخزانة شيئًا [وإنّا على انتظاره. فقال له السلطان: لا تفعَلْ، وخذ من الخزانة]، فإنا يقبُح بِنا أن لا يكون في خزانتنا ما نصرفه في هذا الأمر. فلمّا بطل ذلك وضع الأمراء والحُجّاب الذين أمرهم بالمسير إلى بغداد، فراسل السلطان وقال: هوذا يُنفِذُنا إلى الخليفة في هذه الوصلة، فما الثقة بأنّه يفعلها ويُسلّم ابنته إلينا، وربما لم يفعل فَعُدْنا وما قضينا حاجتَه، وصار من ذلك قباحةً وسُبَّةً. فقال: إنْ فعلَ فذاك، وإن لم يفعل فعودوا. وقد كان قال في أثناء ذلك: يجب أن تضرب عن هذا الأمر صفحًا، فإنما أردنا أن نعلم رأيَ الخليفة فينا، وموضِعَنا عنده، وتُقدِّمَ بتسريح الرسل. ثم عدل عن ذلك، ورجع فتمَّم العزم الأوّل، وأطلق للرسل ما لم يكن على قدر أملهم، ولا افتقدهم ولا رآهم إلا يومًا واحدًا وهو الأول، وأما قريش فذكره عند الملك بالقبيح، ونسبه إلى الغدر الصريح، ونهبِ دار الخلافة، ولا بُدَّ من مقابلته على فعلِه وطردِه عن أعماله، ثم جاءه خبرُ وفاته في أثناء ذلك، وأما ابنُ وثّاب فأجابه إلى ما التمسه، وسار عميد الملك والأمراء والحُجّاب وأرسلان خاتون والقضاة والشهود فوصلوا بغداد يوم الخميس، وخرج أمين الدولة ابن دارست إلى النهروان، والتقى عميدَ الملك وخدَمَه، وجاء عميد الملك فجلس على باب الري إلى أن جاءت خاتون، ودخل معها دارها، وانصرف إلى دار المملكة، فنزل بها، ولم يَعْلَم بالديوان، وأنفذ من وقته إلى العميد أبي الفتح وهو بدار ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (ف).

الخليفة، وبعث إليه بخاتمه، فجاء فعاتبه وقال: أكلتَ ضمان بغداد سنة ولم توفِ دينارًا وتعتصم بدار الخليفة؟ ثمَّ وكَّلَ به، فشفع الخليفةُ فيه وخاتون، فأزال عنه التوكيل أيامًا، ثم قبض عليه وقيَّده ثم ضربه، وبقي في الاعتقال إلى خدمةٍ بألف دينار، وضمِنَه سُرْخاب، وحمله إلى باب السلطان، فلمّا كان يوم الاثنين لأربع بَقِين من جمادى الأولى حضر إلى بيت النّوبة وفيه أبو الفتح بن دارست، وأنهى إلى الخليفة حضورَه وحضورَ الجماعة الذين معه، فقيل: النهار قد انصرف، والوقت قد أزف، ويكون يومًا آخر. فنهض عميد الملك ولم يعُدْ، وظهر من ابن دارست في حقه تقصيرٌ، وبعث عميدُ الملك إلى أرسلان خاتون في خطاب الخليفة في معنى الوصلة، فخاطَبتْه، وبان له أنَّ الشروط التي شرطها مع التميمي، والاقتراحات لم يكن فيها جوابٌ مُحرَّر، وجرى كلام طويلٌ حاصلُه أنَّ الخليفة قال: إن أُعفيتَ من هذا الأمر، وإلَّا خرجتَ من البلد. وأطلق عميدُ الملك لسانَه، وأرعدَ وأبرق، فقال: قد كان يجب أن يقع الامتناع الكُلِّي من الأول، ولا يكون اقتراح، وهذا الامتناع سعى في دمي مع السلطان. ثم أظهر عميدُ الملك الغضبَ، وبعثَ خيمةً ضربها بالنهروان، وعزم على الخروج، فسأله أبو منصور بن يوسف وقاضي القضاة التوقُّفَ ويُكاتبا الخليفة، وخوَّفاه وأرهباه، وساق الأمرَ إلى العقد على أن يشهد عميد الملك وقاضي قضاة الري على نفوسهما أن لا يطلُبا الجهة إلى أربع سنين، وأفتى الحنفيُّون بأن العقد صحيحٌ والشرط باطل، وأفتى الشافعيون بأن العقد باطلٌ إذا دخله شرط، فرجع عن الإجابة. ووصل عميد الملك إلى الخليفة، فوعظه ومنعه ممَّا قد لجَّ فيه، وقال: أنا أردُّ هذا الأمر إلى رأيك وديانتك، وقد علمتَ ما فيه من الوهم علي بني العباس، ولم تجْرِ لهم به عادة، واتفق أن كتاب السلطان وصل إلى عميد الملك يأمره بالرفق بالخليفة، وأن لا يكون خطابُه إلا على الوجه الجميل، بسبب أنَّ كتابًا كُتب من الديوان إلى خُمارتِكين الطُّغْرُلْبي يشكو -فيما يبدو- من عميد الملك، واطّلاع السلطان عليه، وكتب الطُّغْرُلْبي إلى عميد الملك أنَّ السلطان غيرُ مؤثرٍ لشيء مما جرى، ولا يلزم الخليفةَ هذا الحال، فسكن الخليفةُ واطمأنَّ، وكتب عميد الملك إلى السلطان يستأذنه فيما يفعل، وأقام يرعد ويبرق، والخليفةُ يحتمله، واجتاز يومًا ومعه ابن دارست على مسجد وعلى بابه

مكتوب: معاوية خال علي، فأنكر ذلك، وأمر بعضَ الغلمان بمَحْوه، وقال: أما تستحيون؟ تكتبون على مساجدكم هذا؟ ! ونال من معاوية وبني أمية، وعمل له ابن دارست دعوةً في الديوان، فشرع يأكل وغلمانه يتصافعون بمخادِّ الديوان حتى تقطَّعت. وحضر الديوان يومًا وعليه ثيابٌ بيض، وتحته بغلة بيضاء، فعُوتب، فقال: هذا هو السنة. وكان آخرُ الأمر أن الخليفة جلس في جمادى الآخرة، وحضر عميد الملك والقضاة وغيرهم، فشرع عميد الملك يستطعم الخليفة الكلام، ويقول: أسأل مولانا أمير المؤمنين الدخولَ بذِكْرِ ما شَرُفَ به ركن الدين الخادم الناصح العبد المخلص فيما رغب عنه (¬1)، وسمَتْ نفسه إليه؛ ليسمع الجماعة. فقال: نحن بنو العباس، خير الناس، فينا الإمامة والزعامة إلى يوم القيامة، من تمسَّك بنا أرشد واهتدى، ومن ناوأنا ضلَّ وغوى. وقد سطر في هذا المعنى ما فيه كفاية، وأسبلت الستارة، وانصرف عميد الملك مُغضَبًا، وسار عشية الثلاثاء السادس والعشرين من جمادى الآخرة طالبًا هَمَذان، ومعه المال والجواهر، وبقي الناس وَجِلين خائفين. قال محمد بن الصابئ: وقفتُ على ثَبْتِ ما حُمل إلى بغداد، وهو مئة ألف دينار، وألف ثوب من أجناس مختلفة، وألفان ومئتان وخمسون قطعة جوهر، ومئة وعشرون لؤلؤة، وزْنُ كلّ واحدة من مثقال إلى ثلاثة، ومن الياقوت الأحمر والبلخش ست مئة قطعة وأربعين قطعة، ومن الفيروزج ثمان مئة وخمسون قطعة، ومن الزُّمرُّد القصب الكبار ثمانية وعشرون قطعة، ومن المينا اثنتا عشرة قطعة، ومن الحُليِّ أربعة عشر قطعة، منها تاج مُرصَّع، وأسورةٌ وحلق وخواتيم وفصوص ياقوت وخلاخلة مُرصَّعة وسروج ومراكب وأواني وأخاوين وخوانجات وزبادي ذهب، كلّها مرصَّعة، وطسوتٌ وأباريق ونحوها، ومن الفُرش واللّحف والمخادّ والزلاول الروميات والطنافس الإبريسم وما أشبهها، ومن الجواري خمس وثلاثون جارية، كلُّ جارية على فرس بدَسْت ثياب وأطواق الذهب، وعشرون وصيفة، وثمانون من الخيل والبغال، ومئة ¬

_ (¬1) في (خ): فيما يرغب، والمثبت من (ف).

حمارة، ومن الخِيم والخرْكاوات شيء كثير، وكلُّ هذا جهاز خاتون زوجة السلطان ما زاد فيه السلطان إلا مئة ألف دينار. و[فيها] كَسفت الشمس في هذا الوقت على ساعتين من يوم الأربعاء جميعها، وظهرت الكواكب بأسرها بالنهار، وسقطت الطيور من طيرانها، وكان المنجمون قد حكموا أنه يبقى سدسُها، فلم يبقَ منها شيء، وكان انجلاؤها على أربع ساعات وكسر، ولم يكن الكسوف في غير بغداد وأقطارها (¬1). وفيه ضمن ابنُ فضلان ضياع الخليفة بثمانين ألف دينار، وكان ظالمًا، فجاء أهل الضياع يتظلمون، ومنعوا الخطيب من الخطبة وشعثوا (¬2) واستغاثوا، فلم يُجابوا بشيء، وثار العوام على ابن فضلان، وأرادوا قتله، فانهزم، فحمله الخدم إلى باب المراتب، [ونظم القاضي في القائم شعرًا يُذكر في ترجمته، وأوله: ولَّيتَ أمرَ المسلمين عدوَّهم]. وفي هذا الشهر برز السلطان من باب هَمَذان إلى الري، وأنفذ خُمارتِكين الطُّغْرُلْبي على مقدمته إلى الري، وحفظها من ابن عمه قُتُلْمِش، وعزم على المسير إليه بنفسه يحاصره في كُردكوه ونواحيها. وفي رجب ورد رسول عميد الملك إلى أبي نصر يذكر أن كتاب السلطان ورد عليه أن الخليفة إذا لم يُجِبْ إلى الوصلة التي سألناها فطالِبْه بتسليم أرسلان خاتون إليك، ورُدَّها إليَّ لأسير بنفسي إلى قتال قُتُلْمِش، وبعد انفصالي عنه أسيرُ بنفسي وأتولَّى الخطاب في هذا الباب، وأمر بترك المال والجهاز ببغداد، وأنه أراد العَوْدَ من الطريق، فخاف أن لا ينضبط له العسكر إذا عاد إلى بغداد للنُّفرة الواقعة بين الخليفة والسلطان، ويقول: وقد أعدتُ هذا الرسول لنقل خاتون إلى دار المملكة إلى حين اجتماعي بالسلطان وإصلاح هذه القضية، وكاتب أرسلان خاتون بمثل ذلك، فازداد الانزعاجُ، ودافع الخليفةُ عن الجواب، وشرع رئيس العراقَين في خرق الهيبة والحشمة، وهجم ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 16/ 68 - 69. (¬2) في (م 1): وشفعوا. ولعلها: وشغبوا، من الشغب.

دار الخليفة مرارًا، وأخذ من التجأ إليها، وقبض على ابن مهدويه مُقدَّم الأنبار الذي بعثه الخليفة، والعمامة واللحاف من تحت تاج الخليفة، والخليفة يشاهده، فاستغاث بالخدم الذين كانوا على الرَّوشن، فلم يُغنوا عنه، وعاقبه وأخذ خطَّه بمال، فأنفذ الخليفة منصور بن يوسف إليه، واستعظم ما جرى، ولطف به، ورفق حتى خلصه من يده، وأدخل يده في الإقطاعات للخليفة والحاشية والخدم، وطالبهم بما أخذ منهم، فجاء السوادية إلى تحت التاج، واستغاثوا وقالوا: إمّا أن تدفعَ عنا المطالبة أو ترُدَّ ما أخذتَ. وسار (¬1) رئيس العراقَين بالناس السيرة الجميلة، وجلس للمظالم بنفسه، وأباد المفسدين، واطَّرح كل لذة وراحة، حتى أمنت الطرق في البلد وجميع السواد، وصار الرجال والنساء يمشون في الليل والنهار كيف ما شاؤوا، وكفَّ (¬2) أذى العجم عن الناس، وأقام الطرق للخُفراء، فدرَّت القوافل (¬3)، وكثُرت واتسعت الأرزاق، وماتت بعض المغنيات فحُمِلَتْ تركتُها إلى داره، فقال: ما هذه؟ فأخبروه، فقال: ردُّوها على أهلها. ونادى أن السلطان قد ردَّ المواريث الحشرية إلى ذوي الأرحام، واتفق أنه مات إنسان وله بنت وخلف ثلاثة آلاف دينار، فقيل له: إن السلطان يستحقُّ النصف. فقال: بالأمس نادينا بأمر، واليوم ننقضُه، ردّوا عليها مال أبيها. واتَّفق في هذا اليوم أنَّ امرأةً ماتت بالحريم الخليفي، وخلفت بنتًا وخزانةً فارغةً، فاعترضها ابن العطار الناظر في المواريث من قِبل ديوان الخليفة، فباع الخزانة بدينار ونصف، فأعطى البنت خمس عشرة قيراطًا، وأخذ الباقي، فقال الناس: ياللهِ العجب من التفاوت بين الفعلين. وأرَّخوا ذلك، وضُرب الدراهم، ورُفع التعاملُ بالقراضة، وكان ذلك قد أعيى الوزير قبلَه ولم يراقب خليلًا في حق يتوجَّه عليه، ولم يُغْضِ عن صديق في رخصة تقع منه، ورفع عدة مكوس، فاتصلت الألسن بالدعاء له، وكانت سيرته وسياسته شبيهةً بسيرة ¬

_ (¬1) قبلها في (م) و (م 1) زيادة: وفيها توفي رئيس العراقيين أبو أحمد النهاوندي. (¬2) في (م) و (م 1): وأوكف. (¬3) في (م) و (م 1): وأقام الخفراء بدرب القوافل.

عميد الجيوش، ومخالفةً لما عهد وعرف، وعمرت بغداد من الجانبين، وكان ميله إلى عمارة الجانب الغربي أكثرَ؛ لخرابه، وكانت أيامُه نعمة من الله؛ لأنه ورد بعد الحرب والفتن والخوف والحريق والنهب. وقد حكى (¬1) محمد بن هلال [الصابئ في "تاريخه" قضايا عجيبة، منها أنه قال]: حضرتُ يومًا عنده وهو على رَوْشن داره في قصر عيسى ينظر إلى دجلة، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم]. فقلت: ما لَكَ؟ فقال: تعال وانظُرْ. فجئتُ، فإذا المقتولُ تحت داره غريقٌ يدور ولا يبرح. فقال: هذا يستغيث بي على من قتله، ولا أدري ما أصنع في أمره. فقلت: سعادتُكَ زائدةٌ، ونيّتكَ جميلة، وطويّتكَ سليمةٌ، وما أظنُّ الأمر يخفى عليك. فتقدم بإخراج المقتول وتجهيزه ودفنه، وانصرفتُ، فلما كان بعد أيام حضرتُ عنده زائرًا على عادتي، فقال لي: وجدتُ قاتله. قلتُ: وأين هو؟ قال: هم ثلاثة في الاعتقال. فأحضرهم وهم أكراد، فاستنطقهم، فأقرّوا بقتله، فقال: إنما أخَّرتُ قتلهم حتى تسمع إقرارهم، ثم أمر بقتلهم فقُتِلوا، فقلت: كيف وقعوا لك وهذا أمر لا يمكن البحث عنه ولا الاطِّلاع عليه؟ قال: بعثتُ إلى جميع النواحي العليا [إلى تكريت] أسأل، فلم أقِف له على خبر، فأحضرتُ أهلَه، وقلت لهم: حدِّثوني عنه. قالوا: خرج في اليوم الفلاني لبعض حوائجه ولم يَعُدْ. قلت: هل تعرفون له عدوًا [أو تتَّهمون به أحدًا؟ ] قالوا: قد كان بينه وبين قوم من الأكراد ينزلون بقُرْبنا سَواءٌ (¬2)، فإن كان دُهِيَ (¬3) فالظاهر أنه منهم. فأنفذتُ إلى الأكراد المذكورين، فسألتهم عنه، فتغيَّروا، فقرَّرتُهم، فأقرُّوا، وأنعم اللهُ عليَّ بإظهار ذلك على يدي. ومنها أنه كان ببغداد رجلٌ أعجميٌّ يعرف بأميرك، كان يهجم دور الناس نهارًا، ويأخذ أموالهم، وكان يؤدي إلى عميد العراق كلَّ يوم دينارًا [وعميد العراق هو الذي غرقه البساسيري]، فدخل أميرك على صيرفي وأخذ كيسه وفيه ذهب، فلمّا أصبح الصيرفي استغاث وضجَّ، وكانت دارُه إلى جانب دار قاضي القضاة ابن الدامغاني، فلم ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): قال، والمثبت من (م) و (م 1) وهو الأليق بالسياق. (¬2) السَّواء: الخَلَّة القبيحة. المعجم الوسيط (سوأ). (¬3) دُهي: أُصيب بداهية، والداهية هنا: الأمر المنكر العظيم. المعجم الوسيط (دهي).

يشعر بأميرك إلا وقد قبض على يده وقال: ما لَكَ؟ أنا أخذتُ خرقتك وفيه بهرجٌ، وأريد [أن] أحملك إلى عميد العراق، وأضع الخرقة بين يديه، ويرى ضَرْبَكَ البُهرج. فخاف الصيرفيُّ، وقال: يا أخي، أنت في حِل من الخرقة. وهو يقول: لا واللهِ، وما أُفارقُكَ إلى عند العميد. فاستغاث بأصحاب القاضي، فسألوا أميرك فيه، حتى أخذ منه خمسة دنانير والخرقة ومضى، ولمّا ولي رئيسُ العراقيين بلغه خبر العجمي أميرك، فأخذه [ليلًا] [فغرقه] ولم يُطلِعْ أحدًا على خبره، فأمن الناس. وفي يوم الخميس لأربعٍ بَقِينَ من رجب خلع الخليفة على طراد الزينبي، وردَّ إليه نقابة العباسيين، فانحدر إلى البصرة، واستخلف ببغداد أخاه أبا طالب، وخلع بعد ذلك، فأقام على أبي الفتح أسامة بن أبي عبد الله أحمد بن أبي طالب العلوي، وولّاه نقابة الطالبيين (¬1). وفي يوم الجمعة الثاني عشر من شعبان هرب خُمارتكِين الطُّغْرُلْبي وهو على كُردكوه يحاصر قُتُلْمِش. ذكر السبب: كان السلطان مشغوفًا به حتى خَصاه، وكان يدخل معه على خاتون؛ لقلة صبره عنه، فاستفحل أمرُه، وصار الحُجّاب والأمراء يَقِفون على رأسه، وكان عميد الملك يحسده لقربه من السلطان، ولمّا شغب الحُجّاب والغلمان على السلطان عند انصرافه من توريز، خرج إليهم، وأزال شغبهم، فأطاعوه وتفرَّقوا، وقيل للسلطان: إن الذي فعلوه بمواطأةٍ منهم، فخلع عليه، وزاد في إقطاعه قِرْمِيسين وقريةً زيادة على ما يُعهد منه، ثم اطَّلع على ما في طوية السلطان له، فاستشعر منه، وسار إلى قِرْمِيسين -وكان قريبًا منها رجلٌ كرديٌّ يُقال له: سعدُ وحكان- في قِلاع (¬2) وقد قطع الطُّرُق، وأخاف السُّبُل، وقتل من أصحاب السلطان جماعةً وفي قلب السلطان منه شيء عظيم، فاتَّفق لخُمارتِكِين من السعادة أنَّ سعدوحكان لمّا بلغه قربُه منه نزل إليه مستهينًا به، مكشوفَ ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 16/ 69 - 70. (¬2) القِلاع؛ جمع قِلْع: وهو شراع السفينة. المعجم الوسيط (قلع).

الرأس، بقميص رومي، فقاتله، فاستظهر عليه سعدوحكان، فجاءه سهم عائر فذبحه، واستولى خُمارتِكِين على أصحابه وقلاعه، وأنفذ رأسه إلى السلطان وأقام بمكانه مدافعًا مقاطعًا، وبعث السلطانُ عميدَ الملك إلى بغداد، فاجتاز به، وقال له: أنا ماضٍ إلى بغداد، قد خلا السلطان بمن يأنس به، ويجب أن تعود إليه وتكون في خدمته، فربما طال تأخّري عنه. وتحالفا وتعاقدا، وسار عميد الملك إلى بغداد، وخُمارتِكِين إلى السلطان، ولمّا ورد عميدُ الملك بغداد ظهر له أنَّ بين خُمارتِكِين وبين أبي تراب بن الأثيري صاحب الخليفة مكاتباتٍ، يقول فيها خُمارتِكِين: إنَّ السلطان ما يُؤثر أن ينقل على الخليفة، وإنما عميد الملك يفعل هذا ليتقرب إلى السلطان، ولمّا عاد عميد العراق إلى السلطان عرَّفه ذلك، وأن مكاتباته إلى ابن الأثيري منعت الخليفة من الإجابة إلى الوصلة، واستشهد على ذلك بأشياء أثبتت في نفس السلطان ذلك، وبلغ الطّغْرُلْبي ذلك وأنَّ السلطان قد تغيَّر عليه، وكان السلطان يحاصر القلعة التي فيها قُتُلْمِش، فهرب الطُّغْرُلْبي في شعبان في ستةٍ من غلمانه، ومعه من الجَمّازات (¬1) والخيل ما استظهر به، فأرسل السلطان ابنابجيل خلفه، وكتب إلى البلاد بخبره والتحرُّز منه والتلطف في أخذه، وكوتب رئيس العراقيين [بذلك، ونسب عميد الملك هربه إلى أبي تراب بن الأثيري، وأن الخليفة علم به، وكان في كتاب السلطان إلى رئيس العراقيين]: وهذا جرى من الخليفة الذي قتلتُ أخي في خدمتِه، وأنفقتُ أموالي في نصرتِه، وأهلكتُ خواصي وحاشيتي وعسكري في محبَّتِه، أن يُخبِّب مملوكي، ويُفسد نظامي، ويفعل بي ما فعل، ثم تقدم إلى الرئيس بقبض ما في يد الخليفة ويد الحاشية من الإقطاعات، وبترك ما كان في أيام القادر، وأن يطالبه بتسليم أبي تراب المهتمّ بخُمارتكِين، فحضر الرئيس ببيت النُّوبة، وعرض ما أُنهي إليه، فقال الخليفة: أمَّا الإقطاعات فبين يديكم، وأما ابن الأثيري فليس لِما نُسِبَ إليه أصلٌ ولا حقيقة، ويحضر قاضي القضاة فنستحلفه بالأيمان التي تُبرئ ساحته، فأما المطالبة بتسليم ¬

_ (¬1) الجمَّازات؛ جمع جمَّازة: وهي مركب سريع يتخذه الناس في المدن. المعجم الوسيط (جمز).

خواصنا وأصحابنا وثقاتنا ممَّا لا يفعله، وتقدم لكم. فانزعج الناس وخافوا، وتوقَّفَ الخليفةُ، وفعل الرئيس ما أمره به السلطان، وأما خُمارتكِين فإن ابنابجيل تبعه، فسلك طريقًا أتلفت (¬1) جَمَّازاته وخيله، وبقي مع خُمارتِكِين فرسٌ واحدٌ وغلامان، فقصر به فرسُه، ووصل إلى ناحية بِيَزْدَجَرد، وكان بها خادم كان قد ضربه قديمًا وكسر يده وحنق عليه، فقال خُمارتكِين الطّغْرُلْبي للغلامين: ادخُلا فاشتريا لي فرسًا غيرَ هذا. ونام على سطح، فدخلا، فرآهما الخادم، فعرفهما، فقال: ما الذي تصنعان ها هنا؟ فاختلف كلامُهما، فقتلَ أحدَهما. وقال للآخر: اصدُقْني وإلا ألحقتُكَ به. فقال: نحن مع الطّغْرُلْبي. ودلَّه، فجاء وهو نائم فقيَّده، وقتل الغِلمان الذين كانوا معه، ووصل ابنابجيل في ذلك اليوم إلى يَزْدَجَرد، فتسلَّمه وعاد به إلى السلطان، فقام أولاد إبراهيم ينّال وقالوا: هذا قتل أبانا، ونسأل تسليمه إلينا. فسلَّمه إليهم بإشارة عميد الملك، فقتلوه، وجاؤوا برأسه إلى السلطان [وسنُّه نيِّف وعشرون سنة. وفي ذي القعدة كتب السلطان] (¬2) إلى رئيس الرؤساء كتابًا يتضمن استعمال القبيح في حقِّ الخليفة، وخرقِ الهيبة، ورفعِ الحشمة، وإلى أرسلان خاتون بالانفصال عن دار الخليفة إلى دار المملكة إلى حين يَرِدُ من يسير معها إلى السلطان، وشرع رئيس العراقَين في أخذ أصحاب الخليفة من داره ومصادراتهم، ومدَّ يده إلى الجوالي، وكان مغلُّها في كل سنة ألفًا وخمسَ مئة دينار، وكانت داخلةً في إقطاع الخليفة، فصعُبَ عليه ذلك، فراسل رئيس العراقَين بأبي منصور بن يوسف وقال: إن ركن الدين ما جعل هذه لنا فيأخذها منا، وهذا أصل من أصول الشريعة تتعلَّق بنا فلا يجوز صرفُه عنا. فقال الرئيس: فهو ذا أُخاطر بنفسي مع سلطاني في خدمة الخليفة، وخلفي أعداء ينقلون إلى السلطان عني أنني مقصِّرٌ فيما أعتمده في حقِّ الخليفة، وقد كنتُ أرجو أن الأمر ينصلح، وما أراه إلا قد تفاقم، وتزايدت الوحشة، والكتب واردةٌ بكل ما يزيد الوحشة والنُّفرة. فقال له ابن يوسف: أفرِجْ عنا، فنحن في تدبير أمر الوصلة، ونريد أن نراسل السلطان فيها. فرفع يده. ¬

_ (¬1) في (خ): قلعت، والمثبت من (ف). (¬2) ما بين حاصرتين من (ف).

الأمير أحمد بن مروان

وفيها تُوفِّي الأمير أحمد بن مروان أبو نصر، الكردي، أمير ميَّافارقين وديار بكر. ذِكْرُ طرف من أخباره: قد ذكرنا بداية أمرهم ومقتل أخاه ممهد الدولة في سنة إحدى وأربع مئة، وإقامة أحمد مَقامه، ولقَّبه القادرُ نصرَ الدولة، واستولى على ديار بكر وميّافارقين وله اثنتان وعشرون سنة، فأقام واليًا ثلاثًا وخمسين سنة، وأحسن السيرة، وعمر الثغور وحصَّنها، وأمنت (¬1) الرعية في زمانه، ووَزَر له أبو القاسم المغربي مرتين، وعنده مات، ووَزَر له فخر الدولة محمد بن جَهير، وكان عنده الحبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بُويه، اشتراه من ورثة الملك أبي منصور بن أبي طاهر، وأنفذَه إلى طُغْرُلْبك مع هدايا كثيرة تساوي ثلاث مئة ألف دينار، ومعها مئةُ ألف دينار عينًا، وهذا الحبل الياقوت هو الذي قدَّمه السلطان للخليفة لمّا نزل من الحديثة واجتمع به في البهو، وكان أبو نصر مُداريًا للملوك، إذا قصده عدوّ يقول: كم مقدار ما تنفق لردِّه؟ فإذا قيل له: مئة ألف دينار مثلًا، بعث بها إلى العدو ليدفع شرَّه عنه، وأمِنَ على عسكره من المخاطرة. وكان جوادًا سخيًّا، والرعية معه آمنون على أموالهم وحريمهم، وتزوَّج عدة من بنات الملوك، ولم يتنعَّم أحد من الملوك مثل تنعُّمه، كان في قصره ثلاثةُ آلاف جارية عمالات، يبلغ شِرى الواحدة من ألف دينار إلى خمسة عشر ألف دينار، وملَكَ خمسَ مئة سُرِّية سوى توابعهنَّ، وخمسَ مئة خادم، وكان في مجلسه من الأواني والآلات والجواهر ما تزيد قيمته على مئتي ألف دينار، ورأى من الالتذاذ بالدنيا والراحة ما لم يرَه غيرُه، ورخُصتِ الأسعارُ في زمانه، وتظاهر الناس بالأموال، ووفد إليه الشعراء، وسكن عنده العلماء والزُّهّاد، وبلغه أن الطيور تخرج من الجبال إلى القرى في الشتاء فتُصاد، فتقدَّم بفتح الأَهْراء (¬2)، وأن يُحمَلَ إليها من الحَبِّ ما يُشبِعُها، فكانت الطيور في ضيافته طول عمره، ولا يتجاسر أحدٌ أن يصيد طيرًا. ¬

_ (¬1) في (ف): وامتنعت. (¬2) الأهراء؛ جمع هُرْي: وهو البيت الكبير الضخم الذي يجمع فيه مال السلطان. اللسان (هرا).

وبعث له القائم بأمر الله الخِلَعَ السنيَّة، وفيها الطوق والسواران ما عدا التاج، وكان فيها فرش بمركب ذهب من مراكب الخليفة، وجاءه من مصر هدايا وتحف وخِلَعٌ، ولقَّبَه صاحبُ مصر عزَّ الدولة، وجاءه رسول ملك الروم بالهدايا والتُّحف، واجتمع الكلُّ عنده، فأحضرهم وجلس في قصره، وأجلس رُسُلَ الخليفة عن يمينه، ورُسُلَ صاحب مصر عن شماله، والروميَّ بين يديه، ولبس خلعةَ الخليفة، وأعطى الرسل عطاءً عظيمًا، ومالًا كثيرًا، وخِلَعًا سنيةً، فانصرفوا شاكرين. وأوقف الأوقاف على أبواب البر والصدقات، وأدار رسوم ميّافارقين، وقصده الشعراء، وامتدحه التهاميُّ بقصائد. قال المصنف رحمه الله: ورأيتُ في "تاريخ ميّافارقين" أنَّ الملك العزيز بن بُوَيه وفد عليه، وقدَّمَ له الحبل الأحمر الياقوت، ومصحفًا بخطِّ عليٍّ - عليه السلام -، وقال له: قد حملتُ إليك الدنيا والآخرة. فقبِلَ الجميع، وقدَّم له أموالًا كثيرة، وتُحفًا عظيمةً، وأنزله بأسعرد، فأقام بها إلى أن توفي مُكرَّمًا، وحُمِلَ تابوتُه إلى الكوفة، فدفنه عند أهله، وكان أبو نصر مع لذّاته واشتغاله بما كان فيه لم تفُتْه صلاة الفجر في وقتها طولَ عمره، ولا ظلمَ أحدًا من خلق الله تعالى، ولا تعدَّى على أحد، ولا مدَّ عينيه إلى حريم أحد، ولا خلا بامرأة ليست له بمحرم. وقيل لبعض أصحابه: قد قيل: إن أيام نصر الدولة كانت ثلاثًا وخمسين سنة. فقال: لا، بل مئة وستُّ سنين. قيل: وكيف؟ قال: لأن لياليه كانت أحسنَ من أيامها. ومن واقعاته أنه قدم عليه مُنجِّمٌ من بلاد الهند، وكان حاذقًا، فأنزله وأكرمه، وقال له يومًا: أيها الأمير، يخرج على دولتك بعدك رجلٌ قد أحسنتَ إليه وأكرمتَه، فيأخذ الملك من ولدك، ويقلع البيتَ، ولا يلبَثُ إلا مدةً يسيرة ويؤخذُ منه. فأفكر ساعةً، وكان الوزيرُ ابنُ جَهير واقفًا على رأسه، فرفع رأسَه إلى الوزير وقال: إن كان هذا صحيحًا فهو هذا الشيخ. فقبَّل ابنُ جَهير الأرض، وقال: اللهَ اللهَ يا مولانا، ومن أنا؟ قال: بلى، إن ملكتَ فأحسِنْ إلى ولدي. وكان ابن جَهير قد اطَّلع على الخزائن والذخائر وارتفاع البلاد، فقال ابن جَهير لبعض أصحابه من يوم ما قال المنجِّم ما قال: وقع في قلبي صِحَّةُ كلامه، فكان كما قال. قال: فلمّا مات الأمير في تاسع عشرين

علي بن محمد بن يحيى

شوال من هذه السنة عن سبع وسبعين سنة -وقيل: تجاوز الثمانين- ودُفِنَ بجامع المحدثة بميَّافارقين، ثمَّ بنَتْ له ابنتُه ستُّ الملك (¬1) قبةً إلى جانب الجامع، ونُقِلَ إليها، وكان قد عهد إلى ولده نظام الدين أبي القاسم نصر بن أحمد، وكان أخوه أبو الحسن سعيد الكبير، وابنُ جَهير هو الوزير، فبايع ابنُ جَهير والناسُ أبا القاسم نصر بن أحمد، واستقرَّ الأمرُ له، ولم ينازعه أحدٌ من بني أعمامه وإخوته، ثم نازعه أخوه سعيد، فلم يقدِر عليه، فسار إلى باب السلطان طُغْرُلبَك وشكا إليه، فأرسل معه جيشًا خمسة آلاف فارس، فنزلوا على باب ميّافارقين، فخرج الوزير ابنُ جَهير إلى سعيد فأصلح أمره، وأعطاه مالًا، ووفَّقَ بينه وبين أخيه نظام الدين، وصرف عسكرَ السلطان، وأقام سعيدٌ عند أخيه مُكرَّمًا، ثم بعث القائمُ إلى نظام الدين في سنة خمس وخمسين وأربع مئة -وقيل: سنة أربع وخمسين- يستدعي إليه الوزير ابن جَهير، فجهَّزه في أحسن زيّ وأجمل جهاز، وبعث معه بالتُّحف والهدايا والأموال، فاستوزَره الخليفة، فكان بنو مروان يفتخرون ويقولون: وَزَر لنا ابنُ المغربي وزيرُ الحاكم خليفةُ مصر، ووَزَر وزيرُنا للخليفة. ثم كان زوال أمر بني مروان على يد ابن جَهير سنة سبع وسبعين وأربع مئة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وانفصل سعيد عن أخيه نظام الدين، ومضى إلى ألب أرسلان، وكان طُغْرُلْبَك قد مات (¬2). [وفيها تُوفِّي] علي بن محمد بن يحيى (¬3) أبو القاسم، السُّلمي، الدمشقي، صاحب دويرة الصوفية بدمشق، ويعرف بالسُّمَيساطي، وقفها على الصوفية، ووقف علوَّها على الجامع [قال الحافظ ابن عساكر]: ووقف أكثرَ أمواله على أبواب البر، وكانت وفاته عاشر ربيع الآخر، ودُفن بهذه الدار [قلت: وقد رأيت] قبره عند السقاية، [والواجب أن يكون عند المحراب؛ لأنه أجدر بتحصيل الأجر والثواب]، وزعم قومٌ أنه أوصى أن يُدفن هناك تواضعًا. ¬

_ (¬1) في (خ): الملوك، والمثبت من (ف). (¬2) الترجمة مختصرة في المنتظم 16/ 70 - 71. (¬3) تاريخ دمشق 12/ 534 - 535 (مخطوط- نشر دار البشير).

السنة الرابعة والخمسون وأربع مئة

[قال الحافظ: حدَّث عن أبيه وجده، وقد روى الحديث عن عثمان بن علّان الذهبي وغيره، وروى عن السُّميساطي جماعةٌ منهم الخطيب أبو بكر وأبو القاسم النسيب وغيرُهما]، وأثنى عليه ابن ماكولا وقال: كان متقدمًا في علم الهيئة والهندسة، فاضلًا في فنون كثيرة. السنة الرابعة والخمسون وأربع مئة فيها في المُحرَّم ورد الخبر بأن صاحب مصر قبض على أبي الفرج بن المغربي وزيره، [واستوزر أبا الفرج البابلي، ثم ردَّ ابن المغربي]، إلى كتابة الجيش، وهي رتبته قبل الوزارة، ولم يكن قبله وزير يُعزَلُ فيعود إلى قديم تصرُّفه. وفيه ولد صاحِبُ مصر الأمير مكين الدين. وفي يوم الخميس تاسع عشر صفر خرج أبو الغنائم بن المحلبان إلى باب السلطان طُغْرُلْبَك بإجابة الخليفة إلى الوصلة. ذكر السبب: كانت الكتب قد وردت من السلطان إلى بغداد وواسط والبصرة بإدخال اليد في إقطاع الخليفة والحاشية، وكانت الأطراف بتعديد ما فعل من الجميل دفعة [بعد دفعة] (¬1) وما كان من المقابلة من ردِّ عميد الملك وأعيان الدولة خائبين من الوصلة، وخرج الكلام إلى ما ينافي قانون الطاعة ومقتضى الخدمة وقطع المكاتبة إلى الخليفة، وكان من جملة ذلك كتاب إلى قاضي القضاة أبي عبد الله بن الدامغاني: من شاهنشاه المعظَّم ملك المشرق والمغرب، وذكر ما جرَتْ به العادة، وقال من جملته: وقاضي القضاة وإن كانت أوقاتُه مقصورة على العلم وتدريس الفقه فهو مندوبٌ إلى ما يؤدِّي إلى حسم الخلاف، وتمهيد أسباب الأسلاف، ولمَّا عاد الشيخ الجليل عميد الملك إلى حضرتنا شرح من حُسنِ سَمْتِه وهَدْيه وتجرُّدِه في إدراك ما طلبناه وخطبناه ما ازددنا ثقةً به، وهو يعلم أن تلك الوصلة لم تكن عن جفوة حتى يستوجبَ بها قبيحَ المكافأة على جميع ما قدَّمناه من المآثر، ولا يخفى ما قدَّمناه من أنواع الاهتمام، وأوحيناه من ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف)، والمنتظم 16/ 72.

الإنعام، ثم ما أظهرناه من التذلُّل والخضوع الذي كنَّا نطلبه قُربةً إلى الله تعالى، فعاد ذلك وبالًا علينا في الدنيا والآخرة، ولكنَّا واثقين من الله أن الله لا يُضيع جميلَ أفعالنا، ويرِي سوء المغبَّةِ لمن أضمر فينا سوءًا. وذكر كلامًا يقتضي التهديد والوعيد، فأُشير على الخليفة بتلافي هذا الأمر، وإلَّا بَعُدَ المرام، واتَّسع الخرق، فوقع التعيين على أبي الغنائم بن المحلبان، وأن يخرج إلى السلطان يستعطفه ويسترضيه، فقال: إن لم يحصل غرضُه من هذه الوصلة التي خطبها لم يكن قصدي له نافعًا، بل زائدًا في غيظه. فتوقَّف عن الجواب، فتأخَّر الخروج، وطالت الأيام، وزاد من رئيس العراقيين الاستقصاء في قبح الأفعال، وأشار القاضي والأعيان على الخليفة باستدراك الفارط، فأجاب وكتب وكالةً لعميد الملك، وأذِنَ لقاضي القضاة أبي عبد الله بن الدامَغاني وأبي منصور، وأوصلهما إليه، حتى شهدا عليه بما سمعاه، وخرج أبو الغنائم في التاريخ المذكور، وورد بعد خمسة أيام كتابٌ من السلطان مع ركابية بردِّ إقطاع الخليفة إليه، والاعتذار ممَّا جرى، وأن أبا نصر بن صاعد واصل بهدية ومشافهة، فطابت القلوب، ووقعت البشائر، وخلع على الركابية، وضُربت بين أيديهم الدبادب والبوقات، ورُفعت يد رئيس العِراقَين عن الإقطاع، وسُلِّم إلى وكلاء الخليفة، وكان في كتاب عميد الملك إلى رئيس العراقَين بأن الأمور عادت إلى أحسن ما كانت عليه، فبادرتُ بهذه الأحرف مبشرًا بأن تلك اللَّوثة التي ظهرت فيما يتعلق بوكلاء الدار العزيزة النبوية المقدسة -عمَرَها اللهُ ببقاء سيدنا ومولانا الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين- زالتْ بأسرها من غير واسطة، إلا بآرائه التي رآها مولانا السلطان، جريًا على كريم عادتِه، وخُلقِه وسجيَّتِه، ومراعاةً لما فعل في الدولة العباسية، واحترازًا من شماتة عدو أو مقال حاسد، مع ما ظهر من خُمارتِكين الخائن من العصيان، واستجلاب الخذلان، وقد عجل الله بروحه إلى النيران، في دار الهوان، فكان يظهر أن ما يفعله بإشارة الدار العزيزة، وقد أراح الله منه. وذكر كلامًا طويلًا، وقال في آخره: وعليك بالخدمة والوصية والتقدم إلى سائر الزعماء بالعراق بمثل ذلك، وكتابي هذا من جرجان غُرَّة ذي الحجة، والرايات القاهرة متوجهة نحو العراق، وبعدَ هذا يصل رئيس نيسابور أبو نصر محمد بن صاعد ومعه رسالة تتضمن الخدم والقربة، والسلام. فكتب الخليفة

إلى ابن المحلبان بالتوقف إلى حين وصول ابن صاعد؛ ليسمع رسالته، وردِّ الجواب بمقتضاها، [ورسمَ له طَيَّ ذلك وسَتْرَهُ] (¬1)، وورد عليه الأمر وهو بشهرزور، فأقام يتردَّد في أعمال بدر بن مهلهل، ويتلوَّم بكثرة المَدِّ (¬2) والثلوج، ثم ظهر في ساقه خرَّاج، فأظهر أنَّ مادةً نزلت فيه فمنعته من الركوب. وفي ربيع الأول السابع عشر من آذار ورد إلى بغداد سيلٌ عظيمٌ، ووقف الماء في الشوارع والدروب، ووقعت الحيطان، وجاءت ظلمات ورعود وبَردٌ كبار، في الواحدة نحو (¬3) الرطل فأكثر، فأهلِكَتِ الغلَّات والثمارُ، ودام بقية آذار ونيسان، ووردت الأخبار أن بالجبال وفارس والشام والجزيرة وجميع الدنيا ما هو أعظم من ذلك، ومطرت سنجار والجزيرة ثمانين يومًا مطرًا، ما رأوا شمسًا، وجاء السيل إلى بلد بدر بن مهلهل صاحب شَهْرزور، فأخذ حُلَّةً من الأكراد، فطرحها في تامَرَّا. وزادت دجلة بطالع السرطان سلخ ربيع الأول إحدى وعشرين ذراعًا، وكذا بلغت سنة سبع وستين وثلاث مئة، وفي أيام عضد الدولة، وفي سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة وغيرها، والكل بطالع السرطان، وغرقت بغداد من الجانب الشرقي، ودخل دار الخلافة، وخرج الخليفة ليلًا، وغرس القضيب النبوي في الماء، فكان تارةً ينقص وتارةً يزيد، وكان قبل هذا منتهى الزيادة ثمانية عشر ذراعًا، ودار الماء في شرقي بغداد على حلولا وتامَرَّا على الوحوش، فحصرهم فلم يكن لهم مسلك، فكان أهل السواد يسبحون فيأخذونهم قبضًا، ويحصل للواحد في اليوم مئتا رطل من اللحم (¬4). وفيها ورد الخبر بقبض [أبي] (¬5) العباس فضلويه بن علويه -زعيم الرعاة الشوانكار بنواحي شيراز- على الأمير أبي منصور فولاستون (¬6) - ابن الملك أبي كاليجار بن بُويه، ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): والمعاني طرفي مسيره، والمثبت من المنتظم. (¬2) المَدّ: السيل. المعجم الوسيط (مدد). (¬3) في (م) و (م 1): نصف. (¬4) الخبر بنحوه في المنتظم 16/ 74. (¬5) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (ف). (¬6) تحرف في النسختين (خ) و (ف) إلى: فولاشيزر.

والدته حراسويه- بباب شيراز، وقبلهما إبعاده أسفنديار أخا أبي منصور بن [أبي] كاليجار مكانه، وكان أبو منصور سفَّاكًا للدماء، قتل جماعةً؛ أبا سعد وبُويه أخويه، والعادلَ أبا منصور القَسْري، مدبِّرَ دولته، وقتل ولدَه برموزة، وعزم على قتل فضلويه، فعاجله فضلويه بتدبير الملك أبي كاليجار كالعادية. وفيها كانت وقعةٌ بين أبي المكارم مسلمة بن قريش بن بدران وعمه مُقْبِل بن بدران، وقد كان مُقْبِل (¬1) قد طلب الأمر لنفسه، واجتمع إليه خلق من الأكراد وغيرهم، وبخل مسلمة بالمال، والتقيا على الخابور في مكان يُعرف بالكوكب، فانهزم مسلمة وملَكَ الجزيرةُ مُقبِل، فبذل مسلمة المال، وعاد إلى عمه فهزمه، ثم اتفقا على أن يكون لمُقْبِل ثلث مَغَلِّ الموصل، ثم اجتمعا واصطلحا. وفي ربيع الآخر غلقت المواخِر ببغداد، ونادى رئيس العراقَين برفعها (¬2). وفيه ورد الخبر بمسير السلطان من جرجان إلى قلعة الكرم بِسَميران، وهي من القلاع التي لا ترام، وكان صاحبها خشتان بن ليمر بن المَرْزُبان سيئَ الطريقة، قبيحَ السيرة، فاستوحشَتْ زوجتُه منه، وشكَتْه إلى ابنه مسافر، فوجدَتْ عنده أكثر مما عندها، فوافقَتْه على تسليم القلعة، وتحالفا على ذلك، وتوقَّعا خروج خشتان إلى الصيد، وكان مسافرٌ ساكنًا في مكان آخر، فواعدَتْه عند خروج أبيه عن القلعة بقصدها، فخرج أبوه إلى الصيد، فأغلقتِ الباب، وجاء مسافر في الليل إلى مكان عيَّنَتْه، فاستقَتْه في زنبيل هي وجَواريها، فأصعدَتْه، فجلس مكان أبيه، وأخرجا مَنْ كان في الحبوس من الأسرى والرهائن، وكانوا عددًا كثيرًا، وخلعا على جماعة منهم، وراسلهما خشتان في إعادته، فلم يلتفِتا، فلما يئس صَعِدَ طُغْرُلْبَك وعرَّفه ما تمَّ عليه، وأطمعه في القلاع، وقال: إذا قَرُبْتَ منها اقبِضْ مَنْ فيها على الزوجة ومسافر، فسار السلطان، فحصرها من نواحيها، وأخرب العسكرُ بلادَها، فلم يلتفتا إليه، وطال مقامُه، فتراسلوا، واتفقوا على مئة ألف دينار وألف ثوب يأخذها السلطان، فرضي ورحل، وأخرج مسافر زوجة أبيه وصرفها إلى أهلها، ثم قُتِلَ مسافرٌ من بعد. ¬

_ (¬1) في النسخ هنا وفي الموضعين الآتيين: مقيبل، لكن اسمه مقبل كما في المصادر. (¬2) المواخر؛ جمع ماخور: وهو بيت الفسق. المعجم الوسيط (مخر).

وقال ناصر بن الحسين الأبهري العلوي: لمَّا أخذ مسافرٌ سَميران دار مملكة الروم، وهي على نصف من جبال الدَّيلم، وعليها يجري النهر المعروف بأسفيدروذ (¬1)، أنفذ خشتان لمَّا يئس من سَميران ابنَه نوحًا إلى حصن آخر كبير يُسمَّى القلعة من سَميران، على ثمانية فراسخ، ورسم له المقام فيه ليذهب هو إلى السلطان مستعينًا على ولده وزوجته، وجرى في ذلك ما قدَّمناه، ولم يبلغ خشتان غرضًا، ولحِقَه من الغمِّ والذُّلِّ ما أدَّاه إلى الموت في هذه السنة، وقصد مسافر القلعة وأخاه نوحًا في شهر رمضان سنة سبع وخمسين وأربع مئة، وحصره، وقاتله، فجاء مسافرًا في بعض الأيام سهمٌ فأثخنه، ووقع الإياس منه، فراسلوا أخاه نوحًا، واستحلفوه وسلَّموه إليه، فاعتقله، ثم قتله، وكان سبب تسليم أصحابه له قبحُ سيرته، وسفكُ الدماء من أصحابه، وتملَّك سَميران ولدُ مسافر، ومات طُغْرُلْبَك، وقام بعدَه ولده ألب أرسلان، فأراد إنفاذ من ينتهز الفرصة في تلك الأعمال، فسأله سُرْخاب بن كامرو الديلمي أمير ساوة أن يجعل أعمال الطرم مردودةً إليه، وأن ينتزعها من أولاد خشتان، وأرسل إلى نوح يتهدَّده وقال له: انزل إلى السلطان بأمان. فنزل، فقبض عليه، وجاء به إلى قلاع الطرم، وقال: سلِّموها. فلم يلتفتوا إلى سُرْخاب، ورجع إلى ساوة، ولم يظفر بطائل. وفي جمادى الأولى خرج رئيس العراقَين أبو أحمد النهاوندي إلى باب السلطان مستقيلًا من ولاية العراق، ولَحِقَ الناسَ عليه من الأسف والحزن ما لا حدَّ عليه، لما رأوا منه من الإحسان وحسن السيرة والهيبة، وبكوا عليه، ولقَّبه الخليفة ذو الكفايتين، واستحلف أصحابَه في البلد، وأكَّد الوصية عليهم بالرعية، وقد كان واصل المكاتبات إلى السلطان بالاستعفاء من النظر في العراق، وسأل أن يكون على الباب، فأجابه. ولمَّا طالت أيام ابن المحلبان ببلد شَهْرُزور وعرف السلطان، حرَّك الخليفة، فأنفذ كتابًا إلى أرسلان خاتون بالخروج من دار الخليفة إلى دار المملكة، ويتجهز إلى الري، فإنه مشتاق إليها، فأرسلت إلى الخليفة، فمنعها، وقال: ما السبب؟ فقيل: تأخَّر ابنُ ¬

_ (¬1) تحرفت في النسختين (خ) و (ف) إلى: بأسفيدرونة.

المحلبان. فقال: ما أخَّرناه إلا ليصل ابنُ صاعد، ويسمع رسالته، ويردَّ الجواب، ويكون نفوذُهما جميعًا، وأما إذا استشعرتم فنحن نأمر ابنَ المحلبان بالإتمام، وكتب إليه بالمسير إلى السلطان، فسار. وفي هذا الشهر جرت وقعةٌ بين مُعِزِّ الدولة (¬1) ثِمال بن صالح صاحب حلب، وبين الروم، أجملت عن قتل الروم وهزيمتهم، وسبب هذه الوقعة أنه كان لثِمال رسم على ملك الروم كلَّ سنة، مالٌ وثياب وتُحف، فلمَّا بعُدَ ثِمال عن حلب إلى مصر طمع صاحب الروم وقطع ذلك، فلمَّا عاد إلى حلب بعث وطلب الرسم، فجهز صاحب الروم العساكر إلى الشام، وجمع ثِمال بني كلب وغيرَهم، والتقوا على مكان (¬2) يقال له: أَرْتَاح (¬3)، وبعث ثمال أخاه عطية في مقدمته، واجتمعت إليه القبائل وبنو خفاجة، والتقَوا، فنُصروا على الروم، وكان بينهم وبين حلب ستة فراسخ، فانهزمت الروم، وقُتل أكثرُهم، وغنمهم، وفتح عِمّ (¬4) وأَرْتَاحَ، وانتهى إلى أنطاكية، وحصرها، وضاق بهم الشيء، فصالحوه، وأعطوه مالًا ورسمه، ورجع. ويقال: إن الجارية الحسناء من الروم بيعت بخمسة دنانير، وكذا الفرس الجواد. وفي رجب ملك قاروت بك بن داود بن أخي السلطان طُغْرُلْبَك مدينة شيراز ونواحيها، وتحصَّن فضلويه ببعض القلاع، وكان الديلم والأتراك يكرهون فضلويه لِما فعل بأبي منصور بن أبي كاليجار ووالدته، وكان قد كاتبوا قاروت بك بالمسير إلى شيراز، وقالوا: لا بُدَّ ما نقاتِلُك أيامًا فلا تخَفْ، فلما جاء وحَصَرَ البلد خرجوا إليه ثلاثة أيام، فقاتلوه، ثم سلَّموا إليه البلد، فأحسن إليهم، وخلع عليهم، وعدل في الناس، فأحبُّوه، وأطاعه أهل الأطراف وخطبوا له، وبعث بأسفنديار وأمه إلى كرمان، وأمَّا فضلويه فإنه لمَّا قرُبَ قاروت بك من شيراز مضى إلى موضع يُعرف (¬5) بكُفَيرة على ¬

_ (¬1) بعدها في (م) و (م 1) زيادة: وبين، والصواب عدم إثباتها. (¬2) العبارة في (م) و (م 1): والتقوا بمكان بحلب. (¬3) أَرْتاح: قرية من أعمال حلب بالقرب من حارم. بغية الطلب في تاريخ حلب 2/ 102 ومعجم البلدان 1/ 89. (¬4) تحرفت في (خ) إلى: عمر، والمثبت من (ف) و (م 1)، وعِمّ: قرية بين حلب وأنطاكية، ذات عيون وأشجار. معجم البلدان 3/ 157. (¬5) تحرفت في (خ) إلى: يكره.

خمس فراسخ من شيراز، ثم انتقل إلى جبال حصينة على خمسة عشر فرسخًا من شيراز، وسار خلفه قاروت بك، فحاربه، فهزمه قاروت بك، وقتل من أصحابه ست مئة رجل، وصعد إلى قلعة جَهْرَم، وهي في جبال منيعة ومضائق، وهي من أعمال قَسا على أربعين فرسخًا من شيراز، وعاد قاروت بك إلى شيراز، فأقام الخطبة للسلطان طُغْرُلْبَك، وبعث له هدايا، وكتب إليه بالفتح، وفي يوم الخميس الثالث عشر من شعبان كان العقد للسلطان على بنت الخليفة بظاهر تيزين. قال محمد بن هلال بن المحسن الصابئ: سألت أبا منصور بن يوسف عن شرح ما جرى، فأوقفني على رقعة كتبها إلى الخليفة، مضمونها بعد البسملة الشريفة: صبَّحَ اللهُ المواقف المقدسة النبوية الإمامية بالنعم والسعادات، والإقبال والبركات، واستجاب من العبد الخادم صالحَ الأدعية منها، كان مع الغلام الوارد من ابن المحلبان كتابٌ إلى الخادم، في عطفه مدرجٌ شرحُ ما جرى عليه الأمر في المعنى الذي خرج لأجله (¬1)، وقد أنفذته، عُطف عليه هذه الخدمة لتقف الموافق عليه، ومن العادة أن يسطر في التاريخ، ما هذه سبيله بعد أن يذكر ما جرت الحال عليه أولًا من الامتناع وما بذل من المال، وأنَّ الحال أفضَتْ إلى فساد الدولة والدين، وإن أذن للخادم أن يجتمع بمحمد بن الصابئ ويوقفه على المشروح، وبوافقه على ما ثنَّيتُه عنده في التاريخ فعل، والأمر أعلى إن شاء الله تعالى. وعلى رأس المسطور توقيع نسخته: وقفتُ على ما عرضتَه واستأمرتَ فيه، ويجب أن تقول له أن يكتب، ولمَّا كان من فعل اللعين البساسيري ما كان وانتهازه الفرصة فيمن انضوى إليه من الأجناد المطرودة عن مدينة السلام، وعَوْدِ ركن الدين إلى بلاده، وتشاغُلِه بقتال أخيه إبراهيم ينَّال حين شرد عن الطاعة، وفارق الجماعة، وأصغى إلى أباطيل البساسيري وأطماعه في الدولة والولاية ومضادة دار الخلافة، واقتضى حكم الاستظهار انتقال الإمام إلى الحديثة والمقام بها إلى أن تستقر الأمور، وورد ركن الدين إلى مدينة السلام، وعادت الخدمة الشريفة إلى مستقر سُدَّتها، وقُتِلَ اللعينُ البساسيري، وحُمِلَ رأسُه إلى الخزانة الإمامية، واقترح ركن الدين الإنافة به، ومقابلةَ ¬

_ (¬1) في (خ): لأهله، والمثبت من (ف).

خدمَتِه بما يبقى له فخرُه وجمالُه على الأعقاب، ويتخلَّد ذِكرُه مع الدهر والزمان، ورغب في الخدمة بتجميله بعقد على كريمتها، وعلم أن موضعه يقتضي كل إيجاب، وتردَّدت في ذلك أقوالٌ اختلفت، وبُذِلَ في مقابلة ذلك من الأموال والإقطاعات ما اشتمل مبلَغُه على ألف ألف دينار سوى الأواني المُرصَّعة، والمهد المُرصَّع، والمراكب المُرصَّعة بالجواهر الثمينة، وأُعيد جميعُه، ثم انساقتِ الحالُ إلى أن عقد العقد اسمًا من غير أن يكون اجتماع على أربع مئة درهم ودينار، ثم يساق الشرح على ما جرى منه، ونسأل الله التوفيق في جميع الأمور. قال ابن الصابئ: وأوقفني أبو منصور بن يوسف على المشروح، فكان مضمونه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لمَّا نزل العسكر بظاهر توريز اختير لإنجاز الأمر الرشيد الوقت المبارك السعيد، وهو بعد العصر من يوم الخميس ثالث عشر شعبان، ومُدَّ سِماطٌ عظيمٌ، واستدعيتُ عميدَ الملك جالسٌ (¬1) على باب السرادق السلطاني، وأكثر السِّماط تماثيلُ السُّكَّر، ومقدار ما يجوز منه نُشَّابه، فلمَّا رأى عميد الملك نهض وأظهر من إجلال الخدمة الشريفة ما يتجاوز الوصف، وأخذ بيدي وأجلسني في صدر السِّماط، والملوك والأمراء وُقوفٌ في الخدمة، والفيلةُ من جانِبَي السماط يحفظونه من النَّهب، ثم نُهِبَ بعد ذلك، وأُدخِلتُ أنا ومن معي على السلطان وهو جالسٌ على سرير، وعليه ما شَرُفَ به فَرَجيةٌ طَميم، وعِمامةٌ، وقَباءٌ تحت الفَرَجية، والأمراء والملوك حول السرير على مراتبهم، فجلستُ بعدما سلَّمتُ على السلطان، فأدناني عميدُ الملك ورحَّبَ بي، ثم قمتُ قائمًا، وأخرجتُ كتاب الوكالة، وقام الجماعة بين يدي السرير وقرأتُها، فلمَّا بلغتُ إلى ذِكْرِ ما خرجَتْ به المراسيمُ العاليةُ سجدتُ وسجد الحاضرون وعميدُ الملك والسلطان، فلمَّا جرى ذِكْرُ المهر وأنه أربع مئة درهم ودينار ارتفعت الأصوات بالدعاء للخليفة، واستعظموا ذلك، وقام إنسان يُقال له: مسعود الخراساني، فخطب، ونثر عميدُ الملك بين يدي السرير عدَّة كفوف لؤلؤ ودنانير، وزنُ كلِّ دينار عشرة مثا قيل، ونثروا على باب السُّرادق الدراهم [والدنانير، وأدَّينا الرسالة، فشكر ودعا، ونهضنا، وكانوا قد قدَّموا بين يدي التتار جاما خسروانيًّا مُغطًّى، فلم أمدَّ ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ، والمعنى: وهو جالس.

يدي إليه، فحملوه إليَّ، وإذا فيه ألف دينار ومثلها دراهم، وأبرزوا إليَّ توقيعًا بتقرير معيشةٍ، في كل سنة عشرة آلاف دينار، وذكر كلامًا طويلًا. قال المصنف رحمه الله: وذكر جدِّي في "المنتظم" (¬1) أن العقد وقع على أربع مئة ألف دينار، وأن السلطان قال: أنا المملوك القِنُّ الذي قد سلَّم رِقَّه. وما حَوَتْه يدُه، وما يكتسبه باقي عمره إلى الخدمة الشريفة. وما ذكر ابن الصابئ ألْيَقُ بالقصة؛ لأنَّ القائم اتَّبعَ السنَّة الطاهرة في أربع مئة درهم ودينار. قال ابن المحلبان: ولمَّا كان من الغد أخرج من الخزائن المعمورة من الجواهر واللؤلؤ والذهب والمصاغ والثياب والألطاف والعين والجواري الأتراك والغلمان وغير ذلك شيئًا كثيرًا. وقال في "تذكرته": وأمَّا الأخبار فإنَّ الأمير أبا نصر محمد بن دهشودان المعروف بهملان الرازي -صاحب توريز- حضر إلى باب السلطان سليمًا ومستسلمًا، فقرَّر عليه مالًا، فأقام بأكثره، وسلَّم ولده رهينةً على باقيه، وانتقل السلطان إلى مدينة بحجون قريبةٍ من بلد الروم، فصاحِبُها يُعرَفُ بأبي دُلَف بن الصقر الشيباني، ففعل كما فعل صاحب تيزين، وكذا فعل ابنُ الجليل صاحبُ أرمينية، ونزل السلطانُ على خُويّ، وهي من أعمال ثغور المسلمين، وركنٌ قويٌّ من أركان الدين، والمستولي عليها شيخ من أهلها، فامتنعوا وقاتلوا، وذكر كلامًا طويلًا وكتابًا إلى الخليفة بصورة ما جرى، وذكر فيه أن العقد كان على أربع مئة درهم ودينار مهر سيدة النساء فاطمة البتول صلوات الله عليها، ليعلم الكافَّة والخاصَّة تنزُّه سيدنا ومولانا الإمام عن التلبُّس بحُطام الدنيا، وذكر معناه. وفي شعبان تُوفي المُعِزُّ بن باديس صاحب القيروان. وفي شوال عاد رئيس العراقَين إلى بغداد عند السلطان. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 75.

ذكر السبب: كان مواصلًا للسلطان بالمكاتبة يطلب الحضور إلى بابه، فأذِنَ له، فلمَّا مضى حمل ما كان استصحبه من المال والخيل والثياب، فوقعت خدمتُه أحسن موقع، وتصوَّر السلطان فيه أنه كان السبب في انقياد الخليفة إلى الوصلة بما فعله من التضييق عليه وعلى أصحابه، واتَّفق أن الخليفة بعث مع ابن المحلبان يشكو منه ويبالغ، وقد كان ابن المحلبان حمَّله من أذاه في ضياعه وأوحشه، فلم ينفعه ذلك مع السلطان لِما وقر في نفسه، ولعناية عميد الملك به، وميله إليه لأجل ما كان من الشكاوى التي نفعته عنده، وجمَّلته في عين سلطانه، وخوطب في العود إلى بغداد فامتنع، وسأل الإعفاء منها، وشكا من خرابها وخراب سوادها ما أوضحه، فقيل: لابُدَّ من عودك إليها لترتب إقامة السلطان بها مدَّة مقامه فإنه قاصد إليها، فإذا خرج منها فاخرُجْ معه، وأصحِبْه حاجب السلطان -واسمه رسول- ومعه للخليفة ثلاثون غلامًا من الترك، وثلاثون جاريةً على الخيول، وخادمان، وفرس بمركب ذهب مُرصَّع بالجوهر الثمين، وعشرة آلاف دينار، وعشرة آلاف أخرى لكريمته، وتوقيع بإقطاعات وجميع ما كان لخاتون المتوفَّاة من الإقطاع بالعراق، وعِقدُ جوهر فيه نيِّفٌ وثلاثون حبةً، في كل حبَّةٍ وزن مثقال، وثلاثة آلاف دينار لوالدتها، وخمسة آلاف دينار لِعِدة الدين، وخرج الناس على طبقاتهم لتلقِّي رئيس العراقيين، ولمَّا وصل إلى باب النُّوبي نزل وقبَّل الأرض، ومضى فنزل في خيمة تحت دار المملكة، ولم يدخل الديوان، وركب بعد ثلاثة أيام مع رسول إلى دار الخلافة إلى باب خاتون، وسلَّم إليها ما كان معه لتسلِّمه إلى الخليفة. وقال أبو الفضل نعمة الله بن أحمد خطيب تيزين: كان السلطان مُجِدًّا في التوجُّه إلى بغداد على طريق ميَّافارقين ليقَرر أمر أولاد مروان في بلادهم بعد وفاة أبيهم، وكذا أمر مسلم بن قريش، ويطالبهم بالأموال التي خلَّفها أبوهم، فاتَّفق أنه طالب أهل خُويٍّ بعشرة آلاف دينار، فقالوا: نحن قوم مجاهدون، ويجب عليك معونتنا بالمال والسلاح، وبذلوا له أربعة آلاف دينار، فأنفذ إليهم سريَّةً فقاتلوهم، فظاهر أهل خُويٍّ عليهم، فراسل السلطان رئيس البلد يوسف بن مكين بهزارسب وسارتكين الخادم الخاص فلم يمكنهما من الدخول، فرجعا، ونشبت الحرب في رمضان وبعض شوال

مدة أربعين يومًا، وقتل من الفريقين مقتلة كبيرة، فراسل مشايخُ البلد عميدَ الملك على يد أبي كاليجار هزارسب، يطلبون الأمان، فأعطاهم، وعاد به هزارسب وسارتكين، فدخلا البلد بعد ثلاثة أيام، وأخذ جماعةً ممَّن كان يحارب السلطان، فقطع أيديهم، وقتل آخرين، وقبض على يوسف وابن أخيه موسى، وردَّ رئاسة البلد إلى أبي سعيد بن حمُّويه أحد مشايخ خُوِيٍّ، وكان بذل عشرة آلاف] (¬1) دينار، وشرط أن يسلم إليه يوسف؛ لعداوةٍ كانت بينهما، فسلَّمه إليه، فضربه وصفعه في الجامع، وبلغ عميدَ الملك فقبض عليه، ونزع يده، وردَّ الرئاسة إلى عمر بن سحتكان، وكان رئيسها قديمًا، وأخرب عقار يوسف الذي في البلد، وبنى مكانه قلعة باسم السلطان، وانصرف السلطان إلى أرمية، وأطلق موسى ابن أخي يوسف، ومات يوسف في الاعتقال عند توجُّه السلطان إلى العراق بالطريق، ثم غلب موسى على خُوِيٍّ وقتل جماعةً من أصحاب السلطان، وأخرج الباقين بسوء أفعالهم، وصار رئيس البلد. وفي يوم السبت رابع ذي القعدة عُزِلَ أبو الفتح محمد بن منصور بن دارست من ديوان الخليفة، وانتقل إلى داره بباب المراتب، وكان سيئ التدبير، كلَّما دبَّر عملًا لم يحصل من عُقباه حمدٌ، ومن ذلك تضمينُه ضياع الخليفة لابن علَّان اليهودي، وظلم الناس، وأقام الشناعات، ثم هرب إلى واسط، وذهب ارتفاع الضياع، ثم ولَّى على الكُتَّاب كاتبًا يُعرف بابن الحُصين، بذل له ثلاثين ألف دينار، فأطلق يدَه، فضرب وحبس، ولم يحصل على شيء، فعمل أهل بغداد في ابن الحُصين القصائد منها: [من البسيط] يا ابنَ الحُصينِ ولا فخرًا بذي النَّسبِ ... لقد فُضِحْتَ أمامَ العُجْمِ والعربِ وسوَّلَتْ لكَ نفسٌ منكَ ساقطةٌ ... ظُلمَ العبادِ لمحضِ الزُّورِ والكذبِ تُراكَ تحسَبُ أنَّ الله يغفَلُ عن ... ما كان منك ولا يقتصُّ عن كثَبِ تاللهِ تاللهِ إني خائفٌ وَجِلٌ ... من دعوةٍ نفذَتْ عن صدرِ ذي كَرِبِ قُلْ لابنِ دارسْتَ عنِّي إن ظفِرْتَ بهِ ... انظُرْ لنفسِكَ واجنُبْها عن الرِّيَبِ واذكُرْ معادَكَ والأعضاءُ شاهدةٌ ... واللهُ يحكمُ والمظلومُ في الطَّلبِ لا المالُ يبقى ولا الأيامُ مُمهِلةٌ ... وليس ينفعُ إلَّا حُسْنُ منقَلَبِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف).

من أبيات. وفي يوم السبت الحادي والعشرين من ذي الحجة ورد الكافي أبو نصر محمد بن محمد بن جَهير من ميَّافارقين للنظر في ديوان الخليفة، وكان قد وقع الاختيار عليه، وأخرج إليه الكامل أبو الفوارس طراد نقيبَ العباسيين، وركب رئيس العراقيين وجماعةُ الحاشيةِ والخدم، ونزل بالحريم الطاهري منتظرًا لجواز الكسوف القمري، ودخل الديوان يوم الأحد التاسع عشر من الشهر منحدرًا في الماء معه الناس على طبقاتهم، وخرج من الخليفة توقيعٌ يدلُّ على الابتهاج بمورده والتقريظ له، وحمل إليه أطعمةً وفواكه. وفي ذي القَعدة ورد أبو علي شادل بن محمد التاجر متقدم بعض اليمن هاربًا من مكة لدخول أصحاب الصُّليحي إليها، وقد قطع عليه الطريق، وكان لمَّا انهزم من اليمن دخل مكة وبها شَكَّر بن أبي الفتوح الحسني أميرًا، فاستنجده، فوعد شَكَّر ومَنَّاه، وأعطاه وأخذ منه عشرين ألف دينار على أن يُفرِّقها فيمن يسير معه، ولم يُقدِمْ شَكَّر على ذلك؛ لعجزه عن معاونة الصُّليحي، وأقام أبو علي قانعًا بسلامته، ومات شَكَّر ليلة الخميس ثالث شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين، وطلب مكانَه ابنُ عمه يحيى بن عبد الله بن جعفر الحسني، واستولى على دور شَكَّر بالبرقة وبينها وبين مكة خمسة فراسخ، واستدعى جماعةً من بني عمه ليستوثق منهم، فتربَّصوا عليه، وبلغهم وفاةُ شَكَّر، فتصوَّروا أنه أراد قبضهم، وأرادوا أن يكون الأمرُ فيهم فاجتمعوا في خمسة وأربعين فارسًا، وقصدوا بَرقة وبها يحيى، فانهزم وقُتل، فدخلوا مكة واستولوا عليها، وكان لشَكَّر عبد يقال له: محيا، فجمع العبيد، وفرَّق فيهم المال، وقصد مكة، فانهزم ابنُ أبي الطيب منها، وقصدوا أعمال الصُّلَيحي، فقوَّاهم بالمال والرجال، وساروا إلى مكة، وكان لمحيا منجِّمٌ، فقال له: لا تخرج اليوم ولا غدًا. فخرج وقاتل، فهزموه، ومضى في جماعة قليلة، ودخل الأشرافُ مكة، ومعهم بنو هذيل، وكان لهم عند شَكَّر ثأر، فقتلوا من العبيد مَقتلةً كبيرة، ونهبوا، والتجأ ابن شادل إلى البيت الحرام، واجتمع ببني هذيل، وذمَّ منهم بين قوم منهم، وضمن لهم مالًا، وحملوه إلى داره، وكان الصُّلَيحي قد قرَّر مع الأشراف حملَه إليه، وعلم، فهرب مع قوم من العرب، فقطع عليه الطريق، فدخل الكوفة عريانًا، فكساه ابن كروشان الهاشمي، وأقرضه ما

إبراهيم بن العباس

استعان به على المسير إلى بغداد، ونزل إلى باب المراتب، ومعه ستة من أولاده، وعاد محيا إلى الينبع، وملك مكة والأشراف. وفي يوم السبت تاسع عشر (¬1) ذي الحجة جلس الخليفة واستدعى ابنَ جَهير، ووصل إليه، وخلع عليه لحاف سقلاطون، ودَرَّاعة مُصْمَت، وعمامةَ قصب مُذْهَبة حراقية، وأُعطي دَواةً من الصندل مُحلَّاةً، وخاطبه بالجميل، واحتفل له في جلوسه مثلَ ما يحتفل الملوك، وحمل على بغلة بمركب مُحلَّى، وقُرئ عهدُه بالوزارة قائمًا، وأول ما فتح الدَّواة [كتب] (¬2) بمئة دينار صدقة، وكان في عهده بعد حمد الله تعالى والصلاة على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: وبعد، فإن أمير المؤمنين حين عَدِمَ الكُفاة بحضرته، المُرْتضين لخدمته، وتحقَّق ما عليه ابنُ جَهير من صحة الدين، وخلوص المعتقد واليقين، وما يأوي إليه من الكفاية والعفاف، والتنزُّه عن كل ما يُذمّ من الخلال ويُعاف، وكملت فيه الأوصاف، والأدوات التي جمعت بين كل سجية رضية، وصفة مرضية استوجبت أناتَه، أفضل مراتب الخُلصاء، وأوجه منازل الأصفياء، فقلَّده الوزارة، وخصَّه من الطَّول ما يُعلي منارَه، وعوَّل عليه في الوساطة بينه وبين رعيته، وخاصته وعامته، وأمره بتقوى الله، وذكر ما يُذكر في العهود، ولُقِّب فخرَ الدولة شرفَ الوزراء. وفي ذي الحجة كثرت الأراجيف بموت طُغْرُلْبَك بأرمية، واختلط الناس ببغداد، ثم ورد الخبر بأنه عُوفي، واستدعى السفن إلى تكريت؛ لتنزل في الماء إلى بغداد. وفيها تُوفِّي إبراهيم بن العباس (¬3) ابن الحسن بن العباس بن الحسن بن الحسين بن أبي الجِنّ، أبو الحسين، القاضي، الشريف، مستخص الدولة، ولي القضاء والخطابة بدمشق في أيام المستنصر نيابةً عن قاضي القضاة أبي محمد القاسم بن عبد العزيز بن محمد بن النعمان. ¬

_ (¬1) في (ف): تاسع. (¬2) ما بين حاصرتين من (ف). (¬3) تاريخ دمشق 6/ 252.

ثمال بن صالح

ولد إبراهيم سنة أربع وتسعين وثلاث مئة في المُحرَّم، وتوفي يوم السبت تاسع عشرين شعبان (¬1) ودُفن بالباب الصغير، قرأ القرآن بحرف أبي عمرو بن العلاء، وسمع الحديث [من أبي عبد الله بن أبي كامل -قال الحافظ ابن عساكر: بالإجازة- وروى عنه ابنه أبو القاسم علي بن إبراهيم شيخ الحافظ ابن عساكر]، وكان فاضلًا جوادًا عفيفًا نزهًا. [وفيها تُوفِّي] ثِمال بن صالح أبو علوان، ولقبُه مُعِزّ الدولة [ويعرف بابن] صاحب حلب ابن الزَّوقلية الكلابي، كان شجاعًا جوادًا حليمًا، أغنى أهل حلب بماله، وعمَّهم بحلمه ونواله، وكان محسنًا إلى القبائل وجميع الناس [وقد ذكرنا أن صاحب مصر عزله عن حلب وردَّه، فذكرنا أنه فتح أحد الحصنين إمَّا عِمَّ وإمَّا حصن أَرْتَاح]. وبلغ من حلمه أنَّ فَرَّاشًا كان يصبُّ عليه يومًا [ماءً] من إبريق في طست، فغفل الفرَّاش، فأصابت بلبلة الإبريق ثنيته، فوقعت في الطَّست، فلم يقُلْ شيئًا، وعفا عنه، وقد مدحه ابن أبي حصينة بقصائد فقال: [من الوافر] وَسَنَّ العَدلَ في حَلَبٍ فأَخلَتْ ... بِحُسنِ العَدلِ بُقعَتُها البِقاعا حليمٌ عن جرائِمِنا إليهِ ... وحَتّى عَن ثَنِيَّتِهِ انقِلاعا مكارِمُ ما اهتدى فيها بِخَلقٍ ... ولَكِن رُكِّبَت فيهِ طِباعا إذا فَعَلَ الكَريمُ [بلا قياسٍ] (¬2) ... فعالًا كان ما فعلَ ابتِداعا وكان ملجأَ القُصَّاد والعلماء والفقراء. وفي ذي القعدة ورد الخبر بوفاة أبي علوان ثِمال بن صالح أمير بني كلاب وأمير حلب]، وقام أخوه عطية مقامه. ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): رمضان، والمثبت من (م) و (م 1)، وهو الموافق لما في تاريخ دمشق 6/ 252. (¬2) المنتظم 16/ 76.

الحسن بن مشير

[وفيها تُوفِّي الحسن بن مشير أبو علي، الكناني، الدمشقي، قال الحافظ ابن عساكر (¬1): أقام بجامع دمشق خمسين سنة يقرأ القرآن احتسابًا، وتوفي في ذي القعدة، ودُفن بالباب الصغير، سمع أبا محمد بن أبي نصر وغيره، وروى عنه نجا بن أحمد العطار وغيره، وكان صالحًا ثقةً]. [وفيها تُوفِّي] سُبُكْتِكين التركي أبو منصور، ابن تمام الدولة، ولي دمشق من قِبَل المستنصر سنة اثنتين وخمسين، وتوفِّي بها في ربيع الأول، وكان صالحًا عفيفًا، سمع الحديث ورواه، وكان إذا قُرئ عليه الحديث يقول القارئ: أنبأنا العادل الأمير الصالح أبو منصور التركي. [وفيها تُوفِّي] عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن (¬2) أبو الفضل، الرازي، المقرئ، العجلي، [ذكره الأئمة، فقال عبد الغفار الفارسي في "تاريخ نيسابور"]: كان إمامًا في كلِّ فنٍّ، جوَّالًا في طلب العلم، زاهدًا، عابدًا، ورعًا، يأوي إلى المساجد الخراب في أطراف البلد ويطلب الخلوة، فإذا عُرِفَ في مسجد انتقل إلى آخر، وما كان يقبل بِرَّ أحد، وكانت وفاته بنيسابور -وقيل: بكرمان- وكان يقول: إن هذه الأوراق تحلُّ منا محلَّ الأولاد. ومن شعره [من السريع]: يا موتُ ما أجفاكَ من زائرٍ ... تنزلُ بالمرءِ على رغمِهِ وتأخذُ العذراءَ من خِدْرِها ... وتسلبُ الواحدَ من أمِّهِ ¬

_ (¬1) لم أقف على هذه الترجمة في تاريخ دمشق ولا في غيره، وأثبتت من (م) و (م 1). (¬2) تاريخ دمشق 34/ 116 - 120.

محمد بن سلامة

وقال: [من الطويل] أخي إنَّ صِرْفَ الحادثاتِ عجيبُ ... ومَنْ أيقظَتْهُ الواعظاتُ لبيبُ وإنَّ الليالي مُفنياتٌ نفوسَنا ... وكلٌّ عليه للفناءِ رقيبُ وإنَّ مصيباتِ الزمانِ كثيرةٌ ... لكلِّ امرئٍ منها أُخيَّ نصيبُ طوى الدهرُ أترابي فبادوا وفارقوا ... وما أحدٌ منهم إليَّ يؤوبُ ومَنْ رُزِقَ العمرَ الطَّويلَ تُصيبهُ ... مصائبُ في أشكالِهِ وتَنوبُ إذا ما مضى القرنُ الذي أنتَ منهمُ ... وخُلِّفْتَ في قرنٍ فأنتَ غريبُ وإنَّ امرأ قد سارَ تسعين حجَّةً ... إلى مَنْهلٍ من ورْدِهِ لَقريبُ [وفيها تُوفِّي] محمد بن سلامة (¬1) ابن جعفر بن علي بن حكمون، أبو عبد الله، القاضي، القُضاعي، سمع الحديث، وولي القضاء بمصر، وصنَّف الكتب، منها كتاب "الشهاب"، وكتاب "دستور الحكم، ومأثور معاني الكلم"، وكتاب تاريخ، وغير ذلك، وكانت وفاته بمصر في ذي القعدة. وقال فارس بن الحسين الذُّهلي يمدح كتاب "الشهاب": [من البسيط] إنَّ الشهابَ كتابٌ يُستضاءُ بهِ ... في العلمِ والحلمِ والآدابِ والحِكَمِ سقى القضاعيَّ غيثٌ كلَّما لمعَتْ ... هذي المصابيح في الأوراقِ والكَلمِ [وفيها تُوفِّي] مَنيع بن وثَّاب أبو الزِّمام، [النُّميري] أمير بني نمير، والي حَرَّان والرقة [وقد ذكرنا طرفًا من أخباره مفرَّقًا في الكتاب] كانت وفاته بعلَّة الصرع ليلة الخميس لخمسٍ خلَون من جمادى الآخرة، وكان جوادًا سمحًا (¬2). ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 53/ 167 - 170، والأنساب 10/ 180 - 181. وينظر السير 18/ 92. (¬2) في (م) و (م 1): شجاعًا.

السنة الخامسة والخمسون وأربع مئة

السنة الخامسة والخمسون وأربع مئة فيها في يوم الجمعة سابع المُحرَّم وصل السلطان، وعزم الخليفة على لقائه، فاستعفى من ذلك، فأُعفي، فخرج إليه الوزير ابن جَهير من الغد، وتلقَّاه عميدُ الملك، وأوصله إلى السلطان، فخدمه وأدَّى إليه عن الخليفة رسالةً تتضمَّن السرورَ بسلامته وعافيته، والأُنسَ بقُربه، وحمل إليه فَرَجيَّةً وعمامةً وثيابًا وفرسًا من مراكبه، فعضد حتى قام، وقبَّل الأرض، وطرح العميد الفَرَجيَّة على كتفيه، ودخل من الغد دار المملكة في زَبْزَبٍ بعثه إليه الخليفة، وكان مرض بأرمية وثَقُل عليه، فشغب العسكر، فأُجلِسَ على مضض، وأدخلَ وجوههم إليه، وأوصى إن حدث به الموت أن يُنصِّبوا مكانه سليمان ابن أخيه داود، وهو حينئذ صغير بأصبهان، والسلطان متزوِّجٌ بوالدته، وأن يرجعوا إلى رأي عميد الملك من غير مخالفةٍ ولا عدولٍ عنه، وقَرَّظه (¬1) ومدحه، فأجابوا بالسمع والطاعة، إلا أردم الحاجب، فإنه قال: ما أخدم (¬2) أحدًا بعدك، وأمضي إلى ألب أرسلان ابن أخيك داود، وأنزل عليه، وسار من وقته إلى خراسان، وكان من رأي عميد الملك ومشورته ليتمَّ له الاستبداد بالأمور، ويستولي على الملك، وقالت الجماعة: قد نزل الثلج وما لنا طاقةٌ بالمسير إلى بغداد، ونريد أن نستقر في بيوتنا. فقال: اذهبوا. وجاء إلى بغداد ومعه عميد الملك، وبرشق الحاجب، والأمير علي بن الملك أبي كاليجار وأبو كاليجار هزارسب- وبدر بن مهلهل، وغيرهم. و[فيها] سار [السلطان طُغْرُلْبَك إلى بغداد] فصادفوا عقبةً عظيمة قد طمَّها الثلج، ولا بُدَّ من قَطْعِها، فحُمِلَ السلطانُ في مِحفَّة على أعناق الرجال، ومات معظم الناس والدواب، ولمَّا دخل السلطان (¬3) بغداد نزل العسكر في الجانب الغربي، وأخرجوا الناس من دورهم، وأوقدوا أخشاب السقوف للبرد العظيم، وتعرَّضوا لحريم الناس، وقطعوا الطرقات، وأخذوا عمائم الناس، وجاء قوم من الأتراك فصعدوا إلى أسطحة حمامات بنهر القراطيس ونهر طابق، فقلعوا الجامات، واطَّلعوا على النساء [منها]، ¬

_ (¬1) أي: أثنى عليه. (¬2) في (خ): ما آخذ، والمثبت من (ف). (¬3) في (خ): الناس، والمثبت من باقي النسخ.

ثم نزلوا وهجموا عليهنَّ، وأخذوا مَنْ أرادوا منهنَّ، وخرج الباقون عُراةً إلى الطريق، واجتمع الناس وخلَّصوهنَّ من أيديهم، وجاء عميد الملك إلى دار الخلافة، وخدم عن السلطان، فأوصله [الخليفة] إليه، وخاطبه بالجميل ولاطفه، وأعطاه عِدَّة قطع ثيابًا؛ تشريفًا له، وطلب الحمية، وحمل خاتم السلطان وكان ذهبًا وفضةً وماسًا، وزنُه درهمان وحبتان، وقال: هذه الجهة الكريمة. ولزم مطالبًا لها، وبات في الديوان، وتردَّدت رسائلُ إلى الخليفة، فكان الجواب: إنك يا منصور بن محمد كنت تذكر أنَّ الغرضَ من الوصلة التشرُّفُ بها، والذكرُ الجميل لركن الدين فيها، وكُنَّا نقول: إننا ما نمتنع من ذلك إلا خوفًا من المطالبة بالتسليم، وجرى ما قد علمتَه، ثم أخرَجَنا ابنُ المحلبان، وقرَّر معكم قبل العقد ما أخذ به خطَّك، وأنه إن كان يومًا ما طالبه باجتماع كان ذلك في دار الخلافة، ولم يسمِّ لقراح الجهةَ منها، فقال عميد الملك: كلُّ هذا صحيح، والسلطان مقيمٌ عليه، وعازمٌ على الانتقال إلى هذه الدار العزيزة حيث ما استقرَّ، فليُفْرِدْ له ولِحُجَّابه وخواصِّه وغلمانه مواضعَ يسكنونها، فما يُمكِنُه بُعْدُهم عنه، وقطع بذلك الجهة، وجرت مراسلاتٌ استقرَّ انتقالُها إلى دار المملكة، وعلى أن لا يخرج من بغداد مع ركن الدين، ولا ينتقل معه في أسفاره، وأحضر قاضي القضاة حتى استحلفه على الاجتهاد في ذلك، وانصرف عميد الملك. وفي المُحرَّم تُوفِّي سعيد بن مروان صاحب آمد، وكان أخوه نصر بميَّافارقين، ويقال: إنَّ نصرًا أخاه اتفق مع أبي الفرج الخازن على أن يسقي سعيدًا السُّمَّ، فسقاه، فلمَّا شربه أحسَّ [به]، فقال لأصحابه: اقتلوا هذا الكلب، فقد سقاني السُّمَّ. فقتلوه، ولم يظفر نصر من آمد بطائل، وكان السعيد له ولد صغير اسمه مسكويه، فأجلسوه مكان أبيه، وانحرف أهل البلاد على نصر وسَبُّوه، ونفروا منه. وفي صفر حَملَ الخليفةُ إلى السلطان مئةَ ألف دينار ومئةً وخمسين ألف درهم وأربعة آلاف ثوب من أجناس مختلفة، وكلُّ ذلك منسوبٌ إلى المهر [مهر بنت الخليفة، ومحسوبٌ منه؛ لأن السلطان خطبها وتزوجها]. وفي ليلة الاثنين خامس عشر صفر زُفَّتِ السيدةُ ابنةُ الخليفة إلى السلطان، ونُصِبَ لها من دجلة إلى دار المملكة سُرادقُ، ودخلت فجلست على سريرٍ مُلبَّسٍ بالذهب،

ودخل السلطان فقبَّل الأرضَ بين يديها، وخدمها، ودعا للخليفة، وخرج من غير أن يجلس، وما قامت له، ولا كشفت البرقع عن وجهها ولا أبصرَتْه، وخرج السلطان إلى صحن الدار والحواشي يرقصون فرحًا، ويغنُّون بالتركية، وبعث إليها مع أرسلان خاتون عقدين فاخرين وخسروانيَّ ذهب، وقطعةَ ياقوت حمراء كبيرة، ودخل من الغد فقبَّل الأرضَ وخدمها، وجلس على سرير فضة مقابلها ساعةً، ثم خرج وأنفذ إليها جواهر مُثمَنةً، وفَرَجيةَ نسيج مكلَّلةً بالحبِّ، ومحبقةً منسوجة بالحَبِّ، وما زال كلَّ يوم يفعل ذلك يخدم ويبعث التحف، وظهر منه سرورٌ عظيم، ومن الخليفة تألمٌ كبير، وخلع السلطانُ في بكرة ذلك اليوم على عميد الملك في دار المملكة، وحمل على فرس بمركب ذهب، وأعطاه سيفًا مُحلًّى، وزاد في ألقابه حيث حصلت [له] الوصلة بسفارته، وخلع على جميع الأمراء والحاشية، وواصل عمل السِّماط أيامًا. وفيها دخل الصُّليحي إلى مكة، واستعمل الجميلَ مع أهلها، وأظهر العدل والإحسان والأمن، وطابت قلوبُ الناس، ورخصت الأسعار، وكثُرت له الأدعية، وكان شابًّا أشقرَ اللحية، أزرقَ العينين، وليس باليمن أزرقَ أشقرَ [غيره] (¬1)، وكان متواضعًا، إذا جاز على جَمْعٍ سلَّم عليهم بيده، وكان فَطِنًا، قَلَّ أن يُخبِر بشيء إلا ويَصِحَّ، وكسا البيتَ ثيابَ بياض، وردع (¬2) بني شيبة عن قبيح أفعالهم، وردَّ إلى البيت من الحُليِّ ما كان بنو أبي الطيب الحسنيون أخذوه لمَّا ملكوا بعد شَكَّر، وكانوا قد غيَّروا البيت والميزاب، ودخل البيت ومعه زوجته، ويقال لها: الحُرَّة، وكانت حُرَّةً كاسمها، مدبِّرةً مستوليةً عليه وعلى اليمن، وكان يُخطَبُ لها على المنابر، يُخطَبُ لها بعد المستنصر والصُّليحي، فيقال: اللهمَّ وأدِمْ أيام الحُرَّة الكاملةِ السديدة، كافلةِ أمير المؤمنين. وكانت لها صدقاتٌ كثيرة، وكرَمٌ فائض، وعدلٌ وافر. وأقام الصُّليحي إلى يوم عاشوراء، وراسله الحسنيُّون، وكانوا قد بَعُدوا عن مكة: اخرُجْ من بلدنا ورتِّبْ منا من نختاره. فرتَّب محمد بن أبي هاشم في الإمارة، ورجع إلى اليمن، ومحمد [بن أبي هاشم] صهر شَكَّر على ابنته، وأمَّره على الجماعة، وأصلح ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف) و (م) و (م 1). (¬2) في (م) و (م 1): وردَّ.

بين العشائر (¬1)، واستخدم له العساكر، وأعطاه مالًا وخمسين فرسًا وسلاحًا، وكان الصُّليحي يركب على فرس [له] يُسمى الملك، قيمته ألف دينار، وعلى رأسه مئة وعشرون قصبة ملبَّسة بالذهب والفضة، وإذا ركبت الحرة ركبت في مئتي جاريةٍ مزيَّناتٍ بالحُليِّ والجواهر، وبين يديها الجنائب، بمراكب الذهب المُرصَّعة. وقيل: إنه أقام بمكة إلى ربيع الأول، فوقع في أصحابه الوباء، فمات منهم سبعُ مئة رجل، ثم عاد إلى اليمن؛ لأن العلويين تجمَّعوا عليه، ولم يبقَ معه (¬2) إلا نفر يسير، فسار إلى اليمن، وأقام محمد بن أبي هاشم [بمكة] نائبًا عنه، فقصده بنو سليمان الحسنيُّون مع حمزة بن أبي وهَّاس (¬3)، فلم يكن لهم به طاقة، فحاربهم، وخرج من مكة، فتبعوه، [فرجع] فضرب واحدًا منهم ضربةً بالسيف، فقطع ذراعه وفرسه وجسده، ووصل إلى الأرض، فدُهشوا، ورجعوا عنه، وكان تحته فرس يُسمَّى دنانير، لا يَكِلُّ [ولا يَمَلّ]، وليس له [في] الدنيا نظير (¬4)، ومضى إلى وادي الينبع (¬5)، وقطع الطريق عن مكة والقافلة، ونهب بنو سليمان مكة، ومنع الصُّليحي الحجَّ من اليمن، فغَلَتِ الأسعار، وزادت البلية. وفيها ورد الخبر بمسير الأمير ألب أرسلان بن داود من بلخ إلى نيسابور لمَّا كثُرَ الإرجاف بموت السلطان. وفي يوم الخميس تاسع ربيع الأول حضر عميد الملك إلى ديوان الخليفة، واستأذن للسلطان ولابنة أخيه أرسلان خاتون زوجة الخليفة بالمسير إلى الري يستزيرها مدة ستة أشهر، فأذن للسلطان، ولم يأذن لخاتون، وكانت شاكِيةً اطِّراحَهُ لها، فإنه لم يقربها منذ اتصل بها، وخرج السلطان من الغد، وهو عليلٌ ثقيل مأيوس من سلامته، واستصحب معه السيدة ابنة الخليفة بعد امتناعٍ شديد، فغلظ عليها، وألزمها ولم يتبعها ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): العساكر، والمثبت من (م) و (م 1)، وهو الموافق لما في شفاء الغرام 2/ 196. (¬2) في (ف): منهم. (¬3) في (خ) و (ف): هواش، والمثبت من (م) و (م 1)، وشفاء الغرام 2/ 196. (¬4) في (م) و (م 1) وشفاء الغرام: شبيه. (¬5) في (م) و (م 1): وادي البقيع، والمثبت موافق لما في شفاء الغرام.

من دار الخلافة سوى ثلاث نسوة برسم خدمتها، ولحق الخليفةَ ووالدتَها من ذلك أمرٌ عظيم، وأظهر الحزن الكثير، وكان من فعل عميد الملك ووضعه، ومضى هزارسب إلى الأهواز بعد أن أقام على باب السلطان سنتين. و[فيها] وقع بمصر وباء عظيم كان يخرج [منها] في كل يوم ألف جنازة، وتوفي فيه ابنُ المُدَبَّر الوزير، وكان [ابن المُدَبَّر] قد نظر في وزارة مصر في ربيع الأول. وفي يوم الأحد عاشر [شهر] ربيع الآخر خُتِنَ الأميرُ عُدَّةُ الدين أبو القاسم. وفي ليلة الاثنين لخمسٍ بَقِين منه انقضَّ ببغداد كوكبٌ عظيمٌ كبير، وفي صبيحته كان ريحٌ وسحابٌ ورعدٌ وبرق، فلحق قافلةً عظيمةً عند قبر الإمام أحمد - رضي الله عنه - منه صاعقةٌ أحرقت واحدًا منها، ولم يتغيَّر لونُ جلده، وإنما نزعوا قميص المحترق، فوجدوه قد صار هباءً منثورًا. وفي ربيع الآخر قدم أمير الجيوش بدر إلى دمشق واليًا عليها، ونزل بالمِزَّة ومعه القاضي الشريف أبو الحسين بن يحيى بن زيد الحسني الزيدي ناظرًا في أعمالها، فأقام بها بدر فلم يستقِمْ له مع أهلها حالٌ، وحاربهم وحاربوه، فهرب منها في رجب سنة سبع وخمسين [وأربع مئة]. وفيها عصى أنوشروان على السلطان وانهزم، فلحقه أيتكين، فأخذه أسيرًا، وحمله إلى الري، فقال له: دعني أزور قبر والدتي. فأذِنَ له، فلما دخل استجار بالقبر، وقال: لا أخرج. فلازمه أيتكين، وكتب إلى السلطان وهو بهَمَذان يخبره، فبعث مَنْ قيَّده وأخرجه من التربة، وحمله إلى بعض القلاع، وبينها وبين الري بضعة عشر فرسخًا، فحبسه. وفيه ورد الأمير أبو القاسم سليمان بن أخي السلطان ووالدته من أصبهان إلى الري، وكان السلطان قد جعل إليه ولاية العهد وأوصى إلى عسكره. وفيها كانت بين قاروت بك بن داود وبين فضلويه الشونكاري [وقعة] (¬1) على فرسخين من شيراز، وانهزم فضلويه إلى فسا، وكان قد مال إليه طائفةٌ من الديلم، فقتلهم، وغنم أموال فضلويه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق.

وكان فضلويه في عشرين ألفًا من الديلم وغيرهم، وكان قاروت بك في أربعة آلاف تركي، وكان الديلم قد حلفوا لقاروت بك وغدروا به، فأسر منهم جماعةً، وسأل القضاةَ والفقهاءَ، وقال: هؤلاء حلفوا لي وغدروا وقصدوا قتلي. فأفتَوه بقتلهم، فضرب رقابهم على نهر يسمى العمري، فكانت دماؤهم فيه مثل الماء تجري. ويقال: كانوا سبع مئة رجل، ونظف البلاد من الديلم، ومضى فضلويه إلى فسا، ولمَّا بلغ الديلم ما فعل قاروت بك مالوا كلُّهم إلى فضلويه وأطاعوه، وكان قاروت بك عادلًا منصفًا جوادًا، وكان يخطب للخليفة، وبعده لعمِّه طُغْرُلْبَك، ثم لنفسه. وفي جمادى الآخرة ورد الخبر بدخول نصر بن مروان آمد وملكه إيَّاها، مضافًا إليها ميَّافارقين. ذكر السبب: لمَّا مات سعيد أخو نصر مسمومًا أَقام أهلُ آمد ابنَه مكانَه، وكان صغيرًا، وقام بأمره أبو علي بن البغل القاضي، وخطب له، واستدنى أميرًا من الغُزِّ -كان بتلك الديار ومعه جماعة- إلى آمد، وتقوَّى بهم خوفًا من نصر، فراسل نصر زوجةَ أخيه والدةَ الصبي المتآمر، وأطمعها في تزويجه بها، وبذل لها مالًا، فأجابته، وتوافقا على القبض على القاضي، فدخل القاضي يومًا على ولدها على عادته، فقبضت عليه، ووثب أهلُ البلد إلى دار القاضي ونهبوها، وكان فيها شيء كثير للتجار في الأمصار وودائع، وبعثت إلى نصر، فجاء وقَرُب من آمد، وعلم بَرَّجان أميرُ الغُرِّ، فهرب، فوقع به قوم من بني تميم، فأسروه، وجاء نصر إلى باب الهُوَّة ففُتحت له، وحصل في القصر، وأحضر وجوه البلد وطيَّب قلوبهم، وقرَّر على القاضي نيِّفًا وثلاثين ألف دينار، واعتقله على أدائها، وجاء بنو تميم ببرجان، فابتاعه منهم، وبعث به إلى ماردين فأُرمي من أعلى سورها فهلك. وفي جمادى الآخرة ورد كتاب من الشرق بأن عميد الملك برز من الريِّ إلى قلعة كَرْدُكْوه يحاصر قُتُلْمِش ابن عم السلطان، وهو الآن مقيمٌ بحيِّها في عشرة آلاف مقاتل غير الحشو والرجَّالة، والقلعة ممتنعة جدًّا، لا يمكن الوصول إليها إلا بنفاد الزاد والماء، وليس فيها عينٌ، وإنما يشربون من ماء المطر يجتمع في الصهاريج، فإن نفد سلَّموا، وإلَّا فلا سبيل عليها، وكان قد شرع في الصلح وأجاب إلى النزول، غير أنه اقترح اقتراحاتٍ، منها أن السلطان يحلف له بالطلاق على الحفظ والحراسة، وأن لا

يُطالب بجريرة فعله، ومنها أن يتزوج بأخت الأمير سليمان، ومنها أن يُفرد بولاية جليلة، فقيل: أما التوثقة فمبذولة، لكن تشتمل على الأيمان المعهودة، وأما الولاية فيُجاب إليها، وأما التعيين على التزويج والحلف بالطلاق، فمن يتجاسر على السلطان بهذا؟ [فقال قُتُلْمِش: فإن لم تجسروا على السلطان بهذا] (¬1) فكيف أُسلِّم أنا نفسي إليكم بغير توثقة يطيب بها قلبي. فتوقف الأمرُ بهذا السبب، ووردت الأخبار بأنَّ ألب أرسلان بن داود كان يجدد الأراجيف بالسلطان، قد جمع عسكره وجنده ومقدار عسكره الذين في صحبته عشرون ألفًا وعشرة آلاف راجل، وسار طالبًا الري، فلمَّا تحقَّق عافيةَ السلطان ووصولَه إلى الري عاد إلى خراسان ولم يُحدِثْ حدَثًا، وكان قد سار في عساكر عظيمة، وهيبة جليلة، وعدل شامل. وفي شعبان كانت بأنطاكية واللاذقية وطرابلس وصور وعكا والشام وطرف من الروم زلازلُ عظيمةٌ هدمت الحصون والأسوار. وفيه نزل محمود بن شبل الدولة بن صالح على حلب، وحَصَرَ عَمَّهُ عطية بها، وقُتِلَ ليلة النصف من شعبان عليها مَنيعٌ بن [مُقلّد بن] (¬2) كامل بحجر المنجنيق، ورحل محمود عنها ولم يظفر بطائل. وفي رمضان قُتل محمود بن محمود بن ثِمال الأخرم أميرُ بني خفاجة في سرداب -بمكان يُقال له: الجامعين- غيلةً، والذي قتله رجب بن مَنيع، كان أميرًا قبله، وسليمان ابن أخيه، وكان الأخرم مُطرحًا لأمر بني خفاجة، مُدِلًّا عليهم، مُعرِضًا عنهم، مُتهاونًا بهم، مانعًا لهم عن الغارات، مستقصيًا عليهم في الإقطاعات، فلمَّا أدركت الغلات في هذه السنة أنفذ إلى بغداد، فاستدعى نجدةً من العجم استوفى بهم مال السلطان المقرَّر عليهم عن سقي الفرات، فأنفذ إليه نحوًا من خمسين فارسًا، وسار بهم إلى الجامعين، وقرَّر على بني خالد عن نواحيهم نحو ألفي دينار، وأخذ رهائنهم على الوفاء بها، وفعل بالباقين كذلك، فاجتمعوا إلى رجب بن منيع، وقد كان محمود صالحه واستحلفه ومكَّنه من النزول معه والقُرب، فشكَوا إليه ما يُلاقون، ووافق ذلك ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف). (¬2) ليس في النسخ وهو في زبدة الحلب في تاريخ حلب 1/ 55.

ما كان في قلبه، فاستحلف جماعةً منهم، ودخل سليمان ابن أخي رجب معهم، وضمن لهم اغتيالَه، ونزل محمود إلى سردابٍ يتبرَّد فيه، فجاء رجب وسليمان ابن أخيه، فدخل جابرٌ حاجبُ محمود، وكان وافقهم، فعرَّفه بحضورهم، فقال: هذا وقت القيلولة، تقعدون في الخيمة حتى أخرج. فهجموا عليه، فقام وقال: ويلَكم، إنه دمٌ لا يُضاع. ومسكه جابر حتى قتلوه، وقطع سليمانُ رأسَه، وتركه في كمِّه، ودخل على حظيَّة (¬1) محمود فافترشها قهرًا، والرأس يَشْخُبُ دمًا في كمِّه، وأخذها إلى قلعة سفانا، وكان يركب الفاحشة، فضجرت منه، وقالت: لا حياة بعد محمود، وألقت بنفسها من أعلى، فهلكت، وهرب بدر بن محمود إلى بغداد، وقُتِلَ صالحُ بن محمود مع أبيه. وفي يوم الجمعة ثامن شهر رمضان توفي السلطان طُغْرُلبك بالري، ووصل [الخبر] إلى بغداد من جهة السيدة ابنة الخليفة في الرابع والعشرين منه، وذكرت أن حاله ثقُلَت، فحُمِلَ من الموضع الذي كان فيه بقصران إلى الري، فلمَّا نزل الدارَ مات، وتولَّت زوجتُه أم سليمان التي كانت زوجة أخيه داود، وفروخ الخاتوني أمره في غسله ودفنه [وكتموا خبره، وسنذكره في ترجمته] فكان بين زفاف السيدة إليه وبين وفاته ستةَ أشهر وثلاثةً وعشرين يومًا. وفيها كثرت غارات العرب على بغداد حتى أخذوا ثياب الناس من باب بغداد، وقدم رجب بن منيع أمير بني خفاجة فنزل بالنجمي واستُدعي إلى بيت النُّوبة خامس ذي القعدة، فخلع عليه طاق سقلاطون، وفَرَجيَّةَ ديباج مُذهَبة، وعمامةً بيضاءَ مُذْهَبة، وكتب عهده على ما وليه من سقي الفرات، وعاد إلى بلده، ولمَّا تُوفِّي السلطان كاتب الخليفةُ أصحاب الأطراف مسلم بن قريش أمير العقيليين ودُبيس بن مَزْيَد أمير الأسديين وأبا كاليجار هزارسب وأبا الفتح وأبا النجم ابني ورَّام وبدر بن مهلهل أمراء الأكراد كتبًا تتضمن إعلامهم بما يتجدَّد، واستدعاءَهم إلى الباب فيشاوروا فيما يفعل، وخصَّ مسلمًا بخُلعةٍ بعث بها إليه، وروسل العميد أبو سعيد القايني، وأشعر بالحال، واستدعى إبراهيم وأمر له ما يعتمده ويعول عليه في تسكين البلاد والخدمة، فرهَّب الحضورَ وقال: قد ظهر من الإشاعة لهذا الخبر وتسريح الركابية إلى أصحاب الأطراف ¬

_ (¬1) الحظيَّة: المرأة المفضلة على غيرها في المحبَّة. المعجم الوسيط (حظي).

بالاستدعاء إلى ما أوحشني، وقد كان الرأيُ أن يكتم هذا الأمر حتى تَسْلَم البلادُ من الغارات، وتنحسمَ عنها مواد الأطماع، إلى أن يُحكَم تدبيرُها، وأنا فما أحضر إلى الدار العزيزة إلا بعد الأمان الذي أسكن إليه، ومع ذلك فما ورد إليَّ في هذا الأمر ما أُعوِّل عليه، وإذا صحَّ عندي فأنا غلامُ عميد الملك، وإذا ورد إليَّ كتابُه بأمر امتثلتُه، وجمع العجم إليه، وكان نازلًا بقصر عيسى، وابتدأ بعمل سورٍ على بابه يتحصَّن به، وأعدَّ فيه الغلّات والسلاح، وعبَّأ على السطوح الحصا الذي حرزه في الزواريق من عُكْبَرا، وأطلق يده بالتواقيع للعرب بالنواحي، ولم يقطع ضرب الطبل من دار المملكة، وأظهر قلة الثقة بهذا الخبر، وجلس الوزير ابن جَهير للعزاء في صحن السلام يوم الثلاثاء السادس والعشرين من رمضان. وفي مثل هذا اليوم كان دخول السلطان بغداد سنة سبع وأربعين وأربع مئة، فكانت مدة ملكه العراق سبعَ سنين وأحد عشر شهرًا واثني عشر يومًا، وثقُلَ على الخليفة ما فعله أبو سعيد، وتقدَّم بأن يكتب له الأمان الذي التمسه، وعلَّم عليه بخطِّه، فحضَرَ بعد مخاطبةٍ طويلة، وصعد إلى باب العزبة، وخدم ودعا، وعاد من وقته، ولم يحضر موضع التعزية، وخدم، فطرح أصحابه الخلع على الملَّاحين سرورًا بسلامته، وتقدَّم إلى الخطباء من الديوان بقطع خطبة السلطان، فقُطعت يوم الجمعة لليلةٍ بقيت من رمضان. وفي شوال قتل سليمان قاتل الأخرم، وكان قد اعترض قافلةً شاميةً وطلب منها خفارةً، فمنعه ابن بطن الحق الكعبي، وقال: هذه خفارة أبي وجدِّي. وتنازعا، فضربه بحربة، وقتله، وهرب بنو كعب خوفًا من رجب بن منيع، فقال رجب: أنا ولي هذا الدم، وقد وهبتُه. وكان بين قتل محمود وسليمان أقلَّ من شهر. وفيه ورد الخبر بوفاة السلطان، ولا بُدَّ من الاجتماع ليُقرِّر ما يفعل، فسار صدقةُ إلى الأهواز، فلمَّا حصل في دار هزارسب قبض عليه واعتقله، وكان الليث بن صدقة في بعض الطريق ومعه معظم خزانة أبيه، فهرب ودخل بغداد بعد أن نزل على دُبيس، ونزل الخرابة في الحِلَّة، وسأل الديوان، فكاتبه هزارسب في معنى أبيه والتلطُّفِ في خلاصه، فكُتِبَتْ له الكتب، وكُتب إلى أبي عبد الله المردوسي -وكان عند دُبيس- بالمُضيِّ إلى هزارسب في هذا المعنى، فعاد وقال: أولينا لنحقِّق الأمر.

وفي يوم السبت منتصف شوال وكل بالعميد القايني في دار الخلافة. ذكر السبب: كان مكاشفًا للخليفة، مُطَّرِحًا أمرَه، ولمَّا مات السلطان لم يُقلِعْ عن ذلك، وأدخل يده في الإقطاعات والأسباب الخليفتية، وتوقع منه الرجوع فلم يفعل، وطُولِعَ الخليفةُ بأنَّ عنده من الارتفاع جملة، ودخل رجل من بني عقيل، فاستجار بحريم الطاهري، فبعث وأخذه وكان معه مال، فأرسل إليه الخليفة: قد كنتَ تنظر في هذا البلد من قِبَلِ مَلِكٍ مضى لسبيله، فإما أن ترفع يدك وتسكن آمنًا، وإلا فاخرج من هذا البلد. فدافعَ وغالطَ، وأقام في الديوان من ينظر في البلد، وهرب العجم إلى دار العميد، فأحضر الخليفةُ القضاةَ والفقهاءَ، وأرسل إليهم: ما تقولون فيمن عصى الإمام، ومرق عن طاعته، وأبدى صفحة مخالفته؟ فأفتَوا بقتاله وجهاده، وبلغه ذلك، وشاع انحلال أمر عميد الملك، فأرسل يعتذر، واستقرَّ أن يحضر بيت النُّوبة ليحلف عن ما حصل في يده من الارتفاع، ويرجع إلى داره بحريم الخلافة لعمل الحساب، وأحيط بالسور الذي عمله، وحفظوه من الهرب، فخاف، فعبر إلى بيت النُّوبة، واستحلفه قاضي القضاة، فأقرَّ بثلاثين ألف دينار وست مئة كُرٍّ غلَّةً، فقال القاضي: أين هذا المال؟ حاضرٌ أم مفرَّقٌ في السواد؟ ففطن، فقال: مُفرَّق. فقال: إذا أحضرتَه شهدنا عليك. وطالبَه أقوامٌ بأموال، فاعتُقل حتى تحرَّر أمرُه. وقيل: إنه قيل له: امْضِ إلى دارك بدرب الدواب، واعمل الحساب. فخاف، وقال: ما أخرج من هذه الدار العزيزة. وطُولِعَ الخليفةُ، فقال: يكون في الديوان، ومعه خادم وجماعة، ثم قُرئ على المنابر توقيعٌ من الخليفة برفع الضرائب والمكوس، وكُتِبَ على أبواب الجوامع. ذِكْرُ ما جرى في أصحاب الأطراف: قد ذكرنا أنَّ الخليفة كاتبهم بالاستدعاء، وخَصَّ مسلمَ بنَ قريش بخِلعة، فوصل إلى تكريت، ورام أعذار العرب معه، فلم يفعلوا، وطلب كلٌّ منهم مُناه، وأطمع جماعةً منهم، فاتَّبعوه، وراسل أبا علي بن موسك وأبا الحسن بن عيسكان بن غيمي الأكرادَ بأرض إرْبِل وبلادها، وموَّه عليهما، وقال: إنني منحدرٌ إلى بغداد، وإنَّ الخليفة يُؤمِّرني على العراق، ويستنيبني في البلاد. ولبس الخلعة المنفذة إليه بالموصل، فعبر

إليه، وانحدر في جملته، واتَّفق أنَّ الوزير ابنَ جَهير وجد غلامين لمسلم من الغُزِّ، ومعهما ملطفات إلى الغُزِّ والعجم الذين ببغداد، وإلى الرمش الحاجب يعدهم بالمال والبلاد، فقبض عليهما، وكان مسلم قد بعث أخاه إبراهيم إلى أوانا يستخرج ارتفاعها، فجهَّز الوزير الرمشَ في مئتي غلام، ومحمد بن منصور ومهاوش بن مجلي في نحو خمسين فارسًا إلى أوانا للإيقاع بأخي مسلم، وبلغه، فانهزم، وكوتب للأطراف بالمبادرة، فأمَّا ابنا ورَّام فقَدِما في عدةٍ قوية، ونزلا ظاهر الحريم، وتوقَّف دُبيس، ثم قدم، وراسل مسلمٌ والي تكريت بتسليم القلعة، فقال: حتى يخرج الشتاء؛ فإنَّ طريق خراسان لا ينسلك اليوم من الثلج. فحاصره، فكبسه في الليل، وقتل جماعةً من أصحابه، وأخذ خيلَهم، وأخذ فرسًا لمسلم يُعرف ببيت العرجاء كان وُعِدَ به، وعاد إلى القلعة، وانتشرت البوادي في السواد، وأرجف بأن مسلمًا يدخل بغداد ويجلس في دار المملكة، ويحاصر دار الخليفة وينهبها، فانزعج الخليفة والناس، وعبر الرمشُ الحاجبُ والغُزُّ والغلمانُ إلى الحاجب الغربي، وخلَعَ الخليفةُ على العرب والترك، وبذل المال، وورد كتاب هزارسب إلى الأهواز يذكر أنه يخدم الخليفة بمئة ألف دينار إن وُسِمَ بميسم الملك، فكتب إليه: هذا الأمر لا يمكن إلَّا في السلجوقية، ويجب أن تتشاغل بقاروت بك الذي هو بقُربك -وقد استولى على البلاد- حتى تدفعه، ويكون لك بعد ذلك حديث. وكان قاروت بك قد كتب إليه يأمره بالدخولِ في طاعته، وإقامةِ الخطبة والسِّكَّةِ له بخوزستان والبصرة، وتلك النواحي، ويتهدَّده إن لم يفعل، وجاءت رسل مسلم إلى الديوان برسالة مضمونها: ما أعلمُ سببَ هذه الجموع والعساكر والخِلَع وإنفاق الأموال، فإن كان لأجلي فما شققتُ عصًا، ولا خرجتُ عن طاعة، ولا انحدرتُ إلا بكتبك أيها الوزير واستدعائك وإنفاذك إليَّ الخلعة، وإني لبستُها بالموصل متشرفًا بها، فلما انحدرتُ وقربتُ من الخدمة ذمَّيتَ أفعالي، وقبَّحتَ أحوالي، وجمعتَ العساكر عليَّ، فإن كان قُربي قد كُرِه فأنتم استدعيتموني وما لي ذنبٌ في ورودي، وأما تصرُّفي في البلاد فما فعلتُ منكرًا، هذه بنو أسد بلادُهم ما زالتْ في أيديهم مدةَ أيام السلطان طُغْرُلْبَك، وقد استجدُّوا اليد في أعمال واسط، وكذا بدر بن مهلهل وهزارسب وابن ورَّام -وعدَّدَ أمراء الأطراف- وأما نحن جماعةَ بني عقيل فما

زِلْنا في أيام السلطان مدفوعين، عن (¬1) إقطاعاتنا خائفين، وغيرُنا يأكل بلادنا، من غير أن حدَّثْنا نفوسَنا باستضافة ما لم يكن لنا، فإن دفعتموني عمَّا كان لآبائي وأجدادي، فمن بُغيَ عليه لينصُرنَّه الله، وإن أُجريتُ بجري غيري فليرجع كلُّ واحدٍ من هؤلاء الأمراء إلى مكانه، وإني جارٍ في الطاعة مجراهم، وخادمُ الدار العزيزة. فثَقُلَ على دُبَيس والجماعة قولُه؛ لكونه تعرَّض لما مدُّوا أيديهم إليه، وطالعوا الخليفة، فكان الجواب: لو كان باطنُ ما أورده كظاهره ما أُنكِرَ عليه، ولكنه قد أبطن العصيان، وظهرت أماراتُ الفساد منه، وما لَهُ عندنا جوابٌ عن رسالة، ولا ها هنا غيرُ دفعه ومحاربته. وتقدّم إلى الجماعة بدفعه عن هذه البلاد والعبور إلى النجمي والنزول على الرملة، فأجابوا بالسمع والطاعة، وأرسلوا إلى أعمالهم يحشدون الرجال من العرب والديلم وغيرهم، وقال الوزير للمرسل: قد جئتم برسالة ظاهرها الطاعة، وأفعالُكم تنافيها، وما كُوتِبتُم إلا كما كُوتِبَ غيرُكم، ولتكونوا في الخدمة طائعين، وقد ظهر منكم ضدُّ ذلك، فإن كنتم صادقين فابعثوا بعبس بن عيسى، فإنه وجهُ عشيرتكم، ومُقدَّمُ أمرائكم، لنقرِّر معه قاعدةً يجري الأمرُ عليها. وبينما الناسُ على هذا وصل مسلم إلى أجمة الريادة، وهي على ثلاثة فراسخ من بغداد، فعبر الحاجب ودُبيس وبنو ورَّام وبدر بن مهلهل والغلمان إلى الجانب الغربي، ونزلوا بالنجمي وباب الشام وباب التبن، وجاء بعبس من عند مسلم، فأورد ما أورده الرسل أولًا، وقال: أنا على الطاعة إن أُعطيتُ ... أماكن سمَّاها استوعبَتِ العراق، فأُعطي بعضَها، فلم يقنع، وعاد إليه رسولُه، واختلفت الأمراء على الخليفة، وتقدم إلى دُبَيس بتولِّي حربه، فامتنع وقال: أحتاج إلى صاحب [جيش] (¬2) يندبه الخليفة معي، تسيرُ الجماعةُ تحت رايته، ويكون معه من المال ما يعطيه لمن يبينُ بين يديه، وورد ولد دُبَيس من واسط، ومعه جماعةٌ من العرب الأسدية والديلم والأتراك الواسطية والبغدادية، وورد رجب بن مَنيع في جماعة من بني خفاجة ومن بلد بدر بن ¬

_ (¬1) في (ف): في. (¬2) ما بين حاصرتين من (ف).

السلطان طغرلبك

مهلهل، وأُقيمت له الإقامات، وأُعطوا المال والخِلَع، وطابت قلوبُهم، وندب لهم من خدم الخليفة موفق الخادم الخاص، وضُرِبَتْ له النُّوبة بالنجمي، وعقد له الخليفة لواء أبيض بيده، وفيه كتائب سود، ولقَّبه أمينَ الدولة، وسار في خدمة الأتراك والأمراء المذكورين والعساكر، فخيَّم بقطيعة الدقيق، وثار العوام، وطلب أهلُ كلِّ محلَّةٍ منجوقًا يقاتلون بين يديه، وغلقوا الأسواق، ولبسوا السلاح، ودقُّوا بالدبادب، وواصلوا الخروج إلى العسكر، وجاء جماعةٌ من العرب إلى بعض القرى، وعلم بهم العسكر، فخرج إليهم جماعةٌ فقتلوا منهم جماعة، وأخذوا خيلهم، وجاء رسول مسلم يعتذر ويقول: أنا العبد الجاني، ومهما أُمِرتُ به امتثلتُه من غير مخالفة ولا مراجعة، وجرى ما انتهى إلى من يخرج إليه، ويتوسَّط الحال، ويقرر القواعد التي يزول معها الخلاف. وفيها وردت الأخبار من الري أن عميد الملك طالب السيدة بنت الخليفة بالجواهر التي كانت للسلطان عندها، وذكر لها قيمةً عظيمةً، فأنكرت أن يكون عندها شيء، فأدخل يدَه في إقطاعها هناك. وفيها ثار أهل هَمَذان على العميد، فقتلوه وقتلوا معه جماعةً سبعَ مئة رجل من أصحاب السلطان والشِّحْنة (¬1)، وجلسوا يشربون الخمر على القتلى، ويضربون بالطبول مدةً، ويؤمِّرون من شاؤوا، وذلك لمَّا صحَّ عندهم أن السلطان مات. وفيها قصد قُتُلْمِش الريَّ ومعه خمسون ألفًا من التركمان، فدفعه عميد الملك عنها. وفيها تُوفِّي السلطان طُغْرُلْبَك (¬2) واسمه محمد بن ميكائيل بن سلجوق، أبو طالب، [وقد ذكرنا طرفًا من أخباره]، قدم بغداد سنة سبع وأربعين، وخلع عليه القائم، وخاطبه بملك المشرق والمغرب، وهو أول ملوك السلجوقية، وهو الذي بنى لهم الدولة، وردَّ ملك بني العباس بعد أن ¬

_ (¬1) الشِّحْنة: لفظٌ كان يطلق على رئيس الشرطة، ثم أصبح يطلق على قوة الشرطة في المدينة. معجم المصطلحات والألقاب التاريخية: 269. (¬2) ينظر السير 18/ 108.

استولى البساسيري على القائم وأخرجه إلى الحديثة، وكان شجاعًا جوادًا حليمًا، عصى (¬1) عليه جماعةٌ، فعفا عنهم ولم يؤاخذهم، وكتب بعضُ خواصِّه إلى أبي كاليجار بن بويه كتابًا يذكر فيه سوء سيرته فوقَّع على الكتاب، ولم يقُلْ شيئًا، وكان عميد الملك قد استولى عليه، وتُوفِّي بالري يوم الجمعة ثامن رمضان، وكانت مدة ملكه خمسًا وعشرين سنة، وقيل: ثلاثين سنة، وعمره سبعون سنة، وقيل: جاوز الثمانين، [وقيل: في عشر الثمانين] والأول أصح. قال عميد الملك: قال لي السلطان: رأيتُ في منامي كأني رُفِعتُ إلى السماء وأنا في ضباب، لا أدري ولا أبصر ساعةً، وإني أَشَمُّ رائحة الطيب، فنُوديتُ: أنتَ بقرب الباري عزَّ وجلَّ، فسَلْ حوائجك، فقلت في نفسي: ما من شيء أحبُّ إليَّ من طول العمر، فقيل لي: تعيش سبعين سنة، وانتبهتُ. قال عميد الملك: فجلستُ فحسبتُ عمره، وإذا به سبعون سنة. وكانت قد توالت عليه أمراض مختلفة، وواصلته حمى ملازمة، وأخرى مناوبة، وما كان يحتمي، ولا يشرب دواءً، فآل به الأمر إلى سقوط القوة، فكان يرعف دائمًا، فحُمِلَ من المخيم إلى دار السلطنة في مِحفَّةٍ فمات بها [في التاريخ المذكور] فغسَّلَتْه زوجتُه أم سليمان، وفرُّوخ الخادم، وكفَّنته ودفنته. وكان عميد الملك يحاصر قُتُلْمِش في قلعة كَرْدكوه، فأرسلوا إليه، وأقام الناس يوم السبت والأحد وهم يظنون أنه في عافية، والأمور على حالها، والطبل يُضرَبُ على رأسه (¬2)، واستحلف ابنابجيل الحُجَّاب والخليفاتية ومن كان عنده لسليمان بن داود الذي نصَّ عليه السلطان، وكنيته أبو القاسم، ولقبه مشيد الدولة، وسار الرسول إلى عميد العراق آخر نهار الجمعة، ووصل إليه يوم الاثنين ضحوة، والمسافة نيِّفٌ وستون فرسخًا، فجمع العساكر وغيرهم، وعرَّفهم الخبر، وقال: أنتم تعلمون أني وإياكم عند ذلك السلطان، وقد مضى لسبيله، وكان عهد إليَّ وإليكم في معنى ولد أخيه، وأنا قانعٌ بثوبٍ ألبسه، وفرسٍ أركبه، وأعيش فيما بينكم، فإن ساعدتموني فعلتُ معكم ما يوفي ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): بغى، والمثبت موافق لما في النجوم الزاهرة 5/ 73. (¬2) في (م) و (م 1): عادته.

على أعمالكم وآمالكم. فقالوا: نحن عبيدك، وجميعُ ما تدبِّره فما نخرج عنه. فجمع ما في العسكرين من مال ودوابَّ وثيابٍ وغيره، فأعطاهم إيَّاه، حتى الدَّواة التي كانت بين يديه، ولم يُبْقِ له سوى فرسٍ يركبه، وسار إلى الري، وهم معه، فوصلها يوم السبت سادس عشر رمضان، ودخل دار السلطنة، وجاء إلى المكان الذي فيه تابوت السلطان، فبكى وحزن حزنًا كبيرًا، وأراد الأمراءُ والحُجَّاب تمزيقَ ثيابهم، فقال: قد فات وقتُه، والصواب التشاغلُ بغيره، وأجلس سليمانَ على التخت، وجدَّد له الأيمان، وحطَّ من القلعة سبع مئة ألف دينار وستة عشرة ألف ثوب من الأنواع، وسلاحًا يساوي مئتي ألف دينار، وفرَّق الكلَّ، فدعوا له وشكروه، وقال لهم: ما ثَمَّ مَنْ يُخاف من منازعته إلا ألب أرسلان صاحب خراسان، وأنا أراسله وأقول: قد عرفتَ ما كان من وصية السلطان في مُضيِّ الأمير سليمان، وهو منك وإليك، وبضعة من جسمك، فإن طمحت إلى البلاد، فقد انحلَّ من الأعمال ما يوازي هذه البلاد -مثل خُوارَزم ونيسابور وغيرها- فهو لك، وإن كنت تريد المال فنحن نبعث إليك من هذه القلعة ما ترضى به، ونقيم الدعوة لك بعد سليمان، وتجتمع الكلمة، وتكون الدعوتان واحدة، والبلادُ محروسة، والدماءُ محقونة، وان أبيتَ وحاولتَ غيرَ ما رتبه السلطان فقد أعذرنا، ونحن نقصدك قبل أن تقصدنا، ويحكم الله بيننا وبينك. وقيل: إن عميد الملك كتب كتابًا بخطِّه إلى ألب أرسلان أبرق فيه وأرعد، وخوَّف وهدَّد، فكان سببًا لمنيته، وكان السلطان قد اعتقل أنوشروان ابن امرأته في قلعة الري، فلمَّا قويَ مرضُ السلطان عاهده والي القلعة أن يُطلِقَه إن حدث بالسلطان حَدَث، فلما مات السلطان طالبه بما وعده به، فلم يفعل، وكتب إلى عميد الملك بسببه، فخاف عميدُ الملك منه، فلم يأذَنْ بإطلاقه، وكان في عقل أنوشروان لُوثةٌ، فاستدعى الموالي، وجلسا يلعبان بالشطرنج في الحجرة التي هو معتقَلٌ فيها، فوثب عليه فقتله، وثار أهل القلعة، وأحاطوا بالحجرة، فخاف على الجارية التي كانت له وكان يُحبُّها، فقال لها: اطَّلعي من هذه الرَّوزنة إلى الصحراء، وانظري من تحت القلعة. فاطَّلعت، فدفعها ورمى بها إلى الأرض لتهلك قبله، فدخل الريح في ثوبها، فحملها إلى ناحية

مسلم بن إبراهيم

الجبل، فانكسرَتْ يدُها، وسلِمَتْ نفسُها، ثم رمى بنفسه بعدها فتقطَّع، وحُمِلَ في تابوت فدُفن عند أمه، وسار ألب أرسلان من خراسان يريد الري، وسار أخوه سليمان إلى شيراز، وأقام عميد الملك الخطبة لألب أرسلان في ذي القعدة، وبعث رسلًا إليه بالطاعة، وجاء قُتلْمِش فحاصر الريَّ وقاتلوه، وكان في خمسين ألفًا من التركمان، فنهبوا الضياع، وسبوا النساء وقتلوا، وجاءهم الخبر بأنَّ ألب أرسلان قد قَرُب من الري وتقدَّمت مُقدِّماته، فسار قُتُلْمِش يطلبها، وأدركه السلطان، فانهزم قُتُلْمِش، وسنذكره إن شاء الله تعالى. [وذكر محمد بن الصابئ أنه ظهر من أمر السلطان في نزول زُحَل بُرجَ الأسد، وانتفت وفاته في مثل ذلك، فكانت مدة ملكه ثلاثين سنة. قال: فأمَّا عمره فلم يكن محقَّقًا، إلا أني سمعت فيه أقوالًا كثيرةَ الاختلاف فيها، ووقع الإجماع من طريق الظنِّ والتقدير على أنه في عشر الثمانين. وحكى قصة المنام، وأنه لمَّا قيل له: أنت بقُرب الجبَّار فسل لحاجةٍ تُقضى. فقال: أتمنَّى طول العمر. فقيل له: تعيش سبعين سنة. فقلت: ما تكفيني. فقيل: سبعين سنة. وانتبهت، فقيل ذلك ثلاث دفعات. قال الوزير: فسألتُه عن مولده، فقال: في السنة التي خرج فيها الجانُّ الفلاني بما وراء النهر، فحسبتُها فكانت سبعين سنةً كاملة. وفيها تُوفِّي] مسلم بن إبراهيم (¬1) أبو الفضل، السَّلْمي، البزاز، ويُعرف بالشويطر [ذكره الحافظ ابن عساكر، وقال: سمع الخطيب وغيره، وروى عنه أبو الوحش الضرير] ومن شعره: [من البسيط] ما في زمانِكَ مَنْ ترجو مودَّتَهُ ... ولا صديقٌ إذا خان الزمانُ وفي فعِشْ وحيدًا ولا تركَنْ إلى أحدٍ ... فقد نصحُتكَ فيما قلتُهُ وكفى ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 58/ 72.

السنة السادسة والخمسون والأربع مئة

السنة السادسة والخمسون والأربع مئة فيها في مستهل المُحرَّم استقرَّ أمر مسلم بن قريش، وأُعطي من البلاد ما رضي به، وطلب أن يحضر إلى بيت النُّوبة ليخلع عليه، فأجاب ثم امتنع وتعلَّل، فبعثوا إليه بالخلَع، فلبسها وحلف، وزالت الوحشةُ، واطمأنَّ الناسُ، ورجعت العساكر إلى بلادها، ودخل أبو علي بن موسك وأبو الحسين بن عيسكان إلى الديوان، وخلع عليهما الفَرَجيَّات المُذهَبات والعمائم، وبعث لمسلم اللواء والمركب الذهب وغير ذلك، فلمَّا عاد عميد الملك من حصار قُتُلْمِش بكَرْدكوه نزل قُتُلْمِش من القلعة، وسار إلى التركمان، فنزل عليهم، واستجاش بهم، فنزل إليه أكبرهم، فقوي جأشُه، وانصرف إليه كلُّ مفسد، فسار إلى ساوة ومعه خمسون ألف فارس، وكاتب الأمراء بالاستمالة، فأجابه سُرْخاب بن كامرو، ورحل في الليل هاربًا إليه، وبعث إليه أخاه فجسر على قصد الري، وكان أبو نصر الدِّهِسْتاني الملقب نظام الملك عند قُتُلْمِش معتقلًا، ولمَّا علم عميد الملك ما فعل قُتُلْمِش، وأنَّ ألب أرسلان قد توجَّه من نيسابور يريد الري، كاتبه واستمدَّه، واستخرج أمره فيما يفعل، وأقيمت له الخطبة بالري كما ذكرنا، وجاء قُتُلْمِش حادي عشرين ذي القعدة، فأشرف على الري، فخرج إليه عميد الملك والعسكر، فالتقوا، وقصدهم، وكان في المقدمة الأمير ابنابجيل، فأُسِرَ وأُسِرَ معه جماعةٌ خمسُ مئة غلام، وانهزم عميد الملك، ودخل البلد، وعاد العسكر إلى البلد فضبطوه، وجاء التركمان فحاصروه، وقطعوا الموادعة، وأشرف الناس على خِطَّة صعبة، وأنفد عميد الملك عدة جَمَّازات إلى ألب أرسلان، فجاء جوابه: لا تخرجوا من البلد، فأنا واصلٌ إليكم. وعمل التركمان كلَّ قبيح ومنكر، ووصلت مقدمات ألب أرسلان إلى الدامغان مع الحاجب أردم، فرحل قُتُلْمِش سلخ ذي القعدة بمن معه، وساروا يطلبون العسكر الوارد ليفرغوا منه ويعودوا إلى الري، فصادفوا أردم بمكان يقال له: قرية الملح، فقتلوا جماعةً من أصحابه، وتحصَّن بالقرية، وبعث إلى ألب أرسلان يخبره، وكان على فرسخين منه، فرحل إليه فلحقه، ووقع القتال، واشتدَّ الأمر، وكثرت القتلى، وأنزل الله نصره على ألب أرسلان، فانهزم قُتُلْمِش والتركمان، وركبهم السيف مسيرة أربعة فراسخ، وأُرسِلَ رسول تكين أخو قُتُلْمِش وابن قُتُلْمِش

الأكبر وعدةٌ من الأكابر، واستخلصوا نظام الدين والأمير ابنابجيل ومن أُسِرَ بباب الري، وغنموا أموالهم وجميع ما كان معهم، وسار ألب أرسلان يطلب الري، وبعث إلى عميد الملك بالخِلَع، ورسم بأن ينقل طُغْرُلْبَك من الدار إلى التربة وينظف الدار لينزل بها، فكان عميد الملك ينزل في دهليز الدار في حجرة، فاستأذن في الانتقال منها، فقال ألب أرسلان: سروري قربُكَ، فكيف تبعُد عنا؟ ولم يأذن له في الانتقال، وأما قُتُلْمِش فإنه أفلتَ من الوقعة، وترك الطريق المسلوك، وتعسَّف الجبال والمضائق، ومرَّ على بعض قلاع السلطان، فأرسل صاحبُ القلعة وراءه، فساق فرسه، فسقط به وداسه، فتقيَّأ الدم ومات، فحُمِل إلى الري يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة، وخرج عميد الملك للقائه، فأكرمه وقرَّبه وأدناه، ونزل إليه ألب أرسلان في دار المملكة، ولازم عميد الملك خدمته طول النهار على عادته مع السلطان، وثقُلَ ذلك على نظام الملك أبي علي الوزير، وشرع عميد الملك في قبض جماعة من حواشي طُغْرُلْبَك وخدَمِه، فجمع منهم خمس مئة ألف دينار، وسببه أن ألب أرسلان عتب عليه فيما أخرجه من مال القلعة، وأطلقه للعساكر، فقال: ما أمكنني غيرُ ما فعلتُه، وأنا أردُّ بمقدار ما أخرجتُ. فصادر الأعيانَ والخُدَّام. وفي يوم الخميس خامس المُحرَّم من هذه السنة عمل السلطان بالري سِماطًا عظيمًا في دار المملكة، ومَدَّ بين يديه السِّماط الذي كان لطُغْرُلْبَك ووزنه ألفا ألف مثقال، وجلس في مرتبة عظيمة، وخلع على جميع الأمراء والحُجَّاب، ولمَّا بلغ خبرُ عميد الملك واستقامةُ أحواله إلى بغداد سأل دُبيس في العميد أبي سعيد والإفراج عنه [فأفرج عنه] (¬1) في المُحرَّم، فخلع عليه ابنُ جَهير جُبَّة ديباج وعمامةً بيضاء، وانصرف إلى داره، وكان يبدو منه تهدُّدٌ على ما عُومِل به. وفي يوم السبت سابع عشر المُحرَّم قبض ألب أرسلان على عميدِ الملك آخر النهار، واستولى على أعماله وأمواله، وبعث به إلى مرو الرُّوذ فاعتقله بها، وخلع على وزيره نظام الملك أبي علي الحسن بن إسحاق الطوسي في هذا اليوم، وراسل السيدةَ بنت الخليفة بالإذن لها في المسير إلى بغداد، وقيل: إنَّ تعويقها كان من عميد الملك، ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف).

فخرجت من وقتها إلى دار المرتضى نقيب العلويين بالري، ثم سارت من عنده إلى ساوة، وبعث إليها خمسة آلاف دينار للنفقة، فامتنعت من قبولها، فقيل لها: هذا قبيح فقبلتها، وقيل لها عن نظام الملك الوزير: إنما قبض على عميد الملك لما فعله في حقِّكِ ونقلكِ إلى الري. وسيَّر في خدمتها جماعةً من الأعيان إلى بغداد، وأنفذ أبا سهل محمد بن هبة الله -ويُعرف بابن الموفق- في صحبتها، والخطاب في إقامة الدعوة لألب أرسلان، وترتيب مَنْ يقوم بالنظر في الحضرة، فتوفي ابن الموفق بالموذقان، فعدل إلى رئيس العِراقَين (¬1) أبي أحمد النهاوندي، وتقدَّم إليه بالمسير معها، فامتنع، فأُلزِم، فسار مسيرَ مُكْرَهٍ على غير اختيار، وكتب معه كتابًا إلى الخليفة بإقامة الخطبة، ووصلت إلى بغداد في ثالث عشر ربيع الأول، ودخلت ليلًا إلى الدار، وخرج الخدم والحاشية لتلقِّيها، وكانت قد نزلت بالراوودية على نصف فرسخ من بغداد، فخرجت إليها والدتها والخدم والقَهْرمانة، ودخلت ليلًا، وسُرَّ القائمُ بدخولها، وكان قد وصل في خدمتها القاضي أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن وأسكين الحاجب، وحضرا بيت النُّوبة، وسأل قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني أن لا يقعد القاضي أبو عمرو فوقه، فقيل: هذا ضيف، وقد وصل بالجهة، فلا سبيل إلى ذلك. وقام أبو الحاجب وسلَّم إلى الوزير كتابين كانا معه، كتاب إلى الخليفة، وكتاب إلى الوزير، فخرج الجواب يتضمن الشكر للملك عضد الدولة ألب أرسلان، ويفيد بخدمته في شبيه السيدة، فإنه وقع في موقعه، وتقدَّم إلى الخطباء بالخطبة على المنابر، وأقيمت الدعوة يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر، وكانت الخطبة على المنابر: اللهمَّ وأصلِحِ السلطانَ المعظَّم شاهنشاه الأعظم ملك العرب والعجم، سيد ملوك الأمم، ضياءَ الدين، غياثَ المسلمين، ظهيرَ الإمام، كهفَ الأنام، عضُدَ الدولة، وتاجَ المِلَّة، أبا شجاع الدين، رسلان محمد بن داود برهان أمير المؤمنين. وصحب هذا القاضي كتبٌ إلى الأطراف إلى: مسلم بن قريش، ودُبيس بن مَزْيَد وابن ورَّام وغيرهم، فأجابوه بالسمع والطاعة، وكان ورد قبل السيدة صاحبٌ لرئيس العِراقَين النهاوندي يُعرف بمظفر، فكتب إلى الديوان والوزير فخر الدولة متضمنةً للخدمة، وأنه قدِمَ مظفرٌ أمامه إلى حين وروده، فتقدم إليه الوزير بتسليم المعاملات وتمكينه من النظر والتصرف الذي يتعلَّق ¬

_ (¬1) العِراقان: الكوفة والبصرة.

به، وتمادت الأيام بوصول رئيس العِراقَين، ثم ورد من أخبر أنه مقيم بهَمَذان، ولا رأيَ له في العراق. وفي هذا الوقت وردت الكتب بأن السلطان ألب أرسلان دخل خلف الأكراد اللوذية، وكانوا يقطعون الطرق، فأوغل خلفهم في الجبال، فظفر بهم، وغنم العسكرُ أموالهم، وأقام بمكانه، وكتب إليه من بغداد بإقامة الخطبة، فسُرَّ سرورًا عظيمًا، وسجد شكرًا لله تعالى، وبعث العميدُ أبا الحسن علي بن عيسى، وأصحَبَه عشرة آلاف دينار ومئتي ثوب إبريسمية أنواعًا، وحوالةً على الناظر ببغداد بعشرة آلاف دينار أخرى وعشرة أفراس وعشر بغلات، ووصل العميد إلى بغداد تاسع جمادى الأولى، والتقاه عميد الدولة بن فخر الدولة بن جَهير، ووصل إلى باب النُّوبي، ونزل وقبَّل العتبة، ثم مضى إلى دار المملكة فنزل بها، وكان معه توقيعٌ لخاتون السفرية لألب أرسلان بما كان من الإقطاع لزوجة طُغْرُلْبَك التي صار إلى السيدة بنت الخليفة، فامتنع الخليفة من الإفراج عنها، وقال: في هذا غضاضة وقباحة، ولهذه في أموال ركن الدين الذي خلفها حقٌّ بحسب هذا القدر منه. فوقع الإمساك حينئذ عنها، وطلب القاضي النقش على السِّكَّة والخِلَع، فنقش اسم ألب أرسلان على السِّكَّة، وأمَّا الخِلَع فتوقَّف أمرُها، واحتجَّ بأن منها صناعاتٍ وآلاتٍ تحتاج إلى مدة طويلة، والخزائن خالية، فإن كان المراد التعجيل نفذنا فَرَجيَّةً وعمامةً ولواءً، وإن أردتم الخِلَعَ السلطانية فأقِمْ يا محمد بن عبد الرحمن -يعني القاضي- حتى تستوي وتُكمل، وهذا أمرٌ مردودٌ إليك، ثم استقرَّ الأمر على ما يُذكر إن شاء الله تعالى. وكان ألب أرسلان قد سأل أن يكاتبه الخليفة بالولد المؤيَّد، فنقشوا على السِّكَّة كما يدعون في الخطبة، ومن جانبٍ اسمَ القائم، وما جرت به العادة، ولقَّب الخليفةُ إلياسَ بن ألب أرسلان الأميرَ، شهابَ الدولة، قطبَ الملة. وملك شاه طريدَه (¬1) جلال الدولة وجمال الملة. وبِيعَ بواسط دارٌ بدرهم ودانقين ونصف، فاستزاد البائع [المشتريَ] قيراطًا ليتمَّ ذلك درهمًا ونصفًا، فلم يفعل، وسببه استيلاء (¬2) الخراب عليها [واتصال ما يقتضي من قبيح الأسباب]. ¬

_ (¬1) يعني طريد أخيه إلياس، والطَّريد: الرجل يولد بعد أخيه، فالثاني طريد الأول. معجم متن اللغة 3/ 596. (¬2) في (م) و (م 1): اتصال.

وقد بيعت دارٌ من نهر طابق ببغداد سنة ثمان وأربعين وأربع مئة بثلاثة (¬1) قراريط. وفي ربيع الأول شاع ببغداد أنَّ قومًا من الأكراد خرجوا متصيِّدين، فرأوا في البرية خِيمًا سودًا سمعوا منها لطمًا شديدًا، وعويلًا كبيرًا، وقائلًا يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأيُّ بلدٍ لم يُلْطَمْ عليه فيه، ويُقام المأتم، قُلِعَ من أصله، وأُهلِكَ أهلُه. فخرج النساء العواهر إلى قرب الحَلْبة وباب أبرز يلطِمْنَ ويُمزقْنَ ثيابهنَّ وينشرن شعورهنَّ، ويخمِشْنَ وجوههنَّ، وأقمْنَ ثلاثة أيام على ذلك، [واجتمع إليهنَّ العدد الكثير] (¬2). وقال القاضي ابن السماك أنه شاهد رجالًا قد شوَّشوا عمائمهم، وفتقوا جيوبهم لذلك، ثم وردت الأخبار بأن واسطًا وأعمالها وبلاد العراق جميعَها وخوزستان وغيرَها من البلاد على مثل ذلك، وتعدَّى إلى بغداد، وأصعد إلى الموصل وديار بكر وغيرها من الأقطار (¬3). ذِكْرُ إنفاذ الخلع إلى ألب أرسلان: لمَّا وقع الفراغ من الخلع سأل العميد الخليفة الجلوسَ العامَّ والمشافهةَ بتقليد ألب أرسلان وتسليم الخلع إلى الرسول بمشهدٍ من الخاصِّ والعام، فجلس يوم الخميس في دار الخلافة في البيت المتصل بالتاج المشرف على دجلة، واستدعى الوزير والقاضي والعميد، وسلَّم إليهم الخلع والعهد على ما جرت به العادة، وشافههم بأنه قد فوَّض الأمور إلى عضد الدولة، وجهَّز معهم الكاملَ نقيبَ العباسيين وأبا محمد التميمي وموفق الخادم الخاص، وخرجوا بذلك، وكان في كتاب الخليفة بعد البسملة: من عبد الله أبي جعفر الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى الوليد المؤيد شاهنشاه الأعظم، ملك العرب والعجم، سيد ملوك الأمم، ضياء الدين، غياث المسلمين، ملك الإسلام، ظهر الإمام، كنف (¬4) الأنام، عضد الدولة القاهرة، وتاج الملة الباهرة، ألب أرسلان، أبي شجاع، محمد بن داود بن ميكائيل، سلطان ديار ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): بأربعة، والمثبت موافق لما في المنتظم 16/ 87. (¬2) الخبر بمعناه في المنتظم 16/ 87. (¬3) المثبت من (م) و (م 1)، وفي (ف): الأوطان، وفي (خ): الأبطال. (¬4) في (ف): كهف.

المسلمين، برهان أمير المؤمنين، سلام الله عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يُصلِّيَ على محمد عبده ورسوله ويُسلِّمَ تسليمًا، أما بعد، أطال اللهُ بقاءَك، وأدامَ عِزَّك وتأييدَك ونعمتك، وأحسنَ رعايتَك وكلاءتك، وأمتع أميرَ المؤمنين بك، ولا أخلاه منك، ثم ذكر بَعْثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جرَتْ به العادة، وأنه وارِثُه وما أشبه ذلك، ثم قال: وإن أمير المؤمنين بما وكَلَه الله إليه من الأمور العامة للبلاد والعباد، وملَّكَه من زمام الإصدار والإيراد، وناطَه به من حفظ النظام، وفرضه عليه من السعي في الصلاح الشامل العام، يرى استنفاذ الوُسع في اختيار مَنْ يستنيبه في الأراضي، ويلقي إليه مقاليدَ البسط والقبض، ويحبوه بالمرتبة التي طال ما امتدت نحوها الآمالُ فخابَتْ، وطمع في وفاء الأقدار في وعود المني فحابَتْ، وإذا لاحت شواهدُ الكمال فيمن استدعى العزَّ فأجابه، ورمى الغرض فأصابه، وعضد ذلك بالإخلاص في الطاعة، وبلغ أقصى الثناء والحمد داخلًا في نظام الجماعة، غدا (¬1) التوفيق زائرًا في اختصاصه بالمنزلة التي تعجز الأماني عن ارتقاء هضابها، ويقصر الباع عن الامتداد إلى التشبُّث بأهدابها، فأهَّلَتْه لما يجتني به ثمرةَ سوابقه ولواحقه، ويجتلي به العزُّ في أنضر رياضه وحدائقه إبداعًا للصنائع عند الأكفاء، وإبداء للمواضع بأعباء الإخلاص الناهضين والاستكفاء، ولمَّا احتويتَ عليه هذه الخلال وأوفيتَ، وحَمَيتَ منهلَ الطاعة من القذى وأصفَيتَ، وأعدْتَ في الهدى وأبديتَ، وحُزْتَ قَصْبَ السَّبَق وانتهيت، فوَّض إليك أميرُ المؤمنين أزِمَّة الحلِّ والعقد، وأمطاك ذُرى العلا والمجد، وأوصلك إلى ما لم يُدَرَّ له به أمل، ولا فاز بثوابه عمل، واستنابك فيما وراء بابه شرقًا وغربًا، وحصل بما تملك به نواصي الأعداء سلمًا وحربًا، وبعث إليك بالتشريف مبالغةً في الإكرام، ودلالة على فضل الشغف بك والغرام، والعهد الذي يضمن الولاية، وبلَّغك به منتهى العناية، فأسعدكَ اللهُ بهذه الموهبة التي لا توازيها نعمةٌ وإن جلَّتْ، والمنحة (¬2) التي بدَتْ في جلال الكمال وتجلَّتْ، وذكر كلامًا طويلًا، ثم لقَّب الخليفةُ للعميد أبا الحسن شيخ الدولة ثقة الحضرتين، ولقَّب نظامَ الملك قُوام ¬

_ (¬1) في (خ): عدم، والمثبت من (ف). (¬2) في (خ): والمنجمة، والمثبت من (خ).

الدين والدولة، رضيَّ أمير المؤمنين، وهو يذكر في تلك الديار نحو آغابزرك، وكان مسيرهم ثاني عشر جمادى الآخرة، وخرج معهم أبو سعيد النائب في العراق، كان وجماعة من رسل الأطراف والأمراء من العرب وغيرهم. وفي هذا الشهر قدم رئيس العِراقَين أبو أحمد النهاوندي وأيتكين السليماني إلى بغداد، وأخرج الخليفةُ لتلقيهما الخدمَ والحجَّابَ، ولمَّا وصل أبو أحمد إلى باب النُّوبي نزل وقبَّل العتبة، وانصرف إلى دار المملكة، واعترض كلَّ مصعد ومنحدر، وأدخل يده في الأعمال، فعزَّ على الخليفة، فاستدعاه إلى بيت النُّوبة، وخاطبه الوزيرُ ابنُ جَهير وأغلظ له، وكذلك فعل بأيتكين، وانصرفا على هذه الحال، وراسل رئيس العِراقَين الخليفةَ بالشكوى من ابن جَهير والاستعفاء من الحضور معه، وقال: إن هذا قد نقل الدولة التركية إلى العربية، واستدعى بني عقيل إلى العراق، وفعل في ذلك ما سار في الآفاق، والسلطان غيرُ مؤثرٍ له، فعزَّ على الخليفة، وخرج الجواب بالثناء على الوزير والشكر له، وقال: قد كان له في ذلك الأمر المقام المحمود، وإنما له أعداء يتخرَّصون عليه، وأدخل النهاونديُّ يدَه في إقطاع الوزير وأسبابه، وأوقع الهوانَ بأصحابه، ومدَّ يده إلى الضياع العليا والسفلى. وفي هذا الوقت عاد محمود ابن أخي عطية إلى حلب، فانكسر عطية، وعاد إليها مفلولًا، وحاصره محمود حصارًا شديدًا، وعدمت الأقوات. وفي شعبان هجم قوم من أصحاب عبد الصمد الزاهد ببغداد على أبي علي بن الوليد المعتزلي، وسبُّوه وقالوا: هذا يقول: القرآن مخلوق، ويعتقد اعتقاد الفلاسفة، وأنَّ الإنسان قادرٌ على أفعاله، وأنَّ الله يُخلِّد في النار على الذنوب اليسيرة، ولا يَرى يوم القيامة، ولا يصلي في الجامع، ويدرس مذهب المعتزلة، واعتقلهم النهاوندي وقال: يقدمون على الفتن. وأجاب ابن الوليد عن ما قالوه عنه، وأنهى حاله إلى الخليفة، فخرج الجواب بالإمساك عنه، وجلس في بيته وأغلق بابه، ووردت أخبار الرسل أنهم نزلوا توريز، وأن نظام الملك إلى نَخْشُوان (¬1) وهي آخر ثغور الإسلام، وأن أخبار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين (خ) و (ف): تَخْشُوان -بالشين- وذكرها ياقوت في معجم البلدان 5/ 276: نَخْجُوان -بالجيم بدل الشين- ثم ذكرها 5/ 298: نَقْجُوان -بالقاف بدل الخاء، وبعدها جيم- وهي بلد في أقصى أذربيجان.

السلطان مستعجمة، وأنه منذ دخل بلاد الأرمن قد مضى له شهران لم يوقَفْ له على خبر. وفيها وقعت فتنةٌ عظيمةٌ بين عبيد مصر والترك [قال محمد بن هلال: وفي ثاني عشر جمادى الآخرة أو الأولى ورد كتاب من مصر من بعض التجار يقول: إن العبيد اجتمعوا بالجيزة منافرين للأتراك، عازمين على القتال، وغلبوا على الجزيرة التي في وسط النيل بين مصر والجيزة] واتصلت الحرب بين الفريقين، ووصل ناصر الدولة بن حمدان [من أعمال الإسكندرية ومعه عرب من بني سيس وقطعة من الأتراك البغدادية، واجتمع مع المشارقة] (¬1)، والتقى بالعبيد يوم الخميس ثالث ربيع الأول في موضع يعرف بالكوم، فقتل من العبيد ألف رجل، وهزم الباقين، [ولولا أن الليل هجم ما أبقى من العبيد أحدًا، وقد عادت مصر مثل ما كانت بغداد، عند دخول عسكر خراسان إليها من الخوف والنهب والقتل]، وتردَّدت الرسلُ في إصلاح ذات البين، فتمَّ. وفي رمضان ورد كتاب نظام الملك، وأن السلطان أوغل في بلاد الخزر، وبلغ فيها مواضع لم تجرِ العادةُ ببلوغها، وفتح بلدًا عظيمًا، وقتل فيه نحو ثلاثين ألفًا، وسبى ما يُوفي على خمسين ألف مملوك، وغنم غنائم لا تُحصى، وقد عاد منصورًا، ونزل على آبى -وهي أول أعمال الروم- مُحاصرًا لها، ولن يتأخَّر فتحُها له إن شاء الله تعالى، وأنه وصل إليه ما بدأ من أبي أحمد النهاوندي فيما يتعلَّق بالخليفة، وأنكره ورسم له بالتذلُّل أن لا يخرج عن مراسم الخليفة، ويكون طوعَ أمير المؤمنين، ولا يجري على العوائد السالفة، ثم بعد أيام وصل كتاب السلطان بالفتح، فجلس الوزير في بيت النُّوبة، وقُرئ، وخرج من الخليفة ما دلَّ على الوزير، ولم يحضر رئيس العِراقَين، ثم حضر من بعدُ ببيت النُّوبة، وخرج الوزير إليه، فقام وخدمه، وزاد في التودُّد لما ورد من الإنكار عليه، وأنهى خبره، فخرج ما يدلُّ على تطييب قلبه، فقام وقبَّل الأرض، ثم واصل الخدمة، ورفع يده عما كان اعترضه، وفي كتاب الكامل نقيب النقباء أبي الفوارس، وكان قد شهد هذا الفتح، قال: شاهدتُ من هذا البلد المذكور منظرًا هائلًا، وأنه لا يخطر بالبال فتْحُه، ولا يُذكر أنَّ أحدًا من الملوك قصَدَه، فإنَّ ثلاثة ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف) بدلًا منها: إلى الإسكندرية.

أرباعه على نهر الترس الكبير، وربعه الآخر على خندق قد استخرج من الترس، والماء ينزل إليه من عُلوٍّ بعيد بدويٍّ شديد، وله جِريةٌ قويةٌ، بحيث لو طُرِحَتْ فيه الحجارة العظيمة لدحاها وقطعها، والطريق إلى بابه على قنطرة بإزائه وأسواره من الحجر الأصم الشديد، ومراميهِ بعيدة. وقيل: إنه يشتمل على سبع مئة ألفِ دار، وألفِ بِيعة ودير، وليس عليه محالُّ ولا موضعُ قتال ولا فيه مطمعٌ حتى جاء من الله ما ليس له مَدْفَعٌ ممَّا خالف المعهود، ودلَّ على فعل المعبود، واستحرَّ القتلُ وكثُر، وملَّ العسكر وضجر، فأحجموا عن القتال؛ لأن الظفر لم يخطر لهم ببال، ولم يمضِ إلا ساعةً حتى انسلخ من السُّور قطعةٌ من غير مُوجِبٍ أوجبَه، ولا فِعْلٍ به أوهنَه، فدخل العسكر البلد، فقتلوا أهلَه، ونهبوه وأحرقوه وأخربوه، وأسروا من سلِمَ من السيف وتملَّكوه، وانسدَّت الطرقات بالقتلى، حتى لم يكن مسلكٌ إلا عليهم، ولم يخْلُ عددُ الأسارى عن خمس مئة ألف إنسان، وأحببتُ أن أدخلَ البلد وأشاهدَه، فاجتهدت أن يكون لي طريقًا على غير القتلى، فلم يكن، وحدَث أنه وُجِدَ في بعض البِيَع إجانةُ بِلَّور تَسَعُ راويةً من الماء، فكسروها واقتسمها العسكر، ووُزِنَتْ قطعةٌ منها فكانت ثماني عشر رطلًا. وفي رمضان لمَّا هرب بدر بن مهلهل أمير الجيوش من دمشق ولَّى المستنصر حيدرة بن بروا، ثم صرفه عنها بدري المستنصري، ثم صُرِف عنها، فعاد إلى الرملة. وفيها جرَتْ مراسلةٌ بين قاروت بك وأخيه ألب أرسلان، وذلك أنه لمَّا مَلَكَ ألب أرسلان الريَّ وبلاد عمه، واستولى على الخزائن والأموال، وكان قاروت بك على أصبهان رجع إلى كرمان، وخطب لألب أرسلان ولنفسه من بعده بشيراز: ولي فيها حصةٌ معلومةٌ، ويدي خاليةٌ من المال، وقاصرةٌ عمَّا أحتاج إليه ومن معي من الرجال، فإن أنصفتني فيما يقتضيه دينك ومروءتك فهو المعهود منك، وإن لم تفعل شكرتُك ووكلتُك إلى الله تعالى، ورضيتُ بجميل الرأي منك، وقد كان بينهما منافسةُ الأخوة، فندب ألب أرسلان أختهما كوهر خاتون زوجة الأمير أريسيغي، وكان يحبُّها حبًّا شديدًا، فأراد إرسالها إليه في أمر لا يظهر خبرُه، فقيل له: قد مضى إلى كرمان لمَّا

حلَّتْ فارس لبُعد قاروت بك عنها، وكتب فضلويه إلى ألب أرسلان بالانتماء إليه، وخطب له، وطلب منه النجدة، وكان فضلويه مقيمًا بِنَسا، وكتب إلى هزارسب وهو بالأهواز يطلب منه النجدة؛ ليستعين بها على أخذ شيراز، فأنفذ إليه النجدة من الديلم والأتراك، فنهب أعمال شيراز، فأعلم قاروت بك بعد أخيه إلى بلاد الروم ومسير فضلويه إلى شيراز، فسار نحوه وواقعه على بابها، فانهزم فضلويه بعد أن قُتِلَ معظمُ أصحابه، وعاد مفلولًا، ودخل قاروت بك إلى شيراز منصورًا، ووردت الكُتب بعقد بغداد على أبي سعيد الفاسي مدة ثلاث سنين بخمس مئة ألف دينار، وعزل رئيس العراقَين عنها، فراسل الخليفة بالتنصُّل مما فعله في الإقطاعات ومع الوزير والحاشية، فخرج الجواب: لم تزل نعمة الله عندنا في كلِّ من مرق عن الطاعة، واطَّرح رسومَها، إن ردَّه الله إليها خاضعًا عابدًا، وسائلًا العفو لائذًا، فليسكن روعه وليطيب قلبه مما يدرك غايةً فيما يعود عليه بصلاحه شأنُه، ووصل سلطانه، وأمر رئيس العراقَين بردِّ ضياع الوزير وإقطاعه وإقطاع الحاشية وما أخذ منها، فردَّ الجميع. وفي رابع ذي القعدة ورد تابوت موفق الخادم، فخرج الخليفة، فصلَّى عليه، وحزن عليه، وحُمِل إلى الرُّصافة، وعُمِلَ له العزاء ثلاثة أيام، فأُعطي الأميرُ عُدَّةُ الدين ما خلَّفه. وفي ذي القعدة ورد الكامل أبو الفوارس والتميمي وأبو سعيد الفاسي من عند السلطان، فتقدَّم الخليفة بالدخول إلى منازلهم ليلًا؛ استيحاشًا لموفق الخادم وغمًّا عليه، وكان تألَّم لأجله؛ لأنه كان دَيِّنًا عفيفًا صالحًا ناصحًا، وأما أبو سعيد فرأى أن لا يُوحَش، فخرج الحجَّاب والخدم للقائه، فلمَّا وصل إلى باب النُّوبي نزل وقبَّل العتبة. وفي سلخ ذي القعدة خلع الخليفةُ على الشريف أبي المعالم المعمر بن محمد بن عبيد الله العلوي في بيت النُّوبة العمامة والدرَّاعة المُذهَبتين، وردَّ إليه نقابةَ الطالبيين ورعايةَ الحاجِّ والمظالم، وقُرئ عهدُه، ولُقِّب بالطاهر ذي المناقب. وفي هذا الوقت عاد السلطان من بلاد أرمينية، فلم يبلغه أهلُها على الوجه، وغلَّقوا دكاكينهم، ولم يُبايعوا الجند، فضاق عليهم الشيء، وشكوا إلى السلطان، وكانوا قد استطالوا وقتلوا عميد بن طُغْرُلْبَك على ما تقدَّم ذِكْرُه، فأمر السلطانُ العسكرَ بالنزول في

الحسن بن عبد الله بن أحمد

مساكنهم وإكرامهم، فدخلوا البلد واستأمنوا، واستباحوه ونقضوا أخشابه، وقتلوا جماعةً من الأشرار، وانهزم الباقون، وبعث السلطان من هَمَذان بُرْشُق الخادم إلى هزارسب يحمل ما عليه من الضمان، واستصحاب صدقة بن منصور المعتقل عنده، فإن فعلَ وإلَّا قصدَه السلطان، وكان مقلِّد أخو صدقة وولدُه ليث بن صدقة قد خرجا مع الخِلَع إلى ألب أرسلان، وسألا شفاعته في صدقة، فوعدهما بذلك، فلمَّا رجع الرسل إلى بغداد لم يرجعا، وأقاما على باب السلطان، وسار الحاجب إلى هزارسب وهو بخوزستان، فأجابه بالسمع والطاعة، وأن يُطلِقَ صدقة، وكان السلطان قد أخذ قُمْ وقاشان من الأمير أبي علي بن الملك أبي كاليجار بن بويه، وأقطعه في البصرة من جملتها بخمسين ألف ألف دينار، وبعث به إلى البصرة، وكانت البصرة في يد هزارسب، فلمَّا بلغَتْه الرسالة في ذلك اليوم لم يُفرِجْ عن البصرة، وقال: ما فعلتُ ما يُوجِبُ كسر جاهي. ولم يبقَ أحدٌ من الأطراف إلَّا وقد أجري على ما في يده، فلم أُحرم من دونهم، وأشار بأن الأمير أبا علي لا يمكن من المقام بالبصرة، فإنها بلدُ أبيه وبلدُه من بعده، وأهلُها له مُحِبُّون، وربما تمَّ منه ما يصعب تلافيه، وورد على السلطان بباب هَمَذان أبو العباس فضلويه بن علويه الشوابكاري لما اتصل عليه من قاروت بك من الغارات والهزائم وقتل أصحابه، وأخذ البلاد منه، فخلع السلطان عليه الخلع السنية، وأكرمه وقرَّر معه أنه يأخذ بلاد فارس، وينيب فضلويه فيها. وقيل: إنما ورد على السلطان في أول سنة سبع وخمسين، وفيها قصد مسلم بن قريش هَمَذان ودخل على نظام الملك، وتعلَّق بذيله، فأصلح حاله مع السلطان، وأعطاه الأنبارَ وأماكنَ، ورجع إلى بغداد، فالتقاه الوزير، وقبَّل عتبة باب النُّوبي، وخلع عليه الخليفةُ، ورضي عنه، وسار إلى بلده. وفيها تُوفِّي الحسن بن عبد الله بن أحمد (¬1) أبو الفتح، الحلبي، الشاعر، ابن أبي حصينة، كان فاضلًا شجاعًا فصيحًا، يخاطَبُ بالأمير، ومن شعره: [من الوافر] أتجزَعُ كُلَّما خفَّ القَطِينُ ... وشطَّتْ بالخَليطِ نَوًى شَطُونُ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 13/ 120 - 122.

وهُمْ صرموا حبالكَ يومَ سلْعٍ ... وخانكَ منهمُ الثقةُ الأمينُ تسَلَّ عنِ الحِسانِ وكيفَ تسلُو ... وبينَ ضُلوعِكَ الداءُ الدفينُ وفي الأظعانِ من جُشَمِ بن بكرٍ ... ظباءٌ حشوُ أعيُنِها فُتُونُ عليهنَّ الهوادجُ مُطبقاتٌ ... كما انطبقتْ على الحَدقِ الجُفونُ جلبن لنا برامَةَ كُلَّ حينٍ ... ألا إنَّ الحوائِنَ قد تحينُ عشيَّةَ مِسْنَ غير مصَنَّعاتٍ ... كما ماسَتْ منَ الأيكِ الغُصونُ ضنيناتٌ عليك وكيف يُرجى ... زوالُ يدٍ وصاحِبُها ضنينُ جُنِنَّا بالحِسان البِيضِ دَهرًا ... وإنَّ هَوى الحِسان هُوَ الجُنونُ كأنَّ أُمامَة حلفت يَمِينًا ... لنا ألا يَصِحَّ لها يمينُ أغِيٌّ بَعدَ ما ذهبَ التصابي ... وشابَتْ بعد حُلكَتِها القُرونُ وعندكَ يا ابنَ وثَّابٍ جميلٌ ... فإن تُشكَرْ فَمَمحُوقٌ قَمِينُ فتًى أولاكَ مكرُمةً وفَضلًا ... وعَزَّ به حماكَ فما يهونُ أبا الصَّمصامِ صُنْتَ عليَّ جاهي ... ومثلُكَ من يَذُبُّ ومَن يَصونُ ولولا أنت لاتَّسَعَتْ خُروقٌ ... على ما في يدي وجرَتْ شُجونُ ولكن أنت لي وزرٌ (¬1) منيعٌ ... وحِصنٌ أستجِنُ به حَصِينُ وقال: [من الكامل] ريمٌ بِرامَةَ لا يصيدُ بضعفِهِ ... إلَّا الرِّجال الصِّيد عند صُدودِهِ أهوى الدُّجى من أجلِ أنَّ هِلالهُ ... كسِوارِهِ ونُجومَهُ كعُقودِهِ وقال: [من الطويل] شرطتُ عليهنَّ الوفاء فمُذْ بَدا ... بياضُ عِذاري للعذارى مضى الشَّرطُ فلا أبعدَ اللهُ المشيبَ فإنَّهُ ... مَطيّةُ حُكمٍ في الخطيئَةِ لا يخطُو وكانت وفاته بحلب (¬2). ¬

_ (¬1) الوزْر: السلاح. المعجم الوسيط (وزر). (¬2) الترجمة دون الشعر الأخير في تاريخ دمشق 13/ 120 - 122.

عبد الواحد بن علي بن برهان

[وفيها تُوفِّي] عبد الواحد بن علي بن بَرْهان (¬1) أبو القاسم، النَّحْوي، كان عالمًا فاضلًا بعلوم شتى، منها علم العربية والنحو، ولولا شراسة أخلاقه لكانت له آثارٌ باقية، وكتبٌ مرويَّة، ولم يلبس سراويلَ قطُّ، ولا يُغطِّي رأسَه، ولا يقبل لأحدٍ عطاءً، وهو القائل: من قال: إن [الباء] (¬2) للتبعيض، فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. وتوفي ببغداد في جمادى الأولى وقد أناف على الثمانين، وقد طعن فيه [أبو الوفاء علي] بن عقيل [فقال: كان يختار مذهب المرجئة من المعتزلة]. وقال محمد بن عبد الملك الهَمَذاني: إنه كان يميل إلى المُرْدِ الصِّباح ويُقَبِّلهم عن غير ريبة. [وفيها تُوفِّي علي بن الحسن بن محمد أبو الحسن، الصَّيداوي، من أهل صيدا، ذكره الحافظ ابن عساكر (¬3) وقال: كان يتردَّد من صيدا إلى دمشق، فقُتل في وادٍ بأودية صيدا يُقال له: الحريق، فيه أُتْرُجٌّ وليمون، حدَّث عن أبيه الحسن وغيره، وروى عنه الخطيب، وهو روى إلى الأوزاعي أنه قال: خرجت من دمشق أريد البيت المقدس، فوافقتُ يهوديًّا، فلمَّا وصلنا إلى بحيرة طبرية استخرج منها ضفدعًا وشدَّ في عنقه خيطًا، فصار خنزيرًا، فمضى إلى طبريَّة، وباعه من النصارى، وجاء بطعام، فسِرْنا غير بعيد، وإذا بالقوم أدركونا، فقال: أحسبه قد صار ضفدعًا، فحانت مني التفاتةٌ، وإذا ببدن اليهودي ناحيةً ورأسه ناحية أخرى، فلمَّا نظروا إليه عادوا خوفًا من السلطان، وجعل الرأسُ يقول لي: ¬

_ (¬1) ينظر السير 18/ 124. (¬2) يعني قولَه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، وما بين حاصرتين زيادة ضرورية من المغني لابن قدامة 1/ 126، والكافي له أيضًا 1/ 64، وكشاف القناع 1/ 225، وعمدة القاري 3/ 71. (¬3) تاريخ دمشق 41/ 338 - 339.

محمد بن علي بن يوسف

رَجَعوا؟ رَجَعوا؟ قلت: نعم. فعاد الرأس إلى البدن، فقلتُ: واللهِ لا رافقتُكَ بعد اليوم. وقد ذكرنا الحكاية في ترجمة الأوزاعي. وفيها تُوفِّي محمد بن علي بن يوسف (¬1) أبو عبد الله، الطَّرَسوسي، ويُعرف بابن السَّنَّاط، إمام جامع دمشق، كان قارئًا للقرآن، ملازمًا على الصلاة، حافظًا، سمع الكثير، وتوفي بدمشق، حدَّث عن محمد بن أبي نصر وغيره، وروى عنه الحسن بن أحمد الكرماني وغيره، وكان صدوقًا صالحًا]. السنة السابعة والخمسون وأربع مئة فيها في المُحرَّم حضر من عند ألب أرسلان مَنْ أخبر عنه أنه سار من هَمَذان إلى أصبهان في رابع عشر ذي الحجة، فكانت مدة إقامته بها أربعين يومًا، وأن فضلويه وصل إليه في هَمَذان فأكرمه وخلع عليه الخِلَع الجليلة وعلى كل من ورد من صحبته، وأعطاه الخيم والخركاوات والخيل بمراكب الذهب والصاغات وشيئًا كثيرًا، وأمره أن يضرب الطبول على بابه في أوقات الصلوات، ورتب جماعة من العسكر للمسير معه إلى شيراز، وصرف من بها من أصحاب أخيه قاروت بك إلى أن يلحق بهم السلطان، وفي خامسه سار هزارسب مع بُرْشُق الحاجب مظهرًا لما (¬2) قصد ألب أرسلان، وقد بلغه مسيرُه إلى شيراز، واستصحب معه حملًا. وفي المُحرَّم وصل ألب أرسلان إلى شيراز، وكان أخوه قاروت بك بها، فعلم، فأنفذ ثقله وحرمه وأمواله نحو كرمان، وتحصَّن بقلعة على جانب البحر يقال لها: البئر، فثار به بعض عسكره، واستأمنوا إلى ألب أرسلان فأحسن إليهم، وبعث إلى طريق كرمان لأجل رحيل قاروت بك، فأخذه وكان على خمسة آلاف جمل وبغل، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 54/ 401 - 402. (¬2) تحرفت في الأصلين (خ) و (ف) إلى: فلما.

وحمل إلى ألب أرسلان، فسُرَّ به سرورًا عظيمًا، وبعث خلف نظام الملك وكان بأصبهان، فخرج منها مُستهلَّ صفر، ومعه مسلم بن قريش في الخدمة، وورد كتابٌ من هَمَذان فيه أنَّ ألب أرسلان سقط من الفرس بين أصبهان وشيراز، فوقع في نفسه أن ذلك مقابلة فعله بأهل هَمَذان، فكتب إلى أبي محمد الدِّهِستاني الناظر فيها برفع الضرائب والمكوس، وأن يُحسن إلى أهل البلد، ويردَّ ما أخذه منهم، فأخفى الكتاب وقال: إذا بطلت المكوس، ورددتُ ما أخذتُ، فأيُّ ارتفاع يبقى في يدي أحمله إلى الخزانة وأصرفه في مصالح السلطان؟ فطرقته الخوانيق في حلقه فمات، ووجد الكتاب في تركته، فقال أهلُ هَمَذان: إنَّ هذا الذي لحقه عقوبةً له على سوء نيته فينا. وورد الخبرُ أن عطية بن الزَّوقلية صاحب حلب استدنى بُرَّجان (¬1) التركماني ومن معه من الغُزِّ، وكانوا نحو خمس مئة غلام، وقرَّر لهم في كل شهر أحدَ عشر ألف دينار، وأنزلهم بالحاضر ظاهر حلب، وكانوا في الثغور متردِّدين، وبما يأخذونه من الروم عن كفِّ الأذية عن أعمالهم متقوتين، وفعل عطية ذلك لمَّا تواتر من قصد محمود ابن أخيه، ومظافرة بني كلاب لهم، ثم ثار أحداثُ حلب عليهم، وقتلوا منهم في البلد جماعةً بأمر عطية؛ لأنه خاف منهم، ومضى بُرَّجان ومَنْ سَلِمَ معهم إلى محمود بن شبل الدولة خصم عطية. وفيها ورد كتاب ملك الروم إلى الوزير ابن جَهير، فكان منه: لقد كثُر تعجُّبُنا -أطال اللهُ بقاءَ الوزير الخطير والبشير، حسن الأثير- كيف رأى استعمال الصمت وإهمال المكاتبة طول هذا الزمان، وما تحرَّك لتجديد العهد بنا بالمناجاة والمخاطبة مع ما هو متجمِّلٌ به من الأدب الزائد، والعقل الراجح الفائض، والحِجا المستوثق الطائل، لكنا وإن كان الوزير -أدام اللهُ كفايتَه- لما قد احتفَتْه من المهمات، ونِيطَ به من التدبُّرات، لم يتمكن ممَّا ذكرناه، فنحن لم نتمكَّن من الصبر هذه المدة عن مكاتبته، بل أصدرنا هذا الكتاب مستعلمين خبرَه وجريَ الأمور بساحته، وذكر كلامًا بمعناه، وبعث الوزيرُ بالكتاب وكتاب آخر إلى ألب أرسلان يسير بالهدية وتقريرها والجواب عنها. ¬

_ (¬1) في (خ): أسند بارجان، والمثبت من (ف).

وفي يوم الخميس لسبعٍ بَقينَ من رجب حدَّث أبو يعلى بن الفراء في جامع المنصور بأحاديث لا أصل لها، وكان هناك قوم من المعتزلة، فأنكروا ذلك، واستبُّوا، وخرجوا إلى الضرب بالآجُرِّ، واجتمع من الغد الحنابلة إلى دار الخليفة، وشكوا المعتزلة، فخرج جواب الخليفة بالإنكار لمذهب المعتزلة. وفي رمضان قدمت قافلة الحاجِّ من خراسان، وكان نظامُ الملك أحبَّ أن تنفتح طريقُ مكة، وشاور العميدَ أبا سعيد لمَّا ولَّاه بغداد، وفسح له في إطلاق ما يحتاج إليه الخفراء بالغًا ما بلغ، واجتمع العميد في بيت النُّوبة مع الوزير دفعاتٍ بهذا السبب، واستقرَّ أن يسير بالحاجِّ ابن حمزة الهاشمي، وورد مع الحاجِّ العلويُّ المرتضى، كان نقيب العلويين بالري في أيام طُغْرُلْبَك، وتبعه خلقٌ كثير، وتلاه علويٌّ آخرُ ممَّا وراء النهر ومعه عدد وافر، وأحضر ابنُ حمزة الهاشمي نيفًا وستين خفيرًا من القبائل، فخلع عليهم العميدُ ثيابَ القطن المُصبَّغات، فكانوا لها كارهين، وحضر جماعةٌ من بني خفاجة، وأكْرَوا الجمل بأربعين دينارًا إلى مكة ذاهبًا وراجعًا، وعلم المرتضى بأن الخفراءَ غيرُ راضين، فأحضر جماعةً من العرب، وقرَّر الخُفارة معهم، وأن يسير وحده، وعلم العميدُ فخاف على الحاجِّ، فحصل خمسة آلاف دينار وأنفقها فيهم، واستحلفهم على حفظ الحاجِّ، فحلفوا يمينًا ظهر معها سوءُ نيَّاتهم، فشهد عليهم الشهود، فكتب الظاهر أبو الغنائم نقيبُ الطالبيين إلى الخليفة بأنَّ أمر الحجِّ مردودٌ إليَّ، ومتى تولَّاه غيري كان عزلًا لي، وأمراء مكة علويون، ومتى خرج ابن حمزة لم يُمكَّنوا من رعاية الحاج، فقال الخليفة: الأمرُ إليك في هذا. فندب أخاه أبا الحسين، وخرج الناسُ، وخرج الكامل نقيبُ العباسيين والسهيلية القَهْرمانة في دار الخليفة، وساروا، فغدر الخُفراء بهم، وأخذوا المال والجِمال والزادَ، واتفقوا على نهبهم، وكانوا قد ساروا عن الكوفة أربعَ مراحل، فعادوا إلى بغداد ثاني ذي القعدة، وبطل الحجُّ. وفي يوم الخميس منتصف ذي الحجة عاد المرتضى العلويُّ والحاجُّ الذين كانوا معه من فَيْد، فإنَّ الخُفراء غدروا بهم، وجَبَوا منهم ضِعفَ ما كان العميد أعطاهم، واختلفت آراؤهم، فرجعوا وعاد العلويون إلى بلادهم.

وفيها بعث الخليفةُ خادمين وحاجبًا إلى أصبهان يقبروا زوجته أرسلان خاتون. وفي شوال عاد بدر بن مهلهل من نيسابور، وكان ألب أرسلان قد استدعاه ليحضر عرس ولده ملك شاه على ابنة ملك الترك طنغاج، وملَّكه من وراء النهر، وتزوَّج السلطان ببنت قدرخان التي كانت زوجة محمود بن مسعود بن سُبُكْتِكين بمرو، وأنفذها إلى بَلْخ، وكان قد تزوَّج عند دخوله الري زوجة طُغْرُلْبَك واسمها عكَّة. وفيها نزل عطية من قلعة حلب وسلَّمها إلى محمود ابن أخيه من زيادة الغلاء والحصار، وأنَّ ابن خاقان والغُزَّ تولَّوا الحرب، فلم يثبُتْ عطيةُ وأهلُ حلب لهم، وشرط أهلُ حلب على محمود ألا يُمكِّنَ الغُزَّ من الدخول إليهم، فأجابهم وأعطاهم المعرَّة، فنزلها خاقان والغُرُّ، ونزل عطية علي بني كلاب. وقيل: إن ابن خاقان سار بعسكره إلى العراق إشفاقًا من أحداث حلب. ووقع بين الكلبيين وبين قائد دمشق الأرمني خلافٌ، وأخرج معهم عسكرًا لدفعهم، فاستظهر الكلبيُّون، وقتلوا جماعةً منهم، وأسروا سبعة عشر أميرًا وقائدًا باعوهم بعد أن نكَّلوا بهم وعذَّبوهم، وقرَّر عليهم البدويُّ الذي أسره عشرةَ آلاف دينار، أخذ خطَّه بها، فاستشار زوجتَه، فقالت: إن أطلقتَه أعطاك أضعافَ ما تَقرَّر، وفعلت الجميل وراءه، وإن أخذتَ المال شاطرَتْكَ العشيرةُ ولم تظفر بطائل، فأطلقه، وأعاد الخطَّ إليه، وحمله إلى منزله بدمشق، فخلع عليه وأكرمه، وأعطاه ألفي دينار، وقال: هذه لك عليَّ كلَّ سنة. فأخذها وانصرف، وزاد تبسُّطُ الكلبيين في السواد، وأخذوا الغَلَّات ونهبوا، فخرب الشام، ودخل حصن الدولة بن منزو قائد الرملة إلى طرابلس وملكها، وقبض على بني أبي الفتح المتغلبين عليها، ولمَّا خرج إليها قصد إليه ابن عمار وقاضيها، وكان في حيِّز السلطان، فأشار إلى بني أبي الفتح أن يخرج أحدُهم معه للقاء ابن منزو، ففعلوا، فأولى ابنُ منزو ابنَ أبي الفتح الجميل ليخدع بذلك أخوتَه، فبان له ذلك، وأنَّ القاضي خدعه حتى حصله عنده، وكتب إلى إخوته بذلك، وراسل أبو الفتح بما تطيبُ به نفوسُهم، وسامهم الخروج إليه، فامتنعوا، وجدُّوا في الحرب، وكان ابنُ عمار قد أصلح جماعةً من أحداث البلد ومقاتلته، فاستأمن منهم ثمانيةٌ وعشرون نفسًا، فضعف أمر بني أبي الفتح، واختلف أهل البلد، ففتحوا الأبواب، ونادوا بشعار

المستنصر، فقيَّدَ ابنُ منزو بني أبي الفتح، وبعث بهم إلى صور، وعاملهم بالمكروه، وطلب المال الكثير، وقسط على أهل البلد مئة ألف دينار جزاءً عن طاعتهم لبني أبي الفتح، وكونهم خلعوا صاحب مصر، ومنع الذين استأمنوا إليه من سُكنى البلد، وأمرهم بالانفساح في الشام، فطلبوا منه العطايا والخِلَع، فوعدهم بالجميع، وقبض عليهم ليلًا وصلبهم، وهم الذين كانوا يعاونون بني أبي الفتح، فاستقام أمرُ طرابلس. وفي هذا الوقت ورد الخبرُ أنَّ المستنصرَ صاحبَ مصر ضرب ابنَ أبي كُدينة أحدَ الوزراء المصريين والقضاة المستورين، وعاقبه ودهقه في المعصار حتى كاد يموت، فمنعَتْه والدتُه عنه، وأخذَتْه منه، وقالت: ما تريد من هذا الرجل؟ قال: المال. قالت: ما هذا طريقه، وربما هلك في تضاعيف ذلك، وأنا أقرِّر لك عليه ما تريده منه. فغضب وخرج من القصر ماشيًا إلى الجامع الأنور، وهو أول جامع بُني في القاهرة، وعرف وجوهُ الدولة فانزعجوا، وجاؤوا إليه وقالوا: ما هذا الفعل الشنيع؟ فقال: أنا مغلوبٌ على أمري، ومدفوعٌ عن أغراضي، وقد تركتُ الأمر لمن غلبني عليه، وعزمتُ على المُقام بهذا المكان والانقطاع فيه إلى الله تعالى. فقالوا: يا مولانا، اللهَ اللهَ فينا وفيك، ومتى لم ترجعِ الساعةَ إلى القصر نُهِبَ ونُهِبَ البلدُ جميعُه، وتفاقم الأمر تفاقمًا لا يمكن استدراكُه، ورفقوا به حتى محاد إلى القصر. وفي يوم الأربعاء حادي عشر ذي الحجة اقترن زُحل والمريخ في برج السنبلة حادي عشر ذي الحجة، فحكم المنجِّمون بأن يكون يوم العيد فتنةً عظيمة، فغلب ذلك على العقول، حتى صار كالحقِّ الذي لا شبهةَ فيه، وتأخَّر خلقٌ عن صلاة العيد، وأنَّ الفتنة تكون في يوم العيد وغدِه في دار الخلافة (¬1)، فخرج الخليفةُ ليلًا من داره إلى الحريم الطاهري على وجَلٍ (¬2)، وامتنع العميد من التصرف [وانتظر الناس ذلك العيد وغدَه] ولم يجْرِ غيرُ الخير، وعاد الخليفة إلى داره في الليل. وفي ذي الحجة بُدئ بعمل [مدرسة للشافعية على دجلة بنهر مُعلَّى، بأمر نظام الملك، وهي التي تُسمَّى] المدرسة النظامية، ونقض لبنائها في الدور التي كانت للناس ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): دار الخليفة. (¬2) في (خ): وجد، وفي (ف): وجه، والمثبت من (م) و (م 1).

سعيد بن أحمد

بمشرعة الزوايا والفُرْضَة وباب الشعير ودرب الزعفراني، وتوفي أبو منصور بن بكران حاجب الخليفة، وتولى الحجابة مكانَه أبو عبد الله المردوسي. وفيها تُوفِّي سعيد بن أحمد (¬1) ابن محمد [بن نُعيم] (¬2) بن إشكاب [أبو عثمان] الصوفي [ويُعرف بالعيَّار؛ لأنه كان في أول أمره يسلك مسلك الشُّطَّار، ثم رجع إلى الطريق، وهو أحد الجواليق في طلب الحديث، ثم رجع إلى غزنة فمات بها] (¬3) واتفقوا على فضله وثقته (¬4). [وفيها تُوفِّي] محمد بن منصور (¬5) أبو نصر، عميد الملك الكُنْدُري (¬6)، وزير السلطان طُغْرُلْبَك، وكُنْدُر: قرية من طُرَيثيث. [وبقزوين قريةٌ يقال لها: كُنْدُر، منها أبو غانم وأبو الحسين] كان فاضلًا مدبرًا حازمًا [وقد ذكرنا طرفًا من أخباره] وكان طُغْرُلْبَك قد بعثه ليخطب له امرأةً فتزوَّجها هو، فخصاه، ثم أقرَّه على خدمته، فاستولى عليه، وكان يَشْعُر، ومن شعره: [من البسيط] الموتُ مُرٌّ ولكنِّي إذا ظمِئَتْ ... نفسي إلى العزِّ تستحلي لمشربهِ رياسةٌ باضَ في رأسي وساوسُها ... تدورُ فيه وأخشى أن تدورَ بهِ وقال عند قتله: [من البسيط] إنْ كان بالناسِ ضِيقٌ عن مزاحمتي ... فالموتُ قد وسَّعَ الدنيا على الناسِ قضيتُ والشامتُ المغرورُ يتبعُني ... إن المنيةَ كأسٌ كلُّنا حاسي ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 3/ 21. (¬2) ما بين حاصرتين من تاريخ دمشق، ومن تاريخ الإسلام 10/ 90. (¬3) جاء عوضًا عن هذه الزيادة في (خ) و (ف): مات بغزنة. (¬4) في (ف) و (م) و (م 1): فضله وصدقه. (¬5) تنظر مصادر ترجمته في السير 18/ 113. (¬6) تحرفت في (م) و (م 1) إلى: الكثيري.

ذِكْرُ مقتله: قد ذكرنا أنه لمَّا مات السلطان خطب لابن أخيه سليمان، وفرَّق الأموال في العساكر، وكتب إلى ألب أرسلان كتابًا أرعد فيه وأبرق، بناءً على أنَّ ألب أرسلان يقنع بخراسان، فلم يقنَع، وسار من نيسابور يريد الري، ولمَّا رأى عميد الملك الغلبة خطب لألب أرسلان، وجاء إلى الري وملكها، ولم يظهر لعميد الملك ما في قلبه، وكان ملازمًا لخدمته. وقال محمد بن هلال الصابئ: حدثني بعض أصحاب عميد الملك بخبره منذ يوم قبض عليه إلى حين قُتِل -وكان في خدمته- قال: لمَّا كان يوم السبت السابع عشر من المُحرَّم أمر ألب أرسلان بإخراجه من حضرته، وخلع على وزيره نظام الملك من ساعته، وجاء عميدُ الملك إلى داره، فسأله أبو البدر كاتِبُه عن حاله، فقال: كنت جالسًا عنده على عادتي في مجلس الشرب، فخاطبه حاجبٌ في تركمانيٌ ممَّن أُسِر من أصحاب قُتُلْمِش. قال: ومَنْ ذاك الكلب حتى تخاطبني فيه؟ امْضِ يا غلام فأتِني برأسه. فقمتُ وقبَّلتُ الأرضَ وقلت: ما يَحسُنُ في مقابلةِ الحاجبِ ذهابُ نفسِ مَنْ خاطب لأجله. فاغتاظ، وقال: أنت قد تعوَّدتَ أن يكون المِلْكُ من قِبَلِكَ، والأمرُ والنهيُ لك، وما عندي شيء من ذلك، فارجع عما عهِدْتَه، واعدِلْ عما ألِفْتَه، وتصوَّر أنني قصدتُ إيحاش الحاجب منه، وكان قبل ذلك قد خلع على سرخاب قَلنسوةَ ذهب وقَباءَ نسيج كانا للسلطان، فقلت: أنتَ أمرُكَ من أمر الباري سبحانه، لا يُسألُ عمَّا يفعل، وإلَّا فمَنْ سرخاب حتى تعطيه قَلنسوةَ السلطان وقَباءه. فازداد غيظًا، ودخل سرخاب وجلس وركبتُه على ركبتي، فضايقني، وقد كان من قبلُ يقف بين يديَّ ويُقبِّلُ الأرضَ، فعزَّ عليَّ ما فعل بي، ثم التفت السلطانُ إليَّ وقال: ضيَّعتَ المال عليَّ ومزَّقتَه. فقلت: يا سلطان، لا تفعَلْ هذا، فلولا ما فعلتُه من بذلِ المال وإعطاءِ الغلمان ما حصل لكَ مالٌ، ولا قلعة ولا الري، ثم إنني قد أخلفتُ من حاشية السلطان عِوَضَه. فقال: كذبتَ وما قصدتَ هذا، وأنت بمنزلة البازي الذي يصيد، وعنده أنَّ الصيد له، فيجيء صاحبُه فيأخذُه منه، وأنت ضيَّعتَ المال طمعًا في الملك أن يصحَّ لك، ويجتمعَ الغلمان عليك، وكيف تصوَّرتَ وأنت تدَّعي الحكمةَ وفصل الخطاب، وقراءةَ الكتب ودراسةَ

الآداب، أن يموت عمِّي وأن ابن يسابور في مدّة ألف فارس، وأخي قاروت بك بفارس في عساكره وقُتُلْمِش بإزائك في خمسين ألفًا، ويمكنك الخلاص منا، والاستبداد بالملك دوننا؟ ولكن هذا هو الجهل الصريح (¬1). ثم غضب، وكان منتظرًا السلاحَ ليقتلني، وأنا اجيبه بما أستوفيه، فأمر بإخراجي وإبعادي عنه، وأراد الفتك بي، ثم قام فدخل حجرته، وردَّ الأمورَ إلى نظام الملك، وتأخرتُ إلى بعض الأماكن في الدار، فخرج وقال: أين أبو نصر؟ فقمتُ وقبَّلتُ الأرضَ بين يديه، وتذللتُ وتضرَّعتُ إليه، فقال: ما لك قد خُدِشْتَ؟ أردتَ أن تكون ملكًا بهذا القلب! فقلت: وكيف لا أجزع من سلطان مثلك، ولئِنْ فزِعْتُ منك أن تعاقبني، فكذا أرجو أن تعفو عني وتسامحني. فقال: امضِ إلى دارك، واعلَمْ أنني لم أخرُجْ إليك بما في قلبي وعندي ما تخافه. فقبَّلتُ الأرض، وخرجتُ إلى داري، فقيل لي: باكِرْ خدمتَه ولا تُرِه انقباضًا، ولا أنك مستوحشٌ منه. فباكرتُ إلى الخدمة، فلمَّا وصلتُ إلى باب الحجرة لم يؤذَنْ لي، فقمتُ إلى نظام الملك فهنيتُه وخدمتُه بخمس مئة دينار، فوعدني بما طيَّب به قلبي. قال: وخرج من الدار، فتبعه أكثر العسكر، وبلغ السلطان فقيل له: إذا كانت طاعةُ العسكر له هذه الطاعةَ مع غضبك عليه وإهانتك له، فكيف إذا كان في حالة الرضا، وهو معك في البلد الذي قد ملك قلوب أهلِه بالمال وغيره؟ وفي داره ثلاث مئة غلام، وهو في دارك يشرب معك دائمًا، وربما لاحَتْ له فرصةٌ فيك، فأرسل إليه يقول: هؤلاء الغلمان الذين عندك لا حاجة لك إليهم، فأرسِلْهم إلينا. فأرسلهم إلا أربعة، فإنه سأل أن يبقَوا عنده، ففرَّق الغلمان في الحُجَّاب، ولم يشعر إلا بعميد خراسان قد هجم عليه ومعه خمسون رجلًا، فتوكل به، وبعث عميدُ الملك إلى نظام الملك، وسأله الاجتماع به، فجاءه نظام الملك، فسأله أن يخاطب السلطانَ فيه، فوعده وطيَّب قلبه، ثم بعث إليه السلطان يقول: أثبِتْ جميع مالك ونفِّذه إلى الخزائن. فأخرجَ جميعَ ما كان في داره من الثياب والمصاغ، ولم يجد عنده سوى ألف دينار وسبعين ألف درهم -قيل: كان قدور المطبخ- وتقدَّم إليه بالمسير إلى مَرو الرُّوذ إلى أن يمضيَ السلطانُ إلى الروم إلى الغزاة، ثم يعودَ فيُحضِرَه إلى خدمته. وكان له صبيٌّ تركيٌّ قد تبنَّاه، ويحبُّه محبةً عظيمةً، بحيث ¬

_ (¬1) في (ف): الصراح.

إنه لا يفارقه، فاتَّفق أنه مات، فانزعج وقال: قد ولَّتِ السعادةُ، وانقضتِ الدولةُ. وأنفذ إليه السلطانُ كتابه الذي دافعه فيه عن المجيءِ إلى الري، والمُقامِ بنيسابور، والتصريحِ بالمحاربة، ثم أتبعه بالكتاب الذي بخطِّه وهو يرعد فيه ويبرق، وقال: أما هذه مكاتبتُكَ إليَّ وهي خلافُ ما ادَّعيتَه من كونِكَ بذلْتَ المال في خدمتي. فقال: عفوُ السلطان أعظمُ من ذنبي. قال صاحبه: وخرج إلى مَروالرُّوذ في يوم الثلاثاء خامس صفر، وخرجتُ معه، وحمل [معه] (¬1) زوجته وابنته وجواريه والأربع غلمان، وكتب معه كتابًا إلى مَروالرُّوذ، فيه: الشيخُ الجليلُ عميدُ الملك يخدُمُ خدمةً مرضية، ويُجري عليه في كل شهر مئة دينار، فخرج وهو طيِّب النفس بهذا الكتاب، منظورٌ أنه يعود إلى ما كان فيه، ووصل إلى نيسابور، ودخل إلى خاتون زوجة ألب أرسلان أم خفجاق ولدِه، وخدمه، وأخذ ولدَها فأجلسه في حُجرِه، وتعلَّق بذيله وذيلها، واستجار بها وسألها المكاتبة إلى السلطان في العفو عنه، وحمل إليه خمسَ مئة دينار وفرسًا، فوعدته بالجميل، وكتبت له إلى مروالرُّوذ وهي داخلة في إقطاعها بألف دينار، وكتبت له إلى السلطان كتابًا، وأنه قد استجار بها وبولدها، ومضى إلى مروالرُّوذ فنزل بدار رئيسِها، ثم وصل إلينا الخبرُ بأن محمود بن أبي علي المَنيعي رئيس نيسابور ورد إلى مكانٍ بينه وبين مروالرُّوذ سبعُ فراسخ، وجاء كتابُه إلى أخيه عبد الرزاق النائب عنه في البلد أنَّ السلطان كتب إليه مع غلام تركي يأمره بقتل عميد الملك (¬2)، وأنه أنفذ الكتابَ والغلامَ إليه ليقف عليه، ويُمكِّن الغلامَ مما جاء فيه، وأنه ما تأخَّر إلا حياءً من أن يجري ذلك على يده. قال: فانزعج عبد الرزاق -وكانت بين عميد الملك وبين المَنيعي مودةٌ مؤكَّدةٌ، وصداقة شديدةٌ- وحضر الغلامُ عند عميد الملك، وأمره بالصعود إلى القلعة، وأنَّ السلطان إنما أنفذه لهذا، فصعد وحُرَمه إليها، وكان عبد الرزاق خطيبَ البلد متقدِّمَه، وكان ذلك في يوم جمعة، فصَعِد المنبر ولم يدْرِ ما يقول، فذكر الكلمتين ونزل، واطَّلعتُ أنا على الخبر، فصَعِدتُ إليه وعرَّفتُه وقلتُ: انظُرْ هل من حيلةٍ؟ فأبلس وجَفَّ لسانه، وقال: الحيلةُ أن تجمع بيني وبين عبد الرزاق. فنزلتُ إليه وقلتُ له: قد ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف). (¬2) في (ف): عميد الدولة.

علمتُ ما بينكم وبينه، وقد علم بالخبر، ويسألك الاجتماع ليوصيَ إليك بأهله وحرمه. فقال: ما لي قلبٌ أشاهده. فلم أزَلْ به حتى أصعدتُه إليه، فتعلَّق بذيله وقال: ما أعرف خلاصي إلا منكَ. فقال: وأيُّ حيلةٍ لي؟ قال: تكتب إلى أخيك بأنني لا أُقدِمُ على هذا الأمر حتى تحضر، فهذا حضر قلتَ له: هذا أمر عظيم، ما ينبغي أن تُقدِمَ عليه بأول كتاب، ولعلَّ السلطان كان سكرانَ، والرجل مريض، وربما قضى نحْبَه، وكُفيَ السلطانُ إثمَه، وأكتب أنا ورقةً أُرقِّقه فيها. فقال: سمعًا وطاعة. ونزل من القلعة، وكتب إلى أخيه محمود كتابًا، فجاء إليه واجتمعا، وعرَّفه ما قال عميد الملك، وقال: علينا الحقوق. فقال: سمعًا وطاعة. وكتب إلى السلطان يبذل له الأموال العظيمة، ويخضع ويَذِلُّ، وبعث محمود بالكتابين، ووهب عميدُ العراق الغلامَ الوارد مالًا، فتوقَّف إلى حين يجيء الجواب، وسال عميدُ الملك عبدَ الرزاق أن يوقفه على الكتاب، فبعث به إليه، ومضمونه بأننا أنفَذْنا الشيخَ أبا نصر إلى مجلسه (¬1)، وأبقينا على نفسه؛ تصوُّرًا منا أنَّ فساده منحسم، وأذاه منقطع، وأنه يشغله خوفُه على مُهجتِه عن سوء فعله وطريقته، وما نراه إلا ازداد عتوًا وفسادًا، وأنَّ عقارِبَه تدِبُّ إلينا، وقد اجتمعت آراءُ محتشمي دار الخلافة وآراءُ دولتنا على أنَّ الصلاحَ في الراحة منه، فيُخنَقُ بسلسلة، ويُعلَّق على باب القلعة سبعةَ أيام، فلما قرأه يئس من الحياة، وأقمنا مدةً، فجاء غلامان من غلمان السلطان ومعهما إلى محمود كتابٌ يُنكر عليه إقدامَه على المخالفة، وبؤمَرُ بقتله وحَمْلِ رأسِه إليه، وصَعِد الغلامان إليه، فقام إليهما، وسلَّم عليهما، وقال: في أيِّ شيء جئتما؟ فقالا: قُمْ وصَلِّ ركعتين، وتُبْ إلى الله تعالى مما أسلفتَ. فقال: أدخُلُ وأُودِّعُ أهلي. فقالا: ادخُلْ. فدخل، وارتفع الصُّراخُ من زوجته وابنتيه وجواريه، وكشَفْنَ رؤسهُنَّ، وحثَينَ التراب عليها، فدخلا عليه وقالا: اخرُجْ. فقال: خُذا بيدي فقد منعني هؤلاء النساء من الخروج. فأخْرَجاه وأغلَقا الباب، وخرج إلى مسجد هناك، ومشى حافيًا، وخلع فَرَجية سَمُّورٍ (¬2) كانت عليه، فأعطاهما إيَّاها، ¬

_ (¬1) في (ف): محبسه. (¬2) السَّمُّور: دابة معروفة تكون ببلاد الروس وراء بلاد الترك، تشبه النِّمس، ومنها أسود لامعٌ وأشقر، يُتَّخذ من جلدها فِراء مُثمنِة، أي: غالية الأثمان. تاج العروس (سمر).

السنة الثامنة والخمسون والأربع مئة

ومزَّق قميصَه، وأخذوا عمامتَه، وجاؤوا بسارقة (¬1) قُطِعَتْ من سُرادق، فقال: ما أنا بعيَّارٍ ولا لِصٍّ فأُخنَق، والسيف أروَحُ لي، وهو أمحى للذنوب، ومن قُتِلَ به فهو شهيد. فشدُّوا عينيه بخرقة من طرف كمِّه وضربوا رأسه فطار، فأخذوا رأسه فتركوه في مِخْلاةٍ (¬2)، وحملوه إلى السلطان، وسألت أختُه أن تُسلَّم إليها جُثَّتُه فسُلِّمتْ إليها، فحملتها إلى كُنْدُر، فدفنتها عند أهله وابنه، وأبوه مات مقتولًا، وكان ألب أرسلان بكرمان، فحمل إليه الرأس، وبعثت أختُه تستقصي عن الرأس، فقيل لها: أُلقي في بئر. و [قال ابن الصابئ]: لمَّا قُتِلَ صَعِد عبد الرزاق ليلًا فغسَّله وكفَّنه بقميص دبيقي كان القائم أعطاه إياه من ملابسه، مع قطعة من بُردة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفَّه فيها، وأنزله إلى مقبرة البلد فدفنه فيها، وكانت سنُّه نيفًا وأربعين سنة، وكان الذي وضع الحاشية على أن يسيروا بقتله نظامُ الملك، والعجبُ بأنَّ ألب أرسلان ونظام الملك ماتا مقتولَين (¬3). السنة الثامنة والخمسون والأربع مئة فيها في يوم عاشوراء أغلق أهلُ الكَرْخ دكاكينهم، وعلَّقوا المسوح على ما كانت عادتُهم جاريةً به في القديم، فثار أهلُ تلك المحالِّ، وجاؤوا إلى دار الخليفة واستطالوا، فخرج الأمر (¬4) إلى المُعمَّرِ نقيبِ النقباء بإنكار ذلك، فقال: ما علمتُ. وحبس جماعةً أيامًا ثم أطلقهم، وقال القائم: هذا شيء قد كان فلا تُعاودوا إليه. وفيه ورد الخبر أنَّ السلطان انفصل عن مرو إلى خُوارَزم، ومعه تاج الملوك أبو كاليجار هزارسب عاملُ الأهواز، وأنه طُولِبَ بالأموال التي عليه من ضمان البصرة وخوزستان وأَرَّجان منذ وفاة طُغْرُلْبَك مدة ثلاث سنين وهي ألف ألف دينار، فطلب العَوْدَ إلى بلاده ليجمع المال، فقيل: لو أسرعتَ في حمل المال لأسرعنا إلى إطلاقك، فلا بُدَّ من المقام على الباب حتى يُحمل المال، وكان السلطان مُبطنًا سوءَ ¬

_ (¬1) السارقة: الغُلّ. المعجم الوسيط (سرق). (¬2) من الخَلى: هو الحشيش الذي يُحتشُّ من بقول الربيع، وبه سُمِّيت المخلاةُ. اللسان (خلا). (¬3) تنظر مصادر ترجمة محمد بن منصور الكندري في السير 18/ 113. (¬4) في (خ): الأمراء، والمثبت من (ف) و (م) و (م 1).

الرأي فيه، مُظهرًا الجميل له، وحضر ليلةً عنده والسلطان سكران، فسمع صوتَ طبول بعد طبوله، فقال: ما هذه؟ قيل: طبول تاج الملوك. فقال: ومَنْ هو هزارسب حتى يفعل هذا من غير إذن؟ فانكسر هزارسب، ثم أصبح السلطان فخلع عليه واعتذر إليه، وبعث السلطان إلى العراق مَنْ يقبض على كتَّابه، فهرب أبو يعلى كاتبُه إلى حِلَّةٍ لأبي الأغر دُبَيس، ونَهَبتِ الديلمُ دُورَه ودُورَ المتعلِّقين به بالأهواز، وكان السلطان قدم خُوارَزم، واستقبلَتْه الخِدَم (¬1) في جملتها سَبيخة دَبيقي (¬2) فيها دنانير قدَّمها نظام الملك، فأخذ السلطانُ منها كفًّا، ومدَّ يدَه إلى ولده الأكبر إلياس، فسعى على ركبتيه، وقبَّل الأرض بين يديه، فأخذها وعاد إلى موضعه على ركبتيه، وكان هزارسب حاضرًا، فأوما إليه السلطان بكفِّ آخر، فقام قائمًا، وقبَّل الأرض ومشى إليه، وأخذها منه، فثَقُل على السلطان، حيثُ إنه لم يسْعَ على ركبتيه، وقال له: أنت قد طار في رأسك الملكُ ومكاتبةُ الخليفة بطلبه، وبذلِ المال والاشتغالِ بنيسابور على الأهواز للتحصُّن، فانزعج واعتذر، وقال: واللهِ ما أحللتُ بذلك، إلا لأنها عادةٌ لا نعرفها، والقيامُ على أرجُلِنا هو أقصى نهاية الخدمة. واندرج المجلسُ على هذا. وركب السلطانُ من الغد، والتقاه أيتكين الحاجبُ حاجبُ أخيه سليمان، فلما رآه قال: أحسنت يا مؤاجر، تأخَّرتَ عني ولم تتبَعْني طلبًا للسلامة وتوقُّعًا لسوء المنقلب. وأمر به، فنكس من فرسه، ونزل إليه فضربه، فقدَّه نصفين، وقال: هاتوا هزارسب ليبصره. فارتاع هزارسب، ومضى إلى نظام الملك، وطرح نفسه عليه، وقال: ما أعرف إصلاح حالي إلا منك. وحمل إليه مالًا، وإلى خاتون زوجة السلطان، فحمله نظام الملك إلى السلطان، فلمَّا دخل عليه قال: ما أعرفُ لي ذنبًا أستوجب به هذا، وأما السُّور الذي أردتُه على الأهواز فركن الدين أمرني به، وأما ما حُكي عني من طلب الملك فإنما هو زورٌ اخْتَرَصَهُ (¬3) أعدائي، حتى أفسدوا جميل رأي السلطان فيَّ. فقال ¬

_ (¬1) الخِدَم: الهدايا. تكملة المعاجم لدوزي 4/ 32. (¬2) السَّبيخة: هي قطعة من القطن المنفوش المندوف. والدَّبيقي نسبةً إلى دَبيق: قرية بمصر. المعجم الوسيط (سبخ) و (دبق). (¬3) اخترصَ القولَ: افتَعله. المعجم الوسيط (خرص).

السلطان لنظام الملك: قُلْ له يقعدُ، ويزيلُ روعَه، ويُطيِّبُ نفسه. ثم قال: ما أقول لك قولًا إلا وهو دليل على صفاء النية لك، ولو كان عن سوء رأيٍ لما أوحشتُكَ وداجيتُكَ (¬1)، ثم وعده بإطلاقه إلى بلاده. وفي ربيع الأول ولدتِ امرأةٌ بباب الأزج صبيةً لها رأسان، ووجهان، ورقبتان مفترقتان، وأربع أيدي، على بدن كامل، وماتت البنت (¬2). وفيه حَصِبَ الأميرُ عُدَّةُ الدين أبو القاسم بن الذخيرة، وتعدَّى ذلك إلى جده القائم، وانزعج الناس، ولحقهم أمر عظيم؛ لأنه لم يبقَ من بني العباس من يصلح للخلافة غيرُهما، ثم منَّ الله تعالى عليهما بالعافية، فسُرَّ الناس. وفي ربيع الآخر وصل خيلٌ ناشئٌ من خُوارَزم إلى نظام الملك بكتاب من السلطان يُخبر بما فُعِلَ مِنْ وراء النهر وخُوارَزم من الفتوح، وقمع المفسدين، وتهديد تلك البلاد. قال: وكان التركمان قد اختلطوا بالكفار، وكانوا ينهبون التجار، وكانوا على طرف البحر عند القفجاق، ولمَّا سمعوا بنا عبروا إلى جزيرة في البحر، وتركوا أموالهم ونساءهم ومواشيهم، ولا نَقدر على إحصائها، فاستولينا على الجميع، وعاد إلى خراسان، فخرج الجماعة الذين تخلَّفوا عنه للقائه مع نظام الملك، وقيل: إنما كانوا تأخَّروا عنه بخُوارَزم. وفي ربيع الآخر لأربعٍ بَقِينَ منه حدثت ببغداد فتنةٌ بين الشافعية والحنابلة واقتتلوا. وفي العشر الأول من جمادى الأولى في نيسان ظهر في أواخر برج الحوت كوكبٌ كبيرٌ له في المشرق ذؤابة عرضها نحو ثلاثة أذرع [وطولها أذرع كثيرة] (¬3) إلى حدِّ المجَرَّة من وسط السماء مادَّةً إلى المغرب، ولبث إلى ليلة الأحد لستٍّ بَقِينَ منه، وكانت الشمس في برج الثور، ثم ظهر في برج السرطان عشيةَ يوم الثلاثاء عند غروب الشمس من المغرب [كوكب] قد استدارَ نورُه عليه كالقمر، فارتاع الناسُ وانزعجوا، ولمَّا أعتَمَ الليلُ رمى ذؤابةً نحو الجنوب، وكان مسيره كسرعة مسير القمر إلى أن انتهى ¬

_ (¬1) من المداجاة: وهي المداراة. اللسان (دجي). (¬2) هذا الخبر والأخبار الثلاثة التي تليه -دون كلام ابن الصابئ- في المنتظم 16/ 95. (¬3) هذه الزيادة من (ف) و (م) و (م 1).

إلى برج الأسد ومقارنة زُحَل مارًّا نحو القبلة، في مدة عشرة أيام، وثبت مكانَه إلى أن اضمحلَّ وذهب في أيامٍ مضتْ من رجب. وورد من بعض التجار كتبٌ من عُمان بأن ستة عشر مركبًا خُطِفت من سواحل البحر طالبةً لعمان، وأنها غرقت ليلة طلوع هذا الكوكب الأخير، وهلك فيها ثمانية عشر ألف [إنسان، وجميعُ المتاع الذي حَوَتْه، وكان من جملته عشرة آلاف] طبلة كافور. [وقال ابن الصابئ: ووجدتُ بخطِّ جعفر بن المكتفي ما يتضمَّن ذكر ما حدث من طلوع هذا الكوكب، وكان هذا الرجل مُبَرِّزًا في علم هذه الصناعة إلى أبعد غاية. قال: يذكرون خبرًا يطول، وجملته أن كوكب الذنب طلع في وقت قتل قابيل هابيل، وفي وقت الطوفان، وفي وقت نار إبراهيم الخليل، وإحراق نمروذَ أباه، وعند هلاك قوم عاد وثمود وقوم صالح، وعند ظهور موسى وهلاك فرعون، وفي غزاة بدر، وعند قتل عثمان وعلي، وفي سنة سبع وعشرين وثلاث مئة في خلافة الراضي. قال: وقد ظهر أيضًا في خلافة المستعين، فقيل: وقُتل بعده المعتز والمهتدي والمقتدر، وذكر الأحداث عند ظهور هذا الكوكب. قال: وأدناها الزلازلُ والأهوال. قال: وقد ذكر الكندري من هذا الباب أشياء منها أن في سنة خمس وعشرين ومئتين في خلافة المعتصم ظهر في الشمس نكتةٌ سوداء قريبة من وسطها، فأقامت في وجه الشمس أحد وتسعين يومًا، ومات المعتصم بعدها، وقد طلع هذا الكوكب عند موت الرشيد، وذكر الكُندري كلامًا طويلًا في تأثير هذا الكوكب، يدلُّ على حدوث شرٍّ عظيم، وزوال الممالك منذ آدم وإلى هلُمَّ جرًّا، وكذا سماع الأصوات الهائلة من السماء، ورمي الحجارة، وظهور العمرة، وقد ظهر هذا الكوكب في هذه السنة في أشياء عُرف منها الكواكب التي ذكرنا، ومرض الخليفة وولد ولده]. وكانت زلازل بخراسان في هذه السنة تصدَّعت منها الجبال، ورمَت القلاع الشاهقة، وأخربت البلدان، وخسفت بعدة قرى، وأهلكت خلقًا عظيمًا، ولم يسلَمْ إلا من خرج إلى البرية، وغار ماءُ البحر أيامًا ثم عاد، ووقع حريقٌ ببغداد أتى على معظمها.

وورد الخبر بأنه قد ملكت جزيرة أُوال المسمَّاة بالبحرين، وهي من أعمال القرامطة، غلب عليها أهلها، وأمَّروا عليهم أبا البهلول عزام بن محمد بن يوسف بن الزجاج، فخطب بها للقائم، وكان يخطب بها لصاحب مصر، وبعث إليهم القرامطةُ جيشًا فهزموه، وكان أبو البهلول وأخوه أبو الوليد من أهل الدِّين، فأبْقَوا من القرامطة، واجتمع أهلُ الجزيرة عليهما، وبذلوا للقرامطة ثلاثةَ آلاف دينار حتى يُمكِّنوهم من بناء جامع يأوي إليه المجاورون والمسافرون والغرباء، ويُصلُّون فيه الجمعة، فأجابوهم، فلمَّا تكامل الجامع صَعِد أبو الوليد المنبر، فخطب للخليفة القائم، فقال من يهوى القرامطة: هذه بدعة، ويجب أن يُمنع بنو الزجاج من الخطبة، ويُصلُّون بغير خطبة، وتقدَّموا إليهم بذلك، فقالوا: ما بذَلْنا إلا ليجلب إلينا التجارَ والعجمَ والمسافرين، فإن كرهتم ذلك فادفعوا إلينا ما بذلناه، فمعيشتنا من هذا الباب. وكوتب القرامطة بذلك، فجاء الجواب بأن لا يعترض عليهم، فمال إليهم أهل تلك النواحي، فلمَّا أخرج الخليفةُ من بغداد نوبةَ البساسيري قال المخالفون لهم: الخليفةُ الذي كنتم تخطبون له زالت أيامه، والخطبة لصاحب مصر. فلم يمتنعوا من الخطبة للقائم، وبعثوا إلى القرامطة هديةً، وسألوهم أن لا يعترضوا عليهم، فجاء جوابُهم أن يجروا على عادتهم في الخطبة لمن أراد، وقويَ أمرُ أبي البهلول، ثم كتب القرامطةُ إلى نائبهم بأن يصادر أهلَ البلد، وكان عاقلًا، فامتنع، وعلم بنو الزجاج بذلك، فولَّوا عليهم أبا البهلول، وكانوا ثلاثين ألفًا، وقدم والٍ جديد، فعزم على القبض على أبي البهلول ومَنْ وافقه، فبادروه بالقتال، وكان بالجزيرة رجلٌ يقال له: ابن أبي العريان، كبير القدر، فوافقهم، وانحاز إلى أبي البهلول، وزحفوا إلى الوالي الجديد، فقتلوا من أصحابه جماعةً، وهرب، وكان الوالي العتيق الذي لم يُصادرهم يقال له: ابن عرهم، فجاء الجواب بأنَّا لا نردُّه والعساكر واصلةٌ. وبعث أبو عبد الله بن سَنْبَر -وزيرُ القرامطة- أحدَ أولاده إلى عمان لحمل مال وسلاح منها، وعَرَفَ أبو البهلول وابن أبي العريان ذلك، فكتما، وكمنا له في الطريق عند عوده، فقتلاه وأربعين رجلًا معه صبرًا، وأخذ ما كان معه وهو خمسة آلاف دينار وثلاثة آلاف رمح، ففرَّق المال والسلاحَ على أصحابهما، وبلغ ابنَ

سَنْبَر، فمال إلى ابن أبي العريان، وكاتبه سرًّا، وبذل له الأموال، وأن يُولِّيه الجزيرة فمال إلى قوله، وأجابه إلى الفتك (¬1) بأبي البهلول، وأنه إذا بعث عسكرًا في البحر إلى الجزيرة وقَرُب منها وثب على أبي البهلول فقتله وقتل أصحابه، ثم قال لأهله وعشيرته: هذا الذي نحن فيه أمرٌ لا يتمُّ، وما لنا بالقرامطة قُدرة، ويجب أن نُدبِّر أمرنا معهم. فقالوا: افعَلْ ما تراه، فنحن تبَعُكَ وبدأ في نقض ما اتَّفقوا عليه، وعرف أبو البهلول ذلك، فانزعج، وجمع أهلَه وعشيرتَه، وأطلَعهم على الحال، وقال: ما لنا قدرةٌ بابن أبي العريان، هو أقوى وأكثر رجالًا ومالًا، فاطلبوا قتله غيلةً بوجه لطيف، وإلا يتقرَّب بنا إلى القرامطة. فرصدوه حتى نزل إلى عين تسمى عين ثَور يغتسل، فنزل إليه رجل فقتله. وقيل: بل قاتله أحدُ بني أعمامه، وجاء أصحابه فرأوه قتيلًا، فجاؤوا إلى أبي البهلول واتَّهموه بقتله، فحلف لهم أنه ما قتله، فصدَّقوه، وجاء ابن سَنْبَر وزيرُ القرامطة بالعسكر على ما كان استقرَّ بينه وبين ابن أبي العريان في مئة وثمانين شذاة (¬2)، وجاء على فرسه فوقع، فانكسرَتْ ساقُه، فأقسم عليه أخوه أبو الوليد أن يرجع فأبى، ونزل على حاله في شذاة، وأمره بضرب الدبادب والبوقات ونشر الأعلام، واتفق لابن سَنْبَر من السوء أنه كان معه في الشَّذاة خمسُ مئة غلام وفرسٌ لعامر وربيعة؛ تصوُّرًا منه أنه يدخل البلد في غير حرب، ولم يشعر بقتل ابن أبي العريان، فلمَّا ضرب البوقات والطبول وسمعها الخيل ورأت المطارد (¬3) نفرت، وغرق بعض الشذا، ووقعت الحرب في البحر، وهرب ابن سَنْبَر إلى الساحل، واستولى أبو البهلول على باقي (¬4) الشَّذا، فأخذ منها نحو مئتي فرس وسلاحًا كثيرًا، واستأمن إليه مَنْ كان فيها من أهل السواد، وحلفوا أن ابن سَنْبَر أخذهم قهرًا، وظفر بأربعين رجلًا من القرامطة فقتلهم صبرًا، وعاد وقد برئت ذمَّتُه، وقوي أمرُه، وانتظم حالُه، واستوزر أخاه أبا الوليد، وكتب إلى بغداد بالفتح، وشرح الحال إلى أبي منصور بن يوسف. ¬

_ (¬1) في (ف): الفتح. (¬2) الشذاة؛ واحدة الشذا: وهي ضربٌ من السفن. الصحاح (شذا). (¬3) المطارد؛ جمع مِطْرَد: وهو اللواء والراية. تكملة المعاجم لدوزي 7/ 37. (¬4) في (ف): باب.

وقال محمد بن هلال الصابئ: حدثني أبو حفص الريحاني أحدُ المتفقِّهة حديثَ القرامطة، وكان قد اجتاز بهم [في بعض أسفاره]. قال: إن جزيرة أُوال ثلاثة عشر فرسخًا ضياعًا ومزارعَ ونخيلًا وأشجارًا، ونفَسُ البلد لطيف، وعددُ قُراه مدّة وثلاثون قرية، منها قرية تشتمل على مئة وثلاثين مسجدًا تُسمَّى تُسْتَر، وهم يخطبون قديمًا لبني العباس والقرامطة من بعدهم في بلد يُعرف بالقَطيف على ساحل البحر، وجميع السواد، إلا الأحساء فلا يُخطَب فيها لأحد، ولا يُصلَّى فيها جمعةٌ ولا جماعةٌ إلا صلاة التراويح؛ تعظيمًا لأبي سعيد الجَنَّابي المدفون بها، وفيها قوم يُعرَفون بالسَّادة من أولاد القرامطة، من ظهر أبي سعيد الجَنَّابي، كلَّما نقص من عددهم واحدٌ أقاموا واحدًا مكانه، وهم على سَنَنٍ من العدل، يقيمون الحدود، ويحافظون على الصلوات، ويُبطلون المذاهب الفاسدة، ولهم ستة وزراء من سنين لا يستبدلون بهم؛ لأن أبا سعيد لمَّا ظهر عاهدوه وشرطوا عليه أن تكون الوزارةُ فيهم والرياسةُ فيه. ومن مذهبهم إسقاط الجزية عن أهل الذمة، ويُصلُّون على أبي سعيد ولا يُصلُّون على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن صلَّى عليه أحدٌ صفعوه وقالوا: لا تأكل رِزْقَنا ورِزْقَ أبي سعيد وتُصلِّي على أبي القاسم. واعتقادهم أن أبا سعيد يعود إليهم ويخرج من قبره عليهم إذا طار طائر من حصن معمول في رألس قبة على ضريحه من دارهم بالأحساء، وعند القبر فرس مشدود، وخلعة ثياب، ودَسْتُ سلاح مُعَدٌّ لخروجه. وفي جمادى الآخرة حدثَتْ زلزلةٌ بنيسابور لبِثَتْ أيامًا أهلكَتْ خلقًا عظيمًا، وخَسفَتْ عِدَّة نواحٍ، وخرج الناس إلى الصحراء هربًا من البنيان. [وورد من هناك إلى بغداد كتابٌ شرح الحال يقول فيه: كتابي -أطال اللهُ بقاء الشيخ- عن نفسٍ زاهقة، وأحشاءٍ راجفة، وعقلٍ ذاهِب، وقلبٍ ذاهل، وعينٍ ممطرة، ودموعٍ منسكبة، وغمومٍ في الصدر مقيمة، وهمومٍ على الفؤاد مُخيِّمة، ممَّا دُهينا به خصوصًا، أهل هذه البلدة عمومًا، في زلزلةٍ شديدةٍ، وهدَّةٍ عظيمة، تصدَّعَتْ منها الجبال، وتشقَّقتْ منها التلال، وانقلبَتِ القرى بأهلها، واستُؤصلَتْ مواصِلُها, ولم يسلَمْ من ساكنيها إلا القليل، وهذا لَعمري الخطبُ الجليل، وخرب أكثر بنيان البلد، وهلك خلقٌ لا يأتي عليهم العدد، وقامَتِ القيامة قبل أوانها، وبدَتْ آثارُ الساعة قبل أيامها، وكثُرَ الويلُ

والعويل، ولم يحجَّ من الناس إلا القليل، والناس حيارى على المزابل، سكارى من الهول الهائل، والأرض تفرع وتميد، وليس عمَّا قضاه الله محيد]. وورد كتاب من خراسان بِعَوْد ألب أرسلان من خُوارَزم إلى نيسابور، وأنه أذِن لهزارسب في العود إلى خوزستان يحمل ما بقي عليه من المال إلى الخزانة، بعد أن أدَّى مئةَ ألف دينار. وفي شعبان ورد أميرُ الجيوش بدر إلى دمشق واليًا، وهذه ولايته الثالثة، فنزل في مرج باب الحديد أيامًا، وبلغه قتلُ ولده بعسقلان، فدخل إلى القصر وأقام فيه، فوقعت الفتنة بين أهل دمشق وعسكره سنة ستين وأربع مئة، فخرج من القصر، فنزل عند مشهد القدم، فأحرق أحداثُ دمشق القصرَ. وفيها خلع الخليفةُ على وزيره ابن جَهير خِلعةً نفيسةً، فطاب قلبُه، فكان الخليفة هو المباشر بنفسه الأمور، فأحبَّ ابنُ جَهير أن يستبدَّ بالأمور على جاري عادة الوزراء. وفي رابع ذي القعدة خرج خادمٌ من عند الخليفة رسولًا إلى السلطان يهنيه بسلامته، ومعه خلع للسلطان، وأُضيف إليه أبو محمد التميمي الحنبلي، وأصحبهما يُذكِّره بِعَود خاتون زوجة الخليفة إليه، وشكايةً من النواب وما يتعرَّضون له في إقطاعه وإقطاع حاشيته، ولمَّا وصل هزارسب إلى الأهواز استأصل الدَّيلم، وأخذ أموالهم وإقطاعاتهم، وحصل له منهم مال عظيم. وفي رمضان كُسي جامع المنصور بالبواري، فدخل فيه أربعة وعشرون ألف ذراع بواري، وثلاث مئة منًّا من الخيوط، وأخذ الصنَّاعُ أجرتَهم عشرين (¬1) دينارًا. [قلت: وهذه بَوارٍ لو كانت حصر سامان (¬2) أُفرش في أرضه اللؤلؤ والمرجان لكان قليلًا في جنب من صلَّى فيه من العلماء والفضلاء والفقهاء والزُّهَّاد والعُبَّاد والأولياء]. ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 16/ 96 - 97. (¬2) سامان: نوع من الخيزران يوجد في جوار بيسان المدينة الصغيرة في فلسطين، تُعمل منه حصر جميلة. تكملة المعاجم لدوزي 6/ 15.

أحمد بن الحسين

وفيها توفِّي أحمد بن الحسين (¬1) ابن علي بن عبد الله، البيهقي، الحافظ، أبو بكر، ولد سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، وكان أوحدَ زمانه في علم الحديث والفقه والأصول، وله التصانيف الكثيرة، وجمع نصوص الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في عشر مجلدات، وتوفي بنيسابور في جمادى الآخرة، ونُقِلَ تابوتُه إلى بيهق، وكان مُتعفِّفًا، زاهدًا، ورعًا، صدوقًا، ثقةً. [وفيها تُوفِّي] محمد بن الحسين (¬2) ابن محمد بن خلف بن أحمد، ابنُ الفرَّاء، أبو يعلى، القاضي، الحنبلي، ولد في المُحرَّم سنة ثمانين وثلاث مئة، سمع الحديث وتفقَّه على أبي فلان، وانتهت إليه رئاسة الحنابلة، وصنَّف الكتب، وشهد عند (¬3) قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا وعبد الله بن الدامغاني، فقَبِلا شهادته، وتولَّى الحكم بحريم دار الخلافة، وتُوفِّي ليلةَ الاثنين، ودُفِنَ يوم الاثنين العشرين من رمضان وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وغسَّله الشريف أبو جعفر بوصية منه، وأوصى أن لا يدخل معه القبر غير ما عزله لنفسه من الأكفان، وعُطِّلت الأسواقُ لجنازته، ومشى فيها الأعيان: القاضي الدامَغاني، ونقيب الهاشميين أبو الفوارس طراد الزينبي، وأبو منصور بن يوسف، وأبو عبد الله بن جردة، والفقهاء، وصلَّى عليه ابنُه أبو القاسم عبيد الله، وهو يومئذٍ ابنُ خمس عشرة سنة، ودُفِنَ بباب حرب، وكان إمامًا في الفقه، وأفتى سنين، وانتهى إليه المذهب، وانتشرت تصانيفُه وأصحابُه، وجمع بين الأمانة والصدق وحُسن الخلق والسمت والتعبُّد والتقشُّف والخشوع والصمت عن ما لا يعنيه، واتباع السلف، وخلَّفَ من الولد ثلاثةً: عبيد الله، وأبا حازم، وأبا الحسين. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 97. وتنظر مصادر الترجمة في السير 18/ 163. (¬2) تاريخ بغداد 2/ 256، والمنتظم 16/ 98 - 99، وطبقات الحنابلة 2/ 193 - 230، والأنساب 9/ 246، وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 89. (¬3) تحرفت في النسختين (خ) و (ف) إلى: عليه، والتصويب من مصادر الترجمة.

السنة التاسعة والخمسون والأربع مئة

وقال أبو يعلى البَرَداني: رأيتُه في المنام فقلت له: ما فعلَ الله بك؟ فقال وهو يعدُّ بأصابعه: غَفَر لي، ورَحِمني، ورفع منزلتي. فقلت: بالعلم؟ فقال لي: بالصدق. وأفطر يوم جنازته خلقٌ كثيرٌ؛ لأنَّ الحرَّ كان شديدًا. ولمَّا غلب البساسيريُّ على بغداد ولَّاه القضاء، فاستأذن أبا عبد الله الدامغاني [ثم] (¬1) دخل عليه وأخبره، واستأذنه فأذِنَ له، وكان في اعتقال البساسيري، وكان فيمن بايع المستنصر صاحب مصر. قال الحافظ ابن عساكر (¬2): سمعتُ أبا غالب بن أبي علي بن البناء الحنبلي يقول: لمَّا مات أبو يعلى ذهبتُ مع أبي إلى داره بباب المراتب، فلقِيَنا أبو محمد التميمي الفقيه الحنبلي، فقال: إلى أين؟ فقال أبي: مات القاضي أبو يعلى. فقال أبو محمد: لا رَحِمَه الله، فقد بال على الحنابلة -يعني البولةَ الكبيرة- لا تُغسل إلى يوم القيامة -يعني المقالة في التشبيه-. السنة التاسعة والخمسون والأربع مئة فيها في المُحرَّم ورد ألب أرسلان إلى الريِّ من نيسابور. وفيه بعث صاحب مصر إلى محمود بن الزَّوقلية المتغلِّب على حلب يُطالبه بحملِ مالٍ إلى خزانته، وبغزو الروم الذين هم في مجاورتِه، وصرفِ سُرْخاب ومن معه من الغُزِّ إن كان على طاعته، فأجاب: يا بُنيَّ قد ألزمتُ على أخذ حلبَ من عمي أموالًا اقترضها، وأنا مطالبٌ بها, وليس في يدي ما أقضيها، فضلًا عما أصرفه في غيره، فإذا قضيتُ ديوني، واستقام أمري، حملتُ وخدمتُ، وأما الرومُ فقد هادنتُهم مدةً، وأعطيتُهم ولدي رهينةً على مالٍ اقترضتُه منهم، فلا سبيل إلى محاربتهم حتى أوفيَهم المال، وأُخلِّصَ ولدي، وتنقضي الهدنة، وأما ابنُ خان (¬3) والغُزُّ الذين معه فيَدُهم فوق ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) لم أقف على هذه الترجمة في تاريخ دمشق ولا في أيٍّ من مصنفات ابن عساكر! . (¬3) في النجوم الزاهرة 5/ 79: خاقان.

يدي، وإنما استخدمتُهم مصانعةً لهم، وكفًّا لفسادهم، فإن رأيتَ صرْفَهم فلتُنفِذْ إليهم مَنْ هو أقوى عليهم مني، وأنا أُساعده، فلمَّا وصل الجواب كوتِبَ بدرٌ الجمالي أميرُ الجيوش المقيم بدمشق، بأن ابن الزَّوقلية قد خلع الطاعة، وأنه مال إلى الجهة العراقية، فنسيرُ إليه ونقاتِلُه، فكتب بدرٌ إلى عطية وهو بالرحبة أن يسير إلى حلب، ووعده المساعدة، فسار ومعه [من] (¬1) بني كلاب عِدَّةٌ قويةٌ إلى حماة، وعلم محمود، فخرج من حلب، واستصحب معه الرجال والغُزَّ إلى بني كلاب، فنزل عليهم؛ لئلا يذهبَ الباقون إلى عطية ويُحِسَّ بهم، ولم يبقَ إلا الحرب، فدخل القاضي ابنُ عمار المقيم بطرابلس بينهم، وأصلح الحال، واستحلف محمود وعطية لصاحب مصر، وحلف كلُّ واحد منهما لصاحبه على أنَّ الرحبةَ وبالِس والرقة والبلاد الفراتية لعطية، وحلبَ لمحمود، وسار عطيةُ إلى دمشق، فأقام في خدمة صاحب مصر، وبلغ مسلمَ بنَ قريش، فسار إلى الرحبة فملكها بمواطأةٍ من أهلها؛ لقُبحِ ما عاملهم به عطيةُ، وأقام مسلمٌ الخطبةَ بها للخليفة، ثم للسلطان، ثم لنفسه. وتُوفِّي ابنُ البساسيري يوم الأحد بدمشق، واتُّهِمَت به مغنيةٌ كانت له، وأولَدَها ولدًا، وأنها وافقَتْ فَرَّاشه وطبَّاخه على سمِّه، فسمُّوه، فصلبهم أميرُ الجيوش ورماهم بالنُّشَّاب، واتَّفق موت أخيه في هذا الشهر، وكان مقيمًا بمصر، فتنمَّر (¬2) عليه ناصر الدولة ابن حمدان، فهرب منه قاصدًا دمشق، فواصل السير خوفًا من اتباعه، فلحقه من المشقة ما كان سببًا لموته بعد وصوله إلى دمشق بستة أيام. وفي يوم الاثنين ثامن عشر صفر ورد العميد أبو سعد المستوفي من باب السلطان ومعه هدية للخليفة؛ خيلٌ وثيابٌ ومصحفٌ وجوهرٌ وكتابلٌ، ففرح أهل بغداد بقدومه؛ لأنه كان عفيفًا عن المال والحريم، أقام السياسة، وأمَّن الناس. وفي صفر قصد أبو عبد الله بن أبي هاشم مكة، وقتل من بني سليمان جماعةً، وهرب حمزة بن وهاش أميرُها، وخطب ابنُ أبي هاشم لصاحب مصر والصُّليحي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) تنمَّر: تنكَّر. الصحاح (نمر).

وفي ربيع الآخر ورد الخبرُ بمسير أرسلان خاتون زوجة الخليفة إلى بغداد ومعها تواقيع بجميع ما التمسه القائم من الإقطاعات وغيرها، وأنَّ ألب أرسلان توجَّه إلى أصبهان بنية المُضيِّ إلى كرمان. وفي غُرَّة جمادى الأولى دخلت السيدة أرسلان خاتون إلى بغداد مع الخادم، وخرج الناسُ لتلقِّيها، ومعهم الوزير ابنُ جَهير على فرسخ من بغداد، ودعا لها وهو على ظهر فرسه، ودخلت دارها، وحضر العميد بيت النُّوبة، وقُرئت الكتبُ التي كانت معها، وتشتمل على الطاعة والتصرُّف على قوانين الخدمة والإجابة إلى جميع ما التمس الخليفة، فكان فيها كتابٌ إلى ابن جَهير، عنوانه: الوزيرُ الأجَلُّ، شرفُ الوزراء، فخرُ الدولة. وقبل هذا كان يكتب إليه: الرئيس الأجَلّ. وعزم العميد على العود إلى باب السلطان، فسار يوم الاثنين السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وبنى في هذه المدة التي أقام بها ببغداد على قبر أبي حنيفة - رضي الله عنه - قُبَّةً عاليةً عظيمةً، وأنفق عليها أموالًا كثيرةً، وعمل لها ملبنًا وعلَّاه على مثال قبور آل أبي طالب في المشاهد، وعمل بين يديه رواقًا وصحنًا، وجعله مشهدًا كبيرًا، وعمل بإزائه مدرسةً لأصحاب أبي حنيفة، ورتب لهم مدرسًا، وأوقف عليهم ضيعةً يُصرف مغلُّها إليهم، وفعل في ذلك فِعْلةً حسنةً، ولُقِّب: العميد شرف الملك، ولمَّا انتهت دخل ابن البياضي الشاعر لزيارة المشهد، فقال ارتجالًا: [من الطويل] ألم ترَ أنَّ العلمَ كان مُبدَّدًا ... فجمَّعَهُ هذا الموسَّدُ في المهدِ (¬1) كذلِكَ كانتْ هذهِ الأرضُ ميتةً ... فأنشرَها جودُ العميدِ أبي سعدِ [قلت: وقد ذكر علي بن عقيل في كتابه المسمَّى بـ "الفنون" في هذا المعنى فصلًا، فقال: وُضِعَ أساسُ مسجدٍ بين شريح أبي حنيفة في سنة ست وثلاثين وأربع مئة وأنا ابنُ خمس سنين، وكان المنفقُ عليه رجلٌ تركيٌّ قدم حاجًّا، ثم قدم أبو سعد المستوفي -وكان حنفيًّا متعصِّبًا- وكان قبرُ أبي حنيفة تحت سقفٍ عَمِله بعضُ أُمراء التركمان، ¬

_ (¬1) جاء البيت في المنتظم 16/ 100 - والخبر فيه بنحوه- وفي البداية والنهاية 12/ 95 هكذا: ألم ترَ أنَّ العلمَ كان مُضيَّعًا ... فجمَّعهُ هذا المُغيَّبُ في اللَّحدِ

وكان قبله خَرْبُشت (¬1)، فلمَّا دخل الغُزُّ بغداد وجاء شرفُ الملك إلى بغداد عزم على بناء القُبَّة، فهدم جميع أبنية المسجد وما يحيط بالقبر، وبنى هذا المشهد، وجاء بالقطَّاعين والمهندسين، وابتاع دُورًا من جوار المشهد وحفر أساس القُبَّة، وكانوا يطلبون الأرض الصلبة، فلم يبلغوا إليها حتى حفروا سبعة عشر ذراعًا، فخرج من هذا الحفر عظامُ الأموات الذين كانوا يطلبون جوار النعمان أربع مئة عين، ونُقِلت جميعُها إلى بقعةٍ كانت لقوم ملكًا، فحفروا فيها ودفنوها، وخرج في ذلك الحَفْر -يعني الأساس- شخصٌ منتظم العظام له ريحٌ كريح الكافور. وقال ابن عقيل: فقلت: وما يدريكم لعلَّ النعمان خرجت عظامه في هذه العظام وبقيت القبة فارغة، وبلغ شرفَ الملك، وكانت العمارة في سنة تسعٍ وخمسين وأربع مدّة، وساجُه وأبوابُه غصبٌ من بعض بِيَع سامراء. قلت: قد كان ابنُ عقيل من أكبر المتعصِّبين على أبي حنيفة وأصحابه. وقوله: وأنا ابن خمس سنين، وهل يُدرك هذا الإدراكَ ابنُ عشرين سنة؟ ! . وذكر ابن العميد أنه جمع الصنَّاع والمهندسين وغرم على القُبَّة ألوفًا، وكيف يخفى عليهم موضع الضريح؟ ثم أوهم أن الشخص الذي فاحت منه رائحة الكافور هو الإمام. وما مقصودُه إلا الإبهام. وقوله: غصبوا الأبواب والساج من بعض البِيَع، فيحتمل أن أهل تلك البيع نقضوا العهد أو كانت خرابًا، ولو صحَّت دعواه فإن الغاصب عند أبي حنيفة يملك الساحة؛ فإنه لا معتبر في الدنيا بالعظام، وإنما الاعتبار بالأرواح، وهي في دار السلام، والله سبحانه أعلم]. وفي شعبان وردت الأخبار أن ألب أرسلان لمَّا توسَّط بلادَ كرمان طلب أخاه الأمير قاروت بك، وكان قد تحصَّن ببلد حصين، وعليه سورٌ مكين، ويحيط به خندقٌ عميق، ويُسمى البلد بردشير، فبعث إليه أرسلان مقدِّمتَه، وسار خلفها، وخرج قاروت بك من البلد، فلقي المُقدِّمة، وفيها الحاجبان الطباش وجاولي، والتقَوا، فقُتِل بينهم عددٌ كبير، وجاءت رايات صاحب مصر على والدته وأخيه، فضمَّها إلى قصره، وكان في العسكر أميرٌ تركيٌّ يقال له: سلطان الجيوش، فاستمالوه بولاية تِنِّيس ودمياط وأعمالها، وولي سنان الدولة أماكن، وفرَّقوا البلاد في المقدمين خوفًا من ابن ¬

_ (¬1) الخَرْبُشت: الخيمة. المعجم الذهبي ص 235.

حمدان، وحصل الشام في يد بدر الجمال، والصعيد في يد المغاربة، والإسكندرية في يد ابن حمدون، ودمياط وما والاها في يد سلطان الجيوش، ولم يبقَ لصاحب مصر إلَّا ما حول القاهرة وقَرُبَ منها. وفي ذي القعدة لبس الوزير ابن جَهير خِلعةَ السلطان ألب أرسلان، وبعث بها إليه، وكانت فَرَجيةَ طميم وعمامةً مُذهَبة ومركبَ ذهب على فرس، وكتب إليه كتابًا يتضمن الشكرَ وحقدَ القائم عليه، حيث لبسها في داره، وجلس الوزيرُ ابنُ جَهير في بيت النُّوبة للهناء، وخرج إليه توقيع الخليفة، ومضمونه: لمَّا اتَّضح للسلطان الأعظم -وذكر ألقابه- لُطْفُ محلِّكَ يا فخر الدولة أبا نصر محمد بن محمد بن جَهير، وتأثُّلُ مكانِكَ، وتخصيصُكَ بشريف آراء أمير المؤمنين فيك بما تجاوزت به مراتب مَنْ تقدَّمك من أمثالك وألقابك، رأى أن يَحبوك بما يقصد به التقرب إلى الخدمة الشريفة، ومضايفة الآراء في اعتمادك بالآلاء الجسيمة، ويقابل مواقفك في الخدمة التي وضحت دلائلُها، وراقت من الأقذاء مناهلُها، ومقاصدك الرضية التي أنبَتْ عن حميد الجلال، وقطعت أطماعَ من يروم إدراك شأوِكَ من النظر أو الأمثال، مع ما في ظن ذلك مما يدلُّ على جميلِ رأيه فيك، واعتدادِه بمساعيك، وقد أذِنَ أميرُ المؤمنين في ادِّراع ما يحصل لك الشرف به والبروز فيه، ويلقى ذلك بما يلائم الصواب ويضاهيه، ويُبدي الكافةُ ما لا يزال الإمام يُظهِره من تضاعف حصونك بحضرة الخليفة المعظَّمة، ووجاهةِ منزلك من الإمامة المكرَّمة، والله تعالى يُمتع أمير المؤمنين بعضد دولته التي تفرد بها في الزمان، وطال بها مناكبَ الأقران. وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة جمع أبو سعيد القايِني الناس على طبقاتهم إلى المدرسة النظامية، وكان نظام الملك بناها برسم أبي إسحاق الشيرازي، فلمَّا تكاملوا فيها تأخَّر مجيءُ أبي إسحاق، وطُلِبَ فلم يظهر، فوقع العدول إلى أبي نصر بن الصباغ الشاهد، وضمن له أبو منصور بن يوسف أن لا يعدل عنه، فركن إلى قوله، وذكر الدرس، وتفرَّق الناس، وخجل ابنُ الصباغ لتأخُّر أبي إسحاق، وأجرى المتفقِّهة لكلِّ واحد منهم أربعة أرطال خبز في كل يوم، وظهر أبو إسحاق في مسجده بباب المراتب، فدرَّس على عادته فيه، واجتمع إليه العوامُّ، ودعَوا له وأثنوا عليه، وكان قد بلغهم عنه أنه قال: إنني لم أطِبْ

نفسًا بالجلوس في هذه المدرسة لما بلغني عن آلَتِها، وأنَّ أبا سعيد القايِني غصب أكثرها، ونقض قطعة من البلد لأجلها, ولحِقَ أصحابَ أبي إسحاق قصورٌ، وبأن فيهم فتورٌ، وراسلوه بما عرضوا فيه بالانصراف عنهم، والمضيِّ إلى ابن الصباغ إن لم تُجِب وترجِعْ عن الأخلاق الشرسة، فأجابهم تطييبًا لقلوبهم، وتسكينًا لنفورهم، وغيظًا من ابن الصباغ، حيث جلس في موضعه، وسعى هو وهم حتى صرَفَ ابن الصباغ، وكان نظام الملك لمَّا بلغه امتناعه من التدريس فيها أقام القيامة على عميد القايِني، وكتب يلومه ويوبِّخه ويتهدَّده، ويقول: لمن بنَيتَ هذه المدرسة إلا لأبي إسحاق؟ ! فجاء إليه أبو سعيد، وأراه الكتاب، فلم يُجِبْ، فمضى إلى بيت النُّوبة، وراسل الخليفةَ، فبعث إلى أبي إسحاق يقول: قد عرفتَ حالنا مع الأعاجم، وأخافُ أن يُنسَبَ ذلك إليَّ. فجاء أبو إسحاق وبيده آجُرَّةٌ كبيرةٌ كان يجلس عليها إذا قعد في المدرسة، وجلس بها يوم السبت غُرَّة ذي الحجة، وكان إذا حضر وقت صلاة خرج منها وصلى في بعض المساجد، فكانت مدةُ مقام ابن الصباغ فيها عشرين يومًا. وقال أبو علي المقدسي: رأيتُ أبا إسحاق الشيرازي بعد موته في النوم، فقلت له: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: طُولِبتُ بهذه المبنية -يعني المدرسة النظامية- ولولا أني ما أدَّيتُ فيها الفرض لكنتُ من الهالكين (¬1). وفي ذي القعدة قُتِلَ الصُّليحي أميرُ اليمن بالمَهْجَم، قتله سعيد ولد نجاح أحد أمرائها المتقدِّمين، وأُقيمت الدعوة العباسية باليمن، وقُطعت الخطبة المصرية، وورد بذلك كتاب من مكة -حرسها الله تعالى- معلمًا لحضرة الوزارة، ومهنيًا بالدولة الإمامية القائمية لِما فتح اللهُ من إقامة الدعوة على منابر اليمن فيما قَرُبَ وما بَعُدَ، وذلك لأنه لمَّا كان في رابع عشر ذي القعدة ورد إلى مكة مَنْ أخبر أن سعيد بن نجاح كان أبوه واليًا على اليمن، وأنه خرج هذا الزمان في عصابة من الخيزُرانية (¬2) بزَبيدٍ فاستولى عليها، وأنه سار إلى الصُّليحي في عدد يسير، وكان الصُّليحي قد عزم على الحجِّ فبلغه وهو بالمَهْجَم، فبعث بنعيم الصَّيمري في عسكر كبير، فحذَّرهم قتال ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه في المنتظم 16/ 102 - 103. (¬2) في (خ): الحيزانية، والمثبت من (ف).

سعيد بن محمد بن الحسن

الصُّليحي، وخوَّفهم بأسه، فخرجوا إليه في سبع مئة راجل وخمسة عشر فارسًا، وسار بعدهم الصُّليحي فالتقوا، فكبا به فرسُه، فوقع وقُتِلَ رجالُه، واخذت أموالُه وحرمُه، وأصبح عِظةً للمعتبرين. وفيها تُوفِّي سعيد بن محمد بن الحسن (¬1) أبو القاسم، إمام جامع صور، من رواياته عن الحسن البصري أنه قال: لا تشتروا مودَّة ألف رجل بعداوة رجل واحد. [وفيها تُوفي] علي بن الخَضِر بن أبي الحسن (¬2) العثماني، الدمشقي، الحاسب، له تصانيف في علم الحساب، وكانت وفاته بدمشق في شوال، وكان أخوه قد مات بتِنِّيس، فقال يرثيه: [من الخفيف] قُرَّة العينِ لم تدَعْ لي قرارا ... كنتَ جاري فصِرْتَ للتُّربِ جارا كنتَ لي مؤنسًا فأوحشني مِنْـ ... ـكَ زمانٌ مسترجِعٌ ما استعارا في دمشقَ بعضي وبعضي بتِنِّيـ ... ـسٍ بَنَوا فوقَهُ من التُّربِ دارا يا بعيدَ المزارِ ليتَ خيالًا ... منكَ في النَّومِ لو ألَمَّ فزارا إن تكُنْ ذُقْتَ من غَصَّةِ الموْ ... تِ فقد ذُقْتُها عليكَ مرارا جعلَ اللهُ ظلمةَ القبرِ نورًا ... لكَ والجنةَ الفسيحةَ دارا السنة الستون والأربع مئة فيها في ربيع الأول وردت الأخبار بنزولِ السلطان على حيرة، ودخولِ نظام الملك إلى فضلون بن أبي الأسوار صاحبها وإخراجِه، حتى داس بساط السلطان، وخلع عليه وعاد إلى بلده، وخدم السلطان بألف جمل، وخمسين فرسًا، وخمس مئة ثوب من ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 21/ 287 - 290. (¬2) تاريخ دمشق 41/ 459 - 461.

أجناس، وسُرُرٍ من ذهب وفضة مُلَبَّسَين بهما، وبستانٍ أشجارُه من ذهب، وثمارُه اليواقيت والجواهر، ووزنه مئة ألف مثقال. وقصد ألب أرسلان دخول اللَّان، فوقع ثلجٌ عظيم، فأتلف العساكرَ والدوابَّ والخيامَ وغيرَها، فعزم على العود إلى حيرة، وجاء ابن جعفر أمير تَفليس إلى الخدمة بمال وخيل، وبذل فضلون في تِفليس مالًا، فسلَّمها إليه السلطان، وبقي أميرُها على باب السلطان مقيمًا، وكان السلطان قد تزوَّج ابنةَ أخت بُقراط ملك الأنجار، ودخل بها في هذه المرة بهَمَذان، وحملها معه، وطلَّقها وزوَّجها فضلون، وحملها إليه. وفي ربيع الآخر وردَتْ كتب مسلم بن قريش بأنه كسر بني كلاب ونهبهم ودفعهم عن الرحبة، ومعها قصبة فضة مصريَّة عليها علم، عليه اسم صاحب مصر، مكسورة منكسة، فطِيفَ بها في بغداد، وبعث الخليفة إلى مسلم بالخلع والتشريفات. وفي يوم الثلاثاء حادي عشر جمادى الأولى على ساعتين ونصف كانت زلزلةٌ بأرض فلسطين أهلكت بلد الرملة، وبلغ حِسُّها إلى الرحبة، ولم يسلَمْ من الرملة إلا دربان فقط، وهلك فيها خمس عشرة نسمة، وكان في مكتب الرملة نحو مئتي صبي، فوقع المكتب عليهم، فما سأل أحدٌ عنهم لموت أهاليهم، وانشقَّت صخرة بيت المقدس، ثم عادت. وقيل: ما انشقَّت، بل زالت من موضعها، ثم عادت، وغار البحر مسيرة يوم، ودخل الناس إلى أرضه يلتقطون، فرجع عليهم، فأهلك خلقًا عظيمًا، وخربت بانياس، وسُمِعَ من السماء رعود وأصواتٌ هائلةٌ غُشي على الناس منها، وشقَّت هذه الزلزلة الفرات، ورفعت الماء إلى جوانبها. وقال علويٌّ من الحجاز: كانت زلزلةٌ عندنا في الوقت المذكور، فرمت شُرَّافتين (¬1) من منارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانزعج أهلُ المدينة، وقالوا: هذا نذيرٌ بآيةٍ تُصيبنا، فتابوا وأقلعوا، وأرا قوا الخمور، ونفوا الخواطئ من البلد، ولحقت الزلزلةُ وادي الصفراء ويَنبُعَ وبدرًا وخيبرَ ووادي القرى، وعمَّتِ الحجازَ، وانشقَّتِ الأرضُ عن كنوزٍ وجدوا فيها الذهب والفضة والمصاغ، ووزن الدينار مثقال ونصف، ونبعَتْ فيها عينٌ تستغل كلَّ سنة ألفي دينار، وظهر بتبوك ثلاثة عيون غير العين التي كانت بها، وأخذتِ الزلزلةُ في شرقي الحجاز ¬

_ (¬1) الشُّرَّافة: زوائد توضع في أطراف الشيء تحليةً له. المعجم الوسيط (شرف).

جميعه، وأهلكت أيلة ومن فيها، إلا اثنا عشر رجلًا اتَّفق أنهم كانوا خرجوا إلى ساحل البحر يصيدون السمك. وورد من بعض التجار كتابٌ في رجب يقول: وصلنا إلى دمشق وليس فيها سلطانٌ ولا بَيعٌ ولا شراء، وقد غلب أهلُها عليها، ولا يمكن أحدٌ الخروج منها ولا الدخول إليها، وانهزم أمير الجيوش صاحب دمشق إلى عسقلان، ونقض العامةُ قصرَه الذي كان ينزله، وجميعُ الساحل والشام محيط، والعجب أنهم اعتبروا حال هذه الزلزلة، فوجدوا السواحل والقدس والشام والمدينة وتبوك وتيماء والحجاز كلَّه والبلادَ الفراتية الجميع زلزلت في ليلة واحدة. وفي نصف جمادى الأولى اجتمع الفقهاء والمُحدِّثون والفضلاء بديوان الخليفة، وسألوا إخراج الاعتقاد القادري وقراءته، فأُجيبوا، وقُرئ هناك بمحضر من الجميع، وسببه أنَّ أبا منصور بن يوسف تُوفِّي في هذه السنة، فاجتمعت المعتزلة إلى ابن الوليد، وقالوا: ما بقيَ مَنْ ينصرهم، اجلِسْ ودرِّسْ. وعبر الشريف أبو جعفر إلى جامع المنصور وقرأه، فضجَّ الناسُ بالدعاء للخليفة، وانقطع رجاءُ ابن الوليد عن التدريس؛ لأنه قيل: [من] (¬1) يُقِرُّ بهذا الاعتقاد، فليس بمسلم. وفي يوم الثلاثاء ثامن ذي القعدة وليلة المهرجان خرج توقيعُ الخليفة إلى ابن جَهير بعزله، بمحضرٍ من قاضي القضاة الدامغاني، ويشتمل التوقيع على سبعة فصول؛ أولها: أنَّكَ عند رغبتك في الخدمة، كاتبتَ، وساولتَ، وبذلتَ المال وأشياءَ وُثِقَ بك فيها، فوفَّيتَ بالبعض، ودافعتَ بالبعض. والثاني: أنَّكَ لمَّا مات طُغْرُلْبَك كتبتَ إلى مسلم بن قريش استدعيتَه إلى الحضرة، فجرى من ذلك ما لا خفاء به من الخطر بالمهجة وخروج المال الكثير بسببه. والثالث: أنَّكَ تُسيء الأدب فيما يخرج إليك من الأوامر الشريفة، وفيما يُعرَض عليك من التوقيعات الكريمة، حتى ترمي بعضَها من يَدِك، وتخرق بعضَها بحَرَدِك (¬2)، وهذا لمْ يُقدِم عليه أحدٌ قبلك من أهل الخدمة. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (م). (¬2) الحَرَد: الغضب. المعجم الوسيط (حرد).

والرابع: أنَّكَ تحضر بابَ الحجرة من غير استئذان ولا استدعاء، وتقول: ما أُحِبُّ أن يدخل هذا المكان غيري، ورُمْتَ أن تصرف مَنْ جرَتْ عادتُه في هذا الموضع ومن يَقْرُبُ منه. والخامس: أنَّكَ كتبتَ إلى عضد الدولة ألب أرسلان تطلب خِلعةً من غير استئذان ولا اطِّلاع لنا عليها، وسألت لبسها في الدار العزيزة والتجمُّل بها، فقيل لك: هذا ما لا يجوز الإذن فيه؛ لأنه إنما يتجمَّل بما يلبس مما يخرج من الدار، لا بما يجيء إليها، فلم تفعل، وعزمت على مكاتبةِ ألب أرسلان وسؤالِه أن يشفع فيك في هذا المعنى، مخفيًا أن يُحدِثَ ذلك وحشةً له؛ لأنه لا يعلم الغرض الذي قصدناه، فأذِنَّا لك على مضض، وجمعتَ الناس في بيت النُّوبة ولبستَها، وهُنِّيتَ بها. والسادس: الكتاب المُكتتب عن عفيف الخادم أجلِّ خادم في الدار وأخصِّهم بالخدمة الشريفة إلى المصريين -عليهم لعائنُ الله والناس والملائكة أجمعين- في الانحياز إليهم والالتحاق بهم، وإن كان من الهوَسِ الذي لا التفاتَ إليه، والهذيانِ الذي لا اعتمادَ عليه، وأجرى الله تعالى عليَّ جميلَ عوائدِه في الوقوع على هذه الفعلة الرديَّة، والفكرة المشتملة على كل بليةٍ ورزيَّة. والسابع: إخراجُك ولدَك إلى ألب أرسلان والتقوِّي والتعزُّز والاستظهار على الخدمة الشريفة بالالتجاء، وراسلناه فلم يفعل، ونهيناك فلم تقبل، والآن فانظر إلى أيِّ جهة تُحِبُّ أن تقصدها لِتوصَلَ إليها على أجمل حال وأكمل احتياط. فبكى الوزير وانزعج وقلق وأجاب: وأما ما بذلتُه وقلتُه فلو طُولِبتُ به وأُلزِمتُه لسمعتُ وأطعتُ وسارعتُ وامتثلتُ، ولَما أُهملتُ وأُغفلتُ، ظننتُ أني قد سُوهلتُ فيه وسُومِحتُ، فأما مسلم بن قريش فأنا أحلف بالأيمان المغلَّظة أنني ما استدعيتُه إلَّا خوفًا على الباب العزيز أن يطمع مُطامِع، وتَقْدُمَ بغدادَ في جمعٍ لا يسمع ولا يطيع، فإنَّ طُغْرُلْبك كان قد مات، واختلفت الآراء، فلما ظهر ما كان في نفس مسلم كامنًا ولم أعلم به، رددتُه صاغرًا، وأبعدتُه كارهًا، ثم أعدتُه إلى الديوان مِنْ بعدُ خادمًا مستجيرًا، ولائذًا بالعفو مستعيذًا، وأما التوقيعات فما قصدتُ إلَّا التخفيفَ عن الحاضر الشريف، والإشفاقَ على الخزانة لقلة المال، وحيثُ جهلتُ في فعلي، فقد كان يجبُ أن أُنبَّه على غلطي وأُرشَدَ إلى صلاحي، ولا أُتركَ على حالي، وأنتهي فيه

إلى ما يؤول إلى السخط والصَّرْف، ويتخمَّر ذلك في القلب والنفس، فأما قصدي باب الحجرة المعمورة وما قلتُه وسألتُه واقترحتُه فلم يكن لأمرٍ يعودُ عليَّ نفعُه، وإنما الأمرُ زاد ممَّن يحضر من أدوان الحواشي والأتباع، ويخرج فيتحدَّث بما يجري، ويصل إلى العامَّة، فيُتمِّم القباحة التامة، فأشرفُ بما أشرفُ حمية للخدمة الشريفة لا لشيء آخر، وأما حديث الخِلعة فما ظننتُ أن ذلك القدر اليسير يصدر عن هذا الباطن الكبير، وأما ما يتعلَّق بالكتب فأنا أحلف بكلِّ ما يحلف به المسلم أنني ما شعرتُ بها, ولا تقدَّمتُ فيها بشيء، وإن كان أقدمَ على ذلك من تعلَّق بي، فالأمر السامي نافذ فيه، وما ينبغي أن أُؤاخذ أنا به، وإن كان ولا بُدَّ من تسييري فإلى حِلَّة نور الدين بن مَزْيد. فخرج الجواب عن الفصل الأخير المتعلِّق بالمسير إلى حِلَّة نور الدين، واطَّرح جميعَ الأجوبة عن الفصول، وعيَّن الوزير على خروجه باليوم العاشر من الشهر، وخرج إليه من الخليفة توقيع نسخته: معلوم يا محمد بن جَهير أنه لم يظهر لك خيانة في دولة ولا مال، لكن {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 38 - 39] ثم أذن له في بيع غَلَّاته والتصرُّف في ماله على إيثاره وإيثار أصحابه، فباعوا ما أرادوا من الرحل والقماش والدُّور والعقار، وطلَّقوا النساء، وأيتموا الأولاد، وظهر من الاغتمام عليهم من جميع مَنْ شَمِلَتْه الدار، من خدمٍ وأتباعٍ وخواصٍّ ورَعاعٍ شيءٌ كثير، وجاءه منهم العدد الكثير ليلًا، نساءً ورجالًا، باكين لمفارقته، محزونين لِبُعده، وهو يبكي معهم ويجزيهم خيرًا، وخرج غلمانه وأصحابه يوم الخميس المذكور وقد اجتمع العوامُّ يدعون لهم، ويبكون عليهم، وقُدِّم له وقت العتمة عند باب الرقة جنكولية غاليةٌ من فراش، وجاء أولاده معه حتى وقف عند باب بيت النُّوبة وشُبَّاك المدورة، وظنَّ أن الخليفة في الشُّبَّاك، فقئل الأرض عدة دفعات، وبكى بكاء شديدًا، وقال: اللهُ بيني وبين مَنْ غيَّر قلبك عليَّ يا أمير المؤمنين، فارحَمْ شيبتي وأولادي وذُلِّي وموقفي، وارْعَ حُرمتي وخدمتي، ولا ترتكب في مثلي هذا الفعل، فلما يئس نزل إلى دجلة معضَدًا بين اثنين وهو يبكي، والعامة تبكي لبكائه وتدعو له، فيردُّ عليهم ويدعو لهم ويودِّعهم، وجلس في الجنكولية، وعبر إلى النجمي

أحمد بن محمد

وقد سبقه إليه صافي ومسعود من الخُدَّام الخواص، وجماعةٌ من الصغار، وحاجبان، وفيروز الكرماني، وخادم أرسلان خاتون، وجماعةٌ من الغلمان الدارية المسير في صحبته، فساروا إلى حِلَّة نور الدولة بن مَزْيَد بالفلُّوجة، فنزل فيها، وأقام بها، ثم أعيد إلى الوزارة بعد ذلك في السنة الآتية، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها ولَّى المستنصرُ دمشقَ للأمير بازرطغان قطب الدولة، ووصل معه السيد الشريف أبو طاهر حيدرة بن مشخص الدولة، ونزل بدار العقيقي، وانهزم بدرٌ أميرُ الجيوش من دمشق، فنهب أهلُها خزائنَه ودوابَّه؛ لأنه كان مسيئًا إليهم، وأقام قطب الدولة إلى سنة إحدى وستين وأربع مئة، وخرج ومعه الشريف حيدرة، وكان بدر أمير الجيوش رصده، فظفر بالشريف، فسلخه، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وفيها جاء ناصر الدولة بالأتراك إلى باب المستنصر بالساحل، وزحف المذكررون إلى باب وزيره ابن كُدينة، فطالبوه بالمال، فقال: وأيُّ مال بقي بعد أخذكم الأموال واقتسامكم الإقطاع؟ فقالوا: لا بُدَّ وأن تكتب إلى المستنصر رقعةً. فكتب إليه يذكر ما جرى، فكتب على الرقعة بخطه: [من السريع] أصبحتُ لا أرجو ولا أتَّقي ... إلَّا إلهي وله الفضلُ جدِّي نبيِّي وإمامي أبي ... وقوليَ التوحيدُ والعدلُ المالُ مالُ الله، والعبدُ عبد الله، والإعطاءُ خيرٌ من المنع {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. وفيها توفي أحمد بن محمد (¬1) ابن عقيل الشَّهرَزُوري بالبيت المقدَّس، كان فاضلًا شاعرًا، ومن شعره: [من البسيط] واحسرتا ماتَ حظِّي من قلوبكُمُ ... وللحظوظِ كما للناسِ آجالُ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 5/ 409 دون ذكر بيت الشعر.

الحسن بن أبي طاهر بن الحسن

[وفيها تُوفِّي] الحسن بن أبي طاهر بن الحسن (¬1) أبو علي، الخُتَّلي، سكن دمشق، وتُوفِّي بها، ومن رواياته عن الحسن، عن الحسن، عن الحسن، [عن الحسن] (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أحسن الحسن الخلقُ الحسن" فالحسن الأول: ابن حسان السَّمتي (¬3)، والثاني: ابن دينار، والثالث: البصري، والرابع: ابن علي عليهما السلام. [وفيها تُوفِّيت] خديجة بنت محمد ابن علي بن عبد الله، الواعظة، الشاهجانية، وكانت عظيمةً، مشهورةً بالصدق والزهد والورع والعفاف، وُلدت سنة ست وسبعين وثلاث مئة، وكانت تسكن قطيعة الربيع، وصحبت ابن سمعون الواعظ، ولمَّا ماتت دُفِنت إلى جانبه (¬4). [وفيها تُوفِّي] عبد الملك بن محمد بن يوسف أبو منصور، البغدادي، لم يكن في زمانه من يُخاطَب بالشيخ الأجلِّ سواه، ولد سنة خمس وتسعين وثلاث مئة، وكان أوحدَ زمانه في فعل المعروف، والقيامِ بأمور العلماء وأهل الصلاح، وقمع أهل البدع، وافتقادِ المستورين، ودوامِ الصدقات، وكان يتصدَّق سِرًّا، ويكره أن يظهر عنه، فإذا ظهر قال: إنما أنا واسطة وليس مني. وكان مُحترمًا عند الخلفاء والملوك والأمراء. وقال ابن عقيل في "الفنون": كان عينَ زماننا، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 13/ 117. (¬2) هذه الزيادة من (م) و (م 1). وهي موافقة لما في تاريخ دمشق 13/ 117 - والترجمة فيه- والحديث على الجادة أخرجه -أيضًا- القضاعي في مسنده الشهاب (986). (¬3) في النسخ الخطية: التيمي، وفي النجوم الزاهرة 5/ 82: التميمي، والتصويب من تاريخ دمشق وكتب التراجم. (¬4) تاريخ بغداد 14/ 447، والمنتظم 16/ 107.

ما قُهِرَ على رأيٍ، ولا كُسِرَ له غرض، وكان يتَّجِر وينفق على أشياخ الحنابلة الذين ليس لهم بالسلطان وصلة، واختصَّ بأصحاب عبد الصمد الزاهد، وهم أئمة المساجد والزُّهَّاد، واستبعد الوُعَّاظ، وأكرم بني هاشم والأشراف بالعطاء الجزيل، وأنعَمَ على العرب والعجم والتركمان والغلمان، واحتاج إلى جاهه الخلفاءُ والملوك، وما كان يُسمع منه كلمةٌ تدلُّ على فعل قبيحٍ فعلَه، ولا إنعامٍ أسداه، وصمد لحوائج الناس، وكان يُعظِّم من يقصِده في حاجةٍ أكثرَ من تعظيم مَنْ يقصِده في غير حاجة، ولمَّا استولى البساسيريُّ على بغداد وانحدر إلى واسط أخذ [ابنَ يوسف] (¬1) معه فنزل على طحَّان، فلمَّا رحل عنه أعطاه شيئًا، وانقضت مدة وإذا بالطحان قد قدم بغداد هاربًا من ديونٍ لَزِمَتْه، فدخل عليه فأكرمه وأنزله في حجرة وكساه، وأمر بعض أصحابه أن يسأله عن سبب مقدمه، فقال: هربتُ من ديون الناس عليَّ وليس لي قدرةٌ على وفائها. فأرسل عبد الملك سفينةً وحمل فيها من الفاكهة والكسوة والتُّحف شيئًا كثيرًا، وأعطى لمن يُسفِّره بها مئتي دينار، وقال: سَلْ عن بيت فلان الطحان، وأوصِلْ ما في هذه السفينة إلى أهله، وسَلْ عن غرمائه وصالحهم بهذه المئتي دينار، وخُذْ منهم الوثائق. فمضى الرجل، وفعل ما أمره، وعاد وظنَّ الطحَّان أنه قد نسيه، فأحضره وقال: ما سببُ قدومك؟ فأخبره، فقال: خُذْ هذه الوثائق. وأعطاه مئة دينار. وكان الخليفة يُحِبُّه ويصدر عن رأيه، ويعتقد فيه اعتقادًا جميلًا، وماتت له ابنةٌ وكانت زوجةَ أبي عبد الله بن جرد، فتَبِعها الأكابر والقضاة والأشراف، ومشوا في جنازتها، وجاءت صلف القَهرمانة بطعام وشراب، وكان مارستان العَضُدي قد خرب ودثر، فأحياه، واستخدم فيه الأطباء، وأوقف عليه، وتُوفِّي يوم الثلاثاء بداره بباب المراتب، ودُفن يوم الأربعاء رابع عشر مُحرَّم عند أبيه وجده مجاورًا لقبر الإمام أحمد رحمة الله عليه، وغسَّله القاضي حسين بن المهتدي، وصلَّى عليه ابنُه أبو محمد الحسن داخل مقصورة جامع الخليفة، وتبعه مئةُ ألف رجل أو يزيدون سوى النساء، وغُلِّقت أسواق بغداد، وضجَّ الناس بالبكاء عليه؛ لأنه كان يُحسِن إليهم، فكم كسا يتيمًا؟ وكم زوَّج أرملةً؟ وكم بني مسجدًا وقنطرةً؟ وتولَّى المارستان وليس فيه طبيبٌ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م)، والمنتظم 16/ 108.

أبو جعفر الطوسي

ولا شراب، والمرضى ينامون على البواري، فرتب فيه ثمانية وعشرين طبيبًا، وطبقه بخمسة وعشرين طابقة، ونقل إليه الأشربة والأدوية والعقاقير والفرش واللحف، ولمَّا اجتازوا بجنازته بجامع المنصور أرادوا الصلاة عليه بالجامع، فلم يسعِ (¬1) الناس، ولا قدروا يدخلون تابوته إلى الجامع من الزحام. سمع أبا عمرو بن مهدي وغيرَه، وروى عنه الخطيب وغيرُه، وأجمعوا على فضله ودينه وصدقه وثقته. وقال محمد بن الفضل: حدثني رجل من أهل النهروانات أنه كان يعطيه بكلِّ سنة عشرة دنانير، فأتى بعد وفاته إلى وكيله ابن رضوان فأذكره بها، فأعرض عنه صالح، فألحَّ عليه، فقال له: مُرَّ واطلُبْ ممَّن كان يُعطيك. فمضى إلى قبره، وجلس عنده، وترحَّم عليه، وقرأ عليه القرآن، فوجد عند قبره قرطاسًا فيه عشرة دنانير، فأخذها وجاء إلى ابن رضوان وعرَّفه الحال، فتعجَّب وتفكَّر، فذكر أنه زار القبر ومعه كواغد فيها دنانير قد أعدَّها للصدقة، وإذا بالكاغد قد سقط منها، فقال له ابنُ رضوان: خُذْه، ولن أقطعَها عنك كلَّ سنةٍ ما دمتُ حيًّا. أبو جعفر الطُّوسي (¬2) فقيه الإمامية، صاحب التفسير الكبير، هو عشرون مجلَّدة، وله تصانيف أُخر، تُوفِّي يوم الثلاثاء لسِتٍّ بَقِين من المُحرَّم بمشهد أمير المؤمنين علي - عليه السلام -، وكان مجاورًا عند ضريحه. محمد بن إسماعيل ابن قريش بن عبَّاد القاضي، الأندلسي، كان قد استولى على إشبيلية وأكثر مدن الأندلس، وكان شجاعًا جوادًا، يُحبُّ العلماء والفُضلاء، ويجاهد بنفسه في سبيل الله، ويعدل في رعيته ويحسِن إليهم، وكان هيوبًا، ولمَّا مات قام بعده ولدُه أبو عمرو عبَّاد، ولُقِّب بالمعتضد وله ثلاثون سنة، وكان أديبًا متواضعًا جوادًا سمحًا، وكان ¬

_ (¬1) في (خ) و (ف): يسمع، والمثبت من (م) و (م 1). (¬2) المنتظم 16/ 110، والكامل 10/ 58، والسير 18/ 334.

السنة الحادية والستون والأربع مئة

يحيى بن محمود بن جمهور وزير الدولة الأموية قد سلَّم طُلَيطِلة إلى ألفنش ملك الفرنج، وكان يوسف بن تاشفين أمير المرابطين الملثَّمين قد بنى مراكش وأقام فيها، وشَنَّ ألفنش فيها الغارات على جزيرة الأندلس، فكتب عبَّاد بن محمد بن إسماعيل إلى يوسف بن تاشفين يستنجد على ألفنش، فعبر زقاق سبتة إلى الأندلس ومعه عساكره، واتَّفق [مع] (¬1) عباد، وسار نحو ألفنش إلى موضع يقال له: الزلَّاقة، والتقوا، فكانت الدَّبَرةُ على الفرنج، فحصدوهم حصدًا، ووقعةُ الزلَّاقة مشهورة، وكانت في سنة تسع وسبعين وأربع مئة، وأقام عبَّاد بن محمد بالأندلس، فلم يَزلْ بها حتى قويَ عليه يوسف بن تاشفين وأخرجه منها. السنة الحادية والستون والأربع مئة فيها في المُحرَّم وردت الأخبار بأن ناصر الدولة بن حمدان خرج يومًا من عند الوزير أبي عبد الله الماسكي وزير مصر، فوثب عليه رجلٌ صيرفيٌّ وضربه بسكين فشقَّ بطنه وقُتِلَ في الحال، وحُمِلَ ابنُ حمدان إلى داره وقد خرج ثَرْبُه (¬2) ويئس منه، وعُولج فبَرِئ بعد مدة، وأشار أنَّ صاحب مصر ووالدته نَشَآ الصيرفيَّ عليه، وبذلا له أموالًا، وحمل المشارقةَ على خلع الطاعة، وأنَّ صاحب مصر سخُف أمرُه واضمحلَّ، وتشاغل باللهو والطرب والشرب، وسار ابنُ حمدان مع مُقدَّمي المشارقة؛ سنان الدولة وسلطان الجيوش وغيرهما، فحصروا القاهرة، فتوصَّل صاحبُ مصر ووالدتُه وأخيه إلى أن أرسلوا إلى مصر من استنفر لهم العامَّة، واستصرخهم وأذكرهم حقوقَهم عليهم، وأوعدهم الإحسان إليهم، فثاروا إلى دور ابن حمدان فنهبوها وأحرقوها، وإلى دور المتعلِّقين عليه ففعلوا بهم كذلك ونقضوها، وأعلنوا بدعوة صاحب مصر، وعرف المشارقة ذلك، فخافوا على منازلهم وأهلهم وأموالهم، فعادوا إلى الطاعة، ورجعوا إلى مصر، وأظهر مُتقدِّمو المشارقة إنكارَ ما فعله ابنُ حمدان، وقالوا: أُكرِهْنا عليه، وخِفْنا منه، وكانوا لكثرة أموالهم يخافون من صاحب مصر، فأطاعوا ابنَ حمدان. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ف). (¬2) الثَّرْب: شحم رقيق يُغشِّي الكرش والأمعاء. المعجم الوسيط (ثرب).

وفي المُحرَّم وصل ملك الروم إلى بلد حلب في مئين ألوف، فخرج إليه محمود بن الزَّوقلية وابنُ خان والغُزُّ وبنو كلاب، وأوقعوه دفعة، وانهزم المسلمون، وفتحت الروم حصني عِمّ وأَرْتَاح (¬1)، وكان الغُزُّ وبنو كلاب قد فتحوهما قبل ذلك، وانبسط الروم إلى منبج، وكان أكثرُ أهلها قد هربوا منها، وبلغ كراءُ الراحلة منها إلى حلب ثمانين دينارًا، وحصرها الروم، فاستأمن إليهم عددٌ ممَّن تخلَّف فيها وفتحوها لهم، فقتلوا مَنْ لم يستأمِنْ إليهم من المسلمين، ونقضوا من سورها ما بنوا بحجارته حصنًا كان قديمًا فيها، ورتبوا أصحابهم في الحصين وجعلوه معقلًا لهم، وفرَّقوا في المستأمَنة مالًا كبيرًا عوضًا عما ذهب منهم، وأحسنوا إليه، وأفاضوا العدل فيه تقويًا بهم على حفظ البلد، ووقع الغلاء في عسكر الروم لكثرتهم وقِلَّة ميرتهم لما توالى عليهم من إحراق التركمان بلادهم ونهبها، وزاد الغلاء حتى بيع رطل خبز بدينار، وستُّ كُفوف شعيرٍ إلى (¬2) سبعة بدينار. وبلغ صاحبَ الروم أن الإفشين فتح عمورية ونهبها، فعاد إلى القسطنطينية بعساكره، وبقيت منبج في يد أصحابه في الحصين والبلد على حالها، واسم هذا الملك أزدوخانس أقام ملكًا ثلاثين سنة. وفي يوم الأربعاء ثاني عشر صفر عاد الوزير فخر الدولة أبو نصر إلى بغداد، وسببه أنَّه لمَّا فارقها زادت الرغبات في خدمة الخليفة، واختلفت الآراء والأهواء، فوقع العزمُ على ابن عبد الرحيم، وكتب الخليفةُ إليه بالقُدوم من مستقرِّه في مطيرآباذ إلى الفلُّوجة حِلَّة دُبيس، فقَدِمها على إضاقةٍ شديدة، وبذلِ من أشار به عشرة آلاف دينار لم يكن لها وجهٌ، وورد أبو المعالي أخو الوزير أبو العلاء النازل على هزارسب بكتاب من ألب أرسلان شفاعةً بأن يستوزر أبا العلاء، وأظهر الخليفة أنَّ أمر ابن عباد قد تقرَّر، ولو سبق هذا لوقعت الإجابة إليه، وفي ليلةِ ردِّ الخليفة هذه الشفاعة رأى نجاحٌ الخادمُ الخاصُّ في منامه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يدقُّ عليه بابه، فقال الخادم: من أنت؟ فقال: رسول الله. فقال له وقد ذهل: هل من حاجة؟ فقال: جئتُ أُبشِّرك بعود ابن جَهير إلى الوزارة. ¬

_ (¬1) في النسخ: أرياح، والمثبت هو الصواب كما تقدم في الصفحة 133. (¬2) في (خ): وستة إلى فوق سبعة بدينار، والمثبت من (م).

فلمَّا أصبح ذكر للخليفة ذلك، فقال: صدقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا تُشعِرَنَّ أحدًا بما رأيتَ. فلمَّا ظهر ابنُ عبد الرحيم ثار العوامُّ، وألقَوا في الجامع الرِّقاعَ فيها اللعنة على من أشار به ومن سعى له؛ لأنه كان مع البساسيري، ونهب الدار والحريم، وأقام الدعوة للمصريين مضافًا إلى قديم فِعْلِه في المصادرات، وقالت الست أرسلان زوجةُ الخليفة: هذا ممَّن نهبني، وأخذ مالي، وسعى في قتل عساكر عمي، ومتى ورد قبضتُ عليه. فتوقَّفَ أمرُه، وكان فخر الدولة يواصل المكاتبة ويسأل في إعادته، وقامت بأمره صلف القَهرمانة وجماعةٌ من الخواص، وقالوا للخليفة: إذا استخدمتَ وزيرًا جديدًا غضب ألب أرسلان حيث ردُّوا شفاعته في أبي العلاء، فإذا أُعيد الوزير القديم انقطع الخطاب، وسقط العتاب، وبذلتَ عشرةَ آلاف دينار وخمسةَ عشر ألف دينار. فأجاب وكوتب بالرجوع، وأُعفي من المال، وبرز توقيع الخليفة: قد أعفيناه من المال، ورأينا إعادته؛ لعلمنا أنَّ مَنْ عوَّض علينا لا نقاربه ولا نوازيه، ولا نشبهه ولا نضاهيه. وبعث إليه من خواصِّ خدمه مسعود وصافي، بحاجب الحُجَّاب أبي عبد الله المردوسي، فمضوا إلى حِلَّة ابن مزيد، وعاد يوم الثلاثاء حادي عشر صفر ونزل بالنجمي، واستأذن في العبور، فأذن له، ولم يبقَ ببغداد أحد، وجاؤوا إليه، وأظهر الخاصُّ والعامُّ من السرور بعوده شيئًا مفرطًا، وعبر في الزبزب إلى مَشرعة دار دينار، وركب في الجمع العظيم إلى الحَلْبة ولمَّا وصل إلى المنظرة نزل تحتها وقبَّل الأرض ودعا، ثم ركب ودخل إلى الديوان، وتصدَّق قومٌ بعده، فدُوِّر فيها طعامٌ من أهل السوق، وصام آخرون، وذبح رجلٌ سقَّاءٌ بقرةً كان يعمل عليها ويتقوَّتُ منها، وتصدَّق بلحمها. قال الوزير: واجتهدتُ بكلِّ مَنْ فعل ذلك أن يقبل جزاءً فلم يفعل، ولمَّا جلس في الديوان أنهى حضوره، فخرج توقيعُ الخليفة بما طيَّبَ قلبَه، فلمَّا كان يوم الأربعاء ثالث ربيع الأول جلس الخليفةُ في التاج، وأوصل إليه الوزيرَ وولديه عميدَ الدولة وزعيمَ الرؤساء، فلما وقعت عينُ الوزير على الخليفة خَذِم (¬1) وقال: الحمد لله جامع الشملَ ¬

_ (¬1) خَذِم: أسرع. المعجم الوسيط (خذم).

بعد شتاته، وواصل الجميلَ بعد ثباته، ثم خاطب الخليفةُ الوزيرَ بما شرح به صدره، وأمر بإفاضة الخِلَعِ عليهم، فخلع على الوزير الفَرَجية والعمامة المُذْهَبة، وكذا على ولديه، وأُعطي بغلةً من مراكب الخليفة، وأعطي ولَدَاه فَرَسين، وأخرجوا بين يدي الوزير دَواةً مُفضَّضةً والخلائقُ بين يديه، وكَتب له توقيعًا يُشعر بالرضا عنه، ودخل عليه ابن الفضل الشاعر، وأنشده هذه الأبيات: [من الرجز] قَدْ رجعَ الحقُّ إلى نصابِهِ ... وأنتَ من دونِ الورى أولى بِهِ ما كنتَ إلا السيفَ هَزَّتْهُ يَدٌ ... ثمَّ أعادَتْهُ إلى قِرابِهِ هزَّتْهُ حتى أبصرَتْهُ صارمًا ... رونقُهُ يُغنيكَ عن ضِرابِهِ أكرِمْ بها وزارةً ما سلَّمَتْ ... واستودَعَتْ إلَّا إلى أربابِهِ مشوقةً إليكَ مُذْ فارقْتَها ... شوقَ أخي الشيبِ إلى شبابِهِ يُدمي أبو الأشبال مَنْ زاحمَهُ ... في خِيسِهِ (¬1) بظُفرهِ ونابِهِ إنَّ الهلال يُرتجى طلوعُهُ ... بعد السَّرارِ ليلةَ احتجابِهِ والشمس لا يُوْءَسُ من طلوعِها ... وإنْ طواها الليلُ في جِلبابِهِ ما أطيبَ الأوطانَ إلَّا أنَّها ... للمرءِ أحلى (¬2) أثرَ اغترابِهِ لو قرُبَ الدُّرُّ على طالبِهِ ... ما لجَّجَ الغائصُ في طِلابِهِ ولو أقامَ لازمًا أصدافَهُ ... لم تكُنِ التِّيجانُ في حسابِهِ ما لؤلؤُ البحرِ ولا مرجانُهُ ... إلَّا وراءَ الهولِ من عُبابِهِ مَنْ يعشقِ العلياءَ يلقَ عندها ... ما لقيَ المُحِبُّ من أحبابِهِ طَورًا صدودًا ووصالًا مرةً ... ولذة الواثقِ في عتابِهِ ذلَّ لفخرِ الدولة الصعبُ الذُّرى ... وعلَّم الأنامَ من آدابِهِ فلمَّا كان يومُ الجمعة سادسُ ربيع الأول ركب الوزير في موكب عظيم، وعبر ليُصلِّي في جامع المنصور، وضجَّ الناس بالدعاء للخليفة سرورًا به، واجتاز بالكَرْخ، فنثر عليه ¬

_ (¬1) الخِيس: الشجر الكثير الملتف. المعجم الوسيط (خيس). (¬2) بعدها في (ف) وحدها زيادة: من.

أهله فيه الدنانير والدراهم والآس وشجر العود، ورشُّوا الطريق بالماورد، وخلَّقوا دوابَّه ودوابَّ أصحابه (¬1). وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي (¬2): وفي ربيع الآخر جرت فتنةٌ لأجل أبي الوفاء بن عقيل، وكان أصحابنا ينقمون عليه لأجل تردُّده إلى أبي علي بن الوليد المعتزلي وفي أشياء كان يقولها، وكان فيه فطنةٌ وذكاء، فأحبَّ الاطلاع على كل مذهب، فقصد ابنَ الوليد وقرأ عليه شيئًا من الكلام في السرِّ، وكان ربما تأوَّل بعضَ أخبار الصفات، واتَّفق أنه مرض فأعطى رجلًا يلوذُ به -يقال له: معالي الحائك- بعضَ كتبه، وقال: إن متُّ احرقها. فنظر فيها، فرأى ما يدلُّ على تعظيم المعتزلة، والترحُّمِ على الحلَّاج، وكان قد صنَّف في مدح الحلَّاج جزءًا في زمان شبابه تأوَّل فيه أقواله، وفسَّر أشعارَه، واعتذر له، فمضى ذلك الحائك إلى الشريف أبي جعفر وغيره فأطلعهم عليه، فاشتدَّ ذلك عليهم، وراموا الإيقاع به، فاختفى، ثم التجأ إلى باب المراتب، ولم يزل الأمر في تخبيطٍ إلى خمس وستين وأربع مئة. وفي شعبان ورد الخبر بأن نظام الملك أسر فضلويه بن علويه الشوانكاري. ذكر السبب: كان فضلويه قد عصى على السلطان وصالح قاروت بك عليه واتَّفقا، وتحصَّن فضلويه بقلاعه، وكانت حصينةً، واحتمى بقلعة يقال لها: خرشنة، وكان ألب أرسلان قد سار من أصبهان في أول المُحرَّم قاصدًا فضلويه، وإذا فرغ منه سار إلى كرمان لقتال أخيه قاروت بك، ووصل إلى شيراز، وولَّى فيها العمال، وجاء حسنويه أخو فضلويه مستأمنًا، وأظهر أنه قد انفصل عن أخيه لمَّا عصى على السلطان، وضمن فتح قلاعه وإثارة أمواله، فقبِلَ ظاهرَ قوله، ووعده الإحسان, وسار السلطان من شيراز طالبًا كرمان، ونظامُ الملك يفتح قلعةً قلعة، تارةً بالتدبير، وتارةً بالقتال، ونزل على خرشنة، وضرب خيمةً بإزائها، وعلم السلطانُ أنَّ أخا فضلويه عينٌ عليه، فاستحضره ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 16/ 111 - 113. وخلَّقوا؛ أي: طيَّبوا. (¬2) المنتظم 16/ 113.

على سُكْرٍ وقال له: أين ما وعدْتَنا؟ لا مالًا أثرت ولا قلعةً فتحت. فقال: طمعتُ في فتح القلاع وأخذِ مال أخي منها، فتولَّاها غيري. فقال: كذبتَ، بل أنت عينٌ عليَّ لأخيك. ثم قال للأمير أبي علي بن كاليجار بن بويه: خُذْه فاقتله، فإنه وأخاه قتلا أخاك أبا منصور. فقال له ولده: أخي ها هنا، هو أحقُّ بأخذ الثأر مني. فسلَّمه إلى ابن أخيه فذبحه بسكين أعطاها السلطان له، وسار ألب أرسلان نحو بردشير التي فيها قاروت بك، وأقام نظام الملك محاصرًا لخرشنة، فأقام عليها مدة طويلة، وفضلويه يبعث إليه الفواكه والرياحين كالمتنغِّص له، وأيِسَ نظامُ الملك منه، وعزم على الرحيل عنه، فاتَّفق أنَّ فضلويه أراد الخروج من القلعة ويمضي إلى قلعة أخرى ليجمع أصحابَه وعشيرتَه، ويلزم المضائق على نظام الملك، فخرج في الليل في ثلاثين رجلًا من أصحابه، ورآهم أكثرُ مَنْ كان يحاصر القلعة، فتبعوهم، فجاء فضلويه فاختبأ في مغارة، وأخذ التركُ صاحبًا له فهدَّدوه بالقتل، وظنُّوهم قد نزلوا يأخذون ماءً، فقال: لا تقتلوني، أنا من أصحاب فضلويه، وقضيَّتُنا كذا وكذا، وهو في مغارة، وجاء بهم إليها، فدخلوا عليه، فأخذوه وحملوه إلى نظام الملك، فخاطبه بالجميل، ووعده أن يخاطب السلطان في حقِّه بعد أن يبذل مالًا فتتوقُ النفسُ إلى مثله، فبذل خمس مئة ألف دينار، وراسل مَنْ في القلعة ففُتحت وسُلِّمت بعد أن اشترط حراسة حُرَمِه الذين فيها، وقيَّده نظام الملك، وسار به إلى ألب أرسلان، وهو على حصار بردشير، فأحضر فضلويه وعدَّد عليه ما فعله من الجميل معه، وما عامله به من العصيان والغدر، وأمر بقتله، فقال له: يا سلطان، ما أخرجني من القلعة إلا خِلافي, لأنني لمَّا خدمتُكَ كان الإقبال معي والسعادة تخدُمني، فلمَّا خالفتُكَ ومِلْتُ إلى أخيك صارتِ النُّحوس مرافقي. فحين سمع ذِكْرَ أخيه ضحك وتقدم بفك القيود من رجليه، ثم أدناه إليه وأعطاه قَلنسوةً أمانًا، وقال: قد عفوتُ عنك وعن ذنوبك، فسلِّم [المال] (¬1) الذي بذلتَه لأُطلِقَك وأستخدِمَك. فقال: سمعًا وطاعة. ثم وصل من قاروت بك كتابٌ إلى أخيه يستعطفه ويرقِّقه ويناشده اللهَ والرَّحِمَ، فرَقَّ له. وبينا السلطان على هذا جاءه بعضُ أصحابه وأخبره أن قاروت قد كتب إلى جماعة ووعدهم، واتفقوا على الفتك بك، ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف).

وأوضح له الأحوال، فقتل أولئك الجماعة، وعلم أن هذا لم يُفعَلْ معهم، وإنما فُعِلَ مع الأكثر من عسكره، فرحل عائدًا إلى شيراز، ورتب فيها ولده ملك شاه في قطعة من العسكر، وجعل معه العميد أبا سعد المستوفي، وسار إلى أصبهان فدخلها في العشر الآخر من ذي الحجة، وعزمه قصد الري. وفي شعبان ورد الخبر من اليمن بأن عبد المستنصر الصُّليحي بعد قتل سعيد بن نجاح الصُّليحي وأسْرِه لزوجته والدة عبد المستنصر، جمع إليه عساكر أبيه، وقصد سعيد إلى زَبيد وحاربه، فقتله، وانتزع والدته الحرة، وكان سعيد منذ أخذها وإلى أن قُتل جعلها في قصر، وقطع درجته، وجعل السلَّم الذي يرتقي إليها عليه عندها لئلا يُتَّهم معها، وقَتلَ عبد المستنصر بزَبيد مقتلةً كبيرة، ونهبها؛ لأن أهلها عاونوا سعيد على أبيه، وسُرُّوا بقتله، وعاد عبد المستنصر إلى صنعاء، وخطب باليمن للمستنصر، وقام غياث أخو سعيد مقام أخيه، وجمع الرجال والعبيد، وانضاف إليه ابن عراف ابن عم الصُّليحي، واتَّفقا على عبد المستنصر، وخطبا للقائم، وكان ابن عراف هذا قد قدم بغداد، وحضر ديوان الخليفة، وأقام على الباب إلى أن قُتِلَ الصليحي، وعاد إلى اليمن. وفيها ورد الخبر بأن الإفشين التركي ومَنْ معه من الغُزِّ، وكان من أصحاب السلطان مقيمًا بأطراف الروم من ناحية الخزر، وأنهم وصلوا إلى عمورية، واتَّفق أنَّ ملك الروم قبض على بطريق كبير، فهرب أخوه لمَّا علم وصادف الإفشين في طريقه، وعرَّفه أن يحتال على عمورية ويُسلِّمها إليه، وبعث البطريق إلى عمورية يخبرهم بأن الملك أرسله إليهم ليعاونهم ويشدَّ منهم على الغُزِّ، ويقدم البطريق معه الأعلام عليها الصُّلبان، والإفشين خلفه، فلمَّا ملك البطريق الباب لحقه الإفشين، ودخل البلد، فقتل وسبى ونهب، وعاد ومعه من الأموال ما عَظُم قدرُه، وأسرى إلى خليج القسطنطينية، وأغار على حبشار الملك، فأخذ منه نحوًا من ستة آلاف فرس، وعلم ملك الروم وكان على منبج، فسار إلى القسطنطينية، وجاء الإفشين إلى أنطاكية، فأخرب بلدها وحصرها، وقرَّر عليها عشرين ألف دينار.

عبد الرحيم بن أحمد بن نصر

وفيها تُوفِّي عبد الرحيم بن أحمد بن نصر (¬1) أبو زكريا، البخاري، التميمي، الحافظ، طاف الدنيا في طلب الحديث، فسمع بما وراء النهر وخراسان والعراق والشام ومصر والمغرب، وأثنى عليه الأئمة، وكانت وفاته في المُحرَّم، واتَّفقوا على صدقه وثقته وفضله، إلا محمد بن طاهر فإنه ضعَّفه. [وقال الفقيه نصر بن إبراهيم: قال لي أبو زكريا ببخارى أربعة عشر ألف حديثًا (¬2) قال: ومن رواياته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اغسلوا ثيابكم، وخذوا من شعوركم، وتنظَّفوا واستاكوا، فإنَّ بني إسرائيل لم يكونوا يفعلوا ذلك فزنَتْ نساؤهم"] (¬3). السنة الثانية والستون والأربع مئة فيها اختلَّ أمر مصر، واستولى عليها ابنُ حمدان، وزاد [في] عطاء الجند والعطيات، حتى نفدت الخزائن، وقلَّت الارتفاعات، وغَلَتِ الأقوات، واتَّفق ابنُ حمدان مع الشريف أبي طاهر حيدرة بن الحسن بن العباس بن الحسن بن العباس بن أبي الحسين الحسيني، وكان قد نفاه بدر الجمالي من دمشق، وكان حسنَ الطريقة، كثيرَ النعمة، ويُلقِّبه العوام بأمير المؤمنين؛ لما يأخذ به نفسه من العفَّة (¬4) والنزاهة والوفاء والصيانة، وكان وصل إلى مصر شاكيًا [إلى] (¬5) ابن حمدان من بدر الجمالي، فاتَّفق ابنُ حمدان والشريف وخادم وحميد ابنا جراح، وهما من أمراء عرب الشام، وكان لهما في جيش صاحب مصر نيِّفٌ وعشرون سنة، فأخرجهما ابنُ حمدان، واتَّفقوا على الفتك ببدر الجمالي، وأعطاهم ابنُ حمدان أربعين ألف دينار ينفقونها في هذا الوجه، وتحدَّث بأنْ يُرتَّبَ الشريفُ ابن أبي الحسن إذا عاد من هذا الوجه في مكان ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 36/ 123 - 126. (¬2) في تاريخ دمشق: لي ببخارى أربعة عشر ألف جزء وحديث. (¬3) ذكره الذهبي في السير 18/ 259، وذكره -أيضًا- في تذكرة الحفاظ 3/ 1158 وقال: لا يصحّ، بإسناده ظلمة. (¬4) في (خ): العفو، والمثبت من (ف). (¬5) هذه الزيادة من (ف).

لصاحب مصر؛ لأن آلات الخلافة مجتمعة من نسبٍ صحيح، وحسبٍ صريح، وطريقةٍ مستقيمة، وأفعالٍ جميلة، وانقسم عسكر مصر قسمين؛ قسمٌ مع ابن حمدان، وقسمٌ عليه، وزادت مطالبتُه بالأموال حتى استوعبها وأنفذها وأخرج جميع ما في القصر من ثياب وأثاث، حتى المُحقَّرات والمستعمَلات وثمَّنها على العسكر بالثَّمن النَّزر، وحالف أمراءَ الأتراك سرًّا على صاحب مصر، وعرف صاحب مصر ذاك مضافًا إلى ما سمع عنه من حديث الشريف ابن أبي الحسن، فقلق وراسل ابنَ حمدان بأنك قدِمْتَ علينا زائرًا، وجئتنا ضيفًا فقبِلْناك وأكرمناك، وقابلتَنا بما لا نستحِقُّه منك، ونحن عليك صابرون، وعنك مُغضون، وقد انتهتْ بك الحالُ إلى مخالفة العسكر علينا، والسعي في تلافنا، وما ذاك مما يُهِمُّك ونصبر عليه (¬1)، ويجب أن تنصرف عنا موفورًا في نفسك ومالك، وإلَّا قابلناك على قبيح أفعالك. فأغلظ ابنُ حمدان في الجواب، واستهزأ بالرسول، فبعث صاحب مصر إلى يلدكوز الملقب بأسد الدولة وهو شيخ الأتراك والمتقدِّم عليهم، وكان من المخالفين على ابن حمدان، فاستحضره واستحلفه، وتوثَّق منه ومن جماعة ممن يجري مجراه، وجمع الأتراك الذين معه والمغاربة وكُتَّابه إلى باب القصر، وعرف ابنُ حمدان، فبرَّز خيمةً إلى بركة الجيش، وأخرج صاحبُ مصر الخيمةَ الحمراء -وتُسمَّى خيمة الدم- فضربها بين القصرين، واجتمع الناس، وسار إلى حرب ابن حمدان، والتقَوا بمكان يُعرف بالباب الجديد، وورد أكثرُ مَنْ كان مع ابن حمدان بالأمان، وكان في جملتهم الأمير أبو علي بن الملك أبي طاهر بن بُوَيه، ثم قُتِلَ بعد ذلك، وانهزم ابنُ حمدان إلى الإسكندرية بنفسه، ونُهبت دورُه وأموالُه ودورُ أصحابه، ومضى إلى حيِّ من العرب فنزل عليهم، وتزوَّج منهم، وصار يشنُّ الغارات على أعمال مصر، وبعث إليه المستنصر جيوشًا وهو يهزمها، وجمع خلقًا كثيرًا، ونزل بالصالحية، واجتمع إليه مَنْ كان يهواه من المشارقة، وامتدَّ عسكرُه نحو عشرة فراسخ، وحاصر مصر من الظَّهر وفي الماء، وبلغتِ الراويةُ ثلاثةَ عشر قيراطًا، وكلُّ ثلاثة عشر رطلًا من الخبز بدينار، وعَدِمَتِ الأقواتُ، فضجَّ العوام، وخاف صاحبُ مصر أن يُسلِّموه إليه، فراسله وصالحه، واقترح عليه إبعاد يلدكوز ومن ¬

_ (¬1) في (ف): ويُصبر عليك.

يُعاديه من المشارقة، وأن ينفرد ابنُ حمدان بالبلاد، وتدبير الأمور والعساكر، ورفْع الحصار عن مصر، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، وأما أخبار الشام فإنَّ بدرًا الجمالي كان قد ورد دمشق واليًا على الشام سنة ثمان وخمسين، ووصل عسقلان، وغزا بني سِنبس ونكأَ (¬1) فيهم، وعاد إلى الأقحوانة، وجاءه أميران أخوان من قيس فقتلهما، لأجل غارات كانت لهم بالشام قبل وصوله إليه، ثم سار يشقُّ خلل العرب كلب وطيئ وغيرهما شقًّا، وفعل فعلًا لم يسبِقْه أحدٌ إليه، حتى وصل دمشق فنزل قصر السلطنة بظاهرها، وأقام سنةً وكُسِر، فأمِنَ الناسُ لهيبته، ثم قبض على ابن أبي الرضا خليفة الشريف القاضي المكنى بأبي الفضل إسماعيل بن أبي الجن العلوي وعلى جماعة، وأخذ منهم عشرة آلاف دينار، ووهبها لخادم بن جراح المفرج عنه من مصر، وكان قد هرب إليه، فأعطاه المال استكفافًا له عن معاونة الشريف أبي طاهر بن أبي الجن المنفذ معه خادمًا لإفساد أمر بدر بالشام وإثارة أهل دمشق عليه، ولمَّا فعل بدر بالمذكورين ما فعل ثار أهل دمشق عليه، وأغلقوا أبوابها وحاربوه، وساعدهم حصن الدولة ابن منزو، وراسلهم مسمار بن سنان الكلبي، وراسلوه وحالفوه، وجاء عرب مسمار، فأغارت على قصر السلطنة بدمشق بظاهرها، وعاد البدر الجمالي وراء وجوه، فأنفذ ثقله وأهله إلى صيدا، ومضى خلفهم إليها، وجمع ابن منزو عسكر دمشق لقصد بدر، فلمَّا عرف ذلك رحل إلى صور وحاصرها، ومتولِّيها القاضي الناصح ثقة الثقات عين الدولة أبو الحسن محمد بن عبد الله بن أبي عقيل، فحاصرها أيامًا، وقَرُب منه ابن منزو، فسار إلى عكا، وأقام أيامًا دخل فيها بزوجته بنت رقطاس التركي، ومضى إلى عسقلان، وجاء الشريف ابن أبي الجن من مصر إلى دمشق، وكان أهلُها هدموا قصر السلطنة ودرسوه، وكان عظيمًا، يسع ألوفًا من الناس، وأقام على دمشق سبعة وعشرين يومًا، ومعه خادم وحميد ابنا جراح اللذان اتَّفقا مع الشريف على الفتك ببدر، وكان حميد قد طمع من بدر في مثل ما فعله من خادم، ولمَّا عجز بدر عن دمشق [عاد إلى عكا؛ لأن الشريف والعساكر والعوامَّ دفعوا عنها, ولما رحل عن دمشق] اختلف العسكر وأحداث البلد، فنهب العسكرُ بعض البلد، ونادَوا بشعار بدر ¬

_ (¬1) نكأ العدوَّ: جرحهم وقتلهم. المعجم الوسيط (نكأ).

الجمالي، واستدعَوا منه صاحبًا يكون عندهم، فأنفذ إليهم رجلًا يعرف بالقطنان في جماعة من أصحابه، فدخل دمشق، وهرب الشريف ابن أبي الجن وولدا ابن منزو، وكان أبوهما قد مات على صور في هذه السنة، فنزل ابنا منزو على الكلبيين، وسار الشريف طالبًا مصر، فاجتاز بعمان البلقاء، وبها بدر بن حازم صاحبها، فقبض على الشريف وباعه من بدر الجمالي باثني عشر ألف دينار، فقتله أمير الجيوش بعكا خنقًا، وبعث بدر الجمالي إلى دمشق علويًّا يُعرف بابن أبي سوية من أهل قيسارية، وأمر بمصادرة الشريف أبي الفضل بن أبي الجن أخي المقتول وجماعة من مقدَّمي دمشق، وعلم أهل دمشق، فثاروا على ابن أبي سوية، وأخرجوه ولعنوا أمير الجيوش، ووافقهم العسكر، وبعثوا إلى مسمار بن سنان وحازم بن نبهان بن القرمطي أمير بني كلب، وبذلوا لهما تسليم البلد، فبعث إليهم مسمار يقول: لا يمكنني الدخول إلى البلد وتمليكه والعسكر جميعه فيه والمغاربة والمشارقة، ويجب أن تخالفوا بينهم وتُخرجوا المشارقة، ففعلوا، وصاروا أحزابًا، وكان القت الذي غربي الجامع، ورُمي المشارقة وأهلُ البلد بالنُّشَّاب من دار قريبة من الجامع، فضُربت الدارُ بالنار فاحترقت، وثارتِ النارُ منها إلى الجامع فأحرقَتْه ليلة نصف شعبان هذه السنة، ولمَّا رأى العوام ذلك تركوا القتال وقصدوا الجامع طمعًا في تلافيه ليداركوا ما حدث فيه، ففات الأمرُ، فرمَوا سلاحهم، ولطموا واستغاثوا إلى الله تعالى وتضرَّعوا وقالوا: كم نحلف ونكذب، ونغدر ونحنث، ونعاهد وننكث، والنار تعمل إلى الصباح، فأصبح الجامع ولم يبقَ منه إلا حيطانه الأربعة، وصاروا أيام الجمعات يُصلُّون فيه على التِّلال وهم يبكون، وانهزموا بعد ذلك، ونُهبت دورُهم وأموالُهم، وأنفذ مسمار واليًا إلى دمشق من قِبَله يُعرف بفتيان، وراسل مسمار أهلَ البلد ثانيًا بأن ينهبوا ويثِبوا على المغاربة ويخرجوهم، ويتَّفق هو وأهل البلد، فثاروا عليهم، وتأخَّر مسمار عنهم واقتتلوا (¬1)، فظهر عليهم المغاربة، وأحرقوا قطعةً من البلد، ونهبوا أكثرها، ونادوا بشعار [بدر] (¬2) أمير الجيوش، ووصل مسمار بعد ذلك إلى باب البلد، وقد فات الأمرُ الذي ورد له، ¬

_ (¬1) في (خ): واعتقلوا، والمثبت من (ف). (¬2) هذه الزيادة من (ف).

فراسله المغاربة على أن يُمكِّنهم في البلد من المُقام، ويعطونه بألف دينار، فرضيَ، وأقام أيامًا في المكان وطالبهم بالمال، فلم يُعطوه شيئًا، ولم تكن له قدرةٌ عليهم، فسار إلى السواد، وكان ما نهب المغاربةُ من دمشق يساوي خمس مئة ألف دينار، وتتبعوا أحداث دمشق، فقتلوا منهم سبعين حدَثًا، ومضى سنان الدولة ولد ابن منزو إلى أمير الجيوش، وصالحه وصاهره على أخته، وعاد إلى دمشق واليًا عليها من قِبَل أمير الجيوش، وأطاعته المغاربة، وسلَّموها إليه، فدخلها. وقال أبو رافع مياس بن مهدي القُشيري أحد أمراء بني قُشير: وكان سبب الفتنة بين العبيد والترك أنَّ عادة صاحب مصر أن يجتمع في كل سنة على سبيل التنزُّه إلى مسجد التبن ظاهر القاهرة، فخرج سنة ست وخمسين وأربع مئة، وكان طرائف العبيد يمشون بالسلاح بين يديه ومن خلفه لا يخالطهم غيرُهم، فجاء تركيٌّ بيده سيف مشهور، فجرحوه، فوقعت الفتنة بين العبيد والأتراك، واتصلت إلى هذه السنة وبعدها. وفي هذا الوقت وقع بين ناصر الدولة بن حمدان وبين الأتراك شرٌّ، فتفرقوا عنه إلا اليسير، وأجفل ناصر الدولة، فلمَّا أُبعِد إلى الريف جاء أبو علي إلى باب الذهب من قصر حاجب مصر، فقال له الوزير ابن الموفق: أيُّ وجهٍ لك عند السلطان وأنت من أصحاب ابن حمدان؟ فقال له: ما جئتُ إلا مستأمنًا. فزبره وأمره بالانصراف، فانصرف، وأمر بعض المَصامِدة (¬1) فتبعه فقتله، ثم أغلق القاهرة، وكان بها تاج الملوك شادي، فرآه الوزير، فقال له: قد أمر السلطان أن تقتل كلَّ مَنْ كان ها هنا من أصحاب ابن حمدان وكان شادي من أصحاب ابن حمدان، فجرَّد سيفه وضرب الوزير على وجهه ضربةً صرعه، وقال: حزُّوا رأسه. فحزُّوه، وبعث به إلى ناصر الدولة، وخرج شادي على حميَّته، ولمَّا وصل الرأس إلى ابن حمدان رجع إلى مصر وانحاز إليه شادي وغيرُه، وانحاز إلى المستنصر أعيان الأتراك أسد الدولة يلدكوز وغيره والمَصامِدة والكتاميُّون (¬2)، ووقع القتال بين مصر والقاهرة، وقال رجل للمستنصر: ما قعودُكَ؟ قُمْ ¬

_ (¬1) المَصامِدة: رجالٌ بأقصى المغرب، وهم قوم سود طِوال، حافظون لكتاب الله. الأنساب 11/ 338. (¬2) الكُتاميُّون: نسبة إلى كُتامة، وهي قبيلة من البربر، نزلت ناحية من بلاد المغرب الأنساب 10/ 351.

واركَبْ، وإلَّا نُهِبَ القصر. فركب وعلى رأسه البُنود (¬1) والأعلام. وخلفه الكوسات (¬2) تخفق، والمَصامدة والكتاميُّون، ووقع القتال بين يديه، فجاء إلى موضع القتال، فلمَّا رآه ناصر الدولة ترجَّل وقبَّل الأرض وقال: إنما كنتُ أقاتلُ عسكرًا مثلي، فأمَّا السلطان فلا. ثم ركب وولَّى فيما بقي من أصحابه، وانهزم الباقون، وسار إلى الإسكندرية وكانت معقله، وفيها أمواله وذخائره وإخوته وأهله، وجمع العرب والقبائل وعاد إلى حصار مصر، وقطع الميرة عنها، واشتدَّ الحصار عليها، فراسل صاحبُ مصر ابنَ حمدان في الموادعة، فقال: لا أفعل حتى ينفذ حكمي في كلِّ من عاداني من الأتراك وغيرهم. فَأُجيب إلى ذلك، وانهزم طائفة من الترك إلى بدر الجمالي، فدخل ابنُ حمدان إلى مصر فملكها، وأقرَّ صاحبها في قصره ولا حُكمَ له، وسيَّر أخاه فخر العرب إلى الرملة، فأطاعته العرب التي حولها من سِنْبِس وغيرها، وملكها، وسار إليه حازم بن الجراح في طيئ كلِّها، ومضى بدر بن حازم مخالفًا لأبيه إلى بدر الجمالي؛ لِما فعله مع الشريف ابن أبي الجن. وفيها استولى العفيف مختص الدولة بن أبي الجنِ -أخو حمزة المقتول- على دمشق، وطرد نواب أمير الجيوش، واستولى على صور ابنُ أبي عقيل، وعلى طرابلس قاضيها ابنُ عمار، وعلى الرملة والساحل ابنُ حمدان، ولم يبقَ لأمير الجيوش غير عكا وصيدا. وفي ذي القعدة خلا من مصر خلق عظيم لِما حصل بها من الغلاء الزائد والجوع الذي لم يُعهد مثلُه في الدنيا، فإنه مات أكثرُ أهلها، وأكلَ بعضُهم بعضًا، وظهروا على أحد الطباخين أنه ذبح عدةً من الصبيان والنساء وأكل لحومهم بعد أن طبخها وباعها للناس أيضًا، وأُكِلَتِ الدوابُّ بأسرها, ولم يبقَ لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس بعد أن كانت عشرةَ آلاف ما بين فرس وجمل ودابَّة، وبِيعَ الكلبُ بخمسة دنانير، والسِّنَّور بثلاثة، ونزل أبو المكارم وزير المستنصر على باب القصر عن بغلته، وليس معه إلا غلام واحد؛ لقلة ما تطعم الغلمان، فجاء ثلاثة وأخذوا بغلة الوزير، ولم يقدر الغلام ¬

_ (¬1) البُنود؛ جمع بند: وهي كلمة فارسية معناها: العلم الكبير. اللسان (بند). (¬2) الكوسات؛ جمع كُوس: وهو الطبل يُدقُّ به أثناء الحرب. معجم الألفاظ الفارسية المعربة ص 140.

على منعهم؛ لضعفه, فذبحوها وأكلوها, فأُخِذوا وصُلِبوا, فأصبح الناس فلم يروا إلَّا عظامهم، أكلَ الناسُ لحومَهم. ودخل رجل إلى الحمام، فقال له الحمَّامي: من تريد أن يخدُمَك سعدُ الدولة أو عزُّ الدولة أو فخرُ الدولة؟ فقال الرجل: أتستهزئ بي؟ فقال: لا واللهِ، انظُرْ إليهم. فنظر فإذا أعيانُ الدولة قد صاروا يخدُمون الناس في الحمام. وباع المستنصر جميعَ ما في قصره، حتى أخرج ثيابًا كانت في القصر في زمن الطائع لمَّا نهب مُعِزُّ الدولة دارَه في سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة وأشياءَ أُخذت في نوبة البساسيري، وأخرج طَسْتًا وإبريق بلَّور، يسع الإبريق رطلين ماء، والطَّسْت أربعة أرطال، فبيعا باثني عشر درهمًا، وبِيعَ من هذا الجنس ثمانون ألف قطعة، وأما الجواهر واليواقيت والدِّيباج وغيره والخُسْرواني فشيءٌ لا يُحصى، وأُحصي من الثياب التي أُبيعَتْ ثمانون ألف ثوب، وعشرون ألف ذراع، وعشرون ألف سيف محلَّى، وباع المستنصر ثياب جواريه وسُجوف المُهود (¬1)، وكان الجندُ يأخذون ذلك بأقلِّ ثمن، وباع رجلٌ دارًا بالقاهرة كان اشتراها بسبع مئة دينار بعشرين رطل دقيق، وبِيعَتِ البيضةُ بدينار، وإرْدَبُّ القمح بمئة دينار في أول الأمر، ثم عَدمَ أصلًا، وكان السودان يقفون في الأزِقَّة يشفون النساء بالكلاليب، يُشرِّحون لحومهنَّ وأفخاذهُنَّ وأعجازهُنَّ ويأكلونها، واجتازت امرأةٌ بزقاق القناديل بمصر -وكانت سمينةً- فعلَّقها السودان بالكلاليب وقطعوا من عجزها قطعة وقعدوا يأكلونها، وغفلوا عنها، فخرجت من الدار واستغاثت، وجاء الوالي وكبس الدار، فأخرج منها ألوفًا من القتلى، وقتل السودان، [وسُمِّي زقاق القتلى؛ لكثرة ما قُتِل فيه] واحتاج المستنصر، فأرسل فأخذ قناديل الفضة والستور من مشهد إبراهيم الخليل - عليه السلام -، وخرجت امرأةٌ من القاهرة ومعها (¬2) مدُّ جوهر، فقالت: مَنْ يأخذ هذا ويُعطيني عِوَضه مُدَّ بُرِّ (¬3) فلم يلتفِتْ إليها أحد، فألقته في ¬

_ (¬1) السُّجوف؛ جمع سُجْف: وهو أحد السترين المقرونين بينهما فرجة. المهود؛ جمع مهد: وهو سرير الصبي. المعجم الوسيط (سجف) و (مهد). (¬2) في (م) و (م 1): بيدها. (¬3) في (خ) و (ف): مُدَّين، والمثبت من (م) و (م 1): وهو يوافق ما في تاريخ الإسلام 10/ 141.

الطريق، وقالت: هذا ما نفعني وقتَ حاجتي ما أُريده. فلم يلتفِتْ إليها أحد، وكلُّ هذه الأشياء كان ابنُ حمدان سببَها، ووافق انقطاعَ النيل (¬1)، وضاقت يدُ ابن أبي هاشمٍ أميرِ مكة بانقطاع ما كان يأتيه من مصر، فأخذ قناديل الكعبة وستورَها وصفائحَ الباب والميزابَ، وصادر أهلَها، فهربوا، وكذا فعل أمير المدينة [أخذ قناديل المسجد وغيرَها]. وفيها أوقف نظام الملك الأوقاف على النظامية، وحضر الوزير والقضاة والعدول في بيت النُّوبة، وكتبوا الكتُب وأثبتت، ومما أوقفَ سوق المدرسة وضياعًا وأماكن، وشرط الشروط المعروفة. وفيها قتلَ أصحابُ السلطان فضلويه بن علويه الشوانكاري، قد ذكرنا أن نظام الملك اصطنعه، وأخذه من خرشنة، وأنَّه ضمن على نفسه مالًا للسلطان، فمالت نفسُه إليه وعزم على إطلاقه إذا وافاه، ولمَّا رجع السلطان من كرمان أشار عليه نظام الملك باعتقاله في قلعة لأصبهان، فقال فضلويه: أحتاجُ أن أكون قريبًا من أعمالي. فاعتُقِل بإصطخر، وحفروا له فيها بئرًا واسعةً، وحُطَّ فيها، ووكل به، وأثبت نحو ستين نفسًا من أصحابه وثقاته زعم أن عندهم أمواله، وكانوا على مذهبه في المكر، ووافقهم على مالٍ جحدوا بعضَه وأقرُّوا بالبعض، وسبُّوه ولعنوه، وذكروا أنه يكذب عليهم في أكثر ما يدَّعيه، وأظهروا التبرِّي منه، وكلُّ ذلك بمواطأةٍ منهم، ولم يقع في ذلك شكٌّ ولا ارتياب، وأمرهم بالمطاولة فيما يُحضِرونه من المال، إلى أن وقع من السكون إليهم، ثم اتفق معهم على قتل صاحب القلعة في بعض الليالي وإخراجه من البئر، فوثبوا على صاحب القلعة فقتلوه، وسمع الموكلون بفضلويه الصياح، فنزلوا وذبحوه، وجاء أصحابُه إلى رأس البئر فصاحوا به، فرمى الموكلون به رأسه إليهم، وقالوا: هذا فضلويه فخُذوه. فخُذِلوا, ولحقهم مَنْ في القلعة من الجند فقتلوهم، وكان نظام الملك قد أوصى الموكلين به: متى سمعتم صياحًا فاقتلوه، ولا تنتظروا ما يُسفر الحالُ عليه، فلستُ بآمنٍ هؤلاء الشوانكار أن يخرجوا علينا من بعض هذه الأودية فياخذوه، فلمَّا سمعوا هذا القول، وتخمَّر في نفوسهم، وسمعوا الصياح في القلعة، قتلوه. ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): السبل.

وفيها خرج عميد الدولة أبو منصور بن فخر الدولة الوزير إلى الري قاصدًا ألب أرسلان ليتعرف خبره ويستوحش له عن الخليفة، وأخذ معه هدايا كثيرةً للسلطان ولنظام الملك، فيها مهد أسود مُغشًّى بالديباج للسلطان. وفيها كتب ألب أرسلان إلى الخليفة يخطب للأمير عِدَةِ الدين أن يزوِّجه بابنته من خاتون السفيرية، وكانت الرُّقعة بخطِّ السلطان، فأجابه إلى ذلك، وفي هذا الوقت سار نور الدولة بن مَزْيد إلى خدمة السلطان إلى أصبهان، فخرج نظام الملك ليلتقيه وأرباب الدولة، ودخل على السلطان فأكرمه وقرَّبه، وكان قد هيَّأ لهزارسب خِلعًا سلطانية، فتوفِّي، فخلعها على نور الدولة، وكان في الِخلَع الجُبَّة والفَرَجية والعمامة والخيل بمراكب الذهب والأعلام والكوسات، وكان هزارسب وعد فيه نور الدولة يؤديه ويقصده، وقد ملأ قلب السلطان عليه، فرضيَ عنه ألب أرسلان، وعلم مقاصدهم هزارسب فيه، وضمنه واسط التي قصد هزارسب إهلاكها لأجلها, ولمَّا عاد إلى بغداد خرج الوزير ليلتقيه، وخلع عليه ببيت النُّوبة الفَرَجية والعمامة، وحُمل على فرس بمركب فضة، فقال: قد أعطى هزارسب فرسًا بمركب ذهب، فلِمَ قصَّر بي ورد الفرس؟ فثقُلَ على الخليفة، وخرج جوابُه. قال الشافعي: ما أعطيتُ أحدًا فوق ما يستحِقُّه إلا نقصني مما أستحِقُّه. ثم إنَّ مسلم بن عقيل اقتدى به، وقصد باب السلطان فأكرمه، ودعا السلطانَ إلى خيمته، فجاءه ونادَمَه، وطلب من السلطان أن يزوِّجه أخته التي كان زوَّجها لهزارسب، فأجابه، وأمر نظام الملك بعقد العقد، وكان السلطان بهَمَذان، وأقطعه إقطاعًا في العراق منه المدائن. وفي هذا الوقت كتب إسحاق الملقَّب بسلطان شاه بن الأمير قاروت بك إلى السلطان يطلب المسير إلى بابه، وأن يطأ بساطه، وكان ألب أرسلان يكتب إلى قاروت بك: ما يُفسِد بيني وبينك ويضرب إلا هذا الولد، فسلِّمْه إليَّ وقد زال ما بيننا. وقاروت بك يقول: لا أسلِّمه. وأخذ منه ألب أرسلان بلاد فارس وشيراز ومعظم كرمان بسببه، وكان آخرُ أمرِه أن خرج إلى أبيه، ولمَّا وصل إلى ألب أرسلان أكرمه إكرامًا زائدًا، وأعطاه من الخيل والثياب وغيره ما يساوي عشرة آلاف دينار، وقال: أنا أذهب فأُقاتل

أبي، وآخذُ منه كرمان. وسار إلى قتال أبيه، وبعث معه السلطان ألوفًا من الأتراك والتركمان، ووصل إلى كرمان، فخرج إليه قاروت بك، واقتتلوا، فانهزم إسحاق. وفيها سار السلطان من هَمَذان قاصدًا بلاد الروم، وكان أهل منبج في عسكره مستصرخين مما جرى عليهم من ملك الروم. وفي ذي الحجة ورد رسول محمود بن الزَّوقلية صاحب حلب بكُتُبٍ تتضمن الإعلام بإقامة الخطبة بها للخليفة وللسلطان، وتلقَّاه الخدم والحُجَّاب، وقُرئت الكتب في دار الخلافة، وضُربت البشائر على باب بيت النُّوبة، ووردت الكتب بأنَّ بني كلاب خطبوا أيضًا بسواد دمشق للخليفة والسلطان، وكان الوزيرُ ابنُ جَهير قد كتب إلى ابن الزَّوقلية ومُقدَّمي دمشق والعرب يدعوهم إلى إقامة الدعوة، ويَعِدُهم بالجميل والأمان من التركمان وعساكر السلطان، فأجابوا, ولمَّا عزم محمود بن الزَّوقلية على ذلك جمع الأكابر وقال: قد علمتُم أنَّ الدولة التي كنَّا طائعين لها قد ذهبت، وهذه دولة جديدة وعساكر عظيمة، ونحن فقد ضَعُفنا، ونخاف أن يجيئنا مَنْ لا طاقة لنا به، وربما ألمَّ [بنا (¬1)] سلطاننا ونحن على ما نحن عليه من الوهن والتسيير إلى دولة غيرها مما تعرفون به من الاعتقاد والمذهب ما يستحِلُّون به دماءَكم وأموالكم، والرأيُ أن نقيم الخطبة لهم قبل أن يجيئَنا وقتٌ لا ينفعنا فيه قولٌ ولا بذل. فأجابوه وصوَّبوا رأيه، فلمَّا كان من الغد وهو يوم الجمعة خرج الخطيب والمؤذِّنون بالسواد، فلمَّا رآهم الناس ارتاعوا، فلمَّا ذُكِرَ الخليفةُ والسلطانُ نفروا وخرجوا من الجامع، فلمَّا كان الجمعة الأخرى رتب محمود بن خان والغُزُّ معه على باب الجامع وقال: مَنْ خرج ولم يُصَلِّ اقتلوه. وعرف مشايخُ البلد وأحداثُه فخافوا من النهب، فاجتمعوا بمحمود وقالوا: لا حاجة لنا إلى الغُزِّ، نحن نفعل هذا. ووقفوا على باب الجامع حتى خطب الخطيب وصلَّى الناس، وأخذت العامَّةُ الحُصرَ من الجامع، وقالوا: هذه حُصر علي بن أبي طالب، فيجب أن يُحضر أبو بكر حصرًا يُصلِّي عليها. وأقام الناس مدةً يصلُّون على الأرض. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة والتي بعدها من (ف).

ابن خان

وفيها تُوفِّي ابن خان أمير الغُزِّ، كان شجاعًا فاتكًا، قد انضاف إليه قطعة من الغُزّ، فكانوا يغارون على الشام، فأضافه محمود إليه حذرًا من شرِّه، وعامل غيره مرةً على حلب وأراد قتل محمود وعطية، فلم يتمكَّن من ذلك، فجاء إلى ابن أبي عقيل إلى صور، وأقام عنده، فأحسن إليه ووصلَه وأعطاه أصحابَه، وجاء بدر الجمالي يحاصر صور، فنافق ابنُ خان وخرج إلى بدر، فعسكر عنده، فدسَّ ابن أبي عقيل إلى غلمان ابن خان، وقال لهم: قد عرفتُم ما فعلتُ مع صاحبكم من الجميل، وما أنفقت عليه من الأموال، وما صلح لي ولا جازاني على إحساني إليه، ولكم عليَّ إن قتلتموه كذا وكذا من المال. فوثب عليه منهم اثنان فقتلاه وحملا رأسه إلى ابن أبي عقيل، فطِيفَ به في صور، وكان عند ابن أبي عقيل جماعة من الغُزِّ، ففارقوه إلى بدر فقدي بهم. [وفيها تُوفِّي] الحسن بن علي بن محمد (¬1) أبو الجوائز، الواسطي، الكاتب، ولد سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة، وسكن بغداد دهرًا طويلًا، ومن شعره: [من الرجز] واحَرَبا من قولها ... خان عهودي ولَها وحَقِّ مَنْ صيَّرني ... وقفًا عليها ولهَا ما خطرَتْ بخاطري ... إلَّا كسَتْني ولهَا وقال: [من الوافر] رويتَ ومَنْ رويتَ من الروايهْ ... وكيفَ وما انتهيتَ إلى النهايهْ وللأعمارِ غايات تناهَتْ ... وإن طالتْ وما للعلم غايهْ ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 119 - 120، وتاريخ بغداد 7/ 393 - 394، والكامل 10/ 62.

حيدرة بن إبراهيم

وقال في كاتب: [من الخفيف]: كاتبٌ كُتْبُهُ كتائبُ يستسْـ ... ـري وسيَّار شَعْرِه كالسَّرايا وافرُ العلمِ ظاهرُ السِّلمِ وافي الـ ... ـحلمِ عَذْبُ الخلال حَسَنُ السَّجايا وقال: [من السريع] لا هجعَتْ أجفانُ أجفانا ... ولا رقى إنسانُ إنسانا يا جافيًا يزعُمُ أنِّي لَهُ ... جافٍ أما تغفِرُ ما كانا واللهِ ما أضمرتُ غدرًا كما ... قلتَ ولا أضمرتُ سلوانا لكِنْ سعى الواشون مَا بيننا ... فغيَّروا ألوانَ ألوانا حيدرة بن إبراهيم (¬1) أبو الطاهر بن أبي الجِنّ، الشريف، كان عالمًا فاضلًا ديِّنًا، قرأ القرآن، وسمع الحديث، ولمَّا دخل عسكر بدر الجمالي دمشق هرب منها إلى عمان البلقاء، فغدر به بدر بن حازم، وكان الشريف قد أطلق أباه حازمًا من خزانة البنود، وقد ذكرناه. وقال محمد بن هلال الصابئ: لمَّا خرج الشريف وبازرطغان من دمشق يريدان مصر أشار عليه بازرطغان بأن لا يظهر بعمان البلقاء, لأن بها بدر بن حازم، وأن يسير في الليل، فلم يقبَلْ، وسار بازرطغان إلى حِلة بدر بن حازم، وقال: جئناك لتذمَّ لنا ولمن معنا. فقال: ومن معكم؟ قالوا: الشريف ابن أبي الجن. فقال: قد ذمَّ الله لكم إلا الشريف، فإنه لا بُدَّ من حمله إلى أمير المؤمنين. وسار إليه، وقبض عليه، ومضى به إلى عكا، فباعه بذهبٍ وخِلَعٍ وإقطاع، فأركبه أمير الجيوش جملًا، وقتله أقبحَ قتلة، ثم سلخ جلده. وقيل: سلخه حيًّا وصلبه، ولعن أهلُ الشام بدرَ بنَ حازم والعربَ، وقالوا: ما هذه عادتهم، ولقد كان الشريف من أهل الديانة والصيانة والعفة والأمانة، مُحِبًّا لأهل العلم واصطناع المعروف. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 15/ 379.

محمد بن أحمد بن سهل

وفيها تُوفِّي محمد بن أحمد بن سهل (¬1) أبو غالب بن بِشران، النَّحْوي، الواسطي، الحنفي، ويعرَف بابن الخالة، وُلِد سنة ثلاثين وثلاث مئة، وكان عالمًا فاضلًا عارفًا بالأدب والنحو [شاعرًا، وإليه انتهت الرحلة في علم الأدب] والنحو واللغة والحديث، [وسمع الكثير، ورُوي عنه، وذكره الخطيب وأثنى عليه] وكان (¬2) شيخ العراق يرحل إليه الناس إلى واسط ويسمعون منه، وابن بِشْران جدُّه لأمه، وكانت وفاته بواسط يوم الخميس منتصف رجب، [سمع ابنُ بِشْران خلقًا كثيرًا منهم أبو الحسين علي بن محمد بن دينار الواسطي وغيره، وسمعتُ من شعره مقطعاتٍ، قال: أنشدنا ابن بِشْران في سنة خمسٍ وثلاثين وأربع مئة لنفسه: [من الطويل] لسانيَ عن سؤالِ ما عِشْتُ صامتُ ... ويذهلُ واشٍ عن غرامي وصامتُ وبي منكَ وجدٌ قد تجاوزَ حدُّهُ ... وزادَ فما يُحصيه بالنعت ناعِتُ فديتُك لا تُشْمِتْ بما نالني العِدا ... فإنَّ لهم فيما يسُرُّكَ كابِتُ إذا خالتِ الخالاتُ يومًا بذي الهوى ... فإن الهوى منِّي لك الدَّهرَ ثابتُ مني النَّفْس لي طُرًّا إذا ما وصلتني ... وإنْ لم تصِلْني فالأماني فوائتُ وغيره أيضًا من شعره: [من البسيط] وقائِلٍ عينُ من تهواهُ قد رمِدَتْ ... فقلتُ كلَّا وحاشاهُ من الرَّمَدِ لكنَّها أصبحتْ مُحمرّةً خجلًا ... ممَّا ترى من العُشَّاقِ بالرَّصَدِ وطالما أخذَتْ بالنار رامِقَها ... فارتَدَّ عنها جريحَ القلب والكبدِ ومن شعره: [من مخلع البسيط] يا شائدًا للقصور مهلًا ... أقصر فقصرُ الفتى المماتُ لم يجتمِعْ شملُ أهل قَصرٍ ... إلَّا وقصراهمُ الشَّتاتُ ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 120 - 121، ومعجم الأدباء 17/ 214 - 224. وينظر السير 18/ 235. (¬2) في (م) و (م 1): وصار.

وإنَّما العيشُ مثلُ ظِلٍّ ... منتقلٍ ما لَهُ ثباتُ وقال: [من الطويل] ولمَّا رأَوا عُشَّاقَهُ ووُشَاتَهُ ... وقد حاولوهُ مِنْ جميعِ جهاتِهِ رمى كلُّ قلبٍ مِنْ هواهُ بِلَوعةٍ ... فغُودِرَ مطويًا على زفراتِهِ وقال: [من الخفيف] يا مُحِبَّ الدنيا الغَرورِ اغترارا ... راكبًا في طِلابها الأخطارا يبتغي وصْلَها فتأبى عليه ... وترى أُنْسَه فتُبدي نَفارا خان مَن يبتغي الوصال لديها ... جارةٌ لم تزَلْ تُسِيءُ الجوارا كم مُحِبٍّ أرَتْهُ أُنسًا فلمَّا ... حاول الوصلَ صيَّرتْهُ ازورارا (¬1) شِيبَ حلوُ اللذاتِ بالمُرِّ (¬2) منها ... إنْ حَلَتْ مرَّةً أمَرَّتْ مِرارا في اكتساب الحلالِ منها حسابٌ ... واجتنابُ الحرامِ يُصلي النَّارا ولباغي الأوطارِ منها عناءٌ ... وسيقضي وما قضى الأوطارا كلُّ لذَّاتِها مُنغَّصةُ الغُـ ... ـبِّ (¬3) وأرباحُها تعودُ خَسارا وليالي الهموم فيها حِوالٌ ... وليالي السرور تمضي قِصارا وكفى أنها تضنُّ فإن جا ... دتْ بنزرٍ أفنَتْ بهِ الأعمارا وإذا ما سَقَتْ خمورَ الأماني ... صيَّرَتْ بعدها المنايا خِمارا كم مَليكٍ مُسلَّطٍ ذَلَّلتْهُ ... بعد عِزٍّ فما أطاقَ انتصارا وغنيٍّ مموَّلٍ أعدمَتْهُ ... بعدَ وَجْدِ مُخالفِ الإقتارا ونعيمٍ قد أعقَبَتْهُ ببؤسٍ ... ومغانٍ قد غادرَتْها قفارا أيُّها المستعيرُ منها متاعًا ... عن قليلٍ تسترجع المستعارا عَدِّ عن وصلِ مَنْ يُعيرُك مَا يفـ ... ـنى ويُبقي إثمًا ويُكسِبُ عارا قد أرَتْكَ الأمثال في سالفِ الـ ... ـدَّهرِ وها قد أرَتْكَ فيكَ اعتبارا ¬

_ (¬1) في الأصلين (خ) و (ت): زرارا! والمثبت من المدهش ص 278. (¬2) في (خ): باللهو، والمثبت من (ف) وينظر المدهش. (¬3) في المدهش وغيره: العيش، والمعنى متقارب.

وجديرٌ بالعُذرِ من قَدَم الأَعْـ ... ـذارَ فيما جناهُ والأقدارا فتعوَّضْ منها بخُلَّة صِدْقٍ ... والتمِسْ غيرَ هذه الدارِ دارا وإليك الخيار فاختر إذا شِئْـ ... ـتَ وإيَّاك أن تُسيء اختيارا والبِدارَ البِدارَ بالعمل الصَّا ... لحِ ما دُمْتَ تستطيعُ البِدارا فسيلقى جميعَ ما قدَّم المر ... ءُ عِيانًا إذا إلى الله صارا قَرَّ عينًا مَنْ قَرَّ في جنة الخُلـ ... ـدِ فلا تبْغِ في سواها قرارا وقال: [من الكامل] لولا تعرُّضُ ذِكْرِ مَنْ سكنَ الغضا ... ما كان قلبي للضَّنى مُتعرِّضا لكن جفا جفني الكَرى بجفائِهم ... وحشا حشاي فراقُهم جمر الغَضا لو أنَّ ما بِيَ بالرِّياحِ لَما جرَتْ ... والبرقُ لو يُمنى به ما أومضا ما اعتَضْتُ من عِوَضٍ فأسلو عنهمُ ... هيهاتَ أن ألقى بهم مُتعوَّضا يا راكبًا يطوي المهامِهَ (¬1) عِيسُه ... فتُريه رضراضَ (¬2) الحصى مُتَرضْرِضا بَلِّغْ رعاكَ اللهُ سُكَّان الحِمى ... منِّي التحيةَ إن عرضتَ مُعَرّضا وقُلِ انقضَى زمنُ الوصالِ ووَجْدُنا (¬3) ... باقٍ على مددِ الليالي (¬4) ما انقضى لو أنني أُفضي بأسرار الهوى ... يومًا إلى أحدٍ لضاق بها الفضا فلئِنْ جرى قَدرٌ لنا بإيابِكُمْ ... داويتمُ مني عليلًا مُمْرَضا أو كان قد حتمَ القضاءُ فراقَكُمْ ... صبرًا وتسليمًا لمحتومِ القضا لهفي على غفلات أيامٍ مضَتْ ... عني وما لهفي براجعِ ما مضى أيامَ أركُضُ في ميادين الصِّبا ... أيَّ الجهاتِ أُصيب فيه مَرْكَضا حتى سقاني البينُ (¬5) كاساتِ الجوى (¬6) ... مَلأَى وأشرقني بهنَّ وأحرضا ¬

_ (¬1) في معجم الأدباء 17/ 16 - وبعض أبيات القصيدة فيه-: يطوي الدُّجُنَّة. (¬2) الرَّضراض: الحجارة الصغيرة في الماء. المعجم الوسيط (رضرض). (¬3) في معجم الأدباء: عصرُ الثباب وودُّنا. (¬4) في معجم الأدباء: مرِّ الليالي. (¬5) البَيْن: الفرقة. المعجم الوسيط (بين). (¬6) الجوى: اشتداد الوجد من عشق أو حزن. المعجم الوسيط (جوي).

ونضا الشبابُ قناعَهُ لمَّا رأى ... سيفَ المشيب على المفارقِ منتضى قد كُنْتُ أُلفي الدهرَ أبيض ناضرًا ... فاسوَدَّ لمَّا صارَ رأسي أبيضا لولا اعترافي بالزمانِ وريبهِ ... ما كُنْتُ ممَّن يرتضي غيرَ الرضا لكن بلوتُ الدَّهرَ في حالاتِهِ ... فوجدتُهُ مثلَ السَّرابِ تعَرُّضا وأراه يُقرضنا وليس بثابتٍ (¬1) ... حتَّى يعودَ فيقتضي ما أقرضا عيشُ الفتى بينا تراه روضةً ... حتَّى يُصَوّحَ منه ما قد روَّضا لا البؤسُ دامَ ولا النعيمُ وإنَّما ... يحيى الفتى بالتُّرَّهات مُمرَّضا من كان يتَّهم القضاء فإنني ... أرضى بما صنع المليكُ وما قضى وقال أيضًا: [من المتقارب] يقولُ الحبيبُ غَداةَ الوداعِ ... كأَنْ قَدْ رحَلْنا فما تصنَعُ فقلتُ أُواصِلُ سحَّ الدُّموعِ ... وأهجرُ نومي فما أهجعُ وقال أيضًا: [من الكامل] يا مَنْ تناصفَ في المَلاحةِ خَلقُهُ ... لكنَّهُ في الحُكمِ ليس بمُنصفي قِفْ حيثُ أنتَ من الصُّدودِ فإنني ... أخشى القصاص عليكَ يومَ الموقفِ أخلفتُ فيكَ ظُنونَ صبٍّ لم يكُنْ ... أبدًا يظنُّ الخِلَّ ليس بمُخلِفِ سمعًا لسمعِ الدَّهرِ فيكَ وطاعةً ... إذ كان حتَّى مالهُ من مصرفي فلأصرفنَّ النفسَ إمَّا طائعًا ... أو كارهًا وأقولُ لا تتاسَّفي لو كان يوجَد مَنْ وفي لِمُحِبِّهِ ... لوَفى ولكِنْ أينَ يوجدُ مَنْ يفي وقال: [من الطويل] طلبتُ صديقًا في البريَّةِ كُلِّها ... فأعيا طِلابي أنْ أُصيبَ صديقا بلى مَنْ تسمَّى بالصديقِ عبارةً (¬2) ... ولم يَكُ في معنى الودادِ صديقا وطلَّقْتُ وُدَّ العالمين صريمةً ... وأصبحتُ من أسرِ الحِفاظِ طليقا ¬

_ (¬1) في (ف): بلابثٍ. (¬2) في المنتظم 16/ 121: مجازةً.

[وقال] (¬1): [من الكامل] ما زلتُ أسمعُ بالصَّديقِ ولا أرى ... معناهُ يوجَدُ لاسمِه تصديقا (¬2) فكأنَّه العنقاءُ يُعرَفُ إسْمُها ... والجسمُ لستَ ترى له تحقيقا وقال أيضًا: [من البسيط] وسائلٍ كيفَ حالي قلتُ غيَّرَها ... حَوْلٌ (¬3) [يحولُ] (¬4) عليه لم يدُمْ حالُ وحال أهلوهُ عن حين يظنُّ بهم ... فما أظنُّ بهم خيرًا وقد حالوا واستوطنَ الناسُ قلبي من رجائهِمُ ... وللمطامعِ بعدَ الموتِ تَرحالُ وقال [من مجزوء الكامل]: يا مَنْ يرومُ صديقَ صِدْ ... قٍ بعد ما فسدَ الأنامُ ذهبَ الصديقُ فصارَ حِلْـ ... ـمًا بعدما ذهبَ الكلامُ فتعزَّ عن ما فاتَ مِنْـ ... ـهُ فليس يوجدُ والسلامُ وقال: [من الطويل] عليكَ بصَوْنِ النَّفسِ في كل حالةٍ ... فلن يَعدَمَ الذكرَ الجميلَ مصونُ ولا تَسْتكِنْ للحادثاتِ إذا عَرَتْ ... فَبعْدَ حَراكِ الحادثاتِ سكونُ فكلُّ الَّذي قد قدَّرَ اللهُ كائنٌ ... وما لَمْ يُقَدِّرْهُ فليسَ يكونُ وقال: [من السريع] يا مَنْ طِلابُ الرِّزقِ أعياهُ ... ففيهِ مَغْداهُ ومَسْراهُ عَدِّ عن الحرصِ وكُنْ واثقًا ... أنَّ الَّذي يرزقُكَ الله لا تخشَ تضييعَكَ من مُنعمٍ ... عمَّتْ جميعَ الخلقِ نُعْماهُ لو لم يكُنْ رزقُ الفتى جاريًا ... ما شقَّ ذو العرشِ له فاهُ لكنَّهُ والعمرُ قد قُدِرا ... كلاهما لا يتعدَّاهُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق، لأن البيتين تيين من البحر الكامل، وأما الأبيات الثلاثة السابقة فمن البحر الطويل. (¬2) في (خ): صديقًا، والمثبت من (ف). (¬3) الحَوْل: القوة. الصحاح (حول). (¬4) ما بين حاصرتين زيادة ليست في النسخ.

هزارسب بن تنكيز بن عياض

وقال: [من البسيط] لمَّا رأيتُ سُلُوِّي غيرَ مُتَّجِهٍ ... وأنَّ عَزْمَ اصطباري عاد مفلولا دخلتُ بالرَّغمِ منِّي تحتَ طاعتكُمْ ... ليقضيَ اللهُ أمرًا كان مفعولا وفيها تُوفِّي هزارسب بن تنكيز بن عياض أبو كاليجار، تاج الملوك، الكردي، قد ذكرنا بعض أحواله. وقال محمد بن الصابئ: في يوم الأربعاء حادي عشرين رمضان تُوفِّي في منصرفه عن الباب باب السلطان من أصبهان إلى خوزستان بموضع يعرف بفرندةَ (¬1)، وكان قد تجبَّر وتكبَّر وتسلَّط وتفرعن، وتزوَّج بأخت السلطان، وأخذها في وقته هذا، واستصحبها معه، ووقفتُ على كتاب منه في هذا المعنى إلى الوزير أبي العلاء يقول: كتابي هذا أطال الله بقاء سيدنا الوزير الأجل، فلك الدين ولي الدولة من العسكر المنصور من أعمال الري، يوم الثلاثاء سادس رجب، وقد تيسَّر لي من الوصول إلى الخدمة السلطانية ما استقامت به الأحوال، وتضاعف لي به زيادة الإقبال، وبلَّغني أقصى البغية والآمال، وكل ذلك من بركات مشاركته، معدودٌ في ميامن صحبته ومخالصته، ولَعمري إنه -أدام الله عُلوَّه- الصديقُ الأصدقُ، والشفيقُ الأشفقُ الأوفقُ، ويتشوَّف إلى معرفة أخبارنا، ويتشوَّق إلى علم أحوالنا وآثارنا، وقد أوعزت في هذه المكاتبة بحالي، كأنه مشاهدٌ، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب، لأنه شاهد .. وذكر كلامًا يدلُّ على الكبر والجبروت، وأنَّ أخت السلطان عادت إلى الريِّ وأنه مرض بعلة الذَّرَب، وقام في الليلة التي مات فيها ألفين وأربع مئة مجلس. قال المصنف رحمه الله: وهذا بعيدٌ، وكأنه في مدة مرضه أقام هذه المجالس. السنة الثالثة والستون وأربع مئة فيها كانت الوقعة العظيمة بين ألب أرسلان وملك الروم، كان ألب أرسلان قد سار من هَمَذان في ذي القعدة سنة اثنتين وستين، فلمَّا قارب أرْحبِش ومنازكرد (¬2) من بلد ¬

_ (¬1) في النجوم الزاهرة 5/ 86: بخرندة. (¬2) هكذا يقول أهلها: منازكرد -بالكاف- وذكرها ياقوت في معجم البلدان 5/ 202: مَنازجِرْد، يعني بالجيم.

أخلاط فتحهما، وقتل وسبى، وبعث بين يديه الإفشين في سرية، وكان أريسغي زوج أخت السلطان معه جماعة من النَّاوكية، وكان السلطان يطلبهم، فساروا منحازين إلى البلاد التي للروم، خائفين من السلطان، ورحل السلطان إلى بلد ميَّافارقين، فخرج إلى خدمته نصر بن مروان وهو خائفٌ منه، وكان الوزير نظام الملك قد مضى إليه، وخرج به السلطان فقرَّبه، وخلع عليه، وقسط عليه مئة ألف دينار للجند، وأخرج للسلطان من الإقامات شيئًا كثيرًا أخذه من الرعية قرَّره عليه، وقال: ما لنا إلى أموال الفلاحين حاجة. فحمل الإقامات مِنْ خاصَّته، وفتح حصن السويداء وحصونًا كثيرة، وكان الغُزُّ يبقرون بطون النساء، ويقتلون من الأسارى من يضعف عن المشي معهم، وشرع جماعة من الغلمان إلى حرَّان ونواحيها فنهبوها، وهرب الناس إلى حصن الرافقة، ونزل السلطان الرُّها وقاتله أهلُها، وطمَّ الخندق بالأشجار وغيرها، وكانوا قد بذلوا أول ما نزل خمسين ألف دينار وينصرف عنهم، فرضي، وفتر القتال عنهم، فقالوا: لا نُعطيك المال حتَّى تعدم آلات الحرب وتُحرقها، فأمر بكسرها وتحريقها، فلمَّا فعل ذلك رجعوا، وكان عنده رسول من الملك، وهو الواسطة بينهما، فاغتاظ السلطان، وتقدَّم بمسك الرسول وقتله، فقال نظام الملك: هذا لم تجْرِ به عادة، ولا أُحِبُّ أن تُسنَّ سنةٌ لا يُعرَفُ باطنُها ويَقْبُح ظاهرها. ولطف به حتَّى أفرج عن الرسول، وأعطاه جواب كتبه وصرفه، ورحل في الحادي عشر من ربيع الآخر طالبًا للفرات، لحالين: أحدهما تأخُّر خبر الإفشين، والثاني تقاعد مَنْ بقي معه من العراقيين عسكر طُغْرُلْبَك عن القتال، وخبَتْ نفوسهم لتأخُّر أرزاقهم، ولمَّا انصرف عن الرُّها استخرج أهلُها القتلى وقطعوا رؤوسهم ليحملوها إلى ملك الروم، وأحرقوا جثثهم، وصالح أهلَ حران على مال، ونزل السلطان على الفرات رابع عشر ربيع الآخر، ولم يخرج إليه محمود صاحب حلب، فغاظه ذلك، وعبر الفرات، وأخربتِ العساكرُ بلد حلب ونهبوها، ووصلوا إلى القريتين من أعمال حمص، ونهبوا بني كلاب، وعادوا بغنائم عظيمة، وهربت العرب إلى البرية، وراسل محمودَ، وطلب منه الحضور، فامتنع، وحمل إليه الأموال التي قسطها على بلاده، فقال: ما أعرف لامتناعك من قصدِ خدمتي، مع إقامتك الخطبة لي، واتصال مكاتبتك وجهًا، وقد علمتَ إحساني إلى كلِّ

مَنْ حضر عندي من ملوك الأطراف، فأرسل محمودُ والدتَه وولدَه بخدمة قليلة، فزاد غيظُ السلطان، واتفق أن الخليفة بعث لمحمود الخِلَع التي طلبها لمَّا خطب للقائم مع نقيب النقباء، منها الفَرَجيةُ، والعمامةُ، وفرسٌ بمركب ثقيل، ولواءٌ. ولوالدته فرسين وثيابًا، ولبني عمه خيلًا وثيابًا. وخرج محمود والتقى النقيب، فسلَّم عليه عن الخليفة، فنزل وقبَّل الأرض، ولبس الخِلَع، وركب الفرس، ودخل إلى حلب، وأقام النقيب يومين لم يرَ من محمود فيهما ما ظنَّ، فركب إليه، قال محمود: أنا أُطيعكم، وهذا السلطان على بُعدٍ، وطلبتُ حراستي وحراسةَ بلادي، فأمَّا البلاد فقد شاهدتُ خرابَها ونهبَها، وأنا مطالبٌ بالخروج إليه والأموال التي تُفقرني، ومهدَّدٌ بالحصار والبوار، وهذا كتاب السلطان عندي بالإعفاء من دَوْس البساط. فقال النقيب: هاتِ الكتاب لأمضيَ إليه. فأعطاه إيَّاه، فخرج إليه وكان نازلًا على الفندق، فلمَّا وصل بعث إليه السلطان بفرس النُّوبة، وأكرمه واستدعاه، وبلَّغه عن الخليفة ما حمله إليه، فقام وقَبَّل الأرض، وشكر ودعا، وقال له: ما الَّذي أخرجك؟ فقال: جئتُ لأُخرج محمودًا إلى خدمتك، فأَخْرَجَ إليَّ هذا الكتاب. فقال: صحيح، أنا كتبتُه تطييبًا لقلبه مع بُعدي عنه، فأمَّا إذا قرُبتُ منه فما أقنع بهذا، وأيُّ عذرٍ لنا إذا كان منتميًا إلينا وقد عصى علينا ونصب المجانيق ليستعدَّ للحصار! وأيُّ حرمةٍ تبقى لنا عند الملوك؟ ! ويجب أن ترجع إليه وتضمن له عني كلَّ ما نريد. قال النقيب: فقلت: سمعًا وطاعة. وثقُلَ عليه ما بعث له الخليفة، فقال بعض الحُجَّاب: ما فعل هذا إلَّا بأمرِك، فسكن، واجتمعتُ بنظام الملك، وقلت: محمود يخدم بعشرين ألف دينار للسلطان، وخمسةِ آلاف دينار لك، ويدفعُ باللقاء إلى حين عود السلطان من دمشق، وعدتُ إلى حلب، وأخبرتُ محمودًا فقال: أمَّا المالُ فما عندي حَبَّة، وأما الخروج فلا سبيل إليه. ونزل السلطان على حلب يوم الأحد لليلةٍ بقيَتْ من جمادى الآخر، فقاتلهم، فذَلُّوا، فأرسل إليه محمود يطلب الموادعة، وخرج إليه في الليل، وسارت معه والدتُه، فأخذت بيده ودفعته إلى السلطان، وقالت: هذا ولدي قد سلَّمتُه إليك، فاحكم فيه بما ترى. فتلقَّاه بما أحبَّ وأكرمه، وقال: عُدْ إلى قلعتك، وترجع إلينا في غد لنُظهِرَ من إكرامنا ما تستحِقُّه. فرجع إلى القلعة، وعاد من الغد، فتلقَّاه نظام الملك والحُجَّاب والخواصُّ، ولم يتخلف غير

السلطان، ودخل على السلطان، فخلع عليه الخِلَعَ الجليلة، وأعطاه الخيل بمراكب الذهب والفضة والكوسات والأعلام، وعتَبَه، فقال محمود: واللهِ ما كُنْتُ إلا على نية تَلَقِّيك حتَّى حَنقت منك، فعلم السلطانُ مَنْ فعل ذلك، فكاشر وأشار إلى ابن خان الَّذي قتل أخاه على صور، وعلم، فهرب إلى دمشق، ثم عاد إلى السلطان، فرضي عنه، وتقدَّم السلطان إلى محمود وأيتكين السليماني بالمضيِّ إلى دمشق وإقامة الخطبة للقائم، وبينما هم على ذلك إذ وردت رُسل ملك الروم بردٍّ مَنيح وأُرحبش ومنازكِرْد إليه، وبحمل الهدية، وجاءه خبرُ الإفشين وعَوْدُه سالمًا، وضجر السلطان من المقام بحلب، فكرَّ راجعًا، فقطع الفرات، وهلك أكثر الدواب، وعاد رسول الروم مستبشرًا إلى صاحبه، فقوَّى ذلك عزمَ ملكِ الروم على اتِّباعه وحربه. وأمَّا حديث الإفشين فإنَّ أريسغي هرب من السلطان ومعه طائفة من الناوكية يريد القسطنطينية، وجاء إلى دربند وعليه قلعةٌ فيها امرأة يقال لها: مريم، فسألها أن تُمكِّنَه من العبور، فلم تفعل ذلك، وكان الملك لمَّا بلَغه خبرُ أريسغي بعث ميخائيل لقتاله ظنًّا منه أنَّه عدوٌّ، فلمَّا قَرُبَ منه ميخائيل أرسل إليه: ما جئت لأحاربكم، وإنما جئتُ ملتجئًا إليكم من السلطان. فقال: كذبتَ. فقال: لو كان هذا صحيحًا ما أخربتَ بلادنا ونهبتَ وقتلتَ. فحلف له، فلم يُصدِّقه، واقتتلوا، فنُصِرَ أريسغي على الروم، فقتل منهم خلقًا عظيمًا، وأمر ميخائيل وقطع عليه سبعين قنطارًا ذهبًا، وقَرُبَ الإفشين منهم، فقال لميخائيل: القصة كذا وكذا، وأنا أُطلِقُك ولا آخذُ منك شيئًا، وتجيروني من الإفشين. وعلم سِرَّه فأمَّنه، وسارا جميعًا إلى الملك، وقال: بيننا وبينك هدنةٌ، ولمَّا دخلتُ بلادك ما تعرَّضتُ لأحد، وهؤلاء اللاوكية أعداءُ السلطان، وقد نهبوا بلادَك وأخربوها، ويجب أن تُسلِّمهم إلينا، وإلَّا أخربتُ بلادكَ ولا هدنةَ بيننا. فقال الملك: كلُّ ما ذكرتَه صحيح، ولكن عادتُنا من لجأ إلينا أن لا نُسلِّمه. فرجع الإفشين فدرس الروم كأن لم يكن، فلم يَسْلَم منه إلَّا حصن منيع وبلد كبير، ووصل إلى درب مريم، ووقع الثلج، فأقام حتَّى ارتفع، وسار إلى خِلاط ومعه من الغنائم ما لم يغنَمْه أحد، وكتب إلى السلطان بذلك، وسار السلطان إلى الوزير، فجاءه خبرُ ملك الروم أنَّه قد

تجهَّز في العساكر الكثيرة، وأنه قاصد بلاد الإسلام، وكان السلطان في قليل من العسكر؛ لأنهم عادوا جافلين من الشام، وتلك الجَفلة استهلكت أموالهم ودوابَّهم، فطلبوا مَنْ ألزمهم، وبقي السلطان في أربعة آلاف غلام، ولم يرَ الرجوعَ لجميع العساكر فتكون هزيمة، فأنفذ بخاتون الشقيرية مع نظام الملك والأثقال إلى هَمَذان، وأمره بجمع العساكر وإنفاذها إليه، وقال لوجوه عسكره الذين بقوا معه: أنا صابرٌ صبرَ المحتسبين، وصائرٌ في هذه الغزاة مصير المخاطرين، فإن نصرني الله فذاك ظنِّي في الله تعالى، وإن تكُنِ الأخرى فأنا أعهد إليكم لولدي ملك شاه أن تسمعوه وتطيعوه وتقيموه مقامي. فقالوا: سمعًا وطاعة. وبقي جريدةٌ (¬1) مع العسكر الَّذي ذكرنا، ومع كلِّ غلام فرسٌ يركبه، وآخر بجنبه، وسار قاصدًا ملك الروم، وأرسل أحدَ الحُجَّاب الذين كانوا معه في جماعة من الغلمان مقدمةً له، فصادف عند خِلاط صليبًا تحته مُقدَّم الروم في عشرة آلاف، فحاربهم، فنُصِرَ عليهم، وأسر المُقدَّم، وكان من الروس، وأخذ منه الصليب، وبعث إلى السلطان بذلك، فاستبشر وقال: هذا أمارة النصر. وأرسل بالصليب إلى هَمَذان، وجَدَع أنف المقدَّم، ثم أمر بأن يحمل إلى الخليفة، ووصل ملك الروم إلى منازكِرد فأخذها بالأمان، وقصد ناحية السلطان في موضع يعرف بالرَّهوة بين خِلاط ومنازكِرد لخمس بَقِينَ من ذي القعدة، فبعث إليه السلطان بأن يرجع إلى بلاده ويتمِّم الصلح الَّذي توسَّطه الخليفة، فقال: لا أرجع -وكان يوم الأربعاء- وأقام السلطان إلى نهار الجمعة، وجمع وقتَ الصلاة أصحابَه، وقال: إلى متى نحن في نقص وهم في زيادة؟ أريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة التي جميع المسلمين يدعون لنا على المنابر، فإن نُصِرْنا عليهم وإلّا مضينا شهداءَ إلى الجنّة، فمن أحبَّ أن يتبعني فليتبَعْ، ومن أحبَّ أن ينصرف فلينصرِفْ مصاحبًا، فما ها هنا اليوم سلطان، وإنما أنا واحد منكم، وقد فتحنا على المسلمين ما كانوا عنه في غناء. فقالوا: أيها السلطان، نحن عبيدك، ومهما فعلتَ تبعناك. ¬

_ (¬1) الجريدة: خيل لا رجالة فيها. المعجم الوسيط (رجل).

وكان قد اجتمع إليه عشرةُ آلاف من الأكراد، وإنما اعتماده بعبد الله تعالى على الأربعة آلاف الذين كانوا معه، وملكُ الروم في مئة ألف مقاتل، ومئة ألف نَقَّاب، ومئة ألف روزجاري (¬1)، ومئة ألف صانع، وأربع مئة عجلة يجرُّها ثمان مئة جاموس عليها نعال ومسامير، وألفا عجلة عليها السلاح والمجانيق، وآلة الزحف، وكان في عسكره خمسة وثلاثون ألف بطريق، ومعه منجنيق يمدُّه ألف رجل ومئتا رجل، ووزن حجره عشرة قناطير، وكل حلقة منه مئتا رطل بالشامي، وكان في خزانته ألف ألف دينار ومئة ألف ثوب إبريسم، ومن السُّروج الذهب والمناطق والمصاغات مثلُ ذلك، وكان قد أقطع البطارقةَ البلاد، مصر والشام وخراسان والري والعراق، واستثنى بغداد، وقال: لا تتعرَّضوا لذلك الشيخ الصالح فإنه صديقُنا -يعني الخليفة- وكان عزمُه يُشتي بالعراق ويصيف بالعجم، واستناب في القسطنطينية من يقوم مَقامه، وعزم على خراب بلاد الإسلام، فلمَّا كان يوم الجمعة وقت الصلاة -وقد شاور السلطانُ أصحابَه- قام قائمًا، ورمى القوس والنُّشَّاب من يده، وشدَّ ذنب فرسه بيده، وأخذ الدبوس، وفعل أصحابُه كذلك، وبغتوا الروم وصاحوا صيحةً واحدةً ارتجَّت لها الجبال، وكبَّروا، وصاروا في وسط الروم، فقاتلوهم، وما لَحِقَ الملكُ يركبُ فرسَه، وما ظنَّ أنهم يقدموا عليه، فنصر الله المسلمين عليهم فانهزموا، وتبعهم السلطانُ بقيةَ نهار الجمعة وليلةَ السبت يقتل ويأسر، فلم ينجُ منهم إلا القليل، وغنموا جميعَ ما كان معهم، ورجع السلطان إلى مكانه، فدخل عليه الكوهراني فقال: إنَّ أحد غلماني قد أسرَ ملك الروم، وكان هذا غلامي قد عُرِضَ على نظام الملك فاحتقره وأسقطه، فكلَّمتُه فيه، فقال مستهزئًا به: لعلَّه يجيئنا بملك الروم أسيرًا. فأجرى الله تعالى أسر ملك الروم على يده، واستبعد السلطانُ ذلك وأرسل خادمًا يقال له: شاذي كان قد أرسله له، فلمَّا رآه عرفه، فرجع وأخبر السلطان، فأمر بإنزاله في خيمة، ووكل به، واستدعى الغلامَ وسأله: كيف أسرْتَه؟ فقال: رأيتُ فارسًا وعلى رأسه صلبان، وحولَه جماعةٌ من الخدم الصَّقالبة، فحملتُ عليه لأطعنه، فقال لي واحدٌ منهم: لا تفعَلْ، فهذا الملك. فأحسنَ السلطانُ إليه، وخلع عليه، وجعله من خواصِّه، فقال: أريد بشارة غزنة، فأعطاه إيَّاها. ¬

_ (¬1) في (خ): جرحى! والمثبت من المنتظم 16/ 124، والبداية والنهاية 2/ 100.

ثم إنَّ السلطان أحضر الملك -واسمه أرمانوس- وضربه ثلاث مقرعات، ورفسه برجله ووبَّخه، وقال: ألم أُرسِلْ إليك رُسُلَ الخليفة أطال الله بقاءه في إمضاء الهدنة، فأبيتَ؟ ألم أُرسِلْ إليك مع الإفشين أطلبْ أعدائي، فمنعتَهم؟ ألم تغدِرْ بي وقد حلفتَ لي؟ ألم أبعَثْ إليك بالأمس أسألْكَ الرجوع، فقلتَ: قد أنفقتُ الأموال، وجمعتُ العساكر الكثيرة حتَّى وصلتُ إلى ها هنا، وظفرتُ بما طلبتُ، فكيف أرجع إلى أن أفعل ببلاد المسلمين مثل ما فعلوا ببلادي؟ وكيف رأيتَ أثر البغي؟ -وكان قد جُعِلَ في رجليه قيدين وفي عنقه غِلًّا- فقال: أيها السلطان، قد جمعتُ العساكر من سائر الأجناس، وأنفقتُ الأموال لآخذ بلادك، ولم يكن النصرُ إلَّا لك، وبلادي ووقوفي على هذه الحال بين يديك بعد هذا، فدَعْني من التوبيخ والتعنيف، وافعَلْ ما تُريده. فقال له السلطان: فلو كان الظَّفرُ لك ما كنتَ تفعلُ بي؟ قال: القبيح. فقال: آهٍ، صدق وَاللهِ، ولو قال غيرَ هذا لَكَذَب، هذا رجلٌ عاقلٌ جَلْدٌ، لا يجوز أن يُقتل. ثم قال له: وما تظنُّ الآنَ أن أفعلَ بك؟ قال: أحد ثلاثة أقسام، أما الأول فقتلي، والثاني: إشهاري في بلادك التي تحدَّثتُ بقصدها، وأما الثالث فلا فائدة في ذِكْرِه، فإنك لا تفعلُه. قال: وما هو؟ قال: العفو عني، وقبول الأموال والهدنة، واصطناعي وردِّي إلى ملكي مملوكًا لك وبعض أسفهسلاريتك، ونائبك في الروم، فإنَّ قتْلَكَ لي لا يُفيدك، هم يقيمون غيري. فقال له السلطان: ما نويتُ إلَّا العفوَ عنك، فاشترِ نفسك. فقال: يقول السلطان ما يشاء. فقال: عشرة آلاف ألف دينار. فقال: واللهِ إنك تستحقُّ ملك الروم إذ وهبتَ لي نفسي، ولكن قد أنفقتُ أموال الروم واستهلكتُها منذ وُلِّيتُ عليهم في تجريد العساكر والحروب، وأفقرتُ القوم. ولم يزلِ الخطابُ يتردَّد إلى أن استقرَّ الأمر على ألف ألف وخمس مئة ألف دينار، وفي الهدنة على ثلاث مئة ألف دينار وستين ألف دينار في كلِّ سنة، وأن يُنفذ من عساكر الروم ما تدعو الحاجة إليه، وذكر أشياء. فقال: إذا مننتَ عليَّ عَجّلْ سراحي قبل أن يُنصِّبَ الرومُ ملكًا غيري، فيفوتُ المقصودُ، ولا أقدر على الوصول إليهم، فلا يحصل شيء مما شرطتَه عليَّ. فقال السلطان: أُريد أن تعود أنطاكية والرُّها ومنبج ومنازكِرْد، فإنها أُخذت من المسلمين عن قرب، وتُفرِّج عن أسارى المسلمين. فقال: أمَّا البلادُ فإن وصلتُ سالمًا إلى بلادي أنفذتُ إليهم بالعساكر

وحاصرتُهم وأخذتُها منهم وسلَّمتُها إليك، فأما القوم فلا يسمعون مني، وأمَّا أسارى المسلمين فالسمع والطاعة، إذا وصلتُ سرَّحتهم وفعلتُ معهم الجميل. فأمر السلطان بفَكِّ قيوده وغلِّه، ثم قال: أعطوه قدحًا ليسقينيه، فظنَّه له، فأراد أن يشربه، فمُنع وأُمر بأن يخدم السلطان ويناوله القدح، فأومأ إلى تقبيل الأرض، وناول السلطانَ القدح فشربه، وجَزَّ شعرَه، وجَعلَ وجهَه على الأرض، وقال: إذا خدمتَ الملوكَ فافعل كذا. وإنما فعل السلطان ذلك لسبب اقتضاه، وهو أنَّ السلطان لمَّا كان بالري وعزم على غزو الروم، فقال لفرامرز بن كاكويه: هو ذا، أمْضي إلى قتال ملك الروم، وآخذه أسيرًا، وأُوقِفُه على رأسي ساقيًا. فحقَّقَ الله قولَه، واشترى جماعةً من البطارقة، واستوهبَ آخرين، فلمَّا كان من الغد أحضره السلطان وقد نصب له سريره ودَسْتَه الَّذي أُخذ منه، فأجلسه عليه، وخلع عليه قَباءَه وقَلَنْسوته، وألبسه إيَّاهما بيده، وقال له: قد اصطنعتُكَ، وقنعتُ بأمانتك، وأنا أسيِّرُك إلى بلادك، وأردُّك إلى ملكك. فقبَّل الأرضَ، وكان لمَّا بعث الخليفةُ ابنَ المحلبان إليه أمر بكشف رأسه، وشدِّ وسطه، وأن يُقبِّل الأرض بين يديه، فقال له السلطان: ألستَ الفاعلَ بابن المحلبان رسول الخليفة كذا وكذا؟ فقُمِ الآن واكشِفْ رأسَكَ، وشُدَّ وسطَكَ، وأومئ إلى ناحية الخليفة، وقَبِّلِ الأرض. ففعل، فقال السلطان: إذا كُنْتُ أنا وأنا أقلُّ الملوك الذين في طاعته فعلتُ بِكَ ما فعلتُ وأنا في شرذمةٍ من جندي وقد حشدتَ دين النصرانية، فكيف لو كتبَ الخليفةُ إلى ملوك الأرض يأمرهم فيكَ بأمر؟ وعقد له السلطان رايةً فيها مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وأنفذ معه حاجبين ومئة غلام، فوصلوا به إلى القسطنطينية، وركب معه وشيَّعه قَدْرَ فرسخ، فأراد أن يترجَّل، فمنعه السلطان وحلف عليه، وضمَّه إليه، وتعانقا، وعاد السلطان عنه (¬1). ثم حكى ملك الروم وقال: العادة الجارية أن الملك الخارج من القسطنطينية إذا أراد الخروج إلى حرب دخل البِيعة الكبرى، واستشفع بصليب ذهب بها مُرصَّعٍ باليواقيت. قال: فدخلتُ البِيعة لمَّا عزمتُ على هذه السَّفرة، واستشفعت إليه، وإذا بالصليب قد زال عن موضعه إلى القبلة الإسلامية، فعجبتُ من ذلك، وسوَّيتُه إلى ¬

_ (¬1) ينظر هذا الخبر بنحوه في المنتظم 16/ 123 - 128.

أحمد بن علي

المشرق، وأتيتُه من الغد، وإذا به قد مال إلى القبلة، وأمرتُ بشدِّه بالسلاسل، ثم دخلتُ إليه في اليوم الثالث، وإذا به قد مال إلى القبلة، فتطيرتُ وعلمتُ أني مغلوب، ثم غلبني الهوى والطمع، فسِرْتُ إلى بلاد الإسلام، فكان مني ما كان. وقال أبو يعلى بن القلانسي: إن عسكر صاحب الروم كان ستَّ مئة ألف من الروم وسائر الطوائف، وإنَّ عسكر السلطان كان أربعَ مئة ألف مقاتل من الأتراك وجميع الطوائف، والذي ذُكِرَ أنَّه كان مع السلطان أربعةُ آلاف مملوك هو الأصحُّ؛ لِما ذكرنا من أن العساكر تفرَّقت عنه، ثم كتب السلطان إلى الخليفة بشرح ما جرى، وبعث بعمامة ملك الروم والصليب وما أُخذ من الروم، وذلك في ثالث عشرين ذي الحجَّة، فقُرئت الكتب في بيت النوبة، وسُرَّ الخليفةُ والمسلمون، وزُيِّنت بغداد تزيينًا لم تُزيَّن مثلُه، وعُملت القباب، وكان فتحًا عظيمًا لم يكُنْ في الإسلام مثلُه، وعاد السلطان إلى الري وهَمَذان. وفيها ملكت الفرنج جزيرة صقلية، وسببه أنَّه كان بها والٍ يقال له: ابن البعباع، فبعث إليه صاحب مصر يطلب منه المال، وكان عاجزًا عمَّا طلب منه، فبعث إلى الفرنج، ففتح لهم الباب -أي البلد- فدخلوا فقتلوا وملكوا الجزيرة. وفي هذه السنة ظهر أتْسِز بن أوق مقدَّم الأتراك الغز، وفتح الرملة والبيت المقدس، وضايق دمشق، وواصل الغارات عليها، وأخرب الشام. وفيها تُوفِّي أحمد بن علي (¬1) ابن ثابت بن أحمد بن مهدي، أبو بكر، الخطيب، البغدادي، ولد يوم الخميس لِستٍّ بَقِين من جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة -وقيل: سنة اثنتين وتسعين- بدَرْزيجان قريةٍ أسفل بغداد، وكان أبوه خطيبها، ونشأ ببغداد، وأول ما سمع الحديث سنة ثلاث وأربع مئة وله إحدى عشرة سنة، وقرأ القرآن، وتفقَّه على أبي ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 129 - 135، تاريخ دمشق 5/ 31 - 41، وتبيين كذب المفتري ص 268 - 271 ومعجم الأدباء 14/ 13 - 45. وينظر السير 18/ 270.

الطيب الطبري، وأكثرَ من سماع الحديث ببغداد، ورحل إلى البصرة، ثم إلى نيسابور وأصبهان وهَمَذان والجبال، ثم عاد إلى بغداد، وخرج إلى الشام فسمع بدمشق وصور، ووصل إلى مكة، فسمع بها من القاضي القضاعي، وقرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزية في خمسة أيام، ورجع إلى بغداد، وتقرَّب إلى الوزير رئيس الرؤساء ابن المسلمة، وكان قد أظهر بعضُ اليهود كتابًا، وادَّعى أنَّه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة -رضي الله عنهم-، فقال الخطيب: هذا الكتاب مُزوَّر. فقال له الوزير: من أين هذا؟ قال: فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية، وسعد مات يوم الخندق قبل خيبر، ومعاوية أسلم يوم الفتح سنة ثمان، وخيبر كانت سنة سبع. فأعجب الوزيرَ ذلك. ولمَّا دخل البساسيري بغداد استتر الخطيب، وخرج إلى الشام، وأقام بدمشق وصور وحلب وطرابلس، ثم عاد إلى بغداد سنة اثنتين وستين، فأقام بها سنة، ثم تُوفِّي. وصنَّف الكتب في فنون. وقيل: إنه صنَّف ستة وخمسين كتابًا ليس فيها أكبر من التاريخ، فمن مصنفاته: "التاريخ" مئة وستة أجزاء، و"شرف أصحاب الحديث"، و"الجامع لأخلاق الراوي والسامع"، و"الكفاية في معرفة أصول الرواية"، و"المتَّفِق والمُفترِق"، و"السابق واللاحق"، و"تلخيص المتشابه في الرسم"، و"تالي التلخيص"، و"الفصل والوصل"، و"المكمل في بيان المهمل"، و"الفقيه والمتفقِّه"، و"غُنية المقتبس"، و"الأسماء المبهمة"، و"الصواب في التسمية بفاتحة الكتاب"، و"الجهر بالبسملة"، و"رفع الارتياب"، و"الفنون (¬1) " و"التبيين [لأسماء المدلِّسين (¬2)] "، و"تمييز المزيد" و"من وافق اسمُه اسمَ أبيه"، و"من حدَّث فنسي"، و"رواية الآباء عن الأبناء" و"العلم بالكتابة، و"الحيل" و"الرحلة"، و"الرواة عن مالك"، و"الاحتجاج للشافعي" و"التفصيل لمبهم المراسيل"، و"اقتضاء العلم والعمل"، و"القول في علوم النجوم"، ¬

_ (¬1) هكذا وقع في الأصلين (خ) و (ف) تسمية الكتاب: الفنون، ولا يوجد للخطيب البغدادي كتاب بهذا العنوان فيما بين أيدينا من المصادر التي ترجمت له، ولعلها تصحفت عن القنوت، لكن المصنف سيذكر هذا الكتاب في آخر ذِكر كتبه! . (¬2) هذه الزيادة من مصادر الترجمة.

و"روايات الصحابة عن التابعين"، أو"صلاة التسابيح"، و"روايات الستة من التابعين" (¬1)، و"مسند نُعيم بن همار (¬2) "، و"النهي عن صوم يوم الشك"، و"الإجادة للمعدوم والمجهول"، و"البخلاء" و"الأسماء المتواطئة"، و"النِّكَاح بغير ولي"، و"الوضوء من مسِّ الذَّكَر" و"الرواة عن شعبة" و"الجمع والتفريق"، و"أخبار الطفيليين"، و"الدلائل والشواهد"، و"القضاء باليمين والشاهد"، و"المُوضِح"، و"القنوت". واتَّفقوا على أنَّه تُوفِّي يوم الاثنين سابع ذي الحجة في حجرةٍ كان يسكنها بدرب السلسلة جوار النظامية، وحمل تابوتَه أبو إسحاق الشيرازي من المدرسة النظامية إلى الجسر، وعبر به إلى الجانب الغربي، واجتاز به في الكَرْخ، وحمل إلى جامع المنصور، وحضر الأماثل والفقهاء والخلق الكثير، وصلَّى عليه أبو الحسين بن المهتدي، ودُفن إلى جانب بشر الحافي، وكان أحمد بن علي الطُّرَيثيثي قد حفر هناك قبرًا لنفسه، وكان يمضي إليه كلَّ يوم ويختم فيه القرآن عدة سنين، فلمَّا مات الخطيب أرادوا دفنه فيه، فمنعهم وقال: هذا قبرٌ أنا حفرتُه وختمتُ فيه القرآن عدة ختمات. وكان أبو سعد الصوفي حاضرًا فقال: يا شيخ، لو كان بشر في الحياة دخلتَ أنت والخطيب عليه أيُّكما كان يقعد إلى جانبه؟ فقال: الخطيب. فقال: فكذا ينبغي أن يكون في حالة الموت. فسكت. وقيل: إن الطُّرَيثيثي كان غائبًا، فلمَّا حضر أراد نبْشَه، فقيل له: لا يَحسُن. فتركه. وكان الخطيب يقول: شربتُ من ماء زمزم على نية أن أدخل بغداد وأروي بها التاريخ، وأُدفن إلى جانب بشر الحافي، وقد رزقني الله تعالى دخولها وروايةَ التاريخ بها، وأنا أرجو الثالثة. فدُفنَ إلى جانب بشر، وأوصى أن يُتصدَّق بجميع ما كان عليه من الثياب. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من (ف) ومصادر الترجمة. (¬2) تحرف اسمه في الأصلين (خ) و (ف) إلى: هشام، والصواب كما أثبتُّ: نعيم بن همَّار: وهو الغطفاني، كذا في إتحاف المهرة 13/ 556، وتاريخ الإسلام 10/ 181، وفي غيرهما من مصادر الترجمة، وكذا ذكره في كتابه موارد الخطيب ص 57.

سمع خلقًا كثيرًا، وروى عنه جمٌّ غفير، وذكره أرباب السِّير، فقال ابن السمعاني في "الذيل": هو إمامُ هذه الصنعة وعالمُها، ومن به ظهرت معالمُها، وأحيى رسومَها، ونشر علومَها. وقال ابن عساكر: هو أحد الأئمة المشهورين والمصنِّفين المذكورين، والحفَّاظ المبرِّزين، ومَنْ به ختم ديوان المحدثين، وكان يذهب مذهب الأشعري، ولمَّا عاد من دمشق إلى بغداد وقع له جزءٌ فيه سماع القائم بأمر الله، فحمل الجزء، ومضى إلى باب الحجرة، وسأل أن يؤذَن له في قراءته، فقال الخليفة: هذا رجلٌ كبير السنِّ في الحديث، وليس له إلى السماع حاجة، ولعلَّ له حاجةً أراد أن يتوصل إليها، فسألوه فقال: حاجتي أن أُملي بجامع المنصور -وكانت الحنابلة قد منعته- فأذِن له، وحضر النقيب الكامل مجلسه، وأملى بالجامع. وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: من نظر في مصنَّفاته عرف قَدْرَ الرجل وما هُيِّئ له مما لا يتهيَّأ لمن كان أحفظَ منه كالدارقطني وغيره. وقد روي عن أبي الحسين بن الطيوري أنَّه قال: أكثرُ كتب الخطيب مستفادةٌ من كتب الصوري ابتدأ بها. قال الشيخ أبو الفرج: وقد يضع الإنسان طريقًا فيسلك، وما قصَّر الخطيب على كل حال، وكان حريصًا على علم الحديث، وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه، وكان حسنَ القراءة، فصيحَ اللهجة، عارفًا بالأدب، يقول الشعر الحسن، وكان قديمًا على مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، فمال إليه أصحابه لمَّا رأوا ميله إلى المبتدعة وآذوه، فانتقل إلى مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه -، وتعصَّب في تصانيفه عليهم، ورمز إلى ذمِّهم، وصرَّح بقدر ما أمكنه، فقال في ترجمة الإمام أحمد رحمة الله عليه: إمام المحدِّثين، ولم يذكره بالفقه، ونسبه إلى الصبوة، فقال في ترجمة حسين الكرابيسي: أيش نعمل بهذا الصبي إن قلنا: لفظنا بالقرآن مخلوق؟ قال: بدعة. وإن قلنا: غير مخلوق؟ قال: بدعة. ثم قدح في أصحابه مهما أمكن، ودسَّ في ذمِّهم دسائس عجيبة، من ذلك أنَّه ذكر مُهنَّا بن يحيى -وكان من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - فقال: قال الدارقطني: مُهنَّا ثقة نبيل. ثم حكى عن أبي الفتح الأزدي أنَّه قال: مُهنَّا منكر الحديث. وهو يعلم أن الأزديَّ مطعونٌ فيه عند

الكلِّ وأول من ضعَّفه هو. قال: حدثني أبو النجيب عبد الغفار الأرموي قال: رأيتُ أهل الموصل يوهنون أبا الفتح الأزدي ولا يعدُّونه شيئًا. قال الخطيب: وحدثني محمد بن صدقة الموصلي قال: قدم أبو الفتح الأزدي بغداد على ابن بُوَيه، فوضع له حديثًا: أنَّ جبريل كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورنا، فأعطاه دراهم. قال الشيخ أبو الفرج: أفلا يستحي الخطيب أن يقابل قولَ الدارقطني في مُهنَّا بهذا ثم لا يُبيِّن ضعفَ الأزدي؟ فما الَّذي وثَّقه في الطعن في مهنَّا وضعَّفه في غيره؟ وهذا يُنبئ عن عصبيَّةٍ وقلةِ دين. ومال الخطيب على الحسن بن علي التميمي وأبي عبد الله بن بطة، وأبي علي بن المذهب، وكان في الخطيب شيئان؛ أحدهما الجريُ على عادة عوام المحدِّثين في الجرح والتعديل، فإنهم يجرحون بما ليس [يجرح] (¬1) لقلة فهمهم. والثاني: التَّعَصُّبُ على مَذهبِ الإمام أحمد - رضي الله عنه - وعلى أصحابه، وذكر في كتاب "الجهر بالبسملة" أحاديثَ يعلم أنها لا تصحُّ، وكذا في كتاب "القنوت"، وذكر في مسألة صوم يوم الغيم وتحريمه حديثًا يعلم أنَّه موضوع، واحتجَّ به، ولم يذكر عِلَّته، وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "من روى حديثًا عني وهو يرى أنَّه كذب، فهو أحد الكذَّابين" (¬2). وقال إسماعيل بن أبي الفضل القُومِسي وكان من كبار الحُفَّاظ، صدوقًا، له معرفة حسنة بالرجال والمتون، عزيز الديانة: ثلاثةٌ من الحُفَّاظ لا أُحِبُّهم لشدة تعصبهم وقلَّة إنصافهم: الحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وأبو نُعيم الأصفهاني، وأبو بكر الخطيب. ولقد صدق إسماعيل؛ فإن الحاكم كان متشيعًا، والآخران أشعريان متعصِّبان للأشاعرة والمتكلِّمين، وما يليق هذا بأصحاب الحديث؛ لأن الحديث جاء في ذمِّ الكلام، وقد أكَّد الإمام الشافعيُّ - رضي الله عنه - في هذا حين قال: رأي في أصحاب الكلام أن يُركبوا على البغال، ويُطاف بهم في القبائل. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المنتظم 16/ 133. (¬2) أخرجه أحمد (18184)، والترمذي (2662)، وابن ماجه (41) من حديث المغيرة بن شعبة، وأحمد (20163)، وابن ماجة (39) من حديث سمرة بن جندب، وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (903)، وابن ماجة (40) من حديث علي بن أبي طالب، وهو حديث صحيح.

وقد صنَّف الشيخ جمال الدين بن الجوزي رحمه الله كتابًا سمَّاه "السهم المصيب في بيان تعصيب أبي بكر الخطيب" بيَّن فيه أغراضَه ودقائقَه وتعصُّبَه وبوائقَه، وأنه صرح بذمِّ الإمام أحمد رحمة الله عليه، فقال: وهم أحمد في مواضع، وذكر ما يدلُّ على أن الخطيب هو الواهم، وقد بسط الخطيب القول في ذمِّ أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقد أُجيب عن جميع ما ذكره وردَّ عليه. وقال محمد بن طاهر المقدسي: لمَّا هرب الخطيب من بغداد عند دخول البساسيري إليها قدم دمشق، فصحبه حدَثٌ صبيحُ الوجه، فكان يختلف إليه، فتكلَّم الناس فيه وأكثروا، وبلغ والي المدينة، وكان من قِبَل المصريين شيعيًّا، فهجم عليه، فرأى الصبيَّ عنده وهما في خلوة، فقال للخطيب: قد أمر الوالي بقتلك، وقد رحمتُكَ، وما لي فيك حيلة، إلا أنني إذا خرجتُ بك أمر على دار الشريف بن أبي الجِنّ العلوي فادخل داره؛ فإني لا أقدر على الدخول خلفك. وخرج، فمرَّ به على دار الشريف، فوثب الخطيب فصار في الدهليز، وعلم الوالي، فأرسل إلى الشريف يطلبه منه، فقال الشريف: قد علمتَ اعتقادي فيه ومن أمثاله، وليس هو من أهل مذهبي، وقد استجار بي، وما في قتله مصلحة؛ فإن له بالعراق صيتًا وذكرًا، فإن قتلتَه قتلوا من أصحابنا عدة، وأخربوا مشاهدنا. قال: فيُخرَجُ من البلد. فأخرجوه، فمضى إلى صور، واشتدَّ غرامه بذلك الصبي، فقال فيه الأشعار، فمن شعره: [من البسيط] تَغَيَّبَ الناسُ عن عيني سوى قمرٍ ... حسبي من الناس طُرًّا ذلِكَ القمرُ محلُّه في فؤادي قد تملَّكَهُ ... وحازَ روحي فما لي عنهُ مُصْطَبرُ أردتُ تقبيلَهُ يومًا مخالسةً ... فصارَ في خاطري من خدِّهِ أثَرُ وكم حليمٍ رآهُ ظنَّهُ ملَكًا ... وراجعَ الفِكْرَ فيه أنَّهُ بشَرُ وقال فيه أيضًا: [من الكامل] بات الحبيبُ وكم لهُ من ليلةٍ ... فيها أقامَ إلى الصَّباحِ مُعانِقي ثمَّ الصباحُ أتى ففرَّقَ بيننا ... ولَقَلَّما يصفو سرورُ العاشِقِ وقال فيه أيضًا: [من البسيط] الخمرُ والوردُ حقٌّ ليسَ أجحدُهُ ... إذ ناسبا مَنْ بدا منه بلايايَ

فالخمرُ من طيبِ ريحٍ الحُبِّ قد شَرُفَتْ ... والوردُ أضحى يُحاكي خدَّ مولايَ وقال أيضًا: [من البسيط] بالله أقسمُ أيمانًا مُغلَّظةً ... ما مثلُ حبِّي مشى في سائرِ النَّاسِ إذا بدا يتثنَّى خِلْتَهُ قمرًا ... من فوق غصنٍ مديد الفَرْعِ ميَّاسِ شربتُ من لَحْظهِ خمرًا سكرتُ بها ... زادت على نعت خمرِ الكأسِ والطاسِ فأورثَتْ مُهجتي من حُبِّه دنفًا ... وعظَّمَتْ حال أفكاري ووسواسي ومن هذا قولُه وإخبارُه عن نفسه فكيف يُقبَلُ جرحُه وتعديلُه؟ وإنما العصبية ذهبت بالدين. ومن شعره: [من الوافر] لَعمرُكَ ما شجاني رسمُ دارٍ ... وقفتُ بها ولا ذِكْرُ المغاني ولا أثرُ الخيامِ أراقَ دمعي ... لأجلِ تذَكُّري عهدَ الغواني ولا ملَكَ الهوى يومًا قيادي ... ولا عاصَيتُهُ فثنى عِناني عرفتُ فِعاله بذَوي التَّصابي ... وما يَلْقَون من ذُلِّ الهَوانِ فلم أُطْمِعْهُ فيَّ وكَمْ قتيلٍ ... لهُ في الناسِ ما يُحصى وعانِ (¬1) طلبتُ أخًا صحيحَ الودِّ محضًا ... سليمَ الغَيبِ مأمونَ اللسانِ فلم أعرِفْ من الإخوانِ إلَّا ... نفاقًا في التباعدِ والتَّداني وعالمُ دهرِنا لا خيرَ فيه ... ترى صُورًا تروقُ بلا معاني ووصفُ جميعِهم هذا فما إِنْ ... أقولُ سوى فلانٍ أو فلانِ ولمَّا لم أجِدْ حرًّا يواتي ... على ما نابَ من نوبِ الزمانِ صبرتُ تكرُّمًا لقِراعِ دهري ... ولم أجزَعْ لما منهُ دهاني ولم أكُ في الشدائدِ مستكينًا ... أقولُ لها ألا كُفِّي كفاني ولكني صليبُ العُودِ عَوْدٌ ... ربيطُ الجأشِ مجتمعُ الجَنانِ أبيُّ النَّفسِ لا أختارُ رزقًا ... يجيءُ بغير سيفي أوسناني لَعِزٌّ في لظى باغيه يثوي ... ألذُّ من المذلَّةِ في الجنانِ ¬

_ (¬1) العاني: الأسير. المعجم الوسيط (عني).

حسان بن سعيد

ومَنْ طلبَ المعالي وابتغاها ... أدارَ لها رحى الحربِ العوانِ (¬1) وكان للخطيب شيءٌ من المال، فكتب إلى القائم بالله: إذا مِتُّ كان مالي لبيت المال، وأنا أستأذن أن أُفرِّقه على من شئت، فأذِنَ له، وكان مئتي دينار، ففرَّقه في أصحاب الحديث، ووقف كتبه على المسلمين، وسلَّمها إلى أبي الفضل بن خيرون، فكان يُعيرها، ثم صارت إلى ابنه الفضل، فاحترقت في داره. قال ابن طاهر: جاء جماعةٌ من الحنابلة يوم الجمعة إلى حلقة الخطيب بجامع المنصور، فناولوا حدَثًا صبيح الوجه دينارًا، وقالوا له: قِفْ بإزائه ساعةً وناولْه هذه الرُّقعة. فناوله الصبيُّ إيَّاها، وإذا فيها: بحقِّ الَّذي أعزَّ المعتزلة بابن أبي دؤاد، والجهمية بجهم بن صفوان، والكرامية بابن كرام، وأعزَّ بك الأشاعرة، قل لنا: أيش مذهبك؟ وكان الخطيب في أول أمره يتنسَّك ويتَّبع السنة ولا يتعرَّض لغير الحديث، وكان الحنابلة تعتقد فيه، فلمَّا خالط المتكلمينَ وأهلَ الباع مالوا عليه، وكانوا يعطون السَّقاءَ قطعة يوم الجمعة، فكان يقف من بعيد بإزائه، ويُميل نصفَ القِرْبة وبين يديه أجزاء، فيبلُّ الجميع فتتلف، وكانوا يُطيِّنون عليه باب داره في الليل، فربما احتاج إلى الغُسل لصلاة الفجر فتفوتُه، وقد قدح في جماعة من الأئمة، فقال: كان مالكٌ قليلَ الحفظ، والحسنُ البصريُّ وابنُ سيرين يقولان بالقدر، ومالك بن دينار ضعيف، ولم يثبت من لسانه إلا القليل. [وفيها تُوفِّي] حسان بن سعيد (¬2) ابن حسان بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن مَنيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، المخزومي، أبو علي، [المَنيعي] من أهل مرو الرُّوذ، كان في أول عمره يتشاغل بالدهقنة وخدمة الملوك، ثم عنَّ له فانقطع إلى الله تعالى والعبادة وسماع ¬

_ (¬1) الحرب العَوان: التي قوتل فيها مرةً بعد مرة. المعجم الوسيط (عون). (¬2) المنتظم 16/ 135، وتحرف في (م) اسم سعيد إلى: حسان. قلت: وتنتهي النسخة (ف) بعد الكلمة التالية.

علي بن [يوسف بن] عبد الله

الحديث والتقلُّل من الدنيا، فكان يصوم النهار ويقوم الليل، وبنى المساجد والقناطر والجوامع، وكانت الملوك تزوره وتتبرَّك به. ووقع في بلده غلاءٌ، فكان ينصب القدور فلا يُمنَع من طعامه أحدٌ، ويتصدَّق في السر، ويكسو كلَّ سنة خلقًا كثيرًا، ويزوِّج الأرامل واليتامى، ويمشي من بيته إلى المسجد، وكان بعيدًا عن بيته، ويلبس الغليظ من الثياب، ويصلي على قطعة لبد، ويقعد على التراب، وأغنى فقراء مرو ونيسابور وبلده، وأنفق أمواله في أبواب البر، وما زال به التقلُّل والمجاهدة حتَّى مرض بنيسابور مرضًا شديدًا، فحُمِل إلى مرو الرُّوذ، فتوفي بها. [وفيها تُوفي] علي بن [يوسف بن] عبد الله (¬1) أبو الحسن، الجُويني، ويعرف بشيخ الحجاز، كان زاهدًا، عابدًا، وهو عمُّ أبي المعالي المتكلم. [وفيها توفِّيت] كريمة بنت أحمد (¬2) ابن محمد بن أبي حاتم المروزية، من أهل كُشْميهَن، قرية من قرى مرو، وكانت عالمةً، فاضلةً، صالحةً، زاهدةً، عابدةً، قدمت مكة، فأقامت بها حتَّى ماتت. [وفيها توفِّي] محمد بن علي (¬3) ابن محمد بن حُباب، أبو عبد الله، [ويُعرف بابن الدُّرزي]، الصُّوري، الشاعر، كان فصيحًا، تُوفِّي بطرابلس وقد نَيَّف على السبعين، ومن شعره: [من مجزوء الكامل] ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق لابن عساكر 43/ 292، وما بين حاصرتين منه. (¬2) المنتظم 16/ 135 - 136. (¬3) تاريخ دمشق 14/ 391 - 392.

محمد بن علي

صَبٌّ جفاهُ حَبيبُهُ ... فحلا له تعذيبُهُ فالنارُ تُضرَمُ في الجوا ... نحِ والسَّقام (¬1) يُذيبُه حتَّى بكاهُ لِما دها ... هـ (¬2) بعيدُهُ وقريبُه وتآمروا في طِبِّه ... كيما يخِفَّ لهيبُهُ [فأتى الطبيبَ وما دَرَوا ... أن الطبيبَ حبيبُهُ] (¬3) محمد بن علي ابن الحسن بن الدجاجي، أبو الغنائم، القاضي، سمع الكثير، وكان له مالٌ فافتقر، فجمع له المُحدِّثون شيئًا وأتوا به إليه، فقال: وافضيحتاه، آخذُ على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجرة؛ لا واللهِ. وبكى ولم يقبله (¬4)، وتوفِّي في سلخ شعبان، ودُفن بمقابر الخيزران يوم الجمعة غُرَّة رمضان، [سمع أبا طاهر المخلص وغيره]، وكان صحيح السماع صدوقًا، [وروى عنه مشايخ مشايخنا]. محمد بن وشاح بن عبد الله (¬5) أبو علي، ولد سنة تسع وسبعين وثلاث مئة، وكان كاتبًا لنقيب النقباء الكامل، كان فاضلًا، تُوفِّي في رجب عن أربع وثمانين سنة، ودُفِنَ عند جامع المنصور، ومن شعره: [من الطويل] حملتُ العصا لا الضعفُ أوجَبَ حَمْلَها ... عليَّ ولا أنِّي تحنَّيتُ من كِبَرْ ولكنَّني ألزمتُ نفسي بحملِها ... لِأُعلِمَها أنَّ المقيمَ على السَّفرْ انتهى تاريخ الخطيب أبي بكر في هذه السنة، ومن السنة الرابعة والستين وأربع مئة ذيَّل عليه أبو سعيد عبد الكريم بن منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد السمعاني. ¬

_ (¬1) في (م) و (م 1): الغرام. (¬2) في (م): هواه. (¬3) في تاريخ دمشق وفيه: أن الحبيبَ طبيبُهُ. (¬4) في (خ) و (ف): فلم يقدر! والمثبت من (م). (¬5) تاريخ بغداد 3/ 336، والمنتظم 16/ 136.

السنة الرابعة والستون وأريع مئة

السنة الرابعة والستون وأريع مئة فيها استولى الناوكية الذين هربوا من ألب أرسلان إلى الشام، وكان أمير الجيوش بدر قد استمالهم، فجاؤوا فنزلوا الشام، وطردوا العرب الذين كانوا قد استولوا على بدر، ونهبوا الشام، وطلبوا من بدر المال وهو مقيم بعكَّا، فقال: ما عندي مال، وما سلَّطتُكم على العرب إلَّا أنكم تقنعون بنهبهم، وما أقطعتكم من الشام. فقالوا: نحن أخذنا البلاد بسيوفنا. ثم جاؤوا فنزلوا طبرية، واقتسموا البلاد، وأخذوا غلالها، فراسل بدرٌ العربَ بالرجوع إلى الشام، وأنه معهم بنفسه وماله، فاجتمع من العرب خلقٌ عظيم، وقربوا من طبرية، وعرف الناوكية كثرتهم، فكرهوا لقاءهم، فساروا إليهم، فكبسوهم، وأسروا وقتلوا ما شاؤوا، وعادوا إلى طبرية، ونزلوا من بعد طرابلس، فراسلهم محمود بن الزَّوقلية بأن يعودوا إليه، وبذل لهم العطاء، فجاؤوه، وكان عمه عطية قد استنجد بطريق أنطاكية وبني كلاب على محمود، وقصد حلبَ، فنهب ظاهرها، وجاء الخبر بأسر ملك الروم، فعاد عسكر أنطاكية، وارتبط محمود من التركمان نحو ألف غلام، وسار الباقون إلى الشام، فنزلوا على حصن نعمان بالبلقاء، وفيه ذخائر العرب وأموالهم، وهو معقلهم، ولم يكن عليه لأحد طاعة، وهو عزُّ العرب، فاحتالوا عليه وملكوه، وملك التركمانُ الشام بأسره، وجاؤوا إلى الرملة وهي خراب ليس بها أحد، ولا لسوقها أبواب، فجلبوا إليها الفلاحين وعمروها، وضمنوا أجر السلطان عن الزيتون الموجود بثلاثين ألف دينار، وقرَّروا قسم البلاد على النصف، فقيل: إنهم باعوا من الزيتون في هذه الرّقعة بثلاث مئة ألف دينار، وأعطوا التركمان منها ثلاثين ألف دينار، وأخذوا الباقي. ذكر ما يتعلق بمصر: اجتمعَ مَنْ بقي من المشارقة إلى القاهرة، وتولَّى ابنُ المغربي مكاتبةَ الأمير والأصحاب وإفسادَهم على ابن حمدان، وجمع الجموع، وتفلَّت من ابن حمدان كلُّ من كان يستعين به، وقوي أمر المستنصر، وضعُفَ أمرُ ابن حمدان، وكان مُقدَّم المشارقة يلدكور، ومضى ابن حمدان إلى الإسكندرية، وأخذ أهله وأمواله، ومضى

هاربًا إلى العرب، فنزل عليهم، ثم أخذ لواتة وسِنْبِس وغيرهم من العرب، وقصد العسكر المصري، وطرح نفسه عليهم وقاتلهم، فهزموه، وقتلوا ممَّن كان معه ألوفًا. وقيل: كان ذلك سنة ثلاث وستين في شوال، فلما أيقن بالهلاك نشر شعر أخته وزوجته بين يدي العرب، فعادوا على المشارقة فهزموهم، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا. ذكر ما جرى لملك الروم أرمانوس: لمَّا جرى عليه ما جرى سبق خبرُه إلى القسطنطينية، فوثب ميخائيل على المملكة، وقبض على والدته زوجة أرمانوس، ولها منه ابن وبنتٌ، فحلق رأسها، وألبسها الصوف، وأدخلها الدير، ووصل أرمانوس إلى دوقية، وحصل في قلعتها، وعرف الخبر، فلبس الصوف، وأظهر الزهد في الملك، وراسل ميخائيل يقول: قد فعلتُ في جميع العساكر وإنفاق الأموال والإعزاز لدين النصرانية ما فعلتُ، ولم آلُ جهدًا، ولا غُلِبتُ من قوةٍ، ولا من ضعفٍ لرأي، وقد كان من قضاء الله وقدره في نصر الإسلام وأهله ما لا قدرة لأحد فيه، ولا في ردِّه ودفعه، ولمَّا حصلتُ في يد هذا الرجل تكرَّم الكرمَ الَّذي لم أظُنَّه، وقرَّر عليَّ مال الهدنة، ومَن عليَّ وأطلقني، وصَعِدْتُ إلى الحصن زاهدًا في الملك، ولبستُ الصوف، وحمدتُ الله إذ حصلتَ في المكان الَّذي أنت أحقُّ به من غيرك، ويجب عليَّ أن أُعرفك حال هذا السلطان وما فيه من الفضل والإحسان، فإن قبلتَ قولي كُنْتُ الواسطةَ بينكما في حفظ دين النصرانية، وإن خالفتَ فأنت أعلم، وتؤدِّي المال الَّذي قرَّره عليَّ، وتُخلِّص رقبتي من أمانة فيها. فأجابه باستصواب رأيه، واعتذر بأن الحروب أنفدت الأموال، وهو يحمل ما قرَّر عليه من مال فكاكه مع مال الهدنة أولًا أولًا إلى أن تُوفِّيه، فأنفذ أرمانوس إلى السلطان بذلك، وأنفذ أموالًا كانت في حصن دوقيه نحو مئتي ألف دينار، من جملتها طَسْتٌ وإبريق وطبق من ذهب مُرصَّع بالجواهر، تبلغ قيمته سبعين ألف دينار، وحلف بالإنجيل أنَّه ما أمكنه حمل أكثر من هذا، ولا امتدَّت يدُه إلى غيره، وأعطى الحاجِبَين اللَّذين سارا في خدمته والغلمان ما جازاهم به، واعتذر إليهم، ووصل ذلك إلى السلطان، وأجابه بما سأل، ورضي بتأخير المال مع مال الهدنة، ثم بعث ميخائيل بعد انفصال الغلمان عن أرمانوس إليه يقول: إن كنتَ قد ترهَّبت عن حقيقة فيجب أن تنتقل إلى بعض البِيَع

وتُخلِّي عن الحصن لأرتب فيه من يحفظه. فتنكر أرمانوس وقال: كأنه ما قنع لي بزوال الملك وحصولي في الحصن حتَّى ينافسني فيه، فرمى فيه بالصوف، واقترض أموال التجار الذين كانوا في الحصن، وجمع إليه عسكرًا من الأرمن، وقصد سنحاريبَ ملكَ الأرمن، فبعث إليه يقول: إن كنتَ جئتني ضيفًا خدمتُك، أما محاربة ميخائيل فلا قدرة لي عليها. فقال: ما جئتُكَ إلا ضيفًا. فخرج إليه وتلقَّاه، وقبض عليه، وأخذ أمواله، وكانت ثمانين قنطارًا، وتقدَّم بسَمْلهِ وحبْسِه، وكان مع أرمانوس ألوفٌ من الروم والأرمن، فاستخدمهم سنحاريب، وسار إلى قُونية والبلاد فملكها، واستولى على معظم الروم، وسار إلى ملطية فنزل عليها، وصادر أهلَها وأخذ أموالهم، وراسل السلطانَ، فوعد أن يُنجده بنفسه. وفي صفر ورد رسولُ صاحب مكة بإقامة الدعوة العباسية بمكة والمدينة. بعث الخليفةُ إلى السلطان الخِلعَ والهدايا، وكان السلطانُ قد سأل الخليفةَ أن يُزوَّج الأمير عُدَّةُ الدين من ابنته خاتون الشقيرية، فأجابه الخليفة، وكتب وكالة لعميد الدولة عن الأمير عُدَّةِ الدين. وفي ربيع الأول ورد الوزير أبو العلاء من عند السلطان وعليه خِلَعٌ سلطانية، ولُقِّب وزيرُ الوزراء، ومعه توقيعٌ بنصف إقطاع الوزير ابن جَهير تنكُّرًا من السلطان عليه، وأن يكون أبو العلاء نائبًا ببغداد عن السلطان، وكان ذلك بتدبير نظام الملك، وبلغ الخليفة، فثقل عليه، ولم يأمر بتلقِّيه، فدخل وحده، وقبَّل عتبة باب النُّوبي وانصرف، ووصل بعده بثلاثة أيام سعد الدولة الكوهراني برسالة من السلطان في معنى فخر الدولة والعتب عليه، ويسأل الميل إلى أبي العلاء الوزير، والتقاه حاشية الخليفة والوزير، ونزل بباب النُّوبي، وقبَّل العتبة، وسأل الحضور فأُذِنَ له، فدخل معه الوزيرُ ابنُ جَهير [وكان معه رسالة لا يحضرها ابن جَهير، فلم يفعل الخليفة] (¬1)، ودفع كتاب السلطان إلى الخليفة، ولم يؤدِّ الرسالة، وكتبها في ورقة وأعطاها الخليفة، فوقف الخليفةُ على المُلَطّف وقال: كذب كاتبُه، لعنه الله. وقيل: إنه يضمن أن الوزير ذكر السلطان بقُبح، ثم انصرف سعد الدولة، خرج توقيع الخليفة إليه: قد عرفنا ضيق صدر عضد الدولة بتأخير رسلنا إليه، وانتظارهم بالري الانتظار الَّذي ثَقُل عليه، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

ونُسِبَ ذلك إلى الوزير بقول الأعداء والحُسَّاد، وواللهِ العظيم إن الأمر لم يجرِ على ذلك، ولا كان التأخُّر إلا بسبب ثوب نسيج يصلح للتشريف أبطأ الصُّنَّاعُ (¬1) في عمله، ويجب أن يكتب إليه ويُعلِمه حقيقة الحال؛ ليزول من خاطره ما خامر نفسَه، ما أوقعه فيه أعداء الوزير قبَّحهم الله تعالى. وفي جمادى الآخرة خرج ابنُ أبي عمامة الواعظ يومًا، فرأى مغنِّيةً خارجةً من دور بعض الأتراك ومعها عود، فقطع أوتارَه، فعادت إلى التركي وشكَتْه، فأرسل غلمانه إلى داره، فهرب إلى الحريم، ودخل على ابن أبي موسى الهاشمي مُتقدِّمِ الحنابلة وشكا إليه، فقام ابنُ أبي موسى وجمع الحنابلة، وأدخلوا معهم أبا إسحاق الشيرازي وأصحابه، ودخلوا جامع القصر، واستغاثوا وطالبو بإزالة المنكرات وخراب المواخير، فتقدم الخليفةُ بتتبع الفواسد وإراقة الأنبذة ونحو ذلك، وطلبوا [صرْفَ سعد النجمي عن الحسبة، فصُرف، وطلبوا] (¬2) ضَرْب دراهمَ يتعامل بها الناس، فأرسل الخليفة يقول: ارجعوا إلى منازلكم، ونحنُ نُكاتب عضد الدولة بما سألتم، فلطم ابنُ أبي موسى رأسه وصاح: ليَبْكِ على الإسلام من كان باكيًا، زالت الرِّبقة (¬3)، وبطلت طاعتُنا لهذا الإمام. وقام قاصٌّ يُعرف بابن أبي عفانة، فقال: يا معشر المسلمين، هذا الشريف يلطم وينوح على الإسلام فبادروا إليه، واجتمعوا عليه، فمن قائل: ليس هذا الإمام بخير من عثمان بن عفان. وآخر يقول: هذه الأموال التي في يده لنا. وآخر يقول: ما له في رقابنا بيعة، وأكثر من ذلك. وأمروا المكديين والغَوغاء أن يتحدَّثوا على الطرق بذلك وشاع، وانخرقت هيبةُ الخلافة (¬4)، وكان الوزير يرى قمعهم بالهيبة، والخلبفةُ يجري في ذلك على عادته في الصبر والرفق، ثم استدعى أبا إسحاق الشيرازي إلى باب العزبة وعَتَبه، فانصرف إلى داره، وتفرَّق جمعُه، وأما ابنُ أبي موسى وأصحابُه فأقاموا بالجامع، وقالوا: ما نبرح حتَّى يتمَّ الفعل، وإلا فهذا دفع. فغاظ الوزيرَ ذلك، وأرسل إلى سعد الدولة الكوهراني وقال: اقبِضْ على هؤلاء المفتنين. فقبض على بعضهم ونكَّل بهم، ¬

_ (¬1) في (ب): السلطان. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) الرِّبقة؛ واحدة الرِّبْق، والرِّبْق: حبلٌ ذو عُرى. المعجم الوسيط (ربق) ويقال: خلع الربقة عن عنقه: نقضَ عهده. المحكم 1/ 45. (¬4) في (ب) الثلاثة، والمثبت من (خ).

وتفرَّق الباقون، وبعث الوزير إلى الجامع فضرب مَنْ فيه بالدبابيس وأخرجهم، وأغلق أبواب الجامع، ورفع كراسيَّ القُصَّاص، فهربوا، وهُدِّد أبو إسحاق فخاف وعزم على الخروج إلى باب السلطان بخراسان، فأعاده الوزير إلى داره، وسكَّنه الخليفةُ، وأقام ابنُ أبي موسى في منزله لا يخرج منه، فلمَّا طال عليه الأمر عاد إلى عادته في التدريس، وقامت الهيبة، وفي هذا الوقت وقع الموت (¬1) في الدواب والغنم، فلم يبقَ منها شيء، ونام راع في طريق خراسان عند القطيع، ثم انتبه فوجد الغنم موتى بأسرها، وكانت خمس مئة رأس، فأخذه سعد الدولة الكوهراني فصلبه برجله، وأضرم فيه النار وهو حيٌّ، فاحترق، فسُمِّي (¬2) سعدُ الدولة الشَّوَّاءَ، وقامت له هيبةٌ لم تقُمْ لغيره. وفي هذا الوقت قدمت فاخرة بنت نور الدولة بن مَزْيَد بغداد، فطرحَتْ نفسَها في دار الخلافة مستجيرةً من مسلم بن قريش، فإنه كان قبض على أخيه إبراهيم زوجِها، فبعث الخليفة إليه رسولًا في معناه، فقال: هذا الغلام سعى في دمي، وفعل ما يقتضي الاستظهار عليه، وأنا نازلٌ إلى الباب العزيز، وذاكرٌ أفعاله معي، فإذا أمرتَ بعد ذلك بأمر امتثلته. وخرجت فاخِرةُ (¬3) إلى نور الدولة أبيها، ومطر العراق مطرًا فيه برَدٌ وبندقُ طين، مثلُ بيض العصفور، له رائحة طيبة. وفي شعبان أخذ أصحاب السلطان الأنبار من مسلم بن قريش؛ لأنَّ السلطان تنكَّر له وأخذ منه حربى فأعطاها لخاتون زوجة الخليفة، وكتب بإدخال اليد في هِيت وعانة والسن والبَوازيج (¬4) وأعمال الموصل ممَّا كان في يد مسلم، وأن يبقى في يده ما كان في زمن أبيه أيام ركن الدين طُغْرُلبَك. وفيها عقد للأمير عدة الدين على ابنة السلطان ألب أرسلان بنيسابور، وجلس السلطان على سرير الملك ونظام الملك بين يديه قائم، وحضر عميد الدولة وكيلًا عن عُدَّةِ الدين، ووضع له كرسيَّ فضة فجلس عليه، وحضر الملوك والأمراء والرسل على ¬

_ (¬1) في (م): الموتان. (¬2) بعدها في (م) زيادة كلمة: للصوص. (¬3) في (خ): إمارة. (¬4) البوازيج: بلدة قربَ تكريت من أعمال الموصل. معجم البلدان 1/ 366.

اختلاف طبقاتهم، وكان نظام الملك وكيلًا عن السلطان، وقال السلطان للقُضاة والعدول: اشهدوا أني قد وكلت الحسن الطوسي في هذه الوصلة. وقال عميد الدولة: وأعلموني بذلك. فقلت: الآن قد قبلتُ هذا النِّكَاح، ورضيتُ به عن الأمير عدة الدين موكِّلي، لمَّا تواصلت رغبات (¬1) السلطان إلى أمير المؤمنين في هذا الأمر، فرأى أن يُشَرِّفَه بإيصال حبل النبوة بحبله، وأخذ السلطان من جانبه طبقًا فيه حبٌّ منظوم، ومن جانبه الآخر كذلك، فنثرهما على الناس، ثم أخرج من بَنْد قَبائه ثلاث سبانج (¬2) فيها جواهر، فرمى بها إلى عميد الدولة، وقال: هذه برسمك لمَّا لم يمدَّ يدَه إلى الحب، فأقام عميد الملك فقبله وقال: قد قبلتُه، وأُحبُّ أن أُضيفه إلى هذا النثار فنثر. فقال عميد الدولة: وقُمْنا ويدي في يد نظام الملك، فلمَّا بَعُدْنا عن عين السلطان قبَّل رأسي وقال: لو جاز أن تستحي يومًا من الأيام لاستحييتَ مني اليوم يا هذا، ألم أسألك أن تتحمل وتجعل الرغبة منك إلى السلطان في ابنته فلم تقبل؟ وكان قد قرَّر معي هذا فقلت: أنت الَّذي رغبت وطلبت. قال: ثم أحضرني السلطان وهو في حجرة وحده، ودخل معي نظام الملك، وإذا بين يديه أطباق ذهب فيها سُكَّر، وعلى كلِّ طبق قرطاس كبير فيه جوهر -على عادتهم- ودنانير، وقال: احملوها معه، فما أمكن مخالفته. فلمَّا خرجتُ وقفتُ على باب الحجرة فرَّقتُها على الحاضرين، ونثرتُ من عندي ذهبًا وثيابًا تبلغ قيمتُه ألف دينار وسبع مئة دينار. وفي هذا الوقت عاد التركمان الناوكية من الرملة إلى دمشق وحصروها، وأخربوا الضياع، وكان بها ابن منزو الكتامي ضامنُها، فصالحهم على خمسين ألف دينار، وأعطاهم ثلاثة وعشرين ألفًا، وسلَّم أخاه رهينةً على باقيها، ورحلوا إلى عكا، فنهبت التركمان وبها بدر الجمالي، فحصروه، وكان متقدِّمُهم يقال له: قزلي، فسكن إليه جماعةٌ من بني كلب وأمرائهم من بني القرمطي، وخالطوه وقاربوه، واتفق أن قزلي مات على حصار عكا، فنهبت التركمان مَنْ قرُبَ منهم من العرب، وأجفل الباقون، وسار قريب لقزلي من الرملة إلى عكا وحصرها، وأخرب سوادَها وسوادَ صور ¬

_ (¬1) في (خ): رعايات، والمثبت من (ب). (¬2) سبانج، جمع سبنجونة: وهي فروة من جلد الثعالب. معجم الألفاظ الفارسية المعربة ص 84.

سعيد بن نصر الدولة

وغيرها، وكان بدر الجمالي تأتيه الميرة في المراكب في البحر، فما كان يبالي في الحصار، فلمَّا يئسوا منه ساروا إلى مصر، ووصلوا بِلْبيس، وشنُّوا الغارات على أعمال مصر، فلم يجدوا ما يأكلون ولا ما تأكل خيلُهم، فعادوا. وقيل: إن جماعة منهم وصلوا إلى وادي القرى وتيماء، ووصل منهم سبعة عشر غلامًا إلى المدينة، وزاروا (¬1) قبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي ذي الحجة ورد رجلٌ من مصر ذُكِرَ أنَّه خرج منها في شعبان، وصاحبُها قد قبع بالقاهرة ومعه يلدكور في نحو خمس مئة غلام من المشارقة، وألفي رجل من السودان، وهو منهمك على الشرب، فإذا قيل له: ذهبت البلاد والدولة والأموال، يقول: أمسِكوا عن هذا، فإن عندي كتب ملاحم بجميع ما يجري، وإنَّ كلَّ ما خرج عن يدي يرجع إليها. وقصد ابنُ حمدان مصر، واستقرَّ أن يكون هو الناظر في البلاد من غير تعرُّض للدولة ولا معارضة، فأقام أيامًا على ذلك، ثم ارتاب بأسد الدولة يلدكور وحذَّره، فخرج من القاهرة كالمُجفل، ومضى عسكرُه إلى مصر فنهبوها. وفيها بعث الخليفةُ أبا طالب الحسن بن محمد أخا طرَّاد الزينبي إلى محمد بن أبي هاشم أمير مكة بمال وخِلَع، وقال له: غَيِّر في الأذان "حيَّ على خير العمل" فامتنع، فناظره مناظرة طويلة، فقال له ابن أبي هاشم: قد أذَّن [عليٌّ] أميرُ المؤمنين بهذا؟ فقال أخو النقيب: ما صحَّ عنه، وإنما عبد الله بن عمر بن الخطاب رُويَ عنه أنَّه أذَّن به في بعض أسفاره، وما أنت وابن عمر، فأُسقِطَ من الأذان. وفيها تُوفِّي سعيد بن نصر الدولة ابن مروان، كان بآمِد، ولمَّا اجتاز نظام الملك بها خرج إليه فقيَّده وبعث به إلى الهياج، وكان أخوه نظام الملك قد أعطى نظام الدين (¬2) مالًا حتَّى نصره عليه، فكتب سعيد إلى أخيه يستعطفه ويرقِّقه ويحلف له، فاستدعاه إلى ميَّافارقين، وأحسنَ إليه ¬

_ (¬1) في (خ): ورأوا، والمثبت من (ب). (¬2) في (ب): نظام الملك، والمثبت من (خ).

وأطلقه، وكان ينادمه ويشربان وينامان (¬1)، فجاء خادم له في بعض الليالي فقال: قد أمكنتكَ الفرصةُ من أخيك نظام الدين، هو نائمٌ سكران، قُمْ فاقْتُلْه، وخُذِ البلاد، واسم الخادم فرُّوخ، فقال له: ويلكَ يكون أخي ابن عجب، وأنا ابن الفضلونية [وأغدر به، لا واللهِ لا كان ذلك أبدًا، والفضلونية] (¬2) بنت فضلون بن منوجهر صاحب أرَّان وأرمينية، وعجب جارية، ثم انتبه نظام الدين وتحادثا، وأقطعه آمِد، فأُخرجَ وأقام بها، وندم نظام الدين على تسليم آمِد إليه، فاستدعى جاريةً وواعدها على قتله لِما يُذكر إن شاء الله تعالى. وذُكِرَ في "تاريخ ميَّافارقين" أن السلطان لمَّا اجتاز بديار بكر يريد منازكَرد لقتال ملك الروم خرج إليه أبو الحسن سعيد بن مروان وخدمه، وكان مستوحشًا من أخيه نظام الدين، فلمَّا وصل السلطان إلى ميَّافارقين خاف منه نظام الدين، فدخل إليه نظام الملك إلى القصر، فسأله عن أخيه سعيد، فاخبره أنَّه قد التجأ إلى السلطان، وفي نفس السلطان أن ينصره، وقدَّم لنظام الملك من الجواهر والأموال والتُّحف شيئًا كثيرًا، وخرج أخواتُ نظام الدين وبناتُه وزوجتُه، فمسكوا بذيل نظام الملك وقالوا: قد استجرنا بالله وبك. فقال: واللهِ لأُخرجَنَّه من عندكم أميرًا، ولأُعيدنَّه سلطانًا. ثم خرج نظام الدين مع نظام الملك إلى السلطان، وقدَّم له من الأموال والجواهر ما ملأ عينه، فقال له نظام الملك: إن الحريم قد تمسكن بي في عوده إليهم كما تريد، فقال السلطان: قد حلفتُ لأخيه سعيد، فقال: دعني وإيَّاه. وركب السلطان إلى الصيد، وبعث نظام الملك إلى سعيد فقيَّده وحمله على بغل إلى الهياج، فاعتقل فيه، وعاد السلطان من الصيد، فخلع على نظام الدين خلع السلطنة، وردَّه إلى ميَّافارقين، وقال له نظام الملك: ضمنتُ لأهلك أني أُعيدك إليهم سلطانًا، وما لنا غير سلطان واحد، ولكن أنت سلطان الأمراء. ولقَّبه بذلك، وعاد إلى ميَّافارقين، ومضى السلطان، وطالت مدة سعيد في الحبس، فكتب إلى أخيه نظام الدين يستعطفه، فأطلقه كما ¬

_ (¬1) في (خ): وينادمان، والمثبت من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

عبد الله بن محمد

ذكرنا، وأعطاه آمِد، ثم ندم، فاستدعى جاريةً حسناء ودفع إليها منديلًا وقال: إذا كان أخي معك في ذلك الوقت فادفعي إليه هذا المنديل، ووعدها أن يتزوجها، وبعث بها إلى سعيد، فشغف بها شغفًا عظيمًا، فلمَّا كان معها في بعض الليالي ناولَتْه المنديل، فمسح به مذاكيره، فسقطت ومات، وعادت آمِدُ إلى نظام الدين، ولم يبقَ له منازع، وحصل أخوتُه وبنو عمه تحت حكمه. عبد الله بن محمد ابن عثمان بن الحسين بن قندس، أبو طالب، القاضي، أمين الدولة، الحاكم على طرابلس والمتولِّي عليها، كان عظيمَ الصدقة، كثيرَ المراعاة للعلويين، تفرَّد بذلك في زمانه، ولم يُدانيه أحدٌ من أقرانه، توفي في النصف من رجب، وتولَّى مكانه أبو الحسن بن أحمد الملقب بجلال الملك، ورمَّ البلد أحسن رَمّ. وبلغه عن قوم من العلويين وابن الماسكي أحد وزراء المصريين، وكان قد هرب إلى طرابلس [أنهم] (¬1) قد حالفوا أبا الفتح عمَّه عليه، فنفاهم ونفى عمه، وقد مدحه أبو الفتيان القاضي بن عثمان، ورثاه وعزَّى جلال الملك فقال: [من الكامل] ذُدْ بالعَزاءِ الهَمَّ في طَلِباتِهِ ... لا تُسخِطَنَّ اللهَ في مَرضاتِهِ لكَ مِن سَدادِكَ مُخبِرٌ بَلْ مُذكِرٌ ... أَنَّ الزَّمانَ جَرى على عاداتِهِ صَدَعَ القُلوبَ بما أتى مُستَيقنًا ... أن لا يُذَمَّ وَأنتَ مِنْ حَسَناتِهِ فَبَكاهُ ثَغرٌ كانَ عِصمَةَ أهلِهِ ... ومَعاذَ قاصِدِهِ وعزَّ وُلاتِهِ أَجناهُ رَبُّ العَرشِ غَرسَ فَعالِهِ ... وقضى لهُ بالخُلدِ في جَنَّاتِهِ صبرًا جلال الملكِ تحمَدُ غِبَّ ما ... خُوِّلتَهُ فالصبرُ من آلاتِهِ لا تُشعِرَنَّ الدهرَ أنَّكَ جازعٌ ... من فِعلِهِ فيَلَجَّ في غَدراتِهِ فلأنتَ مَجدُ مُلوكِ دهرِكَ فَليَعُدْ ... عن قولِهِ من قال مَجدُ قضاتِهِ ولقَد عَلِمنا أنَّ بَينَكُمُ الَّذي ... لا تَرحَلُ العَلياءُ عن حُجُراتِهِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

عتيق بن علي بن داود

وافاكَ مِنّي ذا الكلامُ مُعَزِّيًا ... بل راغبًا في الصَّفحِ عن زلَّاتِهِ قولٌ أتى عن عِلَّةٍ وفجيعةٍ ... فاقبَلْهُ مستورًا على عِلَّاتِهِ من أبيات وكان أمين الدولة سخيًّا، شجاعًا، [حكيمًا] (¬1) حليمًا. عَتيق بن علي بن داود (¬2) أبو بكر، الصِّقِلِّي، الزاهد، صنَّف كتابًا في الزهد سمَّاه "دليل القاصدين" في اثني عشر مجلدًا، وكان سيدًا فاضلًا ثقة. محمد بن أحمد (¬3) ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو الحسين، الهاشمي، خطيب جامع المنصور ببغداد، ولد سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، وقرأ القرآن، وسمع الحديث الكثير، وشهد عند القضاة فقبلوا شهادته، وكان يلبس القلانس الطِّوال، وتسمى الدنيات، وتُوفِّي يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى، وصلَّى عليه النقيب أبو الفوارس في جامع المنصور، ودُفِنَ قريبًا من بشر الحافي، وكان صالحًا صدوقًا ثقةً. السنة الخامسة والستون وأربع مئة في المُحرَّم قتلَ مسلم بن قريش أبا جابر بن صقلاب كاتِبَه خنقًا بين يديه وشروين الحاجب، ورمى بهما في بئر، وكان قد اطَّلع لهما على مكاتبات إلى السلطان في حقِّه، وأنه يقبض عليه، ويقيم شروين وشحنة من أصحاب السلطان مقامه؛ وأنه يجمع المال، ويطرد العرب عن العراق. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) تحرَّف في (خ) اسمُ صاحب الترجمة من: عتيق، إلى: ميسور، وفي (ب) والنجوم الزاهرة 5/ 90 إلى: عيسون، والتصويب من تاريخ دمشق 38/ 297 - والترجمة فيه- وتذكرة الحفاظ 3/ 1094، وتاريخ الإسلام 10/ 209. (¬3) تاريخ بغداد 1/ 256، والمنتظم 16/ 141 - 142.

وقيل: إنما كتب إلى السلطان بجهل مسلم وحُمقه، وفساد عقله، وسوء تدبيره، وإيحاشه العشيرة والحواشي وإبعادهم، ولمَّا قبض مسلم على أخيه إبراهيم واعتقله في قلعة سنجار، وأراد التوجُّه إلى باب السلطان، استحضر المستحفظ بإبراهيم ووصَّاه، فترك ابنُ صقلاب يدَه على فَخذِ مسلم، وقال للمستحفظ: إن جاءك رأس هذا الأمير فلا تُفرِجْ عن إبراهيم حتَّى تراني. ولمَّا انقضى المجلس دخل المستحفظ على مسلم وقال: أيها الأمير، قد سمعتَ ما قال فلان، فأيُّ شيءٍ ترسم أنت؟ فقال: هذا رجل أحمق جاهل لا تلتفِتْ إلى قوله، واحفظ إبراهيم إلى أن أعود من خراسان، فإن هلكتُ أو اعتُقِلتُ فالأمير بعدي إبراهيم، وأطلِقْه ولا تنتظِرْ به شيئًا. وفيها كانت تَوبَةُ أبي الوفاء بن عقيل، وكان قد قرأ على ابن الفراء وبرع، وكان فيه ذكاء وحِدَّة وجرأة، فقصد ابن الوليد المعتزلي سرًّا، وقرأ عليه الكلام ومذهب الاعتزال ومذهب الأوائل، واعتلَّ، فأودع كتبه وقال: إن أنا مِتُّ فأحرِقوها بعدي. فوقف المُودع فرأى فيها تعظيمَ المعتزلة والترحُّم على الحلَّاج، وأشياءَ تخالف الدين، وأنه يجوز أن يكون لله ولد على وجه التحنُّن والتعطُّف والشفقة والتربية، وما أشبه ذلك، فحمل الكتب إلى ابن أبي موسى إمام الحنابلة، فطلبوه ليقتلوه، فهرب إلى الحريم الخليفتي، وشرع في استِسْلالِ سخامْ الحنابلة، فاستتبَّ له ذلك واستتيب، وأخذ خطُّه، وأشهد عليه، وأقرَّ في الديوان بما كتبه على نفسه، وانصلحت الحال، ولم يحضر ابنُ أبي موسى الديوان لأجل التكبُّر عليه للأمر الَّذي جرى منه لأجل المواخير، وانصرف ابنُ عقيل من الديوان إلى ابن أبي موسى بدرب الدوابِّ فصالحه، وتقدَّم ابنُ أبي موسى إلى معالي الَّذي أودعه ابنُ عقيل كُتبَه بأن يُسلِّمها إليه، فسلَّمها إليه، فغسلها، وقيل: إنه لم يغسلها، وطهرت بعد موته، وكان الوزير ابنُ جَهير يتعصَّب له، ولولا ذلك لقُتِل، ونسخة ما كتب به خطه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يقول علي بن عقيل بن محمد: إنَّني أبرأُ إلى الله من مذهب المبتدعة للاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه وتعظيم أصحابه، والترحُّم على أسلافهم، والتكثُّر بأخلاقهم، وما كُتِبَ علَّقتُه ووُجد بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم،

فأنا بريءٌ منه، تائبٌ إلى الله تعالى ممَّا كتبتُه، وإنَّه لا يحِلُّ كتابتُه، ولا قراءتُه، ولا اعتقادُه، وإنني علقتُ مسألة الليل في جملة ذلك، وإن قومًا قالوا: هو أجسام سود، وقلت: الصحائح ما سمعته من الشيخ أبي علي -يعني ابن الوليد- وأنه قال: هو عدم، ولا يُسمَّى جسمًا ولا شيئًا أصلًا، واعتقدتُ أنا ذلك، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منه، واعتقدتُ في الحلَّاج أنَّه من أهل الدين والزهد والكرامات، وصنَّفتُ في ذلك جزءًا نصرتُه فيه، وأنا تائبٌ إلى الله منه، وأنه قُتِلَ بإجماع فقهاء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو، ومع ذلك فإنني أستغفر الله تعالى منه وأتوب إليه من مخالطة المبتدعة ومكاثرتهم والتعظيم لهم؛ فإن ذلك كُلَّه حرام، ولا يحِلُّ لمسلم فِعْلُه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عظَّم صاحبَ بدعةٍ فقد أعان على هدمِ الإسلام" (¬1). وقد كان الشريف أبو جعفر ومن معه من الشيوخ والأتباع سادتي وإخواني -حرسهم الله تعالى- مصيبين في الإنكار عليَّ لما شاهدوه في الكتب التي أبرأُ إلى الله منها وهي بخطي، وإنَّني مخطئٌ غيرُ مصيب، ومتى حفظ علي ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك بما يوجبه الشرع من ردعٍ ونكالٍ وإبعادٍ وغيرِ ذلك، وأشهدتُ اللهَ تعالى وملائكته وأولو العلم على ذلك، غير مُجْبَر ولا مُكْرَه، وباطني وظاهري في ذلك سواء، قال الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] وكتب في يوم الأربعاء عاشر المُحرَّم سنة خمس وستين وأربع مئة (¬2). وفيها قُتِلَ السلطان ألب أرسلان، وأُقيم ولدُه ملك شاه مَقامَه، وكانت وفاته في ربيع الأول، واشتغل ولده بما طرأ عليه من الحوادث، فلما كان يوم الخميس ثامن رجب وردت كتبه إلى الخليفة في إقامة الخطبة له، فأُقيمت على المنابر. وفي سلخ رجب خرجت خاتون زوجة الخليفة إلى الري، وشيَّعها عميد الدولة ابن الوزير والخدم إلى النهروان. ¬

_ (¬1) أخرجه الآجُري في الريعة (1969) من حديث عائشة -رضي الله عنها-، والشاشي في مسنده (1326) من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -. (¬2) الخبر في المنتظم 16/ 143 - 144.

وفي شعبان ورد كتاب [نظام الملك إلى الوزير ابن جَهير بوقعةٍ كانت بين] (¬1) السلطان ملك شاه وعمه أبي الحارث قاروت بك بأعمال هَمَذان يوم الأربعاء سادس شعبان، وأُسِرَ قاروت بك وأولادُه سلطان شاه وغيرهُ. ذكر السبب: لمَّا توفي السلطان كان أخوه قاروت بك بكرمان سار إليها من عمان، فحمل على نفسه وخاطر بها، وركب في البحر في الشتاء، وخاف [من أن يسبقه إلى الري] وظَنَّ أنَّ العسكر تستأمن إليه، وعزم على نزوله على التركمان، وكانوا بين الري وهَمَذان، وكان معه عسكر يسير ألفا فارس وأربعة آلاف راجل، وبلغ السلطان ونظام الملك فأخذا من قلعة الري خمس مئة ألف دينار وخمسة آلاف ثوب وسلاحًا، وخرجا من الري، فسبقاه إلى التركمان، وفرَّقا الأموال فيهم، ووصل قاروت بك بعدها بيومين، وقد فاته ما حسبه في التركمان، وكان مع ملك شاه عسكر كبير من التركمان والعرب والأكراد والغلمان، واقتتلوا، فحمل قاروت بك على الميمنة فطحنها، واستأمن أكثرُ أهلها إليه، ثم حمل على المسيرة فكسرها والسلطان والنظام في القلب، فحملا عليه، فاندقَّ هاربًا، وأسر سلطان شاه إسحاق وأخويه وأولاد قاروت بك، فلمَّا كان من الغد جاء سواديٌّ فقال للسلطان: عمُّكَ في القرية الفلانية مع ولدٍ له، فابعث معي من يأخذه. فسار السلطان بنفسه، وقدَّم بين يديه جماعةً من خواضه، فأخذه ساوتكين، وحُمِلَ إلى خيمة وقُيِّد. وقيل: إنهم لمَّا جاؤوا به ركب السلطان ووقف، وجيء به إليه ماشيًا، فأومأ إلى الأرض، وقبَّل يد السلطان، فقال له: يا عم، كيف أنتَ من بَغْيِك؟ ! أما تستحي من هذا الفعل؟ أنت ما قعدت لأخيك في عزاء، ولم تنفذ إلى قبره ثوبًا تطرحه عليه، والغرباء قد حزنوا عليه، وأنت أخوه اطَّرحتَ وصيتَه، وأظهرتَ الشماتةَ [به]، والسرورَ بموته، لكن لقَّاكَ اللهُ سوءَ فعلك. فقال: واللهِ ما أردتُ قصدَك، ولكنَ عسكرك (¬2) كاتبوني ليلًا ونهارًا بالتعجيل، فجئتُ لأمرٍ قضاهُ الله تعالى وأرادهُ فيَّ. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي المواضع الثلاثة الآتية من (ب). (¬2) في (خ): عشيرتك، والمثبت من (ب).

أحمد بن الحسن

وحُمِلَ إلى هَمَذان مُقيَّدًا؛ خوفًا لا يتمُّ في العسكر بسببه أمر، فلمَّا كان يوم الأربعاء ثالث شعبان قُتِلَ، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ثم إن العسكر بسطوا ألسنتهم في نظام الملك، ومدُّوا أيديهم إلى الأعمال، فقال للسلطان: قد فسد الأمر، فإمَّا [أن] تُدبِّره أنت أو أنا. فقال: لا، بل أنت من غير أن أعترض (¬1) عليك. وحلف له، وخلع عليه خِلَع الملك، وأعطاه الخيل بمراكب الذهب، ودَواةً فيها ألف دينار، وعلمًا على رأسه طلعةٌ فيها ألف دينار، ووقع له ببلدة طوس، ولقَّبه أتابك، ومعناه: الأمير الوالد، فشرع في تقرر الأمور، وظهر منه من الشجاعة والشهامة والصبر والمداراة والاحتمال ما لم يظنَّ به، حتَّى إنَّ المرأةَ الضعيفةَ كانت تقف له فيقف لها ويخاطبها، وجاءت امرأةٌ يومًا إلى حاجب له برقعة فلم يرفعها إليه، فقال له: إنما استخدمتُكَ لأجل الشيخ الضعيف، والمرأة الضعيفة اللَّذين لم يصِلا إليَّ، فإذا كنتَ لا توصلُ إليَّ أمرَهما فلا حاجة لي إليك. وكان إذا خرج العسكر نادى مناديه: من أخذ علاقةَ تبنٍ أو بيضةً بغير ثمنها كان دمُه في مقابلها. وفي يوم الجمعة مستهلَّ شعبان قتل أسدُ الدولة يلدِكز ناصرُ الدولة ابنَ حمدان وأخوتَه؛ فخر العرب، وتاج المعالي، ومحمود بن ذبيان أمير بني سِنْبس، والأمير شاور ابن أخي ابن المدبر كاتب ابن حمدان، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفي شعبان خلع السلطان على نظام الملك فَرَجيةً طميم، وعمامة بُنية مُذْهَبة، وأعطاه علمًا، ودَواةً، وعشرين ألف دينار، ومئةَ ثوب ديباج أطلس، وخيمةً كبيرةً، وقلعة من قلاع خراسان مضافًا إلى طوس. وفيها تُوفِّي أحمد بن الحسن ابن عبد الودود بن المهتدي بالله، سمع الحديث، وكان فاضلًا صدوقًا ثقة، تُوفِّي ببغداد يوم الأربعاء رابع عشر شوال (¬2). ¬

_ (¬1) في (خ): أتعرَّض، والمثبت من (ب). (¬2) المنتظم 16/ 147.

الحسن بن الحسين بن حمدان

[وفيها توفِّي الحسن بن الحسين بن حمدان (¬1) أبو محمد، الثعالبي، الأمير، ناصر الدولة، ذو المجدين، قد ذُكِرَ تنقُّلُ الزمانِ به، وآل أمره إلى أن اتفق مع يلدِكز التركي، وزوَّجَه يلدِكْز ابنته، ولقَّبَ ابنُ حمدان نفسَه سلطان الجيوش، واتَّفقا اتفاقًا كليًّا، وتحالفا، وأمِنَ أحدُهما إلى الآخر، ودخل ناصر الدولة إلى مصر، وكانا يتزاوران، فاتَّفق أنَّ ابنَ حمدان خرج يومًا إلى أعمال مصر على طمأنينة مرتبًا للمراكب والعساكر، فركب يلدِكْز يوم الجمعة مُستهلَّ رمضان في خمسين فارسًا، وكان له غلام يقال له: أبو منصور كُمْشتِكين، ويلقب حسام الدولة، وكان يثِقُ به، فقال له: أريد أن أُطلعك على أمر لم أرَ له أهلًا غيرك. قال: وما هو؟ قال: قد علمتَ ما فعل ابنُ حمدان بالمسلمين من سفك الدماء والغلاء والجلاء، وقد عزمتُ على قتله، فهل فيك موافقة ومشاركة وأريح الإسلام منه؟ فقال: نعم، ولكن أخاف أن يفلت فتتبرَّأ مني. قال: لا. وقصدوا ابنَ حمدان قبل أن يلحقه أصحابه، واستأذنوا عليه فأذِنَ لهم، فدخلوا والفرَّاشون ينفضون البسط ليقعد عليها وهو يتمشَّى في صحن الدار، ومشى يلدكز معه، ثم تأخَّر عنه وضربه بيافروت (¬2) كان معه في خاصرته، وضربه كُمُشْتِكين فقطع رجليه، فصاح: فعلتموها. فحزُّوا رأسَه، وكان محمود بن ذبيان أمير بني سِنْبِس في خزانة الشراب، فدخلوا فقتلوه، ثم خرجوا (¬3) إلى دار فيها فخر العرب بن حمدان قد شرب دواءً وعنده الأمير شاور، فقتلوهما وخرجوا إلى خيمة تاج المعالي بن حمدان أخي ناصر الدولة، وكان على عزم المسير إلى الصعيد، فهرب إلى خراب مقارب بخيمته فكمَن فيه، فرآه بعض العبيد فأعطاه معضدة فيها مئة دينار، وقال: اكتم عليَّ، فأخذها وجاء إلى يلدكْز فنَمَّ عليه، فدخل فقتله، وانهزم ابنُ أخي [ابن] (¬4) المدبر في زي المكديين، فأخذ وكان قد تزوَّج إحدى بنات ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 249. (¬2) اليافروت: سكين مغري. النجوم الزاهرة 5/ 21. (¬3) في (ب): عرجوا. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

نزار ولد صاحب مصر، فقطع ذكره وتركه في فمه، ثم قتل وقطَّع ابنَ حمدان قِطَعًا، وأنفذ كلَّ قطعة إلى بلد من بلاد الشام وغيرها، وجاؤوا إلى القصر ومعهم الرؤوس، وراسلوا الخليفة، وقالوا: قد قتلنا عدوَّك وعدوَّنا، من أخرب البلاد، وقتل العباد، وهدم مجدك، ونريد الأموال. فقال: أما المال فما ترك ابنُ حمدان عندي مالًا، وأما ابنُ حمدان فما كان عدوِّي، وإنما كانت الشحناء بينك وبينه يا يلدكز، فملكت الدنيا بينكما، وإني ما اخترتُ ما فعلته من قتله ولا رضيتُه، وستعلم غِبَّ الغدر ونقض العهد. ثم آل الأمر إلى أن باع المستنصر قطع مرجان وعروضًا، وحمل إليهم مالًا، ولم ينتطِحْ في ذلك غزالان (¬1)، وزالت أيامُ ابن حمدان، وانقضَتْ كان لم تكن، وكان جوادًا ممدَّحًا، مدحه أبو الفتيان محمد بن حيُّوس بقصائد منها: [من الكامل] محضُ الإباء وسؤددُ الآباءِ ... جَعَلاكَ منفردًا عن الأكفاءِ ولقد جمعتَ حميةً وتقيةً ... ثَنَتا إليكَ عِنانَ كلِّ ثناءِ الدهرُ في أيام عزِّكَ لا انقضَتْ ... متعوِّذٌ (¬2) من ظلمةٍ بضياءِ حُطْتَ الرعيةَ بالرعايةِ رأفةً ... فاضَتْ على القُرباءِ والبُعداءِ وشَمَلْتَها بالعدلِ إحسانًا بها ... فجزاكَ عنها اللهُ خيرَ جزاءِ وإذا مَرَرْتَ على مكانٍ مُجدبٍ ... نابَتْ يداك لهُ عنِ الأنواءِ كَم أزمَةٍ سوداءَ عزَّتْ إذ عَرَتْ ... جَلَّيتَها بِنَدى يدٍ بيضاءِ وكتيبةٍ شَهباءَ مِن ماذِيِّها ... لاقيتَها بمَنيَّةٍ دَهماءِ تلقى الفوارسُ مِنكَ في رَهجِ الوغى ... زيدَ الفوارِسِ أو أبا الصهباءِ إن الأئمَّةَ باصطفائِكَ أُيِّدوا ... بموائدِ الراياتِ والآراءِ وَجَدوكَ في حفظِ التُّراث وَجمعهِ ... أقوى الحُماةِ وأوثَقَ الأُمَناءِ ما زلتَ إذ علَّوا مَكانَكَ مازِجًا ... صِدقَ الولاءِ لَهُم بِحُسنِ وَفاءِ لو كُنتَ قِدْمًا سيفَهم لم يَسْتَثِرْ ... أبناءُ هندٍ من بني الزَّهراءِ أو كنتَ ناصِرَ حَقِّهم فيما مضى ... ما حازَهُ ظُلمًا بنو الطُّلقاءِ ¬

_ (¬1) في (ب): عنزان. (¬2) في (خ): متعوِّض، والمثبت من (ب).

عبد الصمد بن علي

ولآل حمدانَ الفخارُ بأسرِهِ ... وأجلُّهُ لبني أبي الهيجاءِ الفائضينَ على العُفاةِ نوالهُمْ ... والناهضينَ بناهضِ الأعباءِ وعَلَوتُمُ حتَّى لَقال عدوُّكمْ ... أَمُلوكُ أرضٍ أم نجومُ سماءِ فلتفتخِرْ بكمُ ربيعةُ بل بنو ... عدنانَ طُرًّا بل بنو حوَّاءِ إنَّ المحامدَ في المحافلِ رتبةٌ ... ما حُرِّمَتْ إلَّا على البخلاءِ فتمَلَّ من وشيِ القريضِ مَلابِسًا ... طرَّزتَها بجلالةٍ وعلاءِ لو كان للعربِ القديمةِ مثلُها ... لم تحمدِ المصنوعَ في صنعاءِ إنِّي عقلتُ ركائبي ووسائلي ... في حضرةٍ مسكونةِ الأفناءِ مأهولةِ الأرجاءِ بالنِّعَمِ التي ... ما كُدِّرَت بالمنِّ والإرجاءِ شُفِعَتْ مواهبُها الجِسامُ بعزَّةٍ ... كَفَلَت بإعدائي على أعدائي عبد الصمد بن علي (¬1) ابن محمد [بن الحسن بن] (¬2) الفضل بن المأمون، أبو الغنائم، الهاشمي، وُلِدَ ببغداد في جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وثلاث مئة، وتُوفي في سابع عشر شوال، ودُفن بباب حرب، وكان صالحًا ثقة. عبد الكريم بن هَوازِن (¬3) ابن عبد الملك بن طلحة بن محمد، أبو القاسم، القُشيري، وأمه سُلَمية، ولد سنة ست وسبعين وثلاث مئة في ربيع الأول، ومات أبوه وهو طفل، فنشأ وقرأ الأدب والعربية، وكان يميل على أبناء الدنيا، فدخل على أبي علي الدقاق، فأعجبه حالُه، فصحبه، فجذبه عن ذلك، وتفقَّه على بكر بن محمد الطُّوسي، وأخذ علم الكلام عن ابن فُورك، وصنف "التفسير الكبير" و"الرسالة"، وكان يحبُّ الصوفية وأهل الدين ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 149. (¬2) ما بين حاصرتين من المنتظم، وتاريخ الإسلام 10/ 216 وغيرهما. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 83، ودمية القصر 2/ 993 - 998، وتبيين كذب المفتري ص 271 - 272، والمنتظم 16/ 148 - 149. وينظر السير 18/ 227. قلت: وتحرف اسم جده في (خ) إلى: عبد الصمد.

والطريقة، عظيمًا عند أهل نيسابور، يعِظُ ويتكلَّم بكلام الصوفية، وخرج إلى الحج، وقدم بغداد، وكانت وفاته في رجب -وقيل: في ربيع الآخر- بنيسابور، ودُفن بالمدرسة إلى جانب شيخه أبي علي الدقاق، وصلَّى عليه أكبر أولاده عبد الله، ولم يقرب أحد من أولادِه وأهلِه الزاويةَ التي كان يجلس عليها ويصنِّف ويتعبَّد بعد موته؛ احترامًا وتعظيمًا له، وكان قد أهدى له بعضُ أصحابه فرسًا فركبه عشرين سنة لم يركب غيره، فلمَّا مات أقام الفرسُ أسبوعًا لا يأكل ولا يشرب حتَّى مات، فكان بينه وبين وفاته ستة أيام، ومن شعره: [من البسيط] الدهرُ ساومني عمري فقلتُ لهُ ... لا يعب عمري بالدنيا وما فيها ثم اشتراه تفاريقًا بلا ثمنٍ ... تَبَّتْ يدا صفقةٍ قد خاب شاريها وكان ثقةً، حسنَ الوعظ، مليحَ الإشارة، يعرف الأصولَ على مذهب الأشعري، والفروعَ على مذهب الشافعي - رضي الله عنه -. ولمَّا قدم بغداد عقد مجلس التذكير، فروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "السفر قطعة من العذاب" (¬1) الحديث. فقام إليه سائلٌ فقال: لِمَ سمَّاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قطعةً من العذاب؟ فأجاب بديهًا: لأنه سببٌ لفراق الأحباب. فصاح الناس وماجوا، ولم يقدر على إتمام المجلس، فنزل. وجلس بنيسابور ليلةَ نصف شعبان، فقرأ القارئ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيبِ} [الأنعام: 59] فقال: نعم، وعندنا مفاتح الغيب. ومن شعره: [من البسيط] قالوا تَهنَّ بيومِ العيدِ قلتُ لَهُمْ ... لي كلَّ يومٍ بِلُقيا سيِّدي عيدُ الوقتُ روحٌ وعيدٌ إن شهدْتُهُمُ ... وإن فقدتُهُمُ نَوْحٌ وتعديدُ وقال أيضًا: [من السريع] إنْ نابَكَ الدهرُ بمكروهِهِ ... فقُل بتهوينِ تخاويفِهِ فعَنْ قريبٍ ينجلي غمُّهُ ... وتنقضي كلُّ تصاريفِهِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1804)، ومسلم (1927) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

علي بن الحسين

وكان للقشيريِّ (¬1) من الولد: عبد الله، وعبد الواحد، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم، وعبيد الله، وعبد المنعم، أثنى عليهم ابنُ السمعاني (¬2)، ووصفهم بالعلم والحديث وصحبة المشايخ. علي بن الحسين (¬3) ابن علي بن الفضل، أبو منصور، الكاتب، الشاعر، فمن شعره: [من المتقارب] تُفيضُ نفوسٌ بأوصابِها ... وتكتُمُ عُوَّادَها ما بها [وما أنْصَفَتْ مهجةٌ تشتكي ... هواها إلى غير أحبابِها] (¬4) وكم ناحلٍ بين تلك الخيا ... م تحسِبُه بعضَ أطنابِها وقال: [من الخفيف] النَّجاءَ النَّجاءَ من أرضِ نجدِ ... قبلَ أن يعلقَ الغرامُ بوجدِ كم خليٍّ غدا إليها وأمسى ... وهو يهوى بعلوةٍ وبهندِ وقال: [من البسيط] أُكلِّفُ القلبَ أن يهوى وأُلزِمُهُ ... صبرًا وذلك جمعٌ بين أضدادِ وأكتمُ الرَّكبَ أوطاري وأسألُهُ ... حاجاتِ نفسي لقد أتعبتُ رُوَّادي هل مدلجٌ عندهُ من مُبكرٍ خبرٌ ... وكيفَ يعلمُ حال الرائحِ الغادي فإن رويتُ أحاديثَ الذين مضَوا ... فعن نسيمِ الصَّبا والبرقِ إسنادي وقال أيضًا: [من البسيط] إيهٍ أحاديثُ نعمانٍ وساكِنُهُ ... إنَّ الحديثَ عن الأحبابِ أسمارُ أُفتِّشُ الريحَ عنكمْ كُلَّما نفحَتْ ... من نحو أرضكم نكباءُ معطارُ وقال: [من الكامل] ¬

_ (¬1) تحرفت في النسخ إلى: المعبري. (¬2) الأنساب 10/ 156. (¬3) المنتظم 16/ 149 - 151. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

قاروت بك بن داود

ما مرَّ ذو شجَنٍ يُكتِّمِهُ ... إلَّا أقول متيَّمٌ مثلي وعهودُهُم بالرَّملِ قد نُقضَتْ ... وكذاك ما يُبنى على الرَّملِ مَنْ يطَّلِعْ شرفًا فيُطلعُني ... هل روَّحَ الرُّعيانُ بالإبلِ أم قعقعت عَمَدُ الخيامِ أمِ ارْ ... تَفَعَتْ قِبابُهمُ على البُزْلِ (¬1) أم غرَّد الحادي بقافيةٍ ... منها غرابُ البَينِ يستملي وكانت وفاته في صفر، ركب دابته فتردَّى في بئر فمات هو والدابة، وكان عاقلًا ثقة. قاروت بك بن داود ابن ميكائيل أخو ألب أرسلان. قد ذكرنا أخباره مفرَّقةً، فإن ملك شاه أسره وحمله إلى هَمَذان. قال محمد بن الصابئ: لمَّا حُمِلَ إلى هَمَذان جُعِلَ في خركاه، ودخل عليه الحداد وهو يصلِّي، ففرغ من صلاته، ومدَّ رجليه، فقيَّده، فقال بعض الحاضرين: سبحان الله، لقد ملك هذا الرجل ملكًا عظيمًا؛ كرمان ثم عثمان ثم فارس، وكان يتمنَّى هلاكَ أخيه، ويتصوَّر ملك الدنيا بعدَه، وكان هلاكُه مقرونًا بهلاكه، وكذاك قُتُلْمِش مع عمه طُغْرُلْبَك فإنه كان ينظر في النجوم، ويُحقِّق القطع الَّذي مات عمُّه فيه في الوقت، وتصوَّر أنَّه يملك من بعدِه، فكان هلاكُه مقرونًا بهلاكه، وركب السلطان يوم الأربعاء ثالث شعبان إلى هَمَذان، وتقدَّم إلى سعد الدولة الكوهراني بالإشراف على قتله، وتولَّى خَنْقَه رجلٌ أعورُ أرمنيٌّ من أصاغر الحواشي بوتر القوس، بعد أن بذل التوبة من النظر في ملك، وتسليم أموالِه وبلادِه وقلاعِه، والرضا بالمقام في مسجد، والاعتقال والإبقاء على نفسه، ثم جمع ملك شاه أولاده وصهره ابن إبراهيم ينَّال، ثم كحلوا بين يدي ملك شاه، وقدم ولدُه سلطان شاه إسحاق أولًا وهو أكبرهم وأنجبُهم، وهو حين بَقَل وجهُه (¬2)، فأخذ أخوتَه الصغار واحدًا واحدًا، وجعل يضمُّه إليه ويُقبِّله ويقول: هذا قضاءُ الله تعالى، فلا تجزعوا، فإنَّ الموتَ يأتي على جميع الناس. وكحل ¬

_ (¬1) البُزْل: الجمال والنُّوق. المعجم الوسيط (بزل). (¬2) بقَلَ وجهُه: نبتت لحيتُه. اللسان (بقل).

وكحلوا، وملك شاه حاضر، ومات منهم اثنان، وبقي سلطان شاه [وابن كازشاه] (¬1) ثم تتبع الباقين فكحلهم. وقد ذُكِرَ في مقتله وجهٌ آخر: قيل: لمَّا عرف ملك شاه مكان عمه قاروت بك سار يطلبه، وبعث في طلبه مَنْ يحضره، فلمَّا لاح القوم نزل ملك شاه على تلٍّ واستدعى مَأكولًا، وأحضر مسلمَ بن قريش وابنَ مَزْيَد وابن وَرَّام وأكلوا، وركب ملك شاه، وجاؤوا بعمِّه فأُنزِلَ عن الفرس، وأُخذت قَلنسوة من رأسه، وقيل له: قَبِّلِ الأرض، فلم يفعل، وتقدَّم السلطانُ إليه وعانقه من ظهر الفرس، وقال له: يا عمّ، قد سِرْتَ من مكان بعيد، فاركَبْ وسِرْ معنا. وسار ملك شاه وسلَّمه إلى ساوتكين، وجاء به فأنزله في خيمته، وبعث قاروت بك إلى ملك شاه يقول: لا تقلع هذا البيت بقتلي، وتسمع من الكتاب في أمري. يعني نظام الملك، وافعل معي ما يليق بالأتراك، وأنا أُعطيك مثل ما خرج عن يدك منذ مات أبوك، وأنا أمضي إلى الشام أو الحجاز وأسلم إليك جميعَ بلادي. فلم يلتفِتْ، وحُمِلَ في الليل إلى هَمَذان يوم الخميس المذكور على حمل تبن، واعتُقِلَ في دار أبي هاشم الجعفري، وبعد أيام جاء ملك شاه إلى الدار فجلس وبعث إليه أحد القفجاقية -ويعرف ببغرسلان- فلمَّا رآه عرف ما جاء به، فسأله التوقُّف، ثم قام فصلَّى أربع ركعات، وتقدَّم إليه ليطرح وتر القوس في حلقه ويخنقه، فدافعه ساعةً، ثم قوي عليه فخنقه، وحُمِلَ في الليل فدُفن عند إبراهيم ينَال، وكحل أولاده -وكانوا خمسة- وكلُّ ذلك بتدبير نظام الملك وإشارته، ولمَّا علمتِ العساكرُ بذلك شغبوا ولعنوا نظام الملك في وجهه، ولعنوا ملك شاه، وانعزلوا عنه ناحيةً وقالوا: ما هكذا أوصى ألب أرسلان، وكان قد أوصى لقاروت بك بكرمان وفارس، وعيَّن له مالًا، وأن يُزوَّج بخاتون الشقيرية، وكان أكثر العساكر مائلًا إلى قاروت بك، ومدُّوا أيديهم إلى البلاد، ونزعوا الطاعة، وخاف ملك شاه فانعزل عنهم، فقال له نظام الملك: إمَّا أن تدبِّر الأحوال أنت أو أنا؟ فقال: بل أنت. فاستمالهم بالمال والإقطاع، فسكنوا وفي القلوب ما فيها. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

محمد بن أحمد

محمد بن أحمد (¬1) ابن محمد بن عمر بن الحسن بن عبيد بن عمرو بن خالد بن الرُّفَيل، أبو جعفر، ابن المُسْلِمة، القرشي، ولد سنة خمس وسبعين وثلاث مئة، وسمع الكثير، وكانت وفاته ليلة السبت سابع جمادى الأولى، وصُلِّي عليه بجامع الرُّصافة، ودفن بمقابر الخيزران، وكان يومًا مشهودًا. وقال محمد بن طاهر: جاءه بعض طلبة الحديث وهو محموم ومعه جزء ليقرأه عليه، قال: اذهب، فإذا عُوفيتَ فتعال واقرأ. فقال: أيها الشيخ إذًا أموتُ ولا أسمعه عليك. فقال له الشيح: بل يُخشى أن يتطاول بك المرض، فإذا بَرِئتَ كُنْتُ أنا قد متُّ. فكان كما قال، وأسمعه الجزء. وكان صحيحَ السماع، واسعَ الرواية، نبيلًا ثقةً صالحًا. محمد بن أحمد (¬2) ابن محمد، أبو البركات، البغدادي، ويُعرف بابن قَفَرْجَل، البزاز، كان كثيرَ الصدقات والعطايا، واسمعَ المال، خلَّف عشرين ألف دينار، وكانت وفاته يوم الجمعة ثالث جمادى الآخرة، ودُفن قريبًا من معروف الكَرْخي رحمة الله عليه، وكان ثقة. محمد بن داود ابن ميكائيل بن سلجوق، ألب أرسلان لقبٌ له. قد ذكرنا سيرته، ونذكر الآن سبب قتله؛ قال أرباب السير: في ربيع الأول أرجف بقتل السلطان، فنودي في حريم دار الخلافة بالتوعُّد لمن يُرجف بذلك، ثم قويت الأخبار بصحته، وكان شمس الملك تِكين بن طغان صاحب سمرقند وبخارى وما وراء النهر قد تزوَّج أخت السلطان، ثم قيل: إنه قتلها؛ لأنها أطمعَتْ أخاها في البلاد، ثم إن السلطان تزوَّج أخت شمس ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 1/ 386، والمنتظم 16/ 151 - 152. (¬2) تاريخ دمشق 51/ 146 - 147.

الملك، وكان إلياس وملك شاه قد عبرا إلى تِكين ليقاتلوه، فنُصر عليهم ونهبهم، وكان في جملة النهب طَستٌ من ذهب مُرصَّع، ولما عاد إلياس وملك شاه وقطعا جيحون إلى ناحية خراسان وقال تِكين لأخت السلطان: أنتِ أطمعتيهم في العبور، فيقال: إنه رفسها فماتت، وبلغ ألب أرسلان فقصده وبعث وحلف أنَّه ما فعل، ثم زوَّجه تِكين أختَه، ولمَّا عاد من كسرة ملك الروم دخل بها ومال إليها ووجد ذلك الطَّست الذهب نهب من ملك شاه في الجهاز، فقال في نفسه: ما أنفذ هذا الطَّست إلا تقريعًا لي، وإذكارًا بكسرة ولدي، ثم عزم على العبور إليه، فجمع العساكر العظيمة، ويقال: إنه عبر في مئتي ألف فارس وراجل، وعمل جسرًا عظيمًا في الزوارق، وعبر في أربعة وعشرين يومًا، وذلك في صفر، واستباح عسكرُه الحريم، ونَهبت مُقدَّمته سواد بخارى، ومرَّت مُقدَّمتُه بقلعة يقال لها: نيرون، وبها رجلٌ خُوارَزمي -اسمه يوسف- فحاصروه، ثم استنزلوه، وحُمِلَ بين غلامين تركيين، كلُّ واحد منهما قد أخذ بيده إلى بين يدي السلطان، فلمَّا رآه شتمه ووافقه على أفعال قبيحة كانت منه، وتقدم إلى باب يضرب له أربعةُ أوتاد وتُشدُّ أطرافُه إليها قِتلةً يعرفونها، فقال له يوسف: مُخنَّثٌ مثلي يُقتل هذه القِتْلة. فاحتدَّ السلطان، وأخذ القوس والنُّشَّاب، وقال للغلامين: خَلِّيا عنه. فخلَّياه، ورماه بسهم فأخطأه، ولم يُخطئ له سهم قبلَه، وعدا يوسف عليه فضربه بسكين كانت معه في خاصرته، ووقع سعد الدولة الكوهراني على وجهه، وبرك يوسف عليه فضربه بسكين كانت معه. وقيل: إنه كان واقفًا، فجرحه يوسف جراحاتٍ ما أثَّرت فيه، ونهض السلطان إلى خيمة أخرى، ولَحِقَ يوسفَ فرَّاشٌ أرمنيٌّ، فضرب رأسَه بالمَرْزُبة فقتله، وقُطِّعَ قِطَعًا، وتقدم بإحضار قلبه ومرارته، فأُحضِرا، فكانا عظيمين، وشُدَّت الجراحة، وعاد إلى جيحون، فتُوفِّي يوم السبت عاشر ربيع الأول بعد أن أوصى في العسكر بملك شاه وبنظام الملك وطاعته، وأن يعطي إلياس ولدَه ما كان لداود والده وخمس مئة ألف دينار، وللأمير قاروت بك أعمال فارس وشيراز ومالًا عيَّنه، وأن يزوَّج بخاتون الشقيرية زوجته، وتكون القلعة وما فيها والأعمال الجبلية والفراتية وما كان بيد طُغْرُلْبَك عمه لملك شاه، فمن رضي أقرَّ على ذلك، وإلا قوتل.

وقال ابن القلانسي: في هذه السنة وردت الأخبار باستشهاد السلطان ألب أرسلان بنهر جيحون بيد من اغتاله من الباطنية المتزيين بزي الزهَّاد والمتصوفة، وليس كما ذكر ابن القلانسي، والمشهور ما ذكرنا، وكُتمت وفاتُه حتَّى عبروا جيحون في ثلاثة أيام، ثم جلس ملك شاه على السرير، وخلع عليه الخِلَع التي بعث بها إليه الخليفة مع عميد الدولة ابن جَهير إلى أصفهان، فقال له نظام الملك: أيها السلطان، تكلَّم -وعلى رأسه الأمراء- فقال: الأكبرُ منكم أبي، والأوسطُ أخي، والأصغرُ ولدي. ووعدهم الجميل، فدَعَوا له وأطاعوه، وأنفق فيهم سبع مئة ألف دينار برأي نظام الملك، وساروا إلى مرو، ودفن السلطان بها إلى جانب والده، وأقام ابنه إلياس ببَلْخ ولم يجتمع بهم. وقال نظام الملك: لمَّا قطعنا النهر رأى السلطان في المنام كأنَّ إنسانًا جرحه في خاصرته وضربه بسكين، فأصبح يتألَّم من المكان، فكانت الجراحة فيه من الغد. وقال سعد الدولة الكوهراني: لمَّا أيِس السلطانُ من نفسه قال: ما من وجهٍ قصدْتُه أو عدوٍّ أردْتُه إلا كُنْتُ مستعينًا عليه بالله، قويَّ النفس بنصره وعونه، إلا هذا الوجه، فإني شُغِلتُ بجمع العساكر، وشاهدتُ منها ما قَويَتْ به نفسي، ووقع تعويلي عليه، ولا أتصوَّر أنَّ أحدًا يقف بين يديَّ، ولقد ركبتُ أولَ أمس، ووقعتُ على تل، فأحسستُ بالأرض ترتجُّ من تحتي لعِظَم العسكر، وقلت في نفسي: ما في الدنيا سلطانٌ مثلي، ولا اجتمع لأحد ما اجتمع لي، وتخيَّلتُ أني آخذ ابنَ طبغاج وبلادَه وجميعَ ما وراء النهر، ولم يخطر لي ربي ببال، فلحقني ما لحقني من الجواب. وقال ابن الصابئ: وكان لمَّا عبر النهر وبَلَغَ أهلَ بخارى عبورُه، وتقدَّمت سراياه، فاجتاحت الأعمال، ونهبت الأموال، واستباحت الحريم، وهربوا إلى سمرقند، واجتمع الصالحون والزُّهَّاد والعلماء والوُعَّاظ في الجامع وخلق كثير، وصاموا وصلُّوا أيامًا، وفيهم من لم يفطر ليلًا، وأخذوا في الابتهال إلى الله تعالى، والشكوى من السلطان والدعاء عليه، والتعجيل لدفعه عنهم، فكان من أمره ما كان، فكان ملكه ثمان

محمد بن علي

عشرة سنة، منها بعد موت عمَّه طُغْرُلبَك إحدى عشرة سنة، ولم يقدم بغداد، وجلس الوزير فخر الدولة ابن جَهير للعزاء في صحن السلام يوم الأحد ثامن جمادى الأولى، وخرج في يوم الثلاثاء الثالث توقيعُ الخليفة يتضمَّن الجزع على ألب أرسلان، ويشكره على خدمتِه وسعيِه في مصالح المسلمين، وجهادِه في سبيل الله، وكسرِه الروم، وأمنِه الطرقات، وضبطِه العساكر، وعدَّد أفعاله الجميلة، وغُلِّقت أسواق بغداد، وأقامت خاتون العزاء في دار الخليفة، وجزَّت شعورَ جواريها وأرادت حينئذ جزَّ شعورِها، فمنعها الخليفة، وجلست على التراب، ثم أقامها الخليفة من العزاء بعد سبعة أيام. محمد بن علي (¬1) ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو الحسين، الهاشمي، ويعرف بابن الغَريق، ولد يوم الثلاثاء غرة ذي القعدة سنة سبعين وثلاث مئة، وسمع الحديث، وقرأ القرآن، وكان حسنَ الصوت به، وخطب الناس، وله من العمر ست عشرة سنة، وولي القضاء سنة تسع وأربع مئة، وأقام يخطب بجامعي المنصور والمهتدي ستًّا وسبعين سنة، وشهد ستين سنة وقضى ستًّا وخمسين سنة، وتُوفي يوم الأربعاء سلخ ذي القعدة، ودُفِنَ يوم الخميس غرَّة ذي الحجة عند جامع المنصور ناحية القبة الخضراء، وقد جاوز التسعين، وشهده خلق عظيم. وقال أبو بكر ابن الحاضنة: رأيتُ في المنام كأنَّ القيامة قد قامت، وقد أُدخلتُ الجنَّة، وإذا ببغلة مُسرجةٍ ملجمةٍ في يد غلام، فقلت: لمن هذه؟ قال: للشريف أبي الحسين بن الغريق. فلمَّا أصبحنا، وإذا به قد مات في تلك الليلة. ورؤي الشريف في المنام فقيل له: ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال: غفر لي بطول تهجُّدي. وكان ثقةً، صالحًا، صائمًا، قائمًا، عابدًا، مجتهدًا، خاشعًا، كثيرَ البكاء عند الذِّكر، رقيقَ القلب، عزيزَ العقل والفضل، زاهدًا، وكان يُسمى زاهد بني هاشم، ورحل الناس إليه لعلوِّ إسناده، فكانوا يقصدونه من البلاد، وكان قد أصابه صممٌ في آخر عمره، فكان هو يقرأ على الناس، وذهبت إحدى عينيه رحمه الله. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 108 - 109، والمنتظم 16/ 152 - 153. وينظر السير 18/ 241.

السنة السادسة والستون وأربع مئة

السنة السادسة والستون وأربع مئة فيها في المُحرَّم ورد الخبر إلى بغداد بأن عساكر غَزنة خرجوا وتعرَّضوا لبلاد ملك شاه، وخرج إليهم إلياس بن ألب أرسلان أخو ملك شاه، فقاتلهم، واستأمن إليه سبعُ مئةٍ منهم، وانهزموا إلى غَزنة، وأوغل خلفهم، وكان سلطان غَزنة إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سُبُكْتِكين، وعاد إلياس من الوقعة إلى بَلْخ، فمات بعدها بثلاثة أيام، وكفي ملكَ شاه أمرَ الغزنوية، وأمرَ أخيه إلياس، وسُرَّ بوفاته؛ لأنه كان منحرفًا على ملك شاه، وفي نيته الخلاف عليه، فقال له نظام الملك: لا تظهر الشماتة به، واقعُدْ في العزاء. ففعل، وأظهر الحزن عليه. وفي ثاني صفر جلس الخليفةُ، وولدُ ولدِه عدةُ الدين قائمٌ على رأسه وله ثماني عشرة سنة، وأوصل إليه سعدَ الدولة الكوهراني والجماعةَ الحاضرين وأعطاه عهد ملك شاه بالسلطنة، وندب عميدُ الدولة ابنَ جَهير إلى الخروج بالخِلَع إلى ملك شاه إلى الري، وندب معه مسعودًا الخادم، وسار يوم الثلاثاء سابع عشر صفر، وتقدَّم سعد الدولة الكوهراني. وفيها سار بدر الجمالي أمير الجيوش من عكا إلى مصر ومعه عبد الله ابن صاحب مصر باستدعاء المستنصر بعد قتل ابن حمدان، وتغلُّب يلدكز التركي، ووصل إلى دمياط وبها ابن المُدبِّر، وكان قد هرب منه فقتله وصلبه، ودخل إلى مصر بعد أن اتَّفق مع يلدكز، وتحالفا وتعاهدا، ثم قبض على يلدكز وأهانه وعذَّبه، وطالبه بالمال فلم يظفر بسوى اثني عشر ألف دينار، وكان له من الأموال والجواهر شيءٌ عظيم، إلَّا أنَّه لم يقرَبْه، فقتله أمير الجيوش، وهرب يلدكز إلى الشام، وانتزع أمير الجيوش الشرقية من أيدي لواتة، وقتل منهم مقتلةً عظيمةً، وأسر أمراءهم، وأخذ منهم أموالًا جمةً، وعمر الريف، فرخصت الأسعار، ورجعت إلى عاداتها القديمة، وأخذ الإسكندرية وسلَّمها إلى القاضي ابن المحترق، وأصلح سودان الصعيد واستدعاهم (¬1) إليه، وجاءه منهم الكثير، وصلحت الحال لهلاك الأضداد، ورُفعت الفتن، وانفرد أمير الجيوش بالأمر. ¬

_ (¬1) في (ب): واستدناهم.

وفيها تغيرت نية نظام الملك على الخليفة فأقطع بعض ضياعه للغُزِّ، وكان الأعداء قد سعوا بينه وبين الوزير ابن جَهير، فلمَّا اجتمع ولدُه عميدُ الدولة بنظام الملك اعتذر إليه مما نقل عن أبيه، وحلف له فصدَّقه، وصلح الحال، وأعطى الخليفة للغُزِّ مالًا أرضاهم به، ولم يتعرَّضوا لضياعه، وتوفِّيت خاتون الشقيرية بأصفهان، وكانت زوجة ألب أرسلان، وخلَّفَت أموالًا لا تُحصى. وفيها في صفر هرب سلطان شاه إسحاق بن قاروت بك وأخذ أَخَويهِ المسمولين من هَمَذان، ومَضَيا إلى كرمان وقد سَلِمَ عليهما قطعةٌ صالحةٌ من نَظَرَيهِما، وكان السلطان قد سار إلى خراسان بعد موت أخيه إلياس ليرتب أمورها، وكانت قد خلصت له، وكان سلطان شاه قد التمس جاريةً تتولَّى خدمته، وأخرى لأخيه الَّذي تنضَّر معه، واستأذن السلطانَ في ذلك، فأذن له، وسُلِّمت الجاريتان إليهما، فتركاهما في الحجرة التي كانا فيها، وقصدا أن يخلو المكان ولا يدخل عليهما أحد من الموكلين إلا بإذن؛ احتشامًا للجاريتين، وأخذا في التدبير مع بعض الموكَلين للهرب، فأجابوا، وبعث إلى كرمان يستدعي خيلًا وثيابًا، وجاءته الخيل، وكمن في خراب البلد، وجاء إليه الموكَلون به، وأعلموه بوصول الخيل في مكان عيَّنوه، فكتَّف الجاريتين، وجعلهما في بيت مظلم، وأغلق عليهما الباب، وفتح الموكلون سقفًا من البيت، واستاقوه وأخاه ونزلا وركبا الخيل، ولم يظهر خبرهما حتَّى تعالى النهار، ولم يتبَعْهما أحدٌ، ومضيا إلى كرمان، فحصلا في قلعة لأبيهما، وسُرَّ الناسُ بهما. وفيها وردت كتب أتْسِز التركماني [مقدَّم الناوكية بفتوح البيت المقدس سنة خمس وستين وإقامة الخطبة العباسية، وأن أتْسِز أحسن إليهم وببلد المصرية ولم يقاتلهم وقال: حرم الله، لا أقاتله، وإنما أريد إقامة الدعوة الإمامية العباسية والسلطانية. فأجابوه، وكانت الغرارة عندهم قد بلغت سبعين دينارًا، وكان به نائب المصري وكان تركيًّا، فراسل أتْسِز التركماني] (¬1) وقال: أنا منكم، وما أقمتُ على الامتناع إلا وفاءً لمن كُنْتُ خادمًا له وعبدًا، وقد فعلمتُ ما يجب عليَّ، فإن أمَّنتني على نفسي ومالي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

سلَّمتُ إليكَ البلد، ونزلتُ إليكَ، وأقمتُ معك. فأمَّنه، وحلف له، وأقطعه ضياعًا اقترحها، وفتح الباب ودخل، ونودي في البلد بالأمان، وكانت فيه أموالٌ عظيمةٌ فلم يتعرَّض لها، وأقام من يحفظ الناس، فجاءهم ما لم يكونوا يظنُّونه، وأقام الدعوة للقائم والسلطان، وفتح الحصون المتعلقة به. وفي جمادى الأولى ورد الخبر بحصول سلطان شاه بن قاروت بك وأخيه بكرمان بردشير حصن أبيه وأقام مقام أبيه، واجتمعت الكلمة عليه، وشغَب الجند على نظام الملك، وطالبوه بالأموال، حتَّى فرغت الخزائن. وفي جمادى الأولى قَدِمَ الحاجب أتكين السليماني إلى بغداد، وقد طاب قلبُ الخليفة عليه، فأمره بالخروج إلى الفورح ليصلحه. ذكر زيادة الماء في دجلة: في جمادى الأولى زادت دجلةُ زيادة عظيمة لم يُعهَد مثلُها، وأمر الخليفة العوام بالخروج مع الحاجب أيتكين إلى عمل الفورح، فخرجوا وإذا بالماء قد أقبل مثل الجبال، فرجع أيتكين والناس، وجمع الزواريق، وجعل رحله فيها ورحل أصحابه، وأراد العبور إلى الجانب الغربي ليهرب، فجاءت في الليل ريحٌ شديدةٌ وسيلٌ عظيم، وطفح الماء في البرية على الحريم، وأخرب أسوار المحال، ونبع الماء من أسفل، وجاء من فوق، وقلع الطوابيق من دار الخليفة ودور الناس، ونبعت الآبار والبلاليع، ووقع بعض الدور على بعض، فصارت تلالًا عالية، وآثارًا عافية، وصبَّح الماء دار الخليفة ففعل بها مثل ذلك، وأهلك من الأموال تحت الهدم والسكان الكثير، وهرب الناس إلى [الجانب الغربي و] التلال العالية، وافتضح الناس (¬1). وكانت قبائل العرب نازلة بين الزَّابَين فغشيهم الماء من الزاب الأعلى، فاجتمعت الجمال، وعجَّت واشتبكت حتَّى صارت كالجبل، وتلقَّت الماء بصدورها، وصَعِدَ عليها مَنْ لَحِق من الرجال والنساء، وهربت العرب على خيولها في البرية يطلبون ¬

_ (¬1) في (ب) و (م): النساء.

الروابي [والتلول]، وأخذ الماءُ الحِلَل ومَنْ فيها، وبقيت الجمال ومَنْ عليها يومًا وليلةً على حالها، فسَلِمَ البعضُ، وأخذ الماءُ البعضَ [، وهلكت الأموال والنفوس وحِللُ بني شيبان والأكراد وغيرهم، وجاء الماء من نواحي أمثال الجبال]، واجتمع ماء الزَّابَين وتامِرَّا، وانكسر الفورح، وعلا على دار الخليفة، وصار كالبحر، ثم جاء من ناحية الجانب الغربي من الفرات [والتقى الماءان، ووصل الخبر أنَّ الماء ورد] (¬1) من البرية إلى سنجار فهدم سورها (¬2)، وكان من حجارة، وأخذ باب البلد، فَدَحَى به نحوًا من أربعة فراسخ، ووصل في البرية إلى تكريت، و [إنَّهم] مُطِروا في سنجار والموصل ثمانين يومًا لم يروا فيها شمسًا، [وغرقت ضياعُ بغداد]، وزاد الماء حتَّى بلغ ثلاثًا وعشرين ذراعًا. وقيل: [إنه بلغ] ثلاثين [ذراعًا]، وجاء على وجه (¬3) الماء من الأبواب والأخشاب والحشرات (¬4) شيءٌ كثير، وجاء أتلٌّ، من التراب على وجه الماء [وعليه سبعٌ ونُمورٌ واقفين]، وغرق الجانب الغربي [وقبر أحمد]، وخرج الموتى من القبور في التوابيت على رأس الماء من عند قبر الإمام أحمد رحمة الله عليه والمشهد وباب أبرز، ووقعت الخانات والمنازل، وخرج النساء حاسرات، وجاء المطر من فوق، والنبع من أسفل، [فكان كما قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11 - 12]. وأصبحت دار الحْليفة وبغداد تلالًا، وخرج الماء من تحت سرير الخليفة، فنهض إلى الباب فلم يجد طريقًا، فحملته الخُدَّام على ظهورهم إلى روشن التاج ومعه عُدَّةُ [الدين] (¬5)، وخرج جواريُّ الخليفة مُبرِّزات [مهتَّكات، وعَبَرْنَ إلى الجانب الغربي، والخدم أيضًا]، ولم يبقَ عند الخليفة إلا نفرٌ يسير. ¬

_ (¬1) في (خ) بدل من هذه الزيادة: وورد الماء. (¬2) العبارة في (م): فصدم سورها فهدمه. (¬3) في (خ): رأس، والمثبت من (ب). (¬4) بعدها في (م): والحيَّات. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

وأقيمت السفن تحت التاج، وحُطَّ فيها ما خفَّ حَمْلُه، والباقي تلف، ولبس الخليفةُ البردة، وأخذ بيده القضيب، ووقف بين يدي الله تعالى يبكي ويصلِّي ويتضرَّع، ولم يأكل طعامًا أيامًا ولياليًا، وأما الوزير فخر الدولة فدخل عليه الماء إلى داره بباب عمورية، فركب فرسًا، وخاض الماء إلى أن وصل إلى حجرة الخليفة واستأذن فيما يفعل، فقيل له: اطلب النجاة لنفسك قبل أن لا تقدر عليها. فمضى إلى الطيار على باب الغرفة فنزل فيه، وجاء إنسان [إلى الوزير] ومعه ولد ولد الوزير (¬1)، فقال [له]: يا مولانا، معي ولد ولدك. فقال: أيش أعمل به، احتفِظْ به إن أمكنك حِفْظُه. [وبعث بأهله إلى الجانب الغربي]. وقال الوزير: كنت صائمًا يوم الاثنين، وجاء وقتُ الإفطار وأنا وحدي، وقد هرب الغلمان والحاشية والأهل، فبِتُّ وما أفطرتُ، وأصبحتُ يوم الثلاثاء فرميتُ نفسي في الطيار، فلما كان [آخر النهار] وقت المغرب أحضر لي بعضُ الملَّاحين ثلاثةَ أرغفة يابسة وسُكُرُّجَة (¬2) فيها خَلٌّ، فأكلتُ منها، واستلقيتُ على بارية في الطيار لم تسعني، وقعد مَنْ بقي من الناس في السفن. ووقعت جميع الدور والمنازل التي من جانب بغداد الشرقي، وانهدمت مئة ألف دار وأكثر، وبقيت بغداد مَلَقَةً (¬3) واحدة، وانهدم سورُها، [فكان الإنسان يقف في الصحراء فيرى التاج]، وأقبل إنسان يخوض في الماء وعلى كتفه ولدان له صغيران، [فما زال يخوض بهما]، فلمَّا أعى رمى بهما ونجا بنفسه. [وقال ابن الصابئ]: وخصَّ [هذا] الغرق أماكن الفساد (¬4) والخمور والقمار والخواطي [مثل درب القيّار ونحوه] وتشقَّقت الأرض [فصارت مثل الخنادق]، ونبع منها الماء الأسود، وكان ماءَ سخطٍ وعقوبة، ونُهبت خزائنُ الخليفة وما كان في الخانات، ولم يؤاخذ أحد، وأقيمت ¬

_ (¬1) العبارة في (م): ومعه ولده وولد ولده. (¬2) السُّكُرُّجة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم. المعجم الوسيط (سكرج). (¬3) المَلَقة: الصفاة الملساء. المعجم الوسيط (ملق). (¬4) في (م): الفُسَّاق.

الجمعة دفعتين في الطيَّار، ودخل الماء من شبابيك المارستان العضدي فهدمه، ووقعت الجوامع والمساجد، وكان الماء في الجامع قامة، ولمَّا نقص الماء ضرب الوزير والناسُ الخِيم، وعمل الخدم أكواخًا من القصب وأقاموا فيها، وبلغت أجرة الرُّوزجاري في اليوم خمسة قراريط، وأُخرج الناسُ من تحت الهدم، وعلا الناس ببغداد الذل والصغار، وكانوا يمشون على التّلال كالنمل، ثم فسد الهواء، ونتن البلد، وعفنت الغلال، فمات مَنْ بقي إلا القليل، [وصارت بغداد عبرةً للمعتبرين، وفكرةً للمتفكِّرين]، واستكثر الناس من زرع البطيخ والخيار والقِثَّاء، ففسد جميعُه ودوَّد، فكان الناس إذا مرَّ على القراح سدَّ أنفه، [وحصر الناس ما غرموه، فعُلم أنه ماء سخط وعذاب كالطوفان] والعجبُ أنَّ المواضع التي أسفل [من] بغداد [مثل واسط والبصرة] كانت تغرق بدون هذه الزيادة، فما وصل إليها الغرق ولم يتجاوز بغداد، فاستدلُّوا على أنه ماء سخط، وفاض جيحون حتى طفح على وجه الأرض أربعة فراسخ -وقيل: عشرة- وتعذَّر الصُّنَّاعُ ببغداد، حتى إن النساء كُنَّ يضرِبْنَ اللَّبِن، وهبَّتْ عقب ذلك ريخ سوداءُ فرمت النخل، وكان الماء قد غطى رؤوس النخل. وفي رجب ورد مؤيد الملك أبو بكر بن نظام الملك إلى بغداد، فلم يخرج أحدٌ لتلقِّيه من كثرة الطين، فشقَّ عليه ذلك، وظن أنه تهاون به، فنزل بباب المراتب، وكان قد تزوَّج بابنة أبي القاسم بن رضوان البَيع، وأغلق بابَه ولم يُعطِ أحدًا طريقًا، وبلغ الخليفةَ، فاستُدعي إلى بيت النُّوبة وخُلِعَ عليه، وقيل له: قد علمتَ العذر في ترك تلقّيك من كثرة الطين والخراب ولم تعرفنا، واعتذر إليه الوزير، وأصبح الوزير فقصده إلى النظامية وعاد. وفي شوال ورد رسول نظام الدين بن مروان من ميَّافارقين ومعه رسول ملك الروم، ومعه كتابان إلى الخليفة والوزير مكتوبان بالذهب بالسرياني، وتحت كل سطر تفسيره بالعربي يتضمَّن المسأَلة لهما في الوساطة بينه وبين ملك شاه في الهدنة. وفيها بنى حسان بن مسمار الكلبي قلعة صرخد، وكتب على بابها: وأمر بعمارة هذا الحصن المبارك الأميرُ الأجلُّ مُقدَّم أمر العرب عز الدين فخر الدولة عُدَّةُ أمير المؤمنين، يعني المستنصر؛ لأنه كان في خدمته، وذكر اسمه ونسبه.

قال محمد بن [هلال] الصابئ: ورد إلى مكة إنسان أعجميّ يعرف بسلا (¬1) من جهة السلطان جلال الدولة ملك شاه، ودخلها وهو على بغلة بمركب ذهب، وعلى رأسه عمامةٌ سوداء، وبين يديه الطبول والبوقات، ومعه للبيت كسوة ديباج أصفر، عليها اسم محمود بن سُبُكْتِكين وهي من استعماله، وكانت مودعةً في نيسابور مثل ذلك العهد عند إنسان يُعرف بأبي القاسم الدهقان البيع (¬2)، فأخذها الوزير نظام الملك، وأنفذها (¬3) مع المذكور، وكان قد ورد قبله إنسان من فارس يُعرف بأبي النضير الإسْتراباذي، وصادف في المسجد الحرام مواضع قد تهدَّمت، فأطلق ثلاثين ألف دينار أنفق بعضها [فيها]، وأخذَ الباقي ابنُ أبي هاشم، وأجرى الماء من عرفات إلى مكة في قني كانت عملتها زُبيدة غابت وخربت، ووجد البيت عُريانًا منذ سنين، فكساه ثيابًا بِيضًا من عمل الهند كانت معه لذلك، وفضض الميزاب وقال: لو علمتُ أني إذا عملتُه ذهبًا يسلم لَعَمِلتُه. وتصدَّق في الحرمين بمال جزيل، وأعطى فقراء مكة والمدينة جرايةً لمدة سنة. وقيل: كان ذلك من سلطان شاه بن قاروت بك المفلت من همَذان نذرًا لله أن يفعل ذلك في مقابلة سلامة نظره بعد الكحل (¬4) وإفلاته من الحبس وسلامة أَخَوَيهِ من الكحل، وجعلت الكسوة التي جاءت من خراسان فوقها، وحمل السلارُ إلى ابن أبي هاشم المال المقرَّرَ له ولأصحابه على السلطان [فملأ قلبه وعينه]، وفرَّق في العبيد مالًا، وأخذ من الحاجّ الذين تبعوه دنانير دفعها إلى ابن أبي هاشم والعبيد تطيبةً لقلوبهم (¬5)؛ لأن السلار أكرمهم وحملهم وأُلزِمَ كلفتَهم [ومؤنتهم]. وورد رسولان من مصر فقبَّحا على ابن أبي هاشم خطبته للخليفة والسلطان، فصادفاه وقد ملأ السلار عينَه وقلبَه مما حمل إليه [من خراسان]، فلم يلتفت إليهما [وأقصاهما]. ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) و (م) زيادة كلمة غير واضحة، والظاهرة أنها مقحمة. فالخبر في النجوم الزاهرة 5/ 95 من دون تلك الكلمة. (¬2) في (م): المنبع، وهي ليست في النجوم الزاهرة. (¬3) في (م): وأهداها. (¬4) في (ب): الكفر. (¬5) العبارة في (م): بطيبةٍ من نفوسهم.

إبراهيم بن محمد

وفيها تُوفِّي إبراهيم بن محمد (¬1) ابن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - أجمعين، أبو علي، الكوفي، سمع الحديث، وقرأ اللغة والأدب، وقدم دمشق ومعه أولاده عدنان وعمار وعمر ومعد، فأقاموا بدمشق مدة، ثم ساروا إلى مصر فأقاموا بها، وأكرمه المستنصر ووصله، فلمَّا أراد العَوْدَ إلى الشام وصله بخمسة آلاف دينار، ثم عاد إلى دمشق فمرض مدة ثم بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أشتهي أن أموت بالكوفة. فقيل له: الشام مبارك. فقال: ما مقصودي بموتي في الكوفة إلا حتى إذا نُشرت يوم القيامة وأُخرجَتْ رأسي من القبر أن أرى أولاد عمي وأهلي ووجوهًا أعرفها فعوفي، وعاد إلى الكوفة، فتُوفي بها في شوال. وكان شاعرًا، فمن شعره: [من الرجز] راخٍ لها زمامَها والأنْسُعا (¬2) ... وَرُف بها من العُلى ما شسعا (¬3) وارحَلْ بها مُغتربًا عن العِدا ... تُوطِئْكَ من أرض العِدا مُتَّسَعا يا رائدَ الظَعنِ بأكنافِ الحمى ... بلِّغ سلامي إن وصلْتَ لعلعا (¬4) وحَيِّ حيًّا (¬5) بأثيلات (¬6) النَّقا (¬7) ... عهدتُ فيهِ قمرًا مُبَرْقَعا كانَ وقوعي في يديهِ وَلَعا ... وأولُ العِشْقِ يكون وَلَعا مَنْ بمنًى وأين جيرانُ مِنى ... كانت ثلاثًا لا تكونُ أربعا ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 7/ 213 - 214، ومعجم الأدباء 1/ 10 - 14، والمنتظم 16/ 158. (¬2) النِّسع: سير عريض طويل تشدُّ به الحقائب أو الرحال ونحوها المعجم الومميط (نسع). (¬3) شَسع: بَعُد. المعجم الوسيط (شسع). (¬4) لَعْلَع: اسم موضع، ذُكر أنه ماء في البادية، ومنزل بين البصرة والكوفة وغير ذلك. (¬5) في مصادر الترجمة: خدرًا. (¬6) الأثيلة تصغير أَثْلَة، وهي من الأَثل: شجر من الفصيلة الطرفاوية طويل مستقيم يعمَّر، جيد الخشب، كثير الأغصان، دقيق الورق. المعجم الومميط (أثل). (¬7) في المصادر سوى المنتظم: الغضا، وفي المنتظم: الحمى.

أحمد بن محمد بن عقيل

سلبتموني كَبِدًا صحيحةً ... أمسِ فردُّوها عليَّ قِطَعا ارتجِعوا في ليلةً بحاجرٍ (¬1) ... إنْ ثمَّ في الفائتِ أن يُرتَجعا وغفلةً سرقتُها من زمني ... بلعلعٍ سقى الغمامُ لَعْلَعا (¬2) أنا ابنُ ساداتِ قُريش وابنُ مَنْ ... لم يُبْقِ في قوس الفخار مَنْزَعا وابنُ علي والحسينِ وهما ... أَبرُّ من طاف ولبَّى وسعى نحن بنو زيد وما زاحَمَنا ... في المجد إلَّا مَنْ غدا مُدَفَّعا طابَتْ أصولُ مجدِنا في هاشمٍ ... وطال فيها عُودُنا وفَرَّعا أحمد بن محمد بن عقَيل (¬3) الشَّهرَزوري، أبو العباس، سمع الحديث [الكثير] (¬4)، وكان أديبًا فصيحًا شاعرًا، وتُوفِّي ببيت المقدس في ذي القعدة، ومن شعره: [من البسيط] وما ثناكَ عن الزَّوراتِ لي ملَلٌ ... ولا نبا بِكَ إكثارٌ وإقلالُ لكن سمعتَ من الواشين فيَّ ولم ... تدرِ الهوى والهوى أدناه قَتَالُ سألتُ طَيفَكَ عن تلفيقِ إفكهِمُ ... فقال معتذرًا لا كان ما قالوا سعى الوُشاةُ لقطع الودِّ بينكُما ... وللمودَّاتِ بين الناسِ آجالُ عبد الله بن محمد (¬5) ابن سعيد بن سنان، أبو محمد، الخَفاجي، الشاعر، الحلبي، الفصيح، الفاضل، قرأ الأدب على أبي العلاء المعري وغيرِه، وسمع الحديث وبرع في فنِّه، ومدح الأكابر، وتُوفِّي بقلعة أعزاز من أعمال حلب، فمن شعره: [من الطويل] أيا راكبًا مالتْ به نشوة الكرى ... كما اهتز من مَرّ الرياحِ لواءُ تحمَّلْ إلى الحيِّ المقيمِ رسالةً ... من الغيبِ ما فيها عليكَ عناءُ ¬

_ (¬1) الحاجر: ما يُمسك الماء من شفة الوادي. الصحاح (حجز). (¬2) لَعلَع: منزل بين البصرةِ والكوفة. (¬3) تاريخ دمشق 7/ 153. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) الوافي بالوفيات 5/ 477.

تحيةَ مَنْ لا يملكُ الصبرَ عنهمُ ... ولا تنقضي أنفاسُهُ الصُّعداءُ عَهِنتُكمُ مأوى الغريبِ وأهلَهُ ... فما بينكم لولا التقى الغُرباءُ تؤمُّكمُ آمالُ قومٍ صواديًا (¬1) ... فما تَنثني إلَّا وهُنَّ رِواءُ فما لكمُ لا أوحشَ اللهُ منكمُ ... مواطنَ فيها بالذِّمامِ وفاءُ وقال أيضًا: [من الطويل] أناخَ عليَّ الهمُّ من كلِّ جانبٍ ... بياضَ عِذاري (¬2) في سوادِ المطالبِ وما ساءني فَقْدُ الشبابِ وإنَّما ... بكيتُ على شطرٍ من العُمرِ ذاهبِ وما راعني شيبُ الذَّوائبِ بعدَهُ ... وعندي همومٌ قبل شيبِ الذَوائبِ ولكنَّهُ وافى وما أطلقَ الصِّبا ... عِناني ولا قَضَّى الشَّبابُ مآربي وما كنتُ من أصحابِهِ غيرَ أنَّهُ ... وَفَى لِيَ لَمَّا خانَني كُلّ صاحِبِ بكَى النَّاسُ أطلال الدِّيارِ ولَيتَني ... وجَدتُ ديارًا للدّموعِ السَّواكِبِ أَأَحبابَنا هل تسمعونَ على النَّوى ... تحيَّةَ عان أو شَكيَّةَ عائب وما أنا بالمُشتاقِ إذ قلتُ بيننا ... صدورُ العوالي أو طِوالُ السَّباسبِ (¬3) فما لِقلوبِ العاشقينَ مَزِيَّةٌ ... إذا نَظَرَتْ أَفكارُها في العواقِبِ وقال: [من الطويل] سقى بانة الجَرْعاءَ من بطنِ تُوضحٍ ... وللناسِ في سُقيا الدِّيارِ مذاهبُ نسيمٌ كأنفاسِ الخُزامى صقيلةٌ ... بريحِ النَّعامى (¬4) قبلَتْها السحائبُ [وقال: من الطويل] رمَتْ بالحمى أبصارَها مطمئنةً ... فلمَّا بَدَتْ نجدٌ وهبَّت جَنوبُها بخِلْنا عليها بالبُرى (¬5) فتقطَّعَتْ ... وقَلَّ لنجدٍ أن تقرَّ قلوبُها ¬

_ (¬1) الصوادي، من الصَّدى: وهو العطش الشديد. المعجم الوسيط (صدي). (¬2) العِذار: جانب اللحية. المعجم الوسيط (عذر). (¬3) السَّباسب؛ جمع سبسب: وهي المفازة. المعجم الوسيط (سبسب). (¬4) النُّعامى: هي ريح الجنوب. المعجم الوسيط (نعم). (¬5) البُرى؛ جمع بُرَة: وهي حلقة من نحاس تكون في أنف البعير للتذليل. القاموس المحيط (برى).

وقال: [من الكامل] يا إخوَتي وإذا صَدَقتُ فأنتمُ ... من إخوَةِ الأيامِ لا مِنْ إخوَتي بُعدًا لآمالي التي علَّقتُها ... بكمُ فحارَت في السبيلِ وَضَلَّتِ أأغيبُ عن حلبٍ ثلاثةَ أشهرِ ... لم تكتبوا فيها إليَّ بلفظةِ حتَّى كأنِّي قد جَنيتُ عليكُمُ ... ما أستَحِق به عظيمَ الجفوةِ وقال: [من الكامل] ومُهوِّنِ للوَجْدِ يَحسَبُ أنَّها ... يوم العُذَيبِ مَدامعٌ وخُدودُ سَلْ بانةَ الوادي فليسَ يفوتُها ... خبرٌ يطول به الجوى (¬1) ويزيدُ وانشُد معي ضوءَ الصباحِ وقُلْ لهُ ... كشف تستَطيلُ بكَ اللَّيالي السُّودُ وإذا هبَطتَ الواديينِ وفيهما ... دِمَنٌ (¬2) حُبِسنَ على البِلى وعُهودُ فاخدَع فُؤادي في الخَليطِ لَعَلَّهُ ... يَهفو على آثارِهِم وَيعودُ أصَبابةٌ بالجزعِ بعدَ سويقَةٍ ... شُغلٌ لعَمرُكَ يا أُمَيمُ جديدُ وعلى الثَّنيَّةِ مِن تَبالةَ موعدٌ ... عقَمَتْ به الآمالُ وهي وَلودُ قومٌ يَلوحُ لَهُم على علمائِهِم ... قبلَ اللِّقاءِ دَلائلٌ وشُهودُ فاللامِعاتُ أَسنَّةٌ وأسرَّةٌ ... والمائِساتُ ذوابِلٌ وَقُدودُ هبُّوا إلى المجد الرَّفيعِ فأحرَزوا ... قصَباتِهِ وبَنو الزَّمانِ رُقودُ إن لَمْ يَكُنْ بيني وبينَكَ نسبةٌ ... قَرُبَتْ فإنِّي منكُمُ معدودُ وقال يمدح أهل البيت الشريف عليهم الصلاة والسلام: [من الكامل] يا أُمَّةَ كفرَتْ (¬3) وفي أفواهِها الْـ ... ـــــقرآنُ فيه ضلالُها ورشادها أَعَلَى المنابرِ تلعنون نسيبَهُ (¬4) ... وبسيفِهِ نُصِبَتْ لكم أعوادُها تلكَ الضغائنُ بينكم بدريَّة ... قُتِلَ الحسينُ وما خَبَتْ أحقادُها ¬

_ (¬1) الجوى: اشتداد الوجد من عشق أو حزن. المعجم الوسيط (جوي). (¬2) الدِّمَن؛ جمع دِمنة: وهي آثار الناس وما سوَّدوا. المعجم الوسيط (دمن). (¬3) في (خ) -والترجمة فيها وحدها-: صلَّت، والمثبت من الديوان. (¬4) في (خ): تغلبون بسنة، والمثبت من الديوان.

ضُرِبَتْ لهم يوم الظُّنونِ صوارمٌ ... يومَ السقيفةِ كُسِّرَتْ أغمادُها وقال: [من الرمل] أتُرى طيفُكُمُ لمَّا سرى ... أخذَ النَّومَ وأعطى السهرا يا عيونًا بالغضا راقدةً ... حرَّم اللهُ عليكُنَّ الكَرى لو عدلتُنَّ تساهَمْنا جَوًى ... مِثْلَما كُنَّا اشتركنا نظرا سَلْ فروعَ البانِ عن قلبي فقَد ... وهِمَ البارقُ فيما ذَكَرا قال في الرَّبْعِ وما أحسَبُهُ ... فارقَ الأظعانَ حتى انفطَرا ما على البارق مِن سُقيا الحمى ... أَحرَامٌ عِندَهُ أن يُمطَرا وإذا ما فاتَهُ ريُّكُمُ ... لا سَقَى (¬1) الله الغَضَا والسمُرا حبَّذا فيكَ حديث باطنٌ ... فطِنَ الدَّمعُ به فانتشرا دونَ نَيلِ الضَّيمِ نفسٌ حُرَّة ... والمطايا والفَيافي والسُّرى أيُّها القاعدُ عن زهرتِهِ ... ما يَروعُ السَّيفُ حتَّى يُشهرا شُنَّها فهْيَ على عِلَّاتِها ... تُلبسُ الحيَّ عجاجًا (¬2) أكدَرا قد رَجَوناك فشَمِّرْ جاهِدًا ... إنَّما يُدركُها مَن شَمَّرا وقال يرثي أهله وأصدقاءه: [من الخفيف] طَلَبُ الأَمنِ في الزَّمانِ عَسيرُ ... وَحَديثُ المُنى خِداع وَزُورُ تبدَهُ الحازِمَ الخُطوبُ فإن ... قُدِّر أَبدَتْ ما أَغفَلَ التَّقديرُ وإذا قتَّرَ البَخيلُ فَللأَيَّامِ ... في طَيِّ عُمرِهِ تَبذيرُ لا تَظُنَّ الفَقيدَ أَفرَدَهُ البَيـ ... ـنُ فَقَد أَعجَلَ المُقيمَ المسيرُ سَلْ بغَمدانَ أينَ ساكنُهُ سيـ ... ـفٌ وَقُل لِلنُّعمانِ أَين السَّديرُ عَدَلَ الدَّهرُ فيهمُ قِسمةَ الـ ... جورِ فَلا عامِرٌ ولا مَعمورُ إنَّ في جانِبِ المُقطَّمِ مَهجو ... رًا ومِنْ أَجلِهِ تُزارُ القُبورُ ومُقيمًا على المَعَرَّةِ تَطويـ ... ـــه اللَّيالي وَذِكرُهُ مَنشورُ ¬

_ (¬1) في الديوان: وإذا أغضبه ريكم ... فسقى. (¬2) العَجاج: الغبار والدخان. المعجم الوسيط (عجج).

عُصبةٌ كُنتُ أدَّعي لهم الودَّ ... فصبري لُؤمٌ عَلَيهم كَثيرُ وَحياتي عُذرٌ فَهل لوِقائي ... أجلٌ عاجِل وَعُمرٌ قصيرُ يا أيُّها الظَّاعِنونَ لا زال لِلْغيـ ... ـث رَواحٌ عَلَيكُمُ وبُكورُ لستُ أرضى بالدَّمع فيكُم فهل ... يملِكُ ريَّ البُحورِ إلَّا البُحورُ قد رأينا ديارَكم وعليها ... أثَرٌ من عُفاتِكُم مَهجورُ وسَألنا أَطلالها فأَجابَتْ ... ومِنَ الصَّمتِ واعظٌ ونَذيرُ عَرَصات كأنَّهنَّ ليالٍ ... فارَقَتْها عِندَ الكَمال البُدورُ بأن ذُلُّ الأسى عليها فلِلغيـ ... ثِ بُكاءٌ وللنَّسيمِ زَفيرُ ذَكَّرَتنا عُهودَكُم بَعدَما طا ... لَتْ لَيالٍ من بعدها وشهورُ عجبًا كيف لم نَمُتْ في مَغانيـ ... ـــــها أَسًى ما القلوبُ إلَّا صخورُ يا دِيارَ الأَحبابِ غَيَّرَكِ الدَّهـ ... رُ فكانَت بَعدَ الأمور أمورُ أَينَ أيَّامُنا بِظِلِّكِ والشَّمـ ... لُ جَميعٌ والعيشُ غَضٌّ نضيرُ نشوَةٌ أَعقبَتْ خُمارًا مِنَ الهمِّ ... ولَكن قد يفرقُ المَخمورُ وزَمانٌ مضى فَما عُرِفَ ... الأوَّلُ إلَّا بما جَناهُ الأخيرُ يا نُجومَ العُلى وما في الـ ... ـــلَيلِ مِن بَعدكُم نُجومٌ تَغورُ وَعَفا الجودُ والكَريمُ بَخيلٌ ... في المُلِمَّاتِ والغَني الفَقيرُ وتَساوى الوَرى فَلَم يبقَ مَشكو ... رٌ على مِنَّةٍ ولا مَعذورُ لا يُجاوركُمُ الصَّعيدُ بسوءٍ ... فَهْوَ لِلنَّازِلينَ بِئسَ المجيرُ وسَقاكُم من السَّحابِ صَناعُ الـ ... ـكَفِّ يُسدي في رَوضةٍ ويُنيرُ كُل غَنَّاء يقلعُ الغَيثُ عنها ... وَلَها أعينٌ مِن النُّورِ حُورُ عارِضٌ مُغضِبٌ على المَحلِ لا يخْـ ... ـطُرُ إلّا وَسَيفُه مَشهورُ أشرَقَت فيه للشَّقيقِ خُدود ... وأضاءَتْ مِنَ الأَقاحي (¬1) ثُغورُ عَمَّ مَعروفُهُ ففي كُلِّ وادٍ ... مِن أَياديهِ رَوضَةٌ وَغديرُ وعلى الرَّغمِ أن يَجودَ عليكُم ... واهبٌ بالنَّوالِ منكُم جَديرُ ¬

_ (¬1) الأقاحي؛ جمع أُقحوان: وهو نوع من النباتات، فيها البابونج الأبيض. المعجم الوسيط (قحي).

ما أرى الشِّعرَ كافيًا في مراثيـ ... ـكُم ولكنْ قد يَنفُثُ المَصدورُ وإذا ما أطَلْتُ فيه ولم يُشْـ ... فِ غليلًا فكلُّهُ تقصيرُ وقال: [من الطويل] خَلِيليَّ بُثَّا ما أَملَّتْ علَيكُما ... دُموعي فإنِّي ما أُريدُ الهوى سِرّا سَقى اللهُ أيامًا من الدَّهرِ لم تَشِبْ ... بِهِم كأنَّا ما عرفنا بها الدَّهرا ويا طَرفُ قد حذَّرتُكَ النَّظرَةَ التي ... خَلَستَ فما راعيتَ نهيًا ولا أمرا ويا قلبُ قد أَردَاكَ من قَبلُ مَرَّةً ... فَوَيحَكَ لِم طاوَعْتَهُ مرَّةً أخرى وقال أيضًا: [من الرجز] أمَّا الزَّمانُ فمُوجِزٌ في وَعْظِهِ ... متعمِّد الإسهابِ في إيجازِهِ لا تُخدَعَنَّ فَما حقيقةُ أمرِهِ ... عِندَ النُّهى إلَّا كَمِثلِ مَجازِهِ كم مَوعدٍ منهُ تَعَلَّقَ طامِعٌ ... سَفَهًا فَحال الموتُ دون نجازِهِ مَن كانَ مُقتَنِعًا فقد وَجَدَ الغِنى ... في شامِهِ وعراقِهِ وحجازِهِ وقال أيضًا: [من الكامل] استغفِرِ الملكَ القَديمَ وعُذْ بِهِ ... مِن شَرِّ غاوٍ (¬1) في الحُطامِ مُنافِسِ واصنع جَميلًا لا يَضيعُ صَنيعُهُ ... واسمح بقُوتِكَ للضعيفِ البائسِ لا تركَنَنَّ إلى المراءِ فإنَّهُ ... سَبَبٌ لِكُل تنافُرٍ وتشاوسِ واقنَع فَفي عَيشِ القناعةِ نعمَةٌ ... لا تبتغي كَفَّ الزَّمانِ الخالِسِ ضلَّتْ بنو غَطْفانَ فيه فقُتِّلَتْ ... ساداتُها غَضَبًا لِلَطمةِ داحسِ والحارِثُ البَكرِيُّ قامَ إلى الوَغى ... مِنْ بَعدِ ما أمضى عَزيمةَ جالِسِ ألِفَ البَخيلُ مَكاسَهُ في مالِهِ ... والعمرُ أُنْفِقَ مِنهُ غيرُ مُماكِسِ عاذَتْ بَنو حوَّاءَ مِن إبليس في ... الدُّنيا وَكَم فيها فُنونُ أبالِس دَرَسوا العُلومَ لِيَملِكوا بِجدالِهِمْ ... فيها صُدورَ مَراتِبٍ وَمَجالس وتزَهَّدوا حتَّى أصابوا فُرصةً ... في أخذِ مالِ مَساجِدٍ وَمدارسِ (¬2) ¬

_ (¬1) في الديوان: عافٍ. (¬2) في الديوان: وكنائسِ.

إيوانُ كسرى صارَ مرتَعَ ثُلَّةٍ ... وديارُهُ أضحَتْ مُناخَ عرائِسِ والحِيرةُ البَيضاءُ بُدِّلَ أنسُها ... قَدَرٌ أطاعَتهُ مدائنُ فارِسِ يا عَقلُ مثلُكَ في اللَّطائفِ مَنهجٌ ... فإذا عَثَرتَ فلا لَعًا للنَّاعِسِ أمَّا النُّجومُ فقَد تضمَّن شأنَها ... جَهلُ اللَّبيبِ وبُعدُ نَيلِ اللَّامِسِ عمري لقَد ذَهبَ الذين تَفكَّروا ... فيها وَما ظَفِروا بِغَيرِ وساوسِ ما قَولُ بَطليموسَ فيها حُجَّةً ... عندي ولا المَرويُّ عن رُسطالِسِ حارَ الأنامُ فلا دَلالةُ ناظِرٍ ... تَشفي العُقولَ ولا إمارَةُ قابِسِ لا تَحفَلَنَّ بما حَوَتْهُ صَحائِفٌ ... لَهُمُ كان وُجِدَتْ بخَطٍّ دارِسِ فالمَينُ رُكِّبَ في طبائعَ أربَعٍ ... والصِّدقُ عُدَّ مِنَ القَبيلِ الخامِسِ هيهاتَ ما شَرَفُ الأصولِ بنافعٍ ... حتَّى تكونَ ذَوائِبٌ كمغارِسِ لا تَفخرنَّ وإن فَخَرْتَ فبِالتُّقى ... ناضِلْ وفي بَذلِ المكارِمِ نافِسِ سُبحانَ من نظمَ النُّجومَ قلائدًا ... في جُنحِ داجية الظلامِ الدامسِ وقال أيضًا: [من الكامل] يا ناقُ إن أثرى العُذَيبُ ورَوَّضا ... فلنا ديونٌ بالأسِنَّةِ تقتضي قد ماطلَ القدرُ الجموحُ بوَعدهِ ... فيها وآنَ لُمُغمَدٍ أن ينتضى وقال أيضًا: [من الكامل] وبِجانِبِ العَلَمَينِ شاكٍ سرَّهُ ... أنَّى رَعَيتُ لهُ النُجومَ وغَمَّضا ومُرَنَّحٍ فَطِنَ النَّسيمُ بِوَجْدِهِ ... فَرَوى لهُ خبرَ العُذَيبِ مُعرِّضا وسَلِ البريق وقَد أقامَ بحاجِرٍ ... إن كان أضمَرَ أن يَمُرَّ على الغضا وقال أيضًا: [من المتقارب] دَعوها تُناضِلُ بالأَذرُعِ ... فأينَ العواصمُ من لَعلَعِ ومدُّوا أَزِمَّتَها بالحَنينِ ... فلولا الصَّبابَةُ لم تَتبَعِ ويا سَعد هلْ لَكَ في وَقفَةٍ ... على الدَّارِ تَسْعَدُ فيما تعي كتَمتُ الغَرامَ ولكنْ أتيتُ ... بحُكمِ الصَّبابَة مِن مَدمَعي وأُقسِمُ أنِّي أهواكُم ... وليسَ اليَمينُ على المُدَّعي

وقال: [من الكامل] في كلِّ يوم نَشْطَةٌ ووَثاقُ ... فَمَتى يَكونُ لدائِها إفراقُ تَشكو صَداها والدُّموعُ مَناهِلٌ ... ووَجى المَناسِمُ والخُدودُ طِراقُ وقال يعاتب محمود صاحب حلب: [من لخفيف] قَدْ قَنِعنا من وصلِكُم بالخيالِ ... ورضينا من وعدِكُم بالمِطالِ وصَبَرنا على مِلالِكُم الزا ... ئدِ عن كلِّ مذهبٍ في المِلالِ ورأينا ديارَكُم فلقينا ... كل رسمٍ بالٍ بجسيم بالي دارساتٍ وناحلين كما يُفْـ ... ـرَقُ بين العُشَّاقِ والأطلالِ خَبِّرونا عن الكرى واسمعوا ... منَّا حديثَ الغرامِ والبَلبالِ حفظَ اللهُ معشرًا ضيَّعوا العهَ ... ـــــد وحالوا في سائر الأحوالِ ثَقَّلَ الناسُ في الطِّلابِ وخفَّفْـ ... ـتُ بجُهدي عليكَ من أثقالي وأراني كل يومٍ إلى خلَـ ... ـفٍ كأني خرجتُ في الخيالِ ما اتَّفَقْنا إلا على صحبةِ الدَّهـ ... ــــرِ ولكن بدا لكم وبدا لي وقال أيضًا: [من البسيط] نشدتُكَ الله هلْ أُنسيتَ ليلَتنا ... على الثنيَّةِ دونَ السَّفحِ والعلمِ لولا عَقابيلُ وَجدِ قلتُ وُدَّهمُ ... كخُلَّبِ البَرقِ لم يُمطِر ولم يَدُمِ وبانَةُ السفحِ تُغريني بذِكرِهمُ ... وجدًا فيا ليتَها بانَتْ كَعَهدِهِمِ آهًا لِقلبِكَ مِن نجدٍ وساكِنِهِ ... لقد عَلِقتَ بِشعبٍ غيرِ مُلتَئمِ يا طالبَ العِزِّ من خفضٍ ومن دَعَةٍ ... ما يُدرَكُ المَجدُ بين الشاءِ والنَّعَمِ قال أيضًا: [من الخفيف] ما على أحسنِكُم لو أحسَنا ... إنَّما نطلب شيئًا هيِّنا قد شَجانا اليَأسُ مِن بُعدكمُ ... فَغَدونا بأحاديثِ المُنى لا وَسِحرٌ بينَ أجفانِكُمُ ... فتَنَ الحُب بهِ من فتَنا وحَديثٍ من مواعيدِكُم ... تحسُدُ العَينُ عليهِ الأذُنا ما رَحَلتُ العيسَ عنْ أرضِكُمُ ... فَرَأَتْ عينايَ شَيئًا حَسَنا

عبد العزيز بن أحمد

هل لنا نحوَكُم مِن عودَةٍ ... ومنَ التَّعليلِ قولي هلْ لنا ولَعمري لو وجدنا راحةً ... من هواكم ما طلبنا (¬1) شَجَنا يا نديميَّ على ذِكرِهِمُ ... وحديثُ الشَّوقِ قد أسكَرنا بين عذري وضميري عربٌ ... يأمنُ الخائفُ فيهم ما جنى كلَّما شَنَّتْ عليهم غارةً ... أغمدوا البيضَ وسلُّوا الأعيُنا وقال: [من مجزوء الكامل] يا منفذًا ماء الجفو ... نِ (¬2) وكنتُ أُنفِقُهُ عليه إنْ لم تكُنْ عيني فأنـ ... تَ أعَزُّ مَنْ نظرَتْ إليه عبد العزيز بن أحمد (¬3) ابن محمد بن علي بن سليمان، أبو محمد، الكَتَّاني، الصوفي، الحافظ، الدمشقي، أحد الرحَّالين في طلب العلم، ولد في رجب سنة سبع وثمانين وثلاث مئة، تُوفِّي في جمادى الآخرة، وكان من المكثرين من الحديث كتابة وسماعًا مع الصدق والأمانة والسلامة. محمد بن إبراهيم (¬4) ابن علي بن إبراهيم، أبو بكر، العطَّار، الحافظ، الأصفهاني، كان عظيم الشأن ببلده، عارفًا بالرجال والمتون، وكان إمامًا ثقة. محمد بن محمد (¬5) أبو عبد الله، الطالقاني، الصوفي، سافر إلى البلاد، وسمع الكثير، وسكن صور إلى أن مات بها في ذي القعدة عن ثمانين سنة. ¬

_ (¬1) في الديوان: لطلبنا. (¬2) في (ب): العيون. (¬3) تاريخ دمشق 36/ 262 - 265، والأنساب 3/ 9 - 210، والمنتظم 16/ 158 - 195. وتنظر مصادر الترجمة في السير 18/ 248. (¬4) تاريخ بغداد 1/ 417، والمنتظم 16/ 159. (¬5) تاريخ دمشق 55/ 198 - 200.

محمد بن عبيد الله

ومن رواياته عن أبي عبد الرحمن السُّلمي (¬1)، عن محمد بن عبد الله الرازي، عن أبي الحسين النُّوري قال: رأيتُ غلامًا جميلًا ببغداد، فنظرتُ إليه، ثم أردت أن أُكرِّر النظر، فقلت: تلبسون النِّعال الصَّرارة، وتمشون في الطرقات؟ فقال الغلام: أحسنتَ! أتُجمِّشُ (¬2) بالعلم؟ ثم أنشأ يقول: [من الطويل] تأمَّل بعينِ الحقِّ إنْ كنتَ ناظرًا ... إلى صفةٍ فيها بدائعُ فاطرِ ولا تُغطِ حظَّ النَّفس فيها لِما بِها ... وكُنْ ناظرا بالحقِّ قُدرةَ قادرِ محمد بن عبيد الله (¬3) ابن أحمد بن أبي الرعد الحنفي، قاضي عُكْبَرا، تُوفِّي بها يوم الجمعة ثالث ربيع الآخر، وكان ثقةً. الماوردية البصرية (¬4) كانت زاهدةً عابدةً صالحة، تجمع إليها النساء فتعظهُنَّ وتؤدِّبهنَّ، قاربت ثمانين سنة، أقامت منها خمسين لا تفطر بالنهار ولا تنام بالليل، ولا تأكل خبزًا ولا رطبًا ولا تمرًا، وإنما تُطحن لها الباقِلَاء فتتقوَّت بها، وكانت وفاتُها بالبصرة، ولم يبقَ بالبلد إلا من شهد جنازتها، ودُفنت بظاهر البصرة عند قبور الصالحين. السنة السابعة والستون وأربع مئة فيها في صفر مرض القائمُ بأمر الله مرضًا شديدًا، وانتفخ حلقُه، وامتنع من الفَصْد، فقصد الوزيرُ فخرُ الدولة بابَ الحجرة ليلًا، وحلف بالأيمان المغلَّظة أنه لا يبرح حتى يقع الفَصْد، فأذن في إحضار الطبيب، وافتصد فصلح، وانزعج الناس في الدار ¬

_ (¬1) طبقات الصوفية ص 167. (¬2) يقال: جمش المرأة؛ أي: غازلها بقرصٍ أو ملاعبة. المعجم الوسيط (جمش). (¬3) المنتظم 16/ 159. (¬4) صفة الصفوة 4/ 47، والمنتظم 16/ 159 - 160.

والحريم، ونقلوا أموالهم إلى الجانب الغربي، وارتجَّ البلد، ولمَّا تفضَّل الله تعالى بالعافية فرح الناس واطمأنُّوا (¬1)، فقال الشريف بن البياضي: [من البسيط] إن كان أرجَفَ مَنْ في قلبهِ مَرَضُ ... بما تكادُ لهُ الأرواحُ تنفطِرُ ففي السَّلامةِ ممَا يرجفونَ بهِ ... حلاوةٌ ثمَّ في أفواههم صَبِرُ وما يضرُّ أميرَ المؤمنين إذا ... أمسى سليمًا من لأواءِ ما ذكروا قد أرجفوا برسولِ اللهِ في أُحدٍ ... فلم يكُنْ منهم نفعٌ ولا ضَرَرُ واللهِ لو علموا ما في سلامتِهِ ... لقاسموه على الأرواح إن قَدَروا لكنَّهم شربوا في ظلِّ دولتِهِ ... خمرَ السُّرورِ فقالوا ذاك إذ سكِروا عفوًا وصفحًا أميرَ المؤمنين لهم ... في جنب عفوكَ أجرامٌ لها خطَرُ فإن عفوتَ فأهلُ العفو أنتَ وإنْ ... أبيتَ ذلك فالأقدارُ تنتظِرُ وفي صفر عاد الغرق إلى بغداد، ومطرت السماء مطرًا متداركًا، وأكثر البنيان لم يكن، فقعد الناس على التُّلول والماء يأتيهم من فوق ومن تحت، ومات خلقٌ كثير، ووقع الوباء في الدنيا، فمات بالرحبة عشرةُ آلاف، ومات معظم أهل خراسان والبصرة وواسط، وهبَّتْ ريح سوداء فرمَتْ معظمَ النخل ببغداد وواسط والبصرة. وفي ربيع الأول فتح شكلي أمير التركمان عكَّا، وسببه أنه كان بها عند أمير الجيوش بدر الجمالي رجل يُعرف بابن شتحا، وكان رفيع المنزلة عند أمير الجيوش، يثقُ به في أموره، ولمَّا خرج إلى مصر أخذه معه، فلمَّا حصل لأمير الجيوش المالُ والجواهرُ بعث بذلك مع ابن شتحا إلى عكَّا في البحر، ليكون فيها مع أمواله وذخائره التي بها، فكُسِر بهما المركب، فغرق ما كان معه، وكان معه في المركب جماعةٌ من أهل عكَّا، فقال: ما بقي لنا وجهٌ عند أمير الجيوش، فهل لكم في أمر توافقوني عليه يكون فيه السلامة؟ فقالوا: نفعل. وكان أمير الجيوش قد أخذ معه إلى مصر رهائن من عكَّا ستين نفسًا من خيارهم، فقال لهم ابن شتحا: إن أمير الجيوش قتلهم. فقابلوه على فِعله، فلطم أهلُهم، وأقاموا المآتم، ووافقوه بالحصار، فكتب ابن شتحا إلى شكلي -وكان ¬

_ (¬1) إلى هنا الخبر في المننظم 16/ 161.

قريبًا منهم وقد أهلك أهل البلد بالحصار- فقال: تعالَ في الليل لنفتحَ لك الباب. فجاء بعسكره، وفتحوا له الباب، فدخل فقبض على فارس الدولة النائب عن بدر وابن أبي الليث القاضي وعمال بدر، فضرب رقابهم، واستولى على أموال بدر وذخائره، وقبض على ابنه وزوجته وابنته، وأحضر أبا يعلى بن الأقساسي وقال: أليس بدرٌ زوَّجني هذه -يعني ابنته- وأنت شاهد عليه؟ قال: بلى. فأحضر القاضي والشهودَ وزوَّجها منه، ودخل بها في ليلته، وأخرج أبا يعلى من عكَّا بعد ذلك؛ لأنه صاحبُ بدر. وقويَ البلدُ، واستفحل أمرُه، وبعث إليه أتْسِز التركي صاحب القدس والرملة، وكان متقدمًا على جميع الترك والناوكية بالشام، فقال: ابعَثْ لي زوجةَ بدر وابنَه ونصفَ ما أخذتَ من المال. فامتنع عليه، وخاطبه بما لم يكن خاطبه به من قبل، وصاهر ابن منزو صاحب دمشق على أخته، وراسل بني كلب، وتقوَّى بهم واستحلفهم، وأخذ رهائنهم، وأعطاهم رهائنه، وكان مسمار أحدُ مُقدَّميهم معه. وفي هذا الوقت وردت الأخبار أن ملك شاه عبر جَيحون لياخذ بثأر أبيه، وأنه حاصر ترمِذ، وأخذ ولبس خِلْعة الخليفة عليها، وأنه وقعت قطعة من السور وصل إليها النقَّابون وأحرقوها، ودخل العسكر، ونهبوا البلد، وقتلوا خلقًا كثيرًا، وأسروا طغاتكين أخا شمس الملك بن طمغاج خان صاحب بخارى وسمرقند، وأنَّ شمس الملك بعث إلى السطان يلتمس الصلح، فأجابه وصالحه، وعاد السلطان إلى مرو وهو على عزم الوصول إلى بغداد، وأنَّ شمس الملك بعث للسلطان خيلًا وثيابًا وطيبًا وألطافًا، وبعث إليه السلطان أيضًا عِوَضَ هديته، ووصلت كتب السلطان إلى بغداد بذلك، وتُوفِّي بدر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي، وكان في خدمة السلطان على تِرمِذ، فمات بها، ورتَّب نظام الملك ابنه نصر بن بدر مكانه. وفي جمادى الأولى تُوفِّي محمود بن الزَّوقلية صاحب حلب، ورتَّبها لولده نصر مكانه. وفي جمادى الآخرة ورد عميد الدولة إلى العراق، وهو كان السبب في صلح ملكشاه، وصلح شمس الملك صاحب ما وراء النهر، وكان ملكشاه يقول: لولا عميد الدولة [ما صالحتُه حتى أنزل على سمرقند، وكان عميد الدولة] (¬1) عاقلًا مدبرًا، ولمَّا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (ب).

الباب السابع والعشرون في خلافة المقتدي [بأمر] الله

قدم بغداد خرج الخليفة والخدم والخواصُّ والحُجَّاب لاستقباله، وبعث إليه رسالة جميلةً أنبأت عن جميل الرأي فيه، فقويَتْ نفسه، وانشرح صدرُه، وخرج معظم أهل بغداد الخواص والعوام سرورًا بوروده وسلامته؛ لأنه كان محسنًا إليهم. وفي رجب توفي القائم بأمر الله، وولي عُدَّةُ الدين [بن] الذخيرة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. الباب السابع والعشرون في خلافة المقتدي [بأمر] الله واسمه عبد الله بن ذخيرة الدين أبي العباس محمد بن عبد الله الإمام القائم بالله، وكان يُلقَّب قبل الخلافة بعُدَّة الدين، ويكنى أبا القاسم، ولم يكن أبوه أبو العباس يلي الخلافة؛ لأنه مات في حياة أبيه القائم، ومولد المقتدي يوم الأربعاء ثامن جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وأربع مئة، وأمُّه أم ولد أرمينية تُسمى أرجوان وتُدعى قرَّةُ العين، أدركَتْ خلافتَه وخلافةَ ابنه وابنِ ابنه، وكان الذخيرة قد بقي من أولاد القائم ولم يبقَ له سواه، فتوفِّي، فاستشعر الناس انقراض الدولة لعدم ولد البيت القادري وأنَّ من سواهم من الأسرة مخالطٌ العوام من البلد، وجار مجرى السوقة، وأن ذلك ينفر قلوب العامة عن المتولي، فحفظ الله هذا البيت بأن كان الذخيرة قد ألمَّ بجاريته أرجوان، ومات وهي حامل، وتشوَّف الناس إلى حملها، فولدت عدة الدين المقتدي بعد موت أبيه بخمسة أشهر، فوقعت البشائر، ولم يزل جده القائم ضنينًا به حدبًا عليه، فلما كانت نوبة البساسيري كان لعدة الدين دون أربع سنين، فسيَّره أهلُه، وحملوه إلى أبي الغنائم بن المحلبان، فسار به إلى الجزيرة، وتنقَّل به وبأمه [وببنت القائم، ثم ردَّهم إلى بغداد لمَّا عاد القائم، ولمّا كبر ذُكر على المنابر، ولمَّا احتضر القائم كتب كتابًا بالعهد] (¬1) ولم يزل منذ حين بلوغه إلى أن ولي الخلافة على الستر والسلامة والعفة والصيانة، وحفِظَ اللهُ به هذا البيت، وظهرت كراماته؛ فإن ملكشاه تغيَّر عليه، وأمره بالخروج من بغداد، فقال: أمهلني عشرة أيام. فمات ملكشاه سرعة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع السابق من (ب).

ذكر بيعته: جلس بعد وفاة جدِّه (¬1) يوم الجمعة ثالث شعبان في دار الشجرة وعليه قميص أبيض وعمامة بيضاء لطيفة وطرحة قصب دُرِّية، ودخل الوزير فخر الدولة وعميد الدولة ومؤيد الملك بن نظام الملك، والنقيبان طرَّاد والعلوي وقاضي القضاة الدامغاني ودُبيس وأبو طالب الزينبي وابن جردة ووجوه الأشراف والعدول والأعيان وأبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وأبو محمد التميمي، وأول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى مُقدَّم الحنابلة. قال أبو جعفر: لمَّا بايعتُه أنشدتُه: [من الطويل] إذا سيِّدٌ منا مضى قام سيِّدٌ (¬2) ثم أُرتِجَ عليَّ، فقال المقتدي: قَؤولٌ بما قال الرِّجالُ فعولُ وكان الشريف قد بايعه قبل هذا عند غسل القائم، ولُقب بالمقتدي بأمر الله، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وأيام، وكان من رجالات بني العباس، له همة عالية، وشجاعة وهيبة، وكان حسن الهيئة والوجه، ضخم الجسم. وفي شعبان أمر الوزير فخر الدولة المحتسب بنفي المفسدات من حريم دار الخلافة، وبيعِ دورهِنَّ، ومنع الناس أن يدخلوا الحمامات بغير مَيازِر، وأخرب أبراج الحمام والهوادي (¬3)، ومنع من اللعب بالطيور لأجل الاطلاع على الناس، ومنع الحمَّامين من إجراء ماءِ الحمَّامات إلى دجلة، وأمرهم بحفر آبار يجتمع فيها الماء، ونهى الملَّاحين أن يحملوا الرجال والنساء في السفن مجتمعين (¬4). وفي شعبان ورد الخبر بقتل ملكشاه عقَتَه كوهر خاتون، وكانت زوجة أريسغي التركي، وكانت قد انصرفت من العسكر قاصدةً أذريبجان النازوكية المترددين إلى بلاد ¬

_ (¬1) في (خ): أبيه، والمثبت من (ب). (¬2) البيت للسموأل وهو في ديوانه ص 91. (¬3) في (خ) الجرادي، والمثبت من المنتظم، والهوادي من الطير: هي التي تطلب وكرها من مسافات بعيدة وتحمل البطائق والأخبار. ينظر نهاية الأرب في فنون الأدب 3/ 136. (¬4) الخبر بطوله وبنحوه في المنتظم 16/ 164 - 166.

الروم، وكان نظام الملك قد استقرض للسلطان منها خمسين ألف دينار، فجاء لوداعها، فنَمَتْ عليه وتهدَّدته، وأظهرت أنها تقصد النازوكية، [والمقابلة ما عوملت به من القبيح] (¬1) وكانت عند قتل قاروت بك قد انصرفت من الري مستوحشة، ونهبت ما به من أعمال بنيسابور، وعاد نظام الملك إلى ملكشاه وأخبره بما أظهرت وما قد عزمت عليه، فبعث وراءها مئتي غلام، وأمرهم بقتلها، فساروا خلفها وقد رحلت مرحلتين أو ثلاثًا ولم تعلم بهم، وكانت في عسكر كثير، فجاء منهم سبعة غلمان، فهجموا عليها السُّرادق، وقتلوها عَجِلين بعد أن جرحت منهم ونكأت فيهم، ووقعت عليها جارية من جواريها تفديها بنفسها، فجُرحت عدة جراحات، وجاء باقي الغلمان وحفظوا خيمتها ومالها، وحملوا الجميع إلى ملكشاه، وسأل عن الجارية المجروحة، فأخبروه خبرها، فاصطفاها لنفسه لِما بلغه من نصحها ومحافظتها على عهد سيدتها. وفي رمضان خرج عميد الدولة ابنُ جَهير إلى ملكشاه لأجل البيعة للمقتدي، وحمل معه ثمان مئة ثوب منوعة وخمسة عشر ألف دينار. وقيل: إنه بعث له عشرة آلاف أخرى. وفي رمضان التقى أتْسِز التركماني صاحب القدس بشكلي في الساحل، فهزمه، فجاء شكلي منهزمًا إلى رفنية، ونزل أتْسِز فحاصر دمشق. ومن العجائب أنه في شوَّال وقع ببغداد حريقٌ من الجانبين، أكلت النار البلد في ساعة واحدة، وأول ما وقع بدكان خباز بنهر مُعلَّى، فأتت على السوق جميعه، ثم وقعت في مطبخ الخليفة، ثم في باب الأزج، ثم وقعت في باب البصرة والكَرخ ونهر طابق والمحال الغربية، فصارت بغداد تلولًا كما جرى عليها في الغرق. وورد الخبر من واسط بأنها احترقت في ذلك الوقت أيضًا، فكان في كتاب ابن قاضيها إلى قاضي القضاة الدامغاني يقول فيه: وإن النار أحرقت البزَّازين والنخَّاسين ودار القاضي الوالد وغيره، حتى أتت على ما فيها من ثياب وقماش وذهب وفضة وحنطة وشعير وخزانة الحكم والسجلات، وخرج القاضي عريانًا بعد أن أشرفنا على الهلاك، وافتقر الناس وجلسوا على الطرقات. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

وفي عيد الأضحى يوم الخميس أو يوم الجمعة قُطعت الخطبة [العباسية من مكة، وأعيدت الخطبة المصرية، وكانت مدة الخطبة] (¬1) بها أربع سنين وخمسة أشهر؛ لأنها أقيمت يوم الجمعة حادي عشر رجب سنة ثلاث وستين وأربع مئة، وقُطِعت يوم الجمعة في هذه السنة. ذكر السبب في ذلك: لمَّا استولى بدر أمير الجيوش على الديار المصرية والصعيد ولم يبقَ له ما يشغله، راسل ابنَ أبي هاشم في الخطبة، فلم يلتفِتْ، فعدل عنه إلى أعيان بني عمه، وقال: أنتم أولى منه، فلم يلتفتوا، فراسلهم ثاني مرة وقال: الحُجَّة التي كان يحتجُّ بها قد زالت، وهي وفاةُ ألب أرسلان وخليفةِ بغداد، ولم يبقَ في رقبته عهد، وهذه الدولة التي نحن فيها لكم ومنكم، وقد فعلتم ما لا ينغسل إلا بالرجوع، فإن أبيتم كاتَبْنا بني عمكم الأشراف، أخرجناكم من البلد، وقوَّيناهم بالمال والرجال. فاجتمعوا [وبعث لهم المال واجتمعوا] (¬2) فاجتمعوا بابن أبي هاشم، وأعادوا عليه ما قال، وقالوا: المصلحة إعادة الخطبة للمصريين، وإلَّا خرج الأمر من أيدينا، وكان الغلاء قد وقع بالحجاز، وقطع عنهم الميرة، فخاف ابنُ أبي هاشم، فقبض المال الذي بعث به أمير الجيوش، وأعاد الخطبة كارهًا غير مختار، وقلعت ألقاب القائم والسلطان من لوح كان على زمزم، وحُطَّت الكسوة الخراسانية، وجُعِلَ مكانها كسوة بيضاء دبيقية، عليها ألقاب المستنصر صاحب مصر. وفيها قَتَل أتْسِز أميرَ التركمان شكلي بطبرية، وأوقع بولد قُتُلْمِش؛ كان شكلي قد كتب إلى ابن قُتُلْمِش التركي -وكان في أطراف الروم- يحثُّه على قصد الشام ليضاف إليه: ابن قتُلْمِش هو ابن عم السلطان ألب أرسلان، وكان في كتاب شكلي إليه: إلى ابن قُتُلْمِش، أنت من السلجوقية وبيت الملك، وإذا أطعناك وكنا في خدمتك تشرَّفنا بك وافتخرنا، وأتْسِز ليس من بيت الملك، ولا نرضى باتباعه وطاعته. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

وهوَّن عليه أمر أتْسِز والشام. قال: وقد جاءتنا من مصر وعودٌ بالأموال إذا كسرناه وأبعدناه عن الشام، فجاءه ابن قُتُلْمِش، فاجتمعا وسارا إلى طبرية، وأظهروا طاعة صاحب مصر، فسار إليهم أتْسِز من القدس، وخرجوا إليه، وساعدهم أهلُها واقتتلوا، فهزمهم أتْسِز، وقتل شكلي ولدَه صبرًا بين يديه، وأطلق أباه؛ لأنه كان شيخًا كبيرًا، ونهب طبرية، وقتل أهلها، وأسر ابنَ قتُلْمِش وأخًا له صغيرًا وابنَ عمه، وكان لابن قُتُلْمِش سبع سراري تركيات مثمنات، فقالت له إحداهنَّ وكانت حاملًا منه: تدعنا يفضحنا الأعداء؟ قال: فما أصنع؟ قالت: اقتلنا جميعًا. فقتلهنَّ. وأسلم ولد شكلي، وجاء إلى عكَّا، فأغلق أهلُها الباب في وجهه وكاتبوا جوهر المدني خادم صاحب مصر وكان مقيمًا بصور، فقدم عليهم، فجاؤوا إليه وسلَّموا إليه البلد، وأعادوا الخطبة لصاحب مصر، ووصل إلى الشام في هذا الشهر ثلاثة آلاف من الغلمان من عسكر ملكشاه إلى أتْسِز كان كاتبهم، وورد -أيضًا- أخ لابن قتُلْمِش -كان في الروم- إلى حلب فحصرها، وكان محمود بن الزَّوقلية قد مات، وملَكَ ابنُه نصر بن محمود، فخرج إليه نصر بأحداث حلب فقاتله ودفعه وقال: أنا نائب السلطان، قد (¬1) كنتَ مطيعًا للسلطان فارحَلْ عنا. وأرضاه بمال، فرحل ونزل بأرض سلمية، وراسل أتْسِز في مضيِّ (¬2) أخيه، فقال أتْسِز: قد راسلتُ السلطان بسببه، وأنا متوقعٌ الجواب، فإن رسم أنفذتُه إليه، وإن رسم شيئًا آخر كان. فقصد ابنُ قُتُلْمِش أنطاكية وكان في قلبه من أحداث حلب، حيث قاتلوه نهبوا أصحابه، وقتلوا منهم جماعة، وحصروا أنطاكية، وقرَّر عليهم عشرين ألف دينار في كل سنة؛ ليحمي سوادَها من الغارات، واتَّفق أنَّ طائفة من التركمان الذين جاؤوا طالبين أتْسِز نزلوا على حلب، وخرج إليهم عدد كثير من أهلها، فسار ابن قُتُلْمِش من باب أنطاكية إلى حلب، فأخذ القافلة، وقطع آنافهم، ونهبهم؛ تشفيًّا بأهل حلب، وقاتل من التركمان مَنْ قاتله، ورجع فأقام على باب أنطاكية للخفارة والحماية. ¬

_ (¬1) في (ب): فإن. (¬2) في (ب): في معنى.

الحسن بن عبد الودود

وفي أواخر ذي الحجة ورد عميد الدولة ابنُ جَهير من عند ملكشاه، وقد أخذ البيعةَ للمقتدي على السلطان ونظام الملك والحاشية والعسكر عن غير صفاء من نظام الملك ولا تحقيق، بل مغالطة، ودفع لما في قلبه من الوزير فخر الدولة ابن جَهير مما نقل إليه أعداؤه. وفيها تُوفِّي الحسن بن عبد الودود (¬1) ابن عبد المتكبِّر بن المهتدي، أبو علي، الهاشمي، ولد سنة ثمانين وثلاث مئة، وسمع الحديث الكثير، وقُبِلَتْ شهادتُه عند القضاة، وتُوفِّي في ربيع الآخر، ودُفن عند جامع المنصور، وكان سيدًا صدوقًا. القائم بأمر الله، أميُر المؤمنين (¬2) واسمه عبد الله بن أحمد، القادر، وكنيته أبو جعفر، وأمه قطر الندى، أم ولد، رومية، أدركت خلافته، وماتت في سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة. ولد القائم يوم الخميس سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة، وولي الأمرَ بعد أبيه وعمره إحدى وثلاثون سنة، في ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة. وكان جميلًا، مليحَ الوجه، أبيضَ اللون، مُشربًا حمرة، أبيضَ الرأس واللحية، متدينًا، ورعًا، زاهدًا، عالمًا، في وجهه أثر صفار من قيام الليل، وكان يسرد الصوم، وكان قليل الجماع؛ فلهذا قَلَّ نسلُه، وكان سبب تركه للجماع أنه جامع ليلة جاريةً له وبين يديه تسعة، فرأى صورتَه على الحائط صورةً شنيعةً، فقام عنها وقال: لا عُدتُ إلى مثلها. وامتنع بعدما رجع من الحديثة عن أكل الطيبات، واقتصر وقتَ إفطاره على ثردة، فضعُف، فعمدت جاريةٌ له فصنعت له ثردةً في مرقة دجاجة، فلمَّا رآها قال لها: لا تعودي إلى مثلها. وكان يحبُّ الصالحين ويبرُّهم ويزورهم في الليل، وكان كثير الصدقات، وافر الإحسان. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 167 - 168 وتحرف "الحسين" في (ب) إلى: الحسن. (¬2) سير أعلام النبلاء 18/ 307.

ذكر وفاته: وفي يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب فُصِدَ القائمُ بأمر الله من ماشرا (¬1) لحِقَتْه عن أكل كمأة مشوية في جدي وقطايف بدهن الفستق، وأُخرِجَ مئة وخمسون درهمًا دمًا فسكن مابه، وقد كان جسمُه منذ ورد ما ورد من حديث ذلك الماء الغاشم، وفعله ما فعل بالدار والحرم من الغَرَقِ طرق قلبه من المصائب في ذلك والأمراض تتداركه، فلمَّا كان في يوم فَضدِه نام ولم يكن عنده أحد إلى آخر النهار، فانتبه وقد انفجر فِصادُه، وخرج منه دمٌ كثيرٌ، وسقطت قوَّتُه، وانقضَتْ مُدَّتُه، ووقع اليأسُ منه، وانتفخ وجهُه وأطرافُه، وكثُر الإرجافُ به، وظهرت أماراتُ الخوف عليه، ولمَّا أحس القائم بانقراض المُدَّة استدعى الأميرَ عدة الدين وأجلسه بين يديه، وقال له: قد استخدمتُ ابنَ أيوب وابنَ المُسلمة وابن دُرُسْت وابنَ جهير، فما رأيتُ أوفقَ وأصلحَ للدولة من ابن جَهير وولده الصحيح المقاصد المأمون على الدولة والمال، الجيد الرأي والمقال، فلا تعدِلْ عنهما ولا تخالِفْهما. وأوصاه بهما، فقبَّل عدة الدين يده وبكى، وقال: سمعًا وطاعة. وأحضر الدَّواة، وكتب القائمُ رُقعةً بذلك، وقال له: اكتُبْ جوابها بخطِّك بالإجابة والتعويل على عميد الدولة في وزارتك. فكتب، وأُحضِرَ قاضي القضاة والنقيبان من الشهود، أبو محمد ابن أخت قاضي القضاة، وأبو الحسين ابن السبي مؤدِّب الأمير، وأبو الحسين البيضاوي شيخ الشهود، في يوم الأحد تاسع شعبان، وأقاموا في الديوان إلى الليل، ثم استدعوا مع الوزير إلى الحجرة ولم يصِلْ غيرُهم، وكان الخليفة من وراء شُبَّاك مسنده والأمير عدة الدين قائمٌ على رأسه، والقوم يسمعون كلامه ولا يرون شخصه، وأُخرجت رُقعةٌ فقال: اشهدوا بما تضمَّنتِ الرُّقعة التي كتبتُ فيها سطري بخطي. فقالوا: السمع والطاعة. وأُسبِلَت الستارة، وخرج الجماعة، وكان مضمونُ الرُّقعة ولايةُ العهد للأمير عدة الدين، وردَّ الأمر إليه، والتعويلَ عليه، وأن لا يُغيِّر على الخدم وغيرهم شيئًا، وكان في الرُّقعة: ¬

_ (¬1) الماشرا: ورم حار عن ورم صفراوي يصيب الوجه، وربما غطى العين. التعريفات للمناوي ورقة 107.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: إنَّ أمير المؤمنين بحُكم ما وكَلَه اللهُ إليه من أمور عباده وبلاده، وأوجبَ عليه من صلة طريقه في الإحسان إليه، رأى أن يُفوِّض أمورَ المسلمين والنظرَ في مصالحهم وإسباغَ ظل المعاطفة على أكابرهم إلى الحدِّ الذي يُخلي مشاربهم من الكدر، ويعري ملابِسَهم من ملابس الحَذَر، فكذلك اقتضَتْ عزائمُه الميمونة إحضارَ وزيرِ دولته محمد بن محمد بن جَهير وولدَه محمد، ... وذكر الجماعة المُسَمين، وحين مثلوا بين يَدَي سُدَّته، أنعم متبرعًا بمشافهة سلالته [الطاهرة] (¬1) أبي القاسم عبيد الله بن محمد بن أمير المؤمنين بتولية أمر المسلمين، وتصييره خليفته بعده في العالمين، وذكر ما يقتضي الوصية ويتضمن الإحسان إلى الناس، واتَّفقت وفاتُه يوم الخميس الثالث عشر من شعبان، وجلس الوزير فخر الدولة وولده عميد الدولة في الديوان على الأرض حافِيَين، وقد خرقا ثوبيهما، ونحَّيا عمامتيهما، وطرحا رداءين لطيفين عِوَضَهما، وفعل الناس مثل ذلك، ومنع المقتدي الجواري والخدم من الصراخ واللَّطم، وغُلِّقت الأبواب، وكان القائم قد أوصى بأن يُغسِّله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي الحنبلي، وأُعْطِي ما كان عنده وعليه، فامتنع ولم يقبل شيئًا. وقال أبو محمد التميمي: ما حسدتُ أحدًا قطُّ إلَّا الشريفَ أبا جعفر في ذلك اليوم، وقد نال مرتبة التدريس والتذكرة والسفارة بين الملوك، وروايةَ الأحاديثِ، والمنزلةَ اللطيفة عند الخاصِّ والعام، فلمَّا كان ذلك اليوم خرج علينا الشريف وقد غسَّل القائم عن وصيةٍ منه بذلك، وأمر له بمال وبما عنده، وأعطاه الأمير عدة الدين جميعَ ذلك فلم يأخذ منه شيئًا، وكان له قيمة، وأخرج منديلًا من كمِّه نشَّف به القائم، وقال: هذا يكون في كفني. ثم خرج علينا ونحن قعود على الأرض كلٌّ منا قد مزَّق ثوبه، وغيَّر حالته على قدر منزلته في الدولة، وهو على حاله لم يغيَّر شيئًا، ومضى إلى مسجده، فعلمتُ أن الرجل هو ذاك. ثم انتقل الوزير والجماعة من الديوان إلى صحن السُّلَّم بعد صلاة الظهر، وجلس المقتدي على كرسيٍّ، ودخل عليه الوزير عميد الدولة والقضاة والأعيان فبايعوه بالخلافة، وبرز المقتدي من وراء السَّيبة (¬2) فصلى بالناس العصر، وبعد ساعة حُمِلَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المنتظم 16/ 161 - 163، والكلام منه. (¬2) السبيبة: شقة من الثياب. اللسان (سبب).

عبد الرحمن بن محمد

تابوت القائم على سكون ووقار من غير صياح ولا عويل، وصُلِّي عليه وكُبِّر أربعًا، ونُقل إلى حجرة كانت برسم جلوسه فدُفِنَ فيها، وجلس الوزير أبو عميد الدولة في صحن السلم ثلاثة أيام، وكان أبو الأغر دُبيس قد استُدعي في مرض القائم فقدم يوم الخميس بكرةً، ومات القائم بعد حضوره، ودخل مع الناس، وبايع المقتدي، وحضر [العزاء] (¬1) مع الوزير والجماعة، وخرج في اليوم الرابع توقيع التعزية والنهوض من العزاء، وغُلِّقت الأسواق، وعُلِّقت المسوح، وفُرشت بالبواري، وناح النُّواح، ولطم الهاشميات بالحريم ليلًا بالطرف. وعاش القائم خمسًا وسبعين سنة وثمانية أشهر وأربعة وعشرين يومًا، وقيل: أربعًا وسبعين سنة -وأقام في الخلافة أربعًا وأربعين سنة وثمانية أشهر ويومًا- وقيل: وخمسة وعشرين يومًا، وقيل: وثمانية وأربعين سنة -وكان رَبْع القامة، غليظَ المحاسن، في وجهه أثرُ جُدَريٍّ وصفار من أكل الطين. وأُحضِرَ نورُ الدولة ابنُ مَزْيَد إلى الديوان والجنائبُ بين يديه من عند الخليفة، وأُعطيَ لواءً أبيضَ مكتوبًا عليه بسواد، وقميصًا من ثياب القائم التمسه، وامتنع من الخِلَع التي عُرِضَتْ عليه لأجل موت الخليفة، وحزن عليه حزنًا شديدًا، وسار من يومه إلى بلده، وإنما استُدعي إلى بغداد خوفًا من فتنة؛ فإنَّ العيَّارين واللصوص كانوا قد استدانوا على موت القائم لينهبوا دار الخلافة ودُور الناس، فاحترز الوزير فخرُ الدولة، وأقام الغلمان على أبواب دار الخليفة وعلى الدروب، وكانت النفوس خائفةً وَجِلةً، فكان من قضاء الله تعالى من السكون والهيبة ما لم يكن في الحساب، وكأنَّه لم يَمُتْ سلطان، ولا فُقِدَ صاحبُ العصر والزمان، رحمه الله. عبد الرحمن بن محمد (¬2) ابن المُظفَّر بن محمد بن داود، أبو الحسن بن أبي طلحة، الداودي، الحافظ، وُلدَ سنة أربع وسبعين وثلاثة مئة، وسمع الحديث، وقرأ الفقه، ودرَّس، وأفتى ووعظ، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) المنتظم 16/ 168 - 169.

عبد السلام بن أحمد

وصنَّف، وكان له حظٌّ من النظم والنثر، وكان لا يفتر عن ذكر الله، وقع في بلده نهبٌ فامتنع من أكل اللحم سنين. ودخل عليه نظام الملك زائرًا له، فقعد بين يديه فوعظه، فكان من جملة ما قال: إنَّ الله قد سلَّطَكَ على عباده فانظر كيف تُجيبه إذا سألك عنهم، وإنما أنت في أضغاث أحلام، وقد رأيتَ مصارع مَنْ تقدَّمك. فبكى نظام الملك. وكانت وفاة الداودي ببوشنجة. سمع الحديث من أبي الحسن بن الصلت وأبي عمر بن مهدي وخلقٍ كثير. وروى عنه أبو الوقت عبد الأول صحيحَ البخاري، وأنشد أبو الوقت من شعره فيما رواه عنه: [من الخفيف] كان في الاجتماعِ للناس نورٌ ... فمضى النورُ وادلهمَّ الظلامُ فسدَ الناسُ والزمانُ جميعًا ... فعلى الناس والزمان السلامُ عبد السلام بن أحمد (¬1) ابن محمد بن عمرو، أبو الغنائم، نقيب الأنصار، ولد سنة سبع وثمانين وثلاث مئة، وسمع الكثير، ولقي الشيوخ، وتُوفِّي في شعبان، ودُفِنَ بمقبرة جامع المنصور. أبو الحسن بن علي (¬2) ابن الحسن بن علي بن الطيب، الباخَرْزي، صنَّف "دمية القصر في شعر أهل العصر"، والعماد الكاتب حذا حَذْوَه، فكان الباخَززي فريدَ دهرِه، وله ديوان مشهور، ومن شعره: [من الكامل] قالوا التحى ومحا الإلهُ جمالهُ ... وكساهُ ثوبَ مَذَلَّةٍ ومَحاقِ كتبَ الزمانُ على محاسِنِ وجههِ ... هذا جزاءُ مُعذِّبِ العُشَّاقِ ومن شعره أيضًا: [من الكامل] ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 169. (¬2) معجم الأدباء 13/ 33 - 48.

أقْوَتْ مغانيهم (¬1) بشطِّ الوادي ... فبقيتُ مقتولًا بذاك النادي (¬2) وسكرتُ من خمرِ الفراقِ فرقْرَقَتْ (¬3) ... عيني الدُّموعَ على غناءِ الحادي قالتْ وقد ساءلتُ عنها كلَّ مَنْ ... لاقَيتُه من حاضرٍ أو بادي أنا في فؤادك فارمِ طرفَكَ نحوَهُ ... تَرَني فقلتُ لها وأينَ فؤادي ومن شعره أيضًا: [من الطويل] أرى حضرةَ السُّلطانِ تقضي عُفاتُها ... إلى روض مجدٍ بالسماحِ يجودُ فكم لجباهِ الرَّاغبين لديهِ مِنْ ... مجالِ سجودٍ في مساجد جودُ وقال: [من الطويل] زكاةُ رؤوسِ الناسِ في عيدِ فِطْرِهم ... بقولِ رسولِ الله صاعٌ من البُرِّ (¬4) ورأسُكِ أغلى قيمةً فتصدَّقي ... بفيكِ علينا فَهْوَ صاعٌ من الدُّرِّ وقال: [من الطويل] وإنَّ اغترابَ المرءِ من غيرِ فاقةٍ ... ولا حاجةٍ يسمو لها لَعجيبُ وحسبُ الفتى ذُلًّا وإنْ أدركَ الغنى ... وقد نال ملكًا أن يُقال غريبُ ومن نثره يصف رجلًا: اكتحلَتْ بغرَّتِه الزهراء، واستضاءت بزهرتِه الغَرَّاء. وقال: له هممٌ تنطحُ الجوزاء بالقِمم، ومحلُّ يعصر عنقودَ الثريا تحت القدم. وقال: الكريم مرتجى، إن أساء بأنه يرتجى، وسالزم حاجبَه حتى يقضي من حقي واجبَه، ولا أُفارق حضرتَه حتى يفارق الآسُ خضرتَه. وبلغه عن إنسان تهديد قال: أمَّا تهديدُ فلان وإيعادُه وإبراقُه وإرعادُه فما أولاه بأن ينساني، ويتركَ في الغد لساني، فلستُ بالذي يتضعضع من سنانه، ولا يتقعقع من شنانه، وكيف أُجرب ذُباب السيف على ذُباب الصيف. ¬

_ (¬1) في معجم الأدباء: معاهدهم. (¬2) في معجم الأدباء: بشط الوادي. (¬3) في معجم الأدباء: ورقَّصت. (¬4) في (ب): والتمر.

علي بن الحسين

قُتِل الباخَرزي على مجلس الشوب في هذه السنة، وذهب دمُه هدرًا، سامحه الله تعالى. وصنَّف أبو الحسن عليٌّ البيهقي كتابًا سمَّاه "وشاح دمية القصر" وهو من جنس الذيل لكتاب الباخَرْزي، وكان البيهقي فاضلًا فصيحًا، وهو القائل: [من الطويل] يشيرُ بأطرافٍ لطافٍ كأنَّها ... أنابيبُ مسكٍ أو أساريعُ مندلِ ينمُّ على ما بيننا من إشارةٍ ... نسيمُ الصّبا جاءت بريَّا القَرَنفُلِ علي بن الحسين (¬1) ابن أحمد بن الحسين، أبو علي، التغلبي، ويعرف بابن صَصْرَى، دمشقي، ذكره الحافظ ابن عساكر وأثنى عليه، وتوفِّي بدمشق، حدَّث عن تمام بن محمد وغيره، وروى عنه الخطيب وغيره، وكان ثقةً. وأصل بني صَصرَى من قرية بالموصل، وسكنوا دمشق. علي بن عبد الملك (¬2) أبو الحسن، المعدَّل، كان حسن الصوت، عالمًا بالقراءات، فاضلًا، تُوفِّي في شعبان، ودُفن بباب حرب، وكان ثقة. كوهر خاتون عمة السلطان ملكشاه، أخت ألب أرسلان، كانت دَيِّنةً عفيفةً، صادرها نظام الملك لمَّا مات أخوها ألب أرسلان، وأخذ منها أموالًا وجواهر، وخرجت إلى الري لتمضي إلى الناوكية تستنجد بهم على قتال نظام الملك، فأشار نظام الملك على السلطان بقتلها، وقال: اقتُلْها وإلَّا فَتَحتْ علينا بابًا عظيمًا. فقتلها، ولمَّا وصل الخبر إلى بغداد ذمَّ الناسُ نظامَ الملك وقالوا: ما كفاه بناء هذه المدرسة النظامية، وغصبُه لأراضي الناس، وأخذُ أنقاضهم حتى دخل في الدماء. فأشار على ملكشاه بقتلِ عمه قاروت بك وخنْقِه بوَتَر، وكحَلَ أولاده، وقتل عمَّته، وبلغ نظام الملك فقال: ما أقام هذه الشناعة عليَّ إلَّا فخر الدولة ابن جَهير. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 41/ 349 - 351، والوافي بالوفيات 6/ 369، وتاريخ الإسلام 7/ 266. (¬2) المنتظم 16/ 169 - 170.

محمد بن الحسين

محمد بن الحسين (¬1) ابن أحمد بن منصور، الحِميري، القاضي، الكوفي، ولي القضاء بدمشق والخطابة نيابةً عن الشريف أحمد الزيدي، ثم خرج إلى طرابلس فأقام بها حتى تُوفي، وكان يصحب الوزير ابن الماسكي قبل وزارته، فلمَّا ولي الوزارة قصَّر في حقِّه، فكتب إليه: [من الوافر] أسيِّدَنا الوزير نسيتَ عهدي ... وقد شبَّكتَ خمسكَ بين خمسي وقولُكَ إن وَليتُ الأمرَ يومًا ... لأتخذنَّ نفسَكَ قبل نفسي فلمَّا أنْ وَليتَ جعلتَ حظِّي ... من الإنصافِ بَيعَكَ لي ببَخْسِ محمد بن عبد الله بن عبيد الرحمن (¬2) أبو الحسين، الدمشقي، يُعرف بابن أبي العجائز، الأزدي، سمع الحديث، وتُوفِّي بدمشق، وكان ثقةً. محمد بن علي (¬3) ابن محمد بن موسى بن جعفر، أبو بكر، الخياط، البغدادي، المقرئ، ولد سنة سبع وسبعين وثلاث مئة، تُوفِّي في جمادى الآخرة، ودُفن بمقبرة جامع المنصور، وكان قد توحَّد في زمانه بعلم القراءات، وسمع الحديث، وكان فاضلًا ثقةً. محمود بن نصر بن صالح (¬4) صاحب حلب، ويُعرف بابن الزَّوقلية، وكان عمُّه عطية قد أخذها منه، فحصره مدةً حتى أخذها، وقد مدحه أبو الفتيان محمد بن حَيُّوس، فقال لمَّا أخذ حلب: [من الطويل] ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 52/ 338. (¬2) تاريخ دمشق 53/ 366 - 367، وفيه أن وفاته كانت ببيروت. (¬3) المنتظم 16/ 170. (¬4) المنتظم 16/ 175، ولكن جعله في وفيات سنة 468 هـ.

أبى اللهُ إلَّا أن يكونَ لكَ السَّعدُ ... فليسَ لِما تبغيه منعٌ ولا رَدُّ قضَتْ حلبٌ ميعادَها بعد مَطْلِها ... وأطيبُ وصلٍ ما مضى قبلَهُ صَدُّ تهزُّ لواءَ النصرِ حولَكَ عصبةٌ ... إذا طلبوا نالوا وإن عقدوا شدُّوا وخطيَّةٌ (¬1) سمرٌ وبيضٌ صَوارِمٌ ... وضافيةٌ (¬2) زَغْفٌ (¬3) وصافنةٌ جُردُ وله قصائد، وكان محمود ذا فضلٍ ومروءةٍ وسماحةٍ وسخاءٍ، جوادًا، ممدَّحًا، كريمَ الأخلاق، ولمَّا أخرج العميد عمَّه عطية من حلب مضى إلى بالِس فأرسل إليه مناشير بإقطاعات ومال، فلم يرضَ، ومضى إلى القسطنطينية مستصرخًا بملك الروم، فمات عنده في ذي الحجة سنة خمس وستين وأربع مئة، وكانت وفاة محمود ليلة الخميس ثالث عشر شعبان الليلة التي مات فيها القائم بأمر الله، وسبب موته أنه عشق جارية لزوجته، وكانت تمنعه منها، فماتت الجارية، فحزن عليها، ومات بعد يومين، ولمَّا مات وقع بين العسكر الخلاف، وكان محمود قد أوصى إلى ولده أبي المعالي شبل بن محمود، وأسكنه القلعةَ، والخزائن عنده، وأسكنَ ولده نصر بن محمود البلد، وكان كارهًا له، فكانت العساكر مائلة إلى نصر، وكان شبل بن محمود صغيرًا، فاستولى عليه النساء والخدم، فبذل نصر العطاء، ونشر العدل، فمالَ الناس إليه وملَّكوه، وكان نصرٌ مُمدَّحًا، وقد مدحه ابن حَيُّوس بقصائد منها: [من الطويل] كفى الدينَ عِزًّا ما قضاهُ لكَ الدهرُ ... فمَنْ كانَ ذا نذرٍ فقد وجبَ النَّذرُ ثمانيةٌ لم تفترِقْ مُذْ جمعتَها ... فلا افترقَتْ ما افترَّ عن ناظرٍ شُفْرُ ضميرُكَ والتقوى وجودُكَ والغنى ... ولطفُكَ والمغني وعزُّكَ والنَّصرُ وقد جاد محمودٌ بألفٍ تصرَّمَتْ ... وغالبُ ظنِّي أن سيَخلِفُها نصرُ فأعطاه ألف دينار، وقال: واللهِ لو قال: سيُضعِفُها نصر، لأضعفْتُها له. وكان على بابه جماعة من الشعراء، فكتبوا إليه: [من الطويل] على بابِكَ المعمورِ مِنَّا عصابةٌ ... مفاليسُ فانظُر في أمورِ المفاليسِ ¬

_ (¬1) الرماح الخطيَّة: هي المنسوبة إلى خط موضعٍ باليمامة. الصحاح (خطط). (¬2) الدروع الضافية: الدروع السابغة. اللسان (ضفا). (¬3) الزَّغف: الدرع اللينة الواسعة المحكمة.

أبو الفتح منصور بن أحمد

وقد قنِعَتْ منكَ العصابةُ كلُّها ... بعُشرِ الذي أعطيتَهُ لابنِ حَيُّوسِ وما بينَنا هذا التَّفاوتُ كلُّهُ ... ولكن سعيدٌ لا يُقاسُ بمنحوسِ فقال: ولمَ بعُشرٍ؟ وهلَّا قالوا: بمِثْل. ثم وصلهم وأحسن إليهم. وقُتِلَ نصر في السنة الآتية. أبو الفتح منصور بن أحمد (¬1) ابن دارست، وزير القائم بأمر الله، كان له مالٌ عظيم، فقيل للقائم: هذا أمين وهو غني النفس. فاستوزره، فلم يكن له دربة بالوزارة، وكان سيئ التدبير. السنة الثامنة والستون وأربع مئة فيها في يوم الثلاثاء ثالث المُحرم خرج مؤيد الملك بن نظام الملك من بغداد يريد والده، وكان أبوه قد مرض، وخرج معه أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد البيضاوي الشاهد رسولًا من الديوان إلى إبراهيم بن مسعود صاحب غزنة يخبر بوفاةِ القائم وإقامة المقتدي. وفي يوم الاثنين سابع صفر فُتحت قلعة منبج، وارتُجعت من يد الروم بعد حصار طويل سلَّمها الحافظ لها بأمان إلى نصر بن محمود صاحب حلب، وأعطاه إقطاعًا ومالًا، وكانت مدة بقائها في يد الروم سبع سنين وشهرًا، فإنها أُخذت في المُحرَّم سنة إحدى وستين وأربع مئة. وفي صفر ورد العميد أبو نصر إلى بغداد مطالبًا للديوان بمئة ألف دينار من إقطاعه وإقطاع حواشيه، وقال: العساكر كثيرة، وما عند السلطان مالٌ. فلم يُجِبْه الخليفةُ، وأخرج عميد الدولة وظفر الخادم إلى السلطان بهذا السبب، ولم يلتفت العميد إلى مجيء الجواب، بل أدخل يده في الإقطاع، وصرف بُوَّاب الخليفة وولاها الأعاجم، وورد سعيد الدولة الكوهراني إلى بغداد بسبب الوزير ابن جَهير، وعزله لأجل نظام الملك، فخرج الوزير إليه فتلقَّاه، فلم يلتفت إليه، ونزل أصحابه في دور الناس، ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 170.

وفعلوا كلَّ قبيح، وجاء الحلباشية إلى الديوان، وخرقوا الهيبة، وصالوا وجالوا، وخاف الوزير، وقال: أنا أخرج إلى السلطان وأُبيِّن له كذبَ ما قيل عني، وأذكر سابقَ خدمتي، وبالأمس بعث قاروت بك إلى القائم يبذل له ثلاث مئة ألف دينار ليولِّيه الأمر، فأشرتُ بأن لا يولِّيه خدمة السلطان، ويكون جزائي هذا التهديد، وكان مع سعد الدولة كتاب مختوم إلى الخليفة، وأظهر أن عزل الوزير فيه، فلمَّا فتح الكتاب لم يكن فيه عزله، وإنما كان فيه في بعض الفصول: أيها الوزير، إن أصحابنا العائدين من بغداد يذكرون اتِّفاقك لحوائجهم وإعراضهم، ويجب أن تزول هذه الطريق عن هذه الخلائق، وإلَّا كاتبنا الحضرة الإمامية بالكراهة لك، التي تقتضي الاستبدال بك، والتعويل على من يكون أصحابنا له شاكرين، ولأفعاله حامدين. فندم الوزير على ما بدر منه في معنى قاروت بك، وقال لسعد الدولة: لو أَعلمتَني أن الكتاب يشتمل على ما يتعلق بك لكنتُ جمعتُ من الناس أكثر مما جمعت، لكنَّك أساتَ التدبير [وفعلتَ ضدَّ الصواب. وطاب قلب الوزير] (¬1) وبعث بالكتاب إلى الخليفة، فطابَتْ نفسُه ونفوسُ الحاشية، ثم جاءت كتب السلطان بعد ذلك بالإفراج عن إقطاع الخليفة والحاشية. وفي جمادى الأولى ورد رسول أتْسِز التركماني صاحب الشام ومعه ولد قُتُلْمِش المأسور وأخ له صغير، فتسلَّمهما سعد الدولة الكوهراني، وبعث بهما إلى السلطان، وفي هذا الوقت أخذ أتْسِز رَفنيَّة (¬2)، ونهب أعمالها، وراسل نصر بن محمود صاحب حلب وقد طمع في شيء من أمواله وأموال أبيه التي خلَّفها، وطالبه بتزويج أخته، وتسليم البلاد، واستقرَّ الأمر على أن بعث له خمسة عشر ألف دينار، وعاد إلى حصار دمشق، فإنه ما زال مضايقًا لها، ونازل طرابلس وصور وأخذهما خفارةً، فكانت الخطبة المصرية بها لم تتغيَّر، والغُزُّ يدخلون إلى صور فيبيعون ويشترون ولا يقيمون فيها، وعلى هذا كانت الهدنة. وفيها قُتِلَ محمود بن نصر صاحب حلب، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) رفنية: مدينة من أعمال حمص، وقال قوم: هي بلدة عند طرابلس من سواحل الشام. معجم البلدان 3/ 55.

وفيها وردت الأخبار بأن بدرًا أميرَ الجيوش بمصر لبس الدُّرَّاعة (¬1) التي برسم الوزارة، حتى لا يترتَّب في الوزارة مَنْ يُفسد عليه الأمور، وخرج إلى الصعيد لقتال السودان واستعادته منهم، فإنهم كانوا قد استولوا عليه. وفيها ظفر القاضي جلال الملك بن عمار بكتب من بدر الجمالي إلى جماعة من وجوه طرابلس تدني عن موافقة تجري بينهما في القبض على جلال الملك، وتسليم البلد إلى مَنْ بيديه القبض عليه، فقبض عليهم، وصادرهم، وقَتَل منهم، ونَفَى الباقين. وفي يوم الأربعاء ثامن عشر شوال خلع الخليفةُ على عميد الدولة بن فخر الدولة الخِلَع السنيَّة، وفوَّض إليه الأمور، وكتب له التوقيع، وكانت الجُبَّةُ سقلاطون، وفَرَجيةَ ديباجٍ نسيج بالذهب، وحُمِلَ على فرس بمركب ذهب، بعد أن استدعاه ووالده وخاطبهما بما طيَّب به نفوسهما، وفوَّض إلى عميد الدولة أَزِمَّةَ التدبير، وخرج معهما توقيع الخليفة إلى بيت النُّوبة، وقُرئ بحضرة الأعيان، وكان من إنشاء أبي سعد بن الموصلايا النصراني، وفيه بعد البسملة: إن أمير المؤمنين إذا تصفَّح مواقف خلصاء دولته وأصفيائها المُبرِّزين في المقاصد التي عند الجمال في مطاويها وأبياتها، وجد أوفاها في الكمال زيدًا، وأكسبَها في الزمان ثناءً وحمدًا، ما اختصَّ به مؤيد الدولة بن فخر الدولة شرف الوزراء أبو نصر صفي أمير المؤمنين من المقامات التي غَبَرَ فيها على من مضى، وأحرز ألقابًا تتنافس فيه من كرم الرضا، وأحلَّته من أمير المؤمين بالمنزلة التي لا يدانيه نظيرٌ في جلالها، ولا طمع أحدٌ قبله في أمثالها، وحين تَفَردتَ بالآثار التي أصبحَتْ غُررًا في الدهر لامعة، وأحلامًا لأقسام الفخار حاويةً جامعة، والمساعي التي أوجبت بها على الدولة الحقَّ الذي لا يُنكر، وأوجدت منها الطرق إلى التي اعتمادِك بالمكرمات التي يبقى شرفُها على الأَيّامِ ويُذْكَر، فأدناك من مقرِّ سُدَّته، وناجاك من مزايا الإكرام بما لا يبلغ مداك من خدمته، وذكر كلامًا طويلًا. وفيها عزم السلطان على أن يُنفذ أخاه تاج الدولة تُتُش إلى الشام، وكان نظام الملك لا يؤثر ذلك، وبلغ أتْسِز الخُوارَزمي صاحب الشام، فكتب إلى السلطان: أنا الخادم الطائع النائب في هذه الأعمال التي أفتَتِحُها بنفسي من غير أن أُكلِّفه فيها مؤونةً، ولا ¬

_ (¬1) الدُّرَّاعة: ثوب من صوف، أو: جبة مشقوقة المقدَّم. المعجم الوسيط (درع).

طلبتُ معونةً، وأقمتُ له الدعوة وما أَخْلَيتُه مما أقدر عليه من حمل الأموال، وقد بلغني ما عليه العزم من إنفاذ الأمير تاج الدولة تُتُش، وما هاهنا من يقتضي استعمال ذلك وإبعادي عن الخدمة ونظري في جملة الأعداء والأضداد، وذكر كلامًا كثيرًا هذا معناه. وقال: وأنا بإزاء مَنْ بمصر من خليفة وجند ورجال ودولة وأموال لا بُدَّ لمن يقاومها أن يجعل نفسه في عدادها، ويتحمَّل لحمالها، ولمَّا وقف نظام الملك على كتابه بعث إليه بقَباء السلطان وقَلَنْسوته [وفرسه] (¬1) وسيفه وتُرسه تشريفًا له وإكرامًا، وطيَّب قلْبَه. وفيها قبض بدر الجمالي على قاضي الإسكندرية ابن المُحَيرق وجماعةٍ من صالحيها وفقهائها، وأخذ منهم أموالًا عظيمة. وفي ذي الحجة وردت كتب أتْسِز على الخليفة بفتوح دمشق صلحًا وتسليمها إليه، وسببه اتِّصالُ الحصار، وغلوُّ الأسعار، وموتُ أهلها، وأن كارة الطعام بلغت نيِّفًا وثمانين دينارًا مغربية، وبقيت على ذلك أربع سنين، والكارتين ونصف غرارة بالشامي، وهذا شيء كثير، الغرارة بمئتي دينار ثمنها ثلاثة آلاف درهم. وفي ذي الحجة أُعيدت الخطبة، وسببه أنَّ السلار الخراساني قرَّر مع الشريف أبي هاشم أمير مكة أن يزوِّجه أختَ السلطان ملكشاه، فتعلَّق طمعُه بذلك، ومنَّتْه نفسُه الأماني، فقال لبني عمه: إنما كنا نخطب للدولة المصرية لمالٍ يُرجى، أو خوفٍ يُخشى، والآن فلم يبقَ هناك ما نخافه، وليس من الصواب خروجُنا عن دولة السلطان خوفًا على نفوسنا، وينبغي أن نبعث إلى هناك رسولًا يخبرنا بشرح الحال، فإن كانت الأمور على السداد ثَبَتْنا على ما نحن عليه، وكان بنو عمِّنا أحبَّ إلينا وأكرمَ علينا، وإن كان بخلاف ذلك دبَّرنا أحوالنا. فأنفذوا إلى مصر اثنين من ثقاتهم، وأمروهما أن يظهروا أنهما وردا للإفادة والتماس الصِّلات، واستدعاء المال المحمول كلَّ سنة مع الكسوة، واستجلاب بدر الجمالي لهم، فذهبا وعادا ومعهما رسول من مصر بعشرةِ آلاف دينار -وقيل: قيدٌ من ذهب أيضًا مع المال وزنُه ثلاثة آلاف مثقال ليحلف ابن أبي هاشم لصاحب مصر ويُقَيِّدَ نفسَه على عادتهم- وكسوةِ البيت دبيقية، وخِلَعٍ لأمير مكة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

أحمد بن علي

والعلويين، ونفقةٍ برسوم كانت لهم، وخلا ابنُ أبي هاشم بالرسولين، وسألهما عمَّا شاهداه، فقالا: ما بقيَ هناك ما يُستند إليه، ولا يُعوَّل عليه، والأحوال قد فسدَتْ، والأموال قد ذهبَتْ، والرجال قد قُتلوا، وخلَتِ البلاد. فقال ابنُ أبي هاشم لبني عمه: قد علمتُم الحال. وورد عليه كتاب سلار الحاج الخراسانية أنه قد فصل الأمر مع السلطان، والمهر عشرة آلاف دينار، فقال لرسول مصر: السلطانُ قاصدٌ العراق، وأخاف منه، فأجروا الخطبة لكم حتى نُبصر ما يكون. ودفع به، وأخذ المال والخِلَع، وبطل خطبة المصريين، وخطب للمقتدي ولملكشاه. وفيها خطب أتْسِز للمقتدي على منبر دمشق، وكان بها الأمير وزير الدولة لمَّا هرب مُعلَّى بن حيدرة بن منزو، فاجتمعت المَصامدة (¬1) على وزير الدولة انتصار بن يحيى، فاختاروه لِحُسن سيرته، فغلَتِ الأسعارُ بدمشق [وأكل الناس الميتات، ووقع بين المصامدة والأحداث] (¬2)، وكان أتْسِز قد أخرب ظاهرها خرابًا كليًّا، وضيَّق على أهلها، فراسلهم في الصلح، فاستوثقوا منه بالأيمان، ودخلها في ذي القعدة واستولى عليها، وحلَّ بأهلها منه قوارعُ البلاء، ونزل أصحابُه في دورهم، وأخذوا حريمهم، وصادرهم بحيث لم يُبقِ مع أحدٍ منهم درهمًا، واتَّصلت دعوات الناس عليه وعلى أصحابه في المساجد، ثم إنه نظر في عمارة البلاد لا في عمارة دمشق، فأطلق الغِلال للفلاحين، وألزمهم الزراعات، فرخصتِ الأسعار، وطابت نفوس الرعية. وفيها تُوفي أحمد بن علي (¬3) ابن محمد بن الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أبو الحسين، جلال الدولة، قاضي دمشق، في أيام المستنصر، وهو آخر قضاة المصريين بدمشق، قال يومًا وعنده [أبو] (¬4) الفتيان بن حَيُّوس: وددتُ أني في الشجاعة ¬

_ (¬1) المَصامِدة: قبيلة من المغاربة. تاريخ الإسلام 10/ 151. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ دمشق 5/ 71 - 72. (¬4) ما بين حاصرتين سقط من الأصل (خ)، واستُدرك من تاريخ الإسلام 10/ 257 والنجوم الزاهرة 5/ 102، وغيرهما.

أحمد بن منصور

مثلُ جدي علي، وفي السخاء مثل حاتم. فقال له ابنُ حيُّوس: وفي الصدق مثلُ أبي ذر. فخجل الشريف؛ لأنه كان يتزيَّد في كلامه. توفي بدمشق في ذي القعدة، ودُفِنَ بداره، ثم نُقِلَ إلى الباب الصغير. أحمد بن منصور (¬1) الغسَّاني، أنشد لغيره: [من المنسرح] أعتقني سوءُ ما صنعت من الرِّقِّ ... فيا بَرْدَها على كَبِدي فصِرْتُ عبدًا لِلسُّوءِ فيكَ وما ... أحسن سوءٌ قبلي إلى أحدِ إسماعيل بن علي (¬2) أبو محمد بن العين زَربيّ، الشاعر، سكن دمشق، ومات بها، ومن شعره [من الطويل]: وحَقِّكمُ ما زُرتُكُم في دُجُنَّةِ ... من اللَّيلِ تُخفيني كأنِّيَ سارِقُ ولا زُرتُ إلَّا والسيوفُ شواهرٌ ... عليَّ وأطرافُ الرِّماحِ لواحِقُ وقال: [من المتقارب] أحِنُّ إلى ساكنات الحجاز ... وقَد حَجزتني أمورٌ ثِقالُ بكيتُ ففاضَتْ بحورُ الدموعِ ... كأنَّ لها من جفوني انثيالُ وظنَّ العواذلُ أني سلوتُ ... لِفَقدِ البكاءِ وجاروا وقالوا حقيقٌ حقيقٌ وجدتَ السلوَّ ... فقلتُ محالٌ محالٌ محالُ وقال: [من الطويل] ألا يا حَمامَ الأيْكِ عَيشُكَ آهِلٌ ... وغصنُكَ ميَّاسٌ وإلفُكَ حاضرُ أتبكي وما امتدَّتْ إليكَ يدُ النَّوى ... ببينِ ولم يَذْعَر جناحَكَ ذاعِرُ (¬3) ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 6/ 31 - 32. (¬2) تاريخ دمشق 9/ 26 - 29. (¬3) الذَّاعر: المخيف المُفزعُ. تاج العروس (ذعر).

محمد بن علي

محمد بن علي (¬1) ابن محمد بن أحمد، أبو علي، الهاشمي، ابن عم الشريف أبي جعفر بن أبي موسى الحنبلي، سمع الكثير، وتوفِّي في ربيع الأول، ودُفِنَ بباب حرب، وكان سيدًا ثقةً. مسعود بن المحسن (¬2) ابن الحسن بن عبد الرزاق، أبو جعفر، البياضي، الشاعر، البغدادي، برع في الأدب، وتوفِّي ببغداد في ذي القعدة، ودُفِنَ بباب أبرز، ومن شعره: [من الخفيف] حبَّذا مسجدًا بباب مُعلَّى ... سخنَتْ فيهِ أعينُ القُرَّاءِ كان للدرسِ والصلاةِ محلًّا ... فهُوَ اليومَ مجمعُ الأهواءِ كمْ قتيلٍ فيهِ بسهمِ لَحاظٍ ... صرَعَتْهُ من مُقلَةٍ حَوراءِ وتراني إذا دخلتُ إليهِ ... أتخطَّى مصارعَ الشُّهداءِ وقال أيضًا: [من الوافر] إذا هبَّتْ له نسماتُ وَجدٍ ... يعيشُ لمَرِّها ميتَ البعادِ إذا غنَّى به الحادي ركابًا ... ترنَّحتِ الغواربُ والهوادي وطابَ السَّيرُ وانقضتِ الفيافي ... وعادت بعد حدبٍ كالنِّجادِ أُحبُّ القُربَ من سُكَّان نجدٍ ... كان طابوا نفوسًا بالبِعادِ وأُخلِصُ في مودَّتِهم ضميري ... وإن لم يعرِفوا حقَّ الودادِ وقد أغلقْتُ باب السَّمعِ عن مَنْ ... ينازِلُهُ بألسنةٍ حِدادِ إذا ركبوا ملامَهُمُ لِعَذْلي ... ركبتُ هوايَ في ذاكَ الجهادِ وعَزَّ عليَّ أنهمُ صديقٌ ... ألاقي فيهمُ ملقى الأعادي ولكنَّ الهوى فرسٌ جموحٌ ... يُجاذبني العِنانَ إلى الطِّرادِ وقال: [من الكامل] يا مَنْ لبِسْتُ بهجْرِهِ ثوبَ الضَّنا ... حتى خفيتُ به عن العُوَّادِ ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 174. (¬2) المنتظم 16/ 175 - 176، الكامل 10/ 101 - 102. وفي السير 18/ 409، وبقية المصادر: مسعود بن عبد العزيز.

وأنِسْتُ بالسهرِ الطويلِ فأُنسِيَتْ ... أجفانُ عيني كيفَ كان رُقادي إنْ كانَ يوسفُ بالجمالِ مُقطِّعَ الـ ... أيدي فأنتَ مفتِّتُ الأكبادِ وقال: [من المديد] قلتُ للعاذلِ لمَّا جاءني ... من طريقِ العذْلِ يُبدي ويعيدُ أيُّها العاذِلُ لي في زعمهِ ... لا تُرِدْ نُصحًا لمن ليس يُريدُ فالذي أنتَ له مُسْتَقبِحٌ ... ما على إحسانهِ عندي مَزيدُ فإذا نحنُ تشاكينا الهوى ... فاستماعُ العَذْلِ شيءٌ لا يُفيدُ حبَّذا الليلُ الذي أسهرُهُ ... في هوى مَنْ هو عن ليلي رَقودُ ونَعمْ أهلًا بسربال ضنا ... جسدي يبلى به وهو جديدُ وهنيئًا لفؤادي أنَّه ... في جهادِ الأعينِ النُّجلِ شهيدُ وقال: [من الطويل] لئِنْ كانَ ذاك الوُدُّ كُدِّرَ شُربُه ... فحاشى لِذاكَ القلبِ أن يتكدَّرا فلا تحسبَنَّ الوُدَّ صارَ مُهوَّنًا ... ولا أنَّ معروفَ الهوى صار مُنكَرا فواللهِ إني ذلك المخلصُ الذي ... عزيزٌ على الأيَّامِ أن يتغيَّرا وإنْ تَسْعَ رجلي نحوَ غيرِكَ عن رضا ... فلا برِحَتْ طولَ الزمانِ تَعثَّرا وإنْ نظرَتْ عيني إليهِ بلذَّةٍ ... فلا صافَحَتْ أجفانُها لذَّةَ الكَرى وكتب إلى القائم بأمر الله وكان قد ستكتب أهل الذمَّة، وضمَّن ابن فضلان اليهودي ضياعه، وفتك في المسلمين: [من الكامل] يا ابنَ الخلائفِ من قريشٍ والذي ... طهُرَتْ أصولُهمُ من الأدناسِ قلَّدتَ أمرَ المسلمين عدوَّهُم ... ما هكذا فعلَتْ بنو العباسِ حاشاكَ من قولِ الرعيةِ إنَّهُ ... ناسٍ لقاءَ اللهِ أو مُتناسِ ما العذرُ إنْ قالوا غدًا هذا الذي ... ولَّى اليهودَ على رقاب الناس أتقولُ كانوا وفَّروا أموالنا ... فبُيوتُها قفرٌ بلا إيناسِ لا تذكُرَنْ إحصاءَهم ما وفَّروا ... ظلمًا وتنسى مُحصيَ الأنفاس وخَفِ الجزاءَ غدًا إذا وُفِّيتَ ما ... كسبَتْ يداكَ اليومَ بالقِسْطاسِ

في موقفٍ ما فيه إلَّا شاخصٌ ... أو مُهطِعٌ أو مُقنِعٌ بالراسِ أعضاؤهم فيهِ الشهودُ وسجنُهُم ... نارٌ وحاكمهم شديدُ الباسِ إن تَمطُلِ اليومَ الدُّيونَ مع الغنى ... فغدًا تُوفِّيها مع الإفلاسِ لا تعتذِر عن صرفِهم بتعذُّر الـ ... مُتصرِّفين الحُذَّقِ الأكياسِ ما كنتَ تفعلُ بعدَهُم إن أُهلِكوا ... فافعَلْ وعُدَّ القومَ في الأرماسِ وقال أيضًا: [من البسيط] قُلْ للذين جفَوني إذْ لَهجْتُ بهم ... وصارَ ذِكرهُمُ يجري مع النَّفَسِ صُدُّوا وأرضُوا مُحِبَّكُمْ إذا دَرسَتْ ... آثارُ قريٍ جديدٍ غيرِ مُندَرِسِ ماذا يضرُّكمُ أني أحِبكمُ ... مع البراءةِ من عيبٍ ومن دَنَسِ إنْ كنتُ أذكُرُ شيئًا غيرَ حبِّكُمُ ... يا سادتي فرماني اللهُ بالخَرَسِ وقال: [من الكامل] إن كنتُ بعدَكمُ ألِفْتُ هجوعا ... فحُرمْتُ سُؤلي في اللقاءِ سريعا أو ذُقْتُ حلوًا غيرَ ذِكْرِكُمُ فلا ... صدقَتْ مُنايَ أن نعودَ جميعا للهِ ما صنع الفِراقُ ندامةً ... ما انفَكَّ سِنِّي بعدها مقروعا لو قلتَ سَلْ صارَتْ جميعُ جوارحي ... في الحالِ ألسنةَ تقولُ رجوعا وقال: [من البسيط] لولا الخدودُ ولولا الأعينُ النُّجُلُ ... ما تَمَّ قولٌ لإبليسٍ ولا عمَلُ إنَّ العيونَ إذا استمكَنَّ من رجلٍ ... فعَلْنَ في القلبِ ما لا يفعَلُ الأَسَلُ (¬1) ليسَ الهُمامُ الذي يحمي مَطيَّتَهُ ... يومَ النِّزالِ ونارُ الحربِ تشتعلُ لكنَّ مَنْ غضَّ طَرفًا أو ثنى بصرًا ... عن الحرامِ فذاكَ الفارسُ البطلُ وقال أيضًا: [من البسيط] يا ليلتيَّ بذاكَ الشيحِ والضَّالِ ... ومنبتِ البانِ من نُعمانَ عُودا لي ويا مراتعَ أترابي بذي سَلَمِ ... لهفي على ما مضى من عصرِكِ الخالي ¬

_ (¬1) الأسَل: نبات ذو أغصان كثيرة شائكة الأطراف. المعجم الوسيط (أسل).

قد كانَ قلبي بكُم مأوى السرورِ فَمُذْ ... نأيتُمُ صار مأوى كلِّ بَلبالي (¬1) فلو شَرَيتُ بعمري ساعةً سَلَفَتْ ... من عيشتي معكُم ما كانَ بالغالي ما في أُعلِّلُ نفسي بالوقوفِ على ... منازلٍ أقفرَتْ منكم وأطلالِ قد بُدِّلتْ صامتًا من ناطقٍ لَسِنٍ ... ونافرٍ عاطلًا (¬2) من أُنسِكُم حالي أُميتُ من حرِّ أنفاسي خمائِلَها ... طورًا وأَبكي فأحييها بتَهمالي وأبتغي من رسومٍ قد دَرسْنَ بها ... رجْعَ الكلامِ وما يُبْهمنَ تسآلي أأرتجي البُرءَ منها وهْيَ باليةٌ ... هيهاتَ كيفَ يُداوي باليًا بالي مَنْ لي بكتمانِ ما ألقاهُ من ألمٍ ... وظاهري مُعْرِبٌ عن باطنِ الحالِ قالوا تشاغلَ عنَّا واصطفى بدلًا ... منا وذلك فِعلُ الخائنِ السالي (¬3) وكيفَ أُشغِلُ قلبي عن محبَّتكُم ... وغيرِ ذِكركمُ يا كُل أشغالي لِيهْنَ قومٌ أطاعوا في عواذِلهم ... إني على العهدِ في عصيانِ عُذَّالي وقال أيضًا: [من الكامل] قد حانَ من سفرِ الصُّدودِ قدومُ ... فإلى متى هذا الصُّدودُ يدومُ لم يبقَ منِّي ما يبينُ لناظرٍ ... إلا ثيابٌ تحتهنَّ رسومُ لو أنها ظهرت لأَقصرَ عاذلي ... ولَقال كيف يُخاطَبُ المعدومُ إنَّ الذي يَهوَى ظلومَ وينتهي ... عنها بعَذْلٍ إنَّهُ لظَلومُ (¬4) ما لامَ فيها عاذلٌ فبدَتْ لَهُ ... عمدًا فأبصرَها يكادُ يلومُ وقال: [من الطويل] أبثُّهُمُ وجدي وهُمْ بيَ أعلمُ ... وأرجو شفائي منهمُ وهمُ هُمُ وكَمْ عذلوني فيهمُ غيرَ مرَّةٍ ... فقلتُ لهم واللهُ بالصِّدقِ أعلمُ وجدتُمْ ولكنِّي وجدتُ عليكُمُ ... لأنَّكُمُ ما جُدتُمُ إذْ وجْدتُمُ ¬

_ (¬1) البلبال: شدة الهم. المعجم الوسيط (بلبل). (¬2) في (ب): عاطرًا. (¬3) السالي: النَّاسي، من السُّلُوِّ. (¬4) في النسخة الوحيدة (خ): عذوله لمظلوم. ولم يستقِمْ في وزنُه ولا معناه، ولعل الصوابَ ما استظهرتُه.

ناصر [بن محمد] بن علي

إذا كانَ قلبي موثَقًا في حبالكمْ ... وجسمي لديكُم كيفَ أفهمُ عنكمُ فإنْ شئتمُ أنْ تعذِلوا فترفَّقوا ... إلى أنْ يعودَ القلبُ ثمَّ تكلَّموا وكتب إلى القائم بأمر الله: [من الوافر] أميرُ المؤمنين نداءُ عبدٍ ... يراكَ الصِّرفَ صرفَ الدَّهرِ أهلا فلي في الأرضِ مُتَّسَعٌ وقومٌ ... ألاقي عندهُمْ أهلًا وسهلا ولستُ بضارعٍ إلَّا إليكُم ... فأمَّا غيرُكم حاشا وكلَّا وهذا شرحُ حالي فاسمَعَنْهُ ... فقد أنهيتُهُ والأمرُ أعلى وقال: [من الطويل] ألفتُ الضَّنا من بعدكُم فَلَوَ أنَّهُ ... يُغيَّبُ عن جسميَ جئتُ إليهِ وصارَ البُكا لي مؤنسًا فَلَوَ أنَّهُ ... تباعدَ عن عيني بَكيتُ عليهِ وقال أيضًا: [من الخفيف] ليسَ لي صاحبٌ مُعينٌ سوى الليـ ... لِ إذا طال بالصُّدودِ عَليا أنا أشكو همَّ الحبيبِ إليهِ ... وهو يشكو بُعْدَ الصَّباحِ إليَّا ناصر [بن محمد] بن علي (¬1) أبو منصور، التركي، والد محمد بن ناصر، ولد سنة تسع وثلاثين وأربع مئة، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث الكثير، وقرأ الأدب واللغة، وتُوفِّي ببغداد في ذي القعدة شابًّا لم يبلغ ثلاثين سنة، وكان صالحًا ثقةً، ورثاه أبو عبد الله الحسين بن محمد البارع بقصيدة طويلة أولها: [من المتقارب] سلامٌ وأنَّى يردُّ السَّلاما ... معاشرُ في التُّربِ أمسَوا رِماما لدى البيضِ صرعى كأنَّ الحِمام ... سقاهُمْ بكأسِ المنايا مُداما أأحبابَنا في بطونِ الثرى ... مقيلٌ لكم إن أردتُم مُقاما تبدَّلتُمُ بالقصورِ القبور ... فأبلَينَ تلكَ الوجوهَ الوساما ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 176 - 178. وما بين حاصرتين سقط من (خ).

ألا هل أرى لكمُ أوبةً ... وللشَّملِ بعد الفراقِ التئاما أرى كلَّ يومٍ مطايا المنون ... تحفُّ بكم موحدًا أو تؤاما نُحيِّي ضرائِحَكُم إنَّها ... تَضَمَّنَّ قومًا علينا كراما سلامٌ على جدَثٍ بالعرا ... قِ أغمدتُ بالأمسِ فيهِ حُساما دفنتُ العُلا والتُّقى والعفا ... فَ والحلمَ والعلمَ فيه حماما أناصرُ يفديكَ مَنْ لَوْ أطا ... قَ دافعَ عنكَ المنايا وحامى أناصرُ لو أنَّ لي ناصرًا ... شننتُ (¬1) [على] (¬2) الموت موتًا زؤاما (¬3) هو الدَّهرُ لا يُتقَّى ضيمُهُ ... [لشيءٍ] (¬4) فأجدَرُ أنْ لا يُضاما أُناديكَ إذ لاتَ حين الدُّعاء ... بمُسْمعةٍ لو أطَقْتَ الكلاما لقدْ خصَّني يا قرينَ الشَّبا ... بِ فيكَ المُصابُ وعَمَّ الأناما وأوجدني منكَ ريبُ المنو ... نِ ظمآنَ لم أشفِ منك الأُواما (¬5) وكيف يطيرُ قصيصُ الجنا ... حِ خانَتْهُ عند النهوضِ القُدامى وأُطفِئُ بالدمعِ نارَ الحشا ... ويأبى لها الوجدُ إلَّا ضِراما وكنتُ أُلامُ على أدمعي ... فأيقنتُ بعدكَ أن لا أُلاما فلا استشعرَ القلبُ عنكَ السُّلُو ... ولا ازدادَ بعدَكَ أن لا أُلاما إذا رامَ صبرًا تمثَّلْتَ فيهِ ... فأقصى خَيالُكَ ذاك المَراما وما أنا من بعد علم اليقين ... أحسَبُ يومَكَ إلَّا مناما لقد كنتَ غُرَّةَ وجهِ الزَّمان ... فقد عادَ من بعد (¬6) بِشْرٍ جَهاما وكنتَ على تاجِهِ دُرَّةً ... تُضيءُ الدُّجى وتُزين النِّظاما فأضحى بكَ الدهرُ مستأثرًا ... وجلَّلَنا بعد نورٍ ظلاما ¬

_ (¬1) في المنتظم: صببتُ. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) والمنتظم. (¬3) الزُّؤام: العاجل. المعجم الوسيط (زأم). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب) والمنتظم. (¬5) الأُوام: حرارة العطش. المعجم الوسيط (آم). (¬6) في المنتظم: عاد.

السنة التاسعة والستون وأربع مئة

وضَنَّ بكَ الدهرُ عن أهلِهِ ... فثُبْتَ (¬1) حميدًا ولم تلقَ ذاما وأيقنتَ أنَّ الدُّنا للفنا ... ءِ فاعتضْتَ في الخُلدِ عيشًا دواما لتَبْكِ عليكَ فنونُ العلوم ... فقد كنتَ في كلِّ فنٍّ إماما وما كنتَ إلَّا قريعَ الزمان ... والناسُ بعدَك إلا سواما ألا لا أرى مشكلاتِ الأمور ... يَزْدَدنَ بعدَكَ إلا انعجاما (¬2) فمَنْ ذا يُفرِّجُ عنَّا الهمو ... مَ إذا ازدحمَتْ في الصُّدورِ ازدحاما ومَنْ للمجالسِ صدرٌ سِواك ... إذا اضطربت أبحرُ العلمِ عاما ومَنْ للمحاريبِ أهلٌ سِواك ... وقدمًا تقدَّمتَ فيها غلاما وقال أيضًا (¬3): تجاوزتَ في العلم حدَّ الشيوخ ... وكلُّ سِنيكَ ثلاثون عاما ولم [أر] (¬4) كاليومِ بدرًا سوا ... كَ عاجلَ فيه السَّرارُ (¬5) التماما فحاشا لسانًا تلا ما تلو ... تَ يُصبحُ للدُّودِ يومًا طعاما وهوَّنَ وجدي أنِّي غدًا ... كما قد لقيتَ ألاقي (¬6) حماما وأن سوفَ يجمعُنا موقفٌ ... ترى الخلقَ في حافَتيهِ قياما عليكَ السلامُ فإني امرؤ ... على القُربِ والبُعد أُهدي السَّلاما السنة التاسعة والستون وأربع مئة فيها في صفر غلب على المدينة محيط العلوي، وأعاد خطبة المصريين، وطرد منها الحسين مهنا أميرَها، فقصد خراسان إلى ملكشاه ونظام الملك، وكان قد أساء السيرة، ووضع على الواردين لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاوة، فقامت الشناعة، واجتمعت القبائل مع محيط بهذا السبب. ¬

_ (¬1) في (ب): فمُتَّ وفي المنتظم: فنِلْتَ. (¬2) في المنتظم: انقحاما. (¬3) هذه العبارة من الأصل (خ)، وكأنها مقحمة؛ لأن ما بعدها هو تتمة للقصيدة، وهي ليست في المنتظم. (¬4) ما بين حاصرتين من المنتظم. (¬5) السَّرار: آخر ليلة في الشهر. المعجم الوسيط (سرر). (¬6) في المنتظم: مُلاقٍ.

وفي ربيع الأول تُوفي رئيس العراقيين أبو أحمد بن عبد الواحد بن الخضر النهاوندي على باب ملكشاه بأصبهان. وفيه سار ملكشاه إلى خُوزستان، ودخل البصرة، فأقام يومًا واحدًا لمشاهدة المدِّ والجزر. وفي ربيع الآخر تزوَّج الأمير قراقر بن كاكويه الديلمي أرسلان خاتون عمة السلطان وزوجة [الخليفة] (¬1) القائم، وحمل إليها مئتي ثوب أصنافًا وعشرة آلاف دينار. ودخل بها. وفيه ورد كتاب أتْسِز الخُوارَزمي تاريخه سلخ صفر [من أول الجفار] بأنه قد سار إلى مصر. وفيه زادت دجلة زيادةً عظيمةً، فنُقِلَ تابوت القائم من الدار إلى الرُّصافة في الليل خوفًا عليه من الماء، ولم يعلم به أحد. وفيه سار أُرْتُق [بك] التركماني واسمه ساراكسك، فقطع حُلوان إلى القطيف، ومرَّ على البصرة، فنهب أصحابُه ما مرُّوا به، فأغلقت أسواقُها، وسُدَّت أبوابُ دروبها، وعَدِم الناسُ الماءَ ثلاثة أيام، وخرج إليه أعيان أهلها وقبَّحوا عليه ما فعل، فطلب منهم الجمال والروايا والزاد والمال ليذهب إلى الأحساء، فأعطوه بعض ما طلب، وسار منها في رجب إلى القطيف، فوجد يحيى بن العباس الخفاجي صاحبَها قد أخلاها ومضى إلى جزيرة أُوال، ونجم أرتق إلى الأحساء فنهبها، وكان بقلعتها جماعةٌ من القرامطة، فراسلوه وخدعوه، وقالوا: نحن نُعطيك عشرة آلاف دينار ونَخطُبُ للخليفة والسلطان. فأجابهم، فقالوا: ابعُدْ عنَّا مدة قريبة ليتراجع الناس، ونجمع المال. وأعطَوه رهائن، فرحل عنهم، فخرجوا إلى آبار غامضة في بساتينهم مملوءة طعامًا، فنقلوها إلى البلد، وعلم أرتق أنهم خدعوه، فعاد إليهم، وقتل من الرهائن عِدَّة، واحتبس منهم (¬2) من رأى عنده رأيًا، وأخرب السَّواد، ونُهبت القرى، وامتلأت أيدي مَنْ معه من النهب، وقاسوا من شدة الحرِّ ما حملهم على طلب نفورهم، وكان هناك ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين في هذا الموضع والموضعين الآتيين من (ب). (¬2) في (ب): عندهم.

رجل -يقال له: عبد الله بن علي الغنوي- عدوًا للقرامطة، فأخذ أرتق ولده معه رهينة، ورتَّب معه مئتي فارس من التركمان، وأقام على حصار الأحساء، وكان للغنوي في تلك الأرض حصن يُعرَفُ بالمحصنة، وهو من بناء أبي البهلول المتغلب على جزيرة أُوال، والحصن قريب من الجرعاء، وقلَّتِ الغلال بها، ولا يعرف أهلها القوت إلا من التمر والسمك، ويُطعمون بهائمهم ذلك، والحنطةُ متعذِّرةٌ عندهم، فاشتدَّ الغلاء، وبلغ الرطل السمك الجرعاني مئتي درهم رصاصًا، ومعاملتهم بالرصاص، يبلغ الدينار إلى ثمانية عشر ألف درهم وإلى عشرين ألفًا بدينار، وعاد باقي التركمان إلى البلاد. وفي رجب أغار خطلج أدران (¬1) على بني خفاجة، كانوا على واد السباك بالحجاز، ومعهم غَزْنة وزبيد، فخرج خطلج من الكوفة وصَحِبه جماعةٌ من التركمان طمعًا في النهب، فقال لهم: [المال لكم، والنساء لي، لا تتعرَّضوا للحريم. فقالوا] (¬2): نعم، وساروا في البرية ثلاثة أيام، فصبّحهم وقتَ السحر، ودقَّ الطبول، وضُربت البوقات، فركبوا خيولهم وانهزموا، وجاء هو إلى الحلل، فأسبل أثواب البيوت، وحمى مَنْ فيها من النساء وما عندهنَّ من الأموال، ونهب التركمانُ الجمال والغنم، ولم يُمكن أحدًا من رفع سجاف عن امرأة، وكان عدد الجمال خمسة آلاف جمل، وأما الغنم فلا تُحصى، غير أنها لم تتبعهم؛ لضعفها، ورجع بطلب الكوفة، فرأى مع أصحابه من الإماء ثلاثًا، فأنكر عليهنَّ، فقالوا: هؤلاء سألْنَنا أن نأخذهنَّ لنخلصهنَّ من خدمة (¬3) العرب، فقلن: نعم، فقال: لا، وردُّوهن إلى العرب. وفي رجب عاد أتْسِز الخُوارَزمي إلى دمشق منهزمًا من القاهرة في خمسة عشر فارسًا، وقد نُهبت أموالُه، وقُتلت رجالُه، وكان لمَّا تسلَّم دمشق تصوَّر في عزمه قصدَ مصر، فجمع من التركمان والأكراد والعرب عشرين ألفًا، ووصل إلى الريف، وأقام نيِّفًا وخمسين يومًا يجمع الأموال، ويسبي الحريم، ويذبح الأطفال، وهو يراسل بدرًا الجمالي، ويطلب المال، وقد انزعج الناس، وكان عسكرُ مصر بالصعيد [يحارب ¬

_ (¬1) كلمة: أدران، ليست في (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ب): من أيدي.

العبيد، فضمِن له مئةً وخمسين ألف دينار، واستدعى من كان بالصعيد] (¬1) من العساكر والسودان، وكان مع أتْسِز بدر بن حازم الكلبي في ألفي فارس، فاستماله بدر، فانتقل إلى القاهرة، وورد القاهرةَ ثلاثةُ آلاف رجل في المراكب بنيَّة الحج، فقال لهم بدر: دَفْعُ هذا العدو أفضلُ من الحج. وأعطاهم المال والسلاح، وقالوا لوالد شكلي التركماني الهارب من أتْسِز: كاتِبِ التركمان. فكاتبهم، وأفسد منهم نحوًا من سبع مئة غلام، وكانوا كارهين لأتْسِزْ من شُحّه وعسفه، واتفقوا أن الحرب متى قامت استأمنوا إلى بدر، وسار أتْسِز إلى القاهرة في أواخر جمادى الآخرة، فأرسل بدرٌ ألفي فارس يصدمونه حتى يستأمن مَنْ أفسدهم أبو شكلي، فلم يستأمن أحدًا، وكسرهم أتْسِز، فرجعوا مفلولين إلى القاهرة، وكان قد التجأ إليها أهل الضياع والأصقاع ومصر والتجار، فوقفوا على باب القصر باكين صارخين، فخرج من [عند] (¬2) المستنصر خادمٌ فقال: يقول لكم أمير المؤمنين: إنما أنا واحدٌ منكم، وعِوَضُ ما تتضرعون على بابي وتبكون، فارجعوا إلى الله تعالى وتضرَّعوا له، ولازموا المساجد والجوامع، وصوموا، وصلُّوا، وأزيلوا الخمور والمنكرات، فلعلَّ الله أن يرحمني وإيَّاكم، ويكشفَ عنَّا ما قد نزل بنا. فعاد الناس إلى المساجد [من الجوامع، وخرج النساء كاشفات الوجوه، منثورات الشعور] (¬3) يبكينَ وششغِثْنَ، والرجال يقرؤون القرآن، وكان بدر الجمالي قد هيَّأ المراكب والسُّفن؛ إن رأى غلبةً نزل منها الإسكندرية، وكذا صاحب مصر، فضجَّ الناسُ، وقصدوا باب القصر، وقالوا: تمضي أنت وبدر في السفن ونهلِكُ نحن؟ ! فخرج الجواب: إني معكم مقيمٌ، فإن مضى أمير الجيوش إلى حيث يطلب السلامة فهاهنا من السفن ما يعمُّكم، مع أنني واثق من الله بالنصر، وعندنا في الكتب السالفة أنَّ هذه الأرض لا تؤتى من الشرق، ومن قصدها هلك، فلمَّا كان وقت السحر خرج بدرٌ إلى ظاهر القاهرة والعسكر معه، وأقبل أتْسِز في جحافله، والدبادب والبوقات بين يديه، فرأى بدرٌ ما لم يظنَّ له به طاقة، وكان بدر قد أقامَ بدرَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

ابن خازم من وراء أتْسِز كمينًا في ألفي فارس، فخرج من ورائهم، فأخذ البغال المحمَّلة، وضرب النار في الخيم والخركاوات، واستأمن إلى والد شكلي السبع مئة غلام كانوا في الميسرة، وحمل بدرٌ على الميمنة فهزمها، وحمل السودان على القلب وفيه أتْسِز، فانهزم وقُتِلَ مَنْ كان حوله، وتبعهم السودان والعرب أسرًا وقتلًا إلى الرمل، وغنموا منهم غنائم لم يغنمها أحدٌ قبل ذلك، وكان فيما أخذ ثلاثةَ آلاف حصان وعشرة آلاف صبي وجاريةً، وأما من الأموال والثياب فما لا يُحصى، وأقاموا مدة شهر رجب يحوزون الأموال والخيل والأمتعة والأسارى، وجاء العسكر وأهل البلد إلى باب القصر، فضجُّوا بالأدعية، فخرج إليهم جواب المستنصر: قد علمتُم ما أشرفَ عليكم من الأمر العظيم والخطب الجسيم الذي لم يخطر في نفوسنا القدرة على دفعِه وردِّه، حتى كشفه الله تعالى، وما يجب أن يكون في مقابلته إلا الشكر لله تعالى على نعمته، ومتى وُجد إنسانٌ على فاحشة كان دمُه ومالُه في مقابلة ذلك، ثم وُجِدَ بعد ذلك ستةُ سكارى، فأُخذوا وخُنقوا، وزال (¬1) ما كان بمصر من الفساد، ولازموا الصلوات وقراءة القرآن، ومضى أتْسِز في نفر يسير، فلمَّا وصل غَزَّة ثار أهلُها به، وقتلوا جماعةً ممَّن كان معه، فهرب إلى [الرملة، فخرج إليه أهلها، فقاتلوه وقتلوا من كان معه، فهرب إلى] (¬2) دمشق في بضع عشرة نفسًا، فخرج إليه ولدُه ومسمار أحد أمراء الكلبيين، وكان قد استخلفهما بدمشق في مئتي فارس من العرب، وكان وصوله في عاشر رجب، فنزل بظاهرها في مضاربَ ضربها له مسمار، وخرج إليه أهل البلد فخدموه، وهنَّوه بالسلامة، وشَكَوه، فشكرهم، وأطلق لهم خراج تلك السنة، وأحسن إليهم، ووعدهم بالجميل، فقام واحدٌ منهم فقال: أيها الملك العادل -وبه كان يُخاطب ويُخطَبُ له- قد حلفتَ لنا وما حلَفْنا لك، وتوثَّقتَ منَّا، وأنا والله أصدُقُكَ وأنصحُكَ. فقال: قُلْ. قال: قد عرفتَ أنه لم يبقَ في هذه البلدة عشرُ العُشرِ من الجوع والفاقة والفقر والضعف، ولم يبقَ لنا قوله، ومتى غُلقت أبواب هذا البلد من عدوٍّ قصدَه، ورُمْتَ منا منَعةً أو حفظًا، فإن كنت مقيمًا بيننا فنحن بين يديك مجتهدون، ولك ¬

_ (¬1) في (خ): وذلك، والمثبت من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

ناصحون، وإن بَعُدتَ عنا فلا طاقة لنا بالقتال مع الفقراء والضعفاء، فلا تجعل غلبة العدو سببًا لهلاكنا ومؤاخذتنا. فقال: صدقتَ ونصحتَ، وما أبعدُ عنكم، ولا أُخليكم من عسكر يكون عندكم. ثم أقام بدمشق، جاءه التركمان من الروم، ولم يستخدم غيرهم، وعصى عليه الشام، وأعادوا خطبة صاحب مصر في جميع الشام، وقام بذلك المَصامِدة والسودان، وكان أتْسِز وأصحابُه قد تركوا أموالهم [بالقدس، فوثب القاضي والشهود ومن بالقدس على أموالهم] ونسائهم فنهبوها، وقسموا التركيات بينهم، واستعبدوا الأحرار من الأولاد واستَرقُّوهم، فخرج من دمشق فيمن ضوى إليه من التركمان، ووصل إلى قريب القدس، وراسلهم وبذل لهم الأمان، فأجابوه بالقبيح، وتوعَّدوه بالقتال، فجاء بنفسه إلى تحت السور، فخاطبهم وسبُّوه، فقاتلهم يومًا وليلةً، وكان مالُه وحرمُه في برج داود، ورام السودانُ والمَصامِدةُ الوصول إليهم فلم يقدروا، وكان في البرج نفق (¬1) إلى ظاهر البلد، فخرج أهلُه منه إليه، ودلُّوه عليه، فدخل منه ومعه جماعةٌ من العسكر، وخرجوا من المحراب، وفتحوا الباب، ودخل العسكر فقتلوا ثلاثة آلاف إنسان، واحتمى قومٌ بالصخرة والجامع، فقرَّر عليهم الأموال، حيث لم يقتلهم لأجل المكان، وأخذ من الأموال شيئًا لا يبلغه الحصر، بحيث بِيعَتِ الفضة بدمشق كلُّ خمسين درهمًا بدينار مما كان يساوي ثلاثة عشر درهمًا بدينار، وقُتِلَ القاضي والشهودُ صبرًا بين يديه، وقرَّر أمور البلد، وسار إلى الرملة، فلم يرَ فيها من أهلها أحدًا إلى غزة، وقتل كلَّ منْ فيها، فلم يدَع بها عينًا تطرف، وجاء إلى العريش فأقام فيه، وبعث سريةً فنهبت الريفَ وعادت، ثم مضى إلى يافا فحصرها، وكان بها رزين (¬2) الدولة، فهرب هو ومن كان فيها إلى صور، فهدم أتْسِز صورها (¬3)، وجاء كتابه إلى بغداد بأنه على نية العَوْد (¬4) إلى مصر، وأنه يجمع العساكر، ثم عاد إلى دمشق، ولم يبقَ بها من أهلها سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد خمس مئة ألف أفناهم الفقر والغلاء والجلاء، وكان بها مئتان وأربعون خبازًا، فصار بها خبَّازان، والأسواق خالية، والدار ¬

_ (¬1) في (ب): رتق. (¬2) تحرفت في (خ) إلى: وزير، والمثبت من (ب). (¬3) هكذا في (خ) و (ب)، ولعلها: سورها. (¬4) في (خ): العهود، والمثبت من (ب).

التي كانت تساوي [ثلاثة آلاف دينار يُنادى عليها عشرة دنانير، فلا يشتريها أحد، والدكَّان الذي كان يساوي] (¬1) ألف دينار ما تُشترى بدينار، كان الضعفاء يأتون إلى الدار الجليلة ذات الأثمان الثقيلة فيُضرمون فيها النار فتحترق، ويجعلون أخشابها فحمًا يصطلون به، وأُكِلت الكلابُ والسنانير، وكان الناس يقفون في الأزِقَّة الضيِّقة فيأخذون المجتازين فيذبحونهم ويشوونهم ويأكلونهم، وكان لامرأة داران قد أُعطيت قديمًا في كلِّ دار ثلاثُ مئة دينار أو أربع مئة دينار، ولمَّا ارتفعت الشدة عن الناس ظهر الفأر، فاحتاجت إلى سِنَّور، فباعت إحدى الدارين بأربعة عشر قيراطًا، واشترت بها سِنَّورًا. وفي شوال وقعت فتنة بين الشافعية (¬2) والحنابلة، وسببها أنه ورد إنسان يُعرف بأبي نصر بن عبد الكريم القُشيري النيسابوري الواعظ المتكلم على مذهب الأشعري، فجلس في المدرسة النظامية، وخلطَ وعْظَه بالكلام، وذمَّ الحنابلة، وتكلَّم في القرآن، فأنكرت الحنابلة ذلك، وعَنَّ لأبي إسحاق الشيرازي إمام الشافعية وأصحابه معونته على الحنابلة، وتتبَّعَ بعضُهم بعضًا في الطرقات ضربًا وسبًّا، فالشافعية لقلة عددهم اعتضدوا بنظام الملك، وأما الحنابلة فمع كثرة عددهم تقوَّوا بسواد البلد، وكان في يوم مجلس ابن القُشيري يحضر قومٌ من اليهود والنصارى، ويرغبون فيما يعطون فيُسلمون، ويُخلَع عليهم، ويُحملون على الخيل ويُطاف بهم، فتقول العوام: هذا إسلام المغايظة والرِّشا، لا إسلامُ الدين والتُّقى. وزاد الأمر فيما بينهم، وجلس جماعةٌ، وكتب أبو إسحاق إلى نظام الملك يشكو أمر الحنابلة ويستدعي منه المعونة، وبعث جماعةً بكتُب، وكان أبو جعفر عبد الخالق بن أبي موسى الهاشمي مُتقدِّم الحنابلة مقيمًا بالرُّصافة، فبان له من شحنة بغداد، ويعرف بالسلار القاروني، تعصُّب عليه خدمة لنظام الملك، وبلغه أنَّ ابن القُشيري على عزمِ قصد جامع الرُّصافة يوم الجمعة ومعه الشحنة، فخاف، وجاء إلى دار الخليفة شاكيًا، وأقام بباب المراتب أيامًا، ثم مضى إلى مسجده بباب النُّوبي، فأقام به على عادته، وحُمِلَ إليه يهوديٌّ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في المنتظم 16/ 181 - 183 - والخبر فيه- بنحوه مختصرًا-: الأشعرية.

فأسلم، وخرجوا معه، وقصدوا باب النُّوبي، وعزموا على الهجوم على ابن أبي موسى [في] (¬1) مسجده، ورتب ابنُ أبي موسى أصحابَه على سطحِ المسجد وبابِه وجوانبِه، فلمَّا وصلوا رماهم الحنابلة بالآجر من سطح المسجد، فقُتِلَ واحدٌ من الشافعية خياطٌ من سوق الثلاثاء، وخرج آخرون، ووقع في صاحب الباب آجُرَّة، وانهزم الشافعية، وغلقوا أبواب النظامية، ونُهبت عمائمُ الناس، وصاحت الشافعية على باب النُّوبي: المستنصر يا منصور؛ تهمةً للمقتدي أنه يميل إلى الحنابلة، وأُدخِلَ ابنُ أبي موسى إلى دار الخليفة، وأُسكِنَ في موضع؛ حراسةً له، وحجرًا عليه، وكفًّا للفتنة، وغضب أبو إسحاق الشيرازي وجمعَ أصحابَه، وعزمَ على الخروج من البلد، فبعث الخليفةُ مَنْ ردَّه، وأحضر ابنَ القشيري وأبا سعد الصوفي وأبا إسحاق وابنَ أبي موسى إلى الديوان، وأُصلحت الحالُ، ووقع التراضي بأنَّ ابن القشيري يجلس بجامع القصر مجلسين أو ثلاثًا، فلمَّا كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي القعدة جلس بالجامع، وبعث الخليفةُ جماعةً من الرجالة بالسلاح يحفظونه من العوام، فشرع في الوعظ، وخلَّط بكلام الأشعري، فقام رجل أعمى وقف بإزائه وانتزع آياتٍ من القرآن، مثل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو} [الرحمن: 27] وما أشبه ذلك، فشكى ابنُ القشيري إلى ابن جَهير، فحبس الأعمى، والفتن قائمة، ووردت رُسُلُ أبي إسحاق الشيرازي في المُحرَّم سنة سبعين ومعهم كتابان إلى فخر الدولة ابن جَهير وابنِه عميد الدولة أبي منصور، فمضمون كتاب فخر الدولة: كتابي أطال اللهُ بقاء سيِّدِنا الوزير الأجلّ السيد مؤيد الدين فخر الدولة شرف الوزراء، أدامَ الله رفعتَه وتمكينَه وبسطتَه، وذكر ما جرت به العادة من الدعاء، وقال: بلغنا ما تجدَّد ببغداد من القضايا المتعلِّقة بالدين التي تظهر في أثنائها على الصُّدفَة، واعتقادُ المداهنين يُشعر بأن الضمائر المنطوية على النفاق أبَتْ إلا ما تُكِنُّه، والسرائر المعقودة على الخِلاف والغلِّ لم تصبر على استحفاظ ما تُجِنُّه، حتى ورد إثرَ ذلك عدةٌ من الفقهاء ونفرٌ من العلماء، فأوضحوا ما يجري هناك مما كانت تخفى حقيقتُه وجَليَّتُه، وما ظهرت بذلك صورتُه، ولعمري إن هذه الطائفة -يعني ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب) والمنتظم.

الشافعية- إذا قَلَّتْ غواتهم ولم يجدوا فيما دَهمَهم مَنْ ينصرهم ويُظافرهم، ولم يقُم معهم فيما حزَبَهم ويؤازرهم، كان كانوا لم يزالوا مُقدَّمين مميَّزين مُكرَمين فلم يُصبحوا أغراضًا لِسهام النوائب يطعن فيهم كلُّ مخالفٍ ومُجانبٍ، لا يرعى لهم حُرمة، ولا يرقُبُ فيهم إلَّا ولا ذِمَّة، غير اعتقاد المذهب الذي هم به موسومون، ومن علومه يتعلمون، وقد بنينا لهم مدرسةً تفسير مأواهم، ويتَّخذونها في السراء والضراء مثواهم، وإن هؤلاء الذين ينتحلون مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله -وإن كان هو بريئًا من سوء دَخَلِهم وأفعالهم، منتفيًا من ذميم طرائقهم وأقوالهم، مع كثرةِ عددهم في تلك البقعة واشتداد شوكتهم، واتفاقِ أقاويلهم في الضلال وكلمتِهم- لم يتجاسروا في زمن الأزمة على ما جعلوه الآن بينهم سورةً يتدارسونها، وصَنْعَةً يمارسونها، مِنْ سبِّ الأئمةِ، والوقيعةِ في علماء الأمَّةِ، من غير منعٍ ولا معاقبة، ولا تخوُّفٍ ولا مراقبة، والعجبُ من إقدامهم في تلك البقعة الحرجة على أهل السنة، وإلقائهم إياهم في كلِّ محنة، وعندنا بخراسان وبلاد الترك -مع تباعُدِ أقطارها واتساع أكوارها- لا يُعرف فيها سوى مذهب الإمامين الشافعي وأبي حنيفة، ومَنْ سُمِعَتْ منه كلمةٌ عوراء في سائر كُوَرِها تُخالف المذهبين وتُباينُ اجتماعَ الفريقين نرى دمَه حلالًا، ونُوسِعُهُ ضربًا وإذلالًا، وليس الإغضاءُ عمَّا يبدو منهم من البدع، ويُضاف إليهم من شرٍّ مجتمع، إلا ترفُّقًا أن يجري في جوار الخِلافة المُعَظّمةِ وسُدَّةِ (¬1) الإمامة المكرمة ما يُخِلُّ بلوازم الهيبة، ويفلُّ جوانب التعظيم والرَّهْبَة (¬2)، وأما ما يخصُّني أنا في ذلك البلد فما أجدُ أصلَحَ من حسم القول فيما يتعلق بتلك المدرسة؛ لئلَّا يجري على من يتفيَّأ ظلَّ عنايتي، ويلحَظُ بعين رعايتي ما يجري، وذكر كلامًا طويلًا ممزوجًا بتهديد، وكذا كتاب عميد الدولة. وحكى أبو الفتح الحلواني -وكان قد حضر هذه القضية- أنَّ الخليفة لمَّا خاف من تشنيع الشافعية عليه عند نظام الملك أمر الوزير أن يُجيل الفكر فيما يحسم به الفتنة، فاستدعى ابنَ جردة، وأمره بإحضار الشريف أبي جعفر وأبي إسحاق الشيرازي وابن القُشيري وأبي سعد الصوفي على وجه التلطُّف، فأحضرهم، فعظَّم الوزيرُ أبا جعفر ابنَ أبي موسى ورفَعَه، ¬

_ (¬1) في (خ): الخليفة العظمة وشدة. (¬2) في (خ): الوفية.

وقال: إن أمير المؤمنين قد ساءه ما جرى، وهؤلاء يصالحونك على ما تريد، وأمرهم بالدنوِّ من الشريف، فقام أبو إسحاق الشيرازي إليه -وكان يتردَّد إلى مسجده أيام المناظرة بدرب البطيخ- فقال له: أنا الَّذي تعرف، وهذه كتبي في أصول الفقه أقول فيها خلافًا للأشعرية. ثم قبَّل رأسه، فقال له الشريف: قد كان ما تقول، إلَّا أنك لمَّا كنتَ فقيرًا لم يظهر لنا منك ما في نفسك، فلما جاء الأعوانُ والسلطانُ وخواجا بزرك أبديتَ ما كان مخفيًّا. ثم قام أبو سعد الصوفي وقبَّل يدَ الشريف وتلطَّف به، فالتفت الشريف إليه وقال: أيها الشيخ، أمَّا الفقهاء فإذا تكلَّموا في الأصول فلهم في مسائلها مدخل، أمَّا أنت فصاحب لهو وسماع وتغبير، فمن زاحمك على ذلك حتَّى أقمتَ الفتن وسوقَ التعصُّب؟ ! . وقام ابن القشيري -وكان أقلَّهم احترامًا للشريف لجروانه معه- فقال الشريف: من هذا؟ فقيل: أبو نصر بن القشيري. فقال: لو جاز أن يُشكرَ أحدٌ على بدعته لكان هذا الشاب؟ لأنه بادَهَنا بما في نفسه، لم ينافقنا كما فعل هذان. ثم التفت إلى الوزير، وقال: أيُّ صلحٍ بيننا؟ إنما يكون الصلح بين خصمين على ولايةٍ أو دَين أو قسمةٍ لميراث، أو تنازعٍ في ملك، فأمَّا هؤلاء القوم فيزعمون أننا كفار، ونحن نعتقد أنَّ من لا [يَعتقِدُ ما] (¬1) نَعتَقِدُهُ فهو كافر، وهذا الإمام مفزَعٌ للمسلمين، وقد كان جدُّه القادر وأبوه القائم أخرجا اعتقادًا للناس، وقُرئ عليهم في دواوينهم، وحمله عنهما الخراسانيون والحجيج إلى أطراف خراسان، ونحن على اعتقادهما. وأنهى الوزير إلى الخليفة ما جرى، فخرج الجواب: عُرِفَ ما أنهيتَه من حضورِ ابن العم - كثَّرَ اللهُ في الأولياء مثلَه - وحضورِ مَنْ حضر من أهل العلم - والحمد لله - على جمع الكلمة، وضمِّ الأُلفة، فليؤذَنْ للجماعة في الانصراف، وليقُلِ الشريفُ أنَّه قد أُذِنَ له موضعٌ قريبٌ من الخدمة ليراجع في كثير من الأمور الدينية، وليتبرَّك بمكانه، فلمَّا سمع الشريف هذا قال: أفعلمتوها؟ . فحُمِلَ إلى موضع أُفرِدَ له، فكان الناس (¬2) يدخلون عليه مدة، فقيل له: قد كثُرَ استطراق الناس لدار الخلافة، فاقتصِرْ على من يُعين دخوله. فقال: ما لي غرضٌ في دخول أحد عليَّ. فامتنع الناسُ عنه، ثم مرض مرضًا أثَّر في رجليه فانتفختا، فيقال: إن بعض المتفقِّهة من الأعداء ترك له في مداسه سمًّا، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من ذيل طبقات الحنابلة 1/ 15. (¬2) من هنا يبدأ السقط من الأصل (ب) وينتهي بنهاية السنة (473) هـ.

وخرج ابنُ القشيري إلى الحج، وسكنت الفتنة، وكتب ابنُ أبي الصقر إلى نظام الملك يقول: [من مجزوء الرمل] يا نظامَ المُلْكِ قد ... حُلَّ ببغدادَ النِّظامُ عَظُمَ الخطبُ ولِلْـ ... ــحربِ (¬1) اتصالٌ ودوامُ وابنُكَ القاطِنُ فيها ... مستهانٌ مُسْتضامُ وبها أَودى له قَتْـ ... ـــلًا غلامٌ وغلامُ والذي منهم تبقى ... سالمًا فيه سهامُ يا قِوامَ الدِّين لم يَبْـ ... ـــقَ ببغداد مقامُ (¬2) فمتى لم تحسمِ الدا ... ءَ بكفَّيكَ الحسامُ ويكفُّ القومَ في بغْـ ... ــدادَ فتْكٌ وانتقامُ فعلى مدرسةٍ فيـ ... ـــها ومن فيها السَّلامُ ولمَّا وقف نظام الملك على الرُّقعة حنق على ابن جَهير، وقد كان النظام يعلم ميل الخليفة إلى الحنابلة وبُغضَه للأشاعرة، ولكنَّه كان يستأثر الأمور، لا يمكنه أن يصرِّح بذلك، وكان في الباطن يُحرِّض ملك شاه على الخليفة الوزير. وفيها أزال الخليفة المواخير، ونفى المفسدات وكانت مغلة الشحنة، فأعطاه من عنده ألف دينار. وفي ذي القعدة خرج أبو طالب بن أبي تمام الزينبي إلى مكة لأخذ البيعة للخليفة والسلطان، وخرج معه خطلج أدراز أمير الكوفة، وكان ذلك مخالسةً، وما علم به من أصحابه إلا رجلان أو ثلاثة، فتبعوه، وحجَّ وعاد مع الزينبي، وخلعا على أمير مكة. وفي ذي القعدة بعث سابق بن محمود بن الزَّوقلية صاحبُ حلب إلى أنطاكية بأحمد شاه والتركمان الذين معه وعدد كثير من بني كلاب وأحداث حلب، فحصروها، فبلغ الخبزُ بها رطلين بدينار، وقرَّروا عليه مئةً وخمسين ألف دينار، وقبضوها وعادوا عنها. ¬

_ (¬1) في الأصل (خ): عظم الحرب والخطب، والتصويب من الكامل 10/ 109، وتاريخ الإسلام 10/ 311، وغيرهما. (¬2) في الأصل (خ): قوامُ، والمثبت من المصادر السابقة.

اسبهدوست بن محمد بن الحسن

وفيها تُوفِّي اسبَهْدُوست بن محمد بن الحسن (¬1) أبو منصور، الديلمي، الشاعر، كان يهجو الصحابة - رضي الله عنهم - والناسَ، ثم تاب وحسُنت توبتُه، فقال: [من الكامل] لاحَ الهُدى فجلا عن الأبصارِ ... كالليلِ يجلوهُ ضياءُ نهارِ ورأَتْ سبيلَ الرُّشدِ عيني بعدما ... غطَّى عليها الجهلُ بالأستارِ لا بدَّ فاعلَمْ للفتى من توبةٍ ... قبل الرحيلِ إلى ديارِ بوارِ يمحو بها ما قَدْ مضى من ذنبهِ ... وينالُ عفوَ إلههِ الغفَّارِ وعلمتُ أنهمُ هُداةٌ قادةٌ ... وأئمةٌ مثلُ النجوم دراري وعدلتُ عما كُنْتُ معتقدًا له ... في الصَّحبِ صحبِ نبيِّكَ المختارِ السيِّدِ الصدِّيقِ والعدلِ الرِّضا ... عمرٍ وعثمانٍ شهيدِ الدارِ وعليٍّ الطُّهرِ المُفضَّلِ بعدَهُمْ ... سيفِ الإلهِ وقاتلِ الفُجَّارِ صحْبُ النبيِّ الغُرُّ بل خلفاؤه ... فينا بأمرِ الواحدِ القهَّارِ رحماءُ بينهُمُ فتلكَ صفاتُهمْ ... ورَدَتْ أشِدَّاءٌ على الكفَّارِ وتَراهُمُ من راكعينَ وسُجَّدٍ ... يستغفرونَ اللهَ بالأسحارِ أيقنتُ حقًّا أنَّ من والاهمُ ... سيفوزُ بالحسنى بدارِ قَرارِ فعَدلْتُ نحوَهمُ مقرًّا بالولا ... ومخالفًا للعُصبةِ الأشرارِ مترجِّيًا عفوَ الإله ومحوَهُ ... ما قدَّمتهُ يدي من الأوزارِ وإذا سألتَ عن اعتقادي قلتُ ما ... كانَتْ عليهِ مذاهبُ الأبرارِ وأقولُ خيرُ الناسِ بعدَ محمدٍ ... صِدِّيقُهُ وأنيسُهُ في الغارِ ثمَّ الثلاثة بعده خيرُ الورى ... أكرِمْ بهمْ من سادةٍ أطهارِ هذا اعتقادي والذي أرجو بهِ ... فوزي وعتقي من عذابِ النارِ وكانت وفاته في ربيع، ودُفن بباب أبرز. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 184 - 185.

حمزة [بن علي]

حمزة [بن علي] (¬1) أبو يعلى بن العين زربي، الشاعر، كان فصيحًا فاضلًا أديبًا، لما فتح أتْسِز بن أوق القدس وقتل بها ذاك العالم العظيم كان حمزة بالقدس، فقُتِلَ بالحرم في شوال رحمه الله، ومن شعره: [من السريع] يا راكبًا يقطعُ عرضَ الفلا ... بَلِّغْ أحبَّائي الَّذي تسمعُ وقُلْ لهم ما جَفَّ مَدْمَعٌ ... ولا هنا لي بعدَكُمْ مضجَعُ ولا لَقيتُ الطَّيفَ مُذْ غبتُمُ ... وإنَّما يلقاهُ مَنْ يهجَعُ وقال: [من الطويل] تناسيتُمُ عهدَ الهوى بعدَ تذكارِ ... فأجرى حديثي عِندكُم دمعيَ الجاري وأنكرتمُ بعدَ اعترافِ مودَّتي ... فهيَّجتُمُ وجدي وأضرمتُمُ ناري وهَلْ دامَ في الأيَّامِ وَصْلٌ لهاجِرٍ ... ووُدٌّ لِخَوَّانٍ وعهدٌ لِغَدَّارِ أَما حاكمٌ لي في هواكُمْ يُقيلني ... أمَّا آخذٌ لي بعدَ سفكِ دمي ثاري وإنِّي لصبَّارٌ على ما ينوبني ... ولكن على هجرانكُمْ غيرُ صَبَّارِ طاهر بن أحمد بن بابَشاذ (¬2) أبو الحسن، النَّحْوي، المصري، صاحب المقدمة المشهورة، كان عالمًا فاضلًا، وله تصانيف في النحو، وسمع الحديث ورواه، وقُرئ عليه الأدب بجامع مصر سنين، صعد يومًا إلى سطح جامع مصر فوقع فمات من ساعته في رجب. السنة السبعون وأربع مئة فيها في ثالث المُحرَّم قتل السلطانُ جلالُ الدولة ملك شاه أنموه بن أتابك صاحب الجيش، وكان قد عصى عليه. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 15/ 212 - 213، ومعجم الأدباء 11/ 5 - 8، وما بين حاصرتين من المصادر. (¬2) معجم الأدباء 12/ 17 - 19. وتنظر باقي مصادر الترجمة في السير 18/ 439.

وفي يوم الخميس النصف من صفر قدم مؤيد الملك بن أبي بكر نظام الملك إلى بغداد، وخرج إلى لقائه الوزير فخرُ الدولة بن جَهير وولدُه عميد الدولة وجميعُ الخدم والحُجَّاب إلى الحلبة، وجاء إلى بيت النوبة، فخدم وانصرف. وفي يوم الخميس سابع عشر ربيع الأول تُوفِّي القاضي أبو عبد الله محمد بن محمد بن البيضاوي، الشافعي. وفي ربيع الأول ظهر في السماء حُمرةٌ مستديرةٌ كنصف دائرة كبيرة، ثم عقبها ريحٌ شديدةٌ ورعدٌ وبرقٌ شديد، ووقعت منه صاعقةٌ في محلة التُّوتةِ غربي بغداد على نخلتين في مسجد فأحرقَتْهما، واشتعل سَعَفُهما وكَرَبُهما ولِيفُهما، وأخذ الصبيان من السَّعَفِ والنار تشتعل فيه وهو يَقِدُ كالشمع وأُطفِئت النار (¬1). وفيه جاء خطلج دُزْدار (¬2) أمير المؤمنين إلى الديوان يطلب تشريفًا، وكان قد ظلم أهلَ الكوفة وأخذ أموالهم، فقيل له في الجواب: ما تقدَّم منك ما يوجب ذلك، ولا ما يقتضيه. فخرج مُغضَبًا، وعاد إلى الكوفة، واجتاز بنهر الملك، فقبض على نائب الخليفة في ضياعه، وأخذه معه إلى الكوفة، ثم أطلقه، فكتب الوزير إلى نظام الملك بما جرى وما أقدَمَ عليه خطلج من خرق الهيبة، فكتب نظام الملك من ديوان ملك شاه كتابًا إلى خطلج يُوبِّخه ويلومه ويقول: أيها السلار سيف الدولة، وفَّقكَ اللهُ للرشد، إن قوامَ الدين والدنيا ومصالحَ البلاد والعباد وسكونَ الدهماء ونظامَ الأحوال كلَّها معقودٌ بأُبَّهة المواقف الشريفة المقدسة النبوية الإمامية المقتدية، ظاهرَ اللهُ مجدَها، وقمعَ ضِدَّها، التي هي الظِّل الظليلُ في أرضه، ورحمتُه على خلقه، وجميعُ ما يشملنا ويصفو لنا ويصفو علينا، من عوارف الله تعالى ومواهبه ونعمه وعوائده، فمِنْ أيامِها الزاهرة، ودولتِها القاهرة، وبركاتِ توفُّرِنا على عبوديتها، وقيامِنا بمفروضِ طاعتها، وانتسابِنا أين كنَّا وحيث حلَلْنا إلى خدمتها، ومَنْ يبغِ في خلافِ خلافِها، ومدَّ عُنُقَه عن ربقة بياعتها، فلا همَّ لنا إلَّا شدْخَ هامته، وإقامةَ قيامتِه كيف وافى، ومن أين لكَ أن تُلِحَّ على السُّدَّة العزيزة بما لو ورد إلى فَمِكَ لهَتَمه (¬3)، ولو حُمِلَ على ظهرك ¬

_ (¬1) الخبر بنحوه في المنتظم 16/ 190. والكَرَبُ: جمع كَرَبة، وهي أصل السَّعَفةِ العريضة. اللسان (كرب). (¬2) في (خ): أدرار، ودُزْدار: لفظ أعجمي معناه: حافظ القلعة وهو الوالي. وفيات الأعيان 7/ 142. (¬3) الهَتْم: الكسر. المعجم الوسيط (هتم).

لقصَمَه، ثم تُلفي في منصرفك عنها بعضَ المنتمين إليها فتُرجِّله عن دابته وتمدُّ يَدَك إلى أذيته، ولقد عظُمَ علينا استماعُ ما تمادى منك إليه، وما بدا من فعلك المستنكرِ عليه، ولو رأتِ المواقفُ الجلاليةُ تقويمَكَ بأن تجعلك عبرةً لغيرك لأمرتُ به، ولكنَّها أبَتْ عواطفُها الكريمة، ورحمتُها الواسعةُ العميمة إلا إعراضًا عن جريمتك، وإغضاءً عن عقوبتك، ولعِلْمنا بأنَّ المواقف المقدسة الإمامية لا تستجيز عقوبتك، ولا ترى مقاتلتك، فمَرِّغْ خدودَك على تراب الهيبة الشريفة، وتضرَّعْ إلى مكارم تلك المراتب المُنيفة، وتعلَّق بأذيال تلك المكارم الفائضة، واستدِرَّ ظلال الرحمة الواسعة، وذكر كلامًا هذا معناه. وفيها ورد كتاب أرتق بك من الأحساء باستظهاره على القرامطة وأخْذِ بلادهم وغنيمتِهم، فحضر أرتق بك في الديوان وقرأه، وخرج توقيع الخليفة يشكره، وخلع عليه، وأعطي الفرس بمركب ذهب والمنجوق وثيابًا. وفي شعبان تُوفيت بنت الوزير نظام الملك زوجة عميد الملك، وجلس الوزيرُ ولدُه في العزاء، ودُفنت بدار الوزير بباب عمورية، ولم تكن العادةُ جاريةً بالدفن فيما يدور عليه السور. وفي رمضان حُمِلَ إلى مكة منبرٌ كبيرٌ مُذْهَب، تولَّى عمَلَه فخر الدولة بن جَهير في داره، وكُتِبَ عليه اسم الخليفة وألقابُه والآياتُ المتعلقة بالحاج ومكة، فاتَّفق وصولُه إلى مكة وقد أُعيدت الخطبة المصرية، فآل أمرُه إلى أن أُحرِقَ. وفيها ورد كتاب نظام الملك إلى أبي إسحاق الشيرازي جوابًا عن كتابه المتقدِّم يشكو فيه الحنابلة نسخته: وردَ كتابُكَ أيها الشيخ بشرحٍ أطَلْتَ فيه الخطابَ، وندبتنا إلى استدعاء الجواب، وليس من الواجب أن نتحيَّز في المذهب إلى جهةٍ دون جهة، وليس ذلك مقتضى السياسة والمعدلة في الرعية، ونحن بتأييد السُّنن أولى من تشييد الفتن، ولم يتقدَّم بنيان هذه المدرسة إلا لضيافة العلم والمصلحة، لا للاختلاف وتفريق الكلمة، ومتى جرت الأمورُ على خلاف ما أردناه من هذه الأسباب فليس إلَّا التقدم على بغداد ونواحيها، ونقلهم عما جَرَتْ عليه عادتهم فيها، فإن الغالب هناك هو مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، ومحلُّه بين الأئمة وقدرُه

معلومٌ في السنة، وكان ما انتهى إلينا أن السبب في تجديد ما تجدَّد مسألة سئل عنها أبو نصر بن القشيري من الأصول، فأجاب عنها بخلاف ما عرفوه من معتقداتهم، وألِفوه من عادتهم، فنقموا ذلك عليه، وليس في العادة أن يُجبَر الإنسان على الانتقال من مذهبه، ولا عن الانحراف عن معتقده، ومعلومٌ أنَّ أهل قاشان كانوا على مذهب أبي حنيفة، فلم يكن يلزمهم أصحاب الشافعي الدخول في معتقدهم، وكذا أصحاب الظاهر اعتقدوا مذهب الشافعي، فلم يُلزمهم أصحابُ الرأي الخروجَ عن مذهبهم، وقد منع اللهُ عن ذلك مَنْ تقدَّم، فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وقد كان أهلُ المذاهب بأصبهان وغيرها من البلاد أكثرَ انتشارًا منه ببغداد، فلم يتقدَّم إليهم في ذلك بما يشقُّ به عليهم، والشيخ أبو إسحاق فرجلٌ سليمُ الصدر، سلسُ الانقياد، يُصغي إلى كلِّ ما يُنقل إليه، ويقع تعويلُه عليه، وعندنا مِنْ تضادُدِ كتُبه ما يدلُّ على ما وصفناه من سهولة مجتذبه، والسلام. وبلغَ الحنابلةَ، فسُرُّوا واطمأنُّوا، وانبسطوا واستطالوا، فلمَّا كان في اليوم الثامن من شوال ومجتمع الناس للبطالة والفرجة خرج من مدرسة النظامية فقيهٌ يُعرَفُ بالإسكندراني - وكان معروفًا بإثارة الفتن - ومعه جماعةٌ من أبناء جنسه إلى سوق الثلاثاء، فتكلم بتكفير الحنابلة، فثاروا عليه وضربوه، ونُهِبَ السوقُ، وقُتِلَ بينهم رجلٌ من الشافعية، وثارت الفتنة، وترامَوا بالنُّشَّاب، وبعث الخليفةُ أصحابَه وخدمَه الخواصَّ، ففرَّقوا بينهم، وحُمِلَ القتيلُ إلى الديوان، وكُتِبَ إلى نظام الملك بشرح الحال، فجاءت منه مكاتبات بضد الأول، وأن يُدخِلَ العميدُ يدَه في بعض إقطاع الخدمة الذين نشِبتْ إليهم الفتنة، ووصل تاج الدولة تُتُش أخو ملك شاه إلى الشام. وفي يوم السبت التاسع عشر من شوال وُلد للخليفة مولودٌ سمَّاه أحمد، وكنَّاه أبا العباس، وجلس الوزير فخر الدولة في باب الفردوس للهناء، وغُلِّقت بغداد من الجانبين سبعة أيام، وهذا المولود ولي الخلافة وهو المستظهر بالله، ووُلِدَ له في ذي القعدة آخرُ سمَّاه هارون، وتُوفِّي في العشر الثاني من رمضان سنة إحدى وسبعين وأربع ومئة (¬1). ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 16/ 191.

أحمد بن عبد الملك بن علي

وفيها توفِّي أحمد بن عبد الملك بن علي (¬1) أبو (¬2) صالح، النيسابوري، المؤذن، ولد سنة ثمان وثمانين وثلاث مئة، وحفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وسمع الحديث الكثير، وصنَّف الأبواب والشيوخ، وكان يؤذِّن ويَعِظ، وكانت وفاتُه بنيسابور في رمضان، وكان قد سأل اللهَ أن لا يُميتَه إلَّا فيه، فاستجاب دعاءَه، وخرج عن ألف شيخ له ألف حديث، كلُّ حديث عن شيخ، وكان شيخ الصوفية في وقته علمًا وعملًا وصدقًا وأمانةً وصلاحًا، وكان حافظًا صدوقًا، أنشد لغيره (¬3): [من البسيط] يا رُبَّ ساعٍ له في سعيهِ أملٌ ... يفنى ولم يَقْضِ من تأميلهِ وطَرا ما ذاقَ طعمَ الغنى من لا قنوعَ لهُ ... ولن ترى قانعًا ما عاش مفتقرا العُرْفُ مَنْ يأتِهِ يحمَدْ مغبَّتَهُ ... ما ضاعَ عُرْفٌ ولو أوليتَهُ حَجَرا عبد الخالق بن عيسى (¬4) ابن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن سعيد بن العباس، أبو جعفر بن أبي موسى، الشريف، الهاشمي إمام الحنابلة ومُقدَّمهم في زمانه، وُلدَ سنة إحدى عشرة وأربع مئة، كان إمامًا ورعًا فاضلًا، قوَّالًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، تفقَّه على القاضي أبي يعلى، وكان يشهد، ثم ترك الشهادة قبل وفاته، ولم يزَلْ يُدرِّس بمسجده في سكة الخرقي بباب البصرة وجامع ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 267، والمنتظم 16/ 193، والكامل 10/ 108، ومعجم الأدباء 3/ 224، وتاريخ الإسلام 10/ 286، والنجوم الزاهرة 5/ 106 وغيرها. وتنظر تتمة المصادر في السير 18/ 419. (¬2) في (خ): بن، والتصويب من المصادر. (¬3) وهو مهدي بن سابق كما في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 3/ 158، ونسب -أيضًا-كما في الحلية 7/ 220 إلى مسعر بن كدام. (¬4) المنتظم 16/ 195 - 197، وطبقات الحنابلة 2/ 238 - 241، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 51 - 26. وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 564.

عبد الرحمن بن محمد

المنصور مدةً، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي، فكان يُدرِّس بمسجد مقابل دار الخلافة، ودرَّس بجامع الرُّصافة وغيره، ولمَّا غسَّلَ القائمَ أوصى له بأشياء كثيرة، فلم يأخذ منها شيئًا، فلمَّا فرغ من غسله استدعاه المقتدي فبايعه في مكانه منفردًا، وأسكنه المقتدي في داره خوفًا عليه، ولمَّا اشتدَّ مرضُه قال: احملوني إلى باب حجرة الخليفة. فحملوه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرُبَ الوقتُ، وما أُحِبُّ أن أموت إلَّا بين أهلي. فأذِنَ له، فمضى إلى بيت أخته بالحريم الطاهري، ولم يُخلِّف شيئًا من الدنيا سوى الحبل والدلو الَّذي كان يستقي به الماء، وكتابًا يُطالع فيه، وكانت وفاتُه ليلةَ الخميس النصف من صفر، وصُلِّي عليه يوم الجمعة بجامع المنصور، وكان يومًا مشهودًا، يُقال في جنازته: ترحَّموا على الشهيد المسموم القتيل. فيُقال: إنه سمَّه بعضُ المخالفين في مداسه. ودُفِن إلى جانب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وكان الناسُ يبيتون هناك كلَّ ليلة أربعاء، ويبيعون المأكول والفواكه، فيُختَم عنده في تلك المدة عشرةُ آلاف ختمة، ثم جاء الشتاء، فانقطعوا. وكان صدوقًا، ثقة، زاهدًا، عابدًا، وصنَّف التصانيف في مذهب الإمام أحمد رحمه الله. عبد الرحمن بن محمد (¬1) ابن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم، أبو القاسم، الأصفهاني، ويعرَفُ بابن مندة، ومندة لقب إبراهيم جدِّه، إمامٌ ابنُ إمام، وُلد سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة، وسمع خلقًا كثيرًا، وكان عظيمَ الشأن، كثيرَ السماع، سافر البلاد، وصنَّف التصانيف، وخرَّج التاريخ، وكان له سمتٌ ووقارٌ، وأتباعٌ فيهم كثرة، وكان متمسكًا بالسنة، معرضًا عن أهل البدع، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، وكانت وفاتُه بأصبهان، وصلَّى عليه أخوه عبد الوهاب، وكان في جنازته خلقٌ لا يُحصَون كثرةً. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 194 - 195، وطبقات الحنابلة 2/ 242، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 26 - 31، والكامل 10/ 108. وتنظر باقي المصادر في السير 18/ 349.

السنة الحادية والسبعون والأربع مئة

السنة الحادية والسبعون والأربع مئة فيها في يوم الاثنين عاشر المُحرَّم ورد سعد الدولة الكوهراني من أصفهان، وضرب على بابه بباب الطاق الطبل في أوقات الصلوات الثلاث؛ الفجر والمغرب والعشاء الآخرة، فأُنكر عليه، فقال: معي توقيع السلطان بذلك. وحضر باب الفردوس، وأخرج كتابًا معه من السلطان إلى الخليفة، فقال: لا أجتمع مع الوزير فخر الدولة وقد أُمرتُ بذلك. وظهرَتْ لوائحُ الشكوى من الوزير وكراهيته، وكان في الكتاب رسالةٌ لا يسمعها الوزير، فلم يُجِبْه الخليفةُ، وتردَّد إلى باب الفردوس أيامًا، وجرى منه من سوء الأدب وخرق الهيبة ورفع الحشمة ما لا يُذكر، ثم مضى إلى دار المملكة، وجمعَ القضاةَ والشهود، وقال: اشهدوا أني سألتُ الوصول إلى الخليفة لأؤدِّي رسالةً حمَّلني إيَّاها السلطان فمُنِعتُ، وأُريد خطوطكم بهذا لأعودَ إلى السلطان وأُعرِّفَه، فيزولَ العيبُ عني. فأشاروا عليه بالتوقف والمعاودة، ووقع الخوض في ذلك إلى أن أُجيب إلى الوصول، فجلس الخليفةُ يوم الثلاثاء ثاني صفر والوزير حاضرٌ، فلمَّا حضر سعد الدولة دفع رقعةً كانت معه إلى بعض الخدم، فناولها الخليفة من وراء الشباك الحديد، فقرأها وتقدَّم بإسبال الستارة بينه وبين الجماعة وانصرفوا، وكانت مشتملةً على كراهية الوزير، والمطالبة بصرفه، وأن لا يُنفذ إلى بغداد رسولٌ من خراسان من دار الخلافة، وأن لا يكون فيها غلمان أتراك للخاصِّ ولا للخدم والأتباع، ثم أنفذ الكوهراني أصحابه إلى باب الفردوس للمطالبة بعزل الوزير، فامتنع الخليفة، وقيل في الجواب: إن فخر الدولة ما هو وزيرنا (¬1) وإنما الوزير ولده، وقد أنفذناه إليكم، ووالده نائبٌ عنه. ثم أنفذ سعدُ الدولة إلى رجلٍ مُعيَّن يُقال له: أبو الحسن بن دُبَّه، وكان يسكن بحريم دار الخلافة، وهو الَّذي تولَّى حريق مشهد موسى بن جعفر -رضي الله عنهما-، فقُبِضَ عليه، فثار الناسُ مع ابن دُبَّه، فقال الكوهراني لأصحابه: أحرقوا حريم دار الخلافة وانهبوه، واقتلوا مَنْ فيه. ثم صلب ابن دُبَّه في السماكين قريبًا من الكَرْخ. ¬

_ (¬1) في (خ): ورثا، والمثبت من المنتظم 16/ 198.

وفي يوم الاثنين النصف من صفر جاء الكوهراني وهو سكران إلى باب الفردوس، وقال: إن سُلِّم الوزيرُ إليَّ وإلَّا دخلتُ وأخذتُه، وإن كلَّمني إنسان قتلتُه. وجاء الليل، وغُلِّقت الأبواب، وأقام على حاله إلى أن مضت قطعةٌ من الليل، ثم وعد بما يريد، وعاد من الغد، وشدَّ خيله على باب الفردوس وبات هناك، وجاء الظهر والعصر والمغرب، فضُربت الطبولُ على باب الفردوس، وخاف الناسُ، ونقلوا أموالهم، فخاف الوزيرُ على الخليفة، فكتب إليه يستعفي، ومضى إلى داره، وبرز توقيع إلى الكوهراني، معناه: لمَّا علم محمد بن محمد بن جَهير ما عليه جلالُ الدولة ونظامُ الملك من المطالبة بصرفه سأل الإذن في ملازمة داره، فأذِنَّا له في ذلك، فقام الكوهراني ومضى. وأما عميد الدولة فإنه وصل إلى أصفهان في يوم الاثنين عاشر مُحرَّم، فوجد نظام الملك على تغيُّرٍ شديد، فأظلمتِ الحالُ، وكان عميد الدولة جلدًا حاذقًا، فما زال حتَّى أصلح الحال، واستَلَّ ما في نفس نظام الملك، فكتب الكوهراني كتابين أحدهما عن السلطان، والثاني عنه يقول: أُنهي إلينا ما فعلتَ وعبتَ عليه. فأُحضِرَ إلى باب الفردوس، وسلَّم إليه الكتابين، وعوتب فقال: ما فعلتُ إلَّا بعضَ ما أمرتني به، وإنَّني ماضٍ إلى هناك، فإني قد استُدعيتُ، وسأوقَفُ على ذلك بحضرة عميد الدولة. ثم خلع السلطان على عميد الدولة الخِلَع الجميلة، وخرج الحُجَّاب والأمراءُ يمشون بين يديه، وفي جملتهم الكوهراني، وبعث نظامُ الملك لفخر الدولة فرسين بعدَّتهما وعشرين قطعةً ثيابًا؛ إظهارًا لرجوع مودَّته، وكتب معه تواقيع بما يريد الخليفة، ووصل في جمادى الأولى إلى الحلبة، وبلغَ الخليفةَ عنه ما أوحشه، فبعث إليه ورقةً بخطِّه: لكلِّ أجلٍ كتاب، وقد أعدناك إلى والدتك لِما سلفَ من خدمتك، والله سبحانه وتعالى يُحدِثُ في كلِّ يوم أمرًا، لا مُعَقِّبَ لِحُكمه، ولا مراجعةَ لك بعد اليوم إلى خدمتنا. فانكفأ مُصاحبًا، فمضى إلى دار ابنه بباب عمورية وكان قد خرج الناسُ لاستقباله فرحين، فعادوا متفرِّقين. ثم رتب الخليفة في الديوان أبا شجاع محمد بن الحسين نائبًا (¬1). ¬

_ (¬1) الخبر بطوله وبمعناه في المنتظم 16/ 198 - 199.

وفي هذا الشهر عاد تُتُش أخو ملك شاه من حصار حلب، وعبر الفرات، ونزل بالبارعية، وكان من العقلاء الساسة، وكان مقيمًا ببلاد حِيرة وبَرْذَعة، فلمَّا جرى على أتْسِز بن أوفى الخُوارَزمي بمصر ما جرى كتب ملك شاه إلى تُتُش بالمسير إلى الشام، فسار على تؤدة، فلمَّا انتهى إلى ديار بكر بلغه أن أتْسِز لم يهلك، وأنه قد أخرب الشام وقتل أهله لعصيانهم عليه، فكتب إلى السلطان بخبره، وطلب منه عسكرًا، فإنه كان في قلَّةٍ من العساكر، وعرف أتْسِز، فبعث إلى السطان هدايا ومالًا وقال: ما فعلتُ فعلًا يقتضي إنفاذَ الأمير تُتُش نحوي، فإنني العبد الطائع، وأنا نائب في هذه البلاد عن السلطان، ما آخذُ منها غير ما أصرفه في مؤنتي والجند الذين معي، وأنا أحمل في كل سنة إلى الخزانة ثلاثين ألف دينار. فكتب السلطان إلى تُتُش أن لا يتعرَّض إلى الشام الأعلى، ويقصد ناحية حلب، وبعث إليه الأمير الأفشين وصُرَّق الحاجب بمن معهما من التركمان، وكان الحاجب أيتكين قد انضمَّ إليه إلى تُتُش من ديار بكر، ثم عبروا الفرات، وبدؤوا بمنبج، فحصروها وأخذوها، وأقاموا عليها شهورًا، وكان صاحبها سابق بن محمود، وجاءهم مسلم بن قريش نجدةً، واستدعى السلطان الحاجب أيتكين إليه بسؤال مسلم؛ لأنه كان عدوَّه، وتحالفت بنو كلاب على قتال الغُزِّ ودفعِهم عن البلاد، وكان مع مسلم غِلالٌ كثيرةٌ له ولأصحابه، وكان بحلب غلاء شديد، فباعهم، فعاتبه تُتُش وقال: أنتَ أتيتَ في مساعدتي عليهم أو في نفوسهم؟ ارجعْ إلى أعمالك، ما لي إليك حاجة. فعاد إلى سنجار، ولقي عليها بهاء الدولة من أمراء التركمان نجدةً لتُتُش، فخوَّفه المسيرَ من بني كلاب، فلم يلتفِتْ، وقطع الفرات، ونزل وادي بزاعة، فقصدته بنو كلاب وجماعةٌ من بني عقيل، فأوقعوا به، ونهبوه، وقتلوا معظم أصحابه، وبلغ تُتُش، فخرج من حلب يريد بني كلاب، وترك أثقاله على حلب، فخرج أهلُها، وقتلوا جماعة من أصحابه، وانصرف التركمان عنه، وعبروا الفرات، وجاء إلى بزاعة، فعبر الفرات يريد أعمال مسلم؛ لأنه اتَّهمه، فوجده قد جمع واستعدَّ، فسار إلى ديار بكر، فاجتاح أعمال نصر بن مروان، وأقام بها يُخرِّبها وينهبها، وينفق الأموال في العساكر، وكتب تُتُش إلى ملك شاه يعرِّفه الأحوال، ويطلب نجدته.

وفي شوال ورد خطلج أدراز من باب السلطان، مضى إليه وطلب مالًا ينفقه في طريق الحج، فلم يُعْطِه شيئًا، فعاد وقد اجتمع ببغداد جماعةٌ ليمضوا في صحبته، فامتنع مَنْ لم يكن معه ما يبلغه، ونَجَمَ (¬1) من أعطى أجرة الجمال ومال الخفارة، وأخذوا من الخُفراء الرهائن، وأعطاهم من الحاجِّ ما قرَّره لهم، وسار معهم كالمودِّع، ونَجَمَ وعاد سالمًا إلى الكوفة مستهلَّ ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين، وكانت العرب قد ذلَّتْ له وأطاعتْه لشهامته، ونفى بني خفاجة عن البلاد، ووحَّد الخطبة بمكة لصاحب مصر، وكان القحط شديدًا وليس لهم مؤونة إلَّا من مصر، فاجتمع بابن أبي هاشم، وكان مائلًا إلى بني العباس وأهله آل أبي طالب، فاعتذر إليه وأنه لم يقدِرْ على المنع مع انقطاع ما كان يحمل إليه من المال كلَّ سنة، وإدرار المال والغِلال من مصر، فقال خطلج: المال يأتيك عن قريب. ووحَّد الخطبة بالمدينة لصاحب مصر، وكان خطلج قد أساء عُشرة الحاجِّ وعاقهم، وأخذ من كلِّ حملٍ عن الخفارة تسعين دينارًا، ومن كلِّ راجل خمسةَ دنانير، ومن كلِّ واحد عن زيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة دنانير. وفي ذي القعدة وقع الرضا عن عميد الدولة ابنِ جَهير وعودِه إلى الخدمة، وسببه كتاب نظام الملك إلى الخليفة يشير بردِّه، وأنَّ أحدًا لا يقوم مقامه، وإنني ما رضيتُ عنه، وزوَّجتُه بولدي، ورميتُ كلَّ عداوة كانت من جهتي، وصافيتُه، إلَّا لقُربه من الخدمة، وكان نظامُ الملك دائمًا يثني على عميد الدولة؛ يقول: ما أحسِدُ أحدًا إلَّا فخر الدولة على ولده. ويصفه بالعقل والحلم، وانقطع أبو شجاع عن الديوان، ورتَّب على باب الحجرة مجلسًا كلَّ يوم ينهي الأمورَ إلى الخليفة، ويخرج إليه الأجوبة، ثم أذن للوزير فخر الدولة فَتْحَ بابهِ، ففتح، ودخل الناس عليه للتهنئة، حتَّى النساء، ثم استدعى الخليفةُ ولدَه فشافهه بما طيَّب به نفسَه، وكتب له توقيعًا منه: إنَّ أمير المؤمنين يرى من أخبار رسوم مواهبه وآلائه، وأحلى مذاق النعمة عند المتمسكين بشروط مسابغته، وولاية واختصاص مَنْ أحسن الطاعة في إثر يومه وأمسه، وتخشَّن على أعداء الدولة وَقْعَ مسِّه ولمسه، ولمَّا عدوتَ يا عميد الدولة منفردًا في الكمال بما عُلِمَ كونُكَ ممَّن لا يُجارى فيه، ولا يُبارى في إحراز وافيه، وأنك قد حُزْت هذه المرتبة، فُقْتَ ¬

_ (¬1) نَجَمَ: طَلَع وظَهرَ. اللسان (نجم).

السبق، وقُمتَ فيها بالحق، أعاد أمير المؤمنين من وزارتك ما كان قد تجاوز في الإعراض حدَّه، مما لا يستطيع الجاحدُ جحدَه، وذكر كلامًا آخر. وفيها مات أبو الفضل بن التركماني، صاحب سعد الدولة الكوهراني، وكان شِرِّيرًا، إلا أنَّه انحدر إلى واسط مع سعد الدولة، وكان ابنُ فضلان اليهودي ضامنُ ضياع الخليفة قد فعل بالمسلمين كلَّ قبيح، وصادرهم، ومدَّ يده إلى حريمهم، وكان إذا كتب فيه إلى الخليفة لا يُؤخذ لأحدٍ بيد، فقتله ابنُ التركماني بواسط، وأخذ منه عشرة آلاف دينار، وعزَّ ذلك على الخليفة، وكتب إلى نظام الملك بسببه، ولمَّا مات ابنُ التركماني رآه إنسان في المنام، فقال: ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال: غفرَ لي. قيل: بماذا؟ قال: بما أزَلْتُ عن المسلمين بقتل ابن فضلان اليهودي من النصرة، وعن الخلافة من المعرة، وابنُ التركماني هو الَّذي قتل ابنَ دُبَّة النوبي الَّذي أحرق المشهد، وصلبه بالسماكين. وقال أبو يعلى بن القلانسي: وفي سنة إحدى وسبعين خرج من مصر عسكر كبير مع نصير الدولة الجيوشي، ونزل على دمشق محاصرًا لها، واستولى على أعمالها وعلى فلسطين، فاضطرَّ أتْسِز إلى مراسلة تُتُش بعده بتسليم دمشق ويكون في الخدمة بين يديه، فتوجَّه نحوه، وبلغ نصير الدولة قُربَه، فرحل إلى الساحل، وكان ثغر صور وطرابلس في يدي قاضيهما قد تغلَّبا عليهما، ولا طاعة عليهما لأمير الجيوش، بل يصانعان الملوك بالهدايا، ووصل تُتُش إلى مرج عدرا، فخرج إليه أتْسِز بعد أن استخلفه، وسلَّم إليه دمشق، فدخلها، ولاحَتْ له من أتْسِز أماراتٌ استوحش منها، فقبض عليه واعتقله، وقتل أخاه أولًا، ثم خنقه بوتر قوسه غدرًا منه في ربيع الأول، واستقام الشام لتُتُش، ثم مضى إلى حلب فنازلها، وأقام عليها أيامًا، ثم رحل عنها، وقطع الفرات مشرقًا، ثم عاد إلى حلب في ذي الحجة، وملك حصن بزاعة والبيرة، وأحرق ربض أعزاز، ورحل عنها عائدا إلى دمشق. وغيرُ ابنِ القلانسي يقول: كان ذلك في السنة الآتية، وسنذكره إن شاء الله تعالى.

إبراهيم بن علي بن الحسين

وفيها تُوفِّي إبراهيم بن علي بن الحسين (¬1) أبو إسحاق، شيخ الصوفية بالشام، ولد سنة أربع وتسعين وثلاث مئة، وسمع الحديث الكثير، وكان صاحب رياضات ومجاهدات، وأقام بصور أربعين سنة، وبها مات، وكان صدوقًا ثقة. الحسن بن أحمد بن عبد الله (¬2) أبو علي، ابن البنَّاء، الحنبلي، ولد سنة سبع وتسعين وثلاث مئة، وتفقَّه على ابن الفرَّاء، وصنَّف في كلِّ فن، وكان يقول: صنَّفتُ خمس مئة مصنف، وسمع الكثير، وكان له حلقة بجامع القصر مقابلة مقصورة الخطيب يفتي فيها ويُقرئ الحديث، وتوفي ليلة السبت خامس شهر رجب، وصلَّى عليه أبو محمد التميمي، ودُفن بمقبرة باب حرب، واتَّفقوا على فضله وصدقه وزهده وورعه، وتكلَّم فيه ابنُ السمعاني ولا يُسمع منه. الحسين بن عَقيل (¬3) ابن محمد بن (¬4) علي بن ريش، الدِّمشقي، تُوفِّي في جمادى الآخرة، ودُفن بباب الصغير، وكان ثقةً، ومن شعره: [من الطويل] ولمَّا حدا البَينُ المُشتِّتُ شملَنا ... ولم يَبْقَ إلَّا أن تُنائي (¬5) الأيانقُ ولم نستطِعْ عند الوداعِ تصبُّرًا ... وقد غالنا وَجْدٌ عن الدمعِ ناطقُ وقفنا [لتوديعٍ] (¬6) فكادَتْ نفوسُنا ... لأجسادِنا قبلَ الفراقِ تُفارِقُ فباكٍ لما يلقاهُ من فقدِ إلْفهِ ... وشاكٍ لهُ قلبٌ بهِ الوجْدُ ناطقُ ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 7/ 61 - 63. (¬2) المنتظم 16/ 200 - 201، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 32 - 33، والكامل 10/ 112، ومعجم الأدباء 7/ 265 - 270. وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 380. (¬3) تاريخ دمشق 4/ 103 - 104، ومعجم الأدباء 10/ 124 - 126. (¬4) تحرفت في الأصل (خ) إلى: أبو، والمثبت من المصدرين السابقين. (¬5) في معجم الأدباء: تُثار. (¬6) ما بين حاصرتين سقط من (خ) واستدرك من معجم الأدباء.

سعد بن علي

سعد بن علي (¬1) ابن محمد بن علي بن الحسين، أبو القاسم، الزَّنجاني، الحافظ، الصوفي، ولد سنة ثمانين وثلاث مئة، وطاف البلاد، وانقطع في آخر عمره بمكة، وصار شيخ الحرم، ولمَّا عزم على الإقامة بمكة والمجاورة بالحرم عزم على نفسه نيِّفًا وعشرين عزيمة من المجاهدات والعبادات، ففعل الجميع، ومات بعد ذلك بأربعين سنة، ولم يُخِلَّ منها بعزيمة واحدة. وقال أبو المظفر بن السمعاني جدُّ صاحب "الذيل": كُنْتُ على عزم المجاورة بمكة، فرأيتُ والدتي في المنام وكانت بخراسان، وقد كشفتْ رأسها وهي تقول: باللهِ عليك ولدي، لا تُجاوز، ارجِعْ إليَّ فلا صبرَ لي على فراقك. فانتبهتُ مغمومًا، وتردَّدتُ بين المقام والرجوع إليها، فقلت: لابُدَّ أن أشاور أبا القاسم الزَّنجاني، فأتيتُه وعنده خلقٌ عظيم، وكان إذا خرج من بيته ترك الناسُ الطوافَ بالبيت، وقبَّلوا يديه أكثر مما يُقبِّلون الحجر الأسود، فتقدَّمتُ إليه وقد قام ليدخل بيته، فمشيتُ إلى جانبه ولم أُكلِّمْه، فالتفتَ إليَّ وقال: يا أبا المظفر، العجوزُ تنتظرك. ولم يَقُلْ غيرَ هذا. فخرجتُ مع الحاجِّ إلى مرو، واجتمعتُ بوالدتي، ولمَّا مات بمكة أميرُها محمد بن أبي هاشم ما كان في الحرم من يُستحى منه غير هذا الشيخ. وكان إمامًا، حافظًا، ورعًا، زاهدًا، عابدًا، مفتيًا، وكان ينشد لغيره (¬2): [من الخفيف] ما تطعَّمتُ لذَّةَ العيشِ حتَّى ... صِرْتُ للبيتِ والكتابِ جليسا ليس عندي شيءٌ أعزَّ من العلْـ ... ـــــمِ فلا أبتغي سواه أنيسا إنَّما الذُّلُّ في مخالطة النَّاسِ ... فدَعْهُمْ تعِشْ عزيزًا رئيسا ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 2/ 266 - 267، والمنتظم 16/ 251، وتاريخ دمشق 20/ 273 - 275، والأنساب 6/ 307. وتنظر بقية المصارد في السير 18/ 385. (¬2) وهو علي بن عبد العزيز الجرجاني كما في صفة الصفوة، وشذرات الذهب 3/ 56 - 57، ومعجم الأدباء 14/ 19، وغيرها من المصادر.

محمد بن علي

[وفيها توفِّي] محمد بن علي (¬1) أبو عبد الله بن المهتدي، الهاشمي، ويُعرف بابن الحَنْدَقوقي، سمع الحديث، وكان يسكن بباب البصرة، ومات في ذي الحجة، ودُفِنَ في داره، وكان صحيحَ السماع ثقةً. السنة الثانية والسبعون والأربع مئة فيها وقف العميد أبو نصر القريةَ المعروفةَ بالمالكية من طريق خراسان على مشهد موسى بن جعفر عليهم السلام، وكان مُحبًّا للعلويين، يقضي حوائجهم، وزوَّجَ عددًا منهم، وخَتَنَهم (¬2)، وخرج في ثالث مُحرَّم إلى أصفهان، وبعد خرجه تُوفِّيت والدة فخر الدولة ابنِ جَهير بباب العامة، وحُمِلت إلى تربة الرُّصافة، فدُفِنت بها ليلًا، وتبعها الخدم والحواشي. قال محمد بن الصابئ: في ربيع الآخر وصل الأمير تاج الدولة تُتُش إلى دمشق وملكها. ذكر القصة: كان بدر الجمالي قد سيَّر من مصر إلى دمشق الجيوش من العرب والغُزِّ والأكراد والصنهاجة والبربر والسودان وبني خفاجة، والأمير عليهم غلامٌ له متقدِّمٌ عنده، والأمر مردودٌ إلى أبي الفرج المصري، فساروا إلى دمشق، وحصروا أتْسِز، فأرسل إلى تُتُش وهو يحاصر حلب يستنجده، فرحل والأفشين معه، وبلغ العسكر المصري، فتأخَّر إلى الرملة، ووصل تُتُش إلى دمشق، وخرج إليه أتْسِز فقبض عليه وقتله، واستولى على البلد، فاستوحش الأفشين منه، فعاد هاربًا، فنهب المعرة وكفر طاب ورفنية، وذهب إلى أنطاكية فأخرب وقتل ونهب، وصانعه أهلُها على ثلاثين ألف دينار، وجرت فيها قصص، ولم يعطوه شيئًا، وراسلوا تُتُش وضمنوا له مالًا، وكان في قلبه منه، فسار يطلبه، فهرب إلى ديار بكر، وعاد تُتُش إلى دمشق، وأظهر العدل، ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 204. (¬2) ختنهم: صاهرهم.

فعُمِّرت، وزُرعت البلاد، وأمنت السُّبل، ودرَّت القوافل، وبعث إلى القدس فحاصره وبه أصحاب أتْسز، وكان قريبٌ له في برج داود، ومعه قطعة من أمواله، وكان بين قتل أتْسِز وما فعله بالقدس مدة يسيرة. وفي رجب وصل السلطان ملك شاه إلى الأهواز متصيدًا، وقبض على ابنِ عَلَّان اليهودي ضامنِ البصرة وقتلَه، وأخذ منه أربع مئة ألف دينار، وكان منتميًا إلى نظام الملك، وكان بين يدي نظام الملك وسعد الدولة الكوهراني وخُمارتكِين الشرابي عداوةٌ، فتوصَّلا في هلاك ابن عَلَّان، وكان ابن عَلَّان قد استولى على البصرة، وماتت زوجتُه، فمشى في جنازتها كلُّ مَنْ فيها إلَّا القاضي، وكانت أسامي الأماكن التي فيها أمواله معه مكتوبة، فلمَّا أمر ملك شاه بتغريقه غرقَتْ معه، ومع هذا فوجدوا له أموالًا عظيمةً، وكان نظام الملك باصبهان، فغضب وأغلق بابه ثلاثة أيام، فقيل له: المصلحة الرجوع. فرجع، ولمَّا عاد السلطان إلى أصبهان دعاه نظام الملك إلى دعوة خسر فيها جملة، ثم عاتبه عتابًا كان من جوابه ما طيَّبَ به نفسه وإن لم يَرْضَ. وفي ذي القعدة ورد خطلج أدراز من أصبهان، واجتمع إليه الحاجُّ، وخرج بهم على القاعدة في أكريتهم وخفارتهم. وفي ذي الحجة توفِّي نصر بن مروان الكردي صاحب آمِد وميَّافارقين، وجلس ولدُه منصور بن نصر موضِعَه، والناظرُ في أموره ابنُ الأنباري من أهل الرحبة. وفيه فتح مسلم بن قريش حلب. ذكر القصة: لمَّا اشتدَّ بأهلها الحصار والغلاء هَجَّ معظمُهم، وجاءت طائفة منهم إلى الموصل، واجتمعوا بمسلم، وأشاروا عليه بقصدها، وكاتبه الأحداث وبنو كلاب ليدفع عنهم الغُزَّ، فأنفذ ولده من خاتون عمة السلطان ملك شاه إليه، وشرط على نفسه في كلِّ سنة ثلاثَ مئة ألف دينار، وللسلطان، فأجابه، وأمره بقَصْدها، فسار إلى قلعة جَعْبَر وحصرها، وكان بها جَعْبر وأصحابُه يقطعون الطرق، فصالحوه على أنهم لا يعودون إلى شيء من ذلك، وسار إلى حلب، فوصلها ثاني عشر ذي الحجة، ومعه بنو كلاب وكلب ونمير وجميع القبائل، وقد أطاعوه خوفًا من الغُزِّ، وأنفق فيهم الأموال، فكسر

الأحداثُ الأبوابَ يوم الجمعة لعشرٍ بقين من ذي الحجَّة، ودخل أصحابُه إليها، ولم يتأذَّ أحدٌ من أهلها، ولا أغلق فيها دُكَّانًا، وراسل سابق بن محمود وهو في القلعة، مراسلة، انتهت إلى أن يزوِّجه سابقٌ بابنته ويعوِّضه مالًا على أن يُسلِّم القلعة، فرضي، وحطَّ سابقٌ رَحْلَه وماله إلى البلد، ولم يبقَ إلا أن ينزل، فوثب عليه أخواه ووثَّاب فقبضا عليه، واستوليا على القلعة، فجمع مسلم مُقدَّمي بني كلاب، وقال: قد علمتم أني أنفقتُ أموالي، وبعدتُ عن بلادي في حراسة بلدكم وأموالكم وكفَّ عادية الغُزِّ عنكم، وهذه مقابلةٌ ما أعرفها، فإن كنتم رجعتم فها أنا أرجع إلى بلادي ومسيري منكم. فأنكروا ما جرى، وشرطوا السعيَ فيه، وإزالةَ ما تجدَّد منه. قال المصنف رحمه الله: وقفت على تاريخ لدمشق فيه: أن تُتُش لمَّا رحل عن حلب في السنة الماضية وقد ضعُفَ عسكره جاء إلى حماة فاستولى عليها وعلى القلعة التي للمعرة وما يليها، وأطاعه صاحب حمص، فأقرَّه عليها، فلمَّا دخلت هذه السنة بعث بدر الجِمالي بالعساكر مع يُمن الخادم بحصار دمشق، فأرسل أتْسِز إلى تُتُش يقول: أنجِدْني وأكونُ نائبك بدمشق. فجاء تُتُش إلى دمشق، وعاد العسكر المصريُّ إلى مصر، وقبض تُتُش على أتْسِز وخنقه، فكانت أيامُه ثلاثَ سنين وستةَ أشهر وأيامًا، ولمَّا استقامت دمشق لتُتُش حشد ليقصد حلبَ، وعَلِمَ سابقٌ، فراسل مسلمًا يستصرخه وقال: أنت أولى بي من الغير، والعربية تجمعنا، وكتب: فإن كنتُ مأكولًا فكُنْ أنت آكلي. فسار إليه مسلم بخيله ورَجِلهِ، فلم يفتح له الباب، ولم يَفِ له بشيء، وكان وعَدَه أن يُعطيه حماة والمعرة وكفر طاب ويقنع سابق بقصبة حلب، وكان أصحاب مسلم قد أسروا الشريف أحمد بن علي الهاشمي رئيس حلب، فاتَّفق مسلم معه سرًّا وأطلقه، فدخل البلد ومسلمٌ مُخيِّمٌ بظاهره، ففتح له الشريفُ الباب، فدخل، وتحصَّن سابق وإخوته بالقلعة، فحصرهم، ثم تقرَّر الصلحُ على مال وقلاع، وسلَّم إليه القلعة، ونزل منها هو وأهله، وانتهت دولة بني الزَّوقلية، وخطب بها مسلم للخليفة ولملك شاه، وكتب إلى الخليفة، فبعث بعهده إليه وتقليده إياها، وفي ذلك يقول ابن حيُّوس يمدح مسلم بن قريش: [من الكامل] ما أدركَ الطَّلِباتِ غيرُ مُصمِّمِ ... إن أقدمَتْ أعداؤهُ لم يُحْجِمِ

محمد بن محمد بن أحمد

تركَ الهُوَينا للضعيفِ مَطيَّةً ... وسرى إلى العليا بليلٍ مُظْلِمِ ولقد تحقَّقَتِ العواصمُ أنَّها ... إنْ لم تُلِمَّ بقُطْرِها لم تُعصَمِ حَنَّتْ إليكَ على البِعادِ فشوقُها ... شوقُ الرياضِ إلى السَّحابِ المُثْجَمِ يا رحمةً بُعِثَتْ فاحيَتْ أمةً ... قد طال ما مُنِيَتْ بِمَنْ لم يَرْحَمِ إنَّ الرعايا في جنابِكَ أمَّنتْ ... كيدَ الغَشومِ وفتكةَ المُتَغَشرِمِ ولقد ظَفِرْتَ بما يَعِزُّ مرامُهُ ... إلَّا عليكَ فدُمْ عزيزًا واسْلَمِ كانت تعدُّ من المعاقلِ بُرهةً ... وسمَتْ بمُلْكِكَ فَهْيَ بعضُ الأنْجُمِ مَنْ كُنتَ يا فخرَ الملوكِ ظهيرَهُ ... فبناؤهُ في المجدِ لم يتهدَّمِ والمجد شِنْشِنَةٌ لآل مُسيَّبٍ ... ما كلُّ شِنْشِنةٍ تناطُ بأخزَمِ وفي يوم الاثنين سادس عشر ذي الحجة جرَتْ بمكة فتنة سببها غلام تركي لخطلج أدراز، وجرت بينه وبين أحد السودان من جند مكة مشاجرةٌ في حمام، خرج إليه التركي منها، وثار السودان على خطلج وهو قائم يُصلي عند البيت الشريف، فقتلوا ثمانيةً من أصحابه عند الكعبة، وتلاحقه أصحابُه فاستنقذوه، وقتلوا عشرين أسود، وجاء خطلج إلى الدار التي كان نازلًا بها، وزحف إليه السودان، فقتلوا من أصحابه عشرة، وقتل الغُزُّ من السودان جماعةً، وجاء ابنُ أبي هاشم إلى دار خُطلج، فكفَّ السودان، واعتذر إليه، وبعث إليه خيلًا وثيابًا، وصلحت الحال، وأُقيمت الخطبة في هذه السنة للمقتدي وللسلطان، وكتب ابنُ أبي هاشم كتابًا إلى عميد الملك ابن جَهير بذلك، وعرض فيه بطلب رسومه. وفيه تُوفِّي محمد بن محمد بن أحمد (¬1) أبو بكر، العُكْبَري، ولد في رجب سنة اثنتين وثمانين وثلاث مئة، وكان فاضلًا، فصيحًا، صدوقًا، تشيَّع، يحكي الحكايات المستحسنة، أنشد: [من الوافر] ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 3/ 239، والمنتظم 16/ 208، والكامل 10/ 117، وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 392. وتحرف في (خ) إلى: محمد، والتصويب من المصادر.

نصر بن مروان

أُطيلُ تفكُّري في أيِّ ناسٍ (¬1) ... مضَوا عنَّا وفيمن خَلَّفونا همُ الأحياءُ بعد الموتِ ذِكرًا ... ونحنُ من الخُمولِ الميِّتونا لذلك قد تعاطيتُ التجافي ... وإن خلائقي كالماء لِينا ولم أبخَلْ بصُحبتِهمْ لأمر ... ولكِنْ هاتِ ناسًا يصحبونا وكانت وفاته في رمضان ببغداد. نصر بن مروان (¬2) صاحب ميَّافارقين، ويُلقَّب نظام الدين، قد ذكرنا أنَّ نظام الملك أخرجه إلى السلطان وأحسن إليه، وأنه سمَّ أخاه سعيد بن مروان، ولمَّا مات وُلِّي بعدَه ناصرُ الدولة منصور، ودُفِنَ عند أبيه نصر الدولة، وخلَّف ثلاثةَ أولاد؛ منصور وبَهْرام وأحمد، وكان وزيرَه أبو طاهر بن الأنباري، فدبر الملك، وكان قد تقدَّم عند الأمير طبيب يقال له: أبو سالم، وكان عطارًا بسوق العطارين بميَّافارقين، فتقدَّم عليه، حتَّى أشار عليه بقبض ابن الأنباري، وولى منصور الطبيب، فاستبدَّ بالأمور، وكتب أبو نصر بن محمد بن جَهير إلى ملك شاه يخبر بما في الخزائن والقلاع من الأموال والجواهر، ويقول: أنا خدمتُ فيها مدةً وأعرفها. فجهَّز إليه العساكر، ومضى فحصر ميَّافارقين وآمِد، وقصد منصور باب ملك شاه، وبعث ملك شاه إلى أُرْتُق بك، فساعد ابنَ جَهير، وضايقوا ميَّافارقين، وقطعوا أشجارها، وشفع الأمراءُ في منصور، فقال للسلطان: يقنع بميَّافارقين وتكون آمِد وباقي البلاد لنا. وكان أبو سالم الطبيب في ميَّافارقين وجماعةِ الأمراء، وبلغه، فكتب إلى منصور، ويقول: لا تنزل عن ملكك، فلو أقاموا عشر سنين ما قدروا علينا. فرجع عن ذلك الرأي، وطالبه السلطانُ بتسليم آمد، فامتنع، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) صدر البيت في (خ) هكذا: "أُطيل فكري في أناسٍ" ولا يستقيم وزنه، والمثبت من المنتظم. (¬2) الترجمة مختصرة جدًّا في الكامل 10/ 116 - 117.

هياج بن عبيد

هيَّاج بن عُبيد (¬1) ابن الحسين بن محمد، الحِطِّيني، وحطِّين: قرية غربي طبرية، ويقال: إن قبر شعيب - عليه السلام - بها، وبنْتِه صفورا زوجة موسى - عليه السلام -. سمع هيَّاج الحديث وتفقَّه، وجاور بمكة، وصار فقيهَ الحرم ومفتيَ أهل مكة، وكان زاهدًا، عابدًا، ورعًا، مجتهدًا في العبادة، يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويأكل في كلِّ ثلاثة أيام مرة، ويعتمر في كلِّ يوم ثلاث مرات على قدميه، وأقام بالحرم أربعين سنة لم يُحدِثْ فيه، وكان يخرج إلى الحِلِّ فيقضي حاجتَه، وما لبس نعلًا في الحرم قطُّ، وكان يزور النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل سنة ماشيًا، ويزور ابنَ عباس - رضي الله عنه - في الطائف في كلِّ سنة مرة، يأكل أكلةً بالطائف وأخرى بمكة، وما كان يدَّخر شيئًا، ولم يكن له غيرُ ثوب واحد، وفيه يقول الشاعر: [من الوافر] أقولُ لمكَّةَ ابتهجي وتيهي ... على الدنيا بهيَّاج الفقيهِ إمامٌ طلَّق الدنيا ثلاثًا ... فلا طمَعٌ لها من بَعْدُ فيهِ وكان السبب في وفاته وقوع فتنة بين السنة والشيعة بمكة، فشكا بعضُ الشيعة إلى محمد بن أبي هاشم أميرها، وقال: إن السنة يستطيلون علينا بهياج، فأخذه وضربه ضربًا عظيمًا على كِبَر سنِّه، فبقي أيامًا ومات، وقد نيَّف على ثمانين سنة، ودُفِنَ إلى جانب الفضيل بن عياض رحمة الله عليه. السنة الثالثة والسبعون والأربع مئة فيها كان ملك شاه قد قصد كرمان في السنة الماضية لقتال سلطان شاه بن قاروت بك، فلمَّا وصل إليه رأى أن يطيعه، فخرج إلى خدمته مستأمنًا من القلعة، وقبَّلَ الأرض بين يديه، فقام السلطان قائمًا وأجلسه إلى جانبه، وتحالفا، وزوَّجه ابنتَه، وعاد السلطان إلى أصبهان. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 209 - 210، والأنساب 4/ 170. وتنظر بقية مصادر الترجمة في السير 18/ 393.

وفي المُحرَّم ورد الخبر بوفاة شمس الملك تكين بن طمغاج خان صاحب سمرقند وما وراء النهر، وكانت وفاته بالقولنج، وأوصى إلى أخيه حسن أيتكين بأولاده وأهله بعد أن أجلسه موضعه، وردَّ حسنٌ سمرقند، فأفاض العدل، واستعمل الجميل، وبلَغَه أنَّ تكش أخا السلطان قد قطع جيحون، وأنه على قصد بخارى، فسار إليه حسن في ثمانية آلاف من التركمان، فالتقيا بجراورد بين بخارى وتِرْمِذ، فهُزِمَ تكش، وغَنِم حسنٌ عسكرَه، وقصده من الحانية عمر طُغرُلتكين، فالتقيا، فهرب حسنٌ وغنم ما في عسكره، ودخل سمرقند وقد اشتمل على النصر في الوقعتين، وورد الخبر أن تاج الدولة تُتُش قبض على مسمار أمير بني كلب، وسببه أنَّ تُتُش خرج يومًا يتصيَّد، فرأى قومًا، فاختفوا منهم، فطلبهم وأخذهم وفتَّشهم، فوجد معهم مكاتبات من مصر إليه ومنه إلى مصر، وورد الخبر بأن حصن الدولة ابن منزو كان مقيمًا ببانياس، فنقل أمواله إلى صور، وانتقل إليها، فقبض عليه ابنُ أبي عقيل المستولي عليها، وأخذ جميع ما نقله إليها. وفي ربيع الأول فتح أبو بكر بن نظام الملك قلعة تكريت تسلَّمها من حسام بن المهرباط، وضرب الدنانير باسمه، فأنكر عليه الخليفة، فبطل ذلك. وفيه وصل الحاجُّ وأميرُهم خطلج أدراز وهم له شاكرون. قال محمد بن الصابئ: وفي يوم الثلاثاء خامس ربيع الآخر فتح مسلم بن قريش قلعة حلب، ونقل الغلَّات من الموصل إليها، وكتب إلى بغداد بالفتح. وفي جمادى الأولى تُوفِّي العميد أبو منصور الأصفهاني بالبصرة، وأمر أن يُتصدَّق بألفي دينار مما خلَّفه على آل أبي طالب، وكان رئيسًا، نبيلًا فاضلًا، جامعًا للمحاسن ومكارم الأخلاق. وفي ذي الحجة قُبِضَ ببغداد على ابن الرسولي الخباز وعبد القادر الهاشمي البزاز؛ انتسبوا إلى الفتوة، وكان ابن الرسولي قد صنَّف في الفتوة وفضلها كتابًا، وذكر قوانينها ورسومها، وجعل عبد القادر المتقدِّم على من يدخل في الفتوة، وأن يكونوا تلامذته، وكتب المُقدَّمين مناشر، وأقطعهم أصقاعًا، ولقَّب نفسَه كاتبَ الفتيان، وجعل ذلك طريقًا إلى منفعته ودعوات واجتماعات تعود على مصلحته، وكتب إلى خادم لصاحب مصر بمدينة

النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعرف بخالصة الملك ريحان الإسكندراني، قد ندب نفسه لرياسة الفتيان، والكتب صادرة إليه بذلك من جميع البلدان، وجعلوا اجتماعهم بجامع براثا، وكان مسدودَ البابِ مهجورًا، ففتح ابن الرسولي بابَه، ورتب له قيِّمًا يُنظِّفه، وعرف أصحاب عبد الصمد ذلك، فأنكروه، وعظَّموا ما يكون منه، وقالوا: إن هؤلاء يدعون لصاحب مصر، ويجعلون دار الفتوة عنوانًا لجمع الكلمة على هذا الباطن، فتقدَّم الخليفةُ إلى عميد الدولة بالقبض على ابن الرسولي وعبد القادر، فقبض عليهما، ووجد لابن الرسولي في هذا المعنى كتبًا كثيرةً، وآل (¬1) الخادمَ المقيمَ بالمدينة، فسأله عميد الدولة عن الموافقين له، فسمَّاهم، فقبض على جماعة منهم، وهرب الباقون، وصودر جماعةٌ بسببهم (¬2). وكان من جملة الكتاب الَّذي وضعه ابن الرسولي: الحمد لله القديم فلا يخلقُه دهر، العظيم فلا يلحقه قهر، العليم فلا يخفى عليه سر ولا جهر، الأول فليس لوجوده ابتداء، الآخر فليس لجوده انتهاء، الظاهر بلا مُعينٍ ينصره، الباطن بلا زمانٍ يحصره، أحمده إذ وفقني لحمده، وأشكره شُكرَ مَنْ بذل غاية جهده، وأشهد أن لا إله إلا الله، إرغامًا لمن كفر ونافق، وإدحاضًا لمن نفر وشاقق، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله على حين فترة من الرسل، وختم بملَّته (¬3) سائر المِلَل، وعصمه من كلِّ زلل، وكان ممن تقدَّمه أشرف وأجلّ، فأيَّده بالرسالة، وعظَّمه بالشرف والجلالة، والحمد لله مُعزِّ الفتيان بالفتوة، وجاعِلها إرثَ الامامة والنبوة، وجعلها لأهلها أنسابًا، وسمَّاهم بها أحبابًا، فهي حلاوةٌ يجدها العارفون، ويقِفُ عندها الراغبون، ويرغب فيها مَنْ عرف معانيها، وتسمو إلى مراتبها نفسُ متعاطيها، وما زالت منذ آدم، ظهرت مع العالم، وقام بحقِّها، فلمَّا انتهت مُدَّته أوصى بها إلى شيث مستحقِّها، ثم انتقلت إلى نوحٍ فصرفها إلى سام، ثم ظهرت في الخليل - عليه السلام -، فحاز الفضلَ العميم، ¬

_ (¬1) آلَة: ساسَه. المعجم الوسيط (آل). (¬2) الخبر في المنتظم 16/ 211 - 212. (¬3) في (خ): وختم به، والمثبت من (ب).

بما نطقَ به الكتابُ القديم: {وَفَدَينَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، ثم ظهر لموسى منها ما بطن، ففوَّض إلى هارون منها أوفى السنن، ثم ظهرت في المسيح الأمين، المبشِّرِ بسيد المرسلين. وذكر كلامًا طويلًا، وتقليده الموافقين له على ذلك الأمر، وذكر أساميهم وأنسابهم وما يتعلَّق بهم في مقدار كُرَّاسَين، فأفتى الفقهاء باستئصالهم، وإلزامهم الرجوع عن ضلالهم، وكفِّهم عن الفساد، وإطغاء العباد، فنُهِبت دورُهم، وحلَّ بهم هلاكُهم وثبورُهم، وكان وافقهم على مثل هذا نيِّفٌ ومئةٌ من الأشراف والأعيان، وزعماء البلدان. وفيها ملك جلال الملك أبو الحسن بن عمار قاضي طرابلس حصن جبلة، وسببه أن الفردوس صاحب أنطاكية وجبلة قبض على قاضي جبلة، فراسله ابنُ عمار فيه، فأفرج عنه، وأنفذه إليه، فسأل فيه أن يردَّه إلى قضاء جبلة، ففعل، وتحدَّث معه ابنُ عمار في تسليم جبلة، فقال: نعم، ومضى ودبر الحيلة إلى أن تمَّت، فأرسل إلى ابن عمار يقول: ابعَثْ أصحابك في البحر في الليلة الفلانية، فبعث إليه ابن عمار بغلام يلقَّب بعين الزمان، في ثلاث مئة رجل من التركمان، كانوا حصلوا في جند طرابلس وجماعة من البحرانية، فجاؤوا في الليلة التي سمَّاها، فاحتال القاضي على الحرس حتَّى ناموا وجماعة من البَحْرانية، وفتح لهم الباب فدخلوا، وأقاموا الخطبة للمقتدي وملك شاه. قال المصنف رحمه الله: ورأيتُ في بعض التواريخ أنَّ الخليفة عزل وزيره عميد الدولة في هذه السنة، واستوزر أبا شجاع محمد بن الحسين الرُّوذراوري، وكان صالحًا عفيفًا، إلا أنَّه كان بخيلًا، فهجاه الموصلي فقال: [من الكامل] ما استبدلوا ابنَ جهيرَ في ديوانِهمْ ... بأبي شجاعَ لرفعةٍ وجلالِ لكن رأَوهُ أشحَّ أهلِ زمانِهِ ... فاستوزروه لحفظِ بيتِ المالِ وما وليَ لبني العباس أعفُّ من أبي شجاع ولا أكثرُ صدقات، وسنذكره إن شاء الله تعالى.

محمد بن الحسين

وفيها تُوفِّي محمد بن الحسين (¬1) ابن عبد الله بن أحمد بن يوسف بن الشّبل (¬2)، أبو علي، الشاعر، البغدادي، توفِّي في المُحرَّم، ودُفن بباب حرب، وكان شاعرًا مجودًا، ومن شعره: [من الكامل] لا تُظهِرنَّ لعاذلٍ أو عاذِرِ ... حَاليكَ في السرَّاءِ والضَّرَّاءِ فلِرَحمةِ المتوجِّعينَ مرارةٌ ... في القلب مثلُ شماتةِ الأعداءِ وقال أيضًا: [من البسيط] يُفني البخيلُ بجَمْعِ المالِ مُدَّتهُ ... وللحوادثِ والأيامِ ما يدَعُ كدودةِ القَزِّ ما تبنيهِ يهدِمُها ... وغيرُها بالذي تَبنيهِ ينتفعُ وقال أيضًا: [من الوافر] بربِّكَ أيُّها الفلَكُ المُدارُ ... أقَصْدٌ (¬3) ذا المسيرُ أمِ اضطرارُ مدارُكَ قلْ لنا في أيِّ شيءٍ ... ففي أفهامنا عنكَ ابتهارُ ودنيا كلَّما وضعتْ جنينًا ... عراه من نوائبِها طوارُ (¬4) هي العشواءُ ما خَبَطتْ هشيمٌ ... هي العمياءُ ما جرحَتْ جُبارُ (¬5) فإنْ يَكُ آدمٌ أشقى بنيهِ ... بذنبٍ ما لَهُ منهُ اعتذارُ فكَمْ من بعد غُفرانٍ ... وعفوٍ يُعَيَّرُ ما تلا ليلًا نهارُ لقد بلغَ العدوُّ بِنا مُناهُ ... وحلَّ بآدمٍ وَبِنا الصَّغارُ وتِهْنا ضائعين كقومِ موسى ... ولا عِجْلٌ أضَلَّ ولا خُوارُ فيا لكِ أكْلَةً مازال فيها ... علينا نقمةٌ وعليهِ عارُ ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 213 - 214، ومعجم الأدباء 10/ 33 - 45، وفيه: اسمه الحسين بن عبد الله، وطبقات الأطباء ص 333 - 340، والأنساب 7/ 284. وتنظر بقية مصادر الترجمة في السير 18/ 430. (¬2) في (ب) والنجوم الزاهرة 5/ 111: الشِّبلي، والمثبت من (خ) وهو الموافق لما في المصادر. (¬3) في الأصلين (خ) و (ب)؛ أقصدك، والمثبت من مصادر الترجمة. (¬4) في معجم الأدباء: غَذَته من نوائبها ظؤارُ. (¬5) الجُبَار: ما لا قوَد فيه.

محمد بن سلطان

نُعاقَبُ في الظُّهورِ وما وُلدْنا ... ويُذبَحُ في حشا الأُمِّ الحُوارُ (¬1) ونخرجُ كارهينَ كما دخلنا ... خروج الضبِّ أخرجَهُ الوَجارُ (¬2) وكانَتْ أنعُمًا لو أنَّ كونًا ... يُشاوَرُ قبلهُ أو يُستشارُ وما أرضٌ عصَتْهُ ولا سماءٌ ... ففيمَ يغولُ أنجُمَها انكِدارُ وهذا الشعر يدلُّ على فساد عقيدته. محمد بن سلطان (¬3) ابن محمد بن حَيُّوس، الأمير، الشاعر، الفصيح، هو أحد الشعراء الشاميين، وفحولتِهم المُجيدين، مدح أعيان الأمراء والأكابر، وله ديوان مشهور، ولد سنة أربع وتسعين وثلاث مئة بدمشق، ومات بها في شعبان وقد جاوز الثمانين، وأنشد له ابن عساكر: [من الطويل] أسُكَّانُ نَعمانِ الأراكِ تيَقَّنوا ... بأنَّكُمُ في رَبْعِ قلبيَ سُكَّانُ ودوموا على حفظِ الودادِ فإنَّني ... بُلِيتُ بأحبابٍ إذا حُفِظوا خانوا سلوا الليلَ عني مُذْ تناءَتْ ديارُكُمْ ... هل اكتَحَلَت بالغَمْضِ لي فيهِ أجفانُ وهَلْ جرَّدَتْ أسيافُ برق دياركُمْ ... فكانتْ لها إلا جفونيَ أجفانُ السنة الرابعة والسبعون والأربع مئة فيها في المُحرَّم ورد كتاب رجلٍ -يُقال له: ابن وهبان- من واسط، يذكر فيه أنَّ امرأةً بنهر الفضل أصابها جُذامٌ فسقط أنفُها وشفتاها وأصابعُ يديها ورجليها، وجافت رائحتها، فأخرجها زوجُها وولدُها إلى ظاهر المحلة، وبَنَوا لها كوخًا تَكِنُّ فيه، وبقيَتْ مدةً فيه لا يقدر أحدٌ من الاجتياز بها من نَتْنِها، فجاء ولدها إليها برغيفين شعير، فقالت له: يا بُنيَّ، قِفْ - بالله - حتَّى أُبصِرك، وجِئني بجرعة من ماء أشربها فقد قتلني العطش. فلم يقدرِ الصبيُّ أن يدنوَ منها وهرب، وكان قريبًا منها خربةٌ يُجمع فيها ماء الكثبان، ¬

_ (¬1) الحُوار: ولد الناقة. (¬2) الوجار: جحر الضب ونحوه. (¬3) تاريخ دمشق 53/ 113، وتنظر مصادر الترجمة في السير 18/ 413.

فحملها العطشُ على قصْدِها والشُّرْب منها، فزحفَتْ فوقعَتْ عندها لضعفها وغاصَتْ فيها، فذكرتْ أنها رأتْ رجلين وامرأَتين جلوسًا عندها، وأخرجوا لها قُرصين عليهما ورقةً خضراءُ قد غطَّتهما، وجاؤوها بكُرازٍ (¬1) فيه ماء وقالوا لها: كُلي من الخبز واشربي من هذا الماء. قالت: فشرعتُ آكُلُ، وكلَّما أكلتُ عاد القُرص كما كان إلى أن شبعت، وشربتُ من الكُراز ما لم أشرب مثلَه قَطُّ ولا ألَذُّ، فقلت: من أنتم يا سادتي؟ فقال أحدهم: أنا الحسن، وهذا الحسين، وهذه خديجة، وهذه فاطمة، ثم أمَرَّ الحسنُ يدَهُ على صدري ووجهي، والحسينُ على ظهري، فعادت شفتاي وأنفي، ونبتَتْ أصابعي، وعاد كلُّ عضوٍ قد زال مني، وأقاموني، فسقط مني نحو زَنْبيلين (¬2) كهيئة صدف السمك، وهرع الناسُ لمشاهدتها من البلاد والتبرُّكِ بها (¬3). وفي يوم الأحد النصف منه وصل خطلج والحاجُّ إلى الكوفة سالمين. وورد الخبرُ بأن مسلم بن قريش فتح بلد حران وسروج، ووصل إليه أُرْتُق بك في جمعٍ من التركمان نجدةً لتُتُش ومعه والدة تُتُش، وطلب العبور إلى تُتُش، فمنعه مسلم وقال: إن أردت تعبر جريدة، وإلَّا فأخاف عليك من العرب. فاستقر الأمر على عبور أم تُتُش وخدمُها. وفي ربيع الآخر ورد كتاب مسلم إلى بغداد يخبر أن صاحب الرُّها [أطاعه، ونقش اسمَه على السِّكَّة، وكان قد اتَّخذ جامع الرُّها] (¬4) حانةً يشرب فيه الخمر مع امرأته، فخرج منه وسلَّمه إلى المسلمين، فأقاموا فيه الجماعة، وبعث مسلم توقيعًا إلى حربى بخمس مئة دينار يعمل بها منبرًا، وكانت إقطاعه، فردَّ الخليفة عليه توقيعَه، وأمر بعمل المنبر من الديوان. وفي سلخه وصل ملك شاه إلى أصفهان عائدًا من تِرْمِذ وحربِ أخيه شهاب الدولة تكش، وكان قد خلع الطاعة، وتحصَّن بقلعةٍ من قلاع تِرْمِذ، وسار ملك شاه ورآه بعد ¬

_ (¬1) الكُراز: القارورة. المعجم الوسيط (كرز). (¬2) الزَّنبيل: السلَّة. المعجم الذهبي ص 316. (¬3) الخبر في المنتظم 16/ 217 - 218. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وقد سقط من (خ).

أن جرَتْ بين العسكرين مناوشةٌ عند بَلْخ ظهر فيها أصحاب السلطان، ثم عبروا، وكان أصحابُ تكش قد حصَّنوا أموالهم ومواشيهم في جبال لا سبيلَ إليها، فسار عسكر السلطان إليها، فظفروا بها وأخذوها، فانزعج أصحاب تكش وقالوا له: قد أخذتَ أموالنا، فإمَّا صالحتَ لتعود إلينا، وإلَّا خرجنا إلى السلطان وخدمناه، فراسل السلطان فقال: يخرجُ من تِرْمِذ ويُسلِّمها ويعود إلى ما كان له أولًا من بَلْخ وأعمالها ويطأ البساط. فقال: أُسَلِّم تِرْمِذ نَعَمْ بَلى، أطأُ بساطَهُ لا. فسلَّم تِرْمِذ، ورجع إلى أصفهان ولم يجتمعا، وكتب إلى الخليفة بشرح الحال. وفي ليلة الأربعاء سادس جمادى الأولى تُوفِّي أيتكين السليماني بعُكْبَرا. وفي ليلة الجمعة بعد العشاء وثب خادم مسلم بن قريش - وكان حظيًّا عنده في الحمَّام - عليه فخنقه بوترٍ وصاح، فسمعَتْ خاتون الصيحة، فجاءت إليه، فرأت باب الحمَّام مغلقًا، فكسرَتْه ودخلت والخادمُ خارجٌ من عنده، فبدأها وقال: الأمير في كلِّ وقت يسومني للقبيح، وأنا أمتنع عليه، وقد ضربني الساعة، وأنا هاربٌ منه. وخرج فركب فرسًا وهرب، فدخلت خاتون فرأته ميتًا قد خرج الدم من أنفه، فأخرجَتْه فتنفَّس وهو في أدنى رمق، ثم دبَّ الدمُ فيه قليلًا قليلًا، ثم أفاق، فأمر بطلب الخادم، وبَثَّ الخيل فوجده في منارة مشهد على جبل سنجار، فأخذ وهو يقول: ويلَكُم إلى من تحملوني؟ ! واللهِ ما خرجتُ من الحمَّام وقد تركتُ فيه روحًا. وحملوه إليه، فاستخلاه ومنَّاه، وحلف له، فأقرَّ على جماعة من عشيرته أنهم حملوه على ذلك، فقتله، واستوحش من حواشيه، واحتجب عن أكثر خواصيه ومؤانسيه، وقبض على جماعة من أهله، وبعثهم إلى القلاع، ثم عاش مسلم بعد هذا إلى أن قُتِلَ في حرب قُتُلْمِش سنة سبع وسبعين وأربع مئة. وقيل: إنما وثب عليه خادمان، وكان بمكان يقال له: القابوسية. وفي يوم الأحد مستهلِّ رجب ركب قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني إلى باب الأزج، ومعه ولدُه أبو الحسن والشهود والوكلاء، فولَّاها ولدَه أبا الحسن، وحكم بين يديه فيها.

وفي رجب ورد الخبر بأن بهمنيار الشرابي اجتمع بملك شاه، وتكلَّم في نظام الملك، وذُكِرَ أنَّه ينثر من الأموال في كلِّ سنة سبعَ مئة ألف دينار، وأقام وجوهَها في الأماكن، وضمن أصفهان زيادة سبعين، فسُلِّمت إليه، فلم يَفِ بما قال، وفي أثناء ذلك جاء صوفيَّان إلى نظام الملك ومع أحدهما قُرصان، وقال: هذان من إفطار فلان الزاهد، فتبرَّكْ بأكل شيءٍ منهما. فأوما بيده إليهما، فغمزه الصوفيُّ الآخر، فكفَّ يده، وظهر له أنهما من دسيس ابن بهمنيار، فأُخِذَ الصوفيُّ ليُقتل، فمنعهم نظام الملك، ووهب له شيئًا، وأخبر السلطان، فقال ابن بهمنيار: هذه موضوعة عليَّ ليكون طريقًا إلى إبعادي عنك، تضييع المال الَّذي ضمنته. فتصوَّر إلى السلطان صحةُ قوله، فلم يسمع فيه قولًا، وعلت منزلتُه عنده (¬1). وفي شعبان كان في الديوان إملاكٌ لأبي القاسم علي ابن نقيب النقباء الكامل على ابنة علي بن الملك جلال الدولة ابن بُوَيه، وكانت وردت من مصر بعد قَتْلِ أبيها هناك. وفيه أُفرجَ عن الرسول وعبد القادر الهاشمي متقدِّم الفتيان ومَنْ كان في الاعتقال منهم. وفي شوال توفِّي دُبيس بن مَزْيَد. وفيه ورد الخبر بأن أبا الحسن علي بن مُقَلِّد بن نصر صاحب تل الحسن أخذ حصن شَيزَر من الروم. قال محمد بن الصابئ: وقفتُ على كتاب بخطِّه منه: كتابي هذا من حصن شَيزَر وقد رزقني الله تعالى من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يتأتَّ لمخلوق، ومن دون هذا الحصن بيض الأنوق، ومن وقف على حقيقة الحال علم أني هاروت هذه الأمة، وسليمانُ الجِنِّ المَرَدة، وأنني أُفرِّقُ بين المرء وزوجته، وأستنزل القمر من محلِّه، وأجمع بين الذئب والغنم، إنِّي نظرتُ إلى هذا الحصن فرأيتُ أمرًا يُذهِلُ الألباب، ويُطيشُ العقول، يسع ثلاثة آلاف رجل، ليس عليه حصار، ولا فيه حيلةٌ لمحتال، فعمدت إلى تلٍّ قريبٍ منه يُعرف بتلِّ الحسن، فعمَرْتُه حصنًا، وجعلتُ فيه عشيرتي ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 16/ 216.

وأهلي، وكان بين التلِّ وشَيزَر حصنٌ يعرف بالحراض، فوثبتُ عليه، وأخذتُه بالسيف، وحين ملكتُه أحسنتُ إلى أهله، ولم أُكلِّفْهم ما يعجزون عنه، وخلطتُ خنازيرَهم بغنمي، ونواقيسَهم بأصوات المؤذنين عندي، وصِرْنا مثلَ الأهل مختَلِطين، فحين رأى أهلُ شَيزَر فِعْلي مع الروم أنسوا بي، وصاروا يجيئوني من واحد واثنين، إلى أن حصل عندي نحو نصفهم، فأجريتُ عليهم الجرايات، ومزجتُهم بأهلي، وحريمَهم [بحريمي] (¬1)، وأولادَهم مع أولادي، وأيُّ مَنْ قصد حصْنَهم أعنتُهم عليه. وحصرهم شرفُ الدولة مسلم بن قريش، فأخذ منهم عشرين رجلًا فقتلهم، فدسَسْتُ إليهم عشرين عِوَضَهم، ولمَّا انصرف عنهم جاؤوا وقالوا: نُسَلِّم إليك الحصن. فقلت: لا، ما أُريد لهذا الموضع خيرًا منكم، وجَرَتْ (¬2) بينهم وبين واليهم نَبْوَةٌ، فنفروا منه، وجاؤوا إليَّ وقالوا: لا بُدَّ من تسليم الحصن إليك. فقلت: ذاك اليوم. فسلَّموه إليَّ ونزلوا منه، وحصلتُ فيه ومعي سبعُ مئة رجل من بني عمي ورجالي، وحصلوا في الرَّبَض، لم يُؤخَذ لواحد منهم درهم فرد، وأعطيتُهم مالًا له قدر، وخلعتُ على مقدَّميهم وأعطيتُهم واجباتهم لستة أشهر، وقمتُ بأعيادهم ونواقيسهم وصُلْبناهم وخنازيرهم، وسمع بذلك أهلُ بَرْزَبه وعينِ تاب (¬3) وحصون الروم، فجاءني رسلُهم، ورغب كلُّهم في التسليم إليَّ، فبينا أنا على تلك الحال إذ شُنَّت عليَّ الغارات، وجُيِّشت نحوي الجيوش من ناحية مسلم بن قريش؛ غيظًا منه لِمَ تسلمتُ حصنَ شَيزَر بعد أن حلف لي قبل ذلك أنني إن أخذتُ حصن شَيزَر أنَّه لا يقودُ إليَّ فرسًا، ولا يبعث جيشًا، وباللهِ أقسم لئِنْ لم ينتَهِ عني لأُعيدَنَّه إلى الروم ولا أُسلِّمه إليه ولا إلى غيره أبدًا. وقال أبو يعلى بن القلانسي: في يوم السبت السابع والعشرين من رجب هذه السنة ملكَ الأميرُ أبو الحسن علي بن المُقَلِّد بن منقذ حِصْنَ شَيزَر من الأسقف الَّذي كان فيه ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) تحرفت في (خ) إلى: وجهرت، والتصويب من (ب). (¬3) تحرفت في (خ) إلى: رزنة وعشاب، والمثبت من (ب)، وبَرْزبه: هكذا تقول العامة، وهي بَرْزُويَه: حصن قرب السواحل الشامية على سنِّ جبل شاهق، وعينُ تاب: قلعة حصينة بين حلب وأنطاكية، معجم البلدان 1/ 383 و 4/ 176.

بمالٍ بذله له وأرغبُ فيه، هالى أن حصل في يده، وشرع في عمارته وتحصينه والممانعة عنه، إلى أن تمكَّنت حالُه فيه، وقَويَتْ نفسُه في حمايته والمراءاة دونه. وفي شوال ابتدأ مسلم بن قريش بعمارة سور على الموصل من حجارة وحصى، وكان قومٌ من أهلها قد سألوه ذلك ليحموه ممن يتطرَّقهم عند بُعدِه عنهم، وقدَّر لعمارته مئةَ ألف دينار، أطلقَ لهم بعضَها من ماله معونةً. وقيل: إنَّ طوله ثلاث مئة وستون برجًا، بين كلِّ بُرجين أربعون ذراعًا. وفيه خلعَ على الوزير فخر الدولة وأُعطي الفرس بمركب مغموس، وندب الخروج إلى أصبهان بسبب اتصال الخليفة بابنة ملك شاه، وكان الوزير يُؤثِر ذلك فأُجيب. وسار يوم السبت لسبعٍ بَقِين من شوال، ووصل عُقيب مَسيرِهِ بهاء الدولة منصور بن دُبيس قاصدًا باب السلطان ليُقرَّر في مكان أبيه. وفي يوم الخميس خامس ذي القعدة سار خطلج بالحاجِّ من الكوفة على عادته إلى مكة. وفيه خرج الوزير أبو شجاع محمد بن الحسين الأصفهاني إلى أصفهان، وأصحَبه الخليفةُ مختصًا الخادمَ، وتوقيعًا بخطِّه إلى نظام الملك، يتضمَّن الوصيةَ به وعودَه إلى منزله محروسًا. ذكر السبب: لمَّا عُزِل فخرُ الدولة وكان ابنُه عميدُ الدولة غائبًا عن الديوان، ترشَّح لذلك مؤيدُ الملك أبو بكر بن نظام الملك، وكان يومئذ ببغداد، وأظهر التوبة من شُرْبِ الخمر وغيره، وجرَتْ في ذاك مخاطبات، وحملَ إلى الديوان مالًا أعاده الخليفة إليه، وأنكر أن يكون جرى في هذا شيء أو طُولع به، وأحضر الوزيرُ أبا شجاع ورتبه في الديوان منفذًا للأمور، إلى أن تستقرَّ الحال على مَنْ يقوم بهذا الأمر، وجلس على طرف البساط، ولم يجلس في مرتبة الوزارة، فنقل ذلك عليُّ بن نظام الملك وكاتَبَ أباه، وعاد عميد الدولة إلى الوزارة، وكان الخليفة يميل إلى أبي شجاع؛ لعقله، وتركِ

داود بن السلطان ملك شاه

مخالطة الأعاجم، فورد من نظام الملك إلى الخليفة كتابٌ بتبعيد أبي شجاع عن بغداد وإقصائه، فاقتضى ذلك إنفاذُه إليه لإزالة ما في نفسه. وفي ذي الحجة تُوفِّي داود بن السلطان باصبهان، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفي يوم السبت لثلاثٍ بَقِين منه رفع صاحب خبر إلى السلطان بأنَّ بهمنيار كاتب خُمارتِكين الشرابي جلس عند موت داود، وتشاغل بالشرب والغناء، ومعه جعفرك، وكان السلطانُ قد سلَّم إليه ولدَه أحمد يُربِّيه، وأن جعفرك أخذ القدح وشربه، وقال: سار ملَك الموت حيث أخذ داود ولم يأخذ أحمد. وكان السلطان قد حزن على داود حُزنًا لم يحزَنْه والد على ولد، فشقَّ ذلك عليه، وبعث في الحال وكبس دار ابنِ بهمنيار، فوجد فيها الدليلَ على ما حكي عنه، فأحضر المُغنِّيات والمُغَنِّين فشهدوا بذلك، فشَقَّ لسانَ جعفرك ثلاثَ قِطَعٍ، وقتله، وكحلَ ابنَ بهمنيار دفعات حتَّى عمي، وكُفيَ نظامُ الملك أمره بعد أن كان قد أشفى على التلف، وكان بهمنيار قد تقدم عند السلطان بقدر ما زاد على نظام الملك، فكان إذا أحضر إليه ما يأكل ويشرب يقول السلطان لمن بحضرته: كُلْ منه واشرَبْ، فإنَّ هذا الرجل قد صار له أعداءٌ كثيرون منذ قَرُبَ منا، فيجب أن نحرسَ نفسه ونُلاحِظَ أمره. وفيها توفِّي داود بن السلطان ملك شاه في يوم الخميس حادي عشر ذي الحجة بأصبهان، ولَحِقَ والدَه عليه ما زاد عن المعهود، وفعل في مُصابه ما لم يُسمَعْ به، ورام قتل نفسه دفعات، ولازمه أصحابُه وخواصُّه لمنعه من ذلك، ولم يُمكِّنْ من أخذِه وغسله؛ لقلة صبره على فراقه، حتَّى تغيَّر وكادت رائحتُه تظهر، فحينئذ مكَّن منه، وامتنع عن الطعام والشراب، وسلَّم إلى الهلَعِ زمانَه، وأعطى الجزَعَ قيادَه، ونزع عن الصبر أثوابَه، وأغلق دون السُّلُوِّ أبوابه، واجتمع الأتراك والتركمان في دار المملكة فجزُّوا شعورَهم، واقتدى بهم نساء الحواشي والحشم والأتباع والخدم، وجُزَّت نواصي الخيول، وقُلِبتِ السروج، وأُقيمت الخيولُ مُسَوَّدات، وكذا النساء المذكورات، وأقام أهلُ البلد المآتم في منازلهم وأسواقهم،

نور الدولة

وبقيت الحالُ على ذلك سبعة أيام، وورد كتاب من أصبهان مضمونه: كتابي من بلدةٍ أقلبتُ بها في ساعة واحدة، وما رأيتُ قبل ما شاهدت الآن مثلَه فأصفه وأشرحه، وقد وقف بذلك أمير الوصلة التي مضى فيها فخر الدولة، وخرج السلطان من بعد شهر من يوم الحادثة إلى الصيد، وكتب بخطِّه رَقعةً يقول فيها: أمَّا أنا يا ولدي داود، فقد خرجتُ أتصيدُ وأنتَ غائبٌ عني، وعندي من الانزعاج لفراقك لي، والاستيحاشِ لبُعْدِكَ عني، والبكاءِ على أخْذِكَ مني، ما أسهرَ ليلي، ونغَّصَ عليَّ عيشي، وقطع كبدي، وضاعف كمدي، فأخبِرْني أنت بعدي ما حالُكَ؟ وما غيَّر البِلى منكَ؟ وما فعل الدودُ بجسمك والترابُ بوجهِكَ وعينِكَ؟ وهل عندك علي مثلُ ما عندي لك؟ وهل بلغ بِكَ الحزنُ مثلَ ما بلغَ بي؟ فواشوقاه إليكَ، ويا حُزناه عليك، ووا أسفاه على ما فات منك. وحُملتِ الرُّقعة إلى نظام الملك، فقرأها وبكى بكاءً شديدًا، وجمع الوجوهَ والمحتشمين (¬1)، ومضى إلى القبر، وقرأها عنده، وارتجَّ المكانُ بالبكاء والعويل، وتجدَّد الحزن في البلد، وعادت المصيبة كلما حدثت، وجلس عميدُ الدولة للعزاء في صحن السُّلَّم ثلاثةَ أيام، أولها يوم السبت لثلاثٍ بَقِينَ من ذي الحجة. نورُ الدولة (¬2) دُبَيس بن علي بن مَزْيَد، أبو الأغر، صاحب الجِلَّة، عاش ثمانين سنة، كان فيها أميرًا نيِّفًا وستين سنة، وكان في دولة الإسلام مثلَ جذيمة الأبرش؛ يُجير الوزراء والأمراء والأكابر من جميع العرب وغيرهم، وكانت الطبول تُضرَبُ على بابه في أوقات الصلوات، وكانت وفاته بِشَهْرابان من أعمال مطير آباذ، فحُمِلَ إلى النَّجف، ودُفِنَ في مشهد أمير المؤمنين رضوان الله عليه، وقام بعدَه ولدُه أبو كامل منصور بهاء الدولة، وأظهر العدل والإحسان، وأزال المكوس. ¬

_ (¬1) في الأصلين (خ) و (ب): واجتمع المحتشمين! والتصويب من المنتظم 16/ 217، والكلام فيه. (¬2) المنتظم 16/ 220، وتنظر مصادر الترجمة في السير 18/ 557.

سليمان بن خلف

سليمان بن خلف (¬1) ابن سعد بن أيوب بن وارث، أبو الوليد، الباجي، القاضي، الإمام، المتكلم، الفقيه، أديب، شاعر، رحل إلى المشرق والحجاز، ورجع إلى الأندلس، وصنَّف الكتب، ومولده في ذي الحجة سنة أربع أو ثلاث وأربع مئة، وسمع الحديث الكثير، وكان عظيمًا في العرب، سُمِّي ذا الوزارتين، وكان على مذهب مالك، وله فيه التصانيف المشهورة، ومن شعره: [من المتقارب] إذا كنتُ أعلمُ علمًا يقينًا ... بأنَّ جميع حياتي كساعَهْ فلِمْ لا أكونُ ضنينًا بها ... وأجعَلُها في صلاحٍ وطاعَهْ واتَّفقوا على فضله وصدقه وثقته وأمانته ودينه وورعه، وأنه تُوفِّي بالأندلس بالمَرِيَّة، وقبره ظاهرٌ يُزار. السنة الخامسة والسبعون وأربع مئة فيها شَفَعَ أُرْتُق بك إلى تاج الدولة تُتُش في الأمير مسمار الكلبي فأَفرج عنه، وسار أُرْتُق إلى القدس وبها تُرْمُس من قبل أتْسِز، فراسله وطيَّب قلبه، فخرج إليه، وسلَّم البلد، فأخذ له أُرْتُق من تاج الدولة مثل إقطاع القدس وزيادةً من ذلك قلعة صرخد، وكان في القدس خالُ أتْسِز وزوجتُه وابنتُه، فلم يأمنوا المُقام بأرض الشام، فساروا إلى بغداد. وفي صفر ورد منصور بن دُبيس من أصبهان ماضيًا إلى بلده، فانحدر عميد الدولة الوزير إلى مشرعة البصلية تحت بغداد وتلقَّاه، فنزل منصور عن فرسه وقبَّل الأرض، وقام الوزير له وهنَّاه بقدومه، وتقرَّر أن يحضر بيت النُّوبة ليخلع عليه الخليفة بمحضر من القضاة والنقباء والأشراف يوم السبت منتصف صفر، وتقدَّم إليه بالحضور، فبكَّر الناس لذلك، فوجدوا منصورًا قد سار في أول الليل إلى بلده، فعادوا. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 22/ 224 - 229، ومعجم الأدباء 11/ 246 - 255. وتنظر مصادر الترجمة في السير 8/ 535.

وقيل: السبب أنَّه طُولِبَ بأملاكٍ في بلده أُظهِرَت كتُبُها، فقال: لم يطالبْ بها والدي فلِمَ أُطالبُ بها أنا؟ إن كان هذا لأجل الخِلَعِ فما أُريدها. ورحل، ثم أُنفِذَت إليه الخِلَعُ بعد مدة مع مختصٍّ الخادم إلى بلده، وأمسك عن الأملاك التي بقُربه. وقدم خطلج والحاجُّ سالمين في سلخ صفر. وفي ربيع الأول وردت البشائر من أصبهان بأن السلطان أجاب إلى تزويج ابنته من الخليفة. قد ذكرنا خروج الوزير فخر الدولة إلى أصبهان في السنة الماضية بهذا السبب ومعه الخِلَعُ والهدايا للسلطان والجماعة وما تقصر عن عشرين ألف دينار، ووصل فخر الدولة إلى أصبهان يوم الخميس ثالث ذي الحجة، وخرج إليه نظام الملك والأمراء والوجوه، واتَّفق وفاةُ داود بن السلطان يوم الجمعة حادي عشره، فلمَّا انقضى الشهر عن الوفاة جارى فخرُ الدولة نظامَ الملك في معنى الوصلة، وكان معه خادمٌ بهذا السبب، فقال لخادم المملكة: عندي (¬1) في هذا أصلٌ مقرَّر، فاكتبوا إلى أمير المؤمنين ليُجهِّز من يتحدَّث مع والدة الصَّبيَّة، وإما أن يعودوا يحتجُّوا بهذه المصيبة الحادثة، وأمَّا إذا مضت الأيام وسلي هذا الحُزْن (¬2) فأجْدَدْتُ خُطاي. فقال فخر الدولة: ما عندي في هذا أمرٌ أقوله، وإنما هذا الخادم حكى لي أنَّ هذا الأمر جرى ها هنا عامَ أول، فأنفذني الخليفةُ لإتمامه والمسير في صحبة هذه السيدة، وأنفذ هذا الخادم ليتولَّى أمرها. فقال مَنْ مع فخر الدولة لنظام الملك: نحن إذا كتبنا نعلم أن الخليفة يردُّ الأمر إليك، فافعل ما تراه. فقام نظام الملك، ومضى إلى خاتون، وقال لها: أمير المؤمنين راغبٌ إليك في الوصلة إلى ابنتك. فقالت: قد رغب إليَّ في ذلك ملك غزنة لابنه، وملوك الجابية، وبذل كلُّ واحد منهم أربعَ مئة ألف دينار، فإن أعطاني أمير المؤمنين هذا القدر كان أحبَّ إليَّ من غيره. فقال النظام: أمير المؤمنين لا يُواجَه بمثل هذا. وجرَتْ مخاطباتٌ انتهت إلى تسليم خمسين ألف دينار عن حقِّ الرضاع وزنًا نقدًا، وهذه عادة الترك عند التزويج، ومئة ألف دينار نقدًا مهرًا. فقال فخر الدولة: نحن ¬

_ (¬1) في (خ): فقال الخادم الملك ما عندي، والمثبت من (ب). (¬2) في (خ): المهر! والمثبت من (ب).

نحصل ها هنا عشرة آلاف دينار، ونُنفِذ من بغداد أربعين ألف دينار، ووقع الرضا بهذا، وشرعوا في تحصيل العشرة آلاف فلم يكن لها وجه، وعرف السلطان، فأمر بتأخير الكلِّ إلى أن ينفذ من بغداد. وقالت خاتون: إذا أملكتُ ابنتي بأمير المؤمنين فأُريد أن يخرج إلى عمته وأمه وجدَّته ومن يجري مجراهنَّ من أهل بيته ومحتشمي دولته، وأُحضر أنا خواتينَ غَزْنة وسمرقند وخراسان ووجوهَ البلد، ويكون العقد بمحضرٍ منهنَّ، وأُنفذ معها في الجماعة من يصلح على قدر ما يليق بحال أمير المؤمنين وحالنا. فقال فخر الدولة: تُعطينا يدَها على ذلك لتقع الثقة، وشاور النظام السلطان، فأذن في ذلك، وأعطاهم يده، واخترقت خاتون أشياءَ، منها: أنَّه لا يبقى بدار الخليفة سُرِّية ولا قَهرمانة، وأن يكون مقام الخليفة عندها. وعاد فخر الدولة إلى بغداد في ربيع الأول، فخرج ولدُه والحجَّاب والوجوهُ للقائه، وجاء إلى باب الحُجرة، وأخبر بما لقي من السلطان والنظام من الإحسان والخِلَع والإطلاق وأعطاه السلطان ألفي دينار، وببغداد مثلها، ولولده عميد الدولة مثلَها، وأعطاه الأعلام والكوسات والخيل بمراكب الذهب والثياب المُذْهبة، ولمَّا ودَّع السلطانَ أخذ يده على أنَّه لا يُمكِّن الخليفةَ من الاستبدال بهم في خدمته، ولم يُفسِح للوزير أبي شجاع في العَوْد إلى بغداد، ورسم له بالمُقام في العسكر، وعاد مختصٌّ الخادمُ الَّذي كان معه، ونقل ذلك إلى الخليفة، ونسبه إلى فخر الدولة. وفي هذا الشهر عاد مسلم بن قريش من الشام إلى منزله بالقابوسية من أعمال الموصل. ذكر السبب: لمَّا صَعِد إلى الشام طالب الفردوس والي أنطاكية بمال الهدنة وهو ثلاثون ألف دينار في كل سنة، فلم يحمل إليه شيئًا، وكانت أهل أنطاكية قرَّروا معه فَتْحَها وتسليمَها إليه، وكان من سوء رأي مسلم وتخلُّفه أنَّه كان له كاتب نصراني، فكان يدَعُ عنده مكاتباتهم ثقةً به، وتحقَّق الكاتبُ فتحَ أنطاكية، فهرب إليها ومسلمٌ بحلب، ودفع تلك الكتب إلى الفردوس، فلما وقف عليها أحضرهم، وكانوا ثلاث مئة إنسان، فقتلهم بين يديه صبرًا، وكاشف مسلمًا، وكتب إلى السلطان بأنه يكاتِبُ صاحب مصر ويُنفِذُ له

الخِلَعَ والأموال، واستقرَّ أنَّ الفردوس يَحمل إلى السلطان في كل سنة مال الهدنة، وبعث نظام الملك، فعَتَب مسلم بن قريش، فقال في الجواب: إن كانت الكتبُ مني إلى صاحب مصر توجَّه العَتْبُ عليَّ، صبيان كانت منه إليَّ فاحفظوا صاحبًا لكم يرغب فيه صاحبُ مصر، لا تُخرجوه عن أبيديكم، وارغبوا فيه كما رغب فيه غيرُكم. ثم سار مسلم إلى شَيزَر وفيها ابن منقذ، فحاصره، واستقرَّ أن يعطيه عشرة آلاف دينار ويرحل عنه، وسار إلى حمص وهي في يد ابن ملاعب، فتحصَّن بالقلعة، فأخذ البلد، وكتب ابن ملاعب إلى تُتُش يستنجده، فكتب إلى مسلم: إنَّ هذا صاحبي مُنتمٍ إليَّ فارحَلْ عنه. فبعث إليه: إنَّ هذا رجل مفسدٌ في أعمال السلطان قاطعٌ سُبُلَها، فإن كان صاحبًا لك فخُذْه إليك. فرحل تاج الدولة تُتُش من دمشق يريد ابن قريش، فخاف من عَتْب السلطان وأنه حارب أخاه، فسار إلى صور، وأظهر أنَّه يريد حصارها، فرجع تُتُش إلى دمشق، وعاد مسلم إلى حمص، فخرج نساءُ ابن ملاعب وحريمُه فتعلَّقْنَ بذيل مسلم، فاستحى منهنَّ، وذمَّ له وأبقاه على حاله، ولم يُطالِبْه بمال تقرَّر عليه، واستحلفه وحلف له، وعاد إلى حلب، وكان في أعمالها نحوٌ من ثلاث مئة فارس من التركمان بقايا مَنْ كان يخدم بني الزَّوقلية، فاستدعاهم من الأعمال، وأظهر أنَّه يعرضهم، فلمَّا حضروا على بابه أمر العرب فنكسوهم عن خيولهم وقيَّدوهم، وفرَّقهم في القلاع، وكان ذلك آخر العهد بهم، وقبض على حسن بن مَنيع بن وثَّاب النمري الأعرج صاحب سروج، وأخذها منه. وقيل: إنه وجد له منطلقات إلى تُتُش، فكان آخر العهد به، وقبض على شبيب ووثَّاب ولدَي محمود بن الزَّوقلية، وطالبهما بتسليم قلعتي أعزاز والأثارب، فسلَّماهما، فأفرج عنهما، وعوَّضهما الخاتونية، وقرقيسيا، ودورًا من أعمال الرحبة. وفيه ثار رجل بالبصرة يُعرف بعبد الباقي بن الشاموخي، فجمع العوامَّ، وتعرَّض لأماكن الشيعة، منها مسجد البغل، سَدَّ بابه، وفتح له بابًا إلى ناحية السُّنَّة، وسمَّاه مسجد عائشة، وجعل فيه حجرًا زعم أنها كانت تصعد عليه إذا ركبت الجمل، ولفَّه في ثياب ديباج. وفي محلَّة بني مازن مسجدٌ يعرف بعلي - رضي الله عنه -، فأخذ ما كان فيه في الآلات، وأمر العوامَّ بغسله وتطهير القبلة، وكان إلى جانبه أشرافٌ مدفونون، فنبشهم

وأحرقهم، وكتب على باب المسجد: أمير المؤمنين معاوية العدل الرضا، ثم الإمام صالح المؤمنين - يَزيدُ ابنُهُ - وسلَّط العوام، فكانوا يتعرَّضون لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وبلغ الخليفة، فقامت عليه القيامة، وأحضر نقيب النقباء الكامل إلى البصرة، فالتجأ ابن الشاموخي إلى الجامع، وأقام يتعبَّد، ورجع عن تلك الأفعال، وثار عليه الهاشميون، وقصدوا قتله، ونهبوا منزله، فدافع عنه أصحابُه، وقُتِلَ بينهم جماعة وهرب، ثم أصلح النقيبُ الحال. وفي ربيع الآخر تكلَّم على العوام رجلٌ قاصٌّ، فقال: هذه المدرسة التي بناها الطوسي -يشير إلى نظام الملك- مدرسةٌ للدين، مفسدةٌ على المسلمين، ويجب أن تُنقَض وتُدْرَس، ثم هرب إلى دار علي بن عقيل، فبعث عميد الدولة، فكبس دارَ ابن عقيل، وأخذ القاصَّ فأدَّبه وحبسه، وهرب ابنُ عقيل إلى الحريم. وفيه أمر السلطان بأن يكتب لوحان مضمونهما رفع المكس عن قافلة الحاجِّ صادرة وواردة، وكتب في أول اللوحين اسم المقتدي، وبعده اسم السلطان، وجعل أحدَهما على باب الحلبة، والآخرَ في باب جامع القصر، ولعن من يُغيِّر ذلك أو يُبدِّله. وفي رجب عاد الوزير أبو شجاع من أصفهان على أن يلازم داره بباب المراتب ولا يركب إلى دار الخليفة، فأخرج له الخليفة الموكب إلى الحلبة لتلقِّيه، ودخل إلى باب الحجرة وخدم، وخرج له التوقيع بما سُرَّ به، وانكفأ إلى منزله، ثم كتب الخليفةُ إلى نظام الملك في معناه، وبقبيح ما فعل معه من منعه هذه المدة. وفيها سار تُتُش إلى حلب، فأخذ من غلَّاتها ما باعه بثمن بخس عجلةً وسرعةً. قيل: إن ملك شاه كتب له بمال على ابن قريش فمَطَله، فسار بنفسه وباع ما قدر عليه، وأنفذ مسلمٌ أصحابَه لحفظ حلب، فغاظ تُتُش، وأقام بجسر الحديد وما يقارب حلب، وأمر أُرْتُق بك بشنِّ الغارات على حلب، فظفر أصحابُه بطلائعَ من العرب، فأسروا منهم نيفًا وثمانين رجلًا، فقتلهم أُرتق بك جميعَهم، وعاد أصحابُ مسلم إلى القابوسية، ووردت كتب السلطان إلى أخيه بأن يرجع إلى دمشق ولا يُقيم ببلد حلب، وإلى أُرْتُق بك بالعود إلى بابه، ففارقه أُرْتُق بك من جسر الحديد، وسار تُتُش إلى دمشق، فنزل

على فرسخين وحلَّ بها، وضعُفَتْ نفسُه لمفارقة أُرْتُق بك، وعبر مسلم في العرب والأكراد وراء تُتُش إلى دمشق، فنزل على فرسخين منها. وفي يوم الخميس ثالث شعبان جلس مؤيد الملك بن نظام الملك للعزاء بأخيه الأكبر جمال الملك، وركب إليه الوزير فخر الدولة وولده عميد الدولة، وكان جمال الملك قد خرج من نيسابور في رجب لاحقًا بالسلطان وابنِه، فعرض له قولنج كان يعتاده دائمًا، فنزل عن فرسه في خَرْكاة، واستدعى والدته من نيسابور، فلمَّا وصلت إليه قضى نحبَه، فدخلت عليه وكمُّه على وجهه، فظنَّت أنَّه نائم، فلمَّا طال عليها يَقَّظَتْه وكشفت عن وجهه فإذا به ميت، فخرجت حاسرةً قد حثَتِ الترابَ على رأسها، فلمَّا شاهدها أصحابُه وغلمانُه جزُّوا شعورهم، وحذفوا (¬1) خيولهم، وطرحوا ذلك على باب الخَرْكاة، فكان كالميل الأسود، وأُعيد إلى نيسابور فدُفن بها، وكان قد خرج منها خروج الملوك، فرجع كما قال (¬2): [من مجزوء الرمل] رُحْنَ في الوشيِ وأصبَحُـ ... ـــنَ عليهنَّ المُسوحُ كلُّ نَطَّاحٍ من الدَّهْـ ... ـــرِ له يومٌ نَطوحُ وقيل: إن السلطان أراد قتله؛ لأنه كان قد استولى على خراسان، فراعى قلب والده، فدسَّ إليه مَن سَمَّه. وفيها فتح ابن قُتُلْمِش حِصْنَ طَرَسُوس من الروم، وبعث إلى ابن عمار وقاضي طرابلس يستدعي لها قاضيًا وخطيبًا. وفي يوم الجمعة لخمسٍ إن بَقِينَ من شوال عبرَ قاضٍ أشعريٍّ -يُقال له: البكري- إلى جامع المنصور، ومعه الشِّحنة والأتراك، والعجمُ بالسلاح، وكان يذكر أنَّه من ولد أبي بكر - رضي الله عنه -، وكانت فيه حِدَّةٌ وجرأةٌ وطيشٌ وخِفَّة، وورد بكتب نظام الملك تتضمَّن الإذن له في الجلوس بالمدرسة النظامية والكلام بمذهب الأشعري، فجرى بينه وبين أصحاب ابن الفراء الحنبلي سيئاتٌ ورجم، وآل أمره إلى أن خرج من بغداد سابع عشر شوال إلى عسكر السلطان، وأُعطي من الديوان مئتا دينار وخمسُ قطع من الثياب، ¬

_ (¬1) من الحَذْف: وهو القطع. اللسان، (حذف). (¬2) قائله أبو العتاهية، وهو في ديوانه ص 98.

ولُقب علمَ السنة، وكان سفيهًا طرقيًّا، ظاهرُ أحواله الإلحاد، وأغرى بسبٍّ الحنابلة، وقال: هؤلاء يقولون: لله ذَكَر. فرماه الله في ذَكَرِه بالخبائث، فمات ودُفِنَ بمشرعة الزوايا عند الأشعري يوم الاثنين تاسع جمادى الأولى سنة سبع وسبعين. وفيها رجع السلطان من بَلْخ وكان قد سار لقتال أخيه شهاب الدين تُتُش، ولمَّا وصل بَلْخ وجد الغلاء العظيم، وتعذُّرَ الأقوات والعلوفات، ووصل القلعة، وتعرف بدركز، وهي على سن رأس جبل، ومساحة الموضع - على ما قيل - أربعة فراسخ، وبين يديها ساحة كبيرة يطيف بها جبل شامخ، والعسكر في تلك الساحة، وفي الجبل بابٌ يُدْخَل منه إلى الساحة، ولم تكن له حيلة في الوصول إلى تلك الساحة، فجاءه تركماني ودلَّه على مكان يصل منه إليها، فركب السلطان، وجاء إلى ذلك المكان، وأشرف على الساحة ومعسكر تكش بها، فصعد تكش ومن معه إلى القلعة، وجاء أصحاب السلطان فنزلوا في الخيم، ووقع القتال، وأُسِرَ جماعة من أصحاب السلطان، فأحسن إليهم، فدخلوا بينهما وأصلحوا الحال، على أن يردَّ عليه تِرْمِذ، ويعطيه تكش ولدَه رهينة، وظهر تكش من القلعة على بعد، وخدم السلطان، ورضي عنه، ورحل عن المكان، وسبب رحيله وصلحه كثرة الثلج والغلاء وعدم الأقوات، ولمَّا قرب السلطان من سرخس جاءه أخو طغان شاه صاحب تلك البلاد وخدمه، ولاطفه بالهدايا، وشرب عنده، فقال له على سكر: يا سلطان، أنت ما تعطي إلَّا لمن يخرج عليك ويعصيك، ومن يطيعك ويتقرَّب إليك تحرمه وتمنعه -يعني أخاه تكش ونفسه - فغضب السلطان من قوله، وقبض عليه، وبعث به إلى أصفهان، وراسل القلعة التي فيها والدته وأولاده وأمواله ليأخذها، فامتنعت أمه من تسليمها، ثم سلَّمتها بعد ذلك. وفي ذي الحجة أخرج الخليفة أبا إسحاق وشافهه بما يقوله -وهو أبو إسحاق الشيرازي- ممَّا يجري على البلد وأهله من العهد، فاستشعر الوزيرُ وولدُه من ذلك، وخافا أن تكون الرسالة في معناهما، فقام ولد الوزير من الديوان، ومضى إلى داره، وأغلق بابَه، فأرسل الخليفةُ إليه وطيَّب قلبه، فعاد إلى الديوان على كُرْهٍ وفي نفسه ما فيها، وأقام أبوه في داره على كُرْهٍ أيضًا، وقد كان كتب إلى أصفهان يسأل إنفاذَ مَنْ يخرجه من موضعه ويحمله إلى مقصده.

ابن ماكولا

وفيها سار مسلم بن قريش إلى دمشق فحصرها، وعاد عنها ولم يظفر بطائل. وفيها تُوفِّي ابن ماكولا (¬1) علي بن هبة الله بن علي بن جعفر بن علكان بن محمد بن دُلَف بن القاسم بن علي، أبو نصر، الأمير، الحافظ، العجلي، أصله من جَرْباذقان من نواحي أصفهان، ولد ببغداد، ونشأ بها، ووَزَر أبوه هبة الله للقائم، ووُلدَ أبو نصر خامس شعبان سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة بعُكْبَرا، وسمع الحديث الكثير، وصنَّف المصنفات الحِسان، منها: "الإكمال" و"مستمر الأوهام على ذوي النُّهى والأحلام". وقال أبو عبد الله الحميدي: ما راجعتُ الخطيبَ في شيءٍ إلَّا وأحالني على كتاب، ولا راجعتُ ابنَ ماكولا في شيء إلَّا وأجابني من حفظه، كأنما يقرأه من كتاب. وتُوفِّي في هذه السنة. وقيل: سنة تسع وسبعين. وقيل: سنة سبع وثمانين. وقيل: سنة نيِّفٍ وسبعين وأربع مئة. وخرج إلى خراسان ومعه غلمان له تُركٌ أحداث، ومالٌ كثير، وخيل وثياب، فوثبوا عليه بجرجان -وقيل: بخوزستان- فقتلوه، وأخذوا الجميع، وهربوا، وطاح دمُه هدرًا. ومن شعره: [من الطويل] أقولُ لنفسي قد سلا كلُّ عاشقٍ ... ونفَّض أبوابَ الهوى عن مناكِبِهْ وحبُّكِ لا يزدادُ إلَّا تجدُّدا ... فيا ليتَ شعري ذا الهوى من مُناكَ بِهْ وقال [من الطويل]: ولمَّا توافَينا تباكتْ قلوبُنا ... فمُمسِكُ دمعٍ يومَ ذاكَ كساكِبِهْ فيا كَبِدي الحرّى البَسي ثوبَ حسرةٍ ... فِراقُ الَّذي تَهوينَهُ قد كساكِ بِهْ وقال: [من الوافر] ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 52/ 15 - 17 (نشر مجمع اللغة العربية)، ومعجم الأدباء 15/ 102 - 111، والمنتظم 16/ 226. وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 569.

السنة السادسة والسبعون وأربع مئة

أليسَ وقوفُنا بدِيارِ هندٍ ... وقد سارَ القَطينُ من الدواهي وهندٌ قد غدَتْ داءً لقلبي ... إذا صدَّتْ ولكنَّ الدوا هي وقد روى عنه الأئمة، ولم يتكلَّم فيه غير عبد الوهَّاب الأنماطي، فقال: العلم يحتاج إلى دين. وكان يتَّهمه بالغلمان. السنة السادسة والسبعون وأربع مئة فيها في يوم الجمعة لخمسٍ بَقِينَ من صفر خرج توقيع الخليفة إلى الوزير عميد الدولة، فعزله عن الوزارة، نسخته: لكلِّ أجلٍ كتاب، انصرِفْ من الديوان إلى دارِك، وخَلِّ ما أنت منوطٌ به من نظرِك. فوصله التوقيع وهو في داره بباب عمروية لم يمضِ إلى الديوان بعد. قال عميد الدولة: فلمَّا قرأتُه قلت: السمع والطاعة، قد كُنْتُ في الديوان متحملًا للأعباء، وأنا الآن متوفِّرٌ على الدعاء، وكان قد جاءني ليلةَ الجمعة توقيعٌ يتضمن الشكرَ لي والإحماد، والثقةَ والاعتداد، وما يجري هذا المجرى من الجميل الَّذي ما أعرف سببُهُ، فارتبتُ به، وتعجبتُ منه، وما زلتُ مُفكِّرًا فيه ليلتي، فلما جاءني هذا التوقيع الثاني علمتُ أن هذاك لهذا، وحضرني بعض الخواصِّ عُقيب توقيع العزل، فأشار عليَّ بالمقام والتوقُّف والتثبُّت وترك الانصراف، فزاد ارتيابي، ونهضتُ من وقتي، واتفق وصول تارَح الحاجب المنْفَذ من جهة السلطان بكتب منه إلى الخليفة؛ إمَّا أن تستخدمنا وتُوفِّينا حقوقَ الخدمة ورجوعَنا إلى المألوف منه، أو الإذنُ لنا بالانصراف إليه والقدومِ عليه، وكان والدي كتب إليَّ هناك بأننا مُتَّهمون بكلِّ ما يكون منه اعتراضٌ للديوان والحاشية، فإمَّا أن تزول هذه التُّهم عنا، وإمَّا أن ننتقل إلى أصفهان فنُقيمَ هناك في ظلِّ السلطان، وكتب السلطان إلى والدتي وإليَّ بالمبادرة إليه إذا لم يقع من الخليفة إيثار بخدمتنا، ولم يبقَ مع العزل للكتب وإيصالها حكم، فخرجتُ أنا ووالدتي وإخواني وأهلُنا، ورحلنا بعد أن اجتمع الحاجب الوارد وشحنةُ بغداد والعميدُ والعجمُ على باب عمورية بالسلاح، حتَّى خرجنا بأموالنا وأهلنا من غير استئذان الخليفة في ذلك ولا إعلامٍ به، وتعجَّب الناسُ من هذه الحال، ونزلنا في دار المملكة.

قال ابن الصابئ: وأقاموا بها يتجهَّزون، وقد اجتمع إليهم حشدٌ كبيرٌ إلى عشية السبت ثالث ربيعٍ الأول، وساروا نحو أصفهان في تحمُّلٍ كبير ومعهم ابنةُ الوزير نظام الملك زوجة عميد الدولة، وكان مسيرُهم ليلًا، واستُدعيَ تارَح الحاجب، وأُخِذت منه الكتب، ورُدَّت الأجوبة بكراهية بني جَهير والتماسِ إبعادهم، وأُعطي هذا الحاجب ثلاثَ مئة دينار، وفرسًا بمركب، وثيابًا؛ تطييبًا لقلبه، حيث لم يستَقِلْ من الديوان عند وروده، واستُنيب من الديوان مُنفِذٌ وناظرٌ أبو الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة، كان قبلَ ذلك على عمارة الدار وأحوال الخدم والخواص (¬1). وفيها سلَّم ابنُ الصَّيقَل قلعة بعلبك إلى تاج الدولة تُتُش، كان مقيمًا فيها من قبل المصريين. وفي ربيع الأول عاد مسلم من دمشق إلى حَرَّان عَجِلًا. وقال أبو يعلى بن القلانسي: في سنة خمس وسبعين توجه تُتُش إلى الروم وفي خدمته وثَّاب بن محمود ومنصور بن كابل، فأقام هناك مدةً، واتصل به خبر مسلم وما هو عليه من الاحتشاد للنزول على دمشق، فعاد تُتُش فوصلها أوائل المُحرَّم هذه السنة، ووصل مسلم بن قريش (¬2) وسار مُجِدًّا على دمشق، ووصل إليه جماعةٌ من عرب قيس واليمن، وقاتلَ أهلَ دمشق، وخرج إليه عسكر تُتُش والتقوا، وثبت مسلم، وقاتلت العرب، ثم انهزموا، وتضعضع عسكرُه، وأشرف هو على الأسْر، وتراجع أصحابُه، وكان قد اعتمد على نجدة المصريين فتقاعدوا عليه، وجاءه من بلاده ما شغل خاطِرَه، فرحل إلى مرج الصفر، ثم عاد إلى الشرق وجدَّ السير، فهلكت المواشي، وانقطع من الناس خلقٌ كثير من العطش، وخرجت به الطريق إلى قريب سلمية، فأنفذ وزيرَه صدقة إلى أن خلَّفَ ابنَ ملاعب المقيمَ بحمص، فخرج إليه، فأكرمه وخلع عليه، وقرَّر معه حفظ الشام الأسفل، وسار إلى الشرق، وخرج تُتُش إلى ناحية طرابلس، وافتتح حصن أنطرطوس وبعض الحصون وعاد إلى دمشق. وقيل: إنه قصد حلب، فلم يظفر منها بطائل. ¬

_ (¬1) ينظر المنتظم 16/ 227. (¬2) تحرف في (خ) إلى: يابس! .

وقال محمد بن الصابئ: لمَّا وصل مسلم إلى دمشق لم يكن مع تاج الدولة تُتُش من العسكر ما يخرج بهم إليه، فعدل وثَّاب بن محمود إلى جماعة من وجوه بني كلاب فراسلوه وواعدوه يومًا عيَّنوه، واستعدَّ مسلم، وجمع إليه الأكراد والعبيد المحيطين به، وانفرد بنو كلاب وبنو نمير عنه واقتتلوا، وقُتِلَ من الفريقين عددٌ كثير، ووصل الخبر إلى مسلم بأنَّ أهل حرَّان عصوا عليه، فرجع كارًّا إلى حمص، وصالح في طريقه ملاعبًا وخالفه، وأعطاه مضافًا إلى حمص رَفَنيَّة وسلمية، وأقطع شبيبَ بن محمود بن الزَّوقلية حماة، واستخلفه في تلك الأعمال، وعاجل حرَّان فوصلها يوم الجمعة ثامن ربيع الأول، فوجد قاضيها ابن جبلة الحنبلي قد استغوى أهلَها، وأدخل إليها جماعةً من بني نمير مع ولد صغير لمَنيع بن وَثَّاب، وأنفذ ابنُ عطير أحدَ وجوه بني نمير إلى خَنْق أمير التركمان وكان قريبًا، واستدناهم إليه ليُسلِّم إليهم البلد، وشرع القاضي يُعلِّل مسلمًا ويُمنيه خديعةً منه ليصل التركمانُ، وعلم مسلمٌ، فحاربهم، ورمى قطعةً من السور، وبينا هو كذلك وصل التركمانُ، فترك أقوامًا يقاتلون البلد، وركب هو بمن معه فأشرف على التركمان، واتصل الظراد وقال للعرب: املكوا عليهم النهر -المعروف بالجلاب- واجعلوه وراءكم، وحُولوا بين التركمان وبينه. ففعلوا وعَطِشوا وخيلَهم، وهجَّرتِ الشمسُ عليهم، فمالوا بجميعهم طالبين رأس الماء على أن يشربوا ويسقوا خيولهم ويعودوا على العرب، فلمَّا عطفوا خيولَهم لم يشُكَّ العرب أنها هزيمة، فألقوا نفوسَهم عليهم فانهزموا، فتبعوهم وغنموهم، وقتلوا وأسروا، وأقام مسلم على حصار حرَّان، وكان لمَّا رمى قطعةً من السُّور نصب ابنُ جبلة بإزاء الثُّلمة مجانيق وعرادات منعت مَنْ يروم القرب منها، وراسله: إنك كلَّما رميتَ قطعة من السُّور جعلتُ مكانها مجانيق وعرادات ورجالًا أشدَّ منها. فتوقَّف عن حربهم وتربَّص، واتَّفق أنَّه استأمن إلى مسلم من أهلها ثلاثةُ إخوة، فأخذ القاضي أباهم -وكان شيخًا كبيرًا- فأصعده إلى السور وقتله، ورمى برأسه إلى مسلم، فلمَّا حضر الرأسُ بين يديه وعلم الحال قال: غدًا أفتح البلد إن شاء الله تعالى، فهذا بغيٌ أرجو من الله النصر في جوابه، وأنفذ إلى العرب وأمرهم بالبكور للقتال، فجاؤوا ولبسوا السلاح، وتقدَّم مسلم وعليه السلاح، وكان قد

بعث رجالًا في الليل نظَّفوا الحجارة من الطريق لأجل الخيل، فسُئِلَ أن يكاتب ابن جبلة ويعطيه الأمان لئلا يَهلِك الناس وتُنهَبَ البلد، فلمَّا كتب عاد جوابه على رأس الورقة: السيفُ أصدق أنباءً من الكُتبِ (¬1) فتقدَّم إلى العرب بالدخول إلى الفتحة فما منهم من أقدم، فجمع عبيدَه وخواصَّه وهجمَ، وأتَتْه الحجارة فسَلِمَ منها، ودخلها وأحرق المجانيق والعرادات (¬2)، وقتل كثيرًا من أهل البلد عندها، وتبِعَتْه العرب حينئذٍ، فدخل البلد، وصَعِد ولد أيتَكين السليماني ونزل من السور، وفتح الباب، فأقطعه قرقيسيا، ثم طلب القاضي، فوُجِدَ في كندوج فيه قطن، فأُخِذَ ولدُه، وقبض على أعيان أهل حرَّان، ونهب البلد إلى آخر النهار، ثم رفع النهب، وصلب القاضي وولديه وأعيان الحرَّانيين على السُّور، وقتل خلقًا من العوامِّ، وعاد إلى منازله بأرض الموصل. وفي يوم الثلاثاء تاسع وعشرين ربيع الأول قدم أبو إسحاق الشيرازي والخادم الَّذي كان معه من أصفهان إلى بغداد بكُتُب السلطان بإزالة الاعتراض عن إقطاع الحواشي، وأُوْصِلَ الشيرازي إلى الخليفة، وخاطبه بما طيِّب قلبه، وكان في الكتب كتابٌ من نظام الملك إلى الخليفة جواب في معنى آل جَهير، مضمونه: إذا لم يكن أمير المؤمنين يرضاهم لخدمته، وقد انصرفوا عن حضرته، وقصدونا ملتجؤون إلينا، ومستجيرون بنا، فلا بُدَّ من مقابلة ذلك بما يُصلحُ أحوالهم، ويُحقِّق فينا ظنونَهم. وثَقُل على نظام الملك صرف الوزير عميد الدولة وزوجته من بغداد ثقلًا شديدًا، ثم ورد الخبر أنهم لمَّا وصلوا إلى أصفهان أخرج نظامُ الملك ليلًا إلى ابنته زوجة عميد الدولة عماريتين جلست في إحداهما وبناتها من عميد الدولة، وفي الأخرى بنات عميد الدولة من أختها التي ماتت، ومعهم الخدم والغلمان والأتراك بالشموع، وخرج نساء الحُجَّاب والأمراء والخواص للقائهم، ودخلوا على السلطان، فأجلسهم بين يديه، ووعدهم ¬

_ (¬1) هو صدر بيت لأبي تمام، وهو في ديوانه 1/ 40 وعجزه: في حدّه الحدُّ بين الجدِّ واللَّعبِ (¬2) العرادات؛ جمع عرَّادة: وهي شيء أصغر من المنجنيق شِبْهُه. تاج العروس (عرد).

بالجميل، وأُفردت لهم الدُّور الجليلة، وأُقيمت لهم الأموال الكثيرة، وأطلق لهم السلطان أموالًا، وقدموا لهم الهدايا - للسلطان والجماعة - فلم يقبَلْ منهم أحدٌ شيئًا، وقالوا: ما هذا وقتُه. فثَقُل ذلك على الخليفة، وكَبُرَ موقعُه منه. وفي جمادى الأولى عقد السلطان لفخر الدولة الوزير على ديار بكر بمالٍ ضمنه عنها، وخلع عليه، وأُعطي الكوسات والأعلام، وأُذِن له في ضرب الدبادب على بابه في أوقات الصلوات الثلاث؛ الفجر والمغرب وعشاء الآخرة في المعسكر السلطاني، والصلوات الخمس في ديار بكر، وأن يخطب لنفسه بعد السلطان في الجمع، وينقش اسمَه على السِّكك. وقد تقدَّم في ترجمة أحمد بن مروان في سنة ثلاث وخمسين وأربع مئة ما جرى لفخر الدولة معه في هذا المعنى، ثم إنه لم يقنع بتغيير دولة بني مروان الكردي حتَّى اتَّفق مع نظام الملك على تغيير الدولة العباسية، فلولا أن الله تعالى لطف بالخليفة فمات السلطان وقُتِلَ نظامُ الملك، لأُخرِجَ الخليفةُ من بغداد. وفيها عُزِلَ السلطانُ خطلج عن الكوفة وإمارة الحج؛ لكثرة شكاوى الناس منه. وفيها عزم تُتُش على مصاهرة بدر الجمالي على ابنه بدر، فأشار ابن عمار صاحب طرابلس على تُتُش أن لا يفعل، فامتنع بعدما وردت هدايا وملاطفات من مصر. وفي شعبان استوزر الخليفةُ أبا شجاع محمد بن الحسين، وخلع عليه خِلَعَ الوزارة، ولقَّبه بظهير الدين، مؤيد الدولة، سيد الوزراء، صفي أمير المؤمنين، وكتب له توقيعًا بليغًا بخطِّ ابن الموصلايا، وكان أبو شجاع من أعقل الناس وأعفِّهم وأكثرِهم اجتهادًا في خدمة سلطانه. وفيها وَلَّى السلطانُ سرهنك ساوتكين إمرة الحاجِّ والكوفة، فأحسن إلى الرعية، وأسقط عنهم وعن الحاج ما كان يأخذه خطلج من الكرى والخفارة، واستدعى العرب، وضمَّنهم الطرق، والتزم جميع ما كان يؤخذ منهم من ماله. وفيها تُوفِّي السلطان شاه إسحاق بن قاروت بك بكرمان، فجاءت أمُّه إلى السلطان بهدايا وألطاف وأموال، فأكرمها وأقرَّ أخاه مكانه.

وفيها تغيَّرت نيةُ السلطان لنظام الملك ثم صَلُحت. ذكر السبب: كان أبو المحاسن بن أبي الرضا كاتبُ ديوان الرسائل قد نفق على السلطان وأخيه، ومال إليه، وأنس به، وعوَّل عليه، بحيث ينفرد بالأعمال، واطَّرح نظامَ الملك، وأطلق فيه لسانه، وضمَّنه بألف ألف دينار، وضمَّن أبا الرضا والدَه بخمس مئة ألف دينار، وكذا لشرف الملك أبي سعد المستوفي، فصنع نظام الملك سِماطًا عظيمًا ودعا السلطان إليه، فلمَّا أكل خلا به، وأقام مماليكُه الأتراكُ على خيولهم، وكانوا أكثرَ من ألف غلام وعليهم أسلحتهم وجنائبهم، وجمالهم وخيامهم عليها، وأزاح عللهم، ثم قال: أيها السلطان، إنني ما آخذه من عُشر أموال أُنفقه في هذا العسكر الَّذي تراه، وإنَّ جامَكياتهم تشتمل على مئين ألوف في كل سنة، وهؤلاء يقاتلون أعداء دولتك، ولو لم أدفع إليهم هذا المال من عندي لاحتجتَ إلى أن تعطيهم من خزانتك، وقد جمعتُهم وخيلَهم وسلاحَهم وجمالَهم وخيامَهم، فتقدَّم بنقلهم إلى مَنْ تراه من الحُجَّاب يصرف إليهم هذا العُشر الَّذي آخذه وأستريح أنا من التعب والخطر، ومع هذا فقد خدمتُ جدَّك وأباك، وشِخْتُ في دولتكم، وأنا واللهِ مشفقٌ من مُضيِّك على ما أنت ماضٍ عليه، وخائفٌ من عُقبى ما أنت خائضٌ فيه. ثم قدَّم له من الجواهر والأموال والأمتعة ما ملأ عينه به، وضمن له أن يستخرج من المتكلمين فيه أموالًا كثيرة، فأطلعه السلطان على ما جرى، وحلف له، وقبض على أبي المحاسن وغيره واعتقلهم، وانتهى أمرُ أبي المحاسن إلى أن حُمِلَ إلى قلعة ساوة وقُوِّرَتْ عيناه بالسكِّين، وحُمِلتا إلى السلطان، فأمر أن تُطرحا لكلب صيد كان بين يديه، فأكلهما، ونسب نظامُ الملك ما جرى من أبي المحاسن إلى الخادم الَّذي خرج من دار الخلافة لعقد الأملاك، وأنه اجتمع مع أبي المحاسن على ذلك، وحمل له من الخليفة خِلْعةً في جملتها دواةٌ، وأنَّ الخليفة انحرف عن نظام الملك لما فعله من الجميل مع بني جَهير. وفيها قدم سعد الدولة الكوهراني إلى بغداد نجدةً لابن جَهير، وقبَّحوا له أن يتَّبعه ويخدمه ويحملوا إليه عن الخليفة ما ألفته عن عزمه، فأقام يتعلَّل، ووصل ذلك نظام

إبراهيم بن علي بن يوسف

الملك، فاستدعاه إلى أصفهان، وبعث كتابًا إلى ابن مَزْيَد وأبي فراس بن وَرَّام بالمسير إلى نجدةِ ابنِ جَهير بالعسكر الَّذي كان مع سعد الدولة، فسارا، وحشد مسلم بن قريش لنصرة ابن مروان، وسار فنزل في الحَدِّ بينه وبين ميَّافارقين، وكتب إلى السلطان يقول: هؤلاء القوم أعداؤنا، ومتى وَطِئوا بلادَنا وقعت الفتن، وابن مروان فعبد طائع سامع، وهو يحمل من المال ما يطلب منه. وفي ذي الحجة ورد الخبر بأنَّ فخر الدولة ابن جَهير أخذ بلاد خلاط والقلعة وقبض على أصحاب ابن مروان، وحصل في هذه السنة من الأمن والرُّخص ما لم يُعهد؛ تسير القوافل من جَيحون إلى الشام والتجار بالأموال العظيمة والأمتعة بلا خفير ولا رفيق على الاجتماع والانفراد، ولا يُؤخَذُ لأحد عقال. وأما الرُّخْص فبلغ كُرُّ الحنطة ببغداد عشرَ دنانير بعد ثمانين دينارًا، والشعير بخمسة دنانير بعد خمسين، واللحم ثمانون رطلًا بدينار، والسمك مئة رطل بثلاثة قراريط، وعلى هذا الفواكه جميعها. وحصل بعض السَّوادية في بلد الحِلَّة كارة شعير ليبتاع بها كحلًا لمولود فلم يُعْطَ بها شيئًا، فرمى بها في النهر، وقال: ما أعمل بما لا يصلح ثمنًا لكحل مولود. وحجَّ بالناس خُمارتِكِين الحسَّاني. وفيها تُوفِّي إبراهيم بن علي بن يوسف (¬1) الفَيروزآبادي، أبو إسحاق، الشيرازي، الإمام، الشافعي، ولد سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة، وتفقَّه بفارس على أبي الفرج بن البيضاوي، وببغداد على أبي الطيب الطبري، وبالبصرة أيضًا، وسمع الحديث، وقدم بغداد سنة خمس عشرة وأربع مئة، وكان يعيد الدروس في ابتدائه مئة مرة، وإذا كان في المسألة بيتٌ يستشهد به حفظ القصيدةَ كلَّها لأجله، وصنَّف الكُتُبَ الحِسان: "المهذب"، و"التنبيه" و"النكت في ¬

_ (¬1) تبين كذب المفتري ص 276 - 278، والأنساب 9/ 361 - 362، والمنتظم 16/ 228 - 231، وصفة الصفوة 4/ 66 - 67. وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 452.

الخلاف" و"اللُّمع في أصول الفقه" و"طبقات الفقهاء" و"التبصرة" و"المعونة" وغير ذلك، وكان له اليدُ البيضاءُ في النظر، وبُورك له في تصانيفه، وانتفع بها الناس؛ لِحُسن قصده، وانتشر عِلْمُه، وكثُر أتباعُه. وكان طلقَ الوجه، دائمَ البِشر، مَليحَ المحاضرة، يحكي الحكايات الحِسان، وينشد الأشعار المستحسنة، مع الزهد في الدنيا، والورعِ الشافي، وكان لا يُخرج شيئًا إلا بنية، ولا يتكلَّم في مسألة إلا قدَّم الاستعانة بالله، ولا صنَّف بابًا إلَّا وصلَّى ركعتين، فلا جرمَ شاع اسمُه في الدنيا، وانتشرت تصانيفه شرقًا وغربًا، ببركات هذا القصد والنية والإخلاص، ورأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا شيخ. فكان يفتخر بهذا ويقول: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا شيخ. ولمَّا قدم خراسان في الرسالة تلقَّاه الناس، وخرجوا إليه من نيسابور، فحمل إمام الحرمين أبو المعالي الجويني غاشيته، ومشى بين يديه كالخدم، وقال: أنا أفتخر بهذا. وسُئِلَ عن التأويل فقال: هو حَمْلُ الكلام على إخفاء مَحامله. وما عِيب عليه شيء إلا دخوله النظامية، وذكره الدرس بها؛ لأنَّ حاله في الزهد والورع خلافُ ذلك. وكان يمشي يومًا في الطريق ومعه صاحبٌ له، فعرض له كلبٌ، فزجره صاحبُه، فقال له أبو إسحاق: لم زجرتَه؟ أما علمت أن الطريق مشتركٌ بيننا وبينه؟ وله أشعار منها في غريق [في] (¬1) الماء: [من الطويل] غريقٌ كأنَّ الموتَ رَقَّ لأخْذِهِ ... فلانَ لهُ في صورةِ الماءِ جانِبُهْ أبى اللهُ أنْ أنساهُ دهري فإنَّهُ ... توفَّاهُ في الماءِ الَّذي أنا شارِبُهْ وقال: [من الوافر] سألتُ النَّاسَ عن خِلٍّ وَفِيٍّ ... فقالوا ما إلى هذا سبيلُ تمسَّكْ إنْ ظفِرْتَ بوُدِّ حُرٍّ ... فإنَّ الحُرَّ في الدُّنيا قليلُ وقال: [من الوافر] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

إذا طالَ الطريقُ عليك يومًا ... فليسَ دواؤُهُ إلَّا الصديقُ تُحادِثُهُ وتشكو ما تُلاقي ... ويَقرُبُ بالحديثِ لكَ الطَّريقُ وقال: [من البسيط] لمَّا أتاني كتابٌ منكَ مبتسمًا ... عن كلِّ لفظٍ ومعنًى غير محدودِ حكَتْ معانيه في أثناءِ أسطُرِهِ ... أفعالكَ البِيضَ في أحواليَ السُّودِ ومنها: [من المجزوء الكامل] جاء الربيعُ وحُسْنُ ورْدِهْ ... ومضى الشتاءُ وقُبْحُ بَرْدِهْ فاشرَبْ على وجهِ الحبيـ ... ـبِ ووجنتيهِ وحُسْنِ خَدِّهْ ذكر وفاته: تُوفِّي ليلةَ الأحد الحادي والعشرين من جمادى الآخرة بدار الخلافة من الجانب الشرقي في دار المظفر بن رئيس الرؤساء، وغسَّله ابنُ عقيل، وتقدَّم الخليفةُ بأن يُحمَلَ تابوتُه إلى باب الفردوس، فصلَّى عليه الخليفةُ أولَ النَّاس، ثم صلَّى عليه المظفر بن رئيس الرؤساء وهو يومئذٍ نائب بالديوان، ثم حُمِلَ إلى جامع القصر فصُلِّي عليه، ثم حُمِلَ إلى باب أبرز فدُفِنَ به، وقبره ظاهرٌ يُزار. وقال أبو يعلى: رأيتُ أبا إسحاق في المنام بعد موته، فقلتُ له: أليس قد مِتَّ؟ قال: لا والله ما مِتُّ، ثم قال: أبرأُ إلى الله من المدرسة وما فيها. قلتُ: أليس قد دُفِنتَ في التوبة التي تُعرف ببيت فلان؟ فقال: لا والله ما مِتُّ. وقال ابن عقيل: رُؤي أبو إسحاق في المنام وعليه ثياب بيض، وعلى رأسه تاج، فقيل له: ما هذا؟ فقال: الثيابُ شرفُ الطاعة، والتاجُ عِزُّ العلم. وقد روى عن أبي إسحاق جماعةٌ من الأئمة، وكانت له اليد العليا في المناظرة واللسان الذَّلِق في الجدال والمشاجرة، حتَّى ضُربت به في ذلك الأمثال، وفاق النُّظراء والأمثال. قال أبو زكريا بن السلار العقيلي: [من الطَّويل] كفانيَ إذْ عَنَّ الحوادثُ صارمٌ ... يُنيلُنيَ المأمولَ بالأَثْرِ والأَثَر يقدُّ ويفري في اللِّقاء كأنهُ ... لسانُ أبي إسحاقَ في مجلسِ النَّظر

طاهر بن الحسين

ولمَّا مات أبو إسحاق أجلسوا مكانه بالنظامية أبا سعيد المتولي، وسنذكره إن شاء الله. طاهر بن الحسين (¬1) ابن أحمد بن عبد الله، أبو الوفاء، القوَّاس، ولد سنة تسعين وثلاث مئة، وقرأ القرآن، وسمع الحديث، وتفقَّه أولًا على أبي الطَّيِّب الطبري، ثم رأى مذهب الإمام أحمد رحمه الله، فتفقَّه على القاضي أبي يعلى، وأفتى ودرَّس، وكانت له حلقة بجامع المنصور للمناظرة والفتوى، وكانت وفاته في شعبان، ودُفن بدكة الإمام أحمد رحمه الله إلى جانب الشريف أبي جعفر. وروى عنه الشيوخ، وكان زاهدًا، عابدًا، ورعًا، ثقةً، أقام بمسجده المعروف به بباب البصرة خمسين سنة لا يخرج منه إلَّا إلى الجامع. محمَّد بن أحمد (¬2) ابن محمَّد بن إسماعيل، أبو طاهر بن أبي الصقر، الأنباري، وُلد في ذي الحجة سنة سبع وسبعين وثلاث مئة بالأنبار، وتُوفِّي في شعبان، ودُفِنَ ببلده، وكان يقول: هذه كتبي أَحَبُّ إليَّ من وزنها ذهبًا. واتَّفقوا على صدقه وثقته وزهده وصيامه وقيامه، وكان يشعر، فمن شعره: [من الكامل] صدِّقْ وصَلِّ وصُمْ وجاهِدْ مشركًا ... واحجُجْ وطُفْ بين الحطيمِ وزَمْزَمِ وتجنَّبِ السبعَ الكبائرَ واجتهِدْ ... في الخيرِ ويحَكَ لا تُلِمَّ بمحرمِ إنْ لم تعِفَّ عن الفواحشِ كلِّها ... وتخافَ خالِقَنا فلستَ بمسلمِ وأنشد لابن الرومي: [من الكامل] يا دهرُ صافيتَ اللِّئامَ مواليًا ... أبدًا وعاديتَ الأكارمَ عامدا فغدوتَ كالميزان ترفع ناقصًا ... أبدًا وتخفضُ لا محالةَ زائدًا ¬

_ (¬1) اسم أبيه في (خ) و (ب): الحسن، والمثبت من مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة 2/ 244، والمنتظم 16/ 231. وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 452. (¬2) الترجمة مختصرة في المنتظم 16/ 232. وتنظر مصادر الترجمة في السير 18/ 578.

محمد بن أحمد

محمَّد بن أحمد (¬1) ابن الحسن بن جردة، أبو عبد الله، البَيِّع البغدادي، أصله من عُكْبَرا، كان يتردَّد منها إلى بغداد يبيع الخام، وكان رأسُ ماله عشر نصافي، فبارك الله له، ووسَّع عليه، وأثرى حتَّى صارت بضاعتُه ثلاثَ مئة ألف دينار، وزوَّجه الشَّيخُ الأجلُّ أبو منصور ابنتَه، وكان جليلًا، نبيلًا، جوادًا، سمحًا، مُحبًّا للعلماء، وما خرج عن ملبوس التجار، ولا غيَّر زيَّه، وبنى مسجده بالرَّيحانِيّين، وهو الذي قال فيه ابن البياضي: [الخفيف] حبَّذا مسجدٌ بنهر مُعلَّى الأبيات وخَتَم في هذا المسجد مئةَ ألفٍ في مئةِ ألفِ خَتمة على مدى الأنفاس، وكانت صدقاتُه دارَّةً على الفقراء والمساكين والأرامل، وكانت أكثرُ صدقاته سِرًّا على أرباب البيوت، وكانت دارُه بباب المراتب بمقدار الجامع فيها ثلاثون دارًا، ولها بابان، على كلِّ باب مؤذن، إذا أذَّن أحدُهما لا يسمعه الآخر. ولمَّا دخل البساسيري بغداد ونهب دارَ الخليفة خرجت خاتون زوجةُ القائم إلى دار ابن جردة، فخدمها وأحسنَ إليها، وحمل إلى قريش عشرةَ آلاف دينار حتَّى سمى داره من النهب، فلمَّا اجتمعت خاتون بالسلطان طُغْرُلْبَك حكَتْ له ما فعل ابنُ جردة معها، فلمَّا دخل طُغْرُلْبَك بغداد جاء بنفسه إلى دار ابن جردة شاكرًا له. وكانت وفاتُه في ذي القعدة، ودُفن في التوبة الملاصقة لتربة أبي الحسن القزويني الزَّاهد في الحربية رحمة الله عليه. السنة السابعة والسبعون والأربع مئة فيها في المُحرَّم ورد الخبرُ بأن تُتُش ورد من دمشق إلى أنطرطوس، فحصرها وأخذها من ابن ملاعب، وسلَّمها إلى جلال الملك بن عمار صاحب طرابلس، وأخذ منه مالًا، وكان قد سأله ذلك وعاد إلى دمشق. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 232 - 233.

وفي صفر وصل الحاجُّ سالمين مع خُمارتِكين الحسباني، وذكروا حُسْنَ سيرته. وفي يوم الاثنين منتصف ربيع الأوَّل كانت وقعةٌ عظيمةٌ على باب آمد بين فخر الدولة ابن جَهير ومسلم بن قريش. ذكر السبب: كان ابن جَهير قد سار إلى ديار بكر لفتحها، فبلغه أن مسلم على قصده، [ومنعه] (¬1)، فكتب إلى السلطان يلتمس منه عسكر الدفعة، فتقدم إلى ارْتُق بك يجمع التركمان والعرب من فخر الدولة، ففعل، وسار مسلم إلى ابن جَهير، فأرسل إلى أُرتُق بك، فجاءه بجمع كبير من التركمان، ووقعت المراسلة، وكلٌّ أشار على مسلم بالرجوع إلى أعماله، فقال: ترجعون مرحلةً إلى ورائكم وأرجع أنا؛ لئلا يُقال: إنَّني منهزمًا عدتُ، فامتنع أُرْتُق بك وقال: أنا لا أردُّ رايات السلطان على عقبها. وعرف التركمان ما يجري فقالوا: نحن جئنا من البلاد البعيدة لطلب النهب، وهؤلاء يسارعون في الصلح؟ ! . وركبوا نصف الليل من غير إعلامٍ لأُرْتُق بك، وأشرفوا يوم الجمعة على العرب، وكانوا أضعاف العرب، فأخذوهم باليد من غير طعن ولا ضرب، واحتاطوا بهم، ولم يكن لمسلم سبيلٌ إلى الهرب، فطلب صوب (¬2) آمِد، وتبعه ابنُ مروان وجماعةٌ من أصحابهما فدخلوا آمد، وبقوا يومَهم وليلتَهم لم يَطْعَموا طعامًا، ولا شربوا شرابًا، وكذا خيلُهم، وأشرف ابنُ جَهير وأُرْتُق على القوم ضاحي النهار وقد استولى التركمان على الحِلل والأموال والمواشي، وكان ممَّا [لا يُحصى و] (¬3) لا يُحَدُّ ولا يُحصر، وأخذوا النساء وفضحوهنَّ، وربطوا أمراء بني عقيل بالحبال، وباعوهم بالقراريط، وأشعل التركمانُ عشرةَ آلاف رمح تحت القدور، وجرى على العرب ما لم يجرِ عليهم قبلُ، وسبَوا نساءهم، وبلغ الفرسُ الجيِّدُ دينارًا، وكذا الجملُ والرأسُ الغنمِ نصفَ قيراط، والعبيدُ والإماءُ من دينار إلى دينارين، وما سوى ذلك فما اشتُري ولا بِيع، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ): صواب، والمثبت من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

وراسل مسلم أُرْتُق بك وقال: لمثل هذا اليوم خبأتُكَ، ولمثله تُستَحبُّ الصنيعةُ، وأُريد أن تمُنَّ عليَّ بنفسي. وبذل له مالًا أرغبه فيه، فأجابه، وبعث ابنُ جَهير إلى أُرْتُق بك يقول: قد حصلت بنو عقيل في أيدي التركمان، ويجب أن تجمعَهم وتُنفِذَهم إلى السلطان، وتُقيم على هذا الإنسان -يعني مسلم بن قريش- وتستنزله، وقد ملكتُ الأرض إلى مصر. فقال أُرْتُق: هذا أمر ما إليك منه قليل ولا كثير، وأنا صاحب الحرب، وليس عادتُنا مع من نأسره أن نحبسه، بل نبيعه ونُطلِقُه. وكانت نيةُ أُرْتُق بك مع السلطان غيرَ مستقيمة، فأنفذ ابنُ جَهير إليه يقول: إن السلطان أنفذ لي شحنةً معي وجندًا بين يدي يفعلون ما أراه، وكان على آمد، فغضب أُرْتُق بك، ورحل من وقته، وذلك في اليوم الثالث من الوقعة، وتبعه أكثرُ التركمان، وقصد سنجار، وسار ابنُ جَهير ومن معه إلى ميَّافارقين ولم يقدروا على المقام بعد أُرْتُق بك، فخرج مسلم من آمد يوم الأحد لتسع بَقِين من ربيع الأوَّل، ووصل الرقة، وبعث إلى أُرْتُق بك بما كان بذله له وزادَه، وأقام ابنُ جَهير على ميَّافارقين، فاشتدَّ الغلاءُ، وراسل أهلَها وأهلَ آمد، فهمُّوا بفتح الأبواب، وعلم ابنُ مروان، فقبض عليهم، وبطل ذلك التدبير، ومضى ابنُ جَهير إلى أخلاط، وعاد مَنْ معه إلى العراق، وكتب إلى السلطان يشكو أُرْتُق بك، وكان اتصل بالسلطان ما جرى، وأن مسلمًا في آمد محصورٌ، ولم يشُكَّ في أخذه، فندب عميد الدولة لحرب الجزيرة، وأخذ مسلم، وردَّ إليه أمر حلب والرحبة، وبعث معه خُمارتِكين صوب الحاجب وجماعةٍ من الأتراك، وكُوتِبَ أُرْتُق بك بموافقته، وسار من أصفهان، وبلغه في الطَّريق خلاصُ مسلم، فكتب إلى السلطان يخبره، فسار السلطان يريد الموصل، وسار أُرْتُق بك من سنجار إلى الموصل، فالتقى عميدَ الدولة، وكان قد مرض بدَقوقا، ونزلا بإزاء الموصل، وراسل عميدُ الدولة أهلَها أن يفتحوا للسلطان الباب ويطيعوه، فقالوا: إذا حضر السلطان سلَّمنا إليه، وجاء السلطان، فخرج إليه نُوَّاب مسلم [وأجابوه] (¬1) وحاموه وأطاعوه، وقالوا: أمرَنا صاحبُنا أن لا نُغلق في وجهك بابًا. فأعجبه ذلك، وأمَّنهم، ودخل إليها، وأقام أيامًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

وفي جمادى الأولى توفي سرهنك ساوتكين الحاجب، وخلف ألفي ألف دينار وخمسة عشر ألف ثوب، منها تسعة آلاف ديباج رومي، وخمسة آلاف رأس خيل، وألف جمل، وثلاثين ألف رأس غنم، سوى الضياعات والأسلحة والأمتعة، وجاء للسلطان خبرٌ من ناحية أخيه تُتُش، فرأى إعادة مسلم إلى بلاده، فأرسل إليه أبا بكر بن نظام الملك، وكان نازلًا مقابل الرحبة، فتوثَّق به، وعاد به إلى السلطان، فخلع عليه وأعاده إلى أعماله، ورجع إلى أصفهان في الرابع والعشرين من رجب. وفي يوم الخميس سلخ رجب فتح سليمان بن قُتُلْمِش نيقية وهي بلدة بالساحل تضاهي أنطاكية، وجمع ما يليها من طَرَسوس وأذَنة والمِصِّيصة وعين زربة. وكان الفردوس المتولِّي على أنطاكية من قِبَل ملك الروم قد أساء السيرة، وصادر أرباب الأموال، وقتل من الأحداث خلقًا كثيرًا، وقبض على ولد نفسه وحبسه، فكاتب سليمان، وواعده ليلةً بعينها، فجاء في طائفة من التركمان، ففتحوا له الباب، فدخلها واستولى على أموالها وقلعتها، واستولى على الكنيسة وما فيها من الأموال والجواهر، وكان الفردوس قد خرج إلى بعض النواحي، ولم يتعرَّض سليمان للودائع، ثم نادى في عسكره: لا تتعرَّضوا لأحد من النصارى، ولا ينزل أحد في دار أحد، فلم يؤخذ لأحد درهم، وأحبَّته النصارى، وشاع عدلُه فيهم، فعمرت أنطاكية، وعادت أحسن حالًا من جميع البلاد، فبعث مسلم إلى حلب ألفي فارس يحفظها، وأرسل إلى سليمان يقول: للسلطان في كلِّ سنة على أنطاكية مال، فإن كنتَ طائعًا فابعَثْ به إليَّ، وإن كنتَ عاصيًا فعرِّفني. فقال: بل أنا السامع المطيع، وقد كتبتُ إلى السلطان أُخبره بهذا الفتح، والمال إنما كان يؤخذ من صاحب أنطاكية على وجه الجزية ونحن مسلمون، ومن جند السلطان، وكانت الرسالة مع ابن الحلزون نائب مسلم بحلب، فقال: ما نعرف إلَّا المال. وأغلظَ له، فغضب سليمان، وأرسل عسكره، فنهبوا سواد حلب من منبج إلى المعرة، وسَبُوا وساقوا من الجمال والدوابِّ والماشية شيئًا كثيرًا، وقصده أرباب النهب، فاعتذر إليهم وقال: ما لي بهذا عادة، وإنما أميركم فعل هذا حيث نَزَّلني منزلة الكفار، ثم تقدَّم بردِّ النَّهبِ عليهم، فردَّ بعضَه، وصونِعَ عن الباقي بشيء يسير.

وقيل: أخذ عن كلِّ دابة دينارًا أو درهمًا، وبلغ ابنَ قريش، فسار من منزله بالقابوسية إلى حلب وهو مُخف من العسكر والمال؛ لما جرى عليه وعلى آمد، واتَّفق أنَّه وقع بين الحنيني الهاشمي مُتقدِّم الأحداث بحلب وبين علي أخي مسلم المقيم بحلب لحمايتها، فأنفذ الهاشميُّ إلى مسلم يشكو منه، وقال في رسالته: قد شاع ما في أنطاكية من العدل والإنصاف، وأخاف أنَّ أهل حلب يريدون ويقصدون ويتوصَّلون إلى تسليم البلد، فقبض مسلم على أخيه واعتقله، وأخذ منه عشرة آلاف دينار، وتتبَّع الهاشمي أصحابَه، فقبض عليهم، وشفى فؤاده منهم، وخبُثت نفسُه، فابتاع حصنًا يُعرف بحصن أبي قبيس لا يرام، ونقل أمواله وذخائره إليه، وقُتِلَ مسلم في هذه السنة. وأمَّا السلطان فسار مُجِدًّا في نفر يسير، حتَّى ورد نيسابور ولَحِقَ به عسكرُه، فوجد أخاه تكش (¬1) قد أفسد في البلاد، وأخذ وجوه أهل مرو وصادرهم؛ ظنًّا منه أن السلطان توغَّل في الشام، والتقت طلائع الفريقين، فانهزم تُكش إلى قلعته بعد أن أُسِرَ من أصحابه جماعة، فبعث بهم السلطان إلى أصفهان معتقَلين، وسار وراءه متيمِّمًا، وبعث إلى تِرْمِذ مَن انتزعها من يد نُوَّاب (¬2) تُكش، وراسل إبراهيم بن مسعود صاحب غزنة، وقال: قد عرفتَ ما فعلتُه مع أخي، وأحسنتُ إليه وخرج عليَّ وعصاني، وقد حاصرتُه وما له ميرةٌ إلَّا من بلادك، فإن منعتَه فهو المأمول منك، وإن أعنتَه كنتَ ناكثًا لما بيننا من الإيمان. فأرسل إلى إبراهيم يعتذر ويومئ إلى توسُّط الحال وإصلاحها، ومضى جماعةٌ من الحُجَّاب والأمراء نحو القلعة (¬3) والسلطان نازلٌ على المضيق، فوقعوا بخيول وجمال، ومواشٍ وغلمان، فأخذوا الجميع، وكان عددًا لا يُحصى، وكان تكش على قرب منهم سكران، فهرب وسَلِم. وقال محمَّد بن هلال: وردت الأخبار إلى السلطان لمَّا كان بالموصل أنَّ تكش نزل بمرو الرُّوذ فأخربها ونهب أموال أهلها، وانتقل إلى مرو الشاهجان، فخدع أهلَها، ففتحوها له، فأباحها ثلاثةَ أيَّام، فنهبوا الأموال، وهتكوا الحريم، وشربوا الخمور في ¬

_ (¬1) تصحفت في هذا الموضع والموضعين الآيتين في (خ) إلى: تتش، والمثبت من (ب). (¬2) في (خ): من ديوان، والمثبت من (ب). (¬3) في (خ): وأمراء القلعة، والمثبت من (ب).

نهار رمضان بالجامع الأعظم، وفعلوا ما لا يَستحسن الكفارُ فِعْلَه، ثم صادر أربابَ الأموال، وأخرب البلاد، ثم سار إلى سَرَخْسَ، وبها مسعود ناجر التركماني نائب السلطان، وكان تكش مغتاظًا عليه؛ لأنَّه هزمه مرَّة بعد مرَّة، فتحصن منه بقلعة سَرَخْسَ وهي في حصانتها لا تُرام، فنازلها أيامًا، وراسله وخدعه ومسعود يقول: كأنك بالرايات السلطانية قد أطلت، فنصب المجانيق وقاتل. فوصلت الأخبار بوصول السلطان إلى الري، وبلغه ما فعل تكش، فقدَّم بين يديه المقدمات، وبلغه ما اقتضى مسيره بنفسه، وتقدَّم العساكر في خواضه، وحمل الكوسات على الجمَّازات، فوصل من الري إلى نيسابور في ستة أيَّام، وكتب إلى مسعود يقول: إذا سمعت صوت الكؤوس في الوقت الفلاني، فاخرُجْ في عسكرك من أمامهم، ونحن نأتي من ورائهم. فاتَّفق أن طلائع تكش أخذوا الجاسوس، وحملوه إلى تكش، فلما وقف على الكتاب دُهِشَ ورحل من وقته، وحمل ما قدر عليه، وضرب الباقي في النَّار، وكان شيئًا كثيرًا، وجاء إلى مرو، فغلق أهلُها في وجهه الباب، وقاتلوه، وقتلوا من (¬1) تخلَّف من أصحابه. ووصلت مقدمات السلطان مع الأمير بُزان إلى سَرَخْسَ، فانضمَّ إليه مسعود، ولحق بهما الأمير بُرْسُق، وساروا يقصُّون أثر تكش ويسارقونه، ولا يقدمون على الهجوم عليه، ووصل إلى بَلْخ، وأقام يستخرج ماله وذخائره، ودنا السلطان منه، فسار إلى قلعة بلخ، واتَّبعه السلطان، [فنزل] (¬2) على مرج قريب من بلخ، فيه عشب كثير، وأطلق النَّاسُ دوابَّهم فيه، وكان أُرْتُق بك معهم، [فرتبه] على بعض المضايق، وفرَّق الأمراء حول القلعة، وركب السلطان وصَعِد على جبل مشرف عليها، فرأى مكانًا قَويَ في خاطره الوصولُ إليها منه. ووصل رسول صاحب غَزْنة يشفع في تكش، فقال السلطان للرسول: إذا فرغنا من هذا الوجه قصدناكم، فإنَّ صاحبك هو الذي يجسره على العصيان. فقال الرسول: ¬

_ (¬1) في (خ): ممن، والمثبت من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (ب).

صاحبي يقول: أنا مقيمٌ على العهد الذي بيننا، وقد فرَّغتُ غَزْنة (¬1) ونقلتُ أهلها وأموالها إلى بلاد الهند، وأعوذُ بالله أن أواجهك أو أحاربك، ألقاك بالخضوع حتَّى يزول ما وقر في صدرك. فقال السلطان: إننَّا نرفعه من الدخول في (¬2) عهد هذا الغلام الجاهل، ولا نؤثر مقاطعته لأجله. وضاق بجند تكش الأمر، وأشرفوا على الهلاك، وتغيَّروا عليه، فأرسل رسولًا إلى السلطان يخدعه باطنًا، ويُجامله ظاهرًا، ووصل الرسول إلى نظام الملك، فقال له السلطان: قد خشيتُم أن نردَّ إليه منكم رسولًا أو كتابًا، ولا يتجاسر أحدٌ على خطابه في معناكم. فقال الرسول للنظام: هو قد ألقى إليك مَقاليدَه (¬3)، وفوَّض إليك أموره، وحكَّمك فيما تراه. وقال: إن رأيتَ أنني أجيءُ وأطرحُ نفسي عليه جئتُ بعد أن تتوثَّق لي من السلطان، وأنا أُسلِّم إليه القلاع التي في يدي، فإنَّها سبب الوحشة، ويقرُّ عملي في يدي. فدخل النظام على السلطان وأخبره، فقال: عندي من الأمر أوفى من ذلك وأتمُّ، إن أراد أن أُقِرَّه في بلاده وأدعَ قلاعَه في يده، وأزيدَه في الإحسان فليحضرْ عندي بعد أن يُخَلِّفني بما شاء، ويتوثَّق بما أراد من جهتي وجهتك، وإن خاف الحضور فأنا أُفرِدُ له من بلادي موضعًا آخر، وأُفرِّج له عن الطَّريق حتَّى يمضي إليه ويُسلِّم ما بيده من هذه القلاع، وإن شاء أن أُسلِّم إليه طخارستان سلَّمتُها إليه، وليس بعد هذا عندي كلام ولا جواب، فأعلِمِ الرسولَ بهذا، وقل له: إن عاد بغير أَحَدِ هذه الأقسام ضربتُ عنقه. واتَّفق أنَّ بعض الأمراء توغَّل في شعب تحت القلعة فيه قصرٌ قريبٌ من الباب وفيه تكش سكران، فواقعه، وحماه أصحابُه واستنقذوه، فصعد إلى القلعة، وعاد الرسول، فقيل له: بماذا جئت؟ فقال: بما يرضي السلطان. فبادر النظام، وأخذ بيده، ودخل على السلطان، فقال له: بماذا جئت؟ فقال: الملك العادل يقول: أمَّا القلاع فلا أُسلِّمها، ولكني أُخرِبُها، وأمَّا اللِّقاء فإنني لا أحضر بابك، ولكني أكون على رأس ¬

_ (¬1) في (خ): عشيرته، والمثبت من (ب). (¬2) في (خ): على، والمثبت من (ب). (¬3) في (ب): مقايده، والمثبت من (خ).

جبل وأنت على آخر، وبيننا الوادي، فنتحدث ونتعاهد، وتُسلِّم إليَّ بلد هراة، وتُنفذ إلى خواجا بزرك لأقرر معه هذه القواعد، فلستُ بأقلَّ من مسلم بن قريش. فاستشاط السلطانُ غضبًا، وأمر بضرب عنق الرسول، فقام نظام الملك وقبَّل الأرض، وسأله فيه، وعزَّ على النظام؛ لأنَّه بادر به إلى السلطان، وكان في مجلس شُرْبِه، فلمَّا عرف مجيء نظام الملك أمر برفع المجلس احترامًا له، وهذه كانت عادتُه، فلمَّا لم ينفصل أمرٌ عَزَّ على النظام ذلك، وأمر السلطان بأن يُطاف بالرسول العسكر، وأن يُضرب ضربًا مُبرِّحًا، ففعل به ذلك، وعاد إلى صاحبه. ووصل الأمير منصور بن مروان صاحب ميَّافارقين فنزل على الأمير، فماج، وحمل من الغد خيلًا لا قيمةَ لها، وأشياءَ زرية، فأقامت على سرادق السلطان يومًا لم يلتفِتْ إليها، ورآها فلم تُعجِبْه، وحمل إلى خاتون هديةً قليلةً، ولم تمضِ عليه غيرُ خمسة أيَّام حتَّى بعث إلى إياز النظامي يقترض منه ألف دينار، وأمرَ دلَّالةً أعجميةً أن تقترض له على ثلاثة آلاف دينار بسبعة آلاف، وأظهر جماعةٌ تواقيع للسلطان عليه منذ عشر سنين لم يُعطِ أهلَها شيئًا، وطالبوه وأهانوه هوانًا كثيرًا، فذل، ومع هذا لم يؤثر فيه، وقصد نظام الملك ورمى بنفسه عليه وعلى الحاشية، فلمَّا كثروا على السلطان في أمره قال: لا سبيل إلى إعادة البلاد حتَّى ينفصل أمر تكش، فقال النظام لمنصور: لا سبيل إلى إعادة ما أخذه ابن جَهير منك، فقال: لو أخذ مني ضيعةً ما رضيتُ. وورد كتابُ ابنِ جَهير أنَّه قد استولى على أربعة حصون، وأنَّ أهل ميَّافارقين قد كاتبوا بالتسليم، فحينئذٍ أجاب على أن يكون له ميَّافارقين، وتوقَّف الحال، وتحدَّث في مصاهرة السلطان، وبذل ستين ألف دينار، فقيل له: أنت تستقرض بالربا، فمن أين لك ستون ألف دينار؟ وافتضح وصار ضحكةً بقلَّة عقله، وقد كان خرج من ميَّافارقين بغير خيمةٍ ولا زادٍ ولا درهم. وفي ذي الحجَّة فُتحت مدينة ملطية، فتحها خالٌ لسليمان بن قُتُلْمِش. وفيها بنى بدر الجمالي جامع العطَّارين بالإسكندرية، وسببه أن ولدًا له عصى عليه، ودخل الإسكندرية فتحصَّن بها، فسار أبوه إليها فنازلها شهرًا، وطلب أهلُها الأمان، وفتحوا له الباب، فدخلها، وأخذ ابنَه أسيرًا، وبنى هذا الجامع.

أحمد بن محمد بن دوست

وفيها وردت الأخبار من ناحية الغرب بأن الفرنج استولوا على جزيرة الأندلس، وفتكوا بأهلها، وأنَّ صاحب طُليطِلة استصرخ بالملثمين واستنجدهم على الفرنج فأنجدوه، ووصلوا إليه في خلقٍ عظيمٍ والتقوا، وكان الفرنج في مئين ألوف، فكُسِروا كسرةً عظيمةً لم ينْجُ منهم إلَّا من سبقَ جواده، وأُخِّر [في] (¬1) أجله، بحيث أُحصيَ القتلى فكانوا عشرين ألفًا جُمِعتْ رؤوسهم، وبُنيَ بها أربعُ منائر للمؤذنين في غاية الارتفاع (¬2)، وأذَّنَ المسلمون فيها، وعاد عسكر الملثَّمين إلى بلادهم مسرورين ظافرين. وفيها تُوفِّي أحمد بن محمَّد بن دوست (¬3) أبو سعد (¬4)، الصُّوفي، النيسابوري، صاحب رياضات ومجاهدات، سافر كثيرًا، وحجَّ مرات، وكان يجمع الفقراء ويخرج بهم إلى البادية، وينتقل في القبائل، وكان حسنَ الأخلاق، دائمَ البشر، وتقدم حتَّى صار شيخَ الصوفية ببغداد، وكان له الجاهُ العظيم، وكان غاب بالبادية مدةً، ثم جاء فنزل على صاحبه أبي بكر الطُّرَيثيثي، وكانت له زاويةٌ صغيرة، فقال له أبو سعد: يا أبا بكر، لو بنيتَ للأصحاب موضعًا أوسع من هذا وأرفع بابًا. فقال له: إذا بنيتَ أنت رباطًا للصوفية فاجعل له بابًا يدخل فيه جملٌ براكبه (¬5)، فذهب أبو سعد إلى نيسابور فباع جميع أملاكه، وجاء إلى بغداد، فكتب إلى القائم بأمر الله يلتمس منه خربةً يبني فيها رباطًا، فأذن له، فبنى الرباط، وجمع الصوفية، وأحضر أبا بكر الطُّرَيثيثي، وعمل له دعوةً، وأدخل رجلًا راكبًا على جملٍ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) العبارة في (خ) هكذا: وبُني لها أربع منائر الميادين في غاية! والمثبت من (ب). (¬3) المنتظم 16/ 235، وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 491. (¬4) وقعت كنيته في بعض المصادر: أبو سعيد. (¬5) في (ب): يدخل فيه الجمل بركابه.

من باب الرباط، وقال للطُّرَيثيثي: يا أبا بكر، قد امتثلتُ ما رسمتَ. ثم جاء الغرق سنة سبع وستين فهدم الرباط، فأعاده أحسن (¬1) ما كان، وقال ولدُه (¬2) أبو البركات: لمَّا غرقت بغداد كان الماء يدخل إلى الدور من السطوح، فأخرب الجانبَ الشرقيَّ، فاكترى أبي زورقًا وحُملنا والصوفيةَ فيه، والماءُ يرمي الحيطان، ويحدر الأخشابَ والأبوابَ والجذوعَ إلى البطائح والبحر، فقال أحمد بن زهير الصُّوفي لوالدي: يا أبا سعد، لو اكتريتَ مَنْ يجمعُ هذه الأخشاب في مكان، فإذا نقص الماء بنيت بها الرباط ثانيًا. فقال له أبو سعد: هذا زمانُ تفرقة لا زمانُ جمع، فإذا جاء وقت الجمع جمعنا. واجتاز أبو سعد بالسوق قبل أن يبني الرباط، فرأى الخبز النقي، وكان من عادة الصوفية أكل الخشكار، فقال: إنْ قُدِّر لي بناء رباط لأشرُطَنَّ في سجلِّه أن لا يطعم الصوفية إلَّا الخبز النقي، فهم الآن على ذلك. وكانت وفاتُه ليلة الجمعة في ربيع الآخر، ودُفِنَ بمقبرة باب أبرز قريبًا من أبي إسحاق الشيرازي، وقد أناف على السبعين، وأوصى أن يُقام ولدُه مقامَه، وله اثنتا عشرة سنة، ومولده سنة خمس وستين وأربع مئة. نشأ ببغداد، وسمع الحديث، وزار القدس، ونزل بخانكاه السُّمَيساتي بدمشق وعاد إلى بغداد و [قد] (¬3) صار شيخَ الشيوخ بها. وكتب إليه أبو القاسم [عبد الله بن القاسم] بن علي الحريري: [من الطَّويل] سلامٌ كأزهارِ الربيعِ نضارةً ... وحُسْنًا على شيخِ الشيوخِ الذي صفا و[لو] لم يَعُقْني الدَّهرُ عن قصدِ رَبْعِهِ ... سعيتُ كما يسعى المُلبِّي إلى الصَّفا ولكِنْ عداني عنه (¬4) دهرٌ مُكَدَّرٌ ... ومَنْ ذا الذي واتاه في دهره الصَّفا ¬

_ (¬1) في (ب): مثل، وفي المنتظم: أجود. (¬2) في (خ): لولده، والمثبت من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضعين الآتيين من (ب). (¬4) في الأصلين (خ) و (ب): عذلني عنده، ولا يستقيم الوزن ولا المعنى، والمثبت من معجم الأدباء 16/ 273 والأبيات فيه.

عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد

عبد السيد بن محمَّد بن عبد الواحد (¬1) أبو نصر بن الصباغ، الإمام، الشَّافعي، ولد سنة أربع مئة، وتفقَّه وبرع في الفقه، وصار فقيهَ العراق، وكان يُقدَّم على أبي إسحاق في معرفة المذهب، وصنف الكتُبَ الحِسان؛ منها: "الشامل" و "الكامل" و "تذكرة العالم" و "الطَّريق السالم". وولي التدريس بالنظامية قبل أبي إسحاق عشرين يومًا، وكان قد سافر إلى السلطان وأحسن إليه، فلمَّا قدم [بغداد] هرع النَّاس يهنُّونه بذاك أيامًا. وكانت وفاته في جمادى الأولى، ودُفن بداره بدرب السلولي من الكَرْخ، ثم نُقل إلى باب حرب. وكان ثقةً ثبتًا صدوقًا [ديِّنًا] فاضلًا. علي بن أحمد بن عبد العزيز (¬2) الأندلسي، رحل وسمع الحديث الكثير، ومن شعره: [من البسيط] صَيِّرْ فؤادَكَ للمحبوبِ منزلةً ... سَمُّ الخِياطِ مجالٌ للمُحِبَّينِ ولا تُسامِحْ بغيضًا في معاشَرةٍ ... فقلَّما تسَعُ الدنيا بَغيضينِ (¬3) مسلم بن قُريش بن بدران أبو البركات، شرف الدولة، أمير بني عقيل، صاحب الموصل والجزيرة وحلب، وزوَّجه السلطان ألب أرسلان أُختَه. وكان شجاعًا جوادًا داهيةً، يحتاج إليه الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والأعيان، وأولد أختَ السلطان، وخُطِبَ له على المنابر من باب بغداد إلى العواصم ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 236 - 237، والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد 296 - 297. وينظر السير 18/ 464. (¬2) تاريخ دمشق 41/ 221 - 224. (¬3) قلت: والبيتان المذكوران لم أقف على من نسبهما لصاحب الترجمة سوى المصنف، وهما لغانم بن الوليد كما في معجم الأدباء 16/ 167 - 168، والمغرب 1/ 317، ونفح الطيب 3/ 264 وغيرها من المصادر.

والشام، وأقام حاكمًا على البلاد نيِّفًا وعشرين سنة، ولمَّا مدحه ابن حَيُّوس بقصيدته التي أولها: [من الكامل] ما أدركَ الطَّلِباتِ مثلُ مُصمِّمِ ... إن أقدمَتْ أعداؤُهُ لم يُحْجِمِ وقد تقدَّمت الأبيات، فأعطاه الموصل، فأقامت بيده -يعني في حكمه- ستة أشهر، ومات ولم يدخلها. ذكر مقتله: قد ذكرنا استيلاء سليمان بن قُتُلْمِش على أنطاكية، وأنَّ مسلمًا خاف منه، فقطع الفرات في خفٍّ من العسكر، فنزل على حلب، ثم توجَّه إلى أنطاكية، فخرج إليه سليمان في التركمان واقتتلوا أيامًا، وكان مع مسلم طائفة من التركمان، فمالوا إلى سليمان، وانهزمت العرب، وبقي مسلمٌ في أربع مئة فارس من بني عقيل، فثبتوا معه، وقاتلوا دونه، فصَعِد على عقبة هي آخر أعمال حلب وأول أعمال أنطاكية وقتَ العصر يوم الجمعة الرابع والعشرين من صفر، وكان قد جمع جمعًا من الأرمن من سُمَيساط، وأخذ من حلب ست مئة رجل من أحداثها، وأطلق لحُبَّق مُقدَّم التركمان الذين كانوا معه مالًا، وكان قد صادقه وصار معه، فمال أصحاب حُبَّق إلى سليمان مستأمنين، وأجفلت بنو كلاب من الميمنة وبنو نمير من الميسرة، وقتل من أحداث حلب نحوًا من أربع مئة، وبقي وحده، فانهزم، فأدركوه فقتلوه وغنموا عسكره، وسار بنو عقيل إلى القابوسية، وأخرجوا أخاه إبراهيم بن قريش من القلعة وهو لا يقدر أن يمشي ولا يركب سِمَنًا، وكسروا القيد، وأمَّروه عليهم، وكانوا مُحِبِّين له، ومؤثرين لخدمته أكثر من مسلم، ووقع لهم بالإطلاقات والإقطاعات. وكتب ابن الحنيني الهاشمي (¬1) الحلبي إلى السلطان يخبره بما جرى، وطلب أن يتقدَّم إليه بتسليم البلد إلى من ينظر فيه، وأغلق الأبواب وحاصره ابن قُتُلْمِش، وقيل: إنهم أجلسوا مكان مسلم ولده بهاء الدولة. ¬

_ (¬1) في (خ): الشَّافعي، والمثبت من (ب).

السنة الثامنة والسبعون وأربع مئة

وقال أبو يعلى بن القلانسي: وفي سنة ثمان وسبعين وأربع مئة كان مصاف بين الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش وبين الملك سليمان بن قُتُلْمِش في رابع وعشرين صفر على نهر سفيان، فكُسِرَ عسكرُ قريش وقُتِل، ورحل سليمان نحو حلب محاصرًا لها في غرة ربيع الأوَّل، ولم يتهيَّأ له ما أراد، فرحل عنها خامس ربيع الآخر إلى أنطاكية، والأصحُّ أنَّ مسلمًا قُتِلَ في هذه السنة، والله أعلم. السنة الثامنة والسبعون وأربع مئة فيها في ثالث صفر فتح فخر الدولة من جَهير آمِد لكثرة الغلاء بها، فإنه بلغ المكوك الحنطة دينارًا، وقالت النصارى: ما نبيعه إلَّا بأكثر. فثار بهم المسلمون، وقتلوا جماعةً منهم، ونهبوا أموالهم، وكان وزير آمد نصرانيًّا من قِبَل وزير ميَّافارقين، وكان الآخر نصرانيًّا، فهدَّدهم، فأعلنوا بشعار فخر الدولة، وفتحوا له الباب فدخلها، وأحسن إلى أهلها، وجلب إليهم الغلَّات، وأقام ولده زعيم الرؤساء في قصر السلطان، وسار إلى حصار ميافارقين، وورد الخبر بمسير أُرْتُق بك من حلوان والجبل، وكانت إقطاعه طالبًا الجزيرة والشام، ورجع ابنُ جَهير إلى آمد متحصِّنًا بها لخوفه من أُرْتُق بك؛ لأنَّ ابنَ جَهير هو الذي كاتب السلطان فيه، وأنَّه أطلق مسلمًا وأخذ منه المال، فاستوحش أُرْتُقْ بك، وكان قد اتفق مع مسلم أنهما يمضيان إلى حلب ويكاتبان المصري وينحازان إليه ويُدخلان تاج الدولة تُتُش معهما في ذلك، وكان مسلمٌ أنفذ عمَّه مقبل بن بدران عند انفلاته من آمد إلى مصر بالانتماء إلى دولتهم، وأن يأخذ لهم العراق والجزيرة والشام، ويلتمس إنفاذَ عسكرٍ إلى الشام، ويعبر هو الفرات ويسير إليهم ويتَّفق معهم، وبعث بدر الجمالي ولدَه وابنَ المغربي (¬1) وجماعةً مع مقبل إلى الشام، فوصلوا دمشق وأقاموا بها، وبعثوا مقبلًا يشعر مسلمًا وأُرْتُق بوصولهم، فوصل حلب، فوجد مسلمًا قد قتل قَيِّم آل قرقيسيا، واجتمع بأُرْتُق، فوعده بإفساد التركمان لتلك الدولة، ونقلهم إلى الشام، وأقام أُرْتُق بالجزيرة وقد فَتَّ قتلُ مسلم (¬2) عضُدَه، وكان أُرْتُق لمَّا سار من خراسان نهب ضياعًا للسلطان، وأنفذ إليه السلطان خِلَعًا وذهبًا فلم يقبَلْ منه ¬

_ (¬1) تحرفت في (خ) إلى: العربي، والمثبت من (ب). (¬2) بعدها في (خ) زيادة: في.

شيئًا، وكان جماعةٌ من عسكر السلطان بديار بكر منهم الكوهراني وقراتكين وأنوشكين، فراسلوه، وقربوا منه، وقالوا: إن كنت عاصيًا سِرْنا إليك، وإن كنتَ طائعًا فيجب أن تجتمع معنا على خدمة السلطان. وراسلوا التركمان الذين معه، وخرجوا ولم يبقَ معه إلا أصحابُه وخواصُّه، وأعاد الجواب أنَّني سامع مطيع، غير أنَّ ابنَ جَهير جعل في نفس السلطان أنني خلَّصتُ ابنَ قريش من آمد، وقد تشوَّشَتْ نيتُه، وما آمَنُ على نفسي منه، وأنا أمضي إلى حلب فأقيم بظاهرها بإزاء سليمان بن قُتُلْمِش وأكفُّه عن فساد (¬1) طرأ منه، وقد كانت الكتب وردت إليَّ بذلك ويطلبها منه. وفي جمادى الأولى فتح ابنُ جَهير ميَّافارقين عنوةً، واستولى على مملكة بني مروان. ذكر السبب: كان الطنطاق الحاجب المقيم معه شحنةٌ في تلك الأعمال، مائلًا إلى أخذ البراطيل ممن كان في ميَّافارقين، فلذلك طال المُقام عليها، واتَّفق وفاته، فوجد ابنُ جَهير في تركته مكاتبات القوم إليه، فكتب إليه سعد الدولة الكوهراني، فلحق به فأوقفه على الكتب، وصدقوا القتال ثلاثة أيَّام، ففتح البلد يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الأولى. وفي يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة قُبِضَ على تُكش، وحُمِلَ إلى قلعة فيروز كورة من أعمال الدامغان، فوصلها في العشرين من رمضان واعتُقِلَ فيها. وفيها توفِّي قاضي القضاة ابن الدامغاني، وخلع على أبي بكر محمَّد بن المظفر الشاهد، وولي قاضي القضاة. وفي رمضان ورد زعيم الرؤساء أبو القاسم بن فخر الدولة بغداد ومعه من أموال بني مروان ما ظفر بها أبوه، ونزل في دار المملكة، ثم خرج في شوال متوجِّهًا إلى أصبهان، وبعث الخليفةُ تاجَ الرؤساء أخا الوزير أبي شجاع مختصَّ الخادم إلى السلطان بسبب الوصلة بابنة السلطان، وبعث معهما بالتحف والهدايا. وفي ذي القعدة تُوفِّي حاجب باب النُّوبي، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) زيادة: إن.

وفي ذي الحجة تُوفِّي أبو علي بن الوليد المعتزلي، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها وقع طاعون عظيم بالعراق، ثم عمَّ الدُّنيا، فكان يكون الرجل قاعدًا في شغله فتثور به الصفراء فتصرعه فيموت من وقته. وهبَّتْ ببغداد ريحٌ سوداء فأظلمت الدُّنيا، ولاحَتْ نيرانٌ في أطراف السماء وأصواتٌ هائلة، فأهلكت خلقًا كثيرًا من النَّاس والبهائم، واشتدَّت الأمراض ببغداد، فكان الأطباء يصفون اللحم في الحميات لحفظ القوة، وامتلأت المقابر من الموتى، وفُقِدَ المغسِّلون والحفَّارون. ومرَّ بعضُ الأتراك بباب مُحَوِّل، فرأى طفلةً على باب بيت وهي تقول: مَنْ يغتنِمْ أجري ويأخُذْني، فإن أبي وأمي وأخواتي ماتوا في هذا البيت. فدخل التركيُّ فرأى في البيت عدة أموات، فخرج مسرعًا وركب، ثم خطر له أن يرجع ويأخذها، فعاد فلم يجدها على الباب، فنزل ودخل الدار، وإذا بها ميتة في صدر أمها. وكان أهلُ الدرب يموتون كلهم فيُسَدُّ بابُ الدرب. وفيها اتَّفق جماعةٌ مع ولد بدر الجمالي بمصر على قتله وينفرد بالملك، وعلم بدر، فقتل الجماعةَ الذين واطؤوه، وعفَّى آثار ولده. ويقال: إنه دفنه حيًّا. وقيل: غرَّقه. وقيل: جوَّعه حتَّى مات. وكان بدر فاتكًا جبارًا عاتيًا، قتل خلقًا من العلماء وغيرهم، وأقام الأذان بحيَّ على خير العمل، وكبَّر على الجنائز خمسًا، وكتب سبَّ الصّحابة على الحيطان. وفيها أمر المقتدي بالله بأن يلبس أهل الذمة الغيارات والزنانير ويهانوا، وتُنقَضَ دورُهم التي تعلو دور المسلمين، وتُسدَّ أبوابُهم المقابلة للجامع، وأن يغضُّوا أصواتهم عند قراءة التوراة في دورهم، وأمر بإراقة الخمور وكسر الملاهي ونقض دور المفسدين. ووردت الأخبار بأن الأنبروت ملك الفرنج نزل على المهدية، وضايقها وفتحها عنوة، وقتل رجالها، وسبى نساءها.

أحمد بن الحسن

وعاد سليمان بن قُتُلْمِش إلى حصار حلب وطمع فيها، فوصلت أخبار السلطان أنَّه قاصدٌ إلى الشام، فرحل عنها، وجاءه تُتُش وقد رحل من حلب والتقيا، فهزمه تُتُش وغنم عسكره، ومضى ابن قُتُلْمِش إلى أنطاكية. قال ابن القلانسي: وحاصر تُتُش حلب وضايقها فسلمها إليه ابن البرغوثي الحلبي، ووصل السلطان ملك شاه إلى الشام، ودخل حلبَ في شهر رمضان، وانهزم تُتُش إلى دمشق. والأصحُّ أنَّ السلطان قدم الشام في السنة الآتية لما نذكر إن شاء الله تعالى. وحجَّ بالنَّاس خُمارتِكين، وكان محمودَ السيرة. وفيها تُوفِّي أحمد بن الحسن (¬1) ابن محمَّد بن إبراهيم، أبو بكر، سبط ابن فورك، وخَتَن أبي القاسم القشيري على ابنته. وكان يعظ في النظامية، فوقعت بسببه الفتنة في المذاهب، وكان مؤثرًا للدنيا، طالبًا للجاه، لا يتحاشى من لبس الحرير. وقيل لابن جَهير الوزير: ألا تُحضره لتسمع منه؟ فقال: الحديث أصلَفُ من الحال التي هو عليها. وكان داعيةً إلى البدعة، يأخذ مكس الفحم من الحدَّادين ويأكل منه. وتوفِّي في شعبان وقد نَيَّفَ على الستين، ودُفِنَ عند قبر الأشعري. الحسين بن علي (¬2) أبو عبد الله، المردوسي، حاجب باب النُّوبي، وكان رئيس زمانه، كاملَ المروءة، لا يسعى إلَّا في مكرُمة، كثيرَ الصَّلاة والصوم والصدقة والتعبُّد. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 243، تحرف اسم أبيه في (ب) إلى: الحسين. (¬2) المنتظم 16/ 243 - 244.

عبد الرحمن بن مأمون بن علي

وكان الخلفاء والملوك يحترمونه، وعمَّر طويلًا، وخدم بني بويه إلى هُلمَّ جرًا. وكانت وفاته في ذي القعدة عن خمس وتسعين سنة، وهو صحيح البدن، سليم الحواس، مستقيم الأحوال، ودُفن بمقبرة باب التبن، وكان قد حفر قبره قبل موته بخمسين سنة. عبد الرحمن بن مأمون بن علي (¬1) أبو سعيد، المتولِّي، وُلدَ سنة سبع وعشرين وأربع مئة، ودرس بالنظامية موضع أبي إسحاق، ودرس الأصول مدة، ثم قال: الفروع أسلم. وكان فاضلًا شجاعًا فصيحًا. تُوفِّي ليلةَ الجمعة ثامن عشر شوال، وصلَّى عليه أبو بكر الشامي، ودُفِنَ بمقبرة باب أبرز. عبد الملك بن عبد الله بن يوسف (¬2) إمام الحرمين، أبو المعالي، الجُوَيني، وجُوَين قرية من قرى نيسابور، ولد سنة سبع عشرة وأربع مئة، وتفقَّه في صباه على والده وله دون العشرين سنة، فأقعده مكانه للتدريس، فأقام الدرس، وسمع الحديث الكثير بالبلاد، وحجَّ وجاور أربع سنين، ثم عاد إلى نيسابور، فجلس يُدرِّس موضع أبيه ثلاثين سنة، وإليه المنبر والمحراب والخطابة، ويجلس للوعظ يوم الجمعة، وكان يحضر درسه في كلِّ يوم نحوٌ من ثلاث مئة فقيه، وتخرَّج به جماعةٌ من الأكابر، ودرَّسوا في حياته، وصنَّف "نهاية المطلب". وكان أبو إسحاق يقول له: أنت إمام الأئمة. وكان ابن الجويني قد بالغ في علم الكلام، وصنَّف الكتب الكثيرة، كـ "الإرشاد" وغيره، وقال: ركبتُ البحر الأعظم، وغُصتُ في الذي نهى أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق، وكنتُ أهرب في سالف الدهر من التقلُّب، والآن فقد رجعتُ إلى كلمة الحق: عليكم بدين العجائز، فإن لم يتداركني الحقُّ بلطيف بِرِّه، وإلَّا فالويلُ لابن الجويني. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 244. وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 585. (¬2) تبيين كذب المفتري ص 278 - 285، والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد ص 312 - 313، والمنتظم 16/ 247 - 244. وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 468.

علي بن عبد السلام بن محمد

وكان يقول: يا أصحابنا، لا تشتغلوا بعلم الكلام، فلو عرفتُ أنَّ الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلتُ به. وقال محمَّد بن علي تلميذ أبي المعالي الجويني: دخلتُ عليه في مرضه الذي مات فيه وأسنانه تتناثر من فيه، ويسقط منها الدم والدود، ولا يستطاع شمُّ فيه، فقال: هذه عقوبة اشتغالي بالكلام فاحذروه. وكانت وفاته ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر عن تسع وخمسين سنة بظاهر نيسابور، ثم نُقل إلى داره بعد سنتين إلى مقبرة الحسين، فدُفن إلى جانب أبيه، وكان أصحابه المقتبسون من علمه نحوُ أربعِ مئة يطوفون في البلد وينوحون عليه. علي بن عبد السَّلام بن محمَّد (¬1) أبو محمَّد (¬2) الأرمنازي ولد سنة سبع وتسعين وثلاث مئة، وسمع الحديث، وكان فاضلًا شاعرًا، فمن شعره: [من الطَّويل] ألا إنَّ خيرَ النَّاسِ بعدَ محمدِ ... وأصحابِهِ والتَّابعينَ بإحسانِ أُناسٌ أرادَ اللهُ إحياءَ دينِهِ ... بحفظِ الذي يروي عن الأولِ الثَّاني أقاموا حدودَ الشَّرعِ بعدَ نبيِّهمْ ... بما أوضحوهُ من دليلٍ وبُرهانِ وساروا مسيرَ الشَّمسِ في جمعِ علمهِ ... فأوطانُهم أضحَتْ لهُمْ غير أوطانِ فلستَ ترى ما بينهم غيرَ ناطقٍ ... بتصحيحِ علمٍ أو تلاوةِ قُرآنِ من أبيات وكانت وفاته بدمشق، وكان ثقة. محمَّد بن أحمد (¬3) ابن عبد الله بن أحمد بن الوليد، أبو علي، المتكلِّم، المعتزلي، شيخ المعتزلة والفلاسفة، والداعية إلى مذهبهم ورأيهم، وهو من أهل الكَرْخ، وكان يدرِّس علم ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 43/ 68 - 70. (¬2) تحرف في (ب) إلى: أبو أحمد. (¬3) المنتظم 16/ 247 - 249.

الاعتزال والفلسفة والمنطق، فاضطرَّه أهلُ السنَّة إلى أن لزم بيته خمسين سنة لا يتجاسر أن يظهر. ولم يكن عنده من الحديث سوى حديث واحد لم يرو غيرَه، سمعه من شيخه أبي الحسين البصري، ولم يرو أيضًا غيره، وهو قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إذا لم تستَحِ فاصنَعْ ما شئت"، فكأنهما خوطبا بهذا الحديث، كأنهما لم يستحيا من بدعتهما التي خالفا بها السُّنَّة وعارضاها بها، ومن فعل ذلك فما استحى. ولهذا الحديث قصة، وذلك لأنَّ القَعْنبي لم يسمع من شعبة غيره؛ لأنَّه قدم البصرة فصادف مجلس شعبة قد انقضى، ومضى إلى منزله، فوجد الباب مفتوحًا، وشعبة على البالوعة، فهجم عليه من غير استئذان وقال: أنا غريب، وقد قصدتُكَ من بلد بعيد لتُحدِّثني، فاستعظم ذلك شعبة وقال: دخلتَ منزلي بغير إذني، وتُكلِّمني وأنا على مثل هذه الحال؟ حدَّثنا منصور، عن رِبْعي بن حِراش، عن أبي مسعود - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شئت"، ثم قال: واللهِ لا حدَّثتُكَ غيرَه، ولا حدَّثْتُ أقوامًا أنتَ منهم. وقيل: إنَّ القَعنْبي كان يشرب النبيذ، ويصحب الأحداث، فجلس يومًا على بابه، فمرَّ شعبةُ والنَّاس خلفه يهرعون، فقال: من هذا؟ قيل: شعبة. قال: وما شعبة؟ قيل: مُحدِّث. فقام إليه وعليه إزار أحمر، فقال له: حدِّثني. فقال: ما أنتَ من أصحاب الحديث. فشهر سِكِّينه وقال: أتُحدِّثني أو أجرحك؟ فقال: حدَّثنا منصور، وذكر الحديث، فرمى سِكِّينه، ورجع إلى منزله فأهرق ما عنده، ومضى إلى المدينة، ولزم مالك بن أنس، ثم رجع إلى البصرة وقد مات شعبة، فما سمع منه غير هذا الحديث، وهو حديثٌ صحيحٌ اتَّفق مسلم والبخاري على إخراجه (¬1)، ولفظ الصَّحيح: "إنَّ ممَّا أدرك النَّاس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شئت". واسم القَعْنبي عبد الله بن مَسْلَمة بن قَعْنَب، وكنيته أبو عبد الرحمن. ¬

_ (¬1) الحديث تفرد بإخراجه البُخاريّ (3483)، ولم يخرِّجه مسلم!

محمد بن علي

وقال ابن عقيل: جرت مسألةٌ بين أبي علي بن الوليد وبين أبي يوسف القزويني في إباحة جماع الولدان في الجنَّة، فقال ابن الوليد: لا يمتنع أن يُجعل ذلك من جملة لذَّاتهم في الجنَّة لزوال المفسدة؛ لأنَّه إنَّما منع منه في الدُّنيا لما فيه من قطع النسل، وكونه محلًّا للأذى، وليس في الجنَّة ذلك؛ ولهذا أُبيح لهم شرب الخمر لمَّا أُمِنَ فيه السكرُ وغائلتُه من العربدة وزوال العقل، فلمَّا أُمِنَ ذلك من شربها لم يمنع من الالتذاذ بها. فقال له أبو يوسف: إنَّ الميلَ إلى الذكور عاهة، وهو قبيح في نفسه؛ لأنَّ هذا المحل لم يُخلَق (¬1) للوطء، ولهذا لم يُبَحْ في شريعة، بخلاف الخمر، وهو -أيضًا- مخرج [الأذى و] (¬2) الحدث، وإذا كانت عاهةً فالجنَّةُ منزَّهةٌ عن العاهات. فقال ابن الوليد: إن العاهة هي التلويث بالأذى، وإذا لم يكن أذى لم يبقَ إلَّا مجرَّد الالتذاذ. وكانت وفاة ابن الوليد في ذي الحجة، ودُفن بالشُّونيزية. وسُئِلَ أبو الفضل بن ناصر عن الرِّواية عنه، فقال: لا تحِلُّ، كان داعيةً إلى الاعتزال. ومن شعره: [من السريع] أيا رئيسًا بالمعالي ارتدى ... واستخدمَ العيُّوقَ (¬3) والفَرْقدا ما لِيَ لا أجري على مُقتضى ... مودةٍ طال عليها المدى إنْ غِبْتُ لم أُطْلَبْ وهذا ... سليمانُ بنُ داودَ نبيُّ الهدى تفقَّدَ الطيرَ على مِلْكهِ ... فقال ما لي لا أرى الهُدْهُدا محمَّد بن علي (¬4) ابن محمَّد بن الحسن بن عبد الملك بن عبد الوهاب بن حمُّويه (¬5)، أبو عبد الله، الدَّامَغاني، القاضي، الحنفي. ¬

_ (¬1) في (خ): لم يحل، والمثبت من (ب) والمنتظم. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) العَيُّوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرَّة الأيمن، يتلو الثريا لا يتقدَّمها، ويطلع قبل الجوزراء. المعجم الوسيط (عوق). (¬4) المنتظم 16/ 249 - 252. وتاريخ بغداد 3/ 109، والأنساب 5/ 259. وتنظر بقية المصادر في السير 18/ 485. (¬5) هكذا في الأصلين (خ) و (ب)، والمنتظم، والنجوم الزاهرة 5/ 121، والبداية والنهاية 12/ 129، لكن في تاريخ الإسلام 10/ 433، والسيفي: حسُّويه.

ولد بالدامغان في ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وثلاث مئة، وتفقَّه ببلده، ثم قدم بغداد في رمضان سنة تسع عشرة، وتفقَّه على الصَّيمري والقَدُوري، وسمع منهما الحديث، وبرع في الفقه، وخُصَّ بالفضل الوافر، والتواضع الزائد، فارتفع وشيوخه أحياء، وانتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة. وكان فصيحَ العبارة، مليحَ الإشارة، غزيرَ العلم، سهلَ الأخلاق، وعانى من الفقر في بدايته شدة، فربما كان يستضيء بسراج حارس الدرب للمطالعة من حرصه. وفي ربيع الأوَّل سنة إحدى وأربعين شهد عند أبي عبد الله بن ماكولا قاضي القضاة، فلما مات ابن ماكولا قال القائم بأمر الله للشيخ الأجلِّ أبي منصور بن يوسف: قد كان هذا الرجل قاضيًا حسنًا نزهًا، ولكنه كان خاليًا من العلم، ونريد عالمًا قاضيًا ديِّنًا، فعلم ابنُ يوسف أن عميد الملك هو المستولي على الدولة، وهو شديدُ التعصب للحنفية، فأراد أن يتقرَّب إليه، فأشار بابن الدامغاني، فولي قضاء القضاة يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة سنة سبع وأربعين، وخلع الخليفة عليه، وقُرئ عهدُه وقصد خدمة طُغْرُلبَك، فأعطاه دَسْتَ ثياب وبغلة، فاستمرت ولايته ثلاثين سنة، ونظر في الديوان نيابة عن الوزارة مرتين؛ مرةً للقائم، ومرةً للمقتدي. وقال: كنتُ آخذ الجزء في كُمِّي وأنزل أيَّام الحر إلى دجلة أتفيَّأ ظلال المشتيات وأُعيده، فلا أقوم إلَّا وقد حفظتُه، فانتهى بي السعي يومًا إلى مشتيات الحريم الطاهري، فجلستُ أقرأ، وإذا قد اطَّلع شيخٌ حسنُ الهيئة، وجاءني خادمٌ بعد ساعة فأقامني وأدخلني إلى دار كبيرة، وعلى بابها حواشٍ وخدم، وإذا بالشَّيخ جالسٌ، فسلَّمتُ عليه، فردَّ واستدناني ورحَّبَ بي، وكان عليَّ قميصٌ خامٌ وَسِخٌ، فسألني عن بلدي، فقلت: الدَّامَغان. فقال: ما تقرأ؟ قلت: مذهب أبي حنيفة. قال: من أين مؤنتك؟ فقلت: لا مؤنة لي. فسألني عن مسائل فأجبتُه، فقال: تجيء كلَّ خميس إلى هنا. ورمى إليَّ قرطاسًا مكتوبٌ فيه شيئًا بخطِّه، وقال: تعرضُ هذا على مَنْ فيه اسمُه، وتأخذ ما يعطيك، فأخذتُه ودعوتُ له وخرجتُ، وإذا على الباب رجل جالس، فقلت له: من صاحب هذه الدار؟ فقال: ابن المقتدر. فأعطيتُه الكتاب، فقال: نَعمْ، هذا

محمد بن عمر

خطُّ مولانا. وإذا فيه عشر كارات دقيق سعيد، وعشر دنانير، وكانت الكارة تساوي ثمانية دنانير، فأعطاني الدقيق والدنانير، فاتَّسعتُ به، واشتريت الكتب والكسوة. وكانت وفاتُه ليلةَ السبت الرابع والعشرين من رجب، وقد ناهز الثمانين، وكانت له جنازة عظيمة، نزع العلماء طيالسهم ومشوا فيها، وصلى عليه ابنه [أبو] (¬1) الحسن، ودفن بداره بدرب القلايين، ثم نُقل إلى مشهد أبي حنيفة - رضي الله عنه -. واتَّفقوا على فضله ودينه ورياسته ونزاهته وصدقه وثقته. وبذل ابنُه [أبو] الحسن مالًا للخليفة ليولِّيه القضاء فلم يفعل. محمَّد بن عمر (¬2) ابن محمَّد بن أبي عقيل، أبو بكر، الكَرْخي، الواعظ، ولد سنة خمس وأربع مئة، وسافر إلى البلاد، واستوطن دمشق، وتوفي بها في رجب، ودُفن بالباب الصَّغير. وكان فاضلًا فصيحًا ثقة ثبتًا صدوقًا صالحًا، ومن شعره: [من البسيط] بَيِّضْ صحيفتَكَ السوداءَ (¬3) في رجبِ ... بصالحِ العمل المُنْجي من اللَّهَبِ شهرٌ حرامٌ أتَى من أشهرٍ حُرُمٍ ... إذا دعا اللهَ داعٍ فيه لم يَخِبِ طوبى لعبدٍ زكا فيهِ لهُ عمَلٌ ... فكَفَّ فيه عن الفحشاءِ والرِّيبِ منصور بن دُبَيس (¬4) ابن علي بن مَزْيَد، أبو كامل، بهاء الدولة، صاحب الحِلَّة، تُوفِّي بها، وقيل: بالسلّ (¬5). وكانت إمارتُه ستَّ سنين، وقام بعده ولده سيف الدولة صدقة، وكانت وفاة منصور في رجب، وقيل: في سنة تسع وسبعين (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (ب)، وهو موافق للمصادر التي أوردت الخبر. (¬2) تاريخ دمشق 54/ 431 - 432. (¬3) في الأصلين (خ) و (ب): البيضاء، والمثبت من تاريخ دمشق. (¬4) المنتظم 16/ 252. (¬5) في (خ): بالليل، والمثبت من (ب). (¬6) تحرفت في (خ) إلى: وتسعين.

هبة الله بن عبد الله بن أحمد

هبةُ الله بن عبد الله بن أحمد (¬1) أبو الحسن، السِّيبي، البغدادي، ولد سنة أربع وتسعين وثلاث مئة، وسمع الحديث، وكان شاعرًا فصيحًا، وتُوفِّي في المُحرَّم، ودُفِنَ بباب حرب، وكان قد أدَّب المقتدي وأولاده، وكان ثقةً، وبلغ خمسًا وثمانين سنة، وهو القائل: [من المتقارب] رجوتُ الثمانينَ من خالقي ... لِما جاءَ فيها عن المصطفى فبلَّغَنيها وشُكرًا لَهُ ... وزادَ ثلاثًا بها أردفا وها أنا منتظرٌ وعدَهُ ... ليُنجِزَهُ فهو أهلُ الوفا يَحْيَى بن محمَّد بن طَباطَبا (¬2) أبو المُعَمَّر، العلوي، بقية شيوخ الطَّالِبيين، وكان هو وأخوه من نُسَّابهم، وكان فاضلًا ظريفًا، شاعرًا أديبًا، فقيهًا في مذاهب الشيعة، نزل بركة زلزل بربع الكَرْخ غربي بغداد، ويأوي إليه الطالبيون وغيرهم، وتُوفِّي في رمضان، وهو آخر من بقي بالعراق من أولاد طَباطَبا، ولم يُعقِبْ. السنة التاسعة والسبعون وأربع مئة في صفر قُتل سليمان بن قُتُلْمِش. وفي ربيع الآخر ورد صدقة بن منصور بن دُبَيس (¬3) إلى بغداد يريد قصد السلطان بأصفهان ليولِّيه أعمال أبيه. وفيه عاد إبراهيم بن قريش من أصفهان إلى الموصل، وقد قرَّره السلطان على الموصل والجزيرة، وزوَّجه خاتون صفية عمته التي كانت زوجة مسلم، وكانت مقيمةً بالموصل. وفيه تُوفِّي خطلج أدراز أميرُ الحاجِّ وصاحبُ الكوفة بقرية من قرى أصفهان، وكان يمنع الحاج من التجارة ويوفرها على نفسه، ويأخذ منهم في الطَّريق أضعافَ ما كان ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 253. (¬2) المنتظم 16/ 254. (¬3) تحرف في (خ) إلى: زيد، والمثبت من (ب).

يُقرِّره عليهم، وأمَّا الرجَّالة فيسير بهم عدةَ فراسخ في مرحلة، فيموتون ظنًّا منه أنَّه معهم ما يأخذه، فكثُر الدعاء عليه، والشكوى منه، فعجَّل الله عليه. وفيه عاد تاج الرؤساء أخو الوزير أبي شجاع ومختصٌّ الخادم من أصفهان [ومعهما منشور على طريق خراسان بعشرين ألف دينار كلَّ سنة، وبثلاثين ألف دينار حوالة على صدقة بن منصور معونةً للخليفة على ما يحتاج إليه من مؤنة لنقل بنت السلطان إليه. وفيه ورد محمَّد بن مسلم بن قريش من أصفهان] (¬1). وقد عقد له السلطان على الرحبة والرقة وحرَّان والأعمال النميرية، وقَرَّر عليه في كلِّ سنة ما قرَّر على عمه إبراهيم بن قريش، وزوَّجه السلطان بأخته من الرضاع، وتلقَّاه الوزير أبو شجاع، وخلع عليه في بيت النُّوبة الخِلَعَ التَّامة؛ الفَرَجية، والعمامةَ، والمركبَ الذَّهب، والمنجوق، وذلك في سابع جمادى الآخرة، وتوجَّه إلى الرحبة. وفي سابع ذي القعدة سار الحاجُّ على هيئة لم تكن أيَّام خطلج من زيادة وكثرة، وتحمَّل مع خُمارتِكين الحسباني، وبعث الخليفة معه صفائحَ من ذهب وفضة لتُطبَق على باب الكعبة، فأُطبقت، وقُلِعَ كلُّ ما كان في الحرم ممَّا عليه اسم صاحب مصر، وجرى من العلويين امتناعٌ، فمنعهم أمير مكة ابنُ أبي هاشم. وفي ثالث ذي الحجة دخل السلطان ملك شاه إلى بغداد عائدًا من الشام. ذكر القصة: لمَّا قُتِلَ سليمان بن قُتُلْمِش قتله تتش، ونزل على حلب، فتح له أهلُها الباب كراهية لابن الحنيني الهاشمي، وكان قد بنى فيها قلعةً يأوي إليها خوفًا من أهلها وهي قلعة الشريف، فاستنزله تتش، وحمله معه إلى دمشق، وكان السلطان قد قدَّم بين يديه الأمير بُزان الحاجب، فلمَّا وصل إلى الجزيرة ومعه سنقر الحاجب وعلِمَ تتش، عاد إلى دمشق، ومضى (¬2) أُرْتُق بك إلى بيت المقدس، وكان تاج الدولة تتش قد سلمه إليه، وجعل أهله وماله في محراب داود عليه السَّلام، وسار السلطان في جمادى الآخرة من ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) بعدها في (خ) زيادة: إلى.

أصفهان، ووصل إلى تكريت تاسع رجب، وصنع له مؤيد الملك بن نظام الملك سِماطًا بهاءً (¬1) وحضره السلطان، وكانت تكريت بيد مؤيد الملك، وسار من الغد إلى الموصل، ولقيه في طريقه قومٌ من العرب، وسألوه أن يُعطيَهم أمانًا لمن في الجزيرة، فأعطاهم نُشَّابًا يُفرِّقونه في حِلَلهم، لئلا يتعرَّض لهم أحدٌ، وجاءه بدوي فقال: يا سلطانَ العالم، أخذ بعضُ الغلمان رمحي. فأمر الشاوشيَّة بالبحث عنه، فأحضروا الغلام والرمح بيده، فأمر بقطع يده، وقال للبدوي: ضَعْها على رأس الرمح، وطُفْ بها في الحِلَل ليطمِئنُّوا. ففعل، وسار من الموصل يوم الأحد الحادي والعشرين من رجب، وجاء أهل الرُّها في بذل تسليمها، فأنفذ إليها أحد العمداء، وكان الفردوس الذي بأنطاكية قد عامل أهلَها بما عامل به أهل أنطاكية، وسار السلطان إلى قلعة جَعْبَر، وكان بها لصوص يقطعون الطَّريق، فعصَوا عليه، فقاتلهم، وخرجوا إليه من الباب، واشتدَّ القتال، فما شعروا إلَّا بثلاثةٍ من الغلمان قد صَعِدوا السُّور من مكان ما كان يُظَنُّ أنَّ مخلوقًا يصعد منه، فبهت الخارجون، ونادى الغلمان بشعار السلطان، وحملَ العسكر، فحالوا بين المقاتلة والباب فقتلوهم، وقُتِلَ جَعْبَر ومَنْ كان بها من المفسدين، وصَعِدت زوجة متقدمهم إلى رأس القلعة، وألقَتْ نفسَها إلى الأرض، فانكسرَتْ ساقُها وسلِمَت، وبلغ السلطان فأحضرها، وقال لها: لِمَ خاطرتِ بنفسكِ؟ فقالت: خِفْتُ الفضيحة، فاخترتُ القتلَ عليها. فعجب وقال: من [أين] (¬2) أنت؟ فقالت: من دمشق. فأمر بحملها إلى أهلها. وسار السلطان إلى حلب، فنزل إليه من القلعة سالم بن مالك العقيلي، وكان بها من قبلُ مسلم بن قريش قد عصى على تُتُش وغيره، وحفظ القلعة، وشكر السلطانُ له ذلك، فأعطاه قلعة جَعْبر، فهي تُعرَفُ ببني مالك، وأعطاه عانة وهيت، وجاءت رسل تُتُش إلى أخيه بإظهار الطاعة، وسأل أن يكون مقيمًا بإقطاعه أو ينصرف إلى مكان يأمن فيه، فأجابه السلطان بما يُطيِّب قلبه، وسار السلطان إلى أنطاكية، فخرج إليه العميد نائب سليمان بن قُتُلْمِش، وأخذ الأمان لبني سليمان وأهل البلد، ورحل السلطان إليها ¬

_ (¬1) أي: ابتهاجًا. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

يوم الجمعة غرة رمضان، وأبقى العميد على حاله، وأضاف إليه أحدَ الحُجَّاب شحنةً له، وأخذ معه ولد سليمان وأهله، وأقطعهم إقطاعًا بخراسان، وجاءه ولد أبي الحسن بن منقذ صاحب شَيزَر طامعًا، فأبقاه عليها، وجاءه ابن ملاعب صاحب حمص بخيل وهدية، فأقرَّه على عمله، وتقدَّم إليه بمنع من يمضي من عسكره إلى تتش، وكان قد تسرَّب منهم إليه عدد كثير، ولمَّا قطع السلطان الفرات مضى (¬1) أُرْتُق إلى القدس، ثم مضى إلى الرمل، فنزل الجفار مستوحشًا من السلطان، واتَّفق الغلاء في عسكر السلطان وعدم الميرة، فبلغ الخبزُ كلَّ اثني عشر رغيفًا بدينار، ومكوك شعير بدينار، وغرارة تبن بثلاثة دنانير، فنفقت الخيل والجمال والبغال، وهلكت الأموال والأثقال، ورحل عدد كثير من العسكر، وعادوا على أقبح صورة، حدروا ما بقي من الأثقال في الفرات إلى بغداد، وانكفأ السلطان راجعًا، ورجع أهل الرُّها عما كانوا عليه من الطاعة؛ لأنَّ العميد الذي ولَّاه عليهم استقصى [أموالهم] (¬2) فنفروا منه، وقبضوا على الأرمن المرتبين في البلد مع الشحنة الذين سلَّموا البلد إلى السلطان، وأخرجوا العميد من البلد، فأقطع السلطانُ للأمير بُزان الرُّها، فنزل عليها وحاصرها، فسلَّمها إليه رجلٌ تاجرٌ نصرانيٌّ من أهلها -يقال له: ابن كدانا- في ذي الحجة، فدخلها، وخرج الوزير فخر الدولة من ميَّافارقين، فتلقَّى السلطان على دارا (¬3)، وحمل إليه أموالًا كثيرةً من أموال بني مروان، ورفع عليه العميد أبو علي الذي كان يتعرَّف أحوال البلاد المروانية، وقال: إن ابن جَهير اقتطع الأموال والجواهر والأمتعة لنفسه، وكثُرتِ السّعايات به والشناعات عليه، فعُزِلَ عنها، ووليها العميد المذكور، وسار إليها، وسار السلطان حتى نزل بعَقَرْقُوف، فخرج إليه أبو شجاع والخدم ووجوه النَّاس، وعظَّمه الخليفةُ أكثرَ ما جرت به العادة، بعث له الإقامات الكثيرة، فقيل: إنه كان يُعلِّق كلَّ يوم على خيله أربعةَ أكرار، وصنع له الخليفة سِماطًا عظيمًا دخله ألفا رأس، وحملانًا ودجاجًا وحلواء، فجلس عليه قليلًا، ثم قام وانتهبه الضعفاء والحواشي. ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) زيادة: إلى. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) دارا: بلدة في لحف جبل بين نصيبين وماردين. معجم البلدان 2/ 418.

ودخل عليه الوزير أبو شجاع فسلَّم عليه عن الخليفة، وأدَّى رسالةً تتضمَّن السرور بقدومه، فجثا على ركبتيه، وقدَّم له الوزيرُ سُبحةً فيها جواهر قيمة، فسُرَّ بها، فأومأ إلى تقبيل الأرض، وركب أبو شجاع، وخرج نظام الملك في صحبته وعظَّمه، وركب السلطان من عَقَرْقوف في اليوم الثالث من ذي الحجة، ودخل بغداد، ونزل بدار المملكة، وقد امتلأت بغداد بالنَّاس من الجانبين يدعون له ويضِجُّون، وهو يردُّ عليهم لا يمنعهم من المشي بين يديه. وكان السبب في مجيئه إلى بغداد خاتون زوجته، فإنَّها ألزمَتْه لتنقل ابنتها إلى الخليفة، وأنفذت من الموصل إلى أصفهان مَنْ يُحضِر الجهاز إلى بغداد، وضرب نظام الملك سُرادِقَه بالزاهر ومعسكره حتَّى يقتدي به العسكر ولا ينزلون في دار أحد، فلم يتجاسر أحدٌ أن ينزل في دار أحد، وكان العوامُّ يدخلون على السلطان متُظلِّمين وشاكين، فيكشف مظالمهم، ويزيل شكواهم، وكان النساء يمشين بين الخيام لا يقدر (¬1) أحدٌ من العسكر من التعرُّض لهم، ولم يروا مثلَ هذا [الأمن] (¬2) ولا مثلَ هيبة هذا السلطان، وكان في جملة [عسكر] السلطان فخر الدولة ابنُ جَهير وولدُه مثلَ بعض النَّاس، وما انتفعا بإزالة ملك بني مروان، ولم يدخل بغداد سوى الأمراء والحُجَّاب والخواص، ومَنْ سواهم تفرَّقوا في البلاد. وكان أهل بغداد قد خافوا من زيادة الأسعار، [فادَّخروا الأقوات، فلمَّا انصرف العسكر رخصت الأسعار]، وركب السلطان إلى قبر أبي حنيفة فزاره، وإلى قبر معروف ومقابر الشهداء، والعوامُّ بين يديه يضِجُّون له بالدعاء، ومضى إلى قبر موسى بن جعفر إلى الكوفة يوم الثلاثاء نصف ذي الحجة وزار المشهد، وإلى مشهد الحسين - رضي الله عنه -، وفرَّق في المشهدين الأموال، وأمر بعمارة ما دُثِرَ (¬3) من السور، [وبإجراء نهرين إلى المسجدين]، وفعل نظام الملك في هذه المشاهد والصدقة على العلويين أعظم ممَّا فعل السلطان. ¬

_ (¬1) في (ب): يقدم. (¬2) ما بين حاصرتين هنا وفي المواضع الآتية من (ب). (¬3) في (ب): درس.

وفي ليلة الاثنين سابع ذي الحجة مضَتْ والدة الخليفة وعمَّتُه إلى دار المملكة إلى خاتون، فنزلت إليهما وخدمَتْهُما، وضربت لهما سرادقًا إلى الدار، وصعدتا إلى الدار، ثم نزلتا وهي معهما، وانحدرت إلى دار الخليفة، وحمل السلطانُ إلى الخليفة عشرين ألف دينار، ومئة وخمسين ثوبًا ديباجًا وخيلًا. وفيه وصل نظام الملك إلى حضرة الخليفة في الليل، والتقاه أبو شجاع الوزير، والخدمُ والخواصُّ، وبين يديه الشموع، والخليفةُ جالسٌ في الشُّبَّاك، فقبل الأرض مرارًا، وسأله تقبيلَ يده، فأخرجها الخليفةُ من الشُّبَّاك فقبلها ووضعها على عينيه، وخاطبه بما شرح به صدرَه، وأدى رسالة السلطان وانصرف. وفيه استغاثت امرأة إلى السلطان وقالت: صَعِد البارحةَ فراشٌ أعجميّ سطحي وهو نازلٌ في جواري، فانتهرتُه وقلت له: لئِنْ لم تنزل لأستغيثَنَّ غدًا إلى السلطان. فسبَّ السلطان، وغصبني على نفسي. فسيَّر مَنْ أحضره، فقال: اخصوه؛ لما فعل بها، واقطعوا يدَه ورِجلَه؛ لِتَسلُّقه عليها، ولسانَه؛ لذِكْرِه لنا. ففُعِلَ ذلك به، وحُمِلَ إلى المارستان، فمات بعد ثلاث. قال المصنف رحمه الله: هذا آخر تاريخ محمَّد بن هلال الصابئ، ويُسمى "عيون التواريخ". وفيها خلع الخليفةُ على زعيم الكُفاة أبي منصور بن المفرِّج، وقلَّده المظالم، وأزال المُكوس، وأخرب المواخير، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر. وخرج المقتدي يومًا يتمشَّى في داره وفيها صناع، وإذا بثلاثة قد جاؤوا إليه، فقبَّلوا الأرض، فخاف منهم وقال: ما أنتم؟ قالوا: مظلومون، ولنا على هذا الباب ثلاثة أشهر، ما كان لنا مَنْ يوصِلُنا، فتحلَّينا ودخلنا في صورة روزجاريَّة. قال: ومَنْ ظلمكم؟ قالوا: ابن زريق ناظر واسط. فتقدَّم من ساعته بإيضاح الحال، فإن كان كما قالوا فيُعزلُ ابنُ زريق ويصعد مُنكَّلًا به، ثم تقدم إلى صاحب المظالم أن لا يكتم عنه حال أحدٍ من الرعية (¬1). ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 16/ 256 - 257.

ختلع بن كنتكين

وفيها ولى نظامُ الملك الشريفَ العلويَّ الدبوسي النظامية بعد موت أبي سعيد المتولي، وكان فاضلًا في الجدل والفقه. وصاد السلطانُ في سفرته أربعةَ آلاف غزال -وقيل: عشرة آلاف- فبنى بها منارة بين مشهد النجف والكوفة وسمَّاها أمَّ القرون، وبنى أخرى بأصبهان على مثالها. وقيل: إنَّما فعل ذلك في السنة الآتية. وفيها تُوفِّي خُتْلُع بن كنتِكين أبو منصور، أمير الكوفة والحاج، ذمه محمَّد بن هلال الصابئ، وذمَّ سيرته. وكان شجاعًا، وله وقائع مع العرب بالبرية، وكانوا يخافونه، وكان محافظًا على الصلوات في جماعة، ويختم القرآن الكريم (¬1) في كل يوم، ويختصُّ بالعلماء والقُرَّاء، وله آثار جميلة في المشاهد والمساجد والجوامع والمصانع بطريق مكّة والمدينة، ولبث في إمارة الحاجِّ اثنتي عشرة سنة، وكانت وفاته في جمادى الأولى، وتأسَّف عليه نظام الملك لمَّا بلغه موته، وقال: مات ألف رجل (¬2). سليمان بن قُتُلْمِش (¬3) هو ابن عمة السلطان. وقيل: هو من التركمان الناوكية الذين نزلوا الشام. وقيل: هو جد ملوك الروم، وفتح عدة من بلدان الروم، وآخر ما فتح أنطاكية، وكان قد حاصر حلب ورجع عنها، وقَتلَ مسلم بن قريش في حربه، وجاء تاج الدولة تُتُش فحصر حلب، وأخذ معه الشريف إلى دمشق، وعاد ابن قُتُلْمِش فنزل على حلب، وجاء تُتُش وأُرْتُق من دمشق والتقوا، فاقتتلوا في آخر أعمال حلب قريبًا من المكان الذي قُتِلَ فيه مسلم، فجاء سليمانَ سهمٌ في وجهه فوقع من فرسه ميتًا، فدُفِنَ إلى جانب مسلم، وكان بينهما ستة أيَّام. ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) زيادة: القديم. (¬2) المنتظم 16/ 262. (¬3) السير 18/ 449.

صافي

ويقال: إن تاج الدولة عاد إلى حلب، ففتحوا له باب البلد فدخله، وقد بقي سالم بن مالك في القلعة حتَّى سلَّمها إلى ملك شاه، وعاد أصحاب سليمان إلى أنطاكية. صافي (¬1) الخرقي، الخادم، عتيق القائم بأمر الله، قرأ القرآن، وسمع الحديث، وكان ورعًا، صاحبَ معاملات وصدقاتٍ وإحسانٍ إلى النَّاس، ولما احتضر أعتَقَ عبيدَه وإماءه، وأوصى لهم بجزء من ماله، وأجاز ذلك المقتدي. ولمَّا مات أمر المقتدي بحمل تابوته إلى بين يديه فصلَّى عليه، وحُمِلَ إلى الرُّصافة فدفن بتربة الطائع. عبد الله بن أحمد (¬2) ابن محمَّد بن عبد الله بن عبد الصَّمد بن المهتدي بالله، الخطيب، أبو جعفر، كان صاحبَ مروءة، نبيلًا، جليلًا، فاضلًا، خطيبًا، فصيحًا، يروي الأخبار والحكايات، حسنَ المحاضرة، وكانت وفاته في شعبان، ودُفن عند جامع المنصور. علي بن فضَّال بن علي (¬3) أبو الحسن، المغربي، القيرواني، كان فاضلًا، له النَّظم والنَّثر، مات بغَزْنة في ربيع الأوَّل، ومن شعره: [من السريع] إنْ تُلْقِكَ الغُربَةُ في معشرٍ ... قد أجمعوا فيكَ على بُغضِهِمْ فدارِهِمْ ما دُمتَ في دارِهِمْ ... وأرضِهِمْ ما دُمْتَ في أرضِهِمْ وقال أيضًا: [من السريع] كأنَّ بَهرامَ وقد عارضَتْ ... فيهِ الثُّريا نظرَ المُبصِرِ ياقوتةٌ يعرِضُها بائعٌ ... في كفِّهِ والمشتري مشتري ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 262. (¬2) المنتظم 16/ 262، وفيه أبو جعفر أبو الفضل. (¬3) المنتظم 16/ 263، ومعجم الأدباء 14/ 90 - 98. وتنظر بقية مصادر الترجمة في السير 18/ 528.

علي بن المقلد

علي بن المُقلِّد (¬1) ابن نصر بن منقذ بن محمَّد بن مالك بن منقذ بن نصر بن هاشم بن سرار (¬2) بن زياد بن رغيب (¬3) بن مكحول بن عمر بن الحارث بن علي بن عامر بن مالك بن أبي مالك بن عوف [بن كنانة] (¬4) بن بكر بن عُذرة بن زيد اللات بن رُفيدة بن ثور [بن كلب] بن وَبْرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قُضاعة بن مالك بن حِمْيَر بن مُرَّة بن زيد بن مالك بن حِمْيَر بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان، الأمير، سديد الملك، عز الدولة، صاحب شَيزَر. وذكره ابن عساكر فقال: هو علي بن المقلِّد بن نصر بن منقذ بن محمَّد بن منقذ (¬5) بن نصر بن هاشم، أبو الحسن، الكِناني. قال الأمير أبو عبد الله محمَّد بن الأمير أبي سلامة مرشد بن علي بن المُقلّد بن نصر بن منقذ: كان جدِّي الملك أبو الحسن علي بن المُقلِّد ممن كان يُنسب إلى عمل الشعر، وكان من أبلغ أهل الشام في معرفة اللغة والنحو، وكان بينه وبين ابن عمار صاحب طرابلس مودةٌ وكيدةٌ ومكاتبات، وسببه أنَّه كان له مملوك يسمى رسلان، وكان زعيمَ عسكره، فبلغه عنه ما يكره، فقال له: اذهَبْ عني وأنت آمن على نفسك، فقصد ابنَ عمار إلى طرابلس، وسأله أن يسأل جدِّي في ماله وحرمه، فسأله، فأمر بإطلاقهم، وكان قد اقتنى منه مالًا كثيرًا، فلمَّا خرج الرسولُ بالمال والحريم لحقه جدِّي، فظنَّ أنَّه قد بدا له، فقال: غدرتَ بعبدك ورغبتَ في ماله؟ فقال: لا [واللهِ] (¬6) ولكن لكلِّ أمر حقيقة، حطوا عن الجمال والبغال أحمالها. فحطُّوا، فقال: أبصروا ما عليها. فنظروا فإذا في قدور النحاس خمسةٌ وعشرون ألف دينار، ومن المتاع ما يساوي مثلها وزيادة، ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 43/ 249 - 252، ومعجم الأدباء 5/ 220 - 226. (¬2) تصحفت في (خ) إلى: نزار. (¬3) في الأصلين (خ) و (ب): رغيبة، والتصويب من مصادر الترجمة وكتب التراجم. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو موافق لما في المصادر. وينظر الاستيعاب ص 242، والإصابة 1/ 45، وأسد الغابة 1/ 71. (¬5) تحرف في الأصلين (خ) و (ب) إلى: سعد، والتصويب من تاريخ دمشق وكتب التراجم. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب).

فقال جدِّي للرسول: أبلِغِ ابنَ عمار سلامي، وعرِّفه بما ترى؛ لئلا يقول رسلان: إنني أخذتُ ماله. ثم إنَّ جدِّي زارَ ابنَ عمار، وأقام عنده مدة، ولمَّا رحل إلى حصنه أنشد: [من البسيط] أحبابنا لو لقيتُم في مُقامِكُمُ ... من الصَّبابةِ ما لاقيتُ في ظَعَني لأصبحَ البحرُ من أنفاسِكُمْ يَبَسًا ... كالبَرِّ من أدمُعي ينشَقُّ بالسُّفُنِ وكان بينه وبين صالح بن محمود صاحب حلب مودة، وكانا أخوين من الرَّضاع، ومن شعره: [من البسيط] تجني وتعرِفُ ما تجني فأُنكِرُهُ ... وتدَّعي أنَّهُ الحُسنى وأعترِفُ وكم مُقامٍ بما يُرضيكَ قمتُ على ... جمرِ الغضا وهو عندي روضةٌ أُنفُ وقال أيضًا: [من البسيط] إذا ذكرتُ أياديكَ التي سلفَتْ ... وسوءَ فعلي وزلَّاتي ومُجْتَرمي أكادُ أقتلُ نفسي ثم يمنعُني ... علمي بأنك مجبولٌ على الكرمِ وقال: [من البسيط] ألقى المنيَّةَ في درعين قد نُسجا ... من المنيَّة لا من نسجِ داودِ إنَّ الذي صوَّرَ الأشياءَ صَوَّرني ... نارًا من النَّاس في بحرٍ من الجودِ وقال: [من السريع] لا تعجلوا بالهجر إنَّ النَّوى ... يحملُ عنكُمْ مِنَّةَ الهَجْرِ وظاهِرونا بوفاءٍ فقَدْ ... أغناكُمُ البَينُ عن العُذرِ قال المصنف رحمه الله: وقد وقع لي بيتان في هذا المعنى أرشَقُ من هذين، وهما: [من السريع] أحبابَنا كم تنحِتون لي ... ذنبًا وكم أدأبُ في العُذْرِ ولا تعجلوا بالهجر إنَّ النَّوى ... يحملُ عنكُمْ كُلفَةَ الهَجْرِ وكانت وفاته بشيزَر. وقيل: إنه مات سنة خمس وسبعين، وهو وهم.

محمد بن أحمد

ولمَّا مات قام ولدهُ نصر بن علي مقامه، وتُوفِّي سنة إحدى وتسعين وأربع مئة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. محمَّد بن أحمد (¬1) أبو علي، التُّسْتَري، كان متقدم البصرة، وله مراكب تعمل في البحر، ثم ترك، وسمع الحديث، وتوفي في رجب، وتفرَّد برواية "سنن أبي داود" عن ابن عمرو، وكان فصيحًا، صحيحَ السماع، ثقةً. محمَّد بن محمَّد بن أحمد بن المسلم (¬2) أبو علي، ولد سنة إحدى وأربع مئة، وتُوفِّي في رمضان، ودُفن بباب حرب، وكان زاهدًا يقيم أيامًا، لا يتكلم إلَّا فيما يعنيه. محمَّد بن محمَّد بن علي (¬3) أبو نصر، العباسي، أخو النقيب الكامل، ولد في صفر سنة سبع وثمانين وثلاث مئة، وسمع الحديث، وتزهَّد في عنفوان شبابه، وانقطع في رباط أبي سعيد الصُّوفي، ثم انتقل إلى الحريم الطاهري، وتُوفِّي في جمادى الآخرة، وصلَّى عليه أخوه الكامل، ودُفِنَ بمقابر الشهداء بباب حرب عن ثلاث وتسعين سنة، وكان سيدًا، فاضلًا، صدوقًا، ورعًا، ثقةً. محمَّد بن عبد القادر (¬4) ابن محمَّد بن يوسف، أبو بكر، البغدادي، سمع الكثير، وكان صالحًا ورعًا، لا يخرج من بيته إلَّا في أوقات الصلوات، وتُوفِّي في ربيع الأوَّل، ودُفن بمقبرة باب حرب. وكان عالمًا متقنًا (¬5)، ذا ورعٍ وتُقى، كثير السماع، متشددًا في السُّنة، حضر أخوه مجلس ابن القشيري فهجره. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 264. (¬2) المنتظم 16/ 264، ووقع فيه: بن المسلمة، بدل: بن المسلم. (¬3) المنتظم 16/ 264 - 265. (¬4) المنتظم 16/ 265. (¬5) في (خ): متثبتًا، والمثبت من (ب) وهو الموافق لما في المنتظم.

هبة الله بن القاضي أبي الحسن

هبة الله بن القاضي أبي الحسن (¬1) محمَّد بن علي بن المهتدي، الخطيب بجامع المنصور، ولد سنة تسع عشرة وأربع مئة، وولي القضاء بعد أبيه، ووقعت فتنة عظيمة بين السنة وأهل الكَرْخ على المذهب، وعجز عنها الشحنة والغلمان، وقُتِلَ من الفريقين عددٌ كبير، فركب فرسه ووقف بين الصفين ليردَّهم، فجاءه سهمٌ عائرٌ فوقع فيه فمات، وذلك في يوم الجمعة تاسع عشر صفر، فحُمِلَ إلى القبة الخضراء عند جامع المنصور، فدُفِنَ عند أبيه، وكان سيدًا، صالحًا، ثقةً. السنة الثمانون وأربع مئة فيها بعث تتش أخو السلطان إليه رسولًا يقول: قد استولى المصريون على الساحل، وضايقوا دمشق، وأسأل السلطان أن يأمر آق سنقر وبُزان أن يُنجداني، فكتب السلطان إليهما بأن يُنجداه، وكان بُزان بالرُّها، وآق سنقر بحلب، وكانت تقرَّرت ولاية حلب له من قِبَلِ ملك شاه، وأحسن السيرة فيها، وبسط العدل، وحمى السابلة، وأقام الهيبة، وأنصف الرعية، وأباد المفسدين، وأبعد أهل الشر، فتواترت القوافل، ودرَّ الارتفاع أضعافَ ما كان. وفيها رفع السلطان المكوس ببغداد، وكُتبت ألواح، وأُلصقت على الجوامع، وفيها اسم الخليفة والسلطان. وفي المُحرَّم بعث الخليفةُ ظفر الخادم يستدعي السلطان إلى دار الخلافة، وبعث معه بالطيار، فقام السلطان من دار المملكة، وقبَّل الأرض، ونزل في الطيار، وجاء إلى باب العَزْبة، وقد هُيئِّ فرسٌ من خيل الخليفة، وسَرْجُه حديدٌ صيني، ولُبده أسود، فركبه ونزل عند باب صحن السُّلَّم، ومشى إلى الخليفة، وقبَّل الأرض مرارًا، ونظام الملك قائم مشدود الوسط بين يدي الخليفة يقول للأمير بالفارسية: هذا أمير المؤمنين، ويقول للخليفة: هذا العبد الخادم فلان بن فلان، وله من العساكر كذا وكذا، والأمير ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 265 - 266.

يُقبِّل (¬1) الأرض، وكانوا أربعين أميرًا، والسلطان جالس على كرسيٍّ بين يدي الخليفة، وجاء أمير يقال له: آيْتِكين خال السلطان، فاستقبل القبلة، وصلَّى بإزاء الخليفة ركعتين، واستلم بيديه الحيطان، وأمر الخليفةُ بإفاضة الخِلَع على السلطان، فقام إلى المكان الذي فيه الخِلَع، فخلع عليه، ورجع وقد أثقله التاج والطوقُ والسِّواران، وقلَّده سيفين، وكُمُشْتِكينَ الجندار يرفع ذيله عن يمينه، والكوهراني يرفعه عن شماله، وجاء إلى بين يدي السُّدَّة وبينه وبين الخليفة الشباك، فقبَّلَ الأرض دفعات، وسأل الخليفةَ أن يُقبِّلَ يدَه فلم يفعل، وأعطاه خاتمه، فقبَّله ووضعه على عينيه، وقال له أبو شجاع الوزير: يا جلال الدولة، هذا سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، الذي اصطفاه الله بعزِّ الإمامة، واسترعاه الأمة، فقد أوقع الوديعة عندك موقعها، وقلدك سيفين لتكون قويًّا عَلى أعدائك وأعداء الله تعالى، وخرج وبين يديه ثلاثةُ ألوية، ونثرت الدراهم والدنانير، وقُرئ صدرٌ من عهده، وقُرئ الباقي في داره من الغد، وجلس للهناء، وبعث الخليفة بالأموال والهدايا. وفيه دخل نظامُ الملك مدرسته ولم يكن رآها، فجلس بها، وأملى الحديث، وسمع عليه، وسأل عن العلماء ببغداد، فلم يبقَ مَنْ يُشار إليه، وفرَّق الخِلَع والمال في الفقهاء وأحسن إليهم. وفي مستهلِّ صفر زُفَّت ابنةُ السلطان إلى الخليفة، وأمر بضرب القباب وتزيين البلد من الجانبين، ونُقل الجهازُ على مئة وثلاثين جملًا، وبين يديه العساكر والخدم، ونثر النَّاس عليه الدراهم والدنانير، فلمَّا كان من الغد نُقِل شيءٌ آخر على أربعة وسبعين بغلًا، وكانت الخزانة اثني عشر صندوقًا من فضة، وبين يديها ثلاثون فرسًا جنائب، ونُقلت خاتون في الليل في محَفَّة مُرصَّعة بالجواهر، وقد أحاط بها مئتا جارية من خواصِّها وبين يديها نظام الملك وأبو سعد المستوفي والأمراء، وبِيَد كلِّ واحد منهم شمعة، فدخلت دار الخليفة. ¬

_ (¬1) في (ب): والأمراء يقبِّلون.

وفي رواية: نُقِلَ جهازُها في ثلاثة أيَّام (¬1) على الجمال والبغال أثواب الديباج، وفي أعناقها أرسان الحرير وقلائد الذَّهب، والصناديق مملوءة ذهبًا وفضة وجواهر. وجاءت والدة الخليفة وعمته إلى دار المملكة في الليل، وضربوا السرادق من دجلة إلى الدار، فنزلت خاتون وقبَّلت الأرض بين أيديهما، وسلمت إليهما ابنتَها، وأصبح الخليفة، فعمل لأصحاب السلطان سِماطًا لم يُعمَلْ مثلُه، استعمل فيه أربعون ألف منّ من السكر، وخلع على خواص أصحاب السلطان، وكان السلطان قد خرج ليلة الزفاف إلى الصيد فأقام ثلاثًا. وفي صفر خرج السلطان ومعه نظام الملك نحو أصبهان، وخرج الوزير أبو شجاع معه مُودِّعًا إلى النهروان، وعاد. وفيه وُلدَ للسلطان ولدٌ سمَّاه محمودًا، وولي الأمر بعد أبيه، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفي شعبان وردت كتب السلطان إلى الخليفة يسأله أن يخطب لابنه الأمير أحمد بن ملك شاه من بعد ذكر أبيه، وكان السلطان قد جعله وليَّ عهده، ومشى في ركابه، فتقدَّم الخليفةُ إلى خطباء المنابر بذلك، ونُثِرت الدنانير على الخطباء. وفيه زُلزلت هَمَذان وأعمالُها زلزلة عظيمة دامت سبعة أيَّام، فهلك تحت الردم خلق كثير، وهرب النَّاس إلى البرية. وفي ذي القعدة ولِدَ للخليفة من بنت السلطان ولدٌ أسماء جعفرًا، وكنَّاه أبا الفضل، وجلس الوزير للهناء بباب الفردوس، ونُصِبت القباب، وزُيِّنت بغداد من الجانبين، ونُثِرت الدنانير والدراهم. وفيها بنى تاج الملك أبو الغنائم المدرسة التاجية بباب أَبْرز، وضاهى بها النظامية، ووقفها على الحنفية، وقيل: على الشَّافعية، ودرَّس بها [في] (¬2) أول السنة الآتية أبو بكر الشاشي (¬3). ¬

_ (¬1) في (خ): أعوام، والمثبت من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) تنظر هذه الأخبار بنحوها في المنتظم 16/ 267 - 271.

شافع بن صالح بن حاتم

وفيها توفِّي شافع بن صالح بن حاتم (¬1) أبو محمَّد، الحنبلي، الفقيه، تفقَّه على القاضي أبي يعلى، وتُوفِّي في صفر، ودُفِنَ بباب حرب، وكان صالحًا زاهدًا فاضلًا ثقة. فاطمة بنت علي المؤدِّب (¬2) الكاتبة، برعت في الكتابة على طريقة ابن البواب، وكتب الأعيان على خطِّها، وأمرها الخليفةُ فكتبت كتاب الهدنة بين الديوان وملك الروم، وقالت: كتبتُ لعميد الملك الكُنْدَري ورقةً، فأعطاني ألف دينار. سمعت الحديث، وتُوفِّيت في المُحرَّم، ودُفِنت بباب أَبْرز، وكانت صالحةً زاهدة. محمَّد بن المقتدي (¬3) تُوفِّي بالجُدَري وقد قارب تسع سنين، وحزن أبوه عليه حزنًا عظيمًا، وجلس الوزير للعزاء في باب الفردوس ثلاثة أيَّام، ومنع الخليفةُ من ضرب الطبل في أوقات الصلوات، وغُلِّقت الأسواق، وبطلت المعايش، ثم برز توقيعُ الخليفة إلى النَّاس: إن أمير المؤمنين أول من اقتدى بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ولمَّا مات إبراهيم ولدُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث. وقد عزَّى أميرُ المؤمنين نفسه بما عزَّى الله به الأمة بعد نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليمًا لحكمه، ورضًا بقضائه، فليعلم الحاضرون ذلك، وقد أذن لكم في الانكفاء مشكورين. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 271. (¬2) المنتظم 16/ 272 - 273. (¬3) المنتظم 16/ 273 باختصار.

محمد [بن محمد]

محمَّد [بن محمَّد] (¬1) ابن زيد بن علي بن موسى بن جعفر [بن علي] بن الحسين بن علي بن الحسين بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين، الحسيني، ذو الكنيتين، أبو الحسن وأبو المعالي، ولد سنة خمس وأربع مئة ببغداد، وبها نشأ وسمع الحديث [الكثير] (¬2)، وسكن سمرقند، وصنَّف فأجاد. وكانت له دنيا واسعة، فكان يملك نحو أربعين قرية بنواحي كَشّ، وكان يؤدي زكاة ماله، ويتنفَّل بالصدقة، فيبعث إلى جماعة من الأئمة بألف دينار وخمس مئة إلى كل واحد وعشرة آلاف دينار، ويقول: أنا لا أعرف الفقراء، ففرِّقوها أنتم عليهم. وكان يرجع إلى عقل كامل، وفضل وافر، ودين متين. ولمَّا اشتهرت عنه هذه الفضائل حسده قاضي سمرقند وما وراء النهر، فقال الخضر بن إبراهيم لك ما وراء النهر: إن له بستانًا ليس للملوك مثله. فبعث إليه: أريد أن أُبصرَ بستانك. فقال للرسول: قُلْ له: أنت تشرب الخمر، وهذا عمرتُه من المال الحلال لأجتمع فيه بأهل الزهد والدين. فأعاد الرسول عليه الجواب، وطلبه فاختفى، فأظهر الخضر أنَّه قد ندم، فظهر الشريف فقبض عليه، واستصفى أمواله وحبسه. قال بعض وكلائه: فتوصَّلتُ إليه وقلت له: إنه يأخذ مالك بغير اختيارك، فأعطِه ما يريد وتخلَّص. فقال: قد طاب لي الحبس والجوع، وقد كنت أُفكِّر في نفسي منذ مدة وأقول: مَنْ يكون من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابُدَّ أن يُبتلى في ماله ونفسه، وأنا قد ربيتُ في النعم والدولة، فلعلَّ فيَّ خللًا، فلمَّا وقعت هذه الواقعة فرِحْتُ بها، وعلمتُ أنَّ نسبي صحيحٌ متصلٌ برسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، فأنا أصبر ولا أفعل شيئًا إلَّا برضا الله تعالى، فمنعوه الطَّعام، فمات وأُخرج من القلعة، فأخذه ولدُه فدفنوه، فقبره ظاهر يُزار. ورآه أبو العباس الطبري وهو في الجنَّة وبين يديه مائدة موضوعة عليها الطَّعام، قال: فقلت له: ألا تأكل؟ قال: لا، حتَّى يجيء ابني المطهر فإنَّه غدًا يجيء، فانتبهت من نومي، فقُتِلَ ابنُه من وقت الظهر من ذلك اليوم. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 273، والزيادة الآتية منه ومن النسخة (ب). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) والمنتظم.

محمد بن هلال

محمَّد بن هلال (¬1) ابن المحسن بن إبراهيم الصابئ، أبو الحسن، الملقَّب بغرس النعمة، صاحب التاريخ المسمى بـ "عيون التواريخ"، ذيَّله على تاريخ أبيه، وأبوه ذيَّل على تاريخ [ثابت بن سنان، وثابت بن سنان ذيَّل على تاريخ] (¬2) ابن جرير الطبري، فتاريخ الطبري انتهى إلى سنة اثنتين أو ثلاث وثلاث مئة، وتاريخ ثابت إلى سنة ستين وثلاث مئة، وتاريخ هلال إلى سنة ثمان وأربعين وأربع مئة وتاريخ غرس النعمة من سنة ثمان وأربعين وأربع مئة إلى سنة تسع وسبعين وأربع مئة. وكان غرس النعمة فاضلًا، أديبًا، مترسلًا، له صدقةٌ ومعروفٌ، وإحسانٌ كثير، ومروءةٌ ظاهرة، وكانت وفاته في ذي القعدة، ودُفِنَ في داره بشارع عوف غربي، ثم نُقل إلى الكوفة فدُفن بمشهد أمير المؤمنين، وخلَّف سبعين ألف دينار، وكان محترمًا عند الخلفاء والوزراء والأكابر، وقد غمزه عبد الله بن المبارك السَّقطي، ضعيف. أمير المُلثَّمين بمراكش والمغرب (¬3) وكنيته أبو بكر بن عمر من ولد تاشفين، كان مجاهدًا في سبيل الله تعالى، يركب في خمس مئة ألف من رجال الديوان والمطاوعة ويخطب للدولة العباسية، وكان مثل واحد من أصحابه يواسيهم بنفسه، وكان يصلِّي بالنَّاس الصلوات الخمس، ويقيم الحدود، ويلبس الصوف، وينصف المظلوم، ويعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية. خرج في غَزاة، فلقي الفرنج وظهر عليهم، فبينما هو واقف إذ جاءه سهمٌ عائرٌ فذبحه، وبلغ نيِّفًا وستين سنة. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 275 - 276. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) والمنتظم. (¬3) المنتظم 16/ 276.

السنة الحادية والثمانون وأربع مئة

السنة الحادية والثمانون وأربع مئة فيها سار السلطان طالبًا سمرقند، وقطع جَيحون، وأخرج الخليفةُ أصحاب خاتون زوجته من حريم داره، فنزلوا بدار المملكة، وسببه استطالتُهم على العامة، فضخوا واستغاثوا إلى الخليفة، فخاف من فتنة. وفيها شرع أهل باب البصرة يبنون القنطرة الجديدة، وثار عليهم أهل الكَرْخ، فكان أهل البصرة ينقلون الآجر في أطباق الذَّهب والفضة، وثارت الفتنة. وفيها تُوفِّيت داية السلطان بحلب، كانت تأخَّرت عند قسيم الدولة آق سنقر، فجلس يومًا وبيده سكين، فأومأ إليها يداعبها، فخرجت من يده بغير قصده، فأصابت مقتلها، فماتَتْ، فحزن عليها حيث ماتَتْ بهذا السبب، وكانت قد أوصَتْ أن يُحمل تابوتُها إلى المشرق، فجهَّزها وخرج مع التابوت مرحلةً وعاد. وفي رجب سار آق سنقر من حلب فنزل على شَيْزَر محاصرًا لها، ونهب ربَضَها، فصالحه ولد أبي الحسن بن منقذ على مالٍ وأطاعه، فرحل عنها (¬1)، وحجَّ من العراق الوزير أبو شجاع، واستناب في الديوان ابنَه أبا منصور وطرَّاد بن محمَّد الزينبي. وفيها تُوفِّي أحمد بن محمَّد (¬2) ابن الحسن بن الخضر، أبو طاهر، الجواليقي، والد أبي منصور موهوب، كان شيخًا صالحًا متعبدًا، من أهل البيوتات القديمة ببغداد، وكان جدُّه صاحبَ دنيا واسعة، وتُوفِّي في رجب فجأة. ¬

_ (¬1) في (ب): عنه. (¬2) المنتظم 16/ 278.

عبد الله بن محمد بن علي

عبد الله بن محمَّد بن علي (¬1) أبو إسماعيل، الهروي، الأنصاري، ولد سنة خمس وتسعين وثلاث مئة [وتُوفي بِهَراة] (¬2) في ذي الحجة، وكان صائمًا، متعبدًا، زاهدًا، ثقةً، سمع أبا الحسين بن بُشْران وغيره، وروى عنه الكَرْخي وغيره. قلت: هذا مضمون ما ذكره المصنف رحمه الله، ومثله لا يخفى عنه محلُّ شيخ الإسلام الأنصاري رحمه الله عليه من العلم والعمل، فإنَّه كان كبيرَ الشأن، عظيمَ المحلّ، والعجَبُ من المصنف كونُه اقتصر على ما ذكره ولم يُنبِّه على شيء من مناقبه مع كثرتها. عبد الواحد بن الفرج أبو الرِّضا، المعرِّي، الشاعر، كان سليم المصدر، إلَّا أنَّه يأتي بديهة بالعجائب، استدعاه معز الدولة ثِمال بن صالح بن الزَّوقلية صاحب حلب، فوافاه جالسًا على قُوَيق، فأنشده: [من الطويل] رأيتُ قُويقًا إذْ (¬3) تجاوزَ حدَّهُ ... له زَجَلٌ (¬4) في جَرْيهِ وضَجيجُ وكان ثِمالٌ جالسًا بشفيرهِ ... فشبَّهتُهُ بحرًا لدَيهِ خليجُ فقال له ثِمال: قد زعم الحلبيُّون أنَّ هذا ليس بشعرك. ونظر إلى غرابين على نشزٍ، فقال: قُلْ فيهما بديهًا. فقال: [من الخفيف] يا غُرابينِ أنتما سببُ البيـ ... ـنِ فكيفَ اجتمعتُما في مكانِ إنَّما قد وقفتُما في خُلُوٍّ ... لفراقِ الأحبابِ تشْتَورانِ فاحْذَرا أنْ تُفرِّقا بين إلْفَيـ ... ـنِ فما تدريان ما تلقيانِ فطرب ثِمال وأعطاه جائزة. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 278 - 279، وطبقات الحنابلة 2/ 247 - 248. وينظر السير 18/ 503. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) والمصادر. (¬3) في (ب): قد. (¬4) في (ب): جزل.

السنة الثانية والثمانون وأربع مئة

وكان بالمعرة قصرٌ عظيمٌ لبعض الملوك في محلة شيات، فأمر صاحب المعرة بنقضه ليأخذ حجارته يبني بها مكانًا آخر، فاجتاز المعرِّي بالقلعة وهم يخربونه، فوقف مفكرًا، وأنشده بديهًا: [من الطَّويل] مررتُ بقصرٍ في شياتٍ فساءني ... بهِ زجلُ الأحجار تحت المعاولِ تناولَها عبلُ الذِّراع كأنَّما ... جرى الحربُ فيما بينهم حربُ وائلِ فقلتُ لهُ شَلَّتْ يمينُكَ خَلِّها ... لمُعْتَبِرٍ أو زائرٍ أو مُسائلِ منازل قومٍ (¬1) حدَّثتنا ديارُهُم ... ولم ألقَ أحلى من حديثِ المنازلِ السنة الثَّانية والثمانون وأربع مئة فيها بعث السلطان صواب الخادم يطلب ابنتَه من الخليفة، فإنَّ شكاويها قد كثُرت منه، وأنَّه معرضٌ عنها، فأذِنَ لها في الخروج، فقالت: أريد ولدي أبا الفضل جعفر. فامتنع الخليفة من خروج الولد معها، فشدَّدت عليه، فأذن لها على كُره، فخرجت من بغداد يوم الأربعاء سادس عشر ربيع الأوَّل، وأصحبها الخليفةُ النقيبين الكامل والطاهر وجماعةً من الخدم، وخرج الوزير أبو شجاع مُشيِّعًا للأمير أبي الفضل بين يدي مِحَفَّته إلى النَّهروان، وكان السلطان قد قطع النهر إلى سمرقند (¬2). وفي صفر كانت فتنة عظيمة ببغداد بين السنة والشيعة، وسببها أنَّ أناسًا من أهل البصرة كبسوا الكَرْخ [فقتلوا رجلًا وجرحوا آخر، فأغلقت أسواق الكَرْخ] (¬3) ورفع أهلُها المصاحف، وقُتِلَ بينهم خلقٌ كثير، وجاء خمارتاش [نائب] (¬4) الشحنة، فنزل قريبًا من دجلة ليكفَّ الفريقين فما قدر، وكان أهل باب البصرة يزحفون وبين أيديهم سَبُعٌ أحمر قد زَيَّنوه يقاتل وهم خلفه، وبعث الخليفة إليهم الخدم والخواصَّ والهاشميين والقضاة والأعيان والمشايخ، فلم يلتفتوا، ورفع العامَّةُ الصلبان على ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) كلمة مقحمة: قد. (¬2) الخبر في المنتظم 16/ 281. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) والمنتظم 16/ 281 - 282 والخبر فيه، لكن وقع في (ب): فقلت، بدل: فأُغلقت. (¬4) ما بين حاصرتين من المنتظم 16/ 282.

القصب، ونادوا: المستنصر يا منصور، ونادت الطائفة الأخرى: المسيحَ يا منصور، وتفاقم أمر الفتنة، وقُتِلَ من الفريقين نحوٌ من مئتين، وسبَّ أهلُ الكَرْخ أصحابَ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-، [وأزواجَه رضوان الله عليهم، وتعدَّوا إلى سبِّ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -] (¬1) وكتب الخليفة إلى صدقة بن مَزْيَد بإنفاذ جيش، فبعث إليه بالعرب، واتفقوا مع الشحنة، فنقضوا الدُّور، وأحرقوا المحالَّ، وحلقوا الشعور، [وأحرقوا] ونهبوا أماكن المفسدين من الفريقين، فسكنت الفتنة. وفي شوال ورد الخبر بموت خاتون بنت السلطان بأصبهان بالجُدَري، فجلس الوزير في العزاء بباب الفردوس ثلاثة أيَّام -وقيل: سبعة أيَّام (¬2) - وأخرج الخليفة أبا محمَّد التميمي وعفيف الخادم لتعزية السلطان. ووردت الأخبار أن السلطان ملك شاه فتح سمرقند وأسر ملِكَها ابن طنغاج، وكان زوج أخت السلطان، وله منها ثلاثة أولاد، فجعل الولايةَ لأحدهم واسمه أحمد، وأمر بالخطبة له على المنابر. وقيل: إن هذا أحمد مات سنة أربع وثمانين. وفيها ولَّى السلطانُ عميدَ الدولة ابنَ جَهير ديار بكر بسعي نظام الملك، فمضى إليها ومعه زوجتُه زبيدة بنت نظام الملك، وكان مقصودُه بالولاية أخْذَ مال أبيه فخرِ الدولة من الودائع العظيمة، فأخذها وأقام إلى سنة أربع وثمانين، فاستدعاه السلطان إليه، ومات أبوه سنة ثلاث وثمانين، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها عمرت المنارة بجامع حلب. وفيها جهز بدر الجمالي عسكرًا من نصير (¬3) الدولة الجيوشي، فنزل على صور وبها القاضي عين الدولة ابن أبي عقيل، فسلَّمها إليه لمَّا لم يكن له به طاقة، وفتح صيدا وجُبيل وعكا، وكان لتُتُش بهذه البلاد أموال، فأخذها ونزل على بعلبك، وجاءه ابن ملاعب وخطب للمستنصر، وبعث تُتُش إلى آق سنقر بحلب وإلى بُزان بالرُّها وقال ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (ب). (¬2) الخبر إلى هنا في المنتظم 16/ 281. (¬3) في (خ): نصر، والمثبت من (ب)، والنجوم الزاهرة 5/ 128.

طاهر بن بركات بن إبراهيم

لهما: هذه البلاد التي أُخِذَت كان لي فيها ذخائر وأموال وقد أُخِذَتْ، وطلب منهما النجدة، فبعثا له عسكرًا. وفيها تُوفِّي طاهر بن بركات بن إبراهيم (¬1) أبو الفضل، القرشي، الخشوعي، من أكابر شيوخ دمشق. قال ابن عساكر: سألتُ ولده إبراهيم بن طاهر: لِمَ سُمِّيتم الخشوعيين؟ فقال: لأنَّ جدَّنا الأعلى كان يؤمُّ النَّاس، فمات في المحراب. وكانت وفاة طاهر بدمشق، وكان صدوقًا ثقة. عاصم بن الحسن (¬2) ابن محمَّد بن علي بن عاصم، أبو الحسين، ولد سنة سبع وتسعين وثلاث مئة، وتوفي في جمادى الآخرة، ودفن عند جامع المنصور، وكان ظريفًا شاعرًا، فصيحًا أديبًا، ثقة متقنًا حافظًا، ومن شعره: [من الكامل] لهفي على قومٍ بكاظمةٍ ... ودَّعْتُهم والركبُ مُعترِضُ لم تترُكِ العَبَراتُ مُذْ بَعُدوا ... لي مُقلةً ترنو وتغتمِضُ رحلوا فطَرْفي دمعُهُ هَطِلٌ ... جارٍ وقلبي حشوُهُ مَرَضُ وتعوَّضوا لا ذُقْتُ فَقْدَهمُ ... عنِّي وما لي عنهمُ عِوَضُ أقرضتُهم قلبي على ثقةٍ ... بهم فما ردُّوا الذي اقترضوا فَرَضوا على الأجفانِ أنهمُ ... لا تلتقي فَرَضُوا بما فَرَضُوا أم أبرموا أمرًا فإنَّهمُ ... بصدودِهم للعهدِ قد نَقَضُوا وقال: [من الرجز] أتعجبون من بياض لمَّتي ... وهجرُكُمْ قد شيَّبَ المفارقا ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 24/ 449 - 405 والمثبت منه ومن النجوم الزاهرة 5/ 128، فقد تحرف اسم بركات في (خ) و (ب) إلى: ركاب. (¬2) المنتظم 16/ 286 - 287.

علي بن [أبي] يعلى

لمَّا رأيتُ دارَكُمْ خاليةً ... من بعدما ثوَّرتُمُ الأيانقا (¬1) بكيتُ في ربوعِها صبابةً ... فأنبتَتْ مدامعي شقائقا وقال: [من الكامل] ماذا على متلوِّنِ الأخلاقِ ... لو زارني فأبُثَّهُ أشواقي وأبوحَ بالشكوى إليه تذلُّلًا ... وأفضَّ ختم الدَّمع من آماقي فعساهُ يسمحُ بالوصالِ لمدنفٍ ... ذي لوعةٍ وصبابةٍ مشتاقِ أسرَ الفؤادَ ولم يرِقَّ لموثقٍ ... ما ضرَّه لو جادَ بالإطلاقِ يا قاتلي ظلمًا بسيف صدودِهِ ... حاشاكَ تقتلني بلا استحقاقِ أسقيتَني دمعي وما يَروى بهِ ... ظَمَأي ولكن لا عَدِمتُ الساقي وقال: [من الطَّويل] وحرَّم غمضي بالحجيجِ على منى ... غزالٌ رأيناهُ بمكة مُحرِما رمى وَهو يسعى بالجِمارِ وإنَّما ... رمى جمرةَ القلب المُعذَّب إذ رمى ولمَّا تفرَّقْنا بمُنعرجِ اللِّوى ... وأنجدْتُ لا أرجو اللِّقاءَ وأتْهما بكيتُ على وادي الأراكِ وماؤُهُ ... مَعينٌ فصار الماءُ مِنْ عَبْرتي دمًا وقال: مرضتُ فغسلتُ ديوان شعري، وكان ذلك من المرض أيضًا. علي بن [أبي] يعلى (¬2) ابن زيد، أبو القاسم، الدَّبُوسي (¬3)، من أهل دَبُوسة بلدة بين بخارى وسمرقند، أقدمه نظام الملك إلى بغداد لتدريس النظامية بعد المتولي، كان فاضلًا عارفًا بالفقه والجدل والمناظرة، وكانت وفاته في شعبان [ببغداد] (¬4). ¬

_ (¬1) الأيانق؛ جمع ناقة. الصحاح (نوق). (¬2) المنتظم 16/ 285 - 286. (¬3) تحرفت في الأصلين (خ) و (ب) إلى: اليبوسي، وكذلك الكلمة الآتية: دبوسة، إلى: يبوسة، والتصويب من المصادر السابقة. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب) والمصادر.

السنة الثالثة والثمانون وأربع مئة

السنة الثالثة والثمانون وأربع مئة فيها تولى تُتُش على حمص وفيها ابن ملاعب، ومع تُتُش آق سنقر وبُزان، وقاتلوه مدةً، وقالوا: أنت نزلت إلى المصريين وخطبتَ لهم، فلمَّا ضايقوه طلب الأمان على نفسه وماله وأهله، فأعطوه، فنزل من القلعة، وتوجُّه إلى مصر، وتسلم تُتُش حمص، ثم أقام بمصر مدة وعاد إلى الشام، فدبَّر الحيلة على حصن فامية وملكه، وقدم أبو عبد الله الطبري بغداد في المُحرَّم ومعه منشور نظام الملك بالتدريس في النظامية، فدرس، ثم وصل عبد الرحمن الشيرازي ومعه منشور آخر، فتقرَّر أن يكون يذكر الدرس هذا يومًا، وهذا يومًا. وفي ربيع الآخر خلع الخليفة على علي بن طِراد وولَّاه نقابة العباسيين بعد أبيه. وفيها ظهر بالبصرة رجل مُنجِّم فادَّعى أنَّه المهدي، وكان من القرامطة، فاحتال حتَّى أحرق البصرة وهرب، فأتت النَّار على معظمها، واسمه بلبا، فآل أمرُه إلى أن حُمِل إلى بغداد، وأُشهِر على جمل، وصُلِب في السنة الآتية. وفيها تُوفِّي جعفر بن محمَّد ابن جعفر بن المكتفي بالله، كان عاقلًا أديبًا صالحًا، سمع الحديث، ومات في جمادى الآخرة، ودُفن بباب حرب عن ست وتسعين سنة. علي بن محمَّد القيرواني، كان فقيهًا فاضلًا شاعرًا فصيحًا، وهو القائل: [من مجزوء الكامل] ما في زمانِكَ ماجدٌ ... لو قَدْ تأمَّلْتَ الشَّواهِدْ فاشهَدْ بصدقِ مقالتي ... أولًا فكذِّبني بواحِدْ محمَّد بن محمَّد بن جَهير (¬1) أبو نصر، فخر الدولة، الوزير، أصله من الموصل وبها وُلد، وقَدِم ميَّافارقين، وكتب إلى القائم يسأله أن يستوزره، فأجابه، ثم نقم عليه ونفاه إلى الحِلَّة ثم أعاده، ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 290. وتنظر مصادر الترجمة في السير 18/ 608.

ووَزَر للمقتدي فنفاه، ولابنه عميد الدولة، فمضى إلى السلطان، وتحدَّث عليّ بني مروان، وأطمعه في مملكتهم، فأزالها، وفتح ميَّافارقين وآمِد وديار بكر، وخطب له على المنابر بها، وكان يبعث بالأموال إلى ولده عميد الدولة من ميَّافارقين، وعميد الدولة عند السلطان. وكان مما أنفذ له مائدة بِلَّور، دورها خمسة أشبار، وقوائمها منها، وزبادي، وأقداح بِلَّور ليس لها قيمة، وبعث إليه خُفًّا من ذهب فيه السُّبحة التي كانت لنصير الدولة، وكانت مئة وأربعين حبة لؤلؤ، وزنُ كلِّ حبة مثقالٌ وزيادة، وفي وسطها الحبل الياقوت، وقطع بلخش قيمة الجميع ثلاث مئة ألف دينار. واستولى ابنُ جَهير على أموال ديار بكر، وأخذ من أبي سالم الطَّبيب ألفي ألف دينار سوى الجواهر واليواقيت، ولمَّا بلغ السلطان هذا استدعاه إلى بابه، فهمَّ بالعصيان، ثم فكَّر، فعلم أنَّه لا يقدر على ذلك وابنُه عند السلطان، فجاء إليه وقد عاد من حلب وولى السلطانُ ديارَ بكر للعميد قوام الدين أبي علي البلخي، فسار إليها، وكان فقيهًا عفيفًا، فكان يجلس للدرس من بكرة إلى قريب الظهر، ثم يمضي إلى الديوان فيقضي أشغال النَّاس إلى العصر، وأظهر العدل والإحسان. وسمع ليلةً صوت ناقوس بدير عباد على الجبل، فقال: أيُضرب الناقوس في بلاد المسلمين؟ فأخرب الديرَ، وبناه مسجدًا، ووقف عليه الوقوف، وأقام حاكمًا، حتَّى تعصَّب عليه نظام الملك وعزله وولَّى عميدَ الدولة، وقد ذكرناه، وذكرنا قصد صاحب ميَّافارقين بابَ السلطان، وأنَّه لم يلتفت عليه لخِسَّة نفسه، فلمَّا فُتحت بلادُه قال السلطان: قولوا له: أيش يريد؟ . فجاءه الرسول فقال: أيش تريد حتَّى يُعوِّضك السلطان؟ فقال: يزيد حربةً تقع في صدره تخرج من ظهره. فقيل للسلطان: قد طلب حربى قريةً ببغداد ارتفاعها ثلاثون ألف دينار، فأقطعه إياها، فأقام بها حتَّى مات ملك شاه. وكان أبو سالم الطَّبيب قد حبس الوزير أبا طاهر بن الأنباري بميَّافارقين، فأطلقه ابنُ جَهير، وبعث به إلى حصن كيفا وبها خادمٌ يقال له: ياقوت، وناظرٌ يقال له: أبو الحسن علي بن الأزرق، فقيل لفخر الدولة: إن ابن الأنباري قد عرف أموال بني

السنة الرابعة والثمانون وأربع مئة

مروان وذخائرهم، فإن أطلقتَه ربما مضى إلى السلطان وأخبره بما وصل إليك. فبعث إلى ياقوت الخادم وابن الأزرقِ يأمرهما بقتله، فقال ابن الأزرق للخادم: هذا رجل كبير القدر، وربما عزل ابنَ جَهير من البلاد فلا تقتُلْه. قال: وكيف أعمل؟ قال: أظهِرْ موته وأخْفِه. فقال الخادم لابن الأنباري: تمارَضْ أيامًا. ففعل وعاده النَّاس والأطباء، ثم أظهر موته، وأخرج جنازةً وصلَّى عليها النَّاس، وكتب إلى ابن جَهير بذلك، وأثبت موتَه على القاضي، ثم ظهر ابنُ الأنباري بعد مفارقة ابن جَهير البلاد، ولم يأخذ أحد من الوزراء من الأموال والجواهر ما رأى ابن جَهير من بلاد بني مروان، ولم تزل الأقدار تتقلب به حتَّى عاد إلى الموصل فمات بها. وكان قد سأل السلطان لمَّا رأى تغيُّره عليه أن يأذن له في المقام بالموصل، فأذِن له، فمرض في رجب، وتُوفِّي، فحمل أمراءُ بني عقيل جنازته إلى تلِّ توبة شرقي الموصل، فدُفِنَ به. السنة الرابعة والثمانون وأربع مئة فيها في صفر كتب الوزير أبو شجاع إلى الخليفة يُعرِّفه باستطالة أهل الذمة على المسلمين، وأنَّ الواجبَ تمييزُهم عنهم، فأمره الخليفة أن يفعل ما يراه، فألزمهم لبس الغيار والزنانير، وتعليق الدراهم الرصاص في أعناقهم، مكتوب على الدراهم: ذمِّي، وتُجعل هذه الدراهم في حلوق نسائهم في الحمامات ليُعرَفْنَ بها، وأن يلبسنَ الخفاف فردةً سوداءَ وفردةً حمراء، وخلخالًا في أرجلهن، فذلُّوا وانقمعوا، وأَسْلَمَ حينئذٍ أبو سعد بن الموصلايا كاتبُ الإنشاء للخليفة، وابنُ أخيه أبو نصر هبةُ الله، وسأل أن يكون ذلك بحضرة الخليفة، فأُجيب إلى ذلك. وفي جمادى الأولى قدم أبو حامد الطُّوسي الغزالي بغداد مدرسًا بالنظامية ومعه توقيع نظام الملك (¬1). ¬

_ (¬1) هذان الخبران في المنتظم 16/ 292.

وفي شعبان حدث بالشَّام زلزلةٌ عظيمةٌ لم يُسمع بمثلها، ووافق ذلك تشرين الأول، وخرج النَّاسُ من دورهم هاربين، وانهدم معظم أنطاكية، ووقع من السور نحوٌ من تسعين برجًا، ونزل آق سنقر على فامية فأخذها وأخرج ابنَ ملاعب منها. ووردت الأخبارُ بأنه مات سلطان سمرقند المرتب فِي مملكة جدِّه. وفي رمضان خرج توقيع الخليفة بعزل الوزير أبي شجاع من الوزارة، وكان له أسباب: أحدُها أن نظام الملك كان يكرهه ويروم الوزارة لابنه. ومنها شكوى أصحاب السلطان منه وما يعاملهم به. ومنها أن الخليفة كان قد ضجر من أفعالِه وكَسْرِه لأغراض الديوان، وتبرُّمِه بالخدمة، وكان قليلَ الرغبة فيها، فصادف ذلك أن السلطان لمَّا فتح سمرقند كتب إِلَى بغداد، فخلع الخليفة على البشير، وضرب بين يديه الدبادب، فقال أبو شجاع: وأيُّ بشارة هذه؟ كأنه من بلاد الكفار، وهل هم إلَّا مسلمون استُبيح منهم ما يُستباح من الكفرة؟ وكتب إِلَى السلطان بذلك، فشقَّ عليه، وكتب إِلَى الخليفة يشكوه، ووافق ما ذكرناه من الأسباب، فعزله وهو بالديوان، فلم يتأثَّر، وقام على حالة فِي حاشيته وهو ينشد: [من الوافر] تولَّاها وليسَ لهُ عدوٌّ ... وفارقَها وليسَ له صديقُ ثم ورد كتاب نظام الملك بإبعاده عن بغداد، فاستأذن فِي الحجِّ فأُذِن له، فخرج إِلَى مشهد أمير المُؤْمنين رضوان الله عليه، فأقام به ينتظر الحاجَّ، وبلغ نظام الملك، فَرقَّ له، وكتب إليه يقول: سألتُكَ بالله أن أكون عديلَك. وكان النظام عَزَمَ على الحج، لكن لم يُقْدَرْ له، فقال أبو شجاع لرسوله: اخدمه عني، وقيل له: منذ أطبق أمير المُؤْمنين دواتي لم أفتحها، ولولا ذلك لكتبتُ الكتاب والجواب، وأنا أعادله بالدعاء. ولمَّا فارق الوزير الديوان ناب فيه ابن الموصلايا الكاتب ولُقِّب أمينَ الدولة (¬1). ¬

_ (¬1) الخبر فِي المنتظم 16/ 293.

وفي رمضان أخرج الخليفةُ أَبا محمَّد التَّمِيمِيّ إِلَى ميَّافارقين يُحضر عميدَ الدولة ابنَ جهير ليولِّيه الوزارة، وسببه ميل نظام الملك إليه، وكونه صهره على ابنته. وفي رمضان دخل السلطان بغداد ومعه نظام الملك، فخرج إِلَى لقائه ابنُ الموصلايا والموكب، ثم سار السلطان إِلَى زيارة المشهدين الحائر ومشهد الكوفة، ومعه ولده وولد ابنته من الخليفة. وفي ذي القعدة قدم عميد الدولة بغداد ومعه الأعيان؛ القاضي أبو القاسم بن نُباتة، وولده أبو الحسن، والقاضي أبو بكر بن صدقة، وغيرهم. ويقال: إن عميد الدولة والجماعة قصدوا أَصبهان وقدموا بغداد مع السلطان، واستناب عميد الدولة أخاه الكافي، وكان أصغر إخوته بميَّافارقين، وخلع الخليفةُ على عميد الدولة خِلَع الوزارة وهذه هي النوبة الثَّانية [من] (¬1) وزارته، وركب إليه نظام الملك إِلَى داره بباب العامة فهنأه. وفي ذي الحجَّة عَمِلَ السلطان السَّذَقَ (¬2) بدجلة، وهو إشعال النيران والشموع العظيمة فِي السفن والزواريق الكبار، وعلى كل زورق قبة عظيمة، وبات أهل بغداد على جانب دجلة من كل ناحية، وحملوا الملاهي فِي السفن، ولم يبقَ ببغداد من حاشية السلطان وغيرهم إلَّا من حمل الشمع والمشاعل، وكانت ليلةً عظيمة، وعلى السطوح أَيضًا، وأكثرَ الشعراءُ فِي ذلك، فقال أبو القاسم المُطرِّز: [من البسيط] وكلُّ (¬3) نارٍ على العُشَّاقِ مُضْرَمةٌ ... من نارِ قلبي أو من ليلةِ السَّذَقِ نارٌ تجلَّتْ بها الظَّلماءُ واشتبَهَتْ ... بسُدْفةِ الليلِ فيها غُرَّةً الفلَقِ وزارتِ الشمسُ فيها البدرَ واصطلحا ... على الكواكبِ بعد الغَيظِ والحَنَقِ مُدَّتْ على الأرضِ بُسْطٌ من جواهِرِها ... ما بينَ مجتمِعٍ وارٍ ومُفترِقِ مثلِ المصابيح إلَّا أنَّها نزلَتْ ... من السماءِ بلا رجْمٍ ولا حَرَقِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من المنتظم 16/ 294. (¬2) وقع فِي الأصلين (خ) و (ب): الصدق، والصواب ما أثبتُّه، والسَّذَق: كلمة فارسية معرَّبة، وقد ذكر المصنف معناها. ينظر اللسان (سذق). (¬3) فِي (خ): وكأن، والمثبت من (ب)، والمنتظم 16/ 294 - والخبر فيه-، وتاريخ الإِسلام 10/ 475 وغيرهما من المصادر.

أعْجِبْ بنارٍ ورضوانٌ يُسَعِّرُها ... ومالكٌ قائمٌ منها على فرَقِ فِي مجلسٍ ضحكَتْ روضُ الجِنان لَهُ ... لمَّا جلا ثغرُهُ عن واضحٍ يَقَقِ (¬1) وللشموعِ عيونٌ كلَّما نظرَتْ ... تظلَّمَتْ من يديها أنجمُ الغَسَقِ مِنْ كلِّ مُرهَفةِ الأعطافِ كالغصنِ الـ ... ميَّادِ لكنَّهُ عارٍ من الورقِ إنِّي لأعجَبُ منها وهي (¬2) وادعةٌ ... تبكي وعيشتُها فِي ضربة العُنُقِ قال المصنف رحمه الله: إن أَبا القاسم المطرز [مات سنة تسع وثلاثين وأربع مئة، فإما أن يكون هذا الشعر لمطرِّزٍ آخر] (¬3) أو يكون وهمًا من الكاتب، أو نسيانًا، والله أعلم. وقال أَيضًا: أنشدني علي بن الحسن الأبنوسي بالموصل سنة ثلاث وست مئة فِي نار السَّذَقِ (¬4) منها: [من المنسرح] واللهِ ما خمرةٌ مُشَعْشَعةٌ ... خمرًا تأتَّى كالشمسِ فِي الغَسَقِ مشمولةٌ تغتدي وقد سكبَتْ ... لابسةً حُلَّةً من الشَّفَقِ رَقَّتْ وطابَتْ عَرْفًا فلو سُقِيَتْ ... عُزَيرَ عامَ السُّباتِ (¬5) لم يَفِقِ ولا حيا (¬6) ديمةٍ له زَجَلٌ ... قد جعل الأرضَ منهُ فِي طبقِ أقام شهرًا ينهَلُّ هيدبُهُ (¬7) ... مُنْبَجِسًا لم يُبِنْ عن الأُفقِ تحسَبُ منه بروقَه سحرًا ... نارَ مجوسٍ فِي ليلة السَّذقِ يومًا بأيدٍ من الملوكِ ولا ... أطيبَ عَرْفًا من نشرِهِ العَبِقِ يَا ابنَ الفلانيِّ يَا أعزَّ فتًى ... له أيادٍ كالطَّوقِ فِي عُنقي أثقلْنَ ظهري بحملِهِنَّ فلو ... رُمْتُ نهوضًا بالشُّكرِ لم أُطِقِ ¬

_ (¬1) اليَقَق واليَقِق: شديدُ البياض ناصِعُه. اللسان (يقق). (¬2) فِي (خ): كل، والمثبت من (ب) والمصادر المذكورة آنفًا. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) السَّذَق: مُعرَّب "سَذَه" أي ليلة الوقود، وهي ليلة عيد عند الفرس يشعلون فيها نيرانًا عظيمة. ينظر اللسان (سذق)، ومجلة المنار لمحمد رشيد رضا العدد (56) الصفحة 4. (¬5) تصحفت فِي (خ) إِلَى: عزيز عام الشباب، والمقصود غزَيرٌ - عليه السلام - حينما أماته الله عزَّ وجل. (¬6) الحيا: المطر. اللسان (حيي). (¬7) الهيدب: السحاب المتدلِّي. اللسان (هدب).

عبد الرحمن بن أحمد بن علك

وفيها حاصر تُتُش طرابلس ومعه آق سنقر بُزان، وبها جلال الملك ابن عمار، فاحتجَّ عليه بأنَّ معه منشور السلطان بإقراره على البلد، فلم يقبل منه تُتُش، ونصب عليه المجانيق، وتوقَّف آق سنقر عن قتاله، فقال له تُتُش: أنتَ تبَعٌ لي فكيف تخالفني؟ فقال: أنا تبَعٌ لك إلَّا فِي عصيان السلطان، وهذا من أصحابه. فغضب تاج الدولة ورجع إِلَى دمشق، ومضى آق سنقر إِلَى حلب، وبُزان إِلَى الرُّها. وفيها بعث السلطان سعد الدولة الكوهراني إِلَى اليمن، فاستولى على البلاد السهلية والساحلية دون القلاع، وخطب للسلطان بها، فاستقام له معظم الدنيا إلَّا مصر والمغرب، وكان فِي عزمه أن يسير إِلَى مصر بنفسه، فجاءه ما لم يكن فِي حسبانه. وفيها ملك يوسف بن تاشفين الأندلس ونفى ابن عباد عنها، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها تُوفِّي عبد الرحمن بن أَحْمد بن علَّك (¬1) أبو طاهر، الأَصْبهانِيّ، ولد بأصبهان، وسمع الحديث، وسافر إِلَى سمرقند فتفقَّه بها. وقيل: إنه كان السبب فِي فتحها، وكان من رؤساء الشافعية، كثيرَ المال، واسع الحال، يُقرض الأمراء من خمسين أَلْف دينار فما زاد، وكان عظيمَ الجاه، قدم مع السلطان إِلَى بغداد فتوفِّي، فمشى تاج الملك وحاشية السلطان إِلَى قبره بين يدي جنازته من النظامية إِلَى باب أبْرز، وجاء السلطان عشية ذلك اليوم إِلَى قبره وصلَّى عليه، وجاء نطام الملك فجلس عند قبره وهو يُدفَن، فقال: لا إله إلَّا الله، دُفِنَ فِي هذا المكان أزهدُ النَّاس فِي الدنيا وأرغبُهم فيها، يشير إِلَى أبي إسحاق الشيرازي، فإنَّه الزَّاهد، وإلى ابن علَّك، فإنَّه الراغب. وكان قد مشى جميع الدولة فِي جنازته إلَّا نظام الملك وحده، فإنَّه ركب واعتذر بعلوِّ السن. ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 295 - 296، والكامل لابن الأثير 10/ 200، تحرف فِي الأصلين (خ) إِلَى: عليك، وفي (ب) إِلَى غلبك، والتصويب من المصدرين المذكورين، وتاريخ الإِسلام 10/ 532 وغيرها من المصادر.

عيشون بن عمران بن محمد

وكان فقيهًا فاضلًا، لم يُرَ فِي زمانه فقيهٌ أنصفُ منه ولا أعلم، وكانت له هيبةً حسنة، ومروءةٌ ظاهرة. عيشون بن عمران بن محمَّد (¬1) أبو بكر، الرَّبَعي، السَّبتي، قدم الشَّام، وحجَّ ونزل بغداد، وسمع الحديث، وأعطاه ابنُ جَهير كتبًا من المقتدي إِلَى وُلاة الغرب بإقامة الدعوة له، وكان وجيهًا، فجاء الإسكندرية وركب البحر، وبلغ بدرًا الجمالي ذلك فطلبه ففاته، فلمَّا كان بعد أيام ردَّت الريحُ المركب الذي كان فيه إِلَى الإسكندرية، فقبضوا عليه، وأخذوا الكتب، وحُمِلَ إِلَى بدر فقتله، وكان فاضلًا ثقةً. محمَّد بن أَحْمد (¬2) ابن عليّ بن حامد، أبو نصر، المروزي، كان إمامًا فِي القراءات، وصنَّف فيها التصانيف، وانتهت إليه الرياسة فيها، وغرق فِي البحر، وجاء وقت الصلاة، وزالت الشَّمس، فشرع فِي الصلاة على حسب الحال، فنُجِّي ببركات تلك النية، وعاش نيِّفًا وتسعين سنة، ومات فِي ذي القعدة أو الحجة. محمَّد بن عليّ بن محمَّد (¬3) أبو عبد الله، التنوخي، الحلبي، ويعرف بابن العُظَيمي، ومن شعره: [من البسيط] يلقى العِدا بِجَنانٍ ليس يُرعِبُهُ ... خَوْضُ الحِمامِ ومتنٍ ليس ينقصِمُ فالبِيضُ تُكسَرُ والأوداجُ داميةٌ ... والخيلُ تعرِمُ والأبطالُ تلتطِمُ والنقعُ غيمٌ ووقْعُ المرهَفاتِ بهِ ... لمعُ البوارقِ والغيثُ المُلِثُّ دَمُ ¬

_ (¬1) لم أقف على من ترجم لعيشون هذا سوى المصنف. (¬2) المنتظم 16/ 297. (¬3) تاريخ دمشق 54/ 393 - 394.

السنة الخامسة والثمانون وأربع مئة

السنة الخامسة والثمانون وأربع مئة فيها فِي المُحرَّم أمر السلطان بعمارة جامع السلطان قريبًا من دار المملكة على باب بغداد، وتولَّى السلطانُ تقديرَه وذَرْعَه بنفسه، وجمع له المنجِّمين وأرباب الرصد والهندسة، وندب للإشراف على عمارته قاضي القضاة أَبا بكر الشَّاميّ، ونقلوا أخشابه من جامع سامرَّاء، وأمر بعمارة الأسواق حول داره، فعوجل فِي هذه السنة، ومطلت عمارة الجامع حتَّى تمَّ سنة أربع وعشرين وخمس مئة. وفي النصف من ربيع الأول توجَّه السلطان من بغداد إِلَى أَصبهان، وخرج معه الأمير أبو الفضل جعفر بن الخليفة (¬1). وذُكِرَ فِي بعض التواريخ أن تُتُش قدم بغداد فِي هذه السنة شاكيًا من آق سنقر، فلم يلتفت السلطان إليه، فترك ابنَه عند السلطان وعاد إِلَى دمشق. قال المصنف رحمه الله: وهذا بعيدٌ؛ فإن السلطان وصل حلب ولم يَلْتَقِه تُتُش لأنه كان مستوحشًا منه. وفي يوم الاثنين منتصف ربيع الأول وقت الظهر وهو السادس من نيسان اقترن زُحل والمريخ فِي برج السرطان، وذكر أهل صناعة النجوم أن هذا القرآن لم يحدُثْ مثلُه فِي هذا البرج منذ بُعِثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وإلى هذه السنة، فكان من تأثير هذا القرآن هلاكُ ملك شاه سيد الملوك، ومقتل نظام الملك سيد الوزراء. وفي غُرَّة رمضان توجَّه السلطان من أَصبهان إِلَى بغداد بنيةٍ غيرِ مرضيةٍ فِي حقِّ الخليفة، وعزم على تغييره، وكان معه النظام، فقُتِلَ فِي عاشر رمضان فِي الطريق ووصل السلطان [إِلَى] (¬2) بغداد ثامن عشر رمضان، وقد حزن على نظام الملك على ما قيل، فلما قارب بغداد خلع الخليفةُ على عميد الدولة جبرًا لمصابه بنظام الملك؛ لأنه صهره على ابنته، ولما نزل السلطانُ داره ثاني عشرين رمضان يوم السبت دخل عليه عميد الدولة وهنَّأه عن الخليفة بمَقْدَمه، وبعث السلطان يقول للخليفة: لا بُدَّ أن تترك ¬

_ (¬1) الخبران فِي المنتظم 16/ 298 - 299. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، والمنتظم 16/ 299 - والخبر بنحوه فيه- والنجوم الزاهرة 5/ 134.

نظام الملك

لي بغداد وتذهب إِلَى أيِّ بلد شئت. فانزعج الخليفة، وبعث إليه يقول: أمهلني شهرًا. فقال: ولا ساعة. فأرسل الخليفةُ إِلَى تاج الملك أبي الغنائم، وكان السلطان قد استوزره، فقال: سَلْه أن يؤخِّرَنا عشرةَ أيام. فدخل تاجُ الملك على السلطان وقال له: لو أنَّ بعض العوام أراد أن ينتقل من دار إِلَى دار لم يقدر على النقلة فِي أقلَّ من عشرة أيام، فكيف بالخليفة وخدمه وأهله وأسبابه؟ فيحسن أن يؤخَّر عشرة أيام. فقال السلطان: يجوز. ومرض السلطان ومات بعد أيام، وعدَّ النَّاسُ من كرامات (¬1) الدولة العباسية موتَه. وفيها وقع (¬2) بالبصرة بَرَدٌ وزن البَرَدة خمسةُ أرطال إِلَى اثني عشر رطلًا وأكبر، فهدم الأبراج المبنيَّة بالجصِّ والآجرِّ، وقلع عامة النخيل، وأهلك خلقًا كثيرًا، وخرج النَّاس للحجِّ، فنهبهم بنو خفاجة، فعادوا. وفيها تُوفِّي نظام الملك (¬3) الحسن بن إسحاق بن العباس، أبو علي الطُّوسي، ولد بطُوس، وكان من أولاد الدَّهاقين وأرباب الضياع بناحية بَيهَق، كان عاليَ الهِمَّة، إلَّا أنَّه كان فقيرًا مشغولًا بسماع الحديث والفقه، يخدم أَبا علي بن شاذان المعتمد عليه ببَلْخ كاتبًا بين يديه، فكان فِي كلِّ وقت يصادره، فهرب منه إِلَى داود بن ميكائيل وعرَّفه خدمته، وأخذ بيده وسلَّمه إِلَى ألب أرسلان، فقال: يَا محمَّد، هذا حسن الطوسي، فتسلَّمْه واتَّخِذْه والدًا ولا تُخالِفْه. فلمَّا وصل إِلَى ألب أرسلان دبَّر دولتَه أحسن التدبير عشرَ سنين، ومات ألب أرسلان، فازدحم أولاده على الملك، فوطده لولده ملك شاه، ولمَّا دخل على المقتدي أمره بالجلوس بين يديه، وقال له: يَا حسن، رضي الله عنك لرضا أمير المُؤْمنين عنك. وكان مجلسه عامرًا بالعلماء والصُّلحاء، حتَّى كانوا يشغلونه عن كثير من مهام الدولة، فقال له بعض كتَّابه: قد بسطت هذه الطائفة فِي مجلسك حتَّى شغلوك عن مصالح الرعية، فلو حجبتَهم وأذِنْتَ لمن شئت، وأمرت بأن لا يُضيِّقوا عليكَ مجلسك، وإنما ¬

_ (¬1) فِي (خ): مكرمات، والمثبت من (ب). (¬2) فِي (خ): قطع، والمثبت من (ب) وتاريخ الإِسلام 10/ 479. والخبر بنحوه فِي المنتظم 16/ 301. (¬3) المنتظم 16/ 302 - 307، والكامل 10/ 204 - 216.

يجلسوا ناحيةً. فقال له: ويحك، هذه الطائفة أركان الإِسلام، وجمال الدنيا والآخرة، فلو أجلستُ كلَّ واحد منهم على رأسي لما استكثرتُ له ذلك ولا استقللتُه. وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي بن الجويني قام لهما وأجلسهما إِلَى جانبه، وإذا دخل عليه أبو علي الفارْمَذي قام له وأجلسه فِي طراحته وجلس بين يديه، فامتعض من ذلك القشيري وابن الجويني، وقالا للحاجب: نحن أولى بالإكرام من الفارمَذي. فأبلغَ الحاجبُ النظامَ ما قالا، فقال: القشيريُّ وابنُ الجويني وأمثالُهما إذا دخلوا عليَّ أضرُّوني، وقالوا: أنتَ وأنتَ، ووصفوني بما ليس فيَّ، فيزيدُني كلامُهُم تِيهًا، والفارْمَذي إذا دخل عليَّ وعظني وزجَرَني ويذكر لي عيوبي وظلمي فأنكسر وأنتفع به، وأرجع عن كثيرٍ ممَّا أنا فيه، وكان يُعظِّم الصوفية ويُحبُّهم، حتَّى إنه أعطى بعضَ متمنِّيهم فِي أوقاتٍ ثمانينَ أَلْف دينار. وسأله التَّمِيمِيّ عن سبب تعظيمه إيَّاهم، فقال: كنتُ فِي خدمة بعض الأمراء، فأتاني صوفيٌّ فقال: اخدُمْ من تنفعُكَ خدمتُه، ولا تخدُمْ من تمزِّقُه الكلاب غدًا. فلم أفهم معنى قوله، وكان الأمير يشرب الخمر، فشرب فِي تلك الليلة، وكانت له كلابٌ كالسباع الضارية تدور حول خيمته وتفترس الغرباء، فغلبه السُّكْرُ، فخرج آخرَ الليل وحدَه، فلم تعرِفْه الكلاب فمزَّقَتْه، فعلمتُ أن الرَّجل كُوشِفَ بذاك، فأنا أطلب أمثاله. وكان النظام إذا سمع الأذان أمسك عما كان فيه، ويراعي أوقات الصلوات، ويصوم الاثنين والخميس، ويكثر الصدقة، وكان حليمًا وقورًا، وبنى المدارس والرباطات فِي كلِّ بلد، ووقف عليها الأوقاف الكثيرة، وله بأصبهان نظاميةٌ وبغيرها، وصرف العناية إِلَى نظامية بغداد، وأوقف عليها أوقافًا كثيرة، منها سوق المدرسة وغيره، ونقل إليها الكتب الفائقة، وشرط أن يكون بها القُرَّاءُ والنُّحاةُ، وكان يُطلِقُ ببغداد فِي كلِّ سنة برسم الصِّلاتِ (¬1) عشرين أَلْف دينار وخمس مئة كُرٍّ غلَّةً. ولمَّا بنى المدارس والرباطات فِي المفاوز والقناطر والجسور ونحوها سعى به أعداؤه إِلَى ملك شاه، وقالوا: قد ضيَّع عليكَ أموالًا عظيمةً فِي هذه الوجوه، وكان قد ¬

_ (¬1) فِي (خ): الصلوات، والمثبت من المنتظم.

كتب على أبوابها اسم ملك شاه، فعاتبه [عليه] (¬1) وقال: ضيَّعتَ الأموال في هذه الأشياء (¬2)؟ فقال له: يَا ملك، لمَّا أقمتُ لكَ [العساكر تقاتل بين يديك، والأعداء بالنهار، أقمتُ لك] جندًا فِي الليل يصفُّون أقدامهم ويدعون لك وأنت نائم، وبعد هذا فانظُرْ فِي المال الذي غرمته فِي هذه الوجوه فأنا أحمله لك، وأمحو اسمك من أبوابها، وأكتب اسمي، ليبقى لي ذِكْرُها وأجرُها. فقال ملك شاه: لا واللهِ ما أريد أن أمحو اسمي من أماكن البر والصلة، وجزاك اللهُ خيرًا فيما فعلتَ. وعبر جَيحون، فأطلق للملَّاحين عشرة آلاف دينار على عامل (¬3) أنطاكية، وشكى إليه الفرَّاشون وهو بما وراء النهر تأخيرَ جامكياتهم (¬4)، فوقَّع لهم على مال الهدنة إِلَى القسطنطينية، فقيل له: بالأمس تُطلِقُ على أنطاكية واليوم على القسطنطينية؟ فقال: قصدتُ إظهار هيبة الملك الذي أنا فِي خدمته فِي الدنيا وأنَّ أحدًا من الملوك ما وصل إِلَى هذا، وملَكَ من الغلمان ألوفًا، ومن المال ما لا يُحصى، ومع هذا فكان يتمنى الانقطاع إِلَى الله تعالى، ويقول: أتمنَّى أن تكون لي قريةٌ ومسجدٌ أتخلَّى فيه بطاعة ربي. ثم قال بعد ذلك: تمنَّيتُ قطعةً من الأرض أتقوَّتُ بها [وأتخلَّى فِي مسجد. ثم قال بعد ذلك: أتمنَّى أن يكون لي رغيفٌ كلَّ يوم وأتعبَّد فِي مسجد]. وقال: رأيتُ إبليس فِي المنام، فقلتُ له: ويلَكَ، خلقك الله ثم أمركَ بسجدةٍ فلم تفعل، وأنا حسنٌ أمرني اللهُ بالسجود، فأنا أسجد له كلَّ يوم سجدات. فقال: [من مخلع البسيط] مَنْ لم يكُن للوصال أهلًا ... فكلُّ إحسانِهِ ذنوبُ وقال التَّمِيمِيّ: كان قد وظف على الهند والروم والترك وظائف فِي كل سنة، فكان يطلق فِي بلاد ساقون والصين وما وراء القسطنطينية جامكيات الفراشين والغلمان، وهذا شيء ما جرى لغيره. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين وفي الموضع الآتي من (ب). (¬2) فِي (ب): الوجوه. (¬3) فِي (ب): عمل. (¬4) فِي (ب): جوامكهم. والجامكيات: الأُعطيات والمرتبات الشهرية أو السنوية.

ذكر مقتله: واختلفوا فِي السبب على أقوال: أحدها: أنَّه طال عمره فخدم ألب أرسلان وملك شاه تسعًا وعشرين سنة، أخرج أموالًا عظيمة، وكثر عليه أعداؤه عند ملك شاه. فوضع عليه من قتله. والثاني: أنَّ ملك شاه بعث بعض مماليكه إِلَى مرو واليًا، وكان بها ابنُ نظام الملك مقيمًا، فعسف المملوك النَّاسَ وظلم، فقبض عليه ابنُ نظام الملك، فسُئِلَ فيه فأطلقه، فجاء إِلَى ملك شاه واستغاث بين يديه وبكى، وقال: ما فعلَ هذا إلَّا بك. فغضب ملك شاه، واستدعى أرباب دولته وقال لهم: امضوا إِلَى خواجة حسن وقولوا له: إن كنتَ شريكي فِي ملكي فلذلك حُكم، وإن كنتَ تابعي (¬1) فيجب أن تلزم حدَّك، وهؤلاء أولادُك قد استولَوا على الدنيا، ولا يُقنعهم ذلك حتَّى يخرقوا الحرمة (¬2). فجاؤوا إليه وأبلغوه كلامه، فقال: قولوا له: ما علِمَ أنني شريكُه فِي الملك إِلَى اليوم؟ ! وهل بلغ ما بلغ إلَّا بتدبيري؟ أو ما يذكر لمَّا قُتِلَ أبوه كيف جمعتُ النَّاس عليه وكان قد تطاول إِلَى هذا الأمر إخوتُه وعمُّه فأبعدتهم وقرَّرتُ الملك فيه، وعبرتُ النهر، وفتحتُ البلاد، وحكمتُ على الدنيا، وجعلتُ ملوكها طوعًا له؟ وبعد هذا فقولوا له: إن ثبات قَلنسوةٍ على رأسه معذوق (¬3) بفتح هذه الدَّواة، ومتى أُطبقَتْ هذه زالتْ تلك. فعادوا إليه وأخبروه بما قال، فخاف، واتَّفق مع تاج الملك على التدبير عليه، وأن يُفوِّض الأمر إِلَى تاج الملك أبي الغنائم. والثالث: أن ملك شاه [كان] (¬4) قد عزم على تشعيث الأمر على الخليفة، وأن يقيم خليفةً على حكم إرادته، وأطلع النظام على ذلك، فسفَّه رأيَه وقال: الله الله، لا يجوز ذلك شرعًا ولا عقلًا. فاطَّلع تاج الملك رأيَه (¬5)، فصوَّب رأيه وقال: اقتل النظام لتستريح منه. ¬

_ (¬1) فِي (خ) و (ب): متعالي، وفي الكامل 10/ 205: نائبي، والمثبت من المنتظم 16/ 305، وبغية الطلب 5/ 2495. (¬2) فِي المنتظم: حتَّى يخرجوا من الحرمة. (¬3) معذوق: مُعلَّق. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) العبارة فِي (خ): فاطَّلع ملك شاه تاج الدولة، والمثبت من (ب).

والرابع: أن خاتون طلبت من ملك شاه أن يعهد إِلَى (¬1) ابنها محمود، فشاور النظام فقال له: بأيِّ وجهٍ تلقى الله غدًا وقد وَلَّيتَ على المسلمين امرأةً وصبيًّا ولك أولاد كبار؟ فاتفقت خاتون وملك شاه وتاج الملك على قتله. ذكر كيفية قتله: كان ملك شاه قد خرج من أَصبهان غُرَّة رمضان يقصد بغداد، وسار نظام الملك بعده، فنزل بقرية من قرى نهاوند مكان الوقعة التي كانت فِي زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: هذا موضعٌ مباركٌ قُتِلَ فيه جماعة من الصحابة، وطوبى لمن كان منهم. وكان جالسًا والملوك والأمراء بين يديه، وكان صائمًا يوم الخميس، فتقدم إليه رجل من الأجناد فقال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أتاك وأنت فِي مِحفَّةٍ فأخذك منها. فاستبشر النظام وقال: الحمد لله بشارةُ خير، وهل أريد وأبغي إلَّا هذا؟ فلما فرغ النَّاسُ من الأكل حُمِلَ النظام فِي مِحفَّةٍ إِلَى خيمة النساء، وكان به نقرس، فاعترضه صبيٌّ ديلميٌّ فِي زيِّ الصوفية وبيده قصبة، فدعا له، وسأله أن يناوله إيَّاها من يده إِلَى يده، فقال: هاتِ. فمدَّ يدَه، فضربه بسكين فِي فؤاده، فحُمِلَ إِلَى مضربه فمات، وهرب الديلميُّ، فتعثَّر بطُنْب خيمة فقُطِّع قِطَعًا. وقال أبو يعلى بن القلانسي: وثب عليه رجل ديلميٌّ من الباطنية، فقتله وهرب من ساعته، فطُلِبَ فلم يوجد، ولا ظهر له خبر، ولا بان له أثر، فأسف النَّاس [وتألَّموا] (¬2) لِما أصاب نظام الملك، وتضاعف حزنُهم لفقد مثله؛ لما كان عليه من حسن الطريقة، وإيثار العدل فِي النصفة، والإحسان فِي أهل الدين والفقه والقرآن والعلم، وحبِّ الخير، وحميد السياسة، وما كان قد أثر من الآثار الحسنة فِي البلاد، بحيث كان رزقُه على اثني عشر أَلْف إنسان من فقيه وغيره، وحزن السلطان ملك شاه عليه، وتأسَّف لفقده، وذلك ليلة الجمعة عاشر رمضان، ونظام الملك أولُ من قتَلَتْه الباطنية، وكان عمره ستًّا وسبعين سنة وعشرة أشهر وأيامًا. ووَزَر لألب أرسلان وملك شاه على نسق واحد تسعًا وعشرين سنة. ¬

_ (¬1) العبارة فِي (خ): أن يقبض على، والمثبت من (ب). (¬2) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (ب).

وقال محمَّد بن الصابئ: وقيل: محمَّد بن عبد الملك الهَمَذاني [وَزَر لهما أربعًا وثلاثين سنة. وقال العماد الأصفهاني]: وزَرَ لهما حدود أربعين سنة. ومن شعره: [من مخلع البسيط] بعد الثمانينَ ليس لي قوةٌ ... لهفي على قوةِ الصُّبوَّة كأنَّنِي والعصا بكفِّي ... موسى ولكِنْ بلا نُبُوَّة ووصل نعيُ نظام الملك إِلَى بغداد يوم الأحد ثامن عشر رمضان، فجلس عميد الدولة للعزاء ثلاثة أيام فِي الديوان، وحضر النَّاس على طبقاتهم وحزنوا عليه، ولم يتخلَّف عن العزاء سوى الخليفة، وتأسَّف عليه؛ لأنه كان يعظِّمه عند السلطان، ويزيِّنه فِي عينيه، ويمنعه من الإقدام عليه، ويقضي حوائجه، ويوصل إليه أشياءَ كانت خارجةً عن إقطاعه. أسند نظامُ الملك الحديثَ، وحدَّث بمرو ونيسابور والري وأصفهان وبغداد وفي مدرسته وبجامع المهدي، وكان يقول: إنِّي لأعلمُ أني لستُ من أهل الرواية للحديث النبوي، لكن أريد أن أربط نفسي على قطار النَّقَلةِ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحدَّث عنه جماعة، منهم: أبو الفضل الأرموي، وأبو القاسم بن العُكْبَري. قال مقاتل بن عطية يرثيه: [من البسيط] كانَ الوزيرُ نظامُ الملك لؤلؤةً ... يتيمةً صاغَها الرحمنُ من شَرَفِ عَزَّتْ فلم تعرفِ الأيامُ قيمتَها ... فردَّها غَيرةً منهُ إِلَى الصَّدَفِ وقال: [من الكامل] قد قلتُ للرجل المُولَّى غسْلَهُ ... لو قد أطاعَ وكنتُ من نُصحائِهِ جنِّبهُ ماءَكَ ثمَّ غَسِّلهُ بما ... أبكَتْ عيونُ المجدِ من آلائِهِ وأزِلْ أفاوية (¬1) الحَنوطِ وطِيبَهُ ... عنهُ وطيِّبْهُ بطيبِ ثنائِهِ لا تُوهِ أعناقَ الرجالِ بحَمْلهِ ... يكفيه ما فيهنَّ مِنْ نَعْمائِهِ ومُرِ الكرامَ الكاتبينَ بحَمْلِهِ ... شَرَفًا ألستَ تراهُمُ بإزائِهِ ¬

_ (¬1) الأفاويه؛ جمع أفواه، وأفواه جمع فُوه: وهو ما يعالج به الطيب. الصحاح (فوه).

وقال التَّمِيمِيّ: كان نظامُ الملك مُمدَّحًا، يقال: إنَّ مُدَّاحه كانوا خمسة آلاف وزيادة، والقصائد التي مُدِح بها ثلاث مئة أَلْف قصيدة. وقال علي بن عقيل: رأينا فِي زماننا فِي أوائل أعمارنا أُناسًا طاب العيش معهم من العلماء والزَّهاد وأعيان النَّاس، وأما نظام الملك فإنَّ سيرته بهرت العقول جودًا وكرمًا وحشمةً وإحياءً لمعالم الدين، فبنى المدارس، ووقف عليها الوقوف، وأنعش العلم وأهله وعمَّ الحرمين، وأكثر الصدقات، وفتح أبواب البر والصِّلات، وكانت أسواق العلم فِي أيامه قائمة، وما ظنُّكَ برجل كان الدهر فِي خفارته؛ لأنه قد أفاض من الإنعام ما أرضى به النَّاس، وإنما كانوا يذمُّون الدهر لضيق الأرزاق واختلال الأحوال، فلمَّا عمَّهم إحسانُه سكتوا عن ذمِّ الدهر، وتُرِكَ النَّاسُ بعده موتى، أمَّا أهل العلم والفقر ففقدوا العيش بعده بانقطاع الأرزاق، فمات العلم، وأمَّا الصدور والأغنياء (¬1) فكانوا مستورين بالغَناء عنهم، فلمَّا عرضت الحاجات إليهم عجزوا عن تحمُّلِ بعض ما عوَّدَ نظام الملك من الإحسان، فانكشفَتْ أحوالُهم، وبانت معايبُهم، وضيقُ أخلاقِهم، فهؤلاء موتى بالذمِّ، والآخرون موتى بالحاجة، وأما هو فحيٌّ بعد موته بمدح النَّاس لأيامه، ثم خُتِمَ له بما خُتِمَ من الشهادة، فكفاه أمرَ أخراه كما كفى أهلَ العلم أمرَ دنياهم، ولقد كان نعمةً من الله على أهل الإِسلام فما شكروها، فسُلِبوها. ذكر أعيان شعرائه وأصحابه: منهم أبو طالب علي بن الحسن العلوي، مدحه بأبيات (¬2) فقال: [من الوافر] نظامُ المُلكِ عِشْتَ مع السرورِ ... مُوفَّى الدَّستِ محفوظَ السَّريرِ ودُمْتَ مُخلَّدًا ملِكًا عزيزًا ... دوامَ الطينِ فينا والسَّريرِ ومَنْ والاكَ مرفوعُ السَّواري ... ومَنْ عاداكَ مقطوعُ السَّريرِ عليُّ القَدْرِ منصورُ السرايا ... إِلَى أن ينمحي أثرُ السَّريرِ ولا زالتْ أياديك اللَّواتي ... إذا عُدَّتْ تزيدُ على السَّريرِ لتحيا فِي ذُراكَ الخلقُ طُرًّا ... حياةً فِي النعيمِ وفي السَّريرِ ¬

_ (¬1) العبارة فِي (خ): وأنا الصدور ففقدوا العيش بعده! والمثبت من (ب). (¬2) بعدها فِي (خ) كلمتان غير واضحتين.

فغوثًا يَا قوامَ الدين غوثًا ... فحالي فِي الوَضاعةِ كالسَّريرِ وذلك إنما لو وَدَّ ظلمًا ... تعرَّقَ مأبضي وأخاسَ ريري قد استولى على حالي وأقعى ... كما يُقعي الهديرُ على السَّريرِ لحاهُ اللهُ ثمَّ أراحَ منهُ ... وأركَبَه مربَّعةَ السَّريرِ (¬1) ومن شعره أَيضًا: [من الوافر] سلَوْتُ عن الصِّبا ولهَيتُ عنهُ ... وقلتُ أجوبُ ميَّا فارِقينا لِما مارَسْتُ من سُعدى وسلمى ... وزينبَ قلتُ ميَّافارقينا ومن خواصِّ نظام الملك وأصحابه الكامل أبو الفضل المظفر بن أَحْمد عارض الحماسة، فنظم بإزائها، وهو القائل: [من الطَّويل] إذا لم يكُنْ لي منكَ جاهٌ ولا غنى ... ولا عِنْدَما يغتالُني الدهرُ مُوئلُ فكلُّ سلامٍ لي عليكَ تكرُّمٌ ... وكلُّ التفاتٍ لي إليك تفضُّلُ وقال: [من الوافر] شقينا بالنَّوى زمنًا فلمَّا ... تلاقينا كأنَّا ما شَقِينا سخِطْنا عندما جنتِ الليالي ... فما زالتْ بنا حتى رضينا سَعِدْنا بالوصالِ وكَمْ شَقِينا ... بكاساتِ الصُّدودِ وكَمْ بُلِينا فمَنْ لم يحيَ بعدَ الموتِ يومًا ... فإنَّا بعدما مِتْنا حَيينا ومن أصحاب نظام الملك أبو عبد الله الكناء، كان صاحبَ سرِّه وخازن كتبه، وله ولد اسمه شاه مَرْزُبان، ومن شعره: [من الوافر] أميرُ الحُسْنِ رِفقًا بالرعايا ... فإنَّ العنفَ من شرِّ السَّجايا ولا تسبِ القلوبَ وأنتَ فيها ... فأنتَ إذًا تكون من السَّبايا ¬

_ (¬1) جاء على هامش (ب) معنى السرير فِي هذه الأبيات، ففي البيت الأول: التخت، وفي الثاني: الماء، وفي الثالث: العنق، وفي الرابع: خطوط الكف، وفي الخامس: الرمل، وفي السادس: خفض العيش، والسابع: التراب، والتاسع: الأكمه، والعاشر: النعش. وقد ذكر عند البيت الثامن شارحًا قوله: "تعرَّق مأبضي" هو المأبض العَرِق، ثم قال: والرِّير: المخ.

عبد الباقي بن محمد

وصِلْني واشْفِ نفسي من جَواها ... فقد عذَّبْتَني هجرًا ونايا وكان هواكَ أبقى بعضَ صَبْري ... فقد ضربَ الفراقُ على البقايا ومن أصحاب نظام الملك أبو نصر الزَّوزني، وهو القائل: [من الطَّويل] ولا أقبَلُ الدنيا جميعًا ببذلِهِ ... ولا أشتري عِزَّ المراتبِ بالذُّلِّ وأعشَقُ كحلاءَ النَّواظرِ خِلْقةً ... لئلا تُرى فِي عينها مِنَّةُ الكُحْلِ ومن أصحابه أسعد بن عليّ الزَّوزني البارع. قال المصنف رحمة الله عليه: ويعرف بالبارع أَيضًا، أبو منصور بن حيدر الخُرَاسَانِيّ، هجى الأبيوردي فقال: [من السريع] وليلةٍ بِتُّ بها نافضًا ... أضالعي من شدة البردِ كأنَّما تنفضُ آفاقُها ... على الرُّبا شعرَ الأبيوردي فقال الأبيوردي: [من الكامل] هاتيكَ نيسابورُ أشرفُ خُطَّة ... بُنِيَتْ بمُعتَلجِ الفضاءِ الواسعِ لكِنْ بها بَرْدانِ بردُ شتائها ... إمَّا شتوتَ وبَرْدُ شعْرِ البارعِ ذكر أولاده: وزَرَ منهم جماعةٌ للخليفة والملوك، فأحدهم: أَحْمد وزَر لمحمد بن ملك شاه والمسترشد. والثاني: علي، وزَرَ لتاج الدولة تُتُش، ولقبه فخر الملك، والثالث: مؤيد الملك عبيد الله، وزَرَ لبركياروق، ثم استوزر بركياروق فخر الملك، وعزل مؤيد الملك، وكان له الحسين عز الملك وعبد الرَّحِيم وغيرهم. عبد الباقي بن محمَّد (¬1) ابن الحسين بن داود بن ناقيا، أبو القاسم، البغدادي، ولد سنة عشر وأربع مئة، وتُوفِّي فِي المُحرَّم. قال أبو الحسين علي بن محمَّد الدهان: دخلتُ عليه لأُغسِّله بعد موته، فإذا يده مضمومة، فاجتهدت فِي فتحها، وإذا فيها مكتوب: [من الطَّويل] ¬

_ (¬1) تنظر الترجمة فِي المنتظم 16/ 308 - 313.

ملك شاه بن ألب أرسلان

نزلتُ بجارٍ لا يُخَيَّبُ ضيفُهُ ... أُرَجِّي نجاتي من عذابِ جهنَّمِ وإنِّي على خوفٍ من اللهِ واثقٌ ... بإنعامهِ واللهُ أكرَمُ مُنعِمِ ملك شاه بن ألب أرسلان (¬1) ابن داود بن ميكائيل بن سلجوق، أبو الفتح، جلال الدولة، كانت له أفعال في الخيرات كثيرة، وفي العزل غريبة عجيبة، يُنصف المظلوم من الظالم، ويردع العساكر عن العظائم والمآثم، وأسقط الضرائب والمكوس من بلاده، وكان مبلغها ألفي أَلْف دينار، وكان حسنَ الوجه، كريمَ الأخلاق، عظيمَ الخِلْقة، كثيرَ الركوب، لا يستقرُّ فِي مكان، وكان حسنَ السيرة، عمر القناطر والجسور، وأسقط الضرائب والمكوس، وحفر الأنهار، وبنى الجامع على باب بغداد والمدرسة التي تقابل مشهد أبي حنيفة - رضي الله عنه -، وكان حنفيًّا، وبنى وراء النهر منارةً من قرون الغزلان، وبنى أخرى مثلها ظاهر الكوفة، وقالوا: قال: أحصوا ما صِدْتُ بنفسي من الصيود، فأُحصي، فكان عشرة آلاف صيد، فتصدَّق بعشرة آلاف دينار، وقال: إنِّي خائف من الله تعالى من إزهاق روحٍ لغير مأكلة. وخُطِبَ له من أقصى بلاد الترك والصين إِلَى أقصى اليمن، وراسله الملوك، حتَّى قال نظام الملك: كم من يومٍ قد وقَّعتُ بإطلاق إقاماتٍ لرسل ملك الروم، ورُسلِ ملك اللَّان والخزر والزنج والسند والهند والصين والشَّام واليمن وفارس والأهواز وغير ذلك. وكان خَراجُ هذا السلطان فِي السنة عشرين أَلْف أَلْف دينار، وكانت السُّبُلُ فِي أيامه آمنةً، ونيَّتُه فِي الخير جميلةً، تقف له المرأة والضعيف، فيقف لهم، ولا يبرح من مكانه حتَّى ينصفهم، وصان دُورَ البلاد عن ترك العساكر، وصان حريمَهم، وكانت له هيبةٌ لم تكن لغيره، ولمَّا توجَّه إِلَى قتال أخيه تُتُش اجتاز بطوس، فنزل عند تربة علي بن موسى الرضا رحمة الله عليهما ومعه النظام، فترجَّل وصلَّى ودعا وتصدَّق بمال على العلويين، فلمَّا خرج قال: يَا حسن، ثم دعوتُ فقال: بأن يظفرك الله بأخيك. فقال: ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 307 - 308، والكامل 10/ 218.

لكني قلت: يَا إلهي، إن كان أخي أصلحَ للمسلمين مني فظفِّرْه بي، وإن كنتُ أصلحَ منه فظفِّرْني به. وركب يومًا للصيد، فلقيه سواديٌّ يبكي، فوقف وقال: ما لك؟ فظنَّه بعضَ الأمراء، فقال: كان معي حمل بطيخ هو بضاعتي، فدخلتُ إِلَى هذا العسكر لأبيعه، فالتقاني ثلاثةٌ من الغلمان، فأخذوه. فقال له: امضِ إِلَى العسكر، فهناك خيمةٌ حمراءُ فاقعُدْ عندها حتَّى أرجع وأُعطيك ما يغنيك. فمضى الرَّجل، وقعد عند الخيمة، وعاد السلطان، فقال للشرابي: قد اشتهيتُ بطيخًا. ففتَّش خِيَمَ العسكر، فمضى وعاد وأحضر البطيخ فقال: وأين كان هذا؟ قال: فِي خيمة فلان الحاجب. فقال: أحضِرْه. فحضر فقال: من أين لك هذا البطيخ؟ قال: جابه الغلمان. قال: أريدهم الساعة. فمضى وقد أحسَّ الغلمان بالشر، فهربوا، فعاد الحاجب وقال: هربوا لمَّا علموا أن السلطان يطلبهم، فقال: أحضروا السواديَّ. فحضر فقال: هذا بطيخك؟ قال: نعم. قال: خذه، وهذا الحاجب مملوك أبي ومملوكي، وقد سلَّمتُه إليك، ووهبتُه لك، وواللهِ لئِنْ تركتَه لأضربنَّ عنُقَك، وقد هرب الغلمان وتعيَّنَ هو. فأخذ السواديُّ بيده وأخرجه، فاشترى نفسه منه بثلاث مئة دينار، وعاد السواديُّ إِلَى السلطان، فقال: قد بعتُ المملوكَ الذي وهبتَه لي بثلاث مئة دينار. فقال: ورضيت؟ قال: نعم. قال: اقبِضْها وامْضِ مُصاحَبًا. ولقي مرةً تُجَّارًا على عقبة ضيقة، ومعهم بغال عليها أثقال وأحمال (¬1)، فأراد أصحابُه يُنحُّون البغال إِلَى جانب الجَبَل، فنهاهم وقال: نحن يمكننا أن نصعد إِلَى الجبل، وهذه بغال مُحَمَّلة وعليها أثقال، وفي ترقيتها إِلَى الجبل خطر. فتنحَّى إِلَى الجبل ووقف حتَّى مضت البغال وساق. ولقي امرأةً تمشي فقال لها: إِلَى أين؟ فقالت: إِلَى الحج. فأخرج ما كان فِي خريطته من الدنانير، فطرحه إليها فِي إزارها وقال: اكتري بهذه، وأنفقيها عليكِ. ¬

_ (¬1) فِي (خ): عليها أحمال ثقال، والمثبت من (ب).

وجاء إليه تركمانيٌّ قد لزم تركمانيًّا آخر وقال: هذا وجدتُه مع ابنتي قد انثنى بها، وأريد أن تأذن لي فِي قتله. فقال: لا، ولكن تُزوِّجها به، ونُعطي المهر من خزانتنا عنه. فقال: لا أقنع إلَّا بقتله. فسَلَّ السلطانُ السيفَ وأعطاه إيَّاه، وأمسك بيده الجفن، وأمره أن يعيد السيف إِلَى الجفن، فكلَّما رام الرجلُ ذلك لم يُمكِّنه السلطان، وقال: مالكَ لا تُدخل السيفَ فيه؟ فقال: ما تدَعُني. فقال: كذلك ابنتُكَ. فبقي الرجلُ متحيِّرًا وقال: الأمر إِلَى السلطان يفعل ما يشاء. فزوَّجه بها، وحمل المهر من الخزانة. ودخل عليه بعض الوُعَّاظ فحكى له أنَّ بعضَ الأكاسرة انفرد عن عسكره، فجاز على باب بستان، فاستسقى ماءً ليشرب، فأخرجَتْ له صبيةٌ إناءً فيه ماء قصب السكر والثلج، فشربه واستطابه، وقال: هذا كيف يُعمل؟ فقالت: إن قصب السكر يزكو عندنا حتَّى يُعصر بأيدينا فنُخرج منه هذا الماء. فقال: أحضريني منه شيئًا آخر. فمضت وهي لا تعرفه، فنوى فِي نفسه اصطفاء المكان لنفسه وتعويضهم عنه، فما كان بأسرع من أن خرجت وهي باكية، فقال لها: ما لكِ؟ فقالت: نيَّةُ سلطاننا قد تغيَّرتْ. علينا. فقال لها: من أين علمتِ؟ فقالت: كنتُ آخذُ من هذا الماء ما أريدُ من غير تعسُّف، والآن فقد اجتهدتُ فِي العصر فلم يسمح بشيء مما كان يخرج عفوًا. فعلم صدقها وقال: ارجعي الآن فإنك تبلغين الغرض. ونوى أن لا يفعل ما عزم عليه، فعادت وخرجت ومعها مثل الأول، فقال له ملك شاه: أَنْتَ تَحكي لي مثل هذا فلِمَ لا تحكي للرعية أنَّ كسرى اجتاز وحدَه على بستان، فقال للناطور: ناولني عنقودًا من الحصرم، فقد كظَّني العطش، واستولَتْ عليَّ الصفراء. فقال: لا أفعل؛ لأن السلطان لم يأخذ حقَّه منه، وما يُمكنني خيانتُه. وسار من جَيحون إِلَى أنطاكية فِي مئة أَلْف، فما قدر أحدٌ يقول: إنَّ أحدًا أخذ علاقة تبن بغير ثمنها. ودخل بغداد ثلاث مرات فما نزل أحدٌ دارَ أحد، وكانت السُّوقةُ تمشي ليلًا ونهارًا تخترق عسكره، والسَّوادية يطوفون بالدجاج والتبن والبيض والخبر، والنساء يمشين بين الخيام، ولا يتعرَّض أحدٌ لأحد.

وأسقط من المكوس والضيافات ما قيمتُه ألفي أَلْف دينار، فكتب إليه النوَّاب: قد ضاقَتْ علينا الأمور، وتعطَّلت المصالح برفع هذه الضرائب، فكتب على رأس الرقعة: المالُ مالُ الله، والعبيدُ عبيدُ الله، والبلادُ بلاد الله، وإنَّما أنا واسطة، وما يبقى لي غير هذا، فمن راجعني فيه ضربتُ عنقه. وقصده رجلان يُعرفان بابني غزال من قرية تُعرف بالحدادية فتعلَّقا بركابه وقالا: نحن من أسفل واسط من قرية مقطعة لخُمارتكين الحلبي صادَرنا على أَلْف وست مئة دينار، وكسر ثنيتي [أحدنا بيده] (¬1) وقد قصدناك أيها الملك لتقتصَّ لنا منه، فقد شاع من عدلك ما حَمَلَنا على قصدك، فإن أخذتَ بحقِّنا كما أوجب الله عليك وإلَّا فاللهُ الحاكمُ بيننا وبينك. ونزل عن فرسه وقال: ليُمسِكْ كلُّ واحد منكما بطرف كُمِّي، واسحباني إِلَى دار حسن -يعني نظام الملك- فأفزعهما ذلك، ولم يُقدِما عليه، فأقسم عليهما إلَّا فعلَا ذلك، فأخذ كلُّ واحد منهما بطرف كمِّه وسارا به إِلَى باب النظام، وبلغه الخبر، فخرج مسرعًا، وقبَّل الأرضَ بين يديه، وقال: أيها الملك (¬2) المُعظَّم ما حملَكَ على هذا؟ فقال: كيف يكون حالي غدًا عند الله تعالى إذا طولبتُ بحقوق المسلمين وقد قلَّدتُك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف؟ فإن تَطرَّقَ على الرعية ثَلْمٌ لم يتطرَّقْ إلَّا بك، وأنت الطالب فانظُرْ بين يديك. فقبَّل الأرض وسار فِي خدمته، ثم عاد فكتب بعزل خُمارتِكين وحلِّ إقطاعه، وردِّ المالِ عليهما، وقلع (¬3) ثنيَّتيه إن ثبت ذلك عليه بالبينة، ووصلهما نظام الملك بمئة دينار وأعادهما من وقتهما. واستحضر ملك شاه مغنيةً مستحسنةً بالري فأعجبَتْه، فتاقَتْ نفسُه إليها وأرادها، فقالت له المغنية: إنِّي أغار على هذا الوجه الجميل أن يُعذَّب بالنار، إن بين الحلال والحرام كلمة. فقال: صدقتِ، وتزوَّجها. وقال الجرجاني الواعظ وكان خِصِّيصًا بملك شاه: كانت الباطنية قد أفسدَتْ عقيدته، فكان يقول لي: أيش هو الله؟ وإلامَ تشيرون بقولكم: الله؟ فذكرتُ له أدلة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، والعبارة فِي المنتظم: فكسر ثنيتي أحدنا والثنيتان بيده. (¬2) فِي (ب): أيها السلطان. (¬3) تحرفت فِي (خ) إِلَى: وقطع، والتصويب من (ب) والمنتظم.

النقل، فقال: أريد جوابًا حسنًا. فكتبتُ إليه: أيها السلطان، إنَّ هؤلاء الجُهَّال يطلبون الله من طريق الحواس والمشاهدة، والله تعالى لا يُعلَم من حيث الحسن؛ لأنه مُبايِنٌ له فجحدوه، وإنما يُعلَم من حيث النقل والعقل، ولابدَّ لهذه الموجودات من صانعٍ صنعها، وخالقٍ ابتدعها، وإلا فذهبت فائدةُ الوجود، وذكرتُ كلامًا فِي هذا المعنى، فقال لي: صدقتَ، ولعنَ اللهُ أولئك القائلين ماقالوا. ذكر وفاته: وسببها أنَّه خرج إِلَى الصيد بعد صلاة عيد الفطر، فأكل من لحم الصيد فأُتْخِم، فافتصد وحُمَّ. وقيل: إنه طرقَتْه حُمَّى حادَّة فجأةً. وقيل: إن خردك سمَّه (¬1) فِي خلال تخلَّل به، فأقام مريضًا مشغولًا بنفسه، مات ليلة الجمعة منتصف شوال، فكان بينه وبين نظام الملك ثلاثةٌ وثلاثون يومًا، وكان عمره سبعًا وثلاثين سنة وخمسة أشهر، ومدة ملكه تسع عشرة سنة وستة أشهر. وأُخرج ليلًا من دار المملكة إِلَى الشونيزية يحمله رجلان، ولم يُصَلِّ أحدٌ عليه؛ لأنهم كتموا موته (¬2). قال السِّمناني: خرج السلطان يوم العيد بعد وصوله إِلَى العراق فِي المرة الثالثة، وذلك يوم السبت، فرجع إِلَى داره يوم الخميس، ولم يَصِلْ إليه أحدٌ من خواصِّه، فكأنه اختُلِسَ من بين العالم، فلم يُصَلِّ عليه، ولا ظهرت له جنازة، ولا حُذِفَ عليه ذنَبُ فرس، ولا بكى عليه باكٍ، ولم يُسمع بملك فِي الإِسلام ملك من كاشغر إِلَى القدس طولًا ومن القسطنطينية إِلَى بحر الهند عرضًا سواه، وكان فِي مملكته جميعُ ما وراء النهر وبلاد الهياطلة وباب الأبواب والروم وديار بكر والجزيرة وحلب والشَّام، وخُطِبَ له على جميع منابر الإِسلام إلَّا (¬3) المغرب، وأسقط المكوس من تركستان إِلَى الشَّام، وحفر المصانع بطريق مكة، وبنى الربط والخانات فِي المفاوز، وبنى ببغداد ¬

_ (¬1) العبارة فِي (خ): إنه جردك سمكة! والمثبت من (ب) والمنتظم. (¬2) فِي (ب): أمره. (¬3) فِي (خ): إِلَى، والمثبت من (ب).

دارًا وأضافها إِلَى دار المملكة، وحفر بالعراق نهر شبلي والأسحقي وسابروج، فأخرج من النهروان أنهارًا، وكان يحب العمارة والعدل. قال ابن الهمذاني: وفتح الرُّها وقلعة جَعْبَر وغيرَها، وبلغت عساكرُه إِلَى القسطنطينة، وأجرى الماء إِلَى الحرمين، وأجرى على المجاورين الأرزاق، وأزال المواخير من الدنيا، والخمورَ من جَيحون إِلَى الشَّام. وكان الرَّجل يسير وحده من كاشغر إِلَى اليمن، ولم تَزلْ دولتُه فِي إقبال من السعادة وسَعة العطاء بجميع الخلائق من الأمراء والعلماء والفقهاء والشعراء والأدباء والأغنياء والفقراء، وهو أول من صلَّى العيدين من الملوك ببغداد على مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - بالتكبير. وكان جوادًا، سمحًا، شجاعًا، يباشر الحروب بنفسه، ولم يَلِ من أول الإِسلام إِلَى زمانه من هذه أوصافه ولا من عمَّ (¬1) الدنيا فضلُه وإنصافُه، وكانت سعادتُه بسعادة وزيره نظام الملك مقرونة، وظهرت الأسرار التي كانت فِي طيِّ الأقدار مخزونة. ولمَّا تُوفِّي ضبطَتْ زوجتُه خاتون تركان بنت الخان الأمورَ أحسنَ ضبط، فلم يلطِمْ عليه أحدٌ، ولم يشُقَّ ثوبًا، وبعثت بخاتمه مع قوام الدولة إِلَى أَصبهان بتسليم قلعتها، وساستِ الأمورَ سياسةً عظيمةً، وفرَّقت فِي العساكر عشرين أَلْف أَلْف دينار، وبعثت إِلَى الخليفة بتقرير ولدها أبي القاسم محمود وعمره يومئذ خمس سنين وعشرة أشهر، فبعث إليها الخليفة بالخِلَع مع عميد الدولة ابن جَهير، وعزَّاها فِي السلطان، فألبسها محمودًا، وخُطِبَ له على المنابر ببغداد، واستوزرت له تاجَ الملك أَبا الغنائم المَرْزُبان بن خسرو، وكان السلطان قد هيَّأ له خِلَع الوزارة ليقيمه مقام النظام، فعاجله القدر، فخلعت عليه خاتون، وفوَّضت الأمورَ إليه، ثمَّ خرجت وابنَها وتاجَ الملك إِلَى أَصبهان بالعساكر يوم الثلاثاء العشرين من شوال، وحُمِلَ الأميرُ أبو الفضل جعفر بن المقتدي إِلَى أَبيه، ووصلت خاتون إِلَى أَصبهان، وكتبت إِلَى الخليفة أن يكتب لابنها عهدًا بالسلطنة، فقال: لا يجوز ذلك؛ لأنه لم يبلغ الحلم، وكتبوا فتاوى، فقال بعض الحنفية ويعرف بالمشطب ابن محمَّد: يجوز. وقال الغزالي: لا يجوز. فأعجبَ الخليفةَ قولُ الغزالي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

ولمَّا وصلت خاتون أَصبهان وجدت غلمان نظام الملك قد أقاموا بركياروق بن ملك شاه فِي السلطنة، وكان أكبر أولاده [وأمُّه زبيدة] (¬1) وخطبوا له بالملك، وانحاز إليه العساكر، وكان بالري، ولقَّبوه غياث الدين، فأخرجت خاتونُ ثلاثةَ آلاف أَلْف دينار، وأنفقَتْها فِي العساكر، وبعثت معهم تاجَ الملك أَبا الغنائم، فالتقوا فِي عشر ذي الحجة بالري، فاستأمن أكثرُ العسكر إِلَى بركياروق، وانهزم تاج الملك فيمن بقي معه، فلحقه غلمان نظام الملك فقطَّعوه قِطَعًا ومثَّلوا به؛ لأنهم نسبوا قتل النظام إليه، ثم اتفق الصلحُ على أنَّ أَصبهان وفارس لخاتون وابنها محمود، وباقي البلاد لبركياروق وهو السلطان، ثم جاء تاج الدولة تُتُش عم بركياروق لقتاله، فخرجت خاتون لتلقِّي تاج الدولة، ثم رجعت من جَرْباذَقَان، وجاء بركياروق إِلَى أَصبهان طارحًا نفسه على أخيه محمود، ومستنجدًا به على عمه تاج الدولة، فنزل محمود من السرير وأجلسه عليه، ثم مات محمود بعد قليل، فقيل: حُمَّ فمات. وقيل: كحله بركياروق. وقال أبو يعلى بن القلانسي: كان تُتُش قد خرج من دمشق إِلَى بغداد للقاء أخيه ملك شاه والخدمة له، فوصل الخبر بوفاته، فرجع إِلَى الرحبة وضايقها، فلم يستقِمْ له فيها أمر، فسار إِلَى دمشق وحشد، وعاد إليها، وكتب إِلَى آق سنقر صاحب حلب ومؤيد الدولة يغي شعبان صاحب أنطاكية يسألهما المساعدة، فجاءا بأنفسهما وأنجداه، وضايقها وملكها بالأمان، وكان قد نذر على نفسه متى ملكها شهر سيفَه فيها، فلمَّا دخلها شهر سيفه عند بابها ثم أغمده، فقال: قد وفيتُ بنذري، وأحسن إِلَى أهلها، وسار إِلَى نَصيبين، وقد كان إبراهيم بن قريش رجع إِلَى أعماله الموصل وأعمالها، وغلب ولد أخيه شرف الدولة محمدًا وأبعده عن الولاية، ولمَّا نزل تُتُش على نَصيبين خرج إليه واليها طائعًا، وعصاه الجند الذين كانوا بها من أصحاب إبراهيم بن قريش، فملكها بالسيف، وهدم قطعةً من سورها، وقتل كلَّ من التجأ إِلَى الجامع والمساجد، وهتك أصحابُه البناتِ وفضحوهنَّ، وقتل ألفي رجل، وجرى على المسلمين منه مالا يستحِلُّه الكفار، وكان الأتراك يباشرون النساء فِي الطرقات، وكان فتوحُها سنة سبع وثمانين وأربع مئة. ¬

_ (¬1) فِي (خ): عمر، والمثبت من (ب).

المرزبان بن خسرو

المَرْزُبان بن خسرو (¬1) أبو الغنائم، تاج الملك، الوزير، بنى التاجية ببغداد وتربة أبي إسحاق الشيرازي، وعمل لقبره ملبنًا. هبة الله بن عبد الوارث (¬2) ابن عليّ بن أَحْمد بن بوري، أبو القاسم، الشيرازي، أحد الرَّحالين فِي طلب الحديث، وحكى عن والدته فاطمة بنت علي [أنها (¬3)] قالت: سمعت أَبا زُرعة الطبري يقول: سافرتُ مع أبي إِلَى المدينة، فلحِقَتْنا إضاقةٌ شديدةٌ، فجلسنا عند الحجرة النبوية وبتْنَا طاويين. فقال أبي: يَا رسولَ الله، نحن أضيافُكَ. ونِمْنا، فانتبه أبي، وفي يده دراهم، فقال: يا بُنيَّ، رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وترك فِي يدي هذه الدراهم. قال: فأنفقنا منها إِلَى شيراز، وكانت وفاته بمرو بمرض البطن، وكان فِي كل مرة يقوم ويغتسل، فقام فِي تلك الليلة سبعين مرة، فدخل النهر ليغتسل فمات، وكان حافظًا متقنًا، ثقةً صدوقًا، صالحًا دينًا. السنة السادسة والثمانون وأربع مئة فيها خطب تُتُش لنفسه بالسلطنة، وراسل الخليفةَ بأن يخطب له ويوعده، فما التفت إليه، وكتب فِي الجواب: إنما تصلح للخطبة إذا حصلتِ الدنيا بحُكْمِك، والخزائنُ التي بأصبهان، وتكون صاحب المشرق وخراسان، ولم تُبقِ من أولاد أخيك من يخالفك، أما فِي هذه الحال فلا سبيل إِلَى ما التمسته، فلا تَعْدُ حَدَّ العبيد، ولْيَكن خطابُك ضراعةً لا تحكُّمًا، وسؤالًا لا تجبُّرًا، وإن أبيتَ قاتلناك وردَّيناك، وأتاك من الله ما لا قِبَل لكَ به. فلما وقف على ذلك سار إِلَى الموصل وبها إبراهيم بن قريش، فخرج إليه فِي بني عقيل، والتقوا على الهرماس فاقتتلوا، فقتل إبراهيم، وقتل عليه أعيان بني عقيل، وكان علي بن مسلم بن قريش عند بركياروق، فأخبره فعزَّ عليه، وكتب إِلَى تُتُش يلومه ¬

_ (¬1) المنتظم 16/ 313 - 314. (¬2) المنتظم 16/ 314، والكامل 10/ 218. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب).

ويقول: هؤلاء القوم أصهارنا وأصحابنا، وما بدا منهم ما يوجب ما فعلتَ (¬1). فلم يلتفت، فبعث إليه بركياروق بجيش عظيم، فرجع تُتُش إِلَى دمشق، ومضى بركياروق، ودخل بغداد، وتلقَّاه الوزير عميد الدولة والناس. وقال أبو يعلى بن القلانسي: وعاد تُتُش عن نَصيبين بعد ما جرى فيها ما جرى طالبًا لإبراهيم بن قريش، وكان قد استنجد وحصل فِي خلق عظيم، وجاء فنزل شرقي الهرماس، وتُتُش على دارًا، فلمَّا كان يوم الاثنين ثاني ربيع الأول التقي الجيشان على نهر الهرماس، واشتدَّ القتال، وقُتِلَ جماعةٌ من الغُزِّ والأتراك، وعاد كلُّ فريق إِلَى مكانه، فلمَّا استقر بالعرب المنزل عاد (¬2) عسكر تُتُش عليهم وهم غارون، فانهزموا، وأخذهم السيف، وقُتِلَ إبراهيم بن قريش وأمراءُ بني عقيل، وكان القتلى من الفريقين عشرة آلاف، فاستولى تُتُش على القتل والنهب والسبي، وقتلَ كثيرٌ من نساء العرب (¬3) نفوسهنَّ خوفًا من الفضيحة، وقصد تُتُش آمِد، فأخذها وأخذ ميَّافارقين، واستولى على ديار بكر والجزيرة، وبعث عمَّاله إِلَى (¬4) الموصل وسنجار، وانهزم بنو عقيل إِلَى بركياروق، وكان علي بن مسلم بن قريش ووالدته خاتون بنت السلطان محمَّد بن داود عمة السلطان ملك شاه فِي جملة بني عقيل، فشكوا إِلَى بركياروق ما فعل بهم تُتُش، وانفصل عنه آق سنقر بُزان، ودخلا على بركياروق مخالفين له، وعاد تُتُش إِلَى ديار بكر، وقصد سروج فأخذها، وبلغه أنَّ آق سنقر وبُزان دخلا على بركياروق، فأكرمهما وسُرَّ بمقدمهما، وأنهما وقعا فِي تُتُش، وقبَّحا أفعاله، وذمَّا سيرته، وأنه على طلب السلطنة، والمصلحةُ معاجلتُه، فسار معهما إِلَى الموصل، وردَّ إمرة بني عقيل إِلَى علي بن مسلم بن قريش، وسار آق سنقر إِلَى حلب فِي شوال ومعه جماعة من بني عقيل ومن عسكر بركياروق إِلَى بغداد، و [سار] (¬5) تُتُش إِلَى دمشق فِي آخر ذي الحجة، ومعه ¬

_ (¬1) فِي (ب): ما يوجب ذلك. (¬2) العبارة فِي (خ): فلما استقر بالعرين الترك! والمثبت من (ب). (¬3) فِي (خ): الغربين، والمثبت من (ب). (¬4) العبارة فِي (خ): وبعث عماد الدولة على، والمثبت من (ب). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

جعفر بن المقتدي

وثَّاب بن محمود بن صالح وجماعة من بني كلاب لم يجرؤوا (¬1) على الإقامة بحلب خوفًا من آق سنقر. وفيها فتح العسكر المصري صور، وكان قد عصى بها منير الدولة، فحمل إِلَى مصر وأصحابه وأجناده، فضرب بدر الجمالي رقابَ الجميعِ، ولم يعْفُ عن أحد منهم، وقطع على أهل صور ومَنْ وافقهم ستين أَلْف دينار عقوبةً لهم. وفي هذه السنة وردت الأخبار من (¬2) ناحية العراق بإبطال مسير الحاج خوفًا عليه، وسار من دمشق [الحاجُّ] (¬3) صحبةَ الأمير الحابي أحد أصحاب السلطان، وحجُّوا ولم يُوصِلوا إِلَى أمير مكة مايرضيه، فلمَّا رحلوا خرج فنهبهم، وعاد مَنْ سَلِم منهم على أقبحِ حال وتخطَّفتهم العرب. وفيها تُوفِّي جعفر بن المقتدي (¬4) وأمُّه خاتون بنت [السلطان] (¬5) ملك شاه، وكان قد نشأ نشوءًا حسنًا، فحزن عليه الخليفة، وصلَّى عليه، وحُمِلَ تابوتُهُ إِلَى الرُّصافة، وجلس الوزير فِي العزاء بباب الفردوس ثلاثة أيام، وكانت وفاتُه يوم الثلاثاء ثالث عشرين جمادى الأولى. عبد القادر بن عبد الكريم بن الحسين (¬6) أبو البركات، ولد بدمشق فِي ذي الحجة سنة تسع عشرة وأربع مئة، ومات بها فِي ذي الحجة. ¬

_ (¬1) في (ب): لم يجسرا. (¬2) فِي (خ): على، والمثبت من (ب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) المنتظم 17/ 5. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) تاريخ دمشق 36/ 403 - 404.

عبد الواحد بن محمد

وكان شيخًا صالحًا، خطب بدمشق لبني العباس والمصريين، وأنشد لبعضهم: [من الطَّويل] يُعَدُّ رفيعُ القومِ مَنْ كان عاقلًا ... وإن لم يكُنْ فِي قومهِ بحسيبِ فإنْ حَلَّ أرضًا عاش فيها بعقلِهِ ... وما عاقلٌ فِي بلدةٍ بغريبِ عبد الواحد بن محمَّد (¬1) ابن عليّ بن أَحْمد، أبو الفرج، الحنبلي، أصله من شيراز، وولد بحَرَّان، وينتهي نسبُه إِلَى الْأَنصار، وقدم بغداد، وتفقَّه على أبي يعلى بن الفراء، ثم عاد إِلَى حرَّان، وقدم دمشق فأقام بها، ونشر مذهب الإِمام أَحْمد رحمة الله عليه بها وبأعمالها، وصنَّف كتاب "الإيضاح" فِي مذهب الإِمام أَحْمد - رضي الله عنه -، وكان صالحًا، زاهدًا، متعبدًا، ورعًا، صاحبَ كرامات، مشغولًا بنفسه، يعظ النَّاس، وتوفي بدمشق فِي ذي الحجة، ودفن بالباب الصغير، وقبره ظاهر يُزار، والدعاء عنده مستجاب، وكان صدوقًا، ثبتًا، وافرَ العلم، متينَ الدين، حسنَ الوعظ، محمودَ السمت، تُوفِّي يوم الأحد الثامن والعشرين من الشهر المذكور. علي بن أَحْمد (¬2) ابن يوسف بن جعفر بن عرفة، الهَكَّاري، ويعرف بشيخ الإِسلام -والهَكَّارية: جبالٌ فوق الموصل فيها قُرًى وبِنًى-[وابتنى (¬3)] أبو الحسن عليٌّ المذكور أربطةً، وقدم بغداد، ونزل برباط الزُّوزني، وسمع الحديث، وكان صالحًا من أهل السنة، كثيرَ التعبد، وكان يقول: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي المنام [فِي الروضة فِي المدينة (¬4)] فقلت: يَا رسول الله أوصني، فقال: عليك باعتقاد أَحْمد بن حنبل ومذهب الشَّافعيّ - رضي الله عنه -، وإيَّاك ومجالسةَ أهل البدع. ¬

_ (¬1) طبقات الحنابلة 1/ 68 - 73، والكامل 10/ 228. وينظر السير 19/ 51. (¬2) تاريخ دمشق 41/ 238 - 239، فِي المنتظم 17/ 7، والكامل 10/ 226 - 227 وذيل تاريخ بغداد 3/ 173 - 175، والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد ص 326 - 328. وينظر السير 19/ 67. (¬3) ما بين حاصرتين من المنتظم، وتاريخ الإِسلام 10/ 566، والنجوم الزاهرة 5/ 138. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب) والمنتظم، إلَّا أنَّه وقع فِي المنتظم: المدرسة، بدل: المدينة.

نصر بن الحسن بن القاسم

وكانت وفاته فِي المُحرَّم ببلده، وكان شيخَ بلاده فِي التصوف، من السيَّاحين فِي الدنيا، أول مرة سافر إِلَى الأمصار وتغرَّب ولقي المشايخ، وكان من أرباب المجاهدات والرياضات والخلوات، وقد غمزه ابن عساكر، وظاهِرُ حاله الصدق. نصر بن الحسن بن القاسم (¬1) أبو الليث، التاجر، الثُّنْكُتي، وثُنْكُتْ (¬2) بلدة عند الشاش بما وراء النهر، ولد سنة سبع وأربع مئة، وطاف الدنيا شرقًا وغربًا من الصين إِلَى الأندلس مدةً، وسمع الكثير، وكان ثقةً، صدوقًا، مأمونًا، فاضلًا، من أهل الثروة والنّعم والصِّلات والصدقات، وعاد إِلَى خراسان، فتوفي بنيسابور، وخلف مئة أَلْف دينار وثلاثين أَلْف دينار. السنة السابعة والثمانون وأربع مئة فيها تُوفي المقتدي ببغداد والمستنصر وبدر الجمالي بمصر، وقُتِلَ آق سنقر وبُزان، وتُسمَّى سنةَ الخلفاء والأمراء. ويُقال: إن المريخ وزُحل إنما اقترنا فِي برج الأسد فِي هذه السنة. وكانت زلزلةٌ عظيمةٌ فِي المُحرَّم ما بين العشاءين حدث بها الفتن وغلاء الأسعار (¬3). الباب الثامن والعشرون فِي خلافة المستظهر بالله أَحْمد بن عبد الله المقتدي وكنيته أبو العباس، وأمه طيف الخيال، أم ولد، مصرية، وقيل: تركية، ولد فِي شوال سنة سبعين وأربع مئة، وكان له يوم بويع بالخلافة ست عشرة سنة وشهران وأيام، وبُويع بالخلافة يوم الثلاثاء ثامن عشر المُحرَّم بعد موت أَبيه بثلاثة أيام، وتولَّى البيعة له عميد الدولة ابنُ جَهير، وحضر نظام الدين بن نظام الملك وزيرُ السلطان والقضاةُ والأعيانُ وطِراد ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 9، والكامل 10/ 227 - 228، والأنساب 3/ 88، وجذوة المقتبس ص 356، وذُكِرَت له كنيتان: أبو الليث وأبو الفتح. وينظر السير 19/ 90. (¬2) فِي الأصلين (خ) و (ب): تنكتان، والمثبت من الصادر. (¬3) الخبر في المنتظم 17/ 11.

الزينبي والغزالي والأماثل وسيف الدولة صدقة بن مَزْيَد، وكان المقتدي قد نصَّ عليه وولَّاه العهد، ولمَّا بُويع قال لعميد الدولة: أَنْتَ على وزارتك والأمور مفوَّضَةٌ إليك. فقال: هذا وقت صعب، وعندنا السلطان، والخزائن مقفلة، ونحتاج إِلَى المال. فقال: هذه الخزائن بين يديك، تصرَّفْ كما تختار من غير مراجعة ولا استئمار. ففتح الخزائن، وأخرج الأموال، وفرَّقها فِي العساكر، ثم استدعى المستظهر بركياروق إِلَى حضرته، وخَلَع عليه خِلعَ السلطنة، وتقرَّرت الخلافة والملك فِي المُحرَّم. وفي شعبان وَليَ أبو الحسن الدامَغاني قضاءَ القضاة وخُلِعَ عليه، وولَّى أخاه أبا جعفر قضاء الرُّصافة، ومن أعلى بغداد إِلَى الموصل (¬1). وفيها حشد تُتُش، وسار من دمشق إِلَى حلب وأفسد ضواحيها، وكتب بركياروق إِلَى بُزان وكربوقا (¬2) ليسيرا إِلَى حلب فيُنجدا آق سنقر، فسارا إليه، ونزل آق سنقر من قلعة حلب، وساروا جميعًا، والتَقوا بتُتُش بين قِنَّسْرين وتل السلطان، فكان بينهم قتال عظيم، أُسِرَ فيه آق سنقر وبُزان وكربوقا، وقُتل معظمُ أصحابهم، وانهزم الباقون، وغَنِمَهم تُتُش، واعتُقل بُزان وكربوقا بحمص، وأحضر آق سنقر وقال له: لو ظفرتَ بي ما كنتَ تفعل بي؟ قال: أقتُلُك. قال: فأنا أحكم عليك بما حكمت به عليَّ. فقتله وصلبه، ثم سار إِلَى حلب، فأخذها وعبر الفرات، وجاء إِلَى الرُّها، فعصوا عليه، فقتل بُزان ورمى برأسه إليهم، وأقام كربوقا معتقلًا بحمص حتَّى أُطْلِقَ بعد قتل تُتُش، ثم استولى على الجزيرة وديار بكر، وكان قد فعل بأهل نَصيبين مافعل، فأرسل إِلَى أهل ميَّافارقين، وكانوا قد اتفقوا -عند نزول الكافي بن جَهير من عندهم وموت ملكشاه- على الشيخ أبي سالم يحيى بن الحسن بن المنجور، فامتنع، فأصعدوه برج الملك كرهًا، وسلَّموا إليه مفاتيح البلد، وكان قوم تُتُش بدمشق، فكان ناصر الدولة منصور بن مروان مقيمًا بِجرْبى، فأصعد إِلَى جزيرة ابن عمرو وملكها وأقام بها، وكاتبه قومٌ ¬

_ (¬1) الخبر فِي المنتظم 17/ 14. (¬2) تحرفت فِي الأصلين (خ) و (ب) هنا وفي الأماكن الآتية إِلَى: كربوعا، والتصويب من مصادر ذِكْره.

من أهل ميَّافارقين، وكرهه آخرون لما رأوا من عدل ابن جَهير، وكان ابنُ أسد الفَارقي الشاعر [له (¬1)] عشيرة، فاجتمعوا إليه، وانضاف إليهم العوام، وصاروا يدورون فِي البلد على سبيل الحفظ له، وطال على النَّاس جواب بركياروق، وكانوا قد كاتبوه، وجاء تُتُش من دمشق، وفعل بأهل نصيبين ما لا يفعله الكفار، فخاف أهلُ ميَّافارقين منه، فجاء إليه أعيانُهم وسألوه المسيرَ إليهم، وابن المنجور فِي برج الملك بحاله (¬2)، وكان قد سار إِلَى تُتُش ابنُ زيدان والقاضي ابنُ صدقة وغيرُهما، فالتقاهم تُتُش وأكرمهم، وقال: تصبرون أيامًا ونسيرُ جميعًا. وكان منصور بن مروان مقيمًا بالجزيرة، فأرسل إِلَى أبي نصر الفارقي فوعده بالجميل، فاستدعاه وسلَّم إليه البلد، فدخل، واستوزره، ولقَّبه محيي الدولة، وأمِنَ ابنُ المنجور على نفسه، فنزل من البرج، ثم خرج إِلَى نَصيبين يطلب أباه، وكان قد خرج مع القاضي وغيره فوجدهم قد ساروا مع تُتُش إِلَى آمِد، ففتحها، ثم جاء إِلَى ميَّافارقين فِي هذه السنة وخوَّفهم، ففتحوا له الباب، وخرج منصور إِلَى المخيم، فاستجار بوزير السلطان أبي النجم، فأجاره، وسلَّم تُتُش ميَّافارقين إِلَى الوزير ابن الأنباري الذي كان ابنُ جَهير أمر بقتله، فأقام بها إِلَى أن قَتل تُتُش ابنَ أسد الفارقي الشَّاعر، فاستوحش منه، وخرج إِلَى الهيَّاج، فأقام به مدة، وكان معه ولده الأمير أبو القاسم وولده أبو سعد وابنُ أخيه محمَّد بن السديد، وكان أخوه السديد أبو الغنائم بميَّافارقين، فقبض عليه طُغْتُكِين مملوك تُتُش، وأقام ابنُ الأنباري بالهيَّاج، ثم ألحَّ تُتُش فِي طلبه، فسُلِّم إليه، فضرب عنقه وعنق ولده أبي القاسم عند ملطية فِي هذه السنة، وقتل طُغْتُكِين السديدَ أَبا الغنائم بميَّافارقين، ضرب عنقه على بابها فِي رجب، وكان صائمًا، فعرض عليه الماء، فقال: لا والله لا ألقى الله إلَّا صائمًا. فقتلَ تُتُش بعدُ أولادَ الأنباري شرَّ قِتلة. ولمَّا قَتل تُتُش ابنَ الأنباري على ملطية سار إِلَى عراق العجم يريد الاستيلاء على الممالك، وخرج بركياروق من بغداد يقصد الجزيرة للقائه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) فِي (ب): المملكة.

آقسنقر بن عبد الله

قال السِّمناني: وكتب تُتُش إِلَى الأمراء بأصبهان ليطيعوه، فأجابه بعضُهم، وكانت خاتون تركان مقيمةً بهَمْدان، فكتبت إليه وأطمَعَتْه فِي نفسها، فسار على طريق أذربيجان متباعدًا عن بركياروق، فأخذ خلاط ومنازكرد وإرمينية، وسار إِلَى همَذَان، وخرجت خاتون للقائه، فتوفِّيت بين هَمَذان وأصبهان، ووصل هَمَذان وبها فخر الملك ابن نظام الملك وزير بركياروق، فأراد قتْلَه، فشفع فيه بعيسان، فتركه، واستولى تُتُش على الممالك من باب الري إِلَى القدس، وأما بركياروق فإنَّه وصل أَصبهان وحشد ما قدر عليه، وأنفذ تُتُش من هَمَذان إِلَى بغداد يوسف بن آبق التركماني وعلى يده كتب، وقد أضمر السوء، فنزل دار المملكة ولم يلتفِتْ إليه. وقيل: إنما كان ذلك فِي السنة الآتية، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها تُوفِّي آقسُنْقُر بن عبد الله (¬1) قسيمُ الدولة، كان شجاعًا، عادلًا، منصفًا، وكان الملوك السلجوقية يحترمونه، ولم يكن له ولد غير زنكي، فلمَّا قُتِلَ انضمَّ إِلَى مماليك أَبيه وصار معهم. بدر (¬2) الجَمالي، الأرمني، أميرُ الجيوش، وولي الشَّام والساحل للمستنصر، ثم خالفه، وأقام بعكا، ثم استدعاه المستنصر إِلَى مصر، وفوَّض إليه الأمور، فاستقامت وسكنت الفتن، وكانت وفاته فِي ذي الحجة. وقيل: فِي سنة خمس وثمانين. ولمَّا مات ولَّى المستنصرُ ولدَه أَبا القاسم شاهنشاه، ولقبه الأفضل، فأحسن إِلَى النَّاس، وشاع فضلُه فِي الدنيا، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وقف الشعراء بباب بدر بمصر فَكُلٌّ آيَسَهُمْ، وخرج بدر إِلَى الصيد، فخرج علقمة الشَّاعر فِي إثره، وعمل فِي عمامته ريشَ النَّعام كأنه مظلوم، فلمَّا قرب منه أنشده: [من الكامل] نحن التِّجارُ وهذه أعلاقُنا ... دُرٌّ وجُودُ يمينِكَ المُبتاعُ ¬

_ (¬1) تنظر مصادر الترجمة فِي السير 19/ 129. (¬2) الكامل 10/ 235 - 236. وتنظر مصادر الترجمة فِي السير 19/ 81.

تركان بنت طغراج الملك

قَلِّبْ وفَتِّشْها بسمعِكَ إنَّما ... هي جوهرٌ تختارُه الأسماعُ كَسَدتْ علينا بالشَّآمِ وكُلَّما ... قلَّ النِّفاقُ تعطَّلَ الصُّنَّاعُ فأتاكَ يحمِلُها إليكَ تِجارُها ... ومَطِيُّها الآمالُ والأطماعُ حتَّى أناخوها ببابِكَ والرَّجا ... من دونِك السمسارُ والبيَّاعُ فوهَبْتَ ما لم يُعْطِهِ فِي دهرِهِ ... هَرِمٌ ولا كعبٌ ولا القعقاعُ وسبقْتَ هذا النَّاس فِي طلب العُلا ... فالناسُ بعدكَ كلُّهمْ أتباعُ يَا بدرُ أُقسِمُ لو بِكَ اعتصمَ الورى ... ولَجَوْا إليك جميعهُم ما ضاعوا وكان على يده بازٍ، فدفعه إِلَى البازدار، وقبض على يد علقمة، وانفرد به عن الجيش، وجعل يستنشده الأبيات ويردِّدُها حتَّى عاد إِلَى مجلسه، ثم التفت إِلَى غلمانه وخاصَّته وقال: مَنْ أحبَّني فليخلَعْ عليه. قال علقمة: فوالله لقد خرجتُ من عنده ومعي وقر سبعين بغلًا من الخلع، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، فقلت لمن ببابه من الشعراء والقُصَّاد: يَا متخلفين الحقوا بي إِلَى منزلي. فلحِقُوني، مامنهم إلَّا من خلعتُ عليه وأعطيتُه من جائزتي. تركان بنت طغراج الملك (¬1) من نسل أفراسياب ملك الفرس، وكانت حازمةً [حافظةً] (¬2) شهمة، قادت الجيوش، وكان فِي خدمتها عشرة آلاف فارس إِلَى أن توفِّيت، ودبَّرت الأمور بعد موت ملك شاه، وحفظت أموال التجار فلم يذهب لهم عقال، وكانت صاحبة أَصبهان، وتباشر الحروب، وتوفِّيت فِي رمضان. وقيل: إنما سُمَّت فِي الطريق. الحسن بن أسد (¬3) أبو نصر، الفارقي، الشَّاعر، قد ذكرنا أنَّه سلَّم ميَّافارقين إِلَى منصور بن مروان، فلما دخلها تُتُش اختفى، فلمَّا عاد تُتُش إِلَى حرَّان ظهر ووقف بين يديه، وأنشده: [من البسيط] ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 14، والكامل 10/ 240. (¬2) ما بين حاصرتين المنتظم. (¬3) معجم الأدباء 8/ 54 - 75. وتنظر بقية المصادر فِي السير 19/ 80.

فاستَحلبَتْ حلبٌ جفنيَّ فانهملا ... وبشَّرَتْني بحرِّ القتلِ حَرَّانُ فقال تُتُش: من هذا؟ فقيل له: [هذا ابنُ (1)] أسد الذي حشد الجموع قبل دخولك ميَّافارقين وسلَّمها إِلَى ابن مروان، فقال: اضربوا عنُقَه. فضربوا عُنُقَه، وكان قولُه: "وبشَّرتْني بحرِّ القتلِ حرَّانُ" فألًا على هلاكه. وكان شاعرًا، فصيحًا، فاضلًا، عارفًا باللغة والأدب، من أعيان أهل ميَّافارقين، ومن شعره: [من البسيط] يا مَنْ إذا ما بدا والبدرُ كانَ لَهُ ... عليهِ فِي الحُسْنِ إشراقٌ ولَألاءُ كم [قد] (1) سألتُكَ لي وصلًا فلا نَعَمٌ ... كانت جوابَكَ لي فيه ولا لاءُ وقال أَيضًا: [من البسيط] ما العمرُ لو فهِمَ الإنسانُ غايتَهُ ... إلَّا مكارِهُ لا تَفنى وأسواءُ وما البريةُ إلَّا واحدٌ وهُمُ ... فِي قيمة الذاتِ أكفاءٌ وأسواءُ وقال أَيضًا: [من المتقارب] إذا ما نبا بلدٌ بي رحَلْتُ ... وألقيتُ حبلي على غاربي وأصبحتُ ذا كوكبٍ طالعٍ ... لجوبِ المفاوزِ أو غاربِ فباعِدْ إذا ما نويتَ الرَّحيلَ ... بهمِّكَ فِي الأرضِ أو قارب [فمَنْ لجَّ فِي خوضِ لُجٍّ الفَلا ... ةِ لم يقربِ الموتَ من قاربِ] (¬1) فسِرْ أو تموتَ غريبًا بغَيرِ ... أخٍ لك راثٍ ولا نادبِ وإنْ أنتَ ناديتَ أهلَ الحِفاظِ ... فعرِّضْ بذكرِيَ أو نادِ بي يُجِبْكَ فتًى نَسبَتْهُ الكِرامُ ... مفاخِرُه حليةُ الناسبِ شَرُفْتُ فأكثرتُ غيظَ الحسودِ ... وأنكَرني أعرَفُ الناسِ بي وقال أَيضًا: [من الوافر] قديمًا كان فِي الدنيا أناسٌ ... بهمْ تحيا العُلا والمكرماتُ فلمَّا عال فِعْلَ الخيرِ دهرٌ ... بهِ عاشَ الخنا والمكرُ ماتوا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب).

وقال: [من الطويلِ] إذا نِلْتَ مِنْ دنياك خيرًا ففُزْ بهِ ... فإنَّ لِجَمْعِ الدَّهرِ من صَرْفهِ شَتَّى فكَمْ مِنْ مُشَتٍّ لَمْ يُصَيِّفْ بأهلِهِ ... وآخرُ لم يدرِكْهُ صيفٌ إذا شَتَّى وقال: [من السريع] ليثٌ بلا خُرقٍ ولا لوثةٍ ... والخُرقُ واللوثةُ فِي اللَّيثِ غيثٌ بلا غَيثٍ (¬1) إذا ما هما ... والغيثُ لا يخلو من الغَيثِ وقال أَيضًا من شعره: [من الوافر] وإخوانٍ بواطِنُهم قِباحُ ... وإنْ أضحَتْ ظواهِرُهم مِلاحا حسبْتُ مياهَ وُدِّهِمُ عِذابًا ... فلمَّا ذُقْتُها كانَتْ مِلاحا وقال: [من المتقارب] أتيتُ إِلَى داره البارِحَهْ ... وفي كلِّ ناحيةٍ نائِحَهْ وقدْ عَلقتْهُ أَكُفُّ المنون ... ففي كلِّ جارحةٍ جارِحهْ وقال: [من المنسرح] كم ساءني الدَّهرُ ثم سرَّ فلَمْ ... يُدِمْ لنفسي همًّا ولا فرحًا ألقاه بالصَّبرِ ثم يَعْرِكُني ... تحتَ رحًى منُ صروفِهِ فرحى وقال: [من الطَّويل] بعُدْتَ فقد أضرَمْتَ ما بين أضْلُعي ... ببُعْدِكَ نارًا شَجْوُ قلبي وَقودُها وكلَّفْتُ نفسي قطعَ بيداءَ لوعةٍ ... تكَلُّ بها هُوجُ المهارَى وَقودُها وقال: [من البسيط] كم خاطبَتْني خطوبٌ ما عبأتُ بها ... ولَمْ أقُلْ جزعًا عن حَوْزتي جوزي علمًا بأنِّي مجزيٌّ بمكتسبي ... إنِ امرؤٌ بجوازي فِعلِهِ جوزي وقال: [من البسيط] يَا مَنْ تُسَلُّ علينا من لواحظِهِ ... بِيضٌ وتُشْرَعُ من ألحاظِهِ أسَلُ ¬

_ (¬1) الغيث: الإفساد. اللسان (غيث).

المقتدي بأمر الله

بحقِّ مُعطيكَ هذا الحُسنَ صِلْ دَنِفًا ... فإنَّني منكَ غَيرَ الوصلِ لا أسَلُ وقال: [من الخفيف] صِرْتُ فِي النَّاس أجنبيًّا لأنِّي ... فِي زمانٍ لم ألْقَ فيه وفيَّا فيه غدرٌ وفيَّ حُسْنُ وفاءٍ ... فتأمَّلْ ما قلتُ فيهِ وفِيَّا المقتدي بأمر الله (¬1) عبد الله بن محمَّد الذخيرة بن القائم بأمر الله، وكنيته أبو القاسم، ومولده فِي جمادى الآخر سنة ثمان وأربعين وأربع مئة، وأمه أُرْجُوان أمُّ ولد، أرمينية. وقيل: قرة العين. كان من رجال بني العباس، له همَّة عالية، وشجاعةٌ وافرة، وفي زمانه قامت حشمة الدولة العباسية، وخُطِبَ له فِي الشرق بأسره، وبما وراء النهر وغَزْنة والهند والصين والجزيرة والشَّام واليمن، وكانت أيامُه كثيرةَ الخيرات، عمرت فيها بغداد، واسترجع المسلمون الرُّها وأنطاكية فِي خلافته، وكان قد تقرَّر مع السلطان بركياروق لمَّا قدم بغداد أن يحمل مال البيعة وأن يخطب له بالسلطنة على رسم أَبيه، وتقدم إِلَى أبي سعيد بن الموصلايا أن يكتب عهده، فكتبه، وهُيِّئت الخِلَع، وذلك يوم الجمعة رابع عشر المُحرَّم، وحُمِلَ العهدُ إِلَى الخليفة فِي هذا اليوم، فوقع فيه وتأمل الخِلَعَ، ثم قُدِّمَ إليه طعامٌ فتناول منه ثم غسل يده، وأقبل على النظر فِي العهد وبين يديه شمس النهار القهرمانية، فقال لها: من هؤلاء الأشخاص الذين دخلوا علينا بغير إذن؟ قالت: فالتفتُّ فلم أرَ أحدًا. وتغيَّرت حالُه، واسترخَتْ يداه ورجلاه، وانحلَّت قُواه، وسقط إِلَى الأرض، فظننتُها غشيةً، ومرةً غلبت عليه، فحللتُ إزاره، فوجدتُه ليس فيه عرق يضرب، فتيقَّنتُ موتَه، فسكنتُ وتماسكتُ، وكانت عندي جاريةٌ، فقلت لها: ليس هذا وقت الجزع، فإن صِحْتِ قتلتُكِ، وأفردْتُها فِي حجرة، وغلقتُ عليها الباب، ثم استدعيتُ يمن الخادم صهري على ابنتي، وقلت: أحضِرْ لي عميد الدولة. فحضر عند ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 14، والكامل 10/ 231 - 233.

محمد بن أبي هاشم

اختلاط الظلام، وقد خاف وذَهِل عقلُه، فلما رأى القهرمانةَ خدمها على عادته وأبلغ، فدخلت الحجرة كأنها تشاور، ثم خرجت وقالت: الخليفةُ مودِّع، وسينتبه عن قريب. ثم فاوضَتْهُ فِي أحاديثَ وقالت له: قد عجزتُ عن الخدمة، وأريد الحجَّ، وأن تسأل أمير المُؤْمنين فِي ذلك، وأنت شفيعي إليه، واستحلفَتْه وأكَّدَتْ عليه الأيمان أن يحفظها فِي المشهد والمغيب، فلما استوثَقَتْ منه قالت له: قُمْ. فدخل فرأى الخليفةَ مُسَجًّى، فأجهش فِي البكاء، واستدعى وليَّ العهد وعرَّفه الحال، فبكى، ثم بايعه، وكانت وفاتُه فجأةً ليلة السبت خامس عشر المحرَّم. وقيل: إن القهرمانة سمَّته فِي ذلك الطعام لأنها خافَتْه، وكان عمره ثمانيًا وأربعين سنة وثمانية أشهر ويومين، وخلافته تسع عشرة سنة وخمسة أشهر ويومين، وصلَّى عليه ولده المستظهر، وحُمِلَ تابوتُه إِلَى الرُّصافة، ووَزَرَ له فخر الدولة ابنُ جَهير وابنُه عميد الدولة، ثم أبو شجاع، ثم عزله وأعاد عميدَ الدولة، وكان على قضائه أبو عبد الله الدامَغاني، ثم أبو بكر الفامي، وحاجبه أبو عبد الله المردوسي، ثم أبو نصر بن المفرج، وخلَّف ستَّ بنين. محمَّد بن أبي هاشم (¬1) أمير مكة، كان ظالمًا، جبارًا، فاتكًا، سفاكًا للدماء، مسرفًا، متلونًا، تارةً مع الخلفاء، وتارةً مع المصريين، وكان يقتل الحاجَّ ويأخذ أموالهم، وكانت وفاته بمكة وقد ناهز السبعين (¬2) فرح المسلمون بموته، وقام بعده ولده هاشم. المستنصر مَعَد ابن عليّ الظاهر بن منصور، الحاكم، أبو تميم، صاحب مصر، ولد بالقاهرة سادس عشر جمادى الآخرة سنة عشرين وأربع مئة، وبُويع يوم مات أبوه وهو يوم الأحد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين، وعمره يومئذ سبع سنين وسبعة وعشرون ¬

_ (¬1) الكامل 10/ 239. (¬2) فِي (ب): التسعين، والصواب ما أثبتُّه، وهو الموافق لما فِي الكامل 10/ 239، والنجوم الزاهرة 5/ 140.

يومًا، وخُتِنَ وهو ابن ست سنين، وأقام واليًا ستين سنة وأربعة أشهر وثلاثة أيام، ولم يَلِ أحدٌ من الخلفاء الأمويين والعباسيين والمصريين مثلَ هذه المدة، وعاش سبعًا وستين سنة وخمسة أشهر فِي الهزاهز (¬1) والشدائد والوباء والغلاء والجلاء والفتن، وكان القحط في أيامه سبعَ سنين مثل سنيِّ يوسف الصِّدِّيق صلوات الله عليه، من سنة سبع وخمسين [وأربع مئة] (¬2) إِلَى سنة أربع وستين وأربع مئة، أقامت البلاد سبع سنين، يطلع النيل فيها وينزل، ولا يوجد مَنْ يزرع؛ لموت النَّاس، واختلاف الولاة والرعية، فاستولى الخرابُ على البلاد، ومات أهلها، وانقطعت السُّبُل برًّا وبحرًا، وكان معظم الغلاء سنة اثنتين وستين، وكانت وفاته يوم عيد الفطر وهو يوم الخميس ثامن عشر من ذي الحجة، وبايعَ النَّاسُ ابنَه أَبا القاسم أَحْمد، ولُقِّب بالمستعلي بالله، وتُوفِّي سنة خمس وتسعين وأربع مئة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وقال أبو يعلى بن القلانسي: فِي أيامه ثارت (¬3) الفتن فِي (¬4) بني حمدان وأكابر القُوَّاد، وغلَتِ الأسعار، واضطربَتِ الأحوال، واختلَّتِ الأعمال، وحصره ماءٌ فِي قصره (¬5)، وطُمِعَ فِي خلعه؛ لضعف أمره، ولم يَزَلْ على ذلك حتَّى استدعى أمير الجيوش بدرًا الجمالي من عكَّا إِلَى مصر، فاستولى على التدبير، وقتل جماعة ممن يطلب الفساد، فتهمدت الأمور، ولم يبقَ للمستنصر أمرٌ ولا نهيٌ إلَّا الركوب فِي العيدين، ولم يزَل كذلك حتَّى مات بدر وقام بعدَه ولدُه الأفضل، ولمَّا مات المستنصر وقام المستعلي مقامَه وتقرَّرت الأمور خرج عبد الله ونزار ابنا المستنصر من مصر خيفةً، وقصد نزار الإسكندرية، وحصل عند نصير الدولة واليها، وجَرَتْ بينه وبين الأفضل حروب. ¬

_ (¬1) المثبت من (ب)، والهزاهز: الابتلاءات والفتن. ووقع فِي (خ): الهزائز: وهي الشدائد. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) فِي (خ): كانت، والمثبت من (ب). (¬4) فِي (خ): بين، والمثبت من (ب). (¬5) العبارة فِي (خ): حصر فِي قصره، والمثبت من (ب).

السنة الثامنة والثمانون وأربع مئة

السنة الثامنة والثمانون وأربع مئة قد (¬1) ذكرنا مسير تُتُش إِلَى هَمَذان، وكان بعث ولده فخر الملوك رضوان يطلبه بعساكر الشَّام، فسار ومعه الأمير (¬2) نجم الدين إيل غازي بن أُرتق، ووثَّاب بن محمود بن صالح، وجماعةٌ من أمراء العرب، فنزلوا على الرحبة، وبعث تاج الدولة تُتُش يوسف بن آبق (¬3) التركماني إِلَى بغداد فِي صفر لإقامة الدعوة [له] (¬4) فلم يلتفت إليه. وقيل: أُخرِجَ إليه حاجبٌ من الديوان، فلمَّا لقيه ضربه يوسف ونزل بدار المملكة، وكان فِي عزمه نهب بغداد، فاستعدَّ له الوزير، وأحضر صدقة بن منصور وكان نافرًا عن تُتُش، فبينا يوسف على عزم السوء جاءه أخوه فأخبره بقتل تاج الدولة تُتُش، فانهزم إِلَى حلب. وفي ربيع الأول خُطِبَ لولي العهد أبي منصور الفضل بن المستظهر. وفي ربيع الآخر خرج الوزير عميد الدولة فخطَّ السُّور على حريم دار الخلافة بأمر المستظهر، وهذا السور مذكورٌ فِي الملاحم، وأنه يسعى فِي بنائه رجلٌ أصفرُ من بني تغلب [يعني (¬5)] عميدَ الدولةِ ابن جَهير، قال الشَّاعر: [من الطَّويل] إذا طَلَع المرِّيخُ من أرض بَابِل ... وقارَنَهُ النَّجمانِ فالهربَ الهربْ ويبني على الزَّوراء أصفرُ تغلِبٍ ... على الجانبِ الشَّرقي سورًا على شَغَبْ ويبنيهِ غلمانٌ يُخالطهم نِسا ... وفيهم رجالٌ بالمزاهرِ واللُّعَبْ ولمَّا خطَّ الوزير السُّور تقدَّم بجباية المال الذي يحتاج إليه من عقارات النَّاس ودُورِهم، واجتمع أهلُ المحالِّ بالأعلام والبوقات والدَّبادب وأنواع الملاهي والزمور والخيالات، وجرى من المنكرات وإخراق الربعة ما لم تجْرِ به عادة، وساءت السمعة باجتماع الرجال والنساء والمخانيث واختلاطهم، فأنكر علي بن عقيل على الوزير، وكتب إليه كتابًا طويلًا من جملته: كان هذا الخرق الذي جرى بالشريعة عن عمدٍ لمناصبة واضعها، فما بالُنا نعتقد ¬

_ (¬1) قبلها فِي (خ) زيادة كلمة: فيها. (¬2) بعدها فِي (خ) زيادة كلمة: ابن. (¬3) تحرف فِي الأصلين (خ) و (ب) إِلَى: أرتق، وقد تقدم - على الصواب - قريبًا. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب) والمنتظم 17/ 15. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

القرآن ورواية الأحاديث؟ وإذا نزلَتْ بنا نازلةٌ تقدمنا بجموع الختمات والأدعية عقيبها؟ وأين هذا من طبول وزمور مخانيث وخيالات وكشف عورات؟ ومعنى هذا أننا مستهزؤون بحكم الله لا نبالي به، فبأيِّ وجه نلقى محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؟ وأيُّ حرمةٍ تبقى لنا عند الله؟ ثم إنكَ يَا ابن جَهير تقيم الحدود فِي عتبة باب تأمر بلثم ترابه، ثم تمزج العوامَّ فِي المنكر المجمع على تحريمه. وذكر كلامًا طويلًا بمعناه، فلم يلتفت إليه، وجرت الأمور على ماهي عليه حتَّى استدار سور الحريم. وفي رمضان جرحَ السلطانَ بركياروق إنسانٌ سِجْزيٌّ، فأخذ فأقرَّ على رجلين سِجْزيَّين أنهما أعطياه مئة دينار، فقُتِلَ الرَّجل، وأُخِذَ الرجلان فقُرِّرا، فطُرِحَ أحدُهما تحت أرجل الفِيَلَة، فقال: خلِّصوني حتَّى أُقِرَّ. فخلَّصوه، فقال لرفيقه: يَا أخي، لا بُدَّ من هذه القتلة فلا تفضح أهل سجستان بإفشاء سرِّهم. فقُتِلا. وفي ذي القعدة خرج أبو حامد الغزالي من بغداد متوجهًا إِلَى البيت المقدس زاهدًا فِي التدريس بالنظامية، لابسًا خشن الثياب بعد ناعمها، وناب عنه أخوه أَحْمد فِي التدريس، وعاد فِي السنة الثالثة من خروجه منها، وقد صنف كتاب "الإحياء"، ثم حجَّ سنة تسعين وعاد إِلَى بلده. وقال بعضهم: ولمَّا دخل بغداد قُوِّم ما عليه من الثياب والطوق فِي عنق بغلته بألف دينار، ثم عاد إِلَى بغداد وجميعُ ما عليه يساوي دينارًا، فنزل فِي رباط أبي سعيد الصوفي، واجتمع إليه خلقٌ كثير يسمعون عليه الأخبار. وفيها اصطلح أهل السنة والشيعة ببغداد، ودخل أهل باب البصرة الكَرْخ، ودخل أهل الكَرْخ إليهم وعملوا الدعوات وتزاوروا، وجاء أهل باب الأزج المختارة، ودخل أهل المختارة إِلَى باب الأزج، وهذا من العجائب، ما جرى مثلُه ببغداد إلا نُوبة النسوي؛ بغضًا لولاية النسوي عليهم، أما فِي هذه النُّوبة فبغير سبب ظهر لكنها خطرات (¬1). ¬

_ (¬1) هذه الأخبار بنحوها فِي المنتظم 17/ 15 - 18، والكامل 10/ 251 - 252.

تتش بن ألب أرسلان

وفيها تُوفِّي تُتُش بن ألب أرسلان محمَّد بن داود بن ميكائيل، أبو سعيد، تاج الدولة، كان مقيمًا بالشرق، فاستنجده أتْسِز الخُوارَزمي صاحب الشَّام، فقدم دمشق سنة اثنتين وسبعين وأربع مئة، فقَتلَ أتْسِز، واستولى على دمشق، وامتدَّت أيامه، وهو الذي قتل آق سنقر وبُزان، وسار إِلَى الشرق وملك هَمَذان، وكان ابنُ أخيه بركياروق بالري قد حشد وجمع ثلاثين ألفًا، وتُتُش فِي خمسة عشر ألفًا، فالتقوا على الري يوم الأحد سابع [عشر (¬1)] صفر هذه السنة، وكان تُتُش فِي القلب مقابل بركياروق، وكان لمَّا قُتِلَ آق سنقر وبُزان أخذ جماعةً من الأمراء فقتلهم بين يديه صبرًا، وكان بكجور من أكابر الأمراء، فقتل أولاده [بين يديه] صبرًا، وأفلت إِلَى بركياروق، وكان تُش قد نادى فِي عسكره قبل المصاف بيوم: مَنْ ظفرتم به من عسكر بركياروق فاقتلوه، ومن بقي بعد الحرب فأنا أقتله. فاستشعر العسكر منه، فلمَّا التقوا على الري استأمن أكثرُ عسكر تُتُش إِلَى بركياروق، وجاء بكجور إِلَى بركياروق وهو يبكي على أولاده، فقال: قد قتل عمُّكَ أولادي بين يديَّ صبرًا، وأنا قاتله بأولادي لآخذ بثأري. فقال: افعَلْ. فلما نشبت الحرب واختلط النَّاس قصد بكجور تاجَ الدولة فطعنه فألقاه عن فرسه، ونزل [سُنْقُرجه -وكان صاحبَ ثأرٍ-] فحزَّ رأسه. وقيل: رماه مملوك بُزان بسهم فِي ظهره فوقع، فقتلوه وأتوا برأسه إِلَى بركياروق، فطِيفَ به فِي العسكر، وبعث به إِلَى بغداد، وانهزم أصحابُه وأمر بركياروق بالكفِّ عنهم، ونادى بالأمان، وأُسِرَ فخر الملك علي بن نظام الملك وزير تُتُش، فعفا عنه بركياروق لأجل أخيه مؤيد الملك وزيره، وكان المستظهر قد هيَّأ الطيار، وأخذ بالحزم، وأعدَّ السفن، ونقل إليها أمواله وأهله لينحدر إِلَى الأهواز، وخرج عميد الدولة إِلَى حِلَّة صدقة خوفًا من ظهور تُتُش، فجاء - من لُطفِ الله - ما لم يكُنْ فِي الحساب، فقُتِلَ تُتُش، وطيف برأسه فِي إقطاع بغداد، ثم وُضِعَ فِي خزانة الرؤوس، وعاد ابنُ جَهير ووضع الرأس بين يديه، فقال أبو الفضل عطية يخاطبه: [من البسيط] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين هنا وفي الموضع الآتي من (ب).

ورايةٍ كادَ أن يُعنى الزمانُ بها ... أمدَّها بجيوش الرأيِ إمدادا ضَرَبْنَ بالريِّ من آرائه قُضُبًا ... أضحى لها مِغْفَرُ التِّيجانِ أغمادا ومأتمٌ قامَ نحوَ الغربِ صارِخُهُ ... فعادَ أيامُ مَنْ بالغرب أعيادا ومعجزاتٍ أَرادَ اللهُ يُظهِرُها ... فِي كَبْتِه لك أعداءً وحُسَّادا ذكر ما جرى لأولاد تُتُش: كان ابنُه رضوان قد خرج من الشَّام بجيش كثيف يريد أباه لينصره، ووصل الرحبة، فبلغه مقتلُ أَبيه، فعاد إِلَى حلب، ففُتِحت له، ووصل [إليه] (¬1) من الفلّ (¬2) الذين كانوا مع أَبيه أخوة دُقاق وجماعةٌ من خواص أَبيه، فأقام بحلب مدةً يسيرة، وكان ساوتكين الخادم والي دمشق، فكاتب دُقاقًا، ووعده أن يُسلِّمها إليه، فسار إليها. ولم يُعلِم أخاه رضوان، وبلغَه مسيرُه، فبعث وراءه عسكرًا فلم يلحَقْه، ودخل دمشق، وحسدَه رضوان، فسار إليه بالعساكر، فحصره مدة شهرين فلم يظفَرْ بطائل، فعاد إِلَى حلب، وبعث دقاق إِلَى بركياروق يُعرِّفه، فأرسل إليه طُغْتِكين مملوك تُتُش ليدبِّر أمره، فقتل ساوتكين الخادم، وأقام بدمشق. وقال أبو يعلى بن القلانسي: ورد الخبرُ إِلَى رضوان بقتل أَبيه وهو نازل بعانة على الفرات يريد المسير إِلَى أَبيه، فقلق، وسار مُغِذًّا فِي نفر من غلمانه وخواصِّه إِلَى حلب، ونزل العسكر، ورآه، وفتح الوزير أبو القاسم النائب بالقلعة لها أبوابَها، فصَعِد إليها، ووصل إليه أخوه دُقاق من ناحية ديار بكر، فأقام بحلب مدةً، ثم راسلَ (¬3) ساوتِكين المقيم بقلعة دمشق، فأجابه، فخرج فِي الحال من حلب [ليلًا (¬4)] مُجِدًّا ليلًا ونهارًا، وبعث رضوان خلفه الخيل ففاتهم، ووصل دمشق، فأجلسه ساوتِكين فِي منصب أَبيه، وأخذ له العهد على الأمراء والعساكر، فاستقام أمرُه، ووردت الأخبارُ بخلاص الأمير ظهير الدين طُغْتِكين أتابِك من اعتقاله عقيب الكسرة، وتوجَّه عائدًا إِلَى دمشق، وخرج ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) فِي (خ): القتلى، والمثبت من (ب)، والفَلُّ: المنهزمون. (¬3) فِي (خ): أرسل، والمثبت من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب).

صاحبُه حصن الدولة بختيار شحنة دمشق ليلتقيه، وقد كان تُتُش رشَّح طُغْتِكين فِي حداثة سنِّه لحجبته، واستنابه فِي عسكره، وفوَّض إليه أموره أيام غيبته، فأحسن السيرة، وأنصف الرعية، فعَلَتْ منزلتُه، وولَّاه ميَّافارقين وهي أول ولايته، وسلَّم إليه ولدَه دُقاق، واعتمد عليه فِي تربيته، فدبَّر أمر ميَّافارقين، وأنكى فِي جماعة عُرِفَ منهم خيانةٌ ومخامرةٌ، فاستقامت أحوالُها، وسار مع تُتُش إِلَى لقاء بركياروق، وشهد الواقعة، وأسر واعتقل، ثم خلص، فسار إِلَى دمشق فِي هذه السنة، فتلقَّاه دُقاق فِي العسكر وأرباب الدولة، وبالغَ فِي إكرامه، وردَّ إليه النظر فِي الإسفهسلارية على حالة، واتُّهم ساوتِكين برضوان فقُتِل، وتزوَّج طُغْتِكين بخاتون أم دُقاق، وأحسن السيرة، وكانَ رضوان يحبُّ دمشق ولا يختار غيرَها، فجمع واستنجد بِسُكْمان بن أُرْتُق، وبرز طالبًا دمشق، وقد كان دُقاق غاب عنها فِي هذا الوقت مع يغي شعبان (¬1) وإيل غازي بن أُرْتُق، ووصل رضوان بعسكره، ونزل ظاهر دمشق. وقيل: كان ذلك سنة تسع وثمانين، وكان بدمشق وزير دُقاق زين الدولة محمَّد بن الوزير أبو القاسم، ونفرٌ قليل من العسكر، وانضاف إليهم جماعةٌ من الأحداث، وأغلقوا الأبواب، وصَعِدوا على الأسوار، ورشقوهم بالنُّشَّاب، فرجعوا إليهم من سوق الغنم وباب الجابية والباب الصغير، فأراد أهلُ البلد الخووجَ إليهم ودفْعَهم، فمنعهم بختيار شحنة البلد وأمين الدولة محمَّد بن الصوفي رئيس البلد، وقاتلوهم على الأسوار، ومنعوهم الوصول إليها. وجاء حاجبَ رضوان حجرُ المنجنيق وهو قائمٌ يُحرِّض على القتال فقتلَه، وسكنت الحرب، واشتغلوا به، وعادوا إِلَى خيامهم ولم يتمَّ لهم أمر، وبلغهم أنَّ دُقاق قد عاد بالعسكر، فرحلوا (¬2) وطلبوا مرج الصفر ليقصدوا القدس، ووصل دُقاق إِلَى دمشق، وسار رضوان طالبًا ناحية حلب. ¬

_ (¬1) هكذا وقع اسمه فِي الأصليين (خ) و (ب): شعبان، وفي الروضتين 1/ 87 و 101، وبغية الطلب 1/ 481 و 4/ 1956 و 5/ 2413 و 7/ 3354: سغان، وفي الكامل 10/ 247، وتاريخ الإِسلام 10/ 483، والنجوم الزاهرة 5/ 147، والعبر 332، وبغية الطلب 1/ 87: سيان، وفي السير 9/ 401: بسان. (¬2) فِي (خ): فدخلوا، والمثبت من (ب).

رزق الله بن عبد الوهاب

وقيل: إن أولاد تُتُش اقتسموا البلاد، فكانت حلب وما يليها لرضوان، ودمشق وميَّافارقين لدُقاق، وانكفأ يغي شعبان إِلَى أنطاكية. رزق الله بن عبد الوهَّاب (¬1) ابن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أُكينة بن إبراهيم بن عبد الله، ويقال: أُكينة هو إبراهيم، وعبد الله بن إبراهيم كان اسمُه عبد اللات، فسمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عبد الله، وعلَّمه، وأرسله إِلَى اليمامة والبحرين ليعلِّمهم أمر دينهم، ودعا له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نزعَ اللهُ من صدرِك وصدرِ ولدك الغِشَّ والغِل إِلَى يوم القيامة" (¬2). وكنيةُ رزق الله أبو محمَّد التَّمِيمِيّ الحنبلي، ولد سنة إحدى وأربع مئة، وقيل: سنة أربع مئة، وقرأ القرآن على أبي الحسن الحمامي بالروايات، وسمع الأحاديث، وتفقَّه على أبي علي بن أبي موسى الهاشمي، وشهد عند القاضي أبي عبد الله الحسن بن عليّ بن ماكولا قاضي القضاة، فلمَّا ولي بعده قاضي القضاة أبو عبد الله الدامَغاني ترك الشهادة ترفُّعًا أن يشهد عنده، فجاء قاضي القضاة إليه مستدعيًا لمودَّته وشهادته عنده، فلم يشهد، وكان التَّمِيمِيّ قد جمع بين الفقه والقرآن والحديث والأدب والوعظ وحُسْنِ الصورة، فوقع له القبول التامُّ عند الخاصِّ والعامِّ، وجعله الخليفةُ رسولًا إِلَى السلطان فِي مهام الدولة، وهو الذي بعثه فأحضر عميدَ الدولة ابنَ جَهير من ميَّافارقين يستوزره، وكان له حلقةٌ فِي الفقه والحديث والفتوى والوعظ بجامع المنصور، فلما انتقل إِلَى باب المراتب كانت له حلقة بجامع القصر، وكان يقصُّ فِي رجب وشعبان ويوم عرفة وعاشوراء عند قبر الإِمام أَحْمد - رضي الله عنه -، ومن شعره: [من الطَّويل] أفِقْ يا فؤادي مِنْ غرامِكَ واستَمِعْ ... مقالةَ محزونٍ عليكَ شفيقِ علِقْتَ فتاةً قلبُها مُتعلِّقٌ ... بغيرِكَ فاستوثقتَ غيرَ وثيقِ فأصبحْتَ موثوقًا وراحَتْ طليقةً ... فكَمْ بينَ موثوقٍ وبينَ طَليقِ ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 19 - 21. (¬2) لم أقف على من أخرجه، لكن ذكره ابن رجب فِي ذيل طبقات الحنابلة 1/ 83.

عبد السلام بن محمد

وكانت وفاتُه ليلة الثلاثاء خامس عشر جمادى الأولى، وصلَّى عليه ابنُه أبو الفضل عبد الواحد، ودُفِنَ فِي داره بباب المراتب بإذن الخليفة، ولم يُدْفَن بها أحدٌ قبله، ثم تُوفِّي ابنُه أبو الفضل سنة إحدى وتسعين وأربع مئة، فنُقِلَ معه ولدُه إِلَى مقبرة باب حرب فدُفنَ إِلَى جانب أَبيه وجده وعمه بدُكَّة الإِمام أَحْمد رحمة الله عليه عن يمينه. سمع خلقًا كثيرًا، وروى عنه ابنُ ناصر وطبقتُه، وأجمعوا على فضله وصدقه وثقته ورياسته. وقال علي بن عقيل: كان التميميُّ سيدَ الجماعة من أصحاب الإِمام أَحْمد يُمنًا ورياسةً وحشمةً، وكان أحلى النَّاس عبارةً فِي النظر، وأجرأهم فِي الفُتيا، وأحسنَهم وعظًا. عبد السلام بن محمَّد (¬1) ابن يوسف بن بُندار، أبو يوسف، القَزويني، شيخ المعتزلة فِي زمانه، ولد سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة، وقرأ القرآن، سمع الحديث، وقرأ الكلام على عبد الجبار الهَمَذاني، وفسَّر القرآن فِي سبع مئة مجلدة -وقيل: فِي ثلاث مئة. وقيل: فِي أربع مئة- والكتاب وقفٌ فِي مشهد (¬2) أبي حنيفة، وقال: من قرأه عليَّ وهبتُه له، فلم يقرأه عليه أحد. ورحل إِلَى مصر، فأقام بها أربعين سنة، وحصل أحمالًا من الكتب، وحملها إِلَى بغداد، وكان محترمًا، إذا دخل على قاضي القضاة الدامَغاني قام له وأجلسه إِلَى جانبه، وكان ظريفًا، حسنَ العشرة، سمحًا، وكان يخالط بني جَهير، فلما أُخرجوا من بغداد اتُّهم بأنَّ لهم عنده ودائعَ، فوكل به بعض الأتراك، فقيل له: ادْعُ الله. فقال: ما لله فِي هذا شيء هذا فِعْلُ الظَّلَمة. ودخل على نظام الملك وعنده أبو محمَّد التَّمِيمِيّ ورجل آخر أشعري، فقال له: أيها الصدر، قد اجتمع عندك رؤوس أهل النَّار. قال: وكيف؟ قال: أنا معتزلي وهذا مُشبِّهي -يعني التَّمِيمِيّ- وذاك أشعري، وبعضُنا يكفِّر بعضًا. فضحك النظام وقال: ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 21، وتاريخ دمشق 26/ 218 - 220. (¬2) فِي (ب): مسجد، والمثبت موافق لما فِي النجوم الزاهرة 5/ 156.

محمد بن الحسين

اجتمعتُ بملحد المعرفة -يعني أَبا العلاء- فقال لي: سمعتُ فِي مراثي الحسين بن عليّ مرثيةً تُكتَب. فقلت: قد قال بعض فلاحي بلدنا أبياتًا يعجز عنها شيخ تنوخ. فقال: وما هي؟ قلت: قوله: [من الكامل] رأسُ ابنِ بنتِ محمدٍ ووصيِّهِ ... للمسلمين على قناةٍ تُرفَعُ والمسلمون بمَنظرٍ وبمَسمَعٍ ... لا جازعٌ فيهم ولا مُتوجِّعُ أيقظْتَ أجفانًا وكنتَ أنَمْتَها ... وأنَمْتَ عينًا لم تكُنْ بِكَ تهجَعُ ما روضةٌ إلَّا تمنتْ أنَّها ... لك تربةٌ ولخَطِّ قبرِكَ موضِعُ (¬1) فقال المعري: ما سمعتُ أرقَّ من هذه. وقال ابن عساكر: سكن طرابلس الشَّام مدة، وكان يتشيَّع. فقال له ابن البراج متكلم الشيعة: ما تقول فِي الشيخين؟ فقال: سَفِلان ساقِطان. قال: من تعني؟ قال: أنا وأنت. وقال أبو محمَّد بن طاوس: استأذنتُ عليه ببغداد فأذن، فدخلتُ عليه فقال: من أين أَنْتَ؟ قلت: من دمشق. فقال: من بلد النصب. فسمعتُ منه شيئًا يسيرًا، وكان قد أُقعِدَ، وكانت وفاتُه فِي ذي القعدة وقد بلغ ستًّا وتسعين سنة، ولم يتزوَّج إلَّا فِي آخر عمره، ودُفن بمقابر الخيزُران عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -. محمَّد بن الحسين (¬2) ابن عبد الله بن إبراهيم، أبو شجاع، الوزير، الرُّوذراوري، ولد بالأهواز بقلعة كنكور سنة سبع وثلاثين وأربع مئة. وكان القائم بأمر الله كاتبَ أباه يستدعيه للوزارة وهو بالأهواز، فوصل الكتاب إليه وقد مات. وكان أبو شجاع قد قرأ الفقه والعربية، وسمع الحديث من جماعة، وصنَّف المصنفات الحِسان، مِنها كتابه الذي ذيَّله على "تجارب الأمم"، ووَزر للمقتدي سنة ¬

_ (¬1) هذه الأبيات تُنسب إِلَى دِعْبِل الخُزَاعِيّ، وهي فِي ديوانه ص 398 - 399، ومعجم الأدباء 11/ 110 - 111. (¬2) المنتظم 17/ 22 - 27، والكامل 10/ 250 - 251. وتنظر بقية المصادر فِي السير 19/ 27.

سبع وسبعين، وعُزِل سنة أربع وثمانين، وكان سليمًا من الطمع، وكان يملك حينئذ ست مئة أَلْف دينار، فأنفقها فِي الخيرات والصدقات. قال أبو جعفر بن الخرقي: كنت أنا واحدًا من عشرة يتولَّون إخراج صدقاته، فحسبتُ ما خرج على يدي فكان مئة أَلْف دينار، ووقف الوقوف، وبنى المساجد، وأكثر الإنعام على الأرامل واليتامى، وكان يبيع المخطوط المستحسنة ويتصدق بثمنها، ويقول: أَحَبُّ الأشياء إليَّ الدينار والخطُّ الحسن، فأنا أخرج محبوبي لله تعالى. ووقع مرضٌ فِي زمانه، فبعث إِلَى جميع ضعاف البلد أنواع الأشربة والأدوية، وكان يخرج العشر من جميع أمواله النباتية على اختلاف أنواعها. وعرضت عليه رقعة من بعض الصالحين يذكر فيها امرأةً معها أربعة أطفال أيتام وهم عُراةٌ جِياع، فقال لبعض أصحابه: امضِ إليهم، واحمِلْ لهم ما يُصلِحُهم. ثم خلع ثيابه وقال: واللهِ لا لَبِسْتُها، ولا أكلتُ طعامًا، حتَّى تعود وتخبرني أنك كسوتَهم وأشبعتَهم. فمضى الرَّجل وعاد وهو يرعد من البرد. وقال حاجبُه الخاص: استدعاني ليلةً، وأمرني بعمل قطايف، فعملتُها، فلما حضرت بين يديه [قال: فرِّقها فِي الفقراء، فحملها الفرَّاشون معي ففرَّقتُها فِي الأضِرَّاء والفقراء، فقلتُ له فِي ذلك، فقال: لمَّا حضر بين يديَّ (¬1)] ذكرتُ نفوسًا تشتهيه ولا تقدرُ عليه، فتنغَّص عليَّ أكلُه، فلم أذُق منه شيئًا. وكان قد ترك الاحتجاب، ويُكلِّم المرأة والطفل، ويحضر مجالِسه الفقهاءُ والعوامُّ، ولا يمنع أحدًا، وإذا أفتى الفقهاء بوجوب القصاص على شخص سأل أولياءَ الدم أخْذَ شيءٍ من ماله وأن يعفوا عنه، فإن فعلوا، وإلَّا أمر بالقصاص، وأعطى ذلك المال ورثةَ المقتول الثاني. ولقد غُمَّ الهلالُ فِي رمضان، فأمر بإفطار النَّاس، وأحضر أطباقًا فيها سُكَّر ولوز وأطعم النَّاس، ثم تبيَّن أن اليوم من رمضان، فندم أشدَّ الندامة، وذبح البقر والغنم، وتصدَّق بصدقات كثيرة، وآلى أن لا (¬2) يتكلم فِي الفروع. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) العبارة فِي الأصل (خ): وإِلَى الآن لم، والمثبت من (ب).

وفي أيامه سقطت المُكوس، وألبَس أهلَ الذمة الغيار، وتقدَّم إِلَى المحتسب أن يؤدِّب كلَّ من يفتح دُكَّانه يوم الجمعة ويغلقه يوم السبت من البزازين وغيرهم، وقال: هذه مشاركة لليهود فِي حفظ سنتهم (¬1). وحجَّ فِي وزارته سنة ثمانين، فترك فِي طريقه الزادَ مبذولًا والأدوية، وعمَّ أهلَ الحرمين بصدقاته، وساوى الفقراء فِي إقامة المناسك والتعبُّد، وكانت به وسوسةٌ فِي الطهارة، فكتب إليه ابن عقيل رُقعةً ذكر فيها أخبارًا تتعلَّق بالوسوسة، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صبُّوا على بول الأعرابي ذَنوبًا من ماء (¬2) " و"أمِطْه عنك ولو بإذخرة (¬3) " و"يُغسَل [من] بولِ الجارية، ويُنضَحُ [من] بولِ الغلام (¬4) " ونحو ذلك، فزالت عنه الوسوسة. ولمَّا عُزِلَ خرج يوم الجمعة إِلَى الجامع ماشيًا، فانثالتْ عليه العامة تصافحه وتدعو له، فقيل للخليفة: إنما قصد الشناعة عليك. فألزمَه بيتَه، وأنكر على مَنْ تَبِعه، فبنى فِي دهليز داره مسجدًا، فكان يؤذِّن ويُصلِّي فيه. وبعث نظام الملك بإخراجه من بغداد، فأُخرج إِلَى بلده، فأقام مدة، ثم استأذن الحجَّ، فأذِنَ له، فخرج إِلَى مكة. قال أبو الحسن بن عبد السلام: اجتمعتُ به فِي المدينة، فقبَّل يدي، فأعظمتُ ذلك، فقال لي: قد كنتَ تفعَلُ بي هذا فأحببتُ أن أُكافيك. وجاور بالمدينة، فلمَّا مَرِضَ مَرَضَ الموت أمر أن يُحمل إِلَى حضرة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فوقف وبكى وقال: يَا رسول الله، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا لِيُطَاعَ ¬

_ (¬1) فِي المنتظم 17/ 24: فِي حفظ سبتهم. (¬2) أخرجه بنحوه أبو داود (380) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وهو بمعناه فِي صحيح البخاري (221) ومسلم (284). والذَّنوب: الدلو العظيمة. اللسان (ذنب). (¬3) أخرجه بنحوه الطحاوي فِي شرح معاني الآثار 1/ 53، والدارقطني فِي السنن (447)، والبيهقي فِي السنن 2/ 418 عن ابن عباس - رضي الله عنه -، مرفوعًا. وأخرجه البيهقي فِي المعرفة (5015) من طريق آخر عن ابن عباس موقوفًا وقال: هذا هو الصحيح، موقوف، ثم قال عن المرفوع: لا يثبت. (¬4) أخرجه -بهذا اللفظ- أبو داود (377) من حديث علي - رضي الله عنه -. ويشهد له حديث أبي السمح - رضي الله عنه - عند أبي داود -أَيضًا - (376)، والنَّسائيّ 1/ 158، والحاكم 1/ 166، وما بين حاصرتين من مصادر التخريج.

بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] وقد جئتُ معترفًا بذنوبي وجرائمي أرجو شفاعتك. وبكى، وتُوفِّي من يومه، ودُفِنَ بالبقيع عند قبر إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن صلَّوا عليه فِي مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوَّروا به الحضرة الشريفة النبوية - على صاحبها أفضلُ الصلاة والسلام - وذلك فِي منتصف جمادى الآخرة، وهو ابن إحدى وخمسين سنة. وكان متبرِّمًا بالوزارة لدينه وورعه، وكان فِي غناءٍ عنها، وما كان ينافس فِي الدنيا، وكانت أيامُه أحسنَ الأيام، وزمانه أنضرَ الأزمان، ولم يكن فِي الوزارة مَنْ يحافظ على قوانين الشرع مثله، شديدًا فِي أمور الآخرة والشريعة، سهلًا فِي أمور الدنيا. وقام للخلافة فِي أيام نظره حشمةٌ واحترامٌ عادت سالفَ الأزمان. وكان أحسنَ النَّاس خطًّا ولفظًا، وما كان يخرج كلَّ يومٍ من بيته حتَّى يكتب شيئًا من القرآن ويقرأ ما تيسَّر، وما وجبَتْ عليه زكاةٌ قطُّ. وله شعر حسن، ولم يقُلْ بعد الوزارة سوى هذه الأبيات فِي الزهد، وهي: [من البسيط] قد آن بعد ظلامِ الجهل إبصاري ... للشيب صبحٌ يناجيني بإسفارِ ليلُ الشَّبابِ قصيرٌ فاسْرِ مُبتكرًا ... إِلَى الصباح قُصارى المُدلجِ السَّاري كَمِ اغتراريَ بالدُّنيا وزُخرُفِها ... أبني بناها على جُرْفٍ لها هارِ دارٌ مآثِمُها تبقى ولذَّتُها ... تَفنى ألا قُبِّحَتْ هاتَيكَ من دارِ فما انتفاعي بأوطارٍ مضَتْ سلَفًا ... قضيتُها وكأَنْ لم أقضِ أوطاري فكنتُ إذْ ظفِرَتْ ممَّا كسبتُ يدي ... لم تعتلِقْ من خطاياها بأوزارِ ليسَ السعيدُ الذي دُنياهُ تُسْعِدُهُ ... إنَّ السعيد الذي ينجو من النَّارِ أصبحتُ من سيِّآتي خائفًا وَجِلًا ... والله يعلَمُ إعلاني وإسراري إذا تعاظمني ذنبي وآيَسَني ... رجوتُ عفوَ عظيمِ العفو (¬1) غفَارِ ¬

_ (¬1) تحرفت فِي الأصلين (خ) و (ب) إِلَى: الذَّنب، وهو تحريف شنيع، والتصويب من خريدة القصر (القسم العراقِي) 2/ 80.

محمد بن فتوح

ومن شعره قبل الوزارة: [من السريع] ما كان بالإحسانِ أولاكُمُ ... لو زرتُمُ مَنْ كان يهواكُمُ أحبابَ قلبي ما لَكُمْ والجفا ... ومَنْ بهذا الهجرِ أغراكُمُ ما ضرَّكُمْ لو عُدْتُمُ مُدْنَفًا ... مُمَرَّضًا من بعدِ قتلاكُمُ أنكرتُمونا مُذْ عَهِدناكُمْ ... وخُنْتُمونا مُذْ حَفِظناكُمُ لا نظرَتْ عيني سوى شخصِكُمْ ... ولا أطاعَ القلبَ إلَّاكُمُ جُرْتُم وخُنْتُم وتحامَلْتُم ... على المُعَنَّى فِي قضاياكُمُ يَا قومِ ما أخوَنَكُمْ فِي الهوى ... وما على الهجرانِ أجراكُمُ جوروا وخونوا وانصِفوا واعدلوا ... فِي كلِّ حالٍ لا عَدِمناكُمُ ما كان أغناني عن المُشتكى ... إِلَى نجومِ اللَّيل لولاكُمُ سَلُوا حُداةَ العِيسِ هل أُورِدَتْ ... ماءً سوى دمعي مطاياكُمُ أوْ فاسأَلوا طيفَكُمُ هل رأى ... طرفي غفا من بعد مَسْراكُمُ أحاولُ النَّومَ عسى أنَّني ... فِي مُستلَذِّ النَّومِ ألقاكُمُ ما آنَ تقضون غريمًا لكُمْ ... يخشاكُمُ أن يتقاضاكُمُ يستنشقُ الريحَ إذا ما جرَتْ ... من نحو نجدٍ أين مسراكُمُ وقال أَيضًا من شعره: [من الطَّويل]. ألا ليتَكُمْ عاينتُمُ بعد مسراكُمْ ... وقوفي على الأطلالِ أندُبُ مغناكُمْ أُنادي وعيني قد تفيضُ بذِكركُمْ ... أيا جيرتي لِمْ أبعَدَ البَينُ مرماكُمْ ولم غبتُمُ عن ناظري بعد رؤياكُمْ ... ولِمْ لعبَ البَينُ المُشِتُّ وأقصاكُمْ مُحَمَّد بن فُتوح (¬1) ابن عبد الله بن حميد، أبو عبد الله بن أبي نصر، الحميدي، الأندلسي، من جزيرة مَيُورْقة، ولد قبل الأربع مئة، وسمع الكثير، وسافر إِلَى الشَّام ومكة والعراق، ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 29 - 30، وتاريخ دمشق 55/ 77 - 81، والأنساب 4/ 233، والكامل 10/ 254. وتنظر بقية المصادر فِي السير 19/ 12.

محمد بن المظفر بن بكران

واستوطن بغداد، وكان مختصًا بصحبة أبي علي بن حزم الظاهري، وحمل عنه أكثر كتبه، وقال: أصلُ أبي من قرطبة من محلة يقال لها: الرُّصافة، وسكن الجزيرة -يعني الأندلس- وصنَّف فأحسن التصنيف، وجمع بين الصحيحين، وكان حافظًا ثبتًا متقنًا، وبلغ من حرصه على جمع العلم أنَّه كان يكتب فِي الليل فِي حرِّ بغداد، ويجلس فِي إِجَّانَةٍ (¬1) يتبرَّد بالماء، وينسخ وهو على تلك الحالة. وكانت وفاته ببغداد فِي ذي الحجة سابع عشرة، وصلَّى عليه أبو بكر الشاشي فِي جامع الخليفة، وكان قد أوصى إِلَى الأجلِّ مظفر بن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند بشر الحافي، فخالف وصيَّته، ودُفِنَ بباب أَبْرز، فرآه فِي المنام وهو يعاتبه ويقول: خالفتَ وصيتي؟ ! فنقله فِي صفر سنة إحدى وتسعين وأربع مئة، فدفنه فِي دكة بشر الحافي قريبًا منه. وقال ابن ماكولا: صديقنا أبو عبد الله الحميدي من أهل العلم والفضل، ورد بغداد وسمع أصحاب الدارقطني وابن شاهين وغيرهم، وسمع منه خلق كثير، وصنَّف "تاريخ الأندلس"، ولم أرَ مثلَه فِي عفَّته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم. وقال ابن عساكر: وقف كتبه ببغداد على طلحة العلم، فنفع الله بها، وكان حافظًا ديِّنًا عفيفًا نزهًا، ومن شعره: [من الوافر] طريقُ الزُّهدِ أفضَلُ ما طريقِ ... وتقوى اللهِ تأديةُ الحقوقِ فلا يَغْرُركَ من يُدعى صديقًا ... فما فِي الأرضِ أعوَزُ من صديقِ سألنا عن حقيقتِهِ قديمًا ... فقال سألتَ عن بيضِ الأنُوقِ فثِق بالله يَكْفِكَ واستَعِنْهُ ... يُعِنْكَ ودَعْ بنيَّاتِ الطريقِ محمَّد بن المظفر بن بَكْران (¬2) القاضي، الشَّاميّ، منسوب إِلَى الشَّام، ولد بحماة سنة أربع مئة، وحجَّ سنة سبع عشرة، وتفقه ببلده بعد حجِّه، ثم قدم بغداد فتفقَّه على أبي الطيب الطبري، وسمع الحديث، وشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله الدامَغاني سنة اثنتين وخمسين، وناب عنه فِي القضاء، ¬

_ (¬1) فِي (خ): إجامه، والمثب من تاريخ دمشق، والإجانة: إناء كبير يُغسَل فيه الثياب. (¬2) المنتظم 17/ 27 - 29، والأنساب 4/ 229، والكامل 10/ 253. وتنظر بقية المصادر فِي السير 19/ 85.

منصور بن نصر الدولة بن مروان

وزكَّاه عنده أبو يعلى بن الفراء الحنبلي وابن السِّناني، وكان حسنَ الطريقة، كريمَ الأخلاق، عفيفًا، نزهًا، لا تأخذه فِي الله لومة لائم، وكان فيه حِدَّة، لا يقبل من سلطان عطية، ولا من صديق هدية، وأقام بمسجد بقطيعة الرَّبيع يؤمُّ بأهله ويُدرِّس ويُقرأ عليه الحديث زائدًا على خمس وخمسين سنة، ولمَّا مات ابنُ الدامَغاني أشار الوزير أبو شجاع على المقتدي بتقليده القضاء فامتنع، فما زالوا به حتَّى تقلَّده فِي رمضان سنة ثمان وسبعين، وخُلِعَ عليه، وقُرئ عهدُه، وشرط أن لا يأخذ على القضاء رزقًا، ولا يقبل شفاعةً، ولا يُغيِّر ملبوسه، فأُجبيب إِلَى ذلك، ولم يتغيَّر عليه حالُه فِي مأكل ومشرب، وكان يتولَّى القضاء بنفسه ولا يستنيب ولا يحابي مخلوقًا، فلمَّا أقام على الحقِّ نفرت عنه قلوب المبطلين، ولفَّقوا له معايبَ لم يلتصِقْ به شيءٌ منها، فسخط عليه المقتدي، ومنع الشهود أن يحضروا مجلسه، فلم يتأثَّر، ثم علم المقتدي باطنَ حاله، فرضي عنه بعد سنين وشهورًا، وعاد الشهود إِلَى مجلسه، واستقامت أحوالُه، ولم يجدوا من يقوم مقامَه. وادَّعى عنده بعضُ الأتراك على رجل دعوى، فقال: ألكَ بينة؟ قال: نعم، المشطب بن محمَّد الفرغاني -وكان من فحول المناظرين، وكان يلبس الحرير ويتختَّم بالذَّهب- فقال التركي: فالسلطان ملك شاه ووزيره نظام الملك يلبسان الحرير ويتختَّمان بالذَّهب؟ فقال القاضي: لا جَرَم لو شهدا عندي على باقة بقلٍ ما قبلتُ شهادتَهما. وكانت وفاتُه فِي شعبان، ودُفِنَ عند أبي العباس بن شُريح قريبًا من الكَرْخ، وكان ورعًا ثقةً صدوقًا. منصور بن نصر الدولة بن مروان صاحب ميَّافارقين، قد ذكرنا سيرتَه، وأنه استولى على الجزيرة فمات بها، وحُمِلَ إِلَى آمِد فدُفِنَ بقبَّةٍ بَنَتْها له زوجتُه ستُّ النَّاس بنت عميد الأمة سعيد بن نصر الدولة، ودُفِنت بها أَيضًا، وهي مُطلَّة على دجلة. فصل ولاية بني مروان الدياربكر: أول ولايتهم سنة ثمانين وثلاث مئة، واستولى ابنُ جَهير على بلادهم سنة تسع وسبعين وأربع مئة، وتُوفي منصور فِي هذه السنة، فكانت مُدة ولايتهم نيفًا ومئة سنة.

السنة التاسعة والثمانون وأربع مئة

وأعيان ملوكهم أولهم باد الكردي ظهر سنة أربع وسبعين وثلاث مئة، وبعده مروان هو جدُّهم ملَكَ سنة ثمانين وثلاث مئة، وملك بعده ولده أحمد، فأقام إلى سنة ثلاث وخمسين وأربع مئة، وتوفي [وقام] (¬1) بعده ولده نظام الدين وولده سعيد ومنصور وهو ابن نظام الدين، وقد ذكرناهم. السنة التاسعة والثمانون وأربع مئة فيها حكم المُنجِّمون بأن يكون طُوفانٌ مثلَ طُوفان نوح - عليه السلام -، وكان ببغداد ابن عيشون المنجِّم، فبلغه فقال: أخطأ المُنجِّمون، طوفان نوح كان قد اجتمع في برج الحوت الطوالع السبعة، والآن فقد اجتمع ستة، زُحَلْ لم يجتمع معهم، ولكني أقول: إن بقعةً من البقاع يجتمع فيها عالمٌ كثيرٌ فيغرقون. فقيل: ما ثَمَّ أكبرُ من بغداد ويجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها وربما كانت هي؟ فقال ابن عيشون: لا أدري غيرَ ما قلتُ. فأمر الخليفةُ بإحكام المُسَنَّيات وسدِّ القوارح، وكان الناس يتوقعون الغرق، فوصل الخبر بأن الحاج نزلوا في وادٍ عند نخلة، فأتاهم سيلٌ عظيمٌ فاجتاح جمالهم، وأخذ الرجال والنساء، وما نجا إلَّا من تعلَّق برؤوس الجبال، فخلع الخليفة على ابن عيشون، وأجرى له جرايات، وأمن الناس الغرق (¬2). وفي شعبان استوحش جناح الدولة حسين أتابك من رضوان، وكان تزوج والدة رضوان، وخاف على نفسه منه، ففصَلَ (¬3) إلى حمص في خواصِّه وعسكره، وكان قراحة يأتيه بها، فسلَّمها إليه، فنقل أهلَه إليها، وشرع في تحصينها وإحكام قلعتِها، وأمن على نفسه، ووصل عُقيب انفصاله الأمير يغي شعبان صاحبُ أنطاكية إلى حلب، وشرع في الأمر والنهي، وجاءه عسكره، وبرز هو ورضوان من حلب إلى شَيزَر قاصدين دمشق، ثم وقع الخلاف بين مُقدَّمي العساكر فتفرَّقوا، وعاد رضوان إلى حلب، ويغي شعبان إلى أنطاكية. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) الخبر في المنتظم 17/ 31 - 32. (¬3) فصل: خرج. المعجم الوسيط (فصل).

إبراهيم بن الحسين

وفيها ورد كتاب المستعلي والأفضل بن أمير الجيوش إلى رضوان بالدخول في الطاعة، فأجاب، وأمر بالدعاء للمستعلي على المنابر، وللأفضل بعده، ولنفسه بعدهما، فأقام على ذلك مدة شهر، وكان قد بنى أمره على أنَّ المستعلى ينجده ويبعث العساكر إلى دمشق فيأخذها من أخيه ويسكنها رضوان إليه، فوصل يغي شعبان من أنطاكية وسُكمْان بن أُرْتُق صاحب القدس إلى حلب، وأنكرا على رضوان الدخول في هذه الحال، فأعاد الخطبة العباسية. وفيها نزل العسكر المصري على صور، وكان قد عصى واليه، ويعرف بالكتيلة، وخالف صاحب مصر، فأقام العسكر عليها حتَّى فتحها عنوةً، وقَتلَ بها خلقًا كثيرًا، وأخذوا المال العظيم، وأسر الكتيلة، فحُمِلَ إلى مصر فقُتِل بها. وفيها سار الأفضل بن أمير الجيوش إلى القدس وفيه سُكْمان بن أُرْتُق، فحصرها ونصب عليها المجانيق، وقاتلهم أربعين يومًا، وراسل أهلَه فواطؤوه على فتح الباب، وطلبوا منه الأمان، فأمنهم، وفتحوا له الباب، وخرج سُكْمان من باب آخر، ومضى إلى الرُّها، ومضى أخوه إيل غازي إلى بغداد. وفيها تواترت الأخبار بخروج ملك الروم من بلد الروم بخلقٍ لا يُحصى، فأخرج يغي شعبان النصارى من أنطاكية، واستصرخ بحلب ودمشق والشرق على أعمال أنطاكية، وقتلوا ونهبوا وسَبَوا. وقيل: إنهم وصلوا إلى المعرة، وسببه قتل تُتُش واختلاف ولديه. وفيها قتل رضوانُ رئيسَ حلب ويعرف بالمجنِّ، وقتل ولدَه، ونهب دارَه، وكان ظالمًا فاتكًا، واستوزَر رضوان أبا الفضل بن الموصل مشيد الدين. وفيها توفِّي إبراهيم بن الحسين (¬1) أبو إسحاق، الخزَّاز الزاهد، العابد، كان يسكن بالرُّصافة من بغداد، وكان في رمضان يصمت فلا يتكلم إلا بالقرآن، وكان ابن عقيل قد قرأ عليه القرآن، فقال له: هذا تعتقده عبادة وإنه معصية. قال ابن عقيل: فصعب عليه، فقلت: إن هذا القرآن ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 33.

عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله

العزيز نزل في بيان أحكام الشريعة، فلا يُستعمل في أغراض دنيوية، وما هذا إلا بمنزلة صرّك السدر والأشنان في ورق المصحف. قال: فهجرني وهجرتُه. وكانت وفاته في ربيع الآخر، ودُفن بباب حرب، وكان صدوقًا. عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله (¬1) أبو حكيم الخَبْري، وخَبْر: إحدى بلاد فارس، وهو جدُّ أبي الفضل بن ناصر لأمِّه، تفقَّه على أبي إسحاق الشيرازي، وبرع في علم الفرائض، وله فيها مصنَّف (¬2)، وكان له معرفة بعلم الأدب. وقال ابن ناصر: كان يكتب المصاحف، فبينا هو يومًا قاعدًا مستندًا يكتب، وضع القلم من يده وقال: واللهِ إن كان هذا موتًا فهو موت طيب. ثم تُوفِّي ودُفن بمقبرة باب حرب، وكان حسن الطريقة صالحًا. عبد الرزاق بن عبد الله (¬3) ابن المُحسِّن، أبو غانم، التنوخي، المعرِّي، ولد بالمعرة سنة ثماني عشرة وأربع مئة، وكانت وفاتُه بها أيضًا، ومن شعره في كوز الفُقَّاع: [من الوافر] ومحبوسٍ بلا ذنب جناهُ ... له سجنٌ بباب من رصاصِ يُضيَّقُ بابُه خوفًا عليهِ ... ويُوثَقُ بعدَ ذلك بالعِقاصِ إذا أطلقْتَهُ خرجَ ارتقاصًا ... وقبَّلَ فاك من فرحِ الخلاصِ عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد (¬4) أبو الفضل، الهمَذَاني، كان عالمًا بالعلوم الشرعية والأدبية، وإليه انتهى علم الحساب والفرائض، وتفقَّه على الماوردي، وسأله الوزير أبو شجاع عن المقتدي أن يليَ قضاء القضاة فلم يُجِبْ، واحتجَّ بعلوِّ السن، وكان لا يفعل شيئًا إلا بنيَّة. ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 34. (¬2) في (خ): المصنفات، والمثبت من (ب) والنجوم الزاهرة 5/ 159. (¬3) تاريخ دمشق 36/ 145 - 146. (¬4) المتتظم 17/ 35 - 36، والكامل 10/ 261. وتنظر المصادر في السير 19/ 31.

محمد بن أحمد بن عبد الباقي

قال أبو الحسن ولدُه: كان أبي إذا أراد أن يضربني يأخذ السوط بيده ويقول: نويتُ أن أضرب ولدي تأديبًا كما أمر الله تعالى، فإلى أن تتمَّ النية أكون أنا قد هربتُ. وكانت وفاته في رمضان، ودُفِنَ عند ابن سُريج، وكان زاهدًا ورعًا ثقة. محمد بن أحمد بن عبد الباقي (¬1) ويُعرف بابن الخاضبة، الدَّقاق، كان عالمًا بالقراءات والحديث، وكان له عائلة، فنسخ "صحيح مسلم" في سنةٍ سبعَ مرات. وقال: رأيتُ في المنام كأنَّ القيامة قامت، ومنادٍ ينادي: أين ابنُ الخاضبة؟ قلت: هذا أنا. فقيل: ادخُلِ الجنّة، فدخلتُ، فاستلقيتُ على فراش، ورفعتُ إحدى رجليَّ على الأخرى وقلت: آه، استرحتُ من النسخ. وتُوفِّي في ربيع الأول بمقبرة الأجمة المتصلة بباب أَبْرَز، وكان دينًا صدوقًا ثقة. محمد بن عباد بن إسماعيل (¬2) أبو القاسم، ويُلقَّب بالمعتمد، وأبوه عبَّاد يُلقَّب بالمعتضد، وكنيته أبو عمرو، وكانوا ملوك الأندلس. ولد محمد بمدينة باجَة (¬3) سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة، وَوَليَ الملك سنة إحدى وستين بإشبيلية، فقام به أحسن قيام، واهتمَّ به أبْيَنَ اهتمام، وعدل في الرعية، وقسم بينهم بالسوية، وانتجعه الفضلاء، وقصده الشعراء، وكان جوادًا مُمدَّحًا، فأقام على حاله تلك إلى سنة أربع وثمانين، فقصده ابن تاشفين، فخلعه من سلطانه، فقام في أسره مدةً يلاقي أليم ذُلِّه وهوانه، ثم نفاه عن أوطانه إلى مدينة أغمات قاطع العدوة القصوى وبينها وبين بحر الظلمات ثلاث ليال. وقد ذكره علماء المغرب، وأثنوا عليه، ودوَّنوا شعره. وقالوا: لما وصل أغمات صادف أهلها يستسقون، فقال على البديهة: [من الكامل] ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 35 - 36، وتاريخ دمشق 51/ 69 - 70. وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 31. (¬2) تنظر مصادر الترجمة في السير 19/ 58. (¬3) باجة: مدينة بالأندلس قريبة من قرطبة. الروض المعطار في خبر الأقطار 1/ 75.

خرجوا ليَستَسْقوا فقلتُ لهُمْ قفوا ... دمعي ينوبُ لَكُمْ عن الأنواءِ قالوا حقيقٌ في دموعِكَ مَقْنَعٌ ... لو لم تكُنْ ممزوجةً بدماءِ ومن شعره أيضًا: [من السريع] يا مُعرِضًا عني ولم أجْنِ ما ... يوجِبُ إعراضًا ولا هجرا قد طال ليلُ الهجرِ فاجْعَل لنا ... وصلَكَ في آخره فجرا وقال أيضًا: [من الطويل] ولمَّا التقينا للوداعِ غديَّةً ... وقد خفقَتْ في سَاحةِ القصرِ راياتُ بكيتُ دمًا حتَّى كأنَّ عيونَنا ... لِجَريِ الدموعِ الحُمْرِ فيها جراحاتُ ينظر إلى قول القائل: [من الطويل] بكيتُ دمًا حتَّى لقد قَال قائلُ ... أهذا الفتى من جفنِ عينيهِ يرعفُ ولمَّا غلب عليه يوسف بن تاشفين قيل له: عليكَ بالخضوع له، فلعلَّهُ يُبقي على نفسك. فقال: [من مجزوء الكامل] قالوا الخضوعُ سياسةٌ ... فليبْدُ (¬1) منكَ لهم خضوعُ إن يسلبِ القومُ العِدا ... ملكي ويسلمني الجموعُ فالقلبُ بين ضلوعِهِ ... لم يُسلمِ القلبَ الضُّلوعُ (¬2) كم رُمْتُ يومَ نزالهِمْ ... أن لا تحصِّنَني الدُّروعُ ما سِرْتُ قطُّ إلى القتا ... لِ فكان في أملي الرجوعُ شِيَمُ الأُلى أنا منهمُ ... والأصلُ تتبعُهُ الفروعُ وقال: [من الكامل] سألوا اليسير من الأسير وإنَّهُ ... بسؤالهم لَأحقُّ منهم فاعجَبِ لولا الحياءُ وهِمَّةٌ لخميةٌ ... طيَّ الحشا لحكاهم في المطلَبِ وقال وهو مأسور في أغمات: [من البسيط]: ¬

_ (¬1) في الأصلين (خ) و (ب): فليدنُ، والمثبت من المصادر: تاريخ الإسلام 15/ 612، والحلة السيراء 2/ 65، والعجب 1/ 141، والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 3/ 53. (¬2) في الأصلين (خ) و (ب) الخضوع، والمثبت من المصادر السابقة.

فيما مضى كنتَ بالأعيادِ مسرورًا ... أسرَّكَ العيدُ في أغماتَ مأسورا قد كانَ دهرُكَ إن تأمُرْه ممتثلًا ... فردَّكَ الدَّهرُ منهيًّا ومأمورا مَنْ باتَ بعدَكَ في ملكٍ يُسَرُّ بهِ ... فإنَّما باتَ بالأحلامِ مغرورا أرى بناتي في أغماتَ من عدمٍ ... يغزِلْنَ للناس لا يملِكْنَ قِطْميرا يَمْشينَ في الأرضِ والأقدامُ حافيةٌ ... وطال ما وطِئَتْ مسكًا وكافورا وتوفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ثمان وثمانين، أقام في الأسر أربع سنين، ورثاه ابن اللَبَّانة (¬1) فقال: [من البسيط] لكلِّ شيءٍ من الأشياء ميقاتُ ... وللمنى من مناياهنَّ غاياتُ والدَّهرُ في صبغة الحرباءِ مُنْغمِسٌ ... ألوانُ حالاتهِ فيها استحالاتُ ونحنُ من لُعَبِ الشطرنجِ في يدِهِ ... ورُبما قُمِرَتْ بالبيدقِ الشاةُ انفُضْ يديكَ من الدُّنيا وساكِنِها ... فالأرضُ قد أقفرَتْ والناسُ قد ماتوا وقُلْ لعالمها الأرضيِّ قد كُتِمَتْ ... سريرةُ العالمِ العلويِّ أغماتُ طوَتْ مظلَّتُها لا بَلْ مذَّلتُها ... من لم يَزلْ فوقَهُ للعزِّ راياتُ مَنْ كان بين النَّدى والبأس أنصلُهُ ... هندية وعطاياه هنيداتُ وكان مثلَ عيانِ العينِ تُبصِرهُ ... وللأمانيِّ في مرآه مرآةُ رماه مِنْ حيثُ لم تستُرْهُ سابِغةٌ ... دهرٌ مصيباتُهُ نيلٌ مصيباتُ وبدرُ سبعٍ وسبعٌ تستنيرُ بهِ ... السبعُ الأقاليمُ والسبعُ السماواتُ له وإن كانَ أخفاهُ السَّرارُ سنًّا ... مثلُ الصباحِ به تُجلى الدجنَّاتُ لهفي على آلِ عبَّادٍ فإنهمُ ... أهِلَّةٌ ما لها في الأُفْقِ هالاتُ فُجِعْتُ منهم بإخوانٍ ذوي ثقةٍ ... فاتوا وللدهرِ في الإخوانِ آفاتُ واعتضْتُ في آخرِ الصحراءِ طائفةً ... لغاتُهُمْ في جميعِ الكُتْبِ مُلغاةُ بمغرب العُدْوةِ القُصوى دُجًى أملي ... فهَلْ لهُ بديار الشرقِ مِشْكاةُ ذكر أولاده كان له أولاد، منهم: يزيد، يُلقَّب بالراضي، وكان فاضلًا، ومن شعره يذمُّ الدنيا: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) هو محمد بن عيسى أبو بكر الداني المعروف بابن اللَّبانة. السير 19/ 373.

هي الدَّارُ قاطعةٌ بالرجالِ ... وقاطعةٌ لحبال الوصالِ وتفجعُ منها بغيرِ اللَّذيذِ ... وتَشرقُ منها بغيرِ الزُّلالِ وتزدادُ مع ذاكَ عِشقًا لها ... ألا إنَّما سعيُنا في ضلالِ كمعشوقةٍ ودُّها لا يدومُ ... وعاشِقُها أبدًا غيرُ سالِ وقُتِلَ يزيد بين يدي أبيه يوم الوقعة، وكان له ولد آخر يقال له: الفتح، وآخر اسمه عبد الله، والكلُّ فُضلاء شُعراء، وعدَّةُ بناتٍ كُنَّ يغزِلْنَ للناس بالكراء في أغمات، بعد أن كان يقوم على رأس كلِّ واحدة منهنَّ مئةُ وصيفةٍ وخادم. ذكر وزرائه: كان له عِدَّةٌ من الوزراء، منهم: أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون، وهو القائل (¬1): [من الرمل] ودَّعَ الصبرَ مُحِبُّ ودَّعَكْ ... ذائعٌ (¬2) من سرِّهِ ما استودعَكْ يَقرَعُ السِّنَّ على أنْ لَمْ يكُنْ ... زادَ في تِلْكَ الخُطا إذ شَيَّعَكْ يا أخا البدرِ سناءً وسنًا ... حَفِظَ اللهُ زمانًا أطلَعَكْ إن يَطُلْ بعدَكَ ليلي فلَكمْ ... بِتُّ أشكو قِصَرَ الليلِ معَكْ وقال أيضًا (¬3): [من البسيط] بيني وبينَكَ ما لو شِئْتَ لم يَضِعِ (¬4) ... سرٌّ إذا ذاعتِ الأسرارُ لم يَذِعِ يا بائعًا حظَّهُ منِّي ولو بُذِلَتْ ... ليَ الحياةُ بحظِّي منهُ لم أبِعِ تِهْ احتَمِلْ واستَطِلْ اصبِرْ وعِزَّ أهنْ ... وولِّ أقْبِلْ وقُلْ اسمَعْ ومُرْ أطِعِ ¬

_ (¬1) ديوانه ص 94. (¬2) في الأصلين (خ) و (ب): ضائع، والمثبت من الديوان، ونفح الطيب 4/ 206، والذخيرة 1/ 371، والمغرب 1/ 65 وغيرها من المصادر. (¬3) ديوانه ص 68. (¬4) في الأصلين (خ) و (ب): يذعِ، والمثبت من الديوان، والبداية والنهاية 12/ 104 والذخيرة 1/ 371، والمعجب 1/ 106 وغيرها من المصادر.

محمد بن علي بن محمد

ومنهم محمد بن عمار، كتب إليه أبو يحيى بن صالح المعتصم صاحب البريد (¬1) ونُجَّابه (¬2)، وكان ابنُ عمار من أعيان الوزراء: [من الطويل] وزهَّدني في النَّاسِ معرفتي بِهمْ ... وطولُ اختباري صاحبًا بعدَ صاحبِ فلم تُؤتِني الأيامُ خِلًّا تسُرُّني ... بواديهِ إلَّا ساءني في العواقِبِ ولا صِرْتُ أرجوهُ لدفعِ مُلِمَّةٍ ... من الدَّهرِ إلا كان إحدى النوائبِ فكتب إليه ابن عمار: [من الطويل] فديتُكَ لا تزهَدْ وثَمَّ بقيَّةٌ ... سيرغبُ فيها عند وقع التجاربِ وأبقِ على الخُلْصان (¬3) إنَّ لديهِمُ ... على الدَّهرِ كرَّاتٍ بحُسنِ العواقبِ ومن شعر [إبراهيم بن خفاجة كتب إلى] (¬4) ... محمد بن عباد وهو بأغمات: [من الكامل] وعسى الليالي أنْ تَمُنَّ بنَظْمِنا ... عقدًا كما كُنَّا عليه وأجملا ولربما نثرَ الجمَانُ تعمُّدًا ... ليُعادَ أحسنَ في النظام وأكملا ولابن خفاجة في الحمَّام: [في السريع] أهلًا ببيتِ النارِ من منزلِ ... شيدَ لأبرارٍ وفُجَّارِ يقصدُهُ ملتمسو لذَّةٍ ... فيدخلوا الجنَّةَ في النَّارِ [وفيها توفِّي] محمد بن علي بن محمد (¬5) أبو ياسر، الحمَّامي، البغدادي، قرأ القرآن، وسمع الحديث، وتوفِّي في المُحرَّم، ودُفن بباب حرب، وكان إمامًا ثقةً، ورُويَ عنه أنَّه قال: [من السريع] ¬

_ (¬1) في (خ): التربة، والمثبت من (ب). (¬2) النُّجَّاب: ساعي البريد الَّذي يمتطي الجمل وحيد السنام. تكملة المعاجم 60/ 170. (¬3) في الأصلين (خ) و (ب): الخلَّان، والمثبت من نفح الطيب 4/ 439، والذخيرة 3/ 404، وزهر الأكم 1/ 287 وغيرها من المصادر. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، وجاء قبلها زيادة مقحمة، وهي: محمد بن عباد. (¬5) المنتظم 17/ 36.

المنصور بن محمد بن عبد الجبار

دحرجني الدهرُ إلى معشرٍ ... ما فيهمُ للخيرِ مُستمتَعُ إن حدَّثوا لم يفقَهوا لفظَةً ... أو حدِّثوا ضَجُّوا فلم يسمعوا المنصور بن محمد بن عبد الجبار (¬1) أبو المظفَّر، السمعاني، جد أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور صاحب "الذيل"، وأبو المظفر من أهل مرو، وتفقَّه على مذهب أبي حنيفة حتَّى برع، ثم ورد بغداد [سنة إحدى وستين، واجتمع بابي إسحاق الشيرازي وابن الصباغ (¬2)] فانتقل إلى مذهب الشافعي، ورجع إلى بلده فلم يقبلوه، وقالوا: مذهبٌ ناظرتَ عليه أكثر من ثلاثين سنة (¬3) تنتقل عنه؟ اخرجْ من عندنا، وجلب عليه العوام، فخرج إلى طُوس، ثم قصد نيسابور ووعظ بها، وصنَّف "التفسير" و"البرهان" و"الاصطلاح" و"الاصطلام" و"القواطع في أصول الفقه" و"الانتصار في الحديث لا وغير ذلك. وقال: ما سمعتُ شيئًا فنسيتُه قَطُّ. وسُئِلَ عن أخبار الصفات، فقال: عليكم بدين العجائز. وسُئِلَ عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فأنشد هذين البيتين: [من الخفيف] جئتُماني لتعلَما سِرَّ سُعدى ... تجداني بسِرِّ سُعدى شحيحا إنَّ سُعدى لمُنيةُ المتمنِّي ... جمعَتْ عِفَّةً ووجهًا صحيحا ثم رجع إلى مرو فتُوفِّي بها في ربيع الأول. السنة التسعون وأربع مئة فيها في يوم عاشوراء هرب أبو نصر بن جلال الدولة أبي طاهر بن بُوَيه من بغداد، وكان ملك شاه أقطعه المدائن ودير العاقول، فالتجأ إلى سيف الدولة بن مَزْيَد فلم يحمله، فتنقَّل في البلاد، وسببُ هربه أنَّه شهد عليه بالإلحاد عند القاضي، فحكم ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 37 - 38، والأنساب 7/ 139 - 140. وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 14. وتحرف في الأصلين (خ) و (ب) إلى: أحمد، والتصويب من مصادر الترجمة. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) والتظم. (¬3) في (خ): ثلاث سنين، والمثبت من (ب) والمنتظم.

محمد بن [محمد]

بإراقة دمه، وكان له داران بدرب القيَّار، فتقدَّم الخليفة بأن يجعلا مسجدين أحدهما لأصحاب أبي حنيفة، والآخر لأصحاب الشافعي، وأُقيم في كل واحد إمامٌ ومؤذن، ولم يُدْرَ ما فُعِلَ به، وهو آخر من ركب الخيل من بني بُوَيه (¬1). ويقال: إن في هذه السنة خُطِبَ للمصريِّ بحلب، ثم بطل ذلك. ويقال: إن فيها فتح عسكر مصر صور. وفيها سار دُقاق من دمشق محاربًا لأخيه رضوان، والتقوا على قُويق، فانهزم دُقاق إلى دمشق، وتَبِعه رضوان، ثم أصلح بينهما يغي شعبان بأنَّ كلَّ مَنْ كان في يده شيء يبقى على حاله. وفيها فتحت الفرنج نيقيَة، وهي أول بلد فتحوه، ثم فتحوا حصون الدروب شيئًا بعد شيء، ووصلوا إلى البارة وجبل السماق وفامية وكفر طاب ونواحيها. وفيها توفِّي محمد بن [محمد] (¬2) ابن أحمد بن هميماه، أبو نصر، الرامشي، ولد سنة أربع وأربع مئة، وقيل: كانت وفاته في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، ومن شعره: [من المتقارب] أدينُ بدِين خيارِ الورى ... محمدٍ المصطفى شافعي ومُعتصَمي حبُّ أصحابِهِ ... ومُعتَقَدي مذهب الشافعي المُعمَّر بن محمد (¬3) ابن المُعمَّر بن أحمد، أبو الغنائم، الحسيني، الطاهر، ذو المناقب، نقيب الطالبيين. كان كريمَ الطرفين، حسنَ الأخلاق، كثيرَ العبادة، لا يُحفظ عنه أنَّه آذى مخلوقًا ولا شتم أحدًا. وكانت وفاته بداره بالكَرْخ ثامن ربيع الأول، وصُلِّي عليه بجامع المنصور، ¬

_ (¬1) الخبر في المنتظم 17/ 39. (¬2) ما بين حاصرتين من المصادر، والترجمة في تاريخ دمشق 55/ 159 - 160، والمنتظم 17/ 37. وينظر تاريخ الإسلام 10/ 638، وفيه وفي المنتظم وفاته في السنة السابقة 489 هـ. (¬3) المنتظم 17/ 41 - 42.

نصر بن إبراهيم

وحُمِلَ إلى مقابر قريش فدُفِنَ بها، ومات عن اثنتين وسبعين سنة، ولي منها النقابة اثنتين وثلاثين سنة وشهورًا، وولي النقابة مكانَه ولدُه أبو الفتوح حيدرة، ولُقِّب بالرضا ذي الفخرين، ورثاه أبو عبيد بن عطية بأبيات منها: [من الكامل] هل ينفَعَنَّ من المنونِ حذارُ ... أمْ للأنامِ من الرَّدى أنصارُ هيهاتَ ما دونَ الحِمامِ إذا دنا ... وزَرٌ ولا يُسطاعُ منهُ حِذارُ نَفَذَ القضاءُ على الورى من عادلٍ ... في حكمه وجرَتْ به الأقدارُ ما لي أرى الآمال تخدَعُ بالمنى ... عِدَةً تطولُ وتَقْصُرُ الأعمارُ والناسُ في شُغلٍ وقد أفناهُمُ ... ليلٌ يكِرُّ عليهمُ ونهارُ ويدُ المنيةِ شَثنةٌ (¬1) مبسوطةٌ ... في كلِّ أُنملةٍ لها أظفارُ لو كان يدفعُ بطشَها عن مُهجةٍ ... ويرُدُّ حتفًا معقلٌ وجِدارُ لفدَتْ ربيعةُ ذا المناقب واشترَتْ ... حُبًّا لهُ طولَ البقاء نزارُ خرجَتْ ذُرى المجدِ المُنيفِ وأصبحتْ ... عَرَصاتُ رَبعِ المجدِ وهي قفارُ وخلا مقامُ النُّسْكِ من تسبيحِهِ ... وبكَتْ على صلواتِهِ الأسحارُ نصر بن إبراهيم (¬2) ابن نصر بن إبراهيم، أبو الفتح، الفقيه، المقدسي، الشافعي، أصله من نابلس، وأقام بالقدس مدةً ودرس به، وقدم دمشق سنة إحدى وسبعين وأربع مئة، وسمع بها الحديث، ثم سافر إلى آمِد والجزيرة وعاد إلى دمشق سنة ثمانين، ودرس بالزاوية شمالي جامع دمشق عند الكلاسة، وكان من الزهد على حالةٍ لم يُسبَق إليها، أقام بدمشق سنة ثمانين إلى أن مات، لا يقبل من أحدٍ هديةً، ويقتات من غلة تُحمل إليه من نابلس، يُخبز له كلَّ ليلة منها قرصٌ على الكانون، ولزم طريقةً واحدةً في الزهد في الدنيا والتنزُّه عن أهلها، وسلوك طريقة السلف، من تجنُّب الملوك، ورفْضِ الطمع، والقناعة باليسير من الدنيا. ¬

_ (¬1) شَثْنة: غليظة خشنة. المعجم الوسيط (شثن). (¬2) تاريخ دمشق 62/ 15 - 18.

يحيى بن أحمد

وزاره تاجُ الدولة فلم يقُمْ له ولم يلتفت إليه، وكذا ولده دُقاق، وسأله دُقاق: أيُّ الأمور أحلُّ؟ فقال: مال الخوالي. فلما خرج بعث إليه بمبلغ فلم يقبَلْه. وكانت وفاتُه يوم الثلاثاء تاسع المُحرَّم بدمشق، وكانت له جنازٌ لم يرَ الناسُ مثلَها، خرج بها بعد الظهر فلم تُدفن إلى وقت الغروب؛ لأن الناس حالوا بينه وبين حامليه، ودُفِنَ بالباب الصغير خارج الحظيرة التي على قبر معاوية الضيِّق جانبها القبلي، وأقام الناسُ على قبره سبعَ ليالٍ يختمون [القرآن] (¬1) كل ليلة عدة ختمات، سمع بدمشق، وأقام بصور عشر سنين، فسمع بها، وأمَّ بالجامع الأقصى بالبيت المقدَّس، ومن صحب أبا إسحاق الشيرازي وابن الجويني عَلِمَ أنَّ الفقيه نصرًا كان أفضلَ منهما وأحسنَ طريقةً، رحمةُ الله عليه. يحيى بن أحمد (¬2) ابن [أحمد (¬3)] بن محمد بن السِّيبي، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة، وتُوفَّي في ربيع الآخر هذه السنة، وعاش مئة وثلاثة وخمسين سنة وثلاثة أشهر وأيامًا، وكان صحيحَ الحواسِّ، يُقرأ عليه القرآن، ويسمع الحديث، ورحل الناس إليه، وكان ثقةً صالحًا صدوقًا. السنة الحادية والتسعون وأربع مئة فيها كثر الاستنفار على الفرنج، وتواترت الشكايات منهم، وكتب السلطان بركياروق إلى العساكر يأمرهم بالخروج مع عميد الدولة للجهاد، ويجهز سيف الدولة صدقة، وبعث مقدماته إلى الأنبار، ثم وردت الأخبار إلى بغداد بأن الفرنج ملكوا أنطاكية وصاروا إلى معرة النعمان، فقتلوا ونهبوا، وكانوا في ألف ألف إنسان (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين في (ب). (¬2) المنتظم 17/ 42، والأنساب 7/ 216، والكامل 10/ 271. وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 98 - 99. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) والمصادر. (¬4) الخبر في المنتظم 17/ 43.

ذكر شرح ذلك: كان خروجهم أولًا إلى بلد أنطاكية فلم ينازلوها، وجاؤوا إلى المعرة، فنصبوا عليها السلالم (¬1)، ونزلوا فقتلوا من أهلها مئة ألف إنسان، وسبوا مثلَ ذلك، ثم دخلوا كفر طاب، وفعلوا مثلَ ذلك، وعادوا إلى أنطاكية، وكان بها الأمير يغي شعبان، وكان على الفرنج صنجيل، فحاصروها مدةً، فنافق رجل يُقال له: فيروز، وفتح لهم في الليل شباكًا فدخلوا منه، ووضعوا السيف، وهرب يغي شعبان وترك أهله وأمواله وأولاده بها، فلما بعُدَ عن البلد ندم على ذلك، فنزل عن فرسه، فحثا التراب على رأسه وبكى ولطم، وتفرَّق عنه أصحابُه، وبقي وحده، فمرَّ به رجلٌ أرمنيٌّ حطَّاب، فعرفه، فقتله وحمله معه -بعد أن قطع رأسه- إلى صَنْجيل. وقال أبو يعلى بن القلانسي: في جمادى الأولى ورد الخبر بأن قومًا من أهل أنطاكية عملوا عليها، وواطؤوا الفرنج على تسليمها إليهم لإساءةٍ تقدَّمت منه في حقِّهم ومصادرته لهم، ووجدوا الفرصة (¬2) في برج من أبراج البلد ممَّا يلي الجبل، فباعوهم إياه، وأصعدوهم منه في السحر، وصاحوا، وانهزم يغي شعبان، وخرج في خلق عظيم، فلم يسلَمْ منهم شخص، فسقط من فرسه عند معرة مِصْرين، فحمله بعضُ أصحابه وأركبه، فلم يثبُتْ على ظهر الفرس، وسقط ثانيًا فمات. وأما أنطاكية فقتل منها وسبي من الرجال والنساء والأطفال ما لا يُدركه حصر، وهرب إلى القلعة قَدْرُ ثلاثة آلاف تحصَّنوا بها، وكان افتتاح المعرة في ذي الحجة بعد فتح أنطاكية. وفيها اجتمع ملوك الإسلام بالشام؛ رضوان صاحب حلب، وأخوه دُقاق، وطُغْتِكين، وكربوقا (¬3) صاحب الموصل، وسُكْمان بن أُرْتُق صاحب ماردين، وأرسلان صاحب سنجار، فنازلوا أنطاكية، وضيَّقوا على الفرنج، حتَّى أكلوا ورق الشجر، وكان صنجيل مقدَّم الفرنج فيه دهاء ومكر، فرتب مع راهبٍ لهم حيلة، وقال: ¬

_ (¬1) في (خ): الخيام، والمثبت من (ب)، وتاريخ الإسلام 10/ 666. (¬2) في (خ): الفرج، والمثبت من (ب). (¬3) تقدمت الإشارة إلى أن اسمه: كربوقا، لكنه تحرف في الأصلين (خ) و (ب) إلى: كربوعا.

اذهَبْ فادفِنْ هذه الحربة في مكان كذا. وقال للفرنج: رأيتُ المسيح في منامي وهو يقول: في المكان الفلاني حربةٌ مدفونةٌ فاطلبوها، فإن وجدتموها فالظَّفرُ لكم، وهي حربتي، فصوموا ثلاثة أيام، وصلُّوا وتصدَّقوا، وجاء وهم معه إلى المكان فنبشوه، فظهرت الحربة، فصاحوا، وصاموا، وتصدَّقوا، وخرجوا إلى المسلمين، فدفعوهم عن البلد، وثبت جماعةٌ فقُتِلوا عن آخرهم. وقال أبو يعلى بن القلانسي: في رجب اجتمعت عساكر الإسلام في عددٍ لا يُدركه حَصْرٌ ولا حَزْرٌ، وقصدوا عمل أنطاكية، فحصروها حتَّى عدم الفرنج القوت، وأكلوا الميتة، فزحف الفرنج -وهم على غاية من الضعف- إلى عساكر الإسلام -وهم في غاية القوة والكثرة- فكسروا المسلمين، وفرَّقوا جموعهم، وانهزم أصحاب الجرد السوابق، ووقع السيف في المجاهدين والمطوعين، وكتب دُقاق ورضوان والأمراء إلى الخليفة يستنصرونه، فأخرج الخليفةُ أبا نصر بن الموصلايا إلى بركياروق إلى الري يستنجده. وفيها عزل بركياروق مؤيد الدولة بن نظام الملك عن وزارته، واستوزر أخاه فخر الملك، وذلك برأي مجد الملك القُمِّي المستوفي، وكان مؤيد الدولة في غاية من الفضل والعقل وحسن التدبير، وفخر الملك في غاية من الجهل والحمق والتبذير، فانقطع المؤيد إلى الزهد والعبادة، وانسلَّ مستخفيًا، فلحق بمحمد بن ملك شاه وهو بكرمان، فأطمعه في الملك، فاستوزره، وسار به إلى أصفهان، فاستولى عليها بغير قتال، بل بحُسن التدبير، وكان فخر الملك قد أساء فيهم السيرة، وقبض محمد بن ملك شاه على زبيدة أم بركياروق، واعتقلها في قلعة وخنقها، وقال: ماتت. وقيل: إنما خنقها مؤيد الملك بوتر. وفيها شغب الجند على بركياروق وقالوا: لا طاعةَ لك علينا، حتَّى تُسلِّم إلينا القُمِّي المستوفي وكان قد أساء السيرة فيهم، وضيَّق أرزاقهم، وبلغ القُمِّي، فقال لبركياروق: نفسي فداؤك، دعهم (¬1) يقتلوني ويبقى عليك ملكُك. فقال: لا والله لا مكَّنتُهم منك ¬

_ (¬1) في الأصلين (خ) و (ب): دع، والمثبت من تاريخ الإسلام 10/ 668.

الحسين بن الحسن

أبدًا. وعزم على تغييبه عنهم، فقيل له: متى أُخرج عنك قتلوه، ولكن أرسله مع كبرائهم، فإنهم يكرمونه. فأرسله مع ولديه وكبراء دولته؛ ظنا منه أنهم يكرمونه، فلما جاؤوا به إليهم قالوا لهم: إن السلطان يُسلِّم عليكم ويشفع إليكم فيه، وقد نفذ ولديه معه. فثاروا عليه فقتلوه، ثم جاؤوا من الغد فقبَّلوا الأرضَ بين يدي بركياروق وقالوا: نحن عبيدك. فسكت، وبلغَ مؤيدَ الملك، وكان قد استولى على داره وأسبابه بأصفهان، فسُرَّ بقتله، وعلم أنَّه قد تمكَّن مما يريد، لكنه بقي مرتهنًا بسوء صنيعته مع زبيدة وخنْقِه إيَّاها. ذكر بداية محمد بن ملك شاه: كان لملك شاه أولاد؛ محمود، وأمه خاتون، وبركياروق، وأمه زبيدة، ومحمد شاه، وسنجر لأم وأب، وكان محمد هذا قد خرج مع بركياروق من بغداد صغيرًا لأبويه مختفيًا، وكانت أمه في عسكر بركياروق، فلما ولي بركياروق ضمَّه إليه، فأقام عنده مدة، ثم أقطعه كنجةَ وأعمالها، فسار إليها، ورتب بين يديه بعضَ أصحابه -كالأتابك- له، واسمه محمد، فاستولى عليه، فوثب عليه محمد شاه فقتله، واتفق مع مسير مؤيد الملك بن النظام إليه، وأطمعه في الملك، وجرت له مع أخيه بركياروق حروبٌ ووقائع، واستولى محمد شاه على المملكة، وبعث إلى بغداد، فخطبوا له سنة اثنتين وتسعين، ثم خطب لبركياروق، وسوف نذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وفيها تُوفِّي الحسين بن الحسن أبو عبد الله، الشهرستاني، الفقيه، الشافعي، ولي القضاء بدمشق سنة سبع وسبعين في ولاية تُتُش، وكان نَزِهًا، عفيفًا، مَهيبًا، شديدًا على من خالف الحق، خرج مع الجموع إلى أنطاكية، فاستشهد بها. أنشد لغيره: [من الطويل] حبيبي لقد واللهِ (¬1) ضاقَتْ مذاهبي ... عليَّ وقد واللهِ أسلمني صبري ¬

_ (¬1) في (خ): والله لقد، ولا يستقيم الوزن، والمثبت من (ب).

طراد بن محمد

فإنْ كنتَ قد أحببتَ فُرقةَ بينِنا ... على كلِّ حالٍ فانتظِرْ غَيرَة الدَّهرِ ومَنْ ينتظِرْ غدرَ الزَّمانِ بإلفهِ ... يُلاقي الَّذي يهوى ولا يَكُ ذا عُذْرِ وإلَّا فأيَّامُ الزَّمانِ بأسْرِها ... أقَلُّ أذًى مِنْ أنْ تُمَحَّقَ بالهجْرِ وهي لأبي بكر بن داود بن علي الأصفهاني. طِراد بن محمد (¬1) ابن علي بن الحسن (¬2) بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو الفوارس، الزَّينبي، من ولد زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وهي أم ولد عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام، وذلك أنَّ محمدًا تزوَّجها فأولدها عبد الله، كانت عظيمة في بني العباس في الفُضلاء مثل المنصور. ووُلد طِراد في سنة ثمان وتسعين وثلاث مئة، وسمع الحديث الكثير، ورحل الناس إليه من الأقطار، وأملى بجامع المنصور، وكان يحضر مجلسه جميعُ المحدثين والفقهاء والأشراف وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامَغاني، وحجَّ سنة تسع وثمانين، فأملى بمكة والمدينة، وولي نقابة العباسيين بالبصرة، ثم انتقل إلى بغداد، وترسَّل من الخليفة إلى الملوك مرارًا، وبيته بيت رئاسة وجلالة، وتُوفِّي في شوال وقد جاوز التسعين، ودُفِنَ في داره بباب البصرة، ثم نُقِلَ في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة إلى مقابر الشهداء، وكان يُلقَّب بذي الشرفين شهاب الحضرتين، وكان يوم مات صحيحَ الأعضاء، سليمَ الحواس، وقد تورَّع بعضُ المحدِّثين عن الرواية عنه والسماع منه؛ لترسُّله إلى الملوك، وأخذِ أموالهم، وتصرُّفِه في الولايات، وهو فما كان يلتمس الرسل، وإنما كان الخلفاء يلزمونه ذلك إصلاحًا لأحوال المسلمين وانتظام الأحوال مع الملوك، ثقةً بأمانته وديانته وفضله وشرفه وطهارة أصله، والظاهر عنه التورُّع عن قبول أموالهم. ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 43 - 44، والأنساب 6/ 346. وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 37. (¬2) تحرف في (خ) إلى: الحسين، والتصويب من (ب) والمصادر.

المظفر

ولمَّا احتضر بكى أهله، فقال: إنما يُبكى على الشباب، أما من جاوز التسعين فلا معنى للبكاء عليه. المُظفَّر (¬1) ابن رئيس الرؤساء أبي القاسم الوزير بن المسلمة، أبو الفتح، قرأ القرآن، وسمع الحديث، وكان عارفًا بالفقه والأدب، وكانت دارُه مجمع العلماء والفضلاء، وأقام أبو إسحاق الشيرازي أبداره حتَّى تُوفي بها المظفَّر في ذي القعدة، ودُفن عند أبي إسحاق الشيرازي (¬2)] وكان جليلًا نبيلًا. نصر بن علي (¬3) ابن المُقلِّد بن نصر بن منقذ، أبو المُرْهَف، الكِناني، عِزُّ الدولة، مَلَكَ شَيزَر بعد أبيه، وكان [يُعنى] بتربية إخوته وقام بها أحسن قيام، ولمَّا قدم ملك شاه الشام سلَّم إليه فامية وكفر طاب واللاذقية، وكان شجاعًا، سمحًا، صوَّامًا، قوَّامًا، بارًّا بوالديه، وفيه يقول أبوه علي بن المُقلِّد من أبيات: [من الطويل] جزى اللهُ نصرًا خيرَ ما جُزِيَتْ بِهِ ... رجالٌ قضَوا فرض العُلا وتنقَّلوا هو الولدُ البَرُّ اللطيفُ فإن رمى ... به حادِث فَهْوَ الحِمامُ المُعَجَّلُ سألقاكَ يومَ الحشرِ أبيضَ واضحًا ... وأشكرُ عندَ اللهِ ما كنتَ تفعلُ إلى اللهِ أشكو من فراقِكَ لوعةً ... تَوَقَّدُ في الأحشاءِ ثمَّ تَرَحَّلُ (¬4) تُفدِّيك يا نصرٌ رجالٌ محلُّهمْ ... من المجدِ والإحسانِ أن يتقوَّلوا (¬5) وقال أبو عبد الله محمد بن أبي سلامة مرشد بن علي: لم يكن أهل الشام يعرفون الغدر، وفد أبو مسلم بن سليم أحدُ بُناة المعرة على والي حلب ظنًّا منه أن الناس كما ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 46. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) تاريخ دمشق 62/ 36 - 39. (¬4) في تاريخ دمشق: تزلزلوا. (¬5) كذا في الأصلين (خ) و (ب)، ومعجم الأدباء 5/ 242: يتطوَّلوا. وفي تاريخ دمشق، وخريدة القصر 1/ 570: يقوَّلوا.

يعهد، فقبض عليه وحبسه وضيَّق [عليه (¬1)] وقال: سَلِّم إليَّ المعرة. فقال: أنا واحد من بُناة المعرة. فقطع عليه خمسة آلاف دينار مصرية، ولم يكن يُعرف بالشام غير الذهب المصري، فكتب ابنُ سليم إلى عمه نصر (¬2) -وكان ابنُ سليم فقيرًا لكثرة ما يُعطي الناس-: [من السريع] يا نصرُ يا ابنَ الأكرمينَ ومَنْ ... ملَكَ التِّلادَ بطارفِ (¬3) الفخرِ هذا كتابٌ من أخي ثقةٍ ... هذا أوانُ النَّفعِ والضرِّ فامنُنْ بما أوليتَ من حَسَنٍ ... أشكو إليكَ نوائبَ الدَّهرِ فبعث إليه بستةِ آلاف دينار، خمسةِ آلاف خلَّص بها نفسه، وبقي معه ألفُ دينار، ولمَّا تُوفِّي نصر وجدوا في خريطته اسم البيوت التي يتفقَّدها في كل سنة ويُموِّنها من الشام والساحل وحلب ودمشق والقدس ومصر وبغداد ومكة والمدينة وخراسان وأصفهان والمشرق، فكان جملة ما يخرج عليهم في كل سنة عشرين ألف دينار، ولمَّا مات أخرج كل ما خلَّفه والدُه أبو الحسن، ومغلَّ عشر قلاع كانت تحت يده؛ حصن الجسر وشَيزَر وفامية وكفر طاب وعَلَّان وأسقوبا واللاذقية وغيرها، وبقي عليه سبع مئة دينار سُلِّم إلى أربابها مِلْكٌ استغلُّوه حتَّى استوفوا مالهم. وكان يركب في عشرة آلاف فارس من كتابة الأوائل. قال مرشد بن علي: دخلت عليه يومًا وهو نائم وقد كادت صلاة الصبح أن تفوته، فقلتُ لأمرأته: أينامُ أخي حتَّى تطلع الشمس وتفوته صلاة الصبح؟ فقالت: قد صلَّى العشاء الآخرة ولم يضَعْ جنبه إلى الأرض حتَّى صلَّى الصبح ونام، وهذا دأبُه منذ صَحِبتُه. قال مرشد: أنشدت أخي أبا المرهف قول القائل: [من الخفيف] كُنْتُ استعمِلُ السَّوادَ مِنَ الأمـ ... ـشاطِ والشَّعرُ مثلُ لونِ الدَّياجي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) العبارة في (ب): فكتب ابن سليم إلى عمر. (¬3) التِّلاد: القديم، والطارف: الجديد.

السنة الثانية والتسعون وأربع مئة

أتلقَّى مثلًا بمثلٍ فلمَّا ... صارَ عاجًا سرَّحْتُهُ بالعاجِ فلما كان من الغد أنشدني لنفسه: [من الخفيف] كُنْتُ أستعمل البياض من الأمْـ ... شاطِ عُجْبًا بلمَّتي وشبابي فاتَّخذتُ السوادَ في حالة الشَّيـ ... ـبِ سُلُوُّا عن الصِّبا بالتَّصابي وكانت وفاته في جمادى الآخرة بشَيزَر رحمه الله تعالى. السنة الثانية والتسعون وأربع مئة في يوم الجمعة ثالث عشرين شعبان استولى الفرنج على البيت المقدس، ساروا من أنطاكية ومقدمهم كُنْدَهري في ألف ألف، منهم خمس مئة ألف مقاتل، والباقون رجَّالة، وفَعَلة، وأربابُ مجانيق، وعرَّادات، وغيرها من آلة القتال، وجعلوا طريقَهم على الساحل، وكان بها افتخارُ الدولة من قِبَل المصريين، فأقاموا يقاتلون أربعين يومًا، وعملوا بُرجَين مُطِلَّين على السور، أحدهما بباب صهيون، والآخر بباب العمود وباب أسباط وهو برج الزاوية، ومنه فتحها صلاح الدين رحمه الله، فأحرق المسلمون البرج الَّذي كان بباب صهيون، وقتلوا مَنْ فيه. وأما الآخر فزحفوا به حتَّى ألصقوه بالسور، وحكموا به على البلد، وكشفوا مَن كان عليه، ورمَوا بالمجانيق والسهام رمية رجل واحد، فانهزم المسلمون، فنزلوا البلد، وهرب الناس إلى الصخرة والأقصى، فاحتموا بها، فهجموا عليهم، فحُكي أنهم قتلوا في الحرم مئة ألف، وسبَوا مثلهم، وقتلوا الشيوخ والعجائز، وسبوا النساء، وأخذوا من الصحرة والأقصى سبعين قنديلًا، منها عشرون ذهبًا، في كل قنديل ألف مثقال، ومنها خمسون فضة، في كل قنديل ثلاثة آلاف وست مئة درهم بالشامي، وأخذوا تنورًا من فضة وزنه أربعون رطلًا بالشامي، وأخذوا من الأموال ما لا يُحصى. ومنذ افتتحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في سنة ست عشرة لم يزل في أيدي المسلمين إلى هذه السنة، وكان الأفضل بن أمير الجيوش لمَّا بلغه أنهم قد ضايقوا القدس سار في عشرين ألفًا، وجَدَّ في السير، فوصل ثاني يوم فتحه ولم يعلم،

وقصده الفرنج، فدخل عسقلان، وقُتِلَ من أصحابه عددٌ كثير، وأحرق الفرنج ما حول عسقلان، وقطعوا أشجارها، وعادوا إلى القدس. وذكر أبو يعلى أنَّ فتوح المعرة كان في هذه السنة قبل القدس، فقال: زحف الفرنج في مُحرَّم هذه السنة إلى سور المعرة من الناحية الشرقية والشمالية، وأسندوا البرج إلى سورها، وكان أعلى منه، ولم تزل الحرب عليها إلى وقت المغرب من اليوم الرابع عشر من المُحرَّم، وصعدوا السور، وانكشف أهلُ البلد بعد أن تردَّدت إليهم رسل الفرنج، وأعطوهم الأمان على نفوسهم وأموالهم وأن لايدخلوا إليهم، بل يبعثوا إليهم شحنة، فمنع من ذلك الخلف بين أهلها، وملكوا البلد بعد المغرب، وقُتِلَ من الفريقين خلقٌ كثير، ثم أعطوهم الأمان وغدروا بهم، ورحلوا في آخر رجب إلى القدس، وانجفل الناس بين أيديهم، فجاؤوا إلى الرملة فأخذوها عند إدراك الغلَّة، وانتهوا إلى القدس، وقاتلوا أهلَه، وألصقوا البرج إلى السور. وبلغهم خروج الأفضل من مصر، فجدُّوا في القتال، ونزلوا من السور، وقتلوا خلقًا كثيرًا، وجمعوا اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم، وهدموا المشاهدَ وقبرَ الخليل عليه الصلاة والسلام، وتسلَّموا محراب داود بالأمان، ووصل الأفضلُ بالعساكر وقد فات الأمر، فنزل ظاهرَ عسقلان في رابع عشر رمضان ينتظر الأسطول في البحر والعرب، فنهض إليه الفرنج في [خلقٍ عظيم، فانهزم العسكر المصري إلى ناحية عسقلان، ودخل الأفضل عسقلان، ولعبت سيوف الفرنج في (¬1)] العسكر والراجل والمطوعة وأهل البلد، وكانوا زُهاءً عن عشرة آلاف، ومضى الأفضل إلى مصر، وقرَّروا على أهل البلد عشرين ألف دينار تُحمل إليهم، وشرعوا في جبايتها من أهل البلد، فاختلف المُقدَّمون فرحلوا ولم يقبضوا من المال شيئًا. وحُكيَ أنَّه قُتِلَ في هذه الوقعة (¬2) من أهل عسقلان من شهودها وبناتها وتجارها وأحداثها سوى أجنادها ألفان وسبع مئة نفس، ولمَّا تمت هذه الحادثة خرج ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) في (خ) السنة، والمثبت من (ب).

المستنفرون من دمشق مع قاضيها زين الدين أبي سعد الهروي، فوصلوا بغداد، وحضروا في الديوان [وقطعوا شعورهم، واستغاثوا وبكوا، وقام القاضي في الديوان (¬1)] وأوردوا كلامًا أبكى الحاضرين، وندب من الديوان مَنْ يمضي إلى العساكر السلطاني ويعرِّفهم بهذه المصيبة، ووَقْعِ التقاعد، فقال القاضي الهروي -وقيل: هي لأبي بكر المظفر الأبيوردي (¬2) -: [من الطويل] مزَجْنا دماءً بالدموعِ السواجمِ (¬3) ... فلم يبقَ منَّا عُرضةٌ للمراجمِ (¬4) فإيهًا بني الإسلام إنَّ وراءَكُمْ ... وقائعُ يُلحِقنَ الذُّرا بالمناسمِ (¬5) بحيثُ السيوفُ البيضُ مُحمرَّةُ الظُبا (¬6) ... وسُمْرُ العوالي دامياتُ اللَّهاذِمِ (¬7) وبين اختلاسِ الطَّعنِ والضربِ وقفةٌ ... تظلُّ لها الولدانُ شِيبَ القوادمِ (¬8) وكيف تنامُ العينُ ملءَ جفونها ... على هَفَواتٍ أيقَظَتْ كل نائم وإخوانُكُمْ بالشَّامِ يُضحي مقيلُهُمْ ... ظهورَ المذاكي (¬9) أو بطونَ القشاعمِ (¬10) يسومُهُمُ الرومُ الهوانَ وأنتمُ ... تجرُّونَ ذيلَ الخَفْضِ فِعْلَ المُسالِمِ وتلك حروبٌ مَنْ يغِبْ عن غِمارِها ... ليَسْلَمَ يقرَعْ بعدَها سِنَّ نادِمِ وكاد لهنَّ المُستَجِنُّ بطيبةٍ ... يُنادي بأعلى الصوتِ يا آل هاشمِ أرى أُمتي لا يشرعون إلى العِدى ... رماحَهم والدين واهي الدعائمِ ويجتنبون النارَ خوفًا من الرَّدى ... ولا يحسبون العارَ ضربةَ لازمِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) والأبيات في المنتظم 17/ 47 - 48. والكامل 10/ 284 - 285، وتاريخ الإسلام 10/ 669 - 670، وفي غيرها من المصادر. (¬3) السواجم؛ من السجوم: وهو قطران الدمع وسيلانه. (¬4) تحرفت في الأصلين (خ) و (ب) إلى: للمناجم، والمثبت من المصادر، والمراجم: الكلم القبيحة. (¬5) المناسم؛ جمع مَنْسِم: وهو طرف خف البعير. (¬6) الظُّبا؛ جمع ظُبَةُ: وهو السيف والسنان والخنجر وما أشبهها. (¬7) اللهاذم، جمع لَهْذم: وهو كل شيء قاطع من سنان وسيف ونحوه. (¬8) القوادم، جمع قادم: وهو الرأس. (¬9) المذاكي: جمع مَذَكٍّ: وهي الخيل التي أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان. (¬10) القشاعم؛ جمع قِشْعام: وهو النسر المُسِنّ أو الضخم.

إبراهيم بن مسعود

أترضى صناديدُ الأعاريبِ بالأذى ... ويُغْضي على ذُلٍّ كُمَاةُ الأعاجمِ وليتَهُمُ إذ لم يَذودوا حميَّةً ... عن الدِّينِ ضَنُّوا غَيرَةً بالمحارمِ وإن زهِدوا في الأجرِ إذ حميَ الوغى ... فهلَّا أتوْهُ رغبةً في المغانمِ وقال أيضًا: [من الوافر] أحلَّ الكفرُ بالإسلامِ ضَيمًا ... يطولُ عليه للدِّين النَّحيبُ فحقٌّ ضائعٌ وحِمًى مُباحٌ ... وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صَبيبُ وكم من مسلمٍ أمسى سليبًا ... ومسلمةٍ لها حَرَمٌ سليبُ وكم من مسجدٍ جَعلوهُ ديرًا ... على مِحرابِهِ نُصِبَ الصليبُ دمُ الخِنزيرِ فيهِ لهُمْ خَلوقٌ ... وتحريقُ المصاحفِ فيه طيبُ أمورٌ لو تأملهُنَّ طِفْلٌ ... لَطَفَّلَ في عوارضِهِ المشيبُ أتُسبى المسلماتُ بكلِّ ثغرٍ ... وعيشُ المسلمين إذًا يطيبُ أما واللهِ والإسلامُ حقٌّ ... يدافعُ عنه شُبَّانٌ وشِيبُ فقلْ لذوي البصائرِ حيث كانوا ... أجيبوا اللهَ ويحكُمُ أجيبوا وفيها توفِّي إبراهيم بن مسعود (¬1) ابن محمود بن سُبُكْتِكين، آلَ أمرُه إلى أن استولى على بلاد غَزْنة. وكان عادلًا منصفًا شجاعًا جوادًا، منقادًا إلى الخير، كثيرَ الصدقات والصِّلات، محبوبًا إلى العساكر والرعية. وقال الفقيه أبو الحسن (¬2) الطبري: أرسلني إليه بركياروق في رسالة، فرأيتُ في مملكته ما لا يتأتَّى وصفُه، دخلتُ عليه وهو في طيارة عظيمة بمقدار رواق المدرسة النظامية، وسقوفُها وأبوابُها مصفحةٌ بالذهب والفضة، وعلى أبوابها الستور التِّنِّيسي، وللمكان شعاع يأخذ بالبصر، وهو على سرير من الذهب مرصَّعٍ بالجواهر، وحوله ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 49، وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 156. (¬2) تحرف في (خ) إلى: أبو إسحاق، والتصويب من (ب) ومصادر ترجمته في السير 19/ 350.

عبد الباقي بن يوسف

التماثيل المرصَّعة باليواقيت، فسلَّمتُ عليه، وجلست بين يديه (¬1)، فلما أديتُ الرسالةَ قال للخادم: دُرْ به في القصر. فطاف بي، فرأيتُ ما هالني، ومن جملة ما رأيتُ خَرْكاة عظيمة قد أُلبست صفائح الذهب، وفيها من تماثيل اليواقيت والجواهر ما لا أقدر أن أصِفَه، وفي وسطها سرير من العود القُماري، وحوله تماثيل طيور من الذهب بخرْكاةٍ، إذا جلس الملكُ على السرير صفَّقت بأجنحتها، إلى غير ذلك من العجائب، فلمَّا عدتُ إليه أوردتُ له أحاديث، منها قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " لمَناديلُ سعد بن معاذ في الجنَّة أحسَنُ من هذا" فبكى (¬2). وما كان يبني لنفسه مكانًا حتَّى يبني لله مسجدًا أو مدرسة. وكانت وفاته في رجب، وقد جاوز السبعين، وأقام واليًا نيِّفًا وأربعين سنة. عبد الباقي بن يوسف (¬3) ابن علي بن صالح، أبو تراب، المَراغي، الفقيه، الشافعي، ولد سنة إحدى وأربع مئة، ونزل نيسابور ودرَّس بها، وكان يقول: أحفظ أربعة آلاف مسألة في اختلاف الفقهاء والكلام عليها، وأُناظر في جميعها. وكان يحفظ الحكايات والنوادر، قانعًا من الدنيا باليسير على طريقه السلف، بعث إليه السلطان منشورًا بقضاء هَمَذان، فردَّه وقال: أنا في انتظار المنشور الأكبر من الله تعالى بلقائه، وقدومي عليه، وقعودي ساعةً في هذا المسجد على فراغ القلب أحبُّ إليَّ من ملك الثقلين. وكانت وفاته في ذي القعدة عن ثلاث وتسعين سنة، وكان إمامًا زاهدًا ورعًا عابدًا. السنة الثالثة والتسعون وأربع مئة فيها في يوم السبت سادس عشر صفر خرج الوزيرُ عميدُ الدولة لاستقبال بركياروق إلى صَرْصَر في الموكب، وعاد من يومه، ودخل بركياروق يوم الأحد إلى دار المملكة، وبعث إليه الخليفة خيلًا وسلاحًا وهدايا. ¬

_ (¬1) في (خ): فجلست عليه، والمثبت من (ب). (¬2) الحديث أخرجه البخاري (3802) ومسلم (2468) من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -. (¬3) المنتظم 17/ 50 - 51، والأنساب 11/ 224 - 225. وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 170.

وسبب دخوله بغداد أن أخاه محمد شاه كان قد ظهر عليه وخطب لمحمد ببغداد، وطرد بركياروق من هَمَذان، فقصد خوزستان والأهواز هاربًا من محمد، ثم قدم واسطًا، فهرب أعيانُ البلد، فدخل العسكرُ البلد، وفعلوا مثل ما فعل الفرنج بالمسلمين، وصادروا الناس، وأخربوا سقوف الدور، وأوقدوا أخشابها، وسبوا الحريم، ثم قصدوا بلاد سيف الدولة صدقة ففعلوا بها مثلَ ما فعل بواسط، ثم قصد بغداد، وكان سعد الدولة الكوهراني مخيمًا بالنَّجمي (¬1) مباينًا لبركياروق، مصافيًا لمحمد شاه، فرحل عن بغداد في صفر، وأخذ معه زوجة مؤيد الملك بن نظام الملك، وهي ابنة أبي القاسم بن رضوان فلما كان يوم الجمعة منتصف صفر قُطعت خطبة محمد شاه، وأُقيمت لبركياروق، واستولى محمد شاه على أصفهان والممالك، ومال الجندُ إليه. وفي ربيع الأول استوزر بركياروق العميد أبا المحاسن عبد الجليل الدَّهسْتاني ولُقب بنظام الدين، وجلس للنظر في دار المملكة، فبعث له الخليفة خِلعًا مع عميد الدولة، فحبس (¬2) بركياروق عميدَ الدولة، واستدعى القاضي أبا الحسن (¬3) الدامَغاني، وأبا القاسم الزينبي وأبا منصور صاحب الباب، وقال لهم أبو المحاسن: السلطان يقول لكم: قد عرفتُم ما نحن فيه من الإضاقة ومطالبة العسكر لنا بالمال، وهذا الوزير ابنُ جَهير قد تصرَّف هو وأبوه في ديار بكر وخلاط والجزيرة والموصل في أيام جلال الدولة، وجبوا أموالها، وأخذوا ارتفاعها، وينبغي أن يُعاد كلُّ حق إلى مستحقِّه، فخرجوا إلى الوزير وأعلموه، فقال: أنا مملوك، ولا أقدر على الكلام إلا بإذن مولاي. وانصرف القوم، وأقام الوزير معتقلًا، فكتب الخليفة إلى السلطان كتابًا يتهدَّده ويقول فيه: لا يغُرَّكَ إمساكُنا من مقابلة الفلتات، فوَحَقِّ مَنْ سلف من آبائنا [لئن لم (¬4)] يعُدِ الوزير شاكرًا لنفعلنَّ ولنفعلنَّ. ¬

_ (¬1) هكذا في الأصلين (خ) و (ب): بالنجمي، وفي الكامل 10/ 293، والمنتظم 17/ 53: بالشفيعي. (¬2) في (خ): فجلس، والمثبت من (ب)، والمصادر. (¬3) تحرفت في (خ) إلى: المحاسن، والتصويب من (ب) والمصادر. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)، ونحوه في المنتظم.

فلمَّا قُرئ الكتاب على السلطانُ أحضر عميدَ الدولة، واعتذر إليه الوزيرُ أبو المحاسن، وقال: السلطان يقول: ثقَّلنا عليك كما يُثقِّل الولدُ على والده. وأطلقه وبين يديه الحُجَّاب، واستقرَّ أن يحمل مئة ألف دينار وخمسين (¬1) ألف دينار، فحملها. وفي رابع جمادى الآخرة (¬2) خرج بركياروق من بغداد، وجاءه محمد شاه في رجب إلى هَمَذان، والتقيا، فانهزم بركياروق في خمسين فارسًا، فنزل على فراسخ من مكان المصاف فاستراح، والتأم إليه أصحابُه، ثم لقي أخاه محمدًا، فانهزم محمد وأُسِرَ سنجر وأمُّه وهي أم محمد، فأحسن بركياروق إليهما، وبعث بهما إلى أخيه محمد، وبعث محمد مَنْ كان عنده من الأسارى من أصحاب بركياروق. وفي رجب سار دُقاق من دمشق على الرحبة إلى ميَّافارقين، فتسلَّمها، ورتب فيها نوَّابه. وفي رجب خرج بيمُنْد زعيم الروم صاحب أنطاكية، فعاث في أرض حلب، وبلغه أنَّ الدانشمَنْد وصل إلى ملطية في جيش كثيف من الأتراك وعسكر سليمان بن قُتُلْمِش، فعاد بيمُنْد إلى أنطاكية وجمع وحشد، وعاد والتقاه المسلمون فأسروه، وقتلوا من أصحابه مقتلةً عظيمة. وفي رمضان قبض الخليفةُ على عميد الدولة ابن جَهير وإخوته؛ زعيم الرؤساء أبي القاسم، وأبي البركات الملقَّب بالكافي، وجلسوا في دار الخلافَة، واستوزر أبا المحاسن عبد الجليل بن محمد الدَّهستاني وزير بركياروق، ولقَّبه جلال الدولة، إلا أنَّه لم يتمَّ أمرُه، لأنه استوزر في شوال، وورد كتاب بركياروق يحثُّه على اللحاق به، فسار إليه، فاستوزر الخليفةُ سديدَ الملك أبا المعالي الفضل بن عبد الرزاق الأصفهاني، وكان كاتبًا في ديوان الجيش لملك شاه (¬3). وفي ذي الحجَّة قتل رجلٌ أميرًا في الري في دار فخر الملك بن نظام الملك -وقيل: إن الرجل باطني- فأُحضرَ إلى بين يدي فخر الملك، فقال: ويحك قتلتَ هذا الأمير في ¬

_ (¬1) في المنتظم: وستين. (¬2) في المنتظم: رابع رجب. قلت: وهذا الخبر والأخبار السابقة في المنتظم 17/ 52 - 53. (¬3) تحرفت في (خ) إلى: الروم، والتصويب من (ب) والمنتظم.

سعد الدولة الكوهراني

داري، وهتكتَ حُرمتي، وأذهبتَ حشمتي، فقال له الباطني: وهل لكَ حُرمةٌ مهتوكة، أو دارٌ مملوكة، أو حشمةٌ تمنع من الدماء المسفوكة؟ أو ما علِمتَ أننا ستةُ نفر بُعِثنا إلى ستة لنقتلهم أحدُهم أخوك؟ قال: وهل أنا في جملتهم؟ قال: أنت أقلُّ من أن تُذكرَ أو نلوِّثَ سكاكينَنا بدمك. فعُذِّبَ على أن يُقِرَّ على من أمر بقَتْلِه، فلم يُقِرَّ، فقتله (¬1). وفيها خرج سعد الدولة القوامسي من مصر بعسكر كثيف، فالتقى الفرنجَ على عسقلان، وكان في القلب (¬2)، فقاتل قتالًا شديدًا، فكبا به فرسُه فقُتِلَ، وثبت المسلمون، وحملوا على الفرنج فهزمهم إلى قيسارية، فيقال: إنهم قتلوا من الفرنج ثلاثَ مئة ألفٍ ولم يُقتَل من المسلمين سوى سعد الدولة ونفرٍ يسير. وفيها توفِّي سعد الدولة الكوهراني (¬3) من الخدم الأتراك الذين ملكهم أبو كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة، وكان قبل انتقاله إليه لامرأة، فكان بعد إقبال الدنيا عليه ومسير الجيوش تحتَ ركابه يقصد مولاته ويخدمها ويستعرض حوائجها، وبعث به أبو كاليجار مع ابنه أبي نصر إلى بغداد، فلم يزَلْ معه حتَّى قدم طُغْرُلبك بغداد واعتقل أبا نصر في القلعة، فلم يُفارِقْهُ سعد الدولة، فلما مات خدم سعدُ الدولة ألب أرسلان ووقاه بنفسه لمَّا جرحه يوسف -وقد ذكرناه- فلمَّا مَلَكَ مَلِك شاه بعثَ سعد الدولة إلى بغداد في رسالة، فجلس له القائم في صفر سنة سبع وستين، وأعطاه الخِلَعَ والعهد لملك شاه، وأقطعه ملك شاه واسطًا، وكان قد ولَّاه شحنة بغداد، ورأى ما لم يرَه خادمٌ من المال والجاه ونفوذ الأمر وطاعة العساكر، ولم يُنقَل أنَّه مرض ولا صدع، ونال مُرادَهُ من كلِّ عدوٍّ له، وذكر أنَّه لم يجلس قطُّ إلا على وضوء، وكان يتوضأ ولا يستعين بأحد، ويصوم، ويقوم الليل، ويتصدَّق، ولم يصادِرْ أحدًا، ولا ظلم أحدًا، وكان يوم ¬

_ (¬1) هذا الخبر والذي قبله في المنتظم 17/ 54 - 55. (¬2) يعني في القلب على بركياروق ومن معه، ينظر الكامل 10/ 295. (¬3) ينظر المنتظم 17/ 56 - 57.

عبد الله بن أحمد

المصافِّ بين محمد وبركياروق مع بركياروق، فكبا به فرسُه وعليه سلاحه فلم يعرفوه، فقُتِلَ، وحُمِلَ إلى بغداد فدُفِنَ في الجانب الشرقي مُقابل رباط أبي النجيب، وكان يعمل برأيه في قتل ما لا يجوز قتلُه من اللصوص ويُمَثِّل بهم، ويزعم أن ذلك سياسة. عبد الله بن أحمد (¬1) ابن علي بن صابر، أبو القاسم، السُّلَمي، الدمشقي، ويعرف بابن سِيدَه، وُلدَ سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة، وكانت وفاتُه في ربيع الآخر بدمشق، وأنشد: [من الكامل] صبرًا لِحُكْمِكَ أيُّها الدَّهرُ ... لكَ أن تجورَ ومنِّيَ الصبرُ آليتُ لا أشكوكَ مجتهدًا ... حتَّى يَرُدَّكَ مَنْ لهُ الأمرُ عبد الرزاق الصوفي، العربوني (¬2). كان مقيمًا برباط عتاب غربي بغداد، وهو معروف بسُكنى المجردين، حجَّ سنين كثيرة على التجريد وقارب مئة سنة، ولمَّا احتُضِرَ لم يُخلِّف من الدنيا شيئًا، فقالت له زوجته: وافضيحتُك [قال: ولمَ؟ قالت: ما لكَ كفن. فقال لها: وافضيحتي] (¬3) لو كان لي كفن. وتوفِّي رحمه الله واتَّفق أنَّه مات في هذا الوقت أبو الحسن البسطامي شيخ رباط ابن المحلبان، وكان لا يَلْبَس إلا الصوف، ويغلظ على نفسه، ويُظهر التجريد والفقر، فظهر عنه أن له عشرة آلاف دينار مدفونة، فتعجَّب الناس من تفاوت ما بين الرجلين، وكلاهما شيخا رباطين. عبد الواحد بن رزق الله بن عبد الوهاب (¬4) أبو القاسم، التميمي، الحنبلي، قدم رسولًا إلى دمشق من المستظهر سنة تسعين بِخِلَع إلى دُقاق، وعاد إلى بغداد فتُوفِّي بها، وكان ثقةً صدوقًا. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 27/ 39 - 40. (¬2) المنتظم 17/ 57. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وهو بنحوه في المنتظم، والكامل 10/ 302. (¬4) تاريخ دمشق 43/ 334 (طبعة مجمع اللغة).

محمد بن سلطان

محمد بن سلطان (¬1) ابن محمد بن حيُّوس، أبو الفتيان، الأمير، الشاعر، ولد سنة إحدى وأربع مئة، وقال الشعر وله خمسة عشرة سنة، وهو من أهل بيت الفضل والعلم، وتُوفِّي في رجب وقد جاوز تسعين سنة، ومن شعره قال يمدح ناصر الدولة بن حمدان في أبيات: [من الطويل] لكم أن تجوروا مُغضَبين (¬2) وتغضبوا ... وعادتكُم أن تزهدوا حينَ تغضبوا جنيتُمْ علينا واعتَذْرنا إليكمُ ... ولولا الهوى لم يسألِ الصفحَ مُذْنِبُ صبابةُ شوقٍ غادرتْهُ صبابةٌ ... إذا ذلَّ فيها طالبٌ عزَّ مطلَبُ مواصَلَةٌ كانَتْ كأحلامِ نائمٍ ... وإن لامَ فيها عاذِلٌ ومؤنِّبُ وقد رُمْتُ أن ألقى الصُّدودَ بمثلِهِ ... مقابلة لكنَّني أتهيَّبُ وداويَّةٍ بِكْرٍ جعَلْتُ نِكاحَها ... سُرى ضُمَّرٍ فارقنَها وَهْيَ ثَيِّبُ تضِلُّ فلو بعضُ النُّجومِ سرى بها ... ورامَ نجاةً ما درى كيف يذهَبُ دليلانِ فيها حُسْنُ ظنِّي وبارقٌ ... يُبشِّرُ بالتَّهطالِ والعامُ مُجْدِبُ ومُذْ أَرَياني ناصرَ الدولةِ انْجلى ... برُؤياه ما أخشى وما أترقَّبُ فجاورتُ مَلْكًا تَستَهِلُّ يمينُهُ ... ندًى حينَ يرضى أو ردًى حين يغضَبُ إذا البيضُ كلَّتْ يوم حربٍ فإنَّها ... مواضٍ قواضٍ أنَّ تغلِبَ تغلِبُ خلائقُ كالماءِ الزُّلالِ وتحتَها ... من العزمِ والإقدامِ نارٌ تلهَّبُ فإن طابتِ الأوطانُ لي أو ذكرتُها ... فإنَّ مُقامي في جنابِكَ أطيَبُ وقال: [من الخفيف] كُنْ بعيدًا إن شئتَ أو كُنْ قريبًا ... فأياديكَ عندنا لَنْ تغيبا ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 53/ 110 - 114 وفيه أن وفاته كانت سنة (473 هـ) وإليه ذهب أكثر المؤرخين، فهو كذلك في العبر 3/ 218، والسير 18/ 413، وشذرات الذهب 3/ 343، وكشف الظنون 1/ 765 وغيرها، بينما ذكره ابن الأثير في الكامل 10/ 117 في وفيات سنة (472 هـ). قلت: ولم يذكره في وفيات هذه السنة -يعني سنة (493 هـ) - سوى المصنف، وتابعه عليه ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة 5/ 165. وتنظر مصادر الترجمة في السير 18/ 413. (¬2) في الديوان والنجوم الزاهرة: معرضين.

خلفَكَ الآلاءُ مُذْ غِبْتَ عنَّا ... فتساوَيتَ مشهدًا ومَغيبا كالغَمامِ الرُّكامِ يمضي ويُبقي ... موردًا فائضًا ومرعًى خَصيبا (¬1) وله أشعار كثيرة. وقال: [من الطويل] سأشكرُ ما دامَ الكلامُ يُطيعني ... صُنوفًا أتَتْ من جودِكَ المتتابعِ توالتْ على من لا يُدِلُّ بخدمةٍ ... عليك ولا يُدلي إليكَ بشافعِ مَنَحْتُكَ من محضِ القريضِ وحُسْنِهِ ... بضائعَ ليسَ العُرْفُ فيها بِضائعِ وقال: [من الطويل] ولمَّا وقفنا والرسائلُ بينَنا ... دموعٌ نهاها الوجدُ أن تتوقَّفا ذَكَرْنا الليالي بالعقيقِ وظِلَّها الْـ ... أنيقَ فقطَّعْنا القلوبَ تأسُّفا كتمتُ الهوى جَهدي وبالصبر مُسْكَةٌ ... وبرَّح ما ألقى فقد برح الخفا ولي سنةٌ لم أدرِ ما سِنَةُ الكرى ... لِهَمٍّ أتى ضيفًا فألفى مُضيِّفا وقال: [من الكامل] هَلْ غيرُ ظِلِّكَ للعُفاةِ مَقيلُ ... أم غيرُ عفوكَ للجُناةِ مُقيلُ نكَّلتَ بالأَحداث لمَّا أن عَدَتْ ... فلِصِرْفها عمَّا حميتَ نكولُ يا من قواضبُهُ تُشايعُ عزمَهُ ... ولأجلِ ذاكَ تَصِل حين يصولُ حرمٌ لإكرامِ الوفودِ مُؤهَّلٌ ... ففناؤه أبدًا بهم مأهولُ ويروقُه الأسَلُ المُحطَّمُ في العِدى ... يومَ الوغى لا الخدُّ وهو أسيلُ إنِّي برغم عدايَ ممنوعُ الحِمى ... ما هزَّ هذَا القَيلَ هذا القيلُ ذلَّلْتَ لي صعبَ القوافي منعِمًا ... فالقولُ جزلٌ والعطاءُ جزيلُ ¬

_ (¬1) جاء إلى جانبه على هامش (ب): ومن جيد شعر ابن حيُّوس قوله: [من المتقارب] ولمَّا وقفنا لتوديعهم ... بكوا لُؤلُؤًا وبكينا عقيقا ساروا فأودعتهم أدمُعي ... فصاحوا الغريق وصِحْتُ الحريقا وقد انتحل بعض المتأخرين هذين البيتين لنفسه وهما لابن حيُّوس. قلت: ولم أقف على من نسبهما إليه.

محمد بن صدقة بن دبيس

وقال: [من الكامل] يا للرجالِ لنظرةٍ سفكَتْ دمًا ... ولحارثٍ لم ألقَهُ مستسلما وأرى السهام تؤمُّ من يُرمى بها ... فعلامَ سهمُ اللَّحظِ يُصمي من رمى يا آمري بتجلُّدٍ لم أُعطَهُ ... ما نمَّ دمعي بالجَوى حتَّى نما ولقد وقفتُ بدارِ زينب موهِنًا ... والوجدُ يأبى أن أقولَ فأُفهما مستخبرًا عنها فلم أرَ مَعْلَمًا ... منها بأخبارِ الأحبَّةِ مُعْلِما أبكي ويمنعني تناسي ما مضى ... ما يمنع الأَطلال أن تتكلَّما وقال: [من الطويل] عداكُمْ هوًى مُذْ شَفَّنا ما تعدَّانا ... فهوَّنتُمُ خطْبًا من البَينِ ما هانا وقلتم تداووا بالفِراقِ فما الَّذي ... ألانَ النَّوى من بعد قسوتِها الآنا محمد بن صدقة بن دُبَيس (¬1) أبو المكارم، عِزُّ الدولة، كان شجاعًا، ذكيًّا، جوادًا، ولمَّا مرض مرض الموت كان أبوه سيف الدولة صدقة جالسًا عنده، فأُتي بديوان أبي نصر بن نُباتة، فأخذ محمد الديوان وفتحه فطلع ما صورتُه، وقال: نُعزِّي سيف الدولة في ابنه أبي المكارم محمد، فأخذ بعض الجماعة الديوان من يده، فأخذه وفتحه ثانيًا، فخرج ذلك الشعر الَّذي قاله ابن نُباتة من قصيدة: [من الطويل] فإنَّ بميَّافارقينَ حفيرةً ... ترَكْنا عليها ناظِرَ الجودِ داميا وحاشاكَ سيفُ الدولةِ اليومَ أن تُرى ... من الصبرِ خِلْوًا أوإلى الحُزنِ ظاميا ولمَّا عدِمنْا الصبرَ بعدَ محمدٍ ... أتينا أباهُ نستفيدُ التَّعازيا فمات بعد يومين، وجلس الوزيرُ عميدُ الدولة في داره للعزاء ثلاثة أيام، للصهر الَّذي كان بينهما، وخرج له في اليوم الثالث توقيعُ الخليفة يتضمن التعزية له، والأمر بعوده إلى الديوان، فقرأه قائمًا، وبعث الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامَغاني إلى حِلَّة سيف الدولة رسالة من الخليفة تتضمّن التعزية له. ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 60 - 61.

محمد بن محمد

محمد بن محمد (¬1) ابن محمد بن جَهير، الوزير، عميد الدولة، شرف الدين، كان حسنَ التدبير، كافيًا في المهامِّ، شجاعًا، جوادًا، حليمًا، لم يعجل على أحدٍ بمكروه، وسمع الحديث على الشيوخ، وكان كثير الصدقات، واسعَ المعروف، يجيز العلماء والشعراء، ويحسن إليهم، وخدم ثلاثة خلفاء؛ القائم، ولمَّا احتضر أوصى به المقتدي، ووَزَر للمقتدي سنة اثنتين وسبعين، فبقي فيها خمس سنين، ثم عُزِل بالوزير أبي شجاع، ثم عاد بعد عزل أبي شجاع سنة أربع وثمانين، فلم يزل إلى أن مات المقتدي، وولي المستظهر، فدبر أمور الخلافة ثمانَ سنين وأحد عشر شهرًا وأربعة أيام، وكان سيِّدَ الولاة؛ لبرِّ كان فيه، وكانت كلماتُه معدودة، كلَّم يومًا لولد أبي نصر بن الصباغ فقال: اشتَغِلْ وادأبْ وإلَّا كنتَ صبَّاغًا بغير أب. فلمَّا قام من مجلسه أتى النَّاسُ ابنَ الصباغ فهنَّوه حيث كلَّمه، وله ترسُّلٌ بديع، وتوقيعاتٌ وجيزة، وأشعارٌ رقيقة، وقرأ الفقه وأنواع العلوم، وكانت له سياسةٌ ورياسةٌ وهيبة، وكان ممدَّحًا، فيقال: إنه مُدِحَ بمئة ألف بيت من الشعر. وقال العماد: مدحهُ عشرةُ آلاف شاعر، ومن مُدَّاحه: مسعود بن العلاء، المعروف بابن الخباز، ومن مدحه فيه: [من البسيط] وماءُ دجلةَ أو ماءُ الفراتِ على ... العِلَّاتِ أعذبُ لي من ماءِ يَبْرينِ (¬2) كم بين ماءٍ تظلُّ الأُسْدُ شارعةً ... منهُ وتسكنُهُ عيسُ السَّراحينِ (¬3) مستوحشٍ في القِفارِ البيدِ منفردٍ ... لا يعرفُ الأَمنَ إلَّا في الأحايينِ وبين ماءٍ كماءِ الوردِ مُطَّرِدٌ ... تحتَ القصورِ وروضاتِ البساتينِ عذبٌ إذا عَبثَتْ أيدي النسيمِ بهِ ... تَنَزَّهَتْ فيه أقمارُ الرواشينِ (¬4) والفُلكُ تقطعهُ عرضًا وتخرِقُهُ ... طولًا وتنقضُّ فيه كالشَّواهينِ ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 59 - 60. وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 175. (¬2) يَبْرين: قرية ذات تحل وعيون عذبة بحذاء الأحساء في ديار بني سعد. تاج العروس (بري). (¬3) عيس الشَّراحين: الكريم من الذئاب. المعجم الوسيط (عيسى) و (سرح). (¬4) الرواشن؛ جمع روشن: وهو الرفّ والكوَّة والشرفة. المعجم الوسيط (رشن)

يحيى بن عيسى بن جزلة

لا أبتغي الشِّيحَ بالرَّيحان مغتَنمًا ... ولا أحاول حَوْذانًا بنسرينِ (¬1) ولا ألَذُّ برؤياهُ ويعجِبني ... شَمُّ الخُزامى ولي نشْرُ الرَّياحينِ ولا أهيمُ بربعٍ غابَ ساكِنُهُ ... عنهُ وأصبحَ قفْرًا غيرَ مسكونِ حسبي ببغدادَ دارًا والحريمِ حِمًى ... من طارقاتِ صروفِ الدَّهرِ يكلوني فالعيشُ غضٌّ به والأمنُ متصلٌ ... بالعدلِ من شَرَفٍ الدُّنيا مع الدِّينِ مُجرَّبُ الرأي يقظانُ البصيرةِ هجَّـ ... ـامُ العزيمةِ قوَّامُ البراهينِ يُريكَ في الدَّستِ إطراقًا وهيبتُهُ ... من الصعيدِ إلى أقطار جَيحونِ للحمدِ سوقٌ لديهِ غيرُ كاسدةٍ ... وللمدائحِ أجرٌ غيرُ ممنونِ فلو رآه ابنُ يحيى وابنُ ذي يَزَنٍ ... لَعوَّذاه بآياتِ الطَّواسينِ ثم آل أمرُه إلى أن حبسه الخليفة في داره، وأُخرج ميتًا في شوال، فحُمِلَ إلى داره، فغُسِّل فيها، ودُفن بالربة التي استجدَّها في قراح بن رزين، ومع ما رأى من الأموال والجواهر التي لم يرَها غيرُه مات مديونًا، فمنع أصحابُ الديون من دفنه في تربته، وقالوا: هذه ملكه، ولم يصحَّ وقفُها. ثم عجزوا عن إبطال الوقف، فسكتوا. وقال أبو يعلى بن القلانسي: في سنة أربع وتسعين تقدَّم المستظهر بالقبض على عميد الدولة وعلى نوَّابه ومصادرتهم وقتلهم لأشياء نقمها عليه، ومنكراتٍ عُزِيَتْ إليه. يحيى بن عيسى بن جَزلة (¬2) أبو علي، المتطبِّب، صاحب "المنهاج"، كان نصرانيًّا، يقرأ على أبي علي بن الوليد المعتزلي، فلم يزَلْ يدعوه إلى الإسلام ويذكر له الدلائل الواضحة حتَّى أسلم، واستخدمه أبو الحسن قاضي القضاة في كَتْبِ السجِلَّات، وكان يَطُبُّ أهل محلَّته ومعارفه بغير أجرة، ويحمل إليهم الأشربة والأدوية بغير عِوَض، ويتفقَّد الفقراء ويُحسِن إليهم، ووقف كتبه قبل وفاته، وجعلها في مشهد أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه. ¬

_ (¬1) الحَوْذان: نبت نوره أصفر رائحته طيبه، والنسرين: ضربٌ من الرياحين. اللسان (حوذ) و (نسر). (¬2) المنتظم 17/ 61، والكامل 10/ 302.

السنة الرابعة والتسعون وأربع مئة

السنة الرابعة والتسعون وأربع مئة فيها قتل السلطان بركياروق خلقًا من الباطنية تحقَّق مذهبهم، وكانوا ثلاث مئة ونيِّفًا، وكتب إلى الخليفة بالقبض على من يُتَّهم أنَّه منهم، فصار مَنْ في نفسه شيء من أحد نسبه إليهم فيُنهب، حتَّى حُسِمَ هذا الأمر. وأول ما عُرِفَ من أحوال الباطنية في أيام ملك شاه أنهم اجتمعوا فصلُّوا العيد في ساوة، ففطن بهم الشِّحْنة، فأخذهم وحبسهم ثم أطلقهم، ثم سألوا مؤذنًا من أهل ساوة أن يدخل في مذهبهم، فامتنع، فخافوا أن يَنِمَّ عليهم فاغتالوه وقتلوه، ورُفِعَ ذلك إلى نظام الملك [وأخذ المتَّهم بقتل المؤذن -وكان نجارًا- فقتله، فقتلوا نظام الملك عِوَضَه، وهو أول مَنْ قتلوا، وكانوا يقولون: قتلتُم منَّا نجَّارًا، فقتلنا به نظام الملك] (¬1). ثم استفحل أمرهم بأصبهان لمَّا مات ملك شاه، فكانوا يسرقون الناس فيقتلونهم ويُلقونهم في الآبار، فكان الإنسان إذا دنا المساء ولم يعُدْ إلى منزله يئسوا منه. وأجلسوا امرأة على حصير لا تبرح منه، فدخلوا الدار وأزالوها، فوجدوا تحت الحصير بئرًا فيها أربعون قتيلًا، فقتلوا المرأة، وهدموا الدار والمحلَّة. وكانوا يُجلِسون رجلًا ضريرًا على باب الزُّقاق الَّذي فيه هذه الدار، فإذا مرَّ به إنسانٌ سأله أن يقوده خطواتٍ إلى الزُّقاق، فإذا فعل جذَبه مَنْ في الدار وأخذوه قهرًا فقتلوه، فجَدَّ أهلُ أصبهان فيهم، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا. وأول قلعة ملكها الباطنية قلعة في ناحية أصبهان يُقال لها: الرُّوذبار من نواحي الدَّيلم، وكانت هذه القلعة لقماج صاحب ملك شاه، وكان متهمًا بمذهبهم، فلمَّا مات ملك شاه أعطوه ألفًا ومئتي دينار فسلَّمها إليهم سنة ثلاث وثمانين وأربع مئة. وقيل: لم يكن ملك شاه مات، وكان مُقدِّمها يقال له: الحسن بن الصبَّاح، وأصلُه من مرو، وكان كاتبًا للرئيس عبد الرزاق بن بَهْرام إذ كان صبيًّا، ثم سار إلى مصر وتلقَّى من ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وتاريخ الإسلام 10/ 674، وبنحوه في المنتظم 17/ 63.

دعاتهم (¬1)، وعاد داعيةً (¬2) للقوم ورأسًا فيهم، فحصلت له هذه القلعة، وكانت سيرتُه في دعائه أنَّه لا يدعو إلَّا غبيًّا، لا يفرِّق بين يمينه وشماله، ولا يعرف من أمور الدنيا شيئًا، ويطعمه الجوز والعسل والشونيز حتَّى ينشط دماغه، ثم يذكر له حينئذٍ ما تمَّ على أهل البيت عليهم السلام من العدوان والظلم، حتَّى يستقرَّ ذلك في نفسه، ثم يقول له: إذا كانت الأزارقةُ والخوارجُ سمحوا بنفوسهم في القتال مع بني أمية، فما سببُ تخلُّفِكَ بنفسك عن نُصرة إمامك؟ فيتركه بهذه المقالة طعمةً للسِّباع. وكان ملك شاه قد أنفذ إلى ابن الصبَّاح يدعوه إلى الطاعة، ويتهدَّده ويأمره بكفِّ أصحابه عن قتل العلماء والأمراء، فقال الرسول: الجواب ما تراه، ثم قال لجماعةٍ وقوفٍ بين يديه: أريد أن أُنفذكم إلى مولاكم في حاجة، فمن ينهض لها؟ فاشرأبَّ كلُّ واحدٍ منهم لذلك، فظنَّ الرسولُ أنها رسالة يُحَمِّلها إياهم، فأومأ إلى شابٍّ منهم وقال: اقتُلْ نفسَك. فجذب سِكِّينه، وضرب بها غَلْصَمته فخرَّ ميتًا، وقال لآخر: ارمِ بنفسك من القلعة. فألقى نفسه فتقطَّع، ثم التفت إلى الرسول وقال: لهم عندي من هؤلاء عشرون ألفًا هذا حدُّ طاعتهم. فعاد الرسولُ وأخبر ملك شاه، فعجب وأعرض عن كلامهم. وصار بأيديهم قلاعٌ كثيرةٌ منها قلعة على خمسة فراسخ من أصبهان، وكان حافظُها تركيًّا، فصادفه نجَّارٌ باطني، وأهدى له جاريةً وفرشًا ومركبًا، فوثِقَ به، وكان يستنيبه في حفظ القلعة، فاستدعى النجارُ ثلاثين رجلًا من أصحاب ابن عطاش، وعمل دعوةً، ودعا التركيَّ وأصحابَه، وسقاهم الخمر، فلمَّا سكروا رفع الثلاثين رجل بالحبال إليه، وسلَّم القلعة إليهم، فقتلوا أصحاب التركي، وسَلِمَ التركيُّ وحدَه وهرب، وصارت القلعةُ في يدي عطاش، وتمكَّنوا وقطعوا الطرقات ما بين فارس وخوزستان، وانصرف جماعةٌ من أصحاب جاولي إليهم، وصاروا معهم، وحسَّنوا لهم اتباعَ جاولي والاستيلاء على ماله، فقصَدَه ثلاثُ مئة من صناديدهم، وعلم بهم، فلمَّا توسَّطوا الشعب عاد عليهم وأصحابُه فقتلوهم، ولم يُفلِتْ منهم أحد، وكان جماعة منهم في ¬

_ (¬1) في (خ): عادتهم، والمثبت من (ب) والمنتظم وتاريخ الإسلام. (¬2) بعدها يبدأ سقط من الأصل (ب).

عسكر بركياروق، فاستغووا خلقًا منهم، فوافقوهم، فاستشعر أصحابُ السلطان منهم، ولبسوا السلاح، ثم قتلوا منهم نحو مئة رجل. وكان بالصَّيمر -وهو بلد من أعمال المشان- رجلٌ منهم يقال له: ابن الشيباش، ويتزهَّد ويدَّعي الكرامات، فمِنْ ذلك أنَّه أحضر يومًا جَدْيًا مشويًّا، وكان عنده جماعة، فلمَّا أكلوا أمر بَردِّ عظامه إلى التَّنُّور، فرُدَّت، وجعل على التَّنُّور طبقًا، ثم رفعه بعد ساعة، فوجدوا جَدْيًا يرعى حشيشًا، ولم يروا للنار أثرًا، ولا للرماد خبرًا، فتلطَّف بعضُ أصحابه حتَّى عرف القصة، وأن ذلك التَّنُّور كان يُفضي إلى سرداب وبينهم طبق من حديد يدور بلَولَب، فإذا أراد إزالة النار عنه فركه، ثم يُنزِلُ مكانَه طبقًا آخر مثله. وقال الغزالي: قد شاهدتُ قصة الحسن بن الصبَّاح لمَّا تزهَّد تحت حصن الموت، وكان أهل الحصن يتمنَّون صعوده إليهم، فامتنع، وكان مدة مُقامه تحت الحصن يقول: أما ترون المنكر كيف قد فشا؟ وفسد الناس، فصبا (¬1) إليه خلق كثير، فخرج الأمير صاحب الحصن إلى الصيد، وكان أكثرُ تلامذته في الحصن، فأصعدوه إليهم، وملَّكوه الحصن، وبعث الأمير مَنْ قتله، ولمَّا كثُرت قلاعُهم واشتغل أولادُ ملك شاه عنهم باختلافهم اغتالوا جماعةً من الأمراء والأعيان فقتلوهم. وفيها التقى محمد شاه وبركياروق، وكان بركياروق قد قصد خوزستان وانضمَّ إليه أولاد بُرْسُق وإياز، وسار يطلب أخاه محمد شاه وهو بأصبهان وقد جمع خلقًا من التركمان في خمسة عشر ألفًا، وكان بركياروق في خمسة وعشرين ألفًا، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وقُتِلَ من الفريقين عددٌ كثير، فانهزم محمد شاه، وهرب وزيرُه مؤيد الملك بن النظام، فتبعه غلمان بركياروق، فأخذوه (¬2) وجاؤوا به إلى بركياروق، فقام إليه وضرب عنقه بيده، وقال: هذا بوالدتي، فكانت وزارتُه سنةً وأحد عشر شهرًا وعمره خمسون سنة، ومضى محمد شاه إلى أخيه سنجر شاه، وكان له في خراسان، فاستجار به لينجده على بركياروق، فأرسل سنجر إلى بركياروق يسأله في محمد، فقال: لابُدَّ أن يطأ بساطي. فامتنع عليه محمد، واستفزَّ عليه طوائف الترك، وكان محمد شاه لمَّا كتب إلى ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل (خ)، وفي المنتظم: فرسًا، وفي تاريخ الإسلام: قوسًا. (¬2) في تاريخ الإسلام: فصار.

أخيه سنجر يطلب منه مالًا قسَّط عليه أهل نيسابور، حتَّى أُخِذ من الحمامات والخانات، والكبير والصغير، والقوي والضعيف، وسار إلى محمد ليقصد بغداد، وكان بركياروق قد تفَرَّق عنه عسكره، فوصل إلى بغداد في خمسة آلاف فارس، وخرج الموكب لتلقِّيه، فنزل بدار المملكة، ولمَّا وصل لم يرد سيفُ الدولة صدقة إلى خدمته، فراسله السلطان، فقال: إن أردتَ أن أكون في خدمتك فسلِّمْ إليَّ الوزير أبا المحاسن الدِّهِسْتاني، وكان الوزير قد نفذ إلى سيف الدولة قبل ذلك يقول: قد اجتمع عليك للخزانة ألفُ ألف دينار، فإن حملتَها وإلا قصدناك. وكان رسولُ العميد، فأنزله في خيمة، ولمَّا قرأ كتاب الوزير أمر أن تُقطع أطنابُ الخيمة، فقُطعت فوقعت عليه، فخرج وركب فرسه وقصد بغداد، وكتب إلى صدقة من الطريق: [من الرجز] لا ضُرِبَتْ لي بالعراقِ خيمةٌ ... ولا عَلَتْ أناملي على قَلَمْ إن لم أقُدْها من بلاد فارسٍ ... شعثَ النواصي فوقَها سودُ اللِّمَمْ حتَّى تُرى لي في الفرات وقعةٌ ... يُشربُ منها الماءُ ممزوجًا بدمْ وقطع صدقة خطبة بركياروق، وخطب لمحمد. وفيها وصل محمد وسنجر إلى النَّهروان، وكان بركياروق مريضًا، فنقلوه إلى الجانب الغربي، ودخل محمد وسنجر بغداد في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، وسار بركياروق إلى واسط، ثم إلى الجبل، وقُطعت خطبتُه ببغداد، وخُطب لمحمد شاه، ونزل بدار المملكة، ونزل سنجر بدار سعد الدولة. وقال أبو يعلى بن القلانسي: في ربيع الأول جمع سُكْمان بن أُرْتُق خلقًا كثيرًا من التركمان، وزحف بهم إلى سَرُوج فملكها، وحشد الفرنج من الرُّها وغيرها وساروا إليه، فهرب التركمان، فضعُفَتْ نفسُه وانهزم، وجاء الفرنج إلى سَرُوج فقتلوا أهلها وسَبَوْهم، ولم يُفْلِتْ إلا من انهزم. وفيها وصل كُنْدُفري صاحبُ القدس إلى عكَّا وأغار عليها، فأصابه سهمٌ فقتله، وكان قد عمَّر يافا وسلَّمها إلى طُنْكري، فلما قُتِلَ كُنْدُفري سار أخوه بَرْدَويل القُومَص صاحب الرُّها إلى القدس في خمس مئة فارس وراجل، فجمع شمسُ الملوك دُقاق العسكرَ، وجاءه جناحُ الدولة صاحبُ حمص، وكان في خمس مئة فارس، وكان

عبد الرحمن بن أحمد بن محمد

القُومَص قد عبر في بلاده وجاء إلى الساحل، فالتقوه بالقرب من بيروت، فسارع إليه جناح الدولة فأسره، وقتل بعض أصحابه، وانهزم الباقون. وقيل: إن بَرْدَويل أفلَتَ وحدَه ودخل القدس، فملَّكوه عليهم. وفيها افتتح الفرنج جملةً من بلاد الساحل منها حيفا وأرسوف وقيسارية بالسيف، وقتلوا أهلها. وفيها أرسل القاضي ابنُ صُليحة المتغلِّب على ثغر جبلة إلى أتابك طُغْتِكين يلتمس منه إنفاذ مَنْ يراه من ثقاته إليه ليُسلِّم إليه جبلة، فندب إليه ولدَ تاج الملوك يوري، وكان دُقاق بدياربكر، فعاد إلى دمشق بأمواله وأسبابه وخيله وكراعه، فأكرم طُغْتِكين مثواه وأحسن إليه، وطلب أن يُسيِّر معه طُغْتِكين من يوصله إلى بغداد، فبعث معه جيشًا، ووصل، فأُنزِل وأُكرِم، ووشى به واشٍ إلى السلطان وقال: معه أموال كثيرة. فنُهِبَ وأُخِذَ جميعُ ما كان معه، وأمَّا يوري فإنه أساء السيرة في جبلة، وآذى أهلَها وصادرهم، وما ألِفوا إلا الإحسان والعدل، فكاتبوا القاضي جلال الملك بن عمار صاحب طرابلس، فأرسل إليهم عساكرَ، فغلبوا أصحاب يوري وأخرجوهم من جبلة، وقبضوا يوري، وبعثوا به إلى ابن عمار، فأكرمه وأحسن إليه، وبعث به إلى دمشق، وكتب إلى والده يعرِّفه صورةَ الحال، ويخبره بما جرى، ويعتذر إليه، وحصَّن ابنُ عمار جبلة وأقامَتْ في يده. وفيها صادر دُقاق أبا علي بن محمد بن علي بن الصوفي رئيس دمشق على عشرين ألف دينار واعتقله، ثم أعاده إلى رياسته. وفيها تُوفِّي عبد الرحمن بن أحمد بن محمد (¬1) النُّوَيزي، نزيل مرو، ولد سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة، وسمع الحديث الكثير وأملاه، ورحل إليه الأئمة والعلماء، ورأى رجل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في منامه، فقال له: قُل لعبد الرحمن: أبشِرْ فقد قَرُبَ وصولُكَ إليَّ وأنا مُنتَظِركَ. ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 69.

عبيد الله

وكان ورعًا زاهدًا عابدًا، يحتاط في مطعمه. عبيد الله (¬1) أبو بكر، مؤيد الملك (¬2) بن نظام الملك، قتله بركياروق، وكان فاضلًا جوادًا سمحًا، وله شعر، فمنه: [من البسيط] قالوا أتى العيدُ مفتَرُّ الثغورِ فخُذْ ... حظَّ السرورِ فهذا موسِمُ الطَّربِ فقلتُ والقلبُ في أيدي الفراق لعا (¬3) ... ومقلةُ العينِ تبكي من دمٍ سَرِبِ كيفَ السرورُ لنائي الدارِ مُكْتئبٍ ... صبٍّ بعيدٍ عنِ الأوطانِ مغتَربِ عزيزي بن عبد الملك بن منصور (¬4) أبو المعالي، الجِيلي، ويلقب بشَيذَلة، وَلِيَ القضاء بباب الأزج، وسمع الحديث، وكان شافعيًّا، لكنه كان أشعريًّا يتظاهر بمذهب الأشعري، وكان فيه حِدَّةٌ وبذاذةُ لسان، توفِّي في صفر، ودفن بباب أَبْرز. وسُرَّ أهلُ باب الأزج بموته، فإنه سمع يومًا رجلًا يقول: مَنْ وجد لنا حمارًا؟ فقال: ادخُلْ باب الأزج وخُذْ من شئت. وقال يومًا بحضرة نقيب النقباء طِراد: لو حلف حالفٌ أنَّه لا يرى إنسانًا، فرأى واحدًا من أهل باب الأزج، لم يحنث. فقال [له (¬5)] النقيب: من عاشر قومًا أربعين صباحًا فهو منهم. صنَّف عزيزي الكُتب الحِسان، منها "لوامع أنوار القلوب في جوامع أسرار المحب والمحبوب" ومنها "نسيم الأُنس وقسيم القدس" وذكر في خطبة كتاب "لوامع أنوار القلوب": الحمد لله الَّذي اصطفى من خلقه أحِبَّاء وأصفياء، واجتبى منهم أتقياء وأولياء، وزيَّن في قلوبهم حدائقَ حقائق معرفته، وزرع فيها حِياض رياض محبته، ¬

_ (¬1) لم أقف على من ذكر هذه الترجمة سوى المصنف. (¬2) في (خ): مؤيد الدولة، والمثبت من (ب). (¬3) لعا: صوت معناه الدعاء للعاثر بأن يرتفع من عزته. المعجم الوسيط (لعا). (¬4) المنتظم 17/ 69 - 70، والكامل 10/ 326. وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 174. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

وأزهر أنوارها بنور مكاشفته، ونسم عليها نسيمَ مشاهدته، حتَّى تلألأت بأزهارِ أنوارِ أسرارِ الحقائق (¬1)، وتشعشعت بلوامع جوامع الدقائق، فاخضرَّت بها أوراق أفنان أُنس الغُيوب، وأينعت بها مشاهدة المحبوب، وحلُّوا من منازل القرب بأمرع جناب، فطوبى لهم، ثم طوبى لهم وحسن مآب، أحمدُه على الهداية، وأشكره على العناية، وأسأله سلوكَ سبل الهدى إلى منازل التوفيق، وتبَوُّأَ مجالس الرضا على مناصب التحقيق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ مُحِبٍّ مُذْعِنٍ مُقِرٍّ مفتقر، يسكن قائلها في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الَّذي نزَّهه عن بوائق الدنيا، وشرح صدره بالوصول إلى الأخرى، واختاره لمحبته وارتضاه، وألقى إليه مقاليد شرعه وحباه، فصلَّى الله عليه ما أورق عود، ورسا عمود. وبعد، فإنَّ أرقَّ الخطاب وقعًا، وأدقَّ الكلام وضعًا، ما صدر عن صحيح صفاء القلوب، وظهر عن صدر أوصافِ المُحِبُّ والمحبوب؛ لأن الأشجان تُملي على البنان بيانَه، والدموعُ تُمِدُّ المِدادَ ألوانَه، فتُهيِّج في عيون القلوب أرواح العشاق، ويهيم في بيداء الهوى ارتياح المشتاق، كما حُكي أن بعض المشايخ نزل في سفينة في دجلة ليعبر إلى الجانب الشرقي، وهو يشكو إلى أصحابه عجزه عن أوقات أوراده وأسفاره، ويبكي شوقًا إلى ما مضى من طيب أوقاته وأوطاره، فمرت به السفينة تحت قصر من بعض القصور، فسمع منه منشدًا يقول: [من المتقارب] حَمامَ الأراكِ ألا خبِّرينا ... لمن تهتِفينَ ومن تندُبينا فقد هِجْتِ وَيْحَكِ هذي القلوب ... وأذرفتِ عينيَ ماءً مَعينا تعالي نُقِمْ مأتمًا للفراق ... ونندُبُ أحبابَنا الظاعنينا ونُسعِدْك بالنَّوحِ كي تُسعدينا ... كذاك الحزينُ يواسي الحزينا فقام الشيخ يبكي ويكرر الأبيات، ثم شهق شهقةً ومات، فلهذه الإشارات نظمت الواسطات لجماعة المُحِبِّين، وأوضحت فيها منازل المتيَّمين، كما قال إبراهيم الخوَّاص: إن هذا العلم لا يصلح إلا لمن يُعبِّر عن وَجْدِه، ويُخبر عن نَعْتِه، وينطق عن فِعْلِهِ، ويتكلَّم عن صفاء سِرِّه، وقد اشتمل كتابي هذا على أوصاف العارفين، ¬

_ (¬1) العبارة في (خ): حتى تلألات أنوارها بنور مكاشفته بأسرار أنوارها الحقائق، والمثبت من (ب).

محمد بن الحسن

وحكايات الأوائل منهم والمتأخرين، وقد رُوي عن الجنيد رحمة الله عليه أنَّه قال: حكايات الصالحين جندٌ (¬1) من جنود الله، تعيش بها أرواح المريدين، وتجري بها دموع المشتاقين، وأنشد: [من البسيط] إنَّ الحكاياتِ أصلٌ في الإراداتِ ... فيها مَعانٍ وإظهارٌ لآياتِ فقيل له: من أين هذا؟ فقال: من قوله تعالى {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]. والبيت من أبيات وهي: فيا لها عجبًا إذ صار عارفُهُم ... يمشي على الماء من بين البريَّاتِ هذا بديعٌ من الأشياءِ ظاهرُهُ ... وليس ذا بعجيبٍ في الإشاراتِ (¬2) ورتب الكتاب في عشرة فصول. محمد بن الحسن (¬3) أبو عبد الله، الراذاني، نزل أوانا قرية من قرى بغداد، وكان زاهدًا، منقطعًا، ورعًا، قنوعًا من الدنيا، صاحبَ كرامات وآيات، طلب منه ولدٌ صغيرٌ له غزالًا، فقال: يا بُنيَّ، ومِنْ أين لي غزال؟ فألحَّ عليه، فقال: الساعةَ يأتيك، فجاء غزال، فجعل يضرب الباب بقرنيه، فقال: يا بُنيَّ، قُمْ فخُذِ الغزال. وكانت وفاته بأوانا في جمادى الآخرة. محمد بن علي (3) ابن عبيد الله (¬4) بن أحمد بن صالح بن سليمان بن وَدْعان، أبو نصر، القاضي، الموصلي، وإليه تُنسب الأحاديث الودعانية. ¬

_ (¬1) في (خ): للحكايات جند، والمثبت من (ب). (¬2) في (ب): الإرادات. (¬3) المنتظم 17/ 71. (¬4) تحرف اسم جده في (ب) إلى: عبد الله، والترجمة في المنتظم 17/ 71، وينظر الكامل 10/ 327، وتاريخ الإسلام 10/ 760.

محمد بن منصور

قدم بغداد سنة ثلاث وتسعين وأربع مئة، وروى أحاديث مناكير وموضوعات. وكانت وفاته في ربيع الأول بالموصل. محمد بن منصور (¬1) أبو سعد، شرف الملك، المستوفي، الخُوارَزمي، كان جليلَ القدر، نبيلًا متعصِّبًا لأصحاب أبي حنيفة - رضي الله عنه -، وهو الَّذي بنى على أبي حنيفة القبة والمدرسة الكبيرة بباب الطاف، ومدرسةً بمرو، ووقف فيها كتبًا نفيسة، وبنى الرباطات في المفاوز، وعمل خيرات كثيرة، ثم انقطع في آخر عمره، وترك الاستيفاء، وبذل لملك شاه مئة ألف دينار حتَّى أعفاه من الخدمة. وكان الملوك يصدرون عن رأيه، وكان متنعمًا، فكان يُحمل إليه ماءُ خُوارَزم وهو بأصبهان؛ لأنه عليه نشأ، وتُحمل إليه حنطةُ مرو ببغداد، ويقول: هي أجود الحنطة. وكانت خاتون الجلالية قد قسطت على أهل أصفهان مالًا على قدر أحوالهم، فقسطت عليه جملة وافرة، فأرسل إليها يقول: هذا الَّذي أخذتيه مني لم يؤثِّرْ عندي، فإنَّ لي ذخائر كثيرة اكتسبتُها في أيامكم، وإن لم يعلم الناس أنَّ ما أُخِذَ مني لم يؤثِّرْ عندي استوكسوني وأنا الخادم الَّذي لم يُغيِّره حال، وهذا مالي بين يديها. فاستحسنت خاتون ذلك منه، ولم تتعرَّض له بعد ذلك. وكانت وفاته بأصبهان في جمادى الآخرة. محمد بن منصور (¬2) النَّسَوي، عميد (¬3) خراسان، ورد بغداد زمن طُغْرُلبكَ، وبنى مدرسةً ووقفها على أبي بكر بن أبي المظفر السمعاني وأولاده (¬4) فيها إلى هلُمَّ جرَّا، وبنى مدرسة بنيسابور ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 72، والكامل 10/ 326. وتنظر باقي المصادر في السير 19/ 188. (¬2) المنتظم 19/ 17 / 72 - 73. (¬3) تحرفت في (خ) إلى: عبد. (¬4) بعدها في (خ) زيادة كلمة: فيها.؟

نصر بن أحمد بن عبد الله

وفيها تربتُه، وكان كثير الخيرات والصدقات، محسنًا إلى الرعية. نصر بن أحمد بن عبد الله (¬1) أبو الخطاب، ويُعرَفُ بابن البَطِر، البزَّاز، ولد سنة ثمانٍ وسبعين وثلاث مئة، وسمع الحديث الكثير، وعُمِّر حتَّى صارت الرحلة إليه من الأطراف. وتوفِّي في ربيع الأول، ودفن بباب حرب، وكان صالحًا، ثقةً، صدوقًا، سليمَ الصدر، جعله المستظهر على الدواليب، مشرفًا على علوفات البقر. وكان يكاتب الخليفة كلَّ وقت، فكتب إليه رقعة على رأسها: العبدُ ابن البَقِر المشرفُ على البَطِر، فضحك الخليفة. أبو المحاسن (¬2) وزير بركياروق، كان قد نقم (¬3) على أبي سعيد الحداد شيئًا، فقتله، فركب الوزير يومًا على باب أصبهان، فوثب عليه غلام أبي سعيد الحداد فقتله، وأخذ بثأر سيِّده، فأمر بركياروق بسلخ الغلام، فسُلخ [حيًّا، وعُذِّب حتَّى تَلف، رحمه الله، فقد قام بواجب حقِّ سيده (¬4)]. السنة الخامسة والتسعون وأربع مئة فيها جلس الخليفة لمحمد وسنجر جلوسًا عامًّا، ودخلا عليه، وقبَّلا الأرض له، فأدناهما، وأفاض عليهما الخِلَع على جاري العادة، وتوَّجهما وطوَّقهما وسوَّرهما، وقرأ الخليفة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وخرجا إلى بركياروق، [ومضى سنجر إلى خراسان، والتقى محمد بركياروق على رُوذراور] فاقتتلا ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 73، والكامل 10/ 327 والأنساب 9/ 133 - 134 وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 46. (¬2) لم أقف على هذه الترجمة إلا عند المصنف، وهي في النجوم الزاهرة 5/ 167. (¬3) تحرفت في (ب) إلى: نقد. (¬4) ما بين حاصرتين هنا وفي المواضع الآتية من (ب).

ثم اتفقا على أن السلطنة لبركياروق، ولمحمد هَمَذان وقزوين والجزيرة ودياربكر، ثم نقض محمد العهد، وسافر إلى قزوين، وتبعه بركياروق فكسره، فمضى [إلى (¬1)] أصبهان وبركياروق خلفه، فحصره في أصبهان ثمانية أشهر، وجرى على محمد كلُّ مكروه، ولقي منه أهلُ البلد مصادراتٍ كثيرة، وأفسد عسكرُه في البلد، ثم هرب محمد في الليل، وخرج من بعض الأبواب سرًّا، فلم يصبح إلا على فراسخ، [فندب بركياروق إياز في طلبه، فلحقه وقد نزل الضعفُ خيلَهُ، فبعث إلى إياز يقول: لي في عنقك أيمان ومواثيق. فقال: اذهَبْ في دَعة الله. فقال: فخَيلي ضعفاءُ. فأعطاه خيلًا، فركبها محمد ومضى، ولم يُعجب بركياروق سلامةُ أخيه. وفيها عمر صدقةُ الحِلَّة وانتقل إليها، وكان ينزل هو في بيت الشعر]. وفيها قبض بركياروق على إلكيا الهراسي، بلغه عنه أنَّه باطني، فكتب الخليفة إليه ببراءة ساحة إلكيا، وحسن [سيرته و] عقيدته ودينه، فأطلقه. ولما اجتاز الشام فنزل ابنُ صَنْجيل الفرنجي على طرابلس، فكتب ابنُ عمار إلى دمشق يستنجدهم، فسار عسكرها مع جناح الدولة صاحب حمص إلى أنطرطوس، والتقوا، فانهزم جناح الدولة إلى حمص، وعاد فَلُّ المسلمين إلى دمشق في جمادى الآخرة، ومات المستعلي صاحب مصر، وقام ولدُه أبو علي مقامَه، وجهَّز الأفضلُ العساكرَ المصرية إلى الساحل، ووصلوا إلى عسقلان في رجب مع نصير الدولة يُمْن، وخرج بَرْدَويل من القدس في سبع مئة راجل وفارس، وكبس العسكرَ المصريَّ، فثبتوا، وقتلوا معظم من كان معه، وانهزم في ثلاثة نفر إلى الرملة، واختبأ في أجَمَة قصب فأحاط المسلمون به، وأحرقوا القصب، فوصلت النار إليه، فاحترق بعضُ جسده، وأفلت إلى يافا، وأُسِرَ رجالُه، وحُملوا إلى مصر في رجب، وعاد الفرنج إلى طرابلس، فعاد ابنُ عمار وكتب إلى دمشق وحمص، فجاؤوا ودفعوا الفرنج عنه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق.

أحمد بن معد

وفيها تُوفي أحمد بن مَعَد (¬1) أبو القاسم، المستعلي، ولد بالقاهرة في المُحرَّم سنة سبع وستين وأربع مئة، وولي يوم الغدير ثامن عشر ذي الحجة سنة سبع وثمانين، وتوفي يوم الثلاثاء تاسع صفر، وله سبع وعشرون سنة، وكانت خلافته سبعَ سنين وشهورًا، والمتصرف في دولته الأفضل ابن أمير الجيوش، وكان هرب أخوه نزار بن المستنصر إلى الإسكندرية، وبها أفتكين، [فولَّى ابنَه، وزعم أن أباه عهد إليه، فقام له بالأمر أفتكين]، ولقَّبه ناصرَ الدولة، وأخذ له البيعة على أهل البلد، وساعده ابنُ عمار قاضي الإسكندرية، وأقاموا على ذلك سنة، فخرج الأفضل من القاهرة بالعساكر سنة ثمان وثمانين، فحصر الإسكندريةَ وضايقَها، فخرج إليه أفتكين فهزمه، فعاد إلى القاهرة، فجمع وحشد ونازلها، ففتحها عنوةً، وقتلَ أعيانَ أهلِها، واعتقل أفتَكين وابن عمار، فكتب ابنُ عمار إلى الأفضل ورقةً من الحبس يقول: [من البسيط] هل أنتَ منقذُ شلوي من يَدي زمنٍ ... أضحى يقدُّ أديمي قدَّ مُنْتَهِسِ دعوتُكَ الدعوة الأولى وبي رمَقٌ ... وهذه دعوةٌ والدهرُ مفترسي فلم تصِلْ إليه. فلما قُتِل وقف عليها، فقال: واللهِ لو وقفتُ عليها قبل قتْلِه ما قتلْتُه. وكان ابنُ عمار من حسنات الدهر، وقدم الأفضل بأفتكين ونزار إلى القاهرة، وكان أفتكين يلعن المستعلي وابنَ أمير الجيوش على المنابر، فقتله المستعلي بيده، وبنى على أخيه نزار حائطًا، فهو تحته إلى الآن، وكان للمستعلي أخٌ اسمه عبد الله، فظفر به الأفضل، وكان للمستعلي ولدان أبو علي منصور وجعفر، فولي منصور وبُويع له يومَ مات أبوه وعمره خمس سنين؛ لأنه ولد سنة تسعين وأربع مئة، ولُقِّب الآمر بأحكام الله، وقام بأمره الأفضل، فانتظمت الأحوالُ بتدبيره، وكان المستعلي حسنَ الطريقة، جميلَ السيرة في كافة الأجناد والرعية، لازمًا قصره كعادة أبيه، مكتفيًا بالأفضل سيف الإسلام فيما يُدبِّره (¬2). ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 86. (¬2) انظر تاريخ الإسلام 10/ 765.

الحسن بن الحسين بن محمد

الحسن بن الحسين بن محمد (¬1) الصوفي، أبو محمد، الكلابي، رئيس دمشق، وأصله من حلب، وسُمِّي الصوفي لأنه كان يُقصِّر ثيابه. وكان جوادًا، شجاعًا، مقدامًا، جليلًا، نبيلًا، سمع الحديث، وقرأ الأدب، ومات بدمشق وروى عنه محمد بن صابر وغيرُه. حسين بن ملاعب جناح الدولة، صاحب حمص، كان مجاهدًا، شجاعًا، يباشر الحروب بنفسه، دخل جامع حمص يوم الجمعة، فصلَّى، فقفز عليه ثلاثة من الباطنية فقتلوه، وقتِلوا، وجاء صاحب أنطاكية فحصر حمص، فصالحه أهلُها على مال، فرحل، وجاء دُقاق فتسلَّمها. وقيل: إنه قتل سنة ست وتسعين. وقال ابن القلانسي: في سنة ست وتسعين نزل جناح الدولة من قلعة حمص لصلاة الجمعة، وحوله غلمان بالسلاح، فلمَّا حصل بموضع مُصلَّاه وثب عليه ثلاثة من الباطنية العجم ومعهم شيخ، فجعلوا يدعون له يستحثونه وهم في زيِّ الزُّهَّاد، فضربوه بسكاكينهم، فقتلوه وقتلوا معه جماعةً من أصحابه، وكان في الجامع عشرة من متصوفة العجم وغيرهم، فقُتلوا مظلومين عن آخرهم، واضطرب أهل حمص، وراسلوا (¬2) طُغتِكين ودُقاق يلتمسون إنفاذ نائب يتسلم القلعة قبل مجيء الفرنج، فسار شمس الملوك دُقاق وأتابك طُغتِكين بالعساكر إلى حمص، وصَعِدا القلعة، وجاء الفرنج إلى الرستن، فحين عرفوا ذلك تفرقوا، ثم رحلوا طالبين بلادهم، وعاد أتابك ودُقاق إلى دمشق. وسبب قتل جناح الدولة أنَّه كان عند رضوانَ ملكِ حلب منجِّمٌ باطني، وهو أول من أظهر مذهب الباطنية بالشام، فندب لقتل جناح الدولة أولئك النفر، وقُتِلَ المنجِّم بحلب، فكان بينه وبين قتل جناح الدولة أربعة عشر يومًا. وقيل: إنه مات فجأة. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 13/ 79 - 80. (¬2) في (ب): وأرسلوا.

السنة السادسة والتسعون وأربع مئة

السنة السادسة والتسعون وأربع مئة فيها أُعيدت الخطبة لبركياروق ببغداد، والتقى محمد شاه بأخيه بركياروق، فانهزم محمد إلى إرمينية وخلاط، ثم عاد إلى توريز في جمادى الآخرة، ومضى بركياروق إلى زنجان، ووقع بينهما اتفاق (¬1). وفيها استوزر الخليفةُ زعيمَ الرؤساء أبا القاسم علي بن محمد بن محمد بن جَهير على كُرهٍ منه، وعزل وزيرَه سديدَ الملك أبا الفضل [بن (¬2)] عبد الرزاق، فكانت وزازته عشرة أشهر. وفيها قصد أتابك طُغْتِكين ودُقاق الرحبة وحصروها، فسلَّمها أهلُها بالأمان، فقرَّر طُغْتِكين أمرَها وعاد إلى دمشق. وفي رمضان خرجت العساكرُ المصرية في البر، والأسطولُ في البحر، مع شرف الدولة ولد الأفضل، وكتب إلى دمشق وغيرها باستدعاء العساكر للجهاد، فجاءت العساكر، ونزلت على يافا وتفرقت في السواحل. وفيها خرج قليج أرسلان بن سليمان بن قُتُلْمِش من بلاد الروم طالبًا أنطاكية، فوصل مرعش، وكان الأمير الدانشمند بملطية، فاختلفا، فرجع قليج إلى ملطية، وأوقع بالدانشمند، وقتل رجاله، وانكفأ عن ملطية، وكتب إلى حلب يلتمس الإقامة والميرة لعساكره، وأنه قاصدٌ أنطاكية، فتباشر الناس. وفيها تُوفِّي أردشير بن منصور (¬3) أبو الحسين، العبَّادي، الواعظ، من أهل مرو، وكان يخاطَب بالأمير قطب الدين، قدم بغداد سنة ست -وقيل: سنة خمسة وثمانين- وجلس في النِّظامية، وحضر أبو حامد الغزالي مجلسه، وكان يحاضره ويذاكره، فامتلأ صحنُ المدرسة وأروقتُها وغرفُها وسطوحُها بالناس، وخرج إلى مراح طَغْر فجلس به، وكان يحضر مجلسه من ¬

_ (¬1) الخبر بسياق أطول في المنتظم 17/ 80، ووقع فيه وفي النجوم الزاهرة 5/ 186: تبرير بدل توريز. (¬2) ما بين حاصرتين في (ب). (¬3) المنتظم 17/ 3 - 4، 87 - 88، ووقعت وفاته في سنة (497 هـ).

الرجال والنساء ثلاثون ألفًا، وكان صمتُه أكثرَ من نطقه، وإذا تكلَّم هام الناسُ على وجوههم، وترك الناسُ المعاش، وحلق أكثرُ الصبيان رؤوسهم، ولزموا المساجد والجماعات، وبدَّدوا الخمور، وكسروا الملاهي. وكانت عليه آثار الزهد ظاهرة. وقال إسماعيل بن أبي سعد الصوفي: كان العبَّادي ينزل في رباطنا، وكان في الرباط بركة كبيرة، وكان يتوضأ منها، فكان الناس ينقلون منها الماء بالقوارير والكيزان تبركًا، حتَّى كان يظهر فيها النقصان، وظهرت له الكرامات؛ قام إليه رجل ليتوب، فقال: قِفْ مكانك ليطهرك ماءُ المطر -ولم يكن في السماء قزعة من سحاب- فارتفع سحابٌ في الوقت وأُمطِرَ الرجلُ. وقال أبو منصور الأمين: قال لي العبادي يومًا: يا أبا منصور، أشتهي توتًا شاميًّا وثلجًا، فإنَّ حلقي قد تغيَّر. فعبرتُ إلى الجانب الغربي ولي فيه بساتين، فطفتُ واجتهدتُ فلم أرَ شيئًا، فرجعتُ قُبيل الظهر إلى داري، وكان نازلًا في بيت منها منفرد، فقلت لأصحابه: من جاء اليوم؟ قالوا: امرأة. وقالت: قد غزلتُ غزلًا، وأُحِبُّ أن تقبل ثمنه مني. فأخبرناه فقال: ليس لي عادة بذلك. فجلست تبكي، فرحمها وقال: قولوا لها: اذهبي فاشتري لنا به شيئًا. فقالت: ما الَّذي أشتري؟ فقال: ما يقع في نفسها. فخرجَتْ فاشترَتْ توتًا شاميًّا وثلجًا وجاءت به. وقال أبو منصور: دخلتُ يومًا عليه فقال لي: يا أبا منصور، قد أحببتُ أن تعمل لي اليوم دعوة. قال: فاشتريتُ الدجاج، وعقدتُ الحلواء، وغرمتُ أكثر من أربعين دينارًا، فجلس يفرِّقه ويقول: احمل إلى الرباط الفلاني كذا وكذا، وإلى المكان الفلاني، ولم يتناول منه شيئًا، ورأى فيَّ انقباضًا، فغمس أصبعه الصغرى في الحلواء وقال: يكفي هذا. وكان معه طعام قد حمله من مرو، فكان يأكل منه، ولم يأكل من خبز بغداد. قال: وكنت أرصده، فكان يصلي العشاء الآخرة ويَتَقلَّب على فراشه طول الليل، ثم يقوم فيصلي الفجر بذلك الوضوء. وقال عبد الوهاب بن أبي منصور: دخلتُ على العبَّادي وهو يشرب مرقة، فقلت في قلبي: ليتَه أعطاني فضلَتَه فأشربَها، لعلِّي أحفظ القرآن. فأعطاني فضلتَه وقال: اشرَبْها على تلك النية. فشربتُها، فحفظتُ القرآن.

ولمَّا قدم بغداد ونفق كلامُه وكان البرهان الغزنوي يعظ بها، فانكسر سوقُه، فقال الدهَّان (¬1): [من السريع] للهِ قطبُ الدينِ من عالمٍ ... منفردٍ بالعلمِ والباسِ قد ظهرت حُجَّتُهُ للورى ... قام بها البرهانُ للناسِ والبرهان عيسى بن عبد الله الغزنوي كان يُظهر مذهب الأشعري على المنبر، فيُرجم من كلِّ ناحية، ويُكلِّم العباديَّ في الربا وبيع القراضة بالصحيح، وأنكر ذلك، فمُنع من الجلوس، وأُمر بالخروج من البلد، فخرج إلى مرو وأقام بها إلى هذه السنة، فتوفِّي غرَّة جمادى. وقيل: مات سنة سبع وتسعين. نبذة من كلامه: ذكر في تأويل قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] قال: [هو] (¬2) رقيب العين، وقريب القلب. وقال: قد تأخَّر الغيثُ، وقحط الناس، وصارت المعاصي عمامًا يمنع قطرات الغيث، فانزعوا عن العيث. وطلب يومًا لفقير شيئًا، فأعطاه رجلٌ دينارين، فقال: [يا صاحب الدينارين، كفاك اللهُ همَّ الدارين]. وقال: السَّحَرة نزلوا تحت الشجرة فنالوا الثمرة. وقال في قصة موسى - عليه السلام - حين شمَّ التفاحة فمات: كان شمُّ نفَسِه سُمَّ نَفْسِه. وسُئِلَ: لِمَ (¬3) لم يؤدَّبْ آدمُ في الجنَّة؟ فقال: كيف يُقامُ حدُّ الأدب في دار [الأنس و (¬4)] الطرب. وقال: السعيد في الجنَّة الرحيق، والبعيد في النار الحريق. ¬

_ (¬1) تحرفت في (خ) إلى: البرهان والمثبت من (ب)، والنجوم الزاهرة 5/ 186. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (خ): لو، والمثبت من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب)

محمد بن عبيد الله

ولا خفاء أن الرجل كانت له معاملات ورياضات دلَّ عليها كثرةُ صلاته وصيامه، ولهذا كان ينتفع الناس بسكوته أكثرَ ممَّا ينتفعون بكلامه. محمد بن عبيد الله (¬1) ابن محمد بن أحمد بن كادِش، أبو ياسر، العُكْبَري، الحنبلي، كان مفيدَ بغداد، سمع الكثير، وكتب وحفظ، وخرَّج وصنَّف، ومات في صفر، ودُفن بباب حرب، وكان ثقةً ثبتًا فاضلًا. أبو المظفر الخُجَندي (¬2) المدرس بأصبهان، الشافعي، جد بَيت الخُجَنْدي، وينسب إلى المُهلَّب بن أبي صُفْرة، وقعت فتنة بالري، فخرج ليصلح بين الفريقين، فرماه علويٌّ بسهم فقتله، وقُتِلَ العلوي. أبو المعالي (¬3) الزاهد، البغدادي، كان مقيمًا بمسجد بباب الطاق، حضر مجلس ابن أبي عمامة، فوقع كلامه في قلبه فتزهَّد، وكان لا ينام إلا جالسًا، ولا يلبس إلا ثوبًا واحدًا شتاءً وصيفًا، وكان منقطعًا إلى العبادة. جاءه سعد الدولة الكوهراني شِحنةُ بغداد زائرًا فقال: أغلقوا الباب. فجاء سعد الدولة، فنزل من فرسه وطرق الباب، وقال: واللهِ ما أبرحُ حتَّى يفتح لي. ففتحَ له، فدخل فجلس بين يدَي الشحنة يُوبِّخه ويزجره، وسعد الدولة يبكي بكاء كثيرًا. وقال أبو المعالي: أضقتُ إضاقةً شديدة في رمضان، فعزمتُ على المضيِّ إلى رجل من أقاربي أطلب منه شيئًا، فنزل طائر فجلس على منكبي وقال: أنا الملَك الفلانيُّ، لا تمضِ إليه، نحن نأتيكَ به. فلما طلع الفجر إذا بقريبي قد جاء ومعه دنانير، فوضعها بين يديَّ. ومات في هذه السنة، ودفن بباب حرب. ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 82. (¬2) المنتظم 17/ 83. (¬3) المنتظم 17/ 82 - 83.

السيدة بنت القائم بأمر الله

[السيدة بنت القائم بأمر الله (¬1) التي كانت زوجة طُغْرُلْبَك، كانت كثيرة الصدقات، صلَّى عليها المستظهر، وهي عمَّة أبيه المقتدي، وجلس الوزير في العزاء ثلاثة أيام في الديوان، وحُملت إلى الرُصافة]. السنة السابعة والتسعون وأربع مئة فيها وقع الصلح بين الأخوة بركياروق [ومحمد وسنجر، على أن يكون اسمُ السلطنة لبركياروق] (¬2)، وضَرْبُ النُّوبة في الصلوات الخمس على بابه، وأن يكون لمحمد أرمينية وأذربيجان ودياربكر والجزيرة والموصل، وأن يكون سنجر على خراسان بحاله، وأن يكون لبركياروق الجبل وهَمَذان وأصبهان والري وبغداد وأعمالها، والخطبة ببغداد لبركياروق، وسنجر ومحمد يخطبان لنفوسهما، وسبب هذا أنَّ الفتن لمَّا طالت بعث بركياروق القاضي أبا المظفر (¬3) الجرجاني إلى محمد شاه في رسالة (¬4)، فصَعِد المنبر، ومحمد حاضر، فذكر ما أمر الله به من إصلاح ذات البَين، والنهي عن قطيعة الرحم، فأجاب محمد إلى الصلح، وتحالفا، ووصل الخبر إلى بغداد [فقطعت خطبة محمد، وأُعيدت خطبة بركياروق. وفيها أخرج الواعظ الغزنوي من بغداد] (¬5) بسبب الفتن، فتوفي بإسفرايين. [وفي رجب وردت مواكب الفرنج إلى اللاذقية مشحونة بالمقاتلة والتجار وغيرهم، ونزلوا على طرابلس مع صَنجيل، وأقاموا أيامًا، وأمنوا أهلها، ودخلوها، ثم غدروا بأهلها فقتلوهم] (¬6). ¬

_ (¬1) هذه الترجمة من (ب)، وهي في المنتظم 17/ 83. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب)، والنجوم الزاهرة 5/ 187. (¬3) في (خ): مسألة، والمثبت من (ب) (¬4) ما بين حاصرتين من، (ب) والخبر في المنتظم 17/ 85. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب)، والخبر بنحوه في الكامل 10/ 372. (¬6) ما بين حاصرتين في (ب).

أحمد بن الحسين بن حيدرة

وفيها نزل الأمير سُكْمان بن أُرتُق صاحب ماردين والأمير جكرمش صاحب الموصل على رأس العين في شعبان عازمين على لقاء الفرنج وقتالهم، ونهض بيمند وطغْتِكري من أنطاكية إلى الرُّها بالعساكر لينجدا صاحبها، وعرف المسلمون، فساروا إلى قريب الرُّها، فصادفوهم والتقوا، فنصر الله المسلمين عليهم، فقتلوا منهم عشرة آلاف ما بين راجل وفارس، وانهزم بيمند وطُغْتِكري في نفر يسير، فقَويَت قلوب المسلمين. وفيها نزل بَغْدَوين صاحبُ القدس على عكَّا في البر والبحر في نيف وتسعين مركبًا، فحصروها من جميع الجهات، وقاتل أهلها حتى ضعفوا، وكان واليها زهر الدولة الجُيوشي، فعجَز عنهم، فطلب الأمان له وللمسلمين فلم يُعطوه، وأخذوها بالسيف في رمضان -وقيل: في شعبان- وجاء زهر الدولة منهزمًا إلى دمشق، فأحسن إليه طُغْتِكين، ثم مضى إلى مصر، وكان صَنجيل صاحب أنطاكية قد بنى على طرابلس حصنًا ليأخذها به، وشحنَه بالرجال والأموال والسلاح، فخرج القاضي ابنُ عمار في عسكره في ذي الحجة وهجم هذا الحصين على غرة، فقتل مَنْ فيه ونهبه، وأخذ من المال والسلاح والمتاع شيئًا كثيرًا وهدمه، وعاد إلى طرابلس سالمًا غانمًا. وفيها خرجت الفرنج من الرُّها، وانقسموا قسمين، قسم قصدوا حرَّان، والآخر الرقة، فنزل سُكْمان من ماردين، وكان سالم بن بدر العقيلي في بني عقيل نازلًا على عين العروس، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، وأُسِرَ سالم، وكانت الدَّبَرة على الفرنج، فانهزموا وقُتِلَ منهم خلقٌ كثير. وفيها تُوفِّي أحمد بن الحسين بن حَيدرة أبو الحسين، ويُعرَف بابن خُراسان، الطرابلسي، الشاعر، هجا فخر الملك بن عمار وأخاه، فأُمِرَ به فضرب حتى مات، ودفن بطرابلس، ومن شعره: [من الطويل] [سقا اللهُ أرضًا نهرُها البحر طافيًا ... وأرجاؤها من مناحيةٍ خُضْرُ

إسماعيل بن علي

جداولُها خمرٌ ومِسْكٌ تُرابُها ... وأشجارُها البيضُ الرَّعابيبُ (¬1) والسُّمْرُ أُرَجِّي اصطبارًا عن هواها وطيبِها ... وأرجو ولكِنْ ما يُطاوعني الصَّبرُ وقال: [من البسيط] أحبابنا غيرُ زُهدٍ في محبَّتكُمْ ... كَوْني بِحمْصَ وأنتمْ في طرابُلسِ إنْ زُرْتُكُمْ فالمنايا في زيارتِكُمْ ... وإن هجرتُكُمُ فالهَجرُ مُفترِسي ولستُ أرجو نجاحًا في زيارتكمْ ... إلَّا إذا خاض بحرًا من دمي فرسي وأنثني ورماحُ الخطِّ قد حكمَتْ ... في كلِّ أرْوَعَ لا وانٍ ولا وَلسِ (¬2) وقال: [من الطويل] جزى اللهُ عنَّا النَّيربَ الفردَ صالحًا ... لقد جمع المعنى الذي يُذهبُ الفِكرا] (¬3) خرَجْنا على أنَّا نقيمُ ثلاثةً ... فطابَ لنا حتى أقمنا بها عشرا إسماعيل بن علي (¬4) ابن الحسن بن علي، أبو علي الجاجَرْمي، الأصم، النيسابوري، ولد سنة ست وأربع مئة، وطاف البلاد، وعاد إلى نيسابور فتوف فيها في المحرَّم. وكان واعظًا، زاهدًا، ورعًا، صدوقًا، حسن الطريقة، ثقةً. دُقاق بن تُتُش (¬5) أبو نصر، شمس الملوك، صاحب دمشق، وليها بعد قتل أبيه تاج الدولة تُتُش سنة سبع وثمانين وأربع مئة، وقام بأمره ظهير الدين أتابك، وتزوَّج والدته. وقال ابن القلانسي: في هذه السنة عرض لدُقاق مرضٌ تطاول به، ووقع معه تخليط في الغذاء، فأوجب انتقاله إلى علة الدق، فلمَّا وقع اليأس منه نقدمت إليه والدتُه الخاتون صفوة ¬

_ (¬1) الرَّعابيب؛ جمع رُعبوب: وهي البيضاء الحلوة الناعمة. المعجم الوسيط (رعبب). (¬2) لا وانٍ ولا ولس: لا بطيء ولا سريع. (¬3) ما بين حاصرتين من الشعر زيادة من (ب). (¬4) المنتظم 17/ 87. (¬5) تاريخ دمشق 7/ 467 - 468 و 17/ 304 وينظر السير 19/ 210.

علي بن عبد الرحمن بن هارون

الملك بأن يوصي، فنصَّ على طُغْتِكين في حضانة ولده الصغير تُتُش إلى حين يكبر، وتوفي في الثاني والعشرين من رمضان، ودُفِنَ على الشرف الشمالي بدمشق بقبة الطواويس، فشرع طُغْتِكين في الإحسان إلى العساكر والرعية، وأطلق الأموال، وأكثر الصدقات، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وقمع المفسدين، فاستقامت له الأمور، وأجمع على طاعته الجمهور، وكان دُقاق قبل وفاته قد سيَّر أخاه أرتاش إلى بعلبك، وأمر أن يُعتقل في الحصين عند وإليه فخر [الدولة كمُشْتِكين التاجي، فرأى طُغْتِكين في حكم ما يلزمه لأولاد تاج الدولة أن يراسل كُمُشْتِكين في إطلاق أرتاش] (¬1) وإنفاذه إلى دمشق، فأطلقه الخادم، فتلقَّاه طُغْتِكين وأكرمه، وأقام في منصب أخيه دُقاق، وتقدم إلى الأمراء بطاعته، وأجلسه في دَسْت المملكة لخمسٍ بقين من ذي الحجة، ولُقِّب أرتاش مجير الدين، ثم استوحش أرتاش من طُغُتِكين ومن والده دُقاق، وأوقعت أمُّه في نفسه الخوف منهما، وأشارت عليه بالعود إلى بعلبك، فخرج من دمشق في صفر وقد قرَّر مع أيتكين الحلبي صاحب بصرى الفسادَ، وجَمْعَ العساكر، وقتال طُغْتِكين، واجتمعا بحوران، وراسلا بَغْدوين صاحب القدس، وتوجَّها إليها، وأقاما عنده مدة بين الفرنج يُحرِّضانه على المسير إلى دمشق، ويبعثانه على إفساد أعمالها، فلم يحصلا منه على طائل، فتوجَّها إلى ناحية الرحبة في البرية، وقضى الله بوفاة تُتُش بن دُقاق، وبسط طُغْتِكين العدلَ، وأفاض الإحسانَ، ورخصت الأسعار، وكثرت الأدعية لطُغْتِكين. وقيل: إنَّ أم دُقاق سمَّته في عنقود من عنب، أدخلت فيه إبرًا مسمومة، وبعثت به مع جارية إليه، ثم ندمت، وأرسلت إلى الجارية: لا تفعلي، وقد مات. علي بن عبد الرحمن بن هارون (¬2) أبو الخطاب بن الجراح، ولد سنة عشر وأربع مئة، وكان فاضلًا، أديبًا، من أهل بيت الفضل والرياسة، وصنَّف قصيدتين في القراءات، سمَّى إحداهما بـ "المكملة" والأخرى بـ "المستجدة". ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) المنتظم 17/ 88، والكامل 10/ 377 - 378، ومعجم الأدباء 12/ 196 - 205 وتنظر باقي المصادر في السير 19/ 198.

العلاء بن الحسن

وكانت وفاته في ذي الحجة، ودفن بباب أبْرز عند أبي إسحاق الشيرازي، وكان صدوقًا ثقة. العلاء بن الحسن (¬1) ابن وهب بن مُوصَلايا، أبو سعد، الكاتب، الفاضل، خدم في كتابة الإنشاء للخلفاء خمسًا وستين سنة. وكان نصرانيًّا، فأسلم في سنة أربع وثمانين على يد المقتدي، وناب في الوزارة في أيامه وأيام المستظهر نوبًا كثيرة، وكان كريمَ الأخلاق، طاهرَ اللسان، قال بعض أصحابه: شتمتُ يومًا غلامًا لي فوبَّخني وقال: أنتَ قادر على تأديب الغلام أو صَرْفه، فأما الفواحش والخنا والقذف فإياك والمعاودةَ إليه، فإنَّ الطبع يسرق من الطبع، والصاحب يُستدَلُّ به على المصحوب. وكانت وفاته فجأة، وكان قد أضرَّ قبل موته، فكان يُملي على ابن أخيه أبي نصر إلى أن مات، وكان عميد الدولة ابن جَهير يثني عليهما ويقول: هما يمينا الدولة وأميناها، ولا يُبرم أمرًا دونهما، ومن شعر العلاء: [من الخفيف] [يا خليليَّ خلِّياني ووَجْدي ... فمُلامُ العَذولِ ما ليسى يُجْدي ودعاني فقد دعاني إلى الحُكـ ... ـم غريمُ الغرام للدَّين عندي فعَساه يرقُّ إذْ ملَكَ القَلْـ ... بَ بنقدٍ من وصلِهِ أو بوعدِ ثمَّ من ذا يُجيرُ منهُ إذا جا ... ر ومَنْ ذا على تعديهِ يُعدي وقال: ] [من الطويل] أحِنُّ إلى روضِ التَّصابي وأرتاحُ ... وأمتحُ (¬2) في حوض التَّصافي وأمتاحُ وأشتاقُ ريمًا كلَّما رُمْتُ صَيدَهُ ... تصُدُّ يدي عنهُ سيوفٌ وأرماحُ ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 89، والكامل 10/ 37، 377، ومعجم الأدباء 12/ 196 - 205. وتنظر باقي المصادر في السير 19/ 198. (¬2) من متح؛ أي: أخرج الماء من البئر بالدلو.

السنة الثامنة والتسعون والأربع مئة

غزالٌ إذا ما لاحَ أو فاحَ نشرُهُ ... تُعذَّبُ أرواحٌ وتَعْذُبُ أرواحُ وكرخيَّةٍ (¬1) عذراءَ يُعْذَرُ حِبُّها ... ومِنْ زَنْدِها في الدَّهرِ تُقْدَحُ أقداحُ إذا جُلِيَتْ في الكاسِ والليلُ ما انجلى ... تقابَلَ إصباحٌ لديكَ ومصباحُ يطوفُ بها ساقٍ يسوقُ جِمالهُ ... نَفَاقٌ لإفسادِ الهوى فيه إصلاحُ به عُجْمةٌ في اللَّفظِ تُغْري بوَصْلِهِ ... وإن كانَ منهُ بالقطيعةِ إفصاحُ وغُرَّتُهُ صبحٌ وطُرَّتُه دُجًى ... ومَبْسِمُهُ دُرٌّ وريقتُهُ راحُ (¬2) أباح دمي مُذْ بُحْتُ في الحبِّ باسمِهِ ... وبالشَّجْو من قبلي المُحِبُّونَ قد باحوا ومن نثره: أمطاه اللهُ غوارِبَ (¬3) العلا وصهواتها، وأعطاه مطالبَ المنى وشهواتِها. ومنه: كتابنا وملابس السلامة علينا ضافية سابغة، وموارد السعادة صافية سائغة. السنة الثامنة والتسعون والأربع مئة فيها تُوفِّي بركياروق، ودخل السلطان محمَّد شاه بغداد وخطب له بالسلطنة، ثم خرج منها في شعبان إلى الجبل. وفيها مرض أتابك طُغْتِكين مرضًا خاف منه على نفسه، فكاتب الأميرَ سُكمان بن أُرْتُق صاحب ماردين يستدعيه إلى دمشق في عسكره ليوصي إليه في حماية دمشق وأهله وولده، فجاء سُكْمان فنزل القريتين، فلام طُغْتِكينَ أصحابُه، وقالوا: تُعطي ابنَ أُرْتق دمشق وتُخرِجُها عن ولدك وولد مولاك، وكيف يكون حالنا؟ أوليس قد عرفت أتْسِز لمَّا استُدعي تاج الدولة لنصرته كيف قتله واستولى على الشام، فانتبه طُغْتِكين من غفلته وندم، فأرسل إليه: تثبَّتْ مكانك، فأنا خارجٌ إلى خدمتك. فاتَّفق أنَّ سُكْمان مرض تلك الليلة مرضًا شديدًا، وأصبح ميتًا، فأخذه أصحابُه في تابوت، ورحلوا إلى ماردين، فسُرَّ طُغْتِكين. ¬

_ (¬1) كرخيَّة؛ أي: منسوبة إلى الكرخ: وهي بلدة نواحي بغداد، وقد تقدمت كثيرًا. (¬2) هذا البيت من (ب)، وهو في معجم الأدباء 12/ 199. والرَّاح: الخمر. (¬3) الغوارب؛ جمع غارب: وهو ما بين السنام والعنق. تاج العروس (غرب).

وفيها هلك صَنجيل صاحبُ أنطاكية، وكان قد صالح ابنَ عمار بطرابلس وهادنه؛ أن يكون لصَنجيل ظاهر طرابلس ولا يقطع الميرة والمسافرين عنها. وفي شعبان توجَّه طُغْتِكين إلى بعلبك منكرًا على كُمُشْتِكين الخادم أسبابًا ظهرت منه، وحصرها وضايقها، فبعث يتنصل ويحلف على بطلان ما نقل إليه، فصفح عنه، ورحل إلى حمص، فنزل رفنية، وكان الفرنج قد أحدثوا بها حصنًا، فهدمه وقتل مَنْ كان فيه، وأخرب الحصين وأبراج رفنية (¬1)، وسار إلى حمص. وفي رجب خرج فخر الملك (¬2) رضوان من حلب في خلقٍ عظيم قاصدًا طرابلس ينجدها على الفرنج النازلين عليها، وكان الأرمن الذين في حصن أَرْتاح قد سلَّموه إلى رضوان لمَّا شمله جَوْرُ الفرنج، وخرج طُغْتِكري من أنطاكية ليخلص حصن أَرْتاح، فالتقى رضوانَ، واقتتل الفريقان، فانهزم فرسان المسلمين، وثبت الرجَّالةُ وأحداثُ حلب، فحصدهم الفرنج، وفُقِدَ من الفرسان والرجَّالة ثلاثةُ آلاف، ورجع رضوان إلى حلب، وهرب المسلمون من حصن أَرْتاح، وتسلَّمه الفرنج. وفيها عاد أرياش وأيتكين الحلبي إلى بصرى من الرحبة، فخرج طُغْتكين بالعساكر، ونازل بصرى وحصرهما فيها، واتفق خروج العسكر المصري في عشرة آلاف مع الأمير شمس المعالي ولد الأفضل، وكوتِبَ طُغْتِكين بالمسير معه إلى قتال الفرنج وكان نازلًا على بصرى، فامتنع، ثم رأى تقديمَ الجهاد، فسار إلى العسكر المصري، والتقى المسلمون والفرنج، فانهزم عسكر المصريين إلى عسقلان، وعسكر طُغْتِكين إلى بصرى، [وقُتِل من الفريقين عددٌ كثير، ولمَّا وصل طُغْتكين إلى بصرى (¬3)] وجد أرياش وأيتكين قد خرجا منها إِلى الرحبة، فأمن أهل بصرى وسلَّموها إليه، فلم يتعرَّض لهم، وطيَّب قلوبهم. وفيها بعث ضياء الدين [محمد] وزير ميَّافارقين إلى قُليج أرسلان بن سلمان بن قُتُلْمِش وهو بملطيةَ يستدعيه إلى ميَّافارقين. ¬

_ (¬1) العباره في (ب): ولاحت وأبراج رفينة! (¬2) في (ب): فخر الملوك. (¬3) ما بين حاصرتين في هذا الموضع والموضع الآتي من (ب).

بركياروق [بن] ملك شاه

ذكر بداية قُليج (¬1) أرسلان: كان قد قصد باب السلطان ملك شاه جلال الدولة، وأقام في خدمته، فأمره بقصد الروم، فسار في جيش من النازكية (¬2)، ففتح ملطية وقيسارية وأقصرى وقُونية وسيواس وجميع ولاية الروم وأقام بها، فلمَّا كاتبه وزير ميَّافارقين قدم إليها وملكها، واستوزر ضياء الدين محمَّد، وجمع أمراء دياربكر؛ إبراهيم صاحب آمِد، والسبع الأحمر صاحب أسعرد، وجماعة، وولي ميَّافارقين مملوك أبيه خمرتاش السليماني، وكان أتابكه، وخرج من ميَّافارقين، وأخذ معه ضياء الدين، وأقطعه أبُلُستين (¬3) وجاء إلى الموصل فالتقاه جاولي مملوك السلطان محمَّد، فكسره، فانهزم قُليج أرسلان، فلما رأى الهزيمة ألقى نفسه في الخابور، فغرق، وحُمِلَ تابوته إلى ميَّافارقين وقام خمرتاش السليماني في الملك. وقيل: إن الذي فتح الروم هو سليمان بن قُتُلْمِش وبعده قُليج أرسلان. قال المصنف رحمه الله: كذا رأيت في "تاريخ ميَّافارقين"، ورأيت في "تاريخ دمشق" لابن القلانسي أنَّ قُليج أرسلان غرق سنة خمس مئة، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى. وفيها بعث يوسف بن تاشفين أميرُ الغرب إلى المستظهر يخبره أنه خُطب له بالمغرب، ويطلب الخِلَعَ والتقليد، فبعث إليه ما طلب. وابن تاشفين أول أمراء الملثَّمين، ومات سنة خمس مئة، وقام بعده ولده علي بن يوسف، وفي أيامه ظهر محمَّد بن عبد الله بن تومرت، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها تُوفي بركياروق [بن] ملك شاه (¬4) أبو المظفر، السلطان، قدم العراق ثلاث مرات، وخُطِبَ له ببغداد ست دفعات، وكان بأصبهان، فاشتدَّ مرضُه، وكان به سِلٌّ وبواسير، فخرج من أصبهان في المُحرَّم ¬

_ (¬1) بعدها في (خ) زيادة كلمة: بن. (¬2) في (ب): الماركية. (¬3) أبلستين: بلدة مشهورة من بلاد الروم. معجم البلدان 1/ 75. (¬4) المنتظم 17/ 90 - 91، 93، والكامل 10/ 380 فما بعدها. وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 195. وما بين حاصرتين من (ب) والمصادر

يقصد بغداد، فاشتدَّ مرضُه، فأقام بِبَرُوجِرْد أربعين يومًا مريضًا، وتُوفِّي في ربيع الأول وهو ابن أربع وعشرين سنة [وشهر (¬1)] , وكانت ولايته اثنتي عشر سنة. ولمَّا احتُضر أوصى بولده ملك شاه إلى الأمير إياز فدخل بغداد، ونزل بالصبي في دار المملكة وعمره أربع سنين وعشرة أشهر، وأجلسه على التخت مكان أبيه، وخُطب له ببغداد في جمادى الأولى بالسلطنة، ولُقِّب بجلال الدولة، ونُثِرتْ الدراهم والدنانير، وكان سيف الدولة ابن مَزْيَد قد جمع خلقًا عظيمًا، وكان مباينًا لإياز وعسكر بركياروق، وكان محمَّد شاه [بإرمينية، فسار يريد بغداد، فخيَّم إياز بالزاهر، وجاء محمَّد فنزل بالرملة فركب إياز، وشارف عسكر محمَّد شاه، (¬2) وشاور وزيره الصفي، وقال: ما ترى؟ قال: المصلحة مصالحة محمَّد شاه. فقال له: اعبُرْ إليه واستوثِقْ منه، وقُلْ له: إني نظرتُ في المصلحة، فرأيتُ أن أغمد سيوف الإِسلام، وأحقن دماءهم. فعبر الوزيرُ إلى محمَّد شاه فأجابه، وعبر ابنُ جَهير وزيرُ الخليفة وإلكيا الهراسي والقُضاة والأشرافُ، وأخذوا اليمين على محمَّد شاه، واستوثقوا منه، وعبر إليه إياز وخدمه فأكرمه، وعبر محمَّد شاه إلى دار المملكة، وكان إياز نازلًا في دار سعد الدولة الكوهراني، فعمل السلطان محمَّد دعوة عظيمة، وقدَّم له الغلمان الترك، والخيل العتاق، والأسلحة، والجواهر النفيسة، وفيها الحبل الياقوت الذي في كان لمؤيد الملك ابن نظام الملك، واتفق أنَّ الأتراك مازحوا رجلًا فألبسوه سلاحًا وفوقه قميصًا، وتناولوه بأيديهم، فدنا من السلطان، فرأى السلاح تحت ثيابه، فاستشعر، ونهض من مكانه إلى داره، واستدعى إياز وسيف الدولة صدقة والوزير ابن سعد الملك إلى داره، وأجلسهم في مكان، وخرج الحاجب، وطلب واحدًا واحدًا ليستشيره في أمر، فأول ما قام إياز وقد أوقف له في الدهليز غلمانًا فقتلوه، ثم جمع بين رأسه وجسده، وكفَّنوه في خرقة خام، ودفنوه بمقابر الخيزران، وذلك في جمادى الآخرة، ثم خرج محمَّد شاه من بغداد يريد الجبل، وفوَّض الأمر إلى الرَّشيقي، وجعله شِحْنة العراق، وردَّ أمرَ واسط إلى صدقة بن مَزْيَد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي المنتظم: وشهرين. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

عيسى بن عبد الله بن القاسم

وقال ابن القلانسي: وفي سنة ثمان وتسعين وأربع مئة وردت الأخبار بوفاة بركياروق بنهاوند بعد أن تقرَّرت الأحوال بينَه وبين إخوته، بحيث تكون مملكة خراسان لسنجر وأصبهان وهَمَذان وبغداد وما والاها، والسلطنة لبركياروق، وإرمينية وأذربيجان ودياربكر والجزيرة والشام وما يليه لمحمد شاه، وتوجَّهت عساكر بركياروق بعد وفاته إلى بغداد، ومُقدَّمها إياز، وتوجَّه السلطان إلى بغداد، فلمَّا عرف إياز خاف منه على نفسه، فهرب ومعه ملك شاه بن بركياروق، ودخل السلطان محمَّد بغداد، وجاءه صدقة بن مَزْيَد، واستقرَّ أمرُه معه، وعرف إياز أنَّ أمره لا يستقِلُّ إلَّا بالعود إلى طاعة السلطان محمَّد وخدمته، فراسله، وطلب منه الأمان، واستحلفه على الوفاء، وجاء ومعه بركياروق طفل صغير، فلمّا كان بعدَ أيام غدر به محمَّد شاه، وأخلف وعده، ونقض عهده، وقبض عليه وهو آمن مطمئن فقتله، وجعل سبب هذا القتل أمورًا أوردها، واحتجَّ بها ليُعذر في فعله، وما هو بمعذور. عيسى بن عبد الله بن القاسم (¬1) أبو المؤيَّد، الغَزْنَوي، الواعظ. قدم بغداد، ووعظ بها، ونصر مذهب الأشعري، وقامت الفتنة، فأُخرِجَ منها، وقصد غَزْنة، فمات بإسفرايين. وقال ابن الهَمَذاني: كان الغَزْنَوي ببلده كاتبًا بين يدي عبد الحميد وزير صاحب غَزْنة، فترك دنيا واسعة، وأقبل على العلم، وجلس في دار (¬2) عميد الدولة ابن جَهير، وكان الوزيرُ سديدُ الملك حاضرًا، فقال الغزنوي في كلامه: من شرب مرقة السلطان [احترقت (¬3)] شفتاه ولو بعد زمن. ثم قرأ: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [إبراهيم: 45] وأنشد: [من الوافر] سديدَ المُلكِ سُدْتَ وخُضْتَ بحرًا ... عميقَ اللُّجِّ فاحفظْ فيه رُوحَكْ وأحْيِ معالمَ الخيراتِ واجْعَلْ ... لسانَ الصِّدْقِ في الدنيا فتوحَكْ وفي الماضينَ مُعتبرٌ فأسرِجْ ... مَروحَكَ في السلامةِ أو جَموحَكْ ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 93، والكامل 10/ 362 - 363. (¬2) جاء بعدها في (خ) زيادة مقحمة وهي: عبد الحميد و. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) والكامل.

محمد بن أحمد

فقُبضَ على الوزير بعد أيام، فعجِبَ الناسُ من هذا الاتفاق. محمَّد بن أحمد (¬1) ابن إبراهيم بن سِلَفة، أبو أحمد، الأصفهاني، كان زاهدًا صالحًا عابدًا ثقةً، سمع من الطيوري وغيره. محمد بن علي (¬2) ابن الحسن بن أبي الصقر، أبو الحسن، الواسطي، تفقَّه على أبي إسحاق الشيرازي، وسمع الحديث الكثير، ومن شعره -وكانت ولادتُه سنة تسع وأربع مئة، ومات بواسط- فمنه: [من السريع] مَنْ قال لي جاهٌ ولي حشمةٌ ... ولي قبولٌ عند مولانا ولم يعُدْ ذلك نفعٌ على ... صديقِهِ [لا (¬3)] كان مَنْ كانا وقال: [من البسيط] وحرمةُ الودِّ مالي عنكمُ عِوَضٌ ... وليس لي في سواكُمْ بعدكم غرَضُ أشتاقُكُمْ وبودِّي لَوْ يُواصِلُني ... منكُمْ خيالٌ ولكن لستُ أغتَمِضُ وقَدْ شرطْتُ على قومٍ صحبتُهُمُ ... بأنَّ قلبي لكُمْ مِنْ دونِهمْ فَرَضُوا ومِنْ حديثي بكُمْ قالوا به مَرَضٌ ... فقلتُ لا زال عنِّي ذلكَ المرضُ وقال مما يُكتب على فصِّ عقيق: [من البسيط] ما كانَ قبْلَ بُكائي يومَ بينكُمُ ... فَصِّي عقيقًا ولا دمعي استحال دمًا وإنَّما مِنْ دموعي الآنَ حُمْرتُهُ ... فانظُرْ إلى لونه والدمعِ كيف هما وجاء يومًا إلى باب نظام الملك، فمنعه البواب، فكتب إلى نظام الملك: [من الكامل] ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 94. (¬2) المنتظم 17/ 94، والكامل 10/ 396 - 397، ومعجم الأدباء 18/ 257 - 260. وتنظر بقية المصادر في السير 19/ 238. (¬3) ما بين حاصرتين سقط من (خ) واستدرك من (ب)، والكامل، ومعجم الأدباء.

يعقوب بن سليمان

للهِ درُّكَ إنَّ دارَكَ جنَّةٌ ... لكِنَّ خلْفَ البابِ منها مالكا أنعِمْ بتيسير الحجاب فإنَّني (¬1) ... لاقَيتُ أنواعَ النَّكالِ هُنالِكا فاستدعاه وقال له: إذا كنتَ غنيًّا عن مالنا فانكفِئْ عنَّا. فقال: كلانا شافعيُّ المذهب، وإنما أتيتُكَ لمذهبك لا لذهبك. كان (¬2) ابن أبي الصقر قد أسنَّ، فقال يعتذر إلى أصدقائه حيثُ لم يقدِرْ على القيام لهم: [من الخفيف] عِلَّةٌ سُمِّيتْ ثمانينَ عامًا ... منعَتْني للأصدقاءِ القياما فإذا عُمِّروا تمهَّدَ عُذْري ... عندهُمْ بالذي ذكرتُ قياما وقال: [من الوافر] إذا ما مرَّ يومٌ بعدَ يومٍ ... ووجهي ماؤهُ فيه مصونُ وقُوتي قُرْصتانِ (¬3) إلى ثلاثٍ ... بها مِلْحٌ يكونُ ولا يكونُ وسِربى (¬4) آمنٌ وأنا مُعافى ... وليسَ عليَّ في الدنيا ديونُ (¬5) فما أشكو الزمانَ فإنْ شكَوْتُ ... الزَّمانَ فإنَّهُ مِنِّي جُنونُ يعقوب بن سليمان أبو يوسف، القاضي الإسفراييني، الشافعي، خازن دار الكتب بالنظامية، كان أديبًا، فاضلا، مفتيًا، توفي في رمضان وقد جاوز الثمانين، ومن شعره يمدح بهاء الدولة منصور بن دبيس الأسدي: ¬

_ (¬1) في (خ): فإنها، والمثبت من (ب). (¬2) في الأصلين (خ) و (ب): وقال، لكن جاء على هامش (ب) قوله: لعله كان. قلت: وهو الذي يتناسب مع السياق. (¬3) القُرصة: خبزة صغيرة مبسوطة مدورة. المعجم الوسيط (قرص). (¬4) يقال: فلانٌ آمِنٌ في سِرْبه -بالكسرة- أي: في نَفْسه، وبالفتح: المسلك والطريق. النهاية في غريب الحديث (سرب). (¬5) هذا البيت والذي قبله مقتبسان من حديث: "من أصبح منكم معافًى في جسده، آمنًا في سِرْبه، عنده قوتُ يومه، فكأنما حيزَت له الدنيا بحذافيرها"، والحديث أخرجه الترمذي (2346)، وابن ماجه (4141) من حديث عبد الله بن محصن - رضي الله عنه -، وهو حديث حسن بمجموع طرقه، وينظر تمام تخريجه في تفسير ابن كثير 3/ 69 [طبعة مؤسسة الرسالة].

السنة التاسعة والتسعون وأربع مئة

أيا شجراتِ النيلِ مَنْ يضمَنُ القِرى ... إذا لم يكُن جارُ الفراتِ ابنَ مزيَدِ إذا غابَ منصورٌ فلا النورُ ساطعٌ ... ولا الفجرُ بسَّامٌ ولا النجمُ مهتدي (¬1) السنة التاسعة والتسعون وأربع مئة فيها ظهر رجل بنواحي نهاوند فادَّعى النبوة، وكان يمخرق بالنجوم والسحر، وتبِعَه خلقٌ كثيرٌ، وحملوا إليه أموالهم، فكان يعطي جميع ما عنده لمن يقصده، وسمَّى أصحابه بأسماء الصحابة؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين. وخرج في هذا الوقت بنواحي نهاوند أيضًا رجلٌ من ولد ألب أرسلان يطلب الملك، فطُلِبا وأُخِذا وقُتِلا في يوم واحد، فكانت مدَّتهما شهرين (¬2). وفيها خرج الفرنج إلى سواد طبرية، وشرعوا في عمارة حصن بين السواد والثنية يُقال له: عال، وكان منيعًا، وبلغ طُغْتِكين، فسار في عسكره فبيَّتهم ليلًا، فقتلهم وأسرهم، وأخذ الحصين بما فيه من آلةٍ وغيرها، وعاد إلى دمشق بالأسارى [والغنائم (¬3)] في جمادى الآخرة. وفي هذا الشهر ظهرَ كوكبٌ له ذؤابة كقوس قُزَح من الغرب إلى نصف السماء، فأقام ليالي ثم غاب (¬4). وفيها ملكت الإسماعيلية حصن أفامية، وقتلوا خلف بن ملاعب صاحبه بأمر أبي طاهر العجمي الصانع المقيم بحلب مقام المنجم، وكان بفامية رجلٌ من دُعاتهم يقال له: أبو الفتح السرميني، فقرَّر ذلك مع أهلها، فثقبوا السور، وهجموا على ابن ملاعب فطعنوه بحربة فمات، ونادوا بشعار رضوان صاحب حلب، وكان رضوان قد بنى لهم بحلب دار دعوة، وهو أول من عملها، وبقي الحصين في أيديهم حتى أخذه الفرنج منهم سنة خمس مئة. ¬

_ (¬1) البيتان في معجم الأدباء 17/ 237 - 238. (¬2) هذا الخبر في المنتظم 17/ 95. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) الخبر في الكامل 10/ 414 - 415.

عمر بن المبارك بن عمر

وقال ابن القلانسي: وفيها وصل فتح قُليج بن أرسلان إلى الرُّها، وكان بحرَّان أصحاب جكرمش، فراسلوه، فجاء، فسلَّموها إليه، ومرض، فعاد إلى ملطية، وأقام أصحابُه بِحَرَّان، فإذا يدلُّ على أنَّ قليج بن أرسلان تأخَّرت وفاته. وفيها تُوفِّي عمر بن المبارك بن عمر (¬1) أبو الفوارس، البغدادي، ولد سنة ثلاث عشرة وأربع مئة، وقرأ القرآن، وبرع في علمه، وأقرأ الناس سنينَ كثيرة، وختم عليه ألوف من الناس، وسمع الحديث الكثير، وكان من كبار الصالحين الزُّهاد المتعبِّدين، وكان له ورْدٌ بين العشاءين يقرأ فيه سبعًا من القرآن قائمًا لم يقطَعْه مع علوِّ السنِّ، وبلغ سبعًا وتسعين سنة ممتَّعًا بسمعه وبصره وعقله، وكانت وفاتُه في المحرَّم، وحضر جنازته خلقٌ كثير، وغلقت أسواقُ بغداد من الجانبين، فلم يفتح الناس دكاكينهم إلا بعد أسبوع، ودُفِنَ بباب حرب، سمع من القزويني وغيره. مُهارش البدوي بن مجلِّي (¬2) أبو الحارث، صاحب الحديثة، الذي خدم القائم بأمر الله لمَّا حصل عنده في الحديثة، وفعل معه ما ذكرناه، وكان كثيرَ الصلاة والصوم والصدقة، صالحًا، محبًّا لأهل الخير، وعاش ثمانين سنة. ¬

_ (¬1) المنتظم 17/ 96 - 97. (¬2) المنتظم 17/ 98، والكامل 10/ 416. وتنظر بقية مصادر الترجمة في السير 19/ 224.

مرآة الزمان من كتب التاريخ التي كان يتطلع كثير من الباحثين لتحقيقه ونشره، لوفرة مادته العلمية، وشهرة مؤلفه سبط ابن الجوزي، وخاصة أنه لم يكن متاحًا منه بين أيديهم إلا تلك الشذرات التي نشرت مخطوطة في شيكاغو سنة 1907 م. ولذلك حين طُلب مني المشاركة في تحقيقه قبلت على الفور، واخترت منه العصر الذي أمضيت عمرًا من سنين حياتي في تحقيق أخباره ودراستها، وأعني بذلك تلك السنين التي تمتد ما بين سنة (500 هـ) وحتى سنة (654 هـ)، وهي آخر سنين هذا الكتاب. واعتمدت في تحقيقها على النسخ الآتية: 1 - نسخة خزائنية كانت برسم خزانة محب الدين أحمد بن أحمد بن ينال العلائي الداوداري الحنفي، وهي برقم (2133)، وقد رمزت لها بالحرف (ع)، ورمز لها بسائر الكتاب بـ (خ)، وهي تنتهي عندي في آخر حوادث سنة (560 هـ). 2 - نسخة أحمد الثالث برقم (2907)، ورمزت لها بالحرف (خ)، وتبدأ من حوادث سنة (521 هـ)، وتنتهي بخرم في أثناء حوادث سنة (636 هـ). 3 - نسخة باريس، ومنها نسخة مصورة في مكتبة مجمع اللغة العربية بدمشق، ورمزت لها بالحرف (ب)، فيها خَرْمٌ يبدأ من حوادث سنة (517 هـ)، ويأتي على بقية الكتاب. 4 - وثمة قطعة تعبدًا من سنة (620 هـ)، وتنتهي مع آخر الكتاب، رقمها (2138)، ورمزت لها بالحرف (ت). هذه النسخ الأربع هي النسخ التامة للكتاب باختصار المؤرخ قطب الدين اليونيني. وثمة نسختان مختصرتان اختصارًا موجزًا عن أصل المؤلف، لم نقع على اسم المختصر، وهما

- نسخة شيكاغو، وقد صورت في شيكاغو سنة 1907 م، ورمزت لها بالحرف (ش). - نسخة إبراهيم بن عبد العزيز الناسخ، وكان فرغ من نسخها سنة (735 هـ)، ورمزت لها بالحرف (م). فما كان من نسختي (ش) و (م)، أو من إحداهما وضعته بين حاصرتين في متن الكتاب، رغبة مني في إخراج نص من "المرآة" أقرب ما يكون إلى الأصل الذي تركه مؤلفه سبط ابن الجوزي، ولذلك آثرت تسميته "مرآة الزمان" لأنه لا يمكن نسبة هذا النص إلى قطب الدين اليونيني، للزيادة التي أضفتها من غيره ... والحمد لله رب العالمين. دمشق في 10 رجب 1432 هـ 11 حزيران 2011 م إبراهيم الزبيق

السنة الخمس مئة

السَّنة الخمس مئة فيها قُتِلَ فخرُ المُلْك بن نظام الملك بنَيسابور. وقتِلَ سَعد الملك وزير السُّلْطان محمَّد. وقتِلَ ابنُ عَطَّاش مقدَّمُ الباطنية. وغَرِقَ قَليج رسلان بن سُليمان بن قُتُلْمِش. وصُرف الوزير أبو القاسم علي ابن جَهِير من وزارة الخليفة (¬1) في رابع عشرة صَفَر بينا هو جالِسٌ في الدِّيوان جاءه أبو الفرج بن رئيس الرُّؤساء، فشافَهَه بالعَزْلِ، فانْصَرف. وكان سَيفُ الدولة (¬2) قد قَرَّر أمره مع الخليفة أنه متى تَغَيَّر رأيُه فيه يُعْزَلُ مَصُونًا، فَقَصَد دارَ سَيفِ الدَّوْلة -وكانت حِمىً- وهو يقول في طريقه: أَمَّنكَ الله يا سَيفَ الدَّوْلة يوم الفَزَعِ الأكبر كما أَمَّنتني. وأقام بدار سيف الدولة إلى أن أنفذَ إليه من الحِلَّة قومًا؛ فخرجوا به وبأهله وولده وأصحا به، فكانت [مدةُ] (¬3) وزارتهِ ثلاثَ سنين وخمسةَ أشهرٍ وأيامًا. وكان قد استفسد في وزارته [هذه] (3) قلوبَ جماعةٍ، منهم أبو الحسن قاضي القُضَاة الدَّامَغَاني (¬4)، وصاحب المخزن أبو القاسم بن الفقيه. ¬

_ (¬1) هو المستظهر بالله، وقد توفي سنة (512 هـ)، وسترد ترجمته في حوادثها. (¬2) هو صدقة بن منصور بن دُبَيْس الأسدي، صاحب حِلَّة بني مزيد، وكان صدقة قد عمرها بين الكوفة وبغداد سنة (495 هـ). وكانت من قبل أجمة تأوي إليها السباع، وداره ببغداد كانت ملجأ للخائفين، قتل سنة (501 هـ)، وسيأتي خبره في حوادثها. وانظر "معجم البلدان" 2/ 294. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) هو علي بن محمَّد بن علي بن الدامغاني، توفي سنة (513 هـ)، وسترد ترجمته في حوادثها.

وأمر الخليفة بنَقْضِ داره التي بباب العامَّة (¬1)، وكان [أبو نصر] فخر الدولة بن جَهير (¬2) بناها بأنقاضِ دور الناس [من الجانب الغربي على يدي صاحب الشرطة أبي الغنائم بن إسماعيل، وكان هذا الشرطي يأخذ أكثر الأنقاض لنفسه ويحتج بعمارة هذه الدار، ولا يقدر أحد من الضعفاء أرباب الأنقاض على الكلام] (¬3)، فكانت عاقبةُ الظُّلْمِ والغَصْبِ الخرابَ (¬4) [وذهابَ الأموال، والعَزْلَ بعد العِزِّ، وتغيُّرَ الأحوال] (¬5). قال المصنف -رحمه الله (¬6) -: كذا جرى في دار السَّلْطنة ببغداد [في سنة خمس عشرة وخمس مئة] (¬7)، وكذا جرى في زماننا، فإنَّ سامةَ الجِيلي (¬8) بنى دارًا بدمشق على هذا الوجه، فأخْربها الله تعالى على يدي أيوب بن الكامل (¬9) سنةَ سبع وأربعين وستِّ مئة، وكان سامةُ قد غَرِمَ عليها أموالًا عظيمة، وأخذ أراضيَ النَّاس والآلات (¬10) بدون الطفيف (¬11) وصَحَّ فيه قولُ القائل: الحَجَرُ المغصوبُ في البناءِ أساسُ الخراب. ¬

_ (¬1) في (ب): عمورية، وهو تحريف، وانظر "خطط بغداد" ص 48. (¬2) هو فخر الدولة محمَّد بن جهير والد أبي القاسم المذكور، وقد توفي سنة (483 هـ)، وسلفت ترجمته في حوادثها، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع) و (ب) إلى الخراب، والمثبت من (م) و (ش). (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "المنتظم" 9/ 149. (¬6) في (م) و (ش): قلت .. (¬7) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وسيأتي الخبر في حوادثها. (¬8) في النسخ الخطية: أسامة، أينما مَرَّ، والصواب "سامة" دون ألف كما جاء في النسخ المجودة من "كتاب الروضتين" بتحقيقي، وهو من أمراء صلاح الدين، وأخباره مبثوثة ثمة، وداره التي بناها بدمشق ذكرها أبو شامة في "المذيل على الروضتين" بتحقيقي كذلك في حوادث سنة (601 هـ). وقد عمر البادراتي في مكانها بعد خرابها مدرسة عرفت بالبادرائية. وكأن سبط ابن الجوزي يلتمس العذر لصاحبه الملك المعظم في نقمته على سامة حين يعزو ذلك إلى هذه الدار، والصحيح أن وراء نقمته عليه ما حدث في البيت الأيوبي عقب وفاة صلاح الدين من منازعات، وميل سامة هذا إلى الملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب، وسيذكر ذلك سبط ابن الجوزي نفسه في حوادث سنة (609 هـ)، وانظر "الدارس في تاريخ المدارس": 1/ 205، و"منادمة الأطلال": 88. (¬9) هو الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمَّد بن العادل، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (647 هـ). (¬10) في (م): والأبواب. (¬11) أي بأقل القليل من الثمن.

[ليت الحلال سَلِمَ، فكيف الحرام؟ وكانت هذه الدار سببَ هلاكِ سامة، فإن المُعَظَّم عيسى رحمه الله اعتقل سامةَ وأخذ قلاعَه وأمواله وضياعه وأنشابَهُ (¬1)، ومن جُمْلتها قلعتان: كوكب وعَجْلُون، ومات في حَبْسه بالكَرك، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]] (¬2). ولما عُزِلَ ابنُ جَهِير عن الوزَارة، استناب الخليفةُ أبا الحسن بن الدَّامَغَاني [قاضي القضاة في الديوان] (¬3) ومعه أبو الحسين بن رِضْوان، ثم استوزَرَ هبةَ الله بنَ محمَّد بن المُطَّلب، وقيل: نابَ في الوزَارة (¬4). وفيها ولَّى الخليفةُ أبا جعفر عبد الله بن الدَّامَغَاني أخا قاضي القُضَاة حِجْبةَ الباب، وخَلَعَ عليه، فرمى الطَّيلَسان (¬5)، فَشَقَّ على أخيه، وقد كان ينوبُ عنه في القضاء (¬6). [وأما ما يتعلقُ بأخبارِ الشَّام، فإن في هذه السنةَ كثُرَ فسادُ الفرنج] (¬7) في أعمال السَّواد، وحوران وجبل عَوْف، فجمعَ طُغْتِكين العساكر من التُّرْكمان وغيرِهم، وخَيَّمَ بالسَّواد، وكان الأَمير عِزُّ المُلْك والي صور قد نَهَضَ إلى حِصن تِبْنين [من عمل الفرنج] (2)، فهجم رَبَضَه، وقتَلَ مَنْ فيه، ونَهَبَ [وغَنِم] (2)، وبلغَ بغدوين (¬8) ملكَ الفرنج، فرحَلَ من طبرية قاصدًا صور، وعاد طُغْتِكين إلى دمشق (¬9). ¬

_ (¬1) النَّشَب: المال والعقار، وأكثر استعماله في الأشياء الثابتة كالدور والضياع. "معجم متن اللغة" 5/ 456. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) (¬4) انظر "المنتظم": 9/ 149. (¬5) الطيلسان نوع من الخمار يطرح على الرأس والكتفين، أو يلقى أحيانًا على الكتفين فقط، وهو خاص بالقضاة، وقد رماه أبو جعفر كما في هذا الخبر، ولبس خِلْعة الحجبة، انظر "المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب" لدوزي: 229 - 230. (¬6) انظر "المنتظم": 9/ 150. (¬7) في (ع) و (ب): وفيها أكثر فساد الفرنج في أعمال السواد، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬8) هو بلدوين الأول Baldwin I. (¬9) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 243 - 244.

وفيها (¬1) بَعَثَ السُّلْطان محمَّد شاه برأسِ أحمد بن عبد الملك بن عَطَّاش مقدَّمِ الباطنية ورأسِ ولدِهِ، وكان ابنُ عَطَّاش بقلعةٍ عظيمة بأصبهان، بناها السُّلْطان مَلِك شاه جلالُ الدَّوْلة؛ وسببُ بنائها أنَّ بعضَ رُسُلِ الرُّوم وَرَدَ عليه في رسالة وأظهَرَ الإِسلام، فخَرَجَ معه ذاتَ يومٍ للصَّيد، فهربَ منه كلبٌ صَيُود [شديدُ العَدْو] (¬2)، فصَعِد الجبل، وصَعِد السُّلْطان وراءه ومعه الرُّومي، فقال له [الرومي] (¬3): يا سُلْطان، لو كان هذا الجبلُ عندنا لبنينا عليه قلعةً ننتفعُ بها، ويبقى ذِكرُها. فثَبَتَ هذا الكلام في قلب السُّلْطان، فبناها، وأَنْفَقَ عليها [أموالًا عظيمة] (¬4)؛ ألفي ألف دينار ومئتي ألفِ دينار، فاحتال عليها ابنُ عَطَّاش حتى مَلَكَها، فكان أهلُ أصبهان يقولون: انظروا إلى هذه القَلْعة؛ كان الدَّليلُ على مَوْضعها كلبٌ، والمُشير ببنائها كافر، وخاتِمةُ أمرِها هذا المُلْحد. وكان الرُّومي لما عادَ إلى بلده يقول: إنِّي نَظَرتُ إلى أصبهان، وهو بلدٌ عظيم والإِسلامُ به ظاهر، فلم أجد شيئًا أُشَتِّتُ به جموعَهم، وأُنْفِدُ به أموالهم غيرَ بناءِ هذه القَلْعة. ولما ماتَ مَلِك شاه تحيَّل عليها ابنُ عطاش ومَلَكَها (¬5)، وأقام بها اثنتي عَشْرَةَ سنةً، ولما آلَ الأمرُ إلى محمَّد شاه، اهتمَّ بها (¬6)، ونَزَلَ عليها، وأقام على حِصارها سنةً، ثُمَّ فتَحَها عَنْوةً وهَدَمها، وقتَلَ ابنَ عَطَّاش وَوَلَدَه في ذي القَعدة، وسَلَخ ابنَ عَطَّاشٍ، ومَثَّلَ بأصحابه، وألقتْ زوجتُه نَفسَها من أعلى القلعة، ومعها جوهرٌ نفيس، فهلكت وما معها. ¬

_ (¬1) في (ب): فصل، وفيها. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (م) و (ش): وكان ابن عطاش لما مات ملك شاه قد تحيل عليها وملكها. (¬6) في (م)، (ش): اهتم بهذه القلعة.

وكان [أبو] (¬1) ابنِ عطاش في أول أمره طبيبًا، فأخذه السُّلْطان طُغْرلْبَك، وأراد قتله لأَجْلِ مذهبه، فأظهر التَّوبة، ومضى إلى الرَّي، وصاحَبَ أبا عليٍّ النَّيسابوري، وكان مقدَّمهم بالرَّي، وصاهَرَه، وجمَعَ رِسالةً في الدُّعاء إلى هذا المذهب سمَّاها العقيقة، وماتَ ببعضِ بلاد الرَّي، وجاء ابنُه أحمد فمَلكَ القلعة، واسْمُها شاه دِزْ. [قلتُ: وهذا الذي ذكره أربابُ السِّيَر بالعراق من حديثِ هذه القلعة وابنِ عطاش، حكاه (¬2) جدّي في "المنتظم" (¬3). ووقعتْ في تاريخ أبي يعلى حمزة بن القلانسي، فذكَرَها (¬4)، وقال: وفي سنةِ خمس مئة ورَدَتِ الأخبارُ متواترةً باهتمام السُّلْطان غياثِ الدُّنيا والدِّين محمَّد بن ملك شاه بمحاصرة قلعة الباطنية وهَدْمِها، وأراحَ العالم منها، ومن الشَّرِّ المُتَّصِلِ بها] (¬5)، وأنشأَ كتابَ الفَتْح (¬6) بوَصفِ الحال، وهو كتابٌ طويل (¬7)، منه: وفتَحْنا قلعةَ شاه دِز الذي شَمَخَ بها الباطلُ وبَذَخَ (¬8)، وباضَ الشَّيطانُ فيها وأفرخَ، وكانت قذًى في عيون الممالك، وسببًا (¬9) إلى التَّورُّطِ بالمُسْلمين في المهاوي والمهالك، وكان بها ابنُ عَطَّاش الذي طار عَقْلُه في مَدْرجِ الضَّلال وطاش، فكان يستبيحُ دماءَ المُسلمين ويراها هَدَرًا، ويستحِلُّ أموالهم غَرَرًا، فكم من دماءٍ سُفِكَت، وحُرَمٍ انتُهِكتْ، وأموالٍ استُهْلِكت، وشَرَقاتٍ (¬10) تَجرَعُها النُّفوسُ فما اسْتُدرِكَتْ. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) في (م) و (ش): وحكاه، والصواب ما هو مثبت. (¬3) انظر "المنتظم": 9/ 150 - 151، و"الكامل" لابن الأثير: 10/ 435 - 434، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 267. (¬4) في (م) و (ش)؛ وذكرها، والصواب ما هو مثبت. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) في (ع): الفصيح، وهو تحريف. وفي (م) و (ش)، وأنشأ كتاب الفتح بوصف الحال فيها إلى سائر أعماله ليقرأ على المنابر، ومن جملة ما كتب: وكانت هذه القلعة من أمهات القلاع ... (¬7) انظر الكتاب بتمامه في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 245 - 250. (¬8) شمخ وبذخ: كلاهما بمعنى تكبَّر وعلا، انظر "معجم من اللغة" 1/ 258، 3/ 365. (¬9) في (ب): وسبيلًا. (¬10) من الشَّرَق: وهو دخول الماء الحلق حتى يَغَصَّ به. "اللسان" (شرق).

جعفر بن أحمد

وكانت هذه القَلْعةُ من أُمَّهات القِلاع التي تمتنعُ على مَن رامها أشَدَّ امتناعٍ، وكانت تُبَثُّ الحبائِل (¬1) منها إلى سائر الجهات والأقطار، وترجعُ إليها نتائجُ الفسادِ رجوعَ الطَّيرِ إلى الأوكار، وهي في العِزَّة والمَنَعَة مثل مناطِ الشَّمسِ، التي تنالُ منها حاسَّةُ البَصر دون حاسَّةِ اللَّمسِ، وكأنها وهي في أعلى شاهقٍ، نَزَلَتْ على الجبل من حالقٍ، فنَسَفناها نَسفًا، وخَسَفْناها خَسفًا، وصَيَّرْنا سُفْلَها عُلْوًا، وعُلْوَها خِلْوًا، إذ لم يُفْلِتْ منها صاحِبٌ ولا مصحوب، إنَّ الشَّقاء على الأشْقَيَينِ مَصبوبٌ، وأمرنا بهَدْمها وتَعفيةِ أثرِها ورَدْمها، وأُسر ابنُ عَطَّاش رأسُ الجالوت، ووليُّ الطَّاغوت الذي كان من قومٍ قال الله فيهم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41] فجعلناه وولدَه عِبرةً للنُّظَّار، ولأُولي الأبصار {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ} [الأنعام: 45] على هذا الفَتْح المُبين، الذي هو غُزَةُ الدَّهْر على دوام السِّنين (¬2). جعفر بن أحمد ابن الحسين بن أحمد، أبو (¬3) محمَّد السَّرَّاج القارئ البغدادي (¬4). ولد سنةَ ستّ عشرة وأربع مئة (¬5)، وقرأ القرآن بالرِّوايات، وأقرأ سنين، وسافر إلى الشَّام ومِصر، وسَمِعَ الحديث الكثير، وصنف المصنفات الحِسان، منها: [كتاب] (¬6) "مصارع العُشَّاق" (¬7)، وغيره. [وسمع بدمشق وطرابُلُس، وأخرج له الخطيب فوائد في خمسة أجزاء، وتكلَّم على الأحاديث] (6). ¬

_ (¬1) حبائل جمع، مفردها الحِبالة: وهي ما يصاد بها من أي شيء كان. "اللسان" (حبل). (¬2) "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 246 - 249. (¬3) في (ش): بن، وهو تحريف، والمثبت من (م) و (ب). (¬4) ترجمته في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق. مج 1 / ج 3/ 283 - 289، و"المنتظم": 9/ 151 - 152، و"معجم الأدباء": 7/ 153 - 162، و"وفيات الأعيان": 1/ 357 - 358، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 228 - 231، وانظر تتمة مصادر ترجمته فيه. (¬5) انظر الخلاف في سنة مولده في "وفيات الأعيان": 1/ 358. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬7) طبع الكتاب غير ما طبعة، أولها في مطبعة الجوائب سنة 1301 هـ - 1883 م، وآخرها في بيروت عن دار بيروت سنة 1400 هـ - 1980 م، وهو كتاب مشهور متداول.

وكان أديبًا شاعرًا، فاضلًا، لطيفًا، صدوقًا، ثِقَةً، ونَظَمَ [كُتُبًا كثيرة] (¬1): "المبتدأ"، و"مناسك الحج"، وكتاب "التَّنْبيه"، وغير ذلك، ولم يمرض في عُمُره غيرَ مَرَضِ المَوْت، وتوفي في صَفَر، ودفن بالمقبرة المعروفة بالأجمة من باب أبرز، [سمع أبا الحسين بن القَزْويني وغيره] (¬2). وله "ديوان شعر"، فمنه (¬3): [من مجزوء الكامل] بانَ الخليطُ (¬4) فأدْمُعي ... وَجْدًا عليهم تَستَهِلُّ وحدا بهمْ حادي الفِرا ... قِ عنِ المنازلِ فاستَقَلُّوا (¬5) قُلْ للذينَ ترحَّلوا ... عن ناظري والقَلْبَ حلُّوا وَدَمي بلا جُرْمٍ أتَيـ ... ـــتُ غَدَاةَ بَينِهِمُ اسْتَحَلُّوا ما ضَرَّهم لو أنْهلوا ... من ماءِ وَصلِهِمُ وعَلُّوا (¬6) وقال يمدحُ أصحابَ الحديث: [من مجزوء الكامل] قُلْ للذين بجَهْلِهِمْ ... أضحوا يَعِيبُونَ المحابِرْ والحاملينَ لها من الـ ... أيدي بمُجتمع الأساورْ لولا المحابِرُ والمقا ... لم والصَّحائِفُ والدَّفاتِرْ والحافظون شَريعة الـ ... ـــمبعوثِ من خَير العشائِرْ والناقلونَ حديثَهُ ... عن كابرٍ ثَبْتٍ لكابرْ لرأيت مِنْ شِيَعِ الضَّلا ... لِ عساكرًا تتلو عساكرْ كلٌّ يقولُ بجهلِهِ ... واللهُ للمظلومِ ناصرْ سَمَّيتُمُ أهلَ الحديـ ... ــــثِ أُولي النُّهى وأُولي البصائِرْ ¬

_ (¬1) في (ع): ونظم كتاب المبتدأ، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) فمن قوله: والمثبت من (ب). (¬4) الخليط: المعاشر المخالط. (¬5) استقلوا: ارتحلوا ومضوا. (¬6) الأبيات في "الخريدة" قسم شعراء العراق مج 1 / ج 3/ 287، و"المنتظم": 9/ 151 - 152، و"وفيات الأعيان": 1/ 357.

حَشَوِيَّةً (¬1) فعليكُمُ ... لَعْنٌ يُزيركُمُ المقابِرْ هُمْ حَشْو جنَّات النَّعْيـ ... ــــمِ على الأَسِرَّةِ والمنابِرْ رُفَقاءُ أحمدَ كلُّهم ... عن حَوضِهِ ريَّان صَادِرْ (¬2) وقال في أصحاب الحديث أيضًا: [من المتقارب] إذا كنتمُ تكتبونَ الحديـ ... ـــثَ ليلًا وفي صُبْحِكُمْ تُسْمِعُونا وأفْنَيتُمُ فيه أعمارَكُمْ ... فأيُّ زمانٍ به تَعمَلُونا (¬3) وقال: [من السريع] يا ساكني الدَّيرَ حُلُولًا به ... تُطْرِبُهُمْ فيه النَّواقِيسُ قِيسُوا لنا القُرْبَ وكم بَينَهُ ... وبينَ أيَّامِ النَّوى قِيسُوا (¬4) وقال: [من البسيط] يا هندُ قد عَنَّ لي عن داركُمْ سَفَرٌ ... كما اشتهى البَيْنُ مهما شِئْتِ وصِّيني فإنني لأَرَى فَرْضًا حَوائجَكُمْ ... حَتْمًا عليَّ ولو بالهِنْدِ والصِّينِ [وله: [من المتقارب] إذا كان يؤذيك حَرُّ المَصِيفِ ... ويُبْس الخريفِ وبَرْدُ الشِّتا ويُلْهِيكَ طِيبُ زمانِ الرَّبيعِ ... فأخْذُك للعِلْم قُلْ لي متى؟ رحمه الله] (¬5). ¬

_ (¬1) الحشوية، بسكون الشين وفتحها: نسبة إلى الحشو، وهو الجسم، وهم طائفة تمسكوا بظواهر النصوص. فأفضى بهم ذلك إلى التجسيم، ويقال لهم المجسمة كذلك، انظر "كشاف مصطلحات الفنون" للتهانوي: 2/ 166 - 167. (¬2) الأبيات في "المنتظم": 9/ 152. (¬3) البيتان في "الخريدة" قسم شعراء العراق مج 1 / ج 3/ 289. (¬4) البيتان في المصدر السالف. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). والبيتان لأحمد بن فارس بن زكريا النحوي صاحب "المجمل"، نسبهما إليه ابن عساكر في "تاريخه" (خ) (س) 18/ 173 وفي مختصره لابن منطور 27/ 287، وأوردهما له الثعالبي في "يتيمة الدهر" 3/ 470، وياقوت في "معجم الأدباء" 4/ 88، والقفطي في "إنباه الرواة" 1/ 95، والذهبي في "السير" 17/ 106 وغيرهم.

سعد بن محمد أبو المحاسن

سَعد بن محمَّد أبو المحاسن (¬1) وزير السُّلْطان محمَّد شاه، بلغه عنه أنه قد دَبَّرَ عليه هو وجماعة [من الكتَّاب] (¬2)، وكاتبوا أخاه سنجر، فصَلَبَ وزيره، وصلبهم على باب أَصبهان، واستوْزَرَ أبا نَصر أحمد بن نظام المُلْك. عليُّ بنُ نظام المُلْك (¬3) أبو المُظَفَّر، فخر الملك. كان أكبر ولد النِّظام، استوزره بَرْكْيارُوق، ثم توجَّه إلى نيسابور، فوزر للسُّلْطان سنجر [شاه بن ملك شاه] (¬4)، وكان قد رأى ليلةَ عاشوراء [في المنام في هذه السنة] (2) الحسين بن علي عليهما السَّلام في المنام وهو يقول له: عَجِّلْ إلينا وأَفْطِرْ الليلة عندنا. فانتبه مُشْفِقًا من ذلك، فشَجَّعه أصحابُهُ، وقالوا له: لا تخرج [الليلة ولا] (¬5) اليوم من دارك. وأصبح صائمًا، فلما كان وقتُ العَصر خَرَجَ من حُجْرةٍ كان فيها إلى دُورِ بعض نسائه، فَسَمِعَ صوتَ مُتَظَلِّمٍ يقول: مات المسلمون، ما بقي أحدٌ يكشف ظُلامةَ أحدٍ، ولا مَنْ يأخذُ بيدِ أحد، ولا مَن يُغيث ملهوفًا. فوقفَ، وقال: أبصروا مَنْ هذا، فقد عَمِلَ (¬6) كلامُه في قلبي. فأدنوه منه (¬7)، وإذا رجل في زِيِّ الصُّوفية، فقال: ما الذي بك؟ فقال: حاجتي في هذه الورقة، فأخذها منه، ووقف يقرؤها، فضربه بسكين في مقتله، فقضى عليه، وحُمِلَ القاتل إلى سنجر فقرَّره، فأقَرَّ على جماعةٍ من أصحاب سنجر، وكَذَبَ، وإنما بعثه مقدَّم الباطنية [على عادتهم في ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: أبو المعالي، وهو وهم، والمثبت من "المنتظم" 9/ 150، و"الكامل" لابن الأثير: 10/ 437، وانظر خبره ثمة. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (م) و (ش) فصل، وفيها توفي علي بن نظام الملك. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) ما بين حاصرتين من (م). (¬6) في (م) و (ش): وقع. (¬7) في (ب): مني.

قليج رسلان بن قتلمش

السعي بالرؤوساء ليفنوا النَّاس] (¬1)، فَفُصِلَ الباطنيُّ عضوًا عضوًا على [قبر ابن نظام الملك] (¬2)، وكان له يوم قتل سِتٌّ وستون [سنة] (1)، رحمه الله (¬3). ويقال: [إنَّ الباطنية لما قتلوا فخر المُلْك] (¬4) كتب سنجر إلى أخيه محمَّد: إنَّ هؤلاء لا يبقون عليَّ ولا عليك، والواجبُ قَلْعُهم من الأرض وإبادتهم. فسار إلى قلعة ابنِ عَطَّاش، وفَعَلَ ما فعل. قَلِيج رسلان بن قُتُلْمِش (¬5) قال أبو يعلى بن القَلانسي: في سنةِ خمس مئة تتابعتِ المكاتباتُ إلى السُّلْطان محمَّد شاه من أتابك طُغتِكين، وفخر الملك بن عَمَّار صاحب طَرَابُلُس بعظيم ما ارتكبه الفرنج من الفساد في البلاد، وتَمَلُّكِ الحُصُون والقِلاع بالشَّام والسَّاحل، فَنَدَبَ السُّلْطان الأَمير جاولي سقاوة وأميرًا من مُقَدَّمي عسكره في عَسْكرٍ كثيف من الأتراك، وكَتَبَ إلى صَدَقة، وإلى جكرمش صاحب المَوْصِل بتقويته بالمال والرجال، وأقطعه الرَّحْبة، وما على الفُرَات، فَثَقُلَ ذلك على المُكاتَبين، ودافعَهُ صدقة، فسار إلى المَوْصِل، وبعث إلى جكرمش يطلبُ منه ما أَمَرَ به السُّلْطان، فتوقف، فنزل جاولي قلعة السن (¬6)، ونهبها، وخَرَجَ إلى جكرمش، فقاتله، فَظَفِر به جاولي، واستباحَ عسكره، وهرب ولده إلى المَوْصِل، وقتَلَ جاولي جكرمش، وبَعَثَ برأسه إلى المَوْصِل، فكتبَ ابنُه إلى قَليج رسلان يستمدُّه، ويبذلُ له تسليمَ المَوْصِل. وكان جكرمش قد جَمَعَ مالًا عظيمًا من الجزيرة والمَوْصِل، وكان جميلَ السِّيرة، عادلًا في الرَّعية، مشهورًا بالإنصاف، فسار قليج رسلان في عَسكره، فنَزَلَ نَصِيبين ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ب): على قبره، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) انظر "المنتظم": 9/ 148 - 149، و"الكامل" لابن الأثير: 10/ 418 - 419. (¬4) في (ع) و (ب): لما قتل كتب، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (م) و (ش): وفيها غرق قليج أرسلان بن سليمان بن قتلمش؛ سقط من الخابور، فغرق، ووجد بعد أيام ميتًا. (¬6) السن: بليدة على دجلة فوق تكريت. "معجم البلدان": 3/ 268.

ودخَلَها؛ لأنَّه كان في قُلٍّ (¬1) من عسكره، وباقيه في بلاد الرُّوم لإنجاد صاحبِ القُسْطَنطينِيَّة على الفرنج. وجاء جاولي إلى نَصِيبين، والتقتِ الطَّلائعُ، فَظَفِرَ قومٌ من أصحاب [قليج بقوم من أصحاب] (¬2) جاولي، فقتلوا بعضًا، وأسروا بعضًا، فسار جاولي إلى الخابور، وقد عَلِمَ أنَّ قليج رسلان قد بَعَثَ يَطْلُبُ عسكرَه، فجاء إلى الرَّحْبة، ونَزَلَ عليها، وبها نائِبُ دُقاق، وعنده أرتاش (¬3) الهارب من طُغْتِكِين، وَوَصَلَ إيل غازي بن أُرْتُق في جماعةٍ من التُّرْكمان، وجاءه رِضوان صاحبُ حلب، فأقام جاولي على الرَّحْبة من أوَّلِ رجب إلى الثَّاني والعشرين من شهر رمضان، فافتتحها عَنْوَةً بمواطأةٍ مِنْ بعضِ أهلها، ونهبوا البَلَد، واستخرجوا الذَّخائر، فأمَّنَ جاولي النَّاسَ، وتسلَّمَ القلعةَ وأرتاش في قبضته. وكان محمَّد والي الرَّحْبة قد بَعَثَ يستصرخ بقليج رسلان، فجاء لينجده وقد فُتحت، فنَزَلَ على الشَّمْسَانية (¬4)، وقبَضَ جاولي على محمدٍ وحَبَسَه، ورَحَلَ، فنزل ماكِسِين (¬5) يريد المَوْصِل ومعه إيل غازي ورِضْوان، وقصدوا عسكرَ قليج، والتقى الفريقان يوم الخميس تاسع شَوَّال، وكان الزَّمانُ صَيفًا، فاشتدَّ الحَرُّ، وماتَ أكثرُ خَيلِ الفريقين عَطَشًا، فحمل عسكرُ قليج على عسكر جاولي، وقصَدَ جاولي قليج رسلان، وضربه بالسَّيف عدة ضربات، فلم تؤثِّر فيه، وانهزم عسكر قليج، وفَصَلَ عنه وقت الحرب صاحِبُ آمِد وصاحب مَيَّافارِقِين، ووقعَ السَّيفُ في أصحابه، فانهزمَ قليج، فَسَقَطَ في الخابور، فَغَرِقَ، ووُجِدَ بعد أيَّامٍ ميتًا. وعاد جاولي إلى المَوْصِل ورِضْوان إلى حلب خوفًا من جاولي، وأما أصحابُ قليج الذين سَيَّرهم لإنجاد صاحب القُسطنطينية، فَنُصروا على الفرنج ونهبوهم، ووصلوا إلى أماكنهم بعد أن خَلَعَ عليهم ملكُ الرُّوم، وأحسَنَ إليهم. ¬

_ (¬1) أي قلة. "اللسان" (قلل). (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) أرتاش هو ابن تاج الدولة تُتُش أخو دقاق، وقد هرب من دمشق بعد وفاة أخيه دقاق ملك دمشق، انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلاني: 234 - 235. (¬4) بليدة بالخابور. "معجم البلدان" 3/ 362. (¬5) بلد بالخابور قريب من رحبة مالك بن طرق. "معجم البلدان": 5/ 43.

ولما وصل جاولي إلى المَوْصِل وَجَدَ ولدَ قليج رسلان قد دَخَلَها، فحاصرها، فسَلَّموها إليه بالأمان، فقَبَضَ على ولد قليج، وسَيَّره إلى السُّلْطان محمَّد، فلم يَزَلْ مقيمًا عنده إلى سنة ثلاثٍ وخمس مئة، فهرب وعاد إلى مملكة أبيه ببلاد الرُّوم. وقيل: إنَّه لما وَصَلَ إليها عَمِلَ على ابنِ عمه، فقتله، واستقام له أمرُ المملكة (¬1). وقال صاحبُ "تاريخ مَيَّافارِقين" (¬2): إنَّ السُّلْطان محمَّد بَعَثَ جاولي لحرب الفرنج، وكَتَبَ إلى أمراء البلاد بطاعته، فلما وَصَلَ المَوْصِل أَنِفَ جكرمش أنْ يتأمَّرَ عليه جاولي، فحاربه، فهزمه جاولي، فدخل المَوْصِل مجروحًا، فأقام يومين، ومات، واستنجد ولده بقليج رسلان -وقيل: اسمه إبراهيم بن سُكْمان-[و] (¬3) صاحبِ آمِد، وسار جاولي إلى حلب لينجد رِضوان على الفرنج، وجاء قليج فدخل إلى المَوْصِل، واستولى عليها، وخَطَبَ لنفسه بعد الخليفة، وأسقط خُطبة السُّلْطان محمَّد شاه، وبلغَ جاولي وهو على حلب، فعادَ إلى المَوْصِل، فخرج إليه قليج، فاقتتلا قتالًا شديدًا، وأُحيط بقليج وباصحابه، فألقى نَفسَه في الماء، فَغَرِقَ، ودَخَلَ جاولي المَوْصِل، وكان بها مسعود بن قليج رسلان، وهو صبيٌّ صغير، فَقَبَضَ عليه، وبَعَثَ به إلى السُّلْطان، فاعتقله مُدَّة، ثم أُفلت، فأتى مَلَطْية وبها بعضُ مماليكِ أبيه، فأطاعه، وتقرَّرَتْ له المملكة ببلاد الرُّوم، فمسعود هذا جَدُّ ملوك الرُّوم. وقيل: إنَّ قليج رسلان اسمه إبراهيم بن سُكْمان بن سُلَيمان بن قُتُلْمِش، وقيل: إنَّهم من أولاد الدَّانْشَمَنْد، والأول أصح (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 250 - 254. (¬2) ثمة كتاب مطبوع عن تاريخ ميافارقين لأحمد بن يوسف بن علي بن الأزرق الفارقي، لا تتفق أخباره مع ما يحيل عليه سبط ابن الجوزي من "تاريخ ميافارقين"، ويبدو أن المؤلف قد كتب كتابه غير مرة، مما جعل نسخه يختلف بعضها عن بعض زيادة ونقصًا، والله أعلم. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق, لأن صاحب آمد حينئذ هو إبراهيم بن ينال، وكان في جملة عسكر قليج رسلان، انظر "تاريخ الفارقي": 106، و"الكامل": 10/ 427. (¬4) وهم سبط ابن الجوزي في ذلك، فقد قيل: إن اسم قليج رسلان هو داود فيما ذكر زامباور في "معجم =

محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الأسدي

محمَّد بن إبراهيم أبو عبد الله الأسَدِي (¬1) ولد بمكة سنة إحدى وأربع مئة (¬2)، وسافر إلى البلاد، ولقي العلماء، وخَدَمَ الوزير أبا القاسم بن المَغْرِبي (¬3)، وأقام بغَزْنة، فتوفي يوم عاشوراء. من بديع شِعْره: [من الخفيف] قلتُ: ثَقَّلْتُ إذْ أتيتُ مِرارًا ... قال: ثَقَّلْتَ كاهلي بالأيادي قلتُ: طَوَّلْتُ، قال: لا بل تَطَوَّلْـ ... ــــتَ، وأبْرَمْتُ، قال: حَبْلَ الودادِ (¬4) محمَّد بن الحسن بن خُداداد، أبو غالب (¬5) ولد سنة إحدى وأربع مئة، وكان رجلًا صالحًا، ثِقَةً، كثير البكاء من خشية الله تعالى، توفِّي في ربيع الآخر، ودُفِنَ بباب حَرْب. ¬

_ = الأنساب": 216، وذهب ستانلي لين بول في كتابه "الدول الإِسلامية" 1/ 313 (سلسلة النسب العامة) إلى أن داود هو أخو قليج، ولم يذكر أحد من المؤرخين ما ذكره سبط ابن الجوزي من أن قليج رسلان اسمه إبراهيم بن سكمان بن سليمان. ثم إن ما يجمع سلاجقة الروم مع الدانشمند هي صلة قرابة من قبل الأمهات، انظر عن الدانشمنديين "معجم الأنساب" للزامباور: 220 - 221، "الدول الإِسلامية" 328 - 331، وكتاب "الدانشمنديين وجهادهم في بلاد الأناضول" للدكتور علي بن صالح المحيميد: 21 - 22 - 103. (¬1) ترجمته في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 3/ 23 - 25، و"المنتظم": 9/ 153، و"المحمدون من الشعراء" للقفطي: 138 - 143، و"الوافي بالوفيات": 1/ 356 - 357، و"العقد الثمين": 1/ 398، و"النجوم الزاهرة": 5/ 195، و"معاهد التنصيص": 3/ 201. (¬2) في النسخ الخطية ومصادر ترجمته ما خلا "الخريدة" و"المحمدون من الشعراء" أنه ولد سنة (441 هـ)، وهو وهم، صوابه ما ذكره العماد في "الخريدة" وتابعه القفطي في "المحمدون"، وقد أثبته، إذ ذكر في ترجمته هنا أنه خدم الوزير أبا القاسم، ووفاة الوزير المذكور سنة (418 هـ)، وذكر العماد وتابعه القفطي أنه لقي في صباه أبا الحسن التهامي الشاعر، ومقتل التهامي سنة (416 هـ)، وورد غزنة سنة (446 هـ)، وعمر إلى حد المئة. (¬3) هو الحسين بن علي بن الحسين المغربي، وقد توفي سنة (418 هـ)، وقد سلفت ترجمته في حوادثها. (¬4) أوردهما ابن حجة الحموي في "خزانته": 116 في أنواع البديع الذي يسميه أرباب البلاغة القول بالموجب، ونسبهما الذي ابن حجاج، وقد نبه على ذلك ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 195. (¬5) ترجمته في "المنتظم" 9/ 153 - 154، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 235 - 236، وانظر تتمة مصادر ترجمته فيه. وخداداد: كلمة فارسية تعني هبة الله.

المبارك بن عبد الجبار

المبارك بن عبد الجبار (¬1) ابن أحمد بن القاسم، أبو الحسين بن الطُّيوري الصَّيرفي، ويعرف بابنِ الحَمَامي. ولد في ربيع الأوَّل سنة إحدى عشرة وأربع مئة، وسَمِعَ الكثير، ومتَّعه الله بذلك، حتى انتشرت عنه الرِّواية، وكان حسَنَ السَّمْتِ، وَرِعًا، صالحًا، أمينًا، صَدُوقًا مُكْثرًا، كثيرَ العِبادة، كَتَبَ بخَطِّه شيئًا كثيرًا، وتوفِّي في ذي القَعدة، ودُفِنَ ببابِ حَرْب. يوسف بن تاشفين (¬2) والي الأندلس، وقد ذكرناه (¬3)، وقام مقامه ولده عليُّ بنُ يوسف (¬4). وفي أيام على ظَهَرَ محمَّد بن عبد الله بن تُوْمَرْت المَصمُودي، ويلقَّب بالمهدي، وكان يَزعُمُ أنَّه من سُلالة الحسنِ بنِ علي -رضي الله عنهما-، وقبيلته في المصَامدة تعرف بهَرْغة في جبال السُّوس من بلد المَغْرب، فأظَهَرَ الأمْرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنقَّلَ في البلاد، فلما صار إلى قرية ملَّالة بقُرب بِجَاية لقي عبد المؤمن بن عليِّ، فَصَحِبَه، وأشهَرَ أمْرَه في سنة خمس عشرة وخمس مئة (¬5)، وسمَّى أصحابه الموحِّدين، وبايعوه على أنَّه المهديُّ الذي بَشَّر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وبلَغَ خبرُه عليَّ بنَ يوسف بنِ تاشفين، فجهَّزَ إليه جيشًا بعد جيشٍ، وابن تُومَرْت يُنْصَرُ عليهم إلى سنة أربع وعشرين، فسار إلى مَرَّاكُش، ومعه عبد المؤمن في أربعٍ وعشرين ألفًا، فخَرَجَ إليه عليُّ بنُ يوسف، فَظَهَرَ على ابن تُومَرْت [وقتِلَ من أصحابه ثلاثة عشرة ألفًا، وانهزم ابن تومرت] (¬6)، وقال لأصحابه: عبد المؤمن في ¬

_ (¬1) ترجمته في "الأنساب": 4/ 209، و"المنتظم": 9/ 154، و"الكامل": 10/ 439، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 213، وتتمة مصادر ترجمته فيه. (¬2) له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 19/ 252 - 254، وانظر مصادر ترجمته فيه. (¬3) ذكر ذلك في حوادث سنة (498 هـ). (¬4) ترجمته في "المعجب": 252 - 261، و"وفيات الأعيان" 5/ 49، 7/ 123 - 126، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 124 - 125، وتتمة مصادر ترجمته فيه. (¬5) ذكر ابن الأثير في "كامله": 10/ 569 ابتداء أمره في حوادث سنة (514 هـ)، وكذلك قال ابن خلكان في "وفياته": 5/ 53. (¬6) ما بين حاصرتين من (ب)، والصحيح أن ابن تومرت لم يكن بالجيش وقتئذٍ، انظر "المعجب": 283، و"الكامل": 10/ 577 - 578، و"وفيات الأعيان": 5/ 53.

يوسف بن علي أبو القاسم الزنجاني

عافية؟ قالوا: نَعْمْ، فقال: ما ماتَ أحد. فَعَقَدَ له الولاية بعده، وسمَّاه أَمير المؤمنين في سنة ثمانٍ وعشرين، وقال: به يَفتَحُ الله البلادَ ويُصلِحُ العباد، فأطيعوه. ثم ماتَ ابنُ تُومَرْت سنةَ ثمانٍ وعشرين (¬1). وفتح عبدُ المؤمن أماكن في الجبال، فَجَهَّزَ إليه عليُّ بنُ يوسف ولدَه تاشفين، وكان وليَّ عهده، فصار يمشي بجيشه في السَّهْل، وعبد المؤمن مقابله في الجبل، ثم ماتَ عليُّ بنُ يوسف سنةَ خمسٍ وثلاثين (¬2) بمرَّاكُش، ومات ابنُه تاشفين بظاهر وَهران سنة تسعٍ وثلاثين، ولم ينزل عبد المؤمن إلى الوطَاء (¬3) حتى ماتَ تاشفين. ثم افتتح عبدُ المؤمن البلاد، ومات في سنة ثمانٍ وخمسين، وسنذكر [تفصيل هذا الإجمال,] إن شاء الله تعالى (¬4). يوسف بن علي أبو القاسم الزَّنْجاني (¬5) تفقَّه على أبي إسحاق الشِّيرازي، وبَرَعَ في الفِقْه والمناظرة، وسَمِعَ الحديث [من أبي إسحاق وغيره] (¬6)، وكان دَيِّنًا وَرِعًا، صَدُوقًا, وتوفي في صفر، ودفن عند أبي حامد الإسْفَرَاييني (¬7). [وكان أبو إسحاق يثني عليه] (¬8). ¬

_ (¬1) الصحيح أن وفاته سنة (524 هـ)، انظر "المعجب": 284، و"وفيات الأعيان": 5/ 53، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 550. (¬2) ذكر المراكشي في "المعجب": 295، وابن خلكان في "وفيات الأعيان": 7/ 125، والذهبي في "سير أعلام النبلاء": 20/ 125 وفاته سنة (537 هـ). (¬3) الوطاء: السهل. "اللسان" (وطأ). (¬4) في (ع): وسنذكره، وما بين حاصرتين من (ب). (¬5) ترجمته في "المنتظم": 9/ 154 - 155، و"طبقات الشافعية" للإسنوي: 2/ 6، وذكره السبكي في "طبقاته": 5/ 362 ولم يسق ترجمته. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬7) توفي أبو حامد الإسفراييني سنة (406 هـ)، وسلفت ترجمته في وفياتها، وكان قد دفن بباب حرب. (¬8) ما بين حامرتين من (م) و (ش).

السنة الحادية والخمس مئة

[حكاية عجيبة رواها الزَّنجاني عن أبي إسحاق الشِّيرازي] حكى لي القاضي (¬1) أبو الطَّيِّب الطبري، قال: كنا في حلقة النظر يوم الجمعة بجامع المنصور، فجاء شابٌّ خُرَاسانيٌّ، فسأل مسألةَ المُصَرَّاة وطلب الدَّليل، فاحتجَّ المُستَدِلُّ بحديثِ أبي هريرة، فقال الشَّابُّ وكان حنفيًّا: أبو هريرة غيرُ مقبولِ الحديث، قال: فما اسْتَتَمَّ كلامه حتى سَقَطَتْ عليه حيةٌ عظيمة من سَقفِ الجامع، فوثَبَ النَّاس من أجلها، وهَرَبَ الشَّابُّ منها وهي تَتْبَعُهُ، فقيل له: تُبْ، تُبْ. فقال: تُبْتُ. فغابتِ الحيَّةُ، فلم يُرَ لها أثر! [قلت: ولا بد من ذكر مسألة المُصَرَّاة، فأقول: إذا صُرَّ ضَرْعُ شاةٍ حتى اجتمَعَ لَبَنُها، فظنَّها المشتري غزيرةَ اللَّبَن، ثم ظَهَرَت بخلافه لا يستحقُّ ردَّها عند أبي حنيفة، وعند الشافعي وأحمد يردُّها وَيرُدُّ معها صاعًا من تمر، ويمسك لَبَنَها، واحتجَّ الشافعي بما روى أبو هريرة] (¬2): أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ اشتَرَى مُصَرَّاة فهو بخير النَّظَرَينِ بعد أن يَحْلُبَها، إنْ رَضِيَها أمسَكَها، وإنْ سَخِطَها رَدَّها وصاعًا من تَمْر" متفق عليه (¬3) [وقياسًا على سائر العيوب، ولأبي حنيفة: إنَّ فَسْخَ العَقدِ [فيه] (¬4) تفويتُ حَقّ البائعِ من غيرِ رِضاه، والنُّصوص والأصول تأباه. وأما حديثُ أبي هريرة، فأبو هريرة لم يكن من فُقهاء الصَّحابة، وقد أنكر عليه عمرُ بنُ الخطَّاب كَثرَةَ الرِّواية, ونهاه عن الحديث، وقال: لئن عُدْتَ فَعَلتُ وفَعَلتُ، وكذا أنكر عليه ابنُ عباس وعائشة أشياء] (¬5). السَّنة الحادية والخمس مئة فيها في المُحَرَّم جَدَّد الخليفةُ الخِلَع على وزيره أبي المعالي هبة الله بن محمَّد بن المُطَّلب، وشافهه بالوزَارة (¬6). ¬

_ (¬1) في (ع) و (ب): وروى عن أبي إسحاق الشيرازي، قال: حكى لي القاضي. وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ب): والمصراة أن يصر ضرع الشاة حتى يجتمع لبنها، فيظنها المشتري غزيرة اللبن، ثم يظهر بخلاف ما ظن، وحديث أبي هريرة ... وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) أخرجه البخاري (2151)، ومسلم (1524) (26)، وهو عند أحمد في "المسند" (7380) طبعة مؤسسة الرسالة. (¬4) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). قلت: والخلاف في هذه المسألة قديم، وقد قبل الأئمة حديث أبي هريرة، وليس هذا الموضع مكان بيان ذلك. (¬6) انظر "المنتظم": 9/ 155.

و [فيها] (¬1) في ربيع الآخر، دَخَلَ السُّلْطان محمَّد شاه بغداد، واصطاد في طريقه صَيدًا كثيرًا، وبَعَثَ إلى الخليفة أربعين ظَبْيًا على أربع جمَّازات (¬2)، وكان [على] (¬3) الظِّباء وَسْمُ السُّلْطان مَلِك شاه، فإنَّه كان يَصِيدُ الغِزلان، فَيَسِمُها ويُطْلِقُها (¬4). وبعَثَ الخليفةُ وزيرَه أبا المعالي إلى محمَّد شاه يهنِّئُه بقدومه، وحمَلَ معه شيئًا من ملابس الخليفة، ومجلدًا بخطِّ الخليفة يشتمل على أدعيةٍ عن جدِّه العَبَّاس، فقام السُّلْطان، ودعا للخليفة وشكره. وخَرَجَ السُّلْطان من داره، ومضى إلى مشهد أبي حنيفة، واجتمع الفقهاء والعلماء على باب المَشهد، فقال للحاجب: قل لهم: هذا يوم قد عَزَمتُ فيه على الانفراد مع الله تعالى، فخلُّوا بيني وبينه. وأمر بغَلْقِ الأبواب ومَنْعِ الأمراء وغيرِهم من الدُّخول، وأقام يصلِّي ويدعو ويخشع، وأعطاهم خمس مئة دينار، وقال: اصرفُوها في مصَالحكم. وسَلَك الطَّريق [السليم، والصِّراط] (¬5) المستقيم؛ فمن ذلك أنه مَرِضَ عشرةٌ من غِلْمانه الصِّغار، فَبَعَثَ بهم المتولِّي لأُمورهم إلى المارَسْتان العَضُدي، فلمَّا عَلِمَ أنكر ذلك، وبعث بمئة دينار، وقال: تُصرف في مصالح المارَسْتان (¬6). ومنها أنه خَرَجَ يومًا فرأى على بابه أربع مئة من الفُقَراء، فأمر بكِسْوَتهم جميعًا. ومنها أنَّه أمر مناديه، فنادى: لا يَظْلِمَنَّ أحدٌ أحدًا، ولا ينزِلَنَّ أحدٌ في دار أحد. ولقد جاء بعضُ غِلْمان الأتراك إلى بَيدَرٍ لبعضِ الضِّياع فيه تِبْنٌ، فقال: بيعوني عِلاقة تِبْنٍ. فقالوا: التِّبْنُ ما يباع، هو مبذولٌ للصَّادر والوارد، فَخُذ منه ما أحْبَبْتَ. فأبى، وقال: ما كنتُ لأبيعَ رأسي بمِخْلاة تِبْن، فإن أخذتم ثمنه، وإلا انصرفت. فباعوه بما طَلَبَ (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الجمازات جمع، مفردها جمازة، وهي مركب سريع يتخذه الناس، شبه العجلة التي تجرها الخيل، ويقال للناقة كذلك جمازة. انظر "المعجم الوسيط": 1/ 135. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش). (¬4) انظر "المنتظم": 9/ 155. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) في هامش (ب) ما نصه: "كان السلطان محمَّد شاه رحمه الله عادلًا عابدًا، عالمًا خيرًّا دينًا، رؤوفًا رحيمًا، متمسكًا بأحكام الشريعة غير أنه كان غضوبًا سيئ الخلق مع هذه الخلال الحسنة، رحمه الله". (¬7) انظر "المنتظم": 9/ 155 - 156.

[فصل: وفيها قتل صدقة ابن مزيد صاحب الحلَّة، وسنذكره] (¬1) وفيها ولّى الخليفة القاضي أبا العَبَّاس بن الرُّطَبي (¬2) حِسْبة بغداد، وعَزَلَ عنها أبا سَعد بنَ الحُلْواني (¬3). وفي رمضان عُزِلَ الوزير ابن المُطَّلب، ثم أعيد. وعُزِلَ أبو جعفر بنُ الدَّامَغاني عن حِجْبة الباب، واستُنيب أبو العِزّ المُؤَيَّدي (¬4). وفيها ظَهَرَتْ ببغداد صبيَّةٌ عمياء تتكلَّمُ على أسرار النَّاس، فكانت تُسأل عن نقوش الخواتيم وما عليها، وألوان الفُصوص، وصفاتِ الأشخاص إلى غير ذلك. [فأشكل هذا على العلماء والفُقَهاء والخواصِّ والعَوَام حتى قال عليُّ بنُ عَقِيل (¬5) الحَنبلي: ليس في هذا إلا أنه خصيصة من الله سبحانه كخواص النَّبات والأحجار، فَخُصَّتْ هذه بإجراء ما يَجرِي على لسانها من غيرِ اطِّلاع على البَوَاطن (¬6). قلت: وأينَ ما يدَّعيه ابنُ عقِيل من الغَوْصِ على الدَّقائق، والوقوفِ على الحقائق، فإنَّا قد رأينا مثل هذا كثيرًا، يَقِفُ إنسانٌ من بعيد، ويوقف صبيًّا بعيدًا عنه، فإذا جاء إنسانٌ إلى الرَّجل، فَيُسِرُّ إليه بِسِرٍّ، فيصيح الرجل بالصَّبي: يا بيان، فيقول: نعم، فيقول: ما تقول في كذا وكذا؟ فتارةً يصيبُ، وتارة يخطئ, وإنما يدرك الصَّبيُّ ما يدرك بمطابقةٍ بينه وبين الرَّجل بإشاراتٍ وحروف معروفة، والدَّليلُ عليه أنَّهم لما ذَكَرُوا هذه الصَّبيَّة قالوا في أثناء قِصَّتها: قد ثَبَتَ بالتَّواتر أنَّ جميعَ ما تتكلَّم به لابُدَّ من مشاركةِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) سترد ترجمته في وفيات سنة (527 هـ). (¬3) في النسخ الخطية: "أبا سعيد"، وهو تحريف، وأبو سَعْد هو يحيى بن علي بن الحسن الحلواني، كان من أئمة الفقهاء الشافعية، ولد سنة (450 أو 451)، وأرسله المسترشد إلى الخاقان محمَّد بن سليمان صاحب ما وراء النهر، فتوفي بسمرقند سنة (520 هـ). انظر ترجمته في "الأنساب" للسمعاني: 4/ 192، و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق مج 1 / ج 3/ 55 - 57، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 517، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 333 - 334. (¬4) انظر "المنتظم": 9/ 157. (¬5) ستأتي ترجمته في وفيات سنة (513 هـ). (¬6) انظر "المنتظم": 9/ 157 - 158.

أبيها في ذلك، فيقول: ما تقولين في يد فلان؟ وما الذي قد جاءه فلان، أو هذا الرجل؟ فتجيبُ على مِقدار ما اتَّفقا عليه من التَّراجم، أو يكون من باب السِّحْر، وليس من باب الكرامات, لأنَّ شرائِطَ الكرامات مَعْروفةٌ] (¬1). وفيها (¬2) سار بغدوين إلى ظاهر صور، ونزل قريبًا منها، وشَرَعَ في بناء حِصن على تلِّ المعشوقة، وأقام شهرًا، فقاطَعَه والي صور على سبعة آلاف دينار، فأخذَها ورَحَل (¬3). وفي شعبان اشتدَّ الأمرُ بفخر المُلْك صاحِبِ طَرَابُلُس من مجيء الفرنج وتمادي العساكر إليه (¬4)، فخَرَجَ من طَرَابُلُس في خمس مئة فارس وراجل، ومعه هدايا وتُحَف أعدَّها للخليفة والسُّلْطان، فجاء إلى دمشق، ونزل بظاهرها، والتقاه طُغْتِكِين، وأكرمه وخَدَمَه، وحَمَلَ إليه الهدايا والألطاف، وكذا جميع الأمراء، وكان لمَّا خَرَجَ من طَرابُلُس استناب ابنَ عَمِّه أبا المناقب ووجوه أصحابه في حِفْظها، وأطَلَقَ لهم واجبَ سِتَّةِ أشهر، واستَحْلَفَهم وتوثَّق منهم، فعصاه ابنُ عمه، وأظهر شِعار الأفضل (¬5)، وعَلِمَ فخرُ المُلْك، فكتَبَ إلى أصحابه يأمرهم بالقَبْضِ عليه، وحَمْلِهِ إلى حِصن الخوابي، ففعلوا به ذلك. وسار فَخرُ المُلْك إلى بغداد ومعه تاجُ الملوك بُوري بن طُغْتِكِين، وكان جماعةٌ ممن يَحسُدُ طُغْتِكين قد سَعَوا به إلى السُّلْطان ليُفْسِدُوا حاله عنده، فأصَحَبَ ولدَه من الهدايا والتُّحَف والخيول والثِّياب وغير ذلك مما يحسن إنفاذه، واسْتَوزَرَ له أبا النَّجم هبة الله بن محمَّد بن بديع الذي كان مستوفيًا لتاج الدَّوْلة (¬6)، وجَعَله مُدَبِّرًا لأمره، وسفيرًا بينه وبين مَنْ أُنفذ إليه، وتوجَّها في رمضان، فلما وصلا بغداد لقي فخر المُلْك من السُّلْطان من الإكرام والاحترام ما زاد على أمله، وتقدَّم إلى جماعةٍ من أكابر الأمراء بالمسير معه لمعونته وإنجاده، وأمَرَهُمْ بالإلمام بالمَوْصِل، وانتزاعِها من يد جاولي سقاوة، ثُمَّ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (م): فصل وفيها. (¬3) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 255، و"الكامل" لابن الأثير: 10/ 455 - 456. (¬4) كذا في النسخ (ع) و (ب)، وعند ابن القلانسي: "وتمادي الترقب لوصول الإنجاد، وتمادي تأخر الإسعاد". (¬5) هو أمير الجيوش بمصر أبو القاسم شاهنشاه بن بدر الجمالي، وسترد ترجمته في وفيات سنة (516 هـ). (¬6) يعني تاج الدولة تُتُش بن ألب أرسلان، وقد قتل سنة (488 هـ)، وسلفت أخباره ثمة.

الحسين بن أحمد بن النقار، أبو الطاهر

المسير إلى طَرَابُلُس، وطال مقام فخر المُلْك طولًا ضَجِرَ معه، وعاد إلى دمشق في المحرّم سنة اثنتين وخمس مئة. وأما تاج الملوك بُوري، فإنَّه لقي من السُّلْطان كل ما يَسُرُّه، وخَلَعَ الخليفةُ والسُّلْطان عليه، وعاد إلى دمشق [في آخر ذي الحجة. ولما عاد ابنُ عمار إلى دمشق] (¬1)، وأقام بها أيامًا سار إلى جَبَلَة، فدَخَلها وأطاعه أهلُها، وأنفذ أهلُ طرابُلُس إلى الأفضل بمِصر يلتمسون إنفاذَ والٍ يَصِلُ إليهم في البحر ومعه الغَلَّة والميرة ويتسلَّم البلد، فبعث إليهم شَرَفَ الدَّوْلة بن أبي الطَّيِّب، فلما حَصَلَ بها؛ قبضَ على جماعةِ فخر الملك ابن عَمَّار وأصحابه وذخائره وأمواله، وبَعَثَ بها إلى مِصر (¬2). وفيها خَرَجَ بغدوين من القُدْس، فنَزَل على صَيدا وضايقها، وجاء الأُسطول من مِصر، فَدَفَعَه عنها، فعاد إلى القُدس (¬3). وفيها أغار طُغْتِكين على طبرية، وكان بها جرفاس مقَدَّم الفرنجية، وكان من أكبر الملوك، فخرج من طبرية، والتقوا، فَقَتَلَ أتابكُ منهم مَقتَلَةً عظيمة، وأسر جرفاس وخواصَّه، فَبَذَل في نفسه أموالًا عظيمة، فلم يَقْبَل منه، وبَعَثَ به وبأصحابه هديةً إلى السُّلْطان (¬4). وفيها توفي الحسين بن أحمد بن النَّقَّار، أبو الطَّاهر (¬5) ولد بالكوفة، ونشأ ببغداد، وقرأ الأدب، ثُمَّ انتقلَ إلى دمشق، ومات بها، وكان فاضلًا شاعرًا، ومن شِعْره: [من السريع] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 257 - 258، و"الكامل": 10/ 42 - 44. (¬3) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 260، و "الكامل": 10/ 456. (¬4) في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 258 - 259 أن طُغْتِكِين قتل جرفاس، وبعث بعض أصحابه الأسرى هدية للسلطان. (¬5) لم أقف على من ترجم له سوى ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 196، وقد استقى ترجمته من كتابنا "مرآة الزمان".

حيدرة بن أبي الغنائم المعمر، أبو الفتوح العلوي

وزائرٍ زارَ على غَفْلَةٍ ... وقد أماطَ الصُّبحُ ثوبَ الظَّلامْ راحَ وقد سَهَّلَتِ الرَّاحُ مِنْ ... أخلاقِه ما كان صَعْبَ المَرَامْ حَيدَرة بنُ أبي الغَنَائم (¬1) المُعَمّر (¬2)، أبو الفُتوح العَلَوي نقيبُ الطَّالبيين ببغداد، كان عفيفًا، دَيِّنًا، غَزِيرَ الأدب، حَسَنَ الصُّورة، أقام نقيبًا اثنتي عشرة سنة، وعاش نيفًا وثلاثين سنة، وقام بعده أخوه أبو الحسن عليُّ بن أبي الغنائم. صَدَقَةُ (¬3) بنُ منصور بن دُبَيْس ابن مَزْيَد، أبو الحسن، سَيفُ الدَّوْلة، الأمير (¬4)، صاحبُ الحِلَّة (¬5). كان كريمًا، عفيفًا عن الفواحش، كأن عليه رقيبًا من الصِّيانة؛ لم يتزوَّج على زوجتِه قَطُّ، ولا تَسَرَّى، ولم يشرب مُسْكرًا قط، ولا سَمِعَ غناءً، ولا قَصَدَ التَّنَوُّق (¬6) في طعامٍ، ولا صادرَ أحدًا، وكان تاريخَ العَرَبِ والأماجد، وكانت دارُهُ ببغداد حَرَمًا للخائفين، وملجأ للائذين. ذِكْرُ مَقْتَلِه: كان سُرْخاب الدَّيلَمي الحاجب قد خاف من السُّلْطان [فاستجارَ به، فطلبه السُّلْطان] (¬7)، فامتنع من تسليمه، فحاربه، وكان مع صَدَقَة عشرون ألفًا، وسار إليه عَسْكَرُ السُّلْطان، والتقوا ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 9/ 158 - 159، و"الوافي بالوفيات": 13/ 228 وفيه وفاته سنة (502 هـ) - و"الجواهر المضية": 2/ 160. (¬2) في (ع) و (ب): بن المعمر، بزيادة (ابن)، والصواب حذفها؛ لأن أبا الغنائم هي كنية أبيه معمر. (¬3) في (م) و (ش): وفيها قتل صدقة. (¬4) في (م) و (ش): الأمير أبو الحسن الأسدي الملقب بسيف الدولة صاحب الحِلَّة. (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 9/ 159، و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق ج 4 / م 1/ 163 - 169، و"أخبار الدولة السلجوقية": 80 - 81، و"الكامل": 10/ 440 - 449، و"وفيات الأعيان": 2/ 490 - 491، و "سير أعلام النبلاء": 19/ 264 - 265، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وانظر حاشيتنا رقم 2 ص 5 من هذا الجزء. وقد وهم العلامة محمد بهجة الأثري في وفاته، فجعلها سنة 551 هـ انظر "الخريدة" ص 165. (¬6) أي لم يجود ويبالغ فيه، من تنوَّق في الأمر بمعنى تأنق فيه، انظر "اللسان" (نوق). (¬7) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش).

بعد صلاة الجمعة سادس رجب، فجعل صدقة ابنه دُبَيْس في الميمنة، ومعه سعيد بن حُميد في بني خَفَاجة وجماعةٌ من الأكراد، وفي مقابلهم من عسكر السلطان البُرْسُقي والسَّعدية، وفي مَبْسرة صَدَقة ابنُه بَدْران، ومعه عُبادة بأَسْرها، وفي مقابلتهم [من عسكر السُّلْطان] (¬1) أحمديل وجماعةٌ من الأمراء، ووقفَ [سيفُ الدَّوْلة] (1) صدقةُ في القَلْب، ومعه سرخاب الدَّيلَمي، فَحَمَلَ البُرْسُقي، وثَبَتَتْ مَيمَنتُه ومَيسرتُه في أماكنها، وأما صَدَقةُ فوقعت خيله في الوَحَل [والماء والطين] (1) وكان [قد] (1) بَثَقَ (¬2) البثوق [في موضع يقال له ريفانيا] (1) وتقاعد جماعةٌ من العَرَب عنه، فكشَفَ [صدقة] (1) رأسه وصاح: يا آل خُزَيمة، يا آل ناشِرة، يا آل عَوْف، أنا حاج (¬3) الملوك، أنا ملكُ العرب، النار ولا العار، وقاتَلَ قتالًا شديدًا، فَرَشَقَتْه العَجَمُ رشقةً واحدة، فَخَرَجَ منهم عشرةُ آلاف نُشَّابة، فجاءه سَهْمٌ فوقع في ظَهْرِهِ، وسقط إلى الأرض، فنزل غلامٌ من السَّعدية، فَحَزَّ رأسه ولم يَعرِفه، وانهزمَ أصحابُهُ وأُسر ابنُه دُبَيس وسُرخاب الدَّيلَمي [الذي كان سببَ الفتنة] (1) وكانتِ القتلى من الفريقين ثلاثةَ الافٍ وزيادة، وأُخذ من خيمة صدقة خمس مئة ألف دينار، وجواهر لها قيمة، وكان عمره سِتًّا وخمسين سنة، وإمارته اثنتي عشرة سنة، وحُمِلَ، فَدُفِنَ في مشهد الحسين عليه السّلام (¬4). وقال ابنُ القَلانسي في سنة إحدى وخمس مئة: ورَدَتِ الأخبارُ بوصول عسكر السُّلْطان محمَّد إلى بغداد في آخر شهر ربيع الآخر، وأعلَنَ صَدَقَةُ بالعِصيان خوفًا منه لِمَا بَلَغَه من إفساد شِحْنةِ بغداد وعميدِها حالهُ معه، ولم يَزَلِ السُّلْطان مقيمًا ببغداد إلى العشرين من شهر رجب، فاجتمع تقدير ثلاثين ألف فارس، واجتمع مع صدقة مِقْدار ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) البثق: كسرك شط النهر لينشق الماء، "اللسان" (بثق)، ريفانيا هكذا استظهرتها، وفي "الوافي بالوفيات": 16/ 298 زرفيمياء، ولعله محرف عن زرفانية، وهي قرية كبيرة غربي دجلة قرب النعمانية، ويقال لها زرفامية، انظر "معجم البلدان" 3/ 124، 137. (¬3) كذا في النسخ الخطية، وفي "المنتظم" أنا تاج الملوك. (¬4) انظر "المنتظم": 9/ 156 - 157. وفي (م) و (ش): وروي أن صدقة كان بينه وبينهما -يعني عسكر أحمديل- أنهار وسواحل (كذا) قلت: وسيأتي نحو هذه العبارة في الأسطر التالية نقلًا عن ابن القلانسي.

السنة الثانية وخمس مئة

عشرين ألفًا في الحِلَّة، وبينهما أنهارٌ ومواحل (¬1)، فآثَرَ السُّلْطان مصالحته، والصَّفحَ عنه، وإيقاع موادعته، فأبى ذلك كافَّةُ الأمراء والمُقَدَّمين، ونهضُوا إليه، فلما عَرَفَ ذلك قَطَعَ الأنهار، ووَصَلَ في جَمْعِهِ حتى صار بإزائهم، وكان منزله كثيرَ الوَحَلِ، عَسِرَ المجالِ، فَتَرَجَّل الأتراكُ عن خيولهم، وجَثَوا على رُكَبِهِمْ، وأطلقوا السِّهام، فانهزمَ أصحابُ صَدَقة، وركب التُّرك أكتافهم، وقتلوا منهم خَلقًا كثيرًا، وقتِلَ صدقة في الجُملة، ووجوه رجاله، ولم يُفْلت منهم إلا اليسير، وكان السُّلْطان قد اعتمد في ترتيب الجيش على الأَمير مودود المستشهد بيد الباطنية بجامع دمشق، ووصل السُّلْطان من غَدِ يوم الوقعة، ونَزَلَ الحِلَّة. ولم يكن في العرب مِثْل صَدَقة في البيت والتَّقدُّمِ والإحسان, وحُسْنِ السِّيرة، والإنصاف والكَرَمِ، وجزيلِ العطاء، وشِدَّةِ الوفاء، والصَّفح عن الكبائر، والتَّعَفُّفِ عن أموال الرَّعية، إلا أنه كان مع هذه المآثر مُطَّرِحًا لفرائض الشّريعة، متغافلًا عن ارتكاب المحارم الشنيعة، مُسْتحسنًا لِسَبِّ الصَّحابة رضي الله عنهم، فكان ما نَزَلَ به عاقبةَ ذلك (¬2). ثم إنَّ السُّلْطان أطْلَقَ ولدَه دُبَيسًا، واستَحْلَفَه على الإخلاص والطّاعة. السنة الثَّانية وخمس مئة [و] (¬3) فيها فَوَّضَ السُّلْطان محمَّد إلى بِهْرُوز الخادم عِمارةَ العراق، فشَرَعَ في تتمَّةِ جامعِ السُّلْطان، وحَفْرِ الأنهار، وكِرَاءِ (¬4) السَّواقي، فَعَمَّ الرُّخْصُ [العراق] (¬5)، وبنى [بهروز الخادم] (5) رِباطًا للصُّوفية قريبًا من النِّظامية، وهو قائِمٌ إلى الآن (¬6). وبعَثَ الخليفةُ إلى أَصبهان، فاستدعى أبا القاسم عليَّ بنَ جَهِير، وولَّاه الوزَارة، وعَزَلَ ابنَ المُطَّلب في شعبان (¬7). ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: وسواحل، وهو تحريف، والمثبت من "ذيل تاريخ دمشق". (¬2) "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 255 - 256، وانظر "الكامل": 15/ 440 - 449. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) أي حفرها وإخراج طينها. "اللسان" (كري). (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) انظر "المنتظم": 9/ 159. (¬7) انظر المصدر السالف.

وتزوَّجَ الخليفةُ ببنتِ السُّلْطان مَلِك شاه أُخْتِ محمَّد شاه، وتولَّى العَقْد من ناحيةِ محمَّد [شاه]، (¬1) وزيره سعيد بن نظام المُلْك (¬2)، ومن ناحية الخليفة الوزير نظام الدِّين أحمد بن نظام المُلْك، وخَطَبَ أبو العلاء صاعد بن محمَّد الفقيه الحَنَفي. وفيها أخذتِ الفرنجُ طَرابُلُس -وقيل في السَّنة الآتية (¬3) - اجتمع عليها ملوكهم ريمند بن صنجيل في ستين مركبًا في البحر مشحونة بالمقاتلة، وطنكري صاحب أنطاكية، وبغدوين صاحب القُدْس، وشرعوا في قتالها، وضايقوها منذ أول شعبان إلى حادي عشر ذي الحِجَّة، وأسندوا أبراجهم إلى السُّور، فلما رأى مَنْ بها من العَسْكر وأهلِ البلد ذلك سُقِطَ في أيديهم، وأيقنوا بالهلاك مع تأخُّرِ أُسطول مِصر عنهم، وكان كلما سار الأُسْطول نحوهم رَدَّتْه الرِّيح إلى مِصر، فلما كان يوم الاثنين هَجَمها الفرنج ونهبوها، وأسروا رجالها، وسَبَوْا نساءها، وأخذوا أموالها وذخائرها مما لا يُحصى ولا يُحصر، واقتسموها بينهم، وساروا إلى جَبَلَة (¬4)، وبها فخرُ المُلْك بن عَمَّار، فتَسَلَّموها بالأمان في ثاني عشري ذي الحِجَّة، وخَرَجَ منها ابنُ عَمَّار سالمًا، ووصل حينئذٍ الأُسطول المِصري، ولم يخرج فيما تقَدَّم من مِصر مِثْلُه، فوجدوا البلد قد أُخذ، فعادوا إلى مِصر، وجاء ابنُ عمار إلى شَيزَر، فيكرمه صاحِبُها سُلْطان بن علي بن مُنْقِذ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) لم أجد في أولاد نظام الملك من اسمه سعيد، ولا من ولي الوزارة للسلطان محمد من تسمَّى بهذا الاسم، وقد جاء الخبر في "الكامل": 10/ 471 على النحو التالي "وفيها في شعبان تزوج الخليفة المستظهر بالله ابنة السلطان ملكَ شاه، وهي أخت السلطان عمد، وكان الذي خطب خطبة النكاح القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد النيسابوري الحنفي، وكان المتولي لقبول العقد نظام الملك أحمد بن نظام الملك وزير السلطان بوكالة من الخليفة، وكان الصداق مئة ألف دينار، ونثرت الجواهر والدنانير، وكان العقد بأصبهان". قلت: انظر عن أولاد نظام الملك، "معجم الأنساب" لزامباور: 336، وانظر كذلك "المنتظم": 9/ 159 - 160. (¬3) وهو ما اعتمده ابن الأثير في "كامله": 10/ 475. (¬4) في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 262، 264: و"الكامل": 10/ 476: جُبيل، وهو وهم، صوابه جَبَلَة كما ورد هنا، إذ إن جُبيل قرب بيروت، وأما جبلة فقرب اللاذقية، ومن المعروف أن ابن عمار استولى على جبلة سنة (494 هـ)، وسار إليها عقب عودته من بغداد سنة (502 هـ) -وقد سلف ذلك في حوادثهما- واستيلاء الفرنج على جُبيل إنما كان سنة (497 هـ)، وقد ذكر ذلك ابن الأثير في "كامله": 10/ 372، وانظر "تاريخ الحروب الصليبية" لرنسيمان (الترجمة العربية): 2/ 106.

إسماعيل بن إبراهيم بن العباس

واحترمه، وعَرَضَ عليه المُقَام عنده، فأبى، وتوجَّه إلى دمشق، فأكرمه طُغْتكِين، وأنزله في دارٍ، وأقطعه الزَّبَداني (¬1) وأعماله (¬2). ووقعتْ مهادنة [بين] (¬3) بغدوين صاحب القُدْس، وبين طُغْتِكين [صاحب دمشق] (3) على أن يكون السَّواد وجبَل عوف مثالثة، الثُّلُث للفرنج، والباقي للمُسلمين (¬4). وفيها توفي إسماعيل بن إبراهيم بن العَبَّاس (¬5) ابن الحسن، أبو الفَضْل الحُسَيني، ابن أبي الجِنّ، ولي القضاء بدمشق، وكان فاضلًا صَدُوقًا. تميم بن المُعِزّ بن باديس (¬6) أبو يحيى، صاحبُ إفْريقية، وينتهي نَسَبُهُ إلى يَعْرُب بن قَحْطان (¬7). ولد سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة، وعاش ثمانين سنة، وأقام واليًا ستًّا وأربعين سنة، وخلَّف مئة وستين ولدًا لصُلْبه لأنه كان مُغْرًى بالجواري مع اهتمامه بالملك، وقيل: مات له خمسون ولدًا، وكان مقامه بالمَهْدِيَّة، وكان عظيمَ القَدرِ، شاعرًا، فصيحًا، [وله ديوان بالمغرب، وكان جَوَادًا مُمَدَّحًا (¬8)، مدحه خَلْقٌ كثير، منهم حُميد ¬

_ (¬1) تبعد الزبداني عن دمشق 44 كم باتجاه الشمال الغربي، وهي مصيف جميل. (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 261 - 264، و"الكامل": 10/ 475 - 477، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 311. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش). (¬4) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 263 - 264. (¬5) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 2/ 825 - وفيه وفاته سنة (503 هـ)، وولد سنة (420 هـ) - و"الوافي بالوفيات": 9/ 63، و"النجوم الزاهرة": 5/ 198. (¬6) له ترجمة في "الخريدة" قسم شعراء المغرب: 1/ 141 - 160، و"الكامل" 10/ 449 - 451، و"الحِلَّة السِّيراء": 2/ 21 - 26، و"وفيات الأعيان": 1/ 304 - 306، و"البيان المغرب": 1/ 288 - 295، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 263 - 264، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬7) ساق العماد الأصبهاني في "الخريدة" نسبه بتمامه، ونقله عنه ابن خلكان في "وفياته" 1/ 304. (¬8) في (ع) و (ب): جوادًا ممدَّحًا، مدحه خلق كثير، وله "ديوان" بالمغرب، فمنه يقول، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ابن سعيد (¬1)، وهو الذي جمع شعر تميم وبيَّنَه وشرحه ودوَّنه، وقد وصل من شعره إلى الشام، فمنه]: [من الوافر] أتَسْقِيني وتُسْكِرُني بِلَحْظٍ ... فلي سُكْران مِنْ هذا وهذا فإنْ كان المُرَادُ بذاكَ قَتْلي ... على حُبِّيكِ صبرًا كان ماذا وقد فَنِيَتْ دُموعي مِنْ جُفُوني ... فأمسى وَبْلُ أجْفاني رَذَاذا (¬2) وقال حُميد بن سعيد: جلستُ بين يديه يومًا، فقال: قد عملت أبياتًا، وأنشد: [من البسيط] عاهَدْتَني عَهْدَ مَنْ للعَهْد (¬3) ينكُثُهُ ... فَصِرْتَ تَأْخُذُ في طُرْقِ المناكيثِ (¬4) حدَّثْتَني بأحاديثٍ مُنَمْنَمةٍ (¬5) ... فما حَصَلْتُ على غير الأحاديثِ فالوَعد يَنشُرُني والخُلْفُ يَقتُلُني ... فَصِرْت ما بينَ مَقتُولٍ ومَبْعُوثِ (¬6) [ثم قال آخر، فقال حُميد: فقلتُ] (¬7): [من البسيط] يا مَن حُرِمْتُ وصالًا منه يُنْعِشُني ... وصرتُ أقْنَعُ منه بالأحاديثِ إنِّي تَشَبَّثتُ لمَّا أنْ هُجِرتُ فما ... بغيرِ طُولِ الأسى والهَجْرِ تَشْبِيثي (¬8) اللهَ في هَجْرِ مقتولٍ أَضَرَّ به (¬9) ... وَجْدٌ عليكَ ومَيتٍ غيرِ مبعوثِ (¬10) وقيل: إنه مات سنة إحدى وخمس مئة، وقام مقامه ولده يحيى. ¬

_ (¬1) ترجم له العماد في "الخريدة" قسم شعراء المغرب: 1/ 160 - 164، وأورد له مقتطفات من شعره. (¬2) الأبيات في "الخريدة" قسم شعراء المغرب: 1/ 147. (¬3) في (ع) و (ب) للعقد، والمثبت من (م) و (ش). (¬4) طُرق جمع، مفردها طريق، وسكنت الراء لضرورة الشعر، والمناكيث جمع تكسير لناكث، وكأنه جمعه كذلك لضرورة الشعر، إذ الجادة فيه الجمع السالم. (¬5) في "الخريدة" منمقة. (¬6) الأبيات في "الخريدة" قسم شعراء المغرب: 1/ 160. (¬7) في (ع) و (ب): ثم قال آخر، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬8) في (ع) جاء هذا البيت أول الأبيات. (¬9) في (من): الله في قتل مهجور أضر به. (¬10) الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء المغرب: 1/ 161 مع اختلاف في بعض الألفاظ.

الحسن العلوي

الحسن العلوي (¬1) أبو هاشم، رئيس هَمَذَان، كان جَوَادًا, مموَّلًا، شجاعًا، صاحب صدقات وصِلات، نُقِلَ إلى محمَّد شاه عنه شيءٌ، فصادَرَه على تسع مئة ألف دينار أدَّاها في نيِّفٍ وعشرين يومًا، ولم يَبعْ فيها عَقارًا ولا مِلْكًا. صاعد بن محمَّد بن عبد الرحمن، أبو العلاء (¬2) القاضي الحَنَفي، مِنْ أهل أصبهان، وقيل: من بُخارى، ولد سنة ثمانٍ وأربعين وأربع مئة، وسَمِعَ الحديث [بأصبهان وبغداد ومكة] (3)، وَبَرعَ في الفِقْه [على مذهب أبي حنيفة حتى صار مفتي أهل أصبهان] (¬3)، وكان صالحًا متدينًا [وهو الذي خطب في عَقد الخليفة على أخت (¬4) محمَّد شاه] (3). قتلته الباطنية يوم الفِطْر بجامع أصبهان. عبد الواحد بن إسماعيل (¬5) ابن أحمد بن محمَّد (¬6)، أبو المحاسن [الرُّوياني] (¬7)، من أهلِ طَبَرِسْتان. ولد سنة خمس عشرة وأربع مئة، ورحل إلى الأمصار، وعَبَرَ النَّهر، وسَمِعَ الحديث، وتفقَّه على مذهب الشَّافعي، وكان يقول: لو احترقَتْ كُتُبُ الشَّافعي لأمْلَيتُها من حِفْظي. وله الكُتُب الحِسان [المشهورة] (3)، قُتِلَ يوم عاشوراء بآمُل (¬8) شهيدًا. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 9/ 160، و"الكامل": 10/ 472، و"النجوم الزاهرة": 5/ 199. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 9/ 160، و"الكامل": 10/ 472، و"العبر" للذهبي: 4/ 4، و"الجواهر المضية": 2/ 267 - 268، و"شذرات الذهب": 4/ 4، و"الفوائد البهية": 83 - 84. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (م) و (ش): بنت، وهو تحريف، وانظر ص 27 من هذا الجزء. (¬5) له ترجمة في "المنتخب من السياق" للصريفيني: 520، و"الأنساب": 6/ 189 - 190، و"المنتظم": 9/ 160، و"معجم البلدان": 3/ 104، و"الكامل": 10/ 473، و"وفيات الأعيان": 3/ 198 - 199، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 193 - 204، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 260 - 262، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬6) في "المنتخب" و"معجم البلدان": عبد الواحد بن إسماعيل بن محمَّد بن أحمد. (¬7) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). والروياني نسبة إلى رويان: وهي مدينة كبيرة من جبال طبرستان. انظر "معجم البلدان": 3/ 104. (¬8) آمل: هي أكبر مدينة بطبرستان، وبين آمل والرويان اثنا عشر فرسخًا. انظر "معجم البلدان" 1/ 57.

علي بن الحسين بن عبد الله [بن عريبة]، أبو القاسم الربعي

علي بن الحسين بن عبد الله [بن عُرَيْبَة] (¬1)، أبو القاسم الرَّبَعي (¬2) [البغدادي، الفقيه، الشَّاعر] (¬3). ولد سنة أربع عشرة وأربع مئة، وتفقَّه [على أقضى القُضَاة أبي الحسن علي بن محمَّد بن حبيب الماوردي، وأبي الطَّيب الطبري على مذهب الشَّافعي، وصَحِبَ ابن الوليد وغيره من شيوخ المعتزلة، فَنُسِبَ إليهم، وكان شاعرًا فصيحًا، وتوفي في رجَب. وأنشد أبو بكر محمَّد بن عبد الباقي البزَّاز، قال: أنشدنا الرَّبَعي لنفسه هذه الأبيات] (¬4): [من الكامل] إنْ كُنتَ نِلْتَ من الحياة وطِيْبها ... مع حُسْنِ وَجْهِكَ عِفَّةً وشبابا فاحْذَرْ لِنَفْسِك أن تُرَى مُتمنِّيًا ... يومَ القيامة أن تكون (¬5) تُرَابا (¬6) [وقد ذكره العماد الكاتب في "الخريدة"، وأبو سَعد بن السَّمْعاني في "الذيل"، والحمد لله وحده] (¬7). هبةُ الله بنُ محمَّد بنُ البديع الهَمَذَاني (¬8) وزير رضوان صاحب حلب، ثم استوزره طُغْتِكِين، ثم اتَّهمه، وكان في قلبه منه من أيام تاج الدولة؛ لأنه كان مستوفيًا على البلاد، ونُقِلَ إلى طُغْتِكين أنَّه [كان] (3) يكاتب ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "توضيح المشتبه": 6/ 255. (¬2) له ترجمة في "الخريدة" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 303 - 305، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 223 - 224، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 194 - 195، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع) و (ب): وتفقه على الماوردي والطبري، وصحب شيوخ المعتزلة، فنسب إليهم، ومن شعره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (م) و (ش): أن تصير. (¬6) الأبيات في "الخريدة" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 304، والبيت الثاني فيه إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَاليتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} سورة النبأ، الآية: 40. (¬7) ما بين حاصرتين من (م)، وبنحوه في (ش). (¬8) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 261، و"مختصر تاريخ دمشق" لابن منظور: 27/ 68، و"التاريخ العربي والمؤرخون" لشاكر مصطفى: 2/ 284.

يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام

رضوان، فقَبَضَ عليه واستأْصله، وأقام أيامًا في الاعتقال، ثُمَّ أمَرَ بخَنْقِهِ [فَخُنِقَ] (¬1) وأُرْمِيَ في جُبٍّ، ثم أُخرج، فَدُفِنَ بالمقابر. يحيى بنُ عليٍّ بنِ محمَّد بن الحسن بن بِسْطام (¬2) أبو زكريا الشَّيباني، الخطيب (¬3) التِّبْريزي، أحد أئمة اللغة، وله التَّصانيفُ الحِسان، شَرَحَ "الحماسة" في عدة نُسَخٍ: بسيط ووسيط ومختصر، وشَرَحَ المتنبي وغيره (¬4)، وكان عارفًا بالنَّحْو واللُّغة، والأنساب، وأيام العَرَب، وكان نِظامُ المُلْك يعَظِّمُه، وشَغَّل أولادَه بالأدب عليه، ورَتَّبَ له الجامكية (¬5) بالنِّظامية يدرِّس بها العربية، وسَمِع الحديثَ زمانًا، وتوفِّيَ لليلتين بقيتا من جُمادى الآخرة فجأة ببغداد، وصلَّى عليه أبو طالب الزَّينبي، ودُفِنَ إلى جانبِ أبي إسحاق الشِّيرازي بباب أبرز. ورآه ابنُ الجَوَاليقي في المنام، فقال: ما فَعَلَ الله بك؟ فقال: غَفَرَ لي بتصنيف "كتاب إعراب القرآن". وقال ابنُ ناصر: كان ثِقَةً فيما يرويه. وقال ابنُ خَيرون: ما كان بِمَرْضيِّ الطَّريقة (¬6). وقال أبو زكريا: كتب إليَّ العميد بنُ الفَيَّاض: [من مجزوء الرَّمل] قُلْ ليحيى بن عليٍّ ... والأقاويلُ فنونُ غير أنِّي لَسْتُ مَنْ يَكـ ... ــــذِبُ فيهما ويخونُ أنتَ عَينُ الفَضْل إن مُدَّ ... تْ إلى الفَضْل عيونُ أنتَ مَنْ عَزَّ بِهِ الفَضْـ ... ـــلُ وقد كاد يَهُونُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 3/ 21، و"تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 18/ 172 - 173، و"مختصره لابن منظور": 27/ 287 - 288، و"نزهة الألباء": 372 - 374، و"المنتظم": 9/ 161 - 163، و"معجم الأدباء": 20/ 25 - 26، و"إنباه الرواة": 4/ 22 - 24، و"وفيات الأعيان": 6/ 191 - 196، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 269 - 271، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) قال ياقوت في "معجم الأدباء": 20/ 25: ابن الخطيب، وربما يقال له الخطيب، وهو وهم. (¬4) انظر ما طبع من آثاره في "المعجم الشامل": 1/ 237 - 240. (¬5) الجامكية: الراتب، انظر "التعريف بمصطلحات صبح الأعشى": 82. (¬6) انظر ما أخذ عليه في "معجم الأدباء": 20/ 27.

فُقْتَ مَنْ كان وأتعبـ ... ـــتَ لعَمْرِي مَنْ يكونُ وإذا قِيسَ بكَ الكُلُّ ... فَصَحْوٌ ودُجُونُ (¬1) وإذا فُتِّشَ عنهمْ ... فالأحاديثُ شُجُونُ قد سَمِعْنا ورأينا ... فَسُهُولٌ وحُزُونُ إنَّك الأصلُ ومَنْ دو ... نكَ في العِلْمِ غُصُونُ إنكَ البَحْرُ وَأعْيا ... نُ ذوي الفَضْل عُيونُ ليس كالسَّيفِ وإنْ حُلِّـ ... ــــيَ في الحكم الجفونُ ليس كالقَدِّ المُعَلَّى ... ليس كالبَيتِ الحجون ليس كالجدِّ وإن آ ... نَسَ هَزْلٌ ومجونُ ليس في الحُسْنِ سواءٌ ... أبدًا بِيضٌ وجُونُ (¬2) ليس كالأبكارِ في اللُّطْـ ... ـــفِ وإن راقَتْكَ عُونُ (¬3) إنَّ ودِّي لك عمَّا ... يَصِمُ الودَّ مَصُونُ ليس لي منه ظهورٌ ... تتنافي وبطونُ غَلِقَ الرَّهْنُ (¬4) وقد تَغْـ ... ــــلَقُ في الحُبِّ الرُّهُونُ ومن النَّاس أمينٌ ... في هواه وخَؤُونُ (¬5) [فكتب إليه] (¬6): [من الكامل] قُلْ للعميد أخي العُلا الفَيّاضِ ... أنا قَطْرةٌ من بحركَ الفَيَّاضِ شَرَّفتني ورفعتَ ذكري بالذي ... ألبَستَنيه من الثَّنا الفَضفَاضِ إني أتيتُك بالحَصَى عن لُؤلؤ ... أبرَزْتَهُ عن خاطرٍ مُرْتَاضِ ¬

_ (¬1) دجون جمع، مفردها الدَّجْن: وهو ظل الغيم في اليوم المطير. "اللسان" (دجن). (¬2) جُون جمع، مفردها جَوْن: وهو الأسود المُشْرب حُمْرة، والجون: الأبيض كذلك، وهو من الأضداد. انظر "اللسان" (جون). (¬3) عُون جمع، مفردها العَوَان، وهي من النساء الثَّيِّب، يعني التي كان لها زوج. انظر "اللسان" (عون). (¬4) غلق الرهن: أي بقي في يد المرتهن، ولم يقدر راهنه على تخليصه، انظر "اللسان" (غلق). (¬5) الأبيات في "المنتظم": 9/ 161 - 162، و"وفيات الأعيان": 6/ 194 - 195. (¬6) في (ع)، وقال، والمثبت ما بين حاصرتين من (ب).

السنة الثالثة وخمس مئة

أيعارِضُ البَحرَ الغُطَامِطَ (¬1) جَدْولٌ ... أم دُرُّه يَقْتَاسُ بالرَّضْراضِ (¬2) يا فارسَ النَّظْمِ المُرَصَّعِ جوهرًا ... والنَّثْرُ يكشفُ غُمَّةَ الأمراضِ لا تلزمَنِّي من ثنائِك موجبًا ... حقًّا فلستُ لحقِّهِ بالقاضي ولقد عَجَزتُ عن القريضِ وربما ... أعْرَضتُ عنهُ أيّما إعراضِ أنعمْ عليَّ ببسطِ عُذْري إنني ... أقررتُ عند نَدَاك بالإنفاضِ (¬3) (¬4) السَّنة الثالثة وخمس مئة فيها هرب الوزير أبو المعالي ابن لمُطَّلب من دار الخليفة إلى دار المملكة هو وولده، تَزَيَّا بزِيّ النِّساء، واستجارَ بدار السُّلْطان (¬5). وفي ربيع الآخر دخل السُّلْطان محمَّد بغداد، ووثَبَ [باطنيٌّ]، (¬6) على وزيره نظام الدين أحمد بن نظام المُلْك، وهو في سمارية (¬7)، فضَربه في عُنُقه بسكِّين، فَجَرَحَه، وأُخذ الباطني وسُقي الخمر، فلمَّا سَكِرَ أقَرَّ على جماعةٍ بمسجدٍ في المأمونية مِن الباطنية، فأُخذوا، وقتلوا، وقتِلَ معهم، وأقام ابنُ نظام المُلْك مُدَّة وبَرِئ (¬8). وفيها نزل الأَمير سُكْمان صاحب خِلاط على مَيَّافارِقِين، فأقام عليها سبعة أشهر، وبها أتابك خُمَرْتاش، فسلَّمها إليه، فدخلَها، وأحْسَنَ إلى أهلِها، وأسْقَط عنهم المكوس والضَّرائب، وعَمَرَها، وولَّى بها مملوكه قُزُغلي (¬9)، وجعل معه خواجا أثير الدَّوْلة أبا الفتوح، ثم عاد سُكْمان إلى خِلاط، وماتَ سنةَ أربعٍ وخمس مئة (¬10). ¬

_ (¬1) بحر غُطامط: عظيم، كثير الموج. "اللسان" (غطمط). (¬2) الرضراض: الحصى الصِّغار. "اللسان" (رضض). (¬3) الإنفاض: الإفلاس، من أنفض القوم: هلكت أموالهم، والإنفاض المجاعة والحاجة. انظر "اللسان" (نفض). (¬4) الأبيات في "المنتظم": 9/ 162 - 163، و"وفيات الأعيان": 6/ 196. (¬5) انظر "المنتظم": 9/ 163، و"الكامل": 10/ 478. (¬6) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬7) ضرب من السفن. "تكملة المعاجم العربية" لدوزي: 6/ 142. (¬8) انظر "المنتظم": 9/ 163، و"الكامل": 10/ 478. (¬9) كذا في (ع) و (م). وفي "تاريخ الفارقي" 108 غزغلي. (¬10) ساق الفارقي وابن الأثير هذا الخبر في حوادث (502 هـ)، انظر "تاريخ الفارقي" ص 107 - 108، و"الكامل" لابن الأثير: 10/ 471.

وفيها نهضتِ الفرنجُ على رَفَنِيَّة (¬1)، وعَرَفَ طُغْتِكِين، فسار [بالعسكر] (¬2)، وخيَّمَ بإزائهم بحِمْص، فلم يَقْدِروا على منازلة رَفَنِيَّة، وترددتْ بينهم مُراسلاتٌ أفضَتْ إلى تقريرِ الموادعة، على أن يكون للفرنج ثُلُث مُغَلِّ البِقاع، ويُسَلِّمُ إليهم حِصن المُنَيطِرة (¬3) وحِصن عَكَّار (¬4)، وأن لا يتعرَّضوا لِحصن مصياث (¬5)، وحِصن الأكراد (¬6)، وأن يَحمِلَ إليهم عنهما وعن حِصن الطُّوفان (¬7) مالًا، فأقاموا مُدَّة يسيرة، ثم عاد الفرنج إلى الفساد [في البلاد] (¬8). وفيها عَزَمَ السُّلْطان محمَّد شاه على غَزْو الفرنج، وكَتَبَ في جُمادى الأولى إلى الأطراف يُخْبرهم بعزمه [والاستعداد للجهاد، وكتبَ إلى أتابك] (9) طُغْتِكين أن يقيمَ مكانه بالعساكر حتى يأتيه الإمداد [ويدبر أمور العساكر] (9)، فَعَرَضَت موانعُ [وعوائِقُ عاقَتْه] (¬9) عن ذلك. فلمَّا رأى طُغْتِكين تأخُّر العساكر سار إلى ناحية بغداد على طريق السَّماوة، ومعه فخر المُلْك بنُ عَمَّار، ومعه من الهدايا والتُّحَف ما يَصلُح للخليفة والسُّلْطان، وكان قَصدُه أن يُنْهي إليهما ما يجري بالشَّام من الفرنج، ويحرَّضَ السُّلْطان على الجهاد، فلما وَصَلَ وادي المياه بلغه أنَّ السُّلْطان قلَّدَ الشَّام غيرَه، فعَزَمَ على العَوْدِ إلى دمشق، وسلَّم الهدايا إلى ابنِ عمار، وقال: توجَّه إلى بغداد، وأخبِرْهم بما أنا فيه، وما قد بلغني. فسار إلى بغداد، فالتقاه الخواصُّ، وسُرُّوا بقدومه، وظَهَرَ بُطْلان ما قيل (¬10). ¬

_ (¬1) كورة من أعمال حمص. انظر "معجم البلدان": 3/ 55. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش). (¬3) حصن قريب من طرابلس. "معجم البلدان": 5/ 217. (¬4) في (ع) و (ب) حصن ابن عكار، بزيادة ابن، والمثبت من (م) و (ش)، وهو يقع إلى الشمال الشرقي من طرابلس. انظر "القلاع في أيام الحروب الصليبية": 60. (¬5) ويقال مصياف، وهو حصن يقع قرب طرابلس، انظر "معجم البلدان": 5/ 144، و"القلاع في أيام الحروب الصليبية": 88 - 89. (¬6) يعرف الآن بقلعة الحصين، وهو إلى الغرب من حمص. انظر "القلاع": 76. (¬7) لم أقع على من ذكره وعَيَّن موضعه. (¬8) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 264 - 265. (¬9) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬10) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 265 - 266.

وبلغ طُغْتِكين أنَّ كُمُشْتِكِين الخادم الوالي ببَعْلَبَكَّ قد صافى الفرنج، وأمرهم بالغارات على أطراف المُسلمين، فكتَبَ أتابك من الطَّريق إلى ولده تاج الملوك بإنفاذ العساكر إلى بَعلَبك. فسار من وقته، ونَزَلَ عليها على حين غَفْلَةٍ من أهلها، ثم راسل الخادمَ المذكور بالدُّخول في الطَّاعة وتسليم البلد، فلم يلتفت. وجاء أتابك ومعه الرَّجَّالة، فنصب عليها المجانيق، وزَحَفَ، فاستسلم أهلُ البلد والخادم، واقترح أشياء، فأجابه أتابك، وخَرَجَ إلى خِدْمته، فأحْسَنَ إليه، وخَلَعَ عليه، وعَوَّضه حِصن صَرْخَد (¬1)، وأعاد إليه ما كان قَبَضَ عليه من ضياعه وإقطاعه بدمشق، وتَسَلَّم طُغْتِكين بَعْلَبك، وسَلَّمها إلى ولده تاج الملوك بوري، وكان ذلك في رمضان، وأمَرَ أتابك طُغْتِكين برَفْعِ المظالم عنها، وحَطِّ بعضِ الخَرَاج، ورَدَّ أملاكًا كانت غُصِبتْ، فارتفعتْ له الأدعية، وكَثُرَت عليه الأثْنِيَة (¬2). وفيها خرج طنكري من أنطاكية، فأخذ طَرَسُوس، وقرر على شَيزَر عشرة آلاف دينار وتسلَّم حِصن الأكراد، وعاد إلى أنطاكية (¬3). ونزل بغدوين صاحب القُدْس، وابن صنجيل على بيروت، وسار إليهم جوسلين صاحب تل باشر لمعاونتهم، واستنجدهم على [الأمير] (4) مودود، وكان [مودود] (¬4) قد طَرَدَ جاولي عن المَوْصِل، ومَلَكَ الجزيرةَ بأمر السُّلْطان، وجاء فنزل على الرُّها، وجاء الأُسطول المِصري وفيه الرِّجال والمِيرة، فدخلوا بيروت، فقويتْ نفوسُ أهلِها، فبَعثَ بغدوين إلى الجَنَويَّة، فجاؤوا في أربعين مركبًا، فزحفوا إلى بيروت برًّا وبحرًا، فدخلوها قَهْرًا بالسَّيفِ، فقتلُوا ونَهَبُوا وسَبَوْا، وفعلوا كما فعلوا بطرابُلُس، واسْتَصفُوا الأموال والذَّخائر (¬5). ثم رحل بغدوين، فنزل على صيدا، وراسل أهلها بتسليم البلد، فاستمهلوه مُدَّة عَيَّنوها، فأجابهم، وأخذ منهم مالًا، وعاد إلى القُدْس بسبب الحَجّ (¬6). ¬

_ (¬1) صرخد: قلعة حصينة ملاصقة لبلاد حوران، وتعرف الآن بصلخد، انظر "معجم البلدان": 3/ 401. (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 266 - 268. (¬3) انظر المصدر السالف. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 268 - 269. (¬6) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 269.

وفيها ظهر قَومٌ من كافر تُرْك، ووصلوا إلى جيحون، فقتلوا وسَبَوا وأفسدوا، فبعث إليهم السُّلْطان [أبو الحارث سنجرشاه بن ملك شاه] (¬1) العساكر، فقتلوا منهم مَقْتَلةً عظيمة، وعادوا مفلولين (2). وفيها ظهر كوكب الذنب، فأقام من ذي القَعدة إلى آخر ذي الحِجَّة وغاب، وكانت ذُؤابته من المشرق إلى القِبْلة (¬2). وفيها كاتب محمدُ شاه سُكْمان صاحِبَ أرْمينية وخِلاط ومَيَّافارِقِين، وشَرَفَ الدِّين مودود صاحب المَوْصِل، ونجم الدِّين إيل غازي صاحب مارِدِين بالاجتماع على جهاد الفرنج، فاجتمعوا في خَلْقٍ كثير، وقالوا: نبدأ بالرُّها، فهذا فرَغْنا منها سِرْنا إلى الشَّام، فنزلوا عليها في شَوَّال، وضيَّقوا على أهلها، ومنعوهم المِيرَة، وبلغ الفرنج، فاجتمع طنكري صاحب أنطاكية وابن صنجيل صاحب طرابلس وبغدوين صاحب القُدْس، وتحالفوا على المسير إلى الرُّها، والذَّبِّ عنها، والصبرِ على الحرب، ورَحَلُوا بأسْرهم إلى ناحية الرُّها، وعَلِمَ طُغْتِكِين، فسار في العَسْكر إلى ناحية الرَّقَّة وقلعة جَعْبَر، فوَجَدَ الفرنج على الفُرَات قد أحجموا عن عُبورها خوفًا من المسلمين. وبلغَ المسلمين [خبرهم] (¬3) فرحلوا عن الرُّها طالبين الفرات يريدون الفرنج، فوجدوا سرَعانَ الخيلِ (¬4) قد قطعوا الفرات، ومعهم بعضُ أثقالهم، فمالوا عليهم قتلًا [وأسرًا] (¬5) وتغريقًا في الفرات، وامتلأتِ الأيدي من الغنائم والسَّبْي والدَّوابِّ، وعاد الفرنجُ إلى مراكزهم. وكان طُغْتِكين على عَزْمِ أن يلقاهم مع المسلمين، فلمَّا رجعوا عاد إلى دمشق خوفًا عليها، وعاد المسلمون إلى الرُّها، فطال عليهم منازلَتُها، فتفرَّقوا إلى بلادهم. ولما عاد بغدوين جعل طريقه على البقاع، فأسَرَ وقتل، ثم عاد إلى صَيدا، ونازلَها، ونَصب عليها الأبراج، فأيقنوا بأخذِها، فأخرجوا إليه قاضيها وجماعةً من شهودها، ¬

_ (¬1) في (ع) و (ب): السلطان سنجرشاه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 270. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬4) سرعان الخيل: أوائلها. "اللسان" (مع). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب).

أحمد بن علي بن أحمد

فطلبوا منه الأمان، فأمَّنهم، وخرج الوالي والعسكر وأهلُ البلد إلى دمشق، ولم يتعرَّض (¬1) لأحدٍ منهم، وعاد إلى القُدْس. وقيل: إنما فُتحت صَيدا سنةَ أربعٍ وخمس مئة (¬2). وفيها تُوفِّي أَحْمد بن عليّ بن أَحْمد (¬3) أبو بكر، العُلْبي (¬4)، البغدادي، الزَّاهد، قرأ القرآن، وتفقَّه على [القاضي] (5) أبي يعلى بن الفَرَّاء، وكان يُقرئُ النَّاس [القرآن] (¬5)، ويؤمُّ بهم، ولا يقبل من أحدٍ شيئًا (¬6)، ويعملُ بيده، ويأكل ويذهب كلَّ ليلةٍ إلى دِجْلة، فيأخدْ ماءً في كُوزٍ، فيُفطِرُ عليه، ويمشي في قضاء حوائج النّاسِ، ويؤثِرُ بما في يده. وكان إذا حَجَّ خَرَجَ، فزار المَعْلى، ووقف عند قَبرِ الفُضَيل بن عِياض، وَيخُطُّ بعصاه، ويقول: يَا ربّ ها هنا، يَا رب ها هنا، فَحَجَّ في هذه السَّنة، فَشَهِدَ عَرَفة، وسَقَطَ من الجَمَلِ آخر النَّهار، فَحُمِلَ وَطِيفَ به بالبيت، ودُفِنَ يوم النَّحر إلى جانب الفُضَيل [بن عياض. سمع القاضي أَبا يعلى وغيره] (5)، وكان صالحًا ثقَةً. ¬

_ (¬1) في (ع) يعترض، والمثبت من (ب). (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق" 270 - 274، وقد ذكر ابن الأثير في "كامله" 1/ 479 استيلاء الفرنج على صيدًا في حوادث سنة (504 هـ). (¬3) له ترجمة في "طبقات الحنابلة": 2/ 255 - 257، و"المنتظم": 9/ 163 - 164، و"مناقب الإِمام أَحْمد" ص 633 - 634 - وفيه وفاته سنة (505 هـ) - و"صفة الصفوة": 2/ 495 - 496، "تكملة الإكمال" لابن نقطة: 4/ 338، و"ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 104 - 106، و"العقد الثمين": 3/ 100، و"توضيح المشتبه": 6/ 317 - 318، و"المقصد الأرشد": 1/ 143 - 144، و"شذرات الذهب": 4/ 6 - 7. (¬4) في (ع) و (ب) الحلبي، وهو تحريف، وتصحف في بعض المصادر إلى "العلثي" -بالثاء المثلثة- والمثبت من (م) و (ش)، وهي نسبة إلى عُلْبة. ومن ضبطها بفتح اللام فقد نسبه إلى عُلَب جمع عُلْبة. انظر "تكملة الإكمال" لابن نقطة: 4/ 338، و"توضيح المشتبه": 7/ 316. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) في (ع): ولا يقبل لأحد، والمثبت من (ب) و (م) و (ش).

عمر بن عبد الكريم بن سعدويه

[وفيها توفِّي] (¬1) عمر بن عبد الكريم بن سَعدويه (¬2) أبو الفِتْيان الدِّهِستاني (¬3)، الحافظ، محدِّثٌ مشهور، سافر إلى البلاد، وكتب [وذكره أبو الحسن عبد الغافر، وأثنى عليه، وقال] (¬4): قَدِمَ نَيسَابُور مرارًا، وخرج إلى طُوس، فأنزله أبو حامد الغَزَالي وأكرمه، وصَحَّحَ عليه "الصَّحيحين". واستقدمه أبو بكر محمَّد بن منصور السَّمْعاني إلى خُرَاسان، فأدركَه أجَلُه بَسرْخَس قبل وصوله إليه. سمع خَلقًا كثيرًا [ذكرناهم في التراجم، منهم مشايخ بغداد، وسمع بدمشق أَبا محمَّد بن الأكفاني، وأبا الحسن بن أبي الحديد وغيرهما، وروى عنه أبو بكر الخَطيب؛ سمع منه بصور، ونَصر المَقدِسي وغيرهما] (¬5)، واتَّفقوا على صِدْقه، وثقَتِهِ، ودِينِهِ. [وذكره الحافظ ابن عساكر، وقال: سَمِعَ فأوسَعَ، وكَتَبَ فأكثَرَ، وقدِمَ دمشق، فَسَمِعَ بها عبدَ الدَّائم بنَ الحسن، وأبا محمَّد الكَتَّاني، وذكر ابن أبي الحديد، قال: وسَمِعَ ببغداد أَبا الغنائم بن المأمون، وبمَرْو أَبا نَصر محمَّد بن بكر بن الخلال، وبهَرَاة أَبا الفضل زياد بن محمَّد بن زياد، وبنيسابور أَبا عثمان الصَّابوني وغيرهم. وروى عنه الخَطيب بصور، وأبو محمَّد الكتَّاني، ونَصر بن إبراهيم المَقْدِسي، وهم من شيوخه] (4). وروى عنه الحافظ ابنُ عساكر أنّه قال: سَمِعتُ أَبا بكر محمَّد بن إسحاق بن خُزَيمة يقول: مَن لم يُقِرَّ بأنَّ الله على عَرْشِهِ قد استوى فوق سبع سماواتِهِ فهو كافر يُسْتتاب، فإنْ تابَ وإلا ضُرِبَتْ عُنُقُه, لأنَّ الله تعالى أخْبَرَ عن ذلك في سبعِ مواضِعَ مِنْ كتابه (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش)، وفي (م) فصل: وفيها تُوفِّي .. (¬2) له ترجمة في "منتخب السياق" للصريفيني: 560، و"الأنساب": 6/ 173، و"تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 13/ 331 - 334، و"المنتظم": 9/ 164، و"التدوين في أخبار قزوين": 3/ 449 - 451، و"طبقات علماء الحديث": 4/ 9 - 10، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 317 - 320، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) نسبة إلى دهستان، بلدة مشهورة عند مازندان وجرجان، بناها عبد الله بن طاهر في خلافة المهدي. "الأنساب": 5/ 378 - 379. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ع) و (ب): سمع خلقًا كثيرًا، وروى عنه أبو بكر الخَطيب وغيره، واتفقوا على صدقه ... والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) "تاريخ دمشق" لابن عساكر (خ) (س): 13/ 331.

وجيه بن عبد الله بن نصر

[وذكَرَ ابنُ عساكر أنَّه أنشد أبياتًا لغيره (¬1): [من البسيط] إنِّي لِمَا أنا فيه من مُنَافَستي ... فيما شُغِفتُ به من هذه الكُتُبِ لقد عَلِمتُ بأنَّ الموتَ يُدْرِكُنْي ... مِنْ قَبْلِ أنْ يَنقَضِي مِنْ جَمْعِها أَرَبي وليس يَنْفَعُني مِمَّا حَوتْه يدي ... شيءٌ من الفِضَّة البيضاء والذَّهَب ولا أُوَمِّلُ زادًا للمَعَاد سوى ... عِلْم عَملْتُ به أو رَأفتي بأَبي وذكره أبو الفضل محمَّد بن طاهر المقدسيّ، وأثنى عليه، وقال: طاف الدنيا شرقًا وغربًا، وكان على سيرة السلف، وذكر أنَّه خرج من نَيسَابُور إلى طُوس، وأن الغَزالي قرأ عليه "الصحيحين"، ثم شرحهما، فخرج إلى مرو، فتوفي بسَرْخَس في ربيع الأول]. وجيه بن عبد الله بن نَصر (¬2) أبو المِقْدام، التَّنوخي، شاعر فصيح، [ذكره الحافظ ابن عساكر، وقال: ] (¬3) لمَّا فَعَلَتِ الفرنجُ بالمَعَرَّة ما فَعَلَتْ دَخلَها يبكي، وقال: [من الخفيف] هذه بَلْدَةٌ قَضَى الله يَا صا ... حِ عليها كما تَرَى بالخَرَابِ فَقِفِ العِيسَ وقفَةً وابْكِ مَنْ كا ... نَ بها مِنْ شُيُوخها والشَّباب واعْتَبِر إن دَخَلْتَ يومًا إليها ... فَهْيَ كانتْ مَنازِلَ الأحبَابِ (¬4) وقال أَيضًا: [من الوافر] أُراني والبقاءُ لهُ نَفَادُ ... على سَفَرٍ وليس لديَّ زَادُ وقد بان الشَّباب الغَضُّ منِّي ... وجاءَ الشَّيبُ ليس له ارتِدادُ ¬

_ (¬1) في (ع) و (ب): وتوفي في ربيع الأول، وكان على سيرة السلف، وأنشد لغيره يقول. قلت: والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وهو سياق أتم. (¬2) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 17/ 733، و"مختصره لابن منظور": 26/ 258 - 259، و"النجوم الزاهرة": 5/ 200. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر", ولمحمود بن عليّ المعري الآتية ترجمته في وفيات سنة (505 هـ) قصيدة لها مطلع يشابه مطلع هذه القصيدة، فهل تمثَّل وجيه في تلك القصيدة، أم أنَّه أنشأ قصيدة جديدة اتكأ في مطلعها على قصيدة محمود؟ الذي ذهب إليه ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 200، 203 أن القصيدة لمحمود، والذي أراه أنهما قصيدتان تشابه مطلعهما، والله أعلم.

هبة الله بن محمد بن علي

إذا ما الزَّرعُ أسْبَلَ واسْتَبانَتْ ... سنابِلُهُ فقد قَرُبَ الحَصَادُ (¬1) وتوفي بدمشق، وقد جاوز السبعين. هبةُ الله بنُ محمدِ بنِ علي (¬2) أبو المَعَالي بن المُطَّلب، الكِرْماني، وزير المُستَظْهر. ولد سنة أربعين وأربع مئة، ووزَرَ للخليفة مُدَّةً يسيرة، واعتَقَلَه فَهَرَب إلى دار المملكة، فتوفِّي في شَوَّال، ودُفِنَ بباب أبرز. سَمِعَ أَبا الحسين بن المهتدي، وغيره. السنة الرابعة وخمس مئة فيها قدمت خاتون بنت مَلِك شاه زوجة [الخليفة] (3) المستظهر [أخت السلطان محمَّد شاه] (¬3)، فنزلت بدار المملكة في رجب عند أخيها السُّلْطان محمَّد شاه، ثم نُقِلَ جَهازُها في رمضان على مئةٍ واثنين وثلاثين جملًا وسبعة وعشرين بغلًا، وبين يديه الجنائب، والجواري المُزَيَّنات بين يدي المِحَفَّة، وزُيِّنَتِ الأسواق، ونُصبتِ القِباب، ودَخَلَ بها في عاشر رمضان (¬4). وفيها دَرَّسَ أبو بكر الشَّافعي الشَّاشي بالنِّظامية، وحَضَرَ عنده وزيرُ السُّلْطان وأربابُ الدَّوْلة (¬5). وفيها قَدِمَ تُجَّارٌ من الشَّام إلى بغداد، وكسروا المِنْبر، ومَنَعُوا الخطيبَ من الخُطْبة يوم الجُمُعة بجامع السُّلْطان، واستغاثوا، فقال السُّلْطان: ما لهم؟ فقالوا: قد استولى الفرنج على الشّام، وقتلوا وأسروا وسَبَوْا. فقال السُّلْطان: نُسَيِّر العساكر إليهم (¬6). ¬

_ (¬1) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر"، ومختصره لابن منظور، وقد تكلف محققاه معنى غريبًا للشطر الأول من البيت الأول. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 9/ 165، و"الفخري في الآداب السلطانية": 300 - 301، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 384، وفيه وفاته سنة (509 هـ). (¬3) ما بين حاصرتين من (م). (¬4) انظر "المنتظم": 9/ 165 - 166، و"ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 277. (¬5) انظر"المنتظم": 9/ 166، و"وفيات الأعيان": 4/ 220، وسترد ترجمة أبي بكر الشاشي في وفيات سنة (507 هـ). (¬6) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 276 - 277، و"المنتظم": 9/ 165، و"الكامل": 10/ 482 - 483.

وفيها قَصَدَ بغدوين عَسْقلان، وكان واليها [يقال له] (¬1) شمس الخلافة، فراسل بغدوين، واتَّفقا على مالٍ، وقرَّرَ على صُور سبعة آلاف دينار، [وكان شمس الخلافة أرغب في التجارة من الحرب] (1)، وبلغ الأفضل ذلك، [فلم يرض] (1) وأسَرَّه (¬2) في نفسه، وبَعَثَ جيشًا إلى عَسْقلان [عوض شمس الخلافة] (1)، فعصى واليها عليه (¬3)، وأخَرَجَ من كان معه في البلد من العَسْكر خوفًا منهم، وراسَلَ بغدوين يستمدُّه، ووعده إن غُلِبَ سَلَّم إليه عسقلان، ويعوِّضه عنها، وعَلِمَ الأفضل، [فخاف على البلد] (1) فكاتبه وطيَّبَ قَلْبه، وأقطعه عَسقلان، وأقر عليه إقطاعه بمصر، فاستدعى [شمسُ الخلافة] (1) جماعةً من الأَرْمن، فأَسْكَنَهم البَلَد، فأنكر أهلُ البلد ذلك، ووثبوا عليه، فقتلوه، ونهبوا دارَهُ، وبعثوا برأسِهِ إلى مِصر (¬4). وفيها هَبَّتْ ريحٌ سوداء بمِصر، وطَلَعَ سحابٌ أسودُ أخَذَ بالأنفاس، وأظلمتِ الدُّنيا، وظَهَرَتِ الكواكبُ نهارًا، وسَفَتِ الرِّيحُ الرَّمْلَ على النَّاس، [وظنُّوا أن القيامة قد قامت، وخَرَجَ النَّاس] (¬5) من منازلهم، وكان ذلك من صلاة العصر إلى المغرب، ثم لطف الله، وزالتِ الظُّلْمة (¬6). وفيها غَدَرَ بغدوين [صاحب القدس] (1) ونزل على طبرية، وخرج طُغْتِكِين، فنزل رأسَ الماء (¬7)، ثم استقرَّ [على] (1) أن يكون ما كان من البلاد مُثَالثة، ومُنَاصفة (¬8). وفيها جَهَّزَ محمَّد شاه العساكِرَ إلى الشَّام لقتال الفرنج، منهم شَرَف الدِّين مودود صاحب المَوْصِل، [وأحمديل] (1)، وقطب الدين سُكْمان صاحب ديار بكر، واجتمعوا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ب) فأسره، والمثبت من (م) و (ش). (¬3) في (م) و (ش) فعصى على الأفضل. (¬4) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 275، و"الكامل" 10/ 480 - 481. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب). (¬6) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 276، و"الكامل": 10/ 484. (¬7) يسمى الآن نبع الثريا، وهو قرب قرية فقيع بحوران، بين جاسم ونوى. (¬8) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 277 - 278.

في حَرَّان، وكَتَبَ إليهم سُلْطان [بن عليّ] (1) بن منقذ صاحب شَيزَر يعرِّفُهم أنَّ طنكري [قد] (1) نزل أرض شَيزَر، وشرع في بناء تل مُبَشِّر حِصنًا بمقابلة شَيزَر. فقطعوا الفرات، ونزلوا على تل باشر ينتظرون البُرْسُقي صاحب هَمَذَان، فوصل وهو مريضٌ، واختلفت آراؤهم، ومَرِضَ سُكْمان صاحب أرْمينية وخِلاط وديار بكر، وطَمِعَ أحمديل في بلاده، وراسله صاحِبُ الحِصن وهاداه، فَقَصَّر، فعادوا إلى حلب، وعاثوا في أعمالها، وفعلوا أقبحَ مِنْ فِعْلِ الفِرنج، وتوقعوا خروجَ رِضْوان إليهم وخدمتهم، فما التفت، وأغلق أبواب حلب، وأخذَ رهائن أهلِها إلى القلعة، واستعد للقتال. وقد كانوا لمَّا قطعوا الفُرَات كاتبوا [أتابك] (1) طُغْتِكِين [في دمشق] (1) بالوصول إليهم [ليدبروا الأمورَ] (1)، وكَتَبَ إليه السُّلْطان بمثل ذلك، فجمع [وحشد] (1) رجاله، ورجال حمص [وحماة] (1) وَرَفنِيَّة، وسار في جَمع كثيف طالبًا للجهاد. فوصل إليهم على حلب، فَسُرُّوا بوصوله، وقويت نفوسهم، فلم يَرَ منهم عزيمةً صادقة في جهادٍ، ولا حماية بلاد. وأما سُكْمان القُطْبي، فإنَّه عاد إلى بلاده، وقد أشفى، ومات [في طريقه] (¬1) قبل وصوله إلى الفُرات. وأما البُرْسُقي فكان به نِقْرِسٌ، ويحمل في مِحَفَّة، ولا قول له ولا فِعْل. [وأما أحمديل فإنَّ عزمه] قوي (¬2) على العَوْد [لأجل بلاد سُكْمان، وطمعه في إقطاعها من السُّلْطان] (¬3). فقال [أتابك] (1) طُغْتِكِين: ارحلوا إلى المَعَرَّة. فرحلوا على كُرْهٍ، فقال: انزلوا طَرابُلُس. فتوقفوا، ثم تسلَّلوا وتفرقوا أيدي سبأ، ولم يبقَ منهم سوى [شرف الدين] (1) مودود، وكان مصافيًا لأتابك؛ صديق صِدق، ونزلا طي العاصي، وكان الفرنج قد تفرقوا إلى مواضعهم، فلما تفرَّق المسلمون ورجعوا اتفق الإفرنج، وصاروا يدًا واحدة على الإِسلام، ونَزَلَ سُلطانُ بن عليّ بن مُنقِذ من شَيزَر إلى [أتابك] (1) طُغتِكين، ومودود، وخدمهما، وحمل إليهما. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ب): وأحمديل فعزمه قوي، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ب): لطمعه في بلاد سكمان، وإقطاعها من السلطان، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

سكمان بن أرتق

وجاء الفرنج، فنزلوا على تل مُبَشِّر مقابل شَيزَر ليبنوا عليه حِصنًا، فنازلهم طُغْتِكين ومودود، وطَمِعَ بهم التُّرك، وتَخَطَّفوهم، ومنعوا أحدًا منهم أن يخرج من خيمته، وقتلوا وأسروا، فلما رأوا أحوالهم ناقصة انكفؤوا راجعين إلى أنطاكية وطرابُلُس، والتُّركُ في آثارهم قَتْلًا وأَسْرًا، واستحكمتِ المَوَدَّةُ بين [أتابك] (1) طغتكين [وشرف الدين] (¬1) مودود (¬2). [فصل] (1) وفيها تُوفِّي [الأمير] (1) سُكْمان بن أُرْتُق (¬3) صاحب خِلاط، وديار بكر. قد ذكرنا أنَّه جاء إلى الرُّها، ومَرِضَ، فَحُمِلَ في مِحَفَّة، فمات بميَّافارِقين، وحُمِلَ تابوته إلى خِلاط، فَدُفِنَ بها، وكان عادلًا مجاهدًا. وأبوه أُرتُق ماتَ بالقُدْس، وكان قد دخل الرَّمْل خوفًا من مَلِك شاه، ولمَّا عاد ملك شاه عن الشَّام، رَجَعَ أُرْتُق إلى القُدْس، ومات به. ونجم الدِّين إيل غازي بن أُرْتُق، أخو سُكْمان مَضى إلى السُّلْطان محمَّد شاه، فولاه شِحْنِكِيَّة العراق، ثم أَخَذَ مارِدِين في سنة ثمانٍ وخمس مئة، وميافارقين في سنة اثنتي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 278 - 283. (¬3) سلفت أخباره باسم سكمان القُطبي، ونُسِبَ القطبي لأنه كان مملوك قطب الدين إسماعيل بن الياقوتي بن جغري بك السلجوقي أمير أذربيجان، وقد استولى سكمان على خلاط سنة (493 هـ)، وتوفي سنة (504 هـ) كما هو مذكور، وتدل نسبته إلى مولاه إلى أن اسم أَبيه لا يعرف، ومن ثَمَّ فإنّ قول سبط ابن الجوزي هنا إنه ابن أرتق لا يصح، وقد أوقعه هذا بأوهام كما سيأتي، فذهب إلى أن أباه هو أرتق الذي مات بالقدس، وأن أخاه هو إيل غازي صاحب ماردين وغيرها ظنًّا منه أن سكمان هذا هو سكمان (أو سقمان) بن أرتق، اختلط عليه الاسم، فظنهما واحدًا، ومعروف أن سكمان بن أرتق تُوفِّي سنة (498 هـ) وهو أخو إيلغازي، ووالدهما هو أرتق المتوفى ببيت المقدس سنة (484 هـ)، وهم أصحاب حصن كيفا وآمد وماردين، ولم يتولَّ خلاط أحدٌ منهم، وقد تابعه في ذلك ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 201، إلَّا أنَّه قد أساء النقل عن سبط ابن الجوزي فوقع بأوهام أخرى، انظر "وفيات الأعيان": 1/ 191، و"تلخيص مجمع الآداب" لابن الفوطي: ق 4 ج 4/ 618 - 619، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 234 - 235، 435، و"معجم الأنساب" لزامباور: 346 - 348، و"الدول الإِسلامية": 351 - 359.

عبد الوهاب بن هبة الله بن السيبي

عشرة [وخمس مئة] (¬1)، ثم أخذ حلب، وله وقائعُ مع الفرنج، وسنذكرها إنْ شاء الله تعالى فيما بَعد. [فصل: وفيها تُوفِّي عبد الوهَّاب بن هبة الله بن السِّيبي (¬2) أبو الفَرَج، مؤدِّبُ ولد الخليفة المقتفي (¬3). حَجَّ في هذه السنة، ومضى إلى المدينة، فمات في الطريق، فَحُمِلَ إلى البقيع، فدُفِنَ به. روى عنه المقتفي (¬4)، وأشياخ أشياخنا، وكان ثِقَةً] (1). [فصل: وفيها تُوفِّي] (¬5) علي بن محمَّد بن عليّ (¬6) أبو الحسن، الطَّبري، عرف بإِلْكِيَا (¬7) الهَرَّاسي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 9/ 167، و"توضيح المشتبه": 5/ 23، والسِّيبي نسبة إلى السِّيب بلد على الفرات بقرب الحِلَّة. (¬3) المقتفي هو والد الخليفة المستظهر. (¬4) اختلف فيمن هو مؤدب ولد المقتفي وشيخه، هل هو عبد الوهَّاب هذا أو ابنه أَحْمد أبو البركات؟ فذهب السمعاني في "تاريخه"- فيما نقله عنه ابن نقطة في "الاستدراك"، وعنه ابن ناصر الدين في "التوضيح"5/ 23 - وابن الجوزي في "المنتظم"، وتابعه سبطه كما هنا إلى أنَّه عبد الوهَّاب. وذكر ابن نقطة في "الاستدراك" (خ) "باب السيبي" أن شيخ المقتفي ابنه أَحْمد، وتابعه الذهبي في "المشتبه": 347، فقال: وقد وهم من جعل شيخ المقتفي عبد الوهَّاب، وتابعه كذلك ابن ناصر الدين في "التوضيح". (¬5) ما بين حاصرتين (م). (¬6) له ترجمة في "منتخب السياق" للصريفيني: 598، و"تبيين كذب المفتري": 288، و"المنتظم": 9/ 167، و"الكامل": 10/ 484، و"وفيات الأعيان": 3/ 286 - 290، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 350 - 352، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬7) إلكيا: لقب فارسي، معناه: الكبير القدر المقدم بين النَّاس، انظر "وفيات الأعيان": 3/ 289.

السنة الخامسة وخمس مئة

ولد سنة خمسين وأربع مئة، وتفقَّه على أبي المعالي الجُوَيني، فكان يعيد الدَّرسَ بمدرسةِ نَيسَابُور على كل مَرْقاة سبعين مَرَّة، وكانت المَرَاقي سبعين مَرْقَاة. قَدِمَ بغداد، ودَرَّسَ بالنّظامية، ووَعَظ، وذكر مذهب الأَشْعريّ فَرُجِمَ، وثارتِ الفِتَن، واتُّهم بمذهب الباطنية، فأراد السُّلْطان قَتْلَه، فمنعه المُسْتظهر، وشَهِدَ له بالبراءة منه جماعة، وتوفي يوم الخميس غُرَّة المُحَرَّم، ودُفِنَ عند أبي إسحاق الشِّيرازي. السنة الخامسة وخمس مئة فيها عَزَلَ السُّلْطان محمَّد وزيرَه أَحْمد بن نِظام المُلْك في رمضان، فكانت وزارتُه أربعَ سنين وأحَدَ عَشَرَ شهرًا (1). وولد للخليفة ولدٌ من بنت السُّلْطان محمَّد، فجلس النَّاس للهَنَاء ببابِ الفِردَوس، وتوفِّي أخٌ للخليفة، فجَلَس في عَزَائه بباب الفِرْدوس (¬1). وفيها جمع بغدوين وحَشَدَ لقَصد صور، فكتب واليها [وأهلها] (¬2) إلى طُغْتِكين [يستنجدوا به و] (3) يسألونه أَن يسلموها إليه قَبْلَ مجيء الفرنج, لأنَّهم يئسوا من نُصرة مِصر، فبعث إليهم [أتابك] (¬3) الفُرسان والرَّجَّالة، وجاءهم من جبل عاملة، وسار إليها بغدوين في الخامس والعشرين من جُمادى الأولى فَقَطعَ أشجارها، وقاتلها أيامًا، ويعود خاسرًا. وخرج طُغْتِكين من دمشق، وخَيَّم ببانياس، وجَهَّز الخَيَّالة والرِّجال إلى صور نجدةً، فلم يقدروا على الدُّخول، فسار إلى السَّواد، فنزل على الحبيس (¬4)، وهو حِصن عظيم، وحاصره، ففتحه عَنوَةً، وقتَلَ كلَّ مَن فيه، وشَرَعَ بغدوين في عَمَلِ الأبراج والزَّحفِ على صور، وزَحَفَ إليهم (¬5) أتابك ليَشْغَلَهم [عن صور] (3) فخندقوا عليهم، وهَجَمَ الشِّتاء، ولم يبال الفرنج لأنَّهم كانوا في أَرضٍ رَمْلَةٍ، [والمسلمون في أرضٍ وعْرة] ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم": 9/ 168. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) هو حبيس جلدك، وهو حصن بالسواد كما ذكر هنا، وقد جاء ذكره في "كتاب الروضتين": 3/ 106 بتحقيقي. (¬5) في (ع) عليهم، والمثبت من (ب) و (م) و (ش).

وكانت المادة تصل إلى الفرنج] (¬1) من صيدًا في المراكب، فسار إليها أتابك طُغْتِكِين، وقتَلَ جماعة من البحرية وغَرَّقَ المراكب، وواصل المكاتبة إلى أهل صور يُقوي قلوبهم. وعَمِلَ الفرنج بُرْجين عظيمين، [وزحفوا بهما إلى السُّور، وكان] (¬2) طول الكبير منهما زيادة على خمسين ذراعًا، وطول الصّغير نيفًا وأربعين ذِراعًا، وزحفوا بهما أول يوم من شهر رمضان، وخرج أهل صور بالنِّفط والقَطِران، [لحريق البرجين] (2)، ورموا النَّار، فهبَّت الرِّيحُ، فأحرقتِ البُرجَ الصَّغير بعد المحاربة العظيمة، ونُهِبَ منه زَرَدِيَّات وطوارق (¬3) وغير ذلك، ولَعِبَتِ النّارُ في البُرج الكبير، فأطفأها الفرنج، وطَمُّوا الخندق، وواتروا الزَّحف طول شهر رمضان، وأشرف أهلُ البلد على الهلاك، فتحيَّل واحدٌ من المسلمين له خِبرَةٌ بالحرب، فعمل كباشًا في أخشاب تدفع البُرْج الذي يلصقونه بالسُّور، ثم تحيَّل في حريق البُرْج الكبير، فاحترق، وخَرَجَ المسلمون، فأخذوا منه آلاتٍ وأسلحة [لا توصف] (¬4)، فحينئذ يَئِسَ الفرنج، ورحلوا، وأحرقوا جميعَ ما كان لهم من المراكب على السَّاحل، والأخشاب والعمائر والعلوفات وغيرها. وجاءهم طُغْتِكِين، فما سَلَّموا إليه البلد [ولا وفوا له] (¬5)، فقال: أنا ما فعلتُ ما فعلتُ إلا لله تعالى لا لرغبةٍ في حِصن ولا مال، ومتى دَهِمَكُمْ عدوٌّ جِئْتكم بنفسي ورجالي. ورحل عنهم (¬6). [وكان مِنْ سعادته أنَّهم لم يُسَلِّموه إليه, لأنه كان عاجزًا عن حِفظِ صور ودمشق، وصور ما كان لهم بُدٌّ مِنْ أخْذِها] (¬7). وفيها نزل [شرف الدولة] مودود [صاحب المَوْصِل] (5) على الرُّها ورَعَى زَرْعَها، ورَحَلَ إلى سَرُوج، ففَعَلَ بها كذلك (¬8). ¬

_ (¬1) في (ع) و (ب) لأنهم كانوا في أرض رملة، والمادة تصل إليهم من صيدا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) الزرديات جمع، مفردها الزردية وهي الدرع، والطوارق جمع كذلك، مفردها طارقة وهي الترس. انظر "تكملة المعاجم العربية" لدوزي: 1/ 585، 2/ 41. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب) و (م). (¬5) ما بين حاصرتين من (م). (¬6) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 284 - 288، و"الكامل" 10/ 488 - 490. (¬7) ما بين حاصرتين من (م)، وجاء بها معترضًا بين قوله: ورجالي. ورحل عنهم، وما أثبتناه استظهارًا هو الأشبه. (¬8) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 289.

الحسن بن أحمد

وفيها (¬1) تُوفِّي الحسن بن أَحْمد (¬2) أبو محمَّد بن حِكِّينا (¬3)، كان فصيحًا ظريفًا، ومن شِعْره في قاضٍ: [من السريع] وبارِدِ التَّنْمِيسِ (¬4) بين الورى ... يَفعَلُ ما لا يَفعَلُ اللِّصُّ يَصيدُ أموال الورى كلَّها ... بطَرحةٍ (¬5) من تحتِها شِصُّ (¬6) وقال: [من الطَّويل] أتاني بنو الحاجاتِ من كلِّ وجهةٍ ... يقولونَ لي أين الموفَّقُ قاعدُ فقلتُ لهم فوق المَجَرَّةِ دارُهُ ... ولكنَّني فارَقتُهُ وهْوَ صاعدُ فإن شِئتُمُ ألا تَضِلُّوا فيمِّمُوا ... إلى حيث (¬7) سارَتْ بالثَّناءِ القصائِدُ (¬8) وقال: [من المنسرح] ومُظْهِرٍ وُدَّهُ لقاصدِهِ ... يكُفُّ عنه الأطْمَاعَ بالياسِ ¬

_ (¬1) اضطرب سبط بن الجوزي في تاريخ وفاته، فذكره هنا في وفيات سنة (505 هـ)، وأعاد ترجمته في وفيات سنة (606 هـ)، وكلاهما وهم، وقد تابعه عليه أبو شامة في "المذيل على الروضتين": 1/ 208، وابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 6/ 197، فترجما له في وفيات سنة (606 هـ)، والصحيح وفاته سنة (528 هـ) فيما ذكر أغلب من ترجم له، وتردد ابن العماد في "شذرات الذهب": 4/ 88 بين سنة (528 هـ) و (529 هـ). (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 1/ 230 - 248، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 275، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد": 98 - 99، و"فوات الوفيات": 1/ 319 - 321، و"الوافي بالوفيات": 11/ 387 - 391، و"شذرات الذهب": 4/ 88 - 89. (¬3) في (ع) و (ب) كنجينا، وهو تحريف، وقد اضطربت مصادر ترجمته في رسمه بين جكينا وحكينا، بالجيم أو الحاء، وقد قيده بالجيم ابن خلكان، ذكر ذلك الدكتور إحسان عباس في حاشيته على "وفيات الأعيان": 7/ 224، وقيده بالحاء المهملة الزبيدي في مستدركاته في "تاج العروس" مادة (حكن)، فقال: حكينا بكسرتين مشددة الكاف لقب، وابن حكينا شاعر معروف. قلت: وهو ما مال إليه العلامة محمَّد بهجة الأثري في تعليقه على "الخريدة". (¬4) التنميس: التلبيس والتدليس، يقال: نمّس عليه الأمر تنميسًا. (¬5) في هامش (ب)، أراد بالطرحة الطيلسان، وفي اصطلاح الصيادين هي الشبكة. (¬6) البيتان في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 233. (¬7) في (ب) و (ع): حين، والمثبت من "الخريدة". (¬8) الأبيات في "الخريدة": 1/ 238.

علي بن جعفر بن الحسن المعري

يقومُ للنَّاس مُكْرِمًا فإذا ... راموا نَدَاه يقومُ للناسِ (¬1) عليُّ بنُ جعفر بن الحسن المَعَرّي (¬2) كتب إلى الأفضل ابنِ أَمير الجيوش يقول: [من الطَّويل] وَهَبْني أساءَتْ فِكْرتي أو تَعذَّرَتْ ... عليَّ القوافي أو جَفَتْني المقاصِدُ أَما كان في حُكْمِ التَّناصُفِ بيننا ... تراضٍ ولي مِنْ حُسْنِ رأيكَ عاضِدُ (¬3) محمَّد بن محمَّد بن محمَّد أبو حامد الغَزَّالي الطُّوسي (¬4) [ذكره الأئمة وأربابُ السِّير، منهم جدِّي، وعبد الغافر في "ذيل نيسابور"، وابن السَّمْعاني، والحافظ ابن عساكر. فأما جدِّي، فإنَّه قال: ] (¬5) ولد سنة خمسين وأربع مئة، وتفقَّه على أبي المعالي الجويني، وبَرَعَ في النَّظر في مُدَّةٍ قريبة، وقاوم الأقران، وتوحَّد، وصنف الكُتُبَ الحِسان في الأصول والفروع، التي تَفَرَّد بحُسْنِ وَضْعها وترتيبها، وتحقيق الكلام فيها، حتَّى إنه صنف في حياة أُستاذه ابن الجُوَيني، فنَظَرَ في كتابه المسمَّى بـ"المنخول"، فقال: دَفَنْتني وأنا حيٌّ، هلَّا صَبرْتَ حتَّى أموت. وأراد أن كتابك قد غَطَّى على كتابي. ووقع له القَبُول من نظام المُلْك، فَرَسَمَ له بالتدريس بمدرسته ببغداد، فدخل بغداد سنة أربعٍ وثمانين وأربع مئة، ودرَّس بها، وحَضَرَه الأئمة الكبار كابن عَقِيل، وأبي الخطاب (¬6)، وتعجبوا من كلامه، واعتقدوه فائدة، ونقلوه في مُصنفاتهم، ثم إنه تَرَك ¬

_ (¬1) البيتان في "الخريدة" قسم شعراء العراق: 1/ 231. (¬2) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 11/ 885، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشَّام: 2/ 121 - 124. (¬3) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر": 11/ 885. (¬4) له ترجمة في "منتخب السياق" للصريفيني: 83 - 85، و"تبيين كذب المفتري": 291 - 306، و"تاريخ دمشق" (خ) و (س): 15/ 919 - 922، و"الكامل" 10/ 491، و"وفيات الأعيان": 40/ 216 - 219، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 191 - 289، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 322 - 346، وفيه تتمة مصادر ترجمته، والدراسات المعاصرة عنه كثيرة تكاد تعز على الحصر. (¬5) ما بين حاصرتين من (م). (¬6) أبو الخطاب: هو شيخ الحنابلة محفوظ بن أَحْمد بن حسن الكلواذاني، المتوفى سنة (510 هـ)، وستأتي ترجمته في وفياتها.

التدريس، والرِّياسة، ولَبِسَ الخامَ الغليظ، ولازم الصَّوْم، وكان لا يأكل إلَّا من أُجْرة النَّسخ, , وحَجَّ وعاد. ثم رحل إلى الشَّام، وأقام ببيتِ المقدس ودمشق مُدَّةً يطوفُ المشاهد، وأخَذَ في تصنيف كتاب "الإحياء" في القُدْس، ثم تَمَّمه بدمشق، إلَّا أنَّه وضَعَه على مذهب الصُّوفية وترك فيه قانون الفِقْه، مثل أنَّه ذَكَرَ في مَحْو الجاه ومجاهدةِ النَّفس: أنَّ رجلًا أراد مَحْوَ جاهِهِ، فدخل الحَمَّام، فلبس ثيابَ غيره، ثم لَبسَ ثيابَهُ فوقها، وخَرَجَ يمشي على مَهَلٍ حتَّى لَحِقُوه، فأخذوها منه، فسمّي سارِقَ الحَمَّام (¬1). وذِكرُ مِثْلِ هذا على سبيل التعليم للمريدين قبيحٌ (¬2)؛ لأنَّه متى كان للحمّام حافِظٌ وسَرَقَ منه سارق قُطِعَ، ثم لا يَحِلُّ لمسلمٍ أَنْ يتعرَّضَ لأمرٍ يأثَمُ النَّاس به في حَقِّه. وذكر فيه أنَّ رجلًا اشترى لحمًا، فرأى فينفسه أنَّه يستحي من حَمْلِهِ إلى بيته، فعلَّقه في عُنُقه ومشى، وهذا في غاية القُبْح، ومِثلُه كثير (¬3). قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي، رحمه الله: وقد جمعت أغلاط الكتاب "إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء" وأشرتُ إلى بعض ذلك في كتابي المسمَّى بـ"تلبيس إبليس"، وذَكَرَ في كتاب "النكاح": أنَّ عائشة - رضي الله عنها - قالت لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنتَ الذي تزعم أنَّك رسولُ الله (¬4)؟ وهذا محال (¬5). وإنما كان سبب إعراضه فيما وضعه عن مقتضى الفِقْه أنَّه صَحِبَ الصُّوفية، فرأى حالاتِهم الغاية. وقال: إنِّي أخَذتُ الطَّريقة من أبي علي الفارْمَذِي (¬6)، وامتَثَلْتُ ما كان ¬

_ (¬1) انظر "إحياء علوم الدين": 3/ 288 طبعة دار المعرفة - بيروت. (¬2) في (ع) و (ب): وهذا قبيح، والمثبت من "المنتظم". (¬3) "المنتظم": 9/ 168 - 169. (¬4) انظر "إحياء علوم الدين": 2/ 43، وذكر العراقي أن أَبا يعلى أخرجه في "مسنده"، وأبا الشيخ أخرجه في "الأمثال" من حديث عائشة وفيه ابن إسحاق وقد عنعنه. قلت: ولم أجده في مطبوعيهما. (¬5) "المنتظم": 9/ 169. (¬6) نسبة إلى فارمذ، هي من قرى طوس، وأبو علي هو الفضل بن محمَّد، كان شيخ خراسان، وصاحب الطريقة في تربية المريدين، والأصحاب، وقد تُوفِّي سنة (477 هـ)، انظر ترجمته في "الأنساب": 9/ 219، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 565.

يشيرُ به من وظائف العبادات، واستدامةِ الذِّكْر إلى أن جُزْتُ تلك العِقاب، وتكلَّفْتُ تلك المَشَاقَّ، وما حَصَّلتُ على ما كنتُ أَطلُبُه. ثُمَّ إنَّه نظر في كتاب أبي طالب المكيّ، يعني "القُوت" وكلام المتصوفة القُدماء، فاجْتَذَبه ذلك بمرَّةٍ عن الفقه. وذكر في كتاب "الإحياء" من الأحاديث الموضوعة وما لا يَصِحُّ غيرُ قليل، وسَبَبُه قِلَّةُ معرفته بالنَّقل، فليَتَه عَرَضَ تلك الأحاديث على من يَعرف، وإنما نَقَلْ نَقْلَ حاطبِ ليل (¬1). وذكر في آخر "مواعظ الخلفاء" فقال: روي أنَّ سُلَيمَان بنَ عبد الملك بَعَثَ إلى أبي حازم: ابعث إليَّ من إفطارك. فبعثَ إليه نُخالة مَقْلُوَّة، فبقي سليمان ثلاثة أيام لا يفطر، ثم أفْطَرَ عليها، وجامع زوجته، فجاءت بعبد العزيز فلما بلغ، وُلدَ له عمر بن عبد العزيز. وهذا من أقبح الأشياء, لأنَّ عمر ابنُ عَمِّ سليمان، وهو الذي ولاه الخلافة، فقد جعله ابن ابنه، فما هذا حديثُ من يعرف [من] النقلِ [شيئًا] (¬2) أصلًا (¬3). وكان بعضُ النَّاس قد شُغِفَ بكتاب "الإحياء"، فأَعْلمتُه بعيوبه، ثم كتبتُه [له] (2)، وأسقطتُ ما يَصلُح إسقاطُه، وزِدْتُ ما يصلح أن يُزَاد (3). وأُحرِقَ كتابُ "الإحياء" في المَغرب مَرَّتين. ثم إنَّ أَبا حامد عاد إلى وطنه مشغولًا بتعبُّده، فلما صارتِ الوزارة إلى فخر المُلْك أحضره وسَمِعَ كلامه، وأخرجه إلى نَيْسابور، فخرج، ودرَّس، وعاد إلى وطنه، واتخذ في جواره مدرسةً، ورِباطًا للصُّوفية، وبنى دارًا حَسَنة، وغَرَسَ فيها بُستانًا، وتشاغَلَ بحفظِ القرآن، وسَمَاعِ الحديث. وحُكِيَ عن أبي منصور الرَّزَّاز الفقيه، قال: دخل أبو حامد بغداد، فقدَّمنا ملبوسَه ومركوبه بخمس مئة دينار، فلما تزهَّد وسافر عاد إلى بغداد، فقدَّمنا ملبوسه بخمسة عَشَرَ قيراطًا (3). ¬

_ (¬1) "المنتظم": 9/ 169. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) "المنتظم": 9/ 170.

وحدّث بعضُ الفقهاء عن أنوشروان الوزير أنَّهَ زار أَبا حامد، فقال له: زمانُك محسوبٌ، وأنت كالمُسْتأجر، فتوفُّرُك على ذلك أَوْلى من زيارتي. فخَرَجَ أنوشروان وهو يقول: لا إله إلَّا الله، هذا الذي كان في أول عُمُره يستزيدني فَضْل لقبٍ في ألقابه، وكان يَلبَس الحرير والذهب آل أمرُه إلى هذا الحال! وتوفي [أبو حامد] (¬1) يوم الاثنين رابع عشرة جُمادى الآخرة بطُوس (¬2)، ودفن بها، وسأله بعضُ أصحابه قُبيل الموت، فقال [له] (1): أوْصني. فقال له: عليك بالإخلاص. ولم يزل يكرِّرُها حتَّى مات [هذا صورةُ ما ذكر جدِّي في "المنتظم" (¬3) في ترجمة الغزَّالي. وذكر جَدِّي في كتاب "الثَّبات عند الممات" عن أَحْمد بن محمَّد أخي أبي حامد الغزَّالي، قال: ] (1) لما كان يوم الاثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد وصَلَّى، وقال: عليَّ بأكفاني. فأخذها وقبَّلها، وتركها على عينيه، وقال: سَمعًا وطاعة للدُّخول على المَلِك، ثم مَدَّ رِجليه، واستقبل القِبلة، ومات قبل الإسفار (¬4). والغَزَّالي هو القائل: ويكره الاستجمار بورق المُصحف (¬5). هذا خلاصة ما ذكر أبو الفرج بن الجوزي، رحمه الله. وقال عبدُ الغافر بن إسماعيل في كتاب "ذيل نَيسَابُور": أبو حامد الغَزَّالي حُجَّة الإِسلام، لم تَرَ العيونُ مِثلَه لسانًا وبيانًا، ونُطقًا وخاطرًا، وطَبْعًا وذكاءً، قَدِمَ نَيسَابُور مختلفًا إلى درس إمام الحَرْمين، واجتهد، وبذَّ (¬6) الأقران، وكان الطَّلبة في أيام إمامِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) طوس: كانت ثاني مدينة في خراسان بعد نيسابور، وفيها قبر الإِمام الرضا، وقبر هارون الرشيد إلى جواره، وقد دمرها المغول سنة (617 هـ)، ولم تقم لها قائمة من بعد، وقد نشأ حول مشهد الرضا عمارة اتسعت فيما بعد حتَّى ظهرت مدينة مشهد منذ القرن الثامن تحيط بها قبور من بينها قبر الغزالي إلى شرقي ضريح الإمام الرضا، وهناك كذلك قبر الفردوسي الشَّاعر المشهور. انظر "بلدان الخلافة الشَّرقية" كي لسترنج: 430 - 431. (¬3) "المنتظم": 168 - 170. (¬4) "الثبات عند الممات": 178 - 179. (¬5) لم أهتد إلى موطن هذه الجملة في كتب الغزالي، وما إخالها تصدر عنه. (¬6) بَذَّ القوم يبذهم: سبقهم وغلبهم. "اللسان" (بذذ).

الحرمين يستفيدون منه، وصنف الكُتُب، فكان إمام الحرمين لا يؤثر ذلك لما لا يخفى من طباع البشر، وإنما كان يُظْهر خلافَ ذلك. ثم خرج أبو حامد من نيسابور، وقدِمَ على نظام المُلْك، فأقبل عليه أحسن قَبُول، وأمره بالتدْريس بالنّظامية ببغداد، فدرَّس بها -وذكر تصانيفه- ثم تزهَّد، وسَلَكَ طريق التألُّه (¬1)، وتَرَكَ الحُشمة (¬2)، وحَجَّ، ووَرَدَ الشَّام، وسكن المنارة الغربية من جامع دمشق، وتمَّم فيها "الإحياء"، ثم عاد إلى وطنه بعد أن أقام بالشَّام عَشر سنين (¬3). [وأما الحافظ ابن عساكر فقال] (¬4): قَدِمَ الشَّام سنةَ تسعٍ وثمانين [وأربع مئة] (¬5)، وكان إمامًا في عِلْم الفِقه مذهبًا وخلافًا، وسَمِعَ "صحيح البُخَارِيّ" [من أبي سهل محمَّد بن عبد الله الحَفْصي (¬6) -وذكر بمعنى ما ذكرنا-، قال: ] (¬7)، وكانت وفاته في جُمادى الأولى بطُوس (¬8). وله [من] (¬9) المصنفات: "البسيط"، و"الوسيط" و"الوجيز"، و"تهافت الفلاسفة" و" [بداية] (¬10) الهداية"، و"شرح أحوال الباطنية" و"المستصفى" في أصول الفِقه، ويقال: إنَّه صنف ثلاثين كتابًا (¬11). وذكره ابنُ السَّمْعاني في "الذَّيل"، وقال: ومن شِعْره: [من الكامل] ¬

_ (¬1) التأله: التعبُّد. "معجم متن اللغة": 1/ 199. (¬2) الحشمة: الأتباع، من الحَشَم والحَشَمة والحُشْمة: خاصة الرَّجل عبيدًا كانوا أو أهلًا أو جيرة، ويجمع على أحشام. "معجم متن اللغة": 2/ 98. (¬3) انظر "المنتخب من السياق" للصريفيني: 83 - 85. (¬4) في (ع) و (ب)، وقال ابن عساكر، والمثبت ما بين حاصرتين من (م). (¬5) في النسخ الخطية: سبع وثمانين، وهو تصحيف، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 19/ 919، وما بين حاصرتين منه. (¬6) شيخ صحيح السماع، تُوفِّي سنة (466 هـ)، انظر "الأنساب": 4/ 175. (¬7) ما بين حاصرتين من (م). (¬8) "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 19/ 919 - 922. (¬9) ما بين حاصرتين من (ب). (¬10) ما بين حاصرتين من "مؤلفات الغزالي" لعبد الرَّحْمَن بدوي: 138. (¬11) انظر "مؤلفات الغزالي" فهو كتاب نفيس في بابه.

محمود بن علي بن المهنا

حَلَّتْ عقاربُ صُدْغِهِ في خَدِّه ... قمرًا يجِلُّ بها عن التَّشبيهِ ولقد عَهِدْناه يحُلُّ ببُرجها ... ومن العجائبِ كيفَ حلَّتْ فيهِ محمود بن عليّ (¬1) بن المهنَّا (¬2) أبو سلامة المَعَرِّيّ، القائل لما هَجَمَ [الفرنجُ] (¬3) المعرَّة: [من الخفيف] أنا من بَلدةٍ قَضَى الله يَا صا ... حِ عليها كما تَرَى بالخرابِ قتلوا أهلَها فبادُوا جميعًا ... من شيوخٍ وصِبيَةٍ وشبابِ (¬4) وجدُّه أبو المكارم الفَضْل بن عبد القاهر المَعَرِّي (¬5) هو القائل: [من البسيط] ليلي وليلى نفى نومي اختلافُهما ... حتّى لقد صَيَّراني في الهوى مَثَلا يجودُ بالطُّول ليلي كلَّما بَخِلتْ ... بالطَّوْلِ (¬6) ليلى وإنْ جادَتْ به بَخِلا مُقَاتل بن عَطيَّة بن مقاتل (¬7) أبو الهَيْجاء، شِبْلُ الدَّوْلة، الأَمير البَكْري؛ من ولد الصِّدِّيق رضي الله عنه، كان شُجاعًا شاعرًا [فصيحًا] (3)، ويقال: إنَّه كان خَتَنَ (¬8) نظامِ المُلْك، وهو الذي رثى نظامَ المُلْك، فقال: [من البسيط] كان الوزيرُ نظامُ المُلْك لؤلؤةً ... نفيسة صاغَها الرحمنُ من شَرَفِ أضْحَت ولا تعرفُ الأيامُ قيمتَها ... فَرَدَّها غَيرَةً منه إلى الصَّدَفِ (¬9) ¬

_ (¬1) في "الخريدة": علوي. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشَّام: 2/ 100، و"النجوم الزاهرة": 5/ 203. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) البيتان في "الخريدة"، وانظر حاشيتنا رقم 4 ص 41 من هذا الجزء. (¬5) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشَّام: 2/ 102 - 103. (¬6) من معاني الطَّوْل: الغنى والسَّعة، انظر "اللسان" (طول)، وكأن الشَّاعر عنى بها هنا الوصال. (¬7) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 5/ 257 - 260، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 271، و"النجوم الزاهرة": 5/ 204. (¬8) الختن: الصِّهْر. "اللسان" (ختن). (¬9) في "كتاب الروضتين": 1/ 100 بتحقيقي، و"وفيات الأعيان": 2/ 130، وفيهما: عَزَّت ولم تعرف الأيام قيمتها.

وقال العماد الكاتب: كان شِبْلُ الدَّوْلة من أولاد العَرَب، وقعَ بينه وبين إخوته خشونة، ففارقهم، وصار إلى خُراسان وغَزْنة، ومَدَحَ أعيانها، واختصَّ بنظامِ المُلْك، ودخل كَرْمان، وقصد كريمها مُكرَم بن العلاء، ومدَحه فأجازه، وعادَ إلى خُرَاسان، ونزل هَرَاة، وشبَّبَ بامرأةٍ، وعاد إلى مَرْو، فأقام بها، وغَلَبَتْ عليه السَّوداءُ إلى آخر عُمُره، وحُمِلَ إلى مارَسْتانها، فتوفِّي به في حدود سنة خمسٍ وخمس مئة؛ إما بعدها وإما قبلها. وقال ابنُ السَّمْعاني: قال يمدح البُرْهان عبد العزيز بن مازه (¬1): [من الكامل] أمَّا الدِّيارُ فقد نَأَتْ سُكَّانُها ... فعلَامَ يَنْعَبُ للنَّوى غِرْبانُها! سارتْ حُدُوجُ (¬2) المالكيَّةِ غُدْوَةً ... بالأمسِ تُعرفُ بالقبابِ قِيانُها وغَدَتْ ديارُ الظَّاعنين مَحَلَّةً ... ترْعى خلال فروجِها صنوانُها أهدى نسيمُ الرَّوضِ أنفاسَ الصَّبا ... وغَدَتْ تُخالُ نَوافجًا (¬3) كُثبانُها تدعو أئمةَ شَرعِ دينِ محمدٍ ... حتَّى أجابَ دعاءَها بُرْهانُها برهانُها المذكور بل إنسانُها ... بل سَيفُها القِرضابُ (¬4) بل سُلطانُها نَسَخَتْ إمامتُك الأئمةَ مِثْلَما ... نُسِخَتْ بدينِ محمدٍ أديانُها وأنا ابنُ صدِّيق النبيِّ محمدٍ ... شَهِدَتْ بأنسابي لكم عَدنانُها وكتَبَ إلى نظامِ المُلْك، وقد سار إلى العراق: [من البسيط] إنْ كنتُ مُرْتحلًا عنكمْ فَدَيتُكُمُ ... نَحْو العِراقِ فَقَلْبي عندكُمْ باقِ وإنْ رأيتُمْ سنا بَرْقٍ يلوحُ دُجًى ... فإنَّه شُعْلَةٌ من نارِ أشواقي وإن تلاطمَ جيحونٌ بمَزْجِ دَمٍ ... فإنَّه قَطرةٌ من ماءِ آماقي ¬

_ (¬1) هو عبد العزيز بن عمر المعروف ببرهان الأئمة من فقهاء الحنفية، له ترجمة في "الجواهر المضية": 2/ 437، و"الفوائد البهية": 98، ولم يذكرا له سنة ولادة ولا وفاة، وستأتي ترجمة ابنه عمر في وفيات سنة (536 هـ). (¬2) حدوج جمع، مفردها الحِدْج: مركب من مراكب النساء نحو الهودج والمحفَّة. "اللسان" (حدج). (¬3) النوافج جمع، مفردها نافجة: وعاء المسك. "معجم من اللغة": 5/ 508. (¬4) السيف القرضاب: القاطع، يقطع العظام. "اللسان" (قرضب).

السنة السادسة وخمس مئة

وإن سَقَتْكُمْ غوادي المُزنِ رائحةً ... فإنَّ دمعي الذي يهمي بكُمْ ساقي وإنْ كَتَبْتُ كتابًا نحو سَيِّدكُمْ ... فإنَّه في جَنَابِ ابنِ إسحاقِ شمسِ الكُفَاة نِظامِ المُلْك أكرمِ مَنْ ... ساسَ البسيطةَ مِنْ ماضٍ ومن باقِ أقلامُهُ أبدًا في كَفِّ دَولَته ... للنّاسِ تجري بآجال وأرْزاقِ هذي سحائِبُ كفَّيهِ ندًى وردًى ... على الورى ذاتُ إرْعادٍ وإبراقِ السَّنة السادسة وخمس مئة فيها قَدِمَ يوسفُ بنُ أَيُّوب الهَمَذَاني الواعظ بغداد (¬1)، وكان قدمها بعد الستين وأربع مئة، وتفقَّه على أبي إسحاق الشِّيرازي، وبَرَعَ في الفِقْه، وعاد إلى مَرْو، وجَلَسَ في رباطٍ يتعبَّدُ، واجتمع إليه جماعةٌ من المنقطعين إلى الله تعالى، ثمَّ عاد إلى بغداد في هذه السنة، ووَعَظَ بها, ولم يتعرَّض لمذهب الأَشْعريّ، فوقع له القَبُول، فقام إليه ابنا أبي بكر الشَّاشي، فقالا له: إن كنتَ تتكلَّم على مذهب الأَشْعريّ، وإلا فلا تتكلم. فقال: اجلسا، لا متعكما الله بشبابكما. فماتا شابَّين. وقام إليه [رجل يقال له] (¬2) ابن السَّقَّاء، فآذاه في مسألة في الأُصول، فقال له: اجلس، فإنِّي أجِدُ مِنْ كلامك ريحَ الكُفْرِ، ولعلك تموتُ على غير دين الإِسلام. فاتَّفق بعد مُدَّة أنَّ ابنَ السَّقَّاء خَرَجَ إلى بلادِ الرُّوم، وتنصَّر (¬3)، ومات كافرًا (¬4). وكان يوسف الهَمَذاني من الأبدال، قال: دخلتُ جَبَلَ زز لزيارة عبد الله الجوني، فوجدتُ ذلك الجبل كثيرَ المياه والأشجار، معمورًا بالأولياء، على رأس كلِّ عينٍ واحدٌ من الرِّجال مشغولٌ بالعبادة، فَطُفْتُ عليهم، ولا أعْلَمُ حَجَرًا في ذلك الجبل لم تُصبه دمعتي (¬5). ¬

_ (¬1) سترد ترجمته في وفيات سنة (535 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) نقل ابن خلكان في "وفيات الأعيان": 7/ 79 عن ابن النجار قال: كان ابن السقاء قارئًا للقرآن الكريم، مجودًا في تلاوته ... نعوذ بالله من سوء القضاء. وزوال نعمته، وحلول نقمته، ونسأله الثبات على دين الإِسلام، آمين آمين آمين. (¬4) انظر "المنتظم": 9/ 171. (¬5) انظر "المنتظم": 10/ 94 - 95.

وفيها اشتدَّ خوفُ أهلِ صور من نزولِ الفرنج [عليها مرَّة ثانية] (¬1)، فاتفقوا مع واليها عِزِّ الملك أنوشتِكِين الأفضلي على تسليمها إلى ظهير الدِّين طُغْتِكِين، بحُكْمِ ما سَبَقَ من نُصرته لهم، وما عانى من الشِّدَّة في دَفْعِ العدوِّ عنهم، فراسلوا طُغْتِكين في هذا المعنى، فجاء الرَّسولُ إلى بانياس، وواليها سيف الدولة مسعود، فأخبره، فسار مسعود معه إلى دمشق، فوجد أتابك قد مضى إلى ناحية حماة ليتَّفق مع رِضوان صاحب حلب على أمرٍ، فخافَ مسعود أن يتأخر الأمر إلى حينِ عَودِ أتابك من حماة، فيسبق بغدوين فينزل على صور، فَيَفُوتُ الغَرَض، فتحدَّث مع تاجِ الملوك بُوري بالمسير معه إلى بانياس [وانتهاز الفُرصة في تسليم صور] (¬2)، فأجابه، وسار معه إلى بانياس، وتَمَّ مسعود إلى صور، ومعه من يُعتمد عليه من العَسْكر، وبلغ أتابك فبعث قطعةً من الأتراك إلى تقوية صور، فساروا إليها ودخلوها، وأنفق فيهم أتابك، وطابَتْ أنفوسُ أهلِ صور] (¬3)، وأُجروا في الرَّسم على الخُطْبة والسِّكَّة لصاحب مِصر، [ولم يغير عليهم شيئًا] (¬4) وكتَبَ أتابك إلى الأفضل: إنَّ الفرنج نزلوا على صور وشارفوا أخْذَها، وبَعَثَ أهلُها إليَّ يستنجدوا بي، وإنني أنجدتهم بنفسي ومالي ورجالي، وسألوني بعد ذلك إنفاذَ عسكرٍ إليهم، فبعثْتُ [إليهم] (4) رجالي، ومتى وصل إليها من مِصر من يَذُبُّ عنها سلَّمتُها إليه، فلا تهمل حال الأُسطول، وإنفاذ الغَلَّة والقُوة (¬5). وجاء بغدوين إلى عكا، فبلغه الخبر، فتوقف، وفاتَ غرضه، ولما فاتَ غرضُه شَرَعَ في الغارات على حوران، والسَّواد، وكَثُرَ فسادُه، فكتَبَ أتابك إلى مودود [صاحب المَوْصِل] (4) يخبره ويطلُبُ نجدتَه، وكانا قد اتفقا وتصادقا، [وتحاببا محبّةً عظيمة] (4)، فسار مودود بعساكره، فقَطَعَ الفرات، وخَرَجَ إليه أتابك، فالتقيا على سَلَمْية، واتَّفق رأيُهما على قَصدِ بغدوين، وساروا من حِمْص بعساكر الشَّرق وحمص، ¬

_ (¬1) في (ع) عليهم في ثاني مرة، والمثبت ما بين حاصرتين من (ب) و (م). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) نفوسهم، والمثبت ما بين حاصرتين من (ب) و (م). (¬4) ما بين حاصرتين من (م). (¬5) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 290 - 291.

أحمد بن الفرج بن عمر

وحماة ودمشق وأعمالها، وجازوا على البِقاع، فنزلوا الغَوْر على [القحاوين] (¬1)، وجمَعَ بغدوين، ونَزَلَ على جسر الصَّنِّبْرَة (¬2)، فتقَدَّم بعضُ الغِلْمان، وقطَعَ الجسر للعلوفة، فالتقوا الفرنج، ونَشَبَ القتال، وجاء أتابك، وقطع الجِسْر، واقتتلوا، فانهزم الفرنج، وقتِلَ منهم نحو ألفي فارس من الشُّجعان والأبطال، وغَنِموا أثقالهم، وأُفلت بغدوين بعدما قُبِضَ وأُخذ سلاحه، وغَرِقَ أكثرهم في البحيرة بحيث صارت دمًا، وامتنع النَّاس من الشُّرب منها أيامًا [حتى صفت] (¬3). وبعث أتابك ومودود إلى السُّلْطان محمَّد يخبرانه بهذا الفتح، وبعثا بالأسارى والهدايَا، ورؤوس الفرنج وخيولهم وسلاحهم (¬4). ثم أغار المسلمون على الضِّياع التي بين القُدْس وعكا، وأخربوا ونهبوا وقتلوا، وعادوا إلى دمشق، فنزل مودود في حُجْرة الميدان الأخضر، وبذل أتابك المجهود في خدمته [وكل ما يقدر عليه] (5)، وخدمه بنفسه، وواصلا الصَّلاة في جامع دمشق، والتبرُّك بنظر المُصحَف. قال [أبو يعلى] (¬5) ابن القلانسي: وهذا المُصحف حمله عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من المدينة إلى طبرية، وحمله أتابك طُغْتِكين من طبرية إلى دمشق (¬6). [فصل وفيها تُوفِّي أَحْمد بن الفرج بن عمر (¬7) أبو نصر الدِّينوري، والدُ شُهْدة بنت أَحْمد الكاتبة، شيخة شيوخنا. ¬

_ (¬1) في (ع): النجادين، والمثبت ما بين حاصرتين من (ب) و (م)، والمراد به الأقحوانة كما جاء مصرحًا به عند ابن القلانسي وابن الأثير، والأقحوانة موضع على شاطئ بحيرة طبرية. انظر "معجم البلدان": 1/ 234. (¬2) الصنبرة: موضع بالأردن مقابل لقصبة أفيق، بينه وبين طبرية ثلاثة أميال. "معجم البلدان": 3/ 425. (¬3) ما بين حاصرتين من (م)، وانظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 293 - 295، و"الكامل" 10/ 495 - 496. (¬4) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 296. (¬5) ما بين حاصرتين من (م). (¬6) "ذيل تاريخ دمشق": 297 - 298. (¬7) له ترجمة في "الأنساب": 1/ 118، و"المنتظم": 9/ 172، و"الكامل": 10/ 493 - 494، و"وفيات الأعيان": 2/ 478، و"الوافي بالوفيات": 7/ 285 - 286.

محمد بن محمد بن أيوب

كان زاهدًا عابدًا، حسَنَ السِّيرة، وكانت وفاتُهُ في جُمادى الأولى، ودفن بباب أبرز. سَمِعَ القاضي أَبا يعلى، وابن المأمون، وابن المهتدي، وابن النَّقُّور، وابن المُسْلمة، والخطيب، وغيرهم. وروى عنه جماعةٌ، منهم ابنته شُهدة، وكان صدوقًا ثِقَةٌ. وفيها تُوفِّي محمَّد بن محمَّد بن أَيُّوب (¬1) أبو محمَّد القَطَوانِيّ السَّمَرْقَنْدي، وقَطَوان على خمسة فراسخ من سمرقند. سافر الكثير، ولقي الشيوخ، وكان يعظ، وله القَبُول التَّام بين الخواص والعوام، وكان يلقى الملوك بالأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكر من غير محاباة، سَقَطَ من الفرس، فتوفِّي في رجب، سَمِعَ أصحاب الأصم وغيرهم، وكان ثِقَةً. وفيها تُوفِّي اللَّامشِي الحَنَفيّ (¬2) أبو عبد الله، واسمه] (3) محمَّد بن موسى بن عبد الله اللَّامِشِي التركي، مصنف أصول الفِقه على مذهب أبي حنيفة، كان إمامًا فاضلًا عارفًا بفنون القضاء والعلوم، [وذكره الحافظ ابن عساكر، وقال: ] (¬3) وَلِيَ القضاءَ بالبيت المُقَدَّس مدَّةً، فَشُكيَ إلى واليها سُكْمان بن أُرْتُق، فعزله، فنَزَلَ دمشق، فولاه تاجُ الدَّوْلة القضاء بها، وكان غاليًا ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 10/ 198، و"المنتظم": 9/ 172 - 173، و"معجم البلدان": 4/ 375، و"اللباب": 3/ 47، و"الجواهر المضية": 3/ 319، و"طبقات المفسرين" للداودي: 2/ 234، و"الفوائد البهية": 186. (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 2/ 351 - 352، و"تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 36/ 16 - 37، و"معجم البلدان": 1/ 476، و"اللباب": 1/ 194، و"ميزان الاعتدال": 4/ 51 - 52، و"الوافي بالوفيات": 5/ 87 - 88، و"الجواهر المضية": 3/ 375 - 376، و"لسان الميزان": 5/ 402، و"تاج التراجم": 202 - 203، و"قضاة دمشق" للنعيمي: 43. (¬3) ما بين حاصرتين من (م).

المعمر بن علي بن المعمر

في مذهب أبي حنيفة، وأراد أن ينقل محرابَ الشَّافعية من [جامع] (¬1) دمشق إلى الحنفية، فثار العوام، وصَلُّوا بدار الخيل، موضع المدرسة الأمينية اليوم، فلم يلتفت، وجعل الإمامة للحنفية، [وهو أول من فعل ذلك] (¬2)، ورتَّبَ الإقامة مثنى مثنى (¬3). وبقي الأمر على حالة إلى سنة سبعين وخمس مئة، فلما ملك صلاحُ الدين يوسف بنُ أَيُّوب -رحمه الله- أعاد المحراب إلى الشَّافعية. [وقال ابن عساكر: ] (2) وكان اللامشي يقول: لو كان إليَّ أمرٌ لأخذتُ [الجِزْية] (2) من الشَّافعية. [قلت: إنْ ثَبَتْ عنه هذا فقد أخطأ، ولعلَّهم شنَّعُوا عليه] (2). وكانت وفاته بدمشق يوم الجمعة ثالث عشرة جُمادى الآخرة [قال ابن عساكر: شهدتُ جِنازَتَه وأنا صغير، قال: ] (2) ولم تكن سيرته في القضاء محمودة، [سمع ببغداد القاضي أَبا عبد الله بن الدَّامغَاني -وعليه تفقَّه- وأبا الفَضْل بن خَيرون وغيرهما، وروى عنه أبو محمَّد بن صابر، وأبو البركات بن عبد شيخُ ابنِ عساكر] (¬4). [قلتُ: وفي الفُقَهاء آخر يقال له اللامشي اسمه الحسن بن عليّ، نذكره في سنة ثمانٍ وعشرين وخمس مئة (¬5)] (¬6). المُعَمَّر بنُ علي بنِ المُعَمَّر (¬7) أبو سَعد بن أبي عِمامة، البغدادي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) انظر "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س: 16/ 36. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، ثم ذكر فيهما قول ابن عساكر: ولي القضاء بالبيت المقدس إلى قوله: وكان غاليًا في مذهب أبي حنيفة. قلت: وقد سلف، فأغنى عن إثباته هنا. (¬5) لم ترد ترجمته في نسخنا الخطية، وهذا يؤكد ما ذهبتُ إليه من أن ما بين أيدينا من مرآة الزمان هو مختصره. (¬6) جاء عقب هذا في (م) و (ش)، وفيها تُوفِّي هبة الله بن أَحْمد بن عبد الله بن عليّ بن طاوس المقرئ الشَّافعيّ، إمام جامع دمشق، سمع الحديث الكثير، وأم بالنَّاس مدة طويلة، وتوفي بدمشق، سمع أباه والشيوخ بمصر مع أَبيه ونصر المقدسيّ وغيره، وكان ثِقَة صدوقًا. قلت: وورود الترجمة هذه في وفيات سنة (506 هـ) خطأ، إذ إن وفاته على الصحيح هي سنة (536 هـ)، وسترد ترجمته في وفياتها. (¬7) له ترجمة في "المنتظم": 9/ 173 - 174، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 451 - 452، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

ولد سنة تسعٍ وعشرين وأربع مئة. وسَمِعَ الحديث وَوَعظَ، وجُمهورُ وَعْظِهِ حكاياتُ السَّلَف، وكان له خاطرٌ حاد وذِهن حاضر، ومجونٌ سائر، وكان يحاضر المستظهر. ولما دخل السُّلْطان ملك شاه بغداد ومعه نِظامُ المُلْك، قام ابنُ أبي عِمامة في الجامع بحيثُ يسمع النِّظام، وقال: الحمد لله وليِّ الإنْعام، وصلى الله على مَنْ هو للأنبياء خِتام، وعلى آله سُرُجِ الظَّلام، وعلى [أصحابه] (¬1) الغُرِّ الكِرام، والسَّلام على صَدْرِ الإِسلام، ورَضِيِّ الإِمام، زَيَّنه الله بالتَّقوى، وخَتَمَ عملَه بالحُسنى. وجَمَعَ له بين خَيري الآخرة والدُّنيا. يَا صدرَ الإِسلام، معلومٌ أنَّ مَن هو أَمير فهو في الحقيقة أجير، قد باع زمنه [و] (¬2) أَخَذَ ثمنه، فلم يبقَ له من نهاره ما يتصرف فيه على حسب إيثاره واختياره، وليس له أن يُصَلِّيَ نافلة، ولا يَدخُل مُعتكَفًا دون التَّبَتُّلِ لتدبيرهم، والنَّظَرِ في أمورهم, لأنَّ ذلك فَضلٌ، وهذا فَرضٌ. يَا صدرَ الإِسلام، استأجرك جلالُ الدَّوْلة بالأُجرة [الوافرة] (¬3)، لتنوبَ عنه في الدُّنيا والآخرة، فأما في الدُّنيا ففي مصالح المُسْلمين، وأما في الآخرة فلتجيب عنه رَبَّ العالمين، فإنَّه [سيوقفه] (¬4) بين يديه، ويقول له: ملَّكتُك البلادَ والعِباد، فما صنعتَ في إقامة البَذلِ وإفاضة العدل؟ فلعلَّه يقول: يَا ربّ اخترتُ رجلًا عاقلًا، حازمًا فاضلًا، وسمَّيتُه نظامَ المُلْك، وبَسَطتُ يدَه في السَّيفِ والقلم، ومكَّنْتُه من الدِّينار والدِّرهم، فسَلْه يَا رب ماذا صنعَ في عبادِك وبلادك؟ أفتُحْسِنُ أنْ تقول في الجواب: نَعَمْ، تَقَلَّدْتُ أمورَ البلاد، ومَلَكْتُ أزِمَّةَ العِباد، فبثَثْتُ النَّوال، وأعْطيتُ الإفضال، حتَّى إذا قَرُبْتُ من لقائك ودَنَوتُ من تلقائك اتخذتُ الأبوابَ والحُجَّاب، ليصدُّوا عني المقاصد، ويردُّوا عني الوافد. ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: وعلى آله، والمثبت ما بين حاصرتين من "المنتظم". (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ع): الوافية، والمثبت ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ع) و (ب): فإنَّه سيوقفك سلطانك بين يديه، والمثبت ما بين حاصرتين من "المنتظم": 9/ 173.

فاعْمُرْ قبرَك كما قد عَمَرْتَ قَصرك، وانتهزِ الفُرصَةَ ما دام الدهْرُ يقبلُ (¬1) أمرك، ولا تعتذر فما ثَمَّ مَنْ يَقْبَلُ عُذرَك. هذا ملكُ الهِند وهو عابدُ صنمٍ، ذَهَبَ سَمعُه، فدخل عليه أهلُ مملكته يعزُّونه في سَمعِهِ، فقال: والله ما حُزْني لذهابِ هذه الجارحة، ولكن لصوتِ المظلوم كيف لا أسمَعُه فأغيثُه. ثُمَّ قال: إنْ كان ذهب سَمعي فما ذهَبَ بَصري. ثم نادى في مملكته: لا يَلبَسُ ثوبًا أحمر إلَّا متظلِّم. ولما دخل رسولُ ملك الرُّوم على كِسرى أنوشروان، قال له: قد أقْدَرْتَ عدوَّك عليكَ بتسهيل الوصولِ إليك. فقال: إنَّما أجلس هذا المجلس لأكشف ظُلامةً وأقضي حاجة. وأنتَ يَا صَدرَ الإِسلامِ أحَقُّ بهذه المأثَرَة، وأَولى بهذه المَعدَلة، وأحرى من أعدَّ جوابًا لتلك المسألة، فإنَّ الله الذي تكاد السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ منه في موقفٍ ما فيه إلَّا خاشعٌ أو خاضع أو مُقنِع (¬2)، ينخلعُ فيه القَلْبُ، ويحكم فيه الرَّبّ، ويَعظُمُ فيه الكَرْبُ، ويَشِيبُ الصَّغير، [ويعزل] (¬3) الملكُ والوزير، يومَ {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] فقد مَحَضتُ لك النَّصيحة مع براءتي من التُّهَمة، فليس لي في الأرض ضَيعة، ولا بيني وبين أحدٍ حُكُومة، ولا بي -بحمد الله- فَقْرٌ ولا فاقة. فلما سَمِعَ نظامُ الملك الموعظة بكى بكاءً طويلًا، وأمَرَ له بمئة دينار، فأبى أن يأخذها. وقال: أنا في ضيافةِ أَمير المُؤْمنين، ومَنْ كان في ضيافته يَقْبُحُ به أن يأخذَ عطاءَ غيرِه. فقال له: فُضَّها على الفقراء. فقال: الفقراءُ ببابك أكثر منهم على بابي. ولم يأخذ شيئًا. ¬

_ (¬1) في (ب) يقيل. (¬2) المقنع: الذي يرفع رأسه ينظر في ذل. "معجم متن اللغة": 4/ 662. قلت: وفيه إشارة إلى قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} سورة إبراهيم، الآية: 43. (¬3) في (ع) و (ب) يقل، والمثبت ما بين حاصرتين من "المنتظم".

السنة السابعة وخمس مئة

وكانت وفاتُه في ربيع الأول، ودُفِنَ بباب حَرْب، وكان ثِقَةً (¬1). السنة السابعة وخمس مئة فيها استوزر المستظهر أَبا منصور الحسين بن الوزير أبي شجاع، وخَلَعَ عليه خِلَع الوزارة وأوصله إليه. وولَّى محمدُ شاه بِهْرُوزَ الخادم شِحنكية بغداد، فقامتِ الهيبة (¬2). [وفيها استشهد الأَمير مودود بجامع دمشق، وسنذكره] (¬3). وفيها عاد جواب الأفضل إلى طُغْتِكين يتضمَّنُ الشكر له في حديثِ صور، ويقول: إنَّ هذا الأمر وقعَ مِنا أجملَ موقع وأحسنَ مَوْضع. وبعَثَ الأسطول فيه المِيرَةُ، ومالُ النَّفقة للعساكر والغَلَّات، وكان مقدَّمُهُ شرفَ الدَّوْلة بدرَ بنَ أبي الطَّيِّب الدِّمشقي الوالي -كان- بطرابُلُس عند تَملُّك الفرنج لها، فَرَخُصَتِ الأسعارُ، واستقامتِ الأمور، [وزال طمع الفرنج عن صور] (3)، وكان معه خِلَعٌ فاخرة من صاحب مِصر لطُغْتِكِين، وولدِهِ تاج الملوك بُوري، ولخواصِّه، ولمسعود والي صور (¬4). وراسل بغدوين مسعودَ يسأله الموادعة [والمسالمة ليحسم أسباب الأذى من الجانبين] (3) فأجابه [إلى ذلك] (3)، وانعقد الأمر بينهما على السَّداد، [وصُلْح الفئتين] (3)، واستقامتِ الأمور، وأمِنَتِ السُّبُل، ودَبَّ التُّجَّار من جميع الأقطار. وكان ابنُ السُّلْطان تُكُش بن ألب أرسلان قد هَرَبَ من محمَّد شاه إلى الشَّام، فلم يقبله رِضوان [صاحب حلب] (3) ولا [أتابك] (3) طُغْتِكِين، فتوجَّه إلى مِصر، فلقي من الأفضل ما أَحَبَّ من الإحسان والإكرام، فأَقامَ عنده (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم": 9/ 173 - 174. (¬2) انظر "المنتظم": 9/ 175، و"الكامل" 10/ 498. (¬3) ما بين حاصرتين من (م). (¬4) انظر "ذيل تاريخ دمشق"، لابن القلانسي: 300 - 301. (¬5) كان ابن تكش قد توجه أولًا إلى طنكري صاحب أنطاكية، ثم بعد وفاته توجه إلى مصر، انظر "ذيل تاريخ دمشق": 292، 301.

إسماعيل بن أحمد بن الحسين

[وفيها تُوفِّي رضوان صاحب حلب، وسنذكره] (¬1). وفيها عامَلَ جماعةٌ من الباطنية من أهل فامية ومعرَّة النُّعمان، ومَعَرَّة مَصرين على حِصن شَيزَر في فِصحِ النَّصارى، فَوَثَبَ فيه مئة راجل على حين غَفْلةٍ من أهله، فملكوا الحِصن وأخرجوهم منه، وأغلقوا أبوابه. وكان بنو مُنْقِذ قد خَرَجوا لمشاهدة عيد النَّصارى، وبلغهم الأمر، فجاؤوا -[وكانوا قد أحسنوا إلى هؤلاء الذين وثبوا، وإنما رتَّبوا ذلك في المدة الطويلة] (1) - ودلَّى الحُرَمُ الحبال من القَلْعة، واستقوا الرِّجال، وفتحوا [الأبواب] (¬2)، وصَعِد الأُمراء بنو مُنقِذ فقاتلوهم فذلُّوا، فقتلوهم عن آخرهم، وقتَلُوا كلَّ مَنْ كان على رأيهم في البَلَدِ من الباطنية، ووقع الاحتراز في مِثْل ذلك. وقيل: إنَّ بني منقذ كانوا يخرجون إلى الصَّيد، فقالت الباطنية: الصَّوابُ أن يتخاصَمَ مِنا اثنان، ونَصعد إلى القلعة ولنا بها جماعة، فلما صَعدا فَطِنَ النّاس، فَغَلَّقوا الأبواب وقتلوهم، ثم احترزَ بنو منقذ فما كان يغيب واحدٌ إلَّا ويحضُر آخر (¬3). وحجَّ بالنَّاس زَنْكي أخو البُرْسُقي (¬4). وفي ذي الحِجة جَهَّزَ السُّلْطان محمَّد شاه ولده مسعود إلى الشَّام لقتال الفرنج، وكَتَبَ إلى ملوك الأطراف، ثم عَرَضَ أمرٌ مَنَعَ من ذلك. وفيها تُوفِّي إسماعيل بن أَحْمد بن الحسين (¬5) ابن عليّ بن موسى، أبو علي البيهقي، ووالده (¬6) الإِمام أبو بكر أَحْمد صاحب التَّصانيف. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) في (ع) و (ب) الباب، والمثبت ما بين حاصرتين من (م). (¬3) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 303 - 304. (¬4) انظر "المنتظم": 9/ 175. (¬5) له ترجمة في "التحبير" للسمعاني: 1/ 83 - 85، و"المنتظم": 9/ 175 - 179، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 313 - 314، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬6) في (ع) و (ب): وولده، وهو تصحيف، والصواب ما هو مثبت من "المنتظم": 9/ 175، وقد سلفت ترجمة والده أبي بكر في وفيات سنة (458 هـ).

رضوان بن تاج الدولة تتش

ولد إسماعيل سنة ثمانٍ وعشرين وأربع مئة، وسافر الكثير، ولقي الشُّيوخ، وسكن خُوارَزْم قريبًا من عشرين سنة، ودرَّس بها، ثم مضى إلى بَلْخ، فأقام بها مُدَّة، وَوَرَدَ بغداد، وورد نَيسَابُور في هذه السنة، ثُمَّ خرج إلى بيهق فتوفِّي بها، وكان إمامًا فاضلًا حَسَنَ الطِّريقة، صدوقًا، ثِقَةً (¬1). [فصل وفيها تُوفِّي] (2) رِضوان بنُ تاج الدَّوْلة تُتُش صاحب حلب، ويلقب بفخر الملك [وقد ذكرنا سيرته في السنين] (¬2)، وكان ملكه بحلب سنة ثمانٍ وثمانين وأربع مئة بعد قتل أَبيه، وكان المستولي على أمره جناح الدولة حسين، ففارقه، وكان رضوان غير محمود السِّيرة، وهو أول من بني بحلب دار الدعوة وقتل أخَوَيه: أَبا طالب، وبَهْرام [ابني تاج الدولة تُتُش] (¬3)، وقتل خواصَّ أَبيه واحدًا بعد واحدٍ. وكان ظالمًا، بخيلًا شحيحًا، قبيح السيرة، ليس في قلبه رحمة ولا شفقة على المسلمين، وكانتِ الفرنجُ تغار (¬4) وتسبي، وتأحذ من باب حلب ولا يخرج إليهم، ومَرِضَ أمراضًا مُزْمنة، ورأى العِبَرَ في نفسه، وتوفي في الثامن والعشرين من جُمادى الآخرة. وترك [ولدًا صغيرًا اسمه] (¬5) ألب أرسلان وعمره ست عَشَرَة سنة، وكان أخرسَ في كفالةِ لؤلؤ الخادم، [والغالبُ على ملك حلب مِثْل هذا؛ أن يموتَ صاحِبُها ويتولَّى أمرَ ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم": 9/ 175 - 176. (¬2) ما بين حاصرتين من (م)، وقد سلفت أخباره في أثناء هذا الجزء، وانظر ترجمته في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 6/ 257، و"بغية الطلب" لابن العديم: 8/ 3659 - 3667، و"سير أعلام النبلاء" 19/ 315 - 316، وانظر ترجمة ابنه ألب أرسلان في "تاريخ ابن عساكر" 3/ 280 - 281، و"بغية الطلب" 1984 - 1987. (¬3) ما بين حاصرتين من (م). (¬4) كذا في (ع) و (ب) و (م): ولم أر من استعمل هذا الفعل، وصوابه تغير. (¬5) في (ع) و (ب): وترك ولده ألب أرسلان، والمثبت ما بين حاصرتين من (م).

ولدِهِ الصغير بعضُ مماليكه من زمنِ سيف الدولة إلى هلم جرا. وكان رضوان قد بنى دار الدَّعوة، وأطمعهم في حلب، فلما ماتَ أشار البديعُ رئيسُ حلب على لؤلؤ والصبي بقتلِ كل مَنْ في حلب منهم، وأغلق] (¬1) باب دار الدَّعوة، فخاف لؤلؤ والصبي، وجَسَرَ عليهم البديع، فَقَتَلَ منهم خَلقًا كثيرًا، فخافَ الصبيُّ، فسارَ في خواصِّه [وغِلْمانه] (¬2) إلى دمشق، فأكرمه طُغْتِكِين، وأجلسه على تَخْتِ عمِّه دُقاق بقلعة دمشق، وأقام عنده مُدَّة، فأحسنَ ضيافته، وقدَّم له ألطافًا كثيرة، وسأل طُغْتِكين أن يمضي معه إلى حلب [ليدبِّر] (¬3) أموره. فمضى معه، ودبَّر أموره، وعاد إلى دمشق، فكثُرَ فسادُ الصَّبيِّ، ودَسَّ إلى أخويه مَن قَتَلَهما بعدما حَبَسَهما، وأساء السِّيرة، [وأفسد] (2) واغتال النَّاس يقتلهم (¬4)، فاستوحشَ منه لؤلؤ، وخاف أن يقتلَه، فامتنع من الاجتماع معه (¬5). [وقد ذكره أبو يعلى بن القلانسي، فقال: وفي سنة سبع وخمس مئة في جمادى الآخرة وردت الأخبار بمرضٍ عَرَضَ لرضوان صاحبها] (¬6) ومات في التاريخ المذكور، [وقال: ] (2) وخلَّف في خزانته من العين والعَرُوض والأواني ما تقديره ست مئة أَلْف دينار، وتقرَّر الأمرُ بعده لولده ألب أرسلان [وعمره ست عشرة سنة] (¬7) وفي كلامه حُبْسة وتمتمة، وأمه بنت الأَمير يغي سغان، صاحب أنطاكية، فقبض على جماعةٍ من خواصِّ أَبيه، فَقَتَلَ بعضًا، وأخذ مال بعض، ودبر الأمرَ معه خادمُ أَبيه لؤلؤ، فأساء كلّ واحدٍ منهما التَّدبير، وقبَضَ على أخويه مَلِك شاه من أُمّه وأبيه، ومبارك من جاريةٍ، وقتَلَهما. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ب): وكان أخرس في كفالة لؤلؤ الخادم، فأشار البديع رئيس حلب بقتل الباطنية وغَلْقِ باب دار الدعوة، وما بين حاصرتين من (م). (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) في (ع) و (ب): يدبر، والمثبت ما بين حاصرتين من (م). (¬4) في (م) و (ش): فقتلهم. (¬5) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 302 - 303. (¬6) في (ع) و (ب): وقال ابن القلانسي: عرض لرضوان مرض، ومات في التاريخ المذكور، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬7) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[وقد كان أبوه رضوان في مبدأ أمره فَعَلَ مِثْلَ فِعْله؛ قَتَلَ إخوته من تاج الدولة أَبا طالب وبَهْرام شاه، وكانا على غاية من حُسْنِ الصُّورة، قال: فَفَعَلَ ولدُه بولديه مكافأةً عما فعل في إخوته] (¬1). وكان أمر الباطنية قد قوي بحلب، [واشتدَّت شوكته، وخاف البديع رئيس الأحداث بحلب، وأعيان البلد منهم] (1)، وكان الحكيم المنجم [و] (1) أبو طاهر الصَّائغ أوَّل مَنْ أظهر هذا المذهب بالشَّام في أيام رضوان، فمال إليهم خَلْق كثير، من جبلِ السمَّاق وسَرْمِين (¬2) والمَعَرَّة وتلك النَواحي، فقرر البديعُ رئيسًا لأحداث بحلب مع ألب أرسلان الإيقاع بهم، فَقَبَضَ على أبي طاهر الصَّائغ، ومَنْ دَخَلَ معه، وهم زُهاءُ مئتي نفس، وقتَلَ في الحال أَبا طاهر [الصائغ] (1) وإسماعيل الداعي، وأخا الحكيم المنجم وأعيانهم، وحَبَسَ بعضهم، واستصفيتْ أموالُهم، ومنهم من رُمي من أعلى القلعة، ومنهم من خُنِقَ وقتل، وهرب بعضُهم إلى الفرنج، وتفرَّقوا في البلاد، وَدَعَتْ ألب أرسلان الحاجةُ إلى من يدبره، فراسل طُغْتِكين فلم يُجِبْه، فَخَرَجَ بنفسه إلى دمشق في رمضان، فخدمه أتابك، [وقام في خدمته على ما ذكرنا] (1)، وسار معه إلى حلب، فأقام يُدَبِّر أموره، فحبس الصَّبيُّ جماعةً من أصحابه منهم وزيرُ أَبيه الفَضْل بن الموصول -وكان محمود السِّيرة مشهورًا بفعل الخير- وقبض أعيانَ عسكر أَبيه، فحين رأى أتابك أموره على غير السَّداد، [وبان له اختلال التدبير وفسَاد الحال] (1)، عاد إلى دمشق ومعه والدة [الملك رضوان بسؤالها ورغبتها في ذلك] (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش) (¬2) جبل السماق: هو جبل من أعمال حلب الغربية، وسرمين: بلدة مشهورة من أعمال حلب، انظر "معجم البلدان": 2/ 102، 3/ 215. (¬3) في (ع) و (ب): ومعه والدة رضوان بسؤالها، والمثبت ما بين حاصرتين من (م)، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 301 - 303.

شجاع بن أبي شجاع فارس بن الحسين

شُجاع بنُ أبي شجاع فارس بن الحسين (¬1) أبو غالب الذُّهْلي. ولد في رمضان سنةَ ثلاثين، وسَمِعَ الحديث الكثير، وكان مفيدَ أهلِ بغداد والمرجوع إليه في سماع الشيوخ، وتوفي في جمادى الأولى، ودُفِنَ ببابِ حَرْب، وكان ثِقَةً، مأمونًا، ثَبْتًا، عارفًا بالحديث، ويورِّق للنَّاس. قال عبد الوهَّاب الأنَمْاطي: دخلتُ عليه، فقال: توِّبني. فقلتُ: من أيِّ شيء؟ قال: كتبتُ شِعْرَ ابنِ الحَجَّاج (¬2) سبعَ مرَّاتٍ. محمَّد بن أَحْمد بن الحسين (¬3) أبو بكر الشَّاشي، الفقيه الشَّافعي. ولد سنةَ سبعٍ وعشرين (¬4)، وأربع مئة، وتفقَّه على جماعةٍ، وقرأ على ابن الصَّباغ كتابه "الشَّامل"، ودَرَّس بالنِّظامية، وتوفي في شوال، ودُفِنَ عند أبي إسحاق الشّيرازي. وكان ينشد: [من الوافر] تَعَلَّمْ يَا فتى والعُوْدُ رَطْبٌ ... وَطينُكَ لَيِّنٌ والطَّبْعُ قابِلْ فَحَسْبُك يَا فتى شَرَفًا وفَخْرًا ... سكُوتُ الحاضرينَ وأنتَ قائِلْ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 7/ 198، و"المنتظم": 9/ 176، و"الكامل" لابن الأثير: 10/ 500، و"طبقات علماء الحديث": 4/ 11 - 12، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 355 - 357، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ابن الحجاج: هو حسين بن أَحْمد بن محمَّد البغدادي، شاعر ماجن، تُوفِّي سنة (391 هـ)، وقد سلفت ترجمته في وفياتها. (¬3) له ترجمة في "تبيين كذب المفتري": 306 - 307، و"المنتظم": 9/ 179، و"الكامل": 10/ 500، و"وفيات الأعيان": 4/ 444 - 449، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 283 - 292. (¬4) كذا في (ب) و (ع)، و"المنتظم"، و"الكامل"، وعند ابن خلكان والذهبي وغيرهما سنة تسع وعشرين، وهو الصواب، يؤيده ما نص عليه ابن عبد الهادي في "طبقات علماء الحديث": 4/ 13، ذلك أنَّه قال: تُوفِّي وله ثمانٍ وسبعون سنة.

محمد بن أحمد بن محمد

محمَّد بن أَحْمد بن محمَّد (¬1) أبو المُظَفَر الأَبِيوَرْدِي، [من] (¬2) ولد معاوية بن محمَّد بن عثمان ابن عُتْبة بن عَنْبَسَة ابن أبي سُفْيان صَخر بنِ حرب (¬3). كان عالمًا بالأنساب وفنون اللغة والآداب، وسَمِعَ الحديث، ورواه، وصنف "تاريخ أبِيوَرْد" و"المختلف والمؤتلف في أنساب العرب"، وغير ذلك. وكان له الشِّعْر الرَّائق، [غير أنَّه] (4) كان فيه كِبْرٌ وتيه [عظيمان] (4) بحيث إنه كان إذا صلَّى يقول: اللهم مَلِّكْني مشارقَ الأرضِ ومغارِبَها. وكتب [مرَّةً] (¬4) قصَّةً إلى الخليفة، وعلى رأسها: الخادمُ المعاوي؛ يريد معاوية بن محمَّد بن عثمان، [فكره الخليفةُ النسبةَ إلى معاوية، وأمرَ بقشط] (¬5) الميم ورَدَّ القِصَّة، فبقيت: الخادم العاوي. وتوفي بأصبهان، وكان ثِقَةً، ومن شِعْره: [من الطَّويل] تنكرَ لي دَهْرِي ولم يَدْرِ أنَّني ... أَعِزُّ وأحداثُ الزمانِ تَهُونُ وظَلَّ يُريني الخَطْبَ كيفَ اعتداؤه ... وبِتُ أُريهِ الصَّبر كيفَ يكُونُ (¬6) ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب المتفقة": 151 - 152، و"الأنساب": 11/ 386 - 387، و"المنتظم": 9/ 176، و"معجم الأدباء": 17/ 234 - 266، و"معجم البلدان": 1/ 86، و"الكامل": 10/ 500، و"إنباه الرواة": 3/ 49 - 52، و"وفيات الأعيان": 4/ 444 - 449، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 283 - 292، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش). (¬3) انظر نسبه في "الأنساب المتفقة" لابن طاهر القيسراني: 151. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). وقد طبع ديوانه بتحقيق الدكتور عمر الأسعد ضمن مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، ثم أعادت نشره مؤسسة الرسالة سنة 1987، وهو صاحب القصيدة التي يقال إنه رثى بها القدس حين استولى الفرنج عليها سنة (492 هـ)، ومطلعها: مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراحمِ وهي في "ديوانه": 2/ 156 - 157. (¬5) في (ع) و (ب) بن عثمان، فأمر الخليفة بقشط الميم، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) "ديوان الأبيوردي": 2/ 55.

محمد بن طاهر بن علي بن أحمد

[سمع إسماعيل بن مسعدة، وأبا بكر بن خلف، وأبا محمَّد السَّمَرْقندي، وأبا الفَضْل بن خيرون، وغيرهم] (¬1). محمَّد بن طاهر بن عليّ بن أَحْمد (¬2) أبو الفَضْل المَقدِسي، الحافظ، [وذكره جدي في "المنتظم" وابن السمعاني في "الذيل"، والحافظ ابن عساكر. فأما جدي، فقال: ] ولد سنة ثمانٍ وأربعين وأربع مئة. وأول ما سَمِعَ وكَتَبَ سنة سِتِّين، وسافَرَ، وسمع الكثير، وكان يحفظ الحديث، وله به مَعرِفة، وصنف فيه وفي غيره، إلَّا أنَّه كثير الوَهَم، وصنف كتابًا سمَّاه: "صفوة التصوف"، يضحك منه من [يراه] (¬3)، ويعجب من [استشهاده على مذاهب الصوفية بالأحاديث التي لا تناسب ما يحتج لمن نَصَره] (¬4)، وكان داوودي المذهب، فمن أثنى عليه فلحفظه الحديث، وإلا فالجرح أَوْلى به. وقال محمَّد بن ناصر: لا يحتجُّ به، كان يذهب مَذاهبَ أهل الإباحة. وذكره الحافظ أبو عبد الله محمَّد بن عبد الواحد الدَّقَّاق، فأساء الثَّناء عليه جدًّا، ونَسَبَه إلى أشياء، وكذلك أساء الثَّناء عليه الحافظُ إسماعيل بن أَحْمد الطَّلْحي، وكان سيئ الرَّأي فيه. وقال أبو معمر بن أَحْمد الأَنْصَارِيّ: أنشدنا لنفسه: [من البسيط] دَعِ التَّصَوُّفَ والزُّهْد الذي اشْتغلتْ ... به جوارحُ أقوامٍ مِنَ النَّاسِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وفيهما: وكانت وفاته بأصبهان، وكان ثِقَة. قلت: وقد سلف ذلك في سياق ترجمته، فأغنى عن تكراره، وانظر "المنتظم": 9/ 176 - 177. (¬2) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 15/ 481 - 483، و"المنتظم" 9/ 177 - 179، و"وفيات الأعيان": 4/ 287 - 288، و"طبقات علماء الحديث": 4/ 13 - 17، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 361 - 371، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ب) و (ع): رآه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ب) و (ع): ويعجب من استشهاداته بالأحاديث التي لا تناسب، وكان داوودي .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وَعُجْ على دَيْرِ (¬1) داريَّا فإنَّ به ... الرُّهبانَ ما بَينَ قِسِّيسٍ وشَمَّاسِ واشْرَبْ مُعَتَّقةً مِنْ كَفِّ كافِرَةٍ ... تسقيك خَمْرَينِ من لَحْظٍ ومن كاسِ ثُمَّ اسْتَمِعْ رَنَّةَ الأَوْتارِ مِنْ رشأٍ ... مُهَفْهَفٍ طَرْفُهُ أمضى من الماسِ غَنَّى بشِعْرِ امْرئٍ في النَّاس مُشْتَهرٍ ... مُدَوَّنٍ عندهم في صَدْرِ قِرْطاسِ لولا نسيمٌ بذِكراكُمْ يُرَوِّحُني ... لكنتُ مُحتَرِقًا مِنْ حَرِّ أنفاسي [وكانت (¬2) وفاته في ربيع الأول، ودفن بمقبرة العقبة (¬3) بالجانب الغربي عند رباط البِسْطامي، ولما احتضر جعل يردد هذا البيت: [من المتقارب] وما كنتُمُ تعرفون (¬4) الجَفَا ... فممن ترى قد تعلمتُمُ هذا صورة ما ذكره جدي في "المنتظم" (¬5) عن محمَّد بن طاهر. وذكره الحافظ ابن عساكر في "تاريخه"، فقال: كان ابنُ طاهر يُعْرَفُ بابنِ القَيسَراني، طافَ الدُّنيا في طلب الحديث، وسمِعَ بالعراق والشَّام ومِصر وخُرَاسان والجبل، وقدِمَ دمشق في سنة إحدى وسبعين وأربع مئة، فسَمِعَ أَبا القاسم بن أبي العلاء، وبمصر إبراهيم بن سعيد الحَبَّال، وأبا الحسن الخِلعي وغيرهم، وله مصنفاتٌ كثيرة إلَّا أنَّه كثير الوَهَم، وله شِعرٌ حسن مع أنَّه ما كان يُحْسِنُ النحو. ¬

_ (¬1) في (ع) دار، والمثبت من (ب). (¬2) جاء في (ع) و (ب) في آخر الترجمة: تُوفِّي ابن طاهر في ربيع الأول، ودفن بمقبرة العقبة بالجانب الغربي عند رباط البسطامي، ولما احتضر جعل يردد هذا البيت: وما كنتمُ تعرفون الجفا ... فممن ترى قد تعلمتمُ وكان يعرف بابن القيسراني، وطاف الدنيا في طلب الحديث، وسمع بالعراق والشَّام ومصر وخراسان والجبل، وقدم دمشق، وما كان يحسن النحو، وله شعر حسن. قلت: وفي هذا تداخل بين ما ذكره ابن الجوزي في "المنتظم"، وما ذكره ابن عساكر في "تاريخه"، وقد آثرت تقديم ما بين حاصرتين من (م) هنا لتستقيم الترجمة مع ما ورد في المصدرين اللذين ألمع إليهما سبط ابن الجوزي في صدر الترجمة، وليكون بناء الترجمة أقرب إلى ما كتبه السبط، وفي ذلك دليل أَيضًا إلى أن ما بين أيدينا من مرآة الزمان هو المختصر منه. (¬3) كذا في النسخ الخطية ومطبوع "المنتظم"، وفي "تاريخ ابن عساكر" و"وفيات الأعيان": في المقبرة العتيقة، وهو الصواب. (¬4) في (م) تعلمون، والمثبت من (ع) و (ب). (¬5) انظر "المنتظم": 9/ 177 - 179.

المؤتمن بن أحمد بن علي بن الحسن

قال: وأنشدني أبو جعفر حَنْبل بن عليّ البُخَارِيّ الصُّوفي، قال: أنشدنا أبو الفَضْل محمَّد بن طاهر لنفسه]: [من الطَّويل] إلى كم أمَنِّي النَّفْسَ بالقُرْبِ واللِّقا ... بيومٍ إلى يومٍ وشَهْرٍ إلى شَهْرِ وحتَّامَ لا أحظى بِوَصلِ أَحِبَّتي ... وأشكو إليهمْ ما لَقِيتُ مِن الهَجْرِ فلو كان قلبي مِنْ حديدٍ أذَابَهُ ... فِراقُكُمُ أو كان مِنْ أصلَبِ الصَّخْرِ ولما رأيتُ البَينَ يزدادُ والنَّوى ... تَمَثَّلْتُ بيتًا قِيلَ في سالِفِ الدَّهْرِ متى يستريحُ القَلْبُ والقلبُ مُتْعَبٌ ... ببَينٍ على بَينٍ وهَجْرٍ على هَجْرٍ [قال الحافظ: وأنشدنا أَيضًا لابن طاهر] (¬1): [من المتقارب] خَلَعْتُ العِذار بلا مِنَّةٍ ... على مَنْ خَلَعتُ عليه العِذارا وأصبحتُ حيرانَ لا أَرْتَجي ... جِنانًا ولا أتَّقي فيه نارًا وقال [الحافظ] (¬2) ابنُ عساكر: سمِعْتُ أَبا العلاء الحسن بن أَحْمد الهَمَذاني يقول: ابْتُلي محمدُ بنُ طاهر بهوى امرأةٍ من أهل الرسداق، وكانت تسكن قريةً على ستَّةِ فراسخَ مِنْ هَمَذَان، فكان كلُّ يوم يذهب إلى قريتها فيراها تَغْزِلُ في ضَوْء السِّراج، ثم يرجع إلى همذان، فكان يمشي في كلّ يومٍ وليلة اثني عَشَرَ فرسخًا (¬3). المُؤْتَمن بن أَحْمد بن عليّ (¬4) بنِ الحسن (¬5) أبو نَصر السَّاجي، المَقْدِسي. ¬

_ (¬1) في (ع) وقال أَيضًا من شعره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م). (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) انظر "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 15/ 481 - 483. قلت: وجاء في (ع) و (ب) عقب هذا ما ذكرته في الحاشية رقم 2 من الصفحة السالفة. (¬4) له ترجمة في "تاريخ دمشق" لابن عساكر (خ) و (س): 17/ 253 - 254، و"المنتظم": 9/ 179 - 180، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشَّام: 1/ 286 - 287، و"طبقات علماء الحديث": 4/ 18 - 20، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 308 - 311، وفيهما تتمة مصادر ترجمته. (¬5) كذا في النسخ الخطية و"المنتظم"، وفي "تاريخ ابن عساكر" و"الخريدة" و"طبقات علماء الحديث" و"السير": الحسين، وهو الأشبه.

[الأمير مودود] صاحب الموصل

ولد سنة خمس وأربعين وأربع مئة. وسَمِعَ الحديث، وتفقَّه على أبي إسحاق الشِّيرازي، ورحل إلى أَصبهان والشَّام وخُراسان والجبال، وما زال يسمع ويستفيد إلى أن مات ببغداد في صَفَر، ودُفِنَ بباب حَرْب. وكان حافظًا، ثِقَة، صدوقًا، عارفًا بالحديث معرفةً جيدة (¬1)، حَسَنَ القراءة، صحيح النقل مع شَرَفِ نَفْسٍ، وقناعةٍ، وصبرٍ على الفقر (¬2). وكان الإِمام أبو عبد الله الأَنْصَارِيّ إذا رآه يقول: لا يمكن أحد أَنْ يكذبَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا حيٌّ (¬3). [فصل: وفيها تُوفِّي الأَمير مودود] (¬4) صاحب المَوْصِل قد ذكرنا أنَّه جاء إلى الشَّام لمساعدة أتابك طُغْتِكِين، وكَسَرَ الفرنج، وعاد مع أتابك إلى دمشق، ونَزَلَ في المَيدان الأخضر، وكان يدخُل كل جُمُعةٍ إلى دمشق، فيصلِّي بالجامع، ويتبرَّك بمُصحَف عثمان رضوان الله عليه، فدخل الجامع على عادتِهِ، ومعه أتابك، والغِلْمان حوله بالسُّيوف المُسَلَّلة، وأنواع السِّلاح، وأتابك بين يديه خدمةً له، فلما حَصَلا في صَحْنِ الجامع وَثَبَ رجل من بين النَّاس لا يُؤبه له، ولا يُحْفَلُ به، فَقَرُبَ من مودود كأنَّه يدعو له ويتصدَّق منه، فلزم بَنْدَ قَبائه، وضَرَبَه بخنجر أسفلَ سُرَّته ضربتين إحداهما نَفَذَتْ إلى خاصرته، والأخرى إلى فَخِذه، والسّيوف تأخذه من كلِّ ناحية، وقطِعَ رأسُه ليعرف شخصه، فما عُرِفَ وأُحرق، وعدا أتابك خطُوات وقتَ الكائنة، وأحاطَ به أصحابه، ورَجَعَ إلى مودود وهو يمشي، فتماسك ووقعَ عند الباب الشّمالي من الجامع، وحُمِلَ إلى دار أتابك، وخِيط جُرْحُه، فعاشَ ساعاتٍ يسيرةً، ومات من يومه، فَقَلِقَ أتابك لوفاته على هذا الوَجْه، وحَزِنَ حُزْنًا شديدًا، وكذا سائر النّاس، ودُفِن بمشهدٍ داخل باب الفراديس، وشَرَعَ أصحابُه في العَوْدِ إلى المَوْصِل ¬

_ (¬1) في (ع): له معرفة جيدة، والمثبت من (ب). (¬2) انظر "المنتظم": 9/ 179 - 180. (¬3) انظر "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 17/ 253. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الثامنة وخمس مئة

وغيرِها من البلاد، وأمر لهم أتابك بإطلاق ما يستدعونه لسفرهم، واستصحبوا معهم أمواله وجواريَه، وأسبابه، ولم يزل مدفونًا حتَّى بعثتْ زوجتُه وولدُه من المَوْصِل في شهر رمضان مَنْ حَمَلَه في تابوتٍ إلى المَوْصِل، وشيَّعه أتابك إلى الثَّنِيَّة (¬1). وكان سأله أتابك يوم جُرِحَ أَنْ يُفْطر وكان صائمًا، فلم يفعل، وقال: والله لا لَقِيتُ الله إلَّا صائمًا. وكتَبَ بغدوين ملك الفرنج إلى طُغْتِكِين: إنَّ أمةً قتلَتْ عميدَها في يوم عيدها في بيتِ معبودها لحقيقٌ على الله أن يبيدَها (¬2). وقيل: إنَّ هذه الواقعة كانت سنة خمسٍ وخمس مئة، وذكر بعضُهم أَنَّ أتابك خافَ منه فوضَعَ عليه مَنْ قَتَلَه، وليس بصحيحٍ، فإنَّه كان أحَبَّ النَّاس له، وحَزِنَ عليه حُزْنًا عظيمًا، وشَقَّ ثوبه عليه، وجَلَسَ في عَزَائه سبعةَ أيام، وتصدَّق عنه بمالٍ جزيل. وبلغ السُّلْطان [محمد شاه] (3) ما جرى، فأقطع المَوْصل والجزيرة لآق سُنْقُر البُرْسُقي، وأمره بتقديم عمادِ الدِّين زَنْكي [والد نور الدين محمود رحمة الله عليه] (¬3) والرجوع إلى إشارته لما ظَهَرَ منه من النَّهْضة والكفاية ويُمْنِ النَّقيبة (¬4). السَّنة الثَّامنة وخمس مئة فيها كانت زلزلة عظيمة بالجزيرة، هَدَمَتْ مُعْظَمَ أسوار الرُّها وحَرَّان، ووقعتْ دورٌ كثيرة، وحرقتِ الفرات، فهدمت في بالس مئة دار، وقلبت بنصف القلعة، وخَسْف بسُمَيساط وغيرها (¬5). ¬

_ (¬1) هي ثنية العُقاب: وهي في طريق المقاصد من دمشق إلى حمص، انظر "معجم البلدان": 2/ 285، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 298 - 299. (¬2) انظر "الباهر": 19، و"الكامل": 10/ 497، و"كتاب الروضتين": 1/ 105 - 106. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) وهم سبط ابن الجوزي في قوله: فأقطع الوصل والجزيرة لآق سنقر البرسقي، وقال نحو ذلك ابن الأثير في "الكامل" 10/ 501، أما في "الباهر": 19 - 24 فقد ذكر أن الذي ولاه السلطان الموصل بعد مقتل مودود هو جيوش بك، وسير معه ولده الملك مسعود، ثم إنه جهز آق سنقر في العساكر، وسيره إلى قتال الفرنج، وكتب إلى عساكر الموصل وغيرها يأمرهم بالسير معه، فساروا وفيهم عماد الدين زنكي، ثم لما تُوفِّي السلطان محمَّد سنة (511 هـ)، وولي ابنه السلطان محمود وليَّ آق سنقر الموصل وأعمالها سنة (515 هـ)، وأمره بحفظ عماد الدين زنكي، والوقوف عند إشارته، وانظر تفصيل ذلك أَيضًا في "كتاب الروضتين": 1/ 106 - 113 بتحقيقي. (¬5) انظر "المنتظم": 9/ 180 - 181.

وفيها واطأ لؤلؤ خادم [الملك] (1) رضوان [بن تاج الدولة] (1) على قَتْلِ ألب أرسلان [ابن رضوان] (1) جماعةً، ففتكوا به في قلعة حلب، واضطربتِ الأمورُ بعده، وكان سيِّئ السّيرة مع عسكره ورعيته، [فلم يتأسفوا عليه، ولم] (¬1) يحزنوا لفقده (¬2). وفيها نزل نجمُ الدِّين إيل غازي بن أُرْتُق على حِمْص، وفيها خيرخان بن قراجا، وكان عادةُ نجمِ الدِّين إذا شَرِبَ الخمر وتمكَّن منه أقام أيامًا مخمورًا، لا يُفيق لتدبيرٍ ولا يُستأمر في أمر، وعَرَفَ منه خيرخان هذه العادة، فتركه حتَّى سَكِرَ، وهَجَمَ عليه برجاله وهو في خيمته، وقبَضَ عليه، وحَمَلَه إلى قلعة حِمص، وعَرَفَ طُغْتِكِين، فشَقَّ عليه، وكاتَبَ خيرخان يوبِّخُه ويلومه ويأمره بإطلاقِهِ، وأقام أيامًا ثم أطلقه (¬3). وفيها ماتَ بغدوين صاحبُ القُدْس بجرحٍ أصابه في الوقعة المتقدمة على طبرية، فأقاموا مَنِ اختاروه مِنْ أصحابه (¬4). وفيها كانت وقعةٌ عظيمة بالجزيرة والشَّام؛ لَمَّا ولَّى السُّلْطانُ البُرْسُقيَّ إمرةَ المَوْصِل والجزيرة (¬5) أمره بجَمْعِ العساكر لجهاد الفرنج، فكتَبَ إلى أمراءِ الأطراف، فمنهم مَنْ جاء بنفسه، ومنهم من بَعَثَ عسكره، فبعث إيل غازي ابن أُرْتُق ولدَه بعسكرٍ ضعيفٍ، فلم يرضَ به البُرْسُقي، ونهب العَسْكر، وقبَضَ على ولده. وكان مسعود بن السُّلْطان محمَّد مع البُرْسُقي، وبلغ إيل غازي، فنزل من مارِدِين، والتقى البُرْسُقيَّ على الخابور، وكان البُرْسُقي أرجل ومعه خَلْقٌ كثير، ومع إيل غازي نَفَرٌ يسير إلَّا أنَّه كان شجاعًا، فحمل بنفسه فكَسَر البُرْسُقي، وقتَلَ مِنْ رجاله جماعة، وبلغ محمَّد شاه فَغَضِبَ، وجهَّزَ عسكرًا لقتال إيل غازي، وعَلِمَ إيل غازي، فسار إلى دمشق مستنجدًا بطُغْتِكين، وكانا قد اتَّفقا؛ لأَنَّ طُغْتِكين خافَ مِنْ مجيء مسعود إلى الشَّام فتؤخذ دمشق منه، فاتَّفقا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 304. (¬3) المصدر السالف: 305. (¬4) تابع سبطُ ابن الجوزي ابنَ القلانسي في "ذيل تاريخ دمشق": 305 في ذكر وفاته في هذه السنة، وقد وهما في ذلك، والصحيح أن وفاته كانت سنة (512 هـ)، وهو ما ذكره ابن الأثير في "كامله": 10/ 543، وانظر "الحروب الصليبية" لوليم الصوري: 2/ 328 - 330 (ترجمة حسن حبشي) و"تاريخ الحروب الصليبية" لرنسيمان: 2/ 229. (¬5) انظر حاشيتنا رقم 4 ص 75 من هذا الجزء.

وتحالفا، وعاد إيل غازي إلى مارِدين، ونزل في طريقه الرَّسْتن (¬1)، وقعد يشرب، وباتَ على حاله، وبلغ ابن قراجا، فسار إليه في اللَّيل، وكَبَسَه وقتَ السَّحَر وهو نائمٌ سكران، فأطلعه إلى قلعة حمص هو وولدَه، وكتَبَ إلى السُّلْطان محمَّد يخبره، وأرسل مسعود بن السُّلْطان من الرَّقَّة يَطْلُبه. وكان البُرْسُقي ومسعود قد نزلا الرَّقَّة ينتظران العساكر [فقال ابن قراجا: قد كاتبتُ فيه السُّلْطان] (¬2) وأنا منتظرٌ جوابَهُ. وأبطأ الجوابُ عليه، فأرسل طُغْتِكين يتوعَّده، فأطلقه، وأخذَ ابنه رهينةً، وعاد إيل غازي إلى مارِدِين، وعَبَرَ البُرْسُقي الفُرَات، ونزل على حلب، فنزل إليه لؤلؤ، وساروا بالعساكر إلى أنطاكية، فخرج إليهم طنكري في عددٍ يسير، فتأخروا إلى سَرْمِين، فتبعهم طنكري، والتقوا، وكان ابن قراجا قد أعطى ولد إيل غازي للبُرْسُقي، فَوَكَلَ به جماعةً، واشتغل بالقتال مع الفرنج، فكسره طنكري وهزمه، وقتَلَ طنكري ابنَ إيل غازي، وبلغ السُّلْطان، فقال: قد علمتُ أنَّ مصافًّا فيه البُرْسُقي لا يُفْلح. ورَدَّه إلى هَمَذَان. وقيل: إنَّ السُّلْطان جَهَّز البُرْسُقي وابنَه منكلي صاحب همذان وأخاه زَنْكي، ودَفَعَ ولدَه مسعود إلى البُرْسُقي، وقال له: اقْصِدْ صاحبَ مارِدِين، ثُمَّ طُغْتِكِين. وجَهَّزَ معه أعيانَ الأمراءِ، فسارَ في عشرة آلاف، فعيَّدوا عيد الأضحى على الرَّقَّة، وعبروا الفرات، وخلَّفوا إيل غازي وراءهم، وقالوا: إذا فَرَغنا من الشَّام رَجَعْنا إليه. فنزلوا الناعورة على فرسخين مِنْ حلب، وراسلوا لؤلؤًا، وطلبوا منه تسليم حلب، فقال: أمهلوني أيامًا. ولمَّا قَطَعوا الفرات من بالِس، جاء إيل غازي فَقَطعها من النهر، ووصل دمشق، واتَّفق مع طُغْتِكِين، وساروا في ألفي فارس للقاء البُرْسُقي، فراسل منكلي بنُ البُرْسُقي طُغْتِكِين، وقبَّحَ عليه مخالفةَ السُّلْطان، وأشار عليه أن يكون مع الجماعة، فوعدهم بذلك، وساروا عن حلب إلى حماة، وبها ثَقَلُ طُغْتِكِين، فنهبوه. وكان السُّلْطان قد وصَّاهم كما فتحوا بلدًا سلَّموه خيرخان بن قراجا، وكان بقلعة حماة نصر ولودان شاه ابنا علي الكُرْدي في طاعة طُغْتِكِين، فلم ينزلا إليهم، واستأذنهم ¬

_ (¬1) الرستن: بلدة تقع شمالي مدينة حمص، وتبعد عنها 20 كم. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب).

خيرخان في المضي إلى حِمْص ليقيم لهم الضِّيافة، وسلَّم إليهم [ابن] (¬1) إيل غازي، وكان إيل غازي قد اتفق مع طنكري ومع طُغْتِكين ومع صاحب طرابُلُس وملوكِ الفرنج على قتال أصحابِ السُّلْطان، واجتمع الكُلُّ على فامية، ونَزَلَ طُغْتِكين وإيل غازي في جبالها، والفرنج ناحية عنهم، فأقاموا شهرين وبينهم وبين عسكر السُّلْطان ثلاثة فراسخ، فضجروا، وعاد طُغْتِكين إلى دمشق خوفًا عليها، وعاد إيل غازي إلى مارِدِين، وعاد عسكر حلب إلى حلب. وضَجِرَ عسكر السلطان، فرحلوا إلى كَفْرطاب، وكانت الفرنج [فيها] (¬2)، فقتلوا فيها ثلاثة آلاف، ثم وقع التخاذل، وقالوا: أيّ فائدة لنا كوننا كلَّما فتحنا بلدًا سلَّمناه إلى خيرخان فتفرَّقوا، ورحل بعضُهم إلى بُزاعة، وبعضهم قطع الفرات، وسار مُعْظَمُهم إلى حلب، وطنكري مقيمٌ بجبال فامية لا يخطر للمسلمين ببال، فسار في خمس مئة فارس وألفي راجل طول الليل، وكَمَنَ في النَّهار، ثم [صبَّحهم] (¬3) في اليوم الثاني، فركب البُرْسُقي والعسكر، وقاتلوا ساعةً، ثُمَّ اندفعوا على حَمِيَّةٍ، فوقعتِ الفرنجُ في السُّوقة، ومَنْ تَخَلَّف من العسكر، فقتلوا ثلاثة آلاف، وقالوا: هؤلاء عِوَض مَن قُتِلَ بكفر طاب. ونهبوا أموال التُّجَّار وسَبَوْا الحريم، وكان أياز بن إيل غازي، قد وَكَلَ به البُرْسُقي، فقتلَه الموكل به وهرب. وأضْرَمَ الفرنج في الصَّناديق والخيام النَّار، وأحرقوا (¬4) ثلاثة آلاف أسير ما بين شاب، وشيخ وامرأة، وبعثوا بالأسارى إلى دمشق [وماردين وحلب. وبلغ أتابك بدمشق، فعزَّ عليه ما جرى] (2)، وسار إلى رَفَنِيَّة بغتةً وهي للفرنج، فقتل أهلَها، وغَنِمَ أموالها، وأَسَرَ، وعاد إلى دمشق، فبعث برؤوسهم وخَيلهم وأسلحتهم، وهدايا وألطافًا إلى الخليفة والسُّلْطان، واعتذر، فلم يُقبل عُذره، وكان بباب السُّلْطان من يَحْسُدُه، فكثَّروا عليه، فرأى أن يمضي بنفسه إلى بغداد، فسار، فأمر الخليفة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين ليس في (ع) و (ب)، والسياق يقتضيه. (¬2) ما بين حاصرتين من (ب). (¬3) في (ع) أصبح، والمثبت ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) في (ع): وأحرقوا ثلاثة آلاف، وقال: هؤلاء عوض من قتل بكفر طاب، وقتلوا ثلاثة آلاف أسير. قلت: وفي العبارة تكرار، والمثبت من (ب).

الأمير أحمديل

والسُّلْطان الموكبيين وأرباب الدولتين بلقائه، فلم يتخلَّف عنه أحد، وأكرمه الخليفة والسلطان، وأقام ببغداد أيامًا، واعتذر بالفرنج، فَخَلَعَ عليه الخليفةُ والسُّلْطان، وكتبا له منشورًا بالشَّام، فعاد إلى دمشق، وقد تبدَّلَتْ تلك الوَحْشة أُنسًا. وقيل: إنما دَخَلَ بغداد سنة تسعٍ وخمس مئة (¬1). وفيها تُوفِّي الأَمير أحمديل (¬2) صاحبُ مَرَاغة، كان في خِدْمته خمسةُ آلاف فارس، وإقطاعه أربع مئة أَلْف دينار، وكان شجاعًا جَوَادًا، ولما قَدِمَ طُغْتِكين بغداد كان يحضُر كلَّ يومٍ إلى دار السُّلْطان مع الأمراء إلى الخِدْمة، فبينا هو جالسٌ ذاتَ يوم في الدار، وإلى جانبه أحمديل الرَّوَّادي (¬3) تقدَّم رجلٌ ومعه قِصَّة، فسأل أحمديل إيصالها إلى السُّلْطان، فمدَّ يده ليأخذها، فضربه بسِكِّين، فأخذه أحمديل وتركه تحته، وجاء آخر فَضَرَبَ أحمديل، وقال: شاباش (¬4). كأنَّه استحسن فِعْل الأَوَّل، وجاء ثالث وصاح: شاباش، وضَرَبَه، وقتِلُوا، وظَنَّ الحاضرون أَنَّ المُراد طُغْتِكِين، وكان أحمديل قد أنكى في الباطنية [فَقُتِلَ] (5) وتفرَّق النّاس، وهذا إقدامٌ من الباطنية لم يُقدموا [على] (¬5) مِثله في دار السُّلْطان، ¬

_ (¬1) وهو ما ذكره ابن القلانسي، وسيأتي ص 82 من هذا الجزء. (¬2) وهم سبط ابنُ الجوزي في ذكر وفاته في هذه السنة، وتابعه على ذلك ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 208، وابن العماد في "شذرات الذهب": 4/ 21. وذكر ابن القلانسي في "ذيل تاريخ دمشق": 315، وابن الجوزي في "المنتظم": 9/ 185، وابن الأثير في "كامله": 10/ 516، وابن شاكر في "عيون التواريخ" (خ) 13/ 325 - 326 وفاته سنة (510 هـ)، وهو الصواب. واختلف فيه قول الذهبي، فذكر وفاته سنة (508 هـ) في "العبر": 2/ 15، وفي "دول الإِسلام": 2/ 36، وذكره في "تاريخ الإِسلام" 11/ 19 في سنة (508 هـ) وقال: وقيل بعد ذلك، فليحرر، ثم أعاد ذكره في حوادث سنة (510 هـ)، وقال: الأصح أن أحمديل صاحب مراغة قتل في أول سنة عشر ببغداد بدار السلطنة. قلت: وهو ما اعتمده في "سير أعلام النبلاء": 19/ 383. (¬3) ذكر السمعاني هذه النسبة في كتاب "الأنساب": 6/ 171، وقال: هذه النسبة إلى رواد، وهو اسم رجل من أجداد المنتسب إليه. (¬4) شاباش: كلمة فارسية معربة تقال في التهنئة والفرح. انظر "المعجم الذهبي": 360 - 361، و"معجم عطية": 92. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[ابن] قيراط الدمشقي

وعاد طغتكين إلى الرَّمْلة (¬1) غربي بغداد، فنزل في مخيَّمه، وبكى النَّاس على أحمديل، وأحرق غِلْمانُه رَحله وخيامه. وطلب طُغْتِكين دُسْتورًا إلى دمشق، فأُعطي، فسار بالخِلَع ومراكب الذَّهب والفِضة، ووعده السُّلْطان أن يُنْفِذَ إليه عسكرًا، وكتَبَ السُّلْطان إلى البُرْسُقي إلى هَمَذَان ليحضر، فحضر في عساكره، وسار إلى الشَّام، فتلقَّاه طُغْتِكين وأكرمه. وكان ابنُ صنجيل صاحب طرابُلُس قد خَرَجَ، فنزل عين الجَر (¬2)، وأخرب البِقاع، فخرجا إليه، فبيَّتاه ليلًا، وقتَلا من أصحابه ثلاثة آلاف، وأسرا مِثْلَهم، وعاد إلى دمشق، وانهزم ابنُ صنجيل في نَفَرٍ يسير، وعاد البُرْسُقي إلى العراق بعد أن خدمه أتابك وأكرمه، وتأكدت الصَّداقة بينهما والمودَّة. [وذكر أبو يعلى] ابن القَلانسي أن هذه الوقعة كانت سنةَ عشرٍ وخمس مئة، [وأنَّ البُرْسُقي كانت له المَوْصِل، وسنذكره هناك] (¬3). [فصل: وفيها تُوفِّي [ابن] قيراط الدِّمَشقْي (¬4) واسمه سُبَيع بن المُسَلَّم بن عليّ، أبو الوَحْش (¬5)، الضّرير المقرئ. ولد سنة تسعَ عشرة وأربع مئة، وقرأ القرآن بحرف ابن عامر على رشأ بن نظيف، وأبي علي الأَهْوازي، وسَمِعَ الحديث منهما ومن غيرِهما، وروى عن الخَطيب أَيضًا، ولم يَزَلْ ملازمًا للجامع إلى أن تُوفِّي، ودُفِنَ بالباب الصَّغير. ¬

_ (¬1) قال ياقوت في "معجم البلدان": 3/ 69: محلة خربت نحو شاطئ دجلة مقابل الكرخ ببغداد. (¬2) يقال لها الآن عنجر. (¬3) في (ع) و (ب): وقال، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر ص 94 من هذا الجزء. (¬4) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 306، و"تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 7/ 67 - 68، و"معرفة القراء" للذهبي: 2/ 888، و"العبر" 4/ 16، و"عيون التواريخ" (خ) 13/ 309، و"غاية النهاية": 1/ 301، و"توضيح المشتبه": 9/ 177، و"شذرات الذهب": 4/ 23، وما بين حاصرتين منها. (¬5) في (م) و (ش) أبو الحسن، وهو تحريف، والمثبت من مصادر ترجمته.

الشريف بن أبي الجن

وفيها تُوفِّي الشريف بن أبي الجِنّ (¬1) واسمه علي بن إبراهيم بن العَبَّاس بن الحسن بن العباس بن الحسن بن الحسين، والحسين هو أبو الجن -وقد تقدَّم نسبه- وكنية عليٍّ أبو القاسم، العَلَوي الحُسَيني (¬2)] (¬3) ويعرف بالنَّسيب. ولد يوم الجمعة لأربع بقين من ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وأربع مئة، وقرأ القرآن بحرف أبي عمرو بن العلاء، وكان خطيبَ دمشق في أيام المِصريين، وكان سُنِّيًا حَسَنَ السيرة، مرضيَّ الأمر، ممدوحًا بكل لسان. قال ابن عساكر: لما ولدتُ سأل الشَّريفُ أبي، فقال: ما سَمَّيتَه؟ فقال: عليًّا، قال: وما كنّيْتَه؟ قال: أَبا القاسم، فقال: أَخَذْتَ اسْمِي وكُنْيتي، قال: وما رأينا أحدًا تسمَّى بهذا الاسم، وتكنَّى بهذه الكُنْية إلَّا وكان طويل العُمُر. [قال]: وصلى على جِنازةٍ بجامع دمشق، وكبَّر أربعًا، فكتبَ صاحِبُ مِصر إلى أَبيه يعاتبه، فقال [له]: لا تصل [بعدها] (¬4) على جنازة (¬5). ولما قَدِمَ بغداد جاء إلى دار النَّقيب بالكَرْخ فدخل، وجلس معه في الدَّسْت، فأنكروا عليه، وسأله النقيبُ عن نَسَبه، فانْتَسَبَ له، فقال: مَوْضِعَك قَعدتَ. وأكرمه غاية الإكرام. وسمع من أَبيه (¬6) [وجده أبي البركات، وأبي الحسين بن أبي نصر، وأبي عبد الله بن سلوان، وأبي علي الأَهوازيُّ، ورشأ بن نظيف، والقاضي محمَّد بن سلامة القُضَاعي، وأبي بكر الخَطيب وغيرهم، وكريمة بنت أَحْمد. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق": 305، و"تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 11/ 858 - 860، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 358 - 360، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) في (ع) و (ب): علي بن إبراهيم بن العباس بن الحسن بن الحسن بن أبي الجن، أبو القاسم الحسيني، والمثبت من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع) و (ب) بعد هذا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) "تاريخ ابن عساكر" 11/ 859. (¬6) في (ع) و (ب) بعد هذا: وغيره، وخرج له الخَطيب فوائد عن شيوخه في عشرين جزءًا، وروى عنه الحافظ ابن عساكر وغيره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

علي بن محمد بن محمد بن جهير

وأخرج له الخَطيب فوائد عن شيوخه في عشرين جزءًا، وروى عنه شيخه أبو محمَّد عبد العزيز الكَتَّاني، وأبو محمَّد بن صابر، وأبو الحسن السُّلَمي، وأبو محمَّد بن طاوس، والحافظ ابنُ عساكر. وذكره أبو سَعد السَّمْعاني في "الذيل"، وأثنى عليه، وقال: كان حَسَنَ السِّيرة، ممدوحًا بكل لسان، سَمِعَ من الخَطيب الكثير] , وخَطُّه وسماعاتُهُ على أكثر مصنفات الخَطيب. وتوفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر بدمشق، وأوصى أن يصلِّي عليه أبو الحسن السُّلَمي، وأنْ يُسَنَّمَ قبره، وكانت له جنازةٌ عظيمة، ودُفِنَ بالباب الصَّغير، رحمة الله عليه (¬1). عليُّ بنُ محمدِ بنِ مُحَمَّد بن جَهِيرْ (¬2) أبو القاسم، زعيمُ الدِّين، الوزير ابن الوزير ابن الوزير. كان في أيام القائم، وبعض أيام المقتدي يتولى كتابة ديوان الزِّمام، ووزر للمستظهر مَرَّتين: ففي الأُولى أقام ثلاث سنين وخمسة أشهر وأيامًا، ثم عُزِلَ [وولي بعده ابنُ المُطَّلب، ثم عُزِلَ] (¬3)، وأُعيدَ ابنُ جَهِير، فأقام خمس سنين وخمسة أشهر، وتوفي في سابع عشرين ربيع الأول، ولم [يزل] (¬4) يتدرَّج في المراتب والولايات خمسين سنة. وكان عاقلًا حليمًا، سديدَ الرَّأي، حسنَ التَّدْبير والثَّبات (¬5). السنة التَّاسعة وخمس مئة [وفي هذه السنة على رأي أبي يعلى القلانسي] (4) دخل طُغْتِكين بغداد؛ لأنه قال، وفي سنةِ تسعٍ وخمس مئة قويت شوكةُ الفرنج في رَفَنِيَّة، وبالغوا في تحصينها، وشَحَنُوها بالرِّجال، وشَرَعوا في الفساد، فأظهر طُغْتِكين أَنَّه قاصدٌ إلى بعض الجهات، وسار إليها مُغِذًّا، فَبَغَتَهُمْ، وأحاط بهم، وقتَلَ وأَسَرَ، وغَنِمَ أصحابُه منه ما امتلأتْ به الأيدي، وذلك في جُمادى الآخرة، ثُمَّ عاد إلى دمشق ومعه الأسرى، ورؤوس القَتْلى. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 11/ 859 - 860. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 9/ 182، و"الفخري في الآداب السلطانية": 300. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب). (¬4) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش). (¬5) انظر "المنتظم": 9/ 182.

ولما شاع [عنه] (¬1) ما رزقه الله من الجهاد والعدل والإحسان إلى الرَّعية، حَسَدَه أقوامٌ على باب السُّلْطان وطعنوا عليه، وراموا فسادَ حالة، وكَتَبَ إليه بذلك [مِنْ أصدقائه] (1) مَنْ يُؤْثِرُ إصلاحَ حالة، فاقتضتِ الحالُ أنْ سار بنفسه إلى بغداد، ومعه من الهدايا والتُّحَف ما يليق بالخليفة والسُّلْطان، فَبُولغ في إكرامه واحترامه، [وفُعِلَ في حقِّه ما قدَّمناه] (¬2)، وشُرِّف بالخِلَعِ الخليفية، والسُّلْطانية، وكُتِبَ له المنشور السُّلْطاني بولاية الشَّام حَرْبًا وخَراجًا، وإطلاق يده في ارتفاعه (¬3) على حَسَبِ اختياره، من إنشاء أبي إسماعيل الأصفَهاني الطُّغْرائي، فكان منه بعد البسملة: هذا منشور أَمَرَ بإنشائِهِ السُّلْطان المُعَظَّم غياثُ الدُّنيا والدِّين أطال الله [بقاءه] (¬4) وأعزَّ أولياءه، ونَصَر لواءه، وخَذَلَ أعداءه، وحمى حَوْباءه (¬5)، الأَمير الأَجَل الإسْفِهْسِلَّار (¬6) الكبير ظهير الدين أتابك، أدام الله تأييده، لمّا بأن تمسُّكُه من الطَّاعة بأحكمِ علائِقها، واعتصامه من الخِدْمة بأوكدِ وثائِقها, ولما أجْلَتِ التَّجاربُ منه عينَ النَّاصح الأريب، والمهذَّب اللَّبيب، المندرج في مراقي الرُّتَب السَّنِيَّة بالمساعي الرَّضِيَّة، والذَّبِّ عن حَوْزة الإِسلام، ومواقفه المشهودة العِظام، ومقارعته الأعداء، والاستقلال بعظيم الأعباء، فرأيناه أَحقَّ بملابس الإنعام، وبما حُبيَ به من الكرامة بأَوْفر الأقسام، ففوَّضْنا إليه أمورَ الشَّام. وذكر ما جَرَتْ به العادة في العُهود (¬7). وفيها صالح بردويل صاحبُ القُدْس الأفضلَ بنَ أَمير الجيوش، وكان قد أخذ في السَّبْخة المعروفة اليوم به (¬8) قافلةً عظيمة جاءت من مِصر، فرأى الأفضلُ مهادنته، وأَمِنَ النَّاس. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر ص 78 من هذا الجزء. (¬3) أي إيراده وخراجه، انظر "معجم متن اللغة": 2/ 621. (¬4) ما بين حاصرتين من (ب). (¬5) الحوباء: النفس، "معجم من اللغة": 2/ 186. (¬6) لقب كان يطلق على مقدم العسكر، انظر "معجم من اللغة": 1/ 175. (¬7) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 306 - 313. (¬8) في (م) و (ش): المعروفة بسبخة بردويل، قلت: قال محمَّد رمزي: ويقال لها بحيرة بردويل، واقعة على شاطئ البحر المتوسط، شرقي بور سعيد، وعلى بعد 90 كم منها، وهي لم تزل موجودة إلى اليوم. انظر "النجوم الزاهرة": 5/ 171 حاشية رقم 4.

علي بن جعفر بن القطاع

وفيها تكاملت عمارة دار السُّلْطان ببغداد التي تولَّى عِمارتها بِهْروز الخادم، وحَمَلَ إليها أعيانُ الدَّوْلة أنواعَ الفُرُش والبُسُط والأواني، وأمَر السُّلْطان أن يحضرها القُضَاة والأشراف والصُّوفية والقُرَّاء، فحضروا، وقرؤوا القرآن فيها ثلاثةَ أيامٍ متوالية (¬1). وفيها تُوفِّي (¬2) علي بن جعفر بن القَطَّاع (¬3) أبو القاسم السَّعدي، الصِّقِلِّي، مِنْ كبار علماء صِقِلِّية، صنفَ كتابًا سَمَّاه: "الدُّرَّة الخطيرة في ذكر شُعراء الجزيرة" (¬4)، يعني جزيرة صِقِلِّية، قَدِمَ مِصر، ومَدَحَ الأفضل [ابن أَمير الجيوش] (¬5)، ومِنْ شِعْره في الزُّهْد: [من الوافر] تَنَبَّهْ أيُّها الرَّجُلُ النَّؤوْمُ ... فقد نَجَمَتْ بعارضِكَ النُّجومُ وقد أبدى ضِياءُ الصُّبحِ عَمَّا ... أَجَنَّ ظلامَهُ اللَّيلُ البهيمُ فلا تَغْرُرْكَ يَا مغرورُ دنيا ... غَرورٌ لا يدومُ لها نعيمُ وقيل: إنَّه مات سنةَ ثمانٍ وخمس مئة، وقيل: عاش إلى آخر زمانِ الأفضل. وذكر في كتاب: "الدُّرَّة الخطيرة"، جماعةً من الفُضَلاء، منهم أبو الحسن عليُّ بنُ عبد الرَّحْمَن بن أبي البِشْر الكاتب الأَنْصَارِيّ، له بيتان جَمَعَ فيهما حروفَ المعجم، وهما: [من البسيط] ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم": 9/ 182. (¬2) لم يضبط سبط ابن الجوزي سنة وفاته، فذكرها في هذه السنة (509 هـ) وتابعه ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 209، وقال السبط -كما سيأتي في الترجمة- وقيل: إنه مات سنة ثمانٍ وخمس مئة، وقيل: عاش إلى آخر زمان الأفضل. قلت: يعني إلى سنة (515 هـ) -وهذا القول الأخير هو الصحيح في تاريخ وفاته كما ذكر ذلك جمهور من ترجم له- وذكر ياقوت في "معجم الأدباء" أنَّه تُوفِّي سنة (514 هـ). (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء المغرب: 1/ 51 - 55، و"معجم الأدباء": 1/ 279 - 283، و"إنباه الرواة": 2/ 236 - 239، و"وفيات الأعيان": 3/ 322 - 324، و"سير أعلام النبلاء": 433 - 435. (¬4) وهو كذلك صاحب كتاب "الأفعال"، وهو مطبوع، مشهور، متداول. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

مُزَرْفَنُ (¬1) الصُّدْغِ يَسْطُو لَحْظُهُ عَبَثًا ... بالخَلْقِ جَذْلان إنْ تشكو الهوى ضَحِكا لا تَعْرِضَنَّ لِوَردٍ فوق وَجْنتِهِ ... فإنَّما نَصَبتْهُ عَينُهُ شَرَكا وقال أَيضًا: [من الطَّويل] ألا فَليُوَطِّن نَفسَهُ كلُّ عاشقٍ ... على سَبْعةٍ محفوفةٍ بغَرَامِ رقيبٍ ووَاشٍ كاشِحٍ ومُفَنِّدٍ ... مُلِحٍّ ودَمْعٍ واكِفٍ وسَقَامِ ومنهم: محمَّد بن عيسى، ومن شِعْره: [من المجتث] مولايَ يَا نورَ قَلْبي ... ونورَ كلِّ القُلُوبِ أما تَرَى ما بِجِسْمي ... من رِقَّةٍ وشُحُوبِ فلِمْ بَخِلْتَ بوَصلٍ ... وليسَ لي مِنْ ذُنُوبِ فإنْ يكنْ ليَ ذَنْبٌ ... فأنتَ فيه حسيبي ومحِنَتي فيكَ جَلَّتْ ... عن فَهْم كلِّ طبيب [وما لدائي دواءٌ ... إلَّا وصَالُ الحبيبِ] (¬2) بَرِّدْ غليلَ فؤادي ... بزَوْرةٍ عن قريب ومنهم: أبو حفص عمر بن خَلَف (¬3) بن مكّيّ، [كان] من كبار الفُضَلاء، وله خُطَبٌ [من جنس خطب ابنِ نُباتة، وهو شاعرٌ فصيح، وله الشِّعْر المليح] (¬4)، ومن شِعْره: [من الخفيف] لا تُبادِرْ بالرَّأي مِنْ قَبْلِ أنْ تُسْـ ... ـألَ عنه وإنْ رأيتَ عَوَارا أحْمَقُ النَّاس مَنْ أشارَ على النَّا ... س برأي مِنْ قَبْلِ أنْ يُسْتَشارا (¬5) ¬

_ (¬1) من الزُّرفين: حلقة الباب، ومنها: زرفن صدغه، جعلها كالزرفين، وهي كلمة مولدة، انظر "معجم من اللغة": 3/ 28. (¬2) في (ع) و (ب): وما أرى لي دواء ... إلَّا وصال الطبيب والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء المغرب: 1/ 106 - 109. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) البيتان في "الخريدة" قسم شعراء المغرب: 1/ 107.

ومنهم: [أبو علي] الحسن بن عبد الله (¬1) [وهو القائل] (¬2) في الشَّيب: [من الطَّويل] وزائرةٍ للشَّيبِ حَلَّتْ بعارضي ... فعاجَلْتُها (¬3) بالنَّتْفِ خَوفًا من الحَتْفِ فقالتْ على ضَعْفي اسْتَطَلْتَ ووَحْدتي ... رُوَيدَك للجيش الذي جاء مِنْ خَلْفي (¬4) ومنهم: السُّوسي (¬5) [من مدينة سوسة] (¬6) قال يمدح جبارة العلوي معارضًا مهيار في قوله (¬7): [من الرَّملِ] بَكَّرَ العارِضُ (¬8) تحدوه النُّعامى (¬9) ... وسَقَاكِ الرِّيَّ يَا دارَ أُماما (¬10) طَلَعَتْ رايتُهُ خافقةً ... خفقانَ القَلْبِ أمسى مُسْتَهاما باتَ بالأبْرَقِ بَرْقٌ يتسامى ... فجفا الجَفْنُ لمرآهُ المَنَاما أيُّها البارِقُ قد هِجْتَ إلى ... ساكنِ الأَبْرَقِ شَوقًا وغَرَاما وأَذَعْتَ السِّرَّ بالدَّمْعِ الذي ... لم أُطِقْ إذْ فاضَ للحبِّ اكْتِتاما بذمام الحبِّ يَا بَرْقُ عسى ... لك عِلْمٌ حَيُّهم أينَ أقاما استمالوني بوَصلٍ في الهوى ... فكما ملتُ رأوا وَصلِي حَرَاما وإذا هَبَّتْ صَبًا قلتُ لها ... بَلِّغي يا ريحُ مَنْ نهوى السَّلاما ومنها في المديح: ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء المغرب: 1/ 109 - 110، وفيه: أبو الحسن بن عبد الله، والمثبت في "المرآة" هو في إحدى نسخ "الخريدة"، وقد أشار المحقق إلى ذلك في الحاشية. (¬2) في (ع) و (ب): وقال في الشيب، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (م) و (ش): فبادرتها. (¬4) في (م) و (ش): رويدك حتَّى يقدم الجيش من خلفي. والبيتان في "الخريدة": 1/ 109. (¬5) هو التُّراب السوسي، له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء المغرب: 1/ 130 - 137، و"رحلة التجاني": 43 - 52. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬7) في (ع) عارضًا في قوله: ، وفي (ب): عارض قال يمدح جبارة العلوي مهيار في قوله، والعبارة هذه والأبيات التي بعدها ليست في (م) و (ش)، والمثبت هو ما استظهرناه، وجبارة العلوي كان صاحب سوسة. (¬8) العارض: السحاب الذي يعترض في أفق السماء. "اللسان" (عرض). (¬9) النعامى: بضم النُّون: من أسماء ريح الجنوب, لأنها أبل الريح وأرطبها. "اللسان" (نعم). (¬10) "ديوان مهيار": 3/ 327.

غيث بن علي بن عبد السلام

خَلِّ أوْصافَ التَّصابي والصِّبا ... والمغاني والغَواني والنَّدامى وانْقُلِ الهَزْلَ إلى الجِدِّ ولا ... تَلْهُ عن أوصافِ مَنْ سادَ الأناما وإذا اسْتَصرخْتَهُ في حادِثٍ ... فعلى الحادِثِ جَرَّدْتَ حُساما مُقْبِلُ القَلْبِ على سُبْلِ الهُدَى ... مُعْرِضٌ عن كلّ ما جَرَّ أثاما ليس يدري ما المزامير ولا ... يسمعُ الصَّنْجَ ولا ذَاقَ المُدَاما لا ولا تَحْمِلُهُ الأطماعُ أَنْ ... ينقضَ العَهْدَ إذا أَعطى الذِّماما بَيتُهُ كَعبَةُ جُوْدٍ نُصبتْ ... أغْنَتِ المِسكينَ حقًّا واليتامى رُكْنُها إحدى يَدَيهِ فاجْعَلُوا ... بَدَلَ الرُّكْنِ بيمناه اسْتِلاما لذوي الحاجِ زِحامٌ حَوْلها ... زَحْمَةَ الحُجَّاجِ قد زاروا المقاما كلُّ ورْدٍ هكذا مُسْتَعْذَبٌ ... يُكْثِرُ النَّاس حواليهِ الزِّحاما من أبيات (¬1). قال المصنف رحمه الله: لم أقف على تاريخ وفاة هؤلاء المذكورين سوى [صاحب هذه الترجمة وهو] (¬2) علي السَّعْدي، والله أعلم. غَيثُ بنُ عليِّ بنِ عبد السَّلام (¬3) أبو الفرج، الكاتب الأَرْمَنَازِي، خطيبُ صُور. ولد سنةَ ثلاثٍ وأربعين وأربع مئة، وسَمِعَ الكثير، وجَمَعَ تاريخ صور، ولم يتمَّه، وكان فاضلًا، ثِقَةً، صدوقًا، ثَبْتًا، عارِفًا بالحديث، توفِّي في صفر بدمشق، ودفن بالباب الصَّغير -وأرمناز: قريةٌ من قرى أنطاكية- وكَتَبَ الكثير، وخَطُّه مليح. [فصل: وفيها تُوفِّي ابن الهَبَّارية البغدادي، واسمه] (2): ¬

_ (¬1) الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء المغرب: 1/ 134 - 137. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الأنساب": 1/ 189، و"تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 14/ 153 - 154، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 389، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن علي، وقيل: محمد بن محمد بن صالح

محمد بن علي، وقيل: محمد بن محمد بن صالح (¬1) أبو يعلى، العَبَّاسي، ابن الهَبَّارية، الشَّاعر البغدادي، كان فيه إقدامٌ بالهَجْو على أرباب المناصب، [فحكى أبو المعالي الكتبي في كتاب "زينة الدهر في فضلاء أهل العصر" أنَّ ابنَ الهبارية] (2)، خَرَجَ مِنْ بغداد، وقدِمَ أصبهان، وبها السُّلْطان مَلِك شاه [ابن ألب رسلان] (¬2)، ووزيره نظامُ المُلْك، فدَخَلَ على النِّظام، ومعه رُقْعتان رُقْعة فيها هَجْوه، والأُخرى مَدْحُه، فأعطاه التي فيها هجوه، [فقرأها النِّظام، فإذا فيها هذه الأبيات] (¬3): [من مجزوء الكامل] لا غَرْوَ إنْ مَلَكَ ابن إسـ ... ـحاقٍ وساعده القَدَرْ وصفَا لدَوْلَتِهِ وخَصَّ (م) ... أبا المحاسنِ بالكَدَرْ فالدَّهْرُ كالدُّولابِ ليـ ... ـس يدورُ إلَّا بالبَقَرْ يعني بَقَرطُوس. فكتَبَ النِّظامُ على رأسها: يطلق لدى القواد رسمه مضاعفًا. وأبو المحاسن صِهْرُ نظام المُلْك، ويقال له: أبو الغنائم، وكان بينه وبين النظام منافرة، وكان ابنُ الهَبَّارية يميلُ إلى أبي المحاسن، فَنَقَمَ عليه النِّظامُ بهذا السبب. [وذكره العماد الكاتب في "الخريدة"، وقال، (¬4): إنَّ أبا الغنائم يلقَّب بتاج المُلْك وهو ابن دارست، قال لابنِ الهَبَّارية: اهجُ النِّظام. فقال: كيف أهجوه، وهو مُنعِمٌ عليَّ؟ -فَحمَلَه على أن سأله شيئًا يَصعُبُ إجابته [إليه] (¬5)، فسأله فمنعه، فَعَمِلَ هذه الأبيات، فلما وَصَلَتْ إلى النّظام، قال: جَعَلَني من بقرطوس. ثم استدعاه، وخَلَعَ عليه، وأعطاه خمس مئة دينار. فقال [ابن الهبَّارية] (2) لتاجِ المُلْك: ألم أقل لك إني ما أهجوه، وهذا فِعْلُه في حَقِّي؟ (¬6). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 13/ 306 - وذكر أن وفاته سنة (490 هـ) - و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 70 - 140، و"وفيات الأعيان": 4/ 453 - 457، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 392، و"الوافي بالوفيات": 1/ 130 - 132. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ب): التي فيها هجوه النظام، ومنها، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع) و (ب) قال العماد الكاتب، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش). (¬6) "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 77 - 78.

ويقال: إنَّ سبَبَ غَضَبِ نظامِ الملك على ابن الهَبَّارِيَّة قولُه، وكتب بها إليه: [من الوافر] أَيَجمُلُ يا نظامَ المُلْك أنِّي ... أُعاودُ مِنْ حِماكَ كما قَدِمْتُ وأصدُرُ عن حِياضِك وَهْيَ نَهْبٌ ... بأفواهِ السّقاةِ وما وَرَدتُ يدلُّ على فِعالِكَ سوءُ حالي ... ويَنْطِقُ عن مقالي إنْ كَتَمتُ إذا اسْتُخْبِرْتُ ماذا نِلتَ منه ... وقد عَمَّ الوفودَ ندًى سَكَتّ وما في الوافدينَ عليكَ شَخصٌ ... يَمُتّ من الولاء كما أَمُتُّ هُمُ دُوْني إذا اخْتُبِروا جميعًا ... فلمْ بالدّونِ دُونَهُم خُصِصتُ ولي أَصل وفَضْلٌ غيرُخافٍ ... ولكنْ ما لفَضْلٍ منكَ بَخْتُ إذا ما ضُعْتُ عند بني جَهِيرٍ ... وعندك مَعْ سَمَاحِكَ وامتُهِنْتُ فأينَ الفَرْقُ بَينَكُمُ وماذا ... ببُعدي عن ديارِهُم اسْتَفَدْتُ وها أنا ساكِتٌ فإنِ اصطلَحْنا ... وإلَّا خانَني صبري وقلْتُ وبلغ النِّظام، فأَهْدَرَ دَمَه. [وقال عُبيد الله بن علي المعروف بابن المارَسْتانية في "ذيل تاريخ بغداد": لما أهْدَرَ نظامُ الملك دَمَ ابن الهبارية] (¬1) استجار بصَدْر الدِّين محمد الخُجَنْدي، وكان يمضي في كل يوم [اثنين] (¬2) إلى دار النِّظام بأَصبهان ومعه الفقهاء للمناظرة. فقال لابنِ الهبارية: ادخلْ معنا في جُمْلة الفقهاء متنكّرًا، فإذا فَرَغَتِ المناظرة، فَقُمْ في المجلس مستغفرًا. فَفَعلَ، فقال الخُجَنْدي: قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] وقال: {إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان: 70]، والخادمُ يسأل العفو عن الشَّريف بقَبُول شفاعتِه خاصَّة وشفاعة الفقهاءِ عامَّة، فقال النِّظام {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95]، ثم أذِنَ له في الإنشاد، فقام، وقال: [من المتقارب] لعِزَّة أَمْرِكَ دارَ الفَلَكْ ... حَنَانَيكَ فالأَمْرُ والنَّهيُ لكْ فقال النِّظامُ: كَذَبْتَ، ذاك اللهُ تعالى: فقال: ¬

_ (¬1) في (ع) و (ب): وقال ابن المارستانية: لما أهدر دمه، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). وترجمة ابن المارستانية سترد في وفيات سنة (599 هـ) من هذا الكتاب. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

رَفَعْتَ الشَّريعةَ بعد الخمولِ ... فلو تستطيغ لباسَتْ يَدَكْ ولو كنتَ في زَمَنِ المُصطفَى ... لنَصَّ عليكَ وما أَهْمَلَكْ ولو رَدَّ موسى إليكَ الأمورَ ... رَدَدْتَ على السامِرِي ما أَفَكْ فلمْ يختَلِفْ قَوْمهُ بعده ... ولا قِيلَ إذ جاء: ما أَعْجَلَكْ وكم نعمةٍ لك عند الجلا ... لِ (¬1) ليس بكافرِها إنْ نَسَكْ ألم تكُ رَبيتَهُ مُرْضَعا ... وقدْتَ له الجيشَ حتَّى مَلَكْ ورَبُّك ولَّاكَ لا غيرُهُ ... فَمَنْ ذا يحاول أنْ يَعْزِلَكْ وقال العماد الكاتب: كان ابنُ الهَبَّارِيَّة من شُعَراء نظام الملك، غَلَبَ على شِعْره الهجاءُ والهَزْلُ والسُّخْف، وسَبَك في قالب ابنِ الحَجَّاج (¬2)، وفاقه في الخلاعة والمجون، والنَّظيف من شِعْره [في] (¬3) غايةِ الحُسْن. ومن شِعْره: [من الكامل] وإذا البياذِقُ في الدُّسُوتِ تَفَرْزَنَتْ ... فالرأيُ أنْ تَتبيذَقَ الفِرْزانُ (¬4) وإذا النُفوسُ مع الدنوِّ تباعدتْ ... فالحَزْمُ أن تتباعد الأبدانُ خُذْ جملةَ البَلْوى ودَعْ تَفْصِيلَها ... ما في البَرِيَّةِ كلِّها إنسانُ (¬5) وقال في نظام الملك: [من الكامل] وإذا سَخِطْتُ على القوافي صُغْتُها ... في غيرِه لأُذِلَّها وأُهينَها وإذا رضيتُ نَظَمْتُها لجلالِهِ ... كيما أشَرِّفَها به وأَزِينَها (¬6) ¬

_ (¬1) الجلال هو جلال الدولة لقب السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان، انظر "وفيات الأعيان": 5/ 283. (¬2) انظر حاشيتنا رقم 2 ص 69 من هذا الجزء. (¬3) ما بين حاصرتين من (ب)، وانظر "خريدة القصر" قسم شعراء العراق 1/ 70 - 71. (¬4) البياذق جمع، مفردها بيذق، معرب بيذه، وهم الرخالة في الحرب، والفرزان: هو ما يلي البيذق في اصطلاح الشطرنج، وهو الملك، والدسوت جمع، مفردها الدست، يعني صدر المجلس، وهي دخيلة عباسية، انظر "المعرب" للجواليقي: 130، 285، و"معجم الألفاظ الفارسية": 32، 118، و"معجم من اللغة": 2/ 408. (¬5) "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 72 - 73. (¬6) "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 73 - 74.

وقال [في] (¬1) ابن جَهِير لما اسْتُوزِرَ ثانيًا بسبب مصاهرتِهِ لنظام الملك [على] (1) ابنته: [من البسيط] قُلْ للوزيرِ ولا تُفْزِعْكَ هَيبتُهُ ... وإنْ تَعَاظَمَ واسْتولى لِمَنْصبهِ لولا ابنةُ الشيخِ ما استُوزِرْتَ ثانيةً ... فاشكُرْ حِرًا صرتَ مولانا الوزيرَ بِهِ (¬2) وقال: [من مجزوء الكامل] قد قلتُ للشيخ الرَّئِيـ ... ـس أخي السَّماح أبي المُظَفَّرْ ذكِّرْ مُعين المُلْك بي ... قال المؤنَّثُ ما يُذَكَّرْ (¬3) وقال [في ابن جَهِير هذه الأبيات] (¬4): [من الطويل] ولو أنَّني استمدَدْتُ من ماءِ مُقْلتي ... لجاءَتْك كُتْبي وهي حُمْرٌ سطُورُها وكيف تلامُ العَينُ إن قَطَرَتْ دمًا ... وقد غابَ عنها نورُها وسُرورُها (¬5) وقال: [من الكامل] أهدى لنا نَفَسُ الصَّبا أنفاسَكُمْ ... سَحَرًا فقلتُ عسى الصَّبا عَطَّارُ وتمايلتْ للسُّكْرِ باناتُ الحِمى ... حتَّى كَأنَّ نسيمَهُ خَمَّارُ (¬6) [قلتُ] (¬7): وكان ابنُ الهَبَّارية من الفُضَلاء، وله كتابٌ سَمَّاه: "فلك المعاني" جمع فيه [أخبارًا و] (7) طُرَفًا، فمنه لبعضهم: [من المنسرح] أعْتَقَني سوءُ ما صَنعْتَ من الرِّ ... قِّ فيا بَرْدَها على كَبِدِي فصرتُ عبدًا للسُّوءِ منكَ وما ... أحسنَ قَبْلي سُوءٌ إلى أَحَدِ قال: وقال رجلٌ لابنِ عباس: سَلِ الله أن يغنيني عنِ النَّاس، فقال: إنَّ الله لا يغني [الناس] (7) عن الناس، ولكن ادعُ الله أَنْ يُغنيك عن لئام النَّاس. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ب). (¬2) "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 87. (¬3) المصدر السالف: 1/ 88. (¬4) ما بين حاصرتين من (م). (¬5) "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 101. (¬6) المصدر السالف: 1/ 103. (¬7) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

قال: وقال الشَّريف بن البَيَّاضي: [من الكامل] ليس الشَّريف من الشِّرافُ جُدُودُه ... مَنْ نَفْسُهُ شَرُفَتْ فذاكَ شريفُ وقال [آخر] (¬1): [من البسيط] قالوا حَبِيبُك مِمْراضٌ فقلتُ لهم ... نفسي الفداءُ له مِنْ كلِّ محذورِ يا ليتَ عِلَّتَه بي غَيرَ أَنَّ له ... أجرَ المريضِ وأني غيرُ مأجورِ وقال جَحْظة: [من الكامل] يا مَنْ بَعُدتُ عن الكرى لِبعادِهِ ... والصبرُ مُذْ غُيِّبْتَ عنيَ غائبُ أصبحتُ أجْحَدُ أنَّني لكَ عاشِقٌ ... والعَينُ مُخْبِرَةٌ بأنِّيَ كاذِبُ وقال: حَجَّ الكافي أبو الفَضْل زيدُ بنُ الحسين، فلما عاد، قال: [من الكامل] يا رَبِّ أيُّ فضيلة في مكَّةٍ ... حتى فَرَضتَ على عبادِك بِرها ألِخصبها أحَببْتَها ألِطيبها ... اخْتَرْتَها أَمْ ليسَ تَعْرِفُ حَرَّها (¬2) قال: وقال الرشيد لجعفر: اعزلْ أخاكَ الفَضْل عن الخاتم عَزلًا لطيفًا. فكتب إلى الفَضْل: إنَّ أَمير المؤمنين قد رأى أن ينقلَ خاتمَ الخلافة من يمينك إلى يسارك. فكتبَ إليه الفَضْلُ: ما انتقلت عني نعمة صارتْ إليك. قال: وقال أبو العلاء المَعَرِّي: [من الوافر] أرى جِيلَ التَّصوفِ شَرَّ جِيلٍ ... لقد جِئْتُمْ بشيءٍ مُسْتحيلِ أقال اللهُ حينَ عَشِقْتُموه ... كُلُوا أَكْلَ البهائمِ وارْقُصوا لي! قال: وقال المُبَرِّد: حاجِبُ المَلكِ نِصفُه، وكاتِبُه كله. قال: وقال عليٌّ - عليه السلام - لبعض الحَرورِيَّة: نومٌ على يقين خيرٌ من صلاةٍ على شَك. قال: وكان المنصور يتعرف أخبار العُمَّال وظُلمهم من السَّواد، فيسأل عن البيض والدجاج، ويستدل بكثرته على العدل، وبقِلَّته على الظُّلْم. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) أعجب حقًّا لسبط ابن الجوزي كيف اختار هذين البيتين، وفيهما من سوء الأدب ما لا يليق بمسلم أن يتلفظ بهما.

وقال: كان الأمينُ يُعَيِّر المأمونَ بأمِّه مراجل، وأنها أَمَةٌ، ويفتخر بأمُّه زُبيدة، فكتَبَ إليه المأمون: [من البسيط] النَّاس من جهةِ الأمثالِ (¬1) أكْفاءُ ... أبوهُمُ آدمٌ والأُمُّ حواءُ فإنْ يكنْ لهُمُ مِنْ أصلِهِمْ نَسَبٌ ... يفاخرون به فالطِّينُ والماءُ ورُبَّ مُعْرِبةٍ (¬2) ليست بمنجبةٍ ... وربَّما أنجبتْ للفَحْلِ عَجماءُ وإنَّما أمهاتُ النَّاس أوعيةٌ ... مُسْتَودَعاتٌ وللأحسابِ آباءُ وقال: قال سعيد بنُ العاص لبنيه: يا بَنِيَّ، لم أَظْلِمْكُم في أُمهاتكم فلا تظلموا أبناءكم في أُمهاتهم، فيعيرونهن، فإنَّ فسادَ مَن فَسَدَ لعِرْقِ سوءٍ من أُمِّ سوءٍ، وما أنجبت دَنِيَّةٌ، ولا أخلفت سُرِّيَّة، وكلّ وعاءٍ يَرُدّ إليك ما أوَدَعْتَه إلا الأرحام، فإنَّها تحيل المياه. وقال [عبد الله بن المبارك] (¬3): [من مجزوء الرمل] قد أَرَحْنا واسْتَرَحنا ... مِنْ غُدُو ورواحِ واتِّصالٍ بأميرٍ ... ووزيرٍ ذي سَمَاحِ بعَفافٍ وكَفَافٍ ... وقنُوعٍ وصلاحِ وجَعَلْنا اليأسَ مِفْتا ... حًا لأبوابِ النَّجاحِ وقال ابنُ المعتز: [من المتقارب] وإنْ فُرْصةٌ أمكَنَتْ في العدوّ ... فلا تبد فِعْلَك إلَّا بها فإنْ أنتَ لم تَأتِها مُسْرعًا ... أتاك عدوُّك مِنْ بابها وقال آخر: [من الطويل] وماذا عسى الواشون أن يتحدَّثُوا ... سوى أَنْ يقولوا: إنَّني لك عاشِقُ نَعْم صدق الواشون أنتِ حبيبةٌ ... إليّ وإن لم تصفُ منك خلائقُ وقال أبو نواس: [من السريع] ¬

_ (¬1) في (م) و (ش): التمثيل. (¬2) المعرب من الخيل: الذي ليس فيه عرق هجين، والأنثى معربة، "اللسان" (عرب). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش).

هبة الله بن المبارك بن موسى بن علي

ما حَطَّك الواشونَ عن رُتْبةٍ ... عندي ولا ضَرَّكَ مُغْتابُ كأنَّما أثنوا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي عابوا وكانت وفاة ابنِ الهَبارية بكَرْمان في هذه السنة، [وقال العماد الكاتب: في] (¬1) سنة أربعٍ وخمس مئة (¬2)، والأَوَّل أصح. [وابن الهباربة هو الذي رثى الحسين عليه السلام] (¬3). هبة الله (¬4) بنُ المبارك بن موسى بن علي (¬5) أبو البركات السَّقَطي. سافر إلى الأمصار في طلب الحديث، وجَمَع وأرَّخَ، وكان له معرفةٌ باللغة، وتَعِبَ في جَمْع الحديث، لكنَّه أفسدَ ذلك بأن ادعى سماعًا ممن لم يره، منهم أبو محمد الجوهري، فإنَّه لا يحمل سِنُّه السماعَ منه، وسُئل ابنُ ناصر عنه، فقيل له: أثقة هو؟ [فقال] (¬6): لا والله، حدث بواسط عن شيوخ لم يرهم، فظهر كَذِبُهُ عندهم. توفي في ربيع الأول، وصلى عليه أبو الخَطَّاب الكَلْوذَاني، ودُفِنَ عند قبر منصور بن عمار بباب حَرْب. قال المصنف رحمه الله: وهذا السقطي احتجَّ به الخطيب في مواضع في مثالب العلماء، ولم يبينْ ضعفَه. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ب): وقيل سنة أربع وخمس مئة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). قلت: وذكر السمعاني في "الأنساب": 12/ 306 أن وفاته بعد سنة (490 هـ)، والصحيح ما ذكره السبط، وصححه كذلك الصفدي في "الوافي بالوفيات": 1/ 132. (¬2) "خريدة القمر" قسم شعراء العراق: 1/ 72. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ب) بياض، وفي (ع) عبد الله، وهو تحريف، والمثبت من مصادر ترجمته. (¬5) له ترجمة في "الأنساب": 7/ 92، و"المنتظم": 9/ 183، و"ميزان الاعتدال": 4/ 292، و"لسان الميزان": 6/ 189 - 190، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 282 - 283، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬6) ما بين حاصرتين من "المنتظم": 9/ 183.

السنة العاشرة وخمس مئة

السنة العاشرة وخمس مئة [وفيها ولد جَدِّي رحمه الله على وجه الاستنباط لا على وجه التحقيق. و] (¬1) فيها احترقت بغداد من الجانب الشرقي حريقًا لم يُرَ مِثلُه بحيث أكلتِ النار جذوعَ النَّخل، ودور الخليفة والنِّظامية، وسَلِمَتِ الكتب. واحترقت الدور الشاطئية ورباط بِهْروز وغيره، وكان في ذلك عبرةٌ وموعظة (¬2). وأقام السلْطان محمد ببغداد هذه الصَّيفية، وكان من عادته أن يصيّف بهَمَذان، ثم رحل إلى هَمَذَان، وبعثَ للخليفة من النَّهروان خَيلًا وطِيبًا، وطلب من [الخليفة شيئًا من] ملبوسه ومصحفًا ولواء، فَبَعَث بذلك إليه (¬3). قال ابنُ القلانسي: وفيها وَرَدَ الخبر بأنَّ بدران بن صنجيل (¬4) صاحب طرابُلُس قد جمع [وحشد] (1) ونهض إلى ناحية البِقاع، وكان سيف الدِّين [آق] (¬5) سُنْقُر البُرْسُقي صاحب المَوْصِل قد وَصَلَ دمشق في بعض عسكره لمعونة طغتِكِين [فالتقاه وسُرَّ به] (1)، واتفقا على تَبييت الفرنج ليلًا، فأغذَّا السير [ليلًا ونهارًا] (1) حتى هجموا على خيامهم وهم غارُّون، فوضعوا فيهم السيف قَتْلًا وأسرًا، وهَرَب بدران، وغَنِمَ المسلمون خيولهم، وسلاحهم وأموالهم، وعادا إلى دمشق، وتوجَّه البُرْسُقي إلى بلده بعد استحكامِ المودة بينه وبينَ أتابك (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (م) و (ش): وكان ذلك عبرة لمن اعتبر، وموعظة لمن افتكر. (¬3) انظر "المنتظم": 9/ 184 وما بين حاصرتين منه. (¬4) هذا من أوهام ابن القلانسي، وتابعه عليه السبط، إذ إن بدران -وهو تعريب برتراند- قد مات سنة (505 هـ) (1112 م)، وخلفه ابنه بونز، وهو المراد هنا. وصنجيل هو ريموند كونت تولوز، وقد بنى قلعة قرب طرابلس أطلق عليها جبل الحاج، غير أنها اشتهرت عند المسلمين بقلعة صنجيل، أي سان جيل، انظر "تاريخ الحروب الصليبية" لرنسيمان: 2/ 99 - 100، 202. (¬5) زيادة من عندنا إتمامًا لاسمه. (¬6) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 314 - 315.

وفيها قُتِلَ لؤلؤ الذي قتَلَ ألب أرسلان بن رِضوان بحلب، كان قد استولى [على الحاشية] (¬1)، وشرع في قتل غِلْمان أُستاذه، فاتفقوا [على قتله، فقتلوه، وهذا قول ابن القلانسي] (¬2) والصحيح أنه قُتِلَ في السنة الآتية. وحج بالنَّاس أَمير الجيوش الحَبَشي المُسْتَظْهري، ودَخَل مكَةَ وعلى رأسه الأعلامُ، وخلفه الكُوسات والبُوقات، والسيوفُ في رِكابه، وإنما قَصَدَ إذلال أَمير مكَّة والسُّودان. [قلتُ: وقد أنكرَ عليه ابنُ عقيل هذا الحال، فقال: حكى لي أَمير الجيوش أنَّه دخل إلى مكَّة على الوجه المذكور ليَذِلَّ أَمير مكَّة والسودان، قال ابن عقيل: حكاه لي متبجِّحًا بذلك، ذاهلًا عن حُرْمة المكان، فقلتُ في نفسي: أَمَا كان مع هذا الحَبَشي من ينبِّهه على حرمة المكان؟ فإنَّ ناقة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لما خَلأَتْ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَبَسَها حابِسُ الفِيل" (¬3)، فلما أعطاهم ما أرادوا أُطْلقت، وقد صِينَ المسجدُ عن إنشاد الضَّالَّة حتى قيل لطالبها: لا وَجَدْتَ (¬4)، فكيف يجيء هذا الحبشيُّ بدبادبه، فيدخلها معظمًا لنفسه! قلتُ: لا وَجه لإنكار ابنِ عقيل، لأنَّ النَّهي إنَّما هو عن دخولها محاربًا، هاتكًا لحرمة البيت والحَرَم، وهذا الحبشيُّ إنما دَخَلَها معظِّمًا، لأنَّ أميرها والسودان كانوا عصاةً على بني العَبَّاس، لا يَرَون إمامتهم، ويخطبون لغيرهم، فَقَصد بذلك الطَّاعة، والإذعان لا الهوان والعصيان، وليس في الحكاية أنَّه دَخَلَ المسجد الحرام الذي فيه كعبةُ الإجلال والإعظام، وإنما دَخَلَ البلد على ذلك الوَصف الذي فيه إرهابُ الخاصّ والعام. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ب): فاتفقوا عليه وقتلوه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 315. (¬3) أخرجه البخاري (2731) (2732) من حديث المِسْور بن مَخْرمة، ومروان بن الحكم، وبنحوه عن أحمد في "المسند" (18910) (طبعة مؤسسة الرسالة)، وخلأت: الخلاء للإبل كالحرن للخيل. (¬4) لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سمع رجلًا ينشد في المسجد ضالة، فليقل له: لا أداها الله إليك، فإن المساجد لم تُبنَ لهذا"، وقد أخرجه مسلم (568)، وهو عند أحمد في "المسند" (8588).

إبراهيم بن أحمد، أبو الفضل المخرمي

فصل وفيها: توفي إبراهيم بن أحمد، أبو الفَضْل المُخَرَّمي (¬1) سمع الحديث ورواه، وكان رجلًا صالحًا، نَزَلَ إلى دِجْلة ليتوضَّأ، فَزَلَّتْ قَدَمُه، فَغَرِقَ، فَحُمِلَ إلى بيته فماتَ، ودُفِنَ بباب حَرْب في ربيع الآخر. سمع أبا محمد الصريفيني وغيره، وروى عنه أشياخ أشياخنا. وقال أبو الفَضْل بن ناصر: كان شيخا مستورًا، كثير تلاوةِ القرآن، محافظًا على الجماعات، وحَضَرْتُ غسله، فرأيت النورَ على وجهه، فقبَّلتُ بين عينيه] (¬2). وفيها توفي عَقِيل بنُ علي [بن عقيل] (¬3) بن محمد بن عقيل (¬4) أبو الحسن [بن أبي الوفاء] (3) الحنبلي. ولد في رمضان سنة إحدى وثمانين وأربع مئة، [وتفقَّه] (3)، وقرأ القرآن وسَمِعَ الحديث، وشَهِدَ عند قاضي القُضَاة أبي عبد الله الدَّامَغَاني، وتوفي في منتصف مُحَرَّم عن تسعٍ وعشرين سنة، ودُفِنَ بالظفرية في دار أبيه، فلما مات أبوه نُقِلَ فدفن في دِكَّة الإمام أحمد رحمة الله عليه. وظهر من أبيه صبرٌ جميل؛ دَخَلَ عليه بعضُ أصحابه وهو مسجًى، وعلي والِدُهُ يروِّحه [بمروحةٍ] (3) بعد موته، فكأنَّه أحَسَّ من الدَّاخل بإنكارِ ذلك، فقال [له] (¬5): يا هذا، إنها جُثةٌ عليَّ كريمة، فما دامتْ بين يديَّ لم تَطِبْ نفسي إلا بتعاهدها، فإذا غابتْ عَنِّي فهي في استرعاءِ مَنْ هو خيرٌ لها مني. [قلتُ: وهذا يحملُ على غَلَبَةِ الحُزن والشَّفقة، وإلا فأيُّ فائدةٍ في ترويح الميت] (2). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 9/ 185. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش). (¬4) انظر ترجمة ولديه: أبي الحسن وأبي منصور في "المنتظم": 9/ 186 - 188، و"ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 2/ 288 - 294، و"ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 163 - 164، و "المنهج الأحمد": 3/ 97 - 99، و"شذرات الذهب": 4/ 39 - 40. (¬5) ما بين حاصرتين من (ب) و (م).

ولما أرادوا غَسْله خَرَجَ أبوه إلى المسجد، فجلَسَ وعنده النّاس، فقرأ قارئ: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78] فَضَج النَّاس بالبكاء، فقال له ابنُ عَقِيل: إنْ كان قَصدُك بهذا تهييج الأحزانِ فهو نياحة، والقرآن ما نَزَل للنياحة، وإنما نزل لتسكين الأحزان. فسكت القارئ، [وإنما قصد ترقيق القلوب، فيبكي كل من حضر، لأن كل واحدٍ لا يخلو من شَجَن، فإذا وقع التَّساوي في البكاء حَسُنَ التأسي. وفيه أيضًا تخجيل للقارئ وتبكيته، وليس ذلك من مكارم الأخلاق، ولا من باب التودُّد، وفي الجملة فالجَزَعُ أحسنُ من هذا التَّجلُّد، وقد بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موت ولده إبراهيم .. الحديث] (¬1) (¬2). وكان لابن عقيل ولد آخر كُنْيتُه أبو منصور، مات سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، وحَزِنَ عليه. قال: فتعزَّيتُ عنه بقِصَّة عمرو بن عبد وَدّ [العامريّ] (1) الذي قتله عليّ عليه السَّلام يوم الخندق، فقالت أخته [ترثيه] (1) [من البسيط] لو كان قاتِلُ عمرو غَيرَ قاتلِهِ ... لطَال حُزني عليه آخِرَ الأبَدِ لكنَّ قاتِلَه مَن لا يُقادُ به ... مَنْ كان يُدْعى أبوه بيضَةَ البَلَدِ (¬3) قال: فقلتُ سبحان الله! [من الطويل] كَذَبْتُ وبَيتِ الله لو كنتُ صادقًا ... لما سَبَقَتْني بالبكاءِ الحمائِمُ وذلك لأن أُخت عمرو سَلَّاها وعَزَّاها جلالةُ القاتل، والافتخار بأَنَّ أخاها مقتولُه، فهلَّا نَظَرْتُ إلى قاتِلِ ولدي، وهو الأبَديُّ القديم، فهانَ عليَّ الأمر (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) فيما أخرجه البخاري في صحيحه (1303) من حديث أنس بن مالك، قال: دخلنا مع رسول الله - رضي الله عنه - على أبي سيف القين -وكان ظئرًا لإبراهيم - عليه السلام - فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك -وإبراهيم يجود بنفسه- فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان، فقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنتَ يا رسولَ الله! فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". (¬3) البيتان بنحو هذا اللفظ في "الأضداد" لابن الأنباري: 77، "شرح المرزوقي لحماسة أبي تمام": 2/ 804، و"أمالي المرتضى": 2/ 7 - 8، و"اللسان" (بيض)، وقيل: إن الأبيات لامرأة من العرب غير أخته. (¬4) انظر "المنتظم": 9/ 186 - 188.

محمد بن علي بن ميمون

محمدُ بنُ عليٍّ بن ميمون (¬1) أبو الغنائم، ابنُ النَّرْسي، الكوفي. محدِّث مشهورٌ، ويعرف بأُبيّ؛ لأنَّه كان جَيدَ القراءة [في أول زمانه، فلقبوه أُبيًّا] (¬2). ولد سنة أربع وعشرين وأربع مئة في شَوَّال، وسَمِعَ الحديث الكثير، وسافَرَ إلى الشَّام والسَّواحل، وخُتِمَ به عِلْمُ الحديث بالكوفة، وكان يقول: توفي بالكوفة ثلاث مئة وثلاثةَ عشرة من الصَّحابة لا يُعرْف قَبْرُ أحدٍ منهم إلا قبر علي عليه السَّلام. وقال محمد بن ناصر: ما رأيتُ مثل أبي الغنائم ابن النَّرْسي في ثِقَتِهِ وحِفْظه، ما كان أحد يقدر أن يُدْخِلَ في حديثه ما ليس منه، [وكان] (¬3) من قُوَّام اللَّيل، مَرِضَ ببغداد، فانحدر إلى الكوفة، فمات بحِلَّة ابنِ مَزْيَد يوم السَّبت سادس عشرة شعبان، فحمل إلى الكُوفة [فدفن بها. وقال محمد بن عبد الباقي البزَّاز: ما كان بالكوفة] (3) من أهل السنَّة والحديث سواه [سمع ببغداد أبا محمد الجَوْهَرِي، والتَّنوخي والعُشَاري وغيرهم، وقرأ القرآن بالرِّوايات فبرع فيه، ورحل إلى الشام والقدس، فروى عنه الفقيه نَصر وهو من شيوخه] (2)، وكان فاضلًا ثِقَةً، عاش سِتًّا وثمانين سنة مُمَتَّعًا بجوارحه. محفوظ بن أحمد بن الحسن (¬4) أبو الخَطَّاب الكَلْوَذَاني (¬5)، الحَنْبلي. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 12/ 70 - وفيه وفاته سنة (507 هـ) وهو خطأ، تابعه عليه ابن الأثير في "اللباب": 3/ 306 - و "المنتظم": 9/ 189، و"معجم البلدان": 5/ 280، و"طبقات علماء الحديث": 4/ 33 - 34، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 274 - 276، وفيهما تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "طبقات الحنابلة": 2/ 258، و "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 3/ 38، و"الأنساب": 10/ 461 - 462، و"المنتظم": 9/ 190 - 193، و"اللباب": 3/ 107 - 108، و "الكامل" 10/ 524، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 348 - 350، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬5) يقال الكلوذاني والكلواذاني، وهي نسبة إلى كلوذان: قرية من قرى بغداد على بعد خمسة فراسخ منها، انظر "الأنساب": 10/ 460.

ولد في شوال سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة، وتفقَّه على القاضي أبي يعلى بن الفراء، وسَمِعَ الحديث وحدَّث، وأفتى ودَرَّسَ، وصنف "الهداية" وغيرها، وشَهِدَ عند قاضي القضاة أبي عبد الله الدَّامَغَاني، وكان [عاقلًا] (¬1) فاضلًا شاعرًا، وله قصيد من جِنْسِ العقيدة، أوَّلُها: [من الكامل] دَعْ عنك تَذْكارَ الخليطِ المُنْجِدِ ... والشوقَ نحو الآنساتِ الخُرَّدِ (¬2) والنَّوْحَ في أطلال سُعدى إنما ... تَذْكارُ سُعدى شُغْلُ مَنْ لم يُسْعَدِ واسْمَعْ مقالي إنْ أردتَ تخلُّصًا ... يومَ الحسابِ وخُذْ بهديي تَهْتَدِي قالوا بِمَ عَرَف المكلَّفُ رَبَّهُ؟ ... فأجبتُ بالنَّظر الصحِيحِ المُرْشِدِ قالوا فهل رَبُّ الخلائقِ واحد؟ ... قلتُ الكمالُ لربنا المُتَفَرِّدِ قالوا فهل لله عندك مُشْبِهٌ؟ ... قلتُ المُشَبِّهُ في الجحيمِ المُوْصَدِ قالوا فهل تَصِفُ الإلهَ، أَبِنْ لنا؟ ... قلت الصفاتُ لذي الجلالِ السرْمدي قالوا فهل تلك الصِّفاتُ قديمة ... كالذَّاتِ؟ قلتُ كذاكَ لم تتجدَّدِ قالوا فأنتَ تراه جِسْمًا، قُلْ لنا؟ ... قلتُ المُجَسمُ عندنا كالمُلْحِدِ قالوا فهل هو في الأماكن كلها؟ ... فأجبت بل في العُلْو مذهبُ أحمدِ (¬3) قالوا أتزعُمُ أنْ على العَرْشِ اسْتوى؟ ... قلتُ الصَّوابُ كذاك خَبَّرَ (¬4) سيدي قالوا فما معنى اسْتِوَاه، أبِنْ لنا؟ ... فأجَبْتُهُمْ هذا سؤالُ المُعْتدي قالوا النُّزولُ؟ فقلتُ ناقِلُهُ لنا (¬5) ... قَوم تَمَسُّكُهُمْ بشَرْعِ محمَّدِ قالوا فكيفَ نزولُهُ؟ فأجَبْتُهُمْ ... لم يُنْقَلِ التكييفُ لي في مُسْنَدِ قالوا فَيُنْظَرُ بالعيونِ، أَبِنْ لنا ... فأجَبْتُ رُؤيَتُهُ لمنْ هو مُهْتَدِي قالوا فهل لله عِلْمٌ؟ قلتُ ما ... مِنْ عالِمٍ إلا بعِلْم مُرْتدي قالوا فيوصَفُ بالكلامِ، أبِنْ لنا ... قلتُ السكوتُ نقيصةُ المتوحِّدِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م)، وفي (ش): وكان عاقلًا شاعرًا، فاضلًا لبيبًا ماهرًا. (¬2) خُرَّد، جمع نادر، مفرده خريدة وخريد وخَرُود، وهي من النساء البكر التي لم تمسس قط. "اللسان" (خرد). (¬3) في (م): فأجبت علوًا ذاك مذهب أحمد. (¬4) في (ع) و (ب) يخبر، والمثبت من (م) و (ش). (¬5) في (ع) و (ب): له، والمثبت من (م) و (ش).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: سقطت في هذا الجزء الصفحات من هنا إلى صـ 200، إذ حل محلهم بالخطأ صفحات من الجزء 21، وقد راجعنا عدة نسخ ورقية فوجدنا فيها نفس الخلل

وبانوا فكم دمعٍ من الأَسْرِ أطلقوا ... نجيعًا وكم قلبٍ أَعادوا إلى الأَسْرِ فلا تُنْكِروا خَلْعي عِذاري تأسُّفًا ... عليهمْ فقد أوضحتُ عندكُمُ عُذْرِي (¬1) وقال: [من السريع] يَا قلبُ هل يَرْجعُ دَهْرٌ مضى ... يجمَعُنا يومًا بوادي الغضا وباجتماع الشَّمْلِ يَقْضي لنا ... مَن كان بالبَينِ علينا قضى فتصبحُ الآمالُ مُخْضَرَّةً ... فيهمْ وقد هَبَّ نسيمُ الرِّضا ويرجعُ الوَصلُ إلى وَصلِنا ... ويصبحُ الإعراضُ قد أَعْرَضَا (¬2) وقال: [من الطَّويل] بدا لك سِرٌّ طال عنكَ اكْتِتامُهُ ... ولاح صباحٌ كان منك ظلامُهُ وأنت حجابُ القَلْب عن سِرِّ غَيبِهِ ... ولولاك لم يُطْبَعْ عليه (¬3) خِتامُهُ وإن غِبْتَ عنه حَلَّ فيه وطنَّبَتْ ... على مَنْكِبِ الكَشْفِ المَصُونِ خيامُهُ وجاء حديثٌ لا يُمَلُّ سماعُهُ ... شَهِيٌّ إلينا نثرُهُ ونِظامُهُ (¬4) وقال: [من مجزوء الخفيف] قد رَجَعْنا إلى الوَفَا ... وانقضتْ مُدَّةُ الجفا والذي كدَّرَ الوصا ... لَ مِنَ الصَّدِّ قد صَفَا (¬5) سُخْطكُم كان عِلَّتي ... ورضاكُمْ هو الشِّفا أَرْشِدُوني بنظرةٍ ... قد سَئِمْنا التعَسُّفا (¬6) وقال: [من مجزوء الوافر] بقلبي منهمُ عُلَقُ ... ودمعي فيهمُ عَلَقُ ¬

_ (¬1) "الخريدة" 2/ 310. (¬2) "الخريدة": 2/ 311. (¬3) في (ع): عليك، والمثبت من "الخريدة". (¬4) "الخريدة": 2/ 309. (¬5) في (م) و (ش): والذي كدَّرَ الصُّدو ... دُ من الوصل قد صفا وهو الموافق للخريدة. (¬6) "الخريدة": 2/ 314.

وعنديَ منهمُ حُرَقُ ... لها الأحشاءُ تحترقُ ونحنُ ببابهمْ فِرَقُ ... أذابَ قلوبَنَا الفَرَقُ وما تركوا سوى رَمَقي ... فَلَيتَهُمُ له رمقوا (¬1) فلا وَصلٌ ولا طَمَعٌ (¬2) ... ولا نَوْمٌ ولا أَرَقُ ولا بأسٌ ولا أَمَلٌ (¬3) ... ولا صَبرٌ ولا (¬4) قَلَقُ وقال: [من مجزوء الكامل] وافى النَّسيمُ بنفحةٍ ... نَشِطَتْ فؤادي من عِقالِ مِسْكِيَّةٌ أنفاسُها ... تُهْدي الذَّكاءَ إلى العَوَالِ واسْتَعْجَمَتْ أنفاسُها ... فسألتُ أصحابي وآلي عنها فحاروا في الجوا ... بِ وما شَفَوْا قَرَمَ السُّؤالِ فسألتهم (¬5) لما رأيـ ... ـتُ حجابهم عَمَّا بدا لي هَمَّ الحبيَبُ بأنْ يزو ... رَ وهذه ريحُ الوصَالِ (¬6) [وقال [من الطَّويل] أَسكانَ نَعْمان الأراكِ تَيَقَّنوا ... بأنَّكُمُ في رَبْعِ قلبيَ سُكَّانُ (¬7)] وقال: [من السريع] واحَسْرتي إذْ رحلوا غُدْوةً ... ولا أُرى في جُمْلَةِ الظَّاعنينْ قد قُلْتُ لما رَحَّلُوا عِيسَهُمْ ... يَا ليتني كنتُ مع الرَّاحلينْ ¬

_ (¬1) في (ع): لي رمق، والمثبت من "الخريدة". (¬2) في "الخريدة": فلا وصل ولا هجر. (¬3) في "الخريدة": ولا بأس ولا طمع. (¬4) في (ع): يلي، والمثبت من "الخريدة": 2/ 315. (¬5) في (ع): فما جيتهم، والمثبت من"الخريدة". (¬6) "الخريدة": 2/ 312 - 313. (¬7) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر تتمة الأبيات في "الخريدة": 2/ 319، وقد أوردها ابن خلكان في ترجمة أبي بكر بن الصائغ الأندلسي، وتردد في نسبتها إليه، وقد وجدها كذلك في "ديوان ابن حيوس" [2/ 645] , انظر "وفيات الأعيان": 4/ 430.

يحيى بن علي بن الحسن

واخَجْلتي إذْ لم أُطِقْ بَعدَهُمْ ... تصبُّرًا مِنْ نَظَر الشَّامتينْ ما حِيلتي إذْ حالتي بَعدَهُمْ ... حالُ شِمالٍ فارقَتْها يمينْ (¬1) يحيى بن عليّ بن الحسن (¬2) أبو سَعد، الحُلْوانِيّ، أحدُ أَئمَّة الشَّافعية، [تفقه على أبي إسحاق الشيرازي، ودرس بالنظامية، وذكره ابن السمعاني في "الذيل" فحكى عنه العماد في "الخريدة" قال: خرج أبو سَعد] (3) من بغداد في رسالة [إلى ما وراء النهر إلى ملكها] (3) محمَّد بن سليمان المعروف بأرسلان خان ملك ما وراء النهر في أواخر رجب [سنة عشرين وخمس مئة] (¬3)، فتوفي هناك، وقد كان فقيرًا. ومن شِعْره: [من الطَّويل] مررتُ بخبَّازٍ أُحاولُ حاجةً ... مُدِلًّا عليه أي بأنيَ عَالِمُ فلمَّا رآني قال أَهْلًا ومَرْحبًا ... ظَفِرْتَ بما تهوى فأينَ الدَّراهِمُ فقلتُ معي فَضْلٌ وعِلْمٌ وخاطري ... يجيشُ فُصولًا كلُّها لي لوازِمُ فقال ومَنْ هذي الذَّخائِرُ عنده ... يحاولُ عندي حاجةً ويساومُ لعمريَ لو بِعْتَ الجميعَ بلُقْمَةٍ ... لما كنتُ مِمَّن في الشِّراءِ يخاصِمُ السَّنة الحادية والعشرون وخمس مئة (¬4) فيها في المحرَّم جاء عسكرُ السُّلْطان محمود إلى باب النُّوبي ليدخلوا إلى دار الخليفة، فمنعتهم خاتون بنت السُّلطان، فجاؤوا إلى باب الغَرَبَة، فكسروه، ودخلوا إلى التّاج، فنهبوا دار الخليفة، وخَرَجَ الجواري حاسراتٍ يَلْطِمْنَ، فَدَخَلْنَ دارَ خاتون، وأُخْبِرَ الخليفة، فخرج من سُرادِقه، والوزير ابنُ صدقة بين يديه، وأمر العسكر فَعَبروا، ¬

_ (¬1) "الخريدة": 2/ 319. (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 4/ 192، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 517، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 333 - 334، و"طبقات الشافعية" للإسنوي: 1/ 432. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) من هنا تبدأ نسخة أَحْمد الثالث ذات الرقم (2907)، وقد رمزتُ لها بالحرف (خ).

وسَبَحَ العَيَّارون، وعَسْكر السُّلْطان مشغولون بالنَّهْب، وفي دار الخليفة منهم نحو أَلْف رجل، فلما رأَوْا عسكرَ الخليفة قد عَبَروا إليهم، ذَلُّوا وانهزموا، ووقع فيهم السيف، واختفوا في السَّراديب، فَقَتَلَ عسكرُ الخليفة منهم جماعةً، وأسروا، وكان فيهم أُمراء، ونَهَبَ العوام دورَ أصحاب السُّلطان ووزيره [ودار العزيز أبي نصر المستوفي، وأبي البركات الطبيب] (¬1)، وكان عنده ودائع، فأُخذت من داره ما مبلغه وقيمته ثلاث مئة أَلْف دينار، وهَرَبَ أصحابُ السُّلْطان، وقُتِلَ منهم عِدَّة وافرة في الدُّروب والمضايق، والخليفة والوزير مقيمان في الجانب الغَرْبي حتَّى نقل الحُرَمَ من الحريم الطّاهري، ثم عَبَرَ الخليفة إلى داره يوم السبت سابع المحرَّم، ومعه العساكر، وحرسوا المضايق، والقتالُ يعمل إلى يوم عاشوراء، وتردَّدَتِ الرَّسائلُ بين الخليفة والسُّلْطان، وقال السلطان: ابعث من يُحَلِّفني. فمال الخليفةُ إلى الصُّلْح، وبَعَثَ قاضي القضاة الزَّينبي نيفًا وثلاثين شاهدًا، فحبسهم السُّلطان عنده ستة أيام، فيئس النَّاس من الصُّلْح، وعادوا إلى حَفْرِ الخَنادق، وقُسِمَتِ المَحَالُّ على المقدَّمين، وأجفل أهلُ الجانب الغربي خوفًا مِمَّا أسلفوا من شَتْمِ السُّلْطان، فإنهم بالغوا، وكانوا يقولون: يَا باطني، لما لم تقدر على غَزْو الرُّوم جئت تغزو الخليفة والمسلمين! ودخل يرنقش الزَّكوي على السُّلْطان، فأَغْراه بالنَّاس، فَنَفَرَ فيه، وقال: أَنْتَ قَصدُك هلاك الإِسلام ونهب المسلمين، وتريد مني أن أُغَيِّر القِبْلة. ثم تقدَّم في وقته بإحضار قاضي القُضَاة والعدول، فَصَلَّى القاضي بالسُّلْطان المغرب، وسَلَّم عليه، فأَذِنَ له في الجلوس، وقُرئ عليه مكتوبُ الخليفة، فقام وقَبَّلَ الأرض، وقال: سَمْعًا وطاعةً لأمير المُؤْمنين. ولم يخالف في شيء مما اقترح عليه، وحَلَفَ، وشَرَطَ على الخليفة أن لا يستخدم العساكر، ويعود إلى الحالة الأُولى. فطابتْ قلوبُ النَّاس، وفُتحت العقود، وطُمَّتِ الخنادق، ودَخَلَ [أصحاب] (¬2) السُّلْطان البلد، وجعلوا يقولون: لنا ثلاثة أيَّامٍ ما أكلنا الخُبْز، ولولا الصلح لمتنا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (خ)، ولفظ: دار مثبت من "المنتظم": 10/ 2. (¬2) ما بين حاصرتين من (خ).

جوعًا. وكان الخبز في الحريم رخيصًا، وفي عسكر السلطان غاليًا، فما رُؤي سُلْطانًا حاصر بلدًا هو المحصور إلَّا هذا، وظهر من السُّلْطان حِلْمٌ وافر عن العوام، وطلب أصحابُ السُّلْطان من الخليفة ما نُهِبَ من دورهم، فقبض على عالم كثير من العوام، واسترجع منهم البعض، ثُمَّ بَعَثَ الخليفة إقبال الخادم وابن الأنباري وابن الصَّاحب إلى السُّلْطان بخيلٍ كثيرة وبغالٍ وجواشن وتخوت ثياب، وأنزل الوزير ابن صدقة في الزَّبزب، والكلُّ بين يديه في السُّفن، وصَعِدوا إلى دار السُّلْطان، وكان يومًا عظيمًا، فدخلوا إلى السُّلْطان فقام، وقَبَّل الأرض، ودعا للخليفة. وجاء وزير السُّلْطان إلى الخليفة، فأكرمه كرامةً لم يُكْرَم بها قَطُّ وزير. ومَرِضَ السُّلْطان مرضًا صَعْبًا، فبعث إليه الخليفةُ بمالٍ وشراب، وأدويةٍ وألطاف، فَصَلُحَ، ثم انتكس وأُرجف عليه، وكان الخليفة قد هَيَّأَ له الخِلَع، فمنعه المرض، وأشار عليه الطبيب بالخروج من بغداد، فبعث الخليفة إليه بالخِلَع وهو مطروحٌ على جنبه، فأُرميت عليه. وقيل: إنَّ سبب مرضه أَنّه ركب يومًا في ميدان الحلبة، فأصابه غَشْي، فَسَقَطَ من فرسه، وحُمِلَ إلى داره، فأُرجف بموته وحُمِلَ في مِحَفَّةٍ، وأَمَرَ أَنْ يُمَرَّ به تحت منظرة الخليفة، فلما وَصَلَ إليها أمر أنْ يُحَطَّ هناك، وبَعَثَ إلى الخليفة يقول: ما أصابني هذا إلَّا عقوبة لما بدا مني، وأسأل العفو، وأن لا تدعو عليَّ. فأجابه الخليفة، وطَيَّبَ قلبه. وسار إلى الجبل ثاني عشرة ربيع الآخر، وولَّى شحنكيَّة بغداد بِهْرُوز الخادم، وولى المَوْصِل زَنْكي بن آق سُنْقُر، فلمَّا وَصَلَ السُّلْطان هَمَذَان جاءته رسل سنجر تلومه على ما فَعَلَ ببغداد، وتقبِّحُ عليه ذلك، وبَعَثَ سنجر إلى الخليفة رسولًا يعتذر إليه مما جرى من محمود (¬1). وفي هذه الواقعة يقول الأرَّجاني (¬2) من قصيدة: [من البسيط] لقد رأى اللهُ ما أبدى خليفَتُهُ ... وما أعادَ من الأَمْرِ الذي اشتهرا خلافةٌ ورَّثَتْها السَّابقونَ له ... وراثةً قد نَفَوْا عن صَفْوها الكَدَرا ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم": 10/ 2 - 5، و"الكامل": 10/ 635 - 638. (¬2) هو أَحْمد بن محمَّد، أبو بكر الأرجاني، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (544 هـ) من هذا الكتاب.

سَفَاحُهُمْ بعدَهُ المنصورُ يَتْبَعُهُ الـ ... ـمهديُّ، ثُمَّ اقتفى الهادي له الأثرا ثُمَّ الرَّشيدُ وأبناءٌ له نُجُبٌ ... ثلاثةٌ للهُدَى أَعْزِزْ بهم نَفَرا أمينُ مُلْكٍ ومأمونٌ ومعْتَصِمٌ ... وواثِقٌ وكفى فَخْرًا بمَنْ فَخَرا ومَنْ تَوَكَّلَ فيما قد تَقَلَّده ... ومَنْ دَعُوه لأَمْرِ الله مُنْتَصِرا ومستعينٌ له المُعْتَز مرتَدِفٌ ... والمهتدي بَعدَهُمْ أبقى له سِيَرا وقامَ مُعْتَمِدٌ يتلوه مُعْتَضِدٌ ... ومكتفي مُعْقِبٌ للمُلْكِ مُقْتَدِرا والقاهر القَرْم (¬1) والرَّاضي ومتقيًا ... فاذْكُرْ ومستكفيًا مِنْ بعده ذُكرَا ثُمَّ المطيعُ يليه الطَّائع ارْتَفَعَتْ ... عَلْياه بالقادر العالي إذا قَدَرا وقائِمٌ قد تلاه مُقْتدي سَبَقَا ... أيام مستظهرٍ بالله قد ظَهَرا عشرون يَتْبَعُهُمْ منهم ثمانيةٌ ... كانوا المنازِلَ والمسترشدُ القَمَرا (¬2) وفيها عند خروج السلطان من بغداد سار زَنْكي إلى المَوْصِل، وقُتِلَ ابن البُرْسُقي، لما قُتِلَ ولي ابنُه مسعود المَوْصِل، فلما دخل السُّلْطان محمود بغداد اتَّفق القاضي بهاء الدين الشَّهْرُزُوري ونصير الدِّين جَقَر (¬3) وصلاح الدين محمَّد الياغبساني (¬4) على النزول إلى بغداد، فأخذوا أموالًا كثيرة، وانحدروا ليخدموا بها السُّلْطان محمود ليقرَّ مسعود بن البُرْسُقي على ولاية المَوْصِل (¬5)، فلما وصلوا ارتأَوْا وقالوا: هذا صبيٌّ، وربما لا يقوم بالأمر فيكون عيبًا علينا، فقالوا: حتَّى نجتمع بابنِ قسيم الدَّوْلة زَنْكي بن آق سُنْقُر، وكان شحنة بغداد في تلك السَّنة. فاجتمعوا به، واستحلفوه على أن يكون القاضي بهاء الدين قاضي قُضاة البلاد والأمور الدينية إليه، وتقدمة العساكر لصلاح الدِّين، وولاية البلد وغيره لنصير الدين، فَحَلَف لهم، وتقَرَّرَ الأمر، وقَدَّموا المال ¬

_ (¬1) القرم من الرجال: السيد المعظَّم. "اللسان" (قرم). (¬2) الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء أهل فارس: 3/ 255 - 256. (¬3) في (ع) و (ح)، جعفر، وهو تحريف، والمثبت من "وفيات الأعيان" 1/ 364 - 366، وانظر "كتاب الروضتين": 1/ 116 بتحقيقي. (¬4) في (ع) و (ح): الثعلباني، وهو تحريف، والمثبت من "كتاب الروضتين": 1/ 115. (¬5) في هذا القول وهم، إذ إن مسعودًا ولي بعد مقتل أَبيه آق سنقر البرسقي، ثم ما لبث أن تُوفِّي، فولي بعده أخ له صغير، ومن ثم جرى له ما جرى، انظر تفصيل ذلك في "كتاب الروضتين": 1/ 115 - 116، و"الكامل" لابن الأثير: 10/ 643، وانظر ص 208 من هذا الجزء.

للسُّلْطان، فأجابهم إلى ذلك، وبعث مع زنكي ابني السُّلْطان ألب رسلان والخفاجي، وجعله أتابكهما، فدخل المَوْصِل في هذه السنة. وقيل: في سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة. وفيها وردتِ الأخبارُ أَنَّ السُّلْطان محمودًا لما وصل هَمَذَان قَبَضَ على العزيز وصادره واعتقله، وعلى وزيره أَيضًا، وسببه أَنَّ الوزير تكلَّم في العزيز، ويرنقش الزَّكوي تكلَّم في الوزير، وقال للسُّلْطان: هذا أَخَذَ الأموال من الخليفة، واتفق مع وزيره ابن صَدَقَة على أن يُرَحِّلاك من بغداد، ولا تبلغ غرضًا، فكلُّ ما جرى عليك منه. [قلت: وهذا العزيز هو عم العماد الكاتب الأصفهاني، وسنذكره في سنة ست وعشرين وخمس مئة] (¬1). وفيها بَعَثَ السُّلْطان إلى أنوشروان وهو مقيمٌ بالحريم الطَّاهري ببغداد ليستوزره، فلم يكن عنده شيء، فجهَّزه الوزير ابن صَدَقة والخليفة بالخِيَم والدَّوابّ وغيرها، وسار إلى هَمَذَان، فأقام وزيرًا عشرة أشهر، ثم استعفى، وعاد إلى بغداد. وفيها ثارتِ الفِتَنُ ببغداد، وسببه أبو الفتوح (¬2) الإسْفَراييني، فإنَّه كان يعظ ويَذْكُرُ مذهبَ الأَشْعري، ويورد أحاديثَ وأشياءَ على مذهب القُصَّاص. جلس يومًا بالنِّظامية وقال: قيل لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف أصبحتَ؟ فقال: أعمى بين عُمْيان، ضالًّا بين ضُلَّال (¬3). فأحضره الوزير ابنُ صَدَقة، وأحضر الفقهاء، فأفتوا بقَتْلِهِ، فاستقرَّ أن يُجدِّدَ إسلامه ويشدَّ الزِّنَّار (¬4) ويتوب، ومُنِعَ من الجلوس، وعاد فجلس، فَرُجِمَ. وكان يركبُ وعليه السِّلاح، ويُسْقِطُ حُرْمةَ المُصحف عند العوام، فاجتاز يومًا بسوق الثّلاثاء، فَرُجِمَ، ورموا عليه الميتات. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر ص 242 - 244 من هذا الجزء. (¬2) في (ع) و (خ): أبو الفرج، وهو تحريف، والمثبت من"المنتظم": 10/ 6، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (538 هـ). (¬3) لم أقف عليه في كتب الموضوعات على نكارةِ متنه. (¬4) انظر حاشيتنا رقم 4 ص 196 من هذا الجزء.

أحمد بن [أحمد بن] عبد الواحد

وكان يقول: ليس هذا الذي نتلوه كلام الله إنَّما هو عبارةٌ عنه. ووجدوا عند بعضِ أصحابه مُصحفًا وبين كلّ سطرين بيتُ شِعْرٍ، فأَمَرَ الخليفةُ بأَنْ يُخْرَجَ الإسفراييني من بغداد، ثم تعصَّب له قومٌ على مِثْلِ رأيه، فجلس، وظهر الشَّيخ عبد القادر الجِيلي، وجلس في الحلبة، ومال إليه النَّاس، وانتصر الحنابلة، فزال ما قَرَّر الإسفراييني من قلوب النَّاس، ورُزِقَ الشيخ عبد القادر القَبُول التَّام (¬1). وفيها قَتَلَ الباطينةُ وزيرَ السُّلْطان سنجر، وكان قد أفنى منهم اثني عشرة ألفًا، فبعثوا إليه سائسًا يخدمه في إصطَبْله مُدَّةً إلى أن وجد الفُرْصة، فدخل الوزير يومًا يفتقد دوابَّه، فوثَبَ عليه، فقتله، وقُتِلَ بعده (¬2). وفيها سافر بغدوين صاحبُ القُدْس إلى وادي موسى، فنهب أهلَه، وشَرَّدهم عنه (¬3). وفيها قيل: ماتَ مسعود بن البُرْسُقي بالرَّحبة، وكان في عَزْمِهِ أخذُ دمشق (¬4). وفيها تُوفِّي أَحْمد بن [أَحْمد بن] عبد الواحد (¬5) ابن أَحْمد بن محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن المتوكل على الله، أبو السَّعادات. سمع الحديث الكثير [ولقي الشيوخ] (¬6)، ووقع ليلة الخميس سابع عشرين رمضان من سَطْحه بمحلَّة التُّوثة، فماتَ، ودُفِنَ بمقبرة [باب] (6) الدَّير عن ثمانين سنة، [سمع أَبا الغنائم بن المأمون، وأبا جعفر بن المسلمة، والخطيب وغيرهم. وذكره جدي في "مشيخته" وقال: ولد سنة إحدى وأربعين وأربعة مئة، وكان صحيح السماع، وسمعتُ منه] (6). ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم": 10/ 6 - 7. (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 344. (¬3) المصدر السالف: 347. (¬4) المصدر السالف: 344. (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 7، و"مشيخة ابن الجوزي": 72 - 74، و"العبر" للذهبي: 4/ 49، و"الوافي بالوفيات": 6/ 227 - 228، و"عيون التواريخ" وفيات سنة (521 هـ)، و"النجوم الزاهرة": 5/ 232، و"شذرات الذهب": 4/ 64، وما بين حاصرتين من مصادر ترجمته. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "المشيخة": 73 - 74.

فاطمة بنت الحسين

[فصل: وفيها توفيت فاطمة بنت الحسين (¬1) ابن الحسن بن فَضْلويه الرَّازيّ، كانت واعظةً متعبِّدة، لها رِباطٌ تجتمع فيه الزَّاهدات، سمعت الكثير وروت الكثير من الحديث، وكانت صالحةً، توفيت في ربيع الأول، سمعتْ أَبا جعفر بن المسلمة، وأبا بكر الخَطيب وغيرهما، وذكرها جدي رحمه الله في "مشيخته"، فقال: سمعتُ عليها بقراءة أبي الفَضْل محمَّد بن ناصر كتاب "ذم الغيبة" لإبراهيم الحربي، ومن مجالس ابن سمعون بروايتها عن ابن النَّقور [عنه] (¬2)، و"مسند" الشَّافعيّ وغير ذلك] (¬3). هبة الله بن عليّ بن إبراهيم (¬4) أبو المعالي الشِّيرازي. كان من أكابر الفُضَلاء، ومن شِعْره [ذكره ابن السمعاني] (¬5): [من الوافر] أَحِنُّ إلى أُناسٍ قد أَنِسْنا ... بقربهُمُ زمانًا ثم غابوا ونعلَمُ أَنَّنا لا بُدَّ يومًا ... نتابعُهُمْ فيَجْمَعُنا التُّرابُ فيا رَبَّ الورى عَطْفًا علينا ... فليسَ إلى سِواك لنا مآبُ السَّنة الثَّانية والعشرون وخمس مئة فيها وصل عليُّ بن طِراد من عند سنجر ومعه رسولٌ، فطلب الرَّسول أن يَخْطُبَ على منابر بغداد في الجُمَع، فأَذِنَ له في كل جُمُعة في جامعٍ. ¬

_ (¬1) لها ترجمة في "المنتظم": 10/ 7 - 8، و"مشيخة ابن الجوزي": 205 - 206، وفي "المشيخة": فاطمة بنت محمَّد بن الحسين. (¬2) ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 8. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "مشيخة ابن الجوزي"، و"المنتظم". (¬4) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 27/ 293 - وفيه وفاته سنة (520 هـ) - و"النجوم الزاهرة": 5/ 232. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحسن بن علي بن صدقة

وفيها توجَّه محمود إلى سنجر، واتفقا بعد خشونةٍ كانت بينهما، وسَلَّم إليه دُبَيسًا، وقال: تسأل الخليفة أن يرضى عنه، وتعزل زَنْكي من المَوْصل، وتسلمها إلى دُبَيس. وتقدَّم الخليفة إلى نقيب النُّقباء وشيخ الشيوخ ليمضيا إلى سنجر في الرِّسالة، فبذَلَ النقيب ثلاثين أَلْف دينار، وشيخ الشيوخ خمسة عشر ألفًا ولا يخرجا، فأُخذ المال منهما وأُعفيا (¬1). وفيها تُوفِّي الحسنُ بنُ علي بنِ صَدَقَة (¬2) أبو علي، جلال الدِّين، وزير المُسْتَرْشد. كان عاقلًا، رئيسًا، فاضلًا دَيِّنًا، ناصحًا لمخدومه، حَسَنَ السِّيرة، محمودَ الطَّريقة، محبوبًا إلى الخاصَّة والعامة، جَوَادًا مُمَدَّحًا، تُوفِّي ببغداد ليلة الأحد، وحَضَرَ أربابُ الدَّولة، وكان يومًا مشهودًا، وحَزِنَ الخليفةُ عليه، وتطاول للوزارة جماعة، منهم عِزُّ الدولة بن المُطَّلب، وابن الأنباري وأَحمد بن النِّظام وغيرهم، فلم يستوزر أحدًا منهم، واستناب نقيبَ النُّقباء عليّ بن طِراد الزَّينبي. ومن شِعرْ ابنِ صدقة يمدح المسترشد: [من الطَّويل] وَجَدتُ الورى كالماءِ طَعْمًا ورِقَّةً ... وأنَّ أميرَ المُؤْمنين زُلالُهُ وصَوَّرْتُ معنى العَقْلِ شخصًا مُصَوَّرًا ... وأَنَّ أميرَ المُؤْمنين مِثَالُهُ فلولا مكانُ الدِّين والشَّرْعِ والتُّقى ... لقلتُ من الإعظامِ جَلَّ جلالُهُ (¬3) قال أَحْمد بن عَمَّار الكُوفيّ (¬4) يمدحه: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم": 10/ 8 - 9. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 9 - 10، و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 2/ 94 - 96، و"الكامل": 10/ 652، و"الفخري": 304 - 305، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 552 - 553، و"العبر" 4/ 51، و"الوافي بالوفيات": 12/ 147 - 148، و"عيون التواريخ" في وفيات سنة (521 هـ)، و"النجوم الزاهرة": 5/ 233، و"شذرات الذهب": 4/ 66. (¬3) انظر "المنتظم": 10/ 9 - 10. (¬4) سترد ترجمته في وفيات سنة (527 هـ) من هذا الجزء.

خَلِّهِ تُنْضِ ليلَهُ الأَنْضاءُ ... فعساه يشفي جَوَاهُ الخواءُ فقدِ استَنْجَدَتْ حَيَاهُ رُبى نَجْـ ... ـدٍ وشامَتْ بُروقَهُ شَمَّاءُ وَثَنَتْ نحوه الثَّنِيَّةُ قَلْبًا ... قُلَّبًا تستخِفُّه الأَهْواءُ عاطفاتٍ إليه أعطافَها شو ... قًا كما تَلْفِتُ الطِّلى الأَطْلاءُ دِمَنٌ دامَ لي بها اللَّهو حينًا ... وصفا لي فيها الهوى والهواءُ وأَسَرْتُ السَّرَّاءَ فيها بقلبٍ ... أَسَرَتْه مِنْ بعدها الضَّراءُ فَسَقَتْ عَهْدَها العِهادُ وَرَوَّتْ ... منه تلكَ النَّواديَ الأَنْداءُ وَأَرَبَّتْ على الرُّبى من ثَرَاها ... ثَرَّةٌ للرِّياضِ منها ثَرَاءُ زَمَنٌ كان لي على الهَمِّ هَمٌّ ... بالتَّصابي وبالغواني غَنَاءُ في رياضٍ راضَت خِلال جلال الدِّ ... ينِ أَرْواحُهُنَّ والصَّهْباءُ شِيَمٌ شامها النَّسيمُ فَرَقَّتْ ... وَجَفَتْ عن سموِّها الأَسْماءُ شابَ بالعُرْفِ عَرْفَهُنَّ وقِدْمًا ... خامَرَ الخمرَ في الزُّجاجةِ ماءُ مَلِكٌ خاطَبَ الملوكَ برَمْزٍ ... خَطَبَتْ عن خُطَّابِهِ الخُطَباءُ أَلْمَعِيٌّ لو شامَ لامعَ أمرٍ ... لأَرَتْهُ غيوبَهُ الآراءُ لك من وَجهِهِ وكَفَّيه ماءا ... ن فهذا حَيًّا وذاك حَيَاءُ رَوَّضَ الرَّوْضَ والنَّديَّ نَدَاه ... فاعْتَفَتْه الأَحياءُ والأَحياءُ (¬1) بيدٍ أَيَّدَتْ من الدَّهْر ما انآ ... دَ وكانتْ لها اليدُ البيضاءُ ويراعٍ راعَ الذَّوابِلَ بَأْسًا ... ورَعى المجدَ حين قَلَّ الرِّعاءُ كلَّما صَلَّ (¬2) صال منهُ بصِلٍّ ... لا يُرى للرُّقى إليه ارْتقاءُ وإذا ماجَ ثُمَّ مَجَّ لُعابًا ... كان منه الشِّفاءُ والإشقاءُ فعليهِ للسَّائلين صِلاتٌ ... ولديهِ للصَّائلين صِلاءُ (¬3) قد أصابوا لديه صَوْبًا وصابًا ... فيهما راحةٌ لهم وشقاءُ ¬

(¬1) النديَّ: النادي، اعتفته: طلبت معروفه. الأحياء: النَّاس والحيوان. والأحياء -الثَّانية- أحياء العرب. (¬2) في (ع) و (خ): صال، والمثبت من "الخريدة"، وصلَّ: صات، والصِلُّ: الحية من أخبث الحيات. (¬3) الصَّلاء: النار، الوقود.

الحسين بن علي بن أبي القاسم

وَرَّثَتْه هَدْيَ الجدودِ جدودٌ ... ورَّثَتْها آباءَها الآباءُ معشرٌ عاشروا الزمان وولَّوا ... وعليهِ رِيُّ بهم ورُواءُ يَا أخا الجُوْدِ والسَّماح نِداءٌ ... بينَ سَمْعَيه من نَدَاك نِداءُ رائقًا لا يُرِيقُ فينا دمَ الـ ... أموالِ حتَّى تحيا به العَلْياءُ كما هَزَّه السَّماحُ تثنَّى ... بين أثنائِهِ عليك الثَّناءُ حاز شَأْوَ الصِّفاتِ فالعِلْم منه ... عَلَمٌ والذَّكاءُ فيه ذُكاءُ مُسْتَقِلٌّ للمالِ لا يَجْتَدِيه ... إنَّما هَمُّهُ العُلَى والعَلاءُ همَّةٌ نالتِ الثُّريا عُلُوًّا ... فاستوى عندها الثَّرى والثَّراءُ لم يَطُلْها طَوْلُ السَّحاب ولا جا ... زت بمجرى أفلاكها الجَوْزَاءُ تستميلُ الآمالُ عِطْفَيه عَطْفًا ... ويهزُّ الأرجاءَ منه الرَّجاءُ وإذا القَصدُ أَخطأَ ابنَ عليٍّ ... فعلى العُرْف والعُفَاةِ العَفَاءُ من أبيات (¬1). الحسين بن عليّ بن أبي القاسم (¬2) أبو علي اللَّامِشِي السَّمَرْقَنْدِي، الفقيه الحنفي. كان يُضرب به المَثَل في النَّظر، سَمِعَ الحديث ورواه، وكان صالحًا على طريقة السَّلَف، مُطَّرِحًا للكُلْفة، بُعِثَ رسولًا من خاقان ملك ما وراء النَّهْر إلى بغداد، فاتّفق أوانُ الحَجِّ: فقيل له: قد قطعت مسافة بعيدة، فلو حَجَجْتَ، فقال: معاذ الله أَنْ أجعلَ الحَجَّ تَبعًا لرسالة هؤلاء. وَرَجَعَ إلى سَمَرْقَنْد، فتوفِّي بها في رمضان عن إحدى وثمانين سنة. ¬

_ (¬1) أورد القصيدة بتمامها العماد الكاتب في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 4 / م 1/ 229 - 233، مع اختلاف في بعض ألفاظها، وأورد بعض أبياتها الصفدي في "الوافي بالوفيات": 7/ 256. (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 12/ 376، و"التحبير": 1/ 234 - 236، و"المنتظم": 10/ 10، و"معجم البلدان": 5/ 8، و"اللباب": 3/ 402، و"الجواهر المضية": 2/ 120 - 121، و"النجوم الزاهرة": 5/ 233، و"الفوائد البهية": 67.

طغتكين بن عبد الله

طُغْتِكِين بن عبد الله (¬1) أبو منصور ظهير الدين أتابك صاحب الشَّام، مملوك تاج الدَّوْلة تُتُش. كان مقدَّمًا عنده، زَوَّجه أُمَّ ابنه دُقاق، ونَصَّ عليه في أتابكية دُقاق، وقد ذكرنا وقائعه، وكان شجاعًا، شَهْمًا، عادلًا، ولما احتُضِرَ أوصى إلى ولده تاج الملوك بوري بحُسْنِ الطَّريقة، والتزام العَدْل، وإقامة منار الإِسلام، والجهاد والإحسان إلى الرَّعية، ومراجعة العلماء وأرباب الخبرة فيما يتجدَّد. وتوفي يوم السبت ثامن صفر، ودُفِنَ في تربته التي بناها قِبْلي دمشق عند المسجد الجديد، وهي قائمة إلى هلمَّ جرا، وحَزِنَ أهلُ دمشق عليه، وعُمِلَ المأتم له في كل مَحَلَّة وسوق, لأنه كان حَسَنَ السيرة، ظاهر العَدْل، كثيرَ الإحسان, مُدَبِّرًا للممالك، فَحَسُنَتْ آثاره، وعُمِرَتْ البلاد في أيامه، وأقام حاكمًا على الشَّام خمسًا وثلاثين سنة. وجَلَسَ بُوري مكانه، فسار سيرته مُدَّة، وأَقَرَّ الولاة على حالهم، ثم تغيَّرَتْ نِيَّتُه وأظهر (¬2) السُّوء لأصحابِ أَبيه، والظُّلْم للرَّعية، وقَبَضَ على خواصِّ أَبيه واحدًا بعد واحد، فاسترابوا به، ونَفَرَتِ القلوبُ منه، وتمكَّن وزيره المَزْدَقاني من أهل دمشق، وصادَقَ الباطنية، واستعان بهم. وقال ابنُ القلانسي: مَرِض طُغتِكين مَرَضًا أنهك قُوَّته، وأَنْحَلَ جسمه، [وأضعف مُنَّته] (3)، فأحضر ولده بُوري، وأمراءَ دولته وخواصَّه، ونَصَّ على بوري، ووَصَّاه، وذكر بمعنى ما تقدم. قال: فَعَدَل ولده في الرعية [وعمَّ إحسانُه جميعَ البرية] (¬3)، وكان بظاهر دمشق أماكن داثرة، [ومواضع غامرة] (¬4) فلما قَصَدَ طُغْتِكِين بغداد، كتب إلى المسترشد يستأذنه في بيعها ليصرف ثمنها في الأجناد [والمريدين الجهاد] (3)، فأَذِنَ له في ذلك، ووقَّع بخطِّه إذْنًا مُؤَبَّدًا، فَعَمَرتْ ضياع كانت خالية، وعلى عروشها خاوية، وظهرت ¬

_ (¬1) سلفت أخباره مفرقة على السنين، وله ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 19/ 519 - 521، وفيه مصادر ترجمته. (¬2) في (م) و (ش): وأضمر. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) الغامر من الأرض والدور: الخراب، "معجم متن اللغة": 4/ 323.

شرف النساء شرف خاتون

منها الخيرات، وعَمَّتِ البركات. وأَسَرَّ بوري في نفسه من أمر الباطنية ما لم يُبْدِه لأحد عندما قويت شوكَتُهُمْ، فلما مكَّنه الله منهم أوقعَ بهم، وكان بَهْرَام داعيهم في بانياس، قد بَثَّ دُعاته في سائر الجهات، واستغوى خَلْقًا كثيرًا، وشَرَعَ في قَتْلِ الأعيان والزهَّاد، والوزير يساعِدُه على أغراضه لتكون أيديهما واحدة، وبُوري غير راضٍ بذلك، بل تبعثه السِّياسة على الصَّبْر، وكان بنو جندل في وادي التَّيم هم الأعيان، فاحتال على برق بن جَنْدَل حتَّى صار في يده، وكان شابًّا شجاعًا، حَسَنَ الصُّورة، فقتله صَبْرًا، وكان له أخٌ يقال له ضَحَّاك، فاتَّفق مع أهله، وتعاهدوا على قتال بَهْرام، فحشد وخَرَجَ من بانياس قاصدًا إليهم، وكانوا مستعدِّين للقائه، فنزل قريبًا منهم في خيمةٍ، واستعدَّ للزَّحْف إليهم، فجاؤوا بقَضِّهم وقَضِيضهم، وهَجَموا عليه الخيمة، وقطَّعوه إرْبًا إرْبًا، وقتلوا أصحابه، ولم يُفْلت منهم إلَّا الشَّريد، وقام بعده رفيقُه إسماعيل العَجَمي، وجرى المَزْدَقاني معه على عادته مع بَهْرام لكن قَلُّوا وضَعُفوا، فحينئذٍ أخذ بُوري في استئصالهم، وأوقع بالوزير، وسنذكره إن شاء الله تعالى في السَّنة الآتية (¬1). شَرَفُ النِّساءِ شرف خاتون زوجة طُغْتِكِين والدةُ بُوري. كانت صالحة، كثيرة الخيرات، [قال أبو يعلى بن القلانسي: إنها توفيت في هذه السنة] (¬2)، ودُفنت في قُبَّتها التي بنتها خارجَ بابِ الفراديس. عبد الله بن طاهر بن محمَّد بن كاكُوا (¬3) أبو محمَّد الواعظ، [ويعرف بابن زينة] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 347 - 356، وعن 217، 219 من هذا الجزء. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) (ش)، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 356. (¬3) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) و (س): 9/ 455، و"مختصره" لابن منظور: 12/ 283، و"النجوم الزاهرة": 5/ 234، ووفاته عند ابن عساكر سنة (520 هـ). (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

كافور بن عبد الله

ولد بصُور، ونَشَأ بالشَّام، [وذَكَرَ أَنَّه سمع القاضي القُضَاعي، وتفقَّه على أبي إسحاق الشِّيرازي، وسمع منه] (¬1) قال: أنشدني أبو إسحاق الشّيرازي لنفسه: [من البسيط] لمَّا أَتاني كتابٌ منك مُبْتَسِمًا ... عن كلِّ معنًى ولفظٍ غيرِ محدودِ حَكَتْ معانيه في أثناء أَسْطُره ... أفعالكَ البِيضَ في أحواليَ السُّودِ [وقد ذكرناه في ترجمة أبي إسحاق] (1). كافور بن عبد الله (¬2) أبو المِسْك الحَبَشي الخَصِيّ، ويعرف بالصُّوري. [وأصله من مصر، وسكن صور، فنسب إليها] (1). طاف الدُّنيا، وسمع الحديث، وعاد إلى بغداد فمات بها، قَدِم بَيهَق، فكتب إلى رئيسها محمَّد بن منصور البَيهقي: [من البسيط] هل مِنْ قِرًى يَا أَبا سَعد تَجودُ بِهِ ... لخادمٍ قادمٍ وافاكَ من صُوْرِ شِعارُهُ إنْ دَنَتْ دارٌ وإنْ بَعُدَتْ ... اللهُ يُبْقي أَبا سَعدِ بن مَنْصورِ (¬3) السَّنة الثَّالثة والعشرون وخمس مئة فيها في المحرَّم عاد السُّلْطان محمود إلى بغداد، [وأقام دُبَيس في بعض الطريق، فاجتهد في أن يمكن دُبَيس من دخول بغداد] (¬4) وأن يرضى عنه فلم يمكن، وبعث السُّلْطان إلى زَنْكي بأن يسلم المَوْصِل إلى دُبَيس، فلم يفعل. وفيها وكل السُّلْطان محمود بقاضي القضاة الزَّينَبي، وسببُه أَنَّه نُقِلَ إليه أن مغلَّ أوقاف مدرسة أبي حنيفة يغل في كل سنة ثمانين أَلْف دينار، وما ينفق عشرة آلاف دينار، فطلب السُّلْطانُ منه الحساب. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) (ش). (¬2) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 14/ 494، و"خريدة القصر" قسم شعراء مصر: 2/ 216 - 217، و"الوافي بالوفيات": 24/ 311 - 312، وعندهم وفاته سنة (521 هـ). (¬3) البيتان في "تاريخ ابن عساكر" و"الخريدة". (¬4) ما بين حاصرتين من (ح).

وفي صفر خَلَعَ الخليفةُ على أبي القاسم عليّ بن طِراد نقيب النقباء خِلَعَ الوزارة. وفيها ضَمِنَ زَنْكي للسُّلْطان مئة أَلْف دينار على أن لا يعزله عن المَوْصِل، وضَمِنَ الخليفة للسلطان مثل ذلك ولا يولي دُبَيسًا ولاية، فَقَبِلَ السُّلْطان. ثم إنَّ دُبَيْسًا دخل بغداد وأتى إلى دارِ السُّلْطان، وركب في طَيَّارٍ (¬1) للسلطان في دِجْلَة، والنَّاسُ يلعنونه ويسُبُّونه، وكان سنجر قد سلَّمه إلى ابنته امرأةِ محمود، فكانتِ السببَ في دخوله بغداد. ورحل السُّلْطان من بغداد في جُمادى الآخرة، وسَلَّم الحِلَّة وشحنكية بغداد إلى بِهْروز الخادم، واتَّفَقَ أن ماتت ابنةُ سنجر التي كانت تدافع عن دُبَيْس، ومَرِضَ محمود، فأخذ دُبَيسٌ ولدًا صغيرًا لمحمود، ومضى إلى الحِلَّة، فدخلها في رمضان، وخَرَجَ منها بِهْروز. وبَعَثَ بِهْروز كاتبه إلى محمود بذلك، وكان عند محمود نَظَر الخادم الذي للخليفة ليقيمه من عزاء ابنة سنجر، فأُخبر، فقال لمحمود: منعتَ أميرَ المُؤْمنين من أن يستخدم العساكر، وسلَّطْتَ عليه عدوَّه. فأحضر محمود الأحمديلي وقزل، وقال: أنتما ضَمِنْتُما دُبَيسًا، وما أعرفه إلَّا منكما. فسار الأحمديلي يطلب العراق، وبَعَثَ دُبَيسٌ إلى الخليفة يقول: إنْ رضيت عني رَدَدْتُ عليك أضعافَ ما غَرِمْتَ من الأموال، وأكون مملوكك. وشَرَعَ في بيع الغِلال وجَمْعِ الأموال، حتَّى حَصَّلَ خمس مئة ألفِ دينار، ودَوَّن عشرة آلاف فارس بعد أن وصل في ثلاث مئة، ووصل الأحمديلي بغداد، ودخل على الخليفة، فأعطاه يده فَقَبَّلَها، ثم عَبَرَ دِجْلة قاصدًا إلى الحِلَّة. ووصلتِ الأخبارُ بأَنَّ السُّلْطان قد وصل يريد بغداد، فبعث إليه دُبَيسٌ أموالًا عظيمة وخَيلًا وهدايا، وضَمِنَ له أَنَّه إذا أَصلَحَ بينه وبين الخليفة أعطاه مئتي أَلْف دينار، وللخليفة ثلاث مئة حصان بأطواق الذَّهب، وإن لم يرضَ عنه دَخَلَ البَريَّة، فقال السُّلْطان: لا أرضى عنه أبدًا. فأخذ الصَّبيَّ، وخَرَجَ من الحِلَّة بالجمال والرَّوايا, ولا يدري أين يقصد، فوصل الخبر بأَنَّه دخل البصرة وأخذ منها أموالًا كثيرة، فبَعَثَ ¬

_ (¬1) الطيار: زورق خفيف سريع الجريان، انظر "معجم متن اللغة": 3/ 646.

السُّلْطان إليه قزل في عشرة آلاف فارس، فدخَلَ البَرِيَّة وانقطع خبره. وخَرَجَ الوزير أبو القاسم للقاء السُّلْطان، فأعطاه السُّلْطان فرسه وعليه ما قيمته ثلاثون أَلْف دينار. وفي روايةٍ: أن سنجر دَفَعَ دُبَيْسًا إلى محمود، وكان معتقلًا عنده بنيسابور، وقال له: ادخل به إلى بغداد، واشفعْ فيه عند الخليفة. فلمَّا دخل به قَبِل الخليفة شفاعته، وخَلَعَ عليه، وأعاده إلى الحِلَّة، والأَوْل أَشْهر. وفيها كانت فتنة الإسماعيلية بدمشق، وكان ابن محرز قد سَلَّم إليهم حِصن القدموس لأَنَّ بُوري قصده ليأخذه منه، فسلمه إليهم، وكان الوزير المَزْدَقاني بدمشق يكاتبهم ويهاديهم خوفًا من بني الصّوفي، فَشَرَعَ وجيه الدِّين المُفَرِّج بن الصُّوفي رئيس دمشق مع بوري في الإغراء بالإسماعيلية، وهوَّن عليه أمرهم، وساعده الحاجب فيروز، ثم اتَّفقوا على قَتْلِ الوزير المَزْدَقاني، فاستدعاه بُوري إلى القلعة سابع رمضان، فجلس عنده، فلمَّا قام ليخرج وَثَبَ عليه جماعةٌ من الأجناد، فقتلوه في دِهْليز قلعة دمشق، وقطعوا رأسه، وأحرقوا جسده في باب الحديد، ثم مضوا إلى دار الدَّعْوة، وقتلوا كلَّ من بها، وثار عوامُّ دمشق على الإسماعيلية، فقتلوهم شَرَّ قِتْلةٍ؛ ذبحًا ورضًّا بالحجارة والسُّيوف، وصَلَبوا منهم جماعةً على سور دمشق، فكان عِدَّةُ مَنْ قُتِلَ منهم عشرة آلاف على ما قيل، ولم يتعرضوا لحريمهم ولا لأموالهم، فقال نَصر بن إبراهيم البازْيار (¬1) يمدح ابنَ الصّوفي: [من الوافر] مَلَكْناكُمْ فَصُنَّا مَنْ وراكُمْ ... ولو مُلِّكْتُمونا لم تَصُونوا أَسَلْنا مِنْ دمائِكُمُ بحورًا ... جسومكُمُ لجائِشها سَفِينُ فقلتُ لذي النِّفاقِ بحيثُ كانوا ... أبادَ حِماكُمُ الأسدُ الحرونُ (¬2) ¬

_ (¬1) شاعر ولد بحلب، ونشأ بدمشق، كان معلم كُتَّاب، ثم أصبح طبيبًا، وترجم له العماد في "الخريدة" قسم شعراء الشَّام: 2/ 165 - 168، وساق مقتطفات من شعره، وذكر أن وفاته سنة (542 هـ) عن سبعين عامًا، وترجم له كذلك الصفدي في "الوافي بالوفيات": 27/ 50 - 51، والبازيار: اسم يطلق لمن يحفظ الباز، وهو من الجوارح التي يصاد بها، انظر "اللباب" لابن الأثير: 1/ 109. (¬2) الأبيات من قصيدة ساق بعض أبياتها العماد في "الخريدة"، والصفدي في "الوافي بالوفيات" مع اختلاف في ترتيب أبياتها.

أسعد بن أبي نصر

وكان ببانياس العَجَمي، فسلَّمها إلى الفرنج [خوفًا من المسلمين] (¬1)، فقويت [نفوس الفرنج] (¬2) على قَصدِ دمشق، واستعدُّوا لها، وبَلَغَ بوري فراسل ملوكَ الأطراف، وبَعَثَ بالفقيه عبد الوهَّاب بن الحَنْبلي إلى بغداد رسولًا عنه وعن أهل دمشق بذكر استيلاء الفرنج على بانياس، وأَنَّ قَصدَهم دمشق، [وقد أشرفوا عليها] (1)، فَخُلِعَ عليه، ووعد بإنفاذ العساكر، وجاء الفرنج، فنزلوا على جسر الخشب، وأخرج بُوري عَسْكرًا من باب شرقي في اللَّيل على ناحية بُراق (¬3)، فوقعوا على جماعةٍ من الفرنج كانوا قد مضوا إلى حوران يطلبون المِيرة، فقتلوهم وأسروا الباقين، وبلغ الفرنج، فرحلوا نحو حوران والمسلمون خلفهم ينهبون ويقتلون حتَّى وصلوا إلى طبرية (¬4). وفيها تُوفِّي أسَعد بن أبي نَصر (¬5) أبو الفَتْح المِيهَني، الإِمام الشَّافعيّ، [صاحب التعليق، تفقه على أبي المظفر السَّمْعاني وغيره، و] (1)، بَرَعَ في الفِقْه، وفاقَ أبناء جنسه [في النَّظر] (1)، وحَصَلَتْ له منزلةٌ عند الملوك، وقَدِمَ بغداد، ودَرَّس بالنِّظامية، وعَلَّق عنه بها جماعةٌ "تعليقته" الخلافية، وخَرَجَ من بغداد، فنزل هَمَذَان، فمرِضَ وكان في بيتٍ، فقال لمن [كان] (1) عنده: اخرجوا عني. فخرجوا، فجعل يَلْطِمُ وجهه ويبكي، ويقول: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] يُرَدِّدُها حتَّى مات. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ح): نفوسهم، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) براق: قرية في حوران تبعد 18 كم شمال شرق بلدة المسمية في منطقة الصنمين محافظة درعا، انظر "المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري": 1/ 267. (¬4) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 356 - 360، و"الكامل": 10/ 657 - 658. (¬5) له ترجمة في "تبيين كذب المفتري": 320، و"المنتظم": 10/ 13، و"الكامل": 10/ 660، و"وفيات الأعيان": 1/ 207 - 208، و"طبقات الشافعية" للسبكي": 7/ 42 - 43، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 633 - 634، وفيه تتمة مصادر ترجمته. وذكر ابن الجوزي وابن الأثير وفاته في هذه السنة كما عند السبط، وذكر السبكي وفاته بعد العشرين وخمس مئة، أما الباقون فذكروا وفاته سنة (527 هـ).

حمزة بن هبة الله بن محمد

حمزة بن هبة الله بن محمَّد (¬1) ابن الحسين بن داود بن عيسى بن محمَّد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو الغنائم النَّيْسابوري. ولد سنة تسع وعشرين وأربع مئة، وسمع الحديث الكثير، وحَدَّث بالكثير، وضَمَّ إلى شَرَفِ النَّسْب شَرَفَ التَّقوى، وكان زيديَّ المذهب، تُوفِّي في المُحَرَّم. طاهر بن سَعد (¬2) أبو علي الوزير المَزْدَقاني. كان سَمْحًا، جَوَادًا، بنى المسجد على الشَّرَف شمالي دمشق عند تُرْبة ستِّ الشَّام، ويسمى مسجد الوزير، وفيه القُرَّاء، وعليه الوقف، وكان قد عاداه وجيه الدولة [المفرِّج بن الحسن] (3) بن الصُّوفي [رئيس دمشق] (¬3)، فانتمى إلى الإسماعيلية خوفًا منه، فَقُتِلَ كما ذكرنا (¬4). [فصل: وفيها تُوفِّي عبد الله بن محمَّد بن إسماعيل (¬5) أبو محمَّد المصري، نزيل مكة، ويُعرف بابن الغَزَال, لأن جدَّه كان يُشْبِهُ الغَزَال في عَدْوه. أقام بمكة واستوطنها، وذهب بصره بها، وتوفي ودفن في المُعَلَّى. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "منتخب السياق" للصريفيني: 317 - 318، و"التحبير": 1/ 255 - 256، و"المنتظم": 10/ 13 - 14، و"الكامل": 10/ 660، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 573. (¬2) سلفت أخباره مفرقة على السنين، وله ترجمة في "النجوم الزاهرة": 5/ 235. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) انظر ص 217 من هذا الجزء. (¬5) له ترجمة في "العقد الثمين": 5/ 242 - 243، و"مختصر تاريخ ابن عساكر": 13/ 268 (اختصار سكينة الشهابي على نهج ابن منظور)، وفيه وفاته سنة (524 هـ).

هبة الله بن أحمد بن محمد

سمع بمكة كريمةَ بنتَ أَحْمد المَرْوزية، وبمصر القاضي القُضاعي، وبدمشق أَبا القاسم الحِنَّائي، وأبا الحسن (¬1) بن صَصْرَى، والخطيب، وغيرهم. وروى عنه الحافظ ابن عساكر، لم يرو عنه إلَّا حديثًا واحدًا لصممٍ كان به، وهو قوله - عليه السلام -: "الأعمال بالنِّيَّات" (¬2)] (¬3). هبةُ الله بنُ أَحْمد بنِ محمد (¬4) أبو محمَّد الأَنْصاري، ويعرف بابن الأَكْفَاني. دمشقيٌّ، ولد سنةَ أربعٍ وأربعين وأربع مئة، وماتَ بدمشق، سمع الكثير، ولقي الشُّيوخ، سمع جَدَّه لأُمه أَبا الحسن بن صَصْرَى [والخطيب وغيرهما، وروى عنه غيث بن عليّ، وهو من أقرانه، وقال الحافظ ابن عساكر: سمع أباه [وأبا] الحسين وأبا نصر بن طلاب وغيرهم] (¬5) وكان يزكِّي الشُّهود إلى أن مات، وكان يُنْشد: [من الطَّويل] إذا رشوةٌ من باب دارٍ تَقَحَّمَتْ ... على أهلِ بيتٍ والأمانةُ فيهِ سَعَتْ هَرَبًا منه وولَّتْ كأنها ... حليمٌ تولَّى عن جواب (¬6) سَفِيهِ السَّنة الرَّابعة والعشرون وخمس مئة فيها في ربيع الأَوَّل كانت ببغداد زَلْزلةٌ عظيمة هَدَمَتْ دُورًا كثيرة، ومات خَلْقٌ كثير، ثم حَدَث عَقِيبها موتُ السُّلْطان محمود، وحروب عظيمة. ¬

_ (¬1) في (م) و (ش) أَبا القاسم، والمثبت من "العقد الثمين". (¬2) أخرجه البُخَارِيّ (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب، وهو في "المسند" للإمام أَحْمد (168). (¬3) ما بين حاصرتين من (م)، ونحوه في (ش). (¬4) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق": 360، و"مختصر تاريخ دمشق" لابن منظور: 27/ 65 - 66، و"العبر" للذهبي: 4/ 63، و"سير أعلام النبلاء" 19/ 576 - 578، وفيه تتمة مصادر ترجمته، ووفاته عندهم سنة (524 هـ). (¬5) في (ع) و (ح): بن صصرى وغيره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) في (ع) و (ح) من، والمثبت من "مختصر ابن منظور"، وفي (م) و (ش): جؤار.

وفي جمادى الأُولى ارتفعت سحابةٌ على بلد المَوْصِل، فأمطرتْ نارًا أحرقت ما مَطَرَت عليه. وقُتِلَ الآمر صاحب مِصر. وفيها استَوْزَرَ بُوري المُفَرِّجَ بنَ الصُّوفي، وكان ضعيفَ الكتابة إلَّا أَنَّ رأيه كان سديدًا، ومذهبه في النَّاهة حميدًا، فَعَدَل وأحسن، وولَّى في الأعمال الثِّقات والكُفاة. وفيها وَصَلَ زَنْكي بن آق سُنْقُر إلى حلب من المَوْصِل وقد أَظْهَرَ أَنَّه على عَزْمِ الجهاد، وراسل بُوري يلتمس منه المعونة على محاربة الفرنج، فأرسل إليه مَنِ اسْتَحْلفه الأيمان المغلَّظَة، واستوثق منه لنفسه ولصاحب حِمْص وحماة وأصحاب الأطراف، وكان سونج بن بوري بحماة، فبعث إليه من دمشق خمس مئة فارس، وأمره بالمُضي إلى خدمة زَنْكي، وكان في عسكر بوري أعيان الأُمراء، فسار سونج من حماة إلى حلب، فأحسن زَنْكي لقاءهم وأكرمهم، وغافلهم أيامًا وقَبَضَ عليهم، وسونج في الجُمْلة، ونَهَبَ خيامهم وأثقالهم، وهَرَبَ منهم من قَدَر، وجاء في يومه إلى حماة، فاستولى على ما فيها لخلوِّها من الرّجال، ورحل إلى حِمْص وكان صاحبها خيرخان معه، وهو الذي حَسَّنَ له الغَدْر، فحين حصل على حِمْص اعتقله ونَهَبَه، وطلبَ منه تسليمَ حِمْص، فأبى مَنْ في القلعة وقاتلوه، فأقام أيامًا ورحل إلى المَوْصل، ومعه سونج بن بوري، واعتقل الباقين في حلب، وقيدهم، والتمس منهم خمسين أَلْف دينار، فشرع بُوري في تحصيلها, ولما بلغ الملوكَ فِعْلُ زَنْكي لعنوه وسَبُّوه ونفروا منه، وساءت سيرته، وبلغ السلطان، فَجَهَّز إليه [جيشًا] (¬1)، فمَرِضَ واشتغل بمَرَضِهِ. وفيها ظهر بالعراق عقاربُ طَيَّارة لها أجنحة، وهي ذاتُ شوكتين، فقتلتْ من الأطفال خَلْقًا كثيرًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ح).

إبراهيم بن عثمان بن محمد

فصل وفيها تُوفِّي إبراهيم بن عثمان بن محمَّد (¬1) أبو إسحاق الغَزِّي الكلبي، وقيل أبو القاسم، وقيل أبو مَرْثَد (¬2)، الشَّاعر. ولد بغَزَّة سنة إحدى وأربعين وأربع مئة، وكان أحدَ فضلاءِ الدَّهْر، انتقل إلى العراق، وخرج إلى خُرَاسان، وكَرْمان وفارس وأَصبهان، وامتدح [بها] (¬3) جماعةً من الرؤساء [والأعيان] (3)، وانتشر شِعْرُه هناك. [وقد ذكره ابنُ السَّمعاني في "الذيل" والحافظ ابن عساكر في "التاريخ" والعماد في "الخريدة"، وقال ابن عساكر: وقد اختلفوا في كنيته، فقيل أبو القاسم، وقيل أبو إسحاق، وقيل: أبو مَدْيَن (¬4)، الكَلْبي، شاعرٌ مُحْسِنٌ مجيدٌ] (¬5). وأثنى عليه العماد الكاتب، فقال: وكم له من حِكْمةٍ مُحْكَمَةِ النَّسْج، وفِقْرَةٍ واضحةِ النَّهْج، وكلامٍ أحلى من منطق الحسناء، [وأ] على [من] منطقة الجوزاء، وقصائد كالفرائد، وقلائد كعقود الخرائد، وغُرَرٍ حِسان، ودُرٍّ ومَرْجان، وذكر كلامًا طويلًا (¬6). وقال ابنُ السَّمْعاني: خَرَجَ الغَزِّي من مَرْو يريد الحج، فتوفيَ في الطَّريق، فَحُمِلَ إلى بَلْخ، فَدُفن بها، وكان يقول: إنِّي لأَرْجو أن يعفو الله عني لأني شيخٌ مُسِنٌّ قد جاوزتُ الثمانين سنة، وأنا من بَلَدِ الإِمام الشَّافعي، وغريبٌ. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 2/ 469 - 470، و"نزهة الألباء": 387، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشَّام: 1/ 3 - 75، و"المنتظم": 10/ 15 - 16، و"الكامل": 10/ 666 - 667، و"وفيات الأعيان": 1/ 57 - 62، و"الوافي بالوفيات": 6/ 51 - 54، و"العبر" للذهبي: 4/ 55، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 554 - 555، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وعند ابن خلكان والذهبي في "السير": إبراهيم بن يحيى بن عثمان. (¬2) كذا في (ع) و (ح)، وفي "تاريخ ابن عساكر" و"الوافي بالوفيات": أبو مَدْين، وانظر الاختلاف في كنيته فيما سيأتي. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (م): أبو مزيد، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر": 2/ 469. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) "الخريدة": قسم شعراء الشَّام: 1/ 3، وما بين حاصرتين منه.

قال العماد: ومن شِعْره [من الطَّويل] وحَتَّامَ أرجو دولةً وزراؤها ... يَردُّونَ إنْ حَيَّيتَهُمْ بالحواجبِ سواءٌ لديهمْ ما حوى سِلْكُ ناظمٍ ... وما ضَمَّه في ظُلْمةٍ حَبْلُ حاطبِ قَضَتْ عُنَّةُ التَّمييز والفَهْم في الورى ... بتعنيسِ أبكارِ العُلُومِ الكواعِبِ وإني لتُغْنيني عن السَّيفِ عَزْمَتي ... فهل فيه ما تُغْنِيه عن كَفِّ ضارِبِ عسى بين أحشاءِ الليالي عجيبةٌ ... حُبالى الليالي أُمهات العجائِب وتهتَزُّ بالقَطْرِ البحارُ (¬1) وإنَّها ... لمستغنياتٌ عن نَوَالِ (¬2) السَّحائِبِ (¬3) وكان الغَزِّي قد نَفَق على المعين القاشاني وزير سنجر، فقيل للوزير: إنه قد أَسَنَّ عن قول الشِّعْر. فقال له: أُريد أن توازن قصيدة أبي العلاء التي يقول فيها: [من البسيط] هاتِ الحديثَ عن الزَّوْراءِ أَوْ هِيتا ... ومُوقدِ النَّارِ لا تَكْرَى (¬4) بتَكْرِيتا فقال على البديه: [من البسيط] أَمِطْ عن الدُّرَرِ الزُّهْرِ اليواقيتا ... واجعلْ لحجِّ تلاقِينا مواقِيتا جمعتَ ضِدَّينِ كان الجَمْعُ بينهما ... لكلِّ جَمْعٍ من الألباب تَشْتِيتا وفِتْيَةٍ من كُماةِ التُّرْكِ ما تركَتْ ... للرَّعدِ كَبَّاتُهُمْ (¬5) صَوْتًا ولا صِيتا قومٌ إذا قُوبِلُوا كانوا ملائكةً ... حُسْنًا وإن قُوتِلُوا كانوا عفارِيتا مُدَّتْ إلى النَّهْبِ أيديهم وأَعْيُنُهُمْ ... فزادهُمْ فَلَقُ الأَحشاءِ تثبيتا بدارِ قارونَ لَو مَرُّوا على عَجَلٍ ... لباتَ من فاقةٍ لا يملكُ القُوتا بالحِرْصِ فَوَّتني دَهْرِي فوائده ... وكلَّما زِدْتُ حِرْصًا زادَ تَفْويتا دُنْيا اللَّئيم يدٌ في كَفِّها بَرَصٌ ... فكلُّ ما لَمَسَتْهُ كان مَمْقُوتا [ومنها يُعَرِّض بشعرِ المعري] (¬6): ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): السحاب، والمثبت من "الخريدة". (¬2) في (ع) و (ح): توالي، والمثبت من "الخريدة". (¬3) "خريدة القصر" قسم شعراء الشَّام: 1/ 16 - 18. (¬4) الزوراء: بغداد، ولا تكرى: لا تطفأ، وأصل الكرى النَّوم، فجعل انطفاء النَّار نومًا، انظر "شروح سقط الزند" السفر الثاني: القسم الرابع: 1553 - 1554. (¬5) الكبَّة: الحملة في الحرب. "اللسان" (كبب). (¬6) ما بين حاصرتين من (ح).

بديهةٌ ما اسْتَعَانَتْ عند تَقْفِيَةٍ ... بذِكْرِ هِيتٍ ولا مرَّتْ بتكْرِيتا (¬1) وقال أَيضًا: [من الكامل] خُذْ ما صفا لك فالحياةُ غُرورُ ... والدَّهْرُ يَعدِلُ تارَةً ويجورُ لا تَعْتِبَنَّ على الزَّمانِ فإنَّه ... فَلَكٌ على قُطْبِ اللَّجَاجِ يَدُوْرُ أبدًا يُوَلِّدُ تَرْحَةً من فَرْحَةٍ (¬2) ... ويَصُبُّ غَمًّا منتهاه سُرورُ تعفو السُّطوْرُ إذا تقادَمَ عَهْدُها ... والخَلْقُ في رِقِّ الحياةِ سُطُورُ كلٌّ يَفِرُّ من الرَّدى ليفوتَهُ ... ولهُ إلى ما فَرَّ منه مَصيرُ فانْظُرْ لنَفْسِك فالسَّلامةُ نُزْهةٌ (¬3) ... وزمانُها ضافي الجناح يطيرُ مرآةُ عَيشِكَ بالشَّبابِ صقيلةٌ ... وجَناحُ عُمْرِكَ بالمشِيبِ كسيرُ بادِرْ فإنَّ الوقتَ سَيفٌ قاطعٌ ... والعُمْرُ جَيشٌ والشَّبابُ أميرُ (¬4) وقال: [من السريع] طول الحياةِ ما لها طائِلُ ... نَغَّصَ عندي كل ما يُشْتَهى أصبحتُ مِثْلَ الطِّفْلِ في ضَعْفِهِ ... تَشَابَهَ المَبْدَأُ والمُنْتَهى فَلِمْ تَلُمْ سَمْعِي إذا خانني ... "إنّ الثَّمانين وَبُلِّغْتَها" (¬5) قوله "إنَّ الثَّمانين وَبُلِّغْتَها" (¬6) تَضمين لعوف بن مُحَلِّم الشَّيباني، أنشده لعبدِ الله بن طاهر (¬7). ¬

_ (¬1) الأبيات ما عدا البيت الأخير في "خريدة القصر": 1/ 8 - 11 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬2) في (ع) أن يولد فرحة في ترحة، وفي (ح) "من" بدلًا من "في"، والمثبت من (م) و (ش). (¬3) في "الخريدة": نُهْزَة. (¬4) الأبيات في "الخريدة": 1/ 21 - 23. (¬5) الأبيات في "الخريدة": 1/ 34 - 35. (¬6) البيت هو: إن الثمانين وبُلِّغتَها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وهو دائر في كتب العربية، انظره في "أمالي القالي": 1/ 50، و"أمالي ابن الشجري": 1/ 329. (¬7) عوف بن مُحَلِّم الشيباني، شاعر صاحب أخبار ومعرفة بأيام النَّاس، وكان نديمًا لطاهر بن الحسين والد عبد الله بن طاهر، ثم بعد وفاة طاهر قَرَّبه عبد الله، وأنزله منزلته من أَبيه، وتوفي نحو سنة (220 هـ).=

وقال: [من الخفيف] وصُدُورٍ (¬1) لا يَشْرحون صُدُورًا ... شَغَلَتْهُمْ عنَّا صدورُ الدَّجاج (¬2) [قلت: وقبله] (¬3): أنا في الحِلَّة الغَداةَ كأَنِّي ... علويٌّ في قَبْضَةِ الحَجَّاجِ بين قومِ لا يعرفونَ كلامًا ... طَبْعُهُمْ خارجٌ عن المِنْهاجِ وقال: [من الخفيف] إنَّما هذه الحياةُ متاعٌ ... فالسَّفيه الغَويُّ مَنْ يَصطفيها ما مضى فات والمؤَمَّلُ غَيبٌ ... ولكَ السَّاعةُ التي أنتَ فيها (¬4) وقال: [من الكامل] ليتَ الذي بالعِشْق دونَك خَصَّني ... يا ظالمي قَسَمَ المَحَبَّة بَيننا ألقى الهِزَبْرَ فلا أخاف نُيوبَه ... وَيرُوْعُني نَظَرُ الغَزَالِ إذا رنا (¬5) وكان قد غَسَلَ أكثرَ شِعْرِه وتركه، فقيل له في ذلك، فقال: [من الكامل] قالوا هَجَرْتَ الشِّعْرَ قلتُ ضرورةٌ ... بابُ البواعثِ والدَّواعي مُغْلَقُ خَلَتِ البلادُ (¬6) فلا كريمٌ يُرْتَجى ... منه النَّوالُ ولا مليحٌ يُعْشَقُ ومن العجائبِ أنَّه لا يُشْتَرى ... ويُخانُ فيه مع الكَسَادِ ويُسْرَقُ (¬7) [وفيها تُوفِّي أبو عبد الله البارع الزَّاهد، شيخ جدِّي رحمه الله، واسمه] (¬8) ¬

_ = وعبد الله بن طاهر من أشهر الولاة في العصر العباسي، ولي إمرة الشَّام مدة، وولاه المأمون خراسان، وظهرت فيها كفايته، وكانت وفاته سنة (230 هـ)، انظر "فوات الوفيات": 3/ 162 - 164، و"وفيات الأعيان": 3/ 83 - 89. (¬1) صدور جمع، مفردها صدر: وهو في القوم رئيسهم، انظر "معجم متن اللغة": 3/ 430. (¬2) "الخريدة": 1/ 30. (¬3) ما بين حاصرتين من (خ). (¬4) "الخريدة": 1/ 36. (¬5) انظر القصيدة في "الخريدة": 1/ 38 - 41. (¬6) في (م) و (ش): الديار. (¬7) "الخريدة": 1/ 6. (¬8) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحسين بن محمد بن عبد الوهاب

الحسين بن محمَّد بن عبد الوهَّاب (¬1) أبو عبد الله، البارع النَّحْوي [الشَّاعر] (¬2)، وهو أخو أبي الكَرَم بن فاخر النَّحْوي لأُمِّه (¬3). ولد سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة، [و] (2) قرأ القرآن بالرِّوايات [على أبي بكر بن الخياط وغيره] (2)، وسمع الحديث [الكثير] (2)، واشتغل باللغة والأدب، وقال الشِّعْرَ [المليح] (2)، وتوفي يوم الثلاثاء سابع عشرة جُمادى الآخرة بعدما أَضَرَّ، ودُفِنَ بباب حرب [سمع القاضي أَبا يعلى بن الفَرَّاء وابن المسلمة وأبا بكر بن الخياط وغيرهم، وروى عنه جَدِّي في "المشيخة"، وكان جوادًا كريمًا] (2). قال ابنُ ناصر: كان فيه تساهُلٌ في الحديث وضَعْف. ومن شِعْره: [من مجزوء الرجز] إنْ كان جيرانُ الغَضَى ... رَضُوا بقَتْلي فَرِضَا واللهِ لا كنتُ لما ... يهوى الحبيبُ مُبْغِضا صرتُ لهمْ عبدًا وما ... للعَبْدِ أَنْ يَعْتَرِضا هُمْ قَلَّبوا قَلْبي من الشَّـ ... ـوقِ على جَمْرِ الغَضَى وهم أحالوا الجِسْمَ منِّـ ... ـي بالنُّحولِ عَرَضَا أحبابَنا جارَ عليَّ ... بَينُكُمْ فيما مضَى إن كان قَتْلي في الهَوَى ... عليكُمُ مُفْتَرَضَا واأسفا على الصِّبا ... كان خِضابًا فَنَضَا عادَ سَوَادُ لِمَّتي ... من الفِراقِ أبيضَا ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 61 - 88، و"المنتظم": 10/ 16 - 19، و"مشيخة ابن الجوزي": 80 - 82، و"معجم الأدباء": 10/ 147 - 154، و"الكامل" لابن الأثير: 10/ 667، و"إنباه الرواة": 1/ 328 - 329، و"وفيات الأعيان": 2/ 181 - 184، و"معرفة القراء الكبار": 2/ 920 - 922، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 533 - 536، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) كان أبو الكرم إمامًا في اللغة والنحو، ولد سنة (431 هـ)، وتوفي سنة (500 هـ)، وقيل سنة (505 هـ)، وانظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء": 19/ 302 - 303، وفيه مصادر ترجمته.

كأَنَّما عَهْدُ الشَّبا ... بِ كان دَينًا يُقْتَضَى كم نُلْتُ فيه أملًا ... وكم بلغتُ غَرَضَا يَا حاكمينَ بالصُّدو ... دِ جائرينَ في القَضَا عندي بقايا كَمَدٍ ... يضيقُ عنهنَّ الفَضَا من لمريضٍ لا يرى ... إلَّا الطَّبيبَ المُمْرِضا أعْرَضَ عنه الصَّبْرُ مُذْ ... أصبحَ عنه مُعْرِضا (¬1) [وقال] (¬2): [من مجزوء الرجز] آهٍ لبرقٍ لمَعَا ... ماذا بقَلْبي صَنَعَا أيقظَ منِّي للغَرَا ... مِ مُسْتَهامًا مُوجَعا فبِتُّ مِنْ إيماضه ... أَسْكُبُ دَمعِي دُفَعا يَا بَرْقُ إمَّا تَرَينِّـ ... ـي للصَّنيعِ موضعا فَحَيِّ عنِّي أَرْبُعًا ... أكرِمْ بهنَّ أَرْبُعا يَا ناظرًا (¬3) أقسمَ مِنْ ... بعد النَّوى لا هَجَعا كَبَّرَ مُذْ فارَقْتُهُم ... على الرُّقادِ أرْبَعا كان عَصِيًّا دَمْعُهُ ... بالنَّوْمِ صار طَيِّعا (¬4) لو يستطيعُ لسقى ... ماءَ الشُّؤونِ أَجْمَعَا تلكَ الرُّبا وذلك الـ ... ـمُصطاف والمُرْتَبعا مصارع العُشَّاق فيـ ... ـها مَصرعًا فمَصرعا كَمْ كَبِدٍ قطَّعها ... هَجْرُ الحبيبِ قِطَعا وكم ديارٍ بالنَّوى ... أضحتْ خلاءً بَلْقعا أحبابَنا عَلِّي أرى ... شَمْلي بكُمْ مُجْتَمِعا ¬

_ (¬1) القصيدة بتمامها في "الخريدة": 3/ 66 - 69 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬2) ما بين حاصرتين من (خ). (¬3) في "الخريدة": من ناظر. (¬4) في "الخريدة": فاليوم عاد طيِّعا.

ليتَ الفِراقَ لم يكُنْ ... يومَ دعا فأَسْمَعا (¬1) وقال من جملة قصيدة: [من المتقارب] كأنِّي نَظَرْتُ وقد شِمْتُهُ ... ديارَ الأَحِبَّةِ مَغْنًى فمَغْنَى فَبُحْتُ ومَن خانه صَبْرُهُ ... فليس لِكتْمانِهِ الحُبَّ معنى وماذا على مُدْنَفٍ بالعراق ... تذكَّرَ بالرَّمْلِ عهدًا فحنَّا وإنِّي لكلِّ شَجٍ عاذِرٌ ... إذا ناحَ مِنْ طَرَبٍ أو تَغَنَّى ولي مهجةٌ قُرِنَتْ بالأَسى ... إلى جَسَدٍ ظاهر الضُّرِّ مُضْنى إذا ذَكَرَتْ عَهْدَ أُلافها ... أَجَدَّ لها ذلك الذِّكْرُ حُزْنا سقى الله أَرْبُعَنا بالحِمى ... وإن كُنَّ بُدِّلْنَ بالسَّكْنِ سَكْنا وحيَّا وجوهًا عَهِدْنا بها ... وإنْ حَجَبَتْها يدُ البَينِ عنَّا (¬2) وقال: وقد حَجَّ سنةَ ثلاثٍ وتسعين وأربع مئة: [من المديد] ذَكَرَ الأَحبابَ والوَطَنا ... والصِّبا والإِلْفَ والسَّكَنا فبكى شَجْوًا وحُقَّ له ... مُدْنَفٌ بالشَّوقِ حِلْفُ ضَنَى أبعدَتْ مرمًى يدٌ رَجَمَتْ (¬3) ... مِنْ خُرَاسانٍ به اليَمَنا مَنْ لمشتاقٍ تُمَيِّلُهُ ... ذاتُ أَيكٍ مَيَّلَت فَنَنا لم تعرِّضْ في الحنين بمَنْ ... مسعدٌ إلَّا وقلت أَنا لكِ يَا ورقاءُ أُسوةُ مَنْ ... لم تُذِيقي طَرْفَه الوَسَنا بكِ أُنسي مِثْلُ أُنسِكِ بي ... فتعالي نُبْدِ ماكَمَنا نتشاكى ما نُجِنُّ فإنْ ... نُحْتِ شَجْوًا صحتُ واحَزَنا أنا لا أنتِ البعيدُ هوًى ... أنا لا أنتِ الغريبُ هُنا أنا فَرْدٌ يَا حَمَامُ وها ... أنتِ والإِلْفُ القرينُ ثُنَا إسْرَحا رَأدَ النَّهارِ ضحًى ... واسْكُنا جُنْحَ الدُّجى غُصُنا ¬

_ (¬1) القصيدة بتمامها في "الخريدة": 3/ 78 - 81. (¬2) انظر أبياتًا من القصيدة في "الخريدة": 3/ 63 - 64. (¬3) في (ع) و (ح): نزحت، والمثبت من "الخريدة".

وابْكِيا يَا جارتيَّ لِما ... صَنَعتْ أيدي الفِراقِ بنا كم ترى أَشكو البِعادَ وكم ... أَنْدُبُ الأَطلال والدِّمَنا أينَ قَلْبي ما صَنَعْت به ... ما أَرى صدْرِي له سَكَنَا كان يومَ النَّفْرِ وَهْو معي ... فأَبى أن يَصحَبَ البَدَنا أبهِ حادي الفِراقِ حَدَا ... أَمْ به داعي الشَّبابِ عَنَا رَفَعوا سُجْفَ القِباب فلا الـ ... ـفَرْضَ أذَينا ولا السُّنَنا كَمْ أخي نُسْكٍ وذي وَرَعٍ ... جاء يبغي الحَجَّ فافْتَتَنا أَنْصِفُونا يا بني حَسَنٍ ... ليس هذا منكُمُ حَسَنا نحنُ وَفْدُ الله عندكُمُ ... ما لجيرانِ الغضى ولنا ذُبْتُ حتَّى لو أخو رَمَدٍ ... ضمَّني جَفْناه ما فَطِنا لو رآني حاسدي لبكى ... رحمةً لي أو عليَّ حَنَا ليَ عَينٌ دَمْعُها دِرَرٌ ... خُلِقَتْ أَجْفانُها مُزُنا وحَشًا أنفاسُها شَرَرٌ ... مُحْرِقاتٌ مَنْ إليَّ دَنَا ضَمَّنا رَمْيُ الجِمارِ فما ... راح حتَّى رُحْتُ ممتَحنا بينما نقضي مناسِكَنا ... إذ لقِينا دونَها الفِتَنا قد (¬1) سَمَحْنا بالقلوبِ لكُمْ ... ليس نَبْغي منكُمُ (¬2) ثَمَنا فاعْقِرُوها باللِّحاظِ إذا ... شِئْتُمُ أَنْ تَعْقِروا البُدُنا لم يُجِرْنا منكُمُ حَرَمٌ ... مَنْ أتاه خائفًا أَمِنا من أبيات (¬3). وقال أَيضًا: [من البسيط] رُدِّي عليَّ الكبرى ثُمَّ اهْجُري سَكَني ... فقد قَنِعْتُ بطيفٍ منكِ في الوَسَنِ ¬

_ (¬1) في (ع): كم، والمثبت من (خ). (¬2) في (ع) و (ح): دونها، والمثبت من "الخريدة". (¬3) انظر القصيدة بتمامها في "الخريدة": 3/ 83 - 87 مع اختلاف في بعض الألفاظ، وترتيب الأبيات.

منصور الآمر بأحكام الله

علَّمْتِ بالهَجْرِ جَنْبي هَجْرَ مضجعِهِ ... وبالرُّقادِ جُفُوني صُحْبةَ الحَزَنِ لا تحسبي النَّوْمَ قد أصبحتُ أَطْلُبُه ... إلا رجاءَ خيالٍ منكِ يُؤْنِسُني تركتِني والهوى فَرْدًا أُغالِبُهُ ... ونامَ ليلُكِ عن هَمٍّ يُؤَرِّقُني سَلِمْتِ ممَّا عَنَاني فاسْتَهَنْتِ به ... لا يعرف الشَّجْوَ إلا كلُّ ذي شَجَنِ شتَّانَ بينَ خَلِيٍّ مُطْلَقٍ وَشَجٍ ... في رِبْقةِ الحُبِّ كالمَصفُود في قَرَنِ اللهَ في كَبِدي الحَرَّى عليكِ وفي ... قلبي المُعَنَّى حليفِ السُّقْمِ والمِحَنِ إنْ كان يوجِبُ ضُرِّي رَحْمتي فَرِضًى ... بسوءِ حالي وَخَلِّ للضَّنى بَدَني يَا هَمَّ نَفْسِيَ في قُرْبٍ وفي بُعدٍ ... وراحة القَلْبِ في حَلٍّ وفي ظَعَنِ حُرِمْتُ منكِ الرِّضى إنْ كان غَيَّرني ... عَمَّا عَهِدْتيه شيءٌ أو يُغَيِّرُني لو قيلَ لي نُلْ من الدُّنيا مُناكَ لما ... جَعَلْتُ غَيرَكِ لي حَظًّا من الزَّمَنِ مَنَحْتُكِ القلبَ لا أبغي به ثمنًا ... إلا رِضاكِ ووافَقْرِي إلى الثَّمَنِ (¬1) منصور (¬2) الآمر بأحكام الله (¬3) ابن المستعلي، صاحب مِصر. لما كان يوم الثلاثاء ثالث ذي القَعدة خَرَجَ من القاهرة، وأتى الجزيرة، وعبر بعض الجسر، فَوَثَبَ عليه قومٌ، فلعبوا عليه بالسُّيوف -وقيل: كانوا غِلْمان الأفضل- فَحُمِلَ في مركبٍ إلى القَصر، ومات من ليلته، وعمره أربعٌ وثلاثون سنة، وكانت أيامه أربعًا وعشرين سنة وشهرًا (¬4). ¬

_ (¬1) الأبيات في "المنتظم": 10/ 17 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬2) في (ع): منصور أبو محمد، وقوله أبو محمد خطأ، وهو ليس في (خ)، والصواب أبو علي كما في مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق": 368 - 364، و"الكامل": 10/ 664 - 665، و"وفيات الأعيان": 5/ 299 - 302، و"سير أعلام النبلاء": 15/ 197 - 199، و"اتعاظ الحنفا": 3/ 131 - 133، وفي "السير" تتمة مصادر ترجمته. (¬4) كذا قال، وفيه متابعة لما ذكره ابن القلانسي في "ذيل تاريخ دمشق": 362، والذي عند ابن خلكان والذهبي والمقريزي أنَّه ولي سنة (495 هـ) , وله خمسة أعوام، فتكون أيام ولايته تسعًا وعشرين سنة وثمانية أشهر وخمسة عشر يومًا فيما ذكر المقريزي في "اتعاظ الحنفا" 3/ 129، وانظر "الكامل": 10/ 664 - 665، و"سير أعلام النبلاء": 15/ 199، و"النجوم الزاهرة": 5/ 173.

السنة الخامسة والعشرون وخمس مئة

ومولده سنة تسعين وأربع مئة. وكانت سيرته قد ساءتْ بالظُّلْم والعَسْف والمصادرة، ولما قُتِلَ وَثَبَ غلامٌ له أرمنيٌّ، فاستولى على القاهرة، وفَرَّق الأموال في العساكر، وأراد أن يتأمَّر على النَّاس، فخالفوه، ومضوا إلى أَحْمد بن الأفضل فعاهدوه، وجاؤوا به إلى القاهرة، فخرج الغلامُ الأرمنيُّ فقتلوه، وولَّوْا أَبا الميمون عبد المجيد بن [أبي] (¬1) القاسم بن المستنصر، ولي الخلافة ولقبوه بالحافظ، ووَزَرَ له أبو علي أَحْمد بن الأفضل، وسمَّاه أمير الجيوش، فأحسنَ إلى النَّاس، وأعاد إليهم ما صادرهم به الآمر، وأسقط المكوس، فأحَبَّه النَّاس، فحسده مقدَّمو (¬2) الدولة، واغتالوه، وسنذكره إنْ شاء الله تعالى (¬3). وقيل: إنَّ الآمر لم يخلِّف ولدًا، وترك امرأةً حاملًا، فماجَ أهل مِصر، وقالوا: لا يموت أحدٌ من أهل هذا البيت إلَّا ويخلّف ولدًا ذَكَرًا، منصوصةً (¬4) عليه الإمامة. وكان قد نَصَّ على الحَمْلِ قبل موته، فوضعتِ الحاملُ بنتًا، فعدَلوا إلى الحافظ، وانقطع النَّسْلُ من الآمر وأولاده. وهذا مذهب طائفة من شيعة المِصريين، فإنَّ الإمامةَ عندهم من المستنصر إلى نزار. وكان نَقْشُ خاتم الآمر: "الإِمام الآمر بأحكام الله أمير المُؤْمنين"، وابتهج النَّاسُ بقَتْله. السنة الخامسة والعشرون وخمس مئة فيها قد ذكرنا أَنَّ دُبَيْسًا دَخَلَ البريةَ وانقطع خبره واخَتَلفوا في قِصَّته، أما تواريخ البغداديين، فإنهم قالوا: ضَلَّ في طريقه، فَقُبِضَ عليه بحِلَّة حسان بن مكتوم (¬5) الكَلْبي من أعمالِ دمشق، وتَقطَّع عنه أصحابه، فَحُمِلَ إلى دمشق، فباعه أميرُها ابنُ طُغتِكِين من زَنْكي بن آق سُنْقُر [صاحب الموصل] (¬6) بخمسين أَلْف دينار، وكان زنكي عدوَّه، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "ذيل تاريخ دمشق": 363. (¬2) في (ع) و (ح) مقدمي، والمثبت من "النجوم الزاهرة": 5/ 174، وهو ينقل عن "المرآة". (¬3) انظر ص 249 من هذا الجزء. (¬4) في (ع) و (ح): منصوصًا، والمثبت من "النجوم الزاهرة": 5/ 172. (¬5) في (ع) و (ح): مكرم، والمثبت من (م) و (ش)، وهو الموافق للمنتظم: 10/ 20. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

فظنَّ أَنه سَيُهْلِكُهُ، فلما حَصَلَ في قبضته أكرمه وخوَّله المال والسِّلاح، فلما وَرَدَ الخبر إلى بغداد، بَعَثَ الخليفةُ ابنَ الأنباري ليتوصَّل في أخذه، فلما وصل الرَّحْبة قَبَضَ عليه أميرُها بأمر زنكي، وحُمِلَ إلى قلعة المَوْصلِ. وأمَّا تواريخ أهلِ الشَّام وأبو يعلى بن القلانسي فإنهم قالوا: وَصَلَ دبيس إلى الشَّام، وبلَغَ بوري أنَّه ببعض حلل العرب بنواحي صَرْخَد، وأنَّه قد ضَلَّ عن الطريق، فأرسل إليه من قَبَضَ عليه، ثم أنزله بدمشق، وأقام له الإقامة، وكتب إلى الخليفة يعرِّفُه، فشكره، وقال: احتفظ به حتَّى أُنفذ من يتسلَّمه. وبلغ زَنْكي، فبعثَ إلى بوري يسأله أن يسلِّمَه إليه ويعطيه خمسين أَلْف دينار، وكان عند زنكي ابنُ بوري وجماعةٌ من أمرائه الذين غَدَرَ بهم على حلب على خمسين أَلْف دينار، فقال زنكي: اجعل دُبَيسًا عِوَض الخمسين أَلْف دينار. فمال بُوري إلى ذلك من أَجل ابنه سونج وأمرائه، فأرسل إليه بدُبَيس، وبَعَثَ إليه بابنه وبالأمراء، ووصل سديدُ الدولة بنُ الأنباري إلى دمشق يطلبُ دُبَيسًا، فاعتذر بوري بما جرى من المفاداة، فرجع إلى بغداد، فالتقاه عسكر زنكي في الطَّريق فأوقعوا به وبمن معه، وحُمِلَ إلى قلعة المَوْصِل، فلم يخلص إلَّا بشفاعة السُّلْطان مسعود. وقال ابنُ القلانسي: وفيها وَرَدَ الخبر من حِلَّة مكتوم (¬1) بن حسان بن مِسْمار بوصول دُبَيْس إليه في خواصِّ غِلْمانه وأصحابه، وأنه ضَلَّ الطريق، ولم يكن معه دليل، ومات معظم أصحابه من العطش، فأرسل بوري مَنْ أحضره، وأنزله معه في القلعة، وخَدَمه، وحَمَلَ إليه من الطعام واللِّباس والفُرُش ما يليق به، وذلك في شعبان، وبَعَثَ إلى الخليفة يُعَرِّفُه، فأمره أن يحتفظ به ليرسل من يأخذه، وبَلَغَ زنكي، فأرسل إلى بوري بالمفاداة، وذكر بمعنى ما ذكَرْنا، وأن زنكي بَعَثَ بالمعتقلين إلى قارا في عسكره، وأَنَ بوري بَعَثَ بدُبَيس إليه في عسكره، ووقعتِ المفاداة [وذلك في ذي العقدة. ولما اجتمع بوري بولده والجماعة سُرَّ بهم، وحينئذٍ خُوطب في الرَّئيس ابن الصوفي فأَطْلَقَه، وخَلَعَ عليه، وأعاده إلى رياسته، وابن المَزْدَقَاني بحاله على وزراته.] (¬2). ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): مكرم، والمثبت من (م) و (ش)، وهو الموافق لذيل تاريخ دمشق: 366. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 366 - 367، وسيأتي نحو هذا الخبر ص 233، وأثبت ما في (م) و (ش) لزيادة معنى به.

وفي ربيع الأول وَصَلَ الخبرُ إلى بغداد أَنَّ مسعودًا أخا محمود انفصل من سنجر، وجاء يَطْلُبُ السَّلْطنة، وقد اجتمعَ إليه جماعةٌ من العساكر، وكان محمود ببغداد، فَبَعَثَ إلى الخليفة يستأذنه في الرَّحيل إليه، فقال الخليفة: قد عَلِمْتَ ما بيني وبينك من الأَيمان، [و] (¬1) أنني لا أستخدم أحدًا، ومتى سافرت من العراق عاد دُبَيس إلى الحِلَّة، وأفسد وَعاث، وقصد بغداد. فقال محمود: متى رحلتُ من العراق وخفتَ على نَفسك والمسلمين، ولم أَقْدر على نجدتك بنفسي أو بعسكري فقد نَزَلْت عن اليمين، وافعلْ ما تراه من المَصلحة. ورَحَل عن بغداد، وقصد هَمَذَان، فراسله مسعود، وتحالفا واجتمعا، وحَمَلَ مسعود الغاشية بين يديه، وأعطاه محمود مئةً وخمسين أَلْف دينار والعساكر والبلاد، وافترقا. وفيها تغيَّرَتْ نيةُ محمود على الخليفة، وكان قد عَهِدَ إلى ولده داود، واستحلف له الأمراء والخواصّ قبل رحيله من بغداد، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه مالًا للنفقة وأن يخطب لولده، فقال: أما المال فما عندي، والخُطْبَة فالأمر فيها إلى سنجر فهو السُّلْطان. فغَضِبَ محمود، وعَزَمَ على تغيير الخلافة، وخرج إلى هَمَذَان، فلما استقرَّ بها جاءته رسل سنجر، فاستخفَّ بهم وأهانهم، وقال: أنا السُّلْطان، ومَنْ سنجر؟ ! وقَبَضَ على أعيان الأُمراء، وصادَرَ أهلَ هَمَذَان، وأَخَذَ أموالهم، وظَلَمَ وعَسَفَ، وأقام الخُطْبة لابنه داود بالجبل وأَذْرَبيجان، وعَزَمَ على دخول بغداد وتغيير الخليفة، فعاجله الموت بمرضٍ حَدَثَ به، واستقرَّتِ السَّلْطنةُ بعده لأخيه مسعود، وولاية العهد بعده لداود بن محمود، ثم لأخيه طغريل بن محمَّد (¬2). وفيها عَزَلَ بوري وزيرَه المُفَرّج بن الصُّوفي، واعتقله وأقاربَهُ اعتقالًا جميلًا، واستوزر كريمَ الملك أَبا الفضائل أَحْمد بن عبد الرَّزّاق المَزْدَقاني نسيب الوزير (¬3)، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 20، والخبر فيه. (¬2) في (م) و (ش): وفيها ورد الخبر من بغداد بوفاة السلطان محمود بن محمَّد بن ملك شاه بن ألب رسلان في شوال بمرض حدث به، واستقرت السلطنة بعده لأخيه مسعود، وولاية العهد بعده لداود بن محمود، ثم لأخيه طغريل بن محمَّد، وسيأتي كل واحد منهما في موضعه، إن شاء الله تعالى. (¬3) هو ابن عم الوزير أبي علي المزدقاني، وقد سلفت أخبار الوزير، وانظر ص 213، 217، 219 من هذا الجزء.

أحمد بن محمد بن عبد القاهر

فاستقامتِ الأحوال، وكان عارفًا بقوانين الدَّواوين، فصيحًا بالعربية والعجمية، ثم أطْلَقَ ابنَ الصُّوفي، وخَلَعَ عليه، وأعاده إلى رياسته، والمَزْدَقاني بحاله على وزارته. وفيها جُرِحَ بوري؛ وذلك لأَنَّ الباطنية الذين في الشرق، لَمَّا عَلِمُوا ما جرى على إخوانهم في الشَّام ندبوا لقَتْلِ بوري رجلين فجاءا إلى دمشق، وتوصَّلا حتى خدما في ركابه، وأقاما ينتهزان الفُرْصة، وقد أَنِسَ بهما ظَنًّا منه أنهما من غِلْمانه، فوثبا عليه يوم الخميس خامس جُمادى الآخرة بقلعة دمشق، فضربه أحدُهما بالسَّيف طالبًا رأسه، فوقع في رقبته، فجرحه، وضربه الآخر بسكينٍ في خاصرته، نَفَذَت بين الجلد واللحم، ورمى بنفسه إلى الأرض، وتكاثر أصحابه عليهما، فقطَّعوهما، وخِيطَتْ جراحتُه، فبَرَأَ الذي في عنقه، ونَسَرَ (¬1) الذي في خاصرته، فكان سببًا لهلاكه، فَجَمَعَ الأُمراء والمقدَّمين والخواص والأعيان، وقال لهم: إنِّي قد أيست من الحياة بسبب هذا الجرح، ولا بُدَّ من الموت، وهذا ولدي أبو الفتح إسماعيل أكبر ولدي، وقد لاحت لي منه أمارة النَّجابة، وقد رأيتُ أَنْ أجعلَه وليَّ عهدي، فقالوا: الحكم لك فيما تراه، وطاعتُنا لك في حياتك كطاعتنا لولدك بعدك. فَسُرَّ بقولهم، وخَلَعَ عليه الخِلَع السَّنية، واستقرَّتْ فيه ولايةُ العهد. فصل: وفيها تُوفِّي أَحْمد بن محمَّد بن عبد القاهر (¬2) أبو نَصر الطُّوسي، كان [يصلي ببغداد في مسجد الشَّاكرية] (¬3)، ثم انتقل إلى المَوْصِل، فتوفِّي بها يوم السبت حادي عشرين ربيع الأول [سمع ابن المهتدي وابن المُسْلمة وابن النَّقور وغيره، وذكره جدي في "مشيخته" وقال: كان سماعه صحيحًا، ¬

_ (¬1) نسر الجرح: نقض. "معجم من اللغة": 5/ 447. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 21 - 22، و"مشيخة ابن الجوزي": 117 - 118، و"الكامل": 10/ 671، و"العبر" للذهبي: 4/ 64، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 58 - 59، و"طبقات الشافعية" للإسنوي: 2/ 168 - 169، و"شذرات الذهب": 4/ 73. (¬3) في (ع) و (ح): كان ببغداد، ثم انتقل إلى بغداد، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

حماد بن مسلم الرحبي الدباس

وتفقَّه على أبي إسحاق الشيرازي، وكان شيخًا (¬1) لطيفًا على وجهه نور (¬2)، قال جدِّي: وأنشدني أشعارًا حسنة، منها، (¬3): [من الطَّويل] على كلِّ حالٍ فاجعلِ الحَزْمَ عُدَّة ... تقدِّمُه بين النَّوائبِ والدَّهْرِ فإنْ نُلْتَ خيرًا نُلْتَهُ بعزيمةٍ ... وإنْ قَصُرَتْ عند الخُطُوبِ فمنْ عُذْرِ ومنها: [من البسيط] لَبِسْتُ ثوبَ الرَّجا والنَّاس قد رقدوا ... وقمتُ أشكو إلى مولايَ ما أجِدُ وقلت يَا عُدَّتي في كلِّ نائبةٍ ... ومَنْ عليه لكَشْفِ الضرِّ أَعْتَمِدُ وقد مَدَدْتُ يدي والضرُّ مُشْتَمِلٌ (¬4) ... إليكَ يَا خيرَ مَن مُدَّتْ إليه يَدُ فلا تَرُدَّنَّها يا ربِّ خائبةً ... فبحرُ جُوْدِكَ يَرْوي كلَّ مَنْ يَرِدُ (¬5) [قلت: وأَحمد هذا هو جَدُّ شيخينا أبي عبد الله أَحْمد والركن بن عبد الله بن أَحْمد] (¬6). حمَّاد بنُ مُسْلم الرَّحْبي الدَّبَّاس (¬7) شيخ الشيخ عبد القادر وغيره، [ذكره جدي رحمه الله في "المنتظم"، وقال: سمع الحديث من أبي الفضل بن خيرون وغيره إلَّا أنَّه كان] (¬8) على طريقة التصوف ¬

_ (¬1) في (م): سمحًا. (¬2) "مشيخة ابن الجوزي": ص 118. (¬3) في (ع) و (ح): فتوفي بها يوم السبت حادي عشرين ربيع الأول، وكان شيخًا لطيفًا على وجهه نور، وينشد أشعارًا حسنة، منها قوله، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في "المنتظم": وقد مددت يدي بالذل صاغرة. (¬5) "المنتظم": 10/ 21 - 22، وفي هامش (خ) بخط مغاير: ومنه: أشكو إليك ذنوبًا أَنْتَ تعرفها ... ما لي على حملها صبر ولا جَلَدُ قلت: والأبيات مشهورة، وهي لأبي إسحاق الشيرازي، انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي: 4/ 205. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬7) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 22 - 23، و"الكامل": 10/ 671، "سير أعلام النبلاء": 19/ 594 - 596، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬8) في (ع) و (ح): وسمع من أبي الفضل بن خيرون وغيره، وكان على طريقة التصوف، وما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[يدَّعي] (¬1) المعرفة والمكاشفة وعلوم الباطن، [وكان عاريًا من علوم الشريعة، ولم ينفق إلَّا على الجُهَّال] (2) وكان ابنُ عقيل ينفِّرُ النَّاسَ عنه، [حتى إنه بلغه أنَّه] (2) يعطي كلَّ من تصيبه الحُمَّى لوزةً وزبيبة ليأكلها فيبرأ، [فبعث إليه ابن عقيل: إنْ عُدْتَ إلى مثل هذا ضربتُ عُنُقك. فكان يقول: ابن عقيل عدوي] (¬2)، وصار النَّاسُ ينذرون له النُّذور، فيقبل الأموال، ويفرِّقُها على أصحابه، ثم كره قَبُول النُّذور لقول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن النَّذْر يُسْتَخْرَجُ به من البخيل" (¬3)، [فصار يأكلُ بالمنامات، كان يأتي الرَّجلُ فيقول: قد رأيتُ] (¬4) في المنام قائلًا يقول: أعطِ حمَّادًا كذا وكذا. فاجتمعَ له أصحابٌ ينفق عليهم مما يفتح له، وماتَ في رمضان، ودُفِنَ بالشُّونِيزِيَّة. [هذا صورة ما ذكر جدي رحمه الله في "المنتظم" (¬5). قلت: أما تعرض ابن عقيل لهذا الرَّجل الصالح، فلو ستر ابن عقيل نفسه كان أصلح، فإن الرَّجل كان من الأبدال] (¬6)، وقد أدركتُ جماعة من الأكابر يحكون عن الشيخ عبد القادر عن حماد من الكرامات ما يشبه المتواتر. وأما حديث اللَّوْزة والزَّبيبة فهذه عادةُ المشايخ في حسن الظَّنِّ بهم، وقد رأينا جماعة فعلوا ذلك فعوفوا، وأما قوله: إنَّ النَّاس كانوا يأتون إليه، فيقول الرَّجل: رأيتُ إنسانًا يقول: احملْ إلى حماد كذا وكذا، فهذا شيء لا تعلُّقٌ له به، ولا كان يدَّعيه كرامة ولا وسيلةً إلى أَخْذِ أموال النَّاس، وإنما الله سبحانه كان يلهمهم ذلك في المنام الذي هو من جنس الوحي في حق ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): يشير إلى المعرفة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وهو الموافق للمنتظم. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) حديث صحيح: أخرجه البُخَارِيّ (6608)، ومسلم (1639) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو عند أَحْمد في "المسند" (5275). ولفظه عند أَحْمد: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النذر وقال: "إنه لا يرد من القدر شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل". وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة برقم (1640). (¬4) في (ع) و (ح): فكان الرَّجل يجيء فيقول: رأيت في المنام .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) "المنتظم": 10/ 22 - 23. (¬6) في (ع) و (ح): وكان الرَّجل من الأبدال. قال المصنف رحمه الله: وقد أدركت جماعة من الأكابر .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن عمر بن عبد العزيز

الأخيار، فلا يلامُ على أمرٍ ليس فيه إجبار] (¬1)، و [لو] (¬2) لم يكن لحماد من الفضائل التي اتصف بها في زهادته وطريقته ومكاشفته إلَّا أَنَّ الشيخ عبد القادر أحد تلامذته [لكفاهُ] (2). [وفيها تُوفِّي محمَّد بن عمر بن عبد العزيز (¬3) أبو بكر الحَنَفيّ المُقْرِيُّ، البُخَارِيّ، ويعرف بِكاك. سافر إلى البلاد، فسمع بنَيسابور وبُخارى وسَمَرْقَنْد وهَمَذَان وبغداد، وأقام بها مُدَّة، وعاد إلى سَمَرْقَنْد، فسكَنَ بها مُدَّةً، ثم قَدِمَ بغداد، وحَجَّ وحدَّث بالحَرَمين وغيرهما، وكان أديبًا فاضلًا، صالحًا، مُكْثرًا، فلَّما عاد من الحج في هذه السنة تُوفِّي بالمحرَّم بالأجفُر] (¬4). علي بن المُسْتَظْهر، أبو الحسن (¬5) الذي هرب من التَّاج ومضى إلى دُبَيس (¬6)، تُوفِّي في رجب، وأَمَرَ الخليفةُ بحملِ تابوته إلى الرُّصافة (¬7)، وجَلَسَ الوزيرُ وأربابُ الدولة في بيتِ النوبة في العَزَاء ثلاثةَ أيام. محمَّد بن أَحْمد بن جِياء -بجيم- أبو الفرج (¬8) شَرَفُ الكُتَّاب الحِلِّي] (¬9)، كان فاضلًا، وهو القائل: [من الكامل] حَتَّامَ أَجْرِي في ميادين الهوى ... لا سابقًا أبدًا ولا مَسْبُوقُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 1/ 24، و"الوافي بالوفيات": 4/ 243، و"الجواهر المضية": 3/ 283 - 284، و"العقد الثمين": 2/ 226 - 227. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). والأجفُر، بضم الفاء: موضع بين فيد والخزيمية، بينه وبين فيد ستة وثلاثون فرسخًا نحو مكة. "معجم البلدان": 1/ 102. (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 23، و"الكامل" لابن الأثير: 10/ 670. (¬6) انظر ص 106 من هذا الجزء. (¬7) رصافة بغداد، وكانت بالجانب الشرقي منها، وفيها مقابر الخلفاء من بني العباس، انظر "معجم البلدان": 3/ 46. (¬8) له ترجمة في "معجم الأدباء": 17/ 270 - 277، و"الوافي بالوفيات": 2/ 112 - 113، و"بغية الوعاة": 1/ 23، ووفاته عندهم سنة (579 هـ)، وقد نيف على الثمانين. وهو الصواب. وضبط الصفدي جياء، بكسر الجيم. (¬9) في (ع) و (ح): الحلوي، والمثبت من "الوافي بالوفيات"، وقد صرح ياقوت في "معجم الأدباء" أنَّه من أهل الحلة المزيدية. والنسبة إليها: الحِلِّي، على القياس.

محمد بن الحسين بن محمد بن علي

ما هَزَّني طَرَبٌ إلى رَمْلِ الحِمى ... إلا تَعرَّضَ أَجْرَعٌ وعَقِيقُ شَوقٌ بأَطْرافِ البلادِ مُفَرَّقٌ ... يحوي شتيتَ الشَّمْلِ منه فريقُ ومدامِعٌ كُفِلَتْ بعارضِ مُزْنَةٍ ... لَمَعَتْ لها بينَ الضُّلوعِ بروقُ فكأَنَّ جَفْني بالدُّموع مُوَكَّلٌ ... وكأنَّ قلبي للجوى مَخْلُوقُ إنْ عادتِ الأيامُ لي بطُوَيلعٍ ... أو ضَمَّني والظَّاعنينَ طريقُ لأُنبِّهَنَّ على الغَرَامِ بِزَفْرتي ... وَلَتَطْربَنَّ لما أَبُثُّ النُّوقُ محمد بن الحسين بن محمد بن علي (¬1) أبو تمَّام الزَّينَبي، بيتُه معروفٌ بالشَّرَف والفَضْل. ولد سنة ست وأربعين وأربع مئة، وسمع الحديث الكثير، وكان سيِّدًا فاضلًا، توفي في ذي القَعدة، وصَلَّى عليه ابنُ عَمِّه أبو القاسم علي بن طِراد، وحُمِلَ إلى الحَرْبية، فَدُفِنَ في تُرْبة أبي الحسن القَزْويني. محمود بن محمَّد بن مَلِك شاه (¬2) ابن ألب رسلان، السُّلْطان. قد ذكرنا جُمْلةً من سيرته، وكان قد عَزَمَ على إفساد الأمور على الخليفة، فعاجله الموتُ بهَمَذَان يوم الخميس خامس عشرة شَوَّال، وعمره ثمانٍ وعشرون سنة، ومُدَّة وقوع الملك عليه أربع عشرة سنة، وكان قد عَهِدَ إلى ابنه داود وهو صغيرٌ في حِجْر زوجِ أُمِّه الأحمديلي صاحب أَذْرَبيجان، فجدَّد أبو القاسم وزير محمود على الأُمراء العهود، وكتَبَ إلى الأحمديلي بذلك. وكان مسعود ببلاد أرانية (¬3)، فتحرَّك إلى العراق، وطَلَب السَّلْطنة، وكتب إلى الخليفة ولم يكتب إلى سنجر، وعَلِمَ سنجر، فسار من خراسان إلى هَمَذَان، وفوَّضَ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 23 - 24. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 24، و"تاريخ دولة آل سلجوق": 114 - 144، و"الكامل": 10/ 669 - 670، و"وفيات الأعيان": 5/ 182 - 183، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 524 - 525، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) أرانية لعلها أران، وجاء في "النجوم الزاهرة": 5/ 247 أنه كان ببلاد أرمينية، وقد ذكر ياقوت أن أران أول مملكة أرمينية، انظر "معجم البلدان": 1/ 161.

هبة الله بن محمد بن عبد الواحد

إلى ابن أخيه طُغْريل ولايَةَ العراق، وأضافَ إليه عسكَرَ محمود، وجعل لداود بن محمود من الإقطاع ما يكفيه إلى أن يَبْلُغَ مَبْلَغَ الرِّجال، ويرى فيه رأيه، هذا ومسعود بأرانية، فكتَبَ إلى الأحمديلي يقول: أنا ما أريد السَّلْطنة إلا لابن أخي داود، وأقنعُ بما أفتحه من البلاد. فَطَمِعَ الأحمديلي، وقال لمسعود: تقدَّم وأنا على إثْرك. وعاد إلى سنجر إلى خرَاسان، وجاء مسعود إلى هَمَذَان ومعه الأحمديلي، فخرج إليهم طُغْريل، فكسرهم، فمضى إلى أرانية والأحمديلي إلى أَذْربيجان، وتقرر مُلْكُ طغريل بهَمَذَان. هِبةُ الله بنُ محمد بنِ عبد الواحد (¬1) أبو القاسم بن الحُصَيْن الشَّيْباني الكاتب. ولد سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة، وبكَّر به أبوه وبأخيه أبي غالب عبد الوَاحد، فأسمعهما "المسند" (¬2) وغيره من أبي علي بن المُذْهِب، والتَّنوخي وأبي طالب بن غَيلان وغيرهم حتى صار أَسْنَدَ أهلِ عَصره. ورحل إليه الطَّلَبة من البلاد، وكان ثِقَةً صدوقًا، صحيح السَّماع، وكانت وفاتُه بين الظُّهْر والعَصر من يوم الأربعاء رابع عشرة شَوَّال، وأشرف على غسْله ابنُ ناصر بوصيةٍ [منه] (¬3)، وصلَّى عليه في جامع [القصر، وحُمِلَ إلى جامع] (¬4) المنصور، فصلَّى عليه عبد الوهَّاب الأنماطي، ودُفِنَ بباب حَرْب عند بِشْر الحافي. السنة السادسة والعشرون وخمس مئة فيها وَصَلَ مسعود إلى بغداد في عشرة آلاف، وورد قراجا السَّاقي صاحب خُوزستان وفارس ومعه سَلْجوق شاه بن محمد، وكلاهما يطلب السَّلْطنة، وانحدر زَنْكي من ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 124، و"مشيخة ابن الجوزي": 60 - 61، و"الكامل": 10/ 671، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 536 - 539، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) وقد تفرد ابن الحصين برواية مسند الإمام أحمد عن أبي علي بن المُذهب، عن القطيعي، عن عبد الله بن الإمام أحمد، عن الإمام أحمد، وعن روايته هذه كانت طبعة مؤسسة الرسالة، التي شرفني الله تعالى بالمشاركة في خدمتها مع شيخي الجليل شعيب الأرنؤوط، وصديقي الأثير الشيخ محمد نعيم العرقسوسي. (¬3) ما بين حاصرتين من "المنتظم" و"المشيخة" لابن الجوزي. (¬4) ما بين حاصرتين من (ح).

المَوْصِل لينضمَّ إلى مسعود، [فلما بلغ تكريت خلَّف قراجا سلجوق شاه في عَدَدٍ يسير، وأمرهم بمدافعة مسعود] (2) إلى أن يعود، وأَسْرى في يومٍ وليلةٍ إلى تكريت، فواقع زنكي فهزمه، وأَسَرَ جماعةً من أصحابه، وعاد بهم، ثم دخل السُّفراء بينهم، وحَصَلَ الاتِّفاقُ بين مسعود وقراجا وسَلْجوق، واستحلفهم الخليفة واجتمعوا، وقويت الأراجيف بمجيء سنجر إلى بغداد، فَعُمِل السُّور وجُبي العراق، وخرجوا بأجمعهم متوجِّهين لقتال سنجر، وألزمَ قراجا الخليفةَ بالخروج، فكرهه، فتوعَّده قراجا، وقال: إنَّ الذي تخافه من سنجر في آجل الأمر إنْ لم تخرج نحن نُعَجِّلُه لك الآن. وبعث سنجر يقول للخليفة: أنا العبد، مهما أُرِيدَ مني فَعَلْتُ. فلم يقبل منه. وسارَ الجماعة، وخَرَجَ الخليفةُ بعدهم بأيامٍ من باب النَّصر في أُبَّهة الخلافة على عادته في سادس عشرة جُمادى الآخرة، وضَجَّ النَّاس له بالدُّعاء، وباتوا يَخْتِمون الختمات، ثم رحل في ثاني رجب، وقُطِعَتْ خُطْبة سنجر، وأقام الخليفة بخانِقِين (¬1). وورد سنجر هَمَذَان في مئة وستين ألفًا، وكان مع مسعود وقراجا ثلاثون ألفًا، وكانت الوقعة قريبًا من الدِّينور، وكان يومًا لم يكن في الإسلام مثله، أُحصي القَتْلى فكانوا أربعين ألفًا، وقُتِلَ قراجا، وانهزم مسعود، وأَجْلَسَ سنجر طُغْرل على تخت المُلْك بهَمَذَان، وعاد سنجر إلى خُراسان، وكَتَبَ إلى زَنْكي ودُبَيس [بقَصدِ بغداد، وبلغ الخليفة، فعاد من خانِقِين، وجاء زنكي ودُبَيس] (¬2) في سبعة آلاف، وعَبَرَ الخليفة إلى الجانب الغربي في ألفي فارس، والتقوا، فانكسرت ميمنةُ الخليفة، فرمى الطَّيلَسان من على رأسه، وجذب السَّيف وعليه البُرْدة، وحَمَلَ العسكر معه، فانهزما، وقُتِلَ من القَوْم مقتلةٌ عظيمة، وهرب زنكي إلى تكريت ودُبَيس إلى الفرات. وفيها بعث الخليفة إلى أنوشروان بن خالد صاحبَ المخزن ابنَ طلحة يأمره أن يجلس في الديوان ليخلع عليه خِلَع الوزارة، فامتنع وقال: إني لما استوزرني السُّلْطان طلبت الإقالة، وقد قَنِعْتُ من الدُّنيا بمكاني هذا. فلم يَعْفِه، فأجابَ، فعُرِضَ عليه دارُ ¬

_ (¬1) خانقين: بلدة من نواحي السواد في طريق همذان من بغداد، انظر "معجم البلدان": 2/ 340. (¬2) ما بين حاصرتين من (ح).

ابنِ صَدَقَة، فامتنع، وقال: كان له عليَّ حَقٌّ -وكان ابنُ صَدَقَة يَصِلُه كلَّ سنةٍ بمالٍ كثير- فَعُرِضَ عليه دارٌ أُخرى. وفيها عاد دُبَيس إلى بلاده، وجَمَعَ الجموع، وكان الخليفة قد ولَّى بالحِلَّة إقبال المُسْتَرشِدي، وأَمَدَّه بعسكرٍ، فَهَزَمَ دُبَيسًا، فهرب إلى أَجَمَةٍ فيها ماء فأقام ثلاثة أيام لا يأكل طعامًا، حتى أخرجه جماسٌ (¬1) على ظهره، وخلَّصه. وفيها وصل داود بن محمود والأحمديلي إلى بغداد. وفي شعبان قَبَضَ الخليفةُ على وزيره أبي القاسم شَرَفِ الدِّين (¬2)، وأَخَذَ من داره أموالًا عظيمة، منها البَدَنة اللؤلؤ التي أخذها دُبَيس من الأمير أبي الحسن بن المُسْتظهر لمَّا أسره، ومعضدةً قيمتُها مئة ألف دينار، ومن أواني الذَّهب والفِضَّة ومراكب الذهب والثِّياب والأثاث ما أقاموا ثلاثة أيام في نَقْله وما فرغ، وخمس مئة رأس من الخيل والبِغال والجِمَال، وأُخذ خَطُّ الوزير بعدها بثلاثين ألف دينار. وفيها (¬3) ما أَحَسَّ النَّاسُ إلا بابنِ دُبَيس وقد قَدِمَ بغداد في خمسين فارسًا، ولم يعلم به أحد حتى نَزَلَ وقَبَّل عتبة باب النّوبي، وتمرَّغ على الصخرة، وقال: قد جِئْتُ إلى هذه العتبة، فإما أَنْ يعفوَ عني أمير المؤمنين أو يقتلَني. فعفا الخليفةُ عنه، وأنزله دارًا، وأعطاه دنانير. وفيها تُكُلِّم في خاتون المستظهرية بسبب شابٍّ يقال له ابن المهر (¬4)، فَحَلَّ الخليفةُ إقطاعها، وقَتَل ابن المهر، وأَظْهَرَ أَنَّه قد هَرَبَ، وطرَدَ الخليفةُ خُدَّامَها، وأخذ خَيلَها، وأقام معها في دارها من يَحْفَظُها، واشْتُهِرَ أَمْرُها، فَكَتَبَتْ إلى سنجر، فيقال: إنَّه كَتَبَ إليها أَنَّه يريد الفَتْك بالخليفة. فَوَقَعَ كتابُهُ في يد الخليفة، فهيَّجه ذلك على الخروج لقتاله. ¬

_ (¬1) وهي كذلك في "المنتظم": 10/ 27، ولم أهتد إلى معناها المراد في ذلك العصر. (¬2) يعني علي بن طراد الزيني، وقد أعيد إلى الوزارة سنة (528 هـ)، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (538 هـ). (¬3) في (م) و (ش): في شعبان. (¬4) في (م) و (ش): ابن المهتر، وفي مطبوع "المنتظم": 10/ 27: ابن المهير.

أحمد بن حامد بن محمد

فصل [قال جَدِّي في "المنتظم": ] (¬1) وفيها توفي أحمد بن حامد بن محمد (¬2) أبو نَصر، المُسْتَوْفي، المعروف بالعزيز، عَمُّ العماد الكاتب. قَبَضَ عليه الأنساباذي وزير طُغْريل، وسُلِّمَ إلى بِهْرُوز الخادم، فحمله إلى تكريت، فَقُتِلَ فيها، وكان من رؤساء الأعاجم. [هذا صورة ما ذكره جدي في "المنتظم" (¬3). قلت: وهذا العزيز هو [عم] العماد الكاتب الأصبهاني، صاحب "الخريدة"] (¬4). ولد [العزيز] (1) بأصبهان سنة اثنتين وسبعين وأربع مئة، وهو من بيت الفَضْلِ والكتابة، وكان مُدَبِّر الممالك، واختصَّ بالسُّلْطان محمود بن محمد ابن ملك شاه] (1)، ودَبَّر قوانين الوزارة مُدَّة، وقيل: كان صديق الدَّرْكِزيني وزير محمود، فسعى به، فتأكَّدَتِ العداوةُ بينهما، وكان محمود صبيًّا يميل إلى جَمْع المال، فسعى به الدَّرْكِزيني، فحبسه بقلعة تكريت، فما زال محبوسًا حتى مات محمود، وأَجْلَسَ الدركزيني أخاه طغريل في السَّلْطنة، فقال لطغريل: قد استولى العزيز على الأموال، فأمر بِهْروز [الخادم] (1) بتقريره، فلم يقرَّ بشيء، فَخُنِقَ، وقيل: سُمَّ، وقيل: دَخَلَ عليه قومٌ من الباطنية فقتلوه، ثم أمر طغريل بالوزير الدَّرْكِزيني، فَصُلِبَ بعد أربعين يومًا من قَتْلِ العزيز لأمرٍ بلغه عنه. وكان العزيز جَوَادًا مُمَدَّحًا [، مدحه الشُّعراء، وقد ذكره العماد في "الخريدة" (¬5)، وكان] (1) شاعرًا فصيحًا، كَتَبَ إلى بعض أصدقائه: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 28، و"دولة آل سلجوق": 142 - 143، 152 - 156، و"وفيات الأعيان": 10/ 188 - 190، و"الوافي بالوفيات": 6/ 299 - 300، و"النجوم الزاهرة": 5/ 249، وذكر العماد وفاته سنة (527 هـ)، وانظر "كتاب الروضتين": 2/ 17. (¬3) "المنتظم": 10/ 28. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، ولفظ "عم" زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬5) "الخريدة" قسم شعراء أصفهان: 1/ 43 - 61.

يا أخا الفَضلِ لِمْ تَأَخَّرْتَ عَنَّا ... فأَسَأْنا بحُسْنِ عَهْدِك ظَنَّا كم تمنيت لي صديقًا صَدُوقًا ... فإذا أنتَ ذلك المُتَمَنَّا فبغُصنِ الشَّبابِ لمَّا تثنَّى ... وبعهد الصِّبا وإنْ بانَ عَنَّا كُنْ جوابي إذا قرأتَ كتابي ... لا تَقْلُ للرَّسولِ كان وكُنَّا (¬1) [ذكر واقعته مع ابن القُدُوري] (¬2): قدم على العزيز في أيام السُّلْطان محمود -وهو حينئذٍ متولِّي ديوان الاستيفاء- رجلٌ يعرف بابنِ القدوري من أهل الشَّام، فمدحه بقصيدةِ ابنِ الخَيَّاط التي [قالها في مدح أبي النجم هبة الله بن بديع الأصبهاني وزير تاج الدولة تتش، وكان ابنُ الخَيَّاط قد سافر مع الوزير من دمشق إلى العراق، وورد الرَّي، والقصيدة طويلة، وأولها: [من الطويل] أيا بَيْنُ ما سُلِّطْتَ إلا على ظُلْمي ... ويا حبُّ ما أَبْقَيتَ منِّي سوى الوَهْمِ وقد ذكرناها في ترجمة ابنِ الخياط في سنة سبع عشرة (¬3) وخمس مئة، فلما حضر القُدُوري بين يدي العزيز امتدحه بها، وأنشده إياها، فاهَتزَّ] (¬4) العزيز لأَوَّلها، فلما بلغ إلى المخلص وقد غَيَّره بأبياتٍ ضعيفةٍ [ركيكة] (5)، أطرقَ العزيز [ساعة] (5)، ثم قام ودخل، واستدعاه [وأدناه منه] (5)، وقال له: اصدُقني، لِمَنْ هذا الشِّعْر، وسوف ترى ما أفعل معك؟ فقال له: يا سيدي، والله ما أنا شاعر، وإنما جار عليَّ الزَّمان وافتقرت، فَقَصَدْتُك طالبًا إحسانَك، والقصيدُ لابنِ الخَيَّاط. فاصفَرَّ لونُ العزيز، وقال له: طِبْ نَفْسًا وقَرَّ عَينًا. ودَفَعَ إليه مئةَ دينار، وثوبًا أَطْلَس، وعِمامةَ قَصَب، ونوَّه بذكره في المجالس [والمحافل] (¬5). وقال: شاعِرٌ مجيد. فأثرى الرجل بعد فَقْرٍ، واستغنى. ¬

_ (¬1) "الخريدة" قسم شعراء أصفهان: 1/ 44. (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) في (م) تسع عشرة، وهو خطأ، والصواب ما هو مثبت، انظر ص 174 - 176 من هذا الجزء. (¬4) في (ع) فمدحه بقصيدة ابن الخياط التي مدح بها وزير تُتُش، والقصيد: أيا بين ما سلطت إلا على ظلمي وقد ذكر ذلك في ترجمة ابن الخياط قريبًا، فلما أنشده إياها اهتز العزيز. قلت: وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

بوري بن أتابك طغتكين [صاحب دمشق]

[قلت: وهذه الحكاية تدل على مكارم أخلاق العزيز، ولا يوجد مثلها في السمع والأراجيز، وكم له من فضائل وفواضل عديدة، وقد استوفى العماد أخباره في "الخريدة"، وكان الواجب ذكره في أول "الخريدة"] (¬1). بُوري بن [أتابك (¬2) طْغتِكين [صاحب دمشق] (2) (¬3) كان حليمًا شجاعًا شَهْمًا [وذكره جماعةٌ في تواريخ الشام، منهم الحافظ ابن عساكر، فقال: ] (2) ولد في رمضان سنة ثمانٍ وسبعين وأربع مئة، وولي إمرة دمشق بعد موت أبيه سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة، وكانت سيرتُه سيرةً قريبة، وكان فيه سماحة، وقَتَلَ أبا علي بن المَزْدَقاني والإسماعيلية، [ولم يزل واليًا على دمشق حتى وثب عليه اثنان من الباطنية يوم الخميس لخمسٍ خَلَوْن من جمادى الآخرة، وقيل: يوم الاثنين حادي عشرين رجب من سنة ست وعشرين وخمس مئة] (¬4). وقال [غيرُ] (2) ابنِ عساكر: بعث إليه الإسماعيلية رجلين، فضرباه بالسَّكاكين، وقد خَرَجَ من الحَمَّام، وهو مُلْبِس (¬5)، فأثَّر فيه بعضَ الأثر. وكان قد اعتقل وجيه الدولة بن الصُّوفي، فَعَلِمَ أَنَّ الصواب معه في تتَبُّعِ الباطنية، فأَطْلَقه، ورده إلى رياسته، وأقام ينتقض عليه الجُرْحُ تارةً، ويندمل تارة، [فلما كان في رجب من هذه السنة انتقض عليه، فمات] (2). ولما احْتُضِرَ أوصى إلى ولده شمسِ الملوك إسماعيل، فكانت ولايتُهُ ثلاثَ سنين وشهورًا. وقد مدحه ابنُ الخَيَّاط فقال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وقد ذكره في أول شعراء أصفهان. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "ذيل دمشق" لابن القلانسي: 370 - 371، و"تاريخ ابن عساكر": (خ) (س): 3/ 433، و"الكامل": 10/ 671، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 574 - 575، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) في (ع) و (ح): وقتل أبا علي بن المزدقاني والإسماعيلية، وقد ذكرنا وثوب الباطنية عليه، وبقي إلى يوم الاثنين حادي عشرين رجب هذه السنة ومات. . . وما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "تاريخ ابن عساكر": 3/ 433. (¬5) أي لابسًا الدرع، من اللبوس، وهي الدرع التي تلبس في الحرب. انظر "اللسان" (لبس).

عبد الكريم بن حمزة بن الخضر، أبو محمد السلمي

لقد كَرَّمَ الله ابنَ دَهْرٍ تَسُودُهُ ... وشَرَّفَ يا تاجَ الملوكِ بك الدَّهْرا وَمَنَّ على هذا الزَّمانِ وأهلِهِ ... بأرْوَعَ (¬1) لا يعصي الزَّمانُ له أَمْرا إذا قلتُ في تاجِ الملوك قصيدةً ... من الشِّعْرِ قالوا قد مَدَحْتَ به الشِّعْرى (¬2) (¬3) ولما ولي ولده إسماعيل بعده أحسن السِّياسة والسِّيرةَ، وبَسَطَ العَدْل، وأحسن إلى الأجناد، ورَدَّ التدبير إلى يوسف بن فيروز شِحْنة دمشق حاجب أبيه، وأزال المكوس والضَّمانات والمُؤَن. وكان أخوه شمس الدولة محمد بن بُوري ببَعْلَبَكّ قد تعرَّض لحِصن اللَّبْوة والرأس، واستنزل منهما من كان أبوه قرَّرهم فيهما، فراسله شمسُ الملوك بإعادتهما إلى مَنْ رَتَّبه أبوه فيهما، فأبى، فخرج من دمشق في ذي القَعدة، ومعه آلاتُ القتال، وورَّى بمكانٍ آخر، ثم سارَ من طريق غير معهود، فنازل الحِصْنَين، ففتحهما، وجاء إلى بَعْلَبكّ، فتحصَّن منه أخوه بالحرامية وغيرهم، فدخل رَبَضَ بعلبك وملكه، وقتل من أهلها مَنْ قاتله، ونَصَبَ المجانيق على القلعة، فلما أَحَسَّ أخوه بالهلاك بَذَلَ له الطَّاعة، وأن يقرَّه على ما كان بيده في أيام بُوري، فأجابه، ووفى له (¬4). عبد الكريم بن حمزة بن الخَضِر، أبو محمد السُّلَمي (¬5) دمشقي، سمع الكثير [ولقي الشيوخ] (¬6)، وتوفي بدمشق [سمع أبا بكر الخطيب، وأبا الحسن بن أبي الحديد وغيرهما، وروى عنه الحافظ ابن عساكر وغيره. وقال عبد الكريم: أنشدنا الخطيب، عن رضوان بن الدِّينَوري، عن أبي حاتم الخزاعي، قال: أنشدنا أبو القاسم العِجْلي لنفسه] (¬7): [من البسيط] ¬

_ (¬1) الأروع من الرجال: الذي يعجبك حسنه. "اللسان" (روع). (¬2) الشِّعْرى: كوكب نير يطلع من الجوزاء. "اللسان" (شعر). (¬3) "ديوان ابن الخياط": 234، 236، دار صادر بيروت ط 2/ 1994. (¬4) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 371 - 374. (¬5) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 10/ 426 - 427، و"العبر" للذهبي: 4/ 69، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 600، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬7) في (ع) (ح): وتوفي بدمشق، وأنشد لأبي القاسم العجلي. . والمثبت ما بين حاصرتين من (م) (ش).

محمد بن أحمد بن يحيى، أبو عبد الله العثماني، المقدسي

الضَّيفُ مُرْتَحِلٌ والمالُ عارِيَةٌ ... وإنّما النَّاسُ في الدُّنيا أحاديثُ فلا تَغُرَّنَّك الدُّنيا وزَهْرَتُها ... فإنَّها بعدَ أيامٍ مواريثُ واعملْ لنفسِكَ خيرًا تَلْقَ نائِلَهُ ... فالخيرُ والشَّرُّ بعدَ الموتِ مبثوثُ (¬1) محمد بن أحمد بن يحيى، أبو عبد الله العُثْماني، المَقْدِسي (¬2) من ولد محمد الدِّيباج (¬3)، وهو من أهل نابلُس، وأصله من مكَّة، ونَزَلَ القُدْس، ولد سنة اثنتين وستين وأربع مئة ببيروت، وسمع الحديث [بمَكة والشام وبغداد] (¬4)، وجاور بمكة، وتولَّى عمارة الحَرَم، وقَدِمَ بغداد، وجَلَسَ للوعظ بجامع الخليفة، ودَرَّس بالنِّظامية، وكان له عند الخليفة والنَّاسِ جاه وحُرْمةٌ، لصيانته وعِفَّته ولزومه مسجده (¬5). [قال جَدِّي رحمه الله: وسمعته ينشد: [من الخفيف] دَعْ جُفوني يحقُّ لي أَنْ أَنُوحا ... لم تَدَعْ لي الذُّنوبُ قَلْبًا صحيحا أَخْلَقَتْ بَهْجتي أكفُّ المعاصي ... ونعاني المشيبُ نعْيًا فَصِيحا كلَّما قلتُ قد برا جُرْحُ قلبي ... عادَ قلبي من الذُّنوبِ جريحا إنما الفوزُ والنَّعيمُ لعبدٍ ... جاءَ في الحَشْرِ آمنًا مستريحا وكانت وفاته ببغداد في صفر، ودفن بمقبرة الوردية، وقيل: إنه مات في سنة سبع وعشرين (¬6) وخمس مئة. كذا قال جدي في "المنتظم" (¬7)، وقال: هو محمد بن أحمد ¬

_ (¬1) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر": 10/ 427. (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 5/ 392، و"تاريخ ابن عساكر" (خ) و (س): 741 - 742، و"تبيين كذب المفتري": 321، و"المنتظم": 10/ 33، و"الكامل": 11/ 9، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 44 - 46، وفيه تتمة مصادر ترجمته، ووفاته عندهم سنة (527 هـ). (¬3) هو محمد بن عبد الله بن عمرو بن أمير المؤمنين عثمان، وقد لقب بالديباج لحسنه، قتل سنة (145 هـ)، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء": 6/ 224 - 225. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ع) و (ح) عقبه: وتوفي ببغداد في صفر بمقبرة الوردية، وقيل: إنه مات سنة تسع وعشرين، وكان قد جمع بين العلم والزهد، والورع وحسن الخلق، وكثرة المروءة، وأنشد -ثم ذكر الأبيات، وقلت: وقد سقت ما في (م) و (ش) بين حاصرتين لما فيهما من الزيادة. (¬6) في (م) و (ش): تسع وعشرين، وهو تحريف، والمثبت مما يستفاد من "المنتظم" ومصادر ترجمته. (¬7) "المنتظم": 10/ 37.

محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء

من ولد محمد الدِّيباج بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: وهو من أهل نابلس، ويقال له المقدسي، قال: وكان غاليًا في مذهب الأَشْعري. وذكره الحافظ ابن عساكر، وقال: سمع بمكة نَصر بن مرزوق الزَّعفراني (¬1)، وبدمشق نَصْرًا المقدسي، وببغداد شيوخ ذلك العَصر، قال: وسمعت منه بمكة وبغداد، وكان قد جَمَعَ بين العلم والزهد والورع، وحسن الخلق وكثرة المروءات، وكانت وفاته ببغداد] (¬2). [فصل: وفيها توفي: محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن الفَرَّاء (¬3) أبي الحسين بن أبي يعلى. ولد في شعبان سنة إحدى وخمسين وأربع مئة، وتفقَّه في مذهب أحمد، وناظر وأفتى، وكان يبيتُ في داره بباب المراتب وَحْده، وكان له مالٌ كثير، وعَلِمَ به خُدَّامُه، فدخلوا عليه ليلةً، فَقَتلوه، وأخذوا المال، وذلك ليلة الجمعة عاشر المحرَّم، ثم إنَّ الله أوقعهم كلَّهم، فَقُتِلوا. سمع أبا يعلى، والخطيب، وابن النَّقور، وغيرهم، وكان ثِقَةً] (¬4). السَّنة السَّابعة والعشرون وخمس مئة فيها خُطِبَ لمسعود ببغداد، ومِنْ بعده لابن أخيه داود، وخُلِعَ عليهما، وعلى سُنْقُر الأحمديلي بباب الحجرة. ¬

_ (¬1) كذا في (م) و (ش)، وهو خطأ، صوابه فيما ذكر ابن عساكر: 14/ 741 أنه سمع ببغداد أبا الحسن بن مرزوق الزعفراني. قلت: وأبو الحسن هو محمد بن مرزوق، محدث ثبت، ولد سنة (442 هـ)، ومات في بغداد سنة (517 هـ)، وانظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء": 19/ 471 - 472. (¬2) "تاريخ ابن عساكر": 14/ 741 - 742. (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 229، و"مناقب الإمام أحمد": 637، و"الكامل" لابن الأثير: 10/ 683، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 601 - 602، وفيه تتمة مصادر ترجمته. وهو صاحب كتاب "طبقات الحنابلة"، وقد طبع في مصر سنة 1952 م، بعناية الشيخ محمد حامد الفقي. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وأرسل الخليفةُ مضاربه فَضُربتْ بالرَّمْلة (¬1)، وأصبح فنزل في شبَّارةٍ مُصعِدًا إلى التُّسْتَريين (¬2)، وفي صَدْرِ السفينة يرنقش البازْدار، وبيده سيفٌ مسلولٌ، وسُنْقُر الأحمديلي قائمًا بين يديه، والخدم والخواصّ حوله، وصَعِدَ من الشَّبَّارة، وركب ومضى إلى المضارب، والناسُ مشاةٌ بين يديه، ومشى الملكان مسعود وداود بين يديه مسافةً يسيرة، وأمرهما بالركوب، وسيِّرهما إلى هَمَذَان، وضَمَّ إليها نَظَر الخادم، ومعه مهدُ الخليفة، وخيمة سوداء، ولواءٌ أسود، وخرج إليهم طُغْريل، فهزموه، واستقرَّ مسعود بهمذان، ووثَبَ جماعةٌ من الباطنية على الأحمديلي، فقتلوه. واتُّهم مسعود أَنَّه وَضَعَهم عليه. وفيها عَزَمَ المسترشدُ على المسير إلى المَوْصِل، وعَبَرَ، ونزل في الدَّار الزَّكوية التي على الصَّراة، ثم رَحَلَ إلى الرَّمْلة ومعه نيِّفٌ وثلاثون أميرًا واثنا عشرة ألف فارس، وكان بِهْروز بقلعة تكريت، فأَرْسَلَ إليه الخليفة بالنزول عنها وتسليمها والمال الذي فيها، فأجابَ بأني رجلٌ كبير، ولا طاقةَ لي بالخِدْمة. وأرسل بالمال والضِّيافات، فأعفاه من النُّزول. وسار الخليفةُ إلى المَوْصِل، فوصَلَها في العشرين من رمضان، فأقام ثمانين يومًا على حِصارها، وبَعَثَ إليه زَنْكي: أنا أُعطيك الأموال، وأدخل في الطَّاعة، وارْحَلْ عني. فلم يجبه. ثُمَّ رَحَلَ عقيبَ ذلك، لأَنَّه بلغه أنَّ مسعودًا غَدَرَ بالأحمديلي وقَتَلَه، وخَلَعَ على دُبَيس. وعاد الخليفةُ إلى بغداد في ذي الحِجَّة. وفيها فَتَحَ شمسُ الملوك صاحبُ دمشق بانياس، وكان الفرنج لما أخذوها طَمِعُوا في المُسْلمين، وقووها بالرِّجال والسِّلاح، وعزموا على نَقْضِ الهُدْنة، وبلغ شمسَ الملوك، فسار إليها بخَيْله ورَجْلِهِ، وقاتلهم قتالًا شديدًا أيامًا، فلمَّا كان يومُ الأحد غُرَّة صَفَر زَحَفَ إليها، وترجَّل وترجَّلَتِ العساكر بأَسْرها، وطمُّوا الخندق، وهَجَموا البلد، وقتلوا من الفرنج خلْقًا كثيرًا، والتجأ الخَيَّالة والفرسان إلى الحِصن، فحصرهم، ¬

_ (¬1) الرملة: محلة كانت نحو شاطئ دجلة مقابل الكرخ ببغداد. "معجم البلدان": 3/ 69. (¬2) محلة كانت ببغداد في الجانب الغربي بين دجلة وباب البصرة، يسكنها أهل تُسْتر، وتعمل بها الثياب التسترية. انظر "معجم البلدان" 2/ 31.

أحمد بن سلامة بن عبيد الله بن مخلد

فصاحوا: الأمان، فأَمَّنهم، ونزلوا، فأَسَرَهم جميعًا، وعادَ إلى دمشق لستِّ [ليالٍ] (¬1) خَلَوْن من صفر بالغنائم، والأسرى في الحبال، والرؤوس على الرِّماح والقَصَب، وكان فَتْحًا عظيمًا [لم ير أهلُ دمشق مثله] (1). وسار شمسُ الملوكِ إلى حماة، وبها نُوَّاب زَنْكي، فأقام عليها أيامًا، وحَصَرها، وقاتلوه، ففتحها عَنْوَةً، وقيل: بالأمان في رمضان. وفيها توفي كريمُ المُلْك أبو الفَضْل أحمد بن عبد الرزاق وزير شمس الملوك في ذي الحِجَّة، فحَزِنَ النَّاسُ عليه، لأَنَّه كان حَسَنَ السِّيرة، كريمَ الأخلاقِ، مُحِبًّا للصَّالحين وأهلِ الخير، جَوَادًا، مُمَدَّحًا. فصل وفيها نَزَلَ صاحِبُ القُدْس على السَّاحل، وجمع الفرنج، وقَصَدَ حلب، ووصل [إلى] (1) قِنَّسْرين، فخرج إليه سوار نائب زَنْكي في العَسْكر، والتقوا، فَقُتِلَ من الفريقين نحو مئتين من الأعيان، وانهزمَ سوارَ إلى حلب، وتَبعهم الفرنج، وجاء من حلب جماعةٌ، فرجع سوار إلى الفرنج، فقتل منهم مقتلةً عظيمة، وانهزموا إلى أَنْطاكية. وفيها توفي أحمد بن سلامة بن عبيد الله (¬2) بن مَخْلَد (¬3) أبو العَبَّاس بن الرُّطَبي [الكرْخي] (1). تفقَّه [على أبي إسحاق الشِّيرازي وغيره] (1)، وسمع الحديث، وولي القضاء بحريمِ دار الخليفة، والحِسْبة أيضًا، وكان يؤدِّب أولاد الخليفة، وكان ثقة، وتوفي في رجب، [وصُلِّي عليه بجامع القَصر] (1)، ودفن بباب أبرز إلى جانب أبي إسحاق الشِّيرازي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في النسخ الخطية: عبد الله، وهو تحريف، والمثبت في أغلب مصادر ترجمته، و"توضيح المشتبه": 4/ 202. (¬3) له ترجمة في "تبيين كذب المفتري": 321 - 322، و"المنتظم": 10/ 31، و"الكامل": 11/ 9، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 610 - 611، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

أحمد بن الأفضل

[وحكى صاحبه موسى بن غريب بن شبابة قال] (¬1): دخلتُ عليه وهو في الموتِ، وهو يأمر بتجهيزه وتكفينه ومَوْضِع قبره، وما على قلبه من الموت، كأنَّه ينتقل من دار إلى دار. [سمع أبا القاسم البُسْري وغيره، وكان ثقة] (¬2). أحمد بن الأفضل (¬3) أمير الجيوش، ويلقب بالأكمل. ولي تدبير أمر مِصر كما ينبغي، واستولى على الحافظ، فحسده جماعةٌ، [ودبَّروا في قتله فقال قوم: ركبَ] (¬4) يومًا في المَيدان ومعه غِلْمانٌ بغير سلاح، فَوَثَبَ عليه جماعةٌ، فقتلوه. وقيل: خَرَجَ إلى بُسْتانه، فوثَبَ عليه جماعةٌ من غِلْمان الخاصَّة، فقتلوه، وحملوا رأسه إلى الحافظ، فَسُرَّ بقَتْله، لأَنَّه كان قد حَجَرَ عليه. واستوزر يانس الكاتب، ولقبه أمير الجيوش، واستصفى أموال الأكمل، فكانت ثلاث مئة ألف دينار. [وفيها توفي عبد الباقي بن عبد الله بن محمد (¬5) أبو المعالي، العَطَّار الدِّمَشْقي، سمع الحديث، وتوفي بدمشق، ودفن بمقبرة الكهف بقاسيون، سمع أبا عبد الله بن أبي الحديد وغيره، وهو من شيوخ الحافظ ابن عساكر، وكان صالحًا، ثِقَةً] (2). أحمد بنُ عَمَّار بنِ أحمد بن عَمّار (¬6) أبو عبد الله، الحسيني، الكوفي، العالم الفاضل، الفصيح. ¬

_ (¬1) في (ع) (ح): قال موسى بن غريب: دخلت عليه. . . والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الكامل": 10/ 672 - 674، و"الوافي بالوفيات": 6/ 415، و"اتعاظ الحنفا": 3/ 143 - 144، و"النجوم الزاهرة": 5/ 239 - 240، وقد ذكروا أنه قتل سنة (526 هـ). وانظر ص 399 من هذا الجزء. (¬4) في (ع) و (ح): فحسده جماعة، فركب يومًا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) لم أجد له ذكرًا في مشيخة ابن عساكر. (¬6) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق ج 4 / م 1/ 227 - 246، و"الوافي بالوفيات" 7/ 256 - 257، و"النجوم الزاهرة": 5/ 251.

علي بن عبد الله بن نصر السري

قدم بغداد، ومدح الوزير ابنَ صَدَقة بقوله: خلِّهِ تُنْضِ ليله الأَنضاءُ وقد ذكرناها في ترجمة ابن صَدَقة (¬1). ومن شِعْره: [من السريع] وشادِنٍ في الشّرْبِ قد أُشْرِبَتْ ... وَجْنَتُهُ ما مَجَّ راووقُهُ (¬2) ما شُبِّهَتْ يومًا أبارِيقُهُ ... بريقِهِ إلَّا أبى رِيقُهُ (¬3) وقال: [من الكامل] يا بانةَ العَلَمَينِ كَمْ من مَعْلَمٍ ... فَتَكَتْ مَهَاهُ بالكَمِيِّ المُعْلَمِ سَلَّتْ عليه ظُبَى السُّيوفِ ظِباؤه ... وقَضَتْ بلا جُرْحٍ دماه على الدَّمِ يا للعلى أَيَضِلُّ مِثْلي فيكُمُ ... ما بينَ أطلالٍ وبينَ معالِمِ وتحكُّم الأعداءِ فيَّ وطالما ... أصبحتُ أَحْكُمُ في مليكٍ حاكمِ وإذا ركبتُ بجيشِ عَزْمٍ مُعْلَمٍ ... يبدو كموج اللُّجَّةِ المُتَلاطِمِ في جَحْفَلٍ متعاضد متعاقِدٍ ... في قَسْطَلٍ (¬4) متراكبٍ متراكمِ وصواهِلٍ وصوائل وصوافنٍ ... وصواعِقٍ وصوائب وصوارِمِ وإذا تفاخَرَتِ الرِّجالُ بهاشمٍ ... غُرَرِ الأنامِ فنحن غُرَّةُ هاشمِ مِثْلي تَغَلْغَلَ في العلاءِ وحَلَّقَتْ ... بجناحِهِ في المَجْدِ عَشْر قوادِم ورأى العُلا بِلِحاظ عاشٍ عاشقٍ ... ورمى العِدى بشواظِ غاشٍ غاشِمِ (¬5) علي بن عبد الله بن نَصر السَّرِي (¬6) أبو الحسن، الزَّاغوني، الفقيه الحَنْبلي. ¬

_ (¬1) انظر ص 211 من هذا الجرء. (¬2) الراووق: المصفاة التي يُصَفَّى بها الشراب. "اللسان" (روق). (¬3) "الخريدة": ج 4 / م 1/ 235. (¬4) القسطل: غبار المعركة. (¬5) ساق العماد في "خريدة القصر" بيتين من القصيدة. وعاشٍ: أي ضعيف البصر، وغاشٍ: ضارب ضربًا شديدًا. وغاشم: ظالم. (¬6) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 32، و"مشيخة ابن الجوزي": 86 - 88، و"مناقب الإمام أحمد": 637، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 605 - 607، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن أحمد بن محمد بن صاعد

ولد سنة خمسٍ وخمسين وأربعة مئة، وقرأ القرآن والأدب والفرائض والأصول، وتفقَّه وَوَعَظَ، وأنشأَ الخُطَب، وكان له حَلْقةٌ بجامعِ المنصور للنَّظر والوعظ، وتوفي يوم الأحد سابع عشرة المحرَّم، وصُلِّي عليه بجامع القَصر والمنصور، ودُفِنَ بباب حَرْب، سمع الصَّريفيني، وكان ثِقَةً. محمد بن أحمد بن محمد بن صاعد (¬1) أبو سعيد النَّيسابوري. ولد سنة أربع (¬2) وأربعين وأربع مئة، وقَدِمَ بغداد، وكان رئيس نَيسابور، وقاضيها، وله دُنيا واسعة، ومنزلة عالية عند الخاصّ والعام، وتوفي بنيسابور يوم السبت غُرَّة ذي الحِجَّة (¬3)، وكان نبيلًا، ثِقَةً. محمد بن الحسين بن علي بن إبراهيم (¬4) أبو بكر المَزْرَفي. ولد سنة تسع وثلاثين (¬5) وأربع مئة، وسمع الكثير، وانفرد بعلم الفرائض. وتوفي في سجوده في المحرَّم، ودُفِنَ بباب حَرْب، وكان ثَبْتًا صالحًا، متعبِّدًا صدوقًا، ثِقَةً. السَّنة الثَّامنة والعشرون وخمس مئة فيها وصلتْ هدَايا زَنْكي، واتَّفَقَ مع الخليفة. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التحبير": 2/ 74 - 75، و"المنتظم": 10/ 33، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 591، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) في (ع): سبع، والمثبت من (خ)، وهو الموافق لما في "التحبير"، و"المنتظم" وغيرهما من المصادر. (¬3) في "التحبير": ثامن عشر ذي الحجة، وفي "المنتظم": ثاني عشر ذي الحجة. (¬4) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 33 - 34، و"مشيخة ابن الجوزي": 66 - 68، و"معجم البلدان": 5/ 121، و"معرفة القراء الكبار": 2/ 937 - 938، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 631 - 632، وفيه تتمة مصادر ترجمته. جاء اسمه في "مشيخة ابن الجوزي" و"معجم البلدان": محمد بن الحسن. (¬5) في (ع) و (ح): تسع وثمانين، ومثله في "المنتظم"، وهو خطأ، والمثبت من "مشيخة ابن الجوزي"، وبقية المصادر.

وعُزِلَ أنوشروان من غير أن يُؤْذى، بل نزل في الليل [بنفسه] (¬1) في سفينةٍ إلى داره بالحريم الطَّاهري، وأُعيد أبو القاسم بن طِرَاد إلى الوزارة، وخُلِعَ عليه، وزِيدَ في فُرُشه الطَّوق، وأُعطي الكوسات والأعلام. وفيها قَدِمَ رسولٌ من سنجر يَطْلُبُ الخِلَع، فبعث له الخليفة خِلَعًا بمئةِ ألفٍ وعشرين ألف دينار مع ابن الأنباري. وبَعَثَ الخليفةُ إلى تَكْريت، فَحَصَرها وفيها بِهرْوز، فصانَعَ بمالٍ، فَقُبِلَ منه. وفيها قدم البقش السِّلاحي؛ من كبار أُمراء الأتراك إلى بغداد، وعَرَضَ الخليفةُ العساكر يوم عيد الفطر، وركب الوزير شرف الدِّين وقاضي القُضَاة، والنَّقيبان وأربابُ الدَّولة، فكانوا خمسة عشرة ألف فارس، ولم يُرَ عيدٌ اجتمع فيه أربابُ الدولة إلا هذا. وفيها عاد طُغْريل إلى هَمَذَان، ومالتِ العساكر إليه، وانحلَّ أمرُ أخيه مسعود، وبَعَثَ الخليفة إلى مسعود يطلبه ليرفع منه، فَدَخَلَ بغداد متخفيًا في ثلاثين فارسًا، فبعث إليه الخليفة بمالٍ وتُحَف، ووَقَعَ الخليفةُ بُملَطِّفات من بعض الأُمراء إلى طُغْريل فطلبهم، فهربوا إلى مسعود، واستجاروا له، فأرسل الخليفةُ يطلبهم منه، فامتنع، وقال: قد استجاروا بي. فقال الخليفة: إنما أفعل هذا لأجلك، وأُنَصِّبُكَ مرَّة بعد أخرى وأنت تفعل هذا؟ ! ووقع الاختلاف، واختلط العسكر، ومدُّوا أيديهم إلى المال والحريم. فأرسل الخليفة إلى مسعود يقول: انصرف إلى بعض الجهات بالعسكر الذين صاروا إليك. فنزل بدار الغَرَبة رابع عشرين ذي الحِجَّة، وتواترت الأخبار بمجيء طُغْريل إلى بغداد، فلمَّا كان يوم السبت سَلْخ ذي الحجة بعث الخليفة بالخِلَع، والتَّاج والطَّوق، وتخوت الثِّياب، وثلاثين ألف دينار إلى مسعود، فأخذ الجميعَ، ولم يرحل. وفيها حاصر شمسُ الملوك صاحبُ دمشق شقيف تيرون المطلّ على بيروت وصَيدا، وكان فيه الضَّحَّاك بن جَنْدل، فانتزعه منه، وعَوَّضه ضياعًا. وفيها خَرَجَ شمسُ الملوك يتصيَّدُ، فانفردَ عن أصحابه، فَوَثَبَ عليه أحدُ مماليك جَدِّه طُغْتِكِين، ويعرف بإيلبا، فضربه بالسَّيف ضربةً هائلة، أراد، قطع رأسه، فانقلبَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ح).

السيفُ من يده، فرمى بنفسه إلى الأرض، فضربه أُخرى، فوقعت في عُنُق الفرس، فأَتْلَفَتْه وحال بينهما الفرس، [وأدركته العساكر] (¬1) وكانوا بصَيدنايا وجبة عسال (¬2)، وانهزم إيلبا، وعادَ شمسُ الملوك إلى دمشق سالمًا، وبثَّ الغِلْمان في طلبه، فقاتلهم، ثم ظفروا به، فلما جاؤوا به إليه قال [له] (¬3): ما الذي حَمَلك على ما صنعتَ؟ قال: لم أفعله إلا تقرُّبًا إلى الله تعالى لأريح المسلمين منك، لأنَّك قد ظلمت المساكين، وضعفاء النَّاس [من أهل الضّياع والمتعيشين] (3)، وإن معي فلانًا وفلانًا، وكلُّنا اتفقنا عليك. فجمع المتهومين، وقَتَلَ الجميعَ صبرًا، وأولُ ما قَتَلَ إيلبا [ولامه النَّاسُ حيث قَتَلَ الغِلْمان بقولِ هذا الجاني من غير بينة ظهرت] (3)، ولم يكفه قَتْلُ المتهومين ظُلْمًا حتى اتَّهم أخاه سونج، فتركه في بيتٍ، وسدَّ عليه الباب، فمات جوعًا، ثم بالغ في سَفْكِ الدِّماء والظلم والأفعال القَبيحة، ولم يقف عند حَدٍّ، [وسنذكر قتله في السنة الآتية] (3). وفيها وقع الخُلْفُ بين ولدي الحافظ أبي علي الحسن ولي العهد وبين أخيه أبي تراب حَيدَرة بمصر، وانقسم الجُنْدُ فريقين؛ أحدهما إلى مذهب السُّنَّة، والثَّاني إلى مذهب الشِّيعة، ووقع القتال، فكان النَّصرُ لولي العهد، وأباد من تبع أخاه من السُّودان وغيرِهم بالقَتْلِ. وفيها نَقَضَ الفرنج الهُدْنة، ونزلوا حوران، وخرج شمسُ الملوك إليهم في حشده [وجمعه] (3)، وخيم بإزائهم، [وكانوا في جَمْع عظيم] (3) فلما رأى [شمس الملوك] (3) أنه لا طاقة له بهم غافلهم في الليل ورحل نحو طبرية وعكا وصور والسَّاحل، فقتل وسبى، وغَنِم غنائم كثيرة، وعاد إلى دمشق على طريق الشَّعْراء، ورحل الفرنج إلى بلادهم، فساءهم ما رأوا من الخراب والنَّهب، فذلوا وتفرَّقوا، وذلك في ذي الحِجَّة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) صيدنايا: بلدة في القلمون تبعد عن دمشق (30 كم)، وجبة عسال بلدة في القلمون كذلك، وتسمى الآن عسال الورد، وتبعد عن دمشق (61 كم). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن إبراهيم، أبو الوفاء، الفيروزابادي

فصل: وفيها توفي أحمد بن إبراهيم، أبو الوفاء، الفيروزابادي (¬1) وفيروزاباد: حَدُّ بلاد فارس. سمع الحديث، وخَدَمَ المشايخ الصُّوفية، وكان حافظًا لِسِيَرهم وأَشْعارهم، كرِيمَ الأخلاق، لطيفًا، جَوَادًا، وسكَنَ رِباط الزُّوْزَني مقابل جامع المنصور، وكان يسمعُ الغِناء [على عادتهم، وكان] (¬2) يقول لعبد الوهَّاب الأنماطي: إني لأدعو لك وقت السَّماع. فكان الأنماطي يتعجَّبُ، ويقول: أليس هذا يعتقدُ أنَّ ذلك وقت إجابة! وتوفي ليلة الاثنين حادي عشرة صَفَر، وحَضَر جِنازته خَلْقٌ كثير، منهم أربابُ الدولة، [وقاضي القضاة والنَّقيبان وخدم الخاصة] (2)، ودُفِنَ على باب الرِّباط، وعُمِلَ له يوم السبت ثامن عشرة صفر دعوةٌ عظيمة، أُنفق فيها مالٌ كثير، بين جامع المنصور والرِّباط على عادة الصُّوفية إذا مات لهم ميت، لم يتخلَّف عنها أحد. [سمع من أبي طاهر الباقلاوي، وأبي الحسن الهَكَّاري، وغيرهم] (2). حسن بن إبراهيم بن علي (¬3) ابن بَرْهون، أبو علي، الفارِقي. ولد سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة، وتفقَّه على أبي إسحاق الشِّيرازي وغيره، وولي القضاء بواسط، وأعمالها، فتوفي بها في محرَّم عن ستٍّ وتسعين سنة، وهو سليمُ الحواس والعَقْل، وما زال يكرِّرُ الفِقْه إلى أن مات، وكان زاهدًا عابدًا، وَرِعًا مهيبًا، لا يحابي أحدًا في الحكومات. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 36 - 37، و"العبر" للذهبي: 4/ 74، و"النجوم الزاهرة": 5/ 253، و"شذرات الذهب": 4/ 82 - 83، وجاء اسمه في "العبر" و"الشذرات": أحمد بن علي الشيرازي. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) (ش). (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 37، و"الكامل": 11/ 17، و"وفيات الأعيان": 2/ 77، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 608 - 609، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

عبد الله بن محمد بن أبي بكر الشاشي

عبد الله بن محمد بن أبي بكر الشَّاشي (¬1) ولد سنة إحدى وثمانين وأربع مئة، وتفقَّه، وأفتى وناظر [في زمان أبيه] (¬2)، وكان ظريفَ الشَّمائل، حَسَنَ العبارة، [وكان] (2) يعظ وينشئ الكلامَ المطابق والمجانس. قال يومًا في مجلس [من مجالس] (2) وعظه: أين القدود العالية والخدود الوَرْدية، امتلأت بها العالية والوَرْدية. اسم مقبرتين بنهر مُعَلَّى. وجلس يومًا آخر النهار في التَّاجية، وكان في السَّماء غيم، فارتجل في الطَّريق أبياتًا قالها في آخر المجلس، وهي: [من الرجز] قَضِيَّةٌ أَعْجِبْ بها قَضِيَّهْ ... جلوسُنا اللَّيلةَ في التَّاجِيَّهْ والجوُّ في حُلَّتِةِ الفِضيَّةْ ... صِقالُها قَعْقَعَةٌ رَعدِيَّهْ أعلامُها شَعْشَعَةٌ بَرْقِيَّهْ ... تَنْثُرُ مِنْ أرْدانها العِطْرِيَّهْ ذائِبَ درٍّ يَنْشُرُ البَرِيَّهْ ... والشَّمْسُ تبدو تارةً جَلِيَّهْ ثُمَّ تراها مرةً خَفِيَّهْ ... كأنَّها جاريةٌ حَيِيَّهْ حتى إذا كانت (¬3) لنا العَشِيَّهْ ... نَضَّتْ لباسَ الغَيمِ بالكُلِّيهْ وأَسْفَرَتْ في الجهةِ الغربيَّهْ ... صفراءَ في مِلْحَفَةٍ وَرْسِيَّهْ كرامةٌ أعرفها شاشيَّهْ [قلت: وأعجبُ من ذا أن بعض أشياخنا حكى لي] (¬4) أنَّه قَدِمَ رجلٌ علوي، فجلس في التَّاجية آخر النهار، فذكر حديث رُدَّتِ الشَّمْسُ لعلي عليه السَّلام (¬5)، ثُمَّ شَرَعَ في ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 37 - 38، و"الكامل": 11/ 18، و"الوافي بالوفيات": 17/ 428 - 429، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 127، و"طبقات الشافعية" للإسنوي: 2/ 87، و"النجوم الزاهرة": 5/ 253 - 254. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) (ش). (¬3) وكذلك هي في "المنتظم": 10/ 38، وفي "الوافي بالوافيات" و"طبقات السبكي": حانت، وهي الأشبه. (¬4) في (ع) و (ح): وأعجب من هذا أنه قدم. . والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) حديث ردِّ الشمس لعلي، أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (1067) (1068)، والطبراني في "المعجم الكبير": (382) و (390) والعقيلي في "الضعفاء": 3/ 327 - 328، وابن الجوزي في "الموضوعات": 1/ 266 - 267، وهو حديث منكر، وقد حكم عليه أئمة الحديث بالوضع، وأشبع القول فيه الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية": 6/ 77 - 87، فراجِعْه، فإنه نفيسٌ.

عبد الواحد بن شنيف أبو الفرج الحنبلي [الدارقزي] (1)

مناقب أهل البيت، فارتفعت سحابةٌ، فغطَّتِ الشَّمْسَ، وأظلمتِ الدُّنيا حتى خُيِّلَ للنَّاس أَنَّ الشمس قد غَرَبَتْ، فأومى العَلَوي إلى جهة المغرب، وارتجل [وقال] (¬1): [من الكامل] لا تَغْرُبي يا شمسُ حتى ينتهي ... مَدْحي لآلِ المُصطفى ولنَجْلِهِ واثني عِنانَك إنْ أردتِ ثناءَهُمْ ... أنسيتِ إذْ كان الوقوفُ لأَجْلِهِ إنْ كان للمولى وقوفُكِ فليكُنْ ... هذا الوقوفُ لخَيلِهِ ولرَجْلِهِ فطلعت الشمس، فلم يبقَ إلا من رمى ثيابه على العلوي. وتوفي ابنُ الشَّاشي في المحرَّم، ودُفِنَ عند قبر أبيه في تُرْبة أبي إسحاق الشِّيرازي [سمع أباه، وأبا عبد الله بن طلحة النِّعالي، وغيرهما] (1). ومن شعره: [من الدوبيت] الدَّمْعُ دمًا يسيلُ مِنْ أجفاني ... إنْ عشتُ مع الفِراقِ ما أَجْفَاني سِجْني شَجَني وحاكمي سَجَّاني ... والعاذِل بالمَلامِ قد شَجَاني والذِّكْرُ لهم يزيدُ في أَشْجاني ... والنَّوْحُ معَ الحَمَامِ قد أَشْجاني ضاقت ببعادِ منيتي أعطاني ... والبينُ يدَ الهمومِ قد أعطاني وفي ابن الشَّاشي يقول مَعْدَان بن كثير البالِسِي: [من الكامل] يا كعبة الفَضْلِ افْتِنا لِمْ لَمْ يجبْ ... فَرْضًا على قُصَّادِكَ الإحرامُ ولمَ تُضَمِّخْ زائريك بطِيبِ ما ... تُلْقِيه وَهْوَ على الحجيجِ حَرَامُ عبد الواحد بن شُنَيف أبو الفرج الحَنْبلي (¬2) [الدَّارَقَزِّي] (1) [سمع الحديث وتفقه وبرع وأفتى وناظر، وكان أمينًا للقاضي] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 39، و"ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 238 - 239، و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب: 1/ 185 - 186، و"المقصد الأرشد": 2/ 139، و"المنهج الأحمد": 3/ 115، و"شذرات الذهب": 4/ 85 - 86.

علي بن محمد، أبو الحسن العنبري

توفي بعضُ أصحابه، وأوصى إليه بولده، فكان ينفق عليه مما خلَّفه أبوه و [وكان] (1) الضَّبيُّ [فَطِنًا] (1) يكتب ما ينفق عليه، فمَرِضَ الشيخ فقال للصبي: أيش بقي لك عندي؟ فقال: والله ما لي عندك شيء، لأَن ما ترك أبي أنفقته عليَّ، [فقال: بلى، وأخرج] (1) سبعين دينارًا، وقال: [خذ] (1) هذه [فهي] (¬1) لك، فإني كنتُ أتَّجر لك بشيءٍ من مالك، وهذه رِبْحُهُ. وتوفي رجل بدار القَزِّ، وأوصى إليه أن يقسم ميراثه، فأعطى زوجته حَقَّها، وأعطى الباقي ذوي أرحامه، وكان ابن الرُّطبي على التَّرِكات، وعبد الواحد نائبه، فكتَبَ ابنُ الرُّطَبي إلى المسترشد يُخبره بما صنع [وقال: إنه ورث ذوي الأرحام] (¬2) فكتَبَ الخليفة: نِعْمَ ما فعل إذْ عَمِلَ بمذهبه، والذَّنْبُ لمن استعملَ حنبليًّا في هذا، وقد عَلِمَ مذهبه. [وقيل: إنه لم يكن عبد الواحد نائب ابن الرُّطَبي، وإنما توفي رجل حَشْري (2) بدار القَزّ، وكان ابن الرُّطبي يتولى التَّرِكات، فكَتَبَ إليه ابنُ الرُّطبي بأن يتولى تَرِكَتَهُ، فَفَعَلَ فيها ما فعل] (1). وتوفي عبدُ الواحد في شعبان، وخَلَّفَ مالًا كثيرًا. عليُّ بنُ محمد، أبو الحسن العَنْبَري (¬3) ويقال له ابنُ دَوَّاس القَنَا، شاعِرٌ فصيح، أصله من البَصرة، وسكن وَاسِطًا، وتوفي بها. ومن شعره: [من البسيط] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الحشري: هو الميت الذي خلف مالًا، وليس له وارث خاص بقرابة أو نكاح أو ولاء، أو له وارث ذو فرض، ولكنه لا يستغرق جميع المال الذي خلفه ولا عاصب له، فهذا كان ماله يعود لبيت المال، وكان له ديوان خاص به يسمى "المواريث الحشرية"، وقد عمل أبو الفرج الحنبلي بمذهبه فورث ذوي الأرحام، ومن ثم استنكر عليه القاضي ابن الرطبي الشافعي فعله. وقد تحرفت "حشري" في "المنتظم" و"المنهج الأحمد" إلى حشوي، واعتمدها "محقق؟ " المنهج قائلًا في حشري: وهو من آفات الطبع، فتأمل! انظر "صبح الأعشى": 3/ 460، و"المصباح المنير" (حشر). (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 4 / م 1/ 361 - 363 و"الوافي بالوفيات": 22/ 88 - 89، و"النجوم الزاهرة": 5/ 254.

محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي

هل أنتِ مُنْجِزَةٌ بالوَصلِ ميعادِي ... أم أنتِ مُشْمِتَةٌ بالهَجْرِ حُسَّادِي سألتُ طَيفَك إلمامًا فَضَنَّ به ... ولو أَلَمَّ لأَرْوَى غُلَّةَ الصَّادي يا ظَبْيَةَ الحَيِّ ما جِيدي بمنعطِفٍ ... إلى سِواكِ ولا حَبْلي بمُنْقادِ لولا هواكِ لما اسْتَلْمَعْتُ بارِقةً ... ولا سألتُ حَمَامَ الدَّوْحِ إسعادي ولا وقفتُ على الوادي أسائِلُهُ ... بالدَّمعِ حتى رثى لي ساكنُ الوادي رحلتُمُ وفؤادي في رحالِكُمُ ... موزَّعٌ بين إتْهامٍ وإنجاد إن تأسِرُوا فذوو عِزٍّ ومَقْدِرَةٍ ... أو تُطْلِقُوا فذوو مَنٍّ وإرْفادِ (¬1) إذا سَمَحْتُمْ بتقريبي ولم تَصِلُوا ... حَبْلي فسِيَّانَ تَقْريبي وإبعادي (¬2) محمد بن عبد الله بن تُومَرْت المَصمُودي (¬3) صاحب المَغْرب. كان قد رحل في شبيبته إلى الإسكندرية ومِصر والعراق، وحجَّ وحَفِظَ القرآن، وسَمِعَ الحديث، وتَنَسَّك، وأَمَرَ بالمعروف، ونهى عن المنكر، وهَجَرَ لذَّات الدُّنيا، وعاد إلى المَغْرب، فانتهى إلى بِجَاية، فكَسَرَ بها آلاتِ اللَّهو، وأَهْراقَ الخمرَ، وخَرَجَ منها إلى قريةٍ يُقال لها: مَلَّالة، فرأى عبدَ المؤمن، فتفرَّس فيه، وسأله عن [قبيلته و] (¬4) نسبه، فأخبره أَنَّه من قَيس من شعب الشَّريد بن مُسْلم (¬5)، فقال محمد بن تُومَرْت لأصحابه: هذا الذي بَشَّر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن الله ينصُرُ هذا الدِّينَ في آخر الزَّمان ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): إن تأسرون فذو عز ومقدرة ... أو تطلقون فذو مَنٍّ وإرفاد والمثبت من "الخريدة". (¬2) القصيدة في "الخريدة" قسم شعراء العراق: ج 4 / م 1/ 362 - 363. (¬3) أخباره في "الكامل" لابن الأثير: 10/ 569 - 582، و"المعجب" 262 - 287، و"وفيات الأعيان": 5/ 45 - 55، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 539 - 552. ووفاته على الصحيح سنة (524 هـ) كما في مصادر ترجمته. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) كذا في النسخ الخطية، ولم أقف عليه.

برجلٍ من قيس سُلَيْم" (¬1)، واستبشر به ابنُ تُومَرْت، وعَلِمَ أَنَّه وارِثُه، وحامِلُ أمانته، ومقيمُ دعوته، وتوفي ابن تُومرت بمكانٍ يقال له تينمَل، وقبره ظاهر يُزار (¬2). وقال أبو يعلى بنُ القلانسي: حدَّثني مَنْ أثقُ به مِنْ أهل المغرب، أَنَّ الفقيه ابنَ تُومَرْت من جبل السُّوس، وأَصلُه مَصمُودي، وكان غايةً في الفِقْه، والدِّين، مشهورًا بالوَرَع والزُّهْد، وكان قد سافر إلى العراق، واجتمع بالأَئمة والفقهاء، وأَخَذَ عنهم، وناظر، وسمع الحديث، وعاد إلى مِصر، وقرأ على علمائها، ثم عاد إلى المغرب، ودعا إلى مذهب الفكر، وابتدأ ظهوره في سنة اثنتي عشرة وخمس مئة في مدينة تعرف بدرن في جبلٍ أوله في البحر المحيط وآخره في بحر الإسكندرية، وغَلَبَ على جبل السُّوس، واجتمع إليه خَلْقٌ كثير من قبائل المصامدة بجبل درن (¬3). وقيل: إنه وصل إلى المهدية، وأمر أهلها أن يبنوا قصرًا على نِيَّة الفكرة، وأن يعبدوا الله تعالى فيه بالفكرة، فاجتمعَ مشايخُ أهلِ المهدية وفقهاؤها، وعَزَموا على بنائه، فقام رجلٌ من كبار الفقهاء، فقال: نقيم ما أقمنا في المهدية، ويجيءُ إليكم رجلٌ بربري مَصمُودي يأمركم بالعبادة بالفكرة، فتجيبون إلى ما أمركم به؟ ! وأنكر ذلك إنكارًا شديدًا حتى عادوا عنه، وأبطلوه، فخرج المَصمُودي من المهدِيَّةِ، ولم يتمَّ له فيها أمر، فجاء إلى بِجاية؛ وهي في يد بني حَمَّاد من صِنْهاجة، فأنكر عليهم شُرْبَ الخمر، وكَسَرَ الأواني، فامتنعوا من شُرْبها، وساعده على ذلك آلُ حمدون (¬4) صاحب ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في (م) و (ش) عقب هذا: وسنذكر سيرة عبد المؤمن في سنة ثمانٍ وخمسين وخمس مئة. قلت: وهذا هو المشهور من سيرة ابن تومرت. في سنة ثمان وتسعين وأربع مئة (كذا)، وكان شعرًا فصيحًا، ومن شعره من قبل أن يقدم بالمغرب. ثم ذكر البيتين الآتيين ص 263. (¬3) انظر "الروض المعطار": 234 - 235. (¬4) وهي كذلك في أصل "ذيل تاريخ دمشق": 455، غَيَّرها "محققه" إلى ابن حماد ظنًّا منه أن المراد بالنص هو حاكمها يحيى بن عبد العزيز بن حماد، وهو آخر ملوكها، والحق أن آل حمدون كانوا المتحكمين في بجاية، وذلك لانشغال أميرها يحيى بالصيد واللهو، وقد بين منزلة آل حمدون ابن الأثير في "الكامل": 11/ 158 - 159.

هذا البلد، وحَمَلَ إليه مالًا، فلم يقبله، وأظهر الزُّهْد والورع، ثم خَرَجَ من بِجاية، وقصد أغمات، وأظهر الزُّهْد، ودرَّس الفِقْه، واجتمع إليه أربعُ مئة رجلٍ من المصامدة، ثم ارتفع أمره، وبلغ خبره إلى [ابن] (¬1) يوسف بن تاشفين، وأنه يبيح دمه ودمَ أصحابه، فاستدعاه، وأحضر الفقهاءَ فناظروه، وأشاروا بحبسه، فلم يقبل يوسف، وأطلقه، وحاربه بعد ذلك، وكان يدعى بالخارجي (¬2). ذكر عقيدة ابنِ تُومَرْت: ذكرَ في أوَّلها حديثَ ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بُني الإسلام على خمس" (¬3) الحديث. وحديث معاذ لمَّا بعثه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، وأمره بإقامة الصَّلوات وإيتاء الزكاة، وقال: "اتَّقِ دعوةَ المَظْلوم" (¬4) الحديث. ثم قال: فثبتَ بهذا أَنَّ العبادةَ لا تَصحُّ إلا بالإيمان، والإخلاص، وذلك بالعِلْم والعمل، بالطَّلب والطلب، بالإرادة والإرادة، بالرَّغبة والرَّهْبة، والرَّغْبة والرَّهْبة، وبالوَعد والوعيد، بالشَّرْع والشَّرع، بصدق الرَّسول وصِدْق الرَّسول، بإظهار المعجزة بإذن الله تعالى. ثم قال: وبضرورة العقل يُعرف وجودُ الباري، والضَّرورةُ ما لا يتطرَّق إليه الشَّك، ولا يمكن العاقل جحده، وهذه الضّرورة على ثلاثة أقسام: واجب، وجائز، ومستحيل. فالواجب: لا بُدَّ من كونه؛ كافتقارِ الفِعل إلى الفاعل. والجائز: ما يمكن أن يكون وأن لا يكون؛ كنزول المطر، ونحوه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "ذيل تاريخ دمشق"، وهو علي بن يوسف بن تاشفين، وقد توفي سنة (537 هـ)، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء": 20/ 124 - 125. (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 453 - 456. (¬3) حديث صحيح، أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو في "المسند" (6015). (¬4) حديث صحيح، أخرجه البخاري (2448)، ومسلم (19)، وهو في "المسند" (2071).

والمستحيل: ما لا يمكن كونه؛ كالجمع بين الضِّدَّين. وهذه الضرورة مستقِّرةٌ في نفوس العقلاء بأجمعهم؛ أَنَّ الفعل لا بُدَّ له من فاعل، وأَنَّ الفاعل ليس في وجوده شكٌّ، وهذا معنى قوله {قَالتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] وما انتفى عنه الشَّكُّ وَجَبَ كونه معلومًا، فَثَبَتَ بهذا أَنَّ الباري يُعْلَمُ بضرورة العقل، وبحدوث نفسه أيضًا، لأَنَه يَعْلَمُ أَنَّ له صانعًا صنعه، لقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيئًا} [مريم: 9] وذى الآياتَ التي فيها خَلْقُ الإنسان، ثم قال: فالسَّموات والأرضُ وجميعُ الموجودات يُعْلَمُ بها وجودُ الباري، وكذا الليل والنهار والحيوانات، وقد نبه الله على خَلْقها في آياتٍ كقوله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] الآية. ثم قال: وإذا كان خالقَ كلِّ شيء عُلِمَ أنه لا يشبهه شيء لأنَّه ليس من جِنْسها {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17]. ثم ذكر فصولًا في دَفْعِ التَّشْبيه والتكييف والتعطيل، وأَثْبَتَ التَّوحيد والتَّنزيه، ثم قال: عَرَفه العارفون بأفعاله، ونفوا التكييف عن عِزَّته وجلاله. ثم قال: وما وَرَدَ من الآيات المتشابهات كآيات النُّزول ونحوها، فيجب الإيمانُ بها مع نفي الكيفية، قال الله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] الآية. فقد أثنى الله عليهم، وقالت عائشة رضي الله عنها: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله، فاحذروهم. وليس الباري متصِلٌ بخَلْقِهِ. ثم قال: وهو عالم بِعلْمٍ واحد، قادِرٌ بقُدْرةٍ واحدة. ثم أَثْبَتَ القَدَر، وقال: وجميعُ المخلوقات صادِرَةٌ عن قَضَائه وقَدَره، قَدَّرها في أزلِيَّته من غير زيادةٍ ولا نُقْصان، لا تبديلَ في المقدور، ولا تحويل في المحتوم، أوجدها بغير واسطة ولا بعِلَّة، وليس له شريكٌ في إيجادها {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. ثم قال: وأسماؤه موقوفة على إذْنه، لا يُسمَّى إلا

محمد بن علي بن عبد الواحد

بما سَمَّى به نَفْسَه في كتابه أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولا مجال للقياس فيها {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وذكَرَ ما يتعلق بها من الآيات. ثم أثبت رؤية الله تعالى في الجَنَّة، وذَكَرَ آياتِ النَّظر والأحاديث، ثم قال: من غير تشبيه ولا تجسيم. ثم قال: والمعجزات حَقٌّ، وذَكَرَ قَلْبَ العصا حَيَّةً، ونَبْعَ الماءِ من بين أصابع نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وذَكَرَ القرآن الذي هو المعجز الأكبر، وذكر كلامًا طويلًا. ومن شِعْره: [من البسيط] إنِّي وفي النَّفْسِ أشياءٌ مُخَبَّأَةٌ ... لأَلْبِسَنَّ لها دِرْعًا وجِلْبابا كيما أُطَهِّرَ دِينَ الله من دَنَسٍ ... وأُوْجِبَ الفَضْلَ للسَّاداتِ إيجابا محمد بن علي بن عبد الواحد (¬1) أبو رَشِيد، من أهل آمُل طَبَرِسْتان. وُلِدَ سنة سبع وثلاثين وأربع مئة، وحَجَّ، وجاور بمكة سنين، وسمع الحديث، [وحدث بشيء يسير] (¬2)، وكان زاهدًا عابدًا، منقطعًا، مشغولًا بنفسه، ركب البحر، فلمَّا وَصَلَ إلى بعض الجزائر خَرَجَ من السفينة، وودَّع أصحابه، وقال: أُريدُ أَنْ أقيمَ هاهنا. فقالوا: هذا مكانٌ منقطع، ولا فيه عمارة، فكيف تصنع؟ فقال: لا بُدَّ. فأقلعوا في البحر، فهاجتْ عليهم الرِّيح، فردَّتْهم إلى الجزيرة، [فسألوه أن يجيء معهم، فأبى، فأقلعوا، فردَّتهم الريح إلى الجزيرة] (2) ثانيًا وثالثًا ورابعًا، فاجتمع إليه التُّجَّار، وقالوا: لا يحلُّ لك أن تسعى في إتلافِ نفوسنا وأموالنا، كلَّما دفعنا رَدَّتنا الرِّيح إليك، فاصحبْنا إلى دَرْبَنْد، فإذا رجعنا فأَقِمْ هناك. فأجابهم، وأقام معهم بدَرْبَنْد أيامًا، ثم ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 40، و"الكامل" 11/ 18 - وفيه: محمد بن علي بن عبد الوهاب- و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 154 - 155. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة التاسعة والعشرون وخمس مئة

رجع إلى الجزيرة، وأقام بها سنين، وكان فيها عَينٌ، فكان يشربُ منها ويتوضأ، ثم رَجَعَ إلى آمُل، فسكنها إلى أن توفي في جُمادى الأُولى، وقبره بآمُل يُتَبرَّك به. وقال بعضُ أصحابه: مضيت إلى تلك الجزيرة، فرأيتُ فيها ثعبانًا يبتلع ابنَ آدم، فزرت موضع سجوده، ورجعت. [فصل: وفيها توفيت والدة المسترشد (¬1)، كانت صالحة متصدِّقة، توفيت ليلة الاثنين تاسع عشرة شوال، وصلى عليها المسترشد ليلًا، وحملت إلى الرُّصافة] (¬2). السَّنة التاسعة والعشرون وخمس مئة فيها قُتِلَ المسترشد، ودُبَيْس، [وشمس الملوك صاحب دمشق] (¬3)، ومات طُغْريل السُّلْطان. وفيها أخرجَ الخليفة سُرادِقَه إلى رؤوس الحيطان، لأَنَّه اطَّلع على سوءِ نية مسعود. ووصل الخبر بوفاة طُغْريل بهَمَذَان، فسار مسعود جريدة (¬4)، ولحقه عسكره، وأعاد الخليفة سُرادقه إلى داره، وأما مسعود فإنَّه وَصَلَ هَمَذَان، واختلف عليه العسكر، فكان ممن انعزل عليه قزل وسُنْقُر والبازدار (¬5) وغيرهم، ونزلوا بعيدًا من هَمَذَان، فأسرى إليهم، وبَيَّتَهُمْ، فبدَّدَ شَمْلَهم، ونَهَبَ أثقالهم، فورد هؤلاء الثلاثة بغداد، وأخبروا بسوء نيَّته في الخِلافة. وخَرَجَ أنوشروان لوزارة السُّلْطان مسعود، فَنُهِبَ جميعُ ما كان معه في الطَّريق. وفي المحرم وَصَلَ زَنْكي بغداد، فالتقاه الوزيرُ وأرباب الدَّوْلة، ودَخَلَ، وقَبَّلَ عَتبة الباب النُّوبي، وقال: أنا وأبي عبيدُ هذه العَتَبة، وما زالت العبيد تجني والموالي تعفو. ¬

_ (¬1) لها ترجمة في "المنتظم": 10/ 41. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، والرصافة هي رصافة بغداد. (¬3) في (ع) و (ح): بوري، وهو وهم، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) أي لم يكن معه رجَّالة، انظر "اللسان" (جرد). (¬5) في (ع): البادزاني، وفي (ح) البارذان، والمثبت من "المنتظم": 10/ 41، وسيأتي على الصواب ص 265.

وقدَّم الهدايا والتُّحَف، ومفاتيح أبواب الموصل، فأُنْزِلَ وأُكرم، وأقام أيامًا، وخُلِعَ عليه، ورَحَلَ إلى الشَّام ليأخذ دمشق. وجاء رسولُ دُبَيس يستعطف الخليفة، فلم يعطف عليه، فمضى دُبَيس إلى مسعود. وفي صفر وصل ابنُ الأنباري من عند سنجر، وأخبر أنه تُلُقِّيَ من أربعة فراسخ، وأن سنجر نزل من التَّخْت مرارًا، وقبَّلَ الأرضَ وحافِرَ فرسِ الخليفة. وفي ربيع الأول (¬1) وردتِ الأخبارُ بتغيُّرِ مسعود على الخليفة تغيُّرًا كُلِّيًّا، وأَنَّه قد جمع العساكر ومقصوده بغداد، ووصلت مقدّمته إلى حُلْوان، وفيها دُبَيس، وأقطع مسعود العساكر العراقَ، وبلغ الخليفة، فبعث مقدمته إلى المَرْج، وفيها الجاولي شِحْنة بغداد، وكجبة، وأرغش، وجماعةٌ من السِّلاحية في ألفين وخمس مئة فارس، وقال: تحفظون الطَّريق إلى أَنْ أَصِلَ إليكم. وكان زَنْكي على دمشق يحاصرها، فبعث أهلُها يقولون للخليفة: رَحِّله عنا، ولك في كلِّ سنة خمسون ألف دينار. فَبَعَثَ إليه، وقال: ارْحَلْ، واقْدُمْ علينا لتساعدَنا على مسعود، ونَخْطُب لك. فقال: سَمْعًا وطاعةً. وكان سنجر قد كَتَبَ إلى مسعود يقول: ما دام البازدار وابن بُرْسُق وقزل ويرنقش معك ما تُصِيبُ خيرًا، فهم الذين أفسدوا أمر أخيك طُغْريل، فابعثْ إليَّ برؤوسهم. فأطلعهم مسعودٌ على الكتاب، وقال: لو أردتُ بكم سوءًا لفعلت. فقبَّلوا الأرضَ، وقالوا: الآن قد عَلِمْنا أَنَّك صافي القلب لنا، فابْعَثْنا مع دُبَيس في المقدِّمة. فَبَعَثَ بهم، فقالوا: ما وراء هذا الكلام خير، والواجب خدمة أمير المؤمنين، فله في رقابنا عهود، وهذا عاقبة الغدر. فكتبوا إلى الخليفة: قد انفصلنا عن مسعود، ونحن ببلاد ابنِ بُرْسُق، فإنْ كانت لك نِيَّةٌ في الخروج فاخْرُجْ، فنحن بين يديك، وإلا فاخْطُبْ لبعضِ أولاد السُّلْطان، ونَفِّذْه إلينا لنكون معه. فكتب إليهم: دوموا على ما أنتم عليه، فأنا صائِرٌ إليكم. وبعثَ سديدَ الدولة [إليهم يطيِّبُ قلوبَهُمْ] وَيعِدُهُمْ الإقطاعَ، وبلغ مسعودًا، ¬

_ (¬1) في (خ): الآخر.

فرحل إليهم جريدةً ليَكْبِسَهم، فانهزموا، فأخذ أموالهم، وسَبَقَ سديدَ الدولة] (¬1) إلى بغداد ليخبر بحالهم، فأعيد إليهم بالخِلَع والأموال والإقامات. فلما كان يوم السبت حادي عشرة رجب تقدَّم الخليفة بإخراجِ مضاربه ومضاربِ أصحابه، وانزعج أهلُ بغداد، وبَعَثَ السُّلْطان دُبَيسًا في خمسة آلاف، فكَبَسَ المقدِّمة، وقَتَلَ منهم، فدخلوا بغداد عُراةً سادس عشرة رجب، فأنزلهم الخليفة دارَ السُّلْطان، وبَعَثَ إليهم بالأموال والخيل والإقامات والخِلَع، وأطلق لهم ثمانين ألف دينار، وقُطِعَتْ خُطْبة مسعود، وخُطِبَ لسنجر وداود، واستفتى الفقهاءَ في مسعود، وأنَّه خالف، فأفتوا بعَزْلِهِ وقتالِهِ، وخَرَجَ الخليفةُ في أُبَّهة الخِلافة، والخلائقُ يمشون بين يديه حتى نَزَلَ سُرادِقَه عند رؤوس الحيطان، ودَخَلَ الوزيرُ شرفُ الدِّين علي بن طِراد، وسديدُ الدَّوْلة بنُ الأنباري، وكمال الدين بنُ طلحة صاحِبُ المخزن على الخليفة، فقال له الوزير: يا مولانا، في نفسي شيءٌ لهل يُؤذنُ لي في المقال. فقال: قُلْ. فقال: إلى من نمضي، وبمن نعتَضد، وإلى من نلتجئ؟ ومقامنا ببغداد أصلح وأحوط لنا إذا قَصَدَنا [عدو] (1) كُنَّا مستظهرين، ولما خَرَجَ الحسين عليه السَّلام من الحجاز إلى العراق جرى عليه ما جرى، ولو أقام بمكَّة ما اختلفَ عليه اثنان. فقال الخليفة لابنِ الأنباري: ما تقول أنتَ يا كاتب؟ فقال: الرأي ما رآه الوزير، والرأي المقام، وليتَ العراق تبقى ع لينا. فقال لصاحب المخزن: ما تقول أنتَ يا وكيل؟ فقال: في نفسي ما في نفسِ مولانا. وكان هو الذي حَمَلَه على الخروج، فأنشد المسترشد: [من الخفيف] غيرَ أنَّ الفتى يلاقي المَنَايا ... كالحاتٍ ولا يلاقي الهَوانا وإذا لم يكنْ من الموتِ بُدٌّ ... فمن العَجْزِ أَنْ تموتَ جَبَانا (¬2) فاسترجع القوم، وأيقنوا بالهلاك. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (خ). (¬2) البيتان للمتنبي من قصيدة مطلعها: صحب الناسُ قبلنا ذا الزمانا ... وعناهم من شأنه ما عنانا وهي في "ديوانه": 4/ 370 - 372، وفيه: فمن العجز أن تكون جبانا.

ثم رحل يوم الخميس ثامن شعبان في سبعةِ آلاف فارس، وكان مسعود بهَمَذَان في ألفٍ وخمس مئة فارس، وكان أصحابُ الأطراف قد كاتبوا الخليفة، فتوقف في طريقه، فاستَصلَحَ مسعود أكثرهم حتى صار في خمسة عشرة ألفًا، وتسلَّل جماعةٌ من أصحاب الخليفة حتى صار في خمسة آلاف، ونفَّذَ إليه زَنْكي نَجْدةً فلم تلحق، وأرسل داود بن محمود إلى الخليفة وهو بأَذْرَبيجان، يشير أنَّ الخليفةَ ينزل الدِّينَور حتى يوافيه داود، فلم يقبل، واستعجل في ضرب المصافِّ. فلما كان يومُ الاثنين عاشر رمضان التقوا، فجعل الخليفة على ميمنته البازدار وقزل وغيرهما، وفي ميسرته الأُمراء السِّلاحية، وكانت الوقعة [قريب] (¬1) من جبل بَهِسْتون (¬2)، فحملت ميمنةُ الخليفة فكسرت ميمنةَ مسعود، فانهزموا ثلاثة فراسخ، ونادى مسعود: المال لكم والدَّم لي، ومن أقام بعد الوقعة من أصحاب الخليفة ضُرِبَتْ عُنُقُه. فغدرت ميسرةُ الخليفة، ومالت كلُّها إلى مسعود، وجاءت ميمنةُ الخليفة من وراء الميسرة، فوجدت الميسرة قد مالت إلى مسعود، فانهزموا لا يلوون على شيء، وأُسر المسترشد وأصحابه، وأُخذ ما كان معه من الأموال، وكانت على سبعين بغلًا في صناديق، أربعة آلاف ألف دينار، وكان رَحْلُه على خمسة آلاف جمل وأربع مئة بغل، فيها عشرة آلاف عِمامة، وعشرة آلاف قَبَاء وجُبَّة ودُرَّاعة، وعشرة آلاف قَلَنْسُوة مُذْهَبة، وثلاثة آلاف ثوب رومي وممزوج ودَبِيقي. ومضى من النَّاس ما قَدَّروه بعشرة آلاف ألف دينار سوى الخيل والأثاث، ولم يُقْتل بين الصَّفَّين سوى خمسةِ أنفس غَلَطًا، ونادى مسعود: مَنْ أقام مِنْ أصحاب الخليفة بعد الوقعة قَتَلْتُه. فهرب الناس، وتفرَّقوا في الجبال، وتخطَّفَهم الأكرادُ والتركمان، ووصَلَ مَنْ سَلِمَ منهم إلى بغداد عُراةً حُفاة، قد تَقَطَّعَتْ أَرْجُلُهم من الصَّخْرِ والحَفَاء، ومات أكثرهم، وحَمَلَ مسعودٌ الوزيرَ ابنَ طراد وابنَ الأنباري وابنَ طلحة وقاضي القضاة الزَّينبي ونقيبَ الطَّالبيين إلى القلعة معتقلين، ثُمَّ كَتَبَ مسعود كتابًا مع بكبة، وولَّاه شِحْنكية بغداد، وفي الكتاب عن لسان الخليفة إلى أستاذ الدَّار: ليعتمد الحسن بن جَهِير مراعاة الرَّعية، والاشتمال عليهم، وكفِّ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ح). (¬2) جبل عالٍ مرتفع، قرب قرية بهستون، وهي بين همذان وحلوان، انظر "معجم البلدان": 1/ 515.

الأذى عنهم، فقد ظَهَرَ من الولد غياثِ الدِّين (¬1) -متَّع الله به- في الخِدْمة ما صَدَقَتْ به الظُّنون، فَلْيُجْمِعْ وكاتبَ الزِّمام والمخزن على إخراج العُمَّال إلى نواحي الخاصّ لحمايتها، فقد نُدِبَ من الجَنَاب الغياثي هذا الشِّحْنةُ لذلك، وَلْيَهْتَمَّ بكُسْوة الكَعْبة، فنحن في إثْر هذا المكتوب واصلون، إنْ شاء الله تعالى. فلما كان يومُ عيد الفِطْر نَفَرَ أهلُ بغداد، ووثبوا على الخطيب، وكسروا المِنْبر والشُّبَّاك، ومنعوه من الخُطْبة، وخرجوا إلى الأسواق يحثون على رؤوسهم التراب، ويبكون ويصرخون، واقتتل أصحابُ الشِّحنة والعوام، وخَرَجَ النِّساء حاسراتٍ يَنْدُبْن في الأسواق، وتحت التَّاج، وقُتِلَ من العوام مئةٌ وثلاثة وخمسون، وهَرَبَ أبو الكرم الوالي وحاجب الباب إلى دار خاتون، وأشرفت بغداد على النَّهْب، فنادى الشحنة: لا ينزل أحد في دار أحد، ولا يؤخذ من أحد شيء، فإنَّما جِئْنا في الصُّلْح، والسُّلْطان واصِلٌ إلى هاهنا بين يدي أمير المؤمنين، وعلى كتفه الغاشية. فَسَكَنَ النَّاس. وأما حديث الخليفة، فاختلفتِ الأقوال؛ فقومٌ يقولون: إنَّ مسعودًا ينتظر جوابَ عَمِّه سنجر، وقوم يقولون: يصل عن قليل، وقوم يقولون: إنَّ داود قد عَزَمَ على قتال مسعود، واستنقاذِ الخليفةِ منه. وسار داود لقتال مسعود، وجاء مسعود إلى مَرَاغة (¬2)، والخليفة معه. و[فيها] (¬3) زُلْزِلَتْ بغدادُ مرارًا [لا تحصى] (3)، وكان مبدأ الزَّلازل يوم الخميس حادي عشر شَوَّال، فزلزلت يومئذٍ ستّ مَرَّات ودامت كل يوم ست مرات إلى ليلةِ الجُمُعة سابع عشرين شَوَّال، ثم ارتجَّت ليلة الثلاثاء نصف اللَّيل حتى تفرقعت السقوف، وانتثرت الحيطان، ولم تزل الأرضُ تميد من نصف الليل إلى الفَجْر والناس يستغيثون، وانقطع خبر العسكر [الذي كان قد خرج من بغداد] (3). فلما كان يوم الثلاثاء غُرَّة ذي القَعدة وصل ركابيةٌ معهم خَطُّ الخليفة إلى وليِّ عهده بوصولِ رسولِ سنجر إلى مسعود، يقول: ساعة وقوف الولد العزيز غياث الدِّين مسعود ¬

_ (¬1) هو لقب السُّلْطان مسعود، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (547 هـ). (¬2) مراغة، بالفتح: بلدة مشهورة عظيمة أعظم وأشهر بلاد أذربيجان، انظر "معجم البلدان": 5/ 93. (¬3) ما بين حاصرتين من (ح) و (م) و (ش).

على هذا المكتوب، يدخل على أمير المؤمنين -أَعَزَّ اللَّه أنصاره- ويقبِّل الأرضَ بين يديه، ويقف ويسأله العفو عنه، والصَّفْحَ عن جُرْمه، فقد ظهر عندنا من الآثار السَّمائية والأرضية ما لا طاقةَ لنا بسماع مِثْلها دون المشاهدة من الرِّياح العواصف، والبروق الخواطف، وتزلزلِ الأرض، ودوامِ (¬1) ذلك عشرين يومًا وتشوُّشِ العساكر، وانقلابِ البُلْدان، ولقد خِفْتُ على نفسي من جانب الله تعالى وظهورِ آياته، وجانبِ المخلوقين والعساكر، وتغيُّرهم عليَّ، وامتناع النَّاس من الصَّلاة في الجوامعِ، وكَسْرِ المنابر، ومَنْعِ الخطباء ما لا طاقةَ لي به، فالله اللهَ تتلافى أمرك، وتحقن دماءَ المُسْلمين، وتعيد أميرَ المؤمنين إلى مُسْتَقَرِّ عِزِّه، وتُسَلِّم إليه دُبَيسًا ليرى رأيه فيه، فإنَّه هو الذي أحوجَ أميرَ المؤمنين وأحوجنا إلى مِثْل هذا، وعَجِّلْ، وانصِبْ له السُّرادِق، واضرِبْ له الخيام والتَّخْت، واحملِ الغاشيةَ بين يديه، أنتَ وجميعُ الأمراء، كما جرت عادتُنا وعادةُ أهلِ بيتنا وآبائنا في خِدْمة هذا البيت. وكان مِحالًا (¬2) من سنجر ليدفعَ عنه التُّهَمَة. فلما وقَفَ مسعودٌ على كتاب سنجر بعث بالوزير أنوشروان -وكان قد استوزره ثانيًا، وشَهِدَ معه هذه الوقعة- وبعث معه بنظر الخادم إلى الخليفة يستأذن في دخوله عليه، فأَذِنَ له، فدخل، فقبَّل الأرضَ بين يديه ووقف معتذرًا متنصِّلًا، يسألُ العفو والصَّفْحَ عن جُرْمه، والخليفةُ مُطْرِقٌ ساعةً، ثم رَفَعَ رأسه، وقال: قد عُفي عن ذنبك، فاسْكُنْ إلى ذلك، وطِبْ نَفْسًا. وكان قد ضُرِبَ له التَّخْت في سُرادق، فقدَّمَ له فرسًا لم يكُ عند مسعودٍ من خيل الخليفة التي أُخذت غيره، وسأله الركوب، فركب، وكان بين الموضعين نصف فرسخ، ومسعود بين يديه، على كتفه الغاشية، ويده في لجام فرس الخليفة، وجميع الأمراء يمشون بين يديه حتى دخل السُّرادق، وجَلَسَ على التخت، ووقف السُّلْطان بين يديه زمانًا، فأمره بالجلوس، فأبى، ثم سأل الخليفةَ أن يشفِّعَه في دُبَيس، فأجابه، فجاؤوا به مكتَّفًا بين أربعة، ومع أحد الموكلين به سيفٌ مجذوب، ومع آخر شقة ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): ودام، والمثبت من "المنتظم": 10/ 47. (¬2) المحال: المكر. انظر "اللسان" (محل).

إسماعيل بن بوري بن طغتكين، شمس الملوك، صاحب دمشق

بيضاء، فرموا به بين يدي السَّرير، وهو يقول: العفوَ العفوَ عند القُدْرة. فقال مسعود: هذا هو السَّببُ فيما جرى بيننا، فإذا زال السبب زال الخلاف، وهذا الآن بين يديك، فمهما تأمر يُفعل به، ودُبَيس يبكي ويتضرَّع بين يدي السَّرير، فقال الخليفة {لَا تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92] وتقدَّم بحَلِّ كِتافه (¬1)، وسألَ السُّلْطانُ الخليفةَ أَنْ يُنْعِمَ على دُبَيس بتقبيلِ يده، فأعطاه يده، فقبَّلها، وأمرَّها على وجهه وصَدْره، وأقام الخليفةُ مكانه حتى قُتِلَ في ذي القَعدة، وسنذكره إن شاء الله تعالى (¬2). وأما بكبة فإنَّه شَرَعَ في نَقْضِ سور بغداد، وكلَّف أهلَ محالِّ الجانبِ الغربي بنَقْضه. وقال: أنتم عمرتموه فانقضوه. واستطال على أهل بغداد. وقال ابنُ القلانسي: وفيها هَرَبَ الحاجبُ يوسف بن فيروز شِحْنة دمشق إلى تدمر خوفًا من شمس الملوك بن بوري، وكانت تدمر لشهاب الدِّين محمود بن بوري في زمان أبيه، فَسَئِمَ من المقام بها، وسأل أباه نَقْلَه إلى دمشق، فأجابه، فاستعان يوسف بجماعةٍ من الأمراء على تحصيل تدمر، فخاطبوا بوري، فأعطاه إياها، فَشَرَع في ترميم حِصنها، ونَقْلِ الغِلال والذَّخائر إليه. فلمَّا تنكَّر عليه شمسُ الملوكِ، وعزم على مصادرته وهلاكه هَرَبَ إلى تدمر، ونَدِمَ شمسُ الملوك على إفلاته من يده، فكاتبَه واستماله، وطيَّب قلبه، فلم يلتفت إليه، وقال: أنا [الغلام] الخادم المقيم على الخِدْمة. ولم يَعُدْ إليه (¬3). فصل: وفيها توفي إسماعيل بن بوري بن طُغْتِكين، شمس الملوك، صاحبُ دمشق (¬4) وكان قد ساءت سيرته، وصادر النَّاس، وأخذ أموالهم، وولَى عليهم رجلًا كرديًّا يقال له بدران الكافر، فَشَرَع في العقوبات، وأنواع العذاب، وظهر من شمس الملوك ¬

_ (¬1) الكتاف: الحبل الذي يكتف به الإنسان. انظر "اللسان" (كتف). (¬2) انظر ص 278 - 280. (¬3) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 386 - 387، وما بين حاصرتين من (خ). (¬4) انظر كذلك في ترجمته "ذيل تاريخ دمشق"، لابن القلانسي: 378 - 390، و"الكامل" 11/ 20 - 21، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 575 - 576.

شحٌّ زائد، وقَتَلَ غِلْمان أبيه وجَدِّه، وأخذ أموالهم، فكتب أهلُ دمشق إلى زَنْكي يسألونه المسير إليهم، فَشَرَع في التأهُّب، فكتب إليه إسماعيل: لا تحشدْ ولا تجمعْ، تعال بسرعة وأنا أسلِّم إليك البلد بعد أن تمكِّنني مِنْ بعض أهله ممن في نفسي منهم. ووالى المكاتبة إليه بخطِّه: لئن لم تقدم وإلَّا سَلَّمْتُ دمشق إلى الفرنج. وشَرَعَ في نَقْلِ أمواله وذخائره إلى حِصن صَرْخَد، وقَبَضَ على جماعةٍ من الأعيان، فاتفقوا على قَتْلِهِ [وقالوا: هذا نوع سوداء، وكلما جاءت يزداد، وما لها إلا عدمه، فراسلوا] (¬1) أمه زُمُرُّد خاتون، وقالوا: قد عَزَمَ على قتلنا وقتلكِ، وغدًا يجيء [أتابك] (¬2) زنكي فيحكم عليك وعلينا. فدخلتْ عليه ولامته [وعاتبَتْهُ] (2) وقالت: أنتَ تكون سبب خراب هذا البيت، فارجِعْ إلى سيرة آبائك. فشتَمها، وتهدَّدها بالقَتْلِ، وأسمعها كلامًا قبيحًا، فأرسلت إليهم، وقالت: دونكم وإياه. فَرَتَّبوا له جماعةً من الغِلْمان باتِّفاقٍ من أُمِّه، فقتلوه في دِهْليز قلعة دمشق في رابع عشر ربيع الأَوَّل (¬3)، [فكانت ولايته ثلاث سنين، لأنه ولي في رجب سنةَ ست وعشرين وخمس مئة] (2) وأجلست أُمُّه أخاه، [محمود بن بوري مكانه، ولقبته شهاب الدين، وهو الذي كانت له تدمر] (¬4)، وجاء [أتابك] (2) زنكي إلى حِمْص، فبلغه الخبر، فبعثَ رسولًا إلى دمشق بتسليم البلد، فَرَدَّه شهابُ الدين وخاتون ردًّا جميلًا، فلم يلتفت [زنكي] (2)، وجاء بعساكره، فخيَّم بين القُصير وعَذْراء (¬5) في جمادى الأُولى، وكان يزحف كل يوم، ويقاتل أهل البلد ويقاتلونه، فأقام مُدَّة، فلم يظفر بطائل، واتَّفق وصولُ رسولِ المسترشد يأمره بالرَّحيل إلى بغداد، فرحل، وأقامت خاتون تدبِّرُ الملك مُدَّة، ثم تزوَّجها بعد ذلك زَنكي، ونَقَلَها إلى حلب، فصار تدبير الملك إلى معين الدِّين أُنَر؛ أحدِ ¬

_ (¬1) في (ح) و (ع): فاتفقوا على قتله، وراسلوا أمه. . .، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في "ذيل تاريخ دمشق": 395، و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 20: ربيع الآخر. (¬4) في (ع) و (ح): وأجلست أمه أخاه شهاب الدين محمود مكانه، وجاء زنكي. . والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) القصير: قرية على التخوم الشمالية لغوطة دمشق الشرقية على طريق حمص القديمة، على بعد 3 كم إلى الشمال الشرقي من دوما. وعذراء: قرية في شمال مرج غوطة دمشق الشرقية، تبعد عن دوما 12 كم، وعن دمشق 26 كم.

مماليك [جَدِّه أتابك] (¬1) طُغْتِكِين، [ثم قتله جماعة مِنْ خَدَمِهِ في سنة ثلاثٍ وثلاثين وخمس مئة، وأجلسوا أخاه محمدًا مكانه، وسنذكره] (¬2). وكان إسماعيلُ شهمًا شُجاعًا مِقْدامًا، مهيبًا [وهو الذي خلَّص بانياس من الفرنج] (1)، وكانت سيرتُهُ أَوَّلَ ولايته من أحسنِ السِّيَر، أَسْعَرَ بلادَ الفرنج بالغارات، وإنما تغيَّرَتْ سيرتُه في آخر أمره ومدَّ عينه إلى أموال الرَّعية، وأربابِ الدَّولة، وتناهى في ارتكابِ القبائح والمنكرات، وظهر منه بخلٌ زائد، وميلٌ إلى الدَّنايا (¬3) بحيث لا يأنَفُ من تناول الخسيس الحقير بالعُدْوان. [وقد ذكر قصته أبو يعلى بن القلانسي، وذكر بمعنى ما ذكرنا، وفيه بأن الكرديَّ بدران سقَط الله عليه (¬4) أمراضًا في نحوه، فمات بعد أن ربا لسانه، وخَرَجَ على صدره، [وكان قتل إسماعيل في اليوم الذي مات في مثله بدران، ليكونا عبرة لأهل الظلم والعدوان، تقدَّمه بدران بثمانية أيام] (¬5). وكان مولد إسماعيل في جُمادى الآخرة سنة ستٍّ وخمس مئة، وقيل: في ربيع الآخر [من هذه السنة] (¬6). [وذكر (¬7) مجيء زَنْكي ومنازلته لدمشق، فلما يئس منها وكان الخليفة قد استدعاه استقرَّ أن يخطبوا لأَلْب رسلان بن السلطان محمود الذي مع زَنْكي، ورَحَلَ] (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) أي قتلوا شهاب الدين محمود بن بوري، وما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر ص 319 - 320. (¬3) في (ع) الدنيا، والمثبت من (ح). (¬4) في (ع) و (ح): وسلط الله على بدران الكافر أمراضًا في نحوه. . والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ع) و (ح): وخرج على صدره قبل قتل إسماعيل بثمانية أيام. . .، وما بين حاصرتين من (ش)، والعبارة غير مستقيمة في (م)، وانظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 390. (¬6) في (ع): الأول، والمثبت من (ح) و (م) و (ش)، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬7) يعني ابن القلانسي. (¬8) في (ع) و (ح): ولما استدعى الخليفة زنكي ويئس من دمشق استقر أن يخطبوا لألب أرسلان بن السلطان محمود الذي مع زنكي، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 390 - 392.

جعفر بن شرف، أبو الفضل الأندلسي

جعفر بن شرف، أبو الفَضْل الأندلسي (¬1) والد محمد بن جعفر (¬2) مصنف كتاب "أبكار الأفكار"، له تصانيفُ كثيرة، وشِعْر مليح. عاش خمسًا وتسعين سنة، وقيل جاوز المئة. وقيل: مات سنةَ إحدى وثلاثين وخمس مئة، وله نثر، وهو القائل، [وقيل: إنها لابنه محمد] (¬3): [من الكامل] صَنَمٌ مِنَ الكافورِ باتَ مُعَانقي ... في حُلَّتَينِ تَعَفُّفٍ وتكرُّم فكَّرتُ ليلةَ وَصلِهِ في هَجْرِه ... فَجَرَتْ بقايا أَدْمُعي كالعَنْدَمِ (¬4) فَطَفِقْتُ أمسحُ مُقْلَتَيَّ بنَحْرِهِ ... إذ عادةُ الكافورِ إمْساكُ الدَّمِ (¬5) وقال: [من الطويل] لِيَهْنِكَ شَهْرُ الصَّوْمِ لا زلت مُدْرِكًا ... لأمثالِهِ يأتي عليكَ ويَذْهَبُ صلاتُكَ فيهِ رَحْمةٌ ومَثُوْبةٌ ... وصَوْمُك رِضْوانٌ بهِ يَتَقَرَّبُ وصمتَ بهِ عن كلِّ إثْمٍ وَمَحْرَمٍ ... صيامُ الورى أَنْ يأكُلُوه وَيشْرَبُوا إلى أن لَقِيتَ العيدَ بالجِدِّ في التُّقى ... وغَيرُكَ بالأيَّامِ يَلْهُو ويَلْعَبُ وقيل: هي لمحمد بن حَمْدِيس (¬6). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الذخيرة" لابن بسام: ق 3 / ج 2/ 867 - 886، و"الصلة" لابن بشكوال: 131، و"الخريدة" قسم شعراء المغرب والأندلس: 2/ 171 - 181، و"بغية الملتمس": 256، و"المغرب": 2/ 230 - 232، و"نفح الطيب": 1/ 151 و 3/ 393 - 396، ووفاته في "الصلة" و"البغية" سنة (534 هـ)، وذكر العماد في "الخريدة" وفاته سنة (531 هـ)، وقد أناف على المئة. (¬2) كذا في (ع) و (ح)، وهو خطأ، صوابه: ولد أبي عبد الله محمد مصنف "أبكار الأفكار" كما في "الخريدة" وغيره، ومحمد: هو ابن أبي سعيد بن أحمد بن شرف القيرواني، شاعر مشهور، كان قرين ابن رشيق صاحب "العمدة"، وتوفي سنة (460 هـ). له ترجمة في "الذخيرة" لابن بسام: ق 4 / م 1/ 169 - 245 - وقد ذكر محققه مظان ترجمته- و"الخريدة" قسم شعراء المغرب والأندلس: 2/ 224 - 230، و"معجم الأدباء": 19/ 37 - 43، و"الوافي بالوفيات": 3/ 97 - 101. (¬3) ما بين حاصرتين من (ح)، وقوله: لابنه خطأ، صوابه لأبيه، وهو الموافق لما في "الخريدة": 2/ 172، وانظر حاشيتنا السابقة. (¬4) العندم: صِبْغ تختضب به الجواري، انظر "اللسان" (عندم). (¬5) "الخريدة" قسم شعراء المغرب والأندلس: 2/ 172. (¬6) أورد العماد هذه الأبيات في "الخريدة" قسم شعراء المغرب والأندلس: 2/ 207، في ترجمة محمد بن حمديس ولد الشاعر المشهور عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس، وكأنه بذلك يرجح نسبتها إليه، والله أعلم.

دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس

دُبَيس بنُ صَدَقَة بنِ منصور بن دُبَيس (¬1) ابن علي بن مَزْيَد، أبو الأَغَرّ الأَسَدِي. أصله من بني أسد، وقيل من بني خَفَاجة، وأَوَّل مَنْ نبغ من بيته جَدُّه الأكبر مَزْيَد في أيام بني بُوَيه، فوَّضوا إليه حماية قرية يقال لها سُورا -أو الوقف (¬2) - من أعمال بغداد، فكان يحمي مرَّة، ويُغَارّ أُخرى، ثم مات. فقام عليٌّ ولدُه مقامه، وكان عائنًا؛ ما وقعتْ عَيْنُه على شيء إلا هَلَكَ، نظر يومًا إلى ابنه بَدْران، فاستحسنه، فمات، وكان يبغض ابنه منصورًا، فقيل له في ذلك، فقال: رأيتُ في المنام كأنَّه بَلَغَ عَنَان السَّماء وبيده فأسٌ، وهو يقلع الكواكب، ويرمي بها إلى الأرض، ثم وقع بعدها، ولا أشك أنه يبلغ الغاية العليا، ثم يهلك. ثم مات دُبَيْس، وقام بعده ابنه منصور، فجرى في أيام القائم منه (¬3) ما جرى، فإنه لما أخرج القائم إلى الحديثة، عاد ودَخَلَ بغداد، ونَدِمَ حيث لم ينهب دار الخلافة كما فعل قريش، ثم باين البساسيري وقريشًا بهذا السَّبب. ثم مات منصور وخَلَفَ ابنُه صدَقَة، فخدم ملك شاه، وكان يتردَّدُ إلى بابه، ويحمل إليه الأموال، فلما قُتِلَ نظامُ الملك ومات ملك شاه أَظْهَرَ الخِلافَ لِبَرْكْيارُوق، وعَلِمَ أَن الحِلَّة لا تحميه، فبنى مكانًا على تل بالبطيحة، وشَقَّ حوله الماء، ونقل إليه أمواله، ثم بنى الحِلَّة وخَنْدَقَ عليها، وغَرَسَ فيها البساتين، ثم صار الناس يستجيرون به، فيجيرهم، ثم أُعطي دارًا ببغداد، فَعَمَرها وكانت لِبهْرُوز الخادم، ولقَّبَ نفسه سيفَ الدولة، والتجأ إليه العَرَبُ وقُطَّاع الطَّريق، وطمع في البلاد، فانْتُدِبَ له العميد أبو جعفر ثقة الملك، فأخذ فتاوي الفقهاء بقتاله، وأنَّه لا يقام عنده جُمُعة، ولا جماعة، وأنهم يسبُّون الصَّحابة - رضي الله عنهم - في بلده، ولا عندهم أذان ولا إقامة، وأنهم ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 52 - 53، و"خريدة القصر، قسم شعراء العراق: ج 4 / م 1/ 170 - 172، و"الكامل" 11/ 30، و"وفيات الأعيان" 21/ 263، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 612 - 613. وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) في (ع) و (ح) يقال لها سورا وللوقف، وقد استظهرتها هكذا، والله أعلم، انظر "معجم البلدان" 3/ 278. (¬3) خروج القائم إلى حديثة عانة، ونهب بغداد جرى في أيام دُبيس بن علي، وذلك سنة (450 هـ) لا في أيام منصور، وهذا وهم من سبط ابن الجوزي، والله أعلم، انظر "المنتظم": 8/ 191 - 212.

يشربون الخمور، ويبيحون الزِّنا، والتجأَ إليه سرخاب الحاجب، وطَلَبَه منه السُّلْطان، فامتنع، فبعث إليه بالعساكر فَقُتِلَ، وقد ذكرناه (¬1). ثم قام بعده ولده دُبَيْس صاحب هذه التَّرجمة، وكان شَرَّ أهلِ بيته، يرتكب الكبائر، ويفعل العظائم أكثر ما كان يفعل آباؤه، ولقي منه الخليفة والمسلمون فنونَ الأَذى، وبشؤمه بَطَلَ الحج مرارًا، وأباح الفروج في نهار رمضان، وكان يرى رأي الباطنية. ولما نزل الأمير أبو الحسن بن المستظهر من التَّاج، والتجأ إليه ظَنَّ أنه يحفظ الذِّمام مثل أبيه، فباعه بيعَ العبيد، ونهبه، وأخذ منه جوهرًا قيمته ثلاث مئة ألف دينار. وطغا على المسترشد وحاربه، فكسره المسترشد، ومضى إلى الشَّام، ووقع بيد زَثكي، ومَنَّ عليه وأطلقه، فمضى إلى مسعود وإلى سنجر، وهو الذي حَسَّن لهما قَتْلَ المسترشد، ولم يظفر بطائل، فَعَزَمَ على الهرب، ووجَدَ له مسعودٌ مكاتباتٍ إلى زَنْكي يقول: اللهَ أن تقع [في يد] (¬2) مسعود، واحفظ رأسك. فبعث إليه مسعودٌ غلامًا أرمنيًّا من سلاحِيَّته، فدخل عليه الخيمة وهو مُطْرِقٌ يَنْكُتُ الأرض بأصبعه، فما أحسَّ به حتى ضرب رأسه بالسَّيف، فأبانَه. ويقال: إنه سُحِبَ إلى بين يدي مسعود، فقام إليه بنفسه فضربه، [فقطع رأسه، وكان ذلك في عشرة ذي الحِجَّة] (¬3)، فكان بين قَتْلِهِ وقتلِ المسترشد خمسةٌ وثلاثون يومًا، وقيل ثمانية وعشرون يومًا، وما كان بنو سلجوق يتقونه إلا ليكون في وجه الخليفة. وقال العماد الكاتب: بنو مزيد الأسديون النَّازلون بالحِلَّة على الفرات ملوك العرب وأمراؤها، وكانوا ملجأَ اللاجئين وثِمال (¬4) الرَّاجين، وموئلَ المُعْتَفين (¬5)، وكهفَ ¬

_ (¬1) انظر حوادث سنة (501 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين من (ح). (¬3) في (ع) و (ح): قطع رأسه في تاريخ حادي عشر ذي الحجة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م)، وفي (ش): عشرين ذي الحجة. (¬4) الثمال: الملجأ والغياث، والمُطْعم في الشدة. "اللسان" (ثمل). (¬5) المعتفين: أي طلاب المعروف أو الأضياف: عفوت الرجل: إذا طلبت فضله، والعافية والعُفاة والعُفَّى: الأضياف، وطلاب المعروف، وفلان تعفوه الأضياف وتعتفيه الأضياف. "اللسان" (عفا).

المستضعفين، ومنهم بهاء الدَّوْلة أبو كامل منصور بن دُبَيس، توفي أبوه أبو الأغرّ دُبَيس سنة أربع وسبعين وأربع مئة، وكانت إمارته سبعًا وستين سنة، وكان منصورٌ منصورًا في الأمور، مقصورًا زمانُه على إيواء طالب القِرى المقرور، فارس العرب وشجاعها، ومجيد العساكر وجماعها. ثم ذكر دُبَيْسًا وقال: قتله مسعود صبْرًا بعد قَتْلِ المسترشد بشهر، يوم الأربعاء رابع عشرة ذي الحِجَّة بالمَرَاغة، وكان ينشد كثيرًا: [من الكامل] إنَّ اللَّيالي للأنامِ مناهِلٌ ... تُطْوَى وتُبْسَطُ بينها الأَعْمارُ فقِصارُهُنَّ مع الهمومِ طويلةٌ ... وطِوالُهُنَّ مع السُّرورِ قِصارُ (¬1) وقال ابن السَّمْعاني: وقفتُ على كتاب "الوشاح" (¬2)، وفيه: كتب بَدْران بنُ صدقة (¬3) إلى دُبَيس وإخوته: [من الطويل] ألا قُلْ لمنصورٍ وقُلْ لمسيّبٍ ... وقُلْ لدُبَيسٍ إنَّني لغرِيبُ هنيئًا لكمْ ماءُ الفُرَاتِ وطِيبُهُ ... إذا لم يكنْ لي في الفُرَاتِ نَصِيبُ فكتب إليه دُبَيس: [من الطويل] ألا قُلْ لبدرانَ الذي حَنَّ نازعًا ... إلى أرضِهِ والحُرُّ ليس يخيبُ تمتعْ بأيَّامِ السُّرورِ فإنَّما ... عِذارُ الأماني بالهموم يَشِيبُ ولله في تلكَ الحوادثِ حِكْمَةٌ ... وللأرضِ من كأسِ الكرام نصيبُ (¬4) وقال دُبَيْس: [من السريع] حبُّ عليِّ بن أبي طالبٍ ... للنَّاسِ مِقْياسٌ ومِعْيارُ يُخْرِجُ ما في أَصلِهِمْ مِثْلَما ... يُخْرِجُ غِشَّ الذَّهبِ النَّارُ (¬5) ¬

_ (¬1) "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 4 / م 1/ 172. (¬2) هو "وشاح الدمية" لأبي الحسن علي بن زيد البيهقي، وهو ذيل على "دمية القصر وعصرة أهل العصر"، انظر "وفيات الأعيان": 3/ 387. (¬3) ستأتي ترجمته ص 298 من هذا الجزء. (¬4) "الخريدة" ج 4 / م 1/ 172 - 173. (¬5) المصدر السالف.

عبد الله بن محمد بن عبد الله

وقال: [من البسيط] ما لامني فيك أعدائي وعُذَّالي ... إلا لِغَفْلتِهِمْ عنِّي وعن حالي لا طيَّب الله لي عَيشًا ألَذُّ بِهِ ... إنْ دارَ ذِكْرُ السُّلُوِّ اليومَ في بالي وقال: [من المتقارب] ولمَّا رأيتُكَ خَوَّانةً ... تَزِينُ القبيحَ فِعالًا جميلا تَسَلَّيتُ عنكَ بمن لا أُحِبُّ (¬1) ... فَدَبَّ السُّلُوُّ قليلًا قليلا وقيل: إنَّ دُبَيسًا لما قُتِلَ، تزوَّج مسعود بابنته شرف خاتون، وأُمها بنت عميد الدولة بن جَهِير، وحُمِلَ دُبَيس إلى زوجته كهارخاتون بمارِدِين، فدفن بميَّافارِقِين عند [نجم الدين] (¬2) إيلغازي. عبد الله بن محمد بن عبد الله (¬3) أبو بكر الدِّمَشْقي [المؤدِّب، ويعرف بابن النَّبيه] (2). قرأ القرآن [علي أبي الوحش بن مُسَلَّم] (2)، وسمع الحديث ووعظ، وتوفي في صفر بدمشق، وكان ثِقَةً، وله قَبُول، وأنشد يومًا على المنبر بجامع دمشق لنفسه: [من المنسرح] يا قَلْبُ إنَّ الذي كَلِفْتَ به ... أَقْسَمَ لا حال عن تغضُّبِهِ وأنتَ خَبَّرْتَني بأنَّك لا ... تَسْطِيعُ صَبْرًا على تَجَنُّبِهِ فكيفَ أرجو البقاءَ بينكُما ... قد حرتُ واللهِ في تَطَلُّبِهِ [سَمِعَ أبا الحسن بن قيس، وأبا محمد الأكفاني، وغيرهما، وروى عنه الحافظ ابنُ عساكر وغيره] (2). ¬

_ (¬1) في (ح) و (ع): بمن لا أريد، والمثبت من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ترجم له ابن عساكر في "تاريخه"، ولكن لم أقف على ترجمته في النسخة التي بين يدي.

الفضل بن [أحمد بن] عبد الله أبو منصور المسترشد بالله

الفضل بن [أحمد بن] (¬1) عبد الله أبو منصور المسترشد بالله (¬2) أمير المؤمنين، وأمه لبابة أم ولد. [وقد ذكرنا أنه] (¬3) ولد في سنة أربعٍ أو خمس أو ستٍّ وثمانين وأربع مئة، وكان شهمًا، شجاعًا ذا هِمَّةٍ، متشاغلًا بالخير والعبادة، سالكًا سيرة القادر [والقائم] (3). قرأ القرآن، وسمع الحديث [على ابن بيان وأحمد بن السِّيبي] (3)، وروى عنه وزيره عليُّ بن طراد [الزَّينبي] (3) وغيره، [وقد ذكرنا أنه قرئ عليه الحديث لما سار إلى قتال دُبَيس] (3)، وكان له شعر [ذكر منه العماد الكاتب في "الخريدة"]، (3) فمنه: [من الطويل] أنا الأَشقرُ الموعود (¬4) بي في الملاحم ... ومَنْ يملكُ الدُّنيا بغير مُزاحمِ ستبلغُ أرضَ الرُّومِ خيلي وتُنْتضى ... بأقصى بلادِ الصِّين بِيضُ صوارمي (¬5) ذكر مقتله: قد ذكرنا خروجه للقاء مسعود، وخِذْلان العساكر له، وورود كتاب سنجر على مسعود يلومه [فيما فعل] (3)، ويأمره بحمل الغاشية (¬6) بين يديه، وأنه حملها وضَرَبَ له السُّرادق وفيه التخت، [وأجلسه عليه] (3)، فلما كان في تلك الليلة رأى في منامه كأنَّ في يده حمامةً مطوَّقة، وقائلًا يقول له: خلاصُك في هذه. فلما أصبح، أخبر الأمير ابن سُكَيْنة بمنامه، وكان عنده (¬7)، فقال: يا أمير المؤمنين، فما أَوَّلته؟ فقال: ببيتٍ لأبي تمَّام [من الكامل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين مثبت من مصادر ترجمته. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 53 - 54، و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 29 - 31، و"الكامل": 11/ 28 - 27، و"مفرج الكروب": 1/ 58 - 62، و"مختصر التاريخ، لابن الكازروني: 219 - 223، و"الفخري": 302 - 307، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 561 - 568، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع): المدعو، والمثبت من (خ)، وهو الموافق لرواية "الخريدة". (¬5) "خريدة القصر": 2/ 30. (¬6) الغاشية: هي غاشية سرج من أديم مخروزة بالذهب، يخالها الناظر جميعًا مصنوعة من الذهب، تحمل بين يديه عند الركوب في المواكب الحفلة كالميادين والأعياد ونحوها، يحملها الركاب دارية، رافعًا لها على يديه يلقيها يمينًا وشمالًا. "صبح الأعشى": 4/ 7. (¬7) في (م) و (ش): فلما أصبح وكان عنده الأمير ابن سُكينة الذي قتل معه، فأخبره بمنامه، فقال: يا أمير المؤمنين. . قلت: وفي "السِّيَر" وغيره أن ابن سُكينة كان إمامه في الصلاة.

هُنَّ الحَمَامُ فإنْ كَسَرْنَ عِيافَةً ... حاءَ الحَمَامِ فإنَّهُنَّ حِمامُ (¬1) وخلاصي في حِمامي، فيا ليتني تخلَّصتُ من الأَسْر والذُّلِّ والحَجْر عليَّ بالموت. فَقُتِلَ بعد يومين. ولما كان في اليوم السَّادس عشر من ذي القَعدة وَصَلَ الخبر بأن رسولًا من عند سنجر واصِلٌ نهار غدٍ يأمر مسعودًا بأن يعيد الخليفة إلى بغداد، ووصل مع الرَّسول سبعة عشرة رجلًا من الباطنية في زِيِّ الغِلْمان، وادَّعى مسعود بعد ذلك أنه لم يعلم بهم، وكَذَبَ بل اتَّفق هو وسنجر على الفَتْك بالخليفة، ودليلُه أَنَّ مسعودًا أفرد لهم خيمةً [قريبة من الخليفة] (¬2)، وأكرمهم، ولم يخفَ على النَّاس فعلُه، وإنما قَصَدَ دفع التُّهَمة عنه، ولم تندفع. فلما كان يوم الخميس سابع عشر ذي القَعدة ركب مسعود والعساكر لتلقِّي رسول سنجر، فلما أَبْعَدَ، هَجَمَتِ الباطنيةُ على الخليفة، فضربوه بالسَّكاكين حتى قتلوه، وقتلوا من كان عنده من الخُدَّام، ورمى بنفسه عليه الأمير ابن سُكَينة، فقتلوه، ووقع الصُّراخ، وجاءتِ العساكر فأحدقت بالسُّرادق، وخرج القومُ والسكاكين بأيديهم، عليها الدَّم، فمالتِ العساكر عليهم، فقتلوهم، وأحرقوهم، وغُطِيَ الخليفة بسُنْدُسة خضراء لفُّوه فيها، ودفن على حاله بباب مَرَاغة، [واختلفوا في مقدار عمره، فقال قوم: كان له خمس وأربعون سنة، وقد ذكرنا مولده، فيكون الاختلاف بحسبه، وكانت] (¬3) خلافته سبع عشرة سنة، وثمانية أشهر وأيامًا، وجلس مسعود في العزَاء، ووقَع النحيب والبكاء. ووصل الخبر إلى بغداد ليلة السبت سادس عشرين ذي القعدة، فاحترز الرَّاشد، وقَبَضَ على جماعةٍ من أهله وإخوته، وكَثُرَ البُكاءُ والصُّراخ، وأُغلق البلد، ونقضت ¬

_ (¬1) البيت في "ديوان أبي تمام" بشرح التبريزي: 3/ 152 بلفظ: هن الحمام فإن كَسَرتَ عيافةً ... من حائهن فإنهن حِمامُ وهو من قصيدة يمدح بها المأمون، مطلعها: دِمَنٌ ألمَّ بها فقال سلام ... كم حَلَّ عُقْدَةَ صَبْرِهِ الإلمامُ (¬2) ما بين حاصرتين من (ح) و (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ح)، وعمره خمس وأربعون سنة، وقد ذكرنا مولده، فتكون خلافته سبع عشرة سنة. . والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الباب الثلاثون في خلافة الراشد بالله أبو جعفر منصور بن المسترشد

دكاك باب النّوبي، وبات أستاذ الدَّار ابنُ جَهِير، وصاحب الدِّيوان أبو الرِّضى، وصاحب الباب ابن الصَّاحب في صحن السلام، وأُقيم الحَرَسُ في الليل على الأبواب، وأصبح الناس حُفَاة، والنِّساءُ منشراتِ الشُّعور، يَلْطِمْنَ ويَنْشُدْنَ الأشعار التي تُنْشَدُ في المآتم، وقَعَدَ أربابُ الدولة في العزاء ثلاثةَ أيام [وفي اليوم الثَّالث] (¬1) أقيموا من العزاء، وأُمروا أن يحضروا البيعة. الباب الثلاثون في خلافة الرَّاشد بالله أبو جعفر منصور بن المسترشد وأمه خشف أم ولد، وكان أبوه قد نَصَّ عليه، فلما قُتِلَ أبوه بمَراغة كان هو ببغداد، فكتبَ مسعود إلى بكبة الشِّحْنة نائبه ببغداد، يأمره بالاجتماع بأرباب الدَّوْلة والأعيان، ويبايعوا الرَّاشد، فجاء بكبة ليدخل دار الخليفة فَمُنِعَ، واستقرَّ أَنْ يبايعَ من وراء الشُّبَّاك من ناحية الشَّطِّ، وجَلَسَ الرَّاشد في المثمَّنة التي بناها المقتدي في الشُبَّاك، وبايعه بكبة من وراء الشُّبَّاك يوم الاثنين سابع وعشرين ذي القَعدة، وحَضَرَ القُضاة، والعُدول، والأشراف وأربابُ الدولة، وبايعوا على طبقاتهم، وكان أبيضَ جسيمًا، وبين يديه أولادُه وإخوته. ونُودي في النَّاس برَفْع المظالم، والأَمْرِ بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر، فلمَّا كان بعد ثلاثة أيَّام أظهر أكياسًا فيها حُجَج على النَّاس ووثائق، وما كَتَبَ عليهم ابنُ الهاروني، فَرَدَّها على أربابها، وأشهد عليهم الشُّهودَ أَنَّهم قد أبرؤوا أميرَ المؤمنين مما أَخَذَ منهم، وَرَدَّ عليهم الأموال، فكَثُرَ الدُّعاء له، وحضر قاضي بعقوبا فتظلَّم، وقال: لي وثائق، وما ظلمني أمير المؤمنين، وإنما ظلمني ابنُ الهاروني. ورُفِعَ قوله إلى الرَّاشد، فأمر بعَزْله. وقال: هذا قد كَذَبَ فَفَسَقَ، لأَنَّ ابنَ الهاروني ما أخذ شيئًا إلا بأمر المسترشد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وقال سديد الدولة ابنُ الأنباري: لما قُتِلَ الخليفة استدعاني السُّلْطان مسعود، فدخلت عليه أنا والوزير شرف الدِّين عليُّ بنُ طِراد، وصاحبُ المخزن ابن طلحة، فقال لنا: قد كان ما جَرَتْ به المقادير، فما الذي تَرَوْن في أمر الخليفة؟ فقلنا: قد نصحناه أَوَّلًا، فلم يقبل. فقال: دعوني من هذا، وخذوا فيما قلتُ لكم. فقال الوزير: الخلافة لولي العهد، وقد بايعه النَّاسُ قديمًا وحديثًا. فقال: ما أُقرّه على ذلك، لأنَّه يحدِّثُ نفسه بالخروج عليَّ مثل أبيه، وقد عَلِمْتُم أَنَّ المسترشد خَرَجَ على أخي محمود مرتين، وكان قَصدُه هلاكَ بيتنا، وتَمَّ عليه ما تَمَّ، وقد بقيت علينا شناعة عظيمة، وسُبَّة إلى آخر الدَّهر، يقول النَّاس: قتلوا الخليفة، وقد كانوا هم السَّبب في عَوْدِ الخلافة إلى هذا البيت، ولا أُريد إلا رجلًا ديِّنًا لا يُدْخِلُ نَفْسَه فيما لا يعنيه، ولا يخرج عليَّ ولا على أحدٍ من أهلي، وفي الدَّار جماعةٌ، فاعتمدوا على شيخٍ منهم ذي عقل ورأي وتَدْبير، يُلْزِمُ نَفْسَه ما يجبُ من طاعتنا، ولا تعرِّجوا عن هارون بن المقتدي، فإنَّه شيخ كبير لا يَرى الفِتْنة، وقد أشار به عَمِّي سنجر. قال: وكان في الدَّار جماعةٌ من أولاد المُقْتدي والمستظهر وغيرهما، مقدار نيِّف وعشرين، وكان للرَّاشد نيِّفٌ وعشرون ولدًا لما ولي الخلافة، لأَنَّه بلغ لتسع سنين [مضين من عمره، وسنذكره إن شاء الله تعالى] (¬1). ووصل كتابُ سِنْجر إلى مسعود يقول له: لا تولِّي الأمر إلا من يضمنه الوزير، وابنُ الأنباري، وصاحب المخزن. فقالوا: نرضى الزَّاهِدَ العابد الذي ليس في الدَّار مثله. قال: مَنْ هو؟ قالوا: أبو عبد الله بن المستظهر. يعنون المقتفي -وكان صِهْرَ شَرَفِ الدِّين الوزير على ابنته، وكان يوم تزوجها، فُوض إلى أبيها نقابة النُّقباء، ودخل بها، وماتت عنده- فقال السُّلْطان: اكتموا هذه الحالة لئلا تتم، فيظهر الخبر، فَيُقْتَلُ أبو عبد الله. ثم تجهز السُّلْطان إلى بغداد، وهم معه. ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: لسبع سنين، وهو خطأ، صوابه من "مفرج الكروب": 1/ 62، وما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الثلاثون وخمس مئة

السَّنة الثلاثون وخمس مئة فيها في المحرم وَصَلَ يرنقش الزَّكوي في أمورٍ صعبة رُفِعَتْ إلى الخليفة؛ منها أَنَّه مطالبٌ بخطٍّ كتبه المسترشد بسبع مئة ألف دينار ليتخلَّص من أَسْره، ومطالب لأولاد صاحب المخزن بثلاث مئة ألف دينار، وقسط على أهل بغداد خمس مئة ألف دينار وغير ذلك، فاستشار الرَّاشدُ أربابَ دولته، فأشاروا عليه بالمكاشفة، فبعث إلى يرنقش يقول: قد عَلِمْنا في أيِّ شيء جِئْتَ: أما الأموال المضمونة فإنَّها كانت لإعادة الخليفة إلى داره سالمًا، ومستقرِّ عِزِّه آمنًا، لا للممالأة على قتله، وأما أموال النَّاس فلا سبيلَ إليها، وما لك عندنا إلا السَّيف؛ وأنا مطالِبٌ بثأر أبي. وقطع خُطْبة سنجر ومسعود، وكاتَبَ زَنْكي، وأطمعه في المُلْك، وقال: يكون الملك ألب رسلان بن محمود الذي عندك، وأنت أتابكه. وكاتَبَ يرنقش البازدار وإقبال الخادم، وأياز صاحب محمود فَقَدِمُوا عليه، وعليهم ثيابُ العزاء، فحسَّنوا للرَّاشد الخروج، واستوزر أبا الرِّضى ابن صدقة، وجاء داود، فنزل دار المملكة، وبَعَثَ الرَّاشد إليه وإلى زَنْكي والجماعة الأموال والهدايا. وخطب لداود في صفر. ثم إن الرَّاشد بلغه عن إقبال الخادم أنه كاتَبَ مسعودًا، فقبض عليه، فأرسل زَنْكي يقول: هذا قد جاء في صحبتي، وهو في ضماني، ولا بُدَّ من الإفراج عنه. فامتنع الرَّاشد، وشَفَعَ فيه جميعُ الأُمراء، فلم يقبل، وكان ذلك سببًا لفساد حال الرَّاشد، فركب زنكي والبازدار إلى السُّور، وأخربوا منه قطعة، وجاء زنكي فوقف تحت التَّاج، وسأل في إقبال سؤالًا تحته إلزام، وكان إقبال قد وُكِّلَ به في التَّاج، فَغَفَلَ عنه الموكَّلون، فهرب إلى زَنْكي، فَصَعُبَ على الخليفة، ووكَّل بأُستاذ الدَّار، والبوابين، وقال: كيف جرى مثل هذا؟ ! وكان إقبال من خُدَّام المسترشد أستاذ داره، فلما قُتِلَ المسترشد هَرَبَ من مَرَاغة إلى زَنْكي، فأقام عنده.

وبعث الرَّاشد بالوزير محمد بن أحمد بن صَدَقَة إلى زنكي يوبِّخه على ما جرى منه، فلامه زنكي، وقال: ما هذا التدبير السَّيِّئ، والأفعال القبيحة؟ فقال الوزير: أنا مستجير بالله وبك لا أعود إليه، فإنه مستبدٌّ برأيه، وما يسمع مني. فقال: اجلس فأنتَ آمنٌ. وبَعَثَ الخليفةُ يطلب الوزير، فامتنع، وقال: أيّ وزير أنا إذا كنتُ أشير عليك بالمصلحة لا تقبل مني، وتفعل ما عاقبته إلى الهلاك، قلت لك: لا تقبض الخادم ما قبلت، وقد وَلَّيتَ ابنَ الهاروني الملعون النَّصراني على المسلمين، وهو يكون سببًا لتغيير الدولة. فقبض الرَّاشد على ابن الهاروني، وأخذ منه مئتي ألف دينار، وكان قد فتح على النَّاس أبوابَ الظُّلْم والمكوس؛ وتقدَّم إلى أبي الكرم الوالي بقَتْله، فقتله، وصلبه. وأما مسعود فإنَّه أفرج عن أربابِ الدَّوْلة وهم الوزير وابن طلحة وقاضي القضاة، وابن الأنباري، ونقيب الطَّالبيين ابن المُعَمَّر، فأما النَّقيب فتوفي لما نزل من القلعة، وأما قاضي القضاة فانحدر إلى بغداد، وأما الباقون فدخلوا بغداد مع مسعود. وقبض الرَّاشد على أُستاذ داره أبي عبد الله بن جَهِير، وقيل: إنَّه وُجِدَتْ له مكاتبات، وبَعَثَ زَنْكي يقول: أُريد مال الخادم، فإنَّه مال السُّلْطان، ونحن نحتاج [إلى] (¬1) النفقات. فلم يُعْط شيئًا، وأشار زنكي على ابنِ صَدَقَة أَنْ يكون وزير السُّلْطان داود، فأجابه. وولى الخليفة أبا العَبَّاس بن بختيار قضاء واسط. وتواترتِ الأخبارُ بمجيء مسعود، فجاء زَنْكي، فدخل على الخليفة، وقبَّل يده، واستوثق منه. وقَرُبَ مسعودٌ من بغداد، وبعث يطلب صُلْح الخليفة، فلم يُجِبْه، وأشار زنكي واليرنقش والبازدار بالخروج إلى محاربته، وضُرِبَ سُرادِقُه بباب الحَلْبة (¬2)، ورُدَّ ابنُ صدقة إلى الوزارة. وخَرَجَ الرَّاشد من داره سَلْخ شعبان، وجاءت ملطّفات من مسعود إلى الأُمراء، فأحضروها إلى الخليفة وزنكي إلَّا بكبه الشِّحنة فإنَّه أنكر، فغرَّقه زنكي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ح). (¬2) الحلية: محلة كبيرة واسعة، شرقي بغداد، عند باب الأزج. "معجم البلدان": 2/ 290.

وفي عاشر رمضان جاء رسولُ مسعود يطلب الصُّلح، فقال الأُمراء: ما له عندنا إلا السيف. فكاتبهم مسعود، وحَلَفَ لزنكي على المَوْصِل والشَّام، وأن ليرنقش هَمَذَان، والبازدار أَصبهان، وكَتَبَ سِرًّا إلى الأمراء بقتل زنكي، فاستفسد الجميع، وخاف بعضُهم من بعض، وأصبح الخليفةُ وليس معه أحدٌ من العساكر. وجاء غِلْمانُ مسعود إلى تُرب الرُّصافة، فقلعوا شبابيكها، فقال زنكي للخليفة: ما تَمَّ مطلوب إلا أنا وأنت، والمصلحة خروجك معي إلى المَوْصل. ولما تيقَّن الرَّاشد مجيء مسعود، وأَنَّه لا بُدَّ له من تولية غيره، جمع الأُمراء من أبناء الخلفاء وكانوا زيادةً على العشرين، فجعلهم في سِرْداب، واستدعى أبا القاسم بن الصَّاحب حاجب الباب، وأعطاه سيفه، وقال: اذهب، فاضربْ أعناقَ الجميع وإلا ضَرَبْتُ عُنُقَك. فأخذ السيف، وخَرَجَ وتوقف، وقال: كيف أقتل أولادَ الخلفاء! وجاء إلى باب السِّرْداب وليس في عزمه شيء. فوقف متحيِّرًا، وإذا بصائحٍ يصيح: وصَلَتْ مقدِّمات مسعود إلى السور. فخرج الرَّاشد من باب البُشْرى، وقد حمل من الجواهر ما قَدَرَ عليه، ومعه قاضي القضاة الزَّينبي، وابن صدقة وزيره، وإذا زنكي واقفٌ ينتظره، وكان خروجه ليلة السبت رابع عشرة ذي القَعدة، وسار يوم السبت، وليس معه شيء من آلة السَّفر، وسَلَّم مفاتيح داره إلى خاتون زوجة المستظهر، وترك في الدَّار من الأموال والذخائر والجواهر أضعاف ما كان مع المسترشد، فاستدلَّ النَّاسُ بذلك على إدبار أمره. وقيل: إن زنكي لما وصلت مقدِّمات مسعود إلى الرُّصافة سار إلى المَوْصِل، ونَهَبَ أصحابه أَوَانا ودُجَيل، ولحقه الخليفة. ودخل مسعود بغداد يوم الأحد خامس عشرة ذي القعدة، وبَعَثَ إلى الرَّاشد يسأله الرجوع إلى داره، واسترضاه، فلم يثق به، ولم يرجع، فجمع مسعودٌ القُضَاة والشهود والأعيان، وأَخْرَجَ لهم نسخة يمينٍ كانت بينه وبين الرَّاشد أخذها عليه بكبه، وفيها بخطِّه: متى جنَدْتُ أو حاربتُ أو جذبتُ سيفًا في وَجْه مسعود فقد خلعتُ نفسي من هذا الأمر. وفيها خطوطُ القُضاة والشُّهود، فشهد بذلك، وحكم القضاة بخلعه.

الباب الحادي والثلاثون في خلافة المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر، أخو المسترشد، عم الراشد

وقال صدقة الحَدَّاد الحَنْبلي (¬1) في "تاريخه": إنَّ الوزير أبا القاسم بن طِراد صدَّر محضرًا على الرَّاشد فيه أنواعٌ من الكبائر ارتكبها من الفسق والفجور، ونكاح أُمهات أولاد أبيه، وأخذِ أموال النَّاس، وسَفْكِ الدِّماء، وأنه فعل أشياءَ لا يجوز أن يكون معها إمامًا، فتوقف الشُّهود، فتهدَّدهم ابنُ طِراد، وقال: عَلِمْتُم صحة هذا وتيقنتموه، فما المانع من إقامة الشهادة؟ فشهدوا، ومن جُمْلة من شهد فيه ابن الكَرْخي، وابن البَيضاوي، وابن الهِيْتي، ونقيب الطَّالبيين، وابن الرَّزَّاز (¬2)، وابن شافع الحنبلي، وحكم بخلعه يوم الاثنين ثامن عشرة ذي القعدة، وولّوا المقتفي. الباب الحادي والثلاثون في خلافة المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر، أخو المسترشد، عَمّ الرَّاشد وكنيته أبو عبد الله، ومولده في ربيع الأَوَّل سنةَ تسعٍ وثمانين وأربع مئة. وأمه نسيم أُمّ ولد مولَّدة صفراء وتلقب بستِّ السَّادة، وقيل: اسمها عذار، وكان يضرب بها المَثَلُ في الكَرَم والفَضْل، وسنُّ المقتفي يومئذٍ اثنتان وأربعون سنة، واستوزر ابن طِراد. وإنَّما لُقِّب بالمقتفي لأَنَّه رأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في منامه قبل أن يلي الخلافة بستة أيام، وهو يقول له: ستلي هذا الأمر، فاقتفِ بي. ولما ولي مضت خاتون المستظهرية إلى دار السُّلْطان لتسأله في أولاد الرَّاشد وجواريه وحُرَمه وأمواله، فرجعت وقد بَعَثَ مَنْ أخذ جميعَ ما في الدَّارِ من الذَّهب والفِضَّة والجواهر والخيل والثياب والحُصُر، ولم يدع في الإسطبل سوى أربعةِ أفراس، وثلاث بغال لنقل الماء. وكان قد تقرَّر على المقتفي مال البيعة، فأخذ الجميع عِوَضًا عن ذلك، وطولب المقتفي بمالٍ، فقال: قد أخذتم جميعَ ما كان في الدَّار حتى الحُصُر، فمن أين لي مال؟ وعَرَضَ عقاره، فلم يتجاسر أحدٌ أن يشتريه. ¬

_ (¬1) هو صدقة بن الحسين، وقد توفي سنة (573 هـ)، وستأتي ترجمته في وفياتها. (¬2) في (ع) و (ح): الروان، والمثبت من "المنتظم": 10/ 60.

وبعث مسعود غِلْمانه إلى حظايا الرَّاشد، فسلبوهن حُلِيَّهُنَّ، وكشفوا وجوههن، وأخذوا الحَلَق من آذانهنّ، وفضحوهن، وأخذوا حتى ثيابهن. وأما الرَّاشد فإنَّه وصل المَوْصل سَلْخ ذي القعدة، فأنزله زنكي دار السَّلْطنة، وخدمه. وفيها قَدِمَ بغداد الحسن بن يعيش (¬1)، أبو علي المَوْصلي، شاعِرٌ مجيد، ومن شعره: [من الرجز] ما ذَكَرَتْ كُثْبَ (¬2) الصَّريمِ والنَّقا ... بحاجرٍ إلا ومَدَّتْ عُنُقا وأَظْهَرَتْ تنفُّسًا مَعْ نَفَسي ... كادتْ له الأظعانُ أَنْ تَحْتَرِقا رِفقًا بها يا أيُّها الحادي فما ... يَضُرُّ حادي الرَّكْبِ لو تَرَفَّقا كم سُقْتَ يومَ بَينِهِمْ حُشاشةً ... مَعْك وكَمْ خَلَّفْتَ جُثْمانًا لَقى وقال: [من الرجز] هَبَّتْ لنا نُسَيمةٌ نَجْدِيَّةٌ ... فَرَفَعَتْ أعناقَها حنينا واسْتَنْشَقَتْ رَيَّا رُباها فَغَدتْ ... تَسُحُّ مِنْ عيونها عيونا ارخِ لها زِمامَها لو لم تكن ... حزينةً لم تَجُبِ الحُزُونا وقُلْ لها جِدِّي السُّرى لِتَرِدِي ... ماءً بأَرْضِ حاجرٍ مَعِينا أشْمَلَها نحو بلاغٍ رامَهُ ... وشوقُها يَسُوقُها يمينا وفيها أخذ شهابُ الدِّين محمود بن بوري صاحب دمشق حِمْصَ وقلعتها من خيرخان بن قراجا (¬3) بسفارة الحاجب يوسف بن فيروز، وكان مقيمًا بتدمر على ما وصَفْنا، وأخذ حماة أيضًا، وكان زَنْكي مشغولًا بالخليفة، وكان خليفته بحلب الأمير سوار، وقد قنع منه بالاسم لا غير. وحَجَّ بالنَّاس نَظَر. ¬

_ (¬1) لم أقف على ترجمته في المصادر التي بين يدي. (¬2) كثب جمع، مفردها كثيب، وهي تلال الرمل، وقد سكنت الثاء لضرورة الشعر. "اللسان" (كثب). (¬3) كذا في النسخ الخطية، والصواب: أولاد خيرخان كما في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 397.

علي بن أحمد بن منصور

وفيها توفي علي بن أحمد بن منصور (¬1) أبو الحسن بن قُبَيْس، الغَسَّاني، النَّحْوي، الزَّاهد. كان منقطعًا عن الناس بالمنارة الشَّرْقية بجامع دمشق، وكان عالمًا بالفرائض والأدب والحساب، ثِقَةً، وَرِعًا، يُفْتي على مذهب مالك. توفي يوم عرفة، ودفن بالباب الصَّغير، [سمع الخطيب وغيره، وروى عنه الحافظ ابن عساكر وغيره] (¬2). [فصل: وفيها توفي علي بن أحمد بن الحسن (¬3) أبو الحسن المُوَحِّد، ويعرف بابن بَقْشلان، ويقال بَقْشلام -بالميم- ذكره جَدِّي في "مشيخته" ولو تركه كان أَوْلى لثلاثة أوجه، إحداها أَنَّه قال: إنما سمِّي البقشلام، لأن أباه باتَ ليلةً بقرية من قُرى بغداد يقال لها شلام كثيرة البق، فكان يقول طول الليل: بن شلام، وهذا كلام لا فائدة فيه. والثَّاني أَنَّ جدي ذكره في "المشيخة"، وقال: كان شيخنا ابن ناصر يغمزه بشيئين، أحدهما الميل إلى الأشاعرة، والثاني بخدمة السلطان، فَظَلَمَ جماعةً من أهل السَّواد. الثَّالث: أن جدي حكى في "المنتظم" عن ابن ناصر أنه قال: كان في أيام الفِتَن مع أهل البِدَع، ولم يكن من أهل السُّنة ولا العارفين بالحديث، فلا يحتجُّ بروايته. قلتُ: ومن هذا حاله كيف تجوز الرواية عنه؟ ثم عاد جدي في "المنتظم" وثقه، وقال: ولد ابن البقشلام في شعبان سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة، وسمع من ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 11/ 854 - 855، و"إنباه الرواة": 2/ 232، و"العبر" للذهبي: 4/ 82، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 18 - 19، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 62 - 63، و"مشيخة ابن الجوزي": 82 - 84، و"الأنساب": 2/ 265 - 264، و"اللباب" لابن الأثير: 1/ 166 - 167، و"ميزان الاعتدال": 3/ 113، و"لسان الميزان": 4/ 197، و"توضيح المشتبه": 8/ 302 - 303.

القاسم بن عبد الله بن القاسم

أبي الحسين بن المهتدي، وأبي يعلى الفراء، وأبي جعفر بن المُسْلمة، وأبي الحسين بن النَّقور وغيرهم، وحدَّثَنا عنهم، وكان سماعُه صحيحًا وظاهره الثِّقة. ثم ذكر عن ابن ناصر له بما ذكرناه، وتوفي في رمضان، [ودفن] (¬1) بباب أبرز] (¬2). القاسم بن عبد الله بن القاسم (¬3) ابن الشهرزوري، شمس الدين، أخو القاضي كمال الدين ولي قضاء المَوْصِل، وكان يعظُ النَّاس، وله قَبُول حَسَن، وهو القائل القصيدة المشهورة (¬4)، وهي: [من الخفيف] لَمَعَتْ نارُهُم وقد عَسْعَسَ الليـ ... ــــــلُ وحار الحادي وضَلَّ الدَّليلُ فتأَمَّلْتُها وقلتُ لصَحبي ... هذه نارُ آلِ ليلى فَمِيلُوا (¬5) وفؤادي ذاك الفؤادُ المُعَنَّى ... وغرامي ذاك الغرامُ الدَّخيلُ فرمَوْا نحوها لِحاظًا صحيحا ... تٍ فعادتْ خواسئًا وَهْي حُولُ ثم مالوا إلى المَلامِ وقالوا ... خُلَّبٌ ما رأيتَ أو تخييلُ فَتَجَنَّبْتُهم وملتُ إليها ... والهوى مركبي وشَوقي الزَّميلُ ومعي صاحبٌ (¬6) أتى يقتفي الآ ... ثارَ والحبّ شَرطُهُ التَّطْفيلُ وَهْي تَعلُو ونحن ندنو إلى أنْ ... حَجَزَتْ دونَها طلولٌ مُحولُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "المنتظم". (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 238 - وفيه توفي سنة (530 هـ) - و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 266، - وفيه وفاته سنة (533 هـ) - و"النجوم الزاهرة": 5/ 258. (¬4) نسبها ابن خلكان في "وفياته": 3/ 49 - 51 للمرتضى الشهرزوري، والد القاسم المذكور، وقد سلفت ترجمة المرتضى (وفيات سنة 520 هـ). (¬5) في "وفيات الأعيان": فتأملتها وفكري من البيـ ... ــــــن عليل ولحظ عيني كليل وفؤادي ذاك الفؤاد المعنَّى ... وغرامي ذاك الغرام الدخيل ثم قابلتها وقلت لصحبي ... هذه النار نار ليلى فميلوا (¬6) في (ع) حاجب، والمثبت من (ح).

فَدَنَوْنا من الطُّلولِ فحالتْ ... زَفَرَاتٌ مِنْ دونها وغليلُ قلتُ مَنْ بالدِّيارِ قالوا أسيرٌ ... وجريحٌ مُكَبَّلٌ وقتيلُ (¬1) ما الذي جئتَ تَبْتَغي قلتُ ضيفٌ ... جاءَ يبغي القِرى حواه المَقِيلُ فأشاروا بالرَّحبِ دونك فاعقِر ... بها فما عندنا لضَيفٍ رحيلُ من أتانا ألقى عصا السَّيرِ عنه ... قلتُ مَنْ في بها وكيفَ السَّبيلُ فَحَطَطْنا إلى منازِلِ قَوْمٍ ... صَرَعَتْهم قبلَ المذاقِ الشَّمُولُ دَرَسَ الوَجْدُ منهمُ كلَّ رَسْمٍ ... فَهْوَ رَسْمٌ والقَوْمُ فيهِ حُلُولُ (¬2) ومنَ القومِ مَنْ يشيرُ إلى وجْـ ... ــــد تبقَّى عليه منه القليلُ (¬3) قلتُ أهلَ الهوى سلامٌ عليكم ... لي فؤادٌ عنكم بكم مشغولُ (¬4) لم يزل حافِزُ التَّشَوُّقِ يحدو ... ني إليكم والحادثاتُ تحولُ جئتُ كي أَصطَلي فَهلْ لي إلى نا ... رِكُمُ هذه الغَدَاة سبيلُ لا تروقَنَّكَ الرياضُ الأنيقا ... تُ فمِنْ دونها رُبًا ومحولُ ليسَ إلا الأنفاسُ تُخْبِرُ عنه ... وَهْو عنها مبرَّأٌ مَعزولُ ¬

_ (¬1) كذا في (ع) و (ح)، وفي "وفيات الأعيان": قلت من بالديار قالوا جريح ... وأسير مكبَّلٌ وقتيلُ وهو الأشبه. (¬2) بعد هذا البيت في (خ). ليس إلا الأنفاس، وهو كذلك (¬3) بعد هذا البيت في (ح): ولكل رأيت منهم مقامًا، ومثله في "وفيات الأعيان". (¬4) بعد هذا البيت في (ح): وجفوني قد أقرحتها، ومثله في في "وفيات الأعيان". وبعده فيهما: لم يزل حافز التشوق يحدو ... بي إليكم والحادثات تحولُ واعتذاري ذنب فهل عند من يعـ ... لم عذري في ترك عذري قبولُ جئت كي أصطلي فهل إلى نا ... ركم هذه الغداة سبيلُ فأجابت شواهد الحال عنهم ... كل حد من دونها مفلول لا تروقنك الرياض الأنيقا ... ت فمن دونها ربًا ومحول كم أتاهم قوم على غرة منـ ... ـــــــها وراموا أمرًا فعزَّ الوصول وقفوا شاخصين ... إلخ، ومثله في "وفيات الأعيان" مع اختلاف في بعض الألفاظ.

محمد بن عبد الله بن أحمد

ولكل رأيتُ منهم مقامًا ... شَرحُه في الكتابِ ممَّا يطولُ وجُفوني قد أَقْرَحَتْها مع الدّمـ ... ـــــــع حنينًا إلى لقاكُم سيولُ واعتذاري ذنبٌ فهل عند مَنْ يعـ ... ـــــلمُ عُذْري في تَركِ عُذْري قَبُولُ فأجابَتْ شواهدُ الحالِ عنهم ... كل حد مِنْ دونها مفلولُ كما أتاهُم قومٌ على غِرةٍ منـ ... ـها وراموا أمرًا فَعَزَّ الوصولُ وقفوا شاخِصِينَ حتى إذا ما ... لاح للوَصلِ غُرَّةٌ وحُجُول وَبَدتْ رايةُ الوفا بيدِ الوَجْـ ... ـــــــد فَنُودوا أهلَ الحقائقِ جُولوا أين من كان يدَّعينا فهذا الـ ... ــيومُ فيهِ صِبْغ الدَّعاوى يَحُولُ بذلوا أنْفُسًا سَخَتْ حين شَحَّتْ ... بوصالٍ واسْتُصغِرَ المَبْذُولُ قَذفتْهم إلى الرُّسومِ فكل ... دمهُ في طلولها مَطْلُولُ نارُنا هذه تضيءُ لمن يَسْـ ... ـــري بليلٍ لكنَّها لا تُنيلُ جاءَها مَنْ عَلِمْتَ يبغي قِراها ... وله البَسْطُ والمُنَى والسُّولُ فتعالتْ عن المنالِ وعَزَّتْ ... عن دُنُوِّ إليه وَهْوَ رَسُولُ فوقَفْنا كما رأيتَ حَيارَى ... كل عَزْمٍ مِنْ دونها مغلولُ نَدْفَعُ الوقتَ بالرَّجاءِ وناهيـ ... ـكَ بقلبٍ غذاؤه التَّعليلُ هذه حالُنا وما وَصَلَ العلـ ... ــــمُ إليهِ وكلُّ حالٍ تحولُ من أبياتٍ. وقيل: إنَّها لغيره (¬1). محمد بنُ عبد الله بن أحمد (¬2) ابن حبيب، أبو بكر العامري، ويعرف بابن الخَبَّازة. ¬

_ (¬1) أوردها بتمامها ابن خلكان في "وفيات الأعيان": 3/ 49 - 51، ونسبها للمرتضى والد المترجم كما ذكرنا، وقال: وإنما أثبت هذه القصيدة بكاملها لأنها قليلة الوجود، وهي مطلوبة. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 64 - 65، و "مشيخة ابن الجوزي": 149 - 152، و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 46، و "الوافي بالوفيات": 3/ 349، و "توضيح المشتبه": 2/ 171.

ولد سنة تسع وستين وأربع مئة، وسافر إلى البلاد، [وسمع الحديث بنيسابور وبَلْخ وهراة، ودخل مرو وخراسان] (¬1)، وشرح كتاب "الشهاب" (¬2)، وكانت له معرفةٌ بالفِقْه والحديث، وكان يعظ على طريقة الصّوفية. [وذكره جدي في "مشيخته" وقال: كان] (1) قليل التكلف، وكثيرًا ما يصعد المنبر (¬3) [وبيده مروحةٌ يتروَّح بها. قال: وسمعته يومًا ينشد] (¬4): [من البسيط] كيفَ احتيالي وهذا في الهوى حالي ... والشَّوقُ أَملَكُ بي من عَذْلِ عُذَّالي وكيفَ أَسْلُو وفي حُبِّي له شُغُلٌ ... يحولُ بين مُهِمَّاتي وأَشْغالي [قال] (1): وبنى رِباطًا بقَرَاح أبي الشَّحم (¬5)، واجتمع إليه جماعةٌ من المتزهِّدين، فلما احْتُضِرَ، قالوا: أَوْصِنا. فقال: راقبوا الله في الخلوات، واحذروا مثل مصرعي هذا، فقد عشت إحدى وستين سنة، وما كأَني رأيتُ الدّنيا. ثم أنشد: [من الكامل] ها قد مَددتُ يدي إليكَ فَرُدَّها ... بالعَفْو لا بشماتةِ الأَعداءِ وهذا البيت لأبي نَصر بن القُشَيري (¬6)، وإنما تمثَّل به [ابنُ الخَبَّازة عند الموت. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) يعني كتاب "الشهاب" للقاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، المتوفى سنة (454 هـ)، وله شروح كثيرة، وقد طبع "الشهاب" بتحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، ونشرته مؤسسة الرسالة- بيروت 1985. وشرح العامري لما يصل إلينا، وقد نقل عنه المناوي في "فيض القدير". (¬3) انظر "المشيخة" لابن الجوزي: 151، وفيه: فربما سعد المنبر ومعه مرولاته (كذا استظهرها محققه)، أما باقي الخبر فهو بنحوه في "المنتظم": 10/ 64. (¬4) في (ع) و (ح): وكثيرًا ما يصعد المنبر أنشد، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في "المنتظم" و"المشيخة": بقراح ظفر، قال ياقوت في "معجم البلدان": 4/ 315 في القراح: والمراد به هاهنا اصطلاح بغدادي، فإنهم يسمون البستان قراحًا، وفي بغداد عدة محال عامرة ... يقال لكل واحدة منها قراح إلا أنها تضاف إلى رجل تعرف باسمه، كانت قديمًا بساتين، ثم دخلت في عمارة بغداد، وهي متقاربة. قلت: ثم عدَّدها: قراح ابن رزين، وقراح ظفر، وقراح القاضي، وقراح أبي الشحم، ثم عين مواضعها في بغداد بدقة، ثم قال: فهذه أربع محال كبار عامرة آهلة كل واحدة منها تقرب أن تكون مدينة، وفيها أسواق ومساجد ودروب كثيرة. (¬6) سلفت ترجمته في وفيات سنة (514 هـ).

محمد بن حمويه بن محمد

وكانت وفاته] (¬1) في رمضان، ودُفِنَ في رِباطه، ثم جاء الغَرَق سنة أربعٍ وخمسين وخمس مئة، فهدَم تلك المَحَلَّة والرِّباط، وعفَّى آثارَ القبر. [سمع ببغداد أبا محمد التميمي، وأبا الفوارس طِراد الزَّينبي وغيرهما] (¬2). وكان ابن الخَبَّازة صدوقًا ثِقَةً. محمد بن حَمُّويه بن محمد (¬3) ابن حَمُّويه الجُوَيْني، أحد المشهورين بالزهْد والصَّلاح، والفَضْل والعِلْم، صاحبُ كرامات، وله مريدون بالعراق وخُرَاسان، وكان زاهدًا وَرِعًا. قرأ الفِقْه والأصولين على إمام الحرمين، ثم انجذبَ إلى الزُّهْد والعبادة، وحَجَّ مرَّات، وكان دعاؤه مستجابًا، وكان السلْطان سنجر والملوك يزورونه، ولا يغشى أبوابهم، ولا يقبل صِلاتهم، ولا يأكل من الأوقاف، كان له قطعةُ أرضٍ من ملكه يزرعها خادم له، ويتقوَّت منها، وبنى خانكاه بُحَيْراباذ (¬4) إلى جانب داره، وأوقف عليها أوقافًا. وصنَّف كتاب "لطائف الأذهان في تفسير القرآن"، و"سلوة الطَّالبين في سير سيِّد المرسلين"، وكتاب "الأربعين في الحديث"، وطريقة في الفقه في ترتيب الأحاديث، وكتاب في علوم الصُّوفية، وغير ذلك. وولد في المحرَّم سنة تسعٍ وأربعين وأربع مئة ببُجَيْراباذ، وتوفي بإسفرايين غُرَّة ربيع الأول، وحُمِلَ إلى بحيراباذ، فَدُفِنَ في داره. وأخذ طريق التصوف عن أبي الفَضْل بن محمد الفارمَذِي، عن أبي القاسم الطُّوسي، عن أبي [عثمان سعيد] (¬5) بن سَلَّام المَغْربي، عن أبي عمرو الزجَاجي، عن ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): وإنما تمثل به، وتوفي في رمضان، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الأنساب": 4/ 230، و"المنتظم": 10/ 63 - 64، و "اللباب": 1/ 392، و "الوافي بالوفيات": 3/ 28، و "سير أعلام النبلاء": 19/ 579 - 598، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) قال ياقوت في "معجم البلدان": 1/ 350: بالضم ثم الفتح، من قرى جُوين من نواحي نيسابور. (¬5) في (ع) و (ح): عن أبي سعد بن سلام المغربي، والمثبت ما بين حاصرتين من ترجمته في "سير أعلام النبلاء": 16/ 320 - 321.

أبو عبد الله المقرئ الفراوي النيسابوري الصاعدي

الجُنَيْد، عن خاله سَرِيّ، عن معروف الكرخي، عن داود الطَّائي، عن حبيب العَجَمي، عن الحسن البَصرِي، عن علي - عليه السلام -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -. واللُّبْس من الفارمَذي إلى الزُّجَاجي، ومن الجنيد صحبةً لا خرقة. [وفيها توفي أبو عبد الله المقرئ الفُراوي النيسابوري الصَّاعِدي (¬1) واسمه] (¬2) محمد بن الفَضْل بن أحمد بن محمد بن أبي العَبَّاس، أبو عبد الله الفُرا وي (¬3) النَّيسابوري، وفُراوة بلدٌ من بلاد خُراسان. ولد بنيسابور سنة إحدى وأربعين وأربع مئة، ورحل إلى الأمصار، وسمع الحديث الكثير، وتفقَّه، وأفتى، ووعظ، وكان كريم الأخلاق، حُلْوَ الكلام، حَسَنَ العبارة، جَوَادًا، يخدم الغرباء بنفسه مع كِبَرِ السِّنِّ. وتوفي في شوال، ودُفِنَ عند محمد بن إسحاق بن خُزَيمة، سمع "صحيح البخاري" من سعيد بن أبي سعيد العَيَّار، وسمع "صحيح مسلم" على عبد الغافر الفارسي، [وسمع بنيسابور أبا عثمان الصَّابوني، وأبا بكر البيهقي، وأبا القاسم القُشَيري، وأبا المعالي الجويني، وقدم بغداد حاجًّا، فسمع بها من الزينبي (¬4) وطبقته] (2)، وأملى أكثر من ألفِ مجلس، وكان على خاتمه مكتوب: الفُراوي [ألف راوي] (2)، وآخر ما حُمِل في مِحَفَّةٍ إلى قبر مُسْلم بن الحَجَّاج، فَتُمِّمَ عليه قراءة "الصحيح"، وبكى، وأبكى الحاضرين، وقال: لعل هذا الكتاب لا يُقرأ عليَّ بعد هذا اليوم. فكان كما قال، توفي عقيب ذلك، وأجمعوا على عدالته وفَضْله، [وكان أوحد عصره] (2). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تبيين كذب المفتري": 322، و"المنتظم": 10/ 65 - 66، و"معجم البلدان": 4/ 245 - وفيه وفاته سنة (503 هـ)، وهو خطأ- و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 46، و"وفيات الأعيان": 4/ 290 - 291، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 615 - 619، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ضبطها ابن السمعاني في "الأنساب": 9/ 256 بضم الفاء، وكذلك ضبطها ابن خلكان في "وفياته"، وضبطها ياقوت في "معجم البلدان" 4/ 245 بفتحها. (¬4) في (م) و (من) الفريقين، وهو تحريف لطيف! وقد صوبناه مما يستفاد من ترجمته في "المتنظم": 10/ 65.

المطفر بن الحسين بن علي

المُطفَّر بن الحسين بن علي (¬1) أبو الفتح المردُوسني (¬2)، أحد حُجَّاب الخليفة. ولد سنة ست وخمسين وأربع مئة، وأقام مُدَّة في الحجابة، ثم تزهَّدَ، ولَبِس الفُوَط، وتَرَكَ ما كان فيه، وسَمِعَ الحديث. يوسف بن فيروز، حاجب شمس الملوك قد ذكرنا هربه إلى تدمر، وسفارته بين قراجا (¬3) وشهاب الدِّين محمود في تسليم حِمْص، وحَلَفَ له شهابُ الدِّين وأمَّنه، فعاد إلى دمشق ينوب في التَّنبير عن معين الدِّين أُنَر، وكان في نفس الغِلْمان الأتابكية عليه حقد، لأنَّ أيلبا لما قَفَزَ على شمس الملوك أشار عليه بقتله (¬4)، وكان بزواش (¬5) أتابك العسكر يحسُدُه، ويوسف يهينه ويهين الأتابكية، فاتَّفقوا على قَتْله، فالتقاه بزواش عند المسجد الجديد في جُمادى الآخرة، فضربه بالسَّيفِ على وجهه، فقتله وهرب، وطلبه شهابُ الدِّين محمود، وقال: لا بُدَّ من قتله وقَتْلِ الغِلْمان الأتابكية، فقيل له: في هذا إفسادُ الدولة، وأعداؤك من كلِّ جانب. فسكت على مَضَضٍ، وعاد بزواش إلى دمشق. السَّنة الحادية والثلاثون وخمس مئة فيها طالبَ السُّلْطانُ المقتفي وحواشيَهُ بمئة ألف دينار، فبعث إليه المقتفي يقول: ما رأيتُ أعجبَ من أمرك، أنتَ تعلم أَنَّ المسترشد سار إليك بأمواله، فوصل الكُلُّ إليك، ورجع أصحابه عُراة، وولي الرَّاشد، وفعل ما فَعَل، ثم رحل وأبقى أمواله ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 66، و "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 1 / ق 2/ 404، و"الوافي بالوفيات": 25/ 677 - 678، وفيه وفاته سنة (532 هـ). (¬2) كذا في (ع) و (ح)، وقد اضطربت المصادر في ضبط هذه النسبة، ففي "الخريدة" المردوشتي، وفي "المنتظم": المردوسي، وفي "الوافي "المردوستي، ولم أقف على ما ينسب إليه. (¬3) انظر ص 270، 286، وتعليقنا على الخبر. (¬4) كذا في (ع) و (ح)، والصواب: بقتلهم، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 399 - 401. (¬5) رسم في "ذيل تاريخ دمشق": بزواج.

وأثاثه في الدَّار، فأخذتَ الجميع، وأما النَّاس فقد عاهدتُ الله أني لا آخذ لأحدٍ دِرهمًا واحدًا وقد أخذتَ الجوالي (¬1) والتَرِكات، فمن أيَّ وَجْهٍ أُقيم لك هذا المال؟ ما بقي إلا أن أخرجَ من الدَّار وأُسَلِّمَها إليك! ووقف رجلٌ للسلْطان، وقال له: أنتَ المطالب بما يجري على المسلمين، فما جوابك غدًا عند الله، ولا تكن ممن تأخذه العِزَّة بالإثم. فأَسْقَطَ المال، ثُم شَرَعَ بعد ذلك في مصادراتِ النَّاس. وفيها وصل خادِمٌ من عند سنجر يقال له يُمْن ببيعةِ سنجر، فدخل مسعود على المقتفي، فبايعه عن عمِّه سنجر، وخَرَجَ إلى المَوْصِل، فطَلَبَ الرَّاشد، فقال زنكي: قد أَجَرتُه، ولا أقدر على تسليمه. وتوجَّه الرَّاشد نحو أَذْرَبيجان. وفي شعبان عَقَدَ المقتفي على فاطمة بنت محمد بن ملك شاه؛ أُخت مسعود، وحَضَرَ مسعود والأكابر، وتولى العقد [وزير الخليفة] (¬2)، ونُثِرَ اللؤلؤ والجَوْهر، وتماثيل الكافور والعنبر. وتوجَّه السُّلْطان إلى الجبل، وخلَّف نائبه بالعراق البقش الكبير (¬3) السِّلاحي، فورد سَلْجوق شاه بن محمد إلى واسط والحِلَّة، وطَمِعَ في السَّلْطنة، فطرده البقش، وكان مُستضعفًا. وسار الملك داود وعساكر أَذْرَبيجان إلى مسعود، وجَرَتْ بينهم حروب عظيمة، ثم قَصَدَ مسعود أَذْرَبيجان، وقصد داود همَذَان، ووصلَهما الرَّاشد يوم الوقعة، وكان زَنْكي بالمَوْصِل، فكتَبَ إليه المقتفي، وأعطاه بلادًا عيَّنها، وبعث خطوط القُضاة والشُّهود بخَلْعِ الرَاشد، فَقُرئ بالمَوْصِل، وأجاب زَنْكي، وخَلَعَ الرَّاشد (¬4)، وخَطَبَ للمقتفي ومسعود، وقطع خُطْبة الرَّاشد وداود، فبعث الرَّاشِدُ إليه يقول: غَدرتَ يا زَنْكي! فقال: ما في بالخليفة ومسعود طاقة، والمصلحة أن تمضي إلى داود. فمضى في نفرٍ قليل، وتخلَّى عنه وزيرُه ابنُ صدقة ودَخَلَ المَوْصِل، ولم يبقَ معه صاحبُ عِمامة ¬

_ (¬1) الجوالي جمع، مفردها جالية، وهي الجزية، انظر "اللسان" (جلا). (¬2) في (ع) و (ح): وزير السلطان، وفي (م) و (ش) وزير الخليفة ووزير السلطان، وما أثبتناه بين حاصرتين هو الموافق لما في "المنتظم": 10/ 67. (¬3) في (ع) الصغير، والمثبت من (ح)، وهو الموافق للمنتظم. (¬4) في (ع) وخلع الراشد يوم الوقعة، بزيادة: يوم الوقعة، وهي ليست في (ح)، وهو الصواب.

سوى أبي الفتوح الواعظ، وكان مسعود قد بعث ألفي فارس للقَبْض عليه، ففاتهم، ومضى إلى مَرَاغة، وجاء إلى قبر أبيه، وحثا التُّرابَ على رأسه، وخرج [إلى] (¬1) أهل مَرَاغة، وكان يومًا مشهودًا، وحملوا إليه الأموال. وقوي داود، والتقى بمسعودٍ قريبًا من همَذَان، فكسر داودُ مسعودًا أقبح كسرةٍ، وقتل أمراءه، ونهبَ خزائنه، وأخذ منه جميعَ ما كان أخذه من خزائن المسترشد والرَّاشد، وانهزم مسعودٌ في نَفَرٍ يسير إلى أصبهان، وأسر أصحابه: سنقرجاه صاحب زَنْجان، وأرغان صاحب مَرَاغة، ومحمد بن آق سُنْقُر، وهؤلاء كانوا بطانةَ مسعود وأعوانه، وهم الذين أشاروا عليه بقتل المسترشد، فقال له الأمير قراجا: اضرب أعناقهم. فقتلهم صبرًا، ومَثلَ بهم كلَّ مُثْلَةٍ. وسار داود والرَّاشد خلف مسعود إلى أَصبهان، فانهزم إلى بغداد في نَفَرٍ يسير على أقبح حالٍ، ووصل جميع ما أخذه من الخليفتين إلى داود، وبوزابا وعسكرهما، ونزل مسعود في دار المملكة ذليلًا حقيرًا، وطَمِعَ العوامُ فيه وفي أصحابه، وشَرَعَ في مصادرات النَّاس، فما كان مَيْتٌ يُقْبَرُ إلا برقعةٍ من نواب مسعود يأخذون ما شاؤوا، وكتبوا على الحَفَّارين، وأشهدوا أن لا يدفنوا أحدًا حتى يخبروهم به. وفيها جلس أبو النَّجيب (¬2) في دار رئيس الرؤساء بالقَصرِ للتدريس، وجُعِلَتِ الدَّارُ مدرسة. وفيها تتبَّع المقتفي القوم الذين أفتوا بفِسْق الرَّاشد وكتبوا المحضر، وعاقَبَ من استحق العقوبة، وعَزَلَ من يستحق العَزْل، ونَكَبَ الوزيرَ شرفَ الدِّين عليَّ بن طِراد الزَّينَبي، وكان سببَ ذلك. وقال المقتفي: إذا فعلوا هذا مع غيري فهم يفعلونه معي. وعَزَلَ ابنَ طِراد أقبح عَزْلٍ، واستصفى أمواله، واستوزر سديدَ الدَّوْلة بن الأنباري، وكان كاتبَ الإنشاء. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ح). (¬2) أبو النجيب هو عبد القاهر بن عبد الله السهروردي، من أئمة الشافعية والصوفية في بغداد، توفي سنة (563 هـ)، وستأتي ترجمته في وفياتها.

أحمد بن عبد العزيز بن محمد

وفيها ملك صاحبُ مارِدِين قلعة الهتَّاخ (¬1)، ولم يكن بقي في أيدي بني مروان من ديار بكر سواها. وفيها خَرَجَ ملكُ الروم (¬2) من القُسْطَنْطينية في مئة ألف، فنزل على أنطاكية، فصالحه صاحِبُها على مال، فرحل عنها إلى بزاعة من أعمال حلب، فافتتحها بالسَّيف، وقَتَلَ مَنْ كان فيها، [وقطع زَنْكي الفُرَات] (¬3)، فنزل على بَعْرِين (¬4) وهي للفرنج، فلم يقدر عليها، فسار إلى بعلَبَك، فَحَصَرها، فسلَّمها إليه كُمُشْتكِين الخادم (¬5). وحَجَّ بالنَّاس نَظَر الخادم. وفيها توفي أحمد بن عبد العزيز بن محمد (¬6) أبو الطَّيِّب المقدسي، إمام جامع الرَّافِقة (¬7)، سافر إلى البلاد، وسمع الحديث [بمكة والشام والمغرب] (¬8)، وكان يعظ [روى عن الفقيه نصر بالشام، وبمكة أبا عبد الله الطبري، قال الحافظ] (8) ابن عساكر: أنشدني لنفسه: [من الكامل] يا واقفًا بين الفُراتِ ودِجْلَةٍ ... عطشانَ يَطْلُبُ شَربةً مِنْ ماءِ إنَّ البلادَ كثيرةٌ أنهارُها ... وسحابُها فغزيرةُ الأنواءِ ¬

_ (¬1) قلعة حصينة في ديار بكر قرب ميافارقين. "معجم البلدان": 5/ 392. (¬2) هو يوحنا كومنين، وقد ولي ما بين (512 هـ- 538 هـ)، وهو المعروف عند المؤرخين المسلمين بـ "كيالياني"، تعريب kaloioannes، وتعني الرحيم، وقد تعثر بها ناشر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي فقال مستنكرًا لها، وذلك في الحاشية: (1) ص 406: كذا، وهذا التعريف فيه بعض البعد عن الأصل "جون- يوحنا". قلت: فتأمل! وانظر "كتاب الروضتين": 1/ 122، وما بعدها، بتحقيقي. (¬3) في (ع): وأقبل زنكي إلى الفرات، وفي (ح): وقتل زنكي الفرات! والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) بعرين: بليد بين حمص والساحل، قال ياقوت: هكذا تتلفظ به العامة، وهو خطأ، وإنما هو بارين. "معجم البلدان": 1/ 452. (¬5) ذكر ذلك ابن القلانسي في "ذيل تاريخ دمشق" ص 422 - 423، وابن الأثير في "الكامل" 11/ 68 - 70. (¬6) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 7/ 72، و"مختصر تاريخ دمشق" لابن منظور: 3/ 157. (¬7) الرافقة: بلد متصل البناء بالرقة، وهما على ضفة الفرات، انظر "معجم البلدان": 3/ 15. (¬8) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن عقيل بن محمد

ما اخْتَلَتِ الدُّنيا ولا عَدِمَ النَّدى ... فيها ولا ضاقَتْ على العُلَماءِ أرضٌ بأرضٍ والذي خَلَقَ الورى ... قد قسَّمَ الأرزاقَ في الأَحياءِ أحمد بن عقيل بن محمد (¬1) أبو الفَتْح الفارسي، ويعرف بابن أبي الحوافر، من أبناء الأئمة، أَصلُه من بَعلَبَكَّ، قَدِمَ بغدادَ حاجًّا سنة عشرين وخمس مئة، وكان ثِقَةً. أحمد بن محمد بن ثابت (¬2) ابن الحسن أبو سَعد، الخُجَنْدي، الإمام الفاضل، ولد أبي بكر الخُجَنْدي (¬3). ولد سنة ثلاث وأربعين وأربعِ مئة، وتفقَّه على والده، وهم رؤساء أَصبهان، وبيتهم مشهور، قَدِم بغداد، ودَرَّس بالنظامية، وسمع الحديث، وعاد إلى أصبهان، فمات بها في شعبان، وكان جليلًا، نبيلًا. بَدران بن صَدقة (¬4) ابن منصور، من بني مزيد، ولقبه شمس الدولة (¬5). لما فعل [دُبيس ما فعَل] (¬6)، وتغيَّرت أحوالُهم بالعراق خَرَجَ إلى مِصر، فأقام بها، فأكرمه صاحِبُها. ومن شعره في أبيه صدقة بن منصور: [من الطويل] ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) و (س): 2/ 8، و "مختصره لابن منظور": 3/ 171، و "الوافي بالوفيات": 7/ 185. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 70، و "الكامل" لابن الأثير: 11/ 54، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 51، و"طبقات الشافعية" للإسنوي: 1/ 478. (¬3) توفي أبو بكر سنة (483 هـ)، وانظر ترجمته في "طبقات الشافعية" للسبكي: 4/ 123 - 125. (¬4) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 4 / م 1/ 177 - 182، و "وفيات الأعيان": 2/ 264، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 613، و"النجوم الزاهرة": 5/ 260، وعندهم وفاته سنة (530 هـ) ما عدا ابن تغري بردي، فإنه يتابع سبط ابن الجوزي في جمهور تراجمه. (¬5) اختلف في لقبه، فقد لقبه ابن خلكان تاج الملوك، ولقبه الذهبي بتاج الملوك سيف الدولة. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

سلطان بن يحيى بن علي

ولما التقى الجمعانِ والنَّقْعُ ثائِرٌ ... حَسِبْتُ الدُّجى غطَّاهُمُ بجناحِهِ وكَشَّفَ عنهمْ سُدْفةَ (¬1) النَّقْعِ في الوغى ... أبو حَسَنٍ بسُفرِهِ وصِفاحِهِ فلمْ يَسْتَضُوا إلا بَبَرقِ سيوفِهِ ... ولم يهتدوا إلا بشُهْبِ رماحِهِ (¬2) وقال وهو بمِصر، وقد غنَّى له مُغنٍّ يقال له الكُمَيت: [من الخفيف] اشربِ اليومَ من عُقارٍ كُمَيْتِ (¬3) ... واسْقنيها على غناءِ الكُمَيتِ ثُمَّ سَق النَّديمَ حتى تراه ... وَهْو حيٌّ من العُقارِ كَمَيتِ (¬4) وقال العماد الكاتب: مات سنةَ ثلاثين وخمس مئة. (¬5). سُلْطان بن يحيى بن علي (¬6) ابن عبد العزيز، أبو المكارم، القاضي، خال الحافظ أبي القاسم بن عساكر. قرأ القرآن، وسَمِعَ الحديث، وكان يعظ، ولما قَدِمَ أبو بكر محمد بن القاسم بن المُظَفَّر الشَّهْرُزُوري (¬7) من عند المسترشد رسولًا إلى دمشق قال: قد اشتقت إلى وَعظِ القاضي أبي المكارم، لأَني كنتُ سَمِعتُه بالعراق مرَّة. فأُرسِلَ إليه، فَجَلَسَ في السُّبع الكبير (¬8)، وكان مجلسًا عظيمًا، وكان قد جلس بالنظامية ببغداد، وخُلِعَ عليه بها، وناب بدمشق في الحكم عن والده يحيى بن علي (¬9). قال ابنُ عساكر: توفي سنة ثلاثين وخمس مئة، ودُفِنَ بمشهد القدم (¬10). ¬

_ (¬1) السدفة: الظُّلْمة. "اللسان" (سدف). (¬2) "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 4 / م 1/ 177 - 178. (¬3) العُقار: الخمر، والكميت: لونها، وهو بين السواد والحمرة، "اللسان" (عقر، كمت). (¬4) "الخريدة" 4 / م 1/ 179. (¬5) المصدر السالف: ج 4 / م 1/ 177. (¬6) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 7/ 388، و"العبر" للذهبي: 4/ 82، و"شذرات الذهب": 4/ 95، وعندهم وفاته سنة (530 هـ). (¬7) توفي سنة (538 هـ)، وستأتي ترجمته في وفياتها. (¬8) السُّبع الكبير: موضع في الجهة الشرقية في جامع دمشق، كان يجتمع فيه القراء كل يوم عقب صلاة الفجر لقراءة سُبْع من القرآن الكريم، ليختموه في كل أسبوع مرة. انظر "رحلة ابن جبير": ص 341. (¬9) توفي سنة (534 هـ)، وستأتي ترجمته في وفياتها. (¬10) القدم: قرية جنوبي دمشق بعد حي الميدان، وانظر "تاريخ ابن عساكر": 7/ 388، و"ثمار المقاصد" الذيل ص 244 - 245.

عبد الغني بن محمد بن عبد الغني

عبد الغني بن محمد بن عبد الغني (¬1) أبو القاسم الباجِسْرائي، وباجِسرى قرية من أعمال طريق خُرَاسان (¬2). كان فاضلا، شاعرًا، توفي ببغداد في شعبان، ومن شعره: [من الرمل] إنْ تحاوِلْ عِلْمَ ما أُضْمِرُهُ ... مِنْ صفاءٍ لك أو مِنْ دَخَلِ (¬3) فاعتبرهُ منكَ واعلم أنَّه ... لك عندي مِثْلُ ما عندكَ لي (¬4) وقال أيضًا من شعره: [من السريع] لا تكُ ما بين الورى مُعلِنًا ... بالأَمرِ إلا بعدَ إبرامِهِ فمن وها الأمرِ وإفسادهِ ... إعلامُه (¬5) مِنْ قَبْلِ إحكامِهِ مُرشد بن علي بن المُقَلَّد (¬6) ابن نَصر بن مُنْقِذ، أبو سلامة الأمير، صاحِبُ شَيزَر (¬7). كان عالمًا بفنون العلوم والآداب، صالحًا كثير التِّلاوة للقرآن، وكان أخوه نَصر بن علي قد ولاه شَيْزر، فقال: واللهِ لا أدخل في الدُّنيا. وولَّاها أخاه سُلْطان بن علي. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 2/ 18، و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 4 / م 1/ 123 - 126، و"معجم البلدان": 1/ 313، و "اللباب": 1/ 82، و"الوافي بالوفيات": 19/ 32 - 33. (¬2) باجسرى: هي قرية كبيرة بنواحي بغداد على عشرة فراسخ منها، انظر "معجم البلدان": 1/ 313. (¬3) الدَّخَل، بالتحريك: الغدر والخيانة، والخديعة والغش. "معجم متن اللغة": 2/ 388. (¬4) "الخريدة": ج 4 / م 1/ 125. (¬5) في "الخريدة": إعلانه. (¬6) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 16/ 333 - 335، و"الأنساب": 7/ 469، و"الاعتبار" لأسامة بن منقذ (في مواضع متفرقة منه)، و "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 558 - 563، و"معجم الأدباء": 5/ 228 - 234، و"كتاب الروضتين": 1/ 352 - 355، و"وفيات الأعيان": 1/ 199، و "فوات الوفيات": 4/ 130 - 131، و"الوافي بالوفيات": 25/ 463 - 464، و"النجوم الزاهرة": 5/ 260. (¬7) قلعة قرب المعرة، بينها وبين حماة يوم، إلى الشمال الغربي منها، وهي مجانبة لنهر العاصي، انظر "معجم البلدان": 3/ 383، و"القلاع أيام الحروب الصليبية": 69 - 70.

وحسده سُلْطان على أولاده، ومات مُرشد في هذه السنة، ثم أَخْرَجَ سُلْطان أولادَه مِنْ شَيْزَر، وسنذكر القصة إن شاء الله تعالى في سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة (¬1). [وذَكره (¬2) العماد الكاتب في "الخريدة"، فقال: ولد أبو سلامة مرشد بن علي في سنة ستين وأربع مئة، وتوفي في سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة، وأثنى عليه كثيرًا (¬3). وذكره الحافظ ابنُ عساكر، وقال: ولد أبو سلامة في سنة ستين وأربع مئة]، ودخَلَ طرابُلُس غير مَرَّة، وسافر إلى بغداد، وأَصبهان، وكانت له يدٌ طُولى في عِلْم العربية والكتابة والشِّعر، [وكان حافظًا للقرآن، حَسَنَ التِّلاوة] (¬4)، كثير الصَّوْم، شديدَ البأس والنجدة في الحرب، حَسَنَ الخط، كتَبَ بخطِّه سبعين ختمة (¬5). وكذا ابنه الأمير محمد بن مرشد. قال ابنُ عساكر: حدَّثني أبو عبد الله محمد بن مُرشد، قال: لما ماتَ عمي أبو المُرْهَف نَصر بن علي بشَيزَر، وأوصى إلى والدي، فقال: والله الذي لا إله إلا هو لا وليتُها، ولأَخْرُجَنَّ من الدُّنيا كما دخلتُ إليها. وولاها أخاه أبا العشائر سُلْطان بن علي، وكان صبيًّا، فاصطَحَبا أجمل صحبة مُدَّة من الزمان، قال: وكنا قد نشَأنا، ولم يكن لعمِّي أبي العشائر ولدٌ، فلحقه الحسدُ على كون أخيه له عِدَّة من الولد، ولم يكن له سوى بنات، ثم رُزِقَ أولادًا صغارًا، فكان كلَّما رأى صِغَرهم (¬6)، ورأى أولاد أخيه كبارًا قد [سدُّوا مكان أبيهم] اشتد حسده، فكتَبَ إلى والدي شِعرًا، فأجابه أبي بقوله: [من الطويل] ظَلُومٌ أَبَتْ في الظُّلْم إلا تماديا ... وفي الصَّدِّ والهِجْران إلا تناهيا شَكَتْ هجْرَنا والذَّنْبُ في ذاكَ ذَنْبُها ... فيا عجبا مِنْ ظالمٍ جاء شاكيا وطاوَعَتِ الواشين فيَّ وطالما ... عَصَيتُ عذُولًا في هواها وواشيا ومالَ بها تِيْهُ الجمالِ إلى القِلى ... وهيهاتَ أَنْ أُمسي لها الدَّهْرَ قاليا ولا ناسيًا ما اسْتَوْدَعَتْ من عُهودها ... وإنْ هي أَبْدَتْ جفوةً وتعاليا ¬

_ (¬1) انظر ص 472 - 473 من هذا الجزء. (¬2) في (ع) و (ح): ومولد مرشد سنة ستين وأربع مئة، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) هذا الموضع مما خرم من "الخريدة"، انظر حاشية محققه الدكتور شكري فيصل: 1/ 557 - 558. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 16/ 333 - 334. (¬6) في (ع): صغيرهم، والمثبت من (ح).

المفرج بن الحسن بن [الحسين بن] أبي محمد

ولما أتاني مِنْ قريضِك جَوْهرٌ ... جَمَعتَ المعالي فيه لي والمعانيا وقلتُ أخي يرعى بنيَّ وأُسرتي ... ويحفَظُ عهدي فيهمُ وذِماميا فما لك لَمَّا أَنْ حنى الدَّهْرُ صَعدتي (¬1) ... وثَلَّم مني صارمًا كان ماضيا تنكَّرتَ حتى صار بِرُّك قسوةً ... وقُربُك منهم جفوةً وتنائيا (¬2) فأصبحتُ صِفْر الكَفِّ مما رَجَوْتُه ... كذا اليأسُ قد عَفَّى سبيلَ رجائيا على أنني ما حُلْتُ عَمَّا عَهدتَهُ ... ولا غَيَّرَتْ هذي الشُّؤون وداديا فلا غَزوَ عند الحادثات فإنَّني ... أراكَ يميني والأنامَ شِماليا (¬3) وقال ولده محمد بن مُرشد (¬4): كان أبي يكتُبُ مُصحفًا، فتذاكروا بين يديه خروجَ الرُّوم، فرفع المُصحَف، وقال: اللهم بحقِّ مَنْ أنزلته عليه إن كنت قضيتَ بخروج الروم، فَخُذْ روحي ولا أراهم. فماتَ عقيب ذلك في رمضان، ودُفِن بشَيزَر، وخرجت الرُّوم بعد ذلك في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة، فحاصروا شيزر أربعةً وعشرين يومًا، ونصبوا عليها ثمانية عشرة منجنيقًا، ثم رحلوا عنها يوم السبت تاسع عشرة رمضان. المُفَرِّج بن الحسن بن [الحسين بن] أبي محمد (¬5) أبو الذَّوَّاد، محيي الدِّين بن الصُّوفي، الكِلابي، رئيس دمشق، وكان أبوه رئيسَ دمشق أيضًا. وكان يتعاهد المستورين، وله الصَّدقات والبر الكثير، واستوزره بُوري بعد قَتْلِ المَزْدَقاني (¬6)، وكان شهابُ الدِّين محمود صاحب دمشق يحسده لحشمته، وكَثْرة ماله، فاتَّفق مع بزواش على قَتْله، فركب يومًا يسير قِبْلي دمشق، فالتقاه بزواش عند قبر ¬

_ (¬1) الصعدة: القناة المستوية، يشبه بها القامة المستقيمة. انظر "اللسان" (صعد). (¬2) في (ع) و (ح): تنكرت حتى صار برك جفوة ... وقربك منهم قسوة وتنائيا والمثبت من "تاريخ ابن عساكر". (¬3) "تاريخ دمشق" لابن عساكر: 16/ 334، وما بين حاصرتين منه. (¬4) في "تاريخ ابن عساكر": 16/ 335: حكى لي أبو المغيث منقذ بن مرشد الكناني قال: فذكر نحو هذه القصة. (¬5) ذكر خبر مقتله في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 404 - 405، وترجمته في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 17/ 103 - 104، وما بين حاصرتين منه، وفيهما مقتله سنة (530 هـ)، وانظر ص 308 من هذا الجزء. (¬6) انظر ص 217 من هذا الجزء.

هبة الله بن أحمد بن عمر، أبو القاسم الحريري

طُغْتِكِين في شهر رمضان فقتله، وحُمِلَ إلى مقابر الباب الصَّغير فدفن بها، واستولى شهابُ الدِّين محمود على أمواله، وذهبت رياسة بني الصُّوفي. سمع نصر بن إبراهيم المقدسي، وغيره، وروى عنه ابنُ عساكر وغيره. هبة الله بن أحمد بن عمر، أبو القاسم الحريري (¬1) ولد يوم الخميس يوم عاشوراء سنة خمسٍ وثلاثين وأربع مئة ببغداد، وقرأ القرآن بالرِّوايات وأقرأ، وسمع الحديث الكثير. وتوفي يوم الخميس ثاني جُمادى الأُولى عن ستٍّ وتسعين سنة وشهور مُمَتَّعًا بسَمعه وبَصَره وجوارحه، وصلَّى عليه عبدُ الوهَّاب الأَنْماطي، ودُفِنَ بالشُّونيزية في تُرْبة الأَنْماطي. وكان صحيحَ السَّماع، صالحًا دَيِّنًا، ثَبْتًا، كثيرَ تلاوة القرآن والذِّكْر، وهو آخر من حَدَّث عن ابن زَوْج الحُرَّة أبي الحسن، [فحدث عن أبي الحسن هذا أبو بكر الخطيب وأبو القاسم هذا] (¬2)، وبين وفاتيهما ثمانٍ وستون سنة. السنة الثانية والثلاثون وخمس مئة فيها بَعَثَ السُّلْطان مسعود من همَذَان إلى بغداد كأسًا مختومًا إلى البقش السِّلاحي ليشربه، فأقام الكأسُ مختومًا خمسة أشهر لم يشربه، ثم جَمَعَ المغاني، وأوقد الشُّموع والقناديل والسُّرُج في جميع محالِّ بغداد [ليلًا] (¬3) ثلاثة أيام، وظهرت المعازف والمنكرات [والفضائح] (2) حتى شربه، فلم يضرَّه. فلما دخل السُّلْطانُ بغداد قبضَ عليه، وكان نائبه بالعراق، وولَّى بغداد بِهْروز الخادم. وفيها قَدِمَ أهلُ حلب وبزاعة؛ الرِّجالُ والنِّساء والصِّبْيان، فكسروا المنابر، ومنعوا النَّاس من الصَّلاة في الجوامع بسبب ما جرى عليهم ببزاعة من الرُّوم. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 71، و"مشيخة ابن الجوزي": 68 - 69، و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 54، و"معرفة القراء" للذهبي: 2/ 938 - 939، و"الوافي بالوفيات": 27/ 226، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 594 - 593، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) في العبارة سقط أثبتناه ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 71، وانظر "مشيخة ابن الجوزي": 70، و"الكامل": 11/ 54. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وفيها تزوَّج مسعود امرأتين إحداهما سفري خاتون بنت دُبَيس بن صَدَقَة، وأمها بنت عميد الدولة بن جَهِير، وكانت في غايةِ الحُسْن؛ جاءت إلى خاتون المستظهرية تشكو ما أصابها وما أُخذ منها، وبلغه حُسْنها، فتزوَّجها. والثانية: ابنة عمه قاروت بك، وكانت في غاية الحُسْنِ أيضًا، وغلَّق البلد أيامًا، فظهرتِ المنكرات. وفيها جمع الرَّاشد العساكر، وقوي أمره، وقُتِلَ. وفيها جاء ملك الرُّوم إلى حلب، وخرج إليه الأحداث، فقاتلوه، فرجع، وجاء إلى المَعَرَّة، فنهب وقَتَلَ وأسر، وجاء إلى شَيْزَر، فَنَصَبَ عليها المجانيق، وقاتلها أيامًا، ولم يظفر بطائل، وأقام في أطراف حلب، وجاء زَنْكي وقد رجع ملك الرُّوم، فنازل حِصن المجدل بالبِقاع، ففتحه، وعاد إلى الشَّرْق خوفًا من الفرنج بعد أن جعل طريقه على حِمْص وحماة، فلم يظفر منها بطائل. وفيها استوحش بزواش من الأمير شهاب الدِّين محمود [صاحب دمشق] (¬1) فخرج بزواش عن دمشق، وكان شريرًا مُفْسدًا، جاهلًا ظالمًا فاتكًا، فأقام بظاهر البلد أيامًا، ثُمَّ صَلَحَ أمره، وعاد إلى البلد، فما زال شهاب الدِّين يعمل عليه حتى قتله بقلعة دمشق بأيدي الشمسية في شعبان في قُبَّة الورد، فقتلوه، وأخرج ملفوفًا في كِساء إلى القُبَّة التي بالعُقيبة، وتُعرف بقُبَّة بزواش، فدفن فيها. وخَلَعَ شهابُ الدِّين على الأمير معين الدِّين أُنَر، وفوَّض إليه الأمور، ولقبه أتابك، ورد إليه أمر العساكر، و [رَدَّ أمرَ] (¬2) الحِجْبة إلى أسد الدِّين أكز. وفيها توفي القاضي بهاء الدِّين بن الشَّهْرُزوري بحلب، فحمل إلى مشهد صِفّين، فدفن فيه، وكان صاحِبَ هِمَّةٍ عالية، وعزيمةٍ ماضية. وكانتِ الفرنجُ قد ضايقت حلب، فرحلوا عنها بعد أن أنكى فيهم الأمير سوار وأحداثُ حلب. وفيها تزوَّج أتابك زَنْكي بأُمِّ شهاب الدِّين محمود؛ وهي الخاتون صفوة الملك زَمُرُّد ابنة الأمير جاولي، وكان قد طلبها في السَّنة الماضية، فامتنع بزواش، وقال: وما ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 415.

أحمد بن محمد بن أحمد

السَّبب في أَنَّا نزيل دولة موالينا بأيدينا! فلما قُتِلَ بزواش راسل زَنْكي في هذا المعنى وهو مقيمٌ على حِمص، فأُجيب، فَعُقِدَ العَقْد بحِمص يوم الاثنين سابع عشرة رمضان، وتقرَّر الحالُ في تسليم حِفص إليه، فتسلَّمها مع القلعة، وعوَّض معينَ الدِّين أُنَر ببارين. وتوجَّهت خاتون من دمشق في عسكر أتابك إليه في آخر شهر رمضان. وقيل: إنها سارت إليه في المحرَّم أول السنة الآتية، واجتمعا على حِمْص. وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد (¬1) أبو بكر الدِّينَوَرِي الحَنْبَلي. تفقه على أبي الخطاب الكَلْوَذاني، وبرع في المناظرة، وكان أَسْعد المِيهني يقول: ما اعترضَ أبو بكر الدِّينوري على دليلِ أحدٍ إلا ثَلَمَ فيه ثُلْمةً. توفي في جُمادى الأُولى، ودُفِنَ قريبًا من الإمام أحمد، رحمة الله عليه. سمعَ الحديث، وكان صالحًا ثِقَةً، أنشد: [من الطويل] تمنيتَ أَنْ تمْسي فقيهًا مناظرًا ... بغير عَنَاءٍ فالجنونُ فُنونُ وليسَ اكتسابُ المالِ دون مَشَقَّةٍ ... تَلَقَّيتَها، فالعِلْمُ كيف يكونُ أنوشَروان بن خالد (¬2) ابن محمد، أبو نَصر، القاشاني، الفِيني (¬3)، وفِيْن من قرى قاشان. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 73، و"الكامل": 11/ 66، و"العبر" للذهبي: 4/ 87، و"الوافي بالوفيات": 7/ 323، و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب: 1/ 190 - 191، و"النجوم الزاهرة": 5/ 261، و"المنهج الأحمد": 3/ 118 - 119، و"شذرات الذهب": 4/ 98 - 99. (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 9/ 365 - 366، و"المنتظم": 10/ 77 - 78، و"الكامل": 11/ 70 - 71، و"تاريخ دولة آل سلجوق": 104 - 105 و 140 - 142، و"وفيات الأعيان": 4/ 67، و"الفخري": 306 - 307، و"الوافي بالوفيات": 9/ 427 - 428، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 15 - 16، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وفي "الكامل" و"الوافي بالوفيات" وفاته سنة (533 هـ). (¬3) تصحفت في بعض المصادر إلى: القيني- بالقاف.

وزر للمسترشد ولمسعود، وكان مهيبًا عاقلًا، فاضلًا، جَوَادًا، وهو كان السبب في عمل الحريري للمقامات التي أنشأها، فحكى أبو القاسم عبد الله بن أبي محمد الحريري: أَنَّ والده كان جالسًا في مسجده ببني حرام -محلةٌ من محال البَصرة- إذ دَخَلَ شيخٌ ذو طِمرَين (¬1)، عليه أهبةُ السفَر، رَثُّ الثِّياب، فاستنطقه فإذا هو فصيحُ اللَّهْجة، حسنُ العبارة، فسأله: منْ أين الشيخ؟ فقال: من سَرُوج، فقال: وما الكُنْيةُ؟ قال: أبو زيد. قال: فعَمِلَ والدي المقامة الحَرَامية بعد قيامه من ذلك المجلس، واشْتَهر حديثُها، وبلغ أنوشروان، فطلبها، ووقَفَ عليها، وأمر أبي أن يضُمَّ إليها أُخرى، فعمل "المقامات". قال: وغاب أبي عن أنوشروان مُدَّة، فاستبطاه، فكتَبَ إليه أبي: [من الطويل] أَلا لَيتَ شِعري والأماني تَعِلَّةٌ ... وإنْ كان فيها راحةٌ لأخي الكَرْبِ أتدرون أَنِّي مُذْ تناءَتْ ديارُكُم ... وشَطَّ اقترابي عن جنابِكُمُ الرحبِ أُكابِدُ شوقًا ما يزالُ (¬2) أوارُهُ (¬3) ... يُقَلِّبُني باللَّيلِ جَنْبًا على جَنْبِ وأَذْكُرُ أيامَ التَّلاقي فأنْثَني ... لتَذْكارِها بادي الأسى طائِرَ اللُّبِّ ولي حَنَّةٌ فِي كلِّ وقتٍ إليكُمُ ... ولا حَنَّةَ الصَّادي إلى البارِدِ العَذْبِ فواللهِ لو أنِّي كتمتُ هواكُمُ ... لما كان مكتومًا بشَرقٍ ولا غَربِ ومما شجا قَلْبي المُعَنَّى وشَفَّهُ ... رضاكم بإهمالِ الإجابةِ عن كُتْبي وقد كنتُ لا أخشى مع الذَّنْبِ جَفْوةً ... فقد صرتُ أَخْشاها وما ليَ مِنْ ذَنْبِ ولمَّا سرى الرَّكْبُ العراقيُّ نحوكُم ... وأَعوزَني المَسْرى إليكُم مع الرَّكْبِ جعلتُ كتابي نائبًا عن صبابتي ... ومَنْ لم يجدْ ماءً تيمَّمَ بالتُّربِ (¬4) ¬

_ (¬1) الطِّمْر: الثوب الخَلَق البالي. "اللسان" (طمر). (¬2) في (ع) و (ج): لا أزال، والمثبت من "المنتظم" و"الخريدة". (¬3) أي حرّه. (¬4) انظر الأبيات في "المنتظم": 10/ 77 - 78، وفي "الخريدة" قسم شعراء العراق: ج 4 / م 2/ 604 - 606، مع اختلاف في بعض الألفاظ.

بدر بن عبد الله، أبو النجم

وكان أنوشروان كريمًا؛ مسألة رجلٌ (¬1) خيمةً ولم يكن عنده، فبعث إليه بمئة دينار، فقال الرجل: [من المنسرح] لله دَرُّ ابنِ خالد رَجُلًا ... أحيا لنا الجُودَ بعدما ذَهبًا سألتُهُ خيمةً أَلُوذُ بها ... فجاد لي مِلْءَ خيمةٍ ذَهبًا (¬2) توفي في رمضان، ودُفِنَ في داره بالحريم الطَّاهري، ثم نُقِلَ بعد ذلك إلى الكوفة إلى مشهد أمير المؤمنين - عليه السلام -. بَدْر بن عبد الله، أبو النَّجْم (¬3) سمع الحديثَ الكثير. وتوفي في رمضان عن ثمانين سنة، ودُفِنَ بباب حرب. وكان سليمَ الصَّدرِ؛ طلَبَ منه أصحابُ الحديث إجازةً، فقال: كم تستجيزون! ما بقي عندي إجازة أَجيزها لكم. البقش السِّلاحي (¬4) كان أميرًا كبيرًا، ناب عن السُّلْطان في المملكة، ثم توهَّم منه، فَقَبَضَ عليه، وحَبَسه بقلعة تَكْريت، ثم أمر بقَتْله، فغرَّق نفسه في دِجْلة، فأُخرج من الماء، وقُطِع رأسه، وحُمِلَ إليه. الحسن بن يحيى بن رُوبيل (¬5) أبو محمد الأَبَّار، الدِّمَشْقي. ¬

_ (¬1) هو الشاعر أحمد بن محمد بن الحسين، أبو بكر الأرجاني، كما جاء مصرحًا به في "الفخري": 306، و"الوافي بالوفيات": 9/ 428، وستأتي ترجته في وفيات سنة (544 هـ). (¬2) في (ع) و (ح): فجاد لي بل بخيمة ذهبًا، ومثله في "المنتظم": 10/ 77، والمثبت من "الفخري"، و"الوافي بالوفيات". (¬3) له ترجمة في "الأنساب": 7/ 442 - 443، و"المنتظم": 10/ 74، و"اللباب": 2/ 221، و "سير أعلام النبلاء": 20/ 48، و"النجوم الزاهرة": 5/ 262، ونسبته الشِّيحي، نسبةً إلى شيحة، وهي قرية من قرى حلب، وقد تصحف في "المنتظم": إلى الشيخي- بالخاء. (¬4) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 74، و"النجوم الزاهرة": 5/ 262، وقد سلفت أخباره على السنين. (¬5) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 261 - 263، و"الوافي بالوفيات": 12/ 303، و"شذرات الذهب": 4/ 97، وفيه وفاته سنة (531 هـ).

الحسين بن تلمش بن يزدمر

كان يبيع الإِبَرَ بدمشق، وكان ابنُ الخَيَّاط الشَّاعر يقعد عنده (¬1)، ويتناشدان [الأشعار] (¬2)، ومن شعره في محيي الدِّينِ بنِ الصُّوفي (¬3)، رئيسِ دمشق: [من المنسرح] يا محيي الدِّينِ بعدما دَثَرا ... ومُشْبِهًا في زمانِهِ عُمَرا ومَنْ إذا ما ذكَرْتَ سِيْرَتَهُ ... سمعتَ ذِكْرًا يُجَمِّلُ السِّيَرا انْظُر إلى عَبْدِك الفقير فقد ... جَارَ عليه الزَّمانُ واقْتَدرا وخانه سَمعُهُ وناظِرُهُ ... من بَعدِما كان يَثْقُبُ الإِبَرا وصار في السُّوقِ كالأجير وهل ... يُفْلِحُ مَنْ سارَ سِيرَة الأُجَرا وما لهُ مَوْئِلٌ يلُوذ بهِ ... سواكَ يا مَنْ يُجَمِّلُ الوُزَرا (¬4) وكان يسكن بدَرْب صامت بدمشق، وتوفي بها، وذكر له العمادُ الكاتب في "الخريدة" أشعارًا هجا بها زوجته، [وهي شنيعة]، منها قوله: [من الخفيف] أُغريتْ زَوْجتي بشُربِ العُقارِ ... أَسْكَنَتْني بجَنْبِ دارِ القِمارِ أَطْعَمَتْني مُخَّ الحمارِ فلمَّا ... أَبْصَرَتْني قد صرتُ مِثْلَ الحمارِ بَذَلَتْ [فَرجَها] وصاحَتْ (¬5) إلى النَّا ... سِ هلمُّوا يا مَعشَرَ الفجَّارِ [وذكر أشياء من جِنْس شعر ابن الحَجَّاج] (¬6). الحسين بن تلمش بن يزدمر (¬7) أبو الفوارس، التُّرْكي، الصُّوفي، البغدادي. ¬

_ (¬1) قال العماد الكاتب في "الخريدة": 1/ 261: وله دكان في سوق الأبارين يبيع الإبر، قال: ورأيت ابن الخياط جالسًا على دكانه. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) هو المفرج بن الحسن، وقد سلفت ترجمته ص 302، وقد توارى عن الدكتور شكري فيصل وكاد يلامسه وهو يحاول تعيين ابن الصوفي في تعليقه على "الخريدة" قسم شعراء الشام: 1/ 261 حاشية رقم (9). (¬4) الأبيات في "الخريدة": 1/ 262. (¬5) في (ع): بذلت فصاحت، وفي (خ): بذلت [ثم بياض] فصاح، والمثبت من "الخريدة" قسم شعراء الشام: 1/ 262، وما بين حاصرتين منه. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وابن الحجاج: هو الحسين بن أحمد بن محمد، شاعر ماجن، توفي سنة (391 هـ)، وانظر ترجمته في "وفيات الأعيان": 2/ 168 - 172. (¬7) له ترجمة في "النجوم الزاهرة": 5/ 262.

علي بن علي بن عبيد الله، أبو منصور

شاعرٌ فاضل، [ذكره ابنُ السَّمْعاني في "الذيل"، وذكر مقطَّعات من شعره، منها] (¬1): [من الخفيف] أتمنى بأن أكونَ مريضًا ... علَّها أنْ تعودَ في العُوَّادِ فتراها عَيني فيذهبَ عنِّي ... ما أُقاسيه من جَوًى في فؤادي وهذا أحسن من قول ابنِ الخيَّاط الدِّمَشْقي: [من الطويل] أَحِنُّ إلى سُقْمي لعلَّك عائدي ... ومِنْ كَلَفي أَنِّي أَحِنُّ إلى السُّقْمِ (¬2) وأحسن مِنْ قول القائل: [من الطويل] يَوَدُّ بأَنْ يُمْسي مريضًا لعلَّها ... إذا سَمِعَتْ يومًا بشكوى تُراسِلُهْ عليُّ بنُ علي بن عُبيد (¬3) الله، أبو منصور (¬4) أمين الأُمناء، [ويُعرف] (5) بابن سُكَينة. ولد سنة تسعٍ وأربعين وأربع مئة [وكان أمين الحكم على أموال اليتامى، ويلقب أمين الأمناء] (5)، وتوفي ليلة السبت سادس ذي القعدة [عن ثلاث وثمانين سنة] (5) ودُفن بالشُّونيزية، وسمع [أبا محمد الصريفيني وابن السَّراج وابن العلاف وغيرهم] (¬5) وحدَّث، وكان سَمَاعه صحيحًا، [قال جدي رحمه الله: وسمعته يقول] (¬6): مَنْ منعَ ماله الفقراء سَلَّط الله عليه الأُمراء. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): شاعر فاضل، ومن شعره، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "ديوان ابن الخياط": ص 146. (¬3) في (ع) و (ح): عبد الله، والمثبت من (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 75، و"العبر" للذهبي: 4/ 88 - 89، و"شذرات الذهب": 4/ 100. وابنه هو شيخ العراق الإمام عبد الوهَّاب بن سُكَيْنة، المتوفى سنة (607 هـ)، انظر ترجمته في "السير" 21/ 502 - 505. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) في (ح) و (ع): وكان سماعه صحيحًا، وقال: من منع ... والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "المنتظم": 10/ 75.

عمر بن محمد بن عموية

عمر بن محمد بن عَمُّوية (¬1) أبو حفص، السُّهْرَوردي، عَمُّ أبي النَّجيب الواعظ، شيخ الصُّوفية في الرِّباط المعروف بسعادة الخادم. توفي في ربيع الأول، ودُفِن بالشونيزية عند قبر رُوَيْم (¬2). سمع أبا محمد التميمي وغيره، وكان صالحًا. محمد بن عبد الملك (¬3) ابن محمد، أبو الحسن، الكَرَجي (¬4). ولد سنة ثمان وخمسين وأربع مئة، وسمعَ [بالكَرَج -بجيم- و] (5) بهمذَان وأَصبهان وببغداد، وكان محدِّثًا فقيهًا، شاعرًا أديبًا، [وكان] (¬5) شافعيًّا، إلا أنه ما كان يَقْنُتُ في الفجر، وكان يقول: قد صَحَّ عن إمامنا الشَّافعي رحمه الله أَنَه قال: إذا صَحَّ عندكم الحديث، وقلتُ قولًا يخالفه، فدعوا قولي. وقد صَحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه تَرَكَ القنوت في صلاة الفجر. وكان كريم الأخلاق، وصنَّف في المذهب والتفسير. ومن شعره: [من الوافر] تناءَتْ دارُهُ عنِّي ولكنْ ... خيالُ جمالِهِ في القَلْب ساكنْ إذا امتلأَ الفؤادُ بهِ فماذا ... يضُرُّ إذا خَلَتْ منهُ المساكِنْ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 7/ 197 - 198، و"المنتظم": 10/ 75، و"اللباب": 2/ 85. (¬2) هو شيخ الصوفية في عصره رويم بن أحمد، وقيل: رويم بن محمد بن يزيد بن روم بن يزيد البغدادي، توفي ببغداد سنة (303 هـ)، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء": 14/ 234 - 235. (¬3) له ترجمة في "الأنساب": 10/ 381، و"المنتظم": 10/ 75 - 76، و"الكامل": 11/ 66، و"العبر" للذهبي: 4/ 89، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 137 - 147، و"طبقات الشافعية" للإسنوي: 2/ 349 - 348، و"طبقات الشافعية"، لابن قاضي شهبة: 1/ 349 - 352، و"النجوم الزاهرة": 5/ 262، و"شذرات الذهب": 4/ 100. (¬4) الكرجي: نسبة إلى الكرج -بفتح الكاف والراء والجيم في آخرها- وهي بلدة بين أصبهان وهمذان، انظر "الأنساب": 10/ 378. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

منصور الراشد أمير المؤمنين

وقال أيضًا: [من الطويل] سَرَقْتُ إليها زَوْرَةً فتنقَّبَتْ ... فقلتُ اسْفِري ما هكذا حَقُّ مَنْ طَرَقْ فقالتْ حجبتُ البَدْرَ عنكَ تعمُّدًا ... لتأمنَ إنَّ البدرَ يَفْضَحُ مَنْ سَرَقْ منصور الرَّاشد أمير المؤمنين (¬1) قد ذكرنا خلافته (¬2)، وخروجه من بغداد إلى المَوْصِل، ومسيره إلى أَذْرَبيجان. وكان معه داود بن محمود، وأنَّه وَصَلَ إلى أَصبهان، واستفحل أمره. وكَتَبَ إلى سنجر كتابًا مضمونه أنَّ الذي جرى على المسترشد إنما كان باتّفاقٍ منه ومن مسعود، وأَنَّه سوف يجد غِبَّ ذلك {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. فكتب إليه سنجر كتابًا بخطِّ أبي إسحاق البَيهقي يعزِّيه في أبيه، ولم يجبه عما أشار إليه، قال: سلام على المجلس الأَسْمى، والمقرِّ الأعلى الأشرف الرَّاشدي، وصل الكتابُ العزيز الذي أَطْلَعَ مِنْ بروج الشَّرف كواكبَ الإقبال، وفجَّرَ في فضاء الإفضال ينابيع الآمال، وهيَّأ لبابِ السَّعادة مِفْتاحًا، وأَوْجَبَ لصَدْرِ الخادم انشراحًا، فأمَّا ما أشار إليه من وفاة الشَّهيد التي غَيَّرَتْ بها اللَّيالي أحوالها، وزُلْزلتِ الأَرضُ زِلْزالها، وصارتْ بسببها طوالعُ الخلافة آفلة، وغصون الشريعة ذابلة، ففي كلّ قلبٍ منها لظىً وسعير، وفي كلِّ دارٍ أنَّةٌ وزفير، لكنَّ قضاءَ الله لا يُغيَّر، وأجله إذا جاءَ لا يُؤَخَّر، وله أُسوةٌ في احتساءِ كأسِ الشَّهادة، وارتقاء مدارجِ السَّعادة بالخُلَفاء الرَّاشدين، والأئمة المَهْديين، وذكر كلامًا بمعناه. فلمَّا قرأ الرَّاشد كتابه يَئِسَ منه، ومضى إلى أصبهان، فأقام بها، وتوفي سابع عشرين رمضان. واختلفوا في سبب وفاته على أقوالٍ: أحدها أَنَّه سُقِيَ السُّمَ ثلاث مَرَّات. والثَّاني: أَنَّه قتله قوم من الفَرَّاشين الذي كانوا في خدمته. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 76 - 77، و"تاريخ دولة آل سلجوق": 166 - 168، و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 33 - 34، و"الكامل": 11/ 62 - 63، و"مختصر التاريخ" لابن الكازروني: 224 - 227، و"الفخري": 308 - 309، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 568 - 573، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) انظر ص 280 - 285 من هذا الجزء.

والثَّالث: أَنَّه قتله قومٌ من الباطنية، وقُتِلُوا بعده، وكان قد داسَ بلادهم وأَخْربها، وبعثهم إليه مسعود وسنجر، فقتلوه كما قتلوا أباه. وذكر العمادُ الكاتب [في "الخريدة"] (1) ما يدلُّ على هذا فقال: تنقَّل الرَّاشد في البلاد: ديار بكر وأَذْربيجان ومازَنْدران، وعاد إلى أَصبهان، فأقام مع السُّلْطان داود بن محمود، والبلد مُحاصر، وهناك قحطٌ عظيم، وضُرٌّ عميمٌ. قال العماد: أذكر ونحن أطفالٌ، وقد خرجنا من أَصبهان وأقمنا بالرُّبُط عند المُصَلَّى، والعسكر قريبٌ منا، فسمعنا أصواتًا هائلةً وقت القائلة مِنْ نهار يوم الثّلاثاء سادس عشرين رمضان [من هذه السنة] (1)، فقلنا: ما الخبر؟ فقيل لنا: إنَّ الخليفة قد فتكَتْ به الملاحدة لعنهم الله. وخرج أهلُ أصبهان حُفاةً حاسرين، وشيَّعوا جِنازته إلى مدينة جَيّ، وبكوا ولطموا، ودفنوه بالجامع، وكان له الحُسْنُ اليُوسفي، والكرم الحاتمي، بل الهاشمي. [قال] (¬1): وكان قد استدعى والدي صفيَّ الدِّين ليوليه الوزارة، فتعلَّل عليه، وكانت الخِيرة فيه (¬2). وبلغ الخبر إلى بغداد، فقعدوا له في العزاء يومًا واحدًا، وخلَّف ببغداد نيفًا وعشرين ولدًا ذكرًا. [وقال السمعاني: ومما ينسب إلى الرَّاشد] (¬3) من الشعر: [من الطويل] زمانٌ قد اسْتَنَّتْ فِصالُ صروفه (¬4) ... وأصبح آسادُ الكرامِ لها قرعى (¬5) أكولتُهُ تشكو صُروفَ زمانها ... فليس لها مأوى وليس لها مرعى فيا قَلْبُ لا تأسفْ عليه فربمَّا ... ترى القومَ في أكناف آفاتِهِ صرعى (¬6) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 33 - 34. (¬3) في (ع) و (ح): ومما ينسب إليه من الشعر، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) استن الفرس في مضماره: إذا جرى في نشاطه ومرحه على سننه في جهة واحدة. "معجم متن اللغة": 3/ 228. (¬5) القرعى جمع، مفردها القريع: وهو الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه. "معجم متن اللغة": 4/ 418، 541. (¬6) انظر الأبيات بنحو هذا اللفظ في "الخريدة" قسم شعراء العراق: 2/ 33 - 34.

السنة الثالثة والثلاثون وخمس مئة

السنة الثالثة والثلاثون وخمس مئة فيها زُلْزِلَتْ جَنْزة (¬1) عشرة فراسخ في مثلها، فأهلكت مئتي ألف وثلاثين ألف إنسان، وخُسِفَ بجَنْزة، وصار مكان البلد ماء أسود، وقَدِمَ التُّجَّار من أهلها، فلازموا المقابر يبكون على أهليهم وأموالهم. وقال ابنُ القلانسي: إنها كانت عامَّةً في الدُّنيا، وأنها كانت بحلب أعظم؛ جاءت ثمانين مرة، ورمت أسوار البلد وأبراجَ القلعة، وهرَبَ أهلُ البلد إلى ظاهره (¬2). ووصل رسولُ ابن قاروت بك ملك كَرْمان يخطب خاتون المستظهرية، فزوَّجه مسعود بها، ونقدَها مئة ألف دينار، وحُمِلَتْ إليه، فماتت عند وصولها. واستوزر السُّلْطان مسعود محمد بن الخازن من أهل الرّي، فَنَشَرَ العَدل، ورفع المكُوس والضَّرائب، فلم يجدِ الأعداءُ طريقًا إلى بلوغ أغراضهم إلا أنهم أوقعوا بينه وبين قراسُنْقُر صاحب أَذْرَبيجان، فأقبل بالعساكر، وقال: إما قَتْلُه أو الحرب. فخوَّفوا مسعودًا منه، فأمر بقَتْله على كُرْهٍ منه، وبعث برأسه إلى قراسنقر. وقيل: إنَّه لما أزال المكوس والضرائب وأَمَرَ بالمعروف عَزَّ على مسعود، فَدَسَّ قراسنقر حتى فعل ذلك. [وفيها قتل شهاب الدِّين محمود صاحب دمشق، وسنذكره] (¬3). وفيها توفي إسماعيل بن محمد بن أحمد (¬4) أبو طاهر الوَثَّابي، شاعرٌ فصيح، ومترسِّلٌ نجيح، ما زال به اشتغاله بالفنون حتى قيل: به لَمَمٌ أو جنون، وهو القائل: [من الطويل] ¬

_ (¬1) أعظم مدينة بأرَّان، وهي بين شروان وأذربيجان، وهي التي تسميها العامة كنجة، انظر "معجم البلدان": 2/ 171. (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 420. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر ص 319 - 320 من هذا الجزء. (¬4) له ترجمة في "الأنساب": 12/ 221 - 222، و"معجم الأدباء": 7/ 36 - 40، و"الوافي بالوفيات": 9/ 205 - 206، و"النجوم الزاهرة": 5/ 264.

زاهر بن طاهر بن محمد

تَبَصَّرْ خليلي من ثَنِيَّة بارِقٍ ... بريقًا كَسَقْطِ النَّارِ عالجه الزَّنْدُ فيقضي بها من ذِكْرِ ليلى لُبانةً ... ويُطْفي بها مِنْ نارِ وَجْدٍ بها وَقْدُ وَشِمْ لنسيم الرِّيح من جانب الحِمى ... فقد عَبِقَ الوادي وفاح به الرَّنْدُ (¬1) زاهر بن طاهر بن محمد (¬2) أبو القاسم، الشَّحَّامي النَّيسابوري. ولد سنة ستٍّ وأربعين وأربع مئة، وسافر في طلب الحديث، وأملى بجامع نيسابور قريبًا من ألف مجلس (¬3)، وكان يُكْرِمُ الغرباء الواردين عليه، ويُحْسن إليهم ويُدَاويهم، وعَمَّرَ حتى ألحقَ الصِّغار بالكبار، وتوفي بنيسابور في ربيعٍ الأَوَّل، ودفن بمقبرة يحيى بن يحيى. عبد الوهَّاب بن عبد الواحد (¬4) ابن محمد بن علي، أبو القاسم ابن أبي الفَرَج، الحَنْبلي الأَنْصاري، [جد أولاد الحنبلي] (¬5). كان رئيس الحنابلة بدمشق، وترسَّل إلى بغداد بسبب استيلاء الفرنج على الشام [وقد ذكرناه] (¬6)، وتكلَّم في ديوان المسترشد في الخلاف، وكان يفتي على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (¬7)، وخَلَفَ أباه في حَلْقته وأصحابه بعد موته، ودرَّس، وحدَّث وتوفي بدمشق، ودفن بالباب الصَّغير. ¬

_ (¬1) الأبيات مع أبيات أخر من القصيدة بنحو هذا اللفظ في "معجم الأدباء": 7/ 39 - 40. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 79 - 80، و"الكامل": 11/ 71، و"ميزان الاعتدال": 2/ 64، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 9 - 13، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ع) و (ح): مجلد، وهو تحريف، والمثبت من "المنتظم": 10/ 80. (¬4) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 429 - 435، و"الكامل": 11/ 90، و"ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 1/ 349 - 351، و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب: 1/ 198 - 201، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 103 - 104، و "المنهج الأحمد": 3/ 125 - 126 وفيهما تتمة مصادر ترجمته، وعندهم وفاته سنة (536 هـ)، وهو الصحيح. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). قلت: وكان ذلك سنة (523 هـ)، انظر ص 218 من هذا الجزء. (¬7) في (م) و (ش): ويدرس ويعظ، وتكلم في ديوان المسترشد لما بعثه بوري رسولًا في الخلاف، ولما رجع إلى دمشق حدث بالإجازة عن أبي طالب بن يوسف، وكان قبل ذلك قد سمع أباه، وخلفه في أصحابه بعد موته، وتوفي بدمشق، ودفن بالباب الصغير، وكان إمامًا فاضلًا، وكان يومه مشهودًا.

علي بن أفلح

وكان إمامًا فاضلًا على الطَّريقة المَرْضِيَّة، والأفعال الرَّضية من وفور العِلْم، وحُسْن الوعظ، وكَثْرَةِ الدِّين، والتَّنزه عفا يقع فيه غيره من المتفقِّهين، وكان يومه مشهودًا. عليُّ بنُ أفلح (¬1) أبو القاسم، الكاتب البغدادي. كان فاضلًا فصيحًا، تقدَّم عند المسترشد، ولقَّبه جمال المُلْك، وأعطاه أربعةَ آدُرٍ في دَرْب الشَّاكرية، فاشترى دورًا إلى جانبها، وهدَمَ الكُلَّ، وأنشأها دارًا كبيرة، وأطلق له الخليفةُ ما يحتاج إليه من الآلات والخشب والآجُرِّ، وخمس مئة دينار، ورتَّبَ له راتبًا، وغَرِمَ على الدَّار عشرين ألف دينار، وكان طولها ستين ذراعًا في أربعين، وأَجْراها بالذَّهب، وصوَّر فيها [فنون] (¬2) الصُّوَر. وكَتَبَ على بابها وجوانب أبوابها أشعارًا، فكتب على جانبي أبوابها: [من مجزوء الكامل] ومِنَ المروءةِ للفتى ... ما عاشَ دارًا فاخرهْ فاقْنع من الدُّنيا بها ... واعملْ لدارِ الآخرهْ هاتِيكَ وافيةٌ بما ... وَعَدَتْ وهذي ساخرهْ وكَتَبَ على الجانب الآخر: [من المتقارب] ونادٍ كأَنَّ جِنانَ الخُلُودِ ... أعارَتْه مِنْ حُسْنها رَوْنقا وأَعْطَتْه من حادثاتِ الزَّما ... نِ أَنْ لا تُلِمَّ بهِ مَوثِقا ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 52 - 69، و"المنتظم": 10/ 80 - 84، و"الكامل": 80/ 11، و"وفيات الأعيان": 3/ 389 - 391، و"النجوم الزاهرة": 5/ 264 وقد اختلف في سنة وفاته، فهي سنة (533 هـ) عند ابن الجوزي، وتابعه على ذلك سبطه وابن تغري بردي، وعند ابن الأثير في "كامله" (535 هـ)، وتردد العماد الكاتب بين سنة (536 هـ) أو (537 هـ)، وقال ابن خلكان: وتوفي يوم الخميس ثاني شعبان سنة خمس، وقيل سنة ست، وقيل سنة سبع وثلاثين وخمس مئة، وعمره أربع وستون سنة وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا. وقد تعقبه العلامة محمد بهجة الأثري في تعليقه على "الخريدة" فقال: وهذا التحديد لعمر الشاعر لا يستقيم للمؤرخ الكبير مع روايته الاختلاف في سنة الوفاة، وجهالة يوم الولادة والشهر والسنة. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

فأضحى يَتِيْه على كلِّ ما ... [بُني مَغْرِبًا كان أو مَشْرقا] (¬1) وكتب على الباب: [من السريع] إنْ عَجِبَ الرَّاؤون مِنْ ظاهري ... فباطني لو عَلِموا أَعْجَبُ شيَّدني مَنْ كَفُّه مُزْنةٌ ... يحملُ منها العارِضُ الصَّيِّبُ ودَبَّجَتْ (¬2) رَوْضةُ أخلاقِهِ ... فيَّ رياضًا (¬3) نَوْرُها مُذْهبُ ثم إنَّ المسترشد اطَّلَع عليه أنَّه يكاتب دُبَيسًا، فامر بنقض الدَّار، فَنُقِضَتْ، وهرَبَ إلى تكريت (¬4)، فاستجار ببِهْروز الخادم، وأقام عنده مُدَّة، ثم شَفَعَ فيه، فعفا الخليفةُ عنه، وهو القائل: [من البسيط] دَعِ الهوى لأُناسٍ يعرفون به ... قد مارسوا الحُبَّ حتى لانَ أَصعَبُهُ بلوتَ نَفْسَك فيما لستَ تَخْبُرُه ... والشيءُ صعْب على مَنْ لا يُجرِّبُهُ أفنى (¬5) اصطبارًا وإنْ لم أستطع جَلَدًا ... فَرُبَّ مُدرِكِ أَمرٍ عَزَّ مَطْلَبُهُ أحنو الضُّلُوعَ على قَلْبٍ يحيِّرني ... في كلِّ يومٍ ويُعييني تَقَلُّبُهُ تناوحُ الرِّيحِ من نَجْدٍ يُهيِّجُهُ ... ولامعُ البَرقِ من نَعْمانَ (¬6) يُطْرِبُهُ وقال أيضًا: [من الرَّمل] هذه الخَيفُ وهاتيك مِنى ... فترفقْ أيها الحادي بنا واحبسِ الرَّكْبَ علينا ساعةً ... نَنْدُبُ الرَّبْعَ ونبكي الدِّمَنا فلذا الموقف أَعددنا البُكا ... ولذا اليوم الدُّموع تُقْتنى زمنًا كانوا وكُنَّا جِيرَةً ... يا أعادَ الله ذاك الزَّمنا بَينُنا يومَ أُثيلاتِ النَّقا ... كان عن غيرِ تراضٍ بَينَنا ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): بنى مغربًا وبنى مشرقًا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م)، وهو الموافق لرواية "المنتظم": 10/ 81. (¬2) أي زينت. "معجم من اللغة": 2/ 370. (¬3) في (ع) و (ح) و (ش) في رياض، والمثبت من (م). (¬4) سلف خبر ذلك ص 170. (¬5) في (ع) و (ح): أين، و (ش): أقر، والمثبت من (م). (¬6) نعمان: وادٍ بين مكة والطائف. "معجم البلدان": 5/ 293.

من رسائِلِهِ أَنَّه كتَبَ إلى أبي الحسن ابن التلميذ (¬1) كتابًا يقول فيه: كتابي -أطال الله بقاءَ سيدنا- طَوَّلَ اشتياقي إليه، وأدام تمكينه دوامُ ثنائي عليه، وحَرَسَ نعمته حراسةَ ضميرهِ للأسرار، وكبَتَ أعداءه كبْتَ صَبْري يوم تناءتْ به الدَّار، عن سلامةٍ انتقلت ببُعدِهِ من جسمي على وُدِّي، وعافيةٍ كان بَينُه بها آخرَ عهدي، وأنا أحمد الله العلي على ما يسوءُ وَيسُرّ، وأديمُ الصَّلاةَ على رسوله محمد وآله المُحَجَّلين الغُرّ، وبعد: فإنِّي أذكر عهدَ التَّزاورِ ذِكْرَ الهائِم الوَلُوع، وأَحِنُّ إلى عَصرِ التَّجاور حنينَ الحائم إلى الشُّروع (¬2)، وأقول: [من المتقارب] وإنّي وحَقِّك منذُ ازتحلتَ ... نهاري حنينٌ وليلي أنينُ وما كنتُ أعرفُ قَبْلُ امرأً ... بجسمٍ مقيمٍ وقلبٍ يَبِينُ وكيفَ السَّبيلُ إلى سَلْوتي ... وحُزْني وفيٌّ وصَبْرِي خَؤُونُ وكيف لا أكون كذلك وإنَّما أخذتُ حُسْنَ الوفاء عنه، واكتسبتُ خُلُوصَ الصَّفاءِ منه، وقد فتنتني منه دماثةُ تلك الشَّمائل، التي شغلت كَلَفي بها عن كلِّ شاعل، وأنا أُثني عليه ثناءً تناقله الرُّواة، وغنَّى طربًا بذكره الحُداة، ولم أزل ناشرًا من فَضْله ما نسوه، وذاكرًا من محاسنه ما لم يذكروه. فكتب إليه ابنُ التلميذ في الجواب: وَصَلَ كتابُه مَدَّ الله في عمره امتدادَ أملي فيه، وأدام عُلُوَّه دوام بِرِّه لمعتفيه، وحَرَسَ نعماءَه حراسةَ الأدب بناديه، عن سلامةٍ شملت بتأميل إيابه، وعافيةٍ عَفَتْ لولا قراءةُ كتابه: [من المتقارب] وإنِّي وَحُبِّكَ مُذْ بِنْتُ عنـ ... ـــــــك قلبي حزينٌ ودمعي هَتُونُ ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): الحسين بن التلميذ، وهو تحريف، والمثبت من "المنتظم": 10/ 82. وأبو الحسن هو هبة الله بن صاعد بن هبة الله المعروف بابن التلميذ، الطبيب النصراني اللقب أمين الدولة البغدادي، كان من كبار علماء عصره في الطب والأدب، وله شعر وترسل جيد، توفي سنة (560 هـ) عن مئة سنة، وكان بينه وبين علي بن أفلح مكاتبات، وكان يعالجه إذا مرض، انظر ترجمته في "طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة: 349 - 371، و"وفيات الأعيان": 6/ 69 - 77. (¬2) الحائم: العطشان. والشروع: الورود إلى الماء. انظم "معجم من اللغة": 2/ 207 و 3/ 305.

علي بن المسلم، أبو الحسن، الدمشقي السلمي

وأَخْلَفَ ظنِّيَ صَبْرٌ مُعِينٌ ... وشاهِدُ شكوايَ دمعٌ مَعِينُ (¬1) فللهِ أيامُنا الخاليا ... تُ لو رَدَّ سالفَ دَهْرٍ حنينُ وإنِّي لأَرعى عهودَ الصَّفاءِ ... ويكلؤها لك سِرٌّ مَصُونُ ولم لا ونحنُ كمِثْلِ اليَدَينِ ... وأنتَ بفَضْلك منها اليمينُ إذا قلتُ أَسْلُوكَ قال الغرا ... مُ هيهات ذلك ما لا يكونُ وهل في سُلُوٍّ له مَطْمَعٌ ... وصَبْرِي خَؤُون وودِّي أمينُ علي بن المُسَلَّم، أبو الحسن، الدِّمَشْقي السُّلَمي (¬2) [ذكره الحافظ ابنُ عساكر، وقال] (¬3): كان عالمًا بمذهب الشافعي، والفرائض (¬4). ومولده سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة، وتفقَّه على أبي المُظَفَّر المَروَزي، وجالس أبا حامد الغَزالي، ودرَّس بحلقته بجامع دمشق، وتُعْرَف بحَلْقة جمال الإسلام مقابل باب البرادة، واشتهرَ ذِكْرُه، فكانت تأتيه الفتاوى من العراق، وصنَّفَ المُصَنَّفات في الفِقْه، والتفسير، والفرائض، وغيرها. وتوفي في ذي القَعدة في السَّجْدة الأخيرة من صلاة الصُّبْح، وكان قد صَلَّى وِرْدَه في تلك الليلة. [سمع نَصرًا المقدسي، وأبا الحسن بن أبي الحديد، وأبا العَبَّاس بن قُبَيْس وغيرهم، وروى عنه الحافظُ ابنُ عساكر، وغيره] (3)، وأجمعوا على فَضْله وثقته. محمد بن حمزة بن إسماعيل (¬5) ابن الحسن بن علي بن الحسين، أبو المناقب، الحسيني الهمَذَاني. ¬

_ (¬1) معين: أي جار. "اللسان" (معن). (¬2) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق": 424، و"تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 12/ 545 - 546، و"تبيين كذب المفتري": 326 - 327، و"الوافي بالوفيات": 22/ 195، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 235 - 237، و "سير أعلام النبلاء": 20/ 31 - 34، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) "تاريخ ابن عساكر": 12/ 545. (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 84، و"الوافي بالوفيات": 3/ 25.

محمد بن عبد المتكبر

رحل إلى البلاد، وكَتَبَ الحديث الكثير، وكان يروي عن جَدِّه علي بن الحسين أشعارًا، منها: [من الطويل] وما لك مِنْ دُنْياكَ إلا بُلَيغَةٌ ... تُزَجِّي بها يومًا وتقضي بها ليلا وما دونها ممَّا جَمَعتَ فإنَّه ... لزيدٍ وعمرٍ وأو لأُخْتهما ليلى محمد بن عبد المتكبِّر (¬1) ابن الحسن بن عبد الودود بن عبد المتكبر بن هارون بن محمد بن عبد الله بن المهتدي بالله، أبو جَعفر، الهاشمي، الخطيب. قاضي باب البَصرة ببغداد، سمع ابنَ البُرِّي وغيره، وكان صالحًا، ثِقَةً. محمود بن بُوري (¬2) ابن [أتابك] (3) طُغْتِكِين، [ولقبه] (¬3) شهاب الدِّين، صاحب دمشق. قد ذكرنا ولايته (¬4)، وما جرى له، وساءَتْ سيرته، فاستوحشَ منه جماعةٌ من أمرائه، واتَّفقوا على قَتْله، فدسُّوا عليه يوسف الخادم والبقش (¬5) الأرمني. وكانا ينامان حول سريره، وهما أَمردان، وساعدهما عنبر الفرَّاش [ويعرف] (3) بالخَركاوي، وكان ينام عنده أيضًا. فلما كان ليلة الجمعة ثالث عشرين شَوَّال ذبحوه في فراشه، وخرجوا هاربين. فأُخذ عنبر والخادم فَصُلبا، وهرَبَ البقش الأرمني. ونُهِبَتْ دمشق، وكَتَبَ الأُمراء إلى أخي محمود محمد بن بوري، وهو ببَعلَبَكّ، وكان صبيًّا لم يبلغ (¬6)، فجاء ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 4/ 25. (¬2) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": (خ) (س): 16/ 286، و"الكامل": 11/ 68، و "وفيات الأعيان": 1/ 296، و "سير أعلام النبلاء": 20/ 50، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) انظر ص 271 من هذا الجزء. (¬5) في مطبوع، "ذيل تاريخ دمشق"، و"وفيات الأعيات": البغس- بالغين. (¬6) كذا قال، ولا يصح، إذ ولي محمد بعد أخيه، وتوفي سنة (534 هـ)، ثم ولي بعد محمد ابنه أبق كما سيأتي في حوادث سنة (534 هـ)، وذكر الذهبي في "السير": 20/ 51 أن أبق كان مراهقًا حين ولي.

أبو بكر بن الصائغ الأندلسي

مسرعًا، ودَخَلَ قلعة دمشق، فملَّكوه، ولقَّبوه جمال الدِّين، وتولى معين الدِّين أُنَر تدبير الجيوش. [وقد ذكر القِصَّة أبو يعلى بن القلانسي، فقال: وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من شوَّال هذه السنة ظهرت هذه الحادثة المُدَبَّرة على الأمير شهاب الدِّين محمود بن تاج الملوك بُوري بن أتابك طُغْتِكِين، قتل في فراشه بيد غِلْمانه، وذكر بمعنى ما ذكرنا، ووصول أخيه محمد بن بوري إلى دمشق وجلوسه، قال: ] (¬1) وانتهى الخبر إلى الخاتون صفوة المُلْك؛ والدة الأمير محمود المقتول، فراسلت عمادَ الدين زَنْكي، وهو بالمَوْصِل تعلمه صورةَ الحال، وتحثُّه على النُهوض لطلب الثَّأر -وكانت بحِمْص- فجاء أتابك إلى الشَّام، ونزل على بَعلَبَك يوم الخميس العشرين من ذي الحِجَّة في عسكرٍ كثيف، فنصَبَ عليها أربعةَ عشرة منجنيقًا ترمي ليلًا ونهارًا، فكتبوا إلى دمشق، فلم تأتهم نجدة، فأرسلوا إلى زَنْكي، وسألوه الأمان، فأمَّنهم، وحَلَفَ لهم، فسلَّموها إليه، فدخلها، وغَدَرَ بهم، وكان حَنِقًا على مَنْ قاتله، فأمر بقَتْلهم وصَلْبهم، فاستقبح النَّاسُ ذلك منه، ومقتوه (¬2). أبو بكر بن الصَّائغ الأندلسي (¬3) ويعرف بابن باجَّه (¬4)، العالم الفاضل، له تصانيف في الرِّياضيات والمنطق والهندسة، [وذكره (¬5) ابنُ بشرون المهدوي في كتابه الموسوم "بالمختار من النَّظْم والنَّثْر لأفاضل أَهْل العَصر"، ووصفه بالتفرُّدِ بالعلوم التي ذكرناها، وأنه] وزَرَ ليحيى بن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 421 - 423. (¬3) له ترجمة في "قلائد العقيان": 300 - 306، و"الخريدة" قسم شعراء المغرب والأندلس: 2/ 332 - 334، و"أخبار الحكماء" للقفطي: 265، و"طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة: 515 - 517، و "المغرب في حلى المغرب": 2/ 119، و "وفيات الأعيان": 4/ 429 - 431، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 93 - 94، و"الوافي بالوفيات": 2/ 240 - 242، و"نفح الطيب": 7/ 17 - 25 و 27، و"شذرات الذهب": 4/ 103. (¬4) هكذا ضبطها ابنُ خلكان. (¬5) في (ع) و (ح): قال ابن بشرون المهدوي: وزر ليحيى بن يوسف، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الرابعة والثلاثون وخمس مئة

يوسف بن تاشفين (¬1) عشرين سنة، وكانت سيرتُه حسنةً؛ صلحت به الأحوال ونجحت الآمال، حَسَدَه أطباءُ البلد وكادوه، ونالوا بقَتْله مسمومًا ما أرادوه. [وذكر وفاته في هذه السنة، وأَنَّه] (¬2) قال عند الموت: [من الخفيف] آه مِنْ حادثاتِ صَرفِ اللَّيالي ... فَلِحالي انْظُر أَعِظْكَ بحالي أمسِ أبكيتُ حاسدي شَرَقًا بي ... وهو اليوم رحمةً قد بكى لي وقال أيضًا: [من الطويل] هُمُ رحلوا يومَ الخميسِ عشيَّةً ... فودَّعتُهم لما استقلُّوا وَوَدَّعُوا ولمَّا تولَّوْا وَلَّتِ النَّفْسُ (¬3) مَعهُمُ ... فقلتُ ارجعي قالتْ إلى أين أَرجِعُ إلى جَسَدٍ ما فيه لحمٌ ولا دَمٌ ... ولاهو إلا أَعظُم تَتَقَعقعُ وعَينَينِ قد أعماهما كَثْرَةُ البُكا ... وأُذنٍ عَصَتْ عُذَّالها ليس تَسْمَعُ (¬4) السَّنة الرابعة والثلاثون وخمس مئة فيها ولد لمسعود ولدٌ ذكر من بنت قاروت بك، فغلقت بغداد سبعة أيام، وفشت المنكرات، فجاء ابنُ الكوَّاز الزَّاهد إلى [باب] (¬5) بنت قاروت بك، وقال: إنْ أزلتم هذه المنكرات، وإلا لزمنا المساجد والجوامع، وشكوناكم إلى الله تعالى. فحطُّوا التَّعاليق، ومات الولد. وفيها دخلت خاتون بنت محمد زوجة المقتفي بغداد في تجمُّلٍ عظيم، وكانت قد وصَلَتْ مع أخيها مسعود، وأقامت عنده بدار المملكة، ثم زُفَّت إلى الخليفة وبين يديها ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الخطية، وهو الموافق لما في "الخريدة"، وعنه ينقل المصنف، وفي "المغرب": أن الذي استوزره هو أبو بكر بن تيفلويت صاحب سرقسطة، وذكر محققه الدكتور شوقي ضيف في حاشيته أن ابن ذاكور قال في شرحه لقلائد العقيان: إنه وزر لعلي بن يوسف بن تاشفين، ونقل القري في "نفح الطيب": 7/ 28 - 30. عن ركن الدين بيبرس أنه وزر لأبي بكر صاحب سرقسطة، ووزر أيضًا ليحيى بن يوسف بن تاشفين، والله أعلم. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (م) و (ش): الروح. (¬4) انظر "الخريدة" قسم شعراء الغرب والأندلس: 2/ 332 - 333. (¬5) ما بين حاصرتين من (خ) و (م) و (ش).

زوجةُ السُّلْطان مسعود بنت دُبَيْس، وبنت قاروت بك، والوزير شرف الدِّين يحجبها، والمَهْدُ بين يديها، ومراكبُ الخليفة، وكان ذلك في جمادى الأُولى. وفي رجب تزوَّج مسعود ببنت المقتفي، وحَضَرَ الوزراء والقضاة والشُّهود والأشراف، وتمكَّن ابنُ طِراد الوزير من الدَّوْلتين، ثم جَرَتْ بينه وبين الخليفة وَحْشةٌ، فالتجأَ إلى دار المملكة، واستناب الخليفةُ في الدِّيوان ابنَ الأنباري، وقيل: إنَّ الخليفة استوزر نظام الدِّين ابن جَهِير. وفيها توفي رجلٌ صالح من أهل باب الأَزَج، واجتمع النَّاس، ونُودي للصَّلاة عليه، فوضعوه على سريره ليغسلوه، فَعَطَس، وقام قائمًا [فعجب الناس] (¬1)، وحَضَرَتْ جِنازةٌ أُخرى، فصلَّى ذلك الجَمعُ عليها. وفيها عاد أتابك زنْكي من بَعلَبَك بعد أن أفنى من قاتله بها، ونفرتِ القلوبُ منه، ونزل على داريا، وخَرَجَ إليه بعضُ عسكر دمشق وأحداثها، فقاتلوه، فظفر بهم، وأطلق فيهم السيف قَتْلًا وأَسْرًا، وراسَلَ جمال الدِّين محمد صاحبَ دمشق، وأَنْ يعطيه حِمص وبعْلَبَك وما يختار، فمال إلى الصُّلْح طلبًا لحقن الدِّماء، فما وافقه أُمراؤه، وابتدأ به مَرَض طال، وتوفي في شعبان، وكان نزولُ أتابك عليها في ربيع الأَوَّل، واتفق موتُ محمد في الوقت الذي أُصيب فيه أخوه محمود، وفي تلك الساعة، ودُفن في تُربة جَدَّته بباب الفراديس. وأقاموا ولده عضب الدولة أبو سعيد أبق بن محمد مكانه، وأُخذت له الأَيمان على الطَّاعة، وعَرَفَ زَنْكي ذلك، فزحف بعسكره إلى البلد طامعًا فيه، وظَنَّ أَنَّ الخُلْفَ يجري بين المقدَّمين، فجاء الأَمر بالعكس، وثَبَتَ له العسكر وأحداثُ دمشق، وقاتلوه قتالًا شديدًا، وقالوا: هذا كذَّاب غدَّار، سفَّاك للدِّماء، وقد رأيتم ما فعل بأهلِ بَعلَبَك. وقام بقتاله معين الدِّين أُنَر، فَضَعُفَتْ نفسُ أتابك، ورَجَعَ إلى داريا، وكان أُنَر قد بذل للفرنج مالًا ليدفعوا زنكي عنهم، وحمل إليهم المال، والرَّهائن من أقارب المقدَّمين، فاجتمعوا من الحصون والبلاد ليصدُّوه عن دمشق، فلمَّا تحقَّق ذلك رَحَلَ عن دمشق في رمضان طالبًا حوران، على نية لقاء الفرنج إن جاؤوا، ثُمَّ عاد في شوَّال إلى غوطة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن جعفر

دمشق، ونزل بمرج عَذْراء، فأحرق عِدَّة ضياعٍ من المرج والغوطة، منها حَرَسْتا، وبلغه نزول الفرنج بالميدان في جموعهم، فرحل إلى بَعْلَبَك. وخرج أُنَر في العسكر، وحاصر بانياس، وفتحها في آخر هذه السنة، وسَلَّمها إلى الفرنج، وكان ذلك في صُلْح الفرنج، وأنهم يسلمونها إليهم. وبَعَثَ زنكي من بَعْلَبَك يستدعي التركمان من أماكنهم، وخرجت السنة على هذا، ولما عاد أُنَر إلى دمشق ما رأى في يوم السبت سابع ذي القَعدة إلا وزَنْكي قد صَبَّحهم جريدة على غِرَّةٍ، وقَرُبَ من السُّور، وعَلِمَ النَّاس، فركبوا الأسوار، وفتحوا الأبواب، وخرجوا إليه، فَرَدُّوه، فنزل تل راهط، وساق من الخيل والغنم والجمال والدَّوابّ ما لا يحصيه إلا الله تعالى، ورحل نحو الشمال. وحَجَّ بالنَّاس نَظَر. وفيها توفي أحمد بن جعفر (¬1) ابن الفرج، أبو العَبَّاس، الحربي. كان من الأَبدال، لم يتكلَّم فيما لا يعنيه، حسن السمت، كثير العبادة، رآه بعضُ أصحابه بعرفات وهو بالحَربية لم يحجَّ في تلك السَّنة. ودخل عليه بعضُ أصحابه قبل موته بيوم، فقال له: إذا كان غدًا واتَّفق ما يكون -يعني موته- فاخْرُجْ من الحَربية، فإنَّك ترى شيخًا قائمًا عند العقد، فقل له: ماتَ أحمد بن جعفر. فلما مات خَرَجَ الرجل، فإذا بالشيخ قائم، فقال له الشيخ: مات أحمد. قال: نعم. قال: ومشيت خلفه، فغاب عني. ودُفِنَ بباب حَرب. [سمع أبا عبد الله الحسين بن أحمد النِّعالي وغيره] (¬2). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 86، و"الوافي بالوفيات": 6/ 291. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن منصور بن المؤمل

أحمد بن منصور بن المُؤَمَّل (¬1) أبو المعالي، الغَزَّال، مشرف المارَسْتان العَضُدي. جاء رجلٌ ليلة الجمعة ثامن عشرين ربيع الآخر (¬2)، فقال له: رأيتُ البارحة في المنام كأنَّك قد متَّ. وأشار إلى مكان إلى جانب المارَسْتان، فقال لأصحابه: ترحموا على، ثم مضى إلى جامع المنصور، فصلى الجمعة، ثم عاد، فلما وصل إلى ذلك المكان الذي عَيَّنه الرجل وقع، فمات فجأة، ودُفِنَ بباب حرب. [سمع أبا الحسين بن النَّقور وغيره، وكان ثقة] (¬3). جوهر خادم السُّلْطان سنجر (¬4) كان حبشيًّا، [ويلقب بالمقرَّب، وكان] (3) حاكمًا على الدَّوْلة، جاء باطني في صورة امرأةٍ، فاستغاث به، فوقف، فرمى الإزار، ووَثَبَ عليه فقتله، وقُتِلَ، وعَزَّ على [السُّلْطان] (3) سنجر. [فصل، وفيها توفيت: فاطمة بنت عبد الله الخَبِري الفَرَضي (¬5) ولدت في جُمادى الأولى من سنة إحدى وخمسين وأربع مئة، وتوفيت ليلة الاثنين خامس رجب، ودفنت بباب أبرز، وكانت صالحة زاهدة، سمعت الحديث من أبي جعفر بن المُسْلمة، وابن النَّقور وغيرهم. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 87، وأشار الذهبي إلى وفاته في "سير أعلام النبلاء": 20/ 65. (¬2) في (م) و (ش): الأول. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 87، و"الكامل": 11/ 76 - 77، و"النجوم الزاهرة": 5/ 266. (¬5) لها ترجمة في "الأنساب": 5/ 39 - 40، و"المنتظم": 10/ 88، و"مشيخة ابن الجوزي": 206 - 208، و"اللباب": 1/ 418 - 419، وأشار الذهبي إلى وفاتها في "السير": 20/ 65 والخبري، بفتح الخاء المعجمة، وسكون الباء الموحدة في آخرها الراء، هذه النسبة إلى خَبر، وهي قرية بنواحي شيراز من فارس.

محمد بن بوري صاحب دمشق

وذكرها جدِّي في "مشيخته"، فقال: فاطمة بنت عبد الله بن إبراهيم بن حكيم الخَبْرِي خالة أبي الفَضْل بن ناصر، وأثنى عليها، رحمها الله تعالى (¬1). وفيها توفي: محمد بن بُوري صاحب دمشق (¬2) وكنيته أبو المُظَفَّر، ولقبه جمال الدين، كان حسن السيرة (¬3)، وكانت ولايته لدمشق سنة، وقد ذكرناه (¬4). فصل: وفيها توفي: المهدي بن محمد، أبو البركات الواعظ (¬5) نشأ ببغداد، وكان حسن العبارة، وسمع الشيوخ، وسافر إلى الشرق إلى جَنْزَة، فَخُسِفَ بها، وهلك من المسلمين خَلْقٌ كثير، وكان مِمَّن هلك. سمع ابن البَطِر، وأبا الخَطَّاب الكَلْواذاني (¬6) وغيره، وكان صالحًا، ثقة] (¬7). يحيى بن علي بن عبد العزيز (¬8) أبو الفَضْل، قاضي دمشق. ¬

_ (¬1) انظر "مشيخة ابن الجوزي": 206، 208. (¬2) له ترجمة في "الكامل": 11/ 68، 73، و"وفيات الأعيان": 1/ 296، و"الوافي بالوفيات": 2/ 273، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 51 وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) كذا قال، وقال الذهبي والصفدي: إنه كان سيئ السيرة. (¬4) انظر ص 319، 322. (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 88، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 52. (¬6) ابن البطر يكنى أبا الخطاب، وقد سلفت ترجمته في وفيات سنة (494 هـ)، ولم يذكر من ترجم لمهدي بن محمد سماعه من أبي الخطاب الكلواذاني، فلعله وهم لتماثل الكنية بين الاثنين، والله أعلم، انظر "المنتظم": 10/ 88. (¬7) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬8) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 18/ 169، و"الكامل": 11/ 77، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 334 - 335، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 63 - 64، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

السنة الخامسة والثلاثون وخمس مئة

وهو جَدُّ الحافظ ابن عساكر لأمه، ولد سنة أربعٍ وأربعين وأربع مئة، وتفقَّه ببغداد على أبي بكر الشَّاشي، وبدمشق على القاضي المَرْوَزي، وحَجَّ على العراق سنة خمس عشرة وخمس مئة، ورأى الخطيبَ ولم يسمع منه، [وسمع من نَصر المقدسي وطبقته، وروى عنه سِبْطُه الحافظ ابن عساكر] (¬1). وتوفي بدمشق، ودفن بمشهد القدم، [وكان ثقةً، حافظًا، كثير العلم والحديث] (1). السَّنة الخامسة والثلاثون وخمس مئة فيها نَقَلَ المقتفي المُظَفَّر بن محمد بن جَهِير من الأستاذ دارية إلى الوزَارة. وفيها قدم [بغداد] (1) رجلٌ من السَّواد، فسكن قريةً على باب بغداد، وأظهر الزُّهْد، فقصده الناس [من كل جانب] (1)، واتَّفق أَنَّه مات لبعض [أهل] (1) السَّواد ولدٌ، فدفنه قريبًا من قبر السبتي (¬2)، فمضى ذلك المتزهِّد، فَنبَشه، ودفنه في موضعٍ آخر، ثم أصبح، فجاءَ إليه زوَّارُه. فقال: رأيتُ البارحة عليَّ بنَ أبي طالب، فقال لي: إن بعض أولادي في المكان الفلاني. فانقلبت بغداد، وجاء النَّاس يُهْرعون إليه، وسألوه أن يُريهِم المكان، فجاء إلى الموضع الذي دَفَنَ فيه الصَّبيَّ، فحفر، فظهر الصَّبيُّ، [وكان أمرد] (1)، فمن وَصَلَ إلى قطعةٍ من أكفانه فكأنه قد ملك الدُّنيا، وجاؤوا بالبخور والشموع والماء الورد، وأخذوا تراب القبر للتَّبرك، وجعل النَّاس يقبِّلُون يد الزَّاهد، ويبكون ويخشعون، وبقوا أيامًا على هذا، والميت مكشوف يراه كلُّ أحد، فتغترت رائحتُه، وجاء حُذَّاق بغداد، فقالوا: هذا له منذ أربع مئة سنة، وكيف تتغير رائحته! وجاء السَّوادي يزور الزَّاهد، وبتبرَّك بالقَبْر، فاطَّلع فيه، فعرفه، فصاح وقال: ولدي والله، وكنت دَفَنْتُه عند السبَتي، فقوموا معي. فقاموا، وجاؤوا إلى المكان، فنبشوه فلم يروا فيه أحدًا، وهرَبَ الزَّاهد، وتبعوه، فأخذوه وقرَّروه، فاعترف، وقال: إنما عملتُ ذلك حيلةً. فشهَّروه على جَمَلٍ، وعزَّرُوه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) كذا، ولعلها السِّيبي.

إسماعيل بن محمد بن الفضل

وفيها فُتِحَتْ المدرسةُ التي بناها ابنُ طلحة صاحب المخزن ببغداد، وحَضَرَ قاضي القُضَاة الزَّينبي وأربابُ الدولة والفقهاء، ودَرَّسَ بها أبو الحسن بن الخَلّ. ووصل رسولٌ من عند سنجر، ومعه البُردة والقضيب وكانتا مع المسترشد، فدفعهما إلى المقتفي. قال ابنُ القلانسي: وفيها ملكت الإسماعيلية حِصن مصياث بحيلةٍ دُبِّرت لهم [فيه، يعني أنَّه ما أُخذ بقتال] (¬1). وحج بالنَّاس نظر الخادم. فصل: وفيها توفي إسماعيل بن محمد بن الفضل (¬2) أبو القاسم، الطَّلْحي، الأَصبهاني. ولد سنة تسعٍ وخمسين وأربع مئة (¬3). وسافر إلى البلاد [وسمع الكثير، وأملى بجامع أصبهان قريبًا من ثلاثة آلاف مجلس] (¬4)، وهو إمامٌ في الحديث والتفسير واللُّغة، حافِظ مُتْقن، وكانت وفاته ليلة عيد الأضحى بأَصبهان. [وحكى ابنُ ناصر أَنَّ غاسله لما أراد أن ينحي] (¬5) الخِرْقة عن سوأته وقت الغُسْل جَذَبها إسماعيل من يده، وغطَّى بها فَرجه، فقال الغاسل: أحياة بعد الموت؟ ! ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 428. (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 3/ 368 - 369، و"المنتظم": 10/ 90، و"اللباب": 1/ 309 - 310، و"طبقات علماء الحديث": 4/ 50 - 55، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 80 - 88، وفيهما تتمة مصادر ترجمته. (¬3) وكذلك هو في "المنتظم"، وتابعهما ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 267، وفي باقي المصادر: سنة سبع وخمسين وأربع مئة. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ع) و (ح): ولما أراد غاسله أن ينحي الخرقة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

إسماعيل بن فضائل [بن سعيد] أبو محمد، البدليسي

إسماعيل بن فضائل [بن سعيد] (¬1) أبو محمد، البَدْليسي (¬2) [وبَدْليس: بلدة قريبة من خِلاط، ذكره الحافظ ابن عساكر (¬3)، وقال] (1): أقام إمامًا بجامع دمشق نيِّفًا وثلاثين سنة [يؤمُّ النَّاس ويتلو القرآن، فظهر عليه شيء من اعتقاده من ميله] (¬4) إلى التشبيه، فعزل [عن الإمامة] (1) في رمضان سنة ثمان وعشرين [وخمس مئة] (1)، ونُصِبَ مكانه أبو محمد بن طاوس، وجرى في ذلك [مرافعات و] (1) تعصُّبات، فاستقرَّ الأمر أن لا يبقى في الجامع مَنْ يصلِّي إمامًا غير إمام الشَّافعية والحنفية [لا غير] (1)، وبَطَلَتْ إمامةُ المالكية والحنابلة. [فصل، وفيها توفي: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد (¬5) أبو منصور القَزَّاز، ويُعرف بابن زُرَيْق. كان من أولاد المحدِّثين، وسمع الكثير، وكان صالحًا خَيِّرًا، كثيرَ السكوت، صَبُورًا على العُزْلة عن النَّاس، وكانت وفاته في شوال، ودفن بباب حَرب. سمع ابن المهتدي وأبا الغنائم، وابنَ الدَّجاجي، والخطيب، وأبا جعفر ابن المُسْلمة، وخَلْقًا كثيرًا، وهو شيخُ جَدِّي أبي الفرج، وشيخ شيخنا تاج الدين الكِنْدي، ومن رواياته تاريخ الخطيب، عن الخطيب، ورواه عنه، جدي والكندي، وقد ذكرناه، وذكره جدِّي [في "مشيخته"] (¬6)، وأثنى عليه] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 429. (¬3) ترجمته في القسم المخروم من نسخة "تاريخ ابن عساكر" التي بين يدي. (¬4) في (ع) و (ح): وثلاثين سنة، وظهر عليه يميل إلى التشبيه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) له ترجمة في "الأنساب": 6/ 274، 10/ 132، و"المنتظم": 10/ 90، و"مشيخة ابن الجوزي": 123 - 125، و"اللباب": 2/ 67، 3/ 33، و"توضيح المشتبه": 4/ 182 و 8/ 23 - 24، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 69 - 70، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬6) ما بين حاصرتين من (ش)، وانظر "المشيخة": 123 - 125.

محمد بن عبد الباقي، أبو بكر الأنصاري

محمد بن عبد الباقي، أبو بكر الأنصاري (¬1) من ولد كعب بن مالك، أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا (¬2) [ويعرف بقاضي المارَسْتان، ويعرف أبو بكر أيضًا بابن أبي طاهر. ولد بالنَّصرية غربيِّ بغداد، ونشأ بها، وقال جَدِّي: كُنَّا إذا سألناه عن مولده يقول: أَقْبلوا على شأنكم. ثم أسند هذا اللفظ إلى مالك بن أنس (¬3) أنه كان يقول ذلك. وفي روايةٍ: لا ينبغي لأحدٍ أَنْ يُخْبِرَ بمولده، لأَنَّه إنْ كان صغيرًا استحقروه، وإنْ كان كبيرًا استهرموه] (¬4). وكان [الأنصاري] (¬5) ينشد: [من الكامل] احفَظْ لسانَكَ لا تَبُح بثلاثةٍ ... سنٍّ ومالٍ ما استطعتَ ومَذهبِ فعلى الثلاثةِ تُبْتَلى بثلاثةٍ ... بمُمَوِّهٍ ومُكَفِّرٍ ومُكَذِّبِ وقال: مولدي يوم الثّلاثاء عاشر صَفَر سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة. [قال] (5): وحضر منجِّمان عند ولادتي، فأجمعا على أني أعيش اثنتين وخمسين سنة، وها أنا قد جاوزت التِّسْعين. وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، [وأول سماعه الحديث من البَرمكي في سنة خمس وأربعين وأربع مئة حضورًا] (5) وتفقَّه على [القاضي أبي يعلى] (5) ابن الفَرَّاء الحَنْبلي، [وشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله الدّامغاني] (5)، وعَمِرَ حتى ألحق ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 12/ 94، و"تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 15/ 582 - 584، و"المنتظم": 10/ 94 - 92، و"معجم البلدان": 5/ 288، و"اللباب": 3/ 311 - 312، و"الكامل": 11/ 80، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 23 - 28، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) في (ع) و (ح): أحد الثلاثة الذين خلفوا، كان: إذا سئل عن مولده .. وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (م) و (ش): أنس بن مالك، وهو قلب، صوابه مالك بن أنس كما في "المنتظم". (¬4) بعد هذه العبارة في (م) و (ش): وكان الشافعي إذا سئل عن مولده يقول للسائل: أقبل على شأنك. قلت: وهذه العبارة ليس موضعها هنا بعد أن اختصر إسناد هذه الحكاية، إذ إن الشافعي يرويها مسلسلة عن مالك بن أنس، انظر "المنتظم": 10/ 92. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الصِّغار بالكبار، وكان كريمَ الأخلاق، حَسَنَ المعاشرة. [قال جدي: وكنت أجلس بجامع المنصور، وأنا صبيٌّ، فيأتي فيقفُ مِنْ ورائي، فيسلِّمُ عليَّ وأنا على المِنْبر، وكان يُمْلي الحديثَ في جامع القَصر باستملاء أبي الفَضْل ابن ناصر. قال: وقرأتُ عليه الحديث، وكان] (¬1) حُجَّةً في علومٍ كثيرة، وانفرد بعِلْم الفرائض. وكان قد خرج في قافلةٍ، فأُسر، فَقُيِّد وغُلَّ وعُذِّبَ على أن يتنَصَّر، فلم يفعل، وتعلَّم عندهم الخَطَّ الرومي، وأقام في الأَسر سنةً ونصفًا، ثم أطْلق. وقال: ما أَعلم أَني ضيعتُ من عُمُري ساعةً قط (¬2). [قال جدِّي: وسمعته يقول] (¬3): كُنْ على حَذَرٍ من الكريم إذا أهنْتَه، ومن اللئيم إذا أكْرَمتَه، ومن العالم إذا أَحرَجْتَه، ومن الأَحمق إذا مازَحته، ومن الفاجر إذا عاشَرته، ومَنْ خَدَمَ المحابر خَدَمَتْه المنابر (2). وكانت وفاته يوم الأربعاء ثاني رجب عن ثلاثٍ وتسعين سنة، وصُلِّي عليه بجامع المنصور، وحضره قاضي القضاة الزَّينبي، وأربابُ الدولة، وحُمِل إلى [مقابر] (1) باب حرب، فدفن عند أبيه قريبًا من [قبر] (1) بِشْر الحافي، وماتَ وهو صحيح الحواسِّ لم يتغير عليه شيء، وكان يقرأ الخَطَّ الدقيق من بعيد، وأَوْصى أنْ يكتبَ على قبره {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67، 68] [سمع خلقًا كثيرًا، وكانت له إجازات] (1)، وأجمعوا على زهده وصِنقه، وفضله وعدالته. [قال: وأنشدني] (¬4): [من الكامل] لي مُدَّةٌ لا بُدَّ أَبْلُغُها ... فإذا انْقَضَتْ وتَصَرَمَتْ مِتُّ لو عاندتني الأُسْدُ ضاريةً ... ما ضَرَّ بي ما لم يجي الوقتُ (¬5) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) انظر "المنتظم": 10/ 93. (¬3) في (ع) و (ح)، وقال .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع) و (ح): وكان ينشد .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) انظر "المنتظم": 1/ 94.

يوسف بن أيوب بن يوسف

يوسف بن أيوب بن يوسف (¬1) أبو يعقوب (¬2)، الهمَذَاني. نزل مَرْو، وقَدِمَ بغداد [بعد الستين وأربع مئة] (¬3)، وتفقه على أبي إسحاق الشّيرازي وسمع المشايخ، وعاد إلى مرْو، وتشاغل بعلم المعاملات وتربية المريدين، ثم قدم بغداد سنة ستٍّ وخمس مئة، وَوَعَظَ بها، فقام إليه ابنُ السَّقَّاء، فآذاه، فقال له: اقعد، فكأَنِّي أَشُمُّ من فِيك رائحة الكُفْر. فاتَّفق أَنَّ ابنَ السَّقَّاء خَرَجَ إلى الرُّوم، فتنصَّر، [وقد ذكرناه] (3)، وكانت وفاتُه بقريةٍ من قرى هرآة، [ولما قدم بغداد سمع الخطيب، وابن المهتدي، وغيرهم] (3)، وكان صالحًا ثقة. قلت (¬4): كان صاحب هذه الترجمة عظيم الشَّأن، أحد أركانِ الإسلام، انتهت إليه تربيةُ المريدين بخُراسان، واجتمع عنده بخانقاته من العُلَماء والصُّلَحاء جماعةٌ، وانتفعوا بكلامه، وتخرَّجوا بصُحْبته، وكان المشايخ يعظِّمون قَدره، وله كلام حسنٌ على لسان أهل الحقيقة (¬5). وقال إبراهيم بن علي الجُوَيني (¬6): أخبرنا أبي، قال: سمعتُ أبي يقول: كان الهمَذَانيُّ يومًا يتكلَّم على النَّاس، فقال له فقيهان كانا في مجلسه: اسكت، فإنما أنتَ مُبْتدع، فقال لهما: اسكتا لا عشتما. فماتا مكانهما (¬7). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 2/ 330 - 331، و"المنتظم": 9/ 171، و 10/ 94 - 95، و"صفوة الصفوة": 4/ 79 - 80، و"اللباب": 1/ 168، و"الكامل": 11/ 80، و"وفيات الأعيان": 7/ 78 - 81، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 66 - 69، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) في (ع): أبو يوسف، وفي (م) و (ش): ابن يعقوب، والمثبت من (خ)، وهو الصواب. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) هذا القول حتى نهايته في (ع) و (ح) فحسب، ولم يرد في (م) و (منش)، وقائله هو مختصر "مرآة الزمان" قطب الدين اليونيني. (¬5) ساق الشعراني بعض أقواله في "طبقاته": 1/ 117، ويبدو أن المصدر الذي ينقل عنه الشعراني هو المصدر نفسه الذي أخذ منه اليونيني، والله أعلم. (¬6) في "طبقات الشعراني": 1/ 117: إبراهيم بن الحوفي، ولم أقف على ترجمته ولا ترجمة أبيه. (¬7) أليست هذه القصة هي تحريف مغالٍ لتلك القصة التي أوردها سبط ابن الجوزي في حوادث سنة (506 هـ) ناقلًا لها عن جده في "المنتظم": 9/ 171، وهي أن ابني أبي بكر الشاشي قال له: إن كنت تتكلم على مذهب الأشعري، وإلا فلا تتكلم. فقال: اجلسا لا متعكما الله بشبابكما. فماتا ولم يبلغا الشيخوخة. وقد أوردها =

السنة السادسة والثلاثون وخمس مئة

وبالإسناد: أَنَّ الفرنج أسروا ولدًا لامرأةٍ من أهل همَذَان، فجاءت إلى الشيخ يوسف باكيةً، فصبَّرها، فلم تَصبِرْ، فقال: اللهم فُكَّ أسره، وعَجِّلْ فَرَجَه. ثم قال لها: اذهبي إلى دارك تجديه بها. فذهبت، فإذا ولدُها في الدَّارِ، فعجبت، وسألته، فقال: إني كنت الآن بالقُسْطَنْطينية العُظْمى، والقيود في رِجْلَي، والحُرَّاس عليَّ، فأتاني شخصٌ ما رأيته قبل، واحتملني وأتى بي إلى هنا كلَمْح البَصَر. فجاءت إلى الشيخ، فقال لها: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73] رحمة الله عليه. السَّنة السَّادسة والثلاثون وخمس مئَة فيها في المحرَّم كانت وقعةٌ عظيمة بين سنجر وكافر تُرك؛ [أخذ الله للمسترشد بالثار، وأحَلَّ به الهلاك والبوار، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] (¬1) وسبَبُها أَنَّه كان بما وراء النَّهْر الغُزُّ؛ وهم طائفة من التُّرك بنواحي سَمَرْقَنْد في مروجها ومراعيها، ولهم أموالٌ كثيرة ومواشٍ، وأهل تلك النَّاحية ينتفعون بهم وهم يَعِفُّون عن مالِ غيرهم، ولا يطلقون دوابَّهم في زَزعِ النَّاس، ولا يُؤْذون أحدًا. وبلغ سنجر خبرهم، فجهَّز إليهم العساكر، فأوقعوا بهم، ونهبوا أموالهم، وسَبَوْا نساءهم، وهتكوا البناتِ، وقتلوا منهم طائفةً، وانحازوا إلى ناحية أروجند (¬2)، وبعثوا مشايخهم إلى سنجر، وقالوا: نحن قومٌ أهلُ صحارى وبراري وخراب، لا نؤذي أحدًا، ولا نخيف السَّبيل، فكُفَّ عنا ونحن نجعل لك في كل سنة خمسة آلاف فرس، وثلاثين ألف رأس من الغنم، وكذا وكذا من المال. فلم يلتفت إليهم، وأطمعه أمراؤه فيهم، فعاد مشايخهم وأخبروهم، فقصدوا خاقان ملك الخطا مستصرخين به، وأطمعوه في بلاد الإسلام، فجمع، وسار معهم في سبع مئة ألف مقاتل، وكان سنجر قد قتل أخا خوارزم شاه، وبين خوارزم شاه وخاقان هُدنةٌ ومصاهرة، فانضمَّ إلى خاقان ¬

_ = كذلك السمعاني فيما نقله عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء": 20/ 68. وقد أورد هذه القصة بلفظها هذا مع خبر المرأة الآتي الشعراني في "طبقاته": 1/ 117، وعنه النبهاني في "جامع كرامات الأولياء": 2/ 289. (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) أورصد، وفي (ح) أروجند، ولم أقف عليها.

في خمسين ألفًا، وبلغ سنجر، فجمع، وقطع النهر في مئة ألف مقاتل، والتقى الفريقان في صحراء سَمرقَنْد، وكان يومًا عظيمًا لم يُرَ مِثْلُه في جاهلية ولا إسلام، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وانكشف سنجر وقد قُتِلَ عامَّةُ أصحابه، وانهزم في ستة أنفس، وأسرت زوجته وأولاده، وجواريه وابنته، وهُتك حريمه، وقُتِلَ عامَّةُ أمرائه، وقتل معه اثنا عشرة ألف عِمامة كلُّهم رؤساء وفقهاء؛ فيهم الحسام بن مازة (¬1)، وأُسر أبو الفَضْل الكَرْماني؛ صاحب "الجامع الكبير". وعبر خوارزم شاه واسمه أنزاك (¬2) بَلْخ، ونَزَلَ فيها مراغمةً لسنجر، فَنَهبَ وقتل وسبى خَلْقًا لا يحصون، ومضى سنجر إلى تِرمِذ، فلما دخلها افتقد أهله، فلم ير أحدًا، فسأل عن الأُمراء، فقيل: قُتِلوا، وأُخذ من خزائنه، وأمواله وذخائره وخيله، ولم يُفْلت إلا في ستة أَنْفُس، وأقام أيامًا لم يجد ما يأكل. وكانت هذه الوقعة سببَ بواره. ووصل الخبر إلى بغداد، فانكسرت هِمَّة مسعود، وذَلَّ. وعاد صاحب خوارزم إليها، ونزل خاقان في مروج سمرقَنْد، وجَمَعَ إليه الغُزَّ، واقتسموا الأموال والغنائم، وأُحصي مَنْ قُتِلَ من أصحاب سنجر، فكانوا سبعين ألفًا، وأخذوا من النِّساء عشرة آلاف امرأة، وقتل أربعة آلاف. وكان المقتفي قد غَضِبَ على وزيره ابنِ طِراد، وعَزَلَه، فدخل على مسعود، وسأله أن يشفع فيه إلى الخليفة، ويُعيده إلى داره، فقال مسعود لوزيره: خُذْه، واذهبْ به إلى الخليفة، وقُلْ له: إن سنجر ومسعودًا يسألان أمير المؤمنين فيه. فدخل وزيرُ مسعود على الخليفة، وقبَّلَ الأرضَ، وأدَّى الرِّسالة، وقال له: خُذْه، وإن كان قد بدا منه سيئة فأمير المؤمنين أهل العفو عنه، وما زالت العبيد تجني والموالي تعفو. فَشَرَعَ الخليفة يُعِدُّ سيئاته، والوزير يقول: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] فقال الخليفة: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] قد عفونا عنه بشفاعة السُّلْطانين. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): ابن مامه، وهو خطأ، وسيأتي اسمه على الصواب في ترجمته ص 335 من هذا الجزء. (¬2) كذا في (ع) و (ح)، ولم أتبينها.

أحمد بن محمد بن علي

وحجَّ بالناس نظر الخادم. [فصل: وفيها توفي أحمد بن محمد بن علي (¬1) ابن محمود، أبو سَعد، الصوفي، الزَّوْزَني. ولد في ذي الحِجَّة سنة تسع وأربعين وأربع مئة، وسمع الحديث الكثير، وتوفي يوم الخميس تاسع عشرة شعبان، ودفن يوم الجمعة عند رباط جده أبي الحسين الزَّوزني حذاء جامع المنصور. سمع القاضي أبا يعلى بن الفرَّاء، وغيره. وقد تكلم فيه أبو سَعد بن السَّمْعاني، فقال: كان يشرب. قال جدي: ولا أدري من أين كان له ذلك، ولا يلتفت إلى ابن السمعاني، فإن أبا الفَضْل بن ناصر قال: رأيته في المنام وعليه ثياب حسنة، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. فقلت: وأين أنت؟ فقال: مع أبي في الجنة] (¬2). فصل: وفيها توفي إسماعيل بن أحمد (¬3) ابن عمر بن أبي الأشْعث، أبو القاسم، السَّمَرقَنْدي. ولد بدمشق في رمضان سنة أربع وخمسين وأربع مئة [وسمع شيوخ دمشق، ثم قدم بغداد فسمع شيوخها، وكان دلالًا يبيع الكُتُب] (¬4)، وكان فيه يقظة، وله معرفةٌ بالحديث. وقال أبو العلاء الهمَذَاني: ما أَعدِلُ به أحدًا من شيوخ خراسان ولا العراق. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 6/ 322، و "المنتظم": 10/ 97 - 98، و "مشيخة ابن الجوزي": 99 - 100، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 57 - 58، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "المنتظم": 10/ 97 - 98، و"مشيخة ابن الجوزي": 100. (¬3) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 2/ 819، و"المنتظم" 10/ 98 - 99، و"الكامل": 11/ 90، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 28 - 31، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وقد سلفت ترجمة أخيه أبي محمد ص 162. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحسام [عمر بن] عبد العزيز بن مازة

وقال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وهو مريضٌ، وقد مدَّ رِجْله، فجعلتُ أُقبل أخمص قَدَمَيه وأُمرِّغ وجهي عليهما، فحكيت هذا المنام لأبي بكر بن الخاضبة، فقال: أَبْشِر يا أبا القاسم بطُول البقاء، وانتشار الرِّواية عنك لأحاديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ تقبيل قدميه اتِّباعٌ لأَثره، وأما مَرَضُه - صلى الله عليه وسلم -، فَوَهْنٌ يحدُثُ في الإسلام. فما أتى على هذا إلا قليل حتى استولى الفرنج على بيت المقدس. وكانت وفاته ليلة الثلاثاء سادس عشرين ذي القَعدة عن اثنتين وثمانين سنة وثلاثة أشهر، ودفن بباب حَرب [في مقام الشهداء] (¬1)، غربيّ بِشْر الحافي [وهذه المَقْبُرة يسميها أهل بغداد مقابر الشهداء، يزعمون أن فيها قبور قوم شهدوا مع عليٍّ عليه السَّلام قتل الخوارج بالنّهروان وارتُثُّوا (¬2) في الوقعة، فلما رجعوا أدركهم الموت في هذه المقبرة. قال الخطيب: كان حمزة بن محمد بن طاهر ينكر هذا ويقول: لا أصل له (¬3). سمع ابنُ السَّمَرقنْدي من ابن النّقور (¬4) وغيره] (1)، وكان يُنشد: [من الطويل] وأَعجَبُ ما في الأَمرِ أَنْ عِشْتُ بعدهُم ... على أنَّهم ما خَلَّفوا فيَّ مِنْ بَطْشِ الحسام [عمر بن] (¬5) عبد العزيز بن مازة (¬6) إمام الحنفية ببخارى، وصَدرُ الإسلام. كانت له الحُرمة العظيمة، والنعمة الجليلة، والمال الكثير، والتَّصانيف المشهورة، وكان الملوك يَصدُرون عن رأيه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ارتث فلان: حمل من المعركة جريحًا وبه رمق. "معجم متن اللغة": 2/ 546. (¬3) "تاريخ بغداد": 1/ 126 - 127، وانظر "المنتظم": 10/ 99، وحمزة بن محمد بن طاهر هو الدقاق، محدث، صدوق، توفي سنة (424 هـ)، وانظر ترجمته في "تاريخ بغداد": 8/ 184 - 185. (¬4) قال ابن عساكر في "تاريخه": 2/ 819: سمعته مرَّة يقول: أنا أبو هريرة في ابن النقور. يعني لكثرة ملازمته له وسماعه منه، فقلَّ جزء قرئ على ابن النقور إلا وقد سمعه منه مرارًا. (¬5) ما بين حاصرتين ليس في (ع) و (ح)، واستدركناه من مصادر ترجمته، وقد جاء اسمه على الصواب عند ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 268، وهو كثير النقل عن سبط ابن الجوزي في "المرآة". (¬6) له ترجمة في "الكامل": 11/ 86، و"الجواهر المضية": 2/ 649 - 650، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 97، و"تاج التراجم": 161 - 162، وفيهما تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن محمد بن أبي الوفاء

ولما عَزَمَ سنجر على لقاء الخطا أخرجه معه، وفي صحبته من الفقهاء والخطباء والوعَّاظ والمُطَّوِّعة ما يزيد على عشرة آلاف، فَقُتلوا عن آخرهم، وأسروا الحسام وأعيانَ الفقهاء، فلما فَرَغَ المصافُّ أحضرهم ملكُ الخطا، وقال: ما الذي دعاكم إلى قتالِ مَنْ لم يقاتلكم، والإضرار بمن لم يضرَّكم؟ فأنتم سببُ الفساد؛ لأنكم تحرِّضون على قتال من لا آذاكم. فضرب أعناقَ الجميع، رحمهم الله تعالى. محمد بن محمد بن أبي الوفاء (¬1) القاضي الأَصبهاني، ولي القضاءَ بعَسْكَر مُكْرَم (¬2)، ودرَّس بالنِّظامية، وكان حَسَنَ السِّيرة، فاضلًا، وقيل: تأَخَّرت وفاتُه إلى سنة سبع وثلاثين، ومن شِعره: [من المتقارب] إذا لاحَ مِنْ أَرضِكم بُرْقَةٌ ... شَمَمْتُ الوصال بإقبالها ولو حَمَلَتْني الصَّبا نحوكُم ... تعلَّقُ رُوحي بأَذْيالها هبة الله بن أحمد بن عبد الله (¬3) ابن علي بن طاوس، [أبو محمد، المقرئ، البغدادي. انتقل والده إلى دمشق، فأقام بها، فولد هبة الله في سنة اثنتين وستين وأربع مئة، وكان فاضلًا، قارئًا، حسن التلاوة، وختم القرآن عليه خلق كثير، وأملى الحديث و] (¬4) توفي في المحرَّم، ودفن بباب الفراديس، وحَضرَه خَلْقٌ عظيم. [هذا صورة ما ذكره جدي في "المنتظم" (¬5). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 1/ 144. (¬2) مدينة اختطها العرب قرب رستقباذ في خوزستان، وتنسب إلى مكرم بن معزاء الحارث صاحب الحجاج بن يوسف الثقفي، وخوزستان هي المعروفة الآن بعرب ستان، أي إقليم العرب، وقد زال اسم عسكر مكرم من الخارطة، ولكن موضعها تشير إليه الخرائب المعروفة باسم بندقير أي (سد القير) حيث يلتقي آب كركر بنهر كارون، انظر "معجم البلدان": 4/ 123، و"بلدان الخلافة الشرقية": 267، 271 - 272. (¬3) له ترجمة في "الأنساب": 3/ 410 - 411، و"المنتظم": 10/ 101، و"معجم البلدان": 2/ 199، و"الكامل": 11/ 90، و"اللباب": 1/ 322 - 323، و"مختصر ابن عساكر" لابن منظور: 27/ 65، و"معرفة القراء الكبار": 21/ 945 - 946، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 98 - 99، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) "المنتظم": 10/ 101.

السنة السابعة والثلاثون وخمس مئة

وذكره الحافظ ابن عساكر، وقال: ابن طاوس] (¬1) كان إمام جامع دمشق [سمع أباه وأبا العباس بن قُبيس، وقيل: لم يلحقه، وكان قد قرأ القرآن بالسبعة على أبيه، وكان يؤدِّبُ الصبيان بسوق الأحد، فلما انتصب لإمامة جامع دمشق ترك ذلك، وكان ثقة، حسن الصَّوْت بالقرآن، صحيح الاعتقاد] (1). قال ابن عساكر: أنشدنا لعلي بن أحمد النُّعيمي البَصري (¬2): [من المتقارب] إذا أَظْمَأَتْكَ أكُفُّ اللِّئامِ ... كَفَتْكَ القناعةُ شِبْعًا وَرِيَّا فكُنْ رَجُلًا رِجْلُه في الثَّرى ... وهِمَّةُ هامتِهِ في الثُّريا أبيًّا لنائِلِ ذي ثَرْوَةٍ ... تراه بما في يَدَيه أبيَّا فإنَّ إراقةَ ماءِ الحيا ... ةِ دونَ إراقةِ ماءِ المُحَيَّا السَّنة السابعة والثلاثون وخمس مِئة فيها بعث سنجر إلى مسعود يأمره بالتَّصرُّف في الرّي والمقام بها بحيث إنْ دَعَتْه حاجةٌ استدعاه؛ لأَجْل ما نكِبَ به من الخطا. وأمر الخليفةُ أن لا يُخاطب أحدٌ بمولانا الوزير. وولى القاضي الزَّينَبي أبا يعلى محمد بن محمد بن الفَرَّاء قضاء واسط، وخرج إليها. وفيها جمع سنجر العساكر، وعَزَمَ على قصد خوارزم شاه، وكان ملك الخطا قد عاد إلى بلاده، وجاء سنجر، فنزل على جيحون، وقال: لا بُدَّ من العبور إلى خوارزم شاه. وجاء خوارزم شاه إلى جانب جيحون، وبعث إلى سنجر الأموال التي أخذها من بَلْخ، وصناديقَ الجَوْهر، وضَمِنَ له مالًا، وقال للرسول: قُلْ له احقنِ الدِّماء، فإنَّ عَوْدَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) كان النعيمي حافظًا عارفًا، متكلمًا شاعرًا، توفي سنة (423 هـ)، له ترجمة في "تاريخ بغداد": 11/ 332 - 331 - والأبيات فيه- و"سير أعلام النبلاء": 17/ 445 - 447، و"طبقات علماء الحديث" لابن عبد الهادي: 3/ 305 - 306، وفيهما تتمة مصادر ترجمته.

الحسن بن محمد بن علي بن أبي الضوء

ملك الخطَا أسهلُ من كلِّ شيء. فقال سنجر: لا بُدَّ من العبور إليه. فركب سنجر في عساكره، وخوارزم في عسكره، وتقابلا (¬1) على جيحون، فانفرد خوارزم شاه من عسكره، ونزل، فقَبَّل الأرض لسنجر، فانصرف عنه إلى مَرْو. وفيها ملكَ زَنْكي قلعة الحديثة التي على الفرات، ونقل ما كان بها من آل مُهارِش إلى المَوْصل، ورَتَّبَ فيها نوابه. وفيها استولى مسعود بن قليج رسلان على بلاد الرُّوم؛ أخذها من محمد بن غازي، ويعرف بالدَّانْشمَنْد (¬2)، وكان مقامه بمَلَطْيَة، فأخرجه منها (¬3). وحج بالنَّاس نَظَر الخادم. فصل: وفيها توفي الحسن بن محمد بن علي بن أبي الضَّوْء (¬4) أبو محمد، الشريف الحُسَينْي، نقيب مشهد موسى بن جعفر - رضي الله عنه - ببغداد، ومن شِعْره مَرْثية في النَّقيب الطَّاهر، منها: [من الخفيف] قَرِّباني إنْ لم يكن لكُما عَقْـ ... ـــــرٌ [إلى جَنْبِ] (¬5) قبره فاعْقِراني وانْضَحا من دمي عليه فقد كا ... نَ دمي من نَدَاه لو تَعْلَمانِ ¬

_ (¬1) في (ح): وتقاتلا. (¬2) الدانشمند: لفظ فارسي بمعنى عالم أو ذكي أو ماهر، وهو يتألف من الكلمة الفارسية "دانش" بمعنى علم، والمقطع "مَنْد" بمعنى ذو أو صاحب، ويطلق هذا اللقب على الفقهاء، وقد أشار ابن الأثير إلى أن الدانشمند كان في أوليته معلمًا للتركمان. انظر "الألقاب الإسلامية" د. حسن الباشا: ص 287، "الدانشمنديون": ص 16. (¬3) في "الكامل" لابن الأثير: 11/ 92 أن محمدًا توفي في هذه السنة، واستولى على بلاده مسعود بن قليج رسلان. وانظر "الدانشمنديون وجهادهم في بلاد الأناضول" للدكتور علي بن صالح المحيميد: ص 111 - 114. (¬4) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 5/ 356، و"الوافي بالوفيات"، 12/ 234، و"النجوم الزاهرة": 5/ 271، وانظر "وفيات الأعيان": 2/ 236 وقد ساق البيتين في ترجمة خالد الكاتب في قصة طريفة. (¬5) ما بين حاصرتين ليس في (ع) و (ح)، والمثبت من "النجوم الزاهرة".

الملك داود بن السلطان محمود

الملك داود بن السُّلْطان محمود (¬1) ابن محمد بن ملك شاه، صاحب أَذْربيجان الذي كسر مسعودًا (¬2)، وجرت له معه حروبٌ كثيرة، واستولى على تلك النَّواحي. ركب يومًا في سوق توريز، فوَثَبَ عليه قومٌ من الباطنية، فقتلوه غِيْلَةً، وقُتِلُوا، وقُتِلَ معه جماعةٌ، ودُفِن بتوريز، وكان شُجاعًا، جَوَادًا، عادلًا، يباشر الحروب بنفسه. عبد المجيد بن إسماعيل بن محمد (¬3) أبو سَعد (¬4)، الهَرَوي، الحنفي، قاضي بلاد الرُّوم. له مصنفاتٌ في الأُصول، والفروع، وخُطَبٌ ورسائل، توفي بقَيسارِيَّة في رجب، ومن شعره: [من الكامل] وإذا أتيتَ إلى الكريم خديعةً ... فرأَيتَه فيما ترومُ مُسارعُ فاعلمْ بأنَّك لم تخادِع جاهلًا ... إنَّ الكريم بفَضْله يتخادَعُ محمد بن عبد الله بن أحمد (¬5) أبو الفضل، [الخطيب] (¬6)، ابن المهتدي. ولد في ذي الحِجَّة سنة تسع وأربعين وأربع مئة، [وسمع الحديث، وقرأ القرآن بالروايات، وشهد عند القاضي أبي الحسن الدَّامَغاني، و] (6) ردَّت إليه الخطابة بجامع المنصور، وجامع القَصر، وسَرَدَ الصَّوْم نيِّفًا وخمسين سنة، وكان رجلًا صالحًا. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 433، و"الوافي بالوفيات" 13/ 495، و"السلوك" للمقريزي: ج 1 / ق 1/ 56، و "النجوم الزاهرة": 5/ 271 - 272، وقد سلفت أخباره على السنين. (¬2) انظر ص 296 من هذا الجزء. (¬3) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 10/ 444 - 445، و"مختصره لابن منظور": 15/ 185، و "معجم البلدان": 1/ 276، و"الجواهر المضية": 2/ 465 - 466، و"النجوم الزاهرة": 5/ 272، و"تاج التراجم": 137 - 138، و"الفوائد البهية": 112. (¬4) في "الجواهر" و"النجوم" و"التاج": أبو سعيد، وإخاله تصحيفًا. (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 105، و"معرفة القراء الكبار"، : 2/ 948 - 949، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 115 - 116، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الثامنة والثلاثون وخمس مئة

توفي في جُمادى الأولى، ودفن قريبًا من دِكَّة الإمام أحمد [بن حنبل (¬1)، عند جَدِّه لأمه أبي الوفاء بن القَوَّاس بعد فتنةٍ؛ لأن الحنابلة منعوه لكونه شافعيًّا، فأمر المقتفي بذلك، ولم يلتفت إلى العامة. وقيل: إنَّه أوصى بذلك. سمع أبا الحسين بن المهتدي، وأبا الغنائم بن المأمون، وطِرادًا، وجدَّه لأُمه أبا الوفاء، وغيرهم، وكان ثقةً صالحًا]. السَّنة الثَّامنة والثلاثون وخمس مِئَة فيها قدم السُّلْطان مسعود بغداد في ربيع الآخر، فنزل أصحابُه في دور النَّاس، وكَثُرَ فسادُ العَيَّارين، وكان أبو الكرم الوالي قد عَزَلَ نفسه، وحلق رأسه، وقعد في رباط أبي النَّجيب، فأُعيد إلى الولاية، [وجعل العَيَّارون لهم] (¬2) عيونًا على [الناس من] (3) النِّساء [والرِّجالُ] (¬3)؛ يدخلون البيوت، ويهجمون على النَّاس، ويكبسون الخانات نهارًا، فيأخذون أمتعة التُجَّار، فأُغلقت الدَّكاكين والخانات، ولبس النَّاس السِّلاح، وعَزَّ على مسعود ذلك، وغَلَّق النَّاسُ أبوابَ الجوامع، وكسروا المنابر، وظهر في العسكر رجلٌ عَيَّار مِنْ ولد قاروت بك ابن عمِّ السُّلْطان مسعود [ومعه جماعة] (¬4)، فأُخرجت العملات مِنْ داره، وكان نازلًا بدرب صالح، فأمر مسعود بصَلْبه، وصَلْبِ أصحابه، فصُلبوا على باب الدَّرْب، فسكن النَّاس. وعَزَمَ السُّلْطان على قَصدِ المَوْصِل، فصانع زَنْكي بمئة ألف دينار (¬5). وفيها قَدِمَ مع السُّلْطان [مسعود] (6) فقيه كبيرُ القَدْر، حنفيُّ المذهب، اسمه الحسن بن أبي بكر النَّيسابوري، وكان عارفًا بالمذهب واللُّغة [والنظر] (¬6) فجلس بجامع ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): من دكة الإمام أحمد، رحمة الله عليه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ح): وجعل لهم العيارين، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 106. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في "المنتظم": 10/ 105: فمن الحوادث فيها أن السلطان جمع العساكر لقصد الموصل والشام، وترددت رسل زنكي حتى تم الصلح على مئة ألف دينار تحمل في نُوَب [في المطبوع: ثوب! ]، فحمل ثلاثين ألفًا، ثم تقلبت الأحوال، فاحتيج إلى مداراة زنكي، وسقط المال، وقيل: بل خرج ابن الأنباري فقبض المال. (¬6) ما بين حاصرتين من (ح) و (م) و (ش).

المنصور، وجامع القَصر، وصرَّح بلعنة أبي الحسن الأَشْعري على المنابر، وكان يقول: كُنْ شافعيًّا ولا تكن أشعريًّا، وكن حنفيًّا ولا تكن معتزليًّا، وكن حنبليًّا ولا تكن مشبهيًّا. وكان يقول: ما رأيتُ مثل أصحاب الشافعي يتركون الأَصل ويتعلَّقون بالفَرْع. ومَدَحَ الأئمة، وذمَّ الأشعري. وقال: زاد في الشِّطْرنج بَغلًا، والبَغْل مختلِطُ النَّسب، وليس له أَصل [صحيح] (¬1). فقام أبو محمد بن الباطوخ (¬2)، فأنشده قصيدة في هذا المعنى، وهي: [من مجزوء الكامل] صَرْفُ العيونِ إليك يَحْلُو ... وكثيرُ لَفْظِكَ لا يُمَلُّ والنَّاسُ لو مَتَعْتَهُمْ ... بكَ ألفَ عامٍ لم يُوَلُّوا مِنْ أين وَجْهُ مَلالهم ... وغَرَامُهُمْ بكَ لا يَقِلُّ لو رمتَ بَذْلَ نُفوسِهِمْ ... بذلوا رضىً لكَ واستقلُّوا وافَيتَ فابتسم الهدى ... وأنار دينٌ مُضْمَحِلُّ ونهضتَ في (¬3) نَصر الكتا ... بِ بحدِّ عَضْبٍ لا يُفَلُّ لمعانُه يومَ التَّنا ... ضُلِ بالأَدِلَّةِ يُسْتَهَلُّ أنعشتَ خامِلَ مَعْشَرٍ ... مِنْ بعد ما ضَعُفوا وقلُّوا وَعَقَدْتَ حين نَصَرْتَهُمْ ... في الدِّين عَقْدًا لا يُحَلُّ وقمعْتَ أحداثَ (¬4) الضلا ... ل فهانَ ذِكْرُهُمُ وذَلُّوا وَقَطَعْتَ شَمْلَهُمُ وليـ ... ـــس لهمْ بحمدِ الله شَمْلُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ترجم العماد في "الخريدة" قسم شعراء العراق: ج 1/ 346 - 348، للمعين بن الباطوخ، وأورد له قصيدة في مرثية أبي الفتوح الإسفراييني -وستأتي ص 346 - وترجم الصفدي في "الوافي بالوفيات": 1/ 171 لابن باطوخ الواعظ، وهو محمد بن محمد بن علي بن طالب أبو عبد الله الحنبلي، وساق له أبياتًا من شعره، وذكر أن وفاته سنة (544 هـ). وما أدري إن كان أبو محمد هذا هو المعين بن باطوخ، أو غيره، وكذلك لم يعينه العلامة محمد بهجة الأثري في حاشيته على "الخريدة"، فانظره. (¬3) في (ع) و (ح): عن، والمثبت من "المنتظم". (¬4) في "المنتظم": أخدان.

كَمْ ذا التحدِّي بالدليـ ... ــــل لهُمْ وكم عَجَزوا وكَلُّوا أَنْذِرْهُمُ فإنِ انْتَهوا ... عن أَجْرهم (¬1) أَوْ لا فَقَتْلُ ما ثَمَّ غير أبي حنيـ ... ـــــفةَ والمديحُ له يحلُّ وفقيه طيبةَ مالك ... طَوْدٌ له زُهْدٌ وفَضْلُ وفتى ابن حنبل والحديـ ... ــــثُ عن ابن حنبل لا يملُّ والشَّافعيُّ وما لهُ ... فيمن تقدَّم قطُّ مِثْلُ فهمُ أَدِلَّتُنا ومَنْ ... يهدي بغيرِهُمُ يَضِلُّ كُنَّا نعدُّ خلافَهُمْ ... صُلْحًا ونَدْرُسُه ونَتْلوا حتى بُلِينا بالخِلا ... فِ وزاد في الشِّطْرنج بَغْلُ والجِنْسُ يَضْبِطُ في البها ... ثم أَصلَها والبَغْلُ بَغْلُ (¬2) ثم جلس النَّيسابوري يوم الجُمُعة العشرين من رجب في دار السُّلْطان وحضر [السلطان] مسعود [إلى عنده] (3)، فوعظه، وبالغ. وكانوا قد كتبوا على باب النِّظامية اسم [أبي الحسن] (¬3) الأشعري، فعرَّفَ النيسابوريُّ للسُّلْطان مذهبَ الأشعري، وقال: هذا يقول ليس له في الأرضِ كلام (¬4). فتقدَّم بمحو اسم الأشعري، وكَتْبِ اسم الشافعي مكانه. وكان أبو الفتوح الإسفراييني يعظ في رباطه، وينصر مذهب الأشعري، وكان أبو الحسن الغَزْنوي (¬5) يعظ أيضًا، وكان يدخل على السُّلْطان. فقال له [الغَزْنوي] (3): يا سلطان، سببُ الفِتَن التي تجري في بغداد أبو الفتوح الإسفراييني، وقد رُجم مرارًا، والصواب إخراجه من البلد. فتقدَّم السلطان بإخراجه، فأُخرج في رمضان، فمات بإسْفرايين، [وسنذكره] (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في (ع) و (ح)، وفي "المنتظم": عن كفرهم! (¬2) القصيدة في "المنتظم": 10/ 107. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) كان الحسن النيسابوري يميل إلى رأي المعزلة في أن القرآن مخلوق. انظر "المنتظم": 10/ 143. (¬5) ستأتي ترجمته في وفيات سنة (551 هـ). (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وستأتي ترجمته ص 345.

عبد الوهاب بن المبارك

وخرج النَّيسابوري إلى بلده، فأقام به إلى سنة خمس وأربعين، [فتوفي بها] (¬1)، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها توجَّه مسعود إلى هَمَذَان في شَوَّال. وزُلْزلتِ الأرضُ زلزلة عظيمة، وظهر كوكب الذَّنَب ببغداد، ودام عشرة أيام. وفيها استولى عمران بن محمد بن سبأ بن زُريع (¬2) داعية المِصريين على اليمن بأسره: البلاد والقلاع، والرمل والجبل، وكان شاعرًا فاضلًا، شجاعًا، مُمَدَّحًا، وفيه يقول عمارة اليمني (¬3): [من الكامل] ملكٌ يَشِفُّ عليه نورُ كماله ... فيكاد يُلْحَظُ من وراء حجابهِ داني منالِ الجُودِ من زوَّاره ... نائي مَحَلِّ المَجْد من طلابهِ صَعْبُ المقاصِدِ ليس يرضى همُّه ... أَنْ يرتقي في المَجْدِ غير صِعابِهِ وحج بالنَّاس نَظَر الخادم. فصل: وفيها توفي عبد الوهَّاب بنُ المبارك (¬4) ابن أحمد بن الحسن، أبو البركات، الحافظ، الأَنْماطي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر وفاته سنة (545 هـ). (¬2) هذا الخبر من أوهام سبط ابن الجوزي، إذ إن أول من استولى على اليمن ولقب بالداعي من الزُّريعيين سبأ بن أي السعود بن زريع، وتوفي سنة (533 هـ)، ثم ولي بعده ابنه الداعي محمد بن سبأ، وتوفي على أصح الروايات سنة (550 هـ)، ثم بعده استولى الداعي عمران بن محمد المذكور هنا على اليمن بأسره، وعظم شأنه، وقصده الشعراء، واستمر يحكم حتى وفاته سنة (561 هـ) بعدن، ثم حمل إلى مكة فدفن فيها، انظر ترجمته في "تاريخ ثغر عدن" لبامخرمة: 214 - 218، و"العقد الثمين": 6/ 423 - 424، و"طبقات فقهاء اليمن": 168 - 169. (¬3) وهذا أيضًا من أوهام سبط ابن الجوزي، إذ إن القصيدة لأبي بكر بن أحمد بن محمد العِيدي اليمني -وفي اسمه ونسبته اضطراب- وقد أوردها العماد في "الخريدة" في ترجمته، وقد نقلها عن عمارة اليمني من كتابه "المفيد في أخبار زبيد" فظنها لعمارة، والله أعلم. انظر "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 3/ 152، 158، 164 - 167، و"معجم البلدان": 1/ 86، و"طبقات فقهاء اليمن": 169، و"الأعلام" للزركلي: 1/ 216. (¬4) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 108 - 109، و"مشيخة ابن الجوزي": 92 - 93، و"مناقب الإمام أحمد": 638، و"ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 1/ 380 - 384، و"طبقات علماء الحديث": 4/ 56 - 57، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 134 - 136، وفيهما تتمة مصادر ترجمته.

علي بن طراد بن محمد

ولد في رجب سنة اثنتين وستين وأربع مئة، وكان وَرِعًا، صالحًا، صحيحَ السَّماع. قال أبو الفرج بنُ الجوزي: كنتُ أقرأُ عليه الحديث، وهو يبكي، فاستفدتُ ببكائه أكثر من استفادتي بروايته، وانتفعتُ به ما لم أنتفع بغيره. ودخلتُ عليه في مرضه، وكان قد بلي ونَحَلَ جسمُه، فبكيت، فقال: إنّ الله لا يُتَّهم في قضائه (¬1). قال أبو الفرج: كنا ننتظره يوم الجُمُعة بجامع المنصور، ليأتي من داره بنهر القَلَّائين، فلا يمشي على [قنطرة باب البصرة، وإنا يمرُّ على] (¬2) القنطرة العتيقة، فسأَلْتُه عن ذلك، فقال: كان موضعها دار ابن معروف القاضي (¬3)، فلما قُبض عليه بُنيت قنطرة، وحدَّثني أبو محمد التميمي أنَّ ابن معروف أَحَلَّ من يَعْبُرُ عليها، وأما أنا فلا أعبر عليها. وتوفي يوم الخميس حادي عشرة المحرَّم، وصلى عليه أبو الحسن الغَزْنوي، وأجمعوا على دِينه، وثقته. عليُّ بن طِراد بن محمد (¬4) ابن علي بن أبي تمَّام، أبو القاسم، الزَّينبي. ولد سنة اثنتين وستين وأربع مئة. ولَّاه المستظهر نقابة النقباء، وخَلَع عليه، ولقَّبه الرِّضا ذا الفخرين، وهي ولايةُ أبيه. وكان يركب مع المستظهر. وهم بيتُ الرياسة والتقدُّم؛ وكان طراد نقيبَ النُّقباء، وأبو طراد محمد ولي نقابة النُّقباء، وأبوه علي ولي نقابة النُّقباء، وأبوه أبو تَمَّام كان قاضيًا. ¬

_ (¬1) "المنتظم": 10/ 108. (¬2) ما بين حاصرتين من "صفة الصفوة": 2/ 499، والخبر فيه. (¬3) هو قاضي القضاة، شيخ المعتزلة، أبو محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف البغدادي، وكان من ألباء القضاة، توفي سنة (381 هـ)، له ترجمة في "تاريخ بغداد": 10/ 365 - 368، و"المنتظم" 7/ 166، و"سير أعلام النبلاء": 16/ 426 - 427. (¬4) له ترجمة في "الأنساب": 6/ 346، و"المنتظم": 10/ 109، و"الكامل": 11/ 97، و"الفخري": 305 - 306، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 149 - 151، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن الفضل بن محمد

وتقلَّبت بصاحبِ هذه الترجمة الأحوال، ووزَرَ للمسترشد، ثم للمقتفي، ثم تغيَّر عليه، وأقام بداره معزولًا إلى غُرَّة رمضان، ومات عن ستٍّ وسبعين سنة، وأوصى إلى ابن عمِّه قاضي القضاة عليِّ بن الحسين (¬1)، فأمضى المقتفي وصيَّته، وبعث له الأكفان والطِّيب، ودُفِنَ بداره بباب المراتب، ثم نُقِلَ إلى تربته بالحربية ليلة الثلاثاء سادس عشرة رجب سنة أربعٍ وأربعين، وبين يديه العلماءُ، وأربابُ الدَّوْلة، والوعاظ، والشموع الزَّائدة على الحدِّ، وكانت ليلةً مشهودة، ومدحه الحَيصَ بَيص (¬2)، فقال: [من الكامل] ما أنصفَتْ بغدادُ ناشئَها الذي ... كَثُرَ الثَّناءُ به على بغداد سَلْ بي (¬3) إذا مدَّ الجدالُ رِواقَهُ ... بصوارمٍ غير السيوف حِدادِ وذَعَرْتَ (¬4) ألبابَ الخصومِ بخاطرٍ ... يقظانَ في الإصدار والإيرادِ فتصدَّعوا متفرِّقينَ كأنَّهم ... مالٌ تُفَرِّقُهُ يدُ ابنِ طِرادِ (¬5) محمد بن الفَضْل بن محمد (¬6) أبو الفتوح الإسْفراييني. ولد سنة أربعٍ وسبعين وأربع مئة بإسفرايين، وقَدِمَ بغداد، وتكلَّم بمذهب الأَشْعري، وبالغ في التعصُّب، فقامت الفِتن واللِّعان في الأسواق، وأفضى إلى الضَّرْب والنَّهْب، واستحلالِ الأموال والدِّماء، ودخَلَ النَّيسابوري (¬7) على مسعود، وقَدَح فيه، فقال له: تقلَّدْ دمه حتى أقتله. فقال: لا أتقلَّد. فوكَّلَ السُّلْطان بأبي الفتوح في شعبان، فأُخرج من بغداد، وحُمل إلى النّهروان، فدخل أبو النَّجيب ويوسف الدِّمشقي، وأبو منصور بن ¬

_ (¬1) ستأتي ترجمته في وفيات سنة (543 هـ). (¬2) هو أبو الفوارس سعد بن محمد، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (574 هـ). (¬3) في (ع) و (ح): سكن، وفي "المنتظم": 10/ 288 شاني، وكلاهما تحريف، والمثبت من "الخريدة". (¬4) في (ع) و (ح): وذكرت، وهو تحريف، والمثبت من "المنتظم"، و"الخريدة". (¬5) الأبيات في "المنتظم": 10/ 288، و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 225. (¬6) له ترجمة في "تبيين كذب المفتري": 328 - 329، و "المنتظم": 10/ 110 - 112، و"الكامل": 11/ 96 - 97، و"الوافي بالوفيات": 4/ 323 - 324، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 139 - 142 وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬7) هو الحسن بن أبي بكر النيسابوري، وقد سلف ذكره ص 340.

الرَّزَّاز على السُّلْطان، وسألوه فيه، فلم يلتفت إليهم، وساروا به نحو إسفرايين، فمات بِبسْطام (¬1) في ذي الحِجَّة، ووصل الخبرُ بموته إلى بغداد، فقعدوا للعزاء به، فحضر الغَزْنَوي، فقال له بعضُ العامَّة: ما حَضَرْتَ إلا شماتةً به. فقام بعضُ الفقهاء، فأنشد: [من الوافر] خلا لكَ يا عدوُّ الجوُّ فاصفِرْ ... ونَجِّسْ في صُعودك كلَّ عُودِ كذاكَ الثُّعْلبانُ يجولُ كِبْرًا ... ولكنْ عند فِقْدانِ الأُسودِ وقيل للغَزْنوي: أنتَ كنتَ هاجِرَه، وتذكره حال حياته بما لا يَحْسُن، فكيف حَضَرْتَ عزاءه، وأَظْهرت الحزن عليه والبكاء؟ ! فقال: إنَّما بكيتُ على نفسي، كان يقال فلان وفلان، فما يُعدم النَّظير إلا ويُنْذَر الآخر بالرَّحيل، وأنشد: [من الكامل] ذَهَبَ المُبَرِّدُ وانْقَضَتْ أيَّامُهُ ... وسينقضي بعد المُبَرِّدِ ثَعْلَبُ (¬2) ورثاه المعين (¬3) بن الباطوخ البغدادي، فقال من قصيدة: [من الرَّمل] أيُّها الرَّكْبُ ابْلُغوا بُلِّغْتُمُ ... أنَّ سُقْمي صَدَّني عن سَفَري وإذا جِئْتُمْ ثَنِيَّاتِ اللِّوى ... فلِجُوا رَبْعَ الحِمى في خَطَرِ (¬4) وصِفُوا شَوقي إلى سُكَّانِهِ ... واذكُروا ما عندكُمْ مِنْ خَبَرِي وحَنِيني نحو أيَّامٍ مَضَتْ ... بالحِمى لم أَقْضِ منها وَطَرِي فاتني فيها مُرادي وحلا ... لتمنِّي القُرْبِ منها سَهَرِي كنتُ أخشى فَوْتها قبل النَّوى ... فرماني حذَرَي في حذَري آهِ واشوقي إلى من بدَّلوا ... صَفْوَ عَيشي بعدهُمْ بالكَدَرِ كلَّما اشْتَقْتُ تمَنَّيتُهُمُ ... ضاعَ عُمْرِي بالمُنى واعُمُري (¬5) ¬

_ (¬1) بلدة كبيرة بقومس على جادة الطريق إلى نيسابور. "معجم البلدان": 1/ 421. (¬2) هذا البيت من أبيات سائرة قالها أبو بكر الحسن بن علي المعروف بابن العلاف الضرير في رثاء المبرد، وابن العلاف من الشعراء المجيدين، وهو صاحب القصيدة المشهورة في رثاء الهر، توفي سنة (318 هـ) وقيل سنة (319 هـ)، انظر ترجمته في "وفيات الأعيان"2/ 107 - 111، وانظر الأبيات في "وفيات الأعيان": 4/ 319. (¬3) في (ع) و (ح) المعنى، ومثله في "الوافي الوفيات"، والمثبت من "الخريدة". (¬4) الخطر: التبختر، ومشية المعجب بنفسه. "اللسان" (خطر). (¬5) الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 347 - 348، و "الوافي بالوفيات": 4/ 324.

محمد بن القاسم بن المظفر

محمد بن القاسم بن المُظَفَّر (¬1) ابن علي، أبو بكر الشَّهْرُزُوري، القاضي، المَوْصِلي. ولد سنة أربعٍ وخمسين وأربع مئة وولي القضاء بعدة بلدان من الشَّام والجزيرة، ونَزَلَ إلى بغداد، فتوفي بها، ومن شعره: [من الخفيف] هِمَّتي دونها السُّها والثُّريا (¬2) ... قد عَلَتْ جُهدها فما تتدانى فأنا مُتْعَبٌ مُعَنَّى إلى أنْ ... تتفانى الأيَّامُ أو أتفانى (¬3) محمود بن عمر بن محمد (¬4) ابن عمر، أبو القاسم، الزَّمَخْشَري، وزمخشر: قريةٌ من قرى خُوارَزْم. ولد في رجب سنة سبع وستين، وقيل: سنة أربع وستين وأربع مئة، ولقي العلماء، واشتغل بالأدب، والتَّفْسير، وغريب الحديث، وأقام بخوارزم، ثم جاور بمكَّة، وسمَّى نفسه جار الله، وورد بغداد غير مرَّة، وكان ينصر مذهب المعتزلة، وصنَّف "الكَشَّاف" في التفسير بمكَّة في سنتين ونصف، وصرَّح فيه بالاعتزال، وقال في أوله: الحمد لله الذي خَلَقَ القرآن، فنفرت قلوبُ أهلِ السُّنَّة منه، وهجروه، وجرى ذِكْرُ هذا التَّفسير في مجلس عون الدين بن هُبيرة الوزير (¬5)، فقال: عليَّ به. فأُحضر بخط المصنّف، وهو وقفٌ بمشهد أبي حنيفة، فقال الوزير لمن حضر من العلماء: ما تقولون في هذا؟ فاتَّفقوا كلُّهم على غَسْل الكتاب. فقال أبو الفرج بن الجوزي: هذا كتابٌ فيه ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 7/ 418 - 419، و"الخريدة" قسم شعراء الشام: 2/ 322، و"المنتظم": 10/ 112، و"اللباب": 2/ 216 - 217، و"تاريخ إربل": 1/ 203 - 206، و"وفيات الأعيان": 4/ 69 - 70، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 139، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) في "الخريدة": والزُّباني، وهي كواكب من المنازل على شكل زباني العقرب، "معجم متن اللغة": 3/ 15. (¬3) البيتان في "الخريدة" قسم شعراء الشام: 2/ 322، و"المنتظم": 10/ 112. (¬4) له ترجمة في "الأنساب": 6/ 297 - 298، و"نزهة الأدباء": 391 - 393، و"المنتظم": 10/ 112، و"معجم البلدان": 3/ 147، و"معجم الأدباء": 19/ 126 - 135، و"اللباب": 2/ 74، و"الكامل": 11/ 97، و"إنباه الرواة": 3/ 265 - 272، و"وفيات الأعيان": 5/ 168 - 170، و"إشارة التعيين": 345 - 346، و"الوافي بالوفيات": 25/ 247، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 151 - 156، وفيه تمة مصادر ترجمته. (¬5) ستأتي ترجمته في وفيات سنة (560 هـ).

علوم من العربية، وما فيه أشنع من قوله في أوله: الحمد لله الذي خلق القرآن، فاكشطوه، واكتبوا موضعه: الحمد الله الذي أنزل القرآن (¬1). فصوَّبوا رأيه وقوله، وكان هناك ابن حَرِّكْها (¬2) الفقيه الحنفي، فصاح من أطراف النَّاس: هذا ما يسقط بالشك بل بالدَّليل، فأمر الوزير بإخراجه. وقال: تردَّها جَذَعَة! وصنَّف الزَّمَخْشري "الفائق في اللغة"، و"المفَصَّل" في النَّحو، و"أساس البلاغة"، و"ربيع الأبرار"، وغير ذلك، وعاد إلى خُوارَزْم، فتوفِّي بها ليلة عرفة. وله شِعْرٌ، فمنه: [من الطويل] وكلُّ وفاءٍ كان في قَوْسِ حاجبٍ ... وأنتَ جمعتَ الغَدْرَ في قوسِ حاجِبِ أخذه من قول المُطْراني (¬3): [من المنسرح] تُزْهى علينا بقوسِ حاجبها ... زَهْوَ (¬4) تميمٍ بقوس حاجبها وقال ابنُ السَّمْعاني: كان ممن يضرب به المثل في الأدب، وأقام بالحجاز بُرْهة إلى أن هَبَّت على كلامه رياحُ البادية، ومن شعره: [من الطويل] تَغَنَّت على فَرْعِ الأراك مُطَوَّقهْ ... فَرَدَّتْ خليَّاتِ القلوبِ مُشَوَّقَهْ وأَشْوَقُ منها صوتُ حادٍ مُبَكِّرٍ ... حدا بحُدوج المالكيةِ أَينُقَهْ فخالفَ ما بيني وبين أَحِبَّتي ... فلي عندهُمْ مَقْتٌ وعندي لهمْ مِقَهْ وقال: من شعره أيضًا: [من الطويل] سلامٌ عليكمْ أَدْمُعي قَلَّ ما ترقَا ... إذا شِمْتُ (¬5) من تلقاءِ أَرْضِكُمُ بَرْقا ¬

_ (¬1) انظر في هذا التغيير "وفيات الأعيان": 5/ 170. (¬2) كذا في (ع) و (ح): وهو القاضي زكي الدين أبو السعادات المبارك بن أحمد البغدادي، وعرف بـ "حركها"، له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 3/ 58 - 59، و"الجواهر المضية": 3/ 417 - 419. (¬3) المطراني: هو الحسن بن علي بن مطران، أبو محمد المطراني، شاعر من الشاش، ترجم له الثعالبي في "يتيمة الدهر": 4/ 132 - 140. وساق له مقتطفات من شعره، ولم يذكر سنة ولادته ولا وفاته. (¬4) في (ع) و (ح)، تيه، والمثبت من "يتيمة الدهر": 4/ 138، والحاجب الأول هو حاجب العين، والحاجب الثاني: هو حاجب بن زرارة، كان رئيس تميم في الجاهلية. وقد ساق الصفدي في "الوافي بالوفيات": 25/ 245 هذا البيت على أنه من شعر الزمخشري، وهو خطأ! (¬5) شمت البرق: إذا نظرت إلى سحابته أين تمطر. "اللسان" (شيم).

السنة التاسعة والثلاثون وخمس مئة

ومن عَجَبٍ أَنِّي إذا لاحَ بارِقٌ ... بأرِضكُمُ اسْتَمْطَرْتُ أجفانيَ الوَدْقا وما خِلْتُ هذا البَرْقَ إلا ابتسامةً ... لسُعدى أضاءتْ عند إيماضها الأُفْقا تمنَّيتُ لو يُغني التَّمنِّي لقاءَها ... وَوَقْعُ رماحِ الخَطِّ مِنْ دون أن تَلْقى لقد صَدَقُوا إنَّ الشَّقيَّ أخو الهوى ... ولكنَّ مَنْ يهوى سعادَ هو الأَشْقى وقول على ما بي من السُّقْمِ والضَّنا ... أيا حبَّذا سُعدى وما أَطْيَبَ العِشْقا خليليَّ هل أَيَّامُنا بسُوَيقيةٍ ... رواجعُ أَمْ طارتْ بأيَّامنا العَنْقا فيا عِيشَةً خضراءَ لو بقيتْ لنا ... ولا خَيرَ في عَيشٍ إذا هو لا يَبْقى إذا الرِّيحُ من شَرْقيِّ مَرْوٍ تنفَّسَتْ ... فيا بَرْدَ صَدْرِي حين أَنْشِقُها نَشْقا وما تُطِيبني أيكةٌ غير أَنَّني ... أُساعد في شَجْو الحمامِ بها الوَرْقا السنة التاسعة والثَّلاثون وخمس مئة فيها فَتَحَ زَنْكي الرُّها. كان في قلبه منها أمرٌ عظيم؛ لكونها وسط بلاد الإسلام، ومَعْقِل منبع الكُفَّار، فطرح العيون على جوسلين صاحبِها، فاتَّفق أَنَّه خَرَجَ منها بعساكره نحو حِصن منصور، فحال زَنْكي بينه وبينها، وحَصَرها وضربها بالنَّار، وبالمجانيق، وحشد التركمان والنَّقابين الحلبيين وغيرهم، ونُقِبَ سورها، وعُلِّق بالأخشاب، وضربوا فيه النَّار، فوقعت منه قطعةٌ، فدخلها عَنْوَةً بالسَّيف، فقتل وأسر، وأخذ منها أموالًا عظيمة، وكان بها من أسارى المسلمين ألف وخمس مئة، فَخُلِّصوا، وقيل: كانوا خمس مئة، ثم رَمَّ السُّور (¬1)، وكتب للنَّصارى أمانًا، وأحسن إلى الرَّعية، وأراد أن يبني بها جامعًا، فقال له أصحابه: اجعل الكنيسةَ جامعًا. فقال: نَعَمْ. وشَرَعَ في إصلاح الكنيسة، وهيأها، ولم يبق إلا موضع المحراب، فجاء ومعه أرباب دولته والصُّناع، واتفقوا على موضع المحراب اليوم، فحفروا أساسًا عميقًا، وإذا بصخرة ظهرت مكتوب عليها سطران بالسريانية، فجاء شيخ يهوديٌّ، فحلَّها، ونقلها إلى العربية، وهذا ما فيها: [من السريع] ¬

_ (¬1) رَمَّ السور: أصلحه. "معجم متن اللغة": 2/ 653.

جقر بن يعقوب بن نصير الدين

أصبحتُ خِلْوًا من بني الأَصفَرِ ... أختالُ بالأَعْلامِ والمِنْبر مُطَهَّرَ الرَّحْبِ على أَنَّني ... لولا ابن آق سُنْقُر لم أُطَهَّرِ (¬1) فاشتدَّ تعجُّبِ أتابك والجماعة. وكان عند ملك طُلَيطُلة (¬2) رجلٌ من علماء المُسْلمين، وكان الملك يُحِبُّه ويكْرمه، فجهَّز جيشًا إلى جهة إفريقية، فقتلوا وأسروا من المسلمين، وعادوا والعالم عند الملك جالِسٌ وقد نَعَسَ، فأيقظه الملك، وقال: ما ترى ما قد فعل أصحابُنا بالمسلمين، وأين دين محمدكم من نُصرتهم؟ فقال الرجل: كان قد حضر فتح الرُّها. فعجب الملك والقوم، واستهزؤوا به، فقال الملك: لا تضحكوا، فوالله ما قال شيئًا إلا وأصاب. فوصل الخبر بعد ذلك بأن الرُّها فُتِحَتْ في ذلك التاريخ. وسار أتابك ففتح سَرُوج وما حول الرُّها من الحصون، وجاء إلى حِصن البيرة فنازله وضايقه، ولم يبق إلّا فتحه، فجاءه الخبر بأن نصِير الدّين جَقَر نائبه بالمَوْصل قد قُتِلَ، فعاد إلى المَوْصل. وحجَّ بالنَّاس نَظَر الخادم. فصل: وفيها توفي جَقَر بن يعقوب بن نصِير الدِّين نائب أتابك بالمَوْصِل وغيرِها من بلاده. كان شجاعًا شَهْمًا مهيبًا مدبِّرًا، وسببُ قَتْله أَنَّه كان في كفالة زَنْكي رسلان خان، وقيل تركان شاه ابن السُّلْطان محمود بن محمد بن مَلِك شاه (¬3)، وبه كان يحتج على ¬

_ (¬1) الشطر الثاني من البيت الثاني غير متزن، وفي "النجوم الزاهرة": 5/ 275: لولا ابن سنقر لم أظهر، وكذلك لا يتزن، وقد ساق نحو هذه القصة ابن العديم في "بغية الطلب": 4/ 77، وفي النفس من هذه القصة أشياء. (¬2) في "الباهر" لابن الأثير: ص 70: صقلية، وهو الأشبه، وقد قال ابن الأثير: وحكى لي أيضًا بعض العلماء بالأخبار والأنساب .. ثم ذكر نحو هذه القصة، ونقلها عنه أبو شامة في "كتاب الروضتين": 1/ 140 - 141. (¬3) كذا ورد في (ع) و (ح)، وسماه ابن الأثير في "الباهر": 71، و"الكامل": 11/ 106 ألب أرسلان المعروف بالخفاجي ولد السلطان محمود بن محمد، وتعقبه أبو شامة في "كتاب الروضتين": 1/ 151 بان الخفاجي غير ألب أرسلان، إذ كان مع زنكي ملكان من أولاد السلطان محمود، أحدهما يسمى ألب أرسلان، وهو في معقل من معاقل سنجار، والآخر يسمى فرخشاه، ويعرف بالخفاجي، وهو بالموصل. وهذا الأخير هو الذي قتل جقر.

عمر بن إبراهيم بن محمد [بن محمد] بن أحمد

الخلفاء والسَّلاطين ويقول لمسعود: أنا أحفظ البلاد له. ويصدر الكُتُبَ باسْمِهِ، وبه سمِّي أتابك، ومعناه الوالد، وكان مقيمًا بالمَوْصل، ولمَّا اشتغل زَنْكي بفتح الرُّها وسَرُوج والبيرة أشار على رسلان خواصُّه بالفَتْك بنصير الدِّين، وقالوا: تملك المَوْصِل، ولا يقدر أتابك على قَصدك، ولا يوافقه أحد. فاستمال جماعةً من الغِلْمان العمادية نحو أربعين رجلًا من وجوههم. وكان جَقَر على غايةٍ من الاحتراز، ولما تَمَّ ما أراد الصَّبيُّ رَتَّبَ له جماعةً عند دار خاتون، فلمّا جاء جَقَر للسَّلام عليها، ودخل دِهْليز الدَّار وثبوا عليه، فقتلوه، ووثَبَ العوام، فقتلوا أصحاب الصَّبي، وكان نازلًا في دارٍ على الشَّطِّ، وخِيفَ على المَوْصِل من النَّهْب، فجاء القاضي تاج الدِّين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشَّهْرُزُوري (¬1) إليه فخدعه، وقال له: قد فعلت ما فعلتَ وأنتَ في دارك، والسَّاعة تهجُمُ عليك العوام فيقتلوك، فاصعَدْ إلى القلعة وتحصَّن بها. فقام وطَلَعَ القلعة، وتحصَّن بها، فاحتاط القاضي عليه، ووكَّل به جماعةً. ولما بلغ أتابك قَتْلُ جَقَر بَعَثَ زين الدين علي كُوجك -وكان كثيرَ الوثوقِ به- فأغذَّ السَّيرَ حتى دخل المَوْصِل، وسكَنَ الفِتْنة، واحتاط على الصَّبيِّ، وأزال ما جَدَّد جَقَر من المظالم، ولم يزلِ الصَّبي محبوسًا تحت الحوطة حتى قُتِلَ زنكي على قلعة جعبر سنة إحدى وأربعين وخمس مئة. عمر بن إبراهيم بن محمد [بن محمد] بن أحمد (¬2) ابن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو البركات، الكوفي، النَّحْوي. ¬

_ (¬1) كان بارعًا في الفقه، ولد سنة (495 هـ)، وتوفي على الصحيح سنة (556 هـ)، انظر "وفيات الأعيان": 4/ 245، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 333، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 340 - 342، وفيه توفي سنة (566 هـ)، والتاريخ الأول نقله ابن خلكان عن "الخريدة". (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 6/ 341 - 342، و"تاريخ ابن عساكر": (خ) (س): 12/ 694 - 695، و"نزهة الألباء": 399 - 400، و "المنتظم": 10/ 114، و"معجم الأدباء": 15/ 257 - 261، و"اللباب" لابن الأثير: 2/ 86، و"إنباه الرواة": 2/ 324 - 327، و"ميزان الاعتدال": 3/ 181، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 145، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وما بين حاصرتين من المصادر خلا "المنتظم".

محمد بن الحسن بن كامل

ولد سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة بالكُوفة، ونشأ بها، ثم قَدِمَ بغداد، ومضى إلى الشَّام، وأقام بدمشق وحلب مُدَّة، وكتَبَ الكثير، وسَمِعَ وعاد إلى الكوفة، وكان يسكن بمحَلَّة السَّبيع، ويصلِّي بالنَّاس [في مسجد أبي إسحاق السَّبيعي] (¬1). وكان عارفًا بالنَّحْو واللُّغة، والتفسير والفقه، وله تصانيف في فنون، وكان خَشِنَ العَيش، صابرًا على الفقر. وتوفي يوم الجمعة سابع شعبان بالكوفة، ودُفِنَ بمقبرة العلويين، وصلَّى عليه نحو ثلاثين ألفًا، وعاش حتى قارب المئة، وكان يفتي ظاهرًا بمذهب أبي حنيفة، وباطنًا على مذهب زيد بن علي، وقد تكلَّموا فيه. محمد بن الحسن بن كامل (¬2) القاضي الأندلسي، [ويُعرف بابن الفخَّار، و] (¬3) كان فقيهًا، شاعرًا، فمن شعره في مَرَّاكُش: [من الطويل] وأرضٍ سكنَّاها فيا شَرَّ مَسْكَنٍ ... بها العَيشُ نَكْدٌ والجناحُ مَهِيضُ نَروحُ ونغدو ليس إلا مروِّع ... عقاربُ سودٌ أو أراقمُ بِيضُ (¬4) ومات بالمغرب. هبة الله بن الحسين (¬5) أبو القاسم البديع الأَسْطُرلابي، فريد وقته في عمل الأَسْطُرلابات، وآلات الفلك والطِّلَّسْمات، وتوفي بعدما فُلج، ومن شعره: [من الكامل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين مثبت من "المنتظم": 10/ 114. (¬2) له ترجمة في "بغية الملتمس": 70، و"خريدة القصر" قسم شعراء المغرب والأندلس: 2/ 334 - 339، و"المحمدون من الشعراء": 407 - 408، و"المغرب في حلى المغرب": 1/ 432، و"الوافي بالوفيات": 2/ 357. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) البيتان في "الخريدة": 2/ 339. (¬5) له ترجمة في "معجم الأدباء": 19/ 273 - 275، و"أخبار العلماء" للقفطي: 222، و"طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة: 376 - 380، و"وفيات الأعيان": 6/ 50 - 53، و"الوافي بالوفيات": 27/ 269، و "سير أعلام النبلاء": 20/ 52 - 53، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وعندهم وفاته سنة (534 هـ).

السنة الأربعون وخمس مئة

أهدي لمجلسك الشَّريفِ وإنَّما ... أُهدي له ما حُزْتُ من نَعْمائِهِ كالبَحْرِ يُمْطِرُهُ السَّحابُ وما لَهُ ... مَنٌّ عليه لأَنَّه من مائِهِ [وروي أنَّه مَرَّ به رجلٌ ظريف، وبيده أَسْطُرلاب، وهو ينظر فيه، فقال: [من السريع] قامَ إلى الشَّمْسِ بآلاتِهِ ... ينظر بالتخمين والحَدْس فقلتُ: أينَ الشمسُ قال الفتى ... في الثور قلتُ الثور في الشمسِ (¬1) وروي أن الأسطرلابي خرج مع المسترشد في صفر، فوقع الوباء في العسكر، ومعهم طبيب نصراني، فكان كل من طبَّه مات، وكنية الطبيب أبو الفتح، فقال الأَسْطُرلابي: يا أبا الفَتْح اقتلِ القوم برفـ ... ـــــقٍ ومُهْلَةٍ واقتصادِ قبل أن يصبح المعسكر قاعًا ... فتمزمز (¬2) بهم إلى بغداد (¬3) وكانت وفاته في هذه السنة] (¬4). السنة الأربعون وخمس مئة فيها دخل السُّلْطان مسعود بغداد، وسببه أَنَّ العساكر اجتمعوا بالرَّي على طاعته منهم بوزبا وعَبَّاس، وكان معهم محمد شاه بن محمود، وكان مسعود بهَمَذَان، فاستشعر من اجتماعهم، فقصد العراق، فجاء بوزبا والعساكر إلى هَمَذَانَ، وجاءهم سليمان شاه بن محمد، فقطعوا خُطْبة مسعود، وخطبوا لمحمد شاه وبعده لسليمان شاه، واتَّفقوا على حَرْبِ مسعود. وقيل، وهو الأشهر: إنَّ مسعودًا إنما دخل بغداد هربًا من أخيه سليمان شاه، وكان قد اتَّفق على محاربة مسعود أعيانُ الأُمراء مثل بوزبا صاحب خوزستان، وعباس صاحب الرَّيِّ، وأقبل السِّلَحْدار، فجاؤوا إليه وهو بهَمَذَان، فهزموه، فسار إلى بغداد، وأقام سليمان شاه في الري، وأكثرُ الأُمراءِ عنده، فجمع مسعود العساكر، وخرج من ¬

_ (¬1) البيتان في "معجم الأدباء": 19/ 275، و"طبقات الأطباء": 377، وعجز البيت الأول فيهما: لينظر السَّعْد من النحس. (¬2) لعلها من العامية مزمز، من "مزمز فلان الكأس" أي ترَشف ما فيه بمهل واستمتاع. انظر "معجم عطية": 148. (¬3) البيت الأول غير متزن، والثاني من الخفيف! (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

بغداد إلى مَرَاغة ليجتمع بجاولي، ويتفق معه، وكان الأمراء قد خطبوا لمحمد شاه وبعده لسليمان شاه. وكان مسعود قبل خروجه أراد أن يقبض على عليِّ بن دُبَيس، ويحمله إلى قلعة تكريت، فعلم عليٌّ، فانهزم في رمضان إلى توريز، وخرج مسعود في رمضان يريد مَرَاغة، وصار عليُّ بنُ دُبَيس إلى الحِلَّة وفيها أخوه محمد، فملكها، وأخرجه منها، فجهَّزَ الخليفةُ إليه مُهَلْهِل ونَظَر الخادم، فخرج إليهما وهَزَمَهما أقبح هزيمة، وعادا مسلوبين إلى بغداد. وأما مسعود فإنَّه سار إلى جاولي، وسعى جاولي في إصلاحِ حال سليمان شاه مع أخيه مسعود، ولم يوافق بوزبا وعَبَّاس، ولم يدخلا في الصُّلْح، وعاد جاولي إلى مسعود ومعه سليمان شاه، فاستحلفه لسليمان شاه، واستوثق له منه، وقال مسعود لجاولي: المصلحة أن نتَّبعهما ونكسرهما قبل أَنْ يَسْتفحل أمرهما. فقال جاولي: أنا أَتَّبعَّهما وأكفيك أمرهما. وسار في إثْر بوزبا، وكان قد سار إلى بلاده، وبعث ابنه في إثر عَبَّاس، ثم بلغ جاولي أَنَّ مسعودًا قبض على أخيه سليمان شاه، وأطلعه إلى القلعة واعتقله، فأنكر ذلك، وقال: بالأمس حَلَفَ له واليوم يغدر به! لا يجيء من هذا خيرٌ أبدًا، ولقد فعل بوزبا وعَبَّاس عين المصلحة، إذا كان هذا بأخيه، فما الذي يصنع بنا! ورَجَعَ عن نُصرته، وأرسل إلى بوزبا وعَبَّاس وأخبرهما بفِعْل مسعود، وقال: كلُّنا متفقين (¬1) على محاربته. ثم رجع جاولي إلى بلاده، وبلغ مسعودًا، فلم يمكنه مجاهرته لقوته ومهابته، فدَسَّ إليه بعد ذلك قومًا من الباطنية، فقتلوه غِيلَةً. وفيها جلس يوسف الدِّمَشْقي (¬2) في المدرسة التي بناها ابنُ الإِبَرِي (¬3) بباب الأَزَج، وحضر قاضي القُضاة وأربابُ الدَّوْلة. ¬

_ (¬1) كذا في (ع) و (ح)، وقد أبقيتها محافظةً على لغة الخبر. (¬2) ستأتي ترجمته في وفيات سنة (563 هـ). (¬3) هو أبو الحسن علي بن محمد، ثقة الدولة ابن الدُّرَيني، وكان يخدم أبا نصر أحمد بن الفرج الإبري، وربَّاه حتى قيل له ابن الإبري، وزوَّجه ابنته شهدة الكاتبة، وتعرف مدرسته بالثقتية، وقد بناها لأصحاب الشافعي. =

أحمد بن محمد بن الحسن

واستشعر المقتفي من أقاربه وأهله، وضيَّق على الأمير أبي طالب. وحجَّ بالناس نَظَر الخادم. [وفيها توفي أحمد بن محمد بن الحسن (¬1) أبو سعد بن أبي الفَضْل، بغدادي الأصل، أصبهاني المولد والمنشأ. ولد سنة ثلاث وستين وأربع مئة، وسمع الكثير، [وحدث بالكثير، وكان] (¬2) على طريقة السَّلف، مُطَّرحًا للتكلّف، حج إحدى عشرة حِجَّة (¬3)، وأملى بمكة والمدينة، وكان يصوم في الحر الشديد. وذكره جدي في "المشيخة"، وأثنى عليه، وقال: رأيت أخلاقه جميلة، ومحاسنه لطيفة. وكان قد حج، فرجع يريد أصبهان، فتوفي في ربيع الأول بنهاوند، وحمل إلى أصبهان، فدفن بها] (4). فصل: وفيها توفي بِهْرُوز الخادم [ابن عبد الله] (¬4) أبو الحسن (¬5)، خادم مسعود. ¬

_ = وستأتي ترجمته ص 461 من هذا الجزء. (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 116 - 117، و"مشيخة ابن الجوزي": 100 - 103، و"الكامل": 11/ 107، و"العبر" للذهبي: 4/ 110، و"النجوم الزاهرة": 5/ 278، و"شذرات الذهب": 4/ 125. (¬2) ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 116. (¬3) في (ش): اثنتي عشرة حجة، والمثبت موافق لما في "المنتظم". (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 117، و"الكامل": 11/ 106، و"كتاب الروضتين": 1/ 404، و"وفيات الأعيان": 7/ 142، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 265، و"الوافي بالوفيات": 10/ 307 - 308، و"النجوم الزاهرة": 5/ 277.

كامل بن أحمد بن محمد

كان أبيضَ، ويلقب مجاهد الدِّين، ولي العراق نيِّفًا وثلاثين سنة، وعَمَّر دارَ السُّلْطان والجامع، وسدَّ البثوق، [وأسكر السكور] (¬1)، وغَرِمَ على سكر النَّهروان سبعين ألف دينار. وقال علي بن عقيل [في كتاب "الفنون" قال] (1): ما رأينا مثل مناقضة بِهْروز؛ مَنَعَ الملاحين أن يُعْبروا رجلًا مع امرأة في سفينة، وجَمَعَ بينهم في المواخر! وولاه السلطان قلعة تكْريت [وقد ذكرناه] (1)، وبنى كنيسة رِباطًا ببغداد على شاطئ دِجْلة [ويعرف برباط الخدم] (1)، ودُفن فيه -وكانت وفاته في رَجَب-[وهو قائم إلى الآن] (1). [وفيها توفي: كامل بن أحمد بن محمد (¬2) أبو تمَّام، المقرئ، الضَّرير. قرأ القرآن على أبي الوحش ابن قيراط، وسمع الحديث، وكان ديِّنًا، صالحًا، خرج في هذه السنة حاجًّا، فمات في الطريق، فدفن بالمَعْلى. سمع أبا طاهر الحِنَّائي، وأبا الحسن بن الموازيني، وأبا محمد بن الأَكْفاني، [وغيرهم] (¬3) وهو من شيوخ الحافظ ابن عساكر] (1). موهوب بن أحمد (¬4) ابن محمد بن الخضر، أبو منصور، الجَوَاليقي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "تاريخ دمشق" لابن عساكر: (خ) (س): 14/ 496، و"العقد الثمين": 7/ 85. (¬3) ما بين حاصرتين من (ش). (¬4) له ترجمة في "الأنساب": 3/ 337، و"نزهة الألباء": 396 - 398، و"المنتظم": 10/ 118، و"معجم الأدباء": 19/ 205 - 207، و"اللباب": 1/ 301، و "الكامل": 11/ 106 - 107، و"إنباه الرواة": 3/ 335 - 337، و "وفيات الأعيان": 5/ 342 - 344، و "إشارة التعيين": 357 - 358، و "ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 204 - 207، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 89 - 91، وفيه تتمة مصادر ترجمته. وذكر السمعاني وابن الأثير في "اللباب"، وابن الأنباري وياقوت والقفطي وابن خلكان وفاته سنة (539 هـ)، وهو غلط فيما ذكر الذهبي وابن رجب.

يحيى بن بقي

ولد [في ذي الحجة] (¬1) سنة خمس وستين وأربع مئة، ونشأ ببغداد، وسمع الحديث، وقرأ الأدب فأكثر، وانتهى إليه عِلْمُ اللُّغة، ودرَّس النحو والعربية بالنّظامية بعد أبي زكريا التِّبْريزي مُدَّةً، فلما ولي المقتفي الخلافة اختصّ بإمامته، وكان غزير الفَضْل (¬2)، طويل الصَّمت، لا يقول الشيءَ إلَّا بعد الفكر الطَّويل، وكان متواضعًا، مليح الخط، وصنَّف الكُتُب (¬3). وكان مقتصدًا في مَلْبسه ومطعمه، لا يمنُّ على النَّاس بأَنَّه إمامُ الخليفة، بل كأنَّه من آحاد النَّاس مع الهيبة العظيمة والدِّين المتين. وكانت وفاته منتصف محرَّم، وحَضَرَ الصَّلاة عليه أربابُ الدولة، ودُفِنَ بباب حَرْب، وعاش ستًّا وسبعين سنة، وكان صالحًا، صدوقًا، ثِقَةً. يحيى بن بقي (¬4) الأَنْدلسي الشَّاعر القُرْطُبي الفاضل (¬5). ومن شِعْره يشكو أهل المغرب، ويذُمُّ مقامه عندهم: [من البسيط] أقمتُ فيكُمْ على الإقْتار والعَدَمِ ... لو كنتُ حُرًّا أَبيَّ النَّفْسِ لم أَقِمِ وظَلْت أبكي بكُمْ عُذْرًا لعلَّكُمُ ... تستيقظونَ وقد نمتمْ عن الكَرَمِ فلا حدِيقَتُكُمْ يُجْنَى لها ثَمَرٌ ... ولا سماؤكُمُ تنهلُّ بالدِّيَمِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) في (ع) و (ح): غزير العقل، ومثله في "ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 205، وفي "المنتظم": 10/ 118 غزير الفضل، وهو ما أثبته. وفي "النجوم الزاهرة": 5/ 275 غزير العلم. (¬3) من أشهر كتبه "شرح أدب الكاتب" و"المعرَّب"، وكلاهما مطبوع مشهور، متداول. (¬4) هو أبو بكر يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن بقي الأندلسي القرطبي، له ترجمة في "الذخيرة" لابن بسَّام: ق 2 / م 2/ 615 - 636، و"قلائد العقيان": 279، و"خريدة القصر" قسم شعراء المغرب والأندلس: 2/ 236 - 247، 3/ 579، و"معجم الأدباء": 20/ 21 - 25، و"وفيات الأعيان": 6/ 202 - 205، و"المغرب في حلى المغرب": 2/ 19 - 21، و"نفح الطيب": 1/ 471، 584، 3/ 208، 209، 347 - 348، 439 - 440، 448، 4/ 13، 155، 236، 241. (¬5) بعد هذا في (ع): بل مع فضله من الحظ بالحرمان، ولم أتبين معناها، وهي ليست في (خ)، ولذا آثرت حذفها.

يحيى بن سلطان بن منقذ

لا رِزْقَ لي عندكُمْ لكنْ سأَطْلبُهُ ... في الأرضِ إنْ كانت الأرزاقُ بالقِسَمِ أنا امْرؤٌ إنْ نَبَتْ بي أرضُ أَنْدَلُسٍ ... جئتُ العراقَ فقامتْ لي على قَدَمِ لا يكسر (¬1) اللهُ مَتْنَ الرُّمْحِ إنَّ بِهِ ... نَيلَ العُلى وأباح الكَسْرَ للقَلَمِ أَوْغَلْتُ بالمغربِ الأقصى وأَعْجَزَني ... نَيلُ المطالبِ حتى أُبتُ بالنَّدمِ (¬2) وقال أيضًا: [من الكامل] بأبي غَزَالٌ غازلَتْهُ مُقْلَتي ... بين العُذَيبِ وبينَ شَطِّي بارِقِ وسألتُ منه زيارةً تَشْفي الجَوَى ... فأجابني فيها بوعدٍ صادِقِ حتى إذا أَخَذَتْ به سِنَةُ الكَرَى ... زَحْزَحْتُهُ عني وكان مُعَانقي أَبْعَدْتُهُ عن أَضْلُعٍ تَشْتاقُهُ ... كيلا ينامَ على فراشٍ خافِقِ (¬3) يحيى بن سُلْطان بن منقذ (¬4) الأمير أبو الفتح، فخر الدِّين الشَّيزَري، قُتِلَ ببَعْلَبَكَّ، ومن شعره [ما] كتبه [إلى أبيه] يطلب رُمْحًا: [من السريع] يا خَيرَ قَوْمٍ لم يَزَلْ مَجْدُهُمْ ... في صفحاتِ الدَّهْرِ مَسْطُورا عَبدُك يَبغي أَسْمَرًا ذِكْرُهُ ... ما زال بين النَّاسِ مذكورا مسدَّدًا والجَوْرُ مِنْ شأنِهِ ... إن نال وتْرًا صار موتورا فإنْ تَفَضَّلْتَ به عاد عَنْ ... صُدُورِ أعدائِكَ مكسورا أبو بكر بن تقي الأندلسي (¬5) - بتاء منقوطة من فوق بنقطتين- شاعر فصيح، ومن شعره: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح) لا نكس، والمثبت من "الخريدة". (¬2) الأبيات في "الخريدة" قسم شعراء المغرب والأندلس: 2/ 245 - 246. (¬3) الأبيات في "الخريدة" 2/ 236 - 237، وأورد بعضها ابن بسَّام في "الذخيرة": ق 2 / م 2/ 636. (¬4) له ترجمة في "الخريدة" قسم شعراء الشام: 1/ 567 - والأبيات فيه- وما بين حاصرتين منه. (¬5) كذا ترجمه سبط ابن الجوزي، وتابعه ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 277، وهو نفسه الشاعر يحيى بن بقي الذي سلفت ترجمته ص 356، ويبدو أن هذا الوهم ترب من إعادة العماد ترجمته في "الخريدة" قسم شعراء المغرب والأندلس: 3/ 579، فظنه السبط شاعرًا آخر، وفرَّق بينهما بقوله في ضبط اسم أبيه تقي -بالتاء-وهو كذلك في إحدى نسخ "الخريدة".

السنة الحادية والأربعون وخمس مئة

ومشمولةٍ في الكأسِ تحسبُ أَنَّها ... سماءُ عقيتي زُينَتْ بكواكبِ بَنَتْ كعبةَ اللَّذاتِ في حَرَمِ الصِّبا ... فحجَّ إليها اللَّهْو من كلِّ جانبِ السنة الحادية والأربعون وخمس مئة فيها احترق القصر الذي بناه المسترشد بدار الخلافة [بباب الغَرَبة] (¬1)، وكان المقتفي نائمًا فيه تلك الليلة مع خاتون بنت مسعود؛ وسببه أَنَّ جاريته أخذت بيدها شمعة، فعلقت بأطراف خَيْشٍ، فاحترق القصر، وخَرَجَ الخليفةُ منه بالليل وخاتون، فأصبح فلم يُرَ له أثر، واحترق فيه قماش كثير، وتصدَّقَ الخليفة بأَموالٍ كثيرة، وأطلق المحبسين. وفيها خَلَعَ الخليفةُ على أبي الوفاء يحيى بن سعيد ويعرف بابن المُرَخِّم (¬2) خِلْعةً سوداء وطَيْلسانًا، وقلَّده القضاء في أي صُقْعٍ شاء، وليس على يده يد، ثم رمى الطَّيلسان، وتجرَّد لظُلْم الناس وعقوبتهم وعَسْفهم، وفَتَحَ أبوابَ الظُّلْم، وصادر النَّاس، وأخذ الرّشا، وأبطل الحقوق، وأساء السِّيرة (¬3) [فكتب هبة الله بن الفَضْل الشاعر رقاعًا، وألزقها في المساجد والجوامع والشوارع، وفيها: [مجزوء الخفيف] يا حزينه الطمي الطمي ... قد ولي ابن المُرَخِّم وَيْ على الشَّرْعِ والقضا ... وعلى كلِّ مُسْلمِ بدواته المفضضه ... ووكيلِه المُكَعْسَمِ (¬4) ¬

_ = والظاهر أن إعادة الترجمة في "الخريدة" هي من عمل أحد نُسَّاخه، والدليل على ذلك قوله في صدرها "من شعراء الخريدة"، وهذه عبارة لا يقولها العماد في كتابه، بل ربما كانت ورقة طيارة في ترجمة ابن بقي وضعت في غير موضعها، وقد أورد هذين البيتين ابنُ خلكان في "وفيات الأعيان": 6/ 204 - 205 نقلًا عن "الخريدة" في ترجمة يحيى بن بقي المذكور، والله أعلم. (¬1) في (م) و (ش): بباب المعونة، وهو تحريف، والمثبت ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 119، وباب الغربة هو أحد أبواب دار الخلافة ببغداد. انظر "معجم البلدان": 4/ 192. (¬2) في النسخ الخطية: ابن المخرم أينما وقعت، والمثبت من "المنتظم": 10/ 119، 207، وانظر ترجمته في "خريدة القصر"قسم شعراء العراق: ج 3 / م 1/ 33 - 37، وابن الأثير في "كامله": 11/ 258، 362، و"معجم الأدباء": 2/ 232، و"وفيات الأعيان": 3/ 125، و"مختصر التاريخ" لابن الكازروني: 231. (¬3) في (ع) و (ح): وأساء السيرة واستطال، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) لعلها من الكعسم: الحمار الوحشي بالحميرية، انظر "معجم البلدان": 5/ 77.

أترى صاحب الشريـ ... ـــــعة (¬1) قد جُنَّ أو عمي وأرى المقتفي الإما ... مَ عنِ الحق قد عمي (¬2) وبلغ الخليفة، فعزَّ عليه، ولم يدر من كتبها. واستطال ابن المرَخِّم على الناس. وهبة الله بن الفَضْل نذكره في سنة ستٍّ وخمسين وخمس مئة]. وفي رجب دَخَلَ السُّلْطان مسعود بغداد، وولَّى شحنكية البلد مسعود البلالي، وكان ظالمًا عسوفًا، فوقع النَّاسُ في محنة عظيمة من عَسْف الوالي وقضاء القاضي [ابن المُرَخِّم] (¬3). وفيها قُتِل [أتابك] (3) زَنْكي [على قلعة جَعْبر. وفيها] (3) ماتت بنت الخليفة. ولما دخل مسعود بغداد عَمِلَ دارَ الضَّرْب، فَصَعُبَ على الخليفة، وقَبَضَ على الضَّرَّاب الذي كان سببَ ذلك، فبعث الشِّحْنة فقبض على حاجب الباب، وقال: لا أُطلقه حتى يطلق الضَّراب، وكان يوم الجمعة، فبعث المقتفي فأغلق أبواب الجوامع، وبطَّل الجميع، وأغلق أبواب المساجد ثلاثة أيام، ومَنَعَ القُضاة من الأحكام، فأطلق حاجبَ الباب، وكان ابنَ الصَّاحب. وفيها استصلح مسعود عباسًا صاحب الري، ثم قتله. وفيها بَطَلَتِ المكوس والضَّرائب ببغداد؛ وسببه أنَّ ابن العَبَّادي (¬4) جَلَسَ بجامع السُّلْطان، وحضر السُّلْطان عنده، فوعظه، وذكَرَ ما يجري على المُسْلمين من الظُلْم، ثم قال: يا سلطان، أنت تَهَبُ في ليلةٍ لمطرب مثل هذا المأخوذ من النَّاس، فاحْسبني ذاك المطرب، واجعلْ ذلك شكرًا لما أنعم الله عليك. فأشار بيده: قد فعلت. فارتفعت ¬

_ (¬1) في (ش): الحكم. (¬2) الأبيات في "المنتظم": 10/ 207 ما عدا البيت الأخير. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) ستأتي ترجمته ص 428 من هذا الجزء.

إسماعيل بن أحمد

الضَّجَّة له بالدُّعاء، ونودي في البلد بإسقاطه، وكُتِبَ به ألواح، ونُصبت في المحالِّ والشوارع، فلم يزل الأمرُ كذلك حتى قَلَعَ الألواح الإمام النَّاصر، وقال: ما لنا حاجة أن يكون عندنا آثار الأعاجم. وفيها قُتل [بوزبا. وفيها بنى] (¬1) حسامُ الدِّين بن أُرْتُق جسر القرمان في أرض مَيَّافارقين. وحجَّ بالنَّاس قَيماز الأُرْجواني، وحَجَّ الوزير نظام الدين بن جَهِير. [قال جدي رحمه الله: وكنتُ في الحجِّ تلك السنة، ومعي الزوجة والأطفال، وكنتُ أرى الوزير في طريق مكة متواضعًا وقد عادله أبو نصر الكرخي. وهذه أول حجات جدي، رحمه الله] (¬2). وفيها توفي إسماعيل بن أحمد (¬3) ابن محمود (¬4) بن دُوْسْت، أبو البركات [بن أبي سَعد] (¬5) الصُّوفي [المعروف] (5)، شيخ الشيوخ ببغداد، [وكان أبوه أحمد من أهل نيسابور، فاستوطن بغداد، وولد له بها أبو البركات في] (¬6) سنة خمس وستين وأربع مئة (¬7)، وسمع الحديث [من طِراد الزَّينبي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ح). (¬2) في (ع) و (ح): وحج الوزير نظام الدين بن جهير، وكان متواضعًا في الطريق، وعادله أبو نصر الكرخي، وما بين حاصرتين مثبت من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 2/ 821، و"المنتظم": 10/ 121، و"الكامل" 11/ 118، و"كتاب الروضتين": 2/ 178، و"وفيات الأعيان": 1/ 93، و"الوافي بالوفيات": 9/ 85، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 160 - 161، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) في مصادر ترجمته ما خلا "المنتظم": محمد. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) ولد سنة خمس .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬7) في (م) سنة خمس وأربعين وأربع مئة، وفي (ش) في سنة خمس وثلاثين، وكلاهما تحريف، والصواب ما هو مثبت من (ع) و (ح)، وهو الموافق لمصادر ترجمته.

بوزبه صاحب خوزستان

وغيره] (¬1) ورواه، وتوفي في جُمادى الأُولى، وعُمِلَ له عُرْسٌ عظيم على مذهب الصُّوفية، وأُنفق فيه مالٌ كثير، واجتمع أربابُ الدولة ومشايخ الرُّبُط، رحمه الله تعالى (¬2). وفيها توفي بوزبه صاحبُ خوزستان (¬3) كان قد نَفَرَ من مسعود، فخرج مسعود من بغداد إلى هَمَذَان، وكان بوزبه لما قتل مسعود عَبَّاسًا قد جمع وحشد، والتقيا في مرج قراتكين، واقتتلا قتالًا عظيمًا، وقيل: إنَّ بوزبه جاء في خمسة آلاف جريدةً ليكبس السلطان، وكان السُّلْطان في عشرة آلاف فارس، فحمل بوزبا، فكسر السلطان وتأخَّر، واشتغل أصحابه بالنَّهْب، وحمل عليهم مسعود فيمن بقي معه، وحمل عليه بوزبه، فعثر به فرسه، فَقُتِلَ، وبَعَثَ مسعود برأسه إلى بغداد. [فصل: وفيها توفي] (¬4) جاولي الأمير: صاحب أَذْرَبيجان (¬5) كان شجاعًا شهمًا، يخافه مسعود وغيره، وهو الذي جَمَعَ على مسعود، فلم يَثْبُتْ له، ثم اتَّفقا، ولما حَبَسَ مسعود أخاه سليمان شاه رَجَعَ عنه جاولي، وأقام ببلاده، ولم يلتفت على مسعود. وسبب وفاته أَنَّه افتصد، ثُمَّ ركب، فَعَنَّ له أرنبٌ، فرماه بسهمٍ فانفجر فِصادُهُ، فَضَعُف، ولم يقدر الطَّبيب على حبس الدَّم، فمات. فقال ابن الندى (¬6) الشَّاعر [هذا البيت] (4): [من الكامل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش) إلا أنه جاء في آخر الترجمة، فأعدته إلى حاقِّ موضعه، مستأنسًا بما ورد في "المنتظم": 10/ 121. (¬2) ولي ابنه صدر الدين عبد الرحيم بعده، وقد توفي سنة (580 هـ)، وستأتي ترجمته في وفياتها. (¬3) ذكر ابن الأثير في "كامله": 11/ 119 مقتل بوزبه في حوادث سنة (542 هـ). (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) انظر "تاريخ دولة آل سلجوق": 185 - 186. (¬6) في (ع): ابن البدوي، وفي (ح) و (م) و (ش): ابن الندى، ولم أقف عليه، ويستبعد أن يكون حسان بن تميم بن نصر، المتوفى سنة (560 هـ)، فذاك ابن الندى، وهو دمشقي، وليس بشاعر، وقد جاء في "دولة آل سلجوق": 186، وفي ذلك يقول زين الدين المظفر بن سيدي الزنجاني من قصيدة. ثم ذكر هذا البيت.

الخصيب بن سلم، أبو العلاء المجاشعي

عشرونَ ألفَ مُهَنَّدِ قد أُصلتت ... فَلَّتْ مضارِبَها نِكايةُ مِبْضَعِ الخَصِيب بن سَلْم، أبو العلاء المُجَاشعي (¬1) ولد سنة تسعٍ وخمسين وأربع مئة، ومن شِعْره: [من المتقارب] فواحَسْرتا لِطِلاب المَعَاشِ ... وسعيي إليكُمْ بجسمٍ كَدُوْدِ وما أنا في ظِلِّ هذي الحياة ... وفَرْطِ التَّمَحُّلِ إلا كَدُوْدِ وقال أيضًا: [من الطويل] أُقَضِّي زماني باللَّتيَّا وبالَّتي ... ومِنْ دونِ إدراكِ المُنَى حادثٌ يَقْضي وأمْزُجُ في كاسِ المَطَامع والمُنَى ... مُجاجةَ سُمٍّ من خُلاصتِهِ مَحْضِ زَنْكي (¬2) بن آق سُنْقُر (¬3) أبو المُظَفَّر، عماد الدِّين أتابَك (¬4). كان قسيم الدولة آق سُنْقُر من أصحاب السُّلْطان مَلِك شاه؛ رُبِّي معه، فلما ولي السَّلْطنة جعله من خواصِّ أُمرائه، وخافه نظامُ المُلْك، فأراد إبعاده، فأشار بتوليته حلب وأعمالها، وأن يكون في معاملة أنطاكية ودمشق، فأُقْطِعَها سنةَ سبعٍ وسبعين وأربع مئة، وبَعَثَ ملك شاه فخر الدولة بن جَهِير إلى ديار بكر، وجعل آق سُنْقُر مقدَّمَ الجيش. ¬

_ (¬1) هو الخصيب بن المُؤمَّل بن محمد بن سلم التميمي المجاشعي، له ترجمة في "الأنساب": 3/ 80، و "الوافي بالوفيات": 13/ 321، و"لسان الميزان": 2/ 398. (¬2) في (م) و (ش): وفيها توفي زنكي بن آق سنقر، أبو المظفر التركي، ولقبه أتابك عماد الدين، وآق سنقر أبوه، ولقبه قسيم الدولة، وكان من أصحاب السلطان ملك شاه، ولما قتل آق سنقر لم يكن له من الأولاد إلا زنكي، وكان ابن عشر سنين، فاجتمع إليه مماليك أبيه، وأقام زنكي إلى سنة (516 هـ)، فأقطع واسطًا والبصرة. (¬3) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 6/ 443، و"وفيات الأعيان": 2/ 327 - 329، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 189 - 191، وفيه تتمة مصادر ترجمته. وقد توسعت في أخباره تواريخ تلك الفترة مثل "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي، و "الكامل" و "الباهر"، وكلاهما لابن الأثير، و"كتاب الروضتين" لأبي شامة، وقد سلفت أخباره على السنين. (¬4) الأتابك لقب يتألف من كلمتين تركيتين، وهما "أتا" بمعنى أب، و"بك" بمعنى أمير، وأصله أن السلاطين السلاجقة منذ أيام ملكشاه بن ألب رسلان كانوا يطلقون لقب أتابك على كبير أمرائهم، ويولونه الوصاية والرعاية بعدهم على سلطان أو أمير قاصر صغير. =

وفي سنة إحدى وثمانين وأربع مئة ملك آق سُنْقُر حِمْص، وأقام إلى سنة سبع وثمانين، وأخذ فامية والرَّحْبة وغيرها، ثم قتله تُتُش على تل السُّلْطان. ولما قُتِلَ لم يكن له من الأولاد إلا زَنْكي، وكان ابنَ عشرة سنين، فاجتمع إليه مماليكُ أبيه، وخَلَص كربوقا من الحبس بحِمْص (¬1)، فعبر الفرات، وأخذ حَرَّان والجزيرة والمَوْصِل من علي بن مُسْلم بن قُريش، وعَظُمَ شأنه، وكان في خدمة بَرْكْيارُوق، فاستدعى مماليك ابن قسيم الدَّولة وولده زنكي، وقال: أنا أحقُّ به وبكم. وأقطعهم الإقطاعات السَّنِيَّة، وأقامُوا عنده، ولم يزل زنكي في كَنَفِ كربوقا وتربيته إلى سنة أربعٍ وتسعين، [وفيها توفي] (¬2) كربوقا. وملك المَوْصل بعده موسى التُّرْكماني، فلم تَطُلْ مُدَّتُه (¬3)، وقيل: ملك المَوْصل بعده شمسُ الدَّولة جكرمش مملوك ملك شاه، فقرَّب زنكي، وأحبَّه، واتَّخذه ولدًا لمكان أبيه، وقُتِل جكرمش سنةَ خمس مئة. وملك المَوْصل بعده جاولي سقاوه، فاتَّصل به زَنْكي وقد كَبُرَ وظهرت عليه أمارات السَّعادة، ولم يزل معه حتى عصى جاولي على السُّلْطان محمد، وعَبَرَ إلى حلب ليأخذها من رضوان بن تُتُش، فأرسل السُّلْطان محمد إلى المَوْصل الأمير مودود، وأقطعه إيَّاها سنة اثنتين وخمس مئة، وفارق زَنْكي والأُمراء جاولي، وعادوا إلى المَوْصل. واتصل زَنْكي بمودود، فأكرمه، وسار مودود إلى الشَّام بنية الغَزَاة ومعه زنكي، فظهر من شجاعته ونجابته ما استُدِلَّ به على عُلُوِّ هِمَّته، وقُتِلَ مودود في جامع دمشق وزَنْكي في صُحْبَته. ¬

_ = وقد أطلق هذا اللقب على زنكي لما ولاه السلطان محمود الموصل، وسلَّم إليه ولديه ألب أرسلان وفرخشاه المعروف بالخفاجي ليربيهما. انظر "وفيات الأعيان": 1/ 365، 2/ 328، و"التعريف بمصطلحات صبح الأعشى": 14. (¬1) وذلك سنة (489 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا ليستقيم الكلام. (¬3) كان موسى التركماني نائبًا عن كربوقا بحصن كيفا، فراسله أعيان الموصل ليسلموها إليه، فسار إليها، فقتل سنقرجه -وكان كربوقا قد عهد إليه بالموصل- ثم قُتل موسى التركماني في السنة نفسها. انظر "الكامل": 10/ 342 - 343.

وأقطع السُّلْطان المَوْصل لآق سُنْقُر البُرْسُقي (¬1)، وأمره بتقديم زنكي والرُّجوع إليه في المهام، وعادَ إلى المَوْصِل، فتلقَّاه البُرْسُقي، وأَحْسَنَ إليه، وقدَّمه، -وكان زنكي في عساكر العجم يُعرف بالشَّامي- وسار البُرْسُقي إلى الرَّها، فقاتل أهلَها، فأنكى زنكي فيهم، وأبلى بين يديه بلاء حسنًا، وعاد البُرْسُقي إلى بغداد، وأقام زنكي بالمَوْصل وقد ظهر له صيتٌ عظيم. ومات السُّلْطان محمد شاه بن ملك شاه، وولي بعده ابنه محمود، وجرى بينه وبين عَمِّه سنجر وقائع، ثم اصطلحا، وأقام زنكي إلى سنة ستَّ عشرة وخمس مئة، فأُقطع واسطًا والبَصرة، وقيل: أُعطي شحنكية البصرة، وخافه دُبَيس، واختلف المسترشد ودُبَيس، وسار البُرْسُقي مع الخليفة إلى دُبَيس وكسراه، وكان زنكي مع الخليفة، فأبلى بلاءً حسنًا، وأمر السُّلْطان محمود أن يرجع البُرْسُقي إلى الموصل، فأرسل إلى زنكي، وكان بالبصرة يطلبه ليسير معه، فقال زنكي لأصحابه: قد ضَجِرْنا مما نحن فيه، كلُّ يومٍ في بلد، اقصدوا بنا باب السُّلْطان محمود. فسار من البصرة إلى السُّلْطان، فأكرمه، وكان يقف إلى جانب التَّخْت (¬2) عن يمينه لا يتقدَّم عليه أحد، وهو مقامُ والده. ثُمَّ ولاه شحنكية بغداد، وقُتِلَ البُرْسُقي في جامع المَوْصل، وولاها مسعود بن البُرْسُقي، فلم يقم بها (¬3)، فولاها السُّلْطان زنكي، فقام بها أحسنَ قيام، وفَتَحَ بلادًا كثيرة: إرْبل، وجزيرة ابن عمر، وسِنْجار، والرَّحْبة وغيرها، وعَبَرَ الفرات، فأخذ حلب وحماة وحمص وبَعْلَبَكّ، وعاد إلى الشَّرْق، ففتح دارا سنة أربعٍ وعشرين [وخمس مئة] (¬4)، وفَتَحَ العَقْر وشوش سنة سبعٍ وعشرين (¬5) ¬

_ (¬1) وهم سبط ابن الجوزي، إذ إن السلطان محمدًا أقطع الموصل بعد مقتل مودود لجيوش بك، وجَهَّز آق سنقر البرسقي في العساكر لقتال الفرنج، ومن ثم قال في آخر الخبر: وعاد البرسقي إلى بغداد، وقد نبهنا على ذلك أيضًا في حاشيتنا رقم 4 ص 75 من هذا الجزء. (¬2) يعني تخت السلطان. (¬3) لم تطل أيام مسعود بن البرسقي، وقد توفي سنة (521 هـ)، وولي الأمر بعده أخوه الصغير، وقام بتدبير دولتيهما الأمير جاولي مملوك البرسقي، ثم ولي زنكي، انظر "الروضتين": 1/ 115. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) كذا في (ع) و (ح)، وفي "الروضتين" 1/ 120 تسع وعشرين، وفي "الكامل": 11/ 14، و"الباهر": 48 ثمان وعشرين.

[وخمس مئة] (¬1)، وسار إلى بغداد لنجدة الرَّاشد، وخرج به من بغداد سنة ثلاثين وخمس مئة، [وجرى ما ذكرناه] (¬2)؛ وفي سنة أربعٍ وثلاثين وخمس مئة أخذ شَهْرُزور [من ابن قفجاق التركماني] (1) وحصر دمشق مرارًا، وبنى العِمادية في الهكَّارِيَّة، وكان فسادُ الأكراد قد عمَّ، فانزجروا بها، وفتح الرُّها وطَنْزة والمَعدِن وحِيزان وحاني، وغيرها. وكان ينهى أصحابه عن شِرَى الأملاك، ويقول: الإقطاع يُغني عنها، ومتى كانت البلادُ لنا فلا حاجة إليها، ومتى ذهبتِ البلادُ منا ذهبت الأملاكُ معها، ومتى كان لأصحابِ السُّلْطان أملاك تعدُّوا على الرَّعية وظلموهم. وكانت له عنايةٌ بأخبار البلاد، [ويغرم عليها الأموال، فكان يقف على أخبار الملوك ساعة بساعة، وإذا جاء رسول لا يمكنه من الحديث مع أحد من الرعية لئلا يخبر بأخبار البلاد] (1). وأودع بعضَ أصحابه خُشْكنانكة (¬3)، فأقامت عنده سنة، ثم طلبها منه، فأحضرها، فَعَجِبَ، وقال: مِثْلُك يَصلُح لحفظ الأموال. وولَّاه قلعة كَوَاشى [وهي قلعة عظيمة] (1). وكان يفرِّقُ الأموال في القلاع والبلاد ويقول: إذا كانت الأموال في موضعٍ واحد وحَدَثَ حادِثٌ وأنا في موضعٍ آخر لم أنتفعْ بها وذَهَبَتْ، وإذا كانت متفرِّقة لم يُحَلْ بيني وبينها، ورجعتُ إلى بعضها. وكان مهيبًا، بلغه أَنَّ بعض الولاة تعرَّض لامرأةٍ، فقلع [عينيه] (1)، وقطع ذكره، [فخاف الولاة وانزجروا] (1). ذَكْرُ مَقْتَلِه: كان قد نازل قلعة جَعْبر، وبها شهابُ الدِّين سالم بن مالك العُقَيلي -[وكان ملك شاه أعطاه إياها لما أخذ منه حلب وقد ذكرناه (¬4)] (1) - فقاتلها، ونَصَبَ عليها ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر ص 282 - 283 من هذا الجزء. (¬3) نوع من الفطير المصنوع من الزبد والسكر والجوز أو الفستق، يكون على هيئة الهلال. انظر "المعرب": 134، ودوزي: 1/ 373. (¬4) ذكر ذلك سبط ابن الجوزي في حوادث سنة (479 هـ)، وقد وهم في قوله هنا: وبها شهاب الدين سالم بن مالك العقيلي، لأن سالمًا إنما تولاها زمن ملكشاه، ويلقب شمس الدولة، وقد توفي سنة (519 هـ)، وكان =

المناجيق، [وضايقها] (¬1) ولم يبق إلا فَتْحُها، فلما كان ليلة الثّلاثاء سابع عشرة ربيع الآخر (¬2) اتَّفق على قَتْله ثلاثةٌ من خُدَّامه، وكان مُغْرًى بخصي أولادِ النَّاس، [خصى جماعةً، فلما كان في هذه الليلة ذبحوه] (¬3) في فراشه، وهربوا إلى القلعة ونادوا بالحراس: عَرِّفُوا شهابَ الدِّين أنَّنا قد جئنا في مهم. فأحضرهم، فأخبروه، فقال للحُرَّاس: صيحوا على عسكره مَلِّحوه ملِّحوه. فصاحوا، فدخل أصحابُه عليه، فوجدوه مذبوحًا، فحملوه في سفينة إلى الرَّقَّة، فدفنوه (¬4) بها. [وقد صار موعظة للعالمين (1)]. وقال أبو يعلى بنُ القلانسي: هَجَمَ على رَبَض قلعة جعبر، ونهبه، وأخذ أهله، فعمد أحدُ خدمه ومن كان يهواه ويأْنَس به ويُعرف بيرنقش الإفرنجي، ووافقه بعضُ الخدم، فاغتالوه عند نومه ليلة الأحد سادس عشر ربيع الآخر (2)، وهو على غايةٍ من الاحتياط بالرِّجال والحُرَّاس والعُدَد حول سُرادقه، فذبحوه على فراشه بعد ضربات تمكَّنَتْ من مقاتله، وهَرَبَ الخادمُ إلى القلعة، وصاحِبُها عِزُّ الدين علي بن مالك بن سالم العُقَيلي، فبشَّره بهلاكه، فأكرمه وسُرَّ. وكان قد أرسل خواصَّه إلى زنكي بما استدعاه منه من آلاتٍ فاخرة وذخائر وافرة، فعند حصوله عليها عَزَمَ على الإساءة إليهم، وغَدَرَ بهم، فجاءه من القضاء ما صار به عبرةً لأُولي الأبصار، وتفرَّقت جيوشُه أيدي سبا، ونُهِبَتْ أمواله، وقُبرَ هناك بغير تكفين، ثم نُقِلَ إلى الرَّقَّة (¬5). ¬

_ = واليها حين حاصرها زنكي هو عز الدين علي بن مالك بن سالم العقيلي، كما سيأتي بعد أسطر، وقد قتل سنة (546 هـ)، وولي بعده ابنه شهاب الدين مالك بن علي بن مالك العقيلي، وهو الذي أخذ نور الدين محمود بن زنكي منه قلعة جعبر، وذلك سنة (564 هـ). وقد أسقط زامباور في "معجم الأنساب": 206 عز الدين من ولاة قلعة جعبر، انظر "الكامل": 10/ 630، و"دولة آل سلجوق": 207، و"كتاب الروضتين": 1/ 96، 2/ 41. (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) كذا، وعند ابن الأثير وغيره أنه قتل في خامس ربيع الآخر، انظر "الباهر": 74، و"وفيات الأعيان": 2/ 328، و"السير": 20/ 191، وهو الصواب. (¬3) في (ع) و (ح): وكان مغرى بخصي أولاد الناس، فذبحوه في فراشه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) ذكر ابن الأثير أنه دفن في صفين، انظر "الباهر" 75 - 76، ثم ذكر أبو شامة أنه نقل إلى الرقة فدفن بها، انظر "الروضتين": 1/ 155، وسيأتي بعد أسطر. (¬5) "ذيل تاريخ دمشق": 444 - 445.

ذِكْرُ ما تجدَّد [منَ الحوادث] (1) بعد مقتله: [منها أنه] (1) كان معه أولاده الثَّلاثة؛ سيف الدِّين غازي، ونور الدِّين محمود، وقُطْب الدِّين مودود، وكان له ولدٌ آخر اسمه أمير أميران نُصرة الدِّين انقرض عقبه، ونور الدِّين كان له إسماعيل، مات وانقرض عقبه [بعده] (1)، والعقب لمودود، فسار غازي إلى المَوْصل وبها زين الدين [علي] (¬1) كوجك، فامتنع عليه أيامًا حتى تقرَّرَتِ الأمور، ثُمَّ دخل الموصل، [(¬2) وهذا هو المشهور. ورأيت في بعض تواريخ المَوْصِل أنَّ سيفَ الدين غازي لم يكن مع أبيه لما قُتِلَ، وكان بشَهْرُزور، كان أبوه قد أعطاه إياها]، فأرسل إليه زينُ الدِّين [علي] (1)، وكان زنكي قد عَهِدَ إليه أَنَّ المَوْصِل لغازي، فلما جاء استحلفه على أشياء، ثم دخلها. وأما نور الدين [محمود] (1)، فإنَّ صلاح الدين الياغبساني وسيف الدولة سوار أخذاه، ومضيا به إلى حلب، فدخلها. وكان ألب أرسلان بن السُّلْطان محمود في (¬3) عسكر زَنْكي لما قُتِل، فركب، وأحدقتْ به العساكر، وكان الوزيرُ جمال الدين حاضرًا، فأرسل إلى الحاجب صلاح الدِّين الياغبساني -وكان بينهما منافسة- يقول: المصلحة أَنْ نترك ما بيننا وراء ظهورنا، وندبِّر أمرًا نُبقي المُلْك في يد ولد صاحبنا، ونعمر بيته جزاء إحسانه إلينا، ولا ننقله إلى الأعاجم، فنهلك بعد أن نذوق الذُّلَّ والهوان، وألب رسلان قد طَمِعَ في البلاد، واجتمعتْ إليه العساكر، وإن لم نتلافَ الأمر من أوله وإلَّا اتَّسع الخَرْقُ، ولا يمكن رقعه. فأجابه، وتحالفا، وركبا إلى ألب رسلان وقالا: إنَّ أتابك كان نائبًا عنك، وأنت السُّلْطان، وباسمك كُنَّا نُطيعه. وخدعاه، وبعثا إلى زين الدِّين كوجك فَعَرَّفاه، ثم قال الوزير للملك: المصلحة أن تُسَيِّرَ الصَّلاح إلى حلب يكون عند نور الدين، وأبقى أنا عندك. فأجابه، وأخذ الوزيرُ الملك وسار به نحو الرقة، فاشتغل باللهو واللَّعِب ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ح): ثم دخل الموصل، وفي بعض التواريخ أن سيف الدين كان بشهرزور، فأرسل إليه زين الدين .. وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ح): وكان في عسكر زنكي، بزيادة لفظ "وكان"، ولعلها زيادة من الناسخ.

والخمر، فشرع الوزير يحلِّفُ الأُمراء واحدًا بعد واحد لأولاد زنكي سِرًّا، وكل من حلّفه يُسَيِّره إلى المَوْصل، وجاء به إلى سِنْجار، وأرسل سرًّا إلى الدُّزْدار (¬1) أَنَّه لا يسلِّمها إليه. فامتنعَ من تسليمها، فغضب الملك، فقال له الوزير: سِنْجار قَريةٌ، وما مقدارها! لا تسمع الملوك عنك أَنَّك تحاصر قريةً، والمصلحة تتوجَّه إلى المَوْصل، فإنَّ غازي مملوكك، ومتى بلغه وصولك خرج إليك، فاقْبِضْه، وتُسَلَّم المَوْصل. فلما قربُوا قال له الوزير: أنا أتقدَّمك لأجل الإقامات، وإنْ توقف غازي عن لقائك أَخْرجته إليك. فقال له: سر. فجاء إلى المَوْصِل، وقال لغازي: هذا الملك الذي كنتَ تخافه قد حملته إلى حضرتك، فاخرجْ إليه وأَكْرِمْه، ثم أَنْزِلْه في القلعة، ودَعْه في أكله وشُرْبه، وقد أَمَّنْتُه. ففعل غازي ذلك. وقيل: إنه أنزله بظاهر الموصل، وبعث إليه في الليل عِزَّ الدين الدُّبَيسي فأخذه وأدخله المَوْصل ليلًا، فكان آخر العهد به. وقيل: إنَّ الوزير وزين الدين كوجك وافقا الملك، وكان غازي ببغداد في خدمة السُّلْطان مسعود وبلغه الخبر، فاستأذن السُّلْطان في المسير إلى المَوْصل، فأَذِنَ له، فلما قَرُبَ منها خَرَجَ الملكُ خائفًا على نفسه، ومضى إلى الجزيرة، فبعث إليه غازي وطَيَّب قلبه، فعاد إلى المَوْصل، فأجلسوه يومًا على سرير المُلْك، ثم حجبوه. وقيل: إنَّهم قتلوه، واستقلَّ غازي بالملك. وأما نورُ الدِّين فإنَّه لما وصل حلب أَظْهَر العَدْل والإحسان، وأسقط المكُوس، وأَهْراق الخمور، وتصدَّق على الفقراء والمساكين، واستمال القلوب، فأطاعوه، ولقِّب بالملك العادل. ولما عرف معين الدِّين أُنَر صورة الحال شَرَعَ في التأَهُّبِ لقَصدِ بَعْلَبَكَّ، وانتهاز الفُرْصة فيها، فَنَهَدَ إليها وضايقها، وضربها بالمجانيق، فَقَلَّ الماءُ بالقلعة، فراسله واليها (¬2)، فَطَلَبَ الصُّلْح والعِوَض بإقطاع، فأجابه، وسلَّمها إليه في جُمادى الأولى. ¬

_ (¬1) الدزدار: بضم الدال المهملة، وسكون الزاي، وفتح الدال المهملة، بعد الألف راء، وهو لفظ عجمي معناه حافظ القلعة، وهو الوالي، ودزه بالعجمي القلعة، ودار: الحافظ، "وفيات الأعيان": 7/ 142. (¬2) هو نجم الدين أيوب بن شاذي، والد صلاح الدين، انظر "كتاب الروضتين": 1/ 174 - 175.

سعد الخير بن محمد بن سهل بن سعد

وأمّا يرنقش قاتلُ زَنْكي فانفصل من قلعة جعبر في جُمادى الآخرة لخوف صاحبها من طلبه، ووصل دمشق ظنًّا منه أنه قد أَمِن [، ومدلًا بما فعل] (¬1)، فقُبِض عليه وبُعث به إلى حلب، فَبَعَثَ به نورُ الدِّين إلى المَوْصل، فَقُتِلَ شَرَّ قِتْلَة، ومُثِّلَ به أقبح مُثْلة. وأما جوسلين فإنه راسل من كان بالرُّها من الأرمن لَمَّا بلغه قَتْلُ زنكي، ووعدهم يومًا بعينه يصل إليهم فيه، وجاء فدخل البلد، فامتنعت عليه القلعة، وبلغ الخبر نور الدين وهو بحلب، فسار إليها بعساكره، فهرب جوسلين، ودخلها نورُ الدين، فَقَتَلَ مَنْ كان بها من الأرمن، وغَنِمَ أموالهم، واستقرَّت في يدِ نور الدين، ولم يعارضه أخوه غازي. ولما مَلَكَ سيفُ الدِّين المَوْصل راسل أخاه نورَ الدِّين في الاجتماعِ به، فاعتذر بالفرنج خوفًا على نَفْسه، فَحَلَفَ له، واتَّفقا أن يجتمعا في الجزيرة، ومع كلِّ واحدٍ منهما خمس مئة فارس، فخرج سيفُ الدين من المَوْصل، وقَطَعَ نورُ الدين الفرات، ووصل الخابور، فالتقيا في اللَّيل، ولم يعرفه نورُ الدين، فلما عَرَفَه ترجَّل، وقَتلَ الأَرْضَ، وترجَّل سيفُ الدين، وتعانقا، وبكيا، وجلسا يتحدَّثان، فقال له سيفُ الدين: يا أخي، ما الذي مَنَعَك من المجيء إلى عندي، أكنتَ تخاف مني؟ والله ما خَطَرَ لي ما تكره، وأنا فلمن أريدُ الدُّنيا، وبمن أنتصر إذا فعلتُ مع أخي وأعزِّ الخَلْق عليَّ ما يكره! فطابَ قلبُ نورِ الدِّين، وافترقا، وكان سيفُ الدِّين الأكبر. [وفيها توفي: سَعد الخير بن محمد بن سهل بن سعد (¬2) أبو الحسن، الأندلسي. سافر من بلاد الأندلس إلى بلاد الهند والصِّين، ورَكِبَ البحار، وقاسى الأخطار، ثم قَدِمَ بغداد، وتفقَّه على أبي حامد الغزَّالي، وسمع الحديث، وصنَّف الكتب، وقرأ الأدب على الخطيب التِّبْريزي وغيره، وكانت وفاته ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 2/ 297 - 298، و"المنتظم": 10/ 121، و"مشيخة ابن الجوزي": 157 - 159، و"معجم البلدان": 1/ 491، و"اللباب": 1/ 176، و "سير أعلام النبلاء": 20/ 158 - 160، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

الأمير عباس شحنة الري

يوم السبت عاشر المحرَّم، وصلَّى عليه الغَزْنوي بجامع القَصر، وصلَّى عليه قاضي القضاة الزَّينبي والأعيان، ودفن إلى جانب عبد الله بن أحمد بن حنبل بوصيةٍ منه. سمع طِرَادَ بنَ محمد الزَّينبي، وابن البَطِر، وثابت بن البُنْدار، وخَلْقًا كثيرًا، وكان صالحًا ثقة، وأخرج جدِّي رحمه الله عنه في "المشيخة"، وقال: قرأتُ عليه الكثير. وأثنى (¬1) عليه] (¬2). فصل: وفيها قُتِلَ الأمير عَبَّاس شِحْنة الرَّي (¬3) كان شجاعًا شَهْمًا، جَوَادًا، يباشر الحروب بنفسه، وكان قد تغيَّر على السُّلْطان مسعود، فما زال به حتى أصلحه، فَقَدِمَ بغداد، فأكرمه وقَرَّبه، وكان ينادمه، فقال الأُمراء لمسعود: ما بقي لنا عدو غير عباس وما نأمنه. فاستدعاه في ذي القَعدة، فلما صار في دِهْليز الدَّار وَثَبَ عليه جماعة، فقتلوه، ورُمي ببدنه في دِجْلة، وبرأسه إلى ظاهر الدَّار، فثار العوام، وبكوا وضَجُّوا، وقالوا: قَتَلْتَ عَبَّاسًا الصَّائم القائم المصلي الذي ما ارتكب كبيرةً قط، وتولي علينا البلالي، وترضى بابن المُرَخِّم (¬4)؟ ! فوعدهم بعزلهما، فسكنوا، وقيل: إنَّه لم يُرْمَ بَدَنُه في الشَّطِّ، وإنما حُمِلَ إلى المشهد الذي مقابل دار السُّلْطان، فدفن فيه. وكان كثيرَ الصَّدقَات، يُكْرِمُ الوافدين عليه، وحُكي أَنَّه ما شَرِبَ خمرًا ولا زنى قط، وأنه قَتَلَ من الباطنية ألوفًا، وبنى من رؤوسهم منارةً. [وفيها توفي عبد الله بن علي بن أحمد (¬5) ابن عبد الله، أبو محمد، المقرئ الحَنْبلي، سِبْط الشيخ أبي منصور الزَّاهد. ¬

_ (¬1) "مشيخة ابن الجوزي": 157 - 159. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) انظر "المنتظم": 10/ 123، و"الكامل": 11/ 116 - 117، وقد سلفت أخباره على السنين. (¬4) انظر حاشيتنا رقم 2 ص 359. (¬5) له ترجمة في "الأنساب": 5/ 225، و"نزهة الألباء": 402 - 403، و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 3/ 25 - 28، و"المنتظم": 10/ 122، و"مشيخة ابن الجوزي": 136، و"مناقب الإمام أحمد": 639، =

عبد الرحيم بن المحسن

ولد ليلة الثلاثاء السَّابع والعشرين من شعبان سنة أربع وستين وأربع مئة، وقرأ القرآن، وسمع الحديث، وقرأ الأدب، وصنَّف الكتب في القراءات، وأَمَّ النَّاس في المسجد نحوًا من ستين سنة، وقرأ عليه القرآن خَلْقٌ لا يحصون، منهم جدِّي، وشيخنا أبو اليُمْن الكِنْدي، وسمعا منه الحديث. وذكره جدي في "مشيخته"، وقال: لم أسمع قارئًا أطيبَ نغمةً ولا أَحسنَ أداءً منه على كِبَرِ سِنِّه (¬1)، وكان ظاهر الكياسة والظَّرافة، حَسَنَ العِشْرة للعوام والخواصّ، وكانت وفاته يوم الاثنين تاسع عشرين شعبان (¬2)، وصلَّى عليه الشيخ عبد القادر بجامع القَصر وجامع المنصور، وكانت له جِنازةٌ عظيمة. قال جدي: ما رأيت مثلها، كان أول الناس عند قبر أحمد، وآخرهم في نهر المعلى، وغُلِّقت أسواق بغداد، ودفن في دكة أحمد بن حنبل عند جده أبي منصور (¬3)، وسمع خلقًا لا يحصون، وكان صائمًا قائمًا] (¬4). عبد الرحيم (¬5) بن المُحَسِّن ابن عبد الباقي، أبو محمد، التَّنوخي. كان شاعرًا فصيحًا، مات بميَّافارِقين سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة إحدى وأربعين، ومن شعره: [من البسيط] هاجَ اشتياقَك بَرْقٌ خاطِفٌ لمعا ... وَهْنًا ونوحُ حمامِ الأَيك قد سَجَعا أضاءَ منه الحِمى لمَّا تألَّقَ مِنْ ... أكنافِ نَجْدٍ فأذكى الوَجْدَ والجَزَعا ¬

_ = و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 118، و"إنباه الرواة": 2/ 122 - 123، و"معرفة القراء الكبار": 2/ 960 - 963، و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب: 1/ 209 - 212، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 130 - 132، و"المنهج الأحمد": 3/ 133 - 137، وفيهما تتمة مصادر ترجمته. (¬1) "مشيخة ابن الجوزي": 139. (¬2) هذا وهم ربما من المصنف أو المختصر اشتبه عليه شهر ولادته بشهر وفاته، والصحيح الذي أجمعت عليه مصادر ترجمته أنه توفي في شهر ربيع الآخر وإن اختلفوا في تحديد يوم وفاته، ففي "المنتظم" ثامن عشر، وفي "إنباه الرواة": ثامن عشرين، وفي "السير": في الثاني والعشرين منه، والله أعلم. (¬3) في "المنتظم": 10/ 122. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ح) عبد الرحمن، وهو تحريف، وله ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": 42/ 178 - 179 والأبيات فيه، ما عدا البيت الأخير، مع اختلاف في بعض الألفاظ.

محمد بن المبارك

يا بَرْقُ ما العَهْدُ مَنْسِيٌّ لديكَ ولا ... حَبْلُ الهوى رَثَّ لما بِنْتَ فانْقطعا أقسمتُ بالحِجرْ والبيتِ الحرام ومَنْ ... أَهَلَّ معتمرًا من أهله (¬1) وسعى إنَّ الأُلى بنواحي الغُوطتَينِ وإنْ ... شَطَّ المَزَارُ بهمْ يومًا وإنْ شَسَعا أَشْهى إلى ناظري من كلِّ ما نَظَرَتْ ... عَيْني ومن (¬2) مَسْمَعي من كلِّ ما سُمِعا ولا تعوَّضْتُ عنهمْ بالحِمى عِوَضًا ... نَعَمْ سقى الله سُكَّانَ الحِمى ورعى محمد بن المبارك (¬3) ابن علي، أبو عبد الله. كان شاعرًا لبيبًا، ومن شِعْره في مُغَنٍّ بارد اسمه محمود: [من الخفيف] لو أراد الإلهُ بالأَرْضِ خِصبًا ... ما تغنَّى مِنْ فوقها محمودُ كلما أَنْبَتَتْ يسيرًا من العُشْـ ... ـــــبِ وغنَّى غطَّى عليه الجليدُ مُسْلم بن الخَضِر بن مُسْلم (¬4) ابن قسيم، أبو المَجْد الحَمَوي الشاعر الفاضل، [ذَكره العماد في "الخريدة"، ومَدَحَ زَنْكي وولده نور الدين محمود] (¬5). ومن شعره: [من البسيط] ¬

_ (¬1) في (ح): من حوله. (¬2) في (ح): وفي. (¬3) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 4/ 380 - 381، والبيتان فيه. (¬4) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 16/ 463 - 465، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 433 - 480، و"كتاب الروضتين": 1/ 91، 124، 425، و"الوافي بالوفيات": 25/ 555 - 563، و"فوات الوفيات": 4/ 134 - 135. ولم يذكر ابن عساكر تاريخ وفاته، وذكر العماد في "الخريدة" أنه توفي سنة نيف وأربعين وخمس مئة، ولم يحدد سنة وفاته، وقد ذكرها السبط في وفيات هذه السنة (541 هـ)، وتابعه على ذلك الصفدي في "الوافي بالوفيات"، وابن شاكر الكتبي في "فوات الوفيات"، وفي هذا التحديد نظر، لأن العماد ذكر له قصيدة يمدح فيها معين الدين أُنَر سنة (542 هـ)، انظر "الخريدة": 1/ 457. وقد جمع شعره الدكتور سعود محمود عبد الجابر، ونشر في دار البشير، عمان سنة 1995، وهي نشرة تعوزها الدقة. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الثانية والأربعون وخمس مئة

أهلًا بطيفِ خيالٍ زارني (¬1) سَحَرًا ... فقمتُ واللَّيلُ قد شابَتْ ذوائِبُهُ أقبِّلُ الأَرْضَ إجلالًا لزَوْرَيهِ ... كأنَّما صدَقَتْ عندي كواذِبُهُ ومودِعُ القلبِ من نار الجَوَى حُرَقًا ... قضى بها قَبْلَ أَنْ تُقْضى مآربُهُ تكاد مِن ذِكْرِ يوم البَيْنِ تَحْرِقُه ... لولا مدامعُ، أنفاسٌ تغالِبُهُ (¬2) وقال: [من المديد] مُلِّكوا حتى إذا مَلَكُوا ... أخذوا فوقَ الذي تركوا ما على الأحبابِ إنْ تَلِفَتْ ... مُهْجتي في حُبِّهم دَرَكُ عاقبوني بالجفا ويدي ... بذيولِ العَفْو تَمْتَسِكُ هتكوا سِتْر الوصالِ فوا ... حَرَبا من عُظْمِ ما هتكوا وطريقُ الوَصلِ واضحةٌ ... فلماذا غَيرَها سَلَكُوا (¬3) السنة الثانية والأربعون وخمس مئة فيها ولَّى المقتفي عونَ الدِّين يحيى بنَ محمد بن هُبيرة كتابة الزِّمام، وعَزَلَ عنها مهدويه (¬4) في المحرَّم. وفي ربيع الأول عُزِلَ أبو نَصر بن جَهِير من الوزارة، وسكن بالدَّار التي بناها بباب المراتب [على شاطئ دجلة عند باب الأزج، وهي التي آل أمرها إلى أن] (¬5) اشترتها بنفشا جارية المستضئ، ووقفتها مدرسةً للحنابلة، [وسلَّمَتها إلى جَدِّي رحمه الله في سنة سبعين وخمس مئة، فَذَكَرَ بها الدَّرْسَ، وأقام فيها، وهي اليوم تُعْرف به] (¬6). وفي جُمادى الأُولى استوزر الخليفة أبا القاسم عليَّ بن صدقة، نقله من المخزن إليها، واستدعاه ومعه قاضي القضاة الزَّينبي وجماعةٌ من الخواص، فشافهه بها، وخَلَعَ عليه، ومضى إلى الدِّيوان، وقرأ ابنُ الأَنْباري كاتبُ الإنشاء عهدَه. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح) و (ش): جاءني، والمثبت من (م). (¬2) الأبيات في "الخريدة" قسم شعراء الشام: 1/ 434. (¬3) الأبيات في "الخريدة": 1/ 465. (¬4) في "المنتظم": 10/ 124 ابن مهدويه. (¬5) في (ع) و (ح): بباب المراتب وهي التي اشترتها .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وقَدِمَ ابنُ العَبَّادي في رسالةِ السُّلْطان إلى الخليفة، فالتقاه أربابُ الدَّوْلة سوى الوزير. وولى المقتفي يحيى بن جعفر المخزن، ولقبه زعيم الدِّين. وفي رمضان هرب إسماعيل بن المستظهر أخو الخليفة من الدَّار، وخرج وعلى رأسه طبق، فاختبأ بباب الأَزَج يومين، وقامت على الخليفة القيامة، ووثب الخَدَمُ في طلبه، فجاؤوا به، فَرَدَّه إلى الدَّار، واحتيط عليه. وفيها فتح نور الدين حِصن أَرْتاح وكَفْرلاثا من بلد حلب. وفيها استولى عبد المؤمن بن علي على مَرَّاكُش مدينة المغرب بالسَّيف، وقَتَلَ مَنْ بها من المقاتلة، ولم يتعرَّض للرَّعية، وأحضر اليهود والنَّصارى، وقال: إنَّ الإمام المهدي أمرني أن لا أُقِرَّ النَّاس إلا على مِلَّة الإسلام، وأنتم تزعمون أنَّ بعد الخمس مئة يظهر من ينصر شريعتكم، وقد انقضتِ المُدَّة، وأنا مخيِّركم بين ثلاث: إمَّا أَنْ تُسْلِمُوا، وإما أن تلحقوا بدار الحَرْب، وإمَّا [أن] (¬1) أضرب رقابكم. فأسلم منهم طائفة، ولحق بدار الحَرْب أُخرى. وأَخْرَبَ الكنائس والبيع ورَدَّها مساجد، وأبطل الجِزْية، وفعل ذلك في جميع ولاياته، ثم فَرَّق بيتَ المال وكَنَسَه، وصلَّى فيه، وأمر النَّاسَ بالدُّخول إليه والصَّلاة [فيه] (1) كما فَعَلَ أميرُ المؤمنين عليٌّ عليه السَّلام، وقَصَدَ حُسْنَ السِّيرة، وليعلم النَّاس أنَّه لا يُؤْثر جَمْعَ المال، ولا يدَّخر شيئًا. ثم أقام معالم الإسلام والحدود على الوجه الشَّرْعي مع السِّياسة الكاملة. وقال: مَنْ ترك الصَّلاة ثلاثة أيام، فاقتلوه. وشدَّد في الأمور، فلم يَدَع منكرًا إلَّا وأزاله، وكان يُصَلِّي بالناس الصَّلوات الخمس، ويقرأ في كل يوم سُبعًا من القرآن بعد صلاة الصُّبْح، ويَلْبَسُ الصُّوف، ويصوم الاثنين والخميس، ويَقْسِمُ الفيء على الوجه الشَّرْعي، فأحبَّه النَّاس، [ومالوا إليه] (1) لِنَسْخه أفعال مَنْ تقدَّمه. وحجَّ بالنَّاس قيماز، ولم يَزُرْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لقِلَّة الماءِ في الطَّريق. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

دعوان بن علي بن حماد

فصل وفيها توفي: دعَوْان بن علي بن حَمَّاد (¬1) ابن صدقة [الجُبِّي] (¬2) أبو محمد الضَّرير. [ولد سنة ثلاثٍ وستين وأربع مئة بجُبَّة، وهي قرية عند العَقْر في طريق خراسان (¬3). سمع الحديث الكثير، وقرأ القرآن، وتفقه على أبي سَعد المُخَرِّمي، و] (2) كان صالحًا عفيفًا على مذهب السَّلف، [انتفع به خلق كثير، و] (2) توفي في ذي القَعدة، ودُفِنَ [عند أبي بكر الخلالِ] (2) بباب الأزَج. قال عبد الله الجُبَّائي (¬4): رأيته في المنام بعد موته وعليه ثيابٌ بيضٌ، وعِمامة بيضاء، وهو يمضي إلى الجامع لصلاة الجُمُعة، فأخذتُ بيده، ومشيت معه، وقلتُ له: أيش لقيت من الله تعالى؟ فقال لي: عُرِضْتُ عليه خمسين مرة، وقال لي: أيش عملت؟ قلتُ: قرأتُ القرآن وأقرأته. فقال لي: أنا أتولاك، أنا أتولاك، أنا أتولاك. قالها ثلاثًا. قال عبد الله: فأصابني الوَجْد، وصحت وانتبهتُ (¬5). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 127 - 128، و"معجم الأدباء": 11/ 112 - 113، و"معجم البلدان": 2/ 97، و"معرفة القراء الكبار": 2/ 971 - 972، و "العبر" للذهبي: 4/ 115، و"الوافي بالوفيات": 14/ 18، و"نكت الهميان": 150 - 151، و"ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 212 - 213، و"غاية النهاية": 1/ 280 - 281، و "شذرات الذهب": 4/ 131. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) الجبة اسم لغير موضع، والتي ينسب إليها دعوان هي قرية من سواد بغداد من أعمال النهروان، انظر "معجم البلدان": 2/ 97، و"التكملة لوفيات النقلة": 2/ 154، و"معرفة القراء": 2/ 971. (¬4) في النسخ الخطية: أبو عبد الله، بزيادة "أبو"، وهو خطأ، وسيأتي على الصواب في آخر الخبر، وعبد الله الجبائي هو عبد الله بن أبي الحسن بن أبي الفرج الشامي الجبائي، الإمام القدوة، قدم بغداد سنة (540 هـ)، وله إحدى وعشرون سنة، فصحب الشيخ عبد القادر، وحصَّل الأصول. ثم استوطن أصبهان، وتوفي سنة (605 هـ)، وكان ذا قبول ومنزلة وصدق وتأله، والجبة التي ينسب إليها هي قرية من أعمال طرابلس الشام، وقد خطَّأ ياقوت في نسبته الجبائي، فقال: كذا كان ينسب نفسه، وهو خطأ، والصواب الجبي، انظر ترجمته في "معجم البلدان": 2/ 109، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 488. (¬5) انظر الخبر في "المنتظم": 10/ 127، وقد كتب به عبد الله إلى ابن الجوزي.

رضوان بن الولخشي

[سمع أبا محمد التميمي وغيره] (¬1). رِضوان بن الوَلَخْشي (¬2) أمير الجيوش بمِصر، كان قد استولى على صاحبها، وحَجَرَ عليه، فَدَسَّ إليه السُّودان، فوثبوا عليه، فقتلوه، واتفق نزولُ المطر في غير أنواء، فقال ابن الزبير (¬3) يرثيه: [من الطويل] بنفسيَ مَنْ أبكى السَّمواتِ فَقْدُهُ ... بغيثٍ ظَنَّناهُ نَوَال يمينهِ فما اسْتَعْبَرَتْ إلا أسىً وتأسُّفًا ... وإلا فماذا القَطْرُ في غير حينهِ (¬4)! عمر بن أبي الحسن، أبو شجاع البِسْطامي (¬5) وعظ ببغداد، وأنشد لأبي الفرج بن هِنْدو (¬6): [من الطويل] تَعَرَّضَتِ الدُّنْيا بلذَّةِ مَطْعَمٍ ... ورَوْنَق مَوْشيٍّ من اللُّبْس رائقِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) انظر أخباره في "الاعتبار" لابن منقذ: 52 - 56، و""نزهة المقلتين في أخبار الدولتين" لابن الطوير: 28، 29، 44، 52 - 46، و"الكامل": 11/ 48 - 49، و"اتعاظ الحنفا": 3/ 182 - 185، و"خطط المقريزي": 2/ 36، و"النجوم الزاهرة": 5/ 281، وفي "الكامل" ذكر مقتله سنة (543 هـ). (¬3) هو المهذب أبو محمد، الحسن بن علي بن الزبير، من شعراء مصر الكبار في عصره، توفي سنة (561 هـ)، انظر ترجمته في "خريدة القصر" قسم شعراء مصر: 1/ 204 - 225، و"معجم الأدباء": 9/ 47 - 70، و"وفيات الأعيان": 1/ 161، و"فوات الوفيات": 1/ 137 - 341، و"الطالع السعيد": 194 - 203. (¬4) البيتان في "الخريدة" قسم شعراء مصر: 1/ 222، و"معجم الأدباء": 9/ 68 - 69، و"فوات الوفيات": 1/ 338. (¬5) هو عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد البسطامي، له ترجمة في "الأنساب"، 2/ 214، و"المنتظم": 10/ 128، و"مشيخة ابن الجوزي": 148 - 149، و"إنباه الرواة": 2/ 102 (في ترجمة ابن الخشاب)، و"العبر" للذهبي: 4/ 178 - 179، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 452 - 454، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وعندهم ما خلا ابن الجوزي وفاته سنة (562 هـ)، ولم يذكر السمعاني وفاته، لأنهما ماتا في العام نفسه. وقد اضطرب سبط ابن الجوزي في سنة وفاته، فذكره في وفيات هذه السنة متابعًا في ذلك جده في "المنتظم": 10/ 128، وسيذكره كذلك في وفيات سنة (570 هـ)، وتابعه على ذلك الزركلي في "الأعلام": 5/ 61. (¬6) في (ع) و (ح) ابن المنذر، وهو تحريف، والمثبت من "مشيخة ابن الجوزي": 149. وابن هندو هو علي بن الحسين بن هندو، أبو الفرج، كان كاتبًا أديبًا شاعرًا، متفلسفًا، وهو أحد كُتَّاب الإنشاء في ديوان عضد =

فاطمة خاتون

أرادَتْ سَفَاهًا أَنْ تُمَوِّه قُبْحَها ... على فِكَرٍ خاضَتْ بحارَ الدَّقائِقِ فلا تخدعينا بالسَّرابِ فإنَّنا ... قَتَلْنا نُهانا (¬1) في طِلابِ الحقائقِ فاطمة خاتون (¬2) بنت السُّلْطان محمد بن ملكشاه، زوجة المقتفي ببغداد في ربيع الأَوَّل، وصلَّى عليها قاضي القضاة الزينبي في صحن السَّلام، وحُملت في الزَّبْزب إلى الرُّصافة، فدفنت قريبًا من المستظهر بالله. محمد بنُ المُظَفَّر بنِ عليِّ بنِ المُسْلمة (¬3) ولد سنة أربع وثمانين وأربع مئة، وسَمِعَ الحديث، وتفرَّد وتعبَّد، وجعل داره التي في دار الخليفة رِباطًا للصُّوفية، وتوفي ليلة الجُمُعة تاسع رجب، وحُمِلَ إلى جامع القَصر، وأُزيلت شُقَّةٌ من شُبَّاك المقصورة التي فيها المحراب ليحصل التَّابوت في المحراب، فيصَلِّي عليه الخليفة، وتقدَّم في الصلاة عليه وزير الخليفة ابنُ صَدَقَة، ودُفِنَ عند جامع المنصور قريبًا من رباط الزَّوْزني. هبة الله بن علي بن محمد (¬4) ابن حمزة، أبو السَّعادات العَلَوي، النَّحْوي، ويعرف بابن الشَّجري. ¬

_ = الدولة، وتوفي نحو سنة (420 هـ)، ترجم له الثعالبي في "يتيمة الدهر": 3/ 459 - 462، و"معجم الأدباء": 13/ 136 - 146، و"فوات الوفيات": 3/ 13 - 18. و "الوافي بالوفيات": 21/ 13 - 18، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬1) قتلنا ساقطة من (ع)، وفي (خ): نهانا نهانا، والمثبت من "مشيخة ابن الجوزي": 149، و"معجم الأدباء": 13/ 145، و"الوافي بالوفيات": 21/ 15. (¬2) لها ترجمة في "المنتظم": 10/ 128، و"الكامل": 11/ 123. (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 129، و"الكامل": 11/ 123، و"الوافي بالوفيات": 5/ 35. (¬4) له ترجمة في "نزهة الألباء": 404 - 406 - وقد ختم به كتابه- و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 3 / م 1/ 52 - 54، و "المنتظم": 10/ 130، و"معجم الأدباء": 19/ 282 - 284، و"إنباه الرواة": 3/ 356 - 357، و"وفيات الأعيان": 9/ 45 - 50، و"إشارة التعيين": 370، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد": 419 - 421، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 194 - 196، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وقد ترجم له ترجمة ضافية الدكتور محمود الطناحي في مقدمة تحقيقه لكتاب "أمالي ابن الشجري".

السنة الثالثة والأربعون وخمس مئة

انتهى إليه عِلْم النَّحْو والعربية ببغداد، وسمع الحديث، وطال عُمُره، وتمتَّع بجوارحه وعقله، وقال: ما سَمِعْتُ في المَدْح أبلغ من شعر أبي فراس بن حَمْدان: [من الكامل] وأمامك الأعداءُ تَطْلبُهُمْ ... ووراءَكَ القُصَّادُ في الطَّلَب فإذا سَلَبْتَهُمُ وَقَفْتَ لهم ... فَسُلِبْتَ ما تحوي من السَّلَبِ (¬1) وما سمعتُ في الذَّمِّ أبلغ [من بيتٍ لمسكويه] (¬2): [من الطويل] وما أنا إلَّا المِسْكُ ضاعَ وعندكم ... يضيعُ وعند الأكرمينَ يَضُوعُ السنة الثَّالثة والأربعون وخمس مئة فيها فارق جماعةٌ من الأُمراء السُّلْطان مسعود، وكان على هَمَذَان، بسبب صبيٍّ كان عنده يقال له خاصبك بن البلنكري (¬3) كان قد استولى عليه، وقصدوا بغداد، ومعهم محمد شاه بن محمود، وهم: البقش وألدكز وقيصر وألطرنطاي وعليّ بن دُبَيس وغيرهم، ونزلوا شَهْرابان (¬4)، فانهزم النَّاس من بين أيديهم، وقُطِعَ الجسر ببغداد، [يقال: إنَّ شحنة مسعود ببغداد قطع الجسر] (¬5)، وكان الغزنوي الواعظ قد تولَّى عمله، وعَمِلَ له درابزينات من الجانبين، فبعث الخليفةُ ابنَ العَبَّادي الواعظ إليهم، يقول: أميرُ المؤمنين يقول لكم في أي شيء جئتم؟ وما مقصودكم؟ فإنَّ النَّاسَ قد انزعجوا بسبب مجيئكم. فقالوا: نحن عبيد هذه العتبة الشريفة، وعبيد السُّلْطان ومماليكه، وما فارقناه إلّا خوفًا من خاصبك، فإنه أفنى الأُمراء؛ قَتَلَ عبدَ الرحمن بن طُغايرك (¬6) وعَبَّاسًا وبوزبا، وعدُّوا جماعة، وما عنِ النُّفوس عِوَض، فإمَّا نحن وإمَّا هو، فإنَّه هو الذي يحمل السُّلْطان على قَتْلنا، وما نحن خوارج ولا عصاة. ¬

_ (¬1) لم أجد البيتين في "ديوانه" المطبوع بتحقيق د. سامي الدهان، بالمعهد الفرنسي بدمشق، 1363 هـ-1944 م بيروت. (¬2) في (ع) و (ح) غير واضحة، والمثبت ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 130. (¬3) قتل بعد موت مسعود سنة (548 هـ)، انظر "المنتظم": 10/ 153 - 154، و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 160 - 163، و"تاريخ دولة آل سلجوق": 208 - 213. (¬4) قرية كبيرة شرقي بغداد. "معجم البلدان": 3/ 375. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) في (ع) و (ح) طويرك، ومثله في "المنتظم": 10/ 132، والصواب مثبت من "الكامل": 11/ 116، و"تاريخ دولة آل سلجوق": 196، 199.

ثم دخلوا بغداد في ربيع الأَوَّل، ومدُّوا أيديهم إلى ما يختص بالسُّلْطان، وكبسوا خانات باب الأَزَج، فأخذوا الغَلَّة منها، فثار العوام عليهم، وقاتلوهم، فبعث الخليفةُ إلى مسعود يقول: أما الشِّحْنة الذي من قِبلك فقد هَرَبَ إلى تكْريت هو وأمير الحاج، وقد أحاط القوم بالبلد، ومدُّوا أيديهم وأفسدوا، وما يمكنني أَنْ أتَّخذ عسكرًا لأجل العَهْد الذي بيننا وبينك. فكتب إليه: قد برئت ذِمَّة أمير المؤمنين من العهد الذي بيننا، وقد أَذِنْتُ لك أن تتخذ العسكر، وتحتاط لنفسك والمسلمين. فحينئذٍ استعدَّ الخليفة، وأمر باستخدام العساكر، وأَظْهَرَ السُّرادق والخِيَم، وسدَّ العقود، وحفر الخنادق، والقومُ ينهبون ما حول البلد من الغَلَّات والأموال، وعَبَرَ طائفةٌ منهم إلى الجانب الغربي، فقسَّطوا على أهله أموالًا (¬1)، وساروا إلى الدُّجَيل (¬2)، وأخذوا بناتِ (¬3) النَّاس ونساءَهم، وجاؤوا بهم إلى الخيام، وجاءت زواريق فيها غِلالٌ فأخذوها، ونشبتِ الحرب، وقُتِلَ جماعةٌ من الفريقين، فأرسل الخليفة إليهم الغَزْنوي الواعظ يقبِّح عليهم ما فعلوا، وقال: لو جاء الكُفَّار ما فعلوا مِثْلَ هذا الذي فعلتم، أيُّ ذنب لأهل الرَّساتيق والقُرى؟ واستنقذ منهم النِّساء وبعض المواشي، وجاء أصحابها فمن عرف شيئًا أخذه. وفي جُمادى الأولى جلس الخليفة في منظرة الحَلْبة (¬4)، وعَرَضَ العساكر، وأمر العوام بلُبْس السِّلاح، والذَّبِّ عن نفوسهم وأموالهم، وكان البقش نازلًا عند دار السُّلْطان، فرحل إلى ظاهر البلد تطييبًا لقلب الخليفة، وقطعا الحرب، وبعث الخليفةُ فَسَدَّ باب السُّوق من ناحية دار السلطان، وكانوا يمتارون من سوق السُّلْطان، فاصبحوا إلى باب البلد، فرأوه مسدودًا، فجاء منهم ألف فارس إلى ناحية الجَعْفرية، فثلموا في السُّور عِدَّة مواضع، وصَعِدُوا، وبعثوا الرَّجَّالة، ففتحوا الباب الذي سَدَّه الخليفة، ونقضوا البناء، وكسروا الباب، وأخذوا حديده، وبعث البقش رسولًا إلى الخليفة يقول: لأيِّ شيء سددتم في وجوهنا الباب، وإنما كُنَّا نسترزق من سوق السلطان؟ فلم ¬

_ (¬1) في (ع) الأقساط، والمثبت من (ح). (¬2) الدجيل: نهر مخرجه من أعلى بغداد، بين تكريت وبينها، مقابل القادسية، "معجم البلدان": 2/ 443. (¬3) في (ع) بنين، والمثبت من (ح)، وهو الموافق لما في "المنتظم": 10/ 132. (¬4) الحلبة: محلة كبيرة واسعة في شرقي بغداد عند باب الأزج. "معجم البلدان": 2/ 290.

يلتفت إلى قوله، وأصبح العوام، فخرجوا إليهم، فقاتلوهم، فاستجرُّوهم، فأَبعدوا عن البلد، وخرج عليهم الكمين، فقتلوا من العوام نحوًا من خمس مئة، ولم يتجاسر أحدٌ أن يخرج من أهل المُقَتَّلين، فنادوهم: تعالوا خذوا قتلاكم. فلمَّا كان عشية ذلك اليوم، وهو سادس جُمادى الآخرة جاء الأُمراء إلى الرَّقَّة المقابلة للتَّاج، ورموا أنفسهم، وقالوا: ما عندنا مما جرى عِلْم، وإنما هو فعلُ أَوْباشٍ لم نأمرهم به. فلم يلتفت إليهم. فقالوا: نحن قيامٌ على رؤوسنا ما نبرح أو يعفو عنَّا أمير المؤمنين. فَعَبَرَ إليهم خادِمٌ وقال: قد عفا عنكم، فامضوا واستحلُّوا من أهل القَتْلى. ثُمَّ أمر الخليفةُ بإصلاحِ ما هدموا من السُّور. ثم اختلف العسكر، فأخذ ألدكز الملك محمد شاه، وطلب بلاده، وسار البقش وابنُ دُبَيس والطرنطاي نحو الحِلَّة، وسكنَ النَّاس. وقبضَ الخليفةُ على وزيره ابن صدقة، ومات قاضي القضاة الزَّينَبي، وتقلَّد القضاء علي بن أحمد بن علي بن محمد الدَّامَغَاني. وفي ربيعٍ الأوَّل نزلتِ الفرنج على دمشق؛ خرج ملكُ الألمان (¬1) من البحر في جيوشٍ لا تحصى، واجتمع إليه ملوكُ السَاحل [وكنودها] (¬2)، واجتمعوا في البيت المقدس، وصلُّوا صلاةَ الموت، وعادوا إلى عكا، وفرَّقوا سبع مئة ألف دينار في العساكر، ولم يُظْهروا أنهم يريدون دمشق، وَوَرُّوا بغيرها، وهرب المسلمون من بين أيديهم، وجمعوا الغِلال والأَتْبان (¬3) وأحرقوها، وكان صاحبُ دمشق مجير الدِّين أبق بن محمد بن بوري بن طُغْتِكِين، ومُدَبِّر الأمور معين الدين أُنَر، فلمَّا كان يوم [السبت] (2) سادس ربيع الأول لم يشعر أهل دمشق إلا وملك الألمان قد ضُرِبَتْ خيمته [على باب دمشق] (2) في الميدان الأخضر، وكانوا ستة آلاف فارس وستين ألف راجل، وقيل: كانوا مئة ألف راجل وعشرة آلاف فارس، وقيل: إنهم تفرَّقوا على البلد، فنزل ملك الألمان في الميدان [الأخضر] (2) في ستة آلاف فارس وثلاثين ألف ¬

_ (¬1) هو كنراد الثالث. Conrad 111 (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) الأتبان جمع، مفردها تبنة، وهي ما تهشم من سيقان القمح والشعير بعد درسه تعلفه الماشية، ويجمع أيضًا على تبن، انظر "معجم متن اللغة": 1/ 387، و"المعجم الوسيط": 1/ 82.

راجل، ونزل قرواس (¬1) ملك السَّاحل على الشَّرف الشّمالي في ثلاثة آلاف فارس وعشرين ألف راجل، ونزل الكُنُود والخَيَّالة على الشَّرف القِبْلي في مئة ألف راجل، واجتهد المسلمون في إحصائهم فلم يقدروا، وخرج إليهم معين الدين ومجير الدِّين في مئة ألف راجل سوى الفرسان، فقاتلوهم في اليوم الأول قتالًا شديدًا، فَقُتِلَ من المُسْلمين نحو مئتين، [منهم الفِنْدلاوي، وسنذكره في موضعه] (¬2)، وكان القتال يعمل ليلًا ونهارًا، وضايقوا البلد حتى نزلوا على أبوابه. وكان [معين الدين] (2) أُنَر قد كاتب سيفَ الدِّين غازي صاحب المَوْصِل قبل [نزول الفرنج على دمشق يستصرخ به، ويخبره بشدة بأس الفرنج، ويقول: أَدْركْنا. فسار سيف الدين في] (¬3) عشرين ألفًا، فنزل بحيرة حِمْص، وبعث إلى [معين الدين] (2) أُنَر يقول: قد حضرتُ بجندٍ عظيم، ولم أترك ببلادي مَنْ يحمل السِّلاح، فإنْ أنا جئتُ ولقَينا الفرنج وكانت علينا هزيمة وليست دمشق لي ولا لي بها نائب لم يَسْلَمْ منا أحد، وأخذتِ الفرنجُ دمشق وغيرها، فإنْ أحببتَ أن أقاتلهم، فَسَلِّم البلدَ إلى مَنْ أَثِقُ به، وأنا أحلف لك إن كانت النُّصرة لنا [عليهم أنني] (2) لا أدخل دمشق، وأَرْجعُ إلى بلادي، فَمَطَلَه [معين الدين] (2) أُنَر، وبعث إلى السَّواحلة يقول: هذا ملك الشَّرْق نازِلٌ على حِمْص، وليس لكم به طاقة، فإن رَحَلْتُم وإلا سَلَّمْتُ دمشق إليه، وهو يُبيدكم، وأنا أُعطيكم بانياس. فأجابوه، وحَسَّنوا للغرباء الرَّحيل، فاتَّهموهم. وكان زمان الفواكه، فنزل الفرنجُ الوادي، فأكلوا منها شيئًا كثيرًا، فانحلَّتْ أجوافُهم، ومات منهم خَلْقٌ كثير، ومَرِضَ الباقون. ولمَّا ضاق بأهلِ دمشق الحال أخرجوا الصَّدقَات والأموال على قدر أحوالهم، واجتمع النَّاس في الجامع: الرِّجال والنِّساء والصِّبْيان، ونشروا مُصحف عثمان رضوان الله عليه، وحثوا الرَّماد على رؤوسهم، وبكوا وتضرَّعوا، فاستجاب الله لهم، ¬

_ (¬1) كذا في (ع) و (ح)، وفي (م) قرولش، وفي (ش) فرويس، والمراد على الأغلب هو ملك بيت المقدس، ويراد بالساحل أي فرنج الشام تمييزًا لهم عن الفرنج القادمين مع الحملة، وقد عُبِّر عنهم بالغرباء، وكان ملك بيت المقدس وقتئذٍ هو بلدوين الثالث، وكان تحت وصاية أمه، انظر "تاريخ الحروب الصليبية" لرنسيمان (الترجمة العربية): 2/ 451. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ح): قبل نزولهم يستصرخ به، فسار في عشرين ألف، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وكان مع ملك الألمان قِسِّيسٌ [كبير] (1)، طويل اللحية يقتدون به، فأصبح في اليوم العاشر من نزولهم على دمشق، فركب حماره، وعلَّق في عنقه صليبًا، وجعل في يديه صليبين وعلَّق في عُنُق حماره صليبًا، وجميع الأقساء بين يديه بالأناجيل والصُّلْبان، وركبتِ الملوكُ والخَيَّالة والرَّجَّالة، ولم يتخلَّف من الفرنجية أحد إلا من يحفظ الخيام، وقال لهم القِسِّيس: قد وعدني المسيح أنني أفتح اليوم دمشق. وقصدوا البلد، وفتح المسلمون الأبواب واستسلموا للموت، وغاروا للإسلام، وحملوا حملة رجلٍ واحد، وكان يومًا لم يُرَ في الجاهلية والإسلام مِثْلُه، وقصد واحد من أحداث دمشق القِسِّيس، وهو في أَوَّلِ القوم، فضربه، فأبان رأسه، وقَتَلَ حماره، وحَمَلَ الباقون، فانهزم الفرنج، وقتلوا منهم عشرة آلاف، وأحرقوا الصُّلْبان والخيام بالنِّفْط، وتبعوهم إلى الخيام، وحال بينهم الليل، فأصبحوا وقد رحلوا، ولم يبق لهم أثر، وبعثوا يطلبون من أُنَر بانياس، فقال: إنما وعدتكم بها إذا رَحَّلْتم [الفرنج] (¬1)، وهذا فِعْلُ الله تعالى. فقالوا: نحن نعود إلى دمشق، ونقيم عليها فلا نرحل حتى نأخذها. وكانوا قد أحرقوا الربوة، وهدموا القِباب، وقطعوا الأشجار، ودرسوا ظاهر دمشق، فرأى أُنَر أن يفدي دمشق ببانياس (¬2)، وكان سيف الدين قد طَمِعَ فيها، فأعطاهم بانياس، وبقيت في أيديهم حتى فتحها نور الدين [محمود] (1) رحمه الله (¬3). وكان قد وقع بدمشق أيام الحصار طاعون، فقال أبو الحَكَم الأَنْدلسي (¬4): [من الكامل]. ولقد حَلَلْتُ من الشَّآم ببُقْعَةٍ ... أَعْزِزْ بساكنِ رَبْعها المسكونِ أضحى مجاورَها العدوُّ فأَهْلُها ... شهداءُ بين الطَّعْنِ والطَّاعونِ (¬5) وعاد سيف الدِّين إلى بلاده. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (م): فرأى معين الدين من المصلحة أن يحفظ دمشق ببانياس. وفي (ش): من المصلحة بقاء دمشق ببانياس. (¬3) كان فتحها سنة (560 هـ). (¬4) هو عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الأندلسي، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (549 هـ). (¬5) "نفح الطيب": 2/ 637 - 639.

علي بن الحسين بن محمد بن علي

وفيها أزال نور الدين في حلب من الأَذان "حيَّ على خير العَمَل" وسبّ الصَّحابة - رضي الله عنهم - وقال: مَنْ عاد إليه قَتَلْتُه. [وساعده على ذلك الفقيه برهانُ الدِّين أبو الحسن علي الحنفي (¬1)، وغيره] (¬2). وفيها ظهر بمِصر رجلٌ من ولد نزار يطالب بالخلافة، واجتمع إليه خَلْقٌ كثير، وجَهَّز إليه الحافظ العساكر، فالتقوا بالصَّعيد (¬3)، فَقُتِلَ من الفريقين جماعة، ثم انهزم النِّزاري، وقُتِلَ ولده. وفيها أغار نورُ الدِّين على بلاد الفرنج، وفتح عِدَّة حصون، وأَسَرَ وقَتَلَ، واجتاز بأنطاكية، وبات قريبًا منها [آمنًا أَنَّه في بلده، فبيَّتَهُ البرنس صاحِبُها ليلًا، وهم غارُّون، فما نجا إلا القليل، وهرب نور الدِّين إلى حلب، وكان ذلك غَفْلَةً من أصحابه حيثُ لم يكن لهم يَزَك (¬4)] (2). وحجَّ بالنَّاس قَيْماز. فصل: وفيها توفي عليُّ بنُ الحسين بن محمد بن علي (¬5) أبو القاسم، قاضي القضاة، الزَّينبي. ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد البَلْخي، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (548 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ذكر ابن القلانسي في "ذيل تاريخ دمشق": 469 أن مكان الوقعة كان بالقرب من الإسكندرية، وفي "اتعاظ الحنفا": 3/ 186: وواقعهم على الحمامات. وعلق محققه بقوله: لعل المقصود به ذات الحمام الواقعة في الصحراء الغربية على مسافة يوم من الإسكندرية. (¬4) اليزك: كلمة فارسية تعني طليعة الجيش، وكانت هذه الطليعة تتقدم الجيش لاستكشاف جبهة العدو قبل توجه الجيش نحوه، انظر "الجيش الأيوبي": 177 - 180. (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 135 - 136، و"الكامل": 11/ 146، و"الوافي بالوفيات": 21/ 51، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 207 - 208 وفيهما تتمة مصادر ترجمته. والزينبي: نسبة إلى زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، قال السمعاني: وظني أنها زوجة إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، انظر "الأنساب": 6/ 345.

ولد في نصف ربيع الأَوَّل سنة سبعٍ وأربعين (¬1) وأربع مئة، وسَمِعَ الحديث وتفقَّه، وكان المسترشدُ يحبُّه، وكان مهيبًا وقورًا؛ قَلَّ أَنْ تُسْمع منه كلمة، وطالت ولايته، فأحكمه الزمان، وخَدَمَ الرَّاشد، وناب في الوزارة، ثم استوحش من الرِّاشد، فخرج إلى المَوْصِل، ووصَلَ الرَّاشد، وبلغه حديثُ المحضر الذي ثبت عليه، فقال له: اكتب خطَّك بإبطالِ ما جرى. فامتنع، فتواعَدَه زَنْكي، وناله بشيء من العذاب، ثم أَمَرَ بقتله، فَدَفَعَ الله عنه، ثم بعث المقتفي وطلبه، فبعث به زنكي إليه فبايعه، ثم ناب في الوزارة، ثم إنَّ المقتفي أَعْرَضَ عنه بالكُلِّية، وولَّى ابن المُرَخِّم، فأبطل أَحكامه، ولم يبق له توقيع ينفذ إلا اسم القضاء لا غير، فَمرِضَ أيامًا، وماتَ يوم عيد النَّحْر، وصلَّى عليه ابنُ عمِّه طلحة بن علي (¬2) نقيب النُّقباء، ودُفِن إلى جانب أبيه. وقال ابنُ القلانسي: صلَّى عليه المقتفي (¬3). ورآه بعضُ أصحابه في المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال له: اذهب إلى [أبي عبد الله يعني ابن البيضاوي القاضي، وهو ابن أخي قاضي القضاة، وأحد أوصيائه] (¬4) وقل له: لِمَ تضيِّق صَدْر غُصن وشهية؟ يعني سراريه. فقال له الرجل: فما فعل الله بك؟ فقال: غَفَرَ لي. ثم أنشد: [من الطويل] وإنَّ امرءًا ينجو من النَّار بعدما ... تَزَوَّدَ مِنْ أعمالها (¬5) لسعيدُ ¬

_ (¬1) كذا، وهو من أوهام سبط ابن الجوزي، وقد تابعه على ذلك ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 282، والزركلي في "الأعلام": 4/ 279 وقد اختلف في سنة ولادته، فذكر ابن الجوزي في "المنتظم" أنها في سنة (470 هـ)، ثم ذكر عمره في ترجمته فقال: ست وسبعون سنة، مما يعني أن ولادته سنة (467 هـ)، وذكر الذهبي والصفدي أن ولادته كانت سنة (477 هـ)، وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" ترجمته في وفيات سنة (543 هـ)، وقال: إنه جاوز الستين. والله أعلم. (¬2) ستأتي ترجمته في وفيات سنة (558 هـ). (¬3) "ذيل تاريخ دمشق": 471. (¬4) في (ع) و (ح): اذهب إلى القاضي ابن الأنصاري، وفيها خطأ وتحريف، فالأنصاري صوابها البيضاوي، وهو القاضي أبو الفتح عبد الله بن محمد بن محمد، وهو أخو قاضي القضاة أبي القاسم الزينبي لأمه، وقد توفي قبله سنة (537 هـ)، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء": 20/ 182، والمراد بالخبر ابنه أبا عبد الله، وهو ما أثبته ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 136، والقصة فيه على تقديم وتأخير بها. (¬5) في (ع) و (ح): أعماله، ومثله في "الوافي بالوفيات"، والمثبت من "المنتظم".

يوسف بن دوناس بن عيسى

وأصبح الرجل، فجاء إلى ابن البَيْضاوي، فأخبره بالمنام، فقال: سبحان الله! والله لقد بتُّ متفكرًا في تقليل ما ينوبهن، أما الآن فلا أُغَيِّر عليهن شيئًا. وكان فاضلًا عفيفًا، وإنما نقم عليه المقتفي بسبب المحضر الذي أثبته على الرَّاشد، ولم يكن له فيه ذنب، وإنما ابنُ عمه الوزير [ابن] (¬1) طِراد حمله عليه. يوسف بن دُوْناس بن عيسى (¬2) أبو الحَجَّاج، الفقيه المالكي، المَغْربي، الفِنْدلاوي. [ذكره الحافظ ابنُ عساكر، وقال: ] (3) قدم الشام حاجًّا، وسكن بانياس مُدَّة، وانتقل إلى دمشق، فاستوطنها، [ودرَّس بها مذهب مالك، وحدَّث بالموطأ وغيره. قال الحافظ: وعلَّقت عنه أحاديث يسيرة] (3)، وكان شيخًا، حَسَنَ المفاكهة، حُلْو المناظرة، شديد التَّعصُّبِ لأَهْل السُّنَّة، كريمَ النَّفْس، مُطَّرحًا للتكلُّف، قويَّ القلب، صاحب كرامات. [ذكر مقتله] (¬3): ولما كان اليوم السَّادس من ربيع الأول (¬4) أول قتال الفرنج لدمشق خرجَ [الفِنْدلاوي] (3) راجلًا ومعه أصحابه فالتقاه معين الدِّين أُنَر، فقال [له] (3): يا شيخ، إنَّ الله قد عَذَرَك، ليس لك قوةٌ على القتال، ونحن نكفيك، فارجع. فقال: قد بعتُ واشترى، لا أَقيلُه ولا أَسْتقيله، وقرأ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} الآية [التوبة: 111]، ومضى نحو الرَّبوة، فالتقاه طُلْبٌ (¬5) بين الرَّبوة والنَّيْرب، فقتلوه، [فقال (¬6) أبو الحكم الأندلسي هذه الأبيات: [من الهزج] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬2) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق": 464، و"تاريخ ابن عساكر" اختصار أبي شامة (خ) ق 41 ب- 42 (نسخة مصورة في مجمع اللغة العربية بدمشق)، ومختصره لابن منظور: 28/ 80، و "معجم البلدان": 4/ 277 - 278، و"اللباب": 2/ 442، و "كتاب الروضتين": 1/ 186 - 187، 191، و"وفيات الأعيان": 2/ 452، و "الوافي بالوفيات": 29/ 195 - 196 و "سير أعلام النبلاء": 20/ 209 - 210، وفيهما تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في النسخ الخطية: شعبان، وهو تحريف، وقد سلف شهر المعركة على الصواب ص 381. (¬5) الطُّلْب، وجمعها أطلاب، وهي بمنزلة الكتائب، يكون على رأس كل مئتي فارس أو مئة أو سبعين فارسًا أمير مقدم. انظر "الجيش الأيوبي في عهد صلاح الدين": 153. (¬6) في (ع) و (ج): فقتلوه، وحمل إلى .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الرابعة والأربعون وخمس مئة

بشطَّيْ نهر داريّا ... أمورٌ ما تواتينا أتانا مئتا ألفٍ ... عديدًا أو يزيدونا فداسوا المَرْجَ والغُوطـ ... ــــــة أيضًا والميادينا ورايات وصُلْبانًا ... على مسجد خاتونا فقلنا إذْ رأيناهم ... لعلَّ الله يكفينا وشيخًا فِنْدلاويًا ... فقيهًا يعضُدُ الدِّينا ومنها: ولكنْ غادروا القِسِّيـ ... ـــــسَ تحتَ الأَرْضِ مدفونا من أبيات (¬1). وقال الحافظ ابن عساكر: وأقام مدة ببانياس خطيبًا، وكان شيخًا كبيرًا، ودرَّس بدمشق في حَلْقة المالكية، ولما قُتِلَ حُمِلَ] إلى الباب الصغير، فدفن به، وقبره من جانب المُصَلَّى قريبًا من الحائط، وعليه بلاطةٌ منقورٌ فيها شَرْحُ حاله. ورآه بعضُ أصحابه في المنام في تلك الليلة فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: أنا في جنَّاتِ عَدْنٍ مع قومٍ على سُرُرٍ متقابلين. السَّنة الرَّابعة والأربعون وخمس مئة فيها في ربيع الأول استوزر المقتفي أبا المظفر يحيى بن محمد بن هُبيرة، عَوْنَ الدِّين، وخَلَعَ عليه. وفي رجب عاد البقش، وجَمَعَ الجموع، وقَصَدَ العراق، وانضمَّ إليه ملك شاه بن محمود وعليُّ بنُ دُبَيس، وخَلْقٌ من الأُمراء والتركمان، فلما بقي بينهم وبين بغداد ثلاثة فراسخ بعثوا إلى الخليفة يطلبون منه الخُطْبة لملك شاه، فلم يجبهم، ودوَّنَ العسكر، وحُفرت الخنادق، وبعث إلى أهل الجانب الغربي يأمرهم بالعبور إلى حريم الخلافة، وبعث ابنَ العَبَّادي إلى مسعود يستحثه ويعرِّفُه بما جرى، ويقول: عَجِّلْ بالمجيء. ¬

_ (¬1) انظر الأبيات وغيرها في "كتاب الروضتين": 1/ 192 - 193 مع اختلاف في بعض الألفاظ.

وبعث إليه عَمُّه سنجر يقول له: قد أخربت البلادَ، وقَتَلْتَ العباد في هوى ابن البلنكري، فأَبْعِدْه عنك، وإلا فما يكون جوابك غيري. فلم يلتفت، فرحل سنجر إلى الرَّي، وبعث يقول: قد جئتُ إليك. فسار مسعود جريدة إلى الرَّي، فطيَّبَ قلبه، وخَلَعَ عليه، ولم يعاتبه في ابنِ البلنكري، وتأخَّر البقش عن بغداد، وجاء مسعود، فدخلها في ذي الحِجَّة، فخرج إليه الوزير ابنُ هُبيرة وأربابُ الدَّوْلة لتلقِّيه، فأحسنَ إليهم، وجاء عليُّ بنُ دُبَيس، فرمى بنفسه على باب السُّلْطان، فرضي عنه. و[فيها] (¬1) خرج نَظَر الخادم ليحج بالنَّاس، فمرض بالكُوفة، فاستناب قيماز الأرْجُواني، فلمَّا عاد نظر الخادم إلى بغداد توفي. وفي ذي الحِجَّة زُلْزِلَتْ بغداد زَلْزَلَةً عظيمة، وبقيت الحيطان تموجُ عشرة مرات، وامتدَّت إلى حُلْوان، فتقطَّعَ جَبَلُها، وساخ في الأرض، وانهدمت أماكن، وهلك تحتها خَلْق كثير. وفيها جَمَعَ الفرنج من الساحل ليقصدوا بلد حلب، فسار إليهم نور الدين بعساكره، وجَمْع كثيرٍ من التركمان، وكتب إلى [معين الدين] (1) أُنَر يستنجده، فبعثَ إليه الأميرَ بُزان (¬2) في عساكر دمشق، وجاءته عساكر أخيه سيف الدِّين [غازي] (1) والجزيرة، وسار إلى أَنطاكية، وخرج إليه البرنس (¬3)، فكانت بينهم وقعة عظيمة كسرهم نورُ الدِّين الكسرة المشهورة (¬4)، وقَتَلَ من كنودهم ألفًا وخمس مئة وأَسر منهم مِثْلهم، وقُتل البرنس، وحُمل رأسه إلى نور الدين، فعاد إلى حلب بالغنائم العظيمة والأسارى، فبعث ببعضها إلى أخيه وإلى الخليفة وإلى دمشق وإلى الملوك، وفيها يقول ابنُ القَيسراني: [من السريع] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هو مجاهد الدين بزان بن مامين، أحد مقدمي أمراء الأكراد، وتوفي سنة (555 هـ)، انظر ترجمته في "كتاب الروضتين": 1/ 387 م- 388 م. (¬3) هو ريموند Raymond of Poitou (¬4) هي وقعة إنِّب، انظر "الروضتين": 1/ 204 - 217.

وكَمْ له مِنْ وَقعةٍ يومُها ... عند ملوك الشِّرْكِ مشهودُ حتى إذا عادوا إلى مِثْلها ... قالت لهم هَيبَتُهُ عُودُوا مناقِبُ لم تكُ موجودةً ... إلا ونورُ الدِّينِ موجودُ وكيف لا نُثني على عَيشنا الـ ... ــمحمودِ والسُّلْطانُ محمودُ (¬1) وفيها فتح نورُ الدِّين حِصن فامية، وكان على أهل حماة وحمص منه ضررٌ عظيم، كانوا يشنُّون الغاراتِ منه على البلاد. وكان جوسلين (¬2) صاحب تل باشر، وأَعْزاز، وعين تاب، والرَّاوندان، ورَعْبان وكَفْرسود، وكَيسون، وبَهَسْنى، والبارة، ومَرْعَش، وكَفْرلاثا، وحصن منصور، وغيرها من الحصون شمالي حلب، وكان على المسلمين منه بلاءٌ عظيم، فجهَّز إليه نورُ الدين سِلَحْداره، وظهر عليهم جوسلين، وأَسَرَ السِّلَحْدار، وبعثَ به هديةً إلى صاحب الرُّوم ابن قَلِيْج رسلان (¬3)، وقال: نفَّذتُ إليك سِلَحْدار صهرك، وسأبعث إليك بعد هذا غيره. وكان نور الدين قد صاهر ابن قليج رسلان، وبلغ نورَ الدِّين قولُه، فعزَّ عليه، فدسَّ جماعةً من التركمان وقال: من قدر منكم على جوسلين أعطيته من الأموال والبلاد منهما أراد. فجاءت طائفةٌ منهم فنزلوا في بلد عين تاب، وخرج جوسلين ليغار عليهم، فاستحسن منهم امرأة، فخلا بها تحت شجرةِ، وكَمَنَ له التركمان، فأخذوه أسيرًا، وكان نور الدين بحِمْص، فحملوه إليه، فأعطى من جاء به عشرة آلاف دينار، وكان أَسْرُهُ مِنْ أعظمِ الفتوح في الإسلام، لأنَّه كان شجاعًا مقدامًا غَدَّارًا، أغدر غير مرة بالمسلمين] (¬4) ولما حصل بيد نور الدين أخذ منه جميعَ ما ذكرنا من القلاع والبلاد بعد ذلك، وأَمِنَ النَّاسُ شرَّه. ¬

_ (¬1) انظر بعض أبيات القصيدة في "كتاب الروضتين": 1/ 199 - 200. (¬2) أورد ابن الأثير في "كامله": 11/ 154 أسر جوسلين في حوادث سنة (546 هـ)، وساقه أبو شامة في "الروضتين": 1/ 246 - 247 في حوادث سنة (545 هـ). (¬3) هو السلطان مسعود بن قليج رسلان السلجوقي ركن الدين، تولى السلطنة ما بين السنة (510 - 551 هـ)، انظر "معجم الأنساب" لزامباور: 215. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن الحسن بن علي

فصل وفيها توفي أحمد بن الحسن بن علي (¬1) ابن إسحاق، أبو نَصر بن نظام المُلْك. وَزَرَ للمسترشد، ثم عُزِلَ على أحسن الوجوه، ووزر للسُّلْطان محمد شاه، وتقلَّبت به الأحوالُ والدُّول، فرأى لزوم منزله، فلزمه إلى أن مات في ذي الحِجَّة ببغداد، وكان فاضلًا عاقلًا، سمِعَ الحديث من جماعة. الحسن بن مسعود بن علي (¬2) أبو علي الخُوارَزْمي. جدُّه وزير تاج الدولة تُتُش، وتوفي بمَرْو في المحرَّم، ومن شعره: [من الطويل] أَخِلايَ إنْ أصبحتُمُ في دياركمْ ... فإنِّي بمرو الشَّاهجان غريبُ أموتُ اشتياقًا ثم أحيا بذكركُمْ ... وبين التَّراقي والفؤاد لهيبُ فما عَجَبٌ موتُ الغريبِ صَبابةً ... ولكنْ بقاهُ في الحياةِ عجيبُ (¬3) أحمد بن محمد بن الحسين (¬4) أبو بكر الأرَّجاني، قاضي تُسْتَر، وأَرَّجان بَلَدُه، منها سافر إلى العراق والشَّام ومِصر، وسمع الحديث، وتفقَّه بالنظامية، ومدح المُسْتظهر. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 138 - 139، و"الكامل": 11/ 147، و"الفخري": 306، و"الوافي بالوفيات": 6/ 321، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 236. (¬2) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": 4/ 599، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 284 - 285، و"معجم البلدان": 5/ 114، و"ميزان الاعتدال": 1/ 523، و "سير أعلام النبلاء": 20/ 177، و"الوافي بالوفيات": 12/ 269 - 270، و"الجواهر المضية": 2/ 91، و"لسان الميزان": 2/ 256، وعندهم وفاته سنة (543 هـ). (¬3) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر"، و"الخريدة"، و "معجم البلدان"، وفيه: وبين التراقي والضلوع لهيبُ. (¬4) له ترجمة في "الأنساب": 1/ 174، و"المنتظم": 10/ 139 - 140. و"معجم البلدان": 1/ 144، و"الكامل": 11/ 147، و"وفيات الأعيان": 1/ 151 - 155، و"الوافي بالوفيات": 7/ 373 - 378، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 210 - 211، وفيه تتمة مصادر ترجمته. =

وكان شاعرًا فصيحًا بليغًا مفوَّهًا، له المعاني الفائقة، والألفاظ الرَّائقة، وكانت وفاته بتُسْتر، فمن شعره: [من الطويل] ولمَّا بلوتُ النَّاسَ أَطْلُبُ منهُمُ ... أخا ثِقَةٍ عند اعتراضِ الشَّدائِدِ تحيَّرْتُ في حالي رخاءً وشِدَّةً ... وناديتُ في الأَعداء: هل مِنْ مُساعِدِ فلم أَرَ فيما ساءَني غيرَ شامتٍ ... ولم أَرَ فيما سَرَّني غير حَاسدِ تَمَتَّعْتُما يا ناظريَّ بنظرةٍ ... وأَوْرَدْتُما قلبي أَمرَّ الموارِدِ أَعَينَيَّ كُفَّا عن فؤادي فإنَّه ... من البغي سَعْيُ إثنين في قَتْلِ واحدِ (¬1) وقال أيضًا: [من الطويل] أراقِبُ من طَيفِ النُّخَيلَةِ مَوْعِدا ... وهانَ عليها أَنْ أبيتَ مُسَهَّدا أبي اللَّيلُ إسعادي (¬2) وقد طال جُنْحُهُ ... فما هدأَتْ عَيني ولا طَيفُها اهتدى إذا رُمْتُمُ قَتْلي وأنتمْ أَحِبَّةٌ ... فماذا الذي أخشى إذا كنتُمُ أعدا وأُضْمِرُ في الأَحْشاءِ منكم تحرُّقًا ... وأُظْهِرُ للواشينَ عنكمْ تجلُّدا وأمنعُ عيني اليومَ أَنْ تُكْثِرَ البكا ... لِتَسْلَمَ لي حتَّى أراكُمْ بها غدا (¬3) وقال أيضًا: [من الطويل] إذا أنتَ سُدْتَ النَّاس في ظِلِّ دولةٍ ... وأَوْرَقَ منها بالمُنى لك عُوْدُ فَبِتْ ساهرًا واملأْ عيونَهُمُ كَرى ... إذا شِئْتَ أَنْ تحيا وأنتَ حميدُ وما المالُ إلّا للمعالي ذريعةٌ ... ولا الذِّكْرُ إلَّا للكرامِ خُلُودُ عُلاكَ سوارٌ والممالكُ مِعْصَمٌ ... وجُودُك طَوقٌ والبَرِيَّةُ جِيدُ بقيتَ ولا أبقي الرَّدى لكَ حاسدًا ... فإنَّكَ في هذا الزَّمانِ فريدُ (¬4) ¬

_ = وأرجان -بتخفيف الراء وتثقيلها- هي من كور الأهواز من بلاد خوزستان، وقد طبع ديوانه في بيروت أوائل هذا القرن، ثم حققه د. محمد قاسم مصطفى، ونشرته وزارة الثقافة والإعلام في الجمهورية العراقية سنة (1981) في ثلاثة أجزاء. (¬1) ديوانه ص 86. (¬2) الإسعاد: المشاركة في النياحة، انظر "اللسان" (سعد). (¬3) ديوانه: ص 97. (¬4) ديوانه: ص 105 - 106، وهذه الإحالات الثلاث على طبعة بيروت 1890 م مع اختلاف في بعض الألفاظ.

وقال يذُمّ مِصر: [من الوافر] تَرَكْنا أَرْضَ مِصرَ لكلِّ فَدْمٍ (¬1) ... له باعٌ يُقَصِّرُ عن ذِراعِ نفوسٌ لا تليقُ بها المعالي ... وأخلاق تضيق عن المساعي إذا غَلِطُوا بإحسانٍ تَلَتْهُ ... عِدادٌ من إساءاتٍ تِباعِ أقمتُ بها ومن نَكَدِ الليالي ... مقام الأُسْدِ في كَنَفِ الضِّباعِ وكم خَلَّفْتُ من كَرَمٍ مُهانٍ ... بعَرْصتها ومن لُؤمٍ مُطاعِ ومن مالٍ مَصُونِ العِرْض تحمى ... جوانِبُهُ ومن عِرْضٍ مُضَاعِ وأَجسامٍ مُسَمَّنةٍ شِباعٍ ... وأعراضٍ مضمَّرةٍ جياعِ ونَقْصٍ في أكابرها خصِيصٍ ... وجَهْل في أصاغرها مُشاعِ أإنْ بانَتْ سرائِرُكُمْ وكانت ... مساويكم تقامُ على بِقاع جعلْتُمْ ديننا أَنَّا سَمِعْنا ... وما الأذنان إلا للسَّماعِ (¬2) وقال: [من الطويل] أقولُ لظبيٍّ مرَّ بي وهو راتِعٌ ... أأنتَ أخو ليلى فقال يُقالُ فقلتُ يُقال المُسْتقِلُّ من الهوى ... إذا مَسَّه ضُرٌّ فقال يُقالُ (¬3) وقال أيضًا من شعره: [من البسيط] حيثُ انتهَيت من الهِجْران بي فَقِفِ ... ومن وراءِ دمي بِيضُ الظُّبى فخَفِ يا عابثًا بعِداتِ الوَصلِ يُخْلِفُها ... حتى إذا جاء ميعادُ الفِراقِ يفي يستوصفونَ لساني عن محبَّتهم ... وأنتَ أصدقُ يا دمعي لهم فَصِفِ ليست دموعي لنارِ الشَّوقِ مُطْفِئَةً ... وكيف، والماءُ باب والحريقُ خفي لم أَنس يومَ رحيلِ الحيِّ موقِفَنا ... والعيسُ تَطْلُعُ أُولاها على شَرَفِ والعَينُ من لَفْتة الغَيران ما لحِظَتْ ... والدَّمْعُ من رِقْبة الواشينَ لم يَكِفِ وفي الحُدوجِ الغواني كلُّ آنسةٍ ... إنْ ينكشفْ سِجْفُها للشَّمْسِ تنكسِفِ ¬

_ (¬1) الفدم: الغليظ الأحمق الجافي، "معجم متن اللغة": 4/ 372. (¬2) لم أجد الأبيات في "ديوانه". (¬3) لم أجد البيتين في "ديوانه".

في ذِمَّةِ اللهِ ذاكَ الرَّكْبُ إنَّهُمُ ... ساروا وفيهم حياةُ المُغْرمِ الدَّنِفِ فإنْ أعِشْ بعدهُمْ فَرْدًا فيا حَزَني ... وإنْ أَمُتْ هكذا شَوقًا فيا أَسَفي (¬1) وقال أيضًا: [من البسيط] هُمْ نازلون بقلبي أيَّةً سلكوا ... لو أَنَّهمْ رفَقُوا يومًا بما ملكوا ساقوا فؤادي وأبقَوْا في الحشا حُرَقًا ... لله ما أخذوا (¬2) مني وما تركوا إذا الصَّبا سَحَبَتْ أذيالها سَحَرًا ... حَسِبْتَ مِسْكًا على الآفاق يَنْفَرِكُ قد أَشْعَلَ الشَّيْبُ رأسي للبلا عَجِلًا ... والشَّمْعُ عند اشتعالِ الرأس ينسبكُ فإنْ يكنْ راعها مِنْ لونه يَقَقٌ (¬3) ... فطالما راقها مِنْ قَبْلها حَلَكُ حتى متى وإلي كَمْ يا زمانُ أرى ... منك الخطوبَ بجَنْبي وهي تَنْعَرِكُ أبعدَ عَدْلِ نظامِ المُلْك تحمِلُ لي ... ذَحْلًا وخَلْفَك منه ثائِرٌ مَحِكُ ثم خاطب أعداءه، فقال: يا مُتْعِبًا نَفْسَه في أَنْ يُساجِلَهُ ... أين السِّماكُ إذا قايستَ والسَّمَكُ دَعُوا الوِزَارة عنكُمْ تربحوا نَصَبًا ... فالحَبلُ في الدُّرِّ مما ليس ينسلكُ ورثْتُمُ يا بني إسحاق مَنْصِبَها ... فما لغيركُمُ في إرْثكُمْ شَرَكُ أنتمْ فرازين هذا الدَّسْتِ نعلمكُمْ ... وهمْ بياذقُه إنْ صُفَّ مُعْتَرَكُ فما تَفَرْزَنَ منهمْ بيذقٌ أبدًا ... إلا غدا رَأسُه في التُّرْبِ يَنْمَعِكُ في دَسْته قمرٌ في دِرْعِهِ أَسَدٌ ... في حَفْله (¬4) مَلِكٌ في سرِّه مَلَكُ إذا عَدَدْنا سِنيه فَهْو مُقْتبِلٌ ... وإن ذكرنا حِجاه فهو مُحْتَنِكٌ اليوم عاشَ نظامُ المُلْكِ ثانية ... وكم معاشِرَ عاشوا بعدما هلكوا (¬5) ¬

_ (¬1) القصيدة بتمامها في "ديوانه": 3/ 940 - 947. (¬2) في (ع) و (ح): حزني لما أخذوا .. والمثبت من "ديوانه". (¬3) اليقق: الشديد البياض الناصعه. "معجم من اللغة": 5/ 838. (¬4) في (ع) و (ح): خلقه، والمثبت من ديوانه. (¬5) القصيدة بتمامها مع اختلاف في بعض الألفاظ في "ديوانه": 3/ 1022 - 1032.

وقال أيضًا من شعره: [من الوافر] جَعَلْتُ طليعتي طَرْفي سَفاها ... فدلَّ على مقاتليَ الخفايا وهل يُحمى حريمٌ من عدوٍّ ... إذا ما الجيشُ خانته الرَّبايا (¬1) ولي نَفَسٌ إذا ما اشتدَّ شوقًا ... أطار القَلْبَ من حُرَقٍ شظايا ودَمْعٌ يَنْصُر الواشينَ ظُلْمًا ... فَيُظْهِر من سرائريَ الخبايا ومُحْتَكِمٍ على العُشَّاقِ جُوْرًا ... وأين من الدُّمى عَدْلُ القضايا يُريكَ بوَجْنَتَيه الوَرْدَ غَضًّا ... ونورَ الأُقحوانِ من الثَّنايا تأمَّلْ منه تحت الصُّدْغ خالًا ... لتعلمَ كَمْ خبايا في الزَّوايا خَطَبْتُ نواله الممنوعَ حتَّى ... أَثرتُ به على نَفْسي البلايا فأَرَّقَ مُقْلتي شَوقًا ووَجْدًا ... وأقلق مُهْجَتي هَجْرًا ونايا (¬2) وهذه الأبيات وازن بها أبيات أبزون العماني (¬3): نقود وعُودِها صارت نسايا ... وعاد نَوَالها الميسور وايا إذا أَنْشَدْتُ في التَّعريضِ بَيتًا ... تلتْ من سورةِ الإعراض آيا وَرُبَّ قطيعةٍ جَلَبَتْ وِصالًا ... وكَمْ في الحبِّ من نُكَتٍ خفايا (¬4) شكَتْ وجَدًا إليَّ فآنستْني ... وبعضُ الأُنْسِ في بعضِ الشَّكايا فلا ملَّتْ معاتبتي فإنِّي ... أَعُدُّ عِتابَها بعضَ العطايا وليلةَ أَقْبَلَتْ في القَصر سَكْرى ... تهادَى بين أَتْراب حظايا ثَنَينا السُّوءَ عن ذاك التَّثَنِّي ... وأَثْنينا على تلك الثَّنايا كأنَّ خدودَها أوراقُ نَدٍّ ... عليها من ندى طَلٍّ بقايا وما خُلِقَتْ عيون العِين أنَّى ... نَظَرْتَ سوى ذهاب للبرايا فمنها ما يتيحُ لكَ الأماني ... ومنها ما يبيحُ لك المنايا ¬

_ (¬1) الربايا جمع، مفردها ربيئة، وهو الطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه. "اللسان" (ربأ). (¬2) القصيدة بتمامها في "ديوانه": 3/ 1554 - 1562. (¬3) انظر ترجمته في "دمية القصر": 1/ 120 - 129، وانظر "المنتظم": 10/ 139. (¬4) في (خ) استدرك هذا البيت في هامشها، ثم جاء في آخر الأبيات في (ع) و (ح).

أنر بن عبد الله معين الدين

وقال الأَرَّجاني: [من البسيط] بعد الصَّباحِ الذي فارقتكُمْ فيه ... لم أَلْقَ للدَّهْرِ صُبْحًا في لياليهِ قد كان أوَّلَ صُبْحٍ بعد عَهْدِكُمُ ... مضى ولم تكتحِلْ عيني بثانيه فالدَّهْرُ بعدكُمُ ليلٌ ألابِسُهُ ... والعَيشُ دونكُمُ هَمُّ أقاسيه قد كِدْتُ أختِمُ طَرْفي وَحْشَةً لكُمُ ... عن كلِّ خَلْقٍ من الدُّنيا أُلاقيه قد صَوَّر الوَهْمُ (¬1) في عيني مثالكُمُ ... من طُوْلِ ما أنا بالذِّكْرى أُراعيه فكلُّ ناظرِ إنسانٍ أُقابِلُهُ ... أرى خيالكُمُ من ناظري فيه يلومني في هوى الأَحبابِ كلُّ فتى ... سَهْمُ الصَّبابةِ يرميني ويُصميه (¬2) يَعيبني في الهوى بَغْيًا ويَعْذُلني ... وإنَّما يبتليني من يُعافيه أقِلَّ من عَذَلٍ تَلْقَى المشوقَ به ... فقَلْبُهُ بسهام اللَّوْم تَرْميه دَعْ عنك قلبي فإنَّ الحُبَّ آمِرهُ ... أضعافَ ما أنت بالتثريب (¬3) ناهيه (¬4) أُنَر بنُ عبد الله معين الدِّين (¬5) مملوك أتابك طُغْتِكِين، والي دمشق، وصاحبُ أمرها نيابةً عن أولاد طُغْتِكِين. كان صالحًا، عادلًا، مُحْسنًا، كافًّا للظُّلْم، مجتنبًا للمآثم، محبًّا للعلماء والفقراء، أوقف أوقافًا كثيرة على أبواب البِرِّ، وبذل مجهودَه في حِفْظ بيت سَيِّده طُغْتِكِين، ولما ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): الدهر، والمثبت من "الديوان". (¬2) في "الديوان": يصميني ويخطيه. (¬3) في (ح): بالتأديب. (¬4) القصيدة بتمامها في "ديوانه": 3/ 1508 - 1515. (¬5) أخباره مبثوثة في "تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 475، و"الاعتبار" لأسامة بن منقذ: 28، 53، 66، 104 وغيرها، و"الكامل": 11/ 147، و"كتاب الروضتين": 1/ 222 - 223، وله ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 20/ 229 - 230، و"العبر": 4/ 121 - 122، و"الوافي بالوفيات": 9/ 410 - 411، و"النجوم الزاهرة": 5/ 286، و "منادمة الأطلال": 204 - 205، وقد أغفل ذكره ابن عساكر في تاريخه. وأُنَر، بضم الهمزة وفتح النون، وآخرها راء، هكذا ضبطه المنذري في "التكملة لوفيات النقلة": 2/ 131، وابن ناصر الدين في "توضيح المشتبه"، 1/ 119، وضبطه الصفدي في "الوافي بالوفيات": بفتح الهمزة وضم النون، وفي "النجوم الزاهرة": ضبط ضبط قلم بضم الهمزة والنون، وقال محققه: كذا وجدته مضبوطًا بالقلم في هامش الأصل، أما في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي، وفي ابن الأثير ضبط بالقلم بفتح النون.

ماتَ في ثالث عشر (¬1) ربيع الآخر شَرَع الأمير (¬2) مجيرِ الدِّين أبق في الانحلال، [وآل أمره إلى الاضمحلالِ] (¬3). قال أبو يعلى بن القلانسي: كان معين الدين بحوران في عساكر دمشق مقابل الفرنج يحفظُ البلادَ من غاراتهم، فَمَرِضَ بدوز نطاريا، وضَعُفَتْ قوَّته، وهو مع هذا يركب كلَّ يومٍ في العساكر يُرْعِبُ العدوَّ، فخِيف عليه، فَحُمِلَ في مِحَفَّةٍ إلى دمشق، فزاد به المرض، فتوفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر، ودُفِنَ في إيوان الدَّار التي كان يسكنها، ثم نُقِلَ إلى المدرسة التي عَمَرَها. ولمَّا فُرغَ من دَفْنه اجتمع حسام الدِّين بُلاق ومؤّيَد الدِّين الرَّئيس ومجاهد الدِّين بُزَان وأعيان الأجناد عند مجير الدِّين، واتَّفقوا على إصلاح الأحوال. ونادى مجير الدِّين بإبطال المكوس وما يضرُّ الرَّعية، ثم استوحش مؤيَّد الدِّين بنُ الصُّوفي من مجير الدِّين، فجمع الغوغاء والأحداث، وأعطاهم السِّلاح، ورتَّبهم حول داره ودارِ أخيه زين الدَّوْلة حيدرة للاحتماء بهم، وذلك في شهر رجب، فراسلهما مجير الدِّين بما طيَّبَ قلوبهما، فما التفتا، وقصدا باب الحَبْس وكسراه، وأطلقا مَنْ كان فيه، واستنفرا العوام من أهل الشَّاغور وقَصر حَجَّاج وباب شَرْقي (¬4)، فَعَزَمَ مجيرُ الدِّين على تفرقة السِّلاح في العساكر والخروج من القلعة لقتالهم، فأشار جماعةٌ بالتَّأني، وقالوا: نخافُ على البلد من النَّهْب والحريق. ووقعتِ المراسلاتُ، فاتفق الحالُ على أن يكون الرَّئيس مؤيَّد الدِّين ملازمًا لداره، وأن يكون ولدُه وولدُ أخيه في الخِدْمة، فأقام، ثم أثار الفِتْنة، وجَمَعَ العوام والفلاحين، وزحفوا إلى القلعة، واقتتلوا إلى أن تقرَّر أنَّ مجير الدين يُبْعِدُ عنه من كره الرئيس مؤيد الدِّين، وعاد الرَّئيس إلى وزارته على حاله. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الخطية، وسيأتي نقلًا عن ابن القلانسي أنه توفي في الثالث والعشرين من ربيع الآخر، وهو الصواب. (¬2) في (ع) و (ح) أمر، والمثبت من (م) و (ش). (¬3) في (ح) إلى الاضمحلال، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) أحياء في دمشق ما زالت تحمل الأسماء نفسها.

وأُطْلِقَ أيدي النَّهَّابة في نَهْبِ دور السلَّارية (¬1)، ثم سكنتِ الفتنة، واتَّفق الأمر أنَّ الرئيس لا يشاركه في التَّدْبير والوزارة أحد. ولما تقرَّر أمر دمشق كَتَبَ نورُ الدِّين إلى مجير الدين يَطْلُبُ منه ألفَ فارس تَصِلُ إليه مع مقدَّمٍ يُعَوَّلُ عليه لجهاد الفرنج، وأنَّه عازِمٌ على قصدهم. فغالطوه، وعَلِمَ قَصدَهم، فسار حتى نزل بمَرْج يَبُوس وبعض عساكره بيعفور، فراسل مجيرُ الدِّين الفرنج، واتَّفق معهم على نور الدِّين، وكانوا على عَسْقلان ويَعْمُرون غَزَّة، فجاؤوا إلى بانياس، وعَرَفَ نورُ الدِّين خبرهم، فلم يَحفِلْ بهم، ولا انثنى عن جهادهم، وهو محسن إلى الرَّعايا، كافٌّ الجُنْدَ عن أذى الفلاحين، والدُّعاءُ له كثير، وكان الغيثُ قد مُنِعَ، فجاء سَيلٌ عظيم ورويت البلاد، فقالوا: هذا ببركة حلول رِكاب نور الدين. ثُمَّ سار من يعفور، فنزل جسر الخشب (¬2) في ذي الحِجَّة، وراسل مجيرَ الدِّين والرئيس يقول: ما قصدتُ بنزولِ هذا المنزل محاربتكم، ولا أنا طامعٌ في بلادكم، وإنما بلغني فعلُ الفرنج والعرب بأهل حوران من السَّبْي والقَتْلِ والنَّهْب وذَبْحِ الأطفال مع عدم النَّاصر لهم، وأنتم فلا دينَ لكم ولا مروءة، وقد واطأتم الفرنج عليَّ، وقد أوجب الله عليَّ وعليكم وعلى النَّاس كافَّة جهادَ الكُفَّار، فلا عُذْرَ لي عند الله تعالى، فإنَّ عندي المال والرجال، وأنتم فعاجزون عن الذَّبِّ عن المُسلمين، وما الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالفرنج لمحاربتي، وبذلتم لهم أموال الضُّعفاء والمساكين من الرَّعية ظُلْما وعُدْوانًا، وهذا ما يرضي الله ولا المسلمين. فكان الجواب: ما لكَ عندنا سوى السَّيف، وإنْ نازلتنا استدعينا الفرنج لدفعك عنا. فلما جاءته هذه الرِّسالة عَزَمَ على الزَّحْفِ إلى دمشق، ثم فكَّرَ في العاقبة، وحَقَنَ دماء المسلمين، وأرسل الله أمطارًا كثيرة، فأقامت أيامًا، فتأخَّر عنها (¬3). ¬

_ (¬1) يعني السلار زين الدين حيدرة، وأخاه مؤيد الدين وأصحابهما، وانظر "سير أعلام النبلاء": 20/ 242 - 243. (¬2) أي نواحي داربا. (¬3) "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 475 - 480، وانظر "كتاب الروضتين": 1/ 223 - 225 و 239 - 241.

سلطان بن علي بن مقلد

سُلْطان بن علي بن مُقَلَّد (¬1) ابن نَصر بن مُنْقِذ، أبو العساكر، صاحب شَيزر. ولد بطرابُلُس سنة أربعٍ وستين وأربع مئة، سمع من إبراهيم الحنفي (¬2) "صحيح البخاري" بشَيزر، وولي إمرتها بعد أخيه نَصر بن علي (¬3)، وكان فاضلًا، وله أشعار كثيرة، فمن شعره يوصي بنيه: [من الكامل] أُوصِيكُمُ بتُقَى الذي أعطاكُمُ ... مُلْكًا تَذِلُّ له الملوكُ وتَخْضَعُ وبِحفْظِ بعضِكُمُ لبعضٍ ما غدا ... نجمٌ يغورُ بأفْقِهِ أَوْ يَطْلُعُ لا تُشْمِتُوا بكُمُ الوشاةَ وحاذِروا ... أقوالهمْ فَهْيَ السِّمامُ النُقَّعُ (¬4) ما قَطَّعَ الأرحامَ جاهلُكُمْ بما ... أبداه بل كَبِدِي بذاك يُقَطِّعُ وإذا يَئِسْتُ من الصَّلاح لفِعْلِكُمْ ... أَمَّلْتُ (¬5) أَصلَكُمُ الزَّكيَّ فأَطْمَعُ فأبوكُمُ مَنْ ليس يُنْكَرُ أَنَّه النَّـ ... ــدبُ الكَمِيُّ الأَلْمعيُّ الأَرْوَعُ (¬6) ذادَ الجيوشَ برأيه وبسَيفه ... عن شَيْزَرٍ فتفرَّقوا وتصدَّعوا (¬7) وكانت وفاته بشيزر، وقيل: مات سنة ثلاثٍ وأربعين (¬8). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": 7/ 387 - 388، و"الوافي بالوفيات": 15/ 297 - 298 - وذكر وفاته سنة (552 هـ) وقد ذكر بعض أخباره أسامة ابن منقذ في "الاعتبار"، وانظر "كتاب الروضتين": 1/ 353، و"كتاب أسامة بن منقذ" لحسن عباس: 1/ 31 - 47. (¬2) هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن جعفر التنوخي المعري أبو السمح، رحل إلى أصبهان، وسمع الحديث بها وبغيرها، وكان زاهدًا، ورعًا، دينًا، وتوفي بشيزر سنة (503 هـ)، انظر ترجمته في "تاريخ ابن عساكر": 2/ 456، و"الوافي بالوفيات": 6/ 45 - 46، و"الجواهر المضية": 1/ 87 - 88، وفيه: إبراهيم بن عبد الله بن جعفر. (¬3) وذلك سنة (491 هـ). (¬4) السِّمام جمع، مفردها سم، والنقع جمع كذلك، مفردها ناقع: سم ناقع أي بالغ قاتل. (¬5) في (ع) و (ح): مثلث، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر". (¬6) الندب: الخفيف في الحاجة، والكمي: الشجاع المقدم الجرئ، والألمعي: الذكي المتوقد، والأروع من الرجال: الذي يعجبك حسنه. (¬7) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر" مع اختلاف في ترتيبها. (¬8) وهو ما اعتمده ابن عساكر.

عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم

عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم (¬1) ابن المستنصر، أبو الميمون. الحافظ صاحب مِصر، ولم يكن في المصريين من أبوه غير خليفة سواه والعاضد. ولي الحافظ سنة سبع (¬2) وعشرين وخمس مئة، وكانت وفاته ليلة الأحد خامس جمادى الآخرة، فكانت أيامه تسع عشرة سنة وشهورًا وأيامًا، وكانت وفاتُهُ بمرض الكبد. وكان قد اخترع ألقابًا يُخْطَبُ له بها على المنابر، فكان الخطيبُ يقول: وأَصلِحْ من شَيَّدْتَ به الدِّين بعد دُثُوره، وأَعْزَزْتَ به الإسلامَ بأَنْ جعلته سببًا لظُهوره، مولانا وسيدَنا إمامَ العصر والزَّمان أبا الميمون عبد المجيد الحافظ لدين الله، صلى الله عليه وعلى آبائه الطَّاهرين، حُجَج الله على العالمين. وسببُ هذا أَنَّه لما استولى عليه أبو علي أحمد بنُ الأفضل أميرُ الجيوش أسقط اسمَه من المنابر، وخطب للمنتظر المهدي، وأسقط من الآذان "حيَّ على خير العمل"، ودعا إلى نفسه على المنابر: بناصر إمام الحق، هادي العُصاة إلى اتِّباع الحق، مولى الأُمم (¬3)، ومالك فضيلتي السَّيف والقلم. ولم يزل كذلك حتى قُتِلَ ابنُ أميرِ الجيوش، فجدَّد الحافظ هذه الألقاب. ووزَرَ له جماعةٌ فأساؤوا التَّدْبير، منهم: يانس أبو الفتح أمير الجيوش ومات، فوزر له ابنُه حسن، ثم وَزَرَ له بَهْرام النَّصراني (¬4)، ثم تولى الحافظ الأمور بنفسه إلى أَنْ مات. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 10/ 664، 11/ 141 - 142، و "وفيات الأعيان": 3/ 235 - 237، و"سير أعلام النبلاء": 15/ 199 - 202، و"العبر" للذهبي: 4/ 122، و"اتعاظ الحنفا": 3/ 137 - 192، و"النجوم الزاهرة": 5/ 237 - 246. (¬2) كذا في (ع) و (ح)، وفي (م) و (ش): ست وعشرين، وهو الصواب، وكان الحافظ قد بويع بعد مقتل الآمر سنة (524 هـ) ليدبر الملكة إلى أن يولد حمل للآمر إن ولد، وكان الغالب على أمره أبو علي بن الأفضل، ثم لما قتل سنة (526 هـ) جددت البيعة للحافظ، واستقل بالأمر، انظر ص 250، وقد ذكر فيها مقتل الأفضل في وفيات سنة (527 هـ)، وانظر "سير أعلام النبلاء": 15/ 200. (¬3) في "اتعاظ الحنفا": 3/ 144: "هادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده .. مولي النعم، رافع الجور عن الأمم ... "، وانظر "النجوم الزاهرة": 5/ 238. (¬4) كذا قال، وهو وهم، إذ قد ولي بعده رضوان بن الولخشي، ولم يستوزر الحافظ أحدًا بعد رضوان، انظر "اتعاظ الحنفا": 3/ 184، 189.

عثمان بن محمد بن أحمد الرويدشتي

ثم ولي بعده ولده أبو المنصور يوسف بن عبد المجيد، ولُقب بالظَّافر بالله، وأُمُّه أم ولد تدعى ست الوفاء، ولد في ذي الحِجَّة، وقيل في المحرَّم سنة سبع وعشرين [وخمس مئة] (¬1)، وقُتلَ ليلةَ الخميس سَلْخ المحرَّم سنة تسع وأربعين، فكانت أيامُه أربعَ سنين وثمانية أشهر، وعمره ثماني عشرة سنة (¬2)، وسنذكره إنْ شاء الله تعالى (¬3). وقال ابنُ القلانسي: وفي سنة أربع وأربعين وَرَدَ الخبر مِنْ مِصر بوفاة الحافظ بأمر الله في الخامس من جُمادى الآخرة، وولي من بعده ولده الأصغر أبو منصور إسماعيل ولقب بالظَّافر بالله -والمشهور يوسف (¬4) - وولي الوزارة أمير الجيوش أبو الفَتْح بن مَصَال المَغْربي، فأحسنَ السِّيرة وأَجْملَ السِّياسة، فاستقامتِ الأحوال، ثم حَدَثَ بعد ذلك من اضطراب الأمور، والخُلْف بين السُّودان والعساكر بحيثُ قُتِلَ من الفريقين العدد الكثير، وسكنَت الفِتْنة (¬5). عثمان بن محمد بن أحمد الرويدشتي (¬6) من شعره: [من السريع] والشَّيبُ لا تدفعُهُ حِيلَةٌ ... كالظلّ إنْ جانَبْتَهُ يَتْبَعِ وطولُ عُمْرِ المَرْءِ أَدَّى إلى ... ما يُبْتلى بالحادثِ المُفْظِعِ (¬7) لو أَنَّ عَيشي يُشْترى بعتُهُ ... لأَنَّه ضَرَّ ولم يَنْفَعِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) يعني حين بويع، وهذا القول على التجوز، وإلا فقد عاش اثنتين وعشرين سنة، فقد ذكر أن ولادته كانت سنة (527 هـ). (¬3) انظر ص 450 من هذا الجزء. (¬4) سماه في صدر الخبر يوسف، وهو قول سبط ابن الجوزي، ولم يسمه هذا الاسم غيره، انظر "النجوم الزاهرة": 5/ 288. (¬5) انظر "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 478. (¬6) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 19/ 509، وكان يعلم ببغداد أولاد الأكابر، وكان هاجيًا مادحًا. (¬7) المفظع: الشديد الشنيع. "اللسان" (فظع).

عياض بن موسى بن عياض

عياض بن موسى بن عياض (¬1) أبو الفَضْل المَغْربي، قاضي سَبْتة، كان كبير الشان، غزير البيان (¬2)، وله التَّصانيف الفاخرة، منها كتاب "الشِّفا بفضائل المصطفى" (¬3) وغيره، وكانت وفاته بسَبْتة (¬4)، وقيل: مات سنة ثلاث وأربعين، ومن شعره: [من السريع] انظرْ إلى الزَّرْعِ وخاماتِهِ (¬5) ... تحكي وقد هَبَّتْ عليها الرِّياحْ كتيبةً خضراءَ مهزومةً ... شقائقُ النُّعمان فيها جِراحْ (¬6) وقال عليُّ بنُ هارون (¬7) يمدحه: [من الكامل] ظلموا عِياضًا وهو يحكُمُ عندهم (¬8) ... والظُّلْم بين العالمينَ قديمُ جعلوا مكانَ الرَّاءِ عَينًا في اسْمِهِ ... كي يكتموه وإنَّه مَعْلُومُ لولاه ما فاحتْ أباطحُ سَبْتَةٍ ... والرَّوْضُ بين فِنائها مَعدُومُ (¬9) ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الصلة" لابن بشكوال: 2/ 453 - 454، و"الخريدة"، قسم شعراء المغرب والأندلس: 3/ 501 - 505، و"بغية الملتمس": 437، و"إنباه الرواة": 2/ 363 - 364، و"المعجم في أصحاب أبي علي الصدفي" لابن الأبار: 306 - 310، و"وفيات الأعيان": 3/ 483 - 485، و"الإحاطة في أخبار غرناطة": 2/ 222 - 230، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 212 - 218، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) في (ع) طمست الترجمة في التصوير، وفي (ح): كان كثير البيان غزير اللسان، وهو تحريف، والصواب ما هو مثبت، وقد استفدناه من "الخريدة": 3/ 501. (¬3) هو كتاب مشهور مطبوع متداول، وقد قال فيه الإمام الذهبي في "السير": 20/ 216: وتواليفه نفيسة، وأجلها وأشرفها كتاب "الشفا" لولا ما حشاه بالأحاديث المفتعلة عَمَلَ إمام لا نقد له في متن الحديث ولا ذوق .. وكذا فيه من التأويلات البعيدة ألوان، ونبينا صلوات الله عليه وسلامه غني بمدحة التنزيل عن الأحاديث، وبما تواتر من الأخبار عن الآحاد، وبالآحاد النظيفة الأسانيد عن الواهيات. (¬4) كذا قال، وهو وهم، والصواب أنه توفي بمراكش، دفن فيها كما ذكرت مصادر ترجمته، وقال العماد في "الخريدة": إنه توفي بفاس. (¬5) الخامة: الغصنة الرطبة من النبات. "اللسان" (خوم). (¬6) البيتان في "الخريدة": 3/ 503. (¬7) هو أبو الحسن الشنتمري، له ترجمة في "الذخيرة" لابن بسام: ق 2 / مج 2/ 637 - 639، و"الخريدة" قسم شعراء المغرب والأندلس: 3/ 572 - 574، و"المغرب في حلى المغرب": 1/ 395 - 396. (¬8) في "وفيات الأعيان": وهو يحلم عنهم. (¬9) الأبيات في "الخريدة" قسم شعراء المغرب والأندلس: 3/ 573، و"وفيات الأعيان": 3/ 484 - 485.

عيسى بن هبة الله بن عيسى

عيسى بن هبة الله بن عيسى (¬1) أبو عبد الله البغدادي. ولد سنة سبع وخمسين وأربع مئة، وكان لطيفًا ظريفًا. قال الشيخ أبو الفرج: كان يحضرُ مجلسي، فانقطع، فكتبتُ إليه رقعةً فيها نوعُ احترامٍ، فكتبَ إليَّ: [من مخلع البسيط] قد زِدْتني في الخِطابِ حتى ... خشيتُ نَقْصًا من الزِّيادَهْ فاجْعَلْ خِطابي خطابَ مِثْلي ... ولا تُغيِّرْ عليَّ عادَهْ (¬2) وقال: [من المتقارب] إذا وَجَد الشيخُ في نَفْسِهِ ... نشاطًا فذلكَ موتٌ خفي ألستَ ترى أنَّ ضوءَ السِّراجِ ... لهُ لَهَبٌ قَبْلَ أَنْ يَنْطَفي (¬3) وقال: [من الكامل] يا من تبدَّلَ بي وأَمْكَنَهُ ... ما لي وحَقِّكَ عنكَ مِنْ بَدَلِ إن كنتَ حُلْتَ فإنَّني رَجُلٌ ... عن عَهْدِ ودِّكَ قَطُّ لم أَحُلِ لَهْفي على طَمَعٍ أُصِبْتُ به ... في عُنْفُوانِ شبيبةِ الأَملِ (¬4) وكانت وفاته في جُمادى الأولى، ودفن بباب حَرْب، وكان من محاسن الزَّمان، خفيفَ الرُّوح، كثيرَ النَّوادر، رقيقَ الشِّعْر، عاشَرَ النَّاسَ، وتخلَّق بأخلاقِ الكرام. غازي بن زَنْكي بن آق سُنْقُر (¬5) سيف الدين صاحب المَوْصل، [أخو نور الدين، وكان] (¬6) أكبر أولاد زَنْكي. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 3 / م 1/ 48 - 51، و"المنتظم": 10/ 141، و"عيون الأنباء في طبقات الأطباء" ترجمه ابنه مهذب الدين علي: 635، و"فوات الوفيات": 3/ 165 - 166. (¬2) "المنتظم": 10/ 141. (¬3) البيتان في "الخريدة" و"المنتظم". (¬4) الأبيات في "المنتظم". (¬5) أخباره في "الكامل": 11/ 138 - 139، و"الباهر": 84 - 94، و"كتاب الروضتين": 1/ 227 - 230، و"وفيات الأعيان": 4/ 3 - 4، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 192 - 193، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

لما عاد من الشَّام نزل على دارا فملكها، وحاصر مارِدِين، وفيها حسام الدين تمرتاش، فراسله واصطلحا، وزوَّجه ابنته الخاتون بنت تمرتاش، وعاد إلى الموصل مريضًا بعِلَّة القولنج، وكان يعتريه كثيرًا، وحُمِلَتْ إليه الخاتون وقد اشتدَّ مرضه، فمات سَلْخ جُمادى الآخرة، ولم يدخل بها، وعاش أربعًا وخمسين سنة [لأنه ولد سنة تسعين وأربع مئة] (1)، وقيل: [عاش] (1) أربعًا وأربعين سنة [وأنه ولد سنة خمس مئةٍ] (¬1) وأقام واليًا ثلاث سنين وشهورًا. وكان شجاعًا جَوَادًا، حازمًا، حَسَنَ السِّيرة والعِشْرة والصُّورة، وهو أوَّلُ من حُمِلَ السَّنْجق (¬2) على رأسه من الأتابكية، ولم يحمله أحدٌ قبله لأجل [السلاطين] (1) السلجوقية، وآثاره بالمَوْصل باقية، منها مدرسة الأتابكية، وَقَفَها على الحنفية والشَّافعية، ودفن بها [والرِّباط للصُّوفية، ووقف الوقوف] (1) ومدحه الحَيص بيص (¬3)، وغيره. ولم يترك إلَّا ولدًا ذكرًا: فأخذه محمود أخوه، فربَّاه، وزوَّجه بابنة عَمِّه قُطْب الدِّين، فمات وهو شاب، وانقرضَ عقبه. ولما مات سيف الدين كان أخوه قطب الدين بالموصل، فاتَّفق جمالُ الدِّين الوزير وزين الدِّين عليّ على توليته؛ لأَنَّه كان ليِّنَ الجانب، حَسَنَ الأخلاق، حليمًا، كريمَ الطِّباع، فحلَّفوه وملّكوه، وتزوَّج خاتون بنت صاحب ماردين التي لم يدخل بها [أخوه] (1) سيفُ الدِّين، فأولاده الذين ملكوا المَوْصِل منها خاصة (¬4)، وكانت [يحلُّ لها أن تضع] (¬5) خمارها عند خمسة عشرة ملكًا من آبائها [وأجدادها] (1) وأخوتها [وبني أخوتها] (1) وأولادهم وأولادها، فقد ضاهت عاتكة بنت يزيد بن معاوية وفاطمة بنت عبد الملك [بن مروان، وقد ذكرناهما] (1)، وكذا في المتأخرات ربيعة خاتون بنت ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) السنجق: لفظ تركي معناه الرمح، والمراد هنا العلم الذي هو الراية، إلا أنه لما كانت الراية إنما تجعل في أعلى الرمح عُبِّر بالرمح نفسه عنها، وحامله يسمى السنجقدار، انظر "صبح الأعشى": 5/ 458. (¬3) في قصيدته التي مطلعها: إلام يراك المجد في زي شاعر ... وقد نحلت شوقًا فروعُ المنابِرِ وهي في "ديوانه": 2/ 316 - 322. (¬4) في (م) و (ش): من خاتون هذه، ولم يملكها أحد من أولاد قطب الدين من غيرها، وهذه خاتون كانت .. (¬5) في النسخ الخطية: تحمل، والمثبت من "الباهر" لابن الأثير: 94.

[أيوب] (¬1) أخت صلاح الدين [والعادل، وهي أعظم من غيرها في كثرة المحارم، وسنذكرها في سنة إحدى وأربعين وستِّ مئة] (1). ولما ملك قُطْب الدِّين المَوْصِل كان أخوه نور الدين بحلب، وكان عبد الملك بن المُقَدَّم في سِنْجار، ومعه ولده شمس الدِّين محمد، فكاتبه نور الدين وهو دُزْدار (¬2) في سِنْجار، فأجابه محمد، وكان أبوه عبد الملك من أمراء الدَّولة، وقيل: إنَّ محمدًا كان بسنجار وعبد الملك بالمَوْصِل، فسار نور الدّين من حلب في سبعين فارسًا جريدةً، فسلَّم إليه محمدُ بنُ المقدَّم سنجار، وجاءته كُتُبُ الأمراء من المَوْصِل، وبلغ الخبر قطب الدين، فخرج من المَوْصل بالعساكر ومعه زين الدّين وجمالُ الدّين الوزير، فنزلوا تل أَعْفر (¬3)، وراسلوا نورَ الدِّين ينكرون عليه، فقال: أنا أكبر الأولاد، وأحقُّ منكم بالبلاد، وما جئتُ حتى كاتبني أُمراؤكم يذكرون كراهتهم لكم، فخِفْتُ أن يحملهم بُغْضهم لكم على إخراج البلادِ من أيدينا، ولا أقاتلكم إلا بمن معكم، ولهذا جئتكم جريدةً وهربَ إليه أعيانُ العَسْكر، فقال لهم الوزير: يا قُطْبَ الدِّين ويا زين الدّين نحن نُظْهر للخليفة والسُّلْطان أننا تبَعٌ لنورِ الدِّين، ونورُ الدين يُظْهر للفرنج أنه تبعٌ لنا، ويهدِّدهم بنا، فإن كاشفناه، وظهر علينا طَمِعَ فينا الخليفةُ والسُّلْطان، وإن ظهرنا عليه طَمِعَ فيه الفرنج، ولنا بالشَّام حِمْص وهي بعيدةٌ عنا، ونحتاج إلى حِفْظها من العدو، والمصلحة أن نعطيه إياها ونأخذ منه سنجار، فقالا له: اخرجْ إليه ودبِّرْ معه هذا. فجاء الوزيرُ إلى نور الدِّين، وقرَّر معه الصُّلْح، فرضي وقال للوزير: أريد أن تكون عندي. فقال له: فيك من الكفاية والنَّهْضة ما لا تحتاج معه إلى وزير، وليس لك من الأعادي مثل ما لأخيك، فإنَّ أعداءه مسلمين، فيحتاج إلى من يقوم بأمره ويدفعهم، وأنتَ عدوك كافر، فالنَّاس يدفعونه دِيانةً، ومتى كنتُ عند أخيك فنفعه عائدٌ إليك. فجعل له نورُ الذين في كلِّ سنة إقطاعًا بعشرة آلاف دينار، وكان الوزير يشتري بها أسارى من المسلمين في كلِّ سنة، فَيُطْلقهم، ولا يأخذ منها شيئًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) أي مالك القلعة، انظر "معجم المصطلحات والألقاب التاريخية": ص 181. (¬3) تل أعفر: قلعة وربض بين سنجار والموصل في وسط وادٍ فيه نهر جارٍ، وهي على جبل منفرد حصينة محكمة. "معجم البلدان": 2/ 39.

المحسن بن أحمد بن الحسين القائد

وعاد نور الدين إلى الشَّام، وقطب الدين والوزير إلى المَوْصِل، واتَّحدتِ الكلمة. المحسن بن أحمد بن الحسين القائد (¬1) أبو العلاء الحِمْصي. ومن شعره: [من المتقارب] دعا مُهْجتي رَهْنَ أَوْصابها ... وحِلْف هواها وأطرابِها وكُفَّا فلي عنكما شاغِلٌ ... بتسهيدِ عَيْني وتَسْكابِها فيا ليَ من ظَبْيةٍ بالحِمى ... تَتِيهُ بإفراطِ إعجابِها مُقَسَّمة الحُسْن بين القناع ... وبين اللِّثام وجلْبابها فَبَدْرُ الدُّجى فوق أَطْواقها ... وحقْفُ النَّقا تحت (¬2) أثوابها نَظَر الخادم (¬3) أمير الحاج بالعراق، حَجَّ نيفًا وعشرين سنة أميرًا، كان قد خرج في هذه السنة، فلما وصل الكوفة مَرِضَ، فاستناب قيماز الأُرْجُواني، ورجع إلى بغداد فتوفي، وحمل إلى الرُّصافة، فدفن بها. [وجرى على الحاج بعده شدائد بين مكة والمدينة، نذكرها. سمع الحديث من أبي الخَطَّاب بن البَطِر وغيره. وقال جدِّي رحمه الله: خرجت معه في سنة إحدى وأربعين وخمس مئة حاجًّا، ومعي شيء من سماعاته لأقرأه عليه بمكة والمدينة، فلما رأيتُ ظُلْمه وطرحه على الحمَّالين لم أكلمه، ولم أقرأ عليه شيئًا] (¬4). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 402 - 405، و"الوافي بالوفيات": 25/ 175 - 176، ووفاته في "الخريدة" سنة (543 هـ). (¬2) في (ع) و (ح): فوق، والمثبت من "الخريدة" و"الوافي "، وفي "الوافي": خفق، وهو خطأ. (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 141 - 142، وقد سلفت أخباره على السنين. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "المنتظم": 10/ 141.

السنة الخامسة والأربعون وخمس مئة

السَّنة الخامسة والأربعون وخمس مئة في المحرَّم جلس يوسف الدِّمَشْقي (¬1) في النِّظامية، وذكر الدرس من جانب الأعاجم، ولم يكن ذلك بإذْن الخليفة، وكان ميلُ الخليفة إلى ابن نظام الملك، فلما كان في الأُسبوع الثاني مُنع من دخول النظامية ودار الخليفة، وأُهين جماعةٌ من أصحابه، فلزم بيته، وجاء السُّلْطان مسعود إلى مدرسة أبي النَّجيب، وصلَّى خلفه الصُّبْح، وقال له: اذهب إلى النظامية، وألقِ بها الدرس، فقال: أحتاجُ إلى إذْن أمير المؤمنين. فاستخرج له إذْنَ الخليفة. وأما الحاجُّ فسار بهم قَيْماز إلى مكة، فطَمِعَ فيهم أميرُها بموتِ نظر، [واحتقر قيماز، و] (¬2) جاءتِ العرب فطلبوا رسومهم، فقال [قيماز للحاج: اجمعوا لهم ما تدفعون به شرَّهَم. فأبوا، فقال] (4): إذا لم تفعلوا فدعوا العامَ زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستغاثوا، وضجُّوا، وخرجوا إلى المدينة، فاجتمعتِ العرب، ووقفوا في الطَّريق، وقاتلوهم، فظهرت عليهم العرب، فنهبوا الأموال والجمال، وبدَّدوا شَمْلَ الحاج، وأخذوا من خاتون أُخت مسعود ما قيمته مئة ألف دينار، ومن الناسِ ما يزيد على خمس مئة ألف دينار، ومات مُعْظم الناس جُوعًا وعطشًا، ووصل قيماز إلى المدينة في نفرٍ يسير. وفيها مَطَرَتِ اليمن مطرًا كلُّه دم، فبقي أَثَرُه في الأَرْض، وفي ثياب النَّاس. ومرض ابن البلنكري وعوفي، فأطلق مسعود المكوس، وتصدَّق بمالٍ كثيرة، وكان المكَّاس ببغداد يسمى مختص الحضرة. [وفيها وقع الصُّلْح بين نور الدِّين ومجير الدِّين، وقد ذكرنا أَنَّ نور الدين تأخر عن دمشق، فلمَّا سكنتِ الأمطار عاد فنزل عليها وضايقها، ثم إنه أشفق من سفك دماء المسلمين] (¬3)، فراسله مجيرُ الدِّين، وخرج إليه هو والرَّئيس ابن الصُّوفي، وبذلا له ¬

_ (¬1) ستأتي ترجمته في وفيات سنة (563 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ح): وفيها في المحرم نزل نور الدين على دمشق وضايقها، ثم أشفق من سفك الدماء .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الطَّاعة، وأن يُخْطب له [على منبر دمشق] (¬1) بعد الخليفة والسُّلْطان، ويُنْقش اسمه على الدِّينار والدِّرْهم، فرضي، وخَلَعَ على مجير الدِّين خِلْعة السَّلْطنة والطَّوق والسِّوارين، وعلى الرئيس خِلْعة الوزارة، وطيَّبَ قلوبهما، وخرج إليه الأُمراء والأعيانِ، فَخَلَعَ عليهم، وأفاض إحسانه على فقهاء دمشق وقُرَّائها (¬2)، ورحل إلى حلب والقلوب معه [لما غَمَرَ العالم من خيره] (1). ووصل الملك مسعود (¬3) قاصدًا أنطاكية، ونزل على تل باشر، وضايقها في المحرَّم، ثم رحل بعد أن أشرفت على الأخذ. [وقال ابنُ القلانسي] (1): ووصل إلى دمشق جماعةٌ ممن سَلِمَ من الحاجّ، فحكوا ما نَزَل بهم من المصيبة [الفادحة التي لم يجر في الإسلام مثلها في السنين الخالية] (1)، وأنه كان في الحاج من وجوه خراسان وعلمائها [وفقائها] (1) وخواتين (¬4) أُمراء العساكر السُّلْطانية والحُرَم والبنات [والنِّساء] (1) والأموال الجمَّة، والأمتعة الفاخرة ما لا يمكن وصفه، وأَنَ العرب استولوا على الجميع، ومات أكثرُهم بالجُوع والعَطَش، فكسا أهلُ دمشق العُراة منهم، وأطلقوا لهم ما يستعينون به على العَوْدِ إلى أوطانهم (¬5). وفيها أُسر ابن جوسلين، وحُمِلَ إلى [قلعة] (1) حلب، وسار نور الدين فافتتح قلعة أعزاز. وفيها اختلف وزيرُ مصر ابن مَصَال والعادل بن السَّلَّار، وجمعا العساكر، واقتتلوا، فَقُتِلَ الوزير، واستقل ابنُ السَّلَّار بالتَّدْبير. وفيها توفي القاضي أبو الحسين (¬6) فخر الدولة ابن أبي الجن في رجب، ودفن بمقابر جده فخر الدولة، ففُجِعَ النَّاسُ به لخيريته وشرف بيته. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ح): فقرائها، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) هو الملك مسعود بن قليح أرسلان، صاحب قونية، وكان نور الدين قد تزوج بابنته. (¬4) في (ع) و (ح): وحواشي، وفي (م) خواص، والمثبت من (ش). وهو الموافق لما في "ذيل تاريخ دمشق": 481. (¬5) "ذيل تاريخ في دمشق": 481. (¬6) في (ع) و (ح): أبو الحسن، والمثبت من (م) و (ش)، وقد جاء خبره فيهما أواخر حوادث هذه السنة، وانظر "ذيل تاريخ في دمشق": 483، و"كتاب الروضتين": 1/ 259.

أبو المفاخر الحسن بن ذي النون

وفيها توفي أبو المفاخر الحسن (¬1) بن ذي النون (¬2) النَّيْسابوري الواعظ، كان صالحًا فاضلًا يعيد الدرس خمسين مرة، ويقول: إن لم يعاد (¬3) ما يستقر. وكان حنفيَّ المذهب، خرج من بغداد في جُمادى الأُولى، فتوفي بدارابْجِرْد (¬4). جلس ببغداد، فأنشد: [من البسيط] أهوى عليًّا وإيمان محبَّتُهُ ... كم مُشْرِكٍ في دَمُهُ مِنْ سَيفه وَكَفَا إن كنتَ وَيْحَكَ لم تَسْمَعْ مناقِبَهُ ... فاسمعْ فضائِلَه مِنْ هل أتى (¬5) وكفى وأنشد أيضًا: [من البسيط] ماتَ الكرامُ ومَرُّوا وانقضَوْا ومَضَوْا ... وماتَ بعدهُمُ تلك الكراماتُ وخلَّفونيَ في قَوْمٍ ذوي سَفَهٍ ... لو أَبْصروا طَيْفَ ضَيفٍ في الكرى ماتوا عبدُ الملك بن عبد الوهَّاب بن الحَنْبلي، الدِّمَشقي (¬6) [وذكره ابن القلانسي، قال] (7): ويلقب بالقاضي بهاء الدِّين، كان إمامًا فاضلًا مناظرًا، مُفْتيًا على مذهب الإمامين أحمد وأبي حنيفة رحمهما الله [بحكم ما كان يجري عليه بخراسان عند إقامته لطلب العلم] (¬7)، وكان حَسَنَ الحديث في الجِدِّ والهَزْل، ودُفِنَ بجوار أبيه وجَدِّه بالباب الصَّغير، وكان له يوم مشهود (¬8). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 143 - 144، و"الكامل": 11/ 153، و"الوافي بالوفيات": 12/ 8، و"لسان الميزان": 2/ 205، و "النجوم الزاهرة": 5/ 298، وقد سلفت أخباره في حوادث سنة (538 هـ). (¬2) في (ع) و (ح) بن أبي الليوث، والمثبت من مصادر ترجمته. (¬3) كذا في (ع) و (ح) والجادة: إن لم يُعَدْ. (¬4) قرية بنيسابور، انظر "المنتظم": 10/ 144، و"معجم البلدان": 2/ 419. (¬5) انظر حاشيتنا رقم 1 ص 492 من هذا الجزء. (¬6) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 483، و "كتاب الروضتين": 1/ 258، و"الوافي بالوفيات": 19/ 180، و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب: 1/ 219، و"المقصد الأرشد": 2/ 148، و"المنهج الأحمد": 3/ 141 - 142، و"الدارس": 2/ 67، و"شذرات الذهب": 4/ 143. (¬7) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬8) "ذيل تاريخ دمشق": 483.

عبد الملك بن أبي نصر بن عمر

[فصل: وفيها توفي عبد الملك بن أبي نَصر بن عمر (¬1) أبو المعالي الجِيْلاني، تفقَّه على أسعد المِيْهني، سمع الحديث، وكان فاضلًا زاهدًا، لم يكن له بيت يأوي إليه إلا المساجد الخراب، لا يقبل بِرَّ أحد، خَرَجَ إلى الحج، فأغارت العرب على الحاج، فانقطع بفَيْد، وأقام بها حتى مات، وكان أهل فَيْد يصفونه بالزهد والورع] (¬2). علي بن أحمد بن محمد (¬3) [المُقْرئ] (2) ويعرف بالأحدب، المُعَلِّم البغدادي، مات ببغداد [وذكره العماد في "الخريدة" وقال] (2): وماتت ابنة له فرثاها، فقال: [من الطويل] ولستُ براضٍ بالبكاءِ بُنَيَّتي ... عليكِ إلى أنْ أَمْزُجَ الدَّمْعَ بالدَّمِ فلو أَنَّ جَفْني دائمًا ببكائِهِ ... على قَدْرِ حُزْنِ تستحقينه عَمِي وإني بِمثْلِ الكَأْس بعدَكِ شارِبٌ ... كما شَرِبَ الماضون من لَدُ (¬4) آدَمِ فلا بَلِيَتْ تلك العِظامُ فإنَّها ... بقيةُ جسمي لم تدنَّسْ بمأْثَمِ (¬5) عليُّ بنَ دُبَيس، صاحب الحِلَّة (¬6) كان شجاعا، جَوَادًا، وكان قد استوحش من السُّلْطان، فبعث إليه يتهدَّده [وهو بالحِلَّة] (2)، فقال لرسوله: قل له: مثلي ما يُهدَّد؛ لأنَّ قصارى أمري أن تخرجني من جُدْران الحِلَّة، وتبعدني عن أَوْساخها، فأسكن في فيافي بني أسد، وأقنع بخيام ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 144 - 145، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 189 - 190. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 329 - 330. (¬4) لد، لغة في "لدن"، ظرف زماني ومكافي غير متمكن بمعنى عند إلا أنه أقرب مكانًا من "عند"، وأخص منه. انظر "اللسان" (لدن). (¬5) "الخريدة": مج 1 / ج 3/ 330. (¬6) له ترجمة في "الكامل" لابن الأثير: 11/ 102، و"الوافي بالوفيات": 21/ 102، و"النجوم الزاهرة": 5/ 299، وقد سلفت أخباره على السنين.

محفوظ بن أبي محمد الحسن

الشَّعر؛ وتلال الرَّمل؛ وثماد المياه؛ وخشن العَيْش، وهو وأمثاله لو فَقَدَ إيقادَ الشَّمْع، ودخانَ النَّدِّ، وألوانَ الأطعمة، وحشايا القَزّ، والحماماتِ لهلك. وكانت وفاته بالحِلَّة (¬1)، [واختلفوا في سببها على أقوال: أحدها أنه مات بعِلَّة السكتة، والثاني أنه سُمَّ، والثالث بعِلَّة القولنج، واتُّهم طبيبه محمد بن صالح بأنَّه قَصَّر في أمره، فمات طبيبه بعد قليل، وولي بعده ابنه مُهَلْهِل بن علي] (¬2). محفوظ بن أبي محمد الحسن (¬3) ابن صَصْرى، أبو البركات، ويعرف بالقاضي المكين، كان مشهورًا بالخير والعَفَاف، وكانت وفاتُه بدمشق في ذي الحِجَّة، وقد بلغ ثمانين سنة. السَّنة السَّادسة والأربعون وخمس مئة فيها دخل السُّلْطان مسعود بغداد، وخرج الوزير ابن هُبيرة وأربابُ الدَّولة إلى لقائه، فأكرمهم، [وأحسنَ إليهم] (¬4). ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): عقب هذا قوله: وكانت وفاته بالحِلَّة، فقبض ترشك على ابن الوزير ونجاح ويرنقش إلخ .. وهذا القول وما بعده حتى آخر ترجمة يوسف بن محمد بن فارُّه الأندلسي، هو من حوادث سنة (548 هـ)، مما يعني أن اضطرابًا وقع في النسختين جعل السنوات (546 هـ) و (547 هـ) و (548 هـ) و (549 هـ) تتداخل حوادثها ووفياتها تداخلًا عجيبًا، وجعل تتمة ترجمة علي بن دُبيس هذا يقذف بها إلى آخر حوادث سنة (548 هـ)، ويدل ذلك أيضًا أن ثمة خللًا في الأصل الذي نقل عنه ناسخا كل من النسختين، وقد جبرت هذا الخلل، وأعدت الحوادت والوفيات إلى تتابعها على السنين مستأنسًا بما ورد في (م) و (ش). ويبدو أن النسخة التي اعتمد عليها ابن تغري بردي من "المرآة" فيها الخلل نفسه، فقد ذكر في وفيات سنة (545 هـ) حوادث ووفيات سنة (548 هـ)، وقد نبه محققه إلى ذلك، وإن لم يقف على سبب هذا الخلل، وابن تغري بردي لا يصرح بنقله من "المرآة" في كثيرٍ من الأحيان. (¬2) في (ع) فمات بعلة السكتة، وقيل: إنه سُمَّ، وقيل: مات بعِلَّة القولنج، واتهم طيبه محمد بن صالح أنه قصر في أمره، فمات بعد قليل، وولي الحلة ابنه مهلهل بن علي. قلت: وأثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش): وجاءت في (ع) بعد ترجمة علي بن دبيس ترجمة محفوظ بن أبي محمد الحسن بن صصرى. (¬3) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 484، و"تاريخ ابن عساكر": (خ) (س): 16/ 285، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 267، و"الوافي بالوفيات": 25/ 185، وقد أخطأ محققه في الإحالة في السير على ترجمته، إذ إنه أحال على ترجمة ابنه أبي البركات هبة الله بن محفوظ! (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وطلب ابنُ العَبَّادي الجلوسَ بجامع المنصور، فقيل له: إنَّ أهل الجانب الغَرْبي لا يمكِّنون من الجلوس فيه إلا الحنابلة. فلم يقبل، وجَمَعَ أربابَ الدَّولة، ومضوا معه، فلما صَعِدَ المنبر جاءه الآجُرُّ، وأخذته الزَّعقات، ونَفَر النَّاس وأُخذت عمائمهم، ولولا أربابُ الدَّولة جذبوا السُّيوف وأحدقوا به لَقُتِلَ. وفيها نادى السُّلْطان بعِمارة قُرى العراق، وكان أصحابه قد أخربوها، فكتب إليه رجل: إنَّ الجِمال إذا حُرث عليها لإثارة الأرض وإصلاحها، طَمَسَتْ بأَخْفافها ما تحرثه. فقال: عليَّ بكاتبِ الورقة. فَحَضَر، فقال: ما معنى هذا؟ فقال: أنتَ تأمر [بعمارة النواحي، وإصلاح ما أفسده الظلمة [(¬1)، وأصحابُك يخرِّبون المساكن، وينهبون المال، ويهتِكُون الحريم. فغَضِبَ غَضَبًا شديدًا، ونادى في عسكره: مَنْ مَدَّ يده إلى ما ليس له قَطَعْتُها كائنًا مَنْ كان. فَعَمَرَتِ البلاد، واستقامت الأحوال. وفيها في المحرَّم عاد نورُ الدِّين إلى حصار دمشق، [فجاء، (¬2)، فنزل عيون الفاسريا (¬3)، وامتدَّت عساكره إلى ما بين عذراء وضمير، وأرسل إلى مجير الدِّين يقول: قد كنتُ اتفقت معكم وحلفتُ لكم، فالآن فقد صَحَّ عندي أنكم ظاهرتم الفرنج، وما قصدتُ إلا الجهاد، فإنْ رجعتم عن الفرنج وأعطيتموني عساكركم لأجاهد في سبيل الله تعالى رجعتُ عنكم. فلم يردُّوا عليه جوابًا، فرحل [نور الدين، فجاء] (2) ونزل مشهد القدم، وأحدقت عساكره بالبلد وضايقه، ولم يزحف خوفًا من سفك دماءِ المُسْلمين، وتواترت الأخبار بمجيء الفرنج لنُصرة مجير الدِّين، فضاقت صدور العلماء والزُّهاد [من هذه الحالة] (2)، ولم تزلِ المناوشات تعمل في كل يوم إلى ثالث عشرة صفر (¬4)، فرحل إلى داريَّا مستعدًّا للقاء الفرنج، وكان عسكره كل يوم يزداد قوةً وعسكرُ دمشقَ يَضْعُف، ومع هذا ما كان يأُذَنُ لأحدٍ في قتال المُسْلمين، وما خَرَجَ عسكر دمشق إلا وعادوا [مفلولين] (2) مكسورين، وقَرُبَ الفرنج من داريا، فأشار على نور الدين خواصُّه بالرَّحيل، وقالوا: تبقى بين الفرنج و [بين] (2) عسكر دمشق! فارتفع إلى الزَّبدانيِ، ووصل الفرنج [إلى] (2) داريا في جَمْعٍ قليل، وخَرَجَ مجيرُ الدِّين والمؤَيَّد إليهم، ¬

_ (¬1) في (ع): أنت تأمر بالعمارة، والمثبت من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) عيون الفاسريا تنبع من سفح الجبل، شمالي دومة، انظر "غوطة دمشق": 89. (¬4) في (م) و (ش): إلى ثالث وعشرين صفر. قلت: وكلا التاريخين وردا عن أبي يعلى في "ذيل تاريخ دمشق"، الأول في النسخة التي اعتمد عليها أبو شامة في "كتاب الروضتين": 1/ 265، والثاني في النسخة المطبوعة منه: 485.

واجتمعا بملكهم، فما صادفا عنده من القوَّة ما كانا يظنَّانه، فاتَّفقوا على نزول الفرنج على بُصرى، فإنَّها عَصَتْ على مجير الدِّين، ورحلوا إلى رأس الماء، وبَعَثَ نورُ الدِّين أربعة آلاف فارس إلى حوران، ومعهم عَرَبٌ يتخطَّفون عسكر الفرنج، فتبعوهم إلى لجاة حوران، وبلغ نور الدين، فعاد إلى دمشق. وقيل: بل نَزَلَ بعين الجر [من البقاع] (1). وضايق الفرنج بُصرى، فلم يظفروا منها بطائل، فعادوا إلى بلادهم، وبعثوا يطلبون من مجير الدِّين ما قرَّر لهم من المال [عن ترحيلهم نور الدين عن دمشق، وقالوا: لولانا ما رحل] (1). وعرض نور الدين عسكره بالبِقاع، وكانوا من عين الجَرِّ إلى الدَّلهمية، فكانوا ثلاثين ألفًا من عسكره والتُّرْكمان والعرب وغيرهم، فعاد إلى دمشق، وقد أَطْمَعَتْه نَفْسه فيها، [وجاء] (1) فنزل أرض كَوْكَبا غربيِّ داريا في ربيع الأَوَّل، ثم رحل، فنزل جسر الخشب، ثم رحل إلى مسجد القدم، ونودي في دمشق في العسكر والأحداث بالخروج إلى قتاله، فلم يخرج إلا اليسير [لما وَقَرَ في نفوسهم من استنجاد مجير الدِّين وابن الصُّوفي بالفرنج] (¬1). ووصل لنور الدِّين كتابُ الأمير حَسَّان المَنْبِجي أنه افتتح مدينةَ تل باشر بالأمان في ربيع الأول، فضُربت [البوقاتُ والطُّبول في عَسْكر نور الدين بالبشائر] (¬2). وأقام [نور الدين] (1) على دمشق من غير قتال ولا زحف [خوفًا على المسلمين، وقال: لا حاجة لي في إراقة دمائهم بأيدي بعضهم بعضًا، وإنما أُرفِّهُهُمْ ليبذلوا نفوسهم في قتال الكفَّار] (1)، ثم تردَّدت المراسلات بينه وبين مجير الدِّين وابن الصُّوفي على يد الفقيه بُرْهان الدِّين [علي] (1) البَلْخي (¬3) وأسد الدين شيركوه وأخيه نجم الدِّين أيوب، وتقارب الأمر إلى تجديد الأَيمان، وعهود وشروط اشترطها عليهم، ورحل عنهم يوم الخميس العاشر من ربيع الآخر. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع): فضربت البشائر في عسكره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ستأتي في ترجمته في وفيات سنة (548 هـ).

وسار بعض عسكر [نور الدين] (¬1) نحو بُصرى، لأَنَّ واليها عصى على المسلمين، واعتضد بالفرنج، فاستدعى نورُ الدين من دمشق المجانيق وآلة الحصار، وبعث إليه [نور الدين] (¬2) قطعةً من عسكره. وجاءَه الخبر بأن عسكر الرَّقَّة أغار على قلعة جَعْبر، فخرج الأمير عِزُّ الدِّين عليُّ بنُ مالك صاحِبُها في أصحابه إليهم [وقد أغاروا على أطراف أعماله] (2) ليخلِّصَ ما استاقوا، فالتقى الفريقان، فأصابه سَهْمٌ من كمينٍ ظَهَرَ عليه، فقتله، فرجعوا به إلى قلعة جَعْبر، وأجلسوا ولده مالك بن عليّ في منصبه، فاستقام أمره. وفي رجب توجَّه مجير الدِّين في جماعة من خواصِّه إلى حلب بقصد خدمة نور الدِّين وطاعته، فالتقاه وأكرمه، وخلع عليه، وبالغ في الفعل الجميل في حَقِّه، وقرَّر معه تقريرات اقترحها [عليه] (2)، ثم عاد عنه إلى دمشق مسرورًا، فدخلها في آخر شعبان (¬3). وفيها قصدتِ الفرنج بِقاع بَعْلَبَكَّ على غِرَّةٍ من أهلها، فنهبوا ما فيها من المواشي، وسبوا النِّساء، وأسروا الرِّجال، ولم يُبْقوا على أحدٍ، وكان عطاء الخادم (¬4) ببَعْلَبَك، فبعث الرَّجَّالة في إثرهم، واجتمع إليهم من أهل البِقاع خَلْقٌ عظيم، واتبعوهم فلحقوهم، وقد أرسل الله عليهم من الثُّلوج المتداركة ما ثبَّطهم عن الوصول إلى بلادهم، فَقَتلوا منهم مقتلةً عظيمة، واستخلصوا الأسارى والمواشي، ومن سَلِمَ من الثَّلْج. وفيها استوحش عليُّ بن السَّلار وزير مِصر من الظَّافر، ولم يدخلِ القصر خوفًا منه، واستقلَّ بالتَّدْبير، [واستوحش الظافر منه. واستوحش ابنُ الصُّوفي من مجير الدين، واستقل بالأمر] (2)، ولم يبق لمجير الدِّين حكم. ¬

_ (¬1) في (ح): عسكره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ح). (¬3) في "ذيل تاريخ دمشق": 491 أنه توجه إلى نور الدين في يوم الخميس الثاني عشر من رجب، وعاد إلى دمشق في يوم الثلاثاء السادس من شعبان، وانظر "كتاب الروضتين": 1/ 273. (¬4) في (م) و (ش): وكان بحلب عطاء الخادم، فبعث الرَّجَّالة .. وهي عبارة لا تستقيم، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 492، وستأتي ترجمة عطاء في وفيات سنة (548 هـ).

ثابت أبو الزهر، المصري الضرير

فصل وفيها توفي ثابت أبو الزُّهْر (¬1)، المِصري الضَّرير (¬2) كان شاعرًا ومن شِعْره في رجلٍ ضُرِبَ بسيفٍ في حَرْبِ على وجهه، فَقُطِعَ أنفه وجُرِحَ وجهه: [من البسيط] لا صُوحِبَتْ بِبَنانٍ راحةٌ جَدَعَتْ ... أَنْفَ الزَّمانِ وجَدَّتْ مارِنَ الكَرَمِ (¬3) ودَلَّ ما ناله في الحَرْب مِنْ قُبُلٍ ... بأَنَّه كان فيها غير مُنْهَزِمِ عبد الرحمن بن عبد الله (¬4) بن الحَسَن بن [أبي] الحسن (¬5) أبو الحسين بن أبي القاسم ابن أبي الحديد، الدِّمَشْقي، خَطيب دمشق. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): أبو الزهري، والمثبت من "الوافي بالوفيات"، وهو غالبًا ما ينقل عن "المرآة" دون أن يسميه. (¬2) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 10/ 469، وقال: ثابت بن مفرج بن يوسف أبو الزهر الخثعمي، البلنسي الشاعر، نزيل مصر، تفقه بها على مذهب الشافعي، وتوفي سنة ست وأربعين وخمس مئة، وشعره جيد، ومن شعره قوله. قلت: ثم بيض له، ولم يسق شيئًا من أبياته. (¬3) جَدَّ: قطع، والمارن: طرف الأنف، أو ما لان منه منحدرًا عن العظم. "اللسان" (جدد، مرن). (¬4) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 490 - 491، و"تاريخ ابن عساكر" (خ) 10/ 3 - 4 [41/ 2 - 3]، و "مشيخة ابن عساكر"، (خ): الورقة 107، و"التحبير": 1/ 391 - 392، و"المنتخب من معجم الشيوخ" للسمعاني: 2/ 981 - 982، و"الروضتين": 1/ 272. (¬5) اضطربت النسخ في نسبه، ففي (ع) عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين بن الحسين، وفي (ح) و (ش): عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسن بن الحسين، وفي (م): عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسن بن الحسن. وقد رفع ابن عساكر نسبه وجوَّده، فقال: عبد الرحمن بن عبد الله [أبي القاسم] بن الحسن [أبي عبد الله] بن [أبي الحسن] أحمد بن [أبي الفضل] عبد الواحد بن [أبي بكر] محمد بن أحمد بن عثمان بن الوليد بن الحكم بن سليمان، أبو الحسين بن أبي القاسم بن أبي عبد الله السلمي، المعروف بابن أبي الحديد الخطيب. قلت: وكذلك أورده في "مشيخته" مع زيادة في كنى بعض أجداده، وقد وضعتها ما بين حاصرتين، وعن مشيخة ابن عساكر نقل السمعاني في "التحبير" و"المنتخب". وأما ابن القلانسي فساق كنيته وما اشتهر به، فقال: أبو الحسين بن أبي الحديد، وعنه نقل أبو شامة في (الروضتين). وقد أثبت من (م) ما اتفق مع ما أورده ابن عساكر، فهو تلميذه، ومن أعرف الناس به، وزدت ما بين حاصرتين من "مشيخته".

علي بن مرشد بن المقلد

ولد سنة اثنتين وستين وأربع مئة (¬1)، وسمع الحديث الكثير، وتوفي [في هذه السنة بدمشق، روى عنه الحافظ ابن عساكر وغيره] (¬2)، وكان صالحًا ثِقَةً، وبيتُ أبي الحديد يتوارثون نَعْلَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد انقرضوا فلم يبق منهم أحد. وقال ابنُ القلانسي: وفي يوم السَّبْت الثَّاني من جُمادى الآخرة [في هذه السنة] (¬3) توفي القاضي السَّديد الخطيب أبو الحسين بن أبي الحديد؛ خطيبُ دمشق، وكان [خطيبًا] (3) بليغًا، صَيِّنًا (¬4) عفيفًا، ولم يكن له من يقوم مقدمه في منصبه سوى أبي الحسن الفَضْل [ولد] (3) ولده، وهو حديثُ السِّن، فَنُصِّبَ مكانه، وخَطَبَ وصَلَّى بالنَّاس، واستمرَّ الأمر فيه (¬5). علي بن مُرشِد بن المُقَلَّد (¬6) ابن نَصر بن مُنْقِذ، عِزُّ الدِّين. ولد بشَيْزر سنة سبعٍ وثمانين وأربع مئة، وكان فاضلًا أديبًا، حَسَنَ الخَطِّ، وكانت وفاته على عَسْقلان شهيدًا (¬7)، وكان أكبر إخوته، وكَتَبَ إلى أخيه أُسامة: [من الطويل] أسامةُ ما رمتُ التَّسَلِّي لأَنَّني ... أرى مَغْنَمَ اللَّذَّاتِ مذ غِبْتَ مَغْرَما أُجِلُّكَ أَنْ أدعوك يومًا ملقّبًا ... لأَنَّ اسْمَكَ المحمودَ ما زال أَعْظَما ¬

_ (¬1) في "تاريخ ابن عساكر": سئل أبو الحسين بن أبي الحديد عن مولده، وأنا أسمع، فقال: في جمادى الأولى سنة أربع وستين وأربع مئة، وكان يقول قبل ذلك: إنه ولد سنة اثنتين وستين. (¬2) في (ع) و (ح): وتوفي بدمشق، وما يبن حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): صيتًا، وفي "ذيل تاريخ دمشق": متصونًا. (¬5) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 490 - 491. (¬6) له ترجمة في "الأنساب": 7/ 469 - 470، و"تاريخ ابن عساكر": 12/ 546 - 547، و"الاعتبار"، لأسامة ابن منقذ: 39، 41، 120، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 548 - 551، 561 - 563، و"معجم الأدباء": 5/ 214 - 220 (ضمن ترجمة أخيه أسامة)، و"اللباب" لابن الأثير: 2/ 225، و "الروضتين": 1/ 353، و"الوافي بالوفيات": 22/ 191 - 192، "النجوم الزاهرة": 5/ 301، وله كتاب في التاريخ مفقود اسمه "البداية والنهاية"، نشر شذرات منه د. إحسان عباس في "شذرات من كتب مفقودة في التاريخ": 125. (¬7) في "معجم الأدباء": 5/ 218 نقلًا عن أخيه أسامة: وكان استشهد -رحمه الله- على غزة في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وخمس مئة في حرب الفرنج. قلت: وهو ما ذكره كذلك في "الاعتبار": 41، وقال: وبقي أخي عز الدولة أبو الحسن علي -رحمه الله- بعسقلان، فخرج عسكرها إلى قتال غزة، فاستشهد رحمه الله، وكان من علماء المسلمين وفرسانهم وعُبَّادهم.

علي بن مسهر أبو الحسن الموصلي، الشاعر

فعِشْتَ كما تهوى بعيدًا ودانيًا ... قريبًا من الحُسْنى كريمًا مُكَرَّما ولا زلتَ هزَّامَ الجيوشِ وبانيًا ... بفَضْلك (¬1) مجدًا قد عفا وتهدَّما (¬2) وكتب إليه: [من الطويل] أيا ساكني قلبي (¬3) على خَفَقانِهِ ... وطَرْفي وإنْ واراه من أَدْمُعي بَحْرُ فلو رامَ قَلْبي سَلْوةً عنك صَدَّه ... خلائِقُكَ الحُسْنى وأفعالُك الغُرُّ فيا هل لشَتِّ (¬4) الشَّمْل جَمْعٌ وهل لنا ... لقاءٌ فأشكو ما بنا صَنَعَ الدَّهْرُ وَقَتْكَ الرَّدى نَفْسي فإنَّك ذُخْرُها ... وأَنْفَس ما أقنى إذا عُدِّدَ الذُّخْرُ (¬5) وارتحل من شَيْزَر إلى بَعْلَبَك، فأقام عند معين الدِّين أُنَر، فقال: [من البسيط] لأَشْكُرَنَّ النَّوى والعِيْسَ إذْ قَصَدَتْ ... بي مَعدِنَ الجُود والإحسانِ والكَرَمِ فصرتُ في وطنٍ إذ سِرْتُ (¬6) عن وطني ... فمن رأى صِحَّةً جاءَتْ (¬7) منَ السَّقَمِ علي بن مُسْهِر (¬8) أبو الحسن المَوْصِلي، الشَّاعر (¬9) قال عبد الرحمن ابن الإخوة البغدادي (¬10): رأيتُ في المنام كأنَّ منشدًا يُنْشِدُ هذين البيتين: [من الطويل] ¬

_ (¬1) في "تاريخ ابن عساكر": بفعلك. (¬2) انظر الأبيات مع غيرها في "تاريخ ابن عساكر": 12/ 547. (¬3) في "تاريخ ابن عساكر": فيا ساكنًا قلبي. (¬4) الشت: أي المتفرق. "اللسان" (شتت). (¬5) في (ع): الدهر، والمثبت من (ح)، والأبيات في "تاريخ ابن عساكر": 12/ 546 - 547، مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬6) في (ع) و (ح): إذ صرت، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر"، وفي "الخريدة" و"معجم الأدباء": فسرت في وطني إذ سرت عن وطني، وما في "تاريخ ابن عساكر" أصح. (¬7) في (ع) و (ح): كانت، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر" 12/ 547، و"الخريدة": 1/ 551، و"معجم الأدباء": 5/ 217. (¬8) في (ع) علي بن فهر، وفي (ح) ابن مهير، وكلاهما تحريف، وهو علي بن سَعْد بن علي بن عبد الواحد بن عبد القاهر بن أحمد بن مُسْهر. (¬9) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 271 - 278، و"وفيات الأعيان": 3/ 391 - 395، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 234 - 235، و"الوافي بالوفيات": 21/ 129 - 133، وعندهم وفاته -ما خلا الخريدة- سنة (543 هـ). (¬10) هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن علي الشيباني البَيِّع، أبو الفتح بن أبي الغنائم، الكاتب، المعروف بابن الإخوة، كان أحد كتاب الديوان، وتوفي سنة (559 هـ)، انظر ترجمته في "إنباه الرواة": 2/ 167 - 169، و "الوافي بالوفيات": 18/ 245.

السنة السابعة والأربعون وخمس مئة

أُعاتِبُ فيكِ اليَعْمَلاتِ (¬1) على السُّرى ... وأسألُ عنكِ الرِّيحَ إنْ هي هَبَّتِ وأُمْسِكُ (¬2) أحناءَ الضُّلوعِ على جوًى ... مُقيمٍ (¬3) وصَبْرٍ مستحيلٍ مُشَتَّتِ فلمَّا انتبهتُ جعلتُ أبحثُ عن قائلها، ومضتْ عِدَّةُ سنين، فاجتمعت بعلي بن مُسْهِر وحدَّثته بالمنام، فقال: واللهِ إنَّهما لي من أبياتٍ، أَوَّلها: إذا ما لسانُ الدَّمْع نَمَّ على الهوى ... فليس بسِرٍّ ما الضُّلُوعُ أَجَنَّتِ فوالله ما أدري عَشِيَّةَ وَدَّعَتْ ... أناحَتْ حماماتُ اللِّوى أم تَغَنَّتِ وأَعْجَبُ مِنْ صَبْري القَلُوصُ (¬4) التي سَرَتْ ... بَهْودَجِكِ المَزْموم حين (¬5) اسْتَقَلَّتِ أُعاتِبُ فيكِ اليَعْمَلاتِ على السُّرى (¬6) ... وأَسألُ عنكِ الرِّيحَ إنْ هي هَبَّتِ فعجبت من هذا الاتِّفاق (¬7). السنة السابعة والأربعون وخمس مئة حكى جدِّي في "المنتظم" عن القاضي أبي العبَّاس بن المانْدائي الواسطي (¬8) قال: في تاسع المحرم (¬9) باض ديك [لرجل يعرف بابن عامر بيضة] (¬10)، وباض بازيٌّ لعلي بن حماد بيضتين، وباضت نعامة لا ذكر معها [بيضة] (10) (¬11). [قلت: بيض الديك والنعام معروف، أما البازي فغريب جدًّا] (10). ¬

_ (¬1) اليعملات جمع، مفردها اليعملة: وهي الناقة النجيبة السريعة، انظر "معجم من اللغة": 4/ 209. (¬2) في "الخريدة": وأطبق. (¬3) في "الخريدة": جميع. (¬4) القلوص من الإبل: الشابة حتى تبزل. "معجم متن اللغة": 4/ 633. (¬5) في "الخريدة": أنَّى. (¬6) في "الخريدة": الونى، وفي "وفيات الأعيان": النوى. (¬7) انظر الخبر في "الخريدة" قسم شعراء الشام: 2/ 273 - 274، وهو ينقله عن السمعاني، وفيه أنه رأى منشدًا ينشد هذين البيتين، أحدهما: وأعجب من صبري، والآخر: وأطبق أحناء الضلوع. (¬8) هو أبو العباس أحمد بن بختيار المندائي، ويقال: الماندائي، قاضي واسط، توفي سنة (552 هـ)، وله ست وسبعون سنة، انظر ترجمته في "المنتظم": 10/ 177 - 178، و"توضيح المشتبه": 8/ 317 - 318. (¬9) في (ع) و (ح): فيها قال أبو العباس الواسطي في تاسع المحرم، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬10) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬11) "المنتظم": 10/ 146.

وفيها توفي السلطان مسعود، ووصل الخبر إلى بغداد، فقَبَضَ الخليفةُ على جماعةٍ كانوا ينتمون إلى الأعاجم، ويتسمجون في حقِّ الخلافة بما لا يليق [على المنابر وغيرها] (¬1) مثل أبي النَّجيب السُّهْرَوَرْدي والحيصَ بيص [الشاعر] (1)، [وأُهينا] (1)، فأخرج أبو النَّجيب إلى باب النُّوبي، وضُرِبَ سبع دِرَر، ورُدَّ إلى الحَبْس. وكان في [بعض] (1) الليالي قد صَعِدَ على سطح النِّظامية وأومى إلى دار الخليفة، وقال: تولي ابن المُرَخِّم على المُسْلمين، ما بايعناك على ذا! وهرب مسعود البلالي شحنة بغداد إلى تَكْريت، وجلس الوزير في بيت النّوبة لعزاء مسعود. وأمر الخليفةُ ابنَ النظام بأن يذكر الدَّرْس بالنظامية، ويخْرج مَنْ فيها من الفقهاء أصحابِ أبي النَّجيب، وكانوا يسيئون الأدب، ويستطيلون بالأعاجم. وبلغ الخليفة أنَّ واسطًا قد عَصَتْ، فخرج إليها بنفسه ووزيره وولي عهده، وسار في [شوال في دَسْتِ الخلافة، ووصل إلى واسط، فأقام بها أيامًا، ومضى إلى الحلَّة والكوفة، وهرب مهَلْهِل بن علي، وزار الخليفة المشهدين، وعاد إلى بغداد] (¬2). وغلقت بغداد وضربت القِباب، واشتغل النَّاسُ باللَّهْو، وخُطِبَ لولي العهد يوم الجمعة غُرَّة ذي الحِجَّة. وفي المحرَّم فَتَحَ نورُ الدِّين محمود -رحمه الله- حصن أَنْطَرْسُوس عَنْوَةً، فطلبوا الأمان على النُّفوس، فأمَّنهم، وملك عِدَّةً من الحصون منها المَرْقَب (¬3)، وكان على الإسلامِ منه ضررٌ عظيم. وحجَّ بالنَّاس قَيْماز الأُرجُواني. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ح): وسار في أبهة الخلافة، ووصلها، وأقام بها أيامًا، وعاد إلى بغداد في ذي القعدة .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) كذا قال، وهو وهم، إذ لم يذكر أحد ممن أرخ لنور الدين أنه استولى على حصن المرقب، والمعروف أنه بقي في يد الفرنج حتى فتحه السلطان سيف الدين قلاوون، سنة (684 هـ)، انظر "السلوك" للمقريزي: ج 1 / ق 2/ 727 - 728.

أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي

فصل: وفيها توفي أُميَّة بن عبد العزيز بن أبي الصَّلْت الأندلُسي (¬1) نزل الإسكندرية، وكان شاعرًا فصيحًا، فاضلًا، صنَّف كتاب "الحديقة" (¬2)، ومن شِعْره في الأفضل ابن أمير الجيوش: [من الكامل] لا غَرْوَ إنْ سَبَقَتْ لُهاكَ (¬3) مدائحي ... وتدفَّقَتْ جَدْواك مِلْءَ إنائها يُكْسى القضيبُ ولم يَحِنْ إثْمارُهُ ... وتُطَوَّقُ الوَرْقاءُ قَبْلَ غِنائها (¬4) وقال: [من الطويل] إذا كان أَصلي من تُرابٍ فكلُّها ... بلادي وكلُّ العالمينَ أقاربي ولا بُدَّ لي أَنْ أسأَلَ العِيسَ حاجةً ... تَشُقُّ على شُمِّ الذُّرى والغوارِبِ (¬5) (¬6) وقال: [من الطويل] ورُبَّ قريبِ الدَّارِ أَبْعَدَه القِلى ... ورُبَّ بعيدِ الدَّارِ وهو قريبُ وما ائْتَلَفَتْ أجسامُ قومٍ تناكرتْ ... على القُرْبِ أرواحٌ لهمْ وقُلُوبُ (¬7) ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء المغرب والأندلس: 1/ 189 - 270، و"معجم الأدباء": 7/ 52 - 70، و"الكامل": 11/ 18، و"تاريخ الحكماء": 57 - 58، و"طبقات الأطباء": 501 - 515، و"وفيات الأعيان": 1/ 247 - 243، و"المغرب": 1/ 261 - 262، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 634 - 635، وفيه تتمة مصادر ترجمته. وقد اختلف قول العماد في سنة وفاته، فذكر أنه قرأ في آخر "الحديقة" أنه توفي يوم الاثنين الثاني عشر من محرم سنة (546 هـ) -وتابعه على ذلك سبط ابن الجوزي- وقرأ في موضع آخر أنه توفي سنة (529 هـ)، وهو الصحيح فيما ذكر ابن خلكان، وأشار إليه السبط آخر الترجمة إلا أنه صدره بصيغة التمريض. وقد ذكر ابن خلكان أن سنة (546 هـ) هي سنة وفاة ابنه عبد العزيز. (¬2) هو كتاب "الحديقة في المختار من أشعار المحدثين"، وذكره العماد في "الخريدة" وقال: على أسلوب كتاب "اليتيمة"، وقد نقل عنه ابن سعيد في "المغرب". (¬3) اللها جمع، مفردها اللهية واللهوة: العطية، "اللسان" (لها). (¬4) "خريدة القصر" قسم شعراء المغرب: 1/ 191. (¬5) الذرى جمع، مفردها ذروة، وهي أعلى سنام البعير. "اللسان" (ذرا)، والغوارب جمع، مفردها غارب، وهو الكاهل: ما بين السنام والعنق، و"اللسان" (غرب). (¬6) "الخريدة": 1/ 198، و "وفيات الأعيان": 1/ 244. (¬7) "الخريدة": 1/ 198.

وقال: [من الوافر] أَيُحْيي الدَّهْرُ منِّي ما أماتا ... ويُرْجِعُ مِنْ شبابي ما أفاتا وما بَلَغَ الفتى الخمسينَ إلا ... ذوي غُصنُ الصَّبا منه فماتا بكيتُ على الفُرَات غداةَ شَطُّوا ... وظنَّ النَّاسُ مِنْ دمعي الفُراتا أُسائِلُ عن جُفوني كيفَ أضحتْ ... وعن قَلْبي المُعَنَّى كيفَ باتا أما لو عادَني لأَعادَ رُوحي ... وأَحْيا أَعْظُمي الرِّقمَ الرُّفاتا (¬1) وقال يمدح يحيى بن تميم بن باديس: [من السريع] صبٌّ براه السُّقْم بَرْيَ القِداحْ ... يَوَدُّ لو ذاق الرَّدى فاسْتَراحْ لم يَرِمِ الوَجْدُ حشاه ولا ... خَلَتْ له جارحةٌ من جِراحْ له إذا آنسَ بَرْقَ الحِمى ... جوانحُ تَخْفُقُ خَفْقَ الجَنَاحْ وإنْ شَدَتْ وَرْقاءُ في أيكةٍ ... عاوَدَه ذِكْر حبيبٍ فَنَاحْ أصبحتُ في حَلْبة أهلِ الهوى ... يَرْكُضُ بي طِرْفٌ (¬2) شديدُ الجِماحْ وفي سبيلِ الحُبِّ لي مهجةٌ ... كان لها صَبْرٌ جميلٌ وطاحْ يا بنَ الملوكِ الصِّيدِ من حِمْيَرٍ ... ووارثِ المَجْدِ القديم الصُّراحْ لِيَهْنكَ الجَدُّ الذي نِلْتَهُ ... بالجدِّ من أَمْرِك لا بالمُزاحْ مَزَجْتَ بالبأسِ النَّدى والتُّقى ... مِلْحٌ أُجاجٌ وزُلال قَرَاحْ كم مَنْهَلٍ مُطَّرِدٍ بالرَّدى ... في موقف مُشْتَجِرٍ بالرِّماحْ أَوْرَدْتَه كلّ سليمِ الشَّظى ... مُنَعَّلَةٌ أَرْبَعُهُ بالرِّياحْ كأنَّما سُرْبِلَ جُنْح الدُّجى ... وبُرْقِعَتْ غُرَّتُه بالصَّباح (¬3) وقال في الشمعة: [من الطويل] وناحلةٍ صفراءَ لم تَدْرِ ما الهوى ... فتبكي لِهَجْرٍ أو لطول بِعادِ حكتني نُحولًا واصفرارًا وحُرْقَةً ... وفيضَ دموعٍ واتِّصال سُهادِ (¬4) ¬

_ (¬1) "الخريدة": 1/ 198. (¬2) الطِّرْف، بالكسر -من الخيل: الكريم والعتيق. "اللسان" (طرف). (¬3) "الخريدة": 1/ 208 - 209. (¬4) "الخريدة": 1/ 213.

وقال في الرِّزْق: [من الطويل] وقائلةٍ سِرْ وابْتَغِ الرِّزْقَ طائفًا ... فإنَّك فيما لا يفيد لطائفُ فقلتُ دَعيني ربَّ ساعٍ مخيَّبٍ ... وللهِ في كلِّ الأمورِ لطائِفُ (¬1) وقال: [من الطويل] رمَتْني صروفُ الدَّهْرِ بين معاشرٍ ... أصحّهم وُدًّا عدوٌّ مخاتِلُ وما غُرْبةُ الإنسانِ في بُعدِ داره ... ولكنَّها في قُرْبِ من لا يُشاكِلُ (¬2) وقال، وكان قد حُبس: [من الطويل] ولو لم أكن حُرَّ الخلائقِ ماجدًا ... لما كان دَهْري ينطوي بي على ضِغْنِ وما مَرَّ بي كالسِّجْن فيه مُلِمَّةٌ ... وشَرٌّ من السِّجْن المصاحِبِ في السِّجْنِ أظنُّ الليالي مُبْقياتي لحالةٍ ... تُبدِّلُ فيها حالتي هذه عنِّي وإلا فما كانت لتُبْقي حُشاشتي ... على طُول ما ألقى من الذُّلِّ والغَبْنِ وكم شامِتٍ بي أن حُبِسْتُ وما درى ... بأنَّ حُسامًا صِينَ حدَّاه بالجَفْنِ متى صَفَتِ الدُّنيا لحُرٍّ فأبتغي ... بها صَفْوَ عيشٍ أو خُلُوًّا من الحُزْنِ وهل هي إلا دارُ كلِّ مُلِمَّةٍ ... أَمَضّ لأحشاءِ الكرامِ من الطَّعْنِ (¬3) وأحسن ما قال: [من الطويل] سَكَنْتُكِ يا دارَ الفَناءِ مُصَدِّقًا ... بأنِّيَ في دارِ البقاءِ أصيرُ وأَعْظَمُ ما في الأَمْرِ أنِّيَ صائِرٌ ... إلى عادلٍ في الحُكْمِ ليس يجورُ فيا ليتَ شِعْري كيفَ ألقاه بعدها ... وزادي قليلٌ والذُّنوب كثيرُ فإنْ أكُ مَجْزِيًّا بذنبي فإنَّني ... بحَرِّ عذابِ المُذْنبين جديرُ وإن يكُ عفوٌ ثُمَّ فَضْلٌ ورحمةٌ ... فَثَمَّ نعيمٌ دائمٌ وسرورُ (¬4) توفي في سنة ست وأربعين، وقيل: سنة تسعٍ وعشرين وخمس مئة. ¬

_ (¬1) "الخريدة": 1/ 239. (¬2) "الخريدة": 1/ 248. (¬3) "الخريدة": 1/ 255. (¬4) "طبقات الأطباء": 503 - 504، و"وفيات الأعيان": 1/ 246.

حيدر بن محمد بن الحسن، أبو الرضا العلوي

حَيْدر بن محمد بن الحسن، أبو الرِّضا العَلَوي (¬1) من أعيان العلماء، وأكابرِ الفُضَلاء، عاش تسعين سنة، وكان أشعرَ أهلِ زمانه، فحاز على شعره بألف دينار، ومن شعره: [من السريع] ليتَ نسيمًا رَقَّ قد رَقَّ لي ... ممَّا بقلبي الهائمِ المُغْرَمِ فأخبرَ الظَّاعِنَ عن قاطنٍ ... وبلَّغَ المُنْجِدَ عن مُتْهِمِ لا خَضِلَتْ أَرْدانُه سُحْرةً ... مِنْ سَيْبِ وادٍ مُتْرَعٍ مُفْعَمِ ولا هفا وَهْنًا على زَهْرَةٍ ... أَوْ أُقحوانٍ طَيِّبِ المَنْسَمِ إنْ لم يُبَلِّغْ سَهَرِي مُسْهِري ... أَوْ لم يَصِفْ سُقْميَ للمُسْقِمِ محمد بن نَصر، أبو عبد الله، العَكَّاوي (¬2) ويقال له ابن صغير، القَيسراني الشَّاعر [ذكره الحافظ ابن عساكر، والعماد الكاتب في "الخريدة"، وأبو سَعد بن السَّمْعاني في "الذَّيل"] (¬3). ولد بعكا [في] (3) سنة ثمانٍ وسبعين وأربع مئة، ونشأ بقَيسارية السَّاحل [فلذلك تسمَّى بها] (3)، ولما استولتِ الفرنج على السَّاحل انتقل إلى حلب ثم [أتى] (3) إلى دمشق [فأخذ الأدب عن توفيق بن محمد (¬4). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 13/ 230 - 231، وفيه وفاته سنة (548 هـ). (¬2) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق": 498، و"الأنساب": 10/ 291، و "التحبير": 2/ 242 - 244، "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 16/ 47 - 48، و "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 96 - 160، و"معجم الأدباء": 19/ 64 - 81، و"كتاب الروضتين": 1/ 293 - وقد أورد له أو شامة مقطعات طويلة من شعره - و"وفيات الأعيان": 4/ 458 - 461، و"تكملة إكمال الإكمال" لابن الصابوني: 241 - 244، و"الوافي بالوفيات": 5/ 112 - 121، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 224 - 226، وفيه تتمة مصادر ترجمته. ووفاته على الصحيح سنة (548 هـ). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) هو توفيق بن محمد بن الحسين بن زريق الأطرابلسي الدمشقي، كان شاعرًا نحويًّا، وله معرفة بالحساب والهندسة، توفي سنة (516 هـ) بدمشق، انظر ترجمته في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 3/ 555 - 556، و"معجم الأدباء": 7/ 138 - 139، و "إنباه الرواة": 1/ 258، و"الوافي بالوفيات": 10/ 448 - 449، و"فوات الوفيات": 1/ 265 - 266.

قال الحافظ ابن عساكر: كان ابن القيسراني يتولى] (¬1) عمل السَّاعات التي عند باب جيرون [على] (1) الدَّرج، وبلغ شمس الملوك أنه هجاه، فتنكَّر له، فهرب إلى حلب (¬2). ومدح نور الدين محمود، وجمال الدين الوزير [الموصلي] (1) ومجير الدِّين أبق وغيرهم [من الأعيان وغير الأعيان] (1)، وديوانه مشهور، وعاد إلى دمشق، فتوفي بها في صفر، ودفن بباب الفراديس. وقال ابن القلانسي: وصل الشيخ الأديب أبو عبد الله محمد بن صغير القَيْسراني الشَّاعر من حلب [يوم الأحد الثَّاني عشرة من شعبان سنة] (¬3) ثمانٍ وأربعين وخمس مئة إلى دمشق، فاستدعاه (¬4) مجير الدِّين، فحضر مجلسه، وأنشده قصيدةً حسنة [مقيدة، فأجازه] (1)، ووصله أحسنَ صِلة، واتفق له حُمَّى حادَّة، وتبعها إسهالٌ مُفْرط، فقضى نحبه يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان [هذه السنة، وكان أديبًا، فاضلًا، شاعرًا، مترسلًا، بليغ النَّظْم، مليح المعاني، وله يد قوية في علم النُّجوم والأحكام وحفظ التواريخ، وكان بينه وبين أبي الحسين أحمد بن منير مشاحناتٌ على قديم الزَّمان، فماتا على ذلك، وبينهما في الوفاة مدة يسيرة] (¬5). ومن شعره يمدح الوزير جمال الدِّين محمد المَوْصِلي: [من الكامل] ليتَ القلوبَ على نظامٍ واحدِ ... ليذُوقَ حَرَّ الوَجْدِ غيرُ الواجِدِ ما زال صَرْفُ الدَّهْرِ يَقْصِدُ هِمَّتي ... حتى صَرَفْتُ إلى الكِرامِ مقاصدِي وإذا الوفودُ إلى الملوك تبادَرَتْ ... فعلى جمالِ الدِّين وَفْدُ محامِدِي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 16/ 47. (¬3) في (ع) و (ح): من حلب في سنة ثمان وأربعين وخمس مئة إلى دمشق يوم الأحد الثاني عشر من شعبان. والعبارة مضطربة قومناها من "ذيل تاريخ دمشق": 498. (¬4) في "ذيل تاريخ دمشق": 498 باستدعاء مجير الدين له. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 498.

يَلْقاكَ في شَرَفِ العُلا متواضعًا ... حتى يُرى المقصودُ مِثْل القَاصِدِ أُمْنيَّةٌ للمُعْتفي ومَنِيَّةٌ ... للمُعْتَدِي وشريعةٌ للوارِدِ لا تَحْسِبُوا أَنِّي انفَرَدْتُ بحَمْدِهِ ... هيهاتَ كم لمحمَّدٍ مِنْ حامِدِ مَجْدٌ على عرش السِّماكِ وهِمَّةٌ ... ترقى السُّها بجناحِ جَدٍّ صاعِدِ أنا روضةٌ تُزْهى بكلِّ عجيبةٍ ... أفرائدي من لم يَفُزْ بفرائدي؟ إنْ ساقني طَلَبُ الغِنى أو شاقني ... حُبُّ العُلا فلقد وَرَدْتُ موارِدِي ومتى عددتُ إلى نَدَاك وسائلي ... اعدَدْتُ قَصدي من أَجَلِّ قصائِدِي حتى أعودَ من امتداحك حاليًا ... وكأنَّني قُلِّدْتُ بعضَ قلائدي ما كانت الأيامُ تُخْلِفُ مَوْعِدِي ... أبدًا وحُسْنُ الظَّنِّ عندك رائدي (¬1) وقال أيضًا من شعره: [من المديد] مَنْ لقلبٍ يألَفُ الفِكَرا ... أو لعينٍ ما تذوقُ كَرَى ولصَبٍّ بالغَرَامِ قضى ... ما قضى في حُبِّكُمْ وطَرَا وَيْحَ قَلْبي من هوى قَمَرٍ ... أنكرتْ عَيْني له القَمَرا (¬2) وقال يمدح بني الصُّوفي [وقد بنوا] بَهوًا وبِرْكةً فيها شاذِرْوان (¬3): [من المديد] يا بنيّ الصُّوفي زرْتُكُمُ ... طائفًا بالبيتِ مُعْتْكِفا فرأيتُ الغيثَ مُغْترفًا ... مِنْ أياديكُمْ ومُعْترفا من رأى أخلاقَكُمْ أَنفا ... أنْ يَرُوْدَ الرَّوْضةَ الأُنُفا ذاتُ بَهْوٍ مَنْ ألمَّ بها ... وصفَا تَحْبيرُهُ وَصَفا عاقِد في الجوِّ منطقَه ... لا يرى طَرْفٌ لها طَرَفا ¬

_ (¬1) انظر القصيدة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 103 - 106. (¬2) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 16/ 47. (¬3) الشاذروان: هو ما ترك من عرض الأساس في البناء خارجًا، ويسمى التأزير. انظر "معجم متن اللغة": 3/ 294، و"شفاء الغليل": 163، وما بين حاصرتين زيادة من عندنا لتستقيم العبارة.

طال إشرافًا فحين سما ... توَّجُوها ما به شَرُفا من أنابيبَ تميسُ إذا ... طَيرُ شاذِرْوَانها هَتَفا مُغْرَمٌ بالبَهْو فَهْو متى ... هَفَّ مِنْ شوقٍ إليه هفا وقال: [من الطويل] ولي زَفَرَاتٌ تَسْتَهِلُّ صبابةً ... عليكُمْ إذا بَرْقُ العقيقِ تأَلَّقا أَلِفْتُ الهوى حتى حَلَتْ لي صروفُهُ ... ورُبَّ نعيمٍ كان جالبَه شقا ألذُّ بما أشكوه مِنْ ألمِ الجوى ... وأَفْرَقُ إنْ قلبي من الوَجْدِ أفرقا وأذْهَلُ حتى أَحْسِبُ الصَّدَّ والجفا ... بمُعْتَرَكِ الذِّكرى وصالًا ومُلْتقى فها أنا ذو حالَيْنِ أما تَصَبُّري ... فحيٌّ وأما سَلْوتي فلكَ البقا (¬1) وقال في دمشق: [من البسيط] أرضٌ تُحاكي الأماني مِنْ محاسنِها ... بحيثُ تَجْتَمِعُ الدُّنيا وتَفْتَرِقُ إذا شدا الطَّيرُ في أغضانِها وَقَفَتْ ... على حدائقها الأسماعُ والحَدَقُ وقال: [من البسيط] يا أهلَ بابلَ أنتمْ أَصلُ بِلْبالي ... رُدُّوا فؤادي على جُثْمانيَ البالي لا، واعتناقِ هواكُمْ بعد فُرْقتِكُمْ ... ما كان صَرْفُ النَّوى منكُمْ على بالي وإنَّما اعترضَتْ بيني وبينكُمُ ... نوائبٌ أَرْخَصَتْ من دَمْعيَ الغالي لولا مكانُ هواكُمْ مِنْ محافظتي ... لما صرفْتُ إليكُمْ وَجْه آمالي سَلَوْتُ عن غيركُمْ لَمَّا عَلِقْتُ بكم ... وَجْدًا أَلا فاعْجبوا للعاشقِ السَّالي فانْظُرْ إلى عَبَراتي بَعدَ بُعدِهمُ ... إنْ أنتَ لم ترَ حالي بعد ترحالي أقول للائمِ المُهْدِي ملامتَهُ ... ضلالةُ القَلْبِ في أكناف ذي ضال دَعْني أَفُضَّ شؤوني مِنْ معالمها ... فالدَّمْعُ دمعيَ والأطلالُ أطلالي (¬2) ¬

_ (¬1) الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 125. (¬2) الأبيات في "الخريدة": 1/ 134 - 135.

وقال أيضًا من شعره: [من الرمل] وبأكنافِ المُصَلَّى جِيْرةٌ ... لا يُجيرونَ مُحبًّا من غَرَامْ شغلوا كلَّ فؤادي بهوًى ... وأمالوا كلَّ سَمْعٍ عن سلامْ ما عليهمْ لو أباحوا في الهوى ... ما عليهم من صفاتِ المُسْتَهامْ وقال في وصف مغني: [من البسيط] والله لو أنصفَ الفِتْيان أَنْفُسَهُمْ ... أعطوكَ ما ادَّخروا منها وما صانوا ما أنتَ حين تغنِّي في مجالسهم ... إلّا نسيمُ الصَّبا والقومُ أغصانُ (¬1) وولده الموفق (¬2) فاقَ أبناءَ جنسه في حُسْن الخَطِّ، وتقلَّد ديوان الاستيفاء (¬3) لنور الدين محمود بن زَنْكي، وتقدَّم عنده تقدَّمًا زائدًا بحيث فوَّض أموره إليه، وكان يقف ببابه بعضُ ممدوحي أبيه، ويسترفدونه، فيستحي، فَيَتَّبَّعُ شِعْرَ أبيه الذي في أيدي النَّاس، واجتهد أنْ يُسْقطَ منه المدائح، فلم يقدر لانتشاره، وَمَدَحُه الحسين بن عبد الله بن رواحة (¬4)، فقال: [من الطويل] دَعَوْتُك مُشْتاقًا لنَيْلِ صَنيعةٍ ... فكنتَ إلى بَذْلِ الصَّنائعِ أَشْوقا وكم عُقَدٍ حُلَّتْ بعَزْمِك لم تكنْ ... تُحَلُّ بعَزْمٍ من سِواكَ ولا رُقى تفاءَلَ نورُ الدِّينِ باسْمِك مِثْلما ... هوى منكَ نَعْتًا في الأُمور مُحَقَّقا فأصبحَ نورُ الدِّين في المُلْكِ خالدًا ... كما كان في الرَّأي السَّعيدِ مُوَفَّقا (¬5) ¬

_ (¬1) "الخريدة": 1/ 119. (¬2) له ترجمة في "بغية الطلب": 7/ 3096 - 3101، و"العبر" للذهبي: 4/ 266، و"تكملة إكمال الإكمال": 244 - 246، و"الوافي بالوفيات": 13/ 282 - 283، وقد ساق أبو شامة في "كتاب الروضتين" بعض أخباره مع نور الدين، وقد توفي سنة (588 هـ). (¬3) في (ع) ديوان الإنشاء، وفي (ح) ديوان الاستيفاء، وفي "بغية الطلب": 7/ 3096: جمع في ولايته بين الإنشاء والاستيفاء. (¬4) شاعر فقيه، ولد بحماة سنة (515 هـ)، ونشأ بها، ثم رحل إلى دمشق، وسمع فيها من ابن عساكر، ثم رحل إلى مصر، وأثناء عودته منها أسره نورمان صقلية، وبقي في أسرهم مدة، ثم عاد إلى حماة، ثم سافر إلى مصر، وأقام بها في ظل صلاح الدين، وقد استشهد في سهل عكا سنة (585 هـ)، انظر ترجمته في "كتاب الروضتين": 4/ 97، وذكرت ثمة مصادر ترجمته. (¬5) الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 485 - 486.

السلطان مسعود بن محمد بن ملك شاه

[فصل: وفيها توفي] (¬1) السُّلْطان مسعود بن محمد بن ملك شاه (¬2) [كما ذكرنا، وقد ذكرنا سيرته مفرَّقة في السنين، و] (1) لم ير أحدٌ ما رأى من الملوك والسَّلاطين، فلما كان في هذه السنة مَرِضَ على هَمَذَان بأمراضٍ حادَّة، وعَسُرَتْ مداواتُه، فتوفي [في] (1) سلْخ جُمادى الآخرة، وكانت أيامُه نيفًا وثلاثين سنة، وسمع الحديث [من أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري وغيره] (1). ولما مات اجتمعَ رأي الأُمراء على تقرير ملك شاه بن محمود بن محمد ابن أخي مسعود، وكان مقدَّمُ العساكر والمشارُ إليه خاصبك بن البلنكري، فأجلسوا ملك شاه ثلاثة أشهر، وقيل: خمسة، ثم عَنَّ لخاصبك أن يقبضَ عليه وعلى أخيه محمد بن محمود، وينفرد بالمُلْك لبُعدِ سنجر عنه، فقال لملك شاه: إني أُريد المُلْك لكَ من غيرِ منازع، وأخوك ينازِعُك، والمصلحة أنَّني أقبض عليك وأكتبُ إلى أخيك، فإذا وصل قَبَضتُ عليه، وسَلَّمْتُه إليك. فقال: افعل. فَقَبَضَ عليه، وكتَبَ إلى محمد وهو بخُوزِسْتان يدعوه إلى السَّلْطنة، فجاء إلى هَمَذَان، فجلس على التَّخْت، ودَخَلَ النَّاسُ يهنِّئونه، ويخاطبونه في أشياء، فقال: ما لي في هذا الأمر شيء، حديثكم مع الأمير خاصبك، فهو الوالد، والكلُّ تحت يده. وقدَّم له خاصبك من المال والخيل والمماليك والخدم والجواهر شيئًا كثيرًا، وأقام بهَمَذَان أيامًا، وبلغه ما في نَفْسِ خاصبك من التَّدْبير عليه، فاستدعاه وزَنْكي الخازْندار (¬3)، وشملة التُّرْكماني وهو في أعلى قصر المملكة، فلما صَعِدوا دَرَجَ القَصر أحسَّ شملة بالشَّرِّ، فقال لخاصبك: ارجع، فما هذه علامةُ خير. فلم يرجع، فلمَّا حَصَلوا في بعضِ مضايق القَصر أخذتْهم السُّيوف، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 151، و "مختصر دولة آل سلجوق": 152 و 161 و 196 و 208، و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 160 - 163، و "كتاب الروضتين": 1/ 286 - 287، و"وفيات الأعيان": 5/ 200 - 202، و "العبر" للذهبي: 4/ 127 - 128، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 384 - 386، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) كذا في (ع) و (ح)، ومثله في "المنتظم"، وفي "مختمر دولة آل سلجوق": 212، و "الكامل": 11/ 162 الجاندار، وهو الصحيح.

المظفر بن أردشيرد

فَقُتِل خاصبك والخازْندار وهَرَبَ شملة، فلم يقدروا عليه، ورمى برأسيهما، وأكلتِ الكلابُ لحومَهما، واستولى محمدٌ على أموالهما وأسبابهما ومماليكهما، وكان فيما أُخذ من خاصبك ألف ألف دينار وسبعون ألف ثوبٍ من الأطلس، وثلاث مئة مملوك، وخمس مئة فرس، ومن البخاتي والخِيَم ما لا يُحَدُّ ولا يُحصى، ومع هذا جَبُوا له مِنَ العَسْكر كفنًا كفَّنوا به ما بقي من جُثَّته من فَضْلةِ الكلاب. وخاصبك أصله تُرْكماني، كان صبيًّا أمردَ، فأحبَّه مسعود حُبًّا شديدًا، وقدَّمه على أُمرائه، فاستولى على المملكة. ثم إنَّ محمدًا بعث بالرأسين إلى أتابك إيلدكز صاحب أَذْرَبيجان، وإلى آق سُنْقُر صاحب مراغَة، فارتاعا، ونفرا من محمد، وبعثا إليه يوبِّخانه ويقولان: إذا كنتَ غَدَرْتَ بمن أَحْسَنَ إليك وملَّكك، فكيف يثقُ بكَ غيره؟ ثم بعثا رسولًا إلى سليمان شاه بن محمد (¬1)، وكان بزَنْجان، وحلفا له وحَلَفَ لهما، وساروا جميعًا إلى هَمَذان، فهرب محمدٌ إلى أصبهان، فأجلسوا سليمان شاه على تَخْت المُلْك، فأخذ في اللَّهْو والشُّرْب، وساعده وزيرُه فخر المُلْك أبو طاهر القاشاني، وفعل كفِعْله، فضاعت المملكة بينهما، وقَبُحَتِ السِّيرة، وندم إيلدكز وآق سُنْقُر حيث كاتباه وملَّكاه، وشَرَعا في القَبْض عليه وعلى وزيره، فلم يتمكَّنا من ذلك في هذه السَّنة. المُظَفَّر بن أَرْدَشيرد (¬2) أبو منصور بن العَبَّادِي الواعظ. ولد سنة إحدى وتسعين وأربع مئة، وسمع الحديث، وقَدِمَ بغداد، ووعظ بجامع القَصر والنِّظامية، وكان فصيحًا بليغًا، وترسَّل بين السُّلْطان والخليفة، فتقدَّم الخليفةُ إليه أن يُصلح بين ملك شاه بن محمود بن محمد وبين بَدْر الحُوَيزي، فمضى وأصلح ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح)، محمود، والمثبت من "مختصر دولة آل سلجوق": 214، و"الكامل": 11/ 180، و "معجم الأنساب" لزامباور: 334. (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 8/ 337 - 338، و"المنتظم": 10/ 150 - 151، و"الكامل": 11/ 157 - وفيه وفاته سنة (546 هـ) - و"اللباب": 2/ 310، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 231 - 232، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

السنة الثامنة والأربعون وخمس مئة

بينهما، وحصل له منهما مالٌ كثير، وتوفي بالحُوَيزة (¬1)، وقيل: بعَسْكر مُكْرَم في ربيع الآخر، ثم حُمِلَ تابوته إلى بغداد، فدفن في دَكَّةِ الجُنَيد بالشُّونيزِيَّة، ورجع مالُهُ إلى السُّلْطان؛ لأَنَّه خَلَّف ولدًا صغيرًا، فمات الولد، ولم يكن له وارث. جلس المُظَفَّر يومًا في جامع القَصر، فوقع مطر، فلجأَ الجماعةُ إلى ظِلِّ العقود والجُدْران، فقال: لا تفرُّوا من رِشاشِ ماءِ رحمةٍ قُطِرَ عن مَتْنِ سحابِ نِعْمة، ولكن فرُّوا من شَرارٍ اقْتُدِحَتْ من زِناد الغَضَب. وقام إليه شاعِرٌ يمدحه، فقال له: اجلس. فقال: قد كان حَسَّان يمدح رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد. فقال المُظَفَّر: ما كان حَسَّان مستبيحًا عِرْضًا ولا مُسْتميحًا عَرَضًا. وقيل له: لِمَ آمن موسى عليه السَّلام وكفر فِرْعون، وكلاهما ارتضعا من دِرَّة {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (¬2)؟ فقال: لأَنَّ موسى فاء، وفرعون قاء. السنة الثامنة والأربعون وخمس مئة فيها انحلَّ أمر بني سَلْجوق باستيلاءِ الغُزِّ على سنجر. ذكر السبب: لما التقى خاقان ملك التُّرْك وخُوارَزْم شاه والغُزّ بسنجر وكسروه، وعاد خاقان إلى بلاده وخوارزم شاه إلى خُوارَزْم نَزَلَ الغُزُّ بنواحي جَيحُون وسَمَرْقَنْد بين التُّرْك وأعمال خوارزم آمنين، وبقي في قَلْب سنجر ما جرى عليه منهم، فالأمر بينهم موقوف، وقد صالحَ خُوارَزْم شاه، فجهَّز سنجر إلى الغُزِّ العساكر مع الأمير قماج، فبيَّتهم، وجاءهم على غِرَّةٍ، فكسروه، وقَتلوا ولده، وغَنِموا ما كان معه، فعاد إلى سنجر مهزومًا، ثم ورد جماعةٌ من شيوخهم على سنجر، وقالوا: قد بعثتَ إلينا مرَّتين، ونَصَرَنا الله عليك، والبغي مَصرعك، ونسأَلُك إهدارَ ما جرى ونكون في ¬

_ (¬1) موضع بين واسط والبصرة وخوزستان في وسط البطائح. "معجم البلدان": 2/ 326. (¬2) إشارة إلى قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] سورة الأعراف، الآية: 172، قلت: وهذا التعليل ليس بشيء.

خِدْمتك وطاعتك، ولا نريد منك شيئًا، بل نجعل لك علينا كلَّ سنةٍ قطيعة خمسين ألف رأس من الخيل والبخاتي، ومثلها من الغنم، ومئة ألف دينار. فأشار عليه أعيانُ أهل مملكته بالصُّلْح، وأشار عليه قماج أن لا يصالح، فمال إلى قوله، وردَّ الشُّيوخ خائبين، فعادوا إلى أصحابهم، وقالوا: استعدُّوا، فلا بُدَّ له من قَصدكم. فجاؤوا إلى صحراء واسعة كالحَلْقة الدَّائرة، والجبالُ محدِقةٌ بها، وليس لها طريقٌ إلّا من مضيقٍ واحد، فضربوا خَرْكاواتهم (¬1) فيها، وجعلوا الأموال والمواشي حولها كالسُّور، وجعلوا بين الخَرْكاوات خِلالًا مثل الأبواب، وجاءهم سنجر بعساكره، فدخل من ذلك المضيق، ونَشِبَ القتال، فكانت سهامُ عَسْكر سنجر تقع في الخَرْكاوات والجمال والخيل، وسهام الغُزّ لا تقع إلا في فارس، وكان سنجر قد وقف عند المضيق في جماعةٍ من أصحابه، ولم يدخل ينتظر الدَّبرة (¬2)، وصَدَقَ الغُزّ الحَمْلة، فطرحُوا المُسْلمين مثل الغَنَم، وقُتِلَ قماج ومعظم عسكر سنجر، وهرب مَنْ بقي إلى ناحية المضيق، فلحقهم الغُزُّ، فأفنوهم من قبل وصولهم إلى المضيق، وخرج الغُزُّ من المضيق وسنجر واقف في بقايا عسكره، فتقدَّم إليه كبراؤهم، وترجَّلوا، وقبَّلوا الأرض، وقالوا: سأَلْناكَ الصُّلْح فأَبَيتَ وأنتَ سُلْطاننا كلّنا، وقد قُتِلَ بعضُ عبيدِك وبقي البعض؛ يشيرون إلى نفوسهم. ثُمَّ أفردوه عن أصحابه وكأنَّهم في خِدْمته، وهو مثل الأسير يجلسونه على السَّرير لا غير، وتفرَّق عنه عسكره، وجاؤوا به إلى خُراسان، فنزلوا بَلْخ، ثم انبثُّوا في خراسان يَقْتُلون ويأسِرون وَيسْبُون، وهو معهم لا يملك لنفسه ضَرًّا ولا نَفْعًا، وعملوا له بعد ذلك قفصًا من حديد وجعلوه فيه، وكانوا إذا أتوه بطعامٍ يدَّخر منه لوقتٍ ينسونه فيه، وكان يخدم نفسه وليس معه أحد، واقتصَّ الله منه للمسترشد والرَّاشد. وفيها: بعث الخليفة ترشك المقتفَوي وأبا البَدْر ظفر بن الوزير يحيى بن هُبيرة، ونجاح الخادم إلى قلعة تكريت، وبها مسعود البِلالي من جهة السُّلْطان مسعود، فجرى ¬

_ (¬1) الخركاة: كلمة فارسية تعني الخيمة الكبيرة. "معجم الألفاظ الفارسية المعربة": 53 - 54. (¬2) الدبرة: الهزيمة في القتال، "معجم متن اللغة": 2/ 372.

بين ترشك وبين ظفر بن هُبيرة منافسة في الرُّتْبة، وأراد ترشك أن يكون أمره على ابنِ هبيرة فلم يفعل، وكتَبَ إلى الخليفة يشكوه، فأرسل إلى ابنِ هبيرة بالقَبْضِ عليه، وأَحَسَّ ترشك بذلك، فكتب إلى القلعة يقول لمسعود: أنا معك، وقد عَزَمْتُ على قَبْضِ ابنِ الوزير ومن معنا من الأُمراء، وأُسَلِّمهم إليك. ثم قال للعساكر: اركبوا للزَّحْف، فركبوا، واشتغلوا بالقتال، فَقَبَضَ (¬1) ترشك على ابنِ الوزير ونجاح ويرنقش، وبعث بهم إلى القلعة، وأخذ أموالهم وسلاحهم وخيولهم، ونَزَل مسعود من القلعة، وخَلَعَ على ترشك الخِلْعة التي خَلَعَ عليه السُّلْطان، وأعطاه الخيل بمراكب الذَّهب، والأموال، وأضاف إليه التركمان، وقصدوا طريقَ خُراسان، فخرج الخليفة بنفسه ووزيره، فهربوا من بين يديه. وجاء الخليفة إلى تكريت، وأقام عليها أيامًا، ثم رجع إلى بغداد، وبلغه أن ملك شاه استولى على واسط، فخرج إليها، فانهزم ملك شاه، فعاد الخليفة إلى بغداد. وفيها قُتِلَ عليُّ بن السَّلار، وزيرُ الدِّيار المِصرية. وفيها ضايقتِ الفرنجُ عَسْقلان، فبعثوا إلى نور الدِّين ومجير الدين أبق [صاحب دمشق] (¬2) يستصرخون بهما، فتوجَّه مجيرُ الدِّين إلى حلب بعساكره يوم السبت ثالث عشرة المحرَّم، واجتمع بنور الدِّين، وعند نور الدِّين تركمان كثير، فاتَّفقوا على النُّزول على بانياس ليَشْغَلُوا قلوبَ الفرنج النَّازلين على عَسْقلان، فساروا إليها ونزلوا عليها يوم السَّبت تاسع عشرين صفر، وليس فيها من الفرنج من يحميها، فوقع الخُلْف بين المسلمين، فعاد مجيرُ الدِّين إلى دمشق ونور الدِّين إلى حِمْص. وعند عَوْدِ مجير الدِّين من بانياس، أُخرج الوزير ابن الصُّوفي من دمشق، وكان قد امتنع من دخول القَلْعة، وإذا أَمَرَ مجيرُ الدِّين بأمرٍ لا يلتفتُ إليه، وجرى بينه وبين أخيه زين الدَّوْلة مشاجراتٌ، فاتَّفق مجيرُ الدِّين مع زينِ الدَّوْلة، ووعده الرِّياسة على أَنْ يُساعد على إخراج أخيه من دمشق، وبَعَثَ إليه بمالٍ، فأجابه باطنًا، وأرسل مجيرُ ¬

_ (¬1) انظر حاشيتنا رقم 1 ص 410 من هذا الجزء. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الدِّين إلى الرَّئيس يستدعيه إلى القلعة ليصلح بينه وبين أخيه، فامتنع، وتحصَّنَ في داره، وجَمَعَ العوام، فأرسل إليه مجيرُ الدِّين: اخرُجْ من البلد. فاستعانَ بأخيه وأَهْله، فلم يُجِبْه أحد، فخرج إلى صَرْخد في جُمادى الأُولى وفيها مجاهد الدين بُزان الكُرْدي، فتلقَّاه وأكرمه وأنزله، ولم يتعرَّض مجيرُ الدِّين إلى مالِ الرئيس ولا لداره ولا لبُسْتانه بالنَّيْرب، وقلَّد أخاه زين الدَّولة مكانه، وخَلَعَ عليه، وأمر ونهى، ولم تكن سِيرتُه مرضيةً فيما يتعلَّق بالرُّشْوة مع العَجْزِ والتَّقصير، ثم إنَّ مجير الدِّين عَزَلَه بعد ذلك وقَتَله. ورأى مجيرُ الدين أَنْ يتوجَّه إلى عطاء الخادم ببَعْلَبَكَّ يستعين به على تَدْبير المملكة، فتوجَّه إليها، وعاد وعطاء معه، واستشعر مجاهد الدين بُزان، وأقام بصَرْخد، ولم يَعُدْ إلى دمشق بغير يمين، وأرسل [إلى] (¬1) مجير الدِّين يَطْلُب ذلك، فوعده، وبقي الأمر موقوفًا. وفيها ملكتِ الفرنج عَسْقلان، لأنهم ضايقوها، وقُتِلَ من الفريقين خَلْقٌ كثير وعَجَزَ مَنْ فيها، فطلبوا الأمان، فأَمَّنوهم، وكان بها من الذَّخائر والعُدَد والغِلال ما لا يُحصى، [وبلغني أن سبب تسليم عسقلان إلى الفرنج] (¬2) أنَّ أهلها كانوا في ضائقة يرتقبون كلَّ يوم الأصطول والنجدة من مِصر، فبينا هم في آخر نَفَس وإذا بمركبٍ صغير قد أقبل من مِصر، فاستبشروا، وإذا فيه رجلٌ ومعه كتاب من مِصر إلى الوالي يقول: ساعة وقوفك على هذا الكتاب تنفِّذ لنا من مقصبة عَسْقلان باقة قصب غلاظًا نجعلها شَبَّابات. فقال للرَّسول: نعم إلى غداة غدٍ. ثم خَرَجَ في الليل إلى الفرنج، وأخذ أمانًا لأهل البلد، فلما طلع الفجر فَتَحَ الأبواب، ودخَلَ الفرنجُ البلد، فأحضر القاصِدَ بالكتاب، وقال: هذا هو الجواب. [وقيل: إن صاحب مصر نَقَلَ رأس الحسين - عليه السلام - من عسقلان إلى مِصر، وقد ذكرناه في ترجمته] (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬2) في (ع) و (ح) وقيل: إن أهلها كانوا في ضائقة .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن أبي غالب

وفيها عاد ابنُ الصُّوفي (¬1) من صرخد بأيمان مجير الدين وعهوده، وأقام بداره، وطاب قلبه، ثم استوحش منه، وبلغه عنه ما اقتضى أنَّه هَرَبَ نحو صرخد، فبعثَ الخيلَ في طلبه، فأدركوه، فحبسه في القلعة [واعتقل بها] (¬2) اعتقالًا جميلًا، ثم ظهر من أخيه زين الدولة حيدره ما أوجب قَتْلَه، فقتله مجيرُ الدين، وقَتَلَ عطاءَ الخادم. وحَجَّ بالنَّاس قيماز الأُرْجُواني. فَصل: وفيها توفي أحمد بن أبي غالب (¬3) أبو العباس [الورَّاق] (¬4) ابن الطَّلَّاية (¬5) الزَّاهد، من أهل دار القَزّ. وُلد بعد الستين وأربع مئة، وقرأ القرآن، وسَمِعَ الحديث وتفقَّه، ولازم مسجده سبعين سنة، لم يخرج منه إلا يوم الجمعة للصَّلاة، وقرأ عليه القرآن عالمٌ كثير، وكان زاهدًا [متقلِّلًا] (4) في الدنيا، متعبِّدًا، لا يفتر [من العبادة لا] (4) ليلًا ولا نهارًا حتى انطوى طاقين (¬6)، وكان عليه ثوب خام، وعلى رأسه زراغوج (¬7)، وتحته بارِيَّة، وعنده ¬

_ (¬1) كذا قال، وهو وهم، فالذي عاد إلى دمشق ثم هرب منها هو مجاهد الدين بزان والي صرخد، انظر "ذيل تاريخ دمشق": 500، و"كتاب الروضتين": 1/ 290. أما ابن الصوفي فقد عاد إلى دمشق سنة (549 هـ)، ومات في داره من مرض ألم به، وسيأتي خبره في حوادثها. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬3) له ترجمة في "الأنساب": 8/ 377، و"المنتظم": 10/ 153، و"مناقب الإمام أحمد": 640، و"الكامل": 11/ 190، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد": 166 - 167، و"الوافي بالوفيات": 7/ 277، و"طبقات الحنابلة": 1/ 224، و"العبر" للذهبي: 4/ 129 - 130، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 260 - 263، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في "المستفاد"، ويقال: إن والدته كانت تطلي الكاغد عند عمله بالدقيق المعجون بالماء دقيقًا قبل صقله، فاشتهرت بذلك. (¬6) كذا، وهو تعبير عامي ما زال مستعملًا في الشام، يعني: انحنى ظهره انحناء كبيرًا. وفي "المنتظم": 10/ 153: وكان قد انطوى من التعبد حتى كان إذا قام، فرأسه عند ركبتيه. (¬7) اضطربت النسخ في كتابتها، ففي (ع) و (ح) زرافوخ، وفي (م) زراغوج، وقريبًا منها في (ش)، ويبدو أنه نوع من أغطية الرأس، لم أقف على وصف له فيما بين يدي من المصادر.

جرَّة فيها كِسَرٌ يابسة ألوان مختلفة، ولم يكن في زمانه أعبدُ ولا أزهدُ منه، وتوفي في رمضان، وقد قارب الثمانين، وكان له يوم مشهود [(¬1) مثل يوم أبي الحسن القزويني الزَّاهد (¬2)، وحُمل إلى مقبرة باب حرب، فدفن إلى جانب أبي الحسين بن سَمْعُون. ذِكْرُ حكايتهِ مع السُّلْطان مسعود: سمعتُ مشايخ الحربية يحكون عن آبائهم وعن أجدادهم، قالوا: لما دخل السُّلْطان مسعود بغداد كان] يحبُّ زيارة العلماء والصَّالحين، فطلب المشايخ، فمضى بعضهُم إليه، وبلغه حال ابنِ الطَّلاية، فطلبه، فقيل له: إنه لا يخرج من مسجده. فقال: أرسلوا إليه. فجاءه الرسول، وقال: السُّلْطان يُسَلِّم عليك ويعتذر إليك من تأَخره عن زيارتك، ويسألك أَنْ تجتمع به. فقال لرسوله: أنا منذ سبعين (¬3) سنة في هذا المسجد أنتظر داعي الله في النَّهار خمس مرَّات، فإذا دعاني ولم أُجِبْه، فما عذري عند الله؟ فعاد الرَّسولُ إلى مسعود، فأخبره، فبكى، وقال: أنا أَوْلى من مشى إلى هذا العبد الصَّالح. فلمَّا كان في اليوم الثَّاني ركب مسعود، وأتى إلى مسجده، فوافاه وهو في صلاة الضُّحى، وكان من عادة الشيخ (¬4) أن يصلِّيها ثماني ركعات بثمانية أجزاء، فجاء وقد صلَّى أربعًا، فدخل المسجد ومعه خادمٌ صغير بين يديه، وأمر العساكر أن يقفوا على خيولهم، فصلى السُّلْطان رَكْعتين، وقام، فوقف خلف الشيخ، فصلى تمام ثماني ركعات وسَلَّم، وعلم به، وقام ليدخل في تاسعةٍ لئلا يجتمع به، فقال له الخادم: يا شيخ، السُّلْطان قائِمٌ على رأسك منذ زمان، وتريد أن لا تكلمه! فقال الشيخ: وأين مسعود؟ فتقدَّم إليه، وقال: ها أنا، فقال: يا مسعود اعدل وادعُ لي. الله أكبر؛ ودخل في الصَّلاة، فجلس مسعود يبكي، واستحضر دواةً وبياضًا، وكتب بخطِّه ورقةً بإزالة المكوس والضَّرائب والفساد، ومن نزل دارَ أحدٍ ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح) وقد قارب الثمانين، وكان له يوم مشهود، ودفن بمقبرة باب حرب إلى جانب أبي الحسين بن سمعون، كان السلطان مسعود يحب زيارة العلماء .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هو شيخ العراق أبو الحسن علي بن عمر بن محمد، قال الخطيب البغدادي وقد حضر جنازته: لم أر جمعًا على جنازة أعظم منه، توفي سنة (442 هـ)، وقد ترجم له السبط في وفياتها. (¬3) في (ع) و (ح) ستين، والمثبت من (م) و (ش). (¬4) في (ع) و (ح): وكان من عادته، والمثبت من (م) و (ش).

أحمد بن منير [بن أحمد]

أو تعدَّى عليه قَتَلْتُه، وتاب السُّلْطان توبةً صادقة، وخرج من وقته إلى هَمَذَان، فتوفي وهو على هذه النِّيَّة، فاستقامتِ الأحوال ببركة نَفَس الشَّيخ أحمد. أحمد بن منير [بن أحمد] (¬1) أبو الحسين، الشَّاعر الطَّرابُلسي الرَّفَّاء (¬2) [أحد شعراء الشام المتأخرين] (1). ولد سنة ثلاث وسبعين وأربع مئة بطرابلس، [وقال الحافظ ابن عساكر: وكان أبوه منير] (¬3) ينشد أشعار العَوْني ويتغنَّى بها بأسواق طَرابُلُس، ونشأ [ابنه] (1) أحمد، فحَفِظَ القرآن، وقرأ العربية واللّغة والأدب، [وقال الشعر] (1)، وقدم دمشق، فأقام بها، وكان خبيثَ اللِّسان كثير الفحش [في شعره، يستعمل الألفاظ العامية في شعره، فلما كثُر ذلك منه حبسه بوري بن طغتكين في حبس دمشق] (¬4)، وعزم على قَطْعِ لسانه، فاستوهبه منه الحاجب يوسف بن فيروز، فوهبه له، [فأقام منفيًّا مدة إمارة بوري] (1) فلما مات بوري [وولي إسماعيل بن بوري] (¬5) عاد إلى دمشق، فبلغه عنه شيءٌ، فطلبه ليصلبه، فهرب واختفى بمسجد الوزير ظاهر دمشق، [ثم هرب إلى حلب، وجاء مع نور الدين في الحصار الثاني، ثم عاد إلى حلب، قال الحافظ: وقد رأيته غير مرة، ولم أسمع منه شيئًا، وأنشدني من شعره الأمير أبو الفَضْل إسماعيل بن سُلْطان بن منقذ، قال: أنشدني أحمد بن منير مقطعاتٍ من شعره] (¬6) وهجا برهان الدِّين البَلْخي الزَّاهد وغيره. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) و (س): 2/ 251 - 252، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 76 - 95، و"بغية الطلب": 3/ 1154 - 1164 - وفيه ولادته سنة (493 هـ)، وهو خطأ- و"كتاب الروضتين": 1/ 293 - وقد نُثر فيه قصائد من شعره - و"وفيات الأعيان": 1/ 156 - 160، و"الوافي بالوفيات": 8/ 193 - 197، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 223 - 224، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ع) و (ح): وكان كثيرًا ينشد أشعار المعري (كذا)، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "تاريخ ابن عساكر" 2/ 251، و"بغية الطلب": 3/ 1155، والعوني شاعر اشتهر بقصائده في مدح آل البيت. (¬4) في (ع) و (ح): كثير الفحش، حبسه بوري صاحب دمشق، وعزم على قطع لسانه .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) ما بين حاصرتين من "تاريخ ابن عساكر" ليستقيم المعنى. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "تاريخ ابن عساكر": 2/ 251.

[قال] (1): ومات بحلب في جُمادى الآخرة [من هذه السنة] (¬1). [قال (¬2): وحدثني إبراهيم بن محمد القيسي صديق ابن منير، وعنده اختفى في مسجد الوزير، وفي رواية عن ابن عساكر: رأيت بخطِّ صديقه أبي إسحاق إبراهيم بن محمد القيسي، قال: حدَّثني] الخطيبُ السَّديد أبو محمد عبد القاهر بن عبد العزيز خطيب حماة، [قال] (1): رأيتُ أحمدَ بنَ منير بعد موته في النَّوم، وأنا على قُرْنة (¬3) بُبْستان مرتفعة، فسألتُه عن حاله، وقلتُ: اصعَدْ إلى عندي. فقال: ما أقدر من رائحتي. قلتُ: تشرب الخمر؟ قال: شَرٌّ من شُرْب الخمر يا خطيب. قلت: وما هو؟ قال: ما جرى على لساني من القصائد التي قُلْتُها في مثالبِ النَّاس، ولساني قد ثَخُنَ منها وطال، فصار مَدَّ البصر، وكلَّما قرأتُ منها قصيدةً صارت كُلَّابًا يتعلَّق في لساني. [قال] (1): ورأيتُه حافيًا عليه ثيابٌ رَثَّة إلى غايةٍ، وسمعتُ قارئًا يقرأ من فوقه {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} [الزمر: 16] فانتبهتُ مَرْعوبًا (¬4). [وذكره العماد في "الخريدة"، وقال: كان شاعرًا مجيدًا، هجَّاء، معارِضًا لمحمد بن القَيْسراني في زمانه، وكان ابن القيسراني سُنِّيًا متورِّعًا، وابن منير متغاليًا شيعيًّا إلا أنه قال: مات ابن منير في سنة خمسين وخمس مئة (¬5). قلتُ: وَهِمَ، والصَّحيح ما ذكره ابنُ عساكر وابن القلانسي أن ابن القيسراني مات في سنة [ثمانٍ و (¬6)] أربعين وخمس مئة. قال ابنُ القلانسي (¬7): كلاهما ماتا في سنة ثمانٍ وأربعين وخمس مئة] (1). وكان شيعيًّا متغاليًا، وهجا بني الصُّوفي، فطلبوه، فانتقل إلى شَيْزر، واستجار ببني مُنْقِذ، والتجأ إلى نور الدِّين، وكان غيرَ مجيدٍ في المديح، ومن شِعْره: [من المنسرح] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ح): ومات بحلب في جمادى الآخرة، وقال الخطيب السديد .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) القرنة: الزاوية. ولعله يريد القَرْن: وهي صدر رابية مشرفة على وهدة صغيرة، انظر "معجم متن اللغة": 4/ 550. (¬4) انظر "تاريخ ابن عساكر": 2/ 252. (¬5) "الخريدة" قسم شعراء الشام: 1/ 76. (¬6) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬7) "ذيل تاريخ دمشق": 498.

أحلى الهوى ما تحلّه التهم (¬1) ... باحَ به العاشقون أو كتموا أغرى المحبِّينَ بالأَحِبَّة (¬2) فالـ ... ــــعَذْل (¬3) كِلامٌ أسماؤها كَلِمُ سَعَوْا بنا لا سَعَتْ بهم قَدَمٌ ... فلا لنا أَصلَحوا ولا لَهُمُ ضَرُّوا بِهِجْراننا وما انتفعوا ... وصدَّعوا شَمْلَنا وما التأموا يا رَبّ خُذْ لي من الوشاة إذا ... قاموا وقمنا لديك نَخْتَصِمُ يا قَمَرًا أصبحتْ محاسِنُهُ ... تَنْهَبُ ألبابَنا وتَقْتَسِمُ فيك معانٍ لو أَنَّها جُمِعَتْ ... للشَّمْسِ لم يَغْشَ نورَها ظُلَمُ إنْ يَحْسُدُوْني فلا أَلُومُهُمُ ... مِثْلُكَ تَسْمُو بحُبِّه الهِمَمُ وأين كان الموحِّدون وقد ... وحَّد قَلْبي هواكَ قَبْلَهُمُ (¬4) وقال: [من الكامل] وإذا الكريمُ رأى الخُمولَ نَزِيلَهُ ... في مَنْزِلٍ فالحَزْمُ أَنْ يترحَّلا كالبَدْرِ لما أَنْ تضاءَلَ جَدَّ في ... طَلَبِ الكمالِ فحازه مُتَنَقِّلا سَفَهًا بحِلْمك إن رضيتَ بمشربٍ ... رَنْقٍ (¬5) ورزقُ اللهِ قد ملأَ الملا ساهمتَ عِيْسَك مُرَّ عَيشِك قاعدًا ... أفلا فَلَيتَ بهنَّ ناصية الفلا للقَفْرِ لا للفَقْر هَبْها إنَّما ... مَغناكَ ما أغْناك أَنْ تتوسَّلا لا تَرْضَ مِنْ دُنياك ما أدناك مِنْ ... دَنَسٍ وكُنْ طيفًا جلا ثم انجلى وصِلِ الهجيرَ بهَجْرِ قَوْمٍ كلَّما ... أمطرتَهُمْ عَسَلًا جَنَوْا لكَ حَنْظلا طُبِعُوا على لُؤْمِ الطِّباعِ فَخَيرُهُمْ ... إنْ قلتَ قال وإنْ سكَتَّ تقوَّلا فارِقْ تُرَقْ كالسَّيفِ سُلَّ فبان في ... مَتْنَيه ما أخفى القِرابُ وأَخْملا لله عِلْمي بالزَّمانِ وأَهْلِهِ ... ذَنْبُ الفضائِلِ عندهم أَنْ تَكْمُلا ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح) الهمم، والمثبت من "الخريدة". (¬2) في "الخريدة": بالمحبة. (¬3) في (ع) و (ح): بالعذل، والمثبت من "الخريدة". (¬4) انظر بعض أبياتها في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 90 - 91 مع اختلاف في ترتيبها، وانظر "ديوان ابن منير": 95 - 96 ط. التدمري. (¬5) الرنق: الكدر. "اللسان" (رنق).

تمرتاش بن نجم الدين إيل غازي

يا بَرْقُ هل لي في احتمالِ تحيَّةٍ ... عَذُبَتْ فكانتْ مِثْلَ مائك سَلْسلا عَرِّضْ بذي المَجْدَينِ لي وأَبِنْ له ... جُمَلًا أَبَتْ لي أَنْ أُرى متجمّلا أنا غَرْسُ نِعْمَتِك الذي غَذَّيتَهُ ... خَطَراتِ عَطْفِك فارتوى وتهلَّلا فعلامَ تَحْبِسُ عنه ما عَوَّدْتَهُ ... أَأَمِنْتَ ناضِرَ عُوده أَنْ يَذْبُلا أصبحتُ تَلْفِظُني البلادُ كأنَّني ... لفظُ البليغِ أكنَّ معنًى مُشْكِلا وأَشدُّ ما أشكوه أَنَّك مُعْرِضٌ ... يا ضَيْعتي إنْ كان ذلكَ عن قِلى (¬1) وقال أيضًا من شِعْره: [من المجتث] ما كان عَهْدُك إلا ... مِثْلُ السُّلُوِّ مُحالا بل كان زُورَ خِضابٍ ... نما وفي الحالِ حالا لم أحظَ منكَ بَسُؤْلٍ ... وقد فنيتُ سؤالا أما تعلَّمْتَ شيئًا ... من الكلامِ سوى لا (¬2) وقال: [من مخلع البسيط] عَدِمْتُ دَهْرًا وُلدْتُ فيه ... كم أَشْرَبُ المُرَّ مِنْ بَنِيهِ ما تَعْتَرِيني الهمومُ إلّا ... من صاحبٍ كنتُ أَصطَفِيهِ فهل صديقٌ يباعُ حتى ... بمُهْجتي كنتُ أَشْتَريهِ يكونُ في قلبه مثالٌ ... يُشْبِه ما صاغَ لي بفِيهِ وكم عَدُوٍّ رَغِبْتُ عنه ... فعِشْتُ حتى رغبتُ فيه (¬3) تِمِرْتاش بن نَجْم الدِّين إيل غازي (¬4) حسام الدِّين، صاحب مارِدِين وديار بكر. ¬

_ (¬1) بعض الأبيات في "تاريخ ابن عساكر": 2/ 251، و"خريدة القصر": 1/ 89، و"وفيات الأعيان": 1/ 156 - 157 مع اختلاف في ترتيب بعضها، وانظر "ديوان ابن منير": 102 - 109. (¬2) انظر "ديوان ابن منير": 87. (¬3) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر": 2/ 251 - 252، و"الوافي بالوفيات": 8/ 195. (¬4) له ترجمة في "الكامل": 11/ 175، و"الأعلاق الخطيرة": ج 3 / ق 2/ 434 - 442، و"الوافي بالوفيات": 10/ 404، و"النجوم الزاهرة": 5/ 300 - وفيه وفاته سنة (545 هـ) وهو خطأ- و"معجم زامباور": 345، وحدد ولايته في ماردين بين سنتي (516 هـ- 547 هـ)، ووفاته في "الكامل" و "الوافي" (547 هـ).

حيدرة بن الصوفي

كان شجاعًا عالمًا، جَوَادًا عالمًا، يحبُّ العلماء والفضلاء، ويبحث معهم في فنون العلوم، ولا يرى القَتْل ولا الحبس، وكان له من الذِّمَّة وحِفْظِ الجِوار ما لم يكن للعرب العاربة، وكان ملجأَ القاصدين، وملاذ الطَّالبين، وكانت وفاتُهُ يوم الخميس ثاني ذي القَعدة، ودفن بالمشهد الذي بناه تحت مارِدِين، وكان قد نقل إليه أباه [نجم الدين] (1) وأهله، وأقام واليًا نيفًا وثلاثين سنة وقام بعده ولده ألبي [بن حسام الدين، وتمم جسر القرماني] (1) سنة تسع وأربعين [وخمس مئة] (¬1)، وأقام حسن السيرة، عادلًا في الرَّعية. حَيْدرة بن الصُّوفي (¬2) الذي أقامه مجيرُ الدِّين مقام أخيه، تجدَّد منه سَعْي بالفساد، فاستدعاه مجيرُ الدِّين إلى القَلْعة على حين غَفْلَةٍ لسوءِ أفعاله وقُبْح ظُلْمه، فضُربت عنُقُه مستهل ذي القَعدة، وأُخرج رأسه إلى حافَةِ الخندق، ثم طِيفَ به والنَّاس يسبُّونه ويصفون أنواع ظُلْمه ومقاسمته اللُّصوص وقُطَّاع الطريق لأموال النَّاس، ونهبتِ العامةُ دُوره وأمواله ومتاعه، وَرَدَّ مجيرُ الدِّين رياسة البلد إلى رضيِّ الدِّين أبي غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد بن علي التَّميمي، ثم خَلَعَ عليه خِلْعة الوزارة، ولقَّبه وجيه الدَّوْلة سديد الملك، فخر الكُفاة، عزّ الموالي، شَرَفَ الرُّؤساء، وسُرَّ النَّاسُ بولايته لعِفَّته. عبد القادر بن علي بن محمد (¬3) أبو الفَضْل، الشَّريف الواسِطي. اتصل بمحمد بن بُوري صاحب بَعْلَبَك، وكان يُعلِّم ولده مجير الدِّين، ثم غَضِبَ عليه أبق، فنفاه من دمشق، وبعث إليه مَنْ قَتَلَه في طريقه، ومن شعْره: [من الطويل] غرامٌ وهل بَعدَ المشيبِ غَرَامُ ... وسُقْمٌ وهل بعد الفَنَاءِ سَقَامُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هو حيدرة بن المفرج بن الحسن زين الدولة، له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 500 - 501، و"تاريخ ابن عساكر": (خ) (س): 2/ 579 (ترجمة أبق)، و"الباهر": 59، 88، 106، 108، و"كتاب الروضتين": 1/ 223، 289، 290 - 291، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 242، و "الوافي بالوفيات": 13/ 227، و"النجوم الزاهرة": 5/ 300، وفيه وفاته سنة (545 هـ)، وهو خطأ. (¬3) له ترجمة في "تاريخ دمشق" لابن عساكر: مج 43/ 65 - 66.

عطاء الخادم، والي بعلبك، مملوك بوري

وما شَعَراتُ الشَّيْبِ إلا نوابلٌ ... لها في سُوَيداء الفُؤاد سِهامُ وبينَ قِبابِ الحيِّ من آل عامرٍ ... شموسُ ضُحًى أفلاكُهُنَّ خيامُ لهنَّ شروقٌ في حَشَاها ومَغْرِبٌ ... ومنها إليها رِحْلةٌ ومُقامُ عطاء الخادم، والي بَعْلَبَكَّ، مملوك بُوري (¬1) كان مجير الدِّين أحضره من بَعْلَبَك بنفسه، وفوَّض إليه أمور دمشق، فاستبدَّ بالأمور، ومَدَّ يده إلى الظُّلْم، وأَطْلق لسانه بالهُجْر والفُحْش، فقبضَ عليه مجيرُ الدِّين، واستولى على ما في داره، وطالبه بتسليم بَعْلبك، وضَرَبَ عُنُقَه في ذي الحِجَّة، وسُرَّ النَّاسُ بقَتْله لظُلْمه، ونهبوا بيوتَ أصحابه. ويقال: إنَّ نور الذين أشار على مجير الدِّين بقتله ليتمكَّنَ منه. [فصل (¬2): وفيها توفي بُرْهان الدِّين البَلْخي الزَّاهد (¬3) واسمه علي بن محمد (¬4)، وكنيته أبو الحسن الحنفي. ذكره الحافظ ابن عساكر، وقال: تفقَّه بما وراء النَّهر على البُرْهان بن مازه ببخارى، وعلى جماعة من الأئمة، وسمع الحديث بما وراء النهر وبغداد ومكة، وقدم دمشق في سنة بضع عشرة وخمس مئة، فنزل المدرسة الصادرية بباب البريد، ومدرِّسها يومئذ علي بن مكي (¬5) الكاساني، فَعُقِدَ له مجلس المناظرة, ¬

_ (¬1) أخباره في "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي: 502 - 503، و"الباهر": 107، و "الكامل": 11/ 197 - 198، و"كتاب الروضتين": 1/ 291، 303، 304. (¬2) في (ع) (ح): علي بن محمد أبو الحسن، برهان الدين البلخي، الزاهد الحنفي، قدم دمشق، وجلس للوعظ، ولم يكن له فيه يد، بل كان عنده صدق، فوقع له القبول في قلوب الناس، فحسد، فعزفت نفسه عن المقام .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق": 499 - 500، و"تاريخ ابن عساكر": (خ) (س): 12/ 20، و"كتاب الروضتين": 1/ 292 - 293، و"العبر" للذهبي: 4/ 131، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 276، و"الجواهر المضية": 2/ 560 - 562، وفيهما تتمة مصادر ترجمته. (¬4) هكذا سماه سبط ابن الجوزي، والذي في مصادر ترجمته: علي بن الحسن بن محمد. (¬5) في (م) و (ش) أبو علي، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر".

وجلس للوعظ، وكان عنده صِدْقٌ، فوقع له القَبُول في قلوب النَّاس، فحسده الكاساني، وتعصَّب عليه الحنابلة، لأنه أظهر خلافهم، فَعَزَفَتْ نفسه عن المقام بدمشق]. فمضى إلى مكَّة وجاور بها، وكان إمامَ الحنفية في المسجد الحرام: ثم [(¬1) ندِمَ الكاساني على خروجه من دمشق، فكاتبه بالعَوْد إليها، فخرج من مكة، وجعل طريقه على بغداد، ووصل إلى] دمشق، وسَلَّم إليه الكاساني المدرسة الصَّادرية [عن تراضٍ منه. قال الحافظ] (¬2): وكان صحيحَ الاعتقاد، حَسَنَ السَّمْت، سخيَّ النَّفْس، زاهدًا في الدنيا، وجُعِلَتْ له دار طَرْخان مدرسةً؛ ودرَّس بها وبمسجد خاتون، ووقفت عليه الأوقاف، وكَثرتْ عليه الفتوح، فما التفت [إليها] (¬3). وكان قد تزوَّج ابنة القاضي الشريف أبي الفضل إسماعيل (¬4) بن إبراهيم، فادَّعى أخوها عدم الكفاءة، فانتسب البَلْخيُّ إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وثبت نسبه، وعرف النَّاسُ صحَّته، فقال الوأواء أبو الفرج (¬5): [من المنسرح] قُلْ لعليٍّ أخي المكارِم سُبْـ ... ــــــــــــحانَ إلهٍ على العُلا وقَفَكْ كم قد رأينا من مُدَّعٍ شَرَفًا ... وأنتَ في الخَلْقِ كاتمٌ شَرَفَكْ تَسْتُرُ فَضْلًا تَحْوي كأنَّكَ لا ... تعرفُهُ ساعةً وقد عَرَفَكْ حِلْمٌ وعِلْمٌ ونائلٌ وحِجا ... يقارنُ العِيَّ كلُّ مَنْ وصَفَكْ تجودُ بالفَضْلِ لليتيم ولِلْـ ... ــمِسْكينِ جُودًا تَقْفو به سَلَفَكْ (¬6) ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): ثم عاد إلى دمشق، فسلم إليه .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "تاريخ ابن عساكر": 12/ 20. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "تاريخ ابن عساكر": 12/ 20. (¬3) ما يبن حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (م) و (ش): أبو الفضل بن إسماعيل، بزيادة "بن"، وهو خطأ، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن العباس بن الحسن الحسني ابن أبي الجن، ولي القضاء بدمشق، وتوفي سنة (503 هـ)، انظر ترجمته في "تاريخ ابن عساكر": 2/ 825، و "الوافي بالوفيات": 9/ 63، وفيه وفاته سنة (502 هـ)، وهو خطأ. (¬5) هو الوأواء الحلبي عبد القاهر بن عبد الله بن الحسين، أبو الفرج. وستأتي ترجمته في وفيات سنة (551 هـ). (¬6) أورد الأبيات ابن عساكر في "تاريخه": 12/ 20.

ثم خرج من دمشق إلى حلب، فأزال من الأَذَان "حيَّ على خير العمل" ثم عاد إلى دمشق، فَثَقُلَ على معين الدِّين مكانه، فأخرجه إلى بُصرى وبها الأمير سُرْخاك فأكرمه، وأقام عنده [(¬1) وما كان ذنب البَلْخي عند ابن منير الشَّاعر إلا أنه غيَّر الأذان في حلب، وأزال منه "حي على خير العمل". وقال ابن عساكر: ثم عاد إلى دمشق في أول مملكة نور الدين محمود بن زنكي بعد خروج أبق منها، وتوفي في شعبان سنة ثمانٍ وأربعين وخمس مئة، ودفن بالباب الصَّغير]. [قلت (¬2): وقولُ ابنِ عساكر: ثم عاد إلى دمشق في أول مملكة نور الدين فيه نظر، لأنه قال: توفي البرهان في سنة ثمانٍ وأربعين وخمس مئة، ونور الدين إنما تملك دمشق في سنة تسع وأربعين وخمس مئة، وقد حكى لي جماعةٌ من مشايخ دمشق سنة خمس وست مئة عن آبائهم أنهم يذكرون حضور نور الدِّين مجلس البَلْخي] بدمشق في الجامع وما كان يخاطبه إلّا بمحمود، وكان القُطْب النَّيْسابوري بدمشق، فسألَ نور الدين أَنْ يحضر مجلسه، فحضر، فَشَرَعَ يخاطبه بمحمود، فشق على نور الدين، وقال للحاجب: اصعد إليه، وقل له لا يخاطبني باسمي، فلما فرغ [من] (3) المجلس سأله الحاجب عن ذلك، فقال [لي] (3): إنَّ البَلْخي إذا قال [لي] (¬3) يا محمود قامتْ كلُّ شَعْرة في جَسَدي هيبةً له، ويَرِقُّ قلبي، والقُطْب إذا قال يا محمود يقسو قلبي ويضيق صدري، ولو كان صادقًا لأَثَّر في قلبي. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): وأقام عنده، ثم عاد إلى دمشق في أول مملكة نور الدين، وتوفي بها في شعبان .. وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ح): قال المصنف رحمه الله: ونور الدين إنما ملك دمشق سنة تسع وأربعين، فيكون موت البلخي بها، وحضر نور الدين مجلسه بدمشق في الجامع، وما كان يخاطبه إلا بمحمود، وكان القطب النيسابوري بدمشق .. وما بين حاصرتين من (م) و (ش). قلتُ: وكأن سبط ابن الجوزي يرجح وفاة البلخي سنة (549 هـ)، مستدلًا بما حكاه عن مشايخ دمشق عن آبائهم .. ثم يقول بعد: ويحتمل أن تكون هذه الواقعة كانت بحلب. وما حكاه السبط عن مشايخ دمشق عن آبائهم لا يصح في دمشق، لأن القطب النيسابوري لم يقدم إليها زمن نور الدين إلا سنة (568 هـ). فقولهم: وكان القطب النيسابوري بدمشق وهم، فالراجح في وفاة البلخي أنها سنة (548 هـ)، والله أعلم، انظر "كتاب الروضتين": 2/ 263. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

علي بن السلار أمير الجيوش بمصر

[قلتُ] (¬1): كان القُطْبُ غريقًا في بحار الدُّنيا، و [كان] (2) البلخي مجردًا لا يلتفت [إليها -يعني الدنيا- وكان] (2) إذا بلغه ما يكره أخذ سجَّادته على كتفه، وخرج ويقول: أيش على قلب عليّ؟ [قلت: ويحتمل أن تكون هذه الواقعة كانت بحلب] (¬2). عليُّ بنُ السَّلَّار أمير الجيوش بمِصر (¬3) ويلقب بالملك العادل. كان قد استولى على مِصر، ولم يبق للظافر معه حُكْم، فاتَّفق الظَّافر مع عَبَّاس بن أبي الفتوح الصّنهاجي على قَتْله، فدخل عليه عَبَّاس وهو سَكْرَان، فَقَطَعَ رأسه، وبعث به إلى الظَّافر. وقال ابنُ القلانسي: إنَّ عَبَّاسًا كان ابنَ امرأةِ عليِّ بن السَّلار، والذي قتل ابنَ السَّلار ابنُ عَبَّاس (¬4)، وكان قَتْلُه في المحرَّم. محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح (¬5) أبو علي، الفقيه البغدادي، وأَصلُه من بِسْطام (¬6)، وتوفي سَلْخ رجب. ومن شعره: [من الوافر] على تلك العِراص بجَرْجرايا (¬7) ... من الأنواءِ أنواعُ التَّحايا ¬

_ (¬1) في (ح) و (ع) قال المصنف رحمه الله، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق": 495، و"الاعتبار" لأسامة بن منقذ: 41 - 42 و"الكامل": 11/ 184 - 185، و"كتاب الروضتين": 1/ 292، و"وفيات الأعيان": 3/ 416 - 419، و"العبر" للذهبي: 4/ 131 - 132، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 281 - 283، و"الوافي بالوفيات": 21/ 138 - 139، و"اتعاظ الحنفا": 3/ 204 - 205، و"النجوم الزاهرة": 5/ 299، وفيه وفاته سنة (545 هـ). وهو خطأ، و"حسن المحاضرة": 2/ 205، و"شذرات الذهب": 4/ 149. (¬4) هو نصر بن عباس، وانظر "ذيل تاريخ دمشق": 495، وهذا هو الصحيح الذي عليه المصادر. (¬5) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 3/ 333. (¬6) بسطام: بلدة كبيرة بقومس، على جادة الطريق على نيسانور، بعد دامغان بمرحلتين. "معجم البلدان": 1/ 421. (¬7) جرجرايا: بلد من أعمال النهروان الأسفل، بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي. "معجم البلدان": 2/ 123.

يوسف بن محمد بن فارو

ديارٌ كنتُ آلفُها وأَغْشى ... بها هَيفاءَ واضحةَ الثَّنايا فغيَّر آيَها صَرْفُ اللَّيالي ... وبدَّل أَهْلها بالقُرْب نايا غَدَتْ أيَّامُها سُودًا وكانتْ ... ليالينا بها بِيضًا وضايا وَبَتَّ الدَّهْر حَبْلَ الوَصلِ لَمَّا ... تواصَلَتِ النَّوائبُ والرَّزايا وقال أيضًا من شعره: [من السريع] ما مِحْنةٌ إلا لها غايةٌ ... وفي تناهِيها تَقَضِّيها فاصبِرْ فإنَّ السَّعْيَ في دَفْنِها ... قَبْلَ التَّناهي زائدٌ فيها يوسف بن محمد بن فارو (¬1) أبو الحَجَّاج الأندلسي، سافر عن المغرب، ودخل بغداد وخُراسان، وتوفي ببَلْخ في ذي القَعدة، ومن شعره في الإجازة: [من الوافر] أَجَزْتُ لهمْ روايةَ ما أَحبُّوا ... من المَسْمُوعِ لي والمُسْتجازِ لأحظى منهمُ بدعاءِ خَيرٍ ... وفي الأُخرى من اللهِ المُجازي وخطُّ المَغْرِبيِّ لهمْ شهيدٌ ... على وَجْه الحقيقةِ لا المَجَازِ السَّنة التَّاسعة والأربعون وخمس ومئة فيها بَعَثَ المقتفي رسولًا إلى تكريت بسبب عِزِّ الدِّين ابن الوزير ونجاح ويرنقش، فقبضوا على الرَّسول، فخرج الخليفةُ يوم الجمعة غُرَّة صفر بعساكره، فنزل على تكريت، فهربَ أهلُ البلد، ودَخَل العسكر البلد، فنهبوه، وشعَّثوا بعضه، ونصب الخليفة على تكريت ثلاثةَ عَشَرَ منجنيقًا، ووقع من سورها عِدَّةُ أبراج، وأقام القِتال يعمل إلى ثالث عشرة ربيع الأوَّل، فهبَّتْ ليلة الأربعاء بعد العِشاء ريحٌ شديدة أظلمتِ الدُّنيا، وظهر في الجوِّ نيرانٌ عظيمة، وتقطَّع سُرادق الخليفة، وأصبحوا، فباكروا ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء المغرب والأندلس: 2/ 340 - 341، و "معجم البلدان": 1/ 199، 2/ 195 - وفيه وفاته سنة (545 هـ) - و"المشتبه" للذهبي: 2/ 514، و"توضيح المشتبه": 7/ 14، 139 - 140. وقد اختلف في رسم اسم جده. ففي "الخريدة" و "معجم البلدان": فارو، وفاروا، وفي "المشتبه": فِيُّره، وفي "التوضيح": فارُّه.

القتال، وأشرفت على الأَخْذ، ورأى الخليفةُ النَّاسَ يُقْتلون، فساءه ذلك، ورَفَعَ القتال، ورأى أَنَّ الأمر يطول، فرحل إلى بغداد في آخر ربيع الأول. وبعث صاحبُ المَوْصِل إليهم يقول: أطلقوا الأسارى، وأنا أَشْفع فيكم. فلم يلتفتوا، فجهَّزَ الخليفةُ الوزير، فخرج إلى تكريت، ووصل الخبر أَنَّ مسعود بلال والبقش نزلا شَهرابان (¬1)، وأنَّ السُّلْطان محمدًا على قَصدِ بغداد، وقد كاتباه وحثَّاه على القدوم، فتمكنتِ الوَحْشة بين محمد وسنجر والخليفة، واستأذنا محمدًا في التقدُّم إلى بغداد، فأذِنَ لهما، فأَنزلا رسلان بن طُغْرلْبَك (¬2) من قلعة تكريت ليكون الاسمُ له -وكان محبوسًا بها- والتأم إليهم من التركمان اثنا عشرة ألف خركاة (¬3)، وجاء الخليفةُ بعساكره، والتقوا، فانهزمت ميسرةُ الخليفة، وضربوا على خزانته، وتتعْتَعَ القلبُ والخليفة والوزير فيه، وعلى رأس الخليفة الشَّمْسة، والمَهْدُ بين يديه، والأعلام خَلْفه، والكوسات تخفُقُ، وثَبَتَ الخليفةُ ثباتًا عظيمًا، وضَعُفَتِ الميمنةُ لما انهزمتِ الميسرة، فجاء منكوبرس وقويدان -وكانا فارسَين عظيمين- فترجَّلا، وقبَّلا الأرض للخليفة، وقالا: بالله يا أمير المؤمنين، اثبت ساعة لنقاتل بين يديك، فإنَّا إذا رأيناك قويت قلوبُنا. فقال: لا والله إلا وأنا معكما. ثم رمى الطَّيلسان، وجَذَبَ السيف، وفعل وليُّ عهده كذلك، وكبَّرا، وصاح الخليفة: يا آل مُضَر، كذب الشَّيطان {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيرًا} [الأحزاب: 25]، وحمل وحملتِ العساكر، فكان يُسْمَعُ وَقْعُ الدَّبابيسِ والسُّيوفِ على الحديد كوقع المطارق على السَّنادين، فانهزمَ القوم لا يلوون على شيء، ونُهبت أموالُ التُّرْكمان، فأُخِذَ منهم أربعة آلاف رأس غنم، ومن الخيل خمسون ألفًا، ومن الجمال ما لا يحصى، ونُهبت نساؤهم وأموالهم وبناتُهم، وبِيعَ كلُّ كبشٍ بدانقين، وكلُّ فرس بدِرهمين، وكلُّ جَملٍ بخمسة دراهم، وأمر الخليفة برَدِّ السَّبْي على أهاليهم، وأخذ البقش الصَّبيَّ (¬4) وهرب إلى بلده، ومضى مسعود وترشك إلى تكريت، وعاد الخليفة إلى بغداد في غُرَّة شعبان، وكانت الوقعة في رجب. ¬

_ (¬1) شهرابان: قرية عظيمة ذات نخل وبساتين من نواحي الخالص شرقي بغداد. "معجم البلدان": 3/ 375. (¬2) هو رسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، انظر "تاريخ دولة آل سلجوق": 218. (¬3) في (ع) أربعة عشر ألف خَركاة، والمثبت من (خ)، وهو الموافق لما في "المنتظم": 10/ 156. (¬4) هو الملك رسلان بن طغرلبك.

ثم نزل مسعود بلال وترشك من تكريت، ومضيا إلى واسط فنهباها، فجهَّزَ الخليفةُ الوزير إليهما، فانهزما، وغَنِمَ الوزير أموالهما، وعاد إلى بغداد، فخَلَع عليه الخليفة، ولقّبه سُلطانَ الجيوش ملكَ العراق. وخرج العسكر يوم عيد رمضان في زِيٍّ لم يُرَ مِثلُه، فلمَّا كان عَشِيَّة جاء مطرٌ ورعد وبَرق، وزلزلت الأرض، ووقعت صواعِقُ، فوقع بعضها في تاج الخليفة الذي بناه المسترشد، فطار شرارها إلى الرَّقَّة المقابلة للتَّاج، فأحرقت نخيلًا كثيرًا، ودامتِ النَّار أيامًا. ولما بلغ محمد شاه هذه الأمور عَزَمَ على قَصدِ بغداد، وكاتَبَ أمراء الأطراف يستنجدهم على الخلِيفة، فاتَّفق موت البقش، فَبَطَلَ ذلك، وبقي الصَّبيُّ في يدي [ابن] (¬1) البقش وحسن الخازندار (¬2)، فخافا أن يحملاه إلى محمد شاه فيقبض عليه، فذهبا به إلى الجبل، فسَلَّماه إلى زوج أُمِّه إيلدِكِز. وفيها ضَيَّقتِ الغُزُّ على سنجر، وتركوه في قَفَصٍ من حديد في خيمة، ووكل به جماعة، وأجروا عليه كل يوم ما لا يجري على سائسه، وكان يموت جوعًا، ويبكي ليلًا ونهارًا على نفسه، ويتمنى الموت، والغُزُّ يعيثون في خراسان يَسبُون ويقتلون وينهبون بغير مانع. وفيها ملك نور الدِّين محمود دمشق، وسببه ما ظهر من مجير الدِّين من الظُّلْم ومصادرات أهلها، وسَفك دمائهم، وأَخْذ أموالهم، وقَبْضه على جماعةٍ من الأعيان، [واستدعى زين الدولة (¬3) بن الصُّوفي الذي ولاه رياسة دمشق لما أخرج مؤيَّد (¬4) الدولة منها، فقتله في القلعة، ونهب داره، وأحرق دورَ بني الصُّوفي، ونَهَبَ أموالهم] (¬5)، وتواترت مكاتباتُه إلى الفرنج يستنجد بهم ويطمعهم في البلاد. [و (¬6) كان مرادُ نورِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "المنتظم" 10/ 158. (¬2) في "المنتظم" 10/ 158، الجاندار، ومثله في "الكامل" 11/ 196. (¬3) في (م) و (ش): سيف الدولة، وهو تحريف، صوابه ما هو مثبت، انظر ص 439 من هذا الجزء. (¬4) في (م) و (ش) وجيه الدولة، وهو تحريف، صوابه ما هو مثبت. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) في (ع) و (ح): ويطمعهم في البلاد، وكان قد جعل لهم في كل سنة قطيعة على أهل دمشق، وذل الإسلام وأهله في أيامه، وساءت سيرته، فكانت الأمراء ... والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الدين من أخْذ دمشق أَنّه كان في عَزْمه خلاصَ القُدْس من الفرنج وبلاد الساحل، وكانت دمشق في طريقه. وطمع الفرنج في مجير الدِّين، وكان قد أعطاهم بانياس، فكانوا يشنُّون الغارات إلى باب دمشق، فيقتلون ويأسرون، وكان مجير الدِّين قد جعل للفرنج كل سنة قطيعة يأخذها منهم، وذَلَّ الإسلامُ وأَهلُه في أيامه، وساءت سيرته، وكثرت إساءته وفساده، ] فكانت الأمراء وأعيان دمشق [يبعثون إلى] (¬1) نورِ الدِّين يقولون: الغياثَ الغياثَ، وقالوا: إنْ شِئْتَ حَصَرناه في القلعة. فرأى نورُ الدِّين أخذ [مجير الدِّين] باللطف، [(¬2) وقال: إنْ أخذتُه بالقوة استغاثَ بالفرنج، ولا شكَّ أنَّه يعطيهم البلاد، فيكون وهْنًا عظيمًا على الإسلام. وكان من أشدِّ الأُمور على الفرنج أن يأخذ نور الدين دمشق، لأنه كان قد أحرق قلوبهم وأخرب بلادهم وليس له دمشق، فكيف إذا صارت له؟ فإنه يتقوى بها، ] فعدَلَ إلى ملاطفته ومكاتبته ومهاداته، فأنِسَ به، وصار يكاتبه ويستشيره، فكان نور الدين يكتب إليه: إنَّ فلانًا يُكاتبني وفلانًا يكاتبني، فتارة يقبض مجير الدِّين عليهم وتارةً ينفيهم، فخلَتْ دمشق من الأُمراء، ولم يبق عنده غير عطاء بن حفاظ الخادم السُّلمي، وكان صاحِبَ بَعْلَبَكَّ، وقد رَدَّ مجير الدِّين إليه أمر دولته، وكان ظالمًا، فكتَبَ نور الديِّن إلى مجير الدين يقول: قد نفَّرَ عنك عطاءُ قلوب الرَّعية، فاقبضْ عليه. لعِلْم نورِ الدِّين أَنَّه لا يتم له أمرٌ في دمشق مع وجود عطاء، فقبضه مجيرُ الدِّين. وأَمَرَ بقَتله، فقال له عطاء: لا تقتلني، فإنَّ الحيلة قد تمَّت عليك، وذهب مُلْكُك، وسترى! فلم يلتفت إليه، وقتله، فحينئذ قوي طَمَعُ نورِ الدين في دمشق، وراسل أحداثها وأعيانها، فأجابوه، فسار إليها، ونزل عليها. وكَتَبَ مجيرُ الدِّين إلى الفرنج يستنجد بهم، وبَذَلَ لهم بَعْلَبَكَّ وأموالًا كثيرة، وبلغ نور الدين، فأرسل إلى الأحداث، ففتحوا له الباب الشَّرقيّ، فدخلها عاشر صفر، وقيل سَلْخ ذي الحِجَّة، وحَصَرَ مجيرَ الدِّين في القلعة، وبلغ الفرنج فتوقفوا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ح): أخذه باللطف خوفًا من إعطائه البلاد للفرنج، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وقال ابنُ القلانسي: وصل أسدُ الدِّين شيركوه إلى غوطة دمشق في ألفِ فارس، فنزل على القَصب في المَرْج على أنَّه رسولٌ من نور الدِّين، فلم يخرج إليه أحدٌ من دمشق، وذلك في [العشر] (¬1) الثَّاني من المحرَّم، فلما كان يوم الأحد ثالث صفر وصل نور الدين في عسكره، وخيَّم بعيون الفاسريا، ثم رحل من الغد، فنزل ببيت الآبار، وزحف إلى البلد من شرقيِّه، وزحف إليه من عسكر دمشق وأحداثه الخَلقُ الكثير، ووقع الطِّرادُ بينهم أيامًا، فلمَّا كان يوم الأحد عاشر صفر زحف نور الدين، وظهر إليه العسكر من دمشق على العادة، ووقع الطِّراد [بينهم] (2)، فدفعهم نورُ الدِّين إلى بابِ كَيْسان، ولم يبق على السُّور أحد لسوء تدبير مجير الدِّين، وجاء واحد من رَجَّالة نورِ الدِّين إلى السُّور وعليه امرأة يهودية، فدلَّت إليه حَبْلًا، فتسلَّق فيه، وتبعه الرَّجَّالة، وأصعدوا علمًا، وصاحوا: نور الدين يا منصور. وامتنع الأجناد والرَّعية من القتال لما هم عليه من بُغْض مجير الدِّين وظُلْمه، [وعَسْفه للرعية] (2) ومحبتهم لنور الدين [لعدله وخيره] (¬2)، وبادر بعض [قطاعي الخشب] (¬3) بفأسٍ إلى الباب الشرقي فكَسَرَ أغلاقه وفَتَحَه، ودخل العسكر، فلم يقف بين أيديهم أحدٌ، ودخل نور الدِّين، ودخل مجير الدِّين إلى القلعة ومعه خواصُّه، وأغلق أبوابها، فأرسل إليه نورُ الدِّين، وأمَّنه على نفسه وماله، ونادى بأمانِ أهل البلد على نفوسهم ودورهم وأموالهم، وتقرَّرَ الأمر بينه وبين مجير الدِّين على حِمْص، وكتَبَ له منشورًا بها، وخرج إليها بأمواله وأسبابه، وأَحْسَنَ نور الدِّين إلى النَّاس، وأطلق المكُوس والضَّمانات، [ثم تلا ذلك إبطال حقوق] (¬4) دار البِطِّيخ وسوق الخيل (¬5) وما يؤخذ من الأنهار وغير ذلك. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ح) بعض الجند، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وهو الموافق لما في "ذيل تاريخ دمشق". (¬4) في النسخ الخطية: والضمانات ودار البطيخ، والمثبت ما بين حاصرتين من "ذيل تاريخ دمشق". (¬5) كذا في النسخ الخطية، وفي "ذيل تاريخ دمشق" سوق البقل.

عبد الرحمن بن عبد الصمد بن أحمد

وكان مجاهد الدين بزان في القلعة محبوسًا فأُطْلق، ووصل الرَّئيس مؤَيَّد الدِّين بن الصُّوفي إلى داره غير متعرِّضٍ لشيء من الولايات، وكان مريضًا، فتوفي في ربيع الأوَّل، ودفن في داره، [وكان في نِيَّته فساد] (¬1)، فَسُرَّ النَّاس بموته (¬2). وأقام مجير الدِّين بحمص، ثم كاتَبَ أحداثَ دمشق في إثارة الفِتنة، وبلغ نور الدين، فأعطاه بالس (¬3) ليبعد عن دمشق، فلم يرض بها، ومضى إلى بغداد، فبنى بها دارًا مقابل النِّظامية، وأقام بها حتى مات، [وسنذكره] (¬4). وفيها قتل الظَّافر صاحب مِصر. وفيها وصلت مراكب الفرنج إلى تِنِّيس، فقتلوا وأسروا ونهبوا وعادوا. وحَجَّ بالناس من العراق قيماز. فصل: وفيها توفي عبد الرحمن بن عبد الصَّمد بن أحمد (¬5) أبو القاسم النَّيسابوري، الإمام الفاضل، الزَّاهد الوَرع، قرأ القرآن، وسَمِعَ الحديث، وكان قَنُوعًا باليسير، أوصى إليه قريبٌ له بأن يفرِّقَ ماله على الفقراء، فلما حَضَرَ بين يديه المال كان فيه مِسْكٌ، فلمَّا أراد تفرقته سدَّ أنفه، وقال: إنَّما يُنْتَفَعُ منه بريحه. ولما استولى الغُزُّ على نيسابور قبضوا عليه، وأخرجوه ليعاقبوه، فشفع فيه السُّلْطان سنجر، وقال: هذا رجلٌ صالح، لقد كنتُ أمضي إلى زيارته والتبرُّكِ به فلا يمكِّنُني من الدُّخول عليه، فاتركوه لأجلي [فإنه له عليَّ حق] (¬6)، فتركوه، وكانت وفاته في المحرَّم بنيسابور، [سمع أبا سَعد الحِيْري، وأبا بكر الشِّيرُويي] (6)، واتفقوا عليه (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 503 - 506، و"الروضتين": 1/ 305 - 307. قلت: ثم يأتي في النسخ الخطية عقب هذا قوله: وفيها قتل الظافر صاحب مصر، وأقام مجير الدين بحمص ... الخ، وقد رأيت أن أضع خبر مقتل الظافر بعد خبر مجير الدين حتى يحسن نظم الكلام، والله الموفق. (¬3) بالس: بلدة بين حلب والرقة، "معجم البلدان": 1/ 328. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وستأتي ترجمته في وفيات (564 هـ). (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 159، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 151 - 152. (¬6) ما بين حاصرتين من (م). (¬7) في (م): واتفقوا على صلاحه.

عبيد الله بن المظفر بن عبد الله

عُبيد الله بن المُظَفَّر بن عبد الله (¬1) أبو الحَكم الباهلي الأندَلُسي. ولد بالمَرِيَّة سنة ستٍّ وثمانين وأربع مئة، وحجَّ طبيبًا مع أمير الجيوش سنة ثماني عشرة وخمس مئة، وخدم السُّلْطان محمود بن ملك شاه، وأنشأ له مارَسْتان يُحمل على الجمال معه في أسفاره. وكان شاعرًا خليعًا، وله ديوان سمَّاه "نَهْج الوَضَاعة" ذكر فيه مثالب الشُّعراء الذين كانوا بدمشق، وله ديوان شعر شرحه ولده أبو المجد أفضل الدِّين (¬2). ولما مات أبو الحكم رثاه عرقلة، فقال: [من البسيط] يا عين سحِّي بدَمْعٍ ساكبٍ ودَمِ ... على الحكيمِ الذي يُكْنى أبا الحَكَمِ قد كان لا رَحِمَ الرَّحمنُ شيبته ... ولا سقى قَبْرَه من صَيِّبِ الدِّيمِ شيخًا يرى الصَّلواتِ الخَمْسِ نافلةً ... ويستحِلُّ دمَ الحُجَّاجِ في الحَرَمِ (¬3) محمد بن المُحْسِن بن أحمد (¬4) أبو عبد الله السُّلَمي، أصله من مَلَح (¬5) قرية بحوران، وولي أبوه على حلب زمانًا، وكان فاضلًا، وله نَظْم ونَثْر، قال يمدح القاضي ابن أبي عقيل: [من الكامل] ¬

_ (¬1) ومنهم من سماه عبد الله، وله ترجمة في "تاريخ دمشق" لابن عساكر: 10/ 742 - 743، و"خريدة القصر" قسم الشعراء المغرب: 1/ 289 - 299، و "طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة: 614 - 627، و"وفيات الأعيان": 3/ 123 - 125، 289 - 299، و"ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 2/ 149 - 151، و "الوافي بالوفيات": 17/ 622 - 625، 19/ 415 و"نفح الطيب" 2/ 637 - 639، و "شذرات الذهب": 4/ 153. (¬2) هو محمد بن عبيد الله كان طبيب نور الدين، وتولى البيمارستان النوري، توفي سنة (570 هـ) أو قبلها، انظر ترجمته في "طبقات الأطباء": 628، و"الوافي بالوفيات": 3/ 330 - 331، و "نفح الطيب": 2/ 638. (¬3) الأبيات ليست في ديوانه المطبوع. (¬4) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" 15/ 939 - 940 - وذكر وفاته سنة (547 هـ) - و"الوافي بالوفيات" 4/ 390، و "توضيح المشتبه": 8/ 72. (¬5) هي من أعمال صرخد، انظر "توضيح المشتبه": 8/ 260.

المظفر بن علي بن محمد

يا هِندُ هل وصلٌ فَيُرْتَقَبُ ... إنْ كان يُحْفَظُ في الهوى نَسَبُ أنسيتِ مَوقِفَنا بذي سَلَمٍ ... أيَّامَ أثوابِ الصِّبا قُشُبُ قد زرتُ بغدادًا وطال بها ... عَهْدِي وحَرَّك نحوها سَبَبُ دارُ الملوكِ وكلُّ من ضُرِبَتْ ... فوق السِّماكِ لمجدِهِ الطُّنُبُ دَعْ عنكَ هِنْدَ فقد أغار على ... فَوْدَيكَ عَسْكرُ شَيبكَ اللَّجِبُ واقْصِدْ بمَدْحِك ماجدًا يدُهُ ... تُغْني إذا ما ضَنَّتِ السُّحُبُ من أبيات (¬1). وقيل: مات سنة سبعٍ وأربعين وخمس مئة. المُظَفَّر بن علي بن محمد (¬2) ابن جَهِير أبو نَصر، وزير بن وزير من بيت الوزارة، نَقَلَه المُقْتفي من الأستاذ دارية إلى الوزارة، وسَمِعَ الحديث، وحَجَّ، وتوفي في ذي الحِجَّة، وصُلِّي عليه بجامع القَصر، ودُفِنَ مقابل جامع المنصور. يوسف (¬3) بن عبد المجيد، أبو المنصور، الظَّافر بالله (¬4) ولد سنة سبعٍ وعشرين وخمس مئة، وأُمُّه أُم ولد تُدْعى ستَّ الوفاء، وقيل: ست المُنى. بويع سنة أربعٍ وأربعين وخمس مئة، وهو ابنُ سبع عشرة سنة وأشهر، وقُتِلَ سَلْخ المُحَرَّم، وله اثنتان وعشرون سنة، وكانت أيامه أربع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام. ¬

_ (¬1) انظر تتمة الأبيات في "تاريخ ابن عساكر": 15/ 939 - 940. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 160، و"الفخري": 311، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 283، و"العبر" للذهبي: 4/ 138، و"الوافي بالوفيات" 25/ 681، النجوم الزاهرة: 5/ 318، و"شذرات الذهب": 4/ 154. (¬3) انفرد سبط ابن الجوزي بتسميته يوسف، والذي في المصادر: إسماعيل. (¬4) له ترجمة في "نزهة المقلتين" لابن الطوير: 67 - 68، و"الكامل" 11/ 141، و "الروضتين" 1/ 309 و"وفيات الأعيان": 1/ 237 - 238، و"النجوم الزاهرة": 5/ 288 - 297، و"اتعاظ الحنفا": 3/ 208 - 209 و"سير أعلام النبلاء": 15/ 202 - 204، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وقد ساق بعض أخباره أسامة بن منقذ في كتابه "الاعتبار".

وكانت أيامه مضطربة لحداثة سِنِّه، واشتغاله باللَّهو، وكان عَبَّاس الصُّنْهاجي لما قتل ابن السَّلّار وَزَرَ له، واستولى عليه، وكان له ولدٌ اسمه نصر، فأطمع نفسه في الأمر، وأراد قَتْلَ أبيه، وَدَسَّ إليه سُمًّا ليقتله، فَعَلِمَ واحترز، وأراد أن يقبض عليه، فما قَدَرَ ومنعه مُؤَيَّد الدولة أُسامة بن مُنْقذ، وقبَّح عليه ذلك وقال: إن فعلتَ هذا لم يثق بك أحد، ونَفَرَ النَّاسُ عنك. فشرع أبوه يلاطفه، وقال: عوض ما تقتلني فاقْتُلِ الظافر، فعزمه الغدر بنا، ونولي ولده وهو صبيٌّ صغير. وكان نصر ينادم الظَّافر ويعاشِره، وكان الظَّافر يثق به، وينزل في الليل إلى داره متخفِّيًا، فنزل ليلةً إلى داره وكانت بالسيوفيين ومعه خادِمٌ له، فشربا ونام، فقام نَصرٌ، فقتله ورمى به في بئر، فلمَّا أصبح عبَّاس جاء إلى باب القَصر يطلب الظَّافر، فقال له خَدَمُ القَصر: ابنك يعرف أين هو، فَسَلْه. فقال: ما لابني به عِلْم. وأحضر أخوي الظَّافر وولد أخيه، فقتلهم صبرًا بين يديه، وأحضر أعيان الدَّوْلة، وقال: إنَّ الظَّافر ركب البارحة في مركبٍ، فانقلب به، فَغَرِقَ. ثُمَّ أخرج عيسى ولد الظَافر، فنفروا عن عَبَّاس وابنه، وثار الجند والعبيد وأهل القَاهرة، وطلبوا بثأر الظَّافر من عَبَّاس وابنه نَصر، فأخذا ما قدرا عليه من المال والجواهر، وهربا إلى الشَّام، وبلغ الفرنج، فخرجوا إليهما، وقتلوا عَبَّاسًا، وأسروا ابنه نصرًا، وقُتِلَ في السنة الآتية، وسنذكره إنْ شاء الله تعالى. وذكر ابنُ القلانسي أَنَّ الظافر إنما قتله أخواه يوسف وجبريل وابن عمهم صالح بن حسن، وكان الظافر قد ركَنَ إليهم، وأَنِسَ بهم في وقت مَسرَّاته، فاتفقوا عليه واغتالوه، وقتلوه، وأخفوا أمره، وذلك في يوم الخميس سَلْخ صفر، وحَضَر العادل عباس الوزير وابنه ناصر الدِّين، وجماعة من الأمراء والمقدَّمين على الرَّسْمِ للسَّلام فقيل لهم: إنَّ أمير المؤمنين ملتاث الجسم. فطلبوا الدخول إليه، فَمُنِعُوا، فلجُّوا في الدُّخول بسبب العيادة، فلم يمكَّنُوا، فهجموا، ودخلوا القَصر، وانكشف أمره، فَقَتَلوا الثَّلاثة، وأقاموا ولده عيسى وهو ابنُ ثلاث سنين، ولقبوه بالفائز بنصر الله، وبايعوه وعباس الوزير، وإليه تدبير الأمور.

ثم وَرَدَ الخبر بأَنَّ طلائع بنَ رُزِّيك فارس المُسْلمين قد امتعض من ذلك، وجَمَعَ وحشد، وقَصَدَ القاهرة، وكان من أكابر الأمراء، وعَلِمَ عَبَّاس أَنَّه لا طاقة له به، فجمع أمواله وأسبابه وأهله، وخرج من القاهرة، فلما قَرُبَ من عَسْقلان وغَزَّة خرج إليه جماعةٌ من خَيَّالة الفرنج، فاغترَّ بكثرة من معه، فلما حَمَلَ فَشِلَ أصحابهُ وانهزموا، فانهزمَ هو وابنه الصَّغير، وأُسر ابنه الكبير الذي قَتَلَ ابن السَّلار مع ولده وحُرَمه وماله وكُراعه، وصار الجميع إلى الفرنج، ومَنْ هرب ماتَ من الجوع والعَطَش (¬1). ووصل طلائع بن رُزِّيك إلى القاهرة، فوضع السيف فيمن بقي من أصحاب عَبَّاس، وجلس في منصب الوزارة. قال الِمصريون: وعيسى الفائز كنيته أبو القاسم، ومولده بالقاهرة سنة أربعٍ وأربعين وخمس مئة سَلْخ ربيع الآخر، وأُمُّه أم ولد يقال لها مهج، بويع في المحرَّم من هذه السنة، وله خمس سنين. وكان خُدَّام القَصر قد كتبوا إلى طلائع بن رُزِّيك، وهو والي قُوص وأُسوان والصَّعيد يخبرونه بقَتْلِ الظَّافر، ويستنجدونه على عَبَّاس وابنه نصر، وكتب إليه القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الجَبَّاب: [من الطويل] عَدَتْنيَ (¬2) عن نَظْمِ القريض عوادي ... وشَفَّ فؤادي شَجْوُه المُتَمادِي وأَرَّقَ عَيني والعيونُ هواجِعٌ ... همومٌ أَقَضَّتْ مَضْجعي ووسادِي بمصرع أبناءِ الوَصِيِّ وعِتْرة النَّـ ... ــــــــــــــــبيِّ وآلِ الذَّارياتِ وصادِ فأينَ بنور رُزِّيك عنهمْ ونَصرهُمْ ... ومالهُمُ مِنْ مَنْعَةِ وذِيادِ أولئك أنصارُ الهدى وبنو الرَّدى ... وسُمُّ العِدى من حاضرين وبادِ لقد هُدَّ ركن الدِّين ليلةَ قَتْلِهِ ... بخيرِ دليلٍ للنَّجاة وهادِ تداركْ من الإيمانِ قبل دُثُورِهِ ... حُشاشةَ نَفْسٍ آذَنَتْ بنفاد فقد كادَ (¬3) أنْ يُطْفي تألُّقَ نوره ... على الحقِّ عادٍ من بقية عادِ ¬

_ (¬1) انظر "ذيل تاريخ دمشق": 506 - 507. (¬2) عدتني: أي صرفتني وشغلتني، انظر "معجم من اللغة": 4/ 49. (¬3) في (ع) و (ح): كان، وأثبت ما هو أشبه بالصواب.

فلو عاينتْ عيناكَ بالقَصرِ يومهمْ ... ومَصْرَعَهُم لم تكتحِلْ برُقادِ لأَبْصرتَ حقًّا كَرْبلاءَ وعِتْرَةَ النَّـ ... ــــــــبيِّ وهُمْ صَرْعى الجُنوب صوادِ بني المصطفى كم ذا يُرَوَّعُ سِرْبُكُمْ ... بظُلْم إلى يوم المعادِ مُعاد قضى ابنُ زيادٍ منكُمُ كل حاجةٍ ... وأعْقبكُمْ مِنْ بَعده ابنَ مَنَادِ (¬1) فصبرًا لعل الدَّهْرَ يجبُر كسرَكُمْ ... بأَبْلَج نَهَّاضٍ بكلِّ نآدِ (¬2) فَقُلْ للحُسام العَضْبِ فهو مُؤمَّلٌ ... ليوم ضِرابٍ أو ليوم طِرادِ فمزِّق جموعَ المارِقين فإنَها ... بقايا زُرُوْعٍ آذَنَتْ بحصادِ (¬3) من أبيات. فجمع الصَّالح أهلَ الصَّعيد والعرب، وجاء إلى القاهرة، ودخلها في تاسع ربيع الأوَّل، وأخرج جسد الظافر من البئر التي كان فيها في دار نَصر بنِ عَبَّاس، وجعله في تابوت، ومشى بين يديه حافيًا، مكشوفَ الرأس، وفعل الناس كذلك، وكثر الضجيج والبكاء، فقال الحسن بن علي بن أبي جرادة ثقة المُلْك (¬4) يمدح الصَّالح من أبيات: [من الرمل] حامِلُ الأعباءِ عن أهلِ العَبا (¬5) ... آخذٌ بالثأرِ من باغٍ وعادِ ¬

_ (¬1) ابن مناد هو عباس الصنهاجي، ومناد هو أحد أجداد قبيلة صنهاجة من حمير، انظر نسبهم في "وفيات الأعيان": 1/ 304. (¬2) النآد: الداهية. "معجم متن اللغة": 5/ 376. (¬3) ساق ابن العماد أربعة أبيات منها في "خريدة القصر" قسم شعراء مصر: 1/ 190، وأورد أبو شامة بعض أبياتها كذلك نقلًا عن "الخريدة" في كتاب "الروضتين": 2/ 7 - 8 إلا أنه زاد بيتًا ليس في "الخريدة"، مما يدلك على أن المطبوع من "الخريدة" لم يطبع عن أصل جيد. وانظر "النجوم الزاهرة": 5/ 292 - 293 ففيه تسعة أبيات منها. (¬4) ستأتي ترجمته في وفيات سنة (555 هـ). (¬5) أهل العبا، ويقال أهل الكساء، وهم آل البيت، وفي ذلك إشارة إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد في مسنده (26508) من حديث أم سلمة تذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بيتها، فأتته فاطمة ببرمة، فيها خزيرة، فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك. قالت: فجاء علي والحسين والحسن، فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء خيبري قالت: وأنا أصلي في الحجرة، فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب: 33] قالت: فأخذ فضل الكساء، فغشاهم به، ثم أخرج يده، فألوى بها إلى السماء، ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرًا". قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله، فال: "إنك إلى خير، إنك إلى خير".

من عُصاةٍ أضمروا الغَدْرَ فهم (¬1) ... أَهْلُ نَصبٍ ونفاقٍ وعنادِ قتلوا الظَّافر ظُلْمًا وانتحوا ... لبني الحافظ بالبيضِ الحِدادِ واعْتدى عَبَّاس فيهمْ وابنُه ... مثلَ عُدْوان يزيدٍ وزِيادِ مِثْل سَفْرٍ قتلوا هادِيهُمْ ... ثُمَّ ضَلُّوا ما لهمْ مِنْ بَعدُ هادِ جاءهمْ في مثل ريح صرصر ... فتولوا مِثْلَ رَجْلٍ من جَرَادِ بعدما غَرَّهُمُ إملاؤه ... ولهيبُ الجَمْرِ من تحت الرَّمادِ (¬2) وقال الجليس بن الجَبَّاب: [من الطويل] سَقَتْها بأكنافِ العميم الغمائِمُ ... رسومٌ لها تبكي المطيُّ الرَّواسمُ عطاءٌ مُتاحٌ لم تُعِقْه عوائِقٌ ... ومالٌ مباحٌ لم تَصُنْه الخواتِمُ وبَذْلُ لُهى يجنى بأيْسره الغِنى ... هو الجودُ لا ما ظَنَّ كعبٌ وحاتِمُ إلى ملكٍ يعلو الملوكَ مَحَلُّه ... كما تعتلي فوق الكعوبِ اللَّهازِمُ يَحُفُّ به من آلِ رُزِّيك صِيدُها ... كما حَفَّ بالبَدْرِ النُّجومُ الهوائِمُ له في ذَرَا غَسَّان بيتٌ مُطَنَّبٌ ... فِنا الحَظِّ أوتادٌ له ودعائِمُ ولما ترامى البَرْبَرِيُّ بجهلِهِ ... إلى فَتْكةٍ ما رامها قَطُّ رائِمُ وجاهَرَ بالوُدِّ القديم منافقًا ... وأظهر نُصحًا وهو للغِشِّ كاتِمُ ركبْتَ إليه مَتْنَ عَزْمتك التي ... بأمثالها تُلْقى الخطوبُ العظائِمُ وقُدْتَ له الجُرْدَ العِتاقَ كأَنَّما ... قوائمُها عند الطِّرادِ قوادِمُ وقمتَ بحقِّ الطالبيِّينَ طالبًا ... وغيرُك يُغْضي دونه ويُسالم أَعَدْتَ إليهمْ مُلْكهُمْ بعدما لوى ... به غاصِبٌ حَقَّ الأمانةِ ظالِمُ فما غالِب إلا بَنْصرك غالِبٌ ... ولا هاشمٌ إلا بسَيفكَ هاشمُ (¬3) من أبيات. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): من عبيد السوء فهم، ولا يستقيم به وزن هذا الشطر، والمثبت من "الخريدة" قسم شعراء الشام: 2/ 199. (¬2) انظر الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام 2/ 199 - 200. (¬3) انظر أبياتًا منها في "خريدة القصر" قسم شعراء مصر: 1/ 190 - 191.

السنة الخمسون وخمس مئة

ثم وزر الصَّالح للفائز، فأحسن التَّدْبير، وضَبَطَ الأُمور، ورتَّبها أحسن ترتيب، وعَدَلَ في الرعية، وكان صالحًا كما سُمِّي. وماتَ الفائز سنة خمسٍ وخمسين. وأما عَبَّاس بن أبي الفتوح الصُّنهاجي، فكان أسلافُه يحترمون أسلاف الظَّافر، ويخطبون لهم ببلاد إفريقية وغيرها، وكان أخو عَبَّاس حاكمًا على إفريقية، فخاف منه عباس، فهرب إلى مِصر (¬1)، فاستولى عليها، واتفق مع الظَّافر على قتل ابنِ السَّلَّار، وكان نصر بن عَبَّاس ولدَ امرأة ابنِ السلار وربيبَه (¬2)، وفي حِجرْه رُبِّي، فاتَّفق نَصرٌ مع أبيه على قَتْله، فقتله كما ذكرنا، وَوَزَرَ عَبَّاس، ولقب بأميرِ الجيوش، ثم اتَّفق مع ابنه نَصر على قَتْلِ الظَّافر فقتله، وخرجا إلى السَّاحل، فَقُتِلَ عَبَّاس على عَسْقلان في صفر، وبقي ابنه نصر عند الفرنج، فبعث أهلُ القاهرة إلى الفرنج بمالٍ جزيل، وطلبوا نصرًا، فبعثوا به إليهم، فخرج أهل القاهرة ومصر، وجرَّدوا السَّكاكين والمقاريض، وقرضوا لحمه وشرَّحوه، ومثَّلوا به أقبح مُثلة، ثم صلبوه على باب داره بالسّيوفيين، وعلَّقوا رأسه على باب زُويلة، ثم ألقوا جسده إلى الكلاب، فأكلته، وأحرقوا ما بقي منه. ووصلتِ الأخبار إلى بغداد بهذا وأَنَّه لم يبق إلا صبيٌّ صغير، فكتب المقتفي عهدًا لنورِ الدِّين محمود على الشَّام والسواحل ومِصر وأعمالها، وبعث إليه الخيل بمراكب الذهب والخِلَع، وأمره بالمسير إليها، وكان مشغولًا بجهاد الفرنج. السَّنَة الخمسون وخمس مئة فيها قَبَضَ الخليفةُ على صاحب البابِ أبي الفَتْح بن الصَّيقل الهاشمي، وكان قد مدَّ يده إلى أموالِ الناس، وولي مكانه أبو القاسم عليُّ بن محمد بن هبة الله بن الصَّاحب. ¬

_ (¬1) كذا قال، وهو وهم، صوابه ما ذكره ابن الأثير في "الكامل": 11/ 142 من أن علي بن يحيى هو الذي أخرج أخاه أبا الفتوح والد عباس من إفريقية. (¬2) كذا قال، وهو وهم، صوابه أن عباسًا هو ولد امرأة ابن السلار، فقد قدم عباس مصر سنة (509 هـ) مع أبيه وأمه وكان صغيرًا يرضع، ونزلوا الإسكندرية، فلما توفي أبوه تزوج ابن السلار أمه -وكان وقتئذٍ والي الإسكندرية- انظر "الكامل": 11/ 142، "وفيات الأعيان": 3/ 418، وانظر ص 443 من هذا الجزء.

وفيها دخلتِ الغُزُّ نيسابور، ونهبوا وسَبَوا، وقتلوا أعيانها، منهم محمد بن يحيى شيخ الشَّافعية، وقتلوا بها نحوًا من ثلاثين ألف نسمة، وكان سنجر معهم عليه اسم السَّلْطنة وهو معتقل على الوَجْه الذي ذكرنا. وفي ربيع الأَوَّل نزل الخليفةُ على دَقُوقا (¬1) فحاصر أهلها، فَصَعِدَ النِّساء والصِّبْيان على الأسوار، وصاحوا: يا أمير المؤمنين، ارحمنا لله تعالى. فرحل عنهم. وفي رجب كانت وقعةٌ بين عسكر الخليفة وشَمْلة التُّرْكماني، فهزموه، وتبعوه إلى مضيق، فخرج عليهم كمين، فهزمهم وأسر أعيانهم، ثُمَّ أطلقهم وأحسن إليهم، واعتذر إلى الخليفة، فَقَبِلَ عُذْره، وسار إلى خُوزستان، فملكها، وانزاح عنها ملك شاه بن محمود بن محمد بن ملك شاه. وفي شوَّال وَصَلَ إلى بغداد سليمان شاه بن محمد، وكان محبوسًا بقلعة قَزْوين، فأخرجه فرج الخادم بعد موت مسعود أخيه وقتل خاصبك، واجتمع إليه أمراءُ تلك الناحية، وجاؤوا به إلى هَمَذَان، فأجلسوه على التخت، وكان السُّلْطان محمد قد مضى إلى أصبهان، وبلغه الخبر، فقصد همذان، فهرب سليمان شاه في جماعةٍ يسيرة، فلما قَرُبَ من بغداد أرسل الخليفة إليه يوسف الدِّمشقي مدرس النِّظامية، فقال: في أي شيء جئتَ؟ فقال: أنا عبد العَتَبة، ما جئتُ إلّا مستجيرًا بها، وملتجئًا إليها. فَشَرَطَ أن لا يترك دار المملكة، ولا يطلب السَّلْطنة عليه، فحلف، وأخرج الخليفةُ إليه ولد الوزير ابن هُبيرة، وعلى رأسه الشمسة، وخلفه الأعلام السُّود، فنزل سليمان شاه بباب النوبي، وقبَّل العتبة، وحُمِلَ إلى دار خواجا أحمد، وحُملت إليه الإقامات. ثُمَّ جلس له الخليفة واستدعاه، وخَلَعَ عليه وعلى الأَعْيان من أصحابه، وبعث إليه بالمال والخيل وغيرها. [وفيها] (¬2) حجَّ بالناس قيماز، وخَرَجَ المقتفي لوداع الحاجّ، فبلغ الكوفة، وخَرَقَ أسواقها، وعاد إلى بغداد. ¬

_ (¬1) مدينة بين إربل وبغداد. "معجم البلدان": 2/ 459. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن محمد الحويزي

وفي ربيع الأول تسلَّم نور الدين [محمود] (¬1) بعلبك من واليها ضحَّاك، وعاد إلى حلب، وقصد خدمَتَه قرا رسلان بن سُكْمان بن داود بن أُرتُق (¬2)، فالتقاه وأكرمه وأنزله، وأَحْسنَ إليه، ووصَلَهَ، ثم عاد عنه مسرورًا. وفيها وقع الخُلف بين أولاد الملك مسعود، فأَصلح نور الدين بينهم، ثم عادوا، فسار نور الدين إلى الأعمال المختصَّة بالملك قليج رسلان بن الملك مسعود بن [قليج رسلان بن] (¬3) سليمان بن قُتُلْمش ملك قُونية وما والاها، فملك عِدَّةً من قلاعها بالأمان، وبعضها عَنْوَةً، وكان قليج رسلان وأخواه ذو النُّون ودولات مشغولين بمحاربة أولاد الدَّانشمند، وكانوا قد التقوا على مدينة أقصرا، فظهروا على أولاد الدَّانشمند، وأعظم قليج رسلان ما بدا من نور الدين، وكاتبه منكرًا عليه مع ما بينهما من الصِّهْر والموادعة، فاعتذر نور الدين، وبقي الأمر على حاله. فصل: وفيها قُتِلَ أحمد بن محمد الحُوَيزِي (¬4) [من أهل الحويزة] (1)، كان عاملًا للمقتفي على نَهْر الملك، وكان أظلم العالم، يعلق الرِّجال بأرجلهم، والنِّساء بثديهنَّ في السَّواد ويعاقبهم بين يديه، ويتنمَّسُ (¬5) بالدِّين والسَّجَّادة الزَّرْقاء تحته، والسُّبْحة بيده، وهو يسبِّحُ ويقرأُ القرآن والنَّاس يعذَّبون بين يديه، والسُّبْحة بيده [ويومئ إلى الجلاد: الرأس والوَجْه، وما كان مقصوده بإظهار الدِّين إلا أنَّه يرتقي من مرتبة إلى مرتبة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) كان صاحب حصن كيفا منذ سنة (539 هـ) حتى وفاته سنة (562 هـ) انظر "الكامل" لابن الأثير: 11/ 329 - 330، و"كتاب الروضتين": 1/ 234، 416، 417 - 418، 2/ 16، و"معجم الأنساب" لزامباور: 344. (¬3) ما بين حاصرتين من "الكامل": 12/ 87 - 89. (¬4) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 161 - 162. (¬5) في (ع) و (ح) و (ش) يلتمس، والمثبت من (م)، والتنمس: الاحتيال. "تاج العروس" (نمس).

محمد بن إبراهيم بن الحسين

قال جدِّي: واتَّفق أنِّي دخلتُ حَمَّامًا وهو في خلوة أُخرى، فقرأَ نحو جزأين من القرآن مع الظُّلْم المجاوز للحدِّ] (¬1). وكان يدَّعي الكرامات، فدخل الحمَّام يومًا بقرية في نهر الملك، فدخل عليه ثلاثة، فضربوه بالسُّيوف، وقَطَّعوه، فَحُمِلَ إلى بغداد، فمات في شعبان، ودفن بمقبرة جامع المنصور، وحُفِظَ قبره لئلا يُنْبَش، فأصبح [الناس] (¬2) وقد خُسِفَ بقبره، فاجتمعتِ العامةُ على سَبِّه ولَعْنه، وأظهر الله فيه عظيم قُدْرته. محمد بن إبراهيم بن الحسين (¬3) أبو جعفر، الجَرْباذَقاني، [وجرباذقان] (2) قرية من عمل أصبهان. [ولد في سنة سبع وخمس مئة، واشتغل بالأدب، وتفقه على مذهب الشافعي، و] (2) انقطع إلى العِلْم والعبادة، وأقام بأصبهان [مدة سمع بها الحديث] (2)، وببغداد وصحب أبا الفَضْل بن ناصر حتى مات في ذي الحجة، [وصلى عليه أبو الفضل ناصر] (2) ودفن بالشُّوييزِيَّة (¬4) [عند أصحاب أبي النَّجيب، سمع بأصبهان من إسماعيل بن محمد بن الفَضْل وغيره، وقدم بغداد سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة (¬5)، وسمع خلقًا كثيرًا] (2)، وقيل: مات سنة تسعٍ وأربعين وخمس مئة. ومن شعره: [من الطويل] ألا ليتَ أسباب المنايا أَراحتِ ... فإنِّي أرى في الموتِ أَرْوَحَ راحةِ وموتُ الفتى خيرٌ له من حياتِهِ ... إذا ظَهَرَتْ أعلامُ سوءٍ ولاحتِ أنوحُ وأبكي كلَّما ذرَّ شارِقٌ ... كنَوْحِ حَمَاماتٍ على الدَّوح ناحتِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "المنتظم": 10/ 162. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ويعرف بابن دادا، له ترجمة في "معجم الأدباء": 17/ 120 - 121 و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 91، و"توضيح المشتبه": 4/ 9: و "بغية الوعاة": 1/ 10، و"شذرات الذهب": 4/ 154، وعندهم وفاته سنة (549 هـ). (¬4) في (ع) و (ح): ودفن بالشونيزية، وولد سنة سبع وخمس مئة. قلت: وقد أعدت هذه العبارة إلى حاق موضعها كما جاء في: (م) و (ش). (¬5) في "معجم الأدباء": 17/ 120 أنه قدم بغداد سنة (540 هـ).

محمد بن ناصر بن محمد

إذا كان في بحر الهموم سباحتي ... فأَهْونُ شيءٍ نِلْتُهُ حَلَّ ساحتي محمد بن ناصر بن محمد (¬1) ابن علي بن عمر السَّلامي (¬2) الدَّار، الفارسي الأصل. ولد ليلة السبت خامس عشرة شعبان سنة سبع وستين وأربع مئة (¬3)، وسَمِعَ الحديث الكثير، وكان حافظًا، مُتْقنًا، عالمًا بالأسانيد والمتون، كثير تِلاوة القرآن، سريع الدَّفعة (¬4) [وهو من أكابر شيوخ جَدِّي رحمه الله، وبطريقه أخذ علم الحديث، وذكره جدِّي، وأثنى عليه، وقال: كان ثقة من أهل السنة، وقال: سمعت عليه من سنة إحدى وعشرين وخمس مئة]، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء ثامن عشرة من شعبان، وصلِّي عليه بجامع السُّلْطان وجامع المنصُور والحَرْبية، ودفن بباب حَرْب [إلى جانب أبي منصور بن الأنباري. قال جدي: وحدثني أبو بكر الحُصري: قال] (¬5): رأيته في المنام، فقلتُ له: ما فعلَ الله بك؟ فقال: غفر لي وقال: قد غفرتُ لعشرةٍ من أصحاب الحديث في زمانك، لأنك رئيسهم وسيِّدهم (¬6). وقرأ ابنُ ناصر على أبي زكريا كثيرًا من اللغة، [وأنشدنا شيخنا عبد العزيز بن محمود البَزَّاز (¬7) ويعرف بابن الأخضر، قال: أنشدنا أبو الفَضْل بن ناصر لغيره هذه الأبيات] (¬8): [من البسيط] دَعِ المقاديرَ تَجرِي في أَعنَّتها ... واصبرْ فليس لها صَبرٌ على حالِ ¬

_ (¬1) له ترجمة في الأنساب: 7/ 209، و"المنتظم" 10/ 162 - 163، و"مناقب الإمام أحمد": 639: و"مشيخة ابن الجوزي": 133 - 136، و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 202، و"اللباب": 2/ 161، و"وفيات الأعيان" 4/ 293 - 294، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد": 125 - 131، و"طبقات علماء الحديث": 4/ 66 - 63، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 265 - 271، وفيهما تتمة مصادر ترجمته. (¬2) نسبة إلى مدينة السلام بغداد. "الأنساب": 7/ 209. (¬3) في النسخ الخطية: سبع وسبعين وأربع مئة، وهو خطأ، والمثبت ما في مصادر ترجمته. (¬4) في (ع) و (ح): سريع الدمعة، كان ثقة من أهل السنة، كانت وفاته ليلة الثلاثاء، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ع) و (ح): ودفن بباب حرب، وقال أبو بكر الحضرمي، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) "مشيخة ابن الجوزي": 136. (¬7) هو شيخ السبط، وقد توفي سنة (611 هـ)، له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 22/ 31 - 32. (¬8) (ع) و (ح): وأنشد لغيره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[علي بن] محمد، أبو الحسن، ثقة الدولة بن الدريني، البغدادي

بَينا تُرِيكَ وضيعَ القَوم مُرْتفعًا ... إلى السِّماكِ ويومًا تُخفِضُ العالي ما بينَ رَقْدةِ عين وانتباهَتِها ... يقلَّب الدَّهْرُ من حالٍ إلى حالِ (¬1) [علي بن] (¬2) محمد، أبو الحسن، ثِقَةُ الدَّوْلة بن الدُّرَيني، البَغْدادي (¬3) كان فاضلًا جوادًا، كريم الأخلاق، بنى ببغداد مدرسة (¬4)، وكان له بِرّ دائمٌ، ومعروف متواصل، وتوفِّي ببغداد. ورثاه دُبَيس المدائني الضَّرير، فقال: [من الكامل] قد قلتُ للرَّجل المُوَلَّى غسلَهُ ... هلَّا أطاع (¬5) وكنت من نُصحائِهِ جَنِّبْه ماءَك ثُمَّ غَسِّلْه بما ... أبكتْ عيون المَجْد مِنْ آلائِهِ وأَزِلْ أفاويه الحَنُوطِ وطِيبَهُ ... عَنْهُ وحَنِّطْهُ بطيبِ ثنائِهِ ومُرِ الكرامَ الكاتبينَ بحَمْلِهِ ... شَرَفًا ألستَ تراهُمُ بإزائِهِ لا تُوهِ أعناقَ الرِّجال بحَمْلِهِ ... يكفيه ما فيهنَّ مِنْ نَعمائِه (¬6) هِبةُ الله بنُ علي (¬7) أبو محمد بن عَرَّام، [الرَّبَعي، مصري] (¬8) كان فاضلًا فصيحًا، [وله ديوان شعر، وبيت عَرَّام بيتٌ معروف بالفَضْل والأدب، ومن شعر هبة الله (¬9)]: [من المتقارب] إذا حَصَلَ القوتُ فاقنعْ به ... فإنَّ القناعةَ للمَرْءِ كَنْزُ ¬

_ (¬1) الأبيات في "معجم البلدان": 1/ 251. (¬2) ما بين حاصرتين من مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 165، و "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 2/ 144 - 146. و"الكامل": 11/ 200، و"وفيات الأعيان": 2/ 478، و"توضيح المشتبه": 4/ 32 - 33 وعندهم وفاته سنة (549 هـ). وقال العماد في "الخريدة": المعروف بابن الإبري. (¬4) هي المدرسة الثقتية، وانظر حاشيتنا رقم 3 ص 354 من هذا الجزء. (¬5) في (ع) و (ح): لو قد أطاع، والمثبت من "الخريدة". (¬6) الأبيات في ترجمة دبيس في "الخريدة" قسم شعراء العراق ج 4 / م 1/ 116 - 117. (¬7) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم شعراء مصر: 2/ 186، و"الوافي بالوفيات": 27/ 304 - 305. (¬8) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬9) في (ع) و (ح): كان فاضلًا فصيحًا، ومن شعره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الحادية والخمسون وخمس مئة

وصُنْ ماءَ وجْهك عن بَذْلِهِ ... فإنَّ الصِّيانة للوَجه (¬1) عِزُّ وقال: [من السريع] لمَّا بدا لي شَرُّ هذا الورى ... وكنتُ مِن خَيرِهُمُ آيسا لزمتُ بيتي راحةً منهُمُ ... وصرتُ بالوحدةِ مُسْتأنسا ومَرِضَ، فكتب إليه صاحِبٌ له أبياتًا، فكتب [في] (¬2) جوابها: [من الوافر] أَتَتْني منْكَ أبيات حِسانٌ ... هي الدُّرُّ الثَّمينُ بغير شَكِّ فكانتْ لا عَدِمتُك بُرْءَ جِسمي ... من البَلْوى فقد زال التَّشكِّي (¬3) وقال في ذمِّ إنسان: [من مخلَّع البسيط] جميعُ أقوالِهِ دعاوي ... وكل أفعالِهِ مَسَاوي ما زال في فنِّهِ غريبًا ... ليس له في الورى مُساوي (¬4) السنة الحادية والخمسون وخمس مئة في المحرَّم خَلَعَ الخليفةُ على سليمان شاه خِلْعة السَّلْطنة: التَّاج والطَّوق ومركب الذَّهب، واستحلفه أَنَّ العراق يكون للخليفة ولا يكون لسليمان شاه إلا ما يَفْتح بسيفه من غير العراق، وخُطِبَ له على المنابر بعد سنجر، وبَعَثَ إليه بالمال، وقوَّاه بالرِّجال، وخرج إلى النّهروان سَلْخ المحرم، وبَعَثَ إلى الخليفة يقول: ما أرحل حتى أراك فيقوَى قلبي. فخرج الخليفةُ بعساكره من بغداد وهو بين يديه بمرحلة إلى حُلْوان، وبعث معه العسكر، وعاد. وفي ربيع الآخر أُطلق ابنُ الوزير من قلعة تكريت، فأقام في الأسر ثلاث سنين وأربعة أشهر. وجاءت الأخبار بأنَّ ملك شاه ابن أخي سليمان شاه قد انضاف إليه، واتصلوا بإيلدكز، واتَّفقوا، وبلغ محمد شاه، فسار إليهم، وضرب معهم مصافًّا، فانهزموا بين يديه، وتشتَّتَ ¬

_ (¬1) في (م) و (ش): للمرء، والبيتان في "الخريدة": 2/ 190. (¬2) ما بين حاصرتين من (م)، وفي (ش): له. (¬3) البيتان في "الخريدة": 2/ 193. (¬4) البيتان في "الخريدة": 20/ 194 - 195.

عبد القاهر بن عبد الله

العسكر، ووصل بغداد من عسكر الخليفة خمسون فارسًا بعد أن كانوا ثلاثة آلاف، ولم يُقْتل منهم أحد، وإنَّما أُخذت خيولهم وأموالهم، وجاؤوا حُفاة عُراةً، وانفصل سليمان شاه عن إيلدكز، وعاد إلى بغداد على طريق الموصل، وكان عاجزًا عن حُسْنِ التَّدبير، فهان على أصحابِ الأطراف، وكان زين الدِّين كُوجك في المَوْصل، فخرج إليه، وقَبَضَ عليه، وأطلعه إلى القلعة، وبعث إلى محمد شاه يقول: تعال تَسَلَّمه، وإنْ أردتَ أَنْ تقصد بغداد ساعدتُك. فسار يريد بغداد، ونزل بعقوبا، وبعث إلى كوجك، فتأَخَّر عنه، وانزعج أهلُ بغداد، وعَرَضَ الخليفةُ عساكره، وعصى عليه أرغش صاحا البَصرة، وبدر بن المُظَفَّر صاحب البطيحة، وبعث إلى كُوجك يأمره بإطلاق سليمان شاه، فلم يُطْلقه، وأقام محبوسًا في المَوْصِل، ثم أُطلق بعد ذلك. وأما السُّلْطان محمد فلما تأخَّر عنه زين الدين خاف أن تكون عليه حِيلة، فرجع من بَعْقُوبا إلى هَمَذَان. وفيها خَلَصَ سنجر من أَسْرِ الغُزِّ بحِيَل، وهَرَبَ إلى قلعة تِرْمذِ بعد أن أقام عندهم أربع سنين في الذلِّ والهوان حتى ضرب به أهلُ بغداد الأمثال، فكان إذا مَرَّ على إنسانٍ شدائد، قالوا: ما اشتفى الغُزُّ من سنجر، وقيل: إنه وعد الموكلين به بالمال العظيم، فأجابوه، ووفى لهم. وحَجَّ بالنَّاسِ من العراق قيماز، ومن الشَّام نجم الدِّين أيوب. فصل وفيها توفي عبد القاهر بن عبد الله (¬1) ابن الحسين. أبو الفرج، الوأواء الشَّاعر. أصله من بُزاعة (¬2)، ونشأَ بحلب، وتأدَّب بها, وشرح "ديوان المتنبي"، ومَدَحَ جماعةً من أهل الشَّام، ومن شعره: [من الطويل] ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": مج 43/ 68 - 70، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 155 - 157، و"إنباه الرواة": 20/ 186، و"الوافي بالوفيات": 19/ 52 - 53، و"النجوم الزاهرة": 5/ 322 - 323، و"بغية الوعاة": 2/ 106، و"شذرات الذهب": 4/ 158. (¬2) بزاعة بضم الباء وكسرها، ومنهم من يقول: بزاعا: من أعمال حلب في وادي بطنان بين منبج وحلب. انظر "معجم البلدان": 1/ 409.

عبد السيد بن جكر الواسطي

أبي زَمَني أن (¬1) تستقرَّ بي الدَّارُ ... وأَقْسَمَ لا تُقضى (¬2) لنفسي أوطارُ أخِلَّايَ كيف العَدْلُ والدَّهْرُ حاكمٌ ... وكيف دُنُوي والمُقدَّر أَقدارُ وما غِبْتُمُ عن ناظرِي فيراكُمُ ... ولم ينسكُمْ قلبي فَيحدُثَ تَذْكارُ لئنْ عِفْتُمُ نَصرِي إذا حَلَّ حادثٌ ... فلي من دُموعي في الحوادثِ أنْصارُ وإن غَرَبَتْ شمسُ النَّهارِ فمنكُمُ ... شموسٌ بقلبي لا تَغِيبُ وأقمارُ وبي فَرَقٌ بادٍ إذا ما تفرَّقوا ... ولي مَدْمَعٌ جار إذا ما هُمُ جاروا عناني من الأسرار ما لم أَبُحْ به ... فصرتُ كفِعلٍ ظاهرٍ فيه إضمارُ وكنتُ كغصنٍ باتَ يُمْنَعُ رِيُّه ... وقد رَويتْ حَولي من الماءِ أشجارُ (¬3) (¬4) عبد السَّيِّد بن جَكَر الواسطي (¬5) دخل على شمس الدين فاتن، ناظر واسط وقد غُمَّ الهلال، فأنشد: [من المتقارب] أما في البَريَّةِ من يَنْتَبِهْ ... يهنِّي بك العيدَ لا أنتَ بِهْ وإنْ وقعتْ شُبهةٌ في الهِلالِ ... فأنتَ على العَينِ لا تَشْتَبِه (¬6) عليُّ بنُ الحسين الغَزْنَوي الواعظ (¬7) ويلقب بالبُرْهان، قدم بغداد سنة ستَّ عشرة، وسمع الحديث، ووعظ، وكان فصيحًا، وله جاهٌ عريض، وكان السُّلْطان مسعود يزوره، وأَمرت خاتون زوجةُ ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): لا، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر" و"الخريدة". (¬2) (ع) و (ح): لا أقضي، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر" و"الخريدة". (¬3) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر": مج 43/ 69 - 70، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 156 - 157 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬4) عقب هذه الترجمة في (خ): وفيها قصدت الفرنج بقاع بعلبك .. قلت: وهذا الحبر من حوادث سنة (546 هـ). (¬5) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 4 / ح 1/ 358 - 360، و"الوافي بالوفيات" 18/ 443 - 442، وذكره ابن خلكان في "وفيات الأعيان": 7/ 224، وسماه عبد السلام. (¬6) البيتان في "الخريدة". (¬7) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 166 - 168، و"الكامل": 11/ 216 - 217، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 324 - 325، و"الوافي بالوفيات": 21/ 29 - 35، و"النجوم الزاهرة": 5/ 323 - 324، و"شذرات الذهب": 4/ 159، وانظر "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1/ 282.

المُستظهر أن يُبْنى له رباطٌ، ووقفتْ عليه قريةً اشترتها من المُسْترشد، واستعبد خَلْقًا كثيرًا من العلماء والفقراء بجاهه وماله. وقال الشيخ أبو الفرج رحمه الله: كان محفوظه قليلًا، فيكرِّرُ ما يقول، [وحدثني جماعة من القراء أنَّه كان يعيِّنُ لهم ما يقرؤون بين يديه، ويتحفَّظ الكلام عليه] (¬1). وسمِعْتُه يقول على المنبر: الحكمة في معراج النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه أُري ما في الجَنَّة والنَّار ليكون يوم القيامة على سكون لا على انزعاج، ولهذا المعنى قُلبت العصا حَيَّةً يوم التَّكليم لئلا ينزعِجَ موسى عليه السَّلام بين يدي فِرْعون. وسمعته يُنْشد: [من مجزوء الرجز] كم حَسْرَةٍ لي في الحشا ... من ولدٍ إذا نَشَا وكم أردتُ رُشْدَه ... فما نَشَا كما نشا (¬2) وسمعته يُنْشد: [من السريع] يَحْسُدُني قومي على صَنْعتي ... لأَنَّني في صَنْعتي فارسُ سَهِرْتُ في ليلتي واسْتَنعسوا ... هل يستوي السَّاهِرُ والنَّاعِسُ وكان يعظِّم السُّلْطان ولا يعظم الخليفة كما ينبغي، وسمعتُه يومًا يقول بجامع القصر: يتولى أمورنا ويغفل عنا، [وأنشد] (¬3): [من الهزج] فما تصنع بالسَّيفِ ... إذا لم يكُ قتَّالا فَغَيِّرْ حِلْية السَّيفِ ... وضعْه لك خَلْخالا (¬4) وقال: تولي اليهود، فيسبُّون نبيك يوم السبت، وتجلسهم يوم الأحد عن يمينك، ثم صاح: اللهم هل بلغت؟ فكانت هذه الأشياء تُنْقل إلى الخليفة، فمنعه من الجلوس بجامع القَصر، فقَدِمَ السُّلْطان مسعود، فأجلسه بجامع السُّلْطان، وحضر مجلسه، ¬

_ (¬1) (ع) و (ح): ويعين القراءات تقرأ، ويرتب الكلام عليها، والمثبت ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 166. (¬2) البيتان ساقهما سبط ابن الجوزي على أنهما من شعر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوزان القشيري في ترجمته انظر حاشيتنا رقم 1 ص 144. (¬3) ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 167. (¬4) (ع) و (ح): وضع لك منه خلخالًا، والمثبت من "المنتظم".

الشيخ أبو البيان الزاهد

فقال: يا سُلْطان العالم، محمد بن عبد الله أَمرني بالجلوس، ومحمد أبو عبد الله منعني من الجلوس. يعني المقتفي. ولمَّا دخل العَبَّادي بغداد [وكانت سوقه انكسرت به] (¬1)، فأنشد ابنُ الدَّهَّان: [من السريع] للهِ قُطْبُ الدِّين من عالمٍ ... طَبٍّ بأَدْواء الورى آسِ مُذ ظَهَرَتْ حُجَّتُه للورى ... قامَ بها البرهانُ للنَّاسِ (¬2) فلما ماتَ مسعود أُهين الغزنوي، ومُنِعَ من الوعظ، وأُخذ كل ما كان بيده، فَشُفِعَ إلى الخليفة في رَدِّ القرية التي وقفت على رِباطه، فقال: أما ترضى أن يحقن دمه. وكان يتمنَّى الموت مما لاقى من الذُّلِّ بعد العِزِّ، وما كان ممن يرضى بالذل، فحمل على قلبه، ومَرِضَ، فأَلْقى كَبِدَه قِطَعًا، وتوفي في المحرَّم، ودُفِنَ بمقابر الخَيزُران. [وفيها توفي الشيخ أبو البيان الزَّاهد (¬3) واسمه نبا بن محمد] (¬4)، ويعرف بابنِ الحوراني، تشاغل بالزهد، و [ونشأ على] (¬5) الاشتغال بالعلم، وصحبة الصَّالحين، وحُسْن الطريقة والعَفَاف والصِّيانة، [وكان] (¬6) محبًا للعِلْم والعلماء. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح)، ذكر شوقه، وهو تحريف، وما بين حاصرتين من "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ح 1/ 314 - 315. (¬2) قطب الدين هو العبادي، وقد سلفت ترجمته في وفيات سنة (547 هـ)، وابن الدهان هو محمد بن علي بن شعيب أبو شجاع، وسترد ترجمته في وفيات سنة (592 هـ). ومعنى العبارة أوضحه ابن الجوزي بقوله: كان -أي الغزنوي- إذا نبغ واعظ سعى في قطع مجلسه، ولما مال الناس إلى ابن العبادي قل زبونه، فكان يبالغ في ذمه، فقام بعض أذكياء بغداد في مجلس العبادي فأنشده، ثم ذكر البيتين، ثم قال: وأراد ابن الغزنوي: قد قام للناس، لأنه كان يلقب بالبرهان، وهذا من عجيب ذكاء البغداديين. والبيتان في "الخريدة" مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬3) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق": 512، و "معجم الأدباء": 19/ 213 - 214، و"كتاب الروضتين": 1/ 330، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 326 - 327، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) في (ع) و (ح): محمد أبو البيان الشيخ الزاهد، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ع) و (ح): تشاغل بالزهد والاشتغال بالعلم .. وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق.

أبو العز القرشي الصوفي

[قال أبو يعلى بن القلانسي: توفي في هذه السنة] (¬1) ودفن بالباب الصَّغير عند قبور الصحابة - رضي الله عنهم -، وكان له يومٌ مشهود (¬2). [قلت: وحكى لي بعضُ مشيخة دمشق أنّ أبا البيان] (1) دخل يومًا من باب السَّاعات إلى جامع دمشق، فنظر إلى أقوام في الحائط الشمالي يَثْلِبُون أعراضَ النَّاس، فاستقبل القِبلة، ورفع يديه، وقال: اللهم، كما أنْسَيتهُمْ ذِكرَك، فأنْسهِمْ ذِكري. (¬3) [وفيها توفي: أبو العِزّ القُرَشي الصُّوفي (¬4) ويقال له ابن أبي الدنيا، وليس في الدنيا من يقال له ابن أبي الدنيا غير أبي بكر (¬5)، وهذا، وهو بصري، وكان يسكن المشان (¬6)، وكان أبوه محتسبَ البصرة، وكان أبو العز شاعرًا فاضلًا، ومن شعره]: [من الرجز] ما بال قلبي زائدًا غرامُهُ ... ودَمْعُ عيني هاطلًا غمامُهُ وذلك الجَمْرُ الذي خَلَّفْتُمُ ... على الحشا لا ينطفي ضِرامُهُ (¬7) يا ناعمينَ بالرُّقاد عِيشةً ... عنديَ طَرفٌ خانَهُ منامُهُ ما أطْيبَ اللَّيلَ الطَّويلَ والبُكا ... لولا انفجارُ الصُّبْحِ وابتسامُهُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "ذيل تاريخ دمشق": 512. (¬3) في (ع) و (ح): أبو العز بن أبي الدنيا القرشي الصوفي البصري، وكان أبوه محتسب البصرة، وكان أبو العز شاعرًا، من شعره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) هو محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن المظفر بن أبي الدنيا القرشي الصوفي. له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 2 / ج 4/ 757 - 758، و"النجوم الزاهرة": 5/ 324 - وقد أخطأ إذ جعل الشاعر أباه- وورد ذكره في "إنباه الرواة": 2/ 243 في ترجمة علي بن الحسن بن إسماعيل العبدي: وفيه أبو المعز. (¬5) هو المحدث المشهور صاحب التصانيف السائرة، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان القرشي مولاهم، البغدادي المؤدب، المتوفى سنة (281 هـ)، انظر ترجمته في "تاريخ بغداد": 10/ 89 - 91، و "سير أعلام النبلاء": 13/ 397 - 404، وفيه مصادر ترجمته. (¬6) المشان بلدة قريبة من البصرة وهي وخمة، كان إذا سخط ببغداد على أحد ينفى إليها، انظر "معجم البلدان" 5/ 131، و"وفيات الأعيان": 4/ 67. (¬7) في (م) و (ش): غرامه، وهو خطأ.

السنة الثانية والخمسون وخمس مئة

إنَّ الكرى بَشَّرني بوصلكُمْ ... نِعْمَ الكرى إنْ صَدَقَت أحلامُهُ ولستُ أدري والذي سَنَّ الهوى ... سِهامُكُم أَقْتلُ أم سهامُهُ (¬1) السَّنة الثانية والخمسون وخمس مئة فيها حُوصرت بغداد، جَمَعَ محمد شاه التُّرْكمان والأكراد، وقرُبَ من بغداد، وبعث إلى الخليفة يَطلُب الخطبة والسَّلطنة، فقيل له: السُّلْطان هو سنجر وأنتم مختلفون. وعَرَضَ الخليفة العساكر، وجاء خطلبرس من واسط، وعصى أرغش صاحب البَصرة، وأخذ واسطًا، واستعدَّ الخليفة للحصار، وجَمَعَ السُّفن إلى تحتِ التَّاج، وذلك في سادس عشرة المحرَّم، ونودي: لا يبقى في الجانب الغربي أحدٌ. فَعَبرَ النَّاسُ بأموالهم وأهلهم إلى دار الخلافة، وجاء محمد شاه، فعَبَرَ دِجلة من فوق حَربى، ونَهَبَ الدُّجَيل وأَوَانا وغيرَها، وجاءه كوجك بعساكر المَوْصِل والجزيرة، واتَّفقا، وضرب محمد شاه خيامه بالرَّملة، وقطع الخليفة الجسر، وأخذ زواريقه إلى تحت التَّاج، وأخرج سبعة آلاف جوشن، ففَرَّقها، ولبس الناسُ السّلاح، ونَصَبَ الخليفةُ المجانيق والعَرَّادات فكانت مئتين وسبعين منجنيقًا وعَرَّادة، في كلِّ منجنيق أربعون رجلًا، وكان يُخْرج كل يوم من الخزانة أكثر من مئة كُرّ حنطة يُطعِمُه النَّاس، وأَذِنَ للوعَّاظ في الجلوس بعد مَنعهم سنة وخمسة أشهر، فجعلوا يحرِّضون الناس على قتال البغاة والخوارج. وفي العشرين من المحرَّم ركبت عساكر محمد شاه وكوجك، وجاؤوا إلى الرَّقَّة (¬2)، ووقفوا بإزاء التَّاج، ورموا بالنُّشَّاب إلى التَّاج، وركب إليهم صِبْيان بغداد في السُّفُن، ورموا بالنُّشَّاب وقاتلوهم، وضربوا أميرًا منهم بالنفط فأحرقوه، وظهروا عليهم، فرجعوا. فلما كان يوم السبت ثالث صفر، ركبوا بجمعهم، وانتشروا على دِجلة، وخرج إليهم عسكر الخليفة في السُّفن، وجاءتهم سفن من واسط فيها مِيرة وما يحتاجون إليه، ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة" مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬2) الرقة هي البستان المقابل للتاج من دار الخلافة ببغداد، وهي بالجانب الغربي، "معجم البلدان": 3/ 60.

فأقامت في المدائن، وجاءت أكلاك (¬1) من المَوصِل فيها ميرة وزادٌ، فأخذها أصحابُ الخليفة. وفي سادس عشرة صفر وصل ركابيٌّ من هَمَذَان يخبر بدخول ملك شاه إليها، وأَنَّه نهبها، وكَبَسَ دور المخالفين الذين مع محمد شاه. ولما كان عشية الجمعة سَلْخ صفر عَبَرَ في السفن جماعةٌ منهم إلى دار السُّلْطان، فخرج إليهم منكورس الشِّحنة، فَقَتَلَ منهم جماعةً، ورمى الباقون نفوسهم في الماء، وفرَّق الخليفة في الأتراك في يومٍ واحد خمسة وعشرين ألف نُشَّابة، ومئتين وستين كُرّ حنطة، ولم يأخذ من أحدٍ من أهل بغداد دِرهمًا، ولا استقرض شيئًا. ولما كان يوم الخميس العشرين من ربيع الأول جاؤوا بأربع مئة سُلَّم، واجتهدوا أن يلصقوها إلى السور فلم يقدروا، وأحرقها عوامُّ بغداد، وبَطَلَت الصَّلوات يوم الجمعة في الجانب الغَرْبي والرُّصافة، وكان يصلِّي في جامع القصر نفرٌ يسير، واحتوى محمد شاه على جانبي بغداد، ولم يبق إلا حريم دار الخليفة. ووصلت امرأةُ سليمان شاه بنت خوارزم شاه، وكانت قد أَصلَحَت بين ملك شاه وبين الأُمراء بهَمَذَان، وخرجت متنكِّرة في زِيّ الصُّوفية للحاج عليها مُرقعة، وفي رِجلها طرسوس (¬2)، كأنها من جُملة الشَّحَّاذين، فجاءت إلى عسكر محمد، وتوصلت إلى الرَّقَّة مقابل التاج، وقالت لبعض الملاحين: صِحْ لي بقائدٍ من قواد أمير المؤمنين يعرِّف الوزير أَنَّ لي إليه حاجة. فبعث الوزير إليها حاجبًا، فعرَّفَته نفسها، فَعَبَرَ بها، فدخلت على الوزير، فقام لها قائمًا، وأكرمها وعَرَّف الخليفة، فأفرد لها دارًا قريبة منه، وحمَلَ إليها ما يصلح، وكان معها ركابي، فأخرج الكتب من ملك شاه بأَنَّه دخل هَمَذَان، ونقَضَ الكشك الذي لمحمد شاه، ونقض دور المخالفين ونهبهم. ¬

_ (¬1) أكلاك جمع، مفردها الكَلَك: الطوف، وهو قرب ينفخ فيها، ويشد بعضها إلى بعض كهيئة سطح فوق الماء، تحمل عليه الميرة والناس، وربما كان من خشب يشد ويركب عليه، أو يسوَّى من قصب وعيدان يشد بعضها فوق بعض، ثم يقمط حتى يؤمن انحلالها. "معجم متن اللغة": 3/ 649، 5/ 95. (¬2) كذا في الأصل، وكأنها نوع من الأحذية كان يلبسها الشحاذون، ولم أقف عليها.

والقتال يعمل على بغداد كل يوم إلى سابع ربيع الآخر، فبعث محمد شاه إلى كوجك يقول: أنت وعدتني بأخذِ بغداد وما حَصَّلت، وقد أُخذت هَمَذَان، ونُهِبَت خزائني وأموالي وبيوت أصحابي، وأنا معوِّل على الرحيل. فقال كوجك: متى رحلت من غيرِ بلوغِ غَرَضٍ كنتَ سببًا لقَلع بيت السَّلجوقية وبيوتنا، ولكن اصبر حتى نعبر غدًا إلى القوم، ونرمي هذه الغرائر (¬1) في الخندق، ونَنصِب السلالم، ونحمل حملةَ رجل واحد، فنأخذ البلد. وجاء ركابي إلى محمد شاه يُخبره بأَنَّ ملك شاه أخذ له أربعة آلاف بُختية، ونُهبت خزائنه وبيوت أمرائه، وبلغ أمراءه، فاستأمن منهم جماعة إلى الخليفة، وبعث ملك شاه يقول للأُمراء: إن لم تنفصلوا عن بغداد وإلا سَبيتُ نساءكم، وقتلت أولادكم، وأنا منتظر أمر أمير المؤمنين، فإنْ أمرني بقَصدكم قَصَدتُكم، وإنْ أمرني أن أسير إلى المَوصل سرت. واستوحش محمد شاه من كوجك، وقال: أنتَ أخربتَ بيتي. وهَمَّ بالقَبْض عليه، فاستوحش زين الدين منه وقال له: إن لم آخذ لك بغداد في ثلاثة أيام، وإلّا فما أنا كوجك. فلمَّا كان يوم الأحد ثاني عشرة ربيع الآخر قال كوجك لمحمد: اعبر أنتَ اليوم، وأُصبح يوم الثلاثاء على القتال حتى أعبر أنا ونحن على تعبئةٍ. قال: نعم. وأصبح محمد شاه، فعبر أصحابه إلى الجانب الشَّرقيِّ على الجسر، فلما كان وقت العشاء قطع كوجك الجسر، وضرب على خزائن محمد شاه وخيله وخيامه، وسار طالبًا المَوصِل، وأحرقَ الغِلال التي كانت في الأسواق، وبقي محمد شاه في أصحابه لا غير في الجانب الشَّرْقي لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلًا، فسار ليلة الأربعاء طالبًا هَمَذَان، وأمر الخليفة أن لا يتبعوه، وجاءت الرَّجَّالة إلى دار السُّلطان فنهبوها، وكانت فيها أموال كثيرة حتى قلعوا الأبواب والسقوف. وسبب رحيلهم أن الوزير ابنَ هُبيرة أصلح كوجك، وضمن له مالًا وبلادًا، وقال: ما يحصل لك من محمد شاه شيء، وربما قَبَضَ عليك، وقيل: إنَّ كتاب نور الدين وصل إلى كوجك يقول: الواجب أن تَذهَبَ إلى تحت التَّاج، وترمي نفسك وتعتذر، ¬

_ (¬1) الغرائر جمع، مفردها الغرارة: وهي الجوالق، وهو وعاءٌ من أوعية الطعام البُرّ، والعامة تقول: شوال. انظر "معجم متن اللغة": 1/ 607، 4/ 281، وكانوا قد حشوا هذه الغرائر حصى ورملًا ليسدوا الخندق. انظر "المنتظم": 10/ 172.

وإلّا قصدتُ المَوصل وأخربتها ونزلتُ بغداد، وأين ما كنت قَصَدتُك. وقيل: إنَّ ابن هُبيرة كان يُنْشئ كلَّ يومٍ مكاتباتٍ على لسان مَنْ بهَمَذَان من الأُمراء، ويعطيها للرِّكابية فيوصلونها إليهم بأَلطف حيلة بأنها قد وردتنا من هَمَذَان، وكُتُب من الأُمراء الذين مع محمد إلى ملك شاه فيوصلونها إليهم، حتى بلغ من أمره أنه أعطى ركابيًّا كُتُبًا، وقال له: اجعلها في ثيابك، واقْرُبْ من عبيدهم، واخلعْ ثيابك، ودعْها على جانب دِجْلة، واسبحْ إلى الجانب الشَّرقي. فَفَعَلَ، وجاء أصحابُ محمد فرأوا الثِّياب فقالوا: قد غَرِق صاحِبُها، نَزَلَ يسبح وبقيتْ هذه. ففتَّشوها، فظهرت الكتب، فحملوها إلى محمد شاه وهي من ملك شاه إلى أُمراء محمد شاه يقول: اعبروا إلى الجانب الشَّرقي في اليوم الفلاني، فأنا واصِل، وأمسكوا محمد شاه. فقال محمد شاه: وأين الذي كانت معه هذه الكتب؟ فقالوا: غرق وبقيت ثيابه. فتخيَّل من أُمرائه، فرحل. وفيها قدم بغداد ابنُ الخُجَندي الفقيه، ومعه العالم الحنفي صاحب "التعليقة"، وخَرَجَ الموكب للقائهما. وفيها قدم أبو الوقت بغداد، وأَسمَعَ البخاري عن الدَّاوودي، وألحقَ الصِّغار بالكبار. وفيها كانت زلازلُ عظيمةٌ بالشَّام وحلب وحماة وشَيزَر وفامية وكَفرطاب والمعرَّة وحمص وأنطاكية وطرابُلس ودمشق وجميع العواصم، وهلك خَلْقٌ كثير حتى روي أَنَّ معلِّمًا كان بحماة في كُتَّابٍ، فقام من المكتب يقضي حاجة ثم عاد، وقد وقع المكتب على الصِّبيان، فماتوا بأَسْرهم، [وأعجب من هذا أنَّه لم] (¬1) يأتِ أحدٌ يسأل عن صبيِّ كان له في المكتب. ووقعت أبراجُ القِلاع بحلب وغيرها، وهَلَكَ جميعُ من في شَيزَر إلا امرأةً واحدة وخادمًا، وساخت (¬2) قلعةُ فامية، وانشقَّ تل حَرَّان نصفين، وظهر فيه بيوتٌ وعمائر [و] نواوشى (¬3)، وانشقَّ في اللاذقية موضع، فظهر فيه صَنَمٌ قائمٌ في الماء، وخَرِبَتْ صيدا وبيروت وطرابُلُس وعكَّا وصور، وجميعُ قِلاع الفرنج، فقال الصَّالح بن رُزِّيك يعرِّضُ بما نال أهلَ الشَّام والفرنج: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): فماتوا بأسرهم، فلم يأت أحد، والمثبت من (م) و (ش). (¬2) أي غاصت. "معجم متن اللغة": 3/ 242. (¬3) النواويس جمع، مفردها الناووس: مقابر النصارى، "معجم متن اللغة": 5/ 574، وما بين حاصرتين ممن (م) و (ش).

كرِه الشَّامُ أَهْلَهُ فنفاهمُ ... فحقيقٌ أَن لا يقيمَ لبيبُ إنْ تجلَّت عنه الحروبُ قليلًا ... خلَّفتها زلازِلٌ وخُطُوبُ رَقَصَتْ أَرضُهُ عَشِيَّةَ غنَّى الر ... عدُ في الجوِّ والكريمُ طَروبُ وتَثَنَّتْ حِيطانُها فأمالتْـ ... ــــــــــها شَمالٌ بزمرِها وجَنُوبُ لا هُبُوب لنائمٍ قد أنامَتـ ... ـــــــــــهُ والعاصفاتُ فيها هُبوبُ وأرى البَرقَ شامتًا ضاحِكَ السِّـ ... ــــــــــــنِّ والجوُّ بالغمام قَطُوبُ ذكروا آيةً تذوبُ بها السُّحْـ ... ــــــــــــب فما للصُّخور منها تَذْوب (¬1) قال المهذَّب بن الزُّبير (¬2) يخاطب الصّالح بن رُزِّيك في الزَّلزلة: [من الكامل] ما زُلْزِلَتْ أرضُ العِدى بل ذاكَ ما ... بقلُوبِ أَهليها من الخَفَقانِ وأظنُّ أَنَّ حصونَهُمْ سَجَدَتَ لما ... أُوتيتَ من مُلكٍ ومن سُلْطانِ والنَّاسُ أَحْرى بالسُّجودِ إذا غدا ... لعلاك يَسجُدُ شامخُ الجُدرانِ (¬3) وكان الصَّالح بن رُزِّيك قد خرج من مِصر بعساكرها إلى السَّاحل، وساعده نورُ الدِّين، فالتقوا على غزَّة، فكانت الدَّبرة (¬4) على الفرنج، فلم يُفلت منهم أحد، فقال الجليس يخاطب الصَّالح بن رُزيك: [من البسيط] رُعْتَ الفرنجَ بكسرٍ لا انجبارَ له ... ذلَّتْ له بعدما عَزَّت جبابِرُها حاشَت جنودُك بَرَّ المشركين فما ... ينفكُّ من بعد مَرْماها يُغادِرُها وقال شاعر دمشقي في الزلزلة (¬5): [من الخفيف] روَّعَتْنا زلازلٌ حادثاتٌ ... بقضاءٍ قَضَاه رَبُّ السَّماءِ ¬

_ (¬1) القصيدة في "ديوان أسامة بن منقذ": 7، 153، 164، 296 مع اختلاف في بعض ألفاظها، وقد ساقها كذلك أبو شامة في "كتاب الروضتين": 1/ 338 - 339. (¬2) هو أبو محمد الحسن بن علي بن الزبير المتوفى سنة (561 هـ)، انظر ترجمته في "الخريدة" قسم شعراء مصر 1/ 204 - 225، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) انظر الأبيات في "الخريدة" قسم شعراء مصر: 1/ 210، وقد ساق منها مقاطع طويلة، وانظر "الروضتين": 1/ 26 - 27. (¬4) الدبرة: الهريمة في القتال. "معجم متن اللغة": 2/ 372. (¬5) في (ع): وقال أيضًا، والمثبت من (ح).

هَدَمَتْ حِصنَ شَيزَرٍ وحماةً ... أهلَكَتْ أَهلَها بسوء القضاءِ وبلادًا كثيرةً وحُصُونًا ... وثغورًا موثَّقات البناءِ وإذا ما رَنَتْ عيونٌ إليها ... أَجْرتِ الدَّمْعَ عندها بالدِّماءِ (¬1) وإذا ما قضى من الله أمرٌ ... سابقٌ في عباده بالمَضَاءِ حار قلبُ اللَّبيبِ فيه ومَنْ كا ... نَ له فِطْنَةٌ وحُسنُ ذكاءِ جَلَّ ربي في مُلكه وتعالى ... عن مقالِ الجُهَّال والسُّفهاءِ وفيها ملك نور الدين [محمود] (¬2) حصن شَيزَر، وزال ملك بني منقذ الكِنانيين. ذِكرُ أَيَّامهم: قد ذكرنا (¬3) أَنَّ الأمير أبا الحسن عليَّ بن المقَلَّد بن نَصر بن منقذ ملكها سنةَ أربع وسبعين وأربع مئة، وتوفِّي سنةَ تسع وسبعين، وملكها ولده نَصر بنُ علي، وكان حَسَنَ السِّيرة، ولما احتُضر أوصى إلى أخيه أبي سلامة مُرشد بنِ علي فقال: والله لا وَليتُها، ولأخرجَنَّ من الدُّنيا كما دخلتُ إليها. وولاها أخاه أبا العساكر سلطان بن علي، وكان أصغر سِنًّا منه، فاتفقا مدَّة على أحسن صحْبة، فولد مرشد أولادًا ذكورًا، فكَبِروا، وسادوا، منهم: عِزّ الدَّولة أبو الحسن علي ومؤَيَّد الدولة أُسامة ابنا مُرْشد، وكانوا على ما قيل عشرين ولدًا، ولم يولد لسلطان ولدٌ ذكر إلى أن عَلَتْ سِنُّه، فجاءه أولادُه صغار، فحسد أخاه مُرْشدًا على أولاده، وخاف على أولاده الصِّغار منهم، وكانا فاضِلَين يقولان الشِّعْر، وسعى الوشاة بينهما، فتغيَّر كلُّ واحد منهما على صاحبه، والأمر بينهما مستورٌ إلى سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة، فمات مرشد، فقوي أخوه سُلْطان على أولاد أخيه، فأخرجهم من شَيزر. وحكى مؤيد الدَّولة أسامة بن مرشد سبب إخراجهم، فقال: كنتُ من الشجاعة والإقدام على ما قد عَلِمَه النَّاس، فأُخبرت أَنَّ بدَخَلةٍ (¬4) قَريبة من شَيزر أسدًا ضاريًا، فركبتُ فرسي، وأخذتُ سيفي، ولم أُخبر أحدًا من النَّاس لئلا يمنعوني عنه، فلما أتيتُ الدّخلة (4) نزلتُ ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): بالبكاء، والمثبت من "ذيل تاريخ دمشق": 527، و "الروضتين" 1/ 333، والأبيات فيهما. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في حوادث سنة (474 هـ). (¬4) في (ع) و (ح): بدجلة -بالجيم- وإخالها دخلة -بالخاء- وكأنها بمعنى الأجمة، لأن الدخل: الشجر الملتف. "معجم متن اللغة": 2/ 388.

عن فرسي، وربطتُها، وشَهَرَتْ سيفي، فلمَّا رآني الأسد حَمَلَ عليَّ، فضربتُه بالسَّيف على رأسه، فقتَلتُه، ثم قطعتُ رأسه، وتركتُه في مخلاة وعدتُ إلى شَيزر، فألقيتُ الرأس بين يدي والدتي، وحدَّثتُها الحديث، فقالت: يا بنيَّ، تجهَّز للخروج من شَيزر، فوالله لا يمكِّنك عَمُّك من المقام فيها، ولا لأحدٍ من إخوتك وأنتم على هذه الحال من الإقدام والجُرْأة. وبلغ عَمِّي، فأمر من الغد بإخراجنا كلِّنا، فتفرَّقْنا في البلاد، وقَصَدْنا نورَ الدين (¬1) لينجدنا على عَمِّنا، فلم يمكنه قصده خوفًا أن يسلِّم الحِصن إلى الفرنج. ثم توفي سُلطان وولي أولاده، فكاتبوا الفرنج، وبلغ نور الدين، فازداد عليهم حنقًا، واتفق مجيء الزَّلازل، فهدمت الحصن، وهَرَبَ أولاد عَمِّي سُلْطان، فجاء نور الدِّين، فوقف عليها وعمرها أحصن ما كانت، وهي مدينة حصينةٌ على حَجَرٍ عالٍ، وله طريقٌ منقور في الجبل في طرفه، وله جسر خشب، فإذا قُطع تَعذَّر الوصول إليه، والعاصي خندقه. وقال العماد الكاتب: الأُمراء بنو منقذ الكنانيون ملوكُ شَيزر، أهل المجدِ والحَسَب، والفَضْلِ والأدب، والسَّماحة والفصاحة، والحماسة والحراسة، والإمارة والرِّياسة، اجتمعت فيهم أسباب السِّيادة، ولاحت من سيرتهم أسرار السَّعادة، وخلفوا المجدَ أولًا كآخر، وورثوا الفَضْلَ أصاغر عن أكابر، فأما الأدبُ فهم شموسُه المشرقة، ورياضُه المُوْنِقة، وحياضُه المُغدِقة، وأمّا النَّظْمُ فهم فُرْسان ميدانه، وشجعان فرسانه، وأرواح جُثْمانه، وما زالوا مالكي شَيْزر، معتصمين بحصانتها، ممتنعين بممانعتها حتى جاءت الزَّلزلة في سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، فخرَّبت حِصنها، وأذهبَتْ حُسْنها، وتملَّكها نورُ الدين، فأعاد بناءها، وهذَّب أبناءها، وتشعَّبوا شُعَبا، وتفرَّقوا تفرقَ أيدي سبا (¬2). وحجَّ بالنَّاسِ من العراق قيماز. ¬

_ (¬1) هذه الرواية ساقها ابن الأثير في "الباهر": 112 وفيها: فقصدوا الملك العادل نور الدين. فقوله هنا: "وقصدنا نور الدين" على أنها من تتمة قول أسامة، فيه لَبْس، وكلا العبارتين خطأ، لأن أسامة حين خرج هذه المرة من شيزر وهي سنة (532 هـ) قصد دمشق، وأقام بها ثماني سنين، ثم رحل منها إلى مصر سنة (539 هـ)، ولم يكن نور الدين قد ملك بعد، وقد اتصل أسامة بنور الدين بعد عوده من مصر سنة (549 هـ). انظر "الاعتبار" لأسامة بن منقذ: (27 - 29) (طبعة السامرائي)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر: 2/ 702، وانظر "الروضتين": 1/ 355، 2/ 432. (¬2) انظر "سنا البرق الشامي": 1/ 226 - 227، و"الروضتين": 2/ 432 - 433.

أحمد بن عمر أبو الليث السمرقندي الحنفي

وفيها توفي أحمد بن عمر أبو الليث السَّمَرْقَندي الحنفي (¬1) كان حسنَ السَّمت، وصنَّف التَّصانيف الحِسان، وحَجَّ وعاد إلى بغداد، وودَّع الناس، وأنشد: [من مخلع البسيط] يا عالم الغَيْب والشَّهادَه ... منِّي بتوحيدك الشَّهادَهْ أسأَل في غُربتي وكَرْبي ... منك وفاتي على الشَّهادَهْ وخرج في قافلةٍ، فلمَّا كان قريبًا من قُومِس، قَطَعَ قومٌ الطَّريق على القافلة، وقتلوا جماعةً من العلماء، وقتلوه شهيدًا، رحمه الله. أحمد بن المبارك بن محمد بن عبد الله (¬2) ولد سنة اثنتين وثمانين وأربع مئة، ومن شعره دوبيت: ساروا وأقام في فؤادي الكَمَدُ ... لم يَلْقَ كما لقيتْ منهم أَحَدُ شوقٌ وجَوًى ونارُ وَجْدٍ تَقدُ ... ما لي جَلَدٌ ضَعُفْتُ ما لي جَلَدُ (¬3) وقال: [دوبيت] هذا ولهي وكم كَتَمْتُ الولها ... صَوْنًا لحديثٍ منْ هوى النَّفْس لها يا آخِرَ محنتي ويا أوَّلها ... أيامُ عنائي فيك ما أطولَها (¬4) ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 177، و"الجواهر المضية": 1/ 226 - 228، و"النجوم الزاهرة": 5/ 326، و"الطبقات السنية": 1/ 481 - 483، و"الفوائد البهية": 29. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 383 - 386، "وفيات الأعيان": 4/ 227 - 228، و"الوافي بالوفيات": 7/ 303 - 304، و"طبقات الشافعية" للإسنوي: 1/ 488، و"النجوم الزاهرة": 5/ 326، وقد ذكر العماد وابن خلكان أنه توفي سنة (552 هـ) أو (553 هـ). وكان شاعرًا ماهرًا. وهو أخو الفقيه الشافعي محمد بن المبارك، وقد ترجم له ابن الجوزي في "المنتظم" 10/ 179 - 180 و "ابن خلكان في "وفيات الأعيان": 4/ 227، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 176 - 177، و"طبقات الشافعية" للإسنوي: 1/ 486 - 487، و"الوافي بالوفيات" 4/ 381، وذكروا وفاته في سنة (552 هـ) كذلك. (¬3) "خريدة القصر": مج 1 / ج 3/ 384. (¬4) "خريدة القصر": مج 1 / ج 3/ 385، "وفيات الأعيان" 4/ 228 مع اختلاف في بعض الألفاظ، وروايته في "الوافي بالوفيات": 7/ 303 مثل رواية السبط، والصفدي غالبًا ما ينقل عنه دون أن يسميه.

الحسن بن جعفر بن حمزة، البعلبكي الأنصاري

الحسن بن جعفر بن حمزة، البَعْلبَكي الأَنْصاري (¬1) ويعرف بابن بُرَيك، من ولد النُّعْمان بن بشير، نَظَرَ في وقف جامع دمشق، ومن شعره: [من الطويل] أَحِنُّ إليكمْ كلَّما هَبَّتِ الصَّبا ... وأَسأَلُ عنكُمْ كلَّ غادٍ ورائحِ وأذكُرُ ذاكَ المَوردَ العَذْبَ منكُمُ ... فَيغْلِبُني ماءُ الجفونِ القرائحِ وكمْ ليَ منكُمْ أَنَّةٍ بعد زفرةٍ ... تُهيِّجُ وجْدًا كامنًا في الجوانحِ كأنَّ فؤادي قد تذكَّر ما مضى ... بقُربكمُ تَغتالُه (¬2) كفُّ جارحِ وقال: [من الطويل] بقلبيَ داءٌ من فِراقِ الحبائِبِ ... أَمرُّ مذاقًا من هجومِ المصائِبِ وفي كبدِي من لوعةِ البَينِ حرمةٌ ... لها في الحشا وخْزٌ كلدغِ العقارِب فهل لفؤادي من جَوى البَينِ راحةٌ ... أُبَرِّدُ أَشْجاني بها ومشاربي فما ليَ والدَّهْرَ الخؤونَ كأنَّما ... جَنَيتُ فجازاني ببُعدِ الأقاربِ أبي الدَّهْرُ إلا شَتَّ شَمْلي وفُرقةً ... وروعةَ مَصحوبٍ لغيبةِ صاحِبِ حَبَانيَ من بعدِ الأَخِلاء جَفْوةً ... ولا سيَّما كون الحسودِ مُناصبي سأطلبُ وَصلًا أو أموتُ بحَسْرَةٍ ... فَيَحمدُني بعد المذلَّة عائبي سقى الله مَغْنى من شقيتُ لبينهمْ ... من الوابلِ الوَسْميِّ أَعْذَبَ صايبِ وقفتُ به أَذْري دموعًا كأنَّما ... تحدَّرُ سُحْبًا من جُفُون السَّحائبِ وكَمْ لي بِهِ منْ أَنَّةٍ بعد وقْفةٍ ... يَرِقُّ بها لي كلُّ ماشٍ وراكبِ يقولون صَبرًا علَّ ذا البَين ينقضي ... ويَسْعَدُ مُشتاقٌ برؤية آيبِ لعَمْريَ ما صَبْري مفيدِيَ راحةً ... ولكنَّه للبَينِ ضَربةُ لازِبِ سهامُ الرَّزايا دَهْرَها ترشُقُ الورى ... وجُمْلَتُها ما بين مُخْطٍ وصائِب يزيدُ غرامي كلَّما هَبَّتِ الصَّبا ... وأَصبُو إليكُمْ يا مُنى كلِّ طالبِ (¬3) ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": 4/ 420 - 422، و"مختصره" لابن منظور: 6/ 323 - 325. (¬2) كذا في (ع)، وهي كذلك في تاريخ "ابن عساكر"، وفي (خ) كتب تحتها بخط دقيق: فاغتاله، إشارة إلى أنها نسخة. (¬3) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر".

السلطان سنجر بن ملك شاه

وقال أيضًا من شعره: [من مجزوء الرمل] قابلِ البَلْوى إذا حَلَّـ ... ــــــــــتْ بصَبْرٍ ومَسرَّهْ فلعلَّ الله أنْ يو ... ليكَ بعد العُسْرِ يُسْرَهْ كم عَهِدْنا نكبةً حلَّـ ... ـــــــــــــتْ فولَّتْ بعد فتره لن ينال الحازمُ النَّدْ ... بُ (¬1) مُنَى نَفسٍ بقُدْرَهْ لا ولا يَدْفَعُ عنهُ ... من صروفِ الدَّهرِ ذَرَّهْ كلَّ يوم لكَ من دُنْـ ... ياكَ بُؤْسٌ وَمَضرَّهْ والليالي ناتجاتٌ ... للورى هَمًّا وفِكْرَهْ (¬2) وكانت وفاتُه ببَعلبك في المحرَّم. السُّلْطان سنجر بن ملك شاه (¬3) ابن ألب رسلان، أبو الحارث، وقيل اسمه أحمد، ويسمَّى بسنجر، لأنَّه ولد بسِنْجار في رجب سنة تسع وسبعين وأربع مئة حين توجَّه أبوه إلى غَزْو الرُّوم (¬4)، ونشأ ببلاد الخَزَر، وسكَنَ خُراسان، واستوطن مَرْو، وكان قد دخل بغداد مع أخيه محمد على المستظهر بالله، قال سنجر: لما وقفنا بين يديه ظن أَنِّي أنا السُّلْطان، فافتتح كلامه معي، فخدمتُ وقلتُ: يا مولانا أميرَ المؤمنين السُّلْطان هو أخي. وأشرتُ إلى محمد، ففوَّض إليه السَّلْطنة، وجعلني ولي عهده. فلما مات محمد خوطب سنجر بالسَّلْطنة، واستقام أمره، وكان عادلًا، وجلس على سرير الملك إحدى وأربعين سنة، وكان قبلها في مُلكٍ نحوًا من عشرين سنة، وخُطِبَ ¬

_ (¬1) الندب: الخفيف في الحاجة. "اللسان" (ندب). (¬2) في "تاريخ ابن عساكر": وحسره، والأبيات فيه. (¬3) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق" 528، و"الأنساب": 7/ 159، و"المنتظم" 10/ 178، "مختصر تاريخ دولة آل سلجوق": 236 - 259، "الكامل": 11/ 222 - 223، و"الروضتين": 1/ 359 - 360، و"وفيات الأعيان" 2/ 427 - 428، "الوافي بالوفيات": 15/ 471 - 472، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 362 - 365، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) ذكر السمعاني في "الأنساب": أن العادة عند الأتراك أنهم يسمون أولادهم بأسماء المواضع.

عبد القاهر بن علي بن أبي جرادة

له على عامَّة منابر الإسلام، وأسره الغُزُّ أربع سنين، ثم خَلَصَ، فجَمَعَ إليه أطرافَه بمَرْو، وكاد مُلْكُه يرجع إليه، فأدركَته المنيَّة يوم الاثنين رابع وعشرين ربيع الأول، ودفن بمرو في قُبَّةٍ بناها لنفسه سماها دار الآخرة. وقال أبو سَعد بنُ السَّمْعاني: دخلنا عليه في مَرَضِ موته في جماعةٍ من العُلَماء والمحدِّثين، فصافَحَنا بكلتا يديه، وسأَلنا الدُّعاء، وقال كلامًا بالفارسية معناه: ما يفي هذا بذاك. وبكى وبكينا لبكائه، ودُفِنَ في قُبَّته بمرو في مدرسته التي بناها. وقيل: إنَّه مات بتِرْمِذ. وروى الحديثَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأصابه صَمَمٌ في آخر عمره، ولما بلغ خبره إلى بغداد قطعوا خُطْبته، ولم يقعدوا له في العَزَاء، فقعدت امرأةُ سليمان شاه له يومًا، فبعث الخليفة، فعزاها فيه، وأقامها من العزاء، واستقرَّ المُلْك بعده لابنِ أخيه أبي القاسم محمود بن محمد بن ملك شاه (¬1). عبد القاهر بنُ عليّ بن أبي جَرَادة (¬2) أبو البركات (¬3)، مخلِّص الدِّين الحلبي. كان فاضلًا أمينًا على خزائن نور الدِّين محمود بن زنكي، وتوفِّي بحلب في رمضان. علي بن مَرْضي بن علي (¬4) أبو الحسن، المَعَرِّي التَّنُوخي. ¬

_ (¬1) كذا قال، وهو وهم، إذ إن محمودًا هذا توفي سنة (525 هـ)، ولعل المراد هو محمود بن محمد الخان ابن أخت السلطان سنجر، فقد ولي خراسان عقب سنجر، وخلع سنة (557 هـ)، انظر "مختصر تاريخ دولة آل سلجوق": 259، "الكامل" لابن الأثير: 11/ 272 - 273. (¬2) له ترجمة في "ذيل تاريخ دمشق": 528 - 529، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 219 - 223، و"معجم الأدباء": 16/ 16 - 19، و"الروضتين": 1/ 360، و"الوافي بالوفيات": 19/ 49. (¬3) في (ع) و (ح): أبو المبرد، وهو تحريف، والمثبت من مصادر ترجمته. (¬4) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": 12/ 542 - 544، و "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 49.

محمد بن عبد اللطيف بن محمد

سكنَ دمشق، وعاد إلى حماة، فمات في الزَّلْزلة، ومن شِعْره: [من مجزوء الكامل] لا تُقْدِمَنَّ على المظا ... لِمِ واقصِ عنك الظُّلمَ بُعدا فالدَّهْرُ قد يُعدِي على ... مَنْ كان فيه قد تعدَّى (¬1) محمد بن عبد اللطيف بن محمد (¬2) ابن ثابت، أبو بكر الخُجَنْدي، صَدْر الدِّين، من بيت الرِّياسة والفَضْل والتَّقْدمة بأصبهان. قَدِمَ بغداد، ودَرَّس بالنِّظامية، ووعظ بها، وكان يجلس وحوله السُّيوف، وهو أشبه بالوزراء منه بالعلماء، وكان الملوك يَصدُرون عن رأيه. خرج من بغداد يريد أصبهان، فبات بقريةٍ، فأصبح ميتًا في شوَّال، وحُمِلَ إلى أصبهان. محمد بن عُبيد الله، أبو بكر بن الزَّاغُوني (¬3) ولد سنةَ ثمانٍ وستين وأربع مئة، وقرأ القرآن، وسَمِعَ الحديث، وكانت وفاتُه في ربيع الآخر، ودُفِنَ عند أخيه (¬4) بباب حَرْب. محمد بن أبي الهيجاء الأصبهاني (¬5) قَدِمَ بغداد أيَّام المقتفي، فولاه عَرْضَ العساكر، وكان ذا دهاء، ومن شعره: [من الطويل] إذا لم أَنَلْ في دولة المَرْءِ غبطةً ... ولم يَغْشَني إحسانُه ورعايتُهْ فسِيَّان عندي موتُه وحياتُه ... وسِيَّان عندي عَزْلُه وولايتُه (¬6) وكانت وفاته ببغداد. ¬

_ (¬1) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر". (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء أصبهان: 1/ 242 - 245، و"المنتظم": 10/ 179، و"الكامل": 11/ 228، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 133 - 134 و "سير أعلام النبلاء": 20/ 386 - 387، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 179، و "معجم البلدان": 3/ 127 - وفيه وفاته سنة (551 هـ) - و"سير أعلام النبلاء": 20/ 278 - 297، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) هو علي بن عبيد الله، المتوفى سنة (527 هـ)، وقد سلفت ترجمته في وفياتها. (¬5) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء أصفهان: 1/ 139 - 140، و "الوافي بالوفيات": 5/ 170. (¬6) الأبيات في "الخريدة": 1/ 140.

يحيى بن عيسى بن إدريس، أبو البركات الأنباري

يحيى بن عيسى بن إدريس، أبو البركات الأنباري (¬1) قرأ القرآن، وسَمِعَ الحديث، [وقرأ الأدب على الزّبيدي] (2)، وتفقه [على القاضي الحرَّاني] (2) وكان يعظ، فمن حين يَطْلُعُ المنبر إلى حين ينزل [الأرض] (2) لا يزال يبكي، وتعبَّد في زاويته خمسين سنة، وكان وَرِعًا، عَطِشَ يومًا فجيء بماءٍ [بارد] (2) من دور بعض القُضَاة، فلم يشرب. وكانت له كراماتٌ، ودُعاء مستجاب، و [كانت له] (2) زوجة صالحة، فكانا يصومان الدَّهْر، ولا يُفْطران إلى بعد العشاء، وأولدَها أربعة أولاد، فسمَّاهم بأسماء الخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وكانت وفاتُه في ذي القَعدة، فقالت زوجته: اللهم لا تبقني بعده. فعاشت خمسة عشرة يومًا وماتت، وكانت قارئةً للقرآن، وأقرأته هي ويحيى لأولادهم، [سمع يحيى من عبد الوهَّاب الأنماطي وغيره] (2). أبو العلاء بن [أبي] (¬2) النَّدى المَعَرّي (¬3) كان شابًّا فاضلًا، [له مقطعات من الشعر] (2)، اخترمته (¬4) المنية، وله خمس وعشرون سنة، في الزَّلْزلة. وقيل: توفي سنة إحدى وخمسين [وخمس مئة] (2). ومن شعره في وصف شريفٍ لقبه بهاء الدِّين: [من الكامل] من أين كان لكُنَّ يا حَدقَ المَهَا ... عِلْمٌ بنَفْثِ السِّحْرِ في عُقَدِ النُّهى أَمْ مَنْ أعانَ البانَ في مُهَجِ الورى ... فَتْكًا فأصبحَ بالقنا مُتَشَبها يبدو بوَجْهٍ كلَّما قابَلْتَه ... أهدى إليك من المحاسنِ أَوْجُها فله على القمر المنير فضيلةٌ ... كفضيلةِ القمر المُنيرِ على السُّها البَدْرُ يَقصُر أَنْ أُشَبِّهَهُ به ... والشَّمسُ تَصغُرُ أَنْ أُشَبِّهَهُ بها أنتمْ بني الزَّهراءِ أَهْلُ الحُجَّةِ الز ... هْراءِ إنْ فَطِنَ المعانِدُ أَوسها فإلامَ يُجحدُ في البَرِيَّة حقُّكمْ ... قدآنَ للوَسْنان أَنْ يَتَنَبَّها ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 180 - 181. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 71 - 74. (¬4) في (ش) احتوشته.

السنة الثالثة والخمسون وخمس مئة

ماذا أقولُ وما لوَصفِ علاكُمُ ... حَدٌّ ولا لنُهاكُمُ من مُنتهى منكُمْ بدا الشَّرفُ الرَّفيعُ جميعُهُ ... وإلى بهاءِ الدِّين بعدكُمُ انتهى (¬1) وقال أيضًا: [من البسيط] لا غَرْوَ إن كان مَنْ دوني يفوزُ بكم ... وأَنْثني عنكُمُ بالوَيلِ والحَرَب يُدْنى الأراكُ فَيُمْسي وهو مُلْتثمٌ ... ثَغْرَ الفتاةِ ويُلْقى العُودُ في اللَّهَبِ (¬2) وقال في مروحة (¬3): [من المتقارب] وقابضةٍ بعنانِ النَّسيمِ ... تُصَرِّفُه كيفَ شاءَتْ هُبوبا إذا أقبلَ القَرُّ كانتْ عدوًّا ... وإنْ أقبلَ الصَّيفُ كانت حبيبا (¬4) السَّنة الثالثة والخمسون وخمس مئة فيها اتَّفق محمد شاه، وأخوه ملك شاه، وأمدَّه بعسكرٍ، فسار إلى خُوزستان ففتحها، وأبعد عنها شملة التُّرْكماني. وخَرَجَ الخليفةُ إلى مشهد الحسين عليه السَّلام، فزاره، وأحسن إلى المقيمين به، ومضى إلى واسط، وأزال المكوسَ عنها، ونَظَر في أمر الرَّعية، وعاد إلى بغداد، وخَلَعَ على قويدان، وبعثه إلى بلاد البقش، فنافق، ومضى إلى ملك شاه، وقَبَضَ الخليفة على منكورس نائب السُّلْطان سنجر ببغداد، واستصفى أمواله، وأموال سنجر، وكانت عظيمةً. وفيها نازل نورُ الدِّين قلعة حارم، وأقام عليها أيَّامًا، فلم يَقْدر عليها، فرحل عنها، ثم عاد بعد ذلك، فحصرها وفتحها، [وسنذكره] (¬5). وفي سَلْخ صفر نزلتِ الفرنج على داريَّا، فأحرقوها ونهبوها، وكانوا جاؤوا بغتةً، وخرج إليهم أحداثُ دمشق فقاتلوهم، فأقاموا إلى الليل ورحلوا، وأحرقوا جامعها، وعادوا على الأقليم. وحَجَّ بالنَّاس قيماز. ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": 2/ 71 - 72 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬2) الأبيات في "الخريدة": 2/ 72 - 73. (¬3) في (م) و (ش): ومن شعره في مروحة. (¬4) البيتان في "الخريدة": 2/ 73 من جملة أبيات مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬5) ما بين حاصرتين من في (م) و (ش)، وانظر حوادث سنة (559 هـ).

أحمد بن إسماعيل بن أحمد

[قال جدي: كنت في الحج، وتكلمت في مكة والمدينة، ووقفت العرب للحجِّ في الطريق، فسار بنا الدَّليل على طريق خَيْبر، فرأيت من الجبال وغيرها العجائب (¬1). قلتُ: رحمه الله، ما رأى جبل لبنان ولا جبل الثَّلْج، ولا عَقَبَة فِيْق وإبريق وأَيلة (¬2) وغيرها] (¬3). وفيها توفي أحمد بن إسماعيل بن أحمد (¬4) أبو علي المكين، العارض، الأَصبهاني، وزير يرنقش الزَّكوي (¬5)، ثم صار عارِضَ جيش مسعود، وترشح لوزارته، فقصده وزيره، فلحق بخراسان، وأقام عند سنجر، فلمَّا تَمَّ على سنجر ما تم (¬6)، عاد إلى أصبهان، وأقام بها، ووقف كُتُبَه بجامعها، ومن شعره: [من الكامل] إني وإنْ شَطَّ المَزَارُ وبدَّدَتْ ... أيدي النَّوائِبِ شَمْلَنا المَنْظُوما لم أَخْلُ من حُسْنِ الثَّناء عليكُمُ ... مُذْ غبتُ عنكم ظاعِنًا ومقيمًا (¬7) وكانت وفاتُه بأَصبهان، وهو شيخٌ كبير. ومدحه إسماعيل ابن أبي نَصر بن عَبْديل الأصبهاني (¬8)، فقال: [من المجتث] لله شِعْبُ البِطاحِ ... مغروزًا بالأقاحي رياضُهُ بالنُّعامى ... مُعَطَّراتُ النَّواحي ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم": 10/ 182. (¬2) جبل لبنان معروف، وجبل الثلج هو جبل حرمون المعروف بجبل الشيخ، وعقبة فيق هي التي يشرف منها على طبرية وبحيرتها، وأيلة هي على البحر الأحمر، وتعرف بإيلات. أما إبريق فلم أقف عليها. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء أصفهان: 1/ 140 - 141، و"الوافي بالوفيات": 6/ 252 - 253، وفيه وفاته سنة (541 هـ). (¬5) في (ع) التركي، وفي (ح) الركني، وكلاهما تحريف، ويرنقش هذا كان صاحب أصفهان، وكان أيضًا شحنة بالعراق، وهو خادم أرمني لبعض التجار، وقد سلفت أخباره فيما سلف، وتوفي سنة (540 هـ)، وانظر "الكامل" لابن الأثير: 11/ 106. (¬6) يعني انهزام سنجر من الغز، وأخذه أسيرًا، وقد سلف ذلك في حوادث سنة (548 هـ). (¬7) البيتان في "خريدة القصر": 1/ 141. (¬8) شاعر أصبهاني، توفي سنة (543 هـ)، وقد ترجم له العماد الكاتب في "الخريدة" قسم شعراء أصبهان: 1/ 141 - 144 وقال فيه: كان من أشعر شعراء أصبهان وأفرههم، وعنه نقل الصفدي في "الوافي بالوفيات": 9/ 231 - 233.

عبد الأول بن عيسى

يسيل في ساحتَيها ... سَلْسالُ ماءٍ قَرَاحِ وأيكةُ الوَرْدِ تُزْهي ... بخاطباتٍ فِصاحِ وللغُصُونِ اختيالٌ ... مِثْلُ اختيالِ المِلاحِ والنَّرْجِسُ الغَضُّ يحكي ... أَعْطافَ سكرانَ صاحِ عزائمٌ هي أمضى ... من القَضَاءِ المُتاحِ لمَّا مدحتُ عُلاه ... قَرَعْتُ بابَ النَّجاحِ قد رامَ شأوَك قومٌ ... فما احتَظَوْا بفلاح أَأَعْزلٌ يتمنَّى ... إقدامَ شاكي السِّلاحِ (¬1) عبد الأَوَّل بن عيسى (¬2) ابن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق، أبو الوقت، الهَرَوي المَنْشأ، السِّجزي (¬3) الأصل. ولد سنة ثمانٍ وخمسين وأربع مئة، وحمله أبوه من هَرَاة إلى بُوشَنْج (¬4) على [عاتقه] (¬5)، فسمع "صحيح البخاري" وغيره. وقَدِمَ بغداد، فألحق الصِّغار بالكبار، وكان كثير التَّعبد والتهجُّد والبكاء، على سَمْتِ السَّلَف، وعَزَمَ على الحج في هذه السنة، وهيّأ ما يحتاج إليه، فأصبح ميتًا. قال أبو عبد الله [محمد بن] (¬6) الحسين التكريتي: أَسْنَدْتُه في مرضه إليَّ، فكان آخرَ كلمةٍ قالها: {يَاليتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26، 27]. ودُفِنَ بالشُّونِيزية عن نيف وتسعين سنة. ¬

_ (¬1) الأبيات في "خريدة القصر": 1/ 142 - 143. (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 7/ 47، "المنتظم": 10/ 182 - 183، و"مشيخة ابن الجوزي": 74 - 76، و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 239، و"اللباب": 2/ 105، و"وفيات الأعيان": 3/ 226 - 227: و"سير الأعلام النبلاء": 20/ 303 - 311، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) نسبة إلى سجستان على غير قياس، وهي إحدى البلاد المعروفة بكابل، انظر "الأنساب": 7/ 47، و"بلدان الخلافة الشرقية": 372. (¬4) بين هراة وبوشنج عشرة فراسخ. انظر "معجم البلدان": 1/ 508. (¬5) في (ع) و (ح) عنقه. والمثبت ما بين حاصرتين من "المنتظم"، وهو الصواب. (¬6) ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 183، و"مشيخة ابن الجوزي": 75، والخبر فيهما.

عبد الرحمن بن مدرك

عبد الرَّحمن بن مُدْرِك (¬1) ابن علي، أبو سَهْل التَّنوخي. كان فاضلًا، شاعرًا، فصيحًا، قَدِمَ دمشق ومصر، وعاد إلى حماة، فأقام بها إلى أن توفي بها في الزَّلْزلة، ومن شعره: [من الوافر] كأنَّ دمشقَ أفلاكٌ تدورُ ... تلوحُ بها الشُّموسُ أو البدورُ وأيَّ محلَّةٍ قابلتَ منها ... رأيت كواكبًا فيها تدورُ (¬2) قال أبو اليُسْر شاكر بن عبد الله (¬3): كَتَبَ إليَّ أبو سَهْل من حماة وأنا بالمعرَّة: [من مجزوء الكامل] لا بُدَّ أَنْ أشكو الذي ... لاقيتُ من ألم الفِراقِ وأبثُّ وَجْدي ما استطعـ ... ـــــــــــــــتُ وطولَ وَجْدي واشتياقي فلعلَّ علَّامَ الغُيو ... بِ وخالقَ السَّبعِ الطِّباقِ يقضي لنا بتجمُّعٍ ... أبدًا على الأَيَّامِ باقِ ويعيدُ أيَّامَ المسـ ... ــــــــــــــــــــرَّةِ بالمَعرَّةِ والتَّلاقِ وعساه يأذَنُ لي إليـ ... ـــــــــها عن قريبٍ بانطلاقِ ما للمعرَّة مُشْبِهٌ ... في أرضِ مِصرَ ولا العِراقِ (¬4) قال أبو اليُسْر: فكتبتُ إليه: وقفتُ -أطال الله بقاء حضرة مولاي القاضي الأجل- على ما سَنَحَ به خاطره الشَّريف من نفائس دُرَره، وغرائبِ غُرره، فقلتُ عَجِلًا، وتنهدتُ مرتجلًا، وإن لم تكن مثل أبياته الوافية، ومعانيه الشَّافية، فقد لزمت الوزن والقافية: [من مجزوء الكامل] ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": 10/ 179 - 182، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 46 - 47، و "الوافي بالوفيات": 18/ 265 - 266. (¬2) البيتان في "تاريخ ابن عساكر": 10/ 179 مع اختلاف في بعض ألفاظه. (¬3) ولد في شيزر سنة (496 هـ)، وتولى كتابة الإنشاء لعماد الدين زنكي، ثم لابنه نور الدين، وتوفي في دمشق سنة (581 هـ)، وانظر "الروضتين": 2/ 29. (¬4) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر": 10/ 180.

محمد بن يوسف بن عمر

يا شاكيًا ألمَ الفِراقِ ... هيَّجْتَ وجَدْي واشْتياقي وقدَحْتَ زَنْدَ صبابتي ... أفما اتقَيتَ من احتراقي وأَفَضْتَ من تامور (¬1) قَلْـ ... ـــــــبي كالعقيقِ من المآقي قد نالني للبَين ما ... نال الهِلال من المُحَاقِ فاحْرِص بأنْ تُحيي وَلِيَّـ ... ــــــــــكَ عن قريبٍ بالتَّلاقِ من أبيات (¬2). محمد بن يوسف بن عمر (¬3) أبو عبد الله الكَفْرطابي، نزيل شيزر، ومن شِعْره: [من مجزوء الرجز] يا قوم خابَ مَطْلبي ... لا واخَذَ الله أبي لأَنَّه دَرَّسني ... أصنافَ عِلْمِ الأَدَب وعنده أَنِّي بها ... أحوي جزيلَ النَّشَب (¬4) فما أفادَتْني سوى ... حِرْفَةِ (¬5) أهلِ الأَدَبِ فليته دَرَّبني ... في الطِّينِ أو في الحطبِ وليتَهُ عَلَّمني ... صنعتَهُ وَهْو صبي زكالش (¬6) الحاكةِ لا ... مسائِلَ المُقْتَضَبِ (¬7) ¬

_ (¬1) التامور: الدم. "معجم متن اللغة": 1/ 407. (¬2) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر": 10/ 180 - 181. (¬3) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": 16/ 148، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 573 - 574: و"معجم الأدباء": 19/ 122 - 123، و"الوافي بالوفيات": 5/ 247 - 248، و"بغية الوعاة": 1/ 285، وفي "معجم الأدباء" وفاته سنة (453 هـ)، وفي البغية (153 هـ)، وكلاهما وهم. (¬4) النشب: المال والعقار. "للسان" (نشب). (¬5) الحرفة والحُرْف الاسم من قولك رجل محارف: أي منقوص الحظ، لا ينمو له مال. انظر "اللسان" (حرف). (¬6) هو غناء الحاكة، وقد استفدت ذلك من ترجمة أبي منصور بن نقطة المزكلش، المتوفى سنة (597 هـ)، فقد جاء في ترجمته أنه كان يزكلش في الأسواق: يعني ينشد كان وكان، وهو ضرب من المواليا في العامية البغدادية. انظر "المذيل على الروضتين": 1/ 114 - 115 بتحقيقي. (¬7) المقتضب هو من كتب أبي العباس محمد بن يزيد المبرد المتوفى سنة (285 هـ)، وقد طبع بالقاهرة بتحقيق العلامة محمد عبد الخالق عضيمة سنة 1966 م، وهو أحد أئمة العربية في زمانه.

محمود بن محمد بن مسلم الشروطي البغدادي

تبًّا لدَهْرٍ أصبحتْ ... صروفُه تلعبُ بي كأنَّه وليدةٌ ... لاعبةٌ باللُّعَبِ (¬1) وقال يهنِّئُ ابنَ مُنْقِذ صاحب شَيْزَر بمولود: [من البسيط] يا من هو الليثُ لولا حُسْنُ صوريهِ ... ومَنْ هو الغَيْثُ إلا أَنَّه بَشَرُ ومَنْ هو السَّيفُ إلا أَنَّ مَضْرِبَهُ ... لا يَنْثني ويَكِلُّ الصَّارِمُ الذَّكَرُ ومَنْ هو البحر إلا أَنَّ نائِلَهُ ... سَهْلُ المَرَامِ وهذا نَيلُه عَسِرُ هُنِّيتَ بالولدِ الميمونِ طائرُهُ ... وعاشَ في ظِلِّ عَيشٍ ماله قِصَرُ فقد تباشرتِ الخيلُ العِتاقُ به ... والمَشْرَفِيَّةُ والعَسَّالةُ السُّمُرُ عِلْمًا بأَنْ سوفَ يُوليها بخِدْمتِهِ ... فَخْرًا يُقصِّرُ عنه البَدْو والحَضَرُ أليسَ مولدُهُ فيكُمْ ومنشؤه ... منكُمْ وذلكَ فَخْرٌ دونه مُضَرُ لا زال عِزُّكُمُ ينمو ومَجْدُكُمُ ... يَسْمو وفَضْلكُمُ في النَّاس مُشْتَهِرُ (¬2) وكانت وفاته في رمضان محمود بن محمد بن مسلم الشروطي البغدادي (¬3) له ديوان، ومن شعره: [من الرجز] أَلِفتُها وللحُدا تغريدُ ... عن رامةٍ (¬4) إنْ وَصَلَتْ زَرُوْدُ (¬5) ولاحَ بَرْقٌ من ثَنِيَّاتِ الحِمى ... تُشِيمُهُ للأَعْيُنِ الرُّعودُ فمالتِ الأعناقُ منه طَرَبًا ... كما يُميلُ النَّاشِدَ المَنْشُودُ في كلِّ يومٍ للفراقِ روعةٌ ... وللرِّكابِ سائِقٌ غِرِّيد هيهاتَ يُخفي ما به مُتَيَّمٌ ... دموعُهُ بوجدِهِ شهودُ مجتمعُ الأضْدادِ من جُفُونِهِ ... بحرٌ ومِنْ أحشائِهِ وَقُودُ عادَ الهوى فليتَ أيامَ الصِّبا ... مِثْلُ الهوى كما مَضَتْ تعودُ ¬

_ (¬1) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر". (¬2) الأبيات في المصدر السالف. (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 1/ 292 - 307. (¬4) رامة: منزل في طريق مكة، بينه وبين البصرة اثنتا عشرة مرحلة. انظر "معجم البلدان": 3/ 18. (¬5) زرود: رمال بالبادية بطريق الحاج من الكوفة. انظر "معجم البلدان": 3/ 139.

رُدُّوا الصِّبا كرَدِّ طَرْفِ لحظةٍ ... إنَّ الصِّبا زمانُهُ حميدُ وخلِّصُوني مِنْ تكاليفِ الهوى ... إنَّ الهوى عذابُهُ شديدُ أَوْ لا فنادُوا ثُمَّ بيعوا مُهْجتي ... بنظرةٍ فيمن عسى يزيدُ (¬1) وقال في المشيب: [من الطويل] تعمَّمَ رأسي بالمشيبِ فساءَني ... وما سرَّني تَفْتيحُ نَوْرِ بياضِهِ وقد أبصرتْ عيني خطوبًا كثيرةً ... فلم أَرَ خَطْبًا أسودًا كبياضِهِ وكانت وفاة محمود في رجب. وقال أيضًا: [من الكامل] أعنِ العقيقِ سألتَ بَرْقًا أوْمضا ... أأقام حادٍ بالرَّكائِبِ أو مضى إنْ جاوز العَلَمَينِ من سِقْطِ اللِّوى ... بالعِيسِ لا أفضى إلى ذاك الفضا (¬2) وقال أيضًا: [من المديد] حَيِّ جيرانًا لنا رحلوا ... فَعَلوا بالقَلْبِ ما فعلوا رحلوا عنَّا فكم أَسَروا ... بالنَّوى صَبًّا وكمْ قَتَلُوا مَنْ لِصَبِّ ماتَ من كَمَدٍ ... طَرْفُهُ بالدَّمْعِ مُنْهَملُ فَهْو من شَدْوِ الهوى طَرِبٌ ... وَهْو من خَمْر الهوى ثمِلُ واقِفٌ بالدَّارِ يَسْأَلُها ... سَفَهًا لو يَنطِقُ الطَّلَلُ لو تُجيبُ الدَّارُ مُخْبرة ... أينَ حَلَّ القومُ وارْتحلوا لتشاكينا على مَضَضٍ ... نحن والأوطانُ والإبلُ غَرَّدَ الحادي بِبَينهُمُ ... فله يومَ النَّوى زَجَلُ يا شموسًا في القِباب ضحًى ... حَجَبَتْها دوننا الكِلَلُ (¬3) عُجْنَ بالصَّبِّ المَشُوقِ فقد ... شَفَّه يومَ النَّوى خَبَلُ (¬4) ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": ج 1/ 299 - 301. (¬2) البيتان في "الخريدة": ج 1/ 297. (¬3) الكلل جمع، مفردها الكِلَّة: وهي ستر رقيق يتوقى به من البعوض. "معجم متن اللغة": 5/ 96. (¬4) الأبيات في "الخريدة": 1/ 298 مع اختلاف في بعض الألفاظ.

نصر بن منصور بن الحسين

وكان لمحمود أخٌ يقال له أبو المعالي بن محمد (¬1)، مات بعد سنة خمسٍ وأربعين وخمس مئة، وهو القائل: [من الكامل] نادى منادي البَينِ بالتَّرْحالِ ... فلذلك المعنى تغيَّر حالي زُمَّتْ ركابِّهُمُ فلمَّا ودَّعوا ... رفعوا على الأجمال كلَّ جَمالِ فَجَرَتْ دموعٌ في خدودٍ خلْتُها الـ ... ـياقوتَ قد نُثِرَتْ عليه لآلي وتفرَّقَ الشَّمْلُ المَصُونُ وقبلَ ذا ... لم يخطُرِ البَينُ المُشِتُّ ببالي (¬2) نَصر بن منصور بن الحسين (¬3) ابن أحمد، أبو القاسم، الحَرَّاني، والد ظهير الدِّين أُستاذ دار المستضيئ. ولد بحرَّان سنة أربعٍ وثمانين [وأربع مئة] (4)، وكان تاجرًا، كثير المال، غزيرَ النَّوال، قارئًا للقرآن، محافظًا على الجماعات، يكسو العُراة، ويَفُكُّ الأسارى، ويَبَرُّ العلماء والفُقَراء، ويتفقَّدُ أربابَ البيوت، ويسمعُ الحديث، ويزور الصالحين، [وكان خِصِّيصًا بجدِّي رحمه الله، ويحسن إليه] (¬4)، ومات ببغداد. [وله وقائع ذكر جدِّي في "المنتظم" منها واقعة، فقال: حدثني (¬5)] أبو محمد العُكْبري: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام: فقلتُ: يا رسولَ الله، امسح بيدك على عيني، فإنَّها تؤلمني. فقال: اذهب إلى نَصر بن العَطَّار يمسح على عينك. فقلتُ في نفسي: أَدَعُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمضي إلى رجلٍ من أبناء الدُّنْيا! وعاوَدْتُه القولَ، وقلتُ: يا رسول الله، امسح على عيني. فقال لي: أما سَمِعْتَ الحديث "إنَّ الصدقة لتقع بيد الله قبل أن تقع بيد السَّائل (¬6) " وهذا نَصرٌ قد صافحت يدُه يدَ الحق، فامضِ إليه، [قال] (4): فانتبهتُ، ومضيتُ إليه، فلما رآني قام ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر": قسم شعراء العراق: 1/ 308 - 311. (¬2) الأبيات في "الخريدة": 1/ 309. (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 183، وهو في "المنتظم": نصر بن منصور بن الحسن. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ع) و (ح): ومات ببغداد، قال أبو محمد العكبري ... والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) أخرجه أبو نعيم في "الحلية": 4/ 81 عن طريق عمرو بن الحصين العقيلي عن ابن علاثة، عن ثور، عن وهب بن منبه، عن كعب، عن فضالة بن عبيد مرفوعًا، وقال أبو نعيم: غريب من حديث وهب بن منبه لم نكتبه إلا من حديث ابن علاثة عن ثور. قلت: عمرو بن الحصين متروك الحديث.

حافيًا، وقال: الذي رأيته في المنام قد تقدَّم في حقِّك بشيء. وقرأ على عيني الفاتحة، والمعوِّذتين، فسكَنَ الألم، ووجدتُ العافية. [قلتُ: وحكى لي جماعة من مشايخنا أن إحدى عيني نَصر ذهبت] (¬1) قال: فخرجت يومًا إلى جامع السُّلْطان لأصلي الجمعة، فجلست على جانب دِجْلة لأتوضأ، وإذا بفقيرٍ عليه أطمارٌ رثة، وهو جالسٌ على دِجْلة، فتقدَّمْتُ إليه، وقلتُ: امسحْ على عيني الذاهبة، فمسح على عيني الذاهبة، فعادت صحيحة كما كانت. [قال] (2): وفي كُمِّي مِنْديلٌ فيه دنانير، فأخرجتُ المِنْديل، ودفعتُه إليه، فقال: ما لي به مِنْ حاجةٍ، إنْ كان معك رغيفُ خُبْز فَنَعَمْ. [قال] (2): فقمتُ واشتريتُ له خُبزًا، ورجعت، فلم أره. فكان نَصرٌ بعد ذلك لا يمشي إلا وفي كُمِّه الخبز إلى أن مات. [ومنها أنه] (¬2) كان يأتي إليه في كلِّ سنة فقيرٌ في دار القَزّ، فيعطيه من الزَّكاة خمسة دنانير، ومَضَتْ مُدَّة، فلم يذهب إليه، فعَبَر ذلك الفقيرُ يومًا إلى خان الخشبة وتحت يده مِنْديل فيه ثيابٌ عتَابي (¬3)، ونَصر جالسٌ في الخان، فناداه: يا فقير، تعال خُذْ رسمك، فقال له: أنا اليوم لا تجب عليَّ الزكاة. قال: وكيف؟ قال: الخمسة دنانير التي أعطيتني اتَّجرت بها، فصارت عشرين دينارًا. فبكى نصر، وقال: الحمد لله على هذه النِّعْمة. [قلت] (¬4): وسمعتُ جماعةً من أهل بغداد يحكون أَنَّ نَصرًا اشترى مملوكًا بألف دينار، وأعطاه بضاعة بألف دينار، وجهزه إلى بلاد الترك، وكان جدي قد صنف ¬

_ = وأخرجه الطبراني في الكبير (12150)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3525) من طريق شريك بن عبد الله النخعي، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، مرفوعًا، وشريك، ويزيد ضعيفان. وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (647) عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن قتادة المحاربي عن ابن مسعود موقوفًا. عبد الله بن قتادة المحاربي ذكره ابن حبان في "ثقاته"، وقال: روى عنه أهل الكوفة. (¬1) في (ع) و (ح): ووجدت العافية، وذهبت إحدى عيني نصر، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) نسبة إلى العتابيين، إحدى محال بغداد في الجانب الغربي منها، اشتهرت بالنسيج المخطط. انظر "وفيات الأعيان": 4/ 389، و"تكملة المعاجم العربية" لدوزي: 7/ 139 - 140. (¬4) في (ع) و (ح) قال المصنف رحمه الله، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

يحيى بن سلامة

"كتاب المُغَفَّلين" فكتَبَ نَصرًا فيه، وبلغ نَصرًا، فعاتبه، وقال: أنا من جُمْلة المحبِّين والمتعصِّبين لك، وأنتَ تلحقني بالمُغَفَّلين! فقال له جَدِّي: بلغني كذا وكذا، وكيف يعود إليك المملوك، وقد صار ببلاده ومعه ألف دينار! فقال نَصر: فإن عاد. فقال جَدِّي: أمحو اسمك وأكتُبُ اسْمَه. يحيى بن سلامة (¬1) ابن الحسين بن محمد، أبو الفَضْل الحَصكَفي [الشَّاعر الفاضل] (2). ولد بطَنْزَة -مدينة صغيرة بديار بكر-[بعد الستين وأربع مئة] (2)، ونشأ بحِصن كَيفا، وانتقل إلى مَيَّافارقين، وكان إمامًا في كلِّ فن، [وكان يفتي] (2) في المذاهب، ويقول الشِّعر [اللطيف] (2)، ويترسَّل [لرَّسائل البليغة] (2)، وله مدائح في أهل البيت عليهم السَّلام، وقَدِمَ بغداد، وقرأ شيئًا من شعره ومقاماته على الخطيب أبي زكريا التِّبْريزي، فكَتَبَ على كتابه: قرأ عليَّ الرَّئيس الفاضل ما يدخل الأذُن بلا إذن. وكانت وفاته في ربيع الأول بميافارِقِين [من هذه السنة، والله أعلم] (¬2). ومن شعره يمدَحُ أهلَ البيت عليهم السَّلام والرحمة (¬3): [من الرجز] أَقوتْ مغانيهم فأقوى الجَلَدُ ... رَبْعان كلٌّ بعد سَكْنٍ فَدْفَدُ أسأَلُ عن قلبي وعن أَحبابِهِ ... ومِنْهُمُ كلُّ مُقِرِّ يَجْحَدُ فهل تُجيبُ أَعْظُمٌ باليةٌ ... وأرْسُمٌ خاليةٌ مَنْ يَنْشُدُ كأَنَّني بين الطُّلولِ واقِفٌ (¬4) ... أَنْدُبُهُنَ الأَشْعَثُ المُقَلّدُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في: "الأنساب": 4/ 154، 8/ 256 - 257، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 471 - 540، و"المنتظم": 10/ 183 - 188، "معجم البلدان": 4/ 44، و"معجم الأدباء": 20/ 18 - 19، و"الكامل في التاريخ": 11/ 239 - 240، و"وفيات الأعيان" 6/ 205 - 210، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 320 - 321، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع): يمدح أهل البيت عليهم الرحمة، والصلاة والسلام عليهم أجمعين، والمثبت من (ح). (¬4) في "الخريدة": واقفًا.

صاحَ الغُرابُ فكما تحمَّلوا ... مشى بها كأَنَّه مُقَيَّدُ يَحْجُلُ في آثارهمْ بَعدَهُمْ ... بادي السِّماتِ أَبْقَعٌ وأَسْوَدُ لبِئْسَ ما اعْتاضَتْ وكان قَبْلَها ... يَرْتَعُ فيها ظَبياتٌ خُرَّدُ ليتَ المطايا للنَّوى ما خُلِقَتْ ... ولا حَدا مِنَ الحُداةِ أَحَدُ رُغاؤهم وحَدْوُهُمْ ما اجْتَمَعا ... للصَّبِّ إلا ونَجَاه (¬1) الكَمَدُ تقاسموا يومَ الوداعِ كَبِدِي ... فليس لي منذ تولَّوْا كَبِدُ عن (¬2) الجفونِ رَحَلوا وفي الحشا ... تقيَّلوا (¬3) وماءَ عَيني وَرَدُوا فأَدْمُعي مسفوحةٌ وكَبِدِي ... مقروحةٌ وغُلَّتي ما تَبْرُدُ وصَبْوتي دائمةٌ ومُقْلتي ... داميةٌ ونَوْمُها مُشَرَّدُ تَيَّمني منهمْ غزالٌ أَغْيَدُ ... يا حبَّذا ذاكَ الغَزَالُ الأَغْيَدُ حُسامُهُ مجرَّدٌ وصَرْحُهُ ... مُمَرَّدٌ وخَدُّه مُوَرَّدُ أيقنتُ لمَّا أَنْ حدا الحادي بهمْ ... ولم أَمُتْ أَنَّ فؤادي جَلْمَدُ كنتُ على القُرْبِ كئيبًا مُغْرمًا ... صَبًّا فما ظنُّكَ بي إذْ بَعُدُوا هُمُ الحياةُ أعرقوا أَمْ أشْأَموا ... أم أَيمنوا أم أَتهموا أم أَنجدُوا ليَهْنِهِمْ طِيبُ الكرى فإنَّه ... حَظُّهُمُ وحَظُّ عَيني السَّهَدُ نَعَم تولَّوا بالفؤادِ والكَرَى ... فأين صَبْري بعدَهُمْ والجَلَدُ لولا الضَّنى جَحَدْتُ وجَدي بهُمُ ... لكنْ نُحولي بالغَرَامِ يَشْهَدُ ليس على المُتْلِفِ غُرْمٌ عندهُمْ ... ولا على القاتلِ عَمْدا قَوَدُ وسائِل عن حُبِّ أَهْلِ البَيتِ هل ... أقرُّ إعلانًا به أَمْ أَجْحَدُ هيهاتَ ممزوجٌ بلحمي ودمي ... حُبُّهُمُ وهْو الهُدى والرَّشَدُ ¬

_ (¬1) نجاه: أي سارَّه وناجاه، وفي "الخريدة": شجاه. (¬2) في (ع) و (ح): على، وكذلك في "المنتظم"، والمثبت من "الخريدة". (¬3) في (ع) و (ح): تقلبوا، والمثبت من "المنتظم" و "الخريدة".

حَيْدَرةُ والحَسَنانِ بعده ... ثُمَّ عليٌّ وابنُهُ محمَّدُ وجعفرُ الصَّادِقُ وابنُ جعفر ... موسى ويَتْلُوه عليُّ السَّيدُ أعنِّي الرِّضا، ثم ابنُهُ محمدٌ ... ثُمَّ عليٌّ وابنُهُ المُسَدَّدُ والحسن التالي ويتلو تِلْوه ... محمدُ بنُ الحسنِ المُفْتَقَدُ فإنَّهم أَئِمَّتي وسادتي ... وإنْ لحاني مَعْشرٌ وفنَّدوا هُمْ حُججُ الله على عبادِهِ ... وهُمْ إليه مَنْهَجٌ ومَقْصِدُ قوم أتى في {هل أتى (¬1)} مديحُهُمْ ... ما شَكَّ في ذاك إلا مُلْحِدُ قومٌ لهم في كلِّ أرضٍ مشهدٌ ... لا بل لهمْ في كلِّ قَلْبٍ مَشْهَدُ قومٌ مِنى والمَشْعرانِ لهُمُ ... والمَرْوتان والصَّفا والمَسْجِدُ قومٌ لهمْ مكَّةٌ والأَبْطحُ والـ ... ـخَيفُ وجَمْعٌ والبقيعُ الغَرْقَدُ ما صَدَقَ النَّاسُ وما تصدَّقوا ... ما نَسكُوا أو أَفْطَروا أو عَيَّدوا لولا رسولُ الله وهو جَدُّهُمْ ... وحَبَّذا الوالِدُ ثُمَّ الوَلَدُ ومَصرع الطَّفِّ (¬2) فلا أذكُرُه ... ففي الحشا منه لهيبٌ يقِدُ يرى الفراتُ ابنَ البَتُولِ ظامئًا ... يلقى الرَّدى وابنُ الدَّعيِّ يَردُ حَسْبُك يا هذا وحَسْبُ من بغى ... عليهمُ يومَ المَعَادِ الصَّمَدُ يا أهلَ بيتِ المُصطَفى يا عُدَّتي ... ومنْ على حُبِّهمُ أَعْتَمِدُ أنتمْ إلى الله غدًا وسيلتي ... فكيف أشقى وبكم أَعْتَضِدُ وليُّكُمْ في الخُلْد حيٌّ خالدٌ ... والضدُّ في نارِ لظًى مُخَلَّدُ ولستُ أَهْواكُمْ ببُغْضِ غيرِكُمْ ... إنِّي إذًا أشقى بكُمْ لا أَسعَدُ محمدٌ والخلفاءُ بعده ... أفضلُ خَلْقِ الله فيما أَجِدُ ¬

_ (¬1) إشارة إلى ما ورد في سورة الإنسان من قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} فقد روي أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم - أجمعين. انظر تفسير "مجمع البيان" للطبرسي: 6/ 138. (¬2) الطف: أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية، فيها مقتل الحسين بن علي - رضي الله عنه -، "معجم البلدان": 4/ 36.

هُمْ أَسَّسُوا قواعِدَ الدِّينِ لنا ... وهُمْ بنوا أَرْكانَهُ وشَيَّدُوا ومَنْ يَخُنْ أحمدَ في أصحابِهِ ... فخَصمُهُ يومَ المَعَادِ أَحْمَدُ هذا اعْتقادي فالْزَمُوه تُفْلِحُوا ... هذا طريقي فاسْلُكُوه تهتدوا والشَّافعيُّ مذهبي مَذْهَبُهُ ... لأَنَّه في قوله مؤَيَّدُ أَتْبَعُهُ في الأَصلِ والفَرْعِ معًا ... فَلْيَتَّبعني الطَّالبُ المُسْتَرشِدُ إنِّي بحمدِ الله ناجٍ سابقٌ ... إذا ونى الظَّالم والمُقْتَصدُ (¬1) وقال يرثي أبا نَصر بنَ الحسن بنِ سلامة: [من الكامل] لما نعى النَّاعي أبا نَصرِ ... سُدَّتْ عليَّ مطالعُ الصَّبْرِ وجرتْ دموعُ العينِ ساجمةً ... مُنْهَلَّة كتتابعِ القَطْرِ ولَزِمْتُ قلبًا كاد يَلْفِظُهُ ... صَدْري لفُرقة ذلك الصَّدْرِ ولَّى فأضحى العصر في عَطَلٍ ... منه وكان قِلادَةَ العَصرِ حفروا له قَبرًا وما عَلِمُوا ... ما خلَّفوا في ذلك القَبْرِ ما أفردوا في التُّرْبِ وانصرفوا ... إلا فريدَ النَّاسِ والدَّهْرِ تَطْويه حُفْرَتُه فَيَنْشُرُهُ ... في كلِّ وقتٍ طَيِّبُ النَّشْرِ تبًّا لدارٍ كلُّها غُصَصٌ ... يأتي الوصال بنيَّةِ الهَجْرِ تُنْسي مرارتُها حلاوتها ... وتُكرُّ بعد العُرْفِ بالنُّكْرِ (¬2) وقال: [من البسيط] واللهِ لو كانت الدُّنْيا بأَجْمَعِها ... تُبْقي علينا ويأتي رِزْقُها رَغَدا ما كان مِنْ حَقٍّ حُرٍّ أن يَذِل لها ... فكيفَ وهْي متاعٌ يَضْمَحِلُّ غدا (¬3) وقال: [من المتدارك] ¬

_ (¬1) القصيدة بتمامها في "المنتظم": 10/ 184 - 187 وانظر أبياتًا منها في "الخريدة": 2/ 492 - 494 مع اختلاف في بعض ألفاظها. (¬2) الأبيات في "المنتظم": 10/ 184. (¬3) البيتان في "الخريدة": 2/ 494.

أَتُرى سأَلوا لمَّا رَحَلُوا ... ماذا فعلوا أَمْ مَنْ قَتَلوا خدعوا بالمَينِ (¬1) قتيلَ البَيـ ... ـنِ فَسُحْبُ العَينِ لهم ذُلُلُ فمتى وَصَلُوا حتى قطَعوا ... ومتى سَمَحوا حتى بَخِلُوا أشكوا زَمَنًا أوْلى مِحَنًا ... وجنى حَزَنًا فَعَفَتْ سُبُلُ العِلْمُ يُهانُ وليس يُصا ... نُ فأيُّ لسانٍ يَرْتَجِلُ وَعَدُوا فطَمِعْتُ غداةَ سَمِعْـ ... ـتُ متى وَقَنِعْتُ بما بذلوا أحليفَ اليومِ أَقِلَّ اللَّوْ ... مَ فعندي اليومَ بهمْ شُغُلُ وبسَمْعي ثوَّرَ (¬2) سائِقُهُمْ ... وبعَيني قُرِّبَتِ البُزُلُ أذكى جَزَعي لم يبقَ معي ... قلبًا فيعي منذ احتملوا (¬3) وقال: [من الطويل] إذا قَلَّ مالي لم تجدْنيَ ضارِعًا ... كثيرَ الأسى مُغْرًى بعَضِّ الأناملِ ولا بَطِرًا إنْ جَدَّدَ الله نِعْمةً ... ولو أنَّ ما أُوتي جميعُ الأنامِ لي (¬4) وقال: [من مخلع البسيط] جُدَّ ففي جِدِّكَ الكمالُ ... والهَزْلُ مِثْلُ اسْمِهِ هُزالُ فما تنالُ المرادَ حتى ... يكونَ معكوسَ ما تنالُ (¬5) وقال: [من الطويل] وعَتْبي له عَتْبُ البريء وخِيفَتي ... لحِرْصي على عُتباه خِيفَةُ جانِ فإنْ يكُ لي ذنبٌ فأَينَ وسائلي ... وإنْ لم يكن ذنبٌ ففيمَ جفاني (¬6) وقال: [من الرجز] ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح) البين، والمثبت من "الخريدة". (¬2) نور سائقهم، أي أنهض البرك، والبرك يقع على ما برك في جميع الجمال والنوق. "معجم متن اللغة": 1/ 280، 457. (¬3) الأبيات في "الخريدة": 2/ 496 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬4) البيتان في "المنتظم": 10/ 188. (¬5) البيتان في "المنتظم": 10/ 184. (¬6) البيتان في "الخريدة": 2/ 488.

حَنَّتْ فأَذْكَتْ لوعتي حنينا ... أشكو من البَينِ وتشكو البِينا (¬1) قد عاثَ في أَشْخاصها طُوْلُ السُّرى ... بقَدْرِ ما عاثَ الفِراقُ فينا فَخَلِّها تمشي الهوينى طالما ... أَضْحتْ تباري الرِّيح في البُرينا وكيف لا نأوي (¬2) لها وهي التي ... بها قَطَعْنا السَّهْلَ والحزونا ها قد وَجْدنا البَرَّ بحرًا زاخرًا ... فهل وَجَدْنا غيرَها سَفِينا إنْ كُنَّ لم يُفْصِحْنَ بالشكْوى لنا ... فهُنَّ بالإِرْزام (¬3) يَشْتكينا قد أَقْرحَتْ مما تُجِنُّ كَبِدِي ... إنَّ الحزينَ يُسْعِدُ الحزينا وقد تياسَرْتَ بهِنَّ جائرًا ... عن الحِمى فاعدْل بها يمينا نُحيِّ أَطْلالًا عفا آياتِها ... تعاقُبُ الأَيَّامِ والسِّنِينا يقول صَحْبي أَتَرى آثارَهُمْ ... نَعَمْ ولكنْ لا أَرى القَطِينا لو لم تَجِدْ رُبوعُهُمْ كَوَجْدنا ... لِلْبَينِ لم تَبْلَ كما بَلِينا ما قَدَرَ الحيُّ على سَفْكِ دمي ... لو لم تكنْ أَسْيافُهُمْ عُيونا أكلَّما لاحَ لعيني بارقٌ ... بكَتْ فأَبدتْ سرِّيَ المَصُونا لا تأخذوا قَلْبي بذنبِ مُقْلَتي ... وعَذبوا الخائِنَ لا الأَمينا أقسمتُ ما الرَّوْضُ إذا ما بَعَثتْ ... أرجاؤُه الخِيرِيَّ (¬4) والنِّسْرينا وأَدْركتْ ثمارُهُ وَعَذُبَتْ ... أَنهارُهُ وأَبْدَتِ المكْنُونا وقابلتْه الشَّمْسُ لما أَشرقتْ ... وانقطعتْ أفنانُهُ فنونا أذكى ولا أَحلى ولا أَشْهى ولا ... أَبْهى ولا أَوفى (¬5) بعيني لينا ¬

_ (¬1) البين، بكسر الباء: ارتفاع في غلظ عن الأرض. "معجم متن اللغة": 1/ 378. (¬2) أي نشفق عليها. "اللسان" (أوا). (¬3) الإرزام من أرزمت الناقة على ولدها: حنت، وهو صوت تخرجه من حلقها لا تفتح به فاهًا. انظر "اللسان" (رزم). (¬4) الخِيري: نبات، وهو المنثور الأصفر، تعريب خيرو. "معجم الألفاظ الفارسية المعربة": 59. (¬5) في (ع) و (ح): أبرا، والمثبت من "المنتظم".

مِنْ نَثْرها وثَغْرها ووَجْهها ... وقَدِّها فاسْتَمِعِ اليقينا [ما اسْتَتَرَتْ بالوَرَق الوَرْقاءُ كي ... تَصدُقَ لما عَلَتِ الغُصونا] (¬1) هذا بُكاها والقرينُ حاضِرٌ ... فكيفَ مَنْ قد فارَقَ القرِينا يا خائفًا عليَّ أسباب الرَّدى ... أَمَا عَرَفْتَ حِصنيَ الحَصِينا إنِّي جَعَلْتُ في الخُطُوبِ موئلي ... محمدًا والأَنْزَعَ البَطِينا (¬2) أحببتُ ياسينَ وطاسين ومن ... يتلوه في طاسين أو ياسينا يا تائهين في أضاليل الهوى ... وعن سبيلِ الرُّشْد ناكبينا تجاهكم دار السَّلام فابتغوا ... في نَهْجها جبريلَها الأَمينا لجوا معي الباب وقولوا حِطَّةٌ ... تُغْفَرْ لنا الذُّنوبُ أجمعينا ديني الولاءُ لستُ أبغي غيره ... دِينًا وحَسْبي بالولاءِ دِينا ظَنَّ بيَ الأعداءُ إذْ مَدَحْتُهُمْ ... ما لم أكنْ بمِثْله قَمِينا يا وَيحهم وما الذي يَريبُهُمْ ... منِّي حتى رَجَموا الظُّنونا وإنَّما أَطلبُ مَدْحًا نافعًا ... يومَ يكونُ غيريَ المَغْبُونا سِجْنُكُمُ سِجِّينَ إنْ لم تَتْبعوا ... عَلِيَّنا دليل عِلِّيِّينا (¬3) وقال: [من البسيط] على ذوي الحُبِّ آياتٌ مُتَرجِمةٌ ... تُبينُ مِنْ أَجْلهِ عن كل مُشْتَبِهِ عَرْفٌ يفوحُ وآثارٌ تلوح وأَسْـ ... ـرارٌ تبوحُ وأَحشاءٌ تنوحُ بِهِ (¬4) وقال: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): قد استترت للورقاء حرك شجوها ... لما علت من فرعها غصونا ولم أتبين معناه، والمثبت ما بين حاصرتين من "المنتظم" و"الخريدة". (¬2) الأنزع البطين هو الإمام علي بن أبي طالب. انظر "اللسان" (نزع). (¬3) الأبيات مع اختلاف في بعض الألفاظ، وترتيب بعض الأبيات في "المنتظم": 10/ 187 - 188، وقد ساق العماد بعض الأبيات كذلك في "الخريدة": 2/ 490 - 491. (¬4) البيتان في "الخريدة": 2/ 488

غَرِيقَ الذُّنوبِ أسيرَ الخَطَايا ... تَنَبَّهْ فَدُنْياك دارُ الدَّنايا تَغُرُّ وتُعْطي ولكنَّها ... مكدِّرة تَستَرِدُّ العَطَايا أَمَا وَعَظَتْك بأَحداثها ... وما فَعَلَتْ بجميعِ البرايا فيا راحلًا وَهْو ينوي المُقَام ... تزوَّدْ فإنَّ الليالي مطايا ترى المرْءَ في أَسْرِ آفاتِها ... حبيسًا على الهمِّ نُصبَ المنايا (¬1) ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": 2/ 520 - 521 مع اختلاف في بعض الألفاظ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [21]

السنة الرابعة والخمسون وخمس مئة

السَّنة الرابعة والخَمسون وخمسُ مئة فيها في المحرَّم وصل ترشك وحده إلى بغداد، فرمى بنفسه تحت التَّاج، ومعه سَيفٌ وكَفَن، وأُخبر الخليفة به، فأُحضر إلى الدِّيوان، ورضي عنه، ووقَّع له بمالٍ. وفيها وَرَدَتْ رسلُ محمد شاه إلى بغداد، فوصلوا شَهْرابان (¬1)، فبعث الوزير مَنْ مَنَعَهم من الدُّخول، فأقاموا أيامًا، وعادوا، ومات محمد شاه في آخر السَّنة. وفيها خَرَجَ الخليفةُ إلى واسط، ودَخَلَ جامعها، ومضى إلى الغَرَّاف (¬2)، فزلَّت به فَرَسُه في بعض الطَّريق، فوقع، وشُجَّ جبينه بقبيعة [سيف] (¬3) الرِّكاب، فاستنقذه مملوكٌ من مماليك الوزير ابنِ هُبيرة، فأَعْتقه الوزيرُ، وخَلَع عليه، وخاطه ابنُ صفية الطَّبيب، فحصل له مالٌ، وتصدَّق الخليفة بمالٍ جزيل. ووقَعَ بالعراق بَرَدٌ، وَزْنُ البردة تسعةُ أرطال بالعراقي، فأتلفتِ الغِلال. وفيها غرقت بغداد، وصارت تلالا (¬4) [مثل الغَرَقِ الأول. قال جدِّي رحمه الله: فخرجتُ من داري بدربِ القيَّار، وعبرتُ إلى الجانب الغربي، وعدت بعد يومين فلم أجد حائطًا قائمًا، ولم يعرف أحد موضع داره إلا بالحَزْرِ والتَّخْمين، وصارتِ الكُلُّ تلالًا، وما استدللت على درب القيَّار إلا بمنارة المسجد، فإنها لم تقع. وغرقت كتب جدِّي وغيرها]. وفيها حَشَدَ ملك الرُّوم [العساكر] (¬5) وجَمَعَ، ووصل إلى الشَّام، وجَمَعَ نورُ الدِّين عليه العساكر، وقلَّت مِيرتُهم، فعادوا راجعين، وغنمهم المسلمون. ¬

_ (¬1) قرية كانت شرقي بغداد. "معجم البلدان": 3/ 375. (¬2) نهر كبير تحت واسط. "معجم البلدان": 4/ 190. (¬3) ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 189، وقبيعة السيف: ما على طرف مقبضه من فضة أو حديد، أو على رأس قائمه، وهي التي يدخل القائم فيها، وجمعها قبائع، انظر "معجم متن اللغة": 4/ 485. (¬4) في (ع) و (ح): وصارت تلالًا، ولم يعرف أحد موضع داره إلا بالحزر والتخمين، وما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "المنتظم": 10/ 190. (¬5) ما بين حاصرتين من (م).

إبراهيم بن سعيد

وفيها نزل نورُ الدِّين [محمود] (¬1) على حَرَّان، وأخذها من أخيه أمير أميران [وأعطاها لزين الدين عليّ إقطاعًا، وسببه أن نور الدين لما مرض وقع الإياس منه، فَكاتَبَ أخوه أمير أميران] (1) الجُنْدَ، وطَمِعَ في الملك، فشقَّ على نور الدِّين. وحَجَّ بالناس قيماز. وفيها توفي إبراهيم بن سعيد (¬2) أبو إسحاق الشَّاتاني، وزير خلاط، وكان فصيحًا، ومن شعره: [من المتقارب] ولو أَنَّ دِجْلَةَ ثُمَّ الفراتَ ... وسيحونَ والبحر كانوا مِدادِي وجيحون والنِّيل ما بلغَتْ ... عُشَيْرَ الذي يحتويه فؤادي من الشَّوقِ يا مَنْ حوى مُهْجتي ... وصيَّر طَرْفي حليفَ السُّهادِ فشَوقي يزيدُ وصَبْري يَبْيِدُ ... ووَجْدي شديدٌ لِطُولِ البِعادِ أفيحاءُ حُيِّيتِ من بلدةٍ ... سَقَتْك الغيومُ وصَوْبُ الغوادي فمنكِ الحبيبُ وفيكِ القريبُ ... ومَنْ حَلَّ مني مَحَلَّ السَّوادِ (¬3) [وفيها توفي يحيى بن نزار المنبجي (¬4) كان فاضلًا، شاعرًا، نزل في أُذُنه طرشٌ، فاستدعى أحد الطَّرْقية، فامتصَّ أُذُنَه، فما زال حتى خرج شيءٌ من مُخِّه، فمات، فليحذر العاقل من مثل هذا] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 543 - 544. (¬3) الأبيات في "الخريدة": 2/ 543. (¬4) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 191، "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 234 - 236، و"معجم الأدباء": 20/ 38 - 36، و"وفيات الأعيان": 6/ 249 - 251.

عبد الواحد بن جهير بن مفرج الدمشقي

عبد الواحد بن جَهِير (¬1) بن مفرِّج الدِّمَشْقي (¬2) شاعرٌ مجيد، ومن شعره: [من الرمل] ظالمي في الحُبِّ أضحى حَكَمي ... كيفَ لا يأثَمُ في سَفْكِ دمي كم كتمتُ الحبَّ عن عاذلتي ... حَذَرَ البَينِ فلم يَنْكَتِمِ هل ترى لذةَ أيامِ الصِّبا ... تجمعُ الشمْلَ بوادي الحَرَمِ إذْ وقَفْنا ليلةَ البَينِ وقد ... غَرَّدَ الحادي بذات العَلَمِ ليتهم إذْ ودَّعوا حَنُّوا على ... مُسْلم في حُبِّهِمْ لم يَسْلَمِ وكانت وفاته بدمشق في ذي القعدة. السُّلطان محمد بن محمود بن [محمد بن] ملك شاه (¬3) ابن ألب رسلان. قد ذكرنا سيرته في السِّنين. ولما حاصر بغداد كان مريضًا، وبلغه وفاة سنجر، فزاد به المرض، فتوفي على باب هَمَذَان في ذي الحِجَّة، واختلفَ الأُمراء بعد موته، فمنهم من مال إلى أخيه ملك شاه، ومنهم من مال إلى سليمان شاه، ومنهم من مال إلى رسلان شاه. ثم اتفقوا على سليمان شاه -وكان محبوسًا بالمَوْصِل- فجهَّزه زين الدِّين بإشارة نور الدِّين محمود، فأجلسوه على سرير الملك بهَمَذَان، وكان قَصدُهم أن يأكلوا به البلاد، لأَنَّه كان مشغولًا باللهو واللَّعِب، واستوزر شهاب الدِّين محمود بن عبد العزيز النَّيسابوري. وكان فاضلًا جَوَادًا، مشفقًا أَمينًا. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح) حميد، وهو تحريف، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر". (¬2) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" المجلد 43/ 329 - 330، والأبيات فيه. (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 191، و"تاريخ دولة آل سلجوق": 261 - 262، و"الكامل": 11/ 250 - 251، "وفيات الأعيان": 5/ 183، و"الوافي بالوفيات": 5/ 8، و"النجوم الزاهرة": 5/ 330، و"معجم الأنساب" لزمباور: 334، وما بين حاصرتين من مصادر ترجمته.

محمد بن أبي عقامة

محمد بن أبي عَقَامة (¬1) أبو عبد الله، القاضي بزَبِيد، كان حاكمًا على اليمن، ولما تغلَّبَ ابنُ مهدي (¬2) على اليمن قتله، وقتل ولده، وكانا فاضِلَين، ومن شعر محمد: [من البسيط] للمَجْدِ (¬3) عنكم رواياتٌ وأخبارُ ... وللعُلا نحوكُمْ حاجٌ وأَوْطارُ وحيث كنتمْ فثغر الرَوْضِ مُبْتَسِمٌ ... وأين سِرْتُمْ فدَمْعُ العينِ مِدْرارُ لله قومٌ إذا حَلُّوا بمنزلةٍ ... حَلَّ النَّدى ويسير الجُودُ إنْ ساروا تشتاقُكُمْ كلُّ أرضٍ تنزلون بها ... كأنكمْ لبقاعِ الأَرْضِ أَمطارُ لا يَعْجَبُ النَّاسُ منكمْ في مسيركُمُ ... كذلك الفَلَكُ العُلْويُّ دَوَّارُ والبَدْرُ مُذْ صِيغَ لا يرضى بمنزلةٍ ... فيها يخيِّمُ فَهْوَ الدَّهْرَ سَيَّارُ (¬4) السَّنة الخامسة والخمسون وخمس مئة فيها في يوم الجُمُعة، سَلْخ صفر، أُرجف على المقتفي بالموت، فانزعج النَّاسُ، فوقَّع إلى الوزير بعافيته، فطابت قلوب الناس، فلما كان صبيحة الأحد ثاني ربيع الأَوَّل، أصبحت دار الخليفة مغلقةً إلى الظُهْر، وركبت العساكر لحِفْظ البلد، [فتحقَّق النَّاسُ موته] (¬5)، فلما كان قريب الظهر فُتحتِ الأبواب، ودُعي النَّاس إلى بيعة ولي العَهْد. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "طبقات فقهاء اليمن": 240، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 3/ 240 - 244، و"النجوم الزاهرة": 5/ 330. (¬2) هو علي بن مهدي، غلب على زبيد سنة (554 هـ)، ومات بعد شهرين من دخولها، ثم ولي ابنه مهدي بن علي، انظر "بلوغ المرام": 17. (¬3) في (ع) و (ح): الوجد عنكم، ومثله في "النجوم الزاهرة"، والمثبت من "الخريدة". (¬4) الأبيات في "خريدة القصر": 3/ 241 - 242. (¬5) في (ع) و (ح): ففتحوا للناس، وتحققوا موت الخليفة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الباب الثاني والثلاثون في بيعة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن محمد المقتفي

الباب الثاني والثلاثون في بيعة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن محمد المقتفي (¬1) ولد في ربيع الأَوَّل سنة ثماني عشرة وخمس مئة، وأُمه أُم ولد يقال لها طاوس، أدركت خلافته، وتوفِّيت هذه السنة. ولما توفي أبوه دَخَلَ إلى الحُجْرة التي كان يقعد فيها أبوه، فهجمت عليه أُم أخيه أبي علي الحسن ومعها جواريها بأيديهن السكاكين ليقتلنه، وتبايع لابنها، فَذُعِرَ منها، وقال: يا أُمَّاه، ما الذي صنعتُ حتى تستحلِّين دمي؟ راقبي الله فيَّ. فتوقَّفَتْ عن قَتْله، وخَرَجَ من الحُجْرة، وجاء أصحابه، فأحدقوا به [وبايعه] (¬2) أهلُه وعَمَّاه: أبو طالب وأبو جعفر، والوزير ابنُ هُبيرة، وقاضي القُضَاة، وأرباب الدَّوْلة. وقال ابنُ هُبيرة: كان المستنجد بالله قد بَعَثَ إليَّ خادمًا، ومعه مكتوبٌ في حياة أبيه أراد أن يستره عنه، فأخذته وقبَّلْتُه، وقلت للخادم: والله ما يمكني أَنْ أقرأه ولا أن أُجيب عنه. فأخذ في نفسه عليَّ، فلما كان في يوم المبايعة قلتُ له: يا أمير المؤمنين، أكبر الدَّليل علي نُصحي أَنَّني ما حابيتُك نُصحًا لأمير المؤمنين. فقال: صدقت، أنتَ الوزير. قلتُ: إلى متى؟ قال: إلى الممات. قلتُ: أحتاج إلى تقبيل اليد الشَّريفة، فأعطاه يده، فقبَّلها، وأَحْلَفْتُهُ على ما ضَمِنَ لي. ثم إن الوزير خَدَمَ بعد ذلك بخيلٍ وسلاح وغِلْمانٍ ومال فيها أربعة عشر فرسًا، ومنها فرسٌ أَشْهب قيمته أربع مئة دينار، وست بغلات مثمنات، وعشر مماليك تُرْك، وثلاثة خَدَم، وعشر زَرَدِيَّات، وعشر تخوت من الثّياب، وأسفاط فيها عُود، وعنبر، ونَدٌّ ومِسْك وكافور، وسَفَط ملآن دنانير، فقَبِلَها منه، وطَيَّب قلبه. وقبض المستنجد على أخيه أبي علي الحسن، وهو صبيٌّ، ولم يُضيِّق عليه، بل كان في ترفيه وسَعَة، وانتقم من الجواري اللواتي أَرَدْن قَتْلَه، و [لما تولى] (¬3) أسقط الضَّرائب ¬

_ (¬1) في (م) و (ش): بيعة المستنجد بالله، واسمه يوسف بن محمد المقتفي، وكنيته أبو المظفر. (¬2) في (ع) و (ح): فأحدقوا به وأهله وعماه، والمثبت ما بين حاصرتين مستفاد من "المنتظم": 10/ 192. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

والمكوس، وما كان يؤخذ من سوق الجمال والغنم، والخيل والتَّمْر والسَّمك وغيره، وبَسَطَ العَدْل، وكَفَّ الناس عن الظُلْم، وعَمِلَ العزاء في بيت النوبة ثلاثة أيام. قال المصنِّف رحمه الله: وتقدَّم إلى جدِّي بالكلام، فتكلَّم في يومٍ من الأيام على كُرْسي لطيف، وبرز توقيعُ الخليفة في اليوم الثَّالث، مضمونُهُ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] تسليمًا لأمر الله وقضائه، وصبرًا لحكمه النَّافذ وبلائِهِ، في الإمام السَّعيد الذي عَظَّم الله مُصابه، واعتاض حُلْو العيش صابه، إنَّ الصبر عليه لبعيد، والتَّلهُّفَ عليه كل يوم جديد، فجدَّد الله له من كرامته الرَّاجحة، وتحياته الغادية والرَّائحة ما يُحِلُّه بُحْبُوحة جِنانه، ويُنيلُه مبتغاه من إحسانه، فلقد كان رحمةً للعِباد، ونعمةً على البلاد، وليس إلا التسليم للمقدور، والتفويض إلى الله في جميع الأمور، وإن السَّعيد مَنْ كان عمله في دنياه لأُخراه، ومرجوعه إلى الله تعالى في بدايته وعقباه، والله يوفّق أميرَ المؤمنين لما يرضاه، ويُصلح على يديه رعاية رعاياه، ليعود النِّظام إلى اتِّساقه، ويرجع نور الإمامة إلى إشراقه، فانهضْ إلى الدِّيوان لتنفيذ المهام، واثقًا بشمول الإنعام، ولتأمر المتصرِّفين بالانكفاء إلى الخدمات، وليتقدَّم بضرب النَّوبة في أوقات الصَّلوات، إنْ شاء الله تعالى. وفي هذا اليوم أمر الخليفة بالقَبْض على ابن المُرَخِّم القاضي الظالم، واستصفيتْ أمواله، ورَدَّ منها على أربابها ما ارتشاه، وما أخذه بغير حَقّ، وقيَّده وحبسه، ولم يزل في حَبْسه حتى مات. وكان يُنْسَبُ إلى الزَّنْدقة، فَفُتِّشت كتُبُه، فوجدوا فيها كُتُب ابن سينا: "الشِّفاء" و"النَّجاة" و"الإرشادات" و"رسائل إخوان الصَّفا"، وكتب الفلاسفة. فأمر الخليفةُ بإحراقها في الرحبة بعد صلاة الجمعة بمحضر من العلماء، فأُحرقت، وتضاعفت عليه اللَّعْنة، وكَثُرَ ضجيجُ النَّاسِ بالدُّعاء للخليفة. ولما انقضى شهرٌ للمقتفي، خَلَعَ الخليفة على الوزير والقضاة وأبي الفرج بن الجوزي وأبي النَّجيب وعبد القادر، وغيرهم من الأعيان، فأَذِن للوعَّاظ في الجلوس، فجلس [أبو جعفر بن] (¬1) سعيد بن المشاط، فكان يقول إذا قَصَّ: هذا كلام موسى، هذا كلامُ النَّمْلة، فقيل له {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2]، كلام الله؟ قال: لا. فأُخرج من بغداد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "المنتظم": 10/ 194.

وفي جُمادى الآخرة عُزل أبو الحسن عليُّ بن الدَّامَغَاني قاضي القضاة، وولي مكانه عبد الواحد بن الثقفي (¬1)، وسبب عَزْله أن الثَّقفي كان إذا دخل عليه لم يقم له. فقيل له: قُمْ له، فقال: ما جرت عادة أَنَّ قاضي القضاة يقوم لأحدٍ (¬2). فقيل له: فقد كنتَ تقوم لابنِ المُرَخِّم، فأنكر، فأشهد عليه العدول بذلك، فَعُزِلَ. وكان رجلٌ يرفع إلى المقتفي أخبارَ البلد، فلما ولي المستنجد، كَتَبَ إليه على العادة، فقال [المستنجد] (¬3): ما هذا؟ فقالوا: صاحبُ خبر، فأَمَرَ به فَضُرِبَ حتى سال دمُه، [ثم أمر به فحبس] (¬4). وفي شوال اتَّفق الأُمراء بباب هَمَذَان على خَلْع سليمان شاه، لما كان عليه من البُخْل والغَفْلة واللهو، وكتبوا إلى شمس الدين إيلدكز يطلبون أرسلان شاه بن طُغْريل ابن السُّلْطان محمد، واتَّفق أَنَّ سليمان شاه ركب يومًا فرسًا، وهو مخمور، فسقط عن الفرس، فأصابه صَرْعٌ، فقبضوا عليه، وحبسوه في حُجْرة بقصر هَمَذَان، وجاء إيلدكز ومعه أرسلان شاه بن طُغْريل بن محمد بن ملك شاه بن ألب رسلان، وذلك في ذي القعدة، وتولى أتابكية العسكر إيلدكز، وكان زوج أُمه، وله منها أولاد، فأجلسوا أرسلان شاه على التَّخْت، وتقرَّرَت الوزارة لشهاب الدين الثِّقة، وأما سليمان شاه، فكان الموكلين به أطلقوه، فهرب، وانضم إليه جماعةٌ، وسار طالبًا بغداد، فاجتاز بأرض الموصل، فَقَبَضَ عليه زين الدِّين، وأدخله المَوْصِل، وبعث القاضي فخر الدين الشَّهْرُزُوري رسولًا يطلب السَّلْطنة لسليمان شاه وهو بالمَوْصل، ولا تَعَلُّق له ببغداد. وقَدِمَ زين الدِّين علي كوجك حاجًّا في هذه السنة، وجلس له الخليفة، وأوصله إليه، وخَلَعَ عليه خِلْعة طويلة، فأخرج منديلًا وشَدَّ وسطه، فَقَصُرَتِ الجُبَّة، فأَعجب الخليفة، ¬

_ (¬1) هو عبد الواحد بن أحمد بن محمد بن الثقفي، ولد سنة (479 هـ) بالكوفة، وتوفي سلخ ذي الحجة من سنة (555 هـ)، انظر ترجمته في "المنتظم": 10/ 196، و"العبر" للذهبي: 4/ 157، و"الجواهر المضية": 2/ 478 - 479. (¬2) في "المنتظم": 10/ 195: وكان قد قيل لابن الدامغاني: قم لابن الثقفي الصغير الذي ولي مكان ابن المرخم، فقال: ما جرت العادة أن يقوم قاضي القضاة لقاضٍ. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع) و (ح): وحبس، والمثبت من (م) و (ش).

أحمد بن محمد بن سميعة البغدادي

وكان كوجك بخيلًا، كانت هديته إلى الخليفة عشر سكاكين، حَلَّها من وسطه، وجعل يبوس كل واحدة ويتركها بين يدي الخليفة، ولما حَجَّ ما فعل خيرًا قط، ولا تصدَّق بدِرْهم (¬1). وحجَّ في هذه السنة أسد الدِّين شيركوه، فتصدَّق وفعل كلَّ خير، وأغنى أهل الحرمين، وأمر ببناء رباطه في مدينة النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وأَوْصى إذا مات أن يُحملَ ويدفنَ فيه. وفيها انتهى تاريخ ابنُ القلانسي، ومات. وفيها توفي أحمد بن محمد بن سُمَيعة البغدادي (¬2) من شعره: [من الخفيف] وُدُّ أَهْلِ الزَّوْراءِ زُوْرٌ فلا يَسـ ... ـكُنُ ذو خِبْرةٍ إلى ساكنيها هيَ دارُ السَّلام حَسْبُ فلا يُطْ ... ـمَعُ فيها في غيرِ ما قيل فيها الحسن بن علي بن عبد الله بن أبي جرالة (¬3) أبو علي ثقة الملك الحلبي سافر إلى مِصر، وتَقدَّم عند الصَّالح بن رزِّيك، وكان يحترمه لفَضْله، وبيته، وتوفِّي بمِصر في هذه السَّنة، وقيل: سنة إحدى وخمسين (¬4)، ومن شعره: [من البسيط] يا صاحبيَّ أَطيلا في مُؤَانستي ... وذكِّراني بخُلَّاني وعُشَّاقي وحَدِّثاني حديثَ الخَيفِ إنَّ به ... رَوْحًا لرُوحي وتَسْهيلًا لأخلاقي (¬5) ¬

_ (¬1) كذا قال، وأما ابن الأثير فقد ذكر في "الباهر": 115 أن زين الدين علي حج في هذه السنة، وأحسن إلى الناس في طريق مكة، وأكثر الصدقات، فلما وصل بغداد أكرمه المستنجد بالله، فلما لبس الخلعة كانت طويلة، وكان قصيرًا جدًّا، فمد يده إلى كمراته، وأخرج ما شد به وسطه، وقصر الجبة، فنظر المستنجد إليه واستحسن ذلك منه. وقال لمن عنده: مثل هذا يكون الأمير والجندي لا مثلكم. وانظر "الروضتين": 1/ 389. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 344 - 345، وفيه شميعة، والبيتان فيه، وقال العماد: توفي بعد سنة خمس وخمسين. (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 197، و"معجم الأدباء": 16/ 12 - 16، و"الجواهر المضية": 2/ 73، و"النجوم الزاهرة": 5/ 131، و"شذرات الذهب": 4/ 174. (¬4) ذكر وفاته في سنة (551 هـ) كل من ترجم له خلا ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة"، والعماد في "شذرات الذهب"، فقد تابعا المؤلف في ذكر وفاته سنة (555 هـ). (¬5) في (ع) و (ح): لآماقي، والمثبت من "الخريدة".

حمزة بن أسد بن علي بن محمد، أبو يعلى التميمي، العميد الدمشقي، ويعرف بابن القلانسي

ما ضَرَّ ريحَ الصَّبا لو ناسَمَتْ حُرَقي ... واستنقذت مُهْجتي من أَسْر أشواقي داءٌ تقادمَ عندي مَنْ يعالجُهُ ... ونَفْثَةٌ بلغتْ منِّي إلى الرَّاقي (¬1) يفنى الزَّمانُ وآمالي مُصَرَّمةٌ ... ومن أُحِبُّ على مَطْلٍ وإملاقِ وَاضيعةَ العُمْرِ لا الماضي انتفعتُ به ... ولا حَصَلْتُ على شيءٍ من الباقي (¬2) وقال: [من البسيط] ما ضَرَّهُمْ يوم جَدَّ البينُ لو وقَفَوا ... وزَوَّدوا كَلِفًا أَوْدَى به الكَلَفُ تخلَّفوا عن وَدَاعي ثُمَّتَ ارتَحلُوا ... وأَخلفوني وعُودًا ما لها خَلَفُ أستودعُ اللهَ أحبابًا أَلِفْتُهُمُ ... لكنْ على تَلَفي يوم النَّوى ائْتَلَفُوا عَمري لئن نَزَحَتْ بالبَيْنِ دارُهُمُ ... عنِّي فما نزحوا دَمْعي ولا نَزَفوا (¬3) وقال: [من الكامل] قالوا تركتَ الشِّعر قلتُ لهمْ ... فيه اثْنتانِ يعافُها حِبِّي أما المديح فكلُّه كَذِبٌ ... والهَجْو شيءٌ ليس يَحْسُنُ بي (¬4) حمزة بن أسد بن علي بن محمد، أبو يعلى التَّميمي (¬5)، العميد الدِّمَشْقي، ويعرف بابن القلانسي كان فاضلًا، أديبًا، مترسِّلًا، جمع تاريخ دمشق، وسماه "الذيل" (¬6)، وذكر في أوله طَرَفًا من أخبار المِصْريين وبعض حوادث السِّنين، وإلى هذه السنة انتهى غايته، وكانت وفاته يوم الجمعة سابع ربيع الأول، ودُفِنَ يوم السبت بقاسيون. ¬

_ (¬1) في "الخريدة": من الراقي. (¬2) الأبيات في "الخريدة": 2/ 198. (¬3) الأبيات في "الخريدة": 2/ 218. (¬4) البيتان في "الخريدة": 2/ 217 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬5) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر"" (خ) (س): 5/ 298 - 299، و"معجم الأدباء": 10/ 278 - 280، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 388 - 389، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬6) نشره المستشرق آمدروز، وطبع بمطبعة الآباء اليسوعيين سنة 1908 م، ثم أعاد نشره الدكتور سهيل زكار، وطبع في دمشق سنة 1983 م.

عيسى الملقب بالفائز

ومن شعره: [من الكامل] إياك تَقْنَطُ عند كلِّ شديدةٍ ... فشدائِدُ الأيامِ سوف تهونُ وانظرْ أوائلَ كلِّ أمرٍ حادثٍ ... أبدًا فما هو كائنٌ سيكونُ (¬1) عيسى الملقب بالفائز (¬2) ابن الظَّافر، صاحب مصر. أمه أم ولد، يقال لها زين الكمال (¬3)، ومولده في المحرَّم سنة أربعٍ وأربعين وخمس مئة، وتوفي وهو ابن إحدى عشرة سنة وشهور، وكانت أيامه ستَّ سنين وستة أشهر وسبعة عشر يومًا، وبين وفاته ووفاة المقتفي أربعة أشهر وأيام (¬4). وقام بعده أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ، ولم يلِ أبوه الخلافة، وأمه أم ولد تُدْعى ست المُنَى (¬5)، ولقب بالعاضد، ولد سنة أربع وأربعين (¬6)، وبويع لعشر بقين من رجب، وهو ابن إحدى عشرة سنة وشهور، وقيل: تسع سنين، والأول موافق لمولده، وتولى تدبير الأمور الصَّالح بن رُزِّيك. قيماز الأُرْجُواني (¬7) أمير الحاجِّ بعد نَظَر الخادم. ¬

_ (¬1) البيتان في "تاريخ ابن عساكر"": 5/ 299، و"معجم الأدباء": 10/ 278 - 279. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 196، و"الكامل": 11/ 191، و"وفيات الأعيان": 3/ 491 - 494، و"اتعاظ الحنفا": 3/ 213 - 239، و"سير أعلام النبلاء": 15/ 205 - 207، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في "اتعاظ الحنفا": 3/ 213 ست الكمال. (¬4) قال ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 306 أما السابق فهو الخليفة المقتفي، فإن وفاة المقتفي في شهر ربيع الأول، ووفاة الفائز هذا صاحب الترجمة في شهر رجب. (¬5) في (ع) و (ح): عاشت المنى، والمثبت من "النجوم الزاهرة": 5/ 307، وهو ينقل عن السبط. (¬6) ثمة اختلاف في سنة ولادته، فقد ذكر ابن خلكان والذهبي والمقريزي أنها في سنة (546 هـ)، أما ابن تغري بردي فتابع السبط في أنها سنة (544 هـ). (¬7) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 196 - 197، و"الكامل": 11/ 264، و"النجوم الزاهرة": 5/ 332.

المقتفي بالله أمير المؤمنين

كان شجاعًا عادلًا، رفيقًا بالحاجّ، مُحْسِنًا إليهم، دَخَلَ ميدان دار الخلافة يلعب بالكُرة، فسقط من الفرس على رأسه، فخرج من أُذُنه [دم] (¬1)، فمات، فحزن الخليفةُ عليه والنَّاس [لخيره وحُسْنِ سيرته] (1) وأمر أرباب الدولة أن يمشوا في جِنازته، فمشوا إلى الشُّونِيزِيَّة، فدُفِنَ بها، وحَجَّ بالنَّاسِ مدَّة سنين. المُقْتفي بالله أمير المؤمنين (¬2) أبو عبد الله محمد بن المستظهر، وسبب وفاته أنَّه خرج إلى بعض متنزَّهاته في حَرٍّ شديد، يقال: إنه أكل رُطَبًا كثيرًا أيامًا متواترة، فَحُمَّ حُمَّى حادَّة، وعاد مريضًا، فاتصل به المرض حتى صار تراقيا، وهو دُمَّلٌ يخرج في العُنُق، وبه مات أبوه المستظهر، وماتا جميعًا في ربيع الأول. [وبين وفاة المقتفي والسُّلْطان محمد ثلاثة أشهر، وكذا السُّلْطان محمود مات قبل المستظهر بثلاثة أشهر، وكذا المقتدي مات قبل ملك شاه بثلاثة أشهر، ومات المقتفي بعد غرق بغداد بسنة، وكذا القائم (¬3). وكانت وفاة] (1) المقتفي ليلة الأحد ثاني ربيع الأول عن ستٍّ وستين سنة، وقيل: خمس وستين وأحد عشر شهرًا، ومولده سنة تسعٍ وثمانين وأربع مئة، وكانت خلافته أربعًا وعشرين سنة، وثلاثة أشهر، وواحدًا وعشرين يومًا، وأُمُّه أم ولد، تدعى بُغْية النُّفوس -وقيل: نسيم- ودُفِنَ في داره بعد أن صَلَّى عليه المستنجد، وكبَّرَ أربعًا، ثم نُقِلَ بعد ذلك إلى الرُّصافة. [وحجَّ في أيامه بالناس نظر الخادم وقيماز الأُرجواني، وسمع المقتفي الحديث من أبي الفرج واسمه عبد الوهاب بن هبة الله بن السِّيبي] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 399 - 412، و"الكامل": 11/ 256، "الروضتين": 1/ 389، "الفخري": 310 - 315، و"السير"": 20/ 399 - 412، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (م) و (ش) المستظهر، وهو تحريف، والمثبت هو الصواب، وكان ذلك سنة (466 هـ)، انظر "المنتظم" 8/ 284 - 286.

محمد بن يحيى بن علي

وقال عفيف النَّاسخ، وكان صالحًا: رأيت في المنام قائلًا يقول: إذا اجتمعتْ ثلاث خاءات كان آخر خلافته، فقلت: خلافة مَنْ؟ قال: [خلافة] (¬1) المقتفي. فلما دخلت سنة خمس وخمسين وخمس مئة مات. محمد بن يحيى بن علي (¬2) أبو عبد الله الزَّبيدي [شيخ الوزير ابن هُبيرة] (1). ولد بزبيد اليمن سنة ثمانين وأربع مئة (¬3)، وقدم بغداد سنة تسع عشرة وخمس مئة (¬4)، فصحبه ابنُ هُبيرة، وانتفع به، وكان يعرف النَّحو والأدب، زاهدًا عابدًا، يركب الجمل إلى بغداد وهو مخضوبٌ بالحِنَّاء، ويعظ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصبر على الفقر، ولا تأخذه في الله لومة لائم. [وحكي أنه] (1) دخل على الوزير ابنِ هُبيرة، وقد خلع الخليفةُ عليه خِلْعة حرير، والناس يهنئونه، فقيل: هذا يوم عزاء لا يوم هناء، أَيُهنَّى الوزير على لبس الحرير! فبكى [الوزير] (1) ابن هبيرة، وقال: صدق. [وكانت له سياحاتٌ باليمن ورياضات] (1) قال: خرجتُ من زَبِيد أُريد المدينة على الموحدة، فآواني الليل إلى جبل، فصَعِدْتُ عليه، وناديتُ: اللهم إنِّي الليلة ضيفك، فنوديت: مرحبًا بك يا ضيف الله، الضيافة عند طلوع الشَّمس. فلما صلَّيتُ الصُّبْح مشيتُ، فأتيتُ وقت طلوع الشمس إلى بئر، وعندها قومٌ يستقون الماء، وقد جلسوا يأكلون خُبْزًا وتَمْرًا، فقالوا: بسم الله، هَلُمَّ إلى الضِّيافة. فأكلتُ معهم، وتعجبتُ. [وفي رواية: نُوديت في الليل: إنك تأتي على قوم عند طلوع الشمس على بئر يأكلون خبزًا وتمرًا، فإذا دعوك فكُلْ] (1). وكانت وفاته في ربيع الأَوَّل [في الشهر الذي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 6/ 247 - 248، و"المنتظم": 10/ 197 - 198، و"معجم الأدباء": 19/ 106 - 108، و"الكامل": 11/ 264، "وفيات الأعيان": 6/ 243، و"الوافي بالوفيات": 5/ 198، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 316 - 319، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) نقل ابن خلكان عن ابن النجار ولادته سنة (460 هـ)، وهو ما اعتمده الذهبي في "السير". (¬4) كذا في النسخ الخطية، وفي "المنتظم" و"الكامل"، و"وفيات الأعيان": سنة 509، وهو الأشبه بالصواب.

السنة السادسة والخمسون وخمس مئة

مات فيه المقتفي] (¬1)، ودفن بباب الشام، غربي بغداد، وصلى عليه الوزير وأربابُ الدولة. السنة السادسة والخمسون وخمس مئة في المحرَّم قُطعت خُطْبة سليمان شاه من المنابر في جوامع بغداد، وضَعُفَ أمره. وفي ربيع الأَول نُقِلَ المقتفي إلى الرُّصافة ليلة الأربعاء، وأُنزل تابوته في الزَّبْزَب (¬2)، ومعه جميعُ أرباب الدولة. [وفيها قتل طلائع بن رزِّيك بمصر] (1). وفيها اجتمع خَلْقٌ من التركمان في البَنْدَنيجَين (¬3) ليقصدوا بغداد، فجهَّز إليهم الخليفة عسكرًا، وقدَّمَ عليهم ترشك، فلما قربوا منهم امتنع ترشك من لقائهم، وكان يُظْهر أَنَّه مع الخليفة، وهو مع التركمان باطنًا، فلما عَلِمَ عسكر الخليفة نِفاقه، وَثَبوا عليه، فقتلوه، وبعثوا برأسه إلى بغداد في مخلاة. وفيها قَدِمَ أبو الخير القزويني (¬4) بغداد، وجلس بالنِّظامية، وذكر مذهب الأشعري، وثارتِ الحنابلةُ عليه. وفيها توفي إبراهيم بن دينار (¬5) أبو حكيم النَّهْرواني، الفقيه الحنبلي، [شيخ جدي في القرآن والمذهب والحديث والفرائض] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الزبزب: سفينة صغيرة. "شفاء الغليل": 143. (¬3) بلدة مشهورة في طرف النهروان من ناحية الجبل من أعلى بغداد. "معجم البلدان": 1/ 499. (¬4) هو أحمد بن إسماعيل، وسترد ترجمته في وفيات سنة (590 هـ). (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 201 - 202، و"مشيخة ابن الجوزي": 191 - 193، و"الوافي بالوفيات": 5/ 347 - 346، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 396، و "المنهج الأحمد": 3/ 165 - 168، وفيهما تتمة مصادر ترجمته.

أحمد بن الحسن

ولد سنة ثمانين وأربع مئة، وقرأ القرآن، وسَمِعَ الحديث، [وتفقه] (¬1) وناظر وأفتى، وانفرد بعلم الفرائض. [وأعطي مدرسة ابن الشمحل بباب الأزج (¬2)، ثم أعطيت لجدي بعده] (¬3). ورأى الخضر عليه السَّلام في منامه، فقال له: [من الوافر] تأهَّبْ للذي لا بُدَّ منه ... من الموت الموكَّل بالعبادِ قال: فأردتُ أن أقول له: متى؟ فقال: قد بقي من عمرك كذا وكذا سنة، فكان كما قال. وكانت وفاتُهُ في جُمادى الآخرة، ودُفِنَ قريبًا من بِشْر الحافي، وكان صالحًا متواضعًا حليمًا جدًّا، صبورًا، صدوقًا، ثقة، صائمًا، قائمًا. [وعاش نيفًا وسبعين سنة] (3). أحمدُ بن الحسن (¬4) أبو السعود بن قُضَاعة، البغدادي. ومن شعره: [من البسيط] وشادِنٍ فاترِ الأَلحاظ مُشْتَمِلٍ ... ثوبَ الملاحةِ في ثَوبٍ من الخَفَرِ كأنَّه قمرٌ أضحتْ مغارِسُهُ ... في دِعْص رَمْلٍ على غُصنٍ من الشَّجرِ يميسُ مُشْتملًا ثوب الشَّباب وقد ... حافت عليه بقايا الكأس في السَّحَرِ فَظَلْتُ منهُ بصُبْح من محاسنِهِ ... مع المُدَام وفي ليلٍ من الشَّعَر حتى إذا لاحَ مِصباحُ الصَّباحِ رَمَتْ ... بنا الظُّنونُ إلى هَوْلٍ من الخَطَرِ فقمتُ أَنْفُضُ ثوبًا باتَ مُشْتملًا ... على العفافِ نقيًّا طاهرَ الأُزُرِ ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح) وتقدم، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في "المنتظم": 10/ 201: وأعطي المدرسة التي بناها ابن الشمحل بالمأمونية، وأعدت درسه، فبقي نحو شهرين فيها، وسلمت بعده إليَّ، فجلست فيها للتدريس، وله مدرسة بباب الأزج، فكان مقيما بها، فلما احتضر أسندها إليَّ. قلت: والمأمونية محلة كبيرة ببغداد بين نهر العالي وباب الأزج، انظر "معجم البلدان": 5/ 44. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 6/ 321 - 322، وفيه أحمد بن الحسن بن قضاعة، أبو السعود، وقد نقل ترجمته عن ابن النجار.

حمزة بن علي بن طلحة أبو الفتوح

حمزة بن علي بن طلحة أبو الفتوح (¬1) حاجب باب المسترشد والرَّاشد والمقتفي، ترك الدُّنيا عن قُدْرة، وحَجَّ، ولبس القميص القُطُن عند الكعبة، وعاهد الله أن لا يخدم أحدًا، وقَدِمَ من الحج إلى بغداد، والتقاه النَّاس يبكون على فَقْده [لأنَّه كان لطيفًا بهم] (¬2)، وأنشده أبو الحسين (¬3) الشَّاعر: [من السريع] يا عَضُدَ الإسلامِ يا مَنْ سَمَتْ ... إلى العُلا هِمَّتُهُ الفاخِرَهْ كانت لك الدُّنيا فلم تَرْضَها ... مُلْكًا فأَخْلَدْتَ إلى الآخرهْ وكان تزهُّده في زمان المقتفي، فأقام عشرين سنة على هذا، وكان محترمًا في زمان عزلته أعظم مما كان في زمان خدمته، وكان يغشاه أربابُ الدولة وغيرهم، وكان يتعبَّد في داره، ويسمع الحديث؛ [سمع من أبيه ومن ابن بيان وغيرهما] (¬4). وكانت وفاته في رمضان، فحمل إلى الحربية، فدفن في تربته مقابل أبي الحسن القَزْويني، وكان يومًا مشهودًا. الصالح طلائع بنُ رُزِّيك (¬5) أبو الغارات، [وزير الديار المصرية، وقد ذكرناه] (2). أقام وزيرًا بمِصر سبع سنين على أحسن الوجوه، [وبسطَ] (¬6) العَدْلَ والإحسان، فلما كان في العاشر من رجب وَثَبَ عليه باطنيٌّ بين القَصرين، فضربه بسكِّينٍ في رأسه، ثم في تَرْقُوته، فحمل إلى داره، وقُتِلَ الباطني، ومات طلائع من الغد، فحزن النَّاسُ عليه، وبكوا، وأُقيمت المآتم بين القصرين، وفي المشارع، ومِصر، لأَنَّه كان كثيرَ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 202، و"الكامل": 11/ 280 - 281، و"المختصر المحتاج إليه": 2/ 48، و"الوافي بالوفيات": 13/ 179 - 180. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ح): أبو الحسن، والمثبت من "المنتظم"، وهو أحمد بن المبارك، وسلفت ترجمته في وفيات سنة (552 هـ). (¬4) كذا بين حاصرتين من (م) و (ش)، وفي "المنتظم": روى عن أبي القاسم بن بيان، وهو الأشبه بالصواب. (¬5) له ترجمة في "النكت العصرية" لعمارة اليمني، و"خريدة القصر" قسم شعراء مصر: 1/ 173 - 185، و"الكامل": 11/ 274 - 276، و"الروضتين": 1/ 374 - 375، 390 - 396، "وفيات الأعيان": 5/ 526 - 530، و"العبر": 4/ 160، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 397، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬6) في (ع) و (ح): وبذل، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الإحسان جَوَادًا، مشفقًا على الرعية، دَيِّنًا، صالحًا كما سمِّي، كثيرَ الصَّدقات، حَسَنَ الآثار، بنى جامعًا على باب زُويلة، وآخر بالقرافة، وتُرْبة إلى جانبه، وهو مدفونٌ بها، وعَمَرَ المساجد، وكان يتفقَّد أربابَ البيوت، وكان فاضلًا، شاعرًا، وله ديوان [مليح] (¬1)، ورثاه الشُّعراء. وقام بعده ولدُه رُزِّيك بن طلائع بأمر الوزارة، ولقب بمجد الإسلام. ومن شعر الصَّالح يجيب مؤيد الدولة أُسامة بن منقذ: [من الطويل] هي البَدْرُ لكن الثُّريا لها قُرْطُ ... ومن أَنْجُمِ الجوزاء في نَحْرها سِمْطُ مَشَتْ وعليها للغمامِ ظلائِلٌ ... تُظِلُّ ومن نَسْجِ الرَّبيع لها بُسْطُ فما اخْضَرَّ ثوبُ الأَرْض إلا لأَنَّها ... عليه إذا زارت بأقدامها تَخْطُو [وهي أبيات طويلة (¬2). قال: وحكي أنَّه] دَخَلَ الحَمَّام، فخرج فقال: [من الخفيف] نحن في غَفْلَةٍ ونومٍ وللمو ... تِ عيونٌ يقظانةٌ لاتنامُ قد دخلنا الحَمَّامَ عامًا ودَهْرًا ... ليتَ شِعْرِي متى يكونُ الحِمامُ (¬3) فقتل بعد ثلاثة أيام. وكَتَبَ إلى صديق له إلى الشَّام يقول: [من البسيط] أحبابَ قلبي إنْ شَطَّ المَزَارُ بكمْ ... فأنتُمُ في صميمِ القَلْبِ سُكَّانُ وإنْ رَجَعْتُمْ إلى الأوطانِ إنَّ لكُمْ ... صدورَنا عِوَضَ الأَوْطانِ أَوْطانُ جاورتمُ غيرنا لما نأتْ بكُمُ ... دارٌ وأنتم لنا بالودِّ جيرانُ فكيف ننساكُمُ يومًا لبعدكُمُ ... عنَّا وشخصكُمُ للعينِ إنسانُ (¬4) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، ويبدو أن ديوانه قد فقد، فجمع شعره الدكتور أحمد أحمد بدوي، وطبعه في مصر سنة 1958، ثم استدرك عليه محمد هادي الأميني، وطبع في النجف سنة 1383 هـ / 1964. (¬2) في (ع) و (ح): من أبيات، ودخل الحمام .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، والأبيات في "الخريدة": 1/ 177. (¬3) البيتان في "النكت العصرية": 48 - 49 مع اختلاف في اللفظ، وانظر "الروضتين": 1/ 392. (¬4) الأبيات في "الخريدة": 1/ 182.

محمد بن أحمد بن محمد أبو طاهر الكرخي

وقال زين الدين بن نُجَيَّة: عمل الصَّالح لأخيه دعوة، ودفع إلي هذه الأبيات يوم الدَّعوة، وهي: [من الطويل] أَنِسْتُ بكم دَهْرًا فلمَّا ظَعَنْتُمُ اسـ ... ـتقرَّتْ بقلبي وَحْشةٌ للتفرُّقِ وأعجبُ شيءٍ أَنَّني يومَ بَينكُمْ ... بقيتُ وقلبي بين جنبيَّ ما بقي ألا جَدِّدي يا نفسُ وَجْدًا وحسرة ... فهذا فراقٌ بعدَه ليس نلتقي (¬1) [قال ابنُ نُجية] (¬2): فقتل في رمضان، ولم يلتقيا بعد ذلك. وقال أيضًا: [من مجزوء الكامل] يا راكبًا ظهر المعاصي ... أوَمَا تخافُ من القِصَاص أَوَما ترى أسباب عمـ ... ـركَ في انتقاضٍ وانتقاص (¬3) محمد بن أحمد بن محمد أبو طاهر الكَرْخي (¬4) وليَ قضاء واسط وباب الأَزَج وحريم دار الخلافة، وولي لخمسة من الخلفاء: المستظهر، والمسترشد، والرَّاشد، والمقتفي، والمستنجد، وهو الذي حكم بفَسْخ ولاية الرَّاشد، وكانت وفاتُه في ربيع الأول. عبد الكريم بن عبد الله (¬5) ابن محمد، أبو الفضائل، التنوخي، المعرِّي، أخو القاضي أبو اليُسْر شاكر [بن عبد الله] (2)، ولد سنة ثماني عشرة وخمس مئة بحماة، وبها نشأ، [وربَّاه جده القاضي أبو المجد محمد بن عبد الله وأخوه أبو اليُسْر] (2)، وكان جَوَادًا، زاهدًا، فاضلًا شاعرًا، كثير الصدقة، مواظبًا على قراءة القرآن [(¬6) قال الحافظ ابن عساكر: أنشدني ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": 1/ 184، وانظر "الروضتين": 1/ 391. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) البيتان في "الخريدة": 1/ 184. (¬4) له ترجمة في "الأنساب": 10/ 392، و"المنتظم": 10/ 202 - 203، و"الوافي بالوفيات": 2/ 109، و"سير الأعلام النبلاء": 20/ 390 - 396، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬5) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 10/ 429 - 431. (¬6) في (ع) و (ح): ومن شعره في جسر ابن شواش، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أبو البركات القاضي الأعز بن أبي جرادة

أبو اليُسْر شاكر، أنشدني أخي أبوالفضائل لنفسه، وقد اجتاز بجسر ابن شوَّاش (¬1) في زمان الربيع هذه الأبيات]: [من السريع] مررتُ بالجسر وقد أَينَعَتْ ... رِياضُهُ بالخُرَّدِ العِينِ جسرِ ابنِ شَوَّاش الذي لم تَزَلْ ... فيهِ العيونُ النُّجْل تَسْبيني ونشر عِطْرٍ فاغم لم أَزَلْ ... أموتُ من شوقٍ فيحييني وكان قلبي في الهوى طائعي ... وعاصيًا من كان يغريني (¬2) ولم يُجبه للذي سامه ... من الخنا قلبي فيصبيني فسرتُ عنهنَّ سُرى مُسْرعٍ ... مخافةً منها على دِيني فالحمدُ لله الذي لم يزل ... إلى سبيل الرُّشْد يهديني (¬3) وكانت وفاته في ربيع الأول، ودفن بقاسيون. وقال [لأخيه لما احْتُضر] (¬4): يا أخي قد حضرني قومٌ حِسانُ الوجوه، نظافُ الثِّياب، طَيِّبُو الرَّائحة، مستبشرين. فقلتُ: هذه الملائكة، [وكانت وفاته في هذه السنة كما ذكرنا] (¬5). أبو البركات القاضي الأعز بن أبي جرادة (¬6) أخو القاضي ثقة الملك الحسن بن علي بن أبي جرادة [الذي ذكرناه في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة] (¬7). ¬

_ (¬1) أحد متنزهات دمشق. "معجم البلدان": 3/ 370. (¬2) في "تاريخ ابن عساكر"": يغويني، وهي الأشبه. (¬3) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر": 10/ 429 - 430. (¬4) في (ع) و (ح): وقال أخوه لما احتضر قال لي، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) توفي على الصواب سنة (552 هـ)، وقد سلفت ترجمته في وفياتها، وأعاد المصنف ترجمته في هذه السنة. (¬7) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وقد ذكر في وفيات سنة (555 هـ) وقال في ترجمته: قيل توفي سنة إحدى وخمسين وخمس مئة. قلت: وما أدري هل ذكره السبط في وفيات سنة (551 هـ) كما ذكر هنا، وغيره قطب الدين اليونيني مختصر "المرآة"، أم هو مظهر من مظاهر كثيرة تدل على أن الكتاب يعوزه التحرير والتنقيح؟

أبو المكارم الآمدي

كان أبو البركات أمينًا على خزانة نور الدين [محمود] (¬1). وكان فاضلًا [شاعرًا، وله إلى أخيه مكاتبة وأجوبة، منها ما نذكر، وهي هذه الأبيات] (¬2): [من الطويل] أأحباب قَلْبي والذين أَوَدُّهُمْ ... وأَشْتاقُهُمْ في كل صُبْحٍ وغَيهَبِ بغيرِ اختياري فاعْلَموا وإرادتي ... نزلتُ على حُكْم النَّوى والتَّجنُّبِ رحلتُ بقلبٍ عنكُمُ غيرِ راحل ... وعِشْتُ بعيش بعدكم غيرِ طَيِّبِ لقد فَلَّ غَرْبي غربتي عن بلادكم ... وأجرى غُروبَ العين مني تغرُّبي فلا تحسبوا أَنِّي تسلَّيتُ عنكُمُ ... فما الهَجْرُ من شَأْني ولا الغَدْرُ مَذْهبي لعَمْري لقد أبليتُ نفسيَ عُذْرها ... وإن كنتُ لم أظفر بغايةِ مطلبي وقد كنتُ قبل البَينِ جَلْدًا على النَّوى ... فهدَّ الأسى رُكْني وضَعْضَع منكبي لحا اللهُ دَهْرًا فرَّقتنا صروفُه ... فَشَعَّبَ منا الشَّمْلَ في كل مَشْعب ولكنني أرجو من الله أَنَّه ... سَيُنْعِمُ بالي منكُمُ بالتقرُّبِ (¬3) [قال العماد الكاتب: توفي بعد سنة خمس وخمسين وخمس مئة] (¬4). أبو المكارم الآمِدِي (¬5) ويلقب بالكامل. ومن شعره يمدح الوزير ابنَ هُبيرة: [من الطويل] وزير يضمُّ الدَّسْتُ منه جمالهُ ... كما ضَمَّتِ الحسناءَ حاشيتَا بُرْدِ تقضَّتْ أحاديثُ الورى ولفِعلِهِ ... أحاديثُ تروى بين غَوْر إلى نَجْدِ حديث كنَشْرِ الرَّوْضِ يجري نسيمُهُ ... على صفحة النَّادي بأذكَّىَ من النَّدِّ إذا هبطت زهر النجوم فنجمُهُ ... مقيمٌ على الإشراق في طالع السَّعدِ فَدُمْ وابقَ للإسلامِ والمُلْكِ ما شَدَتْ ... مطوَّقَةٌ واشتاقَ ظامٍ إلى الورْد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ع) و (ح): وكان فاضلًا، وكتب إلى أخيه، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 221 - 222. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، انظر "الخريدة": 2/ 219. (¬5) هو محمد بن الحسين، وله ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 463، وقسم شعراء العراق: ج 3/ 375 - 380 - والأبيات فيه مع اختلاف في بعض ألفاظه - و"معجم البلدان": 1/ 57، و"الوافي بالوفيات": 3/ 17. وفي "معجم البلدان" و"الوافي "وفاته سنة (552 هـ).

هبة الله بن الفضل

هبة الله بن الفَضْل (¬1) ابن عبد العزيز، أبو القاسم البغدادي. الغالب على شعره الهجو، ومن شعره (¬2): [من الوافر] يا مَنْ هَجَرَتْ فما تُبالي ... هل ترجعُ دولةُ الوصالِ ما أطمَعُ يا عذابَ قلبي ... أن ينعَمَ في هواكِ بالي الطَّرْفُ كما عهدت باكٍ ... والجسمُ كما تَرَينَ بالِ ما ضرَّكِ أن تُعَلِّليني ... في الوَصل بموعدٍ مُحالِ أهواكِ وأنتِ حَظُّ غيري ... يا قاتلتي فما احْتيالي أيَّامُ عَنَايَ فيكِ سودٌ ... ما أشبَههُنَّ باللَّيالي العُذَّلُ فيك يزجروني ... عن حُبِّك ما لهم وما لي يا مُلْزِميَ السُّلُوَّ عنها ... الصَّبُّ أنا وأنتَ سالِ والقولُ بتركها صوابٌ ... ما أَحْسَنَهُ لو استوى لي في طاعتها بلا اختياري ... قد صَحَّ بعِشْقها اختبالي طلَّقْتُ تجلُّدي ثلاثًا ... والصَّبْوةُ بَعدُ في حبالي (¬3) وقال يمدح ابنَ هبيرة، من أبيات: [من البسيط] أهلًا وسهلًا بمولانا فأَوْبتُهُ ... لكلِّ شاكٍ بها من رِفْدِهِ فَرَجُ لا أعدَمَ الله فيك الخَلْقَ راحتهم ... يا من به تَفْخَرُ الدُّنيا وتَبْتَهِجُ ودامَ جُودُك عونَ الدِّين يَغْمُرُنا ... يا مَنْ تعيشُ بما تسخو به المُهَجُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 207، و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 270 - 288، و "طبقات الأطباء": 380 - 389، "وفيات الأعيان": 6/ 53 - 61، و"الوافي بالوفيات": 27/ 307 - 312، و"لسان الميزان": 6/ 189، وعندهم وفاته سنة (558 هـ). (¬2) قال العلامة محمد بهجة الأثري في تعليقه على "الخريدة": وزن هذا الشعر من الوافر إلا أنه دخل فيه العَقَص، وهو اجتماع الخَرْم والعَضْب، فنقل فيه مفاعيلن إلى مفعولُ -بتحريك اللام- وهذه الحالة في البحر الوافر تشكل على معظم الأدباء، لقلتها وغرابتها، فيقع بينهم التنازع فيها. قلتُ: وعدَّه بعضُهم من مجزوء الوافر، ومال العلامة عز الدين التنوخي إلى أنه من مجزوء الدوبيت، والله أعلم، انظر "إحياء العروض": ص 61. (¬3) "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 273 - 275، وقد ساقها بتمامها ابن أبي أصيبعة في "طبقات الأطباء".

يوسف بن مكي، أبو الحجاج الحارثي

مولايَ قد قَصُرَتْ بي نهضتي كِبرًا ... فما عليَّ بشكوى فاقةٍ حَرَجُ يا مُحْسِنًا طَرَدَتْ آلاؤه كرمًا ... ما في فؤادي من اللأواء يعتلجُ طيِّبْ بقيةَ عُمْري بالتعهُّد لي ... يا مَنْ له طيبُ ذِكْرٍ نَشْرُهُ أَرجُ فإنَّ من جاوز العُمْرين قد خَرِبَتْ ... بالعجز منه أعالي القَصر والأَزَجُ ففيم تخدَعُني الدُّنيا بزينتها ... والحَينُ قد حان والأحبابُ قد دَرَجوا (¬1) وتوفي في هذه السنة، وقيل: سادس وعشرين رمضان سنة ثمانٍ وخمسين (¬2)، ودفن بمقبرة معروف الكرخي. [فصل، وفيها توفي يوسف بن مكي، أبو الحجاج الحارثي (¬3) الشَّافعي، إمام جامع دمشق بعد أبي محمد بن طاوس. كان صالحًا، ورعًا، لا يأخذ على الإمامة أجرة، وتوفي بدمشق، سمع ببغداد ابن الطُّيوري وطبقته، وروى عنه أبو الحسن السُّلمي (¬4)، والحافظ ابن عساكر وغيرهما، وكان ثقة] (¬5). السَّنة السَّابعة والخمسُون وخمسُ مِئَة في رجب ذكر يوسف الدِّمَشْقي الدَّرس في النِّظامية، وخُلِعَ عليه، وصُرِفَ ابن النِّظام بسبب تزويجه امرأة، عَقَدَ العَقْدَ عليها فقيه يقال له الأَشْتري سِرًّا، فأُدِّب الفقيه بباب النّوبي، وكانت المرأةُ قد ادَّعت أنه تزوَّجها وأنكر، ثم اعترف، فَعُزِلَ عن النِّظامية، وأُلزم بيته. ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": 1/ 278 - 281. (¬2) وهو ما ذكرته مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "مختصر ابن عساكر": 28/ 93 - 94 (اختصرته سكينة الشهابي على نهج ابن منظور). (¬4) كذا، وفي "مختصر ابن عساكر": وتفقه مدة طويلة عند الفقيه أبي الحسن السلمي. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

خطلخ بن عبد الله

وفيها تكاملتِ المدرسةُ التي بناها الوزير ابن هُبيرة بباب البَصرة، ورتَّب بها الفقهاء، ودرَّس بها أبو الحسن البَرَانْدِسي الحَنْبَلي (¬1)، ثم خربت بعد الوزير، وذهبت أوقافها، وبها دُفنَ الوزير. وفيها حاصر نور الدين [محمود بن زنكي] (¬2) حِصن حارم، واجتمع الفرنج، وراسلوه، ولاطفوه، وكانوا خَلْقًا عظيمًا، فرجع إلى حلب، وكان معه مُؤَيَّد الدِّين أُسامة بن مُرْشد بن منقذ [الذي أخرجه عمه من شيزر] (2)، فنزل بدار إلى جانبها مسجد، وكان قد نزل بها عام أَوَّل، وحَجَّ، ثم عاد، فدخل المسجد بعد عوده من الغَزَاة، فكتَبَ على [حائط المسجد أبياتًا لنفسه، وهي] (¬3): [من الطويل] لك الحمدُ يا مولاي كم لكَ مِنَّةٍ ... عليَّ وفَضْلٍ لا يحيطُ به شُكْري نزلتُ بهذا المسجد العامَ قافلًا ... من الغزو موفورَ النَّصيب من الأَجْرِ ومنه رَحَلْتُ العيْسَ في عاميَ الذي ... مضى نحو بيتِ الله والركن والحِجْرِ فأديتُ مفروضي وأسقطتُ ثِقْلَ ما ... تحمَّلْتُ من وزْرِ الشَّبيبة عن ظَهْرِي (¬4) وحجَّ النَّاسُ من العراق، ووقفوا بعرفة، فلما نزلوا الخَيف خرجَ إليهم عبيد مكَّة فنهبوهم، فرحلوا إلى المدينة، ولم يَطُفْ أحد بالبيتِ، ولم يَسْعَ [خوفًا من العبيد] (2). [وفيها توفي خُطْلُخ بن عبد الله (¬5) أبو محمد، الأتابكي، الطُّغْتكيني الحنفي، ويسمى بعبد الهادي. ¬

_ (¬1) هو علي بن محمد بن علي البراندسي، نسبة إلى براندس قرية من قرى بغداد، وقد توفي سنة (586 هـ)، انظر ترجمته في "التكملة لوفيات النقلة": 1/ 131 و"ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 366 - 368، و"المنهج الأحمد": 3/ 300 - 301. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ح): فكتب على حائطه لنفسه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) انظر "كتاب "الروضتين": 1/ 396. (¬5) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر"" (خ) و (س): 5/ 663 - 664، و"الجواهر المضية": 2/ 166 - 167.

الحسين بن علي بن القاسم

تفقه على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث، وكان إمام جامع النَّيْرب -قرية غربي دمشق- وكانت وفاته بها، سمع أبا طاهر الحِنَّائي وطبقته، وروى عنه أبو سعد بن السمعاني وغيره، وكان فاضلًا ثقة] (¬1). وفيها توفي الحسين بن علي بن القاسم (¬2) ابن المُظَفَّر، أبو علي الشَّهْرُزُوري، قاضي قضاة المَوْصِل والجزيرة. كان عظيم الشأن، فاضلًا، قاضيًا بالحقِّ، بعثه صاحب المَوْصِل إلى المقتفي في رسالةٍ، فتوقف الغَرَضُ الذي بُعث لأجله، فأقام ببغداد، وولاه المقتفي القضاء في إحدى جانبي بغداد مع أبي البركات الثقفي. زُمُرُّد خاتون بنت جاولي (¬3) أُخت الملك دُقاق لأمه [ابن تاج الدولة تُتُش بن ألب رسلان] (1) وهي أمُّ شمس الملوك إسماعيل، وشهاب الدِّين محمود ابني بُوري بن طُغْتِكِين. قرأت القرآن [على أبي محمد بن طاوس، وأبي بكر القرطبي، وسمعت الحديث من نَصر بن إبراهيم المقدسي وغيره] (¬4)، وكانت محبةً للعلماء وأهل الخير، حنفية المذهب، وهي التي بنت مسجد خاتون على الشرف القبلي ظاهر دمشق بأرض صَنْعاء ووقفت عليه الأوقاف الكثيرة. [وليست خاتون التي بنت خانقاه الصوفية على الشرف القِبْلي قريبًا من القبلة، تلك بنت معين الدين أُنر زوجة نور الدين محمود بن زنكي، وتزوجها صلاح الدين، وسنذكرها بعد الثمانين وخمس مئة، ودفنت بجبل قاسيون، وهي التي بنت مدرسة خاتون بدمشق. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 75، و"الوافي بالوفيات": 14/ 213 - 214، "النجوم الزاهرة": 5/ 361. (¬3) لها ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 19/ 424 (تراجم النساء: 112) و "العبر" للذهبي: 4/ 162، و "شذرات الذهب": 4/ 178. (¬4) في (ع) و (ح): قرأت القرآن وسمعت الحديث، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

صدقة بن وزير الواسطي

وأما صاحبة هذه الترجمة فهي التي] (¬1) ساعدت على قَتْلِ ابنها شمس الملوك إسماعيل، لما كَثُرَ فساده، وسَفْكُه للدِّماء، وقَتْله خواص أبيه، ومصادرات النَّاس، ومواطأة الفرنج على بلاد المسلمين، [فأراحت منه العباد، وطهرت منه البلاد، قال الحافظ ابن عساكر: دبرت عليه حتى قتل بحضرتها، ] (2) وأقامت أخاه محمودًا مكانه [وقد ذكرناه] (¬2). وتزوجها أتابك زَنْكي طمعًا في دمشق، فلم يظفر بطائل، ونقلها إلى حلب، فلما قُتِلَ [أتابك] (¬3) على قلعة جَعْبر عادت إلى دمشق، فأقامت مُدَّة، ثم حَجَّت على طريق العراق، ودخلت بغداد. وعادت إلى الحج، فجاورت بمكة سنةً، ثم جاءت إلى المدينة، فجاورت بها حتى توفيت، ودُفِنَت بالبقيع، وكان قد قَلَّ ما بيدها [فبلغني أنها كانت] (¬4) بالمدينة تغربل القمح والشَّعير، وتتقوَّت بأُجرتهما، وكانت كثيرة البِرِّ والصَّدقات والصِّلات، والصَّوم والصَّلاة، [رحمها الله تعالى] (3). صدقة بن وزير الواسطي (¬5) [ذكره جدِّي في "المنتظم"، وقال: ] (¬6) دخل بغداد [ولبس الصوف] (3)، ولازم التقشُّفَ زائدًا على الحد، ووعظ، وكان يصعد المنبر، وليس عليه فرش، فأخذ قلوب العوام، وكان يميل إلى مذهب الأشعري، وعنده رِفْض. [قال: وبلغني أَنَّه] (3) لما مرض كان يُحْضِرُ الطَّبيبَ بالليل لئلا يقال عنه إنَّه يتداوى، وكان إذا جاءه فتوح يقول: أنا لا آخذ شيئًا، سَلِّموه إلى أصحابي. فَتَمَّ له ما أراد، وبنى ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): ووقفت عليه الأوقاف الكثيرة، وساعدت على قتل، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع) و (ح): قد قل ما بيدها، فكانت .. وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 204 - 205، و"المختصر المحتاج إليه": 2/ 106 - 109، و "طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 112 - 113، والبداية والنهاية (وفيات سنة 557 هـ)، و"الوافي بالوفيات": 16/ 291 - 292. (¬6) في (ع) و (ح): قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

رباطًا بقَرَاح القاضي، فاجتمع إليه جماعةٌ، وتوفي يوم الخميس ثامن ذي القعدة، وصُلّي عليه في ميدان الخيل داخل السُّور، ودفن في رباطه. [وبنى يزدن لرباطه منارةً، وتعصَّب له، لأجل ما كان يميل إليه صدقة من التشيع، وصار رباطه مقصودًا بالفتوح، وفيه دفن، هذا صورة ما ذكر جدِّي في "المنتظم"] (¬1). وقال ابن الدُّبَيثي: صدقة بن الحسين بن أحمد بن محمد بن وزير، أبو الحسن الواسطي، من أهل قرية خُسَّابور (¬2)، كان أبوه من تُنَّائها (¬3)، وبها ولد صدقة، فأَحبَّ الاشتغال بالعِلْم، والزُّهْد في الدنيا، فترك ما كان فيه، وصار إلى واسط، فحفِظَ القرآن وقرأ بالعشر قراءات، وتكلَّم في الوعظ، فصار له بها قَبولٌ كبير، وأخذ نفسه بالمجاهدة، والرِّياضة وإدامة الصَّوم، والعبادة (¬4). قال المصنِّف رحمه الله: حكى لي مَنْ أدركه ببغداد، أَنَّه كان من الأولياء الأفراد، أقام سنين لم يدخل حَمَّامًا، ويقطع نهاره صيامًا، وليله قيامًا. واتَّفق وعَّاظ العراق على ثَلْبه على المنابر، ورميه بالصَّغائر والكبائر، ولم يُنْقل عنه أَنَّه ذكر أحدًا منهم بلفظةٍ، ولا ثَلَمَ مال مسلم ولا ثَلَبَ عِرْضه، وكلَّما وقعوا فيه قد زاد قبوله. [ولقد حكى لي تلميذُه الشيخ مُصَدِّق النَّحْوي] (¬5) أَنَّه منذ دخل العراق إلى أن توفي لم يأكل من حِنْطَةٍ زُرِعَتْ بأرض بغداد، وإنَّما كان يُحمل إليه من غَلَّةِ واسط من مُلْكه ما يتقوَّتُ به، ولم يأكل من أوساخ أهل بغداد، وأقام عليه ثوب واحد ثلاثين سنة شتاءً وصيفًا ما غَيَّره. [وذكر مصدق عنه عجائب من زُهْده وورعه وأمانته وديانته] (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "المنتظم": 10/ 204 - 205، وترجمة يزدن فيه: 10/ 242. (¬2) هي خسروسابور، والعامة تقول خسابور، وهي قرية قرب واسط. "معجم البلدان": 2/ 371. (¬3) أي من أغنيائها. انظر "معجم متن اللغة": 1/ 410. (¬4) انظر "المختصر المحتاج إليه": 2/ 107. (¬5) في (ع) و (ح): وقال مصدق النحوي تلميذه أنه منذ دخل، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر ترجمته مصدق في "المذيل على "الروضتين": 1/ 199 - 200، بتحقيقي. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عبد الله بن علي بن أحمد

عبد الله بن علي بن أحمد (¬1) ابن علي بن الحسن بن عبد الله بن فارس، أبو القاسم، الشاهد، الدِّمَشْقي، ويعرف بابن السيرجي. وكان شيخًا صالحًا، ثقةً، أمينًا، قرأ القرآن، وسمع الحديث، وتوفي بدمشق في ربيع الأول. عَبد الرَّحمن بن مروان (¬2) ابن سالم، أبو محمد، التَّنوخي، المَعَرِّي، الواعظ. قال العماد الكاتب: اجتمعتْ له الفصاحة والصَّباحة، ومواعظه مُبْكية مُضْحكة، وكلماته بالوَعد منجية، وبالوعيد مُهْلكة، إذا وعظ كانت عباراته أَرَقَّ من عبرات الباكين، وإذا أنشد كانت غُرره مثل ثغور الضَّاحكين، حَضَرْتُ مجلسه ببغداد، وشهِدْتُ محاسنه، فألفيته جوهريَّ الوقت، جَهْوَري الصَّوت، فهو كما قال الحريري: يقرعُ الأسماعَ بزواجر وَعْظِهِ، ويطبع الأسجاع بجواهر لفظه. وكان شحاذًا، نتاشًا، حَوَّاشًا، قلما يخلو يومًا شَرَكُه من صيد، حتى لو رآه الحريري لم يذكر أبا زيد. ورأيتُه قائمًا يعظ في عزاء صدر الدين إسماعيل شيخ الصُّوفية ببغداد، وهو ينشد: [من المديد] يا أخِلَّائي بحقكُمُ ... ما بقي من بعدكم فَرَحُ أيُّ صَدْرٍ في الزَّمانِ لنا ... بعد صَدْرِ الدِّين يَنْشَرحُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في مختصر "تاريخ ابن عساكر" (اختصرته سكينة الشهابي على منهج ابن منظور): 13/ 145، وفيه وفاته سنة (558 هـ). (¬2) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر"": 10/ 182 - 183، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 92 - 97، و"الوافي بالوفيات": 18/ 266 - 269، و"فوات الوفيات": 2/ 300 - 301، و"شذرات الذهب": 4/ 178، ووفاته في "تاريخ ابن عساكر"" سنة (559 هـ)، وفي "الخريدة" سنة (560 هـ).

وأثرى ببغداد، وحسنت حاله، وكان مُغْرًى بالنِّسوان، وله قَبولٌ حسنٌ عند الحِسان، ومن شعره: [من مجزوء الرمل] أفّ للدنيا وأَفّ ... كلُّ من فيها يَلُفُّ مثل خيَّاطٍ حريصٍ ... كلما شلَّ يكُفُّ (¬1) وقال ابنُ عساكر: كان أبوه منجِّمًا، رأيتُه يجلس على الطَّريق، وكان عبد الرحمن هذا ينشد على الطريق، وفي الأسواق على الدَّكاكين، وكان في صوته شجًى، وخرج عن دمشق وهو شابٌّ، فغاب عنها مدَّة وعاد، وكان يعظ في الأعزية، ثم وعظ بعد ذلك على الكُرْسي، ورُزِق قَبولًا، واكتسب من الوعظ مالًا، ثم خرج إلى العراق، فأقام ببغداد مدة، وأظهر الزُّهد، وظهر له بها سوق، ثم رجع إلى دمشق، ووعظ، وصَعِدَ إليه يومًا إلى المنبر طفلٌ صغير، فأخذه على يده، وقال: [من الرجز] هذا صغيرٌ ما جنى صغيرةً ... فهل كبيرٌ يركب الكبائرا فضجَّ المجلس بالبكاء. وحضرنا عزاء المقتفي في جامع (¬2) وصدر المجلس القاضي أبو الفَضْل محمد بن عبد الله الشَّهْرُزُوري (¬3)، فرثى الخليفة بأبياتٍ، فَخَلَعَ القاضي عليه ثوبه، فتذكر عادته في الكُدْية، فخرج عما كان فيه من العزاء إلى استدعاء موافقة الحاضرين في خَلْع ثيابهم، فخلع بعضهم، فقال: أنا المُعَرِّي لا المعزي، وذكر أشياء فأضحك القوم، فلما خرجنا، قلتُ له: أخرجتَ العزاء عن معناه، وجعلته مضحكة، فقال بعض مَنْ أراد التقرُّب إليه: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]. فقلت: لكلِّ مقامٍ مقال، وليس هذا موضعه. فسكت (¬4). وكانت وفاته يوم الجمعة من رجب، ودفن بقاسيون. ¬

_ (¬1) انظر "خريدة القصر": 2/ 92 - 96. (¬2) أي في جامع دمشق. (¬3) هو المعروف بالقاضي كمال الدين الشهرزوي، وسترد وفاته سنة (572 هـ). (¬4) "تاريخ ابن عساكر": 10/ 182 - 183.

[عدي بن مسافر]

ومن شعره: [من الهزج] ولما أصبح الوصلُ ... صحيحًا ما به داءُ أتى الهَجْرُ فلا ميمٌ ... ولا راءُ ولا حاءُ ولا باءٌ ولا سينٌ ... ولا هاءٌ ولا لاءُ يعني لا مرحبًا ولا سهلًا بالهجر (¬1). [عَدِي بن مسافر] (¬2) قلتُ: ذكر قاضي القضاة شمس الدين بن خَلِّكان -رحمه الله- في "وفيات الأعيان" (¬3): الشيخ عَدِي بن مسافر، الهَكَّاري مسكنًا، العبد الصَّالح المشهور، سار ذكره في البلاد، وتبعه خَلْقٌ كثير، وجاوز حسنُ اعتقادهم فيه الحدَّ، وجعلوه ذخيرتهم في الآخرة، وكان قد صَحِبَ جماعةً من أعيان المشايخ والصُّلحاء، ثم انقطع إلى جبل الهكَّارِيَّة من أعمال المَوْصِل، وبنى له هناك زاويةً، ومال إليه أهل تلك النَّواحي كلها ميلًا لم يُسْمع بمثله. وكان مولده في قرية يقال لها بيت فار من أعمال بَعْلَبَك، والبيتُ الذي ولد فيه يزار إلى الآن، وتوفي سنة سبع، وقيل: خمس وخمسين وخمس مئة، ودفن ببلده بزاويته، وقبره عندهم من المزارات المعدودة، وحَفَدَتُه بموضعه يقتفون آثاره والنَّاسُ معهم على ما كانوا عليه زمن الشيخ من جميل الاعتقاد، وتعظيم الحُرْمة، وكان مُظَفَّر الدِّين صاحبُ إِرْبل يقول: رأيتُ الشيخ عدي بن مسافر، وأنا صغير بالمَوْصِل، وهو شيخٌ، رَبْعَةٌ أسمرُ اللَّون، وكان يحكي عنه صلاحًا كثيرًا، وعاش تسعين سنة. ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": 2/ 97 بغير هذا الترتيب. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا للإيضاح، وهذه الترجمة مما زاده القطب اليونيني على "مرآة الزمان"، يدل على ذلك أن ابن خلكان صاحب "وفيات الأعيان": قدم دمشق سنة (659 هـ)، أي بعد وفاة السبط بخمس سنين، وفيها عين قاضيًا للقضاة، وتوفي سنة (681 هـ)، يعني بعد وفاة السبط بسبع وعشرين سنة، ولم يكن ابن خلكان سنة وفاة السبط قد فرغ بعد من تأليف كتابه، انظر الدراسة القيمة عن ابن خلكان للدكتور إحسان عباس في الجزء السابع من "وفيات الأعيان": ص 40، 66. وانظر "المذيل على "الروضتين": 2/ 165، 167. (¬3) "وفيات الأعيان": 3/ 254 - 255، وله ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 20/ 342 - 344، و"الكواكب الدرية": 2/ 268 - 269، وفيهما تتمة مصادر ترجمته.

قلتُ (¬1): وقد وقعتُ على مجموعٍ فيه أخباره، وهو للشيخ شرف الدِّين أبي الفضائل: عدي بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان بن الحكم بن مروان الأُموي (¬2)، استوطن لالش من جبل الهَكَّار إلى أن مات بها سنة ثمانٍ وخمسين وخمس مئة، ودفن بزاويته، وقبره بها ظاهرٌ يزار، وكان عالمًا، فقيهًا، صالحًا ظريفًا، متواضعًا، حسنَ الأخلاق مع كثرة الهيبة، وهو أحدُ أركانِ الطَّريقة، وأعلام العلماء بها، وسَلَكَ في المجاهدة وأحوال البداية طريقًا صَعْبًا، بعيدًا، عزيز المنال، تعذَّر على كثيرٍ من المشايخ سلوكه، وكان سيِّدُنا شيخ الإسلام محيي الدِّين عبد القادر ينوِّه بذكره، ويُثْني عليه كثيرًا، وشَهِدَ له بالسَّلْطنة، يعني على الأولياء. وقال: لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها الشيخ عدي بن مسافر. وكان في أول أمره في الصَّحارى والجبال، مجردًا سائحًا، يأخذ نفسه بأنواع المجاهدات مدَّةً مديدة، وكانت الحَيَّات والسِّباع تألفه فيها، وتتلمذ له خَلْقٌ كثير من الأولياء، وتخرَّج بصحبته غيرُ واحد من ذوي الأحوال، وانتمى إليه عالمٌ عظيم، وكان له كلامٌ نفيس على لسان أهل الطَّريق. ومن كلامه في توحيد الباري عَزَّ وجل: لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته ببال، لا مثل الأشكال، صفاته قديمة كذاته، ليس جسمٌ في صفاته، جَلَّ أن يشبهه بمبتدعاته، أو أنْ يضاف إلى مخترعاته {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] لا سميَّ له في أرضه وسماواته، ولا عديل له في حكمه وإرادته، حرام على القلوب أن تَمثَّلَ الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحدَّه، وعلى الظنون أن تقطع وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الفكر أن يحيط، وعلى العقول أن تصور إلا ما وصف به ذاته في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومنه: أول ما يجب على سالك طريقنا هذه ترك الدعاوى الكاذبة، وإخفاء المعاني الصادقة. ¬

_ (¬1) أي القطب اليونيني، مختصر "مرآة الزمان". (¬2) كذا في (ع) و (خ)، ولعله الحكم بن أبي العاص.

وقال إسرائيل بن عبد المقتدر: أقمتُ مدَّة ثلاث سنين سائحًا مجردًا في جبل الهَكَّار، وجبل لبنان وجبال العراق والعجم، وكانت الأحوال تطرقني، فأَخِرَّ لوجهي، فَتَسْفي عليَّ الرِّياح إلى أن ترى فوق جِلْدي جِلْدًا آخر من الوسخ، فجاءني ذئب ونظر إليَّ متبسمًا، ولَحِسَ جِلْدي كله حتى تركه كالجُمَّارة (¬1)، فتداخلني العُجْب، فإذا هو قد شَزَرني مُغْضَبًا، وبال عليَّ، فأتيتُ إلى عين ماء، فاغتسلتُ، ودخلتُ قُبَّة في وسط الصحراء، بيني وبين النَّاس مسيرة عشرة أيام من كل قطر، ولا يمرُّ بي أحد، ولا أسمع صوتَ أحد البتَّة، فقلتُ في نفسي: لو قيَّضَ الله لي بعضَ العارفين. فإذا الشيخ عدي بن مسافر إلى جانبي، ولم يُسَلِّمْ عليَّ، فأرعدت من هيبته، وقلتُ في نفسي: ولِمَ لَمْ يُسَلِّمْ علي؟ فقال لي: إنا لا نلتقي بالسَّلام والترحاب من تبول عليه الذِّئاب. ثم ذكر لي جميعَ ما جرى لي في سياحتي، وواجهني بجميع خواطري، وبكلِّ شيءٍ اختلج في سِرِّي، وأضمره قلبي، واقعة واقعةً، حتى ذكَّرني بأشياء أُنْسِيتُها. فقلتُ له: يا سيدي، أشتهي الانقطاع في هذه القُبَّة، فلو كان عندي ما أشرب منه وما أقتاتُ به. فقام إلى صخرتين كانتا في تلك القُبَّة، ووكز إحداهما برجله، فانفجرت منها عينُ ماءٍ حُلْو عَذْب من ماء النِّيل، ووكز الأُخرى، فنبتَتْ فيها شجرة رُمَّان، وقال لها: أيتها الشجرة أنا عدي بن مسافر، أَنْبتي بإذن الله تعالى يومًا رُمَّانًا حُلْوًا ويومًا رمانًا حامضًا. وقال لي: أقم هنا، وكُلْ من هذه الشجرة، واشرب من هذه العين، وإذا أردتني اذكر اسمي آتك. فأقمتُ في تلك القبة سنين، فكنت آكل من تلك الشجرة يومًا رُمَّانًا حُلْوًا، ويومًا حامضًا، أحسن رمان في الدنيا وأطيبه، وما ذكرتُه قَطُّ إلا وجدتهُ حاضرًا عندي، وينبئني بما يختلج في صَدْري في مُدَّة غيبته عني، ثم بعد سنتين أتيت إلى بلالش، وبتُّ عنده ليلة، فأحرقني بأنفاسه، ومكثت أربعين يومًا أصبُّ عليَّ الماء البارد كل يوم، وإني لأجِدُ النَّار الشديدة في باطني، من هَبَّة أنفاسه. ¬

_ (¬1) يعني جمارة النخل، وهي شحمته التي في قمة رأسه، تقطع قمته، ثم تكشط عن جمارة في جوفها بيضاء كأنها قطعة سنام ضخمة، وهي رخصة تؤكل بالعسل "اللسان" (جمر). وقد شبه جلده بها لبياضها، ولكن لا يوصل إليه إلا بالكشط، والله أعلم.

قال: وودَّعْتُه مرةً مسافرًا إلى عَبَّادان، فقال لي: إذا رأيت سَبُعًا تخاف منه، فقل له: يقول لك عدي بن مسافر اذهب ودَعْني، وإذا رأيت هولَ البحر، فقل: أيتها الأمواج المتلاطمة يقول لك عدي بن مسافر اسْكُني بإذن الله. فكنتُ إذا لقيت شيئًا من الوحوش، قلت: يقول لك الشيخ عدي بن مسافر اذهب وَدَعْني، فينكِّس رأسه، ويذهب. ولما اشتدَّ علينا البحر، وأشرفنا فيه على الغرق، قلتُ ما أمرني به، فما تمَّ كلامي حتى سكن الريح، وصار كأنه عين ديك. وقال الشيخ عمر بن محمد: خدمتُ الشيخ عدي بن مسافر سبع سنين، شَهِدْتُ له فيها خارقات في نفسي، إحداها أنني صببتُ على يديه ماء، فقال لي: ما تريد؟ فقلت: أُريد تلاوة القرآن، فإني لا أحفظ منه سوى الفاتحة وسورة الإخلاص، وحِفْظُه عليَّ عسيرٌ جدًّا. فضَرَبَ بيده في صدري، فحفظت القرآن كلَّه في وقتي، وخرجتُ من عنده، وأنا أتلوه بكماله، لا تتوقف علي منه آية واحدة، وأنا إلى الآن من أجودِ النَّاس تلاوةً له، وأقدرِهم على دَرْسه. وقال لي يومًا: اذهب إلى الجزيرة السَّادسة من البحر المحيط تجدْ بها مسجدًا، فادْخُلْه تَرَ فيه شيخًا، فَقُلْ له: يقول لك عدي بن مسافر احذرِ الاعتراض، ولا تختر لنفسك أمرًا لك فيه إرادة. فقلتُ: يا سيدي وأنَّى لي بالبحر المحيط؟ فدفعني بين كتفي، وأنا بظاهر زاويته بلالش، فإذا بجزيرةٍ بالبحر المحيط، فلا أدري كيف جِئْتُ، فدخلت المسجد، فرأيتُ شيخًا مهيبًا مفكِّرًا، فسلَّمْتُ عليه، وبَلَّغْتُه الرِّسالة، فبكى وقال: جزاه الله خيرًا. فقلتُ: يا سيدي وما هذا؟ فقال: يا بني إنَّ أحد السبعة الخواص في النَّزْع الآن، وإني طَمَحَتْ بي إرادتي أن أكون مكانه، وإنَّ خطرتي لم تكمل في نفسي حتى أتيتني، وقد جئتَ إليَّ وأنا مفكر في ذلك. فقلتُ: يا سيدي، وأنَّى لي بالوصول إلى جبل الهَكَّار؟ فدفعني بين كتفي، وإذا أنا بزاوية الشيخ عدي، فقال لي: هو من العشرة الخواص (¬1). ¬

_ (¬1) الله أعلم بصحة هذه الأخبار، وفي صحتها في النفس أشياء.

السنة الثامنة والخمسون وخمس مئة

السَّنة الثامنة والخمسون وخمس مئة فيها بُني كشك الخليفة والوزير على باب المُظَفَّرية ظاهر بغداد، وأنفق على ذلك مالًا عظيمًا، وسُمِّي المكان الحُطَمِيَّة، وكان الخليفة والوزير يخرجان فيقيمان فيه، ويصلِّيان الجُمعة في جامع الرُّصافة مدَّة إقامتهما فيه، ويخرج أهل بغداد أيام الجُمَع، ويقفون صفوفًا يتفرَّجون، ويعبر الخليفة بينهم، وكان له حاجبٌ يقال له أحمد النوبي، وكان المستنجد سمينًا، فاجتاز بامرأتين، فقالت إحداهما للأُخرى: ما ترين ما أسمن الخليفة؟ فقالت لها: إنَّك باردة، مَنْ يكون بين يدي النوبي ما يسمن! وفيها كانت وقعة عظيمة بين أتابك إيلدكز والخَزَر، خرجوا من باب الأبواب، وأغاروا على البلاد، ونهبوا وسَبَوْا وأسروا وقتلوا، وأيقن المسلمون بالهلاك، فجمع إيلدكز عساكره والمُطَّوِّعة وأهلَ البلاد، فقيل له: لا طاقةَ لك بهم، هؤلاء في ثلاث مئة ألف، وأنتَ ما يبلغ جمعك ثلاثين ألفًا! فقال: ألقاهم بالله وببركات الصَّالحين، فالتقوا على أَذْرَبيجان، واقتتلوا قتالًا لم يعهد مثله إلا قتال الغُزّ وسنجر، وظهروا على المُسْلمين أول النَّهار، فترجَّل إيلدكز والعساكر، وهبَّت ريحٌ عاصف، فَسَفَتْ في وجوه الخَزَر التُّراب، فهزمهم الله تعالى، وسار إيلدكز في آثارهم قَتْلًا وأَسْرًا، وأُسر ملوكهم، وقُتِلَ أبطالهم، وأُخذ منهم صليب الصَّلبوت، وكان مرصعًا بالجواهر واليواقيت ما قيمته مئة ألف دينار، وبعث بالملوك والأعيان والرؤوس إلى بغداد والصَّليب، وخرج الموكب بأَسْره، ولم يتخلَّف سوى الوزير، وجَلَسَ الخليفة في الكشك، وعبروا بهم عليه، فَسُرَّ سرورًا كثيرًا، وخلع على الرُّسُل، وأعطاهم الأموال، وبعث إلى إيلدكز بخِلَعٍ تقارب خِلَع السَّلْطنة، ومراكب الذهب والكوسات والأعلام ومال كثير. وفيها قَبَضَ قُطْبُ الدِّين مودود صاحب المَوْصِل على جمال الدِّين الوزير الأَصفهاني، وحَبَسَه في قلعة المَوْصِل، واستصفى أمواله.

وفيها سارَ نورُ الدِّين إلى قتال قليج رسلان (¬1) ابن السُّلْطان مسعود، صاحب الروم، وسببه أن قليج رسلان حاصر ذا النون الدانْشَمَنْد صاحب مَلَطية وسيواس، وأخذهما منه، فجاء إلى نور الدِّين، فأرسل إلى صاحب الرُّوم يقول: هذا ملكٌ، وقد استجار بي، فَرُدَّ عليه بلاده. فلم يلتفت، فسار نورُ الدِّين، فاستولى على أطراف الرُّوم بَهَسْنا ورَعْبان وكَيسوم والمَرْزُبان والقلاع المتاخمة للرُّوم، وقَصَدَ مَلَطْية، فتأخر قليج رسلان إلى وسط بلاده لأَنَّه ما كان له طاقة بنور الدِّين، وبينا نور الدِّين على ذلك القَصد جاءه خبر الفرنج أَنَّه قد وصلوا إلى بلاد المُسْلمين، فرجع إلى حِمْص، وأقام بها أيامًا، ثم دخل بلاد الفرنج، فنزل بالبقيعة تحت حِصن الأكراد عازمًا على حِصار طرابُلُس، ومعه خَلْقٌ عظيم، وضَرَبَ النَّاس خيامهم، ولم يكن لهم يَزَك (¬2) ظنًّا من نور الدِّين أنهم لا يقدمون عليه، فبينا النَّاس وسط النَّهار في خيامهم لم يَرُعْهم إلا ظهور الصُّلبان من وراء الجبل الذي عليه الحِصن، فالسَّعيد من رَكِبَ فرسه، ونجا، وخرج نورُ الدِّين وعليه قَبَاء، فركب فرس النَّوْبة، وفي رِجْله شِبْحة (¬3)، فقطعها كرديٌّ ونجا نور الدِّين، وقُتِلَ الكردي، وقَتَلَ الفرنجُ، وأسروا خَلْقًا عظيمًا، واستولوا على العسكر بما فيه [وكان من قِلَّة الحَزْم حيث غفلوا عن العدو، ولم يستظهروا باليَزَك والطلائع] (¬4)، وجاء نورُ الدِّين إلى حِمْص، فلم يدخُلْها، ونزل على البحيرة، واجتمع إليه من نجا من المعركة، وأرسل إلى دمشق وحلب، وأحضر الخيام والسِّلاح والخيل، وفرَّقها في النَّاس، ومَنْ قتل أبقى إقطاعه على ولده وإلا فأهله. وكان [من] (4) عَزْمِ الفرنج قَصد حِمْص، فلما بلغهم نزول نورِ الدِّين على البحيرة، قالوا: ما فعل هذا إلا عن قوة، فتوقفوا. ¬

_ (¬1) في هذا الخبر خلط المصنف - وربما المختصر - بين حادثتين متباعدتين، وليست إحداهما سببًا للأخرى كما ساقهما، أما الأولى فمسير نور الدين لقتال قليج رسلان بن السلطان مسعود، وهذه الحادثة وقعت سنة (568 هـ)، انظر "الكامل" لابن الأثير: 11/ 391 - 392، و "كتاب "الروضتين": 2/ 261 - 263. وأما الثانية فهزيمة نور الدين عند حصن الأكراد، وهي قد وقعت سنة (558 هـ)، انظر "كتاب "الروضتين": 1/ 397 - 399. (¬2) اليزك: طلائع الجيش. (¬3) هي التي تربط بها يد الفرس إلى رجله من لباد ونحوه، انظر "تكملة المعاجم العربية" لدوزي: 1/ 719. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وفرَّق في يومٍ واحد مئتي ألف دينار، وجاء رجلٌ فادَّعى أَنَّه ذَهَبَ له شيءٌ كثير، وكان الأمر بخلافه، وكتب النُّواب إلى نور الدين يخبرونه بأَنه مُبْطل [في دعواه] (¬1)، فكتب إليهم: لا تكدِّروا عطاءنا، فإنِّي أرجو الأجْر من الله على القليل والكثير. وكتَبَ إليه النُّواب بأنَّ الإدرارات كثيرة في البلاد للفقراء والفقهاء والصُّوفية، فلو حملناها إليك في هذا الوقت لاستعنتَ بها، ثم تعيد العوض، فَغَضِبَ، وكتب إليهم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وهل أرجو النَّصر إلا بهؤلاء، وهل تُنْصرون إلا بضُعفائكم (¬2)؟ فكتب إليه النُّواب: فإذا لم تغيِّر عليهم شيئًا، وقد وقعتَ في هذه الورطة العظيمة، فلو أمرتنا لاقترضنا من أرباب الأموال ما تستعين به على جهاد العدو، فقد نَفِدَتْ الخزائن، ويطمع العدو في الإسلام. فبات مفكِّرًا، وقال في نفسه: نقترض، ثم ندفع العوض. ثم قال: ما أفعل. وباتَ قلقًا إلى وقت السَّحر، فنام، فرأى إنسانًا يُنْشِد: [من المديد] أَحْسِنُوا ما دامَ أمركُمُ ... نافذًا في البَدْو والحَضَر واغْنموا أَيَّام دَوْلتكُمْ ... إنّكُمْ منها على خَطَرِ فقام مرعوبًا مستغفرًا مما خَطَرَ له، وعَلِمَ أَنَّ هذا تنبيه من الله، فكتب إليهم: لا حاجة لي بأموال النَّاس. وعاد الفرنج إلى بلادهم. وفيها ظهر شاور بن مجير السَّعدي من الصَّعيد، وجَمَعَ أوباش الصَّعيد والعبيد، وجاء إلى القاهرة، فخرج إليه رُزِّيك بن الصَّالح فهزمه، ودخل القاهرة، فأخرب دار الوزارة، ودار بني رُزِّيك ونهبها، وبَعَث إليه العاضد بخِلْعة الوزارة، ولقبه أمير الجيوش، وتتبَّع رُزِّيكَ بنَ الصَّالح، وكان مختفيًا عند بعض اللَّخْميين، فجاؤوا به إليه فقتله، وأقام شاور، فأساء السِّيرة، فخرج عليه أبو الأشبال ضرغام بن ثعلبة (¬3) من الصَّعيد، وحشد، فخرج إليه شاور، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) إشارة إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم". أخرجه البخاري في صحيحه (2896)، والنسائي في المجتبى (3178) من حديث سعد، وبنحوه أخرجه الترمذي (1702) من حديث أبي الدرداء. (¬3) كذا في (ع) و (ح)، وورد في "وفيات الأعيان": 2/ 44 وغيره من كتب التاريخ: ضرغام بن عامر بن سوار اللخمي المنذري، وانظر أخباره في "الروضتين".

طلحة بن علي أبو أحمد الزينبي

فهزمه ضرغام، وقتل ولده، وخذل أهلُ القاهرة شاور، فانهزم إلى الشَّام، وكان نورُ الدِّين بدمشق، فالتقاه وأكرمه، وأقام عنده أيامًا، ثم طلب منه العسكر، وقال: أكون نائبك بالدِّيار المِصرية، وأقنع بما تعين لي من الضياع، والباقي لك، فأجابه نور الدين. [فصل وفيها توفي طلحة بن علي أبو أحمد الزَّينبي (¬1) نقيب النقباء، وله نقابة العباسيين، وناب في الوزارة، وحضر مجالس جدِّي مرارًا، بات معافى، فأصبح في منزله ميتًا، فذكر أنه أكل لبًّا وأرزًا وجمارًا، ودخل الحَمَّام، فعرضت له سكتة، فتوفي في ربيع الأول، ودفن بباب حرب] (¬2). وفيها توفي عبد المؤمن بن علي صاحب المغرب (¬3) [وقد ذكرنا ولايته وبدايته] (2)، وأقام بعده ولده يوسف [بن عبد المؤمن] (2)، وتوفي سنة ثمان وسبعين وخمس مئة (¬4)، وكان عبد المؤمن فاضلًا في فنون العلوم الشرعية والأحاديث [النبوية. وأجرى نهرًا من الجبل إلى جامع مرَّاكُش من مسافة بعيدة، وكان مشددًا في أمر الصلاة، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، قتل كثيرًا من تاركي الصلاة، وكان يأمر الناس بحفظ عقيدة ابن تومرت، وقد ذكرناها (¬5)، وتسمى المرشدة، وضرب الدينار الوازن الخالص، ويسمى المؤمني إلى اليوم، وكان إمامًا في كل فن، وكانت أيامه منذ مات ابن تومرت إلى أن توفي عبد المؤمن ثلاثًا وثلاثين سنة، وخلف من الولد خمسة ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 206، و"الوافي بالوفيات": 16/ 488 - 489، والبداية والنهاية (وفيات سنة 558 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الكامل": 11/ 291 - 292، و"المعجب": 284 - 303، 327 - 344، "وفيات الأعيان": 3/ 237 - 241، "سير أعلام النبلاء": 20/ 366 - 375، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) الصحيح أنه توفي سنة (580 هـ). (¬5) ج 20/ 261 - 263 من هذا الكتاب.

محمد بن عبد الكريم أبو عبد الله

عشر ولدًا، وخمس بنات، وحمله ابنه أبو يعقوب يوسف القائم بعده في محفة، ودفنه عند محمد بن تومرت، وسار ابنه يوسف في الناس سيرة أبيه، وسنذكره] (¬1). محمد بن عبد الكريم أبو عبد الله (¬2) سديد الدولة، ابن الأنباري، كاتب الإنشاء بديوان الخليفة، أقام كاتبًا به نيفًا وخمسين سنة، وناب في الوزارة، وكان فاضلًا، ومن شعره: يا قلبُ إلامَ لا يُفيدُ النُّصحُ ... دَعْ مَزْحك كم هوًى جناه المَزْحُ ما جارحة منك خلاها جرحُ ... ما تشعر بالخُمار حتى تَصحو (¬3) وكانت بينه وبين الحريري صاحب "المقامات" مكاتبات ومراسلات مدوَّنة، وخَرَجَ مع المسترشد لما سافر إلى لقاء مسعود، وأُسر، وترسَّل عن الخليفة إلى الملوك، وكانت وفاته في رجب عن تسعين سنة، وصَلَّى عليه الوزير ابن هُبيرة بجامع القَصر، ودُفِنَ بمقابر قريش. محمد بن محمد أبو الفتح (¬4) الكاتب البغدادي الفاضل. ولد سنة ثمان وتسعين وأربع مئة، ومن شعره: [من البسيط] ما لي وللبَرْقِ مجتازًا على إِضَمِ ... يُبْدي تألُّقَهُ عن ثَغْرِ مُبْتَسِمِ سهرتُ والليلُ مكحولُ الجفونِ به ... كأنَّه ضَرَمٌ قد دَبَّ في فَحَمِ أمُخْبِرِي أنتَ عن وادي العقيق وهل ... حلَّتْ مجاورةً سَلْمى بذي سَلَمِ حَمَّلْتُكَ العِبْء من شوقي لتحملَهُ ... رسالةً لم تكن فيها بمُتَّهَمِ فما لهم عَلِموا ما قد كتبتُ به ... على لسان الهوى عن بانة العَلَمِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 2/ 140 - 144، و"المنتظم": 10/ 206، و"الكامل": 11/ 297، و"الوافي بالوفيات": 3/ 279 - 280، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 350 - 351، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) "خريدة القصر": 2/ 142. (¬4) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 260 - 272، و"الوافي بالوفيات": 1/ 120.

يحيى بن سعيد [الطبيب] النصراني البغدادي

يا طائرًا عَذَباتُ البانِ مسكَنُهُ ... أيقظْتَ للدَّمْعِ جَفْنًا عنه لم يَنَمِ غَرِّدْ بألحانك المُسْتَعْجِمات فما ... أبقيتَ جارحةً إلَّا على أَلَمِ لِيَهْنِكَ الإِلْفُ والعيش الرَّغيد وإنْ ... كان الذي سَرَّ أو ما ساء كالحُلُم تحية من مَشُوق طال موقفهُ ... على الثَّويَّةِ (¬1) بالوَخَّادة الرُّسُمِ (¬2) يَحِنُّ شوقًا إلى أرض الحجاز ومِنْ ... دونِ الذي رامَ شعبٌ غير مُلْتَئِمِ فقِفْ بحيث أفاض المُحْرمون على ... عارٍ من [الثوب] (¬3) مكْسُوٍّ من السَّقَمِ في كل وقت له [وجْدٌ] (¬4) يُقَلْقِلهُ ... حتى يُظَنَّ به طَيفٌ من اللَّمَمِ من أبيات (¬5). يحيى بن سعيد [الطبيب] (¬6) النَّصراني البغدادي (¬7) أوحد زمانه في معرفة الطِّبِّ، والأدب، وله ستون مقامة ضاهى بها مقامات الحريري، وله شِعْرٌ رائق، فمنه في الشيب يقول: [من الخفيف] نَفَرَتْ هندُ من طلائعِ شَيبي ... واعترتها سآمةٌ من وجوم هكذا عادةُ الشَّياطين يَنْفِرْ ... نَ إذا ما بَدَتْ رجومُ النُّجومِ (¬8) وقال: [من الكامل] قَسَمًا بسكَّانِ العقيقِ وحاجرٍ ... مُذْ غِبْتَ ما لاذ الرُّقاد بناظري وإذا أَلَمَّ فما يُلِمُّ بمُقْلتي ... إلا طماعيةً بطيفٍ زائر ¬

_ (¬1) الثوية: موضع قريب من الكوفة، وقيل: بالكوفة. "معجم البلدان": 2/ 87. (¬2) الوخادة: الإبل التي تخد؛ أي تسرع وتوسع الخطو. "اللسان" (وخد). والرسم جمع رسوم، وهي الناقة تؤثر في الأرض من شدة الوطء. "اللسان" (رسم). (¬3) في (ع) و (ح): السقم، والمثبت ما بين حاصرتين من "الخريدة". (¬4) في (ع) و (ح): طيف، والمثبت ما بين حاصرتين من "الخريدة". (¬5) القصيدة في "خريدة القصر" 3/ 370 - 372. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬7) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 4/ 695 - 701، و"أخبار الحكماء" للقفطي: 236، و"معجم الأدباء": 20/ 40، و"النجوم الزاهرة": 5/ 364، و"البداية والنهاية" (وفيات 589 هـ)، و"شذرات الذهب": 4/ 185. (¬8) البيتان في "الخريدة": 4/ 696.

يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي

سَلْ صادحاتِ الوُرْقِ عن وَلَهي بمَنْ ... ضَمَّتْ تِهامةُ فهي عينُ الخابرِ وإذا نطقتُ فأنتَ لفظُ مقالتي ... وإذا سكتُّ فأنتَ سِرُّ الخاطِرِ (¬1) يوسف بن محمد بن مُقَلَّد التَّنوخي (¬2) رحل إلى بغداد، وعاد إلى دمشق مريضًا بعِلَّة الاستسقاء، فمات بها في صفر، ودفن بقاسيون، ومن شِعْره: [من الهزج] فؤادي منكَ مقروحُ ... وقلبي منكَ مجروحُ وقد زاد الذي ألقى ... فدمعُ العينِ مَسْفُوحُ أَغِثْني يا مُنى قَلْبي ... فما الهِجْرانُ ممدوحُ فأنتَ القَلْبُ واللُّبّ ... و [أنتَ] (¬3) الرَّاحُ والرُّوح أنا إنْ عَنَّفَ الواشي ... ففي قلبي التَّبارِيحُ السنة التَّاسعة والخمسون وخمس مئة فيها قال أبو الفرج بنُ الجَوْزي -رحمه الله- في "المنتظم": فيها وَرَدَ البشيرُ إلى المستنجد بفَتْح مِصر، فقال حاجب الوزير ابن تركان (¬4) قصيدة منها: [من الطويل] لعل حُداةَ العِيس أن يترفَّقوا ... لتشفي عليلًا بالمدامع مُدْنَفُ لِيَهْنكَ يا مولى الأنام بشارةٌ ... بها سيفُ دين الله بالحقِّ مُرْهَفُ ضَرَبْتَ بها هام الأعادي بهمَّةٍ ... تقاصَرَ عنها السَّمْهَرِيُّ المُثَقَّفُ بَعَثْتَ إلى شَرْقِ البلادِ وغَرِبها ... بعوثًا من الآراء تحيي وتُتْلِفُ ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": 4/ 696 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬2) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 29/ 315 - 317، و"طبقات الشافعية" للإسنوي: 1/ 366 - 367، و"مختصر تاريخ دمشق": 28/ 91 (اختصرته سكينة الشهابي على نهج ابن منظور). وهو والد عبد السلام بن يوسف الصوفي، المتوفى سنة (581 هـ)، وانظر خبر قدوم عبد السلام إلى دمشق سنة (571 هـ) في كتاب "الروضتين": 2/ 420 - 421. (¬3) ما بين حاصرتين ليس في (ع) و (ح)، وقد زدتها لاستقامة الوزن. (¬4) هو شمس المعالي أبو الفضائل محمد بن الحسين بن تركان، كان حاجب الوزير ابن هبيرة، وتوفي سنة (561 هـ)، انظر ترجمته في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 2 / ج 4/ 506 - 508. و"المختصر المحتاج إليه": 2/ 274.

فقامت مقامَ السَّيفِ والسَّيفُ قاطِرٌ ... ونابَتْ منابَ الرُّمح والرُّمُحُ يرعُفُ فقدتَ لها جَيشًا من الرَّوعِ هائلًا ... إلى كلِّ قلب من عُداتك يَزْحفُ لِيَهْنِكَ يا مولاي فتحٌ تتابعت ... إليكَ به خُوصُ الرَّكائب توكَفُ أخذتَ به مِصرًا وقد حال دونها ... من الشِّرك ناسٌ في لحى الكُفْر تقذف فعادَتْ بحمد الله باسْمِ إمامنا ... تَتِيه على كل البلاد وتَشْرُفُ ولا غَرْوَ إنْ ذَلَّتْ ليوسفَ مِصرُه ... وكانت إلى عَلْيائِهِ تتشوَّفُ تملَّكَها مِنْ قَبْضة الكُفْر يوسفٌ ... وخلَّصَها من عُصبة الرِّفْضِ يوسفُ فشابَهَهُ خَلْقًا وخُلْقًا وعِفَّةً ... وكلٌّ عن الرحمن في الأرض يَخْلُفُ كشفتَ بها عن آلِ هاشم سُبَّةً ... وعارًا أبي إلَّا بسَيفك يُكْشَفُ (¬1) قال المصنف رحمهُ الله: وهذا وهمٌ من ابنِ تركان، فإن تواريخ الشَّاميين والمِصريين مُطْبِقَةٌ على أن مِصر لم تملك في هذه السنة، بل في سنة أربع وستين وخمس مئة، ولم يخطب للمستنجد فيها، وإنما أُقيمت الخُطْبة فيها في أيام المستضيء، وكان المستنجد قد مات، وقد ذكرنا أنَّ شاور قَدِمَ على نور الدين في السَّنة الماضية، وأقام عنده إلى هذه السنة، فجهَّز نورُ الدين العساكر مع أسد الدِّين شيركوه في العشرين من جُمادى الأُولى، وكان صلاحُ الدين مع عَمِّه أسد الدين، فلمَّا وصلوا إلى القاهرة، خَرَجَ إليهم أبو الأشبال الضرغام ابن سوار، فحاربهم أيامًا، فلما كان في بعضها التقوا على بابِ القاهرة، فحمل ضرغام في أوائل النَّاس، فَطُعِنَ فَقُتِلَ، واستقام أمر شاور، وكانت وزارة ضرغام تسعة أشهر. وكان شاور سفَّاكًا للدِّماء، ولما استولى على القاهرة، ظهرت منه أمارات الغَدْر، فأشار صلاح الدين على أسد الدين بالتأخُّر إلى بِلْبيس. وما كان يقطع أمرًا دونه، ثم بعث أسدُ الدِّين إلى شاور يطلب منه أرزاق الجند، فاعتذر وتعلل عليه، فأقطع أسد الدين الغربية، وكتب إلى نور الدين يخبره بما جرى. وَدَسَّ شاور إلى الفرنج رسولًا يدعوهم إلى مصر، وبذل لهم الأموال، فاجتمعوا من السَّاحل، وساروا من الدَّاروم متفقين مع شاور على قتال أسد الدين، وحصروه في ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم": 10/ 208 - 209، وقال: ثم تكامل الأمر بعد سبع سنين على ما نذكره في خلافة الستضيء.

ذكر بداية أمر بني أيوب

بِلْبيس شهرين وقاتلوه، فصالحهم أسدُ الدين على مال، وكان حصارهم له من أول رمضان إلى ذي القَعدة، وجرت بينهم حروبٌ ووقائع، وبلغهم أن نور الدِّين على قَصدِ بلادهم، فرجعوا، وعاد أسد الدين إلى دمشق، وأقام شاور بالقاهرة يظلم ويقتل، ويصادر النَّاس، ولا رأي للعاضد معه، وأقام أسد الدِّين بدمشق إلى سنة اثنتين وستين، ودخل ديار مِصر، وهي نوبة البابين، وعاد إلى دمشق، ثم دخل إلى مصر سنة أربع وستين، فاستولى عليها، وقتل شاور، ولم يخطب بها لبني العباس إلَّا عند موت العاضد سنة سبعٍ وستين في خلافة المستضيئ لما نذكر، إنْ شاء الله تعالى. ذِكْرُ بداية أَمْر بني أيوب كان نجم الدِّين أيوب بن شاذي بن مروان، وأخوه أسد الدِّين شيركوه، نجم الدِّين الأكبر، أصلهم من دُوين بلدة صغيرة في العجم، وقيل هو من الأكراد الرَّوَاديَّة، قدما العراق، وخدما مجاهد الدِّين بِهْرُوز الخادم شِحْنة بغداد، فرأى من نجم الدِّين رأيًا وعقلًا وحُسْنَ سيرة، فولَّاه دُزْدَارًا لتكريت، وكانت له، أعطاه إياها السُّلْطان مسعود، فأقام بها نجم الدِّين ومعه أخوه شيركوه، فلمَّا انهزم أتابك زَنْكي من المسترشد في سنة ستٍّ وعشرين وخمس مئة، ووصل إلى تكريت، خدمه أيوب، وأقام له المعابر، فعبر دِجْلة من هناك، وخَدَمَ من تبعه من أصحابه، فرأى زَنْكي له ذلك. وأقاما بتكريت مُدَّة، ثم فارقاها، وسببُه أَنَّ نجم الدِّين كان يرمي يومًا بالنُّشَّاب، فوقعت نُشابة في مملوك لبهروز، فقتله من غير قَصد، واستحيا من بهروز، فخرجا إلى المَوْصل، وقيل: إنَّ بهروز أخرجهما. وقيل غير ذلك، وقصدا أتابك زَنْكي، فأحسن إليهما، وأقطعهما إقطاعات كثيرة، وصارا من جُمْلة أجناده. فلما فتح زَنْكي بَعْلَبَكَّ ولَّى نجم الدين دُزْدارًا في قلعتها، فلما قُتِلَ زَنْكي على قلعة جَعبر، حَصَرَ نجمَ الدِّين صاحبُ دمشق، وضايقه، فكتب إلى نور الدِّين وسيف الدِّين غازي يطلبُ منهما نجدةً، فاشتغلا عنه بملك جديد، واشتدَّ الحصار على بعلبك، فخاف نجمُ الدِّين من فَتْحها عَنْوةً، أو تسليم أهلها، فصالح معين الدِّين أُنَر على مالٍ وإقطاع، وانتقل وأخوه إلى دمشق، وصارا من أكبر أُمرائها.

ثم اتَّصلَ أسدُ الدِّين بنور الدِّين، فرأى منه نجابة وشجاعة، فأعطاه حِمْص والرَّحْبة، وجعله مقدَّم عساكره، فلما صَرَفَ نورُ الدِّين هِمَّتَه إلى دمشق أمر أسدَ الدين أَنْ يكاتبَ أخاه نجمَ الدِّين على المساعدة على فتحها، وقال: هذا واجب، فإنَّ مجير الدِّين قد أعطى الفرنج بانياس، وربما سَلَّم إليهم دمشق. فأجابه نجمُ الدِّين إلى ذلك، وطلبا من نور الدِّين إقطاعًا وأملاكًا، فأعطاهما، وحَلَفَ لهما ووفى بيمينه، وصارا عنده في أعلى المنازل، وخصوصًا نجم الدين، فإنَّ جميع الأُمراء كانوا إذا دخلوا على نور الدِّين لا يقعد واحد حتى يأمره نور الدِّين بالقعود، إلَّا نجم الدِّين فإنَّه كان إذا دَخَلَ قعد من غير أن يأمره نور الدين. فلما كان في هذه السنة، وعَزَمَ نور الدِّين على إنفاذ العساكر إلى مِصر، لم يَرَ لها مثل أسد الدين، فبعثَ به مع شاور كما ذكرناه. وفيها حارب أمير أميران أخاه نور الدِّين [فكسره نور الدين، وسنذكره في ترجمة أمير أميران في السنة الآتية. وفيها فتحت حارم في شهر رمضان، وكان السبب فيه أَنَّ نور الدين] (¬1) لما أصابه بالبقيعة ما أصابه، بعث إلى أخيه قُطْب الدِّين بالمَوْصل وفخر الدين قرا رسلان بالحِصن، ونجم الدِّين بميَّافارِقِين وغيرهم يطلبُ النَّجْدة، فأما [أخوه] (1) قطب الدِّين، فإنَّه جمع العساكر، وسار مُجدًّا، وعلى مقدّمته زين الدِّين علي كُوجك، وأما فخر الدِّين قرارسلان، فقال له أصحابه: على أيِّ شيء عَزَمْتَ؟ فقال: على القعود: فإنَّ نورَ الدين قد أثَّر فيه الصَّوم والصَّلاة، وهو يُلْقي نفسه والنَّاس معه في المهالك. فوافقوه، فلما كان من الغد نادى في عسكره بالتجهز للغَزَاة، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّ نور الدِّين قد كاتَبَ زُهَّاد بلادي المنقطعين عن الدُّنيا، وذَكَرَ لهم ما جرى على المُسْلمين من الفرنج، وطلب منهم الدُّعاء، وطلب منهم أن يحثُّوا المسلمين على الجهاد، وقد قَعَدَ كلُّ واحدٍ وحوله جماعة يقرؤون كُتُبَ نور الدين ويبكون، ويدعون له وعليّ، فإن تأخرتُ خَرَجَ أهلُ بلادي عن طاعتي، ثُمَّ سار بنفسه. وأما صاحب مارِدِين فبعثَ بالعساكر، وكان له عُذْرٌ يمنعه عن المسير بنفسه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ولما اجتمعت العساكر على حلب سُرَّ نور الدين بقدومها، وسار إلى حارم، فنازلها، وبلغ الفرنج، فحشدوا وجاؤوا في ثلاثين ألفًا، وفيهم البرنس صاحِبُ أنطاكية والقُومص [صاحب طرابُلُس وابن جوسلين والدوك، وهو رئيس القوم] (1)، وكان فيهم من الرَّجَّالة ما لا يُحصى، ولما تراءى الجمعان صَعِدَ نور الدِّين على تلٍّ عال، فشاهد من الفرنج ما أذهله وهاله، فنزل من التل، وانفرد عن العساكر، ونزل عن فرسه، وصلَّى ركعتين، ومرَّغ وجهه على التراب، وبكى، وقال: يا سيدي، هذا الجيش جيشك، والدين دينك، ومن محمود في البين، افعل ما يليق بك. وحملتِ الفرنجُ على الميمنة، وفيها عسكر حلب، فاندفعوا بين أيديهم ليبعدوا عن الرَّاجل، وتبعهم الفرنج، فعطفَ نورُ الدِّين على الرَّجَّالة، فحصدهم بالسَّيف، ورجعت الفرنج، فلم يروا من الرَّجَّالة أحدًا، فانخلعت قلوبُهم، وأحاط بهم المسلمون، فذلّوا، وخضعوا، وعمل فيهم السَّيف، فلم يبقَ منهم إلَّا من نجا به فرسه، وأَسَرَ نورُ الدِّين من سَمَّينا من ملوكهم، وستَّة آلافٍ من أكنادهم، وغَنِمَ ما كان معهم من الأموال والخيل والسِّلاح والخيام، وغير ذلك، وفَتَحَ حِصنَ حارم في حادي عشرين رمضان يوم الجمعة، وعاد إلى حلب بالأسارى والغنائم، وامتلأت حلب منهم، فبيع الأسير بدينار، وفرَّقهم نور الدين على العساكر، وأعطى أخاه وصاحِبَ الحِصن الأموال العظيمة، والتُّحف الكثيرة، وعادوا إلى بلادهم، ثم فاداهم نور الدين. وكان قد استفتى الفُقَهاء، فاختلفوا، فقال قوم: يقتل الجميع. وقال آخرون: يفادي بهم. فمال نورُ الدِّين إلى الفدية، فأخذ منهم ست مئة ألف دينار معجلة، وخيلًا، وسلاحًا وغير ذلك، فكان نورُ الدِّين يحلف بالله أَنَّ جميع ما بناه من المدارس والربط [والمارستانات] (¬1) وغيرها من هذه المفاداة، وجميع ما وقفها (¬2) منها، وليس فيها من بيتِ المال دِرْهمٌ واحد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (م) و (ش): الصدقات.

الحسن بن محمد

وفيها توفي الحسن بن محمد (¬1) ابن الحسن، أبو المعالي الوَرْكاني، الفقيه، الشافعي، وَوَرْكان من نواحي قاشان. عاش نيفًا وثمانين سنة، يقرئ فنون العلوم بأَصبهان، ومن شعره: [من الرمل] يا أحبائي بجرعاءِ الحِمى ... بكُمُ منكمْ لقلبي المُسْتَجارْ ليتَ شِعْري ما الذي زَهَّدكُمْ ... في وصالي أدلالٌ أم نِفارْ أَمْ لأَن كنتُمْ بدورًا طُلَّعًا ... في دُجى اللَّيل وللبدرِ سِرارْ وكتب إليه أبو المعالي محمد بن مسعود القَسَّام فُتْيا سنة ستٍّ وأربعين وخمس مئة بأصبهان: [من البسيط] يا مَنْ تساهَمَ فيه الفَضْلُ والشَّرفُ ... ومن به نفراتُ العِزِّ تأتلفُ قد حَلَّ في مَدْرَجِ العَلْياءِ مرتبةً ... مطامحُ الشُّهْبِ عن غاياتها تَقِفُ تشاجَرَ النَّاسُ في تحديد عِشْقهُمُ ... شتى المذاهب فالآراءُ تختلفُ فاكشِفْ حقيقته واسْتَجْلِ غامضه ... يا من به شُبَهُ الآراءِ تنكشِفُ (¬2) فأجابه على البديهة: حدُّ الهوى أَنُّه يا سائلي شَغَفٌ ... أَدْنى نكايته في أهله التَّلَفُ نار تأجَّجُ في الأحشاء جاحِمُها ... دماءُ عيني تراه دائمًا يَكِفُ وقد يُجَنُّ الفتى منه لشِدَّته ... فكم أُناسٍ به في قيده رسفوا يُشِبُّ نيرانَه فِكرٌ ويُطفِئُهُ ... وَطْءٌ كذا قاله القوم الأُلى سلفوا فهذا ما رمتَ من عندي حقيقتَه ... فإنَّه واضح كالشَّمْسِ مُنْكَشِفُ بديهة لم أنقِّحْ لفظها فأَتَتْ ... كالدُّرِّ ينشَقُّ عن لألائها الصَّدَفُ (¬3) ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 12/ 250، و"التحبير": 1/ 205 - 206، و"خريدة القصر" قسم شعراء أصبهان 1/ 189 - 196, و"الوافي بالوفيات": 12/ 231 - 232، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 66 - 67، و"النجوم الزاهرة": 5/ 365، و"شذرات الذهب": 4/ 187. (¬2) الأبيات في "الخريدة": 1/ 194 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬3) الأبيات في "الخريدة": 1/ 196 مع اختلاف في بعض الألفاظ.

محمد بن علي بن أبي منصور

محمد بن علي بن أبي منصور (¬1) أبو جعفر، الوزير جمال الدين الأَصبهاني. وزير أتابك زَنْكي، وسيف الدِّين غازي، وقُطْب الدِّين مودود، وكان الحاكم على الدَّولة، و [كان] (¬2) بينه وبين زين الدِّين علي كُوجك مصافاة، وعهود ومواثيق، وكانت المَوْصل في أيامه ملجأ لكلِّ ملهوف، ومفزعًا لكل مكروب، ولم يكن في زمانه من يضاهيه، ولا يقاربه في الجُود والنَّوال، والإحسان والإفضال، وكان كثيرَ الصِّلات، غزير البر والصَّدقات، بنى مسجد الخَيف، وغَرِمَ عليه أموالًا كثيرة، وجدَّد الحجر إلى جانب الكعبة، وزخرف البيت بالذَّهب، وبنى أبواب الحَرَم وشيَّدها، ورَفَع أعتابها صيانةً للحرم، وبنى المسجد الذي على جبل عَرَفَة، والدَّرج الذي يَطْلُعُ فيها إليه، وكان النَّاس يعانون في صعودهم شِدَّة، وأجرى الماءَ إلى عرفات، وعمل البرك والمصانع، وأجرى الماء في قنوات، وكان يعطي أهل مكة كلَّ سنة مالًا عظيمًا ليجروا الماء إلى عرفات، وبنى على مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُورًا، وكانت الأَعراب تنهبُها وتغارُ عليها، فكان الخطيب يقول على المنبر: اللهم صُنْ حريم من صان حرم نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو محمد بن علي الأَصبهاني. وكانت صدقاتُه وصِلاتُه في المشرق والمغرب، يبعث بها إلى خُرَاسان، والعراق والبصرة، والكُوفة، وبغداد والشَّام، ومِصر، والحجاز، واليمن، فيعمُّ [الفقهاء و] (2) العلماء والزُّهَّاد وأرباب البيوت، وغيرهم، وما خيَّبَ رجاء مَنْ قَصَده، وكان له في كلِّ يوم -خارجًا عن أرباب الرَّواتب- مئة دينار يتصدَّق بها على باب بيته، وبنى الجسور والقناطر والرُّبُط بالمَوْصِل، والجسر الذي عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والرَّصاص، وأوثقه بالحديد بين البنيان، وبنى الرُّبُط بالموصل وسِنْجار ونَصِيبين، وكان إذا قلَّ ما بيده باع بُسُطَ داره وثيابَه، وتصدَّق بها، وكان يبعث إلى عمر الملا ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 209، و"مختصر تاريخ دولة آل سلجوق": 193 - 195، و"الكامل": 11/ 306 - 310، "وفيات الأعيان": 5/ 143 - 147، و"الروضتين": 1/ 420 - 436، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 349 - 350، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

بالأموال، فيتصدَّق بها، فإذا نَفِدَ ما عنده خلع ثيابه وعِمامته، وبَعَثَ بها إلى عمر ليتصدَّق بثمنها، [فيبكي عمر. وكان قد] (¬1) وقع بالمَوْصل قحطٌ، فكان يقول: هذه أيَّام المواساة. ولهذا الخَرْجِ العظيم كان يُنْسب إلى عمل الكيمياء، وحُوشي من ذلك. [ذكر وفاته] (1): ولما سارت الرُّكبان بجوده، وعَمَّ معروفُه أهلَ الدُّنيا حَسَدَه أقوامٌ، فكذَّبوا عليه عند قُطْب الدين، وقالوا: إنَّه يأخذُ أموالك فيتصدَّق بها. وما كان قُطْبُ الدِّين يقدر على قبضه لما كان بينه وبين زين الدِّين من المصافاة، فوضع مَنْ أغرى بينهما، فتغيَّر عليه زين الدِّين، فقبض عليه قُطْب الدين، واعتقله في قلعة المَوْصل، فقال ابنُ المعلِّم [الشَّاعر هذه الأبيات] (1): [من البسيط] إنْ يَعْزِلُوكَ لمعروفٍ شَمَخْتَ به ... على ذوي الأرضِ ذات العَرْضِ والطُّولِ فأنتَ يا واحدَ الدُّنيا وسيِّدَها ... بذلك الجُودِ فيها غيرَ مَعْزُولِ ثم ندم زين الدِّين على موافقة قُطْب الدِّين على قَبْضه، لأنَّ خواص قُطْب الدين كانت أيديهم مقبوضة عن التصرُّف، فلما قُبِضَ جمالُ الدِّين انبسطوا في الأمر والنَّهْي على خلاف غَرَضِ زين الدين، وأقام في الحَبْسِ سنة، ثُمَّ توفي. وقال (¬2) أبو القاسم الصُّوفي، وكان صاحبه: قال لي جمال الدِّين: كنتُ أخشى أن أنقل من الدَّسْت إلى القبر، فلو جاء الموتُ الآن ما كَرِهْتُه. ثم مَرِضَ، فقال [لي] (1): يا أبا القاسم إذا جاء طائر أبيض إلى الدّار فَعَرِّفْني. فقلتُ في نفسي: قد اختلط الرَّجل. فلما كان من الغد إذْ سَقَطَ طائرٌ أبيض لم أَرَ مثله، فَعَرَّفْتُه، فاسْتَبْشَرَ، وقال: جاء الحقُّ. ثم قال: بيني وبين أسد الدين شيركوه عهد، مَنْ مات منا قَبْلَ صاحبه حَمَلَه إلى المدينة -وكان أسد الدين وجمال الدِّين قد بنيا رباطين بالمدينة وعملا فيهما تُربتين- فاذهَبْ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (م) و (ش): وحكى.

إلى أسد الدين، فذكِّرْه. وأَقْبَلَ على ذِكْر الله تعالى والتشهُّد حتى مات، وطار الطَّائر، ودُفِنَ في تابوت بالمَوْصِل، وذلك في رمضان. ومضى أبو القاسم إلى أسد الدِّين، فأخبره، فقال: صَدَق. وأعطاه مالًا صالحًا يحمله به إلى مكة والمدينة، وأن يحجَّ معه جماعةٌ من الصُّوفية، ويُقرأ بين يدي تابوته عند النُّزول وعند الرَّحيل، وأن يُنادى بالصَّلاة عليه في كلِّ بلد. فخرجوا بتابوته على هذه الهيئة، فقدموا به بغداد، ونزلوا به في الشُّونيزية، ولم يبق ببغداد أحدٌ إلَّا وخرج إليه خصوصًا مَنْ كان له إليه إحسان، فصلُّوا عليه وبكوا وترحَّموا، ثُمَّ خرجوا به إلى الحِلَّة والكوفة، وزاوية المشهدين، فقام بعضُ العلويين بالكُوفة على تلٍّ عالٍ، فلما مَرُّوا بجنازته رَفَعَ صوتَه، وقال: [من الطويل] سَرَى نعشُه فوق الرِّقابِ وطالما ... سرى بِرُّه في العالمينَ ونائِلُهْ يمرُّ على الوادي فتُثْني رمالُهُ ... عليه وبالنَّادي فتبكي أرامِلُهْ فلم ير باكيًا أكثر من ذلك اليوم، ثم ساروا به مع الحاجّ، فلمَّا وصلوا [به] (¬1) إلى وادي المحرم، ألقوا على تابوته شقة كأَنَّه مُحْرم، ثم أَتَوْا به عرفات، وخرج أهل مكة باكين، وصَعِدوا به إلى الجبل، ونزلوا به إلى مِنى، واشتروا له جمالًا، ونحروها عنه، ودخلوا به مكَّة، فطافوا به حول البيت، واشتغل النَّاس به عن البيت من كَثْرة البكاء والصُّراخ، وخرج النِّساء المجاورات اللائي كان إليهن بِرَّه بين يدي تابوته يبكين ويصرخن، وكان يومًا عظيمًا، وساروا به إلى المدينة، فخرج أهلُها، وفعلوا به كما فعل أهل مكَّة، ودخلوا به إلى الرَّوْضة، فصلوا عليه، وحملوه إلى رِباطه، فدفنوه فيه، وبين رباطه وبين مسجد النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أذرع عرض الطَّريق، وكان فصيحًا. ولما حُبس قال: [من الكامل] أين اليمينُ وأينَ ما عاهدْتني ... ما كان أسرعَ في الهوى ما خُنْتني وتركتني حيرانَ صَبًّا مُدْنَفًا ... أرعى النُّجومَ وأنتَ ترقد ها هَنِي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أبو الفرج بن الدهان الواسطي

فلأرفعنَّ إلى إلهيَ قِصَّةً ... إنسان مظلوم وأنتَ ظلمتني ولأدعونَّ عليك في غَسَقِ الدُّجى ... فعساك تبلى بالذي أبليتني ولم يحمل إلى مكة مَيتٌ قبله سوى الحُرَّة ملكة عدن، وابن رُزِّيك أخو الصَّالح طلائع، والخادم أومشت صاحب عُمان. أبو الفَرَج بن الدَّهَّان الواسِطي (¬1) ويلقب شمس الرُّؤساء، شاعِرٌ فصيح، ومن شعره: [من الخفيف] عاد عيد الهوى بقلبي فأبدى ... زفراتٍ تُعْيي الحليمَ الجَلْدا ما يريد الهوى كأنَّ له عنـ ... ــــدَ فؤادي المتبولِ ثارًا وحِقْدا يا طليقَ الفؤاد حاجة مأسو ... رٍ أبي من وَثَاقه أَنْ يُفَدَّى أينَ أيامُنا بسَلْعٍ أعاد اللهُ ... أيامنا بسَلْعٍ ورَدَّا يا لها نفحةً بذي البان يَزْدا ... دُ فؤادي لبَرْدِها الدَّهْرَ وَقْدا وليالٍ بجوٍّ ضارجَ صَيَّرْ ... نَ لحُزْني أياميَ البِيضَ رُبْدا (¬2) لا عدا الغيثُ من تِهامةَ رَبْعًا ... هامَ قلبي به غرامًا وَوَجْدا أتمنَّى نَجْدًا ومن أين تُعْطيـ ... ـــني اللَّيالي بأرضِ نعمانَ نجدا حَبَّذا رفقتي بوادي الأثيلا ... تِ وأظعانهم مع الفَجْرِ تُحْدى يا لُوَاتي دَينَ الغَرامِ أما آ ... ن لِدَيني عليكُمُ أَنْ يُؤدَّى يا ظباء الصَّريم فيكنَّ ظبيٌ ... صاد قلبي يوم الغميمِ وصَدَّا لم أكن عالمًا بوَجْرة يومًا ... أَنَّ غزلانها تصيد الأُسْدا أَخْلَقَتْ جدَّتي صروفُ اللَّيالي ... وأَرَتْني هَزْلَ المُلِمَّاتِ جدَّا ملأتني يدُ الخُطُوب كُلُومًا ... أَنْ رأَتْني لصرْفها مُستَعِدَّا ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مجلد 1 / ج 4/ 365 - 368، والأبيات فيه. (¬2) ربد: سود، مختلط سوادها بكدرة، "اللسان" (ربد).

السنة الستون وخمس مئة

السنة الستون وخمس مئة فيها في رجب عَمِلَ الخليفة دعوةً في الدَّار الجديدة واحتفل لها، وحَضَرَها أرباب الدولة والعلماء [والفقهاء] (¬1) والصُّوفية والقُرَّاء، والوعَّاظ، ووعظوا، وقرؤوا، ونُصبت الموائد، عليها فنون الأَطعمة والحلوى، وغنَّى المغنون، ورقص الصُّوفية نهارهم وليلتهم، ثم خَلَعَ على جميع من حَضَر، وصار ذلك رسمًا [مقررًا] (1) في كل سنة في رجب. [وذكر جدي في "المنتظم"، قال] (1): وفي عيد الأضحى ولدت امرأة من درب هارون [يقال لها بنت أبي العز الأهوازي] (1) أربع بنات، وماتت المرأة ومعها بنت أخرى (¬2). وتوفي الوزير يحيى بن هُبيرة، وقُبِضَ على وَلَدَيه، وحاجبه ابن تركان، وحبسوا في دار أُستاذ الدار. وفيها فتح نورُ الدِّين بانياس عَنْوَةً، وكان معه أخوه نصير الدِّين (¬3) أمير أميران، فأصابه سَهْمٌ، فأَذْهَبَ إحدى عينيه، فقال له نور الدين: لو كُشِفَ لك عما أَعدَّ الله لك من الأَجْر لتمنَّيتَ ذَهَاب الأخرى. وكان ولد معين الدِّين أُنَر، الذي سَلَّم أبوه بانياس إلى الفرنج، قائمًا على رأس نور الدِّين، فقال له نور الدين: للنَّاس بهذا الفَتْح فرحةٌ واحدة، ولك فرحتان. قال: يا مولانا، ولمَ؟ قال: لأَنَّ اليوم بُرِّدْتَ جِلْدة أبيك من نار جهنم. وفيها فوَّضَ نورُ الدِّين شِحْنكيَّة دمشق إلى صلاح الدين يوسف بن أيوب [على ما قيل] (1)، فأظهر السِّياسة وهذَّب الأمور، فقال عرقلة: [من المتقارب] رُويدَكُمُ يا لصوصَ الشَّام ... فإنِّي لكُمْ ناصحٌ في مقالي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "المنتظم": 10/ 210. (¬3) كذا في (ع) و (ح)، وفي "الروضتين": 1/ 437 نمرة الدين.

حسان بن تميم بن نصر

وإياكُمُ وسميَّ النَّبي ... يوسف ابن الحجا والجمال فذاك يُقَطِّعُ أيدي النساء ... وهذا يقطِّعُ أيدي الرِّجال وفيها توفي أمير أميران بن زَنْكي أخو نور الدِّين [محمود] (¬1)، أصابه سَهْمٌ على بانياس في عينه، فقتله (¬2). وقد ذكرنا أن نورَ الدِّين لما مَرِضَ، كاتبَ أمير أميران الأُمراء، فلما بَرِئَ نور الدين سار إليه، وأخذ حَرَّان منه، وطَرَده، فمضى إلى صاحب الرُّوم (¬3)، وجَيَّش الجيوش في سنة تسعٍ وخمسين، وانضمَّ إليه خَلْقٌ كثير، وكان نور الدين نازلًا على رأس الماء، فالتقوا، فكُسِرَ نور الدين، وقُتِلَ أخو مجد الدِّين ابن الدَّاية، ونُهِبَ عسكر نور الدين، ورجع [أمير أميران إلى صاحب] (¬4) حِصن كيفا مستجيرًا به. فقيل: إنه مات عنده، ويقال: إنه شَفَعَ فيه إلى نور الدين، فَقَبِلَ شفاعته، وماتَ بدمشق. حَسَّان بن تميم بن نَصْر (¬5) أبو النَّدى الدِّمَشْقي، [ويعرف بالصَّيرفي] (1). سمع الحديث وحَجَّ، وتوفي في رجب، ودفن بمقبرة باب الفراديس، [سمع الفقيه نَصرًا الصيرفي وغيره] (1)، وكتب عنه [الحافظ] (1) ابن عساكر لعبد الملك بن جمهور القُرْطُبي [هذه الأبيات] (1): [من البسيط] الموت يقبضُ ما أطلقتُ من أملي ... لو صَحَّ عقلي طلبتُ الفوزَ في مَهَلِ ما ينقضي أملٌ إلَّا أتى أملٌ ... فالدَّهْرُ في ذا وذا لم أَخْلُ من شُغُلِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هكذا قال السبط، وتابعه على ذلك الذهبي في "العبر": 4/ 169، وقد ذكر ابن أبي طي والعماد الكاتب أنه أخذ رهينة أثناء حصار حلب سنة (571 هـ)، انظر "الروضتين": 2/ 413 - 414. (¬3) كذا قال، وقد أورد أبو شامة في "الروضتين": 2/ 91 - 92 نقلًا عن ابن أبي طي أن نصرة الدين أمير أميران كان مع الفرنج على أرتاح، وأنه انضم إلى أخيه نور الدين في بدء المعركة. (¬4) في (ع) و (ح): ورجع إلى حصن كيفا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 4/ 353 - 354 - والأبيات فيه - و"النجوم الزاهرة": 5/ 367.

عبد الواحد بن إبراهيم

من أين أُرْضيك إلَّا أَنْ توفِّقَني ... هيهات هيهاتَ ما التوفيقُ من قِبَلي فارحمْ بعزَّتك اللهم مُلْتهفًا ... فيما أتى واغتفر ما كان من زَلَل عبد الواحد بن إبراهيم (¬1) ابن أحمد أبو الفضائل (¬2)، [ويعرف بابن قُزَّة] (¬3) الحلبي. انتقل أبوه إلى دمشق، وولد عبد الواحد سنة خمسٍ وسبعين وأربع مئة [وسمع الحديث] (3) وتوفي في ذي الحجة، ودُفِنَ بالباب الصَّغير، [سمع نَصْرًا المقدسي وغيره، وروى عنه الحافظ ابن عساكر وغيره، وقال: وأنشدني للمبرِّد هذه الأبيات] (¬4): [من السريع] يا صاحبَ المعروفِ كنْ تارِكًا ... تَرْدادَ ذي الحاجة في حاجتِهْ فَشَرُّ معروفك ممطولُهُ ... وخيره ما كان مِنْ ساعتِهْ لكلِّ شيءٍ آفةٌ تُتَّقى ... وحَبْسُك المعروف مِنْ آفتِهْ (¬5) [وفيها توفي عمر بن بلهيقا الطَّحَّان البغدادي (¬6) الذي عمر جامع بلهيقا بالجانب الغربي من بغداد بالقرية، وكان مسجدًا صغيرًا، فاشترى حوله أماكن وأوسعه، واستأذن الخليفة في أن يجعله جامعًا، فأذن له. قال جدي في "المنتظم": إلَّا أن أكثر المواضع التي اشتراها كانت تُربًا فيها موتى، فأخرجوا، وبيعت أماكنهم، وكان المسجد الأول مما يلي الباب والمنارة. وتوفي يوم الاثنين ثامن عشر ذي الحجة، ودفن على باب الجامع بعيدًا من حائطه، ثم نبش بعد أيام وأخرج، ودفن ملاصقًا للجامع ليشتهر ذكره بأنه بنى الجامع، فقال الناس: هذا رجل نبش الموتى وأخرجهم، فقضي عليه بأن نبش بعد دفنه] (3). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 10/ 547 (مج 43/ 325 - 326)، و"توضيح المشتبه": 7/ 203. (¬2) في "تاريخ ابن عساكر": أبو الفضل. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع) و (ح): ودفن بالباب الصغير، قال ابن عساكر: أنشدني المبرد، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) الأبيات في "تاريخ ابن عساكر". (¬6) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 212، و"البداية والنهاية" (وفيات سنة 560 هـ) وفيهما: بهليقا.

محمد بن إبراهيم بن الكيزاني

محمد بن إبراهيم بن الكِيزاني (¬1) أبو عبد الله، الواعظ، المِصري، [رجل مشهور فاضل، وله أصحاب بمصر، و] (2) كان يقول بأَنَّ أفعال العباد قديمة، [وبينه وبين جماعة من المصريين خلاف] (¬2)، ودفن عند الشَّافعي رحمة الله عليه، [فتعصب عليه رجل شافعي يقال له الخبوشاني ونبشه (¬3)] في أيام صلاح الدين [وقال: هذا حشوي لا يحل أن يدفن عند الشافعي] (2)، ودفن في مكانٍ آخر، وكان زاهدًا عابدًا، قنوعًا من الدُّنيا باليسير، فصيحًا، [وله النظم والنثر، وديوانه بمصر مشهور، وممدوح مشكور، وقد وقعت عليه بمصر، فرأيته حسن العبارة، صحيح الإشارة، وفيه رقة وحلاوة، وعليه طلاوة، وغير ذلك أنشدني منه الفضل مرهف بن أسامة ابن منقذ بمصر في سنة تسع وست مئة هذه الأبيات] (¬4): [من مجزوء الرمل] اصرفوا عني طبيبي ... ودعوني وحبيبي علِّلُوا قلبي بذكرا ... هـ فقد زاد لهيبي طاب هَتْكي في هواه ... بين واشٍ ورقيبِ لا أُبالي بفوات النّـ ... ـــــــفس ما دامَ نَصِيبي ليس من لام وإن أطـ ... ـــــــنب فيه بمصيب جسدي راض بسُقْمي ... وجفوني بنحيبي (¬5) وقال: [من الكامل] ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء مصر: 2/ 18 - 40، و"اللباب": 3/ 125، و"المحمدون من الشعراء" للقفطي: 153 - 155، "وفيات الأعيان": 4/ 461 - 462، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 90 - 91، و"الوافي بالوفيات": 1/ 347 - 350، و"النجوم الزاهرة": 5/ 367 - 368، ووفاته في "وفيات الأعيان": و"طبقات الشافعية" سنة (562 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ح) فبعث عليه الخبوشاني ونبشه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، والخبوشاني هو محمد بن الموفق، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (587 هـ). (¬4) في (ع) و (ح): فصيحًا، ديوانه مشهور، ومن شعره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) الأبيات في "الخريدة": 2/ 20.

محمد بن سعد بن عبد الله

يا مَنْ يتيه على الزَّمان بحُسْنِهِ ... اعْطِفْ على الصَّبِّ المشوق التَّائِهِ أضحى يخافُ على احتراقِ فؤاده ... أسفًا لأنَّك منه في سودائِهِ (¬1) وقال: [من الطويل] أسُكَّان هذا الحيِّ من آلِ مالك ... مسالمةٌ ما بيننا وجميلُ ألم تَعِدُونا أن تزوروا تكرُّمًا ... فما بالُ ميعاد الوصالِ يطولُ وَحُلْتُمْ عن الوَعدِ الجميلِ مَلالة ... وأنتمْ على نَقْضِ العُهودِ نُزُولُ وما منكُمُ بُدٌّ على كلِّ حالةٍ ... وإن كان منكم هاجرٌ وملولُ دواعي الهوى محتومةٌ فاصطَبِرْ لها ... وإن جار بَينٌ أَو جَفَاك خليلُ (¬2) وقال: [من المتقارب] تَخَيَّرْ لنفسك ما تَرْتَضِيهِ ... ولا تُدْنِينَّ إليك اللِّئاما فليس الصَّديقُ صديقَ الرَّخاءِ ... ولكنْ إذا قَعَدَ الدَّهْرُ قاما ينامُ وهِمَّتُه في الذي ... يَهُمُّك لا يَستَلِذُّ المناما وكم ضاحكٍ لك أحشاؤه ... تَمنَّاك أنْ لو لقيتَ الحِماما (¬3) محمد بن سَعْد بن عبد الله (¬4) ابن الحسن، أبو عبد الله، البغدادي. توفي بحلب في المحرَّم، ومن شعره: [من السريع] أفدي الذي وكَّلَني حبُّه ... بطولِ إعلالٍ وإمراضِ ولستُ أدري بعد ذا كلِّه ... أساخِطٌ مولاي أم راضِ وقال: [من السريع] يا ذا الذي وكَّلَ بي حبُّه ... على مدى الأيام أَوْجاعا وما يبالي لقساواته ... إنْ ظَمِيَ المشتاقُ أو جاعا ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": 2/ 32. (¬2) "الخريدة": 2/ 35 - 36. (¬3) "الخريدة": 2/ 39. (¬4) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 15/ 349 - 350، و"الكامل": 11/ 321 - وفيه أنه توفي بالموصل - و"الوافي بالوفيات": 3/ 90.

محمد بن عبد الله بن العباس، أبو عبد الله، الحراني

وقال: [من الطويل] سيطوي على ذي البهجة الجسم حُسْنه ... هوامٌ ترى الرَّمْسَ البعيدَ ودُوْدُه ويُضْجعه سَهْمُ المَنِيَّة مُفْردًا ... ويَجْفُوه من بعد الوصالِ وَدُوْدُه محمد بن عبد الله بن العباس، أبو عبد الله، الحَرَّاني (¬1) ولد سنة أربع وثمانين وأربع مئة، وشَهِدَ عند أبي الحسن الدَّامَغاني في سنة أربعٍ وخمس مئة، وعاش حتى لم يبق من شهود ابن الدَّامَغاني غيره، وسمع الحديث، وصنَّف كتابًا سماه "روضة الأدباء". قال الشَّيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: زرتُه يومًا، فأطلتُ الجلوس عنده، فقلت له: ثَقَّلْتُ. فأنشدني: [من الوافر] لئن سَمَّيتَ إبرامًا وثقْلًا ... زياراتٍ رَفَعْتَ بهنَّ قَدْري فما أبرمتَ إلَّا حَبْل ودِّي ... ولا ثَقَّلْتَ إلا ظَهْرَ شُكْري وكانت وفاته في جمادى الآخرة، وكان فاضلًا، ثقةً، ودُفِنَ بباب الأَزَج (¬2). محمد بن محمد بن الحسين بن الفَرَّاء الحَنْبلي (¬3) ولد سنة أربع وتسعين وأربع مئة، وسمع الحديث، وتفقَّه على والده، وأفتى، ودرَّس، وولي القضاء بباب الأَزَج، وبواسط، وقدم بغداد، وقد ذهب بصره، فأقام في منزله، وتوفي في جُمادى الآخرة، ودفن بمقبرة باب حرب. مَرْجان خادم المقتفي (¬4) كان متعصبًا ببغض الحنابلة، [وتعصَّب على جدي تعصبًا زائدًا، قال جدي] (¬5): ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 212 - 213، و"الوافي بالوفيات": 3/ 330، 340 - 341، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 352 - 353، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) "المنتظم": 10/ 212. (¬3) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 213، و"ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 244 - 250، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 354 - 353، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 213 - 214، و"الوافي بالوفيات": 25/ 417، و"البداية والنهاية" (وفيات سنة 560 هـ). (¬5) في (ع) و (ح): قال الشيخ أبو الفرج: عاداني .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الوزير بن هبيرة

عاداني، وناصبني دون الكُلِّ. فقيل له في ذلك، فقال: قَصدي أَنْ أقلع مذهب الحنابلة، وسعى بي إلى الخليفة، فلم يلتفت عليه، فلما رأيته كذا، لجأتُ إلى الله تعالى (¬1)، ودعوتُ عليه وسألته أن يكفيني شَرَّه، فصرفه عني بأَنْ ضربه السِّلُّ بعد أيام، فمات في ذي القَعدة، [وحمل إلى ترب الرصافة] (¬2) وسر الحنابلة بموته، لأَنَّه لما حج، قلع الحطيم الذي كان لهم بمكَّة، وأبطل إمامتهم بها، وبالغ في أذاهم. قرأ مَرْجان القرآن، وشيئًا من مذهب الشَّافعي، رحمة الله عليه. قال (¬3): وسمعتُ الخليفةَ المستنجد والوزير يحيى بن هُبيرة قائم بين يديه، وهو يمدحه وينشده أبياتًا نَظَمها الخليفةُ في مَدْحِ الوزير، وهي هذه: [من الطويل] وُجُودُك والدُّنيا إليك فقيرة ... وَجُودك والمعروف في النَّاس يُنْكَرُ فلو رام يا يحيى مكانك جعفر ... ويحيى لكفَّا عنه يحيى وجعفر ولم أرَ مَنْ ينوي لك السُّوءَ يا أبا الـ ... ــــمُظَفَّر إلا كنتَ أنتَ المُظَفَّرُ [فصل وفيها توفي الوزير بن هبيرة (¬4) وقد نسبه جماعة من العلماء منهم محمد بن الدُّبيثي في "الذيل" وأبو بكر والعماد الأصفهاني فقالوا: هو] (2) يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن حسن بن أحمد بن الحسن بن جهم بن عمر بن هُبيرة بن علوان بن الحَوْفزان، وهو الحارث بن شَرِيك بن عمرو بن قيس بن شراحيل بن مُرَّة بن همام بن مُرَّة بن ذُهْل بن شيبان بن ثعلبة بن عُكاية ¬

_ (¬1) في "المنتظم" 10/ 213: ولما قويت عصبيته لجأت إلى الله سبحانه. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). قلت: ولم أعرف من هو أبو بكر هذا. (¬3) يعني مرجان الخادم، انظر "المنتظم": 10/ 214. (¬4) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 2/ 96 - 100، و"المنتظم": 10/ 214 - 217، و"مشيخة ابن الجوزي": 200 - 202، و"الكامل": 11/ 321، و"كتاب "الروضتين": 1/ 440 - 441، و"وفيات "الأعيان": 6/ 230 - 244، و"الفخري": 312 - 315، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 426 - 432، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

ابن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هِنْب بن أَفْصى بن دُعْمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان، [وهذا النسب استنبطوه بعد وزارته بسنتين، وكنيته أبو المظفر، ولقبه عون الدين. ذكر طرف من أخباره] (¬1): ولد سنة تسعٍ وتسعين وأربع مئة (¬2)، بقرية [يقال لها] (¬3) الدُّور من أعمال دُجَيلِ العراق. وقرأ القرآن بالرِّوايات، وسَمِعَ الحديث الكثير، وقرأ النحو واللغة والعروض، وتفقَّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وصنَّف الكُتُبَ الحِسان، منها "الإفصاح عن معاني الصِّحاح" عشر مجلَّدات، غَرِمَ عليه في [أيام] (3) وزارته مئة ألف دينار؛ كان يجمع العلماء، ويبحث معهم في حديثٍ، ويخلع عليهم، ويبرُّهم، وكان قبل وزارته فقيرًا جدًّا، [فذكر جدِّي رحمه الله في "المنتظم"، وقال: أمضه الفقر، فتعرض] (¬4)، فجعله المقتفي مُشْرفًا في المخزن، ثم صيَّره صاحبَ الدِّيوان، ثم استوزره، فكان يجتهد في دَفْع الظُّلْم، ويجتنب المحرَّمات، وأمر المقتفي بأن يُخْلَعَ عليه، فأدخل بيتًا قريبًا منه، وجيء بخِلْعة حرير، فقال: والله لا لبستها أبدًا. قال الوزير: فسمعتُ صوت المقتفي، وهو يقول للفَرَّاشين: ما قلتُ لكم إنَّه ما يلبسها. وأول يوم جلس في الدِّيوان، نظر إلى رجلٍ من غِلْمان الدِّيوان، فاستدعاه، فأعطاه، ووصله، فقيل له في ذلك، فقال: دخلتُ يومًا إلى هذا الدِّيوان، فجاء هذا، وأقامني، وقال: قُمْ، فليس هذا موضعك. ودخل عليه يومًا تركيٌّ، فقال لحاجبه: أعطه عشرين دينارًا، وكُرًّا من طعامٍ، وقُل له لا يحضر هاهنا. ثم التفت إلى الجماعة، وقال: هذا كان شِحْنة الدُّور، فجمع المشايخ، وظلمهم، وأخذ من كلِّ واحدٍ شيئًا، وقال لي: أيش معك؟ قلت: ما معي شيء. فضربني، وشتمني، وآذاني. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): بن عدنان، أبو المظفر عون الدين الوزير، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في "الروضتين"، و"وفيات الأعيان": ولد سنة (497 هـ)، وهو الأصح. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع) و (ح): فقيرًا جدًّا، فلما أمضه الفقر تعرض للعمل .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وكانت أمواله مبذولة، ينفق في كلِّ سنة مئة ألف دينار ويستدين، وكان يقول: ما وجبتْ عليَّ زكاة قطُّ (¬1). وكان يقول: أمّا دني فلان، وأفادني فلان. [قال جدِّي رحمه الله: وسألني يومًا عن قوله عليه السَّلام: "مَنْ فاته حِزْبُه من اللَّيل، فصلاه قبل الزَّوال، فكأنه صلاه بالليل (¬2) ". فقلت: هذا ظاهر في اللغة والفقه، أما اللغة فإن العرب تقول: إلى الزوال كنت الليلة، وأما الفقه، فإنه عند أبي حنيفة يصح الصوم بنية قبل الزوال، فقد جعل ذلك الوقت في حكم الليل. فأعجبه ذلك، وكان يقول للناس: ما كنت أعرف معنى هذا الحديث حتى عرَّفني إياه فلان، فأخجل] (¬3). وجرى بين يديه بحثٌ في مسألةٍ، فخالف فيها فقيه مالكي، وادَّعى الإجماع، فقال له الوزير والجماعة: خالفْتَ. وهو لا يرجع، فقال له الوزير: أحمارٌ أنت، أَمَا ترى الجماعة يخالفونك. ثُمَّ ندم الوزير على قوله، وقال: هذا لا يليقُ بالأَدب، ولا بُدَّ أن تقول لي كما قلتُ لك، وما أنا إلَّا كأحدكم. فارتفع بكاءُ الجماعة، وأخذ الفقيه المالكي يعتذر ويبكي، والوزير يبكي، ويقول: القِصاص القِصاص. فقال يوسف الدِّمشقي [للوزير] (¬4): القِصاص أو الفِدْية، فقال الوزير: له حُكْمه. فقال الفقيه: نعمك عليَّ كثيرة، فأي حكم بقي لي؟ فقال: لا بُدَّ. فقال: عليَّ مئة دينار دَين. فأعطاه إياها [فرضي] (4). وكان في وزارته يتأسَّفُ على ما مضى من زمانه، ويندم حيث دخل في الدُّنيا، ويقول: كان عندنا في القرية نخلة في مسجدٍ تحمل ألف رطل تمرًا، فكان أخي محبِّ ¬

_ (¬1) "المنتظم": 10/ 215. (¬2) أخرج مسلم (747)، وأبو داود (1313)، والترمذي (581)، والنسائي في "المجتبى": 3/ 259 و 260، وابن ماجه (1343) من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا "من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل". وهذا لفظ مسلم. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). وانظر "المنتظم": 10/ 215. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الدِّين (¬1) يقول: يا أخي تكفانا (¬2) هذه. وكان أخوه محبُّ الدِّين سيِّدَ الزُهَّاد، ما دخل معه فيما كان فيه، ولا أكل له طعامًا. [قلت: وقد سمعنا مشايخنا ببغداد يحكون عنه حكايات عجيبة، منها أنه] (¬3) قال: وكان سببُ ولايتي للمخزن أنني ضاق ما بيدي حتى فَقَدْتُ القوت أيامًا، فأشار عليَّ بعضُ أهلي أَنْ أمضي إلى قبر معروف الكَرْخي، وأسأل الله عنده، فإنَّ الدُّعاء عنده مستجاب. فأتيتُ قبر معروف، وصلَّيتُ عنده، ودعوتُ، ثمَّ خرجتُ لأقصد البلد -يعني بغداد- فاجتزت بقَطُفْتا (¬4)، فرأيتُ مسجدًا مهجورًا، فدخلتُ لأصلي فيه ركعتين، وإذا بمريضٍ ملقى على بارِيَّة (¬5)، فقعدتُ عند رأسه، وقلتُ: ما تشتهي؟ فقال: سَفَرْجلة، فخرجتُ إلى بقَّال هناك، فَرَهَنْتُ عنده مِئْزري على سَفَرْجَلَتين وتُفَّاحة، وأتيتُه بها، فأكل من السَّفَرْجلة، ثم قال: أغلقِ البابَ -أي باب المسجد- فَغَلَقْتُه، فتنحى عن البارية، وقال: احفرْ هاهنا، فحفرتُ، وإذا بكوزٍ، فقال: خُذْ هذا، فأنتَ أَحَقُّ به، فقلتُ: أما لك وارث؟ فقال: لا، وإنما كان لي أخٌ، وعَهْدِي به بعيد، وبلغني أنَّه مات، ونحن من الرُّصافة. وبينا هو يحدِّثُني إذ قضى نحبه، فغسَّلته، وكَفَّنْتُه، ودفنته، ثم أخذتُ الكُوز، وإذا فيه مقدار خمس مئة دينار، وأتيتُ إلى دِجْلة لأعبرها، وإذا بملاحٍ في سفينة عتيقة، وعليه ثيابٌ رَثَّة. فقال: معي معي. فنزلتُ معه، وإذا به أَشْبه النَّاس بذلك الرجل، فقلتُ: من أين أنتَ؟ فقال: من الرُّصافة، ولي بناتٌ، وأنا صعلوك. قلت: فما لك أحد؟ قال: لا، كان لي أخٌ، ولي عنه زمان، وما أدري ما فعل الله به. فقلتُ: ابسط حِجْرَك، فبسطه، فصببتُ المال فيه، فَبُهِتَ، فحدَّثْتُه الخبر، فسألني أن آخذ نصفه، فقلتُ: والله ولا حَبَّة. ثم صَعِدْتُ إلى دار الخليفة، وكتبت رُقْعةً، فخرج عليها إشراف المخزن، ثم تدرَّجْتُ إلى الوزارة. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): مجير الدين، والمثبت من (م) و (ش)، وهو الموافق لما في "المنتظم". (¬2) كذا في النسخ، وفي "المنتظم": وحاصلها يكفينا. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) محلة كبيرة بالجانب الغربي من بغداد، مجاورة للمقبرة التي فيها قبر معروف الكرخي، انظر "معجم البلدان": 4/ 374. (¬5) البارية: الحصير المنسوج، "معجم متن اللغة": 1/ 285.

[ومنها أَنَّه نَظَرَ] (¬1) يومًا إلى طَرَفِ الإيوان، فرأى غُلامًا تركيًّا قائمًا في الخِدْمة، وبيده سيفٌ، فقال لابن تركان: ادفع إلى هذا [التركي] (2) خمسين دينارًا، ومُرْه [أن] (2) لا يقف بين يديّ بعد اليوم، وله في كلِّ سنة مثلها. فقال له بعض الجماعة: يا مولانا، وما السَّببُ؟ فقال: كان هذا شِحْنة دُجَيل، فَطَرَحَ على قريتنا فدادين، فجاء ليلة والبَرْدُ شديدٌ والمطر كثير، فقال: قُمْ، واخرج إلى الشَّجرة، فقلتُ: أنا ضعيف، وقليل الكسوة، [فأبصر غيري] (¬2). فضربني بالمَقْرَعة على رأسي، فأصاب [طرف] السوط (¬3) عيني هذه، فذهَبَتْ، وما أُبْصر بها إلَّا قليل، فما أُريد رؤيته، ولا أَقْطَعُ رِزْقه. فعجبَ الحاضرون من هذا الحِلْم. [ومنها أنه] (¬4) عمل سِماطًا عظيمًا [فكان يعمل في اللبنية عوض الكراث تماثيل السُّكَّر] (2)، وكان إذا مُدَّ السماط أكثر ما يحضر عليه الفقراء والعميان، فلما كان في ذلك اليوم، وأكل النَّاس، وخرجوا، بقي رجلٌ ضرير يبكي ويقول: سرقوا مداسي، وما لي غيره، ووالله ما أقدر على ثمن مداس، وما بي إلَّا أَنْ أمشي حافيًا، وأصلي. فقام الوزير من مجلسه، ولبس مداسه، وجاء إلى الضَّرير، فوقف عنده، وخَلَعَ مداسه، وهو لا يعرفه، وقال له: أَبْصِرْ هذا المداس على قدر رِجْلك. فلبسه، وقال: نَعَمْ، لا إله إلَّا الله، كأَنَّه مداسي. ومضى الضَّرير، ورجع الوزير إلى مجلسه، وهو يقول: سلمتُ منه أن يقول أنتَ سرقته. [وله كثير من العجائب والغرائب، وحكى أنه وشى به واشٍ إلى المستنجد، وكان الوزير قد أحسن إلى ذلك الواشي] (¬5)، فكتب [إليه] (2) الخليفة يقول: إنَّ فلانًا وشى بك. فكتب إليه الوزير: [من الطويل] زرعتُ زروعًا تُجْتنى ثمراتُها ... فلا ذنبَ لي إن حَنْظَلَتْ شجراتُها هُمُ نقلوا عني الذي لم أَفُهْ به ... وما آفةُ الأخبارِ إلَّا رواتُها ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): ونظر الوزير يومًا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع): فأصاب الضرب عيني، وفي (خ) فأصاب السوط عيني، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ع) (ح): وعمل، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ع) (ح): ووشى بالوزير واشي -وكان أحسن إليه- إلى المستنجد، فكتب الخليفة .. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

يطولُ على مِثْلي بأنِّيَ كلَّما ... سمعتُ نُباحًا من كلابٍ خَسَاتُها (¬1) ذكر وفاته: [حكى جدِّي في "المنتظم"، وقال] (2): كان يسأل الله الشَّهادة، ويتعرَّض لأسبابها، وكان [الوزير] (¬2) صحيحًا يوم السَّبت ثاني عشر جُمادى [الأولى من هذه السنة] (¬3)، ونام ليلة الأحد في عافية، فلمَّا كان وقت السَّحَر قاء، فحضر طبيبٌ كان يخدمه يقال له ابن رشادة، فسقاه شيئًا، فيقال: إنَّه سَمَّه، فمات. وسُقِيَ الطبيبُ بعده بنحو ستة أشهر سُمًّا، فكان يقول: سُقِيتُ كما سَقَيتُ، ومات الطَّبيب. [قال جدي] (¬4): وكنت ليلة مات الوزير نائمًا على سطحٍ مع أصحابي، فرأيتُ في المنام كأنِّي في دار الوزير، وهو جالسٌ، فدخل رجلٌ بيده حَرْبةٌ، فضربه بها بين أُنْثَيَيه، فخرج الدَّم كالفوَّارة، فَضَرَبَ الحائط. فالتفتُّ، فإذا بخاتمٍ من ذهب مُلْقى، فأخذتهُ، وقلتُ: لمن أُعطيه؟ أنتظر خادمًا يخرج، فأعطيه إياه، وانتبهتُ، فحدَّثت أصحابي، فلم أستتمَّ الحديث حتى جاء رجلٌ فقال: ماتَ الوزير. فقال بعضُ الحاضرين: هذا محال، أنا فارَقْتُه أمسِ العَصر، وهو في كلِّ عافية، وجاء آخر، فَصَحَّ الحديث، وقال لي ولده: لا بُدَّ أن تُغَسِّلَه، فأخذتُ في غسله، ورفعتُ يده لأَغسل مغابنه، فسقط الخاتم من يده، [فحيث رأيت الخاتم تعجَّبْتُ من المنام. قال] (¬5): ورأيت في وقتِ غسله آثارًا بوجهه وجَسَدِه تدلُّ على أَنَّه مسموم، فلما خرجَتْ جِنازَتُه غُلِّقَتْ أسواقُ بغداد، وامتلأت السُّطوح ودِجْلة من الجانبين، ولم يتخلَّف عن جِنازته أحدٌ، وكَثُرَ البكاءُ عليه والحُزْنُ لإحسانه وعدله، وصُلِّي عليه في جامع القَصر، وحُمِلَ إلى باب البَصرة، فدفن في مدرسته [التي أنشأها] (¬6)، وقد دَثَرَتِ الآن، [ولو كانوا دفنوه عند ¬

_ (¬1) أي خسأتها: طردتها. "اللسان" (خسأ). (¬2) في (ع) و (ح): قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ع) و (ح): الآخرة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ع) و (ح): فسقط الخاتم من يده فعجبت، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، انظر "المنتظم": 10/ 216 - 217.

أحمد بن حنبل كان أحيا لذكره والترحم عليه، ورثاه جماعة منهم نَصر النُّميري] (¬1)، فقال: [من مجزوء الكامل] ألمم على جَدَثٍ حوى ... تاجَ الملوك وقُلْ سلامُ واعقر سويداءَ الضَّميـ ... ـــرِ فليسَ يقنعني السوامُ وتوقَّ أن يفنى حيا ... ءً دَمْعُ عينك أو ملامُ فإذا ارتوتْ تلك الجنا ... دل من دموعك والرَّغامُ فأَقِمْ صدورَ اليَعْمَلا ... تِ فبعد يحيى لا مقامُ ذهَبَ الذي كانت تقيِّـ ... ـــدُني مواهِبُه الجسامُ فإذا نظرتُ إليه لم ... يَخْطُرْ على قلبي الشَّآمُ راح الندى الفياض عن ... راجيه واشتدَّ الأُوامُ وتَفَرَّقَتْ تلك الجمو ... عُ وقوِّضَتْ تلك الخيامُ عجبًا لمن يغترُّ بالدُّ ... نيا وليس لها دوامُ عُقْبى مَسَرَّتها الأسى ... وعقيبَ صِحَّتِها السَّقامُ ما متَّ وَحْدَك يوم متّ ... وإنَّما ماتَ الأنامُ يأبى لي الإحسانُ أَنْ ... أنساكَ والشِّيمُ الكِرامُ (¬2) ورآه بعضُ أصحابه في المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: [من الخفيف] قد سُئِلْنا عن حالنا فأَجَبْنا ... بعد ما حال حالُنا وحُجِبْنا ووَجَدْنا مُضَاعَفًا ما كَسَبْنا ... ووجدنا مُمَحَّصًا ما اكتْسَبَنْا وكان يكتب إلى المستنجد أوراقًا تدلُّ على شفقته على الدَّوْلة ليجري أمورها على السَّداد، وكان فيما كتب إليه: يا أمير المؤمنين، اللهَ اللهَ في أُمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، احفظْ محمدًا في أُمته، وأقم ناموس الخلافة، ففي الأعداء والوافدين كثرة، والواجب أن يصدروا بما يُحَسِّنُ السِّيرة، ويزيد في الطَّاعة، وقد سمع الوزير الحديث. ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): ورثاه نصر النميري، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وستأتي ترجمة نصر النميري في وفيات سنة (588 هـ) (¬2) بعض الأبيات في "المنتظم": 10/ 217.

[وذكره جدِّي في "المشيخة (¬1) "] فقال: أخبرنا الوزير أبو المُظَفَّر يحيى بن محمد بن هُبيرة قراءةً عليه وأنا أسمع في جمادى الأُولى سنة ستٍّ وخمسين وخمس مئة. قال: قرأتُ على سيدنا ومولانا الإمام المقتفي لأمر الله - أمير المؤمنين - أبي عبد الله محمد بن الإمام المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن الإمام المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله ابن الأمير ذخيرة الدِّين أبي العَبّاس أحمد بن الإمام القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن الإمام القادر بالله أبي العَبّاس أحمد بن الأمير أبي محمد إسحاق بن الإمام المقتدر بالله أبي الفَضْل جعفر بن الإمام [المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الأمير أبي محمد طلحة الموفق بن الإمام المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن الإمام] (¬2) المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الإمام الرَّشيد أبي عبد الله هارون بن الإمام المهدي أبي عبد الله محمد بن الإمام المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن حبر الأُمة أبي الأئمة ترجمان القرآن أبي العَبَّاس عبد الله بن العَبَّاس عَمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في يوم الجمعة سابع وعشرين ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة فأَقَرَّ به، قلت له: حدَّثكم أبو البركات أحمد بن عبد الوهَّاب بن هبة الله بن أحمد السِّيبي من لفظه في رمضان سنة خمس مئة، قال: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن أحمد بن هَزَارْمَرْد الصَّريفيني قراءةً عليه وأنا أسمع ببغداد في صفر سنة تسعٍ وستين وأربع مئة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن المُخَلِّص، حدثنا أبو علي إسماعيل بن العَبَّاس الوَرَّاق، حدَّثنا حفص بن عمرو، حدثنا المبارك بن سُحَيم، حدثنا عبد العزيز بن صُهَيب، عن أنس بن مالك، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزداد الزَّمان إلَّا شِدَّةً، ولا يزداد النَّاس إلَّا شُحًّا، ولا تقوم السَّاعة إلَّا على شِرار النَّاس" (¬3). ¬

_ (¬1) في (ع) و (ح): وذكره الشيخ جمال الدين بن الجوزي في المشيخة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين ساقط من (ع) و (ح)، والمثبت من "المشيخة". (¬3) انظر "المشيخة": 200 - 202. والحديث أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" (485)، والحاكم في "المستدرك" 4/ 441 - 442 من طريق المبارك بن سحيم، به، والمبارك متروك، وأخرجه بنحوه ابن ماجه (4039) من طريق محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس، به، ومحمد بن خالد منكر الحديث.

وكان الوزير مُمَدَّحًا، ورُزِقَ من الشُّعراء ما لم يُرْزقه أحد، قال صاحب الخبر ابن المهتدي: جمعتُ من القصائد التي مُدِحَ بها ما يزيد على مئتي ألف قصيدة، في مجلَّدات، فلما بِيعت كتُبُه اشترى المدائحَ بعضُ الأكابر، فغسلَها جميعًا. ومن شعر الوزير رحمه الله: [من الطويل] تَمَسَّكْ بتقوى الله فالمرء لا يبقى ... وكلُّ امرئٍ ما قدَّمَتْ يدُه يَلْقى ولا تظلِمَنَّ النَّاسَ ما في يديهِمُ ... ولا تذكُرَنْ إفكًا ولا تحسُدَنْ خَلْقا ولا تقربَنْ فِعْلَ الحرام فإنَّما ... لذاذتُه تفنى وأنتَ به تَشْقى وعاشِرْ إذا عاشَرْتَ ذا الدِّين تنتفعْ ... بصُحبتِهِ واحْذَرْ معاشرةَ الحَمْقى ودارِ على الإطلاق كُلًّا ولا تكن ... أخا عَجَلِ في الأمر واسْتَعْمِلِ الرِّفْقا وخالِفْ حظوظَ النَّفْس فيما ترومه الـ ... أماني ولا تستعظمنَّ لها الصّدقا تعوَّدْ فِعال الخير جَمْعًا فكلَّما ... تَعَوَّده الإنسانُ صار له خُلْقا (¬1) وقال الأبله (¬2) يمدحه: [من الكامل] لله من يحيى الوزيرِ عزيمةٌ ... بقوى النَّوائب والسُّيوفُ نوابِ طَلقُ اليدينِ سماحةً وسِلاحُهُ ... هُلْكُ البُغاةِ وبُغْيةُ الطُّلَّاب غَيثٌ تَفَهَّقَ للعُفاةِ وعَوْذُه ... ليثٌ تقهقر عند ليثِ الغاب (¬3) ولَّاجُ أنديةِ المكارم والنَّدى ... قَرَّاح (¬4) خُطْبٍ قادح بخطابِ هذا وربَّ كتيبةٍ مَلْمُومةٍ ... شَعْراءَ فَرَّق شَمْلَها بكتابِ جانبتُ أَفْنية اللِّئام ولذتُ من ... يحيى بأخصبِ مَرْتَعٍ وجَنَابِ بجناب مِتْلافٍ إذا حُسِبَ النَّدى ... ألفيتَ نائِلَهُ بغير حساب وقال يهجوه: [من الكامل] يا قاصدًا بغدادَ جُزْ عن بلدةٍ ... الجَوْرُ فيها زَخْرَةٌ وعُباب ¬

_ (¬1) الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 99 - 100. (¬2) هو محمد بن بختيار، وستأتي ترجمته سنة (579 هـ). (¬3) معنى الشطر الثاني لم يتضح لي. (¬4) من اقترح خطبة: ارتجلها، "معجم متن اللغة": 4/ 524. وسكنت الطاء في خطب لضرورة الشعر.

إن كنت طالب حاجةٍ فارجعْ فقد ... سُدَّتْ على الرَّاجي بها الأبوابُ بادتْ وأهلُوها معًا فبيوتهُم ... ببقاء مولانا الوزير خرابُ والناس قد قامتْ قيامتهم فلا ... أحسابَ بينهمُ ولا أنسابُ والمَرْءُ يُسْلِمُهُ أخوه وعِرْسه ... ويخونه الأصحاب والأترابُ شهدوا معادهُمُ فعاد مكرّما ... مَنْ كان قبلُ ببعثه يرتابُ حشر وميزان وعرضُ صحائفٍ ... وجرائدٌ منشورةٌ وحسابُ وبها زبانية تُبَثُّ على الورى ... ومقامع وسلاسلٌ وعقابُ ما فاتهم من كل ما وعدوا به ... في الحشر إلا راحِمٌ وهَّابُ (¬1) وقال من شعر الوزير المؤَيَّد الألوسي (¬2) وكان فصيحًا، كتب إلى الوزير متعتِّبًا عليه: [من الرمل] ولعمر اللهِ ما أَعْجزني ... سرعةُ السَّيرِ ولا عرض البِقاعِ والغِنى مني إذا حاوَلْتُهُ ... بالشِّرى أقرب مِنْ حَبْل الذِّراعِ غير أَنِّي ليس ترضى هِمَّتي ... أَنَّني أكسبُ مالًا بانتجاعِ وإذا ما قَصَّرَتْ بي ثَرْوةٌ ... طوَّلَتْ لي عِفَّتي خَطْوي وباعي وتقنعت وكم من حسرة ... نكأت قلب المعالي بأفاعي فلئن أصفيت غيري بالعُلا ... وتجافيتَ اصطفائي واصطناعي وزها رَوْضُك من بعد العِدى ... وصفا حَوْضُك من ري الرعاع وطباع المُلْك ما زالت كذا ... ومن الإعجاز تبديل الطِّباعِ ترزق الضَّعْفاء في ساجورها ... وتخاضُ البِيدُ في قَتْلِ السِّباعِ وقال أيضًا يعاتبه: [من البسيط] ¬

_ (¬1) كذا قال، ورأيت بعض هذه الأبيات من قصيدة لسبط ابن التعاويذي، وهي في "ديوانه": ص 47 - 48، مع اختلاف في بعض الألفاظ، وفيها: وقال يهجو ابن البلدي. (¬2) سماه ابن خلكان المؤيد بن محمد بن علي بن محمد الألوسي، وسماه ابن النجار: عطاف بن محمد المعروف بالمؤيد، وسماه ياقوت: المؤيد بن عطاف، شاعر بغدادي من أعيان شعراء عمره، ولد بألوس سنة (494 هـ)، وهي ناحية عند حديثة عانة على الفرات، ودخل بغداد في أيام المسترشد بالله، وانقطع إلى الوزير ابن هبيرة، وله فيه مدائح جيدة، وتوفي بالموصل سنة (557 هـ). انظر ترجمته في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق ج 1/ 172 - 179، و"معجم الأدباء": 19/ 207 - 209، و"وفيات الأعيان": 5/ 346 - 350.

لا أعرفُ الغَمْضَ إلَّا ما تحدِّثُني ... به المُنَى في منامي ربَّما كانا وأستعينُ العِدى مما بليتُ به ... يا ذُلَّ مَنْ طَلَبَ الأعداءَ أَعْوانا ولم تَزَلْ قسمةُ الأَيَّامِ جائرةً ... إذا قَضَتْ ناقضت ظُلْمًا وعُدْوانا تختصُّ بالعَطَل البازي وقد جَعَلَتْ ... لمعُظْم الطَّير أَطْواقًا وتيجانا وتُغْرقُ الدُّرَّ في قَعْر البحور وقد ... أَعْلَتْ على قُلَلِ الأجبال صَوَّانا ذكر ما جرى بعد وفاة الوزير رحمه الله: استوزر الخليفةُ شَرَفَ الدِّين أبا جعفر أحمد بن محمد بن البلدي، فشرع في التضريب على أولاد الوزير وأسبابه، فقبض على ولديه عز الدين محمد، وشرف الدين ظَفَر [وكان أكبر أولاده] (¬1) وأُخذت أموالهما، وخُنِقَ عزُّ الدِّين وأخوه، وسنذكرهما، واضطرَّ ورثة الوزير إلى بيع ثيابهم وأثاثهم، وثياب نسائهم ومقانعهن (¬2)، وبيعت كُتُب الوزير الموقوفة على مدرسته وغيرها، حتى إنَّه بيع كتاب "البُسْتان" في الرَّقائق لأبي الليث السَّمَرْقَنْدي بخطٍّ منسوب، وكان مُذْهبًا يساوي عشرة دنانير، بدانقين وحبَّة، فقال بعضُ الحاضرين: ما أرخص هذا البُسْتان! فقال جمال الدين بن الحصني: ثِقَلُ ما عليه من الخَرَاج أَرْخَصَه. أشار إلى الوقفية وغيرها. وقال بعضُ الحاضرين: كيف يجوز بيع كتب الوقف بعد أن حكم بها حاكم؟ ! فأُخذ وضرب ضربًا مبرِّحًا، وحُبس، فامتنع النَّاسُ من الكلام في ذلك. قلتُ: هذا تلخيصُ ما ذكره المصنِّف رحمه الله في ترجمته (¬3)، وقد ذكر قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خَلِّكان رحمه الله في "وفيات الأعيان (¬4) " ترجمة الوزير رحمه الله، وذكر بمعنى بعض ما ذكره المصنِّف، وزاد فقال: أَوَّلُ ولاياته الإشراف بالأقرحة الغربية (¬5)، ثم نُقِلَ إلى الإشراف على الإقامات المخزنية، ثم قُلِّد الإشراف بالمخزن، ولم يطل في ذلك مكثه حتى قلد في سنة اثنتين وأربعين كتابة ديوان الزِّمام، ثم ترقَّى إلى الوزارة، وكان سبب توليته الوزارة ما جرى من مسعود البلالي شِحْنة بغداد نيابةً عن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) مفردها المقنعة: وهي ما تغطي به المرأة رأسها. انظر "معجم متن اللغة": 4/ 662. (¬3) هذا من أصح النصوص التي تدل على اختصار اليونيني لمرآة الزمان. (¬4) "وفيات الأعيان": 6/ 231 - 242. (¬5) مواضع ببغداد، انظر "معجم البلدان": 4/ 315 - 316.

السُّلْطان مسعود بن محمد بن ملك شاه -وكان مسعود أحد الخَدَم الحبشيين الخِصيان الكبار من أُمراء دولته- من سوء أدبه في الحَضْرة، وخروجه عن معتاد الواجب، وانتشار مُفْسدي أصحابه، وكان وزير الخليفة إذ ذاك قوام الدِّين أبو القاسم عليُّ بنُ صدقة قد كتب عن الخليفة إلى السُّلْطان عِدَّة كُتُب يعتمد الإنكار على مسعود البلالي، فلم يرجع جواب، فلما قُلِّد عون الدين ابن هُبَيرة كتابة ديوان الزِّمام، خاطَبَ الخليفةَ في مكاتبة السُّلْطان مسعود بالقضية، فوقَّع إليه: قد كان الوزير كَتَبَ في ذلك عِدَّة كتب فلم يجيبوه. فراجع عون الدِّين في ذلك سؤاله إلى أن أُجيب، فكتب من إنشائه رسالةً طويلة، دعا للسُّلْطان، وأذكره ما كان أسلافه يعاملون الخلفاء به من حُسْن الطَّاعة والتأدُّب معهم، والذَّبِّ عنهم ممن يفتات عليهم، وشكا من مسعود البلالي، وأطال القول، وكان هذا في سنة اثنتين وأربعين في ربيع الآخر، فما مضى على هذا إلَّا قليل حتى عاد الجواب بالاعتذار والذَّمِّ لمسعود البلالي، والإنكار لما اعتمده، فاستبشر المقتفي بإشارة عون الدين، وعَظُمَ سروره بذلك، وعظم موقعه في قلبه، ولم يزل عنده مكينًا حتى استوزره. وكان أيضًا من جملة أسباب وزارته [أنه] (¬1) في سنة ثلاث وأربعين وصل إلى بغداد صاحب اللِّحف (¬2) ويلدكز السُّلْطاني، وقصداها في جموعٍ كثيرة، وصدر منهم فتن عظيمة، فشرع الوزير قوام الدِّين ابنُ صدقة في تدبير الحال، فأخفق مسعاه، فاستأذن عونُ الدِّين الخليفةَ في أمرهم، فأَذِنَ، فخاطب هؤلاء الخارجين عن الخليفة، وأحسن التَّدْبير في ذلك حتى كَفَّ شَرَّهم، ثم قوي عليهم حتى نهبت العامَّةُ أموالهم، وعند انقضاء هذا المهم استدعى الخليفة عون الدين بمطالعة على يد أميرين، فركب إلى دار الخلافة في جماعة، ولما وصل إلى باب الحجرة استدعي، فدخل، وقد جلس له المقتفي بمثمنة التَّاج، فقبَّلَ الأرض وجلس، وتحدَّثا ساعة بما لم يُحِطْ به غيرهما عِلْمًا، ثم خَرَجَ وقد جهِّز له التشريف على عادة الوزراء، فلبسه، ثم استدعي ثانية، فقبل الأرضَ، ودعا بدعاء أَعْجَبَ الخليفة، ثم أنشد: [من الطويل] سأشكر عمرًا ما تراخَتْ منيَّتي ... أياديَ لم تُمنن وإن هي جَلَّتِ رأى خَلَّتي من حيثُ يخفى مكانُها ... فكانت بمرأى منه حتى تجلَّتِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "وفيات الأعيان": 6/ 232. (¬2) صقع من نواحي بغداد. "معجم البلدان": 5/ 14.

وهذان البيتان لإبراهيم بنِ العَبَّاس الصُّولي، وهي ثلاثة أبيات، الثاني منهما بعد الأول: فتًى غيرُ محجوبِ الغِنى عن صديقه ... ولا مُظْهِرُ الشَّكْوى إذا النَّعْلُ زَلَّتِ ولما أنشد عونُ الدِّين البيتين، غيَّر نصف البيتِ الثَّاني منهما، فإنَّ الشَّاعر قال: فكانت قذى عينيه حتى تجلت فما رأى أن يخاطب الخليفة بهذه العبارة، فغيَّره تأدُّبًا. ثم إنه خرج، فَقدِّمَ له حصانٌ أَدْهم سائل الغُرَّة محجَّل، وعليه من الحَلْي ما جَرَتْ به عادةُ الوزراء، وخرج بين أرباب المناصب وأعيان الدَّوْلة، وأمراء الحَضْرة، وجميع خدم الخليفة، وسائر حُجَّاب الدِّيوان، والطبولُ تُضْرب أمامه، والمسند وراءه محمول حتى دخل الدِّيوان، ونزل على طرف الإيوان، وجلس في الدَّسْت، وقام لقراءة عهده سديدُ الدَّوْلة محمد بنُ عبد الكريم الأنباري، وقرأ القُرَّاء، وأنشد الشُّعراء، وتولى الوزارة يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الآخر سنة أربعٍ وأربعين، وكان لقبه جلال الدين، فلقّب عون الدين. وكان عالمًا فاضلًا، ذا رأي صائبٍ، وسريرة صالحة. وذكر عِزُّ الدِّين عليُّ بن الأثير في "تاريخه الصَّغير (¬1) " في فصل حِصار الملك محمد وزين الدِّين بغداد، وذلك في ذي القعدة سنة ثلاثٍ وخمسين: أنَّ المقتفي جَدَّ في حِفْظ بغداد، وقام وزيره عون الدِّين في هذا الأمر المقام الذي يعجز عنه غيره، وأمر المقتفي، فنودي في بغداد: مَنْ جُرح فله خمسة دنانير، فكان كل من جرح يوصل ذلك إليه، فحضر بعض العامة عند الوزير مجروحًا، فقال الوزير: هذا جرحٌ صغير لا تستحقُّ عليه شيئًا. فعاد إلى القتال، فَضُرِبَ في جوفه، فخرجت أمعاؤه، فعاد إلى الوزير، وقال: يا مولانا، يرضيك هذا؟ فضحك منه، وأمر له بصِلة، وأحضر مَنْ عالجه. وقال الحيص بيص يمدحه: [من الطويل] يهزُّ حديثُ الجودِ ساكنَ عِطْفه ... كما هَزَّ شَرْبَ الحيِّ صَهْباءُ قَرْقَفُ ويرسو إذا طاشت حُبا القوم واغتدتْ ... صِعابُ الذُّرى من زَعْزَع الخَطْبِ تَرْجُفُ صرومُ الدَّنايا هاجرٌ كلَّ سُبَّةٍ ... ولكنَّه بالمجدِ صبٌّ مكلَّفُ ¬

_ (¬1) انظر "الباهر": 113.

يضيقُ بأدنى العار ذَرْعًا وصدرُهُ ... بأهوالِ ما يُدْني من الحمد نَفْنَفُ إذا قيل عونُ الدِّين يحيى تألَّق الـ ... ـــغمامُ وماسَ السَّمْهَريُّ المُثَقَّفُ وقال أبو عبد الله محمد بن بختيار المعروف بالأبله الشَّاعر يمدحه: [من الكامل] ولع النَّسيم وبانة الجرعا ... وصفاك إلَّا الحَلْي والوَدْعا يا دُميةً ضاقتْ خلاخلها ... عنها وضقتُ بحبِّها ذَرْعا قد كنتُ ذا دَمْعٍ وذا جَلَدٍ ... فبقيتُ لا جلدًا ولا دَمْعا صيَّرتِ جسمي للضَّنى سكَنًا ... وسكنتِ بعد تبالةَ الجَزْعا يا مَنْ رأى أدماء سانحةً ... قلبي لها لا المنحنى مَرْعى لاثتْ بمثل الدِّعْصِ مئزرها ... وجَلَت بعودِ أراكةٍ طلْعا وإذا تُراجعكَ الكلامَ فلا ... تَعدَمْ لأَيَّامِ الصِّبا رُجْعى ولقد سعت بالكأس تُصبحني ... سكرى اللَّواحظ وَعْثة المَسْعى في مستنير الزهر ما صنعتْ ... أبرادَه عَدَنٌ ولا صَنْعا باكرتُ مفترعًا ثراه وما ... ركب الحمامُ لبانةٍ فَرْعا سَلَّت عليه البارقاتُ ظُبًى ... لَبِسَ الغديرُ لخوفها دِرْعا يا عاذلي إن شئت تُسْمعني ... عَذْلًا فَشُقَّ لصخرةٍ سَمْعا طَبْعًا جُبِلْتُ على الغرام كما ... جُبِلَ الوزيرُ على النَّدى طَبْعا وقال محمد بن عبد الله سِبْط ابن التَّعاويذي يمدحه: [من الطويل] سقاها الحيا من أَرْبُعٍ وطلولِ ... حَكتْ دَنَفي من بعدهم ونحولي ضمنتُ لها أجفانَ عينٍ قريحةٍ ... من الدَّمْعِ مِدْرارِ الشُّؤون هَمُولِ لئن حال رَسْمُ الدَّارِ عما عهدْتُهُ ... فعهدُ الهوى في القلب غير محيل خليليَّ قد هاج الغرامُ وشاقني ... سنا بارِقٍ بالأَجْرعَينِ كليلِ ووكَّلَ طَرْفي بالسُّهاد تنظُّري ... قضاءَ مليٍّ بالدِّيون مَطُولِ إذا قلتُ قد أنحلتِ جسمي صبابةً ... تقولُ وهل حُبٌّ بغير نحولِ فإن قلتُ دمعي بالأسى فيك شاهدي ... تقول شهود الدَّمْعِ غيرُ عدولِ فلا تعذلاني إنْ بكيتُ صبابةً ... على ناقضٍ عهدَ الوفاءِ مَلُولِ

فأبرحُ ما يُمنى به الصَّبُّ في الهوى ... ملالُ حبيبٍ أو ملام عذولِ ودون الكثيب الفَرْدِ بيضٌ عقائلٌ ... لعبْنَ بألبابٍ لنا وعقولِ غداة التقت ألحاظها وقلوبنا ... فلم تجلُ إلَّا عن دمٍ وقتيلِ ألا حبذا وادي الأراك وقد وشَتْ ... بريَّاك ريحا شمألٍ وقبُولِ وفي أبرديه كلَّما اعتلتِ الصَّبا ... شفاءُ فؤادٍ بالغرام عليلِ دعوت سُلوًا فيك غير مساعدي ... وحاولتُ صبرًا عنك غير جميلِ تعرفت أسبابَ الهوى وحملته ... على كاهلٍ للنائبات حمولِ فلم أحظَ في حُبِّ الغواني بطائلٍ ... سوى رَعْي ليل بالغرام طويلِ إلى كم تمنيني الليالي بماجدٍ ... رزينِ وقارِ الحلم غير عَجُول أهز اختيالًا في هواه معاطفي ... وأسحب تيهًا في ثراه ذيولي لقد طال عهدي بالنَّوال وإنني ... لصبٌ إلى تقبيلِ كفِّ منيل وإنَّ ندى يحيى الوزير لكافلٌ ... بها لي وعونُ الدِّين خيرُ كفيلِ وذكر قاضي القضاة -رحمه الله- عن مؤلف سيرة الوزير، أَنَّ سببَ موته كما بلغنا أنه خرج مع المستنجد للصَّيد، فسقي مسهلًا، فقصر عن استفراغه، فدخل بغداد يوم الجمعة سادس جمادى الأُولى راكبًا متحاملًا إلى المقصورة لصلاة الجمعة، فصلَّى بها، وعاد إلى داره، فلما كان وقت صلاة الصُّبْح عاوده البلغم، فوقع مغشيًّا عليه، فصرخ الجواري، فأفاق، فسكَّتهن، وبلغ الخبر ولده عز الدين، فبادر إليه، فلما دخل عليه قال له: أستاذ الدار قد بث جماعة ليستعلم ما هذا الصِّياح، فتبسم الوزير على ما هو عليه، وأنشد: [من الطويل] وكم شامتٍ بي عند موتي جهالةً ... بظلم يسلُّ السَّيفَ بعد وفاتي ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الضُّرِّ بعدي مات قبل مماتي ثم تناول مشروبًا، فاستفرغ به، ثم استدعى بماءٍ، فتوضأ للصَّلاة، وصلى قاعدًا، فسجد، فأبطأ عن القعود من السجود، فحركوه، فإذا هو ميتٌ، فطولع به الإمام المستنجد، فأمر بدفنه. وقال ابنُ القادسي: ولد سنة سبع وتسعين وأربع مئة، ولما بلغ موته عضد الدين أبو المظفر أُستاذ الدار كان بحضرته سبط ابنِ التعاويذي، فأنشد مرتجلًا: [من الخفيف]

السنة الحادية والستون وخمس مئة

قال لي والوزير قدمات قومٌ ... قُمْ لنبكي أبا المُظَفَّر يحيى قلت أهونْ عندي بذلك رُزْأ ... ومصابًا وابنُ المُظَفَّر يحيا وقال آخر: [من الطويل] أيا رَبِّ مثلُ الماجدِ ابن هُبيرة ... يموت ويحيا مثل يحيى بن جعفر يموت بيحيى كلُّ فَضْلٍ وسؤدد ... ويحيا بيحيى كلُّ جَهْل ومُنْكَرِ (¬1) السَّنة الحَادية والسُّتون وخمس مئة فيها عاد ابن المشَّاط الواعظ إلى بغداد، وتعصَّبوا له، فجلس بجامع القَصر، وأظهر البِدَع، ووقعت الفِتَنُ بين الحنابلة والأشاعرة، وكان يقول: هذا كلام الهُدْهُد، هذا كلام بِلْقيس، ما قال الله هذا. وسُئِلَ عن تفسير التين والزيتون فقال: التين في الريحانيين، والزَّيتون في جميع الأسواق. وفيها هَرَبَ عِزُّ الدين محمد بن الوزير ابن هُبيرة من دار الخليفة، وأُخذ. وفيها فَتَحَ نورُ الدِّين العُرَيمة وصافيتا، وهدم قلعتيهما وسوريهما، وعصى عليه غازي بن حَسَّان صاحب منبج، فأخذ منه منبج، وأعطاه الرَّقَّة (¬2). [فصل وفيها توفي إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم (¬3) أبو إسحاق الموصلي الحنفي، تفقَّه على برهان الدين البَلْخي، وناب عنه في المدرسة الصادرية، وسمع منه الحديث وغيره، وكان أبوه قاضيًا على الرُّها، وتوفي أبوه في دمشق، وكان فاضلًا ثقة] (¬4). ¬

_ (¬1) إلى هنا تنتهي نسخة (ع)، ويبدأ الاعتماد على نسخة (خ) وحدها، وهي نسخة فشا فيها التصحيف والتحريف، والله المستعان. (¬2) كذا قال، وهو وهم، إذ لم يعط نور الدين الرقة لغازي بن حسان، بل أعطاها لأخيه قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الوصل، انظر "الروضتين": 2/ 24 - 25، وقد ذكر ذلك أبو شامة نقلًا عن ابن الأثير في حوادث سنة (562 هـ). (¬3) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر"، (خ) و (س): 2/ 361، و"الجواهر المضية": 1/ 65 - 66، و"الطبقات السنية": 1/ 198 - 199، ووفاته عندهم سنة (560 هـ). (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

إسماعيل بن سلطان بن علي

وفيها توفي إسماعيل بن سُلْطان بن علي (¬1) ابن منقذ، شرف الدِّين والدولة، كان فاضلًا، نزل بغداد لما أُخذت منهم شَيزَر، ومن شعره: [من البسيط] سُقيتُ كأس الهوى علًّا على نَهَل ... فلا تَزِدْنيَ كأسَ اللَّوْمِ والعَذَلِ ناى الحبيبُ فبي من نأْيه حُرَقٌ ... لو لابَسَتْ جبلًا هَدَّت قُوى الجبلِ كم مِيتةٍ وحياةٍ ذُقْتُ طَعْمَهُما ... مُذْ ذُقْتُ طَعْمَ النَّوى لليأس والأَمل وكم رَدعتُ فؤادي عن تهافُتِهِ ... إلى الصَّبابة رَدْعَ الحازمِ البَطَلِ حتى أتاحت لي الأقدار غُرَّتَه ... وكنتُ من أجَلي منها على وَجَلِ فانظر إليه تَرَ الأقمارَ في قمرٍ ... وانظرْ إليّ تَرَ العُشَّاق في رَجُلِ (¬2) الحسن بن العباس (¬3) أبو عبد الله الأَصبهاني (¬4)، الشيخ الصَّالح كان كثيرَ البكاء، ولم يكن بأصبهان في زمانه أزهد منه ولا أورع، قال: وقفتُ على ابن ماشاذة وهو يتكلَّم على النَّاس، فلما جاء الليل رأيتُ ربَّ العِزَّة في المنام، فقال لي: يا حسن، وقفتَ على مبتدع وسمعت كلامه؟ ! لأحرمنَّك النَظر في الدُّنيا، فاستيقظَ وعيناه مفتوحتان، ولا يبصر بهما شيئًا، ومات في صفر بأَصبهان. عبد الله بن الحسين، أبو محمد الأنصاري (¬5) ويعرف بابن رواحة، ولد بحماة سنة ستٍّ وثمانين وأربع مئة، وقرأ القرآن بالرِّوايات، [وقال الحافظ ابن عساكر] (¬6): قدم دمشق وصلَّى بالنَّاس التَّراويح في ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 564 - 566، و"معجم الأدباء": 5/ 234 - 238) ضمن ترجمة أسامة بن منقذ)، و"الوافي بالوفيات": 9/ 118 - 119. (¬2) الأبيات في "الخريدة": 1/ 565 - 566. (¬3) في (م) و (ش): وفيها توفي ابن العباس أبو عبد الله بن رستم. (¬4) له ترجمة في "الأنساب": 6/ 115 - 117، و"المنتظم": 10/ 219، و"الكامل": 11/ 323، و"اللباب": 2/ 52، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 432 - 435، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬5) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ) و (س): 9/ 140، والأبيات فيه، و"الوافي بالوفيات": 17/ 142 - 144. (¬6) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر

جامعها، وكانت له اليد البيضاء في القراءات، والتهجد في الخلوات، وكان يُشْعِرُ، مدح المقتفي، فَخَلَعَ عليه ثياب الخطابة، وقلَّده أمرها بحماة، ومن شعره: [من الوافر] إلهيَ ليس لي مولى سواكا ... فَهَبْ من فَضْلِ فَضْلك لي رضاكا وإلَّا ترضَ عنِّي فاعْفُ عنِّي ... لعلي أن أجوزَ به حِماكا فقد يَهَبُ الكريمُ وليس يرضى ... وأنتَ مُحكَّمٌ في ذا وذاكا وكانت وفاته بحماة في المحرم. عبد الرَّحمن بن الحَسَن بن عَبدِ الرحمن بن طاهر (¬1) أبو طالب الحلبي، وكان جليل القَدْر، ويعرف بابن العَجَمي، تفقَّه ببغداد [على أَسْعد المِيهني] (2)، وبدمشق [على نَصر بن إبراهيم المقدسي، وسمع من نَصر الحديث] (¬2)، وبنى بحلب مدرسة للشافعية، وعمر جامع بَعْلَبَكَّ في أيام زَنْكي بن آق سُنْقُر، وتوفي بحلب في شعبان. عَبْدُ العَزيز بن الحُسين بن الجَبَّاب (¬3) أبو المعالي، القاضي الجليس السَّعدي، كان يجالس الخلفاء في مِصر، ومن شِعْره: [من الطويل] ومن عَجَبٍ أَنَّ الصَّوارِمَ في الوغى ... تحيضُ بأيدي القَوْم وهي ذكورُ وأَعْجَبُ من ذا أَنَّها في أكُفِّهم ... تأجَّجُ نارًا والأكفُّ بحورُ (¬4) وكتب إلى الصَّالح من رسالةٍ: وهو العزيز الكافي الكافل، والملك الذي تتكتب باسْمه الكتائب، وتتجحفل المحافل (¬5)، جدد رسوم المملكة، وقد كاد يخفيها دثورها، وعاد إليها ضياؤها ونورها. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "العبر": 4/ 175، و"طبقات الشافعية" للإسنوي: 1/ 440، و"شذرات الذهب": 4/ 198. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء مصر: 1/ 189 - 250، و"كتاب الروضتين": 2/ 6 - 10، و"فوات الوفيات": 2/ 332 - 335، و"الوافي بالوفيات": 18/ 473 - 476، و"النجوم الزاهرة": 5/ 371، و"حسن المحاضرة": 1/ 563. (¬4) البيتان في "الخريدة": 1/ 190 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬5) كذا في (ح)، وفي "الخريدة": والملك الذي تلقى بذكره الكتائب، وتنهزم باسمه الجحافل.

[من الطويل] أعدتَ إلى جسم الوزارة رُوحَه ... وما كان يُرْجى بعثُها ونُشُورُها أقامتْ زمانًا عند غيرك طامثًا ... وهذا الأوانُ قَرْؤها وطَهُورُها من العَدْلِ أن يجتابَها (¬1) مستحِقُّها ... ويخلَعَها مردودةً مستعيرُها إذا خَطَبَ الحسناءَ منْ ليس كُفْأَها ... أشار عليها بالطَّلاق مشيرُها (¬2) ولقد نَفَقَتْ في دولته أسواقُ الآداب بعدما كَسَدَتْ، وهَبَّتْ رياح الفَضْلِ بعدما ركدت، إذا لها الملوك بالقِيان والمعازف، كان لهوه بالعلوم والمعارف، وإن عَمَروا أوقاتهم باللَّهو والخمر، عمر أوقاته بالنَّهي والأمر: [من الطويل] مليك إذا ألهى الملوك عن اللُّها ... خُمارٌ وخَمْرٌ هاجَرَ الدَّلَّ والدَّنَّا ولم تُنْسه الأوتادَ أوتارُ قينةٍ ... إذا ما دعاه السيف لم يثنه المَثْنى ولا عَيبَ في إنعامه غير أنَّه ... إذا مَنَّ لم يَتْبع مواهِبَهُ مَنَّا (2) وقال: [من الطويل] بدا فأرانا منظرًا جامعًا لِمَا ... تفرَّقَ من حُسْنٍ على الخَلْقِ مُوْنِقا أقاحًا وراحًا تحت وَرْدٍ ونرجسٍ ... وليلًا وصُبْحًا فوق دِعْصٍ على نَقَا (3) وقال يرثي أباه، وكان قد نزل البحر، فعصفت ريح، فأغرقت المركب: [من البسيط] وكنت أُهْدِي مع الرِّيح السلامَ له ... ما هبت الرِّيحُ في صُبْحٍ وإمساءِ إحدى ثقاتي عليه كنتُ أحسبها ... ولم أَخَلْ أنها من بعضِ أعدائي (¬3) ¬

_ (¬1) في (ح): يحيا بها، وهي كذلك في "الخريدة"، والمثبت من "الروضتين": 2/ 8، فهو الموافق للمعنى، فيجتابها: أي يلبسها. (¬2) الأبيات في "الخريدة": 1/ 193 - 194. (¬3) البيتان في "الخريدة": 1/ 198 - 199.

عبد القادر بن أبي صالح

سيدنا الشيخ عبد القادر بن أبي صالح [أبو] (¬1) محمد، الجِيلي (¬2). [ذكره جدِّي في "المنتظم"، وقال] (1): ولد سنة سبعين وأربع مئة، ودخل بغداد، [فسمع الحديث من أبي بكر أحمد بن المظفر بن سُوسَن التمَّار، وأبي القاسم علي بن أحمد بن بيان، وأبي طالب بن يوسف] (¬3)، وتفقه على أبي سَعْد المُخَرِّمي، وكان أبو سَعْد قد بنى مدرسة لطيفة بباب الأَزَج، وفُوِّضَتْ إلى الشيخ عبد القادر، فتكلَّم على النَّاس [بلسان] (1) الوعظ، وظهر له صيتٌ بالزُّهد، وكان ذا صَمْتٍ وسَمْتٍ، فضاقت مدرسته بالنَّاس، فكان يجلس عند سور بغداد بباب الحَلْبة، مستندًا إلى الرِّباط، ويتوب عنده في المجلس خَلْقٌ كثير، فَعُمِّرت المدرسة ووسِّعت [وتعصَّبَ له العوام] (1)، وأقام في مدرسته يدرِّس ويعظ إلى أن توفي ليلة السبت ثامن ربيع الآخر، ودُفن في الليل في مدرسته، وقد بلغ تسعين سنة، [هذا صورة ما ذكره جدِّي رحمه الله (¬4). قلت] (1): صحب (¬5) حمَّادًا الدَّبَّاسَ (¬6)، ومنه اكتسب علوم المعاملات والحقائق، وكان سكوتُه أكثرَ من كلامه، وكان يتكلَّم على الخواطر، [فظهر له صيت عظيم وقبول تام] (¬7)، وما كان يخرج من مدرسته إلَّا يوم الجُمُعة إلى الجامع، أو إلى الرِّباط، وتاب على يده معظمُ أهل بغداد، وأسْلَم معظمُ اليهود والنَّصارى، وما كان أحدٌ يراه إلَّا في ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 3/ 415، "المنتظم": 10/ 219، و"مناقب الإمام أحمد": 640، و"الكامل": 11/ 323، "بهجة الأسرار في مناقب سيدي عبد القادر" للشطنوفي، "المختصر في أخبار البشر": 3/ 43، "ذيل طبقات الحنابلة": 3/ 290 - 301، "الوافي بالوفيات": 19/ 38 - 40، "سير أعلام النبلاء": 20/ 439 - 451، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ح): وسمع الحديث وتفقه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) "المنتظم": 10/ 219. (¬5) في (ح): وصحب، والمثبت من (م) و (ش). (¬6) سلفت ترجمته في وفيات سنة (525 هـ). (¬7) في (ح): وله قبول تام، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أوقات الصَّلاة، وكان يَصْدع بالحقِّ على المنبر، وينكر على من يولِّي الظَّلَمة [على النَّاس] (1)، ولما ولَّى المقتفي القاضي ابن المُرَخِّم [الظالم] (¬1)، قال على المنبر: ولَّيتَ على المُسْلمين أَظْلَمَ الظَّالمين، ما جوابك غدًا عند ربِّ العالمين. وكان له كرامات ظاهرة، [ولقد أدركتُ جماعةً من مشايخنا يحكون منها جملة، حكى لي خالي لأمي، وكان اسمه خاصْبَك، قال: ] (¬2) كان الشيخ عبد القادر يجلس يوم الأحد [فَنمتُ ليلة الأحد] (1) مهتمًا بحضور مجلسه، فاتَّفقَ أنني احتلمْتُ، وكان ليلةً باردة، فقلتُ: ما أفوِّتُ مجلسه، وإذا انقضى المجلس اغتسلتُ، فجئتهُ إلى المدرسة، والشَّيخ على المنبر، فساعة وَقَعَتْ عينُه عليَّ قال: يا دبير، تحضرُ مجلسَنا وأنتَ جُنُبٌ وتحتجُّ بالبرد! . قال المصنِّفُ رحمه الله: حكى لي رجلٌ صالح من أهل الحَرْبية يقال له مُظَفَّر، قال: كنتُ ليلة الأحد أنام في مدرسة الشَّيخ عبد القادر لأجل المجلس [قال] (1): فمضيتُ ليلةً، وصَعِدْتُ على سطوح المدرسة، وكان الحَرُّ شديدًا، فاشتهيتُ الرُّطَب، وقلتُ: إلهي ولو أنها خمس رطبات. وكان للشيخ بابٌ صغير في السطوح، فَفُتح الباب، وخرج الشَّيخ وبيده خمس رطبات، وصاح: يا مظفر -وما يعرفني قبلها-: تعال خُذْ ما طلبتَ. [ومن هذا شيء كثير] (1). وكان ابنُ يونس وزير النَّاصر (¬3) قد قَصَدَ أولادَ الشيخ عبد القادر، وبدَّدَ شملهم [وفَعَل في حَقِّهم كل قبيح، ونفاهم إلى واسط] (1)، فبدَّد الله شَمْلَه، ومزَّقه كلَّ ممزَّق، ومات أقبح موتة، [وسنذكره في موضعه] (1). وكان الشيخ [عبد القادر] (1) قد لبس خرقة المشايخ من أبي سَعْد المُخَرِّمي، ولبس المُخَرِّمي من أبي الحسن علي بن محمد القُرَشي، ولبس القرشي من أبي الفرج الطَّرسوسي، [ولبس الطرسوسي] (1) من أبي الفَضْل عبد الواحد التَّميمي، ولبس ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): وكان له كرامات ظاهرة، قال خاصبك: والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (م) و (ش): وكان وزير الإمام الناصر، يقال له: ابن يونس الحنبلي.

التميمي من والده عبد العزيز، ولبس عبد العزيز من أبي بكر الشِّبْلي، ولبس الشِّبْلي من أبي القاسم الجُنيد، ولبس الجنيد من خاله سَرِيّ السَّقَطي، ولبس سَرِيّ من معروف الكَرْخي، ولبس معروف من داود الطَّائي، ولبس داود من حبيب العَجَمي، ولبس حبيب من الحَسَن البَصْري، ولبس البَصْري من عليِّ بن أبي طالب عليه السَّلام. وللخِرْقة طريقٌ آخر إلى عليِّ بن موسى الرِّضا، ولا يثبت سنده مثل الحديث، وإنما المعتبر فيها الصُّحبة. [وقد ذكرنا تاريخ وفاته، وأنه] (¬1) دُفِنَ ليلًا من كثرة الزِّحام، فإنَّه لم يبقَ ببغداد أحدٌ إلَّا وجاء إلى باب الأَزَج، وامتلأتِ الحَلْبة والشَّوارع والأسواق والدُّروب، فلم يتمكَّنوا من دفنه في النَّهار، وتوفي وله اثنتان وتسعون سنة. ذِكْرُ أولاده: [وكان له] (2) جماعة من الولد: عبد الوَهَّاب، وعبد الرَّزَّاق، وعبد العزيز، وسليمان، وإبراهيم، وغيرهم، [وسنذكرهم في مواضعهم] (¬2). قلتُ (¬3): هذا حاصل ما ذكر المصنف -رحمه الله- في ترجمته، والعجبُ منه، فإنَّه يذكر من لا يلحق بأصاغر أصحابه، ويبسط القول، ويذكر من المناقب والأقوال ما ينبِّه به على محل الشخص، ولعله اكتفى بشهرة سيدنا الشَّيخ عبد القادر رحمة الله عليه، فاخْتَصَر، وسلك أسلوبَ جدِّه الشيخ جمال الدين أبي الفَرَج رحمه الله، فإنَّه ذكره في "مناقب الإمام أحمد" (¬4) رحمة الله عليه، ذكر فيه المختارين من الطبقة الثَّامنة من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وأتباعه، فقال: عبد القادر بن أبي صالح الجِيلي، تفقَّه على أبي سَعْد المُخَرِّمي، وسَمِعَ الحديث، ثم لازم الانقطاع عن النَّاس في مدرسته، متشاغلًا بالتدريس والتذكير، وبلغ من العمر تسعين سنة، وتوفي في ليلة السبت ثامن ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمس مئة، ودفن في مدرسته. ¬

_ (¬1) في (ح): ولما توفي دفن ليلًا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) القائل هو القطب اليونيني مختصر "مرآة الزمان". (¬4) المناقب: 640.

هذا صورةُ ما ذكر لا غير، وسأذكر شيئًا من أحواله على وَجْه الاختصار، فإنَّ مناقبه أكثر من أن تحصر، فأقول: هو سَيِّدُنا شيخ الإسلام، تاجُ العارفين، محيي الدِّين، أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح موسى بن عبد الله بن يحيى الزَّاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - رضي اللهُ عنهم أجمعين - الهاشمي العَلَوي الحَسَني الجِيلي الحَنْبلي؛ سِبْط أبي عبد الله الصَّوْمعي الزاهد، وبه كان يعرف حيث كان بجِيلان، وأمه أم الخير أَمَة الجبَّار فاطمة بنت أبي عبد الله الصَّومعي، وكان لها حَظٌّ وافرٌ من الخير والصَّلاح. ولد - رضي الله عنه - سنةَ سبعين وأربع مئة، قال ولده عبدُ الرَّزَّاق: سألتُ والدي عن مولده، فقال: لا أعلمه حقيقةً، لكني قَدِمْتُ بغداد في السَّنة التي مات فيها التَّميمي، وعمري إذ ذاك ثماني عشر سنة، والتميمي توفي سنة ثمانٍ وثمانين وأربع مئة. وقال أبو سَعْد الهاشمي الجِيلي، وأم الخير سعدى بنت أبي البَسَّام الجيلية: كان لأُمِّ الخير أَمَة الجَبَّار أُم الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - قَدَمٌ في هذا الأمر، وسمعناها تقول غير مرَّة: لما وضعتُ ابني عبد القادر كان لا يرضع ثديه في نهار شهر رمضان، وغُمَّ على النَّاس هلالُ شهر رمضان، فأتوني وسألوني عنه، فقلتُ: لم يلقم اليوم ثديًا، ثم اتَّضح أنَّ ذلك اليوم كان من رمضان، واشتَهر ببلدنا في ذلك الوقت أنه وُلدَ للأشراف ولدٌ لا يرضع في نهار رمضان. وقال الشيخ الإمام موفق الدِّين رحمه الله: كان شيخُنا محيي الدِّين عبد القادر رحمه الله، نحيفَ البدن، رَبْعَ القامة، عريضَ الصَّدْر واللِّحية، طويلها، أسمر، مقرون الحاجبين، حفيًّا، ذا صوتٍ جَهْوَرِي، وسَمْتٍ بهيٍّ، وقَدْبىرٍ عليٍّ، وعِلْمٍ وفيٍّ، - رضي الله عنه -. وقال إبراهيم بن سعيد الدَّاري: كان شيخُنا عبد القادر - رضي الله عنه - يَلْبَسُ لباس العلماء، ويتطيلس، ويركب البغلة، وتُرفع الغاشية بين يديه، ويتكلَّم على كُرْسي عالٍ، وكان في كلامه سرعة وجَهْر، وله كلمةٌ مسموعة، إذا قال أُنْصِتَ له، وإذا أمر ابْتُدِر لأمره، وإذا رآه ذو القلب القاسي خَشَع، وإذا مرَّ إلى الجامع يوم الجمعة وقف النَّاس في الأسواق يسألون الله تعالى به حوائجهم، وكان له صيتٌ وصوت، وسَمْت وصمت، ولقد عَطَسَ

يوم جمعة، فشمَّته النَّاس حتى سُمِعَتْ في الجامع ضجَّةٌ عظيمة يقولون: يرحمك الله، ويرحم بك. وكان المستنجد بالله الخليفة في مقصورة الجامع، فقال: ما هذه الضَّجة؟ قيل له: قد عَطَسَ الشيخ عبد القادر. فهاله ذلك. وقال الشيخ المعمَّر جرادة: ما رأتْ عيناي أَحْسَنَ خُلُقًا ولا أَوْسَعَ صَدْرًا، ولا أَكرمَ نفسًا، ولا أعطف قلبًا، ولا أحفظ عهدًا وودًّا من سيِّدنا الشيخ عبد القادر، ولقد كان مع جلالة قَدْره، وعلوِّ منزلته، وسَعَة عِلْمه يقف مع الصَّغير، ويوقِّر الكبير، ويبدأ بالسَّلام، ويجالس الضُّعفاء، ويتواضع للفُقَراء، وما قام لأحدٍ من العظماء ولا الأعيان، ولا أَلَمَّ ببابِ وزير قَطُّ ولا سلْطان. وحكى محمَّد بن الخضر، عن أبيه، قال: خدمتُ سَيِّدي الشيخ عبد القادر ثلاث عشرة سنة، فما رأيتُه فيها يتمخط ولا يتنخَّع، ولا قعدت عليه ذُبابة، ولا قام لأحدٍ من العظماء، ولا أَلَمَّ ببابِ ذي سُلطان، ولا جَلَسَ على بساطه، ولا أكل من طعامه إلَّا مرَّة واحدة، وكان يرى الجلوسَ على بساط الملوك ومن يليهم من العقوبات المعجَّلة. وكان يأتيه الخليفة أو الوزير أو من له الحُرْمة الوافية وهو جالسٌ، فيقوم ويدخل داره، فإذا جلس خَرَج الشيخ - رضي الله عنه - من داره لئلا يقوم لهم، وإنَّه ليكلِّمَهم الكلام الخشِن، ويبالغ لهم في العِظَة، وهم يقبِّلُون يده، ويجلسون بين يديه متواضعين متصاغرين. وكان إذا كاتَبَ الخليفةَ يكتب إليه: عبد القادر يأمرك بكذا، وأمره نافِذٌ عليك، وطاعتك واجبة عليه، وهو لك قُدْوة وعليك حُجَّة. فإذا وقف الخليفة على ورقته قَبَّلها، وقال: صَدَقَ الشيخ. وقال الشيخ محمد بن قائد الأَوَاني - وسيأتي ذكره في هذا الكتاب -: كنتُ عند سيدنا عبد القادر - رضي الله عنه -، فسأله سائل: علامَ بنيت أمرك؟ قال: على الصدْق، ما كذبتُ قَطُّ، ولا لما كنتُ في المكتب، ثم قال: كنتُ صغيرًا في بلدنا، فخرجتُ إلى السَّواد في يوم عَرَفة، وتبعت بقرًا حَرَّاثة، فالتفتتْ إليَّ بقرة، وقالت لي: يا عبد القادر، ما لهذا خُلِقْتَ، ولا بهذا أُمرتَ. فرجعتُ فَزِعًا إلى دارنا، وصَعِدْتُ إلى سطح الدَّار، فرأيتُ النَّاس واقفين بعرفات، فجِئْتُ إلى أُمي، وقلتُ لها: هبيني لله عزَّ وجلَّ، وَأْذني لي في المسير إلى بغداد أشتغل بالعِلْم، وأزور الصَّالحين. فسألتني عن سبب ذلكَ؟ فأخبرتُها

خبري، فبكَتْ وقامتْ إلى ثمانين دينارًا ركنية، وَرَّثَها أبي، فتركتْ لأخي أربعين دينارًا، وخاطت في دَلَقي تحت إِبْطي أربعين دينارًا، وأَذِنَتْ لي في المسير، وعاهدتني على الصِّدْق في كلِّ أحوالي، وخرجتْ مودِّعة لي، وقالت: يا ولدي، اذهَبْ فقد خَرَجْتُ عنك لله عزَّ وجل، فهذا وَجْه لا أراه إلى يوم القيامة. فسرتُ مع قافلةٍ صغيرة نطلبُ بغداد، فلما تجاوزنا هَمَذان، وكُنَّا بأرض برتيك خَرَج علينا ستون فارسًا، فأخذوا القافلة، ولم يتعرَّض لي أحد، فاجتاز بي أحدهم، وقال: يا فقير، ما معك؟ فقلتُ: أربعون دينارًا، فقال: وأين هي؟ قلتُ: مخاطة في دَلَقي تحت إِبْطي. فظنني أستهزئ منه، فتركني وانصرف. ومرَّ بي آخر، فقال لي مِثْلَ ما قال الأَوَّل، وأجبته كجواب الأول. فتركني وانصرف، وتوافيا عند مقدَّمهم، وأخبراه بما سمعاه مني، فقال: عليَّ به، فأُتي بي إليه، وإذا هم على تلٍّ يقتسمون أموال القافلة، فقال لي: ما معك؟ قلتُ: أربعون دينارًا، فقال: وأين هي؟ قلتُ: مخاطة في دَلَقي تحت إبْطي. فأمر بدَلَقي فَفُتِقَ، فوجد فيه الأربعين دينارًا، فقال لي: ما حَمَلَك على هذا الاعتراف؟ قلت: إنَّ أمي عاهدتني على الصِّدْق، فأنا لا أخون عهدها. فبكى، وقال: أنتَ لم تَخُنْ عهدَ أُمِّك، وأنا اليوم كذا وكذا سنة أخون عهد ربي. فتاب على يدي، فقال له أصحابه: أنتَ كنتَ مقدَّمنا في قَطْع الطَّريق، وأنتَ الآن مقدَّمنا في التوبة. فتابوا كلُّهم على يدي، وردُّوا على القافلة ما أخذوا منهم، فهم أول من تاب على يدي. وقال سيدنا الشيخ محيي الدين رحمة الله عليه: بلغتْ بي الضَّائقة في غلاءٍ نَزَلَ ببغداد، إلى أَنْ بقيت أيامًا لم آكل فيها طعامًا، بل كنت أتَّبعُ المنبوذات أَطْعَمُها، فخرجتُ يومًا من شِدَّة الجوع إلى الشَّطِّ لعلِّي أجد وَرَقَ الخسِّ أو البَقْل أو غير ذلك من المنبوذات، فأتقوتُه، فما ذهبتُ إلى موضعٍ إلَّا وجدت غيري قد سبقني إليه، وإنْ أدركتُ شيئًا وجدتُ جماعةً من الفقراء، ولا أستحسن مزاحمتهم عليه، فرجعتُ أمشي وسط البلد، فلا أدرك موضعًا قد كان فيه شيء منبوذ إلَّا وقد سُبِقْتُ إليه، حتى وصلتُ إلى مسجد في سوق الريحانيين وقد أجهدني الجوع، وعَجَزْتُ عن التَّماسك، فدخلتُ إليه، وقعدتُ في جانبٍ منه، وقد كدت أُصافح الموت، إذْ دَخَلَ شابٌّ عجمي ومعه خبز رصافي وشواء، وجلس يأكل، فكنتُ أكاد كلَّما رَفَعَ يده باللُّقْمة أفتح فمي من شِدَّة

الجوع، حتى أنكرتُ على نفسي، وقلت: ما هذا؟ ما ها هنا إلَّا الله، أو ما قضاه من الموت، إذ التفت العجمي إليَّ فرآني، فقال: بسم الله يا أخي، فأبيتُ عليه، فأقسم عليَّ، فبادرَتْ نفسي إلى إجابته، فأكلتُ مقصرًا، وأخذ يسألني: ما شُغْلُك؟ ومِنْ أين أنت؟ ومن تعرف؟ فقلتُ: أما شغلي فمتفقِّه، وأما مِنْ أين أنا؟ فمن جِيلان. فقال لي: فأنا أيضًا جِيلاني، فهل تعرف لي شابًّا جِيلانيًّا يسمَّى عبد القادر، ويعرف بسِبْط أبي عبد الله الصَّوْمعي الزَّاهد؟ فقلتُ: أنا هو. فاضطربَ لذلك، وتغيَّر وجهه، وقال: والله يا أخي، لقد وصلتُ بغداد ومعي بقيةُ نفقةٍ لي، فسألتُ عنك، فلم يرشدني أحدٌ إلى أن نَفِدَتْ نفقتي، وبقيتُ بعدها ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلَّا مما لك معي، فلما كان هذا اليوم الرَّابع، قلتُ: قد تجاوزتني ثلاثةُ أيامٍ لم آكل فيها طعامًا، وقد أَحَلَّ لي الشَّرْعُ أَكْلَ الميتة، فأخذتُ من وديعتك من هذا الخُبْز والشِّواء، فَكُلْ طَيّبًا، فإنَّما هو لك، وأنا ضيفُك الآن بعد أن كان في الظَّاهر لي وأنت ضيفي. فقلتُ: وما ذاك؟ فقال: إنَّ أمك وجَّهت لك معي ثمانية دنانير، فاشتريتُ منها هذا الطَّعام، وأنا معتذر إليك من خيانتي لك مع فُسحة الشَّرْع لي في بعض ذلك، فسكَّنْتُه وطيَّبْتُ من نفسه، وفَضَلَ من طعامنا ما دفعته إليه مع شيء من الذَّهب، فقَبِلَه، وانصرف. وقال عبد الله السُّلمي: سمعت سيِّدنا الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه يقول: بقيتُ أيامًا لم أستطعم فيها بطعام، فبينا أنا في باب محلَّة القطيعة الشَّرْقية؛ وإذا رجلٌ قد جعل في يدي قرطاسة مصرورة وانصرف، فأقبلتُ حتى دفعته لبعض البقَّالين، وأخذتُ منه خبز سعيد وخبيصًا (¬1)، وجئتُ إلى مسجدٍ مُفْرد كنتُ أخلو فيه لإعادة الدَّرْس، وتركتُ ذلك في القِبْلة بين يديَّ، وأخذتُ أفكر: هل آكل أم لا؟ فلمحت قِرْطاسًا مطويًّا في خَلَلِ الحائط، فتناولتُه، فإذا فيه مكتوب: قال الله تعالى في بعض كُتُبه السَّالفة: ما للأقوياء والشَّهوات، إنَّما جُعِلَتِ الشهواتُ لضعفاء المساكين المؤمنين ليستعينوا بها على الطَّاعات. قال: فأخذتُ المنديل، وتركتُ ما كان فيه في القبلة، وصلَّيتُ ركعتين، وانصرفْتُ. وقال الشيخ طلحة بن مُظَفَّر العَلْثي: قال شيخنا عبد القادر: أقمتُ ببغداد في بدوِّ أمري عشرين يومًا ما أجد ما أقتاتُ به، ولا أجد مباحًا، فخرجتُ إلى خراب إيوان ¬

_ (¬1) الخبيص: وهو المعمول من التَّمرِ والسَّمنِ، القاموس المحيط (خبص).

كسرى أطلبُ مباحًا، فوجدتُ هنالك سبعين رجلًا من الأولياء كلهم يطلب ما طلبت، فقلتُ: من المروءة أنْ أُزاحمهم؟ ! فرجعتُ إلى بغداد، فلقيني رجلٌ أعرفه من بلد أهلي، فأعطاني قُراضة (¬1)، وقال: هذه بعثتْ بها أُمُّك إليك معي، فأخذتُ منها قطعة تركتها لنفسي، وأسْرعتُ بالباقي إلى خراب الإيوان، وفرَّقت القُراضة كلَّها على أولئك السبعين، فقالوا لي؟ ما هذا؟ قلتُ؟ إنَّه قد جاءني هذا من عند أمي، وما رأيتُ أن أتخصص به دونكم. ثم رجعتُ إلى بغداد، واشتريتُ بالقطعة التي معي طعامًا، وناديت فقراء، فأكلنا جميعًا، ولم يبت معي من القُراضة شيء. وقال أبو عبد الله النجار: قال لي سيِّدنا الشيخ عبد القادر: تَرِدُ عليَّ الأثقالُ الكبيرة لو وُضِعَتْ على الجبال تفسَّخت، فإذا كثرت عليَّ وضعتُ جنبي على الأرض، وقلتُ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] ثُمَّ أرفع رأسي وقد انفرجت عني تلك الأثقال. وقال لي: كنتُ أشتغلُ بالفِقْه على المشايخ، وأخرج إلى الصَّحراء، ولا آوي في بغداد، وأجلس في الخراب باللَّيل والنَّهار، وكنتُ ألبس جُبَّة صوفٍ، وعلى رأسي خُريقة، وكنتُ أمشي حافيًا في الشَّوك وغيره، وأقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البَقْل، وورق الخسِّ من جانب النَّهر والشَّطِّ، وما هالني شيء إلَّا سلكته. وقال لي: كنتُ آخذ نفسي بالمجاهدة حتى طَرَقني من الله عزَّ وجل الحال، فكان يَطْرُقني بالليل والنهار وأنا في الصَّحراء، فأصرخ وأهجُّ (¬2) على وجهي، وما كنتُ أعرف إلَّا بالتخارس والجنون، وحُمِلْتُ إلى البيمارَسْتان، وطرقتني الأحوال حتى متُّ، وجاؤوا بالكفن والغاسل، وجعلوني على المغتسل ليغسلوني، ثم سُرِّي عني وقمتُ. وقال الجُبَّائي: قال لي سيدنا الشيخ عبد القادر: أتمنى أن أكون في الصَّحارى والبراري كما كنتُ في الأوَّل، لا أرى الخَلْق ولا يروني، ثم قال: أراد الله عزَّ وجلَّ مني منفعة الخلق، فإنَّه قد أسلم على يدي أكثر من خمس مئة من اليهود والنَّصارى، وتاب على يدي من العَيَّارين والمشالحة وقُطَّاع الطُّرُق أكثر من مئة ألف، وهذا خيرٌ كثير. ¬

_ (¬1) القراضة: ما سقط بالقرض، ومنه قراضة الذهب. انظر "معجم متن اللغة": 4/ 536. (¬2) كلمة عامية بمعنى أهيم، ولها أصل فصيح، انظر "قاموس رد العامي إلى الفصيح": 569.

وقال عمر الكميماثي: لم تكن مجالس سيِّدنا الشيخ عبد القادر تخلو ممن يسلم من اليهود والنصارى، ولا ممن يتوب عن قَطْع الطَّريق، وقَتْل النَّفْس، وغير ذلك من الفساد، ولا ممن يرجع عن معتقد سيئ، وأتاه راهِبٌ، وأسلم على يديه في المجلس، ثم قال للنَّاس: إنِّي رجلٌ من أهل اليمن، وإنَّ الإسلام وقع في نَفْسي، وقوي عزمي على أن لا إسلام إلَّا على يد خير أهل اليمن في ظنِّي، وجلستُ مفكِّرًا، فغلب عليَّ النوم، فرأيتُ عيسى بن مريم صلوات الله عليه يقول لي: يا سِنان، اذهب إلى بغداد، وأسلم على يد الشيخ عبد القادر، فإنَّه خيرُ أهلِ الأرض في هذا الوقت. قال: وأتاه مرة أخرى ثلاثة عشر رجلًا من النَّصارى، وأسلموا على يده في مجلس وعظه، وقالوا: نحن من نصارى المغرب، وأردنا الإسلام، وتردَّدْنا فيمن نقصده لنسلم على يديه، فهتف بنا هاتِفٌ نسمعُ كلامه ولا نرى شخصه يقول: أيُّها الركب ذا الفلاح، ائتوا بغداد، وأسلموا على يد الشيخ عبد القادر، فإنَّه يوضع في قلوبكم من الإيمان عنده ببركته ما لم يوضع فيها عند غيره من سائر الناس في هذا الوقت. وقال عبد الله الجُبَّائي: كان الشيخ عبد القادر يومًا يتكلَّم في الأسواق في الإخلاص والرِّياء والعُجْب، فالتفتَ إليَّ الشيخ، وقال: إذا رأيتَ الأشياء من الله، وأنَّه وفقك لعمل الخير، وأخرجتَ نفسك من البَين، سَلِمْتَ من العُجْب. وقال أبو الفرج بن الحمامي: كنتُ كثيرًا ما أسمع عن الشيخ عبد القادر أشياء أستبعد وقوعها، وأنكرها وأدفعها، وكنتُ بحسب ذلك أتشوق إلى لقائه، واتَّفق أني مضيتُ إلى باب الأزَج لحاجةٍ كانت لي هناك، فلما عُدْتُ مررت بمدرسة الشيخ والمؤذن يقيم الصَّلاة؛ فتنبهت بالإقامة على ما كان في نفسي، فقلت: أُصلي العصر، وأُسَلِّم على الشيخ، وذهب عني أنني على غير وضوء، فصلَّى بنا العصر، فلما فرغ من الصَّلاة والدُّعاء، أقبل عليَّ، وقال: أي بني، لو قدمتني بالقَصْد على حاجتك لقضيت لك، ولكن الغفلة شاملة لك، بحيث قد صليت على غير وضوء، وقد سهوت عن ذلك. قال: فتداخلني من العجب بحاله ما أَدْهشني وأَذْهَلَ عقلي من كونه عَلِمَ من حالي ما خفي عني، وحيَّرني، ومنذ حينئذ لازمتُ صحبته، وتعلَّقْتُ بمحبته وخِدْمته، وتعرَّفْتُ بذلك شمول بركته.

وقال الجُبَّائي: كنتُ أسمع كتاب "حلية الأولياء" على ابنِ ناصر، فَرَقَّ قلبي، وقلتُ في نفسي: أشتهي أن انقطع عن الخَلْق، وأشتغل بالعبادة. ومضيتُ وصليتُ خلف الشَّيخ عبد القادر، فلما صلَّى جلسنا بين يديه، فنظر إليَّ، وقال: إذا أردتَ الانقطاع فلا تنقطع حتى تتفقَّه، وتجالس الشُّيوخ، وتتأدَّب بهم، فحينئذٍ يصلحُ لك الانقطاع، وإلا فتمضي وتنقطع قبل أن تتفقه، وأنت فريخ ما ريَّشْتَ، فإنْ أشكل عليك شيء من أمر دينك تخرج من زاويتك وتسأل النَّاس! ينبغي لصاحب الزَّاوية أن يكون كالشمعة ليستضاء بنوره. وقال لي الشيخ أبو الثناء النهرملكي: سمعتُ أنَّ الشيخ عبد القادر لا يقع في ثيابه ذبابة، فقلتُ له: ما لي علم بهذا! وفي بكرة الجمعة اتفقنا ومضينا إلى مجلس الشيخ، فالتفتَ إلينا في أثناء المجلس، وقال: أي شيء تعمل الذُّبابة عندي، لا دبس الدُّنيا عليَّ ولا عَسَلُ الآخرة! وقال أبو محمّد داود البغدادي: رأيتُ في منامي سنة ثمانٍ وأربعين وخمس مئة الشيخ معروف الكَرْخي تأتيه قِصَصُ النَّاس، وهو يعرضها على الله تعالى، فقال لي: يا داود، هاتِ قصَّتك أعرضها على الله تعالى، فقلتُ: وشيخي عزلوه؟ أعني الشيخ عبد القادر. فقال: لا والله ما عزلوه ولا يعزلونه. ثم استيقظتُ، وأتيتُ في السَّحَر إلى مدرسة الشيخ، وجلستُ على باب داره لأُخبره، فناداني مِنْ داخل داره قبل أَنْ أراه أَوْ أكلِّمه: يا داود شيخك ما عزلوه ولا يعزلونه، وهاتِ قِصَّتك أعرضها على الله عز وجل، فَوَعِزَّتِهِ، ما عرضتُ قِصَّةً لأصحابي ولا لغيرهم، فَرُدَّتْ على مسألتي فيها. وقال عمر بن حسين بن خليل الطِّيبي: حضرتُ مجلس سيدنا الشيخ عبد القادر، وكنت قاعدًا محاذي وجهه، فرأيتُ شيئًا على هيئة القِنْديل البِلَّوْر نَزَلَ من السَّماء إلى أَنْ قارَبَ فم الشَّيخ، ثم عاد وصَعِدَ سريعًا، هكذا ثلاث مرات، فما تمالكتُ أَنْ قمتُ لأقول للنَّاس من فَرْط تَعجُّبي، فبادرني وقال: اقعد، فإنَّ المجالس بالأمانة. فلم أتكلَّم به إلَّا بعد موته. وقال يحيى بن نجاح الأديب: قلتُ في نفسي: أريد أُحصي كم يقصّ الشيخ عبد القادر شعرًا من التُّوَّاب (¬1) في مجلس وعظه، فحضرتُ المجلس ومعي خيطٌ، فلما ¬

_ (¬1) هكذا جمع لفظ تائب، والصواب: من التائبين، والله أعلم.

قص شعرًا عقدتُ عقدة تحت ثيابي من الخيط، وأنا في آخر النَّاس، وإذا به يقول: أنا أحل وأنت تعقد. وقال أبو الخير كرم بن الشيخ القدوة مطر الباذرائي: لما حضرتْ أبي الوفاةُ، قلتُ له: أَوْصني بمن أقتدي بعدك؟ فقال: بالشيخ عبد القادر. فظننته في غَلَبَةِ مرضه، فتركتُه ساعةً، ثم قلتُ له: أوصني بمن أقتدي بعدك؟ قال: بالشِّيخ عبد القادر، فتركته ساعةً، ثم أَعدْتُ عليه القول، فقال: يا بني، زمانٌ يكون فيه الشيخ عبد القادر لا يقتدى إلَّا به. فلما مات أتيتُ بغداد، وحضرتُ مجلس الشيخ عبد القادر، وفيه الشيخ بقاء بن بطو، والشيخ أبو سعد القيلوي والشيخ علي بن الهيتي، وغيرهم من أعيان المشايخ، فسمعتُه يقول: لستُ كوعاظكم، إنما أنا بأمر الله، إنما كلامي على رجال في الهواء. وجعل يرفع رأسه إلى الهواء، فرفعتُ رأسي إلى الفضاء، فإذا بإزائه صفوف رجال من نور على جبل من نور، قد حالوا بين نظري وبين السَّماء من كثرتهم، وهم مُطْرقون، ومنهم من يبكي، ومنهم من يرعد، ومنهم من في ثيابه نار، فأُغشي عليَّ، ثم قمتُ أعدو، وأشقُّ النَّاس حتى طلعت إليه فوق الكرسي، فأمسك بأُذُني، وقال: يا كرم، أما اكتفيتَ بأَوَّل مرَّة من وصية أبيك! فأطرقتُ من هيبته. وقال مفرج بن نبهان بن ركاب الشيباني: لما اشتهَرَ أمرُ الشَّيخ عبد القادر اجتمع مئة فقيه من أعيان فقهاء بغداد، وأذكيائهم، على أن يسأله كلُّ واحدٍ منهم مسألة في فنٍّ من العلوم غير مسألة صاحبه، ليقطعوه بها، وأتوا مجلس وعظه، وكنتُ يومئذٍ فيه، فلما استقرَّ بهم المجلس أطرق الشَّيخ، فظهرت من صدره بارقةٌ من نور لا يراها إلَّا مَنْ شاءَ الله تعالى، ومرَّت على صدور المئة، ولا تمرُّ على أحدٍ منهم إلَّا ويُبْهَتُ ويضطرب، فصاحوا صيحةً واحدة، ومزَّقوا ثيابهم، وكشفوا رؤوسهم، وصَعِدُوا إليه فوق الكرسي، ووضعوا رؤوسهم على رِجْليه، وضجَّ أهلُ المجلسِ ضجَّةً واحدة، ظننتُ أنَّ بغداد رُجَّتْ لها، فجعل الشيخ يضمُّ إلى صدره واحدًا منهم بعد واحدٍ، حتى أتى على آخرهم، ثم قال لأحدهم: أما أنتَ فمسأَلَتُك كذا، حتى ذَكَر لكلٍّ منهم مسألته وجوابَها، فلما انقضى المجلس أتيتُهم، وقلتُ لهم: ما شأنكم؟ قالوا: لما جلسنا فقدنا جميع ما نعرفه من العِلْم حتى كأنه لم يمر بنا قَطّ، فلما ضمَّنا الشَّيخ إلى صَدْره

رَجَعَ إلى كلٍّ منّا ما نُزِعَ منه من العِلْم، ولقد ذكر لنا مسائلنا التي بيتناها له، وذكر فيها أجوبةً لا نعرفها. وقال أبو الحجر حامد الحَرَّاني الخطيب: دخلتُ على الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه بمدرسته ببغداد، وجلستُ عنده على سَجَّادةٍ لي، فنظر إليَّ، وقال: يا حامد، لتجلسنَّ على بساط الملوك. فلما رجعتُ إلى حَرَّان جبرني السُّلطان نور الدِّين الشَّهيد على ملازمته، وقرَّبني، وأَجْلَسني على بساطه، وولَّاني الأوقاف، فكنتُ أتذكر كلامَ الشيخ - رضي الله عنه -. وقال أحمد بن صالح الجيلي: كنت مع سيِّدنا الشيخ عبد القادر بالمدرسة النِّظامية، واجتمع إليه الفقهاء والفقراء، فتكلَّم عليهم في القضاء والقدر، فبينا هو يتكلَّم إذ سقطتْ حيةٌ عظيمة في حِجْره من السَّقف، ففرَّ منها كلُّ مَنْ كان حاضرًا عنده، ولم يبق إلَّا هو، ودخلتِ الحيةُ تحت ثيابه، ومرَّت على جسده، وخرجت من طوقه، والتفَّتْ على عُنُقه، ومع ذلك ما قَطَعَ كلامه، ولا غيَّر جلسته، ثم نزلتْ إلى الأرض، وقامت على ذنبها بين يديه، فصوَّتت، ثم كلَّمها بكلامٍ ما فهمناه، ثم ذهبتْ، فجاء النَّاسُ إليه، وسألوه عما قالت له، وقال لها، فقال: قالت لي: لقد اختبرتُ كثيرًا من الأولياء فلم أَرَ مثل ثباتك. فقلتُ لها: إنَّك سَقَطتِ عليَّ وأنا أتكلَّم في القضاء والقدر، وهل أنت إلَّا دُوَيبَّةٌ يحرِّكُك ويُسَكِّنُك القضاء والقدر! فأردتُ أن لا يناقض فِعْلي قولي. وقال عبد الرَّزَّاق ابنُ سيدنا الشيخ محيي الدِّين رحمة الله عليه: سمعتُ والدي يقول: كنتُ ليلةً في جامع المنصور أُصلِّي، فسمعتُ حِسَّ مشي شيءٍ على البواري (¬1)، فجاءت أَصَلَةٌ (¬2) عظيمة، ففتحت فاها موضعَ سجودي، فلما أَرَدْتُ السجود دَفَعْتُها بيدي، وسجدتُ، فلما جلست للتشهُّد مشت على فَخِذي، وطلعت على عُنُقي، والتفَّتْ عليه، ، فلما سلَّمْتُ لم أرها، فلما كان من الغد دخلتُ خربة بظاهر الجامع، فرأيتُ شخصًا عيناه مشقوقتان طولًا، فعلمتُ أنَّه جني، فقال: أنا الأَصَلة التي رأيتها البارحة، ولقد اختبرت كثيرًا من الأولياء بما اختبرتك به، فلم يثبت منهم لي كثباتك، ¬

_ (¬1) مفردها بارية، وهو الحصيرة. (¬2) الأصلة: حية عظيمة تهلك بنفخها. "القاموس المحيط" (أصل).

وكان منهم من اضطرب ظاهرًا وباطنًا، ومنهم من اضطرب باطنُه، وثبت ظاهره، ورأيتك لم تضطرب باطنًا ولا ظاهرًا، وسألني أن يتوبَ على يدي، رحمة الله عليه. سمعتُ والدي رحمه الله يقول: خرجت في بعض سياحاتي إلى البرية، ومكثتُ أيامًا لا أجد ماءً، فاشتدَّ بي العطَش، فظلَّلتني سحابة، ونزل عليَّ منها شيء يشبه النَّدى، فتروَّيتُ به، ثم رأيتُ نورًا أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، ونوديت منها: يا عبد القادر، أنا ربُّك، وقد حلَّلْتُ لك المحرَّمات -أو قال: ما حرمت على غيرك- فقلتُ: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النُّور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني، وقال: يا عبد القادر، نجوتَ منِّي بعملك بحكم ربّك، وفقهك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللتُ بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطَّريق. فقلتُ: لربي الفَضْل والمِنَّة. فقيل له: كيف علمتَ أنَّه شيطان؟ قال: بقوله: قد حَلَّلْتُ لك المحرَّمات. وقال عمر الرَّازي: ما رأتْ عيناي أفقه في علوم الحقائق من سيِّدي الشيخ محيي الدِّين عبد القادر، قيل له: إنَّ بعض مريديه يقول: إنه يرى الله تعالى بعيني رأسه، فاستدعى به، وسأله عن ذلك، فقال: نَعَمْ، فانتهره، ونهاه عن هذا القول، وأخذ عليه أن لا يعود، فقيل له: أمحقٌّ هذا أم مُبْطل؟ قال: هو محقٌّ يُلَبَّسُ عليه، وذلك لأنَّه شَهِدَ ببصيرته نور الجمال، ثم خرق بصيرته إلى بصر متقد، فرأى بصره ببصيرته يتصل شعاعها بنور شهوده، فظنَّ أنَّ بصره رأى ما شهدته بصيرته، وإنما رأى بصرُه بصيرته فحسب وهو لا يدري، قال الله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَينِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَينَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19 - 20] وإنَّ الله عزَّ وجلَّ يبعث بمشيئته على أيدي ألطافه أنوار جلاله وجماله إلى قلوب عباده، فتأخذ منها ما تأخذ الصُّور من الصور ولا صور، ومن وراء ذلك رداء كبريائه الذي لا سبيل إلى انخراقه. وكان جمعٌ من المشايخ والعلماء حاضرين، فأطربهم سماع هذا الكلام، ودهشوا من حُسْن إفصاحه عن حال الرجل. وقال الشيخ المعمر جرادة: لقد كنت يومًا في دار سيدنا الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه -، وهو جالسٌ ينسخ، فسقط عليه من السقف تراب، فنفضه ثلاث مرَّات، يسقط عليه وهو ينفضه، ثم رَفَع رأسه في الرابعة إلى السَّقْف، فرأى فأرة تبعثر، فقال: طار رأسك.

فسقطت جُثَّتها ناحية ورأسها ناحية، فترك النَّسخ وبكى. فقلتُ: يا سيدي، ما يبكيك؟ قال: أخشى أن يتأذى قلبي من رجل مُسْلم، فيصيبه مثل ما أصاب هذه الفأرة. وقال الشيخ عمر بن مسعود البزاز: كان سيدي الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - يومًا يتوضأ في المدرسة، فبال عليه عصفور، فرفع رأسه إليه وهو طائر، فسقط ميتًا، فلما أَتَمَّ وضوءه غَسَلَ موضع البول من الثوب، وخلعه وأعطانيه، وأمرني أن أبيعه وأتصدَّق بثمنه، وقال: هذا بهذا. وقال أبو اليُسْر عبد الرَّحمن بن عبد الله: كان عبد الصَّمد بن همَّام من العدول ذوي اليسار والثروة، وكان شديدَ الانحراف عن سيدنا الشيخ محيي الدِّين رحمة الله عليه، والإنكار لما يُحكى عنه من الكرامات مع الانقطاع عنه بالكُلِّية، ثم لازمه ملازمةً شديدة، فعَجِبَ النَّاس من ذلك، فسألته بعد وفاة الشيخ عن سبب ذلك، فقال: كنتُ لقِلَّة سعادتي أولًا على ما تعلم مني، فاتفق أني اجتزت يومًا بمدرسة الشيخ، والصلاة قد أُقيمت، فقلتُ في نفسي: أُصلِّي بسرعة وأُزيل ما بي -وكنتُ حاقنًا- فدخلت، ووجدت إلى جانب المنبر الذي يجلس عليه الشيخ خِلْوًا، فصلَّيتُ فيه وأنا لا أشعر أنَّه يوم المجلس، وتكاثَرَ النَّاسُ لحضور المجلس تكاثرًا منعني من التصرُّف في نفسي والخروج من مكاني، وتزايد ما بي من الاحتياج إلى الخلاء، وصَعِدَ الشيخ إلى المنبر، وقد كِدْتُ أتلف، فتضاعَفَ ما بي من بُغْض الشيخ ذلك الوقت، وتحيَّرت في نفسي، وكدت أُحْدث في ثيابي، ثم قلت: أفتضح بين النَّاس، ويشم مني رائحة خبيثة، فعاينت في ذلك الموت، فبينا أنا مفكر في أمري إذْ نزل الشيخ من المِنْبر درجات، وأَسْبل كُمَّه على رأسي، فرأيت نفسي في روضة خضراء بفلاةٍ من الأرض، وماء جارٍ، فأزلتُ ما بي، وتوضَّأتُ للصَّلاة، وصلَّيتُ ركعتين، ثم رفع الشيخ كُمَّه عن رأسي، وإذا أنا تحت المنبر على حالي، وقد زال ما بي جميعه، فكَثُرَ تعجُّبي من ذلك جدًّا، ووجدتُ أطرافي رطْبةً من أثر الوضوء، فتحيَّرْتُ في أمري، وذَهَلَ عقلي، فلما انقضى المجلس قمت، ففقدت منديلي، ومفاتيحُ صندوقي فيه، وطلبتُ ذلك في موضعي الذي كنت قاعدًا فيه، وفيما يليه، فلم أجده، فمضيتُ إلى منزلي، وأحضرت صانعًا فتح صندوقي، وعمل له مفاتيح، وكنتُ في ذلك الوقت على عَزْمٍ إلى عراق العجم لمهمٍّ

اعتراني، فتوجَّهت عند اليوم الذي حضرت فيه المجلس، فلما سرت عن بغداد ثلاثة أيام، اجتزت بمكانٍ أفيحَ، وفيه روضةٌ خضراء وماءٌ جارٍ، فقال لي بعضُ الرِّفْقة: ألا تنزل ها هنا نصلي ونأكل شيئًا، فإننا لا نجد أمامنا ماء؟ فنزلت، فتخيلته المكان الذي رأيته آنفًا لا أشكُّ فيه، فتوضَّأتُ للصلاة، وقصدت مكانًا أُصلِّي فيه، فإذا فيه منديلي بعينه، وفيه مفاتيحي التي فقدتها يوم المجلس هناك، فكدت أخرج من عقلي، فقضيتُ سفري وعُدْتُ، وأهمُّ الأمور عندي ملازمةُ الشيخ واستدراك ما فَرَطَ مني، فلازمتُه لما أراد الله تعالى بي من السَّعادة والبركة، فشاهدتُ منه ما لا أذكره قَطُّ مخافةَ أن يشك السَّامع في حديثي، فقلتُ له: حدِّثْ بما رأيتَ منه، فمِثْلُك لا تتطرَّق إليه التُّهم مما يحكي. فقال لي: ليس لي إلى ذلك حاجة، فقد كان يُحكى لي عند من لا أشك في صِدْقه وعدالته ما يُشبه هذا، فلا أصدقه. فقلت: لقد أراد الله بك خيرًا، فقال: الحمد لله الذي لم أمت على ما كنت عليه. وقال الحافظ أبو العَبَّاس أحمد بن أحمد بن أحمد البَنْدَنيجي: حضرتُ أنا والشيخ جمال الدِّين بن الجوزي -رحمه الله- مجلس سَيِّدنا الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه، فقرأ القارئ آية، فذكر الشيخ في تفسيرها وَجْهًا، فقلتُ للشيخ جمال الدين: أتعلم هذا الوَجْه؟ قال: نَعَمْ، فذكر الشيخ فيها أحَدَ عشر وجهًا، وأنا أقول له: أتعلم هذا الوَجْه؟ وهو يقول: نَعَمْ، ثم ذكر الشيخ وجهًا آخر، فقلتُ له: أتعلم هذا؟ قال: لا، حتى ذكر فيها كمال أربعين وجهًا، يعزو كلَّ وَجْهٍ إلى قائله، والشيخ جمال الدِّين يقول: لا أعرف هذا الوجه، واشتدَّ تعجبه من سَعَة عِلْم سيدنا الشيخ، - رضي الله عنه -. ثم قال: نترك القال ونرجع إلى الحال، لا إله إلا الله محمد رسول الله، فاضطرب النَّاس اضطرابًا شديدًا، وخَرَقَ الشيخ جمال الدين بن الجوزي ثيابه. وقال محمَّد الحسني المَوْصلي: سمعتُ أبي يقول: كان سيدنا الشيخ عبد القادر يتكلَّم في ثلاثة عشر عِلْمًا، وكان يذكر في مدرسته درسًا من التفسير، ودرسًا من الحديث، ودرسًا من المذهب، ودرسًا من الخلاف، وكان يُقرأ عليه في طرفي النهار التَّفسير وعلوم الحديث، والمذهب والخلاف والأصول والنحو، وكان يُقْرِئُ القرآن بالقراءات بعد الظُّهْر.

وقال الشيخ عمر البزاز: كانت الفتاوى تأتيه من بلاد العراق وغيره، وما رأيناه تبيتُ عنده فتوى ليطالع عليها أو يفكر فيها، بل يكتب عليها عقيب قراءتها، وكان يفتي على مذهب الإمام الشَّافعي وأحمد رحمهما الله، وتعرض فتاواه على علماء العراق، فما كان تَعَجُّبهم من صوابه أشدَّ من تعجُّبهم من سُرْعة جوابه فيها، وكان من اشتغل عليه في فنٍّ من الفنون الشَّرعية افتُقِرَ إليه فيه، وساد على أقرانه. وقال الشيخ عبد الرَّزَّاق: جاءت فتوى من العَجَم إلى بغداد بعد أن عُرِضَتْ على علماء العراقَيْن: عراقِ العجم وعراق العرب، فلم يتضح لأحدٍ منهم جوابٌ شافٍ، وصورتُها: ما يقول السَّادة العلماء في رجلٍ حَلَفَ بالطَّلاق الثَّلاث أَنَّه لا بُدَّ له أن يعبد الله عزَّ وجَلَّ عبادةً ينفرد بها دون جميعِ النَّاس في وقتِ تَلَبُّسِهِ بها، فما يفعل من العبادات؟ فأُتي بها إلى والدي، فكتب عليها على الفور: يأتي مكة ويخلى له الطَّواف، ويطوف أُسبوعًا وحده، وتنحل يمينه. فما باتَ المستفتي ببغداد. وقال الخضر بن أبي العَبَّاس المَوْصلي: سمعتُ أبي يقول: رأيتُ في النوم ببغداد بمدرسة سيدنا الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة مكانًا عظيم السَّعَة، وفيه مشايخ البر والبحر، وسيدنا الشيخ عبد القادر في صدرهم، ومن المشايخ مَنْ على رأسه عِمامة فحسب، منهم من فوق عِمامته طرحة، ومنهم من فوق عِمامته طَرْحتان، وفوق عِمامة سيدنا الشيخ محيي الدين ثلاث طَرَحَات، فبقيت في النوم مفكِّرًا في تلك الطَّرحات الثلاث، ما هُنَّ؟ واستيقظتُ، فإذا به قائمٌ على رأسي، فقال: طرحة تشريف علم الشَّريعة، وطرحة تشريف علم الحقيقة، وطرحة الشَّرف. وقال الشيخ علي بن الهيتي: زرت مع سيدي الشَّيخ عبد القادر والشَّيخ بقاء بن بطو قبر الإمام أحمد رحمة الله عليه، فشهِدْتُه خرج من قبره، وضمَّ الشَّيخ عبد القادر إلى صدره، وألْبسه خِلْعة، وقال له: يا شيخ عبد القادر، قد افتُقِرَ إليك في عِلْم الشَّريعة، وعلم الحقيقة، وعلم الحال. وقال أبو نَصْر بن عمر البغدادي المشَّاء المعروف بالصَّحراوي: سمعتُ أبي يقول: استدعيتُ الجان مرَّة بالعزائم، وأبطأت إجابتهم أكثر من عادتي، ثمَّ أتوني، وقالوا: لا تعد تستدعينا إذا كان الشيخ عبد القادر يتكلَّم على النَّاس. فقلتُ: ولم؟ قالوا: إنَّا

نحضره. قلتُ: وأنتم أيضًا؟ قالوا: إنَّ ازْدحامنا بمجلسه أشد من ازدحام الإِنس، وإنَّ منا طوائف كثيرة أسلمت، وتابت على يده. وقال محمَّد بن الخضر الحسيني: سمعتُ أبي يقول: كان سيِّدنا الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - يتكلَّم في مجلسه بأنواعِ العلوم ولا يبيِّتُ ما يقول، وكان إذا صَعِدَ الكرسي لا يتصدق أحد، ولا يَمْخُط ولا يتنحنح ولا يتكلَّم. ولا يقوم هيبة له إلى وسط المجلس، فيقول: مضى القال وعظنا بالحال، فيضطرب النَّاس اضطرابًا شديدًا، ويتداخلهم الحال والوَجْد، وكان يُعَدُّ من كراماته أن أقصى من [في] (¬1) مجلسه يسمع صوتَه كما يسمعه أدناهم منه على كَثْرتهم، وكان يتكلَّم على خواطر أهلِ المجلس، ويواجههم بالكَشْف، وكان إذا قام فوق الكرسي، يقوم النَّاس لجلالته، وإذا قال لهم اسكتوا سكتوا، حتى لم يُسْمَعْ منهم سوى أنفاسهم هيبةً له، وكان النَّاس يضعون أيديهم في مجلسه، فيقع على رجال بينهم يدركونهم باللَّمس ولا يرونهم، ويسمعون وقت كلامه في الفضاء حِسًّا وصياحًا، وربما سمعوا وَجْبَة ساقط من الجوِّ إلى أرض المجلس، وذلك رجال الغيب وغيرهم. وقال الشيخ أبو سَعْد القيلويي رحمة الله عليه: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأَنبياء - صلوات الله عليهم - في مجلس الشيخ عبد القادر، وإنَّ السيد ليشرف عنده، وإنَّ أرواح الأنبياء عليهم السَّلام لتتجول في السَّموات والأرض جَوَلان الرِّياح في الآفاق، ورأيتُ الملائكة يحضرونه طوائف بعد طوائف، ورأيتُ رجال الغيب يتسابقون إلى مجلسه، ورأيتُ أبا العَبَّاس الخضر عليه السَّلام يُكْثِرُ من حضوره، فسألته فقال: مَنْ أراد الفلاح فعليه بملازمة هذا المجلس. وقال الشيخ محمَّد بن أبي الفَتْح الهَرَوي: حضرتُ يومًا مجلس سيدنا الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه، فتكلَّم حتى استغرقَ في كلامه، وقال: لو أراد الله تعالى أن يبعث طيرًا أخضر يسمع كلامي لفعل. فلم يتمَّ كلامه حتى جاء طائرٌ أخضر حسنُ الصُّورة، ودخل في كُمِّه وما خرج. ¬

_ (¬1) زيادة من عندنا يقتضيها السياق.

قال: وتكلَّم يومًا آخر في مجلسه، فتداخل بعض الناس فترة، فقال: لو أراد الله سبحانه وتعالى أن يرسل طيورًا خُضْرًا تسمع كلامي لفعل، فلم يتمَّ كلامه حتى امتلأَ المجلسُ بطيورٍ خُضْر يراها مَنْ حَضَرَ. قال: وتكلَّم يومًا في قُدرة الله تعالى، وغَمَر النَّاسَ من كلامه هيبةٌ وخشوع، فمرَّ بالمجلس طائر عجيبُ الخِلْقة، فاشتغل بعضُ النَّاس بالنَّظر إليه عن سماع كلام الشيخ، فقال: وعِزَّة المعبود، لو شئت أن أقول لهذا الطائر من قِطَعًا قِطعًا لمات قِطَعًا قطَعًا، فما تمَّ كلامه حتى وَقَعَ الطَّائر إلى أرض المجلس قِطَعًا. وقال الشيخ بقاء بن بطو: فبينا هو يتكلَّم على المرقاة الأُولى من الكرسي، إذْ قطع كلامه وسها ساعةً، ونَزَل إلى الأرض، ثمَّ صَعِدَ الكرسي، وجلس على المرقاة الثانية، فأُشْهِدْتُ أنَّ المرقاة الأُولى قد اتَّسعت حتى صارت مَدَّ البصر، وفُرِشَت من السُّنْدس الأخضر، وجلس عليها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-، وتجلَّى الحقُّ سبحانه على قلب الشيخ، فمال حتى كاد أن يسقط، فامسكه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا يقع، ثمَّ تضاءل حتى صار كالعُصْفور، ثمَّ نمى حتى صار على صورةٍ هائلة، ثمَّ توارى عني. فسئل الشيخ بقاء عن رؤيته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه -رضي الله عنهم-، فقال: أرواحهم تشكَّلَتْ، وأن الله تعالى أيَّدهم بقوَّةٍ يظهرون بها، فيراهم من قوَّاه الله تعالى لرؤيتهم في صور الأجساد وصفات الأعيان بدليلِ حديث المعراج. وسئل عن تضاؤل الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه، ونموه، فقال: كان التَّجلِّي الأوّل بصفة لا يثبت لبدوها بشر إلا بتأييد نبوي، فلذلك كاد الشيخ يسقط لولا تدراكه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان التَّجلِّي الثَّاني بصفة الجلال من حيث موصوفه، فلذلك تضاءل، وكان التجلِّي الثَّالث بصفة الجمال من حيث مشاهده، فذلك انتعش ونمى، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. وقال الشيخ عبد الوهَّاب بن سيدنا الشيخ محيي الدِّين رحمة الله عليهما: سافرتُ إلى بلاد العجم، وتفننت في العلوم، فلمَّا رجعت إلى بغداد، قلتُ لوالدي: أُريد أن أتكلَّم على النَّاس بحضرتك. فأَذِنَ لي، فَصَعِدْتُ الكرسي، وتكلَّمت بما شاء الله من

العلوم والمواعظ، فلم يخشع قلب، ولم تجرِ دمعة، فضجَّ أهلُ المجلس بوالدي يسألونه أن يتكلَّم عليهم، فنزلتُ وصَعِدَ، وقال: كنتُ صائمًا أمسِ، وقَلَتْ لي أُم يحيى بويضات، وجعلَتْها في سكيريجة، فجاء السِّنَّور، فرمت بها، فانكسرت، فَضَجَّ أهلُ المجلس بالصُّراخ، فلمَّا نزل، قلتُ له في ذلك، فقال: يا بني، أنتَ مُدِلٌّ بسفرك، أسافرتَ إلى هنا؟ وأشار بأُصبعه إلى السَّماء، ثمَّ قال: يا بني، إنِّي لما صَعِدْتُ الكُرْسي تجلَّى الحقُّ عزَّ وجل على قلبي وبسطني، فحدَّثتُ بما سَمِعْتُ، فكان الذي رأيت. قال عبد الوهَّاب: وكنتُ بعد ذلك ربما أصعد الكرسي، وأتكلَّم على الناس بفنون العلوم ووالدي يسمع، فلا يتأثر أحد، ثمَّ أنزل ويصعد، فيقول بأوله: الشجاعة صَبْرُ ساعة. فيصيح أهل المجلس، فكنتُ أسأله عن ذلك، فيقول: أنتَ المتكلِّم، وأنا المتكلِّم فيَّ غيري. وكان إذا سُئِلَ مسألة في مجالس وعظه ربما يقول: أستأذِنُ في الكلام عليها. ويُطْرِقُ، فتجلِّلُه الهيبة، ويعلوه الوقار، ثمَّ يتكلَّم عليها بما شاء الله تعالى، وكان يقول: وعِزَّة العزيز ما تكلَّمْتُ حتى قيل لي تكلَّم، فقد أمكنتك من الرد يا عبد القادر، تكلَّم يسمعْ منك. وقال أبو عمر وعثمان الصَّيريفيني وعبد الحق الحريمي: كان شيخنا محيي الدين عبد القادر - رضي الله عنه - يبكي ويقول: يا رب كيف أهدي لك الروح، وقد صَحَّ بالبُرْهان أنَّ الكُلَّ لك. ومما كان ينشد [من الطويل]: وما ينفعُ الإعراب إذ لم يكن تُقىً ... وما ضَرَّ ذا تقوى لسانٌ معجَّمُ وقال عبد الوهَّاب بن سيِّدنا الشيخ محيي الدِّين - رضي الله عنه -: كان والدي يتكلَّم في الأُسبوع ثلاث مرَّات بالمدرسة بُكْرة الجُمُعة، وعَشِيَّة الثلاثاء، وبالرِّباط بكرة الأحد، وكان يحضره العُلَماء والفقهاء والمشايخ وغيرهم، ومدَّة كلامه على النَّاس أربعون سنة، أولها سنة إحدى وعشرين وخمس مئة، وآخرها سنة إحدى وستين وخمس مئة، ومدَّة تصدُّره للتدريس والفتوى بمدرسته ثلاث وثلاثون سنة، أولها سنة ثمان وعشرين وخمس مئة، وآخرها سنة إحدى وستين، وكان يقرأُ في مجلسه أخوان قراءةً مرسلة

مجوَّدة بغير ألحان، ويقرأُ أيضًا في مجلسه الشَّريف مسعود الهاشمي، وكان يموت في مجلسه الرَّجُلان والثَّلاثة، ويكتب ما يقول في مجلسه أربع مئة محبرة عالم وغيره، وكان كثيرًا ما يخطو في الهواء في مجلسه على رؤوس النَّاس خطواتٍ، ثمَّ يرجع إلى الكرسي. وقال أبو الفَتْح الهَرَوي: خدمتُ سَيِّدي الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - أربعين سنة، فكان في مُدَّتها يصلي الصُّبح بوضوء العِشاء، وكان إذا أحدث جَدَّد في وقته وضوءًا، وصلَّى رَكْعتين، وكان يصلِّي العشاء، ويدخل خلوته، ولا يدخلها معه أحد، ولا يخرج منها إلا عند طلوع الفجر، ولقد أتاه الخليفة باللَّيل مرارًا يقصد الاجتماع به، فلا يقدر على ذلك إلى الفجر، وبتُّ عنده ليالي، فكان يصلِّي أول الليل يسيرًا، ثمَّ يذكر إلى أن يمضي الثُّلُث الأَوَّل، يقول: المحيط الرَّب الشَّهيد الحسيب الفعَّال الخلَّاق الخالق البارئ المصوّر، فتتضاءل جثته مرة، وتعظم مرة، ويرتفع في الهواء إلى أن يغيب عن نظري مرة، ثمَّ يُصلِّي قائمًا على قدميه يتلو القرآن إلى أن يذهب الثُّلُث الثاني، وكان يطيل في سجوده جدًّا؛ يباشر بوجهه الأرض، ثمَّ يجلس متوجِّهًا مراقبًا مشاهدًا إلى قريب طلوع الفجر، ثمَّ يأخذ في الدُّعاء والابتهال والتذلُّل، ويغشاه نور يكاد يَخْطَفُ الأبصار إلى أن يغيب فيه عن النظر، وكنتُ أسمع عنده: سلامٌ عليكم، سلام عليكم، وهو يردُّ السَّلام إلى أن يخرج إلى صلاة الصُّبح. وقال الشيخ أبو مسعود الحريمي: سمعتُ سيدنا الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - يقول: أقمتُ في صحارى العراق وخرابه خمسًا وعشرين سنة مجرَّدًا سائحًا، لا أعرف الخَلْق ولا يعرفوني، يأتيني طوائفُ من رجالِ الغيب والجان أُعلمهم الطَّريق إلى الله تعالى، ورافقني الخَضِر عليه السَّلام في أول دخولي العراق، وما كنتُ عَرَفْتُه، وشرَطَ أن لا أخالفه، وقال لي: اقعد هنا. فجلستُ في المكان الذي أقعدني فيه ثلاث سنين، يأتيني في كلِّ سنة مرة، ويقول لي: مكانَك حتى آتيك. وكانت الدُّنيا وزخارِفُها وشهواتُها تأتيني في صور، فيحميني الله تعالى من الالتفات إليها، وتأتيني الشياطين في صور شتَّى مزعجات ويقاتلوني، فيقويني الله تعالى عليهم، وتبرز إليَّ نفسي في صورة، فتارة تتضرع إليَّ فيما تريده، وتارة تحاربني، فينصرني الله

عَزَّ وَجَلَّ عليها، وما أخذتُ نفسي في حال البداية بطريقٍ من طُرُقِ المجاهدات إلا ولازمتُه واعْتَنَقَتْهُ نفسي، وأخذته بكلتا يدي، وأقمتُ زمانًا في خراب المدائن، آخذ نفسي بطرق المجاهدات، فمكثتُ سنة آكلُ المنبوذ، ولا أشرب الماء، وسنة أشرب الماء ولا آكل المنبوذ، وسنة لا آكل ولا أشرب ولا أنام، ونمت بإيوان كسرى في ليلةٍ شديدة البرد، فاحتلمتُ، فقمتُ وذهبت إلى الشَّطِّ واغتسلتُ، فنمت تلك الليلة أربعين مرة، واحتلمت أربعين مرة، واغتسلتُ في الشَّطِّ أربعين مرة، ثمَّ صَعِدْتُ إلى الإيوان خوفَ النَّوم، وأقمت في خرائب الكَرْخ سنين لا أقتات فيها إلا بالبُرْدي، ويأتيني رجلٌ في رأس كلِّ سنة بجُبَّة صوف، ودخلتُ في ألف فنٍّ حتى استريحَ من دُنْياكم، وما كنتُ أُعرف إلا بالتخارس والبَلَه والجنون، وكنتُ أمشي حافيًا في الشَّوْك وغيره، وما هالني شيء إلا سلكته، ولا غلبتني نفسي فيما تريده قَطُّ، ولا أعجبني شيء من زينة الدُّنيا قطُّ، فقلت له: يا سيدي، ولا لما كنتَ صغيرًا؟ قال: ولا لما كنت صغيرًا. وقال الشيخ عثمان الصَّريفيني: سمعتُ سيدنا الشَّيخ عبد القادر رحمة الله عليه يقول: كنتُ أجلس في الخراب باللَّيل والنَّهار، ولا آوي في بغداد، وكانت الشَّياطين تأتيني صفوفًا رجالًا وركبانًا بأنواع السِّلاح، وأَزْعج الصُّوَر، يقاتلوني ويرموني بشهب النَّار، فأجد في قلبي تثبيتًا لا يُغَيَّر عنه، وأسمع مخاطِبًا من باطني يقول لي: قم إليهم يا عبد القادر، فقد ثبتناك تثبيتًا، وأيَّدناك بنصرنا، فما هو إلا أن أنهض إليهم، فيفرون يمينًا وشمالًا، ويذهبون من حيث أتوا، وكان يأتيني الشيطان منهم وحده، ويقول لي: اذهب من هنا، وإلا فعلتُ وفعلتُ. ويحذرني تحذيرًا كثيرًا، فألطمه بيدي، فيفرُّ مني، فأقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فيحترق وأنا أنظر إليه. وأتاني مرَّة شخصٌ كريه المنظر، منتن الرِّيح، وقال لي: أنا إِبْليس أتيتك أخدمك، فقد أعييتني وأعييت أتباعي. فقلتُ: اذهب. فأبى، فجاءته يدٌ من فوقه، وضربَتْ أُمَّ رأسه، فغاص في الأَرْض، ثمَّ أتاني ثانية، وبيده شهابٌ من نار، يقاتلني به، فأتاني رجلٌ مُلَثَّم راكب فرسًا أَشْهَبَ، وناولني سيفًا، فنكَصَ إبليس على عقبيه، ثمَّ رأيته مرَّةً ثالثة جالسًا بالبُعْد مني، وهو يبكي، ويحثو التُّراب على رأسه، ويقول: قد أَيِسْتُ منك يا عبد القادر. فقلتُ. اخسأْ يا لعين، فإنِّي لا أزال حَذِرًا منك، فقال: هذه أَشَدُّ عليَّ، ثمَّ كَشَفَ لي

عن أشراك كثيرة متَّصلة بي من كلِّ جهة، فقلت: ما هذا؟ قيل لي: هذه أسباب الخَلْق متصلة بك. فتوجَّهتُ في أمرها سنة أخرى حتى تقطَّعت كلَّها، وانفردتُ عنها، ثمَّ كُشِفَ لي عن باطني، فرأيتُ قلبي مناطًا بعلائق كثيرة، فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: هذه إرادتك واختياراتك. فتوجَّهتُ في أمرها سنة أخرى حتى تقطعت جميعها، وتخلَّص منها قلبي، ثمَّ كُشِفَ لي عن نفسي، فرأيتُ أدواءها باقية، وهواها حيٌّ، وشيطانها مارِد، فتوجَّهتُ في ذلك سنة أخرى، فتراءت أدواء النَّفْس، وماتَ الهوى، وأسلم الشَّيطان، وصار الأمر كلُّه لله، فبقيت وَحْدي، الوجود كلُّه مِنْ خَلْفي، وما وصلتُ إلى مطلوبي بَعْدُ، فاجتذبت إلى بابِ التوكُّل لأدخل منه على مطلوبي، فإذا عنده زحمةٌ، فجُزْتُه، ثمَّ اجتذبت إلى باب التَّسليم لأدخل منه، فإذا عنده زحمة، فجزته، ثمَّ اجتذبت إلى باب الغنى لأدخل منه، فوجدتُ عنده زحمة، فجزته، ثمَّ اجتذبت إلى باب القرب لأدخل منه على مطلوبي، وإذا عنده زحمة، فجزته، ثمَّ اجتذبت إلى باب المشاهدة لأدخل منه على مطلوبي، فإذا عنده زحمة، فجزته، ثمَّ اجتذبت إلى باب الفَقْر، فإذا هو خالٍ، فدخلت منه، فرأيتُ فيه كل ما تركته، وفُتِحَ لي منه الكنز الأكبر، وأُوتيت فيه العز الأعظم، والغِنى السَّرْمَد، والحرمة الخالصة، ومُحقت البقايا، ونُسِخَتِ الصِّفات، وجاء الوجود الثَّاني. وقال الشيخ عمر البزاز: سمعتُ سيدنا الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - يقول: كانتِ الأحوال تطرقني في بدايتي في السِّياحة، فأقاويها، فأملكها، فأغيب منها عن وجودي، وأعدو وأنا لا أدري، فإذا سُرِّيَ عنِّي من ذلك وجدتُ نفسي في مكان بعيدٍ عن المكان الذي كنتُ فيه، وطرقني الحالُ مرَّة، وأنا في خرائب بغداد، وَعَدَوْتُ قَدْرَ ساعة وأنا لا أدري، ثمَّ سُرِّي عني وأنا في بلاد ششتر، بيني وبين بغداد اثنا عشر يومًا، فبقيت مفكِّرًا في أمري، فإذا امرأةٌ تقول: أتعجب مِنْ هذا الأمر، وأنت الشيخ عبد القادر! وقال الجُبَّائي: قال سَيِّدنا الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه -: كان إذا وُلِدَ لي ولدٌ أخذته على يدي، وقلتُ: هذا ميت فأُخرجه من قلبي، فإذا مات لم يؤثر عند موته شيئًا؛ لأني قد أخرجته من قلبي أول ما يولد.

قال: فكان يموتُ من أولاده الذكور والإناث ليلة مجلسه فلا يقطع المجلس، ويصعد على الكرسي، ويعظ الناس، والغاسل يغسل الميت، فإذا فرغوا من غسله، جاؤوا به إلى المجلس، فينزل سيدنا الشيخ، ويصلِّي عليه. وقال ابن الأخضر: كنتُ أدخل على سيدنا الشيخ عبد القادر - سلام الله عليه - في وسط الشتاء وقوَّة برده، وعليه قميصٌ واحد، وعلى رأسه طاقية، والعَرَقُ يخرج من جسده، وحوله من يروِّحُه كما يكون في شِدَّة الحَرِّ. وقال أبو النَّجيب عبد القاهر السُّهْرَوَرْدِي: كان الشيخ حَمَّاد الدَّبَّاس يُسمع له كل ليلة كدَويِّ النَّحل، فقال أصحابُه للشيخ عبد القادر في سنة ثمانٍ وخمس مئة، وكان في صحبته يومئذٍ: اسأله عن ذلك. فسأله فقال له: إنَّ لي اثني عشر ألف مريد، وإني أذكر أسماءهم كلَّ ليلة، وأسأل لكلٍّ منهم حاجته إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وإذا أصابَ مريدٌ لي دنيا، فلا ينقضي عنه شهره ذلك حتى يتوب إشفاقًا عليه أن يتمادى فيه. فقال له الشيخ عبد القادر: لئن أعطاني الله تعالى منزلةً عنده لآخذنَّ من ربي تبارك وتعالى عهدًا لمريديَّ إلى يوم القيامة أن لا يموتَ أحدُهم إلا على توبة، ولأكوننَّ بذلك ضمينًا لهم، فقال الشيخ حماد: أشهدني الله تعالى سيعطيه ذلك، ويبسط ظل جاهه عليهم. وقال المشايخ أبو السعود وأبو عبد الله محمَّد الأواني وعمر البزاز: ضَمِنَ سَيِّدُنا الشيخ عبد القادر لمريديه إلى يوم القيامة أن لا يموت أحدٌ منهم إلَّا على توبة، واعطي أن مريديه ومريدي مريديه إلى سبعةٍ يدخلون الجنة، وقال: أنا كافِلٌ لمريد المريد إلى سبعة، ولو انكشفت عورةٌ بالمغرب وأنا بالمشرق لسترتُها، وأُمِرْنا من حيثُ الحال والقدر أن نحفظ بهممنا أصحابنا، وطوبى لمن رآني، وأنا حسرةٌ لمن لم يرني. وقال الشيخ علي الفرنثي: قال سَيِّدُنا الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه: أُعطيت سِجِلًّا مَدّ البصر فيه أسماء أصحابي ومريديّ إلى يوم القيامة، وقيل لي: قد وُهِبوا لك. وقال السَّادة المشايخ عبد الغني وموفق الدين بن قدامة، وعبد الملك بن ديالى رحمة الله عليهم: سمعنا شيخَنا عبدَ القادر رحمهُ الله يقول ببغداد على الكرسي في شهور سنة إحدى وستين وخمس مئة، وقد سُئِلَ عن فَضْل من انتمى إليه: البيضة منا بألف، والفَرْخ ما يُقَوَّم.

وقال الشيخ أبو الحسن الجوسقي: حَضَرَ عند سيدنا الشيخ عبد القادر - سلام الله عليه - الشيخ علي بن الهيتي، والشيخ بقاء بن بطو، فقال سيدنا الشيخ عبد القادر: لي من كل طويلة فحل لا يقاوى، ولي في كل أرضٍ خيلٌ لا تسابق، ولي في كل جيش سلطان لا يخالف، ولي في كل منصب خليفةٌ لا يُعزل. وقال المشايخ؛ أبو الفرج الدويرة، وعبد الكريم الأثري ويحيى بن يوسف الصرصري، وعلي بن محمَّد الشهراباني: كُنَّا عند الشيخ علي بن إدريس البعقوبي سنة عشر وست مئة، فجاء الشيخ عمر اليزيدي، فقال له الشيخ علي بن إدريس: اقصص عليهم رُؤْياك. فقال: رأيتُ في النَّوم القيامة قد قامت، والأنبياء وأممهم قادمين الموقف، ويتبع بعضَ الأنبياء الرَّجلان والرَّجل الواحد، ثمَّ أقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقدمه كالسَّيل وكاللَّيل، وفيهم المشايخ، ومع كلِّ شيحٍ أصحابُه متفاوتون عددًا وأنوارًا وبهجة، وأقبلَ رجلٌ في عِداد المشايخ، ومعه خَلْقٌ كثير يفضلون غيرهم، فسألتُ عنهم، فقيل: هذا الشيخ عبد القادر وأصحابه. فتقدَّمتُ إليه، وقلتُ له: يا سَيِّدي، ما رأيت في المشايخ أبهى منك، ولا في أتباعهم أحسن من أتباعك، فأنشد: [من الطويل] إذا كان مِنَّا سيِّدٌ في عشيرةٍ ... عَلاها وإنْ ضاق الخِناقُ حَمَاها وما اخْتُبِرَتْ إلَّا وأصبحَ شَيخَها ... وما افْتَخَرَتْ إلا وكانَ فَتاها وما ضُرِبَتْ بالأَبْرَقَينِ خيامُنا ... فأصبح مأوى الطَّارقين سواها (¬1) قال: فاستيقظتُ وأنا أحفظهن، وكان الشيخ محمّد الخَيَّاط الواعظ حاضرًا، فقال له الشيخ عليُّ بنُ إدريس: يا محمَّد، أَنْشِدْنا شيئًا في هذا المعنى على لسان الشيخ عبد القادر. فقال: [من الطويل] هنيئًا لصحبي أنَّني قائِدُ الرَّكْبِ ... أسيرُ بهم قَصْدًا إلى المَنْزِلِ الرَّحْبِ وأكنُفُهُمْ والكُلُّ في شُغْلِ أمره ... وأُنزلُهُمْ في حَضْرَة القُدْس من قُرْبي ولي معهدٌ كلُّ الطَّوائِفِ دونَهُ ... ولي مَنْهَلٌ عَذْبُ المشارِبِ والشِّرْبِ وأهل الصَّفا يسعون خَلْفي وكلُّهُمْ ... له هِمَّةٌ أمضى من الصَّارِمِ العَضْبِ ¬

_ (¬1) الأبيات لأبي فراس الحمداني، وهي في "ديوانه": 2/ 425 طبعة المعهد الفرنسي بدمشق، مع اختلاف في بعض الألفاظ.

فقال له الشيخ علي: أحسنتَ أحسنتَ، ولقد صدقت. وقال الشيخ عمر البزاز: سمعتُ سيِّدي الشَّيخ عبد القادر - رضي الله عنه - يقول: عَثَرَ حسين الحلاج فلم يكن في زمانه من يأخذ بيده، ولو كنتُ في زمنه لأخذتُ بيده، وأنا لكلِّ من عَثَر به مركوبه من أصحابي ومريديّ ومحبيّ إلى يوم القيامة آخذ بيده، يا هذا؛ فرسي مُسْرَج، ورمحي منصوب، وسيفي شاهر، وقوسي موتر، أحفظك لله، وأنتَ غافل! ذكر شيء من أجوبته - رضي الله عنه -: سُئِلَ عن صفات الموارد الإلهية والطَّوارق الشَّيطانية، فقال: الوارد الإلهي لا يأتي باستدعاء، ولا يذهب بسبب، ولا يأتي على نَمَطٍ واحد، ولا في وقتٍ مخصوص، والطَّارق الشَّيطاني بخلاف ذلك غالبًا. وسئل عن المحبة، فقال: هي تشويش في القلوب يقع في المحبوب، فتصير الدُّنيا عليه كحَلْقة خاتم أو مجمع مأتم، والحبُّ سُكْرٌ لا صحو معه، وذِكْرٌ لا محو معه، وقَلَقٌ لا سكون معه، وخلوص المحبوب بكلِّ وَجْه سِرًّا وعلانية بإيثار اضطرار لا بإيثار اختيار، وبإرادة خِلْقة لا بإرادة كُلْفة، والحبُّ العمى عن غير المحبوب غيرةً عليه، والعمى عن المحبوب هيبةً له، فهو عمى كلُّه، والمحبون سُكارى لا يصحون إلا بمشاهدة محبوبهم، مَرْضى لا يشفون إلا بملاحظة مطلوبهم، حيارى لا يأنسون إلا بمولاهم، ولا يلهجون بغير ذكره، ولا يجيبون غير داعيه، وفي هذا المعنى يقول مجنون ليلى: [من الطويل] لقد لامني في حُبِّ ليلى أقاربي الأبيات (¬1). وسئل - رضي الله عنه - عن التَّوحيد، فقال: هو إشارة سِرِّ الضَّمائر بإخفاء السَّرائر، عند ورود الحضرة، ومجاوزةُ القلب منتهى مقامات الأفكار، وارتفاعُه على أعلى درجات الوصال، وتجلُّله أستارَ التَّعظيم، وتخطِّيه إلى التقرُّب بأقدام التجريد، وترقيه إلى التَّداني بسعي التفريد، مع تلاشي الكونين، وتعطُّل الملكين، وخَلْعِ النَّعلينِ، واقتباس النُّورين، وفناء العالمين تحت لمَعان أنوار بروق الكَشْف من غير ما عزيمة متقدِّمة. ¬

_ (¬1) وعجزه: أبي وابنُ عميِّ وابن خالي وخاليا وانظر الأبيات في "ديوانه": ص 306 - 307.

وسئل عن التَّجريد، فقال: هو تجريد السِّرِّ عن المدثر بثياب السكون عن طلب المحبوب، وتعريه في التنزيل بلباس الطمأنينة على مفارقة المحدود، والرُّجوع من الخلق إلى الحقِّ مُبينًا. وسئل عن الهِمَّة، فقال: هي أن يتعزَّى بنفسه عن حُبِّ الدُّنيا، وبروحه عن التعلُّقِ بالعقبى، وبقلبه عن إرادةٍ مع إرادة المولى، وبتجرُّدِ سِرِّه عن الإشارة إلى الكون ولو بلمحةٍ أو طرفة. وسئل عن الشَّوق، فقال: أحسنُ الأشواقِ ما كان عن مشاهدة، فهو لا يَفْتُرُ على اللِّقاء، ولا يَسْكُنُ على الرؤية، ولا يذهب على الدُّنو، ولا يزول على الأُنْس، بل كلما ازداد لقاءً ازداد تشوُّقًا، ولا يصحُّ الشَّوق حتى يتجرَّد من عِلَله، وهي موافقة روح، أو متابعة هِمَّة، أو حَظُّ نَفْس، فيكونُ شوقًا مجرَّدًا عن الأسباب، فلا يدري السببَ الذي أوجب له ذلك الشوق، لأنه هو ذا يشاهده ويتشوق إلى المشاهدة مع المشاهدة. وسئل عن التوكل، فقال: هو اشتغالُ السِّرِّ بالله عن غير الله، فينسى ما يتوكَّلُ عليه لأجله، ويستغني عما سواه، فيرتفع عن خشية الفَنَاء في التوكل، والتوكُّلُ استشراف السِّرِّ بملاحة عين المعرفة إلى خفي غيب المقدورات، واعتقاد حقيقة اليقين بمعاني مذاهب المعرفة أنها محتومة، لا يقدح فيها تناقض. وسئل عن التَّوبة، فقال: التوبة نَظَرُ الحقِّ تعالى إلى عنايته السَّابقة القديمة لعبده، وإشارته بتلك العناية إلى قلب عبده، وتجريده إياه بالشَّفقة، مجتذبًا إليه وقابضًا، فإذا كان ذلك كذلك انجذب القلب إليه عن كلِّ هِمَّةٍ فاسدة، وتابعته الروح، ووافقه العقل، وصحَّتِ التوبة، وصار الأمر كلُّه لله تعالى. وسئل عن البكاء، فقال: ابك له، وابك منه، وابك عليه. وسئل عن الدُّنيا، فقال: أَخْرِجْها من قَلْبك إلى يدك، فإنها لا تغرُّك. وسئل عن التَّصوف، فقال: الصُّوفي من جَعَل ضالَّته مراد الحقِّ منه، ورَفَضَ الدُّنيا فَخَدَمَتْه ووفَّتْه أقسامه، وحَصَلَ له في الدُّنيا قبل الآخرة مرامه، فعليه من ربه سلامه.

وسئل عن الفَرْق بين التعزُّز والتكبُّر، فقال: التعزُّز ما كان لله وفي الله، ويفيد ذُلَّ النَّفْس، وارتفاع الهِمَّة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. والتَّكبُّرُ ما كان للنَّفْس، وفي الهوى، ويفيد هيجان الطَّبع وقهقرة الإرادة عن الله عَزَّ وَجَلَّ، والكِبْر الطَّبيعي أسهل من الكبر المكتسب. وسئل عن الشُّكْر، فقال: حقيقةُ الشكر الاعترافُ بنعمة المُنْعم على وَجْه الخضوع، ومشاهدةُ المِنَّة وحفظُ الحُرْمة على وَجْه معرفة العجز عن الشكر، وينقسم أقسامًا: شكر باللِّسان: وهو الاعتراف بالنعمة بنعت الاستكانة. وشكر بالأركان: وهو الإنصاف بالخدمة، والوقار. وشكر بالقلب: وهو الاعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحُرمة، ثمَّ التَّرقِّي بعد حضور هذه المشاهدة إلى الغيبة في رؤية المنعم عن رؤية النِّعمة. والشاكر الذي يشكر على الموجود، والشَّكور الذي يشكر على المفقود. والحامد الذي يشهد مع المنع عطاء، والضُّرّ نفعًا، ثمَّ يستوي عنده الوصفان، والحمد الذي يستنفد المحامد شهود الكمال بوصف الجمال، ونعت الجلال بعين المعرفة على بساط القُرْب. وسئل عن الصبر، فقال: هو الوقوف مع البلاء بحُسْنِ الأدب، والثَّبات مع الله عَزَّ وجل، وتلقي أمر أقضيته بالرُّحْب والسَّعَة على أحكام الكتاب والسُّنَّة، وينقسم أقسامًا: صبر لله، وهو الثَّبات على أداء أمره، وانتهاء نهيه. وصبر مع الله: وهو السُّكون تحت جريان قضائه وفعله فيك، وإظهار الغِنى مع حلول الفقر من غير تعبيس. وصبر على الله: وهو الرُّكون إلى وَعْده في كلِّ شيء، والسير من الدنيا إلى الآخرة سهل على المؤمن، وهِجْران الخَلْق في جَنْبِ الحقِّ شديد، والمسير من النَّفس إلى الله أشدّ، والصَّبر مع الله أشد، والفقيرُ الصَّابر أفضل من الغنيِّ الشَّاكر، والفقير الشَّاكر أفضل منهما، والفقير الصَّابر الشاكر أفضل منهم، وما خطب البلاء إلا مَنْ عرف المبتلي. وسُئِلَ عن حُسن الخُلُق، فقال: هو أن [لا] يؤثر فيك جفاءُ الخَلْق بعد مطالعتك الحق (¬1)، واستصغار نفسك وما منها معرفةً بعيوبها، واستعظام الخلق وما منهم نظرًا إلى ما أُودعوا من الحِكَم والإيمان، وهو أفضلُ مناقب العبد، وبه تظهر جواهر الرجال. ¬

_ (¬1) في (ح): هو أن يؤثر فيك خفاء الحق، والمثبت من "الغنية": 2/ 192، وما بين حاصرتين منه.

وسئل عن الأخذ والرَّدِّ، فقال: الأخذ مع وجود الهوى من غير الأمر عنادٌ وشقاق، الأخذ مع عدم الهوى وفاق واتِّفاق، وتركه رياءٌ ونفاق. وسُئِلَ عن الفناء، فقال: هو أن يطالع الحقُّ تعالى سِرَّ وليِّه بأَدنى تجليه، فيتلاشى الكون ويفنى الولي تحت تلك الإشارة، وفناؤه في ذلك الوقت بقاءٌ، لكنَّه يفنى تحت إشارة الباقي، فإنْ كانت إشارة الحق نفسه، فإنَّ تجليه بنفسه، فكأنَّه ينفيه عنه، ثمَّ ينفيه به. وسئل عن الوفاء، فقال: هو الرِّعاية لحقوق الله تعالى في الحرمات أن لا يطالعها بسِرٍّ ولا نَظَر، والمحافظة على حدود الله قولًا وفعلًا، والمسارعة إلى مرضاته بالكُلِّية سِرًّا وجَهْرًا. وسُئِلَ عن الرِّضا، فقال: هو ارتفاع التَّردُّد، والاكتفاء بما سَبَق في عِلْم الله عز وجل في أزله، والرِّضا أن لا يستشرف القَلْبُ إلى نزولِ قضاءٍ من الأقضية بعينه، فإذا نَزَلَ قضاءٌ، فلا يستشرف القلب إلى زواله. وسئل - رضي الله عنه - عن الخوف، فقال: الخوفُ على أنواعٍ: فالخوفُ للمُذْنبين، والرَّهبة للعابدين، والخَشْية للعالمين، والوَجْد للمحبين، والهيبة للعارفين، فخوفُ المُذنبين من العقوبات، وخوفُ العابدين من فوت ثواب العبادات، وخوفُ العالمين من الشكر الخفي للطَّاعات، وخوفُ المحبين فوت اللِّقاء، وخوف العارفين الهيبة والتَّعظيم، وهو أشد الخوف؛ لأنَّه لا يزول أبدًا، وسائر هذه الأنواع تسكن إذا قوبلت بالرَّحمة واللُّطف. وسُئِلَ عن الدُّعاء، فقال: هو على ثلاث درجات: تصريح، وتعريض، وإشارة، فالتَّصريح: ما يلفظ به، والتَّعريض: دعاء في دعاء مضمر، وقول في قول مستور، وإشارة في فعل مخفي، فمن التعريض قولُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكِلْنا إلى أنفسنا طَرْفة عين" (¬1)، ومن الإشارة قولُ إبراهيمَ الخليل - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، يشير إلى الرؤية، والتَّصريح قول موسى عليه السَّلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ} [الأعراف: 143]. ¬

_ (¬1) كذا قال، ولم أجده مرفوعًا في دواوين السنة المعتمدة.

وسُئِلَ عن المشاهدة، فقال: هي العمى عن الكونين بعين الفؤاد، ومطالعة الحقِّ بعين المعرفة على غير توهُّم استدراكٍ، ولا طَمَعٍ في تصوُّرٍ ولا تكييف، واطِّلاع القلوب بصفاء اليقين إلى ما أخبر الحق تعالى به من الغيوب. وسُئِلَ - رضي الله عنه - عن معنى القُرْب، فقال: هو طَيُّ المسافاتِ بلطف المداناة. وقيل بين يديه: ما أحسنَ المولَّهين، فقال: عقلاءُ الله تعالى أحسن، لأنَّ المولَّه سُلِبَ عقله بنظرة أو لحظةٍ، والعاقل تهبُّ عليه نسمات الله فلا تحرِّك من شعر لحيته طاقة تجمّل بها على تحامل النبوة (¬1). وقال الشيخ عبد الرَّزَّاق: كان من أدعية والدي في مجالس وعظه: اللهمَّ، إنَّا نسألك إيمانًا يصلح للعرض عليك، وإتقانًا نقف به في القيامة بين يديك، وعصمة تنقذنا بها من ورطات الذنوب، ورحمة تطهرنا بها من دَنَس العيوب، وعِلْمًا نفقه به أوامرك ونواهيك، وفهمًا نعلم به كيف نناجيك، واجعلنا في الدُّنيا والآخرة من أَهْل ولايتك، واملأ قلوبنا بنور معرفتك، وكَحِّلْ عيون عقولنا بإثمد هدايتك، واحرس أقدام أفكارنا من زوالق مواطئ الشبهات، وامنع طيور نفوسنا من الوقوع في شباك موبقات الشهوات، أعِنَّا في إقام الصَّلوات على تَرْك الشهوات، وامحُ سطور سيئاتنا من جرائد أعمالنا بأيدي الحسنات، كن لنا حيثُ ينقطع الرَّجاء منا إذا أعرض أهلُ الوجود بوجوههم عنا، حين نحصل في ظُلَم اللحود رهائن أفعالنا إلى اليوم المشهود، أَجِرْ عبدك الضَّعيف على ما ألف من العِصْمة من الزَّلل، ووَفِقْه والحاضرين لصالح القَوْل والعمل، وأَجْرِ على لسانه ما ينتفع به السَّامع، وتَذْرِفُ له المدامع، ويلين له القَلْبُ الخاشع، واغفرْ له وللحاضرين، ولجميع المسلمين. وكان من أدعيته: اللهم، إنَّا نعوذ بوصلك من صَدِّك، وبقربك من طَرْدك، وبقَبُولك من ردِّك، فاجعلنا من أهل طاعتك ووُدِّك، وأَهِّلنا لشكرك وحمدك. ¬

_ (¬1) كذا، ولم تتجه لي العبارة.

وكان ربما خَتَمَ مجلسه بأن يقول: جَعَلَنا الله وإياكم ممن تَنَبَّه لخلاصه، وتنزَّه عن الدُّنيا، وتذكر يوم حشره، واقتفى آثار الصَّالحين، إنَّه وليُّ ذلك، والقادر عليه. تسمية شيوخه: اشتغل بالقرآن العظيم حتى أتقنه، وتفقه بأبي الوفاء علي بن عَقيل، وأبي الخَطَّاب محفوظ الكَلْواذاني، وأبي الحسن محمَّد بن القاضي أبي العلاء، وأبي سَعْد المبارك بن علي المُخَرِّمي مَذْهبًا وخلافًا وفروعًا وأصولًا، وقرأ الأدب على أبي زكريا يحيى بن علي التِّبْريزي، وسَمِعَ الحديث من جماعةٍ، منهم: أبو غالب محمَّد بن الحسن الباقِلَّاني، وأبو سَعْد محمَّد بن عبد الكريم بن خُشَيش، وأبو الغنائم محمَّد بن علي بن ميمون النَّرْسي، وأبو بكر أحمد بن المُظفَّر، وأبو محمَّد جعفر بن أحمد بن الحسن القارئ السَّرَّاج، وأبو القاسم علي بن أحمد بن بيان الكَرْخي، وأبو عثمان إسماعيل بن محمَّد، وأبو طالب عبد القادر بن محمَّد بن يوسف، وابن عمه عبد الرَّحمن بن أحمد، وأبو البركات هبة الله بن المبارك، وأبو العِزّ محمَّد بن المختار، وأبو نَصْر محمَّد، وأبو غالب أحمد، وأبو عبد الله يحيى أولاد الإمام أبي علي بن البَنَّاء، وأبو الحسين المبارك ابن الطُّيوري، وأبو منصور عبد الرَّحمن القَزَّاز، وأبو البركات طلحة العاقولي، وغيرهم. وصَحِبَ الشيخ أبا الخير حَمَّاد الدَّبَّاس (¬1)، وأخذ عنه عِلْم الطَّريقة، وتأدَّب به، وأخذ الخِرْقة الشَّريفة من أبي سَعْد المبارك المخرِّمي، ولقي جماعةً من أعيان زُهَّاد الزمان، وأضيف إلى مدرسة المخرِّمي مما حولها من المنازل والأمكنة ما يزيد على مثليها، وبذل الأغنياءُ في عمارتها أموالهم، وعمل الفقراء بأنفسهم، فتكملت المدرسة المنسوبة إليه الآن، وكان الفراغ منها في سنة ثمانٍ وعشرين وخمس مئة، وتصدَّر بها للتدريس والفتوى، وجَلَسَ بها للوعظ، وقُصِدَت بالزِّيارات والنُّذور، واجتمع عنده بها من العلماء والفقهاء والصُّلحاء جماعة من الآفاق، فحملوا عنه وسمعوا عنه، وانتهت إليه تربية المريدين بالعراق، وتتلمذ له خلق كثير، فممن انتمى إليه من المشايخ وأخذ عنه شيئًا من العلوم الشيخ الإمام القُدْوة أبو عمرو عمار بن مرزوق بن حميد بن سلام القُرَشي، نزيل مِصْر. ¬

_ (¬1) في ترجمته في "السير" 19/ 594: "أبو عبد الله".

قال الشيخ عبد الرَّزَّاق: لما حَجَّ والدي -رحمه الله- في السنة التي كنتُ فيها معه، اجتمع به في عرفات الشيخان: عمَّار بن مرزوق، وأبو مَدْين، ولبسا منه خرقة بركة، وسمعا عليه جزءًا من مروياته، وجلسا بين يديه. وقال الشيخ سَعْد بن عمار بن مرزوق: كان أبي -رحمه الله- يقول: قال شيخُنا عبد القادر كذا وكذا، رأيتُ سَيِّدَنا الشيخ عبد القادر يفعل كذا وكذا، سمعتُ أستاذنا الشيخ عبد القادر يقول كذا، وكان إمامنا وقُدْوتنا الشيخ عبد القادر يفعل كذا. والقاضي أبو يعلى محمَّد ابن الفَرَّاء. قال عبد العزيز بن الأخضر: سمعتُ القاضي أبا يعلى ابن الفَرَّاء يقول: جالستُ الشيخ عبد القادر كثيرًا، وقلتُ بإرادته. والشيخ الفقيه أبو الفَتْح نَصْر بن فِتْيان بن مطر بن المَنِّي، والشيخ أبو محمَّد محمود بن عثمان النَّعَّال، والإمام أبو حفص عمر بن أبي نَصْر بن علي الغَزَّالي، والشيخ أبو محمَّد الحسن الفارسي، والشيخ عبد الله بن أحمد بن الخَشَّاب، والحافظ أبو العِزّ عبد المغيث بن زهير بن علوي الحَرْبي، والإمام أبو عمر عثمان بن إسماعيل الملقب بشافعي زمانه، والشيخ محمَّد الكِيزاني، والشيخ الفقيه رسلان بن عبد الله بن شعبان، والشيخ أبو السعود أحمد بن أبي بكر الحَرِيمي العَطَّار، والشيخ محمّد بن قائد الأَوَاني، وعبد الله بن سنان الرُّدَيني، والحسن بن عبد الله بن رافع الأنصاري، وطلحة بن مُظَفَّر بن غانم العَلْثي، وأحمد بن أسعد بن وهب بن علي الهَرَوي، ومحمَّد بن الأزهر الصَّريفيني، و [أحمد بن] (¬1) يحيى بن بركة بن محفوظ الدَّبيقي، وعلي بن أحمد بن وهب الأَزَجي، وقاضي القضاة عليّ، وأخوه الحسن ابنا أحمد بن الدَّامَغَاني، وقاضي القضاة عبد الملك بن علي بن دِرْباس الماراني، وأخوه عثمان، وولده عبد الرَّحمن، وإبراهيم بن مُزَيبل بن نَصْر المخزومي الضَّرير، وولده عبد الله، ومحمَّد بن رسلان الشَّافعي، وولده عبد الرحمن، وعبد الله بن نَصْر بن حمزة البكري، وعبد الجبَّار بن أبي الفَضْل القَفْصي، وعلي بن طاهر الأَنصاري، وعبد الغني بن عبد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "معجم البلدان": 2/ 438.

الواحد المقدسي الحافظ، وأبو عمر محمَّد بن أحمد ابن قدامة المقدسي، وإبراهيم بن عبد الواحد المقدسي، وعبد الله بن أحمد بن محمَّد بن قدامة المقدسي الإمام موفق الدِّين، رحمه الله. قال الشيخ شمس الدِّين رحمه الله: سمعتُ الشيخ موفق الدين رحمه الله يقول: لبست أنا والحافظ عبد الغني الخِرْقة من يد شيخ الإِسلام عبد القادر في وقتٍ واحد، واشتغلنا عليه بالفِقْه، وسمعنا منه، وانتفعنا بصحبته، ولم ندرك من حياته غير خمسين ليلة. [وأبو] (¬1) محمَّد بن أبي الحسن الجُبَّائي، وخلف بن عَيَّاش المِصْري، وعبد المنعم بن علي الحَرَّاني، وإبراهيم الحداد التيمي، وعبد الله الأسدي اليمنى، وعطيف بن زياد اليمني، وعمر بن أحمد اليَمَني، ومدافع بن أحمد وإبراهيم بن بشارة العدني، وعمر بن مسعود البَزَّاز، وأسباه مير بن محمّد الجيلاني، وعبد الله البطائحي نزيل بَعْلَبَكّ، ومكي بن أبي عثمان السَّعْدي وولداه عبد الرَّحمن وصالح، وعبد الله بن الحسين العُكْبَرِي، وأبو القاسم بن أبي بكر بن أحمد، وأخوه أحمد، وعتيق، وعبد العزيز بن أبي نَضْر الجُنَابَذي، ومحمّد بن أبي المكارم الحجة البعقوبي، وعبد الملك بن ديالى، وولداه أبو الفرج وأبو أحمد، وعبد الرَّحمن بن نجم الخَزْرجي، ويحيى التكريتي، وهلال بن أُميَّة العَدَني، ويوسف بن المُظَفَّر - يعرف بالعاقول - وأحمد بن إسماعيل بن حمزة، وعبد الله بن أحمد المنصوري، ومحمّد بن شهرويه الصّريفيني، وعثمان الياسري، ومحمّد الواعظ الخَيَّاط، وتاج الدِّين بن بطة، وعمر المدائني، وعبد الرَّحمن بن بقاء، ومحمّد بن النَّحال، وعبد العزيز بن دُلَف، وعبد الكريم بن محمّد المِصْري، وعبد الله بن محمَّد بن الوليد، وعبد المحسن بن الدَّوَيرة، ومحمد بن أبي الحسين، ومحمَّد بن عبد الصَّمد الصُّوفي نزيل مِصْر، ودُلَف الحَرِيمي، ومحمد بن أحمد المؤدِّب، ويوسف بن هبة الله الدِّمَشْقي، وعبد الباقي بن عبد الجبار الهَرَوي، وأحمد بن الدَّبيقي البابَصْري، وعبد الرَّحمن بن محمَّد الهاشمي، وأحمد بن مطيع، وعلي بن النَّفيس المأموني، ومحمد بن الليث الضَّرير، والشريف أحمد بن مسعود، وعلي بن أبي بكر بن إدريس، ومحمد بن نَصْر، وعبد اللطيف بن محمَّد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا.

الحَرَّاني وغيرهم، ممن يطول هذا المختصر بذكرهم، وإنما سمينا أعيان من بَلَغنا من أصحابه. ذكر أولاده، - رضي الله عنهم -: كان له عِدَّة أولاد ذكورًا وإناثًا، فمن أعيانهم الشيخ عبد الوهَّاب، تفقَّه على والده، وسمع منه، ومن أبي غالب بن البَنَّاء وغيرهما، ورحل إلى بلاد العَجَم في طلب العِلْم، ودرَّس بعد والده بمدرسته، وحدَّث ووعظ وأفتى، وتخرَّج به جماعة، منهم: الشِّريف الحسيني البغدادي، وأحمد بن عبد الواسع بن أميركاه، وغيرهما، وتوفي ببغداد ليلة الخامس وعشرين من شوَّال سنةَ ثلاثٍ وتسعين وخمس مئة، ودفن من الغد بمقبرة الحَلْبة، ومولده في شعبان سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة، رحمه الله. والشيخ عيسى، تفقَّه على والده، وسمع منه، ومن أبي الحسن محمَّد بن صَرْما وغيرهما، ودرَّس، وحدَّث، ووعظ، وأفتى، وصنَّف، ومن مصنَّفاته كتاب "جواهر الأسرار ولطائف الأنوار" في علوم الصُّوفية، وقَدِمَ مصر، وحدَّث بها، ووعظ، وتخرَّج به من أهلها غيرُ واحد، منهم: أبو نزار ربيعة بن الحسن الحَضْرمي الصَّنعاني، ومسافر بن يعمر المِصْري، وأحمد بن مَيسرة، وحامد بن أحمد المِصْري الأَرْتاحي، ومحمّد بن حمد الفقيه المحدِّث، وعبد الخالق بن صالح القُرَشي الأموي المِصْري، وغيرهم. والشيخ أبو بكر عبد العزيز، تفقَّه على والده، وسمع منه، ومن أبي منصور عبد الرَّحمن بن محمَّد القَزَّاز، وغيرهما، وحدَّث ووعظ، ودرَّس، وتخرَّج به غيرُ واحد، وكان بَهِيًّا متواضعًا، رحل إلى الحيال؛ قرية من قُرى سِنْجار، واستوطنها، رحمه الله. والشيخ عبد الجبار، تفقَّه على والده، وسمع منه، ومن أبي منصور القَزَّاز، وغيرهما. والشيخ عبد الرَّزَّاق، تفقَّه على والده، وسَمِعَ منه، ومن أبي الحسن بن صَرْما وغيرهما، وحدَّث وأملى، وخرَّجَ، ودرَّس، وأفتى، وناظر، وتخرَّج به غيرُ واحد، منهم: إسحاق بن أحمد بن غانم العَلْثي، وعليّ بن علي خطيب رُؤْيا وغيرهما، وحُدِّث عنه أنَّه مَكَثَ ثلاثين سنة لا يرفع رأسه إلى السَّماء حياءً من ربه عزَّ وجل. وتوفي ببغداد

في السادس من شَوَّال سنة [ثلاث وست مئة، ومولده سنة] (¬1) ثمانٍ وعشرين وخمس مئة، رحمه الله. والشيخ إبراهيم، تفقَّه على والده، وسمع منه، ومن سعيد بن البَنَّاء وغيرهما، ورحل إلى واسط، وتوفي بها سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة. والشيخ محمّد، تفقَّه على والده، وسمع منه، ومن ابن البَنَّاء، وأبي الوقت، وغيرهم، وحدَّث، وتوفي ببغداد في الخامس والعشرين من ذي القَعْدة سنةَ ست مئة، ودُفِنَ من يومه بمقبرة الحَلْبة، رحمه الله. والشيخ عبد الله، سمع من أبيه، ومن ابن البَنَّاء، وتوفي ببغداد في السَّابع والعشرين من صفر سنةَ سبعٍ وثمانين وخمس مئة، ومولده سنة ثمانٍ وخمس مئة، وهو أسنُّ أولاد سيدنا الشيخ محيي الدِّين، رحمة الله عليه. والشيخ يحيى، تفقَّه على والده، وسمع منه، ومن محمَّد بن عبد الباقي وغيرهما، وحدَّث، وانتفع به النَّاس، وقَدِمَ مِصْر، وتوفي ببغداد في ليلة النِّصف من شعبان سنة ستّ مئة، ودُفِن عند أخيه عبد الوهَّاب، ومولده في سادس ربيع الأوّل سنة خمسين وخمس مئة، رحمه الله. والشيخ موسى، تفقَّه على والده، وسَمِعَ منه، ومن ابن البَنَّاء وغيرهما، وحدَّث بدمشق وعمَّر، وانتفع به النَّاس، ودخل مِصْر، واستوطن دمشق، وتوفي بها بالعقيبة في ليلة مستهل جُمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وست مئة، ودفن بسفح جبل قاسيون، ومولده سَلْخ ربيع الأول سنة تسعٍ وثلاثين وخمس مئة، ويقال: سنة سبع وثلاثين وخمس مئة، وهو آخر مَنْ مات من أولاده - رضي الله عنهم -. والشيخ عفيف بن المبارك سِبْطه، تفقَّه على جَدِّه، وسمع منه، ومن أبي زُرْعة. وعبد السَّلام بن الشيخ عبد الوهَّاب، تفقَّه على جَدِّه وأبيه، ودرَّس وأفتى، وتولى عِدَّة ولايات، ومولده ثامن ذي الحِجَّة سنة ثمانٍ وأربعين وخمس مئة، وتوفي ببغداد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق.

في ثالث رجب سنة إحدى عشرة وست مئة، ودُفِنَ من يومه في مقبرة الحَلْبة، وسيأتي ذكره إنْ شاء الله تعالى. وسليمان بن عبد الوهَّاب: سمع من غير واحد، وحدَّث. وداود بن عبد الوهَّاب، تفقه وسَمِعَ وحدَّث، وتوفي ببغداد في ثامن عشر ربيع الأوّل سنة ثمان وأربعين وست مئة، ودُفِنَ من الغد بمقبرة الحَلْبة عند أبيه وجَدِّه، رحمه الله. ونصر بن الشيخ عبد الرَّزَّاق، تفقَّه على والده وغيره، وسمع منه، ومن والده، ومن عمه عبد الوهَّاب، ومن أبي هاشم الدُّوْشابي وغيرهم، ودرَّس وحدَّث، وأملى، ووعظ، وأفتى وناظر، وتولى قضاء القضاة بمدينة السَّلام، وتخرَّج به في عِلْمي الشَّريعة والحقيقة غيرُ واحد، وتوفي ببغداد في السَّادس عشر من شَوَّال سنة ثلاثٍ وثلاثين وستّ مئة، ودفن بباب حَرْب، ومولده الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمس مئة. وأُمه أَمَةُ الكريم تاج النِّساء بنت فضائل بن علي التَّكْريتي، سمعت وحدَّثت، وكان لها حظٌّ وافر من الخير والصَّلاح، وتوفيت ببغداد في الثَّاني عشر من شهر رجب سنة ثلاث عشرة وست مئة، ودُفنت بباب حَرْب. وعبدُ الرَّحيم بن الشيخ عبد الرَّزاق، سمع من محمّد بن عبد الباقي، وشُهْدة بنت الإِبَرِي، وخديجة بنت أحمد النَّهرواني وغيرهم، وحدَّث، وتوفي ببغداد في سابع ربيع الأوّل سنة ستٍّ وست مئة، ودُفِنَ من يومه بباب حرْب. وإسماعيل بن عبد الرَّزَّاق، سمع من غير واحد، وتفقَّه، وحدَّث، وتوفي ببغداد في ثالث عشر المحرَّم سنة ست مئة، ودُفِنَ بمقبرة الإمام أحمد، رحمة الله عليه. وأبو المحاسن بن عبد الرَّزَّاق، تفقَّه على والده، وغيره، وسمع منه، ومن عمِّه عبد الوهَّاب وأبي الفَتْح، وغيرهم. وتوفي شهيدًا بأيدي التَّتر ببغداد في صفر سنة ست وخمسين وست مئة، ومولده سنة أربع وسبعين وخمس مئة ببغداد، رحمه الله. والشيخة سعادة بنت عبد الرَّزَّاق، سمعت من عبد الحق، وغيره، وتوفيت ببغداد في سابع عشر جُمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وست مئة، وصَلَّى عليها أبو صالح.

والشيخة عائشة بنت عبد الرَّزَّاق، سَمِعَتْ من عبد الحقِّ وغيره، وحدَّثت، وكانت خَيِّرة، زاهدة، عابدة، صالحة، توفيت ببغداد في ثالث عشر ربيع الأَوَّل سنة ثمانٍ وعشرين وست مئة، ودُفِنَتْ من الغد بباب حَرْب. ومحمَّد بن عبد العزيز، سمع من غير واحد، وكانت الحيال داره وتُرْبَتَه، وأُخته زهراء زاهدة، سَمِعَتْ وحدَّثَتْ، وتوفيت ببغداد في السَّابع من جُمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين وست مئة. والشيخ محمّد بن نَصْر بن عبد الرَّزَّاق، تفقَّه على والده، وسمع منه ومن غيره، وكان يُشْبه جدَّ أبيه سيدنا شيخ الإِسلام محيي الدِّين رحمة الله عليه، وتوفي ببغداد سنة ستٍّ وخمسين وست مئة. والشيخ يحيى بن نَصْر بن عبد الرزاق، تفقَّه على والده وغيره، وسمع من والده، ومن غيره، وحدَّث ووعظ، وله كلامٌ حسن على لسان أهل الحقيقة، وشِعْرٌ بديع، سُئِلَ عن المتمكِّن، فأنشد لنفسه: [من البسيط] يسقي ويشربُ لا تلهيه سَكْرَتُهُ ... عن النَّديمِ ولا يلهو عن الكاسِ أطاعه سُكْرُهُ حتى تحكَّمَ في ... حالِ الصُّحاةِ وذا من أَعْجَبِ النَّاسِ ثمَّ تلعَّب فيهما بالعبارة، فقال: [من الوافر] ويَشْرَب ثُمَّ يسقيها النَّدامى ... ولا يُلْهيه كأسٌ عن نديمِ له مع سُكْره تأييدُ صاحٍ ... ونشوةُ شارِبٍ وندى كريمِ والشيخ محمّد بن علي البغدادي التَّوحيدي، سِبْط عبد الرَّزَّاق، تفقَّه على خاله نصر، وتخرَّج به، وسمع منه، ومن عليِّ بن أبي بكر البعقوبي، وعمر السُّهْرَوَرْدِي، وإسحاق العَلْثي، وهبة الله المنصوري الخطيب وغيرهم، توفي ببغداد على أيدي التَّتر شهيدًا في صفر سنة ستٍّ وخمسين وستّ مئة، ولقد كان منهم بمصر غير واحد وبغيرها من البلاد، رحمهم الله أجمعين. ذكر ثناء المشايخ على سيدنا الشيخ محيي الدِّين - رضي الله عنه -، وتعظيمهم له وتأدُّبهم معه، وذكرهم لشيء من طريقه، وتنبههم على عِظَم مَحَلِّه وعلوِّ قَدْره.

قال أبو الفتح الهروي: سمعتُ الشيخ علي بن الهِيتي يقول: لا مريدين بشيخهم أسعد من مريدي الشيخ عبد القادر، سلام الله عليه. قال: وسمعتُ الشيخ أبا سعد القيلويي يقول: ما رَجَعَ سيدنا الشيخ عبد القادر إلى العالم إلَّا على أن من تمسَّك بذيله نجا. وقال بقاء بن بطو: رأيتُ أصحابَ سيدي الشيخ عبد القادر كلَّهم غُرًّا في جحفل السعداء. وقال الشيخ عدي بن أبي البركات: سمعتُ عمي الشيخ عدي بن مسافر سنة أربعٍ وخمسين وخمس مئة بزاويته بالجبل يقول: مَنْ سألني من أصحاب المشايخ أن أُلبسه خرقةً فعلتُ له ذلك، إلا أصحابَ الشيخ عبد القادر، فإنهم منغمسون في الرحمة، وهل يترك أحدٌ البحر ويأتي إلى السَّاقية! وقال الشيخ علي بن إدريس البعقوبي: سُئِلَ الشيخ علي بن الهيتي وأنا أسمع عن طريق سيِّدنا الشيخ عبد القادر، - رضي الله عنه -، فقال: كان قدمه التَّفويض والموافقة مع التَّبرِّي من الحَوْل والقُوة، وطريقه تجريدُ التَّوحيد، وتوحيد التفريد مع الحضور في موقف العبودية بسر قائم في مقام العِنْدية لا بشيء ولا لشيء، وكانت عبوديته مستمدَّة من لحظ كمال الرُّبوبية، فهو عبدٌ سما عن مصاحبة التفرقة إلى مطالعة الجمع مع أحكام الشَّرع. وقال الشيخ عدي بن أبي البركات: قيل لعمِّي الشيخ عَدِي بن مسافر، وأنا أسمع: ما طريقُ الشيخ عبد القادر؟ فقال: الذبول تحت مجاري الأقدار بموافقة القلب والرُّوح، واتِّحاد الباطن والظَّاهر، وانسلاخه من صفات النفس مع الغيبة عن رؤية النَّفع والضّر، والقُرْب والبُعْد. وقال الخليل بن أحمد الصَّرْصَرِي: سمعتُ الشيخ بقاء بن بطو يقول: طريقُ سيِّدنا الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - اتحاد القول والفعل، واتحاد النفس والوقت، ومعانقة الإخلاص والتَّسليم، وموافقة الكِتاب والسُّنَّة في كل خطرة ولحظة، ونفس ووارد وحال، والثبوت مع الله عزَّ وجل.

وقال الشيخ أبو سعد القيلويي: قوة سيدنا الشيخ عبد القادر مع الله وفي الله وبالله، ضَعُفَتْ عندها قُوى الصَّناديد، ولقد سبق كثيرًا من المتقدِّمين بتمسكه بعروة من طريقة لا انفصامَ لها، ولقد رفعه الله إلى مقام عزيز بتدقيقه في تحقيقه. وقال الشيخ عبد الرَّحمن الرِّفاعي: قَدِمْتُ بغداد، وحضرتُ الشيخ عبد القادر - سلام الله عليه - فرأيتُ من حاله وفراغ قلبه وخلوِّ سِرِّه ما أذهلني، فلما رجعتُ إلى أُم عبيدة (¬1) أخبرت خالي الشيخ أحمد عنه بذلك، فقال: يا ولدي، ومن يُطيق مثل قوة الشيخ عبد القادر وما هو عليه، وما وصل إليه. وقال أبو محمَّد الحسن: سمعتُ الشيخ علي الفرنثي يقول لرجلٍ: لو رأيتَ الشيخ عبد القادر لرأيتَ رجلًا فاقت قوتُه في طريقه إلى ربه قوى أهل الطَّرائق شِدَّة ولزومًا، كانت طريقه التَّوحيد وصفًا وحُكْمًا وحالًا، وتحقيقه الشَّرْع ظاهرًا وباطنًا، ووصفه: قلبٌ فارغ، وكونٌ غائب، ومشاهدة ربٍّ حاضر، بسريرة لا تتجاذبها الشكوك، وسِرٍّ لا تتنازعه الأغيار، وقلبٍ لا تفرقه البقايا، جعل الملكوت الأكبر من ورائه، والمُلْك الأعظم تحت قدمه، - رضي الله عنه -. وقال الشيخ أبو محمد الشَّنْبكي: سمعتُ شيخنا أبا بكر بن هوار يقول: أوتاد العراق ثمانية: معروف الكَرْخي، والإمام أحمد بن حنبل، وبِشْر الحافي، ومنصور بن عَمَّار، والجُنَيد، والسَّرِي، وسَهْل بن عبد الله التُّستري، وعبد القادر الجِيلي. فقلتُ له: ومن عبد القادر؟ قال: عجميٌّ شريف، يسكن بغداد، يكون ظهوره في القرن الخامس، وهو أحدُ الصِّدِّيقين الأوتاد، الأفراد، أعيان الدُّنيا، أقطاب الزَّمان. وقال الشيخ أبو محمَّد الشَّنْبكي: كان شيخنا أبو بكر بن هوار يذكر الشيخ عبد القادر الذي يتوق يظهر بالعراق في وسط القرن الخامس، وينص على فضْله، وما كان علمي به يتجاوز مسمعي، ثمَّ كوشفت بمقامات الأولياء، فإذا هو في صدورهم، وكوشفت بمقامات العلماء، فإذا هو في صدورهم، وكوشفت بمقامات الأقطاب، فإذا هو في صدورهم، وكوشفت بمراتب المقرَّبين، فإذا هو من أعلاهم، وكوشفت بأطوار ¬

_ (¬1) أم عبيدة: أرض بالبطائح، وانظر "طبقات الشعراني": 1/ 121.

المكاشفين، فإذا هو من أجلِّهم، وسيظهره الله مظهرًا لا يظهر فيه إلا الصِّدِّيقون المُؤَيَّدون العلماء بالله تعالى، وهو ممن يُقْتدى بأفعاله وأقواله، وسوف يرفع الله ببركته خَلْقًا من العباد إلى الدَّرجات العُلى، وهو ممن يباهي الله به الأمم يوم القيامة. قلتُ: وكان الشيخ أبو بكر بن هوار - رحمة الله عليه - عظيمَ القَدْر، كبيرَ الشَّأْن وإليه ينتمي أكثر أعيان مشايخ العراق، وتتلمذ له خَلْق كثير لا يحصون من أرباب المقامات الرَّفيعة، وكان جميلَ الصِّفات، شريف الأخلاق، كامل الآداب، كثيرَ التَّواضع، شديدَ الاقتفاء لأحكام الشَّرْع، مكرِّمًا لأهل السُّنَّة والدِّين، دائم المجاهدة، لازم المراقبة إلى الرَّبِّ، وله كلامٌ عالٍ في علوم المعارف. قال الشيخ أبو محمَّد الشَّنْبكي: كان شيخنا أبو بكر بن هوار شاطرًا، يقطع الطَّريق بالبطائح، ومعه رفقاء هو مقدَّمهم، فسمع ليلةً امرأةً تقول لزوجها: انزل ها هنا لئلا يأخذنا ابن هوار وأصحابه. فاتعظ وبكى، وقال: الناس يخافوني وأنا لا أخاف الله تعالى. وتاب في وقته ذاك، وتاب معه أصحابه، وانقطع مكانه متوجِّهًا إلى ربِّه على قدم الصِّدق والإخلاص في إرادته، ووقع في نفسه أن يُسَلِّم نفسه إلى من يُوصله إلى رَبِّه عزَّ وجل، ولم يكن يومئذٍ بالعراق شيخٌ مشهور، فرأى في منامه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه -، فقال: يا رسولَ الله، ألبسني خِرْقة، فقال له: يا ابن هوار، أنا نبيُّك وهذا شيخك، وأشار إلى الصِّدِّيق رضوان الله عليه، ثمَّ قال: يا أبا بكر، ألبس سَمِيَّك ابن هوار. فألبسه الصِّدِّيق - رضي الله عنه - ثوبًا وطاقية، ومَرَّ بيده على رأسه، ومسح على ناصيته وقال: بارك الله فيك، وقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر، بك تحيا سنن أهل الطريق من أمتي بالعراق بعد موتها، ويقوم منار أربابِ الحقائق من أحباب الله تعالى، وفيك تكون المشيخة بالعراق إلى يوم القيامة، وقد هَبَّت نسمات الله بظهورك. ثمَّ استيقظ، فوجد الثوب والطَّاقية عليه، وكانت على رأسه ثواليل، فلم يَرَها، وكأنَّه نودي في العراق أن ابنَ هوار وصل إلى الله عزَّ وجلَّ، فأهرع إليه الخلق من كل قطر، وبَدَتْ علامات قُرْبه من الله تعالى، وترادف إخباره عن ربه عَزَّ وَجَلَّ، وكنت آتيه وهو في البطيحة وحده، والأُسْد مُحْدقةٌ به، يتمرَّغ بعضُها على قدميه.

وقال الشيخ أحمد بن أبي الحسن الرفاعي: سمعت خالي الشيخ منصور يقول: أول من ذلَّل الأُسد والحيَّات لأهل البطائح الشيخ أبو بكر بن هوار، وسبب ذلك أنَّه أراد أن يرحل إلى مكة، فأحدقت به الأفاعي والحَيَّات والكواسر من الطُّيور والجن، وسأَلَتْه بالله العظيم أن لا يرحل عنهم، فأخذ عليهم أن لا يؤذوا مريدًا له ولا محبًّا إلى يوم القيامة. وقال الشيخ عزاز بن مستودع: الشيخ أبو بكر بن هوار أول المشايخ بالعراق بعد مضي السَّلف، وكانت الأنوار تُرى تخترق البطائح من كَثْرة ما يَطْرُقها رجالُ الغيب لزيارته، وكان مجابَ الدَّعوة، وكان ظاهر التَّصريف، إذا أجدبت قريةٌ أتاه أهلُها يشتكون إليه الجَدْب، ويسألونه الاستسقاء، فيقول لهم: أدركوا أهلكم. فما يلحقون بيوتهم حتى يخوضوا في ماء المطر، ولا يعدو المطر تلك القرية. وزُلزلت واسط مرة زلزالًا شديدًا رجَّت منه الجبال، وتساقط البُنْيان، وضجَّ النَّاس بالصُّراخ، فإذا الشيخ أبو بكر بينهم، وبينه وبين واسط أيام، فسكن الزَّلْزال، وطلبوه فلم يروه. وكان بواسط يومئذٍ رجلٌ صالح، فرأى في منامه تلك الليلة مَلَكين نازلَين من السَّماء أحدهما يقول للآخر: كادت هذه الأرض أن تذهب اليوم. فقال له صاحبه: وما أمسكها؟ قال: إنَّ الله تعالى نَظَر إلى ابن هوار، فرحم الخَلْق، وأَذِنَ في تسكين الزَّلزال. وقال الشيخ أحمد بنُ أبي الحسن الرِّفاعي: أتتِ امرأةٌ إلى الشيخ أبي بكر بن هوار، وقالت له: إنَّ ابني غرق في الشَّطِّ، وليس لي سواه، وأنا أُقسم بالله عزَّ وجل أنَّ الله أقدرك على رَدِّه عليَّ، فإن لم تفعل شكوتك غدًا إلى الله ورسوله، وأقول: يا ربّ، أتيته ملهوفة، وكان قادرًا على رَدِّ لهفتي، فلم يفعل. فأَطْرق، ثمَّ قال: أرني أين غَرِقَ ابنُك. فأتت به إلى الشَّطِّ، فإذا ابنها قد طفا على وَجْه الماء ميتًا، فسبح الشيخ في الماء حتى وصل إليه، وحمله على عاتقه، وأعطاه لأُمه، وقال: خُذيه، فقد وجدته حَيًّا، فانصرفت وهو يمشي معها، ويدُه في يدها، كأَنْ لم يكن به شيء قَطُّ. قلتُ: وكان الشيخ أبو محمَّد الشَّنْبكي جليلَ القَدْر، انتهت إليه الرياسة في تربية السَّالكين الصَّادقين بالعراق، وكَشْف مشكلاتهم، وتخرَّج بصحبته غيرُ واحد من العظماء مثل الشيخ أبي الوفاء، والشيخ منصور، والشيخ عزاز وغيرهم، وكان لطيف الصِّفات، وافر العقل، مخفوض الجناح، شديد الحياء، دائبًا في اتِّباع أحكام الشَّرْع

وآداب السنة، وله كلامٌ نفيس في الحقائق، وكان يقطع الطَّريق، ثُمَّ تاب على يد ابن هوار، وأقام عنده ثلاثة أيام، فقال ابنُ هوار في اليوم الرَّابع: قد صرتَ شيخًا مكمَّلًا، ثمَّ قال لأصحابه: قد وصل أبو محمَّد إلى الله تعالى في ثلاثة أيام، فقال: تركتُ الدُّنيا في اليوم الأوَّل، والآخرة في اليوم الثَّاني، وطلبتُ الله في اليوم الثالث طلبًا مجرَّدًا عما سواه، فوجدته. واشتهر أمره في الآفاق، فظهرت أمارات قُرْبه من الله سبحانه وتعالى، وتتابعت كراماته، فكان يبرئ اللهُ تعالى بدعوته الأكمه والأبرص والمجنون، ويبارك له في اليسير. قلت: إنما قصدتُ بذكر بعضِ مناقب ابن هوار والشَّنْبكي - رحمة الله عليهما - ليُعلم محلّهما، ويتمسك بقولهما في حَقِّ سيدنا محيي الدِّين - رضي الله عنه - حسبما تقتضيه شهادةُ مثلهما، وإنْ كان ليس هذا موضع استقفاء أحوالهما. وقال الشيخ عبد اللَّطيف: سمعتُ أبي يقول: سمعت الشيخ عزاز بن مستودع البطائحي، يقول: قد دخل بغداد شابٌّ عجمي شريف، اسمه عبد القادر، ستبرز في هيئته المقامات، وتظهر في جلاله الكرامات، ويسطو بعِزَّة الحال، ويعلو في رفعة المحبة، ويُسَلِّم إليه الكون وجميع من فيه من الفاضل والمفضول يده، وله قدمٌ راسخة في التمكين، تقدم بها في القدر، ويد بيضاء في الحقائق امتاز بها في الأزل، ولسان بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ في حضرة القُدْس، وإنه من أرباب المراتب التي فاتت كثيرًا من الأولياء. قلتُ: كان الشيخ عزاز من أعيان مشايخ العراق، اجتمع إليه جماعةٌ من الصُّلحاء وذوي المراتب، وأخذوا عنه علم الطَّريقة، وانتفعوا به، وكان جميلَ الأوصاف، متَّبعًا لأحكام الشَّرْع والسُّنَّة، مفوِّضًا لأحكام الله، مُسْترسلًا مع أقداره، كثير المجاهدة والمراقبة والمعانقة لطريق السَّلف في السِّرِّ والجَهْر، وله كلامٌ عالٍ على لسان أهل المعارف، وكراماتٌ ظاهرة، وكانت الجن تكلِّمه، والأُسْد تأنس به، والوحوش تألفه، والطير تأوي إليه، وكان يقول: من أَنِسَ بالله أَنِسَ به كلُّ شيء، ومن خاطبه الله تعالى

خاطبه كلُّ شيء، ومَنْ هاب الله هابه كلُّ شيء، ومَنْ وَصَلَ إلى الله تأخَّر عنه كلُّ شيء إجلالًا لي، ومَنْ عرف الله جهله كل شيء بعظيم ما أودعه. وقال الشيخ عبد اللَّطيف: كان الشيخ عزاز يمشي بين النخل، فاشتهى الرُّطَب، فتدالَّت له عراجين النخل، فأكل منها، ثمَّ عادت إلى حالها. قال: ومرَّ بأسد قد افترس شابًّا بالبطيحة، وقد قضم ساقه نصفين، فصاح عليه، فولَّى منهزمًا، فتناول الشيخ من الأرض حصاةً قدر الفولة، وحذفه بها، فخرَّ ميتًا، ثمَّ جاء إلى الشَّاب، ووضع ما انكسر من ساقه في موضعه، وأَمَرَّ عليه يده، فإذا هو سويٌّ، فقام يعدو إلى أهله، ومات الشيخ بعد ذلك بيسير. قلت: كان الشيخ منصور من سادات المشايخ، صاحب حال، ومقامات وكرامات ظاهرة، ومواهب باهرة، كانت أمه تدخل وهي حامل به على شيخه الشيخ أبي محمَّد الشَّنْبكي، وكان بينها وبينه نسب، فنهض لها قائمًا، ونَكِرَتْ منه ذلك، وسُئِلَ عنه فقال: إنما أقوم للجنين الذي في بطنها إجلالًا له، فإنَّه أحدُ المقرَّبين إلى الله تعالى أصحاب المقامات، وله شأنٌ عظيم. قلت: وكان الشيخ منصور جميلًا بهيًّا، كاملَ الآداب، معانقًا طريق السَّلف والاسترسال مع أحكام الله عزَّ وجل في الشِّدَّة والرخاء، لم يَكْبُ جوادُ طريقه، وكان مجابَ الدَّعوة، وله كلامٌ جليل في علوم الحقائق. وقال الشيخ علي بن الهيتي: أتاه رجلٌ من مِصْر، وقال له: يا سيدي، قد هاجرتُ إليك من مصر، وتركت مالي وولدي، ووطني وجاهي رغبةً في صُحْبتك. فنفخ الشيخ منصور في صَدْر الرَّجل، فأضاءت في قلبه برقة كشفت له عن الملكوت الأعلى، وقال له: هذه بتركك المال والولد والوطن. ثمَّ نفخ في صدره بعد شهر، فمحقت منه البقايا، وانتسخت منه الحظوظ، وقال له: هذه بتركك الجاه والرِّياسة. ثمَّ نفخ في صدره بعد شهر، فأشهد مقامه بين يدي الله عزَّ وجل، وأقيم فيه، وقال له: هذه بهجرتك إليَّ. ثمَّ قال له: يا هذا، إني استوهبتك من الله عزَّ وجل، وقد وهبك لي، وصرَّفني فيك، وجعل عطيتك على يدي، وهذه غايتك التي أنت عندها قائم. ولم يزل هذا الرجل على هذا الحال إلى أن توفي بالبطائح.

وقال الشيخ أحمد بن الرِّفاعي: سُئِلَ شيخنا خالي منصور عن المحبة، فقال، وأنا أسمع: المحب سكران في خُماره، حيران في شرابه، لا يخرج من سكرة إلا إلى حيرة، ولا من حيرة إلا إلى سَكْرة، ثمَّ أنشد: الحبُّ سُكْرٌ خُماره التَّلَفُ ... يَحْسُنُ فيه الذُّبول والدَّنَفُ والحب كالموت يفني كل ذي شغفٍ ... ومن تطعَّمه أودى به التَّلف في الحُبِّ مات الأُلى أصفوا محبتهم ... لو لم يحبوا لما ماتوا وما تلفوا (¬1) سكن نهر دقلا من أرض البطائح، واستوطنها إلى أن مات بها، وقد عَلَتْ سِنُّه، وقبره بظاهرها يزار، ولما حضرته الوفاة، قالت له زوجته: أَوْصِ لولدك، فقال: بل لابن أختي أحمد. فلما كرَّرت عليه القول، قال لابنه ولابن أخته: ائتياني بنخيلٍ كثير. ولم يأته ابن أخته بشيء، فقال له: يا أحمد لم تأتِ بشيء. فقال له: إني وجدته كلّه يُسَبِّح، فلم أستطع أن أقطع منه شيئًا. فقال الشيخ لزوجته: سألتُ غير مرة أن يكون ابني، فقيل لي: بل ابن أُختك أحمد. وحكى جماعةٌ من أصحاب الشيخ منصور البطائحي، وهو خال الشيخ أحمد الرفاعي، وبصحبته انتفع وتخرَّج، قالوا: ذُكر الشيخ عبد القادر وهو شابٌّ عند شيخنا الشيخ منصور، فقال: سيأتي زمانٌ يُفْتقر إليه فيه، وتعلو منزلته بين العارفين، ويموت وهو أحبُّ أهلِ الأرض إلى الله تعالى ورسوله في ذلك الوقت، فمن أدرك منكم ذلك فليعرف حُرْمته، وليعظِّمَ أمره. وقال الشيخ علي بن الهيتي: كان شيخنا أبو الوفاء يتكلَّم على النَّاس فوق الكرسي، فدخل الشيخ عبد القادر إلى مجلسه، وهو يومئذٍ شابٌّ أَوَّلَ ما دخل بغداد، فقطع كلامه، وأمر بإخراج الشيخ عبد القادر، فأُخرج وتكلَّم، ثمَّ دخل الشيخ عبد القادر المجلس، فقطع كلامه، وأمر بإخراجه، فأُخرج، وتكلَّم، ثمَّ دخل الشيخ عبد القادر ثالثةً، فنزل الشيخ أبو الوفاء، واعتنقه، وقبَّلَ بين عينيه، وقال: قوموا لوليِّ الله يا أهلَ بغداد، ما أمرتُ بإخراجه إهانةً له، بل لتعرفوه، وعِزَّة المعبود على رأسه سناجق قد تجاوزت ذوائبها المشرق والمغرب. ثمَّ قال له: يا عبد القادر، الوقت الآن لنا وسيصير ¬

_ (¬1) البيت الأول من المنسرح، والثاني والثالث من البسيط!

لك يا عبد القادر، قد وهبوك العراق يا عبد القادر، كلُّ ديك يصيح ويسكت إلا ديكك، فإنَّه يصيح إلى يوم القيامة. وأعطاه سجادته وقميصه، ومسبحته وقصعته وعُكَّازه، فقيل له: خُذْ عليه العهد، فقال: على جبينه داعي المخرِّمي (¬1). فلما انقضى المجلس، ونزل تاجُ العارفين أبو الوفاء من الكُرْسي جلس على آخر مرقاة، وأمسك بيد الشيخ عبد القادر، وقال له في غلبات النَّاس: يا عبد القادر، لك الوقت، فإذا جاء فاذكر هذه الشيبة. وقبضَ على كريمته. قال الشيخ عمر البزاز: وكانت مسبحة الشيخ أبي الوفاء التي أعطاها لسيدنا الشيخ عبد القادر إذا وضعها سيدنا الشيخ على الأرض تدور وحدها حبةً حبَّة، فلما مات أخذها بعده الشيخ علي بن الهيتي، وكانت القصعة التي أعطاها له لا يَمَسُّها أحد إلا وأرجفت يده إلى كتفه. وقال مطر: كنتُ يومًا عند شيخنا أبي الوفاء بزاويته معلمينا (¬2)، فقال لي: يا مطر، أغلق الباب، فإذا جاء شابٌّ عجمي يطلب الدُّخول عليَّ فامنعه، فقمت، وإذا الشيخ عبد القادر وهو شابٌّ يومئذٍ، فطلب الدخول عليه، فاستأذنتُ الشيخ، فلم يأذن له في الدُّخول، ورأيتُه يمشي في الزَّاوية كالمنزعج، ثمَّ أَذِنَ له، فلما رآه مشى إليه خُطُواتٍ، واعتنقا طويلًا، وقال له: يا عبد القادر، وعِزَّة من له العِزَّة، ما منعتك من الدُّخول عليّ أول مرَّة جحدًا لحقِّك بل خشية، لمَّا علمت أنك تأخذ وتعطيني أَمِنْتُ. قلت: كان الشيخ تاج العارفين أبو الوفاء سيدَ مشايخ العراق في وقته، وله الكراماتُ الخارقة، وانتهت إليه رياسة هذا الشَّأْن في زمانه، وتخرَّج به جماعةٌ من صدور مشايخ العراق مثل الشيخ علي بن الهيتي، والشيخ بقاء بن بطو، والشيخ عبد الرَّحمن الطفسونجي، والشيخ مطر، والشيخ حامد الكُرْدي، والشيخ أحمد البقلي وغيرهم، وكان له أربعون خادمًا من أصحاب الأحوال، ولما أخذ عليه شيخه الشَّنْبكي العهد قال: قد وقع اليوم في شبكتي طائِرٌ لم يقع مثلُه في شبكة الشيخ أبي الوفاء. ¬

_ (¬1) لعله يعني شيخه المخرِّمي، والله أعلم، انظر ص 78 من هذا الجزء. (¬2) كذا، ولم أتبينها.

[وكانت مشايخ البطائح يقولون: عجبًا لمن يذكر أبا الوفاء] (¬1)، ولم يمرّ يده على وجهه، ويسمِّي الله تعالى، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، كيف لا يسقط وجهه من هيبته! ورُوي أن الشيخ عزاز رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال: يا رسول الله، ما تقول في أبي الوفاء؟ قال: قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ما أقول فيمن أباهي به الأمم يوم القيامة! وكان للشيخ أبي الوفاء كلامٌ عالٍ على لسان أهل الحقائق، رحمة الله عليه، منه: مَنْ أخلص لله تعالى في معاملته يخلُصُ من الذُّنوب الكاذبة، ومن ضَيَّع حكم وقته فهو جاهل، ومن قَصَّر فيه فهو غافل، ومن أهمله فهو عاجز، والتَّسْليم إرسالُ النَّفس في ميادين الأحكام، وترك الشفقة عليها من الطَّوارق. وقال الشيخ علي بن الهِيتي: طرقت منازلةٌ من منازل الغيب عشرةً من الأولياء زمن شيخنا أبي الوفا - رضي الله عنه -، واشتركت فيها أسرارهم، وأشكل شيء من أمرها عليهم، فاجتمعوا، وأتوا إلى الشيخ أبي الوفاء ليسألوه عنها، فوجدوه نائمًا، وسمعوا كلَّ عضو منه ينطق بالتسبيح والتَّهليل، فجلسوا ينتظرون يقظته، فنطقت لهم أعضاؤه وخاطبتهم بمنازلهم، وكشفت لهم منها ما أَشكل عليهم، وانصرفوا قبل أن يستيقظ. وكان نرجسي الأصل؛ قبيلة من الأكراد. وقال سيدنا محيي الدِّين رحمة الله عليه: ليس على باب الحق عَزَّ وَجَلَّ كُرْدي مثل الشيخ أبي الوفاء. وقال الشيخ حماد بن مسلم الدَّبَّاس، وقد ذكر عنده سيدنا الشيخ محيي الدين عبد القادر - رضي الله عنه -، وهو يومئذٍ شاب: رأيتُ على رأسه علمين قد نصبا من البهموت الأسفل إلى الملكوت الأعلى، وسمعت الشاويش يصيح له في الأفق الأعلى بألقاب الصِّدِّيقين. وقال محمود بن النعال: سمعتُ أبي يقول: كنتُ يومًا عند الشيخ حماد الدَّبَّاس، فجاء الشيخ عبد القادر وهو شابٌّ يومئذٍ، فقام إليه، وتلقَّاه، وقال: مرحبًا بالجبل الراسخ، والطَّوْد المنيف الذي لا يتحرَّك، وأجلسه إلى جانبه، وقال له: ما الفرق بين الحديث والكلام؟ فقال: الحديث ما استدعيت من الجواب، والكلام ما صدقك من الخطاب، وانزعاج القلب لدعوة الانتباه أرجح من أعمال الثَّقلين، فقال له الشيخ حماد: أنت سيد العارفين في عَصْرك. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين ساقط من (خ)، والمثبت من "طبقات الشعراني": 1/ 116.

قلتُ: كان الشيخ حماد الدَّبَّاس أحدَ العلماء الرَّاسخين في العِلْم وعلوم الحقائق، وانتهت إليه تربية المريدين ببغداد، وانعقد عليه الإجماع في الكَشْف عن مخفيات المراد، وانتمى إليه معظمُ مشايخ بغداد وصوفيتهم في وقته، وهو أحدُ مَنْ أخذ عنه سيدنا الشيخ عبد القادر - رحمة الله عليه - وصحبه، وأثنى عليه، وروى كراماته، وكان أبو الوفاء إذا قَدِمَ بغداد، ينزل عنده ويعظِّم شأنه، وكان المشايخ ببغداد يعظمون أمره ويتأدَّبون في حضرته، وينصتون لسماع كلامه. وقال الشيخ أبو النَّجيب: الشيخ حماد الدباس من أَجَلِّ من لقيتُ من مشايخ بغداد، وهو أوَّلُ شيخ فتح الله عليَّ ببركته، وكانت دَبَّاسته لا يدخلها زنبور ولا ذبابة، وله كلامٌ عالٍ في طريقة القوم، رحمة الله عليه. وقال سيدنا الشيخ عبد القادر: قدم بغداد رجلٌ يقال له يوسف الهَمَذاني، وكان يقال: إنه القُطْب، ونزل في رباط، فلما سمعتُ به مشيت إلى الرِّباط، فلم أره، فقيل لي: هو في السِّرْداب، فنزلتُ إليه، فلما رآني قام، وأجلسني، ففرسني، وذكر لي جميعَ أحوالي، وحَلَّ لي جميع ما كان مشكلًا عليّ، ثمَّ قال لي: يا عبد القادر، تكلَّم على النَّاس. فقلتُ: يا سيدي، أنا رجلٌ أعجمي أيش أتكلَّم على فصحاء بغداد؟ فقال لي: أنتَ حفظت القرآن والفِقْه وأُصول الفقه والخلاف والنَّحو واللغة وتفسير القرآن، ألا يصلح لك أن تتكلَّم على النَّاس؟ ! اصعد على الكرسي وتكلم، فإني أرى فيك عِذْقًا وسيصير نخلةً. قلتُ: تَقَدَّم ذكر يوسف الهَمَذاني في سنة خمس وثلاثين وخمس مئة. وقال الشيخ أبو سلمان داود المَنْبِجي: كنتُ يومًا عند الشيخ عقيل المنبجي، فقيل له: قد اشتَهَر ببغداد أمر شاب عجمي شريف اسمه عبد القادر. فقال الشيخ عقيل: وإن أمره في السَّماء أشهر منه في الأرض، ذاك الفتى الرَّفيع المدعو في الملكوت بالباز الأشهب، وسينفرد في وقته، وسَيُرَدُّ إليه الأمر، ويصدر عنه. والشيخ عقيل أول من لَقَّب سيدنا الشيخ محيي الدّين - رضي الله عنه - بالباز الأشهب فيما نعلم.

قلت: كان عقيل شيخ شيوخ الشَّام في وقته، وتخرَّج بصحبته الشيخ عَدِي بن مسافر، والشيخ موسى الزولي وغيرهما، وهو أوَّل من دخل بالخرقة العمرية إلى الشَّام، وهو أحد الأربعة الذين قال فيهم الشيخ علي الفرنثي: رأيتُ أربعة من المشايخ يتصرَّفون في قبورهم كما يتصرف الأحياء: الشيخ عبد القادر، والشيخ معروف الكرخي، والشيخ عقيلًا المنبجي، والشيخ حياة بن قيس الحَرَّاني. وكان للشيخ عقيل كلامٌ عالٍ في المعارف. وقال الشيخ أبو المجد بن أحمد: أخبرنا أبي عن أبيه قال: حضرت الشيخ عقيلًا بظاهر منبج تحت الجبل، وعنده جمعٌ من الصُّلحاء، فقال له أحدهم: ما علامة الصَّادق؟ قال: لو قال لهذا الجبل تحرَّك فيتحرك الجبل، ثمَّ قال له: ما علامة المتصرِّف؟ قال: لو أراد وحوش البَرِّ والبحر أن تأتيه لفعلت. فما تمَّ كلامه حتى نَزَلَ علينا من الجبل وحوش سدتِ الفضاء، وأخبرنا الصَّيادون أنَّ شَطَّ الفرات امتلأ في ذلك الوقت أسماكًا. قال: يا سيدي، وما علامةُ المبارك على أهل زمانه؟ قال: لو وكز برجله هذه الصَّخرة لتفجَّرت عيونًا. قال: فتفجَّرت صخرةٌ كانت بين يديه عيونًا، ثمَّ عادت صخرة كحالها أوَّل مرة. سكن - رضي الله عنه - منبج، واستوطنها نيفًا وأربعين سنة، وماتَ بها، وقد عَلَت سِنُّه، وقبره بها ظاهر يزار. وقال الشيخ عمر الصِّنْهاجي: جاء بعضُ أصحابنا إلى الشيخ أبي يعزى يستأذنه في المسير إلى بغداد، فقال له: إذا أتيتَ بغداد فلا يفوتنك رؤية رجل بها شريف عجمي اسمه عبد القادر، فإذا رأيته سَلِّم عليه عني وسَلْه لي الدُّعاء، وقيل له: لا تنسَ أبا يعزى من قلبك، فإنَّه والله لم يخلِّف في العجم بأسره مثله، وإنك لن ترى في العراق مثله، وإن المشرق ليفضل عن المغرب به، وإنَّ علمه ونسبه قد ميَّزاه على الأولياء تمييزًا واضحًا كثيرًا. قلتُ: كان الشيخ أبو يعزى من أعيان المشايخ بالمغرب، وتخرَّج به من أكابر مشايخها وأعلام زُهَّادها جماعةٌ، وأقام في بدايته في خمس عشر سنة لا يأكل إلا حب الخُبازى، وكانت الأُسْد تأوي إليه، والطَّير تعكف عليه، وكانت الأُسد إذا ضربت

وافترست القفول جاء فأمسك بأذنابها وقادها، فتنقاد له ذليلة، وكان أهل المغرب يستسقون به فيُسْقون، ويرجعون إليه في المعضلات فتنكشف. وقال الشيخ أبو محمَّد الإِفريقي: جاء إلى الشيخ أبي يعزى المحتطبون يشكون إليه كثرة الأُسْد في غابةٍ يحتطبون فيها، فقال لخادمه: اذهب إلى طرف الغابة، وناد بأعلى صوتك: معاشر الأسد يأمركِ أبو يعزى أنْ ترحلي من هذه الغابة. قال: فذهب وفعل ذلك، فكانت الأُسد تُرى خارجةً من الغابة تحمل أشبالها حتى لم يبق فيها شيء منها، ولم يُر بعد ذلك فيها أسد. وقال الشيخ شاور السبتي المحلي: صنعَ الخليفةُ ببغداد وليمةً، ودعا إليها جميع مشايخ العراق وعلمائها، فحضروا كلُّهم إلا سيدنا الشيخ محيي الدِّين عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أحمد الرِّفاعي رحمة الله عليهم، فلمَّا انصرف النَّاس قال الوزير للخليفة: إنَّ الشيخ عبد القادر والشيخ عديًّا والشيخ أحمد لم يحضروا، فقال الخليفة: فكأن لم يحضر إذن أحد. ثمَّ أمر حاجبه أن يأتي إلى الشيخ عبد القادر يدعوه أن ينطلق إلى جبل الهَكَّار، وإلى أُم عبيدة ليحضر الشيخ عدي والشيخ أحمد، قال الشيخ شاور: فقال لي الشيخ عبد القادر قبل أن يقوم الحاجب من مجلس الخليفة، وقبل أن تُسَطَّر البطاقتان: يا شاور، اذهب إلى المسجد الذي بظاهر باب الحَلْبة تجد فيه الشيخ عدي بن مسافر ومعه اثنان، فادعهم لي، ثمَّ امضِ إلى مقبرة الشُّونيزي تجد فيها الشيخ أحمد الرّفاعي ومعه اثنان، فادعهم لي، قال: فذهبت إلى المسجد الذي بظاهر باب الحَلْبة، فوجدت الشيخ عديًّا ومعه اثنان، فقلتُ: يا سيدي، أحب الشيخ عبد القادر، فقال: سَمْعًا وطاعة، وقاموا، فذهبتُ معهم، فقال لي الشيخ عدي: يا شاور، ألا تذهب إلى الشيخ أحمد كما أمرك الشيخ عبد القادر (¬1)؟ قلتُ: بلى، فأتيت مقبرة الشُّونيزي، فوجدت الشيخ أحمد ومعه اثنان، فقلتُ: يا سيدي، أجب الشيخ عبد القادر، فقال: سمعًا وطاعة. وقاموا، فتوافى الشيخان في باب رباط الشيخ عبد القادر وقتَ المغرب، فقام إليهم الشيخ، وتلقاهم، فما لبثوا غير يسير، فجاء الحاجب إلى الشيخ، فوافاهما عنده، فأسرع إلى الخليفة، وأخبره باجتماعهم، ¬

_ (¬1) في النسخة: عدي، وهو سبق قلم، والصواب ما أثبته، انظر صدر الخبر.

فكتب الخليفةُ إليهم بخطِّه يسألهم الحضور، وبَعَثَ إليهم ولده وحاجبه، فأجابوه وذهبوا، وأمرني سيدنا الشيخ محيي الدين بالمسير معه، فلمَّا كُنَّا بالشَّطِّ إذا الشيخ ابن الهيتي، فتلقاه المشايخ، وسار معهم، فأُتي بنا إلى دارٍ حَسَنةٍ، فإذا الخليفةُ فيها قائم، مشدود الوسط، ومعه خادمان له، وليس في الدار سواهم، فتلقَّاهم الخليفة، وقال لهم: يا سادة، إنَّ الملوك إذا اجتازوا برعاياهم بسطوا لهم الحرير ليطؤوه، ووضع لهم ذيله، وسألهم أن يمشوا عليه، ففعلوا، وانتهى بنا إلى سماطٍ مهيأ، فجلسوا، وأكلوا وأكلنا معهم، ثمَّ خرجوا، وأتوا إلى زيارة قبر الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وكانت ليلةً شديدة الظُّلْمة، فجعل الشيخ عبد القادر كلما مرَّ بحجرٍ أو خشبة أو جدار أو قبرٍ أشار بيده إليه، فيضيء كضوء القمر، ويمشون في نوره إلى أن ينتهي ضوءه، فيشير الشيخ إلى آخر، فيضيء، فما زالوا يمشون في النُّور، وليس فيهم من يتقدَّم على الشيخ عبد القادر إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -، فدخل المشايخ الأربعة يزورون، ووقفنا على باب المزار حتى خرجوا، فلما أرادوا أن يتفرَّقوا، قال الشيخ عدي للشيخ عبد القادر: أوصني. قال: أوصيك بالكتاب والسُّنَّة. ثمَّ تفرَّقوا. وقال الشيخ عمر البزاز: كان سيدنا الشيخ محيي الدِّين - رحمة الله عليه - يثني كثيرًا على الشيخ عدي بن مسافر، فاشتقت إلى رؤيته، واستأذنتُ الشيخ في زيارته، فأَذِنَ لي، فسافرت حتى أتيتُ جبل الهَكَّار، فوجدته قائمًا على باب زاويته بلاكش، فقال: أهلًا يا عمر، تركت البحر، وجئت إلى السَّاقية! يا عمر، الشيخ عبد القادر مالك أزِمَّة الأولياء كلِّهم، وقائد. عدي بن مسافر - رضي الله عنه - مشهور، ومحلُّه معروف، وقد تقدَّم ذكره في السنة السابعة والخمسين وخمس مئة، فينظر هناك. وقال الشيخ العارف القُدْوة علي بن وهب السِّنْجاري: عبد القادر أحدُ أعيان الدُّنيا، الشيخ عبد القادر أحدُ أفراد الأولياء، الشيخ عبد القادر من تُحَفِ الوجود، الشيخ عبد القادر من هدايا الله تعالى إلى الكون، طوبى لمن رآه، طوبى لمن جالسه، طوبى لمن باتَ في خاطر الشيخ عبد القادر.

قلت: كان الشيخ عليُّ بن وهب كبيرَ القَدْر، تتلمذ له جماعةٌ من الأكابر مثل الشيخ سويد السِّنجاري، والشيخ أبي بكر الجاري، وجماعة لا يحصون كثرة، ويقال: إنه مات عن أربعين رجلًا من مريديه كلهم أصحاب أحوال، وحدّث عنهم أنَّه لما مات اجتمعوا في رَوْضة تجاه زاويته، فجعل كل منهم يأخذ من تلك الروضة قبضة من نباتها، ويتنفس عليها، فتزهر من جميع الأزهار مختلفة ألوانها حتى أَقَرَّ بعضُهم لبعض بالتمكُّن والتَّصريف، والشيخ علي بن وهب يسمى برادّ الفائت؛ لأنَّه من فَقَدَ حالًا كان له وأتى إليه رَدَّه عليه بزيادة. ومناقبه كثيرة، وهو ربعي شيباني، سكن البدوية؛ قرية من أعمال سِنْجار، وبها مات وقد نيَّف على الثمانين، وقبره ظاهر يزار، وكان عالمًا فاضلًا فصيحًا متواضعًا، لا يحلف بالله تعالى، ولا يرفع رأسه إلى السماء حياءً من الله تعالى، رحمة الله عليه ورضوانه. وقال الشيخ يحيى التكريتي: لما قدم الشيخ موسى بن ماهين الزولي بغداد حاجًّا كنتُ أنا ووالدي معه، فلما اجتمع بالشيخ عبد القادر رأينا من احترام الشيخ موسى له وأدبه معه ما لم نَرَه فَعَلَه مع غيره من النَّاس، فلما خلونا به قال له والدي: ما رأيتُك احترمتَ أحدًا مثلما احترمت الشيخ عبد القادر، فقال: الشيخ عبد القادر خيرُ النَّاس في زماننا هذا، وسُلْطان العارفين في وقتنا، وكيف لا أتأدَّب مع من تتأدب معه ملائكة السَّماء. قلتُ: كان الشيخ موسى من أجلِّ المشايخ وأعظمهم حالًا، وهو أحد من أبرزه الله إلى العباد، وأنطقه بالمُغَيَّبات، وخَرَقَ له العادات، وأوقع له الهيبة في القلوب، وانعقد عليه إجماع المشايخ وغيرهم، وقُصِدَ بحلِّ مشكلات الموارد، وكَشْفِ مخفياتها، وتربية السالكين، وتخرَّج بصحبته كثير من مشايخ بلاد المشرق، وتتلمذ له جماعةٌ من أهل الأحوال، وكان سيِّدنا محيي الدِّين يُثْني عليه كثيرًا، ويعظِّمُ شأنه. ولما اجتمع الشيخ إبراهيم الأعزب والشيخ عسكر النعيبي بالبطائح، قال الشيخ عسكر للشيخ إبراهيم (¬1). ¬

_ (¬1) بياض في الأصلِ.

وكان للشيخ موسى كلامٌ بليغ على لسانِ أهل المعرفة، وكان إذا مَسَّ الحديد بيده لان حتى يصيرَ كاللُّبان. ووقع بمارِدِين حريقٌ، فضجَّ النَّاس به، فأعطاهم عُكَّازه، وأمرهم أن يلقوه في النَّار، فألقوه، فانطفأت لوقتها، وأخرجوا العُكَّاز لم يسخن ولا اسْوَدَّ. ووإن كثير الإخبار بالمغيَّبات، وأتته امرأةٌ بصغير عمره أربعة أشهر، فدعاه إليه، فأتاه يعدو، فأقرأه سورة الإخلاص، فقرأها الصَّبيُّ، وما زال يمشي ويتكلَّم من ذلك الوقت، وكبر والتحى، فوالله ما زادَتْ فصاحةُ نُطْقه على فصاحته حين تكلَّم بين يدي الشَّيخ أَوَّل مرَّة. ومات الشيخ بمارِدِين وقد عَلَتْ سِنُّه، وقبره ظاهر يزار، ولما وضع في لحده نهض قائمًا يصلي، واتَّسع له اللَّحد، وأُغمي على من كان نزل قبره، وكان جميلًا بهيًّا فاضلًا، رحمة الله عليه. وقال الشيخ شهاب الدِّين: دخلتُ مع عمِّي الشيخ أبي النَّجيب عبد القاهر السُّهْرَوَرْدِي في سنة ستين وخمس مئة إلى الشيخ عبد القادر، فتأدَّب عمي معه أدبًا عظيمًا، وجلس بين يديه أُذُنًا بلا لسان، فلما رجعنا إلى النِّظامية، قلتُ له في ذلك، فقال: كيف لا أتأدَّب معه وهو له الوجود التَّام، وقد صرف في وجود الملك، وبُوهي به في وجود الملكوت، وانفرد في عالم الكون في هذا الوقت؟ وكيف لا أتأدَّب مع من صرَّفه مالكي في قلبي وحالي، وفي قلوب الأولياء وأحوالهم، إن شاء أمسكها، وإن شاء أرسلها؟ قلت: كان الشيخ أبو النجيب عظيمَ القَدْرِ، جَمَعَ بين العِلْم والعمل، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. قلتُ: وحكى لي ابنُ الشيخ عز الدين عبد العزيز السلمي الشافعي نزيل مِصْر، كان يقول: كراماتُ الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه (¬1). وقال الشيخ محمَّد بن أبي العَبَّاس الخضر بن عبد الله الحسني المَوْصلي: سمعتُ أبي يقول: كنتُ يومًا جالسًا بين يدي سيدنا الشيخ محيي الدِّين عبد القادر - رضي الله عنه -، فخطر في نفسي زيارة الشيخ أحمد الرِّفاعي، فقال لي: يا سيدنا، أتحبُّ زيارة الشيخ أحمد؟ ¬

_ (¬1) لم يذكر عنه شيئًا من كراماته، ولعله بيَّض لها، ولم يسدَّها.

قلتُ: نعم. فأطرقَ يسيرًا، ثمَّ قال: يا خضر، ما ترى الشيخ أحمد؟ فإذا إلى جانبه شيخٌ مهيب، فقمتُ إليه، وسلَّمت عليه، فقال: يا خضر، مَنْ يرى مثل الشيخ عبد القادر سيد الأولياء يتمنَّى رؤية مثلي، وهل أنا إلا من رعيَّته! ثمَّ غاب عني، فبعد وفاة سيدنا الشيخ رحمة الله عليه انحدرت إلى أُم عبيدة لأزوره، فقَدِمْتُ عليه، إذا هو الشخص الذي رأيته إلى جانب الشيخ عبد القادر - رحمة الله عليه - في بغداد، لم تجدد رؤيته عندي زيادة، فقال لي: يا خضر، ألم تَكْفِكَ الأُولى؟ وقال الشيخ عبد الله البطائحي رحمة الله عليه: انحدرتُ في حياة سيدي الشيخ محيي الدين عبد القادر - رضي الله عنه - إلى أُم عُبيدة، وأقمتُ برواق الشيخ أحمد أيامًا، فقال لي الشيخ أحمد يومًا: اذكر لي شيئًا من مناقب الشيخ عبد القادر وصفاته، فذكرتُ منها شيئًا، فجاء رجلٌ في أثناء حديثي، فقال لي: مَهْ، لا تذكر عندنا مناقب غير هذا. وأشار إلى الشيخ أحمد، فنظر إليه الشيخ أحمد مُغْضَبًا، فوقع الرَّجل بين يديه ميتًا، ثمَّ قال: ومَنْ يبلغ مبلغ الشيخ عبد القادر، ذاك بحر الشَّريعة عن يمينه، وبحر الحقيقة عن يساره، من أيِّهما شاء اغترف الشيخ عبد القادر، لا ثاني له في وقتنا هذا. قال: وسمعتُه يوصي أولاده فيه وأكابر أصحابه، وقد جاء رجل يودِّعه مسافرًا إلى بغداد قال: إذا دَخَلْتُم بغداد، فلا تقدِّموا على زيارة الشيخ عبد القادر شيئًا إن كان حيًّا، ولا على زيارة قبره إن كان ميتًا، فقد أُخذ له العهد: أَيما رجلٍ من أصحاب الأحوال دخل بغداد، فلم يَزُرْه، سُلِبَ حاله، ولو قبيل الموت. والشيخ عبد القادر خَسِرَه من لم يَرَه، - رضي الله عنه -. قلتُ: كان الشيخ أحمد الرِّفاعي رحمة الله عليه عظيم القَدْر كبير الشأن، ومحلُّه عظيم، وحاله أشهر من أن ينبَّه عليه، وهو أحدُ من اشتهر في الدُّنيا، وتتلمذ له من الخَلْق عالمٌ لا يُحصون كثرةً في كلِّ بلد وقطر، ولم أر في مُدُنِ المسلمين مكانًا يخلو من زاوية ومكان برسمهم، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب مفصَّلًا. دخل عليه رجلٌ، فوضع له الشيخ طعامًا، فقال: إذا جاء وقتي أكلتُ، وقال له: ومتى وقتك؟ قال: المغرب، قال: عن كم؟ قال: عن ستة أشهر، فلما كان وقتُ المغرب قُدِّم له الطَّعام، فسأله الرجل أن يأكل معه، فقال: إذا جاء وقتي أكلتُ، قال:

ومتى وقتك؟ قال: بعد ستة أشهر، قال: وكم مضى لك؟ قال: ستة أشهر، فسئل الشيخ عن ذلك فقال: دخلت أنا إلى دارنا يومًا شديد الحر وأنا عطشان، فوجدتُ ماءً مخلوطًا ببياض العجين، فأردتُ أن أشربه، فقالت لي نفسي: ترى الماء البارد في الكوز! ثمَّ امتنعتُ من الشرب، وعاهدتُ الله تعالى أن لا آكل ولا أشرب إلى سنة. والشيخ أحمد أحدُ مَنْ قهر أحواله وملك أسراره، وانتهت إليه الرياسة في علوم الطَّريق، وشَرْحِ أحوال القوم، وكَشْفِ منازلاتهم، وله كلامٌ شريف على لسان أهل الحقائق. وقال الشيخ أبو الحسن علي ابن أخت الشيخ أحمد: كنتُ يومًا جالسًا على باب خلوة خالي، وليس فيها غيره، فسمعتُ عنده حِسًّا، فنظرتُ، فإذا عنده رجلٌ، فتحدَّثا طويلًا ثمَّ خرج من كوَّةٍ في الحائط، ومَرَّ في الهواء كالبَرْقَ الخاطف، فدخلت على خالي، وقلت: ما الرجل؟ قال: أورأيته؟ ! قلتُ: نعم. قال: هو الذي يحفظ الله به قَطْر البحر، وهو أحدُ الأربعة الخواص إلا إنه هُجر منذ ثلاث ليال، وهو لا يعلم، قلت: فبأي سبب؟ قال: مُطرت جزيرته حتى سالت أوديتها، فَخَطَر في نفسه: لو كان هذا في العمران. ثمَّ استغفر، فَهُجِرَ، فقلتُ: أَوَأعْلَمْتَه؟ قال: لا، فقلت: لو أَذِنْتَ لي لأعْلَمْتُه. قال: رَنِّقْ، فرنَّقْتُ (¬1)، ثمَّ سمعتُ صوته: ارفع رأسك. فرفعتُه، وإذا بجزيرة في البحر، قمت أمشي فيها، وإذا بالرجل، فأخبرتُه، فقال: ناشدتك اللهَ إلا ما وضعت خرقتي في عُنُقي، وسحبتني على وجهي، ونادِ عليَّ: هذا جزاءُ من يعترض. فوضعتُ الخِرْقة في عنقه، ثمَّ هممتُ بسحبه، وإذا هاتفٌ يقول: يا عليّ، دَعْه، فقد ضجَّتْ ملائكة السماء باكيةً عليه، وقد رضي عنه. فأغمي عليَّ ساعة، ثمَّ سُرِّي عني، وإذا أنا بين يدي خالي بخلوته، ووالله لا أدري كيف ذهبتُ، ولا كيف جِئْتُ. قلت: وكرامات سيدنا شيخ الإِسلام مُحيي الدِّين عبد القادر رحمة الله عليه كثيرة، ومناقبه غزيرة، وقد اقتصرنا على هذه النبذة، إذ لا يحتمل هذا الكتاب أكثر منها، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) عن رنَّقَ الطائرُ: إذا خفق بجناحيه في الهواء، وثبت ولم يطر، فرنَّقْتُ: أي تهيأتُ لذلك. انظر "لسان العرب" (رنق).

عبد الكريم بن محمد بن أبي فضل الأنصاري الحرستاني

وكذلك نبهت على محل المشايخ الذين أثنوا عليه بما يعرف به مَحَلَّهم الناظِرُ في هذه الترجمة والمتأمّل لها، ويعلم أنَّ الفَضْل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفَضْل العظيم، مع أنَّه لم يجتمع لأحدٍ من المناقب، وأسباب المحامد ما اجتمع لسيدنا الشيخ محيي الدِّين - رحمة الله عليه - من العِلْم والعمل والحسب، والمواهب الجسيمة، والنّعم المتتابعة، نفعنا الله ببركته، وحشرنا في زمرته، وأماتنا على محبته، فقد حُكي أن بعض محبيه حَلَفَ بالطَّلاق أن سيدنا الشيخ عبد القادر أفضل من أبي يزيد البِسْطامي رحمة الله عليه، ثمَّ استفتى علماءَ العراق، فكلٌّ منهم أحجم عن الجواب، فتحيَّر في أمره، فقيل له: عليك بالشيخ عبد القادر، فهو أخبر بذلك، فجاء إليه، وقصَّ عليه قِصَّته، فقال: وما الذي حملك على هذا؟ فقال: قد وقع ذلك، فَمُرْني ما أفعل؟ هل أفارق زوجتي أو أستمر على مضاجعتها؟ فقال: ضاجع زوجتك، فكلُّ ما وَصَلَ إليه أبو يزيد البِسْطامي وصلتُ إليه، وسبقتُه بفضيلة عِلْم الفُتْيا، وهو لم يفت، وتزوَّجْتُ ولم يتزوج، ورُزِقْتُ الأولاد. قلت: وسَيِّدنا أحقُّ النَّاسِ بقول المتنبي: [من الطويل] إذا علويٌّ لم يكن مثل طاهر ... فما هو إلا حجة للنواصب (¬1) [وفيها توفي] (¬2) عبد الكريم بن محمَّد بن أبي فضل الأنصاري الحرستاني (¬3) الشافعي] (¬4)، ولد سنة سبع عشرة وخمس مئة، وسافر إلى العراق وخراسان، وسمع الحديث وتفقه، واستنابه أبو سعد بن أبي عصرون بالزاوية الغربية بجامع دمشق [في التدريس] (4)، وضمَّ إليه المدرسة الأمينية، وكانت وفاته بدمشق في رمضان، [سمع أبا الحسن بن قُبيس وغيره] (4)، وكان صالحًا، ثقة. ¬

_ (¬1) "ديوانه": 1/ 284. قال الإمام الذهبي: ليس في كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثر من الشيخ عبد القادر، ولكن كثيرًا منها لا يصح، وفي بعض ذلك أشياء مستحيلة. . . وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه، والله الموعد، وبعض ذلك مكذوب عليه. "سير أعلام النبلاء": 20/ 450، 451. (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر"، المجلد 43/ 101. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن حيدر بن عبد الله

محمَّد بن حيدر بن عبد الله (¬1) أبو طاهر بن شعبان الشاعر البغدادي، ومن شعره: [من مجزوء الكامل] خُذْ بي على قَطَنٍ يمينا ... فعسى أُريك به القطينا حتى إذا طَلَعَتْ به ... أقمارُ رنَّحتِ الغُصونا يُخْلِفْنَ ميعادَ الوفا ... ءِ لنا ويَمطُلْنَ الدُّيونا ويقمن من تلك العيو ... نِ على خواطِرنا عُيُونا يا من تسمَّحَ للعوا ... ذلِ بي وكنتُ به ضنينا أحسنتُ ظني في هوا ... ك فلِمْ أسأت بي الظنونا مني تعلمت الحما ... م النوح والإبل الحنينا (¬2) وأنشد أصحابه قبيل موته لما احتضر: [من الطويل] خليليَّ هذا آخرُ العهد منكُمُ ... ومني فهل من مَوْعِدٍ نستجدُّهُ لأَنَّ أخاكم حلَّ في دار غُرْبةٍ ... يطولُ بها عن هذه الدَّارِ عَهْدُهُ فلا تعجَبُوا إذْ خَفَّ للبَينِ رَحْلُهُ ... وقد جَدَّ في إِثْر الأَحِبَّةِ جدُّهُ وقد أزمع المسكينُ عنكم ترحُّلًا ... فهل فيكُمُ من صادقٍ يستردُّه (¬3) محمّد بن الوزير يحيى (¬4) ابن هبيرة، عز الدين. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 219 - 266، و"المحمدون من الشعراء": 272 - 274، و"الوافي بالوفيات"، 3/ 32 - 34، و"فوات الوفيات": 3/ 245 - 347، و"النجوم الزاهرة": 5/ 372، ووفاته في "الوافي بالوفيات" و"فوات الوفيات": سنة 517 هـ، وهذا هو الصحيح فيما ذكر العلامة محمَّد بهجة الأثري في حاشيته على "الخريدة"، فقد ذكر العماد الكاتب أن عمر بن الواسطي الصفار ذكر له ببغداد في سنة 561 هـ أنَّه دخل وهو صغير على ابن حيدر في أيام المسترشد، وعنده جماعة يعودونه في مرضه الذي مات فيه، وخلافة المسترشد كانت بين سنتي 512 هـ - 529 هـ، فلعل سبط ابن الجوزي وهم، فظن تاريخ لقاء الواسطي بالعماد الكاتب هو تاريخ وفاته، والله أعلم. وفي "الخريدة" و "المحمدون" شُعَيْبان، وفي "النجوم الزاهرة": شعبان. (¬2) الأبيات في "الخريدة": 1/ 224 - 226. (¬3) الأبيات في "الخريدة": 1/ 223. (¬4) له ترجمة في "الخريدة"، قسم شعراء العراق: ج 2/ 100 - 101، و"الفخري": 316 - 317، و"المنتظم": 10/ 218، و"الوافي بالوفيات": 5/ 198 - 199، و"النجوم الزاهرة": 5/ 372.

السنة الثانية والستون وخمس مئة

كان فاضلًا، كبيرَ الشَّأن، عظيم القَدْر، ناب عن أبيه في الوزارة مُدَّة، ولما توفي الوزير أُخذ وحُبس في دار الخليفة، فَغُفِلَ عنه، فهرب إلى الجانب الغَرْبي من بغداد، وواعد بدويًّا كان صديقًا لأبيه أن يهرب به، فقال: ادخل جامع بلهيقا حتى أتجهَّز وآتيك. وجاء إلى أُستاذ الدَّار فأخبره بخبره، فبعث وأخذه، وضُرِبَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وأُلقي في مطمورة، [قال جدي في "المنتظم": فحدثني] (1) بعض الأتراك، وكان محبوسًا عندهم، أنهم صاحوا من فوق المطمورة: أين ابن الوزير؟ ودلُّوا له حبلًا، فتعلَّق به، وصَعِدَ، فمدُّوه، وجلس واحدٌ على رأسه، وآخر على رِجْليه، وخُنِقَ بحبلٍ، وأُخرج من دار الخليفة ميتًا، [وأما أخوه شرف الدين ظفر، فإنَّه أخرج من دار الخليفة ميتًا في صفر سنة اثنتين وستين وخمس مئة، فحمل إلى أبيه، فدفن عنده، وكانا من أجلاء الناس وأكابرهم] (1). السنة الثانية والستون وخمس مئة فيها تزوَّج المستنجد بابنة عمه أبي نصر بن المستظهر، ودَخَلَ بها في رجب ليلة الدعوة التي كان يعملها كل سنة للصُّوفية وغيرهم، وغنَّى المغني [في هذه الليلة] (¬1): [من الطويل] يقول رجالُ الحيِّ تطمعُ أن ترى ... محاسنَ ليلى مُتْ بداء المطامعِ وكيف ترى ليلى بعينٍ ترى بها ... سواها وما طَهَّرْتَها بالمدامعِ وتلتذُّ منها بالحديثِ وقد جرى ... حديثُ سواها في خروقِ المسامعِ وكان مع الصُّوفية رجل من أهل أصبهان، فقام قائمًا، وجعل يقول للمغني: أي خواجا جي كفت. والمغني يعيد الأبيات، فصاح، ووقع ميتًا، فصار ذلك الفرح مأتمًا، وبكى الخليفة والصُّوفية، ولا زالوا يتراقصون حوله إلى الصَّباح، وحملوه إلى الشُّونِيزيّة، فدفنوه بها. وفيها حشد شملة التركماني، وجاء ومعه صبيٌّ من أولاد السَّلْجوقية ليحاصر بغداد، فنزل البنْدَنيجين، وبعث الخليفةُ إليه العساكر، فنزلوا مقابله وبينهم النهر، فبعث ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الخليفةُ إليه يوسف الدِّمَشْقي، فوعظه وذكر [له] (1) ما يجب [عليه] (1) من طاعة الخليفة ووبَّخه، فرحل إلى هَمَذان، [فيقال: إن يوسف الدمشقي مات عنده، وقيل في السنة الآتية] (1). وفيها عاد أسد الدين شيركوه إلى مِصْر؛ وهي المرَّة الثَّانية، وسببه أنَّ العاضد كتب إلى نور الدين [محمود] (1) يستنجده على شاور، وأنه قد استبدَّ بالأمر، وظَلَمَ وسَفَك الدَّم، وكان في قلب نور الدين من شاور لأنَّه غدر بأسد الدين، واستنجد بالفرنج، فسار أسد الدِّين من دمشق منتصف ربيع الأَوَّل، ومعه [ابن أخيه] (1) صلاح الدين، فنزل الجِيزة غربي مصر على البحر، وكان شاور قد أعطى الفرنج الأموال [العظيمة] (1)، وأقطعهم الإقطاعات، وأنزلهم دُور القاهرة، وبنى لهم أسواقًا تخصُّهم، وكان مقدَّمهم الملك مُرِّي وابن بيرزان، فأقام أسد الدِّين على الجِيزة شهرين، وعدَّى إلى بَرِّ مِصْر والقاهرة في خامس عشرين جُمادى الآخرة، وأصْعَدَ إلى البابين، وخَرَجَ شاور والفرنج، ورتَّب العساكر، فجعل الفرنج في الميمنة مع ابن بيرزان، وعسكر مصر في المَيسرة، وأقام الملك مُرِّي في القلب في شوكة الفرنج والخيَّالة، ورتَّبَ أسدُ الدِّين عساكره، فجعل صلاح الدين في الميمنة، وفي الميسرة الأكراد، وأسد الدين في القلب، فحمل الملك مُرِّي على القلب فَتَعْتَعَهُ، وكانت أثقالُ المُسْلمين خلفه، فاشتغل الفرنج بالنَّهب، وحَمَل صلاحُ الدِّين على شاور فكسره، وفَرَّق جَمْعه، وعاد أسدُ الدِّين إلى صلاحِ الدين فحملا على الفرنج، فانهزموا، فقتلا منهم ألوفًا، وأسرا مئةً وسبعين فارسًا، وطلبوا القاهرة، فلو ساق أسدُ الدِّين خلفهم لملك القاهرة، وإنما عَدَل إلى الإسكندرية، فتلقَّاه أهلُها طائعين، فدخلها، وولَّى عليها [ابن أخيه] (1) صلاح الدين، فأقام بها، وسار أسدُ الدِّين إلى الصَّعيد، فاستولى عليه، وأقام يجمعُ أمواله [ويجبي خراجه] (¬1)، وخرج شاور والفرنج من القاهرة، فحصروا الإسكندرية أربعة أشهر، وأهلُها يقاتلون مع صلاح الدِّين، ويقوُّونه بالمال، وبلغ أسد الدين، فجمع عَرَبَ البلاد، وسار إلى الإسكندرية، فعاد شاور إلى القاهرة وراسل أسدَ الدِّين، وأعطاه إقطاعًا بمصر، وعَجَّل له مالًا، فعاد إلى الشَّام، وصلاح ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الدين معه، واعتذر إلى نور الدين بكثرة الفرنج والمال، ورأى صلاح الدين لأهل الإسكندرية ما فعلوا، فلما ملك أَحْسَنَ إليهم، [وسنذكره] (¬1). ثمَّ إنَّ الفرنج طلبوا من شاور أن يكون لهم شِحْنة بالقاهرة، ويكون أبوابها بأيدي فُرْسانهم، ويحمل إليهم في كلِّ سنة مئة ألف دينار، ومن سكن منهم بالقاهرة يبقى على حاله، ويعود بعض ملوكهم إلى السَّاحل، فأجابهم، وهذا كله تقرَّر والعاضد لا يعلم بشيء منه، وسار بعضُ الفرنج إلى السَّاحل. وكان نورُ الدِّين ينظر من سِتْرٍ رقيق، ويخاف على مِصْر من غَلَبة الفرنج عليها، فسار بعساكره إلى السَّاحل، ففتح المُنَيطِرة، وقلاعًا كثيرة، فخاف كلُّ مَنْ بمصر من الفرنج، فعادوا إلى السَّاحل، ثمَّ طمعوا في مِصْر، وعادوا إليها سنة أربع وستين [وخمس مئة] (1)، وسنذكره إنْ شاء الله تعالى. وفيها احترقت اللَّبَّادين وباب السَّاعات بدمشق حريقًا عظيمًا صار تاريخًا، وسببه أنَّ بعض الطَّبَّاخين أوقد نارًا عظيمة تحت قدر الهريسة ونام، فاحترق دُكَّانه، ولعبتِ النَّار في اللَّبَّادين، وتعدَّت إلى دورٍ كثيرة، ونُهِبَتْ أموالٌ عظيمة، وأقامت النَّار تلعبُ أيامًا كثيرة. وفيها قدم [أبو حامد محمّد بن محمّد الأصفهاني الملقب بالعماد الكاتب إلى] (¬2) دمشق، فأنزله القاضي كمال الدين الشَّهْرُزُوري بالمدرسة التي بناها نور الدين بنواحي باب الفرج [عند حمام القصير للشافعية] (1)، وهي تنسب إلى العماد، وإلى هلمَّ جَرَّا، ثمَّ ولاه إياها نُور الدِّين في سنة سبعٍ وستين [وخمس مئة] (1) بعد الفقيه ابن عبد، وكان بين العماد ونجم الدِّين أيوب وأسد الدين شيركوه معرفةٌ، لأنَّ عمه العزيز أحمد بن حامد اعتقله السُّلطان محمود [بن محمَّد بن محمَّد بن ملك شاه] (1) بقلعة تكريت لما كان نجم الدين واليها [وقد ذكرناه] (1) فانتسجت المودَّة بينهم من هناك، فلما قدم العماد دمشق بكَّرَ نجمُ الدين إلى زيارته بقصد تعظيمه بذلك، وكان صلاح الدين مع أسد الدين بمصر، فمدح العماد نجمَ الدِّين أيوب، فقال: [من البسيط] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (خ): وفيها قدم العماد الكاتب إلى دمشق، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن علي بن الزبير

يومُ النَّوى ليس من عُمْري بمحسوبِ ... ولا الفِراقُ إلى عَيشي بمنسوبِ ما اخترتُ بُعدَك لكنَّ الزمانَ أتى ... كَرْهًا بما ليس يا محبوبُ محبوبي أرجو إيابي إليكم ظافرًا عَجِلًا ... فقد ظَفِرْتُ بنجم الدِّين أيوبِ موفَّقُ الرأي ماضي العَزْم مرتفعٌ ... على الأعاجم طُرًّا والأعاريبِ أحبَّك الله إذْ لازمتَ سَجْدَتَهُ ... على جبينٍ بتاج الملك معصوبِ أخوك وابنكَ عِزًّا منهما اعتصما ... بالله والنَّصْر وعدٌ غيرُ مكذوبِ هما همامان في يومَيْ وغىً وقِرىً ... تعوَّدا ضربَ هامٍ أو عراقيبِ ليستقرَّ بمصر يوسفٌ وبه ... تَقَرُّ بعد التَّنائي عَينُ يعقوبِ ويلتقي يوسفٌ فيها بإخوته ... والله يَجْمَعُهُمْ من غير تَثْريبِ (¬1) وفيها توفي أحمد بن علي بن الزُّبير (¬2) القاضي الرَّشيد، أصله من أُسْوان، وسكن مِصْر، وكان من شعراء شاور وابنه الكامل، وله فيهما مدائح، إلا أنَّه لم ينجُ من شَرِّ شاور؛ اتهمه بمكاتبة أسد الدين، وأنه أعان عليه، فقتله، وله تصانيفُ حسان، منها كتاب "جِنان الجَنَان ورياض الأذهان" (¬3)، ذيَّل به "اليتيمة"، وكان قد دخل اليمن، وهو القائل: [من الطويل] تواصى على ظُلْمي الأنامُ بأَسْرهمْ ... وأظلمُ مَنْ لاقيتُ أهلي وجيراني لكلِّ امرئ شيطانُ جِنٍّ يكيده ... بسُوءٍ ولي دون الورى ألفُ شيطانِ (¬4) وقال يمدح طلائع بن رُزِّيك: [من مجزوء الكامل] جارى الملوكَ إلى العُلا ... لكنهم ناموا وأَسْرَى ¬

_ (¬1) الأبيات في "كتاب الروضتين": 2/ 17 - 18. (¬2) له ترجمة في: "معجم الأدباء": 4/ 51 - 66، و"خريدة القصر" قسم شعراء مصر: 1/ 200 - 202، و"الروضتين": 2/ 25، و"وفيات الأعيان": 1/ 160 - 164، و"الطالع السعيد": 98 - 102، و"الوافي بالوفيات": 7/ 220 - 225، و"شذرات الذهب": 4/ 197 - 203، "النجوم الزاهرة": 5/ 373 - 374. (¬3) كان في أربع مجلدات، ولما يصل إلينا. (¬4) البيتان في "الخريدة"، قسم شعراء مصر: 1/ 203.

الخضر بن شبل

سائِلْ به عَصَبَ النِّفا ... قِ غداةَ أمسى القوم أَسْرى قسمًا بمنْ طاف الحجيـ ... ــــج ببيته شُعْثًا وغُبْرا لولا طلائعُ لم نكن ... نرجو لمَيتِ المُلْكِ نَشْرا (¬1) [وفيها توفي] (¬2) الخضر بن شِبْل (¬3) ابن الحسين بن عبد الواحد، أبو البركات، [الدمشقي الشافعي، خطيب جامع دمشق، ومدرس الزاوية الغربية] (¬4)، ويعرف بابن عبد، كان عارفًا بالأُصولين والمذهب، نَزِهًا، عفيفًا، ذا مروءة ظاهرة، وكرم وافر، دَيِّنًا صالحًا، ثقة صدوقًا. ولد سنة ست وثمانين وأربع مئة، [وسمع شيوخ دمشق أبا القاسم النَّسيب، وأبا الحسن بن الموازيني، وأبا طاهر الحِنَّائي، وغيرهم، درس بالزاوية الغربية] (2) وبالمدرسة المجاهدية، ووقف عليه نور الدين مدرسته التي بباب الفرج، ومنه انتقلت إلى العماد الكاتب. ظَفَر بن الوزير (¬5) يحيى بن هُبَيرة، شَرَف الدِّين. ناب عن والده في الوزارة، قال العماد: قال لي ابنُ الوزير يومًا ببغداد: قد وازنتُ قصيدةَ مهيار التي أوَّلها: [من الرمل] بكَّر العارِضُ تحدوه النُّعامى ... وسُقِيتِ الغيثَ يا دارَ أُماما قال: فقلتُ: أَخْلَفَ الغَيثُ مواعيدَ الخُزامى ... فقفِ الأنضاء تستسقي الغَماما ¬

_ (¬1) الأبيات في المصدر السالف مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": 5/ 651 - 652 (وترجمته فيه من زيادات القاسم على تاريخ أبيه)، و "سير أعلام النبلاء": 20/ 592، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم شعراء العراق: 2/ 101 - 120، والأبيات فيه.

وأبحني ساعةً من عُمُري ... أملأ الدَّار شكاةً وغراما أصف الأشواق في (¬1) تلك الرُّبا ... وأعاطي التُّرْب رَشْفًا والتثاما يا ولاة الغَدْر ما دينُكُمُ ... أحرامٌ فيه أنْ تقضوا الذِّماما أنا مِنْ أَسْرِ الهوى في رِبْقةٍ ... حكمتْ للحرِّ فيها أن يُساما وطني حيثُ أناخَتْ عِيسُكُمْ ... ومقامي حيثما اخترتم مقاما ثمَّ قال لي: وازنها، فقلت: [من الرمل] خَطَرَتْ تحملُ من سَلْمى سلاما ... فانثنى يشكُرُ إنعام النُّعامى مُغْرمٌ هاجت جواه نَسْمَةٌ ... يا لها من نسمةٍ هاجتْ غراما نفحةٌ أذكت بقلبي لفحةً ... كلَّما هَبَّت له زادت ضِراما يا لأوطاري فقد أَنْشرها ... نشرها من بعد ما كانت رِماما ذكَّرت ريحُ الصَّبا روحي الصِّبا ... وزمانًا كنتُ بل كان غلاما ونديمًا ليَ لم أندمْ به ... يا رعاه الله من بين النَّدامى قال ما أطيبَ أيام الصِّبا ... قلتُ ما أطيَبَه لو كان داما أنْجِداني فبنجْدٍ أَرَبي ... حينَ غيري شامَ بالغَوْرِ الشآما وانشُرا عنديَ أخبار الحِمى ... فبأخبار الحِمَى قلبيَ هاما ناظري من دمعتي في شُغُلٍ ... فانظُرا عنيَ هاتِيكَ الخِياما عَلِّلاني بأحاديثهم ... فأحاديثُهمُ تَشْفي الأُواما هذه أطلالهم تشكو الظَّما ... فدعا الأَدْمُعَ تنهلُّ انسجاما وقفا نَسْتَسْقِ جَدْوى ظَفَرٍ ... فهو من بخَّلَ بالجود الغَماما من أبيات. وقد وازنها جماعةٌ، ولم يبلغ أحدٌ شأو مهيار في قوله: [من الرمل] حَمِّلوا ريح الصَّبا نَشْرَكُمُ ... قبل أن تحمل شيحًا وثماما وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... [إن أذنتم لجفوني أن تناما] (¬2) ¬

_ (¬1) في (ح): إلى، والمثبت من "الخريدة": 2/ 110. (¬2) ما بين حاصرتين من "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 117.

محمد بن الحسن

ولما مات الوزير عزمَ ظفر على الخروج من بغداد، فَقُبضَ عليه، وقُتل، وأُخرج ميتًا في صفر، فحمل إلى أبيه، فدفن عنده. محمَّد بن الحسن (¬1) ابن علي، أبو المعالي بن حَمْدُون، الكاتب، كان فاضلًا فصيحًا، وله اختصاصٌ بالمستنجد، يجتمع به ويذاكره، وولاه ديوان الزِّمام، وكان كريمَ الأخلاق، حَسَنَ العِشْرة، وكتابه "التذكرة" (¬2) كتابٌ نافع، وتوفِّي في ذي القَعْدة، ودُفِنَ بمقابر قريش، وكان صدوقًا ثِقَةً. الموفق بن أحمد (¬3) ابن محمَّد الخُوارَزْمي، أبو المؤَيَّد، خطيب خوارزم، قدم بغداد حاجًّا سنة نيف وأربعين، وعاد إلى خوارزم، فتوفي بها، ولما حَجَّ رأى الخدم يُلْبِسُون الكعبة السِّجاف، فقال: [من البسيط] أملبسَ البيت أستارًا ظواهرها ... تبلى كما بليت يومًا بواطنُها الله ألبسه من فَضْلِه خِلَعًا ... يبلى الزمان (¬4) ولا تبلى محاسنها (¬5) يحيى بن عبد الله (¬6) ابن القاسم، تاج الدِّين الشَّهْرُزوري. كان فاضلًا شاعرًا، وكانت وفاته بالموصل، ومن شعره يوازن قصيدة مهيار التي يقول فيها: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 221 - 222، و "الخريدة"، قسم شعراء العراق: 2/ 184، و"وفيات الأعيان": 4/ 380 - 382، و"الوافي بالوفيات": 2/ 357، و"فوات الوفيات": 3/ 323 - 324، و"النجوم الزاهرة": 5/ 374، و"شذرات الذهب": 4/ 206. (¬2) حققه د. إحسان عباس، ونشرته دار صادر في بيروت سنة 1996. (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم "شعراء أصبهان": 2/ 173 - 174 وفيه توفي بعد الستين. و"إنباه الرواة": 3/ 332، و"العقد الثمين": 7/ 310 - 311، و"الجواهر المضية": 3/ 523، و"بغية الوعاة": 2/ 308، وفيها وفاته سنة (568 هـ). (¬4) في النسخة الخطية لا تقرأ، وأثبتها من إحدى نسخ "الخريدة". (¬5) البيتان في "الخريدة" مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬6) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم "شعراء الشام": 2/ 340 - 342 وفيه توفي سنة 566 هـ، و"وفيات الأعيان": 4/ 245 وفيه أنَّه توفي سنة 556 هـ، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 333، وفيه توفي سنة 556 هـ.

علي بن أبي سعد

وعَطِّلْ كُؤوسك إلا الكبار ... تجد للصِّغار أُناسًا صِغارا (¬1) فقال يحيى: [من المتقارب] وَسَقِّ الندامى عقيقيَّةً ... تضيءُ فَتَحْسَبُ في الكأسِ نارا تدور المسرَّة مَعْ كاسها ... وتتبعُه حيث ما الكاسُ دارا ولا عيبَ فيها سوى أنَّها ... متى عَرَّسَتْ بحمى الهمِّ سارا ستلقى ليالي الهموم الطِّوال ... فبادِرْ ليالي السُّرور القِصارا [فصل وفيها توفي علي بن أبي سعد (¬2) الأَزَجي، الخَبَّاز، من باب الأَزَج. ولد سنة خمس وثمانين وأربع مئة، وسمع الحديث، وتوفي في شعبان. وسمع أبا القاسم بن الحُصَين وغيره، وروى عنه أشياخنا، وكان ثقة، وهو الذي روى عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: لما أخرج الله آدم من الجنة بكى عليه كل شيء إلا الذهب والفضة. الحديث (¬3). وهذا الشيخ هو خال يحيى بن بَوْش] (¬4). السنة الثالثة والستون وخمس مئة [ذكر جدي في "المنتظم" أن الورد ببغداد ابتاع في هذه السنة مئة] (¬5) رطل بقيراط وحبة. [وقال غيره: وفي هذه السنة] (¬6) زاد ظلم أبي جعفر بن البلدي وزير الخليفة ومصادراته للكتَّاب والعُمَّال، وتتبّعه لأولاد ابن هُبيرة وابن رئيس الرُّؤساء وغيرهم ¬

_ (¬1) ديوان مهيار: 1/ 350. (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 221. (¬3) هو موضوع لا أصل له، انظر الفردوس للديلمي: 3/ 424، الموضوعات للفُتَّني: 161، وكنز العمال 3/ 240، وساقه أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقات الصوفية": 270 - 271 من كلام أبي العباس بن عطاء الآدمي المتوفى سنة (309 هـ) أو (311 هـ). (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ح): فيها بيع الورد ببغداد مئة رطل بقيراط وحبة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م). (¬6) ما بين حاصرتين من (م).

خوفًا من التقدُّم، فساءتِ السُّمْعة وقَبُحَتِ السِّيرة، وتجبَّر تجبرًا زائدًا، ولبَّس على الخليفة [وتتبع من يقع إليه بما لا يريد، ] (¬1) ولم يجد مانعًا يمنعه، ولا صادًّا يصدُّه، فاستغاثَ النَّاسُ منه إلى الله، ودعوا عليه، فأخذه الله أَخْذَ عزيزٍ مقتدر، فسلَّط عليه الحُمَّى المحرقة، وعسر البول والحصى، فكان يستغيث الليلَ والنَّهار، فلا يُغاث، ويداوى بأنواع الأدوية فلا تنجع [فيه] (1)، فقال بعضُهم: [من المنسرح] قالوا أبو جعفر يبول الحصى ... وليس يدرون فيه ما السِّرُّ فقلتُ هذا مما يدلكُمُ ... فيه على أنَّ وَجْهَه صَخْرُ وفيها قطع نورُ الدين الفرات، واستولى على الجزيرة والرُّها، وعاد إلى مَنْبِج، وبها يَنَال بن حَسَّان، فأخذها منه، ثمَّ أعاده إليها، فقال العماد الكاتب: [من الكامل] أدركتَ من أمر الزَّمانِ المُشْتهى ... وَبَلغْتَ من نيل الأماني المُنْتهى لا زِلتَ نورَ الدين في فَلك العُلى ... ذا غُرَّةٍ للعالمين بها البها كلُّ الأُمور وَهَتْ وأمرك مُبْرَمٌ ... مُسْتَحْكِمٌ لا نَقْضَ فيه ولا وَهَا ما صِينَ عنك الصِّينُ لو حاوَلْتَهُ ... والمَشْرِقانِ فكيفَ منْبج والرُّها يا محييَ العَدْلِ الذي في ظِلِّه ... من عَدْله رعَتِ الأُسودُ مع المَهَا محمودٌ المحمودُ مَنْ أيَّامُهُ ... لبهائها ضحكَ الزَّمانُ وقَهْقها ما للملوكِ لدى بهائك رَوْنَقٌ ... وإذا بدَتْ شَمْسُ الضُّحى خَفي السُّها أَتْعَبْتَ نَفْسك كي تنال رفاهةً ... مَنْ ليس يتعب لا يعيش مُرَفَّها ولك الفَخَارُ على الملوكِ ودونَهُمْ ... أصبحتَ من كلِّ العيوب مُنَزَّها وفيها فوض نور الدين أمر الرُّبُط والزَّوايا والأوقاف بدمشق وحماة وحمص وبَعْلَبكّ وغيرها إلى شيخ الشيوخ أبي الفتح عمر بن علي بن محمَّد بن حَمُّويه، وكَتَبَ له العماد منشورًا، [وذكره في "البرق الشامي"] (¬2). وفيها سَلَّمَ زينُ الدين علي كوجك المَوْصِل وبلادها إلى قُطْب الدِّين، وأخذ إرْبل، ومضى إليها، فتوفي بها، وولَّى قطبُ الدِّين المَوْصل مملوكَه فخر الدِّين عبد المسيح، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) سنا البرق الشامي: 1/ 135 - 136، وما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ظافر بن القاسم

فأساء السِّيرة [وسلك غير طريق زين الدَّين] (¬1)، فكرهه الناس، فلم تطل أيامه، [وسنذكره في سنة ست وستين وخمس مئة] (1). وفيها توفِّي ظافر بن القاسم (¬2) أبو منصور، الإسكندراني. شاعر فاضل، ويقال له الحَدَّاد، قال يمدح قاضي الإسكندرية ويهنئه بشهر رمضان: [من مجزوء الكامل] شهرُ الصِّيام بك المهنَّا ... إذْ كان يُشْبه منك فنَّا ما سار حولًا كاملًا ... إلا ليسرق منك معنى وينالَ منك كما ننا ... لُ ويستفيدَ كما استفدنا بهرتْ محاسِنُك الورى ... فأعادتِ الفُصَحاءَ لُكْنا والفَضْل أعظم بعضُ وصـ ... ـــفِكَ فهو غايةُ ما وَجَدْنا إنَّ الَّذي صَدَح الحما ... مُ به ثناؤك حين غَنَّى فتهَنَّ شهرك واستزدْ ... بقدومه سَعْدًا ويُمْنا فمكانُهُ من عامِهِ ... كمكانِكَ المحروسِ مِنَّا (¬3) وقال: [من الوافر] هي الدُّنيا فلا يَحْزُنْك ... منها ولا من أَهلها سَفَهٌ وعابُ أتطلبُ جيفةً لتنال منها ... وتُنْكر أَنْ تُهارِشَكَ الكلابُ (¬4) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "معجم الأدباء": 12/ 27 - 33، و"الخريدة"، قسم "شعراء مصر": 2/ 1 - 17، و"وفيات الأعيان": 2/ 540 - 543، و"الوافي بالوفيات": 16/ 521 - 528، و"سير أعلام النبلاء": 19/ 597، وفيه تتمة مصادر ترجمته، ووفاته عندهم سنة 529 هـ، ما عدا الوافي فذكر أنَّه توفي سنة 525 هـ، وقد تابع السبط في ذكره بوفيات هذه السنة ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 5/ 376 - 377. (¬3) الأبيات في "الخريدة": 2/ 5 - 6. (¬4) البيتان في "الخريدة": 2/ 8.

عبد الرحيم بن رستم

وأحضره الأمير ابن ظفر والي الإسكندرية ليَبْردَ له خاتمًا قد ضاق في خِنْصَره، فقال: [من السريع] قَصَّر في أوصافك العالمُ ... فاعْتَرَفَ النَّاثر والنَّاظِمُ مَنْ يكنِ البحرُ له راحةً ... يضيقُ عن خِنْصَرِهِ الخاتَمُ (¬1) ودخل يومًا على الأمير، وفي حجره غزالٌ مستأنس، فقال له بعض الحاضرين: قل فيه شيئًا. فقال بديهًا: [من المتقارب] عجبتُ لجرأة هذا الغزالِ ... وأمرٍ تهيَّا له واعتمدْ وأعجبْ به إذْ بدا جاثمًا ... فكيف اطمأنَّ وأنتَ الأَسَدْ فأمر له بعطاء (¬2). وكان على بابِ الأمير شِباكًا تمنع العصافير، فقال له ممتحنًا: قُلْ فيها شيئًا، فقال: [من المتقارب] رأيتُ ببابك هذا المنيفِ ... شِباكًا تُحيِّر مَنْ قد شَبَكْ وفكَّرْتُ فيما جرى لي فقلتُ ... مكانَ البحورِ يكونُ الشَّبَكْ (2) وقال: [من الطويل] ألا رُبَّ من يلقاك في زِيِّ ناسكٍ ... كسُفْيانٍ الثَّوريّ وابنِ عياضِ يميلُ على مالِ الأنامِ كأنَّه ... فريسةُ صيدٍ وهو ليثُ غياضِ فيا مَنْ يرى أنَّ الرِّياءَ وسيلةٌ ... تَنَبَّهْ فما الرَّحمنُ عنكَ براضِ وقيل: هي لغيره. عبد الرَّحيم بن رُسْتم (¬3) أبو الفضائل الزَّنْجاني الشَّافعي، [قاضي بعلبك، تفقه ببغداد على أبي منصور الرَّزَّاز، وقدم] (¬4) دمشق سنة تسع وثلاثين، ودرس بالزَّاوية الغربية في الجامع، ¬

_ (¬1) البيتان في "الخريدة": 2/ 15. (¬2) البيتان في "الخريدة": 2/ 15 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬3) له ترجمة في "طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 158 - 159، و"طبقات الإِسنوي": 2/ 8، و"الدارس": 1/ 418، وقد أحالوا في ترجمته على "تاريخ ابن عساكر"، ولم أجدها في المطبوع منه. (¬4) ما بين حاصرتين من (م).

عبد القاهر بن محمد

وبالمدرسة المجاهدية، وكان فاضلًا، ولاه نورُ الدِّين قضاء بَعْلَبَكَّ، فأقام بها مُدَّة، وقُتِلَ بها، فَحُمِلَ إلى قاسيون، فدفن به. عبد القاهر بن محمد (¬1) ابن عبد الله بن محمد بن عبد الله عمُّويه (¬2). وقال ابنُ عساكر: عبد القاهر بن عبد اللهَ بن محمد بن عبد الله بن سَعْد بن الحسين بن القاسم بن النَّضْر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدِّيق رضوان الله عليه، أبو النَّجيب البغدادي السُّهْرَورْدِي، الفقيه الواعظ، الصُّوفي (¬3). وقال ابنُ السَّمْعاني: عبد القاهر بن عبد الله بن محمَّد بن عَمُّويه، وهو عبد الله بن سَعْد بن الحسن بن القاسم بن علقمة بن النَّضر بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق (¬4). وقال محمد بن القادسي: كان من ولد الأمير حسنويه الكُرْدي، ولم يكن بكريًّا، والله أعلم، نزل بغداد، وتفقَّه في النِّظامية زمانًا، ثم هَبَّ عليه نسيم الإقبال والتوفيق، فدلَّه على الطريق، فانقطع عن النَّاس مدة مديدة، ثم رجع، ودعا الخَلْقَ إلى الله تعالى، فرجع جماعةٌ كبيرة بسببه إلى الله تعالى، وأنشد: [من الكامل] يا سادةً عمروا بقلبي منزلًا ... يتعوَّضون به عن الجُدْرانِ فتجمَّلوا ما دمتمُ سُكَّانه ... فعمارةُ الأوطان بالسكان وتعجبوا من شجو قَلْبِ المُبْتلى ... سبحانَ من عافاكمُ وبلاني وقال ابنُ عساكر: قدم بغداد وهو شابٌّ، وسمع بها الحديث وتفقَّه، ثم اشتغل بالزُّهد والمجاهدة حتَّى كان يستقي (¬5) الماء ببغداد بالقربة، ويأكل من كَسْب يده، ثم ¬

_ (¬1) كذا في (ح)، وكأنه نسبه إلى جده، والذي في مصادر ترجمته "عبد القاهر بن عبد الله". (¬2) له ترجمة في "الأنساب": 7/ 197، و"تاريخ ابن عساكر": مج 43/ 71 - 72، و"المنتظم": 10/ 225، و"تاريخ إربل": ق 1/ 107، و"وفيات الأعيان": 3/ 204 - 205، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 475، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) "تاريخ ابن عساكر"": مج 43/ 71. (¬4) "الأنساب" للسمعاني: 7/ 197. (¬5) في (ح): لا يستقي، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر".

عبد الكريم بن محمد

وَعَظَ، وحصل له القَبُول، وولي مدرسة النِّظامية، وقدم دمشق سنة ثمانٍ (¬1) وخمسين، ووعظ بها وحدَّث، وعاد إلى بغداد، وعاد عازمًا على زيارة القُدْس، فلم يتفق لانفساخ الهُدْنة بين المسلمين والفرنج، وأكرمه نورُ الدِّين، وأقام بدمشق مُدَّةً يسيرة، ووعَظَ بها وحدَّث، وعاد إلى بغداد (¬2). وقال: ولدتُ بسُهْرَوَرْد سنة تسعين وأربع مئة، وتوفي ليلة السبت ثامن عشر جُمادى الأُولى (¬3). عبد الكريم بن محمَّد (¬4) ابن عبد الجبار، أبو سَعْد بن السَّمْعاني التَّميمي. ولد بمرو في شعبان سنة ست وخمس مئة، ورحل إلى البلاد، وسمع الحديث، ودخل بغداد سنة اثنتين وثلاثين (¬5)، وذَيَّل على تاريخ الخطيب، وكان يتعصَّب على مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، ويبالغ، وطَعَنَ في جماعةٍ من أصحابه، فشفى غيظه في كتابه بما لا معنى له، فلم يُرْزق نشره لسوء قصده، فتوفي وما بلغ الأمل، ولو أن متتبِّعًا يتبَّع ما في كتابه من الأغاليط والأنساب المختلطة، ووفاة قوم هم في الحياة، لأخرج كثيرًا من الغلط، غير أنَّ الزَّمان أشرف من أن يضيع في مثل هذا، وكان مموَّهًا؛ فكان يأخذ الشيخ البغدادي، فيقعده فوق نهر عيسى، ويقرأ عليه، ويقول: حدثني فلان من وراء هذا النهر، ويأخذ آخر، ويقعده في رقة بغداد، ويسمع عليه، ويقول: حدَّثني فلان بالرَّقة، في أشياء من هذا الفن كثيرة. ولما قدم ابن السمعاني دمشق نَزَلَ على ابنِ عساكر، وكان بينهما مؤانسة، قال ابنُ عساو: ثم عاد من دمشق إلى بغداد فسمع تاريخ الخطيب وذَيَّله، وعاد إلى خُراسان، ¬

_ (¬1) في (ح): ثلاث، وهو تحريف، والمثبت من "تاريخ ابن عساكر". (¬2) "تاريخ ابن عساكر": مج 43/ 73. (¬3) في مصادر ترجمته: جمادى الآخرة. (¬4) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": مج 43/ 101 - 103، و"المنتظم": 10/ 224 - 225، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 456 - 465، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬5) في (ح): اثنتين وثمانين، وهو تحريف، والمثبت من "المنتظم".

علي بن بكتكين

وعبر النهر، وحدَّث ببَلْخ دهرًا، وصنَّف كتابًا سَمَّاه "فرط الغرام إلى ساكني الشَّام"، وأرسل به إلى دمشق، وهو بخطِّه في ثمانية أجزاء تشتمل على أخبار وحكايات، وكتبَ كتابًا بخطِّه فيه: [من المتقارب] نسيمَ صَبا الوَجْد بَلِّغْ سلامي ... إلى ساكني أرضِ نجدٍ وشامِ زمانًا نعِمْنا بروضاتِ عَيشٍ ... سَقَتْها الغوادي دموعَ الغَمَام فماذا عليهم إذا ما قنعنا ... برَجْعِ التَّحايا وَرَدِّ السَّلام (¬1) ومات بمرو في ربيع الأول -أو الآخر- سنة اثنتين وستين وخمس مئة، وغير ابن عساكر يقول في هذه السنة. قال المصنف رحمه الله: وقد ذيل أبو عبد الله محمد بن سعيد بن يحيى الدُّبيثي على ذيل بن السمعاني. عليُّ بن بُكتِكين (¬2) زين الدِّين كوجك، التركي. [وهو الَّذي حاصر بغداد مع محمَّد شاه وكان قصيرًا جدًّا فلذلك سمي كوجك، وكان] (¬3) حاكمًا على المَوْصل وغيرها، عادلًا، حسنَ السيرة، كثير الأمانة، محافظًا على الأيمان والعهود، قليل الغدر، متجاوزًا عن الزلَّات، ميمون النَّقيبة، لم يُكْسر جيشق هو فيه، وكان بخيلًا، ثم إنه جادَ في آخر عمره، وبنى المدارس والرُّبُط والقناطر والجسور، وحكى أنَّ بعض الجند جاءه بذنب فرس، وقال: مات فرسي، فأعطاه، وأخذ ذلك الذنب، وجاءه آخر، وقال: مات فرسي، فأعطاه فرسًا، ولا زال يَتَدَاوَل ذلك الذنب اثنا عشر رجلًا وهو يعلم أَنَّه الأَوَّل، ويعطيهم الخيل، فلما أضجروه أنشد: [من الكامل] ليس الغبي بسيِّدٍ في قومه ... لكنَّ سيد قَوْمِهِ المتغابي (¬4) ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن عساكر": مج 43/ 102 - 103. (¬2) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 4/ 114، و"الروضتين": 2/ 38 - 41، وأخباره مبثوثة في تواريخ ذلك العصر. (¬3) في (ح): وغيرها، وكان قصيرًا جدًّا عادلًا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) البيت لأبي تمام، وهو في ديوانه بشرح الخطيب التبريزي: 1/ 87.

محمد بن إسحاق

فعرفوا أنَّه قد علم، فلم يرجعوا إليه، ولما كبر طرش وقَلَّ نظره، فسلَّم البلاد إلى قُطْب الدِّين، وقال: إنك لا تنتفع بي، فقد كبرت وهرمت، وضَعُفَتْ قوَّتي، وخانني سمعي وبصري. وكانت إرْبل له، أعطاه إياها أتابك زَنْكي، فمضى إليها، وأقام بها حتَّى توفي في ذي الحِجَّة، وكانت أيامه على المَوْصِل إحدى وعشرين سنة ونصفًا، ولم يخلف شيئًا لأَنَّه أنفقه في أبواب البر [والصدقات] (1) ولما توفي كان الحاكمُ بإرْبل خادِمَهُ مجاهد الدين قيماز، وملك بعده ولده زين الدين يوسف بن علي، ثم [ملك بعده] (1) مظفر الدين كُوكُبُوري [بن زين الذين، وسنذكره] (¬1). محمَّد بن إسحاق (¬2) ابن محمَّد بن هلال الصَّابي، من ولد غرس النعمة صاحب التاريخ. ولد سنة إحدى وثمانين وأربع مئة، وولي ديوان الزّمام للمقتدي، وله ترسُّلٌ وكلامٌ فصيح، وهو من بيت الفَضْل والرياسة والكتابة، وتوفي في بغداد في شوال، وكان ثِقَةً. محمد بن (¬3) عبد الحميد (¬4) أبو الفَتْح، علاء الدِّين الرَّازي، العالم السَّمَرْقندي، صاحب "التعليقة" و"المعترض والمختلف" على مذهب أبي حنيفة. وكان من فُرسان الكلام، قدم بغداد، وناظر وبَرَعَ، وفاق أهلها، وكان شحيحًا بكلامه، فكانوا يوردون عليه أسئلة وهو عالم بأجوبتها، فيكاد ينقطع ولا يذكرها لأحد لئلا تستفاد منه، وقيل: إنَّه تنسَّك، وتَرَكَ المناظرة، واشتغل بالخير إلى أن مات. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 2/ 191. (¬3) له ترجمة في "الأنساب": 1/ 255، 256، و"المنتظم": 10/ 226، و"الوافي بالوفيات": 3/ 218، "معجم البلدان": 1/ 189، "لسان الميزان " 5/ 243، "الجواهر المضية": 3/ 208 - 209، "تاج التراجم": 193 - 194، "طبقات المفسرين" للداودي: 2/ 177، "الفوائد البهية": 176 وفي الوافي والجواهر وتاج التراجم والداودي وفاته سنة (552 هـ). (¬4) في (ح) عبد المجيد، وهو تحريف، والمثبت من مصادر ترجمته.

هبة الله بن الحسن

هبة الله بن الحسن (¬1) ابن هبة الله، أبو الحسين الدمشقي، [أخو الحافظ ابن عساكر، وكان هبةُ الله أسنَّ من الحافظ] (2). ولد سنة ثمانٍ وثمانين وأربع مئة، وسافر إلى بغداد، [وتفقه على أسعد المِيهني، وسمع من أصحاب التنوخي والبرمكي وغيرهما، وتفقه بالشام أيضًا على الفقيه نصر] (2) ودرس بالزَّاوية الغربية بجامع دمشق، وبالمدرسة الأمينية، وسمع منه أخوه الحافظ ابن عساكر، وكان غزير العِلْم، كبير القدر، [وكان] (¬2) يَفْضُلُ على أخيه، وتوفي بدمشق. هبة الله بن محفوظ (¬3) ابن الحسن أبو الغنائم، ابن صَصْرى، الدِّمَشْقي، التَّغلبي. قَبِلَ القُضاة قوله وله عشرون سنة، وسمع الحديث الكثير، وكانت وفاته بدمشق، ودفن بباب توما عند أهله. [سمع شيوخ الشام، أبا محمد بن طاوس وطبقته، وتفقه على أبي الحسن السُّلَمي] (2) وكان صالحًا، متصدِّقًا، دَيِّنًا، ثِقَةً. فصل: وفيها توفي يوسف بن عبد الله (¬4) ابنُ بُنْدار، الدِّمشقي الكبير. تفقَّه ببغداد على أسعد المِيهَني، وبرع في المناظرة، ودرَّس بالنِّظامية وبغيرها، وكان كبير القَدْر، بعثه المستنجد إلى شملة التركماني رسولًا، فمات هناك في شوال. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم شعراء الشام: 1/ 281، "وفيات الأعيان": 3/ 311، "سير أعلام النبلاء": 20/ 495 - 496، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "طبقات الشافعية": للإسنوي: 2/ 143 - 144 نقلًا عن "تاريخ ابن عساكر"، وترجمته فيه في القسم المخروم من النسخة التي بين يدي. (¬4) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 226، و"الكامل": 11/ 33، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 513 - 514، و"طبقات الشافعية": للإسنوي: 1/ 540 - 541، البداية والنهاية (وفيات سنة 563 هـ)، وانظر ج 20/ 406، من هذا الكتاب.

السنة الرابعة والستون وخمس مئة

وله واقعات عجيبة ببغداد حكاها أشياخنا، منها أنَّه كانت له بغلة حرون، ركبها يومًا، فدخلت به في درب لا تنفذ، وكان يوسف قصيرًا مدورًا بعمامة كبيرة وثوب واسع الكمين، فجعل يضرب البغلة وهي تحتك بالحائط ولا تزول من مكانها، فقال: فَعَل الله بالغلام وصنع، كم أقول له: استعمل هذه البغلة تحت الرَّاوية حتَّى تلين آذانها، وهو لا يقبل. وهناك امرأة مُطِلَّةٌ من روزنة، فقالت له: يا فقيه، فذي ما تحمل دلو، فكيف تحمل راوية؟ ! فخجل، ونزل من عليها، وساقها بين يديه. ومنها: أنَّه اجتاز يومًا بمحلة قَرَاح أبي الشَّحم، فنبحته كلاهما، فقال: قبَّح الله كلاب هذه المحلَّة، فما أكثرها وأضراها! فقالت امرأة من طاقة: نعم، وكلهم اليوم غرباء. ومنها أنَّه اجتاز على جماعة، فسلَّم عليهم، فلم ينصفوه، فقال لغلامه: ما ترى هؤلاء التيوس؟ فقال واحد منهم: الله يحفظك يا أبانا. ومن هذا شيء كثير. السنة الرَّابعة والستون وخمس مئة في المحرَّم ملك نورُ الدِّين محمود قلعة جَعْبر، خرج صاحبها ابنُ مالك العُقَيلي يتصيَّد، فأخذه بنو كلب، وذهبوا به إلى نور الدين، فأحسن إليه وأكرمه، وقال: أنتَ عاجز عن حِفْظها، فاخترْ مهما شِئْتَ من الإقطاعات والبلاد. فامتنع، فأرسل إليها نور الدين فخر الدين مسعود بن الزَّعفراني ومجد الدِّين بن الدَّاية، فحاصراها، فلم يقدرا عليها، ثم إن صاحبها طلب من نور الدين سَرُوج وأعمالها ومالًا، فأعطاه وتسلمها. وهذه القلعة ما زالت في يد بني مالك من أيام السُّلْطان ملك شاه إلى هذه السنة، وبلغ نور الدين أنهم كان لهم رجال يقطعون الطريق. وفي صفر خرج الفرنج من عَسْقلان والسَّاحل طالبين الدِّيار المِصْرية، فنزلوا [على] (¬1) بِلْبِيس، وأغاروا على الرِّيف، فقتلوا وأسروا، فأخرج شاور مَنْ كان بالقاهرة من الفرنج، وقَتَلَ البعض وهرب الباقون، وأمر شاور أهل مصر بأن ينتقلوا إلى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

القاهرة، وأحرق مِصر، وسار الفرنج [من] (¬1) بِلبْيس، فنزلوا على القاهرة في تاسع صفر، وضايقوها، وضربوها بالمجانيق، فلم يجد شاور بُدًّا أن كاتب نورَ الدين بأمر العاضد، وكان الفرنج لما وصلوا إلى مصر في المرَّتين الأوليين اطَّلعوا على عوراتها، وطمعوا فيها، وعلم نور الدين، فاسترجع وخاف عليها، وجاءته كُتُبُ العاضد وشاور فقال نور الدين لأسد الدين: خُذِ العساكر وتوجَّه إليها، وقال لصلاح الدين: اخرج معه. فامتنع، وقال: يا مولانا ما يكفي ما لقينا من الشَّدائد! فقال: لابُدَّ من خروجك. فما أمكنه مخالفة نور الدين. فساروا إلى مِصْر، وبلغ الفرنج، فرجعوا إلى السَّاحل، وقيل: إنَّ شاور أعطاهم مئة ألف دينار، وجاء أسد الدين فنزل على باب القاهرة، فاستدعاه العاضد إلى القَصْر، وخلع عليه في الإيوان خِلَع الوزارة، وسُرَّ أهل مصر بوصوله. وقيل: إنَّه لم يستدعه، وإنما بعث إليه بالخِلَع والأموال والإقامات وللأمراء الذين معه، وأقام مكانه وأربابُ الدَّولة يتردَّدون إلى خِدْمته كلَّ يوم، ولم يقدر شاور على منعهم لكثرة العساكر وكون العاضد مائلًا إلى أسد الدين، فكاتَبَ الفرنج، واستدعاهم، وقال: يكون مجيئكم إلى دمياط في البحر والبر. وبلغ أعيانَ دولة المِصْريين، فاجتمعوا عند أسد الدين، وقالوا: شاور [هو] (1) فساد العباد والبلاد، وقد كاتَبَ الفرنج، وهو يكون سبب هلاك الإسلام. ثم إنَّ شاور خاف لما تأخَّر وصول الفرنج، [فشرع] (¬2) في عمل دعوة لأسد الدِّين والأُمراءِ ويقبضهم، فنهاه ابنه الكامل، وقال: واللهِ لئن لم تنته عن هذا الأمر لأعرِّفن أسد الدين. فقال له شاور: والله لئن لم أفعل هذا لنُقتلن كلنا. فقال: [له ابنه] (1): لأن نقتل والبلاد بيد المسلمين خيرٌ من أن نُقْتَلَ والبلاد بيد الفرنج. وكان شاور قد شَرَطَ لأسد الدين ثُلُثَ البلاد، فأرسل [أسد الدين] (1) يطلب منه المال، فجعل يتعلَّل ويماطل وينتظر وصولَ الفرنج إلى البلاد، فقتلوه، وسنذكره [في موضعه] (1) إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): فعمل، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ولما قُتِلَ بَعَثَ العاضد منشورًا بالوزارة لأسد الدِّين بخطِّ الفاضل، وعليه بخطِّ العاضد ما صورته: هذا عهدٌ لم يعهد إلى وزيرٍ بمثله، فتقفَد ما أراك الله أهلًا بحمله، وخُذْ كتابَ أمير المؤمنين بقوَّة، واسحَبْ ذيل الافتخار بأنِ اعْتَرف بخدمتك بيتُ النُّبوة، والتزمْ حقَّ الأمانة تجدْ إلى الفوز سبيلًا {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]. وأرسل العاضد نسخةَ الأَيمان إلى أسد الدين، وحَلَفَ كلُّ واحدٍ منهما لصاحبه على الوفاء والطَّاعة والصَّفاء، فتصرَّف أسدُ الدين شهرين ومات، ولما احْتُضر أوصى إلى ابنِ أخيه صلاح الدين، فاختلف عليه جماعةٌ من الأُمراء عقيب وفاةِ أسد الدين، وبلغ نورَ الدينْ اتِّفاقُ الأمراء على صلاح الدين، فقال له الملك المُعَظَم تورانشاه بن أيوب، وكان أسنَّ من صلاح الدِّين: يا مولانا أريد أن أسير إلى أخي. فقال له: إنْ كنتَ تسير على مِصْر وترى يوسف أخاك بعين أنَّه كان يقف في خدمتك وأنت قاعد فلا تسير، فإنك تفسد العباد والبلاد، فتحوجني إلى عقوبتك بما تستحقه، وإن كنتَ تسير إليه، وترى أنَّه قائم مقامي، وتخدمه كما تخدمني، وإلا فلا تذهب إليه. فقال: يا مولانا سوف يبلغك ما أفعل من الخدمة والطَّاعة. وسار إلى مصر، فتلفاه صلاحُ الدين من بِلْبِيس وخدمه، وقدَّم له المال والخيل والتُّحف، وأقام على أحسن حال، وفعل ما ضمن لنور الدين. وكان للعاضد خادمٌ يقال له مؤتمن الخلافة، وكان مُقَدَّم السُّودان والخدم، والمشار إليه في القَصْر، فأمر بقتال الغُزِّ، واتَّفق العسكر المِصْري مع الخادم وثاروا على الغُزِّ، فقتلوا منهم جماعة، فركب صلاح الدِّين وشمس الدولة، ودخلا إلى باب القصر، وأبلى شمس الدولة بلاءً حسنًا، وقتل الخادمَ وجماعة من السودان، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين يتعتَّب عليه، ويقول: فأين أمانتُكُم؟ هذا الخادم جاهل، فَعَلَ ما فعل بغير أمرنا. فقال صلاحُ الدين: نحن على الأَيمان والعهود ما نتغير، وما قتلنا إلا مَنْ قَصَدَ قتلنا.

أبق بن محمد

وفيها توفي [صاحب دمشق] (¬1) أبق بن محمّد (¬2) ابن بوري بن أتابك طُغْتكين؛ مجير الدِّين، وهو آخر ولد طغتكين، وكان لطغتكين تاجُ الملوك بوري، فولد بوري إسماعيل ومحمود ومحمد، ولما ماتَ بوري ملك بعده ولده إسماعيل، فَقُتِلَ لفساده، وولي بعده أخوه محمود. فقتل، فولي بعده أخوه محمد، فمات، فولي بعده ابنه مجير الدين أبق بن محمد، ومات ببغداد، ودفن بداره التي عند النظامية، وبلغ نور الدين، فقعَدَ له في العزاء، [وقد ذكرنا سيرته] (¬3). حميد بن مالك (¬4) ابن مُغْيث بن نَصْر بن مُنْقِذ، أبو الغنائم الكِناني. ولد بشَيزر سنة إحدى وتسعين وأربع مئة، ونشأ بها، ثم انتقل عنها وسكن دمشق مُدَّةً، وكان قارئًا للقرآن، فاضلًا عفيفًا أديبًا، قال في وصف دمشق: [من البسيط] ما بعد جِلِّقَ للمُرْتادِ منزلةٌ ... ولا كسُكَّانها في الأرض سُكَّانُ فكلُّها لمجال الطَّرْفِ مُنْتَزَهٌ ... وكلُّهم لصروف الدَّهْرِ أقرانُ وهم وإنْ بَعُدُوا مني بِنِسْبتهم ... إذا بَلَوْتُهُمُ بالوُدِّ إخوانُ ومات أخوه يحيى فرثاه، وقال: [من الطويل] يذكِّرُني يحيى الرِّماح شوارعًا ... وبيض المواضي جُرِّدَتْ للوقائعِ فأقسمُ ما رؤياه في العين بهجةً ... بأحسنَ مِنْ أوصافِهِ في المسامعِ وكانت وفاته بحلب ليلة نصف شعبان. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 5/ 188 - 189، و"الروضتين": 1/ 307، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 365 - 366 و"العبر" للذهبي: 4/ 185 - 186، و"الوافي بالوفيات": 6/ 188. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر حوادث سنة (549 هـ). (¬4) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": 5/ 356، و"معجم الأدباء": 11/ 16 - 18، و"الوافي بالوفيات": 13/ 202.

سعد الله بن نصر

سَعْد الله بن نَصْر (¬1) ابن سعيد، أبو الحسن بن الدَّجاجي، الواعظ الحنبلي البغدادي. ولد في رجب سنة ثمانين وأربع مئة، وتفقَّه وناظر، وكان حلو الإيراد، كثير المطالعة، فصيحًا، خاف من الخليفة لحادثٍ نزل به، قال: فرأيت في المنام قائلًا يقول: [من الكامل] ادفعْ بصَبْرِكَ حادثَ الأَيَّامِ ... وتَرَجَّ لُطْفَ الواحد العَلَّامِ لا تأيسنَّ وإنْ تضايق كُرْبُها ... ورماكَ رَيْبُ صُرُوفها بسِهامِ فله تعالى بين ذلك فَرْجةٌ ... تخفى على الأبصار والأَوهام كم مَنْ نجا مِن بين أطراف القَنا ... وفريسةٍ سَلِمتْ من الضِّرْغامِ وسئل عن أخبار الصِّفات، فقال: لا تتعرض لها يا عديم، وعليك بالرِّضا والتسليم، وأنشد: [من الطويل] أبي العاتبُ الغضبانُ يا نفس أَنْ يرضى ... وأنتِ التي صَيَّرْتِ طاعته فَرْضا فلا تهجري من لا تطيقين هَجْرَهُ ... وإنْ هَمَّ بالهِجْرانِ خَدَّك والأَرْضا وكانت وفاته في شعبان، ودفن عند رباط الزَّوْزني، ثم نُبِشَ بعد خمسة أيام، ونقل إلى مقابر الإمام أحمد رحمة الله عليه، وكان دينًا عفيفًا ثقة. شاور بن مجير السَّعْدِي وزير الدِّيار المِصْرية [وقد ذكرنا وقائعه إلى هذه السنة، و (¬2)] كان جَبَّارًا لا ينظر في عاقبة، سفَاكًا للدِّماء، ممدَّحًا، [وقد مدحه عمارة اليمني الشاعر بقصائد. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب": 4/ 294، "المنتظم" 10/ 228، "معرفة القراء الكبار": 2/ 1012 - 1013، "الوافي بالوفيات": 15/ 186 - 187، "فوات الوفيات": 2/ 46، "البداية والنهاية" وفيات سنة (564 هـ)، "ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 302 - 305، "غاية النهاية": 1/ 303، "المقصد الأرشد": 1/ 430 - 431، "شذرات الذهب": 4/ 212 - 213. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وقد سلفت أخباره في هذا الكتاب، وانظر أخباره كذلك في "كتاب الروضتين"، و"وفيات الأعيان": 2/ 439 - 448.

شيركوه أسد الدين

ذكر مقتله: قد ذكرنا أنَّه عزم على عمل دعوة لأسد الدين والأمراء، ثم يقتلهم، وأن ابنه الكامل نهاه، (1)] واختلفوا في كيفية مقتله على أقوال: أحدها أنَّ الأمراء اتفقوا على قتله لما علموا بمكاتبته الإفرنج، وأَنَّ أسد الدّين تمارض، وكان شاور يخرج إليه كل يوم، والطَّبْل والبوق يضرب بين يديه على عادة وزراء مصر، فجاء ليعودَ أسدَ الدين، فقتلوه. و[القول] (1) الثاني أن صلاح الدِّين وجُرْديك اتَّفقا على قَتْله، وأخبرا أسد الدين، فنهاهما، وقال: لا تفعلا، فنحن في بلاده ومعه عسكرٌ عظيم. فسكتا، واتفق أنَّ أسد الدين ركب إلى زيارة الشَّافعي رحمة الله عليه، فأقام عنده، وجاء شاور على العادة إلى أسد الدين، فالتقاه صلاحُ الدين وجُرْديك، وقالا: هو في الزّيارة، انزل. فامتنع، فجذباه، فوقع إلى الأرض، فقتلاه. و[القول] (¬1) الثالث أنهما لما جذباه لم يمكنهما قتله بغيرِ أمر أسد الدِّين، وسحبه الغِلْمان إلى الخيمة، وانهزمَ أصحابه إلى القاهرة ليجيِّشوا عليهم، وعلم أسدُ الدين، فعاد مُسْرعًا، وجاء رسولٌ من العاضد برقعة يطلبُ من أسد الدِّين رأسَ شاور، وتتابعتِ الرُّسُل، وكان أسد الدين قد بعث إلى شاور مع الفقيه عيسى يقول: لك في رقبتي أيمان، وأنا خائف عليك من الَّذي عندي، فلا تجئ. فلم يلتفت، وجاء على العادة، فجذبوه، وألقوه عن فرسه، وأدخله جُرْديك إلى الخيمة، وحَزَّ رأسه، فلما عاد أسد الدين استرجع، وبعث برأسه إلى العاضد، فَسُرَّ به، ودعا العاضد ولدَ شاور الكامل، فقتله في الدِّهليز، وقتل أخاه، واستوزر أسد الدِّين، وذلك في ربيع الآخر (¬2). شِيرْكُوه أسد الدين (¬3) [عم صلاح الدين] (1). أقام في الوزارة شهرين وأيامًا، لأنه وَزَرَ في سابع عشر ربيع الآخر، وتوفي فجأة يوم السبت ثاني عشر جُمادى الآخرة، [وكانت وزارته شهرين وخمسة أيام] (1)، وكان كثير الأكل للحوم ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (م) و (ش): واستوزر أسد الدين على ما ذكرنا، وقتل شاور في ربيع الآخر. (¬3) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وانظر أخباره كذلك في "الروضتين"، وفي "وفيات الأعيان": 2/ 479 - 481.

عبد الخالق بن أسد

الغليظة، فكانت تتواتر عليه التُّخَم والخوانيق، فاعتراه خانوقٌ عظيم، فقتله، ودُفِنَ بظاهر القاهرة إلى أن مات أخوه نجم الدِّين أيوب، فحملا جميعًا إلى مدينة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فدفنا في رباطيهما، وكان قد أوصى إلى ابنِ أخيه صلاح الدين، فاختلفَ الأُمراء عليه، منهم عز الدين الياروقي رأس الأتراك، وسيف الدين [علي بن أحمد الهكاري] (¬1) المشطوب ملك الأكراد، وشهاب الدِّين محمود صاحب حارم؛ وهو خال صلاح الدين، وجماعة، وكلُّ واحدٍ منهم رام أن يكونَ له الأمر، فبادر العاضد، واستدعى صلاحَ الدين، وخَلَعَ عليه في الإيوان خِلْعة الوزارة، وكتب عهده [كما فعل بأسد الدين] (2)، ولقبه الملك النَّاصر - وقيل: إنما لقبه المستضيء بعد ذلك - وشَرَعَ الفقيه عيسى في تفريق البعض [عن البعض] (¬2)، وأصلح الأمور لصلاح الدِّين، وبَذَلَ صلاحُ الدِّين الأموال، وأحسن إلى الجميع، فأطاعوه، وأقام نائبًا عن نور الدِّين، يُدْعى لنور الدين على المنابر بعد العاضد، ولصلاح الدين بعدهما. وذكر ابنُ عساكر أسدَ الدِّين، فقال: ولي دمشق مُدَّة، وقام بحرب الفرنج، وفتح حُصُونًا كثيرة، وكان شجاعًا مقدامًا، صارمًا، مهيبًا، وحَجَّ سنة خمسٍ وخمسين [وخمس مئة، وذكر فتوح مصر (¬3). انتهت ترجمة أسد الدين، والحمد لله وحده، وصلى على أشرف خلقه محمد، - صلى الله عليه وسلم -] (2). عبد الخالق بن أسد (¬4) ابن ثابت، أبو محمَّد الدِّمَشْقي. كان عارفًا بالحديث، وتفقه على مذهب أبي حنيفة، ودرَّس بالصَّادرية بدمشق، وكان مُفْتيًا، وكانت وفاته بدمشق، ومن شِعْره: [من مجزوء الكامل] قال العواذِلُ ما اسم مَنْ ... أَضْنى فُؤادك قلتُ: أَحمَدْ قالوا أَتَحْمَدُهُ وقد ... أضنى فؤادك قلت: أَحْمَدْ ¬

_ (¬1) في (م) و (ش): أحمد بن علي الهكاري المشطوب، وهو قلب، والصواب ما هو مثبت. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) "تاريخ ابن عساكر": 8/ 170 - 171. (¬4) له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 20/ 497، و"العبر": 4/ 187، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 54، و"الجواهر المضية": 2/ 368 - 370، وفيه توفي سنة (583 هـ) وقد انفرد بذلك، و"تاج التراجم": 133 - 134، و"الطبقات السنية": 4/ 274 - 275، و"شذرات الذهب": 4/ 212، و"الدارس": 1/ 538، و"النجوم الزاهرة": 5/ 381.

محمد بن عبد الملك بن عبد الحميد

محمد بن عبد الملك بن عبد الحميد (¬1) أصله من مَيَّافارِقين، وانتقل إلى بغداد، فأقام بها، وكان صالحًا زاهدًا، يتكلَّم على النَّاس بجامع الخليفة على السجَّادة قاعدًا، وربما قام على قدميه قائمًا، وكان يحفظ "نهج البلاغة"، وكان لكلامه في القلوب موقع، وتوفي في رجب ببغداد بباب أبرز، وعمره إحدى وسبعون سنة. وله نَظْمٌ ونَثْر، فمن ذلك: اللهم إنِّي أعوذُ بك من حركات الهوى واللهو، وسكنات البلادة والسَّهو، أطلعْ ثمارَ الأماني من أغصان آمالنا، لُمَّ بلُطْفك شَعَثَ أحوالنا. ولما حُوصرت بغداد، قال: عساكر الأقضية والأقدار مُحْدِقةٌ بأسوار الأعمار، تَهْدِمُها بمعاول اللَّيل والنهار، فلو أضاء لنا مِصْباحُ الاعتبار، لم يبق لنا سكونٌ ولا قَرَار. وقال: الخَلْوة لقومٍ سرور، ولآخرين غرور، ولا تنظروا إلى المَجَازِّيات الزَّائلات، وانظروا إلى الحقائق الدائمات. وقال: اللهم، سَلِّمْ القلوبَ من سُموم الهموم، بدِرْياق الثقة بالرِّزق المقسوم. ومن شعره: [من البسيط] يا مَنْ يرى خدمة السُّلْطان عُدَّته ... ما أرْشُ كدِّكَ إلا الهَمُّ والنَّدمُ دعِ الملوكَ فخيرٌ من طِلابك ما ... ترجوه عندهُمُ الحِرْمانُ والعَدَمُ إني أرى صاحِبَ السُّلْطان في ظُلَمٍ ... ما مِثْلُهُنَّ إذا قاس الفتى ظُلَمُ فقلبُه تَعِبٌ والنَّفْس خائفةٌ ... وعِرْضُه عُرْضة والدِّينُ منثلمُ (¬2) السنة الخامسة والستون وخمس مئة فيها نزل الفرنج على دِمياط يوم الجُمُعة ثالث صفر، وجدُّوا في القتال، وأقاموا عليها ثلاثة وخمسين يومًا يضربونها بالمجانيق، ويزحفون عليها ليلًا ونهارًا، ووجَّه صلاحُ الدِّين إليها العساكر مع خاله شهاب الدِّين وتقيِّ الدِّين، وطلب من العاضد ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 431 - 454، و"المنتظم": 10/ 229، و"الوافي بالوفيات": 4/ 244، و"شذرات الذهب": 4/ 214. (¬2) نسبت الأبيات إلى أبي الفتح البستي، وهي في "ديوانه": 176 - 177، مع اختلاف في بعض الألفاظ.

مالًا، فبعث إليه بشيءٍ كثير، فكان صلاحُ الدِّين يقول: ما رأيتُ أكرمَ من العاضد، جهَّز إليَّ في حصار الفرنج ألف ألف دينار سوى الثِّياب وغيرها. وأشغل نور الدِّين بلاد الفرنج بالغارات، ووقع فيهم الوباء والفناء، فرحلوا في ربيع الآخر (¬1) بعد أن مات منهم خَلْقٌ كثير. وفي رجب وصل نجمُ الدِّين أيوب إلى مِصْر، وكان صلاح الدين قد طلبه من نور الدين، فخرج صلاحُ الدين وجميعُ الأُمراء إلى لقائه، وترجَّل صلاحُ الدين والجميع، ومشوا في رِكابه، وقال له صلاح الدين: هذا الأمر لك، ونحن بين يديك. فقال له: يا بُني ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت أَهْل له. وحكَّمه في الخزائن، فكان يُطْلق ولا يردُّ أحدًا. وكَثُرَ فساد الغُزِّ، فكتب العاضد إلى نور الدين يسأله أن يكون صلاحُ الدين وأصحابه وخواصُّه مقيمين عنده، والباقون يرجعون إلى الشَّام، فلم يُجِبْه، وقال: هؤلاء فرسان الإسلام، وليس للفرنج إلا سهامهم. وكَتَبَ إلى صلاح الدين يكفُّهم عن الفساد. وفي شعبان سار نور الدِّين إلى الكَرَك، فنازله، وضربه بالمجانيق، واجتمع ملوك السَّاحل، وجاؤوه فتأخر إلى البَلْقاء. وفي شوال كانت بالشام زلازلُ هائلةٌ بحيث وقع مُعْظم دمشق وشرّافات الجامع، وتشقق رؤوس المنائر، وكانت تهتز مثل النخل في يوم ريحٍ عاصف، وكانت بحلب أعظم بحيث وقع نصف القلعة والبلد، فَهَلك من أهلها ثمانون ألفًا تحت الهَدْم، وتهدَّمت أسوارُ جميعِ القلاع، وخرج أهلُها إلى البراري. ووقعت قلعة حِصْن الأكراد، بحيث لم يبق للسُّور أثر، وكذا حماة وحمص، ولولا أن نور الدين كان بالبَلْقاء والفرنج في قتاله لسار وأخذ حِصْن الأكراد. وجاءه ما شغل قلبه من ناحية الشَّرْقِ ودمشق: أمَّا من [ناحية] (¬2) الشرق فوفاة أخيه قُطْب الدين مودود بالمَوْصِل، وأمَّا [من] (2) دمشق فوفاة العمادي، وكان نائبه في حلب وغيرها، وكانت له بَعْلبَكَّ وتدمر، وكان عزيزًا عنده، وصاحبه وحاجبه. ¬

_ (¬1) عن العماد: فرحلوا في الحادي والعشرين من ربيع الأول، انظر "الروضتين": 2/ 142. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[علي بن] هبة الله

وبلغه أيضًا وفاةُ مجد الدِّين ابن الدَّاية بحلب، وكان صاحبَ أمره، وسار نورُ الدِّين إلى حلب خوفًا عليها من العدو؛ لأن أسوارها تهدَّمت، وفَرَّق العساكر في القلاع خوفًا عليها من العدو؛ لأنها بقيت بغير أسوار. وفي الزلزلة يقول العماد: [من الخفيف] سَطْوَةٌ زَلْزَلَتْ بسُكَّانها الأَرْضَ ... وهدَّت قواعِدَ الأَطْوادِ خَفَضَتْ منْ قلاعها كُلَّ عالٍ ... وأعادَتْ قِلاعَها كالوادِ وكانت هذه الزلزلة عامةً في الدنيا، أخربت [قلاع المسلمين وبلادهم بالشَّام و (1)] حلب والعواصم وأنطاكية، ونزلت اللاذقية وجبلة، وجميعَ بلاد السَّاحل إلى الدَّاروم، و [يقال إنَّه] (¬1) لم يمت بدمشق إلا رجلٌ واحد أصابه حجرٌ وهو على دَرَج جيرون، لأنَّ أهلها خرجوا إلى الصَّحراء. ثم امتدَّت الزلزلة، وقطعت الفرات، فوصلت إلى المَوْصِل وسِنْجار ونَصِيبين والرُّها وحَرَّان والرَّقَّة ومارِدين وغيرها، وامتدت إلى بغداد وواسط والبَصْرة، وجميع بلاد العراق، ولم يَرَ النَّاس زلزلةً من أَوَّل الإسلام مِثْلَها أفنتِ العالم. وفيها أمر نور الدين بعِمارة جامع داريَّا القائم الآن، وكان قديمًا عند قُبَّة أبي سليمان الدّارَاني، فأحرقوه لما نزلت الفرنج على داريا في أيام مجير الدين أبق، فعمر نور الدين في هذه السنة هذا الجامع الَّذي في وسط القرية. [فصل: وفيها توفي [علي بن] هبة الله (¬2) ابن محمد بن أحمد بن أبي البركات، البخاري، الفقيه الشافعي. تفقَّه ببغداد على أسعد المِيهني، وسمع أباه، وولي القضاء بقونية من بلد الروم. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة لوفيات النقلة": 1/ 281 (في ترجمة ابنه علي حوادث سنة (593 هـ)، و"الوافي بالوفيات": 22/ 283، و"طبقات الشافعية": للسبكي: 7/ 238، و"طبقات الشافعية": للإسنوي: 2/ 174، وابنه علي سترد ترجمته في وفيات سنة (593 هـ)، وما بين حاصرتين من مصادر ترجمته، وسياق هذه الترجمة.

الحسين بن محمد

وابنه علي بن علي ولي القضاء ببغداد، وكنيته أبو طالب، وناب في الوزارة. ومات ابنه علي ببغداد في سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة، وعقبه اليوم ببغداد قضاة، يقال لهم: بيت البخاري] (¬1). وفيها توفي الحسين بن محمد (¬2) أبو المُظَفَّر بن السِّيبي البغدادي. كان يلي ضياعًا للخليفة من بلد قُوسان، فرُفِع إليه أنَّه خان، فحبسه، فكتب إلى أهله من الحبس لنفسه: [من الطويل] سلامٌ على أهلي وصَحْبي وجُلَّاسي ... ومَنْ في فؤادي ذكرُهُم راسبٌ راسي أحبةَ قلبي قَلَّ صبريَ عنكُمُ ... وزاد بكم وجدي وحُزْني ووسواسِي أعالجُ فيكمْ كلَّ همٍّ ولا أرى ... لداءِ همومي غيرَ رؤيتكُمْ آسي خذوا الواكِفَ المِدْرار من فَيضِ أدْمُعي ... وحَرّ لهيبِ النَّارِ من كَرْبِ أنفاسي لقد أبدتِ الأيَّامُ لي كلَّ شِدَّةٍ ... تشيبُ لها الأكبادُ فَضْلًا عن الرَّاسِ أقول لقلبي والهمومُ تنوشُهُ ... وقد حدَّثَتْه النَّفْسُ بالصَّبْر والياسِ وكيف اصطباري عنكُمُ وتجلُّدي ... على فَقدكُمْ ويلي على قلبيَ القاسي ومَنْ لي بطيفِ منكُمُ أنْ يزورني ... على الليلة الليلاء في جُنْحِ ديماسي (¬3) حمَّاد بن منصور البُزَاعي (¬4) ويعرف بالخرَّاط، شاعر فصيح، فمن شعره: [من الرجز] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 231، و"خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 185 - 186، و"الكامل": 11/ 349، و"الوافي بالوفيات": 13/ 40 - 41. (¬3) القصيدة في "المنتظم" و"الكامل": مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬4) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم شعراء الشام: 2/ 130 - 152، و"الوافي بالوفيات": 13/ 148 - 150، و"النجوم الزاهرة": 5/ 383.

تَوَلَّعي يا نسماتِ نَجْدِ ... بالشِّيح في ذاك الحِمى والرَّنْدِ لعلَّ رياكِ إذا ما نَفَحَتْ ... يعودُ حَرُّ لَوْعتي ببَرْدِ أصبو إلى ريح الصَّبا لو أنها ... تُهدي حديث الحيِّ فيما تُهدي اسأَلها هل صَافحتْ مواقفًا ... أَوَدُّ لو صافَحْتُها بخدِّي أَسْتودعُ اللهَ بها قَلْبي فقد ... طال به بعد الفِراق عَهْدِي كان معي قبل رحيلي عنهُمُ ... ثُمَّ رَحَلْتُ وأقام بعدي لهفي على زمانِ قُرْبٍ ما وفي ... بما أُلاقي من زمانِ البُعْدِ أبكي ويبكي رحمةً لي معشرٌ ... ما عندهُمْ من الهوى ما عندي تجمَّعوا فيك على الحُبِّ معي ... لكنني كُنْتُ المُعَنَّى وَحْدي ويلاه من شَوْقٍ تبيتُ نارُهُ ... تشبُّ بين أَضْلُعي وجِلْدي يا بَينُ أنجَزْتَ وعيدي فمتى ... تُنْجِزُ أيامُ الفقاء وَعْدي (¬1) وقال: [من المسرح] موسى هواكم ثم بجانبِ الطُّورِ ... يسعى بقلبٍ في الحبِّ مكسورِ حيرانَ في ظُلْمة الرَّجاء فهل ... نارُ انعطافٍ تُدْنيه من نورِ نادُوه سِرًّا بكُنْهِ سِرِّهُمُ ... لُطْفًا وناجوه بالمعاذيرِ (¬2) وقال: [من مجزوء المتقارب] تكلَّمَ بالأَدْمُع ... وقال فلم تسمعي شكا بالبُكا لو رحمـ ... ــــت شكوى فتى موجَعِ وأشفَقَ يوم النَّوى ... على سِرِّه المُوْع ودلَّ بماء الجفون ... على النَّار في الأَضْلُعِ (¬3) ¬

_ (¬1) القصيدة في "خريدة القصر": 2/ 133 - 134. (¬2) الأبيات من قصيدة في "الخريدة" قسم شعراء الشام: 2/ 147 - 149. (¬3) الأبيات في "الخريدة": 2/ 145 - 146.

طاووس أم المستنجد

طاووس أم المستنجد (¬1) كانت كثيرة الصَّدقات والمعروف، توفيت في ذي الحِجَّة، وحملت إلى ترب الرُّصافة، وكان الوزير وأربابُ الدولة قيامًا إلى السُّفن، وهي في الزَّبْزب، وجلس الوزير لها في العزاء ثلاثة أيام. علي بن ثَرْوان (¬2) ابن زيد بن الحسن، أبو الحسن الكِنْدي، ابن عم تاج الدين الكندي. كان فاضلًا، أديبًا، حسن الخط، سكن دمشق، وتوفي بها، وحظي عند نور الدين، ومن شعره: [من الرمل] هَتَكَ الدَّمْعُ بصوبٍ هَتِنٍ ... كلَّ ما أضمرتُ من سرٍّ خَفِي يا أخِلائي على الخَيفِ أما ... تَتَّقونَ الله في حَثِّ المَطِيّ محمَّد بن إبراهيم بن هانئ (¬3) أبو القاسم المغربي. من شعراء الدولة المِصْرية، ومن شعره: [من الرمل] امسحوا عن ناظري كحل السُّهادِ ... وانفُضُوا عن مضجعي شوكَ القَتَادِ أَوْ خُذوا مني الَّذي أبقيتمُ ... ما أُحب الجسمَ مسلوبَ الفُؤادِ هل تجيرون محبًّا من هوًى ... أو تفكُّون أسيرًا من صِفاد ¬

_ (¬1) لها ترجمة في "المنتظم": 10/ 231 - 232، وفيه أنها توفيت يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم شعراء الشام: 1/ 310 - 312، وفيه وفاته بعد 565 هـ، و"معجم الأدباء": 12/ 275 - 277، "إنباه الرواة": 2/ 235، "بغية الوعاة": 2/ 152. (¬3) "الوافي بالوفيات": 1/ 352 - 355 واسمه محمد بن هانئ، ولم يذكر في آبائه إبراهيم غير الصفدي، فإن كان هو ابن هانئ الشاعر المشهور، فقد توفي سنة (362 هـ) على قول ابن خَلِّكان، وسنة (365 هـ) على قول السبط، يقوي ذلك إيراده قصيدة: امسحوا عن ناظري كل السهاد، فقد أوردها الصفدي في ترجمته 1/ 352 - 355 أما إذا كان غيره فلم أقف على ترجمته إلا أنني وجدت في "الخريدة"، قسم شعراء مصر: 1/ 248 ترجمة محمَّد بن هانئ، وكناه أبا عبد الله وقال: توفي في آخر أيام الصالح بن رزيك قبل سنة ستين، وانظر مصادر ترجمته في "السير": 16/ 131.

مودود بن زنكي

فعلى الأيام من بعدكُمُ ... ما على الثكلاء من لبس الحداد وحديثٍ عنكُمُ أكثره ... عن نسيمِ الرِّيح أو بَرْقِ الغوادِ لم يزدنا القُرْبُ إلا هَجْرَهُ ... فرضينا بالتَّنائي والبِعادِ وقال: [من المتقارب] صهٍ كلُّ آتٍ قريبُ المدى .. وكلُّ حياةٍ إلى منتهى ولم أر كالمرءِ وهو اللَّبيبُ ... يرى مِلءَ عَينيه ما لا يُرى وليس النواظر إلا القلوبُ ... وأما العيون ففيها العمى خليليَّ هل ينفعنِّي البكا ... أو الوَجْدُ لي راجعٌ ما مضى هلموا فذا مصرع العالمين ... ففي كلِّ قلبٍ عليه أسى ضريحٌ سَقَتْه غِزارُ الدُّموعِ ... فما باتَ حتَّى سقاه الحَيَا وما جادَهُ الغيثُ من غُلَّةٍ ... ولكن ليبكِ النَّدى بالنَّدى وقال في مرض بعض الأمراء: [من البسيط] يا خير ملتحف بالجودِ والكَرَمِ ... وأفضل النَّاس من عُرْبٍ ومن عَجَمِ يا ابنَ الهدى والندى والمكرمات معًا ... والحِلْم والعِلْم والآداب والحِكَمِ لو كنت أُعطى المني فيما أُوَمّلُهُ ... حَمَلْتُ عنك الَّذي حُمِّلْتَ من ألم الله يعلمُ أَنِّي مُذْ سمعتُ بما ... عَرَاكَ لم أغتمضْ وَجْدًا ولم أَنَمِ أدعو وطورًا أجيل الوَجْهَ مُبْتهلًا ... على صعيد الثَّرى في حِنْدسِ الظُّلَمِ مودود بن زَنْكي (¬1) [ولقبه] (2) قُطْبُ الدِّين، [أخو نور الدين محمود]، (¬2) حيث حبُ المَوْصِل. كان أسمَرَ اللون، تامَّ القامة، عادلًا، منصفًا، ولما احْتُضِرَ أوصى إلى ولده عماد الدين زنكي، وكان أكبرَ ولده وأعزَّهم عليه، وكان الحاكم على المَوْصل فخر الدين عبد المسيح، وكان يكره عمادَ الدين، وكان عمادُ الدين قد أقام عند نور الدّين بحلب ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 11/ 355 - 356، و"الباهر": 94، 146، و"الروضتين": 2/ 161 - 165، "وفيات الأعيان": 5/ 302 - 303، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 521 - 522، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أبو بكر بن الداية

مُدَّة، وزوَّجه ابنته، وكان نور الدين يبغض عبد المسيح لظُلْمه، فخاف عبدُ المسيح أن يعزله عمادُ الدين زنكي، فاتَّفق مع الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش صاحب مارِدِين زوجة قُطْب الدين أن يثنوا قطب الدين عن عماد الدين، وأن يستخلف ولدَه سيف الدين غازي بن مودود، فعهد إليه، وتوفي قطب الدين وقد جاوز الأربعين، فكانت ولايته إحدى وعشرين سنة، ولما بلغ نورَ الدِّين فعلُ عبد المسيح واستبدادُه [قال: أنا أولى] (¬1) بتدبير أولاد أخي من غيري. وقَصد المَوْصِل. أبو بكر بن الدَّاية (¬2) [ويلقب] (¬3) مجد الدِّين. وكان شجاعًا دَيِّنًا، من أكابر أُمراء نور الدِّين، بنى بحلب خانكاه، [وهي باقية إلى هلم جرًا] (3) واتفق موتُ العمادي في هذه السنة [وكان من أعظم أمرائه] (3)، فبكى نور الدين، وقال: قُصَّ جناحاي. وأعطى أولادَ العمادي بَعْلَبَكَّ، وقدَّم على العساكر سابقَ الدِّين عثمان بن الدَّاية أخا مجد الدِّين، ودفن مجدُ الدين بحلب، والعمادي بقاسيون في تُرْبةٍ قريبة من تربة شركس شماليِّها، وهي أَوَّلُ تربةٍ بنيت في الجبل، واسمه مكتوبٌ (¬4) على بابها: هذه تربة محمد بن العِمادي. السنة السَّادسة والستون وخمس مئة في أول المحرَّم سار نور الدين إلى سِنْجار، ففتحها، وسلَّمها إلى عمادِ الدين زنكي ابنِ أخيه، وسار، فنزل على المَوْصِل من المشرق، عَبَر من مخاضة عند بَلَد، وكان عبد المسيح قد نفَّذ عِزَّ الدين مسعود بن مودود إلى أتابك إيلدكز يسأله شفاعةً إلى نور الدين بالكَفِّ عن المَوْصِل، فجاء الرَّسول إلى نور الدين، وأبلغه الرِّسالة، فقال ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق، انظر "الروضتين": 2/ 166. (¬2) أخباره مبثوثة في "الروضتين"، وكتب تاريخ تلك الفترة. وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (م) و (ش): ووقفت على باب التربة وعليها مكتوب.

للرسول: قُلْ لصاحبك: أنا أَرْفَقُ وأَشْفَقُ على أولاد أخي منك، فلا تدخل بيننا، وعند الفراغ من هذا الأمر أسير إليك، ويكون الجواب على باب هَمَذان، فإنَّك قد أهملت أمور الثُّغور حتَّى استولى عليها الكُرْج، وأنا وَحْدي بالشَّام، وقد ابتليتُ بأشجع النَّاس، وأشدِّهم بأسًا وهم الفرنج، فأسرتُ ملوكهم، وقتلتُ كنودهم، وبعتهم بيعَ العبيد، واستوليتُ على بلادهم، فلا يَسَعُني في دِيني أنْ أَدَعَكَ على ما أنتَ عليه. وكان كل مَنْ بالمَوْصِل مع نور الدين، وكاتبوه بالوثوب على عبد المسيح، وتسليمِ البلد إليه، وعَلِمَ عبدُ المسيح، فراسله في الطَّاعة، وتسليم البلد إليه، وتقريره على سيف الدِّين، وأن يكون عبدُ المسيح مقيمًا به على حاله، فقال نور الدين: أمَّا تقرير سيفِ الدين على البلد فَنَعَمْ، وأما أنتَ عبدَ المسيح، فلك الأمانُ على نَفْسك ومالك، وما يَحِلُّ لي أَنْ أَدَعَكَ في المَوْصِل لظُلمك وعَسْفك، ولكني آخذكَ معي إلى الشَّام، وأُحْسنُ إليك. ثم فتحتِ الأبواب لنور الدين، فدخل المَوْصِل في ثالث عشر جُمادى الأُولى، وولَّى عليها خادمًا، يقال له كُمُشْتِكِين بالقلعة، وقرَّر ابنَ أخيه سيف الدين على حاله. وكان نور الدين قد بعثَ العمادَ الكاتب إلى الخليفة يستأذنه فيما يفعل، فوصل العماد ونورُ الذين على المَوْصل، ومعه الخِلَع والتَّقليد، فأَلْبَسَ ابنَ أخيه سيف الدين الخِلْعة، وأزال من المَوْصل الضَّمانات والمكُوس، وعَدَلَ وأحسنَ إلى أهله، وأعطى عمر المَلَّاء ستين ألفَ دينار من فتوح الفرنج، وأمره بعمارة الجامع النُّوري وسط البلد، وأعطى جزيرةَ ابنِ عمر لابنِ أخيه سيف الدين مضافًا إلى المَوْصل، وأقام عشرين يومًا، وكان يحبُّ الموصل، فقيل له: لو أقمتَ بها. فقال: ومَنْ يجاهد الكُفَّار، ويحفظ بلاد المسلمين! ثم رحل نحو الشَّام ومعه عبد المسيح، وقد أحسن إليه، وأقطعه إقطاعاتٍ كثيرة، ثم قال له: ويحك، ما هذا الاسم القبيح، أَمَا كان في الدنيا مسلمٌ يغيِّره، وكيف وافقك أخي قُطْب الدين على هذا؟ وسمَّاه عبد الله. وفيها توفي المستنجد، وولي المستضيء.

الباب الثالث والثلاثون في خلافة المستضيء بأمر الله

الباب الثالث والثلاثون في خلافة المستضيء بأمر الله وهو أبو محمّد الحسن بن يوسف المستنجد بأمر الله، وأُمُّه أُمُّ ولد تدعى غضة أرمنية. ولد في شعبان سنة ستٍّ وثلاثين وخمس مئة، ولم يلِ الخلافةَ مَنْ اسمه الحسن وكنيته أبو محمد غيرَ الحسن بن علي عليه السَّلام والمستضيء. بويع بالخلافة يوم الأحد تاسع ربيع الآخر، وأَطْلَقَ الأموال للأمراء والعلويين والهاشميين والقُضَاة والعلماء وجميعِ الناس، وردَّ المظالم، وأسقط المكوس، وولى أمر الجند والممالك قُطْبَ الدِّين قيماز مملوك المستنجد، ولقبه ملك العرب والعجم، واستوزر ابن رئيس الرؤساء، وكان الوزير ابن البلدي قد قُتل يوم مات المستنجد، ولما ولَّى ابنَ رئيس الرؤساء الوزارة خَلَعَ عليه، ومشى بين يديه قُطْبُ الدِّين وأربابُ الدولة، ولم يتخلف أحد، وجلس في الديوان، ومدحه الشُّعراء، فقال ابنُ التعاويذي: [من الكامل] الدَّسْتُ من لألاء وَجْهك مشرقُ ... وعلى الوزارة من جلالك رَوْنَقُ رُدَّتْ إليك وأصلُها بك ثابِتٌ ... عالي البناء وفَرْعُها بك مُوْرِقُ أنتم وإن رَغَمَ (¬1) العِدَى وُرَّاثُها ... قِدْمًا وغيرُكُمُ الدَّعيُّ المُلْحَقُ لكُمُ استقادَ على الإباء شَمُوسُها ... وبكُمْ تَجَمَّع شَمْلُها المتفرِّقُ (¬2) وأنشد الحيص بيص: [من الوافر] أقول وقد تولَّى الأمرَ حَبْرٌ ... وليٌّ لم يَزَلْ بَرًّا تقيّا وقد كُشِفَ الظَّلامُ بمستضيءٍ ... غدا بالخَلْقِ كلِّهُمُ حَفِيّا بلغنا فوقَ ما كُنَّا نرجِّي ... هنيئًا يا بني الدُّنيا هَنِيّا سأَلْنا الله يَرْزُقُنا إمامًا ... نُسَرُّ به فأعطانا نبيًّا (¬3) ¬

_ (¬1) رغم: كره: "اللسان" (رغم). (¬2) انظر القصيدة في "ديوان سبط ابن التعاويذي": 296 - 298. (¬3) الأبيات في ديوانه 3/ 279، وقد أوردها العماد الكاتب في "الخريدة"، قسم شعراء العراق: 2/ 330. قال إبراهيم، عفا الله عنه: والبيت الأخير فيه الغلو المفضي إلى الكفر والعياذُ بالله، مما يقدح بالمادح والممدوح على السواء، المادح بقوله والممدوح بقبوله، نسأل الله السلامة.

وقال عبد الرَّحمن بن محمّد بن عبد السّميع الواسطي الهاشمي: رأيت في المنام ليلة مات المستنجد قائلًا يقول: [من البسيط] ماتَ الخليفةُ واستولى على النَّاسِ ... ابنٌ له طاهرٌ من نَسْلِ عَبَّاس فارحلْ إلى بابه واضرعْ إليه تَجدْ ... من جُوده دافعًا للضُّرِّ والباسِ والظُّلْمُ والجَوْرُ قد حُصَّتْ قوادِمُهُ ... مع الخوافي وخافَ القَطْعَ بالرَّاسِ مَنْ يَفْعلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جوازيه ... لا يذْهَبُ العُرْفُ بين اللهِ والنَّاسِ (¬1) وولَّى المخزن ظهير الدِّين بن العَطَّار، وولَّى ابنَ البخاري الدِّيوان، وولَّى ابن الشَّاشي تدريس النِّظامية، وولَّى الأمير السيد العلوي التدريس بجامع السُّلْطان ببغداد. وفيها بعث الخليفةُ رسولًا إلى نور الدين يعرِّفه بخلافته، ويطلب البيعةَ له، فقال له العماد الكاتب: [من الكامل] هل عائدٌ زمنَ الوصالِ المنقضي ... أم عائِدٌ لي في الصَّبابة ممرضي لا أشتكي إلا الغرام فإنَّه بَلْوى ... عليَّ من السَّماء بها قُضي يا لاح حالي في الهوى مشهورةٌ ... حاولتَ تسليتي وأنتَ محرِّضي أنفقتُ ذُخْرَ الصَّبْرِ من كَلَفي فهل ... من واهبٍ للصَّبْرِ أو من مُقْرضِ لهفي على زمنِ الشَّباب فإنني ... بسوى التأسُّفِ عنه لم أتعوَّضِ نُقِضَتْ عهودُ الغانياتِ وإنها ... لولا انقضاءُ شبيبتي لم تنقضِ يا حُسْن أيَّام الصِّبا وكأنَّها أيامُ ... مولانا الإمامِ المستضي ذي البهجةِ الغَرَّاء يُشْرِقُ نورُها ... والطَّلْعة الزَّهْراءِ والوجْه المضي قَسَمَ السَّعادةَ والشَّقاوة ربُّنا ... في الخَلْقِ بين مُحِبِّهِ والمُبْغِضِ فَضَلَ الخلائفَ والخلائقَ بالتُّقى ... والفَضْلِ والإفضالِ والخُلُقِ الرَّضي فانْعَمْ أميرَ المؤمنين بدَوْلةٍ ... ما تنتهي وسعادةٍ ما تنقضي (¬2) فبعث نور الدين إلى الخليفة شرف الدين ابن أبي عصرون نائبًا عنه في الخِدْمة. ¬

_ (¬1) هذا بيت مشهور للحطيئة، وقد ضمنه أبياته، انظر "ديوانه": ص 51. (¬2) انظر بعض الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 17 - 18، و"كتاب الروضتين": 2/ 179 - 180.

عبد الله بن خلف

وفيها بنى صلاحُ الدِّين بالقاهرة مدرسةً للشَّافعية، وكان موضعُها حبسَ المعونة، وبنى بها أيضًا مدرسة للمالكية تعرف بدار الغزل، وولَّى صدر الدين عبد الملك بن دِرْباس الكُرْدي القضاء بالقاهرة ومِصْر وأعمالها. وفي جُمادى الأُولى خرج صلاح الدين بالعساكر إلى الشَّام، فأغار على غَزَّة وعسقلان والرَّمْلة، ومضى إلى أَيلة وكان بها قلعة فيها جماعة من الفرنج، والتقاه الأُسطول في البحر، فافتتحها، وقَتَلَ مَنْ فيها، وشحنها بالرِّجال والعُدَد، وكان على الحجازِ منها خَطَرٌ عظيم، ثم عاد إلى القاهرة في جُمادى الآخرة. وفي شعبان اشترى تقيُّ الدِّين عمر بن شاهنشاه منازل العِزّ بمصر، وعملها مدرسةً للشافعية، ووقفَ عليها حمام الذهب والرَّوضة وغيرهما. وفيها توفي عبد الله بن خلف (¬1) ابن عبد الله الكَفْرطابي، ولد بشَيزَر، وقدم دمشق سنة تسعٍ وعشرين، وأقام بجامع حماة يدرِّس النحو اثنتي عشرة سنة، وماتَ بها، وكتب إلى ابن منيرة (¬2)، وقد حال بينهما الوَحَل: [من البسيط] يا حُجَّتي حين ألقى الله مُنْفَرِدًا ... تفديك نفسيَ بالأَهْلين والوَطَنِ بيني وبينك سورُ الوَحْلِ ليس له ... بابٌ فقلبي رهينُ الهَمِّ والحَزَنِ ما هَجْرُ مِثْلِكَ محمودٌ عواقبُهُ ... ولا التَّصبُّرُ عن رؤياك بالحَسَنِ محمد بن أسعد (¬3) أبو المُظَفَّر، العراقي، الواعظ. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": 9/ 164. (¬2) هو محمَّد بن يوسف بن عمر المعروف بابن منيرة الخولي، توفي سنة (553 هـ)، وقد سلفت ترجمته في وفياتها، وانظر "معجم الأدباء": 19/ 122 - 123، و"الوافي بالوفيات": 5/ 247، و"خريدة القصر" قسم شعراء الشام 1/ 573 - 574. (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق، مج 1 / ج 3 م 266 - 273، "المحمدون": 208 - 211، و"ذيل تاريخ بغداد" لابن الدبيثي: 1/ 176، و"العبر" 4/ 199، و"ميزان الاعتدال": 3/ 480، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 25، و"الجواهر المضية": 3/ 89 - 92، و"الوافي بالوفيات": 2/ 203، وتوضيح المشتبه: 3/ 287، =

محمود بن نعمة الشيزري

توفي بدمشق، ودفن بالباب الصَّغير، ومن شعره: [من الطويل] ألا هَلْ لِصَبٍّ بالشآم متيمٍ ... بحبِّكُمُ بين الأنام بلاغُ له شُغُلٌ بالحبِّ عن كل شاغلٍ ... وليس له عما عراه فراغُ تجرَّع يوم البَيْنِ كأسَ فراقكم ... فليس لكأس الصَّبْر فيه مساغ (¬1) محمود بن نعمة الشَّيزَرِي (¬2) أبو الثَّناء. شاعرٌ فصيح، وهو القائل: [من الطويل] يقولون كافات الشِّتاء كثيرة ... وما هي إلا فَرْدُ كافٍ بلا مِرا إذا صحَّ كاف الكيس فالكلُّ حاصِلٌ ... يصحُّ وكلُّ الصَّيدِ يوجد في الفَرا يوسف المستنجد بالله ابن المقتفي محمّد (¬3) ولد في ربيع الآخر سنة عشر وخمس مئة، وكان أسمرَ طويلَ اللِّحْية، معتدلَ القامة، شُجاعًا، مهيبًا، عادلًا، رفيقًا بالرَّعية، ذكيًّا فطِنًا، فصيحًا، أزال المظالم والمكوس [وله واقعات عجيبة] (¬4) كتبَ إليه منكورس شحنة البَصْرة يطلب أمانه، وكان قد عصى عليه، فوقع على رأس الرُّقْعة: يُؤَمَّن ولا يُؤْمَن. وأشكى إليه رجلٌ من القاضي، فوقَّع على الرقعة: تجنَّبِ الآثام، وأنصفِ الأنامَ، وخَفْ سطواتِ حاكم الحُكَّام. ¬

_ = و"لسان الميزان": 5/ 73 - 74، و"تاج التراجم": 185 - 186، و"الدارس": 1/ 538 - 539، "طبقات المفسرين" للداودي: 2/ 87 - 89، "شذرات الذهب": 4/ 218، وفي بعض المصادر وفاته سنة (567 هـ). (¬1) الأبيات في "الخريدة" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 271. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 575 - 579، و"النجوم الزاهرة": 8/ 358 - 359، وفيه وفاته سنة (556 هـ)، وذكره ابن خلكان في "وفيات الأعيان": 4/ 413. (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 18 - 22، و"المنتظم" 10/ 192 - 194 - 236، و"الكامل": 11/ 256، و"الباهر": 150 - 152، 360 - 362، و"الروضتين": 2/ 177 - 178، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 412 - 418، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

والتقاه ابن شبيب في البرية في الرَّبيع، فقال له الخليفة: أين شتَيت؟ فقال: عندك يا أمير المؤمنين. أراد الخليفة ابن شبيب، وأراد ابن شبيب عبدك. وقبض الخليفةُ على إنسان يسعى بالنَّاس، فشفع فيه بعضُ أصحاب الخليفة، وبذل عشرة آلاف دينار [فقال له الخليفة: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار] (¬1) وأحضر لي إنسانًا مثله يُؤذي النَّاس بالسِّعايات لأحبسه، وأكُفّ شَرَّه عن النَّاس. ومن شعر المستنجد: [من الخفيف] عَيَّرَتْني بالشَّيبِ وهو وَقارُ ... ليتَها عَيَّرَتْ بما هو عارُ إنْ تكن شابتِ الذَّوائبُ مني ... فالليالي تَزِينُها الأقمارُ وقال في بخيل: وباخلٍ أشعل في بيته ... طرمذةً (¬2) منه لنا شَمْعَهْ فما جَرَتْ من عينها دمعةٌ ... حتَّى جَرَتْ من عينه دَمْعَهْ ذكر وفاته: مرض في ربيع الآخر أيامًا، فاحمرَّ الأُفُق، وما زالتِ الحُمْرة على الحيطان وشعاعُها متَّصلٌ بالسَّماء حتَّى مات، وكان قد فوَّضَ أمورَ العساكر إلى قُطْب الدِّين قيماز مملوكه، فأظهر الاستبداد بالأمر، وبلغه أنَّ قيماز يجتمع بالمستضيء، وأنَّ بينهما مراسلاتٍ، فتغيَّر عليهما، وكان وزيره ابنُ البلدي قد اطَّلع على الحال، وأخبر المستنجد، فأمره بالقبض عليهما، وخاف قيماز، ومرض المستنجد، وكان له طبيبٌ، يقال له ابن صفية، فخلا به قيماز، وقال: خَلِّصْنا منه وإلا قتلتُك. فقال: به حُمَّى محرقة، وليس عليه أضَرَّ من الحَمَّام. فدخل عليه قيماز وهو في فراشه، فقال: قد وَصَفَ لك ابنُ صفية الحَمَّام. فقال: لا حاجة لي فيه. وقيماز يقول: لابُدَّ لك منه. فحمله كَرْهًا وهو يقول: بلى ينفعك. فأدخله الحَمَّام، وأغلق عليه الباب، وقطع [عنه] (1) الماء البارد، فمات يوم السبت ثامن ربيع الآخر، ودفن بالدَّار وقد بلغ ثمانيًا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الطرمذة: المفاخرة والنفج: "تاج العروس" (طرمذ).

السنة السابعة والستون وخمس مئة

وأربعين سنة، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهرًا، وعمل العزاء ثلاثة أيام، [قال جدي: وتكلمت فيه وخُلع عليَّ] (¬1). ولما جلس المستضيء للبيعة، عَزَمَ الوزير ابن البلدي على الهرب، فلم يقدر، فاستدعاه المستضيء، فلما دَخَلَ عليه ضربه الغِلْمان بالسُّيوف، ورموا به في دِجْلة. السنة السَّابعة والستون وخمس مئة فيها خُطِبَ لبني العَبَّاس بمِصْر [بعد انقطاع الخطبة عن بني العباس فيها مئتي سنة وثماني سنين] (¬2) وسببه أنَّ صلاح الدِّين لما استولى عليها، وضَعُفَ أمر العاضد كتبَ إليه نورُ الدِّين يأمره بقطع الخطبة للمِصْريين، وإقامتها لبني العَبَّاس، فخاف من أهل مِصْر أن لا يجيبوه إلى ذلك، وربما وقعت فتنة لا تُتدارك، فكتَبَ إلى نور الدين يخبره، فلم يسمع منه، وألزمه إلزامًا لا محيد عنه، ومرض العاضد، فجمع صلاحُ الدِّين الأُمراء والأعيان واستشارهم، فمنهم مَنْ أجاب ومنهم من امتنع، وقالوا: هذا بابُ فتنة وما يفوت. فعاود نورُ الدِّين، فأرسل رسلًا، وألزمهم بذلك، فأقامها. واختلفوا في الخطيب، فقيل: إنَّه رجل من الأعاجم يقال له العالم، وقيل: هو رجلٌ من أهل بَعْلَبَك يقال له: محمّد بن المحسَّن ابن أبي المَضَاء البَعْلَبكي، فأُقيمت في أول المحرَّم والعاضدُ مريض، فأخفى عنه أهلُه ذلك، وقيل بلغه، فأرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ليوصيه، فخاف أن يكون خديعةً، فلم يذهب إليه، ومات يوم عاشوراء، فندم صلاحُ الدِّين على قَطْعِ الخطبة، وقال: يا ليتني صبرتُ حتَّى يموت. وكتَبَ صلاحُ الدِّين إلى نور الدين يخبره بإقامة الدعوة العبَّاسية، فكتب نورُ الدِّين كتابًا إلى بغداد من إنشاء العماد، وفيه: [من الخفيف] قد خَطَبْنا للمستضيء بمصرٍ ... نائبِ المُصْطفى إمامِ العَصْرِ ولدنيا تضاعفَتْ نِعَمُ اللهِ ... وجَلَّتْ عن كلِّ عَدٍّ وحَصْرِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "المنتظم": 10/ 233. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

واستنارت عزائمُ الملكِ العا ... دلِ نور الدين الهُمامِ الأغَرِّ هو فَتحٌ بِكْرٌ ودون البرايا ... خَصَّه الله باقتراعِ البِكْرِ من أبيات (¬1). وبعث نور الدِّين إلى الخليفة بالبشارة شهاب الدين المطهر بن شرف الدين بن أبي عَصْرون. وقال ابنُ الخراساني الشَّاعر (¬2): [من البسيط] جاء البشيرُ فَسُرَّ النَّاسُ وابتهجوا ... فما على ذي سرورٍ بعدها حَرَجُ أُقيمتِ الدعوةُ الغَرَّاءُ معلنةً ... للمستضيء بمصرٍ واستوى العِوَجُ هو الإمامُ الَّذي قامت دلائِلُهُ ... وكلُّ ذي لَسَنٍ بشُكْره لَهِجُ لذِكْرِهِ عَبَقٌ في كلِّ ناحيةٍ ... فالكونُ أجمعُ من أنبائه أَرجُ حتَّى لقد دَخَلَ الأقوامُ كلُّهم ... في دين خالقهمْ من بعدما خرجوا بالمستضيء أضاءتْ كلُّ داجيةٍ ... كأنَّما أُوقدتْ بين الورى سُرُجُ أعطى من المالِ ما لم يُعْطه أحدٌ ... لله منه خِضَمٌّ كلُّه لُجَجُ يا أهل مِصْر لقد جاءتْ سعادتُكُمْ ... واستوضحت سُبُل الخيراتِ فابتهجوا صِرْتُمْ رعيَّةَ خَيرِ الخَلْقِ كلُّهِم ... مَنْ حُبُّه بدماءِ الخَلْقِ مُمْتَزِجُ من أبيات (¬3). وقال أحمد بن المُؤَمَّل العَدْوَاني البَغْدادي: [من السريع] قد جاء فَتْحُ اللهِ والنَّصْرُ ... واعتذرتْ مما جَنَتْ مِصْرُ وأرسلَتْ تسألُ صَفْحًا لها ... فاغفِرْ فمن عادتك الغَفْرُ كان على منبرها ظلمةٌ ... إذْ لم يكنْ في أُفْقها بَدْرُ ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": قسم شعراء العراق: 2/ 14 - 17، وانظر "الروضتين": 2/ 206 - 207. (¬2) هو أبو العز محمّد بن محمّد بن مواهب، الكاتب المعروف بابن الخراساني، شاعر وأديب ونحوي، توفي سنة (576 هـ)، وله اثنتان وثمانون سنة، انظر ترجمته في "خريدة القصر"، قسم شعراء العراق: ج 3 / مج 1/ 228 - 255، و"معجم الأدباء": 19/ 46 - 47، و"إنباه الرواة": : 3/ 213 - 214، و"الوافي بالوفيات": 1/ 150 - 151. (¬3) انظر بعضها في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 234 - 235.

فمذ أضاءَ المُسْتضي أَشْرَقَتْ ... وابتهجَ المنبرُ والقَصْرُ وأصبحت قاهرةُ المُدَّعي ... مقهورةً قد زانها القَهْرُ (¬1) وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في جملة خُطْبة كتابٍ سمَّاه "النَّصْر على مِصْر": الحمد لله الَّذي قدَّم الآدميين على جميع المخلوقين تعظيمًا لهم وتبجيلًا، ثم فَضَّل محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - وصان شَرْعه أن يُغَيَّر نَسْخًا أو تبديلًا، ثم جَمَعَ شَمْلَ أُمَّته بخلافة بني العَبَّاس زادها الله تجميلًا، فكم هَينَمَ عدوٌّ في ولايتهم وعدَّ نفسه عديلًا، فأُديلت دولتهم عليه وكفى بالإدالة دليلًا، ولما بانت البوارق بمصر من فِرْعونها زمنًا طويلًا، مدَّ لهم أَمَدَ البغي فحملوا منه حِمْلًا ثقيلًا، فلما نهضت خلافةُ الإمام المستضيء بأمر الله بالحق سَدَّتْ في وجوه الظَّلَمة سبيلًا، وخربت قصر مصر بالظُّلم، وأعادت باغي البغي قتيلًا، وبادت شرقًا وغربًا وقُرْبًا وبعْدًا، والعاقبة للمتقين {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، ثم اتبع أقوام يسمَّون الرَّافضة، يثلبون الصَّحابة، ولا يدينون بطاعة الخلافة، ومعنا في بلدتنا منهم خَلْقٌ كثير، ولم نطلع منهم على هفوة وعثرة، وكلما رأوا من أنوار الدولة العَبَّاسية ما يخجلُ الشَّمْسَ والقمر سَلَوا نفوسهم بساكني مصر والمنتظر، فليتهم علموا أَنَّ صاحب مصر قد محقته آفة، وأن المنتظر حديث خرافة، يا لهذا الفتح فتحٌ ضاهى فتح مكة، تجهَّمت فيه وجوه ضُربت على غير المسكنة، أظهر عليها الحُزْن والأسف أثره {عَلَيهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ} [عبس: 80] ولقد فَتَحَ هذا الفَتْحُ صدرَ كلِّ صَدْر، أسهمنا من وقعته وما حضرنا وقعة بدر. ثم قال في آخر الكتاب: هذه كلمات مَنْ قَلْبُهُ معقودٌ على الولاء، ولسانُه مشغولٌ بالدُّعاء، ولا بُدَّ أن يبوح بفضل العطر ناشق، ولا يمكن أن يكتم وَجْده عاشق، ولما علَّق الناسُ اللآلي المثمنات، عَلَّق العبدُ - إذ لا مال له - هذه الكلمات، استجاب الله منه صالحَ دعائه، في صباحه ومسائه، بمحمّد وآله، وانقطعت ولايةُ المِصْريين عن مصر، وقد كان يخطب لبني العَبَّاس بها إلى سنة تسع وخمسين وثلاث مئة في خلافة ¬

_ (¬1) الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 325 - 326.

المطيع، وولي بعده تسعة من الخلفاء، والأمر بحاله إلى هذه السنة، فعادت الخطبة، فكان مدَّةُ انقطاعها لبني العباس بمصر مئتي سنة وثماني سنين. وفيها بعث الخليفة صَنْدَل المقتفوي؛ وهو أكبر الخدم إلى نور الدين جواب [ابن أبي] (¬1) عصرون بالخِلَع لنور الدين، وفيها الطَّوْق فيه ألفُ دينار، والفَرَجية والعِمامة، ولصلاح الدِّين دونها، وبعث لنور الدين سيفَين، قلَّده سيفًا للشَام وسيفًا لمِصْر، وزينت بغداد وضُربت القِباب. وفيها بدت الوَحْشة بين نور الدِّين وصلاح الدِّين، لأنَّ نور الدِّين كتَبَ إلى صلاحِ الدِّين بأن يجمع العساكر، ويقدَمَ إلى الشام ليحاصر الكَرَك، ويجتمعا هناك لتدبير أمورٍ لا ذكر لها في كتابٍ، فَبَرَزَ صلاحُ الدين إلى بِلْبِيس، وكتَبَ إلى نور الدِّين يخبره بأنَّه واصِلٌ، وخرج نورُ الدِّين إلى دمشق، فنزل على البَلْقاء، وأقام ينتظره، وشاور صلاح الدين أصحابه، فخوَّفوه من نور الدِّين، فأثنوا عزمه، فكتَبَ يعتذر من اختلال البلاد، وأنَّه متى بَعُدَ عنها لم يأمن أهلَها. فشَقَّ على نور الدين، ولم يقبل عُذْره، وعَزَمَ على قَصْدِ مِصْر، وإخراجِ صلاح الدين منها، وشَرَع يتجهَّز، فجمع صلاحُ الدِّين الأُمراءَ وأهلَه، وقال: ما تَرَوْن؟ وكان فيهم تقيُّ الدِّين عمر بن أخي صلاح الدين، وشهاب الدين خال صلاحِ الدِّين، فقال تقي الدين: إنْ جاء قاتلناه. وكان نجمُ الدِّين أيوب حاضرًا، فسبَّ تقيَّ الدِّين وزَبَرَه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك، وهذا خالك - عن شهاب الدِّين - أتظنّ في هؤلاء كلَّهم من يحبُّك ويريد لك الخير مِثْلَنا؟ قال: لا، فقال: والله لو رأينا المولى نور الدِّين لم يُمْكِنَّا إلا أَنْ نترجَّل، ونقبِّل الأرض بين يديه، ولو أمرنا بقتلك لفعلنا، فإذا كُنَّا نحن كذا، فكيف غيرنا! وهذه البلاد [له] (¬2) ونحن مماليكه، وأنت نائبه فيها، وإذا أراد عَزْلك، فأيُّ حاجة لك في المجيء، يُنفِّذ كتابًا مع نجَّاب يأمرك بالمسير إليه لتنزل إلى خدمته، وهل عندنا له خلاف. وتفرقوا على هذا، وكتَبَ أصحابُ الأخبار إلى نور الدين بصورة المجلس، وأما نجم الدين، فإنه خلا بابنه، وقال له: يا قليل المعرفة، تجمعُ هذا الجمعَ الكثير، وتُطْلعهم على ما في ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين ليس في (ح)، والمثبت من "الروضتين": 2/ 228.

نفسك، ومتى بلغ نور الدين أنك عازمٌ على مَنْعه من البلاد قَصَدَك بعساكر الشَّام والشَّرق وديار بكر والرُّوم وغيرها، فلم يبق معك أحد، وأولهم خالك وغيره ممن نافسك في المُلْك، وفي قلوبهم منك ما فيها، وقد كَتَبَ أصحابُ الأخبار إلى نور الدين بما قلتَ، فاكتبْ إليه كتابًا تُذْعِنُ له فيه بالطَّاعة، وقُلْ له: ما حاجة إلى قَصْدي بنفسك، ابعثْ أحد غِلْمانك يحملني إلى بين يديك، [فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك، واشتغل بما هو أهم عنده] (¬1)، والأيام تندرج، والله تعالى كل يوم في شأن. فكتَبَ صلاحُ الدين إلى نور الدين بذلك، فرجع عن قَصْده، واستحيا منه، واشتغل عنه بالفرنج. وقال ابن شدَّاد رحمه الله: قال لي صلاح الدين: أشار عليَّ جماعةُ الأهل إنْ قصدني نور الدين أَنْ أقاتله، وكنت وَحْدي أُخالفهم، وأقول: والله لا كان ذلك أبدًا، ولا قاتلت مولاي، حتَّى وصلت الأخبار بموته (¬2). وقال أبو الحسن علي بن محمد بن الأثير الجَزَري: في هذه السنة اتَّخذ نورُ الدِّين الحَمَام الهوادي في جميع البلاد في الأبراج تنقل إليه الأخبار، وسببُه اتِّساعُ مملكته، فكانت من حَدِّ بلاد النَّوبة إلى هَمَذَان، وكان أهم ما عنده قَلْع الفرنج من السَّاحل، فكان إذا تحرَّك الفرنج لقصده أو تحرَّك لقصدهم، كتب الكُتُبَ على أجنحة الطيور إلى البلاد البعيدة يستدعي العساكر، فيأتون إليه بسرعة (¬3). وفيها قبض المستضيء على وزيره ابنِ رئيس الرؤساء، ونُهبت دوره، وسببه ولده كمال الدين، فإنَّه كان ظالمًا جبَّارًا، دخل الخادم صَنْدَل إلى دار الوزير، فأطبق دواته وحَبَسَ ابنه كمال الدين في بيت من الدَّار، واستولى على جميع [ما في الدار من المال والثياب والمتاع والخدم والمماليك والخيل وغيرها] (¬4)، وكمال الدين (¬5) في البيت ينظر إلى ماله كيف ينهب، ولا يقدر على الكلام. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من الباهر: 159، وانظر "الروضتين": 2/ 228 - 229. (¬2) النوادر السلطانية ص 47. (¬3) الباهر: 159، و"الكامل": 11/ 375. (¬4) في (خ): على جميع ما فيها، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) كذا في النسخ الخطية، والصواب "عضد الدين" وهو لقب الوزير، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (573 هـ).

حسان بن نمير، أبو الندى

وفيها توفي حَسَّان بن نُمَير، أبو النَّدى (¬1) الشَّاعر الكلبي، ويقال له عَرْقلة، من حاضرة دمشق، [ذكره العماد في "الخريدة" وقال]: كان شيخًا خليعًا أعور، مطبوعًا كيِّسًا، لطيفًا ظريفًا منادمًا، واختصَّ بصلاح الدِّين، وله فيه قصائدُ كثيرة، وقيل: إنَّ وفاته تأخَّرت حتَّى أَخَذَ صلاحُ الدين دمشق. [وله ديوان مشهور] (¬2)، ومن شعره وقد اقترح عليه مجير الدين أبق موازنة: شَرِبْتُ من دِنانه ... من كلِّ دَنٍّ قدحا فقال: [من مجزوء الرجز] من لي بساقٍ أغيدٍ ... عِذارُه قد سنحا كأنه بَدْرُ دُجًى ... في كفِّه شمسُ ضُحى ما زلتُ من مُدامِهِ ... مُغْتبقًا مُصْطبحا حتَّى غدوتُ لا أرى النُّـ ... ـــدمان إلا شبحا وقد عصيتُ في الهوى ... من لامَ فيه ولحا يا قلبُ كم تذكُرُه ... لا بارحتك البُرَحا هذا الَّذي تَعْشَقُه ... كم قلبِ صَبٍّ جَرَحا يا صاحِ يا صاح اسْقني ... من راحتيك القَدَحا واغتنمِ العيشَ فما ... تُبْقي الليالي فَرَحا كأنَّما البَدْرُ وقد ... لاحَ لنا مُتَّضِحا وجهُ مجيرِ الدِّين مَو ... لانا إذا ما مُدِحا (¬3) ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 178 - 229، و"فوات الوفيات": 1/ 313 - 318، و"الوافي بالوفيات": 11/ 364 - 368، و"النجوم الزاهرة": 6/ 64 - 65، و"شذرات الذهب": 4/ 220، وقد طبع ديوانه بتحقيق أحمد الجندي، وصدر ضمن مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1970. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) الأبيات في "الخريدة": 1/ 193، وهي في "ديوانه": 18 - 19.

وقال يمدح شمسَ الدَّولة تورانشاه، وقد نزل دمشق في دار عَمِّه أسد الدين لما فتحت دمشق، وهذا يدلُّ على تأخُّر وفاته: [من الرجز] قلتُ لحُسَّادِك زِيدُوا في الحَسَدْ ... قد سَكَنَ الدَّارَ وقد جازَ البَلَدْ لا تعجَبُوا إنْ حَلَّ دارَ عَمِّهِ ... أما تَحُلُّ الشمسُ في بُرْجِ الأَسَدْ (¬1) وقال يمدح صلاح الدِّين: [من الخفيف] أصبحَ المُلْكُ بعد آلِ عليٍّ ... مُشْرقًا بالملوك من آل شاذي وغدا الشَّرْقُ يحسدُ الغرب للمُلـ ... ــك ومِصْرٌ تزهو على بغداذ ما حواها إلا بَعَزْمٍ وحَزْمٍ ... من صليل الفولاذ في الفولاذِ لا كفِرْعَوْن والعزيز ومن كانَ ... بها كالخَصِيبِ والأُستاذِ (¬2) وكان صلاحُ الدِّين قد وعده إذا فتح مِصْر أن يعطيه ألفَ دينار، فلما فتحها قصده وامتدحه بأبيات منها: [من البسيط] قُلْ للصَّلاح معيني عند إقتاري ... يا ألفَ مولاي أينَ الألفُ دينارِ أخشى من الأَسْرِ إنْ حاولتُ أرضكُمُ ... وما تفي جَنَّةُ الفِرْدَوْس بالنَّارِ فَجُدْ بها عاضديَّاتٍ موفَّرةً ... من بعضِ ما خلَّف الطَّاغي أبو الطَّاري حُمْرًا كأسيافكم غُبْرًا كخيلكُمُ ... عُتْقًا ثقالًا كأعدائي وأطماري (¬3) [قال] (4): فأعطاه [صلاح الدين] (4) من عنده ألف دينار، وأخذ له من إخوته مِثْلَها، فعاد إلى دمشق، فأدركه أجلُه بها [بعد سنة ست أو سبع وستين وخمس مئة] (¬4). وقال في محبوب له أحول، ومَدَحَ في آخرها الوزير جمال الدين الموصلي: [من المنسرح] يا لائمي هل رأيتَ أعجب من ... ذي عَوَرٍ هائمٍ بذي حَوَلِ أَقِلُّ في عينه ويكثر في ... عيني بضدِّ القياسِ والمَثَلِ ¬

_ (¬1) البيتان في "الخريدة": 1/ 202، وهما في "ديوانه": 36. (¬2) الأبيات في "الخريدة": 1/ 203 - 204. وفي "ديوانه": 37 - 38. (¬3) الأبيات مع اختلاف في بعض الألفاظ في "الخريدة": 1/ 178 - 179، وهي في "ديوانه": 49 - 50، وانظر "كتاب الروضتين": 2/ 128 - 129. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ما آفتي غيرُ ورد وجنته ... والوَرْدُ لا شك آفةُ الجُعَلِ فلو رأتْ حُسْنَه فلاسفةٌ ... لعوَّذته بعِلَّةِ العِلل قد ذُقْتُ منه هجرًا أَمَرَّ من الصَّـ ... ـــبرِ ووَصْلًا أحلى من العَسَلِ أهوى تجنِّيه والصُّدودَ كما ... يهوى المعالي محمَّدُ بنُ علي محمّد خاتَمُ الكرام كما ... سَمِيُّهُ كانَ خاتَمَ الرُّسلِ (¬1) وقال: [من الطويل] يقولون لِمْ أَرْخَصْتَ شِعْرَك في الورى ... فقلتُ لهم إذ ماتَ أهلُ المكارمِ أُجازى على الشِّعْر الشّعير وإنَّه ... كثيرٌ إذا خلَّصتُه من بهائمِ (¬2) وقال: [من البسيط] عندي إليكم من الأشواقِ والبُرَحا ... ما صيَّر الجِسْمَ من بعد الضَّنا شبحا أحبابنا لا تظنُوني سلوتُكُمُ ... الحالُ ما حال والتَّبْريح ما بَرِحا لو كان يسبح صَبٌّ في مدامعه ... لكنتُ أَوَّلَ مَنْ في دمعه سَبَحا أو كنت أعلمُ أنَّ البَيْنَ يقتلُني ... ما بِنْتُ عنكُمْ ولكنْ فات ما ذُبِحا (¬3) وقال: [من الكامل] كَتَم الهوى فَوَشَتْ عليه دموعُهُ ... مِنْ حَرِّ جَمْرٍ تحتويه ضلوعُهُ صبٌّ، تشاغَلَ بالرَّبيعِ (¬4) وزَهْره ... قومٌ، وفي وَجْه الحبيبِ ربيعُهُ يا لائمي فيمن تمنَّعَ وَصْلُهُ ... عن بُغْيتي أحلى الهوى ممنوعُهُ كيفَ التخلُّصُ إنْ تجنَّى أوْ جنى ... والحُسْنُ شيءٌ ما يُرَدُّ شفيعُهُ شمسٌ ولكن في فؤادي حرُّها ... بَدْرٌ ولكنْ في القلوب طلوعُهُ قال العواذِلُ ما الَّذي استحسنتَهُ ... فيه وما يَسْبيك قلتُ جميعُهُ (¬5) ¬

_ (¬1) "الخريدة": 1/ 180 - 181، "ديوانه": 85 - 86. (¬2) البيتان في "الخريدة" 182، و"ديوانه": 94. (¬3) وهما في "الخريدة": 1/ 182، "ديوانه": 17 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬4) في النسخ الخطية: بالحبيب، والمثبت من "ديوانه" و"الخريدة"، وهو أصح. (¬5) الأبيات في "الخريدة": 1/ 183، و"ديوانه": 58 - 59 مع اختلاف في بعض الألفاظ.

عبد الله بن أحمد

وقال: [من الطويل] تُرى عند مَنْ أَحْبَبْتُهُ لا عَدِمْتُهُ ... من الشَّوق ما عندي وما أنا صانعُ جميعي إذا حَدَّثْتُ عن ذاك ألسنٌ ... وكلِّي إذا نُوجيتُ (¬1) عنه مسامعُ (¬2) وقال في ذم كتاب: [من الكامل] وَصَلَ الكتابُ عدمت عشرَ أناملٍ ... أَلَّفْنَ ما فيه من التَّضْمينِ ما كان أشبهه وقد عايَنْتُهُ ... بوثيقةٍ ظهرت على مَدْيونِ (¬3) [وعرقلة هو القائل لما ولي صلاح الدين شحنكية دمشق: [من المتقارب] رويدكم يا لصوص الشآم ... فإني لكم ناصحٌ في مقالي وقد ذكرناه. وعرقلة هو القائل في وصف دمشق] (¬4): [من البسيط] أما دمشقُ فجنَّاتٌ مُزَخْرَفَةٌ ... للطَّالبين بها الولْدانُ والحُوْرُ ما صاح فيها على أوتاره قَمَرٌ ... إلا وغنَّاه قُمْرِيٌّ وشُحْرورُ يا حبَّذا ودروعُ الماءِ تنسُجُها ... أناملُ الرِّيح إلا أنَّها زُورُ (¬5) عبد الله بن أحمد (¬6) ابن أحمد بن أحمد، أبو محمد بن الخشاب. النَّحْوي اللُّغوي، حُجَّة العرب [وجامع أسباب الأدب، قرأ القرآن، وسمع الحديث] (¬7) برع في فنون العلوم، وانفرد بعِلْم النحو والعربية، وفاق أهلَ عصره. ¬

_ (¬1) في "الديوان" و"الخريدة": إذا حُدِّثتُ. (¬2) البيتان في "الخريدة": 1/ 212، و"الديوان": 59 - 60. (¬3) "الخريدة": 1/ 227، و"الديوان" 151. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وفي (ح): وقال يصف دمشق. (¬5) "ديوانه": 41، و"الخريدة": 1/ 204. (¬6) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 7 - 18، "المنتظم": 10/ 238 - 239، و"معجم الأدباء": 12/ 47 - 53، "الكامل": 11/ 375 - 376، "إنباه الرواة": 2/ 99 - 103، "وفيات الأعيان": 3/ 102 - 104، "سير أعلام النبلاء": 20/ 523 - 527، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬7) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

قال ابنُ الأخضر: دخلتُ يومًا عليه وهو مريضٌ وعلى صَدْره كتابٌ ينظر فيه، فقلتُ: ما هذا؟ قال: ذَكَرَ ابنُ جني مسألةً في النحو، واجتهد أن يستشهد عليها ببيتٍ من الشعر فلم يحضره، وإني لأعرفُ على هذه المسألة سبعين بيتًا من الشِّعْر، كلُّ بيت من قصيدة يصلح أن يستشهد به عليها. وكان مُغزًى بشرى الكُتُب؛ حَضَرَ يومًا سوق الكُتُبيين، فَنُودي على كُتُب بخمسِ مئة دينار، ولم يكن عنده شيء، فاشتراها، وقال: أخروني ثلاثة أيام. ومضى فنادى على [ساج] (1) داره، فبلغت خمس مئة دينار، فنقَضَ ساجَها، وباعه بخمس مئة دينار، فوفى [بها] (1) ثمن الكتب، وبقيت الدَّار له بغير شيء. وكان يؤدِّب أولادَ الخليفة، ويخرج من دار الخليفة وقتَ العصر، فيقف على الحِلَق في الرَّحْبة وعلى من يلعب بالشِّطْرنج، فقيل للخليفة: ينبغي أن يُصان عن مثل هذا. فأرسل إليه فيها، فقال: هذه الأماكن لا تخلو من فائدة، وما أنا ممن يدخل تحت حَجْر، فإنْ رضيتم، وإلا فالله قد أقالكم، أنا ما خطبتُ منكم هذا، أنتم خطبتموني. فقال الخليفة: دعوه على حاله. [وكان يكتب خطًّا حسنًا، وله مصنفاتٌ في النحو واللغة والعَروض والحساب وغيره] (1)، وكانت وفاتُه في رمضان، ودفن قريبًا من بِشْر الحافي. [وكان يقول الشعر] (¬1)، ومن شعره في فتح مصر: [من الطويل] يقولون مصرٌ قد أبانتْ وأقلعتْ ... وقد سَعِدَتْ من بَعْدِ شِقْوتها مِصْرُ وآلتْ إلى آلِ النَّبيِّ وآنست ... طُمَأنينةً منهم وكان بها ذُعْرُ وهل مصرُ إلا آبقٌ غاب بُرْهة ... وعاد إلى مولًى له أَمْرُهُ أَمْرُ فأَوسعَه صَفْحًا وأَوْلاه رحمةً ... وكان له منه التَّغَمُّدُ والغَفْرُ وقد كان فِرْعونٌ يُدلُّ بمُلْكها ... ويعروه كِبْرٌ أنْ جرى تحتها نَهْرُ فأوبقه طغيانُه وعُتُوُّه ... وأرداه في اليَمِّ التَّجبُّر والكِبْرُ وقال لموسى إذ أتاه بآية ... هي الآية الكبرى ألا إنَّ ذا سِحْرُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عبد الله بن أحمد بن الحسين

وهل هو إلا النِّيلُ إنْ مَدَّ أخْصَبَتْ ... على قَدَرٍ منه ويُمْحِلُها الجَزرُ وكان على عهد ابن هند مدينةً ... بها القِبْطُ فوضى حين ولِّيها عمرو إمام نَمَتْه الصِّيدُ من آلِ هاشمٍ ... هُمُ أمناءُ الله والحُجَجُ العَشْرُ نوى الخيرَ من قبل الخِلافة قَلْبُهُ ... فصدَّقه الإحسانُ والنَّائل الغَمْرُ به تفخرُ الأملاكُ في أُفق العُلى ... ويُزْهى به العَبَّاس والحُجَّةُ الحَبْرُ عليه من اللاهوت نورٌ وهيبةٌ ... لها يُذْعِنُ العاصي ويستعبد الحُرُّ إذا شاءَ أمرًا فالقضاءُ مؤَيِّدٌ ... لما شاءَ والإقبالُ يتبع والنَّصْرُ تبسَّمَتِ الدُّنيا بذكر خليفةٍ ... تُهنَّا به الأيامُ والخَلْقُ والعَصْرُ هو الظِّلُّ ظِلُّ الله في الأرض كلِّها ... له المُلْك والأفضال والنَّهْي والأَمرُ (¬1) وقال: [من السريع] صفراءُ لا من سَقَم مَسَّها ... كيف وكانت أُمُّها الشَّافِيَهْ عُرْيانةٌ باطِنُها مُكْتَسٍ ... فاعْجَبْ لها كاسيةً عاريه (¬2) عبد الله بن أحمد بن الحسين (¬3) ابن إسحاق، أبو محمَّد الحِمْيري، ويعرف بابن النَّقَّار الكاتب. ولد بطرابلُس سنة تسع وسبعين وأربع مئة، [ونشأ بها، وقرأ القرآن والأدب] (¬4) ولما استولى الفرنج عليها انتقل إلى دمشق (¬5). [وله شعر رقيق ومعنى دقيق، ومنه هذه الأبيات] (4) بادِر إلى اللَّذَّاتِ في أَزْمانها ... وارْكُضْ خيولَ اللَّهو في مَيدانها واستقبلِ الدُّنيا بصَدْرٍ واسعٍ ... ما أَوْسَعَتْ لكَ من رحيبِ مكانها ¬

_ (¬1) "الخريدة": 3/ 11 - 16. (¬2) "الخريدة": 3/ 10. (¬3) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر" (خ): 8/ 1055 - 1007، و"الخريدة"، قسم شعراء الشام: 1/ 314 - 315، و"تكملة إكمال الإكمال": 348، و"توضيح المشتبه": 9/ 118، "النجوم الزاهرة": 6/ 65. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (م) و (ش): وذكره العماد الكاتب في "الخريدة"، وقال: ابن المنقار الكاتب الدمشقي، كان فاضلًا، كتب لملوك دمشق ولنور الدين محمود بن زنكي، وعاش نيِّفًا وتسعين سنة، وله شعر، وسيأتي هذا النقل في (ح) بعد الأبيات الآتية.

واستخدمِ الأيَّام قبل نفورها ... واستغنمِ اللَّذَّاتِ قبل حِرانها جاءَتْكَ أيَّامُ الرَّبيعِ فمرحبًا ... بقُدُومها وبحُسْنِ فِعْلِ زمانِها وحَبَتْك من سرِّ السَّحاب بجنَّةٍ ... تتفنَنُ الأبصارُ في أفنانِها وبَدَتْ لك الدُّنيا تُدِلُّ بحُسْنها ... وبهائِها وتميسُ في أرْدانِها أرأيتَ أبهى من بدائعِ نَوْرِها ... في الرَّوضِ طالعةً على غُدْرانها فكانَ مَعْبد أُوْ مُخارِقَ أصبحا (¬1) ... في طِيبِ صوتهما كبعض قِيانها يا صاح ما لك لا تزال مُوَلَّهًا ... تُعطي الصَّبابةَ منك فَضْلَ عِنانها ما للرِّياض إلى دموعك حاجةٌ ... قد ناب صَوْبُ الغَيثِ عن هَمَلانها هل أذكَرَتْكَ علامةٌ لشقيقها ... أم هيَّجتْك إشارةٌ في بانها أم حرَّكَتْ منك البلابلُ ساكنًا ... بحنينِ ما رَجَّعْنَ من ألحانها ما ذاك إلا أنَّ في الأحبابِ ما ... أجرى لك العَبَراتِ من ألوانها فذكرتَ ألوانَ الخُدودِ بوَرْدِها ... وسوالف الأَصْداغ من رَيحانها وكذا المحاسنُ لا تكون محاسنًا ... إلا إذا جُليت على أقرانها آهًا لقلبٍ لم يزل في صَبْوَةٍ ... وصبابةٍ يُلْقى على نيرانها غَلَبَتْ عليه يدُ النَّوى ويدُ الهوى ... كالنَّارِ لا يقوى على سُلْطانها يا قاصدًا أرضَ الأَحِبَّة زائرًا ... بلِّغْ تحيَّتَنا إلى سُكَّانِها (¬2) وقال العماد الكاتب: ابن النَّقَّار الدِّمشقي، كان فاضلًا، كتَبَ لملوكِ دمشق ولنور الدين، وعاش نيفًا وتسعين سنة، ومن شِعْره: [من الكامل] الله يعلَمُ أنَّني ما خِلْتُهُ ... يَصْبو إلى الهِجْران حين وَصَلْتُهُ مَنْ مُنْصفي مِن ظالمٍ مُتَعَتِّبٍ ... يزدادُ ظُلْمًا كلَّما حكَمْتُهُ ملَّكْتُه رُوحي ليحفظَ مُلْكَه ... فأضاعني وأضاع ما ملَّكْتُهُ ¬

_ (¬1) معبد هو ابن وهب، من كبار المغنين في العصر الأموي، توفي سنة (126 هـ)، وله ترجمة في الأغاني: 1/ 36 - 59 طبعة دار الكتب، ومخارق: هو ابن يحيى الجزار، كان إمام عصره في فن الغناء في العصر العباسي، وتوفي سنة (123 هـ)، وله ترجمة في الأغاني: 3/ 71 - 72 طبعة دار الكتب، ولم يصرف الشاعر "معبد" لضرورة الشعر. (¬2) القصيدة بتمامها في "تاريخ ابن عساكر": 8/ 1006 - 1007.

عبد الله العاضد

لا ذَنْبَ لي إلا هواه لأَنَّه ... لما دعاني للسَّقام أَجَبْتُهُ أحبابَنَا أنفقتُ عُمْري عندكُمْ ... فمتى أُعوِّضُ بعضَ ما أَنْفَقْتُهُ وبمن أعود إلى سواكُمْ قاصدًا ... والقَلْبُ في عَرَصاتكم خَلَّفْتُهُ ولمن ألوم على الهوى وأنا الَّذي ... قُدْتُ الفؤاد إلى الغرامِ وسُقْتُهُ أأرومُ غيركُمُ صديقًا صادقًا ... هيهاتَ ضاقَ الوقتُ عمَّا رُمْتُهُ قد كُنْتُ أَعْذِلُ كلَّ صَبٍّ في الهوى ... وألومه في العِشْق حتَّى ذُقْتُهُ ما لي سوى قلبي وفيك أَذَبْتُهُ ... ما لي سوى دمعي وفيك سكَبْتُهُ أبكي إذا جَنَّ الظلامُ تشوُّقًا ... في طول ليلٍ في هواك سَهِرْتُهُ وأنوح إنْ ناحَ الحمامُ ضحىً على ... إلفٍ فقدتُ الصَّبْرَ حين فَقَدْتُهُ ما كُنْتُ أعرِفُ ما الغرامُ ولا الأسى ... والشَّوْقُ والتَّبريحُ حتَّى ذُقْتُهُ (¬1) عبد الله العاضد (¬2) صاحبُ مِصْر، ابنُ يوسف بن الحافظ، أبو محمَّد، لم يلِ أبوه الخلافة [وقد ذكرناه] (¬3)، وأمه أم ولد يقال لها سِتُّ المُنى. ولد سنة أربع وأربعين وخمس مئة، وبويع في رجب سنة خمس وخمسين [وخمس مئة] (3) وهو ابن إحدى عشرة سنة، وتوفي يوم عاشوراء وعمره ثلاث وعشرون سنة (¬4)، فكانت أيَّامه إحدى عشرة سنة وشهورًا. واختلفوا في سبب وفاته على أقوالٍ، أحدها: أنَّه تفكَّر في أموره، فرآها في إدبار، فأصابه ذَرَبٌ عظيم، فمات منه. والثاني: أنَّه لما خُطِبَ لبني العَبَّاس بَلَغَهُ؛ فاغتَمَّ، ومات. وقيل: إنَّ أهله أخفوا عنه ذلك، وقالوا: إنْ سَلِمَ فهو يعلم، وإن مات فلا ينبغي أن ننغِّص عليه هذه الأيام التي بقيت من عمره. ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": قسم شعراء الشام: 1/ 314 - 315، مع اختلاف في بعض الألفاظ، ما خلا الأبيات الثلاثة الأخيرة فيها، وإخالها زيادة من ناسخ لأنها من طبقة أدنى من ذلك الشعر، وقد كررت فيه قافية سلفت، والله أعلم. (¬2) ترجمته في "الكامل": 11/ 255 وما بعدها، "وفيات الأعيان": 3/ 109 - 112، و"اتعاظ الحنفا": 3/ 243 وما بعدها، و"سير أعلام النبلاء": 15/ 207 - 215، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في "السير" أنَّه ولد سنة (546 هـ)، فيكون عمره حين بويع تسع سنين، وعمره حين توفي إحدى وعشرون سنة.

والثَّالث: أنَّه لما أيقن بزوالِ دولته كان في يده خاتم، له فَصٌّ مسموم، فمصَّه، فمات. وجلس صلاح الدين في عزائه، ومشى بين يدي جِنازته، وتولى غَسْله وتكفينه، ودفَنَه عند أهله، واستولى صلاحُ الدِّين على ما في القَصْر من الأموال والذَّخائر والتُّحَف والجواهر والعبيد والخدم والخيل والمتاع وغيره. وكان في القَصْر من الجواهر النَّفيسة ما لم يكن عند خليفةٍ ولا ملك مما قد جُمِعَ على طول السِّنين، فمنه: القضيب الزُّمرُّذ، وطوله قبضة ونصف، والحبل الياقوت الأحمر، والدُّرَّة اليتيمة مثل بيض الحَمام، والياقوتة الحمراء وتسمى الحافر، وزنها أربعة عشر مثقالًا، ومن الكُتُب المنتخبة بالخطوط المنسوبة مئة ألف مجلد، ووَجَدَ عِمامة القائم وطَيلَسانه بحاله، بَعَثَ البساسِيريُّ بهما إلى المستنصر، ووجد أموالًا لا تعدُّ ولا تحصى. وأفرد أهلَ العاضد ناحيةَ عن القصر، وأجرى عليهم [جميع] (¬1) ما يحتاجون إليه، وسلَّمهم إلى قراقوش، فعَزَلَ الرِّجال عن النِّساء، واحتاط عليهم، وفرَّق الأموال التي أخذها من القَصر في العساكر، وباع بعضَ الجواري والعبيد، وأعطى للقاضي الفاضل من الكُتب ما أراد، وبعثَ إلى نور الدِّين بعِمامة القائم وطَيلَسانه، وهدايا، وتحفًا، وطِيبًا، ومئة ألف دينار - وكان نور الدين بحلب - فلما حضرت بين يديه، قال: والله ما كان بنا حاجة إلى هذا، ما وصل إلينا عُشْر معشار ما أنفقناه على العساكر التي جهَّزناها إلى مِصْر، وما قصدنا [بفتح مصر إلا فتح السَّاحل، وقلع الكفار منه] (¬2)، وأنشد: ] من البسيط] لم يُنْفقِ الذَّهبَ المُرْبي بكَثْرَتِهِ ... على الحصى وبه فقرٌ إلى الذَّهَبِ وانقضت أيَّامْ المِصْريين بوفاة العاضد، وعِدَّتهم أربعة عشر على عدد بني أمية، إلا أن أيَّامهم طالت، فملكوا مئتين وثماني سنين، وبنو أمية ملكوا نيِّفًا وتسعين سنة. [وقد ذكرنا سيرة المصريين على وجه التفصيل، وتقلب الأمور والأحوال، ونذكرهم هنا على وجه الإجمال فنقول: أولهم] (¬3): ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): وما قصدنا بفتحها إلا فتوح الساحل، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): وأول المصريين، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن محمد بن محمد [ثلاث مرات]

عبيد الله الملقب بالمهدي، وهو جَدُّهم. قال ابنُ عبد البر: هو عبيد الله بن محمّد بن ميمون بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق عليه السَّلام، والثاني: ابنه أبو القاسم محمد [بن عبيد الله] (1)، ويلقب بالقائم بأمر الله، والثالث: ابنه إسماعيل [بن محمّد] (1)، ويلقب بالمنصور، والرَّابع: ابنه أبو تميم مَعَدّ، ويلقب بالمُعِزِّ لدين الله، وهو الَّذي بنى له جوهر القاهرة، والخامس: ابنه نزار [بن معد] (1) ويلقب بالعزيز بالله، والسادس: ابنه منصور، ويلقب بالحاكم بأمر الله، والسَّابع: ابنه علي [بن منصور] (1)، ويلقب بالظَّاهر لدين الله، والثامن: ابنه معَدَّ [بن علي] (1)، ويلقب بالمستنصر بالله، وَليَ ستين سنة، والتَّاسع: أبو القاسم أحمد، ويلقب بالمُسْتَعْلي، والعاشر: ابنه منصور [بن أبي القاسم] (1) ويلقب بالآمر بأحكام الله، وقُتِلَ، والحادي عشر: أبو الميمون عبد المجيد بن محمد بن المستنصر، ويلقب بالحافظِ لدين الله، والثَّاني عشر: ولدة إسماعيل ويلقب بالظَّافر، وقُتِلَ. والثَّالث عشر: عيسى، ويلقب بالفائز بأمر الله، والرَّابع عشر: العاضد. [وقد رثاهم جماعة، منهم عمارة اليمني بقصيدته التي يقول فيها: رميتَ يا دَهْرُ كفَّ المجد بالشَّلل وهي كانت سبب قتله] (1). محمد بن محمّد بن محمّد [ثلاث مرات] (¬1) البغوي (¬2) ويقال البروي (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 179، و"الكامل": 11/ 376، "وفيات الأعيان": 4/ 225 - 226، و"العبر": 4/ 200، و"الوافي بالوفيات": 1/ 279 - 280، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 389 - 391، و"البداية والنهاية"، وفيات سنة (567 هـ)، و"شذرات الذهب": 4/ 224. (¬3) قال العماد في "الشذرات": والبروي، بفتح الموحدة وتشديد الراء المضمومة نسبة إلى بَرُّويه: جد. وقال ابن خَلِّكان في "وفياته": بفتح الباء الموحدة والراء وبعدها، وغالب ظني أنها من نواحي طوس، والله أعلم.

السنة الثامنة والستون وخمس مئة

قدم بغداد في أول ولاية المستضيء، ووعظ بالنِّظامية، ونَصَرَ مذهب الأشعري، وبالغ في ذمِّ الحنابلة. وقال: لو كان إليَّ أمرٌ لوَضَعْتُ عليهم الجِزْية، [وكان شابًّا حَسَن الصُّورة، مليح العبارة، فصيحًا، فيقال: إن الحنابلة دسُّوا عليه من قتله أو سمَّه؛ جاءته] (¬1) امرأةٌ في الليل ومعها صحن حلوى، فطرقت بابه [فقال: مَنْ؟ ] (1) قالت: أنا امرأةٌ آكل من مغزلي، وقد غَزَلْتُ قطنًا وبعتُه، واشتريت من ثمنه هذه الحلوى، واشتهيت أن الشيخ يأكل منه، فإنَّه حلال. فتناوله منها ومَضَتْ، فجلس يأكل هو وزوجتُه وولد له صغير، فأصبحوا موتى جميعًا في رمضان، ودُفِن بباب أبرز. وكان قد عدا في تلك الأيام ساعٍ للشِّيعة أسود، فخرجوا للقائه، فأنبط [ولم يجئ]، فضاقت صدورهم. قال المصنف رحمه الله: فجلس جدِّي عقيب ذلك، وقال في أثناء كلامه: كم أبرق مبتاع بأصحاب أحمد وأرعد، فحظي بوباله وهُمْ بالعيش الأرغد، وأما أنت يا أبعد، فإنْ أردت تموت أو أردت تجرَّد، مات البروي وأنبط الأسود. السَّنة الثامنة والستون وخمس مئة فيها خَتَنَ الخليفةُ أولاده، فيقال: إنَّه ذبَحَ ألف رأس من الغنم وخمس مئة بقرة وخمسة آلاف دجاجة، وعمل ألف صحن حلوى، وعشرين ألف قطعة خُشْكنانك (¬2)، وخَلَعَ على جميع أربابِ الدَّولة والقضاة والعدول، والعلماء، والصُّوفية وغيرهم. وفيها بعث صلاحُ الدِّين إلى نور الدين هدية فيها فيل وحمار عتَّابي، فبعث بها نور الدين إلى بغداد، وخرج النَّاس لتلقيها، وتعجبوا (¬3) من خِلْقة الحمار. [وكان بمحلة العَتَّابيين رجلٌ نحوي، قاصر في كل شيء، قد تعلَّق بطرف من النحو، وكان يدعي دعاوى عظيمة، فخرج مع الناس يتفرج، ورآه بعض الظراف: فقال: يا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) نوع من الفطير المصنوع من الزبد والسكر والجوز أو الفستق ويكون على هيئة الهلال، انظر "المعرب": 134، ودوزي: 1/ 373. (¬3) في (م): وعجبوا.

قوم، ليس العجب أن يحمل الفتى حمارٌ عتابي، عندنا عتابي حمار (¬1). فضحك الناس] (¬2). وفيها سار نورُ الدِّين إلى المَوْصل، وصلَّى في الجامع الَّذي بناه وسط البلد، وتصدَّقَ بمالٍ عظيم، ولما علم صلاح الدِّين أَنَّ نورَ الدين [قد] (2) توجَّه إلى المَوْصل خرج بعساكر مصر إلى الشَّام، فحصر الكَرَك والشَّوْبك، ونهب أعمالها، وكان جماعة من العرب نازلين بأرض الكَرَك ينقلون الأخبار إلى الفرنج، وإذا غاروا على البلاد دلُّوهم على المسلمين، فنهبهم صلاحُ الدين، وقتل البعض، وأجلى من بقي منهم عن أرض الكرك، وكتب إلى نور الدين كتابًا من إنشاء الفاضل: سببُ إصدار هذه الخِدْمة إلى حضرة مولانا الملك العادل أعزَّ الله سُلْطانه، ومكَّن بالنَّصر إمكانه، وشيَّد بالتأييد مكانه، ونَصَرَ أنصاره، وأعان أعوانه، عَلِمَ المملوك بما يؤثرُه المولى من قَصْدِ الكُفَّار بما يَقُصُّ به أجنحتهم، ويحصُّ (¬3) به أسلحتهم، ويقطع موادَّهم، ويخرِّبُ بلادهم، ومن أكبر الأسباب المعينة لهم على ما يراد منهم أن لا يبقى في بلادهم أحد من العُرْبان، وأن ينتقلوا من ذُلِّ الكُفْر إلى عِزِّ الإيمان، ومما اجتهد فيه غاية الاجتهاد، وعَدَّه من أسباب الجهاد ترحيل كثير من أنفارهم، والحرص على تبديل ديارهم بحيث إنَّ العدوَّ إذا نَهَضَ اليوم لا يجد بين يديه دليلًا، ولا يستطيع حيلة، ولا يهتدي إليه سبيلًا، [وهو "كتاب طويل"] (2). ثم عاد صلاح الدِّين إلى مِصْر. وقيل: هي أوَّل غَزَاةٍ غزاها. [وذكر القاضي أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم الموصلي، ويعرف بابن شداد قاضي حلب -رحمه الله- في سيرة صلاح الدين، وقال: إنما بدأ صلاح الدين بالكرك والشوبك لأنهما في طريق الديار المصرية، وكانوا يغارون على القوافل منها، فقصد ¬

_ (¬1) نوع من حمر الوحش المخططة، نسبة إلى العتابيين، إحدى محال بغداد في الجانب الغربي منها، اشتهرت بالنسيج المخطط، ومن ثم كان هذا النوع من الحمير يوصف بالعتابي تشبيهًا له بهذا النسيج، انظر "وفيات الأعيان": 4/ 389، و"تكملة المعاجم العربية" لدوزي (الطبعة الفرنسية): 2/ 93. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في "الروضتين": 2/ 239: ويفلل أسلحتهم.

تسهيل الطريق ليصل البلاد بعضها ببعض، فحصرها هذه السنة، فلم يظفر منهما بطائل، وتأخر فتحهما إلى ما بعد الفتوح] (¬1). وعاد نور الدِّين إلى المَوْصل، وقطع الفرات، وقصَدَ بلاد الرُّوم؛ وسببُه أنَّ عزَّ الدين قليج رسلان صاحب الرُّوم كان قد تعرَّض لبلاد نور الدِّين محمد بن قرارسلان بن أُرْتُق صاحب آمِد، فسار نورُ الدِّين في نجدته. وقال ابن الأثير: إنما سار نورُ الدِّين إلى بلاد عِزِّ الدين قليج رسلان بن مسعود بن قليج رسلان بن سليمان بن قُتُلْمِش بسبب ذي النُّون بن الدَّانْشَمَنْد صاحب مَلَطْيَة، كان قليج رسلان قد أخرجه منها ومن سيواس، فأرسل إليه نورُ الدِّين يشفع فيه، فلم يجبه، ففتح نورُ الدِّين بَهَسْنى، ومَرْعَش، وقلاعًا من أعمال قليج رسلان، وبينا هو على ذلك جاءه خبرٌ من حِمْص بأنَّ الفرنج نزلوا عليها فرجع إلى الشَّام ومعه ابن الدَّانْشَمَنْد، ووعده بخلاص قلاعه، ولما أخذ نورُ الدين مَرْعَش وبَهَسْنى والمَرْزُبان وغيرها، خاف منه قليج رسلان، فأجابه إلى ما أراد، ورَدَّ بلاد ابن الدَّانْشَمَنْد، وشَرَطَ عليه نورُ الدِّين تجديدَ إسلامه لأنه كان يُتَّهم بالزَّنْدقة، وأنَّه متى طلب منه العساكر ينجده وأن يزوِّج ابنته بابنِ أخيه سيف الدِّين غازي صاحب المَوْصِل، ففعل، وبعثَ نورُ الدِّين فخر الدِّين عبد المسيح مع ابن الدِّانْشَمَنْد إلى مَلَطية وسيواس، ومعه عسكر يكون في خِدْمته، فأقام عنده حتَّى توفي نورُ الدين، ورجعتِ البلادُ إلى قليج رسلان (¬2). وفيها قدم القُطْب النَّيسابوري من حلب إلى دمشق، فدرَّس في الزَّاوية الغربية بجامع دمشق وبالمدرسة الأمينية، وقيل: لم يدرس بالأمينية (¬3). وشَرَع نورُ الدِّين في بناء مدرسة للشَّافعية (¬4) إلى جانب الجاروخية، فأدركه أجله [دون بنائها] (¬5) وقد وضع [نور الدين] (4) المحراب وبعض البناء، وبقي أمرها على حاله، فجاء العادل أبو بكر بن أيوب، فأزال ذلك البناء، وبناها البناء المُحْكم، ودُفِنَ فيها. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "النوادر السلطانية": 86 - 87. (¬2) انظر "الباهر": 160 - 161. (¬3) في (م) و (ش): بعثه نور الدين يدرس بالمدرسة الأمينية وبالزاوية الغربية بجامع دمشق؛ زاوية الفقيه نصر، وقيل: لم يدرس بالأمينية بل بالزاوية الغربية. (¬4) هي المدرسة العادلية الكبرى. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أيوب بن شاذي

وفيها بعث تَقيُّ الدِّين عمر [ابن أخي صلاح الدين] (¬1) جيشًا إلى المغرب مع مملوكه يوزبا، فالتقاه عسكر ابن عبد المؤمن، فهزمه بعد أنْ أقامَ الدَّعوة العباسية بإفريقية، فعاد إلى القاهرة مهزومًا (¬2). وفيها وَصَلَ توقيعُ الخليفة إلى نور الدين بأوانا وصَريفين قريتين بدُجَيل كانتا لأبيه زَنْكي، وعَزَمَ نورُ الدِّين على بناء مدرستين ببغداد أحدهما للحنفية والأُخرى للشَّافعية، وأن يوقف عليهما القريتين، فمات. وفيها توفي أيوب بن شاذي (¬3) ابن مروان (¬4)، نجم الدِّين؛ والد صلاح الدين. كان عاقلًا، حازمًا، شجاعًا، حليمًا، رحيمًا، جَوَادًا، عاطفًا على الفقراء والمساكين، محبًّا للصَّالحين، قليل الكلام جدًّا لا يتكلَّم إلا لضرورة، ولما قَدِمَ مِصْر سأله ولده صلاحُ الدِّين أَنْ يكون هو السُّلْطان، فقال: أنت أَوْلى. [وكان يلعب بالأكرة دائمًا، قال القاضي ابن شدَّاد: كان كثير الركض بالخيل، يلعب بالأكرة، ومن يراه يلعب بها ما يقول إلا أنَّه يموت من ظهر الفرس، و] (1)، ركب يومًا من داره، وخرج من باب النَّصْر يريد الميدان، فشبَّ به فرسه، فوقع على رأسه، [فحمل على داره] (¬5) فأقام ثمانية أيام، وتوفي ليلة الثلاثاء السَّابع والعشرين من ذي الحِجَّة، ودُفِنَ إلى جانب أخيه أسد الدين في بيتٍ بالدَّار السُّلْطانية، ثم نقلا بعد سنين إلى مدينة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان صلاح الدين قد عاد من الكَرَك، فبلغه خبره في الطريق، فحزن عليه، وتأسَّف حيث لم يحضره، وخلف من المذكور ستة: يوسف صلاح الدين، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في سياقة هذا الخبر اختلاف، وذلك أن تقي الدين عمر أرسل سنة (568 هـ) غلامه قراقوش، فاستولى على طرابلس. أما يوزبا فأرسله سنة (582 هـ)، وقد أسر ثمة، انظر "كتاب الروضتين": 2/ 267، 3/ 256 - 257، 4/ 217. (¬3) ترجمته في "الكامل": 11/ 393 - 394، و"الروضتين": 2/ 241 - 260، "وفيات الأعيان": 1/ 255 - 261، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 589 - 590، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) الصحيح في نسبه أنَّه لا يعرف له جد فوق شاذي. انظر "الروضتين": 2/ 250. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "النوادر السلطانية": 46.

الحسن بن أبي الحسن صافي

وأبا بكر العادل، وتورانشاه شمس الدولة، وشاهنشاه، وطُغْتِكِين سيف الإسلام، وبوري تاج الملوك (¬1)، وهو الأصغر، وشمس الدولة الأكبر، ومن البنات: ستَّ الشَّام، وربيعة خاتون. الحسن بن أبي الحسن صافي (¬2) ملك النُّحاة، مولى حسين بن الأُرموي التَّاجر البغدادي. ولد [ببغداد] (3) سنة تسع وثمانين وأربع مئة، وقرأ النحو [على أبي الحسن الاستراباذي الفَصيحي، وأصول الدين على أبي عبد الله القيرواني، وقرأ] (3) أصول الفِقْه والخلاف والمذهب والحديث، وبَرَعَ في النحو، وفاق أهلَ زمانه، وفُتح له جامع الخليفة، فدرَّس فيه النحو، ثم سافر إلى خراسان وكَرْمان وغَزْنة، وصنَّف الكتب في فنون العلوم، ثم دخل الشَّام، واستوطن دمشق، وله ديوان شعر [مليح] (¬3) ومدائح في النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فمنها: [من المنسرح] يا خاتم الأنبياءِ قاطبةً ... أتاك لفظُ الثَّناءِ يَسْتَبِقُ كنتَ نبيًّا وطينُ آدمَ مَجْـ ... ـــبولٌ وتلك الأنوارُ تأتلِقُ وعدتَ فينا تهدي إلى سُبُلِ الـ ... ـــحقِّ فقد أُوضحتْ بكَ الطُّرُقُ وقد وصفه العماد الكاتب (¬4) بالكريم، فقال: كان يضمُّ من الذَّهب يده على المئة والمئتين، ويُمْسي وهو منها صِفْرُ اليدين، وكان يصنعُ الحلاواتِ ويُهديها إلى جيرانه وأصحابه وخُلَّانه، [قال] (3): ووصل إلى أصبهان في سنة إحدى وأربعين [وخمس مئة] (3)، وعاد إلى دمشق، فعاش تحت ظلِّ نور الدين [محمود] (3) إلى أن مات. ¬

_ (¬1) في (م): "تاج الإِسلام". (¬2) له ترجمة في "تاريخ ابن عساكر": (خ) س: 4/ 437 - 440، "خريدة القصر"، قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 89 - 137، و"معجم الأدباء": 8/ 122، و"إنباه الرواة": 1/ 305 - 310، "وفيات الأعيان": 2/ 92 - 94، "إشارة التعيين": ص 91 - 92، "العبر" للذهبي 4/ 204، "الوافي بالوفيات": 12/ 56، "طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 63 - 64، "شذرات الذهب": 4/ 227. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (م) و (ش): وذكره الحافظ ابن عساكر، ووصفه بالكرم فقال: كان يضم من الذهب يده على المئة والمئتين ويمسي وهو منها صفر اليدين.

ومن شعره يشكو من دمشق: [من الكامل] لأُرَحِّلَنَّ مطيَّتي عن بلدةٍ ... شعثاءَ يُكرَهُ ماؤها وهواؤها ولأزجُرَنَّ العِيسَ عنها مُعْرِضًا ... إنْ أدركتني (¬1) دولةٌ ولواؤها فإلامَ أُغضي في دمشق على القذى ... والأرضُ نازحةٌ بها أرجاؤها أَأُضامُ والأملاكُ ترجو أَنْ ترى ... شخصي ولي في العالمين ولاؤها إنْ لم أَثُرْ أَنَفًا فلا أجْرَتْ يدي ... قلمًا، به يُرْوي المعاليَ ماؤها (¬2) وبلغ ابنَ منير أنَّه كتب إلى بعضِ القضاة: المجلس القاضوي، فقال يهجوه: [من المتقارب] أيا ملك النَّحو والحاءُ من ... تهجِّيه من تحتُ قد أعجموها أتانا قياسُكَ هذا الَّذي ... يُعَجِّمُ أشياءَ قد أفسدوها ولما تَصَفْعَنْتَ في القاضوي ... غدا وَجْه جَهْلِك فيه وجُوها وقالوا قفا الشيخ إن الملوك ... إذا دخلوا قريةً أفسدوها (¬3) فأجابَه: [من المتقارب] أيا ابنَ منيرٍ حسِبْتَ الهجا ... ءَ رتبةَ فخرٍ فبالغتَ فيها جمعتَ قوافيَ من ذا وذا ... وأصبحتَ منتحِلًا تدَّعيها وقالوا قفا الشيخ إنَّ الملوك ... إذا أخطأتْ سوقةٌ أدَّبوها (¬4) وله مقاماتٌ من جنس مقامات الحريري، هَزْلٌ وكذب، وله كتاب أربع مئة كرَّاسة سماه "التذكرة السفرية" وكان قد تزوَّج ببغداد امرأة بذيئة اللِّسان، فكانت تسفه عليه، [فقالت له يومًا: أنا امرأتك، زوج مَنْ أنتَ؟ ] (¬5). وكان يغشى وزيرَ الخليفة، فمدحه في بعض اللَّيالي بقصيدة فأمر له بجائزة سنية، وخِلْعة، فقال: ما أُريدها، فقال الوزير: وما الَّذي تريد؟ قال: لي امرأةٌ سفيهة، وقد فضحتني عند ¬

_ (¬1) في "الخريدة": "إن أقدرتني". (¬2) الأبيات في "الخريدة": 124 - 125. (¬3) إشارة إلى سورة النمل، الآية: 34. (¬4) "الخريدة": مج 1 / ج 3/ 135 - 136. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

سعد بن علي بن القاسم

الجيران بطول لسانها، وأُريد أن لا يبقى في هذا المجلس شمعة إلا وتحمل بين يدي إلى داري لعلَّها تكفُّ لسانها عني. فقال [الوزير] (¬1): الخِلْعة والبغلة والشَّمْع لك، فخرج وعليه الخِلْعة وتحته البغلة والشموعُ بين يديه، فلمَّا قَرُبَ من داره أمر غِلْمان الوزير، فصاحوا بين يديه. فأطلع الجيران من الزَّوازن والسُّطوح وامرأته في الجُمْلة، فبهتت، وكفَّتْ عنه [لسانها] (1) بعد ذلك. [وقال الحافظ ابن عساكر: مات ملك النحاة بدمشق في شوال] (¬2)، ودُفن بالباب الصَّغير، وكان صحيحَ الاعتقاد، كريمَ النَّفْس، وجاوز ثمانين سنة (¬3). [قال العماد] (1): ورآه بعض [الصَّالحين من] (1) أصحابه في المنام فقال [له] (1): ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بأبياتٍ قلتُها [في أيام الدنيا. قلتُ: وما هي؟ فأنشدني] (1): [من المنسرح] يا ربِّ ها قد أتيتُ معترفًا ... بما جَنَتْه يداي من زَلَلِ ملآنَ كفٍّ بكلِّ مأثمةٍ ... صِفْرَ يدٍ من محاسن العمل فكيف أخشى نارًا مسعَّرةً ... وأنت يا ربّ في القيامة لي [قال] (1): فوالله منذ فَرَغْتُ من إنشادها ما سمعتُ حسيسَ النَّار (¬4). سَعْد بن علي بن القاسم (¬5) ابن علي، أبو المعالي الكُتُبي الحَظِيري الحنفي. والحَظيرة قرية بدُجَيْل [وقد ذكره الأئمة، وأثنوا عليه، فقال جدي في "المنتظم"] (1): كان فاضلًا، يقول الشِّعر [المليح والنَّثر الفصيح] (1)، وله رسائلُ ومدائح، وكان من الذَّكاء على غايةٍ، وتوفي في صفر، ودُفِنَ بباب حرب، وكان دلال الكتب ببغداد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): ومات بدمشق في الشوال، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) "تاريخ ابن عساكر": 4/ 440. (¬4) "الخريدة": مج 1 / ج 3/ 137. (¬5) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 241 - 242، "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 4/ 28 - 106، "معجم الأدباء": 11/ 194 - 197، "وفيات الأعيان": 2/ 266 - 368، "سير أعلام النبلاء": 20/ 580 - 581، و"الوافي بالوفيات": 15/ 169 - 170، و"النجوم الزاهرة": 6/ 68.

[هذا صورة ما ذكره جدي رحمه الله (¬1). وذكره القاضي أبو المحاسن عمر بن علي القرشي في "تاريخه"، وقال: أبو المعالي الكتبي، وأثنى عليه ثناء كبيرًا، وقال: صحب أبا القاسم علي بن أفلح الشاعر مدَّة، واشتغل بالأدب حتى برع فيه، وفاق أهل زمانه، وقال الشعر، وتفقه على مذهب أبي حنيفة] (2) وغلبت عليه الفكرة، فأحبَّ الخلوة، فخرج على قدم التجريد سائحًا، ورأى عجائب [من الدُّنيا] (¬2)، وجال في الأقطار، وحجَّ، وعاد إلى بغداد، وصنَّف الكتب: "لُمَح المُلَح" في الألغاز، و"زينة الدَّهر في شعراء العَصْر"، وغيرهما. [وذكره العماد الكاتب في "الخريدة"، وسجع له، وقال: أنشدني أبياتًا في وصف العِذار أرق من الاعتذار، وذكر مقطعات من شعره، وكلامًا فاحشًا يدل على أنه كان خليعًا ظريفًا، وأنشدني له في الشيب] (¬3): [من الطويل] بدا الشيب في فَوْدي فأقصَرَ باطلي ... وأيقنت قطعًا بالمصير إلى قبري أتطمَعُ في تسويد صُحْفي يدُ الصِّبا ... وقد بيَّضَتْ كفُّ النُّهى حُسْبَةَ العُمْرِ (¬4) وقال: [من المنسرح] صُبْحُ مشيبي بدا وفارقني ... ليلُ شبابي فصحتُ واقَلَقي وصرتُ أبكي دمًا عليه ولا ... بُدَّ لصُبْح المشيبِ من شَفَقِ (¬5) وقال: [من الطويل] أرى ذا النَّدى والطَّوْلِ يغتاله الرَّدى ... ويُبقي الذي ما فيه طَوْلٌ ولا منُّ كما الورد يبدو في الغصون وينقضي ... سريعًا ويبقى الشَّوْكُ ما بقي الغُصْنُ (¬6) وقال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) "المنتظم": 10/ 241 - 242. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): وقال في المشيب، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) "الخريدة": 4/ 43. (¬5) المصدر السالف. (¬6) "الخريدة": 4/ 44 - 45.

يقولون لا فَقْرٌ يدوم ولا غنى ... وما كُرْبةٌ إلا سيتبعها كَشْفُ ولستُ أرى فقري وضُري بمنقضٍ ... كأني على هذين وحدهما وَقْف (¬1) وقال في خُطْبة كتاب "لُمَح المُلَح": هذا كتابٌ أَحكمتُ أُصوله، وأَبرمتُ فصوله، خدمتُ به خزانةَ إمام الزَّمان، وتالي القُرْآن، وصاحب القرآن، الإمام الأوَّاه، المقتفي لأمر الله، الذي لم يكن في خليقةٍ مِثْلَه خليفة، وكل طريقةٍ منه طريفة، فكم من قطرةٍ من سحابِ مبتدعاتِ كَلِمِه جمعتُها في قرار واديه، ودرّة من سحاب توقيعات قلمه رصَّعْتُها بين صغار لآليه، إمامٌ يواقيت مناقبه عالية عن مطمح مُشْتام، غالية على مطمع مستام، أعلق شهابَ العَدْل فتسعَّر لَفْحه، وأغلق بابَ الظُلْم فتعسَّرَ فتحه، واستقامتِ الأقاليم بأقلامه، واستغنت الأيامى في أيامه، وأحيا محيَّاه وارفةَ عَدْلِهِ. [من الهزج]: وذي زيغٍ أعدَّ له ... فحين أتاه عدَّلَهُ وجادله فجادله ... فجدَّ له فجدَّ لَهُ إمامٌ مَنْ تأمَّله ... لكَشْفِ الضّر أَمَّلَهُ يرى من نَسْلِ عَبَّاسٍ ... طليق الكَفِّ مُرْسَلَهُ ينحو الصَّواب قولًا وآراءً، ويصوِّب في الإباء طولًا وعطاء، جَمَعَ أشتات الفضائل، وقطع أسباب الرَّذائل، وأجار الأنام من جَوْر الأيام، وبلغ الأوطار، كم غاش لذكره عاشٍ إلى ضوء ناره، عاشٍ بمبارّه، فلا زالت رياض ناديه ممرعة الرُّوَّاد، وحياض أياديه مترعة للوُرَّاد، ما تثنى عود ورسا عمود، واهتزَّ عامل بُسْتان، واعتز عامل بسُلْطان، وحبست شياطين جوارحه الكائدة استسلامًا، وحبست سلاطين جوارحه الصائدة آثامًا، كمن كَرَعَ في رياض المني صاديًا، ورتع في غياض الهوى متماديًا. ¬

_ (¬1) "الخريدة": 4/ 45 مع اختلاف في بعض الألفاظ. وفي (م) انتهت ترجمته، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تم الجزء الثالث عشر من "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان" لابن الجوزي قدس الله روحه ونور ضريحه، ووافق الفراغ من نسخه في العشر الآخر من رجب الفرد سنة خمس وثلاثين وسبع مئة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى المعترف بالتقصير إبراهيم بن عبد العزيز، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين، يتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء الرابع عشر "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان" السنة التاسعة والستون وخمس مئة.

السنة التاسعة والستون وخمس مئة

السَّنة التاسعة والسُّتون وخَمس مئة في يوم عاشوراء جَلَسَ محمد الطُّوسي بالتَّاجية، وقال على المنبر: إنَّ ابن مُلْجَم لم يكفر بقتل علي - عليه السلام -، فضُرِبَ بالآجُرِّ، وثار النَّاس، ولولا مَنْ كان حوله من الغِلْمان لقُتِلَ، فلما كان في اليوم الثَّاني من مجالسه فرشوا له المنبر ليجلس، فاجتمع الناس على باب التَّاجية، ومعهم قوارير النِّفْط ليحرقوه، وبعضهم في أيديهم الآجُر ليرجموه، فلم يحضر، فأحرقوا منبره، وأحضره نقيب النقباء، وأسمعه كلامًا غليظًا، فقال له: أنتَ نائبُ الدِّيوان، وأنا نائب الله في أرضه. فقال له النقيب: أنا نائبُ الدِّيوان وأنت نائب الشَّيطان. وأمر بأن [يجرَّ] (1) برِجْله، وكتب إلى الخليفة يخبره [بما بدا منه] (1)، فأمر [الخليفة] (1) بنفيه، فنفي إلى الجانب الغربي، ثم خرج بعد مُدَّة إلى مِصْر، [وجرى له العجائب، وسنذكره] (1). وفيها كَتَبَ صلاحُ الدِّين إلى نور الدين يسأله ويستأذنه في إنفاذ جيشٍ إلى اليمن، فأَذِنَ له، فبعث أخاه تورانشاه شمسَ الدَّوْلة، فسار إليها في رجب، وكان بها عبد النَّبي بن مهدي، ويلقب بالدَّاعي من أصحاب المِصْريين، وكان ظالمًا فاتكًا، فحصره شمسُ الدَّولة في قصر زَبيد مدَّة، ثم طلب الأمان، فأَمَّنه، فلما نزل إليه قيَّده ووكل به، [فسار شمس الدولة] (1)، ففتح صنعاء وحصون اليمن والمدائن، فيقال: إنَّه فتح ثمانين حِصْنًا ومدينة، واستولى على أموالها وذخائرها، وقَتَلَ [الخارجي] (1) عبدَ النَّبي [بن مهدي] (1) وولى على زبيد سيف الدولة مبارك بن منقذ [أبا الميمون، وكان من الفصحاء جوادًا مُمَدَّحًا] (1)، وعزّ الدين عثمان بن الزَّنجيلي على باقي البلاد. وفيها أكثر نور الدِّين من الصَّدقات والصِّلات، وزاد في الأوقاف، وكسا اليتامى، وزوَّج الأرامل، وأغنى الفقراء، وكشف المظالم، بحيث لم يبق في بلاده مَظْلِمة [إلا وردَّها] (¬1)، وبعث خالد بن محمّد بن القَيسَراني أمينًا على مال القَصْر، ومستوفيًا لحواصل البلاد، فأكرمه صلاحُ الدِّين، وقال: نحق مماليكُ نورِ الدِّين، افعل ما أمرك إلا أنَّ جماعةً من الأكابر قد تصرَّفوا في أماكن لا يمكن انتزاعها منهم، ولا يرضون بأن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أبو العلاء الهمذاني الحافظ

ينقص ارتفاعها، فعَلِمَ خالدٌ أنَّ طاعته إنما هي مخادعة ومراوغة، فسكتَ، ولم يشافهه، ومات نورُ الدين في شوَّال، وبَطَلَ ذلك الأمر. وفيها قبضَ صلاحُ الدِّين على جماعةٍ من أعيان الدَّوْلة المِصْرية مثل داعي الدُّعاة، وعمارة اليمني [الشاعر] (¬1) وغيرهما، بلغه أنهم يجتمعون على إثارة الفتن، واتفقوا مع السُّودان وكاتبوا الفرنج، وأنهم يريدون قَتْلَ صلاح الدِّين والغُزّ، ورتَّبوا مع السُّودان أن يثوروا [وينادوا] (1) بشعار المِصْريين، وكان زين الدين بن نُجَيَّة الواعظ قد اطَّلعَ على ذلك، فخاف من صلاح الدين، فأنهى إليه الحال وما دبَّروا، فقبض عليهم، وقَتَلَ داعي الدُّعاة، وصلب عُمارة، [وسنذكره] (1). [فصل: وفيها توفي أبو العلاء الهَمَذاني الحافظ (¬2) واسمه الحسن بن أحمد بن الحسن العَطَّار، سافر إلى الأقطار في طلب الحديث، وقرأ القرآن واللغة، وعاد إلى هَمَذان، فأقام بها، وصنَّف الكُتُب، وكان حافظًا دَيِّنًا، سخيًّا، وانتهى إليه عِلْمُ الحديث والقراءات، وكان له قَبُولٌ عظيم ومكانة عالية، وتوفي ليلة الخميس عاشر جمادى الأولى، ودفن في هَمَذَان وقد جاوز الثمانين. رآه بعضُ أصحابه في المنام، فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: نزل عليَّ الملكان، فقلت: على ماذا أتيتما؟ وصحتُ عليهما، فرجعا، ولم يقولا شيئًا] (1). وفيها توفي عبد النَّبي بن مهدي (¬3) قال المصنِّف رحمه الله: وقعتُ على تاريخ بمصر، فرأيتُ فيه أنَّ شمس الدَّولة لما سار إلى اليمن، وكان أعيانُها قد كتبوا إلى صلاح الدِّين يسألونه أن يبعث إليهم بعضَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 248، و"معجم الأدباء": 8/ 5 - 52 و"الكامل": لابن الأثير 11/ 167، "سير أعلام النبلاء": 21/ 40 - 47 و"طبقات علماء الحديث": 4/ 100 - 104، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "المفيد في أخبار صنعاء وزبيد": 299 - 237، و"كتاب الروضتين": 2/ 272 - 275، 362، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 582 - 583، و"الوافي بالوفيات": 19/ 246، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

أهله، فلما وصل شمسُ الدولة إلى مكَّة صَعِدَ صاحبُها إلى أبي قُبَيس، فتحصَّن منه بقلعةٍ بناها عليه، وأغلق بابَ الكعبة، وأخذ المفاتيح، فجاء شمسُ الدولة، فطاف بالبيت، وصلَّى رَكعتين، وصَعِدَ إلى باب الكعبة، وقال: اللهم إنْ كنتَ تعلم أني جِئْتُ إلى هذه البلاد لإصلاح العِباد وتمهيدها، فيسِّر عليَّ فتح هذا الباب، وإنْ كنتَ تعلم أني جئتُ لغير ذلك فلا تفتحه. ومدَّ يده، فجذب القُفْل فانفتح، فدخل [شمس الدولة] (1) إلى البيت، فصلَّى ودعا، فلما بلغ أمير مكة ذلك نزل إلى خدمته، وحمل المفاتيح، واعتذر، وقال: خفتُ منك، والآن فأنا تحت طاعتك. فقال له: إذا أخذتُ منك المفاتيح، فلمن أُعطيها؟ ثم خلع عليه وعلى أصحابه، وطيَّب قلبه، وسار إلى اليمن، فانهزم عبد النّبي بين يديه إلى زَبيد. وكان أبوه مهدي قد فتح اليمن وقتل خَلْقًا كثيرًا، وشقَّ بطون الحوامل، وذَبَحَ الأطفال على صدور أُمهاتهم، وكان يرى رأي القرامطة، ويُظْهر أنَّه داعية لصاحب مِصْر، ويتستَّر بالإسلام. وكان قد مات قبل دخول شمس الدولة اليمن بسنين، وملك بعده ولدُه عبد النبي، ففعل باليمن أشدَّ مما فعل أبوه وسبى نساءهم، واستعبدهم، وكان أبوه لما مات بنى عليه قُبَّة عظيمة، وصفَّح حيطانها بالذَّهب [الأحمر] (1) والجواهر [ظاهرًا] (1) وباطنًا بحيث لم يُعمل في الدُّنيا مثلُها، وجَعَلَ فيها قناديلَ الذهب وستور الحرير، ومَنَعَ أهلَ اليمن من زَبيد إلى حضرموت أن يحجوا إلى الكعبة، وأمرهم بالحجِّ إلى قبر أبيه، فكانوا يحملون إليها من الأموال في كلِّ سنة ما لا يُحَدُّ ولا يحصى، ويطوفون حولها مثلما يطاف بالكعبة، ومن لم يحمل مالًا قتله، وكانوا يقصدونها من السَّحَر، فاجتمع فيها أموالٌ عظيمة. وأقام عبد النبي على الظُّلْم والفِسْق والفجور وذَبْحِ الأطفال وسَفْكِ الدِّماء وسبي النِّساء، إلى أن دخل شمسُ الدولة إلى اليمن. وجاء إلى زَبيد، فيقال: إنَّه حَصَرَ عبد النَّبي فيها، وأَمَّنه وقيَّده وقتله [وقد ذكرناه] (¬1). ويقال: إنَّه انهزم بين يديه وجاء إلى قبر أبيه والقُبَّة فهدمها، وأخذ ما كان فيها من المال والجواهر والفِضَّة، فكان على ست مئة جمل، ونبش القبر، وأحرق عظام أبيه ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عمارة اليمني بن الحسن

وذَرَاها في الرِّيح، ومضى إلى صنعاء، فحلف شمسُ الدَّولة لا ينتهي عنه حتى يقتله ويحرقه كما فعل بأبيه، وسار خَلْفه، فرجع إلى زبيد، وعاد شمس الدولة إليها فظفر به، فأخذ ما كان معه، وقتله وصلبه وحَرَقه كما فعل بعظام أبيه. عُمارة اليمني بن الحسن (¬1) [أبو حمزة الشاعر] (¬2). قلت (¬3): وقال القاضي شمس الدولة بن خَلِّكان قاضي القضاة رحمه الله: هو أبو محمَّد عُمارة ابن أبي الحسن علي بن زيد بن بدران بن أحمد بن محمَّد بن سليمان الحَكَمي (¬4)، الملقب نجم الدِّين، الشَّاعر، بلغ الحُلم سنة تسعٍ وعشرين وخمس مئة، وشُنق يوم السبت ثاني رمضان سنة تسعٍ وستين بالقاهرة (¬5) -وهو من جبال اليمن من مدينة مُرْطان، بينها وبين مكة في مهبِّ الجنوب أحد عشر يومًا (¬6). وهو من قحطان من ولد سَعْد العشيرة، كان فقيهًا فصيحًا، أقام بزبيد مدَّةً يُقرأ عليه مذهب الشَّافعي رحمة الله عليه، وله في الفرائض مصنَّف مشهور باليمن، واستحلفه أبوه أن لا يهجو أحدًا، ومدح المِصْريين (¬7)، فقرَّبوه، وأعطوه الأموال، وكان عندهم بمنزلة الوزير، وخَدَمَ الملكة أم فاتك صاحب زبيد، وحجَّ معها، فحصل له مالٌ عظيم، ثم طرأت أمور باليمن اقتضت خروجه منها في سنة تسعٍ وأربعين وخمس مئة، ومات فيها أمير الحرمين هاشم، فكلَّفه ولده قاسم السِّفارة له عند الدولة المصرية، فقَدِمَ مِصْر سنة خمسين وصاحبها الفائز بن الظَّافر والوزير طلائع بن رُزِّيك، فدخل عليهما، ومدحهما بقوله: [من البسيط] ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 3/ 101 - 141، و"الروضتين": 2/ 282 - 305، و"مفرج الكروب": 1/ 212 - 238، "وفيات الأعيان": 3/ 431 - 436، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 592 - 596، وفيه تتمة مصادر ترجمته. وفي كتابه "النكت العصرية" أطراف من سيرته الذاتية، ومقطعات من شعره. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وكذا سماه السِّبْط وكنَّاه. (¬3) القائل هو قطب الدين اليونيني، مختصر مرآة الزمان. (¬4) انظر الاختلاف في نسبه في حواشي "وفيات الأعيان": 3/ 431 - 432. (¬5) "وفيات الأعيان": 3/ 431، 435. (¬6) إلى هنا ينتهي النقل من "وفيات الأعيان". (¬7) في (م) و (ش): ذكره العماد في "الخريدة"، وقال: مدح المصريين - قلت: وليس الخبر في "الخريدة".

الحمدُ للعِيس بعد العَزْم والهِمَم ... حَمْدًا يقوم بما أولَتْ من النِّعَم لا أجحد الحقَّ عندي للرِّكابِ يدٌ ... تمنَّتِ اللُّجْمُ فيها رُتْبَةَ الخُطُمِ قرَّبْنَ بُعْدَ مزار العِزِّ من نَظَري ... حتى رأيتُ إمام العَصْرِ من أَمَمِ ورُحنَ من كعبة البَطْحاءِ والحَرَمِ ... وفدًا إلى كعبة المعروف والكَرَمِ فهل درى البيتُ أني بعد فُرْقته ... ما سرتُ من حَرَمٍ إلا إلى حَرَمِ حيث الخلافةُ مضروبٌ سُرادِقُها ... بين النَّقيضين من عَفْوٍ ومن نِقَمِ وللإمامةِ أنوارٌ مقدَّسةٌ ... تجلو البغيضين من ظُلمٍ ومن ظُلَمِ وللنبوَّةِ آياتٌ تنصُّ لنا ... على الخفيين من حُكْم ومن حِكَمِ وللمكارمِ أعلامٌ تعلِّمنا ... مَدْحَ الجزيلين من بأُسٍ ومن كَرَمِ وللعُلا ألسنٌ تُثْني محامدها ... على الحميدين من فِعْلٍ ومن شِيَمِ ورايةُ الشَّرف البذَّاخِ ترفَعُها ... يدُ الرَّفيعين من مجدٍ ومن هِمَمِ أقسمتُ بالفائز المعصومِ معتقدًا ... فوزَ النَّجاةِ وأَجْرَ البِرِّ في القَسَمِ لقد حمى الدِّينَ والدُّنيا وأهلَهما ... وزيرُه الصَّالحُ الفرَّاجُ للغُمَمِ اللابس الفَخْرَ لم تَنْسُجْ غلائلَه ... إلا يدُ الصَّنْعتين السيفِ والقلمِ وُجُودُه أوجد الأيام ما اقترحتْ ... وَجُودُه أعدَمَ الشَّاكين للعَدَمِ قد ملَّكَتْه العَوَالي رِقَّ مملكةٍ ... تعيرُ أنفَ الثُّريا عزَّة الشَّمَمِ أرى مقامًا عظيمَ الشَّأنِ أَوْهَمني ... في يقظتي أنَّها من جُمْلة الحُلُم يومٌ من الدَّهر لم يَخْطُرْ على أملي ... ولا ترقَّتْ إليه رَغْبَةُ الهِمَمِ ليتَ الكواكبَ تدنو لي فأنظِمَها ... عقودَ مَدْحٍ فما أرضى لكم كَلِمي ترى الوزارةَ فيه وهي باذِلةٌ ... عند الخلافة نُصْحًا غير متَّهمِ عواطِفٌ علَّمتنا أنّ بينهما ... قرابةً من جميل الرَّأي لا الرَّحِمِ خليفةٌ ووزيرٌ مدَّ عَدْلُها ... ظِلًا على مَفْرِقِ الإِسلامِ والأُمَمِ زيادةُ النِّيل نَقْصٌ عند فيضهما ... فما عسى نتعاطى مِنَّةَ الدِّيَمِ [وهي قصيدة في نفسها نفيسة إلا أن قوله "الحمد للعيس" فإنها لفظة غير رئيسة، لأن الحمد لا ينبغي إلا لعز الله وجلاله، وكبريائه وكماله، فلما أنشده القصيدة خلع

عليه الفائز، وأضافه إلى الأعيان وكبراء الدولة] (1) مثل أبي المعالي بن الجبّاب الجليس والموفق أبي الحجاج يوسف بن الخلال [وقدمه وأكرمه، وكان يستشيره، وله مدائحُ كثيرةٌ في الخلفاء، والوزراء والملوك، وشاور والصالح بن رُزِّيك وشمس الدولة تورانشاه، وأكثر مدائحه فيه، ومدخ نور الدين وصلاح الدين، وقد وقفت على ديوانه وذكرت منه هاهنا من الحوادث ما يليق بزمانه، ولما قتل الصَّالح بن رُزِّيك رثاه، فقال- وقد نقل تابوته من دار الوزارة إلى القرافة، فدفن في تربته، فقال (¬1)]: [من الكامل]: خَرِبَتْ ربوعُ المكْرُماتِ لراحلٍ ... عَمَرَتْ به الأجداثُ وهي قِفارُ نَعْشُ الجدود العاثرات مُشَيَّعٌ ... عَمِيَتْ برؤيةِ نَعْشه الأَبْصارُ شَخَصَ الأنامُ إليه تحت جِنازةٍ ... خُفِضَتْ برفعة قَدْرِها الأقدارُ وكأنَّه تابوت موسى أُودِعتْ ... في جانبيه سكينةٌ ووَقارُ وتغاير الحَرَمان والهَرَمانِ في ... تابوته وعلى الكريم يُغارُ أُحْلِلْتَ دارَ كرامةٍ لا تنقضي ... أبدًا وحلَّ بقاتليك النَّارُ غَضِبَ الإله على رجالٍ أقدموا ... جَهْلًا عليك وآخرين أشاروا لا تعجبوا لقُدارِ ناقةِ صالحٍ ... فلكلِّ عَصْرٍ ناقةٌ وقُدارُ (¬2) وقال يرثيه: [من الطويل] سمعتُ حديثًا أَحْسُدُ الصُّمَّ عنده ... وَيذْهَلُ واعِيه ويَخْرَسُ قائِلُهْ وقد رابني من شاهد الحال أنَّني ... أرى الدَّسْتَ منصوبًا وما فيه كافِلُهْ وأني أرى فوقَ الوجوه كآبةً ... تَدُلُّ على أَنَّ الوجوه ثواكِلُهْ ولم لا نبكِّيه ونندُبُ فَقْدَهُ ... وأولادُنا أيتامُه وأرامِلُهْ وقال يمدح شمس الدولة ويحرِّضه على اليمن، [وقيل: هذه الأبيات كانت سببًا لمسير شمس الدولة إلى اليمن] (¬3): [من البسيط] ¬

_ (¬1) في (ح): "فخلعا عليه، وأضافه الفائز إلى كبراء الدولة، وقدمه وأكرمه، وكان يستشيره، وأضافه إلى الأعيان مثل أبي المعالي بن الجباب الجليس والموفق أبي الحجاج يوسف بن الخلال والوزراء والملوك. وقال: وقد نقل تابوت الصالح من دار الوزارة إلى القرافة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هو قدار بن سالف الذي يقال له أحمر ثمود، عاقر ناقة صالح - عليه السلام -، انظر اللسان (قدر). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

العِلْمُ مُذْ كان محتاجٌ إلى العَلَمِ ... وشَفْرَةُ السَّيفِ تستغني عن القَلَمِ وخير وصْفِكَ إنْ غامرتَ في شَرَفٍ ... عزمٌ يفرِّقُ بين السَّاقِ والقَدَمِ إنَّ المعالي عروسٌ غير راضيةٍ ... إنْ لم تخلِّقْ رداياها برَشْحِ دَمِ كم يترك البيض في الأجفان ظامئةً ... إلى الموارِدِ في الأعناق والقِمَمِ ومُقلَةُ المَجْدِ نحو العِزِّ شاخِصةٌ ... فاتركْ قعودَك عن حوماتها وقُم أمامَكَ الفَتْحُ من شامٍ ومن يَمَنٍ ... فلا تَرُدَّ رؤوسَ الخيل باللُّجُمِ فعمُّك الملك المنصور سوَّمها ... من الفرات إلى مِصْرٍ بلا سأمِ هذا ابنُ تُومَرْتَ قد كانت بدايتُهُ ... كما يقولُ الورى لحمًا على وَضَمِ قد كان أوَّل هذا الدِّين من رَجُلٍ ... سعى إلى أن دَعوه سيِّدَ الأُمَمِ قال العماد [الكاتب في "الخريدة"] (¬1): اتفقتْ لعمارة اتفاقاتٌ عجيبة، منها أنَّه نُسِبَ إليه قولُ هذا البيت، فكان أحدَ أسباب قَتْله، ويجوز أن يكون معمولًا عليه، ثم قال: فَقُطِعَ الطريق على عُمارة، واعتيض بخرابة عن العِمارة، فأفتى فقهاءُ مِصْر بقتله، وحرَّضوا السُّلْطان على المُثْلة بمِثْله (¬2). ثم قال عمارة: [من البسيط] وما رضيتُ بوَجْهي أنْ أجودَ به ... على بخيلٍ ولا استسمنت ذا وَرَم حاشا عوائدك الحُسْنى تنامُ لها ... أجفانُ عينٍ وعينُ الله لم تَنَمِ من أبيات. ذكر مقتله: واختلفوا فيه على أقوال، [أحدها] (1) أنَّ سببه قوله هذا البيت، وكان في قلب صلاح الدين منه، لأنَّه نُقل إليه عنه أنَّه سعى في الدولة، [وسنذكره] (1). والثَّاني: أنه رثى أهل القَصْر بمرثية عرَّض فيها بصلاح الدِّين، فقال: [من البسيط] رميت يا دَهرُ كفَّ المَجْدِ بالشَّلَلِ ... وجِيدَه بعد حُسْن الحَلْي بالعَطَلِ سَعَيتَ في منهج الرأي العثور فإنْ ... قَدَرْتَ من عَثَرَات السَّعْي فاسْتَقِلِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "الخريدة" قسم شعراء الشام: 3/ 104.

جَدَعْتَ مارِنَك (¬1) الأقنى فأنفك لا ... ينفكُّ ما بين نقْصِ الشَّين والخَجَلِ هَدَمْتَ قاعدة المعروفِ عن عَجَلِ ... سُقيتَ مُهْلًا (¬2) أما تمشي على مَهَلِ قَدِمْتُ مِصْرَ فأوْلتني خلائِفُها ... من المكارمِ ما يُرْبي على الأمل قومٌ عَرَفْتُ بهم كَسْبَ الألوف ومِنْ ... كمالها أنَّها جاءت ولم أَسَلِ وكنتُ من وزراء الدَّسْت حيث يرى ... رأس الحِصانِ يهاديه على الكَفَلِ يا عاذلي في هوى أبناءِ فاطمةٍ ... لك المَلامةُ إن قَصَّرْتَ في عَذَلي بالله زُرْ ساحةَ القَصْرَينِ وابكِ معي ... عليهما لا على صِفِّينَ والجَمَلِ وقل لأهلهما واللهِ ما التحمت ... فيكم جروحي وما قَرْحي بمُنْدَمِلِ ماذا تَرَى كانتِ الإفرنجُ فاعلةً ... في نَسْلِ آل أميرِ المؤمنين علي هل كان في الأمر شيءٌ غير قسمة ما ... مُلِّكْتُمُ بين حُكْم السَّبْي والنَّفَلِ مررتُ بالقَصْر والأركانُ خاليةٌ ... من الوفودِ وكانت قِبْلَةَ القُبَلِ فملتُ عنها بوجهي خوفَ مُنْتَقِدٍ ... من الوشاة ووَجْه الوُدِّ لم يَمِلِ أَسْبَلْتُ من أسفٍ دمعي غَدَاةَ خَلَتْ ... رحابُكُمْ وغَدَتْ مهجورةَ السُّبُلِ أبكي على مأثُراتٍ من مكارِمِكُمْ ... حال الزَّمانُ عليها وهي لم تَحُلِ دارُ الضِّيافةِ كانت أُنْسَ وافِدكُمْ ... واليومَ أَوْحَشُ مِنْ رَسْم ومن طَلَلِ وكسوة النَّاس في الفَصْلَين قد دَرَسَتْ ... ورَثَّ منها جديدٌ عنهمُ وبلي وأوَّلُ العام والعيدان كم لكُمُ ... فيهنَّ من وَبْلِ (¬3) جُودٍ ليس بالوَشَلِ وموسم كان في يوم الخليج لكم ... تمشي العرائس في حلي وفي حلل والأرضُ تهتزُّ في يوم الغدير كما ... يهتز ما بين قصريكُم مِنَ الأَسَلِ كانت رواتبكم للمؤمنين وللضَّـ ... ـيف المقيمِ وللطَّاري من الرُّسُلِ وما خَصَصْتُمْ بهذا أهلَ مِلَّتِكُمْ ... حتى عَمَمْتُمْ به الأقصى من المِلَلِ وللجوامع من أَحْباسِكُمْ نِعَمٌ ... لمن تصدَّر في فَضْلٍ وفي عَمَلِ ¬

_ (¬1) المارن: ما لان من الأنف. "اللسان" (مرن). (¬2) المهل: القيح والصديد. "اللسان" (مهل). (¬3) الوبل: المطر الشديد الضخم القطر: "اللسان" (وبل).

والله لا فازَ يومَ الحَشْرِ مُبْغِضُكُمْ ... ولا نجا من عذاب الله غير ولي ولم ينلْ جَنَّة الخُلْد التي خُلِقَتْ ... مَنْ خان عهدَ الإمامِ العاضدِ ابنِ علي وبلغت صلاحَ الدين فأراد قَتْله، فلم يتمكَّن من ذلك لأنه كان مكينًا محترمًا في الدَّولة، وكان أخوه شمس الدولة يرى لعمارة، وكان خصيصًا به، فسكت على مضضٍ. والثالث: أَنَّ صلاح الدين بلغه أنه قد اتفق مع داعي الدُّعاة وجماعةٍ من أعيان الدولة في التَّدْبير عليه، وإقامة ولد العاضد مقام أبيه، وكاتبوا الفرنج، وكان زين الدين بن نُجَيَّة الواعظ معهم، فأنهى ذلك إلى صلاح الدين، فاحضرهم، وسألهم، فلم ينكروا ولا اعترفوا، واتفقت غيبةُ شمس الدولة في اليمن، ولو كان حاضرًا ما مكَّن صلاحَ الدِّين من قتله، فأول من صُلِبَ داعي الدعاة، وقاضي القضاة بمصر وهو أبو القاسم هبة الله بن كامل، وكان عندهم في المنزلة العُلْيا، وكان فاضلًا، ومن شعره في صبي يرفأ: [من مخلع البسيط] يا رافيًا خَرْقَ كلِّ ثوبٍ (¬1) ... ويا رشًا حُبُّه اعتقادي عسى بكفِّ الوصال تَرْفُو ... ما مزَّقَ الهَجْرُ من فؤادي وكان عمارة قد اجتاز قبل أن يصلب بثلاثة أيام على مصلوب، فقال: [من الوافر] أرادَ عُلُوَّ مرتبةٍ وقَدْرِ ... فأصبحَ فوقَ جِذْعٍ وهو عالي ومدَّ على صليب الجِذْعِ منه ... يمينًا لا تطولُ إلى الشِّمالِ ونكَّسَ رأسه لعتابِ قَلْبٍ ... دعاه إلى الغَوَاية والضَّلال وهذا من أعجب الاتِّفاقات، [وأغرب الواقعات] (¬2). ولما أمر صلاح الدين بصلبه مرُّوا به على دار القاضي الفاضل، فرمى بنفسه على بابه، وطلب الدخول إليه، فلم يأذن له، ولا أجاره، فقال: [من مجزوء الكامل] عبدُ الرَّحيم قد احْتَجَبْ ... إنَّ الخلاصَ من العَجَبْ فصلب، وهو صائم في شهر رمضان. ¬

_ (¬1) في (ح) و (م) و (ش): يا رافيًا خرق القلوب. ولا يستقيم وزنًا ولا معنى، والمثبت من "الروضتين": 2/ 297. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وقال تاج الدين الكندي: [من الطويل] عُمارة في الإسلام أبدى خيانةً ... وبايع فيها بِيعةً وصَليبا وأمسى يعين الشِّرْكَ في بُغْضِ أحمدٍ ... فأصبحَ في حُبِّ الصَّليب صليبا (¬1) وكان خبيثَ الملتقى إنْ عَجَمْتَه ... تَجِدْ منه عودًا في النِّفاق صليبا (¬2) سيلقى غدًا ماكان يسعى لمثله ... ويُسْقى صديدًا في لظًى وصَلِيبا (¬3) قلت (¬4): وقال القاضي شمس الدِّين بن خَلِّكان قاضي القضاة رحمه الله تعالى: كان بين عُمارة وبين الكامل بن شاور صحبة متأكدة، فلما وَزَرَ والده، استحال على عمارة، فكتَبَ إليه: [من الطويل] إذا لم يُسالمك الزَّمانُ فحارِبِ ... وباعد إذا لم تنتفعْ بالأقارب ولا تحتقرْ كيدًا ضعيفًا فربَّما ... تموتُ الأفاعي من سمام العقاربِ فقد هدَّ قِدْمًا عَرْشَ بِلْقيسَ هُدْهُدٌ ... وخرَّبَ فأرٌ قبلَ ذا سدَّ مأربِ إذا كان رأسُ المال عمرَك فاحْتَرِزْ ... عليه من الإنفاق في غير واجبِ فبين اختلاف الليل والصبح مَعْرَك ... يكرُّ علينا جيشُه بالعجائبِ وما راعني غَدْرُ الشَّباب لأنَّني ... أَنِسْتُ بهذا الخُلْق من كلِّ صاحبِ وغَدْرُ الفتى في عهده ووفائه ... وغَدْر المواضي في نبوِّ المضارب إذا كان هذا الدُّرُّ معدِنُه فمي ... فصونوه عن تقبيل راحة واهبِ رأيتُ رجالًا أصبحت في مآدب ... لديكم وحالي وحدها في نوادب تأخرتُ لما قدَّمتْهُمْ علاكمُ ... عليّ وتأبى الأُسْد سَبْقَ الثَّعالبِ تُرى أين كانوا في مواطنيَ التي ... غَدَوتُ لكم فيهن أكرم نائب لياليَ أتلو ذكركم في مجالس ... حديث الورى فيها بغمز الحواجب (¬5) ¬

_ (¬1) في هامش (ح): أي مصلوب. (¬2) في هامش (ح): أي شديد. (¬3) في هامش (ح): أي ودك. (¬4) القائل هو قطب الدين اليونيني، مختصر مرآة الزمان. (¬5) "وفيات الأعيان": 3/ 434.

محمود بن زنكي بن آق سنقر

محمود بن زَنْكي بن آق سُنْقُر (¬1) أبو القاسم، الملك العادل نور الدين، رحمه الله تعالى. [اعلم أن سيرة نور الدين أولى ما صرفت العناية إليها، واعتمد في اغتناء الفضائل عليها، تحثُّ الطالب على نيل المطالب، وتعدل بهمة الراغب على تحصيل الرغائب، وقد ذكر العلماء سيرته، وسطر الفضلاء ترجمته، وقد جمعت في كتابي هذا ما تفرَّق في تواريخهم من محاسن أخباره، وأتيت على معظم مآثره وآثاره. ذكر مولده وصفته وطَرَف من أخباره: ذكر الحافظ ابن عساكر أنه ولد] (¬2) سنة إحدى عشرة وخمس مئة، وكان معتدل القامة، أسمر اللون، واسع الجبهة، حسن الصُّورة، لحيته شعراتٌ خفيفة في حنكه. [قال] (¬3): ونشأ على الخير والصَّلاح، وقرأ القرآن، [وكان مواظبًا على] (3) العبادة، [وكان] (3) قليل المخالطة للجُنْد، وكان [أبوه] (3) زنكي يقدمه على أولاده ويرى فيه مخايل النجابة. [قال] (3): وفتح نيفًا وخمسين حِصْنًا، منها: تل با شر، وعَزَاز، ومَرْعَش، وبَهَسْنى، وتل خالد، وحارم، والمَرْزُبان، ورَعْبان، وكيسون، وا لرُّها، وكسر إبرنس أنْطاكية، وقتله، وقتل معه ثلاثة آلاف، وأخذ من القومص ثلاث مئة ألف دينار وخمس مئة زَرَدية، وخمس مئة حصان، وخمس مئة أسير. واتسع مُلْكه، ففتح المَوْصل والجزيرة وديار بكر والشَّام والعواصم ودمشق وبعلبك وبانياس ومِصْر واليمن، وخُطِبَ له في الدُّنيا، وأظهر السُّنَّة بحلب، وأزال الأذان بحيّ على خير العمل، وبنى بها المدارس، [وأوقف الأوقاف، وبنى سور دمشق ¬

_ (¬1) أخباره مستفيضة في تواريخ تلك الفترة، وأفرد أبو شامة شطرًا من كتابه "الروضتين في أخبار الدولتين" في أخباره وأخبار دولته، وأوعب فيما كتب، وقد حققته، وصدر في خمسة أجزاء عن مؤسسة الرسالة في بيروت، سنة 1997. (¬2) في (ح) قال ابن عساكر: ولد سنة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

والمدارس] (¬1) وأسقط ما كان يؤخذ من دار البطيخ، وسوق الخيل والغنم، والكيالة، وجميع المكوس، وعاقب على شُرْب الخمر. وكان في الحرب ثابت القدم، حسن الرمي، يتقدَّم أصحابه فيها، ويتعرَّض للشَّهادة، ويسأل الله أن يحشره من بطون السِّباع، وحواصل الطَّير. ووقف أوقافًا على المرضى والمجانين، وبنى المكاتب لليتامى، وبنى المارَسْتان بدمشق، ووقف على سُكان الحرمين، وأقطع أمراء العرب القطائع لئلا يتعرَّضوا للحاجّ، وأمر بإكمال سور المدينة، وأجرى إليها العين التي تأخذ من أُحُد من عند قبر حمزة - رضي الله عنه -، وبنى الرُّبُط والجُسور والخانات والقناطر، وجدَّد كثيرًا من قُني السَّبيل، وكذا صَنَعَ في غير دمشق من البلاد التي ملكها، ووقف كُتُبًا كثيرة في مدارسه، وكان حسنَ الخطِّ، كثير المطالعة للكُتُب الدِّينية، متبعًا للآثار النبوية، مواظبًا على الصلوات الخمس في الجماعات، عاكفًا على تلاوة القرآن، حريصًا على فعل الخير، عفيف البطن والفرج، مقتصدًا في الإنفاق، متحرِّيًا في المطعم والمشرب والملبس، لم تُسْمع منه كلمة فحش قط، لا في رضاه ولا في غضبه، هذا مع ما جَمَع الله فيه من العقل المتين، والرأي الثَّاقب الرصين، والاقتداء بسيرة السَّلف الصَّالحين، حتى روى حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وأسمعه. وكان قد استجيز له [ممن سمعه وجمعه حرصًا منه على الخير في نشر السنة بالأداء والتحديث، ورجاء أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثًا كما جاء في الحديث] (1)، فمن رآه شاهد من جلال السَّلْطنة وهيبةِ المملكة ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيِّره، يحبُّ الصالحين ويؤاخيهم، ويزورهم في أماكنهم لحُسْن ظنِّه فيهم. [هذا قول ابن عساكر، وذكر كلامًا طويلًا في هذا المعنى] (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). وحديث "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من سنتي أدخلته يوم القيامة في شفاعتي". روي عن جمع من الصحابة بأسانيد لا يخلو واحد منها من مقال. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "تاريخ ابن عساكر" (خ) (س): 16/ 293 - 296.

وقال الجزري في "تاريخ المَوْصل": قد طالعتُ تواريخ الملوك المتقدمين [من] قبل الإسلام وإلى يومنا [هذاي (¬1)، فلم أَرَ فيها بعد الخلفاء الرَّاشدين وعمر بن عبد العزيز ملكًا أحسنَ سيرةً من نور الدِّين، ولا أكثر تحرِّيًا للعَدْل والإنصاف منه (¬2)، ثم ذكر [من] (1) عدله وزُهْده وفَضْله وجهاده واجتهاده من جنس ما ذكر [الحافظ] (1) ابن عساكر، قال: وكان لا يأكل ولا يَلْبَس ولا يتصرَّف فيما يخصُّه إلا من مِلْكٍ اشتراه من سهمه من غنائم الكُفَّار، وكان يحضر الفقهاء، ويستفتيهم فيما يحلُّ له من تناول الأموال، فأفتوه من جهات عيَّنوها، فلم يتعدَّها إلى غيرها، ولم يَلْبَس حريرًا قطُّ ولا ذهبًا ولا فضَّة، ومنع من بيع الخمرة في بلاده، وكان يحدُّ شاربها، والنَّاس عنده سواء في ذلك. وكان كثيرَ الصِّيام، وله أوراد في اللَّيل والنَّهار، فكان يقدِّم أشغال المسلمين عليها ثم يتمّم أوراده، وكان تزوج الخاتون بنت معين الدِّين أُنَر، فطلبتْ منه زيادةَ نفقة فغَضب، وقال: قد فرضتُ لها ما يكفيها، والله [لا] (1) أخوض جهنَّم بسببها، وهذه الأموال ليست لي إنما هي للمُسْلمين، وأنا خازنُهم، فلا أخونهم فيها، ولي بحمص ثلاث دكاكين اشتريتها من الغنائم، قد وهبتها لها، وكان يحصل منها قدر يسير. قال: وكان يلعب بالكرة (¬3) كثيرًا، فكتبَ إليه بعضُ الصَّالحين يُنكر عليه ويقول: إنَّك تُتْعب الخيل في غير فائدة، فكتب إليه [نور الدين] (1) بخطه: والله ما أقصد اللعب، وإنما نحن [في] (1) ثغر، والعدوُّ منا قريب، فربما وقع صوت فتكون الخيل قد أَدْمنت على سُرْعة الانعطاف بالكَرِّ والفرِّ، فإذا طلبنا العدو أدركناه، ولو تركناها بحالها لصارت جَمَامًا لا ينتفع بها، فنيَّتي في لعب الكرة هذا (1). وأُهديت له عِمامة مُذْهبة من مِصْر، فوهبها لشيخ الصُّوفية أبي الفتح [بن] (1) حمُّويه، فبعث بها إلى العجم، فبيعت بألف دينار (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "الباهر" لابن الأثير: 163 - 165. (¬3) هي لعبة الجوكان، وهي تشبه في وقتنا لعبة الغولف.

[قال] (¬1): وكان عارفًا بمذهب أبي حنيفة، وليس عنده تعصُّب على أحدٍ، والمذاهب كلّها سواء (¬2). [قال] (1): وكان يومًا يلعب بالكرة في مَيدان دمشق، فجاءه رجلٌ، فوقف بإزائه وأشار إليه، فقال للحاجب: سَلْه ما حاجته؟ فسأله، فقال: لي مع نور الدِّين حكومة، فرمى الصّولجان من يده، وجاء إلى مجلس القاضي كمال الدين [بن] (1) الشَّهْرُزُوري، وتقدَّمه الحاجب يقول [للقاضي: قد قال لك] (1) لا تنزعج، واسْلُكْ معي ما تسلكه مع آحاد النّاس. فلما حضر سوَّى بينه وبين خصمه، وتحاكما، فلم يثبت للرَّجل عليه حق، وكان يدَّعي مِلْكًا في يد نور الدِّين، فقال نور الدين للقاضي والعدول: هل ثَبَتَ له عليَّ حق؟ قالوا: لا، قال: فاشْهدوا أَنِّي قد وَهَبْتُ له الملك، وقد كنتُ أعلم أنَّه لا حقَّ له عندي، وإنما حضرت معه لئلا يُقال عني أني دُعيت إلى مجلس الشرع، فأبيتُ (2). [قال] (1): ودخل يومًا إلى خزانته، فرأى مالًا كثيرًا، فقال: مِنْ أين هذا؟ قالوا: قد بعَثَ القاضي كمال الدِّين من فائض الأوقاف، فقال: ردُّوه إليه، وقولوا له: أنا رقبتي دقيقة، لا أقدر على حَمْله غدًا، وأنتَ رقبتك غليظة تقدر على حَمْله (2). [قال] (1): ونور الدِّين أول من بنى دارًا للكشف بدمشق، وسمَّاها دار العَدْل (¬3)، وسببه أنَّ الأُمراء لما قَدِموا دمشق اقتنوا الأملاك، واستطالوا على النَّاس، وخصوصًا أسد الدِّين شيركوه، فكثرت الشكاوى إلى القاضي، فلم يقدر على الانتصاف من أسد الدِّين، فشكاه إلى نور الدين، فأمر ببناء دار العدْل، فاحضر شيركوه أصحابه وديوانه، وقال: إنَّ نور الدِّين ما بنى هذه الدار إلا بسببي وَحْدي لينتقم مني، والا فمَنْ هو الذي يمتنع على كمال الدِّين، والله لئن أُحضرت إلى دار العَدْل بسبب واحدٍ منكم لأصلبنَّه، فإن كان بينكم وبين أحدٍ منازعة فأرضوه مهما أمكن، ولو أتى على جميع ما في يدي، فإنَّ خروج أملاكي من يدي أهون عليَّ من أن يراني نور الدين بعين [أني] (¬4) ظالم، ويسوِّي بيني وبين آحاد العوام. ففعلوا، وأرضوا الخصوم، فجلس نور الدين في دار ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الباهر: 166 - 167. (¬3) في النسخ الخطية: ونور الدين أول من بنى دار العدل بدمشق، وسماها دار الكشف، والمثبت من "الباهر": 168. (¬4) ما بين حاصرتين من (الباهر).

العَدْل، وقال للقاضي: ما أرى أحدًا يشكو من شيركوه، فأخبره الخبر، فسجد، وقال: الحمد لله الذي جعل أصحابنا يُنصفون من نفوسهم قبل حضورهم عندنا. وكان يقعد في دار العَدْل في كلِّ أسبوع أربعة أيام [أو خمسة] (¬1) ويحضر عنده الفقهاء (¬2)، ويأمر بإزالة الحاجب والبواب، ويوصل إليه الشيخ الضَّعيف والعجوز الكبيرة، ويسأل الفقهاء عما أَشكل عليه (¬3). [قال] (¬4): وكان [نور الدين] (4) إذا حضر الحرب شدَّ تَرْكَشَين (¬5)، وحمل قوسين، وباشر الحرب بنفسه، فقال له القطب النَّيسابوري: لا تخاطر بنفسك فأنتَ عمادُ الإسلام والمُسْلمين، فلو أُصبتَ في معركة والعياذ بالله؛ لا يبقى من يقوم مقامك وذهبت البلاد. فقال له: ومَنْ محمود حتى يُقال له هذا، ومن حفظ [البلاد قبلي إلا الله تعالى (3). وكان إذا مات أحدٌ من جنده] (4) أو قُتِلَ وله ولد، فإن كان كبيرًا أقرَّ الإقطاع عليه، وإنْ كان صغيرًا رتَّب معه من يتولى أمره إلى أن يكبر، فكان الأجناد يقولون: هذه أملاكنا ونحن نقاتل عليها لأنَّا نتوارثها (3). [قال] (4): وما كان يتكل الجند على الأُمراء بل يتولاهم بنفسه، ويباشر [هم، ويتفقد] (4) خيولهم وسلاحهم مخافة أن يقصِّر الأُمراءُ في حقِّهم، ويقول: نحن كل وقت في النَّفير، فإذا لم تكن أجنادُنا كاملي العُدَّة دخل الوَهْن على الإسلام (3). [قال] (4): وبنى جامعه بالمَوْصل، وفوَّض عمارته إلى الشيخ عمر المَلَّاء، وكان من الصَّالحين، فقيل له: إنَّه لا يصلح لمثل هذا. فقال: إذا ولَّيتُ بعضَ الأجناد [أو بعض العمال] (4) فلا يخلو من الظُّلم، وبناءُ الجامع لا يفي بظُلْم رجلٍ مُسْلم، وإذا ولَّيتُ مثل هذا الشيخ غَلَبَ على ظنِّي أنَّه لا يظلم، فإذا ظلم كان الإثمُ عليه [لا عليَّ] (4). ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الخطية، وفي "الباهر" 168: وكان يجلس في الأسبوع يومين. (¬2) في (م): ويحفر عنده العلماء والفقهاء. (¬3) "الباهر": 168 - 170. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) التركاش: كلمة فارسية تعني: جعبة السهام. انظر "المعجم الذهبي".

وكان [عمر] (¬1) المَلَّاء من الصَّالحين، وإنما سُمِّي المَلَّاء لأنَّه كان يملأ تنانير الآجُرّ، ويأخذ الأُجرة، فيتقوَّت بها، وكان ما عليه من الثِّياب مثل القميص والعِمامة ما يملك غيره. [وكان] (1) لا يملك من الدُّنيا شيئًا، وكان عالمًا بفنون العلوم، وجميع الملوك والعلماء والأعيان يزورونه [لأجل صلاحه] (1) ويتبركون به (¬2)، وصنَّف كتاب سيرة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان يعمل مولد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ سنة، ويحضر دعوته صاحبُ المَوْصل والأكابر، وكان نور الدين يحبُّه ويكاتبه، وكان مكان الجامع النُّوري خَرِبة واسعة ما شَرَعَ أحدٌ في عمارتها إلا وقصر عمره، فأشار عمر على نور الدين بعمارتها جامعًا، فاشتراها وأنفق عليها أموالًا كثيرة، يقال ستين ألف دينار، ويقال: ثلاث مئة ألف دينار، فتمَّ في ثلاث سنين، وجاء نور الدِّين إلى المَوْصل [وهي] (1) المرة الأخيرة، فصلَّى فيه، ووقف عليه قرية بالمَوْصل، ورتَّب فيه الخطيب والمؤذِّنين والحُصُر والبُسط وغيرها، ثم دخل عمر المَلَّاء على [نور الدين] (¬3) وهو جالسٌ على دِجْلة، فترك بين يديه دساتير الخَرْج، وقال: يا مولانا أَشْتهي أن تنظر فيها، فقال له نور الدين: يا شيخ نحن عملنا هذا لله تعالى، دع الحساب إلى يوم الحساب، ثم رمى بالدَّساتير في دِجْلة. [قال] (1): وبنى جامع حماة على العاصي (2). ووقع [بيد نور الدين] (¬4) إفرنجي من أكابر الملوك، ففدى نفسه بمالٍ عظيم، فشاور نور الدِّين أمراءه، فأشاروا ببقائه في الأَسْر خوفًا من شرِّه، فأرسل إليه نور الدِّين في السِّر يقول: أحضرِ المال، فأحضر ثلاث مئة ألف دينار، فأطلقه [نور الدين] (1) فعند وصوله إلى مأمنه مات، فطلب الأُمراء أسهمهم من المال، فقال نور الدِّين: ما تستحقون منه شيئًا، لأنكم نَهَيتُم عن الفداء، وقد جمع الله لي الحُسْنيين: الفداء، وموت اللعين، وخلاص المُسلمين منه. [فبنى بذلك المال المارَسْتان] (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الباهر: 170. (¬3) في (ح): عليه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): بيده، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ح): "فبنى بذلك المال مارستان دمشق ومدرسته ودار الحديث بدمشق، ووقف عليها الأوقاف. وفي (م): "فبنى بذلك المال جامع ومارستان ومدرسة ودار الحديث بدمشق، ووقف عليهم الأوقاف. والمثبت ما بين حاصرتين من (ش)، وهو الصواب، وانظر "الروضتين": 1/ 46.

فقال ابنُ الأثير: وبلغني أنَّ وقوف نور الدِّين في أبواب البر بالشام [في وقتنا هذا وهو سنة (¬1)] ثمانٍ وستّ مئة كل شهر تسعة آلاف دينار صورية، ليس فيها ملك فيه كلام، بل حقٌّ ثابت بالشَّرْع باطنًا وظاهرًا، صحيح الشراء (¬2). [قلت: يرحم الله المجد (¬3)، أشار إلى ذلك العهد، أما في زماننا هذا فقد تشعث وقفه، وتغيرت صفاته، ولم يبق منه إلا آثاره وبركاته. وحكى ابن الأثير أيضًا أنَّ] (4) بعض الأُمراء [كان] (4) يحسد القطب النَّيسابوري لقربه من نور الدِّين، فنال منه يومًا عنده، فقال له: يا مسكين، لو نظرتَ في عيب نفسك لشغلك عن عيوب غيرك، وإن صحَّ ما قلته عنه فله حسنةٌ واحدة يغفر الله له بها كل زلة، وهي العِلْم، وأنتَ وأصحابك ليست لكم عند الله حسنة، والله لأن عدت إلى ذكره أو ذكر غيره بسوء لأؤدِّبنك، فكفَّ عنه (5). [قال] (¬4): وما كان أحدٌ من الأُمراء يتجاسر أن يجلس عنده من هيبته، فإذا دَخَلَ عليه فقيرٌ أو عالم أو ربُّ حِرْفة، قام ومشى إليه وأجلسه إلى جانبه، ويعطيهم الأموال، فإذا قيل له في ذلك يقول: هؤلاء لهم حقٌّ في بيت المال، فإذا قنعوا منا ببعضه، فلهم المِنَّة علينا (¬5). [وذكره العماد الكاتب في أول "البرق الشامي"، وأثنى عليه، فقال: وفي سنة تسع وستين وخمس مئة، وهي التي توفي فيها نور الدين أكثر فيها من الصدقات والأوقاف وعمارة المساجد المهجورة] (¬6) وتعفية آثار الآثام، وإسقاط كل ما [كان فيه من ¬

_ (¬1) في (ح): بالشام في سنة ثمان وست مئة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "الباهر": 172. (¬3) وهم سبط ابن الجوزي بقوله المجد، إذ إنه لقب المبارك ابن الأثير المحدث، أما لقب المؤرخ فهو عز الدين، وهو المراد هنا. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) "الباهر": 171 - 173. (¬6) في (ح): وقال: أكثر نور الدين الأوقاف والصدقات وعمارة المساجد المهجورة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحرام] (¬1)، فما أبقى سوى الجزية والخَرَاج، وما تحصَّل من قسمة الغَلَّات على قويم المنهاج. [قال] (¬2): وأمرني بكِتْبة مناشير أهل البلاد، فكتبتُ أكثرَ من ألف منشور، و [حَسَبْنا ما] (2) تصدَّق به في تلك الشهور، [فكان] (2) ثلاثين ألف دينار، وكان له برسم نفقته الخاص في كلِّ شهر من الجزية ما يبلغ ألفي قرطاس، يصرفها في كسوته وملبوسه ومأكوله حتى أُجْرة خيَّاطه وجامكية طبَّاخه، ويستفضل منها ما يتصدَّق به في آخر الشهر، ويقال: إن قيمةَ القراطيس مئةٌ وخمسون دِرْهمًا، وقيل: كان [كل] (2) ستين قرطاسًا بدينار أو سبعين [درهمًا] (2). [قال] (2): وما كان يصل إليه من هدايا الملوك وغيرهم يبعث به إلى القاضي، فيبيعه ويعمر به المساجد المهجورة، ولا يتناول منه شيئًا، وأمر بإحصاء مساجد دمشق، فأُحصيت، فكانت مئة مسجد، فأوقف الأوقاف على جميعها، [وذكر العماد جملة من فضائله، ولمعة من فواضله] (2)، ومن المساجد: جامع قلعة دمشق، ومسجد عطية بباب الجابية، ومسجد الرَّمَّاحين، ومسجد سوق الصَّاغة، ومسجد دار البطيخ، ومسجد العباسي، [ومسجد] (2) بجوار بيعة اليهود، ومسجد الكشك، وأشياء أُخر. [قلت (¬3): وذكر جدي نور الدين في "المنتظم" بكلمات يسيرة، فقال: ولي الشام سنين، وجاهد الكفار، وكان أصلح من كثير من الولاة، وكان يتدين بطاعة الخلافة، والطرق آمنة في أيامه، والمحامد كثيرة، وذكر بناء مارستان دمشق وجامع الموصل، وكان يميل إلى التواضع، ويحب العلماء وأهل الدين، وقد كاتبني مرارًا، وذكر أسره لملك الفرنج، وأنه أخذ منه ثلاث مئة ألف دينار، وشرط عليه أن لا يُغير على بلاد المسلمين سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأخذ منه رهائن على ذلك. هذا صورة ما ذكره جدي في "المنتظم" (¬4) في ترجمة نور الدين. ¬

_ (¬1) في (ح): وإسقاط كل فيه الحرام في السنة التي توفي فيها، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): قال المصنف رحمه الله: كان مشغولًا بصيد الصناديد .. ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) "المنتظم": 10/ 248 - 249.

قلت: وقد صنف كتابًا سماه "الفخر النوري" فيه أحاديث العدل والجهاد ومواعظ وغير ذلك، وصنف نور الدين أيضًا كتابًا في الجهاد، وهو بدمشق. قلت: فقد ذكرتُ ما نقله علماء السير مما وقع لهم من سيرته، وما يستدل به على صالح سريرته، وقد وقع لي مآثر لم يذكروها، ومفاخر لم يُسَطِّروها لم تكن لملك غيره من ملوك الجاهلية والإسلام، ولا رأوها ولا في الأحلام]، كان مشغولًا بصيد الصِّيد (¬1) لا بصيد الغزلان، وما زال بَدْرُ مبادرته إلى الخيرات يتمُّ لا عن نقصان، هذي المكارم لا قَعْبان (¬2)، كان في عزمه أن يفتح البيت المقدَّس، فعمل منبرًا وقِبْلة بجامع حلب على اسم القُدْس، فتوفي قبل الفتوح، فلما [ملك صلاح الدين البيت المقدس] (¬3) حمل المنبر إليه، وأبقى القِبْلة بجامع حلب. [ومنها أنه] (¬4) كان له عجائز بدمشق وحلب، فكان يخيط الكوافي، ويعمل الساكر للأبواب، ويبيعها العجائز ولا يدري بهنَّ أحد، فكان يوم يصوم يُفْطر على أثمانها، وحكى لي شرف الدِّين يعقوب بن المبارز المعتمد أنَّ في دارهم سُكَّرة من عمله على خرستان، وهي باقية إلى سنة خمسين وست مئة، يتبرَّكون بها. [ومنها ما حكاه لي الشيخ أبو عمر شيخ المقادسة رحمه الله قال] (¬5): كان نور الدين يزور والدي الشيخ أحمد في المدرسة الصَّغيرة التي على نهر يزيد المجاورة للدَّير، [ونور الدين بنى هذه المدرسة والمصنع والفرن، قال: ] (4) فجاء يومًا لزيارة والدي، وكان في سقف المسجد خشبة مكسورة، فقال له بعضُ الجماعة: يا نورَ الدِّين لو كشفت السقف وجدَّدته. فنظر إلى الخشبة وسكت، فلما كان من الغد جاء معماره ومعه خشبة صحيحة، فزرقها موضع المكسورة ومضى، فعجب الجماعة، فلما جاء ¬

_ (¬1) الصِّيْد: جمع، مفرده الأصيد، وهو المائل العنق كبرًا وزهوًا، ويقال للملك، انظر "معجم متن اللغة": 3/ 512. (¬2) إشارة إلى البيت: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا (¬3) في (ح): فلما فتحه صلاح الدين حمل المنبر إليه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ح): وقال الشيخ أبو عمر - رضي الله عنه -، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

إلى الزِّيارة قال له بعضُ الحاضرين: يا نور الدِّين، فاكرتنا في كشف السقف. فقال: لا والله، وإنما هذا الشيخ أحمد رجل صالح، وإنما أزوره لأنتفع به، وما أردتُ أن أزخرف له المسجد، وأنقض ما هو صحيح، وهذه الخشبة يحصل بها المقصود، فدعوني مع حُسْن ظني فيه، فلعل الله ينفعني به. [ومنها ما حكاه لي رجل صالح] (¬1) من أهل حرَّان بقُبَّة الشيخ حياة (¬2) سنة خمس وستّ مئة، وكان قد نيف على التسعين سنة، قال: لما قُتِلَ أتابك زَنْكي على قلعة جَعْبر، وملك نورُ الدِّين قلعة حلب، تصدَّق وأزال المكوس، وردَّ المظالم، وأنا حديثُ عهد بعرس، وقد ركبني دينٌ، فقالت لي زوجتي: قد سمعتَ أوصاف نور الدِّين وإحسانه، فلو قصدته وأنهيتَ إليه حالك لقضى دينك، [قال]: (3) فخرجت من حَرَّان، وليس معي سوى دِرْهمين، فتركتُ عندها دِرْهمًا، وتزوَّدْتُ بدرهم، وأتيتُ الفرات وقت القائلة، فعبرتُ جسر منبج، وأبعدتُ عن أعين النَّاس، وخلعت ثيابي ونزلتُ، فتوضأتُ للصَّلاة، وصليتُ رَكْعتين، وإذا إلى جانبي شخصٌ ملفوفٌ في عباءة، فقال لي: يا فقير من أين أنتَ؟ قلتُ: من حَرَّان، قال: وإلى أين؟ قلتُ: إلى حلب، قال: وما تصنع فيها؟ فقلتُ: أنا فقير ومديون، وقد بلغني إحسانُ نور الدِّين إلى الخَلْق، فقصدتُه لعلَّه يقضي ديني. قال: وأين أنت من نور الدِّين؟ ومَنْ يُوصلك إليه؟ كم عليك دين؟ قلتُ: خمسون دينارًا. فأخرج يده من العباءة وبحث الرمل، وأخرج منه قرطاسًا، وألقاه إليَّ، وقال: خُذْ هذا، فاقضِ به دينك، وارجعْ إلى أهلك، فأخذتُه، فعددته، وإذا به خمسون دينارًا، والتفتُّ فلم أره، فبهت وبت في مكاني أفكر: هل أرجع إلى حَرَّان أم أمضي إلى حلب؟ فترجَّح عندي المضي إلى حلب. وقلتُ في نفسي: فهذه أوفي بها ديني، فمن أين أتقوَّت؟ ثم قمتُ وقصدتُ طريق حلب، فبتُّ بباب بُزاعة، وقمتُ في الليل، فأصبحت تحت قلعة حلب [وقت الصباح] (3) فصلَّيتُ وقعدتُ [تحت القلعة] (¬3)، وإذا قد فُتح بابُها ونزل نور الدين في أُبَّهةٍ عظيمة والأُمراءُ بين يديه، حتى جاء إلى المَيدان، فلما أراد أن يدخل نظر إليَّ ¬

_ (¬1) في (ح): قال المصنف رحمه الله: وحكى لي رجل من أهل حران، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "السير": 23/ 181 - 182، ووفاته سنة (581 هـ). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ورمقني طويلًا، وأشار إلى خادمٍ بين يديه بشيء، فجاء إليَّ، وقال: قُمْ. فأخذني، وصَعِدَ بي إلى القَلْعة، فندمتُ على مجيئي [إلى حلب] (¬1)، وقلتُ: ليتني قبلتُ من ذلك [الرجل] (1) الصَّالح، ولعل نور الدين توهَّم أني إسماعيلي، [قال] (1): فلما كان بعد ساعة عاد نور الدين إلى القلعة، وجلس في الإيوان، ومُدَّ سماطٌ عظيم ولم يمدَّ يده إليه، وإذا قد فُتح بابٌ عن يمينه صغير، وخَرَجَ منه خادم، وعلى يده طبق خُوص مُغطى بمنديل، فوضعه بين يديه، وفيه غضارة (¬2) عليها رغيف، فتأملتُها [من بعيد] (1) وهي ثردة، فتناول منها شيئًا يسيرًا، وأكل النَّاس وأكلتُ معهم، وصرف النَّاس، وبقيت قاعدًا خائفًا، فأومى إليَّ، فقمتُ، وأتيتُ إلى بين يديه [وأنا خائف أرعد] (1)، فقال: من أين أنت؟ قلتُ: من حَرَّان، قال: وما الذي أقدمك؟ قلتُ: عليَّ دين، وبلغني إحسانك [إلى الناس] (1) فقصدتك [لتقضي ديني] (1)، قال: وكم دينك؟ قلتُ: خمسونَ دينارًا، فقال: فما أعطاك أمسِ صاحبُ العباءة على الفرات خمسين دينارًا! هلا رجعتَ إلى أهلك وأنت عليك خرقة الفقر، وإذا حصل القوت للفقير فما يطلب شيئًا آخر، ثم قال: ما نضيِّع تعبك؛ ورفع سجَّادته وكانت زرقاء، وإذا بقرطاس مثل القرطاس [الأول] (1) الذي أعطاني صاحب العباءة؛ فبكيتُ بكاءً كثيرًا، وقلتُ: لا آخذه حتى تخبرني بصاحب العباءة، قال: هذا أمرٌ ما يلزمك، فقلتُ: يا مولانا، أنا غريبٌ وضيف ولي [عليك] (1) حرمة، فبالله عليك أخبرني. فقال: احلف لي أنَّك لا تتحدَّث بهذا في حال حياتي. فحلفتُ له، فكشف القَبَاء عنه، وإذا بتلك العباءة على جسده، وقال: أنا ذاك الفقير. قلتُ: بالذي أعطاك هذه المنزلة (¬3)، بأيِّ شيء وصلتَ إلى هذا؟ فقال: بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101]، ولكن لابُدَّ من السبب؛ لما التقينا بالفرنج على حارم، ونَصَرنا الله عليهم، وعدتُ إلى حلب، التقاني في الطَّريق شابٌّ حسنُ الوجه، طيِّبُ الرَّائحة، فسلَّم عليَّ، وقال: يا محمود، أنتَ من الأبدال، وقد أعطاك الله الدُّنيا فاشترِ بها ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) إناء فخاري، انظر "تكملة المعاجم العربية": 7/ 412 - 413. (¬3) من قرأ سيرة نور الدين بإمعان وجده ممن التزم بتطبيق الشرع بفهم واسع، وكان من الآخذين بالأسباب في تدبير أمر دولته، وهو من أولياء الله الملهمين وعباده المحدَّثين المكرمين كما وصفه معاصره عماد الدين، وولايته فيما وصف الله أولياءه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.

الآخرة، وسَلْه مهما شئت، ثم علَّمني كلمات وقال: إذا طلبتَ أمرًا فاذكرها، فقلتُ له: بالله مَنْ أنتَ؟ فقال: أنا أخوك الخضر. ثم غابَ عني، فإذا عَزَمْتُ على أمرٍ، وأردتُ أذهب إلى مكة أو المدينة أو إلى أي بلدٍ شئتُ، لبستُ هذه العباءة، وتكلَّمت بتلك الكلمات، وأغمض عيني وما أفتحها إلا وأنا في تلك البقعة (¬1). [وحكى (¬2) لي نجم الدين الحسن بن سلام؛ أحد عدول دمشق وأعيانها، وكان صديقنا وصاحبنا رحمه الله] قال: لما ملك الأشرفُ رحمه الله دمشق، وعمر مسجد أبي الدَّرْداء - رضي الله عنه - في القلعة، وأفرده عن الدُّور، دخلتُ عليه يومًا وهو فيه، فقال لي: [يا نجم الدين] (¬3) كيف ترى هذا المسجد؟ قد عمرته وأفردته عن الدُّور، وما صلَّى فيه أحدٌ منذ زمن أبي الدَّرْداء إلى الآن. فقلتُ له: الله الله يا مولانا، ما زال نور الدِّين منذ ملك دمشق يصلِّي فيه الصلوات الخمس، فقال: من أين لك هذا؟ قلتُ: حدَّثني والدي [وكان من أكابر عدول دمشق، وكان أبوه يلقب بالسَّعيد] (¬4): إنَّ الفرنج لما نزلت على دِمْياط بعد وفاة أسد الدِّين، وضايقوها أُشرفت على الأخذ، فأقام نور الدِّين ¬

_ (¬1) هذه القصة لا تصح، لأنها من رواية رجل مجهول، ثم إنَّ فيها اضطرابًا، فهو قد ذكر في صدر القصة ما يفهم منه أن زمن ذهابه إلى نور الدين لما قتل أتابك زنكي على قلعة جعبر، وملك نور الدين قلعة حلب، وذلك كان سنة (541 هـ). ثم يخبرنا في آخر القصة ما أخبره به نور الدين من أن المنزلة هذه التي نالها كانت بعد انتصاره على الفرنج في حارم، وذلك كان سنة (559 هـ) فمتى التقى هذا الفقير نور الدين؟ ثم إن الصحيح في أمر الخضر عليه السلام عند العلماء الأثبات المحققين أنه مات، واحتجوا لذلك بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا حضر عنده ولا قاتل معه، ولو كان حيًّا لكان من أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مبعوثًا إلى الثقلين الجن والإنس، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي"، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بقليل أنه قال: "أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن رأس مئةِ سنةٍ منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ"، يريد بذلك أنه ينخرم ذلك القرن، إلى غير ذلك من الدلائل. ومن احتج ببقائه حيًّا اعتمد على حكايات وآثار كهذه. (¬2) في (ح): وقال المصنف رحمه الله: وحكى لي نجم الدين الحسن بن سلام، قال: لما ملك، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): حدثني والدي أن الفرنج، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عشرين يومًا صائمًا لا يُفْطر إلا على الماء، فضَعُفَ، وكاد يتلف، وكان مهيبًا، فلم يتجاسر أحدٌ أن يخاطبه في ذلك، وكان له إمامٌ يقال له يحيى -ضرير- يصلِّي به في هذا المسجد، فكان يقرأ عليه القرآن، وله عنده حرمة، فاجتمع إليه خواصُّ نور الدين، وقالوا: قد خفنا على السلطان، ونحن من هيبته ما نقابله، وأنت تُدِلُّ عليه، و [نحن] (1) نسألك أن تسأله أن يتناول ما يحفظ به قوَّته، فقال: نعم، إذا صلَّيتُ به غداة غدٍ الفجر سألته. [قال] (1): فلما كان في تلك الليلة رأى الشيخ يحيى في المنام رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: يا يحيى، بَشِّرْ نور الدين محمود برحيل الفرنج عن دمياط، قال: فقلتُ: يا رسولَ الله، ربما لا يصدِّقني وأريد [له] (1) أمارة. قال: قل له بعلامة يوم حارم. قال: وانتبه يحيى وهو ذاهبُ العقل، فلما صلَّى نورُ الدِّين خلفه الفجر، وسَلَّم وشرع يدعو ففاته أن يتحدَّث معه، فقال له نور الدِّين: يحيى. قال: لبَّيك يا مولانا. قال: تحدِّثني أو أحدِّثك. [قال] (1): فارتعد يحيى وخَرِسَ. فقال [له] (1): أنا أحدِّثُك، رأيتَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الليلة، وقال لك كذا وكذا؟ فقال: نعم، فبالله يا مولانا ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: بعلامة يوم حارم. فقال [له] (1) نور الدين: لما التقى الصَّفَّان خِفْتُ على الإسلام، لأني رأيتُ من كثرة الفرنج ما هالني، فانفردتُ عن العسكر، ونزلتُ فمرَّغت وَجْهي في التراب، وقلتُ: يا سيِّدي مَنْ محمود في البين، الدِّينُ دينك، والجُنْد جُنْدُك، وهو اليوم فافعل ما يليقُ بكرمك، [قال] (¬1): فنصرنا الله عليهم. [قلت] (¬2): وحدَّثني شهاب الدِّين بن البانياسي [عم جمال الدين البانياسي] (1) -وكان على ديوان جامع دمشق-: أول ما قَدِمْتُ الشَّامَ اجتمعتُ به في درب الشعارين في قاعة الوزير صفي الدِّين بن شُكْر [وزير العادل] (1)، وكان هناك جماعة، فاشتغل الوزير بالحديث معهم، وكان شهاب إلى جانبي، فتذاكرنا نور الدين، فقال: كان أبي يخدمه في أسفاره ومقامه على ديوانه، [قال] (1) فحكى لي وأنا صغير، قال: خَرَجَ نورُ الدِّين من دمشق يتصيَّد في أرض قطنا ويعفور وأنا معه، فبينا هو ذاتَ يوم قد ركب من الخيم ليذهب إلى الصَّيد، وإذا برجلٍ أعجمي قد أقبل من ناحية دمشق ومعه خيلٌ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): قال المصنف رحمه الله: وحدثني شهاب الدين، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ومماليك، وكان تاجرًا، فلما وصل إلى نور الدين، ترجَّل وقبَّل الأرض. فرحَّب به نور الدين -وكان صديقه- وقال: أين أرمغان؟ قال: حاضر، ومضى نور الدِّين، فلما عاد استدعاه، فأحضر قُماشًا وعِدَّة مماليك وفيهم مملوكٌ مستحسنٌ جدًّا، فقَبِلَ المملوك ورَدَّ الباقي، فكان له خادمٌ أبيض اسمه سهيل قد رَبَّاه، فقال [له] (¬1): يا سهيل خُذْ هذا المملوك إليك، وادفعْ إلى التاجر خمس مئة دينار، وخِلْعة وبغلة. قال والد شهاب: فحدَّثني سهيل، قال: لما قال لي كذا؛ قلتُ في نفسي: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا ما اشترى مملوكًا قطُّ يساوي خمسين دينارًا، يشتري مملوكًا بخمس مئة دينار! قال: ففعلتُ ما أمرني، فتركني أيامًا، وقال: يا سهيل، أحضرِ المملوك كل يوم [مع] (1) المماليك يقف في الخِدْمة. فأحضَرْتُه، فلما كان بعد أيام قال لي: أحضره وقت العِشاء الآخرة إلى الخيمة ونَمْ أنت وإياه على باب البُرْج، [قال] (1): فقلتُ في نفسي: هذا الشيخ في زمن شبابه ما ارتكب كبيرةً، لما ارتفع سِنُّه يقع فيها! والله لأقتلنَّه قبل أن يقع في معصية، فعمدت إلى كتارةٍ لي فأصلَحْتُها [وقلت: والله لأقتلنَّه قبل أن يصل إليه] (1) وجِئْتُ بالمملوك إلى الخيمة وأنا قَلِقٌ، فسهرت عامَّة الليل ونورُ الدِّين في أعلى البُرْج، فلما كان وقت السَّحر غلبتني عيناي، فنمتُ، ثم انقلبتُ، فوقعت يدي على خدِّ الغلام، وإذا به مثل الجمرة، قد أخذته الحُمَّى، فأخذته ومضيتُ إلى خيمتي، فلما أصبح، أحضرتُ الطَّبيب فرآه، فقال: هذا مرَضه سماويّ، فلما كان وقت الظُّهْر مات، فغسَّلْتُه وكفنته ودفنته، فلما كان اليوم الثَّاني، دعاني نور الدين فدخلتُ، فقال: اقعد. فقعدتُ، فقال: سهيل، إنَّ بعض الظَّنَّ إثم، [قال] (1)، فاستحييتُ، فقال: قد عرفتَ حالي وأنتَ ربَّيتني، هل عثرتَ لي على زَلَّة؟ قلتُ: حاشى لله، قال: فَلِمَ حملتَ الكتارة وحدَّثَتْك نفسُك لي بالسُّوء؟ ما أنا معصوم، لما رأيتُ الغلام وقَعَ في قلبي منه مثل النَّار، فعلِمْتُ أنَّه من تسويل الشيطان، فقلتُ لك اشتريه لعلي يُذْهب عني ما أنا فيه، فلم يذهب، فقالت لي نفسي: أريد أنْ أراه كلَّ يوم. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

فأمرتُك بإحضاره، فقالت: ما أقنع إلا بأن يحضر [عندك] (¬1) في البُرْج في الليل، فأمرتُك بأن تحضره، فأحضرته، فلما كان في تلك الليلة ما تركني أنام، وبقيتُ أنا وإياها في حَرْب إلى وقت السَّحر، فهممتُ أن أفتحَ باب البُرْج وأُصعده إلى عندي، فجاءتني اليقظة، وكشفتُ رأسي، وقلتُ: إلهي، محمود عبدك المجاهد في سبيلك، الذاب عن دين نبيك - صلى الله عليه وسلم - الذي عَمَّر المدارس والرُّبُط وأوقفَ الأوقاف، وفعل ما فعل، تختم أعماله بمثل هذا! فسمعتُ هاتفًا يقول: قد كفيناك يا محمودُ أمره، لا بأس عليك. فعلمتُ أنه قد حَدَثَ به حَدَثٌ، وأما أنت يا سهيل فجزاك الله عن الصُّحْبة خيرًا، والله إنَّ القتلَ أهونُ عليَّ من الوقوع في المعصية. ثم قدَّم سهيلًا، وأحسن إليه. [وحكى لي الكمال ابن البانياسي ابن أخي الشهاب، قال: حكى لي من يتولى] (¬2) أوقاف نور الدين: أنه أجر بعض بساتينه لرجلٍ من دمشق على ستِّ مئة دِرْهم، فأصابتِ البساتين جائحة، [فجاء ذلك الرجل يتضوَّر، فأسقطوا عنه] (¬3) ثلاث مئة دِرْهم، فلما كان بعد أيام جاء الرجل ومعه ستّ مئة دِرْهم، وهو يبكي، فقيل له: مالك؟ قال: رأيتُ في المنام وقد خَرَج عليَّ نور الدين من قبره، وبيده جوكان، وقال: أنتَ تكسر وقفي. وأراد أن يضربني، فقلتُ: أنا تائب، ورمى بالدَّراهم، [فقلنا له: خذها، فقال: لا والله أخاف أن يضربني] (1). [وحكى] (1) الشيخ تاج الدِّين الكندي: ما تبسَّمَ نورُ الدِّين إلا نادرًا، حكى لي جماعةٌ من شيوخ المحدِّثين: أنهم قرؤوا عليه حديثَ التَّبَسُّم، وكان يرويه، فقالوا له: تَبَسَّمْ، فقال: لا والله لا أتبسَّم من غير عجب. [و] (1) حدَّثني رجلٌ من أهل حَرَّان: قال: خَرَجَ يومًا نورُ الدِّين من حرَّان قاصدًا إلى الرُّها، فاجتاز على نهر، وفقير نائم على [جانب النهر] (¬4)، فوقف وسلَّم عليه، فرفع الفقيرُ رأسه، وأشار بيده: في أيِّ شيء أنتَ؟ فحرّك نورُ الدين أُصْبعًا واحدًا، فحرَّك ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): وقال متولي أوقاف نور الدين، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): فجاء متضورًا، فأسقط عنه ثلاث مئة درهم، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): جانبه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م)، وبنحوه في (ش).

الفقير أُصْبعين، ومضى نور الدِّين باكيًا، فقيل له: ما هذا؟ قال: أشار إلي الفقير، وقال: في أيِّ شي أنت؟ وهذا كله لماذا؟ فقلتُ: من أجلِ رغيف واحد. فأشار إليَّ بأُصبعيه، وقال: أنا آكل في اليوم رغيفين، وما أنا مثلك. [وذكر ابن الأثير الجَزَري في "تاريخه"، قال] (¬1): كان نورُ الدِّين قد جَمَعَ العساكر من المَوْصل والجزيرة وديار بكر ليتركها بالشَّام في مقابلة الفرنج، ويتوجَّه بنفسه إلى مِصْر، فإنَّه رأى من صلاح الدين فتورًا في غَزْو الفرنج، وكان المانع لصلاح الدِّين من الغَزْو خوفَه من نور الدين، [فكان يقصر في غزوهم] (¬2)، وما كان يرى نور الدين إلا خلاص القُدْس منهم، واستئصالهم من السواحل، فمضى إلى دمشق، وأقام يتجهَّز، فأدركه أجله [وهو على هذه النية] (2) (¬3). ذكر وفاته [وما يتعلَّق بها] (2) كان قد خَتَنَ ولده الملك الصَّالح إسماعيل، يوم الفطر، وهُنِّئ بالعيد والطُّهور [ومدحه الشعراء] (2)، فقال العماد الكاتب: [من المجتث] عيدان فِطْرٌ وطُهْرُ ... فتحٌ قريبٌ ونَصْرُ كلاهما لك فيه ... حقًّا هناءٌ وأَجْرُ وفيهما بالتَّهاني ... رسْمٌ لنا مُسْتَمِرُّ طهارةٌ طابَ منها ... أصلٌ وفَرْعٌ وذِكْرُ محمودٌ المَلِك العا ... دِلُ الكريمُ الأَغَرُّ وبابنه الملك الصَّا ... لح العيونُ تَقِرُّ مولى به اشتدَّ للدِّيـ ... نِ والشَّريعةِ أَزْرُ وإنَّ حُبَّكَ دِينٌ ... وإنَّ بُغْضَكَ كُفْرُ لنا بيمناكَ يُمْنٌ ... لنا بِيُسْراك يُسْرُ وللموالينَ نَفْعٌ ... وللمُعادين ضَرُّ ¬

_ (¬1) في (ح): وقال ابن الأثير الجزري، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) انظر "الباهر": 161.

قد استوى منك تقوى الـ ... إله سرٌّ وجَهْرُ يا أعظمَ النَّاس قَدْرًا ... وهل لغيرك قَدْرُ ما اعْتَدْتَ إلا وفاءً ... وعادةُ القوم غَدْرُ هذا الطُّهورُ ظهورٌ ... على الزَّمان وأَمْرُ رُزِقْتَ عُمرًا طويلًا ... ما طال للدَّهْر عُمْرُ وخرج نورُ الدِّين يوم الأحد إلى المُصَلَّى بالأمراء والأجناد، والقَدَرُ يقول: هذا آخر الأعياد. فَمَرِضَ، وبدأ به الخوانيق، وما كان يرى الطِّبّ. قال الرَّحْبي الطَّبيب (¬1): اسْتُدْعينا، فدخلنا عليه ونحن جماعةٌ من الأطباء وهو في قلعة دمشق في بيتٍ صغير كان يتعبَّد [فيه]، وقد استحكم منه المرض، واستولى الخوانيق على حلقه فما كان يسمع منه صوت، فشرعنا في مداواته، فلم ينجع فيه الدَّواء مع حضور أجله، وكانوا قد أشاروا عليه بالفَصْد في أوَّل المرض، فامتنع، وكان مهيبًا فما رُوجع. وكانت وفاته يوم الأربعاء حادي عشر شَوَّال، ودفن بالقَلْعة، ثم نُقِل إلى مدرسته التي أنشأَها مجاورة للخوَّاصين، ويقال: إنَّها كانت دار عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وقيل: دار سليمان بن عبد الملك، وعاش ثمانيًا وخمسين سنة، وكانت أيامه ثمانية وعشرين سنة وستة أشهر. وقال عرقلة في مدرسة نور الدِّين رحمه الله: [من الوافر] ومدرسة سيدرسُ كلُّ شيء ... وتبقى في حِمَى عِلْمٍ ونُسْكِ تضوَّعَ ذِكْرُها شَرْقًا وغَرْبًا ... بنور الدِّين محمودِ بنِ زَنْكي يقول وقولُه حقٌّ وصِدْقٌ ... بغير كنايةٍ وبغير شَكِّ دمشقٌ في المدائن بيت مُلْكي ... وهذي في المدارس بيتُ مِلْكي ¬

_ (¬1) هو رضي الدين يوسف بن حيدرة بن حسن الرحبي، من أشهر أطباء عصره، توفي سنة (631 هـ)، له ترجمة في "عيون الأنباء": 672 - 675، 682.

[ورثاه جماعة من العلماء] (¬1) فقال العمادُ الكاتب: [من المتقارب] عجبتُ من الموتِ كيف اهتدى ... إلى مَلِكٍ في سجايا مَلَكْ وكيف ثوى الفَلَكُ المُسْتديـ ... ـرُ في الأَرْضِ والأرضُ وَسْطَ الفَلَكْ وقال أيضًا: [من السريع] يا ملكًا أيَّامُه لم تَزَلْ ... لفَضْلِهِ فاضلةً فاخِرَهْ ملكتَ دُنْياكَ وخَلَّفْتَها ... وسرتَ حتى تملكَ الآخِرَه وقال أبو اليُسْر شاكر بن عبد الله: تعدَّى بعضُ أمراءِ صلاحِ الدِّين على رجلٍ، وأخذ ماله، فجاء إلى صلاح الدِّين، فلم يأخذ له بيد، فجاء إلى قَبْر نور الدِّين، وشَقَّ ثيابه، وحثى التُّرابَ على رأسه، وجعل يستغيث: يا نورَ الدِّين [أين] أيامك؟ ويبكي، وبَلَغَ صلاح الدِّين، فاستدعاه وأعطاه ماله، فازدادَ بكاؤه، فقال له صلاح الدين: ما يبكيك وقد أنصفناك؟ فقال: إنَّما أبكى على ملك أُنصفت ببركاته بعد موته، كيف يأكله التُّراب، ويفقده المسلمون! ذِكرُ ألقابه التي جاءت من بغداد مع الخِلْعة، ويُخطب له بها على المنابر: اللهم وأَصْلِحِ المولى السُّلْطان الملك العادِلَ العالم، العامل الزَّاهد، العابد الوَرع المجاهد المرابط، نورَ الدين وعُدَّتَه، ركنَ الإسلام وسَيفَه، قسيمَ الدولة وعمادَها، اختيار الخلافة ومعِزّها، رضيَّ الإمامة وأثيرَها، فخر المِلَّة ومجيرها، شمس المعالي وفلكها، سيِّد ملوك الشرق والغرب وسُلْطانَها، محصي العَدْل في العالمين، مُنْصف المظلومين من الظَّالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين، وذكر ألقابًا أخرى. ثم إنَّ نور الدِّين أسقطَ الجميع قبل موته، وقال: يقال: اللهم وأَصْلِحْ عبدَك الفقير محمود بن زنكي. ورُوي أنَّه كَتَبَ رقعةً بخطه إلى وزيره خالد بن القَيسَراني يأمره أن يكتبَ له صورةَ ما يُدْعى له به على المنابر، وكان مقصودُه صيانةَ الخطيبِ عن الكَذِب، ولئلا يقول ما ليس فيه، فكتبَ ابنُ القَيسراني كلامًا، ودعا له فيه، ثم قال: وأرى أن يقال على ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

المنبر، اللهم وأَصْلح عبدَك الفقيرَ إلى رحمتك، الخاضعَ لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهِدَ في سبيلك، المرابط لأعداء دِينك، أبا القاسم محمود بن زَنْكي بن آق سُنْقُر، ناصر أمير المؤمنين. فإن هذا ما يدخله كَذِبٌ ولا تزيُّد، فكتَبَ نورُ الدين على رأسها بخطِّه: مقصودي أن لا يُكذب على المنبر، أنا بخلاف كل ما يقال، أفرح بما لا أعمل، قِلَّة عقل عظيم، الذي كتبت به جيد، اكتبْ به نُسَخًا إلى البلاد. وكان يقول لأصحابه: حرام على كلِّ من صحبني ولا يرفع إلي قصة مظلوم لا يستطيع الوصول إليَّ. ذكرُ نُبْذةٍ مما مُدِحَ به: كان قليلَ الابتهاج بالشِّعْر، لا يُؤْثر المديح ويجيز عليه، فمن قول ابن القيسراني فيه: [من الخفيف] ذو الجهادين من عدوٍّ ونَفْسِ ... فهو طول الحياةِ في هَيجاءِ أيها المالكُ الذي ألزم النَّا ... سَ سلوكَ المحجَّة البيضاءِ قد فَضَحْتَ الملوكَ بالعَدْلِ لَمَّا ... سِرْتَ في الناس سيرةَ الخُلَفاء قاسمًا ما مَلَكْتَ في النَّاس حتى ... لقسمتَ التُّقى على الأتقياءِ شيم الصَّالحين في جُنَنِ (¬1) التُّرْ ... كِ وكم من سكينة في قَبَاءِ أنتَ حينًا تقاس بالأسد الوَرْ ... دِ وحينًا تُعَدُّ في الأولياءِ وكأنَّ القَباء منك لما ضمَّ (م) ... من الطُّهْر مسجدٌ بقُباءِ أنتَ إلا تكنْ نبيًّا فما فا ... تَكَ إلَّا خلائقُ الأنبياءِ رأفةٌ في شهامةٍ وعفافٌ ... في اقتدارٍ وسَطْوةٌ في حياءِ وجمالٌ ممنطقٌ بجلالٍ ... وكمالٌ متوَّجٌ ببهاءِ عَجِبَ النَّاسُ منك أنَّك في الحَرْ ... بِ شهابُ الكتيبةِ الشَّهْباءِ وكأنَّ السيوفَ من عَزْمك الما ... ضي أفادتْ ما عندها من مَضَاءِ ولعمْري لو استطاع فَدَاك الـ ... ـقومُ بالأمَّهات والآباءِ ¬

_ (¬1) مفردها جنة، وهي الدرع، "اللسان" (جنن).

وقال: [من الخفيف] مَلِكٌ أشْبه الملائكَ فَضْلًا ... وشبيه بمالكِ الأمر جُنْدُهْ عمَّ إحسانُه فأصبحَ يُتْلى ... شكره في الورى ويُدْرَسُ حَمْدُهْ فسقى الله ذِكْرَه أينما حلَّ ... ولا فاتَه من النَّصْرِ رِفْدُهْ وقال أحمد بن منير: [من الطويل] أيا ملكَ الدُّنيا الحُلاحل والذي ... له الأرضُ دارٌ والبَرِيَّةُ أعْبُدُ وليستْ بدعوى لا يُقام دليلُها ... ولكنَّه الحقُّ الذي ليس يُجْحَدُ أخو غَزَوَاتٍ كالعقودِ تناسَقَتْ ... تَحُلُّ بأجيادِ الجيادِ وتُعْقَدُ لسانٌ بِذِكْر الله يكسو نهارَه ... بهاءً وجَفْنٌ في الدُّجى ليس يَرْقُدُ وبَذْلٌ وعَدْلٌ اغرقا وتألَّقا ... فلا الورْدُ مثمودٌ ولا البابُ مُوْصَدُ مرامٌ سمائيُّ وحَزْمٌ مسدَّدٌ ... ورأيٌّ شهابيٌّ وعَزْمٌ مؤيَّدُ وقال ابنُ الأثير: كان مجلسُ نور الدين مثل مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُسمع فيه لأحدٍ كلمة إلا مفيدة، فلما ملك صلاحُ الدِّين دمشق حضر الحافظ ابنُ عساكر مجلسه، فسمع لَغَطًا كثيرًا، وكلُّ واحدٍ يتحدَّث مع الآخر، وليس للمجلس هيبة، فبكى [الحافظ] (¬1) وقال: يرحم الله نور الدين، لقد حضرت مجلسه مرارًا، فما سمعتُ أحدًا ينطق إلا جوابًا، فما هذا اللَّغط! وبلغ صلاح الدين فقال: إذا حضر الحافِظُ عندنا فلا يتكلَّمَنَّ أحدٌ بكلمة (¬2). ذِكْرُ ما جرى بعد وفاته: كان ولده الملك الصَّالح لم يبلغِ الحُلُم، فأجلسوه مكانه، وحَضَرَ القاضي كمال الدين بن [الشَهْرُزُوري وشمس الدين بن المقدَّم، وجمال الدِّين] (1) ريحان -وهو أكبر الخدم- والعَدْل أبو صالح بن العَجَمي أمين الأعمال، والشيخ إسماعيل خازن بيت المال، وتحالفوا أَن تكون أيديهم واحدة، وأنَّ شمسَ الدِّين [بن المقدَّم] (1) إليه تقدمةُ العساكر، وتربيةُ الملك الصالح. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الباهر: 172 - 173.

ووصل كتابُ صلاح الدِّين من إنشاء الفاضل [إلى دمشق] (¬1)، وفيه: أدامَ الله أيَّام مولانا الملك الصَّالح، رفع الله قَدْره، وأَعْظَمَ أَجْرَ المملوك في مولانا الملك العادل وأَجْره، أصدر خدمته هذه يوم الجمعة رابع عشر ذي القَعْدة، وفيه أُقيمت الخُطْبة بالاسم الكريم، وصرّح بذكره في الموسم العظيم، والجمعِ الذي لا لغْوَ فيه ولا تأثيم، وأشبه المملوك أَمْسَه في الخِدْمة، ووفَّى بما لزمه من حقوق النِّعْمة، وجَمَع كلمة الإسلام لعِلْمه بأن الجماعةَ رحمة، والله تعالى يخلِّدُ مُلْكَ مولانا الملك الصَّالح، ويُصْلح به، وعلى يديه، ويديمُ النَّعْماء عليه [وذكر فصولًا تتعلق بالتهنئة والتعزية] (1). ولما بلغ الفرنجَ وفاةُ نور الدِّين قصدوا بانياس (¬2) طمعًا في البلاد، فراسلهم شمسُ الدِّين بن المقدَّم، وخوَّفهم بأسَ صلاح [الدين] (1)، فلم يلتفتوا، فصالحهم على مالٍ في دفعه [إليهم] (1) في ذلك الوقت، وبلغ صلاح الدين، فشقَّ عليه، وكتب إلى شرف الدين بن [أبي] (1) عَصْرُون يقول: لما بلغني وفاة المرحوم، خرجت من مصر لقصد الجهاد، وتطهير البلاد من أهل الكُفْر والعناد، فبلغني حديثُ الهُدْنة المؤذنة بذُلِّ الإسلام، وشَيْنِ شريعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، والشيخ أَوْلى من جَرَّد لسانه في إنكار هذا الأمر، فإنَّ بلسانه تُغمد السيوف، وتجرَّد الحتوف. وأما سيف الدِّين غازي، فإنَّه كان قد سار عن المَوْصل لنجدة عمه نور الدين، ووصل إلى حرَّان، فبلغه وفاةُ عمه، فاستولى على الجزيرة بأسرها ما خلا قلعة جَعْبر، وكان نورُ الدِّين قد أبطل الخمور والمكوس من الجزيرة، فأعادها سيفُ الدِّين، وأقام مناديًا ينادي في الأسواق، وبيده باطيةُ خمر وقَدَح وهو يشرب، فكَثُرَ التَّرحم على نورِ الدِّين، والذَّم لسيفِ الدِّين. وأراد سيفُ الدِّين العبورَ إلى الشَّام، والاستيلاء على حلب، فقال له الأُمراء: ارجعْ إلى بلدك فقد ملكت الجزيرة، ولم يملكها أبوك، وصلاح الدين بين يديك، فعاد إلى المَوْصل، وبلغ صلاح الدين، فكَتبَ إلى أُمراء نور الدين يلومهم حيث مكَّنوا سيفَ الدِّين من أَخْذِ الجزيرة، ويقول: سوف أَصِلُ إلى خدمة ابنِ مولاي، وأُجازي إِنْعام والده عليَّ وما عاملني به. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هي في هضبة الجولان، وبقربها الآن قلعة تعرف بقلعة النمرود.

أبو شجاع الطوابيقي البغدادي

وكان شمسُ الدِّين علي بن الدَّاية في قلعة حلب حاكمًا عليها هو وأخوه مجد الدين أبو بكر وسابق الدِّين عثمان، وكانوا أعزَّ النَّاس على نور الدين، وكان مجد الدين [أبو بكر رضيع نورِ الدين] (¬1) وكانت شَيزَر لشمس الدِّين علي، وقلعة جَعْبر وتل باشر لأخيه سابق الدِّين عثمان، وحارم لبدر الدِّين حَسَن أخيهم، وكان نور الدين قد أسكنهم معه بقلعة حلب، ولا يَصْدُرُ إلا عن رأيهم، فلما مات نور الدين لم يشكُّوا أَنَّهم أحقُّ بتربية ولده من غيرهم، وكان أوجههم شمسَ الدين [عليّ، وكان بالقلعة معه شاذبخت الخادم، فلما وصل سيف الدين إلى الفرات أرسل شمسُ الدين] (¬2) إلى دمشق يطلبُ الملكَ الصَّالح ليدفع به سيفَ الدِّين، فقالوا: إنْ سيَّرْتموه إليه استولى على تربيته، فاعتذروا إليه، وأقام الصَّالح بدمشق تمام هذه السَّنة. أبو شجاع الطوابيقي البغدادي (¬3) شاعر فصيح، أقام بالموصل، ومدح أكابرها، ومن شعره: [من الكامل] أصبحتَ تُخْرجني بغير جنايةٍ ... من دار إعزازٍ لدار هَوَانِ كدمِ الفِصادِ يراقُ أرذلَ موضعٍ ... أبدًا ويخرجُ من أعزِّ مكانِ إنْ لم يخلِّصْني الوصالُ بجاهه ... سأموتُ تحت عقوبةِ الهِجْرانِ (¬4) السَّنة السَّبعون وخمس مئة [قال جدي رحمه الله: في هذه السنة انتهى تفسيري للقرآن على المنبر، فإني كنتُ أذكر في كل مجلس منه آيات، ففرغت في هذه السنة، وسجد على المنبر شكرًا لله تعالى، وقال: ما أعرف واعظًا غيري فسَّر القرآن كله على المنبر إلا أنا (¬5). ¬

_ (¬1) في (ح): وكان مجد الدين رضيعه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم شعراء العراق: ج 1/ 318 - 322، و "فوات الوفيات": 3/ 119 - 192 - وفيه القاسم بن الحسين أبو شجاع بن الطوابيقي- و"الوافي بالوفيات": 24/ 118 - 119، ووفاته في الفوات والوافي سنة (596 هـ)، وإخاله وهمًا. قال ابن الأثير في اللباب: 2/ 287 هذه النسبة إلى الطوابيقي، وهي الآجر الكبار الذي يفرش في صحن الدار. (¬4) الأبيات في "الخريدة": 1/ 322، مع اختلاف في ترتيب الأبيات. (¬5) "المنتظم": 10/ 251.

فصل: وفيها سُلِّمَتْ إليَّ المدرسة التي بباب الأزج، وكانت دار الوزير ابن جَهِير، وكانت بنفشا جهة الخليفة المستضيء قد اشترتها وأَوقفتها على أصحاب أحمد بن حنبل، وفوضتْ أمرها إليّ، وأوقفت عليها قرية، وحضر درسي قاضي القضاة والحاجب وأرباب الدولة، وخُلع عليَّ خِلْعة نفيسة، وذكرتُ دروسًا كثيرة، وكان يومًا مشهودًا، وخرجتُ وبين يدي الدُّعاة، وارتفعتِ الأدعية للخليفة، ووقفتِ الناسُ صفوفًا مثل يوم العيد. قال: وأصاب أهل المذهب -يعني الحنابلة- من ذلك غم عظيم، لأنَّهم حسدوني، وجلستُ تحت المدرسة في شوَّال يوم الأربعاء، فكان الجمع زيادة على خمسين ألفًا، فازداد غمُّ أهل المذهب (¬1). وكان جدي يقول: والله لولا أحمد والوزير ابن هُبيرة لانتقلت عن المذهب، فإني لو كنتُ حنفيًّا أو شافعيًّا لحملني القوم على رؤوسهم] (¬2). وفيها أعاد المستضيء أبا الحسن الدَّامَغاني الحنفي إلى قضاء القضاة ببغداد. وفيها أمر الخليفة أن يُخلَع على رئيس الرُّؤساء خِلَع الوزَارة، وكان قطب الدِّين قيماز عدوَّه، فاغلقَ أبوابَ دارِ الخليفة، ومَنَعَ من ذلك، فأَرْسَلَ الخليفةُ إليه صَنْدَل المقتفوي يعينه، فلم يلتفت، وقال: إما أنا وإما ابن رئيس الرُّؤساء؛ لا يقيم معي في بلد. فقيل للوزير: اعبر إلى الجانب الغربي، وأَقِمْ لننظرَ في الأمر، فَعَبَر. وفيها كانت فتنة قُطْب الدِّين قيماز المذكورة، وكان قد طمع في الدَّولة واستطال، واستقلَّ بالأمر، فلم يبقَ معه للخليفة حُكْم، وكان قد تزوَّج أُخت الأمير تتامش، واتَّفقا على الدولة، وكانت العساكر بحكمهما وهما ساكنين في دار الخلافة، ومعهما مفاتيح أبواب الدار. وكان تتامش قد استولى على واسط والبَصْرة، وبعث نوابه فصادروا النَّاس، ونهبوا أموالهم، فجاء منهم جماعةٌ إلى بغداد، فدخلوا جامع القَصْر، واستغاثوا، وكسروا المنبر، ومنعوا الخطيب من الخُطْبة، فبعث الخليفةُ إلى قطب الدين وتتامش فنهاهما، ¬

_ (¬1) "المنتظم": 10/ 252 - 253. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وقال: هذه شناعةٌ قبيحة. فلم يلتفتا، فبعث إليهما صَنْدَل، فأغلظا له، وكان ظهير الدِّين بن العَطَّار صاحبَ المخزن، فبعث قطبُ الدِّين إلى الخليفة يقول: اعزله. فقال: بالأمسِ عَزَلْنا الوزير واليوم نعزل صاحبَ المخزن، فمن يقوم بخدمتنا؟ فركب قطبُ الدِّين وتتامش والعساكر، وأظهرا العِصْيان، وأغلقا أبوابَ دارِ الخليفة، وكان ابنُ العَطَّار ساكنًا في الدَّار، فقصدا داره، فهرب إلى باب الحجرة، فنهباها، وأحرقاها، فغضبَ الخليفةُ، وبعث أستاذ الدَّار وصَنْدَل في عسكرٍ لقتالهما، فاقتتل الفريقان على باب دار قطب الدِّين، فلم يقدر صَنْدَل عليه، فأرسل إلى الخليفة يستمدُّه، فصَعِدَ الخليفةُ على منظرة الرَّيحانيين، فظهر للنَّاس، وقد اجتمع أهل بغداد تحت المنظرة، وقال: يا أهلَ بغداد، أنا خليفتكم، وقد عصى عليَّ قيماز، وكَفَر نعمتي، وظَلَمَ رعيَّتي، واستحلَّ ما حرَّم الله تعالى، المالُ مالكم، والدَّم لي. فثارتِ العامةُ، وقصدوا داره ينادون: الخليفة يا منصور، وسمع قيماز الضَّجيج فقال: هذا الصِّياح لنا أو علينا؟ فقالوا: علينا. فقال: هلكنا وربِّ الكعبة. وحَمَلَ العوام على أصحابه فطحنوهم، وضربوا بواباته بقوارير النِّفْط، فأحرقوه، وأحرقوا جماعةً من أصحابه، ودخلوا داره، فهرب هو وتتامش من باب السِّرِّ في نفرٍ يسير، والعامةُ خلفهم بالآجُرِّ والنُّشَّاب والمقاليع، وعَبَرَا على عقد المصطنع، وهناك هَرَّاس يقال له ابن النجيل، فضرب قطبَ الدِّين بالمِغْرَفة، وقال له: يا مارق. ودخلتِ العامَّةُ الدَّار، وكان قطبُ الدِّين قد بَسَطَ الأَنْطاع، وصبَّ عليها المال والجواهر واليواقيت وأطواق الذَّهب والخِلَع وأموالًا لم تكن عند الخلفاء ولا الملوك، فنهبوا الجميع بحيثُ إن العوام كانوا يدخلون المطبخ والقُدور بحالها، فيرمي الواحد في القدر المال في الأكياس، ويخرج بها، فاستغنى أهلُ بغداد، ونادى الخليفة آخر النَّهار برفع النَّهب، وعَزَلَ نساءهم وحُرَمَهم في دُور، ووكَّل بهم بعضَ الخدم يحفظهم ويقوم بأمرهم، وحَبَسَ الأمراء والجُنْد الذين وافقوهم، وأُخذت أموالهم. وأما قطب الدِّين وتتامش فهربا إلى المَوْصل، فمات قطب الدِّين بظاهرها، وقيل بتل أَعْفر (¬1)، وغُسِّل في سقاية، ولم يوجد له كَفَن، وكان معه جماعةٌ من الأمراء؛ ¬

_ (¬1) وهي المعروفة بتل يعفر كذلك، بين سنجار والموصل، انظر "معجم البلدان": 2/ 39.

منهم حسام الدين تميرك، فجاء إلى الشَّام، فأكرمه صلاح الدِّين، وأقطعه الإقطاعات، وكان عماد الدين صاحب سِنْجار قد نهبهم. واستوزر الخليفةُ عضد الدِّين ابن رئيس الرُّؤَساء، وخَلَعَ [عليه خِلَع الوزارة] (¬1). وفي آخر صفر توجَّه الملك الصَّالح إلى حلب مع كُمُشْتِكين خادم أبيه، وكان نائبًا بقلعة المَوْصِل (¬2) لنور الدين، فلما مات نورُ الدِّين هَرَب من سيف الدِّين إلى حلب، واتَّصل بخِدْمة أولاد الدَّاية، فأرسلوه إلى دمشق ليُحْضِرَ الملك الصَّالح، فأحضره في صفر، فكان مقامه بدمشق بعد وفاة أبيه خمسة أشهر، ولما دخل حلب كان معه إسماعيل الخازن وأبو صالح بن العَجَمي، فحسَّن له ابنُ العجمي قَبْضَ أولاد الدَّاية، فأمر كُمُشْتِكِين، فقبض عليهم، وحَسَّنَ له قبض ابن الخشاب مقدَّم الشيعة، فقبض عليه. وكان عقيب موت نور الدِّين قد جرت بحلب فتنةٌ بين الفريقين، قُتِلَ من السُّنَّة والشيعة خَلْقٌ عظيم، واجتمعت الشيعة بدار ابن الخَشَّاب، ونُهبت دور بني العَجَمي ودور بني عَصْرون. وقيل: إنَّ هذه الفِتْنة وقعت عند دخول الملك الصَّالح حلب، فاسْتُدعي الخَشَّاب إلى القلعة، فاعترضه جُرْديك، فقتله، ورمى برأسه إلى البلد، فسكنتِ الفِتْنة. وبلغ [ابن] (¬3) المقدَّم والأُمراء بدمشق ما فُعِلَ بأولاد الدَّاية، فكاتبوا سيف الدِّين صاحب المَوْصل ليسلِّموا إليه دمشق، فخافَ أن تكون مكيدة، فتوقَّف، وكاتبه الشيعة أيضًا ليسلِّموا إليه حلب، فأقام يتروَّى، وكان قَبْضُ بني الدَّاية، وقَتْلُ ابن الخَشَّاب سببًا لفساد أمر الملك الصَّالح. ¬

_ (¬1) في (ح): وخلع هو الذي قصده قطب الدين، وما بين حاصرتين زيادة من عندنا مستفادة مما في "المنتظم" 10/ 254، وأما قوله: "هو الذي قصده قطب الدين" فإخالها: وهو الذي قصده قطب الدين، "وهو" زيادة من ناسخ أو قارئ زيدت في الهامش، ثم أدخلت في المتن، فمن ثم أشرت إليها، ولم أثبتها، والله أعلم. (¬2) في (ح): دمشق، وهو تحريف، والصواب ما أثبته، انظر كتاب "الروضتين": 2/ 168، 325 بتحقيقي. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ثم إنَّ الصَّالح ضيَّق علي بني الدَّاية، وطلب منهم تسليمَ الحصون التي بأيديهم، وبلغ صلاح الدِّين، فشقَّ عليه، وخاف افتراقَ الكلمة، واستيلاءَ الفرنج على الشَّام، فكاتَبَ ابنَ المقدَّم والأمراء ينكر عليهم اجتراءهم عليه وعلى الدَّولة، وقال: أولاد الدَّاية هم أركانُ الدَّولة، والله لئن لم يُطْلَقوا لأسيرَنَّ إليكم، ولأبدِّدَنَّ شَمْلَكم. فكتبَ إليه ابنُ المقدَّم: لا تجعل هذا سببًا لطمعك في البلاد، وأن تستولي على بيت أستاذك، وإيَّاك هذا. فَغَضِبَ صلاحُ الدين، وتجهَّز إلى الشَّام، فبلغه وصول أُسطول من صِقِلِّية إلى الإسكندرية، فخاف على البلاد، وأقام، فوصل الأُسطول، وفيه ستُّ مئة قطعة، فيها من الخَيَّالة ألف وخمس مئة، ومن الرَّجَّالة ثلاثون ألفًا ومعهم الأبراج، ومن المجانيق والدَّبَّابات وآلة الزَّحف، فنزلوا جزيرة الإسكندرية، وصَعِدوا بأَسْرهم، وزحفوا على البلد، وألصقوا الأَبراج بالأسوار، ونصبوا السَّلالم، ففتح المسلمون الأبواب، وخرجوا إليهم، وركب جماعةٌ في الشخاتير نحو سفنهم، فخسفوها وغرَّقوها، وضَرَبَ المسلمون مَنْ كان في الجزيرة بالنِّفْط، فانهزموا، وغَرِقَ منهم أكثر ممن قُتِلَ، ولم ينجُ منهم إلا القليل، وقيل: كان ذلك في سنة إحدى وسبعين. وفيها ملك صلاحُ الدِّين دمشق، لما انقضتْ نوبةُ الأُسطول سار إليها بعساكره، وكان ابنُ المقدَّم والقاضي كمال الدين بن الشَهْرُزُوري وابن الجاولي والأعيان قد كاتبوه، وكان بالقلعة رَيحان الخادم، فعَزَم على قتاله، فجهَّز إليه عسكر دمشق، وركب صلاح الدِّين من جسر الخشب (¬1)، والتقاه أهل دمشق بأَسْرهم، فأحدقوا به، فَنَثَرَ عليهم الدَّراهم والدَّنانير، ودَخَل دمشق، لم يُغْلق في وجهه باب، ولا منعه مانع. وقال القاضي [الفاضل] (2): فملكنا دمشق عنايةً لا عَنْوَةً، ولم نَخْطُ بحمد الله إلى خطيئةٍ خُطْوة، وما جَرَتْ منا مِنْسأةٌ فتجري فيها أُسوة، وكان عسكر دمشق لما رأوا فعل العوام انكفؤوا راجعين إلى القلعة، ونزل صلاح الدين بدار العقيقي، وكانت دارَ أبيه، ونزل أخوه شمس الدَّولة بدار عمه أسد الدين [شيركوه] (2)، وتمنَّعتِ القلعةُ عليه أيامًا، ثم سلَّمها إليه ريحان [الخادم] (¬2)، وأحسنَ صلاحُ الدِّين إلى ابنِ المقدَّم والقاضي ¬

_ (¬1) في (ح): الجسور، والمثبت من "الروضتين": 2/ 341. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[ابن] (1) الشَّهْرُزُوري، ومشى إلى داره، فانزعج القاضي، وخرج إلى لقائه، ودخل صلاح الدين، فجلس وباسَطَه، وقال: يا كمال الدِّين لما كنتُ في الشحنكية قد كانت بيننا هَنَات ومشاحنات، وما مشيتُ إليك إلا لأُزيل ما في خاطرك من الوهم، وأعرِّفَك أَنَّ ما في قلبي لك ما تكره، فطِبْ نَفْسًا وقَرَّ عَينًا، فالأَمْرُ أَمْرُكَ، والبَلَدُ بلدك. قلت: ومشي صلاح الدين إلى دار كمال الدين من أحسن ما يسطر في السير، وهو دليلٌ على تواضعه وعفوه بعدما قدر، فيا طوبى لمن جاء بعده إن فكَّر واعتبر، وعرف قدر إنعام الله عليه فحمد وشكر، وأكثر الشعراء في أخذ صلاح الدين دمشق] (¬1). وقال سَبُع بن خَلَف الأَسَدي: [من البسيط] لله أنتَ صلاحَ الدين من أَسَدٍ ... أدنى فريستِهِ الأيامُ إنْ وَثَبا رأيتَ جِلِّق ثغرًا لا نظير له ... فجئتَها عامرًا منها الذي خَرِبا نادتْكَ بالذُّلِّ لما قَلَّ ناصِرُها ... وأَزْمعَ الخَلْقُ من أوطانها هَرَبا أحييتها مِثْلَ ما أحييتَ مِصْرَ فقد ... رَدَدْتَ من عَدْلها ما كان قد ذَهَبا هذا الذي نصر الإسلام فاتَّضحتْ ... سبيلُه وأهان الكُفْرَ والصُّلُبا ويوم شاورَ والإيمانُ قد هُزِمَتْ ... جيوشُه حيث كانَ الجَحْفَلَ اللَّجِبا أَبَتْ له الضَّيمَ نفْسٌ مُرَّةٌ ويدٌ ... فعَّالةٌ وفؤاد قطُّ ما وَجَبَا يَسْتَكْثِرُ المَدْحَ يُتْلى في مكارمه ... زُهدًا ويَستصغر الدُّنيا إذا وهَبَا فهو الجوادُ ولكن لا يُقال كبا ... وهو الحُسامُ ولكن لا يقالُ نَبَا وهو الهِزَبْرُ ولكن لا يُقال طغا ... وهو الضِّرامُ ولكن لا يُقال خَبَا فأَنتَ إسكندرُ الدُّنيا ووارِثُها ... فاقصدْ ملوكَ خُراسان وَدَعْ حَلَبا (¬2) ثم إنَّ صلاحَ الدِّين أسكن أخاه سيف الإسلام طُغْتِكِين قلعة دمشق، ثم كَتَبَ إلى الملك الصالح [ابن نور الدين] (1) كتابًا يتواضع له فيه، ويخاطبه بمولانا وابنِ مولانا، ويقول: إنما جِئْتُ من مِصْر خدمةً لك لأؤدِّي بعض ما يجب من حقوق المخدوم ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) القصيدة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 242 - 244، وسبع بن خلف هو المعروف بوحيش الأسدي.

المرحوم، فلا تسمع ممن حولك فتفسد أحوالك، [وتختل أمورك] (1)، وما قَصْدِي إلا جَمْعُ كلمةِ الإسلام على الفرنج. فعرض كتابه على أرباب دولته، وفيهم خالد بن [محمّد] (1) القَيسَراني، وغِلْمان أبيه، وابن العَجَمي، فأشاروا عليه بأن يكاتبه بالغِلْظة، فكتَبَ إليه يُنكر عليه، وينسُبُه إلى كُفْران النعمة وجَحْدِ إحسانِ والده، ووعَدَه وتهدَّده، وبعثَ بالكتاب مع يَنَال بن حَسَّان صاحب مَنْبج، فأغلظ لصلاح الدِّين في الجواب، وقال: السُّيوف التي ملَّكَتْكَ مِصْر هي التي تَرُدُّك. وأشار إلى سيفه، فغَضِبَ صلاحُ الدِّين وقال: ويلك، والله لولا أنَّك رسولٌ لضربت عُنُقك، والله ما جِئْتُ إلى ها هنا شَرَهًا ولا طَمَعًا في الدُّنيا، وفي مِصْر كفايةٌ، وإنما جئتُ لاستنقذ هذا الصَّبيَّ من يد مثلك وأمثالك، فأنتم سببُ زوال دولته. ثم طرده بغير جواب، فعاد إلى حلب. واستنابَ صلاحُ الدين بدمشق أخاه [سيف الإسلام ظهر الدين] (1) طُغْتكين، وسار إلى حِمْص، فأخذها، وفتح حماة، وسار إلى حلب، فاستغاثوا عليه بالإسماعيلية، وأعطوهم مالًا وضياعًا، فأرسلوا إليه جماعةً من فُتَّاكهم، ورآهم ناصر الدين خُمارتكين صاحب أبي قُبيس، فعرفهم، [لأنَّه كان مثاغرًا لهم] (1)، فأنكر عليهم مجيئهم، وسَبَقَ إلى خيمةِ صلاح الدِّين ليخبره، فأدركوه على باب الخيمة، فقتلوه، ثم أرادوا الهجوم على صلاح الدِّين، فجذبَ أمير جَنْداره سيف الدين طُغْريل السَّيفَ، وقتلَ واحدًا منهم، واجتمع الغِلْمانُ على الباقين، فقتلوهم. ورحل صلاحُ الدِّين عن حلب في أول رجب، وجاء إلى حِمْص، ثم نازل بَعْلَبَكَّ، فأخذها في رمضان من الخادم يُمْن الرَّيحاني، ووصل عسكر المَوْصِل إلى حلب، وانضاف إليهم عسكرها، ونزلوا تلَّ السُّلْطان، فساق عليهم صلاحُ الدين وبَغَتَهُمْ، وكان مقدَّمهم عِزُّ الدِّين مسعود أخو سيف الدين غازي. فكسرهم كسرةً عظيمة، وانهزموا إلى حلب، وغَنِمَ أثقالهم وأَسَرَ أبطالهم، وجاء وحاصر حلب، وهذه هي المرة [الثَّانية، والمرة] (¬1) الأولى من كسرة المواصلة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ورجع صلاحُ الدِّين، فنازل حِصْن [بارين] (¬1)، فأخذه من فخر الدِّين مسعود بن الزَّعْفَراني، وكان من أكابر أُمراء نور الدِّين، وأعطى مدينةَ حماة لخاله، وقيل: لابن خاله وصهره ابنِ شهاب الدِّين محمود، وأعطى حِمْص لناصر الدِّين محمّد بن شيركوه، وجاءته رُسُل حلب، واتَّفق الحال أن يكون بدمشق نائبًا عن الملك الصَّالح، فأجابهم، وشفع في بني الدَّاية، وقال: لابُدَّ منهم، فلهم علينا حقوقٌ أكيدة، فقالوا: نَعَمْ، وفارقوه على ذلك، وجاءته الخِلَع والتَّشريفات من الخليفة ولأَهْله، ولقِّب بالملك النَّاصر. وفيها وصلتِ النَّبوية (¬2) من العراق في عشرة آلاف فارس وراجل، فنزلوا بُزَاعة والباب، فقتلوا ثلاثة عشر ألفًا من الإسماعيلية، وسبوا نساءهم وذراريهم، وعادوا إلى العراق، ومعهم الغنائم، والرؤوس على رماحهم، وعلى القصب عشرون ألف أُذُن. وبعث صلاح الدين العساكر، فأغاروا على بلاد الإسماعيلية، وأحرقوا سَرْمين ومعرَّة مصرين و [ضياع] (1) جبل السُّمَّاق، وقتلوا مُعْظم أهله. وفيها استخدم صلاحُ الدِّين العمادَ الكاتب؛ وسببه أَنَّه التقى الفاضل على حِمْص، ومدحه بأبياتٍ منها: [من الكامل]: عاينتُ طَوْدَ سكينةٍ ورأيتُ شَمْ ... ـسَ فضيلةٍ وَوَرَدْتُ بحرَ فواضِلِ ورأيتُ سَحْبانَ البلاغةِ ساحبًا ... ببيانه ذَيلَ الفَخَارِ لوائلِ حِلْف الحصافة والفصاحة والسَّما ... حةِ والحماسة والتُّقى والنَّائل بحرٌ من الفَضْل الغزير خِضَمُّهُ ... طامي العُباب وما لَهُ من ساحلِ في كفِّه قَلَمٌ يعجِّلُ جَرْيُه ... ما كان من أجلٍ ورِزْقٍ آجلِ أبصرتُ قُسًّا في الفصاحة معجزًا ... فعرفتُ أَنِّي في فهاهة باقِلِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) إخالها نسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي فرقة ذكرها ابن جبير في "رحلته"، فقال: هم سنيون يدينون بالفتوة وأمور الرجولة كلها، وكل من ألحقوه بهم لخصلة يرونها فيه يحزمونه بالسراويل، فيلحق بهم .. وإذا أقسم أحد منهم بالفتوة بَرَّ قسمه، وهم يقتلون الروافض أينما وجدوهم، وشأنهم عجيب في الأنفة والائتلاف. انظر رحلة ابن جبير: 353، وقد أخطأ محققه حين ظنها منسوبة إلى أبي البيان نبأ بن محمّد، فهذه فرقة صوفية لا علاقة لها بتلك.

شملة التركماني

من أبيات (¬1). فدخل الفاضل على صلاح الدِّين، وقال له: غدًا تأتيك تراجم الأعاجم، وما يحلُّها مثل العماد. فقال: ما لي عنك مندوحة، أنتَ كاتبي ووزيري، وقد رأيتُ على وجهك البركة، فإذا استكتبتُ غيرك تحدَّثَ النَّاس، فقال [الفاضل] (¬2): هذا يحلُّ التراجم، وربما أغيبُ أنا ولا أقدر على ملازمتك، فإذا غبتُ قام مقامي، وقد عرفتُ فَضْلَ العماد وخِدْمته للدَّولة النُّورية. فاسْتَكْتَبَه. وفيها استوزر (¬3) سيفُ الدِّين غازي صاحبُ المَوْصِل جلال الدِّين أبا الحسن علي بن جمال الدين الوزير الأَصْبهاني، فظهر منه من الكفاية والنَّهْضة وحُسْن التدبير والكتابة ما لم يكن في أحد، وكان عمره خمسًا وعشرين سنة. وفيها توفي أرسلان شاه (¬4) بن طغريل بن [محمَّد بن] (¬5) ملك شاه، وجلس بعده في المُلْك ولده طغرل شاه، وكان صغيرَ السِّنِّ، والذي تولى أمره محمَّد بن إلْدكز أتابك، ويلقب بالبهلوان، فأقام بهَمَذَان يدَبِّر الأمور، وبعث أخاه الغزلي، فاستولى على أَذْرَبيجان، وبعث البهلوان يطلب من الخليفة السَّلْطنة لطغرل، فطَرَدَ رسوله، ولم يلتفت إليه. شملة التركماني (¬6) كان قد غَلَبَ على بلاد فارس وخُوزستان، وبنى بها قلاعًا، وقوي على السَّلْجوقية، وكان يُظْهر طاعة الخليفة مخادعةً منه، فأقام كذلك نيفًا وعشرين سنة، وكان يباشر الحروبَ بنفسه، قصده تركمان، فخرج بنفسه، وقاتلهم، فجاءه سهم، فمات بعد يومين. ¬

_ (¬1) انظر "خريدة القصر" قسم شعراء مصر: 1/ 37 - 39. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ذكر ابن الأثير وزارته في سنة إحدى وسبعين، انظر "الباهر": 177 و"الروضين": 2/ 419 - 420. (¬4) له ترجمة في تاريخ دولة آل سلجوق: 271 - 275 - وفيه وفاته سنة (571 هـ) - والعبر للذهبي: 4/ 217، و "الوافي بالوفيات": 8/ 344، و"شذرات الذهب": 4/ 244، وفيها وفاته سنة (573 هـ). وكان القائم على دولته زوج أمه شمس الدين إلدكز، ثم ابنه البهلوان. (¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ دولة آل سلجوق: 271. (¬6) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 255، و "الكامل" لابن الأثير: 11/ 423 - 424، و"الوافي بالوفيات": 16/ 186، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 64 - 65، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

علي بن أحمد بن أحمد

وأقام أولاده في قلاع خُوزستان إلى أيام النَّاصر بن المستضيء، فبعث إليهم وزيره ابنَ القَصَّاب، فأخرجهم من البلاد، واستولى على ثلاثين قلعة، وبعث بأولادهم إلى بغداد، فأقاموا بها حتى ماتوا. علي بن أحمد بن أحمد (¬1) أبو الحسن البغدادي، ويُعرف بقِبْلة الأدب، ومن شعره: [من الخفيف] يا زمانًا خلا من النَّاس واسْتَأْ ... صَلَ بالقَلْعِ شَأْفةَ الأحرارِ ليتني متُّ إذْ حللتُ بواديـ ... ـك فقد عِيلَ من أذاكَ اصْطباري حسبيَ الله لا سواه فما أَبْـ ... ـعَدَ خيرًا يُرْجى من الأَشْرارِ عمر بن محمد بن عبد الله (¬2) أبو شجاع البَسْطامي، البَلْخي. كان فقيهًا فاضلًا [شاعرًا، ذكره العماد الكاتب في "الخريدة"، وقال: كان ينشد في مجالس وعظه] (¬3)، ومن شعره: [من الطويل] وجرَّبتُ أبناءَ الزَّمانِ بأَسْرهم ... فأيقنتُ أنَّ القُلَّ في عَدِّهم كُثْرُ وخُبِّرْتُ طَغْواهم ولؤم فِعالهم ... فلما التقينا صَغَّرَ الخَبَرَ الخُبْرُ (4) وقال: [من المتقارب] لقد هبَّتِ الرِّيحُ مِنْ بَلْدتي ... فيا حُبَّ ساكنِ ذاك البَلَدْ فقمتُ إليها وعانَقْتُها ... وما عانَقَ الرِّيحَ قبْلي أحَدْ (¬4) ¬

_ (¬1) له ترجمة في "ذيل تاريخ بغداد": 3/ 24 - 26. (¬2) له ترجمة في الأنساب: 2/ 214، "خريدة القصر" قسم شعراء أصبهان: 2/ 108 - 109، "إنباه الرواة": ": 2/ 102، "طبقات الشافعية": للسبكي: 7/ 248 - 250، "العبر" للذهبي 4/ 178 - 179، "سير أعلام النبلاء": 20/ 452 - 454، وفيه تتمة مصادر ترجمته. وفيها وفاته سنة (562 هـ). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) الأبيات في "الخريدة": 2/ 109.

يحيى بن جعفر

[قلتُ] (¬1): من ها هنا أخذ القائل، ولعله أخذه من قول القائل: [من مجزوء البسيط] هبَّتْ شمالًا فقال يا بَلَدْ ... أنتَ به طاب ذلك البَلَدْ وقَبَّلَ الرِّيحَ من صَبَابةٍ ... ما قبَّل الرِّيحَ قَبْلَه أَحَدْ يحيى بن جعفر (¬2) أبو الفَضْل، زعيم الدِّين. صاحب مخزن المقتفي والمستنجد والمستضيء، ناب في الوزارة، وما زال يتقلَّب في الأعمال نيفًا وعشرين سنة، وكان حافظًا للقرآن، فاضلًا عادلًا، منصفًا، مُحبًّا للعلماء والصَّالحين، وداره مأوى لهم، [وكان يحبُّ جدِّي رحمه الله، وكان يأذن للعوام في حضور المجلس، وله فيه مدائح كثيرة، وله على جدي فضل كثير] (1)، وسمع الحديث الكثير، وكانت وفاته في ربيع الأول، وصُلِّي عليه بجامع الخليفة، وكان يومًا مشهودًا لم يتخلَّف عن جنازته أحد إلا الخليفة، وحمل إلى محلَّة الحربية، فدفن في تُرْبة أبيه، [وكان ثقة صدوقًا، والله أعلم] (1). قال العماد الكاتب: جلس يومًا بالدِّيوان في نيابة الوزارة عن الإمام المستضيء، فقام جمال الدِّين بن الصَّفي، فأنشده: [من الطويل] لكل زمانٍ من أماثل أَهْله ... برامكةٌ يمتارُهُمْ كلُّ مُعْترِ أبو الفَضْل يحيى مثل يحيى بنِ خالد ... ندًى وأبوه جعفرٌ مثل جَعْفَرِ فقام باشت الواعظ البغدادي، فأنشد بديهًا: [من الطويل] وفي الجانبِ الشَّرقي يحيى بنُ جعفرٍ ... وفي الجانب الغربيِّ موسى بن جَعْفَرِ فذاك إلى الله الكريم شفيعنا ... وهذا إلى المولى الإمامِ المُطَهَّرِ يعني أن يحيى بن جعفر صاحب هذه الترجمة كان يسكن الجانب الشَّرقي من بغداد، فهو يشفع لنا إلى الإمام المستضيء بأمر الله، وموسى بن جعفر الصادق -رحمة الله عليهما- مدفون بالجانب الغَربي، يشفع لنا إلى الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 256.

السنة الحادية والسبعون وخمسة مئة

السنة الحادية والسبعون وخمسة مئة فيها عَزَلَ الخليفةُ صَنْدل الخادم المقتفوي عن الأستاذ دارية، وضيَّق على ولده الأمير أبي العبَّاس أحمد النَّاصر لأمرٍ بلغه عنهما، وولى ابنَ الصَّاحب أستاذ الدار مكان صندل، وولى ابنَ النَّاقد (¬1) حِجْبةَ الباب، ثم عَزَلَه، وولى مكانه أبا سَعْد بن المعوَّج (¬2)، وسببه أنَّ ابنَ النَّاقد كان يميل إلى التَّشيّع، وعِمامته طويلة، فلقَّبه أهل باب الأَزَج قنبر، وهو ذكر العصافير، فكان إذا رَكِبَ صاحوا: قنبر قنبر، وقَرُبَ العيد، فأمره الخليفة أن يركب في صَدْر الموكب، فجمع العوام قنابير كثيرة، وعزموا على أن يرسلوها حوله في الموكب، وقيل للخليفة: إنْ وقع هذا بقي الموكب هُتْكَة، فعزله، وولى ابن المعوَّج. وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: وفي هذه السنة عُقِدَ عَقدُ ابنتي رابعة بباب حجرة الخليفة، وحضَرَ قاضي القُضاة، والعدول والخدم والأكابر، على أبي الفَتْح بن رشيد الطَّبري. [قال] (¬3): وزوجتُ ابني أبا القاسم بابنةِ الوزير يحيى بن هُبيرة في ذلك اليوم، وكان الخاطب بن المهتدي (¬4). [قلت] (¬5): وهذه رابعة هي والدتي، تزوَّجها ابن رشيد الطَّبري، وهو أوَّل أزواجها، ولم يطل عمره معها، ثم زوَّجها جَدِّي بوالدي بعد موت ابنِ رشيد، وقد سمعتْ الحديثَ على ابن البَطِّي، وثابت بن بُنْدار، ومُعْظم مشايخ جدِّي، وزُفَّت إلى ابن رشيد في المحرَّم سنة اثنتين وسبعين [وخمس مئة] (3) في دار الجهة بنفشا جهة الخليفة، وجهَّزَتْها بمالٍ عظيم. [قلت: ما قصد جدي بهذا الكلام إلا الإعلام بمكانته وعلو منزلته عند الخليفة، وأنَّ أحدًا من أبناء جنسه لم يصل إلى مرتبته] (3). ¬

_ (¬1) ستأتي ترجمته في وفيات سنة (604 هـ). (¬2) هو محمد بن عبد الله بن الحسين، ستأتي ترجمته في وفيات سنة (573 هـ). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) "المنتظم": 10/ 257. (¬5) في (ح): قال المصنف رحمه الله، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وأما أخبار الشَّام فإنَّ الحلبيين نقضوا الصُّلْح الذي كان بينهم وبين صلاح الدِّين؛ وسببه أنَّ سيف الدين غازي لامهم على ذلك، وأَرْسَلَ رسولًا إلى صلاح الدين، ودَفَعَ له كتابين أحدهما إلى صلاح الدين ليأخذ منه عهدًا للمواصلة، ويكشف ما عنده، وكتابًا إلى الحلبيين يلومهم فيه على الصُّلْح، ويخبرهم أنه واصلُ بعساكر الشَّرْق، وكان صلاح الدِّين بدمشق، فبدأ به الرسول، وقد ربط الكتابين في منديله لتغفله، فلمَّا دخل على صلاح الدين غَلِطَ، فناوله كتابَ الحلبيين؛ لسعادةِ صلاح الدين، فتأمَّله، وعلم أَنَّ الرسول قد غَلِطَ، فلم يقل له كلمة، وفهم الرَّسول، فقام، وخرج من عنده، ولم يمكنه الاستدراك. وكتب صلاحُ الدِّين إلى أخيه العادل بمصر بتجهيز العساكر المِصْرية إلى الشَّام بسرعة، وجَمَعَ سيفُ الدِّين العساكر من الجزيرة، وكان أخوه عماد الدين زَنْكي بسِنْجار عاصيًا عليه مائلًا إلى صلاح الدِّين، فصالحه، وجاءَ سيفُ الدِّين، فقطع الفرات، وبَعَثَ إلى أُمراء حلب وكُمُشْتِكِين الخادم، وتقرَّر بينهم أمر، وسار إلى حلب، والتقاه الملك الصَّالح بن نور الدِّين، فاعْتَنَقَه سيفُ الدين وبكى، ونزل بظاهر حلب بعين المباركة، وصَعِدَ إلى القلعة جريدةً، وكان أُمراء حلب كل يوم يركبون إلى خِدْمته، ثم رحل إلى تلِّ السُّلْطان ومعه عساكر الشَّرْق، ودياربكر والحلبيون، فكانوا عشرين ألفًا ما بين فارسٍ وراجل (¬1)، وبلغ صلاح الدِّين وهو بدمشق، ولم يكن عنده سوى ستة آلاف، وما رأى التخلُّف عن لقائهم، وكان في انتظار العسكر المِصْري، فسار، فنزل على حماة، وتركَ أثقاله بها، وساق إلى جباب التركمان، وجاءه رسول الحلبيين يخوفونه بأسهم، ويأمرونه بالرُّجوع إلى مصر. قال رسولهم: فوافيته، وهو في خيمةٍ صغيرة على بساط لطيف، وتحته سَجَّادة، وبين يديه مُصْحف، وهو مستقبل القِبْلة، وإلى جانبه زرديته، وسيفه بين يديه وقوسه، وتركشه (¬2) معلَّق في عمود الخيمة، فلما رأْيتُه؛ وَقَعَ في خاطري أَنَّه المنصور؛ لأني فارقتُ سيفَ الدين ¬

_ (¬1) ربما أخذ سبط ابن الجوزي عدد الجيش مما كتبه العماد في "البرق الشامي"، وقد نقد ابن الأثير ما حكاه العماد، وحقق عدد الجش فقال: إنما كان على التحقيق يزيد على ستة آلاف فارس أقل من خمس مئة. ثم قال: وإنما قصد العماد أن يعظم أمر صاحبه (يعني صلاح الدين) بأنه هزم بستة آلاف عشرين ألفًا، والحق أحق أن يتبع، وانظر "الكامل": 11/ 429. (¬2) ترْكَش: الكنانة، جعبة السهام، "المعجم الذهبي": 186.

والأمراء وهم على طنافسِ الحرير، والخمور [تروّق والجنوك] (¬1) تعمل، وليس في خيامهم خيمة إلا وفيها أنواع المنكرات المحرَّمات، فأدَّيتُ إليه الرِّسالة، وجاء وقت الظهر، فضجَّ العسكر بصوت الأذان، وفي كلِّ خيمةٍ إمام، فقال لي: الحق بأصحابك، وقل لهم يستعدوا [للقتال، ويرتقبوا] (2) لقائي، فإنِّي عند طلوع الشمس نازلٌ عليهم، ويحكم الله بيننا، وهو خيرُ الحاكمين قال: ففارقته وأنا على بصيرةٍ من نَصْره وخِذْلانهم، وسقتُ عامة الليل، فوافيتهم وقت الفجر سكارى، فطلبتُ سيفَ الدِّين. فقيل: هو نائم. فوالله ما انبسطتِ الشمسُ إلا وأعلامُ صلاحِ الدين قد أقبلت، والكوسات تخفق، وأصحابنا نيام، فقاموا مُسْرعين، وكان يوم الخميس عاشر شوّال، وعلى ميمنةِ صلاح الدين شهابُ الدين محمود خاله، وعلى مَيسرته صاحب بُصْرى، وهو في القلب، و [كان] (2) في ميمنة المواصلة مظفرُ الدِّين [بن زين الدين] (2) صاحب إربل، وفي الميسرة الحلبيون، وسيف الدِّين في القلب، وكان صلاح الدين قد وقف على تلٍّ عالٍ، وحَمَل مظفر الدين، فطحن ميسرة صلاح الدِّين، وحمل الحلبيون على ميمنته فتعتعوها، فنزل صلاح الدين [من التل] (2)، ورأى أن يباشر الأمر بنفسه [وإلا اختلَّ الأمر] (¬2)، فساق عليهم، واتفق وصولُ العساكر المِصْرية في تلك السَّاعة مع تقي الدِّين عمر، وعز الدين فَرُّخْشاه، وناصر الدين محمد بن شيركوه، فهال المواصلة ذلك، فولُّوا منهزمين (¬3). وساق صلاحُ الدِّين إلى خيامهم، فأَسَر أمراءهم، ونجا سيفُ الدين بنفسه، وعاد صلاح الدين إلى خيامهم، فوجد سُرادق سيف الدين مفروشًا بالرَّياحين، والمغاني جلوسٌ في انتظاره، والخمور تروق، وأقفاص الطُّيور فيها أنواع من القَمَاري والبلابل والهَزَارات، ومطابخه بقدورها، فأرسل صلاحُ الدِّين بما كان في السُّرادق من المغنيين والخمور والطير إليه، وقال للرسول: قل له اشتغالك بهذا أليق بك من مباشرة الحروب، فلا تَعُدْ إلى مثلها. ثم فرَّق صلاح الدين الخزائن والخيل والخيام على ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، والجنوك: جمع، مفردها جنك: وهو العود، انظر "تكملة المعاجم العربية" لدوزي (الترجمة العربية): 2/ 313، والألفاظ الفارسية المعربة: 46. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (م) و (ش): فهال ذلك الحلبيين من دق الكوسات وحسن الأطلاب، والعدد الوافرة، والخيل العربية، فانخذلوا، وولوا منهزمين.

أصحابه، وأعطى عِزَّ الدين فَرُّخْشاه سُرادق سيف الدين، وكان [عز الدين] (¬1) قد أبلى في ذلك اليوم بلاءً حسنًا. وسار صلاح الدين، فنزل على مَنْبج، وبها قطبُ الدِّين يَنَال بن حَسَّان، فقاتله، واتَّفق وقوع ثُلْمةٍ من السُّور، فطلب الأمان على نفسه فأَمَّنه، فخرج سليبًا، وأخذَ صلاح الدين من الحِصْن ثلاث مئة ألف دينار، وعَرَضَ عليه المقام عنده، فامتنع لشنآنٍ (¬2) قديمٍ كان بينهما، وسار إلى المَوْصل، فأقطعه سيفُ الدِّين الرَّقَّة. وسار السُّلطان، ففتح حِصْن بُزاعة، ونازل حصن أَعْزاز، فأقام عليه ثمانيةً وعشرين يومًا (¬3) وفتحه في ذي الحِجَّة، فقال العماد: [من الرجز] جاز العُلا ببَأْسِهِ وجُوده ... وهو أحقُّ الخَلْق باحتيازها وحلبٌ تنفي كُمُشْتِكِينها ... كما انتفتْ بغدادُ من قَيمازِها (¬4) فاليوم ذَلَّتْ حلبٌ لأَنَّها ... كانت تنالُ العِزَّ من أَعْزازها وفيها قفزتِ الإسماعيليةُ على صلاح الدِّين، وهو على أعزاز؛ جاءه ثلاثة في [زِيّ] (1) الأجناد، فضربه واحدٌ بسكين في رأسه، وكان في كُمَّته (¬5) زَرَدٌ مدفون، فلم يجرحه، وخَدَشَتْ السِّكِّين خَدَّه، وقُتل داود بن منكلان، وقُتل الثَّلاثة. فرحل صلاح الدين، ونزل على حلب، فبعث الملكُ الصَّالح أُخته خاتون بنت نور الدين في اللَّيل، فدخلتْ عليه، فأقام قائمًا، وقبَّلَ الأرض، وبكى على نور الدين، فسألتْ أن يردَّ عليهم أعزاز [فقال: سمعًا وطاعة] (1)، فأعطاها إياها، وقدَّم لها من الجواهر والتُّحَف والمال شيئًا كثيرًا، واتَّفق مع الملك الصّالح أن من حماة وما فتحه إلى مِصْر له، وأنْ يطلق الصَّالح أولادَ الدَّاية (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الشنآن: البغض "اللسان" (شنأ). (¬3) عند العماد: حاصره ثمانية وثلاثين يومًا، انظر "الروضتين": 2/ 407. (¬4) انظر حوادث (571 هـ) من هذا الكتاب. (¬5) الكمة: القلنسوة المدورة. "القاموس المحيط" (كمم). (¬6) نزول ابنة نور الدين إلى صلاح الدين، وإتمام الصلح مع الملك الصالح، ورحيل صلاح الدين من بعد إلى بلاد الإسماعيلية كان في أوائل سنة (572 هـ)، انظر "الروضتين": 2/ 422، وما بعدها.

علي بن الحسن

وسار صلاح الدين إلى بلاد الإسماعيلية، فنصب المجانيق على مصياث، ونهبتِ العساكرُ بلادهم، وقتلوا وسبوا، وكان مقدَّم الإسماعيلية سنان بن محمد، فأرسل [إلى] (¬1) شهاب الدِّين محمود صاحب حماة، خالِ صلاح الدِّين، يقول: نحن جيرانُك، وقد فعل ابنُ أخيك فينا ما فعل، والمصلحةُ رحيله عنَّا، فاشْفَعْ إليه. فما أمكنه مخالفتهم، فأخبر صلاحَ الدين، وقال: أخاف على نفسي. فرحل إلى دمشق. وفيها قَدِمَ شمسُ الدولة أخو صلاح الدين من اليمن إلى دمشق سَلْخ ذي الحجة. وفيها فوَّض سيفُ الدين غازي أمر المَوْصل إلى مجاهد الدين قَيماز الخادم، وكان قبل هذا بإِرْبل نائب زين الدين (¬2). وفيها توفي عليُّ بنُ الحسن (¬3) ابن هبة الله بن عبد الله بن الحسين، أبو القاسم الدِّمَشْقي الحافظ، ويعرف بابنِ عساكر، [وليس هذا الاسم في نسبه من قبل الأب، ولعله من قبل الأم. وذكره جدِّي، وأثنى عليه في "المنتظم" (¬4)، فقال: علي بن الحسن بن هبة الله، أبو القاسم الدمشقي المعروف بابن عساكر، ] (1) سمع الحديث الكثير، وكانت له به معرفة، وصنَّف تاريخًا لدمشق، وكان شديد التعصب لأبي الحسن الأشعري، حتى صنف كتابًا سماه "كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري" (¬5). [وتوفي بدمشق في هذه السنة. هذا صورة ما ذكره جدي رحمه الله. قلت] (1): ولد الحافظ أول المحرَّم سنة تسعٍ وتسعين وأربع مئة، وأُمه أُم القاسم بنت القاضي أبي الفَضْل يحيى بن علي القُرَشي، وكان أحدَ أئمة الحديث المشهورين، والعلماء ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هو زين الدين يوسف بن علي صاحب إربل، وقد توفي سنة (586 هـ). انظر "الروضتين": 4/ 168. (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم شعراء الشام: 1/ 274 - 280، و"المنتظم" 10/ 261، "معجم الأدباء": 13/ 73 - 87، "الكامل" لابن الأثير: 12/ 357، "كتاب الروضتين": 2/ 420، "وفيات الأعيان": 3/ 309 - 311، و"تذكرة الحفاظ": 4/ 1328 - 1334، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 554 - 571، و"طبقات علماء الحديث" لابن عبد الهادي: 4/ 105 - 111، وقد استقصيت ثمة مصادر ترجمته. (¬4) 10/ 261. (¬5) هو "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري"، وقد عني بنشره حسام الدين القدسي سنة (1347 هـ).

المذكورين، سافر إلى الشَّرْق سنة عشرين وخمس مئة، وسمع ببغداد وخُرَاسان وأَصْبهان ونَيْسابور وهَرَاة، ثم حجَّ، وسمع بمكة والمدينة والشَّام، واشتغل بالفِقْه، وصنَّف كُتُبًا كثيرة منها: ["تاريخ دمشق" بثمان مئة جزء في ثمانين مجلدة، وكتاب] (¬1) "الإشراف في معرفة الأطراف"، و"فضل أصحاب الحديث" و"الأربعين" و"الجهاد" و"فضائل مكة والمدينة" و"البيت المقدس" و"فضل قُريش والأنصار" و"فضائل أهل البيت" و"فضائل الصحابة" و"مسند أبي حنيفة" و"كتاب الزَّلازل"، وغير ذلك. وقال ابنُ السَّمعاني: أنشدني لنفسه: [من البسيط] وصاحبٍ خانَ ما استَوْدَعْتُه وأتى ... ما لا يليقُ بأربابِ الدِّياناتِ وأظهر السِّرَّ مختارًا بلا سببٍ ... وذاك والله من أوفى الجناياتِ أما أتاه عن المختار في خبرٍ ... أَنَّ المجالس تُغْشى بالأمانات (¬2) وقال ابنُ السَّمْعاني: طلب الحافظُ مني كتاب "دلائل النُّبوة" للبيهقي، وأخرتُ إنفاذه، فكتَبَ من دمشق إلى خُراسان يعاتبني، فقال: [من مجزوء الكامل] ما خِلْتُ حاجاتي إليـ ... ـك وإنْ نأتْ داري مُضَاعهْ (¬3) وأراك قد أَهْمَلْتَها ... وأَضَعْتَها كلَّ الإضاعهْ أنسيتَ ثَدْيَ مودَّةٍ ... بيني وبينك في الرَّضاعهْ ولقد عَهِدْتُك في الوفا ... ءِ أخا تميمٍ لا قُضاعهْ وأراكَ نُكْرًا لا تخا ... فُ على الصَّداقة والبضاعهْ (¬4) [وذكره العماد في "الخريدة"، وقال: سمعت عليه من التاريخ الذي صنفه من أنواع ما ألفه، وأنشدني لنفسه في ربى دمشق] (¬5) [من المتقارب] أيا نفسُ وَيْحَك جاءَ المَشْيبُ ... فماذا التَّصابي وماذا الغَزَلْ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الأبيات في "الخريدة": 1/ 275. (¬3) في (ح): "ما كنت أعرف أن حاجاتي إليك": وبه لا يستقيم الوزن مع سائر الأبيات، والمثبت من "الخريدة". (¬4) الأبيات في "الخريدة": 1/ 275 - 276. (¬5) في (ح): "وقال العماد: أنشدني لنفسه بقرية المزة هذه الأبيات" والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الثانية والسبعون وخمس مئة

تولَّى شبابي كأَن لم يكنْ ... وجاء مشيبي كأَن لم يَزَلْ فيا ليتَ شعْري ممن أكون ... وما قدَّر الله لي في الأَزَل (¬1) ذكر وفاته: توفي ليلة الاثنين حادي عشر رجب، وقد بلغ [من العمر] (¬2) اثنتين وسبعين سنة وستة أشهر وعشرة أيام، وصُلِّيَ عليه بجامع دمشق، وميدان الحصى، صلَّى عليه القُطْب النَّيسابوري، وحَضَرَ صلاحُ الدِّين الصَّلاة عليه، [سمع ببغداد أبا القاسم هبة الله بن الحصين وغيره، وحج إلى مكة في سنة إحدى وعشرين وخمس مئة، فسمع بها أبا أحمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل المصري، وغيره، ثم سافر إلى المشرق، فسمع بنيسابور وغيرها] (2) وكان ولده أبو محمد القاسم يقول. سمع أبي من ألف شيخ وثلاث مئة شيخ وبضع وثمانين امرأة [(¬3) وسمع منه الحافظ أبو العلاء الهمذاني وهو أكبر منه، وذكر ابنه القاسم أنه صنف ستين كتابًا، وكانوا يفضلونه على الخطيب، وله بنى نور الدين دار الحديث بدمشق، وعاش ابنه القاسم إلى سنة ست مئة، وتوفي بها، وسنذكره]. وقال الحافظ: أنشدني أبو الفوارس المظفر بن عمر الآمِدِي: [من الطويل] وَدِدْتُ بأنَّ الدَّهْرَ ينظُرُ نظرةً ... بعينِ جلا عنها الغيايةَ نورُها إلى هذه الدُّنيا التي قد تخبَّطَتْ ... وجُنَّتْ فساس النَّاسَ فيها حميرُها فينكِرَ ما لا يَرْتضيه محصِّلٌ ... ويأنفَ أن تُعْزى إليه أمورُها فقد أبغضتْ فيها الجسومَ نفوسها ... مَلالًا وضاقتْ بالقلوبِ صدورُها (¬4) السنة الثانية والسَّبعون وخمس مئة [حكى (¬5) جدِّي -رحمه الله- أن في هذه السنة تعرَّض رجلٌ لامرأة، فامتنعت عليه إلا أن تدع من ينكحه، فغلب حبُّه لها، فكان يدع من ينكحه ويأتيها]، فقال لها في ¬

_ (¬1) "الخريدة": 1/ 275. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): وصنف ستين كتابًا، وله بنى نور الدين بدمشق دار الحديث، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) الأبيات في "الخريدة"، قسم شعراء الشام: 2/ 459. (¬5) في (ح): فيها تعرض رجل لامرأة، فامتنعت عليه إلا بالنكاح، فكان يأتيها، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

بعضِ الأيام: قد حَبِلْتُ، فاعملي [لي] دواءً للإسقاط. فعملته له، فولد ولدًا، وحضرا مجلس بعض الوعَّاظ، وكتبا إليَّ رُقعةً بصورة الحال، فقال: هذا النِّكاح ما صحَّ لأنَّه تبيَّن أنَّه خُنْثى في حُكْمِ امرأة، لأَنَّه يأتي ويوتَى، وعَجِبَ النَّاس من هذا (¬1). وفيها بنى مجاهد الدِّين قيماز الخادم النَّائب بالمَوْصل الجامع الذي ظاهرها على دِجْلة، ثم بنى بعده الرِّباط والمدرسة والتُّرْبة والمارَسْتان، وكلُّها متجاورات، ووقَفَ عليها الأوقاف. وفيها تزوَّج صلاحُ الدِّين بالخاتون عصمة الدِّين بنت الأمير معين الدِّين أُنَر زوجة نور الدِّين محمود، وكانت بقلعة دمشق، زوَّجها منه شرف الدين بن أبي عَصْرون. وفيها كانت نوبة الكنز، مقدِّم السُّودان (¬2) بالصَّعيد، [جمع كل أسود بالصَّعيد، وسار] (3) إلى القاهرة في مئة ألف أسود ليعيد الدَّولة المِصْرية، فخرج إليه الملك العادل [سيف الدين] (¬3)، وأبو الهيجاء الهَكَّاري، وعِزُّ الدِّين موسك، والتقوا، فَقُتِلَ الكنز ومَنْ معه، فيقال: إنهم قتلوا منهم ثمانين ألفًا، وعادوا إلى القاهرة، فقال العماد الكاتب: قُتِلَ الكَنْز، وما انتطحَ فيه عَنْز. وفيها سار صلاحُ الدِّين إلى مِصْر، واستناب أخاه شمسَ الدَّولة على الشَّام، وجاءت الفرنج إلى داريا، فأحرقوا ونهبوا، وعادوا. وفيها أمر صلاحُ الدِّين قَرَاقُوش بعمارة سور على القاهرة ومِصْر، وضيَّع فيه أموالًا عظيمة، ولم ينتفع به أحد. ¬

_ (¬1) "المنتظم": 10/ 269. (¬2) نوبة الكنز كانت في سنة (570 هـ)، وبنو الكنز أصلهم من ربيعة بن نزار بن مَعَدّ، كانوا ينزلون اليمامة، وقدموا مصر في خلافة المتوكل على الله أعوام بضع وأربعين ومئتين، ونزلت طائفة منهم بأعالي الصعيد، وأسسوا ثمة إمارة عربية كانت أسوان مقرًا لها، واعترف الفاطميون بهذه الإمارة، وفي زمن الحاكم بأمر الله كان أميرهم هبة الله بن محمد بن علي المعروف بالأهوج المطاع، وهو الذي ظفر بأبي ركوة الأموي الخارج على الحاكم، فأكرمه الحاكم ولقبه كنز الدولة، فصار لقبًا لكل أمير فيهم، حتى كان آخرهم هذا. انظر "البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب" للمقريزي: 44 - 46، و"الطالع السعيد": 30، وانظر "الروضتين": 2/ 337 - 339. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

علي بن منصور، أبو الحسن السروجي الأديب

وفيها أبطل صلاحُ الدِّين المكوس التي كانت تؤخذ من الحاج بجُدَّة مما يحمل في البحر، وعوَّض صاحب مكة عنها في كل سنة ثمانين ألف إرْدَبّ (¬1) قمحًا تحمل إليه في البحر، [ويحمل مثلها] (¬2) فَتُفَرَّق في أهلِ الحرمين. وفيها عمر صلاح الدين مدرسة الشَّافعي بالقَرَافة بتولي النَّجم الخبُوشاني، وعمر المارَسْتان في القَصْر، ووقف عليهما الأوقاف. وحجَّ بالنَّاس من الشَّام قيماز النَّجْمي. وفيها توفي عليُّ بنُ منصور، أبو الحسن السَّرُوجي الأديب (¬3) مؤدِّبُ أولاد أتابك زَنْكي بن آق سُنْقُر [وذكره ابن عساكر، وقال: ] (2) كان يأخذ الماء بفِيه، ويكتبُ به على الحائط كتابةً حسنة كأنَّها كُتبت بقلم الطُّومار، ويُنَقِّط ما يكتب ويُشْكِلُه. ومن شعره في فصل الربيع، وفضل دمشق، ومَدْح نور الدِّين: [من البسيط] فصلُ الرَّبيعِ زمانٌ نورُه نورُ ... أنفاسُ أشجاره مِسْكٌ وكافورُ جاءت به الأرضُ تُجْلى في ملابسها ... فحارَ مِنْ حُسْنها في الجَنَّةِ الحورُ تظلُّ تشدو بها الأطيارُ من طَرَبٍ ... فذا هزارٌ وقُمريٌّ وزرزورُ كأنَّ أصواتَها فوقَ الغُصون ضحًى ... زيرٌ وبمٌّ ومِزْمارٌ وطُنْبُورُ تميل أغصانُها وجدًا إذا سَجَعَتْ ... وُرْقُ الحمام وغنَّتها الشَّحاريرُ يا لائمي في دمشقَ إنَّ لومك لي ... لومٌ وتشبيهك الزورا بها زُورُ كأنَّها جنَّةٌ للخُلْد دانيةٌ ... قطوفُها فُتحتْ فيها المقاصيرُ في كلِّ قطر بها للعِلْم مدرسة ... وجامعٌ جامعٌ للدِّينِ معمورُ يُتلى القرنُ به في كلِّ ناحيةٍ ... والعِلْمُ يذْكَرُ فيه والتَّفاسيرُ تكامَلَ الحسنُ فيه مثلما كَمُلَتْ ... أوصافُ مولى بنَشْر العَدْل مشهورُ ¬

_ (¬1) الإردب يساوي أربعًا وعشرين صاعًا. انظر "القاموس المحيط" (ردب). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 22/ 238 - 239، و"النجوم الزاهرة": 6/ 79، و"الدارس": 2/ 416، ولم أقف على ترجمته في "تاريخ ابن عساكر".

محمد بن سعيد

للدِّين والمُلْك والدُنْيا بأجمعها ... وللخليفة من أنوارِه نورُ كهف الغريب (¬1) وكنز للضَّعيف فما ... للمُعْتفي عنه تقديمٌ وتأخيرُ مولاي يا خير من يدعى لمكْرُمة ... وخير من زانه عَقْلٌ وتوقيرُ عشْ وابقَ واسْلَمْ ومُرْ واحْكُمْ ودُمْ أبدًا ... ما سحَّ غيثٌ وما هبَّتْ أَعاصيرُ وقيل: إنَّه ماتَ سنة سبعين وخمس مئة. محمد بن سعيد (¬2) ابن محمّد، أبو سعيد بن الرَّزَّاز، العَدْل. ولد سنة إحدى وخمس مئة ببغداد، وسمع الحديث، وكان أديبًا، فاضلًا، وتوفي في ذي الحِجَّة، كتب إليه صديق له مكاتبة، فكتبَ جوابها: [من البسيط] يا مَنْ أياديه يعيا من يُعدِّدُها ... وليس يُحْصي مَدَاها من له يَصِفُ عجزتُ عن شكر ما أَوْليتَ من كرمٍ ... وصرتُ عبدًا ولي في ذلك الشَّرفُ أهدَيتَ منظومَ شعرٍ كله دُرَرٌ ... وكلُّ ناظمِ عِقْدٍ دونه يَقِفُ إذا أتيتَ ببيتٍ منه كان له ... قصرًا ودُرّ المعاني فوقه شُرُفُ وإنْ أتيتُ أنا بيتًا يناق ضه ... أتيتُ لكن ببيتٍ سَقْفُه يَكِفُ ما كنتُ منه ولا من أهله أبدًا ... وإنما حين أدنو منه أقتطِفُ محمد بن مسعود (¬3) أبو المعالي [ابن القَسَّام الأصبهاني، شاعر فصيح] (¬4) خرج إلى الحج، فتوفي بفَنْد (¬5)، [وذكره العماد، وأنشد من شعره يذم قاضيًا بهذه الأبيات] (¬6): [من الوافر] ¬

_ (¬1) في (م) و (ش): "الفقير". (¬2) له ترجمة في "المنتظم" 10/ 268، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 154 - 105، و"الوافي بالوفيات": 3/ 101. (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء أصفهان: 1/ 243 - 283، و"معجم الأدباء": 19/ 55، و"الوافي بالوفيات": 5/ 23، و"النجوم الزاهرة": 6/ 79، و "بغية الوعاة": 1/ 244. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) اسم جبل بين مكة والمدينة، قرب البحر، "معجم البلدان": 4/ 277. (¬6) في (ح): ومن شعره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن عبد الله

ولما أنْ تولَّيتَ القضايا ... وفاضَ الجَوْرُ من كَفَّيكَ فَيضا ذُبحتَ بغيرِ سِكِّينٍ وإني ... لأرجو الذَّبْحَ بالسِّكِّينِ أيضًا (¬1) محمد بن عبد الله (¬2) ابن القاسم، أبو الفضل، كمال الدين بن الشَّهْرُزُوري. قاضي دمشق والشَّام، ولد سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة، وقدم بغداد، فتفقَّه على أَسْعد المِيهَني بالنِّظامية، وسَمِعَ [(¬3) الحديث ببغداد والمَوْصِل، وكان رئيس أهل بيته، وولي قضاء القضاة بدمشق وحمص وحماة وحلب وجميع الشام في أيام نور الدين بن زنكي]، وكان إليه في أيام نورِ الدِّين مع القضاء أمرُ المدارس والمساجد والأوقاف والحِسْبة والأمور الدينية والشَّرعية، وكان صاحبَ القلم والسَّيف، و [كانت] (4) شِحْنِكيَّة دمشق إليه، ولَّى فيها بعض غِلْمانه، ثم ولاها نورُ الدِّين لصلاحِ الدِّين، وكانت بينهما مضاغنة، وكان كلُّ واحد ينقض حُكْم الآخر، فلما كاتبه صلاح الدِّين على أن يساعده على أَخْذ دمشق أعانه، وفَتَحَ له أبوابها، فلما دَخَلها صلاح الدين مشى إلى داره، وطيَّب قلبه، [وقد ذكرناه. وذكره العماد في "الخريدة" بمعنى ما ذكرنا، وقال] (¬4): كان فاضلًا، جَوَادًا سَمْحًا، دَيِّنًا عفيفًا، ذا مروءةٍ ظاهرة، وصدقات دارَّة وافرة، وبرٍّ متَّصل؛ جاء إلى الشيخ أحمد والد الشيخ أبي عمر شيخ الحنابلة، وأحمد أوَّل من سَكَنَ منهم قاسيون، فزاره ومعه ألف دينار، فدفعها إليه، فامتنع الشيخ أحمد من أَخْذِها، فاشترى كمال الدِّين قرية الهامة بوادي بردى، ووقَفَ نصفَها على الشيخ أحمد، والمقادسة، والنِّصف الآخر على الأُسارى، وهي باقيةٌ إلى هلمَّ جرّا. ¬

_ (¬1) "الخريدة": 1/ 245. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 323 - 327، و"المنتظم": 10/ 268، و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 441، و"كتاب الروضتين": 2/ 426 - 428، و"وفيات الأعيان": 4/ 241 - 244، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 55، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 57 - 58، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ح): وسمع بها وبالموصل، وكان رئيسًا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ذكر وفاته كان بينه وبين شَرَفِ الدِّين بن أبي عَصْرُون ما يكون بين أبناء الدُّنيا على المناصب، وكان نورُ الدِّين يفضِّله على ابنِ أبي عَصْرون، وهو عنده بمنزلةِ الوزير، وبعث به إلى بغداد رسولًا، فكتَبَ إلى الخليفة المقتفي ورقة يقول: المملوك محمد بن عبد الله الرَّسول. فكتَبَ المقتفي عليها: - صلى الله عليه وسلم -. وكان ابنُ أبي عَصْرون أقومَ منه بالفتوى، فلما مرض وبلغ ابن أبي عصرون وهو بحلب قَدِمَ دمشق، فدخل عليه وعانقه وبكيا، فلما مات تولى ابن أبي عَصْرون أمره، وخرج في جِنازته ماشيًا؛ هو وجميع الملوك مشاة: سيف الإسلام، وتقي الدين عمر، وشمس الدولة، وغيرهم، وصُلِّيَ عليه بجامع دمشق، وحُمِلَ إلى قاسيون، فدفن في سَفْحه قريبًا من الجادة عند مسجد البصارو، ولم يكن عنده من أولاده أحد، وإنما كان عنده ابنُ أخيه ضياء الدِّين أبو الفضائل. وكان كمال الدين قد تصدَّق بجميع ما كان عنده، وأوصى بماله، ووقف أوقافًا كثيرة على أبواب البر، وقيل: إنه لم يكن له كفن، فكُفِّنَ في إحرامه، وكانت وفاته سادس المحرَّم. وأوصى بالقضاء إلى ابن أخيه ضياء الدِّين مع وجود ولده، فآثَرَ صلاحُ الدين أن يولي القضاءَ شَرَفَ الدين بن أبي عَصْرون من غير أن يعزل ضياء الدين، وأفضى بسرِّه إلى الفاضل، وما كان صلاح الدين يمكنه عزله خوفًا من الشَّناعة ولا يصرِّح، بل يقول: هذا الشيخ ابن أبي عصرون شيخ الشَّافعية ماله منصب، أريد منصبًا أُولِّيه. ففهم ضياءُ الدِّين، فكتبَ إلى صلاح الدين يستعفي من القضاء، فأعجبه ذلك، وزاد في إقطاعه، وبعثه رسولًا إلى الخليفة. وولى ابن أبي عصرون القضاء، وأمره أن يستنيب أبا المعالي محيي الدِّين محمد بن زكي الدِّين، فاستنابه بتوقيعٍ من صلاح الدِّين، وأقام ابن أبي عصرون قاضيًا إلى أن ضَعُفَ بصره، فأشار الفاضل بتولية أبي حامد محمّد (¬1)، واستمرَّ إلى سنة سبعٍ وثمانين وخمس مئة، فصُرِفَ، واشتغل محيي الدين محمّد بن زكي الدِّين بالقضاء. ¬

_ (¬1) هو ابن شرف الدين بن أبي عصرون، وقد توفي سنة (601 هـ).

السنة الثالثة والسبعون وخمس مئة

ومن شعر كمال الدين الشَّهْرُزُوري: [من الطويل] وجاؤوا عشاءً يُهْرعَون وقد بدا ... بجسميَ من داء الصَّبابةِ ألوانُ فقالوا وكلٌّ مُعْظِمٌ بعضَ ما أرى ... أصابتك عينٌ قلت إن وأجفانُ وقال: [من الكامل] ولقد أتيتكَ والنُّجومُ رواصدٌ ... والفجرُ وهمٌ في ضمير المَشْرِقِ وركبتُ مِ الأهوال (¬1) كلَّ عظيمةٍ ... شوقًا إليك لعلَّنا أن نلتقي [(¬2) وكان لكمال الدِّين ولد اسمه محمد بن محمد بن عبد الله، ولقبه محيي الدين، وكان أبوه [عيَّنه] (¬3) قاضيًا على حلب، ولما مات كمال الدين رثاه بأبيات (¬4). وكان للقاضي كمال الدين ثلاثة إخوة، أحدهم اسمه يحيى بن عبد الله، مات سنة نيف وستين وخمس مئة. والآخر القاسم بن عبد الله، ولقبه شمس الدين، ولي قضاء الموصل، وكان يعظ، وله كلام حسن وقبول، وتوفي في سنة ثلاثين وخمس مئة، وقد ذكرناه هناك. والثالث سعد بن عبد الله، نذكره في سنة ست وسبعين وخمس مئة، إن شاء الله]. السنة الثالثة والسبعون وخمس مئة فيها وصل تتامش الذي عصى على الخليفة، وقاتل مع قطب الدين قيماز إلى تحت التَّاج، وبيده سيفٌ وكَفَنٌ، وقبَّل الأرض مرارًا وطلب العفو، فعفا الخليفةُ عنه، وأعيد إلى إمرته، وأحسنَ إليه. وفيها تغيَّر الخليفة على الوزير ابن رئيس الرؤساء، وخرج إلى الحج، فقُتِل، وسنذكره إنْ شاء الله. ¬

_ (¬1) في (ح): وركبت هول هوال، والمثبت من "الخريدة". (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬4) منها: ألموا بسفحي قاسيون فسلِّموا ... على جدث بادي السنا وترحموا انظر القصيدة بتمامها في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 336 - 339.

وفيها وقعت واقعةٌ ببغداد، وذلك أَنَّه كان لرجل عبد وأَمَة، فعتقهما، وزوَّج العبد بالأمة، فأولدها أولادًا، وأقاما أربعين سنة على ذلك، ثم تبيَّين أن الأَمَةَ أختُ العبد لأبيه وأمه. [الجواب: لا إثم عليهما فيما مضى لعدم العلم بحالهما، ويفرَّق بينهما في الأخوَّة، وتعتد لاحتمال أن تكون حاملًا منه، وإذا فرَّق بينهما حرمت عليه، ويجوز له النظر إليها لأنها أخته إلا أن يخاف على نفسه] (1). وفيها كانت وقعة الرَّمْلة في جُمادى الآخرة، خرج صلاحُ الدِّين من مِصْر بالعساكر، فنزل على عسقلان، ثم رحل يريد تل الصَّافية، فازدحمتِ العساكرُ على الجسر تريد العبور، فلم يشعروا إلا وقد خالطهم الفرنج، فثبت تقيُّ الدِّين عمر، وقاتل، ثم غُلِبَ، وقُتِلَ من المسلمين خَلْقٌ كثير، وانهزمت عساكر الإسلام، وأُسر كثير، منهم: الفقيه عيسى وغيره، ولولا أنَّ الليل حَجَزَ بينهم لم يبق من المسلمين أحد. وسار صلاحُ الدِّين في الليل إلى مِصْر بغير دليل ولا ماء ولا زاد. وكانت هذه الوقعة من أعظم الوقائع، أنكت في الإسلام، وأَوْهَنَتْ صلاحَ الدين؛ لأنَّه كاد يتلف جوعًا وعطشًا، ونُهبت خزائنه، وقُتلت رجاله، وأُسر أبطاله. وكان مقدَّم الفرنج أرناط من أكبر ملوك الفرنج، وكان نور الدين قد أسره في وقعة حارم، وحبسه في [قلعة] (¬1) حلب، فأطلقه الملك الصَّالح، فجاء ومعه ملوكُ الفرنج، وما أتلف عسكر المسلمين إلا أنَّهم تفرَّقوا في السَّاحل بسبب الغارات، وكانوا زيادةً على عشرين ألفًا، ووقعت الكسرة، ومعظمهم لم يعلم، فلما عادوا من الغارات لم يجدوا صلاحَ الدِّين، ولم يكن لهم حِصْنٌ يأوون إليه، فدخلوا الرَّمْل، وتبعهم الفرنج قَتْلًا وأَسْرًا، ومن سَلِمَ منهم مات عطشًا وجوعًا، وكان يومًا عظيمًا على الإسلام لم تجبره إلا كسرةُ حِطِّين. ورجع أرناط بجمعه إلى حماة، فأناخ عليها، وبها شهابُ الدِّين محمود خال صلاح الدين، وهو يومئذٍ مريض، وعنده سيفُ الدِّين المَشْطُوب، فقاتلهم العسكر وأهلُ حماة قتالًا عظيمًا، ولولا المشطوب لملكوها، فقطعوا أشجارها، وأحرقوا ضياعها، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن بكروس

ورحلوا إلى حارم، [وبها] (1) كُمُشْتِكِين الخادم عاصيًا على الملك الصالح [إسماعيل] (1)، فنصبوا عليها المجانيق، وقاتلوها أيامًا، فألجاتِ الخادم الضرورةُ إلى مصالحة الملك الصَّالح، فبعث إليه النجدة، فرحلوا عنه إلى أنطاكية، وقُتل الخادم كُمُشْتِكِين وأبو صالح بن العَجَمي. وبلغ صلاحَ الدين نزولُ الفرنج على حماة، فجمع عساكر مِصْر، وسار إلى الشَّام، فقدم دمشق، وبها أخوه شمسُ الدَّولة مشغولًا بلذَّاته ولهوه، وكان قد بعث إلى الفرنج بمالٍ مصانعةً، فعزَّ على صلاح الدين، ولامه وقَبَّح فِعْلَه، وقال: أنتَ مشغولٌ باللعب وتضيِّع أموال المسلمين! وكان وصوله دمشق في شوَّال، واستناب بمصر أخاه العادل [أبا بكر] (¬1). أحمد بن بكروس (¬2) أبو العَبَّاس، الفقيه الحَنْبلي، ولد سنة اثنتين وخمس مئة، وقرأ القرآن [على أبي العز بن كادش] (1)، وتفقه [على أبي بكر الدِّينوري] (1)، وسمع الحديث [من أبي الحصين وطبقته] (1)، وتوفي في صفر، وصُلِّي عليه بجامع القَصْر، ودُفِنَ قريبًا من الإمام أحمد، رحمة الله عليه، وكان زاهدًا عابدًا، ورعًا، كثير العبادة. قال المصنف رحمه الله: وزوَّجه جدِّي ست العلماء أكبر بناته، ومن شعره: [من الرجز] أحبابنا لا سَلِمَتْ من الرَّدى ... يمينُ من يخونُ في اليمينِ بكيتُ دَمْعًا ودمًا لبَينِهم ... وأَقْرَحَتْ من أَدْمُعي جفوني مُذْ رَحَلوا أحبابُ (¬3) قلبي سَحَرًا ... فالشَّوق والتَّذكار أَوْدَعُوني فيا غُرابَ بَينهم لا سَتَرَتْ ... فراخَكَ الأوراقُ في الغُصونِ لئن حَلَفْتُ أنّ عيشي بَعْدَهُمْ ... صافٍ لقد حَنِثْتُ في يميني ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "المنتظم": 10/ 276، و"ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 338، "شذرات الذهب": 6/ 406، و"المنهج الأحمد": 3/ 275 - 276، وهو أحمد بن محمد بن المبارك بن أحمد بن بكروس. (¬3) كذا، على لغة أكلوني البراغيث.

صدقة بن الحسين

فكيف أشكو والوفاءُ مَذْهبي ... أم كيفَ أنسى والودَادُ دِيني قالوا وقد وَدَّعْتُهُمْ وأَدْمُعي ... تجري وخوفُ البَينِ يَعْتَريني الصَّبْرُ أحرى فاصْطَبِرْ إنْ لَعِبَتْ ... أيدي النَّوى بقَلْبكَ المحْزُونِ صدقة بن الحسَين (¬1) ابن الحسَن، أبو الفَتْح النَّاسخ الحَنْبلي، ويعرف بابن الحدَّاد [إمام المسجد الذي بين العقد والبدرية ببغداد ذكره جدي في "المنتظم"، وقال] (¬2): ولد سنة سبع وتسعين وأربع مئة، وحَفِظَ القرآن، وتفقَّه وأفتى وناظر، لكنه قرأ الشِّفاء [لابن سينا] (2)، وكُتُبَ الفلاسفة، فتغيَّر اعتقاده، وكان يَبْدُرُ من فَلَتَات لسانه ما يدلُّ على [سوء عقيدته، وتارة يسقِّف من جِنْس ابن الرَّاوندي] (¬3)، وتارةً يشير إلى عدم بَعْثِ الأجساد، وتارةً يعترض على القضاء والقدر. [قال: وقال لي يومًا: أنا لا أخاصم إلا مَنْ فوق الفلك. وقال: ما أدري من أين جئنا، ولا إلى مطبق يريدون أن يحملونا إليه] (2). ومن شعره: [من البسيط] واحيرتا مِنْ وجودٍ ما تقدَّمنا ... فيه اختيارٌ ولا عِلْمٌ فَنَقْتَبِسُ ونحن في ظُلُماتٍ ما لها قَمَرٌ ... يضيءُ فيها ولا شمسٌ ولا قَبَسُ مدلَّهينَ حيارى قد تكنَّفَنا ... جهلٌ تجهَّمنا في وَجْهه عَبَسُ فالفِعْلُ فيه بلا ريبٍ ولا عَمَلٍ ... والقولُ فيه كلامٌ كلُّه هَوَسُ وقال: [من الطويل] نظرتُ بعينِ القَلْبِ ما صَنَعَ الدَّهْرُ ... فألفَيتُه غِرًّا وليس له خُبْرُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 276، "صيد الخاطر": 239، و"الكامل": 11/ 183، "المختصر المحتاج إليه": 2/ 109، و"الوافي بالوفيات": 16/ 292، و "ذيل طبقات الحنابلة" 1/ 339، "سير أعلام النبلاء": 21/ 66 - 67، وفيه تتمة مصادر ترجمته. وقد نقل ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" ما يفيد أن ثمة عداوة بين ابن الجوزي وصدقة بن الحسين أطلقت لسان أحدهما في الآخر، وقد نقل ثناء ابن النجار عن تآليفه، والله أعلم. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): ما يدل على ذلك، وتارة يسقف وتارة يشير إلى ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

فنحن سُدًى فيه بغير سياسةٍ ... نروحُ ونَغْدُو قد تكنَّفنا الشَّرُّ فلا من يحلُّ الزِّيج وهو منجِّمٌ ... ولا مَنْ عليه ينزل الوَحْيُ والذِّكْرُ يحلُّ لنا ما نحن فيه فنهتدي ... وهل يهتدي قومٌ أضلَّهم السُّكْرُ عمًى في عمى في ظُلْمةٍ فوق ظُلْمةٍ ... تراكُمها من دونه يعجز الصَّبْرُ وقال: [من الرمل] لا توَّطنْها فليست بمقامِ ... واجْتَنِبْها فَهْيَ دارُ الإنتقامِ أتراها صَنْعَةً من صانع ... أم تُراها رميةً من غيرِ رامِ [وله أشعار من هذا الجنس مذمومة. قال جدي: فلما تحقق هذا عندي هجرته سنين، ولما مات لم أصلِّ عليه، ومع هذه الفواحش والاعتقاد السيء، (¬1) كان يُظْهر الفقر، ويطلب من الناس، فلما مات وجدوا له ثلاث مئة دينار، ومات في ربيع الآخر، ودُفِنَ بباب حرب. ورآه أبو بكر الدَّلال في المنام وهو عُرْيان، فقال له: ما فَعَلَ الله بك؟ فقال: قلتُ له: اغفرْ لي، فقال: ما أريد أَنْ أغفر لك. [هذه (¬2) صورة ما حكى جدي في "المنتظم" (¬3). وحكى شيخنا عبد الوهّاب بن بُزْغُش المقرئ (¬4)، وكان جاره، قال: دخلت عليه يومًا في أيام الفتنة في بغداد، فرعدت الدنيا رعدًا مزعجًا، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: خباط في الأرض، وخباط في السماء! قال: وكانت قد سقطت أسنانه، وسخَّر الله له بعضَ الأكابر، فكان يبعث له الدَّجاج والطعام، فكان يقول: قتلني في أول عمري بالفقر والجوع، ويبعث لي في آخر عمري الدجاج، وقد أخذ أسناني، فما أقدر أن آكل! ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): "وقال عبد الوهاب بن بزغش، قال لي صدقة يومًا: يا فلان" والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) "المنتظم": 10/ 276 - 278. (¬4) هو ختن ابن الجوزي، وقد توفي سنة (612 هـ)، انظر ترجمته في "توضيح المشتبه": 6/ 162، 9/ 212 - 213، و"التكملة" للمنذري: 2/ 352 - 353.

كمشتكين

قال: وقال لي يومًا]: يا فلان، ما ترى هؤلاء أصحابنا الفَعَلة الصَّنَعة -يشير إلى الحنابلة- أنا بينهم أموت بالجوع ما يطعمني أحدٌ لقمة، فإذا متُّ غدًا، شدُّوا تابوتي بالحبال، وصاحوا: هذي رايات الصَّالحين. فقلتُ له: طَيِّبْ قلبك، ما يفعلوا بك هذا أبدًا. فقال: أنتَ أيضًا من الحمير. [قال: وكان يحسد جدِّي، وكانت بنفشا جارية الخليفة تعلم ذلك، فكانت تغيظه، بعثت إليه يومًا خادمًا، ومعه طبق مغطى بمنديل دبيقي (¬1)، فوضعه بين يديه، فظن أن فيه حلاوة، فكشفه، وإذا بقدح من زجاج فيه ماء، فقال الخادم: الجهة تقول لك: هذا ماء من بئر وقعت فيه فأرة، فانظر هل هو طاهر أم نجس؟ فشتم الجهة، وقال: الخِلَع والحلاوات والمال إلى ابن الجوزي، وصدقة يُسأل عن الماء النجس؟ ! فأبلغها الخادم، فضحكت، وبعثت له شيئًا] (¬2). كُمُشتِكِين (¬3) خادم نور الدِّين محمود. كان من أكابر خُدَّامه، ولاه قلعة المَوْصِل نيابةً عنه، فلما ماتَ نورُ الدِّين هَرَبَ إلى حلب، وخَدَمَ شمسَ الدِّين ابن الدَّاية، ثم جاء إلى دمشق، وأخَذَ الملكَ الصَّالح، وجاء به إلى حلب، [وقد ذكرناه] (2)، وأقطعه الملكُ الصَّالح حارم، [(¬4) وأقام بها، وعصى عليه، فلما حصره الفرنج صالحه وقد ذكرناه، واختلفوا في سبب قتله على قولين أحدهما أن كمشتكين] حسد أبا صالح بن العَجَمي وزير الملك [الصَّالح] (2)، فوضع عليه الإسماعيلية، فقتلوه، واستقلَّ كُمُشْتكين بالأمر، فقيل للملك الصَّالح: ما قَتَلَ وزيرَك إلا الخادم ليستبدَّ بالأمر، فحبسه وطالبه بتسليم قلعة حارم، فكتَبَ إلى نوابه، فأبوا أن يسلموها. ¬

_ (¬1) نسبة إلى دبقا، من قرى مصر قرب تنيس، مشهورة بأقمشتها، انظر "معجم البلدان": 2/ 437. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الكامل" لابن الأثير: 11/ 415 - 419، 445 - 446، و"الروضتين": 2/ 468 - 470، و"الوافي بالوفيات": 24/ 367. (¬4) في (ح): وأقطعه الملك الصالح حارم، وسبب قتله أنه حسد أبا صالح، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن عبد الله

قال العماد الكاتب: فلما طال أمره قَصُرَ عُمره، [(¬1) والثاني أَنَّهم لما امتنعوا من تسليم قلعة حارم] خَرَجَ إليها الملك الصَّالح من حلب، ومعه الخادم، فقال: مُرْهم بتسليمها، فأمرهم فلم يقبلوا، فعلَّقه منكوسًا، ودخَّن تحت أنفه فمات. وعاد الصَّالح إلى حلب ولم يأخذها، ثم أخذها بعد ذلك، وسلَّمها إلى مملوك أبيه سرخك. محمد بن عبد الله (¬2) ابن هبة الله بن المُظَفَّر بن علي بن الحسين بن أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن بن عبيد بن عمرو بن خالد بن الرُّفَيل، أبو الفرج الوزير، ابنُ رئيس الرُّؤساء -[وقد ذكرنا ترجمة ابن مسلمة (¬3) وزير القائم بأمر الله] (¬4) - ولقبه عَضُد الدِّين. ولد سنة أربع عشرة وخمس مئة، وكان أبوه أستاذ دار المقتفي، وأقرَّه المستنجد، فلما ولي المستضيء استوزره، وقصده قطب الدِّين قيماز [على ما ذكرنا] (4)، ثم عاد استوزره المستضيء، فَشَرَعَ ظهير الدِّين أبو بكر بن العَطَّار صاحب المخزن في عداوته، فغيَّر قلب الخليفة عليه، فطَلَبَ الحجَّ في هذه السَّنة، فأَذِنَ له، فتجهَّز جِهازًا عظيمًا؛ اشترى ستّ مئة جمل لحمل المُنْقطعين وزادهم، وحَمَلَ معه جماعةً من العلماء والزُّهَّاد، ومارَسْتانًا فيه جميع ما يحتاجون إليه (¬5) من الرَّوايا والقُرب والزَّاد وغيره ما لم يحمله وزير، فلما كان يوم الأربعاء رابع ذي القَعْدة ركب في شَبَّارة (¬6)، وعَبَرَ في دِجْلة إلى الجانب الغربي، وجميع أهل بغداد من الجانبين يدعون له ويثنون عليه، لأَنَّه كان مُحْسنًا إليهم بماله وجاهه ومروءته، قريبًا من النَّاس، ولما صَعِدَ من ¬

_ (¬1) في (ح): "وقيل إنهم لما امتنعوا من تسليمها"، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 273 - 275، 280، و"الكامل": 11/ 446 - 447، و"الروضتين": 2/ 481، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 55 - 58، والفخري في "الآداب السلطانية": 232 - 233، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 75 - 77، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ابن مسلمة هو علي بن الحسين بن أحمد، أبو القاسم، مات مقتولًا سنة (450 هـ)، فانظر ترجمته في حوادثها. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ح): ما يحتاج من الروايا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) ضرب من الزوارق، انظر: "تكملة المعاجم" لدوزي، الطبعة الفرنسية: 1/ 719.

الشَّبَّارة عند القرية، ركب وأرباب الدَّوْلة بين يديه بأَسْرهم، وخدم الخاصَّة، والنَّقيبان وقاضي القضاة، ما عدا [ظهر الدين] (¬1) ابن العَطَّار، فإنَّه لم يودِّعْه، فلما ركب ضُرِبَ البوق على عادة الوزراء، فلما وصل إلى باب قَطُفْتا (¬2)، خرج عليه رجل صوفي وبيده قِصَّة، فقال: مظلوم. فقال الغِلْمان: هاتِ قِصَّتك، فقال: ما أُسَلِّمها إلا إلى الوزير. فقال: دعوه، تعال. فجاء إليه ووثَبَ عليه، وضربه بسكِّين في خاصرته، فصاح [الوزير] (1): قتلني، وسَقَطَ من دابته، وانكشف رأسه، فغطاه مملوكه بكُمَّةٍ، وبقي على قارعة الطَّريق مُلْقًى، وتفرَّق مَنْ كان معه إلا حاجب الباب ابن المعوَّج، فإنه رمى بنفسه عليه، فضربه الباطني بسكِّين فجرحه، فظهر له رفيقان، فقُتلوا وأُحرقوا، وحُمل الوزير إلى داره بقَطُفْتا، وحُمِلَ حاجب الباب إلى داره، وكان الوزير قد رأى في تلك الليلة في منامه كأنَّه يعانقُ عُثْمان بن عَفَّان - رضي الله عنه -، وكان قد اغتسل قبل أَنْ يخرج من داره، وقال: هذا غُسْل الإسلام، وأنا مقتول بغير شكّ. ولم يسمع [من الوزير] (¬3) لما جُرح غير قوله: الله الله، ادفنوني عند أبي. [(¬4) وحكى جدي رحمه الله، قال: حدثني، رجلٌ من أهل قَطُفْتا: دخلتُ في اليوم الذي قُتِلَ فيه الوزير قبل قَتْله بساعةٍ إلى مسجد بقَطُفْتا، فرأيت فيه ثلاثة نَفَرٍ قيام أحدهم معترضًا إلى القِبْلة، وقام الآخران فصلَّيا عليه صلاةَ الموت، ثم فعلَ كلُّ واحدٍ منهما كذلك [حتى كملوا الصلاة عليهم قال: ] (1) فتعجبت منهم ولم أكلمهم، ولم يكلِّموني، ثم قاموا، فخرجوا، ووثبوا على الوزير، فقتلوه وقُتلوا. وكانت وفاتُه يوم الخميس، فَغُسِّل وكُفِّن، وحُمل إلى جامع المنصور، وصَلَّى عليه ولدُه الأكبر، ودُفِنَ عند أبيه مقابل جامع المنصور، وحَضَر أربابُ الدَّوْلة بأَسْرهم، وابنُ العَطَّار صاحبُ المخزن، وجلس أولاده للعزاء يوم الجمعة، ولم يقربهم أحدٌ من أرباب الدَّوْلة، فبرز أمر الخليفة: ألا يتخلف عنهم أحد. فحضروا يوم السبت بأَسْرهم، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) محلة كبيرة ذات أسواق بالجانب الغرب من بغداد، "معجم البلدان": 4/ 374. (¬3) في (ح): لم يسمع منه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): وقال رجل، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وجاء خدمُ الخاصَّة ومعهم توقيعُ الخليفة بإظهار الحُزْن عليه، والتأسُّف، وتطييب قلوبهم، وأقامهم من العزاء. [(¬1) واختلفوا في سبب قتله، فقال قوم: ] إنَّ تتامش واطأ الإسماعيلية على قَتْله لما كان بينهما، فبعث الخليفةُ، فقبضَ على تتامش، وأخَذَ أمواله وحَبَسه في التَّاج، وكان قد كتب مرارًا إلى الخليفة يعرضه للفرجة على الحاجّ، ويقول بأنَّ هذا شعار الإسلام، ولو خرج أمير المؤمنين لاشتدَّت قلوب الحاج، فلما قُتِلَ الوزير خِيفَ أن يكون أراد الخليفة [(¬2) وقال آخرون: ] إنما وَضَعَ الإسماعيلية عليه ابن العطار صاحب المخزن، [وهو الظَّاهر] (¬3). [قلت: ] (¬4) حكى لي والدي رحمه الله، قال: كنتُ قاعدًا عند ابن العَطَّار صاحب المخزن في ذلك اليوم فجعل يقول لي: يا حسامَ الدِّين، إلى أين بلغ السَّاعة؟ وأين وَصَلَ؟ وهو قلق، يقوم ويقعد، فلما جاء الخبر بقَتْله، قام قائمًا، وقال: الله أكبر يا ثارات ظَفَر، يا ثارات عزّ الدين، يعني ابني الوزير ابن هُبيرة، فإنَّهما قُتلا في أيام ابنِ رئيس الرُّؤساء. قال أبي: ومضيتُ مع صاحب المخزن إلى عزاء أولاد ابن رئيس الرؤساء، فعزَّاهم، وجعل يقول: قَتَلَ الله من قتل أباكم شَرَّ قِتْلَة، ومثَّلَ به أقبحَ مُثْلة. فكان كما قال، [قُتل] (3) ابنُ العطار شرَّ قِتْلة، ومُثِّلَ به أقبح مُثْلة [وسنذكره] (¬5). أسند الوزيرُ الحديث [عن أبي القاسم بن الحصين وغيره] (3)، وكان [الوزير] (3) فاضلًا عادلًا؛ كان يغشاه رجلٌ من الأكابر، فحسده أقوام، فَسَعَوْا به إلى الوزير، وكثَّروا عليه، فقال الرجل: يا مولانا، قد بلغني كذا وكذا، وأنا خائف على منزلتي عندك. فقال الوزير: [من السريع] ما حطَّكَ الواشون من رُتْبَةٍ ... عندي ولا ضَرَّكَ مغتابُ ¬

_ (¬1) في (ح): وسبب قتله أن تتامش، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): وقيل، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): قال المصنف رحمه الله، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في حوادث سنة (575 هـ)، وما بين حاصرتين من (م) و (ش).

كأنَّما أثْنَوْا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي عابوا ولما بلغ القاضي الفاضل قَتْلَه أنشد: [من الطويل] وأحسنُ من نَيلِ الوزَارة للفتى ... حياةٌ تريه مَصْرَعَ الوزراءِ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬1) كان - عفا الله عنه - قد قتل وَلَدَي الوزير ابن هُبيرة، وخَلْقًا كثيرًا، وأنشد: [من الكامل] إنَّ الوزيرَ وزيرَ آلِ محمد ... أَوْدَى فمن يَشْناكَ كان وزيرا غير أَنَّه خُتمت له السَّعادة بما ختمت له من الشهادة، لا سيما وقد خَرَجَ من بيته إلى الله، ثم قرأ {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية (¬2). [وخرج ولده علي بن محمد إلى الشام، وأحسن إليه صلاح الدين، وسنذكره في سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة] (¬3). وأما حاجب الباب ابن المعوَّج، فاسمه محمد بن أبي نَصْر (¬4)، كان شابًّا جميلًا، عاقلًا دينًا، ذا مروءةٍ، ماتَ في اليوم الذي جُرح فيه، ولم يبلغ ثلاثين سنة، وله نوادرُ مع اللصوص؛ أُتي بلصٍ وقد سَرَقَ، فقال: افرشوه [عني مدُّوه على الأرض] (3)، فنامَ اللِّص، وقال: [ما يحتاج] (3) في قدر الموضع أنا. وجاءت امرأةٌ، فقالت: يا سيِّدي؛ هذا اللِّصُّ فَتَحَ رأسي. فقال له: ويحك، لِمَ فَتَحْتَ راسَها؟ فقال: كنتُ قد ملأتها عِنَبًا، فأردت [أبصر] (3) هل صارتْ خمرًا أو خلًا، يعني الخابية، فقال: والكْ، تتقاطع عليَّ؟ فقال: لا أتهجَّى، قال: كم تتنزل عليَّ؟ قال: شَدِّدْني بقطن، فقال: والله لا بد ما أقومك؟ فقال: كنتَ قوَّمتَ جَدّك، يعني المعوَّج، فضحك، واستتابه، وأطلقه. ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية: 46. (¬2) {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [سورة النساء: 100]. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "المنتظم": 10/ 282، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 58، واسم أبي نصر عبد الله بن الحسين.

شهاب الدين محمود

شهاب الدِّين محمود (¬1) خالُ صلاحِ الدين، كانت له حماة، نَزَلَ عليها الفرنج وهو مريضٌ، فتوفي، فأعطاها صلاح الدِّين لناصر الدين منكورَسْ بن خُمارتكِين صاحب صِهْيَوْن (¬2)، وقيل: إنما أعطاها لتقي الدِّين عمر. وقيل: في السنة الآتية، وكان ناصر الدين نائبًا عن تقيِّ الدِّين (¬3). أبو صالح بن العجمي (¬4) وزير الملك الصالح [إسماعيل] (5)، وثب عليه الإسماعيلية يوم الجمعة بعد الصَّلاة في جامع حلب، فقتلوه، وضعهم عليه كُمُشْتِكِين. وقيل: إنَّ جماعة [من الحاشية] (¬5) حسدوه، فأَوغروا صَدْرَ الملك الصَّالح عليه، وقالوا: قد اطَّرحَ أمرك، ويراك بعين الصِّغَر. فحبسه، [ودخل عليه قوم فقتلوه، والأول أشهر] (¬6) وكان مدبرًا، فاختلت أمورُ الملك الصَّالح بعده. السَّنة الرَّابعَة والسَّبعون وخمس مئة فيها جرى بحثٌ في مجلس ظهير الدين بن العَطَّار في قتال عائشة لعليٍّ رضوان الله عليه، فقال ابن البغدادي [ويعرف بابن حركها] (5) الحنفي: كانت عائشة باغيةً على عليٍّ. فصاح عليه ابنُ العَطَّار، وأقامه من مكانه، وكَتَبَ إلى الخليفة، فأخبره، فقال: يُجمع الفقهاء، ويُسْألون ما يجب عليه. فجمعوا، وقالوا: يُعَزَّر. ¬

_ (¬1) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وانظر أخباره كذلك في كتاب "الروضتين": 2/ 70. (¬2) يعني بعد أن فتحه صلاح الدين، وذلك سنة (584 هـ). انظر "الروضتين": 4/ 28. (¬3) وهذا هو الراجح، فقد رتب صلاح الدين تقي الدِّين عمر في حماة سنة (574) هـ، وعين تقي الدين منكورس نائبًا عنه، انظر "الروضتين": 2/ 27، 252. (¬4) هو عبد الرحيم بن أبي طالب، وقد سلفت أخباره في هذا الكتاب، وانظر "الروضتين": 2/ 469. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) في (ح): ودخلوا عليه فقتلوه، وكان مدبرًا .. ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

قال المصنف رحمه الله: وكان جدِّي حاضرًا، فقال: لا يجب عليه التعزير، لأَنَّه رجل ليس له عِلْم بالنَّقْل، وقد سَمِعَ أَنَّه جرى قتال، ولم يعلم أَنَّ السفهاء أثاروه بغير رضي الفريقين، وتأديبه العفو عنه. فكتَبَ ابنُ العَطَّار إلى الخليفة فقال: يُطْلق ولا يعاود إلى مثلها. فأُطْلق (¬1). [قلت: وقد ذكر جدي في بعض مصنفاته وقال: ما وقع الخلاف بين أحد من الصحابة وبين علي - عليه السلام - إلا والحق مع علي لقوله - عليه السلام -: "وأدر الحق معه كيفما دار" (¬2)، فإن جرت من غيره هفوة فهو مسكوت عنها لقوله - عليه السلام -: لا تسبوا (¬3)] (¬4). وفيها عصى شمسُ الدِّين بن المقدَّم ببَعْلَبَكّ، وكان صلاحُ الدِّين قد أعطاه إياها، ومدَّ شمس الدولة تورانشاه عينه إليها، وقَدِمَ صلاحُ الدِّين دمشق، فأرسل يطلبُ ابنَ المقدَّم، فاعتذر خوفًا من شمس الدَّوْلة، فخرج صلاحُ الدِّين، ونزل على بعلبك، فأقام تسعة أشهر يحاصرها، فنفد ما عنده، فأرسل إلى السُّلْطان يسأله العِوَض، فأعطاه بارين وكَفْرطاب، [(¬5) وخرج شمس الدين بن المقدَّم إليها، وسلَّم صلاح الدين بعلبك إلى أخيه شمس الدولة]. وفيها مات الهنفري ملك الفرنج، بلغ السُّلطان أنه يريد [أن] (4) يغار على دمشق، فبعث عِزَّ الدِّين فَرُّخْشاه [ابن أخيه] (4) بعساكر دمشق إلى قرن الحرَّة، وقال: تقيم هناك على مرج عيون، فإنْ جاؤوك فأَرْسِلْ كُتُبَ الطُّيور إليَّ، ولا تواقعهم حتى آتيك، فسار فنزل مرج عيون، فلم يشعر إلا بطلائع الهنفري قد خالطته، ووقع القِتال، فلم يقدر [فرخشاه] (4) على إعلام السُّلْطان، وقاتلهم بنفسه، وجُرح الهنفري جراحات موثقة، فأخذوه وانهزموا، وغنمهم فَرُّخْشاه، ومات الهنفري بعد أيام، وجاء السُّلْطان، فنزل قصر يعقوب، وبعث السَّرايا والغارات إلى بلد الفرنج. ¬

_ (¬1) انظر "المنتظم": 10/ 286. (¬2) أخرجه الترمذي (4047) من حديث علي، وإسناده ضعيف. (¬3) أخرجه البخاري (3673) ومسلم (2540)، وهو عند الإمام أحمد (11079) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ح): فأعطاه بارين وكفرطاب، وسلمها صلاح الدين إلى شمس الدولة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

سعد بن محمد بن سعد

وفيها توفي سَعْد بن محمد بن سَعْد (¬1) أبو الفوارس بن الصيفي التميمي، ويلقب بالحيصَ بَيصَ. كان شاعرًا فاضلًا، مدح الخلفاء والوزراء والأكابر، [وما خرج عليه هذا الاسم إلا لأنه لقي الناس في شدة واختلاط، فقال: ما للناس في حيص بيص، فلقب به] (¬2). ومات ببغداد في شعبان، وله ديوانٌ مشهور، وهو القائل في ابن طِرَاد (¬3): [من الكامل] فتصدَّعوا متفرِّقين كأنهم ... مالٌ تفرِّقه يدُ ابنِ طِرَادِ وقال: [من الرَّمل] لا تَلُمْني في شقائي بالعُلا ... رَغَدُ العَيشُ لربَّاتِ الحِجَالِ سيفُ عزٍّ زانه رونقُه ... فَهْوَ بالطَّبْع غنيٌّ عن صِقالِ كلَّما أَوْسَعْتُ حِلْمي جاهلًا ... أوسعَ الجَهْلُ له فُحْشَ المقالِ وإذا شاردةٌ فهتُ بها ... بَسَقَتْ مُرَّ النُّعامى (¬4) والشّمالِ عَزَّ بأسي أنْ أُرى مُضْطَهدًا ... وأبى لي غَرْبُ (¬5) عزمي أن أُبالي (¬6) وقال: [من الطويل] أجنِّبُ أهل الأمر والنَّهْي زَوْرَتي ... وأغشى امرءًا في بيته وهو عاطل وإني لسمحٌ بالسلام لأشعثٍ ... وعند الهُمامِ القَيلِ بالرَّدِّ باخِلُ وما ذاك مِنْ كِبْرٍ ولكنْ سجيةٌ ... تعارِضُ تِيهًا عندهُمْ وتقابِلُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 2/ 202 - 366، و"المنتظم": 10/ 288، و"معجم الأدباء": 11/ 199 - 208 و"وفيات الأعيان": 2/ 362 - 365، و"الوافي بالوفيات": 15/ 165 - 16: و"سير أعلام النبلاء": 21/ 61 - 62، وفيه تمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) هو علي بن طراد الزيني الوزير، وقد سلفت ترجمته في وفيات سنة (538 هـ). (¬4) النعامى: ريح الجنوب، اللسان (نعم). (¬5) الغرب: الحد، اللسان (غرب). (¬6) الأبيات في "الخريدة": 2/ 295.

شهدة بنت أحمد

قال المصنف رحمه الله: وأنشدني شيخ الشيوخ تاج الدِّين ابن حموية رحمه الله في المعنى لغيره: [من البسيط] لم ألقَ مستكبرًا إلا تحوَّلَ لي ... عند اللِّقاءِ له الكِبْر الذي فيه ولا حلا لي من الدُّنيا ولذَّتها ... إلا مقابلتي للتِّيه بالتِّيه وقال الحيص بيص: [من البسيط] عِلْمي بسابقة المقدور ألزمني ... صَمْتي وصَبْري فلم أَحْرِصْ ولم أَسَلِ لو نِيلَ بالقَوْلِ مطلوبٌ لما حُرِمَ الـ ... ــــرؤيا الكليمُ، وكان الحظ للجبل وحِكمةُ العقلِ إنْ عَزَّتْ وإنْ شَرُفَتْ ... جهالةٌ عند حُكْمِ الرِّزْق والأَجَلِ (¬1) وقال: [من الخفيف] ربَّ رِفْدٍ وإن تكاثر عَدًّا ... قلَّ من فَرْطِ كَثْرةِ التَّرْدادِ إنَّما الجودُ كالحياةِ ولكنْ ... يعتريها السَّقامُ بالميعادِ وسؤالُ الأحرار من غير خُلْفٍ ... ثمنٌ للنَّدى من الأَجْوادِ (¬2) شُهْدَة بنت أحمد (¬3) ابن الفَرَج بن عُمر الإِبَرِي. [ويقال لها] (4) فخر النساء، الكاتبة. سمعتِ الحديثَ الكثير، وكتبتِ الخَطَّ الحسن، وكانت مخالطةً لدار الخلافة، و [كان] (4) لها معروف [وإحسان] (4) وصدقات، [وكانت] (¬4) جليلةَ القَدْر، توفيت ليلة الاثنين رابع عشر محرم، وصُلِّي عليها بجامع القَصْر، وأُزيل الشُّبَّاك الذي في مقصورة الخطابة، فيقال: إنَّ الخليفة صلَّى عليها، وشَهِدَها أربابُ الدُّولة، ودفنت بباب أبرز، وسمعتْ مشايخ العراق [(¬5) جعفر بن أحمد السرَّاج، وروت عنه "مصارع العشاق"، ¬

_ (¬1) الأبيات في "الخريدة": 2/ 303 - 304 مع اختلاف في بعض ألفاظها. (¬2) الأبيات في "الخريدة": 2/ 243. (¬3) لها ترجمة في "الأنساب": 1/ 118، "المنتظم": 10/ 228، و"مشيخة ابن الجوزي": 208 - 209، "الكامل": 11/ 454، "وفيات الأعيان": 2/ 477 - 478، "سير أعلام النبلاء": 20/ 542 - 543، وفيه تتمة مصادر ترجمتها. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ح): وسمعت مشايخ العراق، وعمرت قريب مئة سنة. والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

علي بن جمال الدين

وسمعت طِرَاد الزَّينبي وغيرهما، وقُرِئَ عليها الحديث سنين، وعمرت حتى قاربت المئة، وذكرها جدي في "المشيخة". وقال: أخبرتنا شهدة الكاتبة بقراءتي عليها في صفر سنة سبع وخمسين وخمس مئة، وروى لنا عنها جماعة منهم جدي، وأبو محمد عبد العزيز بن دلف، وابن الأخضر وغيرهم]، وكانت صالحة، ثقةً. علي بن جمال الدين (¬1) الوزير الأصبهاني، أبو الحسن. [(¬2) قد ذكرنا أن صاحب الموصل استوزره، وله خمس وعشرون سنة، ثم قبض عليه سيف الدين غازي، فشفع فيه كمال الدين بن نيسان وزير صاحب آمد، وكان قد زوَّجه ابنته، فأطلقه، فسار] إلى آمد مريضًا، فتوفي بدُنَيسر، فحمل إلى المَوْصل، فدُفِنَ بها إلى أوانِ الحج، فحُمل إلى المدينة، فدفن عند أبيه، وكان أحسنَ خَلْقِ الله صورةً ومعنى. [(¬3) انتهى تاريخ جدِّي المسمى بالمنتظم في هذه السنة]، وله تاريخٌ صغير سماه "دُرّة الإكليل"، ذَيَّل فيه من هذه السَّنة إلى أن حُمِلَ إلى واسط سنة تسعين وخمس مئة، غير أنه لم يستقصِ فيه الحوادث، ويقال إنه منه دَخَلَ عليه الحادث، والله أعلم. السَّنة الخامسة والسَّبعون وخمس مئة فيها ولَّى الخليفةُ قِوام الدِّين يحيى بن زَبَادة حِجْبة الباب، وعَزَلَ عنها عَلَم الدِّين طلحة بن البقشلان، ووقَعَ الغلاء والوباء ببغداد، فأكل النَّاسُ أولادهم، وماتوا على الطرق. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "كتاب "الروضتين": 2/ 419 - 420، "وفيات الأعيان": 5/ 146، و"سير أعلام النبلاء": 20/ 350، وهو علي بن محمد بن علي بن أبي منصور الأصبهاني. (¬2) في (ح): أبو الحسن، سار إلى آمد ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): انتهى تاريخ الشيخ جمال الدين بن الجوزي المسمى بالمنتظم في هذه السنة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وزلزلت أرمينية وبلاد إرْبل، وتصادمتِ الجبال بحيث كان بين الجبلين مسافة، فتقلعهما الزلزلة، فيصطدمان، ثم يعودان إلى مكانهما. وفي سَلْخ ذي القعدة خطب المستضيء لولده أبي العَبَّاس أحمد النَّاصر بإشارة جهة الخليفة بنفشا، وكان الخليفةُ قد مرض في شَوَّال، وتوفي في ثاني ذي القعدة. وفي ربيع الأول كانت وقعة مرج عيون، التقى صلاح الدين الفرنج على مرج عيون، فأَسَرَ مقدَّم الداوية والإسبتار، وصاحب الطبرية، وابن بارزان صاحب نابلس والرَّملة، وقسطلان يافا، وصاحب القُدْس، وصاحب جُبيل، وكانت وقعةً عظيمة، فخلَّص بعضُهم نفسه، ومات بعضهم في الأَسْر، وخَلَصَ الفقيه عيسى، [وكان قد أُخذ من الرملة، وقد ذكرناه] (¬1)، وحُسِبَ من القطيعة بستين ألف دينار. وقيل: إن وقعة مرج عيون كانت في المحرَّم، وهذه وقعة هُونين التي أُسروا فيها. وسار السُّلْطان في ربيع الأَوَّل إلى حِصْن يعقوب -ويسمَّى قصر يعقوب، وبيت الأحزان- عند المخاضة، فنَصَبَ عليه المجانيق، وخَلَعَ على النَّقَّابين، وباشر القتال بنفسه، فعلقوا النُّقوب، وأحرقوا الأخشاب، فسقطتِ الأبراج، فصاحوا: الأمان. وعاجلهم المسلمون، ففتحوه عَنْوَةً، وكان عَرْضُ سوره عشرةَ أذرع، وارتفاعُه أربعين ذراعًا، فَقَتَلَ المسلمون منهم ألفًا وخمس مئة، وخلَّصوا من أسارى المسلمين مئةَ أسير، وكان بيت الأحزان -الذي يزعمون أن يعقوب عليه السَّلام كان ينفرد فيه، ويبكي على يوسفَ عليه السَّلام- كنيسةً، فجعله السُّلْطان مسجدًا. وذكر الشُّعراء هذا الحِصْن، فقال أحمد بن نفاذة الدِّمَشْقي، [ويلقب بالنَّشو] (1): [من المتقارب] هلاكُ الفرنج أتى عاجلًا ... وقد آن تكسيرُ صُلْبانِها ولو لم يكن قد أتى حَتْفُها ... لما عمَّرتْ بيتَ أَحْزانِها وقال أبو الحسن عليُّ بن أحمد السَّاعاتي: [من الطويل] وَقَفْتُ على حِصْن المخاض وأنَّه ... لموقفُ حَقٍّ لا يوازيه موقفُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الباب الرابع والثلاثون في خلافة الناصر لدين الله أحمد

وما رُفعت أعلامك الصُّفْر ساعة ... إلى أن غَدَتْ أكبادُها السُّود تَرْجُفُ أَيَسْكُنُ أوطانَ النَّبيِّين عُصْبَةٌ ... تمينُ لدى أَيمانها وهي تَحْلِفُ نَصَحْتُكُمُ والنُّصْح في الدِّين واجبٌ ... ذَرُوا بيتَ يعقوبٍ فقد جاء يوسفُ (¬1) وكتب الفاضل إلى بغداد كتاب الفَتْح، فأمر الخليفة بضرب البُوقات والدَّبادب على أبواب الأُمراء ما عدا طبول الخليفة، ولم يشهد تقيُّ الدِّين هذه الغَزَاة، لأَنَّ قليج رسلان نزل على حصن رَعْبان في عشرين ألفًا، وادَّعى أنه له، فسار تقيُّ الدين إليه في ألف فارس، فهزمه، فكان تقيُّ الدين يُدِلُّ بهذه الوقعة حيث هَزَمَ ألوفًا بألف. وفيها خَتَنَ السُّلْطان ولده العزيز عثمان، واتخذ له يوسف بن الحسين، ويعرف بابن المجاور معلِّمًا. وتسلَّم فَرُّخْشاه بَعْلَبَك، ومات المستضيء. البابُ الرَّابع والثلاثون في خلافة النَّاصر لدين الله أحمد وكنيته أبو العَبَّاس، ولد سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين وخمس مئة، وأمه زُمُرّد خاتون أم ولد، وكانت بيعته يوم الاثنين ثاني ذي القَعْدة، وله ثلاث أو اثنان وعشرون سنة، وتولَّى أخذ البيعة له ظهير الدين بن العَطَّار صاحب المخزن، على الرَّغم منه، لأَنَّه كان يميل إلى أخيه الأمير أبي منصور خائفًا من أبي العباس، وانتظر مساعدة بنفشا، فلما جاءه أمر بالخُطْبة لأبي العباس، أُسْقِطَ في يده، وساعد بنفشا مجدُ الدِّين ابنُ الصاحب أُستاذ الدار، وطاشتِكِين أمير الحاج، ثم قُتِلَ ابنُ الصَّاحب، وحُبس طاشتكين بعد ذلك، وحَضَرَ القضاة والأشراف وبنو هاشم وغيرهم وأخوه أبو منصور، وضياءُ الدِّين الشَّهْرُزُوري رسولُ صلاحِ الدين، وبايعوه، وقبض في ذلك اليوم على سَعْد الشَّرابي، وأحسنَ إلى بنفشا، وكان المستضيء أراد أن يعهد إلى الأمير أبي ¬

_ (¬1) ليست هذه القصيدة في ديوانه المطبوع، وقد استدركها محققه من "كتاب"الروضتين": 3/ 38 - 39، انظر "الديوان": 2/ 409.

إسحاق وإسماعيل ابنا أبي منصور

منصور، فقالت له بنفشا: اللهَ اللهَ أن تَعْدِلَ عن أبي العَبَّاس، فرأى لها ذلك، وبَعَثَ شيخَ الشيوخ عبد الرَّحيم وصَنْدَل الخادم إلى صلاحِ الدِّين بالبيعة. وفي يوم الجمعة سابع ذي القعدة قَبَضَ على ظهير الدين [ابن العطار] (¬1) صاحب المخزن، وعلى مسعود النَّقيب. وحجَّ بالنَّاس من العراق طاشْتِكِين، ومن الشَّام صفي الدين بن القابض؛ وزير صلاح الدين. وفيها توفي إسحاق (¬2) وإسماعيل ابنا أبي منصور (¬3) موهوب بن الجواليقي. [(¬4) فأما إسحاق فكنيته أبو طاهر، ولد في سنة تسع عشرة وخمس مئة (¬5)، وقرأ على أبيه الأدب والحديث، وسمع من ابن الحصين وغيره، ومات في رجب، ودفن بباب حرب. وأما إسماعيل فكنيته أبو محمد، ولد سنة إحدى عشرة وخمس مئة، وقرأ على أبيه الأدب وبرع فيه، وسمع من ابن الحصين وابن السمرقندي وغيرهما، وأقرأ الأدب بعد أبيه، وروى عنه جماعة منهم عبد العزيز بن الأخضر، وكان شيخنا، وكان يثني عليه ويقول: هو في النسك والعبادة أبلغ من أبيه، قال: وأنشدنا لإبراهيم نفطويه]: [من البسيط] اقبلْ معاذيرَ مَنْ يأتيك مُعْتذرًا ... إنْ بَرَّ عندك فيما قال أو فَجَرا فقد أطاعك مَنْ أرضاك ظاهِرُه ... وقد أَجَلَّكَ مَنْ يعصيك مُسْتترا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "معجم الأدباء": 6/ 88 - 89، "إنباه الرواة": 1/ 230، و"الوافي بالوفيات": 8/ 427. (¬3) له ترجمة في "معجم الأدباء": 7/ 45 - 47، "إنباه الرواة": 10/ 210 - 211، "الوافي بالوفيات": 9/ 230، "ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 346 - 347، "بغية الوعاة": 1/ 457، "شذرات الذهب": 4/ 249 - 250. (¬4) في (ح): ولد إسحاق سنة تسع عشرة وخمس مئة، ومات في رجب، ودفن بباب حرب، ولد إسماعيل سنة إحدى عشرة وخمس مئة، وكان في النسك والعبادة أبلغ من أبيه وأنشد لإبراهيم نفطويه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في "معجم الأدباء" و"إنباه الرواة": ولد سنة سبع عشرة وخمس مئة، وهو الأشبه بالصواب.

المستضيء بأمر الله

المستضيء بأمر الله (¬1) أبو محمد، الحسن بن يوسف المستنجد. كان [جَوَادًا] (¬2) عادلًا، شريفَ النَّفْس، حَسَنَ السِّيرة، ليس للمال عنده قدر، حليمًا، مُشْفقًا على الرَّعية، أَسْقَطَ المكوس والضَّرائب، وكان متواضعًا، وتوفي ثاني ذي القَعْدة، عن ستٍّ وثلاثين سنة، وكانت خلافته تسعَ سنين وستة أشهر وعشرين يومًا، ودُفِنَ في داره، ثم نُقِلَ بعد ذلك إلى تُرْبته المجاورة لجامع فخر الدولة (¬3). ذِكْرُ حاشيته ووزرائه: وَزَرَ له عضد الدَّولة ابن رئيس الرؤساء، وأبو الفَضْل زعيم الدين بن جعفر، ومحمد بن محمد بن عبد الكريم الأنباري، ومات في الوزارة ظهير الدين ابن العَطَّار، وكان على قضاء القضاة أبو الحسن علي بن الدَّامَغاني، وعلى الحجابة مجد الدين أبو الفَضْل الصَّاحب، وأبو سَعْد محمد بن المعوّج، وكان له ولدان أبو العَبَّاس أحمد، وأبو منصور هاشم. علي بن أحمد بن محمد بن عمر بن الحسين (¬4) ابن هبة الله بن الحسين بن علي بن يحيى بن أحمد بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن العلوي الزَّيدي. ولد سنة تسع وعشرين وخمس مئة، وسمع الحديث الكثير، ولما عاد [عضد الدين] (2) ابن رئيس الرؤساء إلى الوزارة بعث إليه بألف دينار، وكَتَبَ إلى المستضيء يقول: إنني نذرتُ إنْ عدتُ إلى الوزَارة بعثتُ إلى الشَّريف بألف دينار، فقال المستضيء: أنا أحمل إليه ألف دينار، وقالت بنفشا: وأنا أيضًا أحمل إليه ألف دينار، فحُمِلَ الجميعُ إليه، فلم يتصرَّف فيها، واشترى بها دارًا بدرب دينار الصغير، وبناها ¬

_ (¬1) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وانظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء": 21/ 68 - 72. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) فخر الدولة: هو الحسن بن هبة الله، ستأتي ترجمته في وفيات سنة (578 هـ). (¬4) له ترجمته في "ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 3/ 158 - 162، وسير أعلام النبلاء: 21/ 104 - 105، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

علم بنت عبد الله بن المبارك

مسجدًا، واشترى بباقي الذهب كُتُبًا، ووقفها في المسجد [ينتفع الناس بها، وهي باقية إلى هلمَّ جرا، وكانت وفاته في شوال، ودفن في المسجد] (1) المذكور، [سمع أبا الفضل بن ناصر وغيره] (¬1)، وكان سيِّدًا جليلًا، نبيلًا زاهدًا، وَرِعًا. عَلَم بنت عبد الله بن المبارك (¬2) زوجة الزَّبيدي (¬3) [شيخ الوزير ابن هُبيرة] (1)، كانت تضاهي رابعة العدوية، وتقرأ القرآن، ولا تَفْتُرُ من الذِّكْر، ولم يكن في زمانها مِثْلُها، وكانت صابرةً على الفقر، وَرِعَةً، مَرِضَ ولدُها أحمد بنُ الزَّبيدي، فاحْتُضر، وجاء وقتُ الصَّلاة، فقالت: يا بني ادخل في الصَّلاة، فدخل وكَبَّر، فماتَ، فخرجت إلى النِّساء، وقالت: هنئنني. قلن: بماذا؟ قالت: ماتَ ولدي في الصَّلاة. توفيت ببغداد، وعمرها مئة سنة وستّ سنين، ولم يتغيَّر عليها من حواسها شيء، [بل كانت كأنَّها يوم ولدت] (1). محمد بن الحسين بن الحسن (¬4) أبو الفرج [الهِيْتي] (1)، ولد بهِيت (¬5) سنة خمس وتسعين وأربع مئة، وسكن بغداد، وكان فاضلًا، فمن نظمه: [من السريع] يا راقدًا أَسْهَرَ لي مُقْلَةً ... عزيزةً عندي وأبكاها ما آن للهِجْران أن ينقضي ... عن مُهْجةٍ هَجْرُكَ أَضْناها إن كنتَ ما تَرْحَمُني فارْتَقِبْ ... يا قاتلي في قتليَ اللهَ ومن نثره: من كان الصَّمتُ شجرتَه كانت السَّلامةُ ثمرتَه. وفي احتراز اللبيب ما يُغْنيه عن الطبيب، من ترك المِرا استمال الوَرَى. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) لها ترجمة في "النجوم الزاهرة": 6/ 85. (¬3) هو محمد بن يحيى، سلفت ترجمته في وفيات سنة (555 هـ). (¬4) له ترجمة في "الخريدة" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 4/ 286 - 288، و"الوافي بالوفيات": 3/ 19 - 20. (¬5) هيت: بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار، "معجم البلدان": 5/ 421.

محمد بن محمد بن عبد الكريم

وكانت وفاته في شعبان، ودفن بباب حرب، [سمع عبد الوهَّاب الأنماطي وغيره، وروى عنه شيوخنا] (¬1). [فصل: وفيها توفي محمد بن محمد بن عبد الكريم (¬2) أبو الفرج بن الأنباري، كاتب الإنشاء بديوان الخليفة، ولد سنة سبع وخمس مئة، وهو من بيت الرياسة والكتابة، ناب في الديوان حين توفي والده سديد الدولة في سنة ثمان وخمسين وخمس مئة إلى هذه السنة، وكانت وفاته في ذي القعدة، وصلي عليه بجامع القصر، ودفن عند والده بمقابر قريش. سمع أبا محمد بن أحمد السمرقندي وطبقته، وكان فاضلًا عاقلًا، نزهًا عفيفًا. وفيها توفي محمد بن علي بن محمد (¬3) أبو الفتح الدَّامغاني، ابن قاضي القضاة أبي الحسن، من بيت الرياسة والفضل والقضاء، استنابه أبوه في القضاء، وكان فاضلًا نَزهًا، عفيفًا، توفي وهو شاب في شوال، ودفن بنهر القلائين، وبها كانت منازلهم] (1). محمد بن علي بن حمزة (¬4) أبو يعلى، قُطْب الدين الزَّيدي، ويعرف بابن الأَقْساسي، ولد بالكوفة سنة سبعٍ وتسعين وأربع مئة، وكان نقيبَ العلويين بها، فاضلًا، قدم بغداد، وسمع الحديث، وتوفي في شوال، ودفن بالشُّونيزيَّة، ومن شعره: [من المديد] ربَّ قومٍ في خلائقهم ... عِرَرٌ قد صُيِّروا غُرَرا سَتَرَ الإِثْراءُ عَيْبَهُمُ ... سترى إنْ زال ما سَتَرا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الكامل": 11/ 461. (¬3) له ترجمة في "الجواهر المضية": 3/ 253 - 254. (¬4) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 4/ 155 - 156.

مسعود نقيب باب النوبي

وقال: [من الطويل] وكنتُ إذا خَصَمْتُ خَصْمًا كبَبْتُه ... على الوَجْه حتى خاصمتني الدَّراهمُ فلمَا تنازعنا الخصوم تحكَّمَتْ ... عليَّ وقالت قُمْ فإنَّكَ ظالمُ مسعود (¬1) نقيب باب النُّوبي (¬2) كان بين يدي [ظهير الدين] (¬3) ابن العَطَّار، وكان قاسيًا فاتكًا جبارًا لا يعرف الرَّحمة، كم أتلف من الشَّباب بالقَتْل والصَّلْب والقَطْع، وأخذِ أموال النَّاس، وكان ابنُ العَطَّار يقويه على ذلك، فلما كان اليوم الذي ولي فيه الإمام النَّاصر، قَبَضَ عليه، وكان عنده منه المقيم المُقْعد، فَضُرِبَ بالسُّيوف، ومُثِّل به أقبح مُثْلة، وسُلِّم إلى عوام بغداد، فشدُّوا في رِجْله شريطًا، وسحبوه في دروب بغداد وهم يقولون: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]. يعنون ابنَ العطار، ثم أحرقوه، وذروا رماده في دِجْلة. منصور بن نَصْر بن الحسين (¬4) ظهير الدين، أبو بكر بن العَطَّار، صاحب المخزن، نائب الوزَارة، [وقد ذكرنا أنه كان سببًا لقتل الوزير ابن رئيس الرؤساء، و] (3) كان في عزمه أن يولي الخلافة أبا منصور، فانخرقت عليه القواعد، فلما بُويع الإمام النَّاصر لم يحضر، واعتذر بالمرض، وإنما كان به مَرَضُ القلب حيث تيقن الهلاك، فقبض الخليفة عليه في السَّابع من يوم بيعته، ووكل به في حجرةٍ في داره، وقبض على أصحابه، ونُهبت دورهم، ¬

_ (¬1) انظر خبره كذلك في "الروضتين": 3/ 53. (¬2) باب النوبي: كان يقع في سور دار الخلافة ببغداد إلى الشرق من باب بدر، وهو باب كبير لدار الخلافة، ويسمى أيضًا باب العتبة، فقد كانت فيه العتبة التي يقبلها الرصل والأمراه والملوك ورؤساء الحجاج إذا قدموا بغداد، وكان هذا الباب في بعض الأدوار بابًا رئيسًا لقصور الخلافة. انظر"دليل خارطة بغداد": 158 - 159. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وله ترجمة في "الروضتين": 3/ 52 - 53، "سير أعلام النبلاء": 21/ 84 - 85، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 191، و"النجوم الزاهرة": 6/ 85.

السنة السادسة والسبعون وخمس مئة

ونهبَ العامةُ داره، وأحرقوا سقوفها، وكانت على دِجْلة، فلما كانت ليلة السبت ثامن ذي القَعْدة نُقِلَ إلى التَّاج، وقيد، وأُخرج ليلة الأربعاء حادي عَشَرِه ميتًا، وفيه آثارُ الضَّرْب، فيقال: إنَّه مات تحت الضرْب، فَسُلِّم إلى أُخته، فغسَّلَتْه وكَفَّنته، فلما كان وقتُ الفجر من يوم الأربعاء أخرج تابوته على رؤوس الحمَّالين ليذهبوا به إلى قبر الإمام أحمد رحمة الله عليه، وبلغَ التَّابوت عقد الحديد، فصاح بعضُ الناس: يا عوام، هذا ابنُ العَطَّار الذي سلط عليكم مسعود النقيب [وأخذ أموالكم، وفعل وفعل] (1)، ورجمه بآجُرَّةٍ، وتتابع الرَّجم، فرمى الحمَّالون التابوت وانهزموا، فجرَّدوه من الكفن، وشدُّوا في رِجْله شريطًا، وسحبوه إلى دروب بغداد، [وصاحوا عليه: يا عجيل ابن عجيل، وشوَّهوا به] (¬1)، ومثلوا أقبح مُثْلة، وكان مسيئًا إلى [الشيعة أهل المختارة والكرخ ومشهد موسى بن جعفر، وقطع أرزاقهم وبدَّد شَمْلَهم] (¬2)، ثم جمعوا له حطبًا ليحرقوه بعد أن قطعوا لحمه قِطعًا، فركب قطروش الشِّحْنة، وأراد [أن يخلصه] (¬3) منهم، فرجموه وقاتلوه إلى الليل، [فحجز الليل بينهم] (1) وبقي من لحمه قطعة، فجاء ناسٌ، فدفنوها عند مقابر الإمام أحمد بن حنبل. وظهير الدين هذا هو ابنُ الشيخ نَصْر [ابن العطار] (1) الحَرَّاني، صاحب الصَّدقات والمعروف والبِرّ والصِّلات والفضائل والكرامات، وقد ذكرناه [في سنته التي توفي فيها] (1). السنة السادسة والسبعون وخمس مئة فيها استناب الخليفة في الوزارة جلال الدين هبة الله بن البخاري، وكان قد استناب سليمان بن ساروس بعد ابن العَطَّار في السنة الماضية، فأقام فيها ثلاثة أشهر، فعزله في المحرَّم في هذه السنة، لأَنَّه ظلم، ومدَّ يده إلى الأموال. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): إلى الخلق، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): خلاصه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وفيها ابتدأ الخليفةُ بعمارة دار المسناة في الجانب الغربي من بغداد، وتسمى دار تتر، وهي قائمة إلى هلمَّ جرا. وفيها ابْتُدِئَ بعمارة تربة المستضيء المجاورة لجامع فخر الدولة، وتولَّى عمارتها أُستاذ الدَّار ابنُ الصَّاحب، ونقل تابوته إليها. ووصل شيخ الشيوخ إلى صلاح الدِّين، وخَلَعَ عليه خِلْعة السَّلْطنة، وأعطاه التقليد، فركب [شيخ الشيوخ] (¬1) البحر من مِصْر إلى مكة لنذرٍ كان عليه، وأقام إلى أيام الموسم، وحَجَّ وعاد إلى بغداد (¬2). وفيها توفي سيف الدِّين صاحب المَوْصل. وفيها سار صلاحُ الدِّين إلى بلد الرُّوم؛ وسببه أَنَّ نورَ الدّين محمد بن قرا رسلان بن سكمان بن أُرْتُق صاحب حِصْن كيفا كان قد انتمى إليه، وكان عِزُّ الدين قليج رسلان بن مسعود بن قليج رسلان قد زوَّجه ابنته، فأَساء العِشْرة معها، فكتبت إلى أبيها تشكوه، فبعث إليه: إما أَنْ تُحْسِنَ عِشْرتها، وإما أنْ تفارقَها. فلم يلتفت إليه، وكاتَبَ صلاحَ الدين، فسار في نجدته، فالتقاه ابنُ أُرْتُق على نهر الأزرق بين بهسنى وحصن منصور، ثم عبرا منه إلى النهر الأسود، وجاءت رسل قليج رسلان، وتقرَّر الصُّلْح، وعاد السلطان إلى بلاد ابن ليون، فأخربها ونهبها، فصالحه على مالٍ وأُسارى، فرجع إلى دمشق، فقال محمد بن سُلْطان (¬3) يخاطبُ صلاحَ الدين: [من المتقارب] ورُعْتَ ابنَ سَلْجُوقَ في مُلْكه ... فَقَعْقَعَ من رُعْبه بالشِّنانِ أَزَرْتَ ابنَ لاونَ لأوَاءَه ... فأضحى به خَبَرًا عن عِيانِ فأخلى لهيبتك المانقير (¬4) ... وغادَرَ للهَدْمِ تلك المباني ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) قدم شيخ الشيوخ على صلاح الدين بدمشق بالخلعة، ثم سار معه إلى مصر، ومن مصر ركب شيخ الشيوخ البحر إلى مكة. انظر "الروضتين": 3/ 65 - 67. (¬3) هو محمد بن سلطان بن الخطاب المقرئ النِّيلي -بليدة في سواد الكوفة- قدم بغداد، وقرأ بها الأدب على ابن الخشاب، وأقرأ الأدب، ولم يذكر الصفدي والسيوطي سنة ولادته ولا وفاته. انظر "الوافي والوفيات": 3/ 118، و"بغية الوعاة": 1/ 115، و"معجم البلدان": 5/ 334. (¬4) المانقير: هي قلعة شامخة أحرقها ابن لاون خوفًا من صلاح الدين، انظر "الروضتين": : 3/ 55.

أحمد بن محمد بن أحمد

وفيها قدمت امرأةٌ إلى القاهرة عديمة اليدين، وكانت تكتبُ برِجْلَيها كتابةً حسنة، فحصل لها مالٌ جزيل [من الملوك والخواتين، فقال العماد الكاتب] (¬1): [من السريع] أُخملتُ في مِصْرَ ومن يلتمسْ ... غِناه في غُرْبته يَخْمُلِ كتابتي قد كَسَدَتْ سوقُها ... وحِلْيتي بارت ولم أعطلِ كيفَ يبينُ الفَضْلُ في بلدةٍ ... نساؤها يكتبْنَ بالأَرْجُلِ وحجَّ من العراق طاشْتِكِين، ومن الشَّام سيف الدين علي المَشْطوب. [وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد (¬2) أبو المظفر بن حمدي، البغدادي. ولد سنة عشر وخمس مئة في شعبان، وسمع الحديث الكثير ورواه، وبنى مسجدًا ببغداد في درب الرياحين، وهو قائم إلى هلم جرا، وتوفي بالمخزن محبوسًا بعدما ذهب بصره، ودفن بباب حرب، سمع أبا القاسم بن الحصين وغيره، وسمع ابن السمرقندي وقاضي المرستان، وكان صالحًا ثقة] (1). وفيها توفي أحمد بن محمد (¬3) ابن أحمد بن [إبراهيم ابن] (1) سِلَفة، أبو طاهر الحافظ، السَّلَفي الأَصْفهاني، [وسلفة لقب جده أحمد، وبه كان يعرف] (1). ولد سنة سبعين وأربع مئة، وطاف الدُّنيا، ولقي الشُّيوخ، وكان يمشي حافيًا لطلب الحديث، وقدم بغداد سنة خمس مئة، وسَمِعَ من شيوخها، [وقال الحافظ ابن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المختصر المحتاج إليه": 1/ 171 - 172، و"معرفة القراء الكبار": 3/ 1086 - 1087، و"الوافي بالوفيات": 6/ 228 - 229، و"توضيح المشتبه": 2/ 398، وفيها: أحمد بن أحمد بن محمد، وهو الصواب. (¬3) له ترجمة في "الأنساب": 7/ 105 - 106، "تاريخ ابن عساكر"" (خ): 2/ 99 - 100، و"الكامل": لابن الأثير": 11/ 469، "الروضتين": 2/ 448 - 449، 3/ 54، "وفيات الأعيان": 1/ 105 - 107، "سير أعلام النبلاء": 21/ 5 - 39، "وطبقات علماء الحديث": 4/ 72 - 77، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

عساكر: ] (¬1) وقدم دمشق سنة تسع وخمس مئة، وأقام بها مدَّة، وكَتَبَ عن جماعةٍ من شيوخها، ثم قَدِمَ مِصْر، وسمع بها، وسكن الإسكندرية، واستوطنها، وتزوَّج امرأة ذات يسار، فحصلت له ثروة بعد فَقْر، وبنى له بها العادل عليُّ بن [إسحاق بن] (1) السَّلَّار مدرسةً، ووقَفَ عليها وقفًا، وكانت له حرمة عظيمة بها (¬2). وكان صلاحُ الدِّين وإخوته يزورونه، ويسمعون عليه الحديث، وتوفي يوم الجمعة خامس ربيع الآخر، ودُفِنَ داخل الإسكندرية داخل الباب الأخضر بمقابر وَعْلة، وقد جاوز المئة بخمس سنين، وجوارحه بحالها، وألحق الصِّغار بالكبار، ورحل إليه الطَّلبة من البلاد، وكان حافظًا مُتْقنًا، دَيِّنًا، صدوقًا، ثقةً، سمع خَلْقًا كثيرًا، وحدَّث عنهم. ومن شعره: [من الخفيف] إنَّ عِلْمَ الحديثِ عِلْمُ رجالٍ ... تركوا الابتداعَ للاتِّباعِ فإذا اللَّيل جَنَّهم كتبوه ... فإذا أصبحوا غَدَوْا للسَّماعِ وقال: [من مجزوء الكامل] قد قلتُ إذْ رفَعَ الصَّبا ... حُ ذيولَ ليلِ الوَصْل عَنَّا يا ليتَ هذا اللَّيلَ دا ... م الدَّهْرَ للصَّبِّ المُعَنَّى فاللَّيلُ أَسْتَرُ للمتيَّـ ... ـــمِ والصَّباحُ عليه أجنى وقال: [من الرمل] أنا إنْ بان شبابي ومضى ... فلربي الحَمْدُ ذهني حاضرُ ولئن خفَّتْ وجفَّت أَعْظُمي ... كِبَرًا غُصْنُ علومي ناضِرُ ومدحه ابن قلاقس، فقال: [من الكامل] وموطَّأَ الأكنافِ قد نَسَجَ التُّقى ... ثوبًا فأفرغَه على جَنَباته يا حافظًا يطوي صباحَ علومِهِ ... ما مدَّ ليلُ الجهلِ من ظُلُماتِهِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) انظر "تاريخ ابن عساكر" (خ): 2/ 99.

توران شاه الملك المعظم

تُوران شاه الملك المُعَظَّم (¬1) شمس الدولة، فخر الدِّين، أخو صلاح الدين لأَبيه، وكان أكبر من صلاح الدين، [(¬2) وقذ ذكرنا أخباره، وأنه دخل إلى اليمن، وأخذ بعلبك، وكان جوادًا سمحًا، حسن الأخلاق، إلا أنه كان في نفسه من الملك، ويرى أنه أحق به] من صلاح الدِّين، و [كانت] (3) تبدو منه كلماتٌ في حال سُكْره، وتبلغ صلاح الدين، فأبعده عنه إلى اليمن، فسفك الدِّماء، وقَتَلَ الأماثل، وأخذَ الأموال، ولم تطب له، [وكان في قلبه من ملك الشام] (¬3)، فعاد إلى الشّام على مضضٍ من صلاح الدين، فأعطاه بعلبك، [فبلغ صلاح الدين] (¬4) عنه أشياء [فخاف منه] (3)، فأبعده [عنه] (3) إلى الإسكندرية، فأقام بها منعكفًا على لهوه ولعبه ولذَّاته، ولم يحضر حروب أخيه، وتوفي بالإسكندرية في هذه السنة، فأرسلت أُخته ستُّ الشَّام [وكانت شقيقته] (3)، فحملته في تابوت إلى دمشق، فدفنته في تُرْبتها التي أنشأتها عند العوينة على الشَّرف الشمالي، وبنت عليه القُبَّة، وبهذه التربة ولدها حسام الدين [بن] (3) لاجين، وزوجها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه، [ودفنت هي بعد الكل، وسنذكرها] (¬5). [فصل: وفيها توفي سعيد بن عبد الله بن القاسم (¬6) أخو كمال الدين بن الشَّهرُزُوْري قاضي الشام، وهذا أصغر إخوة كمال الدين. ¬

_ (¬1) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وانظر "الروضتين": 3/ 63 - 65، و"وفيات الأعيان": 1/ 306 - 309، "سير أعلام النبلاء": 21/ 53 - 54، و"العبر" للذهبي": 4/ 228. وتورانشاه يعني ملك الشرق، انظر "وفيات الأعيان": 1/ 309. (¬2) في (ح): وكان أكبر من صلاح الدين، وفي نفسه من الملك يرى أنه أحق به، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): فبلغه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ح): وكان تورانشاه جوادًا سمحًا حسن الأخلاق. قلت: وقد آثرنا حذفها لتكرارها فيما جاء في أول الترجمة من (م) و (ش). (¬6) له ترجمة في "طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 92.

غازي بن مودود

ولد سنة ست وخمس مئة، وكنيته أبو الرضا، قدم بغداد، وتفقه بها، وسمع شيوخها، وخرج إلى خراسان، فأقام عند محمد بن يحيى النيسابوري مدَّة، فكان يحترمه ويقول: هذا من بيت الزياسة والفضل. ثم عاد إلى الموصل، وقد برع وصار أوجه أهل بيته. وقدم رسولًا من الموصل إلى بغداد مرارًا، وتوفي بالموصل. سمع ببغداد قاضي المَرَسْتان وطبقته، وحدَّث ببغداد لما عاد من خراسان عن زاهر بن طاهر الشَحَّامي وغيره، وكان ثقة جليلًا] (¬1). غازي بن مودود (¬2) ابن زَنْكي بن آق سُنْقُر؛ سيف الدين صاحب المَوْصل، كان من أحسن النَّاس صورةً، عاقلًا وقورًا غيورًا، ما كان يدعُ خادمًا بالغًا يَدْخُل على حُرَمه، طاهرَ اللِّسان، عفيفًا عن أموال النَّاس، قليلَ السَّفْك للدماء مع شُحٍّ كان فيه. [وقال المجد بن الأثير: ] (1) وكان قد عَلِقَ به سلُّ، وطالت عِلَّتُه، وأجدبت البلادُ قبل موته، وخرج النَّاس يستسقون وهو معهم، فاستغاث إليه النَّاس، وقالوا: كيف يُستجاب لنا والخمور والخواطئ والمظالم بيننا؟ ! فقال: قد أبطَلْتُها، ورجعوا إلى البلد وفيهم رجلٌ صالح يقال له: أبو الفرج الدَّقَّاق، فأَهْراق الخمور لا غير، ونَهَبَ العوام دكاكينَ الخَمَّارين، فاستدعي الدّقَّاق إلى القلعة، وقيل له: أنت جَرَّأْتَ العوام على السُّلْطان، فَضُرِبَ على رأسه، فانكشف رأسه، وأطلق، فنزل مكشوفَ الرأس، فقيل له: غَطِّ رأسك، فقال: والله لا أُغَطِّيه حتى ينتقمَ الله لي ممن ظَلَمني، فماتَ الدُّزْدار والذي ضربه بعد قليل، ومرض سيف الدِّين، وتوفي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وانظر "الباهر": 180، و"الروضتين": 3/ 60 - 61، و"وفيات الأعيان": 4/ 4 - 5، و"مفرج الكروب": 1/ 190، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 54 - 55، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

ذِكْرُ حكايته مع الشَّيخ أبي أحمد بن الحدّاد الزَّاهد: كان أبو أحمد قد انقطع في قريةٍ من بلد المَوْصل يقال لها: الفضلية، ومنها أصله، وهي على فراسخ من الموصل، [(¬1) حدَّثني أبو بكر القديمي وإسماعيل الشعار -وكانا قد صحبا الشيخ أبا أحمد- قالا: كان سيف الدين يزور الشيخ أبا أحمد]، فقال له يومًا: يا سيف الدين، أيُّ فائدةٍ في زيارتك لي وأنت تشرب الخمر وتبيح المحرمات وتمكس المُسْلمين؟ ! فإنْ كنتَ تدع هذا، وإلا فلا تجيء إلى عندي. فقال: يا سيدي، أنا تائبٌ إلى الله من جميع ما قلتَ. وتَرَكَ الجميع، وأقام شهرًا، فتحدَّث عليه قُرناء السُّوء، قالوا: هذا مالٌ عظيم، فأعاد الجميع، ورجع إلى ما كان عليه، [وكان للشيخ طاقة على باب الزاوية ينظر من يجيء من دمشق قال: فبينما نحن عنده ذات يوم] (¬2) إذا سيفُ الدِّين قد أقبل، وصَعِدَ على الدَّرج، وكان عند الشيخ صاحبه أبو بكر القُدَيمي، فقال له: أغلقِ البابَ في وَجْهه، وقُلْ له: ما لك عندي شغل، وادْفعْه إلى أسفل الدرج. قال أبو بكر القُدَيمي: فخرجتُ، فاستحييتُ منه، فقال لي سيفُ الدين: [يا شيخ] (3)، افعل بي ما أمرك الشيخ. وأدار ظهره إليَّ، فدفعتُ في ظهره حتى أنزلته إلى أسفل الدَّرج [وقعد يبكي] (3)، وصاح الجُنْد بأَسْرهم، فأَشار إليهم؛ أنِ اسْكُنوا، ثم قال لي: يا شيخ أبا بكر، اصعدْ إلى الشيخ، وقل له: فما لي توبة؟ [قال] (¬3): فصعدت إليه، وأخبرته، فقال: يجوز، ائذن له. فخرجتُ إليه وقلتُ: بسم الله، فدخل على الشيخ، فبكى وقبَّل يده، وتاب إلى الله تعالى، وعاد إلى المَوْصل، فأقام مُدَّةً يسيرة، ومات يوم الأحد ثالث صفر ولم يبلغ ثلاثين سنة، وكانت ولايته عشرَ سنين وشهورًا. وأراد أن يعهد إلى ولده سنجرشاه، فامتنع أخوه عِزُّ الدين مسعود من ذلك، وقال له مجاهد الدين قيماز وأكابر الأَمراء: قد علمتَ استيلاءَ صلاحِ الدين على البلاد وقُرْبه منا، وسنجرشاه صبيٌّ لا رأيَ له، وأخوك عِزٌّ الدين كبيرُ السن، صاحب رأي وشجاعة، فاعهدْ إليه، واجعَلْه وصيًّا على أولادك. ففعل. ¬

_ (¬1) في (ح): وكان سيف الدين يزوره، فقال له يومًا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): فبينا الشيخ ذات يوم، وإذا سيف الدين، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

مبارك بن علي

وكانت الرَّعية [قد] (¬1) خافت عز الدين لإقدامه على سَفْك الدماء وحِدَّته، فلما ولي تغيَّرت أخلاقُه، فصار رفيقًا بالرَّعية، قريبًا منهم، مُحْسِنًا إليهم. [(¬2) ولما مات سيف الدين كان] صلاحُ الدِّين في حدود الرُّوم، فأرسل إليه مجاهدُ الدين قيماز [الفقيه] (1) أبا شجاع ابن الدَّهَّان البغدادي يطلب منه أن يكون مع عِزِّ الدين كما كان مع أخيه سيف الدين، ويُبْقي عليه الجزيرة وما بيده من حَرَّان والرُّها والرَّقَّة والخابور ونَصِيبين وقاطع الفرات. فقال صلاحُ الدِّين: أما ما حلفتُ له عليه من بلاد المَوْصل فهو باقٍ على حاله، وأما ما ذكره من بلاد الجزيرة، فإنَّما كانت بيده من شفاعة الخليفة على شرط أن يقوي ثغورَ المُسْلمين بالمال والعساكر، أما الآن فالخليفة قد فوَّض أمرها إليَّ لأفعل فيها ما أراه من المصلحة. مبارك بن علي (¬3) ابن الحسين بن الطَّبَّاخ، أبو محمد البغدادي، نزيل مكة، أقام بها أربعين سنة يَؤُمُّ النَّاس في الحطيم، لا يراه أحد في غير الحرم، ويعتمر كلَّ يوم، ويتعبَّد، لا يكلِّم أحدًا، وتوفي بها في شوال، ودفن بالمعلَّى، [سمع أبا القاسم بن الحُصَين وطبقته] (1)، وكان صالحًا ثِقَةً. محمد بن محمد بن مواهب (¬4) أبو العِزّ، الأديب الفاضل. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): وكان صلاح الدين ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "العبر" للذهبي: 4/ 225، "ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 346، و"العقد الثمين": 7/ 119 - 120، و"شذرات الذهب": 4/ 253، و"توضيح المشتبه": 6/ 355، و "المنهج الأحمد": 3/ 281 وفيه وفاته عندهم (575 هـ). (¬4) له ترجمة في "الخريدة" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 228 - 255، و"معجم الأدباء": 19/ 46 - 47، و"إنباة الرواة": 3/ 213، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 82 - 83، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 119، و "الوافي بالوفيات": 1/ 150، و"فوات الوفيات": 3/ 238 - 239، و"بغية الوعاة": 1/ 235 - 236، و"شذرات الذهب": 4/ 257 - 258.

السنة السابعة والسبعون وخمس مئة

ولد سنة أربع وتسعين وأربع مئة، وسمع الحديث، وكان شاعرًا فاضلًا، توفي في شهر رمضان ببغداد، ومن شعره في المسترشد: [من البسيط] قُلْ للإمامِ الذي إنعامُهُ نِعَمٌ ... وسَحّ كَفَّيه منه تخجلُ الدِّيَمُ وبحرُهُ الجمُّ عَذْبٌ ماؤُه غدقٌ ... سَهْلُ الشَّرائعِ غَمْرٌ طيِّبٌ شَبِمُ مسترشدٌ إنْ بدا فالبَدْرُ غُرَّتُهُ ... وإنْ يَقُلْ كَلِمًا فالدُّرُّ ينتظمُ السنة السابعة والسبعون وخمس مئة فيها فُتِحَ رباط المأمونية [ببغداد، و] (¬1) كان دار سُنْقُر المُسْتنجدي قُبض عليه، وأخذ منه من العين مئة ألف دينار، ومن المتاع والخيل والأثاث ما قيمته أكثر من ذلك، وعُمِلَتْ رباطًا للصُّوفية. وفيها عاد صلاح الدين من دمشق إلى القاهرة، واستناب بدمشق ابن أخيه عز الدين فرخشاه، وخرج إبرنس الكَرَك يريد تيماء لينتهز الفُرْصة في الحجاز، ومعه الأدلاء من العرب، فخرج فَرُّخْشاه بعساكر الشَّام، فبلغ قريبًا من تيماء، وبلغ البرنس، فرجع إلى الكَرَك، وأمر صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طُغْتكين بالمسير إلى اليمن، فأقام يتجهَّز. وفيها توجَّه صلاح الدين إلى الإسكندرية، فخيم بظاهرها عند عمود السَّواري، وقال: نغتنم حياة الشيخ أبي طاهر بن عوف، فسمع عليه "موطأ مالك" [بروايته عن الطُّرْطُوشي] (1)، فتمَّ له ولأولاده السَّماع، وكان واليها مجير الدِّين قراجا. وفيها بعث السُّلْطان قراقوش إلى اليمن، فقبض على سيف الدولة مبارك بن كامل بن مُنْقذ، وطلب منه المال، وكان نائبَ شمس الدولة توران شاه، فبعث بالمال إلى العادل وتاج الملوك، وخواص صلاح الدين، فكلَّموه فيه، فأمر بإطلاقه، وحَمَلَ إلى صلاح الدين مئة ألف دينار، وكان أخوه حِطَّان بزَبيد، وابن الزَّنْجيلي باليمن، وجَرَت بينه وبين حِطَّان وقائع. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الملك الصالح إسماعيل

وكان بالمِزَّة خطيب يقال له: العَلَم، زوَّر على صلاح الدين خطًّا بزيادةِ جامكيته ووقف عليه فَرُّخْشاه، فعلم باطن الحال، فهمَّ بالإيقاعِ به، فهرب إلى القاهرة، واستجار بالسُّلْطان، فأجاره، وقال: ما أخيب قَصْدَك. وكَتَبَ له توقيعًا بما طلب. وحج بالنَّاس من العراق طاشْتِكِين. وفيها توفي الملك الصَّالح إسماعيل (¬1) ابن نور الدين محمود بن زَنْكي، صاحبُ حلب، كان مرضه بالقُوْلَنج، بدأ به في تاسع رجب، [وذكر ابن الأثير في "تاريخه" أنه] (¬2) لما اشتدَّ به وضَعُفَ وَصَفَ له الأطباء قليلَ خَمْرٍ، فقال: لا أفعل حتى أسألَ الفقهاء، فسأل الشَّافعية فأفتوه بالجواز، وسأل العلاء الكاساني فأفتاه أيضًا، فلم يفعل، وقال: إن كان الله قد قرَّب أجلي، أيؤخره شُرْبُ الخمر؟ قال: لا. قال: فوالله لا لقيت الله وقد فَعَلْتُ ما حرَّم عليَّ. فمات، ولم يشربه (¬3). [قلت: أخطأ الكاساني، فإن الخمر لا يباح عند أبي حنيفة وجميع أصحابنا للتداوي، وكذا عند مالك وأحمد، وعند الشافعي يجوز للضرورة، وعندنا أن الله تعالى لم يجعل شفاء الأمة فيما حرَّمه عليها] (2). ولما اشتدَّ به الألم أحضرَ الأُمراء واستحلفهم لعِزِّ الدين صاحب المَوْصل، فقيل له: لو أَوْصيتَ إلى ابنِ عَمِّك عماد الدين صاحب سِنْجار؛ فإنه صعلوكٌ ليس له غير سنجار، وهو تربيةُ أبيك، وزَوْج أختك، وشجاعٌ كريم، وعز الدين له من الفرات إلى هَمَذَان، فقال له: هذا لم يخفَ عني، ولكن قد علمتم استيلاءَ صلاحِ الدِّين على الشَّام ومِصْر واليمن، وعماد الدين لا يثبتُ له، وعِزُّ الدين له من العساكر والأموال، فهو ¬

_ (¬1) سلفت أخباره في هذا الكتاب على السنين، وله ترجمة في "الروضتين"3/ 75 - 80، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 110 - 112. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) انظر "الباهر": 181 - 182.

أقدرُ على حِفْظ حلب، وأثبت من عماد الدين، ومتى ذهبت حلب ذهب الجميع. فاستحسنوا قوله. وتوفي في الخامس والعشرين من رجب، ولم يبلغ عشرين سنة، وكانت أيامه ثماني سنين وشهورًا، وأقام الحلبيون النوح عليه والمآتم، وفرشوا الرَّماد في الأسواق، وأقاموا مُدَّة على ذلك [وجرى عليهم ما لم يجر على أحد] (¬1)؛ لأنه كان صالحًا كما سُمِّي، عادلًا منصفًا، حَسَنَ السِّيرة، سلك أسلوب أبيه. ذِكْرُ ما جرى بعد وفاته: كان شاذبخت الخادم والي القلعة، فكَتَبَ إلى عز الدين مسعود يخبره، وكان تقيُّ الدِّين عمر بمَنْبج، فسار عز الدين عَجِلًا، فقطعَ الفرات، فانهزمَ تقيُّ الدين إلى حماة، فأغلق أهلُها في وجهه الأبواب من جَوْره، وصاحوا: عِزّ الدين أتابك يا منصور، فلاطفهم. وأما عِزُّ الدين فصَعِدَ قلعة حلب، واستولى على أموالها وذخائرها، وأحسن إلى الأمراء، فقالوا له: سِرْ بنا إلى دمشق وغيرها لنأخذها. وكان صلاح الدين بمصر، فقال: بيننا عهودٌ وأيمان ومواثيق لا يجوز العدولُ عنها. وأقام بحلب مدَّة، وعلم أنه لا طاقةَ له على حِفْظ المَوْصل والجزيرة وحلب، وأنَّ شوكة صلاح الدين قوية، فسار إلى الرَّقَّة، وراسل أخاه عماد الدين في تسليم سنجار وتعويضه عنها بحلب؛ لقُرْب سنجار من المَوْصل، وقيل: إنَّ عماد الدين سأله ذلك، وقال: إن لم تفعل أعطيتُ سنجار لصلاح الدِّين، فأجابه، وسلَّم إليه سنجار، وسار عماد الدين إلى حلب، وكان عز الدين لمَّا حصل في حلب يئسَ صلاحُ الدين منها (¬2). وقال ابن شدَّاد: لما أوصى الملك الصالح لعز الدين بحلب سار مجدًا بعساكره خوفًا من السُّلْطان، فكان أول قادم إليها من أمرائه مظفر الدين بن زين الدين في شعبان، ووصل عِز الدين في آخر الشهر، وتزوج [عز الدين أم] (¬3) الملك الصَّالح في شوال، وأقام بقلعة حلب إلى سادس عشره، وعلم أنه لا يمكنه حفظ الشام والموصل ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) انظر "الباهر": 182 - 183، و"الكامل": 11/ 473، 496 - 497. (¬3) في (ح): وتزوج امرأة الملك الصالح، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عبد الرحمن بن محمد بن أبي السعادات

[لملازمته الشام] (¬1)، وألحَّ عليه الأُمراء في طلب الزِّيادات، ودلُّوا عليه لأنهم اختاروه، وضاق عَطَنُه، فسار إلى الرَّقَّة، واتَّفق مع أخيه عماد الدين صاحب سنجار، وتقايضا، ودخل عماد الدين إلى حلب في ثالث عشر المحرَّم سنة ثمانٍ وسبعين وخمس مئة (¬2). وكتبَ صلاحُ الدِّين إلى الخليفة يستأذنه في الاستيلاء على حلب ويقول بأن الجماعة الأتابكية يسعَوْن في تفريق الكلمة، ويستنهضون الفرنج لقتال المسلمين، ويستعينون [علينا] (¬3) بالإسماعيلية، وأقام بمصر ينتظر الجواب. عبد الرحمن بن محمد بن أبي السَّعادات (¬4) أبو البركات الأنباري النحوي، مصنِّف كتاب "الأسرار في علم العربية"، وكتاب "هداية الذاهب في معرفة المذاهب"، وغيرهما. كان إمامًا كلِّ فنٍّ مع الزُّهْد والورع والعبادة، والصَّبر على الفَقْر مع القُدْرة، ولا يقبل بِرَّ أحد، وكان يحضر دعوة الخليفة في كلِّ سنة، فيبعث إليه بالخِلَع والذهب فيردُّ الجميع، وكان يَسْرُدُ الصَّوم، ويُفْطر على أيِّ شيء كان، وبابه مفتوح لطلاب العلم، لا يردُّ أحدًا، وكان قد تفرَّد بعلم العربية، وشُدَّت إليه الرِّحال، ومازال على فقره وعبادته حتى توفي يوم الخميس ثامن عشر شعبان، ودفن بباب أبرز [عند أبي إسحاق الشيرازي، وخلت بغداد عن مثله] (1). عمر بن حموية (¬5) عماد الدين، والد شيخ الشيوخ صدر الدين وتاج الدين، وهو من ولد حموية بن علي الحاكم على خُراسان، أيام السَّامانية، وتوفي حموية سنة ثمانية عشرة وثلاث مئة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "النوادر السلطانية": 55 - 56. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "الكامل" لابن الأثير: 11/ 477، و"إنباه الرواة": 2/ 169 - 171، "وفيات الأعيان": 3/ 139 - 140، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 113 - 115، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬5) هو عمر بن علي بن محمد بن حموية، له ذكر في "الروضتين": 1/ 36، 2/ 264، و "العبر" للذهبي: 4/ 232، و"النجوم الزاهرة": 6/ 90، و"شذرات الذهب": 4/ 259. =

ولد عمر ببُجَيراباد من جُوين ليلة السبت العشرين من جُمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمس مئة، وقَدِمَ دمشق حاجًّا في زمن مجير الدِّين أَبَق، فأقام بها يسيرًا، ثم عاد إلى خراسان، ثم قَدِمها سنة ثلاث وستين في أيَّام نور الدين محمود بن زَنْكي، وأقبل نورُ الدِّين عليه، وأحسن إليه، وسأله المُقام بالشَّام ليصل إلى الصُّوفية بدمشق وبَعْلَبَكّ وحِمْص وحماة وغيرها، ولما توفِّيَ نورُ الدِّين وملك البلادَ صلاحُ الدين أقام عمر على حاله منقطعًا إلى العبادة، لم يكن له بصلاح الدين أُنسًا، ولا كان يغشاه، وكان بخانكاه الصُّميصاتي رجلٌ صوفي يعرف بتاج الدِّين مسعود البَنْدَهي، وهو الذي أوقفَ خزانة الكتب بالخانكاه، وكان يغشى صلاح الدين، فسأله يومًا عن عمر، وقال: أيش فيه؟ وما حاله؟ فقصَّر في وصفه، وقال: رجل صوفي في الماء والمحراب، فسكتَ صلاحُ الدِّين، وأقام مدَّة على حاله، واتَّفق وصول صدر الدين عبد الرَّحيم شيخ شيوخ بغداد إلى صلاح الدين رسولًا من الإمام النَّاصر، فنزل بخانكاه خاتون ظاهر دمشق، وبلغه انقطاع عماد الدين عمر، فأرسل إليه يسأله الاجتماع به ويعتذر عن قَصْده، فخرج إليه، فسأله عن حاله، فذكر له طرفًا من حديث البَنْدَهي، فقال: يزول هذا، وبينما هما في ذلك جاء صلاح الدين إلى شيخ الشيوخ، فقال شيخ الشيوخ لعماد الدين: لا تبرح من سَجَّادتي ولا تخرج عنها، وقام شيخ الشيوخ، والتقى صلاح الدين، ودخل وعماد الدِّين قاعدٌ على سجادة صدر الدين، فجلس إلى جانبه، وتأخر شيخ الشيوخ، ووقف في آخر الصُّفَّة، فقام صلاحُ الدين لقيامه، وقال: بسم الله، اجلس، فقال: لو جلس أحد من أجنادك في حضرتك بغير إذنك أما يكون قد أساء الأدب؟ قال: بلى. قال: فأنا من تلامذة هذا الشيخ عماد الدين ومن مريديه، فلا يسعني أَنْ أجلس بحضوره إلا بإذنه، فالتفتَ صلاحُ الدِّين إلى عمر، واعتذر إليه، وقال: نجتمع بخدمتك، ووالله ما عرفتُ مكانك وأصالتك. ولما انصرف صلاح الدين بعث إليه بقُماش وذهب وعِمامة مُذْهبة قيمتها ألف دينار، وترقَّت حاله عنده، وتأخر البَنْدَهي، وبان لصلاح الدين سوء مقصده. ¬

_ = وكان لأسرة شيخ الشيوخ هذه دور مهم في الدولة الأيوبية. انظر دراسة عنها باسم "العلماء بين الحرب والسياسة في العصر الأيوبي" (أسرة شيخ الشيوخ) للدكتور حامد زيان، طبعت بالقاهرة، ونشرت عن دار الثقافة 1978.

يحيى بن نجاح

ذِكْرُ وفاته: كان ولده صدر الدين قد قدم من هَمَذَان إلى دمشق، فأقام عنده يسيرًا، ثم بعثه إلى العجم ليوفي دينًا عليه، فخرج من دمشق، فمرض الشيخ عماد الدين، فردَّه من بعض الطريق، فأقام عنده أيامًا، وتوفي عمر ليلة الاثنين ثالث عشرين رجب، ودفن بمقابر الصُّوفية في الشَّرف الأعلى. سمع عماد الدين جَدَّه محمد بن عمر بن حمُّوية وغيره، وتفقَّه على محمد بن يحيى وغيره، وسلك طريقة الزُّهْد والتصوف، وكان خروجه من خُراسان في فتنة الغُزّ أيام السلطان سنجر، فأقام بهمذان، وبنيت له بها الرُّبُط، وصنَّف الأمالي والرَّقائق، وكان عارفًا بالحساب والجبر والمقابلة وغير ذلك، ولما توفي فوَّض صلاحُ الدِّين إمرة المشيخة إلى ولده صدر الدين، وماتَ صلاح الدين وارتفعت منزلته عند العادل، وسنذكره إنْ شاء الله تعالى. يحيى بن نجاح (¬1) أبو البركات، المؤدِّب البغدادي. من شعره يمدح المستضيء: [من الخفيف] أخيالٌ لطَيفِ سُعْدَى يزورُ ... أم كذا في الظَّلام تَسْرِي البُدُورُ طَرَقَ الرَّكْبُ مَوْهِنًا فاهْتَدَى مَنْ ... كان عن منهجِ السَّبيل يجورُ عَبِقَتْ نفحةُ النَّسيمِ بريَّا ... هـ ففاحتْ كما يفوحُ العبيرُ مَنْ عَذِيري من لائمٍ في هواه ... وَهْوَ في تَرْكِ لومه معذورُ يتجنَّى عليَّ تِيهًا ولم أَجْـ ... ــــنِ ويجني وذنبُه مغفورُ وعَذَابُ المُحِبِّ يَعْذُبُ في الحُبِّ ... ويلتذُّ بالهوى المهجورُ يا له من هوًى يقيمُ له ما ... بين جنبيَّ منزلٌ مَعْمُورُ ما على اللَّائمِ المعنِّف لو أَقْـ ... ـــصَرَ عني والعاذلون كثيرُ ¬

_ (¬1) هو يحيى بن نجاح بن مسعود بن عبد الله اليوسفي البغدادي، له ترجمة في: "خريدة القصر": قسم شعراء العراق: مج 3 / ج 3/ 333 - 342، وذكره ابن الجوزي في "المنتظم": 10/ 249 في وفيات سنة (569 هـ).

السنة الثامنة والسبعون وخمس مئة

سوف أثني عِنانَه (¬1) عن ملامي ... بمقالٍ حقٍّ إليه يَصيرُ بمديحِ المَوْلى الإمامِ الذي قد ... ملأ الأرضَ عدلُه الموفورُ لم يَزَلْ منذ حَلَّ في المهد يعلو ... هـ إلى اليوم في الخِلافة نورُ ثم وافَتْه تنجلي فتلقَّا ... ها بوجهٍ هو الصَّباحُ المنيرُ فأضاءَتْ بالمُسْتضيء نواحي الـ ... أرضِ إذْ قام وانجلى الدَّيجورُ أنتَ يا ابن القُروم من آل عبَّا ... سٍ أمينٌ للمؤمنينَ أميرُ (¬2) السَّنة الثامنة والسبعون وخمس مئة في المحرَّم سار سيف الإسلام طُغْتِكِين إلى اليمن، فنزل زَبيد وبها حِطَّان، فأمره أن يسير إلى الشَّام، فجمع أمواله وذخائره وأسبابه، ونزل بظاهر زبيد، فَقَبَضَ عليه سيفُ الإسلام، وأخذَ جميعَ ما كان معه، وقيمته ألف ألف دينار، ثم قتله بعد ذلك، وكان عثمان الزَّنْجيلي بعدَن، فلما بلغه ذلك سار يطلب الشَّام بعد أن أثر باليمن آثارًا كثيرة، ووقف الأوقاف، وله مدرسةٌ بمكة، ورباطٌ بالمدينة وغيرها. وفي خامس المحرَّم خرج صلاحُ الدّين من مِصْر، فنزل البركة (¬3) قاصدًا الشَّام، وخرج أعيانُ الدَّولة لوداعه، وأنشده الشعراء أبياتًا في الوداع، فسمع قائلًا يقول في ظاهر الخيم: تَمَتَّعْ من شميمِ عَرَارِ نَجْدٍ ... فما بَعْدَ العَشِيَّة من عَرَارِ (¬4) فطلب القائل، فلم يوجد، فوجم السُّلْطان، وتطيَّر الحاضرون، فكان كما قال، اشتغل السُّلْطان بالشرق والفرنج، ولم يَعُدْ بعدها إلى مِصْر. ¬

_ (¬1) في (ح): "ملامه"، والمثبت من "الخريدة". (¬2) الأبيات في "خريدة القصر": مج 1 ج 3/ 334 - 336 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬3) أي بركة الجب. (¬4) قائل ذلك أحد مؤدبي أولاده كما ذكر ذلك العماد، ونقله عنه أبو شامة في "الروضتين": 3/ 104. والبيت للشاعر الصمة بن عبد الله القشيري، وهو شاعر غزل، توفي نحو (95 هـ)، وهو من أبيات اختارها أبو تمام في حماسته. انظر "شرح المرزوقي": 3/ 1240 - 1244.

وسار السُّلْطان على أَيْلَة والحسا ووادي موسى، وكان فَرُّخْشاه بدمشق فبلغه أَنَّ الفرنج قد اجتمعوا عند الكَرَك لقَصْد السُّلْطان، فخرج من دمشق، فنزل طبرية وعكا [ودَبُّورية] (¬1)، فقصدوه، فالتقاهم فكسرهم، وقَتَلَ منهم ألوفًا، وأَسَرَ وساق عشرين ألفًا من الأنعام وغيرها، وفتح حِصْن جلدك، وهو على شقيفٍ مُشْرف على السواد، وقتل مَنْ فيه، وأسكنه المسلمين، وجعلهم طلائع، وساق إلى بُصْرى، فالتقى السُّلْطان عندها، فَسُرَّ به، ودخلا دمشق في صفر. وكان مُظَفَّر الدين صاحب حَرَّان مقيمًا بحلب، وقد استشعر من عِزِّ الدِّين مسعود، فكاتب السُّلْطان وانتمى إليه، وخَرَجَ السُّلْطان من دمشق، ونزل حماة، وجاء مظفَّر الدين، واجتمع به، وسَهَّلَ عليه عبورَ الفُرات، وأَخْذَ الجزيرة، وأنَّه لا يتعرَّض لحلب؛ لئلا يشغله عن غيرها وأنها في يده، واستصوب رأيه، وعبر الفرات، ونزل على ألبيرة، وكاتَبَ ملوك الشرق بالوفود عليه، فمنْ جاء مُسْتسلمًا سُلِّمَتْ له بلاده على أن يساعده على الفرنج، فجاءه قُطْبُ الدين إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أُرْتُق صاحب مارِدِين، فالتقاه وسُرَّ به؛ لأَنَّه أَوَّلُ من جاءه، ثم وصل نورُ الدِّين محمد بن قرا رسلان بن أُرْتُق صاحب حِصْن كيفا، فدخل في طاعته على أن يساعده على تخليص آمِد، ثم سار السُّلْطان من ألبيرة بعد أن أخذها، وأقطعها لشهاب الدِّين محمد الأُرْتُقي، ونزل على الرُّها، وبها فخر الدِّين مسعود الزَّعْفراني، فضايقها مُدَّة، فعَجَزَ مسعود عن مقاومته، فسلَّمها إليه بالأمان، فسلَّمها إلى مظفر الدين مضافةً إلى ما كان بيده من حَرَّان وأعمالها، ثم سار إلى الرَّقَّة، وبها قطب الدين ينال بن حَسَّان صاحب منبج، فأَمَّنه، ثم استولى على الخابور ونَصِيبين، وولاها أبا الهيجاء السَّمين، وولى الخابور جمال الدِّين خُشترين، وله رسالة (¬2) عز الدين صاحب الموصل، ولا التفتَ إليه، فسار إلى المَوْصل، فنازلها؛ نزل السُّلْطان على الباب العمادي، وأخوه تاج الملوك على باب الجسر، وتقيُّ الدين عمر من ناحية الشرق، وتولى مجاهد الدين قيماز حِفْظَ البلد، فأحسنَ القيام، وبعث عِزُّ الدين مسعود إلى الخليفة يطلب الشَّفاعة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) كذا في (ح)، ويبدو أن فيها سقطًا، لم أهتد إليه.

إلى صلاح الدين، فبعثَ الخليفةُ شيخَ الشيوخ عبد الرحيم يأمر السُّلْطان بالرَّحيل على أن يعودَ عز الدين إلى الموافقة، ويعاونه على جهاد الفرنج، فقال العماد الكاتب: [من الكامل] شيخُ الشيوخ أتى ليصلحَ بيننا ... أيظُنُّ أَنَّا في رِباط الزَّوْزَني وأقام السُّلْطان على المَوْصل أربعين يومًا، ورآه بلدًا عظيمًا، وفيه العساكر، وأَنَّه لا يحصل منه بالحصار غرض حتى يؤخذ ما حوله من القلاع، ويضعف بطول الزَّمان، فرحل ومعه رسول الخليفة، فنزل على سِنْجار في شعبان، وكان نزوله على المَوْصل عاشر رجب، وكان بسنجار شرف الدين بن قطب الدين، فضربها بالمجانيق، فانهدَّ من السور ثُلْمة، فخاف شرف الدين، فطلب الأمان، فأَمَّنه، فخرج بأهله وأمواله وأسبابه إلى الموصل، وأعطى سنجار لتقي الدِّين عمر، وكانت الرياسة فيها لبني يعقوب، فأبقاهم على ما هم عليه، وولَّى القضاء نظام الدين نَصْر بن المُظَفَّر بن محمد بن يعقوب. ثم رحل إلى حَرَّان، وعادتِ العساكر الدِّيار بكرية إلى مراكزها، وشيخ الشيوخ إلى بغداد، وأقام على حرَّان. وفيها كانت وقعة الحاجب لؤلؤ مع الفرنج؛ خرج إبرنس الكَرَك إلى أَيلَة، فأقام بها ومعه الأخشاب على الجمال والصُّنَّاع، فعمل المراكب، وكان قصده مكة والمدينة والغارات في البحر، فلما تَمَّ عملها ركب فيها، ووصل إلى عَيذاب في بحر القُلْزُم، فأخذ مراكب التجَّار، ونَهَبَ وقتل وأسر، وسار يريد جُدَّة، وبلغ الخبر إلى العادل أخي السُّلْطان، فأمر حسام الدين لؤلؤ الحاجب، فركب في بحر القُلْزُم، وسار خَلْفهم وساعدته الرِّيح، فأَدْركهم وقد أشرفوا على مدينة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فهربَ بعضُهم في البَرّ، وأَسَرَ الباقين، فأخذ مئة وسبعين أسيرًا، وخلَّص أموال التجار، وردَّها عليهم، واستولى على مراكبهم، وعاد إلى القاهرة، وكتبوا إلى السلطان بذلك، فقال: تُضْرب رقاب الأسرى، بعضُهم بالقاهرة، وبعضهم بمكة، وبعضهم بالمدينة، ففعلوا.

وكتب [القاضي] (1) الفاضل إلى الخليفة كتابًا في [هذا] (¬1) المعنى، منه: وكان الفرنجُ قد ركبوا من الأمر نُكْرًا، وافتضُّوا من البحر بِكْرًا، وعمروا مراكب شحنوها بالمقاتلة والأَزْواد، وضربوا بها سواحل تِهامة، وأوغلوا في البلاد، وما ظنَّ المسلمون إلا أنَّ الساعة قد نُشِرَ مطويُّ أشراطها، وطُويَ منشورُ بساطها، فثار غضبُ الله لفناء بيته المحرَّم، ومقام أنبيائه المعظَّم، وضريح نبيه المفخَّم - صلى الله عليه وسلم -، ورجوا من فَضْل الله آيةً كآية البيت إذْ قصده أصحابُ الفيل، ووكلوا الأمور إلى الله، فكان حَسْبُهم ونعْمَ الوكيل، فلم يُبْقِ الله من العدوِّ مُخَبِّرًا ولا أَثَرًا {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71]. وفيها قَصَدَ ملوكُ الشَّرْق السُّلْطان، وهو على حران، جاءه ظهير الدين سكمان شاه أرمن صاحب خلاط، وهو خال صاحب ماردين إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش، وصاحبُ مارِدِين هذا هو خال عِزِّ الدين مسعود صاحب المَوْصل، وسيف الدين بَكْتَمُر غلام صاحب خِلاط، وكان شاه أرمن قد بَعَثَ إلى السُّلْطان يشفع في المواصلة، فلم يقبل منه، فجاء شاه أرمن، فنزل على حَرْزم بدُنَيسر، وخَرَجَ إليه عِزُّ الدين من المَوْصل بعساكره وعسكر حلب، وكان عسكر مِصْر قد وصل منه إلى السُّلْطان خمسة آلاف، فساق إلى رأس العين، فنزلها، فتفرَّقوا، ورجع كلُّ واحدٍ إلى بلاده. وسار السُّلْطان إلى آمِد، وبها محمود بن إيكلدي، وقد حكم عليه رئيسها مسعود بن علي بن نَيْسان، وكان السُّلْطان قد وَعَدَ بها نورَ الدين محمد بن قرا رسلان على ما تقدَّم، فنصب عليها المجانيق، ولم يبق إلا فتحها، فخرج إليه العقائل من نساء ابن إيكلدي وابن نَيسان يسألونه المُهْلة أيامًا، فأمهلهم. وفيها قبض الجُنْدُ الذين كانوا بقلعة حارم على سرخك واليها، وأخرجوه منها، ونادوا بشعار السُّلْطان، وبعثوا إليه يسألونه تسلُّمها، فأرسل إليهم من تسلَّمها. وحج بالنَّاس من العراق طاشْتِكِين. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن علي بن أحمد

وفيها توفي أحمد بن علي بن أحمد (¬1) أبو العَبَّاس بن الرِّفاعي، شيخ البطائحيين، كان يسكن أم عَبِيدة (¬2)، وكان له كراماتٌ ومقامات، وأصحابه [على ما بلغني] (¬3) يركبون السِّباع، ويلعبون بالحَيَّات (¬4)، ويتسلَّق أحدهم في أطول النَّخل، ثم يُلْقي نفسه إلى الأرض ولا يتألَّم، ويجتمع عنده كلّ سنة في المواسم خَلْقٌ عظيم. قال المصنِّف رحمه الله: حكى لي بعضُ أشياخنا قال: حَضَرْتُ عنده ليلة نصف شعبان، وعنده نحو مئة ألف إنسان، قال: فقلتُ له: هذا جمع عظيم، فقال: حُشِرْتُ محشرَ هامان إنْ خَطَرَ ببالي أني مقدَّم هذا الجمع. وكان متواضعًا، سليمَ الصَّدْر، مجرَّدًا من الدُّنيا، وما ادَّخر شيئًا قط. [(¬5) وحكى لي بعضُ أصحابه أنه رآه] في المنام في مقعد صِدْقٍ مرارًا، ولم يخبره، وكان للشيخ أحمد امرأةٌ بذيئة اللسان، تَسْفَهُ عليه وتؤذيه، فدخل عليه الذي رآه في مقعد صدق يومًا وبيد امرأته مِحْراكُ التَّنُّور، وهي تضربه على أكتافه، فاسودَّ ثوبه وهو ساكت، فانزعج الرجل، وخرج من عنده، فاجتمع بأصحاب الشيخ، وقال: يا قوم، يجري على هذا الشيخ من هذه المرأة هذا وأنتم سكوت؟ ! فقال بعضهم: [مهرها ثقيل، قال: ما مهرها؟ قال: ] (3) مهرها خمس مئة دينار، وهو فقير. فمضى الرجل، وجَمَعَ خمس مئة دينار، وجاء بها إلى الشيخ في صينية، فوضعها بين يديه، فقال: ما هذا؟ قال: مهر هذه السَّفيهة التي فعلت بك كذا وكذا. فتبسَّم، وقال: لولا صبري على ضَرْبها ولسانها ما رأيتني في مقعد صِدْق. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 11/ 492، و"وفيات الأعيان": 1/ 171 - 172، و"الوافي بالوفيات": 7/ 219، و"العبر" الذهبي: 4/ 233، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 77 - 80، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) هي قرية، وقد ضبطها كذلك ابن خلكان في وفياته: 1/ 172. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) قال الذهبي في "العبر": "ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل فيهم، وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات، وهذا لا عرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه، فنعوذ بالله من الشيطان". (¬5) في (ح): ورآه بعض أصحابه في المنام، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحسن بن هبة الله

وكراماته أكثر من أن تحصى، وكان سببُ وفاته أَنَّ عبد الغني محمد بن نُقْطة الزَّاهد مضى إلى زيارته، فأنشده أبياتًا منها: [من الطويل] إذا جَنَّ ليلي هامَ قَلْبي بذِكْركُمْ ... أنوحُ كما ناح الحَمَامُ المطوَّقُ وفوقي سحابٌ يُمْطِرُ الهمَّ والأسى ... وتحتي بحارٌ بالأسى تتدفَّقُ سلوا أُمَّ عمرٍو كيفَ بىاتَ أسيرُها ... تُفَكُّ الأُسارى دونه وهو مُوْثَقُ فلا أنا مقتولٌ ففي القَتْلِ راحةٌ ... ولا أنا ممنونٌ عليه فيعتقُ (¬1) فبكى الشيخ ومرض، وكانت وفاته يوم الخميس ثاني عشر جُمادى الأُولى، وقد جاوز سبعين سنة. الحسن بن هبة الله (¬2) ابن محمد بن علي بن المُطَّلب، أبو المُظَفَّر، فخر الدَّوْلة، وكان أبو المعالي وزيرًا، وأخوه أبو المكارم علي أُستاذ الدار، وكان فخر الدولة فاضلًا سديدَ الرأي، يُسْتشار في الأمور الجسيمة، وكان كثيرَ الصدقات، متفقدًا لأرباب البيوت، سخيًّا، ذا مروءة ظاهرة، وله ببغداد آثارٌ جميلة منها جامعه المعروف بجامع فخر الدولة غربي بغداد، غرم عليه أموالًا عظيمة. ومنها رباطه شرقيّ بغداد عند عقد المصطنع عند دار الذَّهب، ووقف عليها أوقافًا كثيرة، وكانت وفاته في شوال، ودُفِنَ بجامعه، وله شبَّاك يشرف على دِجْلة، وقد خرب بعضه باستيلاء دِجْلة عليه. [قلت: قد رأيت هذا الجامع في سنة خمس وأربعين وست مئة، وقد استولت دجلة عليه، فأخربت بعضه، والظاهر أنها تخرب الباقي] (¬3). ¬

_ (¬1) البيتان الأخيران لشبيب بن البرصاء كما في "الأغاني": 12/ 270، ويبدو أن عبد الغني ضمنهما هذه الأبيات مع تغيير في بعض ألفاظهما. (¬2) له ترجمة في (الكامل): 11/ 491 - 492، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 97 - 98، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب

فرُّخْشاه بن شاهنشاه بن أيوب (¬1) أبو سَعْد، عِزُّ الدين. كان من الأماثل الأفاضل، كثيرَ الصَّدقات، متواضعًا، سخيًّا جَوَادًا، مِقْدامًا، متنضِّلًا من المظالم، وكان عمُّه صلاح الدين قد استنابه بالشَّام. وقال العماد: كان يفضل بالفضائل على أهله، ويغني السُّؤَّال عن الابتذال بكرم بَذْله، ومن أَخصِّ خواصه وذوي استخلاصه تاج الدين الكِنْدي علامة زمانه، وحَسَّان إحسانه، ووزير دَسْته ومشير [وقته، وجليس] (¬2) أنسه، وشعاع شَمْسه، وحبيبُ نفسه، وكان فَرُّخْشاه شاعرًا فصيحًا [(¬3) قال العماد: أنشدني في قلعة دمشق، ونحن بين يدي صلاح الدين هذه الأبيات]: [من الطويل] إذا شئتَ أَنْ تُعْطي الأمورَ حقوقَها ... وتوقعَ حُكْمَ العَدْلِ أحسنَ مَوْقعِهْ فلا تَصْنَعِ المعروفَ مَعْ غيرِ أهله ... فظُلْمُكَ وَضْعُ الشَّيء في غير مَوْضِعِهْ (¬4) وقال: [من الخفيف] كلَّ يومٍ يسعى إلى المُلْكِ قومٌ ... في ازديادٍ وعُمْرهُمْ في انتقاصِ شَرَكٌ هذه الأماني فيا لـ ... ـــلَّهِ كَمْ واقعٍ بغير خلاصِ وقال: [من الرمل] أَقْرَضُوني زمنًا قُرْبَهُم ... واستعادوا بالنَّوى ما أَقْرَضُوا أنا راضٍ بالذي يُرْضيهمُ ... ليتَ شِعْري بتلافي هل رضوا وقال في وصف دمشق: [من الطويل] دمشقُ سَقَاك الله صَوْبَ غمامةٍ ... فما غائبٌ عنها لديَّ رشيدُ عسى مُسْعِدٌ لي أن أبيتَ بأَرْضها ... على أنني لو صحَّ لي لسعيدُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" بداية قسم شعراء الشام: 113 - 133، و"الكامل": 11/ 491، و"كتاب "الروضتين": 3/ 126 - 133، "وفيات الأعيان": 2/ 452 - 453، و"النجوم الزاهرة": 6/ 93. (¬2) ما بين حاصرتين من "الروضتين": 3/ 129. (¬3) في (ح): "فمن شعره" والمثبت من (م) و (ش). (¬4) "الخريدة": 115.

[وله أشعار كثيرة مدونة، وكانت] (¬1) وفاته بدمشق في جُمادى الأُولى، ودُفِنَ بقُبَّته على المَيْدَان في الشَّرف الشَّمالي، وكان [السُّلْطان] (¬2) قد عبر الفرات، فأبقى بَعْلَبَكَّ على ولده الملك الأمجد بَهْرام شاه، وبعث شمس الدِّين ابن المقدَّم نائبًا عنه بدمشق. وللعماد الكاتب فيه عدة قصائد، منها: [من الكامل] أَأَحِبَّتي إنْ غِبْتُ عنكُمْ فالهوى ... دانٍ لقلبٍ بالغرامِ مُوَلَّهِ أما عُقودُ مدامعي فلقد وَهَتْ ... وأَبَتْ عقودُ الودِّ مني أَنْ تَهِي لا تَنْهَني يا عاذلي فأنا الذي ... تَبِعَ الهوى وأتى بما عنه نُهي قد قُلْتُ للحادي وقد نادَيتُهُ ... في مَهْمَهٍ أَقْصِرْ وَصَلْتَ مهٍ مَهِ وهي ثمانون بيتًا (¬3). وقد عارَضَها الشَّيخ تاج الدين الكِنْدي، فقال من أبيات: [من الكامل] هل أنتَ راحمُ عَبْرَتي وتولُّهي ... ومجيرُ صَبٍّ عند مَأْمَنِهِ دُهي مَنْ بَلَّ من داءِ الغرام فإنني ... مُذْ حَلَّ بي مرض الهوى لم أَنْقَهِ يا مُفْردًا في الحُسْن إنَّك منتهٍ ... فيه كما أنا في الصَّبابة منتهي قد لامَ فيك معاشرٌ أفأنتهي ... باللَّوْمِ عن حُبِّ الحياة وأنتَ هي قال المصنِّف رحمه الله: وأنشدني المهذَّب أبو الدُّرِّ الرُّومي (¬4) سنة ستٍّ وتسعين وخمس مئة أبياتًا منها (¬5): [من الكامل] أتظنُّني أَسْلُو هواكَ وأنتهي ... عن حُبَّةٍ تحيي النّفوس وأنتَ هي بَرِحَ الخَفَاءُ وشاب صبري في الهوى ... ووهى، وها عزماتُ وَجْدي لم تهي يا منتهٍ في حُسْنه وجماله ... فَرْدًا كما أنا في الصَّبابة منتهي ¬

_ (¬1) في (ح): وكان وفاته، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) انظر "خريدة القصر" بداية قسم شعراء الشام: 119 - 128. (¬4) أبو الدر الرومي: هو ياقوت بن عبد الله، شاعر مشهور في ذلك العصر، كان من أهل النظامية، توفي سنة (622 هـ)، ترجمته في "السير": 22/ 308 - 309. (¬5) كذا في (ح)، والأبيات هي لأبي الدر، فلعل "منها" محرفة عن: مثلها، والله أعلم.

مسعود بن محمد بن مسعود

إن لم يكن لمحبِّك الروميِّ في ... فِعْلِ الوفاءِ مشابهٌ فَتَشَبَّهِ مسعود بنُ محمد بن مسعود (¬1) أبو المعالي، القُطْب النَّيسابوري، الفقيه الشَّافعي. ولد سنة خمسٍ وخمس مئة بنيسابور، [وأبوه من طُرَيثيث] (¬2)، وتفقَّه [القطب بنيسابور] (2) وسمع الحديث، ودرَّس بنظامية نَيسابور نيابةً عن ابن بنت الجُوَيني. وقد قَدِمَ دمشق سنة أربعين [وخمس مئة] (2)، ووعظ بها، وما كان الوعظ [من] (2) فنه، وحَضَرَ نورُ الدِّين محمود مجلسه (¬3)، ودرَّس بالمجاهدية، ثم بالزَّاوية [الغربية في الجامع] (2) بعد وفاة نَصْر المقدسي، ثم سافر إلى حلب، ودرَّس بالمدرستين اللتين لنور الدين وأسد الدين، ثم عاد إلى دمشق، فحدَّث بها ودرَّس، وتوفي يوم عيد الفطر، وصُلِّي عليه بجامع دمشق، وكان يومًا مشهودًا، ودُفِنَ بمقابر الصوفية عند المُنَيبع، [وتزوج الفخر ابن عساكر ابنته، وذكره الحافظ ابن عساكر وأثنى عليه، وقال: ] (2) وكان حَسَنَ العِشْرة، كريمَ الأخلاق، متواضعًا، متردِّدًا إلى النَّاس، قليلَ التصنُّع، [سمع بنيسابور من هبة الله بن سهل وغيره، ورأى أبا نصر القشيري والمشايخ، وكان صالحًا ثقة صدوقًا] (2). ممدود الدهبي البغدادي (¬4) كان مجابَ الدَّعْوة، اتُّهم بسرقةٍ، فأُتي به إلى باب النُّوبي، ومُدَّ ليضرب، فرفع النَّقيب يده ليضربه، فيبست يده، فقال له حاجب الباب: ما لك؟ فقال: قد يبست يدي، فرفعوه من الأرض، فعادت يدُه صحيحة، فمدَّده، وعاد النقيب ليضربه، فيبست يده، فعلوا به ذلك ثلاثَ مرَّات، فلما كان في الثَّالثة بكى حاجبُ الباب، وقام له، وأجلسه إلى جانبه، واعتذر إليه، وكتب إلى الخليفة، فأخبره بأمره، فأمر أن يحسن إليه. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 5/ 196، و"المختصر المحتاج إليها": 3/ 190، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 106 - 109، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) كان ذلك حين قدومه دمشق زمن نور الدين سنة (568 هـ)، انظر"كتاب الروضتين": 1/ 43، 2/ 263. (¬4) له ترجمة في "شذرات الذهب": 4/ 263.

هاشم بن المستضيء

هاشم بن المستضيء أبو منصور، أخو الإمام النَّاصر، كان شابًّا حسنًا دَيِّنًا، [وأشار ابن العطار بتوليه الخلافة، فلم يتمَّ له] (1)، توفي في شعبان، ودفن عند أبيه [المستضيء] (¬1). يوسف بن عبد المؤمن بن علي (¬2) أبو يعقوب، صاحب المغرب، أمير الموحِّدين. كان حَسَنَ السِّيرة، عادلًا دَيِّنًا، ملازمًا للصَّلوات الخمس، لابسًا للصُّوف، مجاهدًا في سبيل الله [(¬3) واختلفوا في وفاته على قولين: أحدهما] أن ألفنش ملك طُلَيطلة أغار على بلد الأندلس، فعدَّى إليه يوسف في مئتي ألف وثمانين ألفًا، ونزل على مدينة الفنش، فخامر عليه وزيره ابنُ المالِقي، فقال للعساكر: إنَّ أمير المؤمنين يأمركم أن تغدوا إلى مراكش، وهو واصلٌ خلفكم، فساروا، وبقي في نفرٍ يسير، فقال لابنِ المالقي: ما سبب هذا؟ قال: [إنهم] قد خامروا. وبعث [ابن المالقي] (1) إلى الفنش يقول [له] (1): ما عنده أحد، فجاء [الفنش] (1) في عساكره، فركب يوسف والتقاه، فَطُعِنَ في جَنْبه، فمات بعد يومين. [(¬4) والثاني: أنه مرض ولم يقتل، ذكره عبد المنعم بن حسان الأندلسي في "تاريخه"، وقال: وفي سنة ثمان وسبعين وخمس مئة جاز أبو يعقوب يوسف إلى الأندلس في جمع كبير، وحاصر مدينة يقال لها شنترين]، فأصابه مرض، فتوفي في ربيع الأول (¬5)، وحمل إلى إشبيلية، وكانت إمارته اثنتين وعشرين سنة، وماتَ عن غير وصية، فأجمع رأي مشايخ الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تقديم ولده [أبي يوسف] (1) يعقوب، فبايعوه. وقيل: مات سنة ثمانين [وخمس مئة] (1)، فكتم ولده يعقوب وفاته، ثم أظهرها، ولقب نفسه بالمنصور، [وسنذكره في سنة خمس وتسعين] (1)، ولم يكن في بني عبد المؤمن مثل يعقوب [هذا، رحمة الله عليه] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ترجمته في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" للمراكشي: 309 وما بعدها، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 98. (¬3) في (ح): وسبب وفاته أن الفنش ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): وقيل إنه حاصر مدينة شنترين، فأصابه مرض، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (م) و (ش): "الآخر".

السنة التاسعة والسبعون وخمس مئة

السَّنة التَّاسعة والسبعون وخمس مئة في يوم الأحد عاشر المحرَّم تَسَلَّم السُّلْطان آمِد، ودخل إليها، وجلس في دار الإمارة، ثم سَلَّمها وأعمالها إلى نور الدين محمد بن قرا رسلان، وكان وَعَدَه بها لما جاء إلى خدمته. ذِكْرُ طرفٍ من أخبارها: كان مدبِّرها قديمًا مؤيَّد الدِّين عليَّ بن نيسان، وتوفِّي، فتولَّى أمرها ولدُه مسعود بن علي، وكان لآمد أميرٌ قديم يقال له: إيكلدي من أيام السَّلاطين القدماء، وكان شيخًا كبيرًا، وله ولد اسمه محمد صغير، ومات إيكلدي وحكم مسعود على محمد، وكان [يظهر] (¬1) أَنَّه يحفظ عليه آمِد، وكان نورُ الدّين يدَّعي أنها أُخذت من أبيه قرا رسلان أو من جدِّه، وأقام أبوه قرا رسلان يحاصرها زمانًا، فلم يقدر عليها، ومات بحسرتها، ولما أخذها صلاحُ الدِّين خرج الرئيس محمود بن علي ومحمد بن إيكلدي منها بأموالهما وحريمهما إلى المَوْصل، وأعانهما صلاحُ الدين بدوابّ تنقل بعض قماشهما، فحملا ما خَفَّ حمله، وعَجَزَا عن حمل كثيرٍ من الذَّخائر والأسلحة. وكتَبَ الفاضل إلى الخليفة كتابًا في الفَتْح، منه: والخادم يتوقَّع في جواب هذا أن يُمَدَّ بجيشٍ هو الكلام، ورِماحٍ هي الأقلام، وليس ذلك لوسائل تقدَّمت من دولةٍ أقامها بعد مَيلِ عروشها، ولا لدعوةٍ قام فيها بما تصاغَرَتْ دونه هِمَمُ جيوشها، بل لأن هذه الجزيرة الصَّغيرة منها تنبعث الجريرة الكبيرة، وهي دارُ الفُرْقة ومدار الشُّقَّة، ولو انتظمتْ في السِّلْك لانتظمَ جميعُ عسكر الإسلام في قتال أهل الشِّرْك، ولكان الكُفْرُ ينقلب على عقبيه، ويُلْقي بيديه، ويُغْزى من مِصْر برًّا وبحرًا، [ومن الشام] (¬2) سرًّا وجهرًا، ومن الجزيرة مَدًّا وجَزْرًا. وفي المحرَّم عادَ السُّلْطان، فقطع الفرات قاصدًا إلى حلب، واجتاز في طريقه بعين تاب، وبها ناصحُ الدِّين محمد بن خُمارتكين، فنزل إليه، وقام بالضِّيافة فأبقاها عليه، وجاءه ابنُ السَّاعاتي، فأنشده أبياتًا منها: [من البسيط] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من "الروضتين": 3/ 155 يقتضيها السياق.

فانهضْ إلى حلب في كلِّ سابقة ... سُرُوْجُها قُلَلٌ تُغْني عن القُلَلِ ما فَتْحُها غيرُ إقليدِ الممالك والدَّ ... اعي إليه جميعُ الخَلْقِ والمِلَلِ (¬1) فنازل حلبَ في سادس عشرين المحرَّم، ونزل بالمَيدان الأخضر، وباشر القتال بُكْرةً وعشيًّا، وزحف يومًا أخوه تاج الملوك بُوري، فجاء سهمٌ في عينه، فحُمِلَ مريضًا، فمات في الثَّالث والعشرين من صفر، ثم عَلِمَ عماد الدين زَنْكي أَنَّه لا طاقةَ له به، وضجَّ من اقتراح الأمراء عليه، فقال لحسام الدين طُمان: اخرج إلى صلاح الدين وسَلْه في الصُّلْح. [فخرج سرًّا، ولم يعلم به أحد، فقرر الصلح] (¬2) وأن يردَّ عليه سنجار وأعمالها والخابور ونصيبين، ويسلم إليه قلعة حلب، وعَلِمَ النَّاسُ، فأصبح الأمراء، فخرجوا إلى صلاح الدِّين، فخلع عليهم، وجَعَلَ أهل حلب تحت القلعة إجَّانة وثيابًا وصابونًا، وصاحوا على عماد الدين: يا فاعل، يا صانع، انزل، فاغسلِ الثياب مثل المخانيث، ما يصلح لك غير هذا. وعملوا فيه الأشعار، [وغنوا بها في الأسواق] (2)، منها: [من المتقارب] وبعتَ بسنجارَ خيرَ القِلاع ... ثَكلتُكَ من بائعٍ مشتري [(¬3) فلما كان اليوم الثالث والعشرين من صفر توفي تاج الملوك أخو السلطان، فحزن عليه حزنًا عظيمًا، وجلس للعزاء، ونزل إليه عماد الدين، فالتقاه السلطان، وأكرمه وأخدمه]، وقدَّم له الخيول العِتاق والتُّحَف الجليلة، وعاد [عماد الدين] إلى القلعة، وأقام السُّلْطان كئيبًا حزينًا على أخيه، وكان يبكي ويقول: ما وَفَتْ حلب بشعرة من أخي. [وقيل: إنه قال: ما غلت حلب ببوري، والأول أليق بالسلطان، لأنه ما كان في البيت مثل بوري] (2). ¬

_ (¬1) ديوان ابن الساعاتي: 2/ 382 - 384. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): ولما مات بوري حزن عليه السلطان وخدمه وأكرمه وقدم له ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وسار عمادُ الدِّين إلى سنجار من يومه، وأقام السُّلْطان بالمخيَّم غير مكترث بحلب لما جرى عليه من وفاة أخيه، ثم صَعِدَ إلى القلعة سَلْخ صفر، فأنشده ابن القاضي زكي الدين محمد بن علي القُرَشي قاضي [قضاة] (¬1) دمشق أبياتًا، منها: [من البسيط] وفتحكُمْ حلبًا بالسَّيفِ في صفرٍ ... مبشِّرٌ بفتوح القُدْس في رَجَبِ [(¬2) فعجب الناس من رمية من غير رام، فكان -كما قال ولكن بعد أربع سنين]- الذي خطب بالقُدْس لما فتحه السُّلْطان، وولى السلطان القضاء بحلب محيي الدِّين بن زكي الدين، والقلعة سيف الدين أزكش، والدِّيوان ناصح الدِّين إسماعيل ابن العميد، وأعطى تل باشر وتل خالد لبدر الدين دُلْدُرم بن بهاء الدين بن ياروق، وأعطى قلعة عَزَاز لعلم الدين سليمان بن جَنْدَر، ثم رحل عن حلب يوم السبت ثاني عشرين ربيع الآخر، ودخل دمشق ثالث جمادى الأُولى، فأقام بها أيامًا، ثم خرج إلى الفَوَّار، فأقام به على رأس الماء. وفيها بعث الخليفة عسكرًا إلى دقوقا، فأخذها. وفيها عصى بهاءُ الدين يوسف بن زين الدين علي كوجك بإربل على المواصلة، وكاتب السُّلْطان، وانتمى إليه، فبعثَ إليه منشورًا بإربل، وعصى سنجرشاه بن سيف الدين غازي بالجزيرة، وهو صبيٌّ صغير، وسببُ هذا أَنَّ مجاهد الدين قَيماز النَّائب بالمَوْصل كان وصيَّ زين الدين وسيف الدين على ولديهما بإربل والجزيرة، فأشار محمود بن زلفَنْدار على عِزِّ الدِّين مسعود بالقبض على مجاهد الدين قيماز حسدًا منه له، فقبض عليه، فاختلتْ أمورُ البلاد وعَصَتْ عليه، فأطلقه، وولَّاه قلعة المَوْصل، وأحسنَ إليه، وقَبَضَ على ابن زلفَنْدار وعلى كلِّ مَنْ أشار [عليه] (¬3) بقبض مجاهد الدين. وفيها كانت غَزَاة بَيسان: رحل السُّلْطان من الفَوَّار في جُمادى الآخرة، فنزل بَيسان وقد هَرَبَ أهلها، فقدَّم بين يديه جُرْديك النُّوري، وجاولي الأسدي وجماعة من ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): فكان كما قال بعد أربع سنين، وعجب الناس، وهو الذي خطب ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

النُّورية، فجاؤوا إلى عين الجالوت والفرنج على الفولة، فصادفوا على عين الجالوت طائفةً من الفرنج، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا مئة فارس، ورحل السُّلْطان إلى الفولة يطلب المصافّ، فتحصَّن الفرنج بالرَّاجل، ولم يخرج منهم أحد، فرحل السلطان إلى الطُّور، فلما كان في الليل ساروا طالبين عكا، ورحل السُّلْطان خلفهم يقاتل السَّاقة، فقتل منهم جماعةً، ودخلوا عكا، فعاد السُّلْطان على صفد، فنهب وأحرق، وعاد إلى دمشق. ثم خرج في رجب إلى الكَرَك، وكان أخوه العادل قد كَتَبَ إليه أن يعوِّضه بحلب عوض مِصْر، فكتَبَ إليه أن يوافيه على الكَرَك، فالتقيا على الكَرَك، ونَصَبَ السُّلْطان عليها المجانيق، وحشد الفرنج ونزلوا [الواله] (¬1) قريبًا من الكرك، فرأى السُّلْطان أن حصار الكرك يطول، فعاد إلى دمشق ومعه أخوه العادل، فأعطاه حلب، فسار إليها، وبها الملك الظاهر ولد السُّلْطان وسيف الدين أزكش، فسلَّماها إليه، وقدم الظاهر دمشق ومعه أزكش في شوال، وأقام الظاهر في خدمة أبيه، راضيًا في الظَّاهر، وفي الباطن ما فيه. وفيها وصل عبدُ الرَّحيم شيخُ الشيوخ من بغداد رسولًا إلى صلاح الدِّين، ومعه محيي الدِّين أبو حامد محمد بن قاضي القضاة كمال الدين الشَّهْرُزُوري رسولًا من المواصلة، فأغلظ [محيي الدين] (1) للسلطان وقال: [(¬2) تحلف لعز الدين أن هذه] الجزيرة وما يقطع الفرات من ناحية المشرق يكونوا مضافين إلى عز الدين، ولا تعلُّق لك بهم، وإلا جاء البهلوان وملوك العجم إليك، واتفقوا عليك. فغضب السُّلْطان وقال: أنا قاصدٌ إليكم، فإذا فرغت منكم سرت إلى البهلوان. وفي ذي الحِجَّة أمر الخليفة أن لا يستخدم في الديوان يهودي ولا نَصْراني، ولا يُسْتعان بهم في عملٍ من الأعمال، فأُنهي أن ابن زطينا اليهودي ليس له نظيرٌ في الكتابة، فكَتَبَ على المطالعة: مات ابن زطينا، أيش نعمل؟ نبطل الديوان؟ فأسلم ابن زطينا يومئذٍ. وحجَّ من العراق طاشْتِكِين. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): "يحلف أمراء له على أهل الجزيرة"، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

بوري بن أيوب

وفيها توفي بوري بن أيوب (¬1) تاج الملوك، أبو سعيد. ولد في ذي الحِجَّة سنة ستٍّ وخمسين وخمس مئة، وكان الله قد جَمَعَ فيه محاسن أخلاق ومكارم وشيم، ولطف طباع، وكرمًا وشجاعة، وفضلًا وفصاحةً، وكان أديبًا شاعرًا مترسِّلًا، وله ديوانُ شعر. [(¬2) وذكره العماد الكاتب في "الخريدة"، وأثنى عليه، وأنشد مقطعات من شعره، منها في رمضان]: [من الكامل] رمضانُ بل مرضانِ إلا أَنَّهم ... غَلِطُوا إذًا في قولهم وأساؤوا مرضانِ فيه تحالفا فنهارُهُ ... سُلٌّ وأمَّا ليلُه استسقاءُ وقال: [من الوافر] شَرِبْتُ من الفراتِ ونيلُ مِصْرٍ ... أحبُّ إليَّ من شَطِّ الفرات ولي في مِصْرَ مَنْ أَصْبُو إليه ... ومن في قُرْبه أبدًا حياتي فقلتُ وقد ذكرتُ زمانَ وَصْلٍ ... تمادى بعده روحُ الحياةِ أرى ما أَشْتَهِيه يفرُّ مني ... ومن لا أَشْتَهِيه إليَّ يأتي وقال [وقد بالغ] (¬3): [من الخفيف] يا غزالًا يُميت طورًا ويُحيي ... وَهْوَ بُرْءُ السَّقام سُقْمُ الصَّحيحِ هذه المعجزاتُ ليست لظَبْي ... إنما هذه فِعالُ المسيحِ وعاش ثلاثًا وعشرين سنة وشهورًا. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الخريدة: " بداية قسم شعراء الشام: 134 - 139، و"الروضتين": 3/ 166، "وفيات الأعيان": 1/ 290 - 292، و"النجوم الزاهرة": 6/ 96، و"شذرات الذهب": 4/ 265. (¬2) في (ح): فمنه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن بختيار بن عبد الله

محمد بن بختيار بن عبد الله (¬1) أبو عبد الله الأبله الشَّاعر، وإنَّما سُمِّي الأبله لذكائه، [وهو من الأضداد] (¬2)، كان خبيثَ اللِّسان، هَجَّاء، [(¬3) هجا أباه وأمه وأخاه، وقد ذكرناه في ترجمة الوزير (¬4) وقد ذكره أبو المعالي الكتبي في "ملح الملح"، وقال: من شعره في رجل كفل يتيمًا، وكان منهومًا بالغِلْمان]: [من مجزوء الكامل] يا ذا الذي كَفَلَ اليتيـ ... ـــــــــمَ وقَصْدُه كِفْلُ اليتيمِ إن كنتَ تَطْمَعُ في النَّعيـ ... ــــمِ فقد حَصَلْتَ على الجحيمِ [ذكر واقعة عجيبة جرت له] (2): كان الأبله يصحب حاجب الباب ابن الدوامي ويمدحه، خَرَجَ معه إلى بُسْتان بباب مُحَوِّل، وكانت ليلة مُقْمرة [(¬5) فأخذ ينشد لابن الدوامي قصائد، منها]: [من المديد] زار من أحيا بزَوْرته ... والدُّجى في لون طُرَّتِهِ قمرٌ يثني معانِقُهُ ... بانةً في ثِنْي بُرْدَتِهِ يا لها من زَوْرَةٍ قَصُرَتْ ... فأماتتْ طُولَ جَفْوَتِهِ بتُّ أستجلي المُدام على ... غِرَّة الواشي وغُرَّتِهِ حين حلَّتْ عَقْدَ مُصْطبري ... عُقَدٌ من سحر مُقْلَتِهِ فلما أنهاها قال له ابنُ الدوامي: يا حُجَّة العرب، هذه القصيدة لك؟ فقال: نعم. فصاح صائحٌ من داخل البُسْتان: يكذب، ما هي له. فخاف ابنُ الدوامي وغِلْمانُه، وقاموا إلى الباب وهو مُغْلق، فطافوا البُسْتان، فلم يَرَوْا أحدًا، فعادوا وجلسوا، فقال له ابنُ الدوامي: أنشدنا أخرى، وأنشده، فقال له: هذه لك؟ قال: نعم. فصاح ذلك الصَّوت بعينه: يكذب، ما هي ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 11/ 503، و"كتاب الروضتين": 3/ 202، و"وفيات الأعيان": 4/ 463 - 465، و"الوافي بالوفيات": 2/ 244 - 246. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): ومن شعره في رجل كفل يتيمًا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) يعني ابن هبيرة. (¬5) في (ح): فأنشده، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الثمانون وخمس مئة

له. فقاموا وفتَّشوا، فلم يروا أحدًا، فقال: أنشدنا أخرى، فأنشده ثالثة، فقال: هذه لك؟ قال: نعم. فصاح ذلك الصَّوت بعينه: يكذب، ما هي له، فقال له الأبله: فخبِّرْه ما هي لي، فلمن هي؟ فقال: لي. قال: ومَنْ أنتَ؟ قال: شيطانك الذي أعلمك قول الشِّعْر، فقال له: صَدَقْتَ، والله يحفظك عليَّ، ولا يفرق بيني وبينك. وقال أبو الدر الرُّومي الشَّاعر: مَرِضَ الأَبْله، فدخلت [عليه] أعوده، فقال: ما بقيتُ أقدر أنظم شيئًا. قلتُ: فما سببه؟ قال: لا شك أَنَّ تابعي قد مات، وتوفي بعد ذلك في جُمادى الآخرة، وترك ثلاثة آلاف دينار. [قلت: والدليل على صحة هذه الحكاية قول الشاعر: [من الرجز] إني وكلُّ شاعرٍ من البَشَرْ ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكرْ] (¬1) السنةَ الثَّمانون وخمس مئة [وفيها كتب زين الدين ابنُ نُجَيَّة الواعظ من مصر إلى صلاح الدين يشوِّقه إليها، وكان السلطان بدمشق، قال: أدام الله أيام مولانا السلطان الملك الناصر، وقرنها بالتأييد والنَّصر والتسديد، أترى ما يشتاق مولانا إلى مصر ونيلها، وخيرها وسلسبيلها، ودار مُلْكه ودارة فلكه، وبحرها وخليجها، ونشرها وأريجها، ومقسم مقاسمها، وأُنس إيناسها، وقصور مُعِزِّها ومنازل عِزِّها، وجيزتها وجزيرتها، وبَرَكتها وبِرْكتها، وتعلق القلوب بقَلْيُوبها، واستلاب النفوس بأسلوبها، وملتقى البحرين، ومُرْتقى الهرمين، وروضة جِنانها، وجَنَّة رِضْوانها، ومشاهدها ومجامعها، ومساجدها وجوامعها، ونواظر بساتينها، ومناظر ميادينها، وساحات سواحلها، وآيات فضائلها. وذكر ابن نُجية كلامًا طويلًا من هذا الجنس. فكتب إليه السلطان: ورد كتاب الفقيه زين الدين -أدام الله توفيقه- لا ريب أن ساكن الشام أفضل، وأن أجر ساكنه أجزل، وأن القلوب إليه أميل، وأن زلاله البارد أعل وأنهل، وأن الهواء في صيفه وشتائه أعدل، وأن الجمال فيه أجمل، والجمال به أكمل، وأن القلب به أروح، والروح به أقبل، ودمشق فعاشقها مستهام، وما على ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محبها ملام، وما في ربوتها ريبة، ولكل نور بها شيبة، وساجعاتها على منابر الورق خطباء تطرب، وهزارتها وبلابلها تعرب وتعجم، وكم فيها من جواري ساقيات، وسواقي جاريات، وثمار بلا أثمان، وروح وريحان، وفاكهة ورمان، وخيرات حِسان، وكون الله تعالى أقسم به فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيتُونِ} [التين: 1]، يدل على فضله المكنون، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الشام خيرة الله من أرضه يسوق إليها خيرته من عباده" (¬1)، وعامة الصحابة اختاروا المقام بالشَّام، وفتحُ دمشق بكر الإسلام، وما ننكر أن الله ذكر مصر، ولكن على لسان فرعون بقوله: {أَلَيسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51] لكن هذا خرج مخرج العَتْب له والذم، ألا ترى أن يوسف - عليه السلام - نقل منها إلى الشام. ثم المقام بدمشق أقرب إلى الرباط، وأوجب للنشاط، وأين قطوب المقطم من سناء سَنِير؟ وأين ذُرى مَنْف من ذروة الشرف المنير؟ وأين لبانة البيان من الهرمين، وهل هما إلا مثل السلعتين؟ وهل للنيل مع طول نيله وطول ذيله برد بردى في نقع الغليل؟ وما لذاك الكثير طلاوة هذا القليل، وإذا فأخرنا بالجامع وقبة النسر ظهر بذلك قِصَرُ القَصْر، ولو كان لهم مثل باناس لما احتاجوا إلى قياس المقياس، ونحن لا نجفو الوطن كما جفاه، ولا نأبى فضله كما أباه، وحب الوطن من الإيمان، ونحن لا ننكر أن إقليم مصر إقليم عظيم الشان، ولكن نقول كما قال المجلس الفاضلي: إن دمشق تصلح أن تكون بستانًا لمصر، ولا نشك أن أحسن ما في البلاد البستان، ولعل زين الدين يرجع إلى الحق، ويوافق على ما هو الأحق. قلت: عاب السلطان على ابن نُجية كون أصله ومنشئه دمشق، وفضَّل عليها مصر، وليست من طارفه ولا من تلاده، وقد كان أولى أن يتشوق إلى السلطان من غير وصف لما فيه مضاهاة لوطنه وبلاده] (¬2). وفيها عَزَلَ الخليفة وزيره ظهير الدين أبا الفتح بن صَدَقَة، وكان نائبَ الوزارة، ورتَّب مكانه أبا الفَتْح محمد بن عبد الملك، فأقام إلى سنة ثلاثٍ وثمانين، وولَّى كمال الدين أبا الفتح أحمد بن هُبيرة حِجْبة الباب. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (17005)، وأبو داود في سننه (2483) من حديث عبد الله بن حوالة، ولفظه: "عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبى إليها خيرته من عباده". (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

إيلغازي بن ألبي

وفيها هَجَمَ السُّلْطان نابُلُس؛ كانت عساكر الشَرْق قد وصلت إليه لنجدته: نور الدين قرا رسلان صاحب الحِصْن وآمِد، وعسكر دياربكر، ومظفر الدِّين، والعادل من حلب، وتقيّ الدين عمر، فخرج من دمشق، فنازل الكَرَك، ونَصَبَ عليها المجانيق، وكان من أكبر مهامِّه فتحه لكونه على طريق مِصْر، وبلغ الفرنج، فجمعوا الفارس والرَّاجل، وقصدوه، فنزلوا الواله قريبًا من الكَرَك، فاغتنم السُّلْطان خُلُوَّ السَّاحل منهم، فسار على البَلْقاء، ونَزَل الغور، وهَجَمَ نابلس، فقتل وسبى، ونزل على سَبَسْطِيَة، وبها [جماعة من] (¬1) الرُّهْبان والأقسَّاء، وعندهم الودائع، فطلبوا منه الأمان، وأن يُطْلقوا ما عندهم من الأُسارى، فأَمَّنهم، ثم سلك الغَوْر، وطلع على عقبة فيق، وعاد إلى دمشق، وكان عنده شيخ الشيوخ عبد الرَّحيم وبشير الخادم رُسُل الخليفة مَرْضى، فطلبوا العَوْدَ إلى بغداد، فأَذِنَ لهم، فمات بشير بالسُّخنة، وشيخ الشيوخ بالرَّحبة. وحج بالنَّاس من العراق طاشْتِكِين. وفيها توفي إيلغازي بن ألبي (¬2) ابن تمرتاش بن إيلغازي بن أُرْتُق، قُطْب الدين؛ صاحب مارِدِين، كانت وفاته في جُمادى الآخرة، وخلَّف ولدين صغيرين، وكان جَوَادًا، شجاعًا عادلًا، مُنْصِفًا عاقلًا. الحسين بن علي (¬3) [بن أحمد] بن عبد الواحد بن شبيب، أبو عبد الله الطِّيبي، سَعْد الدين، صاحب المخزن، كان فاضلًا، عند المستنجد بمنزلة النَّديم والسمير. ومن شعره: [من الطويل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الكامل": 11/ 508، و "كتاب "الروضتين": 3/ 222 - 223، و"الوافي بالوفيات": 10/ 26 - 27، و "النجوم الزاهرة": 6/ 97. (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 2/ 187 - 195، و "معجم الأدباء": 10/ 126 - 147، و"فوات الوفيات": 1/ 377 - 381، و"الوافي بالوفيات": 12/ 447 - 451، وما بين حاصرتين من مصادر ترجمته.

عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبي سعد

فأنقَذَ مِصْرًا من يدي كلِّ كافرٍ ... لنعماه لا عَقْلٌ لَدَيه ولا دِينُ إذا ما أرادَ الله إهباطَ دَوْلةٍ ... تبيذقَ منها في الدّسوتِ فرازينُ (¬1) ولما مضى فِرْعَوْنُها فَرَّ عَوْنُها ... وأدركَها موسى الكليمُ وهارونُ وقد بقيتْ في نفس يعقوبَ حاجةٌ ... إلى سَيفك الماضي هي الغَرْبُ والصِّينُ (¬2) وقال: [من الطويل] صُنِ النَّاس عمَّن مَدَّ كَفًّا إليهمُ ... بسوءٍ تَفُزْ بالحَمْدِ بين الخلائقِ فما اكتسبَ النُّعْمانُ ذِكْرًا مخلَّدًا ... على الدَّهْرِ إلا صونه للشَّقائِقِ وقال: [من الكامل] ومُدامةٍ رَقَصَتْ لنا من دَنِّها ... بزجاجةٍ فخبا سنا المِصْباحِ نَظَرَ الحكيمُ فلم يشكَّ بأَنَّها ... شمسٌ بَدَتْ في غُرَّة الإصباحِ وكانت وفاتُه في ربيع الآخر ببغداد. عبد الرَّحيم بن إسماعيل بن أبي سَعْد (¬3) أبو القاسم النَّيسابوري، شيخ الشيوخ ابن شيخ الشيوخ، ولقبه صَدْر الدِّين. ولد سنة ثمانٍ وخمس مئة، وتوفي أبوه سنة إحدى وأربعين، فولي مشيخة الشيوخ إلى حين توفي في رحبة ملك بن طَوْق، وقد عاد من عند صلاح الدين في شعبان، ودُفِنَ إلى جانب موفق الدين محمد الرَّحْبي، وكان فاضلًا مترسِّلًا بين الخليفة وصلاح الدين، وكان يَلْبَس الثِّياب الفاخرة، ويتخصص بالأطعمة، فكان أهل بغداد يعيبون عليه حيث لم يسلك طريق المشايخ في التعفُّف عن الدُّنيا، والقناعة منها باليسير، مع لبسه القصير، والتزيي بزِيِّ الصُّوفية، حتى هجاه محمود النعال في كان وكان، من أبيات: كذا طريق الشِّبْلي مع الجنيد أي ... شيخنا يأكل حمل وحملاوه معه دجاج سمين ¬

_ (¬1) تبيذق: أي صار بيذقًا، والفرازين جمع، مفرده فرزان، وهو بمنزلة الوزير للسلطان، واللفظان من اصطلاح الشطرنج. (¬2) القصيدة في "الخريدة": 2/ 189. (¬3) له ترجمة في "كتاب "الروضتين": 3/ 210 - 211، و"وفيات الأعيان": 7/ 88، و"مفرج الكروب": 3/ 257، و"النجوم الزاهرة": 6/ 97.

محمد بن قرا أرسلان

تبعت سنة نبيك تطيب ثوبك بطيب ... وللدّنا تجمع كذا شروط الدِّين وعُمِلَ العزاء ببغداد والمَوْصل ودمشق، ورثاه ابنُ المنجم المِصْري، فقال: [من المديد] يا أخِلَّائي وحقِّكُمُ ... ما بقي مِنْ بعدكُمْ فَرَحُ أيُّ صَدْرٍ في الزَّمان لنا ... بعد صَدْرِ الدِّين يَنْشَرِحُ وولي مشيخة الرباط بعده صفي الدِّين إسماعيل. محمد بن قرا أرسلان (¬1) نور الدين صاحب حِصْن كيفا الذي أعطاه صلاح الدين آمِد، ترك ابنه قطب الدين سُكْمان (¬2) صغير، عمره عشر سنين. أبو طاهر بن عوف (¬3) مدرِّس المالكية بالإسكندرية، كان يروي "الموطأ"، وكان شيخًا فاضلًا، صالحًا، وعمَّر طويلًا. السنة الحادية والثمانون وخمس مئة فيها قطع السُّلْطان الفرات، ونَزَل على حَرَّان سادس عشرين صفر، وكان مُظَفَّر الدِّين بن زين الدين يكاتبه، ويحثه على قَصْد الجزيرة، ويقول: عندي كل ما تحتاج إليه من المال والغرامات، وأحمل إليك خمسين ألف دينار. فلما قَطَعَ الفرات لم يَرَ شيئًا من ذلك، وقيل له: قد مال إلى المواصلة، فأرسل إليه يطلبُ المال، فأنكر، وأشير على السُّلْطان بحمله إلى قلعة حلب، فراسل السُّلْطان وقال: أنا أنزل عما بيدي من البلاد، وأخدمك بقية عمري بغير شيء. فاستقرَّ أن ينزل عن قلعة حَرَّان والرُّها، ويبقى بيده البلدان، فنزل، ثم أعادهما السُّلْطان إليه في آخر السنة. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 4/ 353. (¬2) في (ح): ظهير الدين بن سكمان، وهو تحريف، والمثبت مما يأتي ص 304 من هذا الجزء. (¬3) هو إسماعيل بن مكي بن عيسى بن عوف، وله ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 21/ 122 - 123، و"الديباج المذهب": 1/ 292 - 295، وفيه وفاته سنة (581 هـ).

وسار السُّلْطان، فنزل على المَوْصل وضايقها، وخرج إليه أهلها العوام والخواص، فقاتلوه، وظهروا عليه، وجاءه الملوك: زين الدين بن زين الدِّين من إرْبل، وسنجرشاه صاحب الجزيرة، وعسكر دياربكر، وكان القتال يعمل كل يوم، ويخرج إليه المواصلة عُراةً (¬1) يقاتلون، فبينا هو على ذلك جاءه الخبر بوفاة شاه أرمن صاحب خِلاط، وجاءته كتب مقدَّميها يطلبونه، فشاور الأُمراء، فأشاروا عليه بقَصْدها لما رأوا أَنَّهم لا طمَعَ لهم في المَوْصل، وقالوا: ما تفوت الموصل. فسار إلى خِلاط، وفي مقدِّمته ناصر الدين محمد بن [أسد الدين] (¬2) شيركوه، وتقيّ الدين عمر، فوصلوا مَيَّافارِقين، وبها الأسد يرنقش مملوك صاحب مارِدِين (¬3)، فامتنع عليهم، وقال: أنا وصيُّ يتامى أُستاذي قُطْب الدِّين، وبعد هذا فالأمر للخاتون والدتهم. فأرسل إليها صلاحُ الدين خادمًا، ووعدها أن يتزوَّجها، ويزوج إحدى بناتها بابنه، فأجابته، وسَلَّمت إليه مَيَّافارقين، وأعطاها الهتَّاخ (¬4)، وأعطى يرنقش جبل جور. وكان الحاكم على خِلاط الوزير مجد الدين بن الموفَّق، وهو الذي كاتَبَ السُّلْطان، فبعث إليه الفقيه عيسى ليكشف الحال، فغالطه، وقال: في القلعة سيف الدين بَكْتَمُر وبها ابنة البهلوان زوجة شاه أرمن، وربما جاء البهلوان، فعاد الفقيه عيسى إلى السُّلْطان بغير شيء، وجاء البهلوان بعساكر أذربيجان وهَمَذَان والشَّرْق، ونزل قريبًا من خِلاط، وراسل السُّلْطان يقول: هذه البلاد لابنتي، وهي في القلعة، والمصلحة أن تبقى المودَّة بيننا ودوام الصداقة. فرجع السُّلْطان إلى الجزيرة، ورجع البهلوان إلى بلاده بعد أن حمل إليه سيف الدين بَكْتَمُر أموالًا [وهدايا] (2). وقال العماد: كان قُطْب الدِّين صاحِب مارِدِين قد مات، وبقيت الولاية لابنه الكبير وله عَشْرُ سنين، وكان القائم بتدبيره أسد الدين يرنقش، ومات أيضًا نور الدين صاحب آمِد، وتولى ابنه قطب الدين سُكْمان، فسار السُّلْطان إلى مَيَّافارقين، فعصى عليه ¬

_ (¬1) كأنه يريد أنهم يقاتلون بلا دروع، وكان الحر إذ ذاك شديدًا، انظر"كتابًا الروضتين": 3/ 230. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح) و (م) و (ش): "آمد"، وهو تحريف، والمثبت مما يأتي. (¬4) قلعة حصينة في دياربكر قرب ميافارقين. "معجم البلدان": 5/ 392.

يرنقش، وكان في المدينة الخاتون ابنة قرا رسلان زوجة قُطْب الدِّين سُكْمان صاحب مارِدِين، فأحال يرنقش الأمر عليها، فراسلها السُّلْطان، فأجابته، وطلبت منه الهتَّاخ ليكون عُشًّا لَلفراخ، فأعطاها إياه، وأقبل قطب الدين سُكْمان صاحب آمِد إلى خِدْمته، فأكرمه، ورَدَّه إلى موضعه، وكان معه وزيره أبو [محمد] (¬1) عبد الله بن سماقة. وولَّى السُّلْطان على مَيَّافارِقين ودياربكر مملوكه سُنْقُر الخِلاطي، وعاد إلى المَوْصل، وهذه المرة الثالثة وهي الأخيرة، فنزل الإسماعيلات، وقيل: نزل على كَفْر زَمَّار بدِجْلة، وعَزَمَ على أن يشتِّي بذلك المكان، واستعدَّ المواصلة للحصار، وأشار أُمراء عز الدين مسعود عليه بأن يُخرج إليه النِّساء الأتابكيات يشفعن إليه، فخرجن ومعهن والدة عز الدين [مسعود] (2)، فأكرمهن ووعدهنَّ الإحسان، ولم يقبل شفاعتهن، وقال: قد جعلتُ عماد الدين زَنْكي واسطةً فيما يعود نفعه عليَّ وعليكم. ونَدِمَ على رَدِّهن، وبعث إلى عماد الدين صاحب سنجار في معنى الصُّلْح، فقرَّره عماد الدين، وخُطِبَ للسُّلْطان بالمَوْصل، وأُعطي شَهْرُزُور والبوازيج، ووقف بها قرية [تعرف] (2) ببافيلا على ورثة شيخ الشيوخ ببغداد، ورحل عن الموصل يريد الجزيرة. [قال العماد] (2): وكان [السلطان] (¬2) قد لازم قراءة القرآن في شهر رمضان، واشتدَّ الحر، وأضيف إلى ذلك ندمه على رَدِّ النساء، فمرض مرضًا شديدًا، فتناثر شعر رأسه ولحيته، وقيل: إنه سُقي، وضَعُفَ ضعفًا خِيفَ عليه منه، وأُرجف بموته، وأقام على نَصِيبين وقد يئسوا منه، ثم تماثَلَ، فَحُمِلَ في مِحَفَّة إلى حَرَّان، فنزل ظاهرها، وبنى دارًا سمَّاها دار العافية. وقال ابنُ شَدَّاد: سببُ صُلْح المواصلة للسُّلْطان أَنَّهم استنجدوا بالدِّيوان والبهلوان، وأخرجوا النِّساء إليه، فلم ينفعهم، فلما مَرِضَ رأوا مرضه فُرصة، وعلموا رِقَّة قلبه، فأرسلوني إليه في هذا الأمر، فلما وصلنا إلى المخيَّم وجدناه في حد الإياس، فأقمنا حتى تماثَلَ، وأحضَرَنا يوم عرفة، وحَلَفَ لنا، ودام على يمينه طول عمره (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من "كتاب "الروضتين": 3/ 246، وانظر ترجمته ص 307 من هذا الجزء. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) "النوادر السلطانية": 70.

شاكر بن عبد الله بن محمد

قال المصنِّف رحمه الله: كان الصُّلْح قد تقرَّر، وإنما لم يكن السُّلْطان حَلَفَ حتى جاءه ابنُ شداد والرَّبيب فاستحلفاه، وكان قد شاع أَنَّ المواصلة دَسُّوا عليه من سقاه السُّمَّ، فخافوا، وكان السُّلْطان لما يئس من نفسه أوصى إلى أخيه العادل، وجعل مِصْر للعزيز عثمان، ودمشق للأفضل، وحماة لتقي الدِّين، وقسم البلاد، ولما بَرِئَ وحَلَفَ للمواصلة أرسل إليهم بالهدايا والتُّحف، وجهَّز عِزُّ الدين العساكر في خِدْمة السُّلْطان إلى الجهاد، وَرَدَّ السُّلْطان على مظفر الدين حصن الرُّها وقلعة حرَّان، وسببه أنه لما طلب منه القلعتين بعث مظفر الدِّين نائبه إلى الولاة بالتسليم، فامتنعوا، فقال: قل لهم: بعلامة ما قلت لكم: إنْ أصابني شيءٌ فلا تسلِّموا إلا إلى السُّلْطان ولو بقيت له بنت واحدة. فعلم صلاحُ الدِّين حُسْنَ نيته ومقصده، فردَّهما عليه، وأكرمه. وجاء تقليدُ الخليفة للسُّلْطان بتفويض بلاد الشَّرْق ودياربكر إليه، وعليه علامةُ الخليفة بيده، وصورتها: الناصر الله. ودخل في هذا التوقيع الموصل وغيرها. وكان المنجِّمون بدمشق قد حكموا بأنه تهبُّ رمل مع هواء مزعج يُهلك النَّاس، فحفروا سردابًا وجثوا فيه، وظهر كذبُ المنجمين (¬1). وحج بالنَّاس من العراق طاشْتِكِين. وفيها توفي شاكر بن عبد الله بن محمد (¬2) أبو اليُسْر التَّنوخي المعرِّي: كاتبُ الإنشاء لنور الدين محمود بن زَنْكي. ولد سنة ستٍّ وتسعين وأربع مئة، ونشأ بحماة عند جدِّه القاضي أبي المجد محمد بن عبد الله، وقرأ عليه الأدب، وسَمِعَ الحديث من جدِّه لأُمه أبي عبد الله الحسين بن العجمي بحلب، وكان فاضلًا. ¬

_ (¬1) سيأتي نحو هذا الخبر في حوادث سنة (582 هـ)، وهو الصواب. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 35 - 37، و"معجم الأدباء": 3/ 116، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 145، و"الوافي بالوفيات": 16/ 85 - 87، و "فوات الوفيات": 2/ 96، و"الإنصاف والتحري" لابن العديم: 504 - 505.

عبد الله بن سماقة

قال العماد الكاتب: تولَّى ديوان الإنشاء بالشَّام سنين كثيرة لنور الدين، ثم استعفى، وقَعَدَ في بيته، ووليتُ الإنشاءَ بعده، وتوفِّي بدمشق في هذه السنة، ومن شعره: [من الكامل] أحبابَنا ذَهَبَ الزَّمانُ وما لنا ... من وَصْلِكُمْ حَظٌّ به نتمتَّعُ وتباينَ الغَرَضانِ مَنْ أهواه يَهـ ... ـــجُرني ومَنْ أشْناه لي يتتبَّعُ طاووس حُسْنٍ صدَّ عني مُعْرِضًا ... وغدا يُواصِلُني الغرابُ الأبقعُ عبد الله بن سماقة (¬1) وزير صاحب آمِد، كان قد استولى على الأمر، وحَسَمَ موادَّ الفساد، فاتَّفق جماعةٌ من مماليك صاحب آمد على قَتْله، فجاؤوا إليه وهو جالسٌ في الدِّيوان، وقالوا: المَلِك يَسْتدعيك. فقام، ودخل دار المُلْك، فقتلوه في الدِّهْليز، وكان الصَّلاحُ أحدُ الأمراء الأكابر محبوسًا، فأخرجوه واثقين به، فَقَتَلَ الجميع. عبد السَّلام بن يوسف بن محمد (¬2) أبو الفَتْح الجُماهري، كان فاضلًا، ومن شعره: [من الطويل] على ساكني بطن العقيق سلامُ ... وإنْ أسهروني بالفِراق وناموا حَظَرْتم عليَّ النَّومَ وهو محلَّلٌ ... وحلَّلْتُمُ التَّعذيبَ وهو حَرَامُ إذا بنتمُ عن حاجر وحَجَرْتُمُ ... على الدَّمْعِ أَنْ يدنو إليه مُلامُ فلا ميَّلَتْ ريحُ الصَّبَا فَرْعَ بانةٍ ... ولا سَجَعَتْ فوقَ الغُصون حَمَامُ ولا قَهْقَهَتْ فيه الرُّعودُ ولا بكى ... على حافَتَيه بالعَشِيَّ غَمَامُ فما لي وما للدَّمْعِ قد بان أَهْلُهُ ... وقد قُوِّضَتْ من ساكنيه خيامُ ألا ليتَ شِعْري هل إلى الرَّمْلِ عودةٌ ... وهل لي بتلك البانَتَينِ لِمامُ ¬

_ (¬1) له ذكر في "الروضتين": 3/ 246 - 247. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 308 - 322، و"الروضتين": 2/ 420 - 421، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 36 - 37، و"الوافي بالوفيات": 18/ 438 - 439، و"فوات الوفيات": 2/ 326 - 327، و"النجوم الزاهرة": 6/ 99.

عصمة الدين خاتون بنت معين الدين أنر

ألا يا حماماتِ الأراك إليكُمُ ... فما ليَ في تغريدكُنَّ مَرَامُ فوَجْدي وشَوْقي مُسْعِدٌ ومؤانِسٌ ... ونَوْحي ودَمْعي مُطْرِبٌ ومُدَامُ وكانت وفاتُهُ بدمشق. عصمة الدين خاتون بنت معين الدين أُنَر (¬1) زوجة السُّلْطان صلاح الدين، كانت قَبْلَه زوجة نور الدين محمود، وكانت من أعفِّ النِّساء وأكرمهن وأحزمهنَّ، ولها صدقاتٌ كثيرة وبِرٌّ عظيم، بَنَتْ بدمشق مدرسةً لأصحاب أبي حنيفة في حَجَر الذَّهب [قريبة من حمام أزكش، وتعرف بمدرسة خاتون] (¬2)، وبنت للصُّوفية رِباطًا على الشَّرف القِبْلي خارج باب النَّصْر على بانالس، وبنت تُرْبة بقاسيون على نهر يزيد، ودُفنت بها، ووقفت على هذه الأماكن أوقافًا كثيرة، وكانت وفاتُها في رجب (¬3)، وبلغ السُّلْطانَ وفاتُها وهو مريضٌ بحرَّان، فتزايد مرضه وحَزِنَ عليها وتأسَّفَ، وكان يصدر عن رأيها. ومات بعدها (¬4) أخوها سعد الدين مسعود بن أُنَر (¬5) في هذه السنة، وكان من أكابر الأمراء، زوَّجه السُّلْطان أُخته ربيعة خاتون [لما تزوج أخته الخاتون] (2)، فلما توفي زوَّجها مظفر الدين بن زين الدين. محمد بن أسد الدين شيركوه (¬6) ناصر الدِّين، ابن عم صلاح الدين، كان السُّلْطان يخافه لأنه كان يدَّعي أَنَّه أحقُّ بالملك منه، وكان يبلغ السُّلْطان عنه هذا، وكان قد فارق السلطان من حَرَّان، وجاء إلى حِمْص، وكان زوج ستّ الشَّام أُخت السُّلْطان، وتوفي بحمص يوم عرفة، وتناثر لحمه، وقيل: إنَّه سُمَّ، وقيل: مات فجأة، فنقلته زوجته ستّ الشَّام إلى تُرْبتها [بالعوينة ¬

_ (¬1) لها ترجمة في "كتاب"الروضتين": 3/ 243 - 244، و"النجوم الزاهرة": 6/ 99. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في "كتاب"الروضتين": 3/ 243 في ذي القعدة، نقلًا عن العماد الكاتب. (¬4) وفاته في "الروضتين": في جمادى الآخرة. (¬5) له ترجمة في "كتاب "الروضتين": 3/ 245 - 246، و"النجوم الزاهرة": 6/ 99. (¬6) له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 21/ 143 - 144، وفيه مصادر ترجمته.

السنة الثانية والثمانون وخمس مئة

شمالي دمشق] (¬1)، فدفنته عند أخيها شمس الدولة، ولما بلغ السُّلْطانَ وفاتُه أبقى على ولده أسد الدين شيركوه حمص وتدمر والرَّحبة وسَلَمية إقطاع أبيه، وخَلَعَ عليه، وكتب له منشورًا. السنة الثَّانية والثمانون وخمس مئة [(¬2) ذكر محمد بن القادسي (¬3) في الذيل فقال: ] في يوم عاشوراء فُرش الرَّماد في الأسواق، وعُلِّقت المسوح، وناح أهل الكرخ والمختارة، [وبغداد] (1)، وخرج النِّساء حاسرات يلطمن وينحن من باب البَدْرية إلى باب حجرة الخليفة، والخِلَعُ تفاضُ عليهنَّ وعلى المُنْشدين من الرِّجال، وتعدَّى الأمر إلى سَبِّ الصَّحابة: أبي بكر وعمر وعثمان [وطلحة] (1) والزُّبير وعائشة -رضي الله عنهم-، وكان أهل الكَرْخ يصيحون: ما بقي كتمان، وأقاموا امرأة، يقال [لها] (1) ابنة قرابا من أهل الكَرْخ، كان ظهير الدين العطار قد كَبَسَ دارَ أبيها، فأخرجَ منها كُتُبًا في سبِّ الصَّحابة، فقطع يديه ورِجْليه، ورجمه العوام حتى قتلوه، فقامت هذه المرأة على دِكَّةٍ تحت منظرة الخليفة في الرَّيحانيين، وحولها ألوفٌ من الرِّجال والنِّساء، وهي تنشد أشعار العَوْني وغيرها، وتسمث عائشة رِضْوان الله عليها، وتقول: العنوا راكبة الجَمَل، وتذكر حديث الإفك والنبي - صلى الله عليه وسلم - بأقبح الشَّناعات، [قال: ] (1) وكلُّ ذلك منسوبٌ إلى أُستاذ الدَّار ابن الصَّاحب. وفي هذا الشَّهر عَبَرَ صاحب الباب كمال الدين بن هُبيرة إلى الجانب الغَرْبي في موكبه إلى بُسْتان، وبين يديه أربابُ الدَّولة والسيوف المسلَّلة، فعاد في آخر النهار من يومه ماشيًا، مكشوف الرأس، وبين يديه نفَّاط، وقد نُتِفَتْ لحيته، وعِمامته في حَلْقه، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): "قال ابن القادسي"، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) القادسي: هو محمد بن أحمد بن محمد بن علي، القادسي: نسبة إلى القادسية، وهي قرية بين سامراء وبغداد، لا قادسية الكوفة التي كانت فيها الوقعة المشهورة، كان له اعتناء بالتواريخ والحوادث، وصنف كتابين "ذيل المنتظم" -وهو الذي ينقل عنه هنا سبط ابن الجوزي- وقد وصل فيه إلى سنة (616 هـ)، وكتاب "أخبار الوزراء"، وكلا الكتابين لم يصلانا بعد، توفي سنة (632 هـ) ببغداد. له ترجمة في "التكملة": للمنذري 3/ 131، "وفيات الأعيان": 1/ 329، و"الوافي بالوفيات": 2/ 117، و"تاريخ الحكماء": للقفطي، ط ليبسك: ص 111.

وإلى جانبه مغنية ماشية، يقال لها: خطليشي، وكان نُقِلَ إلى الخليفة عنه أنه يعاشر المغنيات والنُّدماء، فاستعظمَ ذلك حتى فَعَلَ به ما فعل. وفيها حكم المنجمون في الآفاق بخراب العالم في جُمادى الآخرة، وقالوا: تقترن الكواكب السيارة: الشمس والقمر وزُحَل والمريخ والزُّهَرة وعُطارد والمُشْتري في بُرْجٍ الميزان أو السَّرطان، فتؤثر تأثيرًا يضمحلُّ به العالم، وتَهُبُّ سَمُومٌ مُحْرقة تحمل رملًا أحمر، فاستعدَّ النَّاس، وحفروا السَّراديب، وجمعوا فيها الزَّاد، وانقضت المدة [ولم يحدث شيء] (1)، وظهر كذب المنجمين، فقال [أبو الغنائم محمد] (1) ابنُ المعلِّم [الشَّاعر الهُرْثي] (1) في أبي الفَضْل المنجِّم، [وكان رئيسَ القوم] (1): [من المنسرح] قُلْ لأبي الفَضْل قَوْلَ معترفٍ ... مضى جُمادى وجاءنا رَجَبُ [وما جرت زعزعًا كما حكموا ... ولا بدا كوكبٌ له ذنبُ] (¬1) كلا ولا أظلمتْ ذُكاءُ ولا ... أبدتْ أذًى في قرانها الشُّهُبُ يقضي عليها من ليس يَعْلَمُ ما ... يُقْضى عليه هذا هو العَجَبُ فارْمِ بتقويمك الفراتَ والإسـ ... ـــطرلابُ خيرٌ من صُفْرِهِ الخَشَبُ قد بان كِذْبُ المنجِّمين وفي ... أيِّ مقالٍ قالوا فما كَذَبوا مدبِّرُ الأمرِ واحد ليس للسَّـ ... ــــبعةِ في كلِّ حادثٍ سَبَبُ لا المشتري سالمٌ ولا زُحَلٌ ... باقٍ ولا زُهْرةٌ ولا قُطُبُ تبارك الله حَصْحَصَ الحقُّ وانـ ... ــــجابَ التَّمادي وزالتِ الرِّيَبُ فَلْيُبْطِلِ المُدَّعون ما وضعوا ... في كُتْبهم وَلْتُخَرَّقِ الكُتُبُ وفيها قَطَعَ السُّلْطان الفرات، ووصل إلى حلب، وخرج منها يريد دمشق، فتلقَّاه أسد الدين صاحب حِمْص، وأُخته سفري خاتون بتل السُّلْطان، ومعهما الهدايا العظيمة، وسار إلى حِمْص، فأطلق المكوس، وأزال الضَّمانات، وقال لأخيه العادل: اقسمِ التِّركة بينهم على فرائض الله، وكان قد خلف شيركوه وسفري وزوجته ستّ الشَّام، فصعِدَ العادل إلى قلعة حمص، وأقام أيامًا يقسم التركة، وكان قد خلَّف أموالًا عظيمة، وجواهر ومناطق الذَّهب والفِضَّة، فكان مبلغ التركة ألف ألف دينار، وكان ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

القاضي شرف الدين (¬1) بن أبي عَصْرون حاضرًا للقِسْمة، فقام يومًا، فوقعت من تحت ذيله منطقة جوهر، فنسبه العادل إلى ما لا يليق، وكان شرف الدين منزَّهًا عن ذلك [لأنه كان غنيًّا جوادًا شريف النفس] (¬2)، فحلف للعادل: إنني ما علمتُ بها، [وصدق، وإنما الحساد وجدوا طريقًا للقول] (¬3). وفيها دخل سيفُ الإسلام إلى مكَّة، ومنع من الأذان في الحرم بحيّ على خير العمل، وقَتَلَ جماعةً من العبيد كانوا يؤذون النَّاس، وأغلق أمير مكة بابَ البيت، وصَعِدَ إلى أبي قُبيس، فأرسل إليه وطلب المفتاح، فامتنع من إنفاذه، فقال سيفُ الإسلام لرسوله: قُلْ لصاحبك: إنَّ الله نهانا عن أشياءَ فارتكبناها، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تأخذوا المفتاح من بني شيبة" (¬4) فنأخذه، ونستغفر الله تعالى، فبعث إليه بالمِفْتاح. وفيها قَسَمَ السُّلْطان البلاد بين أولاده وأهله برأي القاضي الفاضل، فإنَّه لما مَرِضَ أشار عليه بذلك، وكان الملك الأفضل بالدِّيار المِصْرية، وهو المترشِّحُ لولاية العهد، وكان قد تأدَّبَ وكَتَبَ، فأحسن خَطَّه، وسمع الحديث، وكان في نَفْس السُّلْطان نقل العزيز إلى مِصْر، فكَتَبَ إلى الأفضل يستدعيه إلى دمشق بأهله ووالدته، فحضر، فزوَّجه السُّلْطان سفري خاتون بنت ناصر الدِّين صاحب حِمْص، فقال ابنُ سعادة الضَّرير: [من السريع] قد أقبل العُرْسُ السَّعيد الذي ... أنوارُه مِنْ وَجْهِكَ المُقْبِلِ بنتُ سَمِيِّ المُصْطفى زُوِّجَتْ ... سَمِيَّ صِهْرِ المُصْطفى المُرْسَلِ وجمع صلاحُ الدِّين أهله والأمراء، وأخذ عليهم العهود للأفضل، وكان السُّلْطان يؤثر أن تكون حلب للملك الظاهر ولده، وكان يستحيي من أخيه العادل، فزوَّجَ الظَّاهرَ بابنته، وقال له: قد علمت أَنَّ مدينة حلب جليلة، وقلعتها عظيمة، فاطْلُبْها من السُّلْطان، فعرَّفَ الظَّاهرُ أباه، فاستحسنَ ذلك من العادل، وفوَّضَ أمر حلب إلى ¬

_ (¬1) في (ح) و (ش) و (م): نجم الدين، وهو تحريف. (¬2) في (ح): لغناه وجوده شرف نفسه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" (11234) و"الأوسط" (492) من حديث ابن عباس مرفوعًا: "خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم"، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد": 3/ 285، وقال: فيه عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن حبان، وقال: يخطئ، ووثقه ابن معين في رواية، وضعفه جماعة.

الظَّاهر، وأمر دمشق إلى الأفضل، وأمر مِصْر إلى العزيز، وأقطع العادل إقطاعاتٍ كثيرةً بمصر، وجعله أتابك العزيز، وسيَّرهما إلى مِصْر. وكان تقيّ الدِّين بمصر، وحكمه بين يدي الأفضل بمنزلة الوالي، وبلغه ما فعل السُّلْطان، وكان يظن أنه يستقلُّ بمِصْر، فشقَّ عليه، وكان غلامه قراقوش قد وصل إلى أطراف المغرب، فكتَبَ إليه يستدعيه، ويطمعه في ملك جديد، فجهَّز أمواله وأثقاله إلى الإسكندرية، وكَتَبَ إلى السُّلْطان يستأذنه، فشقَّ عليه، وخاف أن يتبعه أكثر العسكر إلى المغرب، فكتب إليه يعتبه ويوبخه، ويقول: سمحت بفراقي. ويستدعيه إليه، فما أمكنه مخالفته، ودخل العزيزُ والعادل القاهرة أول شعبان، وقَدِمَ تقيُّ الدين دمشق سَلْخ شعبان، وتلقَّاه السُّلْطان، وأعاد ما كان بيده من البلاد وحماة والمعرَّة ومنبج، وأضاف إليه ميَّافارِقين، وثنى عزمه عن المغرب. وسار يوزبا مملوك تقيّ الدِّين إلى المغرب، فلقيه صاحب المغرب فأسره، ثم أطلقه، وبعث به إلى بعض الثغور، فأبلى بلاءً حسنًا، فقدَّمه على العساكر. وفيها ظهر الخلاف بين الفرنج، وتفرَّقت كلمتهم، وكان ذلك سببًا لسعادة الإسلام، وكان السبب أن ريمند بن الصنجيل قومص طرابُلُس رَغِبَ إلى مصافاة السُّلْطان، وكان قد تزوَّج الست صاحبة طبرية، وكان المُلْك في أخيها المجذوم (¬1)، فلما احتُضر أوصى بالملك لابن أخته وهو صبيٌّ صغير، فلما تزوَّج القومص أُمَّه رباه، وماتَ الصَّبي، فانتقل المُلْك إلى أُمِّه، على قاعدتهم في ذلك، فظن القومص أنَّ زوجته تفوِّض الأمر إليه، فمدَّت عينها إلى بعض الخيَّالة، واجتمعوا في القُدْس، فقامت بين الصَّفَّين وبيدها تاج الملك لتضعه على رأس من يستحق المُلْك، فتركتِ الملوكَ والخيَّالة، ووضعته على رأس الذي مدَّت عينها إليه، وملَّكَتْه طمعًا أن تتزوجه، فناصبها القومص والأكابر العداوة، ولم يرضوا بذلك، وأوقع الله بأسهم بينهم. ¬

_ (¬1) هذا من الأوهام، إذ إن أخت الملك المجذوم وهو بلدوين الرابع هي سبيللا، وهي التي تولت المملكة من بعد، أما زوجة ريمند فهي إيشيفابور، انظر: "تاريخ الحروب الصليبية" لرنسيمان: 2/ 652 (الترجمة العربية).

أحمد بن أبي بكر المبارك

وفيها غدر إبرنس الكَرَك، واسمه أرناط، وكان أخبثَ الفرنج وأشرّهم، فقطَعَ الطَّريق على قافلةٍ جاءت من مِصْر إلى الشَّام، وفيها خَلْقٌ عظيم، ومالٌ كثير، فاستولى على الجميع قَتْلًا وأَسْرًا ونَهْبًا، فأرسل إليه السُّلْطان يوبِّخُه على ما فعل ويقول: أين العهود [والمواثيق] (¬1)؟ : رُدَّ ما أخذتَ. فلم يلتفت، وشنَّ الغارات على المُسْلمين، وفَتَكَ فيهم. قال العماد: وكان معه شِرْذِمة، وهي من شرِّ أُمَّة، وكان على الهُدْنة حتى لاحت له فرصة، فوقع على قافلةٍ ثقيلة، فيها نِعَمٌ جليلة، وكان فيها جماعةٌ من الأجناد وأعيان أهل البلاد، فحملهم إلى الكرك، وأوقعهم في الشَّرَك، فأرسل إليه السُّلْطان، وقبَّح أفعاله وغدره واغتياله، فأبى إلا الإضرار، والفَتْك في المسلمين والتُّجَّار، فنذر السُّلْطان دمه، ووفى في إراقته بحطِّين بما التزمه، وأقام السُّلْطان بدمشق يتجهز للقاء العدو، ويستدعي العساكر من المشرق والمغرب. وحجَّ بالنَّاس من العراق طاشْتِكِين، ومن الشام ستّ الشَّام، وولدها حسام الدِّين بن لاجين، وجماعة من المعتبرين. وفيها توفي أحمد بن أبي بكر المبارك (¬2) أبو السُّعود الحَرِيمي الزَّاهد (¬3)، كان عطارًا، فأقامه الله تعالى، فانقطع إليه، وصَحِبَ الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه، وأخذ عنه الطريق، فصار المشار إليه بعده، وكان له كراماتٌ وإشارات، وقَبُولٌ عام عند الخاصّ والعام، وكان طريقه الفناء لا يأكل حتى يُطْعَم، ولا يشرب حتى يُسْقى، ولا يَلْبَس ثوبًا حتى يُجعل في عنقه، وكان بين يدي الله تعالى بمنزلة المَيت بين يدي الغاسل، لا يزال مستقبل القِبْلة على طهارة، لا يتكلَّم إلا جوابًا، وكان حسنَ الأخلاق، كريمَ الطِّباع، متواضعًا. [وكان سليمان بن شاوس قد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "شذرات الذهب": 4/ 274. (¬3) في (م) و (ش): وفيها توفي أبو السعود الحريمي الطاهري، ويقال له ابن الشبل العطار.

الحسن بن علي

اختصَّ به، وحكى لي جماعةٌ من أهل الحريم من أصحابه، قالوا: ] (¬1) وكان جالسًا يومًا على الصُّفَّة، وليس عنده أحد، فوقع السَّقف عليه، فجاء طرف الجِذْع في رؤوس أضلاعه فكَسَرها، فلم يتحرَّك حتى جاء أصحابُه، فأزالوا السقف عنه والجذع، فأقام عشرين سنة لا يعلم به أحد حتى مات، فلما وضع على المغتسل رأوا أضلاعه مكسَّرة. وقدم عليه الشيخ محمد بن قائد شيخ أَوَانا (¬2)، فقال له: يا شيخ أبا السُّعود، قد أُعطيتُ شِحْنكية العراق، فلي من أَوَانا إلى بغداد، ولك من بغداد إلى البَصْرة، وَهَبْتُه لك. فقال له أبو السّعود: قد آثرتك بالكُلِّ، أنت في حِلٍّ. ولما توفي أراد بعضُ أصحابه أن يبقي بيت الحش الذي كان للشيخ، قال: فأتيتُ إلى رأس البئر، وإذا قد سدَّى عليها العنكبوت، وليس فيها شيء. وكانت وفاته ليلة الأربعاء عاشر شوال، ودُفِنَ بمقابر باب حَرْب، وبنوا عليه قُبَّةً عالية ظاهرة، وقبره ظاهرٌ يزار. سمع الشيخ عبد القادر وطبقته، [وحدَّث بشيء يسير] (1)، واشتغل بحاله عن الرِّواية. الحسن بن عليّ (¬3) ابن بركة [بن عَبيدة -بفتح العين-] (1)، أبو محمد المقرئ [الكرخي] (1) النحوي، [قرأ القرآن على أبي محمد، والنحو على أبي السعادات ابن الشجري، وسمع الحديث على قاضي المارَسْتان وغيره، و] (1) استفاد منه خَلْقٌ كثير، وكانت وفاته في شَوَّال، ومن شعره: [من الطويل] وما شنآنُ الشَّيْبِ من أجل لونه ... ولكنَّه حادٍ (¬4) إلى الموتِ مُسْرعُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) أوانا: بليدة من نواحي دجيل بغداد، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ من جهة تكريت. انظر "معجم البلدان": 1/ 274. (¬3) له ترجمة في "معجم الأدباء": 9/ 40 - 43، و"إنباه الرواة": 1/ 316، و"الوافي بالوفيات": 12/ 130 - 131، و"غاية النهاية": 1/ 224، و"بغية الوعاة": 1/ 511، و"النجوم الزاهرة": 6/ 103، و"توضيح المشتبه": 6/ 137. (¬4) في (م) و (ش): داعٍ.

عبد الله بن عبد الجبار

إذا ما بَدَتْ منه الطَّليعةُ آذنَت ... بأنَّ المنايا بعدها تتطلَّعُ فإنْ قَصَّها المِقْراضُ جاءتْ بأُخْتها ... وتطلعُ يتلوها ثلاثٌ وأربعُ وإن خُضِبَتْ حال الخِضابُ لأَنَّه ... يُغالبُ صُنْعَ اللهِ واللهُ أَصْنَعُ ويَضْحى كريشِ الدِّيكِ فيه تلمُّعٌ ... وأنصعُ ما يُكْساه ثوبٌ مُلَمَّعُ عبد الله بن عبد الجبار (¬1) المعروف بابن بَرِيّ النحوي، المِصْري. كان أديبًا فاضلًا، بارعًا في علم النحو والعربية، وانتفع به خَلْقٌ عظيم، وتوفي بمِصْر في شوال، وكان حُجَّةً، ثقة. [وفيها (¬2) توفي ابن رئيس الرؤساء، واسمه علي بن محمد (¬3) ابن عبد الله بن هبة الله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء أبي القاسم علي بن الحسن بن المسلمة، أبو نصر ابن الوزير أبي الفرج]، الذي قتلته الباطنية (¬4) [في أيام المستضيء] (¬5) وهو يريد مكَّة، ولما قُتِلَ أبوه دخل في طريق التَّصوف، وبنى رباطًا بالقَصْر من دار الخلافة للصُّوفية، ورتَّبَ فيه جماعةً منهم، ولم يدخل في شيء من الولايات، [وكان قد سمع ببغداد أبا الوقت، وأبا الفَضْل بن الأُرْمَوي وغيرهما، وسمع منه ابن البَنْدَنيجي وغيره، وخرج من بغداد ولم يعلم به أحد] (5)، وكان وصل ¬

_ (¬1) له ترجمة في "معجم الأدباء": 12/ 56 - 57، و"إنباه الرواة": 2/ 318، و"التكملة" للمنذري: 1/ 58 - 60، و"كتاب"الروضتين": 3/ 267، و"وفيات الأعيان": 3/ 108 - 109، "إشارة التعيين": 161، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 136 - 137، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) في (ح): علي بن محمد بن الحسن بن المسلمة، أبو نصر ابن الوزير أبي الفرج، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 166 - 177، و"الوافي بالوفيات": 22/ 47 - 48، وفيه وفاته سنة 581 هـ. (¬4) قتل والده سنة (573 هـ)، وقد سلفت ترجمته في وفياتها. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن أتابك إلدكز

دمشق، فأكرمه صلاح الدين، واحترمه بحيث إنه كان يأكل معه، ويغسل يده معه في الطَّسْت، فحسده شمسُ الدِّين بن هُبيرة، وبلغ السُّلْطان، فقال: هذا وزير ابن وزير إلى أن ينقطع النَّفَس، مع الدِّين المتين، والزُّهْد في الدنيا، وغيره ليس كذلك، وأقام عند السلطان محترمًا إلى أن توفي في جُمادى الآخرة، ودفن بقاسيون، وصلى عليه السلطان، وقد بلغ أربعًا وأربعين سنة. محمد بن أتابك إلدكز (¬1) ولقبه شمس الدين البهلوان [وهو الذي ذكرنا أنه نزل على خِلاط عام أول، و] (¬2) كان حاكمًا على العراق وأذربيجان والرّي وأصفهان، وكان اسم الملك واقعًا على طغريل بن رسلان بن طغريل بن [محمد بن] (¬3) ملك شاه، وكان تحت حِجْر البهلوان، ويأكل البلاد باسمه، وكان ظالمًا فاتكًا، ولما احْتُضر أوصى إلى أخيه لأمه قزل، ومات [البهلوان] (2) بهمَذَان، وخلَّف ما لم يخلفه أحد، أما الأموال فما تحصى، وأما المماليك فترك خمسة آلاف مملوك، وثلاثين ألف فرس وبغل وجمل، وأقام أخاه مقامه وشبَّ طغريل، فأَنِفَ من الاحتجار، فركب من هَمَذَان، ومعه مماليكُ أبيه ومماليكه، وجاء إلى أصبهان، وتبعه قزل، ووقعت الحرب، فأحرق قزل أصبهان حتى مدارسها ورُبُطها ومساجدها، ومات الناس جوعًا [بسبب ذلك] (¬4). السنة الثالثة والثمانون وخمس مئة فيها فُتِحَ البيتُ المقدَّس، وعكا، وحصون السَّاحل، وسببه وقعة حِطِّين. خرج السُّلْطان من دمشق غُرَّة المحرَّم بعساكر الشَّام، فنزل بُصْرى يرتقب وصول الحاج وأُخته ست الشَّام، وولدها ابن لاجين، وكان قد بلغه أنَّ إبرنس الكَرَك يرتقب ¬

_ (¬1) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وله ترجمة في "تاريخ دولة آل سلجوق": 275، و"الكامل" لابن الأثير: 11/ 388، 525 - 526، و"كتاب"الروضتين": 3/ 268، "وفيات الأعيان": 5/ 208. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا للإيضاح. (¬4) ما بين حاصرتين من (م)، وفي (ش): من الحصر الذي كان.

وصولهم، فخاف من غَدْره، ووصل الحاجّ في أواخر المحرَّم، وخلا سِرُّ السُّلْطان منهم، فسار إلى الكَرَك، فقطَع الأشجار، ورعى الزُّروع، وفعل بالشَّوْبك كذلك، وأقام ينتظر عسكر مِصْر، وكان عند مسيره إلى الكرك قد أمر ولده الملك الأفضل أن ينزل على رأس الماء بطائفةٍ من العسكر ينتظر باقي العساكر الشَّرْقية، فأنهض الأفضلُ منهم طائفة للغارة على طبرية، وجعل مقدَّم العساكر الشَّرْقية مظفَّر الدِّين بن زين الدين، وعلى عسكر الشَّام صارم الدين قَيماز النَّجْمي، فنازلوا طبرية، وتقدَّم بدر الدين دُلْدُرم، وكان مقدَّم عسكر حلب إلى طبرية، فخرج إليه [مقدَّم] (¬1) الدَّاوية والإسبتار ومعهما جماعة، فقاتلوهم، فقتلهم دُلْدُرم، وأَسَرَ بعضهم، وسار إلى صَفُّورية، ففعل كذلك، وعاد بالأسارى إلى الأفضل، وهو على شقيف القيعان، وجاء السُّلْطان إلى تسيل؛ قرية غربي نوى، وصعِدَ على تلِّها، وعرض العساكر، وسُرَّ بما رأى، واندفع يوم الجمعة سابع عشرين ربيع الأول نحو فِيْق، ورحل الأفضلُ والعساكر معه، فالتقوا على القحوانة، وكان يقصد المسير إلى العدو يوم الجمعة تبركًا بأدعية الخُطباء، وخيَّم على ساحل البحيرة في اثني عشر ألفًا من الفرسان، فأما الرَّجَّالة فكثير، وخرج الفرنج من عكا، فلم يدعوا بها مُحتلمًا، فيقال: إنهم كانوا في ثمانين ألفًا ما بين فارسٍ وراجل، فنزلوا صفُّورية، وتقدَّم السُّلْطان إلى طبرية، فنصبَ عليها المجانيق، ونقَّب أسوارها، ففتحها يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر، وتمنَّعت القلعة عليه، وبها السِّتّ زوجة القومص، وتقدَّم الفرنج، فنزلوا لوبية يوم الجمعة عند طلوع الشَّمس، وملك المسلمون عليهم الماء، وكان يومًا حارًّا، والتهب عليهم الغَوْر، وأضرم مظفر الدِّين النَّار في الزروع، وباتوا طول الليل والمسلمون حَوْلَهم، فلما طلع الفجر من يوم السبت قاتلوا إلى الظُّهْر، وصَعِدُوا إلى تل حطين والنار تُضْرم حولهم، فهلكوا وتساقطوا من التَّل، وكان القومص معهم، فحمل وفتح له السلطان دَرْبًا، فصعِدَ إلى صفد، وعملت السُّيوف في الفرنج قَتْلًا وأَسْرًا، وأُسِرَ من الملوك: كاي وأخوه جفري وإبرنس الكرك، والهنفري، وصاحب جُبيل وبيروت وصيدا، ومقدم الداوية والإسبتار وغيرهم، وجيء إلى السُّلْطان بصليب الصَّلبوت، وهو مرصَّعٌ بالجواهر واليواقيت في ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

غلافٍ من ذهب، [وهو عند النصارى مثل المسيح]، والذي أَسَرَ الملك دِرْباسُ الكُرْدي، والذي أسر إبرنس الكرك إبراهيمُ غلام المِهْراني، فلما رآهم السلطان [نزل، وسجد شكرًا لله تعالى، وجاء إلى خيمته، فاستدعاهم، فجلس الملك عن يمينه، وإبرنس الكرك إلى جانب الملك، ونظر السلطان] (1) إلى الملك وهو يلتهب عَطَشًا، فأمر له بقدح من ثَلْج وماء، فشربه وسقى الإبرنس، فقال له السُّلْطان: ما أَذِنْتُ لك في سَقْيه، فلِمَ سقيته؟ وكان السُّلْطان [قد] (1) نذر أن يقتل الأبرنس بيده، فقال له: يا ملعون، يا غدَّار، حلفتَ وغدرتَ ونكثتَ، وجعل يعدِّدُ عليه غدراته، ثم قام إليه فضربه بالسَّيف حَلَّ كتفه، وتمَّمه المماليك، وقطعوا رأسه، وأطعموا جُثَّته الكلاب، فلما رآه الملك قتيلًا خاف، وطار عقلُه، فأَمَّنه السُّلْطان، وقال: هذا غدَّار كذَّاب، غَدَرَ غير مرَّة. ثم عَرَضَ السُّلْطان الإسلام على الدَّاوية والإسبتار، فمن أسلم منهم استبقاه، ومن لم يُسْلم قتله، فقتل خَلْقًا عظيمًا، وبعث بباقي الملوك والأسارى إلى دمشق إلى الصَّفي ابن القابض، فاعتقل الأعيان في القلعة، وبِيعَ الأسارى بثمنٍ بخس، حتى باع بعضُ الفقراء أسيرًا بنَعْلٍ، فقيل له: هذا ثمن بخس. فقال: أردتُ هوانهم. [ودخل القاضي ابن أبي عصرون] (¬1) دمشق، وصليب الصَّلبوت منكسًا بين يديه. وعاد السُّلْطان إلى طبرية، وأمن صاحبتها، فخرجت بنفسها ومالها إلى عكا، وولَّى طبرية قَيماز النَّجْمي. وأما القومص، فإنَّه خرج من صفد إلى طرابُلُس، فماتَ بها، فقيل: إنَّه مات من جراحاتٍ كانتْ به، وقيل: إنَّ امرأته سمَّته، وقالت: هذا كان سببًا في هلاك دين النَّصرانية. وأكثر الشعراء في هذه الوقعة، فقال العماد الكاتب: [من الطويل] حَطَطْتَ على حِطِّينَ قَدْرَ مُلُوكِهِمْ ... ولم تُبْقِ من أجناس كُفْرِهُمُ جِنْسا بطونُ ذئابِ الأَرْض صارت قبورَهُمْ ... ولم تَرْضَ أرضٌ أنْ تكون لهم رَمْسا وقد طابَ رَيَّانا على طَبَرِيَّةٍ ... فيا طِيبَها رِيًّا ويا حُسْنَها مَرْسى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وقال ابنُ السَّاعاتي: [من الوافر] جَلَتْ عَزَماتُك الفَتْحَ المُبِينا ... فقد قَرَّتْ عيونُ المُؤْمنينا وهانَ بك الصَّليبُ وكادْ قِدْمًا ... يَعُزُّ على العوالي أن يَهُونا يقاتِلُ كلُّ ذي مُلْك رياءً ... وأنتَ تقاتلُ الأعداءَ دِينا فَقَلْبُ القُدْس مسرورٌ ولولا ... سُطاك لكان مكتئبًا حزينا من أبيات. ذِكْرُ فَتْحِ عكَّا -[وفيها لغتان: المدّ، والنسبة إليها عكاوي، ] (1) وعكه بالهاء- وسار السُّلْطان من طبرية، فنازل عكه يوم الأربعاء سَلْخ ربيع الآخر، وليس بها مَنْ يحميها، لأَنَّ وقعة حِطِّين أبادتهم، وكانوا ثلاثين ألفًا، فطلبوا منه الأمان على نفوسهم، وما يقدرون على حَمْله، فأمَّنهم، ودخَلَها يوم الجُمُعة غُرَّة جمادى الأُولى، وكان بها من أسارى المسلمين أربعة آلاف، فاستنقذهم، وجعل الكنيسة جامعًا، وولَّاها ولده الأفضل، وولَّى القضاء والخطابة والإمامة لعبد اللطيف بن أبي النَّجيب السُّهْرَوَرْدِي، وغَنِمَ المسلمون أموالًا لا تُحصى، لما دخلوا عكا رَكَزَ كلُّ واحدٍ رُمْحه على دارٍ، فأخذها وما فيها، وأعطى [السُّلْطان] (¬1) الفقيه عيسى جميعَ ما يختصُّ بالدَّاوية، ولم يحضر هذا الفتوح العادل، كان بمِصْر، فجاء، ففتح في طريقه مجدل يابا ويافا، وحضره الملك العزيز لأَنَّه قَدِمَ مع العسكر المِصْري، ومضى إلى مِصْر، وما عاد اجتمع بأبيه، وفارقه في شعبان والسُّلْطان على صور. وكتب العماد الكاتب إلى بغداد كتابًا أَوَّله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] والحمدُ لله على ما أنجز من هذا الوَعْد، وعلى نُصْرته لهذا الدِّين الحنيف من قَبْلُ ومن بعد، وجَعَلَ من بعد عُسْير يُسْرًا، وأحدث بعد أمرٍ أمرًا، وهوَّن الأمر الذي ما كان الإسلام يستطيع عليه صَبْرًا، وخُوطب الدِّين بقوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه: 37] فالأُولى في عَصْر النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، والأُخرى في هذه الدَّولة التي عَتَقَ فيها من رِقِّ الكآبة، والزَّمان كهيئته قد استدار، والحقّ ببهجته قد استنار، والكُفْر قد رَدَّ ما عنده من المُسْتعار. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

والخادم يشرح مِنْ هذا الأمر والفتح العظيم والنَّصْر الكريم ما يَشْرَحُ به صَدْرَ المؤمنين، ويسوء وجوه الكافرين، ويورد من البُشْرى ما أنعم الله به من يوم الخميس الثَّالث والعشرين من ربيع الآخر إلى يوم الخميس سَلْخه، وتلك سبع ليالٍ وثمانية أيام حُسُومًا (¬1)، عَدِمُوا فيها نفوسًا وجُسُومًا، فأصبحوا قد هَوَوْا في الهاوية {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاويَةٍ} [الحاقة: 7] وأصبحت البلاد إلى الإسلام ضاحكة، كما كانت بالكُفْر باكية، ففي يوم الخميس الأَول فُتِحَتْ طبرية، ويوم الجُمُعة والسبت كانت الكسرة التي ما أبقت منهم بقية، ولا يقوم لهم بعد قائمة {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] وفي يوم الخميس سَلْخ الشهر فتحت عكَّه بالأمان، ورفعت بها أعلام الإيمان، وهي أُمُّ البلاد، وأُخت إِرَم ذاتِ العماد، وصليبُ الصَّلبوت عندنا مأسور، وقلب الكُفْر الأسير بجيشه المكسور مكسور، وأنصار الصَّليب وأعوانه قد أحاطت بهم يد القَبْضة، وغَلِقَ رَهْنه فلا يقبل فيه القناطير المقنطرة من الذَّهب والفِضَّة، وطبرية قد رُفعت أعلامُ الإسلام عليها، ونَكَصَتْ من عكه مِلَّةُ الكُفْر على عَقِبيها، وعُمِّرت حتى شَهِدَتْ يوم الإسلام، وهو خيرُ يوميها، وصارت البِيَعُ مساجدَ يَعْمُرها من آمنَ بالله واليوم الآخر، وصارت المذابحُ مواقفَ لخطباء المنابر. وعَدَّ الحصونَ التي فُتِحَتْ، وقال في آخر الكتاب: وما يتأخَّر النهوض إلى بيت المقدس، وهذا أوان فَتْحه، وقد دامَ عليه ظلامُ الضَّلال، وقد آن [أن] (2) يُسْفِرَ فيه الهُدَى عن صُبْحه، والسَّلام. [ذكر ما فتح السُّلْطان في هذه السنة من بلاد الفرنج بعد طبرية وعكا: لما فتح عكا] (¬2) سار السلطان إلى تِبْنين، فتسلَّمها بالأمان، وتسلَّم صيدا، وبيروت، وجُبيل، وغَزَّة، والدَّاروم، والرَّمْلة، ويُبْنى، وبيت جبريل، والخليل عليه السلام، ونازل عسقلان، فَقُتِلَ عليها حسام الدين المِهْراني، ثم تسلَّمها، فكان بين أَخْذِ الفرنج لها وبين خلاصها منهم خمسٌ وثلاثون سنة، لأنَّهم ملكوها في جُمادى ¬

_ (¬1) الأيام الحسوم: الدائمة في الشر خاصة، والحسوم: الشؤم، وأيام حسوم: وضعت بالمصدر: تقطع الخير أو تمنعه، وقيل: المتوالية في الشر. "اللسان" (حسم). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الآخرة سنة ثمانٍ وأربعين وخمس مئة، وفوَّض السُّلْطان القضاء والخطابة إلى جمال الدين عبد الله بن عمر قاضي اليمن، وتسلَّم السُّلْطان هذه الأماكن في أربعين يومًا، أولها ثامن عشرين جمادى الأولى، وآخرها ثامن شهر رجب. ذِكْرُ فتوح القُدْس: سار إليه السُّلْطان، فنازله يوم الأحد منتصف رجب، وكان المنجِّمون قد قالوا له: تفتح القُدْس وتذهب عَينُك الواحدة. فقال: رضيت أن أفتحه وأعمى. وكان قد نَزَلَ على غربيِّه أولًا، ثم انتقل إلى شماليِّه من باب العمود إلى بُرْج الزاوية، ومن هذا المكان أخذه الفرنج، وكان مشحونًا بالمقاتلة من الخيَّالة والرَّجَّالة ما يزيد على ستين ألفًا غير النِّساء والذُّرِّيَّة، فنصب عليه المجانيق وآلة القتال، وتعلَّق النَّقابون بالسُّور، وقاتل الفرنجُ قتالًا شديدًا، فلما رأوا أَنَّ المُسْلمين قد ظهروا عليهم سُقِط في أيديهم، وأيقنوا بالخِذْلان فصاحوا: الأمان، فبطل عنهم القتال، واستقرَّ الأمر على أن يخرجوا بأنفسهم وأموالهم وذُرِّيَّاتهم سوى الخيل الحربية والسِّلاح بعد أن يؤدِّي كلُّ واحدٍ منهم عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن الصَّبي أربعة دنانير، وعن الطِّفْل دينارًا، ومن عجز منهم كان رقيقًا يستملك، ومن أراد من النَّصارى الإقامة فليقم، وتُؤخذ منه الجِزْية، وأقرَّ بأيديهم القُمامة، وعيَّنوا أماكن يزورونها، وسَلَّموا البلد يوم الجمعة سابع وعشرين رجب ليلة المعراج، فكانت مُدَّة استيلاءِ الفرنج عليه اثنتين وتسعين سنة، لأَنَّهم أخذوه سنة إحدى وتسعين وأربع مئة، [وفتح في هذه السنة؛ سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة] (¬1) ودخل السُّلْطان الصَّخرة، وغَسَلها بالماوَرْد وبلحيته وهو يبكي، ومحا الصُّور منها، وكَسَرَ الصُّلْبان، وأخرب دار الدَّاوية، وعمر المسجد الأقصى، وفرَّق الأموال التي أخذها من الفرنج -وكانت نيفًا وثلاث مئة ألف دينار- على العلماء والفقهاء والصُّوفية، وكان قد حَضَرَ معه هذا الفتح زُهاء عشرة آلاف عِمامة من جميع الأجناس، وتطاول جماعةٌ من الأعيان إلى الخطابة، فتذكَّر السُّلْطان قولَ ابنِ زكي الدين قاضي القضاة بدمشق: [من البسيط] وفتحكم حلبًا بالسَّيف في صَفَرٍ ... مُبَشِّرٌ بفتوح القُدْس في رَجَبِ ¬

_ (¬1) كذا قال، والصواب سنة (492 هـ)، ومكث في أيديهم (91) سنة.

فأعطاه الخطابة (¬1). وقال ابن القادسي [في "ذيله"] (2): إنَّ صلاح الدين خطب، [بالبيت المقدَّس] (2)، وهو وهم منه. وخلَّص السُّلْطان من القُدْس ثلاثة آلاف من أسارى المسلمين، وبعث مع الفرنج الدِّين كانوا في القدس من أوصلهم إلى صور، وكان بها المركيس. [قلت: ولقد ضيَّع السُّلْطان الحزم بتسيير الفرنج إلى صور، ولم ينظر في عواقب الأمور، فإن اجتماعهم بصور كان سببًا لأخذهم البلاد، وقتلهم من قتلوا بعكا من أجناد الإسلام والأعيان، وقد كان الواجب عرضهم على الإسلام، فإن أبوا فالسيف، وهو أصدق أنباء من الكتب، وأنى وكيف. وما أشبه هذه القصة بفدية الأسارى يوم بدر حيث أشار بعض الصحابة لأخذ ذلك القدر، وبعضهم أشار بضرب رقاب، وما صدر ذلك الرأي إلا عن صدر، فلا جَرَمَ قتل منهم يوم أحد سبعون، وأسر سبعون من المسلمين، كما فعلوا يوم بدر بالمشركين] (¬2). وكان القاضي الفاضل بدمشق مريضًا لم يحضر هذا الفتح، فأمر السُّلْطان العماد، فكتب إلى بغداد بالفتح كتابًا منه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]. الحمدُ لله الذي أنجز لعباده الصَّالحين وَعْدَ الاستخلاف، وقهر بأهل التوحيد أهل الشِّرْك والخلاف، وخَصَّ سُلْطان الدِّيوان العزيز بهذه الخلافة، وبدَّل الأمن به من المخافة، وادَّخر هذا الفَتْح الأسنى، والنَّصْر الأهنى لخادم المقام النَّبوي، ومنحه أخلصَ أوليائه وأخصّ أصفيائه بعد أن انقرض من الملوك الماضية، والقرون الخالية على حسرةِ تمنِّيه، وفوات ترجِّيه، وتقاصرت عنه الهمم، وتخاذلت عنه ملوك الأمم، فلله الحَمْدُ الذي حقَّق بفتحه ما كان في النَّفْس، وبدَّل وحشة الكُفْر فيه من الإسلام بالأُنس، وجعل عِزَّ يومه ماحيًا ذُلَّ أمس، وأسكنه العالم والفقيه بعد البطرك والقَسّ، ¬

_ (¬1) في (م) و (ش): قال الفاضل: إنه أنطق الله السلطان بالغيب، فأعطاه الخطابة. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وعُبَّاد الصَّليب والشَّمْس، وأخرج أهل [يوم] (1) الجمعة منه أهل [يوم] (¬1) الأحد، وقَمَعَ مَنْ كان يقول بالتَّثليث أهل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وقد فتح الخادم بحمد الله من الدَّاروم إلى طرابُلُس، وجميع ما حَوَتْ مملكة الفرنج إلى نابُلُس. وذكر في "الفَتْح القسِّي" كلامًا في هذا المعنى، فقال: وغُسلت الصَّخرة بدموع الباكين من المؤمنين، ونُزِعَ لباسُ البأس عنها بإفاضةِ ثوب المُحْسنين، ورَجَعَ الإسلام الغريب منه إلى داره، وطلع قمرُ الهدى به من سِرَاره، وعادتِ الأرضُ المقدَّسة إلى ما كانت عليه من التَّقديس، وأُمنت المخاوف فيها وبها، فصارت صباح السُّرى ومناخ التَّعْريس، وأُقصي من المسجد الأقصى الأقصون من الله الأبعدون، وتوافد إليه المُصْطَفَوْن المقرَّبون، وخَرِسَ النَّاقوس بزَجَلِ (¬2) المسبِّحين، وخَرَجَ المُفْسدون بدخول المُصْلحين، وقال المحرابُ لأهله: مرحبًا وأهلًا، وشمل جماعة المسلمين ما جَمَعَ الله لهم فيه شَمْلًا، ورُفعت الأعلامُ الإسلامية على منبره، فأخذت من بِرِّه أوفى نصيب، وتلَتْ بألسنة عِزِّها {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13] وغُسلت الصَّخرة بدموع المتَّقين من دَنَس الكافرين، وبَعُدَ أهلُ الإلحاد من قُرْبها بقُرْب الموحِّدين، وذُكر بها ما نُسي من عهد المعراج النَّبوي والإعجاز المحمَّدي، وعاد الإسلامُ بإسلامِ البيت المقدَّس إلى تقديسه، ورجع بُنْيانه من التَّقوى إلى تأسيسه. [وذكر العماد فصولًا في هذا المعنى] (1). وفي شعبان سار السُّلْطان إلى صور، فوصلها غُرَّة رمضان، فوجدها مدينة حصينة؛ وهي في البحر مثل السَّفينة، والبحر محيطٌ بها من جوانبها، وليس لها طريقٌ إلى البر إلا من كان في القدس من مكان واحد فيه سبعة أبراج، وفيها المركيس، وكان شجاعًا حازمًا، وقد انضوى إليه جميعُ مَنْ كان في القُدْس والسَّاحل من الفرنج، وأقام السُّلْطان ينتظر الأُسطول من مِصْر، فوصل فقاتلهم في البر والبحر، واتَّفق أَن الأُسطول غَفَلَ ليلةً، فكبسه الفرنج، فأخذوا المراكب، ورمى بعضُهم نفسه في البحر فغرق، فتأخَّر السُّلْطان إلى سَلْخ شوَّال. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الزجل: رفع الصوت. "اللسان" (زجل).

ووصل إليه من بغداد تاجُ الدِّين أبو بكر حامد أخو العماد الكاتب، فالتقاه السُّلْطان وأكرمه، فكان معه رسالة وتذكرة مشحونة بالعتاب على أسباب: منها أَنَّ الخليفة عتبه لأجل ابن البُوشَنْجي، ويلقب بالرَّشيد، وكان صبيًّا [ببغداد] (¬1) لا يُؤبه إليه، فخرج إلى الشَّام، واتَّصل بصلاح الدين، وقيل له: هذا من بيتٍ كبير، وكان أديبًا، فأعجب السُّلْطان، فسأله أن يبعثه إلى بغداد في رسالة، فبعثه، فشقَّ على الخليفة، وقال: ما كان عنده غير هذا! وقصَّروا في حقِّه، فلما عاد إلى السُّلْطان تكلَّم بكلمات، وقال: ما التفتَ عليَّ وأُهِنْتُ. ومنها أنَّ كلَّ من هَرَبَ من بغداد ولجأ إلى السُّلْطان يقبل عليه مثل تميرك وابن رئيس الرؤساء وابن هُبيرة وابن أبي النَّجيب وأمثالهم. ومنها مشاركته في لقب الخليفة بالنَّاصر، وأشياء من هذا الجنس، ثم قال في آخره: ويمنُّ علينا بفتح القدس، وهل فتح إلا بعساكر الدِّيوان وتحت راياته؟ فاستشاطَ السُّلْطان غضبًا، وقد كان يرجو أن يأتيه الكتاب من الخليفة يشكره على ما فعل، ثم قال السُّلْطان لأخي العماد: أما ابنُ البُوشَنْجي فمن عندكم جاء، وقيل لي: إنَّه من بيتٍ كبير، وصحبني، وسألني إنفاذه إلى بغداد ليمنَّ على أهله ويتجمَّل بكم، فما أمكنني رَدَّ سؤاله، وأما الدِّين التجؤوا إليَّ من أرباب البيوت، فإنَّ الإنسان قد يلتجئ إلى كوخِ عجوز في البرية، فيجيره من القتل، فأنا فعلتُ فِعْلَ العرب، وحَفِظْتُ الذِّمام، وعرفتُ حقَّ من قَصَدني ولجأ إليّ، وصُنْتُهم أيضًا عن الحاجة إلى النَّاس، فيصير ذلك عارًا عليكم. وأما مشاركتي في اللَّقب، فوالله إنني ما اخترته ولا اقترحته، ولكن لما أزلتُ دولةَ عدوه القائمة من مئتي سنة وكسر، وفعلتُ ما فعلت، لقبني المستضيء بهذا اللقب، وكتَبَ من بغداد إلى نور الدِّين بذلك، ولم يكن في زمانكم، ثم لو وقع هذا، ففي عسكري عشرة آلاف تركماني وكُرْدي لَقَبُ كلِّ واحدٍ صلاح الدين، فلِمَ لا أفكر عليه؟ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وأما قوله: إنني فتحتُ القُدْس تحت راياته وعساكره، فأين راياتُه وعساكره: والله ما فتحته إلا بعساكري وتحت راياتي. وأرعد السلطان وأبرق، وتأكدت الوَحْشة باطنًا، وأمسك السُّلْطان نفسه ظاهرًا، وأكَّد الوحشة قَتْلُ ابنِ المقدَّم في هذه السنة على عرفات، وسنذكره إنْ شاء الله تعالى. وأمر الفاضل فكتَبَ كتابًا إلى الخليفة يقول فيه: المحاققة تُوجب المفارقة، وإغلاقُ هذا الباب خيرٌ مِنْ فتحه، واندمالُ هذا الجرح خير من اتِّساعه وخَرْقه. قلتُ (¬1): وقد وقفتُ على نسخة الرِّسالة الواردة بالإنكار، وهي عن قِوامِ الدِّين يحيى بن زَبَادة؛ أُستاذ دار الخليفة إذ ذاك، ومن إنشائه، والجواب عنها إليه من إنشاء القاضي، وهي رسالةٌ غريبة أحببتُ إثباتها هاهنا، والجواب عنها، وصورتُها بعد البسملة: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] ما جمعه الله تعالى للملك الصَّالح صلاح الدِّين -أدام الله عُلُوَّه- من أشتاتِ المناقب، والآراء الصائبة الثَّواقب، والبصيرة النافذة في المبادي والعواقب، يغني عن إطالة الكلام في كَشْف الغامض الخفي، فَضْلًا عن الواضح الجليّ، ومعلوم أَنَّ الأولياء المحروص عليهم، المرغوب في عمارة قلوبهم، واستخلاص غائل صدورهم، واستدامة الحُسْنى منهم وفيهم، لا تُطْوى الأمور معهم على إدراج الأدراج، ولا تُغضى العيون منهم على إقذاء الأقذاء، ولا تسمح بهم لمراجم الظُّنون ومظانّ الشُّبُهات، ولا يترك تعريفهم كلَّ ما ينظر منهم، بحيثُ يكون الإنعام محفوظًا فيهم، وودائع الصَّنائع مستبقاة عندهم، ولولا مكان صلاح الدين من الخِدْمة الشَّريفة، والشُّحّ به، والمنافسة فيه لما جُوْهِر بالعِتاب، ولا رُفِعَ دونه هذا الحجاب، بل كان يُترك الأمر على اختلاله، ويُدْمل الجُرْح على اعتلاله، وإنما الذي سَبَقَ له من الخِدَم، وسيق إليه من النِّعَم، والزَّمان الذي استنفد في اصطناعه، وإطارة صيته وإطالة باعه، والمبالغة في أسباب عُلوِّه وارتفاعه، لا يسمح للغِيَر، ولا يعرض صفوه للكدر، ولا يرى ¬

_ (¬1) القائل هو قطب الدين اليونيني، مختصر "مرآة الزمان"، وقد انفرد بإيرادها بتمامها، وانفردت نسخة أحمد الثالث من نسخ "مرآة الزمان" بهذا القسم من الكتاب، والرسالة عسيرة القراءة، فشا فيها التصحيف والتحريف، وقد فاتني -على ما بذلت من جهد- قراءة بعض كلماتها وعباراتها، وألمعت إلى ذلك في الحواشي، وانظر ص 67 من ج 22 من هذا الكتاب.

الدِّيوان العزيز أن يطوي عمله عنه بما نشرت الأيام منه، ليعرف مكان النظر بتوقيفه عليه، وإيضاحه لديه، كل ذلك على سبيل التسديد والتهذيب، لا على وجه التوبيخ والتَّثْريب، وقد ذكرتُ الأسباب التي أخذها الدِّيوان العزيز عليه، واستغرب وقوعها من كماله، ليُرْعيها سَمْعَه الكريم، ويستوري فيها رأيه الأصيل القويم، ويُنصف في استماعها والإجابة عنها، غير عائج على الجدل، ولا مُوتَمٍّ بالمِراء المذمومَين شَرْعًا وعقلًا، بل يحملُ قولي هذا على سبيل المماحضة والانتصاح، وصدق النِّيَّة في رَأب الثَّأي (¬1) والإصلاح، فإنَّ اتِّخاذ الدَّواء الممر لا يُتَّهم فيه الطبيبُ المجتلب للعافية. فمنها أَنَّ كل من نشد بالعراق غيرَ ضالَّتِهِ، واقتضى الأقضية بما لم يقض أَرَبه، أو جَهِلَ فَعُرِّف، أو اعوجّ فثُقّفْ، أو تهوَّر فوقف، أو أحوج إلى تهذيبه بالتأديب وسياسته، أو توجَّه عليه حقٌّ، فخاس به بخساسته، لا لعزته ونفاسته، لجأ إلى صلاح الدِّين -حَرَسَ الله مَجْدَه- في دَفْع حُدود الله وحقوقِ النَّاس عنه، فصار كساده عنده نَفَاقًا، ووجوب حرمانه لديه استحقاقًا، ووجد عنده الإقبال عليه، والقَبول والمسامحة له بكل ما يتسمَّجُ به ويقول، حتى سرى ذلك في كثير من سفهاء جنود أمير المؤمنين وأصحابه، وشاع عنهم التسمُّج فيما لا يصلح، وإلاقة (¬2) الأَلْسن فيما لا يحسن، والاجتراء إلى كلِّ مقول تحظِّره الأديان والعقول، ويكرهه الله والرسول، ويَزْجُر عنه المرويُّ والمنقول، وينبو بقائله عن الصِّراط المستقيم، ويؤتي إلى كلِّ أمرٍ مُظْلمٍ بهيم، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] فتوهَّم هذا أنه لو لم يكن لهذه الأعلاق عنده نَفاق، لما قامت بها لديه الأسواق، وقد كان الورعُ الدِّيني والأدب الدنيوي يوجبان على صلاح الدين -حَرَسَ الله نعمته- أن يقف في رضاه وسخطه، واعطائه ومَنْعه، وتقريبه وإبعاده، وحِرْمانه وإسعاده عند إشارة الدِّيوان العزيز، ولا يكون له إرادةٌ في نفسه، فيقيم على هيبة الخِدْمة الشَّريفة، حسيبًا على ملامح الألحاظ، ومخارج الألفاظ، ومظانّ الإيماء والإيماض، حتى لا يكون لأحدٍ مطمعٌ في أن لا يكون بمرأى من الدِّيوان ومَسْمع، فإنَّ صلاح الدين هو العُدَّة لقَمْعِ الأعداء بالسُّيوف وإِصْلاتها، فكيف بكفِّ الألسنة الهاجرة واسكاتها؟ وأعجبُ الأشياء أَنَّه يظنُّ انطواء هذا ¬

_ (¬1) الثأي: الإفساد، يقال: رأب الثأي: أي أصلح. "معجم متن اللغة": 1/ 422. (¬2) ألق يألق ألقًا وإلاقًا: انبسط لسانه بالكذب."معجم متن اللغة": 1/ 197.

أو ذا في دقائقه عن علوم الديوان العزيز، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]. فصل: وإنَّ مما أضحك ثغر الاستعبار ما انتهى عن العوام وأشباه الأنعام وطَغَام الشَّام من الخوض في المذاهب، والانتهاء في التَّشْنيع إلى [اختلاق] (¬1) كلِّ قولٍ كاذب، أما يعلم صلاح الدين وكل من صافح الإسلام قلبه أن هذا البيت المعظَّم الهاشمي هو البيت الذي اختاره الله من بَرِيَّته، واستودعه أسرار نبوته، واسترعاه خَلْقَه، واستخلفه في أرضه، وتعبَّدَ الأُممَ بولائه، ورفع من قدره وشأنه، وقسم الجَنَّة والنَّار بين أوليائه وأعدائه، وخصَّه لسوق الدنيا بحذافيرها إليه، وتحريم الصَّدقة عليه، وغَرَسَ له في قلبِ كلِّ مؤمن حُبًّا، فقال عَزَّ من قائل: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرًا إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فإذا كان ولاؤهم على غيرهم فَرْضًا، فكيف لا يتولى بعضهم بعضًا: أفصائرٌ دين الله مُضْغة لكلِّ جاهلٍ، أغلف القلب موقور السَّمْع، منزور العقل، مفتون العقيدة، قد حَطَّه الله عن أوج الاجتهاد إلى حضيض التقليد، وتردَّى من مكان بعيد، لا يفرِّق بين أيًا من أي، ولا يعرف الرُّشْد من الغَيّ، لا يعقِلُ الحقَّ فيتوخَّاه، ولا الباطل فيتوقَّاه، أما يعلمُ صلاح الدين أَنَّ هذا البيت المقدَّس عنه يؤخذ الفَرْض، ومنه تتلقَّى السُّنَة، وباعتقاد إمامته تنعقد الجماعة، يُعَلِّم ولا يُعَلَّم، ويُخرس كلَّ منطق إذا تكلَّم، ولهذا قال عليُّ بنُ أبي طالب عليه السَّلام: "نحن صنائع رَبِّنا، والنَّاسُ بَعْدُ صنائعٌ لنا" فما لكلِّ ذي ظَلْعٍ لا يَرْبَع على ظَلْعه، والخوضُ في دين الله؟ أما تعلم أَنَّ الحُكْم في دين الله مردودٌ إلى هذا البيت: أفرد الله تعالى بذلك منصب خليفته، وعزل عنه سائر خليقته، فقال سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيطَانَ إلا قَلِيلًا} [النساء: 83]. ومنها: ما جرى من سَيف الإسلام بالحجاز من إزعاج الحُجَّاج، وإرهاج تلك الفِجاج، والإقدام على مناسك الله وشعائره، وإيقاد سعير الفِتن ونوائره، وتجديد السِّيَر القاسطة، وإحياء بِدَعِ القرامطة، ما نَفَر منه كلُّ طَبْعٍ، ومجَّه كلُّ سَمْعٍ، لأَنَّ مكَّة -حَرَسَها الله تعالى- هي أُمُّ الدِّين، الذي انتخبه وقرَّبه أمير المؤمنين، الذي أخرجه إرثًا عن آبائه الخلفاء الأبرار، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "الروضتين": 3/ 421، وكان أبو شامة قد انتقى فقرات من هذه الرسالة.

والأنبياء المُصْطَفَين الأخيار، فهم أصحابُ هذا البيت مُذْ بوَّأَ الله إبراهيمَ مكانه، ورَفَعَ هو وإسماعيلُ قواعِدَه وأركانَه، وقد كان في الدُّهور المتطاولة، والفترات المتراخية من تداول الدُّوَل، وتناسخ الشَّرائع والمِلَل، ما عَجَزَ أهلُ السِّيَر عن ضَبْطه، وحَصِرَتِ التواريخ عن حَصْره، فلم يكن في هذه الأزمان كلِّها مَنْ تعرَّض لهذا البيت المنصور، في ذلك البيت المعمور، حتى كانتِ الملوكُ في الجاهلية وقَبْلَها يسمُّون هذا الحيَّ من ولد إسماعيل عليه السَّلام: أهل الله وسَدَنة بيته، فإذا كانت الظُّغاة والجبابرة، وأهل النِّحَل الكافرة، لم يعترضوا لتلك البقعة المباركة لعِلْمهم بسِرِّ الله تعالى فيها، وفي أهلها، وإحلال المَثُلاث بمن أخافها، وتعرَّض لها مع كونِ الدُّوَل والمِلَل متمالئة عليه، تطمع الآن فيه، والدول تخدمه، والأديان تعظِّمه، هذا من غرائب تساويل الشَّيطان، ومرامي الأطماع، وأماني النفوس، فهذه نبذةٌ من أمالي الشَّرْع وقضايا العقل عُزِيا إلى ما يوجبه الأدب، وعرفان مواقع النِّعَم، أما كان فيما أولاه أمير المؤمنين-صلوات الله عليه- وولاه من تلك البلاد والأطراف، والولايات الواسعة الضَّواحي والأرياف، إلى غير ذلك مما استكفاه فيه كفاف يصدُّه عن الطموح، إلى وطن أمير المؤمنين، والبيت الذي وقفه عليه ربُّ العالمين؟ فليس لأحدٍ مِنْ خَلْق الله تعالى فيه مطمع، ولا لبصرٍ من الأبصار نحوه مَطْمح، فكيف جاز لصلاح الدين أن يرخي عِنان أخيه فيما يقوِّض سوابقه وأواخيه، ويثبِّتُ عليه الحُجَّة، وتتعذَّر المعذرة فيه، هل هذا إلا تحككٌ بالغِيَر، وتنفيرٌ لأوانس النِّعَم؟ نعيذ صلاح الدين بالله مِنْ ذلك. ومنها: ما قضى الناس منه العَجَب، وفُوْرِقَ فيه من الأدب والحَزْم ما وجب، التَّلَقُّب باللَّقب الذي استأثر به أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- وجعله عَلَمًا لعظمته، وصار له كالاسم الأعظم الذي لا يُشارك فيه، ولا ينبغي لغيره، وقد شارف زمان الدَّولة -ثبَّتها الله- خوارج دوَّخوا البلاد، وأسرفوا في العناد، وجاسُوا خلال الدِّيار، وأخافوا المسالك، واستضاموا الممالك، واقتحموا من الشقاق أشقَّ المهالك، فما انتهى أحدٌ منهم فيما ارتكب واحتقب، إلى المشاركة في اللَّقب، فإنْ كان صلاح الدين رأى أو سَمِعَ من شارك الخلفاء الرَّاشدين -عليهم السلام- في أخصِّ صفاتهم، وانتهى إلى مساماتهم في سماتهم، فليمهد عذره بذكره والإعثار عليه، ليعلم أَنَّه بسعادته حذا على مثال، ونسجَ على منوال، وامتثل ما سَبَقَ إليه أمثال، وإلا فسبحان الله! أما كان في الألقاب الفاخرة النَّابهة مندوحة

عن الوقوف على هذا المزلق المرتجِّ، وركوب هذا البحر الملتج، والمنازعة فيما لا يوجد له شاهد ولا محتجّ! ومن العجب أَنَّ أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- يخاطبه من سمة الملك بما لم يكن له، ويزاحمه هو فيما ليس ينبغي لغيره، ومن الحِكَم البالغة في وجيز الكلام: الذي يَصْلُحُ للمولى على العَبْد حرام. ومنها: أنَّ كلَّ طرف يتاخمُ الدِّيوان العزيز من مواطن التركمان والأكراد ما زال أهلُه رعيَّةَ العراق، وخَوَلَ الدِّيوان العزيز، يَرِثُون الطَّاعة خالفًا عن سالف، لا يعرفون سوى أبوابه، ولا يجتمعون على غير نوابه، يسافر صلاح الدين -أدام الله علوَّه- إليهم باستزلال أقدامهم، والاسترسال لإقدامهم، وفَلِّ عزائمهم، وطَمْس ما رقمه الزَّمان من الطَّاعة في صدورهم، أفما كان فيهم من ألان الديوان العزيز لصلاح الدِّين مقادته، وألزمهم طاعته، وجعلهم أتباعه وأجناده من جموع تلك الخطط وأمرائها، ومتقدِّمي بيوتها وقدماتها غُنْية عن أجناد الحضرة وأشياع الحوزة؟ ولعل أجمل أعذاره وأمهدها في نفسه أن يقول: إنني أواصِلُ من يواصله الديوان العزيز، وأتقرَّب إلى من يقرِّبه، وتلك خدعةُ الصَّبيِّ عن اللَّبن. وجواب ذلك من وجوه متعدِّدة: أحدها أنه لو كانت قصوده -كما ذكر- لكان ينبغي له أن يقدِّم استئمار الدِّيوان العزيز فيه، ولا يفاتح أحدَهُمْ بخطاب، ولا يسمح لهم إن فاتحوه بجواب دون المطالعة بذلك، وتنجُّزِ الإذن فيه، وعَرْضِ كلِّ ما يجري في عرض التكاتب والتراسل على رأي الدِّيوان العزيز، فما يرتضيه يمضيه، وما يردُّه يقف عند محدود أمره فيه. والثاني: أَنَّ كلَّ من يتكفَّل الدِّيوان العزيز بأمره، ويقف به في الاستحقاق عند حدِّه وقَدْره، لا يجوز لأحدٍ من الأولياء بَسْطُ أمله إلى حيث يقبضه الديوان العزيز عنه، لأن الذي يُسْديه إلى عبيده من الإنعام، لا يحتاج من غيره إلى تمام، لاسيما إذا عُومل الدِّيوان مع هذه الأحوال الغريبة بالمعافصة والمكاتمة، فظهر على ذلك كلُّ ما يوجب الإيماء بالظُّنون، والإيماض بالعيون، وشاع من ذلك ما أنكرته قلوب الخواصّ، وأطلق ألسنة العوام، نظرًا إلى الظواهر والعادات التي لا يعتبر في الأكثر سواها، ولا يُحْكَمُ في الأغلب إلا عليها، وكتب الظَّواهر إذا حَسُنَتْ، والبواطن إذا عمرت سلمت

من هواجم الأوهام البارعة، ورواجم الأقوال المنازعة، فكيف إذا تنكرت المخايل، واشتبهت الدلائل، فقد أضاع -أدام الله علوه- الحَزْمَ، ونكث عن اللائق بأمثاله من أكابر الأولياء الدِّين يقتدي بهم مَنْ دونهم، إلى غير ذلك من الأسباب التي توجب الاتِعاظ بها، ويُعَوَّل على الألمعية الكريمة في التبطُّنِ لها، كل هذا يجري والديوان العزيز لا يتأثر به، ويحمله على أحسن محامله ثقةً بصلاح الدين، واعتمادًا على صِدْق ولائه، وأصالة رأيه، وصحة معتقده، إلا أنه لما كَثُرَت الأقاويل النَّاشئة عن كل أمرٍ متوهَّمٍ مخيَّل أوجبَ الحزم أن يُواجه هذا المشروح بمثاله، ويُوازن بمقاله، ويكايل بمكياله، ليلمح صلاح الدين -أدام الله علوه- بتلطُّف فطنته النيِّرة مرمى الدِّيوان العزيز في ذلك، فيثوب إلى الواجب من قريب، ويرجع في مسالك المخالصة إلى سواء السَّبيل، فما أشار عليه بذلك مَنْ نصحه، ولا سوَّل له مَنْ شَكَرَ صنيعه عنده، لأنه عَرَضٌ لا يظن ويطنُّ به، ويشكك ويتشكك فيه، وما هذا إلا مِنْ حاسدٍ حَسَدَ صلاحَ الدين على نِعَمِ الدِّيوان العزيز، ولم يستطع أن يغير آراءه الجميلة فيه، فغيَّره هو عليه. ثمْ من أدلِّ الأشياء على صفاء رأي الدِّيوان العزيز، وتلونه بسعادته (¬1) عليه ما جرى في البوازيج، وهو عضو من أعضاء العراق، كان الدِّيوان قد استولى عليها، ودخل العسكر المنصور من أقطارها، وأقام شمس الدين مقلَّد بن مهارش بها، يستطلع الأوامر الشَّريفة فيها، فأوعز إليه بالخروج عنها لمكان الوثوق بصلاح الدِّين، وما سبق من حلفه مغلَّظات الأيمان، المودعة خُزُن الدِّيوان، أنه يفتتحها وتكريت معًا، ويسلمها إليه، فركن منه إلى ذلك، وأعذر بالمهلة، وأخذ معه بوثائق الحُجَّة، ثم نقضت بالانتظار والإمهال المُدَّة، فلم يعضد ذلك القولَ فِعْلٌ، ولا لاحت له أمارة، ولا تحرَّك فيه ساكن، وطارت بذلك الوعد عنقاءُ مغرب، مع أَنَّ الديوان العزيز ما كان يتعذَّر عليه أخذ البوازيج ولا غيرها، فإنَّ عسكره المنصور قد فتح القلاع الناهية بين الخَلْق، فاستنزل أهلها من صياصيها الشُّمْخ الشم، فلم تكن البوازبج المستأمَنة بأطماع التركمان، المستأمِنة برعاتها لتمتنع عن الجيوش المنصورة، التي تكفل الله بإظهارها ¬

_ (¬1) كذا في (ح)، ولم أتبين معناها.

في كلِّ ما قط، وأيدها بالملائكة في كل ما رق، ولكنَّ حِفْظَ قلبِ صلاح الدين الذي حفظه عند الدِّيوان العزيز من أهمِّ المطالب، واصطفاء ولائه الذي هو أنفس الرَّغائب، ثم رعى الديوان العزيز مع ذلك دقيقةً مهمة، وصوبًا ظاهر الصَّواب، خفيَّ اللَّمْحِ، وهو أن يُظْهِرَ للكافة أَنَّ عند صلاح الدين من حُسْنِ الطاعة ونقاء السريرة، والاجتهاد في مراضي الخدمة ما بعثه على انتزاع البلاد من مخالب الآساد، اقتسارًا وحَرْبًا، وتسليمها إلى الديوان العزيز صَفْوًا عفوًا، خدمةً يطَوَّع بها من تلقاء نفسه، وامتيازًا على كلِّ من يناصبه من أبناء جنسه، واحتجاجًا لأمير المؤمنين -صلوات الله عليه- في اختصاصه وإدنائه، وليعرف أصحابُ الأطراف وولاة الممالك أنَّ مُثُلَ الديوان العزيز إلى صلاح الدين دونهم، وإبطائه إعفاءهم (¬1)، والإنافة به عليهم عن استحقاق بجميلِ المساعي، واستحبابٍ بحميد الوسائل والدَّواعي، لأن الديوان العزيز خصَّ صلاح الدين بالأَثَرةِ والتقديم، ورفع بناءه على كلِّ بيت قديم، واستهدف فيه مع أصحاب الأطراف، وذوي التيجان الموروثة عن الأسلاف لكلِّ معتبة، واحتمل منهم في سبيله كلَّ لائمة، ولو لم يكن في إحفاظهم، وتنكُّرِ طباعهم، وخطأ حظّهم إلا ما يوجد به -أدام الله رفعته- من بينهم، وقطع به أنفاس منافساتهم من خطابه بالمُلْك، حتى لم يبقَ من يخاطبه قلمُ الديوان العزيز ملكًا سواه، لكان ذلك كافيًا في إنفار قلوبهم، وإيغار صدورهم، واستثارة حفائظهم، واستخراج ضغائنهم، وكأَنِّي بصلاح الدين قد عارض هذه المعاتبة الحازمة، والمراشد الجازمة، والحجج الثَّابتة اللازمة بالامتنان بفتح مِصْر، وجهاد أهلِ الشِّرْك، وسدِّ تلك الثغور المنفرجة، وتمهيد تلك الخطط المضطربة، فإن كان المقصود الجنوح إلى المواربة، والتجانف عن الموافقة والمجامعة، والأخذ في الجدل، وإبراز شُبَهِ في معترض الحِجاج، فذاك أطولُ من الأعمار، وقد جُودل في الآيات المحكمة وصحاح الأخبار، وما أمسكت قط الألسن الأهوية والإعراض عن المماراة والاعتراض، وإن كان المقصود بمحض القول محض الحقِّ، فلا مِرْية أن فوائد فتح مصر كلها مقصورة على صلاح الدِّين -أدام الله سعده- في إطالة الباع، وإطارة الصِّيت، وتأثيل المجد، واجتلابِ الدَّرِّ، والمزاحمة بمنكب ¬

_ (¬1) كذا في (ح)، ولم أتبين معناها.

الملك، والتخطِّي إلى مقام لم يكن له من قبل، والديوان العزيز في نجوةٍ من ذلك كلِّه، لأن منصب الإمامة المفروضة لا تزيده مصر والثُّغور إذا فتحت، ولا تنقصه إذا استغلقت، وقد كان صيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السماء مشهورًا، وصوت بلال بالأذان في القليب مستورًا، ولقد قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَعْدُ سُلْطانُه دُومة الجندل والبحرين، فما كان ضِيقُ رقعة مملكته قادحًا في سَعَة أجزاء نبوته، وكانت الولاية الحقيقية في الدنيا له، وإن كانت أسياف أهلها عليه، وكذلك الإمامة التي هي وراثةُ النُّبوة، فلو لم يكن لأمير المؤمنين -ثبَّت الله دعوته- من دنياه إلا مكان مسجده ومصلاه، لما أبطل تغلُّبُ الباطلِ عليها حقَّه، ولا أخرجه استيلاءُ الطُّغيان عن ملكه لها، وطالما كانت مصر في أيدي الخوارج المارقين، وما أَثَّر ذلك في مماجد الخلافة وإمرة أمير المؤمنين، وكما لم يقدح استيلاءُ المُشْركين على بلاد الشَّام، وهي لمقر الخلافة والإمامة أقرب، كذلك لم يقدح استيلاءُ الخارجين على مصر، وهي عنها أبعد، وأمير المؤمنين -صلواتُ الله عليه- صاحبُ الأرضِ بأَسْرها، والمستحقُّ لها باستخلاف الله تعالى إياه فيها، سواءٌ زُويت كلُّها له أو زُويت عنه، فإنْ نافره منافِرٌ كان كما لو كَفَرَ بالله كافر، فكما لا يُخْرِجُ الكافرَ كُفْرُه أن يكون عبدًا لله، فكذلك التغلُّب على الأرض لا يخرجها عن استحقاقِ خليفة الله، وإذا فخرت الملوك بالممالك، فخرت الممالك بالخلائف، وبعدُ، فوالله ما كانت مِصْرُ محميةً بمن كان فيها، بل باشتغال الخلفاء الرَّاشدين -عليهم السلام- بالأحداث عنها، وما زال عمال الدولة القاهرة حاكمين فيها إلى أن تجدَّدت الأخلاف الشَّاجرة، والفتن النَّائرة، وانتثال الخوارج من كلِّ صوب، وانتزاء النَّواجم من كل أوب، فَشُغِلَ الدِّيوان العزيز عمن تغلَّب على مِصْر من الباغين، كما شُغِلَ عمن تغلَّب على الشَّام من المشركين، وباباتهم، تَمَّ ذلك كلُّه (¬1): ممن خرج على الخلافة وعصاها، وفارق الجماعة وشَقَّ عصاها، ولم يكن الديوان في أثناء ذلك كلِّه مهملًا لمِصْر، ولا غافلًا عما فعل الظالمون، ولكن أخَّر ذلك إلى حين بلوغ أجلِ الكتاب في التدبير، أَخْذًا بسُنَّة الله تعالى في تقديم الإملاء على التدبير، وكوتب الصَّالح نور الدين محمود بن زَنْكي - ¬

_ (¬1) كذا في (ح)، ولم أتبين معناها.

رحمه الله- في تلك الأيام السعيدة المقتفية -قدَّسها الله تعالى- لأنه كان يومئذٍ نائبَ الدِّيوان العزيز في ذلك الطَّرف بالشرْع في أمر مِصْر، وأن يُعملَ فِكْره، ويستوريَ رأيه، وينتضيَ عزمه، وأنْ يهجرَ الدَّعَة، متجرِّدًا في نَصَبه وانتصابه، إلى أَنْ يستقرَّ حقُّها في نصابه، وكان أسدُ الدين شيركوه -رحمه الله- ظهيره يومئذٍ، فتظاهرا على امتثال ذلك المرسوم، وأصَّلا لذلك الأمر أساسًا، وفتلا له أمراسًا، وكان صلاحُ الدين المخصوص باختتام مناقبها، واعتلاء مراقبها، والاستئثار بفخر صدورها، فتقدَّمَ الدِّيوان العزيز بقِدَمِ أسبابه حتى أقدم، وابتدائه حتى تمَّم، واحتطب له حتى أضرم، وهل كانت نائبة مِصْر إلا طيفًا حلم به الزَّمان، ورقيمة كُفْرٍ محاها الإيمان، ومَعْلَمَ باطلٍ زَحَفَ به الحقّ، فدرس عفاء، وزبدًا احتمله السَّيل فذهب جُفاءً، وإنْ أنصفَ صلاحُ الدين عَلِمَ أَنَّه ما فتح تلك الأَرْتاج، وتسنَّى تلك الاستزادة إلا بيُمْن آراء الدِّيوان العزيز وتسديده، ولا فتح أقاليمها إلا بتقليد تقليده، فإنَّه استند من عِزِّ الخلافة الشَّريفة إلى حَوْلٍ لا يُحاول، وسما من طَوْدِها إلى طَوْدٍ لا يُطاول، وجاش من جُيوشها بصلالٍ لا يُصاول، فذلَّ له كلُّ صَعْب، والتأم به كلُّ شِعْب، وأسلست له المصاعب قِيادَها، وقرَّبت له الآمالُ آمادها، حتى أباح تلك الأرضين وأبادها، وفَرَسَتْ ثعالبه آسادَها، ورسا أصل إمرته ورسخ، وسما فَرْعُها وشمخ، وكذلك كلُّ مَنْ تقدَّم وسلف، وكذا يكون كل من تأخر وخَلَف، ممن عَصَبَتْ عليه النباهة تاجًا، ونَصَبَتْ له الرِّياسة مِعْراجًا، فَمَن الذي ارتفع شأنه إلا بإعلائها، ولُويَتْ له الرِّقابُ إلا بلوائها، أو نَبُهَ اسمٌ إلا بتنويهها وإسمائها، وأخصب له جنابٌ إلا في رَوْضها المَرُود، أو نَقَعَ له أُوام مرامه إلا من حَوْضها المورود، أَوْ علت له ذروةُ مجدٍ إلا على ضوامرها القُود، أو رأى يومًا أبيض إلا تحت راياتها السُّود، وهذا كلُّه لا أقوله إنكارًا لجلائل مقاماتِ صلاح الدين، ومشاهير مواقف جهاده في سبيل الله تعالى ونَصْرِ المسلمين، ولا طمسًا لآثار مآثره التي طرَّزت السِّيَر، ولا رينًا على أيامه الواضحة الغرر، ولا جَحْدًا لمناقبه في النِّضال عن الدولة القاهرة، والنصح لدعوتها الهادية، وركوب الأخطار في إعلاء كلمة الدين حتى قام أوده، وجثومه على رجفان الزَّمان حتى سكن ميده. وإنه -أدام الله علوَّه- رجل وقته، ونسيج وَحْدِه، والمُرْبي على كلِّ من سَلَفَ من صنائع الدَّولة القاهرة، وعلى من يأتي من بعده، ولكنه الولي المخلص، الذي

عهد فوفى، واسْتكفي فكفى، وطَبَّ فشفى، ونَهَجَ محجة الطاعة فلم يغادر فيها أَمْتًا ولا جَنَفًا، فكيف يجوز له بسعادته أن يُهَجِّنَ مساعيه الغُرَّ المحجلة، ويُهْبِطَ مكانته المكرمة المبجلة، ويُبْطِلَ حقوقه الثابتة المسجلة، ويخْرج عن يده رأيًا لا تقوم الممالك إلا بأمره، ولا تطمئن المنابر إلا بذكره، ولا يصحُّ نَسَبُ الفخر إلا بالانتماء إلى عبوديته، وليس في سائر الوجوه عنه عِوَض، ولا يأخذ من الخَلْق عنه عفاء لا سيَّما صلاح الدين وأمثاله من أكابر الدِّيوان لا يَفْرعون ذروةَ المجد، ولا يستمدُّون وطاء المُلْك، ولا يستصغرون الخدودَ الصُّعْر، ولا يستذلون الرِّقاب الغُلْب، ولا يتوطَّد لهم مقام زَلِق، ولا يتحزَّمُ لهم وضينٌ قَلِق، إلا إذا استندوا إلى رُكْنه، وأووا إلى ربوة خدمته، وأشرقت عليهم أشعة طاعته، وماسوا في ذلاذل تشريفاته، وكاثروا بجنود حدوده، واستنجدوا بالملائكة التي لا تسوَّم إلا لنصره، فقد عَلِمَ كلُّ مَنْ نظر في التَّواريخ والآثار، ونصحته بصيرتُه في التبضُر والاعتبار، أَنَّ هذا البيت المُعَظَّم مازال يرفع الأقدارَ الخاملة، ويسم الأغفال الهاملة، ويجذب بصنع العبيد من كلِّ مهوى بعيد، تقبلًا لسنة الله تعالى في الإيجاد من العدم، وعموم الأُمم بالنِّعم، فيثورون عليه بطرًا، فيغار الله له منتصرًا، ويعقبه عليهم إظهارًا وظَفَرًا، كدأب آل طولون وآل سامان وآل بُويه وآل سَلْجُوق، وقرونًا بين ذلك كثيرًا، فمن الذي زلزلوه فَثبَتَ؟ ومن ذا الذي حصدوه فنبت؟ وأيّ نار أوقدوها فَخَبَتْ؟ كلا والله ما طاش لهم سَهْمٌ، ولا صَلَدَ لهم زَنْد، ولا فُلَّ لهم حَدّ، ولا قامت إلا ببقائهم قائمة، وهذا أمرٌ عقده الله في سمائه، وحكم بإنفاذه وإمضائه، وعنون به سِرَّ قَدَره وقضائه، ونَصَبَه عَلَمًا على إسخاطه وإرضائه، فمن ذا الذي يحلُّ معاقدَ الأقدار، ويطور بهذه الأطوار، ويمانعُ شامخَ الفلك الدَّوَّار، ويكشف الأستار عن مراد الله في هذه الأسرار؟ ولما اعترض فيه الملائكة المقرَّبون أُسْكتوا وبُكِّتوا بأني أعلم نبأَ ما لا تعلمون، فبالله عليه بسعادته ما الذي أحوجه إلى فَصْمِ العِصَمِ عن بيتٍ هذا مُرْتقاه في الدُّنيا، وله الشَّفاعة والمقامُ المحمود في العُقْبى؟ وما الذي حمله على هذه الوحشات؟ هل استكثر له جزيل المال؟ أو أُنيف بغيره إلى هذا المكان العال؟ أو طُولب بحقِّ الله مما اختاره من الغنائم والأنفال؟ أو حُطَّتْ له رتبة؟ أو ذُلِّلت له صعبة؟ أو طُومِنَ له بَأْوٌ، أو كُفْكِفَ له شَأْو؟ لا والله، بل جعله أمير المؤمنين -صلواتُ الله

عليه- مطمحًا للأبصار، وعنوانًا لولاةِ الضَّواحي والأمصار، وتاجًا على رؤوس الموالي والأنصار، وأَرْبى به على كلِّ مجد، ووَسَّطَ به كل عِقْد، وأَسْلَفه من النِّعم الشَّريفة في هذا الأمد القصير من التنويه والتنويل، ما لا يُدْرك في المساعي العظيمة في الزَّمان الطويل، بحُسْن فراسةٍ فيه، وجميلِ ظَنٍّ به، وبصيرةِ الرأي في اصطفائه، واستزكاء لمغارس الصُّنْع عنده، فلا ينبغي له مع هذه المزايا التي أصبح بفخرها نابهًا، والعطايا التي أضحى في نعمائها دون الأنام فاكهًا، أن يُصالت من أصلته دون كل سَيفٍ مغمد، وأشبَّ ناره دون كلِّ وقود مخمد، ولا يحملنَّ صلاحُ الدين -أدام الله علوَّه- هذا العِتابَ اللطيف، والإبداء والإعادة في التأنيس والتوقيف على صورةٍ ملجئة إليه، ولا حافر باغيةٍ عليه، بل مجرَّد حرص الديوان على استضواء أقباسه، واستثمار أغراسه، وإلا فإنَّ وراء كتبه كتائب تغصُّ الفضا، وتنصُّ القضا، قوية السُّطا، موصولة السيوف بالخُطَا، بأسهم شديد، وقلوبهم تحت الحديد حديد، غانين بالكثرة والأَيد، عن دقيق الحِيل والكيد، يقارعون على الحَقّ، ويغيرون على الموت في سبيله، والآن فلا يكونن قول هذا مستدعيًا للمناقضة، ومفتاحًا للمعارضة، فإنِّي أعلم أَنَّ عنده بسعادته أذهانًا صقيلة، وألسنة قؤولة، وأقلامًا في هياج الاحتجاج صؤولة، لكن لسنا في تحاسين الأقوال، وتلافيق المِراء والجدال، والاستباق في مضمار الكلام، وإنما نحن في معاظم، وتسكين ثوائر، وإطفاء نوائر، وتمهيد أمر مائر، وحدٍّ لا يجوز فيه التجوز، ولا يصلح فيه إلا الإنصات إلى الحق والإنصاف في الحكم به، وأنا معذور، بل مشكور على تشقيق المقال في هذا المعترك من وجوه كثيرة، منها: مذهبي في الصِّدق، وإدارة إرادتي على نَهْجِ الحق، وإنني في هذه السعادة جئت على فَتْرَةٍ من الرُّسُل، وتراخٍ من الكتب، وثائرٍ من القلوب، ولم أجد لإدمال هذه الجراح على أصل الصحة والصَّلاح، إلا بالقول المحض، والصِّدْق الصراح، وربما أُتَّهمُ في قول هذا بإغراقي في النَّصيحة، وكَشْفي الأغطية، وقديمًا وقَعَ ذلك لكلِّ مصلح، وقد يستفيد الظِّنَّةَ المنتصح، ولكن مقامي هذا لا يحتمل اللَّجْلَجة والمسايرة دون المصارحة والمظاهرة، والانتهاء إلى الغاية التي توجبها الأمانة، وكفانا بالتعيين في هذه السِّفارة على تاج الدين -أدام الله علوه- فإن الله سبحانه امتنَّ على الأُمم بابتعاث الرسل إليهم

من أنفسهم، وقد بلغتُ جَهْدي في الكشف عن وجه الأمر ليؤْتَى تدبيرٌ من صَوْب الصَّواب، والله الموفق لتيسير الدَّواعي والأسباب، بمنه وكَرَمه، اللهم هل بَلَّغْتُ؟ وللرأي السَّامي الصَّلاحي علوُّه، إن شاء الله تعالى. والجواب عن السُّلْطان صلاح الدِّين رحمه الله من إنشاء القاضي الفاضل رحمه الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. أدام الله أيام المجلس السَّامي القِوامي إدامةً تؤذن بتشييد معاليه، ويشتمل بيُمْنها وبركتها حاضر وقته وتاليه، ويؤيد من يواليه مواليه، ويخلد معها ناضر وقته وحاليه، ويتكافأ بها ترادف النصر وتواليه، وتزينه بمحاسن الصِّفات وتحلِّيه، وترى طلوع نجمه من مطالع السَّعْد وتجلِّيه، وتضاعف ما تمنحه به الكرامة وتوليه، والله في كل حال حافظه وكاليه. وصل الكتاب الكريم فملأ القلوب مهابةً، وحاكى بطيبِ عَرْفه ملابه، ونشر النَّاشر منه عطرًا، ونشق الناشق منه قطرًا، وأطيل الرنو إليه بالعيون، وأعظم أن يحمل على الأيدي فحمل على الجفون، وتبسمت الأرض عند معاينته تقبيلًا ولثمًا، حتى كاد أن يؤثر بالشفاه صدعًا ورثمًا، وكأنما استحال التُّرْب عند لثمه عبيرًا، وانقلب أديم الغبراء سُنْدسًا وحريرًا، ورُفِعَ الدُّعاءُ إلى مقرِّ الإجابة ومظنَّتها، وشفع بمفروض الضراعة وسُنَّتها، على أنه تضمن ما يزعزع الأطواد، ويقطع الأكباد، ويطرد عن الجفون الرقاد، وفض عن ثناء عظيم، وخَطْبٍ جسيم {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] يرعد الفرائص فَرَقًا، ويغصُّ بالرِّيق شَرَقًا، لأنه عَبَّر فيه عما يعجز أهل البلاغة واللَّسَن تلافيه، وشاب عَذْبَ كَلامه بعذاب كِلامه، ومزج الشَّهْد من حُسْنِ رأيه بذُعافِ الواشي وافترائه، وفي سالف الوقت قيل فيمنْ سارع اللائم إليه وأَعْنته: رُبَّ ملومٍ لا ذنب له، وإن كان -أعلى الله كلمته- أعنقَ في النَّصيحة وأَوْضَع، فلقد أنهر الجروح وأوسع، وربما بالغ الطبيبُ في إغراق المبضع فأوجع، واشتدَّ الألم وإن لم يلم، لأنه غير خاف عن أحد من أهل مِلَّة الإسلام، وذوي العقول والأحلام أن الدِّين عِقْدٌ سيدنا ومولانا أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- واسِطَتُهُ، وعَقْدٌ هو رابطته، وَورْدٌ هو قُرْبه، وسجاح

هو كرمه، وعماد هو مشيده، وظَهْرٌ هو أبهره ووريدُه، وكتاب هو عنوانه، ودُرٌّ هو صِوانه، ورمح هو مسلاته واهتزازه، وبُرْدٌ هو تحبيره وطرازه، وأنَّ طاعته سبيل مَنْ خالفها ضَلَّ وغوى، ومنار من تنكبه زَلَّ وهوى، وهو الشَّمْس التي لا يكفرها ضبابُ الجحود، والنعمة التي لا ينكرها إلا المارد الكنود، وله العهودُ المحيطة بالرِّقاب، والأمانة الخالدة على الأحقاب، والدعوة الباقية في الأعقاب، والرتبة التي يستوجب بها الأسماء وأشرف الألقاب، ولزوم الحجة التي لا تدفع بالمناكرة، ووجوب الإخلاص الذي لا يُلْغى بالخِدَع والمماكرة، والأمانة المُؤَدِّي حَقّ نفسه من أدَّاها، والمتابعة المنصوص بالسُّخْط على من جاوزها بالخِلاف وتعدَّاها، هذا ما يجب على المسلم اعتقاده، فكيف يُشَكُّ فيمن هذا ما ينطوي عليه ضميره وفؤاده: أو يُرتاب بمن قد أسنده ظهر؟ وهو تقديره في نفسه وتقريره، وتحقيقه في حِسِّه وتحريره، وأمير المؤمنين -أدام الله سُلْطانه، وعمر بإعزاز الخلافة المعظمة مواقفه الشَّريفة وأوطانه- عينُ الحنيفية الصَّافية، والنعمة السَّابغهْ الضَّافية، والممتثلة أوامره كَرْهًا وطوعًا، والسَّعيد مَن كان لدعوتها أسمع وأوعى، وهو وليُّ الأمة وإمامها، وجامع شتات المِلَّة ونظامها، أمورها إليه مردودة، وحدودها إليه محدودة، وهو المفوض إليه ما يتنازع فيه المتنازعون، والحاكم فيما يتثبط عنه المتثبطون، ويسارع إليه المسارعون، لا ينازع في ذلك منازع إلا والله بما يضمر عالم، ولما يقول سامع {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]. وأما ما أنهى من تترامى به إلى هذه الخطة المرامي، فإنه وإن دعت ضرورته إلى إعانته وجَبْرِ كسرته، فما أصغى إلى شكاته أحدهم بمسمع، ولا التفت عليه بمجمع، ولا تبين له في ذلك مطمع، وكيف ينصت إلى من أضاف إلى الآراء المظهرة جورًا، وجاوز بذلك حدًّا، وتعدَّى به طورًا، وهي النَّيِّرة بصيرةً عند انطواء الأمور واستتارها، والمأمونة على أحوال الأُمة وأستارها، وإنَّ طريد نقمتها بعدما كان يريد نعمتها، وإنْ وقذته فهي التي غَذَتْه، وأي تقوُّل يبسط، أو قول يظلم فيه ويقسط، ومن يقول بفيه التراب، وعلته الرَّباب، وليده الفدع، ولأنفه الجَدْع، ولو سُمِعَ من متسمج ما بدل

فساد ما أظهره فساد ما أخفاه، لَعُجِّلت عقوبته، ولانتزع لسانه من قفاه، ومَنْ جُلّ همه نَشْرُ الدعوة الهادية كيف يُظَنُّ به أن يسوغ لمن يهدم بهوانه ما بناه، حاش لله، ولولا الوقوفُ على قدم الأدب وقوة الظن أن هذا الضجر لا يقع إلا عن سببٍ لقلت: مِنَ المتزيد غير المتأيد، وأما نسبة ذلك الخادم واعتماده فهو الموجِبُ للهب كبده واتقاده، ونفور جفنه عن رقاده، وكيف يكون ذلك وهو بطاعة هذا البيت الشريف الذي نزلت فيه الآيات، ووردت الأخبار، وعلى ولائه عاش الصلحاء ومات الأخيار، وإليه مقاليدُ الأمور، وعليه أجمع الجمهور، وبفضله نَزَلَ الكتاب، وهلك بذلك المرتاب، فإنه الحَرَمُ المَزُور، والعلم المنشور، ولا يخالف ذلك إلا آثمٌ كفور، وإليه إيالة المغارب والمشارق، وكلما أَفَلَ نجمٌ نَجَمَ شارق، لا تحصى مآثره، ولا تكثر مكاثره، ولا تعدُّ مفاخره، المحمود الممدوح أوله وآخره، ووضوح الحق بذلك واستنارة دلالاته، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فهو معدن المفاخرة وجماعها، والصخرة التي أعيا الرِّجال انصداعُها، والذِّروة التي طال اعتياصها وامتناعها، لم يُغْره من سلطان إنالة، ولا يستطيل غيرهم بما لهم من الاستطالة، ولا يستطيع قائل أن يقول في سواهم هذه المقالة، أمرهم البليغ المطاع، والدُّنيا لهم نسوعٌ وأنطاع، والوَصَاة بطاعتهم من الله ونبيه المختار، أَنَّ السلامة في جماعتهم، ومن شذَّ شذَّ في النار. هذا جُزْءٌ من مناقبهم التي لا يستطيع أحدٌ أن يحصيها، ولا ارتيابَ بها ولا شك فيها، وأنه ما طمع في مناوأتهم إلا من قُمِعَ وُوُتِرَ، ولا ناوأهم إلا من دَرَسَ، فلا عينٌ ولا أثر، ولا يغلبُ عليهم متغلِّب إلا عَثَرَ جَذُه، وعُفِّر خدُّه، وردَّ الله كيده في نحره، ولا يدرك وصف فضائلهم مسهبٌ مطنب، ولا يملك نعت فواضلهم مِصْقَعٌ مُعْرب، طاعتهم واجبة بالاتِّفاق، لازمة في الأعناق، مقترنةٌ بطاعة الله ورسوله على الاطلاع، هذا ما لديَّ عتيد، والله علي به شهيد، وما على من سَمِعَ لَمْزة لَمَزَها متخرِّصٌ، ونُهْزَةً انتهزها متفرِّص عَتْبٌ وملامة، ولا ذنب يكسبه ندامة، وإن هذا عندي أعلمه يقينًا، ولا أفتقر أن أحلف عليه يمينًا، بل مؤكد لا يحتاج إلى تقرير، ولم يتوسَّم أو يتوهم في الخادم غير ذلك، ولو احتوى على ما احتوى عليه كتاب المسالك والممالك، وأنه بحمد الله أمدُّ المماليكِ في الخدمة باعًا، وأسرعهم لأوامرها اتباعًا، وأقبلهم لها طباعًا، وأشدهم

بحسن آرائها انتفاعًا، وأكثرهم بها دفاعًا، والله المسؤول والمأمول أن يوضح الآراء الشريفة ما تشتمل عليه من الولاء ضلوعه، وما عليه تعويله وإليه مرجوعه، غير معرِّج على تخرُّصِ العدو واجترائه، وإقدام الواشي وافترائه، فإنه لا يرى نجاح مقاصده إلا بجميل آرائه، ولا معتقده إلا جُنَّة واقية من بأساء الدهر وضرّائه، وقد وَهَبَ الله تعالى الرَّعايا عامة، والمماليك الخدمة الشريفة خاصة، مِنْ فسيحِ رحمتها ورأفتها، وتغمدها بالعواطف المخطئ والمصيب، ومتثبِّط عن الطَّاعة ومستجيب، ما تحصل به الطمأنينة للعبد، لاسيما لمن لا يتداخله في الخلاف لها حَمِيَّة، ولا مرق عن طاعتها مروقَ السَّهم عن الرمية، ولا أَخَذَتْه عن التنويه في الانقياد لأوامرها سَوْرَةٌ جاهلية، بل يرى طاعته لهذا البيت محضًا لازمًا، وفرضًا جازمًا، مع أنه لم يَشُبْ صفاءَ ودِّه شائبة، وإن رأى يومًا خلافًا رأى ذلك عقًا وجهالة، وإن ابتدعوا الخروج عن الطاعة قال: هذا بدعة، وكل بدعة ضلالة، لا يوافق لها مخالفًا، ولا يكون لنافرٍ عنها آلفًا، بل يجري من محض الطاعة على معهوده، ويبذل فيها قدرته وأنهى مجهوده، ولو حُمِلَ من الأوامر على الأصعب لرآه الأوفق الأقرب، مستعيذًا بالله من زلةٍ تفتقر إلى التجاوز والإغضاء، معترفًا لأنعمه التي ضفت عليه ملابسها، واطمأنت إليه أوانسها، وظهرت عليه صنائعها، وطلعت عليه بالغدوِّ والآصال طلائِعُها، وما ذكر ذلك إلا ليثبت البراءة من تخرُّصِ ما نَقَلَ الناقل، ليحق الحق ويُبْطل الباطل، ثم مع براءة الساحة وثبوت النزاهة، فإنه يلجأ إلى معقل التجاوز والعفو، ويأوي إلى رُكْنٍ شديد يشرع منه إلى مورد الصفو، ولا يخرج ذلك كما رَسَمَ مخرج الاحتجاج والمجادلة، ولا على وَجْه المناقضة والمناضلة، والمجلس السَّامي -أسماه الله- يأْسو بطبه مرض هذه الحال، ويحسم داء هذا القول المحال، ويقول الخادم: إنّ تجرُّعَ مرارةِ الأعذار خيرٌ من التَّسرُّع إلى المعارضة بالإنكار، لا سيما مع ما يأمل من العفو لعظيم الزَّلات، وما ألف من كرم أعراقه، ومكارم أخلاقه بطلب الصَّلاح فيما يأمر به، ويشير إليه، حيث لم يُؤْنس منه إلا إعمال الرَّويَّة الصحيحة، والاعتماد على قوله - عليه السلام -: "الدين النصيحة" (¬1)، ولولا امتثالي لأوامره، واعتمادي لمرسومه عن آخره، فلا أقف مع المناهضة ولا المناقضة ولا ¬

_ (¬1) هو عند الإمام أحمد في "المسند" (3281) من حديث ابن عباس.

المعارضة، لقلت: متى زَلَّتْ بي عن الطاعة قدم، واستقلت بي استقلالًا يحمل على ندم؟ ولم أزل مرتديًا أردية الخضوع عمري، في باطن حالي وظاهر أمري، لا أخلُّ بالمماحضة في مشهدٍ ولا غَيبٍ، ولا أخرج عن المناصحة إلى شُبْهةٍ ولا رَيب، ولا أرفع ولا أضع، ولا أكفُّ ولا أزع، ولا آخذ ولا أدع، ولا أطير ولا أقع، إلا بعد المطالعة بمكنون أمري وخافيه، وما لا يباين ظاهر الصِّدْق ولا ينافيه، وما تعرفت إلى نعمةٍ فكان لها مني تنكير، ولا غفلت عن شُكْرٍ فأفتقر إلى تذكير. وأما سيف الإسلام، فما جهل فيما اعتمد حقَّ البيتِ وأهله، ولا أنكر حدود حَرَمه، وإنما عاين أمورًا مختلة، وأحوالًا معتلة، فظنَّ أنه يلم شعثها، ويرم منتكثها، ويثقِّفُ اعوجاجها، ويُسَكِّن ارتجاجها، فَعَذْلُ المنتهي عن الغرض، كمن يصف للطبيب غير المرض، وما قصد إلا إطفاء الفتنة وإخمادها، أو صادَفَ الحال إجمادها، ولم تُنْه الحالُ على جليتها، ولا جُليت في حِلْيتها، ولو عَلِمَ أَنَّ هذا يقع من الخِدْمة الشَّريفة موقعَ السُّخْط والإنكار، لكان في حيازة مراضيها شُغْلٌ عن تلك الأحوال، والدُّخول فيها، لكن غَلَبَ على ظَنِّه أنَّ فِعْلَه خدمةٌ يتقرَّبُ بها إلى الآراء الشَّريفة، لا لينتسب إلى الإقدام والاجتراء، والحدود تُدْرأ بالشُّبهات، والتوبة تمحو السيئات. وأما الاتِّسام بما استأثرتْ به الآراءُ الشريفة من اللقب المعظم، فما كان ذلك إلا مِنْ قَبْل أن يقعَ به الاتِّسام النبوي -زاده الله جلالًا- ولم يرسم فيه ما تقع الطَّاعة في مقابلته بالامتثال والارتسام، ولم يُجهل في ذلك مفروض، ولا طُمع أن يُتناول الجوهر تناول العُروض، وكيف يُحاول كَفُّ الثريا باللَّمْس، وأين السُّها النَّحْلَى من مطالع الشَّمْس، الحق أوضح منارًا، وأوسع مطارًا، وكيف يُخامر هِمَّتَه الكريمة الطمعُ في المشاركة في سمةٍ تتحاماها أطرافُ الرِّماح، وتقصر عينُ كل طَرْفٍ عن الدُّنو إلى ذلك الطِّماح، وما صار لبدر الخدمة الشريفة هالة، ونُكِّبَ عن حالة كان عليها إعلاء حاله، فصار بذلك حَرَمًا، وملئ ما شاء عتقًا وكرمًا، فتحامته الأطماع، ووقع بإجلاله وإعظامه الإجماع، وإنما وقع تواصل ذلك، ولم يُعلم الانقطاع عنه والإمساك لما حصل على توزعها سفار البلاد، وترامت بها الأغوار والأنجاد، فلم يتمكن من استدراكها، ولا ارتجاعها من أيدي ملاكها. وما كلُّ دارٍ رَوْضُهُ دارَةُ الحِمَى ... ولا كلُّ مَصْقُولِ التَّرائب زينبُ

وأما مواصلة من أُنكرتْ مواصلتهم من الأكراد، فما كان ذلك لثقلهم عن خدمةٍ هو فيها يشاركهم، قيامُ كل بها فَرْضُ عين، من غير تخلُّقٍ ولا مَين، ولكن كانت لهم وشائجُ نسب، وولائج خدم وسبب، فالتُمِسَتْ موافاتهم لتحصل مكافأتهم، وكان التعويل على استخراج الإذن الأشرف عند إجابتهم، فسيرفدهم بعد الإبعاد، فيحسن قِراهم عند القِرى، ويرجعون إلى خدمة المالك، ولولا ما قد أَلِفَ الخادم من التقلُّب في هذه البلاد، والتعرُّف والتصرف فيها لمغالبة أعداء الله بالجهاد، لودَّ أن يكون تحت الولاية الشَريفة حاضرًا كما هو تحتها باديًا، وأن يخدمها باطنًا كما يخدمها رائحًا وغاديًا، فيكون على النّعمة باطنه وظاهره، ويفوز من ذلك بخير الدنيا والآخرة، فبحسن الآراء الشريفة مصبح النّعم وممساها، تتبع أُولى النّعم أُخراها، وباسم الله مجراها ومرساها. وأما البوازيج، فما تأخر أمرها إلا لأمور عرضت من دونها واعترضت، وموارد تكدَّرت مشاربها وغرضت، وتقلُّب الفرنج في البلاد، وتغلّبهم على حاضرٍ منها وباد، وتنقُّلهم بين الأغوار منها والأنجاد، وتوصلهم إلى البقاع والوهاد، فذاك الذي صرف الهِمَّة عنها والطَّرْفُ إليها طامح، وأوقع الإحجامَ عنها والعَزْم نحوها جانح، وإن خلا لها الزرع، حَصَلَ منها أصلُ المقصود والفرع. وأما الموسومون بالطَّغام، فلا يأنف الغنيُّ منهم الرّغام، وإن كان ما أنكر ثبت عمن له اسم يعتبر، أو وسم يختبر، فإن أنعم بتعريفه أوقع به ما يحذر ولا يعذر، وإن كان من الغثاء والغُتْر، ومن يقلُّ بهم الكُثْر، فأولئك الذين اغتبقوا الجهالة في المهد، ولا يمكن جمعهم على الحقِّ بجهد، وما وجدنا لأكثرهم من عهد، ومن لم يكن له حُلُم يَزَعُهُ، كان في الحلوم الشَّريفة ما يسعه. وأما ما ذكره فيه بالإنعام عليه بالخطاب المفرد به عمن سواه، فما جهل الإنعام به، فكيف فحواه! وأما ما تأثر بذلك عند الأطراف، ورجال على الأعراف، فحاله ينوب عندهم عن الديوان العزيز، وتقوم بحجته عند أهل النظر والتمييز، وذلك أنه لم يكن فيهم مَنْ خَدَمَ خِدْمته، ولا قدَّم من مناصحته ما قدَّمه، والبينة عليهم ظاهرة، وبراهين الخادم لهم قاهرة.

وأما ما حصل له من الصِّيت من فَتْحِ مصر فهذا لا يمكن أن يخفى ظهوره، ولا يُطْفا نوره، فإنَّ من احتفَّ بالسُّدَّة الشَّريفة، واقتحم في إعلاء كلمتها الأَهوال المخيفة، انتشر له صيتٌ لا يتوارى، وعلا له صوتٌ لا يُشَك في علوِّه ولا يُتمارى، وعلاؤه معذوق بإعلائها، وارتقاؤه متعلِّقٌ بارتقائها، والكلُّ منسوبٌ إليها، ومحسوبٌ من نِعَمِ الله عليها، وليس الخادم للأَنْعُمِ بجاحد، ولا من أيام اغترافه بواجد. وأما ما يرجع إلى الفتوح التي افتتحها، ومنائح السبيل التي أوسعها الله للإسلام وفسحها، فأفعاله فيها نجومُ الديوان العزيز سناها، وثمارٌ له ما طاب وعَذُبَ من جناها، حيث بدعوتها يُبْدأ ويُعاد، وبمفاخرها يبنى ويشاد، وباستشراف الأدعية على منابرها ومنائرها يُتَشَرَّف، وبنفوذ التصرفات يُتعبد لأوامرها وباستحكام أواصرها يُتَصَرَّف، فهل من يقتحم غَمَراتها، فيزدحم على حُماتها بلجم نفسه أخطار دوائرها ودواهيها، إلا مترددًا بين أوامرها ونواهيها؟ وهل يُظَنُّ الحِلْم فيه إلا لها لا عليها، والاستقلال بها إلا منها وإليها؟ وهل يكون لمُلابِسها وملامسها صوتٌ أو صيت، ولو ملك جميع آفاقها إلا بجريه على مراضي الخدمة ووفاقها؟ وهل هو عبد الخاصّ والعام، والناقص والتام إلا بمنزلة الرّيش مع الريح يطير بمطارها، ويسير في أقطارها، يفيء حيث فاءت، ويتصرَّف كيف شاءت، لا ينفرد ببَسْط ولا قَبْض، ولا سماء له مع استزادة ولا أرض، هذا مما يمكن إنكاره، أو يسوغُ للعقل ابتداء الرأي فيه وابتكاره؟ لا والله، بل الحقُّ المبين اليقين، والصدق المبين أَنَّ أمر الخدمة الشَّريفة فوق كلِّ أمر، وقدرها أسمى وأسنى من كل قدر، وأن الكل بطاعتها يقفون، وبسُدَّتها الشريفة يحتفون، وليس ذلك مما يُنْكر فيه الواجب، ولا يُسْتر عن العيون بالرَّواجب. وأما ما ذكر فيه من توفير الغنائم والأثقال، والإعراض عن إفساد السريع النازل منها والثِّقال، فإنَّ العلوم النبوية محيطةٌ بما قد جرت عليه عادة هذه البلاد، من مَرَدِّ ذلك على أهل المكابدة بها والجلاد، وصار ذلك قاعدة مقرَّرة وسُنَّة، ووقاية دون نقلها إلى غيرها وجُنَّة، وعادة المستناب يفوِّض أمره إليه، يجريه مجراه، ويضعه من المصلحة حيثُ يراه، هذا على أَنَّ أكثرها تعتوره النُّهّاب، ويستولي عليه الذَّهاب في حالةٍ لا يمكن فيها المناقشة ولا المشاققة، ولا المنافسة ولا المحاققة، خصوصًا مع ما طرق هذه السنوات، وطبَّق من الهَنات، وما انثال كما انهال من الرِّمال، فأيُّ مال واكتساب يقع بحَصْر واحتساب؟ وأي حاصل يَسْلَمُ للاختزان؟ وأي عطاء يُنْتَظَرُ به لشرط

وميزان، وليس إلا نفوسٌ تُسْلَب، وجثث تُسْحب، ودماء تُسْكب، ومهجات تُطْلب، وكماة على حُشاشاتها تغلب، وفرسان على مناكبها تُقْلب، وحِمامُ الأرواح يجلب، وأخلاف المنيَّة تدرُّ قبل أَنْ تحلب، وشجعان بدماءٍ تُرْمَل، مع ما يعلم أَنَّ الخادم ليس له داعية إلى احتقاب مال ولا احتجانٍ، ولا ارتباط مَقْرَبٍ ولا هِجان، وإنِّ رِكابَ الأحمرِ والأبيض عنده مَلِق، فلا يمرُّ عليه إلا وهو منطلق، وقد مرت عليه أحوالٌ كثيرة، حاملة على التعرُّضِ لرافد الديوان العزيز مثيرة، فمنعه ما يعلم من أثقالٍ تحكم بأن تُحمل عنه، وإن كان البحر لا يَعْدَمُ مجتديًا، والبدر لا يسأم مهتديًا. وأما ما شرح من أثر سيدنا ومولانا أمير المؤمنين -خَلَّد الله سُلْطانه ومُلْكه، وألحق بعدوه هُلْكَه- وحقوقه الواجبة على الإِسلام والمسلمين من قديم وحديث، ومكتسب وموروث، وكلّ مسلِّم به متعيّن الإقرار، ممن يعتقد فيه متيقن الإسرار، لا يفتقر أن تشقَّق له نهاية العبارات، ولا تتدفق بهاء الإشارات، فالصُّبْح أغنى بانتشار ضيائه مِنْ أَنْ يقال: أضاء أو قد أشرق، قَرَنَ الله كمال مناقبه بالتخليد، ووفقنا لحيازة مراضيه وكافة العبيد، قد شَرِبَ الخادم هذا الدواء، ولا بد له من تصريف، وهو ما يعد له من تشريف، لتكون الزيارة من الحبيب، والدواء من الطبيب، إن شاء الله تعالى. [(¬1) قلت: وقد ذكر محمد بن القادسي قصة ابن البُوشَنْجي، فقال: كان] أمردَ في دروب بغداد، فطلعت لحيته، فخرج إلى الشَّام، فخدم يوسف بن أيوب، وسأله أن يرسله إلى الديوان في رسالةٍ، فأرسله، فقامتِ القيامة على الدِّيوان، فلما عاد ابن البُوشَنْجي إلى الشّام أكثر كلامه، فما مضى إلا أسبوع حتى جاءته نُشّابة فذبحته، وكان ذلك عقوبة لما بسط به لسانه. [قلت] (¬2): وهذه من هَنات ابنِ القادسي، فإنَّه كان عاميًا يتعمَّد المثالب، وقد أساء الأدب في مواضع، منها قوله: كان أمرد في دروب بغداد، ومنها قوله عن السُّلْطان يوسف بن أيوب، وما ذكره ببعض ألقابه، ومنها قوله: جاءته نُشّابة فذبحته، جعل الشَّهادة في سبيل الله عقوبة. وهذه الواقعة كانت في هذه السنة، وابن البُوشَنْجي ¬

_ (¬1) في (ح): قال المصنف رحمه الله: قال ابن القادسي: كان ابن البوشنجي أمرد في دروب بغداد. والمثبت ما بين حاصرتين من (م)، وفي (ش) خَرْمٌ ذهب بالأخبار من هنا حتى أواخر سنة 585 هـ. (¬2) في (ح): قال المصنف، والمثبت ما بين حاصرتين من (م).

استشهد سنة ستٍّ وثمانين بعد أخذ الفرنج عكا من السُّلْطان، [(¬1) ومن العجائب في هذه الواقعة أنني اجتمعت في الموصل بالثقة ابن باز؛ شيخ] دار الحديث المظفَّرية في سنة خمس وست مئة، وجرت مذاكرة في غَزَوات صلاح الدِّين رحمه الله، فقال: حضرتُ معه في مرج عكا والفرنج قد أخذوها، فبينا أنا قاعد في سوق العسكر، وإذا بشابٍّ من أحسن الشَّباب قد جلس إلى جنبي، فذاكرته، فرأيته فاضلًا فصيحًا عاقلًا، فقلت له: يا سيدي من أين أنت؟ فقال: من أهل بغداد من بيت البُوشَنْجي، قلت: فما اللَّقب؟ فقال: يقبح بي أن ألقب نفسي، فأقسمت عليه، فقال: يقال: الرَّشيد، فقلتُ: وما الذي جاء بك إلى ها هنا؟ فقال: سمعتُ أَنَّ هذا السُّلْطان يعرف أقدار أولاد النَّاس، ويُحْسن إليهم، ورغبت أيضًا في الشَّهادة، فأتيتُ إليه، فأحسنَ إليَّ وأكرمني وأعطاني، ثم قال: أخاف أن تنقضي هذه الغزوات وما تحصل لي شهادة، فاسألِ الله تعالى أن يرزقني الشَّهادة، فقد تاقت نفسي إليها. فدعوتُ الله أَنْ يختار له [ما فيه الخِيَرة] (2)، ثم قلت [له: يا سيدي] (2) أنشدني [شيئًا] (¬2) من شعرك، [(¬3) قال: نعم. وأنشدني هذه الأبيات]: [من الطويل] قفوا فاسأَلُوا عن حالِ قلبي وضَعْفه ... فقد زاده الشَّوق الأسى فوق ضَعْفِهِ وقولوا لمن أرجو الشفاء بوَصْله ... مريضُك قد أشفى على الموت فاشْفِهِ أخو سَقَمٍ أجفاه إخفاؤه الهوى ... نحولًا ومَنْ يُخْفِ المحبَّةَ تُخْفِهِ وما شَغَفي بالدّارِ إلا لأهلِها ... وما جَزَعي بالجَزْعِ إلا لخَشْفِهِ يعزُّ على قلبي المقام بذي النَّقا ... إذا لم يقمْ ذاك الغزالُ بحِقْفِهِ وما أُمُّ رئمٍ أشفقتْ منه فالتجت ... إلى شامخ ما ذَرَّ من نحو كَهْفِهِ تغارُ عليه من نسيمٍ ومرِّه ... وتشفقُ من إيماضِ بَرْقٍ وخَطْفِهِ أتاحَ لها المقدورُ أَخْدَرَ موغلًا ... على غَفْلةٍ منها بأسباب حَتْفِهِ بأَوْجَعَ مني يوم بانوا وربما ... توجَّعَ يوم البَينِ إلفٌ لإِلْفِهِ ¬

_ (¬1) في (ح): واجتمعت بالثقة ابن باز شيخ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م). (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) في (ح): فأنشد. والمثبت ما بين حاصرتين من (م).

عبد الجبار بن صالح

ثم قام من عندي باكيًا، وقَصَدَ الفرنج، فاستشهد، رحمه الله. وفيها أخرب الخليفة دار السَّلْطنة ببغداد التي عمرها الدَّيالمة والسَّلْجوقية، وإنما قَصَدَ قَطْعَ الأطماع عنها. وحجَّ بالنّاس من العراق طاشْتِكِين، ومن الشّام شمس الدين ابن المقدَّم، وقتل على عرفات [وسنذكره] (¬1)، وكان في الحج القاضي بهاء الدَّين بن شداد، ولما عاد اتَّصل بخِدْمة [السلطان] (1) صلاح الدين. وفيها توفي عبد الجبار بن صالح (¬2) من أهل باب الأَزَج، شيخ الفِتْيان ببغداد، لبس منه الإمام النَّاصر سراويل الفتوة، وكان شيخًا صالحًا يعمل في البساتين، و [كانت] (1) له صومعة بباب كَلْواذى يتعبَّد فيها، وحجَّ بالناس في هذه السنة، وتوفي بمكَّة، ودفن بالمُعَلَّى، رحمه الله تعالى. عبد الغني بن أبي بكر بن شجاع الزّاهد (¬3) ويعرف بابن نُقْطة. كان له زاويةٌ ببغداد يأوي إليها الفقراء، وكان دَينًا جَوادًا، سَمْحًا، لم يكن ببغداد في عصره من يقاومه في التجريد، كان يُفتح عليه قبل غروب الشمس بألف دينار فيفرِّقها، والفقراء صيام، فلا يدَّخر لهم منها شيئًا، ويقول: نحن لا نعمل بأجرة؛ يعني لا نصوم وندَّخر ما نُفْطر عليه. وكانت والدة النّاصر تُحْسِن الظَّنَّ به، زوَّجته بجاريةٍ من خواصِّها، ونقلت معها جهازًا يساوي عشرة آلاف دينار، فما حال الحول وعنده منه سوى هاون، فجاء فقيرٌ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) هو عبد الجبار بن يوسف بن صالح، له ترجمة في "العبر" للذهبي: 4/ 249، و "الوافي بالوفيات": 18/ 38 - 39، و "العقد الثمين": 5/ 326، و "النجوم الزاهرة": 6/ 106 و "شذرات الذهب": 4/ 275. (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 68 (رقم الترجمة 18) (لكن صفحة ترجمته في المطبوع استبدلت بغيرها خطأ)، و "المذيل على الروضتين": 1/ 114 - 115، (في ترجمة أخيه أبي منصور)، وفيه تتمة مصادر ترجمته. =

عبد المغيث بن زهير

فوقف على الباب، وقال: لي ثلاثةُ أيام ما أكلتُ شيئًا. فأَخرجَ إليه الهاون، وقال: لا تشنّع على الله، كُلْ بهذا ثلاثين يومًا. وكان له أخ يقال له: أبو منصور بن نقطة، مزكلش؛ ينشد "كان وكان" (¬1) في الأسواق، ويسحِّرُ الناس في رمضان، فقيل له: أخوك زاهد العراق، وأنت تزكلش في الأسواق! فقال مواليا: قد خاب مَنْ شَبَّه الجزعه إلى دُرَّه ... وسام قَحْبَه إلى مُسْتَحْسنه حُرَّه أنا مغني وخي زاهد إلى مَرَّه ... في الدّار بيرين ذي حُلْوه وذي مرَّه وكانت وفاته يوم الثلاثاء رابع جُمادى الآخرة، ودفن بزاويته، [وحكى لي جماعة من المشايخ أن الحفار الذي وسَّده وسد جماعة منهم الشيخ عبد القادر] (¬2)، فلما أُنزل إلى اللّحد قال بعضُ أصحابه للحفّار: خُذْ، ما رأيتَ على يديك مِثْلَه. فلما صَعِدَ الحفار قال للرَّجل: قد وسَّدْتُ الشيخَ عبد القادر، وفلانًا، وأنتَ تقول لي هذا؟ ! فقال: نَعَمْ، الشيخ عبد القادر وغيره طلبوا من الله تعالى، وعبد الغني ما أراد غيرَ الله تعالى. عبد المُغيث بن زهير (¬3) ابن عبد الله بن زهير، أبو العز، الحَرْبي، الحَنْبلي. ولد سنة خمس مئة، وسمع الحديث، وصنَّف كتابًا في فَضْل يزيد بن معاوية، رَدَّ عليه الشيخ جمال الدين بن الجوزي -رحمه الله- في كتاب سمّاه: "الرَّد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد" (¬4). ¬

_ = وهو والد المحدث محمد بن عبد الغني، صاحب كتاب "التقييد في رواة الكتب والمسانيد"، المتوفى سنة (629 هـ). (¬1) هو قالب من الشعر العامي، لا يتقيد ناظمه فيه بالإعراب، بل غالبه ملحون، كان البغداديون ينظمون به الحكايات والخرافات، فلذلك سموه "كان وكان"، ويسمى بمصر: "الزكالش". انظر "الأدب في العصر الأيوبي": ص 280. (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) له ترجمة في ذيل "تاريخ بغداد" لابن النجار: 1/ 2 - 6، و"التكملة" للمنذري: 1/ 63 - 64، و "الكامل" لابن الأثير: 11/ 230، و "الوافي بالوفيات": 19/ 149 - 150، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 159 - 161 وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) انظر "مؤلفات ابن الجوزي": 132 - 133.

علي بن أحمد بن علي

توفي عبد المغيث في المحرَّم، ودُفن قريبًا من الإمام أحمد، رحمة الله عليه، ومن شعره: [من الكامل] يا عزّ من سَمَحَتْ له أطماعُهُ ... أنْ باتَ ذا عَدَمٍ خفيفِ المِزْوَدِ فاليأسُ عِزٌّ فادَّرِعْهُ وَصِلْ به ... نَيلَ السّيادة في سبيلٍ أَقْصَدِ والحُرُّ من نَزَلَتْ به أزمانُهُ ... في حُبّ مَكْرُمةٍ وحُسْنِ تَسَدُّدِ لم يَسْتكِنْ للنّائباتِ إذا عَرَتْ ... صَوْلًا على الأعداءِ غير مقيَّدِ مَنْ ذا ينافس كُلَّ قَيلٍ أروعٍ ... سَمْح خليقتُه كريم المَحْتِدِ علي بن أحمد بن علي (¬1) ابن محمد، أبو الحسن بن الدّامغاني، قاضي القضاة ببغداد، قاضي ابن قاضي ابن قاضي ابن قاضي. ولد سنة ثلاث عشرة وخمس مئة، ولّاه المقتفي القضاء بمدينة السَّلام وسائر البلاد شَرقًا وغربًا، وأقرَّه المستنجد ثم عَزَله، ثمَّ أعاده المستضيء سنة سبعين، ثمَّ أقرَّه النّاصر إلى أن توفي في ذي القعدة هذه السنة، ودفن بالشُّونيزيَّة عند جدّه لأُمِّه أبي الفَتْح السّاوي، وكان فاضلًا، نَزِهًا، عفيفًا. محمَّد بنُ عبد الملك بن المقدَّم (¬2) ولقبه شمسُ الدِّين. من أكابر أمراء السُّلْطان نور الدين، والسُّلْطان صلاح الدين [وقد ذكرنا أَنَّه سلَّم سِنْجار إلى نور الدين (¬3)، وأن صلاح الدين أعطاه بعلبك، ثم عوضه عنها ببارين ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 11/ 563، "ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 3/ 113 - 115، "التكملة لوفيات النقلة": 1/ 74، "العبر" للذهبي: 4/ 249، "الجواهر المضية": 2/ 538 - 540، "النجوم الزاهرة": 6/ 104 - 105 "شذرات الذهب": 4/ 276. (¬2) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وانظر "كتاب "الروضتين": 3/ 423 - 426. (¬3) كذا قال، وهو خطأ، والصواب أن المقدَّم والد شمس الدين هو الذي سلَّم سنجار إلى نور الدين، وذلك سنة (544 هـ) عقب وفاة غازي بن زنكي أخي نور الدين، انظر "كتاب "الروضتين": 1/ 233 - 234.

وغيرها، وأن صلاح الدين لما توجّه إلى الشرق استنابه بالشام، ] (¬1)، وله المواقفُ المشهورة في الغزوات، وحَضَرَ حِطِّين والقُدْس، وعكّا، وفتوح السّاحل، فلما دنا موسمُ الحج سأل السُّلْطانَ أن يحج [ليجمع بين فضيلتي الحج والجهاد] (1)، فأَذِنَ له على كُرْهٍ من مفارقته، فلما وصل إلى عرفات أراد أن يرفعَ علمَ صلاحِ الدِّين على الجبل، ويضربَ الطَّبْل، فمنعه طاشْتِكِين، وقال: هذا موضعٌ لا يُرْفَع فيه إلا عَلَمُ الخليفة. فقال ابنُ المقدَّم: فالسُّلْطان مملوك أمير المؤمنين، ونحن مماليك السُّلْطان. فمنعه طاشْتِكِين، فأمر ابنُ المقدَّم غِلْمانَه، فأطلعوا العلم، فنكَّسوه، فركب ابنُ المقدَّم ومَنْ معه من الشَّاميين، وركب طاشْتِكِين والعسكر، واقتتلوا، وقُتِلَ من الفريقين جماعة، ورمى مملوكُ طاشْتِكِين ابنَ المقدم بسهمٍ، فوقع في عينه، فخرَّ صريعًا، وجاء طاشْتِكِين، فحمله إلى خيمته، وحمله إلى مِنى، فتوفِّي يوم الخميس يوم عيد [الله] (1) الأكبر، وصُلِّي عليه بمسجد الخَيف، ونُهِبَ الحاج الشَّامي، وأقاموا بمِنى ومكة على أسوأ حال، ودُفِنَ شمس الدين بالمَعْلَى. وقال العماد الكاتب: وَصَلَ شمسُ الدِّين إلى عرفات وما عرف الآفات، وشاع وصوله، وضُرِبَتْ طُبوله، وجالت خيوله، وخَفَقَتْ أعلامُه، وضُربت خيامه، فغاظ ذلك أمير الحاج العراقي طاشْتِكِين، فركب في أصحابه وأحزابه، فأوقع بشمسِ الدين وأترابه، وكان رَفْعُ العَلَمِ وضَربُ الطَّبْل من أوكد أسبابه، وقُتِلَ جماعةٌ من حاج الشام، وجُرحوا، وهُتكوا وافتُضِحوا، ونقل طاشْتِكِين شمسَ الدِّين إلى خيمته وهو مجروح، وفيه رُوح، وحمله معه إلى مِنى، فقضى ودفن بالمَعْلَى، وارتاع طاشْتِكِين لما اجترمه، ولم يراقبِ الله وأحلَّ حَرَمَه، وأخذ [طاشْتِكِين] (1) شهادة الأعيان أنَّ الذنب لابنِ المقدَّم، وقُرِئَ المحضر في الدِّيوان، ولما بلغ السُّلْطان مَقْتَلُه بكى بكاء عظيمًا، وحَزِنَ حُزْنًا كبيرًا، وقال: قتلني الله إنْ لم أنتصر له. وتأكدتِ الوَحْشة بينه وبين الخليفة، وجاءه رسولٌ يعتذر، فقال: أنا الجواب عمّا جرى (¬2). ثم اشتغل بالجهاد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) انظر: "الفتح القسي": 188 - 189.

محمد بن عبيد الله بن عبد الله

محمد بن عُبيد الله بن عبد الله (¬1) أبو الفتح الشَّاعر، البغدادي، ويعرف بسِبْط ابن التَّعاويذي، [مدح] (¬2) الخلفاء والوزراء، ونور الدين وصلاح الدين، وانقطع إلى ابن رئيس الرؤساء، سمع قائلًا يقول: [من مجزوء الكامل] والعُمْرُ مِثْلُ الكأسِ يَرْ ... سُبُ في أَسافِلِهِ القَذَى فقال: [من المتقارب] ومَنْ شَبَّه العُمْرَ بالكأسِ يرسو ... قَذاه وَيرْسُبُ في أَسْفَلِهْ فإنِّي رأيتُ القَذَى طافيًا ... على صَفْحةِ العُمْرِ مِنْ أَوَّلهْ وقال: [من مجزوء الكامل] يا مُنْفِقًا أيَّامَهُ ... في لَهْوهِ ومُزاحِهِ يستحقبُ الأيَّامَ بيـ ... نَ غُدُوِّه ورَواحِه ما أنتَ مِمَّنْ نَحْمَدُ الـ ... إسراءَ عندَ صباحِهِ (¬3) وكان الوزير ابن رئيس الرؤساء قد أطلق له عطاءً على يد رجل علوي، ثم عُزِلَ الوزير، فمنعه العلوي، فكَتَبَ إليه: [من الخفيف] يا سَمِيَّ النَّبيِّ يا ابنَ عليٍّ ... قامعِ الشِّرْكِ والبَتُولِ الطَّهُورِ أنتَ يا ابنَ المُخْتارِ أَكْرَمُ مَنْ ينـ ... ظُرُ في أمرٍ مُسْتَفادٍ حقيرِ ولقد كان لائقًا بك أنْ تَنـ ... ـظُرَ في الحال عند عَزْلِ الوزيرِ وأخو الفَضْلِ مَنْ يُساعِدُ في الشِّدَّ ... ةِ لا في الرَّخاءِ والمَيسُورِ ومتى ما استمرَّ خَلْفُكَ بالوَعـ ... ـدِ ولم تعتذر من التَّقْصيرِ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "معجم الأدباء": 18/ 235 - 249، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 66، و"التكملة" للمنذري: 1/ 103 - 104 و "كتاب "الروضتين": 3/ 426، و "وفيات الأعيان": 4/ 466 - 473، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 175 - 176، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وذكر بعضهم وفاته سنة (584 هـ). (¬2) في (ح): مع، ولا يستقيم بها الكلام، وما بين حاصرتين زيادة من عندي، أثبتها استئناسًا بما ورد في "النجوم الزاهرة": 6/ 105، في ترجمته، فإنه غالبًا ما ينقل عن "مرآة الزمان". (¬3) ديوانه: 98.

صرتُ من جُمْلَةِ النَّواصبِ لا آ ... كُلُ غيرَ الجِرِيِّ والجرْجِيرِ وتكَحَّلْتُ واغتسلتُ ثلاثًا ... وطبختُ الحبوبَ في عاشورِ وتبدَّلْتُ مِنْ مبيتيَ في مَشْـ ... ـهدِ موسى بجامعِ المنصورِ فتكون المسؤول عن مؤمنٍ ألـ ... قَيتَهُ أنتَ في عذاب السَّعيرِ (¬1) فضحك العلويُّ، وأطلق له العطاء. وكتَبَ إلى العماد الكاتب: قد كَلِفَ الخادمُ مكارمه وإن لم يكن للجودِ عليها كُلْفة، وأتحفه بما وجَّهه إليه من أمله وهو لعَمْرُ الله تُحفة، أهدى فروة دمشقية، سَرِيَّة نقية، يلين لمسها، ويزين لبسها، دِباغَتُها نظيفة، وخياطتها لطيفة، طويلة كطَوْله، سابغة كأَنْعُمه، حاليةٌ كذِكْره، جميلةٌ كفِعْله، واسعة كصَدْره، نقية كعِرْضه، رفيعة كقَدْره، موشية كنَظْمه ونَثْره، طاهرةٌ كطهارة باطنه، يتجمَّل بها اللَّابس، ويتحلَّى بها في المجالس، فهي لخادمه سِرْبال، وله -حَرَسَ الله مَجْدَه- جمال، تذهب خميلةُ وَبَرِها، ويبقى حميدُ أثرها، وقد نَظَمَ الخادمُ أبياتًا ركب في نَظْمها الغَرَر، وأهدى بها التَمْر إلى هَجَر، إلا أَنَّه قد وَضَعَ الطِّيب عند عَطّاره، وعَرَضَ الثوب في يدي سِمْساره، وهي في خِفارة نسبه وكَرَمه: [من مجزوء الرمل] بأبي من ذُبْتُ في الحُـ ... بِّ له شَوْقًا وصَبْوَهْ كلَّما زادَ جَفاءً ... زادَ مِنْ قلبيَ حُظْوَهْ شَقْوَتي ما تنقضي في ... حُبِّهِ والحبُّ شَقْوَهْ بُحْتُ شَجْوًا فيه والمَحْـ ... ـزونُ لا يَكْتُمُ شَجْوَهْ لو أجابَ الله للعا ... شقِ في المعشوقِ دَعْوَهْ لسألتُ اللهَ أَنْ يُنْـ ... ـصفني في حُبِّ عَلْوَهْ مَلَكَتْ قلبي وقد كا ... ن من الحُبِّ بنَجْوَهْ كَتَبَتْ فيه هوًى لا ... يملك العاذِلُ مَحْوَهْ يا مليحَ الدَّلِّ زِدْ جَوْ ... رًا على القَلْب وقَسْوَهْ لي بمَنْ ماتَ بداءِا الـ ... ـحُبِّ في عِشْقك أُسْوَهْ لا أتاحَ اللهُ لي وَصـ ... ـلكَ إنْ أَضْمَرْتُ سَلْوَهْ ¬

_ (¬1) ديوانه: 214 - 215، مع اختلاف في بعض الألفاظ.

نصر بن فتيان

قسَمًا إنَّ عماد الدِّ ... ينِ في الآدابِ قُدْوَهْ إنَّ بغدادَ التي للـ ... ـبُخْلِ أَضْحَتْ دارَ دَعْوَهْ وبنوها فَهُمُ أكـ ... ـثرُ أهلِ الأرضِ جَفْوَهْ قد أقامَ الثَّلْجُ فيها ... شَتْوَةً من بعد شَتْوَهْ فَهْو يغزونا مساءً ... في نواحيها وغُدْوَهْ مِثْلَما يُتْبِعُ نورُ الدِّ ... ينِ في الأعداء غَزْوَهْ فافْرِ عن جِسْمي أذاه ... يا أخا الجُوْدِ بفَرْوَهْ أكْتَسِي منها جمالًا ... رائعًا في كلّ نَدْوَهْ ففِرا جِلِّقَ عند النَّـ ... ـا سِ في بغداد شَهْوَهْ (¬1) فبعث له العماد بفروهٍ، وأبياتٍ على هذا الرَّويِّ. نَصْر بن فتْيان (¬2) أبو الفَتْح، ابنُ المَنِّي النَّهْرواني، الفقيه الحَنْبلي. ولد سنة إحدى وخمس مئة، وحَفِظَ القرآن وهو ابنُ إحدى عشرة سنة، وبَرَعَ في الفِقْه، وناظر، وسَمِعَ الحديث الكثير، وتفقَّه عليه جماعة: منهم عبد الرَّزّاق ابن الشيخ عبد القادر، والشيخ الموفَّق، والشيخ العماد، والبهاء النّابُلُسي، والشّهاب محمد بن راجح، والنّاصح بن الحَنْبَلي، والفخر ابن تيمية خطيب حَرّان، وخَلْق كثير. وكانت وفاتُه في رمضان بعدما أَضَرَّ في آخر عمره، ودُفِنَ إلى جانب مسجده بالمأمونية، وكان شيخًا صالحًا، زاهدًا متعبّدًا، صائمًا قائمًا، وكان الشيخ عبد القادر يقول له: أنت عينُ القِلادة. ¬

_ (¬1) ديوانه: 453 - 456. (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 70 - 71، و "المختصر المحتاج إليه": 3/ 212، و"الروضتين": 3/ 426 - 427، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 137 - 138، و "ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 358 - 365، و "المنهج الأحمد": 3/ 294 - 300.

هبة الله بن علي بن هبة الله

هبة الله بن علي بن هبة الله (¬1) أبو الفَضْل، مجد الدين، أُستاذ الدّار، ابنُ الصَّاحب. ولاه المستضيء أُستاذ الدار، وأقرَّه الناصر، وقرَّبه تقريبًا زائدًا، فبَسَطَ يده في الأموال، وسَفَك الدِّماء، وسبَّ الصحابة - رضي الله عنهم - ظاهرًا، وبَطِرَ بَطَرًا شديدًا، وعَزَمَ على تغيير الدَّولة، وكَثُرَتِ السّعايات فيه إلى الخليفة، وأُشير عليه بقَتْله وإلا صَعُبَ أمره، فاستدعي يوم السبت تاسع عشر ربيع الأول إلى دار الخِلافة، فعلم أَنَّه مقتول، فاغْتَسَلَ غُسْلَ المَيِّت، وودَّع أهله، وخَرَجَ، فمر على دار الطَّبْل قُبيل الظهر، فقال لعريف الطَّبالين: دَخَلَ الوقت؟ فقال: قد قَرُبَ، فتطيَّر، فلما حَصَلَ في بعض الدَّهاليز وَثَبَ عليه ياقوت شِحْنة بغداد، فقتله، وماجت بغداد، فأخرج رأسه، فعُلِّق بباب النّوبي، فسكَنَ النَّاس، وعمره إحدى وأربعون سنة، ووجدوا في داره [ما لم يوجد في دور الخلفاء] (¬2) من العين ألف ألف وخمس مئة ألف دينار، ومن الخيل والبغال والمماليك والجواهر والثِّياب بمثل ذلك. السنة الرَّابعة والثمانون وخمس مئة فيها جهَّز الخليفةُ ابنَ يونس -وكان قد استوزره- إلى هَمَذان، فخرج ليلة الثلاثاء ثامن عشرين المحرم نصف الليل، وسار في العساكر للقاء السُّلْطان طغريل على هَمَذان، وكان قد بعث إلى الخليفة يطلُبُ السَّلْطنة، فأخرج الأموال، وجَهَّز جيشًا عظيمًا قدَّم عليهم ابنَ يونس، وكان في جُمْلة الأمراء طُغْرُل صاحبُ البَصْرة، وأمير الحاج طاشْتِكِين، فأَنِفا من تقديم ابنِ يونس عليهما ولم يُعدّاه، فقال ابنُ يونس: والله لأرمينَّهم في المهالك. وسار إلى باب هَمَذان، والتقوا هناك، فقصَّر طُغْرُل وطاشْتِكِين، والتقاهم السّلْطان، فكَسَرهم ومزَّقهم كل ممزَّق، وقَتَلوا وأسروا، وأُخذ الوزير ابنُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 11/ 562، و "التكملة" للمنذري: 1/ 66، و "الوافي بالوفيات": 27/ 302 - 303، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 164 - 165، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م).

يونس، [وكان محلوق الرأس] (¬1)، فأحضروه بين يدي السّلْطان، فألبسه طُرطُورًا أحمر فيه جَلاجِل (¬2)، وجعل يضحك عليه، ولم يصل إلى بغداد من العسكر إلا القليل، فتقطَّعوا في الجبال، وماتوا عطشًا وجوعًا، [وكانت هذه الوقعة من جنس وقعة المسترشد] (1)، وأُخذت خزائن الخليفة وخَيله ومماليكه، [وقيل: كانت أعظم، وعمل الناس الأشعار فيها] (1)، فقال أحمد بن الواثق بالله: [من الخفيف] اُتركونا من جائحاتِ الجريمَهْ ... طلعةً طلعةً تكونُ وخيمهْ بركاتُ الوزيرِ قد شَمَلَتْنا ... فلهذا أمورُنا مُسْتقيمهْ خَرَجَ الجُنْدُ يَطْلبون خُراسا ... نَ جميعًا بأُبَّهاتٍ عظيمهْ بخيولٍ وعُدَّةٍ وعديدٍ ... وسيوفٍ مجرَّباتٍ قديمهْ ووزيرٍ وطاقِ طُنْبٍ ونَقْشٍ ... وخيولٍ مُعَدَّةٍ للهزيمهْ هُمْ رأَوْا غُرَّة العدوِّ وقد أقـ ... ـبل ولَّوا وانحلَّ عَقْدُ العزيمهْ وأتونا بأوْجُهٍ كالحاتٍ ... خاضعاتٍ مسوَّداتٍ ذميمهْ لو رأى صاحب الزمان ولو عا ... ينَ أفعالهم وعُظْم المَلِيمهْ قابل الكُلَّ بالنَّكالِ وناهيـ. ـكَ بها سُبَّةً عليهم مقيمهْ واستوزر الخليفة أبا المعالي سعيد بن علي بن حديدة، ورتَّب اسفنديار الواعظ في كتابة الإنشاء بديوان الخليفة، وكان يلقب بالموفَّق، فلقب بمؤيَّد الدين، وخُلِعَ عليه. وفيها نَزَلَ السّلْطان على كوكب، فرآها تحتاج إلى قتال ومصابرة، فوكَّل بها قَيماز النَّجْمي، ووكَّل بصفد طُغْريل الجانْدار، وبَعَثَ إلى الكَرَك والشَّوْبك كوجبا صِهْر السُّلْطان، وكانت هذه الحصون الأربعة أحصنَ القِلاع، ومسالكها صعبة، فرأى مطاولتها، وقَطْعَ الموادِّ عنها. وسار السُّلْطان إلى ناحية الشَّمال في السَّاحل، ففتح عِدَّة حصون، منها أَنْطَرسوس، نازلها في جُمادى الأولى، وكان بها بُرْجان عظيمان، فأخربهما، وقتل مَنْ كان فيهما. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) الجلاجل: جمع، مفرده جُلْجُل: الجرس الصغير.

ومنها جَبَلَة، وكان قاضيها منصور بن نبيل، فأرسل إلى السُّلْطان يشير عليه بقَصْدها، وقيل: إن القاضي والأعيان خرجوا إليه، وهوَّنوا عليه أمرها، فسار من أنطرسوس، وعبر تحت المرْقَب، وهو حِصْن الإسبتار في مكانٍ ضيِّق، وجاء أُسطول الفرنج من صِقلية، واصطفتِ المراكب، ورموا بالزَّنبورك، فمنعوا العَسْكر من العبور، فصفَّ المسلمون الدَّرَق والجفاتي على السّاحل، والرُّماة خَلْفها، وعبروا، وأخذ القاضي من السُّلْطان أمانًا لأهل جَبَلَة، وسَبَقَ به إلى البلد، وكان إبرنس أَنْطاكية قد سلَّمها إلى القاضي، ووَثِقَ به في حِفْظها، فنازلها السُّلْطان، ففتح البلد يوم الجمعة ثاني عشر جُمادى الأُولى، وامتنع الحِصْن عليه يومًا، ثُمّ سَلَّمه إليه يوم السبت بالأمان. ومنها اللاذقية، سار إليها، وهي بلدةٌ كبيرة على السَّاحل، ولها قلعتان متَّصلتان على تل يشرف على البلد، ولها ميناء من أحسن المواضع، وهي من أطيبِ البلاد، وأحسنها عمارة، فحصرها السُّلْطان، وأقام عليها أيامًا، ففتح البلد، وغَنِمَ المسلمون منه غنائم كثيرة، لأَنَّه كان بلدَ التُّجار، وفيه أموالهم، وكان فتح البلد يوم الخميس رابع وعشرين جُمادى الأولى، فأصبح يوم الجمعة، فنازل القلعتين، وعلَّقوا النُّقوب، فصاحوا: الأمان. فأمنهم، فخرجوا بأموالهم وأهلهم إلى أنطاكية، وولاها السُّلْطان مملوكه سُنْقُر الخِلاطي، وشَرَعَ المُسْلمون في تشويهها، وقَلْع رخامها. [قال العماد: ولقد كَثُرَ تأسفي على تلك العمارات كيف زالت، وعلى تلك الحالات كيف حالت، ولكن زاد سروري بأنها عادت للإسلام مرابع، ولشموسه مطالع] (¬1). وكتب العماد إلى [اليمن إلى] (1) سيف الإِسلام كتابًا منه في وصفها: وهي مدينةٌ جامعة، وخُطَّةٌ واسعة، معاقلها لا تُرام، وأعلاقها لا تُسام، وهي جنَةٌ، وكان يسكنها أهلُ الجحيم، وطالما مكثت بالكُفْر دار بؤس، فعادت بالإِسلام دار نعيم. ومنها صِهْيَوْن، نازلها السُّلْطان تاسع عشرين جُمادى الأولى يوم الثلاثاء، وهي قلعة حصينةٌ في طرف الجبل، خنادقها أودية هائلة، وليس لها خندق محفورٌ إلا من ناحية واحدة، طوله سِتُون ذراعًا، نُقِرَ في حجر، ولها ثلاثة أسوار، وكان على قُلَّتها (¬2) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) القلّة: أعلى القلعة، انظر "معجم متن اللغة": 4/ 639.

عَلَمٌ طويل، عليه صليب، فلما شارفها المُسْلمون وقع الصَّليب، فاستبشروا، ونَصَبوا عليها المجانيق، وصَعِدَ المسلمون سور الرَّبَض، وقاتلوا القلعة، فصاحوا: الأمان، وسَلَّموها ثاني جُمادى الآخرة، وبثَّ السُّلْطان عسكره وأولاده في تلك النَّاحية، فأخذوا جميع الحصون التي بها، بعضها عَنْوَةً وبعضها صُلْحًا، مثل حِصْن بلاطُنُس، وقلعة الجماهريين، وبَكاس، والشُّغْر، وسُرْمانية، ودَرْبَساك، وبَغْرَاس، وأخرب السُّلْطان معظمها، ومن أحْصنها حِصن بُرزَيَه، وهو على سِن جبلٍ شاهق، يُضْرب به المَثَل في المَنَعة والقوة، وعلوُّ القلعة خمس مئة وسبعين ذراعًا، من جوانبها أوديةٌ تحيطُ بها، وصاحبها زوج أُخت البرنس صاحب أنطاكية، وتعرف زوجته بدام سِبِيل وكانت عَيْنًا للسُّلْطان على الفرنج، والسلطان يُهْدِي إليها ويلاطِفُها، وقاتَلَ السُّلْطان القلعة، ففتحها عَنْوَة، وأَسَرَها وزوجها وأولادها، فأحسنَ السُّلْطان إليهم وأطلقهم، وبعث معهم مَنْ أوصلهم إلى أنطاكية، فزادت محبتها للسّلْطان، ومناصحتها له. وقال العماد: وآخر ما فتحنا حصن بُرزَيَه الذي تُضْرب به الأمثال، ولا تَرْقَى إلى ذُروته مُنَى الآمال، فأخذناه بالسَّيف عَنْوَة، وفتحناه ضحْوة، فيا لها ضحوة أظلمت على أهل التَّثْليث، واشتغل المؤمنون عن ذكر الفتوح القديمة بهذا الفتح الحديث، ولو وكلنا إلى اجتهادنا في هذا الفتح وإلى نفوسنا لتعذَّر، ولكن الله سبحانه وتعالى سَهَّلَ ويَسَّر. وسَلَّم السُّلْطان دَرْبَساك إلى عَلَم الدِّين سليمان بن علي بن جَنْدَر، وهي قلعةٌ حصينة، قريبةٌ من أنطاكية. ذِكْرُ عَقْد الهُدنة بين السُّلْطان وإبرنس أنطاكية: ولما فتح السُّلْطان هذه الحصون سار يقصد أنطاكية، فنزل الجسر الحديد، فضَعُفَ قلب إبرنس أنطاكية، فراسل السُّلْطان وهاداه، وكانت العساكر الشرقية قد ضَجِرَتْ، وخصوصًا عماد الدين صاحب سِنْجار، وطال عليه المقام، وضعفت هِمَمُ العساكر عن القتال، فهادنه السلطان ثمانية أشهر بمقدار ما تستريح العساكر الشرقية، ويُطلق جميعَ مَنْ عنده مِنْ أُسارى المسلمين، فإنْ جاء الفرنج نجدةً، وإلا سَلَّموا أنطاكية. وبعث شمس الدولة ابن مُنْقذ ليخلِّص الأُسارى.

وسار السُّلْطان إلى حلب مودِّعًا لعماد الدين زَنكي، فودَّعه، وقدَّمَ له من التُّحَف والألطاف والخيل العِتاق والثياب [الفاخرة] (1) ما حيَّره، وكذا فعل بمُظَفَر الدين ابن زين الدين والأمراء، وبات [السلطان] (1) بحلب ليلةً واحدة، وعاد طالبًا دمشق، ومعه مهنَّا أمير المدينة [وكنيته أبو فَلِيتة] (1)، وكان ميمون النَّقيبة، مبارك الطَّلْعة، [وكان السلطان قد تيمن بطلعته] (1)، ما حضر مع السُّلْطان بلدًا إلا فتحه، وكان تقيّ الدين بحماة، فأصْعَدَ السُّلْطانَ إلى القلعة، وكان تَلُّها قصيرًا، فرفعه تقي الدِّين، وعمرها العمارة الوثيقة، فأعطاه جَبَلَة واللاذقية مضافًا إلى حماة، وكان السُّلْطان قد جعل طريقه على المَعَرَّة، فزار عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، والشيخ أبا زكريا المَغْربي، ثم دخل دمشق في رمضان. وفي رمضان وَصَلَ وزيرُ الخليفة ابن يونس إلى بغداد من كسرة [السلطان] (1) طغريل، وكان الخليفة قد كتب إلى بكتمر صاحب خِلاط ليطلبه من طغريل، وكان قزل أخو البهلوان قد حشد [وجمع] (1)، والتقى طغريل على هَمَذان، فانهزم طغريل إلى خِلاط، ومعه ابنُ يونس، فأنكر عليه بكتمر ما فعل بالوزير وعسكر الخليفة، فقال: هم بدوني وبغوا عليَّ، والبادي أظلم. فقال له: أطلقِ الوزير. فلم يمكنه مخالفته، فأطلقه، فبعث إليه بكتمر الخيل والبغال والمماليك والخدم، فردَّ الجميع، وأخذ بغلين ببرذعتين، فركب هو واحدًا وغلامه الآخر، ولبس الطرطور كأنَّه صوفي، ووصل إلى المَوْصل مع قافلةٍ، وعَلِمَ به صاحبُ المَوْصل، ففعل معه فعل بكتمر، فلم يأخذ شيئًا وقال: أريد سفينة. فأعطاه [سفينة] (1)، فنزل فيها إلى بغداد، وصَعِدَ إلى منزله، ولم يشعر به أحد، وعلم الخليفة، فأنكر على الوزير ابنِ حديدة حيث لم يعلم بوصوله، وكان ذلك أول ما أُخذ على ابن حديدة. وفي ثامن عشرين رمضان عُزل اسفنديار عن كتابة الإنشاء، ورُتب مكانه أبو الفضل بن القَصَّاب، وخُلِعَ عليه، ولقِّب مؤيَّد الدين، [قال ابنُ القادسي] (¬1): كان اسفنديار من أهل العِلْم والدِّين، فلما ولي لَبِسَ الحرير، وتختَّم بالذهب، وكان يركب في غير شيء، ويدخل في درب درب ليصاح بين يديه: بسم الله، بسم الله. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م).

قال المصنف رحمه الله: وفي شوّال جلس جدِّي -رحمه الله- في دار الوزير ابن حديدة، ونسبه إلى الأنصار، وقال في حديث السقيفة: إنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - قال للأنصار يوم السقيفة: نحن الأُمراء وأنتم الوزراء، فميراث معين الدِّين لا عن كلالة. ثم قال: وما يصلح لدولة الإمام النّاصر إلا الأنصار، وقُرئ بين يديه في ذلك اليوم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] فقال: سبحان الذي قدَّم نبيَّنا على سائر الأنبياء، وأُمَّتَنا على الأُمم، وكتابنا على الأسفار، فأين البُرْهان من زهادنا، وأين من علمائنا الأحبار، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وأين أصحاب موسى من {ثَانِيَ اثْنَينِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] كم بين مَنْ قال: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} [المائدة: 24] إلى فاتح الأمصار، أَلَهُمْ كَرَمُ المُنْفِقِ في زمان الإعسار؟ أفي المتقدِّمين كالمقدَّم في العِلْم والشَجاعة البطل المِغْوار؟ كان الرسول يخصُّه بالخصائص، ويطلعه على الأسرار، وإذا حَمِيَ الوطيس رمى به في لجج البحار والأخطار، بارز يوم بدر عُتْبة وشيبة والوليد الكُفّار، وعمره يومئذٍ عشرون سنة، فغلب الصَّغيرُ الكبارَ، كان جبريل عن يمينه وإسرافيل عن اليسار، فوصف الحقُّ ما جرى بين أهل الرِّبْح والخَسار: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج: 19] ومنه الحسن والحسين، فيا حُسْنَ تلك الثِّمار، وزوجته البَتُول بنتُ المصطفى المختار، وجَمْعُ من شَهِدَ بدرًا ثلاث مئة وثلاثة عشر، هم أفضل الصَّحابة الأخيار، فمن المهاجرين مئة وثلاثة وثمانون، منهم الخلفاء الأربعة، وصُهَيب وبلال وعمار، ومئتان وثلاثون كلُّهم من الأنصار، فمن الأوس ثلاثة وستون، ومن الخزرج مئة وسبعة وستون، فالخزرج أفضلُ في المِقْدار، فمنهم قُطْبة بن عامر بن حديدة، ويزيد بن عامر بن حديدة، وسُلَيم بن عمرو بن حديدة، وهم ساداتُ الخزرج الأبرار، هذا هو الفَخْرُ يا معين الذين، وما الحُلِيّ المملوك كالمُسْتعار، يا له من نَسَبٍ إذا تضوَّع بين الخَلْق زاد على جُونة العَطّار، وإذا سال سَيلُ كَرَمه أقرب السَّواقي للبحار، عَدْلُ المولى الوزير حُلِيّ ومجلسي سِوار، يا قومنا أقمارُ لَفْظي طلعت بالنَّهار، وأنشد: [من المتقارب] وحُرْمة شُعْثٍ على كلِّ نِضْوٍ ... بَراهُنَّ من ألمٍ ما بَراني إذا ذكَّرَتْها الحُداةُ الهوى ... قَطَعْنَ البُرَى قَطْعَ وَجْدي عِناني

تطايَرْنَ والشَّوْقُ يُدْني مُنًى ... وكلُّ المُنَى عند ذاك المكانِ فلما عَلَوْنَ فويقَ الكثيبِ ... تراءَينَ ذاك البريقَ اليمانِ وبَشَّرَ نَشْرُ نسيمِ الحبيب ... بقُرْب الدِّيار ونَيلِ الأماني لقد كَمَّلَ اللهُ هذا الوزير ... فليس له مُشْبِهٌ في الزَّمانِ أتخبِرُ عن كَرَمِ السّابقين ... تأمَّلْ وخُذْ في حديثِ العِيان من أبيات. وفي شوّال عَزَلَ الخليفةُ أبا طالب ابن زيادة عن أستاذ الدّارية، ورتَّب مكانه أبا الحسن علي بن بختيار، وبَرَزَ توقيع الخليفة إليه: ما عَزَلْناك عن خيايةٍ ولا جناية، ولكن للملوك أسرار خفية لا يطَّلع عليها العامة {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88]. فكَتَبَ ابنُ زيادة إلى الخليفة: [من الكامل] أوقعتَ عَبْدَك في بحارِ وساوسٍ ... مَنَعَتْ محاجِرَه عن الإغماضِ وَثَنَيْتَ عِطْفَك عن عوائدك التي ... عُوِّدْتُها من خُلْقِكَ الفَضْفاضِ وتقولُ إنِّي لستُ غضبانًا وللـ ... أسرارِ بَرْقٌ صادِقُ الإيماضِ هَبْ أَنَّ ذلك ليس من سَخَطٍ فمنْ ... يَدْري مع الإعراض أَنَّك راضي وفي رمضان تسلَّم السُّلْطان الكَرَك، فَنيَتْ أزوادهم، فسلَّموا. قال العماد: وتسلَّمْنا الكَرَك، وكان صاحبه يحدِّث نفسه بقَصْد الحجاز، وقد نَصَبَ أشراك إشراكه منه على طُرْقِ الاجتياز، فأذقناه عام أَوَّل كأس الحِمام، وملكنا حِصْنه الذي كان يعتصم به في هذا العام، وتَمَّ بأَخْذِ هذا الحِضن أَمْنُ البيتِ الحرام. وفي رمضان تسلَّم السُّلْطان قلعة صفد، خَرَجَ إليها بالعساكر، ونَصَبَ عليها بالمجانيق، فصاحوا: الأمان، بعد أن قاتلوا قتالًا شديدًا. وفي ذي القَعْدة فُتِحَتْ كوكب، سار السُّلْطان إليها وضايقها، وتعلَّق بها النَّقابون، فصاحوا: الأمان. وكان قد جاء مطرٌ عظيم. قال العماد: وسرنا إلى كوكب، فوجدناها في مَناط الكوكب، كأنَّها وكر العَنْقاء، أو منزل العَوّاء، وبها كلابٌ عاوية، وذئاب غاوية، وكان الوقت صَعْبًا، والغيثُ سَكْبًا، وتكاثرتِ السُّيول، وتكاثفتِ الوحول.

أسامة بن مرشد بن علي

وسار الفاضل إلى مِصْر لأمرٍ عَرَضَ له، وودَّعه السُّلْطان، وأعطى السُّلْطان أخاه العادل الكَرَك، وأَخَذَ منه عسقلان، وبَعَثَ بالعساكر المِضرية إلى مِصر، والشامية إلى الشّام. ثم سار إلى عكا بخواصِّه، فأقام بقية هذا العام. وحجَّ من العراق طاشْتِكِين. وفيها توفي أسامة بن مُرْشد بن علي (¬1) ابن المُقَلَّد بن نَصْر بن مُنْقِذ، أبو الحارث، مؤَيَّد الدولة، مجد الدين، الكِناني. ولد بشَيزَر سنة ثمانٍ وثمانين وأربع مئة، وكانت له اليد البيضاء في الأدب والكتابة والشِّعْر، غزيرَ العقل، كثيرَ الفَضْل، حسنَ التَّدْبير، مليحَ التَّصانيف، فارسًا شجاعًا، يحفظ عشرين ألف بيت من شِعْر الجاهلية، قَدِمَ بغداد في أيام المسترشد عند محاربته صدقة بن دُبَيس، ولم يعبر الجانب الشَّرْقي، وقدم دمشق سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة، وخرج إلى مِصْر، فأقام بها، ثمَّ عاد إلى حماة، فسكنها. وقال العماد الكاتب: كان من الأُمراء الفضلاء، ومتَّعه بطول البقاء، وهو من المعدودين في شجعان الشّام وفرسان الإِسلام، أُسامة كاسمه في قوة نثره ونَظْمه، لَزِمَ طريق السَّلامة، وتنكب سُبُل الملامة، انتقل إلى مِصْر في أيام الصّالح بن رُزِّيك، ثمَّ عاد إلى الشام، ومضى إلى حِصْن كيفا، فأقام به إلى أن ملك صلاح الدين دمشق سنة سبعين، كان ولده مُرْهَف -ويلقب بالعَضُد - جليسَ صلاحِ الدين ونديمه، فسأله السُّلْطان عنه، فقال: هو بحصْن كيفا، فاستدعاه، وكان قد جاوَزَ ثمانين سنة، ثمَّ انتقل إلى حماة، فتوفِّي بها في رمضان وقد بلغ ستًّا وتسعين سنة، وله ديوان مشهور، وكان ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 498 - 547، و"معجم الأدباء": 5/ 188 - 245، "وفيات الأعيان": 1/ 195 - 199، و "التكملة" للمنذري: 1/ 95 - 96، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 165 - 166، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

السُّلْطان مُغْرًى بشعره، وكنت أرى ديوانه بين يدي السُّلْطان وهو يستحسنه، فمنه: [من البسيط] يا مُدَّعي الصَّبْرَ عن أحبابه وله ... دمعٌ إذا عَنَّ ذِكْراهُمْ يُكَذبُهُ خَلَّفْتَ قَلْبَك في أرضِ الشّام وقد ... أصبحتَ في مِصرَ يا مغرورُ تَطْلُبُهُ هلّا غداةَ النَّوى استصحبته وإذا اخـ ... ـتارَ المُقامَ فهلّا كنتَ تَصْحَبُهُ أفردتَهُ بالأسى في دار غُرْبته ... وعُدْتَ لا عُدْتَ تبكيه وتَنْدُبُهُ هيهاتَ قد حالتِ الأيامُ بينكما ... فَعَز نَفْسك عما فاتَ مَطْلَبُهُ (¬1) وقال في قلع الضرْس: [من البسيط] وصاحبٍ لا أملُّ الدَّهْرَ صُحْبَتَهُ ... يشقى لنَفْعي ويسعى سَعْيَ مجتهدِ لم أَلْقَه مُذْ تصاحبنا فمذْ نَظَرَتْ ... عيني عليه افترقنا فُرْقَةَ الأَبَدِ (¬2) وقال: [من الكامل] قالوا نَهَتْهُ الأربعونَ عن الصِّبا ... وأخو المشيبِ يجورُ ثُمَّتَ يهتدي كم حار في ليل الشَباب فَدَلَّه ... صُبْحُ المشيبِ على الطَّريق الأرْشَدِ وإذا عَدَدْتَ سنيَّ ثم نَقَضتَها ... زَمَنَ الهموم فتلك ساعةُ مَوْلدي (¬3) وقال في محبوس: [من الكامل] حَبَسُوكَ والطَّيرُ النَّواطقِ إنَّما ... حُبِسَتْ لميزتها عن الأَنْدادِ وتهيَّبوكَ وأنتَ مُوْدَعُ سِجْنهم ... وكذا السُّيوفُ تُهابُ في الأغمادِ ما الحبسُ دارُ مهانةٍ لذوي العُلا ... لكنَّه كالغِيلِ للآسادِ (¬4) أخذه من قول القائل: [من السريع] تَطْرقُ أهلَ الفَضْلِ دون الورى ... مصائبُ الدُّنيا وآفاتُها كالطَّيرِ لا يُحْبَسُ من جِنْسها ... إلا الذي تُطْرِبُ أصواتُها ¬

_ (¬1) "الخريدة": 1/ 518. (¬2) "الخريدة": 2/ 499 - 500. (¬3) "الخريدة": 1/ 500 - 501. (¬4) "الخريدة": 1/ 505.

وقال يمدح صلاح الدين: [من البسيط] لا زِلْتَ يا ملكَ الإِسلامِ في نِعَمٍ ... قرينُها المُسْعِدانِ النّصْرُ والظَّفَرُ تُردِي الأعادي وتَسْتَصْفي ممالكَهُمْ ... وعونُكَ الماضيانِ السَّيفُ والقَدَرُ فأنتَ إسكندرُ الدُّنيا بنُورِكَ قد ... تضاءَلَ المظلمانِ الظُّلْمُ والضَّرَرُ أَعَدْتَ للدَّهْرِ أيّامَ الشَّباب وقد ... أظلَّه المُهْرِمانِ الشَّيبُ والكِبَرُ وجاد غَيثُ نَداك المُسْلمين فمِنْ ... سحابه المُغْنِيان الدُّرُّ والبِدَرُ وسِرْتَ سيرةَ عَدْلٍ في الأنام كما ... قضى به الصّادِقانِ الشَّرْعُ والسُّوَرُ فَثِقْ بنصرٍ على الكُفّار إنَّهُمُ ... يُرْدِيهُمُ المُهْلِكانِ الغَدْرُ والأَشَرُ ثناهُمُ إذْ رأَوْا إقبال مُلْكِهِمُ ... إليهمُ المُزْعجانِ الخوفُ والحَذَرُ وما الفِرارُ بمُنْجيهم وخَلْفَهُمُ ... مِنْ بأسِهِ المُدْرِكان السُّمْرُ والبُتُرُ وسوفَ يعفو غدًا عنهمْ بصارِمِهِ ... وجيشُهُ المُخْبرانِ العَينُ والأَثَرُ ولو رَقُوا في ذُرى ثَهْلانَ أَسْلَمَهُمْ ... لسَيفِهِ العاصِمان الحصْن والوَزَرُ قضى بتفضِيله عمَّن تقدَّمه ... ما اسْتُوْدِعَ المُخْبرانِ الكُتْبُ والسِّيَرُ عَدْلٌ به أَمِنَ الشّاء المُهَمَّل أَنْ ... يَرُوْعَهُ الضّاريانِ الذّئْبُ والنَّمِرُ وجودُ كفٍّ إذا انهلَّت تفْرَّقَ في ... تيّارها الزّاخِران البحرُ والمَطَرُ مكارمٌ جُمِعَتْ فيه توافَقَ في ... تَفْضيلها الأكرمانِ الخُبْرُ والخَبَرُ فاسْلَمْ وعِشْ وابقَ للإسلام ما جَرَتِ الـ ... أفلاكُ والنَّيِّرانِ الشَّمْسُ والقَمَرُ (¬1) وقال في أيام نور الدّين [من البسيط]: سلطانُنا زاهِدٌ والنّاس قد زَهِدُوا ... له فكل على الخيراتِ مُنْكَمِشُ أيامُهُ مِثْلُ شَهْرِ الصوْمِ طاهرةٌ ... من المعاصي وفيها الجوعُ والعَطَشُ (¬2) ولما فارق مِصْر تأسَّف على فراقه الصّالحُ بنُ رُزيك، وكان يحبّه، وراسله الصّالح على أن يعودَ إلى مِصْر، فلم يجبه، وكَتَبَ إليه يطلب تجهيزَ أهله إلى الشام من أبياتٍ، أولها [من البسيط]: ¬

_ (¬1) "الخريدة": 1/ 545 - 546. (¬2) "الخريدة": 1/ 516.

أجيرةَ القَلْبِ والفُسْطاطُ دارُهُمُ ... لم تُصْقِبِ الدّارُ لكن أَصْقَبَ الكَلَفُ فارقْتُكُمْ مُكْرَهًا والقلبُ يُخْبِرُني ... أَنْ ليس لي عِوَضٌ منكُمْ ولا خَلَفُ ولو تعوَّضْتُ بالدُّنيا غُبِنْتُ وهل ... يُعَوضُني عن نفيسِ الجوهر الصَّدَفُ ولستُ أُنكر ما يأتي الزمانُ به ... كلُّ الورى لرزايا دَهْرِهمْ هَدَفُ وما أَسِفْتُ لأمرٍ فات مَطْلَبُهُ ... لكن لفُرْقة من فارَقْتُهُ الأَسَفُ (¬1) فأمر الصّالح شعراء الدَّوْلة أن يوازنوا قصيدته، وقال: وأنا معكم، وكتب الصَّالح إليه -وهي للصَّالح: [من البسيط] آدابُكَ الغُرُّ بحرٌ ما له طَرَفُ ... في كلِّ سَمْعٍ بدا من حُسْنِهِ طُرَفُ نقولُ لما أتانا ما بَعَثْتَ به ... هذا كتابٌ أتى أم روضةٌ أُنُفُ إذا ذكرناك مجدَ الدِّين عاوَدَنا ... شوقٌ تجدَّدَ منه الوَجْدُ والأَسَفُ يا مَنْ جفانا ولو قد شاءَ كان إلى ... جَنابنا دونَ أهلِ الأرضِ يَنْعَطِفُ فَمِلْ إلينا بآمالٍ محقَّقَةٍ ... وكُفَّ غَرْبَ دموعٍ دَمْعُها يَكِفُ كفى اغترابًا فعجِّلْ بالإيابِ لنا ... فمنكَ لا عِوَضٌ نَلْقى ولا خَلَفُ (¬2) وقال مهذَّب الدِّين [الحسن بن] (¬3) علي بن الزُّبير: [من البسيط] أحبابَنا ما لنا عن بُعْدِكُمْ خَلَفُ ... وإن يكن فطويلُ الحُزْنِ والأَسَفُ ولو جَرَيتُمْ ولَمْع البَرْق في قَرَنٍ ... لكان مَعْ شكْوكُمْ مَعْ سَيفه يَقِفُ (¬4) يا لائمينا على أَنْ لا نراسلهم ... ما الوَجْدُ مما أطاقَتْ حَمْلَه الصُّحُفُ وزادني ثقةً عِلْمي بعِلْمِكُمُ ... أن المحبَّةَ أضعافُ الذي أَصِفُ حَبَوْتُمونا بدُرٍّ من قَرِيضِكُمُ ... صدورُنا حيثُ ترويها له صَدَفُ فاهتزَّ عِطْفُ مليكِ النَّاس كلِّهمُ ... لها وأيُّ كريمٍ ليس يَنْعَطِفُ ¬

_ (¬1) "ديوان أسامة": 85. (¬2) "ديوان أسامة": 181 - 183. (¬3) ما بين حاصرتين من ترجمته في "خريدة القصر"، قسم شعراء مصر: 1/ 204، وانظر "الروضتين": 2/ 25. (¬4) كذا في (ح)، ولم يتبين لي معناه.

مجاهد الدين خالص بن عبد الله

وأَطْرَبَتْه معانيه فمال به ... شوقٌ إليكم ظنَّنا أَنَّه شَغَفُ وما لمِثْلِكُمُ عن مِثْلِ دَوْلتِهِ ... ومِثْلُهُ في جميعِ الأرض يَنْصَرِفُ وقال القاضي أبو عبد الله بن أبي جَرادة (¬1): [من البسيط] ما ضَرَّهُمْ يوم جَدَّ البَيْنُ لو وَقَفُوا ... وزَوَّدُوا كَلِفًا أودَى به كَلَفُ أَسْتَوْدِعُ الله أحبابًا أَلِفْتُهُمُ ... لكن على تَلَفي يوم النَّوى ائتَلَفُوا الله يعلَمُ أَني مُغْرَمٌ بهمُ ... وأنني عن هواهُمْ لستُ أَنْصَرِفُ فهل تعودُ ليالي الوَصْلِ ثانيةً ... ويصبحُ الشَّمْلُ فينا وهو مُؤْتَلِفُ (¬2) فعزم على العَوْد لمِصْر، فَقُتِلَ الصَّالح، وقال أسامة: [من الطويل] أراني نهارُ الشَّيبِ قَصْدِي وطالما ... تجاوزَ بي ليلُ الشَّبابِ سبيلي وقد كان عُذْري أنْ أضلَّنيَ الدّجى ... فهلْ ليَ عُذْرٌ والصَّباحُ دليلي قال المصنِّف رحمه الله: وقد رأيتُ ولده العَضُد مُرْهَف (¬3) في الدّيار المِصْرية سنة تسع وست مئة، وكان فاضلًا كَيِّسًا، لطيفًا ظريفًا، متواضعًا مفننًا، وكان يحضُرُ مجالسي بالقاهرة، ويزورني، ويُنْشدني مقطَّعاتٍ من الأشعار، منها: [من الطويل] وما زالتِ الأيامُ تُوْعِدُني المُنَى ... بلُقْياكَ حتى بَرَّحَتْ بي وعُوْدُها فلمّا تلاقَينا افْتَرَقْنا فليتنا ... بقينا على الحالِ التي لا نريدُها مجاهد الدِّين خالص بن عبد الله (¬4) خادم الإمام الناصر، كان قريبًا منه، سَلَّم إليه مماليكه الخواص، وكان سليم الصّدْر، دَينًا، صلَّى به إمامٌ صلاة الفجر، فقرأ فيها: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] فرفع خالصٌ صوته في الصَّلاة، وقال: صَلَّى الله عليك يا ¬

_ (¬1) كذا كنَّاه سبط ابن الجوزي هنا، والقرشي في "الجواهر المضية": 2/ 73، وهو أبو علي الحسن بن علي بن عبد الله بن أبي جرادة، وسلفت ترجمته في وفيات سنة (555 هـ). (¬2) سلفت بعض هذه الأبيات في ترجمته في وفيات سنة (555 هـ). (¬3) توفي مرهف سنة (613 هـ)، وستأتي ترجمته في وفياتها. (¬4) له ترجمة في "الكامل": 12/ 26.

الإخلاطية، زوجة الإمام الناصر

رسولَ الله. فضحك القوم، وقطعوا الصَّلاة، فقال لهم خالص: مجانين أنتم! يقول الله: {صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وأسكت أنا؟ ! [وفيها توفيت الإخلاطية، زوجة الإمام الناصر (¬1) واسمها] (¬2) سَلْجوقي خاتون بنت قليج رسلان بن مسعود صاحب الرُّوم، ويقال: مسعود بن قاروت بك الإخلاطية. قدمت بغداد سنة ثلاثٍ وثمانين، وحجَّت، وعادت إلى حِصْن كيفا، فمات زوجها، فعادت إلى بغداد سنة أربع وثمانين، فتزوَّجها الخليفة، فحظيت عنده، فحكَّمها في داره وفي الخزائن والدولة، فتوفيت يوم الاثنين ثاني ربيع الأول فجأةً، فحزن عليها الخليفة حُزْنًا [عظيمًا] (2) لم يحزنه رجلٌ على امرأة، بحيث أقامت دورها ومقاصيرها سنين لم تفتح، وكانت كثيرةَ الصَّدقات والمعروف، وبَنَتْ عند عون ومعين تُرْبة ودفنت بها، فبنى الخليفة إلى جانبها رباطًا للصُّوفية، ووقَفَ عليه وعلى التربة أوقافًا عظيمة، ونَقَلَ إلى التربة الكُتُبَ النَّفيسة، وأمر الناس بالتردُّد إلى تُرْبتها في كل ليلة رجب ونصف شعبان، ويحضر الوزير وأرباب الدولة والوعّاظ والفقهاء والقُرَّاء، ويحضر الخليفة متخفيًا، فيجلس في شُبّاك، ويتكلَّم الوعّاظ، وينشد الشعراء من وقت العَصْر إلى غروب الشمس، ويمضي الوزير وأرباب الدولة، ويبقى الوعَّاظ والقُرّاء يعظون طول الليل، فإذا كان وقت السَّحر فُرِّقَتْ فيهم الحلاوات الكثيرة والخُشْكنانك (¬3) وغير ذلك، وعمل لها سبيلًا يخرج عليها في كل سنة ينفق فيه أموال كثيرة. ¬

_ (¬1) لها ترجمة في "الكامل": 12/ 26، و "التكملة" للمنذري: 1/ 88، "جهات الأئمة الخلفاء" لابن الساعي: 115 - 119 "الوافي بالوفيات": 15/ 296، و "مختصر التاريخ" لابن الكازروني: 246 - 247. (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) نوع من الفطير المصنوع من الزبد والسكر والجوز أو الفستق، ويكون على هيئة هلال. انظر "المعرب": 134، ودوزي: 1/ 373.

عيسى بن مودود فخر الدين

عيسى بن مودود فخر الدِّين (¬1) صاحب تكريت، وكان له أخوة: علي وأزغش وغيرهما، فاغتاله عليٌّ فقتله، وأظهر أنَّ غِلْمانه قتلوه، وكان حَسَنَ السِّيرة، جَوادًا لا يدَّخر شيئًا، ولا يردّ سائلًا، ولا يخيّب قاصدًا، وكان فاضلًا، ومن شعره: [من الوافر] أرى الأَيّامَ محكومًا عليها ... ولا حُكْمَ لها فعلامَ عَتْبُ فلا تتوهَمَنَّ الأَمرَ سَهْلًا ... أَما واللهِ إنَّ الأمرَ صَعْبُ قضاءُ اللهِ مقدورٌ علينا ... ولكنْ فيه للإنسانِ كَسْبُ محمد بن قائد (¬2) الشيخ الزّاهد، من أهل أَوانا: قرية كانت بالدُّجَيل، كان صاحبَ كراماتٍ وإشارات ومجاهدات ورياضات، وكلامٍ على الخواطر، وبيانٍ عمّا في الضَّمائر، وكان يجتمع عنده في المواسم خَلْقٌ عظيم، وكان قد أُقعد زمانًا، فكان يُحمل في مِحَفَّة إلى الجامع يوم الجمعة، واستُشْهد في هذه السنة، وسببه أنه قَدِمَ أَوَانا واعظٌ يُعَرف بالزَّرزور، فجلس بجامع أَوانا، ونال من الصَّحابة، وكان سعود الخادم والي دُجَيل حاضرًا، فلم يُنْكر عليه، فقيل للشيخ محمد: الواعظُ يسبُّ الصَّحابة وسعود جالسٌ عنده ولا ينكر عليه، فقال: احملوني، فحملوه في مِحَفَّة إلى عند المنبر، فصاح على الزرزور: انزل يا كلب أنتَ ومن تعتزُّ به. وكان يدَّعي إلى سنان مقدَّم الإسماعيلية، وثار العوام، فرجموا الزرزور، وهَرَبَ سعود، وتعصَّب للواعظ قومٌ، وخلَّصوه من القَتْل، فهرب إلى الشّام، واجتمع بسنان، [وحكى له صورة الحال] (¬3)، فيقال: إنَّ سنان بَعَثَ إليه رجلين في زِيّ الصُّوفية، فجاءا إلى الشيخ، فأقاما عنده بالرِّباط تسعة أشهر يصومان ويصلِّيان وهو لا يعرفهما، [وكانا يتوقعان فرصة، ] (3) فقال الشيخ يوم الأربعاء ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 11/ 477، 12/ 42، "وفيات الأعيان": 3/ 498 - 500. (¬2) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 4/ 352. (¬3) ما بين حاصرتين من (م).

لأصحابه: يحدث ها هنا حادثة عظيمة. وكان عنده ودائع للنّاس، فردَّها [على أصحابها] (¬1)، وقال لخادمه: يا عبدَ الحميد، لك فيما يجري نصيب، فبعني إياه بالدولة تكون لك -والدولة بستان إلى جانب الرِّباط- فقال: ما أبيعك نصيبي بالجَنَّة، ولم يفهم إشارةَ الشيخ، فلما كان يوم الجمعة تهيأ الشيخ للصَّلاة، وكان أصحابه يأتون قبيل الصَّلاة، فيحملونه في المِحَفَّة إلى الجامع، فجلس عبدُ الحميد والإسماعيليان يقمعون باقِلَّى لأجل الإفطار عليه، والشيخ جالس [على] (1) تختٍ صغير، وإلى جانبه طاقة إلى أهله لا تُفْتح إلا في وقت الحاجة، فقام أحدُ الإسماعيليين، فأغلق باب الرِّباط، وجاء الآخر إلى الشيخ، فقال: يا سيدي، ناولني يَدَك لأقبلها. فأعطاه يده، فصافحه باليسار، فقال: ويحك! وأين اليمين؟ فقال: هو ذا هي. وأخرج يده اليمنى وفيها السِّكِّين، فضربه بها في جَوْفه، فسقط ما في بطنه على التخت، وماتَ، وضَرَبَ الآخرُ عبدَ الحميد، فقتله، وقطعا خيط الباب، فوقع الصَّارخ وهربا، [وكان ابن قائد قد جاوز التسعين] (1)، ومرَّا بين البساتين [ولم يعلم أحد، فمرَّا] (1) على فلاحٍ يسقي بُسْتانًا، وبيده مَرٌّ [يعدل به الماء، فرآهما مريبين] (1)، فَحَمَلَ على أحدهما فضربه بالمَرِّ، فَفَلَقَ رأسه فوقع ميتًا، وحَمَلَ الآخرُ على الفلاح، فاتَّقاه بالمَرِّ [ثم ضربه بالمرّ] (1)، فقتله، وذلك إلهامٌ من الله تعالى، ثمَّ وقف [الفلاح] (1) يفكر ويقول: لِمَ قتلت هذين وعليهما زِيُّ الفقراء؟ وأما الشيخ محمد، فإنَّ أصحابه جاؤوا بالمِحَفَّة على العادة، فوجدوا الباب مُغْلقًا، فعالجوه، [فلم يقدروا على فتحه، ] (1) فكسروه، ودخلوا، وإذا بالشيخ على التَّخْت وأمعاؤه بين يديه، وعبد الحميد مقتولٌ عند التخت، فصاحوا، وانقلبت أَوانا، وبَطَلَتْ صلاةُ الجمعة، ولم يبق بأَوانا أحدٌ إلا وقَصَدَ الرِّباط، ولفوا الشيخ في ثيابه، ودفنوه على حاله، وكان تحته جِلْدُ غَزال -قال المصنف رحمه الله: وقد شاهدتُ دمه في سنة ست مئة وهو طريٌّ على الجلد- ودُفِنَ في الرِّباط، وسأل الناسُ عن الفقيرين، فعدما، فتيقنوا أنهما قُتِلا، وأما [الفلاح] (1) الذي قتلهما، فلما سمع الضجة جاء إلى الرباط، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م).

محمد بن محمد

وسأل: مَنْ قَتَلَ الشيخ؟ قالوا: كان عنده فقيران من صفتهما كذا وكذا، فقال: تعالوا. فجاؤوا، فرأوهما قتيلين، فتعجبوا، وقالوا للرجل: عَلِمْتَ الغيب؟ ! قال: لا والله، بل أُلهمت إلهامًا، فأحرقوهما. وأما سعود الخادم فإنَّ الخليفة سَخِطَ عليه، فاستصفى أمواله، ومات تحت الضَّرب، وألقي في دِجْلة. [وقد رُوي أن الشيخ عبد الله الأرمني حضر مقتل الشيخ محمد، وسنذكره في سنة إحدى وثلاثين وست مئة] (¬1). محمد بن محمد (¬2) ابن عبد الله بن القاسم بن المُظَفَّر بن علي، أبو حامد بن كمال الدين الشَّهْرُزُوري، ولي القضاء بالمَوْصل، وقدم بغداد رسولًا من صاحب المَوْصِل، فأكرمه الخليفةُ، وخَلَعَ عليه، وتوفي في جُمادى الأُولى. ومن شعره: [من الوافر] ولمَّا شابَ رأسُ الدَّهْرِ غيظًا ... لِما قاساه من فَقْدِ الكرامِ أقام يميطُ عنه الشيبَ عَمْدًا ... وينثُرُ ما أماطَ على الأنامِ السنة الخامسة والثمانون وخمس مئة في المحرَّم أَمَرَ الخليفةُ أن يُعهَدَ إلى ولده أبي نَصْر محمَّد، وكان في العهد: وإنَّ أميرَ المؤمنين أَنْعَمَ النَّظر للمسلمين بتفويضِ عهده والإمامةِ من بعده إلى ولده عُدَّة الدنيا والدِّين أبي نصر محمَّد لما عَلِمَ من عَقله الرَّاجح، وهدْيه الواضح. وذكر كلامًا بمعناه. وبعث الخليفةُ ضياء الدِّين عبد الوهّاب بن علي الصُّوفي ويعرف بابن سُكَينة إلى صلاح الدِّين في الخُطْبة، [وبَعَثَ إلى جميع الآفاق، فالتقاه السلطان] (1)، فخطب له على المنابر، [وكان الخطيب بدمشق عبد الملك بن زيد الدَّوْلعي] (1) وبعث جواب ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م)، وانظر ج 22/ 329 من هذا الكتاب. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الأم: 2/ 329 - 339، و "التكملة" للمنذري: 1/ 136 - 137، و "كتاب "الروضتين": 4/ 238 - 239، "وفيات الأعيان": 4/ 246 - 248 و "سير أعلام النبلاء": 21/ 60 - 61، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

الرِّسالة مع ضياء الدين الشَّهْرُزُوري، وبَعَثَ معه بصليبٍ كان على صخرة بيت المقدس، فَجُعِلَ في باب النُّوبي تطؤه الأقدام. وفيها أُعيد ابن يونس الذي كسره طغريل إلى الوزارة، وعُزِلَ ابنُ حديدة، وطُولب بمالٍ أخذه من تركة خالص الخادم، فَهَرَبَ إلى الرّباط المجاور لتربة الإخلاطية، فاستجار به، فلم ينفعه، وأُخذ منه المال، ووكل به في داره، وقيل: إنما ولي ابن يونس أُستاذ دار. وفيها بنى الخليفةُ داره التي استجدَّها إلى جانب التاج، وسمّاها الدّارَ البيضاء. وفيها تسلَّم نوابُ الخليفة قلعة تكريت، وكان قد حَصرَها العسكر مُدَّة، ومات صاحِبُها عيسى بن مودود، وولي مكانه أخوه أزغش، فقتله إخوته، وسببُ قتله أنه كان قد استولد مغنية، فكانت تذلُّ إخوته وتهينهم، وكان أزغش قد مال إلى الخليفة، فاتَّهموه بقتل عيسى، فقتلوه، وقتلوا المغنية، وولوا أخاهم هارون بن مودود، فساءتِ الأحدوثة عنهم، وجَهَّز الخليفةُ إليهم العساكر، وخاف أهلُ البلد من النَّهب والقَتْل، فخرجوا بأطفالهم وأهلهم، فسُقِطَ في يد أولاد مودود، فأرسلوا تاج الدين يحيى قاضي تكريت إلى بغداد، فقرَّر أمرهم، وأُفرد لهم دورٌ ببغداد، وكانوا جماعة: الياس وهارون ومحمد وعلي وإسماعيل وإبراهيم ويوسف. وفيها ولَّى السُّلْطان على عكا حسام الدين بشارة، وعلى عمارة السور قراقوش، وعاد السُّلْطان إلى دمشق في صفر. وفيه ولى السلطان شحنكية دمشق بدر الدين مودود؛ أخا العادل لأُمه. وفي ربيع الأول خرج السُّلْطان من دمشق قاصدًا شقيف أرنون غربيَّ بانياس، وكان به رجلٌ من دُهاة الفرنج قد قرأ التَّواريخ والسِّيَر والعربية، وكانت له صيدا، فنزل إلى السُّلْطان، واستمهله ثلاثة أشهر لينقل ماله وأهله إلى صور، وكان ينزل كل وقت ويأكل مع السُّلْطان، فلما انقضتِ الأشهر طالبه بتسليم الحصْن، فقال: إن أهله قد عصوني، فقيَّده، وبعث به إلى دمشق. وفيها كانت الوقعة على صور، قُتِلَ فيها الغزاة الذين جاؤوا من الشَّرق، وسببها أَنَّ الفرنج كانوا قد اجتمعوا إلى صور مدَّة مقام السُّلْطان على الشَّقيف، وكان السُّلْطان قد

أطلق ملكَ عكا، وشَرَطَ عليه أن لا يَضْرِبَ في وَجْهه بسيف، وأن يكون طليقَ السُّلْطان، فلما حَصَلَ في المركب مزَّق خِلْعة السُّلْطان، وسَبَّه وسبَّ المُسْلمين، وسار إلى صور وبها المركيس، فلم يمكِّنْه من دخولِ البلد، فنزل بظاهره، وجاء السُّلْطان فنزل أرض صيدا، وبينهمُ الجسر، ووصل من الشرق خَلْقٌ عظيم من الغُزاة ما يزيد على عشرة آلاف راجل، فقال لهم السُّلْطان: لا تعبروا الجسر إلا معنا، فالمكان ضيِّق. فخالفوه، وعبروا [الجسر] (¬1)، وكَمَنَ لهم الفرنج، فقتلوا مُعْظمهم، وقُتِلَ غازي بن مسعود بن البصار، وكان شابًّا جميلًا، ولم يعلمِ السُّلْطان، فجاء وقد فاتَ الأمر، وبَعَثَ الفرنج برؤوس القَتْلى إلى الجزائر، وقالوا: أيش قعودكم؟ فهذه رؤوسُ ملوكِ المُسْلمين، فكان ذلك سببًا لاستيلاءِ الفرنج على البلاد. وفي جُمادى الأولى ولد للملك العزيز ولد وسماه محمدًا، ولقبه ناصر الدين، وهو الذي اجتمع عليه أصحابُ العزيز عند موته سنة خمس وتسعين وخمس مئة، وكَتَبَ الفاضل إلى السُّلْطان: أدام الله أيام مولانا السُّلْطان ورشاده وإرشاده، وزاد سَعْده وإسعاده، وكَثَّر عبيده وأعداده، وشدَّ بأعضادهم عضده وأعضاده، ونمَّى عَدَده وعديده حتى يقال: هذا آدم الملوك وهذه أولاده، وقد رَزَقَ الله الملكَ العزيز ولدًا ذكرًا سويًّا، بَرًّا زكيًّا، نقيًّا تقيًّا، من ذُرِّيَّة بعضُها من بعض، وبيت كريم، كادت ولاته تكون ولاةً في السَّماء، وممالكيه ملوكًا في الأرض، وكانت ولادته يوم الأحد، ليعزَّ الله به أهل الجمعة ويذل أهلَ الأحد. وفي ثاني عشر رجب نَزَلَ الفرنج على عكا؛ ساروا من صور على طريق الناقورة والإسكندرونة على السَّاحل، وهؤلاء الفرنج هم الذين أجلاهم السُّلْطان إلى صور، واجتمعَ إليهم مَنْ كان في السّاحل، وسار السُّلْطان يقاتلهم في البر، فسبقوه إليها، واستداروا حولها من البحر إلى البحر، ونزل السُّلْطان على تل كَيسان، وكتب إلى الأطراف يستنجدهم، فأسرعوا، فأول مَنْ جاءه تقي الدين صاحب حماة، ثم [ابن] (1) زين الدين بعساكر الشَّرْق، ثم عسكر مِصْر، فزحف عليهم مستهل شعبان وضايقهم، فانضمَّ بعضُهم إلى بعض، فخلا جانبٌ من سور عكا، فدخلها المسلمون بالعُدَد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م).

والذَّخائر، ودخلها السُّلْطان، وصَعِدَ على السور، فرأى خَلْقًا عظيمًا، وخرج إلى المخيم. فلما كان يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شعبان خَرَجَ الفرنجُ بالفارسِ والرّاجل، وكان في ميمنة السُّلْطان تقي الدين صاحب حماة، فترفَّع عنهم قليلًا قليلًا، فانتهوا إلى التَّل وعليه خيمةُ السُّلْطان، فقتلوا بعضَ الحاشية وجماعةً من أهل السوق، ثم حملت عليهم ميمنةُ السُّلْطان، فانهزموا، وقُتِلَ منهم خمسة آلاف، وأُسِرَ جماعةٌ، وكان فيهم نسوةٌ بزِيِّ الخيّالة، فسئل بعضُ المأسورين: كم عِدَّتكم؟ فقال: مئة ألف. ورجع السُّلْطان إلى خيمته، وأمر بالقَتْلى، فطرحوا في النهر الذي يشرب منه الفرنج، وكل يوم يأتي الفرنج مَدَدٌ وقوة، وقيل: كانوا ألفي فارس وثلاثين ألف راجل مقاتلة، والباقي أتباع، وباب عكا مفتوحٌ من ناحية القلعة المسماة بقلعة الملك إلى باب قَراقوش الذي جدَّده. وتوفي سُنْقُر الخِلاطي، فحزن السُّلْطان عليه [حزنًا كبيرًا] (1). وكان السُّلْطان يباشر الأمور بنفسه ليلًا ونهارًا، وكان العسكر الذي بعكا يخرجون ويقاتلون، ولما كان في اليوم الحادي والعشرين من شعبان رأى السُّلْطان التوسعة عليهم لعلهم يخرجون فيظفر بهم، فارتفعَ إلى تل العياضية، ومات حسام الدين طُمان، فدفن في هذا التل، وطال القتالُ بين الفرنج وأهل البلد، فصار يتحدَّث بعضُهم مع بعض، وأبطلوا القتال، وأخرجوا الصّغار يتصارعون، فلما كان يوم الأحد خامس عشرين شعبان خرج الفرنج الفارس والرّاجل، ووقفوا أطلابًا، واصطفوا ميمنة وميسرة وقلبًا، فركب السلطان، وصفَّ أصحابه، فجعل في الميمنة ولده الملك الأفضل والظّافر وعسكر الشرق وديار بكر، وحسام الدين ابن لاجين صاحب نابُلُس، وقيماز النجمي، وفي طرفها تقي الدين عمر، وفي الميسرة سيف الدين علي بن المشطوب مقدَّم الأكراد ومجلي والمهرانية، ويرنقش مقدَّم عسكر سِنْجار، ومظفر الدين ابن زين الدين [والأسدية] (¬1)، ووقف السُّلْطان في القلب، وخَرَجَ يدور على الأطلاب، وبين ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م).

يديه الفقيه عيسى يحرِّضُ النَّاس على الجهاد، [ويرغبهم في الثواب] (1)، فتحركت ميسرةُ الفرنج، فتأخَّر تقي الدين طمعًا في خروجهم عن الرّاجل، وطمع الفرنج، وحملوا على طرف الميمنة، وجاءتِ الحملةُ على الدّياربكرية، ولم يكن لهم خبرةٌ بالحرب، فانهزموا، فتبعهم الفرنج إلى تل العياضية، وعليه خيمةُ السلطان، فدخلوها وقتلوا [جماعة من خواص السلطان، منهم جمال الدين] (1) إسماعيل المكبِّس، وابن رواحة، وطشت دار السلْطان، وبلغت هزيمة الميمنة إلى الأُقحوانة، ويقال: دخل بعضهم دمشق، وبلغ الأفضل إلى عقبة فيق، ولما رأى السُّلْطان ذلك صاح: كذب الشيطان. وحَمَلَ عليهم، وقال للميسرة: احملوا. فحمل الجميع، فطحنوا الفرنج طحنًا، وقتلوا منهم عشرة آلاف، وأسروا [منهم] (¬1) خَلْقًا كثيرًا، وقُتِلَ من المُسْلمين مئة وخمسون ممن لا يؤبه له، وقُتِلَ الظَّهير أخو الفقيه عيسى، فعزّاه النَّاس، فضحك وقال: هذا يوم هناء. ولما انكسرت الميمنة نهب بعضُ النَّاس خيامَ بعضٍ لخلوّها، فذهبت أموالُ النَّاس، وعاد السُّلْطان فرأى النهب، فساءه ذلك، فأرسل إلى المنهزمين، فعادوا، فأمر برَدّ خيامهم وأموالهم، ثم ارتفع السُّلْطان إلى الخَرُّوبة خوفًا على النَّاس من روائح القَتْلى، ولما ارتفع وبَعُدَ عن عكا طمع الفرنج، وشرعوا في حَفر الخنادق عليهم من البحر إلى البحر، وغلَّق أهلُ البلد الأبواب، وبان حينئذٍ ضعف الرأي، فإنَّ الرحيل عن تل كيسان كان سببًا لأخذ عكا، وانقطعت الطُّرق إلى عكا. وقَدِمَ الحاجب لؤلؤ بالأُسْطول من مِصْر، فأحرق عِدَّةً من مراكب الفرنج، ودخل جماعةٌ إلى عكا معهم الميرة والعُدَّة، وقَدِمَ العادلُ بعساكر مِصْر. وفي رمضان وَصَلَتْ مراكبُ الفرنج، وفي جُمْلتها بطسة كبيرة فيها ثلاث مئة إفرنجية مُسْتحسنات لإسعاف الغرباء، لا يمنعن كَفَّ لامس، وبلغ المسلمين ذلك، فهرب إليهن جماعةٌ من الغِلْمان، وكان في المراكب امرأة معها خمس مئة فارس بخيولهم وعُدَدهم، وكان النّساء يخرجن فيقاتلن في زِيِّ الرجال. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م).

الحسين بن عبد الله بن رواحة الأنصاري

وفي رمضان [أيضًا] وصلت كُتُبُ الملك الظّاهر من حلب تخبر بخروج ملك الألمان في مئتين وستين ألفًا من بلاد الرُّوم قاصدًا بلاد الإِسلام، فندب القاضي بهاء الدين بن شدّاد، فسار إلى الشرق يُنْذر المُسْلمين بوصوله، فوعده الخليفةُ بإنفاذ العساكر، وبَعَثَ عِزُّ الدِّين صاحبُ الموصل بعساكر مع ولده علاء الدين. وحجَّت والدةُ الخليفة النّاصر، ومعها ألف وثمان مئة جمل عليها الزّاد والماء والمارَسْتان والأموال والثّياب، وسار في خدمتها صَنْدَل الخادم وطاشْتِكِين وطغريل صاحب البَصْرة، وفعلت خيرًا كثيرًا. وفيها توفي الحسين بن عبد الله بن رواحة الأنصاري (¬1) أبو علي، الفقيه الحموي الشَّافعي، كان دَيِّنًا صالحًا، اسْتُشْهد في رجب في خيمة السُّلْطان مع المكبِّس، وهو من ولد عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - (¬2). طُمان بن عبد الله النُّوري الأمير (¬3) صاحب الرقة، كان شجاعًا جَوادًا، محبًّا للخير، كثيرَ الصَّدقات، مائلًا إلى العلماء والفقهاء، بنى مدرسةً بحلب لأصحاب أبي حنيفة، وكان السُّلْطان يحبُّه ويعتمد عليه، ولما احْتضِرَ والسُّلْطان في مقابلة الفرنج طَلَبَ حِصانه وزرديته ليركب من حِرْصه على الغَزاة، فلم يقدر لضعفه، فجعل يبكي ويتأسف على موته على فراشه، وكان من شُجْعان المسلمين، فتوفي ليلة نصف شعبان، ودفن في تل العياضية، وحَزِنَ السلطان والمسلمون عليه. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 1/ 481 - 496، و "معجم الأدباء": 10/ 46 - 56، و "التكملة" للمنذري: 1/ 116، و "الروضتين": 4/ 97 - 98، "مفرج الكروب": 2/ 300 - 302، و "فوات الوفيات": 1/ 376 - 377، و "الوافي بالوفيات": 12/ 413 - 416. (¬2) قال أبو شامة في "الروضتين": 4/ 98: "وليس هو من أولاد ابن رواحة الصحابي، ذاك لم يعقب، وإنما في أجداده من اسمه رواحة". (¬3) له ترجمة في "كتاب "الروضتين": 4/ 108، و "الوافي بالوفيات": 16/ 497، و "النجوم الزاهرة": 6/ 109.

عبد الله بن محمد

عبد الله بن محمَّد (¬1) ابن هبة الله بن علي بن المطهر (¬2)، أبو سَعْد ابن أبي السَّرِي، التَّميمي المَوْصِلي، الحَدِيثي، القاضي شرف الدين بن أبي عَصْرون. ولد بالمَوْصل ليلة الاثنين الحادي وعشرين ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة، وقدم بغداد، فأقام بها مدَّة، وقرأ القرآن، [على جماعة، منهم الشيخ محمَّد بن بنت الشيخ، وأبو عبد الله البارع الأديب، قرأ عليه بالسبعة، وغيره] (¬3)، وتفقَّه على القاضي أبي محمد بن الشَّهْرُزُوري الذي خَلَفَ على أُمِّ ابنِ أبي عَصْرُون بعد أبيه، [وعلى أسعد المِيهني، وقرأ الأصول على أبي الفتح بن بَرْهان، وسمع الحديث من ابن الحُصَين، والبارع، وابن السمرقندي وابن الخاضبة] (3). وصنَّف كُتُبًا كثيرة، [ودرَّس الفقه، وأفتى وناظر في الموصل سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة، وبسنجار أيضًا، ] (3) وقَدِمَ حلب سنة خمس وأربعين [وخمس مئة] (3)، فأقام بها، وقَدِمَ دمشق لما فتحها نور الدين في سنة تسعٍ وأربعين، ودرَّس بالزّاوية الغربية، وتولى أوقاف الجامع والمساجد بدمشق، ثم عاد إلى حلب، وولي القضاء بسِنْجار ونَصِيبين ورأس عين وحَرّان ودياربكر، ثم عاد إلى دمشق، فولاه صلاحُ الدين القضاء بها -[وقد ذكرناه- بعد وفاة كمال الدين في سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة] (3)، وأضَرَّ قبل وفاته بعشر سنين، ففوَّض السُّلْطان القضاء إلى ابنه أبي حامد، وأقام منقطعًا بداره في دمشق إلى أن توفي ليلة الثلاثاء حادي عشر شهر رمضان، وقد بلغ ثلاثًا وتسعين سنة، ودُفن بمدرسته المجاورة لداره قريبًا من باب البريد، وقيل: إنه كان مجرَّدًا من الدُّنْيا، سائحًا في الجبال على قدم التجريد والزُّهْد حتى اجتمع بنور الدين محمود، فبنى له المدارس بحلب وبَعْلَبَكّ ودمشق، ثم جاء صلاح الدين فولاه القضاء، ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 351 - 357، و "الكامل" لابن الأثير: 12/ 42، و "التكملة" للمنذري: 1/ 117 - 119، و "الروضتين": 4/ 108 - 109، "وفيات الأعيان": 3/ 53 - 57، و "المختصر المحتاج إليه": 2/ 158 - 160، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 125 - 129، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) كذا في (ح)، والصحيح: هبة الله بن مطهر بن علي، وانظر "وفيات الأعيان": 3/ 53. (¬3) ما بين حاصرتين من (م).

فانتقل عن ذلك الحال، [وقد ذكرنا أنَّه سمع من ابن الحصين وغيره ببغداد، وسمع بالموصل من القاضي أبي عبد الله بن خميس، مصنف "مناقب الأبرار" وغيره، وذكره العماد الكاتب وأثنى عليه، وذكر مقطعات من شعره، منها] (¬1): [من الخفيف] كلُّ جَمْعٍ إلى الشَّتاتِ يصيرُ ... أيُّ صفوٍ ما شابَهُ التَّكْديرُ أنتَ في اللهْو والأماني مقيمٌ ... والمنايا في كلِّ وقتٍ تسيرُ والذي غرَّه بلوغُ الأماني ... بسراب وخُلَّب مغرورُ ويكِ يا نفسُ أخلصي إنَّ ربي ... بالذي أخفتِ الصُّدورُ بصيرُ (¬2) وقال: [من الطويل] أؤمِّلُ وَصْلًا مِنْ حبيبٍ وإنني ... على كَمَدٍ عمَّا قليل أفارِقُهْ تجارَى بنا خيلُ الحِمامِ كأنَّما ... يُسابقني نحو الرَّدى وأسابِقُهْ فيا ليتنا مُتْنا معًا ثم لم يَذُقْ ... مرارةَ فَقْدِي لا ولا أنا ذائِقُهْ (2) وقال: [من الطويل] أؤمِّلُ أَنْ أحيا وفي كلّ ساعةٍ ... تمرُّ بي الموتى تُهَزُّ نعوشُها وهل أنا إلا مِثْلُهُمْ غيرَ أَنَّ لي ... بقايا ليالٍ في الزمان أعيشُها (2) وكتب إليه في فتوى: [من الوافر] أيا تاجَ الأَئمَّةِ والمُرَجَّى ... لكشفِ المُشْكلاتِ من الأُمور إذا ما الدَّار سَهْمٌ ضاقَ فيها ... مع الإفراز من نفعٍ يسيرِ وباقيها فسهمٌ ليس يخلو ... مع الإفراز من نفعٍ كبيرِ فإن نبعِ الكثيرَ فهل مكانٌ ... لشُفْعةِ ذلك الجُزْءِ الحقيرِ وهل تجري ولا إجبارَ فيها ... مع الحمَّامِ والبئرِ الكبيرِ فأجاب بديهًا: [من الوافر] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) "الخريدة": 2/ 354 - 357.

الفقيه عيسى الهكاري ضياء الدين

وَثِقْتُ بخالقي في كلِّ أمرٍ ... وما لي غير ربي مِنْ ظهيرِ أرى الشِّقْصَ الذي لا نَفْعَ فيه ... كبِئْرٍ أو كحمَّامٍ صغيرِ وفي الكلِّ الخِلافُ وإن رأيي ... لَيُثْبِتُ شُفْعةَ السَّهْمِ الحقيرِ وتُرْهِقُهُ المضرَّة حين باعوا ... فما غير التَّشَفُّع من مجيرِ (¬1) الفقيه عيسى الهَكَّاري ضياء الدين (¬2) حضر فتح مِصْر، وهو الذي مشى بين الأمراء، وقرَّر حديث السُّلْطان، وحضر فتوح القُدْس والغزوات، وكان السُّلْطان يحبُّه ويحسن إليه، ويحسن الظَّنَّ به ويستشيره، وكان الله قد أقامه لقضاء حوائج النَّاس والتفريج عن المكروبين، مع الورع والعِفَّة، وكانت وفاتُهُ عند رحيل السُّلْطان إلى الخَرُّوبة، فحزن السُّلْطان والمسلمون عليه حُزْنًا شديدًا، وصلَّى السُّلْطان عليه، وحُمِل إلى القُدْس، فدفن في ظاهره، رحمه الله تعالى. محمَّد بن عبد الواحد بن علي (¬3) أبو جعفر بن الصَّباغ، الشّافعي. ولد في رجب سنة ثمان وخمس مئة، وولي القضاء ببغداد، وكان صالحًا نَزِهًا، دخل في صلاة العَصْر، فصلى ثلاث ركعات، ومات في الرّابعة، ودفن بباب حَرْب. المبارك بن المبارك بن المبارك (¬4) أبو طالب الكرخي، [صاحب الفقيه أبي الحسن بن الخل، قرأ القرآن، وسمع الحديث، وتفقه على شيخه ابن الخل، وكتب فأحسن، وخلف أبا الحسن ابن ¬

_ (¬1) "الخريدة": 2/ 354 - 357. (¬2) له ترجمة في "الكامل": 12/ 42، و "التكملة" للمنذري: 1/ 123، و "كتاب "الروضتين": 4/ 109 - 110، و "المختصر في تاريخ البشر": 3/ 77، و "طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 255 - 256، و "النجوم الزاهرة": 6/ 110. (¬3) له ترجمة في "طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 148 - 149، و "الوافي بالوفيات": 4/ 64. (¬4) له ترجمة في "معجم الأدباء": 17/ 56 - 58، و "الكامل": 12/ 18، و "التكملة" للمنذري: 1/ 122، و "مشيخة النعال": 92 - 94، و "المختصر المحتاج إليه": 3/ 177، و"العبر" للذهبي: 4/ 257، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 224 - 226، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

موسك بن جكو

البواب، وكان يعلِّم أولاد الخليفة الخط: محمدًا ولي العهد، وعليًّا، وخلف شيخه أبا الحسن بن الخل في مدرسته بباب العامة التي بناها كمال الدين ابن طلحة، وأضيف إليه تدريس] (¬1) النِّظامية، وولي رباط الإخلاطية [وبني على جانبه دار، فسكنها] (¬2)، وكان زاهدًا عابدًا ورعًا، [وكان الخليفة يرى له، ويحسن الظن به، وكان يومًا برباط الإخلاطية] (1) خرج من داره في ذي القَعْدة، ودخل الرِّباط ليصلي بهم العَصْر، فلما وقف في المحراب عرضت [له] (1) سُعْلة، فتغيَّر، فحمل إلى داره، فتوفي وله نيفٌ وثمانون سنة، وحضر جنازته جميع أرباب الدولة، لم يتخلَّف سوى الخليفة، ومن محبة الخليفة له وحُسْن ظنه به، دفنه في [أعز (¬3) الأماكن عنده، وهي تربة زوجته] الإخلاطية، وجاء [الخليفة] (2) آخر النهار، فصلى عليه، [سمع أبا القاسم بن الحُصَين، وقاضي المارستان، وأبا الحسن بن الخل وغيرهم] (2). موسك بن جكو (¬4) [والد الأمير عماد الدين داود، وموسك ابن] (1) خال السُّلْطان صلاح الدين الذي حفظ القرآن وسمع الحديث، وكان مُحْسنًا إلى النَّاس، يقضي حوائجهم، ويتلطَّف بهم، وكان ملازمًا للسُّلْطان في غزواته، لم يتخلَّف عنه في شيءٍ منها، وكان دَيّنًا صالحًا جَوادًا، مَرِضَ بمرج عكا مرضًا شديدًا، فأمره السُّلْطان أن يمضي إلى دمشق يتطبَّب، فجاء إلى دمشق، فتوفي بها، ودفن بقاسيون، [رحمة الله عليه، وكان صالحا ثقة] (2). السنة السّادسة والثمانون وخمس مئة في سابع المحرم دخل ألب رسلان ابن السلطان طغريل إلى بغداد، وهو صبيٌّ صغير، وعليه كَفَن، وبيده سيف مشهور يطلب عفو الخليفة، وجاء فنزل باب النوبي، وباس العتبة، فبكى أهل بغداد، ورَقَّ له الخليفة، وأنزله دار ابن العَطَّار مقابل ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) في (ح): ودفنه في تربة الإخلاطية، والمثبت ما بين حاصرتين من (م). (¬4) له ترجمة في "كتاب "الروضتين": 4/ 108.

المخزن، وأكرمه، وأحسن نُزُله، وعفا عن جرائم أبيه وما فعل بابنِ يونس، واستدعاه إلى باب الحجرة، وخلع عليه خِلْعة السَّلْطنة، وطوَّقه بطوقٍ من ذهب، واجتمع بولي العهد أبي نَصْر محمد. وفيها تسلَّم الخليفة قلعة الحديثة بعد حصار طويل. وفيها بني الخليفة دار الفَلَك، ورتَّب فيها ابنة السيد العلوي، ويقال لها: بنت الجدود. وأما حديث السُّلْطان فإنَّ هذه السنة دخلت وهو مرابطٌ على الخَرُّوبة، وفي ربيع الآخر تسلَّم شقيف أرنون بالأمان بعد الحصار الطويل، وضيَّق على صاحبه أرناط بدمشق، فسلَّمه، ومضى إلى صور. وفي هذا الشهر قدمتِ العساكرُ الإِسلامية على السُّلْطان، وفيهم الملك الظّاهر صاحب حلب، وأسد الدين شيركوه صاحب حمص، وسابق الدين عثمان صاحب شَيزَر، وعز الدين إبراهيم بن المقدم، وغيرهم، فتقدَّم السُّلْطان إلى تل كيسان، وعَزَمَ على لقاء الفرنج، وقدم رسول الخليفة فخر الدين نقيب العلويين بمشهد باب التبن ومعه خمسة أحمال نِفْط، وتوقيع بعشرين ألف دينار تقترض من التجار على [ذمة] (¬1) الخليفة، فشق على السُّلْطان، وقال: أنا في يوم واحدٍ أُخرج مثل هذا وأضعافه، وما أنا بمضطر. ورَدَّ عليه الجميع، فأشار عليه بعضُ أصحابه بأخذ النفط للغَزاة، [فأخذه] (1) ورَدَّ التوقيع، وقال: يرحم الله العاضد، وصل إليَّ منه في عشرين يومًا مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار، ومثلها عروض. حديث حريق الأبراج: كان الفرنج قد صنعوا ثلاثة أبراج من الخشب والحديد، وألبسوها جلود البقر المسقاة بالخَلِّ والخمر لئلا تعمل فيها النار، وطمُّوا خندق عكا، وسحبوا الأبراج على العَجَل إلى السُّور، فأقبلت أمثال الجبال، فأشرفت على البلد، وفي كل برج خمس مئة مقاتل، فأيس المسلمون من البلد وقد حِيلَ بينهم وبين السُّلْطان، وركب السُّلْطان ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

والعساكر واجتهدوا في الوصول إلى البلد، فلم يقدروا، ورماهم الزَّرّاقون الذين في البلد بالنفْط، فلم يحترق منها شيءٌ، وكان بعكا شابٌّ دمشقيٌّ، يقال له ابن النَّحّاس، ليس له في الدِّيوان اسم، وكان عارفًا بالنفط والحريق، فهيّأ ثلاث قدور، وقال لقراقوش: انصبْ لي منجنيقًا، فانتهره، وقال: قد عَجَزَ الصُّنّاع عن ذلك، فمن أنت؟ فقال: قد عملتُ قدورًا لله تعالى، وما أُريد منكم شيئًا، وما يضركم أَنْ أرميَ بها في سبيل الله، فإن نفعت، وإلا فاحسبني واحدًا منهم. فقال قَراقوش: ما يَضُرُّنا ذلك. ثم نُصِبَ له المنجنيق، فرمى قدرة واحدة في بُرْج، فاحترقَ بمن فيه، ثمَّ فَعَلَ ذلك بالثّاني والثالث، فكبَّر المسلمون، وسَمِعَ السُّلْطان، فكبَّر والعساكر، وفرح قَراقوش والأُمراء، وطَمُّوه بالخِلَع والأموال، فلم يأخذ منها شيئًا، وقال: أنا فعلتُ هذا لله تعالى. وكان ذلك صبيحة يوم الجمعة العشرين من ربيع الأول. قال المصنف رحمه الله: وقد اجتمعتُ بابنِ النحاس في حلب سنةَ ثلاثٍ وست مئة، وحكى لي صورةَ الحريق، وكان يحضُرُ مجالسي، فطابَ قلبه يومًا، فقال للنّاس: اشهدوا أن نصفَ ثوابي في حريقِ الأبراج لفلانٍ. عني. وبعد يومين من حريق الأبراج وَصَلَ عماد الدين زَنْكي صاحب سِنْجار إلى خِدْمة السُّلْطان، فالتقاه وتعانقا، وساق به السُّلْطان إلى خيمته، فترجَّل عمادُ الدين قبل السُّلْطان، ومشى في خدمته بمقدار ما لَبِسَ السُّلْطان سرموزته، ودخلا الخيمة، وقدَّم له السُّلْطان من التُّحَف والطُّرَف ما لم يقدم مثله، وبَسَطَ له الثياب الأطلس، فمشى عليها، وأنزله في طَرَفِ المَيسرة. حديثُ ملك الألمان: وفيها قَطَعَ الألمان خليج القُسْطنطينية إلى بلاد قليج رسلان في ست مئة ألف جاؤوا من إفرنجة، فخافَ منهم ملكُ القُسْطنطينية، فقالوا: لا تخفْ، نحن ما جئنا إلا لنخلص القُدْس وصليب الصَّلبوت، ونملك بلادَ المسلمين. فلما دخلوا بلاد قليج رسلان لم يكن له بهم طاقة، فاحتاج إلى مسالمتهم، وكَتَبَ إلى السُّلْطان يعتذر بالعَجْز عنهم، وساروا طالبين الشَّام، ووقع فيهم الوباء وفي دوابهم، فدفنوا كثيرًا من سلاحهم ظنًّا منهم أنهم إذا عادوا أخذوه، فهلكوا، وأخذ المسلمون ما دفنوه، ووصلوا إلى نهر

طَوَسُوس، فتحصَّن منهم ابن ليون بقلاعه لأنه أرمني وهم فرنج، فأراد الملك أن يسبح في نهر طَرَسُوس، وكان ماؤه باردًا، فنهوه وقالوا: لا تفعل، فأنت متعوب، فقال: لا بُدَّ. فسبح فيه، فأخذته الحُمَّى، فأقاموا على النهر بسببه، فأوصى إلى ولده الذي كان في صحبته، ومات، فسلقوه في خل، وجعلوا عظامه في كيس ليدفنوها في القُدْس، ولما مات اختلفوا على ولده لأنه كان له آخر أكبر منه، وكانوا يميلون إليه، فتأخَّر عنه أكثرهم، ودخل أنطاكية في جيش قليل، وسأل الإبرنس أن يخلِيَ له القلعة ليضع أمواله وأثقاله فيها، [وكان في الإبرنس خبرة] (1)، فأجابه إلى ذلك ظنًّا منه أنه لا يتفق عوده إليها، وكان كما ظن ما عاد، وأخذ البرنس الجميع، ثم ساروا إلى طرابُلُس، وجعل أهلُ الجبالِ يقتلونهم غِيلَةً وينهبونهم، فما وصلوا طرابُلُس إلا في نفرٍ يسير، فأقاموا أيامًا، وساروا إلى عكا، فلقيهم الفرنج، واستبشروا بهم، ووصل رسول صاحب القُسْطنطينية يعتذر إلى السُّلْطان عن الروم، وكان صديقَ السُّلْطان، [وأنه خطب للخليفة والسلطان بالقسطنطينية. وانقطعت أخبار عكا عن السلطان، ] (¬1)، فندب أقوامًا للسّباحة، وأعطاهم المال في أوساطهم، والطيور في أعبابهم، فترد الأخبار، ثم احترز الفرنج بعد ذلك بشِباكٍ نصبوها في الميناء، فإذا جاء سابحٌ وقع فيها، فامتنع الناس، وبعث قراقوش يشكو قِلَّة الميرة، فرتَّب لهم السُّلْطان بُطْسة كبيرة، وجعل فيها نصارى من أهل بيروت كانوا قد أسلموا، فقال: ارفعوا الصُّلْبان على البُطْسة كأنكم قاصدين الفرنج، ففعلوا ذلك، فخرج إليهم الفرنج في الشَّواني، وقالوا: نراكم قاصدين البلد؟ فقالوا: وما أخذتموه بعد؟ ! قالوا: لا. قالوا: وراءنا بُطْسة أخرى ردُّوها عن البلد. فذهبوا عنهم، فردُّوا القُلوع إلى البلد، ودخلوا الميناء، وكبَّر المسلمون، وامتاروا أيامًا. وأما ابنُ ملك الألمان، فإنَّه أعدَّ دبابة عظيمة يدخل تحتها ألوفٌ من النَّاس، ولها رأسٌ عظيم برقبة طويلة، إذا نطحتِ السُّور دخلت فيه وهَدَمَتْه، وعمل بطسة لها خرطوم عظيم طويل، إذا أرادوا قلبه على السُّور انقلب بالحركات، وزحفوا إلى برج الذُّبّان، فأحرق المسلمون جميع ذلك، وطلبتِ العساكر الشَّرقية العَود إلى بلادها، فقال ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السُّلْطان: في هذه الحالة اصبروا إلى زمن الشتاء. فأما عمادُ الدِّين صاحب سنجار فأقام، وأما سنجر صاحب الجزيرة، فأصرَّ على الرَّحيل، ودخل على السُّلْطان، فقبَّل يده، وسار من ساعته، فكَتَبَ السلْطان وراءه كتابًا يقول في أوله: [من مجزوء الكامل] مَنْ ضاع مثلي مِنْ يديـ ... ـه فليتَ شِعْري ما استفادا إنك انتميتَ إلينا، فحميناك من أهلك، فَبَسَطْتَ يدَك في الأموال والدِّماء والأعراض، ونهيناك، فلم تنته، وأتيتنا بعسكرٍ قد علمه الناس، وقلقت هذا القلق ونحن نقاتل العدو، فأبصرْ من تنتمي إليه غيري، فما بقي لي إلى جانبك التفات. فقرأ الكتاب ولم يلتفت، وسار، فلقيه تقيُّ الدِّين عند عقبة فيق، فقال له: إلى أين؟ فأخبره الخبر، فقال: ارجع. فقال: ما أرجع. وكان تقيُّ الدِّين مِقْدامًا، فقال له: ارجع يا صبي وإلا رجعتَ مقهورًا. فرجع، وسأل تقيُّ الدين السلْطان، فعفا عنه. وفيها كتب السُّلْطان إلى يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن أمير المغرب كتابًا يستنجد به على يد شمس الدين بن مُنْقذ، وعنوانه: إلى أمير المُسْلمين محلّ التُّقى الظاهر، ومقر حزب الله الظَّاهر. وفي أوله: الفقير إلى الله يوسف بن أيوب. الحمد لله الذي استعمل على الملَّة الحنيفيَّة من استعمر الأرض، وأغنى من أهلها من سأله القَرْض، وأجزى من أجرى على يديه النّافلة والفَرْض، وزيَّن سماء المِلَّة بدراري الذَّراري التي بعضُها من بعض. وذكر كتابًا طويلًا من إنشاء الفاضل، يستنجده ويسأله أن يقطع عنه مادَّة البحر، وعاد ابنُ منقذ في سنة ثمانٍ وثمانين وخمس مئة بغير فائدة، لأنه لم يخاطبه فيه بإمرة المؤمنين، وبَعَثَ له هدية حقيرة. وأما ابنُ منقذ، فإنَّه أحسن إليه لا لأجل صلاح الدين، بل لبيته وفَضْله، ومدحه ابنُ منقذ بأبياتٍ نذكرها في ترجمة يعقوب في سنة خمسٍ وتسعين وخمس مئة. ودخل فصلُ الشتاء، فأعطى السُّلْطان العساكر دستورًا، وأقام في نفرٍ يسير.

سعيد بن يحيى

وفي ذي الحجة مات ابنُ ملك الألمان، واسْتُشْهد بعكا من المسلمين جماعةٌ، منهم جمال الدين محمَّد بن أرككز، خرج في شأني يقاتل، فأحاطت به مراكبُ الفرنج، وعرضوا عليه الأمان، فقال: ما أضع يدي إلا في يد مقدَّمكم الكبير. فجاء إليه المقدَّم الكبير، فأخذ بيده وعانقه، وألقى نفسه وإياه في البحر، فغرقا. وفيها: تسلَّم السلْطان [صلاح الدين] (¬1) الشوبك بعد الحصار الشديد بالأمان. وفيها ملك سيف الإِسلام صنعاء، وأعطاها لولده شمس الملوك الذي ادَّعى الخلافة. وحج بالناس من بغداد طاشْتِكِين. وفيها توفي سعيد بن يحيى (¬2) أبو المعالي بن الدُّبَيثي، ولد سنة سبع وعشرين وخمس مئة، وقال: أنشدني عبد الله بن الحسن بن شبيب لنفسه: [من الطويل] وأغيدَ لم تسمحْ لنا بوصاله ... يدُ الدَّهْرِ حتى دَبَّ في عاجه النَّمْلُ تمنيتُ لما اخْتَطَّ فقدانَ ناظري ... ولم أرَ إنسانًا تمنَّى العمى قَبْلُ ليبقى على مرِّ الزَّمانِ خيالُه ... حيالي وفي عَيني لمنظرِهِ شَكْلُ عبد الرَّشيد بن عبد الرَّزّاق الكرجي الصُّوفي (¬3) كان يتفقَّه ببغداد بدار الذَّهب، وكان وَرِعًا عاملًا عابدًا، وكان ببغداد رجلٌ يقال له: النَّفيس الصُّوفي، يضحك منه ويسخر به، وكان يدخل على الخليفة، فدخل يومًا مدرسة دار الذهب، فجعل يتمسخر، فقال له الكرجي: اتّقِ الله، نحن نبحث في العِلْم وأنت تَهْزِل! ما هذا موضعه. فدخل على الخليفة، وبكى بين يديه، وقال: ضربني الكرجي وعَيَّرني. فغضِبَ الخليفة وأمر بصَلْبه، فأُخرج وعليه ثوب أزرق [من ثياب ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هو سعيد بن يحيى بن علي بن الحجاج، الواسطي المعروف بابن الدبيثي، له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 124، و "المختصر المحتاج إليه": 2/ 90. (¬3) ذكر قصته هذه نقلًا عن "مرآة الزمان" أبو شامة في "المذيل على الروضتين": 1/ 99 - 100.

علي بن محمد بن علي

الصوفية] (1) إلى الرحبة، ونصبوا له خشبة [ليصلبوه] (1)، فقال: دعوني أُصلِّي ركعتين. فصلَّى فصلبوه، فجاء خادمٌ من عند الخليفة، فقال: لا تصلبوه. وقد مات، فلعن النَّاس النفيس [الصّوفي] (¬1)، وبقي أيامًا لا يتجاسر أَنْ يظهر ببغداد. ورأى الكرجيَّ بعضُ الصّالحين في المنام، فقال: ما فَعَلَ الله بك؟ فقال: أوقفني الحقّ بين يديه، فقلت: يا إلهي، رضيتَ بما جرى عليَّ؟ فقال: أَوَما سَمِعْتَ ما قلتُ في كتابي: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169] الآية. علي بن محمد بن علي (¬2) أبو الحسن، البَرانْدِسي. ولد سنة ثمانين وأربع مئة، وقرأ القرآن، وتفقَّه على مذهب أحمد، رحمة الله عليه، ودرَّس بمدرسة الوزير ابن هُبيرة بباب البصْرة، وانتفع به خلْقٌ كثير، وكانت وفاته في ربيع الأول وقد بلغ مئة سنة، ودفن بمقبرة جامع المنصور، وكان زاهدًا ورعًا، ثقة. قزل بن إلدكز أتابك (¬3) صاحب العراق، وأخو البهلوان، كان قد استولى على أَذْربيجان وغيرها، وهو الذي حَجَرَ على طغريل السّلجوقي، وكان فاسقًا فاتكًا، نام ليلة وهو سكران فأصبح مذبوحًا، وقيل: قتلته خاتون زوجته. مسعود بن علي بن عُبيد الله (¬4) أبو الفَضْل بن نادر، الصَّفّار، الأديب الفاضل. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) له ترجمة في "ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 4/ 24، و "التكملة لوفيات النقلة" للمنذري: 1/ 131 - 132، "مشيخة النعال": 95 - 96، "المختصر المحتاج إليه": 3/ 136، "ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 366 - 368، "المقصد الأرشد": 2/ 256 - 258، "شذرات الذهب": 6/ 470، و "المنهج الأحمد": 3/ 300 - 301. وبراندس: قرية من قرى بغداد. (¬3) له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 21/ 197، 198 و "العبر" للذهبي: 4/ 262، وفيهما وفاته سنة 587 هـ. (¬4) له ترجمة في "الكامل": 12/ 59، و "التكملة" للمنذري: 1/ 128، و"مشيخة النعال": 97 - 98، و "العبر" للذهبي: 4/ 260، و "النجوم الزاهرة": 6/ 111، و "توضيح المشتبه": 1/ 658، و "شذرات الذهب": 4/ 287.

يوسف بن علي بن بكتكين

ولد سنة خمس عشرة، وبَرَعَ في الأدب، وكَتَبَ خطًّا حسنًا نحوًا من مئة ربعة ومُصْحف [(¬1) وأخذ اللغة على ابن الجواليقي وغيره، أنشدنا عبد الرحمن بن أبي حامد الحربي، قال: أنشدني ابن نادر لنفسه هذه الأبيات، : [من الطويل] تولَّوْا فأولوا الجسمَ من بعدهم ضَنًا ... وحرًّا شديدًا في الحشا يتزايدُ وزاد بلائي بالذين أُحِبُّهمْ ... وللنَّاس فيما يذهبون مقاصِدُ [سمع قاضي المارستان وغيره، وكان ثقةً، وتوفي في المحرم، ودفن بباب حرب] (¬2). يوسف بن علي بن بكتكين (¬3) زين الدين، صاحب إربل، [وهو أخو مظفر الدين بن زين الدين، كان عند السلطان في هذه السنة على الخروبة، فمرض] (¬4) في رمضان عند السلطان، فارتحل من الخرُّوبة إلى النّاصرة، فأقام يمرِّض نفسه، وكان عنده أخوه مظفر الدين يمرضه، فيقال: إنه سقاه سمًّا فمات، [وظهرت على مظفر الدين أمارات ذلك] (¬5) ولم يكترث لموته، ولا تأسَّف عليه. قال العماد: أتينا مظفر الدين نعزِّيه، ظنًّا منا أنه قد حزن عليه حُزْنَ الأخ على أخيه، فكأنا جِئْنا نهنيه، وإذا به مشغولٌ عن العزاء بحيازة أمواله وأسبابه، والقَبْض على عُمّاله وكُتّابه، ثم أرسل إلى السُّلْطان يطلب منه إربْل، وينزل عن حَرّان والرُّها، فأجابه إلى ذلك، وسأله كتابًا إلى صاحب المَوْصل في هذا المعنى، فكتب: قد أحاط العِلْم بانتقال زين الدين إلى جوار الله تعالى، ومقرِّ رحمته، مجاهدًا في سبيله، شاكرًا ¬

_ (¬1) في (ح): وكتب خطًّا حسنًا نحوًا من مئة ربعة ومصحف، وتوفي في المحرم، ودفن بباب حرب، وكان ثقة، ومن شعره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م). (¬2) ما بين حاصرتين من (م). (¬3) له ترجمة في "الكامل": 12/ 56 - 57، و "الروضتين": 4/ 168 - 169، و "وفيات الأعيان": 4/ 115 (ضمن ترجمة أخيه مظفر الدين)، و "العبر" للذهبي 4/ 260، و "الوافي بالوفيات": 29/ 261 - 262، و "النجوم الزاهرة": 6/ 111 - 112، و "شذرات الذهب": 4/ 288. (¬4) في (ح): زين الدين صاحب إربل، مرض في رمضان، والمثبت ما بين حاصرتين من (م). (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة السابعة والثمانون وخمس مئة

لنعمته، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الآية. فما أفجعَ القلوبَ بمصابه، وما أنكى في النفوس [فلول] (¬1) شبا شبابه، ولقد كانت الهِمَمُ متوفرة على تربيته، وإعلاء درجته، ولكن استأثر الله به قبل ظهور حُسْن الآثار في إيثاره، وبُلي بَدْرُ تَمِّه بسِراره، ولا خفاء أن إربْل من إنعام البيت الكريم الأتابكي على البيت الزَّيني منذ سبعين عامًا، لم يحِلُّوا لعقد إنعامهم بها نظامًا، وما رأى الخادمُ أن يخرجَ هذا الموضع منهم، ولا يُصْدَف به عنهم، والأَجل مُظَفَّر الدين كبيرُ البيت وحاميه، والمقدَّم في الولاية بمقتضى وصية أبيه، قد أُنهض ليسدَّ مسَدَّ أخيه. وكان السُّلْطان لما بلغه موت زين الدين حزن عليه لمكان عِفَته وشبابه وغُرْبته، وكان تقيُّ الدين عمر عند السُّلْطان، فسأله إضافةَ حَرَّان والرُّها، وما كان بيد زين الدين إلى يده مع حماة وسلمية واللاذقية وجَبَلَة وسُمَيساط ودياربكر وميَّافارقين، فأعطاه ما طلب، وزاده جُمْلين والمُوَزَّر وسَرُوج ورأس عين، فبعث نوَّابه إليها. السنة السَّابعة والثمانون وخمس مئة في صفر سار تقيُّ الدِّين إلى حَرَّان والرُّها والبلاد التي أقطعها، وشَرَطَ عليه السُّلْطان أن يعود عاجلًا، فلما حصل هناك اشرأبتْ نَفْسُه إلى أخذِ البلاد الشَرْقية والمَوْصل وخِلاط وجميع البلاد، وعَلِمَ صاحبُ خلاط والمَوْصل ومارِدِين وآمِد والروم، فنفروا عنه، وتقاعدوا عن نُصْرة السلْطان، وتعاهدوا أن لا ينجدوه، وكتبوا إلى الخليفة، فساعدهم خوفًا من تقيِّ الدين، وبَعَثَ الخليفةُ إلى بَكْتَمُر خِلَعَ السلْطنة، وخيلًا، وتُحَفًا وسلاحًا يساوي خمسين ألف دينار، وعينًا ثلاث مئة ألف دينار مع أزغش مملوك الخليفة صاحب دَقُوقا، وبلغ السلْطان، فقامت عليه القيامة، وجمع الأُمراء، وقال: يا قوم، نحن في هذه الشّدَّة والبلاء، والمسلمون في خُطَّة الهلاك، والخليفة لا يُنفِذ إلينا دِرْهمًا، ويحيلنا على التُجَّار، وينفذ إلى بَكْتَمُر هذا المبلغ؟ ! ما أثار هذا علينا إلا تقي الدِّين، والله إني لخائفٌ عليه (¬2)، ويقال: إنه دعا عليه، وقال: لا يفلح بعدها. فمات تقيُّ الدين في رمضان، فكان ¬

_ (¬1) زيادة من "كتاب "الروضتين": 4/ 170. (¬2) كذا في (ح)، ولعلها: لحانق عليه، والله أعلم.

بينه وبين هذا القول ثلاثة أشهر، وقال السُّلْطان: والله لَتُؤْخَذَنَّ عكا، ويُقتَل المسلمون، ويكون هو السبب. فكان كما قال. وكان سامة الجِيلي ببيروت، فكتب إليه السُّلْطان بأن يرصد مراكب الفرنج التي تعبر عليه، فأخذ مراكبَ كثيرةً فيها أموالٌ عظيمة حتى قيل: إنَّه أخذ في يومٍ واحد خمس بطس مملوءة مالًا، ولم يُطْلعِ السُّلْطان على شيءٍ منها، وصحَّ الحديث النَّبوي في هذا الأمر "مَنْ جَمَعَ مالًا من نهاوش أذهبه الله في نهابر" (¬1) تمزَّقَتْ أمواله، وتغيَّرَتْ أحواله، وخَرِبَتْ ديارُه، ودَرَسَتْ آثاره، وهو الذي سَلَّم بيروت للفرنج. ذِكْرُ استيلاء الفرنج على عكا: اشتدَّ عليها الحصار في جُمادى الآخرة، وطَمَّ الفرنج الخنادق، ونَصَبوا المجانيق والدَّبّابات والسَّلالم، ومَلَّ المسلمون من السَّهر والتعب والقتال، وأنكت فيهم الجراحات، وكان الفرنج قد صنعوا تلًا من ترابٍ يقدِّمونه يسيرًا يسيرًا، ويقاتلون من ورائه، لأن المسلمين أحرقوا أبراجهم ومجانيقهم ودباباتهم، فعملوا هذا التَّلَ وسَرْدَقُوه، فصار للمقاتلة مثل الحائط. وجاء كتاب أهل عكا إلى السُّلْطان يقولون: قد عَجَزْنا، وما بقي إلا طلب الأمان والتَّسليم. فلم يَرِدْ على السُّلْطان خبرٌ أشدُّ منه، لأَنَّه كان قد نقل إلى عكا جميع سلاح السَّاحل والقدس ودمشق وحلب ومِصْر، فقال للعسكر: إني هاجم على القوم من البر، ويخرج المسلمون من البلد، فقالوا: ما هذا مَصْلحة، قد ترى ما بين أيدينا من الخنادق [وما لنا سبيل إلى ذلك] (2)، والرَّجَّالة كالسُّور [بين أيدينا] (¬2)، وبعدهم الخَيّالة، وهم أضعافُ عددنا، ولم يوافقوه. ولما كان يوم الجمعة سابع عشر رجب، والسُّلْطان قد ركب والعساكر بأَسْرها، وإذا بأعلامِ الفرنج قد طَلَعَتْ على عكا وقت الظُّهْر، وصاح الفرنج صيحةً عظيمة، وطلع ¬

_ (¬1) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (421) و (422)، والرامهرمزي في "الأمثال" (139) مرسلًا، نهاوش: أي من غير حله، كما تنهش الحية من ها هنا وهاهنا. ونهابر: مهالك. أي: أذهبه الله في مهالك وأمور متبددة. "اللسان" (نهبر). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عَلَمٌ على القلعة، وآخر على مئذنة الجامع، وملؤوا الأبراج بالأعلام، ودخلوا عكا وأسروا مَنْ كان بها، واستولوا على جميع ما كان فيها، وكانوا قبل ذلك قد قرَّروا على أهلها مئتي ألف دينار، وألفي أسير، وصليب الصَّلبوت، ويخرج مَنْ بها من المسلمين سالمين بأموالهم وأهليهم، وأخبروا السُّلْطان فأجابهم، فقال الفرنج: سَلِّموا إلينا المال والأسارى، واقنعوا بأماننا حتى نُسَلِّمَ إليكم أصحابكم. فقال السُّلْطان: وأيُّ أمانةٍ لكم؟ ونخاف من غدْركم، والبلد وما فيه قد صار في أيديكم، وتوقف الحال. فلما كان يوم السبت سابع عشرين رجب خَرَجَ الفرنج من عكا، ووقفوا وسط المرج بين تل كيسان والعياضية، وأحضروا المُسْلمين موثقين في الحبال، وكانوا زهاء عن ستة آلاف مسلم، وحملوا عليهم حملةَ رجلٍ واحد ضَرْبًا وطعنًا، فقتلوهم، ويَزَكُ (¬1) المُسْلمين يشاهدوهم، ولا يعلمون لبُعْدهم ما يصنعون، ورجعوا إلى عكا، فلما جاء يَزَكُ المُسْلمين إلى المكان في اللَّيل، وجدوا القَتْلى في مصارعهم، فعادوا، وأخبروا السُّلْطان، فبكى بكاءً شديدًا، ويقال: إنَّه لَطَمَ على رأسه، ونتَفَ لحيته، ووقَعَ العويل والبكاء في العسكر، ورَحَلَ السُّلْطان عن منزله. ذِكْرُ ما جرى بعد انفصالِ أمر عكا: لما كان غُرَّة شعبان يوم الأحد رحل الفرنج من عكا ومقدَّمهم الإنكتار، وكان ملكًا عظيمًا، فسار في البر بالفارس والرّاجل، والمراكب في البحر معهم فيها أزوادهم، فنزلوا على نهر القصب، وكانوا ثلاثة أقسام: الملك العتيق، واسمه جفري في المقدَّمة مع السّاحلية، والإنكتار مع الفرنسيسية في الوسط، وأولاد السِّتّ أصحاب طبرية في السّاقة، والسُّلْطان في أعراضهم، وجَرَى بينهم قتال على نهر القصب، قتل فيه أياز الطَّويل مملوك السلْطان، وكان فارسًا عظيمًا، في دبُّوسه عشرة أرطال حديد، كان يَضْرِبُ الفارس فيهشِّمه، فقاتل في ذلك اليوم قتالًا عظيمًا، وقتل من الفرنج جماعةً، فتقنطَرَ به فرسُه، فقتلوه، فحَزِنَ السُّلْطان عليه، ودفن على تلٍّ عالٍ مُشْرف على بركة، ¬

_ (¬1) اليزك: كلمة فارسية تعني طلائع الجيش، وهي جماعة كانت ترسل للاستكشاف، انظر عنهم "الجيش الأيوبي في عهد صلاح الدين" ص 177 - 180.

وطلب الإنكتار الاجتماع بالملك العادل، فركبا، وكلُّ واحد في نفرٍ يسير، فقال الإنكتار: إنما نحن جِئْنا لنُصْرة إفرنج السّاحل، فرُدُّوا عليهم ما أخذتم، واحقنوا دماء الفريقين. فقال العادل: حتى أجتمعَ بالسُّلْطان. ذِكْرُ وقعة أرسوف: لما كان يوم السبت رابع عشر شعبان أصبح الفرنج على تعبئة، وصفَّ السُّلْطان عساكره، فاندفع جماعةٌ من المسلمين، وثَبَتَ العادل وقيماز النَّجْمي وعسكر الموصل، وكان مقدَّمهم علاء الدين خُرَّم شاه ولد عز الدين مسعود، فلقبه السُّلْطان [في ذلك اليوم] (¬1) الملك السعيد، ثم عادت عليهم عساكر المُسْلمين، فلولا حيطان أرسوف، لحلَّت بهم الحتوف. وقال ابن القادسي: انهزمَ صلاحُ الدين في ذلك اليوم، ورجع في عسكر المَوْصل، وكانوا في ألفِ فارس، فقتل من الكفار مئة ألف وأربعين ألفًا. قال المصنف رحمه الله: هذه من هَنات ابنِ القادسي، [(¬2) أما قوله: إن صلاح الدين انهزم، فما انهزم صلاح الدين قط في ذلك اليوم، ولا في غيره، وقد حكى الواقعة القاضي ابن شداد، وكان حاضرها، وليس المخبر كالعيان، فقال: ما انهزم السلطان، ] وإنما بقي في سبعة عشر رجلًا وأعلامه واقفة، وكوساته تخفق، فلما رأى ما نزل بالمُسْلمين صاح فيهم، وحَرَّضهم، ووقف في طُلْبه، فلما رآه النَّاس [في طلبه] (3) ثابَتِ العساكرُ إليه، فتراجع الفرنج إلى منزلتهم، وقتل [من الفريقين جماعة. وأما قول ابن القادسي: إنه قتل من الكفار مئة وأربعين ألفًا، فإن الفرنج ما بلغت عدتهم يوم أرسوف ثلاثين ألفًا. قال القاضي: قتل] (¬3) منهم خمسون إفرنجيًّا، وقيل: أقل. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) في (ح): فإنَّ صلاح الدين ما انهزم قط، وعدة الفرنج يوم أرسوف، ما بلغت ثلاثين ألفًا، وقد قال ابن شداد رحمه الله، وكان حاضرًا، ما انهزم صلاح الدين، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[ذكر خراب عسقلان]

[ذكر خراب عسقلان] (¬1): وسار السُّلْطان، فنزل عسقلان، فأجَمَعَ الأمراءُ على خرابها، فبكى السُّلْطان وقال: والله إن فقد أولادي أهون علي من خرابها [أو من نقض حجر منها] (1). قالوا: أَخْرِبْها وإلا جرى عليها ما جرى على عكا، وهذه بين القُدْس ويافا، ولا يمكن حفظ الموضعين، [فاختر أيهما شئت] (1). وجاء الخبر بنزول الفرنج على يافا، فأمر بخراب عَسْقلان، وكان فيها شيءٌ كثير، فأباحه للمسلمين، فنهبوه، وأخربوا بعض السور، والسُّلْطان يبكي وينتحب. وبعث الإنكتار يعرض على العادل أن يزوِّجَه بأُخته، فأجاب [العادل] (1)، فاجتمع الأقسَّاء، وأوقفوا الحال، وقالوا: إن تنصَّر العادل، ودخل في دينها وإلا غَضِبَ المسيح، [على الإنكتار، فتوقف الحال إلا على ما ذكر الأقساء] (1)، وكان الإنكتار يجتمع بالعادل [في] (1) كل وقتٍ، ويتهاديا، [وكان] (1) خديعة من الاثنين، وبعث الإنكتار إلى السُّلْطان يقول: لا بُدَّ من القُدْس وصليب الصَّلبوت، فادْفعهُما إلينا، ولك من قاطعِ الأردن إلى ناحية الشَّرْق. فقال السُّلْطان: أما القُدْس فهو عندنا أعظمُ مما هو عندكم، لأنه مسرى نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ومجمع الملائكة، فلا يتصور أن نَنْزِلَ عنه، وأما صليب الصَّلبوت فهلاكه عندنا قربة عظيمة، فلا يجوز أن نفرطَ فيه إلا لمصلحةٍ راجعة إلى الإِسلام هي أوفى منه، فقال إنكتار للعادل: اجمع بيني وبين السُّلْطان، فقال له: الملوك إذا اجتمعوا تقبح الحرب بينهم بعد ذلك، فإذا انتظم الصُّلْح حَسُنَ الاجتماع. وعاد الفرنج إلى الرَّملة، وطَلَعَ السُّلْطان إلى القدس في ذي القَعْدة، وأخذ في تحصينه، [وشرع] (1) ينقل الحجارة هو وأولاده على أكتافهم، وأُمراؤه وأجناده [كذلك] (1)، والقضاة والعلماء والفقراء والعامة والخاصَّة. وفيها وَرَدَ كتابُ الخليفة يطلب الفاضل ليقرِّر معه أمورًا، فاعتذر السُّلْطان بكثرةِ أمراض الفاضل، وضَعْفه عن الحركة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الموفق أسعد بن المطران الطبيب

وفيها عزل السُّلْطان أبا حامد محمد بن عبد الله ابن أبي عَصْرون عن قضاءِ دمشق، وولى محيي الدين بن زكي الدين، و [قالوا: إنَّ] (¬1) سببَ عزله ابنَ أبي عَصْرون مداخلتُه الجُنْد، واشتغاله [بما يشتغل به الأمراء من] (1) اتخاذ الخيول والمماليك الترك ومباشرة الحروب، ومعاملة الأمراء ومداينتهم، فتبرَّم السُّلْطان منه [، وعزله] (1)، وكان قد وَقَعَ في يده أسيرٌ من كبار الفرنج، فطلبه السُّلْطان منه ليفادي به بعضَ من يعزُّ عليه، فلم تسمح نَفْسُه به، فقال السُّلْطان: بالثمن. فامتنع، وباعه للفرنج، فغَضِبَ السُّلْطان، فعزله عن القضاء، وحجبه عن الدخول عليه، فقال ابنُ النَّحاس يُسْلِيه: [من الكامل] لا تَجْزَعَنْ مِنْ حادثٍ بمُلِمَّةٍ ... أرأيتَ قَبْلَكَ ليثَ غابٍ يجزعُ منها: واخترْ لنفسِكَ مِنْ علومكَ مَنْصِبًا ... وولايةً من حُكْمِها لا تُخْلَعُ فالبرُّ (¬2) تُنْزَعُ منه كلُّ ولايةٍ ... إلا ولايةَ عِلْمِهِ لا تُنْزَعُ وافخرْ بجدِّك بل بمجدِك واطَّرِحْ ... قَدْرَ الزَّمانِ فإنَّ قَدْرَكَ أَرْفَعُ وحجَّ بالناس من بغداد طاشْتِكِين. وفيها توفي الموفق أسعد بن المِطْران الطبيب (¬3) كان نصرانيًّا، أَسْلَم على يد السُّلْطان، وكان غزير المروءة، حَسَنَ الأخلاق، كريم العشرة، جَوادًا، متعصّبًا للناس عند السُّلْطان، ويقضي حوائجهم، وصحبه صبيٌّ [من المسلمين] (1)، حَسَنُ الصورة اسمه عمر، فأحسن إليه، وكان الموفق يحبُّ أهلَ البيت ويبغض ابن عنين [الشاعر] (1) لخُبْثِ لسانه [وقبح هجائه، وثلبه لأعراض الناس] (1)، ويحرِّضُ السُّلْطان على نفيه [من البلاد] (1)، وقال: أليس هو القائل: [من المنسرح] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) كذا في (ح)، ولعلها: فالحَبْر، والله أعلم. (¬3) له ترجمة في "الفتح القسي": 576، و "كتاب "الروضتين": 4/ 293، و "طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة: 651 - 659، و "الوافي بالوفيات": 9/ 40 - 43، و "النجوم الزاهرة": 6/ 113.

سُلْطاننا أعرجٌ وكاتِبُهُ ... أُعيمشٌ (¬1) والوزيرُ منحدِبُ فهجاه ابنُ عُنين وقال: [من البسيط] قالوا الموفق شيعيٌّ فقلتُ لهم ... هذا خلافُ الذي للنّاس منه ظَهَرْ فكيف يجعلُ دينَ الرِّفْضِ مَذْهَبَهُ ... وما دعاه إلى الإِسلامِ غيرُ عُمَرْ (¬2) وكان الموفق يعود الفقراء المرضى، ويحملُ إليهم من عنده الأشربة [والأدوية] (¬3) حتى أجرة الحمام، وزوَّجه السلطان بجارية [يقال لها جوزة، وكانت من حظايا السلطان، ونقل معها جهازًا عظيمًا، وقال ليلة عرسها: احملوا إليه المطبخ، فنزل الموفق جامع دمشق ليصلي العصر، فجاءت إليه صوفية خانكاه البلد، وطلبوا منه سماعًا في الخانكاه، فقال: سمعًا وطاعة، وقام، فدخل إلى الخانكاه التي للصميصاتي، واستدعى مطبخ السلطان من دار العقيقي، وكان السلطان قد قال له: اعمل العرس بدار العقيقي، وأحضر المغاني والحلاوة الكثيرة إلى الخانكاه] (¬4). ونزلت العروس مع حظايا السُّلْطان إلى دار العقيقي، فأقمن طول الليل ينتظرنه وهو عند الصُّوفية وهم يرقصون، وما علموا أَنَّها ليلة عرسه [وهو فاستحى أن يعرفهم، ] (3)، فلما كان آخر الليل قيل للصُّوفية: أيش عملتم؟ ! الرجل الليلة عريس على جارية السلطان [، والساعة يبلغ السلطان فيغضب] (3)، فجاؤوا إليه بأجمعهم واعتذروا، وسألوه أن يمضي، فقال: لا والله، إلى الصَّباح، وبلغ السلطان فقال: أُلام على محبة هذا وتقريبه! ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية و "النجوم الزاهرة": "أعمش"، ولا يتزن به البيت، وقد سقط هذا البيت من ديوان ابن عنين: 210، واستدركه محققه من "مرآة الزمان"، كما أشار في الحاشية، وأثبت من عنده "ذو عمش"، وما أثبتناه هي رواية البيت في "الوافي بالوفيات": 9/ 41. (¬2) ديوان ابن عنين: 133 - 134. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): وزوَّجه السلطان بجارية من حظاياه، يقال لها جوزة، ونقل معها جهازًا عظيمًا، وحمل إليه المطبخ ليلة عرسه، فترل الموفق إلى جامع دمشق ليصلي العصر، فجاء إليه الصوفية، وطلبوا منه سماعًا في الخانكاه، فدخل الصميصاتي، واستدعى مطبخ السلطان من دار العقيقي المعدة للعرس، وأحضر المغاني والحلاوة الكثيرة، ونزلت العروس مع حظايا السلطان، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحسين بن حمزة بن الحسين

وكانت وفاته في ربيع الأول بدمشق، ودفن بقاسيون على قارعة الطريق عند دار زوجته جوزة، ولما مات اشترت [زوجته] (¬1) دارًا، وبنت إلى جانبها مسجدًا، وعمرت له تربة، وهي تعرف بدار جوزة، [ولما قدمت الشام في سنة ثلاث وست مئة (¬2) كانت جوزة باقية] (1)، وكانت صالحة زاهدة عابدة. الحسين بن حمزة بن الحسين (¬3) أبو القاسم، قاضي حماة. كان فاضلًا جوادًا سَمْحًا، لا تَنْزل قِدْرُه من النَّار، يضيف الخاص والعام، وما اجتاز بحماة أحدٌ من الملوك والأكابر إلا وأضافه، وكان صلاحُ الدين يحبُّه ويحترمه، وكذا العادل وتقي الدين، [وبلغني أَنَّ العادل اجتاز بحماة] (¬4)، فأرسل [إلى القاضي] (¬5) يقول: أُريد الحمام خلوة. فأخلاه، فما خرج [العادل من الحمام] (1) إلا وقد أعدَّ له من الفواكه والأطعمة والحلاوات ما كفاه وأصحابه. وكان لا يقبل برَّ أحد، لا صلاح الدين ولا غيره، وكان قد تزوَّج بدمشق خطلخ خاتون بنت سودكين، فأولدها ابنة وسماها زينب، ومات القاضي وهي صغيرة، فلما بلغت تزوَّجها إسماعيلُ بنُ قرباص من أهل حماة، ثم مات عنها. قال المصنف رحمه الله: فتزوجتُها سنة عشرين وست مئة، وتوفيت سنة ثلاث وأربعين (¬6) وست مئة وأنا ببغداد، فدفنوها في تربتي بقاسيون. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) كذا قال هنا، وقد ذكر في مواضع كثيرة أنَّه قدم دمشق سنة (605 هـ)، وبقي مقيمًا فيها حتَّى أواخر سنة (603 هـ)، حين عاد إلى بغداد عن طريق حلب. انظر حوادث سنة (600 هـ) و (603 هـ) و (604 هـ) و (617 هـ) من هذا الكتاب. (¬3) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 12/ 361. (¬4) في (ح): واجتاز العادل بحماة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ح): إليه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬6) في (ح): "وعشرين"، والمثبت من (م) و (ش). وكذا قال هنا، وذكر في موضع آخر أنَّه كان في بغداد سنة (644 هـ)، وبقي بها حتَّى شهر صفر من سنة (645 هـ)، انظر حوادث سنة (577 هـ) و (644 هـ) من هذا الكتاب.

سليمان بن جندر

وخلَّف أبو القاسم ولدًا ذكرًا، وللولد أولاد، [ومات القاضي وهو على قضاء حماة] (¬1). سليمان بن جَندَر (¬2) من أكابر أمراء حلب، ومشايخ الدولتين النُّورية والصَّلاحية، [وهو والد صديقنا علي بن سليمان] (¬3)، شهد مع السُّلْطان حروبه كلَّها، وأشار بخراب عَسْقلان [لتتوفر العناية على حفظ القدس] (1)، ولما صَعِدَ السُّلْطان إلى القُدْس مرض سليمان، فطلب المسير إلى حلب، فأَذِنَ له السُّلْطان، فسار، وتوفي بغباغب في أواخر ذي الحجة، وحُمِلَ إلى حلب، فدفن بها. عمر بن شاهنشاه بن أيوب (¬4) الملك المُظَفَّر تقي الدين، فذكرنا بعضَ أخباره مفرَّقة، وآخر أمره طَمِعَ في مملكة الشَّرق، فنفرت عنه وعن صلاح الدين قلوبُ السَّلاطين، وسار من ميَّافارقين إلى خِلاط، فالتقاه سيف الدين بَكْتَمُرشاه أرمن صاحب خلاط، فكسره تقي الدين، فعاد إلى خِلاط، وحاصر تقي الدين منازكرد، وكان قد قيل له: مَنْ ملك منازكرد ملك خلاط، فأقام أيامًا يضربها بالمجانيق، وهم يعصبون رؤوس الأبراج بالعصائب يستهزؤون به، فمرض في رمضان، وتوفي يوم الجمعة العاشر منه (¬5)، وكان معه ولده محمد، ويلقب بالمنصور، فكتم موته، وحمله في مِحَفَّة، وأظهر أَنَّه مريض إلى ميَّافارِقين، وبُنيت له مدرسة بظاهر حماة، ثم نُقِلَ إليها، وكان السُّلْطان يكره ابنه محمدًا، فانحلَّ أمره، فدخل العادل في أمره، فصلح حاله على مَضَضٍ من السُّلْطان، ثم أُخذت من ابنه البلاد بعد ذلك، واقتصر على حماة، وكان تقيُّ الدِّين شجاعًا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الفتح القسي": 259، و"كتاب الروضتين": 4/ 292، و"تلخيص مجمع الآداب": ج 4 / ق 1/ 581. (¬3) في (م) و (ش): علم الدين بن سليمان، وهو وهم، وستأتي ترجمته في وفيات سنة (622 هـ). (¬4) أخباره مبثوثة في تواريخ تلك الفترة، ولا سيما في "كتاب الروضتين". (¬5) ذكر العماد أن وفاته يوم الجمعة تاسع عشر رمضان، انظر "الروضتين": 4/ 290.

مِقْدامًا، جَوَادًا فاضلًا، شاعرًا فصيحًا، عاشَرَ العلماء والأدباء، وتخلَّق بأخلاقهم، واكتسب من أوصافهم، وله ديوان، فمنه: [من البسيط] قلبي وإن عَذَّبوه ليس يَنْقَلِبُ ... عن حُبِّ قومٍ متى ما عَذَّبوا عَذُبُوا راضٍ إذا سَخِطُوا دانٍ إذا شَحَطُوا ... هم المُنى ليَ إنْ شَطُّوا وإن قَرُبوا (¬1) وقال: [من الوافر] إذا حَثُّوا مطاياهم لِبَينٍ ... فسائِقُها لأحشائي يَحُثُّ قتيلُكُمُ وحقِّ الوَصْلِ صالٍ ... جحيمَ الهَجْرِ فابْكُوه وأُرثوا جديدًا كان حَبْلُ الوَصْلِ دَهْرًا ... فمذْ هجروا فحبلُ الوَصْلِ رَثُّ فؤاد الصَّبِّ بالهِجْرانِ مَيتٌ ... ووَصْلُكُمُ له نَشْرٌ وبَعْثُ (¬2) وقال: [من السريع] قد صاحَ حادي عِيسِهِمْ بالنَّوى ... فصَمَّ سَمْعي حين نادى وصاحْ صافحتُهُ والقَلْبُ في أَسْرِهِ ... فَسَلَّ باللَّحْظِ عليَّ الصِّفاحْ وقال لي أنتَ قتيلُ الهوى ... قلتُ كذاك أثخنتني الجِراحْ (¬3) وقال: [من الطويل] دمشقُ سَقَاكِ اللهُ صوبَ غمامةٍ ... فما غائِبٌ عنها لديَّ رشيدُ عسى مُسْعِدٌ لي أَنْ أبيتَ بأَرْضِها ... ألا إنَّني لو صَحَّ لي لسعيدُ (3) وقال: [من الطويل] يقولون لي إنَّا سنرجِعُ من شبرا ... ومَنْ لي بأنِّي لا أُفارِقُهُمْ شِبْرا وكيفَ احتيالي والهوى قائدٌ لهم ... فؤادًا أبي أَنْ يقتني بَعْدَهُمْ صَبْرا فَرِقُّوا لقلبٍ قَلَّبَتْهُ يَدُ النَوى ... وعَينٍ عليكمْ بعد بُعْدِكُمُ عَبْرَى (¬4) وقال: [من مجزوء الكامل] ¬

_ (¬1) "الخريدة" بداية قسم شعراء الشام: 87 - 88. (¬2) "الخريدة" بداية قسم شعراء الشام: 90. (¬3) "الخريدة": ": 91 - 95. (¬4) "الخريدة": "97 - 101.

يا ناظِرَيه تَرَفَّقا ... ما في الورى لكما مبارِزْ هَبْكُمْ حَجَزْتُمْ أَنْ أرا ... هـ فَهَلْ لقلب الصَّبِّ حاجِزْ (¬1) وقال: [من الطويل] حبائبَنَا شَطَّ المَزَارُ وأَوْحَشَتْ ... ديارٌ عَهِدْناها بكُنَّ أَوَانسا وحَقِّ الهوى لا غَيَّرتني يدُ النَّوى ... ولا كُنْتُ ثوبَ الغَدْرِ فيكُنَّ لابسا (1) وقال: [من الخفيف] كلَّ يومٍ يَسْعى إلى المُلْكِ قومٌ ... في ازديادٍ وعُمْرُهمْ في انتقاصِ شَرَكٌ هذه الأماني فيا للَّـ ... ـه كم واقعٍ بغيرِ خلاصِ (1) وقال: [من الرمل] أنا راضٍ بالذي يُرْضيهُمُ ... ليتَ شِعْري بتلافي هل رَضُوا أَقْرَضُوني زمنًا قُرْبَهُم ... واستعادوا بالنَّوى ما أَقْرَضُوا (1) وقال: [من الوافر] أرى قومًا حَفِظْتُ لهم عُهودًا ... فخانوني ولم يَرْعَوْا حِفاظا (1) أَرِقُّ لهم محافظةً فألقى ... لهمْ خُلُقًا وأفئدةً غِلاظا وقال يمدح عمه صلاح الدين، رحمه الله: [من الكامل] خيرُ الملوكِ أبو المُظَفَّرِ يوسفُ ... ما مِثْلُ سيرتِهِ الشَّريفةِ تُعْرَفُ لو سُطِّرَتْ سِيَرُ الملوكِ رأيتَها ... ديوانَ شِعْرٍ وَهْي فيها مُصْحَفُ ملكٌ يبيتُ الدَّهْرُ يُرْعِدُ هيبةً ... منه وليس يخافُهُ من يُنْصِفُ (1) وقال: [من الطويل] ألم تريا نَفْسي وقد طَوَّحَتْ بها ... عُقابُ السُّرى في البِيدِ من رأسِ حالقِ يسيرُ أمامَ اليَعْمَلاتِ كأَنَّما ... حَكَتْ أَلِفًا قُدَّام أَسْطُرِ ماشِقِ تَراها إذا كَلَّتْ تَئِنُّ صبابةً ... إلى منزلٍ بين اللِّوى والأبارقِ فقلتُ لها سيري ولا تُظْهري وجًى ... فبين ضلوعي لاعجُ الشَّوْقِ سائقي ¬

_ (¬1) "الخريدة": 101 - 105.

محمد بن عمر بن لاجين

وها أنتَ قد فارقتَ مِثْلي جهالةً ... ستذكُرُ يومًا سِيرتي وخلائِقي (1) وقال: [من الكامل] زعَمُوا بأَنَّكِ قد كَرِهْتِ وصالنا ... حاشاكِ مما رَجَّموا حاشاكِ من لي بأيَّامِ الشَّبيبة والصِّبا ... أيامَ كُنْتُ من الزَّمانِ مُناكِ (1) وقال: [من الطويل] وقد زعموا أني سَلَوْتُ وشاهِدِي ... على فَرْطِ وَجْدي زفرةٌ وعويلُ وإنَّ دواعي الشَّوْق وَهْي خفيفةٌ ... عليكمْ لها عِبءٌ عليَّ ثقيلُ (1) وقال في صلاح الدين رحمه الله: [من الكامل] أصلاحَ دينِ الله أمرُك طاعةٌ ... فَمُرِ الزَّمانَ بما تشاءُ ليَفْعلا فكأنَّما الدُّنْيا ببهجةِ حُسْنها ... تُجْلى عليَّ إذا رأيتُك مُقْبلا (¬1) وقال: [من الطويل] أأحبابَنا إنْ تَسْأَلوا كيف حالُنا ... فإنَّا على حِفْظِ المودَّةِ ما حُلْنا حَلَلْتُمْ بقلبي والدِّيارُ بعيدةٌ ... ومِلْتُمْ عن العَهْدِ القديمِ وما مِلْنا وأنساكُمُ حِفْظَ العهودِ مَلالُكُمْ ... وعُوِّضْتُمُ بالغَيرِ عنا وما اعْتَضْنا وإنِّي لأرعاكُمْ على بُعْدِ دارِكُمْ ... وإنْ كان منكُمْ أصلُ ذا الغَدْرِ لا مِنَّا (¬2) وقال: [من الطويل] أأحبابَنا إنَّ الوُشاة إليكُمُ ... سَعَوْا لا سَعَتْ أقدامُ من باتَ واشِيا يرومُون بتَّ الحَبْلِ بيني وبينَكُمْ ... فلا بُلِّغوا فيما أرادوا الأمانيا (¬3) محمد بن عمر بن لاجين (¬4) حسام الدين ابن ستِّ الشَّام؛ أُخت صلاح الدين. ¬

_ (¬1) "الخريدة": 101 - 105. (¬2) "الخريدة": 108. (¬3) "الخريدة": 112. (¬4) له ترجمة في "الفتح القسي": 571، و"الروضتين": 4/ 291، و"الوافي بالوفيات": 4/ 248، وقيل اسمه: عمر بن لاجين. انظر "الروضتين": 3/ 65، وقد نبه على ذلك الصفدي في "الوافي بالوفيات".

يحيى السهروردي المقتول بحلب

كان صاحبَ نابُلُس، وكان شجاعًا مِقْدامًا جَوَادًا، توفي ليلة الجمعة تاسع رمضان بدمشق، وبينه وبين وفاة تقي الدين ساعات، ففُجِعَ السُّلْطان بابنِ أخيه وابن أُخته في يومٍ واحد، ودفن بالتُّربة التي أنشأتها والدته بالعوينة بظاهر دمشق. يحيى السُّهرَوَرْدِي المقتول بحلب (¬1) كان يعاني علوم الأوائل والمنطق والسِّيمياء وأبواب النارنجيات، فاستمال بها خَلْقًا كثيرًا، وتبعوه، وله تصانيف في فنه، منها "الرقم القُدْسي" في تفسير القرآن على رأي الأوائل، و"اللمحات" في المنطق، و"لب البحث"، وَوَرَدَ إلى حلب، واجتمعَ بالملك الظَّاهر غازي، فأعجبه كلامه، فمال إليه، فكَتَبَ أهل حلب إلى السُّلْطان: أدرك ولدك وإلا تلف، فكتب السُّلْطان إلى الطاهر بإبعاده عنه، فلم يُبْعده، فكَتَبَ إليه: اجمعِ الفقهاء لمناظرته، فجمعهم وناظروه، فظَهَرَ عليهم بعبارته، فقالوا: إنَّك قلتَ في بعض تصانيفك: إنَّ الله قادر على أن يخلق نبيًّا، وهذا مستحيل، فقال لهم: فما وجه استحالته؟ فإنَّ القادر هو الَّذي لا يمتنع عليه شيءٌ. فتعصَّبوا عليه، فَحَبَسَه الظَّاهر، وجَرَتْ بسببه خطوبٌ وإشاعات، [وكان] (¬2) دنيء الهِمَّة، زرِيّ الخِلْقة، دَنِسَ الثِّياب، وَسِخَ البَدَن، لا يغسل له ثوبًا ولا جِسْمًا، ولا يدًا من زُهومة، ولا يقصُّ ظُفُرًا ولا شَعْرًا، وكان القَمْل يتناثر على وَجْهه، ويسعى على ثيابه، وكل مَنْ رآه يهربُ منه، وهذه الأشياء تنافي الحكمة والعقل والشرع. قال ابنُ شدَّاد: ولما بلغ السُّلْطانَ أمره أَمَرَ ولده الملك الظاهر بقَتْله، فلما كان يوم الجمعة بعد الصَّلاة سَلْخ ذي الحِجَّة أُخرج من الحبس ميتًا، ومما ينسب إليه من الشعْر: [من الكامل] أبدًا تَحِنُّ إليكُمُ الأرواحُ ... ووصالُكُمْ رَيحانُها والرَّاحُ ¬

_ (¬1) هو يحيى بن حبش بن أميرك، له ترجمة في "معجم الأدباء": 19/ 314 - 320، "وفيات الأعيان": 6/ 268 - 274 و"طبقات الأطباء": 641 - 646، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 207 - 211، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق.

وقلوبُ أهلِ ودَادِكُمْ تَشْتاقُكُمْ ... وإلى كمالِ جمالكُمْ ترتاحُ وارحْمَتَا للعاشقِينَ تكلَّفوا ... سَتْر المحبَّةِ والهوى فَضَّاحُ بالسِّرِّ إنْ باحوا تُباح دماؤهم ... وكذا دماءُ البائحينَ تباحُ وإذا هُمُ كتموا تحدَّثَ عنهم ... عند الوُشاةِ المدمعُ السَّحَاحُ وبَدَتْ شواهدُ للسَّقام عليهُمُ ... فيها لِمُشْكِلِ أمرهم إيضاحُ خَفَضَ الجَنَاحَ لكُمْ وليس عليكُمُ ... للصَّبِّ في خَفْضِ الجَنَاح جُناحُ فإلى لقاكُمْ نَفْسُهُ مُرْتاحةٌ ... وإلى رضاكُمْ طَرْفُهُ طَمَّاحُ عُودوا بنور الوَصْلِ من غَسَقِ الجفا ... فالهجر ليلٌ والوصالُ صَبَاحُ صافاهم فصفوا له فقلوبُهُمْ ... في نورها المِشْكاةُ والمِصْباحُ وتمتَّعوا فالوقتُ طاب بقُرْبكم ... راقَ الشَّرابُ ورقَّتِ الأقداحُ يا صاحِ ليس على المحبِّ ملامةٌ ... إنْ لاحَ في أُفق الوصالِ صباحُ لا ذنبَ للعُشَّاقِ إنْ غلب الهوى ... كتمانَهُمْ فنمى الغرامُ وباحوا سمحوا بأنفسهمْ وما بخلوا بها ... لمَّا دَرَوْا أَنَّ السَّماحَ رباحُ ودعاهُمُ داعي الحقائقِ دعوةً ... فغدوا بها مستأنسين وراحوا ركبوا على سنن الوفا فدموعُهُمْ ... بحرٌ وشِدَّةُ شَوْقهم ملَّاحُ والله ما طلبوا الوقوفَ ببابه ... حتَّى دُعوا وأتاهُمُ المِفْتاحُ لا يطربونَ بغير ذِكْرِ حبيبهمْ ... أبدًا فكلُّ زمانهم أفراحُ حَضَروا وقد غابتْ شواهِدُ ذاتهم ... فتهتَكُوا لمَّا رَأَوْه وصاحوا أفناهُمُ عنهمْ وقد كُشِفَتْ لهم ... حجبُ البقا فتلاشتِ الأرواحُ فتشبَّهوا إن لم تكونوا مِثْلَهم ... إنَّ التَّشَبُّهَ بالكرامِ فلاحُ قُمْ يا نديمُ إلى المُدَام فهاتها ... في كأسها قد دارتِ الأقداحُ من كَرْمِ إكرامٍ بدنِّ ديانةٍ ... لا خمرة قد داسها الفلاح قلت (¬1): وقد وقفتُ على ترجمته في "وَفَيات الأعيان" تصنيف القاضي شمس الدين بن خَلِّكان: كان المذكور من علماء عَصْره، قرأ الحكمة وأُصول الفِقْه على الشيخ ¬

_ (¬1) القائل هو قطب الدين اليونيني؛ مختصر "مرآة الزمان".

مجد الدِّين الجِيلي بمدينة المراغة من أعمال أَذْرَبيجان إلى أن بَرَعَ فيهما، وهذا مجدُ الدِّين هو شيخ فخر الدين الرَّازي، وعليه تخرَّج، وبصحبته انتفع، وكان إمامًا في فنونه. وقال في "طبقات الأطباء": وكان السُّهْرَوَرْدِي أوحدَ أهلِ زمانه في العلوم الحكمية، جامعًا للفنون الفلسفية، بارعًا في الأُصول الفقهية، مفرطَ الذَّكاء، فصيحَ العبارة، وكان عِلْمُه أكبرَ من عَقْله، ثم ذكر أنَّه قُتِلَ في أواخر سنة ستٍّ وثمانين وخمس مئة، والصَّحيح ما سنذكره في آخر هذه الترجمة إنْ شاء الله تعالى، وعمره نحو ستٍّ وثلاثين سنة، ثم قال: ويقال: إنه كان يعرف علم السّيمياء. وحكى بعضُ فقهاء العجم أَنَّه كان في صحبته وقد خرجوا من دمشق. قال: فلما وَصَلْنا إلى القابون؛ القرية التي على باب دمشق في طريق مَنْ يتوجَّه إلى حلب لقينا قطيعَ غنمٍ مع تركمان، فقلنا للشَيح: يا مولانا، نريد من هذه الغنم رأسًا نأكله. فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأسَ غنم. وكان هناك تركماني، فاشترينا منه رأسًا بها، ومشينا قليلًا، فلحقنا رفيق له، فقال: رُدُّوا الرأس، وخذوا أصغر منه، فإنَّ هذا ما عرف يبيعكم، يساوي هذا الرأس أكثر من هذا، وتقاولنا نحن وإياه، فلما عَرَفَ الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا، وأنا أقف معه وأرضيه. فتقدَّمنا نحن، وبقي شيخنا يتحدَّث معه ويطيّب قلبه، فلما أبعدنا قليلًا تركه وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، وهو لا يلتفت عليه، ولما لم يكلمه لحقه بغيظٍ، وجَذَبَ يده اليُسْرى، وقال: أين تروح وتخليني؟ وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه، وبقيت في يد التركماني ودمها يجري، فَبُهِتَ التركماني، وتحيَّر في أمره، ورمى اليد وخاف، فرجع الشيخ، وأخذ تلك اليد بيده اليمنى ولحقنا، وبقي التركماني راجعًا وهو يلتفت إليه حتَّى غابَ عنه، ولما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديلًا لا غير. قلت: ويحكى عنه مثل هذا أشياء كثيرة، والله أعلم بصحتها. وله تصانيف، فمن ذلك كتاب "التنقيحات" في أُصول الفِقْه، وكتاب "التلويحات" وكتاب "الهياكل" وكتاب "حكمة الإشراق"، وله الرسالة المعروفة بـ "الغربة الغريبة" على مثال رسالة "الطير" لأبي علي بن سينا، ورسالة "حي بن يقظان" لابنِ سينا أيضًا، وفيها بلاغةٌ تامة أشار فيها إلى حديث النفس، وما يتعلَّق بها على اصطلاح الحكماء.

ومن كلامه: الفكر في صورة قدسية، يتلطَّف بها طالبُ الأريحية، ونواحي القُدُس دار لا يطؤها القوم الجاهلون، وحَرَامٌ على الأجساد المُظْلمة أن تَلِجَ ملكوت السموات، فوحِّدِ الله وأنتَ بتعظيمه ملآن، واذكُرْه وأنتَ من ملابس الأكوان عُرْيان، ولو كان في الوجود شمسان لانْطَمَسَتِ الأركان، فأبى النِّظام أن يكون غير ما كان: [من الكامل] فخفيتُ حتَّى قلتُ لستُ بظاهرٍ ... وظهرتُ من سَعَتي على الأكوانِ آخر: [من الرمل] لو علمنا أننا ما نلتقي ... لقضينا من سُلَيمى وَطَرا اللهم خلِّصْ لطيفي من هذا العالم الكثيف. وتنسب إليه أشعار، فمن ذلك ما قاله في النفس على مثال أبيات ابن سينا العينية، فقال هذا الحكيم: [من الكامل] خَلَعَتْ هياكلها بجَرْعاء الحِمى ... وَصَبَتْ لمغناها القديمِ تشوقا وتلفَّتَتْ نحو الدِّيار فشاقَها ... رَبْعٌ عَفَتْ أطلالُه فتمزَّقا وقفتْ تُسائِلُهُ فردَّ جوابَها ... رَجْعُ الصَّدى أَنْ لا سبيل إلى اللِّقا فكأنَّها بَرْق تألَّقَ بالحِمى ... ثُمَّ انطوى فكأَنَّه ما أبرقا وله في النَّظْم والنَّثْر أشياء لطيفة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها، وكان شافعيَّ المذهب، ويلقب بالمُؤَيَّد بالملكوت، وكان يُتَّهم بانحلالِ العقيدة والتعطيل، ويعتقد مذهب الحكماء المتقدِّمين، واشتهر ذلك عنه، فلما وَصَلَ إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قَتْله بسبب اعتقاده، وما ظَهَرَ لهم من سوء مَذْهبه، وكان أشدَّ الجماعة عليه الشيخان زين الدين ومجد الدين ابنا جَهْبل. وقال الشيخ سيف الدين الآمِدي: اجتمعتُ بالسُّهْرَوَرْدِي في حلب، فقال لي: لا بُدَّ أَنْ أملك الأرض. فقلتُ: من أين لك هذا؟ فقال: رأيتُ في المنام كأني شربتُ ماء البحر، فقلت: لعل يكون اشتهار العلم أو يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ورأيتُه كثيرَ العِلْم، قليل العقل، ويقال: إنه لما تحقَّق القتل كان كثيرًا ما يُنْشد: [من الهزج] أرى قدمي أراق دمي ... وهانَ دمي فها نَدَمي

الصفي بن نصر الله بن القابض

والأول مأخوذ من قول أبي الفَتْح علي بن محمد البُسْتي: [من الهزج] إلى حَتْفي مشى قَدَمي ... أرى قَدَمي أراقَ دمي فلا أنفكُّ من ندمٍ ... وليس بنافعي نَدَمي وكان ذلك في دولة الظَّاهر بن السُّلْطان صلاح الدين رحمه الله، فحبسه، ثم خنقه بإشارة والده صلاح الدِّين، فكان ذلك في خامس رجب سنة سبع وثمانين وخمس مئة بقلعة حلب، وعمره ثمان وثلاثون سنة. وذكر القاضي بهاء الدين المعروف بابن شَدَّاد قاضي حلب في أوائل سيرة صلاح الدين، وقد ذكر حُسْن عقيدته، وقال: كان كثيرَ التَّعظيم لشعائر الدِّين، وأطال الكلام في ذلك، ثم قال: ولقد أمر ولده صاحب حلب بقَتْلِ شابٍّ نشأ كان يقال له: السُّهْرَوَرْدِي، قيل عنه: إنه كان معاندًا للشَّرائع، وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره، وعرف السُّلْطان به، فأمر بقَتْله، فقتله، وصلبه أيامًا. قال القاضي شمس الدين بن خَلِّكان رحمه الله: وأقمتُ في حلب سنين للاشتغال بالعِلْم الشَّريف، ورأيتُ أهلها مختلفون في أمره، كلُّ واحدٍ يتكلَّم على قدر هَوَاه، فمنهم من ينسبه إلى الزَّنْدقة والإلحاد، ومنهم من يعتقد فيه الصَّلاح، وأَنَّه من أهل الكرامات، ويقولون: ظَهَرَ لهم بعد قتله ما يشهد له بذلك، وأكثر النَّاس على أَنَّه كان مُلْحدًا لا يعتقد شيئًا، نسأل الله تعالى العفو والعافية، والمعافاة الدَّائمة في الدِّين والدنيا والآخرة، وأن يتوفَّانا على مذهب الحق والرَّشاد (¬1). الصَّفي بن نصر الله بن القابض (¬2) كان قد خدم السُّلْطان لما كان في شِحنكية دمشق، وأمدَّه بالمال، فرأى له ذلك، فلما ملك استوزره، وكان شجاعًا ثِقَةً، دَيّنًا أمينًا، ولما نزل الفرنج داريا والسُّلْطان في الشرق جَمَعَ من أهل دمشق سوادًا عظيمًا، وخرج إلى ظاهر البلد، فرآهم، فظنوهم عسكرًا، فرحلوا. ¬

_ (¬1) انظر النقل بطوله في "وفيات الأعيان": 6/ 269 - 273. (¬2) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وانظر "كتاب الروضتين": 4/ 292.

النجم الخبوشاني

وكان كثيرَ المعروف، وكَتَبَ أملاكه لمماليكه لأنه لم يكن له ولد، وبنى بالعُقَيبة مسجدًا، ودُفِنَ به في رجب، ويعرف اليوم بمسجد الصَّفي. النجم الخُبُوشاني (¬1) قدم الدِّيار المِصْرية، وأظهر الناموس، وتزهَّد، وكان يركب الحمار، وآنية بيته كلها خزف، فنفق على السُّلْطان وأهله، وأعطاه السُّلْطان مالًا، فبنى به المدرسة التي إلى جانب الشَّافعي رحمة الله عليه، وكان كثير الفِتَن منذ دخل مِصْر إلى أن مات، ما زالت الفتن قائمةً بينه وبين الحنابلة وابن الصَّابوني وزين الدين بن نُجَيَّة، يكفرونه ويكفرهم، وكان طائشًا متهورًا، نبَشَ ابن الكِيزَاني (¬2)، وأخرج عظامه من عند الشَّافعي رحمة الله عليه، [وقد ذكرناه] (¬3)، وكان يصوم ويفطر على خبز الشَّعير، فلما مات وجدوا له ألوف دنانير، وبلغ صلاح الدين، فقال: يا خيبة المسعى. وكان يبعث إليه بالصَّدقات، فيأخذها لنفسه. ولما توجَّه سيفُ الإسلام إلى اليمن جاء إليه يودِّعه ويستقضي حوائجه، فقال له الخُبُوشاني: لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: تضرب رقبةَ كلِّ مَنْ في المدينة ومكة، وتأخذ أموالهم، وتسبي نساءهم، وقد أبحتُ لك ذلك. فقام سيفُ الإسلام من عنده، وهو يسبُّه، ويقول: انظروا إلى هذا الرَّقيع، يُبيح دماءَ جيران الله، ودماءَ أهلِ بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكانت وفاته في صفر، وسكنتِ الفتن، واصطلح النَّاس، وقالوا: هذا فتوح ثاني، وكان سييِّءَ الأخلاق، قبيحَ العِشْرة، وولي بعده تدريس مدرسة الشَّافعي شيخ الشيوخ صدر الدين بن حَمُّويه، [فأحسن التدبير والأمور] (3). ¬

_ (¬1) هو أبو البركات محمد بن موفق بن سعيد الخبوشاني، نجم الدين، وله ترجمة في "الفتح القسي": 577، و"رحلة ابن جبير": 48، و"التكملة" للمنذري: 1/ 161 - 162، و"كتاب الروضتين": 4/ 293 - 294، و"وفيات الأعيان": 4/ 239 - 240، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 204، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) انظر ترجمة ابن الكيزاني في وفيات سنة (562 هـ). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ [22]

السنة الثامنة والثمانون وخمس مئة

السنة الثامنة والثَّمانون وخمس مئة فيها أُحرقت كُتُب عبد السَّلام بن عبد الوهَّاب بن الشيخ عبد القادر (¬1)، وسببه عداوةٌ قديمة كانت بين أولاد الشيخ عبد القادر وبين ابن يونس، لأنه كان جارهم بباب الأَزَج في حالِ خموله وفقره، وكانوا يؤذونه، ورَبَّوا كلبًا، ولقبوه جُلَيِّل، يعنون جلال الدين، وهو لقبُ ابنِ يونس، وكان لابنِ يونس أخٌ صالح يقال له: العماد، فسموا بغلًا للطحن: العماد، وكان من ولد الشيخ عبد القادر لصُلْبه طحَّان اسمه سليمان، أشرّ خَلْقِ الله، وهو الَّذي فعل هذه الأفاعيل. فلما ولي ابنُ يونس الوزَارة، ثم أُستاذية الدَّار أظهر ما كان في قلبه منهم، فبدَّد شَمْلَهم، وبَعَثَ ببعضهم إلى المطامير بواسط، فماتوا بها، وكان عبد السَّلام مداخلًا للدولة وعنده كُتُبٌ كثيرة، فكَبَسَ ابنُ يونس داره، وأخرج منها كتبًا في فُنون، منها "الشفاء"، و"النجاة"، و"إخوان الصفا"، وكُتُب الفلاسفة والمنطق، وتبخير الكواكب والنارنجيات والسِّحْر، فاستدعى ابنُ يونس وهو يومئذٍ أُستاذ دار الخليفة العلماءَ والفقهاءَ والقضاة والأعيان. قال المصنِّف رحمه الله: وكان جَدِّي فيهم، وقُرئ في بعضها مخاطبة زُحَل يقول: أيها الكوكبُ المضيء النَّيِّر الفَرْد، أنتَ تدبِّر الأفلاك. وفي حق المريخ من هذا الجِنْس، فقال ابنُ يونس لعبد السَّلام: هذا خَطُّك؟ قال: نَعَمْ. قال: لِمَ كتبته؟ قال: لأَرُدَّه على قائله ومَنْ يعتقده. فسألوه فيه، فقال: لابُدَّ من حريق الكتب. فلما كان يوم الجمعة ثاني عشر صفر جَلَسَ قاضي القضاة والنَّوْقاني (¬2) والعلماء. قال المصنف رحمه الله: وجَدِّي معهم على سَطْح المسجد المجاور لجامع الخليفة، وأضرموا تحت المسجد نارًا عظيمة، وخَرَجَ النَّاس من الجامع، فوقفوا على طبقاتهم، فقام رجلٌ يقال له: ابن المارَسْتانية، فجعل يقرأ كتابًا كتابًا ويقول: العنوا مَنْ كتبه ومَنْ يعتقده. فيضجُّ العوام باللَّعْن، وتعدَّوا إلى الشيخ عبد القادر وإلى الإمام أحمد ¬

_ (¬1) توفي سنة (611 هـ)، له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 18/ 429، و"الكامل" لابن الأثير: 12/ 305، "التكملة لوفيات النقلة": 2/ 303، "المذيل على الروضتين": 1/ 253، "فوات الوفيات": 2/ 324 - 325، "ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 71 - 73، "النجوم الزاهرة": 6/ 192. (¬2) توفي سنة (592 هـ)، انظر ترجمته في "السير": 21/ 248.

رحمة الله عليهما، وظهرت الأحقاد البدرية، وقال الخصوم أشعارًا، منها قول المهذَّب الرُّومي ساكن النِّظامية: [من الخفيف] ليَ شعرٌ أرقُّ مِنْ دِين ركنِ الدِّ ... بن عبد السَّلامِ لَفْظًا ومَعْنى زُحَلِيًّا يَشْنا عَلِيًا ويهوى ... آلَ حَرْبٍ حِقْدًا عليه وضِغْنا مَنَحَتْه النُّجومُ إذ رام سَعْدًا ... وسرورًا نَحْسًا وهَمًّا وحُزْنا سارَ إحراقُ كُتْبه سَيرَ شِعْري ... في جميعِ الأقطار سَهْلًا وحَزْنا أيها الجاهِلُ الَّذي جَهِلَ الحقَّ ... ضلالًا وضيَّعَ العُمْرَ غُبْنا رُمْتَ جَهْلًا من الكواكب بالتبـ ... خير عِزًّا فَنِلْتَ ذُلًّا وسِجْنا ما زُحَيلٌ وما عُطارِدُ والمرِّ ... يخ والمُشْتري ترى يا مُعَنَّى كلُّ شيءٍ يُوْدي ويفنى سوى اللـ ... ـه إلهي فإنَّه ليس يَفْنى ثم حكم القاضي بتفسيق عبد السَّلام، ورمي طَيلَسانه، وولي جَدِّي مدرسة الشيخ عبد القادر رحمه الله، فذكر الدَّرْسَ بها في ربيع الأول. وقال ابن القادسي: وفي جمادى الأُولى جلس الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي عند تربة أُمِّ الخليفة المجاورة لمعروف الكرخيِّ، فتاب مئة وثلاثون شخصًا، ومات في المجلس ثلاثة بوَجْدهم. وفيها حَبَسَ الخليفةُ طاشْتِكِين أميرَ الحاج، وكان في قلبه منه من نوبة ابنِ يونس وتقصيره في القتال، ونُقِلَ إلى الخليفة أَنَّه يكاتبُ صلاح الدين، وكثَّر عليه ابنُ يونس، فاعتقله تحت التَّاج، وأخفى خبره بحيث أقام سنين لم يطلع له خبر. وفيها كانت نوبة الخويلفة؛ كان السُّلْطان قد كَتَبَ إلى مِصْر يستدعي العساكر، فاجتمع على بِلْبِيس خَلْقٌ عظيم وقافلة [عظيمة] (¬1) فيها أموالُ الدُّنيا، وكان الإنكتار يترقَّب مجيئهم، فبعث السُّلْطان نجابًا يحذِّرهم، وقال: أَبْعِدُوا في البرية. وبلغ الإنكتارَ قُرْبُهم، فركب من تل الصَّافية في ألف فارس مردفين بألفِ راجل، وساروا حتَّى نزلوا ماءً يقال له: الحسا، وجاء الإنكتار، فكبسهم بغتةً قبيل الصُّبْح وهم غارُّون، فالسَّعيد مَنْ نجا بنفسه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وكانت نوبة الإنكتار لم يجرِ مِثْلُها في الإسلام، ساقوا من الجمال ثلاثة آلاف جمل، ومن الخيل ألفًا وخمس مئة فرس، ومن البغال مثلها، ومن المسلمين خمس مئة أسير، ومن العين ألف ألف دينار، ومن الثِّياب مثلها، وكان في القافلة فلك الدين أخو العادل لأُمه، فنجا على فرس، وعاد الفرنج إلى تل الصَّافية في سادس عشر جُمادى الآخرة، وبلغ السُّلْطان، فأُسْقِطَ في يده، وقال: الأمر لله. ولما حصل ذلك بيد الفرنج عزموا على قَصْدِ مِصْر، ثم عدلوا إلى القُدْس، وبعث الإنكتار إلى البلاد السَّاحلية، فاستدعى الفارس والرَّاجل، فجاءه خَلْقٌ عظيم، فسار من الرَّمْلة إلى بيت نوبة، ووصل الإنكتار إلى القبيبة في نفرٍ يسير، وشاهَدَ القدس، وعاد إلى بيت النوبة، وكان السُّلْطان في القدس، فشاور الأمراء والأعيان، وقال لهم: أنتم جند الإسلام ومَنَعَتُه، ودماء الإسلام وأموالهم وأهاليهم متعلِّقة بكم، فإن جبنتم طووا البلاد طيًّا، وكنتم المطالبين بذلك، فقالوا: نحن مماليكك، وما تطير رؤوسنا إلا بين يديك. وافترقوا على هذا، فلما كان في الليل اختلفوا، فقال بعضُهم: ما نقيم حتَّى يكون السُّلْطان معنا، نخاف أن يجري علينا ما جرى على أهل عكا، وبلغ السُّلْطان، فبعث إليهم يقول: هذا مجدُ الدِّين ابنُ فَرُّخْشاه ابن أخي يكون عندكم، وأكون أنا من بَرَّا أَذُبُّ عنكم. فقالوا: ما هذا برأي، وإنما نخرج ونصدقهم الحَمْلة، فإن قهرناهم وإلا سَلِمَ العسكر ونمضي إلى دمشق. فعزَّ عليه ذلك خوفًا على القُدْس ومَنْ فيه من المُسْلمين، وباتَ ليلة الجمعة ساجدًا باكيًا متضرِّعًا، وبَعَثَ بالصَّدقات إلى الفقراء، وطَلَعَ الصبح، فجلس يدعو إلى وقت الضُّحى، ومضى إلى المسجد الأقصى، فدخل المقصورة، وسجد وبكى وتضرَّع [إلى الله تعالى] (¬1)، وكان جُرْديك في اليَزَك، فجاءت منه رقعة يقول: قد ركبوا بأَسْرهم. وباتَ السُّلْطان ليلة السبت قَلِقًا ما عَرَفَ النَّوم، فلما طلع الصَّباح جاء جُرْديك مُسْرعًا، فقال للسُّلْطان: يهنيك، رحلوا نحو الرَّمْلة. فسجد السُّلْطان، وانكشفت أخبارهم، وسببُ رحيلهم؛ ذلك لأن السُّلْطان كان أمر بطَمِّ الصَّهاريج والآبار التي كانت حول القُدْس، فقال لهم الإنكتار: مِنْ أين نشرب؟ قالوا: من العيون التي حول القدس. قال: يتخطَّفونا! فحكَّموا منهم ثلاث مئة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

من علمائهم، وحكَّم الثلاث مئة اثني عشر، وحكَّم الاثني عشر ثلاثة، على عادتهم في النَّوازل، فباتوا يتشاورون، فترجَّح عندهم الرَّحيل، وقالوا: السُّلْطان حاضر ومعه العساكر [فارحلوا] (1)، فرحلوا طالبين عكا، وكانوا قد أخذوا يافا وحصَّنوها، فأقام السُّلْطان بالقُدْس حتَّى تيقَّنَ وصولهم إلى عكا، وخَرَجَ، فنزل على يافا وحَصَرَها، وتعلَّق النقابون في الأسوار، وملك المدينة، وأشرفوا على أَخْذ القلعة، فصاح أهلُها: الأمان. ونَهَبَ المسلمون البلد، فوقف مماليك السُّلْطان على الأبواب، كلُّ مَنْ خرج ومعه شيء أخذوه، وعَزَّ ذلك على الأمراء والأكراد، وسَلَّموا القلعة، وبَعَثَ السُّلْطان إليها جماعةً من أصحابه، وبقي فيها [من] (1) الفرنج أربعون رجلًا، فبينا هم على ذلك [إذ] (1) لاحت مراكبُ يسيرة، فرأوا عَلَمَ السُّلْطان عليها، [فظنوا أنَّه قد أخذها، ] (¬1) فتوقفوا، وقويت نفوس الفرنج الذين بقوا في القلعة، وعلموا أَنَها مراكب الإنكتار، فرمى واحدٌ نفسه في الماء، وسَبَحَ إليهم، وقال: تقدَّموا، فارسوا إلى الميناء، وكانت خمسة وثلاثين مركبًا، ووصل الإنكتار، فهرب المسلمون من البلد، وتأخَر السُّلْطان إلى يازور، وجاء الإنكتار، فنزل في منزلة السُّلْطان، ولم يكن معه سوى عشرين فارسًا وثلاث مئة راجل وعشرين خيمة، والسُّلْطان في ألوف، فبعث إلى السُّلْطان يقول: أنت سُلْطان عظيم، ومعك هذا الجيش الكبير ومُعْظم عساكر المسلمين، فكيف رَحَلْتَ عن منزلتك عند وصولي وليس معي أحد، ولا طلعتُ من البحر إلا بزربولي؟ ! فغَضِبَ السُّلْطان، وبات على غضب، فلما أصبح ركب وركبتِ العساكر، والإنكتار نازلٌ على حاله لم يصل إليه من الفرنج أحد، فحمل عليه المسلمون وهو في عشرين فارسًا وثلاث مئة راجل، فلم يتحرَّك، فَعَظُمَ على السُّلْطان، وصاح بالأطلاب: ويحكم! وكم معه وأنتم عشرة آلاف وزيادة؟ ! فلم يجبه أحد، وقال له الجناح أخو المشطوب: قل لعلوقك الذين ضربوا النَّاس بالأمسِ وأخذوا كسبهم يحملوا. وكان معظم العساكر على مثل رأي الجناح. ويقال: إن الإنكتار أخذ رمحه، وحمل من طرف الميمنة إلى طرف المَيسرة، فلم يَعْرِضْ له أحد، وساق السلْطان من غضبه إلى الأطرون، فنزل في خيمةٍ صغيرة وحده، وانفرد، ولم يتجاسر أحدٌ أن يكلِّمه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

سنان بن سلمان

وجاءت رسل الإنكتار إلى السُّلْطان تقول: قد هلكنا نحن وأنتم، وما طلبتُ الصُّلْح لتقصير وضَعْفٍ مني، بل للمصلحة العائدة علينا وعليكم. ثم وقع الاتفاق على أَنَّ البلاد السَّاحلية التي بأيدي الفرنج هي لهم، [والبلاد الجبلية التي بها القلاع تبقى بأيدي المسلمين] (1)، وما بين العملين يكون مناصفة، واختلفوا في عَسْقلان، ثم اتَّفقوا على أنها تكون للفرنج خرابًا لا تعمر، وأعطاهم السُّلْطان القيامة، وكتبوا كتاب الصُّلْح، واتفقوا. [قال]: ولم يؤاخذ السُّلْطان الجناح، بل عفا عنه، وكان عَفْوه من كمال عَقْله، لأَنَّ الناس كَلُّوا ومَلُّوا، وعَلَتْهم الدُّيون وذَلُّوا، وخاف السُّلْطان أيضًا على القدس، فداوى الأخطر، وانعقد الصُّلْح، فارتفعت أصواتُ الفريقين، وضجُّوا فرحًا وسرورًا، وكان يومًا عظيمًا، واختلط الفريقان، [وزال بينهم الشنآن] (¬1)، وسار الإنكتار في البحر طالبًا بلاده، فمات في البحر قبل أن يصل إليها (¬2). وعاد السُّلْطان إلى دمشق، وعَزَمَ على الحج، فقيل له: البلاد خراب، وما نأمن غدر الفرنج، فتوقَّف. ووصل إلى السُّلْطان كتابٌ من اليمن فيه أن ثلاثة أنهار بالحبشة تغيرت، كانت عذبة، فصار الواحد أجاجًا، والآخر لبنًا، والثالث دمًا! وحج بالنَّاس من بغداد فلك الدين إيليا، ومن الشَّام دِرْباس الكردي. وفيها توفي سنان بن سَلْمان (¬3) صاحب الدَّعوة بقلاع الشَّام، وأصله من البَصْرة، وكان في حِصْن ألموت، فرأى منه صاحبُ الأمر في تلك البلاد نجابةً وشهامة ويقظة، فسيَّره إلى حصون الشَّام، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الصحيح أن ملك الإنكتار ريتشارد قلب الأسد قد أسر في فيينا، وهو في طريقه إلى بلده، ثم أطلق وعاد إلى وطنه. انظر "الحرب الصليبية الثالثة" (صلاح الدين وريتشارد): 2/ 280 وما بعدها، ترجمة: د. حسن حبشي. (¬3) له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 21/ 182 - 190.

علي بن أحمد سيف الدين المشطوب

وكانت له معرفة وسياسة وحذق في إقامة الدَّعوة واستجلاب القلوب، وكان مجيئه إلى الشَّام في أيام نور الدين محمود، فأقام واليًا ثلاثين سنة، وجرت له مع السُّلْطان قصص، وبعث إليه جماعة فوثبوا عليه، [وقد ذكرناه] (1)، وكان في عَزْمِ السُّلْطان قصدَه، ولم يُعْطه طاعةً قطُّ، ولما صالح السلْطانُ الفرنج، وعَزَمَ على قَصْده توفي، وتحكى عنه الغرائبُ والعجائب، وفي الجملة [كان كما وصفنا] (¬1) لم يقم أحد بعده مقامه. عليُّ بنُ أحمد سيف الدين المشطوب (¬2) ملك الهكارية، كان شجاعًا، صابرًا في الحرب، مُطاعًا في قبيلته، دخل مع أسد الدين شيركوه إلى مِصْر في المرَّات الثلاث، وشَهِدَ فتحها، ولزم خدمة السُّلْطان، كان ممن أُسر بعكا، ففدى نفسه بخمسين ألف دينار، عجَّل منها عشرين ألفًا، وأعطاهم رهائن بالباقي، واطلق، فأَحْسَنَ السُّلْطان إليه، وأقطعه نابُلُس وأعمالها، فجار نوابه على أهلها [(¬3) فاتفق أن السلطان اجتاز بنابلس من القدس في عوده إلى دمشق، فاجتمع أهلها، وشكوا إلى السلطان]، واستغاثوا، فقال: ما لهؤلاء؟ قالوا: يتظلَّمون من المشطوب، وهو راكبٌ بين يديه، فقال له السُّلْطان: يا علي، لو كان هؤلاء يدعون لك هات حتَّى يسمع الله، فكيف وهم يدعون عليك؟ [(¬4) واختلفوا في وفاته، فقال العماد الكاتب: مات المشطوب في نابلس] في آخر شوال. وقال ابنُ شدَّاد: مات بالقُدْس، وصُلِّي عليه بالمسجد الأقصى، ودُفِنَ في داره. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وله ترجمة في "وفيات الأعيان": 1/ 180 - 184، و"كتاب الروضتين": 4/ 348 - 349. (¬3) في (ح): فجار نوابه على أهلها، فشكوا إلى السلطان عند اجتيازه بهم واستغاثوا ... والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): ومات في نابلس، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

قليج رسلان بن مسعود

قليج رسلان بن مسعود (¬1) ابن قليج رسلان بن سليمان بن قُتُلْمِش بن إسرائيل بن سَلْجوق، عز الدين، صاحب بلاد الرُّوم، طالت أيامه، واتَّسعت مملكته، ولما أسنَّ أصابه الفالج، فَبَطَلَتْ حركته، وتنافس أولادُه في المُلْك، وحكم عليه ولده قُطْب الدّين بن ملك شاه، وقتل كثيرًا من خواصِّه، وكان مقيمًا بسِيواس، وأبوه بقُونية، فجاء إلى أبيه يقاتله، فأخرج إليه العساكر مع حاجبه حسن بن غفراس، فقتله، وبدَّد شَمْلَ أصحابِ أبيه، وأخذ أباه مكرهًا، فحمله إلى قيسارية، ونزل بظاهرها، فلم يمكِّنه أهلُها من الدخول إليها، فقال أبوه لبعض غِلْمانه في الليل: احملني وأدخلني البلد. فحمله، وأدخله البلد. واجتمع إليه أهلها، فقال لهم: أنا مقهورٌ مع هذا الولد. فقاموا معه، وخرجوا إلى ملك شاه، فقاتلوه وطردوه، فعاد إلى سيواس، وعهد قليج رسلان بالأمر بعده إلى ولده غياث الدِّين كَيخُسْرو، فسار إلى قُونية ومعه أبوه، فملكها، وجَلَسَ على سرير المُلْك، ومضى إلى أقصرا، فأخذها، وزاد المرض بأبيه، فمات، فكَتَمَ موته حتَّى تَمَّ له أمره، واستقامت له الممالك، وتفرَّق أولاده في البلاد، فجاء صاحبُ مَلَطْية إلى الرَّقَّة، فزوَّجه العادلُ ابنته، والتجأ بعضُهم إلى التُرْكمان، وبعضهم إلى لاون. وقال العماد الكاتب: توفي عز الدين بقُونية في نصف شعبان، ولم يزل ينتقل من بلد إلى بلد في ضيافةِ أولاده، يُتبرم ويُضَّجر منه حتَّى مات عند ابنه كَيخُسْرو، وقوي على إخوته، واستقام أمره (¬2). المركيس صاحب صور (¬3) قدم عليه راهبان، فلزما الكنيسة، وتعبَّدا عبادةً زائدة، وبلغه خبرهما فقرَّبهما، ولم يكن يصبر عنهما، فأغفلاه ليلة [حتى نام] (¬4) وذبحاه، فأُخذا وقُرِّرا، فقالا: نحن من ¬

_ (¬1) له ترجمة في الكامل": 12/ 87 - 91، و"كتاب الروضتين": 4/ 349 - 350، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 211 - 212. (¬2) انظر "الفتح القسي": 623 - 625. (¬3) هو كنراد بن مونتفيرات Conrad of Montferrat، وقد سلفت أخباره في هذا الكتاب. (¬4) ما بين حاصرتين من (م).

نصر بن منصور

الإسماعيلية، فَقُتِلا، وسُرَّ الإنكتار (¬1) بقَتْله، لأنه كان يضاهيه ويضاده ويراسل [السلطان] (¬2) في الإعانة عليه، فلما قُتِلَ استقلَّ الإنكتار بالأمر، وزوَّج الإنكتار زوجةَ المركيس بكندهري (¬3)، وهو ابن أُخت ملك الإنكتار من امه، وابن أخت ملك الإفرنسيس من أبيه، وأقام الإنكتار كندهري موضعَ المركيس، وكانت امرأةُ المركيس حاملًا منه، فدخل بها كندهري، وما ذاك عَيبٌ عندهم في دين النَّصْرانية، ويكون الولد منسوبًا إلى أُمه، وكان الملك في المملكة، فأقام كندهري ملك الفرنج سبع سنين، ومات. نَصْر بن منصور (¬4) أبو المُرْهَف، النُّمَيري الشَّاعر، منسوب إلى نُمير بن عامر بن صَعْصَعَة من هوازن، ولد بِرَقَّة الشَّام، وأُمه بنت سالم بن مالك صاحب الرَّحْبة، رُبِّيَ بالشام، وعاشَرَ الأدباء، وقال الشِّعْر وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة، وقَلَّ بصره بالجُدَري وله أربع عشرة سنة، ولا يحتاج إلى قائد، ثم قدم بغداد ليداوي عينيه، فآيسه الأطباء منها، فحفظ القرآن، وتفقَّه على مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وسَمِعَ الحديث وقرأ اللغة [على ابن الجواليقي] (2)، وكان طاهر اللِّسان [نزِهًا] (2) عفيفًا دَيِّنًا، [(¬5) وكان من أعيان شعراء الوزير يحيى بن هُبيرة، وله فيه المدائح الكثيرة، وفي المقتفي وصلاح الدين وغيرهما، وذهب بصره بمرة، وتوفي ببغداد في ربيع الآخر، ودفن بمقابر الشهداء، سمع قاضي المارَسْتان، وابن الحُصَين وغيرهما، وكان ثقة]، ومن شعره: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) هو ريتشارد قلب الأسد. Richard I, Lion Heart . (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) هو هنري كونت شامبانيا Henry of Champagne، وقد مات سنة 593 هـ. (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 170، و"معجم الأدباء": 19/ 222 - 223، "وفيات الأعيان": 5/ 383 - 384، و "الروضتين": 4/ 355 - 356، و"شر أعلام النبلاء": 21/ 213 - 214، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬5) في (ح): دينًا، وله مدائح في صلاح الدين وغيره، وتوفي ببغداد، ودفن في ربيع الآخر بمقابر الشونيزية، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وزهَّدني في جميع الأنا ... م قِلَّةُ إنصافِ من تَصْحَبُ هُمُ النَّاسُ ما لم تُجَرِّبْهُمُ ... وطُلْسُ الذِّئاب إذا جُرِّبوا وليتك تَسْلَم عند البعا ... دِ منهم فكيف إذا تَقْرُبُ وقال: [من الطويل] تراءتْ لنا يوم الرَّحيل فحنَّتِ ... ولم تَدْرِ ما شوقي بها حين ولَّتِ وكانت جفوني بالدُّموعِ ضنينةً ... فلما استقلَّ الظَّاعنونَ استقلَّتِ وقال: [من مجزوء الكامل] ما في قبائلِ عامرٍ ... من مُعْلَمِ الطَّرَفَينِ غيري خالي زعيمُ عبادة ... وأبي زعيمُ بني نُمَيْرِ وقال: [من الطويل] أُحِبُّ عليًّا والبَتُول وَوُلْدَها ... ولا أَجْحَدُ الشَّيخين فَضْلَ التَقدُّمِ وأبرأ مِمَّن نال عُثمانَ بالأذى ... كما أتبرَّا من ولاءِ ابن مُلْجَمِ ويُعْجِبُني أهلُ الحديث لِصِدْقهم ... فلستُ إلى قومٍ سواهم بمنتمي وقال وقد أبلَّ الوزير عون الدين من مرضٍ: [من البسيط] أُعِلَّ لما اعتللتَ المجدُ والكَرَمُ ... وكادتِ الشمسُ يُخفي نورَها الظُّلَمُ وأنكرت مُقْرباتُ الخيل راحتَها ... من بعد ما أقرحت أفواهَها اللُّجُمُ وأرعدتْ قُصُبُ الهِنْديِّ من حَذَرٍ ... أن لا يَبُلَّ صَدَاها في الحروبِ دَمُ حتَّى إذا زال ما تشكوه من ألمٍ ... عمَّ السُّرور كما عَمَّتْ بك النِّعَمُ راحت لصحتك الأعداءُ في سَقَمٍ ... لم تلتبسْ بحشاها مثله سَقَمُ يا قائدَ الجحفلِ الجَرَّارِ يَصْحَبُهُ ... محلّقاتُ نسورِ الجوِّ والرَّخَمُ كأنَّ كلَّ جناحٍ في قساطِلِهِ ... يلوحُ للعين من أعلامه عَلَمُ فليس غيرك للعافين منتجعٌ ... ولا بغيركَ للجانين مُعْتَصَمُ

السنة التاسعة والثمانون وخمس مئة

السنة التَّاسعة والثمانون وخمس مئة ويقال لها: سنة الملوك. ماتَ صلاحُ الدين، وبَكْتَمُر شاه أرمن، وعز الدين صاحبُ المَوْصل. وفيها بنى الخليفة دارًا للكتب بالمدرسة النِّظامية، ونقل إليها عشرة آلاف مجلَّدة، فيها المخطوط المنسوبة. وفيها تمَّ بناء دار الحريم الطَّاهري والرِّباط، ونقل إليها المخطوط المنسوبة، ورتَّب في الرِّباط عشرة من الصُّوفية [الأخيار أرباب المجاهدات، ورتَّب فيه طعامًا كل يوم خارجًا عن راتب الصوفية] (1)، وكان الخليفةُ كلَّ يوم يتردَّد إلى الرِّباط المذكور، فيوم لا يحضر يحمل راتبه إلى الصُّوفية، وولى الرِّباط بهاء الدين أحمد المِيهَني؛ شيخ رباط الإخلاطية. ويقال: إنَّ سببَ عمارة دار الحريم والرِّباط أَنَّه قَدِمَ إلى بغداد رجل بَلْخي اسمه محمد، وكان من الأبدال، يأوي إلى مقابر الإمام أحمد -رحمة الله عليه- ويصوم ويتقوت بالخبازى، ولا يكلِّم أحدًا [من خلق الله تعالى] (¬1). قال المصنف رحمه الله: وكنتُ وأنا صبي أتردَّدُ إلى مقابر الإمام أحمد -رحمة الله عليه- في شِدَّة الحرِّ على وَجْه السِّياحة، وكنتُ أراه يكنُ من الحر في القباب، فأحببتُه، وأنس بي، وكان الخليفةُ النَّاصر يتردَّد إلى زيارته، فبلغني أَنَّه ما بنى الرِّباط إلا له، وسأله أن يدخله، فأبى، وأقام في المقابر إلى سنة ست وتسعين وخمس مئة، ولم أره بعد ذلك. وفيها فتحت المدرسة إلى جانب تربة والدة الخليفة عند معروف الكرخي، وحَضَرَ أرباب الدولة، وعُمل سماط عظيم، وسُلِّمت إلى النَّوْقاني، فدرَّس بها. وفي ليلة عيد النحر ظهر ببغداد نار عظيمة من جانبها الشَّرقي، فأضاء منها الأفق وبهر ضوءها، وأقامت طول الليل، وظهر عمود من السماء إلى الأرض عرضه مقدار ثلاثة رماح. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الأسعد بن نصر بن الأسعد النحوي

وولدت امرأة بحلب أربعة أولاد في بطن [واحد] (¬1). وحَجَّ بالنَّاس من العراق [قطب الدين] (1) سنجر مملوك الخليفة، ووقف دهمش للحاج ومكسهم، [وسنذكر القصة في ترجمة سنجر في سنة عشر وست مئة] (1)، ومن الشام حصن الدولة إبراهيم بن السَّلَّار. وفيها توفي الأسعد بن نَصْر بن الأسعد النَّحْوي (¬2) ومن شِعْره: [من الخفيف] يَجْمَعُ المَرْءُ ثُمَّ يتركُ ما جَمَّـ ... ـعَ مِنْ كَسْبه لغيرِ شكورِ ليس يحظى إلا بذكرٍ جميلٍ ... أو بعِلْمٍ من بعده مأثورِ وقال: [من مجزوء الرمل] قُلْ لمن يَشكو زمانًا ... حادَ عما يرتَجيهِ لا تضيقنَّ إذا جا ... ءَ بما لا تَشْتَهِيهِ ومتى نابكَ دَهْرٌ ... حالتِ الأحوالُ فيه فوِّضِ الأمرَ إلى اللـ ... ـه تجدْ ما تَبْتَغِيهِ بَكْتَمُر بنُ عبد الله (¬3) مملوك شاه أرمن بن سُكْمان، صاحب خِلاط. مات شاه أرمن ولم يخلِّف ولدًا، فاتَّفق خواصّه على بَكْتَمُر، فضبط الأمور، وأحسن إلى الرَّعية، وعَدَلَ فيهم، وصاحَبَ العلماء [والصوفية] (1)، وكان حَسَنَ السِّيرة، متصدِّقًا، دَيِّنًا، صالحًا، جاءه أربعة من الصُّوفية، وكان لا يمتنع من صوفي، فتقدَّم إليه واحدٌ منهم، فمنعه الجاندارية، فقال: دعوه. فتقدَّم وبيده قِصَّة، فأخذها منه، فضربه بسكِّين شَقَّ جوفه، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر ص 199 من هذا الجزء. (¬2) له ترجمة في "معجم البلدان": 4/ 78 (وفيه توفي في حدود سنة 570 هـ)، و"التكملة" للمنذري: 1/ 191 - 192، و"إنباه الرواة": 1/ 235، و"الوافي بالوفيات": 9/ 16 - 17، و"بغية الوعاة": 1/ 441 - 442. (¬3) له ترجمة في "الكامل": 12/ 102، و"الوافي بالوفيات": 10/ 189 - 190.

جعفر بن محمد بن فطير

فمات من ساعته، فأُخِذوا وقُرِّروا، فقالوا: نحن إسماعيلية، فأُحرقوا، وذلك في جُمادى الأُولى، وكانوا قد شفعوا إليه في أمرٍ لا يليق، فلم يقبل شفاعتهم. وقيل: إنه كان نفى شخصًا لشرِّه وفساده، فالتجأ إلى الإسماعيلية، فسألوه فيه، فلم يشفِّعهم، وقام بعده الهزار ديناري مملوك شاه أرمن، وخَلَّف بَكْتَمُر ولدًا صغيرًا. جعفر بن محمد بن فطير (¬1) أبو الحسن، من أهل المذار (¬2)، ولاه المستضيء ديوان واسط والبَصْرة، وكان جَوَادًا سَمْحًا مثل البرامكة، ما قصده قاصد فخيَّبه، وأقام على ولايته حتَّى عزله الإمام الناصر، وطلب منه المال، فاحتاج إلى أن طلب من النَّاس، ومات فقيرًا، ودفن بمشهد باب التِّبْن في المحرَّم. ومن شعره: [من الطويل] وفكرت في يَوْمَي سُروري وشِقْوتي ... وناديتُ في الأحياءِ هل مِنْ مساعدِ فلم أرَ فيما ساءني غيرَ شانئ ... ولم أَرَ فيما سَرَّني غيرَحاسِدِ قيطرمش بن عبد الله (¬3) ابن المُسْتنجدي، شِحْنة بغداد [من أيام المستضيء وإلى هذه السنة] (¬4). كان شجاعًا [مهيبًا]، (4)، له هيبة عظيمة على المفسدين، [وله معهم حكايات] (4)، كان يسلقهم في القدور، ويمثِّلُ بهم، فكانت بغداد في أيامه مثل المهد في الجانبين. مسعود بن مودود (¬5) ابن زَنْكي بن آق سُنْقُر، عزّ الدِّين، صاحب المَوْصِل. ¬

_ (¬1) له ذكر في "معجم الأدباء": 7/ 46 "ترجمة إسماعيل بن موهوب الجواليقي، وترجمة أبيه في "المحمدون من الشعراء": للقفطي: ص 248 - 249. (¬2) المذار: في ميسان، بين واسط والبصرة، "معجم البلدان": 5/ 88. (¬3) لم أهتد إلى مظان ترجمته. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وانظر "كتاب الروضتين": 4/ 414 وما بعدها.

منصور بن المبارك بن الفضل

كان خفيفَ العارضين، أسمر، مليحَ اللَّوْن، عادلًا، عاقلًا، مُنْصفًا، مُحْسنًا، جَوَادًا، صَبَرَ على حصار صلاح الدين للموصل ثلاث مرات، وحفظ البلد، وفرَّق الأموال العظيمة، ودارى حتَّى يَسْلَمَ له المُلْك، وكان قد بنى في داره مسجدًا يخرج إليه في الليل، ويصلي فيه أورادًا كانت له، ويلبس فَرَجية [كانت عنده] (¬1) أهداها له الشيخ عمر النَّسائي الصُّوفي، فيصلِّي فيها، وكان قد خرج من المَوْصل لقتال الملك العادل، وكان على حَرَّان بعد موت صلاحِ الدين، ثم عاد في سابع وعشرين شعبان مريضًا واحْتُضر، فجعل يتشاهد، ويذكر الله تعالى، ويقر بالشَّهادتين، وعذاب القبر، ومنكر ونكير، والصِّراط والحساب والميزان، وتوفي ودفن بمدرسته التي أنشأها بالمَوْصل مقابل دار السَّلْطنة، وكانت أيامه ثلاث عشرة سنة وستة أشهر، وأوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين رسلان شاه، وكان أخوه شرف الدين مودود يرومُ السَّلْطنة، فصُرفت عنه إلى نور الدين، وقام بالأمور مجاهد الدين قَيماز الخادم أحسن قيام. منصور بن المبارك بن الفضل (¬2) أبو المُظَفَّر الواسطي الواعظ، الملقب جرادة. قدم بغداد، واستوطنها، [وكان يعظ في المساجد وعظًا مطبوعًا، وكان] (1) ظريفًا كيسًا [وله واقعات عجيبة] (1)، جلس يومًا بمسجد باب أبرز، وذكر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل حية كان له قيراطان من الأجر، ومن قتل عقربًا كان له قيراط" (¬3). فقام واحد فقال: يا سيدنا، ومَنْ يقتل جرادة؟ قال: يصلب على باب المسجد. [وسأله رجل يومًا في المجلس، فقال: أين يقف جبريل من العرش، أو أين يقف ميكائيل وعزرائيل؟ فكاشر ساعة، ووقع في المحلة خباط، فقال لبعض الناس: قم واخرج واكشف لنا ما هذا؟ فخرج الرجل وعاد، فقال: إنسان قد ضرب زوجته، فقوي الصراخ، فقال لآخر: قم أنت واكشف الخبر. فقام وخرج وعاد، فقال: رجل قد ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة " للمنذري: 1/ 197، و"شذرات الذهب": 5/ 300. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ في دواوين السنة.

السلطان الملك الناصر صلاح الدين

مات، والورثة يتضاربون على التركة، فقال: يا فعلة يا صنعة، بينكم وبين باب المسجد خطوات، وما فيكم من يخبر بما فيه على الحقيقة، من أين أعلم أنا أين يقف جبريل، وأين يقف ميكائيل والملائكة؟ فضحك الناس. وله فصول ومواعظ، ] (1) وكان يزعم أَنَّه قرأ المقامات على الحريري، [وقد سمع أبا الوقت وطبقته] (¬1)، وكان صدوقًا. السُّلطان الملك النَّاصر صلاح الدين (¬2) يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان، ويقال: إنَّ مروان من أولاد خُلفاء بني أمية. وقال ابنُ القادسي: كان شاذي مملوك بِهْرُوز الخادم. وهذه من هَنَات ابنِ القادسي، ما كان شاذي مملوكًا قط، ولا جرى على أحدٍ من بني أيوب رِقٌّ، وإنما شاذي خَدَمَ بِهْرُوز، فاستنابه في قلعة تكريت (¬3). ولد صلاح الدين بتكريت سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة، ونشأ في حجر أبيه أيوب، ورُبِّي في الدَّولة النُّورية، وولاه نور الدين دمشق، وخرج مع عمه أسد الدين إلى مِصْر، فملكها، [وقد ذكرنا ذلك] (1)، وكان شجاعًا سَمْحًا، مجاهدًا في سبيل الله، يجودُ بالمال قبل الوصول إليه ويحيل به، ومتى عَرَفَ وصول حِمْل وقَّع عليه بأضعافه، وما خيَّب أحدًا بالرد، وإن لم يكن عنده شيء لطف به كأنَّه غريم يستمهله (¬4)، وكان مغرمًا بالإنفاق في سبيل الله، وحُسِبَ ما أطلقه ووهبه مدَّة مُقامِه على عكا مرابطًا للفرنج من رجب سنة خمس وثمانين إلى يوم انفصاله عنها في شعبان سنة ثمان وثمانين، فكان اثني عشر ألف رأس من الخيل العِراب والأكاديش الجياد، للحاضرين معه في الجهاد، والقادمين عليه من البلاد، غير ما أطلقه من الأموال في أثمان الخيل المصابة في القتال. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وشهرته تحول دون ذكر مصادر ترجمته. (¬3) كذا قال، والصحيح أن نجم الدين أيوب بن شاذي؛ والد صلاح الدين هو الذي تولى قلعة تكريت لبهروز، انظر "كتاب الروضتين": 1/ 403 - 404. (¬4) "الفتح القسي": 629.

قال العماد: ولم يكن له فرسٌ يركبه إلا وهو موهوب، ولا جاءه قود إلا وهو مطلوب، وما كان يَلْبَس إلا ما يَحِلُّ لُبْسُه وتطيب به نَفْسُه، كالكَتَّان والقُطْن والصُّوف، ويخرج أثمان غالي كسوته في أثمان المعروف. ومجالسه مُنَزهة عن الهُزْء والهَزْل، ومحافِلُهُ [حافلة] (¬1) بأهل العِلْم والفَضْل، وما سُمِعَتْ منه قطُّ كلمةٌ تسقط، ولا لفظة تُسْخط، ويؤثر سماعَ الأحاديث بالأسانيد، ويتكلم عنده في العِلْم الشرعي المفيد، ويلين للمؤمنين، ويغلظ على الكافرين، ومَنْ جالسه لا يعلم أنَّه جليس السُّلْطان، بل يعتقد أنَّه أخٌ من الأخوان. وكان حليمًا مُقيلًا للعثرات، متجاوزًا عن الهَفَوات، تقيًّا نقيًّا، صفيًّا وليًّا، ما رَدَّ سائلًا، لا ولا صَدَّ نائلًا، ولا أخجل قائلًا، ولا خيَّبَ آملًا (¬2). [قال] (1): وشكا إليه أيوب بن كنان دَينًا، مبلغه اثنا عشر ألف دينار، فقضاه عنه. [قال] (1): وكَتَبَ إليه سيفُ الدولة ابنُ منقذ نائبه بمِصْر أَنَّ بعض الضّمَّان انكسر عليه مالٌ كثير، وربما وَصَلَ إلى الباب وتمحَّلَ. فلما كان بعد أيام وَصَلَ ذلك الرجل إلى الباب، وبلغ السُّلْطان، فأرسل إليه يقول: احذرْ أن تقعَ في عينِ ابن منقذ (2). قال العماد: ورأى معي يومًا دواة محلاة بفِضَّة، فأنكر عليّ وقال: ما هذا؟ فلم أكتب بها عنده بعدها (2). [قال] (1): وكان محافظًا على الصَّلوات في أوقاتها، مواظبًا على مفروضاتها ومسنوناتها، لا يصلِّي إلا في جماعة، ولا يؤخر صلاة من ساعة إلى ساعة، ولا يلتفت على قول منجِّم، وإذا عَزَم على أمرٍ توكَّل على الله الَّذي يؤخر ويقدِّم (2). وذكره القاضي ابنُ شدَّاد في "السيرة" وأثنى عليه، وحكى عنه العجائب، ولو سكت أثنت عليه الحقائب، فمن ذلك أَنَّه قال: كان حَسَنَ العقيدة، كثير الذكر لله تعالى، وإذا جاء وقتُ الصَّلاة وهو راكبٌ نزل فصلَّى، وما قطعها إلا في مرضه الَّذي توفي فيه ثلاثة أيام، اختلط ذهنه فيها، وكان قد قرأ عقيدة القُطْب النَّيسابوري، وعلَّمها أولاده الصِّغار لترسخ في أذهانهم من الصِّغَر، وكان يأخذها عليهم. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "الفتح القسي": 656 - 660.

وأما الزَّكاة، فإنَّه مات ولم تجب عليه قَطُّ، وأما صدقة النَّوافل فاستنفدت أمواله كلَّها، وكان يحبُّ سماعَ القرآن، ويتخيَّر إمامه، واجتاز يومًا على صبيٍّ صغير بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن، فاستحسن قراءته، فَوَقَفَ عليه وعلى أبيه مزرعة. [قال: ] (¬1) وكان شديدَ الحياء، خاشعَ الطَّرْف، رقيقَ القلب، سريعَ الدَّمعة، شديدَ الرَّغبة في سماع الحديث، وإذا بلغه عن شيخٍ رواية عالية، وكان ممن يحضر عنده استحضره، وسمع عليه، وأسمع أولاده ومماليكه، ويأمرهم بالقعود عند سماع الحديث إجلالًا له، وإن لم يكن ممن يحضر عنده، ولا يَطْرُقُ أبواب الملوك سعى إليه، [وسمع منه، وروى عنه، وتودد إليه، ومضى إلى الإسكندرية، وسمع الحديث الكثير من الحافظ السِّلَفي، ومن ابن عوف "الموطأ"، ] (1) وكان مُبْغضًا لكُتُبِ الفلاسفة وأرباب المنطق، ومن يعاند الشريعة، ولما بلغه عن السُّهْرَوَرْدي [ما بلغه أمر ولده الملك الظاهر بقتله (¬2). وكان محبًّا للعدل، يجلس له] (1) كل يوم اثنين وخميس في مجلسٍ عام، يحضُره القُضَاة والفقهاء، ويصل إليه الكبير والصَّغير، والشيخ والعجوز، وما استغاثَ إليه أحد إلا وأجابه، وكَشَفَ ظُلامته. واستغاثَ إليه ابنُ زهير الدِّمَشْقي على تقي الدين عمر، وقال: ما يحضر معي مجلس الحكم، فأمر تقي الدين بالحضور معه، [وكان أعز الناس عليه تقي الدين. قال: ] (1) ولقد ادَّعى رجل على السُّلْطان أَنَّ سُنْقُر الخِلاطي مملوكه ماتَ على ملكه. قال ابنُ شداد: فأخبرته، فأحضر الرجل، وتزحزح عن طرَّاحته، وساواه في الجلوس، فادَّعى الرجل، فرفع السُّلْطان رأسه إلى جماعةِ الأُمراء الشيوخ الأخيار، وهم وقوفٌ على رأسه، فقال: لمن تعرفون سُنْقُر الخِلاطي؟ قالوا: نشهد أَنَّه مملوكك، وأنه ماتَ على ملكك. ولم يكن للرجل بينة، فأُسْقِط في يده، فقلتُ: يا مولانا، رجل غريب، وقد جاء من خِلاط في طَمَع، ونَفِدَت نفقته، وما يحسن أن يرجع عن المولى خائبًا. فقال: يا قاضي، هذا إنما يكون على غير هذا الوجه. ووهب له خِلْعة، ونفقةً وبغلة، وأحسن إليه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) سلفت ترجمة السهروردي في ج 21/ 396 من هذا الكتاب.

قال: وفتح آمد، ووَهَبها لابنِ قرا رسلان، واجتمع عنده وفود بالقُدْس، ولم يكن عنده مال، فباع ضيعة من بيت المال، وفرَّق ثمنها فيهم. قال: وسألتُ ابن بيرزان يوم انعقاد الصُّلْح عن عِدَّة الفرنج الذين كانوا على عكا، وهو جالسٌ بين يدي السُّلْطان، فقال للترجمان: قل له: كانوا من خمس مئة ألف إلى ست مئة ألف، قتل منهم أكثر من مئة ألف، وغَرِقَ معظمهم. وكان يوم المصافّ يدور على الأطلاب، ويقول: هل أنا إلا واحدٌ منكم. وكان في الشتاء يُعطي العساكر دستورًا، وهو نازلٌ على مرج عكا، ويقيم طول الشتاء في حَلْقته في نفرٍ يسير. [قال: ] (1) وكان على الرَّمْلة، فجاءه كتابٌ بوفاةِ تقيِّ الدين، فقال [وقد] (1) خنقته العَبْرة: مات تقيُّ الدين، اكتموا خبره مخافة العدو. ولقد واجهه الجَنَاح على يافا بذلك الكلامِ القبيح، فما قال له كلمة، واستدعاه، فأيقن بالهلاك، وارْتَقَبَ النَّاس أن يضرب رقبته، فأطعمه فاكهةً جاءته من دمشق، وسقاه ماءً وثَلْجًا. [قال] (1): وكان للمسلمين لصوص يدخلون خيام الفرنج في اللَّيل ويسرقونهم، فسرقوا ليلةً صبيًّا رضيعًا، فباتت أُمه تبكي طول الليل، فقال لها الفرنج: إنَّ سُلْطانهم رحيمُ القلب، فاذهبي إليه. فجاءته وهو على تل الخَرُّوبة راكب، فعَفَّرت وَجْهها [في التراب] (1) وبكت، فسأل عنها، فأُخبر بقصتها، فَرَقَّ لها، ودَمِعَتْ عيناه، وتقدَّم إلى مقدَّم اللصوص بإحضارِ الطِّفْل، ولم يزل واقفًا حتَّى أحضروه، فلما رأته بكَتْ وشَهَقَتْ، وأخذته، فأرضعته ساعة، وضمَّته إليها، وأشارت إلى ناحية الفرنج، فأمر أن تحمل على فرسٍ، وتلحق بالفرنج، ففعلوا. قال: وكان حَسَنَ العِشْرة، طيِّبَ الخُلُق، حافظًا لأنساب العرب، عارفًا بخيولهم، طاهر اللِّسان والقلم، فما شَتَمَ أحدًا قَطُّ، ولا كَتَبَ بيده ما فيه أذى مسلم، وما حَضَرَ بين يديه [يتيم] (1) إلا وترحَّم على مخلِّفه، وجَبَرَ قلبه، وأعطاه ما يكفيه، فإن كان له كافلٌ وإلا كفَلَه، وسُرِقَ يومًا من خزانته ألفا دينار، وجعل في الكيسين [مكانهما] (¬1) فلوسًا، فما قال شيئًا (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) انظر "النوادر السلطانية": 6 - 33.

قال المصنِّف رحمه الله: وحكى لي المبارز سُنْقُر الحلبي رحمه الله، قال: كان الحُجَّاب يزدحمون على طَرَّاحته، فجاء سُنْقُر الخِلاطي ومعه قصص، فقدَّم إليه قصة، وكان السُّلْطان قد مدَّ يده اليمنى على الأرض ليستريح، فداسها سُنْقُر الخِلاطي ولم يعلم، وقال له: عَلِّمْ عليها. فلم يجبه، فكرَّر عليه القول، فقال: يا طواشي أُعلِّم بيدي أو برِجْلي. فنظر سُنْقُر، فرأى يد السُّلْطان تحت رِجْله، فخجل، وتعجَّب الحاضرون من هذا الحِلْم. ثم قال السلطان: هاتِ القِصَّة، فعلم عليها. وما زال السُّلْطان على هذه الأخلاق طول زمانه، حتَّى توفاه الله إلى مقرِّ رحمته ورِضْوانه. ذِكرُ وفاته: لما كان سادس عشر صَفَر وَجَدَ كسلًا، وحُمَّ حُمَّى صفراوية، وكان قد ركب، فالتقى الحاج، وبكى وتأسَّف حيث لم يكن معهم، وأصبح يوم السبت والحُمَّى بحالها، وتزايد به المرض حتَّى ضَعُفَ، وأجمع الأطباء على أنَّه لا يفصد، فخالفهم الرَّحْبي الطبيب، وفصده، فكان سببَ وفاته، وحُجِبَ عن الرِّجال وتولَّاه النساء، وأحضر الأفضل الأمراء: سَعْد الدِّين مسعود أخو بدر الدين مودود شِحْنة دمشق، وناصر الدين صاحب صهيون، وسابق الدين عثمان صاحب شَيزَر بن الدَّاية، وميمون القَصْري، واليكي الفارس، وأيبك فطيس، وحسام الدين بشارة، وسامة الجيلي وغيرهم، فاستحلفهم لنفسه، وكان عند السُّلْطان أبو جعفر إمام الكلاسة يقرأ القرآن، فلما انتهى إلى قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إلا هُوَ عَالِمُ الْغَيبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] وكان قد غاب ذِهْنه، ففتح عينيه، وقال: صحيح. وكانت وفاته يوم الأربعاء بعد صلاة الفجر، في السَّابع والعشرين من صفر، وغسله الخطيب الدَّوْلعي، وصلَّى عليه القاضي محيي الدين بن الزكي، وبعث له القاضي الفاضل الأكفان والحَنُوط من أَحلِّ الجهات، ودفن بدار البُسْتان موضع جلوسه. قال ابن القادسي: ودُفِنَ معه سيفه. وقال الفاضل: هذا يتوكأ عليه في الجَنَّة. وهو وهم من ابنِ القادسي، [لأنَّ سيفه بعث به ولده الأفضل إلى بغداد، وسنذكره] (¬1) وعمل الأفضل له العزاء ثلاثة أيام، وحَزِنَ النَّاس عليه حُزْنًا لم يحزن على قبله مثله. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وقال العماد: دخلنا عليه ليلة الأحد للعيادة، ومرضه في زيادة، وفي كلِّ يوم تضعف القلوب، وتتضاعف الكروب، ثم انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء سُحْرة يوم الأربعاء، ومات بموته رجاءُ الرِّجال، وأغرب بغروب شَمْسه فضاءُ الإفضال، ودُفِنَ بقلعة دمشق في مسكنه، ودفن جِماعُ الكرم والفَضْل في مدفنه، ورثاه الشعراء، [(¬1) وبكاه الفصحاء، فمن ذلك قصيدة ذكرها العماد في "البرق الشامي"، عددها مئتان وعشرون بيتًا، ذكرت هاهنا غُررها، وسطرت دررها، وذكرت منها ما حَسُنَ ذكره، وأهملت ما سمج هذره، وأولها: ] [من الكامل] شَمْلُ الهدى والمُلْكِ عَمَّ شتاتُهُ ... والدَّهْرُ ساءَ وأَقْلَعَتْ حسناتُهُ [ومنها] (¬2): بالله أين النَّاصِرُ الملك الَّذي ... لله خالصةً صَفَتْ نِيَّاتُهُ أين الَّذي مُذْ لم تَزَلْ مَخْشِيَّةً ... مَرْجُوَّةً هَبَّاتُهُ وَهِبَاتُهُ أين الَّذي كانت له طاعاتنا ... مبذولةً ولرَبِّهِ طاعاتُهُ أين الَّذي ما زال سُلْطانًا لنا ... يُرْجى نَدَاه وتُتَّقى سَطَواتُهُ أين الَّذي شَرُفَ الزَّمان بفَضْله ... وسَمَتْ على الفُضَلاءِ تَشْريفاتُهُ لا تَحْسَبُوه ماتَ شَخْصٌ واحدٌ ... قد عَمَّ كلَّ العالمين مماتُهُ مَلِكٌ عن الإسلام كان محاميًا ... أبدًا لماذا أَسْلَمَتْهُ حُماتُهُ قد أظلمت مُذْ غاب عنَّا دُورُه ... لما خَلَتْ من بَدْره داراتُهُ دُفِنَ السَّماحُ فليس تُنْشَرُ بعدما ... أَوْدَى إلى يوم النُّشور رُفاتُهُ الدِّينُ بعد أبي المُظَفَّر يوسُفٍ ... أَقْوَتْ قُواه وأَقْفَرَتْ ساحاتُهُ بحرٌ خلا من وارديه ولم تَزَلْ ... محفوفةً بوروده حافَاتُهُ مَنْ لليتامى والأرامل راحِمٌ ... متعطِّفٌ مفضوضةٌ صدقاتُهُ لو كان في عَصْرِ النَّبيِّ لأُنْزِلَتْ ... من ذِكْرِهِ في ذِكْرِهِ آياتُهُ بَكَتِ الصَّوارِمُ والصَّواهِلُ إذ خَلَتْ ... من سَلِّها وركوبها عَزَماتُهُ ¬

_ (¬1) في (ح): ورثاه الشعراء، فمن قصيدة، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[(¬1) يا وحشة الإسلام يوم تمكَّنت ... في كل قلبٍ مؤمن روعاتُهُ ما كان أسرعَ عَصْرَه لما انقضى ... فكأنما سنواتُهُ ساعاتُهُ يا راعيًا للدين حين تمكنَّتْ ... منه الذئاب وأسلمتْهُ رُعاتُهُ ما كان ضرك لو أقمت مراعيًا ... دينًا تولى مذ رحلت وُلاتُهُ فارقتَ مُلْكًا غير باقٍ مُتْعبًا ... ووصَلْتَ مُلْكًا باقيًا راحاتُهُ فعلى صلاح الدين يوسفَ دائمًا ... رضوانُ رَبِّ العرش بل صلواتُهُ وكتب الفاضل إلى الظاهر -وهو بحلب -كتاب التعزية، يقول فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الآية، كتبت إلى الملك الظاهر، أحسن الله عزاءه في مصابه، وجعل الخلف فيه لمماليك المرحوم وأصحابه، والدموع قد حفرت النواظر، والقلوب قد بلغت الحناجر، وإني ودَّعت أباك مخدومي وداعًا لا نلتقي بعده، وأسلمته إلى الله طالبًا فضله ورِفْده، ولم تدفع عنه جنوده المجندة القضاء، ولا ردَّت عنه أسلحته والخزائن البلاء، فالعين تدمع، والقلب يخشع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا يوسف لمحزونون. وفي آخر الكتاب: فإن اتفقتم ما عدمتم إلا شخصه، وإن اختلفتم، فإن المصائب المستقبلة هولها عظيم. قلت: وقد فات الفاضل شيئان، أحدهما عند قوله: ودعته وداعًا لا نلتقي بعده، وكان الأَوْلى أن يقول: إلا في جنات النعيم. والثاني عند قوله: هولها عظيم، كان ينبغي أن يقول: ذلك تقدير العزيز العليم. ذكر ما خلف من المال، واختلفوا فيه: ذكر القاضي ابن شداد في سيرة السلطان، وقال: توفي ولم يخلف سوى سبعة وأربعين درهمًا ناصرية، وجرمًا واحدًا صوريًّا ذهبًا، ولم يخلف دارًا ولا عقارًا، ولا ضيعة ولا بستانًا ولا مسقفًا ولا غيره (¬2). ¬

_ (¬1) في (ح) سقط، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) "النوادر السلطانية": 8.

وقال العماد الكاتب: لم يخلف في خزانته سوى ستة وثلاثين درهمًا، ودينارًا واحدًا ذهبًا- ذكر بمعنى ما ذكر ابن شداد. ذِكْرُ فتوحاته: أول ما فتح الدِّيار المِصْرية، والحجاز، ومكة والمدينة، واليمن من زبيد إلى حضرموت متصلًا إلى الهند، وفي الشام: دمشق وبعلبك وحمص وبانياس وحماة وحلب وأعمالها، ومن حصون الساحل وبلاد القدس وغزة والداروم وتل الصافية وعسقلان ويافا وقيسارية وحيفا وعكا وطبرية والشقيف وصفد، وكوكب والكرك والشوبك، ونابلس وصيدا وبيروت وجُبيل، وجبلة واللاذقية وبكاس وصهيون، وبلاطنس وحصن بُرْزَيه، وقد ذكرنا تلك الحصون، ومن الشرق: حران والرها والرقة ورأس عين وسنجار ونصيبين وحملين والموزَّر وسروج وديار بكر وميافارقين، وآمد وحصونها، وشهرزور والبوازيج. وخطب له على المنابر من باب همذان إلى الفرات، ومن الفرات إلى حضرموت، ومن الغرب إفريقية، ويقال: إنه فتح ستين حصنًا، وزاد على نور الدين بمصر والحجاز والمغرب واليمن والقدس والساحل وبلاد الفرنج ودياربكر، ولو عاش لفتح الدنيا شرقًا وغربًا، وبُعْدًا وقربًا. وكان مبدأ فتوحه مصر بهمة نور الدين وأمواله وعساكره ورجاله، وبينهما مقاربة في السيرة والعدل والأيام، واجتناب الآثام، وكلاهما لم يبلغ ستين سنة، وكم حصَّلا من فضيلة ومثوبة وحسنة، وقد ذكرنا أن نور الدين ولد في سنة إحدى عشرة وخمس مئة، وتوفي سنة تسع وستين وخمس مئة، وصلاح الدين ولد سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة، وتوفي سنة تسع وثمانين وخمس مئة، وقد ذكرنا ذلك. ذِكْرُ أولاده: وكانوا ستة عشر ذكرًا وابنة واحدة، كان أكبر أولاده الأفضل علي، ولد بمصر سنة خمس وستين وخمس مئة يوم عيد الفطر، وأخوه لأبيه وأمه خضر الملقب بالظافر، ولد بمصر في سنة ثمان وستين وخمس مئة، وأخوهما لأبيهما وأمهما موسى، ويلقب قطب الدين، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة. وعثمان الملك العزيز، ولد بمصر سنة سبع وستين وخمس مئة، وأخوه لأبيه وأمه يعقوب الأعز، ولد بمصر سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة. وغازي الملك الظاهر، ولد بمصر سنة ثمان وستين وخمس مئة، وأخوه لأبيه

وأمه الزاهر داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة، والمعز إسحاق، ولد سنة سبعين وخمس مئة، والمؤيد واسمه مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين وخمس مئة. والأشرف محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين وخمس مئة، وأخوه لأبيه وأمه المحسن ولقبه الجواد (¬1)، ولد سنة ثمان وسبعين وخمس مئة. وتورانشاه ولقبه المُعَظَّم، ولد بمصر سنة سبع وسبعين وخمس مئة، وأخوه لأبيه وأمه ملك شاه ويلقب بالغالب، ولد بالشام سنة ثمان وسبعين وخمس مئة، وأخوهما لأبيهما وأمهما أبو بكر ويلقب بالنصرة، ولد بحران بعد وفاة أبيه في سنة تسع وثمانين وخمس مئة. أما البنت فاسمها مؤنسة خاتون، تزوجها الكامل محمد بن العادل، وماتت عنده، وكان لصلاح الدين ولد اسمه إسماعيل، مات في حياة أبيه. ذِكْرُ قضاته ووزرائه وكُتَّابه: القاضي كمال الدين بن الشهرزوري، وشرف الدين ابن أبي عصرون] (¬2)، وولده أبو حامد، ومحيي الدين بن زكي الدين، ووزيره صفي الدين بن القابض، وكاتبه الفاضل، والعماد، وكان الفاضل حاكمًا على الجميع، وهو المشار إليه بالسيف والقلم، لا يصدر السلطان إلا عن رأيه، [ولا يمضي في الأمور إلا بمضائه] (¬3). ذِكْرُ ما تجدَّد بعد وفاته: كان [أخوه] (3) العادل [سيف الدين] (3) لما توفي بالكَرَك، فقدم دمشق معزِّيًا للأفضل، فأقام أيامًا، ثم رحل إلى الجزيرة، وحَرَّان والرُّها وسُمَيساط والرَّقَّة، وقلعة جَعْبر، وميَّافارِقِين ودياربكر، وهي البلاد التي أعطاه إياها السُّلْطان، وكان له بالشَّام الكرك والشَّوْبك، وبعث الأفضل القاضي ضياء الدين بن الشَّهْرُزُوري رسولًا إلى الخليفة [ومعه] (3) زرَدية السُّلْطان وسيفه وحصانه وكَزَاغَنْده، ودبُّوسه، وتُحَفًا كثيرة، [وعابَ النَّاس عليه حيث بعث بعُدَّة السلطان إلى بغداد، ] (3) وكَتَبَ كتابًا [على يد ابن الشَّهْرُزوري، ] (3) منه: أصدر ¬

_ (¬1) الجواد هو لقب أيوب ركن الدين، ولد سنة (578 هـ)، وقد فاته ذكره، وهو يتمم عدة أولاده ستة عشر ذكرًا، أما المحسن، فلقبه ظهير الدين، وانظر تتمة أولاد صلاح الدين في "كتاب الروضتين": 2/ 476 - 478. (¬2) انظر حاشيتنا رقم 1 ص 24. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

العبد خدمته [هذه] (¬1)، وصَدْرُه معمورٌ بالولاء، وقلبه مغمور بالصَّفاء، ويده مرفوعة إلى السَّماء، للابتهال إلى الله بالدُّعاء، ولسانه ناطِقٌ بشكر النَّعْماء، وحياته بين الخوف والرَّجاء، وطرفه مغضٍ من الحياء، وقد أحاطت العلوم الشَّريفة أَنَّ الخادم والده أيام حياته كان باذلًا نفسه لله تعالى، والبيت المقدس من فتوحاته، وأنه مَلَكَ ملوك الشِّرْك، وغلَّ أعناقها، وأَسَرَ طواغيت الكُفْر وشدَّ خِناقها، وجَمَعَ كلمةَ الإيمان وعَصَمَ جَنَابها، وقمع عبدةَ الصُّلْبان وقَصَمَ أصلابها، وسدَّ الثغور، وسدَّد الأمور، وما فارق الدُّنيا إلا وهو ملازمٌ الخِدْمة الإمامية، والنَّبْعة النَّبوية، وتحت أحكامها داخل، وبمتجرها الرَّابح إلى دار الإقامة راحل، وإنْ كان قد مضى الوالد على طاعة إمامه، فأولاده وإخوته قائمون في مقامه. وذكر فصولًا في طلب التَّقليد. وبعث الظَّاهر القاضي ابنَ شَدَّاد بكتابٍ يسأل تقريره على حلب وأعمالها، فقيل لابن الشَّهْرُزُوري وابنِ شَدَّاد: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] فرجعا بالوَعْد لا بالنقد. وأما العادل، فإنَّ المشارقة ثاروا عليه، واستشار عِزُّ الدين صاحبُ الموصل أصحابَه، فأشار عليه المجد ابن الأثير بالخروج، وأشار عليه مجاهد الدين قيماز بالقيام لتظهر حقائق الأمور، ويراسل جيرانه ابن زين الدين صاحب إرْبل، وسنجرشاه صاحب الجزيرة، وعماد الدين صاحب سِنْجار، فراسلهم، فلم يجبه منهم أحدٌ إلا أخوه عماد الدين صاحب سِنْجار، وخَرَجَ عِزُّ الدين من المَوْصل، واجتمعا على نَصِيبين [ليأخذا بلاد الجزيرة] (1)، وكان العادل على حَرَّان، فاستنجد بأولاد أخيه، فجاءته عساكرُ الشَّام ومِصْر، ومَرِضَ عِزُّ الدين على نَصِيبين بالإسهال، وتقدَّم [إلى] (¬2) دُنَيْسر، وبَعَثَ إلى العادل يسأله الصُّلْح على أن يكون العادل نائبه في البلاد، فأبى العادل، وقوي الإسهال بعز الدين، فرجع إلى المَوْصل، فتوفي في شعبان، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق.

وكان بَكْتَمُر صاحب خِلاط قد شَمِتَ بموتِ السُّلْطان، وتسمَّى بالملك النَّاصر، وعَزَمَ على أَخْذِ الجزيرة والشَّام، فَقُتِلَ في جُمادى [الأولى] (¬1) لما ذكرناه. وجاء العادل إلى مارِدِين، وعَزَمَ على حِصارها، فصالحه صاحِبُها، فعاد إلى حَرَّان، وجاءته الرُّسُل من خِلاط يطلبونه، فنزل الثَّلْج، فمنعه من ذلك، وعادتِ العساكر إلى مراكزها. وقدم شمسُ الملوك ابنُ سيف الإسلام من اليمن إلى دمشق، فأقام عند الأفضل. وكان الأفضل قد استوزر ضياءَ الدين الجَزَري، فأساء السِّيرة، وشغب قلوب الجند والأعيان على الأفضل، فسار سامة الجِيلي والفاضل وابن أبي عَصْرون والأعيان إلى مِصْر، فالتقاهم العزيز وأكرمهم، وكان معهم مُعْظم الصَّلاحية، فغار منهم الأكراد، فخرج منهم جماعةٌ إلى الأفضل، فالتقاهم وأكرمهم، واشتغل الأفضل بلهوه، وكان القُدْس في يده، فَعَجَزَ عثه، فسلَّمه إلى نواب العزيز، فبان للنَّاس عَجْزُ الأفضل، ومضى الظَّافر إلى العادل، فأعطاه الرَّقَّة، فأقام بها، وشرعت الوَحْشة فيما بين العزيز والأَفْضل، وبلغ الفرنج، فطمعوا، وحاصروا جُبيل، وكان بها جماعةٌ من الأكراد، فباعوها للفرنج، وبَرَزَ العزيز من مِصْر إلى البركة يريد قتال الفرنج ظاهرًا، وأَخْذَ دمشق باطنًا، وعَلِمَ الأفضل، فكَتَبَ إلى عمه العادل والمشارقة، فأجابوه إلى ما يريد، وجاء العزيزُ، فنزل بظاهر دمشق، وسار العادل بعساكر الشَّرْق، فلما قَرُبَ من دمشق، وكان العزيز قد نزل بعقبة شحورا، وجاء العادل فنزل بمرج عَذْراء، فأرسل إليه العزيز يقول: أريد أن نجتمع، فاجتمعا على ظهر خيولهما وتفاوضا، فقال له العادل: لا تخرب البيت، وتدخل عليه الآفة، والعدو وراءنا من كلِّ جانب، وقد أخذوا جُبَيل، وسيأخذوا الباقي إنِ اختلفتم، فارجعْ إلى مِصْر، واحْفظ عَهْدَ أبيك، وأيضًا فلا تكسر حرمة دمشق، ويطمع فيها كلُّ أحد. وعاد العادل عنه إلى دمشق، وأقام العزيز في منزلته، وقدمتِ العساكرُ على الأفضل، وبَعَثَ إليه العادل: ارحل إلى مرج الصُّفَّر، فرحل وهو مريض، وكان قَصْدُ العادل أَنْ يُبْعِدَه عن البلد لتصلَ العساكر، فوصل الظَّاهر من حلب، والمنصور من حماة، وشيركوه من حمص، والأمجد من بَعْلَبَكَّ في ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

نجدة الأفضل، فقال لهم العادل: قد تقرَّر أنَّه يرحل إلى مِصْر، ويقع الاتفاق، وتعود الأمور إلى ما كانت عليه. واشتدَّ مرض العزيز، ولولا مرضُه لما صالح، فأرسل العزيز كبراءَ دولته فخر الدين شركس وغيره، فحلَّف الملوكَ، وطلب مصاهرة العادل، فزوَّجه ابنته خاتون، ورَجَعَ كلُّ واحدٍ إلى بلده، وذلك في شعبان. وقال العماد: خَرَجَ الملوك لتوديع الملك العزيز إلى مرج الصُّفَّر واحدًا بعد واحد، خرج الطاهر أولًا، فبات عند العزيز ليلةً وعاد، وخرج الأفضل إليه، فقام له، واعتنقا وبكيا، وأقام عنده يومًا، وكان قد فارقه منذ تسع سنين، فلما عاد كتب إلى العزيز من إنشائه: [من الوافر] نظرتُك نظرةً من بعد تِسْعٍ ... تقضَّتْ بالتَّفَرُّقِ مِنْ سنينِ وغَضَّ الدَّهْر عنها طَرْفَ غَدْرٍ ... مسافةَ قُرْبِ طَرْفٍ من جبينِ فَوَيحَ الدَّهْرِ لم يَسْمَحْ بوَصْلٍ ... يعودُ به الهجوعُ إلى الجفونِ فلا تُبْدي جيوشَ القُرْبِ حتَّى ... يُرَتَبَ جيشَ بُعْدٍ في الكَمِينِ ولا يُدْني محلِّي منك إلا ... إذا دارَتْ رحى الحَرْبِ الزَّبُونِ فليتَ الدَّهْرَ يَسْمَحُ لي بأُخرى ... ولو أمضى بها حُكْمَ المَنُونِ ولما انفصلتِ العساكر عن دمشق شرع الأفضل في اللَّهْو واللَّعب، واحتجبَ عن الرَّعية، فسمِّي الملك النَّوَّام، وفوَّضَ الأُمور إلى وزيره الجَزَري، وحاجبه الجمال محاسن ابن العجمي، فأفسدا عليه الأحوال، وكانا سببًا لزوال دولته، واستبدلا بكبراء الأُمراء والأجناد أراذل الناس، [ففسدت أمور العباد] (¬1). وكان الظَّاهر لما وَصَلَ العزيز إل دمشق قَبَضَ على دُلْدُرم بن ياروق وأهله، وحبسهم في القلعة، وأراد كحلهم، فاشتغل، فلما عاد [العادل إلى] (¬2) حلب بعد يومين، وطَلَعَ القلعة، وبات بها، وسأل في دُلْدُرم، فما أمكنه مخالفته، فأطلقه، ولما نَزَلَ العادل من القلعة ندم الظَّاهر حيث لم يمسك عمه، وأفضى بسِره إلى القاضي ابنِ شدَّاد، فقال له: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق.

السنة التسعون وخمس مئة

اشكرِ الله تعالى حيث لم تؤهَّل لهذا، فإنَّ الرجل أولاده ملوك، وما كان يحصل لك إلا اللعان والسُّبَّة والغَدْر بمن وثق إليك. السنة التسعون وخمس مئة فيها زادت دِجْلة، ووصل الماءُ إلى سور بغداد العتيق الغربي الَّذي بناه المنصور، فأبان الماءُ عن تلٍّ قريب السُّور، وفي التَّلِّ مَيتٌ وقد بلي، وعظامه مسداة (¬1)، وهو مسمَّر بمسامير الحديد، وعليه ضبات من الحديد، وفي وجهه ضبة فيها مِسْمارٌ كبير، وآخر في سُرَّته، وكان هائل العِظام. قال ابنُ القادسي: وفيها أهدر الخليفةُ الطيور العتق، وأمر بذبحها ومحو أثرها، وعَمَدَ إلى فراخٍ ذبح آباءها وأمهاتها، واستفرخ الأولاد، وأرسلها إلى المشاهد لتطير إلى بغداد، وفوَّض أمرها إلى قاضي القُضاة ابن البخاري ويوسف العقاب مقدَّم الفِتْيان، وجعلها اثني عشر صنفًا باسم الأئمة الاثني عشر، ثم سمَّاها فقال: العلويات والحسنيات والحسينيات والمحمديات [والكاظميات والهاشميات والباقريات والعبدويات والزيديات] (¬2) والمهديات والصَّادقيات والعابديات، وأرسلها إلى المشاهد، فطارت منها إلى بغداد. [قال القادسي] (2): وحكى [لي] (2) عمر بن كُلَيب التَّاجر قال: نزلنا في بلاد الرُّوم تحت شجرة عليها ورق أخضر وزهر أصفر، فأخذ بعضُنا يصفق وينشد: [من السريع] يا نازلًا بالبَلَدِ البَلْقعِ ... ويا ديارَ الظَّاعنين اسمعي ما هي بأطلالٍ ولكنَّها ... رسومُ أحبابي فنوحي معي [قال] (2): فلم يزل يردِّدُها حتَّى ألقت الشجرة ورقها بأسره. وفيها قَدِمَ ابنُ القَصَّاب الوزير من العجم، وخَلَعَ عليه الخليفةُ، وأمر أربابَ الدَّوْلة أن يمشوا بين يديه، منهم ابنُ يونس أستاذ الدَّار، وكان وزيرًا قبل هذا، فامتنع [ابن يونس من المشي بين يديه] (2)، فقال ابنُ القَصَّاب: هذا ظاهَرَ الخوارجَ على الخليفة، ¬

_ (¬1) كذا في (ح)، ولم أتبين معناها. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وكَسَرَ عسكره بحماقته، وشنَّع على الخليفة بأنَّه مات، وكَتَبَ محضرًا بذلك، وأثبته على القضاة، وعَرَضَه على الخليفة، فأمر بالقَبْض على ابن يونس، وأُهين، وأُخذ أخذة شنيعة، وقيد ورُمي تحت التَّاج، فكان آخرَ العهد به. [ذكر محنة جدِّي رحمه الله: لما قُبِض ابن يونس تتبع ابن القصَّاب] (¬1) أصحابَه، فقال له الركن عبد السَّلام: أين أنتَ من ابن الجوزي؟ هو كان من أكابر أصحاب ابنِ يونس، وأعطاه مدرسةَ جدِّي، وأحرق كتبي بمشورته، وهو ناصبي من أولاد أبي بكر. وكان ابن القصاب متشيِّعًا، فكتب إلى الخليفة، وساعده جماعةٌ من أهل مذهبه، ولبَّسوا على الخليفة، فأمر بتسليمه إلى عبد السَّلام. قال المصنف رحمه الله: وكان جدِّي يسكن بباب الأَزَج في دار بنفشا، وكان الزَّمان صيفًا، وهو جالس في السِّرْداب يكتب، وأنا صبيٌّ صغير، [وجرى عليهم ما لم يجر على أقل الناس] (2)، وإذا بعبد السَّلام قد هَجَمَ عليه السرداب، وأسمعه غليظ الكلام، وخَتَمَ على كتبه وداره وشتَّت عياله، فلما كان [في] (¬2) أول الليل حملوا جدِّي إلى سفينة، فأنزلوه فيها، ونَزَلَ معه عبد السَّلام لا غير، وعلى جدِّي غِلالة بغير سراويل، وعلى رأسه تخفيفة، وحدروه إلى واسط، واستوفى منه الكلام، وجدِّي لا يجيبه، وبلغني أَنَّ جدي أقام خمسة أيام ما أكل طعامًا إلى واسط، وسيق عبد السلام إلى واسط، وكان ناظرها العماد ابن مينا، وكان متشيعًا، فقال له الركن: حَرَسَ الله أيامك، مكِّنِّي من عدوي لأرميه في المطمورة، فَعَزَّ عليه وَزَبَره، وقال: يا زنديق، أرمي ابن الجوزي في المطمورة بقولك، هاتِ خط الخليفة! والله لو كان من أهل مذهبي لبذلت روحي ومالي في خِدْمته. فعاد عبد السَّلام إلى بغداد، وأقام جدِّي في دار بدرب الدِّيوان، وعلى بابه بوابٌ لا غير، وكان قد قارَبَ ثمانين سنة، فكان يخدم نفسه؛ يغسل ثوبه، ويطبخ، ويستقي الماء من البئر، ولم يدخلِ الحمَّام مدَّة خمس سنين مقامه بواسط، ولما عاد إلى بغداد سمعته ¬

_ (¬1) في (ح): وتتبع ابن القصّاب أصحابه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

يقول: قرأتُ بواسط مدَّة مقامي كل يوم ختمة ما قرأتُ فيها سورة يوسف من حُزْني على ولدي يوسف، وكتب إلى بغداد أشعارًا كثيرة. [منها هذه الأبيات: [من الطويل] أحبَّة قلبي لو يُباع رجوعُكُمْ ... علينا لكُنَّا بالنفوس فديناكُمْ فلا تحسبوا أني نسيتُ ودادكم ... وإني وإن طال المدى لستُ أنساكُمْ وأسأل أنفاسَ الرِّياح لأنها ... تمرُّ على أطلالكُمْ وتلقاكمْ قضى الله بالتفريق بيني وبينكم ... فيا ليتنا من أجله ما عرفناكمْ ومن كان وكان: لما تزايد وجدي فيكم وقل تصبري ... وعَزَّ فيكم عزائي وقلت الحركات يا حاضرين بقلبي يا غائبين عن النظر ... يا ساكنين فؤادي أطلتم الحسرات متى يجيء مبشر من عندكم بقدومكم ... ويفرحون أصدقائي وأكمد الشمات متى تدق طبول الهنا على أبواب الرجا ... وقول للعين قري قد رد ما قد مات متى يقولوا قد جو وأخرج بسرعة للقا ... وأقول يا أحبائي أطلتم الغيبات وإن قضى لي ربي أموت ولا أنظر شخصكم ... وجاء نذيري إليكم يقل لكم قد مات فحدثوا بحفظ الوفا على رأس الملا ... إني على العهد باق حتَّى يجي الميقات ومن المواليا: ما لي وما لي وما لي ... تغيرت أحوالي لقيت ما لا يكيف ... ولا يدور ببالي يا بيت عبد القادر ... كنتم ببختي في القضا ما مثلهم يحسدني ... ولا هم أمثالي هم هم في نفسي ... وضيقوا في حبسي ومزقوا كتب درسي ... عمدًا وهم رأسَ مالي مئة ألف عندي ... يبكون مما قد جرى ثلاث مئة مصنف ... ما لاكها الغزالي لو أن مسلم يرفع ... إلى الإمام لوقع

من حين ما كان يسمع ... بقصتي قد رثى لي من أبيات] (¬1). واختلف النّاس في [كيفية محنة جدي، والظاهر أنها بسبب] (¬2) ابن يونس [وما فعل ببيت عبد القادر] (1)، وأهل بغداد يقولون شيئًا آخر، والله أعلم. وفيها عاد الاختلاف بين العزيز والأفضل، وسببه إغراء الجُنْد والوسائط، وكان أكثر المحرِّضين للعزيز على الأفضل سامة، قال له: إنَّ الله يسألك عن الرعية، هذا الرجل قد غرق في لهوه وشُرْبه، واستولى عليه الجَزَري وابن العجمي. وقال له ابن أبي عَصْرون: لا نسلم يوم القيامة -وكان العزيز قد ولاه القضاء على مصر سنة تسعين، فأقام قاضيًا عليها حتَّى عزله العادل- وبلغ الأفضل قول سامة وابن أبي عصرون، فأقلع عما كان عليه وتاب، وندم على تفريطه، وعاشَرَ العلماء والصُّلحاء، وشَرَعَ يكتب مُصْحفًا بخطِّه، وكان خطُّه مليحًا. ونزل العزيز لقصده، فسار الأفضل إلى عمه العادل يستنجد به، فالتقاه على صِفِّين، فسار معه بعساكر الشَّرْق إلى دمشق، وجاء الأفضل إلى حلب، واتَّفق مع أخيه الظَّاهر وتحالفا، وجاء إلى حماة وحمص، ففعل كذلك، وجاء إلى دمشق، وكان العادل يشير عليه بعَزْل الجَزَري عن الوزَارة ويقول: هذا يخرِّب بيتك. ولا يلتفت إليه، فحَنِقَ عليه، وكان الظَّاهر يشاقق ابنَ تقي الدين صاحب حماة، وعز الدين ابن المقدَّم صاحب بارين، ودُلْدُرم صاحب تل باشر، فكَتَبَ الظَّاهر إلى العادل في تسليم تل باشر إليه، وأن يكون صاحب حماة وابن المقدَّم مضافين إليه، فلم يجبه، فغضب الظَّاهر، وانفرد عنهم، وكتب إلى العزيز يخبره أَنَّه معه، ويستحثُّه على القدوم إلى دمشق، فجاء العزيز مسرعًا، فنزل الفَوَّار آخر شهر رمضان، وعَلِمَ العادل أَنَّه لا طاقة له بالظَّاهر والعزيز، فراسل الأَسدية، وأوعدهم بالأموال والإقطاعات، وكان العزيز قد قدَّم الصَّلاحية، ورفعهم فوقهم، فحنقوا عليهم، وتمكَّنتِ العداوة بينهم، فدسَّ إليهم العادل الأموال والهدايا والتُحف السنية، وكان مقدَّم الأكراد أبو الهيجاء السَّمين، وكان العزيز قد عَزَله عن ولاية القُدْس، ومقدَّم الأسدية سيف الدين أزكش، وقد كان العزيز قَصَّر في حقِّه، فركب أبو ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): واختلف الناس في سبب محنته، والظاهر ابن يونس وأهل بغداد، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الهيجاء وأزكش في الليل، وقصدا دمشق، فأصبح العزيز، فلم يَرَ في الخيام من الأسدية أحدًا، فرجع إلى مِصْر، وشرع أزكش وأبو الهيجاء والأسدية يحرِّضون العادل على مِصْر، وكانت الأسدية والأكراد يكرهون العادل، وإنما دَعَتْهم الضَّرورة إليه، وهي مباينتهم للعزيز، واتَّفق العادل والأفضل، وتحالفا، وساروا خلف العزيز إلى مِصْر، فلما وصلوا القُدْس، ولّوا أبا الهيجاء كما كان، وعزلوا جُرْديك عنها، وساروا فنزلوا بِلْبيس، وبها جماعة من الصَّلاحية، فتوقَّف العادل عن القتال، ولمَ انتزاعُ مِصْر من يد العزيز! فظهرت منه قرائن أحوال تدلُّ على أَنَّه لا يُؤْثر السَّلْطنة للأفضل، ولا يرى تقدمته عليه، فأرسل إلى العزيز يطلب القاضي الفاضل، وكان قد اعتزلهم، وانقطع إلى داره، فارسل إليه العزيز يسأله، فامتنع، فتضرَّع إليه، وأقسم عليه، فخرج إلى العادل، فاحترمه وأكرمه، وتحدَّث معه بما قرَّره، وعاد الفاضل إلى العزيز، وتحدَّث معه، فأرسل العزيز ولديه الصّغيرين مع خادبم له برسالةٍ ظاهرة، مضمونها: لا تقاتلوا المُسْلمين، ولا تسفكوا دماءهم، قد نفَّذتُ ولديَّ هذين يكونان تحت كفالة عمي العادل، وأنا أترك لكم البلاد، وأمضي إلى الغرب. وكان ذلك بمشهدٍ من الأمراء، فَرَقَّ العادل وبكى، وبكى مَنْ حضر، وقال العادل: معاذ الله، ما وَصَلَ الأمر إلى هذا الحد. وقال للخادم: تقول للسُّلْطان عني (¬1): البلاد بلادُك، وأنتَ السُّلْطان، ونحن رعيتك. وكان قد قرَّر مع الفاضل رَدَّ خبز الأسدية وإقطاعهم وأملاكهم، وأن يبقى أبا الهيجاء على ولاية القُدْس، وقال للأفضل: المصلحة أن تمضي إلى أخيك وتصالحه، وما عُذْرنا عند الله وعند النَّاس إن فعلنا بابنِ أخينا ما لا يليق. ففهم الأفضل أَنَّ العادل رجع عن يمينه، وما اتَّفقا عليه، وأَنَّه قد اتَّفق مع العزيز على أَخْذِ البلاد منه، لكنه لم يمكنه الكلام، فمضى إلى العزيز. فلما بلغه وصوله إلى دمشق في ذي الحِجَّة، ودخل العزيز والعادل والأسدية إلى القاهرة يوم الخميس رابع ذي الحجة، وسَلْطَن العادلُ العزيزَ، ومشى بين يديه بالغاشية، ولو أراد العادل مِصْر لأخذها، وإنما قَصَدَ الإصلاح بين الأخوة، فلما بدا من الأفضل في حَقِّه ما بدا، وأراد قتله ألجأه إلى ما ألجأه إليه. ¬

_ (¬1) في (ح): وقال الخادم للسلطان عني تقول، وهي عبارة مضطربة، أعدتها إلى حاق تركيبها.

وقال العماد: لما كان العزيز نازلًا على الفَوَّار رحل أبو الهيجاء والأسدية عشية الاثنين رابع شوَّال، وكانوا أكثر العسكر، وأُخبر العزيز بهم، فما بالى بانصرافهم، وقال: صفونا من أكدارهم. ولم يأمر أصحابه باتِّباعهم، وبقي في خواصِّه تلك الليلة، ورحل. واتَّفق العادلُ والأَفْضل على أن تكون ثلث البلاد للعادل، والثلثان للأفضل، وهو السُّلْطان، واستناب الأفضل بدمشق أخاه قُطْب الدِّين موسى، وخاف العزيز من الأسدية الذين في القاهرة أن يفعلوا كما فعل إخوانهم، ويمنعوه من دخولها، وكان قد استناب بها بهاء الدِّين قراقوش ثِقَةً بمودَّته، فلما وصل إلى القاهرة خَرَجَ قراقوش والأسدية إلى لقائه، فأكرمهم وأحسن إليهم، ولما وصل العسكر إلى بِلْبيس غلا السِّعْر، وظهرت ندامة الأسدية، فخاف العادل من ميلهم إلى العزيز وغَدْرهم، وأخبر الأفضل، وقال: المصلحة الصُّلْح. فاستزار الفاضل، ولقيه على فرسخ، وقرَّر الصُّلْح، واستبشر النَّاس بذلك، وعفا العزيز عن الأسدية وأحسن إليهم، واجتمع العزيز بالأفضل، وعاد الأفضل إلى دمشق، وأقام العادل عند العزيز. وأما الأفضل فإنَّه لما عاد إلى دمشق ازداد وزيره الجَزَري من الأفعال القبيحة، وآذى الأكابر من الدَّولة، والأفضل يسمع منه ولا يخالفه، فكتب قيماز النجمي وأعيان الدولة إلى العادل يشكونه، فأرسل العادل إلى الأفضل يقول: ارفع يد هذا الأحمق السيئ التَّدْبير، القليل التوفيق. فلم يلتفت، فاتَّفق مع العزيز على النزول إلى الشَّام، فسار، فاستشار الأفضل أصحابه، فكلٌّ أشار عليه بأن يلتقي عمه وأخاه، ولا يخالفهما إلا الجزري، فإنَّه أشار عليه بالعصيان، فاستعدَّ للقتال والحصار، وحلَّف الأمراء والمقدَّمين، وفرَّقهم في الأبراج وعلى الأسوار، فراسلوا العزيز والعادل، وأصلحوا أمرهم في الباطن، واتَّفق العادل مع عز الدين ابن الحِمْصي على فَتْح الباب الشَّرقي، فكان مسلَّمًا إليه، فلما كان يوم الأربعاء سادس عشرين رجب ركب العادل والعزيز، وجاء إلى باب شرقي، ففتحه ابنُ الحمصي، فدخلا البلد من غير قتال، فنزل العزيز في دار عمَّته ستّ الشَّام، ونزل العادل دار العقيقي، ونَزَلَ الأفضل إليهما وهما بدار

العقيقي، فدخل عليهما، وبكى بكاء شديدًا، فأمره العزيز بالانتقال إلى صرخد، فأخرج وزيره الجزري في الليل في جُمْلة الصَّناديق خوفًا عليه من القَتْل، فأخذ أموالًا عظيمة، وهَرَبَ إلى بلاده، وكان العزيز قد قرَّر مع العادل أن يكون نائبه بمِصْر، ويقيم الحزيز بدمشق، ثم ندم، فأرسل إلى الأفضل رسالة فيها صلاح حاله، [فأذاعها و] (¬1) وصلت إلى العادل، فغضب العزيز، ورَسَمَ عليه بالخروج، فخرج إلى مسجد خاتون بأهله وعياله، وسلَّم العزيز بُصْرى إلى العادل، وكان بها الظَّافر، وأقام العزيز بدمشق أربعة أيام، وصلَّى الجمعة عند مكان قبر والده بالكلاسة، وأمر ببناء القُبَّة والمدرسة إلى جانبها، وأمر محيي الدِّين بن زكي الدين بعمارة المدرسة العزيزية، ونُقِلَ السُّلْطان إلى الكلاسة في سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة، وكان الأفضل قد شَرَعَ في بناء تُرْبة عند مشهد القدم بوصيةٍ من السُّلْطان، فإنه قال: تكون تربتي على الجادَّة ليمر بها الصَّادر والوارد، فيترحم عليّ. فارتفع منها قامة، وجاء العزيز، فحصر دمشق وأخربها، وكان العزيز إذا جلس في مجالس لهوه يجلس العادل على بابه كأنه بردار (¬2)، فلما كان آخر ليلة من مقامه بدمشق، وكانت ليلة الاثنين تاسع شعبان قال العادل لولده المعظم: ادخل فقبِّلْ يده، واطلب منه دمشق. وكان المُعَظَّم قد راهق الحُلُم، فقبَّل يده، وطلب منه دمشق، فدفعها إليه، وأعطاه سنجقه، وقيل: بل استنابه العادل فيها، وأعطاها للمعظم على ما نبين في سنة أربع وتسعين، ورحل تاسع شعبان إلى مِصْر، ومضى الأفضل إلى صَرْخَد، ونفى العادلُ ابنَ الحمصي الَّذي فتح له باب شرقي، وكان قد أعطاه عشرة آلاف دينار، فاستردَّها منه، واجتاز العزيز في طريقه إلى مصر بالقُدْس، فَعَزَلَ أبا الهيجاء السَّمين عنه، وولاه سُنْقُر الكبير، ومضى أبو الهيجاء إلى بغداد، [وسنذكره] (1). وحج بالنَّاس سُنْقُر الكبير النَّاصري من بغداد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) البردار: يكون في خدمة مباشري الديوان، وأصله فرادار بمعنى: ممسك الستارة، وكأنه في أول الوضع كان يقف بباب الستارة، ثم نقل إلى الديوان. انظر "التعريف بمصطلحات صبح الأعشى": ص 62.

أحمد بن إسماعيل بن يوسف

وفيها توفي أحمد بن إسماعيل بن يوسف (¬1) أبو الخير القزويني، الواعظ الشَّافعي، [تفقه بنيسابور على محمد بن يحيى صاحب الغَزَّالي، وسمع بها الحديث وبغيرها] (2)، كان عالمًا بالتَّفاسير والفِقْه، متعبِّدًا يختم القرآن في كلِّ يوم وليلة، ومولده بقزوين سنة اثنتي عشرة وخمس مئة، وقدم بغداد حاجًّا سنة خمسٍ وخمسين [وخمس مئة] (2)، فجلس بالنِّظامية ووعظ، ومال إلى الأَشْعري، فوقعتِ الفتن، وجلس يوم عاشوراء بالنِّظامية، فقيل له: العن يزيد بن معاوية. فقال: ذاك إمامٌ مجتهد. فجاءه الاجُرُّ، وكاد يقتل، وكان ابنه جالسًا بين يديه على المِنْبر، فقال له: العنه وإلا قُتِلْنا. فلطمه على رأسه، وألقى عمامته بين يديه، وكَثُرَ الرَّجم، فسقط من المنبر، فأُدخل إلى بيتٍ في النظامية، وأغلق عليه الباب، وأُخذت فتاوى الفقهاء بتعزيره، فقال بعضهم: يُضْرب عشرون سوطًا، قيل له: من أين لك هذا؟ فقال: من عمر بن عبد العزيز، سمع قائلًا يقول: قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فضربه عشرين سوطًا. ثم تعصَّب للقزويني جماعةٌ، وقالوا: شيخ غريب، وأخرجوه، فمضى إلى قزوبن، فتوفي بها في المحرم، [سمع بنيسابور أبا عبد الله الفُراوي، وأبا القاسم الشَّحَّامي، وأبا محمد البيهقي، وغيرهم] (¬2). السُّلْطان طُغريل شاه بن رسلان شاه (¬3) ابن طغريل شاه بن محمد بن مَلِكْشاه بن ألب رسلان [بن جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق] (2)، وهو آخر الملوك السَّلْجوقية سوى صاحب الرُّوم، وكان مبدأ أمره عند وفاة أبيه سنة إحدى وسبعين وخمس مئة، وكان صغير السِّنِّ، فكفله البهلوان إلى أن مات سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة، وعادتِ الأتابكية إلى قزل بن رسلان إلدكز، وهو ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب" للسمعاني: 8/ 178 - 179، "اللباب" لابن الأثير: 2/ 269، "التكملة لوفيات النقلة": 1/ 200 - 202، و"المذيل على الروضتين": 1/ 58، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 190 - 193، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الكامل": 12/ 106 - 108 و"المذيل على الروضتين": 1/ 58 - 59، "سير أعلام النبلاء": 21/ 267 - 268، و"العبر": 4/ 272، و"شذرات الذهب": 4/ 301.

أخو البهلوان لأمِّه، فلم يزل طغريل تحت يده حتَّى أنف من الحجر، فخرج عن يده، وانضاف إليه جماعة من الأُمراء، وكسر عسكر الخليفة، وأسر ابن يونس -كما ذكرنا- وهابته الملوك، وخاف منه القزل، وانضاف إلى طغريل عِدَّةٌ من مماليك البهلوان، فقيل له: لا تأمن أن يغتالوك فيقتلوك! فقتل جماعةً منهم، وفارقه الباقون، وضعف، فقصده قزل، فهرب منه، فولى قزل سنجر بن سليمان شاه، وخاطبه بمعين الدِّين. وكان طغريل سفَّاكًا للدِّماء، قتل وزيره رضي الدين الغَزْنوي، وفخر الدين العلوي رئيس هَمَذَان، وزوجه حسن بن قفجاق أُخته، وجمع القزل عليه التُّرْكمان، فكسر طغريل، وحَبَسَه في بعض القلاع، فلما قُتِلَ قزل تعصَّب لطغريل امرأةٌ في القلعة التي كان بها، وشَرَطَتْ عليه أن يتزوَّجها إذا خلَّصَتْه، فأخرجته، فجاء إلى هَمَذَان، فالتقاه قتلغ ايناخ، وكان نائبًا عن قزل في الأتابكية، فاقتتلوا، فانهزم قتلغ، واستولى طغريل على المماليك، وزوج أم قتلغ إلى خوارزم شاه. وقيل: إنه قتل أم قتلغ أيضًا، وعرَّف قتلغ خوارزم شاه ما فعل طغريل، فخرج الخوارَزْمي في عساكره إلى العراق، وسار إليه طغريل، فالتقيا على الرّيّ، فجاءت طغريل نُشَّابة في عينه، فضربه مملوكٌ له بالسَّيف من ورائه، فقتله، وقَطَعَ رأسه، وحمله إلى الخوارزمي، فبعث به إلى بغداد، فدخلوا به في جُمادى الأولى على خشبةٍ، وكوساتُه مشقَّقة، وسنجقه وراءه مكسورٌ منكس. قال المصنف رحمه الله: وقد رأيتُه، وكان من أحسنِ النَّاس صورة، ووجهه كأنَّه القمر، وأثر النُّشَّابة في عينه، وعلى خدِّه ضربة. قالوا: كان دور سيفيه عشرة أشبار، وعُلِّق رأسه بباب النوبي، ثم رُدَّ إلى خزانة الرؤوس، فجاءت فارةٌ، فأكلت أنفه وأُذنيه، وبقي الرأس إلى سنة إحدى وست مئة، فوقع حريقٌ في خزانة الرؤوس، فاحترق الجميع. وكتب خوارزم شاه إلى الخليفة كتابًا يضمن الطاعة، واستولى على خُراسان والجبال والرّي وأصبهان وغيرها مضافًا إلى ما بيده مما وراء النَّهر. وهذا طغريل آخر السَّلْجوقية، وعِدَّتهم نيف وعشرون ملكًا، ومُدَّة ملكهم مئة وستون سنة، أولهم طُغْرُلْبَك، وأول ما ظهرت راياتُه من خراسان سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة، ودخل بغداد سنة سبعٍ وأربعين، وأعاد القائم إلى بغداد سنة إحدى وخمسين، وتوفي سنة خمس وخمسين وأربع مئة، ولم يكن له ولد، فولَّى ألب رسلان بن داود بن

ميكائيل بن سَلْجوق، هو ابن أخي طغرلبك، وكَسَرَ ملك الرُّوم، وقُتل بما وراء النهر، وملك ثماني عشر سنة، وقيل: عشرين. وأخوه قاروت بك لم يستقم له أمر، وخُنِق. وولي بعد ألب رسلان، ولده ملك شاه، وملك الدنيا، وأقام تسع عشرة سنة، ومات سنة خمس وثمانين وأربع مئة، وكان نظام الملك وزيره ووزير أبيه. وقام بعده ولده محمود بن خاتون، ومات في هذه السَّنة، وقام بركياروق بن ملك شاه، ونازعه عمه تاج الدولة تُتُش صاحب الشَّام، فقتله بركياروق، وأقام سُلْطانًا اثنتي عشرة سنة، وخُطِبَ له ببغداد ستّ دفعات، وجرى بينه وبين إخوته محمد وسنجر حروب. وملك بعد بركياروق أخوه محمد، فأقام اثنتي عشرة سنة، ومات سنة إحدى عشرة وخمس مئة. وقام بالأمر بعده ولده محمود بن محمد، فأقام واليًا أربع عشرة سنة، وعهد إلى ابنه داود، ففوَّض سنجر الملك إلى طغريل، وجعل لداود ما يكفيه، ثم طمع مسعود أخو محمود في الملك، ودخل بغداد سنة ست وعشرين وخمس مئة، [وخطب له بالسلطنة، ولابن أخيه، وتوفي طغريل في سنة تسع وعشرين وخمس مئة] (¬1)، واستقلَّ مسعود بالمُلْك، وطالت أيامه، فأقام نيفًا وثلاثين سنة، وقتل المسترشد [والرَّاشد] (1). وقام بعده ملك شاه بن محمود بن أخي مسعود، فأقام ثلاثة أشهر، وكتب خاصْبَك إلى محمد بن محمود أخي ملك شاه، وخدعه، وقبض على ملك شاه، فملك محمد بن محمود وقتل خاصبك، ونفر منه إلدكز وآق سُنْقُر، وقصداه، فهرب منهما، وملَّكا أخاه سليمان شاه، وجاء ملك شاه يقصد بغداد، فخرج إليه الخليفة، فدفعه، وفي سنة ثمانٍ وأربعين وخمس مئة انحلَّت دولة بني سَلْجوق، واستولى الغُزّ على سنجر، وكانت دولتهم مستقيمة من سنة ثلاثين أو اثنتين وثلاثين وأربع مئة إلى سنة ثمان وأربعين ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الحادية والتسعون وخمس مئة

وخمس مئة، ثم بدأت في النقض، ومات فيها سنجرشاه، وحاصر محمد شاه بغداد، وهو آخر مَنْ حاصرها، ومات محمد سنة أربع وخمسين وخمس مئة. وقام بعده أخوه سليمان شاه، وخالفه أخوه ملك شاه، وتوفي أرسلان شاه بن طغريل بن ملك شاه سنة سبعين وخمس مئة. وقام بعده ولده طغريل شاه وأتابكه محمد البهلوان، وقتل في هذه السنة، وهي سنة تسعين وخمس مئة، [فكان آخر ملوكهم] (¬1). السَّنة الحادية والتسعون وخمس مئة فيها ملك ابنُ القَصَّاب وزير الخليفة بلاد خوزستان: ششتر وأعمالها، ويقال: إنها تشتمل على أربعين قلعة، وقيل: بل ملكها في السنة الماضية، ودخل الأمير علي بن شملة وسوسان بغداد في صفر، وأخليت لهم الدور، وباتوا وأولادهم ببغداد. وفيها أقطع العزيز فارس الدين ميمون القصري نابُلُس، فأقام في سبع مئة فارس في مقابلة الفرنج. وفيها كانت وقعة الزلاقة (¬2) بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وبين الفنش ملك طُلَيطُلة، وكان [الفنش] (1) قد استولى على جزيرة الأندلس وقهر ولاتها، [وكان] (1) يعقوب مشغولًا عن نُصْرتهم بالخارجين عليه، وبينه وبين الأندلس زقاق سبتة، وعرضه ثلاثة فراسخ، ويحتاج في عبوره إلى مشقَّة عظيمة، وطمع الفنش في المسلمين بهذا السبب، فكتب [الفنش] (1) إلى يعقوب كتابًا ينخيه: باسمك اللهم الكريم، فاطر السموات والأرض، وصلى الله على سيدنا المسيح عيسى ابن مريم الفصيح. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) كذا قال، وهو وهم أو سبق قلم، والصحيح أنها وقعة الأرك، أما الزلاقة فهي وقعة أخرى كانت سنة (479 هـ)، وبطلها يوسف بن تاشفين. انظر عن معركة الأرك: المعجب 404 - 406، وعن معركة الزلاقة: المعجب 195 - 199.

أما بعد، أيها الملك، فإنَّه لا يخفى على ذي عَقْل لازب، وذكاء ثاقب أَنَّك أمير المِلَّة الحنيفية، كما [أنا] (¬1) أمير المِلَّة النَّصْرانية، وغيرُ خافٍ عنك ما عليه نوَّابك بالأندلس من التخاذل والتقاعد والتكاسل، وإهمال أمور الرَّعية، والاشتمال على اللَّذَّات الدَّنية، ولما أظهروا العِصْيان، وادَّرعوا الخِذْلان سَلَّطني الله عليهم، فأذقتُهم الخَسْف، وسُمْتُهم العُنْف، أُخلي منهم الدِّيار، وأمحو الآثار، وأسبي الذَّراري والولدان، وأمثِّل بالكهول والشُّبَّان، وقد جعلتُ ألوفًا من العذارى المُسْلمات مملوكاتٍ لبنات الإفرنجيات، ولا عُذْرَ لك في التخلف عن نُصْرتهم وقد مكَّنتك بهم القُدْرة، وأنت قادرٌ على النُّصْرة، مع أنكم تعتقدون أَنَّ الله فَرَضَ عليكم في كتابكم قتال [عشرة] (1) منا بواحدٍ منكم، وقد زاغ عنكم الصَّواب، وكذبتم بالكتاب، و {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَينِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَينِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] ونحن الآن يقتل واحدٌ منا عددًا منكم، فقد أظفرنا الله بكم، وأعاننا عليكم، ولا تقدرون دفاعًا، ولا تستطيعون امتناعًا، ثم بلغني أَنَّك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وجمعتَ جَمْعًا من البربر والعرب الذين ادَّرعوا العار، وعبدوا الدِّرْهم والدِّينار، وأحلُّوا الحرام، وباينوا دين الإسلام، وتمطل عامًا بعد عام تنتظر حوادث الزمان، وتقلب الحَدَثان، تقدم رِجْلًا وتؤخر أُخرى، وهذا الفعل بمثلك أحرى، فلا أدري الحَين أبطأ بك فَضَلَلْتَ في غَيِّك، أم التكذيب بما أنزل على نبيك؟ فإنْ كنتَ عاجزًا عن العبور إلي خوفًا من أهوال الزّقاق، فأنا أذكر لك ما فيه الرِّفْق بك والارتفاق، وهو أَنْ تعاهدني بالأَيمان المغلَّظة، والأقسام المعظَّمة ودَفْع الرَّهائن، وتوجّه إلي جُمْلة من المراكب لأعبر إليك، وأبارزك في أعزِّ الأماكن عليك، فإنْ كانت الدائرة لك كانت غنيمة ساقها الله إليك، وإن كانت يدي العُلْيا، استحققت إمارة المِلَّتين، والتقدُّم على الفئتين، والله تعالى يوفق للسَّعادة، ويسهل الإرادة، فإنه لا رَبّ غيره، ولا خير إلا خيره، والسَّلام. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

فلما قرأ يعقوب الكتاب استشاط غضبًا، وأدركته حَمِيَّة الإسلام، والغيرة على الإيمان، فكتب على رأس الكتاب بخطِّه: {ارْجِعْ إِلَيهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37]. وكتب تحت الآية: [من الطويل] ولا كُتْبَ إلا المَشْرَفية عندنا ... ولا رُسْلَ إلا بالخميس العَرَمْرَمِ ثم قام من ساعته، فشدَّ ذنب فرسه بيده، ولبس سلاحه، وسار إلى زقاق سبتة، فنزل عليه، وجمع الشَّواني والمراكب، وعَرَضَ جُنْده، فكانوا مئتي ألف مقاتل، مئة ألف يأكلون الدِّيوان، ومئة ألف مطاوعة، وعبر الزقاق إلى مكانٍ يقال له: الزلاقة (¬1)، وجاءه الفنش في مئتي ألف وأربعين ألفًا من أعيان الفرنج والمقاتلة، والتقوا، فجرى بينهم قتالٌ لم يجر في جاهليةٍ ولا إسلام، ثم أنزل الله نَصْره على المُسْلمين، فولى الفنش هاربًا في نفرٍ يسير إلى طُلَيطُلة، وغَنِمَ المُسْلمون ما كان في عسكره، وكان عِدَّةُ من قُتِل من الفرنج مئةَ ألف وستة وأربعين ألفًا، وعِدَّة الأسارى ثلاثون ألفًا، ومن الخيام مئة ألف خيمة وخمسون ألفًا، ومن الخيل ثمانون ألفًا، ومن البغال مئة ألف، ومن الحمير أربع مئة ألف حمار يحمل أثقالهم، لأَنَّهم لا جمال عندهم، ومن الأموال والجواهر والثياب ما لا يُحدّ ولا يحصى، وبِيعَ الأسير بدِرْهم، والسَّيف بنصف دِرْهم، والحصان بخمسة دراهم، والحمار بدرهم، وقسم يعقوب الغنائمَ بين المُسْلمين على مقتضى الشريعة، فاستغنوا إلى الأبد. ووصل الفنش طليطلة على أقبح حال، فَحَلَق رأسه ولحيته، ونكَّس صليبه، وآلى أن لا ينام على فراش، ولا يقرب النِّساء، ولا يركب فرسًا ولا دابة حتَّى يأخذ بالثأر، وأقام يجمع من الجزائر والبلاد ويستعدّ، وقيل: كانت هذه الوقعة سنة تسعين. وحج بالنَّاس من بغداد سنجر النَّاصري، ومن الشام سراسُنْقُر وأيبك فطيس الصَّلاحيان، [ومن مصر الشريف إسماعيل بن ثعلب الجعفري؛ من ولد جعفر بن أبي طالب] (¬2). ¬

_ (¬1) انظر حاشيتنا رقم 2 ص 40 من هذا الجزء. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عبد الله بن محمد بن عبد الله الصوفي

[وفيها توفي عبد الله بن محمد بن عبد الله الصوفي (¬1) أبو القاسم، شيخ رباط المأمونية ببغداد، وكان زاهدًا عابدًا، متورعًا، حسن العقيدة] (2). السنة الثانية والتسعون وخمس مئة فيها بعد خروج الحاج من مكَّة هبَّت ريحٌ سوداء عمَّتِ الدُّنيا، ووقع على الناس رملٌ أحمر، ووقع [من] (¬2) الركن اليماني قطعةٌ، وتحرَّك البيت الحرام مرارًا، وهذا شيءٌ لم يعهد منذ بناه ابن الزُّبير -رضي الله عنهما-، وأعاده الحَجَّاج، وإلى هلمَّ جرا. وفيها كانت الوقعة بين ميالجق مملوك خوارَزْم وبين ابن القَصَّاب وزير الخليفة على باب هَمَذَان، كان ابن القصَّاب لما استولى على خوزستان طَمِعَ في البلاد، فتقدَّم إلى هَمَذَان، ثم سار إلى أصبهان، فولى عليها عماد الدين طغريل صاحب البصرة مملوك الخليفة، وبلغ خوارزم شاه، فبعث إليهم يقول: هذه البلاد فتحتها بسيفي وقتلت عدوَّكم، فارجعوا وإلا فأنتم خبر، فجمع الوزير الأمراء واستشارهم، فقالوا: الرأي ما ترى، فقال: ما بعد الرِّبْح إلا الخسارة، وقد فتحنا خوزستان، والمَصْلحة رجوعنا. فلم يوافقه طغريل صاحب البصرة، وطغتكوا صاحب اللِّحْف، وكان خوارزم شاه قد قطع جيحون في خمسين ألفًا، وقدَّم بين يديه مملوكه ميالجق في خمسة آلاف، وعسكر الخليفة بأصبهان، وكان بها شحنة أسود من قبل خوارزم شاه ورئيسها الصَّدْر بن الخُجَنْدي، وكان عظيمًا من بيت الرياسة، فاتهمهما طغريل بمكاتبة الخوارزمي، فاستدعاهما إليه، وذبحهما بين يديه، وقيل: إنما قتلهما سُنْقُر الطَّويل، وهو كان شحنة أصبهان، ثم رحلوا إلى هَمَذَان، فنزلوا على بابها، ومَرِضَ الوزير من أصبهان إلى ¬

_ (¬1) لم أجد له ترجمة فيما لدي من مصادر. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

همذان، ومات تلك الليلة على باب همذان، وكبسهم ميالجق وهو في خمسة آلاف وهم في عشرين ألفًا، والتقوا، فكسرهم ميالجق كسرةً شنيعة أشنع من كسرة ابن يونس، عادوا إلى بغداد عرايا جياعًا، قد تقطَّعت أقدامهم من المشي، فلو تبعهم ميالجق مرحلة ما أبقى منهم أحدًا، وكان الوزير لما مات أرادوا أن يعفوا قبره، فأدركهم ميالجق، فدفنوه في سقاية على باب هَمَذَان، فسأل ميالجق عنه، فدُل عليه، فنبشه، وقطع رأسه، وبعث به وبأعلام الخليفة والكوسات والمهد والخزائن، وكان فيها ألف ألف دينار وجواهر بمثلها، وكانت الواقعة غُرَّة شعبان، فوصلوا إلى بغداد في رابع عشر رمضان. ثم جاء خوارزم شاه إلى همذان على البلاد إلى باب بغداد، وبعث إلى الخليفة يطلب السَّلْطنة، واعادة دار السلطنة إلى ما كانت عليه، ويجيء إلى بغداد، ويكون الخليفة من تحت يده كما كان السَّلْجوقية، فانزعج الخليفةُ وأهلُ البلد، وغلتِ الأسعار، وولى الخليفة نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي نقابة الطَّالبيين، ثم استوزره بعد ذلك، ورتَّب ابن البخاري في نيابة الوزارة، وعزل شمس الدين بن القَصَّاب، فإنه كان ينوب عن أبيه. وفيها كانت وقعة يعقوب [بن يوسف] (¬1) مع الفنش أيضًا. قد ذكرنا أنَّه حَشَدَ وجمع جَمْعًا أكثر من الأول، فالتقوا، فهزمه يعقوب، وساق خلفه إلى طُلَيطُلة، وضربها بالمجانيق، وضيَّق عليها، ولم يبق إلا فَتْحُها، فخرجت إليه والدة الفنش وبناتُه ونساؤه وأهلُه، وبَكين بين يديه، وسألْنَه إبقاءَ البلد عليهن، فَرَقَّ لهن، ومَنَ عليهن بها، ووَهَبَ لهن المال والجواهر، ورَدَّهن مكرمات بعد القُدْرة، ولو فتح طُلَيطُلة لفتح إلى مدينة النحاس (¬2)، وعاد إلى قرطبة، فأقام شهرًا يقسم الغنائم، وجاءته رُسُل الفنش تسأله الصُّلْح، فصالحه مُدَّة، وأمَّن أهل الأندلس، وقيل: إن هذه الوقعة كانت إحدى وتسعين [وخمس مئة] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هي مدينة خيالية لا وجود لها، ذكرها المسعودي في "مروج الذهب"، وذكر أن موسى بن نصير فتحها، نقل ذلك ونقضه ابن خلدون في "مقدمته": 1/ 330، وقد ذكرت كذلك في "ألف ليلة وليلة": 3/ 141، (طبعة بولاق).

إبراهيم بن أحمد بن محمد

وفيها ظهر بيوصير؛ قرية بصعيد مِصْر [-وهي التي قتل فيها مروان الجعدي-] (¬1) بيت هرمس الحكيم، وفيه أمثلة كباش وضفادع وقوارير كلها نحاس، وفيه أموات لم تبل ثيابها. وحجَّ بالنَّاس من بغداد ألب قرا مملوك طاشْتِكِين، وكان الخليفة قد أفرج عن طاشْتِكِين من الحبس في هذه السنة. وحج بالنَّاس من مِصْر الشَّريف إسماعيل بن ثعلب الجعفري. وفيها توفي إبراهيم بن أحمد بن محمد (¬2) أبو طاهر العُكْبَري. ولد سنة عشر وخمس مئة، [وسمع الحديث] (1)، ورأى في منامه في هذه السَّنة كأنه يقرأ سورة يس، وهي اثنتان وثمانون آية (¬3)، ويقال: إنَّ مَنْ قرأها يعيش بعدد آياتها سنين، فمات في صفر، وله اثنتان وثمانون سنة، وكذا يقال: مَنْ قرأ سورة من أول ما نزل القرآن طال عمره، [ومن آخر ما نزل القرآن يقصر عمره، سمع أبا القاسم بن الحصين، وقاضي المارستان، وابن السمرقندي، وغيرهم] (1). عبد الخالق بن عبد الوهاب بن محمد (¬4) [ويعرف بابن الصابوني] (1)، من أولاد المشايخ، [سمع الحديث ورواه] (1)، وتوفي في شوال ودفن عند معروف [الكرخي] (1)، وقد أناف على ثمانين سنة، [سمع أبا القاسم بن الحصين وطبقته] (1)، وأنشد لأبي الجوائز الواسطي: [من الطويل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 245، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 234، و"مشيخة النعال": 126 - 128، "الوافي بالوفيات": 5/ 308. (¬3) كذا قال، والصواب أنها ثلاث وثمانون آية. (¬4) له ترجمة في "معجم البلدان": 5/ 43 - 44 (المالكية)، و"التكملة" للمنذري: 1/ 268 - 269، و"مشيخة النعال": 128 - 130، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 274 - 275، و "العبر": 4/ 279، و"شذرات الذهب": 4/ 309.

عبد الله بن المظفر

دعِ النَّاس طُرًّا واصرفِ الودَّ عنهُم ... إذا كنتَ في أخلاقهم لا تُسامحُ ولا تبغِ من دَهْرٍ تكاثَفَ رَنْقُهُ ... صفاءَ بنيه فالطِّباع جوامحُ فشيئان معدومانِ في الأرض: دِرْهَمٌ ... حلالٌ وخِلٌّ في الحقيقةِ ناصحُ (¬1) عبد الله بن المُظَفَّر (¬2) ابن هبة الله ابن رئيس الرُّؤساء، ويلقب بالأثير، كان فاضلًا، ومن شعره: [من البسيط] إنْ حاولَ الدَّهْرُ إخفائي فإنَّ له ... في حبسيَ الآن سِرًّا سوف يُبْديه أعدَّني للعُلا ذُخْرًا ومن ذَخَرَتْ ... يداه في الدَّهْرِ شيئًا فَهْوَ يُخْفيه (¬3) محمد بن أحمد بن يحيى (¬4) أبو منصور، ويعرف بابن ناقة. ولد بالكوفة سنة ثلاثين وخمس مئة، واشتغل بالأدب، [وكان أبوه فاضلًا أيضًا] (5)، ومات [محمد] (5) ببغداد، وحُمل إلى الكوفة. قال: أنشدني [خالي أبو القاسم علي ابن جدي، قال: أنشدني أبو منصور ابن ناقة، قال: أنشدني] (¬5) أبي أحمدُ لنفسه: [من الطويل] وكم شامتٍ بي إنْ هلكت بزعمه ... وجاذب سَيفٍ عند ذِكْرِ وفاتي ولو عَلِمَ المسكينُ ماذا يُصيبه ... من الذُّلِّ بعدي مات قبل مماتي ¬

_ (¬1) في مطبوع "تاريخ بغداد" للخطيب: 7/ 393 أورد بيتين، وأورد ابن خلكان الأبيات في "وفياته": 2/ 112 نقلًا عن "تاريخ بغداد". (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 2/ 150 - 162، و"المذيل على الروضتين": 1/ 65، "إكمال الإكمال": 8 - 10، و"الوافي بالوفيات": 17/ 626 - 627. (¬3) البيتان في "الخريدة": 2/ 157. (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 279 - 280، و"المذيل على الروضتين": 1/ 65، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 15 (وفيه وفاته سنة 593 هـ)، و"توضيح المشتبه": 9/ 20 - 21. (¬5) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن علي بن أحمد، أبو الفضل

محمد بن علي بن أحمد، أبو الفَضْل (¬1) مؤيَّد الدين، الوزير ابن القَصَّاب. أصله من شيراز، قدم بغداد سنة أربع وثمانين وخمس مئة، واستخدم في ديوان الإنشاء، ثم ترقَّى إلى الوزارة، وقرأ الأدب [على أبي السعادات بن الشجري وغيره، ] (¬2) وكان داهية، رديءَ الاعتقاد [وهو الَّذي أعان ابن عبد القادر على نكبة جدي] (2)، إلا أَنَّه كان له خِبْرَةٌ بأُمور الحرب، وفَتْحِ البلاد، وكان النَّاصر يُثْني عليه ويقول: لو قبلوا من رأيه ما جرى ما جرى، ولقد أتعب الوزراء بعده. وكان الخليفةُ قد سلَّم إليه ابنَ يونس أستاذ الدَّار [لما قبض عليه، فسلَّمه ابن القصاب] (2)، إلى ولده أحمد، ولما خرج عن بغداد كتب إلى ابنه، وهي له: [من المنسرح] يا خازنَ النَّارِ خُذْ إليك أبا السَّـ ... ـائب حِلْفَ الفُضُول والحُمُقِ ولا تَكِلْهُ إلى زبانيةٍ ... يأخُذُهُمْ بالخِداع والمَلَقِ فلستَ تدري أيّ ابنِ زانيةٍ ... عندك ملقًى في القِدِّ والحَلَقِ وقد ذكرنا وفاته على باب هَمَذَان [وما جرى عليه] (2)، وقيل: إنَّ رأسه دُفِنَ بالرّي بعد أن طافوا به البلاد، [ومن العجائب أَنَّه] (¬3) وصل خبره مع الركابية إلى بغداد يوم الجمعة رابع عشر شعبان، وقد اجتمع على باب ولده شمس الدين أحمد أربابُ الدَّولة ليعبروا إلى تربة الخِلاطية في خِدْمته نيابةً عن أبيه، فجاء خادمٌ من عند الخليفة، فَرَدَّ بابه، وصرف أرباب الدولة [عن بابه] (2)، ونقل [ابنه] (2) من دار الوزارة التي تقابل باب النّوبي، وأسكنها ناصر الدين بن مهدي. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 52، و"التكملة" للمنذري: 1/ 262، و"المذيل على الروضتين": 1/ 66، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 96، و"الفخري": 324، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 323 - 324، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): وكان وصل، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن علي بن شعيب

محمد بن علي بن شُعَيب (¬1) أبو شجاع، ابن الدَّهَّان، الفرضي، الحاسب، البغدادي. كان حاسبًا فاضلًا، وصنَّف تاريخًا من سنة عشر وخمس مئة إلى هذه السنة، وكانت وفاته بالحِلَّة السَّيفية، وقَدِمَ الشَّام، ومَدَحَ تاج الدين الكِنْدي، فقال: [من البسيط] يا زيدُ زادَكَ ربي مِنْ مواهبه ... نعماءَ يَقْصُرُ عن إدراكها الأَمَلُ لا غيَّر الله حالًا قدحَبَاك به ... ما دارَ بين النُّحاةِ الحالُ والبَدَلُ النحو أنتَ أحقُّ العالمين به ... أليس باسْمِكَ فيه تُضْرَبُ المُثُلُ محمد بن علي بن فارس (¬2) أبو الغنائم، ابن المُعَلِّم، الشَّاعر الهرثي، والهُرْث: قريةٌ تحت واسط، كان رقيقَ الشِّعْر، مليحَ المعاني، [أكثر في الغزل، ووصف المحبة والشوق والصبابة، فمالت القلوب إليه، ] (¬3) ومولده سنة إحدى وخمس مئة، [ومدح الأمراء والرؤساء والأعيان، ] (3) وكانت وفاته في رجب بالهُرْث، وديوانه مشهور [وفَضْله مذكور، وقد أنبأنا بشعره غير واحد، فمن شعره] (¬4): [من الرمل] لو قضى من أهل نَجْدٍ أَرَبَهْ ... لم يَهِجْ نَشْرُ الخُزَامى طَرَبَهْ علِّلوا الصَّبَّ بأنفاسِ الصَّبا ... إنَّها تَشْفي النُّفوسَ الوَصِبَهْ فَهْيَ إنْ مَرَّتْ عليهِ نَشَرَتْ ... ما انطوى عنه وجلَّتْ كُرَبَهْ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: ج 1/ 312 - 317، و"التكملة" للمنذري: 1/ 214 - 215 و"المذيل على الروضتين": 1/ 67، "وفيات الأعيان": 5/ 12 - 13، 2/ 341، و"العبر" الذهبي: 4/ 274 - 275، و"الوافي بالوفيات": 4/ 164 - 165، و "النجوم الزاهرة": 6/ 136، 139، و"شذرات الذهب": 4/ 304. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 4/ 430 - 449، و"الكامل": 12/ 124، "معجم البلدان": 5/ 397، "التكملة" للمنذري: 1/ 259، و"المذيل على الروضتين": 1/ 67 - 68، "وفيات الأعيان": 5/ 5 - 9، "المختصر المحتاج إليه": 1/ 95 - 96، "الوافي بالوفيات": 4/ 165 - 168، "النجوم الزاهرة": 6/ 140، "شذرات الذهب": 4/ 310 - 311. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): فمن قوله، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

كَلَفي فيكُمْ قديمٌ عَهْدُهُ ... ما صَبَاباتي بكُمْ مُكْتَسَبَهْ أين وُرْقُ الجَزْعِ مَنْ لي أَنْ أرى ... عُجْمَه إنْ لم أُشاهِدْ عَرَبَهْ ونَعَمْ ذا بانُ حُزْوى فاسألوا ... إنْ شككْتُمْ في عذابي عَذَبَهْ عن جفوني النَّومُ من بَعَّده ... وإلى جِسْمي الضَّنى من قَرَّبَهْ وَصِلُوا الطَّيفَ إذا لم تَصِلُوا ... مُسْتهامًا قد قَطَعْتُمْ سَبَبَهْ وإلى أن تُحْسِنُوا صُنْعًا بنا ... قد أساء الحبُّ فينا أَدَبَهْ أعشَقُ اللَّوْمَ لحبي ذِكركم ... يا لمُرٍّ في الهوى ما أعْذَبَهْ واكشِفُوا لي سِرَّ ما ألقى بكم ... فلقد أَشْكَلَ ما بي واشْتَبَهْ هَبْكُمُ عذَّبْتُمُ طرفًا جنى ... ففؤادي ما جنى مَنْ عَذَّبَهْ إن يكن مجنون ليلى في الهوى ... فأنا التَّنزيه وَهْوَ الشَّبَهْ ولقد ذبتَ فلو تُكْحل في ... مُقْلَةِ الوَسْنان وتْرًا ما انْتَبَهْ فتجنَّبْ مركبَ البغي به ... واتَّقِ الله وخفْ أَنْ تركَبَهْ وقال: [من الرجز] تنبَّهي يا عَذَبات الرَّنْدِ ... كم ذا الكرى هَبَّ نسيمُ نَجْدِ مَرَّ على الرَّوْضِ وجاءَ سَحَرًا ... يَسْحَبُ ثَوْبي أَرَجٍ ونَدِّ حتَّى إذا عانقتُ منه نَفْحةً ... عادَ سَمُومًا والغرامُ يُعْدي أُعلِّلُ القلبَ ببانِ رامةٍ ... وما يَنُوبُ غُصنٌ عن قَدِّ وأسألُ الرَّبْعَ ومَنْ لي لو وعى ... رَجْعَ الكلامِ أو سخا بِرَدِّ وأقتضي النَّوْح حماماتِ اللِّوى ... هيهاتَ ما عند اللِّوى ما عندي كم بين خالٍ وجَوٍ وساهرٍ ... وواجلٍ وكاتمٍ ومُبْدِي بانُوا فلا دارُ العقيقِ بَعْدَهُمْ ... دارٌ ولا عهدُ اللِّوى بعَهْدِ هُمْ حمَّلوا ثِقْلَ الفِراقِ والهوى ... على فتًى يُضْنيه حَمْلُ البُرْدِ ليس كما ظنَّ العِدى صبابتي ... صبابتي فيهم ووجدي وجدي (¬1) ¬

_ (¬1) القصيدة في "خريدة القصر"، قسم شعراء العراق: مج 2 / ج 4/ 439 - 441، والبيتان الأخيران ليسا فيها، وقد استظهرتهما هكذا على عسر في قراءتهما.

وقال: [من البسيط] يا نازلين الحِمى رِفْقًا بقلب فتًى ... إنْ صاحَ للبَينِ داعٍ باحَ مُضْمَرُهُ لا تحسِبُوا الصَّدَّ عن عهدي يغيِّرني ... غيري ملازمةُ البَلْوى تغَيِّرُهُ وما ذَكَرْتُكُمُ إلا وهِمْتُ جَوًى ... وآفةُ المُبْتلى فيكم تذكُّرُهُ يزدادُ في مَسْمَعي تكرارُ ذِكْرِكُمُ ... طِيبًا ويَحْسُنُ في عيني مكرَّرُهُ وقال: [من الطويل] أجيرانَنا إنَّ الدُّموعَ التي جَرَتْ ... رِخاصًا على أيدي النَّوى لغوالِ أقيموا على الوادي ولو عمر ساعةٍ ... كلوثِ إزارٍ أو كحلِّ عقالِ وجُودوا على هذا المعنَّى بنظرةٍ ... يعلِّلُ قلبي منكمُ بمحالِ أذلتُمْ مصوناتِ الدُّموعِ بهَجْرِكُمْ ... وحبُّكُمُ في الصَّدْرِ غيرُ مُذَالِ أضمُّ عليه الرَّاحتين ولو دَرَتْ ... يميني به لم تستعنْ بشمالِ صحبناكُمُ والعُمْرُ غَضٌّ وحبُّنا ... جديدٌ ومَيدانُ الصَّبابةِ خالِ فقد رقَّ جِلْبابُ الشَّبابِ وما الصِّبى ... بباقٍ ولا بُرْدُ الغرامِ ببالِ وحبُّكُمُ حُبٌّ يقومُ بنفسه ... ترفَّعَ عن شِبْهٍ له ومِثالِ حماه حِفاظي أَنْ يلمَّ بخاطري ... وأخفاه صوتي أَنْ يدورَ ببالِ يقرُّ بعيني أَنْ أرى من دياركم ... مع الفَجْرِ وَمْضَ البارِقِ المتعالِ أداوي على بُعْدِ المَزَارِ بذكركُمْ ... عقابيلَ داءٍ في الفؤادِ عُضَال وقال: [من البسيط] هو الحِمى ومغانيه معانيه ... فاجلسْ وعانِ بليلى ما نعانيه لا تسألِ الرَّكْبَ والحادِي فما سأَلَ الـ ... ـعُشَّاقُ قَبْلَكَ عن رَكْبٍ وحادِيهِ ما في الصِّحاب أخو وَجْدٍ نطارحُهُ ... حديثَ وَجْدٍ ولا صَبٌّ نجاريهِ إليكَ عن كلِّ قَلْبٍ في أماكنه ... ساه وعن كل دمع في مآقيه ما واجِدُ القَلْبِ في المعنى كفاقدِهِ ... وجامدُ الدَّمْعِ في البلوى كجارِيهِ كفى الكثيبُ هوًى عادتْ أواخِرُهُ ... على الكثيبِ كما كانت أَوَاليهِ يجدِّدُ العِشْقَ والأشجانُ تُخْلِقُهُ ... وَينْشُرُ الدَّمْعَ والأحزانُ تَطْويهِ

محمد بن عبد اللطيف بن محمد

وقفتُ أشكو اشتياقي والسَّحابُ به ... فانهلَّ جَفْني وما انحلَّتْ عَزَاليهِ فالنَّار ن زَفَراتي لا تُؤَرِّقُهُ ... والماءُ من عَبَرَاتي لا غواديه يُوهي قِوَى جَلَدي من لا أبوحُ به ... ويستبيحُ دمي مَنْ لا أُسَمِّيه استوهبَ البدرُ شَكْلًا من محاسنِهِ ... واستهدتِ الشمسُ معنًى من معانيهِ ينأى وَيقْرُبُ والأيامُ تُبْعده ... عن المتيَّمِ والأيامُ تُدْنيهِ يا مالكًا غير ذُلِّي ليس يُقْنِعُهُ ... وفاتكًا غير قَتْلي ليس يُرْضيه قِسْمًا فما في لساني ما يعاتبه ... ضعفًا بلى في فؤادي ما يداريه أُهْدي السَّلام ليحيا مَنْ قُتِلْتُ به ... فميِّتُ الحُبِّ يُحْيِيه مُحَيِّيهِ محمد بن عبد اللطيف بن محمد (¬1) أبو بكر، الصَّدْر الخُجَنْدِي، رئيس أصبهان وابن رئيسها، وبيتُه مشهور بالرياسة والتقدُّم والجاه العظيم. قدم بغداد سنة ثمانٍ وثمانين وخمس مئة، فأنْعَمَ عليه الخليفة إنعامًا كثيرًا، وقربَّه، وخَلَعَ عليه، واحترمه، وولاه تدريس النِّظامية وأوقافها، فلما خَرَجَ ابنُ القَصَّاب إلى هَمَذَان خرج معه، ودخل معهم أصبهان، وولَّى ابنُ القصاب سُنْقُر الطَّويل أصبهان، وكان ابن الخُجَنْدِي ليس على يده يدٌ، فحسده سُنْقُر على مكانته، وقيل: اتَّهموه بالخوارزمي، فذبحوه. نَصْر بن علي بن محمد (¬2) أبو طالب، زعيم الدين بن النَّاقد. ولي حِجْبة الباب، ثم صاحب ديوان، ثم ولي المخزن، وهو الملقب بقَنْبَر، وكان إذا بلغه أَنَّ أحدًا لقبه قنبر يسعى في هلاكه، ودُفِنَ بمشهد باب التِّبْن. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 124، و"التكملة" للمنذري: 1/ 252 - 253، و"المذيل على الروضتين": 1/ 69، و"المختصر في تاريخ البشر": 3/ 91 - 92، "البداية والنهاية" "وفيات سنة 592 هـ". (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 258، و"المذيل على الروضتين": 1/ 70 - 71، و"الوافي بالوفيات": 27/ 73 - 74.

السنة الثالثة والتسعون وخمس مئة

السنة الثالثة والتسعون وخمس مئة فيها قدم حسام الدِّين أبو الهيجاء السَّمين بغداد، وخَرَجَ الموكب للقائه في زِيٍّ عظيم، رَتَّب الأطلاب على ترتيب الشَّام، وكان في خِدْمته عِدَّةٌ من الأمراء، منهم ولدا أخيه عز الدين كر والغرس، وأول ما تقدَّم طُلْب كر والغرس، ثم أمير أمير، وجاء هو بعد الكُلِّ في العُدَد الكاملة والسِّلاح التَّام، وخَرَجَ جميعُ من ببغداد للقائه، وكان رأسه صغيرًا، وبطنه كبيرًا جدًّا، بحيث كان على رقبة البغلة، وكان قد رآه عند الحَرْبية رجلٌ كوَّاز، فعمِلَ في ساعته كوزًا من طين، وسبقه فعلَّقه في السُّوق، فلما اجتاز به ضَحِكَ، وعمل بعد ذلك أهل بغداد كيزانًا، وسمُّوها أبا الهيجاء السمين [على صورته] (1)، وأنزله الخليفة بدار العميد غربي بغداد بعد أن عَبَرَ إلى الجانب الشَّرْقي، وقبَّل عَتَبَة باب النوبي، وأكرمه الخليفة، وقام له بالضِّيافات، ثم أمره أن يجرِّد جماعةً من أصحابه مع عسكر الخليفة إلى هَمَذَان، فجرَّد جماعةً، فلما بَعُدوا عن بغداد نهبوا خزانة الخليفة، وقتلوا جماعةً من عسكره، ومَضَوْا إلى المَوْصل والجزيرة، وعاد عسكرُ الخليفة إلى بغداد وقد جُرحوا، فنقله الخليفةُ إلى دارٍ عند النِّظامية بالجانب الشَّرْقي كانت لمجير الدين أبق سُلْطان دمشق، ووكَّل به، ثم خَلَعَ عليه بعد ذلك الجُبَّة والفَرَجية والعِمامة السَّوداء والقَبَاء الأسود، وبين يديه الخيلُ بمراكب الذهب [، وقد شاهدته وأنا صغير في هذه السنة] (¬1)، وأعطاه الأموال والرِّجال، وسار إلى هَمَذَان. وفيها انقضتِ الهُدْنة التي كانت بين صلاح الدين والفرنج، فقصدوا بيروت وبها سامة الجِيلي، فهرب واستولى الفرنج عليها، فقال بعضُ الدِّمَشْقيين (¬2): [من الخفيف] سَلِّمِ الحِصْنَ ما عليك ملامَهْ ... ما يُلامُ الَّذي يرومُ السَّلامَهْ إنَّ أَخْذَ الحصونِ لا بقتالٍ ... سُنَّةٌ سنَّها ببيروتَ سامَهْ أبعد الله تاجرًا سَنَّ ذا البـ ... ـيع وأخزى بخِزْيه مَنْ سامَهْ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الصواب أن قائل هذه الأبيات قالها في أثناء حصار الفرنج لحصن تبنين، وهو الَّذي أشار إليه الشاعر بقوله: سَلَّم الحصن، انظر "الروضتين": 4/ 441.

أحمد بن عيسى الهاشمي

وحجَّ بالنَاس من بغداد شمس الدين أصبه، ومن الشام سيف الدين محمد بن تميرك. وفيها توفي أحمد بن عيسى الهاشمي (¬1) من ولد الواثق بالله، ويعرف بابن الغريق، كان شاعرًا فاضلًا أديبًا، ومن شعره: [من الخفيف] ظهر اللؤم في الأنامِ لهذا ... صُنْتُ نفسي عن البريَّة طُرَّا ورأيتُ الخمولَ أنفسَ شيءٍ ... ولزومَ البيوتِ أَوْلى وأحرى وقال: [من السريع] لا تَرْجُ مَنْ نِعْمَتُهُ أُحْدِثَتْ ... من بَعْدِ إملاقٍ وإعدامِ فما ترى في وجهه راحةً ... هل يُوجد الرِّيُّ من الظَّامي وقال: [من مخلع البسيط] لم أكتحلْ في صباح يومٍ ... أُريقَ فيه دمُ الحسينِ إلا لحُزْني فذاك أني ... سوَّدْتُ حتَّى بياضَ عَيني وماتَ في ذي القَعْدة عن ثمانين سنة، ودُفِنَ بباب حَرْب. الحسن بن علي بن حمزة (¬2) أبو محمد الأقساسي، النَّقيب الطَّاهر، نقيب العلويين ببغداد. كان فاضلًا أديبًا، قال: نمتُ ليلةً عن صلاتي، فرأيتُ أميرَ المؤمنين عليًّا عليه السَّلام في جامع الكوفة وحوله جماعة، فسلَّمت عليه، فلم يَرُدَّ عليّ، ودفعني بيده من ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 25 - 26، "التكملة لوفيات النقلة" للمنذري: 1/ 291، و"المذيل على الروضتين": 1/ 73 - 74، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 197، و"الوافي بالوفيات": 7/ 206، 274، "لسان الميزان": 1/ 230. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 4/ 266 - 274، "التكملة" للمنذري: 1/ 287 - 288، و"المذيل على الروضتين": 1/ 74، و"المختصر المحتاج إليه": 2/ 19، و"الوافي بالوفيات": 12/ 128 - 129.

صندل بن عبد الله، عماد الدين الخادم المقتفوي

الجانب الآخر، ففعل بي كذلك، فخطر لي أَنَّه بسبب نومي عن الصَّلاة، ثم دفعني، وقال: [من البسيط] لا تأملنْ عَوْدَ الشَّباب ولا ... تأمل قُوى بعد ضعفٍ نازحِ البَصَرِ (¬1) واحملْ على ظَلْعٍ إن كنتَ ذا أَرَبٍ ... فَمُدْلِجُ اللَّيلِ لا يَعْتَلُّ بالسَّحَرِ صَنْدَل بن عبد الله، عماد الدِّين الخادم المُقْتَفوي (¬2) كان كبير الخَدَمِ وأَعْقَلَهم، وأرسله النَّاصر إلى صلاح الدين مرارًا، وكان كثير الصَّدقات والخير، وولي ناظرًا بواسط، وكانت وفاته في صفر، ودُفِنَ بالتربة التي أنشأها عند جامع بلهيقا؛ غربي بغداد. طُغتِكِين بن أيوب (¬3) سيف الإسلام، أخو صلاح الدين. مَلَكَ اليمن من زبيد إلى حَضْرَموت، [وقمع الخوارج] (¬4)، وكان شجاعًا شَهْمًا، [وقد ذكرناه] (4)، وكانت وفاته [في شوال] (4) بزبيد، وولي بعده ولده شمس الملوك إسماعيل، وادَّعى الخلافة، [وسنذكره] (4). طلحة بن مُطفَّر بن غانم (¬5) أبو محمد، الحنبلي العَلْثي، والعَلْث: قرية من أعمال دُجَيل. ¬

_ (¬1) كذا في (ح)، ولم يتزن البيت. (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 276، و"كتاب الروضتين": 2/ 207، و"المذيل على الروضتين": 1/ 74. (¬3) له ترجمة في "طبقات فقهاء اليمن": 229، 230، 236، و"الكامل": 12/ 54، و"التكملة، للمنذري: 1/ 289 - 290، و"المذيل على الروضتين": 1/ 73، "وفيات الأعيان": 2/ 523 - 525، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 333، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 295، و"معجم البلدان": 4/ 146، و"المختصر المحتاج إليه": 2/ 121، و"ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 390 - 391، و"المقصد الأرشد": 1/ 461 - 463، و"شذرات الذهب": 4/ 313، و"المنهج الأحمد": 4/ 6 - 7.

عبد الله بن منصور بن عمران

قدم بغداد، وتفقَّه على أبي الفَتْح بن المَنِّي، وعلى أبي الفرج بن الجوزي، وقرأ عليه أكثر مصنَّفاته، وكان ورعًا دَيِّنًا، انقطع قبل وفاته إلى زاويةٍ له بالعَلْث سنين، واشتغل بالعبادة، وسافر إليه النَّاس لطلب الحديث، وتوفي بالعَلْث في ذي الحِجَّة. عبد الله بن منصور بن عمران (¬1) أبو بكر، الباقلاوي [المقرئ] (2). ولد سنة خمس مئة، [وقرأ بواسط على أبي العز محمد بن الحسين القلانسي وغيره] (2)، وانفرد بالرِّواية في القراءات العَشْر [عن القلانسي] (2)، وقدم بغداد [فقرأ على أبي محمد عبد الله بن علي سبط أبي منصور الخياط وغيره، وكان حسن التلاوة، وكان قدومه إلى بغداد سنة عشرين وخمس مئة وبعدها، وآخر ما قدمها سنة ست وسبعين وخمس مئة] (2)، وتوفي بواسط سَلْخ ربيع الآخر، ودفن [عند أبيه] (2) بمقبرة المُصَلَّى، وكان يومًا مشهودًا، ورآه بعضُ الأعيان في المنام، فقال له: ما فعل بك؟ فقال: قد صلَّى عليَّ سبعون ألفًا من الأبدال. [سمع أبا القاسم بن الحُصَين وابن السمرقندي وقاضي المارستان وغيرهم، ولي منه إجازة] (¬2). عبد الرحمن بن علي (¬3) أبو محمد الشَّرابي، بغدادي. كان زاهدًا، عابدًا، منقطعًا في مسجدٍ على دِجْلة، توفي يوم الفطر، ودفن بباب حرب. حكى عن أشياخه أَنَّ ابن بَطَّة العُكْبَري اجتاز بالأحنف العُكْبَرِي فقام له، فأنكر ذلك، فقال الأحنف بديهًا: [من الخفيف] لا تَلُمْني على القيامِ بحقِّي ... حين تبدو أن لا أَمَلَّ القِياما ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 130، و"التكملة" للمنذري: 1/ 277 - 278، و"المذيل على الروضتين": 1/ 74 - 75، و"معرفة القراء الكبار": 3/ 1096 - 1100، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 246 - 248، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 288.

عبد الوهاب بن الشيخ عبد القادر الجيلي

أنتَ مِنْ أكرم البَرِيَّة عندي ... ومن الحقِّ أَنْ أُجِلَّ الكراما عبد الوهَّاب بن الشيخ عبد القادر الجِيلي (¬1) ولد سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة. وتفقَّه ووعظ، وكان ذكيًّا، ولاه الخليفة المظالم وتربة الخلاطية، وهو أبو الركن عبد السَّلام (¬2)، [وكانت مجالس وعظه تمضي في الهزل والمجون] (3). قال يومًا في مجلسه: إذا مات العبد، وكان مدمنًا للخمر، نزل القبر وهو سكران، وسأله منكر ونكير وهو سكران، وقام من قبره وهو سكران، ومشى على الصراط وهو سكران، فقال له بعض الحاضرين: يا سيِّدنا، أين يُباع هذا الخمر؟ يساوي كل كوز منه دينار. فضحك سيف الدين عبد الوهَّاب والجماعة. وقيل: إنَّ هذه الواقعة جرت لابن شاشير الواعظ، [وابن شاشير مات في سبع وست مئة] (3). وقيل له يومًا: ما تقول في أهل البيت؟ فقال: قد أعموني، وكان أعمش، [والسائل إنما سأله عن فضل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجاب عن بيت نفسه. وقيل له: بأي شيء يتبين المحق من المبطل؟ فقال: بليمونة، أراد من يخضب يزول خضابه بليمونة] (3). وكانت وفاته في شوال، ودفن بالحلبة. [سمع أباه، وأبا القاسم بن الحصين، وابن السمرقندي، وأبا الوقت وغيرهم] (¬3). عُبيد الله بن يونس بن أحمد (¬4) أبو المُظَفَّر، جلال الدين، الوزير، الحَنْبَلي. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "ذيل تاريخ بغداد": 1/ 347 - 348، "التكملة" للمنذري: 1/ 289، و"المذيل من الروضتين": 1/ 75 - 76، و"مشيخة النعال": 132 - 133، و"ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 388 - 390، "شذرات الذهب": 4/ 314، و"المقصد الأرشد" 2/ 152، "المنهج الأحمد": 4/ 5 - 6. (¬2) ستأتي ترجمة ابنه عبد السلام ص 202 من هذا الجزء. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "ذيل تاريخ بغداد": 2/ 169 - 172، و"المذيل من الروضتين": 1/ 76 - 77، و"المختصر المحتاج إليه": 2/ 183 - 184، و"عيون التواريخ": 11/ 562، و"الوافي بالوفيات": 19/ 420 - 421، و"الفخري": ص 323، و"ذيل طبقات الحنابلة": 1/ 392 - 395، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 299 - 300، و"النجوم الزاهرة" 6/ 142، وفي "المذيل " تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن صدقة بن علي

كان في بداية أمره أحدَ العدول ببغداد، ثم خَدَمَ في ديوان الأبنية، ولما مات أبوه توكَّل لأُم الخليفة، ثم ولي صاحب ديوان، ثم استوزره الخليفة وبعثه إلى طُغْريل، فكسره، وقد ذكرناه، وعا د إلى بغداد، فولاه الخليفة الديوان والمخزن، ثم ولاه أُستاذ دار، ثم عزله. وكان قد قرأ القرآن وتفقَّه، وكان فاضلًا في الأُصولَين، والحساب، والهندسة، والجبر والمقابلة، غير أَنَّه شان فَضْلَه لَجاجُه ومخالفتُه الأمراء، وأخرب بيت الشيخ عبد القادر، وشتَّت أولاده، ويقال: إنه بعث في الليل مَنْ نَبَشَ الشيخ عبد القادر، ورمى عظامه في اللُّجَّة، وقال: هذا وقف ما يحِلُّ أن يدفن فيه أحد. ولما اعتقله الخليفة كَتَبَ فتوى بأَنَّه كان سببًا لهزيمة العسكر، وذكر فيها أشياء أُخَر، فأفتَوْا بإباحة دمه، فَسُلِّم إلى أحمد بن الوزير ابن القَصَّاب، فبقي في داره، فلما مات ابنُ القَصَّاب اعتقل في التَّاج، فأُخرج في سابم عشر صفر ميتًا، ودفن بالسِّرداب. محمد بن صدقة (¬1) بن علي (¬2) أبو المحاسن، البُوشَنْجي. ولد سنة سبع عشرة وخمس مئة، واشتغل بالأدب، وبَرَعَ في الفَضْل، وكان يتوزَّر للأمراء، وقال يرثي أزدق بن قماح: [من الطويل] سقى الله أرضًا ضمَّ أزدق عارضًا ... شآبيبه مُنْهَلَّةٌ كنَوَالِهِ فوالله لا جادَ الزَّمانُ بمِثله ... ولا بَرِحَتْ عينُ العُلَى عن خيالِهِ وقال: بِتْنا وشعارُنا التُّقى والكرمُ ... والشَّمْلُ بساحةِ اللِّقا ملتئمُ نشكو ونبثُّ ما خباه الأَلَمُ ... حتَّى بَسَمَ الصُّبْحُ ولاحَ العَلَمُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "خريدة القصر"، قسم شعراء العراق: ج 1/ 257 - 259، و "التكملة" للمنذري: 1/ 288، و"الوافي بالوفيات": 3/ 159. (¬2) في "التكملة" و"الوافي": محمد.

يحيى بن أسعد

[وفيها توفي يحيى بن أسعد (¬1) ابن يحيى بن بَوْش، أبو القاسم الخباز، البغدادي. سمع الكثير، وكان قد افتقر في آخر عمره، فكان يأخذ على التسميع أجرة، جلس ليلة ثالث ذي القعدة يأكل خبزًا، فغضَّ بلقمة، فمات فجأة، سمع قاضي المارَشتان، وأبا العز بن كادش، وأبا سعد بن الطيوري، وأبا طالب بن يوسف، وهو آخر من روى عن أبي طالب، وقد سمعتُ منه الحديث، وكان ثقة] (2). السنة الرابعة والتسعون وخمس مئة فيها ولى الخليفة شمسَ الدِّين أبا الحسن عليَّ بن عبد السيد قضاء الجانب الغربي ببغداد مضافًا إلى الحِسْبة، وعَزَلَ عمادَ الدِّين عبد الله بن الحسين بن الدَّامَغَاني عن قضاء القُضَاة، وولى مكانه أحمد بن علي البخاري، وولى شرف الدِّين أبا القاسم النَّاقد المخزنَ، ومات في الوزارة. وفيها نَزَلَ الفرنج في المحرَّم على تِبْنين، فأرسل العادل محيي الدِّين بن زكي الدِّين إلى العزيز إلى مِصْر يستنجده، فخرج بجيوشه إلى الشَّام، فوصل ثالث ربيع الأول، وكانوا قد ضايقوا الحِصْن ونقبوه من كلِّ ناحية، وأشرف على الأخذ، وهدُّوه بالمجانيق، [ونقبوه سربًا سربًا] (¬2)، وكانوا يستظلون بالأسراب من المطر، وجعلوا النقوب بيوتًا يسكنونها، وكان الفرنج يحدِّثون المُسْلمين من النُّقوب، وكان العادل نازلًا عند هونين، ومعه شيركوه صاحب حِمْص، والأمجد صاحب بَعْلَبَك، وعز الدين ابن المقدَّم، ودُلْدُرُم صاحب تل باشر، وجاءهم العزيز، فساروا جميعًا إلى هُونين، فلو تأخَّروا يومًا أُخذت تبنين، وقُتِلَ كل مَن فيها، وأرسل الله في تلك الليلة مطرًا شديدًا وريحًا عظيمة، وأوقع في قلوب الفرنج ¬

_ (¬1) له ترجمة في "إكمال الإكمال" لابن الصابوني: 110، 231، "التكملة" للمنذري: 1/ 290 - 291، و"المذيل على الروضتين": 1/ 77، "مشيخة النعال": 133 - 135، "سير أعلام النبلاء": 21/ 243 - 244، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

جرديك بن عبد الله النوري

الرُّعْب وقيل: جاءكم سُلْطان مِصْر والعساكر. فتركوا المجانيق والدَّبَّابات والآلات بحالها، والخيم وما فيها، وهربوا في اللَّيل إلى صور، ثم بعثوا يطلبون الصُّلْح، فصالحهم العزيز على قاعدة صُلْح صلاحِ الدِّين، وخَلَعَ العزيز على المُعَظَّم عيسى بن العادل، وأعطاه سنجقًا ومنشورًا بدمشق، وعاد إلى مِصْر، ومضى العادل إلى ماردين، فحصرها في رمضان، وملك الرَّبَض، ولم يبق سوى القلعة. وحجَّ بالنَّاس من بغداد أيلبا، ومن الشَّام زين الدين قَرَاجا مملوك صلاح الدين. وفيها توفي جُرْديك بن عبد الله النُّوري (¬1) كان من أكابر أمراء نور الدين، [ثم خدم صلاح الدين] (2) في جميع غَزَواته، وهو الَّذي قَتَلَ شاور بمِصْر وابنَ الخَشَّاب بحلب، وكان جَوَادًا، ولاه صلاح الدين القُدْس، ثم أخذه منه الأفضل، [وولاه أبا الهيجاء، وقد ذكرناه] (¬2). حسن بن مُسَلَّم بن أبي الحسن (¬3) أبو علي، الشيخ الزَّاهد، الحَنْبلي، الفارسي: من قريةٍ بنهر عيسى يقال لها الفارسية، كان من الأبدال، لازمًا طريق السَّلَف، أقام أربعين سنة لم يكلِّم أحدًا من النَّاس، وكان صائم الدَّهْر، وقائم اللَّيل، يقرأ كل يوم وليلة ختمة. [وذكره جدي في صفوة الصفوة، وقال: وكان] (2) زاهد زمانه، وكانت السِّباع تأوي إلى زاويته، و [كان] (2) الخليفة وأرباب الدَّولة يمشون إلى زيارته. [وحدثني عنه شيخنا عبد الكريم ابن أخيه، وكان صالحًا، قال: كان عمي الشيخ حسن] (2) يتمثل دائمًا [بهذا البيت] (2): [من الطويل] وما كُنْتُ إلا مثل قابضِ كَفِّه ... على الماءِ خانَتْه فروجُ الأصابعِ ¬

_ (¬1) سلفت أخباره في هذا الكتاب. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (س). (¬3) ترجمته في "معجم البلدان": 2/ 318، 3/ 228، "التكملة لوفيات النقلة": 1/ 300 - 301، "المختصر المحتاج إليه": 2/ 26، و"المذيل على الروضتين": 1/ 78 - 79، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 301 - 302، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

زنكي بن مودود

وكانت وفاته يوم عاشوراء، ودُفِنَ في رباطه بالفارسية (¬1). قال المصنِّف رحمه الله: وقد زُرْتُه، وحكى لي جماعةٌ عن مشايخ القرية أَنَّ السِّباع تنامُ طول الليل حول زاويته، وإذا خرج أحدٌ من القرية في الليل إلى نهر عيسى لم تتعرَّض له، وأَنَّ فقيرًا نام في الزَّاوية في ليلةٍ باردة، فاحتلم، فنزل إلى النهر ليغتسل، فجاء السَّبُع فنام على جُبَّته، فكاد الفقير يموت من البَرْد والخوف، فخرج الشيخ حسن، وجاء إلى السَّبُع، وضربه بكُمِّه وقال: يا مبارك، قد قلنا لك: لا تتعرَّض لضيفنا. فقام السَّبُع يهرول. [سمع قاضي المارستان، وابن الحُصَين، وابن الطيوري، وغيرهم] (¬2). زَنْكي بن مودود (¬3) ابن زَنْكي بن آق سُنْقُر، عماد الدين، صاحب سِنْجار، ابن أخي نور الدِّين، [وقد ذكرناه في السنين، و] (2) كان عاقلًا جوادًا [وهو الَّذي قايض حلب بسنجار] (2)، ولم يزل مع [السلطان] (2) صلاح الدين في غزواته مجاهدًا، وكان ميمونَ النقيبة، وكان صلاح الدين يحترمه مثلما كان يحترم نور الدين، ويعطيه الأموال والهدايا والتُّحَف الكثيرة، ولما توفي صلاح الدين خَرَجَ مع أخيه عِزِّ الدَّين إلى لقاء العادل، ولما عاد عِزُّ الدِّين إلى المَوْصل صالح عمادُ الدين العادلَ، وكانت وفاته بسِنْجار، ولما احتُضر أوصى إلى أكبر أولاده، وهو قُطْب الدين محمد، ويلقب بالملك المنصور. علي بن جابر بن زهير قاضي البطائح (¬4) قال: أنشدني القاسم بن علي صاحب المقامات لنفسه: [من البسيط] ¬

_ (¬1) لم أجد ترجمته في مطبوع "صفة الصفوة" الَّذي بين يدي. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 79، "وفيات الأعيان": 2/ 330 - 331، و"الوافي بالوفيات": 14/ 223 - 224، و "النجوم الزاهرة": 6/ 144، "الدارس": 1/ 617. (¬4) له ترجمة في "معجم البلدان": 3/ 172، وفيه علي بن رجاء، وهو خطأ، و"ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 3/ 234 - 235، و"التكملة" للمنذري: 1/ 316، و"المذيل على الروضتين": 1/ 80، وانظر تعليقي عليه، "المختصر المحتاج إليه": 3/ 120، و "البداية والنهاية" (وفيات سنة 594 هـ).

علي بن علي بن ناصر

لا تَخْطُوَنَّ إلى خِطءٍ ولا خطأ ... من بَعْدِ ما الشَّيبُ في فَوْدَيكَ قد وَخَطَا فأيُّ عُذْرٍ لمن شابَتْ ذوائِبُهُ ... إذا سعى في ميادين الصِّبا وخَطَا علي بن علي بن ناصر (¬1) أبو المجد، السيد العلوي [الحنفي] (2)، مدرِّس الحنفية ببغداد. ولد سنة خمس عشرة وخمس مئة، [وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وبرع فيه، وأفتى وناظر] (2)، وكان المستنجد قد حبسه وطالبه بمالٍ، فرأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال له: يا يوسف، استوص بولدي خيرًا، فهو وديعتي عندك. فانتبه [الخليفة] (2) مرعوبًا، وأحضره وخاطبه، وقال [له] (2): اجعلني في حِلٍّ، فقد شَفَعَ فيك من لا يمكنني رَدّه. وأحسن إليه [غاية الإحسان، وأكرمه وقربه منه] (2)، وكانت وفاته في ربيع الأول، ودُفِنَ عند مشهد عبيد الله شرقي بغداد، وكان صالحًا شريفًا على الحقيقة، [سمع ابن الحُصَين، وقاضي المارَسْتان وابن السمرقندي، وغيرهم] (¬2). قيماز بن عبد الله (¬3) مجاهد الدِّين، الخادم الرُّومي (¬4)، الحاكم على المَوْصل، وهو الَّذي بنى الجامع المجاهدي والمدرسة، والرِّباط، والمارَسْتان بظاهر المَوْصل على دِجْلة، ووَقَفَ عليهم الأوقاف، وكان عليه رواتب كثيرة بحيث لم يَدَعْ في المَوْصل بيتًا فقيرًا إلا وأغنى أهله، وكان دَيِّنًا صالحًا، عادلًا كريمًا، يتصدَّق كل يوم خارجًا عن الرَّواتب بمئة دينار، وله حكاياتٌ مشهورة. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 139، و"التكملة" للمنذري: 1/ 303، و"المذيل على الروضتين": 1/ 80 - 81، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 130، و"الوافي بالوفيات": 21/ 338 - 339، و"الجواهر المضية": 2/ 584 - 585، وفيه وفاته سنة 599 هـ، وهو خطأ. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الكامل": 12/ 531 - 154، و"التكملة" للمنذري: 1/ 323، و"الروضتين": 2/ 453 - 454، "وفيات الأعيان": 4/ 82 - 84، "مفرج الكروب": 2/ 153 - 154، ووفاته عندهم سنة 595 هـ، وكذلك أرخ وفاته ابن كثير في "البداية والنهاية"، وتابع المصنف على وفاته سنة 594 هـ أبو شامة في "المذيل": 1/ 81 - 82، وابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 6/ 144. (¬4) الرومي هكذا جاءت في (ح)، وكذلك هي في نسخ "المذيل" و"النجوم الزاهرة"، وهو تحريف، صوابها الزيني، نسبة إلى زين الدين علي بن بكتكين، وكان عتيقه، كما في مصادر ترجمته.

يحيى بن سعيد

ولما مات عِزُّ الدِّين مسعود، وولي ابنُه رسلان شاه حَبَسه وضيَّق عليه وآذاه، فتوفي في الحبس، فأُخرج ملفوفًا في كِساء، فلما وصل إلى باب البلد قال البوابون: قفوا حتَّى نستأذن له، فأُلقي على قارعة الطريق حتَّى أُذِنَ له. وكان لعِزِّ الدين مسعود جاريةٌ يقال لها أقصرا أَوْلَدها الجهة الأتابكية (¬1) التي بَنَتْ في قاسيون التُّرْبة والمدرسة، وكانت زوجةَ الملك الأشرف رحمه الله، وكان عِزُّ الدَّين قد زوَّج أقصرا أم الأتابكية مجاهدَ الدين قيماز. يحيى بن سعيد (¬2) ابن هبة الله، أبو طالب بن زَبَادة الواسطي، ولد سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة، وقَدِمَ بغداد، واشتغل بالأدب، فَبَرَعَ في الإنشاء والكتابة، وانتهت إليه الرياسة فيهما مع تخصُّصه بفنون العلوم، كالفِقْه وعلم الكلام والأُصول والحساب والشِّعْر، جالسَ أبا المنصور ابنَ الجواليقي، وقرأ عليه، وسَمِعَ أبا القاسم بن الصَّباغ وغيره، وولي للخليفة عِدَّة خِدَم: حِجْبة الباب، ثم أستاذية الدار، ثم كتابة الإنشاء في آخر أمره، وكانت وفاتُه في ذي الحجة، ودُفِنَ بمقابر قريش، ومن شعره [من المجتث]: الوَجْهُ كالبَرْقِ يخفق ... حينًا وفي الحال يخفى فتارةً يتلالا ... وتارة يتخفَّى يظميك طورًا وطورًا ... يَسْقيك رِيًّا ورَشْفا لو كنت في الحب صِرْفًا ... سَقَوْك في الحال صرفا وقال: [من الخفيف] قد سَلَوْتُ الدُّنيا ولم يَسْلُها مَنْ ... عَلِقَتْ بي آمالُه والأراجي فإذا ما صَرَفْتُ وَجْهيَ عنها ... قَذَفُوني في بحرِها العَجَّاجِ يستضيئونَ بي وأَهْلِكُ وَحْدي ... فكأنِّي ذُبالةٌ في سراجِ ¬

_ (¬1) ستأتي ترجمتها سنة (640 هـ). (¬2) له ترجمة في "معجم الأدباء": 20/ 61 - 17، "الكامل": 12/ 138، "التكملة" للمنذري: 1/ 315، و"المذيل على الروضتين": 1/ 82 - 83، "وفيات الأعيان": 6/ 244 - 249، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 242 - 243، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 336 - 333، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

قلت (¬1): هذا مقدار ما ذكره المصنِّف رحمه الله، وقد ذكره قاضي القضاة شمس الدين بن خَلِّكان رحمه الله في "وَفَيات الأعيان" فقال: أبو طالب يحيى بن أبي الفرج سعيد بن أبي القاسم هبة الله بن علي بن زبادة الشَّيباني، الكاتب المنشئ، الواسطي الأصل، البغدادي المولد والدَّار والوفاة، الملقب قِوَام الدين، انتهت إليه المعرفة بأمور الكتابة والإنشاء وغير ذلك، وله النَّظْم الجيد، جالسَ ابن الجواليقي، وقرأ عليه وعلى مَنْ بعده، وسمع الحديث من جماعة، وخَدَمَ الدِّيوان من صباه إلى أن توفي عِدَّة خدمات، وكان مليحَ العبارة في الإنشاء، جَيِّدَ الفكرة، حلو التوضيح، لطيف الإشارة، وكان الغالب عليه في رسائله العناية بالمعاني أكثر من طلب التسجيع، وله رسائل بليغة، وشعرٌ رائق، وفَضْله أشهر من أن يذكر. وتولى النظر بديوان البَصْرة وواسط والحِلَّة، ولم يزل على ذلك إلى أن طُلب من واسط في المحرم سنة خمس وسبعين وخمس مئة، ورتِّب حاجبًا بباب النوبي، وقُلِّد النَّظر في المظالم، ثم عُزِل عن ذلك في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين، فلما قتل أُستاذ الدَّار -وهو مجد الدين أبو الفَضْل هبة الله بن علي بن هبة الله بن محمد بن الحسن المعروف بابن الصاحب، وكان قَتْلُه يوم السبت تاسع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين- ترتَّب ابن زبادة المذكور مكانه، ثم عُزِلَ في سنة خمس وثمانين، وعاد إلى واسط، فأقام بها إلى أن استدعي في شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين، وقُلِّد ديوان الإنشاء في يوم الاثنين الثَّاني والعشرين من شهر رمضان، ثم رُدَّ إليه النظر في ديوان المقاطعات، فكان على ذلك إلى حين وفاته. وكان حَسَنَ السِّيرة، محمود الطَّريقة، متدينًا، حدَّث بشيءٍ يسير، وكتب النَّاس عنه كثيرًا من نَظْمه ونَثْره، فمن ذلك قوله: [من الخفيف] باضطِّراب الزَّمان ترتفع الأنـ ... ـذالُ فيه حتَّى يعمَّ البلاءُ وكذا الماء ساكنًا فإذا حُرِّ ... ك ثارتْ من قعره الأقذاءُ ¬

_ (¬1) القائل هو قطب الدين اليونيني، مختصر "مرآة الزمان".

وله أيضًا: [من البسيط] إني لأعظمُ ما يلقونني جَلَدًا ... إذا توسَّطْتُ هولَ الحادثِ النكد كذلك الشَّمْسُ لا تَزْدَاد قُوَّتها ... إلا إذا حَصَلَتْ في زبرة الأَسَدِ وكتب إلى الإمام المستنجد يهنيه بالعيد: [من البسيط] يا ماجدًا جلَّ قدرًا أن نهنيه ... لنا الهناءُ بظلٍّ منكَ ممدودِ الدَّهْرُ أنتَ ويوم العيد منك وما ... في العرف أنا نُهَنِّي الدَّهْرَ بالعيدِ وله أيضًا: [من الكامل] إنْ كنتَ تسعى للسعادة فاستقمْ ... تنلِ المرادَ ولو سموتَ إلى السَّما ألفُ الكتابة وهو بعضُ حروفها ... لما استقام على الجميعِ تقدَّما وقال: [من البسيط] لا تغبطنَّ وزيرًا للملوك وإنْ ... أناله الدَّهْرُ منهم فوق هِمَّتِهِ واعلمْ بأن له يومًا تمورُ به الـ ... أرضُ الوقورُ كما مارت لهيبته هارون وهو أخو موسى الشقيق له ... لولا الوزارةُ لم يأخذ بلحيته وله كل معنًى مليح، وله ديوانُ رسائل وقفت عليه في بلادنا، ولم يحضرني شيءٌ منه كي أثبته ها هنا. وقال أبو عبد الله محمد بن سعيد الدّبيثي في "تاريخه": أنشدنا أبو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله -يعني ابن زبادة المذكور- من حِفْظه، قال: أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد الأرَّجاني لما قدم بغداد علينا في سنة ثمانٍ وثلاثين وخمس مئة لنفسه: [من الطويل] ومقسومةِ العينين من دَهَش النَّوى ... وقد راعها بالعيس رَجْعُ حُداءِ تجيبُ بإحدى مقلتيها تحيتي ... وأخرى تراعي أعينَ الرُّقباء رأت حولها الواشين طافوا فغيضت ... لهم دمعها واستعصمتْ بحياءِ فلمَّا بكت عيني غداةَ وداعهمْ ... وقد روَّعتني فرقةُ القُرَناء بدت في محيَّاها خيالاتُ أدمعي ... فغاروا وظنُّوا أنْ بكت لبكائي

وكَتَبَ إليه أبو الغنائم محمد بن علي المعروف بابن المعلم الهُرْثي الشَّاعر، وقد عُزِلَ عن نظر واسط: [من الكامل] ولأنتَ إن لم يبللِ الغيثُ الثَّرى ... تروي الورى بسماحك الهتَّانِ لم يعزلوك عن البلاد لحالةٍ ... تدعو إلى النقصان والشنآنِ بل مُذْ رأوا آثارَ جودكَ زاخرًا ... حفظوا بلادهمُ مِنَ الطوفان وحكى الوجيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن سويد التَّاجر التكريتي، قال: كان الشيخ محيي الدين أبو المُظَفَّر يوسف بن الحافظ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، الواعظ المشهور، قد توجَّه رسولًا من بغداد إلى الملك العادل ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب سُلْطان مِصْر في ذلك الوقت، وكان أخوه الملك الصَّالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محبوسًا في قلعة الكَرَك يومئذٍ، فلما عاد محيي الدِّين راجعًا إلى بغداد، وقَدِمَ دمشق كنت بها، فدخلت عليه أنا والشيخ أصيل الدين أبو الفَضْل عباس بن عثمان بن نبهان الإرْبلي، وكان رئيس التجار في عَصْره، وجلسنا نتحدَّث معه، فقال: قد حلَّفت الملك النَّاصر داود صاحب الكَرَك أن لا يُخرج الملك الصَّالح من الحبس إلا بأمر أخيه الملك العادل، فقال له الأصيل: يا مولانا، هذا بأمر الدِّيوان العزيز؟ فقال محيي الدِّين: وهل هذا يحتاج إلى إذن؟ هذا اقتضته المصلحة، ولكن أنت تاريخ يا أصيل، فقال -يعني مولانا-: إني قد كبرت، وما أدري ما أقول، وأنا أحكي لمولانا حكاية في هذا المعنى أعرفها من غرائب الحكايات. قال: هاتِ. فقال: كان ابن رئيس الرؤساء ناظر واسط يحمل في كلّ شهر حمل واسط، وهو ثلاثون ألف دينار، لا يمكن أن يتأخر يومًا عن العادة، فتعذَّر في بعض الأشهر كمال الحمل، فضاق صدره لذلك وذكره لنوابه، فقالوا له: يا مولانا، هذا ابن زبادة عليه من الحقوق أضعاف ذلك، ومتى حاسبته قام بما يتم الحمل وزيادة، فاستدعاه وقال له: أنت لم لا تؤدي كما يؤدِّي الناس؟ فقال: أنا معي خط الإمام المستنجد بالمسامحة، قال: فهل معك خط مولانا الإمام النَّاصر؟ قال: لا. قال: قم واحمل ما يجبُ عليك. قال: ما ألتفتُ إلى أحد ولا أحمل شيئًا. ونَهَضَ من المجلس، فقال النواب لابن رئيس الرؤساء: أنت صاحبُ الوسادتين وناظر النظار، ما على يدك يد، ومن هو هذا حتَّى يقابلك بمثل هذا القول؟ ولو كبست داره وأخذت ما فيها ما قال لك أحد شيئًا. وحملوه حتَّى ركب بنفسه وأجناده، وكان ابن زبادة يسكن قبالة

واسط، وقدَّموا لابن رئيس الرؤساء السفن حتَّى يعبر إليه، وإذ بزَبْزب قد قدم من بغداد، فقال: ما قدم هذا إلا في مهم، ننظر ما هو، ثم نعود إلى ما نحن بسببه، فلما دنا من الزبزب، فإذا فيه خدم من خدام الخليفة، فصاحوا به: الأرض الأرض، فقبَّل الأرض، وناولوه مطالعة، وفيها: قد بعثنا خِلْعة ودواة لابنِ زبادة، فتحمل الخلعة على رأسك والدَّواة على صَدْرك، وتمشي راجلًا إليه، وتلبسه الخلعة، وتجهزه إلينا وزيرًا. فحمل الخِلْعة على رأسه، والدَّواة على صدره، ومشى إليه راجلًا، فلما رآه ابن زبادة أنشده ابن رئيس الرؤساء: [من الطويل] إذا المرء حيٌّ فهو يُرْجى ويتَّقى ... وما يعلمُ الإنسان ما في المغيَّبِ وأخذ يعتذر إليه، فقال ابن زبادة: لا تثريب عليكم اليوم. وركب في الزَّبزب إلى بغداد، وما علموا أَنَّ أحدًا أُرسلت إليه الوزارة غيره، فلما وصل إلى بغداد أول ما نظر فيه أن عزل ابن رئيس الرؤساء عن نظر واسط، وقال: هذا ما يصلح لهذا المنصب، ثم قال الأصيل: ولا يأمن يا مولانا أن يخرج الملك الصَّالح، ويملك وتعود إليه رسولًا، ويقع وجهك في وجهه، وتستحي منه، فأنشده محيي الدين [من الطويل]: وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشرَ في الموتى كليبٌ لوائل فما كان إلا مديدة حتَّى خرج الملك الصَّالح من حبس الكَرَك، وملك مصر، وكان ما كان. قال قاضي القضاة رحمه الله: وكنتُ بمصر ومحيي الدِّين بها رسول إلى العادل، وقُبض العادل، وجاء الصَّالح، فخرج محيي الدين التقاه، وشاهدتُ ذلك. هكذا ذكر الوجيه هذه الحكاية، وفيها غلط إما من الوجيه أو من الأصيل، فإنَّ ابن زبادة ما ولي الوزارة ولا تولى إلا ما ذكرته في أوائل ترجمته، فإنْ كان هذا صحيحًا فيكون ذلك لما طلب للإنشاء كما شرحته. والله أعلم بالصَّواب. قال ابن الدبيثي: سألتُ أبا طالب ابن زبادة عن مولده فقال: ولدت في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة، وتوفي ليلة الجمعة السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمس مئة، وصلي عليه بجامع القصر، ودُفِنَ بالجانب الغربي بمشهد الإمام موسى بن جعفر - رضي الله عنهما - ببغداد. انتهى كلام قاضي القضاة، رحمه الله (¬1). ¬

_ (¬1) "وفيات الأعيان": 6/ 244 - 249.

أبو الهيجاء السمين

قلتُ (¬1): ويحيى بن زبادة هو منشئُ الرِّسالة إلى السُّلْطان صلاح الدين -رحمه الله- تتضمن العَتْب عليه، وقد أثبتها فيما تقدَّم (¬2)، وهي من غُرَر الرَّسائل. أبو الهيجاء السَّمين (¬3) حسام الدين الكُرْدي. قد ذكرنا أَنَّه قَدِمَ بغداد، وبعثه الخليفةُ إلى هَمَذَان، فلم يتمَّ له أمر، واختلف الأمراء عليه، وتفرَّق عنه أصحابه، فخاف من الخُوارَزْمي، واستحيا أن يعود إلى بغداد، فسار يطلب الشام على دَقُوقا، فلما وصل إليها مرض، وأقام بها أيامًا، فتوفي، و [بلغني أنَّه] (¬4) كان نازلًا على تل، فقال: ادفنوني فيه، فحفروا له قبرًا على رأس التَّل، فظهرت بلاطةٌ عليها اسم أبيه، فدفنوه عليه. السنة الخامسة والتسعون وخمس مئة دخلت هذه السنة والعادل على مارِدِين، وتوفي الملك العزيز في المحرَّم، وكتبت الصَّلاحية إلى الأفضل وهو بصَرْخد ليقدم عليهم، فسار إلى مِصْر، فجعلوه أتابَك ولد العزيز. قال المصنف رحمه الله: وفيها وقف خالي محيي الدين أبو محمد يوسف [للخليفة في رجب، ومعه قصة ببستان يقال له دولاب البقل] (4) يذكر فيها ما نال جَدِّي وأهله من الضُّرّ، وكان نجاح الشرابي بين يدي الخليفة، فجاء، فأخذ الورقة، وقال له [الشرابي] (4): تعال إلى باب البَدْرية، ووقعوا له بالإفراج عنه، فقَدِمَ جَدِّي بغداد في شعبان، وخُلِعَ عليه، وجلس عند تُرْبة أُمِّ الخليفة، وكانت تتعصَّب له، وساعدت في خلاصه، وأنشد جدِّي للشَّريف الرَّضي: [من السريع] إن كان لي ذنبٌ ولم آته ... فاستأنفِ العَفْوَ وَهَبْ ما مضى [وهذا الشّعْر للرَّضي الموسوي، وقد ذكرناه في ترجمته] (4). ¬

_ (¬1) هو قطب الدين اليونيني، مختصر الكتاب. (¬2) سلفت الرسالة في حوادث سنة (583 هـ)، ص 325 من الجزء 21 من هذا الكتاب. (¬3) سلفت أخباره في هذا الكتاب. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الملك العزيز عثمان

وأنشد أيضًا: [من الوافر] شَقِينا بالنَّوى زمنًا فلما ... تلاقَينا كأنَّا ما شَقِينا سَخِطْنا عندما جَنَتِ الليالي ... فما زالتْ بنا حتى رَضِينا سَعِدْنا بالوصَال وكم سُقِينا ... بكاساتِ الصُّدودِ وكم ضنينا فَمَنْ لم يحيَ بعدَ الموتِ يومًا ... فانَّا بعد ما مُتْنا حَيِينا [وقد ذكرنا الأبيات] (¬1). وفيها استدعى الخليفةُ ضياءَ الدِّين بن الشَّهْرُزُوري إلى بغداد، وولاه القضاء. وحجَّ بالنَّاس مُظَفَّر الدِّين وجه السَّبُع. وفيها توفي الملك العزيز عثمان (¬2) ابن [يوسف] (1) صلاح الدين، صاحب مِصْر، [وقد ذكرنا أنَّه ولد في سنة سبع وستين وخمس مئة] (1)، كان صلاح الدين يحبُّه، وكان جَوَادًا، سَمْحًا، عادلًا مُنْصفًا، لطيفًا كثير الخير، رفيقًا بالرَّعية، حليمًا. قال المصنف رحمه الله: حكى لي المبارز سُنْقُر الحلبي رحمه الله، قال: ضاق ما بيده بمِصْر، فلم يبق بالخزانة دِرْهم ولا دينار، فجاء رجل من أهل الصَّعيد إلى أزكش سيف الدين، فقال: عندي للسُّلْطان عشرة آلاف دينار، ولك ألف دينار، وتوليني قضاء الصَّعيد، فدخل أزكش على العزيز فأخبره، فقال: والله لا بعت دماء المُسْلمين وأموالهم بملك الأرض، وكَتَبَ ورقةً إلى أزكش بألف دينار، وقال: اخرج، فاطرد هذا الدبر، ولولاك لأدَّبته. وقد ذكرنا أنَّه وَهَبَ دمشق للمعظَّم، وكان يطلق عشرة آلاف دينار وعشرين ألفًا، وكان سببُ وفاته أَنَّه خرج إلى الفيوم يتصيَّد، فَلاحَ له ظبيُّ، فركض خَلْفه [فكبا به ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في: "الكامل": 12/ 140، و"التكملة" للمنذري: 1/ 320، و"كتاب الروضتين": 4/ 443، "ووفيات الأَعيان": 3/ 251 - 253، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 291 - 294، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

الفرس، فدخل قربوس السرج في فؤاده، فحمل إلى القاهرة، فمات] (1) في العشرين من المحرَّم، ودُفِنَ عند الشَّافعي -رحمة الله عليه- عن سبعٍ وعشرين سنة وشهور. وقيل: عن ثمانٍ وعشرين سنة. وقال ابنُ القادسي: كان قد ركب وتبع غزالة، [فوقع] (1) فاندقت عُنُقه، وبقي أربعة أيام، ومات، ونَصَّ على ولده إنْ أمضى العادل ذلك، وكانت الوصية إلى أميرٍ كبير اسمه أزكش، فوثبتِ الأسديةُ عليه، فقتلوه. قال المصنِّف رحمه الله: وهذه من هَنَات ابن القادسي [بقوله: اندقت عنقه] (1)، فإنَّ الملك العزيز ما اندقَّت عنقه، وإنما دخل قربوس السَّرج في فؤاده، وأقام بالقاهرة أسبوعين، ونصَّ على ولده ناصر الدين محمد، وهو أكبر أولاده، وكان له عشرة أولاد، ولم يذكر عمَّه العادل في الوصية. فأما سيف الدين أزكش فكان مقدَّم الأسدية، كبيرَ القَدْرِ فيهم، وعاش بعد العزيز مُدَّة طويلة، [وسنذكره] (¬1). ذِكْرُ ما جرى بعد وفاته: كان لابنه محمد عشر سنين، وكان مقدَّم الصلاحية فخر الدين شركس وأسد الدين سراسُنْقُر وزين الدين قَرَاجا، فاتَّفقوا على ناصرِ الدِّين محمد، وحلَّفوا له الأُمراء، وكان سيف الدين أزكوش مقدَّم الأسدية غائبًا بأسوان، فقدم، فصوَّب رأيهم وما فعلوه، إلا أَنَّه قال: هو صغير السِّنِّ لا ينهض بأعباء الملك، ولا بُدَّ من تدبيرِ كبيرٍ يحسم الموادَّ، ويقيم الأمور، والعادِلُ مشغولٌ في الشَّرْق بمارِدِين، وما ثَمَّ أقرب من الأفضل نجعله أتابك العَسْكر، فلم يمكن الصلاحية مخالفة الأسدية، وقالوا: افعلوا، فكتَبَ أزكش إلى الأفضل يستدعيه وهو بصَرْخَد، وكتبتِ الصَّلاحية إلى مَنْ في دمشق من أصحابهم يقولون: قد اتفقتِ الأسدية على الأفضل، وإن مَلَكَ حكموا علينا، فامنعوه من المجيء. فركب عسكر دمشق ليمنعوه، ففاتهم، وكان الأفضل قد التقى نجَّابًا من شركس إلى مَنْ في دمشق بهذا المعنى، ومعه كُتُبٌ، فأخذها منه وقال: ارجعْ، فرجَعَ إلى مِصْر، ولما وصل الأفضل إلى مِصْر التقاه الأسدية والصَّلاحية، ورأى شركس النجاب، فقال: ما أسرعَ ما عُدْتَ، فأخبره الخبر، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

فساق هو وقَراجا إلى القُدْس، فتحصَّنا به، ثم أشارتِ الأسديةُ على الأفضل بقَصْد دمشق، وأَنَّ العادل مشغول بمارِدِين، فكتب إلى الظَّاهر، فأجابه، وقال: أقدم حتَّى أساعدك. [ذِكْرُ حصار دمشق: فقام الأفضل، وسار] (¬1) بالعساكر إلى الشَّام، واستناب بمِصْر سيف الدين أزكوش، ووصل دمشق في شعبان، فأحدق بها، وبلغ العادل و [هو] (2) على مارِدِين، وقد أقام عليها عشرة أشهر ولم يبق إلا تسليمُها، وصَعِدَتْ أعلامُه على القلعة، وسمعوا بوفاة العزيز فتوقَّفوا، فرحل العادل [عنها] (2)، وترك ولده الكامل عليها، وجاء العادل ومعه دُلْدُرُم وابنُ المقدَّم وجماعةٌ من الأمراء، وكان الأفضل نازلًا في الميدان الأخضر، فأشار عليه جماعةٌ من الأمراء أن يتأخر إلى مشهد القدم حتَّى يصل الظاهر وصاحب حِمْص والأمراء، وكانت مكيدةً، فتأخَّر إلى مشهد القدم، ودخل العادل ومَنْ معه إلى دمشق، وجاء الظَّاهر بعسكر حلب، وجاء عسكر حماة وحمص، وبشارة من بانياس، وعسكر الحصون، وسعد الدين مسعود صاحب صفد، وضايقوا البلد، وكسروا باب السَّلامة، وجاء آخرون إلى باب الفراديس -[فيقال: إنَّ الناصح ابن الحنبلي والشهاب وأصحابهما كسروا باب الفراديس] (¬2) - وكان العادل في القلعة قد استأمن إليه جماعةٌ من المِصْريين مثل ابن كهدان ومثقال الجمدار الخادم، وبلغه، فركب، وخرج إليهم، وجاء إلى جيرون، والمجد أخو الفقيه عيسى قائمٌ على فرسه يشرب الفُقَّاع، فصاح العادل: يا فَعَلة، يا صَنَعة، إلى ها هنا، فانهزموا وخرجوا، فأغلق باب السَّلامة، وجاء إلى باب الفراديس فوجدهم قد كسروا الأقفال بالمزربَّات، فقال: من فعل هذا؟ قالوا: الحنابلة، فسكتَ، ولم يقل شيئًا. قال المصنف رحمه الله: وحكى لي المُعَظَّم عيسى رحمه الله، قال: لما رجعنا من باب الفراديس، ووصلنا إلى باب مدرسة الحنابلة رُمي على رأس أبي حُبُّ (¬3) الزَّيت، فأخطأه، ووقع في رقبة الحصان، فوقع ميتًا، فنزل أبي وركب غيره، ولم ينطق بكلمة. ¬

_ (¬1) في (ح): فسار الأفضل بالعساكر إلى الشام، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) الحُبُّ: الخابية يجعل فيها الزيت، انظر "اللسان" (حبب).

يحيى بن علي بن الفضل

وجاء شركس وقراجا في الليل من جبل سُنَير، فدخلا دمشق، وأما المواصلة فساقوا على الكامل، فرحَّلوه من مارِدِين، فجاء يقصد دمشق، وجمع التركمان. وأما دمشق فإنَّه لما اشتدَّ الحصارُ عليها، وقطعوا أشجارها ومياهها الدَّاخلة إليها انقطعت عن أهلها المِيرة، وضجُّوا، فبعث العادلُ إلى الظَّاهر يقول: أنا أُسلِّم إليك دمشق على أن تكون أنتَ السُّلْطان، وتكون دمشق لك لا للأفضل. فَطَمِعَ الظَّاهر، وأرسل إلى الأفضل يقول: أنت صاحب مِصْر، فآثِرْني بدمشق. فقال: دمشق لي مِنْ أبي، وإنما أُخذت مني غَصْبًا، فلا أُعطيها لأحدٍ. فوقع الخُلْف بينهما، ووقع التَّقاعد، وخرجت السنةُ على هذا. ولما مات العزيز كَتَبَ الفاضل إلى العادل يعزيه يقول: أدام الله أيام مولانا الملك العادل، وفَدَتِ النفوس نَفْسَه الكريمة، وأحياه الله حياةً طيبة، يقفُ فيها في المواقف الجسيمة، وينقلب عنها بالأمور السَّالمة والعواقب السَّليمة، ولا نقَّص الله له عَدَدًا ولا عُددًا، ولا أعدمه نَفْسًا ولا ولدًا، ولا كدَّر له مشربًا ولا موردًا، وأعظم أجره في ولده الملك العزيز، رحم الله ذلك الوجه الكريم ونَضَّرَه، وإلى سبل الجَنَّة يَسَّره: [من الكامل] وإذا محاسنُ وَجْهه بَلِيَتْ ... فعفا البلى عن وجهه الحَسَنِ قال: وكانت مُدَّة مرضه بعد عوده من الفيوم أُسبوعين، فأحزن القَلْب وأَجْرى العين. قال المصنف رحمه الله: و [هذا] البيت الشِّعْر من أبيات (¬1)، أولها: [من البسيط] إني أَرِقْتُ وذِكْرُ الموتِ أَرَّقني ... فقلتُ للدَّمْعِ أَسْعِدْني فأَسْعَدَني إنِّي أظنُّ البِلَى لوكان يَعْرِفُهُ ... عفَّ البِلى عن بقايا وَجْههِ الحَسَنِ يحيى بن علي بن الفَضْل (¬2) أبو القاسم بن فَضْلان. ¬

_ (¬1) كيف يكون منها، ووزن البيتين مختلف! (¬2) له ترجمة في: "الكامل": 12/ 154، و"التكملة" للمنذري: 1/ 330 - 331، و"المذيل على الروضتين": 1/ 85، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 249، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 257 - 258، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن

مدرِّس النِّظامية، ولد سنة خمس عشرة وخمس مئة، وتفقَّه على محمد بن يحيى بنيسابور، وقَدِمَ بغداد، فناظر وأفتى ودرَّس، وكان مقطوعَ اليد، وَقَعَ من الجمل، فعملت عليه يدُه، فخِيف عليه، فَقُطِعَتْ يده، وكانت وفاته في شعبان، وحَمَلَ الفقهاء جِنازته إلى الوَرْدِيَّة. قال المصنف رحمه الله: أنشدنا عنه غيرُ واحد: [من الكامل] وإذا أَرَدْتَ منازِلَ الأَشْرافِ ... فعليكَ بالإسْعافِ والإنصافِ وإذا بغى باغٍ عليك فَخَلِّهِ ... والدَّهْرَ فَهْوَ له مكافٍ كافِ يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن (¬1) أبو يوسف. الملك المنصور الغازي المجاهد، صاحب المغرب، وهو الَّذي كَسَرَ الفنش على الزلاقة (¬2)، ولم يكن في ولاة المغرب من له سيرةٌ كسيرته، ولا طَويَّةٌ كصالح سريرته، وقد أثنى عليه أربابُ السِّيَر، وليس الخُبْرُ كالخَبَر [وذكره عبد المنعم بن عمر في "تاريخه"، وأثنى عليه، وقال] (¬3): لما توفي أبوه [يوسف] (3) قام بالأمر أحسنَ قيام، فأقرَّ العيون بما قرَّر من قواعد الإسلام، ونَشَرَ كلمةَ التوحيد، وأَذَلَّ من الكُفْر كلَّ جبار عنيد، ورَفَعِ راية الجهاد، فتضوَّع باجتهاده كلُّ ناد، وأَمَرَ بالمعروف، ونهى عن المنكر، ونشَرَ نَشْرَةً أذكى من العَنْبر، وضوء كرمه أعلى من ضوء القمر الأنور، وأقام الحدود على العالمين، وخصوصًا على أهله وعشيرته الأقربين، فاستقامتِ الأمور ببركاته، وظهرتِ الفتوح العظيمة بعزماته، وانتشرتِ الخيراتُ بمكرماته. قال المصنف رحمه الله: وحكى لي الشيخ [الصالح الفاضل] (3) أبو العَبَّاس ابن تاميت المغربي اللواتي بالدِّيار المِصْرية [بالقرافة في] (3) سنة أربعين وست مئة من فضائله الغرائب، وكان قد صحبه زمانًا، وانتفع به، واستفاد منه. قال: وكل ما أحكيه عنه فإنّما ¬

_ (¬1) له ترجمة في: "الكامل": 12/ 113 - 116، و"المعجب": 368، وما بعدها، و"المذيل على الروضتين": 1/ 86 - 87، و "وفيات الأعيان": 7/ 3 - 19، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 311 - 319، "تاريخ ابن خلدون": 241/ 6 - 246، و"الوافي بالوفيات": 29/ 5 - 16 وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) انظر حاشيتنا رقم 2 ص 40 من هذا الجزء. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

هو على المشاهدة والعِيان، [لا عن فلان وفلان قال: ] (1) فمن ذلك أَنَّه قَدِمَ بلدَه فاس رجلٌ شريفٌ، وكان فاضلًا لطيفًا، وكان يعظ بصوتٍ طيِّب، فجلس بها، فمال النَّاس إليه، وأرادوا أن يبايعوه، وبلغ خبره إلى يعقوب، فكتب إليه كتابًا يقول فيه: قد بلغَنا قدومُك البلاد، ووصولُ بركتك إلى أهلها، ونحن نسألك أن تقدمَ علينا لنأخذ حظَّنا منك كما أخذ أهلُ البلاد حَظَّهم. وبَعَثَ إليه بعشرة آلاف دينار، فخاف الشَّريف، واجتمع إليه أهلُ البلاد، وقالوا: متى وقعتَ في يده قتلك، فأظهرِ العِصْيان، ونحن وأهل الجبال معك. فقال [الشريف: ] (1) معاذَ الله أن أكون سببًا لإراقة دَم مُسْلم، ولكني أسير إليه، وأستعينُ بالله عليه، وبلغ يعقوبَ قولُه، فلما قَرُبَ من مَرَّاكُش خرج [يعقوب] (1) فاستقبله، وأنزله معه في قَصْره، وحمل إليه المال والتُّحَف، وجلس، وسَمِعَ كلامه، وكان يجالسه، واتفق عبور يعقوب للقاء الفنش، ومن عادتهم يوم المصافّ أن يصلِّيَ الخليفةُ بالنَّاس الفجر، ويركب وحوله خمسةُ آلاف من القُرَّاء مُلْبِسين الدُّروع، حاملين الأسلحة، فيقرؤون سُبْعًا من القرآن، ويدعو الخليفةُ لا يدعو غيره، وكان له [طبال اسمه حماد مقدَّم الطبالين] (1) وخَلْفه مئةُ كوس، وليس في العسكر من له طَبْلٌ غير الخليفة، فإذا فَرَغَ من الدُّعاء بعد القراءة قال: حماد، فيقول: لبيك، فيقول: اضربِ الطَّبْل. فتدقُّ الكُوسات، وتحمل العساكر، وهاتان الخلتان لا يشارك الخليفةَ فيهما أحدٌ: الدعاء، وقوله: يا حماد اضربِ الطَّبْل، فلما كان في هذا اليوم الَّذي التقى فيه يعقوب بالفنش صلَّى الخليفةُ بالنَّاس، وركب والشريف عن يمينه، ولما فَرَغَ من قراءة السُّبْع التفت [إلى الشريف] (1) وقال: يا شريف، ادعُ الله. فقال: الله الله يا أمير المؤمنين، العفو، هذه وظيفةُ أميرِ المؤمنبن. فقال: لا بُدّ. فما أمكنه مخالفته خوفًا منه، فمدَّ يده ودعا، وعَجِبَ النَّاس، ولما فَرَغَ من الدعاء قال له: يا شريف، قل لحماد يضرب الطَّبل. فقال: العفو يا أمير المؤمنين، فقال: لا بد، [فقال: ] (¬1) يا حماد اضرب الطبل. فضرب وحملوا، ثم التفت إلى الشريف وقال: يا شريف، إنْ كان خطر ببالك أَنَّك تحكم على أهل البلاد، وأطمعك أهلُ فاس والجبال في هذا الأمر، أو رأيتَ منامًا فهو الَّذي رأيت، ما يحصل لك من الخلافة سواه. فنزل، وقَبَّل الأرض، وكسر الله الفنش، وأقام الشريف عنده في ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أرغد عيشٍ إلى أن توفي، [وما ظن أحد أنَّه يَسْلَمُ منه، فلله دَرّ هذه المكارم، لو كان غير يعقوب لفعل بالشريف العظائم. ومنها ما حكاه لي أبو العباس أيضًا، قال: ] (¬1) كان ليعقوب ابنُ أُخت لم يكن بمرَّاكُش أحسنَ صورةً منه، له ثمان عشرة سنة، فقدم مَرَّاكُش رجلٌ يرقِّص الدُّبَّ ومعه امرأتُه، فرآها ابنُ أُخت يعقوب، فأعْجَبَتْه، فأرسل إليها، فأخذها، فوقف زوجُها ليعقوب وقال: يا أمير المؤمنين إنني رجلٌ غريب، وقد غَصَبني ابنُ أختك وأخَذَ زوجتي. فقال له: اتَّبعني. وجاء إلى قَصْر ابنِ أخته، وقال للرجل: قف ها هنا. ودخل القَصْر، فاستدعى ابنَ أخته، وقال له: لِمَ أخذت زوجة هذا الرجل؟ فأنكر، فدعا بالرجل، وقال له: قد أنكر. فقال: يا أمير المؤمنين، لي كليبة قد رَبَّتها المرأة، تحضر كلَّ امرأة في هذا القصر، وأحضر الكليبة، فهي تعرفها من بين ألف امرأة، فإن وقفتْ عندها وإلا فاقتلني. فقال للرجل: اخرج، وقال لابنِ أخته: لا تبقى في القصر امرأةٌ إلا تخرج. فأخرج النِّساء، وخرجت المرأة بينهن وقد غيَّر زِيِّها، وأَلْبسها الحُلِي والجواهر والثِّياب الفاخرة، وأطلق الكُليبة، فجاءت، فوقفت عندها، فاستدعى الرجل، فقال له: خُذْ زوجتك بما عليها. ثم التفتَ إلى ابنِ أخته، وقال له: قَصْرُك مملوءٌ بالجواري المُسْتحسنات، وأنت تمدُّ عينك إلى امرأةِ رجلٍ غريب جاء من بلادٍ بعيدة تأخذها غَصْبًا منه؟ ! ثم قال لغِلْمانه: أعطوه الرِّماح. وهذه قتلة المغاربة. فخرجت أمه حاسرةً، فبكت بين يديه، وقالت: ما لي غيره، فقال: والله لأهذبنَّ به ملوك المغرب وغيرهم. وقَتَلَه. [ومنها ما حكاه لي أبو العباس أيضًا، قال: (1)] اشْتَهَرَتْ امرأةٌ بالزُّهْد، وأنها ما تأكل الخبز، فبعثَ إليها يعقوب وقال: أقيمي عندي في القَصْر أيامًا لأتبارك بكِ. فأقامت عنده مُدَّة، فدخلت بعضُ جواريه إلى السِّقاية يومًا فرأتِ الزَّاهدة تأكل الخبز في بيت الماء، فبهتت، وجاءت إليه، فأخبرته، فقال لها: والله لئن سمع هذا غيري منك لأقتلنَّك. ثم بحث عن ذلك، فوجده صحيحًا، فأرسل إلى الزَّاهدة خمس مئة دينار وثيابًا وقال لها: قد حصلنا على البركة بمقامك عندنا، وقد سألني بنو عمِّي أَنْ تقيمي عندهم في قَصْرهم مثلما أقمتِ عندنا لتصل إليهم بركتك. فانتقلتْ إليهم، ولم يُظْهر أمرَ المرأة. ¬

_ (¬1) في (ح): وقال أبو العباس أيضًا، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[قال: ] (1) وكان جوادًا سمحًا، يهب مئة ألف دينار وخمسين ألفًا، ويتفقد أربابَ البيوت، ويكرم العلماء والفقهاء، ولم يُسمع منه كلمةُ فحش، وكان عادلًا متمسِّكًا بالشرع، يصلِّي بالنَّاس الصَّلوات الخمس، ويَلْبَس الصُّوف على جسده، ويقف للمرأة والضَّعيف، ويأخذ لهم الحق، وفيه يقول الشَّاعر: [من الكامل] أَهْلٌ لأنْ يُسعى إليه ويُرْتجى ... ويزَارُ مِنْ أقصى البلادِ على الوَجَا مَلِك غدا بالمَكْرُماتِ مُقَلَّدًا ... وموشَّحًا ومختَّمًا ومتوَّجا عُمِرَتْ مقاماتُ الملوك بذكره ... وتعطَّرَتْ منه الرِّياح تأَرُّجا من أبيات. [قلت: ] (1) وهو الَّذي راسله صلاح الدين بشمس الدين ابن منقذ يستنجد به سنة سبعٍ وثمانين [وخمس مئة] (¬1)، ومدحه ابن منقذ بهذه الأبيات: [من الطويل] سأشكر بحرًا ذا عُبابٍ قَطَعْتُهُ ... إلى بَحْرِ جُوْدٍ ما لنعماه ساحِلُ إلى مَعْدِنِ التَّقوى إلى كعبة الهدى ... إلى مَنْ سَمَتْ بالذِّكْرِ منه الأوائلُ إليك أميرَ المؤمنين ولم تَزَل ... إلى بابك المأمول تُزْجى الرَّواحِلُ قطعتُ إليك البر والبحر موقنًا ... بأن نَدَاك الغَمْرَ بالنُّجْحِ كافِلُ رجوتُ بقَصْدِيك العُلا فبلغتُها ... وأدنى عطاياك العُلا والفضائِلُ فلا زِلْتَ للعَلْياء والجُود بانيًا ... تبلِّغُك الآمال ما أنت آمِلُ من أبيات. فأعطاه لكلِّ بيتٍ ألفَ دينار، وقال: ما أعطيك هذا لأجل صاحبك، فإنَّه خاطَبَنا بما لم يخاطِبْنا به أحد، وإنما أعطيناك لفَضْلك وبَيتك، والحمد لله الَّذي وفق الفنش ملك الفرنج ما لم يهد إليه صاحبك، ولو خاطَبَنا بما يليق بنا لأنجدناه برًّا وبحرًا، وقد وكلناه إلى من خاطبه بما هو أليق بنا منه. ومعناه أَنَّ صلاح الدين خاطبه بأمير المسلمين، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ذِكْرُ وفاته: قال علماء السِّير: مَرِضَ يعقوب مرضًا أشفَى منه على الوفاة، فاوصى إلى ولده أبي عبد الله محمد، وأن لا يخفوا موته، وأن يصلِّيَ عليه المسلمون، ويدفن على قارعة الطريق ليترحَّم عليه من يمرُّ به. وتوفي في ربيع الأول، فكانت مُدَّة أيامه خمس عشرة سنة، وبايع الناس ولدَه محمدًا، واستمرَّ على سيرة أبيه، ثم اختلفتِ الأهواء، ودخل النَّقص على البيت بموت يعقوب، رحمه الله تعالى. قال المصنف رحمه الله: وعَهدِي بالشَّيخ أبي العَبَّاس ابن تاميت باقيًا في سنة أربعين وست مئة، وبلغني أنَّه توفي سنة ثلاثٍ وخمسين وست مئة بالقرافة بمِصْر وقد جاوز المئة سنة، وجرى بيني وبينه مذاكرة في القرافة سنة ثلاث وأربعين [وست مئة] (¬1) في تارك الصَّلاة، وما حكمه؟ فقال: أنشدني ابن الرمامة واسمه محمد بن جعفر القيسي الحافظ، قال: أنشدني أبو الفَضْل طاهر النَّحْوي لنفسه هذه الأبيات: [من الكامل] في حُكْمِ مَنْ تَرَك الصَّلاة وحُكْمُهُ ... إنْ لَمْ يقرَّ بها كحكْمِ الكافر فإذا أقرَّ بها وجانَبَ فِعْلَها ... فالحُكْمُ فيهِ للحُسام الباترِ وبه يقولُ الشَّافعي ومالكٌ ... والحَنْبَليُّ تَمَسُّكًا بالظَّاهرِ وأبو حنيفةَ لا يقول بقَتْلِهِ ... ويقول بالضَّرْب الشَّديد الزَّاجرِ هذي أقاويلُ الأئمةِ كلِّهم ... وأَجلُّها ما قُلْتُه في الآخِرِ المُسْلمون دماؤهم معصومةٌ ... حتَّى تراقَ بمستنيرٍ باهرِ مثل الزِّنا والقَتْل في شَرْطَيهما ... وانظرْ إلى ذاكَ الحديثِ السَّائرِ معنى قوله في أول الأبيات: تمسّكًا بالظاهر، يعني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بين العَبْد والكُفْر تَرْكُ الصَّلاة" (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). وكلام المصنف في هذا الموضع يدعو للتساؤل، فكيف يقول إن عهده بالشيخ باقيًا في سنة (640 هـ)، ثم يقول: وجرى بيني وبينه مذاكرة في سنة (643 هـ)، وكان قد صرح من قبل أنَّه التقاه سنة (640 هـ)، كما في ص 72 من هذا الجزء؟ ! (¬2) أخرجه مسلم (82) من حديث جابر، وهو عند أحمد في "المسند" (14979).

ومعنى قوله: في الآخر: "لا يحلُّ دمُ امرئٍ مُسْلم إلا بإحدى ثلاث". الحديث (¬1). قلت (¬2): وذكر قاضي القضاة شمس الدين بن خَلِّكان -رحمه الله- يعقوب المذكور في "وَفَيات الأعيان" (¬3) فقال: يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي، صاحب بلاد المغرب. كان صافي السُّمْرة جدًّا، أَفْوَهَ، أَعْيَنَ، شديد الكحل، ضخم الأعضاء، جَهْوَرِيَّ الصوت، جَزْلَ الألفاظ، من أصدق النَّاس لهجةً، وأحسنهم حديثًا، وأكثرهم إصابة بالظَّنِّ، مجرِّبًا للأمور، ولي وزارة أبيه، فبحث عن الأحوال بحثًا شافيًا، وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعةً أفادته معرفة جزئيات الأُمور. ولما ولي قام بالأمر أحسنَ قيام، وهو الَّذي أظهر أُبَّهة ملكهم، ورفع راية الجهاد، ونَصَبَ ميزان العَدْل، وبسط أحكام النَّاس على حقيقة الشَّرْع، ونظر في أمور الدِّين والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتَّى في أهله وعشيرته، فاستقامتِ الأحوال، وعَظُمَتِ الفتوحات. وبنى بالقرب من مدينة سلا مدينة عظيمة سماها رباط الفَتْح على هيئة الإسكندرية في اتِّساع الشوارع، وحُسْن التقسيم، وإتقانِ البناء، وتحسينه وتجصيصه، وبناها على البحر المحيط الَّذي هناك، وهي على نهر سلا مقابلةً لها من البَرِّ القِبْلي. واختلفتِ الرِّوايات في أمره، فمن النَّاس من يقول: إنَّه ترك ما كان فيه، وتجرَّد، وساح في الأرض حتَّى انتهى إلى بلاد الشَّرْق وهو مستخفٍ لا يُعرف، ومات خاملًا. ومنهم من يقول: إنه مات في غُرَّة جُمادى الأولى، وقيل: في شهر ربيع الآخر في سابع عشره، وقيل: في غُرَّة صفر سنة خمسٍ وتسعين وخمس مئة بمرَّاكُش. وقيل: إنَّه مات بمدينة سلا، وكانت ولادته ليلة الأربعاء رابع شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وخمس مئة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676) من حديث ابن مسعود، وهو في "المسند" (3621). (¬2) هو قطب الدين اليونيني، مختصر "مرآة الزمان". (¬3) "وفيات الأعيان": 7/ 3 - 15.

قال قاضي القضاة: ثم حكى لي جَمْعٌ كبير بدمشق في شهور سنة ثمانين وست مئة أن بالقرب من المجدل البليدة التي من أعمال البقاع العزيزي قرية يقال لها: حَمَّارة، وإلى جانبها مشهد يعرف بقبر الأمير يعقوب ملك المغرب، وكلُّ أهل تلك النَّواحي متفقون على ذلك، وليس عندهم فيه خلاف. وكان الأمير يعقوب يشدِّد في إلزام الرَّعية بإقامة الصَّلوات الخمس، وقتل في بعضِ الأحيان على شرب الخمر، وقتل العمال الذين تشكو الرَّعايا منهم، وأمر برفض فروع الفِقْه، وأنَّ العلماء لا يفتون إلا بالكتاب والسُّنَّة، ولا يقلِّدون أحدًا من الأئمة، بل تكون أحكامهم بما يؤدِّي إليه اجتهادهم. وكان قد عَظُمَ مُلْكه، واتَسعت دائرةُ سَلْطنته حتَّى إنَّه لم يبق بجميعِ أقطار بلاد المغرب من البحر المحيط إلى برقة إلا مَنْ هو في طاعته، إلى غير ذلك من جزيرة الأندلس. وكان من شعراء دولته أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحمن بن مُجبر الأندلسي المرسي، فمن قوله: [من المديد] أتراه يتركُ الغَزَلا ... وعليه شَبَّ واكتهلا كَلِفٌ بالغِيد ما علقتْ ... نَفْسُه السلوانَ مُذْ عقلا غير راضٍ عن سجية مَنْ ... ذاق طَعْمَ الحب ثُمَّ سلا أيها اللُّوَّام ويحكُمُ ... إنَّ لي عن لومكم شُغُلا ثَقُلَتْ عن لومكم أُذُن ... لم يجد فيها الهوى ثِقَلا تسمعُ النَّجوى وإن خفيتْ ... وهي ليست تسمع العذلا نظرتْ عيني لشِقْوَتها ... نظراتٍ وافقتْ أجلا غادةً لما مثلتُ لها ... تركتني في الهوى مثلًا هي بزَّتني الشباب فقد ... صار في أجفانها كحلا أبطل الحقَّ الَّذي بيدي ... سِحْرُ عينيها وما بطلا عرضتْ دلًّا فإذ فطنتْ ... بولوعي أعرضتْ خجلا

وبدا لي أنها وجلت ... من هَنَاتٍ تبعث الوَجَلا حسبتْ أني سأحرقها ... إذْ رأت رأسي قد اشتعلا يا سراةَ الحيّ مثلكمُ ... يتلافى الحادثَ الجللا قد نزلنا في جواركُمُ ... فشكرنا ذلك النُّزلا ثم واجهنا ظباءكمُ ... فلقينا الهول والوهلا أضمنتم أَمْنَ جيرتكمْ ... ثُمَّ ما آمنتم السبلا وأردتم غَصْبَ أنفسهم ... فبثثتم بينها المُقَلا ليتنا خضنا السيوف ولم ... نلقَ تلك الأعين النجلا عارضتنا منكم فئة ... أحدثتْ في عهدنا دَخَلا ثُعَلِيَّاتٌ جفونُهُم ... وهُمُ لم يعرفوا ثُعَلا أشرعوا الأعطاف ناعمة ... حين أشرعنا القنا الذبلا واستفزتنا عيونهم ... فَخَلَعْنا البَيضَ والأسلا ورمتنا بالسهام فلم ... نَرَ إلا الحلي والحللا نُصروا بالحُسْن فانتهبوا ... كل قلب بالهوى جذلا عطلتني الغيدُ من جَلَدي ... وأنا حليتها الغزلا حملت نفسي على فتن ... سُمتها صبرًا فما احتملا ثم قالت سوف نتركها ... سلبًا للحب أو نَفَلا قلت أمَّا وَهْيَ قد علقت ... بأميرِ المؤمنين فلا ما عدا تأميلها ملكًا ... من رآه أدرك الأملا أودع الإحسانُ صفحته ... ماء بشر ينقع الغُللا فإذا ما الجودُ حرَّكه ... فاض في يمناه فانهملا وهي قصيدة طويلة، عددُ أبياتها مئة وسبعة أبيات. ودخل إبراهيم بن يعقوب الشَّاعر، فأنشده: [من الوافر] أزال حجابه عني وعَيْني ... تراه من المهابة في حجابِ وقرَّبني تفضُّله ولكنْ ... بعدتُ مهابةً عند اقترابي

السنة السادسة والتسعون وخمس مئة

السنة السادسة والتسعون وخمس مئة [وفيها كان ابتداء جلوسي عند قبر الإمام أحمد بن حنبل في يوم الأربعاء، ويجتمع خلق عظيم، وتهب على تلك المجالس من القبول نسيم، ويعرف فيها نضرة النعيم، ويصحبها كل بارد من الطيب وكل تكريم، وسلام قولًا من ربٍ رحيم] (¬1). ودخلت هذه السنة والحصار على دمشق، وكان أتابك رسلان شاه صاحب المَوْصل قد رحَّل الملك الكامل من مارِدِين، فقَدِمَ دمشق ومعه خَلْقٌ كثيرٌ من التركمان، وعسكر حَرَّان والرُّها، فتأخر الأفضل بالعساكر إلى عقبة شحورا سابع عشر صفر، ووصل الكامل تاسع عشره، فنزل بجوسق أبيه على الشَّرف، ورحل الأفضل إلى مرج الصُّفَّر، ورحل الظَّاهر إلى حلب، وأحرقوا ما عجزوا عن حَمْله، وسار الأفضل إلى مِصْر، وأحضر العادل بني الحنبلي النَّاصح وأخاه شهاب الدين وغيرهما، وكان الأفضل قد وعد النَّاصح بقضاء دمشق، والشِّهاب بالحِسْبة، فقال لهم العادل: ما الَّذي دعاكم إلى كَسْرِ باب الفراديس ومظاهرةِ أعدائي علي وسَفْك دمي؟ فقال له النَّاصح: أخطأنا، وما ثَمَّ إلا عفو السُّلْطان. فقال العادل: فما بدا مني إليكم ما يوجب ذلك، ولولا أَنْ يقال عني: إنني شنقتُ فقيهًا لما أبقيتُ منكم أحدًا، ولكنَّ البلد لكم فهبوه لي. فأخرجهم إلى حلب. ثم [جرت بعد هذا واقعة عجيبة، ] (1) شُفِعَ في الشِّهاب بعد ذلك إلى العادل فردَّه، وكان يذكر الدرس بعد ذلك في حَلْقة الحنابلة، ويأخذ مغل الوقف، وكان في الحنابلة رجل يقال له: نصر المِصْري يخدم الشيخ العماد، فأقام الشِّهاب سنين لا يعطيهم شيئًا، فاستغاثوا إلى العادل وهو في دار العَدْل، وكان [الملك الأشرف والمعظم] (1) أولاد العادل وقوفًا في الخِدْمة، فقال نصر: يا سُلْطان المُسْلمين، هذا الرَّجل للوقف معه مُدَّة يأكله، ولا يوصل إلينا شيئًا! وكان ذلك في حدود سنة عشر وست مئة. فقال العادل: كم له معه سنة؟ فقال نصر: مِنْ كَسْرِ باب الفراديس. فقال الملك الأشرف: ذا تاريخ مشؤوم. فضحك العادل والجماعة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وأما الأفضل، فإنَّه لما سار إلى مِصْر أرسل العادل وراءه أبا محمد نجيب الدِّين عَدْل الزَّبداني يقول له: ترفَّقْ، فإنَّا لك مثل الوالد، وعندي كل ماتريد. فقال للعدل: قل له: إن صَحَّ ما قلتَ فأبعدْ عنك أعدائي الصَّلاحية. وبَلَغَ الصَّلاحية، فقالوا للعادل: أيش قعودنا؟ قُمْ بنا. وساروا خَلْفَ الأفضل مرحلة مرحلة، فنزل الأفضل بِلْبِيس، ونزل العادل السَّانح، فرجع الأفضل، وضَرَبَ معهم المصافَّ، فكسروه، وتفرَّق عنه أصحابه، ودخل القاهرة، وأغلق أبوابها، وجاء العادل، فنؤل البِرْكة، ودخل سيف الدين أزكش بين العادل والأفضل، واتفقوا [على] (1) أن يعطيه العادل ميَّافارِقِين وجبل جور ودياربكر، ويأخذ منه مِصْر، ورحل الأفضل مِن مِصْر في ربيع الآخر، ودخل العادل القاهرة، وأحسن إلى أزكش، وقال للأَفْضل: جميع مَنْ معك كاتبني إلا سيف الدين، وقدَّم العادل أزكش، وحكَّمه في البلاد، ورَدَّ القضاء إلى صَدْر الدين عبد الملك بن دِرْباس الكُرْدي، وولَّى شيخ الشيوخ ابن حموية التدريس بالشَّافعي ومشهد الحسين، والنَّظر في خانكاه الصُّوفية، وجلس الوزير صفي الدين عبد الله بن علي بن شُكْر [وزير العادل] (1) في دار السَّلْطنة في حجرة الفاضل، ونَظَرَ في الدَّواوين، [قال العماد: وأخذ القوس باريها، وأجرى الأمور على أحسن مجاريها] (1). وسار الأفضل إلى مَيَّافارقين، واستدعى العادل ولده [محمد] (¬1) الكامل إلى مِصْر، فخرج من دمشق في ثالث وعشرين شعبان، وودَّعه أخوه المعظَّم عيسى إلى رأس الماء. قال العماد: وسرت معه إلى مصر، وأنشدته: [من البسيط] دَعَتْكَ مِصْرُ إلى سُلْطانها فأَجِبْ ... دُعاءها فهو حقٌّ غيرُ مكذوبِ قد كاد يَهْضِمُني دَهْرِي فأدركني ... محمدُ بنُ أبي بكر بن أبيوبِ ووصل الكامل إلى مِصْر في عاشر رمضان، والتقاه العادل من العَبَّاسة، وأنزله في دار الوزارة، وكان قد زوَّجه بنتَ أخيه صلاح الدين، فدخل بها، ولم يقطع العادل ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

تكش بن رسلان شاه

الخُطْبة لولد العزيز، ثم إنَّه جمع الفقهاء وقال: هل تجوز ولاية الصَّغير على الكبير؟ فقالوا: الصغير مولَّى عليه. قال: هل يجوز للكبير أن ينوبَ عن الصَّغير؟ قالوا: لا، لأن الولاية من الأصل إذا كانت غير صحيحة فكيف تصح النِّيابة؟ فقطع خُطْبة ابن العزيز، وخَطَبَ لنفسه ولولده الكامل من بعده. ونقص النيل في هذه السنة، فلم يبلغ ثلاثة عشر ذراعًا، ووقع الغلاء والوباء. وحج بالنَّاس من العراق آق سُنْقُر وجه السبع، ومن الشام سامة الجِيلي. وفيها توفي تُكُش بن رسلان شاه (¬1) علاء الدِّين، خوارزم شاه، مِنْ ولد طاهر بن الحسين. كان شجاعًا جَوَادًا، ملك الدُّنيا من الصِّين (¬2) والهند وما وراء النهر إلى خُرَاسان إلى باب بغداد، وكان نوابه في حُلْوان، وكان ديوانه مئة ألف مقاتل، وهو الَّذي كسر مملوكُه ميالجق عسكرَ الخليفة، وأزال دولة بني سَلْجوق، وكان حاذقًا بعلم الموسيقى، لم يكن في زمانه ألعب منه بالعود. وحُكِيَ أنَّ الباطنية جَهَّزوا إليه رجلًا ليقتله، وكان يحترس كثيرًا، فجلس ليلةً يلعب بالعود، وشرَّع الخيمة، فأتَّفق أَنَّه غنَّى بيتًا بالعجمية وفيه ميبنم، ومعناه: قد أبصرتك. فخاف الباطني منه، وارتعد وهَرَبَ، فأُخذ، وحُمِلَ إليه، فقرَّره، فأقرَّ، فقتله. وكان يباشر الحروب بنفسه حتَّى ذَهَبَتْ إحدى عينيه في الحرب، وكان يقول: الملك إذا لم يباشرِ الحربَ بنفسه لا يَصْلُحُ للمُلْك؛ لأَنَّه يكون مِثْلَ المرأة. ¬

_ (¬1) له ترجمة في: "الكامل": 12/ 156 - 158، و"التكملة" للمنذري: 1/ 362، و"كتاب الروضتين": 4/ 484، و"المذيل على الروضتين": 1/ 89 - 90، "المختصر في أخبار البشر": 3/ 98 - 99، "العبر" للذهبي: 4/ 292، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 330 - 332، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) كذا قال، وهو وهم، والصواب: من السند، كما جاء في "الوافي بالوفيات"، 13/ 428، إذ لم تدخل الصين في ملك الدولة الخوارزمية، انظر "سيرة السلطان جلال الدين" ص 71 - 73.

عبد الرحيم بن علي بن الحسن

وكان قد عَزَمَ على قَصْدِ بغداد، وجمع وحَشَدَ، فوصل إلى دِهِسْتان، فتوفي بها في رمضان، فَحُمِلَ في تابوت إلى خُوارَزْم، فدُفِنَ عند أهله، وقام ولده محمدٌ مقامه. عبد الرحيم بن علي بن الحسن (¬1) أبو علي، [البَيْساني الكاتب] (¬2)، القاضي الفاضل، ولد ببيسان في سنة تسعٍ وعشرين وخمس مئة، ونشأ بمِصْر، واشتغل بعِلْم الأدب والرسائل، فَبَرَعَ فيه، وصار أوحدَ زمانه في فَنِّه، وكان صلاحُ الدِّين يقول في ملأ من النَّاس: لا تظنُوا أني ملكتُ البلادَ بسيوفكم، بل بقلم الفاضل. [وكان يستشيره في أموره، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك] (2)، وكان كثيرَ العبادة، تاليًا للقرآن، وقد استعان بآياتِ الكتاب العزيز في كثيرٍ من رسائله، ورسائله عشر مجلَّدات. ومن كتابٍ كَتَبَه إلى الخليفة النَّاصر يطلب منه العهد بالسَّلْطنة: فإنْ أَنْعَمَ الدِّيوان بما طلبناه وقلَّدناه، وإلا تقلدناه بما تقلَّدناه. وسمع قائلًا ينشد: [من المتقارب] لقد ضاعَ شِعْري على بابكُمْ ... كما ضاع دُرٌّ على خالِصَهْ فقال: لو قُلِعَتْ عينا هذا البيت لأبصر. ومن شعره: [من الطويل] تقدَّمْ إلى هذا السَّحابِ فإنَّه ... أخوك بأن تنأى مطارِفُهُ عنّا فلو لم يُصِبْنا منه صيِّبُ قَطْره ... لجادَ علينا من يمينكَ ما أغنى [وسمع قائلَّا يَقول: إن المداد خَلُوق ثوب الكاتب، فقال: الكاتب النحس] (2). ¬

_ (¬1) سلفت أخباره في هذا الكتاب، وله ترجمة في "الخريدة" قسم شعراء مصر: 1/ 35 - 54، و"معجم البلدان": 1/ 527، و"التكملة" للمنذري: 1/ 351 - 352، و"كتاب الروضتين": 4/ 472 - 483، "وفيات الأعيان": 3/ 158 - 163. و"سير أعلام النبلاء": 21/ 338 - 344، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وكان [الفاضل] (1) ممدَّحًا، [قال العماد] (1): مُدح بمئة ألف بيت من الشِّعْر، وكان منجذبًا عن النَّاس، إذا سلَّم عليه من لا يعرفه آذاه، وإذا التقاه إنسان ولم يُسَلِّم عليه أغناه. ذِكْرُ وفاته: لما تيقَّن استيلاء العادل على القاهرة دعا على نفسه بالموت خوفًا من ابن شُكْر [وزير العادل] (1)، فإنه كانت بينه وبينه وَحْشة، فخاف أن يستدعيه ويهينه، فقام تلك الليلة يبكي ويتضرع [ويصلي] (¬1)، فأصبح مَيتًا، [وحكي عن] (¬2) الملك المحسن بن صلاح الدين: اتَّفق يوم وفاة الفاضل يوم دخول العادل إلى القاهرة، دخل مِنْ باب النَّصْر، وخرجنا بجِنازته من باب زويلة. وقال العماد الكاتب في حوادث سنة ست وتسعين وخمس مئة: وفيها تمَّت الرَّزِيَّة الكبرى والنكبة العُظْمى بانتقالِ الفاضل من دار الفناء إلى دار البقاء، وذلك في سادس ربيع الآخر يوم الثلاثاء، وكان فيه مصافّ الأفضل يوم الكسرة، ومصاب الفاضل يوم الحسرة، وكان قد باتَ صحيحًا من الأسقام، فقال لغلامه: رَتِّبْ حوائجَ الحَمَّام، ولم يعلم بقُرْب الحِمَام، فأصبح وقد قضى سعيدًا، ومضى حميدًا، وله بسيِّد المُسْلمين أُسوة، وهو وإن عَرِيَ عن رداء العمر فله من حُلَل البقاء في عِلّيين أفخر كُسْوة، ولم يُبْقِ في مُدَّة حياته عملًا صالحًا إلا قدَّمه، ولا عَقْدًا في أبواب البِرِّ إلا أَحْكَمَه، فإنَّ صنائعه قلائد في الرِّقاب، وأوقافه على سُبُل الخيرات متجاوزة الحساب، فهي باقيةٌ على الدَّوام من خلاصِ الأُسارى، والتُّرْبة والمدرسة والفقراء والأيتام على مرور الأيام، بحبائه باقية إلى يوم نَشْر العظام، وكانت كتائبه كتائبَ النَّصْر، وبلاغته تفوق بلاغة أهل العَصْر، والكرامُ في ظِلِّه يقيلون، ومن عثرات النَّوائب بفضله يستقيلون، وبعزِّ حمى حمايته يعزون، ولهزِّ عِطْفه يهتزُّون، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، ولأوامره منقادون، ودُفِنَ بتربته ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): "وقال الملك المحسن"، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عبد اللطيف بن إسماعيل

في القَرَافة، وبنى مدرسة بالقاهرة، ووقف عليها أوقافًا مخلَّدة، ونقل إليها بعضَ كتبه، وكانت كُتبه مئةَ ألف مجلَّدة، ووقف على الأُسارى وَقْفًا عميمًا، فاستنقذ به خَلْقًا عظيمًا. وهجاه ابنُ عُنَيْن، فأشار على صلاح الدين بنفيه من البلاد، فنفاه إلى الهند، وهجاؤه معروف. مَنْ أنت يا هذا وما بَيْسان الأبيات (¬1). وقوله: والفاضل الفاضل (¬2). وما زال الفاضلُ ممدَّحًا، وفيه يقول الوجيه المِصْري: [من مجزوء الكامل] في كَفِّه قَلَمٌ يُرِيـ ... ـكَ القضاءَ مُقَدَّرا ما نوَّرَ الظلماءَ غيـ ... ـرُ مِدادِه إذْ نوَّرا عبدُ اللَّطيف بن إسماعيل (¬3) ابن شيخ الشيوخ أبي سَعْد، أبو الحسن، صفي الدِّين، [وعبد اللطيف أخو أبي القاسم عبد الرحيم شيخ الشيوخ] (¬4). ولد سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة، وسمع الحديث، وكان شيخَ الرِّباط الَّذي بالمشرعة شرقي بغداد، خرج حاجًّا من بغداد، ثم ركب البحر إلى مِصْر، فتاه بهم المركب أيامًا، ثم أرسى بعيدًا، فزار الشِّافعي رحمة الله عليه، وجاء، فزار الخليل عليه السَّلام، والقُدْس، وقَدِمَ دمشق، فتوفي بها في ذي القَعْدة، ودُفِنَ بمقابر الصُّوفية عند المُنَيْبع، [سمع والده أبا البركات إسماعيل، وقاضي المارستان، وأبا القاسم بن السمرقندي وغيرهم] (4)، وكان صالحًا ثقةً، رحمه الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر الأبيات في "ديوان ابن عنين": 188 - 189. (¬2) انظر "ديوان ابن عنين": 190. (¬3) له ترجمة في: "التكملة": للمنذري 1/ 370 - 371، و"المذيل على الروضتين": 1/ 90، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 334 - 335، وفي "المذيل " تتمة مصادر ترجمته. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

علي بن نصر بن عقيل البغدادي

علي بن نَصْر بن عقيل البغدادي (¬1) ويعرف بالهُمام العَبْدِي الشَّاعر. قَدِمَ الشَّام سنة خمسٍ وتسعين وخمس مئة، ومَدَحَ العادل، والأمجد صاحب بَعْلَبَكّ، ومن شعره: [من الطويل] وما النَّاسُ إلا كامِلُ الحَظِّ ناقِصٌ ... وآخرُ منهمْ ناقِصُ الحَظِّ كامِلُ وإني لمُثْبرٍ من حَيَاءٍ وعِفَّةٍ ... وإنْ لم يكن عندي من المال طائِلُ قَيْماز النَّجْمي صارم الدين (¬2) كان من أكابر مماليك نجم الدين أيوب، وكان عظيمَ القَدْر عند صلاح الدين، إذا فَتَحَ بلدًا سلَّمه إليه واستأمنه عليه، وكان كثيرَ الصَّدقات وأفعال الخير، بنى القنطرة التي بين خِسْفين ونوى وغيرها، والمدرسة المجاورة لداره بدمشق بجنب باب القلعة، وكان العادل قد جعله بدمشق مع ولده المُعَظَّم عيسى ثقةً به، فتوفي بدمشق في جُمادى الأُولى، وظهرت له أموالٌ عظيمة، فيقال: إنه وُجِدَ له في أسفل البركة مئة ألف دينار. كامل بن الفَتْح (¬3) أبو تمام بن سابور، النَّحْوي. توفي في جُمادى الآخرة، ودُفِنَ بباب حرب، ومن شعره: [من البسيط] وفي الأوانسِ من نُعمانَ آنسةٌ ... لها من القَلْبِ ما تهوى وتختارُ ¬

_ (¬1) وكذا ورد اسمه هنا، وتابعه على ذلك أبو شامة في "كتاب الروضتين": 4/ 470، وتابعه ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 6/ 158، وسماه أبو شامة في "المذيل على الروضتين": 1/ 94 - 95، الحسن بن علي، وهو الأرجح، وسماه كذلك المنذري في "التكملة": 1/ 359 - 360، وابن الدبيثي في "المختصر المحتاج إليه": 2/ 18 - 19، وابن شاكر في "فوات الوفيات": 1/ 336، والصفدي في "الوافي بالوفيات": 12/ 129 - 130. (¬2) له ترجمة في "كتاب الروضتين": 4/ 464 - 465. (¬3) له ترجمة في: "معجم الأدباء" 17/ 19، و"إنباه الرواة": 3/ 41، و"التكملة" للمنذري: 1/ 356 - 357، و"تكملة ابن الصابوني": 26 - 27، و"المذيل على الروضتين": 1/ 92، و"نكت الهميان": 231، و"الوافي بالوفيات " 24/ 313 - 314، و"فوات الوفيات": 3/ 217.

الحاجب لؤلؤ بن عبد الله

ساوَمْتُها نَفْثةً من رِيقها بدمي ... وليس إلا خفيَّ الطَّرْفِ سِمْسارُ عند العذولِ اعتراضاتٌ ولائمةٌ ... وعند قلبي جواباتٌ وأعذارُ الحاجب لؤلؤ بن عبد الله (¬1) الَّذي [ذكرنا أنَّه] (¬2) أخذ مراكب الفرنج من بحر القُلْزُم، كان شجاعًا جَوَادًا، كثيرَ الصَّدقات، [قال العماد: ] (2) وقع الغلاء بمِصْر في السَّنة الماضية وهذه، فكان يخبز كل يوم أربعة وعشرين ألفَ رغيف يفرِّقها في الفقراء، وفي غير الغلاء كان يخبز في كلِّ يومٍ اثني عشر ألفًا، وكان صائمًا [قائمًا] (2)، متعبِّدًا، وكانت وفاته بالقاهرة في جمادى الأُولى. محمد بن عبد الله البَلْخي (¬3) الواعظ، ويلقب بالنِّظام. ولد ببَلْخ سنة ستٍّ وعشرين وخمس مئة، [وقدم بغداد] (2)، فوعظ بها في النِّظامية وباب بَدْر، وجامع القَصْر، ومدرسة أبي النَّجيب، ودار ابن حديدة الوزير. وكان فصيحًا، مليحَ الصَّوت، متشيِّعًا، أنشد يومًا في النظامية: [من البسيط] سقاهُمُ اللَّيلُ كاساتِ السُّرى فغدوا ... منه سُكارى كأَنَّ الليل خَمَّارُ وصيَّرَ الشَّوْقُ أطواقًا عمائمهم ... لا يعقلونَ أقامَ الحيُّ أم ساروا ونسمةُ الفَجْر إذ مرَّت بهم سَحَرًا ... تَمايلوا وبَدَتْ للسُّكْرِ آثارُ [فلم يبق في المجلس إلا من صاح وقام وتواجد] (2). وأنشد أيضًا: [من الطويل] مددتُ يدي في الحُبِّ نحوك سائلا ... وقلتُ لجَفْني أَذْرِ دَمْعَك سائلا ¬

_ (¬1) سلفت أخباره في سنة 578 هـ، وله ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 417، و"كتاب الروضتين": 4/ 466، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 384 - 385، و"العبر" للذهبي: 4/ 304، و"شذرات الذهب": 4/ 336، وعندهم وفاته سنة 598 هـ، إلا في "الروضتين" فوفاته سنة (596 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة": للمنذري 1/ 346، و"المذيل على الروضتين": 1/ 93 و"المختصر المحتاج إليه" 1/ 60، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد": 95 - 97، و"الوافي بالوفيات" 3/ 343 - 344، و"لسان الميزان": 5/ 217 - 218.

محمد بن عبد المنعم بن أبي الفضائل

تفقَّهْتُ في عِلْم الصَّبابة والهوى ... فمن شاء فليُلْقِ عليَّ المسائلا وحُكي أَنَّه نُقِلَ إلى الخليفة عنه أَنَّه يعاشر النِّساء [ويرتكب المحرمات] (1)، فأرسل إليه الوزير وهو على المِنْبر، فقال: قد رسم [الخليفة] (¬1) أن تخرج من البلد، فأنشد: [من الطويل] أبابلُ لا وادِيكِ بالجُوْدِ مُفْعَمٌ ... لديَّ ولا نادِيك بالرِّفْد آهِلُ لئن ضِقْتِ عني فالبلادُ فسيحةٌ ... وحَسْبُكِ عارًا أَنَّني عنكِ راحِلُ وإن كنتِ بالسِّحْرِ الحَرَام مُدِلَّةً ... فعندي من السِّحْرِ الحلالِ دلائلُ قوافٍ تُعِيرُ الأعينَ النُّجْلَ حُسْنَها ... فأيُّ مكانٍ خَيَّمَتْ فَهْو بابِلُ (¬2) وأُخرج إلى الجانب الغربي من بغداد، فماتَ، ودفن في مقابر قريش في صفر. محمد بن عبد المنعم بن أبي الفضائل (¬3) الصُّوفي المِيهَني ويلقب بالركن، [وهو أخو بهاء الدين، شيخ رباط الخلاطية، وبيان الركن شيخ رباط البسطامي] (1)، وكان جَوَادًا سَمْحًا، لم يكن في أبناء جنسه من يضاهيه في الكرم، ما طلب منه أحد شيئًا فمنعه، حتَّى كان يخرج وفي رِجْله مَدَاس، فيرجع حافيًا، ويخرج وعليه ثوبان ويرجع عُرْيانًا، وكانت له خلواتٌ ومحاضرات، [وسمع الحديث من شُهْدة وغيرها] (1)، وتوفي في ذي الحِجَّة، ودفن بالشُّونيزية [عند والده أبي الفضائل] (1). محمد الطوسي الواعظ (¬4) [قد ذكرنا أنَّه] (1) قَدِمَ بغداد، و [أنَّه] (1) كان يركب بالسَّنْجق والسيوف المُسَلَّلة والغاشية المرتفعة والطَّوْق في عُنُق البغلة، فَمُنِعَ من ذلك، فسافر إلى مِصْر، ووعظ، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) الأبيات للأبيوردي، وهي في "ديوانه": 1/ 377. (¬3) له ترجمة في: "التكملة" للمنذري: 1/ 366 - 367، و"المذيل على الروضتين": 1/ 95. (¬4) له ترجمة في: "التكملة" للمنذري: 1/ 364 - 365، و"كتاب الروضتين": 4/ 467 - 468، و"المذيل على الروضتين": 1/ 94، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 387 - 389، و"العبر" للذهبي: 4/ 294، و"الوافي بالوفيات": 5/ 6، 9، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 6/ 396، و"النجوم الزاهرة": 6/ 159، و"حسن المحاضرة": 1/ 407، و"شذرات الذهب": 4/ 327.

السنة السابعة والتسعون وخمس مئة

وأظهر مذهب الأشعري، وثارت عليه الحنابلة، [وكان يجري بينه وبين زين الدين بن نُجَيَّة العجائب من السِّباب، ويكفِّر بعضُهم بعضًا، وكان قد أُعطي منازل العِزّ، فدرَّس بها مذهب الشافعي] (1)، وكان جبَّاهًا بالقبيح، دخل يومًا على العادل، وعنده وزيره ابن شُكْر، فقال للعادل: أنت فِرْعون وهذا هامانك، فأقامه العادل. و[حكى لي مشايخ مصر، قالوا: ] (1) دخل يومًا على الملك العزيز وكان قد تَرَكَ شُرْبَ الخمر وتاب، فوجده قَلِقًا، فقال: ما لك قلقًا؟ أحضرِ السَّاعة الخمر واشرب، فَشُرْبُك خيرٌ من توبتك، فلما خرج قال العزيز: أنا الواعظ لا هذا. وكان قليلَ البضاعة في الوعظ، وإنما كان ينتسبُ ويدَّعي دعاوى عريضة، أنشد يومًا [للمتنبي]: [من الكامل] أنا صخرةُ الوادي إذا ما زوحمتْ ... فإذا نطقتُ فإنني الجَوْزَاءُ فكتَبَ إليه بعضُهم رقعةً: أنت صخرةُ الوادي، أما الجوزاء فلا، [وكانت وفاته في ذي القعدة، ودفن بالقرافة] (1). و[بلغني أنَّه] (¬1) سُئِلَ: أيُّما أفضلُ دم الحسين عليه السَّلام أو دم الحلاج؟ فقال: قطرةٌ من دمِ الحسين أفضلُ من مئةِ ألف دم مثل دم الحلاج، فقال السائل: فَدَمُ الحلاجِ كَتَبَ على الأرض: الله، الله، ولا كذلك دم الحسين، فقال: المتَّهم يحتاجُ إلى تزكية. قال المصنف رحمه الله: وهذا الجواب صحيح [إن لو ثبت أن دم الحلاج كتب الله، ولم يصح، والدم نجس، فكيف يكتب الله؟ ! ] (¬2)، وكانت وفاة الطُّوسي في ذي القَعْدة، ودفن بالقَرَافة. السنة السابعة والتسعون وخمس مئة فيها استناب الخليفة نصير الدين [ناصر ابن] مهدي في الوزارة، وأَذِنَ للقاضي ابنِ الشَّهرزوري في الخروج من بغداد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): "إذ لو ثبت ذلك لم يصح"، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وفيها كانت حوادث عظيمة [لم يتجدَّد مثلها في السنين الماضية] (¬1)، منها هبوط النيل، ولم يعهد ذلك في الإسلام إلا مرَّة واحدة، فإنَّه بقي منه شيءٌ يسير، واشتدَّ الغلاءُ والوباءُ بمِصْر، فَهَربَ النَّاسُ إلى المغرب والحجاز واليمن والشَّام، وتفرَّقوا أيدي سبأ، ومُزِّقوا كلَّ ممزَّق [أعظم من سنة اثنتين وستين وأربع مئة في أيام المستنصر، فإن الناس في هذه السنة] (1) كان الرجل يذبح ولده الصَّغير، وتساعِدُه أُمُّه على طبخه وشَيِّه (¬2) وأحرق السُّلْطان جماعةً فعلوا ذلك ولم ينتهوا، وكان الرَّجل يدعو صديقه، وأحبَّ النَّاس إليه إلى منزله ليضيفه، فيذبحه ويأكله، وفعلوا ذلك بالأطباء كذلك [وكانوا يدعونه ليبصر المرضى فيقتلونهم ويأكلونهم] (1)، وفقدت الميتات والجيف [من كثرة ما أكلوها] (1)، وكانوا يخطفون الصِّبْيان من الشوارع فيأكلونهم. وكَفَّن السُّلْطان في مُدَّة يسيرة مئة ألف وعشرين ألفًا، وامتلأت طرقات المغرب والحجاز والشَّام برمم الناس، وصلَّى إمامُ جامع الإسكندرية في يوم على سبع مئة جنازة. وقال العماد الكاتب: وفي سنة سبع وتسعين [وخمس مئة] (1) اشتدَّ الغلاء، وامتدَّ البلاء، وتحقَّقتِ المجاعة، وتفرَّقت الجماعة، وهلك القويُّ فكيف الضَّعيف؟ ونحف السمين فكيف العجيف؟ وخَرَجَ النَّاس حَذَرَ الموت من الدِّيار، وتفرَّق فريق مِصْر في الأمصار، ولقد رأيتُ الأرامل على الرِّمال، والجمال باركة تحت الأحمال، ومراكب الفرنج واقفة بساحل البحر على اللَّقَم، تسترقُّ الجِياعَ باللُّقَم. وجاءت في شبعان زلزلة هائلة من الصَّعيد، فعمَّت الدُّنيا في ساعةٍ واحدة، هدمت بنيان مِصْر، فمات تحت الهدم خَلْقٌ كثير، ثم امتدَّت إلى الشَّام والسَّاحل فهدمت مدينةَ نابُلُس، فلم يبق فيها جدار قائم إلا حارة السمرة، ومات تحت الهَدْم ثلاثون ألفًا، وهَدَمَتْ عكا وصور، وجميعَ قِلاع السَّاحل (2)، وامتدَّت إلى دمشق، فَرَمَتْ بعض المنارة الشَّرْقية بجامع دمشق، وأكثر الكلَّاسة، والمارَسْتان النُّوري، وعامة دور دمشق إلا القليل، فَهَرَبَ النَّاس إلى الميادين، وسَقَطَ من الجامع ست عشرة شرافة، وتشقَّقت ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) قال الذّهبي في "السير": 22/ 220: وهذه مجازفة ظاهرة.

قُبَّة النَّسْر وخسف بالكلَّاسة، وتهدَّمت بانياس، وهُونين، وتبْنين، وخَرَجَ قومٌ من بَعْلَبَكَّ يجنون الرِّيباس (¬1) من جبل لبنان، فالتقى عليهم الجبلان، فماتوا بأَسْرهم، وتهدَّمت قلعة بَعْلَبَك مع عِظَمِ حجارتها، ووثيق عمارتها، وامتدَّت إلى حِمْص وحماة وحلب والعواصم، وقطعت البحر إلى قبرس، وانفرق البحر فصار أطوادًا، وقذف بالمراكب إلى السَّاحل فتكسَّرَتْ، ثم امتدَّت إلى خِلاط وأرمينية وأَذْرَبيجان والجزيرة. وأُحصي مَنْ هلك في هذه السنة على وجهِ التقريب، فكانوا ألف ألف [إنسان] (¬2) ومئة ألف إنسان، وكان قوة الزلزلة في مبدأ الأمر بمقدار ما يقرأ الإنسان سورة الكهف، ثم دامت بعد ذلك أيامًا. [فقال بعض البلغاء: أما بعد، فإنه لما حدث بمدن الشام حادث الزلازل، ووجد في أكثرها من عظم البلايا والبلابل، حتَّى طبقت من أرض الجزيرة إلى بلاد الساحل، وهدمت الحصون والمعاقل، وأخربت ما لا يحصى من الدور والمنازل، وسوت الأعالي من البنيان بالأسافل، وأوحشت من أهلها المجالس والمحافل، وشدخت كثيرًا من الهام بالجنادل، وفصلت بين الأعضاء والمفاصل، وأبانت من الأقدام والأكف الأنامل، فأدبر القطان من الأوطان إدبار النعام الجافل، وخلا كثير من السكان في الموارد والمناهل، وكثَّرت في الدنيا اليتامى والأرامل، وأمرضت قلوب الفاقدات، وأرمضت عيون الثواكل، وأجهضت كثيرًا من الحوامل، ووضعت الطيور لهولها ما في الحواصل، فكان ما حدث منها عبرة للبيب العاقل، وحجة على المُصِرِّ الغافل، وتنبيهًا على إخلاص التوبة من المغافل، وإزعاجًا للمتباطئ عن الطاعة والمتثاقل، وما ظلم الله عباده بإهلاك النسل والناسل، ولكنهم لما تعاموا عن الحق، وتمادوا في الباطل، وأضاعوا الصلوات، وعكفوا على الشهوات والشواغل، وأهدروا دم المقتول، وأَرْشوا في دم القاتل، وارتكبوا الفجور، وشربوا الخمور، وانتشر فسقهم في القبائل، وأكلوا الربا والرّشا، وأموال اليتامى وهي شر المآكل، ¬

_ (¬1) نبت كانوا يتداوون به من الحصبة. "القاموس المحيط" (ربس). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

إبراهيم بن محمد بن عبد الملك

وزهدوا فيما رغّبوا فيه، وطمعوا في الحاصل، ومن بقي منهم إنما يستدرج في أيام قلائل، وما جرى على البلاد، فعبرة للخارج وموعظة للداخل، والله يمنُّ على الإسلام وأهله بفرج عاجل، ويوفقهم للقيام بمرضاته من أداء الفرائض والنوافل، ويكفيهم من عذابه الأليم الهائل، وينجيهم من عقابه الآجل والعاجل، فهو مجيب المضطر ومعطي السائل، وفارج الكرب الفادح والخطب النازل] (1). وفي مستهل ذي القَعْدة حُوصرت دمشق؛ جاء الأفضل والظَّاهر، وكان العادل بمِصْر، وبشارة ببانياس، وقد أقطعها العادل مع تِبْنين وهُونين وغيرها لشركس، فلما نزل الأفضل والظَّاهر على دمشق جاء بشارة نجدةً لهما، فقاتلوا دمشق أيامًا، وكان بها الملك المعظَّم عيسى، وبلغ العادل، فجاء، فنزل نابُلُس، وبعث فأصلحَ الأمراءَ، وزحَفَ الأفضلُ والظَّاهر، فوصلوا إلى باب الفراديس، وأحرقوا فندق تقيِّ الذين، وقاتلهم المعظَّم، وحَفِظَ البلد، فأقاموا شهرين، وقيل: شهر ذي القَعْدة، وبعث العادل فأخلف بين الأخوين، فرحلوا سَلْخ ذي الحجة، وجاء العادل فدخل دمشق، ومضى المعظَّم وشركس وقراجا، فحاصروا بانياس، وبها حسامُ الذين بشارة، فقاتلهم، فَقُتِلَ ولده، وأخرجوه من البلاد، وتسلَّمها شركس، وتسلَّم قراجا صَرْخَد. وحجَّ بالناس طاشْتِكِين، وكان الخليفة قد أفرج عنه، ورَدَّ إليه إقطاعه، [وماله. وتوفي جدي والعماد الكاتب عقيب هذه الزلازل] (¬1). وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن عبد الملك (¬2) عز الدين بن المُقَدَّم، [وأبوه محمد المقتول بعرفات، وكان إبراهيم] (1) شجاعًا عاقلًا، وله قلعة بارين وفامية ومنبج والرَّاوَنْدان، وعِدَّة حصون مَدَّ عينُه إليها الملك الظَّاهر، فأخذها وبقيت له بارين، فتوفي، ودفن بدمشق في العُقَيبة، وكان له بنات. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الروضتين": 4/ 483 - 484، و"المذيل على الرَّوضتين": 1/ 99، و"الوافي بالوفيات": 6/ 137.

إبراهيم بن محمد بن إبراهيم

إبراهيم بن محمد بن إبراهيم (¬1) ناظر نهر الملك ببغداد -كان متزهِّدًا، يَلْبَسُ القُطْن الفوط، ويعدل في الرَّعية، ويحسن إليهم- أمر الخليفة النَّاصر بصلْبه، فَصلِبَ على كرسي جسر بغداد، وعليه القميص الفوط على جانب نهر عيسى، فمرَّ به الخليفة وهو مصلوبٌ في وسط الجِذْع، فقال: تتنمَّس علينا! ارفعوه إلى رأس الجِذْع، وكان شيخًا مهيبًا، وحَزِنَ النَّاسُ عليه. [وفيها توفي حسن بن علي بن محمد (¬2) الدرزبيني، الضرير، المقرئ، الحنبلي، ودرزبين قرية من قرى بغداد. قرأ القرآن بالروايات، وكان حسن الصوت، مليح الأذان، وكان أهل بغداد يقصدونه من أقطار بغداد في ليالي رمضان، يسمعون صوته، وكان يحضر بباب حجرة الخليفة، فيقرأ والخليفة يسمعه، وقرأ القرآن على أبي الحسن البطائحي وغيره، وكان يصلي بمسجد أبي الفَضْل بن ناصر بدرب الدواب، وسمع الحديث من أبي محمد بن الصابوني وغيره، ومات في رجب، ودفن بباب حرب، وكان صالحًا، ورعًا، دينًا، ثقة. وفيها توفي جدي رحمه الله، واسمه] (¬3) عبد الرحمن بن علي (¬4) ابن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حُمَّادى بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي بن عبد الله بن القاسم بن النَّضْر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 99. (¬2) "نكت الهميان": 138 - 139. وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج 1 / ج 3/ 260 - 265، و"الكامل": 12/ 171، و"التكملة": للمنذري 1/ 394 - 395، و"المذيل على الروضتين": 1/ 100 - 112، و "وفيات الأعيان": 3/ 140 - 142، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 365 - 384، و"طبقات علماء الحديث": 9/ 119 - 125، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّديق - رضي الله عنه -، أبو الفرج [بن أبي الحسن] (¬1) القُرَشي، التَّيمي. [ورأيت بخط ابن دحية المغربي قال: وجعفر الجوزي منسوب إلى فرضة من فرض البصرة يقال لها جوزة. وقال الجوهري: فرضة النهر ثلمته التي يُسْتقى منها، وفرضة البحر محط السفن، والجمع الفرائض. ولد جَدِّي] (¬2) ببغداد بدَرْب حبيب سنة عشر وخمس مئة تقريبًا، وتوفي أبوه وله ثلاثُ سنين، وكانت له عمةٌ صالحة، وكان أهله تجارًا في النُّحاس [-ولهذا رأيتُ في بعض سماعاته: وكتب عبد الرحمن الصَّفَّار-] (1)، فلما ترعرع حَمَلَتْه عمَّتُه إلى مسجد أبي الفَضْل بن ناصر، فاعتنى به، وأسمعه الحديث، وقرأ القرآن، وتفقَّه على أبي بكر الدِّينوري الحَنْبلي وابن الفَرَّاء، وسمع الحديث الكثير، وقد ذكر من مشايخه في "المشيخة" نيفًا وثمانين شيخًا، وعني بامره شيخُه ابنُ الزَّاغوني، وعَلَّمه الوعظ، واشتغل بفنون العلوم، وأخذ اللغة عن أبي منصور بن الجواليقي، وصنَّفَ الكُتُبَ في فنون، وحَضَرَ مجالِسَه الخلفاءُ والوزراءُ والعلماءُ والأعيان، وأقلّ ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف، وربما حَضَرَ عنده مئةُ ألف، وأوقع الله له في القلوب القَبُول والهيبة، وكان زاهدًا في الدُّنيا، متقلِّلًا منها، [وسمعته يقول] (1) على المِنْبر في آخر عمره: كتبتُ بأصبعيَّ هاتين ألفي مجلَّدة، وتاب على يدي مئة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونَصْراني. وكان يجلس بجامع القَصْر والرُّصافة والمنصور وباب بدر وتُرْبة أُم الخليفة وغيرها، وكان يختم القرآن في كلِّ سبعة أيام، ولا يخرج من بيته إلا إلى الجامع للجُمُعة وللمجلس، وما مازَحَ أحدًا قَطُّ، ولا لعب مع صبيٍّ، ولا أكل من جهةٍ لا يتيقن حِلَّها، وما زال على ذلك الأسلوب حتَّى توفَّاه الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): وقال، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[(¬1) وقد ذكرنا محنته التي زاحم بها الأنبياء والعلماء والفضلاء والأولياء، وتلقى ذلك بالصبر والحمد والشكر. وقد أثنى عليه العلماء، فذكره أبو محمد بن الدبيثي في الذيل الَّذي ذيله على ذيل ابن السمعاني، فقال: ] شيخنا جمال الدِّين بن الجوزي الإمام، صاحب التَّصانيف في فنون العِلْم من التفاسير والفِقْه والحديث والتَّواريخ وغير ذلك، وإليه انتهت معرفةُ الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه من سقيمه، وله فيه المصنَّفات من المسانيد والأبواب والرِّجال ومعرفة الأحاديث الواهية والموضوعة، والانقطاع والاتصال، وكان من أحسنِ النَّاس كلامًا، وأتمِّهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودِهم بيانًا، تفقَّه على أبي بكر الدِّينوري، وقرأ الوعظ على الشَّريف أبي القاسم العَلَوي، وأبي الحسن بن الزَّاغوني، وبورك له في عمره وعِلْمه، فروى الكثير، وسمع النَّاس منه أكثر من أربعين سنة، وحدَّث بمصنفاته مرارًا، وأنشدني [بواسط] (¬2) لنفسه: [من مجزوء الكامل] يا ساكنَ الدُّنيا تأهّـ ... ـبْ وانتظرْ يوم الفِراقِ وأعِدَّ زادًا للرَّحيـ ... ـلِ فسوف يُحدى بالرِّفاقِ وابكِ الذُّنوبَ بأَدْمُعٍ ... تنهلُّ من سُحُب المآقي يا مَنْ أضاعَ زمانَهُ ... أرضيتَ ما يفنى بباقِ [قال (¬3): وسألته عن مولده غير مرة، وفي كلها يقول: ما أحققه، ولكن يكون تقريبًا في سنة عشر وخمس مئة، وسألت أخاه عمر بن علي فقال: في سنة ثمانٍ وخمس مئة. ذكر ما وقع إلي بالشام] من أسامي فهرست مصنفاته [ومجموعاته ومنقولاته] (2) ومؤلفاته: ¬

_ (¬1) في (ح): "وقال محمد بن الدبيثي في "الذيل" عن شيخنا جمال الدّين ... "، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): وقال المصنّف رحمه الله: ذكر ما وقع بالشام من أسامي فهرست مصنفاته، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

فصل [في] (¬1) علم التَّفسير: "المغني" أحد وثمانون جزءًا بخطه، [إلا أنَّه لم يبيضه ولم يشتهر] (1)، "زاد المسير" أربع مجلدات، "التلخيص" مجلد، "تذكرة الأريب في علم الغريب" مجلد، "تيسير البيان في تفسير القرآن" مجلد، "ناسخ القرآن ومنسوخه" مجلد، و"مختصره" جزء، "فنون الأفنان في علوم القرآن" مجلد، "ورد الأغصان في معاني القرآن" مجلد، و"الوجوه والنظائر" مجلد، و"مختصره" جزء، "غريب الحديث" ثلاثة أجزاء، "السبعة في القراءات السبعة" أربعة أجزاء، "الإشارة في القراءات المختارة" جزء، "تذكرة المنتبه في عيون المشتبه" جزء، وذلك خمس عشرة كتابًا. فصل علم الحديث: "جامع المسانيد بألخص الأسانيد" سبع مجلدات، "غرر الأثر" خمس مجلدات، "الكشف عن معاني الصحيحين" أربع مجلدات، "غريب الحديث" مجلدان، ["الحدائق" مجلدان، "كتاب الضعفاء والمتروكين" مجلدان، ] (1) "الصلف في المؤتلف والمختلف" مجلدان، "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" مجلدان، "الموضوعات" مجلدان، "الخطأ والصواب من أحاديث الشهاب" مجلدان، "تلقيح فهوم أهل الأثر في علم التواريخ والسير" مجلدان، و"مختصره" مجلد، "الفرائد المنتقاة" ستة وخمسون جزءًا، "نفي النقل" مجلد، "ناسخ الحديث ومنسوخه" مجلد، "النقاب عن الأسماء والألقاب" مجلد، "المحتسب في النسب" جزآن، ["كتاب المدبج" مجلد، "كتاب المسلسلات" مجلد، "كتاب أخاير الذخائر" مجلد، "كتاب المجتبى" مجلد، "كتاب المشيخة" جزآن، ] (1) "روضة النائل" جزء، ["كتاب تنوير السدف في المؤتلف والمختلف" جزء، "كتاب آفة أصحاب الحديث" جزء] (1)، "المعلق" أربعة أجزاء، فذلك ثمانية وعشرون كتابًا (¬2). فصل: ومن التواريخ والسير: "المنتظم في تواريخ الملوك والأمم" عشر مجلدات، "درة الإكليل" أربع مجلدات، "سلوة المحزون" مجلدان، "مناقب بغداد" مجلد، "المجد العضدي" مجلد، "الطرائف" مجلد، "الفاخر في أيام الناصر" مجلد، "شذور العقود" ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في النسخ: ستة وعشرون كتابًا، فلعل قطب الدين اليونيني "مختصر المرآة" قد أسقط في اختصاره كتابين. والله أعلم.

مجلد، "المصباح المضيء بفضائل المستضيء" مجلد، "الأعاصر في ذكر الإمام الناصر" مجلد، "الفخر النوري" مجلد، "المجد الصلاحي" مجلد، فذلك اثنا عشر كتابًا. فصل: ومن علم العربية: "فضائل العرب" مجلد، "الأمثال" مجلد، "تقويم اللسان" جزآن، "ملح الأعاريب" جزآن، "لغة الفقه" جزآن، "المطرب" جزآن، "فتوى فقيه العرب" جزء، "نزهة أهل الأدب" جزء، "المألوف دون الغريب" جزء، فذلك تسعة كتب. فصل في علوم الأصول: "منهاج الوصول إلى علم الأصول" مجلد، "دفع التشبيه بأكف التنزيه" أربعة أجزاء، "البدائع الدالة على وجود الصانع" أربعة أجزاء، "منتقد المعتقد" جزء، "شرف الإسلام" جزء، "ما لا يسع الإنسان جهله" جزء، "السر المصون" جزء، "الغوامض" جزء، "شفاء علل الأمراض" جزء، "مسلك العقلاء" جزء، "منهاج أهل الإصابة في محبة القرابة والصحابة" جزء، فذلك اثنا عشر كتابًا (¬1). فصل: ومن [تصانيفه في علم (¬2)] الفقه: "المذهب في المذهب" جزآن، "التحقيق في أحاديث التعليق" مجلدان، "المنفعة في المذاهب الأربعة" مجلدان، "الدلائل في مشهور المسائل" مجلدان، "مسبوك الذهب" مجلد، "البلغة" مجلد، "التلخيص" مجلد، "الإنصاف في مسائل الخلاف" مجلد، "البازي الأشهب" مجلد، "لقطة العجلان" مجلد، "كشف الظلمة عن الضيا في الرد على الكيا" مجلد، "لُهْية العجل في الجدل" ثلاثة أجزاء، "درء اللوم والضيم في تحريم صوم يوم الغيم" جزء، "مناسك الحج" جزء، "تحريم المحل المكروه" جزء، "تعظيم الفتوى" جزء، "الرد على القائلين بجواز المتعة" جزء، "المسائل المفردة" جزء، ["كتاب العدة في أصول الفقه" جزء، "كتاب الفرائض للوازم الفقه" جزء] (2) فذلك عشرون كتابًا. فصل: [ومن تصانيفه في] (2) المناقب: "الوفا بفضائل المصطفى" مجلدان، "مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -" مجلد، "مناقب عمر بن عبد العزيز" مجلد، "مناقب ابن المسيب" مجلد، "مناقب الحسن البصري" مجلد، "مناقب سفيان الثوري" مجلد، "مناقب إبراهيم بن أدهم" مجلد، "مناقب الفضيل بن عياض" جزء، "مناقب بشر ¬

_ (¬1) كذا قال، وهم أحد عشر كتابًا. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحافي" مجلد، "مناقب الإمام أحمد رحمة الله عليه" مجلد، "شرف أصحاب الحديث" مجلد، "فضائل معروف" جزآن، "مناقب رابعة" جزآن، "فضائل الفقه" جزء، "فضائل القدس" جزء، "فضائل ليلة الجمعة" جزء، "كتاب النساء" جزء، "تقريب الطريق الأبعد بفضل مقبرة أحمد" جزآن، "تنوير الغبش في فضل السود والحبش" مجلد، "قيام الليل" ثلاثة أجزاء، "الستر الرفيع" جزء، "أسرار الموالي" جزء، "مناجزة العمر" جزء، فذلك ثلاثة وعشرون كتابًا. فصل الرقائق: "صفوة الصفوة" أربع مجلدات، لأعيون الحكايات" مجلدان، "ملتقط الحكايات" مجلد، "أسباب الهداية" مجلد، "صولة العقل" جزء، "العزلة" جزء، "الصلوات والأدعية" جزء، "البر والصلة" جزء، "الأنس والمحبة" جزء، "الوصية" جزء، "ذم الحسد" جزء، "ذم المكر" جزء، "المحاضرات" جزء، "الرياضة" جزء، فذلك أربعة عشر كتابًا. فصل الرِّياضات ونحوها: "منهاج القاصدين" ثلاثة مجلدات، "تلبيس إبليس" مجلدان، "ذم الهوى" مجلدان، "صيد الخاطر" ثلاث مجلدات، "القصاص" مجلد، "مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن" مجلد، "الأذكياء" مجلد، "المغفلين" مجلد، "المختار من كلام ابن عقيل" مجلدان، "الحفاظ" مجلد، "الآثار العلوية" مجلد، "الظراف والمتماجنين" مجلد، "السهم المصيب" جزآن، "عجالة المنتظر في الخضر" جزآن، "أعمار الأعيان" جزآن، "الثبات عند الممات" جزآن، "الطب الروحاني" جزآن، "عطف الأمراء على العلماء" جزآن، "فتوح الفتوح" ثلاثة أجزاء، "إعلام الأحياء باغلاط الإحياء" جزآن، "النحاة" جزآن، "الحث على طلب العلم" مجلد، "الحلاج" جزء، "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر" جزء، "الحث على طلب الأولاد" جزء، "الوداع" جزء، "المقاسم لأبي المقاسم" جزء، "المستدرك على ابن عقيل"، "لفتة الكبد"، "النصر على مصر"، "العشرة والعطف" جزء، " الأخذ على ابن نباتة" جزء، فذلك اثنان وثلاثون جزءًا مصنفًا. فصل الطب: "لقط المنافع" مجلدان، "المشيب والخضاب" مجلد، و"مختصره" في جزأين، "الحقير النافع" جزآن، "طب الأشياخ" جزء، "الباه" جزء، فذلك ستة كتب. فصل الأشعار: "إحكام الأشعار بأحكام الأشعار" مجلدان، "المختار من الأشعار" عشر مجلدات.

فصل الوعظ: "التبصرة" ثلاث مجلدات، "المنتخب" مجلدان، "المنتخب" مجلد، "الذخيرة" ثلاثون جزءًا، "المستنجد والمستنجد" مجلدان، "رؤوس القوارير" مجلدان، "الزير من رؤوس القوارير" مجلد، "المدهش" مجلد، "المقتبس" مجلد، "موافق المرافق" مجلد، "نسيم الرياض" مجلد، "محض المحض" مجلد، "منتهى المشتهى" مجلد، "المرتجل" مجلد، "زين القصص" مجلدان، "اللطائف" مجلد، "اللطف" مجلد، "الوعظ النفيس" مجلد، "التحفة" مجلد، "النور" مجلد، "المقامات" مجلد، "المجالس اليوسفية" مجلد، "احتباس المجالس" مجلد، "المقعد المقيم" مجلد، "شاهد ومشهود" مجلد، "الأرج" أربعة أجزاء، "نسيم السحر" ثلاثة أجزاء، "صبا نجد" جزآن، "الملهب" جزآن، "الزند الوري في الوعظ الناصري" ثلاثة أجزاء، "المعلق" ثلاثة أجزاء، "الفصول الوعظية" على حروف المعجم ثلاثة أجزاء، "مغاني المعاني" ثلاثة أجزاء، "الوعظ المقبري" جزآن، "لقط الجمان" جزآن، "زواهر الجواهر" أربعة أجزاء، "الخواتيم" جزآن، "المجالس البدرية" أربعة أجزاء، "أخاير الذخائر" ثلاثة أجزاء، "اليواقيت في الخطب" جزآن، "اللآلئ في الخطب" جزآن، "المقتضب" جزآن، "شطب اللمع في خطب الجمع" ثلاثة أجزاء، "إيقاظ الوسنان من الرقدات بأحوال الحيوان والنبات" جزآن، "الزجر المخوف" جزء، "المطلوب" جزء، "الطرب"، "الوعظ الملوكي" جزء، "أغاني المعاني" جزء، "المواعظ السلجوقية" جزء، "مختصر لقط الجمان" جزء، "واسطات العقود" جزء، "المحادثة" جزء، "المناجاة" "جزء، "اللؤلؤة" جزء، "الملح" جزء، "الياقوتة" جزء، "التصديقات لرمضان" جزء، "كنز المذكر" جزء، "التعازي الملوكية" جزء، "روح الروح" جزء، "المقاطع" جزء، "كنوز الرموز" فذلك نيف وستون كتابًا، أبرمت من الفصاحة أسبابًا، ورفعت لها منارًا، وأحصت حسابًا، وأزالت عن الأبصار بأنوار الأسرار حجابًا، فبعول العقول تجلي من أرق الألفاظ وأدق المعاني عرائس أبكارًا، وكواعب أترابًا، وقيل: بلغت تصانيفه ثلاث مئة اخترعها وأودعها حكمة وصوابًا (¬1). ¬

_ (¬1) لمعرفة المزيد من مؤلفات ابن الجوزي يراجع كتاب "مؤلفات ابن الجوزي" تأليف عبد الحميد العلوجي، نشر مركز المخطوطات والتراث والوثائق، الكويت 1992 م.

ذِكْرُ ما جرى في مجالسه [من الطرف المبتكرات، والنُّتَفَ المُسْتظرفات، والسؤالات والجوابات، وتلخيصه المعاني في ألخص الكلمات. قال رحمه الله يومًا في مجلس وعظه: الدنيا نهر طالوت فاعبروها ولا تعمروها. فقام سائل فقال: كيف أصنع وحبها مجبول في طباعي من يوم {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14]؟ فقال جدي: {إلا مَنِ اغْتَرَفَ} [البقرة: 249] قطرة من القطرات. وقال: لما دعا الله الخلق إلى بابه بقوله {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] أعرض عنه أقوام، فقوبلوا بالإعراض {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. وقال في قوله - عليه السلام -: "هَبْ لي عينين هطالتين" (¬1) أراد أن يبكي بهما ليرحم الله هذه الأمة، كلما قويت قواصف العواصف، صاح ناتاني المركب: من هو على شيني ينتقل] (2). وقال: والله ما اجتمع لأحدٍ أمله إلا وسعى في تفريقه أجلُه. وقال: عقاربُ المنايا تلسع، وجُدْران جسم الأمل تمنع الإحساس. وقال: الرَّواحل في طيِّ المراحل، والأنام نيام. [وقال: ركب الأجل يجري، والركاب في الحديث. وقال: ماء الحياة من إناء العمر يرشح بالأنفاس] (¬2). وقال لبعضِ الولاة: اذكر عدل الله فيك، وعند العقوبة قدرة الله عليك، وإياك أن تشفي غيظك بسقم دينك. [وكان يحضر مجلسَه صاحبٌ له، ثم انقطع مدة وعاد، فقال: ما أنت في أوسع العذر من التأخير لثقتي بك، وفي أضيقه من شوقي إليك. وقال له قائل: ما نمت البارحة من شوقي إليك، وإلى المجلس. فقال له: نعم، لأنك تريد أن تتفرج، وإنما ينبغي أن لا تنام الليلة لأجل ما سمعت. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (480) وأحمد في الزهد (481)، والطبراني في "الدعاء" (3661)، وإسناده ضعيف. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، والشيني: ضرب من السفن الشراعية. انظر "تكملة المعاجم العربية": 6/ 399.

وقال: لا تسمع ممن يقول الجوهر والعرض والاسم والمسمى، والتلاوة والمتلو، لأنه شيء لا يحيط به أوهام العوام، بل قل: آمنت بما جاء من عند الله، وبما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا شيء يفهمونه. وقرأ بين يديه قارئ، فأطرب الجمع، فأنشد: [من الطويل] ألا يا حمامي بطن نعمانَ هجتُما ... عليَّ الهوى لما تغنيتما ليا ألا أيها القمريتان تجاوبا ... بلحنيكما ثم اسجعا لي علانيا وقرأ بين يديه قارئ حسن الصوت، فأطرب الجماعة، ثم قرأ بعده آخر مزعج الصوت، فنغَّص الجماعة. فقال جدي: كان لبعضهم جاريتان مغنيتان، إحداهما تغني طيبًا، والأخرى مزعجًا، فكان إذا غنت الطيبة الصوت يمزق ثيابه، وإذا غنت القبيحة الصوت يقعد يخيط ما مزّق. قلت: حضر مجلسي بجامع دمشق في سنة عشر وست مئة القضاة والأشراف والأعيان، والملك المعظم عيسى رحمه الله، وشيوخنا جمال الدين الحصيري، وتاج الدين الكندي، والقاضي شمس الدين بن سني الدولة، وكان مجلسًا عظيمًا، احتوى على عشرة آلاف وزيادة على باب مشهد علي - عليه السلام -، وكان بمجلسي قارئان أحدهما يقال له النجيب البغدادي، إذا قرأ طربنا، والآخر يقال له الشرف ابن مي إذا قرأ أزعجنا. فحكيت للجماعة حكاية الجاريتين المغنيتين، وكان تاج الدين الكندي قاعدًا في القبة التي في وسط المجلس، فصاح: يا بني، كلنا اليوم نخيط (¬1). وقيل لجدي: إن فلانًا أوصى عند الموت، فقال: طيَّن سطوحه في كانون! وقال له قائل: أيما أفضل، أسبح أم أستغفر؟ فقال: الثياب الوسخة أحوج إلى الصَّابون من البخور. ¬

_ (¬1) كنت ذكرت في "المذيل على الروضتين": 1/ 160 أن هذا النص ليس في نسخ "مرآة الزمان"، ولم أكن قد وقفت عليه في هذا الموضع، فليعذرني القارئ.

وقال في قوله - عليه السلام -: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين" (¬1): إنما طالت أعمار القدماء لطول البادية، فلما شارف الركب بلد الإقامة قيل: حثوا المطي. وقال: من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه. وقال: البخل فراش العار، والحرص فراش النار، والكرم فراش الدار] (¬2). وقال: لا تعجبوا من قوس حاجب في وفاء قوس حاجب. وقال: الطاعة تبسط اللسان، والمعاصي تذل الإنسان. [وقال في حق واعظٍ جاهل: احذروا جاهل الأطباء فربما سمى اسمًا ولا يعرف المسمى. وقال في الاستهانة بالعدو: ذباب السيف لا يجوز على ذباب الصيف. وقام إليه رجل نجار، فسأله سؤالًا بَرَّدَ به المجلس، فقال: يا نجار، أخذت بالأنفاس، هذا وقت الرندج (¬3) لا وقت الفاس. وقال يومًا في معنى قوله - عليه السلام -: "غضوا أبصاركم لتجوز فاطمة": هذا تنبيه لشرف القادم. وجواب آخر، كأنه يقول: قد أقبلت في الموقف، وأنتم في كرب شديد، فتعلقوا بذيل كرمها، لعلها أن تشفع لكم كما شفع أبوها. قلت: تعلقوا بذيل كرمها لا يطابق قوله: غضوا أبصاركم، كيف يتعلقون بذيلها! وإنما معناه إذا رأتهم قد تأدبوا معها بغض الأبصار حملتها أريحية النبوة على أنها تقف وتشفع فيهم في مقابلة تأدبهم معها. وهذا الكلام إنما يصح لو صح الحديث، وقد ذكره جدي في "الأحاديث الواهية" (¬4)، وصححه غيره] (2). ووعظ الخليفة يومًا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن تكلمتُ خفتُ منك، وإنْ سكتُّ خفتُ عليك، فأنا أقدّم خوفي عليك على خوفي منك لمحبتي لدوام أيامك، إن قول ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3550)، وابن ماجه (4236)، وابن حبان (2980)، والحاكم 2/ 427 من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) الرندج: كلمة فارسية معربة، وهي آلة لسحج الخشب وتسويته وتنعيمه. "تكملة المعاجم العربية": 5/ 224. (¬4) هو في "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية": (2671).

القائل: اتَّقِ الله خير من قول القائل: إنكم أهل بيت مغفور لكم، وقد قال الحسن البصري: لئن تصحب أقوامًا يخوفونك حتَّى تبلغ المأمن خير من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك حتَّى تبلغ المخاوف، وكان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغني عن عامل ظالم أنَّه قد ظلم الرعية ولم أغيره فأنا الظالم، يا أمير المؤمنين، كان يوسف - عليه السلام - لا يشبع في زمان القحط لئلا ينسى الجياع، وكان عمر يضرب بطنه عام الرَّمادة، ويقول: قَرْقِرْ إن شئت أو لا تقرقر، فوالله لا شبعت والمسلمون جياع. فتصدق الخليفة -وكان المستضيء- بصدقات كثيرة، وأشبع الجياع، وأطلق الحبوس. [وقال: أهل البدع يقولون: ما في السماء أحد، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي. تكتب ثلاث عورات لكم. وقال: مذهب الشافعي في تعظيم القرآن آكد من مذهب أحمد، لأن عند أحمد يجوز للمُحْدِث أن يَمَسَّه، وعند الشافعي: لو كان المصحف على جمل لم يجز للمحدث أن يقوده. وقرأ بين يديه قارئ {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20] فقال: العِدَةُ دين، فالطالب أين؟ وسئل عن قوله - عليه السلام -: "أنا سيد ولد آدم" (¬1): وقوله: "لا تفضلوني على يونس ابن متى" (¬2) فقال: هذا خال جمال على خد كمال. قلت: وقد سئلت في مجالسي عن هذا، فأجبت: لأن يونس كان أضعف الأنبياء حالًا، لأنه ذهب مغاضبًا لقومه، فخاف من عتبه ولومه. ولما قال نبينا: "أنا سيد ولد آدم". قيل: قد بلغت أعلى المراتب، وإن كان العهد قد تقادم، فتواضع وإن كنتَ سيد العالم، واجبرْ قلبَ ذلك الضعيف المنكسر -الَّذي لولا لطف الله به لصيَّفَ في بطن الحوت وشتَّى- بقولك: "لا تفضلوني على يونس بن متى". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2278) من حديث ابن هريرة مرفوعًا. (¬2) بنحوه أخرجه البخاري (3413)، ومسلم (194) من حديث ابن عباس مرفوعًا.

وقال له قائل: آدم تلقى من ربه كلمات، فأنت من أين تلقيت؟ فقال: الولد للفراش. قلت: وقد سئلت عن مثل هذا، فقال لي رجل في المجلس: أي شيء تعشيت البارحة؟ فقلت: هذه نوالة رفعت من موائد فوائد، أظل عند ربي يطعمني ويسقيني ويقيني] (1). وسئل عمن ينهر السائل، فقال: إن لم تدنه من مبارِكِ مبارِّك، فأبعده عن معارِك معارِّك. وقال في قوله تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87]: نظر في استيفاء الدَّيْن بمقتضى الوكالة، وما علم أن صاحب الحق قد وَهَب. وقال في قول فرعون {أَلَيسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51]: يفتخر بنهرٍ ما أجراه، ما أجراه! [وقال: سأل إبليس الإنظار، فلما أجيب قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] فقيل: جعلت شكر النعمة بالإنظار إغواء العباد، ولكن هكذا فعل أولاد الحلال! وحضر مجلسه جماعة من المخالفين، فأنشد: [من الرجز] ما للهوى العذري في ديارنا ... أين العُذيب من قصور بابل قلت: هذا البيت يقتضي المدح لهم، لأنه شبههم بالهوى العذري، وكذا العذيب وقصور بابل، لأنها كلها أماكن ممدوحة، وإنما كان يقال: [من البسيط] أتظهرون نهارًا بين أظهرنا ... أما نهاكم سليمان بن داود] (¬1) وتواجد رجل في المجلس، فقال: واعجبًا، كلنا في إنشاد الضالة سواء، فلم وجدت أنت وحدك؟ ! وأنشد: [من الرمل] قد كتمتُ الحبَّ حتَّى شفَّني ... وإذا ما كُتِمَ الدَّاءُ قَتَلْ بين عينيك علالات الكرى ... فدع النومَ لربَّاتِ الحَجَلْ ونظر يومًا إلى أقوام يبكون في ضائقة ويتواجدون، فأنشد: [من الطويل] ولو لم يَهِجْني الظَّاعنون لهاجَني ... حمائمُ وُرْقٌ في الدِّيارِ وقُوعُ تداعين فاسْتَبْكَينَ من كان ذا هوى ... نوائحُ لم تَقْطُرْ لهنَ دموعُ وكيف أطيقُ العاذلاتِ وذِكْرُهُمْ ... يؤرِّقُني والعاذلاتُ هجوعُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وقام رجل فتواجد، فأنشد: [من الطويل] وما زال يشكو الشوق حتَّى كأنه ... تنفَّس من أحشائه وتكلَّما ويبكي فأبكي رحمةً لبكائه ... إذا ما بكى دمعًا بكيت له دما وأعجبه يومًا كلامه، فأنشد: [من الرجز] تزدحم الألفاظ والمعاني ... على فؤادي وعلى لساني تجري بي الأفكار في ميدان ... أزاحم النجم على المكانِ وكتب إليه بعضهم رقعةً يقول له فيها: أنت مشبهي. فقال: نعم، بالكلب. ثم قال: المشبِّه يثبت وأنتم محوتم [بالكاشة، دعونا فنحن أعرف بمذاهبكم منكم] (1)، ثم أنشد: [من الوافر] ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جَهْلِ الجاهلينا [وقال في قصة الذين عبدوا العجل: لو أن الله خار لهم ما خار لهم، عبدوا العجل من غير فكرة، بل على الفور، وما يعبد العجل إلا ثور. ومدح رجلًا بالكرم، فقال: نبل فضله يرمي عن قوس جوده، فقد صار الفقر في زمانه كالقنفذ. وقال له رجل: لي صديقٌ كنت أنهاه عن المعاصي ولا يقبل، وقد وقع الآن في الحق، فقال له: اذهب إليه وقل له: كم كنت بالله أقل لك لدى التواني غائله وللقبح معرَّة تبين بعد قليل وقال: لقي عيسى - عليه السلام - يومًا إبليس، فقال: أسألك بالحي القيوم، ما الَّذي يقطع ظهرك؟ فقال إبليس: صهيل الخيل في سبيل الله. فقال له رجل: نحترم اليمين ونعصي المحلوف به! فقال: قطع اليد لا يمنع من اعتياد السرقة، ولا ينفع انكسار القلب مع العزم على الإصرار على الذنب] (¬1). وانقطع القراء يومًا عن مجلسه، فأنشد: [من الطويل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وما الحَلْيُ إلا زينةٌ لنقيصةٍ ... يتمم من حُسْنٍ إذا الحُسْنُ قصَّرا وأما إذا كان الجمالُ موفَرًا ... كحُسْنك لم يحتجْ إلى أَنْ يزوَّرا [وقال في حق أمير المؤمنين علي: كان يسرع في القتال من غير توقف، مطبوعًا على الشجاعة من غير تكلف، هل قيل في حقه: إنه إذا لقي أبطالًا أنَّه أبطا، لا. وقيل له: لم تقع النار على الحراق دون غيره؟ فقال: بينهما مناسبة من الأصل، وإنما تراكمُ الدُّخان حَجَبَ بينهما، فإذا زال ظهر. قلت: معنى هذه المناسبة أنَّه قد جاء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} [يس: 80] إنه شجر القطن، فكانت النار فيه كامنة إذا جعل حراقًا، والزناد يظهرها. وقرئ بين يديه {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] فقال: قلع عيسى القانور -يعني الوتد- وسمر السفينة، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - ضرب البحر، وقال: أمتي أمتي. وذكر يومًا أن الفتح بن شخرف (¬1) لما مات وجد غاسله كتابة في جسده بين الجلد والعظم: الله. ما كتبها كاتب، ثم قال: هذه علامة التوفيق ليكف الهوى كف التصرف. وسأله رجل: لم لا جعل الطلاق للنساء كما جعل للرجال؛ فقال: لو كان كذلك، وتعوق الخبز ساعة وقع الثلاث. وقال: الرجاء يلعب بالحصى، والأمل يضرب بالقرعة، والطمع يخط بالرمل. وصاح رجل في المجلس، وهجَّ على وجهه، فأنشد الشيح: [من الخفيف] أقرِ عني السَّلام أهل المُصَلَّى] (¬2) وقيل له: لم تعلَّل موسى - عليه السلام - بسوف تراني؟ فأنشد: [من الكامل] إن لم يكن وَصْلٌ لديك لنا ... يشفي الصَّبابة فليكن وَعْدُ وذكر حديث بلال، وأنه كان قد مُنِعَ من الطواف بالبيت، كان يقف من بعيد ويبكي، ثم أنشد: [من الوافر] ¬

_ (¬1) له ترجمة في "صفة الصفوة": 2/ 402 - 404، والقصة بنحوها فيه. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أمرُّ على منازلهم وإني ... لمن أضحى به صبٌّ مشوقُ فأومي بالتحية من بعيد ... كما يومي بأصبعه الغريقُ [وقيل له: قد نبغ أقوام يتعانون الوعظ، وليس من شغلهم، فأنشد: [من مجزوء الكامل] قالوا تصاهلت الحميـ ... ـر فقلت إذ عدم السوابقْ خلتِ الديار من الرخا ... ح ففرزنت فيها البيادقْ وقال: مطر الربيع تهاجُر العُشَّاق. وذكر ضرب عمر - رضي الله عنه - الأرض بالدرة، فقال: الخائن خائف، والبريء جريء] (¬1). وسئل عن لعنة يزيد بن معاوية، فقال: قد أجاز الإمام أحمد -رحمة الله عليه- لعنته. ونحن نقول: ما نحبه لما فعل بابن بنت نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وحمله آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا إلى الشام على أقتاب الجمال، وتجرُّئه على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رضيتم بهذه المصالحة في قولنا: ما نحبه، وإلا رجعنا إلى أصل الدعوى، يعني جواز لعنته، أما أبوه ففي خفارة الصحبة، فدعوه من أيديكم، وأنتم في حِلِّ من الابن. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" (¬2) وما رآها يزيد قط، ودخلها معاوية. [ثم قال: لا تدنسوا مجلسنا بذكر من ضرب بالقضيب ثنايا كان يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلها يزيد غرضًا لبلوغ غرضه. وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أذكركم الله وأهل بيتي" (¬3). قالها ثلاثًا. ثم قال: هذا الصوت ما بلغ أهل الشام. قلت: لا ذنب لأهل الشام في قصة الحسين - عليه السلام -، فإنه ما شهد قتله منهم أحد، وإنما قتله أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، وقد ذكرناه] (1). ثم قال جدِّي: تقدم رجلان إلى قاضٍ، فادَّعى أحدهما دعوى، وقال: لي عند هذا الكشحان دين، فقال القاضي للمدَّعى عليه: ما تقول يا كشحان؟ فقال الرجل: أما ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) أخرجه مسلم برقم (1781) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه مسلم برقم (2408) من حديث زيد بن أرقم بنحوه.

تستحي وأنت حاكم المسلمين تشتمني؟ ! قال: ما شتمتك! قال: بلى، قلت لي كشحان. قال: أو ليس اسمك كشحان؟ قال: لا والله. قال: فما اسمك؟ قال: يزيد. قال: كشحان أصلح. وقال: كم واعظ إذا خطب سبقت الباء الطاء، وأنشد: [من الكامل] يا عُصْبة لا يفرقون بجهلهم ... ما بين سحبان ولُكْنة باقِلِ أهدي ويهذي الجاهلون فنستوي ... لا فرق بين فضولهم وفضائلي [وقال يومًا في مجلسه في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيكُمْ}: من عادة القادم أن يبدأ بالسلام، فلما أزعجتْ نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ المعراج أنوارُ الهيبة، قيل له: نحن نبدؤك بالسلام، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيكُمْ} [الأنعام: 54]. وكتب إليه رجل: أيما أفضل أتوب في نفسي أم بين الناس؟ فقال: إنما يقصد التائب بالتوبة بين الناس إما للتبرك بدعائهم، أو لخوف عود النفس إلى الذنب، فإذا شاهد الناس منه التوبة استحيا من الرجوع إلى الذنب، وفي الجملة فإن كنت أذنبت بينك وبين ربك فاستر توبتك، وإن كانوا شاهدوك على الذنب، فتب ظاهرًا، لتقطع ظنة الشهود. وكان يومًا يشرح أحوال الصالحين، فعورض بغير ذلك، فقال للسائل: لا تذكر لمن في طريق الحج إلا طريق مِنى. وقطع شاب شعره، فقال؛ هذه الشعرة أوتار عود، ومعنى قطعها أنَّه لا أعود. وقال مرة أخرى: الشعر أوتار رباب، يغني عليها شيطان الشباب. وقال يومًا: يا أهل البدع، لو بقيت من السنة ذرة لأهلكتكم بمرة، وما خلقت الجنّة إلا لأهل الكتاب والسنة. وسئل -رحمه الله- عن علم إبليس أنَّه من المنظرين، فلِمَ فَرَّ من عمر؟ فأجاب بأجوبة أحدها لهيبة عمر - رضي الله عنه -، والمهيب مجتنب. والثاني: أنَّه خاف من أذى يلحقه لا من إهلاكه، فإنه لقيه يومًا عمر، فصارعه، فصرعه عمر.

والثالث: لأن إبليس في يسير إلا في ستر تلبيس، ونور عمر يفضح ظلام خديعته. وسئل: كيف سَلِمَ موسى من التنور واليم، ولم يسلم من أخذ الجمرة حتَّى أحرقت لسانه؟ فأجاب بأجوبة، أحدها أن حفظ الجملة لا يمنع من نيل بعض الأطراف بالبلايا، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وقد كسرت رباعيته. والثاني: إنها بهرجة مرت على فرعون سَلِمَ بها من القتل كقول الخليل: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]. والثالث أنَّه قال: يابا، فعوقب لسانه، ويده لما مدت إلى لحية فرعون سلمت. قلت: يابا، مخرجها من الشفتين، وليس مخرجها من اللسان] (¬1). وقال يومًا وقد طرب المجلس لكلام سمعوه منه: فهمتم فهمتم. [وسئل عن قوله - عليه السلام -: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يحبه الله ورسوله" (¬2) فأعطاها عليًّا - رضي الله عنه -، فأين كان أبو بكر؟ فقال: لما كان يوم بدر قام أبو بكر ليقاتل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "متعنا بنفسك" (¬3)، ولما كان يوم خيبر سلَّم الراية إلى علي، وقال له: اخرج. فقعود من قعد بالأمر كخروج من خرج بالأمر، ولكن في قوله: متعنا بنفسك، فضيلة] (1). وسئل: لِمَ لم ينصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلافة أبي بكر رضوان الله عليه؟ فقال: قد جرت أشياء تجري مجرى النص، منها قوله: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" (¬4)، و"اقتدوا باللذين من بعدي" (¬5)، و"هلموا اكتب لأبي بكر كتابًا لئلا يختلف عليه المسلمون" (¬6) فهذه أحاديث تجري مجرى النصوص، فهمها الخصوص، غير أَنَّ الرَّافضة في إخفائها كاللُّصوص. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) أخرجه البخاري (3009)، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد. (¬3) أخرجه الواقدي في مغازيه: 1/ 257، ومن طريقه البيهقي في الستن: 8/ 186، مرسلًا. (¬4) أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418) من حديث عائشة. (¬5) أخرجه أحمد في "المسند" (23245)، والترمذي (3663)، وابن ماجة (97) من حديث حذيفة بن اليمان. (¬6) أخرجه أحمد (24199)، وابن ماجة (1627) من حديث عائشة.

وقال سائلٌ لما قال: أقيلوني: ما سمعنا مثل جواب علي رضوان الله عليه: والله لا أقلناك. فقال [جدي] (¬1): لما غاب عليٌّ عن البيعة في الأول أخلف ما فات بالمدح في المستقبل، ليعلم السَّامع والرائي أَنَّ بيعة أبي بكر وإن كانت مِنْ ورائي فهي برأي، ومثل ذلك الصَّدْر لا يرائي، وما أحسنَ استدلاله حين قال: رضيك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، أفلا نَرْضاك لدنيانا؟ [وسأل آخر، فقال: سيف علي نزل من السماء، فسعفةُ أبي بكر من أين؟ فقال: إن سَعَفَةً هزَّت يوم الردة، فأثمرت سبيًا جاء منه مثل ابن الحنفية لأمضى من سيوف الهند، ثم قال: يا عجبًا، الرافضة إذا مات لهم ميت تركوا معه سعفة، من أين وقع هذا الصلح؟ ! سأل سائل: ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى أبي بكر" (¬2)؟ فقال: الميت يقسم ماله، ويلبس الكفن، وأبو بكر أخرج المال كله، وتخلل بالعباء] (1). وقال في قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] قال علي رضوان الله عليه: والله، إني لأرجو أن تكون هذه الآية نزلت فيَّ وفي عثمان. ثم قال: إذا اصطلح الخصوم، فما بال النَّظَّارة؟ ! وقال: قال جبريل للرسول - صلى الله عليه وسلم -: [سَلِّمْ] (1) على عائشة، فلم يواجهها بالخطاب احترامًا لزوجها، وواجه مريم لأَنَّه ما كان لها زوج، فمن يحترمها جبريل، كيف يجوز في حقِّها الأباطيل؟ ! وذكر يومًا حديث داود عليه السَّلام: وهبه آدم - عليه السلام - ستين سنة، وأن الله تعالى أتم لداود مئة، ولآدم ألفًا، ثم قال: المتوسط بين اثنين إذا كان كريمًا غرم. [قلت: وقد ذكر في كتابه المسمى بـ "فتح الفتوح" إلى طَرَفٍ من هذه الطُّرَف] (1). ذكر نبذة من أشعاره [التي جعلها في الواقعات من شعاره، وبلغني أنها عشر مجلدات في الأجناس والمدائح والصفات] (1)، فمن ذلك: [من الطويل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) لم أجده فيما بين يدي من المصادر.

[يودُّ حسودي أَنْ يرى ليَ زلةً ... إذا ما رأى الزَّلاتِ جاءتْ أكاذيبُ أرد جوى خصمي وليس بقادرٍ ... على ردِّ قولي فَهْو موتٌ وتعذيبُ ترى أوجه الحُسَّاد بيضًا لرؤيتي ... وإنْ قمتُ عادت وهي سودٌ غرابيبُ إذا فهت لم ينطق عدوي بلفظةٍ ... إذا ورد الضرغام لم يلغِ الذيبُ] (¬1) [وقال] (¬2): [من المتقارب] لعبتَ ومِثْلُكَ لا يلعبُ ... وقد ذَهَبَ الأطيبُ الأطيبُ وقد كنتَ في ظلماتِ الشَّباب ... فلما أضاءَ انجلى المغيبُ ألا أين أقرانُك الرَّاحلون ... لقد لاحَ إذْ ذهبوا المذهب دعِ اللَّهو وارجعْ إلى مدح مَنْ ... له حَسَبٌ لا كما يحسبُ وما المدح إلا بوصف الرِّجال ... وإلا فمادِحُهُمْ يكذبُ إذا صاغَ ذو مِدَحٍ وصفهم ... فهمْ مدحوا لا الَّذي يطلبُ ففكرتُ في شَرَفِ المُسْتضيء ... فحرتُ وتاه بي السَّبْسَبُ أردتُ مديحًا فقال القريض ... إلى أين قل لي ترى تَذْهَبُ خليفة رَبّ الأنام ابن عم ... نبي الهدى بعد ذا مذهب وقال أيضًا: [من السريع] أقْتَلُ أدواءِ الرِّجال الوَجْدُ ... توقَّ نجدًا فالغرامُ نجدُ حيث الرِّياض والنسيم أُنُفٌ ... ودَنِفٌ ما يستفيق بعدُ إن الصَّبا إذا جَرَتْ قادِحَة ... نارَ الغرامِ ففؤادي الزَّنْدُ تُعْدي المحبِّين الصَّبا كأنما ... لها على أهل الغرام حِقْدُ لا تتلق نفحة نجدية ... هزلًا فهزل النفحات جدُّ ما كبدي بعدك إلا جذوة ... لها بترجيع الحنين وَقْدُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في بين حاصرتين زيادة من عندنا يقتضيها السياق.

النار قلبي والسّموم نفسي ... والماء طَرْفي والتُّراب الخَدُّ قد كدت أخفى عن عيون حُسَّدي ... كذا وجودُ العاشقينَ فَقْدُ وقال أيضًا: [من الرمل] لا وشُعْثٍ فارقوا أوطانَهُمْ ... يستلينون السَّبيلَ الأَوْعَرا كلما غنَّى بهمْ حاديهُمُ ... أخذت عِيسُهُمُ تَفْري البُرا وافَقَتْ مَنْ حَمَلَتْ في شَوْقِها ... فتناستْ بالهوى طُولَ السُّرى وقال أيضًا: [من السريع] يا صاحبي إن كنتَ لي أَوْ معي ... فَعُجْ إلى وادي الحِمى نَرْتَعِ وسَلْ عن الوادي وسُكَّانه ... وانْشُدْ فؤادي في رُبا المَجْمَعِ حيِّ كثيبَ الرَّمْلِ رَمْلِ الحِمى ... وَقِفْ وسَلِّمْ لي على لعلع واسْمَعْ حديثًا قد رَوَتْه الصَّبا ... تسنده عن بانةِ الأَجْرَعِ وابكِ فما في العين مِنْ فَضْلَةٍ ... وَنُبْ فَدَتْكَ النَفْسُ عن مدمعي وانزلْ على الشِّيحِ بواديهمُ ... واشمم عشيبَ البلد البَلْقَعِ رِفْقًا بنِضْو قد بَرَاه الأسى ... يا عاذلي لو كان قلبي معي إذا تذكَّرْتُ زمانًا مضى ... فويحَ أجفانيَ مِنْ أَدْمُعي يا نفسُ كم أتلو حديثَ المُنَى ... ضاعَ زماني بالمُنَى فاقْطَعي يا قلب لا تسكن على بُعْدهم ... وأنتِ يا عينُ فلا تَهْجعي وقال أيضًا: [من المتدارك] أَتُرى سألوا لما رَحَلُوا ... ماذا فعلوا فيمن قَتَلُوا خَدَعوا بالبَينِ قتيل البيـ ... ـنِ فَسُحْبُ العينِ لهم ذللُ وغدوا فطمعت غداةَ سمت ... مني وقنعتُ بما بذلوا أحليف النومِ أقلَّ اللَّوْ ... م فعندي اليوم بهمْ شُغُلٌ أدنى جزعي لم يُبْقِ معي ... قلبًا فيعي منذ احتملوا

وبسمعي ثوَّر سائقهم ... وبعيني قُرِّبتِ البُزْلُ جِلْدي سَلَبُوا جَسَدِي نهبوا ... كمدي وهبوا كبدي نبلوا لما ذرفتْ عيني وَقَفَتْ ... أترى عَرَفَتْ ما بي الإبلُ ولحا اللاحي وَهُوَ الصَّاحي ... ولهم راحي وأنا الثَّمِلُ وقال: [من مجزوء الرجز] تملَّكوا واحتكموا ... وصار قلبي لهم تصرَّفوا في مُلكهم ... فلا يقال ظلموا إن واصلوا محبّهم ... أو قطعوا فهمْ هُمُ اصبرْ لما شاؤوا وإن ... ساء الَّذي قد حكموا يا أرض سَلْعٍ خبّري ... وحدثيني عنهم يا ليت شعري إذ غدوا ... أأنجدوا أم أتهموا تشتاقهم أرض منى ... وتشتكيهم زمزمُ وقال: [من المتقارب] إذا جزتَ بالغور عَرِّجْ يمينا ... فقد أخذ الشَّوق مِنَّا يمينا وسَلِّمْ على بانةِ الواديَينِ ... فإنْ سَمِعَتْ أوشكَتْ أن تبينا ومِلْ نحو غُصْنٍ بأَرْضِ النَّقا ... وما يُشْبِهُ الأيكَ تلك الغُصونا وَصِحْ في مغانيهمُ أين هُمْ ... وهيهاتِ أمَّوْا طريقًا شَطُونا وروِّ ثرى أرضهمْ بالدُّموعِ ... وخَلِّ الضُّلوعَ على ما طُوينا أراك يَشُوقُكَ وادي الأراكِ ... أللدَّارِ تبكي أمِ الظَّاعنينا سقى الله مرتَعَنا بالحِمى ... وإن كان أَوْرَثَ داءً دَفِينا وعاذلةٍ فوق داءِ المحبِّ ... رويدًا رويدًا بنا قد بلينا لمن تعذلين أما تعذُرينَ ... فلو قد نفعتِ دفعتِ الأنينا إذا غَلَبَ الحُبُّ ضاع العتاب ... تَعِبْتِ وأَتْعَبْتِ لو تعلمينا

ذِكْرُ وفاته رحمه الله تعالى: جلس جدِّي يوم السبت سابع شهر رمضان تحت تُرْبة أُمِّ الخليفة المجاورة لمعروف الكَرْخي. قال المصنف رحمه الله: وكنتُ حاضرًا، فأنشد أبياتًا، وقطع عليها المجلس، وهي: [من الكامل] اللهَ أسألُ أَنْ يطوِّلَ مُدَّتي ... وأنال بالإنعام ما في نِيَّتي لي همةٌ في العِلْم ما في مِثْلها ... وهي التي جَنَتِ النُّحولَ هي التي خُلِقَتْ من القلق العظيم إلى المُنى ... دُعِيَتْ إلى نَيلِ الكمال فَلَبَّتِ كم كان لي مِنْ مجلسٍ لو شُبِّهَتْ ... حالاتُهُ لتشبَّهَتْ بالجَنَّةِ أشتاقُهُ لما مَضَتْ أيَّامُهُ ... عَطَلًا وتُعْذَرُ ناقةٌ إنْ حَنَّتِ يا هَلْ لليلاتٍ بجمعٍ عودةٌ ... أم هَلْ على وادي مِنًى مِنْ نَظْرَةِ (¬1) قد كان أحلى من تصاريف الصَّبا ... ومن الحَمَامِ مُغَنِّيًا في الأيكةِ فيه البديهاتُ التي ما نالها ... خَلْقٌ بغير مخمَّرٍ ومبيَّتِ برجاحةٍ وفصاحةٍ وملاحةٍ ... يقضي لها عدنانُ بالعربيةِ وبلاغةٍ وبراعةٍ ويراعةٍ ... ظنَّ النَّباتي أنها لم تَنْبُتِ وإشارةٍ تُبْكي الجُنَيدَ وصحبَهُ ... في رِقَّةٍ ما قالها ذو الرُّمَّةِ ونزل من المنبر، فَمَرِضَ خمسةَ أيام، وتوفي ليلة الجمعة بين العشاءين في داره بقطفتا. وحكت لي والدتي -رحمها الله تعالى- أنها سمعته يقول قُبيل موته: أيش أعمل بطواويس -يردِّدُها- قد جبتم لي هذه الطَّواويس. وحضر غَسْله شيخنا ضياء الدِّين بن سُكَينة، وضياء الدين ابن الجبير وقت السَّحَر، واجتمع أهلُ بغداد، وغُلِّقتِ الأسواق، وجاء أهل المحال، وشدَدْنا التَّابوت بالحبال، وسلَّمناه إليهم، فذهبوا به إلى تحت التُّرْبة مكان جلوسه، فصلَّى عليه ابنه أبو القاسم علي اتِّفاقًا، لأنَّ الأعيان لم يقدروا على الوصول إليه، ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور فصلُّوا عليه، وضاق بالنَّاس، وكان يومًا مشهودًا، لم يصل إلى حُفْرته بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل ¬

_ (¬1) هذا البيت لمهيار الديلمي، وهو في "ديوانه": ج 1/ 154، قد ضمنه ابن الجوزي في قصيدته، وانظر ص 378 من هذا الجزء.

-رحمة الله عليه- إلى وقت صلاة الجُمُعة، وكان في تموز، وأفطر خَلْقٌ كثير ممن صحبه، ورموا نفوسهم في خندق الطَّاهرية في الماء، وما وصل إلى حُفْرته من الكفن إلا قليل، ونَزَلَ في الحُفْرة والمؤذِّنون يقولون: الله أكبر، وحَزِنَ النَّاسُ عليه حُزْنًا شديدًا، وبكوا بكاءً كثيرًا، وباتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات بالقناديل والشُّموع والجماعات، ورآه في تلك الليلة رجلٌ صالح من أهل الحَرْبية -محدِّث اسمه أحمد بن سلمان، ويلقب بالشُّكْر- في منامه وهو على منبرٍ من ياقوت مرصَّع بالجواهر، وهو جالسٌ في مقعد صِدْق، والملائكة جلوس بين يديه، والحقُّ سبحانه حاضر يسمع كلامه. [وأصبحنا يوم السبت] (¬1) وعملنا عزاءه، وتكلَّمْتُ فيه، وحَضَرَ خَلْقٌ عظيم، وقام الفاخر العَلَوي من أهل مشهد موسى بن جعفر عليه السَّلام، فأنشد: [من الكامل] الدَّهْرُ عن طَمَعٍ يُغر ويخدعُ ... وزخارفُ الدُّنيا الدَّنِيَّةِ تُطْمِعُ وأعِنَّةُ الآمالِ يُطْلِقُها الرَّجا ... طَمَعًا وأسيافُ المَنِيَّة تَقْطَعُ والمرءُ مَعْ عِلْمٍ بها متشوِّفٌ ... أبدًا إلى نَيلِ المُنَى مُتَطلِّعُ يا لاهيًا أَمِنَ الحوادثَ غِرَّة ... يغدو بصفو زمانه يتمتَّعُ الشَّيبُ يا مغرورُ يأنفه الرَّدى ... أأمنتَ مِنْ حَدَثانِهِ ما تَفْزَعُ والموتُ آتٍ والحياةُ مريرةٌ ... والنَّاس بعضُهمُ لبعضٍ يَتْبَعُ وأخو البصيرةِ مَنْ لخيرٍ زارعٌ ... والمرءُ يحصُدُ في غدٍ ما يَزْرَعُ واعلمْ بأنَّك عن قليلٍ صائرٌ ... خَبَرًا فكُنْ خَبَرًا لخيرٍ يُسْمَعُ لعُلا أبي الفَرَجِ الَّذي بعد التُّقى ... والعِلْم يوم حواه هذا المضجعُ ما زال منتصرًا لمذهبِ أحمدٍ ... بالحقِّ والحُجَجِ التي لا تُدْفَعُ حِبْرٌ عليه الشَّرْعُ أصبحَ والهًا ... ذا مُقْلَةٍ حَرَّى عليهِ تَدْمَعُ مَنْ للفتاوى المُشْكلاتِ وحلِّها ... مَنْ ذا لِخَرْقِ الشَّرْع يومًا يَرْقَعُ مَنْ للمنابرِ إن تفاقَمَ خَطْبُها ... ولرَدِّ مسألةٍ يقولُ فَيُسْمِعُ مَنْ للجِدال إذا الشِّفاه تقلَّصتْ ... وتأخَّر القَرْمُ الهِزَبْرُ المِصْقَعُ مَنْ للدَّياجي قائمًا ديجورَها ... يتلو الكتابَ بمُقْلَةٍ لا تَهْجَعُ ¬

_ (¬1) في (ح): وعملنا يوم السَّبت عزاءه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أجمال دين محمدٍ ماتَ التُّقى ... والعِلْم بعدك واستجمَّ المَجْمَعُ وَتَزَعْزَعَتْ لعظيمِ يومك حسرةً ... صمُّ الجبالِ وكيف لا تتصدَّع قد كنتَ كَهْفًا للشَّريعةِ والهُدى ... حِبْرًا بأنوار الهداية تَلْمَعُ يا قَبْرَهُ جادَتْك كلُّ غمامةٍ ... هطَّالةٍ بركابه لا تُقْلِعُ فيك الصَّلاةُ مع الصِّلاتِ فَتِهْ به ... وانظرْ به يا ويك ماذا تَصْنَعُ يا أحمد خُذْ أحمدَ الثَّاني الَّذي ... ما زال عنك مُدافعًا لا يَرْجِعُ خُذْ يابنَ حَنْبل سَيفَكَ الماضي الَّذي ... ما زال عنك إذًا يذبُّ ويَدْفَعُ أقسمتُ لو كُشِفَ الغِطا لرأيتمُ ... وَفْدَ الملائكِ حولَه تتسرَّعُ ومحمدٌ يبكي عليه وآلُهُ ... خيرُ البريةِ والبطينُ الأَنْزَعُ والحُورُ حُوْرُ القُدْسِ حول ضريحه ... والأولياءُ بقبره تتضرَّعُ من أبيات. ومن العجائب أننا كنا يوم السبت بعد انفضاض العزاء جلوسًا عند قبره، وإذا بخالي محيي الدِّين قد صَعِدَ من الشَّطِّ، وخلفه تابوتٌ، فعجبنا، [وقلنا (¬1): ترى من مات عنده في الدار؟ وإذا بها خاتون بنت عبد الله أم ولد جدي، والدة خالي محيي الدين، وعهدي بها ليلة الجمعة التي مات فيها جدي في عافية، قائمة ليس بها مرض]، فكان بين موتها وموته يوم وليلة، وعَدَّ النَّاسُ ذلك من كراماته، لأنه كان مغرًى بها [في حال حياته] (¬2). وأوصى [جدي] (2) أن يكتب على قبره: [من مجزوء الرمل] يا كثيرَ العَفْو عَمَّنْ ... كَثُرَ الذَّنْبُ لديه جاءكَ المُذْنِبُ يرجو الصـ ... ـفحَ عن جُرْم يديه أنا ضيفٌ وجزاءُ الضـ ... ـيفِ إحسانٌ إليه ¬

_ (¬1) في (ح): فعجبنا، وإذا بها والدة محيي الدين، وعهدي بها ليلة الجمعة في عافية، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ذِكْرُ أولاده: كان له من الولد الذكور ثلاثة: عبد العزيز، وهو أوَّل أولاده، وكنيته أبو بكر، تفقّه [على مذهب أحمد، وسمع أبا الوقت وغيره، وابن ناصر، والأرموي، ] (1) وسمع جماعةً من مشايخ والده، وسافر إلى المَوْصل ووعظ بها، وحَصَلَ له القَبُول التَّام، فيقال: إن بني الشَّهْرُزوري حسدوه، فدسُّوا إليه من سقاه السُّمَّ، فمات بالمَوْصل سنة أربع وخمسين وخمس مئة. وأبو القاسم عليّ، كَتَبَ الكثير، [وسمع الحديث من ابن البطي وغيره، ] (1) وهو الَّذي أظهر مصنَّفات والده، وباعها [بيع العبيد، ولما مضى والده إلى واسط كانت كتبه في داره بدرب دينار، فتحيَّل عليها بالليل والنهار حتَّى أخذ منها ما أراد، وباعها ولا] (1) بثمن المداد، وكان أبوه قد هجره مدة سنين، فلما امتحن [أبوه] (¬1) صار إلبًا عليه [للمعادين، وتوفي أبوه ولم يشهده، وأقام على ما نعرفه منه ونعهده -اللهم غفرانًا- ولقد بلغني عنه أنَّه قال: قال لي أبي: يا أبا القاسم، قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن البركة لتبلغ السابع من الولد" (¬2)، فأنت لمن تشبه؟ قال: فقلت له: أنت السابع] (1)، وتوفي سنة ثلاثين وست مئة، وله ثمانون سنة [وسنذكره] (1). وأبو محمد يوسف محيي الدِّين، ولد سنة ثمانين وخمس مئة، وسمع الحديث الكثير، وتفقَّه، وناظر، [ونشأ على الطرائق الرشيدة، والخلائق الحميدة، وهو كان السبب في خلاص والده من واسط] (1)، ووعظ بعد وفاة أبيه تحت تُرْبة والده الإمام، وقام بأمره [أحسن قيام، ] (1) وولي حسبة بغداد، [وسلك طريق العقل والسَّداد] (1)، وترسَّل عن الخلفاء إلى الملوك، [وسلك في ترسّله السَّبيل المسلوك قال: ] (1) وتقلَّبتْ به الأحوال [والأمور] (1) في مدة سنين إلى سنة أربعين، إلى أن ولي أستاذ دارية الإمام المستعصم [بالله أمير المؤمنين] (1)، وأول ترسُّله عن الإمام الظَّاهر سنة ثلاثٍ وعشرين وست مئة إلى أولاد العادل: الأشرف والمُعَظَّم والكامل، وآخر ما انفصل عن الشَّام سنة خمس وثلاثين [وست مئة إلى بغداد، وفي تلك السنة توفي صاحب الروم والكامل والأشرف، وكان ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) لم أجده فيما بين يدي من المصادر.

عمر بن علي الواعظ الحربي

لجدِّي عِدَّة بنات منهن والدتي رابعة] (¬1)، وشرف النِّساء، وزينب، وجوهرة، وست العلماء الكبرى، وست العلماء الصُّغرى، وكلهن سمعن الحديث [من جدي وغيره] (¬2). عمر بن علي الواعظ الحربي (¬3) [شيخنا (¬4)، ولد سنة أربع عشرة وخمس مئة، وسمع الحديث الكثير، وتوفي في شوال بالحربية، ودفن بباب حرب، وكان بين وفاته وبين وفاة جدي شهر، سمع ابن الحصين، وقاضي المارستان، وابن السمرقندي وغيرهم، وأنشدنا لنفسه]: [من السريع] مَنْ داومَ العُزْلةَ في دَهْره ... كان له تصحيفُها (¬5) دائما فجانبِ الخَلْقَ جميعًا وثقْ ... بخالقِ الخَلْقِ تَعِشْ سالما [وخَلِّهم ألا ففي حِلِّهم ... تطيحُ واهجرهُمْ تكن غانما] (2) وكان صالحًا ثقة. قراقوش الخادم بهاء الدين (¬6) من أكابر الأمراء، من خُدَّام القَصْر، وقيل: من خُدَّام العاضد، وقيل: من الأسدية، [وهو الَّذي] (2) أُسِرَ في عكا، ففداه السُّلْطان بستين ألف دينار، وهو الَّذي بنى قلعة القاهرة والسُّور على مِصْر والقاهرة، والقنطرة التي عند الأهرام وغيرها، وله واقعاتٌ عجيبة مع المِصْريين حتَّى صنَّفوا له كتابًا [في واقعاته] (2) وسموه "الفاشوش في أحكام قراقوش"، [وفيه العجائب] (2). ¬

_ (¬1) في (ح): وكان للشيخ أبي الفرج عدَّة بنات، منهن رابعة، والدة المصنف رحمه الله، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة": للمنذري 1/ 401، و "المختصر المحتاج إليه": 3/ 102، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 354 - 353، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) في (ح): ولد سنة أربع عشرة وخمس مئة، قال المصنِّف رحمه الله: أنشدنا لنفسه، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في هامش (ح): "لو قال: "تقطيعها" كان أجود". (¬6) له ترجمة في "التكملة": للمنذري 1/ 389، و"كتاب الروضتين": 4/ 484 - 485، و"المذيل على الروضتين": 1/ 96، "وفيات الأعيان": 4/ 91 - 92، و"العبر " للذهبي: 4/ 298، "النجوم الزاهرة": 6/ 176 - 178، و"شذرات الذهب": 4/ 331 - 332، وأخباره منثورة في هذا الكتاب.

محمد بن محمد

محمد بن محمد (¬1) ابن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن ألُّهْ بتشديد اللام (¬2) -وهو اسمٌ فارسي، ومعناه بالعربية العقاب- أبو عبد الله بن أبي الفَرَج، العماد الكاتب الأصفهاني، المنشئ، ويعرف بابن أخي العزيز، [وقد ذكرنا جملة من أخباره وعبارته وآثاره، وذكره الحافظ ابن عساكر، فقال: (¬3)] ولد بأصبهان سنة تسع عشرة وخمس مئة، وبها نشأ، وقَدِمَ بغداد سنةَ أربعٍ وثلاثين في خدمة أبيه، وتفقَّه على مذهب الشَّافعي [على أبي منصور سعيد بن محمد بن الرزاز، مدرس النظامية] (3) وسمع [عليه] (3) الحديث، واشتغل بعلم الأدب، وبَرَعَ في الإنشاء، وخَدَمَ الوزير يحيى بن هُبيرة، وكان أحدَ كُتَّابه وشعرائه، ثم [سافر إلى الشَّام، و] (3) قدم دمشق في أيام نور الدين، فأنزله القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري في المدرسة التي في نواحي باب الفرج [عند حمام القُصَير] (3)، وكان نجم الدين أيوب بدمشق، فقصد زيارته ليرفع من قدره، (¬4) [ومدحه العماد، وقد ذكرناه في سنة اثنتين وستين وخمس مئة، ثم مدح نور الدين وأسد الدين وصلاح الدين، وكان فاضلًا عارفًا بالأدب، أخذه عن ابن الخشاب وغيره، وله الترسل والنظم والنثر، وكان] حافظًا لدواوين العرب، وصنَّف المصنَّفات الحسان كـ"البَرْق الشَّامي" و"الفَتْح القسي في الفَتْح القُدْسي" و"خريدة القَصْر في شعراء أهل العَصْر"، وغير ذلك. وكان القاضي الفاضل يقول: العماد كالزِّناد الوقاد، يعني أَنَّ النَّار في باطنه كامنة، وظاهره فيه فترة، وكان يحبه ويثني عليه ويمازحه، وهو الَّذي استخدمه عند صلاح الدين، [وقد ذكر العماد نفسه في "الخريدة"، ومبدأ حاله، وأن عمه العزيز قتل بتكريت، وأن أبا ¬

_ (¬1) له ترجمة في "معجم الأدباء": 19/ 11 - 28، و"الكامل": 12/ 176، و"التكملة" للمنذري 1/ 393 - 392، و"المذيل على الروضتين": 1/ 112 - 113، "وفيات الأعيان": 5/ 147، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 345 - 350، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) كذا قال، وضبطه ابن خلكان في وفيات الأعيان 5/ 152: بفتح الهمزة وضم اللام وسكون الهاء. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) في (ح): فقصد زيارته ليرفع من قدره، وكان فاضلًا حافظًا لدواوين ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

العماد صودر بأصبهان، وخرجوا منها، وقدموا بغداد في سنة أربع وثلاثين وخمس مئة، وأنه عاد إلى أصبهان في سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة في زي طلبة العلم، وأنه لقي بها الفضلاء، وصحب العلماء، وخرج منها في سنة ثمان وأربعين وخمس مئة على نية الحج، ثم عاد إليها، ثم سافر إلى بغداد مع أبيه في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة، ومدحه (¬1) بقصائد، فاستكتبه، واستنابه بواسط وأعمالها. ذِكْرُ جملة من مدائحه في الوزير، وذكر عمه أبي الرجاء حامد بن محمد (¬2): وقال: كان يحفظ شعر البحتري، ودواوين العرب، ومن شعر حامد: [من الوافر] تولَّى الجَهْلُ وانقطع العتابُ ... ولاحَ الشَّيبُ وافتضحَ الخضابُ لقد أبغضتُ نفسي في مشيبي ... فكيف يحبني الخُودُ الكِعابُ قال: وتوفي عمي سنة نيف وتسعين وأربع مئة بأصبهان] (¬3). وكانت وفاة العماد بدمشق يوم الاثنين غُرَّة رمضان، ودُفِنَ بمقابر الصُّوفية عند المُنَيبع على الجادة. [سمع أبا الفتوح الإسفراييني، وأبا القاسم بن الصباغ، وعلي بن محمد بن الهيثم العلوي بأصبهان، وبالشام الحافظ ابن عساكر، وشيوخ ذلك العصر، ولي من العماد إجازة. قال: ومن شعر العماد، وقد ذكرنا في أثناء الكتاب نبذًا منه تدل على إيراده في الفصاحة وإصداره، فمنها يتشوق إلى دمشق: [من المتقارب] أجيرانَ جيرونَ ما لي مجير ... سوى عطفِكُمْ فاعدلوا أو فجوروا وما لي سوى طيفِكُمْ زائرٌ ... فلا تمنعوه إذا لم تزوروا يَعِزُّ عليَّ بانَّ الفؤاد ... لديكم أسيرٌ وعنكم أسيرُ وما كُنْتُ أعلم أني أعيـ ... ـش بعد الأحِبَّة إني صبورُ ¬

_ (¬1) ثمة سقط، ولعلَّه، فاتصل بالوزير يحيى بن هبيرة، ومدحه .... (¬2) لم يُذكر شيء تحت هذا العنوان، ويبدو أنَّه مما حذفه مختصر الكتاب قطب الدين اليونيني. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

إلى ناس باناس لي صَبْوَةٌ ... لها الوجدُ داعٍ وذكرى مثيرُ يزيد اشتياقي وينمو كما ... يزيدُ يزيد وثورا يثورُ ومن بردى بَرْدُ قلبي المشوق ... فها أنا من حَرِّه مستجيرُ فقدتكُمُ ففقدت الحياة ... ويوم اللِّقاء يكون النُّشورُ أيا راكب النِّضْو يُنْضي الرِّكابَ ... تسيرُ وخطب سُراه يسيرُ يؤمُّ دمشق ومن دونها ... تجابُ سهول الفلا والوعورُ إذا ما بلغت فبلِّغهُمُ ... سلامًا تأرَّج منه العبيرُ فيا طيب بشراي من جلِّقٍ ... إذا جاءني بالنجاح البشير ويستبشرُ الأصدقاء الكرام ... هنالك بي وتوفَّى النُّذُور ترى بالسلامة يومًا يكون ... بباب السلامة مني عبورُ وباب الفراديس فردوسُها ... وسُكَّانها أحسن الناس حورُ والارزة فالسَّهْمُ فالنيربان ... فجنَّات مِزَّتها فالكُفُورُ وما جنَّةُ الخُلدْ إلا دمشقٌ ... وفي القلب شوقًا إليها سعيرُ ميادينها الخُضْر فِيحُ الرِّحاب ... وسلسالها العَذْبُ صافٍ نميرُ وجامعها الرَّحْب والقبة الـ ... ـمنيفة والفلك المستديرُ كأنَّ الجواسقَ مأهولة ... بروجٌ تطلَّعُ منها البدورُ بنيربها تتبرَّا الهمومُ ... بربوتها يتربَّى السُّرور وعند المغارة يوم الخميس ... أغار على القلب مني مغيرُ وعند المُنَيبع عينُ الحياة ... مدى الدهر نابعةٌ ما تغورُ بجسر ابن شواس تم السكون ... لنفسي بنفسيَ تلك الجسورُ وكم بتُّ ألهو بقرب الحبيـ ... ـب في بيت لهيا ونام الغيورُ وأشجار سطْرى بدت كالسطو ... ر نمَّقَهُنَّ البليغ البصيرُ إلام القساوة يا قاسيون ... وبين السنا يتجلى سَنِيرُ] (¬1) ومن شعره: [من الخفيف] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

دارِ غيرَ اللبيب إن كنت ذا لـ ... ـبِّ ولاطِفْه حين يأتي بخَرْقِ فأخو السُّكْرِ لا يخاطبه الصَّا ... حي إلى أَنْ يُفيق إلا بِرِفْقِ وقال: [من الكامل] بالله يا ريحَ الشَّمال تَحَمَّلي ... مني التَّحيةَ نحو ذاك المَنْزِلِ خُفِّي إلى حَمْلِ السَّلام وخَفِّفي ... عن قَلْبِ صَبٍّ بالصَّبابةِ مُثْقَلِ قولي لمن شُغِلَ الفؤادُ بحبِّه ... ويُخال أَنَّ فؤاده منه خَلِي حُلَّتْ عقودُ دموعِهِ وعقودُهُ ... وعهودُهُ معقودةٌ لم تُحْلَلِ سُقْيا لأحباب تبدَّلَ ودُّهُمْ ... بعدي ولم أنقضْ ولم أتبدَّلِ الظَّاعنين وودُّهُم مستوطنٌ ... والرَّاحلين وذِكْرُهُمْ لم يَرْحَلِ لي بعدَهُمْ حالُ المعنَّى المُبْتلى ... حُزْنًا وعينُ السَّاهر المُتَملْمِلِ يا راكبًا يطوي الفلا مستعجلًا ... هيَّجْتَ أحزاني فلا تَسْتَعْجِلِ أَقْفَلْتَ باب مسرَّتي وفتحتَ مِنْ ... دَمْعي وحُزْني كلَّ باب مُقْفَلِ عَرِّجْ وعُجْ نحو الحِمى سُقيَ الحِمى ... واعدلْ فليس عن الحِمى من مَعْدِلِ وقال: [من الطويل] أَأَحبابنا من بَعْدِنا كيفَ أنتمُ ... فقد بان صَبْرِي والكرى منذ بنتمُ وما زلتُمُ أهل المودَّة والوفا ... ولكنَّما جار الزَّمان فخنتُمُ وإني بحالٍ لستُ أذكر شَرْحها ... على كل حالٍ أنتمُ كيف أنتمُ محبكُمُ مِنْ لوعةِ البَينِ مُشْتَكٍ ... وقد كنتم تشكُونه لو علمتُمُ أسيركُمُ العاني أما تُطْلِقُونَه ... فديتكُمُ ما ضرَّكُمْ لو مننتُمُ وقال: [من الطويل] أيا ساكني مِصْر عفا الله عنكُمُ ... وعافاكم مما أنا فيه منكُمُ أبيت على هِجْرانكم متندِّمًا ... ومَنْ ينأَ عنكُمْ كيفَ لا يتندَّمُ فإن كنتُمُ لا تعلموا ما لَقِيتُهُ ... من الوَجْدِ والأشواقِ فالله يعلمُ [بقيتم وعشتم سالمين من الأذى ... ومنية قلبي أن تعيشوا وتسلموا] (¬1) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن المبارك بن محمد

محمد بن المبارك بن محمد (¬1) الظَّهير، أبو غالب المِصْري. ولد سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة، ومن شعره: [من الوافر] تقنَّعْ بالقليلِ وعِشْ عزيزًا ... خفيفَ الظَّهْرِ من كلف وإثْمِ وإلا هيِّي نَفْسَك للبلايا ... وهمٍّ واردٍ في إثْرِ هَمِّ مكلبة بن عبد الله المستنجدي (¬2) [كان خازنًا بدرب دينار الكبير، و] (3) كان صالحًا يقوم الليل، سَمِعَ المؤذِّن يقول وقت السَّحَر: [من مجزوء الرمل] يا رجال اللَّيلِ جُدُّوا ... رُبَّ صوتٍ لا يُرَدُّ ما يقومُ اللَّيل إلا ... مَنْ له عَزْمٌ وجِدُّ فبكى مكلبة بكاء شديدًا، وصاحَ بالمؤذِّن: زِدْ، فقال [المؤذن] (¬3): قد مضى الليل وولى ... وحبيبي قد تجلَّى فصاح مكلبة، ومات. فاجتمع جميعُ مَنْ ببغداد على باب داره، وكان يومًا عظيمًا لم ير ببغداد مِثْلُه، وأُخرجت جنازته، فالسَّعيد مَنْ وَصَلَ إلى كفنه، وقُطِّعَ الكَفَنُ قِطَعًا، ودُفِنَ بالوردية. أبو منصور بن نُقْطة المزكلش (¬4) (¬5) [كان يقول كان وكان، ولا يعرف الخط، وهو أخو عبد الغني الزاهد، وعوتب على حاله، وقيل له: أخوك زاهد بغداد، وأنت كذا! قال: ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة": للمنذري 1/ 387، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 139 - 140، و "الوافي بالوفيات": 4/ 382. (¬2) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 113 - 114. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 114 - 115. (¬5) في (ح): أخو عبد الغني الزاهد، كان يقول كان وكان، ولا يعرف الخط وكان منحرفًا ... والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الثامنة والتسعون وخمس مئة

في الدار بيرين ذي حلوة وذي مرَّه وقد ذكرناه. وكان أبو منصور] منحرفًا عن عليٍّ عليه السَّلام، جرى حديثُ قتل عثمان رضوان الله عليه، وأَنَّ عليًّا كان بالمدينة ولم يقدر على الوصول إليه، فقال [ابن نقطة، أبياتًا، منها] (¬1): ومن قتل في جواره مثل ابن عفان واعتذر ... يجب عليه أن يقبل بالشَّام عذر يزيد فأراد الشيعة قتله. [قلت: قبحه الله، وأين وجه المشابهة بين الحالين، وابن زياد إنما قدم بكتاب يزيد على قتل الحسين، وقد جرح عليّ يوم الدار لنصرة عثمان، وفعل ما استطاع بقدر الإمكان] (1). وكان يسحِّر النَّاس في رمضان، فوثبوا عليه ليلة، وكان الإمام الناصر في المنظرة وهو واقفٌ يسحر يقول: أي نياما، قوما قوما، السحور قوما. فعطس الخليفة، فقال [ابن نقطة] (1): أي من عطس في الروزنة يرحمكم الله قوما، فبعث له مئة دينار، وحماه من الشيعة، فمات بعد قليل. السنة الثامنة والتسعون وخمس مئة في المحرَّم ولى الخليفة عبد اللطيف بن نَصْر الكيال الواسطي قضاء واسط، وخَلَعَ على ابنِ علي بن الرَّبيع الواسطي، ودرس بالنظامية. وكانت السِّعايات قد كَثُرَتْ ببغداد، ففسدتِ الأُمور، فنادى الخليفةُ: مَنْ سعى بأحدٍ أُبيح في دمه وماله. فصلحت الأحوال. وفيها بَرَزَ العادل إلى القُصير طالبًا حلب، وكان الأفضل بحمص عند شيركوه، فجاء إلى عمِّه العادل، فالتقاه عند ثنية العقاب، فأكرمه وعوَّضه عن ميَّافارقين سُمَيساط وسَرُوج وقلعة نجم، وقرايا في المرج ومصر، وتسلَّم الملك الظَّاهر فامية من شمس الدِّين بن المقدَّم في صفر، ونزل العادل على حماة، فصالحه الظَّاهر، ورَجعَ العادل إلى حِمْص. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

بنفشا بنت عبد الله

وجاءت في شعبان زلزلة عظيمة، فشققت قلعة حمص، ورمت القنطرة التي على القلعة، وأخربت حصن الأكراد، وتعدَّت إلى جزيرة قبرس، وامتدَّت إلى نابُلُس، فأخربت ما بقي. وفيها شرع الشيخ أبو عمر شيخ المقادسة -رحمه الله- في بناء المسجد الجامع بالجبل، وكان بقاسيون رجل فامي يقال له: أبو داود محاسن، [-وأدركته في سنة ست مئة-] (¬1) فوضع أساسه وبلغ قامة، وأنفق عليه ما كان يملكه، وبلغ مُظَفَّر الدِّين بن زين الدِّين، فبعث إلى الشيخ أبي عمر مالًا، فتممه، ووقف عليه وَقْفًا، وبعد ذلك أراد ابنُ زين الدين أن يسوق الماء إليه من بَرْزَة، وبعث ألفَ دينار، فقال المعظم عيسى رحمه الله: طريق الماء كلها قبور، كيف يجوز أن تنبش عظام المُسْلمين؟ اشتروا بغلًا، واعملوا مدارًا، وبالباقي مكانًا قفوه عليه، ولا تؤذوا أحدًا. ففعلوا. وحج بالنَّاس من العراق وجه السبع. ومن الشَّام خشترين الهكاري. وفيها توفيت بنفشا بنت عبد الله (¬2) جارية المستضيء، وكانت كريمةً صالحةً، كثيرةَ الصَّدقات والصِّلات، وعمرت الرُّبُط والمساجد، والجسر ببغداد، وتصدَّقت بأموالٍ كثيرة على العلماء والفقراء والمساكين، و [هي التي] (1) اشترت دار الوزير ابن جَهِير بباب الأَزَج، ووقفتها على الحنابلة، وفوَّضت نظرها إلى الشيخ جمال الدين بن الجوزي، وهي التي أشارت على المستضيء بولاية الإمام الناصر، وكان في عَزْمه أن يولي ولده الأمير أبا منصور، فرأى النَّاصر لها ذلك، فلما ولي الخلافة أنزلها في الدار التي كانت بها والدته، وأحسن إليها، ولما توفيت تولَّت أمرها والدة الخليفة، وجهَّزتها أحسن جهاز، ودفنتها في تربتها المجاورة لمعروف الكرخي، وذلك في ربيع الأَوَّل. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) لها ترجمة في "الكامل": 12/ 178، و"التكملة": للمنذري 1/ 422، و"المذيل على الروضتين": 1/ 117 - 118، و"الوافي بالوفيات": 10/ 293، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمتها.

حماد بن هبة الله بن حماد

حماد بن هبة الله بن حماد (¬1) أبو الثناء، التَّاجر الحَرَّاني. ولد سنة إحدى عشرة [وخمس مئة، وسمع الحديث ببغداد ومصر والإسكندرية] (¬2)، ومات بحرَّان في ذي الحِجَّة [أنشدني الموفق الحراني، ويعرف بابن صديق، قال: أنشدني حماد نفسه] (2): [من البسيط] تنقُّلُ المَرْءِ في الآفاقِ يُكْسِبُهُ ... محاسنًا لم يكن فيها ببَلْدَتِهِ أما ترى بيذقَ الشِّطْرنج أكسبه ... حُسْنُ التنقُّلِ فيها فوقَ رُتْبته [سمع بمصر أبا محمد بن رفاعة السعدي، وبالإسكندرية الحافظ أبا طاهر السِّلَفي، وببغداد ابن السمرقندي وغيرهم، وأثنى عليه ابن صديق] (2). عبد الملك بن زيد بن ياسين (¬3) [أبو القاسم، ] (2) التَّغلبي؛ خطيب دمشق، الدَّوْلعي، والدَّوْلعية قرية من قرى الموصل. ولد سنة سبع وخمس مئة، [وقدم بغداد، فتفقه على مذهب الشافعي، وسمع الحديث] (2)، وقدم دمشق، فاستوطنها، وصار خطيبها، ودرَّس بالزَّاوية الغربية من جامع دمشق، وكان متزهِّدًا، حَسَنَ الأثر، حميدَ الطريقة، [ولي منه إجازة] (2)، وكانت وفاته في ربيع الأول، ودفن بالباب الصَّغير، [وكانت جنازته مشهودة، سمع "جامع" الترمذي من أبي الفتح الكروخي، وكتاب "السنن" للنسائي من أبي الحسن علي بن أحمد اليزدي. وسمع الحافظ ابن عساكر، وأبا سعد بن أبي عصرون، وقرأ عليه الفقه، وغيرهم] (2). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة": للمنذري 1/ 438، و"المذيل على الروضتين": 1/ 118، و"المختصر المحتاج إليه": 2/ 51 - 52، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 385 - 386، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "معجم البلدان": 2/ 486، و "الكامل": 12/ 178، و "التكملة": للمنذري 1/ 420 - 421، و"المذيل على الروضتين": 1/ 119 - 120، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 350 - 351، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

ابن التركي الواعظ الواسطي

[وفيها توفي ابن التركي الواعظ الواسطي (¬1) واسمه محمد بن إبراهيم بن عثمان، أبو عبد الله. قدم بغداد، ووعظ بها، ووقع له القبول، وكذا بالموصل، وسمع الحديث من يحيى بن بَوْش وطبقته، وناب برباط الزوزني عن أخيه عمر بن إبراهيم الصوفي، ثم خرج إلى واسط، فتوفي بها، ودفن بمقبرة زنبور] (¬2). هبة الله بن الحسن بن المظفر (¬3) [أبو القاسم الهَمَذَاني، ويقال له ابن السبط، والسبط هو جد المظفر، كان سبطًا لأحمد بن علي بن لال، الفقيه الهَمَذَاني. ولد هبة الله سنة عشر وخمس مئة، وهو] (2) محدث ابن محدث ابن محدث، وكانت وفاته بباب المراتب ببغداد في المحرم. ودفن بالرّيّان، [سمع أبا القاسم بن الحصين، وقاضي المارستان وابن السمرقندي، وسمعنا عليه بباب المراتب، ] (2) وأنشدنا لغيره: [من البسيط] إذا الفتى ذَمَّ عَيْشًا في شبيبته ... فما يقولُ إذا عَصْرُ الشَّباب مضى وقد تعوَّضْتُ عن كلِّ بمشبهه ... فما وجدتُ لأيامِ الصّبا عِوَضا السنة التاسعة والتسعون وخمس مئة في ليلة السبت سَلْخ المحرَّم ماجت النجوم في السماء شرقًا وغربًا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينًا وشمالًا، ولم ير هذا إلا عند مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي سنة إحدى وأربعين ومئتين، وكانت هذه السنة أعظم. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 437 - 438. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 410 - 411، و"المذيل على الروضتين": 1/ 118 - 119 و"سير أعلام النبلاء": 21/ 352 - 353، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

إبراهيم بن أحمد بن محمد

وتمَّت عمارة رباط المرزبانية الَّذي بناه الخليفة على نهر عيسى، ورتَّبَ فيه الشهاب عمر السُّهْروردي، وعنده جماعة من الصُّوفية. وفيها بعث الخليفة الخِلَع وسراويلات الفتوة إلى العادل وأولاده مع عليِّ بنِ عبد الجبار والعقاب، فلبسوا الخِلَع والسَّراويلات في رمضان بدمشق، وأخذ الظَّاهر قلعة نجم من أخيه الأفضل بأمرِ العادل. وابتدئ بعمارة قلعة دمشق. وحجَّ بالنَّاس طاشْتِكِين. وفيها توفي إبراهيم بن أحمد بن محمد (¬1) أبو إسحاق الموفق بن الصَّقَّال، الحَنْبلي. ولد سنة خمس وعشرين وخمس مئة، وتفقَّه على أبي يعلى بن الفَرَّاء، وسمع الحديث الكثير، وكان شيخًا ظريفًا، صالحًا زاهدًا، وتوفي في ذي الحِجَّة، ودُفِنَ بباب حَرْب، رحمه الله تعالى. زُمُرّد خاتون (¬2) والدة الإمام النَّاصر، [أم ولد المستضيء] (¬3)، كانت صالحةً، كثيرةَ المعروف والصَّدقات، دائمةَ البر والصِّلات، متفقدة لأرباب البيوت، وحجَّت، فأنفقت ثلاث مئة ألف دينار [على ما بلغني] (3)، وكان معها نحو ألفي جمل، وتصدَّقت على أهل ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 467، و "المختصر المحتاج إليه": 1/ 234، و "الوافي بالوفيات": 6/ 137، و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب: 1/ 441 - 442، و "المقصد الأرشد": 1/ 232 - 233، و"شذرات الذهب": 4/ 339، و"المنهج الأحمد": 4/ 48 - 49. (¬2) لها ترجمة في "الكامل": 12/ 184، و"التكلملة للمنذري": 1/ 451، و "المذيل على الروضتين": 1/ 126 - 127، و"الوافي بالوفيات": 14/ 213، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمتها. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحرمين، وأصلحت البرك والمصانع، وعمرت التربة عند قبر معروف، والمدرسة إلى جانبها، وأوقفت عليها الأوقاف، وتوفيت في جمادى الأُولى، وحَزِنَ الخليفةُ عليها حُزْنًا لم يحزنه ولد على والدة، وفعل في حقِّها ما لم يفعله أحد، وصلَّى عليها في صحن السَّلام، ومشى بين يدي تابوتها إلى دِجْلة من ناحية التَّاج، ثم حملت في الشَّبارة نهارًا والوزير ناصر بن مهدي مشدود الوسط، وأرباب الدولة في السفن، وصَعِدوا بتابوتها إلى القرية، وأمر الخليفة أن يمشي النَّاس من دِجْلة إلى تُرْبتها المجاورة لمعروف، والمسافة بعيدة، وكان الوزير سمينًا، فكاد يهلك، وقعد في الطَّريق نحوًا من ثلاثين مرة، وعمل لها العزاء شهرًا كاملًا، وأُنشدت المراثي، وختمت الختمات طول الشهر. قال المصنف رحمه الله: وتكلَّمْتُ في العزاء، وأنشدتُ أبياتًا، وكان قد وقع الثَّلْج يوم وفاتها، وزاد الماء في دِجْلة زيادةً عظيمة، وتكدَّر نهر عيسى والتربة قريبة منه، والأبيات [التي أنشدتها، أوَّلها] (1): [من الكامل] نادي النَّدى عَبِقٌ بطِيبِ ثنائه ... متبسِّمُ الأنوار مِنْ أنوائِهِ يا ابن الإمام المستضيء ومن سما ... كَرَمًا على كَرَمِ الغمام ومائِهِ [ومنها] (¬1): شابت ليوم وفاتها لمم الثَّرى ... حُزْنًا وجاد لها الندى ببهائِهِ فلنهرِ عيسى بعد أُنْسٍ وَحْشةٌ ... وبمائِهِ كدرٌ بُعَيدَ صفائِهِ قامت قيامتُهُ فأضحى زائدًا ... ينمي وذلك مُؤذِنٌ ببكائِهِ وفرَّق الخليفةُ بعد الشَّهر أموالًا كثيرة في الزَّوايا والرُّبُط والمدارس، وخَلَعَ على الأعيان، ومن لم يخلع عليه أعطاه مالًا، وأمر بأن يفرَّق جميع ما خلَّفته من ذهب وفِضَّة وحُلي وجواهر وثياب في جواريها ومماليكها، فقُسِمَ بينهم، وحُمِلَ ما كان في خزائنها من الأشربة والمعاجين والعقاقير إلى المارَسْتان العَضُدي، وكان يساوي ألوفًا، وحَزِنَ عليها أهلُ بغداد حُزْنًا عظيمًا لإحسانها إليهم. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عبد الله بن الحسن بن زيد

[وفيها توفي عبد الله بن الحسن بن زيد (¬1) أبو محمد الكندي، أخو شيخنا تاج الدين، وكان عبد الله أصغر من تاج الدين، وكان تاجرًا، سمع ببغداد أبا الفضل ابن ناصر وغيره، واستوطن دمشق إلى أن توفي بها في ذي القعدة، وصلى عليه أخوه تاج الدين بجامع دمشق، ودفن بقاسيون] (¬2). علي بن إبراهيم بن نجا (¬3) أبو الحسن بن زين الدين، الواعظ، [سِبْط] (2) أبي الفَرَج بن الحَنْبلي الأنصاري. ولد بدمشق سنة ثمان وخمس مئة، ونشأ بها، واشتغل بالتَّفسير والوعظ، وبعثه نور الدين رسولًا إلى بغداد سنة أربع وستين [وخمس مئة، فسمع بها عبد الخالق بن أحمد بن يوسف، وغيره] (2) وصاهر سَعْد الخير [الأنصاري] (2) على ابنته، وسكن مِصْر، وصار صاحب الدَّولة المصرية قبل صلاح الدين وفي أيام صلاح الدين، [وقد ذكرناه] (2) وكان [صلاح الدين] (2) يحضر مجلسه وأولاده العزيز وغيره، وكان له الجاه العظيم، والحرمة الزائدة [وكان يجري بينه وبين الطوسي العجائب، لأن الطوسي أشعري، وابن نُجَيَّة حنبلي، جلس يومًا بالقرافة في الجامع فوقع عليه وعلى جماعة ممن عنده السقف، فعمل الطوسي خطبة وذكر {فَخَرَّ عَلَيهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]. وجاء يومًا كلب يشق الصفوف، فقال زين الدين: هذا جاء من هناك. وأشار إلى مكان الطوسي، ومن هذا غرائب. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 466 - 467، و"المذيل على الروضتين": 1/ 127 - 128، و"المختصر المحتاج إليه": 2/ 140. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "ذيل تاريخ بغداد": لابن النجار: 3/ 12 - 15، و"التكملة" للمنذري: 1/ 463 - 464، و "كتاب الروضتين": 1/ 391، 2/ 282، 3/ 213، 380، و"المذيل على الروضتين": 1/ 130 - 132، "وفيات الأعيان": 2/ 530، و "سير أعلام النبلاء": 21/ 393 - 396، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

علي بن الحسن بن إسماعيل

وكان [بن نجية قد] (¬1) اقتنى أموالًا عظيمة، وتنعَّم تنعمًا زائدًا بحيث كان في داره عشرون جارية للفِراش تساوي كل جارية ألف دينار، وأما الأطعمة فقد كان يعمل في داره ما لا يعمل في دور الملوك، وتعطيه الخلفاء والملوك أموالًا كثيرة، ومع هذا مات فقيرًا، كفَّنه بعضُ أصحابه وتمزَّقت الأموال، وحالتِ الأحوال، وكانت وفاته بمصر، ودفن بالقَرَافة. [(¬2) وحكى لي بعض المصريين أنَّه كان ينشد على المنبر شعر الوزير طلائع بن رُزِّيك، فمن ذلك هذه الأبيات]: [من الوافر] مَشِيبُكَ قد نضا صِبْغَ الشَّبابِ ... وحلَّ البازُ في وَكْرِ الغُرابِ تنام ومُقْلة الحَدَثان يقظى ... وما نابُ النَّوائبِ عنك نابِ وكيف بقاءُ عُمْري وهو كَنْزٌ ... وقد أنفقتُ منه بلا حسابِ علي بن الحسن بن إسماعيل (¬3) أبو الحسن [العبدي، من] (1) عبد قيس. ولد سنة أربع وعشرين وخمس مئة بالبصرة، وبرع في علم الأدب [(¬4) والترسل، وسمع الحديث بالبصرة وبغداد، ثم عاد إلى البصرة، فتوفي بها في شعبان. سمع بها جابر بن محمد الأنصاري. وأبا العز طلحة المالكي وغيرهما، وسمع ببغداد ابن ناصر وطبقته، وأنشدنا أبو الحسن المقرئ، قال: أنشدني العبدي لنفسه]: [من السريع] لا تَسْلُكِ الطُّرْقَ إذا أَخْطَرَتْ ... لو أنها تُفْضي إلى المملكهْ قد أنزل الله تعالى {ولا ... تُلْقوا بأيديكمْ إلى التهلكهْ} ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): وأنشد على المنبر لطلائع بن رزيك، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "معجم الأدباء": 13/ 88 - 90، و "إنباه الرواة": 2/ 242 - 243، و"التكملة" للمنذري: 1/ 462 - 463، و"المذيل على الروضتين": 1/ 132 - 133، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 123، و"النجوم الزاهرة": 6/ 183. (¬4) في (ح): وبرع في علم الأدب، وتوفي بها في شعبان، ومن شعره، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

علي بن يحيى بن أحمد

عليُّ بنُ يحيى بن أحمد (¬1) أبو القاسم الصُّوفي، يعرف بسِبْط حامد، ومن شعره: [من الخفيف] أيُّ شيء يكونُ أعجب مِنْ ذا ... إنْ تفكَّرْتَ في صُروفِ الزَّمانِ حادثاتُ السُّرورِ تُوزَنُ وَزْنًا ... والبلايا تُكالُ بالقُفْزانِ القاسم بن يحيى (¬2) ابن عبد الله بن القاسم، أبو الفضائل، ضياء الدِّين بن الشَّهرزوري، هو ابنُ أخي القاضي كمال الدين. ولد سنة أربع وثلاثين وخمس مئة، وآخر قدومه بغداد رسولًا عن صلاح الدين سنة ثمان وثمانين، ولما أخذ العادِلُ دمشق أخرجه منها بسببِ الأفضل، فاستدعي إلى بغداد سنة خمسٍ وتسعين، فولاه الخليفة قضاءَ القُضاة، وَرَدَّ إليه أمورَ المدارس والأوقاف الشَّافعية والحنفية وغيرها. وكانت مطالعات الخليفة تَصْدُرُ إليه دائمًا، وحَظِي عنده، وحَصَلَتْ له منه منزلة لم تحصُل لغيره من الغرباء، وكانت زوجتُه سِتُّ الملوك تدخل على أُمِّ الخليفة النَّاصر، وتحسن إليها، وأقام ببغداد، فلم تَطِبْ له، واشتادتى إلى الشَّام، فطلب الانفصال، فلم يجبه الخليفة، فدخلت زوجته على أُمِّ الخليفة، وسألتها المخاطبة في الإذن له في العَوْد إلى الشَّام، فسألته، فأذن له. قال المصنف رحمه الله: وسمعتُ بعضَ عوام بغداد يقول: كان سببُ عَزْله أَنَّه مَسَحَ يومًا القلم في شرابة الدَّواة، ولم يمسحه في الخِرْقة الزَّرقاء التي عند الدواة، وبلغ الخليفة فعزله. وليس هذا بشيء، ولم يعزله الخليفة، وإنما هو اشتاق إلى الشَّام، ¬

_ (¬1) له ترجمة في "ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 4/ 301 - 303، و"التكملة" للمنذري: 1/ 439، ووفاته عندهما سنة (598 هـ)، و"المذيل على الروضتين": 1/ 132 - 133. (¬2) له ترجمة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: 2/ 343 - 344، و"المذيل على الروضتين": 1/ 133 - 135، "وفيات الأعيان": 4/ 244 - 245، و"طبقات الشافعية" للسبكي: 7/ 272 - 273، و"العبر" للذهبي: 4/ 308، و"النجوم الزاهرة": 6/ 183 - 184، و"شذرات الذهب": 4/ 342.

محمد بن أحمد بن سعيد

ولم يعتد قواعدَ العراق، وخاف على نَفْسه أن يبدوَ منه ما لا يليق، فطلب الخروج إلى الشَّام، وكان قد حَسَدَه أربابُ الدَّولة على قُرْبه ومنزلته من الخليفة، فخاف من التحريف عليه، ولما سافر عن العراق جاء إلى حماة، فأقام بها، وولي القضاء، فعِيبَ عليه ذلك بعد قضاء بغداد، فقال: ما عُزِلْتُ عن قضاء بغداد، وحماةُ والشَّامُ والشَّرق والغرب في ولايتي، فإذ انظرتُ في بعض ولاياتي، فليس ذلك بعيب. وكانت وفاته بحماة منتصف رجب، ودُفِنَ بها، ولما احْتُضِرَ جلس يسبِّحُ ويذكر الله تعالى، وتتفرقع أصابعُهُ حتَّى قضى، وكان فاضلًا، جَوَادًا، سخيًّا، لم يكن في أبناء جنسه أكرمَ منه، ومن شعره: [من البسيط] في كلِّ يومٍ تُرى للبَيْنِ آثارُ ... وما له في التئام الشَّمْل آثار يَسْطُو علينا بتفريقٍ فواعجبا ... هل كان للبَينِ فيما بيننا ثارُ يهزُّني أبدًا من بَعْدِ بُعْدِهُمُ ... إلى لقائهمُ وَجْدٌ وتَذْكارُ ما ضَرَّهُمْ في الهوى لو واصَلُوا دَنِفًا ... وما عليهمْ مِنَ الأوزار لو زاروا يا نازلين حمى قلبي وإن بَعُدوا ... ومُنْصِفينَ وإن صَدُّوا وإنْ جاروا ما في فؤادي سواكُمْ فاعْطِفُوا وَصِلُوا ... وما لكُمْ فيه إلا حُبُّكُمْ جارُ (¬1) وكانت مدة ولايته القضاء ببغداد سنتين، وصُرِفَ في ذي الحجة سنة سبعٍ وتسعين. محمد بن أحمد بن سعيد (¬2) أبو البركات، التَّكريتي، ويعرف بالمُؤَيَّد. كان أديبًا فاضلًا، وكان الوجيه النَّحْوي قديمًا على مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، فآذاه الحنابلة، فتحنَّف، فآذاه الحنفية، فانتقل إلى مذهب الشَّافعي رحمة الله عليه، فجعلوه يدرِّسُ النحو في النِّظامية، فعمل المُؤَيَّد: [من الطويل] ¬

_ (¬1) "الخريدة": 2/ 343 - 344. (¬2) له ترجمة في "الاعتبار" لابن منقذ: 94 - 95، و"المحمّدون من الشعراء" للقِفطي: 50 - 51، و"التكملة" للمنذري: 1/ 454، و "المذيل على الروضتين": 1/ 135، و"وفيات الأعيان" 4/ 153، والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 81 - 82، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 16، و"الوافي بالوفيات": 2/ 115 - 116، و"البداية والنهاية" (وفيات سنة 599 هـ)، و"شذرات الذهب": 4/ 347 - 348، وفيه وفاته سنة 600 هـ.

يحيى بن طاهر بن محمد، أبو زكريا الواعظ

ألا مُبْلِغٌ عنِّي الوَجِيهَ رِسالةً ... وإنْ كان لا تُجْدِي لديه الرَّسائِلُ تمذهَبْتَ للنُّعْمان بعدَ ابنِ حَنْبَلٍ ... وذلكَ لما أَعْوَزَتْكَ المآكِلُ وما اخْتَرْتَ رأيَ الشافعي تديُّنًا ... ولكنَّما تهوى الَّذي هو حاصِلُ وعَمَّا قليلٍ أنتَ لا شكَّ صائِرٌ ... إلى مالكٍ فافْطَنْ لما أنا قائِلُ يحيى بن طاهر بن محمد، أبو زكريا الواعظ (¬1) ويعرف بابن النجار، البغدادي. ولد يوم عرفة سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة، وتوفي في ذي الحِجَّة، ودفن بالمختارة شرقي بغداد، وأنشد في مجلسه: [من البسيط] عاشِرْ من النَّاسِ مَنْ تبقى مودَّتُهُ ... فأكْثَرُ النَّاسِ جَمْعٌ غيرُ مُؤتَلِفِ منهمْ صديقٌ بلا قافٍ ومعرفةٌ ... بغير فاءٍ وإخوانٌ بلا ألفِ سنة ست مئة فيها قَدِمَ بغداد أبو الفتوح ابن أبي نَصْر الغَزْنوي رسولًا من صاحب غَزْنة، وجلس بباب بَدْر، وقال: يا أهل بغداد، هنيئًا لكم، أنتم تَحْظَوْنَ بأميرِ المؤمنين ونحن محرومون، وتشاهدون سُدَّة سيادته ونحن محجوبون، وأنشد: [من المتقارب] ألا قُلْ لسُكَّانِ وادي العقيقِ ... هنيئًا لكمْ في الجنانِ الخلودُ أفيضُوا علينا من الماء فَيْضًا ... فنحنُ عِطاشٌ وأنتم وُرُوْدُ قال المصنِّف رحمه الله: وفي أوَّل هذه السنة سافرتُ من بغداد إلى الشَّام، وهي أوَّل رحلتي، فاجتزتُ بدقوقا [وبها خطيبها، ويقال له الحجة، وكان يعظ بها، وروى لنا الحديث، وسمع بالعراق ابن البطي وغيره، (¬2)] وجلستُ بها، ثم قدمت إربل، واجتمعت [بشيخ كيِّس ظريف يقال له (2)] محيي الدين الشاتاني، وأنشدني مُقَطَّعات لغيرِه، منها: [من البسيط] رَحِمْتُ أسودَ هذا الخال حين بدا ... في حُمْرَةِ الخدِّ مرميًا بأبصار ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 402، و"المذيل على الروضتين": 1/ 135 - 136، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 244. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

كأنَّه بعضُ عُبَّادِ المجوسِ وقد ... ألقى بمهجته في لُجَّةِ النار ومنها: [من الكامل] نَسَجَتْ خيالًا والصُّدودُ بغارها ... وبَدَتْ هلالًا والنِّقاب سِرَارُها بدرية في الجَفْنِ مني ماؤها ... يوم الرَّحِيلِ وفي فؤادي نارُها أَلِفَتْ لتعذيب المُحِبِّ وحَينِهِ ... شيَمَ البُدُور فما يقرُّ قرارُها طَوْرًا بحُزْوى والعقيقِ وتارةً ... بمُحَجَّرٍ وادي السفيق ديارُها وإذا رجعتَ إلى الصَّحيحِ فَنَجْدُها ... قلبي وبين جوارحي أغوارُها يا آل خِنْدِفَ عندكُمْ أرواحُنا ... مأسورةً فمتى يُفَكُّ إسارُها ما شيمةُ العُرْبِ الكرامِ وأنتُمُ ... منها النَّواصي أن يُذَمَّ جِوارُها وجلست بإربل، ثم قدمت المَوْصِل وجلستُ بها، وحَصَلَ لي القَبول التام [بحيث إن الناس كانوا ينامون ليلة المجلس في الجامع من كثرة الزِّحام، وأدركت بها جماعةً من مشايخ الإسلام، وحملةً من حديث المصطفى - عليه السلام -، فسمعتُ الأحاديث النقورية على أبي طاهر أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد الطوسي الخطيب، وغيره] (1). ثم قدمت حَرَّان، فجلست بها، [وسمعت الخطيب فخر الدين ابن تيمية، وابن الطباخ، وعبد القادر الرُّهاوي] (1)، ثم قدمت حلب، وجلست بها [، وسمعت "شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم -" من افتخار الدين، و"أسباب النزول" من عبد الرحمن بن الأستاذ وغيرهما، ثم سمعت "شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم -" من افتخار الدين في سنة ثلاث مرة ثانية، ] (¬1) ثم قدمت دمشق، فنزلت بقاسيون عند المقادسة، وجلست به وبجامع دمشق، فكانت مجالسي -ولله الحمد والمنة- مثل غدوات الجنّة، ثم زرت [البيت المقدّس المخصوص بالإعظام، وقبر] (¬2) الخليل - عليه السلام -، وجلستُ بالقدس، وذكرت فَضْله [الذي هو على التقوى مؤسس، ] (1) وعُدْتُ إلى قاسيون، فأقمتُ به إلى سنة ثلاث وست مئة، ورجعتُ إلى حلب، وأدركت بالشام [شيخنا] (1) تاج الدين الكِنْدي وجمال الدِّين بن الحرستاني، وشمس الدين بن الشِّيرازي، وشرف الدِّين بن المَوْصلي، وبني عساكر، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): ثم زرت القدس والخليل - عليه السلام -، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وقرأتُ على الشيخ موفق الدِّين الحنبلي، وداود بن ملاعب، وابن صَصْرى، وخَلْق كثير. وصحبتُ الشيخ أبا عمر شيخ المقادسة، وشاهدتُ منه من الزهد في الدُّنيا والورع والفَضْل والتواضع، ومن أخيه الشيخ موفق الدين، ونسيبه الشيخ العماد ما نرويه عن الصَّحابة والأولياء الأفراد، فأنساني حالُهم أهلي وأوطاني مع بقاء أعياني، ثم عُدْتُ إليهم بعد ذلك على نية الإقامة، عسى أن أكون رفيقهم في دار المقامة، وأنشدتُ بلسانِ الباطن والظَّاهر: فألقتْ عصاها واستقرَّت بها النَّوى وفيها كانت كَسْرة المواصلة؛ سار نورُ الدِّين صاحب المَوْصل إلى تل أعفر، ففتحها بالسَّيف، وكانت لقُطْبِ الدِّين بن عماد الدين صاحب سِنْجار، فاستنجد قُطْبُ الدين بالملك الأشرف بنِ العادل، فجاء ومعه سنجر شاه صاحب الجزيرة، والصَّالح صاحب آمد، والأوحد [أخو الأشرف] (¬1) صاحب مَيَّافارِقِين في عساكر دياربكر، واجتمعوا في خَلْق عظيم، وكان صاحبُ المَوْصل نازلًا على كَفْر زَمَّار في عسكر المَوْصل لا غير، [وكان الحر شديدًا، والأشرف على بوشرى في ألوف] (¬2)، فساق عليهم نور الدين في ألفِ فارس، فواقعهم، وقد عطش نور الدين وأصحابه، فكسرهم نور الدين في أوَّل مرة، ثم كانت الكسرة عليه لسوء تدبيره، لأنهم كانوا أضعافه مستريحين، وهو متعوبٌ عطشان، فانهزم، وأسروا جماعةً من أمرائه منهم المبارز سُنْقُر الحلبي وولده الظَّهير غازي، وذلك في يوم السبت تاسع عشر شوَّال، ودخل نور الدين المَوْصل، وتحصَّن بها، واستعدَّ للحصار، وجاء الأشرف فنزل على كَفْر زَمَّار، وتراسلا واصطلحا في آخر ذي الحِجَّة، وأطلق الأمراء الذين أسرهم إلا المبارز سُنْقُر وولده الظَّهير [غازي] (1)، فإنهما أقاما في حَبْس حرَّان مُدَّة حتَّى شفع فيهما مظفر الدين بن زين الدين، فأطلقهما. وتزوَّج الأشرف أُخت نور الدين [صاحب الموصل] (1) بنت عز الدين مسعود، وهي التي بنت بقاسيون التُّرْبة، ودفنت بها. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح) والحرّ شديد في ألوف، وفيها سقط، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد

وفيها وَثَبَ ناصر الدِّين بن أُرْتُق صاحب مارِدِين على عَمِّه زوج أُمِّه نظام الدين وغلامه لؤلؤ، فألحقهما بالهالكين، واستولى على القلعة، وكانا قد حكما عليه [وقترا الرزق لديه] (1)، وكان ناصر الدين وأخوه حسام الدين نازلين عرزم، لا يمكنهما النظام ولؤلؤ من سُكْنى القلعة، فيقال: إنَّ لؤلؤًا دَسَّ إلى حسام الدين مَنْ سقاه السُّمَّ، فرمى كبده قِطَعًا، وبقي ناصر الدين، فخاف أن يجري عليه ما جرى على أخيه، [ويصير له تبعًا] (1)، وكان النِّظام ولؤلؤ يأكلان البلاد على اسم ناصر الدين، فاتَّفق ناصرُ الدِّين وجماعة من الأمراء على قَتْلهما، وكان ناصر الدين يصعد إلى القلعة للسَّلام على النِّظام، فصعِدَ على العادة، وضبط له الأمراء الباب، فدخل على النظام [وقد تهيأت له الأسباب] (¬1) وعنده أُمُّ ناصر الدين، فضربه بالتافروت (¬2)، فقامت أمه في وَجْهه، [وقالت: تأنّ فما يفوت.] (1) فقال: اذهبي وإلا ألحقتك به. ثم قتله وخرج، واتَّفق دخول لؤلؤ، فالتقاه في الدِّهْليز، وكان أعور من اليمين، ذهبت عينه في حصار مارِدِين، فضربه بالتافروت (2) في عينه الصحيحة [على أفعاله القبيحة] (1)، وقطع رأسه، وصَعِدَ إلى السَّطْح، فرمى به إلى العوام، فانهزم أصحاب لؤلؤ والنِّظام، وملك القلعة وما فيها، واستولى على ذخائر عظيمة [يحيّر وصفها] (1)، وبعث بأطراف لؤلؤ إلى الموصل وميَّافارقين وجبل جور، واستقامت أموره. وحج بالنَّاس طاشْتِكِين. وفيها توفي الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد (¬3) ابن علي بن سرور، أبو محمد، المَقْدِسي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) لم أقف على معناها. (¬3) له ترجمة في "معجم البلدان": 2/ 160، و"التكملة" للمنذري: 2/ 17 - 19، و"المذيل على الروضتين": 1/ 153 - 157، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد": 302 - 304، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 82 - 83، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 443 - 471، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

ولد بجمَّاعيل؛ قرية من أعمال نابُلُس في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمس مئة، وكان أكبر من الشيخ موفق الدِّين بأربعة أشهر، [لأن مولد الموفق في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمس مئة] (1)، والموفق ابنُ عَمَّة الحافظ. قرأ القرآن، وسمع الحديث الكثير، وسافر إلى الأمصار، وكتب الكثير، وقَدِمَ بغداد هو والشيخ موفق الدِّين سنة ستين، وقيل: سنة إحدى وستين [وخمس مئة] (1)، السنة التي توفي فيها الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه، فنزلا بمدرسته، وما كان يمكِّنُ أحدًا من النزول فيها، ولكن لما رآهما تَفَرَّس فيهما الخير والصَّلاح، فأكرمهما، وسمعا منه، ثم توفي الشيخ عبد القادر بعد قدومهما بغداد بخمسين ليلة. وكان ميل الحافظ إلى الحديث، وميل الشيخ موفق الدين إلى الفقه، فاشتغلا بالفِقْه على أبي الفتح بن المَنِّي، وتفقها عليه، ثم قدما دمشق بعد أربع سنين. وسافر الحافظ إلى مِصْر والإسكندرية، ثم عاد إلى دمشق، ونزل إلى الجزيرة، فسمع بها، وعاد إلى بغداد، ثم رحل إلى أصبهان، فسمع بها، ثم عاد إلى دمشق. وصنَّف الكتب الحسان، منها: كتاب "نهاية المراد من كلام خير العباد" نحوًا من مئتي جزء، "مشكل الألفاظ" مجلَّدان، "المصباح في عيون الأخبار الصِّحاح" ثمانية وأربعين جزءًا، [وكتاب اليواقيت] (1)، مجلدة، وكتاب "تحفة الطالبين في الجهاد والمجاهدين" أحد عشر جزءًا] (1)، "الآثار المرضية في فضائل خير البرية" أربعة أجزاء، "الرَّوْضة" جزآن، [وكتاب "الصلات من الأحياء إلى الأموات" جزآن، وكتاب "الإسراء" جزآن، وكتاب "التهجد" جزآن، ] (1) "الصِّفات" جزآن، "محنة الإمام أحمد رحمة الله عليه" ثلاثة أجزاء، "ذم الرِّياء" جزء، [وكتاب "الذكر" جزآن، وكتاب "الفرج" جزآن] (¬1)، "ذم الغيبة" جزء، "الترغيب في الدعاء" جزء، "الأمر بالمعروف" جزء، "فضائل رمضان" جزء، "فضائل عشر ذي الحِجَّة" جزء، و"الصَّدقة"، و"الحج"، و"رجب"، و"وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -"، و"الأربعين من كلام رسول رب العالمين"، و"مناقب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -" جزء، وله عدة أربعينيات، و"الجامع الصَّغير لأحكام البشير ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

النذير" لم يتمه، و"الأحكام الكبير" و"الأحكام الصغير"، و"درر الأثر" تسعة أجزاء، و"تبيين الإصابة لأوهام حَصَلَت في معرفة الصحابة على أبي نُعَيم" جزء كبير، [وكتاب "السيرة"] (¬1)، و"الإكمال في معرفة الرجال" رجال الصحيحين وأبي داود، والتِّرْمِذِي والنَّسائي وابن ماجة، عشر مجلَّدات. ذِكْرُ محنه: وهي كثيرةٌ؛ منها أنَّه لما دخل أصبهان وَقَفَ على كتاب أبي نُعَيم الحافظ في "معرفة الصحابة"، فأخذ عليه في مئة وتسعين موضعًا، فطلبه بنو الخُجَنْدي ليقتلوه، فاختفى، وخرج من أصفهان في إزار. ومنها أنَّه لما عاد من أصفهان دخل المَوْصل، فقرأ كتاب "الجرح والتعديل" (¬2) للعُقَيلي، وذكر فيه أبا حنيفة وجَرَحَه، فثار عليه أصحابُ أبي حنيفة وحبسوه، ولولا البرهان ابن البِرْتي الواعظ خلَّصه لقتلوه، فإنَّه قَطَعَ الكُرَّاسة التي فيها ذكر أبي حنيفة، ففتَّشوا على اسم أبي حنيفة، فما وجدوه، فأطلقوه، فخرج منها خائفًا يترقَّب. ومنها لما قدم دمشق من المَوْصِل كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجُمُعة بحَلْقة الحنابلة، ويجتمع النَّاسُ إليه، وحصل له قَبُول، وكان سريعَ الدَّمْعة، فحسده الدَّماشقة، ودخلوا عليه بطريق النَّاصح ابن الحَنْبلي، فحسَّنوا له أن يعظ بعد الصَّلاة تحت النَّسْر، فشوَّش على الحافظ، فصار الحافظ يقعد بعد العَصْر، فذكر عقيدته على الكرسي، فاتَّفق محيي الدين بن زكي الدِّين، والخطيب الدَّوْلعي وجماعة من الدَّماشقة، وصَعِدُوا إلى القَلْعة وواليها صارم الدين بُزْغُش، فقالوا: هذا قد أَضَلَّ النَّاس، ويقول بالتشبيه. فعقدوا له مجلسًا، وأحضروه، فناظرهم، فأخذوا عليه مواضع؛ منها قوله: كان الله ولا مكان، وليس هو اليوم على ما كان. ومنها: ولا أُنزهه تنزيهًا ينفي حقيقة النُّزول. ومنها: مسألة الصَّوْت والحرف. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هو كتابه المشهور "الضعفاء الكبير" فذكر موضوع الكتاب عنوانًا له، وترجمة الإمام أبي حنيفة في الجزء الرابع منه ص 268 - 285.

فقالوا له: إذا لم يكن على ما كان، فقد أثبتَ له المكان، وإذا لم تنزهه تنزيهًا ينفي حقيقةَ النزول فقد أَجَزْتَ عليه الانتقال. وأما الحرف والصَّوت، فإنه لم يصحَّ عن إمامك الذي تنتمي إليه فيه شيء، وإنما المنقول عنه أَنَّه كلام الله لا غير. وارتفعت الأصوات، فقال له صارم الدين: كل هؤلاء على ضلالةٍ وأنتَ على الحق؟ ! فقال: نَعَمْ. فأمر الأسارى، فنزلوا إلى جامع دمشق، فكسروا منبر الحافظ، وما كان في حَلْقة الحنابلة من الدرابزينات، ومنعوهم من الصَّلاة، ففاتتهم صلاةُ الظُّهْر، فجمع النَّاصح ابن الحنبلي النَّبوية، وقال: لئن لم نرجع إلى مكاننا، وإلا فَعَلْنا وصنعنا. فأذِنَ لهم القاضي ابنُ الزكي في ذلك، وكان رأس الفِتْنة، وكان الدَّوْلعي موافقًا للحافظ، وإنما خاف على منصبه، فوافقهم، وخرج الحافظ إلى بَعْلَبَكَّ، فأقام بها، وكان العادل في الشرق يحاصر مارِدِين، ثم سافر الحافظ إلى مِصْر، ونزل عند الطحانين، وصار يقرأ الحديث، وكان الملك العزيز في الصَّعيد، فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه، وبعثوا بالفتوى إلى العزيز، فقال: إذا رجعنا أخرجناه. واتَّفق أَنَّه وقع من الفرس، واشتغل بنفسه ومات، وجاء الأفضل إلى مِصْر، فأوصى به الولاة، ولما دخل العادل مِصْر ومعه وزيره ابن شُكْر نُقِلَ إليه ما نقِلَ إلى العزيز، فطلبه، فدخل عليه دِرْباس الكرْدي وعثمان بن الزنْجيلي، وعرَّفاه زُهْدَه وفَضْلَه، وتعصُّبَهم عليه، فلما دخل على العادل قام له وصافحه، وأجلسه إلى جانبه، وأكرمه، وسأله الدعاء، ثم عاد العادل ووزيره إلى الشَّام، وأقام الحافظ في مسجد المصنع يذكر الحديث، فكتب أهلُ مِصْر إلى ابن شكْر يقولون: قد أفسد عقائدَ النَّاس، ويذكر التجسيم على رؤوس الأشهاد. فكتب إلى والي مِصْر بنَفْيه إلى المغرب. قال المصنِّف رحمه الله: فحدَّثني شيخُنا تاجُ الدِّين الكندي، قال: حكى لي رجلٌ من أهل مِصْر أَنَّ الحافظ توفي، واتفق أَنَّ الوزير ابن شُكْر طلبني في تلك السَّاعة، فحضرت عنده، فقال للكاتب: اكتب إلى مِصْر بنفي عبد الغني إلى المغرب، ولم يكن عَلِمَ بموته، فقلتُ: ما تحتاجون تنفونه هو قد نفاكم. فقال ابنُ شُكْر: وكيف؟ قلت: السَّاعة أخبرني شخص أَنَّه مات. فوجَمَ ابنُ شُكْر ساعةً كأنَّه نَدِمَ.

وكانت وفاتُه بمسجد المصنع يوم الاثنين ثالث وعشرين ربيع الأول، ودُفِنَ بالقَرَافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق، وكان إذا اجتاز بذلك المكان يقول: روحي ترتاح إلى ها هنا، [فدفن فيه. سمع بأصبهان الحافظ أبا موسى محمد بن عمر المديني وغيره، وببغداد أحمد بن المُقَرِّب الكَرْخي، وعبد الله بن النّقُّور، ويحيى بن ثابت بن بُنْدار، والشيخ عبد القادر وغيرهم، وبدمشق أبا المكارم عبد الواحد بن المُسَلَّم بن هلال وغيره، وبالإسكندرية الحافظ السِّلَفي، وبمصر عبد الله بن بَري النحوي وغيره، (¬1). وكان زاهدًا عابدًا ورعًا، يصلِّي كل يوم وليلة ثلاث مئة ركعة -وِرْد الإمام أحمد، رحمة الله عليه- ويقوم الليل، وعامة دَهْره صائم، وما ادَّخر شيئًا قَطُّ، وكان جَوَادًا، سَمْحًا، إذا فُتِحَ عليه بشيءٍ من الدُّنيا حَمَلَه في اللَّيل إلى أبواب الأرامل واليتامى، فألقاه إليهم، ومضى لئلا يعرفوا مَنْ جاء به، وكان ثوبه مرقوعًا، ويؤْثر بثمن الثَّوب، وكان قد ضَعُفَ بَصره من كَثْرة المطالعة والبكاء، وكان أوحدَ زمانه في عِلْم الحديث. وقال تاج الدين الكندي: هو أعلم من الدَّارَقُطْني والحافظ أبي موسى. [وسأله الحافظ السِّلفي، فقال: مَنْ هو محمد بن عبد الرَّحمن الذهبي؟ فقال له: المخلِّص. وحضر عند جدي فتذاكرا، فذكر جدي رجلًا اسمه ويزرة، فقال الحافظ: وريزة. فقال جدي: أنتم أعلم بأهل بلادكم. ذكر أولاده] (1): وكان له ثلاثة أولاد: محمد، وعبد الله، وعبد الرَّحمن، وابنة اسمها فاطمة. فأما محمد، فكنيته أبو الفَتْح، ولقبه عِزُّ الدين، [سمعنا بقراءته "مسند الإمام أحمد بن حنبل" بالحربية على عبد الله بن أبي المجد في سنة ست وتسعين وخمس مئة، ] (1) وأما عبد الله، فلقبه الجمال، حضر وفاةَ أبيه. وأما عبد الرَّحمن، فكنيته أبو سليمان، وسنذكرهم [في مواضعهم] (1) إنْ شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الحادية والست مئة

السنة الحادية والست مئة في جُمادى الآخرة عَزَلَ الخليفةُ ولدَه أبا نَصْر محمدًا، عُدَّة الدُّنيا والدِّين عن ولاية العهد، واجتمع أربابُ الدَّولة في دار الوزير ابن مَهْدي، والقضاةُ والعلماءُ والأمراء، وأخرج الوزيرُ رقعةً بخطِّ ولي العهد إلى والده مضمونها: أَنَّه حين ولَّاه العهد لم يكن يعلم ما يجب عليه فيه ولا قدَّر ذلك، وأَنَّه سأل أباه إقالته وعَزْلَه، وأَنَّه لا يَصْلُح لذلك، وشهد عليه أبو منصور بن سعيد بن الرَّزَاز، وأبو نَصْر أحمد بن زهير العَدْلان بذلك، وأَنَّ الخليفة أقاله، وأنشأ محمد بن محمد القُمِّي [-وهذا هو محمد القُمِّي هو الذي ناب في الوزارة، وعُزل في أيام المستنصر بالله، ولقبه المكين-] (¬1) كتابًا إلى البُلْدان بذلك ومضمونه: أما بعد، فإنَّ أمير المؤمنين كان قَلَّد ولده أبا نَصْر محمدًا ولايةَ العَهْد في المُسْلمين، ورشَّحه بعده لإمرة المؤمنين، وألقى عليه هذا القول الثقيل، ونَهَجَ له من مراشد الدِّين والدُّنْيا أوضحَ سبيل، مؤمِّلًا فيه الاستقلال بأعبائه، والإتيان بما يتبيَّن عن اضطلاعه وغَنَائه، والتخلُّق بأخلاقه التي هي من أخلاق الباري مُقْتَبَسَة، وعلى التَّقوى مُؤَسَّسة، فلما آن أوانُ رُشْده، وبلوغِ المبلغ الذي أَمَلَ فيه سَدَادَ رأيه وقَصْدِه، رأى من نَفْسه القُصور عن التزام شروطِ الخلافة، وما يجبُ عليه من الرَّحمة للأمة والرأفة، فأقرَّ بالعَجْز عن تأدية حَقِّ الأُمَّة في أمره، وأشْهَدَ عليه أَنَّه لا يَصْلُحُ لها فيما مضى ولا فيما بقي من عمره، وخَلَعَ نفسه فيما كان أميرُ المؤمنين فوّض إليه، واعتمد فيه عليه، ولم يَسَعِ الخليفةَ إلا استخارةُ الله تعالى في إقالته، وطلب رضاه في حَلِّ عُقْدة ولايته، فأسقط اسمَه من السِّكَك والمنابر، والأقلام والمحابر. ولما خَلَعَه لم يَرَ أَنْ يعيِّنَ أحدًا ليلقى الله بذمَّةٍ بريئة من الآثام، غيرِ متعلِّقةٍ بوزْرٍ يخصُّ الخاصَّ ويعُمُّ العام، وقد وافق أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ الخَطَّاب - رضي الله عنه - حيث جَعَلَها شورى في السِّتَّة المذكورين من أعيان المهاجرين، ولما قال له عبد الله ابنه: ما يمنعك أن تعيِّن مَنْ تراه أهلًا؟ فقال: لا والله، لا أتحمَّلُها حَيًّا ومَيِّتًا. وذكر كلامًا طويلًا، وكَتَبَ نُسَخًا إلى الأطراف. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

قال المصنِّف رحمه الله: وحجَّ خالي أبو محمد يوسف في هذا العام، وقرأ الكتاب بمكَّة وبالمدينة، وخاضَ أهل بغداد في السَّبب الموجب لذلك مع اتفاقِ العقلاء على أَنَّه كان أهلًا لَلخلافة من قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ، فقال قوم: سببه تخرُّصُ الحُسَّادِ المخالفين له في المذهب، فضربوا بينه وبين والده حتى ألجؤوه إلى هذه الحال، ومال الخليفةُ إلى ولده علي، ورشَّحه للخلافة، فاخترم في شبابه، فألجأتِ الضرورةُ إلى أن رَجَعَ الحقُّ إلى نصابه. وفي جمادى الآخرة عقيبَ هذه الواقعة وَقَعَ حريقٌ بدار الخلافة لم يَجْرِ في الدُّنْيا مِثْلُه، فُتحت أبوابُ الدَّار في اللَّيل، وركب الوزير ابن مهدي وأربابُ الدَّولة إلى خزانة السِّلاح، فرأوا النَّار قد لعبت فيها، واجتمع جميعُ مَنْ ببغداد من السَّقَّائين والفَرَّاشين بالقِرَب والرَّوايا والصُّنَاع والفَعَلة، وأقاموا يومًا وَليلة يقلبون الماء على النَّار وهي تزداد، فاحترقَ جميعُ ما كان في الخزانة من السِّلاح، والأمتعة، والقِسِيّ، والنُّشَّاب، والرِّماح، والجروخ، والسيوف، والجواشن، والزَّرَديات، وقدور النِّفْط، والخُوَذ المرصَّعة بالجواهر واليواقيت، وعملتِ النَّارُ، وساعدها الهواء، ودَبَّتْ إلى الدُّور والتَّاج والدار البيضاء، فخرج الخليفةُ منها إلى دِجْلة، واحترقت خزانة الرؤوس: [رأس البساسيري، ورأس طغريل، وغيرهما] (1). ويقال: إنَّ قيمةَ ما ذهب ثلاثةُ آلاف ألف دينار وسبع مئة ألف دينار، وكان في ذلك عبرة [لمن اعتبر، وفكرة لمن افتكر] (1). وفيها جاءتِ الفرنج إلى حماة بغتةً، وأخذوا النساء الغسَّالات من باب البلد على العاصي، وخرج إليهم الملك المنصور بن تقيِّ الدين، وثبت، وأبلى بلاءً حسنًا، وكَسَرَ الفرنجُ عسكرَه، ووقَفَ في السَّاقة من الرقيطاء إلى باب حماة، ولولا وقوفُهُ ما أبقوا من المُسْلمين أحدًا. وحج بالنَّاس من العراق وجه السَّبع، ومن الشَّام صارم الدين بُزْغُش العادلي [والي قلعة دمشق] (¬1)، وزين الدين قراجا صاحب صَرْخَد، [وجاء أبو محمد يوسف، وقرأ عَزْلَ ولي العهد بمكة والمدينة عند قبر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن سلمان

وفيها توفي أحمد بن سَلْمان (¬1) أبو العباس الحَرْبي، ويلقب بالسُّكَّر. قرأ القرآن بالرِّوايات، وسمع الحديث الكثير، ومولده في سنة أربعين وخمس مئة، وكان صالحًا، زاهدًا، عابدًا، وأقام سنين في الحربية يختم القرآن كل ليلة في صلاة التراويح، وكان جاري، وكنت أصلي خلفه، وكان قنوعًا، صبورًا على الفقر، وكانت وفاته في صفر، ودفن بباب حرب، سمع أبا الوقت، وابن البطي وغيرهما، وسمعنا عليه الحديث، وكان ثقة، صدوقًا] (¬2). وفيها توفي عبد المنعم بن علي بن الصَّيقل (¬3) أبو محمد، نجم الدين، الحَرَّاني. قدم بغداد [(¬4) أول مرة في سنة ثمان وسبعين وخمس مئة، وتفقه على أبي الفتح بن المني] وسمع [الحديث الكثير من أبي الفتح بن شاتيل، وأبي السعادات بن زريق، وجدي رحمه الله، وغيرهم، ]، ثم عاد إلى حران، ووعظ بها، وحصل له القبول، ثم عاد إلى بغداد فاستوطنها، ووعظ بها، [وحضرتُ مجالسه بمسجد باب المشرعة] (¬5)، وسمعته ينشد: [من الطويل] وأشتاقكُمْ يا أهلَ وُدِّي وبَينَنا ... كما زَعَمَ البَينُ المُشِتُّ فراسخُ فأما الكَرَى عن ناظري فَمُشَرَّدٌ ... وأما هواكُمْ في فؤادي فراسِخُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 56 - 57، و"معرفة القراء الكبار": 3/ 1128، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 182، و "الوافي بالوفيات": 6/ 399 - 400، و"غاية النهاية": 1/ 58، و"توضيح المشتبه": 5/ 125. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 1/ 172 - 173، و"التكملة" للمنذري: 2/ 59، و"المذيل على الروضتين": 1/ 166، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 92، و"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 36 - 38، و"النجوم الزاهرة": 6/ 187، و"شذرات الذهب": 5/ 3 - 4. (¬4) في (ح): قدم بغداد وتفقَّه بها وسمع، ثم عاد إلى حرَّان، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬5) في (ح): قال المصنف رحمه الله، وسمعته ينشد، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن سعد الله بن نصر

وكان (¬1) صالحًا دينًا، نَزِهًا عفيفًا، كيِّسًا لطيفًا، متواضعًا، كثير الحياء، وكان يزور جدي، ويسمع معنا الحديث، وكانت وفاته يوم الخميس سادس عشر ربيع الأول، وصلي عليه بالنظامية، ودفن بباب حرب، وخَلَّف ولدين: النجيب عبد اللطيف، والعز عبد العزيز، فأما عبد اللطيف فكان يسمع معنا الحديث على جدي بقطُفْتا، وأما العز فكان صغيرًا، ثم تقلبت بهما الأحوال إلى أن صارا تاجرين لديوان الخليفة، وظهر منهما الثِّقة والأمانة، والعِفَّة والدِّيانة، والنَّهْضة والصِّيانة. محمد بن سَعْد الله بن نصر (¬2) أبو نَصْر بن الدَّجاجي، الواعظ الحنبلي. ولد سنة أربع وعشرين وخمس مئة، وتوفي في ربيع الأول، ودُفِنَ بباب حَرْب. قال المصنف رحمه الله: أنشدني في رباط الأخلاطية: [من الرجز] نَفْسُ الفتى إن أَصْلَحَتْ أحوالها ... كان إلى نَيلِ التُّقى أحوى لها وإنْ تَرَاها سَدَّدَتْ أقوالها ... كان على حَمْلِ العُلا أقوى لها فلو تَبَدَّتْ حالُ مَنْ لَهَا لها ... في قَبْرِهِ عند البِلَى لَهَالهَا الملك بن بَكْتَمُر صاحب خِلاط، كان شابًّا لم يكن في الدُّنيا أحسنَ منه، ولم يبلغ عشرين سنة، قتله الهزار ديناري، قيل: غَرَّقه في بحر خِلاط، ثم قُتِلَ الهزار ديناري بعده، [وسنذكره في موضعه إنْ شاء الله تعالى] (¬3). السنة الثَّانية وست مئة وفيها استوزر الخليفةُ نصيرَ الدِّين ناصر بن مَهْدي العَلَوي الحسني، وخَلَعَ عليه خِلْعةَ الوزَارة: القميصَ والدَّرَّاعة والعِمامة والسيف، وخرج من باب الحجرة، فَقُدِّمَ له ¬

_ (¬1) هذه الفقرة إلى آخر هذه الترجمة من (م) و (ش)، وهي في (ح) نحوها مع اختلاف في التقديم والتأخير لبعض عباراتها. (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 58 - 59، و"المذيل على الروضتين": 1/ 166 - 167، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 53، و"الوافي بالوفيات": 3/ 91، و"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 34 - 36، و"النجوم الزاهرة": 6/ 187. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

حمزة بن علي بن حمزة

فرسٌ من خيل الخليفة، وبين يديه دواةٌ عليها ألف مِثْقال [ذهب] (1)، ووراءه المهد الأصفر، وألويةُ الحمد، وطبول النُّوبة، والكوسات تَخْفِق، والعهد منشور بين يديه، وجميعُ أرباب الدَّولة مشاةٌ بين يديه، وضربت [الطبول و] (¬1) البوقات له بالرَّحْبة في أوقات الصَّلوات الثَّلاث: المغرب والعشاء الآخرة والفجر، فقال النَّاس: يا ليتَ شِعْرنا، ماذا أبقى الخليفة لنفسه؟ ! وفيها هرب أبو جعفر محمد بن حديدة الوزير الأنصاري من دار الوزير ابنِ مهدي، وكان محبوسًا عنده بدرب المطبخ ليعذِّبه، فَحَلَق ابنُ حديدة رأسه ولحيته، وخَرَجَ، فلم يظهر خبرُه إلا من مراغة بعد مُدَّة، وعاد إلى بغداد. وفيها توجَّه ناصرُ الدِّين صاحب مارِدِين إلى خِلاط بمكاتبة أهلها، فجاء الملكُ الأشرف، فنزل على دُنَيسر، وأقطع بلد مارِدِين، فعاد ناصرُ الدِّين إلى بلده بعد أَنْ غَرِمَ مئة ألف دينار، ولم يسلموا إليه خلاط. وفيها أغار ابن لاون على بلاد حلب، وأخذ الجشار من نواحي حارم، فبعث الملكُ الظَّاهرُ فارسَ الدِّين ميمونَ القَصْري، وأيبك فُطَيس وحسام الدين ابن أمير تُرْكمان، فنزلوا على حارم، فقالوا لميمون: كُنْ على حَذَر. فتهاون، فكبَسَهم ابنُ لاون، وقتل جماعةً مَن المسلمين، وثَبَتَ أيبك فطيس وحسام الدين، وقاتلا قتالًا شديدًا، ولولاهما لأُخذ ميمون، وبلغ الظَّاهر، فخرج من حلب، فنزل مرج دابق، وجاء إلى حارم، فهرب ابنُ لاون إلى بلاده، وكان قد بنى قلعةً فوق دَرْبَساك، فأخربها الظَّاهر، وعاد إلى حلب. وحج بالنَّاس من العراق وجه السبع، ومن الشَّام الشجاع علي بن السَّلَّار. [وفيها توفي حمزة بن علي بن حمزة (¬2) أبو يعلى الحرَّاني، ويعرف بابنِ القُبَّيطي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 92 - 93، و"المذيل على الروضتين": 1/ 172 - 173، و"معرفة القراء الكبار": 3/ 1130 - 1131، "سير أعلام النبلاء": 21/ 441 - 442، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

طاشتكين بن عبد الله المقتفوي

ولد سنة أربع وعشرين وخمس مئة ببغداد، وقرأ القرآن بالروايات على الشيخ أبي محمد سبط الشيخ أبي منصور الخيَّاط وغيره، وسمع الحديث، وكان حَسَنَ الصوت بالقراءة، صلى إمامًا بالمسجد الذي إلى جانب البدرية، فكان الناس في ليالي رمضان يأتون إليه من أقطار بغداد، يسمعون قراءته، وكانت وفاته في ذي الحِجَّة، وصلي عليه بالنظامية، ودفن بباب حرب، وسمع أبا الكرم المبارك بن الشهرزوري، وإبراهيم بن نبهان الرَّقِّي، وسَعْد الخير، وأبا الفَضْل الأرموي وغيرهم، وروى لنا عنهم، وكان صالحًا عفيفًا، زاهدًا، ثقة] (¬1). وفيها توفي طاشْتِكين بن عبد الله المقتفوي (¬2) أمير الحاج، مجير الدِّين. حج بالنَّاس ستًّا وعشرين حجة، وكان في طريق الحج مثل الملوك، فقصده ابنُ يونس، وقال للخليفة: إنَّه يكاتبُ صلاح الدِّين، وزوَّر عليه كتابًا، فحبسه مُدَّة، ثم تبيَّن له أَنَّه بريء من ذلك، فأطلقه، وأعطاه خوزستان، ثم أعاده إلى إمرة الحج، وكانت الحِلَّة السَّيفية إقطاعه، وكان شجاعًا جَوَادًا، سَمْحًا، قليل الكلام، يمضي عليه الأسبوع ولا يتكلَّم، استغاث إليه رجلٌ يومًا، فلم يكلِّمْه، فقال الرَّجل: الله كلَّم موسى، فقال: وأنتَ موسى؟ فقال له الرجل [: وأنت الله! فقضى حاجته. وكان حليمًا، التقاه رجل، فاستغاث إليه من نوابه، فلم يجبه، فقال له الرجل: ] (1) حمار أنت؟ فقال طاشتكين: لا. وفي قِلَّة كلامه يقول ابنُ التَّعاويذي: [من الخفيف] وأميرٍ على البلاد مولَّى ... لا يجيبُ الشَّاكي بغيرِ السُّكوتِ كلما زاد رِفْعةً حَطَّنا اللـ ... ـه بتَغْفِيله إلى البَهَمُوتِ (¬3) ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الكامل": 12/ 241، و"التكملة" للمنذري: 2/ 83 - 84، و"المذيل على الروضتين": 1/ 172 - 170، و"المختصر في أخبار البشر": 3/ 107، و"فوات الوفيات": 2/ 129 - 130، و"النجوم الزاهرة": 6/ 190، و"شذرات الذهب": 5/ 8، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬3) لم أجد البيتين في ديوانه المطبوع.

مسعود سعد الدين صاحب صفد وممدود بدر الدين شحنة دمشق

وقام يومًا إلى الوضوء، فحل حياصته، وتركها موضعه، ودخل ليتوضأ، وكانت الحياصة تساوي خمس مئة دينار، فسرقها الفَرَّاش وهو يشاهده، فلما خرج طَلَبَها فلم يجدْها، فقال أستاذ داره: اجمعوا الفَرَّاشين، وأحضروا المعاصير. فقال له طاشْتِكِين: لا تضرب أحدًا، فالذي أخذها ما يردُّها، والذي رآه ما يغمز عليه. فلما كان بعد مدَّة رأى على الفَرَّاش [الذي أخذ الحياصة] (1)، ثيابًا جميلة وبِزَّة ظاهرة، فاستدعاه سرًّا، وقال له: بحياتي، هذه من ذيك؟ فخجل، فقال: لا بأس عليك، فاعترف، فلم يعارضه. وكان قد جاوز تسعين سنة، فاستأجر أرضًا وَقْفًا ثلاث مئة سنة على جانب دِجْلة ليعمرها دارًا، وكان في بغداد رجلٌ محدِّث في الحِلَق يقال له: فتيحة [المحدِّث، ] (¬1) فقال: يا أصحابنا، نهنئكم، ماتَ ملكُ الموت. قالوا: وكيف؟ قال: طاشْتِكِين عمره مقدار تسعين سنة، وقد استأجر أرضًا ثلاث مئة سنة، فلو لم يعلم أَن ملك الموت قد مات ما فعل هذا. فتضاحك النَّاس. وكانت وفاته بششتر، وأوصى إلى أن يحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السَّلام، فحمل في تابوت، فدفن فيه، رحمه الله تعالى. مسعود سعد الدين صاحب صفد وممدود بدر الدين شِحْنة دمشق (¬2) ابنا الحاجب مبارك بن عبد الله، وأمهما أم فَرُّخْشاه بن شاهنشاه بن أيوب، وأختهما لأُمهما ست عذرا؛ صاحبة المدرسة المجاورة لقلعة دمشق، وأمهم من المُنَيْطرة، وكانا أميرين كبيرين، لهما مواقفُ كبيرة مع صلاح الدين، وتقدَّمت وفاة [بدر الدين] (1) ممدود، فإنَّه مات بدمشق يوم الأحد خامس شهر رمضان، وتوفي [سعد الدين] (1) مسعود بصفد يوم الاثنين خامس شوَّال، بينهما شهر، [وحزن الناس عليهما] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) لهما ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 172، وفيه تتمة مصادر ترجمتهما.

السنة الثالثة وست مئة

السنة الثالثة وست مئة فيها فارق وجه السَّبع الحاج، وقصد الشَّام، وكان في الحج العراقي جماعةٌ من الأعيان، فبكوا وضجُّوا، وسألوه، فقال: مولاي أمير المؤمنين محسنٌ إليّ، وما أشكو إلا من الوزير ابن مهدي، فإنه يَقْصِدُني لقُرْبي من مولاي، وما عن الرُّوح عِوَض. وسار إلى الشَّام، ودخل الحاج بغداد وعليهم وَحْشة وكآبةٌ، وأمر الخليفة أن لا يخرج الموكب إلى لقائهم، ولا يخرج إليهم أحد، وأدخل الكوس والعَلَم والمهد في الليل، وأقام الخليفة حزينًا أيامًا، وأما وجه السبع فوصل إلى دمشق، فالتقاه العادل وأولاده، وخدموه، وأحسنوا إليه. وفيها ولَّى الخليفةُ عمادَ الدين أبا القاسم عبد الله بن الدَّامَغَاني قضاءَ القضاة ببغداد. وفيها قَبَضَ الخليفةُ على عبدِ السَّلام بن عبد الوهَّاب ابن الشيخ عبد القادر [الذي أحرقت كتبه في الرحبة] (¬1) فاستأصله، وأصبح يطلب من الناس، [وكان قد بلغه فِسْقُه وفجوره] (1). وفيها قدم البُرْهان محمد بن عمر بن مازة البخاري، ويلقب بصَدْرجهان حاجًّا إلى بغداد، وتلقَّاه جميعُ مَنْ ببغداد ما عدا الخليفة [والوزير] (1)، وانزل في دار زُبيدة على نهر عيسى، وحُمِلَتْ إليه الإقامات والضِّيافات، وكان معه ثلاث مئة من الفقهاء والمتفقهة. وفيها نزلت الفرنج على حِمْص، وكان الظَّاهر قد بعث المبارز يوسف بن خُطْلخ الحلبي إليها نجدةً لأسد الدين، وأُسر في هذه المرة الصَّمْصام بن العلائي؛ خادم صاحب حِمْص. قال المصنِّف رحمه الله: وفيها فارقتُ دمشق قاصدًا حلب، وجلستُ بقاسيون، وودَّعْتُ النَّاس، فلم يتخلَّفْ بدمشق إلا اليسير، وامتلأ جامعُ الجبل بالنَّاس، [فصاحوا علينا من الشبابيك التي بالإيوان: لا، لا. يعني قوموا، فاخرجوا، ] (1) فخرجنا إلى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

المُصَلَّى، وكان [شيخنا] (¬1) تاج الدين الكِنْدي حاضرًا، [فلما خرج من الباب زحموه، فانكشف رأسه، ووقعت عمامته، فعز عليَّ، وسألته وأقسمت عليه أن يمضي إلى دمشق، فامتنع، وقال: لا والله حتى نتمم المجلس] (1). وتابَ في ذلك اليوم زيادة على خمس مئة شاب، وقطعوا شعورهم، وجرى كلامٌ في المغناطيس [وأنه يعشق الحديد، ثم قلت: ] (1) والخُبَّازى يعشق الشمس، ولهذا كلَّما مالت الشمس إلى جهةٍ مال الخُبَّازى إليها. فصاحَ سيفُ الدِّين بنُ تميرك، وكان حاضرًا: يا مولاي شمسَ الدِّين، كلُّنا اليوم خُبَّازى. وحجَّ بالنَّاس مجاهد الدين ياقوت، [وهي أول حجة حجَّها، وحج] (1) صدرجهان، ووصلتُ حلب في ذي الحِجَّة، واجتمعتُ بمسعود بن أبي الفَضْل أبي الفتح النَّقَّاش الحلبي الشاعر تاج الدين، وأنشدني مُقَطَّعات من شعره: [وكتبها لي بخطِّه، ومولده] (1) سنة أربعين وخمس مئة، فمن ذلك: [من السريع] ما لي سوى حُبِّكُمُ مَذْهَبُ ... ولا إلى غَيرِكُمُ مَذْهَبُ بددتم شملي فيا هل ترى ... يجمعني يومًا بكم مذهب وساحَ دمعي في هواكم دمًا ... فصرت فيكم مثلًا يضرب أبكي وأنتم نُصْبَ عيني كما ... يغص بالماء الذي يشرب وأعشق التعذيب في حبكم ... ومن عذاب النفس ما يَعْذُبُ ناشدتُكَ الله نسيمَ الصَّبا ... من أينَ هذا النَّفَسُ الطَّيِّبُ أأودَعَتْ برداكَ وقتَ الضُّحى ... مكانَ ألقت عِقْدَها زينبُ أم ناسَمَتْ رَيَّاك روضَ الحِمَى ... وذَيلُها من فَوْقِهِ يُسْحَبُ فهاتِ أتحفني بأخبارها فَعَهْدُكَ ... اليومَ بها أَقْرَبُ أحباب قلبي ليس من جَوْركم ... إلا إلى عدلكمُ المهرب وهبتكم روحي فمن ذا الذي ... عاين روحًا قبلها توهب وعدت أسعى في نجاتي بها ... ما كل رأي المرء يُسْتَصْوَبُ وأنشدني أيضًا: [من السريع] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أَصْلُ تِلافي مِنْ تلافيكُمُ ... فعلِّمُوني كيفَ أُرْضِيكُمُ قلَّبتم قلبي وما خلته ... يَشْقَى وقد أصبحَ يَأْويكُمُ أحبابَنا مَنْ ذا الظَّلومُ الذي ... بقَتْلَتي في الحُبِّ يُفْتِيكُمُ وأيُّ خَلْقِ الله يَرْضى لكُمْ ... بفَتِّ أكبادِ مُحِبِّيكُمُ كَمْ مُنِعَتْ عيني بكُمْ إنْ رأتْ ... واسْتَحْسَنَتْ غيرَ معانيكُمُ ولا اشتفتْ روحي بلُقْياكُمُ ... إن حدَّثتني بتَسلِّيكُمُ وَيْلاه ما أَعْذَبَ تَعْذِيبَكُمْ ... عندي وما أَحلَى تَجَنِّيكُمُ وما ألذَّ الموتَ في قُرْبِكُمْ ... على مَلالٍ وجَفا فِيكُمُ أَمْرَضتُموني بمَضِيضِ القِلى ... فالله مِمَّا بي يُعافِيكُمُ ونِمْتُمُ عن سَهَرِي فارْحَمُوا ... طولَ نُوَاحي في نواحِيكُمُ طوبى لعينٍ عايَنَتْكُم ويا ... طِيبَ مكان باتَ يَحْويكُمُ وهَدْيُ مَنْ قد ضَلَّ في حُبِّكُمْ ... أو راح بالرُّوْحِ يُوَاسِيكُم أَطَلْتُمُ ليلي فَواحَسْرتي ... على دجى الليل بداجيكُمُ وبحتُمُ عَمْدًا بقَتْلي ولم ... أفه مع الضُّرِّ بحبِّيكُمُ ورُبَّ سِرْبٍ من ظِباءِ الحِمَى ... مرَّتْ بَوَاديه بوادِيكُم قَبَضْتُ من خُرَّدِهِ دميةً ... رواحُها قَبْلَ تغادِيكُمُ فَطَوِّلُوا في العَذْل أو قصروا ... ماتيكُمُ أوفق هاتِيكُمُ ومن ذلك: [الرجز] أيُّ يدٍ عندي وأيُّ مِنَّهْ ... للرَّكْبِ أَنْ بَشَّرني بهنَّهْ صاحوا الرَّحيلَ فظلِلْتُ والهًا ... أَنْشُدُ قلبي بينَ عِيسهنَّهْ كأنني بالحَيِّ قد شدُّوا العُرَى ... لبَينِهِمْ وأَرْخوا الأَعِنَّهْ وما سمعتُ قبل أن يَرتحلُوا ... بمَطْلَعِ الشُّهْبِ من الأَسِنَّهْ يا حادي الأظعانِ رُبَّ فرحٍ ... أحدثَه طِيبُ حديثهنَّهْ فاسْلَمْ وقُلْ للرَّاحلين إن يكن ... بَينٌ فرِفْقا بقتيلكنَّهْ فَشُرِّعَتْ تلك السُّجوفُ عن مَهَا ... تَحْسَبُها الأقمارَ في الدُّجُنَّهْ

مبتسماتٍ والربا من ... البرق لألآء نورهِنَّه والجوُّ مُعْتَلُّ النَّسيمِ أَرجٌ ... بالمِسْك من رَدْعِ نُهودِهِنَّهْ وبينهن مَنْ إذا تحدَّثَتْ ... شَمَمْتَ أنفاسَ ثمارِ الجَنَّهْ وما علمت إن هي تطلعت ... أنَّ الخُدُورَ للمَها مَظِنَّهْ قالت حزين إن يَبِنْ ألفُهُ ... يوم النوى أنَّ فقلتُ إنَّهْ فابتسمَتْ فبان لي مُسْتَرِقًا ... من ثَغْرِها دُرُّ عقودِهِنَّهْ ومن ذلك: [من السريع] ما عذُبَتْ مِدْحَة مَغْنَاهُمُ ... إلا لتعذيبِ مُعَنَّاهُمُ فاقوا فلا الإحسانُ يَزْري بهم ... يومًا ولا الحُسْنُ تعدَّاهُمُ يا حبَّذا رؤياهمُ المشتهاة ... وحَبَّذَا نَفْحَةُ رَيَّاهُم وحبَّذا فَرْطُ الجمال الذي ... بحَلْيه لبَّى فَلَبَّاهُمُ أصبَحْتُ لا أهوى سِواهُمُ كما ... أمْسَيت لا أعشقُ إلا هُمُ أغارُ مِنْ قلبي عليهم إذا ... فكَّرَ فيهمْ وتمنَّاهُمُ يا عجبًا لي كيف أَشْتَاقُهُمْ ... وفي صَمِيمِ القلب مأواهُمُ وواحيائي من حياتي وقد ... علمتُ أني بعضُ قَتْلاهُمُ يا ليتَ شِعْري هكذا كل من ... رآهمُ هامَ بمَرْآهُم أم مِنْ غَرَامي وجُنوني بهم ... أظنُّ كلَّ الخلق يهواهُمُ أمرُّ مِنْ وَجدِي بأبوابهم ... أقول علِّي اليومَ ألقاهُمُ أُضاحِكُ الشُمَّاتَ خوفًا ولو ... تحقَّقُوا وَجْدي لأَبْكَاهُمُ واحزنًا كم أتلظى وكم ... خوفَ تِلافي أتلفاهُم وكَمْ أذوقُ الصَّبْرَ من يأْسِهِمْ ... وحُسْنُ ظني يترجَّاهُمُ كنت أُرى أسعدَ هذا الورَى ... بهمْ وقد أصبحتُ أشقاهُمُ أموتُ مِنْ خوف تناسيهُمُ ... عَهْدي وأحيا عند ذكراهُمُ أَفْقَرني الحُبُّ إليهم كما ... أبعدَهُمْ عني فأغناهُمُ فإن تَنَاسَوْا مَللًا مَوقِفي ... فلستُ مِمَّنْ يتناساهُمُ

ومن ذلك: [من الوافر] سقاكِ الله ريًا دارَ رَيَّا ... وحَيَّا عن غَرَامي فيكِ حَيَّا فما أنا مَنْ يُغَيِّرُني جَفَاكُمْ ... فأنفضُ من محبتكُمْ يديَّا وفي المتغيَّبات عليَّ شَمْسٌ ... تُغِيرُ بِدُرِّ قُرْطَيها الثُّريَّا محجبة حمتني الغمضَ لما ... نصبتُ لصدِّها شبك الحُميَّا طمعتُ بأَنْ أعيشَ لها سعيدًا ... أقاسِمُها الحياةَ فما تَهَيَّا أيا لله قاسيةٌ طَوَتْنِي ... بنَشْرِ سريرتي في الحُبِّ طَيَّا شكوتُ إلى جَفَاها جُرْحَ قلبي ... ليرحَمَني فزاد الجُرْحَ كَيَّا وأَوْدَعَ سُقْمَ جفنيها فؤادي ... وبالغَ فيَّ حتَّى صرتُ فَيَّا وها أنا بين جفوتِها وحَتْفي ... كذا والحَتْفُ أَيسَرُ حالتيَّا أنادي سَلوتي فيجيبُ وَجْدي ... لقد أسمعتَ لو ناديتَ حَيَّا هداك الله يا نَشْرَ الخُزامى ... وأهدَى طِيبَ ما تُهْدِي إليَّا وزادك مِنْ عوارفِهِ فإِنِّي ... شَمَمْتُ لعَرْفِ رَيَّا فيك رَيَّا ومن ذلك، وهي منها: وبين ظُبى وجيرة أم خِشْفٍ ... تمرَّض مَوْعِدي مَطْلًا وليَّا يُطاوعُ في عذابي مُقْلَتَيها ... وأَعصِي في هَوَاها عاذليَّا وأَعْشَقُها فإنْ رُشْدًا فَرُشْدًا ... وإنْ غَيًّا كما زعموا فغَيَّا هوًى لم يَهْوَ أَيسَرَهُ جميلٌ ... بُثَينتَهُ ولا غَيلانُ مَيَّا وليلةَ أقبلَتْ كالبَدْرِ نَشْوى ... فلَيتَك كُنْتَ تُبْصِرُنا أُخَيَّا أُعانِقُها ومِسْكُ ذؤابَتَيها ... يعانقني (¬1) فألْتَثِمُ المُحَيَّا وأَرْبَعُ في شقائقِ وَجْنَتَيها ... فَتُحْدِثُ لي حدائق جَنَّتيَّا ويُذْكِرُني جنى التفاحِ غَضًّا ... فأقطفُ منهما تفاحتيَّا ومن ذلك: [من الكامل] ¬

_ (¬1) في (ح) سقط، ولعل ما أثبتناه من عندنا لا يأباه البيت.

حَلَفَ الغرامُ عليَّ يومَ فِراقِهِمْ ... ألا أبارحَ بَعْدَهُمْ بُرَحائي فبقَدْرِ ما يزدادُ فَرْطُ جمالِهِمْ ... يزدادُ طولُ تأسُّفِي وعَنَائي ولقد وقفتُ مُبَلَّلًا بمدامعي ... ثم انثنيتُ مخلَّفًا بدمائي أُذكي بِسُحْبِ مدامعي جَمْرَ الحَشَا ... وكذا تكونُ مدامعُ الغُرَباءِ وسَرَوْا فأمَّ الجور منهم جنَةً ... فارَقْتُ طيبَ نعيمها لشقائي زهراءُ تُصْبِحُ شَمْسَ كل صبيحة ... حسنًا وتمسي بَدْرَ كلِّ مساءِ رحلتْ وكنتُ شفيعَ غيري عندها ... واليوم لا تصغي إلى شُفَعائي يا وقفةَ التَّوْديعِ كيف غَدَرْتِ بي ... فقطعتِ منها بالفِراقِ رجائي ومن ذلك يمدح الملك الأمجد صاحب بعلبك: [من السريع] زارَ وطَرْفُ النَّجْمِ لم يَرْقُدِ ... موتزر من حُسْنِهِ مُرْتَدِ أَحْوَرُ يحكي الخالُ في خَدِّه ... نُقْطَةَ نَدٍّ فوق وَرْدٍ نَدِي يا حُسْنَهُ مِنْ زائرٍ ما بدا ... إلا وأنسى قَمَرَ الأَسْعُدِ ويا ضَلالي فيه من بعدما ... كنتُ بمرأى وَجْهِهِ أهتدي أطفأ لثمُ البَرَدِ المُشْتَهى ... مِنْ ثَغْره ناري ولم تَبْرُدِ وجاد لي بالكأسِ ممزوجةً ... بريقه تِيهًا على عُوَّدِي فيا لَها من ليلةٍ لم يَفُزْ ... بمِثْلها الهادي ولا المُهْتَدِي أدنت لي البدر إلى أن غفا ... مُوَسَّدًا يُشْرِقُ منه النَّدي أحويه في صَدْري كرَيحَانةٍ ... ريانة تأرَجُ في مَرْقَدِي وآخذ الصَّهْباءَ مِنْ ريقه ... بما جنت غُلَّة قلبي الصَّدِي إذْ أجتلي في ليلِ أصداغه ... مِنْ وَجْهِهِ شمسَ صباحِ الغَدِ وعاذلي عَنَّفَ فيه وَمَنْ ... يُنادِمِ البَدْرَ ولم يُحْسَدِ ظنَّ خلاصي في يدي فاعتدى ... قال أتهوى قاتلًا لا يدي فقلتُ لا تَرْجُ سُلُوِّي فقد ... خَلَعْتُ سُلْواني على عُوَّدي أأهجر العَيشَ بهجري له ... وأُخْرِجُ الفوزَ به عن يدي وأنثني عنه إلى غيره ... لا وحياةِ الملكِ الأمجدِ

إسماعيل بن علي

وقال: اشتريتُ من دمشق فاكهةً بأربعين دِرْهمًا، وقوسين بأربعين دِرْهمًا، وقصدتُ شَيزَر، فنزلت بخانٍ في الرَّبَض، وأُخبر مسعودُ صاحِبُها بي، فاستدعاني فدخلت عليه، وقدَّمتُ له الهدية، وأنشدته أبياتًا غَزَلًا ومديحًا، فلما أنهيتها أخرج من تحت طَرَّاحته خمسة دراهم، وقال: أنفقْ هذه عليك هذه اللَّيلة، فطباخُنا مريض. فنزلتُ إلى الخان، فلما كان صبيحة ذلك اليوم جاءني أستاذ داره، وقال: الأمير يُسَلِّم عليك، ويقول لك: كم ثمن الفاكهة والقوسين؟ فقلتُ: معاذ الله أن أذكر ثمنًا، وإنما أهديتها للأمير. فقال: لا بُدَّ. فقلتُ: اشتريتها من دمشق بثمانين دِرْهمًا، واكتريتُ لها ولي بغلًا بعشرين دِرْهمًا. فمضى وعاد ومعه مئة درهم، وقال: هو يعتذر إليك، وما في الخزانة شيءٌ. فامتنعتُ مِنْ أَخْذها، وخرجتُ من شَيزَر ولم أبت بها، وقلتُ: [من السريع] ما أليقَ النَّحس بمسعودكُمْ ... على الورى يا ساكني شَيزَرِ فيا ملوكَ الأَرْضِ هُمُّوا به ... فإنَّه والله شيءٌ زَرِي [قلت: عهدي بالنقاش في سنة ثمان وست مئة في الحياة، وقدم دمشق في سنة تسع وست مئة، ] (¬1) وأنشد الجماعة قِطَعًا من قصائده [، وأفادهم من فرائد فوائده، إلا أنه كان باطنه كالزناد الوقاد، وظاهره كالجليد والجُماد، ومن رآه نسبه إلى البلاهة وعدم الذكاء والفقاهة، ] (¬2) فإذا أنشد تساقط من ألفاظه مِثْلُ الجُمَان، وقد شاهدتُهُ، وليس الخبر كالعِيان، ولم أقف على تاريخ وفاته. وفيها توفي إسماعيل بن علي (¬3) الحظيري، ومن شِعْره: [من السريع] لا عالمٌ يبقى ولا جاهِلُ ... ولا نَبِيهٌ لا ولا خامِلُ على سبيلٍ مَهْيَعٍ لاحِبٍ ... يُودي أخو اليَقْظَةِ والغافِلُ ¬

_ (¬1) في (ح): قال المصنف رحمه الله: قدم النقاش سنة تسع وست مئة دمشق، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): وأنشد الجماعة مقطعًا من قصائده، وكان باطنه كالزناد الوقاد، وظاهره كالجليد الجماد، فإذا أنشد. . .، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "معجم الأدباء": 7/ 23 - 24، و"المذيل على الروضتين": 1/ 180، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر، الجيلي

عبد الرَّزَّاق بن الشيخ عبد القادر، الجِيلي (¬1) كان زاهدًا، عابدًا، وَرِعًا، مقتنعًا من الدُّنيا باليسير، صالحًا، ثِقَةً، لم يدخل فيما دخل فيه غيرُهُ من إخوته، ولد سنة ثمانٍ وعشرين وخمس مئة، وكانت وفاته في شَوَّال، ودفن بباب حَرْب. عبد الرحمن بن الحسين بن عبد الله أبو منصور (¬2) النُّعْماني، النِّيلي، القاضي شُرَيح، يسمَّى بذلك لذكائه وفِطْنته. ولي قضاء النِّيل مُدَّة، ثم قَدِمَ بغداد، فَنُدِبَ إلى المراتب الكبار، فلم يدخل في شيءٍ منها، فرمى طاشْتِكِين [أمير الحج] (¬3) نفسه عليه، وسأله أن يكتبَ له، فاستحيا منه، وكَتَبَ له، فأقام عنده مُدَّة عشرين سنة، فقصده الوزير ابنُ مهدي حسدًا له لفَضْله. وكان فاضلًا، مترسلًا، بليغًا، جَوَادًا، سَمْحًا، حَسَنَ الصُّورة، فصيحَ اللِّسان، متواضعًا، لطيفًا، يَصْلُحُ للوزارة، فلبَّسَ على الخليفة في أمره، فحبسه في دار طاشْتِكِين بدار الخليفة، ولم يقدر طاشْتِكِين على الكلام فيه، [ومات طاشْتِكِين وهو محبوس] (3)، وتوفي في ربيع الأول، فأخرج من دار طاشْتِكِين ميتًا، فدفن بداره في القُبيبات، ومن العجائب أَنَّ ابن مهدي نُكِبَ بعد وفاته، وحُبِسَ بدار طاشْتِكِين أيضًا، ومات بها. جاءت القاضي رقعةٌ من ناظرِ واسط، فكتب إليه: وصلتْ المكاتبةُ الكريمةُ، والمخاطبةُ الوسيمةُ، فحلَّت من العبد مَحَلَّ الدِّرْياق من السَّليم، والبُرْء من السَّقيم، مفصحةً عن سلامة قاطبة لا استقلَّتْ، وسعادة وافية لا اضمحلَّت، بمعاني تشرق فصاحَتُها، وبلاغة تروق عبارتها، ولما سرَّحْتُ النَّاظر في رَوْضها الأنيق النَّاضر، تيقَّنْتُ مسالمةَ الدَّهْرِ لمولانا ذي المفاخر والمآثر، وجعلتُ عِوَضها السعي على الناظر إلى خِدْمة مولاي النَّاصر، وذكر رسالةً طويلة، ورسائله مدوَّنة في مجلَّدين. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 116 - 117، و"المذيل على الروضتين": 1/ 180 - 181، و"مشيخة النعال": 143 - 144، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 426 - 427، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 113، و"المذيل على الروضتين": 1/ 181 - 182، و"توضيح المشتبه": 1/ 687، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أبو القاسم بن المقرئ، حاجب الديوان

[وقد رأيت القاضي شريحًا، وكان ألطف العالم وأذكاهم] (¬1). أبو القاسم بن المقرئ، حاجب الدِّيوان كان شابًّا حسنًا، يعاشر ابنَ الأمير أصبه شابًّا جميلًا، جلسا يومًا، فداعب ابنُ المقرئ ابنَ أصبه، فرماه بسكِّينٍ صغيرةٍ، فوقعت في فؤاده، فقتلته، فَسَلَّم الخليفةُ ابنَ المقرئ إلى أولاد أصبه، فلما خرجوا به ليقتلوه، أنشد: [من الوافر] قَدِمْتُ على الإله بغير زاد ... من الأعمالِ بل قلبٍ سليمِ وسوءُ الظَّنِّ أَنْ تعتدَّ زادًا ... إذا كان القدومُ على كريمِ فقتلوه، رحمه الله تعالى. السنة الرَّابعة وست مئة فيها ولي [خالي أبو محمد] (1) محيي الدين يوسف بنُ الجوزي الحِسْبة بجانبي بغداد. ودرَّس الكمال عبد الرَّحيم بن محمد الواسطي بمدرسة أم الخليفة مكان الفارقي. وقَدِمَ الحاجُّ من مكة في صفر، وحكوا ما لقوا من صدرجهان وشِدَّة العطش، وأن غِلْمانه كانوا يسبقون النَّاس إلى المناهل، فيأخذون الماء، فيرشُّون به حول خيمته، ويسقون أحواضَ البَقْل على الجمال، وماتَ عطشًا أكثرُ النَّاس، وسمُّوا هذه السنة سنة صدر جهنم، ولما وصل إلى بغداد لم يخرج أحدٌ للقائه، ولعنوه في وَجْهه، وسبُّوه في الأسواق، وكتبوا لعنته على المساجد والجوامع، وكان النِّساء يخرجن [صارخات] (1)، منشرات الشُّعور، يَلْطِمْنَ على موتاهن، ويقلن: العنوا صَدْرَ جهنم. فسأل الوزيرَ أَنْ يأذن له في الرُّجوع إلى بلده، فخلع عليه جُبَّة وعِمامة وطَيلَسان، وخرج من بغداد والنَّاسُ خلفه يسبُّونه، ولم يقدر أحدٌ على مَنْعهم. قال المصنف: وحججتُ [أنا] (1) في هذه السنة، وهي الرابعة وست مئة، ورأيتُ من الموتى ما أذهلني، وخصوصًا في النقرة والغُسَيلة، فإني رأيتُ فيهما ما يزيد على خمسة آلاف ميت، ومشينا ثلاثة أيام في الأموات. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وفيها ولي القوام ابن ناصر المخزن، وعُزِلَ عنه محمد بن الوزير بن مهدي، وكان القوام من المدائن. وانتقل العماد بن الحُبَيْر من مذهب الإمام أحمد إلى مذهب الإمام الشَّافعي -رحمة الله عليهما- وأعطى مدرسته للإصبهبذ، ثم لما ولي الإمام الظاهر الخلافة أراد أَنْ يرجعَ إلى مذهب الإمام أحمد، رحمة الله عليه، فلم يمكَّن من ذلك. وفي جُمادى الآخرة بعث الخليفةُ رجلًا من أهل باب الأَزَج يقال له: ابن دكالة، فأغلق بابَ الوزير ابنِ مهدي، وقبضَ عليه وأقام أيامًا، ثم نقله في رجب إلى دار طاشْتِكِين بالصناعة، [في دار الخليفة التي مات بها القاضي شريح] (¬1)، ونقل أهله وأولاده وأمواله وذخائره، ووجد له من الأموال والذَّخائر ما لم يوجد في خزائن الخُلَفاء، فلم يتعرَّض له الخليفة، وفوَّض الأمر إلى المكين محمد القُمِّي كاتب الإنشاء بين يدي ابن مهدي، وناب القُمِّي بعد ذلك في الوزارة إلى أيام المستنصر، فقبض عليه. واختلفوا في سبب عزله، فقال قومٌ: كان الوزير ابن مهدي ظالمًا جَبَّارًا، قاسيًا، متكبرًا، قليل الرحمة، قَلَّ أنْ حبس أحدًا فتخلَّص منه، [حكى لي خالي أبو محمد يوسف، قال] (¬2): شفعتُ يومًا إليه في محبوسٍ، فقال: وكم له في الحَبْس؟ قلتُ: خمس سنين، قال: ليس هذا بمحبوس، المحبوس عندنا في العجم مَنْ يمضي عليه خمسون سنة. [وقال آخرون] (¬3): إنَّ المكين القُمِّي سعى به إلى الخليفة، وقال: إنه قد طَمِعَ في الخلافة، ويقول: أنا علوي، ونحن أحقُّ، وأنه ينفذ الأموال إلى العجم في قواصر التَّمْر إلى أهله بخراسان، ليجنِّدوا العساكر، ويقيموا ملكًا، ويقصدوا بغداد. [وقال آخرون] (1): إنَّه اتَّفق مع ابن ساوى النَّصْراني على قَتْلِ علاء الدِّين تنامش مملوك الخليفة، [وسنذكره] (1)، ولما ظهر تجبُّره واستقلاله بالأمور هجاه أهلُ بغداد، وكتبوا فيه الأشعار، وأوصلوها إلى الخليفة، منها ما كَتَبَ به يعقوبُ بن صابر المنجنيقي: [من الطويل] خليليَّ قُولا للخليفةِ أحمد ... تَوَقَّ وُقِيتَ السُّوءَ ما أنتَ صانِعُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): قال محيي الدين أبو محمد يوسف بن الجوزي، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): وقيل، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وزيرُك هذا بين أمرينِ فيهما ... صَنِيعُك يا خيرَ البَرِيَّةِ ضائِعُ فإنْ يكُ حقًّا من سُلالة حَيدَرٍ ... فهذا وزيرٌ في الخِلافة طامِعُ وإنْ كان فيما يدَّعي غيرَ صادِقٍ ... فأضْيَعُ ما كانتْ لديه الصَّنائِعُ وجلس يومًا في الدِّيوان، فوقعت بين يديه ورقةٌ مختومة، فلم يتجاسر على فَتْحها، فبعث بها إلى الخليفة، وفيها: [من السريع] إنْ صَحَّ ما تَزْعُمُ يا مُدَّعي ... إلى نبيٍّ لستَ مِنْ نَسْلِهِ لا قاتلَ اللهُ يزيدًا ولا ... مُدَّتْ يدُ السُّوءِ إلى نَعْلِهِ لأنَّه قد كانَ ذا قُدْرةٍ ... على اجتثاثِ العُوْدِ مِنْ أَصْلِهِ وإنَّما أبقاكَ أحدوثةً ... للنَّاسِ كي يُعْذَرَ في فِعْلِهِ فكانت سببَ حَتْفه، لأَنَّ الخليفة قال: ما كتبوا هذه إلا وقد أهلك الحَرْثَ والنَّسْل. وقال مظهر اليماشكي: ذا الخماين المُدَّعي لو صحت أنسابه ... ما خان وقبح على مَنْ حَسَّن ألقابه صوم الخنا والتعدِّي والبطر صابه ... في فتح الحلق ذكره وانغلق بابه وفيها رتَّبَ الخليفةُ في رمضان دور المضيف ببغداد من الجانبين عشرين دارًا، في كلِّ دار في كلِّ ليلة خمس مئة قَدَح، وألفُ رَطْل من الطبيخ الخاصِّ، والخبز النَّقي والحلوى، وغير ذلك، مستمرًا في كلِّ رمضان. وفيها وصل النجم خليل الحنفي؛ قاضي العسكر إلى بغداد رسولًا من العادل، فأخرج في مقابلته الشِّهاب السُّهْرَوَرْدي وسُنْقُر السَّلَحْدار، ومعهما الخِلَع للعادل وأولاده، وكان في خِلْعة العادل الطَّوْق والسِّواران. وفيها مَلَكَ الأوحد بن العادل خِلاط، كاتبه أهلُها بعد قَتْلِ ابنِ بَكْتَمُر والهَزَار ديناري، وكانت بنت بَكْتَمُر مع صاحب أَرْزَن الرُّوم، فقالت: لا أرضى حتى تقتل الهَزَار ديناري، وتأخذ بثأر أخي. فسار إلى خِلاط، وخَرَجَ الهَزَار ديناري للقائه، فَضَرَبه فأبان رأسه، وعاد إلى أَرْزَن الرُّوم، وبقيت خِلاط بغير ملك، وكان الأوحد صاحب مَيَّافارِقِين، فكاتبوه، فجاء إليهم، واستولى عليها، وكانوا جبابرة، وتشرَّط عليه المكدفانية والمقدَّمون، فَشَرَعَ فيهم، فأبادهم وغرَّقهم في بحر خلاط، وبدَّد شَمْلَهم.

علاء الدين تنامش [بن عبد الله]

وحجَّ بالنَّاس من العراق ياقوت. قال المصنف رحمه الله: وحججت معه، وفِي أول حجاتي، وكانت الوقفة يوم الأربعاء، وعُدْتُ إلى العراق. وحجَّ من الشَّام بدر الدين دُلْدُرم، وشيخ الشيوخ صدر الدين وأولاده، وشِبْل الدولة الحسامي. وفيها توفي علاءُ الدِّين تَنامِش [بن عبد الله] (¬1) مملوك الإمام الناصر، وكان شجاعًا، عاقلًا، صالحًا، متصدِّقًا، رحومًا، رقيق القَلْب، لا يَقْرَبُ المُسْكر ولا الفواحش، وكان يُطْعِمُ المسكين، ويكسو العاري، [وكان الخليفة يحبه ويقربه، والوزير ابن مهدي يَشْنَؤه لقربه من الخليفة، ] (¬2) وكان ابن مهدي قد ولَّى الدُّجَيل ودقوقا رجلًا نَصْرانيًّا يقال له ابن ساوى، فتسلَّط على المُسْلمين وفتك وظَلَمَ، وأهان المُسْلمين، وأَذَلَّهم، وكان يركبُ مِثْلَ صاحب الدِّيوان، وجميع النَّاس مشاةٌ بين يديه، [قالوا: ] (2) وكان [ابن ساوى] (2) يحمل مَغَلَّ البلاد إلى ابنِ مهدي، فيأخذ [منها] (2) ما يريد، ويعْطي للخليفة ما يريد، فأقطع الخليفة تنامش دقوقا والدُّجَيل، فخرج إليهما، واطَّلع على الأحوال، فخاف ابنُ مهدي. قالوا: فاتَّفق مع ابنِ ساوى على أن يُسِمَّ تنامش، فمضى النَّصْراني إلى دقوقا، وتوصَّل إلى تنامش، ودسَّ عليه من سقاه السُّمّ، فمرض [تنامش] (2)، وعاد إلى بغداد مريضًا، فمات بعد أيام، فتقدَّم الخليفةُ بأَنْ يفتح له جامع القَصْر، ولا يتخلَّف عن جِنازته أحدٌ من أرباب الدَّولة إلا الخليفة والوزير، وحُمِلَ إلى مشهد موسى بن جعفر، فَدُفِنَ هناك، وعلم الخليفةُ بباطن الحال، فأمر بأن يُسَلَّم ابنُ ساوى إلى غِلْمان تنامش، فكتب ابنُ مهدي إلى الخليفة يقول: إنَّ النَّصارى قد بذلوا في ابن ساوى خمسين ألف دينار ولا يُقْتل. فكتب [الخليفة] (2) على رأس الرُّقْعة: [من البسيط] إنَّ الأسودَ أسودَ الغابِ هِمَّتُها ... يومَ الكريهة في المَسْلُوب لا السَّلَبِ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 187 - 188، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحسن بن أبي طالب

فَسُلِّمَ ابنُ ساوى إلى مماليك علاء الدين، فأُخرج من دار الوزير، وفي رقبته حَبْلٌ وهو مكتوفٌ، فقتلوه وأحرقوه، وكان لابنِ مهدي مملوكٌ عاقل يقال له: آق سُنْقُر الدَّوادار، وكان يطالع الخليفةَ بأخبارِ ابنِ مهدي، وأَنَّه يكاتب الأعاجم، ويسعى في فساد الدولة، وعلم الوزير، فسقاه السُّمَّ، فمات في ربيع الآخر [هو وعلاء الدين] (¬1) تنامش في أيامٍ قريبة، فكتَبَ محمدُ بنُ جميل كاتب المخزن إلى الخليفة [أبياتًا يذكر فيها ابن مهدي وابن ساوى وعلاء الدين والدوادار] (1): [من الكامل] هذا ابنُ مهدي قد أتى من بعد ما ... طافت عليه من النُّحوس طوائِفُ واسْتَوْعَبَ الأعمال مُقْتَطِعًا لها ... جَهْرًا وذلك ظاهرٌ متعارَفُ وأقام يُحْدِثُ في الرَّعِيَّة سيرةً ... ما سارها إلا غشومٌ عاسِفُ متخيِّرًا مِثْلَ ابنِ ساوةَ ناظرًا ... متجبرًا ممن عليه يشارِفُ فمضى ابنُ ساوةَ هالكًا من بعد ما ... تمَّتْ عليه من العذاب طوائفُ أتنامش يا مَنْ نمته مراحمٌ ... نبويةٌ وصفت عليه عوارفُ كيف استجازَ الخارجيُّ وَرَهْطُهُ ... أَنْ يطمعون وأنتَ فيهم عارِفُ وكذا الحِمامُ أتى إلى أَق سُنْقُر الـ ... ـمسْكينِ إذْ هو بالدَّسائس عارِفُ ومتى شَرَعْتُ أرومُ حَصْرَ صفاتِهِ ... ضاقَ الزَّمانُ وكل عنها الواصِفُ فقبض الخليفة على ابن مهدي في جمادى الأولى. الحسن بنُ أبي طالب (¬2) شرف الدَّين، النَّاقد بن قنبر. ولاه الخليفة حِجْبة الباب، وناب في الوزارة، ثم ولاه صاحب المخزن، فتجبَّر وطغى، وبنى بدرب المطبخ دارًا تناهى في بنائها، فلم يكن ببغداد مِثْلُها، وشَرَعَ في الظُّلْم والفِسْق، وتجاهَرَ به، ومدَّ عينه إلى أولاد النَّاس، وكان قبيحَ السِّيرة، فَرُفِعَ أمره ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 188، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

حنبل بن عبد الله

إلى الخليفة، فأخذه [أخذ عزيز مقتدر] (¬1) وقبضَ عليه، واستأصله، ونَقَضَ داره إلى الأساس، وحبسه، فأُخرج في رمضان ميتًا، فدفن بمشهد باب التِّبْن. حَنْبَل بنُ عبد الله (¬2) ابن الفرج بن سعادة، أبو علي المُكَبِّر بجامع الرَّصافة. كان فقيرًا جدًّا، [وكان قد سمع] (¬3) "المسند" من ابن الحُصَين، فقيل له: لو سافرت إلى الشَّام. فخرج من بغداد، فأسْمَعَ "المُسْنَد" بإرْبِل، فسمعه ابنُ زين الدين، وبالمَوْصِل وبدمشق، فسمعه الملك المعظَّم عيسى في الكلَّاسة، [وألحق الصِّغار بالكبار] (1)، وكان كثيرَ الأمراض بالتُّخَم، لأَنَّ المعظم كان يُطْعِمُهُ ألوان الطعام، وأشياء ما رآها [ولا في المنام، وكان معوَّدًا ببغداد أكل الهرطمان وتلك الألوان، وبلغني أن الشيخ تاج الدين الكندي حضر يومًا عندهم في السماع، ولم يحضر حنبل، فقال تاج الدين: وأين حنبل؟ فقال المعظم: هو متخوم. فقال تاج الدين: أطعمه عدس. فضحك المعظم والجماعة] (1). وكان عمر بن طَبَرْزَد قد رافقه من بغداد إلى الشَّام، وحصَّلا مالًا طائلًا، وعادا إلى بغداد، فاشترى حَنْبل العَتَّابي والكاغَد، وعَزَمَ على العود إلى الشَّام في تجارة، فأدركته المنيةُ رابع عشر محرَّم عن تسعين سنة، ودُفِنَ بباب حَرْب ولم يكن له وارثٌ، فحمل المال إلى بيت المال، ومات ابنُ طَبَرْزد في السنة السَّابعة [وست مئة] (1). [فصل: وفيها توفي عبد الرحمن بن عيسى بن أبي الحسن (¬4) البزوري الواعظ، من أهل باب البصرة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الكامل": 12/ 278، و"التكملة" للمنذري: 2/ 125 - 126، و"المذيل على الروضتين": 1/ 188 - 189، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 431 - 433، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ح): وسمع المسند. . .، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 137، و"المذيل على الروضتين": 1/ 190، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

عبد المجيب بن أبي القاسم عبد الله بن زهير

ولد سنة تسع وثلاثين وخمس مئة، وقرأ على جدي الحديث والفقه والوعظ، ثم حدثته نفسه بمضاهاته حتى كنى نفسه أبا الفرج، واجتمع إليه سفساف أهل باب البصرة، وانقطع عن جدي، ولما جاء من واسط ما جاء إليه ولا رآه، وكانت وفاته في صفر، وكان في عَشْر السبعين تزوَّج صبيَّةً، ثم اغتسل في يوم بارد، فانتفخ ذكره، ومات، سمع أبا الوقت وغيره. وفيها توفي عبد المجيب بن أبي القاسم عبد الله بن زهير (¬1) أبو محمد، الحَرْبي، ابن أخي عبد المغيث الحربي. ولد سنة سبع وعشرين وخمس مئة، وسمع الحديث الكثير، وكان يتردد من عند الخليفة إلى العادل في أمور خفية، فخرج في السنة الماضية، فاجتمع بالعادل، وعاد في هذه السنة، فتوفي بحماة، وسمع أحمد بن الطلاية، وعبد الله بن أحمد بن عبد القادر بن يوسف، وغيرهما، وكان صالحًا، ثقة] (¬2). قراجا الصَّلاحي (¬3) صاحب صَرْخَد، [ولقبه زين الدين] (2). كان شجاعًا، جَوَادًا، توفي بدمشق، ودفن بقاسيون، وقبره عند تربة ابن تميرك في قُبَّةٍ على الجادَّة. محمود بن هبة الله (¬4) ابن أبي القاسم الحِلِّي، أبو الثَّناء البزَّاز. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 126 - 127، و"المذيل على الروضتين": 1/ 190، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 472 - 473، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 190 - 191، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 130 - 131، و"المذيل على الروضتين": 1/ 191.

ست الكتبة

قرأ القرآن [على ابن عساكر البطائحي، والأدب على أبي محمد بن الخشاب] (¬1)، وسمع الحديث على [أبي الوقت، وعلى] (1) إسماعيل بن موهوب بن الجَوَاليقي وغيره، وحُكي عن إسماعيل بن موهوب، قال: كنتُ في حَلْقة والدي [أبي منصور موهوب] (1) يوم جُمُعةٍ بعد الصَّلاة بجامع القَصْر، [والناس يقرؤون عليه، ] (1) فوقف عليه شابٌّ، فقال: [يا سيدي، ] (1) ما معنى قول القائل: [من البسيط] وَصْلُ الحبيبِ جِنَانُ الخُلْدِ أَسْكُنُها ... وهَجْرُه النَّارُ يُصْليني به النَّارا فالشَّمْسُ بالقَوْسِ أمست وهي نازِلَةٌ ... إن لم يَزُرْني وبالجَوْزاء إنْ زارا فقال له والدي: يا بُني: هذا شيءٌ يتعلَّق بسير الشمس في البروج، وما يتعلَّق بعِلْم الأدب، ثم قام والدي، وآلى على نفسه أن لا يعودَ إلى مكانه حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر، فنظر فيه وعَلِمه بحيثُ إذا سُئِلَ عن أبيِّ شيء منه أجاب. ومعنى الشِّعْر: أَنَّ الشمس إذا نزلت في القَوْس يكون الليل في غاية الطُّول، وإذا كانت في الجوزاء كان اللَّيل في غاية القِصَر. [وفيها توفيت ست الكتبة (¬2) واسمها نعمة بنت علي بن يحيى بن محمد بن الطَّرَّاح، شيختنا، سمعت عليها الحديث بدمشق في سنة ست مئة، وكانت صالحة زاهدة، عابدة، وتوفيت في ربيع الأول، ودفنت بباب الفراديس، روت "شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم -" للترمذي عن أبي شجاع عمر بن أبي الحسن البِسْطامي، وعن جدها أبي محمد يحيى بن محمد بن الطراح، وغيرهما. فصل: وفيها حج بالناس من العراق ياقوت] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) لها ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 130، و"المذيل على الروضتين": 1/ 192، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 434 - 435، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمتها.

السنة الخامسة وست مئة

السنة الخامسة وست مئة قال المصنف رحمه الله: فيها عدت إلى الشام. وفيها تكاملت دار المضيف ببغداد بالجانب الغربي للحُجَّاج الواردين من البلاد، ورتَّب لهم [الخليفة] (¬1) فنون الأطعمة والزَّاد، وإذا عادوا من الحَجِّ فُرِّقَتْ فيهم الدَّنانير والثياب. وفيها قَدِمَ الشِّهاب السُّهروردي من الشَّام، ومعه الشمس إلْدُكُز أُستاذ دار العادل، فتلقى الموكبُ إلْدُكُز، وكان معه الهدايا والتُّحف، وأعرض الخليفةُ عن الشِّهاب، ونُقِمَ عليه حيث مَدَّ يده إلى الأموال بالشَّام، وحضر دعوات الأُمراء سامة وغيره، وقد كان قَبْلَ الرِّسالة زاهدًا فقيرًا، وأُخذ منه رباط الزَّوْزَني والمَرْزُبانية، ومُنِعَ من الوعظ فقال: ما قَبِلْتُ هذه الأموال إلا لأفَرِّقها في فقراء بغداد. وشَرَعَ يفرِّق المال والثِّياب في الزَّوايا والرُّبُط، فأغنى خَلْقًا كثيرًا من فقراء الشَّام والعراق، وخَلَع الخليفة على إلْدُكُز، وعاد إلى الشَّام بالهدايا. وزُلْزِلت نَيسابور زلزلةً عظيمة، ودامت عشرة أيام، فمات تحت الهَدْم خَلْقٌ عظيم. وحجَّ الفخر ابن تيمية في السنة الماضية، وكَتَبَ مظفر الدِّين بنُ زين الدين معه كتابًا بالوصية إلى الخليفة، فلما عاد من مكَّة سأل الجلوس بباب بَدْر، ووعظ ابن تيمية، ومَدَحَ الخليفة، وأنشد في أثناء كلامه: [من البسيط] وابنُ اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صولةَ البُزْلِ القناعيسِ فقال العوام: ما قَصَدَ إلا محيي الدين (¬2)، يعني أَنَّه كان شيخًا، ومحيي الدِّين شاب. وحج بالنَّاس من العراق ياقوت، ومن الشَّام حسام الدين قيماز والي القُدْس. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) يعني يوسف بن أبي الفرج بن الجوزي، خال سبط ابن الجوزي، انظر "المذيل على الروضتين": 1/ 195 - 196.

الخضر بن محمد بن علي

وفيها توفي الخَضِر بن محمد بن علي (¬1) أبو العَبَّاس الجَزَري. ولد [بجزيرة ابن عمر في] (2) سنة خمس وعشرين [وخمس مئة، وقدم بغداد، وكانت له يَدٌ في تعبير الرؤيا، ] (2) وأنشدنا لنفسه: [من الوافر] أَنِسْتُ بوَحْدتي حتى لو أنِّي ... رأيتُ الإنْسَ لاستَوْحَشْتُ منه وما ظَفِرَتْ يدي بصديقِ صِدْقٍ ... أخافُ عليه إلا خِفْتُ منه وما تَرَكَ التَّجارِبُ لي صديقًا ... أميلُ إليه إلا مِلْتُ عنه [وفيها توفيت فاطمة بنت الفائز بن الطريزة البزَّاز وتسمى ست الأعز، وهي أخت جدي أبي الفرج لأمه، سمعت الحديث، وعمرت طويلًا، وتوفيت في رجب، ودُفنت بقرب قبر أحمد، وكانت عفيفة، دَيِّنة، سمعت أبا الوقت وغيره] (¬2). محمد بن أحمد بن بختيار (¬3) أبو الفَتْح، الواسطي. ولد سنة سبع عشرة وخمس مئة، وتوفي بها في شعبان، وأنشد لغيره -وكان صالحًا ثِقَةً صدوقًا، وولي القضاء بواسط-: [من الوافر] أراك إذا نَأَيتَ بعينِ قلبي ... كأنَّك نُصْبَ عَيني عن قريبِ لئن بَعُدَتْ معاينةُ التَّلاقي ... فما بَعُدَتْ معاينةُ القُلُوبِ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 165، و"المذيل على الروضتين" 11/ 198، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الكامل": 12/ 282، و"التكملة" للمنذري: 2/ 157 - 158، و"المذيل على الروضتين": 1/ 198 - 199، و"معرفة القراء الكبار": 3/ 1144 - 1145، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 438 - 439، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن بختيار بن عبد الله

محمد بن بختيار بن عبد الله (¬1) أخو أُستاذ دار الخليفة. كان فاضلًا، أُنشد يومًا: [من الكامل] قَسَمًا بمن سَكَنَ الفؤادَ وإنَّه ... قَسَمٌ به لو تعلمونَ عظيمُ فأجاب بديهًا: إنِّي به صَبٌّ كئيبٌ مُدْنَفٌ ... قَلِقُ الفؤادِ مولَّهٌ مهمومُ لا أستطيعُ مَعَ التَّنائي سُلْوَةً ... حتى المماتِ وإنَّني لسليمُ فتعطَّفُوا بالوَصْلِ بعد تهاجُرٍ ... فالصَّبْرُ يَنْفَدُ والرَّجاءُ مقيمُ محمد بن المبارك بن محمد (¬2) أبو بكر البَيِّع، ويعرف بابن مَشِّق، من أهل باب البَصْرة، ولد سنة ثلاث وثلاثين وخمس مئة، وسمع الكثير، وكان فهرست سماعاته في ستِّ مجلدات، وكانت وفاته في شعبان، ودفن بباب حَرْب، وكان عالمًا بالحديث وطُرُقه، ثِقَةً، دَيِّنًا، غيرَ أَنَّه مَرِضَ، فتغيَّر ذِهْنُه، رحمه الله. نَصْر بن ناصر بن ليث (¬3) أبو البركات القوام، صاحب المَخْزن، من مدائن كسرى، كان فاضلًا، متواضعًا، إذا ركب ببغداد يُسَلِّم على الصَّغير والكبير، غير أنه وشى إلى الخليفة بالحسن بن زياد؛ ناظر نهر الملك، وشيخ البلد ابن رزيق، وقال: قد خانا في الأموال، فقال الخليفة له: اخرج إلى نهر الملك واصلبهما، ففعل، وحَزِنَ النَّاس عليهما لعَدْلهما وكرمهما ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 166 - 167، و"المذيل على الروضتين": 1/ 199، و"الوافي بالوفيات": 2/ 246. (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 159 - 160، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 140، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 440 - 441، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 27/ 90 - 91.

ورام بن أبي فراس

وتواضعهما، ما ردَّا قاصدين ولا خانا، وعاد إلى بغداد، فَمَرِضَ، وأقام ثلاثة أشهر مريضًا، ومات، ودُفِنَ بمشهد موسى بن جعفر، فقال الناس: إنَّ في ذلك لعبرة، وكانت له جِنازةٌ عظيمة. ورَّامُ بنُ أبي فراس (¬1) أبو الحسين، الحِلِّي، فقيه الشِّيعة، كان الخليفةُ يمضي إلى الحِلَّة يزوره، ويحمل إليه الأموال، فما قبل منه شيئًا، وكان زاهدًا متعبِّدًا، ومات بالحِلَّة، وحُمِلَ إلى الكوفة، فدفن بمشهد أمير المؤمنين، رضوان الله عليه. السنة السَّادسة وست مئة فيها قدم الجمال المِصْري رسولًا من العادل، وخرج في مقابلته ابن الضَّحَاك أُستاذ دار وآقباش النَّاصري، فالتقيا العادل على رأس العين، وهو قاصدٌ سِنْجار. ونزلتِ الكُرْج على خِلاط، وبها الملك الأوحد بن العادل في عسكر خِلاط، وجاء ملك الكُرْج -[ويقال له] إيواني- في خَلْقٍ عظيم، وتحضَّن الأوحد في القلعة، وحَصَرَ إيواني البلد، وضايقه، وأَشْرَفَ على أَخْذه، فاصبح ذات يوم، فقال له منجِّمُه: البشارة لي. قال: وكيف؟ قال: ما تبات الليلة إلا في قلعة خِلاط. فشرب الخمر حتى ثَمِلَ، وركب في جيوشه، وقصد باب أرْجِيش، فخرج إليه المسلمون، فقاتلوه، ورأوا ما لا قِبَلَ لهم به، فبينا هم كذلك عَثَرَ به حصانُه، فقُتِلَ عليه جماعةٌ من خواصِّه، وأُخذ أسيرًا، فحمل إلى القلعة، فما بات إلا بها، ورحل الكُرْج عن البلد، وفرَّج الله عن أهله، ثم اتَّفق مع الأوحد على أن يرد ما فَتَحَ من بلاد المسلمين، ويطلق الأُسارى ومئة ألف دينار، ويزوِّج ابنته للأوحد. وقيل: [إنما كانت وقعة إيواني] (¬2) بعد حصار سنجار في سنة سبع وست مئة. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل" لابن الأثير، و"لسان الميزان": 8/ 375 - 376، و"الأعلام" للزركلي: 8/ 113 وفيه وفاته سنة (650 هـ) وهو خطأ. (¬2) في (ح): إنما كان ذلك بعد حصار. . .، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحسن بن أحمد بن حكينا

وفي ربيع الأول نَزَلَ العادل على سِنْجار بعساكر مِصْر والشَّام وديار بكر وحلب، ومعه أولاده من جُمْلتهم الأوحد، وأقام يضربها بالمجانيق إلى رمضان، ولم يبق إلا تسليمُها، فأرسل الظَّاهر أخاه المُؤَيَّد يشفع في السَّناجرة فلم يُشَفِّعْه، ومات المُؤَيَّد في هذه السفرة، وكره المشارقة مجاورة العادل، فاتَّفقوا عليه وصاحب إربل، وأرسل الخليفةُ ابن الضَّحَّاك وآقباش يشفع إلى العادل فيهم، وتقاعَدَ العساكرُ عن القتال، وخذله صاحبُ حِمْص، فرحل بعد أن أخذ نَصِيبين والخابور، ونزل حَرَّان، وفَرَّقَ العساكر، وعَزَمَ صاحبُ إرْبل والمَوْصل ومارِدِين والجزيرة وحلب على قتالِ العادل، ثم صالحهم، واتَّفقوا. وحجَّ بالنَاس من العراق ياقوت، ومن الشَّام فخر الدين إياس الشَّمَّامي. وفيها توفي الحسن بن أحمد بن حِكِّينا (¬1) من أهل الحريم الطَّاهري، كان فاضلًا، ومن شِعْره: [من الكامل] قد بانَ لي عُذْرُ الكرام فَصَدُّهُمْ ... عن أكثر الشُّعراء ليس بعارِ لم يسأموا بذل النَّوال وإنَّما ... جَمَدَ النَّدى لبرودةِ الأشعارِ محمد بن عمر بن الحسين (¬2) أبو المعالي، فخر الدين الرَّازي، ابن خطيب الرَّيِّ، صاحب الكلام والمنطق، صنَّف "التفسير" و"المحصَّل" و"الأربعين" و"نهاية العقول" وغيرها. واعتنى بكُتُب ابنِ سينا في المنطق، وشَرَحَها، وكان يعظ وينال من الكَرَّامية وينالون منه، ويكفِّرهم ¬

_ (¬1) اضطرب سبط ابن الجوزي في تاريخ وفاته، فذكر في هذه السنة، وكان قد ذكره كذلك في وفيات سنة (505 هـ) والصواب أنه توفي سنة (528 هـ) فيما ذكر أغلب من ترجم له. انظر ترجمته في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: 1/ 230 - 248، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 275 - 276، و"المذيل على الروضتين": 1/ 208، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 186 - 187، و"المذيل على الروضتين": 1/ 204 - 206، و"وفيات الأعيان": 4/ 248 - 252، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 500 - 501، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

ويكفرونه، وقيل: إنهم وضعوا عليه من سقاه السُّمَّ، فمات، ففرحوا بموته، وكانوا يرمونه بالكبائر، وكانت وفاته في ذي الحِجَّة. ولا كلام في فَضْله، وإنّما الشَّناعات عليه قائمة بأشياء، منها: أَنَّه كان يقول: قال محمد التَّازي يعني [العربي، يريد] (¬1) النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: قال محمد الرَّازي يعني نفسه. ومنها: أنه كان يقرِّرُ مذاهب الخصوم وشُبَههم بأَتّمِّ عبارة، فإذا جاء إلى الأجوبة اقتنع بالإشارة، ولعله قصد الإيجاز، لكن أينَ الحقيقةُ من المجاز. وخالف الفلاسفة الذين أُخذ هذا الفن عنهم، واقتبسه منهم، [فقال في كتاب له يقال له "المعالم": أطبقت الفلاسفة على أن النفس جوهر وليست بجسم. قال: وهذا باطل عندي، لأن الجوهر يمتنع أن يكون له قرب أو بعد من الأجسام. قلت: اتفاقهم على أنها ليست داخلة في البدن ولا خارجة عنه تدل على عدم الجسمية، وما ادعوا أن للجوهر قربًا ولا بعدًا عن الأجسام، وإنما ادعوا ذلك في ذات الجوهر لا في غيره، وليست النفس كذلك، ولهذا توقفوا عن الجواب في معنى الجوهر الفرد، ولهم في هذا مذاهب موصوفة، ومآرب معروفة] (¬2). وكان تلميذه الشيخ شمس الدين عبد الحميد الخُسْرُوشاهي -رحمه الله- يحكي عنه من الفضائل وكَرَمِ الأخلاق، وحُسْن العشرة، واعتنائه بالمِلَّة الإسلامية ما يُبْطل قول الكَرَّامية. قال المصنف رحمه الله: وكان صديقنا الخُسْرُوشاهي من كبار الأماثل، جَمَعَ أشتاتَ الفضائل، عاقلًا، رئيسًا، دَيِّنًا، صالحًا، مُحْسنًا، متمسِّكًا بالدِّين، سالكًا طريق السَّلف الضَالحين، تقلَّبت به الأحوال، تارةً بالشرق، وتارة بالكَرَك، وتارةً بمِصْر، وآخر قدومه دمشق في سنة ثلاث وخمسين وست مئة (¬3)، فتوفي بها، ودُفِنَ بقاسيون، عند باب تُرْبة الملك المعظَّم عيسى رحمه الله، [وسنذكره هناك] (2). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "المذيل على الروضتين"، ليفهم سياق الكلام. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) كذا قال، وقد ذكر وفاته سنة (652 هـ)، وهو الصحيح.

المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم

المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم (¬1) أبو السعادات، مجد الدين، ابنُ الأثير، المَوْصلي الجَزَري الكاتب. ولد سنة أربعين وخمس مئة بجزيرة ابن عمر، وانتقل إلى المَوْصل، وكتب لأمرائها، وكانوا يحترمونه ويعظِّمونه، ويستشيرونه، وكان بمنزلة الوزير النَّاصح، إلا أنه كان منقطعًا إلى العِلْم، صنَّف الكُتُبَ الحِسان، منها "جامع الأصول" و"التَّاريخ" (¬2) و"الغريب" (¬3) وغير ذلك، وكان يَسْكُنُ في المَوْصل بدرب دراج. قال المصنف رحمه الله: واجتمعتُ به في سنة ثلاثِ وست مئة بداره، وقرأتُ عليه شيئًا من تصانيفه، وأجاز لي الباقي، وكان به نِقْرس، فكان يُحمل في مِحَفَّة. وكانت وفاته بالمَوْصِل يوم الخميس سَلْخ ذي الحِجَّة، ودُفِنَ بدرب دراج -وهو أخو أبي الحسن علي الكاتب الجَزَري- قرأ النَّحو على ابنِ الدَّهَّان، ثم على أبي الحرم الضَّرير، وسمع الحديث من أبي بكر بن سَعْدون القُرْطُبي، وأبي الفَضْل عبد الله بن الطُّوسي وغيرهم، وروى الحديث، وانتفع به النَّاس، وكان عاقلًا مهيبًا، ذا بِرٍّ وإحسان. السنة السَّابعة وست مئة فيها أظهر الخليفةُ الإجازة التي أُخذت له من الشُّيوخ، وذكرهم في كتاب "روح العارفين". قال المصنِّف رحمه الله: وقد شَرَحْتُ هذا الكتاب، وهو في وقف دار الحديث الأشرفية بدمشق، ودفع الخليفةُ إلى كلِّ مذهب إجازة عليها مكتوبًا بخطِّه: أجزنا لهم ما سألوا على شَرْط الإجازة الصَّحيحة، وكتبه العبدُ الفقير إلى الله تعالى أبو العَبَّاس أحمد أمير المؤمنين. وسُلِّمت إجازةُ الشَّافعية إلى ضياء الدين عبد الوهَّاب بن علي ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 288، و"التكملة" للمنذري: 2/ 191 - 192، و"المذيل على الروضتين": 1/ 206 - 207، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 488 - 491، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) لا يصح هذا، فمؤلف "التاريخ" هو أخوه عز الدين علي بن محمّد بن محمّد بن عبد الكريم المتوفى سنة (630 هـ). (¬3) هو "النهاية في غريب الحديث"، وهو مطبوع مشهور متداول.

الصُّوفي، وإجازة الحنفية إلى الضياء أحمد بن مسعود التركستاني، وإجازة الحنابلة إلى أبي صالح نَصْر بن عبد الرَّزَّاق بن الشيخ عبد القادر، وإجازة المالكية إلى التقي علي بن جابر التَّاجر المغربي. وفيها عصى قُطْبُ الدِّين سنجر النَّاصري (¬1) بششتر بعد موت طاشْتِكِين، وكان زوجَ ابنته، فبعثَ إليه الخليفةُ عِزَّ الدين نجاح الشَّرابي ومؤيَّد الدين القُمِّي نائب الوزارة، فلما قربوا من ششتر هرب سنجر بأمواله وأهله إلى صاحب شيراز أتابك نرسي وقيل: سَعْد، فحلف له على أن لا يسلمه، ثم نكث وغَدَرَ به، ونهب أمواله وأهله، وجميع ما كان معه، وارتكب من النساء الفواحش، وسَلَّمه إلى نواب الخليفة، فعادوا به إلى بغداد، فأدخل سنجر بعد الملك والسَّلْطنة على بغل في السنة الآتية. قال المصنف رحمه الله: وفيها خرجتُ من دمشق إلى نابُلُس إلى الغَزَاة، وكان الملك المعظَّم عيسى -رحمه الله- بها. جلستُ بجامع دمشق يوم السبت خامس ربيع الأول، وكان النَّاس من [باب] (¬2) مشهد زين العابدين إلى باب النَّاطفانيين، وإلى باب السَّاعات، وكان القيامُ في الصَّحْن أكثر، بحيث امتلأ الجامع، وحُزروا بثلاثين ألفًا، وكان يومًا لم يُرَ بدمشق مثله [ولا بغيرها] (2)، وكان قد اجتمع عندي شعور كثيرة، وقد وقفتُ على حكاية أبي قدامة الشَّامي مع تلك المرأة التي قَطَعَتْ شَعْرها، وبعثت به إليه، وقالت: اجعله قيدًا لفرسك في سبيل الله. فَعَمِلْتُ من الشُّعور التي اجتمعت عندي شُكلًا لخيل المجاهدين، وكرفسارات، ولما صَعِدْتُ المنبر أمرتُ بإحضارها، فحملت على أعناق الرِّجال، وكانت ثلاث مئة شكال، فلما رآها النَّاس صاحوا صيحةً عظيمة، وقطعوا مِثْلها، [وقامتِ القيامة، ] (2) وكان المبارز إبراهيم المعتمد رحمه الله والي دمشق حاضرًا، وجَمَعَ الأعيان، فلما نزلتُ من المنبر قام المبارز [يُطَرِّقُ لي] (2)، ومشى معي إلى باب النَّاطفانيين، [فتقدم إلى فرسي] (2)، فأمسك بركاب فرسي، وأركبني، وخرجنا من باب الفرج إلى المُصَلَّى، [وجميع من كان بالجامع بين يدي] (2)، وسرنا إلى الكُسْوة من الغد، ومعنا خلق [مثل التراب، وكان معنا من قرية ¬

_ (¬1) ستأتي وفاته سنة 610 هـ. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

رسلان بن عز الدين مسعود

واحدة يقال لها زَمْلَكا -من قرى دمشق- نحو] (¬1) ثلاث مئة رجل بالعُدَد والسِّلاح، وأما من غيرهم فَخَلْقٌ كثير، والكُلُّ خرجوا احتسابًا، [وجئنا] (2) إلى عقبة فيق، والطير لا [يقدر أن] (¬2) يطير من خوف الفرنج، فسرنا على الجادَّة إلى نابُلُس، ووصلت أخبارُنا إلى عكا، وخرج المعظَّم، فالتقانا، وسُرَّ بنا، وجلستُ بجامع نابُلُس، وحَضَرَ وأحضرنا الشُّعور، فأخذها، وجعلها على وَجْهه، وجعل يبكي، ولم أكن اجتمعتُ به قبل ذلك اليوم، وكان يومًا عظيمًا، وخَدَمنا وأكرمنا، وخرجنا نحو بلاد الفرنج، فأخربنا وهَدَمْنا، وقطَّعْنا أشجارهم، وأسرنا جماعة، وقُتِلَ جماعةٌ، ولم يتجاسروا أن يخرجوا من عكا، فأقمنا أيامًا ثم عُدْنا سالمين غانمين إلى الطُّور المطل على النَّاصرة، والمعظم معنا، فقال: أريد أن أبني عليه قلعةً. وطلب أخاه الملك الأشرف وعساكر الشَّرْق وحلب، وشَرَعَ في عمارة الطُّور، وأقام العسكر تحته من ذي الحِجَّة بهذه السنة إلى سنة ثمانٍ وست مئة، فكمل سوره ودار واستوى، وخاف الفرنج منه، فأرسلوا إلى العادل، فصالحهم، وأعطى العساكر دستورًا، فتفرَّقوا، وأقام المعظم يعمر الطور إلى قبيل وفاة العادل، فلا يحصى ما غَرِمَ عليه. وحج بالنَّاس محمد بن ياقوت، وكان صبيًّا، ومعه ابنُ أبي فراس الحِلِّي، وكان الخليفةُ قد أقطع ياقوت ششتر، وحج ولده نيابةً عنه، وحجَّ من الشَّام سيف الدين علي بن عَلَم الدِّين سليمان بن جَنْدَر. وفيها توفي رسلان بن عز الدين مسعود (¬3) نور الدين أتابَك، صاحبُ المَوْصل. وكان متكبِّرًا، جبَّارًا، بخيلًا، فاتكًا، سفَّاكًا للدِّماء، حبس أخاه علاء الدين، فمات في حَبْسه، وولَّى المَوْصل رجلًا ظالمًا يقال له: السَّرَّاج، فأهلك الحَرْثَ والنَّسْل. ¬

_ (¬1) في (ح): ومعنا خلق، فمن زملكا ثلاث مئة رجل. . .، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الكامل": 12/ 291 - 294، و"التكملة" للمنذري: 2/ 210، و"المذيل على الروضتين": 1/ 211، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 496 - 497، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

عبد الوهاب بن علي بن علي

وكان نور الدين يسيئ التَّدْبير، وهو الذي كسره الأشرف على بوشرى، وعَرَضَ لنور الدِّين مرضُ السل، فأقام يذوب ذوبانًا، ومات في صفر، وخلَّف ولدين القاهر مسعود وزَنْكي، وأوصى إلى بدر الدين لؤلؤ أن يكون مسعود السُّلْطان، وزَنْكي في شَهْرُزور، وبعث بدرُ الدِّين العماد بن يونس إلى بغداد يطلب الخِلَع للقاهر، فبعثَ له الخليفةُ الخِلَع مع بدر الدِّين محمد سِبْط العقاب، فَخَلَعَ عليه. عبد الوهَّاب بن علي بن علي (¬1) أبو محمد الصُّوفي، ويعرف بابن سُكَينة، ضياء الدِّين، سِبْط شيخ الشيوخ إسماعيل بن أحمد النَّيسابوري. ولد سنة تسع عشرة وخمس مئة، وقرأ القرآن، وسمع الحديث الكثير، وكانت وفاته في ربيع الآخر وقد قارب تسعين سنة، صُلِّي عليه بجامع القَصْر، وحضره أربابُ الدَّولة، ودُفِنَ عند جامع المنصور، وكان من الأبدال، وأنشد لمحمد الفارقي الواعظ: [من المتقارب] تحمَّلْ أخاكَ على خُلْقِهِ ... فما في استقامته مَطْمَعُ وأنَّى له خُلُقٌ واحدٌ ... وفيه طبائعُهُ الأَرْبَعُ عمر بن محمد (¬2) أبو حفص الدَّارَقَزِّي، يعرف بابن طَبَرْزد. ولد في ذي الحِجَّة سنة خمس عشرة وخمس مئة (¬3)، وسمع الحديث الكثير، وكان ماجنًا خليعًا، وسافر مع حنبل إلى الشَّام، وحَصَلَ له مالٌ بسبب الحديث، وعاد إلى بغداد، فاستعمل الكاغَد والعَتَّابي، فمرض، وأقام مريضًا مُدَّة، وتوفي، ودفن بباب حَرْب، ولم يكن له وارثٌ، فرجع المال إلى بيت المال. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 295، و"التكملة" للمنذري: 2/ 201 - 202، و"المذيل على الروضتين": 1/ 211 - 212، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 502 - 505، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬2) له ترجمة في "الكامل": 12/ 295، و"التكملة" للمنذري: 2/ 207 - 208، و"المذيل على الروضتين": 1/ 213 - 212، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 507 - 512، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ولد على الصحيح في ذي الحجة سنة ست عشرة وخمس مئة.

قثم بن طلحة

قيل له بدمشق: لم تغرَّبْتَ؟ فأنشد أبيات ابنِ ماكولا: [من البسيط] قوِّضْ خيامك عن دارٍ تُهانُ بها ... وجانبِ الذُّل إنَّ الذلَّ مُجْتَنَبُ وارحلْ إذا كانتِ الأوطانُ مضيعةً ... فالمَنْدَلُ الرَّطْبُ في أوطانه حَطَبُ قُثَم بن طلحة (¬1) أبو القاسم، العَبَّاسي، نقيب الهاشميين. تولى بيتَ النقابة يتوارثونها صاغرًا عن كابر، وصنَّف الكُتُبَ في فنون، وتوفي في رجب، وسمع ابنَ البَطِّي وغيره، وأنشد: [من المنسرح] لا غَرْوَ من جَزَعي لبَينِهِمُ ... يوم النَّوى وأنا أخو الفَهْمِ فالقوسُ مِنْ خَشَبٍ تئنُّ إذا ... ما كلَّفوها فُرْقة السَّهْمِ قيصر بن كُمُشْتِكِين (¬2) حاجب الخليفة. كان شيخًا، مليحَ الصُّورة، متواضعًا، مهيبًا، فاضلًا، ولد سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة، ومات في صفر، ودُفِنَ بمشهد موسى بن جعفر، وكان ثقة. أنشد لغيره: [من الطويل] أَزِيدُ إذا أَيسَرْتُ فَضْلَ تواضعٍ ... وَيزْهُو إذا أَعْسَرْتُ بعضي على بعضي فذلك عند اليُسْرِ أَكْسَبُ للثَّنا ... وذلك عند العُسْرِ أصونُ للعِرْضِ أرى الغُصْنَ يَعْرَى وهو يسمو بنفسه ... ويَثْقُلُ حِمْلًا وَهْوَ يدنو من الأرضِ محمد بن أحمد (¬3) ابن محمد بن قُدَامة، أبو عمر، شيخ الصَّالحية والمقادسة، الزَّاهد العابد. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "معجم الأدباء": 17/ 11 - 12، و"التكملة" للمنذري: 2/ 206 - 207، و"تاريخ الإسلام" للذهبي: (وفيات سنة 607 هـ)، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 161، و"الوافي بالوفيات": 24/ 201. (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 204. (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 202 - 203، و"المذيل على الروضتين": 1/ 213 - 223، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 5 - 9، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

ولد سنة ثمانٍ وعشرين وخمس مئة بقرية جَمَّاعيل، وقيل: بقرية من أعمال بيت المقدس ونابُلُس، وكان معتدلَ القامة، حَسَنَ الوَجْه، عليه أنوارُ العبادة، لا يزال مُبْتَسِمًا، نحيلَ الجسم من كَثْرة الصِّيام والقيام، وهاجَرَ مع والده [الشيخ أحمد، فحدثني أبو عمر، ] (¬1) قال: هاجَرْنا من بلادنا، فنزلنا مسجد أبي صالح بباب شَرْقي، فأقمنا به مُدَّة، ثم انتقلنا إلى الجبل، فقال النَّاس: الصَّالحية الصَّالحية، نسبونا إلى مسجد أبي صالح، لا أننا صالحون، ولم يكن بالجبل عِمارة إلا ديرُ الحوراني، وأماكنُ يسيرة. ذِكْرُ اشتغاله وزُهْده وعبادته: قرأ القرآن بحرف أبي عمرو، وحفظ الخِرَقي، وقرأ النَّحْو على ابنِ بَرِّي، وسمع الحديث بدمشق ومِصْر، واشتغل بالعبادة عن الرِّواية، وكتب "الحِلْية" لأبي نُعَيم و"تفسير البغوي" و"المغني" لأخيه شيخنا موفق الدِّين رحمه الله، و"الإبانة" لابن بَطَّة، ومصاحفَ كثيرة للنَّاس ولأهله، وكُتُبًا كثيرة، والكل بغير أجرة. وكان يصومُ الدَّهر إلا من عُذْر، ويقوم الليل من صِغَره، وما كان يفطر إلا في يوم عيد، ويحافظ على الصَّلوات الخمس في الجماعات، ويخرج من ثُلُث الليل الأخير إلى المسجد في الظُّلْمة، فيصلِّي إلى الفجر، ويقرأ في كل يوم سُبُعًا من القرآن بين الظُّهْر والعَصْر، ويقرأ بعد العشاء الآخرة آيات الحرس وياسين والواقعة وتبارك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوِّذتين، وإذا ارتفعت الشمس لقَّن النَّاسَ إلى وقت الضُّحى، ثم يقوم فيصلي الضُّحى ثماني ركعات، ويقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ألف مرة، ويزور المقابر بعد العَصْر في كلِّ جُمُعة، ويَصْعَدُ يوم الاثنين والخميس إلى مغارة الدَّم ماشيًا بالقَبْقاب، فيصلِّي فيها ما بين الظُّهْر والعصر، وإذا نزل جمع الشِّيح من الجبل، وربطه بحَبْلٍ، وحمله إلى بيوت الأرامل واليتامى، ويحمل في الليل إليهم الدَّراهم والدَّقيق ولا يعرفونه، ولا ينام إلا على طهارة، ومتى فُتِحَ له بشيءٍ من الدُّنيا آثر به أقاربه وغيرهم، ويتصدَّق بثيابه، وربما خَرَجَ الشِّتاء وعلى جسده جُبَّة بغير ثوب، ويبقى مُدَّة طويلة بغير سراويل، وعِمامتُه قِطْعةٌ من بطانة، فإنِ احتاجَ أحدٌ إلى خِرْقة أو ماتَ صغيرٌ يحتاج إلى كَفَنٍ، قَطَعَ له منها قِطْعة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وكان ينام على الحصير، ويأكل خُبْزَ الشَّعير، وثوبه خام إلى أنصافِ ساقيه، وما نَهَرَ أحدًا، ولا أَوْجَعَ قَلْبَ أحد، وكان يقول: أنا زاهدٌ، ولكن في الحرام. ولما نزل صلاحُ الدِّين -رحمه الله- على القُدْس كان هو وأخوه الشيخ الموفق والجماعة في خيمة، فجاء العادلُ إلى زيارته وهو في الصَّلاة، فما قَطَعها، ولا التفتَ، ولا ترك ورْدَه. وكان يصعد المِنْبر في الجبل، وعليه ثوبُ خام مهدول الجيب، وفي يده عصا، والمِنْبر ثلاث مراقي، وكان يجاهد في سبيل الله، ويحضر الغزوات مع صلاحِ الدين. وكان الشيخ الموفق -رحمه الله- يقول: أخي شيخنا ربَّانا وأحسنَ إلينا، وعلَّمنا، وحَرِصَ علينا، وكان للجماعة كالوالد، يقوم بمصالحهم، ومَنْ غاب منهم خَلَفَه في أهله. قال: وكان أبي أحمدُ قد تخلَّى عن أمور الدُّنيا وهمومها، وكان المرجعُ في مصالح الأهل إليه، وهو الذي هاجر بنا، وسفَّرنا إلى بغداد، وبنى الدَّير، وكفانا همومَ الدُّنيا، وكان يُؤْثِرُنا ويَدَعُ أهله محتاجين، وبنى المدرسة والمَصْنَع بعلو هِمَّته، وكان مجابَ الدَّعْوة، وما كَتَبَ لأحدٍ ورقة للحُمَّى إلا وشفاه الله تعالى. [(¬1) ذِكْرُ نبذة من كلامه وكراماته: وكانت كراماته كثيرة، وفضائله غزيرة، فمنها ما شاهدته، ومنها ما أُخبرت به. فأما الذي شاهدته، فإني] صليت يوم الجمعة بجامع الجبل في أول سنة ستٍّ وست مئة، والشيخ عبد الله اليونيني إلى جانبي، فلما كان في آخر الخُطْبة وأبو عمر يخطب، نهضَ الشيخ عبد الله اليونيني مُسْرعًا، وصَعِدَ إلى مغارة توبة، وكان نازلًا بها، فظننت أَنَّه قد احتاج إلى الوضوء، أو آلمه شيء، فلما صلينا الجمعة صَعِدْتُ وراءه، وقلت: خير، ما الذي أصابك؟ فقال: هذا أبو عمر ما تَحِلُّ خلفه صلاة. قلت: ولمَ؟ قال: لأَنَّه يقول على المِنْبر ما لا يَصْلُح. قلتُ: وما الذي قال: قال: قال: الملك العادل، وهو ظالمٌ، فما يَصْدُق. وكان أبو عمر يقول في آخر الخُطْبة: اللهم وأَصْلِحْ عَبْدَك الملك العادل سيفَ الدِّين أبا بكر بن أيوب. فقلتُ له: إذا كانتِ الصلاةُ خلف أبي عمر لا تصح، فيا ليت شِعْري خَلْفَ مَنْ تصحّ! [وخطر لي قول عبد الرحمن ¬

_ (¬1) في (ح): وقال المصنف رحمه الله: صلّيت يوم الجمعة. . .، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

ابن عوف لما رأى عمر بن الخطاب ليلة يمشي في أزقة المدينة، فأتى إلى بيت عجوز، فدخله، فقلت: لا أنصرف حتى انظر ماذا يصنع. فتواريت، وإذا به قد خرج من عندها، فدخلت بعده، وقلت: ما كان يصنع عندك؟ فقالت: يحمل إليَّ ما آكل، ويخرج عني الأذى. قال عبد الرحمن: فقلت في نفسي، ويحك يا عبد الرحمن، أعثرات عمر تتبع؟ ] (¬1) وبينا نحن في الحديث إذا بالشيخ أبي عمر [(¬2) وقد صَعِدَ إلى مغارة توبة، فدخل، ومعه مئزر، فَسَلَّم، وحَلَّ المئزر، وفيه رغيفٌ وخيارتان، فكسر الجميع، وقال: بسم الله، الصَّلاة، ثم قال: ابتداءً قد جاء في الحديث أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولدتُ في زمن الملك العادِل كِسْرى" (¬3)، فنظر إليَّ الشيخ عبد الله وتبسَّم، ومدَّ يده فأكل، وقام أبو عمر، ونزل، فقال لي الشيخ عبد الله: يا سَيِّد، ماذا إلا رجلٌ صالح. قال المصنف رحمه الله: وأصابني قُولَنْج، وعانيت منه شِدَّة، فدخَلَ عليَّ أبو عمر وبيده خَرُّوب شامي مدقوق، فقال: استفَّ هذا. وكان عندي جماعةٌ، فقالوا: هذا يزيد القولنج ويضرّه! فما التفتُّ إلى قولهم، وأخذتُه من يده، فأكَلْتُه، فبرأت في الحال، ومن هذا شيءٌ كثير. [(¬4) وأما ما أُخبرت به، فحكى] الجمال البُصْراوي، قال: أصابني قُولَنْج في رمضان، فاجتهدوا بي أَنْ أُفطر، فلم أفعل، وصَعِدْتُ إلى قاسيون، فقعدت موضعَ الجامع اليوم، وإذا بالشيخ أبو عمر قد أقبل من الجبل، وبيده حشيشةٌ، فقال: شُمَّ هذه تنفَعْك. فأخذتُها وشممتها، فبرأت. وجاءه رجلٌ مغربي، فقرأ عليه القرآن، ثم غاب عنه مُدَّة وعاد، فلازمه، فَسُئِلَ عن ذلك، فقال: دخلتُ ديار بكر، فأقمتُ عند شيخٍ له زاوية وتلامذة، فبينا هو ذاتَ يوم جالسٌ بكى بكاءً شديدًا، وأُغمي عليه، ثم أفاق وقال: ماتَ القُطْب السَّاعة، وقد أقيم ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): إذا بالشيخ أبي عمر قد دخل، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) لا أصل له، انظر حاشيتنا رقم 1 ص 217 من الجزء الأول من "المذيل على الروضتين"، وتعقيب أبي شامة على هذ الخبر. (¬4) في (ح): وقال الجمال. . .، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الشيخ أبو عمر شيخ الصَّالحية مقامه، قال: فقلتُ له: ذاك شيخي، فقال: فأيش قعودك ها هنا، قُمْ فاذهبْ إليه، وسَلِّمْ عليه عني، وقُلْ له: لو أمكنني السَّعي إليه لسعيتُ. ثم زوَّدَني وسافرتُ. قال المصنف رحمه الله: قلتُ له يومًا أوَّلَ ما قَدِمْتُ الشَّام، وما كان يَرُدُّ أحدًا في شفاعةٍ إلى مَنْ كان، وقد كَتَبَ ورقةً إلى الملك المُعَظَّم عيسى بن العادل، وقال فيها: إلى الولد الملك المُعَظَّم، فقلتُ له: كيف تكتب هذا والملك المعظم على الحقيقة هو الله تعالى! فتَبَّسم ورمى إليَّ الورقة، وقال: تأَمَّلها. وإذا به لما كَتَبَ المعظم كسر الظَّاء، فصار المعظِّم، وقال: لا بُدَّ أن يكون يومًا عَظَّم الله تعالى. فتعجَّبْتُ من ورعه وتحفُظه في منطقه عن مِثْلِ هذا. وقال يومًا للمبارز المعتمد: قد أكثرتُ عليك من الرِّقاع والشَّفاعات. فقال له: ربما تكتب إليَّ في حَقِّ أُناسٍ لا يستحقون الشَّفاعة، وأكره رَدَّ شفاعتك، فقال له الشيخ: أنا أقضي حَقَّ مَنْ قصدني، وأنت إن شئت أن تقبل، وإنْ شئت ألا تقبل، فقال: ما أَرُدُّ ورقتك أبدًا. وكان على مذهب السَّلف الصَّالح، حسنَ العقيدة، متمسِّكًا بالكتاب والسُّنَّة، والآثار المَرْويَّة، ويُمِرُّها كما جاءت من غير طَعْنٍ على أئمة الدِّين وعلماء المُسْلمين، وينهى عن صُحْبة المبتدعين، ويأمر بصحبة الصَّالحين. ذِكْرُ وفاته: قال المصنِّف رحمه الله: كان سببُها أَنَّه حَضَرَ مجلسي بقاسيون في الجامع، وأخوه شيخنا الموفَّق -رحمه الله- حاضر، والعمادُ والجماعة، وكان قاعدًا في الباب الكبير، وجرى الكلامُ في رؤية الله تعالى ومشاهدته، واستغرقتُ في ذلك، وكان وقتًا عجيبًا وأبو عمر جالسٌ إلى جانب أخيه الموفق، فقام، وطَلَبَ باب الجامع [ولم أره، فالتفتُّ، وإذا بين يديه شخص يريد الخروج من الجامع، ] (¬1) فصحتُ على الرَّجل: اقعد. فَظَنَّ أبو عمر أنني أُخاطبه، فجلس على عَتَبة بابِ الجامع الجوَّانية إلى أن فَرَغَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

المجلس، ثم حُمِلَ إلى الدَّير، فكان آخرَ العَهْدِ به، وأقام أيامًا مريضًا، ولم يترك شيئًا من أوراده، فلما أن كان عشية الاثنين ثامن عشرين ربيع الأول جمع أهله، واستقبل الِقبْلة، ووصَّاهم بتقوى الله ومراقبته، وأمرهم بقراءة "يس" وكان آخرَ كلامه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وتوفي رحمه الله، وغُسل في وقت السَّحَر، [ومَنْ وصل إلى الماء الذي غُسِّل به نَشَّف به النِّساء مقانعهن، والرجال عمائمهم، ] (¬1) ولم يتخلَّف عن جِنازته أحدٌ من القُضَاة والأمراء والعُلماء والأَعْيان وعامة الخَلْق، وكان يومًا مشهودًا، ولما خرجوا بجنازته من الدَّير كان يومًا شديدَ الحَرِّ، فأقبلت غمامةٌ، فأظلَّتِ النَّاسَ إلى قبره، وكان يُسمع منها دويٌّ كدويِّ النَّحْل، ولولا المبارز المعتمد وابن محارب وشِبْل الدولة الحُسَامي ما وصل إلى قبره مِنْ كفنه شيءٌ، فإنما أحاطوا به بالسُّيوف والدَّبابيس. وكان قبل وفاته بليلةٍ رأى إنسان كانَ قاسيون قد وَقَعَ أو زال من مكانه، فأوَّلوه موته، ولما دُفِنَ رأى بعضُ الصَّالحين في منامه تلك الليلة النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: مَنْ زار أبا عمر الليلة -وهي ليلة الجمعة- فكأنَّما زارَ الكعبة، فاخلعوا نعالكم قبل أَن تصلوا إليه. [ورئيت مناماتٌ كثيرة] (2)، ومات عن ثمانين سنة، ولم يخلَّف دِينارًا ولا دِرْهمًا، ولا قليلًا ولا كثيرًا. سمع بدمشق أبا المكارم عبد الواحد بن محمد بن مُسَلَّم بن هلال الأَزْدي، وأبا تميم سلمان بن علي الرَّحْبي، وأبا الفَهْم عبد الرَّحمن بن عبد العزيز الأَزْدِي وغيرهم [وبمصر] (¬2) أبا محمد عبد الله بن بَرِّي بن عبد الجبار اللُّغوي المَقْدِسي، وأبا طاهر إسماعيل بن قاسم الزَّيَّات وغيرهما. وروى لنا الحديث، وعَلَّمني دُعاء السَّنَة، فقال: ما زال مشايخنا يواظبون على هذا الدُّعاء في أوَّل كلِّ سنة وآخرها، وما فاتني طول عمري، وأما أوَّل السنة فإنَّك تقول: اللهم أنتَ الأبدي القديم، وهذه سَنَةٌ جديدة، أسألك فيها العصمة من الشيطان وأوليائه، والعَوْنَ على هذه النَّفْس الأمَّارة بالسُّوء، والاشتغال بما يقرِّبُني إليك يا ذا الجلال والإكرام، فإنَّ الشيطان يقول: قد آيسنا مِنْ نفسه فيما بقي، ويوكل الله به ملكين يحرسانه. ¬

_ (¬1) في (ح): ونشف النساء والرجال الماء الذي غسل به العمائم والمقانع. . .، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وأما دعاءُ آخر السنة، فإنَّه يقول في آخر يوم من أيام السَّنة: اللهم ما عَمِلْتُ في هذه السنة مما نهيتني عنه، ولم تَرْضَه ولم تنسه، وحَلُمْتَ عني بعد قُدْرتك على عقوبتي، ودعوتني إلى التَّوبة من بعد جرأتي على معصيتك، فإني أستغفرك منه، فاغفرْ لي، وما عملت فيها مما ترضاه، ووعدتني عليه الثَّواب، فأسألك أن تتقبَّلَه مني، ولا تقطع رجائي منك يا كريم. فإنَّ الشيطان يقول: تعبنا معه طول السنة، فأفسد فِعْلَنَا في ساعة. وأنشدني [أبو عمر] (¬1) لنفسه: [من الطويل] ألم يكُ مَنْهاةً عن الزَّهْو أنني ... بدا لي شَيْبُ الرَّأْسِ والضَّعْفُ والألمْ ألمَّ بيَ الخَطْبُ الذي لو بَكَيتُهُ ... حياتيَ حتَّى ينفَدَ الدَّمْعُ لم أُلَمْ وأنشدني لنفسه: [من الرجز] أوصيكُمُ بالقَوْلِ في القُرْآنِ ... بقيلِ أَهْلِ الحَقِّ والإتْقانِ ليس بمخلوقٍ ولا بفانِ ... لكنْ (¬2) كلامُ المَلِكِ الدَّيَّانِ آياتُهُ مُشْرقةُ المعاني ... متلوَّةٌ لله باللِّسانِ محفوظة في الصَّدْرِ والجَنَانِ ... مكتوبةٌ في الصُّحْفِ بالبَنانِ والقولُ في الصِّفاتِ يا إخواني ... كالذَّاتِ والعِلْم مع البيانِ إمرارها من غيرِ ما كُفْران ... من غيرِ تشبيهٍ ولا عُدْوان وأنشدني لغيره: [مجزوء الكامل] لي حيلةٌ فيمن ينمُّ ... وليس في الكذَّاب حِيلَهْ مَنْ كان يَخْلُقُ ما يقو ... لُ فحِيلَتي فيه قليلَهْ ورثاه [جماعةٌ، منهم] (1) شمسُ الدِّين محمد بن سَعْد، فقال: [من البسيط] يا عاذليَّ أَفيقا مِنْ ملامِكُما ... وعلِّلاني فإني اليومَ سكرانُ أَبَعْدَ أَنْ فَقَدَتْ عيني أبا عُمَرٍ ... يضُمُّني في بقايا العُمْرِ عُمْرانُ ما للمساجِدِ منه اليوم مُقْفِرَةً ... كأنَّها بعد ذاكَ الجَمْعِ قِيعانُ ما للمحاريبِ بعد الأُنْس مُوْحِشَةً ... كأنَّ لم يُتْلَ فيها الدَّهْرَ قُرْآنُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): إلا، والمثبت من "المذيل على الروضتين": 1/ 221، بتحقيقي. وأبو شامة ينقل عن "المرآة".

واللهِ واللهِ أَيمانٌ مؤكَّدةٌ ... وحُقَّ أَنْ تتوالى فيك أَيمانُ لو كان صَرْفُ الرَّدى بالمالِ مُفْتدَيًا ... أُعطي فِداك كما أعطى سليمانُ تبكي عليك عيونُ النَّاسِ قاطبةً ... إذْ كانَ في كلِّ عينٍ منك إنسانُ وكان في كلِّ قلبٍ منك نورُ هدى ... فصارَ في كلِّ قلبٍ منك نيران وكلُّ حيٍّ رأينا فَهْوَ ذو أسفٍ ... وكلُّ مَيتٍ رآه فَهْوَ فَرْحانُ والناس في حلباتِ السَّبق أنفسهم ... هي النجائب والأحوال ميدان لا زال يَسْقي ضريحًا أنت ساكِنُهُ ... سحائِبٌ غَيثُها عَفْوٌ وغُفْرانُ كم مَيِّتٍ ذِكْرُهُ حيٌّ ومتَّصِفٍ ... بالحيِّ مَيت له الأثوابُ أكفانُ وأنشدني أيضًا على لسان ولده عبد الرحمن -وكان إذ ذاك صغير السن، لأنَّ مولده سنة سبع وتسعين- من أبيات: [من البسيط] لا تعجبوا مِنْ تباريحي ومِنْ فِكَرِي ... هدَّ الأكابرَ ما لاقيتُ في صِغَرِي لم يُبْقِ فيَّ الأسى والسُّقْمُ جارحةً ... فكيف أُشْفِقُ مِنْ دَمْعي على بَصَرِي لو حلَّ بالأرضِ ما قد حَلَّ بي خُسِفَتْ ... والشَّمْسُ ما طَلَعَتْ والبَدْرُ لم يُنِرِ فقدتُ روحي وراحاتي بفِقْداني ... أبي المكارمِ والتَّقْوى أبي عمر والله لو زِيدَ في عُمْرٍ بموهبةٍ ... يومًا وهبتُ له يا سادتي عُمُري وكنتُ أفديه من سُوءٍ أَلَمَّ به ... بما قدرتُ ولو بالسَّمْعِ والبَصَرِ لكنَّه القَدَرُ المحتومُ ليس له ... من دافعٍ مِنْ جميعِ البَدْو والحَضَرِ ذِكْرُ أولاده: كان له [عِدَّة] (¬1) أولاد، منهم عمر، وأمه فاطمة بنت عبد الرَّحمن [عمة الضِّياء محمد] (1)، وكانت أسنَّ من أبي عمر، وتوفيت قبله بيسير، وكان له منها أولاد أُخر. وعبد الله، ويلقب بالشَّرف، وهو الذي قام بعده، وأمه [فاطمة] (1)، بنت أبي المجد، دمشقية، توفيت في حياته. وأحمد، أُمُّه آمنة بنت أبي موسى، توفيت بالبيت المقدس، وهو شابّ. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

النظام الطغرائي

وعبد الرَّحمن، ولقبه شمس الدين، وهو الخطيب بعد أخيه عبد الله، وهو شقيق أحمد [لأمه وأبيه] (¬1)، وكان لأبي عمر بنات كما قال الله تعالى: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5]. النِّظام الطُّغْرائي وزير الظَّاهر صاحب حلب، واسمه حمد بن الحسين. كان أديبًا كاتبًا مترسِّلًا، أقام في خِدْمة الظَّاهر عشرين سنة، وتوفي في صفر، وصلَّى عليه الظَّاهر تحت القلعة، وحُمِلَ إلى داره، فدفن بها إلى سنة تسع عشرة وست مئة، فأُخرج تابوته منها، ودُفِنَ في المقام عند تُرْبة مجد الدِّين ابن الدَّاية، وبيعت داره في الدَّين. مظفر بن شاشير (¬2) [الواعظ] (1)، الصُّوفي، البغدادي. ولد سنة ثلاثٍ وعشرين وخمس مئة [(¬3) وكان يعظ في الأعزية، وترب الرصافة، والمساجد، والقُرى، وكان مطبوعًا كيِّسًا ظريفًا، وكان يسكن دار العميد عند الصوفية، فتوفي في المحرم، ودفن عند معروف الكرخي. سمع أبا الوقت وغيره، جلس يومًا في مسجد القرية، فقام إليه إنسان، فقال: أنا مريض وجائع، فقال له: أحمد ربك، فقد عوفيت]. واجتاز يومًا بقصاب يبيع لحمًا هزيلًا، وهو ينادي: أين مَنْ حلف لا يُغْبَن؟ فقال له: حتى تُحْنِثَه! [وقال: خرجت يومًا إلى بَعْقُوبا، فتكلمت بها في الليل في جامعها، فقال واحد: عندي نصفية، وقال آخر: وعندي نصفية، فعدُّوا نحوًا من خمسين نصفية، قال: فقلت في نفسي، استغنيت الليلة. فلما أصبحنا، وإذا في زاوية المسجد مقدار كارة شعير، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري 2/ 208، و"المذيل على الروضتين": 1/ 227 - 228، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): وكان مطبوعًا، يقص في الأعزية. . .، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الوجيه بن البوني المغربي

فقلت: ما هذا؟ قالوا: النصافي، كل كيل نصفية. فقلت: ما جمع الله عليكم غير نصافيكم. وقد أنكرت أن تكون النصافي التي تحمل إليَّ إلا كرى] (¬1). وقال: جلست بباجِسْرى، فجمعوا لي شيئًا ما أعلم ما هو، فلما أصبحنا إذا في جانب المسجد صوفُ الجاموس وقرونه، فقام واحدٌ ينادي عليه ويقول: مَنْ يشتري صوفَ الشَّيخ وقرونه؟ فقلت: رُدُّوا صوفكم وقرونكم إليكم، ما لي بها حاجة. [قال: وذكر يومًا إذا مات العبد وهو سكران حُشِرَ وهو سكران، فقام واحد، فقال: يا مولانا، أين هذا الخمر؟ يساوي كل قدح منه دينار. قال: وسمعته ليلة ينشد بقرية الرَّصافة في بعض المواسم وذكر فصلًا في الربح، ويقال: إن الأبيات لابن النيل الشاعر، وهي هذه] (1): [من البسيط] عرائسُ الأرضِ تُجْلَى في غلائلها ... وفي حُلِيٍّ عليها صاغه الدِّيَمُ يسير في حُلَلِ الأنوار مُذْهبة ... في كل ناحية من نَسْجِها عَلَمُ دُرٌّ من الأقْحوانِ الغَضِّ زينته ... حُمْرُ اليواقيتِ في المنثور يَنْتَظِمُ كأنَّما بالسَّماء الأرضُ شامتةٌ ... تبكي السماء وثَغْرُ الأرضِ مُبْتَسِمُ توفي مُظَفَّر في المحرَّم، ودُفِنَ عند قبر معروف الكَرْخي. الوجيه بن البُوني المَغْربي (¬2) إمام مقصورة الحنفية الغربية بجامع دمشق. كان صالحًا دَيِّنًا، فقيرًا، قارئًا للقرآن بالسَّبْع، وأنشد: [من الطويل] ومِنْ عادةِ السَّادات أَنْ يتفقَّدوا ... أصاغرَهُمْ والمكْرُماتُ مصايدُ سليمانُ ذو مُلْكٍ تفقَّدَ هُدْهُدًا ... وإنَّ أَقَلَّ الطائراتِ الهداهِدُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) هو إبراهيم بن يوسف بن محمّد، وقد أخطأ سبط ابن الجوزي في ذكره في وفيات هذه السنة، والصحيح في وفاته أنها كانت سنة (612 هـ) كما ذكرت مصادر ترجمته: "التكملة" للمنذري: 2/ 350، و"المذيل على الروضتين": 1/ 260 - وهو شيخ أبي شامة- و"الوافي بالوفيات": 6/ 173، و"الجواهر المضية": 1/ 118، و"توضيح المشتبه": 1/ 654 - 655.

يحيى بن أبي الفتح

[فصل: وفيها توفي يحيى بن أبي الفَتْح (¬1) ابن الطبَّاخ، الحرَّاني الضَّرير. شيخنا، قدم بغداد، وأقام بها مدة يتفقه على مذهب أحمد بن حنبل، وسمع الحديث، وقرأ النحو على أبي البقاء العكبري وغيره، وعاد إلى حران، فأقام بها إلى أن توفي، وكان قد ابتلي في آخر عمره، فوقعت الأكلة في فِيه. سمع شُهْدة، وعبد الحق بن يوسف، وابن الخشَّاب وغيرهم، وكان صالحًا، فقيرًا، صبورًا على قضاء الله تعالى، ديِّنًا، اجتزت بحران سنة ثلاث وست مئة، فسمعت عليه الحديث] (¬2). السنة الثامنة وست مئة فيها عاد نجاح الشَّرابي والقُمِّي من ششتر إلى بغداد، وبين أيديهما سنجر مملوك الخليفة الذي عصى عليه، راكبًا على بغل ببرذعة، وفي رِجْله سِلْسِلَةٌ، وحُبِسَ، وجَمَع القُمي القضاةَ والفقهاءَ والأعيان، وأخرج كتبه إلى المخالفين للدَّوْلة وإلى نوابه يقول: من لقيتم من عسكر الخليفة [فاقتلوه] (2) -وقرأها على الجماعة- فأفتَوْا بإراقة دمه، وأيس سنجر [والنَّاس] (2) مِنْ نفسه، فقال القُمِّي: فإنَّ أمير المؤمنين قد عفا عن ذنبه، وصفح عن جُرْمه، فأفاضَ الخِلَعَ عليه، وجمع بينه وبين أهله في [الصَّاغة في] (2) دار طاشْتِكِين بدار الخليفة. وفيها قَدِمَ رسولُ جلال الدين حسن صاحب ألموت يخبر بأَنَّهم قد تبرؤوا من الباطنية، وبنوا الجوامع والمساجد، وأقيمت الجمعة والجماعات عندهم، وصاموا رمضان، فَسُرَّ الخليفةُ والنَّاسُ بذلك، وقدمت خاتون أم جلال الدين حاجَّة، فاحتفل لها الخليفة. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 213 - 214، و"تاريخ الإسلام" للذهبي: (وفيات سنة 607 هـ)، و"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 62، و"شذرات الذهب": 5/ 31. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وفيها بعث الخليفة خاتمه إلى وجه السَّبع إلى الشَّام، وبعث معه العادل رسولًا، فأكرمه الخليفة، وولى وجه السبع الكوفة إقطاعًا. وفي شعبان قدم أيدغمش من هَمَذَان إلى بغداد، وكان منكلي مملوك أزبك قد طرده من هَمَذَان، فاحتفل له الخليفة، وأخرج جميع أرباب الدولة للقائه، وأقام له الضِّيافات العظيمة. وفيها أمر الخليفة أن يُقرأ "مسند أحمد بن حنبل" -رحمة الله عليه- بمشهد موسى بن جعفر بحضرة صفيِّ الدِّين محمد بن مَعَدّ الموسوي بالإجازة عن الخليفة، وأول ما قُرئ منه مسند أبي بكر الصِّدِّيق -رضوان الله عليه- وحديث فَدَك، وما جرى فيها. وفيها قُبِضَ على أبي جعفر محمد بن النَّاعم؛ حاجب الباب، وظَهَرَ أَنَّه خان في الأموال، فاستؤصل، وضُرِبَ بالخشب إلى أن مات تحت الضَّرب، ورمي بدِجْلة، وكان شيخًا جَبَّارًا ظالمًا، جبَّاهًا بالقبيح. وحج بالنَّاس من العراق علاءُ الدين محمد بنُ ياقوت نيابةً عن أبيه، ومعه ابنُ أبي فراس يفقهه ويدئره، وفي الحج أُمُّ جلال الدين، وحَجَّ من الشَّام الصَّمصام أخو سياروخ على حَجِّ دمشق، ومن القدس الشُّجاع علي بن السَّلَّار أميرًا [على حج القدس] (¬1)، وكانت ربيعة خاتون بنت أيوب أخت صلاح الدين في الحج، فلما كان يوم النحر بمِنى بعدما رمى النَّاس الجمرة وَثَبَ الإسماعيلية على رجلٍ شريف من بني عم قتادة أشبه الناس به، وظنوه إياه، فقتلوه عند الجمرة، ويقال: إنَّ الذي قتله كان مع أُمِّ جلال الدين، وثار عبيد مكة والأشراف، وصَعِدُوا على الجبلين بمنى، وهلَّلوا، وكبَّروا، وضربوا النَّاس بالحجارة والمقاليع والنُّشَّاب، ونهبوا النَّاس يوم العيد والليلة واليوم الثاني، وقتل من الفريقين جماعة، فقال ابنُ أبي فراس لمحمد بن ياقوت: ارحلوا بنا إلى الزاهر منزلة الشَّاميين. فلما حصلت الأثقال على الجمال حَمَلَ قتادة أميرُ مكة والعبيد عليهم، فأخذوا الجميعَ إلا القليل، وقال قتادة: ما كان المقصود إلا أنا، والله لا أبقيتُ من حاجِّ العراق أحدًا، [وكانت ربيعة خاتون بالزَّاهر، ومعها ابن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

الحسن بن محمد بن الحسن

السلار، وأخو سياروخ، وحج الشام، ] (1) فجاء محمد بن ياقوت [أمير الحاج العراقي، ] (1) فدخل خيمة ربيعة خاتون مستجيرًا بها، ومعه خاتون أُمُّ جلال الدين، فبعثت ربيعة [خاتون] (1) ابن السَّلَّار إلى قتادة تقول: ما ذَنْبُ النَّاس، قد قتلت القاتل، وجعلتَ ذلك وسيلة إلى نَهْبِ المسلمين، واستحللت الدِّماءَ في الشهر الحرام في الحرم والمال، وقد عَرَفْتَ مَنْ نحن، ومَنْ أولاد أخي، والله لئن لم تنته لأفعلنَّ ولأفعلن. فجاء إليه ابنُ السَّلَّار وخوَّفه، وقال: ارجع عن هذا وإلا قَصَدَك الخليفةُ من العراق، ونحن من الشَّام. فكفَّ عنهم، وطلب مئة [ألف دينار، فجمعوا له ثلاثين ألفًا من أمير الحاج العراقي، ومن] (¬1) خاتون أُمِّ جلال الدين، وأقام النَّاس ثلاثة أيام حول خيمة ربيعة خاتون بين قتيلٍ وجريحٍ، ومسلوب وجائع وعُرْيان، وقال قتادة: ما فعل هذا إلا الخليفة، ولئن عاد قرَّب أحد من بغداد إلى ها هنا لأقتلن الجميع. ويقال: إنه أخذ من المال والمتاع وغيره ما قيمته ألفا ألف دينار، وأَذِنَ للنَّاس في الدخول إلى مكة، فدخل الأصحاء والأقوياء، فطافوا وأيّ طواف! ومعظمُ النَّاس ما دخل، ورحلوا إلى المدينة، ودخلوا بغداد على غايةٍ من الفقر والذُّلِّ والهَوَان، ولم ينتطح فيها عَنْزان. وفيها توفي الحسن بن محمد بن الحسن (¬2) أبو سَعْد، تاج الدين بن حَمْدُون، مصنف كتاب "التذكرة" (¬3). قرأ اللغة على ابن العَصَّار، وولي المارَسْتان العَضُدي، وأُغري بجَمْعِ الكُتُب والخطوط المَنْسُوبة، وتوفي بمدائن كِسْرى، وحُمِلَ إلى مقابر قريش، فدفن بها، وكان فاضلًا، بارعًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "معجم الأدباء": 9/ 184 - 189، و"الكامل": 12/ 299، و"التكملة" للمنذري: 2/ 220 - 221، و"المذيل على الروضتين": 1/ 231، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) كذا قال، وقد وهم في ذلك، والصحيح أن مصنف "التذكرة" هو والده محمد بن الحسن المتوفى سنة (562 هـ)، وقد حقق الكتاب الدكتور إحسان عباس، ونشرته دار صادر في بيروت سنة 1996 م.

شركس بن عبد الله الصلاحي

شركس بن عبد الله الصَّلاحي (¬1) ويقال [أياز شركس، ويقال: ] (¬2) أياز جهاركس؛ يعني أنه اشتُري بأربع مئة دينار. وكان من أُمراء صلاح الدين، شهد معه الغزوات كلها، كان منحرفًا عن الأفضل، وكان العادل قد أعطاه بانياس، وتبنين، وشقيف، وهُونين، وقلعة أبي الحسن، وتلك البلاد، فأقام بها، وكان يتردَّد إلى دمشق، فمرض، وتوفي في صفر، ودفن بقاسيون، وخلف ولدًا، فأقرَّه العادل على ما كان لأبيه، وقام بأمره الأمير صارم الدين خُطْلُبا التِّبْنيني أحسنَ قيام، وسدَّ تلك الثغور، وقوَّم الأمور على أحسن نظام، واشترى [صارم الدين] (2) الكَفْر بوادي بردى، ووقَفَها على تُرْبة فخر الدين شركس، وعَمر له قُبة عظيمة على الجادة، [وقابل إحسانه إليه بالحسنى وزيادة] (2) وأقام صارم الدين [بالحصون] (2) إلى سنة خمس عشرة، وانتزعت منه. عبد الواحد بن عبد الوهاب (¬3) ابن علي بن سُكَيْنة، ويلقب بالمعين. ولد سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، وسافر إلى الشَّام في أيام الأفضل، وبسط لسانه في الدَّوْلة، فأُرسل إليه من بغداد ابنُ التكريتي ليقتله، فوثَبَ عليه مرارًا بدمشق، فلم يقدر عليه، فكتب إلى الخليفة كتابًا يتنصَّل فيه مما قيل عنه، ويعتذر، ويسأله العفو، فعفا عنه، وكتب له كتابَ أمانٍ، فقَدِمَ بغداد، فولاه مشيخة الشيوخ، وأُعطيَ رباط المشرعة، ثم بعثه بعد ذلك في رسالة إلى جزيرة كيش، ومعه جماعةٌ من الصُّوفية، فغَرِقَ في البحر ومَنْ معه. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 237 - 238، و"المذيل على الروضتين": 1/ 231 - 232، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري 2/ 227 - 228، و"المذيل على الروضتين": 1/ 232، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

الشيخ عمر بن مسعود البزاز

سمع جدَّه لأُمِّه شيخ الشيوخ عبد الرَّحيم وغيره، وأنشد لجدِّه عبد الرَّحيم: [من الوافر] ولم أَخْضِبْ مشيبي وهو زَيْنٌ ... لإيثاري جهالاتِ التَّصابي ولكن كي يراني مَنْ أُعادي ... فأُرْهبُهُ بوَثْباتِ الشَّبابِ الشيخ عمر بن مسعود البزَّاز (¬1) صحب سيدنا الشيخ عبد القادر الجِيلي، وجماعةً من المشايخ، وبنى رباطًا عند جامع بلهيقا، وكان يتكلَّم في الحقيقة والطَّريقة كلامًا حسنًا، سمع سعيد ابن البَنَّاء وغيره. محمد بن النَّاعم كمال الدين (¬2) حاجب الباب. كان حسنَ الصُّورة، قبيحَ الفِعال، صادَرَ جماعةً، وماتوا تحت الضَّرْب، فلما قُبِضَ عليه ضُرِبَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، فلم يُقِرَّ بشيء، فمات تحت الضَّرب، فظهر له بعد ذلك أموالٌ عظيمة ودفائنُ كثيرة، ورُمِيَ به في دِجْلة كما كان يفعلُ بالنَّاس. محمد بن يونُس (¬3) الملقَّب بالعماد، الفقيه المَوْصلي. ولد سنة خمس وثلاثين وخمس مئة، وتفقَّه [على مذهب الشافعي] (¬4)، وانتهت إليه رياسة أصحاب الشَّافعي بالمَوْصل، وبُعث رسولًا إلى بغداد لما توفي نور الدين أتابك ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل" 12/ 299، و"التكملة" للمنذري 2/ 231 - 232، و"مشيخة النعال": 145 - 146، و"المختصر المحتاج إليه" 3/ 110، و"تاريخ الإسلام" للذهبي (وفيات سنة 608 هـ). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 236، و"المذيل على الروضتين": 1/ 233. (¬3) له ترجمة في "الكامل" لابن الأثير: 12/ 258، و"التكملة" للمنذري: 2/ 226 - 227، و"المذيل على الروضتين": 1/ 233، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 498، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬4) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

مطفر التماشكي البغدادي

رسلان شاه، وكان به وُسْواسٌ في الطَّهارة، يبعث كلَّ يومٍ غلامه إلى الجسر، فيقف وَسْط الشَّطِّ، ويملأُ الأباريق، فيتوضأ بها، وكان على ما قيل: يعامل الناس (¬1)، فالتقاه قضيبُ البان المولَّه يومًا، فقال له العماد: سلامٌ عليك يا أخي، كيف أنتَ يا أخي؟ فقال: أما أنا فبخير، بلى قد بلغني عنك أَنَّك تغسل أعضاءَك بأباريقِ ماءِ كلّ يوم، فلم لا تشطف اللُّقْمة التي تأكلها! ففهم العمادُ قوله، فرجع عن ذلك، وكانت وفاته في رجب بالمَوْصِل. مطفر التماشكي البغدادي (¬2) كان يقول "كان وكان"، [وهو أكثر أشعاره] (3)، ومن قوله في امرأةٍ عجوز: مع الكبر ما يقلع ضرس الصبي من ضرسها ... وكل ضرس فيها من الكبر مقلوع [وقد عزل ناظرها وقد غلقنا بابها ... وصار ذاك الراتب من جانبي مقطوع] (3) قولوا لها لا تسألي الطبيب عن مرض الكبر ... ذي علة ضاع فيها علاج بختيشوع وقال [في أخرى] (¬3): ذي زوجها ماشطها وكل من جاحفها ... قصده يرى النفس عنده في كفها ألوان إن شندرت فلوجهه نصيب قبل كفوفها ... ما صح ذاك النشادر إلا من الدخان وقال: لها على الخد كوكب يسوى السماء بنجومها ... أنفع لها من أبوها وهي تسميه خال ذا من خطاط الحاجب نقط فسمي خال ... ما كيف ألحقه بنسبها وهو من البغال السنة التاسعة وست مئة فيها خلع الخليفة على أَيدُغْمُش الفَرَجية والعِمامة، وخِلَعًا تقارب خِلَع السَّلْطنة، وأعطاه مالًا، وأمره أن يبرز خيامه ليسير إلى هَمَذَان، وأعطاه الكوسات والأعلام. ¬

_ (¬1) كأنه كان يتاجر بمال الناس، يوضح ذلك المعنى ما ورد ص 224، 271 من هذا الجزء. (¬2) لم أهتد إلى مظان ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

[وفيها صُرِف خالي أبو محمَّد يوسف من الحِسْبة والنظر في الوقف العام، وَرُدَّ ذلك إلى شرف الدين بن البخاري، فولى أبا البركات يوسف بن المبارك بن هبة الله الحِسْبة والوقف العام] (1). [وفيها كانت نوبة سامة الجِيلي] (1)، اجتمع العادل وأولاده: الكامل والفائز والمُعَظَّم بدمياط، وكان سامة بالقاهرة قد استوحش منهم، واتهموه بمكاتبه الظاهر صاحب حلب، [وحكى لي المعظم أنه] (1) وَجَدَ له كُتُبًا إليه وأجوبة، فخرج سامة من القاهرة كأنَّه يتصيَّد [واغتنم اجتماع الملوك بدمياط,] (1) وساق إلى الشَّام في مماليكه يطلب قِلاعه: كوكب وعجلون، وكان ذلك يوم الاثنين سَلْخ جُمادى الآخرة، فأرسل والي بِلْبِيس الحَمَامَ إلى دِمْياط يخبرهم بذلك، فقال العادل: مَنْ ساق خَلْفه فله أموالُه وقلاعه، فقال المعظم: أنا. وركب من دمياط يوم الثلاثاء غُرَّة رجب. قال المصنف رحمه الله: وكنتُ معه، فقال في: أنا أُريد أَنْ أسوق، فَسُقْ أنتَ مع قُماشي. ودفع لي بغلة، وساقَ ومعه نفرٌ يسير، وعلى يده حصان، فكان صباح يوم الجمعة بغَزَّة، [ساق مسيرة ثمانية أيام في ثلاثة أيام] (¬1)، فسبق سامة، وأما سامة فتقطَّع عنه مماليكه، وبقي وَحدَه، وبه نِقْرِسٌ، فجاء إلى بلد الدَّاروم، وكان المُعَظَّم قد مسك عليه من البحر إلى الزَّرْقاء، فرآه بعضُ الصَّيَّادين في برية الدَّاروم، فعرفه، فقال له: انزل، فقال: هذه ألفُ دينار وأوصلني إلى الشَّام. فأخذها الصَّيَّاد وجاء رفاقه، فعرفوه، فأخذوه على طريق الخليل - عليه السلام - ليحملوه إلى عجلون، فدخلوا به القُدْس يوم الأحد سادس رجب، جاء بعد المعظم بثلاثة أيام. [(¬2) فقال لي المعظم رحمه الله: ما كنتُ خائفًا إلا من غلمانه يصادفوني في الطَّريق، فيقتلوني، لو رماني إيدكين بسهم قتلني] , فملَّكه الله إيدكين والجميع. فأنزل سامة في صِهْيَوْن، وبعث إليه بثيابٍ وطعام، ولاطفه وراسله، وقال: أنتَ شيخٌ كبير، وبك نِقْرِس، وما يَصْلُح لك قلعة، سَلِّمْ إليَّ كوكب وعجلون، [وأنا] (1) أحلف لك ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): قال المصنف رحمه الله: قال لي المعظم رحمه الله: كنت خائفًا أن يصادفني في الطريق غلمانه فيقتلوني بسهم قتلني ... ، وما بين حاصرتين من (م) و (ش).

إبراهيم بن محمد بن أبي بكر

على مالك وملكك، وجميع أسبابك، وتعيش بيننا مثل الوالد. فامتنع، وشَتَمَ المعظَّم، [وذكر كلامًا قبيحًا,] (¬1) فلما أيس منه [المعظم] (1) بعث به إلى الكَرَك، فاعتقله، واستولى على قلاعه وأمواله وذخائره وخَيله، فكان قيمة ما أخذ منه ألف ألف دينار. وحجَّ بالنَّاس من العراق حسام الدين ابن أبي فراس نيابةً عن محمَّد بن ياقوت، وكان معه مال وخِلَعٌ لقتادة حتى سكت عنهم، ومن الشَّام شجاع الدين بن محارب على أَيلَة. [فصل: وفيها توفي إبراهيم بن محمَّد بن أبي بكر (¬2) أبو إسحاق، القَفْصي، المحدّث. سمع الكثير بدمشق وغيرها من مشايخنا، وكانت وفاته في ربيع الأول، ودفن عند المُنَيبع بمقابر الصُّوفية] (1). وفيها توفي أيوب بن أبي بكر بن أيوب (¬3) الملك الأوحد، نجم الدين صاحب خِلاط. [قد ذكرنا سفكه لدماء المقدَّمين من أهل خِلاط، فلم يطل عمره، و] (1) ابتلي بأمراضٍ مُزْمنة كان يتمنَّى الموت معها، وكان قد استزار أخاه الأشرف من حَرَّان، فأقام عنده أيامًا، واشتدَّ مرضه، فطلب الأشرف الرجوع لئلا يتخيَّل منه الأوحد، فقال له الأوحد: يا أخي كم تَلِجّ، والله إني مَيِّت، وأنتَ تأخذُ البلاد. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 247، و"المذيل على الروضتين": 1/ 238، و"توضيح المشتبه": 7/ 241، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 237 - 238، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي: (وفيات سنة 609 هـ)، و"الوافي بالوفيات": 10/ 36 - 38، وقد وهم من ذكر وفاته سنة (607 هـ) كابن واصل في "مفرّج الكروب": 3/ 208، والمقريزي في "السلوك": ج 1 / ق 1/ 205.

محمود بن عثمان بن مكارم

وكان الأوحد قد صاغ للأشرف طلعة من ذهب من خمس مئة دينار للسَّنْجق، وبقيت في الخزانة، [واشتغلوا بمرض الأوحد,] (¬1) فتوفي، ومَلَك الأشرف، وأول ركوبه في خلاط [بالسَّنْجَق كان] (1) بتلك الطلعة، وكانت وفاةُ الأوحد بملازكرد، فَدُفِنَ بها، وجاء الأشرف، فدخل خِلاط، فأحسنَ إلى أهلها، وخَلَعَ عليهم، وعَدَلَ فيهم، فأحبُّوه، وأطاعوه، وقدموا من البلاد، وسُرُّوا بموت الأوحد، فكانت مُدَّةُ ملكه خِلاط أقلَّ من خمس سنين، [لأنه ملكها في سنة أربع وست مئة] (1). محمود بن عثمان بن مكارم (¬2) أبو الثَّناء، النَّعَّال الحَنْبَلي، الشيخ الزَّاهد. ولد سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة ببغداد بالبَدْرية، وقرأ القرآن، وسَمِعَ الحديث، وكان آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، وكانت له رياضاتٌ ومجاهدات، وساح في بلاد الشَّام وغيرها، وبنى رباطًا بباب الأَزَج، يأوي إليه أهلُ العِلْم من المقادسة وغيرهم، وكان يُؤثرهم، وانتفعَ به خَلْقٌ كثير، [وقد رأيت هذا الرباط، وزرت الشيخ فيه] (1)، وكان شيخًا مهيبًا، لطيفًا [كيسًا، باشًّا، ] (1) مبتسمًا، يصوم الدَّهر، ويختم القرآن كلَّ يومٍ وليلة، ولا يأكل إلا من غَزْل عمته [(¬3) وكان يزور جدي، ويحبه ويحترمه. وحكى لنا أنه كان ببغداد رجل عواني يقال له شروين، وكان فاتكًا ذا شر، إذا رأى امرأة أو صبيًّا مستحسنًا في طريق تبعهما، فإذا صادف رجلًا من أولاد الناس لزمه، وقال: كانت هذه عندك. ومقصوده يأخذ منه شيئًا، ويقول: امشِ إلى الحبس، فيأخذ ما معه. قال محمود: وكنت إذ ذاك صبيًّا، وضيء الوجه، فسألني جماعة من الأخيار أن نمضي إلى زيارة معروف الكرخي، واشتروا مأكولًا، وعبرنا دجلة، وقد تبعنا شروين، ولم نعلم، فدخلنا بستانًا، وقعدنا نأكل، وإذا به قد هجم علينا، وقعد بيننا، فخاف الجماعة منه، ومد يده، فأخذ لقمة، فصحت عليه صيحة عظيمة، وقلت له: ويلك، قم فنحن ما يأكل معنا إلا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 240 - 241، و"المذيل على الروضتين": 1/ 239 - 245، و"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 63 - 64، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ح): ولا يأكل إلا من غزل عمته، وتوفي في صفر، ودفن برباطة، وما بين حاصرتين من (م) و (ش).

علي بن يحيى بن بركة القطان

مَنْ هو وليٌّ لله تعالى. قال: فتغيَّر لونه، ورمى باللقمة من يده، وولى منصرفًا، وما عاد إلى مثلها، وكانت وفاته في صفر، ودفن برباطه، رحمه الله. وكان له ولد صغير يعظ في الرباط، فلما كان في أربع وأربعين وست مئة قدمت بغداد، فجاء إلى عندي، وقد ساح، وحصل له فضل من فنون العلم، وسألته أن يعظ، فقال: إنه يعظ في الأحايين. فصل: وفيها توفي علي بن يحيى بن بركة القطان (¬1) أبو الحسن، ابن أُخت جدتي فاطمة، المدعوة ست الأعز، وكان يحيى يدعى بالأعز. سمع الحديث مع جدي على معظم شيوخه، مثل الأرموي وابن ناصر، وكانت له إجازة من قاضي المارَسْتان، وكانت وفاته في رمضان، ودفن بباب حرب، وسمعنا منه، وكان متكبرًا جدًّا، فكان جدي يقول: يا ليت شعري، من أين جاء بهذا التكبر، إنما يتميزوا بي، وأنا فما أنا متكبر! وكان يقال له المورق، وتوفي في هذه السنة]. السنة العاشرة وست مئة فيها ورد شمسُ الدِّين عبد المجيد بن التِّنَّبي (¬2) رسولًا من العادل إلى بغداد، وكان قد أحسن إلى العادل لما حوصر بدمشق، واقترضَ له أموال التُّجار، وضمنها، فرأى العادل له ذلك، وأحبه وقرَّبه، فحسده الصَّفي بن شُكْر، فأبعده عنه، وكان شمسُ الدِّين سيدَ الأجواد، [وسند الأمجاد، والأَوْلى عند ذكرِهِ طيّ ذِكْرِ حاتم طي] (¬3). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 258 - 259، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 148. (¬2) في (ح): عبد الحميد، وهو تحريف، والمثبت من ترجمته في "التكملة" للمنذري: 2/ 373، و"تكملة ابن الصابوني": ص 63، و"توضيح المشتبه": 2/ 66، والتنبي: نسبة إلى تِنَّب؛ قرية بقرب قِنِّسرين من حلب. (¬3) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن محمد بن عمر

وحجَّ بالنَّاس أبو فراس (¬1) نيابةً عن ابنِ ياقوت، ومن الشام الغرز صديق ابن تمرداش التُّرْكماني على أَيلة بحاج الكَرَك والقُدْس. وحجَّ الملك الظَّافر خضر بن صلاح الدين على تَيْماء، ومعه حج الشَّام ويعقوب الخياط المغاري، كان مقيمًا بخلوة الجوع بقاسيون، وكان صديق الظَّافر، [فلما وَصَلَ الظَّافر] (¬2) إلى بدر وجَدَ عسكر الكامل صاحب مِصْر قد سبقه خوفًا على اليمن منه، فقالوا: ترجع، قال: قد بقي بيني وبين مكة مسافة يسيرة، ووالله ما قَصْدِي اليمن، وإنما أريد الحج، فَقَيِّدوني واحتاطوا بي حتى أقضيَ المناسك، وأعودَ إلى الشَّام. فلم يلتفتوا إليه، فأراد أن يقاتلهم، فلم يكن له بهم طاقة، فرجع إلى الشَّام، وعاد يعقوب الخياط معه، ولم يحجَّ. وفيها توفي أحمد بن محمَّد بن عمر (¬3) [الأَزَجي، ويعرف بالموفَّق.] (2) نشأ بباب الأَزَجّ، [وسمع معنا الحديث من ابن كُلَيب، وابن بَوْش، وابن طَبَرْزَد، وغيرهم، وكانوا ينبزونه بشمس كلي عينه,] (2) وكان فقيرًا، خَرَجَ إلى الشَّام، واجتمع بالظَّاهر صاحب حلب وقال له: قد بعث لك الخليفة معي إجازة [وتقوَّل على الخليفة] (2)، فَخَلَعَ عليه، وأعطاه خمسين دينارًا، ودار على ملوك البلاد، فحصل له منهم ثلاث مئة دينار. قال المصنِّف رحمه الله: اجتمعتُ به في دمشق وقد رَجَعَ من زيارة القُدْس، فقلت له: إلى أين انتهت زيارتك؟ فقال: إلى لوط، وكان مطبوعًا، وبلغني حديثه، فقلت له: قد فعلتَ ما فعلت، فلا تَقْرَبْ بغداد. فقال: أتتك بحائنٍ رِجْلاه. فقلت: ما أخوفني أن يصحَّ المَثَلُ فيك. فكان كما قلتُ؛ نَزَلَ إلى بغداد في سفينة من المَوْصل، وصَعِدَ بباب ¬

_ (¬1) في "المذيل": 1/ 241 ابن أبي فراس. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 274، و"المذيل على الروضتين": 1/ 243، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

إسماعيل بن علي بن الحسين

الأزج إلى بيت أُخته وقت المغرب، فلما كان بعد العشاء الآخرة طَرَقَ البابَ طارِقٌ، فقال: مَنْ هذا؟ فقال: كلِّمْ [من يطلبك] (¬1). فخرج، وإذا برَجُلٍ، فسحبه [عن الباب] (1)، وضربه بسكِّين حتى قتله، ثم صاحَ على الباب: اخرجي خُذِي أخاك وما معه. فخرجتْ أُخته، وإذا به مقتولٌ، فأخذتِ المال، ودفنته في اللَّيل. [وفيها توفي إسماعيل بن علي بن الحسين (¬2) أبو محمَّد، الملقب بالفخر غلام ابن المني، ويعرف بابن الرَّفَّاء، وبابن الماشطة، الحنبلي. ولد سنة تسع وأربعين وخمس مئة، وقرأ المذهب والخلاف على أبي الفتح بن المني، وقرأ طريقة الشريف، وصنف له تعليقة، وكان فصيحًا، وله عبارة جيدة، وصوت رفيع، وكان له حلقة بجامع الخليفة يجتمع إليه الفقهاء فيها ويناظرهم، وولاه الخليفة ضياع الخاص، فظلم الرعية، وجبى الأموال من غير حِلِّها، فشكوه إلى الخليفة، فسخط عليه وعزله، فأقام في بيته خاملًا فقيرًا يعيش من صدقات الناس إلى أن توفي في ربيع الأول، ودفن في داره بدرب الجب، ثم نقل بعد مدة إلى باب حرب، وبيعت الدار. وولده محمَّد بن إسماعيل الملقب بالشمس، قدم الشام بعد سنة عشرين وست مئة، وتعانى الوعظ، وكان فاسقًا مجاهرًا، هجّاءً، خبيث اللسان، وكان معه جماعة من المُرْدان من أبناء الناس ويقول: إنهم مماليكه، وسمى نفسه ابن المني، وإنما هو ابن غلام ابن المني، وبدت منه بدمشق ومصر والشام هَنَاتٌ قبيحة، وكان يضرب الزَّغَل مع هذه الهَنَات. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 272 - 273، و"المذيل على الروضتين": 1/ 244 - 245، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 28 - 30، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

وورد خالي أبو محمَّد يوسف رسولًا إلى الكامل، فكتب في حقه إلى بغداد أشياء، وشنَّع عليه، وكان الخليفة هو المستنصر، فلم يسمع منه، ونفاه الكامل من مصر، فجاء إلى دمشق، فهجا قاضيها شمس الدين بن الخويي، ومحتسبها، وشيخ شيوخها الصدر البكري، وأعيان الدماشقة، هجاهم بقصيدة يقول فيها: [من المنسرح] شيخُ شيوخ الشآمِ مسخرةٌ ... هذا وقاضي قضاتهم نَرْدِي وكان نازلًا في مدرسة الحنابلة عند الناصح ابن الحنبلي، فهجا الناصح والمقادسة، وشكاه الناصح إليَّ، واتفق أنه مسك غلامه في السوق ومعه دراهم زغل، ووصل الخبر إلى المعظم, فأراد قطع يده، ثم نفاه، ومات المعظم وهو بدمشق، وأقام بالشام مدة، ثم خطر له الرحلة إلى بغداد، فقدمها في أيام المستنصر بالله، وتوصّل حتى جلس بباب بدر، ثم شرع في السِّعايات بالناس، وكان خالي ببغداد، وهو بها، واتفق أن غلامًا له تعرّض لبعض خدم الناس من السطح، فجاء زوجها إلى الباب، وشنع عليه، فمضى إلى أستاذ الدار ولبَّس عليه، وقال: أمرك الوزير أن تضرب زوجها مئة خشبة، وتحلق رأسه، ففعل بالرجل ذلك، وبلغ المستنصر، فقامت عليه القيامة، وبعث إلى الوزير شهاب الدين أحمد بن الناقد، وأنكر عليه، فأحضر أستاذ الدار، وسأله عن القضية، فأحاله على غلام ابن المني، فأمر الخليفة أن يخرج إلى باب النوبي، ويضرب مئة خشبة، ويقطع لسانه. ففعلوا به ذلك، وأعطوه لسانه في مداسه، ونادوا عليه: هذا جزاء من يكثر كلامه. وحمل إلى المارستان العضدي، فتكلم، وكان قد قطع لسانه من أصله، وبرأ، فأخرج من المارَسْتان، فعاد إلى السعاية بالناس، فقال المستنصر: لا يجيء من هذا خيرٌ أبدًا، يُحمل إلى واسط. فنفي إلى واسط، وألقي في مطمورة، فمات بها في أيام المستنصر، وكان ما فعل به المستنصر من أكبر حسناته وأجمل صفاته] (¬1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أيدغمش صاحب همذان

أُيْدُغْمُش صاحب هَمَذَان (¬1) ذكرنا أن الخليفة [خلع عليه، و] (¬2) أمره بالتقدُّم إلى هَمَذَان، فسار، وأقام [عند بني ترجم] (2) ينتظر عساكر الخليفة، فطال عليه الأمر، فرحل نحو هَمَذَان، فالتقاه عسكر منكلي، فقاتلوه وقتلوه، وحملوا رأسه إلى منكلي، وتفرَّق أصحابه. وكان صالحًا، كثيرَ الصَّدقات، دَيِّنًا، صائمًا، قائمًا، عادلًا. حكى لي الظَّهير غازي بن سُنْقُر الحلبي رحمه الله، قال: لما كسره منكلي اجتاز ببعض قلاع الإسماعيلية، فنزل تحتها، فبعث إليه مقدَّمها بالضِّيافات والإقامات، وقال له: أنا أنجدك بالأموال والرِّجال، فقال لرسوله: قل له: إنْ كنتَ مسلمان فأريد، وإن كنتَ كافران فما لك عندي إلا شمشير. فأرسل إليه يقول: أنا مسلمان. فقال: الآن فنعم. شمشير: السَّيف. وقيل: إنما اجتاز ببلاد جلال الدِّين، [وهو الذي بعث إليه الرسالة] (2). سعيد بن علي بن أحمد (¬3) أبو المعالي، ابنُ حديدة، [ولقبه معز الدين] (2)، من ولد قُطْبة [بن عامر] (2) بن حديدة الأنصاري الصَّحابي. ولد بكَرْخ سامَرَّاء سنةَ ستٍّ وثلاثين وخمس مئة، ونشأ ببغداد، وكان [أحد الموسرين] (2)، له مالٌ كثير، وجاه عريض، واستوزره الإمام النَّاصر سنة أربعٍ وثمانين وخمس مئة، وخَلَعَ عليه خِلْعة الوزارة الكاملة: القميص الأطلس، والفَرَجية الممزج، والعمامة القَصَب الكحلية بأعلام الذَّهب، وقلَّده سيفًا محلَّى، وقدَّم له فرسًا من خيل ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 301، و"التكملة" للمنذري: 2/ 291، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي (وفيات سنة 610 هـ) و"النجوم الزاهرة": 6/ 209، و"شذرات الذهب": 5/ 41 - 42. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 275 - 276، و"المذيل على الروضتين": 1/ 246 - 247، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

سنجر بن عبد الله الناصري

الخليفة، فركبه، وخرج أربابُ الدولة يمشون بين يديه من باب حُجْرة الخليفة إلى دار الوزارة، [وهو الذي كان جدي يجلس في داره، ويمدحه، وقد ذكرناه] (¬1)، ولم يَزُل [عن الوزارة] (1) حتى ولي ابنُ مهدي نقابةَ العلويين، فشرع فيه حتى عزله الخليفة، واعتقله، وطالبه بمال، [فالتجأ إلى التوبة الإخلاطية، فلم ينفعه,] (1) فأداه، وأقام في بيته حتى ولي ابن مهدي الوزارة، فَسُلِّم إليه، فاعتقله في داره بدرب المطبخ، وعَزَمَ على تعذيبه، فواطأ الموكلين به، وحَلَقَ رأسه ولحيته، وخرج في زِيِّ النِّساء، فما أخطأ مراغة، فأقام بها حتى عُزِلَ ابنُ مهدي، وعاد إلى بغداد، فنزل داره بالقيوئين، وأقام بها حتى توفي في جُمادى الأولى، وحمل إلى الكوفة، فدفن بها بمشهد أمير المؤمنين رضوان الله عليه. وكان جَوَادًا، سَمْحًا، كثيرَ الصَّدقات والمعروف، ومتواضعًا، سمع الحديث [من جدي، وأبي الخير القزويني، وغيرهما] (1). سِنْجر بن عبد الله النَّاصري (¬2) صهر طاشْتِكِين. [وقد ذكرنا عصيانه على الخليفة وعفوه عنه (¬3)، و] (1) كان ذليلًا، بخيلًا، ساقِطَ النَّفْس مع كثرة البلاد والأموال، تولَّى إمارة الحاجّ سنة تسعٍ وثمانين وخمس مئة، [وعاد في صفر سنة تسعين] (1)، فاعترض الحاجَّ رجلٌ بدوي [من غَزِيَّة، يقال له دهمش] (1) في نفرٍ يسير، ومع سنجر خمس مئة فارس، فلم يَلْقَه، وذل، وطلب منه البدوي خمسين ألف دينار، فجمعها سنجر من الحاج، وضيَّق عليهم، ولمَّا وَرَدَ بغداد وكل عليه الخليفة بذلك المال، وأخذه منه، ورَدَّه إلى أصحابه، وعزله عن إمرة الحاج، وولاها طاشْتِكِين. وكانت وفاته في شوَّال، ففتح له جامع القصر، [وصلَّى عليه قاضي القضاة ابن الدَّامَغاني] (1)، ومشى أربابُ الدَّولة في جنازته، ودفن بالشُّونِيزيَّة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "الكامل": 12/ 289 - 290، و"المذيل على الروضتين": 1/ 247، و"الوافي بالوفيات": 15/ 475. (¬3) في حوادث سنة 607 هـ.

السنة الحادية عشرة وست مئة

السنة الحادية عشرة وست مئة [وفيها عزل الخليفة عماد الدين ابن الدَّامغاني، وولى الزنجاري القضاء] (¬1). وفيها ملك أقسيس بن الكامل اليمن، ولقب بالملك المسعود، وكان جَبَّارًا فاتكًا، قيل: إنه قتل باليمن ثماني مئة شريف، وخَلْقًا من الأكابر والعظماء، ولو لم يحجَّ المعظم، وظَنَّ أهلُ اليمن أَنَّه وصل إليهم لَمَا قَدَرَ أقسيس على اليمن. وفيها أخذ المعظم قلعة صَرْخد من ابنِ قَرَاجا، وعوَّضه عنها مالًا وإِقطاعًا. وحج بالنَّاس من العراق أبو فراس بن ورَّام نائبًا عن محمَّد بن ياقوت، [ومن الشام العلم الفقيه نصر الله الجَعْبَرِي، إمامُ المعظم] (1). وحج المعظم [في هذه السنة] (1) ومعه [جماعة من خواصِّه] (1): عز الدين أيبك، وعماد الدين موسك، والظَّهير بن سُنْقُر الحلبي، وغيرهم، وسلكوا طريق العُلا وتبوك، وجدَّد المعظم البِرَك والمصانع، وأحسن إلى النَّاس، وتلقاه سالم أمير المدينة، وخَدَمه، وقدَّم له الخيل والهدايا، وسلَّم إليه مفاتيح المدينة، وأنزله في داره وفتح الأهراء، وخدمه خدمةً عظيمة، وسار إلى مكة، فالتقاه قتادة أمير مكة، وحَضَرَ في خدمته. قال المصنف رحمه الله: حكى لي المعظم رحمه الله، قال: قلتُ له -يعني أمير مكة-: أين ننزل؟ فأشار إلى الأبطح بسوطه، وقال: هناك. فنزلنا، وبعث له هدايا يسيرة. وحجَّ المعظم على مذهب أبي حنيفة، وأتى بجميع المناسك، وأحرم قارنًا، وبات بمِنى ليلة عرفة، وصلَّى بها الصَّلوات الخمس، وسار إلى عرفة، وقضى نُسْكَه كما أمر الله تعالى، ولقد رأيتُ كتفه بعد ما عاد وقد أكلته الشمس وانقشط، وقيَّحَ، فقلتُ: ما هذا؟ ! ، فقال: ما غطَّيتُ رأسي ولا كتفي مُدَّة ثلاثة عشر يومًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

إبراهيم بن علي

وتصدَّق على فقراء الحرمين بمالٍ عظيم، وحَمَلَ المُنْقَطعين، وزوَّدهم، وأحسن إليهم، ولما عاد إلى المدينة شكا إليه سالمٌ من جَوْر قتادة، فوعده أن ينجده عليه. ولما عاد [كنتُ مقيمًا بالكرك، فخرجتُ إلى لقائه مع جماعة من الأعيان والأمراء والفقراء والفقهاء، فما التفت إلى أحدٍ منهم، ولما رآني ترجَّل عن ناقته، وعانقني، وسقنا إلى زيزا، وكان لقاؤنا له على غدير الطرفاء في البرية، وشرع يحكي لي صفة حجه وما فعل، و] (1) كان والده على خربة اللَّصوص، فقال: أريد أبغته حتى لا يلتقيني أحد. وسار إليه، [واجتمع به] (1)، وحكى له خدمة سالم وتقصير قتادة، فجهَّزَ جيشًا مع النَّاهض بن الجرخي إلى المدينة، والتقاهم سالم وأكرمهم، وقصدوا مكة، فانهزم [قتادة عنهم] (1) إلى البرية، [ولم يقف بين أيديهم] (¬1). وفيها توفي إبراهيم بن علي (¬2) ابن محمَّد بن بَكْروس، الفقيه الحنبلي. ولد سنة سَبْعٍ وخمسين وخمس مئة، وكان أبوه من الصَّالحين [وهو الذي زوَّجه جدي ابنته ست العلماء، وقد ذكرناه فيما تقدم، وإبراهيم هذا ليس من ست العلماء، بل من امرأة أخرى] (1)، وقرأ [إبراهيم] (1) القرآن، وتفقَّه على مذهب الإِمام أحمد - رضي الله عنه -[وسمع الحديث على أبيه وغيره، وشهد عند القاضي ضياء الدين بن الشهرزوري,] (1) وناظر وأفتى، ثم إنَّ الله مَكَرَ به، فصار صاحبَ خَبَرٍ بباب النوبي، ورمى الثَّوْب الواسع، ولبس المزند، وتقلَّد السيف، وفتك في المال والحريم، وضَرَبَ جماعةً بالخشب [ورماهم بدجلة، وما كانت تأخذه في أذى مسلم لومةُ لائم، وولي نيابة الباب، فكان مآله إلى أن ضرب بالخشب] (1) حتى مات تحت الضَّرْب، فكان يقول ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 296، و"المذيل على الروضتين": 1/ 252، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر

وهو يضرب {مَا يَنْظُرُونَ إلا صَيحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] فكان ذلك آخرَ كلامه، ورمي في دِجْلة ليلًا، وسُرَّ الناس بموته؛ [لأنه فتك بالمال والحريم] (¬1). [فصل: وفيها توفي عبد السلام بن عبد الوهَّاب بن عبد القادر (¬2) الذي أحرقت كتبه بالرحبة. كان الخليفة استأصله حتى طلب من الناس، ثم توصل حتى ولي وكالة الأمير الصغير علي ابن الخليفة. وكان خالي أبو القاسم صديقه، وقد كانت عادته يوالي مَنْ يعادي أباه. قال لي خالي أبو القاسم يومًا بعد ما مات جدي بيسير: لي صديقٌ يشتهي أن يراك. ولم يعرِّفْني مَنْ هو، فمشيت معه، فأدخلني إلى دار شممت من دِهْليزها رائحة الخمر، ودخلنا، فإذا الركن عبد السَّلام جالسٌ وعنده صبيان مُرْدان، وهو في حالةٍ قبيحة، فلم أقعد، فصاح خالي والركن فلم ألتفت، فتبعني خالي، وقال: خجَّلْتني من الرجل. فقلت: لا جزاك الله خيرًا. وأسمعته غليظ الكلام. ومرض عبد السَّلام بعِلَّة البطن، فَرمى كبده قِطَعًا، ومات في هذه السنة] (1). عبد العزيز بن محمود بن المبارك (¬3) أبو محمَّد، البَزَّاز. ولد سنة ست وعشرين وخمس مئة، وقيل: سنة أربع وعشرين، سمع الحديث الكثير، وصنَّف، وكانت وفاته في شوَّال، ودُفِنَ بباب حَرْب، وكان فاضلًا، صالحًا، دَيِّنًا، عفيفًا، لطيفًا، أنشد لغيره: [من الطويل] ألا هل لأيام الصِّبا مَنْ يعيدُها ... فيطرب صَبٌّ بالغضا يستعيدُها ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 303 - 304، و"المذيل على الروضتين": 1/ 253، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 55 - 56، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 317 - 318، و"المذيل على الروضتين": 1/ 253 - 254، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 31 - 32، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

السنة الثانية عشرة وست مئة

وهل عذباتُ الرَّمْلِ من أيمنِ النَّقا ... تميلُ إلى نحوي مع الوُرْقِ عُودُها سقى الله أيَّامي بها كلَّ مُزْنَةٍ ... يصوبُ ثراها بالحيا ويجودُها ورَدَّ ليالينا بجرعاءِ مالك ... فقد طالما ابيضَّتْ من العَيشِ سودُها أرى الأرضَ والأوطانَ فيها فسيحةً ... وما يستميلُ القَلْبَ إلا زرودُها السنة الثانية عشرة وست مئة فيها خرج وجه السَّبع من بغداد بالعسكر إلى هَمَذَان للقاء منكلي، مملوك السُّلْطان أزبك، وكان قد عصى على مولاه وعلى الخليفة، وقطع الطَّريق، وسَفَكَ الدِّماء، وأخذ المال. وكَتَبَ الخليفةُ إلى ابن زين الدين، والظَّاهر، والعادل، وغيرهم، يطلب العساكر، فجاءته من كلِّ مكان، وجعل ابنَ زين الدين مقدَّمها، وجاء أزبك وجلال الدين مقدَّم الإسماعيلية، وجمع منكلي جموعًا كثيرة، والتقوا قريبًا من هَمَذَان، فكانت الدَّبْرة على منكلي، قُتِلَ من أصحابه ستة آلاف، ونهبوا أثقالهم، وحال الليل بينهم، فَصَعِدَ منكلي على جبل وابن زين الدين والعساكر في السهل، وأوقد منكلي نارًا عظيمة، وهرب في الليل، فأصبح النَّاس وليس له أثر، وقتل بعد ذلك. وفيها أخذ خوارزم شاه محمَّد غَزْنة من تاج الدين مملوك شهاب الدين الغوري بغير قتال. وفيها قدم مسعودي الجوادي رسولًا من الأشرف إلى الخليفة، فالتقاه الموكب، وكان معه نَسْرٌ رباه الملك الأشرف للخليفة، فعُلِّق النَّسْر بباب البَدْرية، ونُثِرَ عليه دنانير. وفيها أخذ ابن لاوين أَنْطاكية من الفرنج في يوم الأحد رابع عشرين شوال [وكنت في ذلك اليوم قد جلست عند الملك بحلب في دار العدل، فلما انقضى المجلس نزلت من المنبر، فقام الظاهر والتقاني، وأجلسني إلى جانبه، ودفع إلى بطاقة جاءته من حارم تخبره بذلك] (¬1)، ثم عاد إبرنس طرابُلُس بعد ذلك أَخَذَها منه. وحجَّ بالنَّاس ابن أبي فراس. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

عبد المنعم بن محمد بن الحسين

وفيها توفي عبد المنعم بن محمَّد بن الحسين (¬1) ولد بباجِسْرى (¬2) سنة تسع وأربعين وخمس مئة، وتفقَّه على ابن المَنِّي، وتوفي في جُمادى الأُولى، وحُمِلَ إلى النِّظامية ليصلَّى عليه، فثار عوام الحنابلة، وقالوا: لا تركناه يدخل إلى أماكن الأشاعرة. وحملوه إلى جامع السُّلْطان، فصلُّوا عليه فيه، ودفن بمقابر الإمام أحمد - رضي الله عنه -، وكان صالحًا وَرِعًا. عبد الوهَّاب بن بُزْغُش بن عبد الله، أبو الفتح (¬3) قرأ القرآن بالرِّوايات، وبَرَعَ فيها، وسمع الحديث الكثير، وكان حَسَنَ الصَّوت، وله تصانيف في الخُطَب وأشعار ومواعظ ورسائل وغير ذلك، وفلج في آخر عمره، ودفن بباب حرب، وتوفي في ذي القَعْدة، سمع أبا الوقت وغيره، وكان دَيِّنًا، صالحًا، ثِقَةً. قال المصنف رحمه الله: أنشدني لنفسه: [من الخفيف] حَلَّ إحسانُه عِقال لساني (¬4) ... فانظروا الآن كيف نَظْمي ونَثْرِي فسأُثْني عليه سِرَّا وجَهْرًا ... وسأوليه شُكْرَ رَوْضٍ لِقَطْرِ أيُّ عُذْرٍ إنْ صام عنه بياني ... وأنا الدَّهْرَ منه في يومِ فِطْرِ وأَتَمُّ الأشياءِ حُسْنًا ونورًا ... بِكْرُ شُكْرٍ زُفَّتْ إلى صهر بِرِّ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 1/ 176، و"التكملة" للمنذري: 2/ 335، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي: (وفيات سنة 612 هـ)، و"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 86 - 87، و"شذرات الذهب": 5/ 51، و"المقصد الأرشد": 2/ 183، و"المنهج الأحمد": 4/ 112 - 113. (¬2) بليدة كانت شرقي بغداد: "معجم البلدان" 1/ 313. (¬3) له ترجمة في "ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 1/ 329، 331، و"التكملة" للمنذري: 2/ 352، 353، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 59، و"معرفة القراء الكبار" 3/ 1166 - 1167، و"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 88 - 89، و"غاية النهاية": 1/ 478، و"شذرات الذهب": 5/ 51 - 52، و"المقصد الأرشد": 2/ 122، و"المنهج الأحمد": 4/ 113 - 114. (¬4) لفظ: "لساني" ليس في (ح)، وقد استدركتها من عندي تخمينًا لاستقامة الوزن والمعنى، والله أعلم بالصواب. وبعض هذه الأبيات نسبت إلى أبي الفتح البستي، وهي في "ديوانه": 253.

علي بن الخليفة

عليُّ بنُ الخليفة أبو الحسن، الملك المعظم (¬1). كان جَوَادًا، كثير الصَّدقات، وافرَ المعروف، كريمَ الأخلاق، حسن العِشْرة، مرض أيامًا، وتوفي في ذي القَعْدة، وصُلِّي عليه بتاج الخليفة، وأخرج التَّابوت، وبين يديه أربابُ الدَّولة، ولم يتخلَّف سوى الخليفة، وحُمِلَ إلى تُرْبة أم الخليفة، فدفن معها في القبة. ومن العجائب أَنَّه يوم الجمعة دخل رأس منكلي على خشبة وقد زُيِّنت بغداد، وأظهر السُّرور والفرح، فلما وَصَلَ الرأس إلى باب دَرْب حبيب وافق في تلك السَّاعة وفاة ابنِ الخليفة، ووقع صراخٌ عظيم من دار الخليفة، فَرُدَّ الرأس إلى عقد اللكافين، ورُمي في بيتٍ في خان، وكوسات منكلي مشققة، وأعلامه منكسة، وانقلب ذلك السرور حُزْنًا، وأمر الخليفة بالنِّياحة عليه في أقطار بغداد، ففرشوا البواري والرَّماد، وخرج العواتق من خدورهن، ونَشَرْنَ شعورهُنَّ، ولَطَمْنَ، وقام النَّوائح في كلِّ ناحية، وعَظُمَ حُزْنُ الخليفة بحيث امتنع من الطَّعام والشَّراب، وغُلِّقَتِ الأسواق، وعُطِّلَتِ الحمامات، وبَطَلَ البيع والشراء، وجرى ما لم يجر في بلد آخر. وكان الخليفةُ قد رَشَّحه للخِلافة، وشدَّ جميع فِتْيان بغداد إليه [من العلماء والأعيان والأجناد] (¬2) ففعل الله في مُلْكه ما أراد. وخلَّف ولدين: أبا عبد الله الحسين، ولقبه المُؤَيَّد، ويحيى، ولقبه الموفَّق. [وفيها توفي الوجيه النحوي (¬3) واسمه] (2) المبارك بن المبارك، أبو بكر، الواسطي، النحوي. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 308 - 309، و"التكملة" للمنذري: 2/ 354 - 355، و"المذيل على الروضتين": 1/ 261 - 262، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 342 - 343، و"المذيل على الروضتين": 1/ 259 - 260، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

منكلي بن عبد الله

ولد سنة أربع وثلاثين وخمس مئة، وكان حنبليًّا، ثم صار حنفيًّا، ثم صار شافعيًّا لأسبابٍ عَرَضَتْ له، وكان يقول: ما انتقلتُ عن مذهبي. قرأ الأدب على ابنِ الخَشَّاب وغيره [(¬1) وبرع فيه، وكان يدرسه في النظامية، وله مقدمة قرأتها عليه، وأنشدني] , من شعره: [من السريع] لا خيرَ في الخَمْرِ فمِنْ شأنها ... إفقادُها العَقْلَ وجَلْبُ الجنونْ أَوْ أَنْ ترى الأقبحَ مُسْتَحْسنًا ... وتُظْهِرَ السِّرَّ الخَفِيَّ المَصُونْ وكانت وفاته في شعبان، وصلي عليه بالنِّظامية، [ودفن بالوردية عند ابن فَضْلان] (2). منكلي بن عبد الله [الخارج بهَمَذان] (¬2): قد ذكرنا أنه هَرَبَ في الليل فضَلَّ عن أصحابه، وجاء إلى بيت صديقٍ له في بعض القرى، وكان رئيسها، فنزل عليه، وكان تحته فرسٌ سابق، وعليه سلاحٌ له قيمة، فأطعمه وسقاه، ونام، فقام الرَّجل فقتله، وأخذ رأسه، وقيل: قَيَّده، ثم قتله، وحمل رأسه إلى أزبك، فبعث به إلى زين الدين، فبعث به إلى الخليفة. السنة الثالثة عشرة وست مئة فيها جَهَّز الخليفةُ ولَدَيْ ولده إلى ششتر، وضمهما إلى بدر الدين محمَّد سبط العقاب، وخرج أربابُ الدَّولة بين أيديهما، وضُربت لهما خيمةٌ أطلس تغطى بأطناب خُضْر إبْرَيسم، ومثل ذلك السُّرادق، وعلى رؤوسهما الشَّمْسة، والمهود والأعلام خلفهما والكوسات، ومضى معهما نجاح الشَّرابي والمكين القُمِّي بالعساكر، وذلك في سابع المحرَّم، فأقاما بششتر، فلم تطب لهما، فعادا في ربيع الآخر، ولم يكن لهما هِمَّة الخلفاء، وكانَ قَصْدُ الخليفة أن يستولي على خوزستان ويستمر الحال، ويخرجا من تحت حكم الغير. ¬

_ (¬1) في (ح): "وغيره ومن شعره"، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

قال المصنف رحمه الله: وفيها سافرتُ إلى خِلاط، وشرحت كتاب "روح العارفين" والنسخة بدار الحديث الأشرفية بدمشق. وفيها توفي الملك الظَّاهر بحلب، ووَصَلَ أبو العَبَّاس عبد السَّلام ابن أبي عَصْرون رسولًا من الملك العزيز محمَّد إلى الخليفة يطلب تقريره على ما كان عليه أبوه. [فصل (¬1): وفيها نزل الأشرف من خلاط إلى حَرَّان في شعبان، وسألني الجلوس بجامع حران، وقال: إلى الآن ما دخلت حران. فضربت له خركاة في الجامع، وحضر وكان يومًا مشهودًا، وجلس في الخركاة، وجاء الفخر بن تيمية الخطيب، فقعد عنده، وكتبوا إلى رقاعًا كثيرة، فجمعتُها وقلت: اتركوا هذه إلى يوم مجلس شيخكم يجيب عنها، فهو يطول روحه عليكم، أما هذا اليوم فالوقت ما يحتمل. فأعجب الأشرف، وانقضى المجلس، فقلت للأشرف: لا بد لي في هذه السنة من شيئين: الحج على بغداد، والثاني الاعتكاف بالرَّقَّة، فقال: مبارك. وخرجت من حران في آخر شعبان أريد الرقة، وبينما أنا بين مسلة والرقة، وإذا بنجابين بينهم رجل عليه بغلطاق أحمر، فقلت لأصحابي: هذه شمائل الملك المعظم. فقالوا: المعظم في دمشق، أيش جابه إلى ها هنا! فلما قربوا منا إذا به المعظم وقد أعيت ناقته، فنزل، وتحدثنا، وأكلنا شيئًا كان معنا، وأعطانا ناقته، وأخذ فرسي، وقال: أين أخي؟ قلت: في الزَّرَّاعة. وساق] (¬2)، واجتمعا في نواحي الرقة بالزَّرَّاعة، وفاوضه المُعَظَّم في أمر حلب، وكان الأشرف قد حلف لشهاب الدين طُغرْيل الخادم، وأَنَّه أتابك العزيز محمَّد ولد الظَّاهر، فَشَقَّ على المعظم، ولم يقل شيئًا، [وجاءا إلى الرقة وأنا معتكف بالخانكاة، وحضرا عندي، وسار المعظم إلى دمشق، وجهزني الأشرف إلى الحج، وعمل لي سبيلًا مثل سبيله، وتوجهت إلى بغداد] (2). وحجَّ بالنَّاس من العراق ابنُ أبي فراس، ومن الشَّام الفقيه علم الدين الجَعْبَرِي. ¬

_ (¬1) في (ح): وفيها قصد المعظم الاجتماع بالأشرف، واجتمعا في نواحي الرقة بالزراعة ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

أحمد بن علي بن مسعود الوراق

[وعدت من الحج على تبوك والعلا، وجمعت بين زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين زيارة الخليل في المحرَّم، ولله المِنَّة، وفي الحديث: "من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة" (¬1). وإن لم يتفق على نقل هذا الحديث الثقات، فالأعمال بالنيات] (¬2). وفيها توفي أحمد بن علي بن مسعود الورَّاق (¬3) صنَّف كتابًا سماه "فاكهة المَجَالس وفاكهة المُجَالس" في عدة مجلدات، واختصر منه كتابًا سماه "سُلافة العنقود" ذكر فيه طُرَفًا، وكانت وفاته في رجب، ودفن بباب حَرْب. قال المصنف رحمه الله: أنشدني في سنة خمس وست مئة: [من الطويل] لئن قَرَّب الله النَّوى بَعْدَ بُعْدِهِ ... وقرَّتْ لنا بعد العيونِ عيونُ غَفَرْتُ لهذا الدَّهْرِ كلَّ عظيمةٍ ... وما كان من زَلَّاتِهِ ويكونُ زيد بن الحسن (¬4) ابن زيد بن سعيد بن عصمة بن حِمْيَر بن الحارث بن ذي رُعَين، أبو اليُمْن، تاج الدِّين الكِنْدي، البغدادي المولد والمنشأ، الدِّمَشْقي الدَّار. ولد في شعبان سنة عشرين وخمس مئة، وقرأ القرآن بالرِّوايات وله عشر سنين على الشيخ أبي محمَّد عبد الله بن علي سِبْط الشيخ أبي منصور الخَيَّاط، وهو الذي رَبَّاه، وكان خصيصًا به، وقرأ عليه كتاب "المبهج" و"الكامل" تأليف أبي محمَّد، وكتاب ¬

_ (¬1) حديث باطل موضوع وانظر "تنزيه الشريعة": 2/ 176. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" لابن الصابوني: ص 129 - 131، و"التكملة" للمنذري: 2/ 368 - 369، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي: (وفيات سنة 613 هـ)، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 200، و"الوافي بالوفيات": 7/ 210 - 211، و"بغية الوعاة": 1/ 347. (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 383 - 385، و"المذيل على الروضتين": 1/ 269 - 276، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

"الحُجَّة في القراءات" لأبي علي الفارسي، وقرأ على أبي محمَّد من كُتُبِ العربية "كتاب سيبويه" و"المقتضب" و"الإيضاح" و"التكملة"، وقرأ العربية أيضًا على أبي السَّعادات ابن الشَّجَري، واللغة على أبي منصور بن الجواليقي، وسمع الحديث الكثير [من شيوخ جدي وغيرهم,] (¬1) وفارق بغداد في سنة ثلاثٍ وستين وخمس مئة، وأقام بدمشق، واختص بعِزِّ الدين فَرُّخْشاه ابن أخي صلاح الدين، وبولده الملك الأمجد صاحب بَعْلَبَك، وانتهت إليه القراءات والرِّوايات، وعلم النحو واللغة. قال المصنف رحمه الله: [وقرأت عليه كتاب "الصّحاح" للجوهري] (1)، وكان يحضُرُ مجالسي بجامع دمشق وقاسيون، ويقول: أنا قد صِرْتُ من زبون المجلس. وكان حسن العقيدة، [طيب الخُلُق,] (1) ظريفًا، لا يسأم الإنسان من مجالسته، وله النَّوادر العجيبة. ولما خرجتُ في سنة سبعٍ وست مئة إلى الغَزَاة كَتَبَ إليَّ كتابًا بخطِّه إلى نابُلُس، [وكان يكتب مثل الدُّرِّ] (1) وفيه: [من الطويل] جَزَى الله بالحُسْنى لياليَ أحسنَتْ ... إلينا بإيناسِ الحبيبِ المُسَافِرِ لياليَ كانتْ بالسُّرورِ قصيرةً ... ولم تكُ لولا طِيبُها بالقصائر [فيا لك وَصْلًا كان وَشْكُ انقضائه ... كزورةِ طيف أو كنغمة طائرِ] (1) وكتب إلى أيضًا: [من الطويل] أيا ساكني قلبي على بُعْدِ دارهمْ ... لقد عِيلَ صَبْرِي منذُ شَطَّتْ نَوَاكُمُ سرى معكمْ نومي فأصبحتُ بعدكُمْ ... ألومُ السُّرى منه وأبكي سُرَاكُمُ رَضِيتُمْ بعادِي عنكُمُ فَرَضِيتُهُ ... لأنيَ أهواكُمْ وأهوى هَوَاكُمُ شجاني غَرَامٌ لو وَفَيتُمْ ببعضه ... لقلبِ المُعَنَّى فيكُمُ لشجاكُمُ أعيدوا لنا عِيدَ الوصَالِ على اللِّوى ... سقى اللهُ أَيَّامَ اللِّوى وسَقَاكُمُ وداووا بلُقياكم فؤادي من الضَّنى ... فهيهاتِ أَنْ يَلْقى طبيبًا سواكُمُ دَهَاني اشتياقٌ لم تُصِبْكُمْ سهامُهُ ... فيا لَيتَهُ لما دَهَاني دهاكُمُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

وإني لأخشى أَنْ أموتَ بغُصَّتي ... عليكُمْ ولا أبقى إلى أن أراكُمُ ولو كان قلبي كالقلوب لغيركُمْ ... لقد كانَ لَما أَنْ سَلَوْتُمْ سلاكُمُ [(¬1) وله ديوان شعر. وحكى لي قال: كتبتُ] إلى الملك الأمجد إلى بَعْلَبَكَّ: [من البسيط] لا تضجِرَنَّكُمُ كُتْبي إذا كَثُرَتْ ... فإنَّ شوقيَ أضعافُ الذي فيها واللهِ لو مَلَكَتْ كَفِّي مهادنةً ... من اللَّيالي التي بَخْتي يعاديها لَمَا تصرَّمَ لي في غيرِ دارِكُمُ ... عُمْرٌ ولا مِتُّ إلا في نواحيها عُدُّوا احتمالكُمُ لي حين أُضْجركُمْ ... من الصِّلات التي منكم أُرجِّيها [قال: فكتب إليَّ بخطه، وهي له] (¬2): [من البسيط] إنَّا لَتُتْحِفُنا بالشَّوْقِ كُتْبُكُمُ ... وإنْ بَعُدْتُمْ فإنَّ الشَّوْقَ يُدْنيها وكيف نَضْجَرُ منها وَهْيَ مُذْهِبَةٌ ... مِنْ وَحْشةِ الشَّوْقِ لو عاتٍ نُعانيها وإنْ ذكَرْتُمْ لنا فيها اشتياقَكُمُ ... فعندنا مِنْكُمُ أضعافُ ما فيها سَلُوا نسيمَ الصَّبا يُهْدي تحيَّتَنا ... إليكُمُ فَهْيَ تَدْري كيف تُهْدِيها وكان الملك المعظم عيسى رحمه الله [(¬3) يقرأ عليه دائمًا "كتاب سيبويه" نصًّا وشرحًا، و"الإيضاح" و"الحماسة"، وشيئًا كثيرًا، وكان يمشي راجلًا من القلعة إلى دار تاج الدين والكتاب تحت إبطه، وكنا نجتمع، وقد ذكرنا مآخذه على الخطيب ابن نباتة في سنة أربع وسبعين وثلاث مئة. ذكر وفاته: توفي يوم الاثنين سادس شوال، وأنا يومئذ متوجه إلى الحج إلى بغداد,] وصُلِّي عليه بجامع دمشق، وحُمِلَ إلى قاسيون، فدُفِنَ به، ولم يتخلَّف عن جِنازته أحدٌ، وعمره ثلاث وتسعون سنة وشهر وستة عشر يومًا. ¬

_ (¬1) في (ح): وكتب إلى الملك الأمجد ... ، وما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) في (ح): وكتب إليه الملك الأمجد، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) في (ح): وكان الملك المعظم عيسى رحمه الله يمشي من القلعة راجلًا إلى داره والكتاب تحت إبطه يقرأ فيه، وتوفي الكندي يوم الاثنين سادس شوال، وصلي عليه بجامع دمشق ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

سعيد بن حمزة بن أحمد

سمع أبا منصور القَزَّاز، وروى عنه "تاريخ الخطيب"، وروى "طبقات ابن سعد" بالإجازة عن قاضي المارَسْتان. وسمع ابن ناصر، وابنَ السمرقندي، والأنماطي، ومحمد بن عبد الباقي الأنصاري، وأبا القاسم الحريري، وسعد الخَير الأندلسي، وخَلْقًا كثيرًا، وكان صدوقًا، ثِقَةً. سعيد بن حمزة بن أحمد (¬1) أبو الغنائم، [ويقال له] (2) ابن ساروخ، الكاتب [النِّيلي] (¬2) العراقي. ولد بالنِّيل سنة ثماني عشرة وخمس مئة، [وسمع شيوخ ذلك العَصْر، وسافر إلى الشام والروم، ومدح الملوك والأمراء، وذكره العماد في "الخريدة" (¬3)، وعاد إلى بغداد، فكبر وأسنّ، وانقطع في بيته إلى آخر عمره، وقد سمع ببغداد من أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الحَرَّاني الشاهد، وغيره، و] (2) كان بارعًا، وله رسائلُ ومكاتباتٌ، وأشعارٌ [رائقة، وألفاظ فائقة شائقة، فمن شعره ما هو أرقّ من نسائم الأسحار إذا هزَّت أفنان الأشجار] (2)، فمن شعره: [من البسيط] يا شائمَ البَرْقِ من نجديِّ كاظمةٍ ... يَبْدُو مرارًا وتُخْفيه الدَّياجِيرُ إذا سُقِيتَ الحيا مِنْ كلِّ مُعْصِرَةٍ ... وعاد مَغْناكَ خِصْبًا وهو ممطورُ سَلِّمْ على الدِّوْحة الغَنَّاء من سَلَمٍ ... وعَفِّرِ الخَدَّ إنْ لاح اليعافِيرُ أَحِنُّ شَوْقًا إلى تلك الرِّياض وقد ... ضاها بنفسجَها وَرْدٌ ومَنْثُورُ ومالتِ السَّرْوُ في خُضْر الثِّيابِ كما ... تمايلتْ في الحرير الأَخْضرِ الحُوْرُ والغُصْنُ سكرانُ من طلِّ النَّدى فإذا ... دعا ابنُ وَرْقاءَ أضحى وهو مخمورُ وهاتفاتٍ على الأغصانِ قد رَقَدَتْ ... عنهنَّ في غَسَقِ الدَّاجي النَّواطيرُ فَظَلْنَ يَسْجَعْنَ حتى كِدْتُ مِنْ وَلَهي ... أقضي ولكنَّما في العُمْرِ تأخيرُ لكنَّ وَجْدِي بترجيع الهَدِيل وما ... عرَّدْنَ باقٍ إلى أن يُنفخ الصُّوْرُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 382 - 383، و"المذيل على الروضتين": 1/ 276 - 277، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) لم أقف على ترجمته في الأجزاء المطبوعة من "الخريدة".

عبد الله بن أبي بكر بن أحمد

وكانت وفاته ببغداد في رمضان، [ولم يذكر العماد وفاته, لأن وفاة العماد تقدمت عليه. وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر بن أحمد (¬1) ويعرف بابن السِّنْدان، الحَرْبي. خدمني في الحربية مُدَّة، وسمعت منه الحديث، وهو آخر من روى عن أبي القاسم عبد الله بن أحمد بن يوسف، وسمع ابن الطلاية وغيره، وعاش تسعين سنة، وبلغني أنه توفي في ذي الحجة، ودفن بباب حرب، وكان شيخًا، صالحًا، ثقة] (¬2). غازي بن يوسف الملك الظاهر صاحب حلب (¬3) ولد بالقاهرة سنة ثمانٍ وستين وخمس مئة، وكان قعددًا بالملك، مهيبًا، له سياسةٌ وفِطْنة، ودولتُه معمورةٌ بالعلماء والفُضَلاء، مزينةٌ بالملوك والأُمراء، وكان مُحْسنًا إلى الرَّعية والوافدين عليه، وحَضَرَ معظم غزوات والده. ولما استقرَّ العادل بدمشق ضَمَّ إليه الأُمراءَ الصَّلاحية كميمون القَصْرِي، والمبارز بن يوسف بن خُطْلخ الحلبي، وسرا سُنْقُر الحلبي، وأيبك فُطَيس، وغيرهم. وكان في دولته من أرباب العمائم: القاضي بهاء الدين بن شَدَّاد، والشريف الافتخار الهاشمي، والشريف النَّسَّابة، وبنو العَجَمي، والقَيسراني، وبنو الخَشَّاب وغيرهم. وكان ملجأ للغُرَباء وكهفًا للفقراء، يزور الصَّالحين ويعتقدهم، ويغيث الملهوفين ويرفدهم، وكان يتوقَّد ذكاء وفِطْنة، سريعَ الإدراك. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 355 - 356، و"المختصر المحتاج إليه": 2/ 179، و"تاريخ الإِسلام": (وفيات سنة 612 هـ)، و"شذرات الذهب": 5/ 50، وقد ذكروا وفاته في ذي الحجة سنة (612 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬3) له ترجمة في "الكامل": 12/ 313 - 314، و"التكملة" للمنذري: 2/ 368، و"المذيل على الروضتين": 1/ 267 - 269، و"سير أعلام النبلاء": 21/ 296 - 299، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

[(¬1) جلستُ عنده في سنة اثنتي عشرة وست مئة، وكان الأشرف قد أرسلني إليه في قضايا لا يطلع عليها كاتب، وكتب كتابًا بيده إلى الظاهر، وكان جلوسي في يوم أَخْذِ ابن لاون أنطاكية، وقد ذكرته. وكان بحلب فقير يحضر مجالسي قبل ذلك في سنة ثلاث وست مئة وأربع وخمس، وكان ذلك الفقير يقوم في المجلس ويصيح: واه، واه، فيزعج الحاضرين، وكان صالحًا، والظاهر أنه تغيَّر حاله فيما بعد ذلك، فلما جلست في سنة اثنتي عشرة عند الظّاهر، بقي ذلك الفقير يحترق، ويقول: كيف أعمل. ويردِّدها. فقال الظاهر: قدموه إلى عندي. فقدموه، فقال له: هذا الذي يقوله الشيخ ما هو مليح؟ قال: بلى. قال: فإن أردت أن تصيح صيح. فعجب الحاضرون. وحضر في ذلك المجلس رجل عجمي، يُقال له أبو بكر النصبة، وكان صالحًا، وكان يحمل عصا أبنوس، فطابت قلوب الجماعة في ذلك اليوم، وبكوا، فقام النصبة، وجاء إلى الظاهر، وقال له: أنت فرعون، ما تتحرك؟ وثار في وجه النصبة مثل التفاحتين، وخرج من المجلس، فمات بعد ثلاث. وحضرنا] عنده يوم الخميس في دار العَدْل، فجيء بامرأةٍ قد كَذَبَتْ على شخص، واعترفت بالكذب، فقال لابنِ شداد القاضي: ما يجب عليها؟ قال: التأديب. قال: تضرب بالدِّرَّة شريعةً، ويُقطَع لسانها سياسةً، فقلت له: الشَّريعة هي السياسة الكاملة، وما عداها يكون تعاطيًا عليها. فأطرق، فأُدِّبَتِ المرأةُ، وسَلِمَتْ من قَطْع اللِّسان، [وله من هذا الجنس نوادر في الموارد والمصادر] (¬2). وتوفي ليلة الثلاثاء العشرين من جُمادى الآخرة بعِلَّة الذَّرَب، ودُفِنَ بقلعة حلب، ثم نُقِلَ بعد ذلك إلى مدرسته التي أنشأها، وقام بعده ولده الملك العزيز محمَّد، وشهاب الدين طُغْريل الخادم أتابكه، وقد اطَّرد هذا في قلعة حلب، قَلَّ أن يموت سُلْطان ويخلِّف ولدًا صغيرًا إلا ويكون أتابكه والقيِّم بأمره خادمًا، [وقد ذكرناه فيما تقدَّم] (2)، وعزل وزيره ¬

_ (¬1) في (ح): وكان يتوقد ذكاءً وفطنة، سريع الإدراك. قال المصنّف رحمه الله: حضرت عنده يوم الخميس ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

محمد بن عبد الغني الحافظ

شمس الدين بن أبي يعلى المَوْصلي، ومضى إلى الرَّوم، وقام طغريل بأمر الملك العزيز أحسن قيام [وأجمل نظام] (¬1)، واستمال الملكَ الأشرفَ، يُدنيه متى شاء، [ويقصيه متى شاء] (1)، فحفظ الممالك بحسن تدبيره، [ورَدَّ كيدَ الأعداء في نحورهم بتحريره] (1). محمَّد بن عبد الغني الحافظ (¬2) المَقْدِسي، عِزُّ الدِّين. ولد سنة ستٍّ وستين وخمس مئة، وسمع الحديث، ورحل إلى أَصْبهان، ثم عاد إلى بغداد، [وقرأ "مسند" الإِمام أحمد ببغداد، وسمع أبا الفرج ابن الجوزي وغيره,] (¬3) وعاد إلى دمشق، وكانت له حَلْقةٌ بجامع دمشق، وصحب الملك المعظَّم عيسى، وسمع بقراءته الكثير، وكان حافظًا، دَيِّنًا، زاهدًا، وَرِعًا، وتوفي بقاسيون. محمَّد بن علي بن المبارك (¬4) أبو الفتوح، الجَلاجلي، البغدادي، التَّاجر، ويلقَّب بالكمال. ولد سنة إحدى وأربعين وخمس مئة، وقرأ القرآن، وسافر إلى الأقطار، وسمع الشُّيوخ، وكان يتردَّدُ من الخليفة إلى الأشرف في رسائل مخفية، وتوفي بالقُدْس، ودفن بماملَّه (¬5)، وكان عاقلًا دَيِّنًا، صالحًا، ثِقَةً، صدوقًا، متواضعًا، بَسَّامًا. محمَّد بنُ يحيى بن هبة الله (¬6) أبو نَصْر، ابن النَّخَّاس، الواسطي، وبها توفي، ومن شعره [من الطويل]: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 385 - 386، و"المذيل على الروضتين": 1/ 277 - 278، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 42 - 44، و"طبقات علماء الحديث": 4/ 183 - 185، وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من "المذيل على الروضتين". (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 344 - 345، و"المذيل على الروضتين": 1/ 278، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وقد ذكره المنذري في وفيات سنة (612 هـ)، وهذا الصواب. (¬5) ماملَّه: وهي المقبرة التي تزار بالقدس الشريف، انظر "المذيل": 1/ 297. (¬6) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 371، و"المذيل على الروضتين": 1/ 278 - 279، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

يحيى بن محمد

وقائلةٍ لمَّا عَمِرْتُ وصار لي ... ثمانون عامًا عِشْ كذا وابْقَ واسْلَمِ ودُمْ وانتَشِقْ روحَ الحياةِ فإنَّه ... لأَطْيَبُ مِنْ بيتٍ بصَعْدَةَ مُظْلِمِ فقلتُ لها عُذْري لديك مُمَهَّدٌ ... ببيتِ زهيرٍ فاعْلَمي وتَعَلَّمي سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومَنْ يعشْ ... ثمانينَ حَوْلًا لا محالةَ يَسْأَمِ يحيى بن محمَّد (¬1) ابن محمَّد بن محمَّد بن محمَّد [أربع مرات] (¬2)، أبو جعفر، العَلَوي، الحسني البَصْرِي [ويعرف بابن أبي زيد] (2)، ولي نقابة الطَّالبيين بالبَصْرة بعد أبيه مُدَّة، وقرأ الأدب [على أبي عليّ بن الأحمر الحِمَّاني بالبَصْرة، وسمع الحديث من أبيه وغيره] (2). ومولده سنة ثمانٍ وأربعين وخمس مئة، وقدم بغداد، ومدح الإِمام النَّاصر بقصائد [وكان رقيق الشِّعْر، مليحَ النَّظْم، وأجاز لي شعره] (2)، وتوفي ببغداد في رمضان، ودفن بمقابر قريش، ومن شعره: [من البسيط] هذا العقيقُ وهذا الجَزْعُ والبانُ ... فاحبسْ فلي فيه أوطارٌ وأوطانُ آليت والحُرُّ لا يلوي ألِيَّتَه ... أنْ لا يَلَذَّ بطِيبِ النَّوْمِ أجفانُ حتى تعودَ لياليَّ التي سَلَفَتْ ... بالأَجْرَ عَينِ وجيراني كما كانوا أيَّام أغصانِ وَصْلي غير ذاويةٍ ... ورَوْضها خَضِلٌ والعُمْرُ ريعانُ يا حبَّذا شجرُ الجَرْعاءِ من شَجَرٍ ... وحبذا رَوْضُهُ المُخْضَلُّ والبانُ إذا النسيمُ سرى مالتْ ذوائِبُهُ ... كأنَّما الغُصُنُ الممطورُ سَكْرَانُ فللنَّسيمِ على الأغصانِ هَينَمَةٌ ... وللحَمَامِ على الأَفْنان أَلْحانُ وبارقٍ لاحَ والظَّلْماءُ داجيةٌ ... والنَّجْمُ في الأُفُقِ الغَرْبيِّ حَيرانُ هفا فذكَّرَني هيفاءَ ضاحكة ... فلم أَنَمْ وعرى هَمٌّ وأحزانُ كتمتُ حُبَّكِ والأجفانُ تُظْهِرُهُ ... وليس للحُبِّ عند العين كِتْمانُ غادرتِ بالغَدْرِ في الأحشاءِ نار جَوًى ... ومُذْ هجرتِ ففيضُ الدَّمْعِ غُدْرانُ ¬

_ (¬1) له ترجمة "التكملة" للمنذري: 2/ 379، و"المذيل على الروضتين": 1/ 279، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).

السنة الرابعة عشرة وست مئة

[وكانت وفاته ببغداد، ودفن بمقابر قريش، وكان صدوقًا ثقة] (¬1). السَّنة الرّابعة عشرة وست مئة فيها قدم شيخ الشيوخ صدر الدين بن حَمُّويه إلى بغداد رسولًا من العادل، و [قدم بعده] (1) ولده فخر الدين رسولًا من الكامل، وخَلَعَ عليه خِلْعةً بطَيلَسان. وذكر محيي الدِّين محمَّد بن يحيى بن فَضْلان الدَّرْس في النِّظامية. وفيها زادت دِجْلة زيادةً عظيمة، وركب الخليفة في شَبَّارة، وخاطب النَّاس وتأوَّه لهم، وقال: لو كان هذا الماء يُرَدُّ بمالٍ أو حَرْبٍ دفعتُهُ عنكم، ولكنَّ أمرَ الله، ما لأحدٍ فيه حِيلة. وانهدمت بغدادُ بأَسْرها والمحالّ، ووصل الماء إلى رأس السُّور، وبقي مقدار أصبعين ويَطْفَحُ عليه (¬2)، وأيقنَ النَّاسُ بالهلاك، ودام سبعَ ليالٍ وثمانية أيامٍ حسومًا، ثم نَقَصَ الماء، وبقيت بغداد [من الجانبين] (1)، تلولًا لا أثر لها (¬3). وفيها قدم محمَّد خوارزم شاه إلى هَمَذَان على قَصْدِ بغداد في أربع مئة ألف [على ما قيل] (1) وقيل: ست مئة ألف، واستعدَّ له الخليفة، وفرَّق الأموال والسِّلاح، وأرسل إليه الشِّهاب السُّهْرَوَرْدِي في رسالةٍ فأهانه، واستدعاه، وأوقفه إلى جانب تخته، ولم يأذن له في القعود، فحكى الشِّهاب قال: استدعاني، فأتيتُ إلى خيمةٍ عظيمة لها دِهْليز لم أر في الدُّنيا مِثْلَه، والدِّهْليز والشُّقَّة أطلس، والأطناب حرير، وفي الدِّهْليز ملوكُ المعجم على اختلاف طبقاتهم، [منهم] (1) صاحب هَمَذَان وأصبهان والرَّي وغيرها، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (م) و (ش). (¬2) عدَّ الذهبي هذا الخبر من مجازفات سبط ابن الجوزي، انظر "السير": 22/ 230 - 231. (¬3) إلى هنا ينتهي الجزء الثاني من نسخة (م) وجاء في آخرها: تمّ الجزء الرّابع عشر من "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان": لابن الجوزي قدس الله روحه، ونور ضريحه، وصلَّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. يتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء الخامس عشر السنة الرابعة عشرة وست مئة، وافق الفراغ من نسخه في الحادي عشر من شهر شوال سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، أحسن الله عاقبتها. قلت: وسيكون اعتمادي من هنا وحتى آخر الكتاب في إثبات زيادات هذا المختصر من "مرآة الزمان" على النسخة (ش).

فدخلنا إلى خيمةٍ أُخرى إبْرَيسَم وفي دِهْليزها ملوك خُرَاسان: مرو ونَيسابور وبَلْخ وغيرهم، ثم دخلنا خيمةً أخرى وملوك ما وراء النَّهر في دِهْليزها كذلك ثلاث خيام، ثم دخلنا عليه وهو في خركاة عظيمة من ذهب، وعليها سجافٌ مُرَصَّع بالجواهر وهو صبيٌّ له شعراتٌ قاعدٌ على تحت ساذج، وعليه قَبَاء بخاريٌّ يساوي خمسة دراهم، وعلى رأسه قطعةٌ من جلد تساوي دِرْهمًا، فَسَلَّمْتُ عليه، فلم يَرُدَّ، ولا أمرني بالجلوس، فشرعتُ، فخطبتُ خُطْبةً بليغة ذكرتُ فيها فَضْلَ بني العَبَّاس، ووصفتُ الخليفةَ بالزُّهْد والورع والتُّقى والدِّين، والتّرجمان يعيد عليه قولي، فلما فرغتُ قال للترجمان: قُلْ له هذا الذي تصفه ما هو في بغداد. قلتُ: نعم. قال: "أنا، (¬1) أجيء وأُقيم خليفةً يكون بهذه الأوصاف. ثم ردَّنا بغير جواب، ونزل الثَّلْج عليهم، فهلكت دوابُّهم، وركب خوارزم شاه يومًا، فعثرت به فرسه، فتطيَّر، ووقع الفساد في عَسْكره، وقلَّتِ الميرةُ، وكان معه سبعون ألفًا من الخطا، فردَّه الله، ونكب تلك النكبة العظيمة، وسنذكرها إنْ شاء الله تعالى. وفيها انفسختِ الهُدْنة بين المُسْلمين والفرنج، وجاء العادل [من مصر بالعساكر فنزل على بيسان، والمعظم عنده في العساكر الشامية، وخرج الفرنج] (1) من عكا، ومقدَّمهم ملك الهنكر في خمسة عشر ألفًا، وكان شجاعًا مقدامًا، فنزلوا عين الجالوت، ومعه جميع ملوك السَّاحل، فلما أصبحوا ركب الهنكر في أوائلهم، وقَصَدَ العادل، [وكان العادل على تل بَيسان] (1)، فنظر، فرأى أَنَّه لا قِبَلَ له بهم، فتأخَّر، فقال له المُعَظَّم: إلى أين؟ فشتمه بالعجمية، وقال: بمن أقاتل؟ أقطعتَ الشَّام مماليكك، وتركتَ أولادَ النَّاسِ الذين يرجعون إلى الأُصول! [وذكر كلامًا في هذا المعنى] (1)، وساق، فعبر الشَّريعة عند برفا، وجاء الهنكر إلى بَيسان، وبها من الأسواق والغلال والمواشي شيء لا يعلمه إلا الله تعالى، فأخذ الجميع، وارتفع العادل إلى عَجْلُون، ومضى المعظم، فنزل بين نابُلُس والقُدْس على عقبة اللبن خوفًا على القُدْس، وأقام الفرنج على بَيسان ثلاثة أيام، ورحلوا طالبين قَصْرَ ابن معين ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش)، وانظر "المذيل على الروضتين": 1/ 284.

الدِّين، وسار العادل، فنزل رأس الماء، وصَعِدَ الفرنج عقبة الكرسي إلى خربة اللصوص والجولان، وأقاموا ثلاثة أيام ينهبون ويقتلون ويأسرون، ثم عادوا، فنزلوا الغَوْر، وبَعَثَ العادل أثقاله ونساءَه إلى بُصْرى، وأقام على رأس الماء جريدةً، ولما نزل الفرنج الغَوْر جاء العادل، فنزل عالقين. حديث صعودهم إلى الطُّور: لما رجعوا من خربة اللصوص، ووصلوا إلى تَلِّ الفرس قريبًا من نوى، رجعوا نزلوا تحت الطُّور يوم الأربعاء ثامن عشرين شعبان، وأقاموا إلى يوم الأحد ثاني رمضان، وكان يومًا كثير الضَّباب، فما أحسَّ بهم أهلُ الطُّور إلا وهم عند الباب قد ألصقوا رماحهم بالسُّور، ففتح المسلمون الباب، وخَرَجَ إليهم الفارس والرَّاجل، وقاتلوهم حتى رَمَوْهُمْ إلى أسفل الطُّور، فلما كان [يوم الثلاثاء] (¬1) رابع رمضان طلعوا بأَسْرهم، ومعهم سُلَّمٌ عظيم، فزحفوا من ناحية باب دمشق، وألصقوا السُّلَّم بالسُّور، فقاتلهم المسلمون قتالًا لم يجر في الإِسلام مثله، ودخلتْ رماحُ الفرنج من المرامي من كلِّ ناحية، فضرب بعض الزَّرَّاقين السُّلَّم بالنِّفْط، فأحرقه، وقتل عنده جماعة من أعيان الفرنج منهم كند كبير، فلما رأوه مقتولًا صاحوا وبكوا، وكسروا عليه رماحهم. واستشهد في ذلك اليوم من أبطال المسلمين بدر الدين محمَّد بن أبي القاسم، وسيف الدين بن المَرْزُبان، وكانا من الصَّالحين الأجواد، وأغلق المسلمون بابَ الطُّور، وجبن جماعة منهم عن القتال، ونسبوا معن الحداثي إلى ذلك، ولم يكن كما قالوا، وإنما غُلب النَّاس لما رأوا ابن أبي القاسم وابن المَرْزُبان مقتولين، وبات النَّاس عشية الأربعاء يداوون جراحاتهم، وضربوا مشورة، واتفقوا على أنَّهم يقاتلون قتال الموت ولا يُسَلِّمون أنفسهم لئلا يجري عليهم ما جرى على أهل عكا. وكان في الطُّور أبطال المسلمين، وخيار عسكر الشام، فقال الأمين الحلبي (¬2) في ذلك: [من البسيط] قُلْ للخليفةِ لا زالتْ عساكِرُهُ ... لها إلى النَّصْرِ إصْدارٌ وإيرادُ إنَّ الفرنج بحِصْنِ الطُّور قد نزلوا ... لا تَغْفُلَنَّ فحِصْنُ الطُّورِ بغدادُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ستأتي ترجمته ص 392 من هذا الجزء.

إبراهيم بن عبد الواحد

[وأنشدني إياها الأمين الحلبي] (¬1) وبات النَّاس على عَزْمِ القتال، وأوقد الفرنج حول الطور النِّيران، فلما كان وقتُ السَّحَر يوم الخميس سادس رمضان رحلوا طالبين عكا، وجاء المُعَظَّم، فصَعِدَ الطُّور، وبكى على بدر الدين بن أبي القاسم وابن المَرْزُبان، ومَنْ قُتِلَ، وأطلقَ المال والخِلَعَ، وطيَّب قلوبَ النَّاس، ثم اتَّفق العادلُ والمعظم على خراب الطُّور في السنة الآتية، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها وصل الفرنج جزِّين؛ ضيعة قريبة من مَشْغَرى، ولما عادوا من الطُّور، فقصد ابن أُخت الهنكر صيدا وقال: لا بُدَّ لي من أهل هذا الجبل. فنهاه صاحبُ صيدا، وقال: هؤلاء رماة، وبلدهم وَعْرٌ. فلم يقبل، وصَعِدَ في خمس مئة من أبطال الفرنج إلى جزّين ضيعة الميادنة، فأخلاها أهلُها، وجاء الفرنج، فنزلوا بها، وترجَّلوا عن خيولهم ليستريحوا، فتحدَّرَتْ عليهم الميادنة من الجبال، فأخذوا خيلهم، وقتلوا عامَّتهم، وأسروا ابنَ أُخت الهنكر، وهرب مَنْ بقي منهم نحو صيدا، وكان معهم رجلٌ يقال له الجاموس من المُسْلمين قد أسروه، فقال لهم: أنا أعرف إلى صيدا طريقًا سهلًا أوصلكم إليها. قالوا: إنْ فعلتَ أغنيناك. فسَلَكَ بهم أوديةً وعرة، والمسلمون خلفهم يقتلون ويأسرون، ففهموا أَنَّ الجاموس غَزَهم فقتلوه، ولم يُفْلت إلى صيدا سوى ثلاثة أنفس بعد أن كانوا خمس مئة، وجاؤوا إلى دمشق بالأسارى، وكان يومًا عظيمًا. وحجَّ بالنَّاسِ من العراق ابنُ أبي فراس (¬2). وفيها توفي إبراهيم بن عبد الواحد (¬3) ابن علي بن سرور، أبو إسحاق، الشيخ العماد المقدسي، [أخو الحافظ عبد الغني، الزاهد العابد الورع] (1) الحَنْبَلي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) عقب هذا ستأتي في (ش) ترجمة بهاء الدين أحمد بن أبي الفضائل الميهني، وستأتي في (ح) عقب ترجمة العماد المقدسي. (¬3) له ترجمة "التكملة" للمنذري: 2/ 413 - 414، و"المذيل على الروضتين": 1/ 287 - 291، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

ولد بجمَّاعيل سنة ثلاثٍ وأربعين وخمس مئة [وكان الحافظ أسن منه بسنتين] (¬1)، وهاجر [من جمَّاعيل] (1) إلى دمشق سنة إحدى وخمسين وخمس مئة، ثم سافر إلى بغداد، وقرأ القرآن علي أبي الحسن علي بن عساكر بن المرحب البطائحي وغيره، وسمع الحديث الكثير [ببغداد ودمشق] (1) وكان معتدل القامة، شعره إلى أُذُنيه، مليحَ الوَجْه، بَسَّامًا، عابدًا، مجتهدًا، لا يدَّخر من الدُّنيا شيئًا، حَسَنَ الصَّلاة، كثيرَ السجود والدُّعاء، يُقْرئ القرآن والفِقْه دائمًا في الحَلْقة بجامع دمشق، ويجتمع إليه الطلبة كلَّ ليلة بعد العِشاء الآخرة، فيحملهم إلى بيته، ويُحْضر لهم من الطَّعام ما تيسَّر، وما تعرف إلى أحدٍ من أبناء الدُّنيا قَطُّ لا إلى سُلْطان ولا غيره. ولا تحرَّك حركةً، ولا مشى خطوةً ولا تكلَّم كلمةً إلا لله تعالى، وكان يتعبَّد بالإخلاص، [(¬2) ولقد رأيته مرارًا في الحَلْقة بجامع دمشق، والخطيب يوم الجمعة على المنبر، فيقوم عماد الدين، ويأخذ الإبريق] , ويضع بلبلته في فِيه على رؤوس الأشهاد يوهم النَّاس أَنَّه يشرب، وهو صائم. [(¬3) ذكر ثناء الشيخ الموفق عليه، كان يقول]: أعرفُ العماد من صِغَره، وما عرفتُ أَنَّه عصى الله تعالى قَطُّ، وكان من خِيار أصحابنا، وأعظمهم نَفْعًا، وأشدَّهم عبادةً وورعًا، وأكثرهم صَبْرًا على تعليم القُرْآن والفِقْه، داعيةً إلى السُّنَّة، أقام بدمشق يعلِّمُ الفقراء، ويُطْعِمُهُمْ، ويبذُلُ لهم ماله ونفسه [وطعامه] (1)، وما رأيتُ أشدَّ خوفًا منه لله تعالى، وكان من أشدِّ النَّاس تواضعًا، واحتقارًا لنفسه، كثير الدُّعاء والسؤال، طويلَ الركوع والسجود، يصوم يومًا، ويُفطر يومًا، وكان إذا سُمِعَ عليه جزءٌ، وكتبوا [على ظهره] (1): سُمِعَ على العالم الورع، ينهاهم عن ذلك. وسافر إلى بغداد مَرَّتين: الأُولى في سنة تسع وستين وخمس مئة صحبةَ الشيخ موفق الدِّين -رَحمه اللهُ- بعد أن حَفِظَ القرآن وغريب الحديث، والخِرَقي، وتفقَّه ببغداد على أبي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): وكان يقوم يوم الجمعة في حلقة الحنابلة بجامع دمشق، والخطيب على المنبر، فيأخذ الإبريق ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ح): وقال الشيخ موفق الدين رَحمه الله، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

الفَتْح بن المَنِّي، وأفتى وناظر. والسفرة الثانية سنة إحدى وثمانين صحبة عز الدين ابن أخيه، وصنَّف كتاب "الفروق بين المسائل الفقهية" وكتاب "الأحكام"، ولم يتمَّه. [وكان يحضر مجالسي دائمًا بجامع دمشق وقاسيون، ولا ينقطع إلا من عذر، ويقول: صلاح الدين يوسف فتح الساحل وأظهر الإِسلام، وأنت يوسف أحييت السُّنَّة بالشام. وكان يزورني، ويتبسَّط إليَّ، ويحب مجالسي] (¬1). ذِكْرُ وفاته: لما كان عَشِيَّة الأربعاء سادس عشر ذي القَعْدة صَلَّى المغرب بجامع دمشق، وكان صائمًا، وأفطر في داره على شيء يسير، فجاءه الموتُ في الليل، فجعل يقول: يا حيُّ يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. وتوفي، فَغُسِّل وقتَ السَّحَر، وأُخرجت جنازته إلى جامع دمشق، فما وسع النَّاسَ الجامعُ، وصلى عليه شيخنا موفق الدين بعد جهد [جهيد] (1)، وكان يومًا لم يُرَ في الإِسلام مِثْلُه؛ كان أَوَّلُ النَّاس عند مغارة الدَّم ورأس الجبل إلى الكهف، وآخرهم بباب الفراديس، ولولا [المبارز] (1) المعتمد -رحمه الله- وأصحابه لقطعوا أكفانه، وما وصل إلى الجبل إلى آخر النَّهار. قال المصنف رحمه الله: وتأمَّلْتُ النَّاس من أعلى قاسيون إلى الكهف إلى قريب الميطور لو رمى الإنسانُ عليهم إبرةً لما ضاعت، فلما كان في الليل نمتُ وأنا مفكِّر في جنازته، وذكرتُ أبيات سفيان الثَّوْري التي أنشدها في المنام [الذي من جملتها هذا البيت النفيس] (1): [من الطويل] نظرتُ إلى ربي كِفاحًا وقال لي ... هنيئًا رضائي عنكَ يا ابنَ سعيد وقد ذكرتُ الأبيات في ترجمة سُفْيان، وقلت: أرجو أَنَّ العماد يرى رَبَّه كما رآه سُفْيان عند نزول حُفْرته، ونمتُ، فرأيتُ العماد في النوم، وعليه حُلَّة خضراء، وعِمامة خضراء، وهو في مكانٍ متَّسع كأَنَّه رَوْضة، وهو يرقى في دَرَج مرتفعة، فقلتُ: يا عمادَ الدِّين، كيف بِتَّ، فإني والله مفكِّرٌ فيك؟ فنظر إليَّ، وتبسَّم على عادته، وقال: [من الطويل] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

رأيتُ إلهي حين أُنْزِلْتُ حُفْرتي ... وفارقتُ أصحابي وأَهْلي وجِيرَتي فقال جُزِيتَ الخيرَ عنِّي فإنَّني ... رضيتُ فها عَفْوي لديك ورَحْمتي دأبتَ زمانًا تأمُلُ الفوز والرِّضى ... فَوُقِّيتَ نيراني ولُقِّيتَ جَنَّتي فانتبهتُ مرعوبًا، وكتبتُ الأبيات. (¬1) [سمع ببغداد أبا محمَّد بن الخشَّاب النَّحوي، وشُهْدة الكاتبة، وعبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد بن يوسف، وغيرهم، وبالشام أبا المكارم عبد الواحد بن محمَّد بن المُسَلَّم، وسلمان بن علي الدمشقي، وعبد الله بن صابر وغيرهم، وروى لنا عنهم] , ورثاه جماعةٌ, منهم الصَّلاح موسى بن الشِّهاب، [وكان الصَّلاح عارفًا، أديبًا، ذا معرفة بالشِّعْر والأدب، فاضلًا, عاقلًا، ظريفًا، حلو الشعر والمنطق] (¬2)، فقال: [من البسيط] الحمدُ لله في كلِّ الأمورِ فما ... يقضي الإله علينا فَهْوَ مَقْبولُ نرضى بما جاءنا منه ونشكره ... على الرُّؤوسِ قضاءُ الله محمولُ أُسائِلُ القَلْبَ عن صبري فنفقده ... وأسألُ النَّوْمَ عَيني وهو تعليلُ يا شيخنا يا عمادَ الدِّين قد قَرِحَتْ ... عيني وقلبي منك اليوم مَتْبُولُ أصبحتُ بعدك في هَمٍّ وفي حَزَنٍ ... وإنَّني بسيوف الغَمِّ مَتْبُولُ أوحشتَ والله رَبْعًا كنتَ تسكنه ... لكنَّه الآن بالأحزانِ مأهولُ كم ليلةٍ بتَّ تُحييها وتَسْهَرُها ... والدَّمْعُ من خشيةٍ لله مَسْبولُ وسجدةٍ طالما طال القنوتُ بها ... قد زانَها منكَ تكبيرٌ وتهليلُ فاليومَ بعدك ركنُ الدِّين منهدمٌ ... وطالبُ العِلْم حيرانٌ ومخذولُ قد كنتَ للسُّنَّةِ الغَرَّاء تنصرها ... إذْ أنتَ سيفٌ على الأعداءِ مسلولُ يا ذا الذي كان للدُّنيا يزيِّنُها ... كأنَه في جبينِ الدَّهْرِ إكليلُ وما يدومُ سوى وجه الإله وقد ... جاءتْ بذلك آثارٌ وتنزيلُ ¬

_ (¬1) في (ح): سمع من خلق كثير، وروى عنهم ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

أحمد بن أبي الفضائل بهاء الدين الميهني

أحمد بن أبي الفَضَائل بهاء الدِّين المِيهَني (¬1) شيخ رباط الخِلاطية، [من بيت التصوف] (¬2)، كان أبوه أبو الفضائل عبد المنعم شيخ المشايخ، وسيِّدَ الصُّوفية، وسَلَّم الخليفة إلى بهاء الدين رباط الخلاطية [وأوقافها] (2) ثقةً به [من غير مُشْرف ولا عَمَل حساب، فأقام مدة، فقصده الناس من البلاد وأطراف بغداد وأرباب البيوت والفقراء والفقهاء والأعيان,] (2) فما رَدَّ قاصدًا، ولا منع سائلًا، وكان له الجاه العظيم [والذكر الجميل] (2). وكان له عبدٌ أسود اسمه ريحان، فخان في المال، وبلغ الخليفة، فأخذه، فأقَرَّ، وقال: المال عند أُخت بهاء الدين، فعزل [بهاء الدين عما كان عليه] (2)، ورأى الذُّلَّ [والهوان بعد العز والإمكان] (2) ومرض [بهاء الدين في تلك الحالة، فولى الخليفة القاضي الزنجاني أمر الرباط,] (2) وحُمل [بهاء الدين] (2) إلى بيت أخته [على نهر عيسى] (2)، فتوفي ثامن رجب، ودفن في الشُّونيزية في صُفَّة الجنيد عند أبيه. [سمع شهدة الكاتبة وابن البطي وغيرهما، وصحب أباه، وأخذ عنه طريقة التصوف] (2). عبد الصمد بن محمَّد (¬3) ابن أبي الفَضْل بن علي بن عبد الواحد، أبو القاسم، القاضي جمال الدين، الحَرَسْتاني الأنصاري، شيخ القضاة. ولد بدمشق سنة عشرين وخمس مئة، ونشأ بها، وسمع من مشايخها، ورحل إلى حلب، فسمع من الحافظ المُرَادي وغيره، وعاد إلى دمشق، وولي القضاء في زمن ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 332، و"التكملة" للمنذري: 2/ 405، و"المذيل على الروضتين": 1/ 286 - 287، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 415 - 416، و"المذيل على الروضتين": 1/ 291 - 296، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

العادل، وكان زاهدًا عابدًا ورعًا عفيفًا [نَزِهًا] (¬1)، لا تأخذه في الله لومةُ لائم، [واتفق أهل دمشق على أنه] (¬2) ما فاتته صلاةٌ بجامع دمشق في جماعة إلا إذا كان مريضًا، وكان ينزل من بيته في الحُوَيرة في سُلَّم طويل، فيصلِّي ويعود إلى داره، ومصلاه بيده، وكان مقتصدًا في ثيابه وفي عَيشه، وما كان يمكِّن أحدًا من غِلْمان القضاة يمشي معه. [بل كأَنَّه بعضُ الناس. وحكى ولده عماد الدين قال] (1): كان أحد بني قوام يعاملُ الملكَ المُعَظَّم عيسى في السُّكَّر، ويتَّجر له (¬3)، فمات [ابن قوام] (1)، فطرح ديوان المعظَّم يده على تركته، وبعث المعظَّم إلى القاضي يقول: هذا الرجل كان يتاجر لي بمالي والتركة لي، وأريد تسلُّمها. فأرسلَ إليه القاضي يقول: لا أُسَلِّم إليك تركته حتى تحلف أنك تستحقها. فقال المعظم: والله ما أحقق مالي عنده. فقال القاضي: وأنا والله ما أسلم إليك حتى تحلف، فما حلف، ولا أثبت له القاضي شيئًا. [وحكى لي جماعة من الدماشقة أن العادل سيف الدين كتب لبعض خواصِّه كتابًا بالوصية في حكومة بينه وبين] (¬4) رجل، فجاء إليه، ودفع إليه الكتاب، فقال: أيش فيه؟ قال: وصيةٌ بي. فقال: أحضرْ خَصْمك. فأحضره والكتاب بيده لم يفتحه، وادَّعى على الرجل، فظَهَرَ الرَّجلُ على حامل الكتاب، فقضى عليه، ثم فتح الكتاب وقرأه، ورمى به إلى حامله، وقال: كتاب الله قد حكم على هذا الكتاب. فمضى الرجلُ إلى العادل، وبكى بين يديه، وأخبره بما قال، فقال: صَدَقَ، كتابُ الله أَوْلى من كتابي. وكان يقول للعادل: ما أحكم إلا بالكتاب والسنَّة، وأنا فما سألتك القضاء، فإن شئت وإلا فأبصر غيري. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): وما فاتته ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) انظر حاشيتنا رقم 1 ص 190 من هذا الجزء. (¬4) في (ح): وكتب إليه العادل كتابًا يوصيه ببعض خواصه في حكومة بينه وبين رجل ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

و [حكى لي الشمس بن خلدون قال] (¬1): أحضر له ولدهُ عماد الدِّين صحن حلوى سخنة، وقال: يا سيدي، كُلْ منه. فَغَضِبَ وقال: من أين هذا؟ أتريد أن تدخلني النَار؟ ولم يأكل منه. وكانت وفاته يوم السبت رابع ذي الحجة عن نيف وتسعين سنة، ودفن بقاسيون. [نقلت من خط ولده القاضي عماد الدين قال: سمع والدي أبو القاسم عبد الصمد بن محمَّد بن أبي الفضل بن علي الأنصاري كتاب "المعجم" لابن جُمَيع الغَسَّاني الصيداوي [من جمال الإِسلام علي بن المُسَلَّم بن محمَّد السُّلَمي الدمشقي] (¬2) وهو يعرف بابن الشهرزوري، عن أبي نصر الحسين بن محمَّد بن أحمد بن طلاب، عن أبي الحسين محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن جُمَيع بصيدا قراءةً عليه في سنة أربع وتسعين وثلاث مئة. قال: وسمع عليه أجزاء كثيرة فيما بين سنة خمس وعشرين وخمس مئة إلى سنة ثلاثين. وسمع أيضًا كتاب "مكارم الأخلاق" لأبي بكر الخرائطي، عن عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي، عن أبي الحسين أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد، عن جده محمَّد بن أحمد، عن الخرائطي. قال: وسمع كتاب "الموطأ" لمالك بن أنس رواية يحيى بن بكير، عن أبي الحسن علي بن أحمد بن قبيس المالكي. قال: ودخل حلب في سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة، فسمع على الحافظ المرادي "صحيح مسلم" عن الفراوي، عن الجُلُودي، عن [أبي إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن سفيان، عن] (¬3) مسلم. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ش) لابن جُميع الغساني الصيداوي بصيدا، قراءة عليه في سنة أربع وتسعين وثلاث مئة، ويعرف هو بابن الشهرزوري، عن أبي نصر الحسين بن محمد بن أحمد بن طلاب، عن أبي الحسين محمد بن أحمد بن جُميع. والعبارة غير مستقيمة، صححناها على هدي إسناده لابن جميع كما أورده الذهبي في "السير": 17/ 155. (¬3) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا ليصح الإسناد.

محمد بن أبي القاسم بن محمد

قلت: وقد سمع خلقًا كثيرًا، وأجاز له جماعة من المشايخ بنيسابور، منهم أبو عبد الله محمَّد بن الفضل الفراوي، وابن عبد الكريم صاحب "الرسالة"، ومن أهل بغداد قاضي المارستان، وابن السمرقندي وابن الأنماطي وغيرهم، وسمع من الحافظ ابن عساكر، ومن عامة شيوخ الحافظ، وقد سمعت منه أجزاء في مقصورة الخضر - عليه السلام -] (¬1). محمَّد بن أبي القاسم بن محمَّد (¬2) أبو عبد الله الهَكَّاري، الأمير بدر الدين. استُشْهِدَ على الطُّور، وأبلى في ذلك اليوم بلاءً حسنًا، وكان من المجاهدين، له المواقفُ المشهورة في قتال الفرنج، وكان من أكابر أمراء المُعَظَّم، كان يستشيره، ويصدر عن رأيه، ويثق به لصلاحه ودينه، وكان سَمْحًا، لطيفًا، دَيِّنًا، وَرِعًا، بارًّا بأهله وبالفقراء والمساكين، كثيرَ الصَّدقات، دائم الصِّلات، بني بالقُدْس مدرسةً للشَّافعية، ووَقَفَ عليها الأوقاف، وبنى مسجدًا قريبًا من الخليل عليه السَّلام عند قبر يونس عليه السَّلام على قارعة الطَّريق، [وكان ملازمًا لمجالسي بالقدس] (1)، وكان يتمنَّى الشَّهادة دائمًا، ويقول: ما أحسنَ وَقْعَ سيوفِ الكُفَّار على أَنْفي وَوَجْهي. فاستجابَ الله له دعاءه، ورزقه الشهادة، ونُقِلَ من الطُّور إلى القُدْس، فدفن بتربته بمامَلَّه، رحمه اللهُ. يحيى بنُ عبد الملك بن إبراهيم (¬3) ابن إلْكِيَا الهَرَّاسي. كان فاضلًا، ومن شِعْره: [من المتقارب] أتيتُ الوزيرَ فألفَيتُهُ ... عزيزَ اللِّقاءِ منيعَ الحجابِ وحاولت أني أرى لوصولٍ ... إليه سبيلًا فأعيا طِلابي فعدت وقد وقع اليأسُ لي ... عسى فرجٌ لم يكن في حسابي ومات في ذي القَعْدة، ودفن بالشُّونِيزِيَّة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 296 - 297، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 414 - 415، و"تاريخ الإِسلام": للذهبي (وفيات سنة 614 هـ).

السنة الخامسة عشرة وست مئة

السَّنة الخامسة عشرة وست مئة [وفيها أعيد خالي أبو محمَّد يوسف إلى الحسبة] (¬1). وفيها أفرج الخليفة عن ولده أبي نَصْر محمَّد، وأَذِنَ له في الركوب حيث شاء. وفيها نزلتِ الفرنج على دِمْياط في ربيع الأول، وكان العادل بمرج الصُّفَّر، فبعث بالعساكر التي كانت عنده إلى مِصْر إلى الكامل، وأقام المعظَّم بالسَّاحل بعسكر الشَّام في مقابلة الفرنج. وفيها استدعى العادل ولده المعظم عيسى، وقال له: قد بنيتَ هذا الطور، وهو يكون سببًا لخراب الشَّام، وقد سَلَّم الله مَنْ كان فيه من أبطال المسلمين وسلاح الدنيا والذخائر، وأرى من المصلحة خرابه ليتوفَّر مَنْ فيه من المسلمين والعُدَد على حِفْظ دمياط، وأنا أعوِّضُك. فتوقَّف المعظم، وبقي أيامًا لا يدخل إلى العادل، فبعث إليه فأرضاه بمالٍ، ووعده في مِصْر ببلادٍ، فأجاب، وبعث فنقل ما كان فيه من العُدَد والذَّخائر إلى القُدْس وعَجْلون والكَرَك ودمشق. وفي يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر كسر الملكُ الأشرفُ ملكَ الرُّوم كيكاووس وسببه أَنَّ الأشرف جمع عساكر الشَّرْق وعسكر حلب، ودخل بلدَ الفرنج ليَشْغَلَهُمْ عن دمياط، ونزل على صافيتا وحِصْن الأكراد، وكان العادل بمرج صُفَّر، وتقدم إلى عالقين، فخرج ملكُ الرُّوم، ووصل إلى رَعْبان يريد أن يُلِمَّ بحلب، ونزل [إليه الأفضل من سميساط، وأخذوا رَعْبان وتل باشر وبلغ الأشرف,] (1) فعاد من صافيتا إلى حلب، وقد سَبَقَه ملكُ الرُّوم إلى مَنْبج، وتقدَّم بعضُ عسكرهم إلى بزاغة، [فرحل] (1) الأشرف [فنزل] (¬2) بظاهر حلب، فقدَّم بين يديه المبارِزَين: ابن خُطْلخ وسُنْقُر الحلبي، وجماعةً معروفين، ورحل بعدهم فنزل باب بزاغة، وقدَّم العرب بين يديه، وجاء عسكر الرُّوم إلى السَّاجور، ووقع اليَزَك على اليزك، والعرب بين أيديهم، فكسروا الرُّوم، ورجع صاحبُ الروم إلى بلاده، والأفضل إلى سُمَيساط، وأكثر ما أنكى فيهم العرب. واستردَّ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "المذيل على الروضتين": 1/ 298. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

داود بن أبي الغنائم

الأشرفُ رَعْبان وتل باشر، وأعطاهما لطُغْريل أتابَك، وبعث الأشرف سيف الدين بن كهدان والمبارز بن خُطْلخ إلى دمياط نجدةً للكامل. وخطب الصَّالح محمود بن أُرْتُق صاحبُ آمِد للرُّومي، وقَطَعَ خُطْبة العادل. وفي آخر جمادى الأُولى أخذ الفرنج بُرْج السِّلْسلة، وأرسل الكامل شيخَ الشيوخ صدر الدين إلى العادل يخبره، ويستصرخ به، فلما اجتمع بالعادل وأخبره، دَقَّ بيده على صَدْره، ومَرِضَ مَرَضَ الموت. وفي جُمادى الآخرة التقى المُعَظَّم بالفرنج على القيمون فَنُصِرَ عليهم، وقَتَلَ منهم مقتلةً عظيمة، وأَسَرَ من الدَّاوية مئة فارس، وأدخلهم القدس منكَّسة أعلامُهم. وفيها وصل رسول خوارَزْم شاه إلى العادل وهو بمرج الصُّفَّر، فبعث في الجواب الخطيبَ الدَّوْلعي والنجم خليل قاضي العسكر، فوصلا هَمَذَان، فوجدا الخوارزمي قد اندفع بين يدي الخَطَا، وقد خامر عليه عسكره، فسار إلى حَدِّ بخارى، فاجتمعا بولده جلال الدِّين، فأخبرهما بوفاة العادل، فرجعا إلى دمشق. وحجَّ بالنَّاس من بغداد أقباش النَّاصري. وفيها توفي داود بن أبي الغنائم (¬1) أبو سليمان المُلْهَمي، [من بني مُلْهَم] (¬2)، الضَّرير. كان على رأي الأوائل، ويتستَّر بمذهب الظَّاهرية، ويسكن رباط المأمونية، وكان فاضلًا إلا أنه يُسقِّف ويهذي [(¬3) من جنس ابن الرَّاوندي. قال لي يومًا: قد بلغني أنك جميل الصورة، فصيح اللسان، واشتغل بعلوم الأوائل قال: فقلتُ له: أنشدني من فصاحتك، فأنشدني لنفسه: [من الوافر] ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 420، و"المذيل على الروضتين": 1/ 300 - 301، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ح): إلّا أنه يسقف ويهذي، توفي في المحرّم، ودفن بالشونيزية، وقد جاوز سبعين سنة، ومن شعره ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

عبد الله بن الحسين

إلى الرحمن أشكو ما ألاقي ... غداةَ غَدَوا على هُوج النِّياقِ نشدتُكُم بمنْ زمَّ المطايا ... أمرَّ بكُمْ أمرّ من الفِراقِ وهل داءٌ أشدُّ من التنائي ... وهل عيشٌ ألذُّ من التلاقي وكانت وفاته في المحرم، ودفن بالشونيزية، وقد جاوز سبعين سنة]. عبد الله بن الحسين (¬1) أبو القاسم، عماد الدين الدَّامَغَاني، الحنفي، قاضي القضاة. ولد في رجب سنة أربعٍ وستين وخمس مئة، وكان له سمتٌ ووَقَار، ودينٌ وعِفَّة، وتوفي في ذي القَعْدة، ودُفِنَ بالشُّونيزية. عبد الله بن عبد الرحمن بن سُلْطان (¬2) أبو طالب القرشي، القاضي شرف الدين. ولي القضاء بدمشق نيابةً عن ابن التركي، وكان فقيهًا فاضلًا، نَزِهًا لطيفًا عفيفًا، وتوفي في شعبان، وصُلِّيَ عليه بجامع دمشق، ودُفِنَ عند مشهد القدم. علي بن أحمد بن روح (¬3) أبو الحسن. كان نائبًا عن القضاة ببغداد، توفي في رمضان، وقد جاوز السبعين، ودُفِنَ في الشُّونِيزِيَّة، ومن شعره: [من الطويل] وقد كنتُ أشكوك الحوادثَ بُرْهةً ... وأستمرضُ الأيَّامَ وَهْيَ صحائحُ إلى أن تَغَشَّتْني وُقِيتَ حوادثٌ ... تُحقِّقُ أَنَّ السَّالفاتِ منائحُ ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 448، و"المذيل على الروضتين": 1/ 302، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 437 - 438, و"المذيل على الروضتين": 1/ 301، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 443 - 444، و"المذيل على الروضتين": 1/ 301 - 302، وفيه تتمة مصادر ترجمته، واسمه في المصادر: علي بن روح بن أحمد.

كيكاووس، عز الدين، صاحب الروم

كِيكَاووس، عِزُّ الدين، صاحب الروم (¬1) كان جَبَّارًا، ظالمًا، سفَّاكًا للدِّماء، ولما عاد إلى بلده من كَسْرة حلب اتَّهم أقوامًا من أُمراء دولته أنهم قَصَّروا في قتال الحلبيين، فَسَلَقَ بعضَهم في القُدور، وجعل آخرين في بيتٍ وأحرقهم، فأخذه الله بغتةً؛ مات سكران فجأة، وقيل: بل ابتلي في بدنه، فتقطَّع. وكان أخوه علاء الدِّين كَيقُباذ محبوسًا في قلعةٍ وقد أَمَرَ بقتله، فبادَرَ الأمراءُ فأخرجوه، وأقاموه في المُلْك، وكانت وفاة كيكَاووس في شوال، وهو الذي أطمع الفرنج في دِمْياط. محمَّد بن أيوب (¬2) ابن شاذي بن مروان (¬3)، أبو بكر، الملك العادل سيف الدين، وكنيته أشهرُ مِنْ اسمه. قال المصنف رحمه الله: سأَلْتُه عن مولده، فقال: فتوح الرُّها، يعني سنة تسعٍ وثلاثين وخمس مئة. قد ذكرنا أحواله [(¬4) مع أخيه صلاح الدين في إعطائه إياه مصر، ثم حلب، ثم الشرق والكرك والشوبك، وما يتعلق بذلك، وما جرى بينه وبين أولاد أخيه في ممر] السِّنين إلى أن استقرَّ له المُلْك، وامتدَّ من بلاد الكُرْج إلى هَمَذَان والجزيرة والشَّام ومِصْر والحجاز ومكَّة والمدينة إلى حَضْرموت، وكان ثَبْتًا، خليقًا بالملك، قُعْدُدًا، حسن التَّدْبير، حليمًا صَفُوحًا، مدبرًا للممالك على الوَجْه المرضي، عادلًا، مجاهدًا، دَيِّنًا، عفيفًا، متصدِّقًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، طَهَّر جميع ولاياته من الخمور والخواطئ والقمار والمخانيث والمكوس والمظالم، وكان الحاصل من هذه الجهات بدمشق على الخصوص مئة ألف دينار، فأبطل الجميع لله تعالى، وكان واليه المبارز المعتمد قد أعانه على ذلك؛ أقام رجالًا على عِقاب قاسيون وجبل الثلج، وحوالي دمشق بالجامكية والجراية يحرمون أحدًا يدخل دمشق بمنكر ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 347 - 350، و"المذيل على الروضتين": 1/ 308 - 309، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) سلفت أخباره مفرّقة على السنين في هذا الكتاب، وله ترجمة في "المذيل على الروضتين" 1/ 303 - 307، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) الصحيح أنه لا يُعرف في نسبه جد فوق شاذي، انظر "كتاب الروضتين": 2/ 250 - 251. (¬4) في (ح): وقد ذكرنا أحواله في السنين إلى أن ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

[فكان أهل الفساد يتحيَّلون ويجعلون زقاق الخمر في الطبول، ويدخلون بها إلى دمشق، فمنع من ذلك] (¬1). قال المصنِّف: بلغني أَنَّ بعضَ المغاني دخلت على العادل في عُرْس، فقال لها: أين كنتِ؟ قالت: ما قدرت آجي حتى وفيت ما عليّ للضَّامن. فقال: وأيّ ضامن؟ قالت: ضامن القيان. فقامتْ عليه القيامة، وطلب المعتمد، [وعمل به ما لا يليق] (1) وقال: والله لئن عاد بلغني مثل هذا لأفعلن وأصنعنَّ. ولقد فعل العادل في غلاء مِصْر عقيب موت العزيز ما لم يفعله غيره، كان يخرج في اللَّيل بنفسه ومعه الأموال يفزقها في أرباب البيوت والمساكين، [ولولاه لمات الناس كلهم] (1) وكفَّن تلك الأيام من ماله ثلاث مئة ألف من الغرباء (¬2). وكان إذا مَرِضَ أو تشوَّش مزاجُه خَلَعَ جميع ما عليه وباعه حتى فرسه، وتصدَّق به، وثَبَتَ له على زكي الدِّين قاضي دمشق [لبيت المال] (1) عشرين ألف دينار، وشَرَعَ القاضي يستدينها من النَّاس، فقالت له بعضُ حظاياه: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يوصيك بالقاضي. فأسقطها عنه، ورَدَّه إلى القضاء (¬3). [وقد ذكرنا مواقفه مع أخيه وغزواته وتدبيره مع الانكتار، ولولاه ما انتظم الصُّلْح] (1). ذِكْرُ وفاته: قد ذكرنا وصول شيخ الشيوخ إليه بخبر بُرْج دِمْياط، وأنه انزعج، [ودَقَّ بيده على صدره] (1)، وأقام مريضًا إلى يوم الجُمُعة إلى سابع أو ثامن جُمادى الآخرة، فتوفي بعالقين، وكان المُعَظَّم قد كسر الفرنج على القيمون يوم الخميس خامس جمادى الآخرة، وقيل يوم الأربعاء. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) تعقبه الذهبي في "تاريخ الإِسلام" بقوله: هذا خسف من لا يتقي الله فيما يقوله. (¬3) انظر القصة مفصلة في "المذيل على الروضتين": 1/ 304 - 305، وقد ذكر نحوها ابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء": 729 - 730، وجعلها مع محيي الدين والد زكي الدين الطاهر، والصواب ما ذكره السبط وأبو شامة.

ولما توفي العادل لم يعلم بموته غير كريم الدِّين الخِلاطي، فأرسل الطَّيرَ إلى نابُلُس إلى المعظَّم، فجاء [المعظم] (¬1) يوم السبت إلى عالقين، فاحتاط على الخزائن، وصَبَّر العادل، وجعله في مِحَفَّة، وعنده خادم يروِّحُ عليه، وقد رَفَعَ طَرَفَ سِجافها، وأظهر أَنَّه مريض، ودخلوا به دمشق يوم الأحد، والنَّاس يسلِّمون على الخادم، وهو يومئُ إلى ناحية العادل، ودخلوا به إلى القلعة، وكتموا موته، [ومن العجائب أنهم طلبوا له] (¬2) كفنًا، فلم يقدروا عليه، فأخذوا عمامة الفقيه ابن فارس، فكفَّنوه بها، وأخرجوا قُطْنًا من مِخَدَّة، فلفُّوه به، ولم يقدروا على فأس، فَسَرَقَ كريمُ الدِّين فأسًا من الخندق، فحفروا له به في القلعة، وصلَّى عليه ابنُ فارس، ودفنوه في القلعة. قال المصنف: وكنتُ قاعدًا إلى جانب المعظَّم عند باب الدَّار التي فيها الإيوان، وهو واجمٌ، ولم أعلم بحاله، فلما دُفِنَ أبوه قام قائمًا، وشَقَّ ثيابه، ولَطَمَ على رأسه ووَجْهه، وكان يومًا عظيمًا، وعَمِلَ له العزاء ثلاثة أيام بالإيوان الشمالي، [ولما رأيت المعظم بلغ به الحال تكلمت في أول يوم، فلما انقضى العزاء عتبني المعظم، وقال: يا سبحان الله، أنت صاحب العزاء، أيش كان حاجة إلى كلامك مع ابن الحنبلي! وكان الناصح قد تكلم في ذلك اليوم، فقلت: لا بد من الكلام، فقال: إذا كان ولا بد فليكن في اليوم الثالث، ولا يتكلم معك أحد. فامتثلت ما أمر,] (1) وعمل له العزاء في الدنيا كلِّها، ونودي ببغداد: مَنْ أراد الصَّلاة على الملك العادل الغازي المجاهد في سبيل الله فليحضرْ إلى جامع القَصْر. فَحَضَر النَّاس، ولم يتخلَّف سوى الخليفة، وصَلُّوا عليه صلاة الغائب، وترحَّموا عليه، وتقدَّموا إلى خطباء الجوامع بأَسْرهم، ففعلوا ذلك بعد صلاة الجمعة. [وفوَّض إليَّ الملك المعظم تربة بدر الدين حسن في اليوم الثالث، وكتب بها منشورًا، وبعث به إليَّ] (1). وكان الصَّالح إسماعيل وأخوه قطب الدين أحمد بدمشق، فأمر الصَّالح، فتوجَّه إلى بُصْرى، وأحمد فتوجَّه إلى مِصْر. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): وكتموا موته وطلبوا كفنًا ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

وبقي العادل بالقلعة إلى سنة تسع عشرة وست مئة، ثم نقل إلى تُرْبته التي أنشأها عند دار العقيقي ومدرسته. ذِكْرُ أولاده: كان له عِدَّة أولاد، منهم: شمس الدين ممدود والد الجواد [يونس] (1)، والكامل محمَّد، والأشرف موسى، والمعظَّم عيسى، والأوحد أيوب، والفائز إبراهيم، وشهاب الدِّين غازي، والعزيز عثمان [شقيق المعظم] (1)، والأمجد حسن [شقيقهما أيضًا] (1)، والحافظ رسلان، والصَّالح إسماعيل، والمغيث محمود، ومجير الدِّين يعقوب، وتقي الدين عَبَّاس، وقُطْب الدين أحمد، والقاهر إسحاق، وخليل أصغرهم، وكان له عِدَّةُ بنات أفضلهن ضيفة خاتون صاحبة حلب أم العزيز، [وسنذكرها] (1). ذِكْرُ ما تجدَّد بعد وفاته: لما دَخَلَ رجب رَدَّ المعظم المكوس والخمور، وما كان أبوه أبطله. قال المصنف رحمه الله: فقلتُ له: قد خلفت سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين، فإنَّه كذا فعل لما مات نور الدين. فاعتذر بقِلَّة المال والفرنج. وسار المعظَّم إلى بانياس، وأرسل الصَّارم التِّبْنيني وهو بتِبْنين في تسليم الحصون، فأجابه، فأخرب بانياس، وسار إلى تبنين، فأخربها وهَدَمها، وكانت قُفْل البلاد [وملجأ العباد] (¬1)، وأعطى بلاد شركس لأخيه العزيز، وزوَّجه بنت شركس، وبعث إليه الكامل بالخِلَع، وقال: أدركني. وجاءتِ الفرنج، فنزلوا على شِرْمَسَاح، وأخلى لهم المسلمون الخيام، فطمعوا، ثم رجع عليهم الكامل، فكسرهم، وقَتَلَ منهم خَلْقًا كثيرًا، وعادوا إلى دِمْياط. ونزل الصَّارم وولده ناصر الدين وأصحابه من الحصون، فأكرمهم المعظَّم، وخلع عليهم وأحسن إليهم، وأظهر أنه ما أخرجه بانياس وتبنين إلا خوفًا من استيلاء الفرنج عليهما. وقدم الصَّفي بن شُكْر وزير العادل دمشق من الشرق، وكان العادل قد نقم عليه ونفاه إلى الشرق، فمضى إلى آمد، فأقام بها، فلما مات العادل كتب الكامل إليه يطلبه، فَقَدِمَ دمشق، ونَزَل بظاهرها ببيت رانس على المُؤَيَّد العقرباني، فخدمه المؤيَّد، وكان قد قَلَّ نظره، فأقام أيامًا، ثم توجَّه إلى مِصْر. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

محمد بن تكش خوارزم شاه

محمَّد بن تُكُش خوارَزْم شاه (¬1) قصد العراق في أربع مئة ألف، ووصل هَمَذَان يريد بغداد، وقيل: كان معه ست مئة ألف تحت كل جتر ألف، وكان قد أفنى ملوك خراسان وما وراء النهر، وقَتَلَ صاحب سمرقند، وكان حسنَ الصُّورة، أخلى البلاد من الملوك، واستقلَّ بها، وكان ذلك سببًا لهلاكه. ولما نزل هَمَذَان كان في عساكر سبعون ألفًا من الخطا، فكاتَبَ القُمِّيُّ عساكِرَه، ووعدَهم بالبلاد، فاتفقوا مع الخطأ على قَتْله، وبعث القمي] (2) إليهم بالأموال والخيول والخِلَع سِرًّا، فكان ذلك سببًا لوَهْنه. ولما علم [خوارزم شاه] (¬2) بذلك سار من هَمَذان طالبًا خُراسان، فنزل مرو، والتقى في طريقه الخيل والخِلَع والكُتُبَ المنفَّذة إلى الخطا، فلم يمكنه الرجوع لفساد عسكره، وكان خاله من الخطأ وقد حلَّفوه أن لا يطلعه على ما دَبَّروا عليه، فجاء إليه في الليل، وكَتَبَ في يده صورةَ الحال، ووقف بإزائه، فنظر إلى السطور وفهمها، وهو يقول: خُذْ لنفسك فالسَّاعة تقتل. فقام وخَرَجَ من تحت ذيل الشُّقَّة، ومعه ولداه جلال الدِّين وآخر، فركب، وسار بهما, ولما خرج من الخيمة دَخَلَ الخطا والعساكر من بابها ظَنًّا منهم أَنَّه فيها، فلم يجدوه، فنهبوا الخزائن والخيول والخيام والجواري، فيقال: إنه كان في خزائنه عشرة آلاف ألف دينار، وألفُ حِمْل قُماش أطلس وغيره، وعشرون ألف فرس وبغل، وكان له عشرة آلاف مملوك مثل الملوك، فتمزَّق الجميع ونهب، وأما خوارزم شاه فهرب إلى البحر، وركب في مركب صغير إلى جزيرة، وهرب ولده جلالُ الدِّين إلى الهند ومعه أخوه، وصَعِدَ خوارزم شاه إلى الجزيرة وبها قلعة، فتحصَّن بها، فأدركه الموت دون صعود القلعة، فدفنوه على ساحل البحر، وجاء الخطا، فدلوا عليه، فنبشوه، وقطعوا رأسه، ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 358، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 139 - 143، ووفاته على الصحيح سنة (617 هـ)، وقد وهم سبط ابن الجوزي في ذكره في وفيات هذه السنة، نبه على ذلك أبو شامة في "المذيل على الروضتين": 1/ 328، وقد تابع سبط ابن الجوزي في وهمه ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 6/ 224 - 225. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

نجاح بن عبد الله الشرابي

وأخذوه وعادوا، وتفرقتِ الممالك بعده، وظهر التتر على الخطا بعد سنتين، وصار الخطا تبعًا لهم، وأخذوا البلاد. نجاح بنُ عبد الله الشَّرابي (¬1) نجم الدَّوْلة، مملوك الإِمام النّاصر. كان جَوَادًا، سَمْحًا، عاقلًا، دَيِّنًا، كثيرَ الصَّدقات، حسنَ المحضر، مُحْسنًا إلى العالم، يحبُّ المساكين، ويعظِّمُ أهل الدِّين، ويأخذ للضَّعيف من القويِّ، وكان يسمَّى سَلْمان دار الخلافة، وكان ملازمًا للخليفة؛ لا يغيبُ عنه ساعةً واحدة، وكان أسمرَ اللون، جميلَ الصُّورة، فَحْلًا. ولما توفي [في هذه السنة] (¬2) أمر الخليفةُ أَنْ لا يتخلَّفَ عن جنازته لا وزير ولا غيره، وصلَّى الخليفةُ عليه تحت التَّاج، وحَزِنَ عليه حُزْنًا كثيرًا، وأُخرج تابوتُه من باب البَدْرية، ومشى العالم بين يديه إلى جامع القَصْر، وكان بين يدي جنازته مئةُ بقرة، وألفُ شاةٍ، ومئةُ قوصرة تمر، ومئة حَمَّال على رؤوسهم الخبز، وعشرون حَمَّالًا على رؤوسهم ماء الورد، ومماليكه قد جَزُّوا شعورهم، ولبسوا المسوح، والضَّجيج والبكاء قد ملأ بغداد، [ولم يُر في الإِسلام مثل ذلك اليوم] (2) وعبروا به إلى تربة أم الخليفة بالجانب الغربي، فدفن بين يدي القُبَّة التي فيها أُمُّ الخليفة، وتصدَّق عنه الخليفة من مالِ نجاح بعشرة آلاف دينار على [المشاهد] (2): مشهد علي عليه السَّلام، ومشهد الحسين، ومشهد موسى بن جعفر، وبعث بمثلها إلى مكة والمدينة، وأعتق الخليفةُ مماليكه، وكانت له خمس مئة مجلَّدة، فأوقفها في تُرْبة أُمِّ الخليفة، وكتب عليها اسم الشرابي. [ومن العجائب أنه توفي في هذه السنة من الملوك الأكابر: العادل والخوارزمي (¬3) وصاحب الروم. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 353، و"التكملة" للمنذري: 2/ 440 - 441، و"المذيل على الروضتين": 1/ 309، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) ذكرنا أن الخوارزمي توفي سنة (617 هـ) على الصحيح.

القاهر، صاحب الموصل

وتوفي أيضًا ببغداد من نواب القضاء نزل بهم القضاء المحتوم: ابن الرُّطَبي المحتسب، وابن البَنْدنيجي العَدْل، وابن الغُبَيري، والكل في شهرٍ واحد، فابن الرُّطَبي مات يوم الاثنين ثالث عشر رمضان، وابن البَنْدنيجي في رابع عشره، وابن الغبيري في خامس عشره] (¬1). وفيها توفي القاهر، صاحب الموصل (¬2) وترك ولدًا صغيرًا طفلًا اسمه محمود، فأخرج بدر الدين لؤلؤ زَنْكي أخا القاهر من المَوْصل، واستولى عليها. السنة السادسة عشرة وست مئة في أول المحرَّم أخرجه المُعَظَّم القُدْس؛ كان قد توجَّه إلى أخيه الكامل إلى دِمْياط، وبلغه أَنَّ طائفةً من الفرنج على عَزْمِ القُدْس، فاتَّفق الأمراء على خرابه، وقالوا: قد خلا الشَّام من العساكر، فلو أخذه الفرنج حكموا على الشَّام. وكان بالقُدْس العزيز عثمان، وعِزُّ الدِّين أيبك أستاذ الدَّار، فكتب إليهما المعظم بخرابه، فتوقَّفا، وقالا: نحن نحفظه. فكتبَ إليهما المعظم: لو أخذوه لقتلوا كلَّ مَنْ فيه، وحكموا على دمشق وبلاد الإِسلام، فألجأتِ الضرورة إلى خَرَابه، فشرعوا في السُّور أَوَّل يوم من المحرَّم، ووقع في البلد ضَجَّةٌ عظيمة [مثل يوم القيامة] (1)، وخرج النِّساء المخدَّرات والبنات، والشُّيوخ والعجائز، والشُّبان والصِّبْيان إلى الصَّخْرة والأقصى، فقطَّعوا شعورهم، ومزَّقوا ثيابهم بحيث امتلأتِ الصخرة ومحراب الأقصى من الشُعور، وخرجوا هاربين، وتركوا أموالهم وأثقالهم، وما شكُّوا أنَّ الفرنج تُصَبِّحُهُمْ، وامتلأت بهم الطُّرقات، فبعضهم إلى مِصْر، وبعضهم إلى الكَرَك، وبعضهم إلى دمشق، وكانت البنات المخدَّرات يمزقن ثيابهن، ويربطنها على أرجلهن من الحفا، ومات خَلْقٌ كثير ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "الكامل": 12/ 333، و"التكملة" للمنذري: 2/ 428، و"المذيل على الروضتين": 1/ 310، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

من الجوع والعطش، [وكانت نوبة لم يكن في الإِسلام مثلها] (¬1) ونُهبتِ الأموالُ التي كانت لهم في القُدْس، وبلغ القنطار الزيت عشرة دراهم، والرطل النحاس نصف دِرْهم، وذم النَّاس المعظم، فقال بعضُ أهل العلم: [من مخلع البسيط] في رَجَبٍ حَلَّلَ الحُمَيَّا (¬2) ... وأَخْرَبَ القُدْس في المُحَرَّمْ [من أبيات، ولم يعذره أحد] (1). وقال مجدُ الدِّين محمدُ بنُ عبد الله الحنفي؛ قاضي الطُّور: [من الطويل] مررتُ على القُدْس الشَّريف مُسَلِّمًا ... على ما تبقَّى مِنْ رُبوعٍ كأنْجُمِ ففاضَتْ دموعُ العينِ منِّي صبابةً ... على ما مضى من عَصْرِنا المتقدِّمِ وقد رام عِلْجٌ أَنْ يعفِّي رسومَهُ ... وشَمَّرَ عن كَفَّي لئيمٍ مُذَمَّمِ فقلتُ له شَلَّتْ يمينُك خَلِّها ... لمعتبرٍ أو سائلٍ أو مُسَلِّمِ فلو كان يُفْدَى بالنُّفوس فَدَيتُهُ ... بنفسي وهذا الظَّنُّ في كلِّ مُسْلِمِ وفيها نفى المعظم بنَ المَشْطُوب من مِصْر؛ كان قد اتَّفق مع الفائز بن العادل على الكامل، واستحلف العساكر، وعَرَفَ الكاملُ، فرحل إلى أشمون، وعَزَمَ على التوجُّه إلى اليمن، ويئس من البلاد، وعَلِمَ المعظم، فقال له: لا بأس عليك. وركب آخر النهار، وجاء إلى خيمة ابنِ المَشْطوب، وقال: قولوا لعماد الدين يركب حتى نسير. فأخبروه، فخرج من الخيمة بغير صباغات، ولحق المِعظم، فأبعدَ به عن العساكر، وقال له: الملكُ الأشرف قد طلبك، وهو محتاجٌ إليك، فتسير إليه السَّاعة. فقال: ما في رجليَّ صباغات، ولا معي أحدٌ من غِلْماني، ولا قُماشي، فَوَكَل به جماعةً، وأعطاه خمس مئة دينار، وقال: كلُّ مالك يلحقك، والله ما يضيع لك خيط واحد. وسار به الموكَّلون، ورجع المعظم إلى خيمته، فوقف حتى جَهَّز خيله وغِلْمانه وثَقَلَه، ولم يُبْق له خيطًا واحدًا، وساروا خلفه، وعاد المعظم إلى خيمته، فجاء إليه الكامل، فقَبَّل الأرضَ بين يديه، وخاف الفائز خوفًا عظيمًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) الحميا: الخمر.

وأما ابنُ المشطوب، فاجتازَ بظاهر دمشق، ومضى إلى حماة، فأقام بها، فبعث إليه الأشرف منشورًا بأَرْجيش وزيادة، وبعث إليه بالخِلَع، فسار إلى الأشرف، فأكرمه وأحسن إليه، فصار يركب بالشَّبابة، ويعمل له سلطنة أعظم من الأشرف، وتجبَّر وطغى وبغى، وخامر على الأشرف، وطلع إلى ماردين، ثم قصد ناحية سِنْجار، [وجرى عليه ما سنذكره] (¬1). وفيها في شعبان أخذ الفرنج دمياط، وكان المعظم قد جَهَّز إليها النَّاهض بنَ الجرخي [(¬2) في خمس مئة راجل، فهجموا على الخنادق، فَقُتِلَ ابن الجرخي] ومَنْ كان معه، وصفُّوا رؤوس القتلى على الخنادق، وكان قد طَمُّوها، وضَعُفَ أهلُ دِمْياط، وأكلوا الميتات، وعَجَزَ الكاملُ عن نُصْرتهم، ووقع فيهم الوباء والفَنَاء، فراسلوا الفرنج على أن يُسَلِّموا إليهم البلد، ويخرجوا منه بأهليهم وأموالهم، واجتمع الأقساء، وحلَّفوهم على ذلك، فركبوا في المراكب، وزحفوا في البحر والبر، وفتح لهم أهلُ دِمْياط الأبواب، فدخلوا، ورفعوا أعلامهم على السُّور، وغدروا بأهل دمياط، ووضعوا فيهم السَّيف قَتْلًا وأَسْرًا، وباتوا تلك الليلة في الجامع يَفْجُرون بالنِّساء، ويفضحون البنات، وأخذوا المنبر، والمصاحف ورؤوس القتلى، وبعثوا بها إلى الجزائر، وجعلوا الجامعَ كنيسةً. وكان أبو الحسن بن قُفْل بدمياط، فسألوا عنه، فقيل: هذا رجلٌ صالح، من مشايخ المسلمين، يأوي إليه الفقراء، فما تعرَّضوا له. ووقع على الإِسلامِ كآبةٌ عظيمة، وبكى الكاملُ والمعظَّم بكاءً شديدًا، ثم تأخرتِ العساكر عن تلك المنزلة، [فكان المعظم يقول لي بعد ذلك: لو كان الدعاء الآن يسمع لسمع دعاء أهل دمياط، فإن الله تعالى أخبرنا أنه يستجيب دعاءنا في عدة مواضع من كتابه، وإنما أهل دمياط لما كثر فسقهم وفجورهم سلَّط الله عليهم من انتقم منهم {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ... } (1) [الإسراء: 16]. ثم قال الكاملُ للمعظَّم [وقد سُقِطَ في يده] (1): قد فاتَ ما ذُبح، وجرى المقدور بما هو كائنٌ، وما في مقامك ها هنا فائدة، والمصلحة أن تنزل إلى الشَّام تَشْغَل خواطر الفرنج، وتستجلب العساكر من الشرق. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من "المذيل على الروضتين".

قال المصنف رحمه الله: فكَتَبَ المعظم إليَّ وأنا بدمشق كتابًا بخَطِّه يقول في أوله: أخوه عيسى الكاملي، قد علم الأخ العزيز [-وذكر ألقابًا كثيرة-] (¬1) بأَنْ قد جرى على دِمْياط ما جرى، وأريد أن تحرِّض النَّاسَ على الجهاد، وتعرِّفهم ما جرى على إخوانهم أهل دِمْياط من الكَفَرة أهل العِناد، وإني كشفتُ ضياع الشَّام فوجدتها ألفي قرية، منهما ألف وست مئة أملاك لأهلها، وأربع مئة سُلْطانية، وكم مقدار ما تقوم هذه الأربع مئة من العساكر! وأريد أن يخرج الدَّماشقة ليذبُّوا عن أملاكهم الأصاغر منهم والأكابر، ويكون لقاؤنا وهم بصحبتك إلى نابُلُس في وقت سَمَّاه. فجلستُ بجامعِ دمشق، وقرأتُ كتابه عليهم، فأجابوا بالسَّمْع والطَّاعة، [وقالوا: نمتثل أمره بحسب الاستطاعة] (1)، وتجهَّزوا، فلما حَلَّ رِكابُه بالسَّاحل وقع التقاعد [من الأماثل, لأن لكل مقامٍ مقالًا، وللحرب رجالًا,] (1) وكان تقاعدهم سببًا لأخذه الثُّمْن والخُمْس منهم، وكتب إلى يقول: إذا لم يخرجوا فَسِرْ أنتَ إلينا. فخرجتُ إلى السَّاحل، وهو نازلٌ على قيسارية، فأقمنا حتى فتحها عَنْوَةً، ثم سرنا إلى الثَّغر، ففتحه، وهدمه، وعاد إلى دمشق بعد أَنْ أخربَ بلاد الفرنج. وفيها أَلْبَسَ [المعظمُ] (¬2) زكيَّ الدِّين القاضي القَبَاء والكلوتة، وكان في قلبه منه حزازاتٌ، يمنعه من إظهارها حياؤه من العادل [وخوفه من الشناعات,] (1) وكان يشكوه [إليَّ مرارًا] (1) ويقول: إنه لا ينفذ [(¬3) الأحكام ولا يقيم معالم الإِسلام] , وكنتُ أقول له: يا قاضي، أما قد ثبت عندك هذا الأمر؟ فيقول: بلى. فأقول: فَلِمَ لا تحكم به؟ فيقول: ما أحكم. واتَّفق موتُ [العادل، ومرضُ] (1) ستِّ الشَّام عَمَّةِ المعظم، وكانت [قد أوصت] (1) بدارها مدرسةً، وأحضرت زكيَّ الدين والشهود، وأشهدتهم عليها، وأوصت إلى القاضي، وبَلَغَ المعظم، فعزَّ عليه، فقال: يحضر إلى دار عمتي من غير إِذْني، ويسمعُ كلامها هو والشهود! ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من "المذيل على الروضتين". (¬3) في (ح): أنه لا ينفذ أحكامه، وكنت أقول له، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

ثم اتَّفق أَنَّ القاضي أحضر جابي المدرسة العزيزية، وطلب منه حسابَها، فأغلظ له في القَوْل، فأمر بضَرْبه، فَضُرِبَ بين يديه كما يفعل الولاة، فوَجَدَ المعظَّمُ سبيلًا إلى إظهار ما كان في نفسه، وكان الجمالُ المِصْري وكيلُ بيت المال عدوًا للقاضي، فجاء، فجلس عند القاضي في مجلس الحكم، والشهود حاضرون والنَّاس، فبعث المعظَّم مع صديقٍ غلام عماد الدين بن موسك بقجةً فيها قَبَاء وكلوتة، وأمره أن يحكم بين النَّاس وهما عليه، فقام من خوفه فلبسهما، وحكم بين اثنين، وكان أضرَّ ما عليه حضور الجمال المِصْري عنده، [وكان هذا القاضي قد سلب التوفيق، وإلا فلو قال اشهدوا علي أنني قد عزلت نفسي عن الحكم، وما ألبس هذه، لتخلص، والقتل أهون مما جرى عليه,] (¬1) ثم إنَّ القاضي مرض، ورمى كبدَه قِطَعًا، وكانت [(¬2) حركة شنيعة وواقعة قبيحة لم يجر في الإِسلام أقبح منها، وكانت من غلطات المعظم، ولقد قلت له: ما فعلت إلَّا بصاحب الشرع، ولقد وجبت عليك دية القاضي. فقال: هو الذي أحوجني، ولقد ندمت. قلت: بعد أن سارت بفعلك الركبان، وتحدث النَّاس في البلدان]. وقال ابنُ عُنَيْن في ذلك: [من الكامل] يَا أَيُّها الملك المعظَّم سُنَّةٌ ... أَحْدَثْتَها تبقى على الآبادِ تجري الملوكُ على طريقِكَ بعدها ... خِلَعُ القُضَاة وتُحْفَةُ الزُّهَّادِ (¬3) وكان ابنُ عُنَيْن قد تزهَّد، فبعث له المعظم قنينة خمر ونَرْد، وقال: سَبِّح بهذا. وحج بالنَّاس من العراق أقباش النَّاصري، ومن الشَّام مملوك المعظم، ويقال له: شقيفات، [وكنت في الحج، ومعنا عز الدين بن القَيسراني جاء من حلب، والصفي بن مرزوق] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): وكانت واقعة قبيحة من غلطات المعظم، وندم على ذلك، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) "ديوان ابن عنين" ص 93، وكنت في "المذيل": 1/ 319 قد ضبطت خِلَعُ بفتح الخاء وسكون اللام، وهو خطأ، يستدرك من هنا.

ريحان بن تيكان بن موسك

وفيها تُوفِّي ريحان بن تِيكان بن موسك (¬1) أبو الخير، المقرئ، الحَرْبي. كان صالحًا، سليمَ الصَّدْر، أقام بالحَرْبية سبعين سنة يُقْرئ النَّاس القرآن، فختَّم ألوفًا، وكان من الأبدال، [وقرأت عليه القرآن، وسمعت الحديث] (¬2)، وأضر في آخر عمره، وكانت وفاته في صفر، ودفن بمقابر الإِمام أَحْمد رحمة الله عليه، [وروى عن أبي الوقت وغيره] (2). ستُّ الشَّام بنت أَيُّوب (¬3) [أخت صلاح الدين والعادل، وشقيقة الملك المعظم شمس الدولة] (2)، سيدة الخواتين، كانت عاقلة، كثيرة البِرّ والصّلات، [(¬4) والإحسان والصدقات، وكان] يُعْمل في دارها من الأشربة والمعاجين والعقاقير في كلِّ سنةٍ بألوف دنانير تفرّقها على النَّاس، و [كان] (2) بابها ملجأ للقاصدين، ومفزعًا للمكروبين، وهي أُمُّ حسام الدين لاجين، وتزوَّجها ناصر الدين محمَّد بن شيركوه صاحب حِمْص، وَبَنَتْ لها مدرسةً وتُرْبة بالعُوَينة على الشَّرف الشمالي من دمشق، ثم أوقفت دارها قبيل وفاتها بدمشق مدرسةً، وأوقفت على التُّرْبة والمدرسة الجوانية أوقافًا كبيرة، وكانت وفاتها في ذي القَعْدة، ودفنت بتربتها في العوينة، وكانت لها جِنازةٌ عظيمة، وكان شِبْلُ الدولة كافور الحسامي خادِمَها، فتولى أمرها. [قلت] (2): وقد اجتمع لها ولأُختها ربيعة خاتون ما لم يجتمع لأحد، [لأنا ذكرنا فيما تقدم أن فاطمة بنت عبد الملك بن مروان كان لها ثلاثة عشر محرمًا، كل واحد منهم خليفة، وأمها عاتكة بنت يزيد بن معاوية حرمت على عشر من الخلفاء، وذكرناهم، وبنت صاحب ماردين ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 458، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 95، و"توضيح المشتبه": 1/ 379. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) لها ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 485، و"المذيل على الروضتين": 1/ 320 - 322، وفيه تتمة مصادر ترجمتها. (¬4) في (ح): والصلات وتعمل في دارها ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

عبد الله بن الحسين بن عبد الله

كان لها عدة محارم، وست الشَّام وأختها] (¬1)، كان لهما نيف وثلاثون محرمًا من الملوك سوى أولادهم وأولاد أولادهم، فأخوتها صلاحُ الدين، والعادل، وسيف الإِسلام، وولده الذي ادَّعى الخلافة، وشمس الدولة، فمن أولاد صلاح الدين: العزيز وولده محمَّد، والأفضل، والظَّاهر وولده محمَّد العزيز، وابنه النَّاصر يوسف، والزاهر أخو الظَّاهر، ومن أولاد العادل: الكامل محمَّد وأولاده [الثلاثة] (1) أقسيس صاحب اليمن، والعادل صاحب مِصْر وولده المغيث صاحب الكَرَك، والصَّالح أَيُّوب وولده تورانشاه، والمعظم عيسى وولده النَّاصر داود، والأشرف بن العادل، والصَّالح إسماعيل، والأوحد صاحب خلاط، وشهاب الدين غازي، وولده العزيز عثمان، وولده الحافظ صاحب قلعة جعبر، وفُرُّخْشاه، وولده الأمجد، وغيرهم. عبد الله بن الحسين بن عبد الله (¬2) المحب، أبو البقاء، العكبراوي، الضَّرير، النَّحويّ، الحَنْبلي. ولد سنة ثمان وثلاثين وخمس مئة، وقرأ القرآن، والأدب، والأصولين، والفِقْه، وفنون العلم، وصنَّف ستين مصنفًا في فنون، منها: "إعراب القرآن" و"شرح المقامات" و"المتنبي" (¬3) ومقدّمة في النحو، و"الحساب"، وسمع الحديث الكثير، وكانت وفاته في ربيع الآخر، ودفن بباب حَرْب، وكان دَيّنًا صالحًا. عبد المطَّلب بن الفَضل (¬4) افتخار الدِّين، الهاشمي، البَلْخيّ، نزيل حلب. كان عارفًا بمذهب أبي حنيفة، وشرح "الجامع الكبير" وغيره، وتوفي بحلب، وكان سَيِّدًا، عارفًا، فاضلًا، ورعًا، دَيِّنًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 461، و"المذيل على الروضتين": 1/ 322 - 323، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ذكر العلامة مصطفى جواد في حاشيته على "المختصر المحتاج إليه": 2/ 141 أن شرح ديوان المتني نسب إليه، وهو في الحقيقة لعفيف الدين علي بن عدلان الموصلي المتوفى سنة (666 هـ). (¬4) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 323، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

عثمان بن مقبل بن قاسم

عثمان بن مُقْبل بن قاسم (¬1) أبو عمر، من الياسرية؛ قرية ببغداد. تفقَّه، وسَمِعَ الحديث، وكان سليم الصَّدْر، وكان يعظ في بعض المساجد، ذكر يومًا قصة موسى - عليه السلام -، وقال: أي موسى جئتني بخرقة تأخذ فيها نارًا، ليت شعري كناسة البيت (¬2)، من أين لك هذه الجسارة حتَّى تقول: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ} [الأعراف: 143]؟ وتوفي في ذي الحِجَّة، ودُفِنَ بباب حَرْب. عليُّ بن القاسم (¬3) ابن عليّ بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، ابن (¬4) صاحب "تاريخ دمشق". قدم بغداد، ثم توجَّه إلى خراسان، وسَمِعَ بها، وعاد إلى بغداد، فوقع عليه قُطَّاع الطريق، فأخذوا ما كان معه وجرحوه، فأقام ببغداد يداوي جراحاته، فمات بها يوم السبت ثالث جُمادى الآخرة، ودفن بالشُّونيزية. مُحَمَّد بن جميل (¬5) صاحب مخزن الخليفة. ولد سنة ستٍّ وستين وخمس مئة بهِيت، وقرأ النحو، وسمع الحديث، وكان فاضلًا بارعًا، ومن شعره: [من الوافر] ¬

_ (¬1) له ترجمة في "معجم البلدان": 5/ 425، و"التكملة" للمنذري: 2/ 486 - 487، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 113، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي: (وفيات سنة 616 هـ)، و"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 122، و"توضيح المشتبه": 1/ 325. (¬2) كذا في (ح)، ولم تستقم لي قراءة هذه العبارة. (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 463 - 464، و"المذيل على الروضتين": 1/ 323 - 324، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) القاسم هو ابن صاحب التاريخ, وعلي هذا هو حفيده. (¬5) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 473، و"المذيل على الروضتين": 1/ 324، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن زنكي

إذا طُبِعَ الزَّمانُ على اعْوجاجٍ ... فلا تَطْمَعْ لنفسكَ في اعتلالِ فلولا أَنْ يكون الزَّيغُ طبعًا ... لما مال الفؤادُ إلى الشمال مُحَمَّد بن زَنكي (¬1) المنصور بن عماد الدين، صاحب سنجار، كان ملكًا عادلًا عاقلًا جوادًا (¬2)، [قدم [العادل عليه] (¬3) سنجار في سنة ست وست مئة (¬4)، وجلس بالمدرسة العمادية ظاهر سنجار [ثم رحل عنه] (¬5) بشفاعة الخليفة، وقد ذكرناه، وكانت وفاته في هذه السنة، وهي سنة ست عشرة وست مئة، وخلف عدة أولاد: سلطان شاه] (6)، وزنكي، ومُظَفَّر الدِّين، وعِدَّة بنات. محمَّد بن بدر الدين سِبْط العقاب [وهو الذي] (6) ضَمَّ الخليفةُ ولدي ولده إليه [لما] (6) أُخرجا إلى ششتر، وأرسله [الخليفة] (6) إلى الأشرف مرارًا، وكان فقيرًا، فحصل له مالٌ عظيم، فبعثه [الخليفة] (6) إليه في هذه السنة، فبدا منه عند الأشرف دناءة نفس وسقوط هِمَّة، وبلغ الخليفة، وكان قد حظي عنده، [وبلغ] (6) أعلى المراتب، فلما عاد من الرِّسالة اعتقله في داره، وقال له: بعثناك إلى ششتر، فخنتَ في المال، فاعملْ حسابك. فأصبح في داره مصلوبًا، فقيل: إنه صَلَبَ نفسه، وقيل: بل غِلْمانُه صلبوه، وقيل: بل الموكلون به، ولم يُغَسَّل، ولم يكفن، ولم يُصَلَّ عليه، وحمل إلى مقابر المُقَتَّلين، فدفن بها، [وقال النَّاس: إن في ذلك لعبرة] (¬6). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 457 - 458، و"المذيل على الروضتين": 1/ 324، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) في (ح): جوادًا، خلف شاه .... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا، وقد استأنست بما ورد في "المذيل على الروضتين". (¬4) في (ش): سنة ثلاث وست مئة، والمثبت من الكامل 12/ 284. (¬5) ما بين حاصرتين زيادة من عندنا، وقد استأنست بما ورد في "المذيل على الروضتين". (¬6) ما بين حاصرتين من (ش).

محمد بن محمد بن محمود الكشميهني

محمَّد بن محمَّد بن محمود الكُشْمِيهني (¬1) كان صالحًا، صاحبَ مجاهدات ورياضات، وأوصى أن يكتب على كفنه: [من الطَّويل] يكون أُجاجًا دونكم البيت (¬2). يحيى بن القاسم بن المفرّج (¬3) أبو زكريا، التكريتي. ولي قضاء تكريت، وقَدِمَ بغداد، وولي تدريس النّظامية، وتوفي في رمضان، ودُفِن بالشُّونِيزِيَّة، وكان فاضلًا، [ولي منه إجازة,] (¬4) ومن شعره: [من البسيط] كم يأمُلُ المَرْءُ أمالًا وتُخْلِفُهُ ... وكم يُرى آمنًا والموت يُرْدِفُهُ وطالما سَلَكَ الإنسان شاكلةً ... يظنُّ فيها نجاةً وهي تُتْلِفُهُ السنة السابعة عشرة وست مئة فيها نافق ابنُ المشطوب على الأشرف، وعاث في أرض سِنْجار، وساعده صاحب ماردين، وكان نجمُ الدّين بن أبي عَصْرون مع ابنِ المشطوب وقد وَزَرَ له، فسار الأشرف، ونزل على دُنَيسر، وجاء [الملك] (4) الصَّالح، فأصلح بين صاحب ماردين والأشرف، ودخل ابن المَشْطوب تل أَعْفر، وسار إليه فارسُ الدّين بن صبرة من نَصِيبين وبدر الدين لؤلؤ من المَوْصل، وحصراه في تل أعفر، فأنزله بدر الدين لؤلؤ بالأمان، وحمله معه إلى المَوْصِل، ثم قيَّده، وبعث به إلى الأشرف، فألقاه الحاجب عليّ في الجُبّ، فمات بالقَمْل والجوع. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 475 - 476، و"المذيل على الروضتين": 1/ 324 - 325، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) البيت للعباس بن الأحنف، وهو في ديوانه: ص 45 (طبعة دار صادر)، وهو في وصف ماء سيل: يكون أجاجًا دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقى طيبكم فيطيبُ (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 2/ 478، و"المذيل على الروضتين": 1/ 325، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) ما بين حاصرتين من (ش).

وكان نورُ الدين بن عماد الدين صاحب قرقيسيا مع الأشرف، وقد كاتَبَ عليه، واتَّفق مع ابن المشطوب، فاعتقله [الأشرف، وبعث به مع العلم تعاسيف إلى قرقيسيا وعانة، وعلِّق نورُ الدين] (¬1) بِرجْليه تحت القلعتين وعُذب، فَسُلِّمت إلى تعاسيف جميعُ بلاده، وأراد الأشرف أن يرميه في الجُبِّ، فشفع فيه المعظَّم، فأطلق، وسار [نور الدين] (1) إلى دمشق، فأحسن إليه المعظم، واشترى نور الدين بُسْتان ابن حَيُّوس في العُقَيبة، وأقام به. وفيها قَتَلَ صاحبُ سنجار أخاه، فسار الأشرف إليها، فأخذها، وعوَّض صاحبها الرَّقَّة. وفيها قصد زين الدين المَوْصل، فخرج إليه بدر الدين لؤلؤ، فهزمه ابن زين الدين، فأُفْلت لؤلؤ وحده. وفي رجب كانت وقعة البرلس بين الكامل والفرنج، قتل الكامل منهم عشرة آلاف، وغنم خيولهم وسلاحهم، ورجعوا إلى دِمْياط مهزومين. وفيها نَزَلَ الأشرفُ على المَوْصل نجدة لبدر الدين على ابن زين الدين، وعَزَمَ على قَصْدِ إربل، فبعث الخليفةُ بهتام الأمير وابن عَطَّاف وسعد الدين الحاجب، فردُّوه عن إربل، وأصلحوا بينهما. وفيها عزل المعظم المبارز المعتمد عن ولاية دمشق، وولَّى الغرزَ خليلًا. وفيها كان أَوَّلُ ظهور التَّتر وعبورهم جَيحون، وكان أول ظهورهم من وراء النهر سنة خمس عشرة وست مئة، وقبل عبورهم جيحون قصدوا بخارى وسَمَرْقند، فقتلوا أهلها وسبوهم، وحصروا خوارزم شاه، وعبروا النهر، فوجدوا الخطا قد كسروا خوارزم شاه، فانضمَّ إليهم الخطا، وصاروا تبعًا لهم، وكان خوارزم شاه قد أخلى البلاد من الملوك، فلم يجدوا أحدًا يردُّهم، ووصل [التتر إلى] (1) الري وقزوين وهَمَذَان في هذه السنة، فقتلوا أهلها، وأحرقوا مساجدها، وسبوا، ثم توجهوا إلى بلاد أذربيجان ففعلوا كذلك. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

الملك الفائز إبراهيم بن العادل

وحج بالنَّاس من بغداد أقباش النَّاصري، وقُتِلَ بمكة، ولم يحجَّ أحدٌ من العجم بسبب التتر. وحج من الشَّام المبارز المعتمد، وعاد حاجُّ العراق على الشَّام. وفيها تُوفِّي الملك الفائز إبراهيم بن العادل (¬1) كان قد حالف ابنَ المشطوب والأُمراء بمصر على الكامل، ولولا المعظم لتمَّ لهم ما أرادوا, ولما كانت وقعة البرلس قال له الكامل: هؤلاء الفرنج قد استولوا على البلاد، وقد أبطأ علينا الملك المُعَظَّم، وما لملوك الشرق غيرك، فتوجَّه إلى الأشرف، وعَرِّفْه ما نحن فيه من الضَّائقة. فسار إلى الشرق، وكان الأشرف على المَوْصل، فمرض الفائز بين سِنْجار والمَوْصل، وقيل: إنه سُمَّ، فمات، فردُّوه إلى سِنْجار، فدفن عند تُرْبة عماد الدين زنكي. أقباش بن عبد الله النَّاصري (¬2) اشتراه الخليفة وهو ابنُ خمس عشرة سنة بخمسةِ آلاف دينار، ولم يكن بالعراق أجمل صورةً منه، ثم قرَّبه الخليفةُ إليه ولم يكن يفارقه، فلما ترعرع ولَّاه إمرة الحج والحرمين، وكان [عاقلًا] (3)، متواضعًا، محبوبًا إلى القلوب، حَجَّ ومعه خِلَعٌ وتقليدٌ لحسن بن قتادة، وكان قتادة قد مات، فلما وصل أقباش إلى عرفات جاءه راجح بن قتادة [أخو حسن] (3)، وسأله أن يوليه إمارة مكة، وقال: أنا أكبرُ ولد قتادة. فلم يجبه، وظَنَّ حسن أَنَّ أقباش قد ولاه، فأغلق أبوابَ مكة، وجاء أقباش، فنزل بالشبيكة بعد أيام مِنى، ووقعتِ الفتنةُ بين حسن وأخيه، ومنع حسنٌ النَّاس من الدخول إلى مكة، فركب أقباش ليسكِّن الفِتْنة، ويُصْلح بين الأخوين، فخرج عبيد [مكة] (3) وأصحابُ حسن من باب المُعَلَّى يقاتلونه، فقال: ما قَصْدي القتال. فلم يلتفتوا [إليه] (¬3)، وانهزم ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 29 - 30، و"المذيل على الروضتين": 1/ 330، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 331 - 332، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (ش).

الحسين بن أحمد بن الحسين

أصحابه، وبقي وحده، وجاء عبدٌ، فَعَرْقَبَ فرسه، فوقع إلى الأرض، فقتلوه، وحملوا رأسه إلى حسن [بن قتادة] (¬1) على رُمْح، فنصبه بالمسعى عند دار العَبَّاس، ثم رُدَّ إلى جسده، ودُفِنَ بالمُعَلَّى، وأراد حسن نَهْبَ الحاجِّ العراقي، فمنعه [المبارز] (1) المعتمد، وخوَّفه الكاملَ والمعظم، فأجابه، ووصل الخبر إلى الخليفة، فحزن حُزْنًا عظيمًا، ولم يخرج الموكب للقاء الحاجّ، وأدخل الكوس والعلم في اللَّيل، ولم تنتطح فيه عنزان [وقد كان أَوْلى أن تتناطح الكباش] (1)، وكان قَتْلُه سادس عشر ذي الحِجَّة. الحسين بن أَحْمد بن الحسين (¬2) أبو عبد الله، الخِيَاري، من أهل باب البَصْرة. ولد سنة خمسٍ وثلاثين وخمس مئة، وسمع الحديث، وكان حُفَظَةً للحكايات والأشعار والمُلَح، [وكان يتردَّد إلى جدّي، ويعجبه كلامه، وسمعته يومًا يحكي له] (1)، قال: سُئِلَ ابنُ عقيل، فقيل له: إنَّ الحمارَ يبرد له (¬3) في السنة في ليلة واحدة، فإنما هي هذه الليلة، فقال ابنُ عقيل: ما يعرف هذه الليلة إلَّا مَنْ قد كان حمارًا. قال: ودخل رجلٌ إلى الكَرْخ، فلقيته امرأةٌ، فقالت له: أبو بكر، كيف أنتَ؟ فقال: أهلًا يَا عيشة. قالت: فأنا اسمي عيشة! فقال: أفأقتل أنا وَحْدي؟ وكانت وفاته في رمضان، سمع شُهْدَة وطبقتها، كان ثِقَةً. عبد الله اليونيني أسد الشَّام (¬4) أصله من قريةٍ من قرى بَعْلَبَك يقال لها: يونين، كان صاحبَ رياضاتٍ ومجاهدات، وكرامات وإشارات، لم يَقُمْ لأحدٍ من النَّاس تعظيمًا لله تعالى، ويقول: لا ينبغي القيام لغير الله، [صحبته مدة,] (1) وما كان يدَّخر شيئًا، ولا يَمَسُّ بيده دينارًا ولا دِرْهمًا، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 24 - 25، و"المذيل على الروضتين": 1/ 334 - 335، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) يبرد له: تعبير عامي، أي يصيبه البرد. (¬4) هو عبد الله بن عثمان بن جعفر بن مُحَمَّد اليونيني، وله ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 336 - 342، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

وكان زاهدًا ورعًا عفيفًا، وما لبس طول عمره سوى الثَّوْب الخام وقَلَنْسُوة من جلد الغنم تساوي نصف دِرْهم، وفي الشتاء يبعثُ له بعضُ أصحابه فروةَ قرظ يَلْبَسُها، ثم يُؤثر بها في البَرْد، وكان إذا لَبِسَ الثَّوْب [يقول: ] (¬1) هذا لفلان، وهذا لفلانة. قال المصنف رحمه الله: قال لي يومًا: يَا سيد، أنا أبقى أيامًا في هذه الزَّاوية -وكنا ببعلبك- ما آكل شيئًا، فقلتُ له: فأنتَ صاحب القَبُول، كيف تجوع؟ فقال: يَا سيد، لأَنَّ أهل بَعْلَبَكّ يتَّكل بعضُهم على بعض، فأجوعُ أنا. قال: وحدثني عبد الصمد خادمه، قال: كان يأخذ ورق اللَّوْز فَيَفْرُكُه ويستفُّه، وكان الملك الأمجد يزوره ويحبه، وكان الشيخ يُهينه، فما قام له يومًا قط، وكان يقول: يَا مجيد، أَنْتَ تظلم وتفعل وتصنع، وهو يعتذر إليه. وأظهر العادل قراطيس سود، فقال الشيخ عبد الله: يَا مُسْلمين، انظروا إلى هذا الشيخ الفاعل الصَّانع يُفْسِدُ على النَّاس معاملاتهم، وبلغ العادل، فأبطلها. [ذِكْرُ طرف من أخباره وكراماته] (¬2): كنتُ قد اجتمعت به في الشَّام من سنة ست مئة إلى سنة ثلاث وست مئة، وكان له تلميذ اسمه توبة، وكان من الصَّالحين الأجواد، وسافرتُ إلى العراق سنة أربعٍ وست مئة، وحججتُ، فلما كان يوم عرفة صَعِدْتُ جبل عرفات، وإذا بالشيخ عبد الله قاعدٌ على الجبل مستقبلٌ الكعبة، وعليه الثَّوب الخام، وعلى رأسه القَلَنْسُوة السَّوْداء، فسلَّمْتُ عليه، فرحَّب بي، وسألني عن طريقي، وقعدت عنده إلى قريب الغياب، ثم قلتُ له: ما تقوم نروح إلى المزدلفة؟ فقال: اسبقني أنتَ، فلي رفاقٌ. فنزلتُ من الجبل، وأتيت المزدلفة، ووقفتُ بها، وجئت إلى منى، فدخلت مسجد الخَيف، وإذا بالشيخ توبة خارجٌ من المسجد، فسلَّم عليَّ، فقلتُ له: أين نزل الشيخ؟ ظنًّا مني أنَّه قد حَجَّ معه، فقال: أيما شيخ؟ قلتُ: عبد الله. قال: خَلَّفْتُه ببَعْلَبَكّ. فَفَطِنْتُ، فقلتُ: مبارك. [ففهم] (1)، فلزم بيدي وبكى، وقال: بالله حَدِّثْني أيش معنى هذا؟ فقلتُ: رأيته البارحة على عرفات. وحدَّثْتُه الحديث، ثم رجعتُ أنا على بغداد، وجاء توبة إلى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): وقال المصنف رحمه الله، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

دمشق، وحدَّث الشيخ عبد الله الحديث، فحدَّثني توبة قال: قال لي الشيخ: ما هو صحيح منك، فلان فتى، والفتى ما يكون غَمَّازًا. فلما عدتُ إلى الشَّام عَتَبني الشيخ، فقلت: توبة تلميذُك، فقال: لا تَعُدْ إلى مِثْلها [(¬1) كأنه كره أن يُتحدَّث له بكرامة في حال حياته. وحدثني القاضي جمال الدين بن يعقوب، قاضي كرك البقاع، قال: ] كنتُ يومًا عند الجسر الأبيض في مسجدٍ هناك وقت الحَرِّ، وإذا بالشَّيخ عبد الله قد جاء، فنزل ثورا يتوضأ، وإذا بنَصْراني عابر على الجسر، ومعه بغلٌ عليه حِمْلُ خَمْرٍ، فعَثَرَ البغل عند الجسر، [ووقع حِمْلُ الخمر] (2)، وليس في الطريق أحد، فَصَعِدَ الشيخ من النَهر، وصاح بي: يَا فقيه، تعال. قال: فجئتُ فقال: عاوني. فعاونته حتَّى رَفَعْنا الحِمْلَ على البغل، وراح النَّصْراني، فقلتُ في نفسي: مثل الشيخ يفعل كذا! ثم مشيت خلف البغل إلى العُقَيبة، فجاء إلى دُكَّان الخَمَّار، فَحَطَّ الحِمْلَ، وفتح الزُّقاق، وقلب ليكيله، فإذا به قد صار خَلًّا، فقال له الخَمَّار: ويحك هذا خَلٌّ. فبكى، وقال: والله ما كان إلَّا خمرًا من ساعة، وإنما أنا أعرف العِلَّة، ثم ربط البغل في الختان، وعاد إلى الجبل، وكان الشيخ قد صلَّى الظهر في المسجد الذي عند الجسر، وقعد يسبِّح، فدخل عليه النَّصْراني وقال: يَا سيدي، أنا أشهد أَنْ لا إله إلَّا الله، وأَسْلَمَ، وصار فقيرًا. [وحكى لي جماعة من أهل بعلبك قالوا: كان جالسًا يومًا في زاويته، وإذا بامرأة طالعة، وبين يديها دابة تسوقها، عليها نحاس وثياب، فربطتها، وجاءت إليه، فسلمت عليه، فقال لها: من أين أَنْتَ؟ فقالت: نصرانية من جبة المنيطرة. قال: وما الذي جاء بك إلى عندي؟ قالت: رأيت السيدة مريم في المنام فقالت: اذهبي فاخدمي الشيخ عبد الله اليوناني إلى أن تموتي. قالت: فقلت لها: يَا سيدتي، فذاك مسلم. فقالت: صحيح أنَّه مسلم، ولكن قلبه [نصراني] (¬2)، فقال لها الشيخ: أجادت مريم، ما عرفني غيرها. فأعطاها بيتًا في الزاوية، فأقامت تخدمه ثمانية أشهر، فمرضت، فقال لها الشيخ: أيش تشتهين؟ ¬

_ (¬1) في (ح): ولا تعد إلى مثلها، وقال القاضي كمال الدين يعقوب قاضي البقاع، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش)، وكذلك هو في "المذيل على الروضتين" نقلًا عن سبط ابن الجوزي. (¬2) ما بين حاصرتين من "المذيل على الروضتين".

قالت: أموت على دين السيدة مريم. فقال: صيحوا بالقسيس، فجاء فقال: خذ هذه إليك، وخذ قماشها، وكان [يساوي] (¬1) خمس مئة درهم، فماتت عند القسيس. وحكى بعضُ أهل بَعْلَبَكّ أنها ما ماتت إلَّا مسلمة، وتصدَّق بما خلفت] (2). وكان يأتي في الشِّتاء إلى عيون الفاسريا؛ ظاهر دمشق لأجل سخونة الماء والوضوء، وبنى له على رأس العين مسجدًا صغيرًا يأوي إليه، [وكان الدماشقة يخرجون من دمشق إلى زيارته] (2)، قال المصنف رحمه الله: فحكت لي امرأةٌ صالحة، قالت: خرجتُ من دمشق بعد العَصْر، فوصلتُ إلى العيون بعد العِشاء الآخرة، فتوضَّأْتُ وطلعت إلى باب الزَّاوية، وكانت ليلةً مُقْمرة، وإذا بالسَّبُع نائمٌ على باب الزَّاوية، ورأسه على عتبتها، فَيَبِسْتُ، ولم أقدر أتحرَّك، فسحَبْتُ رُكَبي نحو القرية، فلما كان وقت السَّحر هرول السَّبُع ومضى، وخرج الشيخ، فرآني، فقال: ويلك، وأيش كان عليك منه؟ ! [ومن هذا كثير] (¬2). وكان الشيخ -رحمه الله- شجاعًا لا يبالي بالرِّجال قَلُّوا أو كثروا، وكان قوسه ثمانين رطلًا، وما فاتته غزاةٌ بالشَّام قط، وكان يتمنَّى الشَّهادة، ويُلْقي نفسه في المهالك، [(¬3) وحكى لي عنه خادمه عبد الصَّمد قال: ] لما دَخَلَ العادل إلى بلد الفرنج، ووصل إلى صافيتا والعُرَيمة كان الشيخ في الزَّاوية ببعلبك، فقال لي: انزل إلى الثّقة عبد الله اطلب بغلته، فأحضرتُها، فركبها وخرجتُ معه، فبتنا في يُونين، وقمنا نصف الليل، فجئنا إلى المحدثة قبل الفجر فقلتُ له: لا تتكلَّم ها هنا، فهذا مكمن الفرنج، [قال: ] (2) فرفع صوته، وقال: الله أكبر، فجاوبته الجبال، [فمتُّ من الفزع] (2)، ونزل، فصلَّى الفجر، وركب، وطلعتِ الشَّمس، والطَّير لا يطير في تلك الأرض، وإذا قد لاح من ناحية حصن الأكراد طُلْبٌ أبيض، فظنَّهم الاسبتار، فقال: الله أكبر، ما أبركك من يوم، وساق إليهم وقد شَهَرَ سيفه، فقلتُ في نفسي: شيخٌ وتحته بَغْلة، وبيده سيفٌ يسوق إلى طُلْب إفرنج! فلما كان بعد بساعة، وإذا بهم قد قربوا إلينا، وهم عانة حمير وحش، [قال: ] (2) فانكسر، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "المذيل على الروضتين". (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ح): وقال عبد الصَّمد، وما بين حاصرتين من (ش).

وفترتْ هِمَّتُه، فقلتُ له: احْمد رَبَّك، فإنَّ الله قد نظر إليك، أَنْتَ وحدك تريد تلاقي مئة على بَغْلة! [قال: ] (¬1) وجئنا إلى حِمْص، فجاءنا الملك المجاهد أسد الدِّين، وقَدَّم له حصانًا من خيله، فركبه، ودخل [معهم,] (1) فعمل العجائب. [وكان يقول لصاحبه الفقيه محمَّد (¬2): فيَّ وفيك نزل {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34] أنا من الرهبان، وأنت من الْأَحبار. ذكر أخلاقه: قد ذكرنا أن الملك الأمجد كان يزوره ويحبه. وكان الشيخ يهينه، فما قام له قط، وكان يقول له: يَا مجيد، أَنْتَ تظلم وتفعل وتصنع، وهو يعتذر إليه. وقد ذكرنا أن العادل أظهر قراطيس سود، فقال الشيخ عبد الله: انظروا يَا مسلمين إلى هذا الشيخ الفاعل الصانع يفسد على النَّاس معاملاتهم، وبلغ العادل، فأبطلها. وقد ذكرنا أخباره وكراماته وحكاياته، وقد ذكرنا حكايته مع النصراني، ومع المرأة التي كان معها الدابة وعليها النحاس والثياب] (1). ذِكْرُ وفاته: قال عبدُ الصَّمد: لما كان يوم الجمعة نزل، فصلَّى الجُمُعة بجامع بَعْلَبَك، وهو صحيحٌ ليس به شيءٌ، ودخل الحَمَّام قبل الصَّلاة واغتسل، وكان عليه ثوبان: ثوب قد سماه لأُمِّ أيدمر، والآخر لأُمِّ مهجة، وجاءه داود المؤذن، وكان يُغَسِّل الموتى، فقال له: ويحك يَا داود، انظر كيف تكون غدًا. فما فهم داود، وقال: يَا سيِّدي، كلُّنا غدًا في خِفارتك. ثم صَعِدَ الشيخ إلى المغارة، وكان قد أمر الفقراء أن يقطعوا صخرةً عند اللَّوْزة التي كان ينام تحتها، ويقعد عندها، وعندها قُبِرَ، وكان في نهار الجمعة قد نَجِزَتِ الصَّخرة، وبقي منها مقدار نصف ذراع، فقال لهم: لا تطلُعُ الشَّمْس إلَّا وقد فَرَغْتُمْ منها، [قال: ] (1) وبات طول الليل يذكُرُ أصحابه ومعارفه، ويدعو لهم، ويقول: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) هو محمَّد بن أَحْمد بن عبد الله الحنبلي، تُوفِّي سنة (658 هـ)، وهو والد قطب الدين اليونيني، مختصر "مرآة الزمان"، انظر ترجمته في "المذيل على الروضتين": 2/ 148.

قتادة بن إدريس

يَا سيّدي، فلانة اجتزتُ بها في الموضع الفلاني أعطتني شَرْبَةَ ماء فشرِبْتُها، وقليل ماء فتوضأتُ به، اغفرْ لها، وفلان أحسن إليَّ فأحسِنْ إليه. وطَلَعَ الصُّبْح، فصلّى بي، وخرج إلى صخرة كان يجلس عليها، فجلس وبيده سُبْحته، وقام الفقراء يتمِّمون الصخرة، وطلعتِ الشَّمس وقد فرغوا منها، والشيخ قاعدٌ نائم والسُّبْحة بيده، وجاء خادمٌ من القلعة إليه في شُغْل، فرآه نائمًا قاعدًا بحاله، فما تجاسر أن يوقظَه، فقعد ساعة، فطال عليه، فقال: يَا عبد الصَّمد، ما أقدر أقعد أكثر من هذا. فتقدمتُ إليه وقلت: يَا سيدي، سيدي، فما تكلَّم، فحركتُهُ، فإذا به ميتٌ، وقد فرغوا من الصخرة، وعملوا فيها ساعة وهو ميت، وارتفع الصّياح، وكان صاحبُ بَعْلَبَكّ في الصَّيد، فأرسلوا وراءه، فجاء، فرآه على تلك الحال، لا وَقَعَ ولا وقعت السُّبْحة من يده، [وهو كأنه نائم، فقال: دعونا نبني عليه بنيانًا، وهو على حاله ليكون أعجوبة الدنيا أن الإنسان يموت وهو قاعد ولا يتغير] (¬1)، فقالوا: اتِّباعُ السُّنَّة أَوْلى. وطلع داود، فغسله، ودفع الثَّوبين إلى المرأتين، ولما ألحدوه قال له الحَفَّار: يَا شيخ عبد الله، اذكر ما عاهدتنا عليه. قال: فَفَتَحَ عينيه، ونظر إلي شَزْرًا، ودفن عند اللَّوْزة يوم السبت في العشر الأول من ذي الحِجَّة، وقد جاوز ثمانين سنة، رحمه الله، ونفعنا به. قال المصنف رحمه الله: اقتصرنا على هذه اللُّمْعة من فضائله، وكان يستوحش من النَّاس، لما حصل له من الإيناس، فتارةً يكون بجبل لبنان، هاجرًا للأوطان، وتارة بالغسولة وثنية العقاب، يفر من الأسباب، وتارة بضمير، يستنشق روائح الغوير، ولسان حالة يقول: [من الكامل] وإذا رجعتَ إلى الصَّحيح فَنَجْدُها ... قلبي وبين جوانحي أغوارُها قَتَادة بنُ إدريس (¬2) أبو عزيز، الحسني الزَّيدي، أمير مكة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 17، وفيه: وقيل كانت وفاته سنة (618 هـ)، و"المذيل على الروضتين": 1/ 330 - 331، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن عمر بن حموية

كان شيخًا، مهيبًا، طُوالًا، عادلًا، منصفًا، نِقْمةً على عبيد مكة والمُفْسدين، والحاجُّ في أيامه مطمئنون آمنون على أموالهم ونفوسهم، [ولقد رأيتُهُ لما حججنا] (¬1)، وكان يُؤذَّن في الحرم بحي على خير العمل، وما كان يلتفت إلى أحدٍ من خلق الله، ولا وطئَ بساط الخليفة ولا غيره، ويُحمل إليه في كلِّ سنة من بغداد الخِلَع والذَّهب، وهو في داره بمكة، وكان يقول: أنا أَحقُّ بالخلافة. ولم يرتكب كبيرة على ما قيل، وكَتَبَ إليه الخليفة يستدعيه، ويقول: أنتَ ابنُ العَمِّ والصَّاحب، وقد بلغني شهامتُك وحِفْظُك للحاجِّ، وعَدْلُك، وشَرَفُ نفسك، وعِفَّتُك، ونزاهتُك، وقد أحببتُ أَنْ أراك وأشاهِدَك، وأحسنَ إليك، [وأتبرك بقدومك عليَّ,] (1) فكتب إليه: [من الطويل] ولي كَفُّ ضِرْغامٍ أُدِلُّ ببطشها ... وأَشْرِي بها بين الورى وأبيعُ تَظَلُّ ملوكُ الأرضِ تلثمُ ظَهْرَها ... وفي وَسْطها للمُجْدبين ربيعُ أأجعلها تحت الرَّحى ثم أبتغي ... خلاصًا لها إنِّي إذًا لرقيعُ وما أنا إلَّا المسْكُ في كل بقعةٍ ... يَضُوعُ وأما عندكم فيضيعُ وكانت وفاته في جُمادى الأولى بمكَّة. محمَّد بن عمر بن حَمُّوية (¬2) أبو الحسن، صَدْر الدِّين، شيخ الشيوخ. كان صلاح الدِّين -رَحِمَهُ اللهُ- قد ولَّاه المشيخة مكان أَبيه عند وفاة أَبيه سنة سبعٍ وسبعين وخمس مئة، ولما ولي العادل مصر ولاه تدريس الشَّافعي ومشهد الحسين والنظر في الخانكاة. وكان فاضلًا، فقيهًا، سِكِّيتًا، لا يتكلم فيما لا يعنيه، وكانت له الحُرْمة الوافرة عند العادل وأولاده، وكان كثيرَ الخير، ولما استولى الفرنج على دِمْياط بعثه الكامل إلى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 15 - 16، و"المذيل على الروضتين": 1/ 335 - 336، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن عمر

الخليفة يستنجده، فمرض بين حَرَّان والمَوْصِل، ووصل الموصل في منتصف جُمادى الآخرة، فتوفي بها يوم الاثنين رابع عشرين منه بعِلَّة الذَّرَب، وعمره ثلاثٌ وسبعون سنة، ودُفِنَ إلى جانب قضيب البان. وكان له من الأولاد: عماد الدين عمر، وفخر الدين يوسف، وكمال الدين أَحْمد، ومعين الدِّين حسن، وأمهم بنت شهاب الدِّين بن أبي عصرون. مُحَمَّد بن عمر (¬1) ابن شاهنشاه بن أَيُّوب، الملك المنصور، صاحب حماة. كان شجاعًا، محبًّا للعلماء والفُضَلاء، وكان عنده جماعةٌ من المُعَمَّمين لهم الرَّواتب مثل السيف الآمِدِي، ومن يجري مجراه، وصنَّف كتابًا سماه "المضمار" (¬2)، فيه جملةٌ من التَّواريخ، وأسامي مَنْ وَرَدَ عليه في عشر مجلدات، وكانت وفاته في شوال بحماة، ودفن عند أَبيه. وقام بعده ولده الأكبر الملك النَّاصر قليج رسلان، وجرى له مع الكامل بعد ذلك عجائب، وأخذ منه حماة، وأعطاها لأخيه الملك المُظَفَّر، واعتقل قليج رسلان في الجُبِّ بمِصْر، ومات على أقبح حال. محمود بن محمَّد (¬3) ابن قرأ رسلان بن أُرْتُق، الملك الصَّالح، ناصر الدِّين، صاحب آمد. كان شجاعًا، عاقلًا، جَوَادًا، محبًّا للعلماء، وكان الأشرف يحبه، وجاء غير مرة إلى خدمة الأشرف إلى دُنَيْسر وغيرها، ومات بآمد في صفر. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 30، و"المذيل على الروضتين": 1/ 333، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) هو "مضمار الحقائق وسر الخلائق"، وقد طبعت منه قطعة، فيها حوادث سنوات 575 - 582، بالقاهرة سنة 1968 بتحقيق الدكتور حسن حبشي. (¬3) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 334، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وقد اختلف في سنة وفاته ما بين سنة 617 هـ أو 618 هـ أو 619 هـ.

ناصر بن مهدي

وقام بعده ولده المسعود، وكان ضد اسمه بخيلًا فاسقًا، حَصَره الكامل بعد ذلك في آمِد، ووجد في قصره خمس مئة امرأة من الحرائر من بنات النَّاس بغير كتاب، وأخذه الكامل إلى مِصْر وأحسن إليه، فكاتَبَ الرُّوم، وسعى في هلاك الكامل، فحبسه في الجُبّ مُدَّة، ثم أطلق، ومضى إلى التتر، وكان معه الجواهرُ العظيمة والأموال، وأخت مستحسنة، فقتلوه، وأخذوا الجميع. ناصر بن مهدي (¬1) وزير الخليفة. وقد طعنوا في نسبه (¬2)، ولما عُزِلَ أمر الخليفةُ الشُّعراءَ أن يغمزوه في أشعارهم، وكان جَبّارًا قاسيًا، وكانت وفاته بدار طاشْتِكِين في جُمادى الأولى، وفُتِحَ له جامع القَصْر، ومشى بين يديه أربابُ الدَّولة بأَسْرهم والحاشية، ودفن بمقابر موسى بن جعفر. السنة الثامنة عشرة وست مئة فيها توجه المعظَّم عيسى إلى أخيه الأشرف، واجتمعا على حَرَّان، وكتب صاحبُ ماردين ناصر الدِّين إلى الأشرف يسأله أن يُصْعِدَ المعظم إليه، فسأله, فسار إلى ماردين، فتلقَّاه صاحب ماردين في دُنَيْسر، وأصعده إلى القلعة، وخدمه خدمةً عظيمة، وقدَّم له التُّحف والجواهر، واتَّفقا وتحالفا على ما أرادا، وزوَّج المعظم إحدى بناته ناصرَ الدِّين، وزوَّج ابنه بابنته الأخرى، وخَلَعَ على جميعِ أصحابه، وأعطاهم أموالًا، ورجع المعظَّم إلى حَرَّان. ووصلت الأخبار بوصول التَّتر إلى [كرماشاهان] (¬3) قريب بغداد، فانزعج الخليفة، وأمر النَّاس بالقنوت في الصَّلاة، وحَصَّن بغداد، واستخدم العساكر. وفي جُمادى الآخرة فتحت دمياط. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 12، و"المذيل على الروضتين": 1/ 333، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) كان يدّعي أنَّه شريف علوي. (¬3) ما بين حاصرتين من (ش).

ذِكْرُ السبب: كان المعظم من أحرص النَّاس على خلاص دِمْياط و [على] (¬1) الغَزَاة، وكان مصافيًا لأخيه الكامل، وكان الأشرف مقصِّرًا في حَقّ الكامل، مباينًا له في الباطن، فلما اجتمعتِ العساكرُ على حَرَّان، قطع بهم المعظَّم الفرات، وسار الأشرف في آثاره، ونزل المعظم حمص، والأشرف سَلَمِيَّة. قال المصنف رحمه الله: وكنتُ قد خرجتُ من دمشق إلى حِمْص لطلب الغَزَاة، فإنَّهم كانوا على عَزْمِ الدُّخول إلى طرابُلُس، فاجتمعتُ بالمُعَظَّم على حِمْص في ربيع الآخر، فقال لي: قد سحبتُ الأشرف إلى ها هنا بأسناني وهو كاره، وكل يوم أعتبه في تأخُّره، وهو يكاشر، وأخاف من الفرنج أن يستولوا على مِصْر، وهو صديقك، فأشتهي تقوم تروح إليه، فقد سألني عنك [مرارًا] (¬2)، ثم كَتَبَ إليه كتابًا بخطِّه نحو ثمانين سطرًا، فأخذته، ومضيتُ إلى سَلَمِيَّة، وبلغ الأشرف وصولي، فخرج من الخيمة، والتقاني، وعاتبني على انقطاعي عنه، وجرى بيني وبينه فضول، وقلتُ له: المسلمون في ضائقة، وإذا أخذ الفرنج الدِّيار المِصْرية ملكوا إلى حَضْرَ موت، وعَفُّوا آثار مكة والمدينة والشَّام [وأنت تلعب! ] (2)، قم السَّاعة وارحل، فقال: ارموا الخيام [والدِّهليز] (2)، وسبقته إلى حِمْص [(¬3) والمعظم عينه إلى الطريق، فلما قيل له: وصل فلان، ركب، والتقاني] وقال: ما نمتُ البارحة، ولا أكلتُ اليوم شيئًا. فقلتُ: غدًا يصبح أخوك على حِمْص. فلما كان من الغد أقبلتِ الأطلاب، وجاء طُلْبُ الأشرف، والله ما رأيتُ أجملَ منه ولا أحسنَ رجالًا، ولا أكمل عُدَّة، وسُرَّ المعظم سرورًا عظيمًا، وجلسوا تلك الليلة يتشاورون، فاتَّفقوا على الدُّخول في السَّحَر إلى طرابُلُس [يشوشون على الفرنج] (1)، وكانوا على حالٍ، فأنطق الله الأشرف من غير قَصْد، وقال للمعظَّم: يَا خوند، عِوَض ما ندخل السَّاحل ونضعف خيلنا وعساكرنا ونضيع الزَّمان ما نروح إلى دمياط ونستريح؟ فقال له المعظم: قولَ رُماة البُنْدُق؟ قال: نعم، فقبَّل المعظَّم قدمه، ونام الأشرف، فخرج المعظم من الخيمة كالأسد الضَّاري يصيح: الرَّحيلَ الرَّحيل إلى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "المذيل على الروضتين". (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ح): فتلقاني المعظم وقال: ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

دِمْياط. وما كان يظن أَنَّ الأشرف يسمح بذلك، وساق المعظَّم إلى دمشق وتبعته العساكر، ونام الأشرف في خيمته إلى قريب الظُّهْر [وانتبه، فدخل الحَمَّام، فلم يَرَ حول خيمته أحدًا، فقال: وأين العساكر؟ ] (¬1)، فأخبروه الخبر، فسكت، وساق إلى دمشق، فنزل القُصَير يوم الثلاثاء رابع جمادى الأُولى، فأقام إلى سَلْخه، وعَرَضَ العساكر تحت قلعة دمشق، وكان هو وأخوه المعظم في الطَّيَّارة بالقلعة، وساروا إلى مِصْر غُرَّة جمادى الآخرة. وأما الفرنج فإنَّهم خرجوا بالفارس والرَّاجل، وكان البحر زائدًا جدًّا، فجاؤوا إلى تُرْعة، فأرسوا إليها، وفتح المسلمون عليهم التُّرع من كلِّ مكان، وأحدقتْ بهم عساكرُ الكامل، فلم يبق لهم وصولٌ إلى دمياط، وجاء أسطول المُسْلمين، فأخذوا مراكبهم، ومنعوهم أن تصل إليهم ميرةٌ من دِمْياط، وكانوا خَلْقًا عظيمًا، وانقطعت أخبارُهم عن دمياط، وكان فيهم مئة كند، وثماني مئة من الخَيَّالة المعروفين، وملك عكا، والدوك، واللوكات نائب البابا، ومن الرَّجَّالة ما لا يحصى، فلما عاينوا الهلاك أرسلوا إلى الكامل يطلبون الصُّلْح والرهائن، ويسلِّمون دمياط، فمن حِرْصِ الكامل على خلاص دمياط أجابهم، ولو أقاموا يومين أخذوا برقابهم، فبعث إليهم الكامل ابنه الصَّالح أَيُّوب، وابن أُخته شمس الملوك، وجاء ملوكهم إلى الكامل ممن سمينا، فالتقاهم، وأَنْعَمَ عليهم، وضَرَبَ لهم الخيام، ووَصَلَ المعظَّم والأشرف في تلك الحال إلى المنصورة في ثالث رجب، فجلس الكامل مجلسًا عظيمًا في خيمةٍ كبيرةٍ عالية، ومدَّ سماطًا عظيمًا، وأحضر ملوك الفرنج، ووقف المعظم والأشرف والملوك في خدمته، وقام الحِلِّي الشَّاعر، وأنشد: [من الطَّويل] هنيئًا فإنَّ السَّعْدَ راحَ مُخَلَّدا ... وقد أنجز الرَّحْمَن بالنَّصْر مَوْعدا حبانا إلهُ الخَلْقِ فتحًا بدا لنا ... مبينًا وإنعامًا وعزًا مؤبَّدا تهلَّل وَجْهُ الدَّهْرِ بعد قطوبه ... وأصبحَ وَجْهُ الشِّرْكِ بالظُّلْمِ أسودا ولما طغى البحرُ الخِضَمُّ بأَهْله الـ ... ـطغاةِ وأضحى بالمراكب مُزْبدا أقام لهذا الدِّين مَنْ سَلَّ عزمه ... صقيلًا كما سُلَّ الحسامُ مجرَّدا فلم ينجُ إلا كلُّ شِلْوٍ مجدَّلٍ ... ثوى منهمُ أو مَنْ تراه مقيَّدا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

إسماعيل بن عبد الله

ونادى لسان الكون في الأرض رافعًا ... عَقيرتَهُ في الخافِقَينِ ومُنْشدا أَعُبَّاد عيسى إنَّ عيسى وحزْبه ... وموسى جميعًا يخدمون محمَّدا (¬1) من أبيات. ووقع الصُّلْح بين الكامل والفرنج يوم الأربعاء تاسع عشر رجب، وسار بعضُ الفرنج في البر، وبعضهم في البحر إلى عكا، وتَسَلَّم الكامل دمياط، ووصلتِ العساكرُ الشَّرقية والشَّامية، وقد أخذ الكامل دمياط. وحَجَّ بالنَّاس ابنُ أبي فراس، ومعه كتابٌ إلى مكَّة والمدينة بإعادة وليِّ العَهْد أبي نَصْر إلى العهد، وكَتَبَ إلى الآفاق بذلك. وعاد المعظم إلى الشَّام، وأقام الأشرف بمِصْر عند الكامل، فغيَّر الله القلوب، وصارا متصافيين، واتَّفقا على المعظم. وولى المعظم الجمال المِصْري قضاء دمشق، وقرأ منشوره بهاءُ الدِّين بنُ أبي اليُسْر [في شهر رجب] (¬2). وفيها تُوفِّي إسماعيل بن عبد الله (¬3) أبو طاهر، الأنماطي المحدِّث. سمع الكثير، ولقي الشيوخ، وتوفي بدمشق ثالث عشر رجب، ودُفِنَ بمقابر الصُّوفية عند المُنَيْبع، وصلَّى عليه شيخنا موفق الدِّين -رحمه الله- بجامع دمشق، والفخر بن عساكر بباب النَّصر، والجمال المصري عند قبره. أسمع الأنماطي بمصر البوصيري، وابن المقدسيّ شيخنا، وبدمشق من بركات بن إبراهيم الخشوعي، ورحل إلى العراق، فسمع بواسط أَبا الفتح بن المندائي، وابن عبد السميع الهاشمي وغيره، وقرأ على ¬

_ (¬1) قال أبو شامة: وبلغني أن وقت الإنشاد أشار عند قوله عيسى إلى المعظم، وعند قوله موسى إلى الأشرف، وعند قوله محمدًا إلى الكامل، وهذا من أحسن شيء اتفق. "المذيل على الروضتين": 1/ 346. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 79 - 80، و"المذيل على الروضتين": 1/ 348، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن خلف بن راجح

شيخنا الشيخ تاج الدين الكندي "تاريخ الخَطيب"، و"طبقات" ابن سعد، وشيئًا كثيرًا,] (¬1) وكان ثِقَة. وقيل: مات سنة تسع عشرة [وست مئة] (1). محمَّد بن خَلَف بن راجح (¬2) المَقْدِسي، ويلقب بالشِّهاب، والد القاضي نجم الدين، [وموسى الصلاح] (1). كان زاهدًا، عابدًا، ورعًا، فاضلًا في فنون العلوم، سافر إلى بغداد، وسمع الكثير، وحفظ "مقامات" الحريري في خمسين ليلة، [فتشوَّش خاطره] (1)، وكان يغسل باطن عينيه فقلَّ نظره، وكان سليم الصَّدْر، من الأبدال، ما خالف أحدًا قط. قال المصنِّف رحمه الله: رأيتُه يومًا وقد خَرَجَ من جامع الجبل، فقال له إنسان: ما تروح إلى بَعْلَبَكّ؟ فقال: بلى، ومشى من ساعته إلى بعلبك بالقَبْقاب. وكانت وفاته سَلْخ صفر، ودفن بقاسيون عند أهله، [سمع شهدة وابن البطي ومشايخ الشَّام وغيرهم، وروى لنا الحديث] (1). محمَّد بن محمَّد، النَّحْوي التكريتي (¬3) أقام ببغداد، وقرأ الأدب، وبرع فيه [وأجاد] (1)، ومن شعره: [من مخلع البسيط] من كان ذَمَّ الرقيبَ يومًا ... فإنَّني للرَّقيبِ شاكِرْ لم أر وَجْهَ الرَّقيبِ وَقْتًا ... إلَّا ووَجْه الحبيبِ حاضِرْ السنة التاسعة عشرة وست مئة فيها ظهر جَرَادٌ بالشَّام لم يُرَ مثله، فأكل الزَّرعْ والشجر والثَّمر، فأظهر المُعَظَّمُ أَنَّ ببلادِ العجم طيرًا يقال له السمرمر يأكلُ الجراد، فأرسل الصَّدْر البكري محتسب دمشق، ورتَّب معه صوفية، وقال: تمضي إلى العجم، فهناك عينٌ يجتمع فيها السمرمر، فتأخذ من مائها في ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 1/ 36 - 37، و"المذيل على الروضتين": 1/ 346 - 347، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) لم أقف على مصادر ترجمته.

قوارير، وتعلِّقه على رؤوس الرماح، وكلما رآه السمرمر تَبِعَك، وكان مقصودة أن يبعث البكري إلى [جلال الدين] (¬1) خوارزم شاه، فيتفق معه لما بلغه اتِّفاق الكامل والأشرف عليه، فاجتمع البكري بالخوارزمي، وقرَّر معه الأمور، وجعله سندًا له، وكان الجراد قد قَلَّ، فلما عاد البكري كَثُرَ [الجراد] (1)، فقال النَّاس في ذلك الأشعار، وظهر فِعْلُ المعظَّم للنَّاس، وعلم الكاملُ والأشرف، [وجرى هذا الحديث وشاع، فقيل للمعظم: لو كنت أرسلت وما له مع بعض التجار الذين يسافرون إلى خراسان كان أَوْلى,] (1) ولما عاد البكري [من الرسالة] (1) ولاه المعظم مشيخة الشيوخ مضافة إلى الحِسْبة. وحجَّ من العراق ابنُ أبي فراس مستقلًا، ومن الشَّام الركن الفلكي وكريم الدِّين الخِلاطي، [(¬2) وكنت على عزم الحج، فخرجت على هجين إلى مشهد القدم، فجاء حوراني عليه فروة ليصافحني، فنفر بي الهجين، فرماني، فأقمت شهرين أداوي ظهري. وحج بالنَّاس] من اليمن أقسيس بن الكامل [ولقبه الملك المسعود] (1) في عسكرٍ عظيم، فجاء إلى الجبل [وقد لبس أصحابه السلاح، ومنع علم الخليفة أن يُصعد به إلى الجبل] (1)، وأَصْعَدَ علم الكامل وعلمه، وقال لأصحابه: إنْ أَطْلَعَ البغاددة علم الخليفة فاكسروه، وانهبوهم. ووقفوا تحت الجبل من الظُّهْر إلى غروب الشَّمس يضربون الكوسات، ويتعرَّضون للحاجِّ العراقي، وينادون: يَا ثارات ابن المقدم. فأرسل ابنُ أبي فراس أباه، وكان شيخًا كبيرًا إلى أقسيس، وأخبره بما يجب من طاعة الخليفة، وما يلزمه من ذلك من الشَّناعة، فيقال إنه أَذِنَ في صعود العلم قبيل الغروب، وقيل: لم يأذن، وبدا من أقسيس في تلك السنة جبروتٌ عظيم. [(¬3) وحكى لي شيخنا جمال الدين الحَصِيري، قال: رأيت أقسيس] قد صَعِدَ على قُبَّة زمزم، وهو يرمي حمام مكَّة بالبُنْدُق، ورأيت غِلْمانه في المسعى يضربون النَّاس بالسيوف في أرجلهم، ويقولون: اسعوا قليلًا قليلًا، فإنَّ السُّلْطان نائمٌ سكران في دار ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): وكريم الدين الخلاطي، ومن اليمن ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ح): قال الشيخ جمال الدّين الحصري: رأيته قد صعد ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

مسمار بن عمر بن محمد

السَّلْطنة التي في المسعى. والدَّم يجري من ساقات النَّاس. وفيها نُقِلَ العادل من قلعة دمشق إلى مدرسته التي عند دار العقيقي. وفيها تُوفِّي مسمار بن عمر بن محمَّد (¬1) أبو بكر بن العُوَيْس، البغدادي، في شعبان بالمَوْصل، وكان ثِقَةً. نصر بن أبي الفرج (¬2) إمام الحنابلة بمكة، أقام بمكَّة مجاورًا مُدَّة، ثم خرج إلى اليمن، فمات بالمَهْجَم، ودفن به (¬3)، وكان متعبِّدًا لا يفتر من الطَّواف، صالحًا، ثِقَة. وتوفي قطب الدين بن العادل (¬4) بالفيوم، ونُقِلَ إلى القاهرة. السنة العشرون وست مئة فيها عاد الأشرف من مِصْر إلى الشَّام [قاصدًا إلى الشرق] (¬5)، والتقاه المعظَّم، وعرض عليه النزول بالقلعة، فامتنع، ونزل بجوسق أَبيه، وبدت الوحشة بين [الأخوة] (5) الأشرف والكامل والمُعَظَّم، وأصبح الأشرف في وقت السَّحَر، فساق، ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 83 - 84، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي (وفيات سنة 619 هـ)، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 154، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 205 - 206، و"النجوم الزاهرة": 6/ 253. (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 69 - 70، و"المذيل على الروضتين": 1/ 352 - 353، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) نقل أبو شامة في "المذيل": 1/ 353 عن سبط ابن الجوزي قوله: سمعت منه الحديث بمكة في سنة أربع وست مئة. قلت: وهذا من جملة الأدلة على أن ما بين أيدينا هو مختصر "مرآة الزمان". (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 80، و"المذيل على الروضتين": 1/ 352، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬5) ما بين حاصرتين من (ش).

أحمد بن ظفر

ونزل ضُمَيْر، ولم يعلم المعظم برحيله، وسار يطوي البلاد إلى حَرَّان. وكان [الأشرف] (¬1) قد استناب أخاه شهاب الدِّين غازي صاحب مَيَّافارقين على خِلاط لما سافر إلى مِصْر، وجعله وليَّ عهده [بعد عينه] (1)، ومكَّنه في جميع البلاد، فسوَّلت له نفسه العِصْيان، وأعانه عليه قومٌ آخرون، [وهم] (1): ابنُ زين الدين والمشارقة والمُعَظَّم، وقالوا: نحن من ورائك. قال المصنِّف رحمه الله: ولما وصل الأشرف إلى حَرَّان، قال لي المعظم: أما عندك خبر ما قد شنَّع عليَّ أخي أنني أردتُ أن أمسكه، فقد كان في الجوسق، لو أردت أن أمسكه أمسكته، والله ما خَطَرَ هذا أبدًا. ولما وصل الأشرف حَرَّان سار إلى سِنْجار، وكَتَبَ إلى أخيه غازي يطلبه، فامتنع من المجيء إليه، فكتب إليه: يَا أخي لا تفعل، أَنْتَ وليُّ عهدي، والبلاد والخزائن بحكمك، فلا تخرب بيتك بيدك، وتسمع كلام الأعداء، فوالله ما ينفعونك. فأظهر العِصْيان، فجمع الأشرف عساكر الشَّرْق وحلب، وتجهَّز للمسير إلى خِلاط، وكان صاحب حمص قد مال إلى الأشرف، فسار المعظَّم إلى حِمْص، ووصل حماة، ونزل على نقيرين -ضيعة على بابها - باتِّفاقٍ كان بينه وبين صاحبها، فلم ينزل إليه، ولا فَتَحَ له الباب، فأَقْطَعَ بلاد حماة، وعاد إلى حِمْص، وخرج إليه العسكر، فظهروا عليه، ونهبوا أصحابه، فعاد إلى دمشق، ولم يظفر بطائل. وحجَ [بالنَّاس] (1) من العراق ابنُ أبي فراس، ومن الشَّام الشَّرف يعقوب صاحب شركس. وفيها تُوفِّي أَحْمد بن ظَفَر (¬2) ابن الوزير يحيى بن محمَّد بن هبيرة، كمال الدين. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 95، و"المختصر المحتاج إليه": 1/ 186 - 187، و"تاريخ الإِسلام" (وفيات سنة 620 هـ).

سنقر الحلبي الصلاحي

صاحب باب الخليفة، كان كاتبًا، مترسِّلًا، مليحَ الخَطِّ، فاضلًا، ولد سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة، ومات في المحرَّم. سُنْقُر الحلبي الصَّلاحي (¬1) الأمير مبارز الدين، [والد الظهير] (¬2). كان مقيمًا بحلب، ثم انتقل إلى مارِدِين، فخاف الأشرف منه، فبعث إلى المعظم، وقال: ما دام المبارز في الشَّرق ما آمن على نفسي. فأرسل المعظم الظَّهير غازي بن المبارز إلى أَبيه، وقال: أنا أعطيه نابُلُس وأيش أراد، [فجاء الظهير إلى ماردين، وعرَّف المبارز رغبة المعظم فيه، وأنه يقطعه من الشَّام أيش أراد] (2)، فقال له صاحب ماردين: لا تفعل، فهذه خديعة، وأنا والقلعة والخزائن لك. [فأبى] (2)، فسار إلى الشَّام سنة ثماني عشرة، ووصل إلى دمشق، وخَرَجَ المعظَّم للقائه ولم يُنْصِفْه، وجاء، فنزل في دار شِبْل الدَّوْلة الحُسامي بقاسيون التي انتقلت إلى الصُّوفية، [وأقام بها] (2)، والمعظَّم مُعْرِضٌ عنه، ويماطله [باليوم وغدًا] (2) حتَّى تفرَّق عنه أصحابه، وكان معه [جملة] (2) من المال والخيل المنسوبة العربية، والجمال، والبغال، والسِّلاح والمماليك شيء كثير، ففرَّق الجميعَ في الأُمراء والأكابر. قال المصنِّف رحمه الله: وكان جاري؛ لأني كنتُ مقيمًا بتربة بدر الدين حسن على ثورا، وكان يزورني وأزوره، ويشكو إليَّ إعراض المعظَّم عنه، وما فعل به ولده الظَّهير، وكيف خدعه، وأنا أُسليه وأهوِّن عليه، [(¬3) وأقول كل الأشياء فضلتك، ولقد وقع لي كتاب فيه حديث ملوك اليمن، وبينما أنا قاعد اقرأه، فدخل] فقال: أيش تقرأ؟ قلتُ: أخبار ملوك اليمن. فقال: اقرأ عليَّ، فقرأتُ: فلان [الملك] (2) عاش أَلْف سنة وماتَ بالغَمِّ، وفلان عاش سبع مئة سنة ومات بالغَمِّ، وذكرتُ من هذا الجِنْس، فقال: وأنا أموت بالغم. وكان طول النهار يجلس مغمومًا مهمومًا، وما يفيد فيه العَذْل حتَّى ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 355 - 357، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ح): وأسليه وأهون عليه، وبينا أنا قاعد أقرأ كتابًا فيه حديث ملوك اليمن دخل فقال ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

عبد الله بن أحمد

انقطع أكله، فأقام عشرين يومًا لا يدخل في فِيه إلا الماء، ومات كمدًا في شعبان في دار شِبْل الدولة، فقام [شبل الدولة] (¬1) بأمره أحسنَ قيام، وجهَّزه أجمل جهاز -وكان صديقَه من أيام شمس الدَّولة أخي ستِّ الشَّام، ويقال: إن المبارز كان مملوك شمس الدولة- واشترى له كافور تربةً على رأس زقاق شبل الدولة بألف دِرْهم عند المصنع، وحضر جنازتَه خَلْقٌ عظيم لأَنَّه كان مُحْسنًا إلى النَّاس، ولم يكن في زمانه من الصَّلاحية وغيرهم أكرم ولا أشجع منه، وكانت له المواقف المشهورة مع صلاح الدِّين وغيره، وما كانت الدنيا تساوي عنده قليلًا ولا كثيرًا، ولما مات وجدوا في صندوقه دُسْتورًا فيه جملة ما أنفق في نعال الخيال [وذلك] (1) ثمانية عشر أَلْف دِرْهم، فسألتُ كاتبه عن ذلك فقال: ما يتعلق هذا بنعال دوابِّه، وإنما كان يستعرض الفرس الثمين [بخمس مئة دينار فأكثر، فينعله أولًا قبل أن يركبه] (¬2)، فإن صَلُحَ أعطى صاحبه ثمنه وخلع عليه، وإن لم يصلح أعطى صاحبه مئتي دِرْهم، واعتذر إليه. ولقد اعترض بعضُ الأمراء فرسًا وأنعله ثم ركبه، فلم يصلح، وجاء صاحبه يطلبه فقال الأمير لغلامه: اقلع نعاله، وأَعْطه لصاحبه. ولقد حكى لي الظهير [ولده] (1) قال: وصل مع أبي إلى الشَّام ذَهَبٌ وجمال وخيلٌ وغيرها ما قيمته مئة أَلْف دينار، ومات وليس له كفن، ما كفَّنه إلَّا شِبْلُ الدولة. عبد الله بن أَحْمد (¬3) ابن محمَّد بن قدامة، أبو محمَّد، شيخنا موفق الدين، المقدسيّ. ولد بجمَّاعيل في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمس مئة، وقرأ القرآن [(¬4) وقد ذكرنا أنَّه قدم مع الحافظ عبد الغني إلى] بغداد سنة إحدى وستين، وسنة سبع وستين، وحج سنة ثلاثٍ وسبعين، وسمع خَلْقًا كثيرًا، وتفقَّه على مذهب الإِمام أَحْمد رحمة الله عليه، وعاد إلى دمشق، وصنَّف المصنفات الحسان، منها: كتاب "البرهان في علوم ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): وإنما كان يستعرض الفرس الثمين، فينعله ويركبه ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 107، و"المذيل على الروضتين": 1/ 367 - 372، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) في (ح): وقرأ القرآن، وقدم بغداد ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

القرآن"، وكتاب "المغني" في شرح الخِرَقي سبع مجلدات، و"الكافي "مجلَّدان، و"المقنع" مجلد، و"مختصر الهداية" مجلد، و"العمدة"، و"أصول الفقه"، و"الفرائض"، و"أنساب القرشيين"، و"التَّوَّابين"، و"الرقة"، و"الاعتقاد"، و"فضائل الصَّحابة"، و"القدر"، و"ذم التأويل"، و"فضائل عاشوراء"، و"ذم الوسواس"، و"قنعة الأريب" في اللغة، و"إثبات جهة العلو"، وغير ذلك. وكان إمامًا في التَّفاسير والفِقْه والحديث والفنون، ولم يكن في زمانه مثله بعد أخيه أبي عمر، والعماد أزهد منه ولا أورع منه، وكان كثيرَ الحياء، عَزُوفًا عن الدُّنيا وأهلها، هَيِّنًا لينًا متواضعًا، محبًا للمساكين، حَسَنَ الأخلاق، جَوَادًا، سخيًّا، مَنْ رآه كأنما رأى بعضَ الصَّحابة، كأَنَّ النور يخرجُ مِنْ وَجْهه، كثيرَ العبادة، يقرأُ كلَّ يوم وليلة سُبْعًا من القرآن، ولا يصلِّي ركعتي السُّنَّة في الغالب إلَّا في بيته اتباعًا للسُّنَّة، وكان صحيح الاعتقاد، مبغضًا للمُشَبِّهة، وقال: من شَرْط التَّشْبيه أن يرى الشيء ثم يشبهه، مَنْ رأى الله تعالى حتَّى يشبِّهَه لنا! قال المصنف رحمه الله: قوله: مَنْ رأى الله تعالى حتَّى يشبهه لنا؛ كلامٌ حسن في غاية الجودة، لأَنَّ الذي رآه بعيني رأسه - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت ربي" (¬1) وسكت عن التشبيه، فيسعنا ما وسعه. وكان يحضر مجالسي [دائمًا] (¬2) في جامع دمشق وقاسيون، ويفرح بي ويقول: قد أحيا الله بك السُّنَّة، وقَمَعَ البِدْعة، [وهذه البلاد فتوحك كما فتح القدسَ يوسف سميُّك. ذِكْرُ نبذة من كراماته: حكى] (¬3) أبو عبد الله بن فَضْل الأعناكي [قال: ] (2) قلتُ في نفسي: لو كان لي قُدْرة لبنيت للموفق مدرسةً، وأعطيته كلَّ يوم أَلْف دِرْهم، [قال: ] (2) ثم جئت بعد أيام، فسلَّمْتُ عليه، فنظر إلى وتبسَّم، وقال: إذا نوى الشَّخص نيةً كُتِبَ له أَجْرُها. ¬

_ (¬1) وهو عند أَحمد في "المسند" (2580) من حديث ابن عباس. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ح): وقمع البدعة، وقال أبو عبد الله ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

[وحكى أبو الحسن علي بن حمدان الجرائحي، قال: ] (¬1) كنتُ أبغض الحنابلة لما شاع عنهم من سوء الاعتقاد، فمرضت مرضًا شنَّج أعضائي، وأقمتُ سبعة عشر يومًا لا أتحرَّك، وتمنيتُ الموت، فلمَّا كان وقت العشاء جاءني الموفق، وقرأ عليَّ آياتٍ ورقاني، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ومَسَحَ على ظهري، فأحسستُ بالعافية، وقام، فقلت: يَا جارية، افتحي له الباب. فقال: أنا أروح من حيثُ جئت. وغاب عن عيني، وقمتُ من ساعتي إلى بيت الوضوء، فلما أصبحتُ دخلتُ الجامع، فصلَّيتُ الفجر خلفَ الموفق وصافحته، فعصر يدي، وقال: احذر أن تقول شيئًا، فقلتُ: أقول وأقول. وقال قوَّام جامع دمشق: كان ليلة يبيت بالجامع تُفتح له الأبواب، فيخرج، ويعود فَتُغْلق على حالها. ذِكْرُ وفاته: [وحكى] (¬2) إسماعيل بن حماد الكاتب البغدادي [قال: ] (¬3) رأيتُ ليلة عيد الفطر كأَنَّ مُصْحَف عثمان قُد رُفِعَ من جامع دمشق إلى السَّماء، فلحقني غَمٌّ شديد، فتوفي الموفق يوم العيد. ورأى أَحْمد بن سَعْد [أخو محمَّد بن سَعْد الكاتب] (3) المقدسيّ، وكان من الصَّالحين، قال: رأيتُ ليلة العيد ملائكة ينزلون من السماء جُمْلة، وقائل يقول: انزلوا بالنوبة. فقلتُ: ما هذا؟ قال: يتلقون روح الموفق الطَّيّبة في الجسد الطَّيِّب. وقال عبد الرَّحْمَن بن محمَّد العلوي: رأيتُ كأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مات وقُبِرَ بقاسيون يوم عيد الفِطْر، [قال] (3): وكنا بجبل بني هلال، فرأينا على قاسيون ليلة العيد ضوءًا عظيمًا، فظننَّا أَنَّ دمشق قد احترقت، وخَرَجَ أهلُ القرية ينظرون إليه، فوصل الخبر بوفاة الموفق، ودفن بقاسيون. وكانت وفاته بدمشق، وحُمِلَ إلى قاسيون، وكان له جَمْعٌ عظيم. ¬

_ (¬1) في (ح): وقال أبو الحسن بن حمدان الجرائحي ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): ذكر وفاته، قال إسماعيل ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (ش).

عبد الرحمن بن محمد

سمع الشيخ عبد القادر، [وأبا الفتح محمَّد بن عبد الباقي بن أَحْمد بن سَلْمان، وأبا زرعة] (¬1) طاهر بن محمَّد بن طاهر المقدسيّ وابن النَّقور، وغيرهم خلقًا كثيرًا. قال المصنف رحمه الله: وقرأتُ عليه كتاب "التوابين" و"الاعتقاد"، وغير ذلك، وأنشدني لنفسه: [من الطَّويل] أبعدَ بياضِ الشَّعْر أَعْمُرُ مَسْكنًا ... سوى القبر إنِّي إنْ فَعَلْتُ لأحمقُ يخبِّرني شَيبي بأنيَ مَيِّتٌ ... وشيكًا وينعاني إليَّ فَيَصْدُقُ تخرَّق عُمْري كلَّ يومٍ وليلةٍ ... فهل مستطيعٌ رَفْوَ ما يتخرَّقُ [كأني بنفسي فوق نعشي ممددًا ... فمن ساكتٍ أو مُعْولٍ يتحرَّقُ] (1) إذا سألوا عنِّي أجابوا وأَعْوَلُوا ... وأَدْمُعُهُمْ تنهلُّ هذا الموفَّقُ وغُيِّبْتُ في صَدْعٍ من الأرض ضَيِّقٍ ... وأُوْدِعْت لحدًا فوقه التُّرْب مُطْبِقُ فيا رَبِّ كُنْ لي مُؤنسًا يوم وَحْشتي ... فإنِّي بما أَنْزَلْتَهُ لمصدِّقُ وما ضَرَّني أَني إلى الله صائِرٌ ... ومَنْ هو مِنْ أَهْلي أَبَرُّ وأَشْفَقُ وكان له أولاد: أبو الفَضْل محمَّد، وأبو العز يحيى، وأبو المجد عيسى، ماتوا كلهم في حياته، ولم أُدرك منهم غير عيسى -فرضي الله عنه رضي الأبرار، فلقد كان قُرَّة عين الصَّالحين الأخيار- وأُمُّ الجميع مريم بنت أبي بكر بن عبد الله بن سَعْد المقدسيّ، وكان له منها بنات: صفية وفاطمة، ولم يُعْقِبْ من ولد شيخنا الموفق رحمة الله عليه سوى عيسى، خَلَّف ولدين صالحين ماتا، وانقطع عَقِبُه. عبد الرَّحْمَن بن محمَّد (¬2) ابن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين، أبو منصور، فخر الدين بن عساكر، ابن أخي الحافظ [ابن عساكر] (1) صاحب "التَّاريخ". ولد فخر الدين في سنة خمسين وخمس مئة، وتفقَّه على مذهب الشَّافعي -رحمة الله عليه- وبَرَعَ فيه، ودرَّس بالجاروخية بدمشق، وبالصَّلاحية بالقُدْس، وسمع الحديث، وكان ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة": للمنذري 3/ 102 - 103، و"المذيل على الروضتين": 1/ 360 - 367، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

عبد الرحمن اليمني

زاهدًا، عابدًا، ورعًا، منقطعًا إلى العلم والعبادة، سخيًّا، حَسَنَ الأخلاق، قليلَ الرَّغْبة في الدُّنيا، وكانت وفاتُه يوم الأربعاء عاشر رجب، ودُفِنَ على الشَّرف القِبْلي عند مقابر الصّوفية، [وكانت له جنازة عظيمة] (¬1)، وقبره ظاهر يُزَار، وصلَّى عليه العزيز بن العادل، ولم يتخلَّف عن جنازته إلَّا القليل، سمع عمَّيه [أَبا القاسم الحافظ، والصائن أَبا الحسين هبة الله] (1)، والقُطْب النَّيسابوري، وعليه تفقَّه، وزوَّجه القُطْبُ ابنته. عبد الرَّحْمَن اليمني (¬2) كان مقيمًا في المنارة الشَّرقية بجامع دمشق، وكان زاهدًا [عابدًا] (1)، ورعًا، فاضلًا، منقطعًا عن النَّاس، وكان العادل يبعث إليه المال فلا يقبله، تُوفِّي في المحرَّم، ودفن بالمنيبع [عند مقابر الصوفية] (1). مظفر بن المجد (¬3) عزُّ الدِّين بن القلانسي. مِنْ رؤساء دمشق، وجدُّه أبو يعلى حمزة صاحب "الذَّيل" [إليه ينتهي نسبه] (1) صحب مظفر [شيخنا] (1) تاج الدين الكندي ولازمه، وانتفع به، وتوفي في رمضان، ودفن بقاسيون، سمع [الحافظ] (1) أَبا القاسم بن عساكر وغيره، [وكان يحضر السماع معنا في دار تاج الدين] (1). وكان كَيِّسًا متواضعًا. محمَّد بن سَلْمان (¬4) ابن قُتُلْمِش بن تركانشاه، أبو منصور السَّمَرْقَنْدِي. ولد سنة ثلاثٍ وأربعين وخمس مئة، وبَرَعَ في علم الأدب، وولي حِجْبة الباب للخليفة، وتوفي في ربيع الآخر، ودفن في الشُّونيزية، ومن شعره: [من المتقارب] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 359 - 360، 377، والصحيح في وفاته أنها كانت سنة (621 هـ)، كما ذكر أبو شامة في وفياتها. (¬3) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 357، و"تاريخ الإِسلام": (وفيات سنة 620 هـ). (¬4) له ترجمة في "التكملة": للمنذري 3/ 98، و"المذيل على الروضتين": 1/ 357 - 358، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

الضياء بن الزراد

سَئِمْتُ تكاليفَ هذي الحياةِ ... وكَرَّ الصَّباحِ بها والمساءِ وقد صِرْتُ كالطِّفْلِ في عَقْلِهِ ... قليلَ الصَّواب كثيرَ الهُرَاءِ أنام إذا كنتُ في مجلسٍ ... وأَسْهَرُ عند دخول الفِناءِ وقَصَّرَ خَطْويَ قَيدُ المشيبِ ... وطال على ما عَنَاني عَنَائي وما جَرَّ ذلك غيرُ البقاءِ ... فكيفَ ترى سوءَ فِعْلِ البقاءِ الضِّياء بن الزَّرَّاد (¬1) الدِّمَشْقي، المقرئ. كان عالمًا بالقراءات السَّبْع، صَيِّتًا، طَيّب النَّغمة، وكان فقيرًا، سافر من دمشق إلى مَيَّافارقين، واتَّصل بشهاب الدين غازي [بن الملك العادل] (¬2)، وأقام عنده، ثم اتصل بالملك الأشرف [موسى بن العادل] (2). قال المصنِّف رحمه الله: اجتمعنا بخِلاط سنة ثلاث عشرة [وست مئة] (2)، وكان يتردَّد إلينا، ويقرأ طيبًا صحيحًا، ثم خَلَّط، ودخل معهم فيما هم فيه. جاءني يومًا وهو نادمٌ حزين [يبكي] (2)، فسألته عن حالة، فقال: البارحة حضرتُ عند الأشرف، وناولني قدحًا من الخَمْر، فامتنعتُ من شُرْبه، والأشرفُ ساكتٌ ينظر إليَّ، وما زالوا بي حتَّى شربته، فلما حصل في جوفي عَضَّ الأشرف على يده [بحيث كاد أن يقطع أصابعه] (2)، وقال لي: والك، فَعَلْتَها! حطَّيتَ الخمر على مئة وأربع عشرة سورة! والله لو خُيِّرْتُ بين أن أحفظ القرآن كما تحفظه وأدع مُلْكي لاخترت حِفْظ القرآن. ثم تُرِكَتْ حُرْمتُه بعد ذلك، فكان يدور البلاد على أصحاب القلاع لرسومٍ كانت له عليهم، فخرج من حَرَّان في هذه السنة قاصدًا إلى السُّويداء، ومعه غِلْمان مُرْدان ثلاثة، فنام في وادٍ وقت الظهر، فقتلوه، وأخذوا خَيلَه وقُماشه وماله، وبلغ الحاجب عليًّا، فأرسل خلفهم، [فجيء بهم] (¬3)، فقتلهم. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 358 - 359، و"تاريخ الإِسلام": للذهبي (وفيات سنة 620 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ح): فجاؤوا، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

الشرف محمد بن عروة الموصلي

الشَّرف محمَّد بن عروة المَوْصِلي (¬1) كان مقيمًا بالقُدْس، ويداخل المعظم وغلمانه ويعاملهم (¬2)، ويؤذي الفقراء والمشايخ خصوصًا الشيخ عبد الله الأرمني، فإنَّه انتقل عن القُدْس بسببه، ولما خُرب القدس نزل ابنُ عروة دمشق، فأقام بها يسيرًا، ومات، فدفن عند قِباب أتابك طُغْتِكِين، وأوقف كُتُبَه بجامع دمشق. السنة الحادية والعشرون وست مئة فيها قصد الأشرف خِلاط لينتزعها من أخيه غازي، وكان غازي قد حَشَدَ، فخرج، وقاتل قتالًا شديدًا، وكان أهل خلاط يحبُّون الأشرف، فكان غازي يقاتل من باب، وأطلع أهل خِلاط سناجق الأشرف: يَا منصور، فصَعِدَ غازي القلعة، وأقام يومين، ثم نزل إلى أخيه، فقال له: أَنْتَ ما لك ذنب، أنا أعرف من حَمَلك على هذا، وأعطاه ميَّافارِقِين وديار بكر، وأقام الأشرف بخلاط ثلاثة أيام، ثم أعطاها لمملوكه أيبك والحاجب علي، ورجع إلى رأس عين، ونَزَلَ غازي إلى ميَّافارقين مريضًا من جراحاتٍ كانت فيه، فأقام يداويها، وكان المعظَّم قد خرج من دمشق، فنزل العطنة لينجد غازي، وبعث إليه في السر عيسى الدماهي، فوصل وقد مات الأمير (¬3)، ورجع المعظَّم إلى دمشق. وفيها ظهر جلال الدين خوارزم شاه في أَذْربيجان، واستولى عليها، فبعث المعظم إليه [رجلًا صوفيًّا يقال له] (¬4) الملق الصوفي في رسالةٍ، واتَّفق المعظم وابن زين الدين معه على الأشرف، وبعث المعظم ولده [الناصر داود إلى ابن زين الدين رهينة، وعبر الفرات عند الحديثة، ومضى] (4) إلى إربل. واستولى بدر الدين لؤلؤ على المَوْصِل، وأظهر أَنَّ محمود بن القاهر قد مات. وحجَّ بالنَّاس من بغداد ابنُ أبي فراس، ومن الشَّام الشجاع عليّ بنُ السَّلَّار. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 359، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) انظر حاشيتنا رقم 1 ص 190 من هذا الجزء. (¬3) كذا في (ح)، ولم يستقم لي فهم الخبر، ولعل فيه سقطًا، والله أعلم. وقد امتدت حياة غازي حتى وفاته سنة (645 هـ) كما سيأتي في وفياتها. (¬4) ما بين حاصرتين من (ش).

أحمد بن محمد بن علي

[وجرت بالعراق واقعة عجيبة ببغداد بقرية يقال لها بعقوبا، فيها نخل كثير، تولاها ناظر يتشيع، وكان بها رجل من أهلها له نخل، فصادره الناظر] (¬1)، وأخذ منه ألفي نخلة، فجعل يسبُّ النَّاظر، ويدعو عليه، وبلغ النَّاظر فأحضره، وأمر بضَرْبه، فقال له: بالله عليك، أنصفني. فقال: قُلْ. فقال: أنتم تسبُّون أَبا بكر وتقولون: أخذ فَدَك من فاطمة، وإنما في فدك نخلاتٌ يسيرة، تأخذ مني أَنْتَ ألفي نخلة وأسكت! فضحك النَّاظر، ورد عليه نخله. وفيها قدم المسعود أقسيس من اليمن على أَبيه الكامل بالقاهرة، طامعًا في أَخْذ دمشق والشَّام، وكان معه من الهدايا شيءٌ عظيم، من جُمْلة ذلك ثلاثة أفيلة، أحدهم كبير يدعى الملك، وعليه مِحَفَّة ودرابزين يقعد فيها عشرة أنفس، وفيَّاله راكبٌ على رقبته، وبيده كُلَّاب حديد يضربه به، ويصرفه كيف أراد، وخَرَجَ الكامل للقاءِ ولده، فلما قربوا من الكامل أمرهم سُوَّاسهم، فوضعوا رؤوسهم على الأرض بين يدي الكامل خدمةً له، وكان في الهدية مئتا خادم، وأحمال عود، ونَدّ ومِسْك، وعنبر، وتُحَف اليمن. وفيها بني الكامل دار الحديث التي بين القَصْرين. وفيها تُوفِّي أَحْمد بن محمَّد بن عليّ (¬2) أبو العَبَّاس، القادسي الضَّرير، الحَنْبلي، والد صاحب "الذَّيل" (¬3). قرأ القرآن وسمع، وكان حنبليًّا خشنًا؛ طلب المستضيء من يصلّي به التراويح في رمضان، فأحضروه، وقالوا: أي شيء مذهبك؟ قال: حنبلي، قالوا: ما يمكن أَنْ يصلي ¬

_ (¬1) في (ح): وفيها كان ببعقوبا رجل له نخل كثير، ووليها ناظر متشيع، فصادره، وأخذ منه ألفي نخلة ... ، وما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة": للمنذري 3/ 130 - 131، و"المذيل على الروضتين": 1/ 276 - 377، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ابنه هو محمد، كان له اعتناء بالتواريخ، وله "ذيل المنتظم"، و"أخبار الوزراء"، وكلا الكتابين لم يصل إلينا، وتوفي سنة (632 هـ) ببغداد، انظر ترجمته في "التكملة" للمنذري: 3/ 131، و"وفيات الأعيان": 1/ 329، و"الوافي بالوفيات": 2/ 117.

المظفر بن المبارك بن أحمد

بدار الخلافة حنبلي، فقال القادسي: أنا حنبلي، وما أريد أن أصلِّيَ بكم. وسمعه الخليفة، فصاح: صلِّ على مذهبك. وكانت وفاته في شوَّال، ودُفِنَ بباب حَرْب. المُظَفَّر بن المبارك بن أَحْمد (¬1) أبو الكرم، البغدادي، الفقيه الحنفي. ولد سنة ستٍّ وأربعين وخمس مئة، وتفقَّه، ودرَّس بمشهد أبي حنيفة، وولي حِسْبة بغداد، وكان فاضلًا، أمينًا، ثِقَةً. السنة الثَّانية والعشرون وست مئة في ربيع الأول وَصَلَ خوارزم شاه جلال الدِّين إلى دقوقا، ففتحها عَنْوَةً، وأوقع السَّيف في أهلها، ونَهَبَ أموالهم، وسبى حريمهم، وهتك نساءهم، وأحرق البلد، وهَدَمَ سوره، وكانوا قد عَصَوْا عليه، وسبُّوه من الأسوار، وبالغوا في شَتْمه، وعَزَمَ على قَصْد بغداد، فانزعج الخليفةُ، وأخرج المال، وفَرَّق في العساكر أَلْف أَلْف دينار، ونَصَبَ المجانيق على الأسوار، وفرَّق السِّلاح، وفتح الأهراء، [وحكى لي المعظم قال: كتب إليَّ يقول: ] (¬2) تحضر أَنْتَ ومن عاهدني، واتَّفِقْ معي حتَّى نقصد الخليفة، فإنَّه كان السبب في هلاك أبي، ومجيء [الكفار] (3) إلى البلاد، وجدنا كُتُبه إلى الخطا، وتواقيعه لهم بالبلاد والخيل والخِلَع. قال المعظم: فكتبتُ إليه: أنا معك على كلِّ أحدٍ إلَّا على الخليفة، فإنَّه إمامُ المُسْلمين. [قال] (3): وبينا هو على عَزْمِ بغداد، وكان قد جهَّز جيشًا إلى الكُرْج إلى تِفْليس [فكتبوا إليه: أدركنا، فما لنا بالكُرْج طاقة، وبغداد ما تفوت. فسار إلى تفليس,] (3) فخرج إليه الكُرْج، فضرب معهم مصافَّ، فَقَتَلَ منهم سبعين ألفًا، وفتح تفليس عَنْوَةً، وقتل منها ثلاثين ألفًا، [فصاروا مئة أَلْف، وذلك] (¬3) في سَلْخ ذي الحِجَّة. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة": للمنذري 3/ 121، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي (وفيات سنة 621 هـ)، و"البداية والنهاية": (وفيات سنة 621 هـ)، و"الجواهر المضية": 3/ 488 - 489. (¬2) في (ح): وفتح الأهراء. وكتب جلال الدين إلى المعظم، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (ش).

الإمام الناصر لدين الله

وفيها صَلَبَ المعظَّم ابنَ الكعكي ورفيقًا له منكَّسين على رؤوسهما، وكان ابنُ الكعكي رأسَ حزب وخَلْفه جماعةٌ، كانوا ينزلون على النَّاس في البساتين، ويقتلون وينهبون، والمعظَّم في الكَرَك، وبلغه أَنَّ ابنَ الكعكي قال للصَّالح إسماعيل وكان ببُصْرى: أنا آخذ لك دمشق. فَكَتَبَ المعظَّم إلى والي دمشق بأن يصلب ابن الكعكي ورفيقه منكَّسين، فصلبهما في العَشْر الأواخر من رمضان، فأقاما أيامًا لا يتجاسر أحدٌ أن يُطْعمهما ولا يسقيهما، فماتا، وكان رفيقُ ابنِ الكعكي رجلًا خيّاطًا، شهد له أهلُ دمشق بالصَّلاح والبراءة مما كان فيه ابن الكعكي، وقدم المعظم دمشق بعدما ماتا، فمرض مرضًا عظيمًا أشفى منه، ثم أَبَلَّ، ولم يزل ينتفض عليه حتَّى مات. وحجَّ بالنّاس من العراق ابنُ أبي فراس، ومن الشَّام علي بن السَّلَّار. وفيها تُوفِّي الإِمام النَّاصر لدين الله (¬1) أبو العَبَّاس أَحْمد بن الإِمام المستضيء بالله. قد ذكرنا سيرته مفرَّقة في السنين، وأَنَّه ولد عاشر رجب سنة ثلاثٍ وخمسين وخمس مئة، وبويع بالخِلافة غُرَّة ذي القَعْدة سنة خمس وسبعين، وكانت وفاته ليلة الأحد سَلْخ رمضان عن تسع وستين سنة، وكانت خلافته سبعًا وأربعين سنة إلَّا شهرًا وأيامًا، ولم يبلغ أحدٌ من بني أمية ولا من بني العَبَّاس هذا العدد إلا المستنصر من المِصْريين [فإنه] (2) ولي ستين سنة، ومن الملوك سنجر، وكان للنَّاصر خادم اسمه رشيق قد استولى على الخلافة، وأقام مُدَّة يوقع عن الخليفة، وكان [قد] (2) قَلَّ بصره وقيل: ذَهَبَ [مرة] (2)، وكانت به أمراضٌ مختلفة، منها عسر البول والحصى، ولقي منه شِدَّة، وشَقَّ ذَكَرَه مرارًا، وما زال يعتريه حتَّى قتله، وغَسَّله [خالي] (¬2) أبو محمَّد يوسف بن الجوزي، وكان قد عَمِلَ له ضريحًا عند موسى بن جعفر، فأمر الظَّاهر بحمله إلى ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الكامل": 12/ 438 - 440، و"المذيل على الروضتين": 1/ 379 - 380، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

الباب الخامس والثلاثون

الرُّصافة، فَحُمِلَ في تابوت، ودُفِنَ عند أهله، وقيل: تُوفِّي في سابع وعشرين رمضان، وبويع أبو نَصْر محمَّد. الباب الخامس والثَّلاثون في بيعة الإِمام الظَّاهر بأمر الله. [(¬1) قد ذكرنا أن أباه خطب له بولاية العهد في سنة خمس وثمانين وخمس مئة، وعمره إذ ذاك أربع عشرة سنة, لأنه ولد في المحرم سنة سبعين وخمس مئة، وخطب له على المنابر] وعزل في سنة إحدى وست مئة، ثُمَّ أُعيد إلى العهد في سنة ثماني عشرة وست مئة، ولما مات أبوه استدعى المكينَ القُمّي وقشتمر والأنباري والأعيانَ إلى البَدْرية، فشاهدوا النَّاصر ميتًا مسجًى، فبايعوا أَبا نَصْر محمدًا، ولقَّبوه بالظَّاهر بأمر الله، وهذه البيعة الخاصَّة، ثم بويع البيعة العامة؛ حَضَرَ القضاةُ مع الأعيان فبايعوه. وكان جميلَ الصُّورة، أبيضَ مُشْربًا حُمْرةً، حلو الشمائل، شديد القُوَى، أفضت الخلافةُ إليه وله اثنتان وخمسون سنة إلَّا شهورًا، فقيل له: ألا تتفسَّح؟ فقال: قد قاش الزَّرْع، فقيل له: يبارك الله في عُمُرك، فقال: مَنْ فَتَحَ دُكَّانًا بعد العَصْر أَيش يكسب؟ ولما بُويع أحسنَ إلى النَّاس، ولم يؤاخذ أحدًا ممن سعى في خَلْعه، وكان النَّاس يظنُّون خِلافَ ذلك، وخاف الخونة واستعدُّوا للمهالك، وكتبوا وصاياهم، فقابل الإساءة بالإحسان [والتجاوز بالامتنان] (¬2)، وصلَّى على أَبيه بالتَّاج، وعمل العزاء ثلاثة أيام، وفَرَّق الأموال، وأَبْطَلَ المكوس، وأزال المظالم. ذِكْرُ وزراء النَّاصر، ونحو ذلك: وَزَرَ له عبد الله بن يونس، وابن حديدة، وابن القَصَّاب، وابن مهدي، وكَتَبَ له محمَّد بن الأنباري، وولده علي، ثم اسفنديار، ثم ابن القَصَّاب، ثم يحيى بن زبادة، ثم القُمّي. ¬

_ (¬1) في (ح): ولد في المحرم سنة سبعين وخمس مئة، وخطب له على المنابر بولاية العهد سنة خمس وثلاثين (كذا) وعزل ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

علي بن سليمان بن جندر

[ذِكْرُ فتوحاته] (1): وفتح خوزستان وششتر، وتشتمل على أربعين قلعة، وهَمَذَان، وأصبهان -وحُمِلَ إليه خَرَاجُها- وتكريت، ودقوقا، والحديثة. [ذِكْرُ عماراته] (1): وعمر رباط الأخلاطية والتربة، ورباط الحريم، ومشهد عبد الله، وتربة عون ومعين، وتربة والدته التي إلى جانبها، والرباط المقابل لها الذي كان دار والدته، ومسجد سوق السُّلْطان، ورباط المَرْزُبانية، ودور المضيف في جميع المحالّ، ودار ضيافة الحافي [ودار المسناة، ودار الملك وجعلها رباطًا، والدار البيضاء التي كان يسكنها عند التاج] (¬1)، وغَرِمَ على هذه الأماكن أموالًا جليلة، ونقل الكُتُبَ النفيسة بالخطوط المنسوبة والمصاحف الشَّريفة إلى النِّظامية، ورباط الخلاطية، والرباط الذي إلى جانب تربة والدته، ورباط الحريم، وغير ذلك. عليُّ بنُ سليمان بن جَنْدَر (¬2) سيف الدين بن علم الدين. كان من أكابر أمراء حلب، كثيرَ الخير والصَّدقات الدَّارَّة، والبِرّ الوافر، وبنى بحلب مدرسةً للشَّافعية، وبظاهرها مدرسة للحنفية، ووَقَفَ عليهما الأوقاف، وبنى الخاناتِ في الطُّرقات، وكان حنفيَّ المذهب، وله الغَزَوات المشهورة، والمواقف المذكورة، [وكان صديقي، خدمني مدة إقامتي بحلب] (1)، وكانت وفاته بحلب في العَشْر الأواخر من جُمادى الأولى. عليُّ بنُ صلاح الدين، الملك الأفضل (¬3) ولد بمِصْر سنة خمس وستين وخمس مئة، وكان فاضلًا، شاعرًا، حسنَ الخَطِّ، تقلَّبتْ به الأحوالُ حتَّى ألقاه الدَّهْر بسُمَيساط، وكانت وفاتُه يوم الجمعة في ربيع الأول، ونُقِلَ إلى حلب، فدفن بظاهرها. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 381. (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 140، و"المذيل على الروضتين": 1/ 381، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

علي الكردي الموله

ومما يُعْزى إليه من الشِّعْر أَنَّه كَتَبَ إلى الخليفة لما أُخرج من دمشق، واتَّفق عليه العادلُ والعزيز: [من البسيط] مولايَ إنَّ أَبا بكر وصاحِبَه ... عثمان قد غصبا بالسَّيفِ حَقَّ علي فانْظُرْ إلى حَظِّ هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأُوَلِ [وبلغني أنَّه كان ينكر هذا الشعر أنَّه له، وقد ذكرنا من شعره لما قصده العزيز من مصر] (¬1). عليّ الكُرْدِي المولَّه (¬2) [(¬3) الذي كان بباب الجابية، واختلفوا فيه، فبعض الدماشقة يزعم] أَنَّه كان صاحب كرامات، وأنكر ذلك آخرون، وقالوا: ما رآه أحدٌ يصلي [ولا لبس مداسًا] (1)، وكان يدوس النَّجاسات، ويدخل المسجد على حالة، وقيل: كان له تابعٌ من الجن [يتحدَّث على لسانه] (1). قال المصنف رحمه الله: حكت لي امرأةٌ صادقة، قالت: ماتت [أمي باللاذقية، ولم أُصدِّق] (1)، وجاء قوم فقالوا: ماتت، وجاء آخرون فقالوا: ما ماتت. فخرجتُ إلى باب الجابية وهو قاعدٌ عند المقابر، فوقفتُ عنده، فرفع رأسه، وقال: ماتت ماتت، أيش تعملي؟ وكان كما قال. وحكى لي عبد الله صاحبي، قال: جعتُ يومًا وما كان معي شيء، فاجتزتُ به، فدفع إليَّ نِصْفَ دِرْهم، وقال: يكفي هذا للخبز والقَنْبَرِيس. ودخل يومًا على [محمد] (1) الدَّوْلعي -خطيب دمشق- المقصورة، وكان يغشاه، فقال له الدَّوْلعي: يَا شيخ علي، قد أكلتُ اليوم كسيراتٍ يابسةً، وشربتُ عليها الماء، وكفتني. فقال له: وما تطلب نفسك شيئًا آخر؟ قال: لا، فقال: يَا مسكين! مَنْ يقنع بكِسَرٍ يابسة يحبسُ نفسه في هذه المقصورة، ولا يقضي ما فرضه الله عليه من الحج، وخلفه مئة أَلْف دينار، وكل هذا لأجلِ المحراب لا يزاحمك علبه أحد، والله لا كَلَّمْتُك أبدًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ترجم له أبو شامة في "المذيل على الروضتين": 1/ 381 - 382 نقلًا عن سبط ابن الجوزي. (¬3) في (ح): يزعم بعض الدماشقة أنَّه ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

محمد بن أبي القاسم بن محمد، الفخر

محمَّد بن أبي القاسم بن محمَّد، الفخر (¬1) أبو عبد الله بن تيمية، الحَرَّاني. خطيب حَرَّان وفقيهها، وبها ولد، وقدم بغداد، وتفقه، ووعظ، وسَمِعَ الحديث الكثير، وصنَّف الخُطَب والتَّفْسير وغير ذلك، وكان فاضلًا، فصيحًا، أنشد على المنبر: [من السريع] أحبابَنَا قد نَذَرَتْ مُقْلَتي ... ما تلتقي بالنَّوْم أو نلتقي رِفْقا بقَلْبٍ مُغْرَمٍ واعطُفوا ... على سَقَامِ الجَسَدِ المُعْرَقِ كم تَمْطُلوني بليالي اللِّقا ... قد ذَهَبَ العُمْرُ ولم نلتقِ وقال الجمال بن دبوقة، كاتب الملك الأشرف: كنت بحرَّان سنة مات ابنُ تيمية، فجلس يوم عاشوراء ومدح معاوية بنَ أبي سفيان على المنبر، وبالغ وأطنب، فاختلط على المنبر، ونزل مريضًا، فأقام إلى يوم الخميس خامس صفر يعاني أمراضًا صعبة، ومات فيه، وكان يقول: ما قتلني إلَّا يومُ عاشوراء. السنة الثالثة والعشرون وست مئة فيها قدم محيي الدِّين بن الجوزي دمشق رسولًا إلى المعظم، ومعه الخِلَعُ لأولاد العادل من الخليفة الظَّاهر، ومضمون رسالته رجوع المعظم عن الخوارزمي. قال المصنف رحمه الله: قال لي المعظم: قال خالك: المصلحة رجوعك عن هذا الخارجي إلى إخوتك، ونُصْلح بينكم. وكان المعظَّم قد بَعَثَ الرَّكين مملوكه إلى الخوارزمي، فرحَّله من تفليس، وأنزله على خِلاط، والأشرف بحرَّان. قال: فقلتُ لخالك: إذا رجعتُ عن الخوارزمي وقَصَدني إخوتي، تنجدوني؟ قال: نَعَمْ، فقلتُ: ما لكم عادة تنجدون أحدًا، هذه كُتُبُ الخليفة الناصر عندنا، ونحن على دِمْياط، ونحن نكتب نستصرخ به، فيجيء الجواب بأَنْ قد كتبنا إلى ملوك الجزيرة، ولم يفعلوا. قال: ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 138 - 139، و"المذيل على الروضتين": 1/ 382 - 383، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

قلتُ له: مثلي معكم كمثل رجل كان يخرج من وقت السَّحَر من داره يصلِّي في المسجد، وبيده عُكَّازٌ خوفًا من الكلاب التي للمحلَّة، فقال له بعضُ أصدقائه: أنتَ شيخٌ كبير، وهذا العكاز يثقلك، وأنا أُعَلِّمك شيئًا يغنيك عن حمله، قال: وما هو؟ قال: تقرأ سورة يس عند خروجك من الدَّار، وما يقربك كلب. وأقام مُدَّة، فرأى الشيخ في بعض اللَّيالي حاملَ العكاز، فقال له: ما قد علمتك ما يُغْنيك عن حمله؟ ! فقال: هذا العكاز لكلبٍ لا يعرف القرآن. وقد اتَّفق إخوتي عليَّ، وقد أنزلتُ الخوارزمي على خِلاط، إنْ قصدني الأشرفُ مَنَعَه، وإنْ قصدني الكامل فيَّ له. وفيها قَدِمَ الأشرفُ [دمشق] (¬1)، وأطاع المُعَظَّم، وسأله أن يسأل الخوارزمي أن يرحل عن خِلاط، وقال: نحن مماليكك، وما أثبت الشَّعَرَ على رؤوسنا إلَّا أنتَ. فبعثَ المعظَّم، فرحل الخوارزمي عن خلاط، وكان قد أقام عليها أربعين يومًا، ونزل الثلج، وأقام الأشرف عند المعظم بدمشق، وكان المعظَّم يَلْبَس خِلْعة الخوارزمي، ويركب فرسه، وإذا جلسوا على تلك الحال يحلف المعظَّم برأس خوارزم شاه، وعند الأشرف من هذا المُقْعد المقيم، وهو ساكت. [(¬2) وفيها توجه خالي إلى مصر إلى الكامل، وهذه أول سفرة سافرها خالي إلى الشَّام ومصر]. وفيها تُوفِّي الجمال المِصري القاضي، وولَّى المعظَّمُ الخُوَيِّي، واسمه أَحْمد بن خليل بن سعادة، [وكنيته أبو العباس] (1)، استدعاه، وعَرَضَ عليه القضاء، فامتنع، وقال: أنا رجلٌ غريب، والدَّماشقة فيهم كَثْرة، فقال: لا بُدَّ. فولاه قضاء القضاة في ربيع الآخر، وخَلَعَ عليه. قال المصنف رحمه الله: وفيها فَوَّض إليَّ المعظم التدريس بمدرسة شِبْل الدولة بقاسيون، وحضر أعيان دمشق، [ولم يتخلف منهم أحد] (1). وحج بالنَّاس من العراق ابنُ أبي فراس، ومن الشَّام عليّ بن السَّلَّار. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): وتوجه محيي الدين بن الجوزي إلى مصر إلى الكامل ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

إبراهيم بن موسى المبارز المعتمد

وفيها تُوفِّي إبراهيم بن موسى المبارز المعتمد (¬1) ولد بالمَوْصِل، وقدم الشَّام، وخَدَمَ فَرُّخْشاه بن شاهنشاه [ابن أخي صلاح الدين] (2)، وتقلبتْ به الأحوال، واستنابه بدر الدين الشحنة بدمشق، ثم ولاه العادل مستقلًا، فأحسن السِّياسة، ولَطَفَ بالرَّعية، [فكان للكبير منهم ولدًا، وللصغير والدًا، وللمتوسط أخًا، وله واقعات عجيبة. ذكر طرف من أخباره: ] (¬2) وكان دَيِّنًا، ورعًا، عفيفًا، نَزِهًا، اصطنع عالمًا عظيمًا من النساء والرجال، [(¬3) وسَتَرَ عليهم كبائر الأحوال، وكانت دمشق في أيام ولايته حُرَّة طاهرة، ودلائل الخيرات بها ظاهرة، ومما جرى له أنَّه كان في دمشق] رجلٌ فاتك، وإلى جانب بيته قومٌ لهم ولدٌ صغير، في آذانه حَلَقٌ من ذهب، فاغتاله الرَّجل يومًا، فخنقه، وأخذ الحَلَق من أذنيه، وأخرجه في قُفَّة، ودفنه بالباب الصَّغير، وفقدته أمه، فاتهمتِ الرَّجلَ به، فعذَّبه المبارز عذابًا أليمًا، فلم يُقِرَّ بشيء، فأطلق، وفي قلب المرأة النَّار [من فقد ولدها] (2)، فطلَّقَتْ زوجَها، وتزوَّجتِ القاتل، وأقامت معه مُدَّة، فقالت له يومًا وهي تداعبه: قد مضى الابنُ وأبوه، وكان منهما ما كان، -[وكان الزوج قد مات] (2) - أنتَ قتلتَ الصَّغير؟ فقال: نَعَمْ، وأخذت الحلق، ودفنته بالباب الصَّغير. فقالت: قُمْ، فأرني قبره. فخرج بها إلى المقابر، وحفر القبر، فرأت ولدها، فلم تتمالك أَنْ ضربتِ القاتلَ بسكِّين أَعَدَّتْها له، فشقَّتْ بطنه، ودفعته، فألقته في القبر، وجاءت إلى المبارز، فحكت له الحكاية، فقام، وخرج معها إلى القبر، فكشفته له، فقال: أحسنتِ والله، ينبغي لنا أن نَشْرب لكِ فُتوَّةً (¬4). ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 393 - 396، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ح): وكانت دمشق في أيام ولايته طاهرة، وكان في أيامه بدمشق رجل فاتك إلى جانب ... ، وما بين حاصرتين من (ش). (¬4) كان من تقاليد الفتوة لتشرب كأس الفتوة، وهو يحتوي على الماء والملح، انظر "مفرج الكروب": 3/ 206 حاشية رقم (2).

[(¬1) وحكى لي قال: لما حَرَّم العادل الخمر] , ركبتُ يومًا، وخرجتُ من باب الفرج، وإذا برجل في رقبته طَبْلٌ، وهو يتمايل تحته، فقلتُ: أمسكوه، وشقُّوا الطبل. فَشَقُّوه، وإذا فيه زُكْرةُ خَمْر، فبدَّدْتُها، وضرَبْتُه الحَدَّ، فقلتُ له (¬2): من أين علمتَ؟ قال: رأيتُ رِجْلَيه وهي تلعب، فعلمت أنَّه قد حَمَلَ شيئًا ثقيلًا. وكان لداره بابان: الباب الكبير عليه الغِلْمان والنُّواب، وباب السِّرِّ في زُقاقٍ آخر، فكان النواب إذا أمسكوا في الليل امرأةً من بيت معروف، وحملوها إليه يقول: انزلوا حتَّى أقرّرها، ثم يقول لها: [يا بنتي] (¬3)، أنتِ من بيتٍ كبير، ورجالك معروفين (¬4)، فما الذي حملك على هذا؟ فتعتذر بما يتفق، فيقول لها: سَتَرَ الله عليك. ويبعث معها الخدم من باب السِّرِّ إلى بيتها. فأقام على هذا نحوًا من أربعين سنة. وكان في قلب المعظم له شحناء، لأَنَّه كان يُشْفِقُ عليه، ويحفظه في أماكن يدخل إليها بدمشق في الليل، وهو شابٌّ، فيأمر غِلْمانه أن يتبعوه من بعيد، وكان العادل من مِصْر يكتب إليه بذلك، فلما مات العادل [أظهر ما كان في قلبه منه، و] (3) اعتقله مُدَّة في القلعة، فلم يظهر عليه ولا على أحدٍ من أولاده وحاشيته أَنَّه أخذ من الرَّعية ما مقداره مِثْقال حبَّة خَرْدل، [ولا غيَّر ما كان عليه من العفة والأمانة والصلاح والديانة، ولا غيَّر ولا بدَّل] (3) فأنزله من القلعة إلى داره، وحَجَرَ عليه، وبالغ في التَّشديد [والعجب من الحجر على الحُر البالغ العاقل الرشيد] (3)، وكانت وفاته في حادي عشرين ذي القَعْدة يوم السبت، ودفن بقاسيون في التربة التي أنشأها بالجبل عن ثمانين سنة. وحكى أنَّه ولي دمشق نيابةً عن بدر الدين الشحنة أول ولاية صلاح الدين، ثم استقلَّ بالولاية إلى أن عُزِلَ سنة سبع عشرة وست مئة، [وصلاح الدين فتح دمشق سنة سبعين أو إحدى وسبعين] (3) فكانت ولايته نيابةً واستقلالًا قريبًا من خمسين سنة، ولم يُؤْخذ عليه شيءٌ إلَّا أَنَّه كان يحبس وينسى، فعُوقب بمثلِ ذلك؛ أقام محبوسًا خمس سنين إلَّا أيامًا. ¬

_ (¬1) في (ح): وقال: ركبت يومًا ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): فقيل له، والمثبت من (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (ش). (¬4) كذا، على اللفظ العامي.

البدر الجعبري

قال المصنف رحمه الله: [وجرت لي معه واقعة عجيبة] (1)، كنتُ ليلةَ كلّ جُمُعة أزوره، وانقطعتُ عنه مُدَّة [بسبب غلق داره في بعض الأوقات] (1)، فرأيتُ في المنام كأَنَّ قبره في رَوْضةٍ خضراء، وهو معمول بالفَصِّ الأخضر، وليس هو من جنس فصوص الدُّنْيا، فطربتُ لحُسْنه ورونق المكان، فَهَتَفَ بي هاتفٌ، وقال: لو رأيتَ ما في باطن القَبْر. قلتُ: وما في باطنه؟ قال: الدُّرُّ والياقوت والمَرْجان، وما يستغني عن قراءة كتاب الله تعالى، فانتبهتُ وفهمتُ الإشارة، فأنا في كلّ ليلة أقرأ ما تيسَّر من القرآن، وأهديه إليه، وإلى أَهْلي وأصحابي ومعارفي. فرضي الله عنه رضي الأبرار، وجمعني وإياه في دار القرار، فقد كان محسنًا إليَّ، [ومتفضلًا عليَّ، خدمني بنفسه وجاهه وماله، وجمع لي بين خيري الدنيا بتفضله وإفضاله] (¬1). [فصل: وفيها تُوفِّي البدر الجَعْبري (¬2) والي قلعة دمشق، أقام واليًا لها مدة، وكان ذا مروءة، خدم الظاهر بحلب وغيره، وحمل إلى بالس، فدفن عند أهله]. كافور بن عبد الله (¬3) شِبْل الدَّوْلة، الحسامي، خادم سِتّ الشَّام. كان عاقلًا، دَيِّنًا، صالحًا، له حرمة وافرة في الدَّوْلة، ومنزلة عالية عند الملوك، بني مدرسة على نهر ثورا لأصحابِ أبي حنيفة وتُرْبة، ووَقَفَ عليهما الأوقاف، ونقل إليهما الكُتُبَ الكثيرة، وفَتَحَ للنَّاس طريقًا من الجبل إلى دمشق قريبة عند العقارات على طريق عين الكرش، وبنى المصنع الذي على باب الزُّقاق وخانكاه الصُّوفية إلى جانب مدرسته، ومصنعًا آخر عند المدرسة، وله صدقاتٌ دارَّة، وإحسان كثير، وتوفي في ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 396، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "المذيل على الروضتين" 1/ 392 - 393، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن أحمد الإمام الظاهر، أمير المؤمنين

رجب، ودفن بتربته [إلى جانب مدرسته] (¬1)، وقد سمع الحديث [على شيخنا تاج الدين الكندي، وروى "اعتقاد الطحاوي" (¬2) وغيره] (1). محمَّد بن أَحْمد الإِمام الظاهر، أمير المُؤْمنين (¬3) قد ذكرنا ما جرى عليه من الشَّدائد والتعصُّب [الوافر الزائد] (1)، وما تجرَّع من الغُصَص [في أوقاته، وما وفت ولايته مدة يسيرة بوفاته] (1)، فكانت ولايته تسعة أشهر وأيامًا، فيا ليتها دامتْ أعوامًا، ولي سَلْخ رمضان، وتوفي في رجب، ومع هذا فإنَّه قام بأوامر الله بما وجب عليه، وغسله محمَّد الخَيَّاط الشَّاعر، [وحصل له مال وافر، وحُكي لي أنَّه] (1) دخل يومًا إلى الخزائن، فقال له خادمٌ: في أيامك تمتلئ. فقال: ما جعلتِ الخزائنُ لتمتلئ بل لتفرغ، وتنفق في سبيل الله، فإنَّ الجمع شُغْلُ التُّجَّار. الباب السَّادس والثَّلاثون في خلافة ولده أبي جعفر [منصور بن محمَّد، ولقبه] (1) المستنصر بالله. بويع يوم ماتَ أبوه البيعة العامة، واستبشر النَّاس بطلعته، وسَعِدُوا بولايته، فإنَّه ظهرت منه مخايل الكرم والإحسان, والعَدْل [والامتنان] (1)، وتوفي سنة أربعين وست مئة، وسنذكره [هناك] (1) إنْ شاء الله تعالى. يونس بن بَدْران، ويلقب بالجمال المِصْري (¬4) كان وكيل بيت المال في أيام العادل، فلما مات العادل وألبس المعظَّمُ القاضي زكي الدين الكلوتة والقَبَاء ولَّى الجمال المِصْري قضاءَ القُضاة بدمشق، وكان فاضلًا، عفيفًا، مهيبًا، ورعًا نَزِهًا، ودُفِنَ بداره. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) يعني "العقيدة الطحاوية"، وشرحها لابن أبي العز مشهور متداول. (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 182 - 183، و"المذيل على الروضتين": 1/ 392، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 173 - 174، و"المذيل على الروضتين": 1/ 387 - 388، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

هبة الله أبو القاسم بن رواحة، أحد العدول

هبة الله أبو القاسم بن رواحة، أحد العدول (¬1) بنى المدرسة الشَّافعية المجاورة لمدرسة الحنابلة بباب الفراديس، وأوقف عليها الأوقاف، وتوفي في رجب، ودفن بمقابر الصُّوفية. السنة الرابعة والعشرون وست مئة فيها عاد الأشرفُ إلى بلاده، وقَدِمَ رسول الإنبرور على المعظَّم بعد اجتماعه بالكامل، فطلب الفتوح، فأغلظ له المعظم، وقال: قُلْ لصاحبك: ما أنا مثل الغير، ما له عندي سوى السَّيف. وفي شعبان أمر المعظم الجمال عبد الله بن الحافظ عبد الغني أن يرتّب "مسند الإِمام أَحْمد" -رحمة الله عليه- على أبواب الفِقْه، فقعد في الكلَّاسة، ومعه جماعةٌ من المحدِّثين، منهم الشرف الإربلي، فرتَّبوه، فمات المعظم وهم على ذلك. وحجَّ بالنَّاس من الشَّام الشجاع ابن السَّلار، ومن مَيَّافارقين الشِّهاب غازي بن العادل، وكان ثَقَلُه على ستِّ مئة جمل، ومعه خمسون هجينًا، كلُّ هجين عليه مملوك، وجهَّزه الملك الأشرف جَهازًا عظيمًا، وسار غربيّ الفُرَات على قرقيسيا وعانة والكبيسات والغمر والعين وشفاثا، وكلُّها قرى فيها عيونٌ جارية ونخل كثير، ومنها يجلب التَّمْر إلى الشَّام، وعلى كربلاء، فزار المشهد، ثم دخل الكوفة، وزار مشهد أمير المُؤْمنين علي، رضوان الله عليه. وحجَّ بالنَّاس من العراق شمس الدين قيران مملوك الخليفة، وبَعَثَ الخليفة لشهاب الدِّين فرسين وبغلة وألفي دينار، وقال: هذه من مِلْكي، أَنْفِقْها في طريق الحج، وأوصى أمير الحاج بخِدْمته، وتصدَّق في مكة والمدينة، وعاد إلى العراق، ولم يَصِلِ الكوفة، بل سار غربيَّ الطريق التي سلكها، فكاد يَهْلِك ومن معه عطشًا حتَّى وصل إلى حَرَّان. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 1/ 390 - 391، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

البهاء عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد، أبو محمد المقدسي

وفيها تُوفِّي البهاء عبد الرَّحْمَن بن إبراهيم بن أَحْمد، أبو محمَّد المقدسيّ (¬1) كان إمامًا بمسجد الحنابلة بنابُلُس، ثم انتقل إلى دمشق، قرأ القرآن، وسَمِعَ الحديث الكثير، وسافر إلى بغداد والعراق، وكان صالحًا ورعًا، زاهدًا، غازيًا، مجاهدًا، جوادًا، سَمْحًا، وتوفي ليلة الجمعة ثامن ذي الحجة، ودفن بقاسيون عند أهله. عيسى بن [العادل] (¬2) أبي بكر بن أَيُّوب (¬3) الملك المعظم، العالم الفقيه، الفاضل المجاهد في سبيل الله، المغازي، النَّحويّ، اللغوي. [ذِكْرُ طرف من أخباره] (2): ولد بالقاهرة سنة ستٍّ وسبعين وخمس مئة، ونشأ بالشَّام، وقرأ القرآن، وتفقَّه على مذهب أبي حنيفة على جمال الدين الحَصِيري (¬4)، وحَفِظَ المَسْعودي، واعتنى بـ"الجامع الكبير"، وقرأ الأدب على تاج الدِّين الكندي، فأخذ عنه "كتاب" سيبويه، وشَرْحَه للسِّيرافي، و"الحُجَّة في القراءات" لأبي علي الفارسيّ، و"الحماسة"، وقرأ عليه "الإيضاح" لأبي علي حِفْظًا، وسمع "مسند الإِمام أَحْمد" -رحمة الله عليه- بدمشق، وعلى ابن طَبَرْزَد أشياء من مسموعاته، وسمع "السِّيرة" لابن هِشام على ابن المُجْلي بمِصْر، وغير ذلك، وشَرَحَ "الجامع الكبير"، والرَّد على الخَطيب، والعَرُوض، وله ديوان شعر، ومع تصنيفه العروض ما كان يقيم وزن الشِّعْر في بعض الأوقات، [فكنت أقول له: فيك ضرب من النبوة {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}] (2) [يس: 69] , وكان شجاعًا، مقدامًا، كثير الحياء، متواضعًا، مليحَ الصُّورة، ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 212 - 213، و"تاريخ الإِسلام": (وفيات سنة 624 هـ)، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 269، و"العبر": 5/ 99، و"المختصر المحتاج إليه": 2/ 194، و"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 170 - 171، و"النجوم الزاهرة": 6/ 269، و"المقصد الأرشد": 2/ 78، و"تاريخ الصالحية": 2/ 475، و"شذرات الذهب": 5/ 114، و"المنهج الأحمد": 4/ 186 - 187. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "الكامل": 2/ 471 - 472، و"التكملة" للمنذري: 3/ 212 - 213، و"المذيل على الروضتين": 1/ 397 - 399، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) في (ح): فخر الدين الرَّازيّ، وهو وهم، والصواب من مصادر ترجمته، وانظر ترجمته في "تاريخ الإِسلام": للذهبي (وفيات سنة 624 هـ)، فقد قال: وكان شيخه في الفقه جمال الدين الحصيري.

ضحوكًا، غيورًا، جوادًا، حَسَنَ السيرة والعِشْرة، محافظًا على الصحبة والمودة، [وكان بالبلقاء رجل من بني مهدي يقال له نُضار، يشعر على عادة العرب، مدح المعظم بقصيدة يقول: [من الطَّويل] حمى من أوهام الزمان علامه (¬1) ... عزيز إذا ما الدهر كر جفاه فكان يتعجب من قوله: كرَّ جفاه] (¬2). وكان قد توجَّه إلى أخيه الكامل في سنة سبع أو تسع وست مئة، والكامل في الإسكندرية، فركب فرسًا واحدًا، ووصل من دمشق إلى الإسكندرية في ثمانية أيام، فخرج الكامل، فالتقاه، وترجَّلا، واعتنقا، وركب الكامل وبقي المعظم واقفًا، فقال له الكامل: بسم الله، اركب. فأشار إلى الفرس الذي كان تحته، وأنشد: [من الكامل] وإذا المَطِيُّ بنا بَلَغْنَ محمدا (¬3) فطرب الكامل. وكان البهاءُ بن التقي على دار الزَّكاة، فقدم البَدْ بن المسجِّف الشَّاعر من الشَّرْق، ومعه قُماش، فعسفه ابن التِّنَّبي، فكَتَبَ إلى المعظم [يقول] (2): [من الوافر] أيا ملكًا أبادَ عِداه قهرًا ... وأحيا كل منقبةٍ وفَضْلِ ومن هو كالمسيحِ اسْمًا وفِعْلًا ... ونصبًا للحياة وجَزْمَ فِعْلِ يكلِّفُني البهاءُ زكاةَ مال ... حرام كلُه من غيرِ حِلِّ وكيف يجودُ بالزَّكوات من لا ... يحجُ ولا يصومُ ولا يصلِّي فَجُدْ بهباتِ ذلكُمُ فإنِّي ... أجِلُّ زكاتكمْ عن مال مِثْلي فكتب المعظم على رأسها: يؤخذ منه العُشْر، جعله بمنزلة الحَرْبي. ¬

_ (¬1) لم أتبين معنى البيت. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) هذا صدر بيت، وعجزه: فظهورهن على الرجال حرامُ وهو لأبي نواس قاله في الأمين محمَّد بن هارون الرشيد. انظر "وفيات الأعيان": 4/ 14، وهو في "ديوانه": ص 575 ط. دار صادر.

وكان إذا خرج إلى الغَزَاة لا ينام إلَّا على جل الطرح، وزرديته مخدته، ولا يقطع الاشتغال بالقرآن والجامع الكبير وسيبويه، وكان دائمًا يركب، فإذا نزل مَدَّ السِّماط، فإذا أكل النَّاس قضى الحوائج إلى الظهر، وكان في أيام الفَسْخ مع الفرنج يرتِّب النِّيران على الجبال من باب نابُلُس إلى عكا، وعلى عكا جبلٌ قريب منها يقال له الكرمل، كان عليه المنوِّرون، وبينهم وبين الجواسيس علاماتٌ، وكان له في عكا أصحاب أخبار، وأكثرهم نساء الخيالة، وكانت طاقاتهن في قبالة الكرمل، فإذا عَزَمَ الفرنج على الغارة فتحت المرأة الطاقة، فإن كان يخرج مئة فارس أوقدتِ المرأةُ شمعةً واحدة، وإن كانوا مئتين شمعتين، وإن كانوا يريدون قَصْدَ حوران وناحية دمشق أشارت إلى تلك النَّاحية، وكذا إلى نابُلُس، فكان قد ضيَّق على الفرنج الطرق إذا قصدوا جهة سَبَقَ إليها بعسكره، وكان يعطي النِّساء والجواسيس في كل فسخ جملةً كبيرة. قال المصنِّف رحمه الله: فقلتُ له في بعض الأيام: هذا إسرافٌ في بيوت الأموال. فقال: أنا استفتيك، لما عَزَمَ الإنبرور على الخروج إلى الشَّام أراد أن ينزل عكا بغتةً، ويسير إلى باب دمشق، فبعث فارسًا عظيمًا وقال له: اخفِ مجيئنا إلى البلاد لنغير بغتةً، وكان بعكا امرأة مستحسنة، فكتبتْ إليَّ تخبرني، فبعثت لها ثيابًا ملونة وعنبر ومقانع حرير، فلبستها، واجتمعتْ بالفارس، فدهش، وقال: من أين هذا؟ فقالت: من عند صديقٍ لنا من المُسْلمين، فقال: مَنْ هو؟ فقالت: الكريدي، فصلَّب على وجهه، وقام، فخرج من عندها، فما زالت تلك المرأة تتلطَّف بالفارس وأهاديه حتَّى صارت كتب الإنبرور تجيء إليه مختومةً، فيبعثها إليَّ، وأقول له يكتب ما أُريد، فلو لم أدارِ عن المسلمين جاء الإنبرور بغتةً، وساق من أهل الشَّام ومواشيهم وأموالهم ما لا يُعَدُّ ولا يحصى، فأنا أفدي المسلمين بالشيء اليسير، وأحفظ الخطير بالحقير. وكان المعظم قد أمر الفقهاء أن يجرِّدوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه، فجرَّدوا له المذهب في عشر مجلَّدات، وسماه "التذكرة"، فكان لا يفارقه سَفَرًا ولا حضرًا، يطالعه دائمًا، فكتب على ظهر كل مجلدة: أنهاه حِفْظًا عيسى بن أبي بكر بن أَيُّوب، فقلتُ له: ربما يؤخذ هذا عليك, لأن أكبر مدرِّس في الشَّام يحفظ القدوري مع تفرُّغه،

وأنتَ مشغولٌ بتدبير الممالك تكتب خطك على عشر مجلَّدات أنك قد حفظتها! فقال: ليس الاعتبار بالألفاظ، وإنما الاعتبار بالمعاني، سلوني عن جميع مسائلها، فإن قصرت كان الصحيح معكم، وإلا فسلموا لي ما قلت. [وحكى لي] (¬1) سعد الدِّين مسعود والي الجولان [قال] (¬2): كنت واليًا بالشَّوْبك، وكان بها راهبٌ منفرد في بعض الجبال، فجاءني كتابُ المعظَّم بنفيه، فنفيته، فغاب سنة، وجاءني بكتاب المعظم يقول: أعده إلى مكانه، وتوصَّى به. فبحثتُ عن قِصَّته وإذا به قد بَعَثَ به إلى البحر كشف له أخبار الإنبرور على وَجْهها، وإنما نفاه لئلا يتَّهم فيتأذَّى، وأطلق له أرضًا يعيش منها، وأعطاه مئة دينار. وقال المصنِّف رحمه الله: لما قدم خالي أبو محمَّد يوسف إلى دمشق سنة ثلاثٍ وعشرين بخِلْعة الخليفة كان رسول الخوارزمي قد سبقه بيومين، ومعه خِلْعة الخوارزمي وفرسه وحربتان، وبلغ خالي، فقال لي: أبصر أيش يعمل، إنْ لبس خلعة الخوارزمي قبل خِلْعة الخليفة كان وَهْنًا علينا. فكتبتُ إليه ورقة أعرِّفه ما يجب من طاعة الإِمام، وفي جملة ما قلت: إن خالي قد سألني في هذه القضية، فَبَيِّضْ وَجْه هذه الشَّفاعة، وكلامًا هذا معناه، فكتب إليَّ: السمع والطَّاعة، مهما أمرت ما أخالف. وأصبح فَلَبِسَ خِلْعة الخليفة ساعةً، وأعطاها للملك الجواد، فركبتُ بعد يومين لأشكره، فوجدته عند مشهد القدم، وقد رجع التسيير، فبينا هو يحدِّثني لاحت غبرة من ميدان الحصى، فقال: فلان الدِّين تقدم، فلي إليك شغل، وهذا خالك أريد أن أضيفه. وكان إلى جانبي جماعةٌ من الأعيان، فساقوا بين يديه، وشَرَعَ يحدِّثني، ووصل خالي، فَسَلَّم عليه، وسقنا إلى تحت القلعة فقال: لي شغل، فبالله ادخل معنا، واقعد ساعة. فدخلتُ، وعمل سماطًا عظيمًا، فلما أكل خالي وخرج، وتفرَّق النَّاس، وأذن الظهر. فقلتُ: أيش قعودي؟ فقال: وأيش تَمَّ من الحوائج؟ قلتُ: فأنت من مشهد القدم تقول: تقدَّم، وتقول السَّاعة: وأيش تّمَّ من الحوائج؟ فقال: هذا وأنتَ بغدادي! ما أردتُ إلَّا أن يرى خالك منزلتك عندي، فيحكي للخليفة ذلك. فدمعت عيني، وقلت: حرامٌ عليَّ صحبة غيرك. ¬

_ (¬1) في (ح): وقال سعد الدين ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

ولما عاد خالي من مصر وقد جاءت كُتُبُ الخوارزمي يعتبه على لبس خِلْعة الخليفة، فخاف، وقال: غدًا يدخل خالك من مِصْر. قلتُ: وأين ينزل؟ فقال: أين أراد. فقلتُ: الله، الله لا تغتر بالخوارزمي فما يدوم، والخلافة في بني العباس باقية، ومعاداة الخلفاء ما هي هيِّنة. فأنزلهم، وأكرمهم، وخَلَعَ عليهم، وخرج جاء إلى حماة، فجاءته وفاةُ الظَّاهر بها. ولما توقف النَّاس عن الخروج إلى الغَزَاة كَتَبَ إليَّ بخطه كتابًا يقول فيه: قد عرفتُ عزيمةَ الأخ التي جَرَّدها في سبيل الله ابتغاءً لرضاه، وشكرتُ ما يقصد من المساعي في ذات الله ويتوخَّاه، فليقدِّم حضوره إلى أخيه، ومحبِّه المشار إليه، ليقوم من خدمته بما يجب عليه. وكان يحبُّ الفقهاء، ويحرِّضهم على الاشتغال [بالعلم] (¬1)، فيقول: مَنْ حفظ نصَّ "الجامع الكبير" للكرماني أعطيته مئة دينار، ومن حفظ "الإيضاح" لأبي عليٍّ في النحو أعطيته ثلاثين دينارًا، فحفظ الكتابين جماعة، ووفى لهم بما شرط. ذِكْرُ وفاته: كان قد جهَّز العساكر إلى نابُلُس خوفًا من اتِّفاق الكامل مع الإنبرور، ومرض في نصف شَوَّال، وكان عنده رُسُل الخوارزمي، [فحكى لي نجم الدين بن سلَّام (¬2) قال] (1): وقد غَرِمَ عليهم في تسعة أشهر تسع مئة أَلْف دِرْهم، واشتدَّ مرضه، وأصابه ذَرَبٌ عظيم بحيث إنَّه رمى قطعةً من كبده ومصرانًا، وكَثُرَتِ الأقوالُ أَنَّه سُقي السُّمَّ، واتُّهم به جماعة، وربك الخبير. قال المصنِّف رحمه الله: وآخر عهدي [به] (1) ليلة الجمعة تاسع [عشرين] (1) ذي القَعْدة دخلت عليه آخر النَّهار، وعنده ولده الملك النَّاصر داود، وكريم الدين الخِلاطي، ويعقوب الحكيم وقد تغيرت أحواله، وطلع الموتُ في محاسن وجهه المليح، فبكيتُ، فقال: حاشاك حاشاك. وتحته طراحة خفيفة بندقي ومخدة ولحاف من جنسها، وعلى رأسه كوفية، وعند رأسه صينية اسباذروه فيها تراب، فقلتُ لكريم الدين: ما هذه؟ قال: يتيمَّم لكلِّ صلاة، وكان المعظم يقول: والله ما فاتتني صلاةٌ قط. قال كريم الدين بعد ذلك: باتَ الليلة التي مات في صبيحتها ساهرًا، فغفت عينه قبل الفجر، وكان قد قام قيامًا عظيمًا، ففتح عينيه وقد كادتِ الشَّمس أن تطلع، فلم يقدر على التيمُّم، فصلَّى ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ستأتي ترجمته في وفيات سنة (642 هـ)، وستأتي بعض أخباره في حوادث سنة (636 هـ).

بالإيماء، وكان [دائمًا يقول: ما أظن يدخل ملك إلى الجنة، و] (¬1) يقول: الموتُ خيرٌ من الحاجة إلى النَّاس، ويقول: قد صَحَّ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يجتمع غُبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنم في منخري عبد أبدًا" (¬2). وكم في منخري من ترابٍ في سبيل الله. وتوفي ثالث ساعة من نهار الجُمُعة أَوَّل يوم من ذي الحِجَّة، وغَسَّله النَّجْم خليل، وكريم الدِّين يَصُبُّ عليه، وكان قد أوصى أن لا يدفن في القلعة، ويخرج إلى الميدان، ويظهر تابوته، ويصلِّي عليه المُسْلمون، ويحمل إلى قاسيون، فيدفن على باب تُرْبة والدته تحت الشجرة، فلم تنفذ وصيته، ودُفِنَ في القلعة، ثم أُخرج بعد ذلك بمدَّة (¬3) لما ملك الأشرف دمشق على حال غير مرضي، بين يديه نصف شمعة، والغرز خليل معه، [(¬4) وبلغني أَنَّ الحمالين طلبوا ما يربطوه به على النعش، فقيل لأحدهم، : اربطه بعمامتك. ودُفِنَ مع والدته في القُبَّة عند الباب، وفيها أخوه المغيث، وعمل له العزاء ثلاثة أيام في جامع دمشق. وجرى على الرَّعية [في وفاته] (1) ما لم يجرِ عليهم عند موت أحد من الملوك، [رأيت بنات البيوت اللواتي لم يخرجن قط من خدورهن من أوائل الليل يأتين إلى تحت القلعة، وقد شققن ثيابهن، ونشرن شعورهن، ومعهن الدرادكه فيلطمن عليه، ثم يمشين في الأسواق، ويلطمن إلى الصباح، أقمن على ذلك شهرًا، وكذا في الميادين طول النهار، وتكلمت أول يوم في عزائه، فغلبني البكاء، ] (1) وكان محسنًا إلى الرَّعية، ذابًا عن حريمهم، رفيقًا بهم، يعرف صغيرهم وكبيرهم. قال المصنف -رحمه الله-: وكان يحضر مجالسي بالقُدْس وبجامع دمشق، فيبكر، ويقعد عند المنبر الذي عند باب المشهد بين العامة، ولما رَجَعَ من الحجِّ في سنة إحدى عشرة وست مئة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) بنحوه عند أحمد في "المسند" (7480)، وهو صحيح بطرقه وشواهده. (¬3) كان ذلك في ليلة الثلاثاء، مستهل محرم سنة (627 هـ)، انظر "وفيات الأعيان": 3/ 495. (¬4) في (ح): وطلب بعض الحمالين ما يربطه به على النعش، فقيل له: اربطه بعمامتك، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

حضر مجلسي بجامع دمشق، فأنشدتُ قصيدًا لجدِّي، أَوَّلها: [من الطويل] سلامٌ على الدَّار التي لا نزورُها ... على أَنَّ هذا القلب فيها أسيرُها إذا ما ذكرنا طِيبَ أيامنا بها ... تَوَقَّدَ في نَفْسِ المشوقِ سعيرُها رحلْتُمْ وفي سِرِّ الفؤادِ ضمائرٌ ... إذا هَبَّ علويُّ الصَّبا يستثيرُها أتنسى رياضَ الغَوْرِ بعد فِراقِها ... وقد أخذ الميثاقَ منكَ غديرُها مَحَتْ بعدكُمْ تلك العيونُ دموعَها ... فهل من دُموعٍ بعدها نستعيرُها تجعِّدُهُ مرَّ الشمالِ وتارةً ... تغازله كَرُّ الصَّبا ومرورُه ألا أَيُّها الرَّكْبُ الحجازيُّ بَلِّغوا ... رسالةَ محزونِ جَوَاهُ سطورُها إذا كَتَبَتْ أنفاسُهُ بعضَ وَجْدِهِ ... على صَفْحة الذِّكْرى محاه زفيرُها إلى هنا لجدِّي. قلتُ: [من الطويل] سقى الله أيامًا مَضَتْ ولياليا ... تَضَوَّع رَيَّاها وفاحَ عبيرُها لياليَ بِتْنا نَجْتلي للمُنَى بها ... عرائسَ حبَّاتُ القلوبِ مهورُها فيا حبَّذا جَنَّاتُها وهْيَ غضَّةٌ ... ويا حبَّذا من سائر النَّاس حُورُها ويا حبَّذا للنَّفْس والعِيس عَزْمةٌ ... يكون إلى عيسى المليكِ مصيرُها هو الشَّمْسُ إنْ غابتْ ففي كلِّ ناظرٍ ... يقينٌ وعِلْمٌ أَنْ سيشرقُ تجلَّتْ به الدُّنيا وطالت بفَضْلِهِ ... وإحسانِهِ أجيادُها وصدورُها له حَقُّها إذْ كان عالمَ سِرِّها ... وللنَّاس منها زُورُها وغُرورُها كريمٌ إذا ما جئتَ ترجو أياديًا ... له فاضَ مِنْ قبلِ السُّؤالِ غزيرُها فما تُدْركُ الأشعارُ بعضَ صفاتِهِ ... ولو حاكها بشَّارُها وجريرُها لِيَهْنِك يا عيسى مساعٍ تضاعَفَتْ ... لديكَ بإجزاءِ الإله أجورُها سَبَقْتَ بها الزُّهَّاد إذ طُويتْ بها ... لك الأرضُ في شِبْرٍ وهانَ عَسِيرُها وقفتَ بها للحجِّ وقْفَتَك التي ... وقفتَ ونارُ الحربِ بادٍ سعيرُها وكنت إمامَ المَوْقِفَين عظيمةٌ ... مساعيك عند الله جَمٌّ غفيرُها فلا زلتَ تكسو الدِّين حُسْنًا ورَوْنَقًا ... وتُوضحُ مخفيَّاتِهِ وتنيرُها ودانتْ لك الدُّنيا ودُمْتَ مليكَها ... ولا رجعتْ إلا إليكَ أمورُها

ولما قلتُ: وكنتَ إمام الموقفين عظيمة مساعيك، وعنيت موقف الجهاد والحج بكى، وقال: مَنْ أنا حتى يكون لي مساعٍ؟ وزاد بكاؤه، فخفتُ عليه لا يفتضح بين العامة، فقلتُ: لا ينسى الله لك مواقفك في رضائه، وسهرك الليالي في جهاد أعدائه. ذِكْرُ ما بنى [من المدارس وغيرها] (¬1): بنى مدرسةً بقاسيون، ودفن فيها والدته، وأخاه المغيث، ومدرسةَ القُدْس، ودار المضيف، واعتنى بأرضِ الحجاز، فبنى حَمَّامين بمعان للرِّجال والنِّساء، وأقام لهم الضيافة عند رواحهم إلى مكة ومجيئهم، وأباحهم الحمامين، وذَرَعَ طريق الحجاز من باب الجابية إلى مكة، وحفر البرك والمصانع، وأوقف على ذلك ضياعًا من السَّاحل وعلى المدارس، ولو عاش لسار النَّاس إلى مكة بغير دليل، [وكان قد حجَّ في سنة إحدى عشرة على طريق تبوك والعُلا، ففعل ما ذكرناه في طريقه، ] (1) وكانت العُلا لبني صخر، وهي قلعة، فأخذها منهم، ورتَّب فيها جماعة، وعَمَرَ المساجد عند جعفر الطَّيَّار رضي الله عنه، وأقام الضِّيافات للزُّوَّار، وبنى سور دمشق، والطارمة التي على باب الحديد، والطَّيَّارة التي عند باب السِّرِّ المشرفة على دار الطُّعْم العتيقة، وبنى الخان على باب الجابية، وبنى الدَّار والقصر والقَيسارية، وغير ذلك. ذِكْرُ ثناء الخلفاءِ والملوكِ عليه: لما قدم [خالي] (1) محيي الدين بن الجوزي عليه سنة ثلاثٍ وعشرين وست مئة، قال [لي] (1): قد أُمرت من الدِّيوان ألا أخاطبه إلَّا بشهريار الشَّام، وهو الملك. [(¬2) ولما اجتمعت بالملك الظاهر في سنة اثنتي عشرة وست مئة قال لي: ] والله هو واسطة العقد، وعين القلادة، ولولا هِمَّتُه، وأَنَّه مشغولٌ بجهاد الأعداء لما فَرَّ لي بحلب قرار. وكان الملك الكامل (¬3) يقول: وهل أنبت الشَّعْر على رؤوسنا إلا الملك المعظم، [وقال لي الكامل في مصر: ] (1) ومن حفظ عليَّ البلاد، وأحياني بعد الموت غيره. يشير إلى نوبة ابنِ المَشْطوب. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): وقال الملك الظاهر صاحب حلب عنه ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) سلف أن قائل ذلك هو الأشرف، انظر ص 279 من هذا الجزء.

وكان الأشرف يقول: الله بيني وبين الساعة التي ولدت فيها. ومعناه أَنَّه ولد قبل المعظم بليلةٍ أو أكثر، فكان يقف في خدمة العادل فوق المعظم على ما جرت به عادتُهم في كبر السِّنِّ. ذِكْرُ طَرَفٍ من شجاعته: قد ذكرنا أنه [التقى بالفرنج على القيمون، وقتل منهم مئة فارس، وأسر منهم مئة فارس، ودخل بهم القدس منكسة أعلامهم، و] (¬1) كسر الفرنج غير مَرَّة، وأخرب قيسارية [والنقر ودعوق] (1) وحصونًا كثيرة في السَّاحل، وكان بالغَوْر حرامي يقال له: قنديل، معه مئةُ رجل، فكان يقطع الطَّريق بين بَيسان وأريحا. قال المصنف: فحكى لي المعظم، قال: بلغني أَنَّ الفرنج قاصدين القُدْس، فخرجتُ من دمشق بعد الظُّهر، وما معي غير ركبدار وقلاوز مملوكي، وقلتُ للجماعة: اتبعوني، وسقتُ، فبتُ بالمطوق، وقمتُ في الليل، فأصبحت ببَيسان، فتغديت، وساق معي والي بَيسان، وأُنسيت قنديل، فسقتُ أريد أريحا، فبينا أنا في غدرة بَيْسان، وإذا بقنديل قد خرج، ومعه رجاله، ولم يكن معي عشرة خيالة، فوقفتُ وصحت فيه: والكْ أنت قنديل؟ قال: نَعَمْ. وبيده قوس، لو ضرب سهمه في الجبل لنفذ فيه، فقلتُ لبعض المماليك: انزل إليه، فنزل، فقلتُ: اكتِفْهُ بوتر قوسه، فكتَّفَه، وانهزمَ أصحابه، وأخذتُ وتر القوس بيدي، وسقتُ إلى قراوى، وهو ساكتٌ، فالتقاني رؤساء قراوى وهو معي، فخافوا، ونزلتُ عندهم، وقلتُ لهم: هذا برؤوسكم، ما أعرفه إلا منكم في القُدْس. ونمتُ عندهم إلى السَّحَر، وركبتُ، فدخلتُ القُدْس، وكانت عادته أن يبيت من دمشق إلى القدس في الطريق ليلة واحدة وبعض أخرى، فلما كان من الغد جاؤوا وهو معهم، فقلتُ: [اخرجوا و] (1) اشنقوه. وكان شابًّا مليحًا شجاعًا، فقال: يا خوند، عوض ما تشنقني ما تستبقيني أحمي بلادك، وأجاهد الكُفَّار بين يديك؟ [قال: ] (1) فرقَّ له قلبي، وخلعتُ عليه، واستحلفته، وأطلقته، فنزل الغَوْر، فأقام فيه الخفراء، فأمنَتِ الطرق، وحُفظت الأموال، ولما نزلتِ الفرنجُ على الطّور جاهدهم جهادًا عظيمًا، وحفظ الباب، فلما رأى الغلبة خرج إليهم، فقتل منهم جماعةً، ثم استشهد، [رحمه الله] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

السنة الخامسة والعشرون وست مئة

ذِكْرُ أولاد المعظم: [كان له ثلاثة أولاد من الذكور] (¬1) النَّاصر داود، والمغيث عبد العزيز، والقاهر عبد الملك، ومن البنات تسع، وقيل: إحدى عشرة. السنة الخامسة والعشرون وست مئة فيها نزل جلال الدين الخوارزمي على خِلاط مرَّةً ثانية، وهَجَمَ عليه الشِّتاء، فرحل عنها إلى أذربيجان، وخرج الحاجب علي من خلاط بالعسكر، فاستولى على خُوَي وسَلَمَاس ونَقْجوان، وتلك النَّواحي، وأخذ خزائن الخوارزمي وعائلته، وعاد إلى خلاط، فقيل له: بئس ما فعلتَ، وهذا يكون سببًا لهلاك العباد والبلاد. فلم يلتفت. وفيها نجزت مدرسة الركن الفلكي بقاسيون، وذكر فيها ملك شاه الدرس. ووصل عماد الدين بن الشيخ من مِصْر، ومعه ابن جلدك بالخِلَع والتقليد إلى الملك الناصر داود، وأقام ابن الشيخ بدمشق. وفي ربيع الأول كانت الوقعة على باب صور بين العزيز عثمان وصارم الدين التِّبْنيني والفرنج، كمنوا لهم قريبًا من صور، فلما تعالى النهار خرج الفارس والرَّاجل بأغنامهم ومواشيهم، وخرج عليهم المسلمون، فقتلوا وأسروا منهم سبعين فارسًا، وساقوا الجميع، ولم يسلم من الفرنج سوى ثلاثة أنفس، [وكانت وقعة عظيمة] (1). وحجَّ بالنَّاس من الشَّام علي بن السَّلَّار. وفيها توفي عبد الرحيم بن علي (¬2) ابن إسحاق بن شِيث القاضي، جمال الدين، القُرشي، العالم الفاضل. كأنَّ الله تعالى قد جَمَعَ له بين الفَضْلِ والمروءة، والكرم [والفتوة] (1)، والإحسان إلى الخَلْق، ما قصده أحد في شفاعةٍ فردَّه خائبًا، وكان يمشي بنفسه مع النَّاس في قضاء ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 217، و"المذيل على الروضتين": 2/ 6، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

حوائجهم، وكان كثيرَ الصَّدقات، واسعَ المعروف، غزير الإحسان، وكان القاضي الفاضل يحتاج إليه في عِلْم الرَّسائل، وكان إمامًا في فنون العلوم [من المنظوم والمنثور] (¬1)، مات له ولدٌ صغير، فخرج في جنازته يبكي ويقول: [من مجزوء الرمل] ما الذي أطمعُ في الدُّنـ ... ـيا وقد فارقتُ بعضي هكذا تنفلتُ الدُّنـ ... ـيا من الأيدي وتمضي قال المصنف رحمه الله: كتبتُ إليه كتابًا أتشوَّق إليه فيه، فكتب جوابًا بخطِّه: [من البسيط] وافى كتابُك وَهْوَ الرَّوْضُ مُبْتسمًا ... عن ثَغْرِ دُرٍّ طفا مِنْ بحرك الطَّامي وكان عنديَ كالماءِ الزُّلال وقد ... تناولَتْهُ يمينُ الحائمِ الظَّامي لله نفحةُ فَضْلٍ منه رحتُ بها ... نشوانَ أسحبُ أذيالي وأكمامي يا يوسفَ الفَضْلِ إني بعد فُرْقتنا ... يعقوبُ أرجو بشيرًا لي بإلهامي وما كتابُكَ لي إلا القميصُ إذا ... وافى نفى عن جفوني دَمْعَها الهامي ورد الكتاب الفلاني لا زال سحائب بركاته يحيي النفوس بعد موتها، وهِمَّته العالية تنيل بالهمم شوارد المطالب بعد فوتها، وأياديه تجيب الآمال قبل رفع صوتها، فتلقاه قائمًا، وقام بحقِّه وكان عاجزًا لنفسه لائمًا، وأكبَّ على عنوانه مقبِّلًا، وأطلق به خاطره الذي كان الوجد له مقيدًا ومكبلًا، وافتتحه كما يفتتح عن الأزهار أكمامها، وشاهد منه الجواهر التي رقَّ نثارها وراق نظامها، وتمثل منه جنة على الله تحيتها وسلامها، فشكر الله لتلك الأنامل التي هي بحار الفَضْل، هذه الجواهر الشَّفَّافة الجامعة بين الجزالة واللَّطافة، وابتهج بما دَلَّ عليه من سلامة سيدنا أدامها الله وأكملها، واستأنف الأدعية التي ما أَخَّر وظائفها قَطُّ ولا أهملها. وذكر كلامًا آخر. وله تصانيفُ كثيرة، ورسائل وأشعار [لطيفة] (1)، وكانت وفاته بدمشق سابع المحرَّم، ودفن بقاسيون، وكان [سبب وفاته أنه كان] (1) محترمًا عند المعظم مُكَرَّمًا، وقد جعل له راتبًا يقوم بأَوَده، فلما مات المعظم قطع [ذلك] (1) الرَّاتب، [الذي كان بصدده] (1) ووقع التقصير في حَقِّه، وكانت له نفس شريفة، وهِمَّة عالية [منيفة] (1)، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

السنة السادسة والعشرون وست مئة

فمرض أيامًا، ثم أسكت، [فبلغني أنه] (¬1)، سأل الله أن يريحه من الدنيا، فاستجاب دعاءه، [وسمع نداءه] (1) رحمه الله. وفيها توفي الشَّريف البهاء الكاتب، وشمس الدين القواس. السنة السادسة والعشرون وست مئة في صفر ولَّى الملكُ النَّاصر محيي الدِّين يحيى بن الزكي قضاء القضاة بدمشق، وقرأ عهده بهاء الدين بن أبي اليُسْر [بالكلاسة] (1). وفيها أعطى الكامل بيت القدس للإنبرور، ووصل [الإنبرور] (1) إلى يافا، وخرج الكامل من مِصْر، فنزل تل العجول، وكان النَّاصر داود قد بعث الفخر بن بصاقة إلى الأشرف يستدعيه إلى دمشق، فوصل إلى النَّيرب، ونزل ببُسْتانه، وكان عز الدين أيبك قد أشار على النَّاصر بمداراة الكامل، وقال [له: لا] (1) تبعثْ إلى الأشرف وداو الأخطر. فخالفه، وقال الأشرف للنَّاصر: أنا أمضي إلى الكامل، وأصلح حالك معه. ومضى إليه، فوجده قد دفع القدس إلى الإنبرور، فشقَّ عليه، ولام الكامل، فقال: ما أحوجني إلى هذا إلا المعظم. أشار إلى أَنَّ المعظم أعطى الإنبرور من الأردن إلى البحر، وأعطاه الكامل الضِّياع التي من باب القُدْس إلى يافا وغيرها، ولما اجتمع الأشرف والكامل اتَّفقا على حصار دمشق، ووصلت الأخبار بتسليم القُدْس إلى الفرنج، فقامت القيامة في بلاد [الإسلام، واشتدت العظائم بحيث إنه] (1) أقيمت المآتم. قال المصنف: وأشار الملك النَّاصر داود بأن أجلس بجامع دمشق، وأذكر ما جرى [على البيت المقدس، فما أمكنني مخالفته، ورأيت من جملة الديانة والحمية للإسلام موافقته] (1)، فجلستُ [بجامع دمشق] (1) وحضر النَّاصر داود على باب مشهد عليٍّ، وكان يومًا مشهودًا، [لم يتخلف من أهل دمشق أحد] (1) ومن جُمْلة الكلام: انقطعتْ عن بيت المقدس وفود الزَّائرين، يا وَحْشَة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

من ركعة، كم جَرَتْ لهم على تلك المساكن من دمعة، تالله لو صارت عيونهم عيونًا لما وَفَتْ، ولو تقطَّعت قلوبُهم أسفًا لما شفت، أحسن الله عزاء المسلمين، يا خجلة ملوك المسلمين، لمثل هذه الحادثة تسكب العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزَّفرات، لمثلها تعظم الحسرات، [وذكر كلامًا طويلًا، وأكثر الشعراء في حديث القدس، ] (¬1) وكان بعض أصدقائي نظم أبياتًا، فاقتضى الحال إنشادها، وهي هذه الأبيات (¬2): [من الطويل] أَعَينَيَّ لا تَرْقَي من العَبَرَاتِ ... صِلِي بالبُكا الآصال بالبُكُراتِ وأَذْرِي دموعًا كالشَّرار يطيره ... لهيبُ الحشا من عاصفِ الزَّفراتِ لعلَّ سيولَ الدَّمْع يُطفئ فَيضُها ... تَوَقُّدَ ما في القلب من جمراتِ ويا فَمُ بُحْ بالشَّجْو منك لعلَّه ... يروِّحُ ما ألقى من الكُرُباتِ على المسجدِ الأقصى الذي جَلَّ قَدْرُه ... على موطنِ الإخْباتِ والصَّلواتِ على منزل الأملاكِ والوحي والهُدَى ... على مَشْهَدِ الأبدال والبَدَلاتِ على سُلَّمِ المعراجِ والصَّخْرة التي ... أنافَتْ بما في الأرضِ من صَخَراتِ على عَرْشِ ملك الله في الأرض قبل أَنْ ... يرى العَرْشَ والكرسيَّ ذا الدَّرجاتِ على القِبْلة الأُولى التي اتَّجهتْ لها ... صلاةُ البرايا في اختلافِ جهاتِ على خيرِ معمورٍ لأكرمِ عامرٍ ... وأشرفِ مبنيٍّ لخيرِ بُناةِ ومعمار داود ذو الأَيد وابنه ... سليمان ربّ المُلْك والزّلفاتِ عفا المسجدُ الأقصى المباركُ حَوْله الرَّ ... فيعُ العمادِ العالي الشُّرفاتِ عفا بعدما قد كان للخير مَوْسمًا ... وللبِرِّ والإحسانِ والقُرُباتِ يوافي إليه كلُّ أشعثَ قانتٍ ... لمولاه بَرٌّ دائمُ السَّجداتِ خلا من صلاةٍ لا يَمَلُّ مقيمُها ... تُوَشَّحُ بالآياتِ والسُّوَرَاتِ خلا من جسومٍ بالعبادة نُحَّلٍ ... ومن أَوْجُهٍ بالخوفِ مُمْتَقِعاتِ خلا من عيونٍ شُرَّهٍ ببكائها ... وأفئدةٍ من رَبِّها وَجِلاتِ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) وقد أورد معظم أبيات القصيدة كذلك أبو شامة في "كتاب الروضتين": 4/ 335 - 336 بتحقيقي.

خلا من أنين النَّادمين على الذي ... بدا منهمُ من سالفِ الفرطاتِ خلا من صلاة العارفين لربهم ... وتسبيحهمْ في حالك السُّدَفاتِ لتبك على القدس البلادُ بأَسْرِها ... وتعلنُ بالأحزان والتَّرَحاتِ ويلبسن أثوابَ الحِداد تأسُّفًا ... يرحن بها ما عشن متشحات فقد كُنَّ منه في خفارة رحمةٍ ... زمانًا من الأسواء محتمياتِ لِتَبْكِ عليه مكة فَهْيَ أُخته ... وتشكو الذي لاقت إلى عرفاتِ لِتَبْكِ على ما حَلَّ بالقُدْس طيبة ... وساكنها المدفون في الحُجُراتِ لعلَّ رسولَ الله يسألُ رَبَّه ... تداركها من هذه الهلكاتِ لِتَبْك بلادُ الشَّام للقُدْس خاصَّة ... وتصبحُ من أمثالها حَذِراتِ لقد طَرَقَ الإسلام يا حار بغتةً ... وشَرُّ البلايا طارقُ البغتاتِ لقد هدموا مجدَ الصَّلاح بهدمه ... وقد كان مجدًا باذخ الغُرُفاتِ وقد أخمدوا صوتًا وصيتًا أثاره ... لهمْ عُظْمُ ما نالوا من الغَزَواتِ أما عَلِمَتْ أبناءُ أيوبَ أَنَّهمْ ... بمَسْعاتِهِ عُدُّوا من السَّرَواتِ وأنَّ افتتاحَ القُدْس زهرةُ مُلْكهمْ ... وهل ثمرٌ إلا من الزَّهَراتِ فمن لي بنُوَّاحٍ يَنُحْنَ على الذي ... شَجَانا بأصواتٍ لهنَّ شُجَاةِ يُرَدِّدْنَ بيتًا للخُزَاعيِّ قاله ... يُؤَبِّنَّ فيه خِيرَةَ الخِيَرَاتِ مدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تِلاوةٍ ... ومَنْزِلُ وَحْي مُوْحِشُ العَرَصاتِ من أبيات. وأكثر الشعراء في ذلك، وحكي أَنَّ فقيرًا بات بالقدس، فسمع قائلًا يقول في الليل: [من الخفيف] إنْ يكنْ بالشَّآمِ قَل نصيري ... وتهدَّمْتُ ثُمَّ دامَ هلوكي فلقد أصبح الغداةَ خرابي ... سمةَ العارِ في حياةِ الملوكِ ومضى عز الدين أيدمر إلى الكامل من نابُلُس، وكان النَّاصر قد أهانه، فأعطاه عشرين ألف دينار، وغرَّقه بالإنعام، وكذا العزيز، وكان الكامل قد عَزَمَ على العَوْد إلى

مِصْر، فقال: قد جاءني مفتاح الشَّام. وسار إلى دمشق، [(¬1) ونمي (¬2) إلى الأشرف والكامل أني قد أفتيت بقتالهما على المنبر، فأرعدا وأبرقا، وتواعدا عليَّ (¬3) وتهدَّدا، ولذكر الله أكبر، فتوكلت على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، واعتمدت عليه، ومن يعتمد عليه يصفو له شربه، وأحيط بدمشق من كل جانب]، وحَلَّ بها من الخراب والفساد والعجائب، وقبض النَّاصر على الفخر بن بصاقة، وابن عمه المكرم، وقيدهما ورماهما في الجُبِّ، واستأصلهما، وكان قد اتَّهم الفخر بالأشرف، وأنه لما مضى إليه في الرِّسالة واطأ على النَّاصر، وقال: هذا صبيٌّ لا يصلح للملك، وأنت أَوْلى، [(¬4) فبلغني أنهما] تعاتبا في الجُبِّ، فقال الفخر للمكرم: بعد الأمر والنهي والجاه أصارنا الدَّهر إلى الحبوس والقيود، فسبحان مزيل النعم! فقال له المكرم: سبحانك! أي: أنت كنتَ السبب. وفيها دخل الإنبرور إلى القُدْس، والحصار على دمشق، [وجرى له عجائب، منها أَنَّه] (¬5) لما دخل الصخرة رأى قسيسًا قاعدًا عند القدم، يأخذ من الفرنج القراطيس، فجاء إليه كأَنَّه يطلب [منه] (5) الدعاء ولكمه، فرماه إلى الأرض، وقال: يا خنزير، السُّلْطان تصدَّق علينا بزيارة هذا المكان تفعلوا فيه هذه الأفاعيل! لئن عاد دخل واحد منكم على هذا الوجه لأقتلنه. [وحكى صورة الحال قوام الصخرة، قالوا] (5)، ونظر إلى الكتابة التي في القُبَّة: وقد طَهَّر هذا البيت المقدَّس صلاحُ الدين من المُشْركين. فقال: ومَنْ هم المشركون! وقال للقوام: هذه الشِّباك التي على أبواب الصَّخرة من أجل أيش؟ قالوا: لئلا تدخلها العصافير. فقال: قد أتى الله إليها بالخنازير. ¬

_ (¬1) في (ح): وسار إلى دمشق، وأحدق العسكر بها، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ونمي، ساقطة من (ش)، وهي زيادة من عندنا لتستقيم العبارة. (¬3) في (ش): عليه، والمثبت يستقيم مع سياق العبارة. (¬4) في (ح): وتعاتبا ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬5) ما بين حاصرتين من (ش).

[قالوا] (¬1): ولما دخل وقت الظهر، وأَذَّن المؤذن قام جميعُ مَنْ كان معه من الفَرَّاشين والغِلْمان ومعلمه -وكان من صِقِلِّية يقرأ عليه المنطق- فصلُّوا، وكانوا مسلمين. [قالوا] (1): والظَّاهر من كلام الإنبرور أَنَّه كان دهريًّا، وإنما كان يتلاعب بالنَّصْرانية. [قالوا] (1): وكان الكامل قد تقدَّم إلى القاضي شمس الدين قاضي نابُلُس أن يأمر المؤذنين ما دام الإنبرور بالقُدْس لا يصعدوا المنابر، وإنما يؤذنوا في الحرم، فأنسي القاضي أن يُعْلم المؤذنين، فصعد عبدُ الكريم المؤذن في تلك الليلة وقت السَّحر، والإنبرور نازل في دار القاضي، فجعل يقرأ الآيات التي تختصُّ بالنصارى مثل قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [مريم: 34] ونحو هذا، فلما طلع الفجر استدعى القاضي عبدَ الكريم وقال له: أَيش عملت؟ السُّلْطان رسم كذا وكذا. قال: ما عَرَّفتني والتوبة. فلما كانت الليلة الثَّانية ما صعد [عبد الكريم المئذنة] (1)، فلما طلع الفجر استدعى الإنبرور القاضي، وكان قد دخل القدس في خدمته، وهو الذي سلَّمه إليه، فقال له: يا قاضي، أين ذاك الرجل الذي طلع بارحة أمس المنارة وذكر ذاك الكلام؟ فعَرَّفه أَنَّ السلطان أوصاه. فقال الإنبرور: أخطأتم يا قاضي، تغيرون شعاركم وشرعكم ودينكم لأجلي! فلو كنتم عندي في بلادي هل كنت أبطل ضرب النَّاقوس لأجلكم؟ الله الله لا تفعلوا، هذا أول ما تنقصون عندنا. ثم فَرَّق في القوام والمؤذنين والمجاورين جملة، أعطى كلَّ واحد عشرة دنانير، ولم يقم بالقُدْس سوى ليلتين، وعاد إلى يافا، وخاف من الدَّاوية، فإنهم عزموا على قَتْله، وكان أشقر أمعط، في عينيه ضعف، لو كان عبدًا ما ساوى مئتي دِرْهم. وفيها اشتدَّ الحصار على دمشق، فألجأتِ الضرورة أَنَّ النَّاصر خرج إلى [عمه] (1) الكامل، وأعطاه الكَرَك وعجلون والصَّلت ونابُلُس والقدس والخليل، وأخذ منه الشوبك، وسلَّم إليه دمشق، [وكان نزوله على دمشق] (1) في ربيع الآخر من هذه السنة، وتسلمها غُرَّة شعبان، أقاموا عليها أربعة أشهر، وسَلَّم الكاملُ دمشق إلى الأشرف. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

أقسيس

ونزل الخوارزمي على خِلاط، وضايقها، وأقام عليها إلى السنة الثانية، ونزل عليه الثلج، وحفروا سرابًا له ولأصحابه، ولم يزل حتى أخذها عنوة في السنة الآتية. وسار الكامل إلى حماة، فحصرها، وأخذها من النَّاصر قليج رسلان، وأعطاها لمحمود بن المنصور، ولقبه المُظَفَّر، وكلاهما ابنا أُخته. وسار النَّاصر داود إلى الكَرَك، وكان قد بكى بين يدي الكامل على الشَّوْبك، فقال الكامل: أنا ما لي حصن يحمي رأسي، وَهَبْ أنك وهبتني إياه. فسكت. وأقام الأشرف بدمشق، فدخل عليه ابنُ عُنَين، فلم ير منه ما كان يعهده من مجالس المعظم، [وما كان يجري فيها من الهنات، وقذف المحصنات، فإنَّ ابن عنين كان هجاءً، خبيث اللسان، ] (¬1) فَشَرَع فيما كان يفعله، فنهاه الأشرف، وقال: ما مجالسي كما عهدت، يكفيني ما أنا فيه حتى أضيف إليه ثلب [أعراض] (1) المسلمين! فخرج من عنده، [وكان شاعرًا لبيبًا كثير الكلام، فأخذ يصنف هجاءه، وقد] (1) عمل فيه: [من الطويل] وكنا نرجِّي بعد عيسى محمدًا ... لينقذنا من شِدَّة الضُّرِّ والبَلْوى فأوقعنا في تِيه موسى كما ترى ... حيارى فلا مَنٌّ لديه ولا سَلْوى (¬2) وبلغ الأشرف، فقال: هذا الملعون، إذا لم يكن عندي مَنٌّ ولا سلوى، فعند مَنْ! وأمر بقَطْعِ لسانه، فدخل على جماعة، وحلف أنه ما قال هذا. فقال الأشرف: هذا ما أفلت من لسانه أحد، ولا بُدَّ من قطعه. فهرب إلى بلاده ازرع وحوران، وسكت الأشرفُ عنه. وفيها توفي أقسيس (¬3) الملك المسعود بن الكامل، صاحب اليمن. بلغه موت المعظم [في سنة خمس وعشرين وست مئة] (1)، فطمع في الشَّام، فتجهَّز من اليمن بجهاز لم يسبقه إليه أحدٌ من الملوك، ونادى في بلاد [اليمن في] (1) التُّجَّار: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ديوانه: 132 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 244، و "المذيل على الروضتين": 2/ 17، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

الحسين بن هبة الله

من أراد صحبة السُّلْطان إلى الدِّيار المِصْرية، فليتجهز. فجاء التُّجَّار من الهند بأموال الدُّنيا والأقمشة والجواهر، فلما تكاملتِ المراكب بزبيد جَمَعَ التجار، وقال: اكتبوا لي بضائعكم وما معكم لأحميها من الزكاة والمؤن. فكتبوها له، فصار يكتب لكلِّ تاجرٍ برأس ماله إلى بعض بلاد اليمن، وششولي على ماله، ففعل بالجميع كذا، فاجتمعوا، فاستغاثوا، وقالوا: نحن قد جئنا من بلدان شتى، وفينا مَنْ أهله بإسكندرية والقاهرة ومِصْر والشَّام والرُّوم، ولنا مُدَّة سنين [ونحن بعيدون] (¬1) عن أهلنا، وقد اشتقنا إليهم، فخُذْ أموالنا، وأَطْلِقْنا نروح إلى أهلنا. فلم يلتفت إليهم، وأخذ الجميع [فبلغني أنه كان] (¬2) ثَقَلُه في خمس مئة مركب، ومعه ألفُ خادم، ومئة قنطار عنبر وعود ومسك، ومئة ألف ثوب، ومئة ألف صندوق أموال وجواهر، وركب الطريق إلى مكة، ولما وصل بعض الطريق مَرِضَ مرضًا مزمنًا، فما دخل مكة إلا وقد فلج، ويبست يداه ورِجْلاه، ورأى في نفسه العِبر، فلما احْتُضر بعث إلى رجل مغربي بمكَّة، فقال: والله ما أرضى لنفسي مِنْ جميع ما معي كفنًا [أتكفن به] (¬3)، فتصدَّق عليَّ بكفن، فبعث له بنصفيتين بغدادي، ومئتي دِرْهم، فكفنوه فيهما، ودفن بالمعلى. وقيل: إنَّ الهواء ضرب بعضَ المراكب، فرجعت إلى زبيد، فأخذها أصحابها. [وبلغني عن الكامل أنه سر بموته] (¬4)، ولما جاء خزنداره إليه ما سأله كيف مات، بل قال: كم معك من المال والتُّحف. [وقد ذكرنا ما فعل أقسيس وضربه الحرم بالبندق، فعوقب سريعًا، وضربه القدر ضربًا وجيعًا] (3). الحسين بن هبة الله (¬5) ابن محفوظ بن صَصْرى، أبو القاسم، الدمشقي. ¬

_ (¬1) زيادة من عندنا يقتضيها السياق. (¬2) في (ح): وأخذ الجميع، فكان ثقله، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (ش). (¬4) في (ح): وسر الكامل بموته، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬5) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 240 - 241، و"تاريخ الإسلام": (وفيات سنة 626 هـ)، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 282 - 284، و"المذيل على الروضتين": 2/ 9، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

السنة السابعة والعشرون وست مئة

سمع الكثير، وروى الكثير، وتوفي في المحرَّم، ودفن بقاسيون، سمع الحافظ ابن عساكر، وروى عنه جميع ما عنده سوى "التاريخ"، فإنه ما سمع منه سوى ترجمة أبي سليمان الدَّاراني. وكان صالحًا، ثِقَةً. السنة السَّابعة والعشرون وست مئة فيها بعث الأشرف أخاه الصَّالح إسماعيل، فحصر بعلبك، وضربها بالمجانيق، وضايقها، وتوجَّه إليها الملك الأشرف، وكانوا قد ضربوا بيت الماء الذي للأشرف قريبًا من الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله، فقامت قيامةُ الأشرف، وضرب الفَرَّاشين، وطَرَدهم، وضرب خيمته ناحية، ودخل الصَّفي بن مرزوق بين الأشرف والأمجد صاحبها واتفقوا، وأخذوها منه، وجاء، فأقام بدمشق بداره. وفيها أخذ خوارزم شاه خِلاط بعد أن أكلوا الميتات والجيف، وبيعت قطعة من جلد بألف دِرْهم، فلما كان في جمادى الأُولى زحف عليها من كلِّ جانب، ونَصَبَ المجانيق، وطَمَّ الخنادق، وكان قد أقام عليها عشرة أشهر، فدخلها بالسَّيف، فنهبها، وهَتَكَ نساءها، وأخذ مجير الدين وتقي الدين ابني العادل وكانا بها، وأخذ الكُرْجية زوجة الأشرف، ودخل بها من ليلته، وكان عز الدين أيبك قد خنق الحاجب علي ومماليكه مع الخوارزمي، فقالوا له: هذا قتل أستاذنا. فقال: اقتلوه. فقتلوه، وبلغ الأشرف وهو بدمشق والكامل بالرَّقَّة، فخرج من دمشق، وجاء إلى الرقة، وكَتَبَ صاحبُ الرُّوم كيقباذ إلى الأشرف، يقول: هذا يستولي على البلاد، والمصلحة أن تجيء إلى عندي، فعندي المالُ والرِّجال، فشاور الكامل، فقال: مصلحة. وقطع الكاملُ الفرات إلى ناحية مِصْر في سبعة آلاف مقاتل، وليس له عدو، وسار الأشرف إلى حَرَّان في سبع مئة فارس وعدوُّه الخوارزمي، فأقام بحرَّان، وكتب إلى حلب والمَوْصِل والجزيرة، فجاءته العساكر، فرحل يريد الروم، ومعه من المقدَّمين أخواه شهاب الدين غازي، والعزيز عثمان، والجواد، وشمس الدين صواب والأمراء، واجتمع [الأشرف] (¬1) بصاحب الروم، وبلغ خوارزم شاه، فسار إليهم، فوقع في طريقه ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

بسبعة آلاف من الروم جاؤوا نجدةً لصاحب الروم، وقد نزلوا في مرج يستريحون، فقتلهم. وحكى [لي الأمير] (¬1) عماد الدِّين بن موسك صورة الحال، فقال: لما وصلنا إلى الروم خرج عسكر أَرْزَنكان نجدةً لنا، وكانوا في اثني عشر ألفًا، فنزلوا في مرج، ورموا سلاحهم، وسيَّبوا دوابهم ترعى، ولم يعلموا بمسير الخوارزمي، فمرَّ بهم في طريقه فقتلهم وأسرهم، ولم يفلت منهم إلا اليسير، وكان في خامس عشرين رمضان نهار الأربعاء، فضعفت قلوب العساكر، وخافوا، وأقمنا مكاننا إلى عشية الخميس، فوصل الجاسوس، وأخبر أَنَّ العدو يصبحنا يوم الجمعة، فرتبنا الأطلاب الجاليشية في الأول، ثم بعدهم العرب، وبعدهم الحلبيون، ثم صواب، ثم الجواد، ثم العزيز، ثم شهاب الدين، ثم تبعهم أطلاب الروم، وصاحب الروم في طُلْب الخاص، والأشرف في طُلْب الخاص أيضًا، وكنَّا في أرض وَعْرة، فخرجنا إلى وطأة، وإذا بطلائع خوارزم شاه، فأخذ العرب منهم مئة فارس، وقتلوا مئة، ولم يتقدَّموا إلينا، ونزلوا ونزلنا، [وبيننا] (1)، وبينهم جبل، والى جانبه وادٍ عظيم، وخفنا خوفًا شديدًا، وليس معنا زاد ولا ماء ولا علف لدوابنا، وقال الأشرف: ما نحشر إلا من تحت حوافر خيولنا، أين المفر؟ فلما كان وقت السحر قبيل طلوع الفجر أمر خوارزم شاه بمن بقي من عسكر أرزنكان، وكانوا خمس مئة، فضرب رقابهم، فلما كان بكرة السبت ثامن عشرين شهر رمضان قطعوا إلينا الوادي، ووقف الخوارزمي على رأس الجبل، وسنجقه في الوادي، ووقع القتال، وأرسل الله ضبابًا، فلم يَرَ أحدٌ كفَّه، ونصرنا الله عليهم، فانكسروا، ووقع معظمهم في الوادي من الضباب، وانهزم الخوارزمي، ووقع العسكرُ في أصحابه قَتْلًا وأَسْرًا، وتفرَّق معظمهم في الجبال والأودية، فقاتل الرُّوم قتالًا شديدًا، وكان من وقع من رأس الجبل إلى الوادي أكثر، فأصبحوا بين قتيلٍ وأسير، وغَنِمَ النَّاس أموالهم وخيلهم وسلاحهم، وامتلأتِ الجبالُ والأودية منهم، وشبعت الطيور والوحوش من دمائهم ولحومهم، وقال الأشرف للرومي: لابُدَّ لي من خِلاط. فأعطاه ولأصحابه وإخوته وجميع الأعيان من الأموال والخِلَع والثِّياب والخيل ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

والتحف ما قيمته ألفا ألف دينار، ورجع الرُّومي إلى بلاده، وجَرَّد مع الأشرف بعض عسكره، وسار الأشرف فنزل أرزن الروم، وكان صاحبها قد صار مع الخوارزمي، فأخذها منه، وبعث به إلى صاحب الروم، وسَلَّم أرزن إلى نواب صاحب الروم، وسار إلى خلاط، [ولما وصل الخوارزمي إلى خلاط] (¬1) أخذ جميع ما كان له فيها، والكُرْجية، ومجير الدين وتقي الدين، ونزل أَرْجيش، وجاء الأشرف، فنزل خِلاط، وسار خلف الخوارزمي، فأبعد عنه، وتراسلا، واصطلحا على أن يطلق الخوارزمي مَن عنده من الأسارى، فأطلق مجير الدين وتقي الدين، ولم يطلق الكرجية، وعاد الأشرف إلى دمشق مستهل ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وست مئة، فأقام شهرًا، وطلع إلى أخيه الكامل بمصر. [(¬2) قلت: ومن العجائب أنه كان لي عادة أن أجلس الثلاثة أشهر بجامع دمشق، فلما كان يوم السبت ثامن عشرين رمضان اليوم الذي التقى فيه الخوارزمي نهار الضباب، وكان آخر مجالسي بجامع دمشق، وحضر الصالح إسماعيل، وكان نائب الأشرف بدمشق، فقال الصالح -وكان بالقبة- لنجم الدين بن سلام: قل للشيخ يدعو للسلطان بالنصر، فأشار إليَّ فدعوت، وأمَّن الجماعة، فثار [في ساعة الدعاء] (1) ضبابٌ عظيم، وغشي أهل المجلس ما غَيَّبهم، وغبتُ أنا [أيضًا] (1)، فلما أفقت، قلتُ: نُصِرَ الأشرفُ اليوم، فتعجب الجماعة، فوصل الخبر بعد عشرة أيام بالواقعة على ما ذكرنا، وأَنَّ الضَّباب الذي كان عندنا كان عندهم، وأنهم نُصِروا في السَّاعة التي دعونا فيها. وفيها استخدم شهاب الدين غازي صاحب مَيَّافارقين العز بن الجاموس، وقدمه على [ديوانه، وأعطاه الكوسات والأعلام، وقدمه على] (1) جماعةٍ، ودُعي بالصَّاحب الأمير، ومكَّنه غازي من البلاد والعباد، فبدا منه من الكبر والجبروت، والظُّلْم ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): قال المصنف رحمه الله: لما كان يوم ثامن وعشرين رمضان جلست بجامع دمشق، وحفر الصالح إسماعيل، وكان نائب الأشرف، فقال لنجم الدين بن سلام: قل للشيخ يدعو للسلطان بالنصر. فدعوت ... ، وما بين حاصرتين من (ش).

الحسن بن محمد

والعُدْوان [بحيث كان الجلندي الذي يأخذ كل سفينة غصبًا عند كسرى أنوشروان] (¬1)، وكان غازي قد اقترض من البَدْر بن المسجِّف الشَّاعر لما توجَّه إلى مكة عشرة آلاف دِرْهم، وكتب له بها توقيعًا على أنضِّ الجهات، فمطله ابن الجاموس، وأحاله على جهات منكسرة، [ولقي منه أمورًا عسرة] (¬2)، فهجاه بأبياتٍ، وكتب بها إلى غازي، فمنها: [من الطويل] أبوه الذي أفتى قديمًا بسبِّكُمْ ... جهارًا وهذا الابنُ من ذلك الصُّلْبِ فأَبْعِدْه وُقِّيتَ الرَّدى عن دياركُمْ ... وقابِلْه بالإعراضِ والفَتْكِ والصَّلْبِ فقد قيل بيتًا سائرًا في مثاله ... وسارَ مسيرَ الشَّمْسِ في الشَّرْق والغَرْبِ ومَنْ رَبَطَ الكلبَ العقورَ ببابه ... فَعَقْرُ جميعِ النَّاسِ مِنْ رابطِ الكَلْبِ مات ابنُ الجاموس في هذه السنة، وهي سنة سبع وعشرين بميَّافارقين، فاستولى غازي على تركته [ودوابه وغلمانه] (2)، ولعنه، وقال: لقد ظلم الرَّعية، ووسخ أعراضنا، فدعوا علينا بسببه. وجاء عمه من دمشق يطلب تركته، فسبَّه غازي، وقال: بأيش جاءني، بيننا أكثر من جُبَّة وبرطوش؟ وأعطى عَمَّه ألف دِرْهم. وفيها توفي الحسن بن محمد (¬3) ابن الحسن بن هبة الله، أبو البركات زين الأمناء ابن عساكر، [أخو فخر الدين ابن عساكر. سمع الكثير، وروى "التاريخ" عن الحافظ، ولي منه إجازة، وكانت وفاته] (2) ليلة الجمعة سابع عشر صفر، ودفن عند أخيه فخر الدين، قريبًا من مقابر الصوفية. ¬

_ (¬1) في (ح): والعدوان شيء كثير، وكان غازي ... والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 258 - 259، و"المذيل على الروضتين": 2/ 18 - 19، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

الحاجب علي الموصلي

الحاجب علي المَوْصلي كان خصَّاصًا أول [زمانه] (¬1)، ثم خدم الطُّغْدكيني بدمشق، وكان فقيرًا وأخوه عثمان، قال الزكي النَّحَّاس: كان الطغدكيني يقعد عندي على الدُّكَّان بسوق النَّحَّاسين بدمشق، والحاجب علي يحمل سرموزته وهو قائم، وكان أخوه عثمان يسوق على الدوابِّ من قاسيون إلى دمشق يبيع الحجارة، فكنتُ أقول له: بكم عملت اليوم؟ فيقول: بدرهمين، فتقلَّبَتْ به الأحوال حتى صار الحاجب نائب الملك الأشرف بالشرق وخِلاط، وكان شَهْمًا مِقْدامًا، جَوَادًا، بنى الخانات، ووقف عليها الأوقاف، وكان عادلًا، منصفًا، لا يحابي أحدًا، فكان الأُمراء وأرباب الدولة يخافونه ويتقونه، وكان مهيبًا، وساق خلف الخوارزمي، وأخذ البلاد منه، ونهب عياله، [وقد ذكرناه] (1). وكان سبب هلاكه أَنَّه لما جاء الأشرف إلى دمشق، واتَّفق مع أخيه الكامل على المقايضة بالشَّرْق بلغ الحاجب، فكتَبَ إلى الأشرف يقول له: الله الله، لا تفعل، وليس هذا مصلحة لوجوه: أحدها: لأَنَّك إنما قطعت الفرات لتنجد ابن أخيك النَّاصر، فإذا أخذتَ منه دمشق، فأيُّ حُرْمة تبقى لك عند الملوك؟ فإن كان قَصْدُك الماء والبساتين والفرجة، فهذه سنجار أصحُّ من دمشق وأطيب، وهي وسط البلاد، والثاني: أَنَّ الخوارزمي معاهد الملك المعظم، وما يتخلَّى عن ولده، وهو قريب منا، ومتى أخذ خِلاط أخذ جميع البلاد. والثالث: أَنَّك اليوم ملك الشَّرْق والشَّام، والخليفة والمواصلة والروم يخدمونك، تصبح مثل الأمراء، تصير تبعًا، وحكمك اليوم على عشرة آلاف فارس، ودمشق ما تقيم بأكثر من أربع مئة فارس. وذكر كلامًا في هذا المعنى، فوقع الكتاب في يد الكامل، فقال: ما كفى الخَصَّاص ما فعل، وأَخْذه لأهلِ الخوارزمي، وفتح علينا بابًا لا نقدر على سدِّه حتى يكتب مثل هذا الكتاب! ثم أمر كاتبه أن يكتب كتابًا إلى خِلاط إلى عِزِّ الدين أيبك مملوك الأشرف بقَتْل الحاجب، وكان أيبك عدوَّه، وبعث بالكتاب إلى الأشرف وقال: عَلِّمْ عليه. فعلَّم عليه، وقال بعد أيام: مسكين الحاجب عليّ كَتَبَ الكامل كتابًا لهلاكه، وعلَّمْتُ عليه. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

السنة الثامنة والعشرون وست مئة

[قلت: سبحان الله، كيف سمحت نفس الأشرف بهلاك رجل مسلم قد خدمه مدة سنين، وحفظ بلاده من السلاطين، وكسر جيوش المخالفين! وكان الأشرف يكون تارة بمصر وتارة بالشام، والحاجب علي يسوس الملك بتدبيره على أحسن نظام، وما خان الحاجب في درهم ولا دينار، ولا قصَّر في خدمة ربّه آناء الليل وأطراف النهار، ولكن حبه لدمشق هو الذي هون عليه هلاك الحاجب، وأنساه خدمة المشفق الصَّاحب] (¬1). ولما وصل الكتاب إلى أيبك رمى الحاجب في جُبّ، وأَخَذَ جميع ماله، وبَعَثَ إليه بجماعة من الأرمن، فخنقوه. ولما فُتحت خِلاط عمد مماليك الحاجب إلى أيبك، فقطَّعوه، ثم اعتقل الأشرف أخا الحاجب في قلعة دمشق، واستأصله، ثم أطلقه، وسار الخوارزمي، فنزل في أعمال توريز. وفيها مات الحِلِّي الشَّاعر (¬2)، [وقد ذكرناه لما أخذ المسلمون دمياط] (1). السنة الثَّامنة والعشرون وست مئة في جُمادى الأُولى ذَكَرَ التَّقيُّ بنُ الصَّلاح الدَّرْس في المدرسة الشَّامية [التي وقفتها بنت حسام الدين (¬3) لاجين بن ست الشَّام على الشافعية بدمشق، ] المجاورة لمارَسْتان نور الدين. وفي رجب ذكر النَّاصح بن الحنبلي الدَّرْسَ في المدرسة التي أنشأتها ربيعة خاتون بنت أيوب بقاسيون، وحبس الأشرفُ [عليًّا] (1) الحريريَّ بقلعة عَزَّتا. وفي رمضان ساق التَّتر خلف [جلال الدين] (1) خوارزم شاه من بلاد توريز، فانهزم بين أيديهم إلى دياربكر، وكان قد استحلف صاحب آمد متى قصده فَتَحَ له باب آمِد، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) هو راجح بن إسماعيل بن أبي القاسم الأسدي، الحِلِّي الشاعر، أبو الوفاء، له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 268، و"تاريخ الإسلام": (وفيات سنة 627 هـ)، و"العبر" للذهبي: 5/ 108، و"النجوم الزاهرة": 6/ 275، و "شذرات الذهب": 5/ 123. (¬3) كذا قال، وهي الشامية الجوانية، والمشهور أن التي وقفتها ست الشام، انظر "الدارس": 1/ 301، و"منادمة الأطلال": 108. وانظر ص 241 من هذا الجزء.

بهرام شاه بن فرخشاه

وكان ظهرًا له، فجاء إلى آمِد، فلم يفتح له الباب، ورموه بالحجارة من السُّور، فأخذ على وَجْهه وحدَه في أطراف الجبال، فوصل إلى قرية من أعمال مَيَّافارقين، فَقُتِلَ فيها، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وجاء التتر إلى باب مَيَّافارقين، وطلبوه، فقال شهاب الدين [غازي] (¬1): والله ما أعلم أين هو. فقاتلوا مَيَّافارِقِين أيامًا، فلم يقدروا عليها، فعادوا إلى إسْعِرد، فقتلوا نيفًا وعشرين ألفًا، وأخذوا من البنات المُسْتحسنات ما أرادوا، وأحرقوها، وعادوا إلى خِلاط، وكانت بوادر الشِّتاء، ووصلت طائفة منهم إلى نَصِيبين والجزيرة. وحج بالنَّاس من دمشق شِبْلُ الدولة كافور العادلي. وفيها قُتِلَ عِزُّ الدين أيبك الأشرفي بتوريز، وقيل: خنق في الجُبِّ كما فَعَلَ بالحاجب عليّ، رحمه الله تعالى. بهرام شاه بن فَرُّخْشاه (¬2) ابن شاهنشاه بن أيوب، الملك الأمجد، صاحب بعلبك. [قد ذكرنا أن صلاح الدين] (1) أعطاه بعلبك عند وفاة أبيه سنة ثمان وسبعين وخمس مئة، فأقام بها إلى سنة سبع وعشرين وست مئة خمسين سنة حتى حصره الأشرف وأخرجه منها، وساعده عليه شيركوه صاحب حِمْص، وكان في قلبه عليه أحقاد قديمة [كما يكون بين الأهل] (1)، وكان المعظَّم يحبُّ الأمجد ويحترمه ويعظِّمه. قال المصنف رحمه الله: ولقد رأيته يقبِّلُ يده، وكان يتعزَّز على الكامل والأشرف والنَّاس بالمعظم، فلما مات المعظم ثارتِ الأحقاد (¬3) [البدرية، والأضغان المخفية، وقد ذكرنا أنهم] أخرجوه من بَعْلَبَك، وجاء إلى دمشق. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 2/ 453، و "الحوادث الجامعة": 19، و"العبر" للذهبي: 5/ 110، و"فوات الوفيات": 1/ 226 - 228، و"الوافي بالوفيات": 10/ 304 - 307، و"شذرات الذهب": 5/ 126 - 127. (¬3) في (ح): ثارت الأحقاد، فأخرجوه، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

[(¬1) ذكر وفاته: ذكر لي جماعة أنه] سُرِقَتْ له حياصة، لها قيمة، ودواة تساوي مئتي دينار، فاتَّهم بها بعضَ مماليكه، فظهرت عليه وخبَّأها عند بعضِ المماليك، فأخذ [المملوك] (2) السَّارق، وحبسه في خزانةٍ في دار فَرُّخْشاه، وكانت الخزانة خلف الأمجد، وتهدَّد المملوك بقَطْع اليد والصَّلْب، فلما كانت ليلة الأربعاء ثاني عشر شَوَّال جلس على عادته بين يدي الخزانة التي فيها المملوك على الحال التي يجلس أمثاله عليها، وعنده عبَّاس ابن أخي الشَّريف البهاء الكاتب، وابن فهيد اليهودي المنجم، وبيده الإسطرلاب ليأخذ له الطَّالع، وكان يلعب مع عَبَّاس بما جرت عادتهم بلعبه، فقال له ابن فهيد: يا مولانا انظر إليَّ، فهذه ساعةٌ سعيدة، لو أردتَ أَخْذَ دمشق لأخذتَها، فقال له: لا تكلِّمْني، فقد تعين لي الغلب. وكان مع المملوك [الذي في الخزانة] (2) سكِّينٌ صغيرة، فعالج زردة باب الخزانة قليلًا قليلًا، فقلعها، وهجم، فأخذ سبف الأمجد، وجذبه، وضربه [به] (¬2)، فصاح: لا والكْ يا مأبون. والمملوك يضربه، فَحَلَّ كتفه، ونَزَلَ السَّيف إلى بزِّه، ثم ضربه ضربة أُخرى، فقطع يده، وطعنه في خاصرته، وانهزم، فصَعِدَ إلى السَّطْح، فصَعِدُوا خلفه، فألقى نفسه إلى الدَّار، فماتَ، وقطَّعه الغِلْمان قِطَعًا، وغُيِّل الأمجد، وكُفِّن، وحُمل إلى تُرْبة أبيه التي على شرف الميدان الشّمالي، فدفن بها. وكان فاضلًا، شاعرًا، فصيحًا، كاتبًا، وله ديوان كبير (¬3) وكان جَوَادًا ممدَّحًا؛ مدحه خَلْقٌ كثير، وأجازهم الجوائز السَّنية، [وقد ذكرنا مدح النقاش الحلبي له، وكان صديقي، كنت إذا صعدت جبل لبنان للزيارة أجتاز ببعلبك، فيخدمني، ويحسن إليَّ، واجتمعت به عند الشيخ عبد الله اليونيني، وأنشد] (2) من شعره: كم يذهبُ هذا العُمْرُ في الخُسْرانِ ... ما أغفلني فيه وما أنساني ضيَّعْتُ زماني كلَّه في لَعِبٍ ... يا عُمُر فهل بعدك عمرٌ ثانِ ¬

_ (¬1) في (ح): "وجاء إلى دمشق، وسرقت له حياصة ... "، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) طبع في بغداد بتحقيق ناظم رشيد، ثم أعيد طبعه في مصر سنة 1991 م، بتحقيق د. غريب محمد علي أحمد.

خوارزم شاه جلال الدين

وقال: يا ليتهم عادوا إلى الأوطان ... كي تجتمع الأرواح بالأبدان كم رام لي العذول عنهم بدلًا ... هذا غلط عمري قصير فاني ورآه بعضُ أصحابه في المنام، فقال له: ما فَعَلَ الله بك؟ فقال: [من المديد] كنتُ مِنْ ذنبي على وَجَلٍ ... زال عنِّي ذلكَ الوَجَلُ أَمِنَتْ نفسي بوائِقَها ... عِشْتُ لمَّا مِتُّ يا رَجُلُ [وكان الأمجد قد قتل ولدًا له شابًّا مليحًا، وقيل: خنقه، وقيل: بنى عليه بنيانًا، وسنذكره في ترجمة العزيز عثمان بن العادل في سنة ثلاثين وست مئة] (¬1) خوارزم شاه جلال الدين (¬2) واسمه تُكُش، وقيل: محمود بن محمد بن تُكُش، [سمعت الملك المعظم يقول: ليس هو من بني سلجوق، وإنما] (1) هو من نسل طاهر بن الحسين، وجدُّه تكش هو الذي أزال مملكة السَّلْجوقية، وملك محمد أبو جلال الدِّين البلاد، وكان مآله [إلى ما ذكرنا، ] (1) أَنَّه طلع إلى جزيرة، فمات بها، فقطع الخطا رأسه، وتمزَّقت ممالكه، وكان ابنُه جلالُ الدين هذا قد هَرَبَ إلى الهند، وعاد [منها] (1)، فنزل على هَمَذَان، وقَصَدَ بغداد، وجعل طريقه على دقوقا، فقتل أهلها، [وقد ذكرناه] (1)، ثم طلبه عسكره إلى تفليس، فسار على إربل، وعَزَمَ على حصارها، فصانعه ابنُ زين الدين، وعاهده أَنَّه من أصحابه، فجاء إلى بلاد الكُرْج، فاستولى عليها، وراسله المعظَّم باطنًا بالملق الصوفي، وظاهرًا بالركين مملوكه، [وجاء به] (1)، فأنزله على خِلاط، وزوجه ابنته الكبرى، ويقال لها: دار مرشد، وجهَّزها جهازًا لم يجهزه ملك [لابنته] (1)، واتَّفق موت المعظم، وأخذ خوارزم شاه خِلاط، وفعل فيها [ما فعل] (1) وآخر أمره مجيء التتر خلفه، وأَنَّه انهزم إلى بلاد مَيَّافارقين، وتاه في الجبال، فوقع به فلاحٌ من قرية يقال ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) سبقت أخباره مفرّقة على السنين، وقد أفرد النسوي كتابًا في سيرته سمّاه "سيرة السلطان جلال الدين منكبرتي" استوعب فيه أخباره حتى وفاته، وقد طبع بالقاهرة بتحقيق حافظ أحمد حمدي سنة 1953 م، ثمّ نشر في موسكو سنة 1996 م بتحقيق ضياء الدين موسى بونياروف. وانظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء": 22/ 326 - 329.

لها عين دارا، فرآه راكبًا على سرج مرصَّع باليواقيت، وعلى لجام فرسه الجواهر، وسلاحُهُ مجوهر، فقال له: مَنْ أنتَ؟ فقال: خوارزم شاه. وكان عسكره قد قتلوا لهذا الفلاح أخًا، وقيل: إنه شره إلى ما كان معه، فأنزله، وأطعمه، ونام [عنده] (¬1) آمنًا، فضربه بفأس، فقتله، وأخَذَ ما كان معه، وبلغ شهاب الدِّين غازي، فأرسل إلى الفلاح، فأنكر، فقرره فأقَرَّ، وأحضر القوس والسِّلاح وقال: دفنته إلى جانب القرية. وكان طَرْخان خال الخوارزمي قد وصل إلى شهاب الدِّين، فأنزله في قصره، وأمر بحملِ الخوارزمي ليلًا من القرية، وقال لخاله: أبصر، هل هو هذا؟ فلما رآه بكى، وقال: نَعَمْ. فدفنوه ليلًا، وأخفوا قبره مخافة أن يُنبش. [(¬2) وبلغني في مقتل خوارزم شاه وجه آخر]، أَنَّه لما كَبَسَه التتر خرج من الخيمة ليلًا، ومعه جماعةٌ من أصحابه، وقصد مَيَّافارقين، وكان معه جواهرُ نفيسة، فبات بقريةٍ عند أرمن، فقال: أنا خوارزم شاه. وأعطاهم جواهر، وقال: احملوني إلى شهاب الدِّين غازي. فحملوه إلى سفينة، وكان تحته فرسٌ سرجه ولجامه ذهب مجوهر، وأنزلوه في السفينة، وبها رجلٌ كُرْدي كان خوارزم شاه قد قتل أهله، فضربه في صدره بحربة، فأخرجها من ظهره، فقتلوا الكرديَّ، وأخذوا ما كان على خوارزم شاه، وفرسه وحياصته، وكان فيها جوهرٌ عظيم، وألقوه في بئر، وبلغ شهاب الدين، فأرسل إليهم، فأخذهم، وأخذ ما أخذوه، وسألهم عن خوارزم شاه، فأخرجوه من البئر، فقتلهم شهاب الدين، وغَسَّله، وكفنه، ودفنه خارج ميَّافارقين تحت بُرْج الملك في جانب الميدان، وبلغ التتر فقصدوا ميَّافارقين، فعفَّى شهابُ الدين قبره. وقيل: قتل سنة تسعٍ وعشرين [وست مئة] (1)، ثم تفرَّقت عساكره أيدي سبا، [وكم فتك وقتل من المسلمين وسبى] (1)، وزالت أيامه [وبقيت آثامه] (1)، وكان كثيرَ الفساد، أهلك عسكرُه البلادَ والعباد. [وحكى خالي أبو محمد يوسف] (1) محيي الدين بن الجوزي [قال] (1): بعثني الخليفةُ إليه في رسالةٍ، وهو على خِلاط، فدخلتُ عليه، وبين يديه المُصْحف، وهو ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): وقيل، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

المجد البهنسي

يقرأ فيه، ويبكي، فقلتُ: تقرأ في المُصْحف وتبكي، وأنتَ تفعل بالمسلمين ما تفعل، وقد قتلت في دقوقا عشرين ألف مُسْلم، وسَبَيت نساءهم، وفعلت وفعلت! فقال: هذا عسكرٌ عظيم، مسيرة خمسة أيام، ما لي عليهم طاعة ولا حكم، [ولا يلتفتون إليَّ] (¬1)، ومع هذا، فإنَّه كان سدًّا بين المسلمين والتتر، [وسندًا لأهل الإسلام من التجار، كان يدفع التتر عن المسلمين، فلما هلك انفتح السد. ولقد حكى لي] (1) الأمير عماد الدين بن موسك [قال] (1): لما كُسِرَ الخوارزمي دخل العزيز عثمان وغازي وجماعةُ الأعيان، فهنؤوا الأشرف بالكَسْرة، فقال: تهنئوني بهذا! سوف ترون غِبَّ هذا، والله لتكونَنَّ هذه الكسرة سببًا لدخول التتر إلى بلاد الإسلام، ما كان الخوارزمي إلا مثل السَّد الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج. فكان كما قال. وكان الخوارزمي إذا لقي التتر اقتتلوا عشرة أيام بلياليها، يترجَّلون عن خيولهم، ويلتقون بالسيوف، واحدهم يأكل ويبول، وهو يقاتل. وفيها توفي المَجْد البَهْنَسي (¬2) وزير الملك الأشرف. من بيت الفَضْل والعلم، وكان [أبوه فاضلًا، كتب "شرح الحماسة" بخطه في ست مجلدات للتبريزي، والنسخة في وقف خانكاه السُّمَيساطي، ليس في الشَّام أصح منها، وكان] (1) المجد فاضلًا، وَزَرَ للملك الأشرف مُدَّة، لم يقطع رِزْقَ أحد، وكان حسنَ المحضر، عاقلًا، لم يكن فيه ما يعاب إلا استهتاره، والله يعفو عنه، وكان الأشرف قد عزله عن الوزارة، واستأصله، وأخذ جميع ماله. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) هو الحارث بن المهلب بن الحسن المهلبي، له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 282، و "المذيل على الروضتين": 2/ 22، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

المهذب بن الدخوار، الطبيب

[(¬1) ولقد حكى لي المجد] في حران سنة ثلاث عشرة [وست مئة، ] (¬2) قال: رأيتُ بين يدي القاضي علاء الدين الكردي قاضي قضاة الأشرف دواةً كانت لي أخذت مني في المصادرة، قيمتها ألف دِرْهم، وهي مكفتة بالذهب والفضَّة، فقلت له: أنت قاضي المُسْلمين، وتدَّعي الورع، كيف تستحلُّ تكتب في دواة غصب، وهي مكفتة بالذهب؟ ! فقال لي: السُّلْطان أعطاني إياها. فقلتُ: أعطاك مالي. فقال: ما يلزمني البحث عن هذا. وكانت وفاة المجد بدمشق، ودفن بتربته التي أنشأها بقاسيون، ووقف عليها وقفًا، وأوصى بكتبه تكون بها. المهذَّب بنُ الدَّخْوار، الطَّبيب (¬3) كان حاذقًا بعِلْم الطِّبّ، وما كان يرى في الدُّنيا غيره، وتقدَّم على الأطباء بدمشق، ومات بستة أمراض مختلفة، منها ريح اللقوة، ووقف داره وكتبه على الأطباء، ووقف عليها وقفًا، [وكان فاضلًا في علم الطب، وكان عاقلًا، يُقرَأ عليه الطب، وكان له بدمشق دار بظاهرها بستان، فوقف داره على من يقرأ فيها الطب، ووقف البستان عليها، ] (2)، ودفن بقاسيون عند تربة بدر الدين الشحنة، [شرقي قاسيون] (2). العماد المَحَلَّي، الفقيه الشَّافعي (¬4) كان مقيمًا بالمدرسة الأمينية، وقيل: اسمه حسام بن غُزِّي بن يونس، [وإنما اشتهر بالعماد] (2). وكان فاضلًا، حافظًا للحكايات والأشعار والنَّوادر، وكان لا يأكل لأحدٍ شيئًا، وإذا حضر وليمة كان زاده في كُمِّه ولو أنه عند السُّلْطان، وكان على وسطه ألفُ دينار لا تفارقه [أبدًا] (2). ¬

_ (¬1) في (ح): قال المصنف، فحكى لي في حران ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) هو عبد الرَّحيم بن علي بن حامد الدمشقي، له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 21 - 22، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 303، و"المذيل على الروضتين": 2/ 24 - وفيهما وفاته سنة (629 هـ) -وهو الصحيح- وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته.

شمس الدين بن اسفنديار الأمير

[حكى لي] (¬1) قال: دخلتُ ليلةً إلى العادل في قلعة دمشق، فخلع عليَّ خِلْعة بطَيْلَسان، فخرجت في الليل، وإذا بنفَّاط قائم، وبيده مشعل، فلما رأى طيلساني ظنَّ أنني القاضي، فمشى بين يدي بالمشعل، فمشيتُ إلى باب البريد أريد الأمينية، فلما وصلتُ إلى دار سيف أخذتُ الطَّيلسان، فجعلته في كُمِّي، وقصَّرت في المشي، فالتفت النفَّاط، فما رأى الطَّيلسان، فقال: يا سيدي أين مشى القاضي؟ فأشرتُ إلى ناحية مدرسة نور الدين، وقلتُ: داره عند المدرسة. فمضى عني، وخلصت منه [ودخلت الأمينية] (1). وكانت وفاته في ربيع الآخر، ودفن عند مقابر الصوفية. وقيل: مات سنة تسع وعشرين. شمس الدين بن اسفنديار الأمير [كان خازنًا في قاسيون، و] (1) كان كيِّسًا، متواضعًا، حَسَنَ العِشْرة، كريم الأخلاق، مليح الصورة، جَوَادًا، من بيت مشهور، وكانت داره مأوى الفضلاء والعلماء والفقراء والأعيان، ودفن بتربته بقاسيون المجاورة لتربة ابن تميرك. جمال الدَّوْلة بن زويزان (¬2) رئيس قصر حَجَّاج. كان كيِّسًا، متواضعًا، صاحب مروءة وعصبية، وله صدقاتٌ في السِّرِّ، ودُفِنَ بتربته عند مسجد فلوس. السنة التَّاسعة والعشرون وست مئة فيها عاد التتر إلى الجزيرة وحران، ووصلوا إلى جسر بدايا، فقتلوا وأسروا، وسبوا، وخرج إليهم عسكر حَرَّان، فما رجع منهم إلا القليل، وخرج الكامل ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) هو خليل بن إسماعيل بن علي بن علوان بن زويزان، له ترجمة في "تاريخ الإسلام" للذهبي (وفيات سنة 628 هـ).

إسماعيل بن إبراهيم

والأشرف من مِصْر لدفع التتر عن البلاد، وقُتِلَ في هذه النوبة [صديقنا] (¬1) عِزُّ الدِّين بن سَعْد بن كوجيا الحلبي، وكان شابًّا، حسنًا، دَيِّنًا، صالحًا، ورجع التتر إلى خِلاط، وعَبَرَ الكامل والأشرف الفرات، ونزلا على آمد في ذي الحِجَّة. وولى الأشرفُ القاضي عماد الدين عبد الكريم بن الحَرَسْتاني في قضاء القضاة بدمشق، وقرأ عهده بهاء الدين ابن أبي اليُسْر. وفيها فتح الكامل آمد، واستولى على قلاعها وذخائرها، وأخذ صاحبها معه إلى مِصْر، ثم خامر عليه، فاعتقله إلى أن مات الكامل، وقُتِلَ في السنة الآتية. وفيها توفي إسماعيل بن إبراهيم (¬2) الفقيه الحنفي، شرف الدِّين. وهو ابن خالة شمس الدين بن الشِّيرازي، وكانا ينوبان في القضاء عن ابن الزكي، وكان شرف الدين فاضلًا عارفًا [بمذهب أبي حنيفة، قرأت عليه "الجامع الصغير"، وسمع الحديث الكثير، وكان] (1) زاهدًا عابدًا ورعًا، له تصانيف، منها "مقدِّمة في الفرائض" [(¬3) قرأتُها عليه، وكان قد جرت له واقعة مع الملك المعظم، بعث إليه] يقول: أفتِ بإباحة الأنبذة، وما يعمل من الرُّمَّان ونحوه، فقال [شرف الدين] (1): لا أفتح هذا الباب على أبي حنيفة، وأنا على مذهب محمد في تحريمها، وإباحتها عند أبي حنيفة إنما هي رواية "النَّوادر"، وقد صح عن أبي حنيفة أنه ما شَرِبه قَطُّ، وحديث ابن مسعود لا يصح، وكذا ما يروى عن ابن عمر في إباحة شربه لا يثبت عنه. فغضب المعظم، وكان بيده مدرسة طَرْخان، وكان ساكنًا بها، فأخرجه منها، وأعطاها للزين ابن العَتَّال، وكان تلميذَ شرف الدين، [وقد قرأ عليه، وأحسن إليه] (1)، فلم يتأثَّر شرف ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 309، و"المذيل على الروضتين": 2/ 25، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ح): وبعث المعظم إليه، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

الجمال عبد الله بن الحافظ عبد الغني

الدين، وأقام في بيته يتردَّد إليه للقراءة الصَّغيرُ والكبير، ولا يغشى أحدًا من خَلْق الله، مقتنعًا باليسير، وتوفي في جُمادى الأُولى، ودفن بقاسيون، [سمع "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام، وغيره] (¬1). الجمال عبد الله بن الحافظ عبد الغني (¬2) كان فاضلًا كريمًا حسنًا، سمع الحديث الكثير، [وسمع ببغداد "مسند الإمام أحمد بن حنبل" بالحربية في سنة ست وتسعين وخمس مئة بقراءة أخيه عز الدين، وكانت] (1) أحواله حسنة حتى خالط الصَّالح إسماعيل وأبناء الدُّنْيا، فتغيَّرت أحواله، وآل أمره إلى أَنْ مَرِضَ في بُسْتان ابنِ شُكْر على ثورا، وكان للصَّالح إسماعيل، ومات فيه، فكفَّنه الصَّالح، وصلَّى عليه، ودُفِنَ بقاسيون [عند أهله] (1)، وقيل: توفي سنة ثمانٍ وعشرين [وست مئة] (1). محمد بن عبد الوهَّاب بن عبد الله (¬3) الفخر، أبو بكر بن الشِّيرجي، الأنصاري. ولد سنة تسعٍ وأربعين وخمس مئة، وسمع الحديث، وشهد عند القضاة، وكان متعلِّقًا بستِّ الشَّام بنت أيوب، يتولى أمر ديوانها، وفوَّضت إليه السِّتُ أمرَ أوقافها، وكان ثِقَةً أمينًا، كَيِّسًا، متواضعًا، [وقد سمع الحديث من شيخنا تاج الدين، والحافظ ابن عساكر، وغيرهما، وكانت وفاته] (1) يوم السبت عاشر ذي الحِجَّة، ودُفِنَ بالباب الصَّغير. وولده شرف الدين وَزَرَ للنَّاصر داود مُدَّةً يسيرة، وعاد إلى دمشق، وتوفي فجأة في شعبان بقاسيون في سنة خمسٍ وثلاثين وست مئة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 319، و"المذيل على الروضتين": 2/ 26، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 273، و"تاريخ الإسلام": للذهبي (وفيات سنة 627 هـ)، و"العبر": 5/ 109، و "النجوم الزاهرة": 6/ 275، و"شذرات الذهب": 5/ 125 - 126، ووفاته عندهم سنة (627 هـ)، وتابع ابنُ كثير في "البداية والنهاية": سبط ابن الجوزي فذكره في وفيات سنة (629 هـ).

السنة الثلاثون والست مئة

السنة الثَّلاثون والست مئة فيها فتح الكامل آمد، وكان قد ضربها بالمجانيق، وأنذر صاحبها [الملك] (¬1) المسعود مودود بن الصالح، وأعطاه إقطاعات كثيرة، فلم يلتفت، فلما رأى الغَلَبة خرج إلى الكامل، وفي رقبته منديلٌ، فوكل عليه، ودخل البلد، وتسلَّمه، واستولى على أمواله وذخائره، وطلب منه تسليم القِلاع، فَسَلَّم الجميع، وبقي حِصْن كيفا عاصيًا، فبعث الكاملُ الأشرفَ وشهابَ الدِّين غازي، ومعهما صاحبُ آمد تحت الحوطة، فلم يُسَلِّموا، فعذَّبه الأشرفُ عذابًا عظيمًا، وكان يبغضه. قال [لي] (1) الأشرف: وجدنا في قصره خمس مئة حُرَّة من بنات النَّاس للفراش. ثم سُلِّمت القلعة في صفر. وعاد الأشرفُ إلى دمشق، وسمع "البخاري" على الحسين بن المبارك بن الزَّبيدي، وتوفِّيت للأشرف ابنة، فدفنها في بُسْتان العلاء بن القلانسي بقاسيون عند دير الحنابلة ظَنًّا منه أن ابن القلانسي لا يتوقف في مثل هذا، [ولو دفنها في داره] (1) لأَنَّ الأشرف كان مُحسنًا إليه، فَشَقَّ على العلاء، وقال: هذا المكان وقفٌ. وشنَّع، وبلغ الأشرف، فاشترى تُرْبة الشَّرف يعقوب، ونقلها إليها، واشترى لها ملكًا، ووقفه عليها، وسأله المقادسة أن يكون وقفًا عليهم دون غيرهم، فأجابهم، [ثم اجتمعنا عنده بعد ذلك في النَّيرب، فقال] (1) له بعضُ أصحابه: قد خصصتَ بهذه الدار المقادسة، ولهم الضِّياع والأوقاف، فالغريب إذا وَرَدَ أين ينزل؟ قال المصنِّف رحمه الله: وكنتُ عنده بالنَّيرب، فالتفتَ إليَّ، وقال: قال هذا الصحيح، فهل يمكن أن يضاف إلى الوقف ما قال في حَقِّ الغرباء؟ فقلتُ: بعد أن حكم الحاكم لا يجوز تغييره بإجماع الفقهاء، أما قبل حكم الحاكم ففيه خلاف. وكان الكامل بدمشق، فأمر باستئصال ابنِ القلانسي وهلاكه، فقال الأشرف: لا حاجة إلى هذا، بلى لا يدخل عليَّ بعدها. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

عبد الله بن علي

وفيها فُتحت دارُ الحديث الأشرفية المجاورة لقلعة دمشق ليلة النِّصف من شعبان، وأملى بها ابنُ الصَّلاح الحديث، ووقف عليها الأشرف الأوقاف، وبها نعل النَّبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيها نزل ناصر الدين صاحب مارِدِين من قلعته، وجاءته عساكر الرُّوم، فحصروا حرَّان والرُّها والرَّقَّة، واستولوا على الجزيرة، وفعل الرُّوم في الجزيرة ما لا يفعله التتر، وكان القاضي علاء الدين الكردي في المستخدم يتوضأ، فجاءه حجر المنجنيق، فقتله، وكان بالرها. وفيها توفي عبد الله بن علي (¬1) صفي الدِّين، ابن شُكْر، وزير العادل. وأصله من الدَّمِيرة، قرية من أعمال مِصْر، كان وزيرًا، مهيبًا، عالمًا، فاضلًا، له معرفة بقوانين الوزارة، وعلى دولة العادل به جلالة، وعنايته مصروفة إلى العلماء والفقهاء والفضلاء والأدباء، والمدارس في أيامه عامرة، وآلاؤه عليها ظاهرة، والعِلْم نافق السُّوق، ومتجر الاشتغال يانع الأسوق، وأحواله جارية على النِّظام. ثم انقضتْ تلك السنون وأهلها (¬2) وكان مالكيَّ المذهب، محبًّا لمن في العلم يرغب، وصنَّف كتابًا سماه "البصائر" بَرَّز فيه على الأوائل والأواخر، ومن جُمْلة ما ذكر فيه من فضائل دمشق: قال الصَّادق الذي استحال القول بمَيْنه: "قد وكل الله تعالى بكلِّ بلد ملكًا يحفظه إلا دمشق، فإنَّه يحرسها بعينه" (¬3). ¬

_ (¬1) وهم سبط ابن الجوزي في ذكره في وفيات هذه السنة، وتابعه على ذلك ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة": 6/ 280، والصحيح في وفاته أنها سنة (622 هـ)، وقد ترجم له فيها أبو شامة في "المذيل على الروضتين": 1/ 311، 385 - 384، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) هذا صدر بيت، عجزه: فكأنها وكأنهم أحلامُ، وهو لأبي تمام في "ديوانه": 3/ 152. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ في دواوين السنة، والله أعلم.

الملك العزيز عثمان بن العادل

وكان العادل قد انحرف عنه في آخر عمره، ونفاه إلى آمد، فأقام بها حتى توفي العادل، فأرسل الكامل وراءه، فجاء إلى دمشق، ولم يدخلها (¬1)، ونزل في بيت رانس عند المؤيَّد العقرباني، [وكان في أيام العادل يسير إليه ويجتمع عنده في درب الشَّعارين، ] (¬2) وكان قد قَلَّ نظره، ثم سار إلى مِصْر، ففوَّض إليه الكامل الأمور على عادته في أيام وزارته، فتوفي وهو على حُرْمته، وله بالقاهرة مدرسةٌ مشهورة. الملك العزيز عثمان بن العادل (¬3) شقيق المعظم [لأبيه وأمه] (2). كان صاحب بانياس وتبنين وهُونين، والحصون، وهو الذي بنى الصُّبيبة، وكان عاقلًا، قليل الكلام، مطيعًا لأخيه المعظم، وكان بعد موت المعظم قد عامل على قلعة بعلبك في سنة خمس وعشرين [وست مئة] (2) وكتب إليه ولدُ الأمجد يقول: قد نشرتُ باب السِّرِّ، فَسِرْ إلينا وقت السَّحَر. وكان بالصُّبيبة، فساق منها أول الليل، والمسافة بعيدة، فجاءهم وقد طلعت الشمس، ففات الغرض، ونزل مقابل بَعْلَبَك، فبعث الأمجد إلى النَّاصر داود، يقول: قد عرفتَ ما كان بيني وبين المعظم، وكنتُ صديقَ مَنْ صادقه، وعدوَّ من عاداه، وأريد ترحِّل العزيز عني. فأنفذ النَّاصر الغرز خليل إلى العزيز يقول له: ارحل، وقال للغرز: إنْ لم يرحل، فارمِ الخيمة عليه. وعَلِمَ العزيزُ، فرحل إلى بانياس، وما عاد إلى دمشق إلا مع الكامل، فإنه [سار إليه، و] (2) التقاه من القُدْس، وقال: أنا آخذ لك دمشق. فأعطاه مالًا، وأحسنَ إليه، وكان العزيز أحدَ الأسباب الموجبة لأخذ دمشق [من النَّاصر] (2)، وكذا الصَّالح إسماعيل، وأيدمر. وأما صاحب بَعْلَبَك فعلم بما فعل ولده، ووقف على نَشْر الباب، فقال: إنَّه قتل ولده، وقيل: بنى عليه بُنْيانًا. وكانت وفاة العزيز يوم الاثنين عاشر رمضان ببُسْتانه بالنَّاعمة ببيت لهيا، وحمل تابوته، فدفن بقاسيون في تُرْبة المعظَّم [عند والدته وأهله] (2). ¬

_ (¬1) كان ذلك سنة (615 هـ)، انظر حوادث هذه السنة في هذا الكتاب. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 349، و"المذيل على الروضتين": 2/ 27، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

أبو القاسم علي

(¬1) [وفيها توفي أبو القاسم علي (¬2) ابن جدي أبي الفرج، وهو خالي. ولد سنة إحدى وخمسين وخمس مئة، وسمع الحديث، وكتب الكثير من مصنفات جدي، وهو الذي أظهرها وباعها بثمن بخس، وكان جدي قد سخط عليه بهذا السبب، ومات وهو على ذلك، وكان] فقيرًا ليس له إلا ما ينسخ، ويتقوَّت منه، ومع هذا فإنَّ الخليفة كان يعرض عليه المال ولا يقبل منه شيئًا، [ويحكي عنه واقعات سمعها منه الناس وليس لها حقيقة، منها أنه بعث بعض الخلفاء إلى جدي مئة دينار، وأبو القاسم قاعد على الباب، فقال: دخولك اليوم خروجك متى؟ وبلغ جدي، فدعا بالتاجر والخباز والقصاب، وفرقها فيهم، وقال: قولوا لأبي القاسم: اليوم يوم سِباء، لا خِدْر ولا خِباء. وكانت وفاته في صفر، وتولى خالي أبو محمد تجهيزه وتكفينه، ودفن عند جدي بمقابر أحمد. سمع ابن البطي، ويحيى بن ثابت بن بُنْدار، وأبا زرعة طاهر بن محمد المقدسي، وغيرهم، ومعظم شيوخ أبيه، وسمعنا منه] (¬3). عمر بن [حمد بن] عبد الله (¬4) أبو حَفْص، شهاب الدين، السُّهْرَوَرْدي، وهو ابنُ أخي أبي النَّجيب. وقد ذكرنا نسبه إلى أبي بكر - رضي الله عنه - في ترجمة أبي النَّجيب. ¬

_ (¬1) في (ح): علي بن أبي الفرج أبي القاسم بن الجوزي، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 350 - 351، و"المختصر المحتاج إليه": 3/ 127 - 128، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 352 - 353، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ح): ولا يقبل منه شيئًا، وكانت وفاته في صفر، ودُفن في مقابر الإمام أحمد بن حنبل، - رضي الله عنه -، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 380 - 381، و"المذيل على الروضتين": 2/ 33، وفيهما توفي سنة (632 هـ)، -وهو الصحيح في تاريخ وفاته- وفي "المذيل" تتمة مصادر ترجمته، وما بين حاصرتين من (ش).

ولد بسُهْرَوَرْد في رجب سنة تسع وثلاثين وخمس مئة، ونشأ بين الفقراء على التجريد والرِّياضات والمجاهدات. قال المصنف رحمه الله: ورأيته في سنة تسعين وخمس مئة يعظ برباط دَرْب المَقْبُرة، ومنبره طين، وعلى رأسه مئزر صوف، ثم تقلَّبت به الأحوال حتى أرسله الخليفةُ مرارًا إلى العادل وغيره، وقد أعرض عنه، و [قد ذكرنا أنه] (¬1) أخذ ما كان بيده من الرُّبُط، ومنعه الجلوس، وأقام مدَّة، ثم رضي عنه، وَرَدَّ إليه ربطه، وجلس في رباط عَمِّه أبي النَّجيب، وعاش حتى ضعف بصره، وقيل: ذهب [بمرَّة] (1)، فتوفي، ودفن في رباطه عند باب سور بغداد عن نيف وتسعين سنة، [سمع عمه أبا النجيب وابن البطي، ومن يحيى بن ثابت بن بُنْدار، وغيرهم] (1). وكان صالحًا، عابدًا، زاهدًا، ورعًا، جَوَادًا، سَمْحًا، ملجأ للمكروبين، وحِصْنًا للملهوفين، أقام بالشَّام مُدَّة، فكم أغاث من ملهوف، وكم فرَّج عن مكروب، وكان له قَبُولٌ حسن، وانتفع به خَلْقٌ كثير، وصنَّف كتابًا للصُّوفية، سماه "عوارف المعارف" [ذكر فيه من علومهم التَّالد والطَّارف] (1)، جلس يومًا ببغداد، فذكر أحوال القوم، وأنشد: [من البسيط] ما في الصِّحابِ أخو وَجْدٍ نطارِحُهُ ... حديثَ نَجْدٍ ولا صبٌّ نجاريه وجعل يردِّدُ البيتَ ويطرب، فصاح شابٌّ من أطراف المجلس، وعليه قَبَاء وكلوتة، وقال: يا شيخ، إلى كم تشطح، وتنتقص بالقوم؟ ! والله إنَّ فيهم من لا يرضى أن يجاريك، ولا يصل فَهْمُك إلى ما يقول، هلا أنشدتَ: [من البسيط] ما في الصِّحابِ وقد سارتْ حُمولُهُمُ ... إلا محبٌّ له في الرَّكْبِ محبوبُ كأنَّما يوسفٌ في كلِّ راحلةٍ ... والحيُّ في كلِّ بيتٍ منه يعقوبُ فصاح الشيخ، ونزل من المنبر، وقَصَدَ الشَّابَّ ليعتذر إليه، فلم يجده، ووجد موضعه حُفْرةً فيها دم، مما فحص برِجْليه عند إنشاد الشَّيخ البيت. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

كوكبري بن علي بن بكتكين

كُوكُبُري بن عليّ بن بُكْتِكِين (¬1) مُظَفَّر الدِّين بن زين الدين، صاحب إرْبِل. وقد ذكرنا مواقفه مع صلاح الدين، [وأنه خدم صلاح الدين] (2)، وزوَّجه صلاح الدين أُخته، وملَّكه الشَّرْق، وأَنَّ أخاه زين الدِّين مات بالنَّاصرة، وطلب إربل عِوَض حَرَّان، وأعطاه إياها، وبعد موتِ صلاح الدِّين ما زال منتميًا إلى بيت العادل، مصافيًا لهم، حتى مال الأشرف إلى بدر الدين لؤلؤ، وعَزَمَ على أَخْذِ إربل منه، واستنجد عليه بالخليفة المستنصر، فنهاه عنه، فانتمى إليه، وقَدِمَ بغداد، ومعه مفاتيحُ إربل والقلاع، فالتقاه الموكب، وجلس له المستنصر جلوسًا عامًا في صحن السَّلام، وقعد في شُبَّاك المبايعة، وحضر أربابُ الدَّولة، وصَعِدَ على الدَّرْج، وبايع الخليفة، وطلب منه يده ليقبِّلَها، فناوله إياها، فجعل يقبِّلُها ويبكي، ويقول: الحمد لله، هذا مقامٌ ما وصل إليه غيري. وخاطبه الخليفة بأجمل خطابٍ، وقدَّم للخليفة الخيل والتُّحَف والهدايا، وأعطاه الخليفة أضعافَ ذلك، وخلع عليه خِلَع السَّلْطنة، وعاد إلى إرْبل، وقطع خُطْبة بني العادل، واقتصر على خُطْبة الخليفة. وكان كثيرَ الصَّدقات، غزير البِرِّ والصِّلات، [حكى جماعة عنه أنه كان يقول: ] (2) لما أخذتُ إربل آليتُ على نفسي أَنْ أقسم مغلّها ثلاثةَ أقسام: قسم أُنفقه في أبواب البر، وقسم للجُنْد وما يخصُّني، وقسم أَدَّخره لعدوٍّ يقصدني، وكان يعمل في كلِّ سنة مولد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول، يجتمع فيه أهلُ الدُّنيا، ومن وراء جيحون العلماء والفقهاء والوُّعَّاظ والقُرَّاء والصُّوفية والفقراء، ومن كل صِنْف، وتضرب الخيام في المَيدان، وينزل من القلعة بنفسه، فيقرأ القُرَّاء، ويعظ الوعَّاظ، ويمدُّ سِماطًا أوله عنده وآخره في القلعة، ويحضر الخلائق، فلا يبقى إلا مَنْ يأكل ويحمل، [وحكى لي] (¬2) ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 354، و"وفيات الأعيان": 4/ 113 - 121، و "سير أعلام النبلاء": 22/ 334 - 337، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

مَنْ حَضَرَ بعض السِّنين: عددتُ على السِّماط مئة فرس قشلمش وخمسة آلاف رأس شواء وعشرة آلاف دجاجة، ومئة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلو، ثم يخلع فيه على الأعيان، وتفرق فيهم الأموال على أقدارهم، [ولا يحضر] (¬1) هذا السِّماط أحدٌ من عسكره، إلا أرباب الحرف، ثم يقوم من الميدان، فيدخل الخانقاه وقد اجتمع فيها من الصوفية ما بين ثمان مئة إلى ألف، فيأخذون في السَّماع من الظهر إلى الفجر وهو يرقص بينهم، فإذا كان من الغد بعث إليهم من يكتب أسماءهم، وكل شيخ ومعه جماعة، فيعطي المشايخ على قدر طبقاتهم من المئة دينار إلى الخمسين والثلاثين، ولأتباعهم على حدة، ومن شاء أن يسافر، ومن شاء أن يقيم أيامًا، وكان قد بنى دارًا للمضيف [يدخلها] (1) جميعُ الأجناس، لا يمنع منها أحد، ويعطي كل واحد على قدر حاله دائمًا، وبنى حيزًا عظيمًا، وقسمه أربعة أقسام: مكان للزمنى، ومكان للعميان، ومكان لليتامى، ومكان للمساكين، وأجرى عليهم الجرايات والجوامك والكساوي، وكان يركب كلَّ يوم بكرة، فيدخل إليهم، ويقعد اليتيمة والمسكينة على مخدَّة ويهبها، ويقول: أيش تريدين تأكلين؟ أيش تريدين تلبسين؟ فمهما طلبت أحضره، فإذا كبرت اليتيمة زوَّجها، وأقام لكل واحد من الزمنى من يخدمه، وكان في كلِّ سنة يبعث بالأموال والجواهر إلى الشام مع ديوان، فيشتري بها الأسارى من بلد الفرنج، ويعودون إلى إربل، فيقيمون في قرية على باب إربل [يقال لها بيت النار، فلا يدخلون إربل] (1) حتى يجهِّز غيرهم ليلًا، فيقطع عمله، وإذا خلص الأسير أعطوه كسوةً ونفقة توصله إلى أهله، فكان يخلص في كل سنة خلقًا كثيرًا، فلما توفي أُحصي ما خَلَّص من الأسارى فكانوا ستين ألف أسير ما بين رجل وامرأة، وكان يبعث في كلِّ سنة بمالٍ يفرق في الحرمين، وعشرة آلاف دينار تنفق في السبيل، وألف دينار برسم جر الماء إلى البرك التي بعرفات. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

وقالت زوجته ربيعة خاتون: كان ثوبه يساوي خمسة دراهم من خام، فقلت له: لو لبست ألين مِنْ هذا، فإن بدنك ما يحتمل الخشن. فقال: أيما أصلح وأكثر أجرًا أنني ألبس ثوبًا بعشرة دراهم أو ألبس ثوبًا بخمسة دراهم، وأتصدق بخمسة على فقير أو مسكين. وكانت أمواله قد استنفدتها الصدقات، فكان يرسل الجواهر فيبيعها بدمشق ويشتري الأسارى، وحُكي لي بإربل أنه ينفق على المولد في كلِّ سنة ثلاث مئة ألف دينار، وعلى الخانكات مئتي ألف، وعلى دار المضيف مئة ألف، وعلى الأسارى مئتي ألف دينار، وفي الحرمين وعرفات والسَّبيل ثلاثين ألف دينار، غير صدقة السِّرِّ. [قلت: (¬1)] ومع هذه المناقب فما سَلِمَ من ألسنة الناس. [(¬2) ويقولون: هذا يصادر ديوانه ودواوينه وكتابه، ويستأصلهم، ولعله اطلع منهم على خيانات، فرأى أخذ الأموال وإنفاقها في أبواب البر والقربات أولى، وذكروا أشياء أُخر، ومن ذا من ألسنة الناس يسلم، اللهم غفرًا]. وكانت وفاته في رمضان بقلعة إربل، وأوصى أن يحمل إلى مكة، فيدفن في حرم الله تعالى، وقال: أستجير به، فحمل في تابوته إلى الكوفة، ولم يتفق رواح الحاج في هذه السنة إلى مكة، فدفن عند أمير المؤمنين علي عليه السَّلام. وكان أيوب بن الكامل في آمد، وإسماعيل بن العادل في سنجار، فسار كلُّ واحدٍ منهما إلى إربل ليأخذها لنفسه، [وجرى ما لا يليق بين الاثنين (1)]، فسبقهما عسكر الخليفة، فتسلمها، ورجعا بخفي حنين، وكانت قد عصت، وبالقلعة خادمان، ففتحت عَنْوةً، وجرى بها ما لا يجوز من النَّهْب والقَتْل، [والذل والهوان] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): كانوا ينبزونه بأشياء منها أنه كان يصادر دواوينه وكتابه، ويستأصلهم، وذكروا أشياء أخر، والله أعلم .. ، وما بين حاصرتين من (ش).

ابن العالمة الشاعر

[وفيها توفي ابن العالمة الشاعر وهو القائل: [من الرمل] قلتمُ استَبْدَلَ منَّا ونقضْ ... هل لظمآنٍ من الماء عوضْ شفَّني من بَعْدكم بُعْدكُمُ ... فمتى يُشفى بكم هذا المرضْ ساءني الجرحُ الذي خلَّفتُمُ ... كلما مُرْهِمَ بالذكر انتقضْ وقيل: إنها لغيره، وقيل إنه مات في سنة ثلاث وعشرين وست مئة] (¬1). السنة الحادية والثَّلاثون وست مئة فيها اجتمع الكاملُ وإخوته، وأسدُ الدين صاحب حِمْص، والعساكر المِصْريةُ والشَّامية، وساروا ليدخلوا بلاد الرُّوم من عند النهر الأزرق، فوجدوا العساكر الرُّومية قد حفظوا الدَّرْبَنْد، ووقفوا على رؤوس الجبال، وسدُّوا الطُّرق بالحجارة والأخشاب، فامتنعت العساكر من الدُّخول. وكان الأشرف ضيِّقَ الصَّدْر من ناحية الكامل، لأنه طلب منه الرَّقَّة برسم عليق دوابه إذا عَبَرَ الفرات، فامتنع، وقال: ما يكفيه كرسي بني أمية. واجتمع أسدُ الدين صاحب حِمْص بالأشرف، وقال: إن حكمَ على الرُّوم أَخَذَ جميع ما بأيدينا. فوقَعَ التَّقاعد، فلما رأى الكامل ذلك عَبَرَ الفرات، ونزل السُّوَيداء، وجاءه صاحب خَرْتَبَرْت، وهو من بني أَرْتُق، فقال: عندنا طريق سهلة تدخل منها. فجهَّز الكامل بين يديه ولده الصَّالح [أيوب] (1) والنَّاصر داود، وصواب الخادم، فما راعهم إلا علاء الدِّين بعساكر الرُّوم، وكان الناصر قد تأَخَّر، وتقدَّم صواب في خمسة آلاف فارس، وقاتل صواب ومن معه، والمُظَفَّر صاحب حماة، [فأسر صواب] (1) وقتل منهم جماعة، وانهزم الباقون، وعاد الكامل إلى آمد، ولم يتقدَّم، فأطلق الرُّومي صوابًا والأمراء، وأحسن إليهم، فجاؤوا إلى آمد، وأعطى الكامل ولده الصَّالح أيوب حِصْن كيفا، وأقام صواب بآمد، وعاد الكامل إلى الشَّام بالعساكر. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

أتابك شهاب الدين طغريل

وفيها عمر الأشرف مسجد جراح بظاهر باب الصَّغير. وقدم رسول الإنبرور معه هدايا، فيها دبّ أبيض، وشعره مثل شعر السَّبُع، ينزل البحر، فيصعد السَّمك، ثم يأكله، ومعه طاووس أبيض. وفيها توفي أتابك شهاب الدين طُغْريل (¬1) عتيق الملك الظَّاهر، صاحب حلب. كان صالحًا، عفيفًا، زاهدًا، عابدًا، [صحبني مدة، وأنزلني الخانكاة التي بناها بظاهر حلب على باب الأربعين عند القناة، وكان يبيت دائمًا عندي أول قدومي الشام من سنة ست مئة إلى سنة ست وست مئة، وكان] (¬2) كثيرَ الصَّدقات والإحسان، يقسم الليل أثلاثًا: [الثلث] (2) الأول يجري فيه حديث الصَّالحين، وأحوال النَّاس ومحاسنهم، وينام الثُّلُث الأوسط، ويحيي الثُّلُث الأخير قراءةً وصلاةً وبكاء، وكان واسطة خير عند الظَّاهر، ويحبُّ الصَّالحين ويزورهم، ولما توفي الظَّاهر قام بأمر العزيز ولده أحسن قيام، واستمال الأشرف، فحفظ عليه البلاد، ودفع عنهم الأعادي [والحساد] (2)، ولما استعاد الأشرف تل باشر دفعها إليه، وقال: تكون هذه برسم صدقاتك، وما يمونك من المغارم، فإنَّك تكره أن تتصرف في أموال الصَّغير، فنقل إليها من الأموال والذخائر كل نفيس، وكان قد طَهَّرَ حلب من الفجور والفِسْق والخمور والمكوس، وكان الأشرف يقول [لي] (2): إن كان لله في الأرض وليٌّ فهو هذا الخادم الذي فعل ما عَجَزَ عنه الفحول. فلما ترعرع الملك العزيز [بن الظَّاهر] (2) في سنة تسعٍ وعشرين [وست مئة] (2) تحدَّث عليه أقوام قصدوا أذى أتابك، وقالوا: قد رضيتَ لنفسك أَنْ تكون تحت حَجْر ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 355، و"فيات الأعيان": 7/ 100، و"تاريخ الإسلام" للذهبي: (وفيات سنة 631 هـ)، و"العبر": 5/ 125، و"الوافي بالوفيات": 16/ 457 - 458، و"النجوم الزاهرة": 6/ 686، و"شذرات الذهب": 5/ 145. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

الشيخ طي المصري

هذا الخادم؟ فأخذ منه تل باشر، [وأزال الحجر، والتحق بالأكابر] (¬1)، وأقام أتابك لا ينفذ له أمر، فمرض، وتوفي في هذه السنة، ودفن بباب الأربعين على الجادَّة. الشيخ طي المِصْري (¬2) مريد محمد الفراء، وأبي الفَتْح الواسطي. قدم الشَّام، وأقام مُدَّة بزاويته منقطعًا إلى العبادة، وخدمة الفقراء، وكان يغشاه الأكابر، [ولازم مجلسي مدة إقامته بالشام إلى أن توفي، ودفن بزاويته بدمشق، وكان عابدًا زاهدًا كيسًا ظريفًا، ذا مروءة، وانتفع بصحبته جماعة، وكانت مجالسي تطيب بحضوره، وكانت عنده أيام سروره] (¬3). الشَّيخ عبد الله الأرمني العابد (¬4) الورع، المجاهد، [وما كان أرمنيًّا، بل روميًّا كما أذكر، ] (1) سافر إلى الأقطار، ولقي الأبدال [والأبرار] (1)، وكان له مجاهدات ورياضات، وعبادات وسياحات، جوادًا [سمحًا] (1)، لطيفًا، طارحًا للتكلف، ملازمًا للتعفف، [موصوفًا بالتلطف. ذِكْرُ نبذة من كراماته وأخلاقه وصفاته وبداياته وسياحاته] (1): كان في بدايته لا يأوي إلا إلى البراري والقِفار، ويتناول من المباحات [من مباح السمك والثمار] (1)، منفردًا عن الخلائق، [قاطعًا لجميع العلائق] (1) قرأ القرآن، والقدوري، وتفقَّه على مذهب أبي حنيفة، وصحب رجلًا من الأولياء، فدَلَّه على الطريق، [وكانت سبقت له سوابق الحسنى بالتوفيق] (1) ولقي في سياحاته الأبدال، و [شاهد] (1) الأقطاب [والرجال] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "تاريخ الإسلام": (وفيات سنة 631 هـ)، و"الوافي بالوفيات": 16/ 506 - 507، و "النجوم الزاهرة": 6/ 285. (¬3) في (ح): وانتفع بصحبته جماعة، وكان زاهدًا عابدًا كيسًا لطيفًا ذا مروءة، ودفن بزاويته بدمشق، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬4) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 373، و "المذيل على الروضتين": 2/ 31، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

وكان يحكي عن نفسه الحكايات [ويخبر بالواقعات] (¬1)، فمن ذلك قال: دخلت على الشيخ محمد بن قائد بأَوَانا، وبت تلك الليلة في رباطه، فعدا عليه اثنان من الحشيشة، [فقتلاه]، (1)، فأُخذا، وعُذِّبا بأنواع العذاب، وعُذِّبْتُ معهما، وقيل لهما: ما الذي جرأكما على قَتْل هذا العابد أو العَبْد الصَّالح؟ قالا: بلغ كبيرُنا عنه شيءٌ أوجب قتله، فقتلناه. قالوا: وهذا الفقير؟ فقالوا: والله ما نعرفه، ولا هو منا، نحن لنا ها هنا مُدَّة، وهذا البارحة وصل، فسألوني، فقلتُ: والله ما أنا منهم، إنما قصدتُ زيارة هذا الشيخ [وطلب بركته] (1)، فاتفق ما جرى، ورفع أمري إلى أمير المؤمنين النَّاصر، فأحضروني إلى حضرته، والوزير جالس، وبيننا وبين الخليفة سِتْرٌ، فسألني الوزير، وقال: أيش كان بينكم وبين هذا الرجل؟ فقلتُ: والله ما أنا منهم، وإنما أنا فقير، قصدتُ زيارة هذا الشيخ وأمثاله أطلب بركته، فكان ما ترى، والخليفة يسمع كلامي، فقال الوزير: فقد قلتَ: إنَّك فقير، فمن يعرفك من الفقراء المقيمين في البلد؟ فقلتُ: ما يعرفني إلا من هو خَلْف هذه السِّتارة. فأغلظ لي الوزير، فخرج إذْنُ الخليفة بأن أُبَيِّن ما قلتُ. فقلتُ: أنا ابنُ الدَّاية؛ خادمة المرحومة سلجوق خاتون، وكنتُ أتردَّد إلى خِدْمة مولانا أمير المؤمنين فيما يعرض لها من الحوائج. فأمر الخليفة بإخلاء المجلس، وخرج من داخل السِّتارة، وهو يمسحُ عينيه من البكاء لما ذكرتها، فلما رآني قال: لا إله إلا الله، وأنتَ في الدُّنيا، وانقطعت أخبارك عنا! وشرع يحدِّث حديثها، ثم قال: تكون في خدمة ضريحها، وتتولى ما أوقفنا عليها من الأوقاف. فقلتُ: يا مولانا، أنا رجلٌ قد خرجت من هذه الدنيا، ولزمتُ طريق الفقر، وما أقدر على الدخول في شيء من الدُّنيا. فعرض عليَّ شيئًا من المال، وقال: أَصْلِحْ به حالك وحال مَنْ معك، ومن يصحبك. فقلتُ: متى أخذت منه شيئًا فَسَدَ حالي، وتغيَّرت طريقي، وقَصْدي تخلية سبيلي. فسألني عمن لقيتُ من المشايخ، فأخبرته، وخرجت معزَّزًا مكرمًا، [وذكر كلامًا طويلًا] (1). [قلت: الإخلاطية توفيت في سنة أربع وثمانين وخمس مئة في السنة التي قتل فيها ابن قائد، وقد ذكرناها هناك] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش)، وانظر ج 21/ 367 من هذا الكتاب.

وحكى أنَّ فقيرًا خرج من سياحته طالبًا للعمران، فاجتاز ببلدة، وغلبته نفسه على العبور، [فآلى على نفسه أن لا يذوق فيها طعامًا، ودخلها، ] (¬1) فاجتاز برجلٍ غَسَّالٍ، يغسل الثياب في السوق، قال: فنظر إليَّ نظرة منكرة، اقشعرَّ لها جِلْدي، فأسرعتُ في المشي، وخرجتُ من البلد، وإذا بصوتٍ [خلفي] (1) يصيح: يا فقير يا فقير. فالتفتُّ، وإذا به الغَسَّال، ومعه طعام، فقال: قد خرجتَ من ذلك العَقْد الذي عقدت أَنَّك لا تطعم نفسك في البلد شيئًا، وقد خرجتَ من البلد، فَكُلْ. فقلتُ: وأنتَ في هذا المقام، وتغسل الثِّياب في السوق! فقال: لا ترفع رأسك، ولا تنظر إلى شيءٍ من عملك، وكُنْ عبد الله ولو استعملك في الحشِّ، فارْضَ [بما أراد لك] (1)، وأنشد: [من الطويل] ولو قلتَ لي مُتْ قلتُ سَمْعًا وطاعةً ... وقلتُ لداعي الموتِ أهلًا ومرحبا [والظاهر أن الشيخ عبد الله كان ذلك الفقير، لأنه ما كان يخبر عن نفسه، وإنما يكني عن أبناء جنسه. قالوا] (1): وبَعَثَ إليه الأمجد بن العادل، وكان مقيمًا بالقُدْس، أربعين دينارًا ليقضي بها دَينه، فأخذها الرسول، ولم يوصلها إليه، فجاء الأمجد بعد ذلك إلى زيارته، وقال: بعثتُ إليك بأربعين دينارًا لتقضي بها دَينك، وصلتْ؟ قال: نَعَمْ، أكثر الله خيرك. ثم قام، وعَلِمَ الرجل، فجاء، فبكى عند الشيخ، وقال: الدَّينْ والعائلة. فقال: طَيِّبْ قلبك، قد قلتُ له: إنها وصلت، وأنتَ أَحقُّ منا. وحكى عن نفسه غير أنه لم يصرِّح، وقال: كان فقيرٌ يدور في جبل لبنان، فوقع عليه حرامية الفرنج، فأخذوه أسيرًا، وربطوه، وبات معهم تلك الليلة في أشدّ ما يكون من العذاب، فلما أصبحوا ناموا، وإذا بحرامية المُسْلمين يطلبون حرامية الفرنج، [(¬2) فأيقظ الفقير حرامية الفرنج، وقال: ] اقعدوا، فقد جاء حرامية المسلمين، [فدخلوا مغارة، ودخل معهم، فلم يرهم حرامية المسلمين، ] (1) فلما بَعُدوا، قال الفرنج له: قد جاءك الفَرَج، فهلَّا دللتَ علينا، وتخلَّصت، أو تبعتَ المُسْلمين؟ فقال لهم: إني صحبتكم، وأكلتُ خبزكم، وفي طريقنا أَنَّ الصُّحبة عزيزة، فما رأيتُ خلاصَ نفسي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ح): فأيقظهم، فقال .. ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

بهلاككم. فشكروه، واعترفوا بجميله، وسألوه أن يقبل منهم شيئًا من الدُّنيا، فامتنع من ذلك، فأطلقوه. وكان قد تأذَّى من بعض الأصحاب بالقُدْس، فخرج منه إلى الدِّيار المِصْرية، ثم نظر إلى الأسوار وحُسْنها، فقال: كأنِّي بالمعاول تعمل فيها. فقيل له: معاول المسلمين أو معاول الفرنج؟ فقال: لا، بل معاول المسلمين. فكان كما قال. وقال المصنِّف رحمه الله: كان مقيمًا بالقدس قبل خرابه، وكنتُ أجتمع به، واتَّفق أنني يوم عيد الفطر أكلتُ سمكًا مالحًا، وصَعِدْتُ إلى زاويته، وقعدنا نتحدَّث، فجاءت الشمس عليَّ، وعطشت عطشًا شديدًا، وإلى جانبه إبريقٌ، فيه ماء بارد، فاستحييتُ أن أطلبه منه، فاحمرَّ وجهه، ومدَّ يده إلى الإبريق، فقال: اشرب، فكم تكاشر! وكان يفتح عليه بالدِّينار والمئة والدِّرْهم والألف، فيفرِّقها في الحاضرين، ولا يدَّخر منها شيئًا، وإذا دخل الحمام ومعه ذهب أو فِضَّة أعطاه للحَمَّامي والقوام. وقال: مررتُ براهبٍ في صومعة، فاطَّلع منها، وقال: يا فقير، أقسمتُ عليك بمن تعبده، أيُّ الطُّرُق عندكم أقرب إلى الله؟ فقلت: مخالفةُ النفس. فأغلق طاقته، ومضيتُ عنه، فلما كان بعد مُدَّة حججتُ، وإذا بالرَّاهب يطوف حول الكعبة، فلما رآني سَلَّم عليَّ، فقلت: مَنْ أنت؟ فقال: الرَّاهب الذي مررتَ به. فقلتُ: ما الذي أَوْصَلك إلى ها هنا؟ فقال: قولك: أقربُ الطُّرُق إلى الله مخالفةُ النفس. [وذكر حكاية طويلة. قلت: كان الشيخ عبد الله صاحبي وصديقي، أقمت بالقدس مدة سنين، وكان يحضر مجالسي دائمًا، لا ينقطع إلا من عذر، واتفق أنه سافر إلى مصر قبل خراب القدس، فأقام بها مدة، ] (¬1) وسببُ سفره من القُدْس أَنَّه كان به رجلٌ شرير يبغض الفقراء، ويتَّبع عثراتهم، يقال له: ابن عروة، فاتفق أن الفقراء عملوا سماعًا في الحرم ليلة الوقفة، فأنكر عليهم ابن عروة، وجرت فتنة عظيمة، فشكا ابنُ عروة الشيخَ عبد الله إلى المعظَّم، وقال: هؤلاء قوم قد هتكوا حُرْمة الحَرَم، ويتعبدون بالرَّقص، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

السيف الآمدي، وكنيته أبو القاسم

ويوقعون الفِتَن. وبلغ الشيخ عبد الله عن المعظم كلامٌ، فخرج بأهله إلى مِصْر، وكان قد صاهر عبد الحق الواسطي، فأقام بمصر مُدَّة، فلم تطب له، فرجع إلى الشَّام. قال المصنف: وكنتُ أسمع الفقراء يقولون: إنَّه أَسْلَمَ على يد الشيخ عبد الله اليوناني، وليس كما قالوا، وإنما [(¬1) الشيخ عبد الله كان يدخل على المشايخ، فيتخير ما عندهم، دخل على اليوناني، ] وعليه برنسٌ في زِيِّ الرُّهْبان، فقال له: أسلم. فقال: أسلمتُ لله رب العالمين ولم يكن أرمنيًّا، وإنما كان روميًّا من قونية، وكانت أمه داية الخِلاطية، فلما زوَّجها أبوها بصاحب حِصْن كيفا خرج مع أُمِّه وهو صغير، وأقام عندها، ولما تزوَّجها الخليفة كان ببغداد، وكانت الخِلاطية تُحْسِنُ فيه الظَّن، فلما حَجَبَها الخليفةُ ساح عبدُ الله في البلاد، ثم عاد إلى [بغداد] (2)، وجرى له [مع الخليفة] (2) ما ذكرنا، و [لما] (2) عاد إلى الشام سكن قاسيون، [وكنا نتزاور، ويحضر مجالسي دائمًا في جامع دمشق وقاسيون، لا ينقطع أبدًا] (2)، وكان على طريقةٍ عزيزة، لا يتعرَّض للدُّنيا، ولا يردُّ ما جاءه، ويؤثر به، وما زال مقيمًا بقاسيون حتى مرض في شوال، وتوفي يوم الجُمُعة تاسع وعشرين منه، ودفن بسفح قاسيون، وقد جاوز سبعين سنة، رحمه الله، [وكان يومًا مشهودًا] (¬2). السَّيف الآمِدِي، وكنيته أبو القاسم (¬3) لم يكن في زمانه من يجاريه في علم الكلام [والأصلين] (2)، وكان ينبز بأشياء ظاهر [حاله] (2) أَنَّه كان بريئًا منها؛ لأنه سريعُ الدمعة، رقيقُ القلب، سليمُ الصَّدْر، وكان مقيمًا بحماة، ثم سكن دمشق، و [من سلامة صدره أنه] (2) مات له بحماة قِطٌّ، فلما أقام بدمشق، بَعَثَ إلى حماة، فنقلت عظامه في كيس، ودفنها في تُرْبته بقاسيون. وكان بنو العادل: المعظَّم والأشرف والكامل يكرهونه لما اشتهر عنه من الاشتغال بالمنطق وعلوم الأوائل، ومع كراهية المعظم له فإنَّه فوَّض إليه أمر المدرسة العزيزية، ¬

_ (¬1) في (ح): وإنما دخل عليه، وعليه برنس، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 359 - 360، و"المذيل على الروضتين": 2/ 28 - وكناه أبا الحسن- وفيه تتمة مصادر ترجمته.

منكورس، الركن الفلكي

وكان إذا دخل على المعظم والمجلس غاصّ لا يتحرَّك له، [فكنت أخجل من الآمدي، حتى قلت للمعظم يومًا: عوض ما تقوم لي قُمْ للآمدي، فقال] (¬1): لا يقبله قلبي. وأقام مدرسًا بالعزيزية إلى أن توفي المعظم، وملك الأشرف، فأخرجه منها، ونادى في المدارس: مَنْ ذَكَرَ غير التَّفْسير والفِقْه، أو تعرَّض لكلام الفلاسفة نَفَيتُه. وأقام السيف [الآمدي] (2) خاملًا في بيته، [قد طفئ نور سعادته] (¬2) إلى أن توفي في صفر، ودُفِنَ بقاسيون في تُرْبته. منكورس، الركن الفَلَكي (¬3) مملوك فلك الدِّين؛ أخي العادل لأُمه. كان من كبار الأُمراء، ولاه [العادل] (2) بصرى والشَّام نيابةً عنه، وكان دَيِّنًا، صالحًا، عفيفًا، عادلًا، منصفًا، قليل الكلام، كثير الصدقات [والخيرات] (2)، ملازمًا بجامع دمشق للصَّلوات الخمس، وكان يخرج في وقت السَّحر إلى الجامع وحده، وبيده طوافة، ولا يتبعه من غِلْمانه أحد، وبنى بقاسيون مدرسةً (¬4) وتربة، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، وتوفي بجرود؛ قرية من قرى دمشق، وحُمِلَ إلى قاسيون، فدفن في تربته إلى جانب مدرسته. وفيها توفي جماعة اشتهروا بألقابهم، منهم شهاب الدين بن المُطَهَّر بن شرف الدين بن أبي عَصْرون (¬5) كان فقيهًا، فاضلًا، زاهدًا، محبًّا للصَّالحين، وتَرَسَّل من حلب إلى بغداد والأطراف، وجاء في آخر عمره إلى قاسيون، فانقطع به إلى أن مات. ¬

_ (¬1) في (ح): لا يتحرك له ويقول ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "تاريخ الإسلام" للذهبي: (وفيات سنة 631 هـ). (¬4) هي المدرسة الركنية، في ساحة شمدين في حي الأكراد بدمشق. (¬5) سيعيد المؤلف ترجمته في وفيات سنة (632 هـ)، وهو الصواب.

حريم الدين الخلاطي، الأمير

[وبلغني أنه] (¬1) كان عنده نيف وعشرون جاريةً للفراش، [بحيث] (1) يَبِسَتْ أعضاؤه من الجِماع، ومَرِضَ أمراضًا مختلفة، ودفن بقاسيون، وكان له من الولد قُطْب الدِّين وتاج الدِّين، [وهما فقيهان عالمان فاضلان] (1). حريم الدِّين الخِلاطي، الأمير كان كَيِّسًا، أديبًا، لطيفًا، حسنَ اللِّقاء، متعصبًا، ذا مروءة. وخَدَمَ الأشرف والمُعَظَّم والكامل، وحَجَّ بالنَّاس أميرًا من الشَّام، وتوفي بدمشق، ودفن بقاسيون عند مغارة الجوع، رحمه الله. الصَّلاح الإرْبلي خَدَمَ مظفَّر الدِّين [بن زين الدين] (1)، ثم انتقل إلى المغيث بن العادل، ثم خَدَمَ الكامل، وتقدَّم في دولته، وصار نديمه، ثم سخط عليه لأنه بعثه رسولًا إلى أخيه المعظم، فَنُقِلَ عنه أن المعظم استماله، فحبسه الكامل في الجُبِّ مدَّة سنين، ثم رضي عنه، وأخرجه، وقيل: سبب رضاه أَنَّ الصَّلاح عمل في وبيت، وغنَّى بهما بين يدي الكامل، وهما: افعل ما شئت أنت أنت المحبوب ... ما لي ذنب بلى كما قلت ذنوب هل تسمح بالوصال في ليلتنا ... تجلو صدأ القلب وتعفو وأتوب وقال: في يوم فراقنا على التحقيق ... هذي كبدي أحقّ بالتمزيق لو دام لنا الوصال ألفي سنة ... ما كان يفي بساعة التفريق وكان فاضلًا، شاعرًا، وتوفي في الرُّها. وفيها نُقل عز الدين أيدمر المُعَظَّمي من حَرَّان في تابوت إلى الشَّام، ودُفِنَ بجينين بوصيةٍ منه، لأَنَّها كانت مقدمه في الغزوات، وكان شجاعًا، له وقائعُ مشهورة، وهو الذي أخرج دمشق من يد النَّاصر داود. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

السنة الثانية والثلاثون وست مئة

السنة الثانية والثلاثون وست مئة فيها شَرَعَ الأشرف في بناء خان الزنجاري الذي بالعُقَيبة [مسجدًا] (¬1)، وكان خانًا مشهورًا بالفجور والخواطئ وشُرْب الخمر. [فسبحان من بدَّل ذاك المكان بالذكر والصلوات وقراءة القرآن] (¬2). وفيها خرجت عساكر الروم نحو آمد، فأقاموا عليها أيامًا، ثم نزلوا السُّوَيداء، فأخذوها، وقيل: في هذه السَّنة أخذوا الرُّها وحرَّان والرَّقَّة، ونزل إليهم صاحبُ مارِدِين، وأخذوا من الأموال ما لا يحصى. وفيها توفي [شهاب الدين] (¬3) عبد السَّلام بن المُطَهَّر ابن عبد الله بن محمد بن أَبي عَصْرون (3). وكان فقيهًا، فاضلًا، زاهدًا، عابدًا إلا أَنَّه كان مغرًى بالنِّكاح، [فبلغني عنه أنه] (2) كان عنده نيفٌ وعشرون جارية للفراش مع علوِّ السن، [(¬4) وقيل: إنهن] كُنَّ سببًا لأمراض اعترته مختلفة، أورثته يَبَسًا استولى عليه، فأتلفه، [وصلي عليه بجامع الجبل، ] (¬5)، ودفن بقاسيون، وهو والد قطب الدين وتاج الدين. [وقيل: مات في السنة المتقدمة] (2). صواب مقدَّم عَسْكر العادل (¬6) الذي أسره الروم، وكان خادمًا، عاقلًا، شجاعًا، جَوَادًا، وكان العادل والكامل يعتمدان عليه، وكان حاكمًا على الشرق. ¬

_ (¬1) سمي جامع التوبة، وما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 382، و"المذيل على الروضتين": 2/ 31، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وقد سلف ذكره في السنة السالفة. (¬4) في (ح): وهن كنّ سببًا ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬5) في (ح): "وتوفي بدمشق، وصلي عليه بجامعها، ودفن بقاسيون"، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬6) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 397، "تاريخ الإسلام": (وفيات سنة 632 هـ) و"نزهة الأنام": 97، و"النجوم الزاهرة": 6/ 287، "شذرات الذهب": 5/ 149.

علي بن هبة الله بن مسعود

[فصل: وفيها توفي علي بن هبة الله بن مسعود (¬1) أبو الحسن البغدادي البزاز، من أهل باب البصرة. سمع الكثير ورواه، وتوفي في المحرم، ودفن عند جامع المنصور، وسمع قاضي المارستان، وأبا القاسم بن السمرقندي، وابن ناصر، وغيرهم، ولي منه إجازة. وكان يتغفَّل، خرج يومًا إلى السوق، ويداه مبسوطتان كأنه يريد أن يعانق شيئًا، فقيل له: ما الذي بك؟ ما تريد؟ فقال: طلبت مني أمي إجَّانة، وقالت: أريدها تكون بهذا القدر، وأنا أمضي لأشتريها لها. وفيها توفي علي بن المبارك (¬2) ابن الحسن الواسطي، ويعرف بابن باسوية. سمع الكثير، وقدم الشام فأقام يُسمع الحديث بدمشق، توفي بها في شعبان، ودفن بالباب الصغير. فصل: وفيها توفي شرف الدين النهاوندي الصوفي شيخ خانكاه شبل الدولة كافور الحسامي بقاسيون، وكان رجلًا صالحًا، كريمًا، دَيِّنًا، عفيفًا، متواضعًا، حسن السَّمْت] (¬3). السنة الثالثة والثلاثون وست مئة فيها قطع الكاملُ والأشرفُ الفرات، واستعاد الكامل حَرَّان والرُّها وغيرها من بلاد الشرق، وأخرب قلعة الرها، واندفعت عساكر الرُّوم قبل وصوله، ونزل على دُنَيْسر، ¬

_ (¬1) له ترجمة في "ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار: 4/ 282 - 285. (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 394 - 395، و"المذيل على الروضتين": 2/ 34، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (ش).

الحسن بن محمد القاضي، القيلويي

فأخربها إلا الجامع، واستباحوا الفروج والأموال، وبينا هُمْ على دُنَيسر جاء كتاب بدر الدين لؤلؤ إلى الأشرف يقول: قد قَطَعَ التتر دِجْلة في مئة طلب، [كل طُلْب] (¬1) خمس مئة فارس، ووصلوا إلى سنجار، فخرج إليهم معين الدِّين بن كمال الدين بن مهاجر، فقتلوه على باب سنجار، فقطع الكامل والأشرف الفرات إلى ناحية دمشق، ورجع التتر، ولما قطعا الفرات عادت عساكر الرُّوم. وجاءت الخوارزمية إلى صاحب مارِدِين، فنزل إليهم، وأحرقوا نصيبين، وفعلوا فيها أعظم ما فعل الكامل بدُنَيسر، وتوجَّهت العساكر، فنازلوا آمد، وخرجت السنة والحصار عليها، وفتحت في السنة الآتية. وفيها توفي الحسن بن محمد القاضي، القَيْلويي (¬2) وقيلوية؛ قرية من قرى بغداد، الكاتب الفاضل. ولد [بالنِّيل] (1) بالعراق سنة أربعٍ وستين وخمس مئة، وكان كثيرَ الأدب، مليح الخط، عارفًا بالتَّواريخ وأيام الناس، حَسَنَ العبارة، متواضعًا، دَيِّنًا، صالحًا، وكان الأشرف يحبُّه، ويعتقدُ فيه. [وحكى لي ولده نجم الدين أبو الحسن علي بقاسيون في سنة تسع وأربعين وست مئة، قال] (¬3): سألتُ أبي: كم كتبتَ؟ فقال: مقدار ألفي مجلدة ما بين صغير وكبير، وكتبت "الصّحاح" ست نسخ، وذَيَّل على "تاريخ" أبي القاسم السِّمْناني، وكتابه أحسن، [وكان يسب القاضي شريح] (1)، وتوفي بالشَّام ثالث عشر ذي القَعْدة، ودفن بمقابر الصُّوفية عند المُنَيبع. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذر: 3/ 422 - 423، و"المذيل على الروضتين": 2/ 36، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ح): وقال ولده نجم الدين ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

محمد بن نصر بن عنين، الزرعي

محمد بن نَصْر بن عُنَيْن، الزُّرَعي (¬1) أصله من حَوْران، وكان خبيث اللِّسان، هجاءً، فاسقًا، متهتكًا، عمل قصيدًا سماها "مقراض الأعراض" خمس مئة بيت، لم يفلت أحدٌ من أهلِ دمشق منها بأقبح هَجْو، ونفاه صلاحُ الدِّين إلى الهند، فمضى، ومدح ملوكها، واكتسب مالًا، وعاد إلى دمشق، [وخدم في ديوان المعظَّم، وكان من أكبر سيئاته، وكانت مجالسه معمورة بقبائحه وَهَناته، وقد ذكرنا ذلك] (¬2) ومن هجوه لصلاح الدِّين: [من المنسرح] سُلْطانُنا أعرجٌ وكاتِبُهُ ... ذو عَمَشٍ والوزيرُ منحدبُ وصاحبُ الأمرِ خلْقُهُ شَرِسٌ ... وعارضُ الجيش داؤه عَجَبُ والدَّوْلَعيُّ الخطيبُ مُعْتكِفٌ ... وهو على قشر بيضةٍ يَثِبُ ولابن باقا وعظٌ يَغُرُّ به النَّا ... سَ وعبدُ اللطيفِ محتسِبُ (¬3) ولما نفي كتب من الهند إلى دمشق: [من الكامل] فعلامَ أبعدتم أخا ثقةٍ ... لم يجترمْ ذنبًا ولا سَرَقا أنفوا الموذِّنَ من بلادكُمُ ... إنْ كان يُنْفى كلُّ مَنْ صدقا (¬4) وحضر يومًا بخراسان مجلسَ فخر الدين الرَّازي وهو يعظ، فجاءت حمامةٌ خَلْفها جارحٌ، فألقت نفسها على الفخر، فقال ابنُ عُنَين بديهًا: [من الكامل] جاءت سليمانَ الزَّمانِ حمامةٌ ... والموتُ يلمعُ مِنْ جناحَيْ خاطفِ قَرِمٌ لواه الجوعُ حتى ظِلُّه ... مِنْ تحته يمشي بقلب خائفِ مَنْ عَلَّم الورقاءَ أَنَّ محلَّكم ... حَرَمٌ وأَنَّك ملجأٌ للخائفِ (¬5) فرمى عليه فخر الدين جميعَ ما كان عليه، والحاضرون. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 336 - 337، و"وفيات الأعيان": 5/ 14 - 15، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 363، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) الأبيات في "ديوانه": 210 - 211 ما خلا البيت الأول، فهو مستدرك من كتابنا هذا. (¬4) "ديوانه": 94. (¬5) "ديوانه": 95 مع اختلاف في بعض الألفاظ، وترتيب الأبيات.

أبو الخطاب بن دحية، المغربي

ولما عاد إلى دمشق هجا العادلَ، فقال: [من الخفيف] إنَّ سُلْطاننا الذي نرتجيه ... واسعُ المال ضيِّقُ الإنفاقِ هو سَيفٌ كما يقال ولكنْ ... قاطعٌ للرُّسومِ والأرزاقِ (¬1) ولما استخدمه المعظم أقام مدة، ثم كتب إليه يستقيله [من ذلك، فأنشأ يقول] (¬2): [من الطويل] أَقِلْني عِثاري وادَّخِرْها وسيلةً ... يكونُ برُحْماها لكَ اللهُ جازيا كفى حَزَنًا أَنْ لستَ ترضى ولا أرى ... فتىً راضيًا عني ولا اللهَ راضيا وكيف أُرَجِّي بعد سبعين حجةً ... نجاةً وقد لاقيتُ فيها الدَّواهيا أخوضُ الأفاعي طول دهريَ خائفًا ... وكم يتوفَّى مَنْ يخوضُ الأفاعيا (¬3) [ولزم السجادة، وانقطع، فبعث له المعظم قنينة خمر وفصوص النرد، وقال: سبح بهذه، ] (3) ومات عن إحدى وثمانين سنة، وقيل: مات سنة إحدى وثلاثين وست مئة. أبو الخَطَّاب بن دِحْية، المغربي (¬4) كان في المحدِّثين مِثْلَ ابن عُنَيْن في الشُّعراء، يَثْلِبُ علماء المُسْلمين، ويقع فيهم، ويتزيَّد في كلامه، فترك النَّاس الرِّواية عنه، وكذَّبوه، وكان الكامل مقبلًا عليه، فلما انكشف له حاله أَعْرَضَ عنه، وأخذ منه دار الحديث، وأهانه، فتوفي في ربيع الأول بالقاهرة، ودُفِنَ بقرافة مِصْر. وكان قد قَدِمَ دمشق، وسأل الوزير ابنَ شُكْر أن يجمع بينه وبين شيخنا تاج الدين، فاجتمعا، وتناظرا، وجرى بينهما البحث في قول العرب: لقيته من وراء وراء. فقال ابنُ دِحْية: لا يقال: وراءُ بالرفع، بل بالنَّصْب. فقال تاج الدين: أخطأتَ بل الصَّحيح ¬

_ (¬1) "ديوانه": 239، وهما في المستدرك من شعره. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) "ديوانه": 93 مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬4) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 3/ 448 - 450، و"المذيل على الروضتين": 2/ 35، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

السنة الرابعة والثلاثون وست مئة

وراء، بالرَّفع. فَسَفِهَ على شيخنا تاجِ الدين. فقال له: يَا مدَّعي، أَنْتَ تكتب: وَكَتَبَ ذو النَّسبين بين دِحية والحسين. ودِحية بإجماعِ المحدِّثين ما أعقب، فقد كذبتَ فِي نسبك. [قلت: والصَّحيح مع تاج الدين (¬1)، وقد ذكرها الجوهري، فقال: وراء بمعنى خلف، وقد يكون بمعنى قدام، وهو من الأضداد، وأنشد: [من الطَّويل] إذا أنا لم أُوْمَنْ عليك ولم يكن ... لقاؤك إلَّا من وراءُ وراءُ] (¬2) السنة الرَّابعة والثلاثون وست مئة فيها نزل التتر على إِرْبل بالفارس والرَّاجل، وحاصروها مُدَّة، ونصبوا عليها المجانيق، ونقبوا سورها، ودخلوها عَنْوةً، وقتلوا كلَّ مَنْ فيها، وَسَبْوا وفضحوا البنات، وأخذوا الأموال، وصارتِ الآبار والدُّور قبورَ أهلها، ونتنت المدينة من كَثْرة الجيف، وكان بادكين مملوك الخليفة فِي القلعة، فقاتلهم، ونقبوا القلعة، وجعلوها أسرابًا وطرقًا، وقلَّت عندهم المياه، وماتَ بعضُهم عطشًا، ولم يبق سوى أخذها فمنَّ الله على من بقي من أهلها، فرحلوا عنها فِي ذي الحِجَّة، وقد عَجَزوا عن حَمْل ما أخذوا من الأموال والغنائم، ثم هرب بعد ذلك بادكين إِلَى بغداد. وفيها استخدم الصَّالحُ أَيُّوب الخُوارَزْميةَ الذين بقوا من أصحاب جلال الدِّين، فانضمُّوا إليه، وانفصلوا عن الرُّومي. وفيها بَدَتِ الوَحْشة بين الكامل والأشرف، وسببه أَنَّ الأشرف طلبَ منه الرَّقَّة، وقال: الشَّرْق قد صار له، وأنا أطلب كل يوم فِي خِدْمته، فتكون هذه برسم عليق دوابي. وجعل الفلك ابن المسيري واسطةً، فكتب الفلك إِلَى الكامل يخبره، فكتب الكامل إِلَى الفلك كتابًا غليظًا شنيعًا. وكان الكامل لما عَزَمَ على أَخْذِ الرُّوم قال أسد ¬

_ (¬1) عقب أبو شامة فِي "المذيل على الروضتين": 1/ 197، بقوله: أما اللفظان المتنازع فيهما، فرأيت فِي "أمالي" أَحْمد بن يحيى ثعلب جواز الأمرين فيهما، والجر أيضًا. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

الناصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب، الحنبلي

الدِّين للأشرف: متى أخذ الرُّوم نبقى بين يديه يقلِّبُنا كيف شاء، واتفقا عليه، ولما عاد من الرُّوم إِلَى دمشق فهم الكامل ذلك، فخاف، وعجَّل الرَّواح إِلَى مِصْر، فبعث إليه الأشرف يقول: أخذت مني الشَّرْق، وقد افتقرتُ بهذه البواكير، ودمشق فبستان ما لي فيها شيء. فبعث إليه الكامل عشرة آلاف دينار، فردَّها، وقال: أنا أدفع هذه لأميرين! فغَضِبَ الكاملُ، وقال: أيش يعمل بالمُلْك؟ تكفيه عشرته للمغاني، وتعلمه لصناعتهم. فتنمَّرَ عليه الأشرف، وقال: والله لأُعَرِّفَنَّه قَدْرَه. وأرسل إِلَى حلب وحماة وبلاد الشَّرْق، وقال: قد عَرَفْتُم بُخْلَ الكامل، وطمعه فِي البلاد. فحلفوا واتفقوا، ولما وَصَلَ الكامل إِلَى قلعة القاهرة باسَ العتبة، وقال: رأيتُ روحي فِي قلعتي. فلما مات الأشرف [فِي سنة خمس وثلاثين وست مئة] (¬1) قال: والله لو لم يمت لراحت البلاد منَّا. فقيل له: لك من باب المَوْصل إِلَى اليمن، فأيش تلتفت عليه؟ ! فقال: اسكتوا، كان كريمًا، والكرم ما معه حديث. وكان النَّاصر قد اتفق مع الأشرف، ثم انحرف عنه، ومضى إِلَى الكامل. وفيها تُوفِّي النَّاصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهَّاب، الحنبلي (¬2) ولد بدمشق، ونشأ بها، وقرأ القرآن، وقدم بغداد فتفقَّه على أبي الفَتْح بن المَنِّي، وسمع الحديث من شُهْدة وطبقتها، وعاد إِلَى دمشق، ووعظ، وصنَّف الكتب، [ورأيت بخط ابنه فهرسة تصانيفه: "الإنجاد فِي الجهاد"، و"المقامة الدمشقية"، و"الإجماع والنص والقياس فِي فضائل بني العباس"، و"المزوق فِي التفسير"، و"الفروق فِي اللغة"، و"الحدائق فِي الوعظ والجدل والأقيسة والخطب"، و"شرح أسماء الله تعالى"، و"أسباب الحديث"، و"مختارات من المسند والبخاري ومسلم"، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 429 - 430، و"المذيل على الروضتين": 2/ 36 - 37، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

وقد ذكرنا ما جرى بينه وبين العادل فِي فتح باب الفراديس، وسفر الناصح إِلَى حلب، وإقامته حتَّى مات العادل، وعاد إِلَى دمشق] (¬1)، ودرَّس بمدرسة ربيعة خاتون فِي الجبل، وكان يعظ فِي الأحايين، [وقد حضر مجالسي بحلب ودمشق، وكان قد جرى بيني وبين الأشرف بسبب الناصر، وجلوسي ذلك المجلس الذي ذكرت فيه القدس وحشة، ولما أخذ الأشرف دمشق لزمت زاويتي، ولم اجتمع به حياء منه، لأنه كان أحسن إليَّ إحسانًا كثيرًا، وتفضل علي فضلًا غزيرًا، وفوَّض إليَّ جميع الخوانك التي ببلاده شرقًا وغربًا، وبُعْدًا وقربًا، وجهزني إِلَى الحج على طريق العراق، فسرت عارفًا بإحسانه وجميله، وأقام لي سبيلًا مثل سبيله، ولما دخل دمشق، وانقطعتُ عنه صَعِدَ الناصح إِلَى القلعة، وسأل الأشرف أن يجلس بجامع دمشق، وذلك عقب جلوسي فِي نوبة القدس، وقال الناصح: أريد أذكر فضائل السلطان، وما أولى النَّاس من العدل. وكان مقصودة أن يأتي بعكس ما أتيت به ليتقدم عند الأشرف، ثم قال: وأريد السلطان يحضر عندي. فقال: أنا اشتغالي كثير، بلى السلطان الصالح إسماعيل يحضر عندك وعماد الدين بن موسك. وجلس بباب المشهد فِي المكان الذي يجلس فيه الصالح والعماد فِي القُبَّة، وشرع فِي الكلام وبالغ، وقال وأطال، ولم يخشع قلب، ولم تدمع عين، ووقع فِي شمل المجلس الشتات والبين، وكان من عادتي يوم الخميس أن لا أنزل حتَّى تصل الشَّمس إِلَى المنبر، وقد أَلْف النَّاس ذلك، فهم به أخبر، فقال عماد الدين للصالح: متى تنزل إِلَى موضعها؟ فقال الصالح: الشَّمس ترديه. وقاموا، وحكوا للأشرف صورة المجلس، فأعجبه جواب الصالح، وقال: والله صدقت. وحضر يومًا عند الأشرف فقال: قد ذكرت فِي "كتاب الجهاد" أنَّه ما اجتمع أَلْف من الْأَنصار فِي جيش إلَّا ونصر. فقال الأشرف: فقد خرج يوم أحد مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَلْف من الْأَنصار، وجرى ما جرى! قلت: ما حضر يوم أحد أَلْف من الْأَنصار، لأن الصحابة كانوا ست مئة، فيهم مهاجرون وأنصار، وكيف يكونون ألفًا! ] (1). وكانت وفاته غُرَّة المحرم، ودفن بقاسيون. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

القاضي التكريتي، واسمه عبد الرحمن

القاضي التكريتي، واسمه عبد الرَّحمن (¬1) ولي ديوان المعظم بالقُدْس، ثم ولي قضاء الكَرَك، وكان قد دَرَّس بمدرسة الزبداني، فلما أُخذ وَقْفُها عاد إِلَى القُدْس، ثم عاد إِلَى دمشق لما أخذها الأشرف، فناب بها عن القضاة، وتوفي بها، ودفن بقاسيون، وكان فاضلًا، نَزِهًا، عفيفًا. الشِّهاب أَحْمد، الأمير (¬2) كان شجاعًا، جَوَادًا، كَيِّسًا، متواضعًا، حَسَنَ المحضر، من خواصِّ الكامل وأرباب سِرِّه. الشجاع علي بن إيداش بن السَّلَّار، أمير الحاج (¬3) حجَّ بالنَّاس نيفًا وعشرين حجة، وكان صالحًا، سخيًّا، عابدًا، صاحب أوراد، كريم النفس، حسنَ الأخلاق، [وكان يحضر مجالسي، فيبكي من أول المجلس إِلَى آخره] (¬4)، وكان المعظَّم يحبه ويحترمه، ويعتمد عليه. [ذِكْرُ وفاته] (4): وكان مقيمًا بالكَرَك عند النَّاصر، فنقل الحُسَّاد عنه ما لا يليق، فأحضره النَّاصر، وأحضر شمس الدين قاضي نابُلُس، وأسمع الشُّجاع كلامًا خشنًا، وقال: قلتَ عني كذا وكذا؟ فأنكر، فقال القاضي للنَّاصر: يَا مولانا، شجاع الدين ما يُفَرَّط فيه، وقد كان له عند المعظم المكانة الرفيعة، وما يحسن هذا بك. [(¬5) وكنت يومئذ بدمشق، فقد دمشق، وجاء إِلَى عندي، وحكى لي صورة ما جرى، فقلت له: هو عندك مثل الولد. فقال: ] والله ما قلتُ إلَّا أَنَّه يقرأ المنطق، والفقه ¬

_ (¬1) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 451 - 452، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي: (وفيات سنة 634 هـ)، وهو عبد الرَّحمن بن حمدان. (¬2) هو أَحْمد بن خضر، له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 450، و"تاريخ الإِسلام": (وفيات سنة 634 هـ)، وذكر الذهبي أنَّه تُوفِّي بالقاهرة. (¬3) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 452، و"تاريخ الإِسلام": (وفيات سنة 634 هـ). (¬4) ما بين حاصرتين من (ش). (¬5) فِي (ح): وقدم دمشق، وقال ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر صاحب حلب

أَوْلى، مثلما كان أبوه. و [بعد يومين] (¬1) مرض، فأصابه ذَرَبٌ عظيم، فرمى كبده قطعًا، ومات بعد ثمانية أيام من قدومه دمشق، وذلك فِي جُمادى الآخرة، ودفن بقاسيون. الملك العزيز محمَّد بن الملك الظاهر صاحب حلب (¬2) ولد فِي ذي الحجة سنة تسع أو عشر وست مئة (¬3)، وتوفي والده وهو طفل، ونشأ تحت حَجْر شهاب الدِّين الخادم، فرتَّب أموره أحسن ترتيب، وقام بدولته [القيام العجيب] (1) إِلَى أن ترعرع فِي سنة تسعٍ وعشرين، فاستقلَّ بالأمر، وفكَّ عن نفسه الحَجْر، وتوفي بحلب، ودفن فِي القلعة، وكان حسنَ الصُّورة، كريمًا، عفيفًا، ولم يبلغ أربعًا وعشرين سنة، وحكى الحلبيون أن أحواله تغيَّرت، [وأقاموا ولده الملك الناصر يوسف بعده] (1). كَيْقُباذ، علاء الدين، صاحب الروم (¬4) كان عاقلًا، شجاعًا، ميمون النقيبة، كَسَر الخُوارَزْمي، وعسكر الكامل، واستولى على بلاد الشرق، وزوَّجه العادل ابنته، وأولدها، وكان عادلًا، مُنْصفًا، مهيبًا، ما وَقَفَ له مظلوم إلَّا وكشف ظُلامتَهُ، وتوفي فِي شوَّال. الكمال بن مهاجر (¬5) كان كثيرَ المال والصَّدقات والخير، مات بدمشق فِي جُمادى الأولى فجأة، ودُفِنَ بقاسيون، وأخذ الأشرف جميعَ ما وجد له بدمشق مما تبلغ قيمته ثلاث مئة أَلْف دينار، [أراني الأشرف] (1) من ذلك سبحة [فيها] (1) مئة حبَّة مثل بيض الحَمَام. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 40، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) الصحيح فِي ولادته أنها كانت فِي 5 ذي الحجة سنة (610 هـ)، انظر "مفرج الكروب": 3/ 220. (¬4) له ترجمة فِي "المذيل على الروضتين": 2/ 40، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬5) هو محمَّد بن عليّ بن مهاجر، كمال الدين، له ترجمة فِي "تاريخ الإِسلام" للذهبي: (وفيات سنة 634 هـ).

السنة الخامسة والثلاثون وست مئة

السنة الخامسة والثلاثون وست مئة فيها تُوفِّي الأشرف والكامل، وولي الجَوَاد دمشق. وفيها اختلفت الخُوارَزْمية على الصَّالح أَيُّوب [بن الكامل] (1)، وأرادوا القَبْضَ عليه، وكان على الفرات، فهرب إِلَى سِنْجار، وترك خزائنه وأثقاله، وعَبَرَ الفرات من عند دير يسير، فنهبوا الجميع، ولما صار فِي سِنْجار سار إليه بدر الدين لؤلؤ، فحصره فِي ذي القَعْدة، فأرسل [الصالح] (¬1) إِلَى لؤلؤ يسأله الصُّلْح، فقال: لا بُدَّ من حَمْله إِلَى بغداد فِي قفص، وكان لؤلؤ والمشارقة يكرهون مجاورته، وينسبونه إِلَى التكبر والتجبر والظُّلْم، فألجأت الضَّرورة إِلَى أن بَعَثَ الصَّالح إِلَى الخُوارَزْمية وهم على حَرَّان يستنجدهم، فألجأت الضرورة إِلَى أن بَعَثَ الصَّالح إليهم بدر الدين قاضي سنجار، وحَطَّه من السُّور فِي حبل، فشرط للخوارزمية كل ما أرادوا، فساقوا جرائد من حَرَّان، فكبسوا بدر الدين لؤلؤ على سنجار، فنجا وحده على فرسٍ سابق، ونهبوا أمواله وخزائنه، والخيل والخيام، وجميع ما كان فِي عسكره، حتَّى بِيعت الدَّواة المفضضة التي تساوي مئتي درهم بخمسة دراهم، والطِّسْت والإبريق يساوي ثلاث مئة دِرْهم بِيعَ بعشرين درهمًا، واقتسموا الكُوسات والنقارات من ذلك اليوم، واستغنَوْا إِلَى الأبد. وفيها خَطَبَ الكمال عمر بن أَحْمد بن هبة الله بن طلحة النَّصِيبي بجامع دمشق فِي شعبان بعد وفاة الدَّوْلعي. وفيها تُوفِّي خُطْلُبا بن عبد الله، صارم الدِّين التِّبْنيني (¬2) المجاهد، المرابط، الدَّيِّن، الصالح، [العاقل] (1)، تُوفِّي يوم الاثنين، ثالث شعبان، ودفن فِي تُرْبته التي أنشأها بقاسيون، ودَفَنَ بها شركس، [وهو الذي أنشأ هذه التوبة، ووقف عليها الأوقاف] (1)، وكان كثيرَ الصَّدقات والمعروف والصِّلات، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "تاريخ الإِسلام": (وفيات سنة 635 هـ)، و"الوافي بالوفيات": 13/ 347، وذكره أبو شامة فِي "المذيل على الروضتين": 1/ 232، 308.

محمد بن أبي بكر بن أيوب، الملك الكامل

عاقلًا، طاهرَ اللِّسان، غزير الفضل [والإحسان] (¬1)، أقام فِي الثغور مُدَّة سنين يجاهد العدو، ويحفظ البلاد على المُسْلمين. محمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب، الملك الكامل (¬2) ولد سنة ثلاثٍ وسبعين وخمس مئة (¬3)، وكان أكبر أولاد العادل بعد ممدود، وكان العادل قد عهد إليه لما رأى من ثباته وعقله وسَدَاده [فِي إصداره وإيراده] (1)، وقد ذكرنا سيرته فِي السِّنين، وكان شجاعًا، ذكيًّا [مهابًا] (1)، فطنًا، يحبُّ العلماء والأماثل، ويلقي عليهم المُشْكلات [من المسائل] (1)، وتكلَّم على "صحيح مسلم" بكلامٍ مليح، ولفظ فصيح، وثبت بين يدي العدو لما نَزَلَ الفرنج على دمياط مدة، ما أبقى قلمًا فِي خزائنه وذخائره. وأما عدله فإليه المنتهى، [وفَضْله هو المشتهى] (1)، وبَلَغَ من عَدْله أَنَّ بعض الركبدارية استغاث إليه يومًا، وقال: استخدمني أُستاذي ستة أشهر بغير جامكية، فأحضر أُستاذه، وأنزله من فرسه، وخلَّعه ثيابه، وألبسها الركبدار، وأركبه الفرس، وألبس الجندي ثياب الركبدار، وقال له: احمل مداسه، واخدمه ستة أشهر كما خدمك. وكان إذا سافر لا يتجاسر أحدٌ أن يأخذ من فلاحٍ علاقة شعير، ولا دجاجة [وإن دعت إِلَى ذلك الحاجة، ولقد بلغني أنَّه] (1) شنق جماعةً من الأجناد على آمِد؛ لكونهم أخذوا أكيال شعير لشخصٍ. وكانت الطُّرق فِي أيامه آمنة بحيث يسير الراكب وحده، ولا يحتاج إِلَى حمل عُدَّة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "التكملة": 3/ 485، و "المذيل على الروضتين": 2/ 43 - 44، وفيه تتمة مصادر ترجمته. قال إبراهيم عفا الله عنه: وكان الأَوْلى أن يترجم للأشرف قبل الكامل، لأن وفاة الأشرف كانت فِي محرم، ووفاة الكامل فِي رجب من ذلك العام. (¬3) ذكر المنذري فِي "التكملة": 3/ 485، والذهبي فِي "سير أعلام النبلاء": 22/ 127، و"تاريخ الإِسلام": (وفيات سنة 635 هـ) أن ولادته سنة ست وسبعين وخمس مئة. وعقب على ذلك ابن تغري بردي فِي "النجوم الزاهرة": 6/ 228، فقال: وعندي أن أَبا المظفر (يعني سبط ابن الجوزي) أثبت لصحبته بأخيه المعظم عيسى، وكونه أَيضًا عصري الملك الكامل هذا، والله أعلم.

[وجلست عنده بدار الوزارة فِي القاهرة سنة تسع وست مئة] (1). وقال فخر الدين بن شيخ الشيوخ: لما حَضَرَ الفرنج دمياط صَعِدَ الكاملُ على مكان عالٍ، وقال لي: ما ترى ما أكثر الفرنج! ما لنا بهم طاقة. [قال] (1): فقلتُ: أعوذ بالله من هذا الكلام. قال: ولمَ؟ قلتُ: لأنَّ السَّعد موكل بالمنطق. فأخذتِ الفرنجُ فِي دمياط بعد قليل، فلما طال الحصار صَعِدَ يومًا على مكانٍ عالٍ، وقال: يَا فلان، ترى الفرنج ما أقلهم! والله ما هم شيء. فقلتُ: أخذْتَهُمْ والله. قال: وكيف؟ قلتُ: قلتَ فِي يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فأخذوا دمياط، وقد قلتَ اليوم: كذا، فالملوك منطَّقون بخيرٍ وشر. فأخذ دمياط بعد قليل. وكان الملك الأشرف قد تُوفِّي فِي أول هذه السنة، واستولى الصَّالح إسماعيل على دمشق، وجاء الكامل، فحصره، وكان [خالي] (1) محيي الدِّين بن الجوزي بدمشق، فدخل بينهما فِي الصُّلْح، وأعطاه الكامل بَعْلَبَكَّ مضافةً إِلَى بُصْرى بعد أن حوصرت دمشق حصارًا شديدًا، وقُتِلَ عليها جماعة، وزحفَ النَّاصر داود بعسكره من باب توما، وتعلقوا بالنُّقوب، ولم يبق إلَّا أخذها، فأرسل الكاملُ فخر الدِّين بنَ شيخ الشيوخ، فرحَّله إِلَى أرض برزة، وكان الصَّالح قد أرسل إِلَى الكامل يقول: قد بلغني أنك تعطيها للنَّاصر، وأنتَ أحق. وسلَّمها إِلَى الكامل فِي أواخر جُمادى الأولى، فأقام بها إِلَى ثاني عشرين رجب، فتوفي فِي بيتٍ صغير بدار الفِضَّة فِي مكان مات صلاح الدين، ولم يعلم أحدٌ بموته، ولا حضره أحدٌ من شِدَّة هيبته، وإنما دخلوا عليه، فوجدوه مَيتًا، وكان مرضه نيفا وعشرين يومًا بالإسهال والسُّعال، ونزلةٍ فِي حَلْقه، ونِقْرس فِي رِجْله، [ودفن بالقلعة بعدما صلوا عليه] (¬1)، وأظهروا موته يوم الجمعة، ولم يحزن عليه أحد، ولا لبسوا ثياب الحُزْن، ولحق النَّاس بهتة، واتفقوا فِي الحلقة فِي ذلك النَّهار باتفاق الجَوَاد وسيف الدين بن قليج، والخدام، وعز الدين أيبك، وعماد الدين بن الشيخ، وسنذكر القصة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

ذِكْرُ ما جرى بعد وفاته: اجتمع الأمراء [وفيهم سيف الدين بن قليج، وعز الدين أيبك، والركن الهيجاوي، ] (1) وعماد الدين وفخر الدين ابنا الشيخ، وتشاوروا، وانفصلوا على غير شيء، وكان النَّاصر داود بدار سامة، [فجاءه] (¬1) الركن الهيجاوي (¬2) فِي الليل، وبيَّن له وجه الصَّواب، وأرسل إليه عِزُّ الدِّين أيبك يقول: أخرجِ المال، وفَرِّقْه فِي مماليك أبيك، والعوامُ معك وتملك البلد، ويبقوا فِي القلعة محصورين. فما أنفق، وأصبحوا يوم الجمعة فِي القلعة، فحضر مَنْ سَمَّينا، وذكروا النَّاصر والجَوَاد، وكان أضرَّ ما على النَّاصر عماد الدين بن الشيخ، لأَنَّه كان يجري فِي مجلس الكامل مباحثات، فيخطئه فيها ويستجهله، فبقي فِي قلبه، وكان فخر الدين يميل إِلَى النَّاصر، فأشار عمادُ الدين بالجواد، ووافقوه، وأرسلوا الهيجاوي يوم الجمعة إِلَى النَّاصر، وهو فِي دار سامة، فدخل عليه، وقال له: أيش قعودك فِي بلد القَوْم؟ قُمْ وأخرج. فقام، وركب وجميع مَنْ فِي دمشق من باب دار سامة إِلَى القلعة، وما شك أحدٌ أَنَّ النَّاصر طالع إِلَى القلعة، وساق، فلما تعدَّى مدرسة العماد الكاتب، وخرج من باب الزُّقاق عَرَّج إِلَى باب الفرج، فصاحت العامة: لا لا لا. وانقلبتْ دمشق، وخرج النَّاصر من باب الفرج إِلَى القابون، ووَقَعَ بهاء الدِّين بن بركيشوا وغِلْمانه فِي النَّاس بالدَّبابيس، فأنكوا فيهم، فهربوا. وأما الجَوَاد، فإنَّه فتح الخزائن، وأخرج المال، [فبلغني أنَّه] (1) فَرَّق ستة آلاف أَلْف دينار، وخلع خمسة آلاف خِلْعة، وأبطل المكوس والخمور، ونفى الخواطئ، فأقام الناصر بالقابون أيامًا وعزموا على قَبْضه، فرحل، وبات بقصر أُم حكيم، وخرج خَلْفه أيبك الأشرفي ليمسكه، وعَرَفَ عمادُ الدين بن موسك، فبعث إليه فِي السِّرِّ، فسار فِي الليل إِلَى عجلون، ووصل أيبك إِلَى قصر أم حكيم، وعاد إِلَى دمشق. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) فِي (ح) و (ش): "جاءه الهيجاوي والركين فِي الليل، وبينا له وجه الصواب"، والمثبت من "تاريخ الإِسلام" للذهبي: (حوادث سنة 635 هـ).

ذِكْرُ ما جرى بين النَّاصر والجَوَاد: سار النَّاصر من عجلون إِلَى غَزَّة، فاستولى على السَّاحل، فخرج إليه الجواد فِي عسكرِ مِصْر والشَّام، [فبلغني أنَّه] (1) قال للأشرفية: كاتبوه وأطمعوه. فكاتبوه وأطمعوه، فاغترَّ بهم، وساق من غَزَّة فِي سبع مئة فارس إِلَى نابُلُس بأثقاله وخزائنه وأمواله، وكانت على سبع مئة جمل [على ما بلغني] (¬1)، وترك العساكر مقطعة خلفه، وضرب دِهْليزه على سَبَسْطِيَة، والجواد على جيتين، فساقوا عليه، وأحاطوا به، فساق فِي نفرٍ يسير نحو نابُلُس، وأخذوا الجمال بأحمالها والخزائن والجواهر والجنائب، واستغنَوْا غِنى الأبد، وافتقر هو فقرًا ما افتقره أحد، و [بلغني أن عماد الدين بن الشيخ] (¬2) وقع بسَفَطٍ صغير، فيه اثنتا عشرة قطعة من الجوهر، وفصوص ليس لها قيمة، فدخل على الجواد، وطلبه منه، فأعطاه إياه. وهذه الأموال التي كانت على الجمال قالوا: هي التي جَهَّز بها المعظَّم دار مرشد ابنته لما زَوَّجها بالخُوارَزْمي، أخذها الناصر منها ظنًّا منه أنَّه يعوِّضها إذا فتح البلاد، [ففعل الله فِي ملكه ما أراد] (1)، وسار النَّاصر لا يلوي على شيء إِلَى الكَرَك، [وكانوا قد أشاروا عليه فِي غزة أن يبعث الأموال والخزائن والأثقال إِلَى الكرك (1)] على الرَّوية، ويجمع عسكره، ويسيير جريدةً، فإنْ ظَهَرَ عليهم وإلا سَلِمَتْ خزائنه وأمواله وأموال عسكره، فاغترَّ بمكاتبة الأشرفية، [ولله فِي خلقه أسرار خفية] (1). وحكي لي أَنَّ الكامل لما تُوفِّي اختلف أصحابه فيمن يولون، فقالوا لفخر الدِّين بن الشيخ: ما تقول فِي الجواد، فقد اتفق الأُمراء عليه؟ فقال: المصلحة أن نولي بعضَ الخُدَّام نيابةً عن ابنِ أُستاذنا العادل، متى شاء عزله، ومتى شاء أبقاه، ولا تولوا أحدًا من بيت الملك، ما يقدر أحدٌ بعد ذلك عليه، ويحكم علينا. وبلغ الجواد، فجاءه، وقال: يَا فخر الدين، أنا وأنت ربينا فِي خِدْمة الكامل، وبيننا خبز وملح، وأنا مملوكك. ووعده أَنْ يعطيه خبز مئة وخمسين فارسًا وعشرة آلاف دينار، فقال: والله لا وافقت إلَّا على ما فيه مصلحة ابن أُستاذي. فلما يئس منه فَرَّق ضياع الشَّام على ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) فِي (ح): ووقع عماد الدين بن الشيخ بسفط ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

محمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن مميل

الأمراء، وخَلَعَ عليهم، وفرَّق الخزائن، وكان فيها تسع مئة أَلْف دينار، وتوجَّه فخر الدين إِلَى مِصْر ومعه جماعةٌ من الأمراء بعد أن تردَّد إِلَى النَّاصر بالقابون دفعات. محمَّد بن هبة الله بن محمَّد بن هبة الله بن مَمِيل (¬1) أبو نَصْر، شمس الدين بن الشِّيرازي. ولد بدمشق سنة تسعٍ وأربعين وخمس مئة، وسمع الحديث الكثير، وناب فِي القضاء مدَّة سنين، ودرَّس بمدرسة ست الشَّام بالعوينة، وتوفي ليلة الخميس ثالث جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون فِي تربته، [وسمع من الحافظ ابن عساكر قطعة من التاريخ وغيره، وأبا يعلى حمزة بن عليّ الحُبُوبي، وأبا البركات الخضر بن شبل ويعرف بابن عبد، خطيب جامع دمشق، وأبا المعالي مسعود بن محمَّد ويلقب بالقطب النَّيسَابُورِيّ، وخلقًا كثيرًا] (¬2)، وكان إمامًا، فقيهًا، عالمًا، فاضلًا، كَيِّسًا، لطيفًا، حَسَنَ الأخلاق، كريمَ الطِّباع، حميدَ الآثار، حُفَظَةً للحكايات الحِسان وأيام العرب، والأخبار والأشعار، رحمه الله. محمَّد بن أبي الفَضْل (¬3) ابن زيد بن ياسين، الخَطيب، الدَّوْلَعي، ويلقب بالجمال. أقام خطيبًا بعد موت عمِّه الدَّوْلَعي إِلَى هلم جرَّا، وكان حريصًا على المنصب، ولم يحجَّ حجة الإِسلام خوفًا على المحراب، وكان المعظَّم قد منعه من الفتوى. قال المصنف رحمه الله: فقلتُ له: لم مَنَعْتَه؟ فقال: ما مَنَعْتُه، وإنما منعه شيوخ مذهبه وأكابرهم، كتبوا إليَّ يقولون: هذا رجلٌ جاهل، غليظُ الطَّبْع، وفتاويه كلُّها خطأ، ولا يحلُّ لك أن تمكنه من الفتوى فِي الفروج والأموال. ¬

_ (¬1) له ترجمة فِي "التكلمة" للمنذري: 3/ 480 - 481، و"المذيل على الروضتين": 2/ 42، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 477 - 478، و"المذيل على الروضتين": 2/ 41 - 42، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

موسى بن أبي بكر، أبو الفتح، الملك الأشرف

وحكى [لي] (¬1) عماد الدِّين بن موسك وجماعة من أصحاب الأشرف، قالوا: لما مَرِضَ الأشرفُ المرضَ الذي مات فيه دخل علينا فِي النَّيرب والأشرفُ على خُطَّة، فقال له: طَيِّب قلبك، فقد رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي المنام، وهو يقول: قُلْ لموسى: والله ما تموتُ فِي هذه المرضة. قال: فقُلْنا: بَشَّرك الله بالخير، فقال: إنْ مات، فارْجموني. قال عماد الدين: فمات بعد سبعة أيام، وما رجمناه. تُوفِّي رابع عشر جُمادى الأولى، ودُفِنَ بالمدرسة التي أنشاها بجيرون، [وكان قليل سماع الحديث، سمِع عمه عبد الملك بن زيد بن ياسين الدَّوْلعي، ومحمَّد بن صدقَة الحراني] (1)، وكان له أخٌ جاهل، فولي الخطابة بعده. موسى بن أبي بكر، أبو الفَتْح، الملك الأشرف (¬2) ولد بالقاهرة سنة ستٍّ وسبعين وخمس مئة، وكان فِي مبدأ أمره بالقُدْس تحت حكم ابن الزَّنْجيلي عثمان. قال [لي] (1) المعظم: أنا أخذتُ له حَرَّان والرُّها والشَّرق من أبي، وجهَّزته من عندي بالخيل والعُدَّة والمماليك. وتقلبت به الأحوال حتَّى صار شاه أرمن، وكسر المواصلة، والرُّوم، والخوارزمي، وأخاه شهابَ الدين، وكان جَوَادًا، حسنًا، عادلًا [عاقلًا] (1) منجبًا؛ لو كانت الدُّنيا بيده، ودفعها إِلَى أقلِّ النَّاس ما استكثرها له، وكان ميمونَ النَّقيبة؛ ما كسرت له رايةٌ قَطُّ، ولما أيقن بالموت أخذ بعضُ مماليكه سنجقه ليكسره، وقال: ما يحمله غيره. فقال له: لا تفعل، فوالله ما كُسِرَ قط. [وحضر مجالسي بخلاط وحران، ودمشق فِي ذي الحجة يوم عرفة بعد العصر بجامع التوبة الذي أنشأه، وبكى بكاء شديدًا، وأعتق مماليكه وجواريه، ] (1) وكان عفيفًا عن المحارم، ما خلا بامرأةٍ قَطُّ إلَّا أن تكون زوجةً أو جارية. قال المصنف رحمه الله: ولما صَعِدْتُ إِلَى خِلاط، واجتمعت به فِي القلعة جلسنا يومًا فِي منظرةٍ، فعتَبَ على أخيه المعظَّم فِي قضيةٍ بلغته عنه، ثم قال: والله ما مددتُ عيني إِلَى حُرَمِ أحدٍ؛ لا ذكرٍ ولا أُنثى، ولقد كنتُ يومًا قاعدًا ها هنا فِي هذه الطَّيَّارة، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 465، و"المذيل على الروضتين": 2/ 40 - 41، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

فدخل الخادم، وقال: على الباب امرأةٌ عجوز تذكر أنها من عند بيت شاه أرمن صاحب خِلاط. فأذِنْتُ لها، فدخلت ومعها ورقةٌ من بنت شاه أرمن صاحب خِلاط تذكر أَنَّ الحاجب عليًّا قد قصدها، وأخذ ضيعتها، وقَصْدُه هلاكها، وما تتجاسر أَنْ تظهر خوفًا منه. قال: فكتبتُ على الورقة بإطلاقِ القرية، ونَهْي الحاجب عنها. فقالتِ العجوز: فهي تسأل الحضورَ بين يديك، فعندها سِرٌّ ما يمكن ذكره إلَّا للسُّلْطان. فقلت: بسم الله. فقامت، وغابت ساعة، ثم جاءت، فدخلت ومعها امرأةٌ ما رأيتُ فِي الدُّنيا أحسنَ من قَدِّها، ولا أَظْرَفَ من شَكْلها، كأنَّ الشَمْسَ تحت نِقابها. فَخَدَمَتْ ووقفتْ، فقمتُ لها لكونها بنت شاه أرمن، وقلتُ لها: أنتِ فِي هذه البلد، وما علمتُ بك! فَسَفَرَتْ عن وجه أضاءتْ به المنظرة. فقلتُ لها: غَطِّ وجهك، وأخبريني حالك. فقالت: أنا بنتُ شاه أرمن صاحب هذه البلاد، مات أبي، واستولى بكتمر على الممالك، وتغيَّرت الدُّول، وكان لي ضيعة أعيشُ منها، أخذها الحاجب عليّ، وما أعيش إلَّا من عمل النقش، وأنا ساكنة فِي دور الكِراء، قال: فبكيت، وَرَقَّ قلبي لها، وأمرتُ الخادم بأن يكتب لها توقيعًا بالضّيعة والوصية، وأمرتُ لها من الخزانة بقُماش، وأمرت لها بدارٍ تَصْلُحُ لسُكْناها، وقلت: بسم الله، فِي حِفْظ الله وَدَعتِهِ. فقالت العجوز: يَا خوند، ما جاءت إِلَى خِدْمتك إلَّا حتَّى تحظى بك الليلة. قال: فساعةَ سمعتُ كلامها أوقعَ الله فِي قلبي تغيُّرَ الزَّمان، وأن يملك خِلاط غيري، وتحتاج بنتي إِلَى أن تقعد مثل هذه القعدة بين يديه. فقلتُ: يَا عجوز، معاذ الله، والله ما هو شيمتي، ولا خلوتُ بغير محارمي، فَخُذيها وانصرفي وهي العزيزة الكريمة، ومهما كان لها من الحوائج فهذا الخادم ينفذ إليها. فقامتْ وهي تبكي، وتقول بالأرمنية: صانَ الله عاقبتك كما صنتني. قال: [فلما خرجت افتتنتني نفسي وقالت: ففي الحلال مندوحة عن الحرام، تزوَّجْها] (¬1)، فقلتُ: ويحك يَا نفس خبيثة، فأين الحياء والكرم والمروءة؟ والله لا فعلته أبدًا. وقال رحمه الله: ماتَ لي مملوكٌ بالرُّها، وخلَّف ولدًا لم يكن فِي زمانه أحسنَ منه صورة، ولا أظرف، وكان من لا يفهم باطن حالي يتَّهمني به، وكنتُ أحبه، وهو عندي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

أعز من الولد، وبلغ عشرين سنة، فضرب غلامًا له، فمات، فاستغاث أولياؤه، فقلتُ: أَثْبتوا أَنَّه القاتل. فأثبتوا، وجاؤوا يطلبون الثَّأر، فاجتمعَ عليهم مماليكي وخواصي، وقالوا: نحن نعطيكم عشر دِيَات. فأَبَوْا، وقالوا: لا بُدَّ من الاستيفاء. فطردوهم، فوقفوا لي، وقالوا: قد ثَبَتَ حقُّنا. فقلتُ: سَلِّموه إليهم. فسلموه، فقتلوه، ولو طلبوا ملكي دفعته إليهم، ولكن خفت من الله أن أمنعهم حَقَّهم لغرض نفسي. وقال المصنف رحمه الله: كنتُ عنده بخِلاط، فقدم عليه النِّظام بن أبي الحديد، ومعه نَعْلُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَّفْتُه بقدومه، فقال: يحضر. فلما دخل عليه، ومعه النَّعل، قام قائمًا، ونزل من الإيوان، وأخذ النَّعل، فقبَّله، ووضعه على عينيه، وبكى، وخلع على النِّظام، وأعطاه نفقة، وأجرى عليه جرايةً، وقال: تكون فِي الصُّحبة نتبرك به. وانفصلتُ عن خِلاط، فأقام النِّظام عنده، فبلغني أَنَّه قال: هذا النِّظام يطوف البلاد، وما يقيم عندنا، وأنا أوثر أن يكون عندي قطعة من النَّعْل أتبرك به. وعَزَمَ على أخذ قطعةٍ منه، ثم بات مفكِّرًا، ورجع عن ذاك الخاطر، ولما أَخَذَ دمشق حكى لي، قال: عزمتُ على أَخْذِ قطعةٍ منه، ثم فكرتُ، فقلتُ: ربما يجيء بعدي مَنْ يفعل مِثْل فعلي، فيتسلسل الحال، ويؤدي إِلَى استئصاله بمرَّة، فتركتُه، وقلتُ: "مَنْ تَرَك شيئًا لله عَوَّضه الله خيرًا منه" (¬1). ثم أقام عندي النِّظام شهرًا، واتَّفق أَنَّه مات، فأوصى لي بالنَّعْل، فأخذتُ النَّعْل بأَسْره. ولما فتح دمشق اشترى دار قَيماز النَّجْمي، وجعلها دار حديث، وتَرَكَ النَّعل فيها، ونقل إليها الكُتُبَ الثمينة، وأوقف عليها الأوقافَ الكثيرة. ذِكْرُ ما بنى من الأماكن: بنى مسجد أبي الدَّرْداء - رضي الله عنه - بقلعة دمشق، وَزَخْرفه، وكان عامّة مقدمه فيه. والمسجد الذي عند باب النَّصر، وخان الزنجاري، ومسجد جراح بالباب الصَّغير، ومسجد القصب بالعُقَيْبة، وجامع بيت الإِبر، ووقف عليها الأوقاف، وبنى بُسْتان النَّيرب بُنْيانًا عظيمًا. ¬

_ (¬1) أخرج نحوه أَحْمد فِي "مسنده" (20739)، بإسنادِ صحيح، ولم أقف عليه بهذا اللفظ مرفوعًا، والله أعلم.

وكان فَطِنًا، ذكيًّا، حَسَنَ الظَّنِّ بالفقراء، يحسن إليهم ويزورهم، ويتفقدهم بالمال والأطعمة، وقضيته مع أصحاب الشيخ حياة لما بدَّدوا المُسْكر من بين يديه مشهورة، وكان يقول: وبها نُصِرْت. وكان طول ليالي رمضان لا يغلق باب القلعة، وجِفان الحلاوات خارجة إِلَى الجامع، والزَّوايا، والرُّبُط، وبيت الإبر، والمِزَّة إِلَى أبي القاسم السعردي، وعمر الخلخال والي الجبل، وغيره، وكان إنعامه العامُّ شاملًا للخاصِّ والعام. [ولمَّا فارقت دمشق بسبب ما جرى فِي حديث القدس طلعت إِلَى الكرك، وأقمت عند الملك الناصر، وكنت أتردد إِلَى القدس ونابلس من سنة ست وعشرين (¬1) إِلَى سنة ثلاث وثلاثين، ثم جرت أسباب أوجبت قدومي إِلَى دمشق، فَسُرَّ بقدومي، وزارني، وأحسن إليّ، وفصل لي خلعة سنية، فامتنعت من لبسها، فقال: لا بالله، ولو ساعة، ليعلم النَّاس بأنك قد رضيت، وزال ما كان بيننا من الوحشة. وبعث لي بغلته الخاص، وعشرة آلاف درهم. وجلست فِي جامع التوبة ليلة عرفة، وحضر، وبكى، وأعتق مماليكه وجواريه، وقال لي: قد رجع الحق إِلَى نصابه، ومثلك يصلح أن يكون فِي خرائب نابلس والقدس والكرك! والله إن دمشق تغار عليك أن تكون فِي غيرها. وأقمنا معه من سنة ثلاث وثلاثين إِلَى أن تُوفِّي فِي سنة خمس وثلاثين وست مئة فِي أرغد عيش، وأحسن حال، وأهنا بال] (¬2). ذِكْرُ وفاته، رحمه الله تعالى: مرض فِي رجب مرضين مختلفين، [فِي الأعالي والأسافل، وكنت كل يوم أعوده أنا والأماثل] (2)، فكان الجرائحي يُخرج العِظام من رأسه، وهو يسبِّحُ الله ويحمده، ويقدِّسه ويوحده، ثم اشتدَّ به الذَّرَب، فكان يتحاملُ إِلَى أَنْ غُلب، فلما يئس من نفسه قال لوزيره جمال الدين بن جرير: يَا جمال الدِّين، فِي أيش تكفنوني؟ فقال: حاشاك [من ذلك] (2)، فقال: دَعْني مِنْ هذا، فما بقي فيَّ قوة تحملني أكثر من نهار غد، [وتواروني] (2) فقال: عندنا فِي الخزانة نصافي. فقال: حاشا لله أن تكفني من هذه ¬

_ (¬1) كذا قال هنا، والصحيح أنَّه غادر دمشق فِي أواخر سنة (627 هـ)، انظر ص 305 من هذا الجزء. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

الخزانة [التي لا تخلو من الخيانة] (¬1). وكان عماد الدين بن موسك حاضرًا، فقال له: قُمْ، وأحضرِ الوديعة التي لي عندك. فقام عماد الدين، ومضى، وعاد، وعلى رأسه مئزر صوف أبيض، [تلوح منه أنوار الرِّضى] (1)، ففتحه، وإذا فيه خِرق الفقراء، وطاقيات الأولياء مثل الشيخ مسعود الرُّهاوي، والشيخ يونس البيطار، وعلي الفارسيّ، وجماعة الشيوخ، وكان فِي الثياب إزارٌ عتيق ما يساوي خمسة قراطيس، فقال: هذا يكون على جسدي، [أتقي به حر الوطيس] (1)، فإنَّ صاحبه كان من الأبدال، [وسادات الرجال] (1)، وكان حبشيًّا أقام بجبل الرُّها يزرع قطعةَ زعفران، يتقوَّت بها [برهة من الزمان] (1)، وكنتُ أصعد إِلَى زيارته، وأعرض عليه المال، فيمتنع، فقلتُ له يومًا: أنا أعرض عليك الدُّنيا، ولا تقبل، فأريدُ من أثرك ما أجعله فِي كفني [فقال: أفعل.] (1) فأعطاني هذا الإزار، [وقال] (1): قد أحرمت فيه عشرين حجة. وكان آخر كلام الأشرف رحمه الله: لا إله إلَّا الله. ثم مات يوم الخميس رابع المحرم، ودفن بالقلعة، ثم نقل إِلَى تُرْبته بالكلاسة فِي جمادى الأولى (¬2). ولما كان بعد موته بأيام قَدِمَ رجلٌ من أهل حَرَّان، كان له عليه فِي كلِّ سنة شقاق قطن ولأولاده، ومئتا دِرْهم، فجاء إِلَى قبره، وجعل يبكي، ويقول: كان لي عليه رسم. فقال له بعضُ النَّاس: هو ذا يسمعك، [فإن أراد يعطيك فهو يعطيك] (1). فانكسر قلبه، وخرج إِلَى السُّوق، فالتقاه تاجرٌ من أهل بلده، وقال له: كم أنتظرك، خبأتُ لك من الزكاة مئتا درهم، وشقاقًا لأولادك. وأعطاه إياها، وقال: هذه رسم فِي كلِّ سنة لك عليّ. قال المصنِّف رحمه الله: وحكى لي الشيخ الفقيه أبو محمَّد محمَّد اليونيني ببَعْلَبَك فِي سنة خمس وأربعين [وست مئة] (1) عند عودي من بغداد، قال: حكى لي فقيرٌ صالحٌ من جبل لبنان، قال: لما ماتَ الأشرف رأيتُه فِي المنام، وعليه ثياب خُضْر، وهو يطير بين السماء والأرض مع جماعةٍ من الأولياء، فقلت له: يَا موسى أيش تعمل مع هؤلاء، وأنتَ كنتَ تفعل فِي الدُّنيا وتصنع؟ فالتفتَ إِلَى وتبسَّم، وقال: الجسدُ الذي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) قال إبراهيم عفا الله عنه: وما زال قبره ظاهرًا فيها، بالقرب من ضريح السلطان صلاح الدين يوسف بن أَيُّوب، وليس على القبر ما يدل عليه.

كان يفعل تلك الأفاعيل تركناه عندكم، والرُّوح التي كانت تحبُّ هؤلاء قد صارت معهم. فرحمه الله، ورضي عنه رضي الأبرار، وجمعنا وإياه فِي دار القرار. وكان الأشرف لما أحسَّ بوفاته فِي آخر سنة أربعٍ وثلاثين، وكنت أغشاه فِي مرضه، فقلت له: استعدَّ للقاء الله، فما يضرّك. قال: لا والله بل ينفعني. ففرَّق البلاد، وأعتق مئتي مملوك وجارية، ووقف دار فَرُّخْشاه التي يقال لها: دار السَّعادة، و [بستان] (¬1) النَّيرب على ابنته، وأوصى لها بجميع الجواهر. ذِكْرُ ما جرى بعد وفاته: لما انقضى عزاؤه ركب أخوه الملك الصَّالح إسماعيل ركوبَ السَّلْطنة، وترجَّل النَّاس فِي ركابه، وصاحبُ حِمْص إِلَى جانبه، وعِزُّ الذين أيبك [قدامه] (1) قد حمل الغاشية بين يديه، وعاد أسدُ الدِّين إِلَى حِمْص، وعز الدين إِلَى صرخد، وجاءت نجدة حلب، ووصلتِ الأخبار بوصول التتر إِلَى دقوقا، وصادر الصَّالح إسماعيل جماعةً من دمشق اتهمهم بالكامل، منهم العلم تعاسيف، وأولاد ابن مزهر، وابن عريف البدوي، وأخذ جميع مالهم، وحَبَسَ أولاد ابن مزهر ببُصْرى مقيَّدين، فأقاما مدة سنين، ومات أحدهما فِي الحبس مقيدًا، وأخرج الحريريَّ من قلعة عزَّتا، ومنعه من دخول دمشق، وجاء عسكر الكامل إِلَى قريب دمشق، وقَسَمَ الصَّالح الأبراج على الأمراء، وحصَّنها، وغلقت أبوابها، ووصل عِزُّ الدين أيبك من صرخد، وأمر بفَتْح أبوابها ففتحت، وجاء النَّاصر داود، فنزل المِزَّة، ونزل مجير الدين وتقي الدين القابون، وأحدق العسكر بالبلد، وجاء الكامل، فنزل عند مشهد القدم، وقطع المياه عن دمشق، واشتدَّ الحصار، وغلتِ الأسعار، ونصبوا على الأبواب المجانيق، وسدُّوا الأبواب بمرَّة إلَّا بابَ الفرج وباب النَّصْر، ورَدَّ الكامل ماء بردى إِلَى ثورا، وأخرب الصَّالح العُقَيبة والطَّواحين خرابًا شنيعًا، وأحرق قَصْر حجاج، والشَّاغور، وبدَّع بظاهر المدينة، وأخربه خرابًا لم يُعهد مثله، وأصبح أهل هذه الأماكن على الطرق يُكْدُون، واحترق جماعةٌ فِي دورهم. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

يحيى بن هبة الله بن الحسن

وحُكي [لي] (¬1) أَنَّ الصَّالح [أو ابنه] (1) وقف على العُقَيبة، وقال للزَّرَّاقين: أحرقوها. فضربوها بالنَّار، وكان لرجلٍ عشر بنات، فقال لهن: أخرجن. فقلن: لا والله، النَّار ولا العار، ما نفتضح بين النَّاس. فاحترقت الدَّار وهُنَّ فيها، [فاحترقن] (1) ولم يخرجن، وجرت فيها قبائح [وفضائح] (1). وزحف النَّاصر إِلَى باب توما، وعلَّق النقوب فيه، ولم يبق إلَّا فتح البلد، ثم تأخَّر إِلَى أرض برزة، ثم آل الأمر إِلَى أن أعطى الكامل لأخيه بَعْلَبَك مع بُصْرى، وتسلَّم دمشق، وكان الفلك المسيري قد حبسه الأشرف فِي حبس الحيات بالقلعة، فأخرجَ، ونُقِلَ الأشرف إِلَى الكلاسة إِلَى تربته، وعَبَرَ الكامل إِلَى القلعة. يحيى بن هبة الله بن الحسن (¬2) أبو البركات، القاضي شمس الدين بن سنين الدَّوْلة. كان فقيهًا، إمامًا، فاضلًا، نَزِهًا، عفيفًا، عادلًا، مُنصفًا، حافظًا لقوانين الشَّريعة، لا تأخذه فِي الله لومة لائم، ولي القضاء زمانًا بالبيت المقدس، ثم وليه بدمشق مُدَّة، [وكان صاحبي وصديقي، يزورني، ويحضر مجالسي] (1)، وكان الأشرف يحبُّه، ويثني عليه [عندي] (1)، ويقول: ما ولي دمشق مثله. تُوفِّي يوم الأحد سادس ذي القَعْدة، وصلَّى عليه ولده القاضي صدر الدين بجامع دمشق، وحمل إِلَى قاسيون، وكانت جنازته عظيمة، وتأسَّف النَّاس عليه. [سمع الحديث من جماعة، منهم أبو عبد الله محمَّد بن صدقة الحراني، وكان له إجازة من الصائن أخي الحافظ ابن عساكر] (1). السنة السادسة والثلاثون وست مئة فيها قَبَضَ الجوادُ على الصَّفي بن مرزوق، وأخذ منه أربع مئة أَلْف دينار، وحبسه فِي قلعة حِمْص، فأقام ثلاث سنين لا يرى الضوء. وكان ابنُ مرزوق يقيم بالجواد، ويكتب إليه الجواد: مملوكه يونس. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 491 - 492، و"المذيل على الروضتين": 2/ 44 - 45، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

وفيها اتَّفق الجواد والصَّالح أَيُّوب على مقايضة دمشق بسنجار وعانة، وسببه ضيقُ عَطَن الجواد، وعَجْزه عن القيام بمملكة الشَّام، وكان يقول [لي] (¬1): أنا أيش أعمل بملك باز، وكلب أحبُّ إليَّ من المُلْك. وكان أسدُ الدِّين قد جاء إِلَى دمشق، فأقام بها، وقُتِلَ عماد الدِّين بن الشيخ فِي قلعة دمشق، وكان الجواد يُظْهر أَنَّه النَّائب بدمشق عن العادل صاحب مِصْر، فلما قُتِلَ ابنُ الشيخ، وأقام أسد الدين بدمشق خاف الجَوَاد من صاحب مِصْر، وظن أَنَّ صاحب حِمْص يأخذ منه دمشق، فخرج إِلَى البرية، وكاتَبَ الصَّالح أَيُّوب، واتَّفقا على المقايضة، وعَلِمَ صاحبُ حمص، فتوجَّه إِلَى حمص، وكان فِي قلب الصَّالح منه لما جرى بينه وبين الكامل، ودخل الصَّالح دمشق غُرَّة جمادى الأولى، والجَوَادُ بين يديه قد حَمَل الغاشية من تحت القلعة، وحملها المُظَفَّر صاحب حماة من باب الحديد، واتفق أَنَّ سنجق الصَّالح انكسر عند باب القلعة، ونزل الصَّالح فِي القلعة، والجواد فِي دار فَرُّخْشاه، ثم نَدِمَ الجوادُ، فاستدعى المقدَّمين والجند، واستحلفهم، وجمع الصَّالح أصحابه عنده فِي القلعة، وأراد أن يحرق دار فَرُّخْشاه، فدخل ابنُ جرير فِي الوسط، وأصلحَ الحال، وخرج الجَوَاد إِلَى النَّيْرب، واجتمع الخَلْق على باب النَّصر يدعون عليه، ويسبُّونه فِي وجهه، وكان قد سَلَّط عليهم خادمًا لبنت كُرْجي يقال له: النَّاصح، فأخذ أموال النَّاس وصادرهم، وعلَّقهم، وضربهم، فيقال: إنَّه أخذ من النَّاس ست مئة أَلْف دِرْهم، وأرسل الصَّالح أَيُّوب إِلَى الجواد ليعطي النَّاس أموالهم، فما التفتَ، وسافر، ومات، ولم يعطِ أحدًا شيئًا، وبقيت فِي ذِمَّته. وأما النَّاصح الخادم، فإنَّه أقام بحماة، وتوصَّل -لما أخذ الصَّالح أَيُّوب مصر- إِلَى مِصْر، وخدم الصَّالح، وكان لما قُتِلَ ابنُ الشيخ عماد الدين قد أخذ الجوادُ ثيابه، وفيها فَرَجية حمراء، فأعطاها للنَّاصح، وعلم معين الدِّين، فقال للصَّالح: هذا النَّاصح الذي فَعَلَ بالنَّاس ما فعل، ومالأ على قَتْلِ أخي ولبس فَرَجيته! فرماه الصَّالح فِي الجُبِّ، واستأصله، فمات فِي الجُبِّ على أقبح صورة من [الفقر و] (1) القِلَّة والقمل، واستوزر الصَّالحُ جمال الدين بن جرير، فأقام أيامًا، ومات. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

محمود بن أحمد

وفي رمضان توجَّه الصالح [أَيُّوب] (¬1) إِلَى خربة اللصوص على عَزْم ديار مِصْر، وكاتَبَ عمه الصَّالح إسماعيل صاحب بعلبك ليسير إليه، وكان أَيُّوب لما دخل دمشق جاء إليه إسماعيل [من بعلبك] (1)، واجتمعا، وتحالفا، وتعاهدا، ورجع إسماعيل إِلَى بَعْلَبَك، وسار أَيُّوب إِلَى نابُلُس فِي شوَّال، فاستولى عليها، وعلى بلاد النَّاصر، وتوجَّه النَّاصر إِلَى مِصْر إِلَى العادل، وأقام أَيُّوب بنابُلُس ينتظر وصول عَمِّه إسماعيل [وكان ولده وعسكره عنده، وكتبه واردة إِلَى نابلس يقول للصالح أَيُّوب: إنني واصل.] (1) وكان ناصر الدِّين يغمور مع ابنِ الصَّالح إسماعيل بنابُلُس دائرٌ على الأُمراء والجند يحلِّفهم على أَيُّوب، والدسائس تعمل فِي دمشق، و [بلغني أن] (1) الأموال [كانت] (1) تفرَّق فِي دار النجم ابن سلام، [وحكى لي الصالح أَيُّوب بمصر القضية، وقال: إن فتح الله على يدي دمشق لأفعلن به وأصنع] (1)، ومن تكبُّر أَيُّوب [وتجبره] (1) لا يتجاسر أحدٌ أن يخبره، [وخرجت السنة على هذا] (1). وفيها تُوفِّي محمود بن أَحْمد (¬2) جمال الدِّين، الحَصِيري، الشيخ، الإمام، العلامة. أصله من بُخارى من قريةٍ يقال لها: حَصِير (¬3). تفقَّه فِي بلده، وسمع الحديث [صحيح مسلم وغيره] (1) وقدم الشَّام، ودرَّس بالنُّورية، وانتهت إليه رياسة أصحاب أبي حنيفة، وصنَّف الكُتُبَ الحِسان، وشرح "الجامع الكبير"، وقرأ عليه المعظم "الجامع الكبير" وغيره، [وقرأت عليه "الجامع الصغير" والقدوري، وكتب لي خطه عليهما بالاعتراف لي بفنون العلوم ومعرفة الأحاديث والمذاهب، ] (1) وكان كثير الصدقات، غزير الدمعة، عاقلًا، نزهًا عفيفًا، [وكان يحضر مجالسي، وحجَّ من الشَّام] (1)، وتوفي يوم الأحد ثامن صفر، ودفن بمقابر الصوفية عند المُنَيْبع، وكان المعظَّم يحترمه ويكرمه، وكذا ولده النَّاصر. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 499، و"المذيل على الروضتين": 2/ 46، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) كذا قال، وهو وهم، وقد نقل عنه المنذري قوله: كان أبي يُعرف بالتاجري، وإنما ببخارى محلة يعمل فيها الحصر، ونحن كُنَّا بها.

عماد الدين بن شيخ الشيوخ

عماد الدِّين بن شيخ الشيوخ (¬1) قد ذكرنا أَنَّه كان السبب فِي إعطاء دمشق للجواد، فلما مضى إِلَى [مصر لامه العادل على ذلك، وتهدده، فقال: أنا أمضي إِلَى] (2) دمشق، وأنزل فِي القلعة، وأبعث بالجواد إليك، وإن امتنع أقمتُ نائبًا عنك. فسار إِلَى دمشق وذلك قبل المقايضة، ونزل بقلعة دمشق، وأَمَرَ ونهى، وقال: أنا نائب السُّلْطان، وقال للجواد: تسيرُ إِلَى مِصْر. وكان أسد الدِّين صاحب حِمْص بدمشق، [قالوا] (2): فاتَّفق هو والجواد على قَتْلِ ابنِ الشيخ، فاستدعى صاحبُ حِمْص بعضَ نصارى قارة، وأمره بقَتْله، فركب ابنُ الشيخ يومًا من القلعة وقت العَصْر، فوثَبَ عليه النَّصْراني، فضربه بالسَّكاكين حتَّى قتله، وذلك فِي جمادى الأولى. ودخل الصَّالح أَيُّوب دمشق فِي جمادى الآخرة، وحَبَسَ النَّصراني أيامًا ثم أطلق. [قلت: وأسد الدين لما قُتل ابنُ الشيخ كان فِي حمص، وإنَّما شنَّعوا عليه] (¬2). وذكر سَعْد الدِّين مسعود بن تاج الدين شيخ الشيوخ ابن عم عماد الدين، وهو كان حاضر القضية، قال: خرجنا من القاهرة فِي ربيع الأول (¬3) [وذكر أن عماد الدين لما توجه ودعه إخوته، فقال له أخوه] فخر الدين: ما أرى رواحك مصلحة، وربما آذاك ابنُ ممدود. فقال: أنا ملَّكْتُه دمشق، فكيف يخالفني؟ فقال: صدقتَ، أَنْتَ فارقته أميرًا، وتعود إليه وقد صار سُلْطانًا، فتطلب منه تسليم دمشق، وتعوضه الإسكندرية، ويقيم عندكم، فكيف تسمح نفسه بهذا؟ وإذا أبيت، فانزلْ على طبرية، وكاتِبْه، فإنْ أجابَ وإلا فتقيم مكانك، وتعرِّف العادل. فلم يلتفت، وسار إِلَى دمشق. [قال سعد الدِّين] (2): فنزل المصلَّى، وجاء الجواد للقائه، قال سعد الدين: وكنتُ أفتح شيش علم الدِّين، فأخذه الجَوَاد، وقال: هذا شيءٌ يلزمني خِدْمة المولى عماد الدين، لأَنَّه ¬

_ (¬1) هو عمر بن صدر الدين شيخ الشيوخ محمَّد بن عمر بن حموية، له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 506 - 507، و"المذيل على الروضتين": 2/ 47، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) فِي (ح): وودع عماد الدين إخوته، فقال له فخر الدين ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

جعلني من النَّاس، وملَّكني دمشق. وسار معنا، فأنزل عماد الدين فِي القلعة بدار المَسَرَّة، وعاد أسد الدين [صاحب حمص] (¬1) إِلَى دمشق، وبعث الجواد لعماد الدِّين الذهب [والخلع] (1) والخيل (¬2) والقُماش، [قال سعد الدين] (1): وما وصلني من مطرها رِشاش مع ملازمتي لعماد الدِّين لمرضه، فإنَّه ما خرج من القاهرة إلَّا فِي مِحَفَّة، فكنت كما قيل: [من البسيط] إنْ يطبخوا يوسعونا من دخانهمُ ... وليس يبلغنا ما تنضج النَّارُ وكان عماد الدِّين قد فرَّق الخِلَع فِي أصحابه، ولما تحقق الجواد أنَّ رسالةَ عماد الدين أَنْ يخرج من دمشق، ويعوَّض عنها إسكندرية، رَسَمَ عليه فِي الدَّار، ومنعه من الرُّكوب، وجاء إِلَى عماد الدين، وقال: إذا أخذتم مني دمشق، وأعطيتموني الإسكندرية، فلا بُدَّ ما يكون لكم بدمشق نائب، فاحسبوني ذلك النَّائب، وإلا فقد بَعَثَ إليَّ الصَّالح [نجم الدين] (1) أَيُّوب أُسَلِّم إليه دمشق، وآخذ منه سِنْجار. فقال له ابنُ الشيخ: إذا فعلتَ هذا أصلحتَ بين الصَّالح والعادل، وتبقى أنتَ بغير شيء. فقام، وخَرَجَ مُغْضَبًا، وحكى [الجواد] (1) لأسد الدِّين ما جرى [بينهما] (1). فقال: والله لئن اتَّفق الصَّالح والعادل ليتركونا نشحذ فِي المخالي. وجاء أسدُ الدّين إِلَى ابنِ الشيخ، وقال له: المصلحة أن تكتب إِلَى العادل، وتستنزله عن هذا. فقال ابنُ الشيخ: حتَّى أروح إِلَى برزة، وأُصلي صلاة الاستخارة. فقال له أسد الدين: تريد أن تروح إِلَى برزة، وتهرب إِلَى بَعْلَبَك. فغضب، وانفصلا على هذا، ودَسَّ الجوادُ إِلَى عماد الدِّين ابنَ قاضي بَعْلَبَك ليسقيه سُمًّا، فلم يفعل، وكان ابن الشيخ مريضًا، فاتّفقوا على قَتْله، وتوجَّه أسدُ الدِّين إِلَى حِمْص، فلما كان يوم الثلاثاء سادس وعشرين ربيع الأول بَعَثَ الجواد إِلَى عماد الدِّين يقول: إنْ شِئْتَ أَنْ تركب وتتنزَّه، فاركبْ إِلَى ظاهر البلد. فاعتقد أَنَّ ذلك بوادر رضي، فلبس فَرَجية كان الجَوَاد بَعَثَ إليه بها، وشدُّوا له حِصانًا بَعَثَ به إليه، فلما خَرَجَ من باب الدَّار قابله [واحد] (1) واقف، وبيده قِصَّة، فاستغاثَ، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) هنا خرم فِي نسخة (ح) يأتي على سائر الكتاب، وثمة قطعة برقم (2138) تبدأ من سنة (620 هـ)، وتنتهي مع نهاية الكتاب، عليها اعتمدت فِي تحقيق ما بقي منه، ورمزتُ لها بالحرف (ت).

جمال الدين بن جرير، وزير الأشرف

فأراد حاجبه أن يأخذها منه، فقال: لي مع الصَّاحب شغل. فقال عماد الدين: دعوه. فتقدَّم إليه، وناوله القِصَّة، وضربه بسكِّين على خاصرته بَدَّد مصارينه، وجاء آخر، فضربه بسكِّين على ظهره، فمات، فردُّوه إِلَى الدَّار ميتًا، وبعث الجواد، فأخذ جميع ماله وخَيله ومماليكه، وكَتَبَ محضرًا أنَّه ما مالأَ على قَتْله، فامتنع مماليكُ عماد الدِّين من خِدْمة الجواد، وقالوا: أنتَ تدَّعي أنك ما قتلته، وهذا له إخوة وَوَرَثَة، فبأيِّ طريق تأخذ ماله؟ فحبسهم. قال سعد الدين: وبَعَثَ الجواد إِلَى والدي [تاج الدين] (¬1)، وقال: اطلع، فَجهِّزْ ابنَ أخيك. فجهزناه، وأخرجناه، وكانت له جِنازةٌ عظيمة، لأَنَّه قُتِلَ مظلومًا، وحملناه إِلَى قاسيون، فدفناه فِي زاوية الشيخ سَعْد الدِّين، وخيَّطْنا جراحاته، [وصلى عليه سعد الدين ابن عمه] (1). وقال سعد الدين [بن تاج الدين] (1): ورثيته [ببيتين] (1)، فقلتُ: [من الوافر] فبعدكَ لا رَقَتْ عبراتُ عينٍ ... بأحزانٍ ولا سَكَنَ الغرامُ ولا هَدَأَتْ جوانحنا قليلًا ... على فقدان مثلك والسَّلامُ [قال] (1): وكان له يوم مات ستّ وخمسون سنة، وكان قد كَتَبَ على تقويم: [من الطويل] إذا كان حُكْمُ النَّجْمِ لا شكَّ واقعًا ... فما سَعْيُنا فِي دَفْعه بنجيحِ وإنْ كان بالتَّدْبير يمكن رَدُّه ... عَلِمْنا بأَنَّ الكُلَّ غيرُ صحيحِ جمال الدِّين بن جرير، وزير الأشرف (¬2) أصله من الرَّقَّة، [وكان يتردَّد إليَّ فِي خانكاه الرقة فِي سنة اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة وست مئة، ] (1) وكان له بُسْتان، ومُلْك يسيرٌ يعيش منه، ولم يكن يعرف الأشرف حينئذٍ، فما زال يتوصَّل إليه حتَّى استوزره بدمشق، ولما مات الأشرف استوزره أَيُّوب أيامًا قلائل دون الشهر، وكانت وفاته يوم الجمعة سابع وعشرين جمادى الآخرة بالخوانيق، ودفن بمقابر الصُّوفية عند المُنَيبع، وكان يتردَّد إِلَى زيارة الصَّالحين، وفيه ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) هو علي بن جرير الرَّقي، وله ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 510، و"المذيل على الروضتين": 2/ 48، و"تاريخ الإِسلام" للذهبي: (وفيات سنة 636 هـ).

أبو عبد الله، البرزالي، المحدث

يقول نَصْر بن محمَّد الحنفي: [من الكامل] مَنْ قال أهل الشَّام قومٌ كلُّهمْ ... بَقَرٌ فليسَ عليه فيه جُناحُ لو لم يصحَّ مقالُهم فيه لما ... أضحى يسوسُ أمورَهُمْ فلَّاحُ [قلت: ما كان ابن جرير فلاحًا، وعامة الوزراء كانوا فلاحين مثل ابن هبيرة وغيره] (¬1). أبو عبد الله، البِرْزالي، المحدِّث (¬2) توفِّي بحماة رابع وعشرين رمضان، ودُفِنَ بها. السَّنة السَّابعة والثَّلاثون وست مئة فيها هَجَمَ الصَّالح إسماعيل دمشق، ومعه أسد الدين صاحب حمص يوم الثّلاثاء سابع وعشرين صفر، وكان الصَّالح أَيُّوب مقيمًا بنابلس، وإسماعيل ببَعْلَبَك يكاتبه، ويَعِدُه أَنَّه واصل إِلَى خِدْمته، وكان أسدُ الدِّين قد جاء إِلَى الزراعة، واجتمع بإسماعيل، واتَّفقا على أَيُّوب، وأن تكون البلاد بينهما مناصفة، وكان ابن إسماعيل وابن يغمور بنابُلُس كما ذكرنا، وكان عِزُّ الدِّين أيبك مقيمًا بصَرْخد، لم ينزل إِلَى خدمة أَيُّوب، واتَّفق مع إسماعيل على أَيُّوب، وكتب إسماعيل [إِلَى أَيُّوب] (1) يطلب ولده ليصل إليه، ويقيم عوضه ببعلبك. فبعَثَ إليه به، وكل هذا وأم عام نائمة، وكان ذلك بترتيب [السَّامري] (1) أبي الحسن بن غزال المتطبّب؛ وزير إسماعيل، وكان الصَّالح أَيُّوب قد سيَّر سعدَ الدِّين الحكيم من نابُلُس، ومعه الطُّيور إِلَى بَعْلَبَك يعرِّفه أخبار الصَّالح إسماعيل كل وقت ومسيره، فكان سعد الدين يكتُبُ الكُتُبَ، ويربطها على جناح الطَّير، فيسرق ابن غزال الطَّير، ويكتُبُ إِلَى أَيُّوب بما يريد، فاطمأنَّ إليهم، [وما كان عنده دهاء] (1) وكان سليم الصَّدْر، وإسماعيل يبعث الدَّراهم والخِلَع إِلَى دار ابنِ سلام -على ما قالوا- تفرَّق فِي المقدَّمين، وخرج إسماعيل من بَعْلَبَك بالفارس ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) هو أبو عبد الله، محمَّد بن يوسف، وله ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 514 - 515، و"المذيل على الروضتين": 2/ 48 - 49، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

والرَّاجل على أنَّه متوجِّه إِلَى نابُلُس على بانياس، فبات بالمجدل، وكتب بطاقةً إِلَى أَيُّوب يخبره بوصوله إليه، وقام وقت السَّحَر، وقَصَدَ دمشق، ووصل عقبة دمر، ووقف، وجاء صاحب حِمْص من وادي منين، وقصدوا إِلَى باب الفراديس، ففتحوه فِي ساعةٍ واحدة، وما كان عليه أحد، ودخلوا، فنزل الصَّالح فِي داره بدرب الشعارين، وأول من دخل عليه، ورَقَصَ بين يديه وهنَّأه، وقال: إِلَى بيتك جِئْتَ نجمُ الدِّين بنُ سلام، ونزل صاحبُ حمص فِي داره، وأصبحوا يوم الأربعاء ثامن وعشرين صفر، فزحفوا على القلعة، ونقبوها من ناحية باب الفرج، وهتكوا حُرْمتها، ودخلوها، وبها المغيث عمرُ بنُ الصَّالح أَيُّوب، فاعتقله إسماعيل فِي بُرْج، واستولى على ما فِي القلعة، ولم يكن بها ذخائر ولا عُدَّة، [وكان الصالح أَيُّوب قد ركن إِلَى أيمان إسماعيل وعهوده ومواثيقه، وما ظن أنَّه ينكث أيمانه، ولا يفكر فِي عواقبه، وضيَّع أَيُّوب الحَزْم] (¬1)، فبلغ الصالح أَيُّوب ما جرى، وقيل له: لم تؤخذ القلعة، فخلع على عمَّيه مجير الدِّين وتقيِّ الدِّين والركين وألتميش وغيرهم، وأعطاهم الأموال، وقال: ما الرأي؟ قالوا: نسوق إِلَى دمشق قبل أن تؤخذ القلعة. فخرجوا من نابلُس، ونزلوا القصير، وبلغهم أخذ القلعة، [فساروا] (1) عن أَيُّوب بأسرهم، وخافوا على [أثقالهم و] (1) أولادهم وأهلهم بدمشق، وكان الفساد قد لعب فيهم، فرحلوا إِلَى دمشق، وبقي أَيُّوب فِي مماليكه وغِلْمانه، ومعه جاريته أُمُّ خليل، فرحل من القصير يريد نابُلُس على طريق جينين، وطمع فيه أهلُ الغور والقبائل، وكان مقدَّمهم شيخٌ جاهل يقال له قبل من أهل بَيْسان -قد سَفَك الدِّماء، والتقتِ الجيوشُ بسببه-[ورأيته بمصر بعدما تملكها أَيُّوب، وقد عفا عنه، وأحسن إليه] (1) - فتَّبعوه، وما زالوا وراءه وهو يحمل عليهم، فيفرِّق جَمْعهم، وأخذوا بعضَ ثَقَلَه، ووصل إِلَى سَبَسْطية، فنزل عليها، وكان الوزيري قد عاد إِلَى نابُلُس، فأرسل إليه يقول: قد مضى ما مضى، وما زالت الملوكُ كذا، وقد جئتُ مستجيرًا بابن عمِّي. ونَزَلَ فِي الدَّار بنابُلُس، واتَّفق عَوْدُ النَّاصر من مِصْر على غير رضي، فوصل [إِلَى] (1) الكرك، وكَتَبَ الوزيريُّ إليه يخبره الخبر، فبعث النَّاصرُ عمادَ الدِّين بن موسك، والظَّهير بن سُنْقُر الحلبي فِي ثلاث مئة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

فارس إِلَى نابُلُس، فركب أَيُّوب، والتقاهم، فخدموه، وقالوا: طَيِّبْ قلبك، إِلَى بيتك جِئْتَ. فقال: لا ينظر ابنُ عمي إِلَى ما فعلت، فما زالت الملوك كذا، وقد جئتُ إليه أستجير به. فقالوا: قد أجارك، وما عليك بأس. وأقاموا أيامًا حول الدَّار، فلما كان فِي بعض الليالي ضربوا بوق النَّفير، وقيل: جاءتِ الفرنج. فركب النَّاس، ومماليكُ الصَّالح، ووصلوا إِلَى سَبَسْطية، وجاء عماد الدين والظهير والعسكر إِلَى الدَّار، ودخل عليه الظَّهير، وقال: تطلع إِلَى الكَرَك، فإنَّ ابنَ عَمِّك له بك اجتماع. وأخذ سيفه، [(¬1) وبلغني] أَنَّ جاريته كانت حاملًا، فأسقطتْ، فأخذوه، وتوجَّهوا إِلَى الكَرَك. قال المصنِّف رحمه الله: ولما اجتمعتُ به فِي سنة تسع وثلاثين بالقاهرة حكى لي صورةَ الحال، قال: أركبوني بغلةً بغير مهماز ولا مقرعة، وساروا بي إِلَى البرية فِي ثلاثة أيام، والله ما كلَّمْتُ أحدًا منهم كلمة، ولا أكلتُ لهم طعامًا حتَّى جاءني خطيبُ البرية، ومعه ثردة عليها دجاجة، فأكلتُ منها، وأقاموا بي فِي البرية يومين، ولم أعلم أيش كان المقصود، وإذا بهم يريدوا يأخذوا طالعًا نحسًا، يقتضي أنني لا أخرج من الكَرَك، ثم أدخلوني الكَرَك ليلًا على الطَّالع الذي كان سبب سعادتي ونحوسهم، ووكل بي مملوكًا له فَظًّا غليظًا، يقال له: زريق، فكان أَضَرَّ عليَّ مِنْ كلِّ ما جرى، فأقمت عندهم إِلَى رمضان؛ سبعة أشهر، ولقد كان عندي خادمٌ صغير، فاتَّفق أَنَّه أكل ليلة كثيرًا، فأتخم، وبال على البسط، فأخذت البساط بيدي والخادم، وقمتُ من الإيوان إِلَى قريب الدِّهْليز، وفي الدِّهْليز ثمانون رجلًا يحفظوني، وقلتُ: يَا مقدَّمين، هذا الخادم قد أتلف هذا البساط، بالله انزلوا به إِلَى الوادي، واغسلوه. فَنَفَر فيَّ زريق، وقال: أيش جاء بك إِلَى ها هنا. وصاحوا عليَّ، فعدتُ إِلَى موضعي. وحكى لي أشياء من هذا الجنس. ثم إنَّ الوزيريَّ أطلع خزائنه وخيله وأسبابه إِلَى الصَّلْت، وأقام مماليكه بنابُلُس، ووصل العلاء بن النَّابلسي من مِصْر من عند العادل إِلَى النَّاصر يطلب الصَّالح، ويعطيه مئة أَلْف دينار، فما أجاب، وكاتبه إسماعيل وصاحب حِمْص فِي هذا المعنى، فما أجاب، ولما طال مقامه أشار عمادُ الدِّين بنُ موسك وابن قليج والظَّهير على النَّاصر بالاتفاق معه وإخراجه، فتحالفا واتَّفقا، وأخرجه فِي آخر رمضان. ¬

_ (¬1) فِي (ت): وقيل إن جاريته، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

وقال [لي] (¬1) الصَّالح لما أخذ مِصْر: حَلَّفني على شيء ما تقدر عليه ملوكُ الأرض؛ وهو أن آخذ له دمشق وحمص وحماة وحلب والجزيرة والمَوْصل وديار بكر وغيرها، ونصف ديار مِصْر، ونصف ما فِي الخزائن من المال والجواهر والخيل والثِّياب وغيرها. فحلفتُ من تحت القَهْر والسَّيف. ولما عَلِمَ العادلُ والصَّالح إسماعيل والملوك بإخراجه من الحبس رموا النَّاصر عن قوسٍ واحدة، وعزموا على قَصْده، واتَّفقوا عليه، وأَوَّل من برز العادل إِلَى بِلْبيس بالعساكر يريد الشَّام، واختلف العسكر عليه، وقبضوه، وأرسلوا إِلَى الصَّالح يعرفونه، ويسألونه الإسراع، فسار، ومعه الملك النَّاصر، وجماعة من أمرائه ابن موسك وغيره، وكان وصول الصَّالح إِلَى بِلْبيس يوم الأحد رابع عشرين ذي القَعْدة، فنزل فِي خيمة العادل، والعادل معتقل فِي خركاة، وكان [خالي] (1) محيي الدين بن الجوزي بمصر قد خلع على العادل والفلك بن المسيري، فأُخبر بمسكه، فأخرج إِلَى بلبيس وقد خاف. قال المصنف رحمه الله: وحكى لي الصَّالح واقعاتٍ جَرَتْ فِي مسيره إِلَى مِصْر، منها أَنَّه قال: [والله] (1) ما قصدتُ بمجيء النَّاصر معي إلَّا خوفًا أَنْ تكون معموله عليّ، ومنذ فارقنا غَزَّة تغيَّر عليَّ، ولا شك أَنَّ بعضَ أعدائي أطمعه فِي الملك، فذكر لي جماعةٌ من مماليكي أَنَّه تحدَّث معهم فِي قَتْلي. قال: ومنها أَنَّه لما أخرجني نَدِمَ وعَزَمَ على حبسي، فرميتُ روحي على ابن قليج، فقال: ما كان قَصْدُه إلَّا أَنْ يتوجَّه إِلَى دمشق أولًا، فإذا أخذناها عُدْنا إِلَى مِصْر. قال: ومنها أَنَّ ليلة وصلنا [إِلَى] (1) بلبيس شَرِبَ، وشَطَحَ إِلَى العادل، فخرج من الخركاة، وقَبَّل الأرض بين يديه، فقال له: كيف رأيتَ ما أشرتُ عليك، ولم تقبل مني؟ فقال: يَا خوند، التوبة. فقال: طَيِّبْ قلبك، السَّاعة أطلقك، [ثم قال الصَّالح] (1): وجاء، فدخل علينا الخيمة، ووقف، فقلتُ: بسم الله، اجلسْ، فقال: ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

القاضي شمس الدين الخويي

ما أجلس حتَّى تطلق العادل. فقلتُ: اقعد، وهو يكرِّرُ الحديث. فسكت، ولو أطلقته لضرب رقابنا كلَّنا، ونام، فما صدَّقتُ بنومه، وقمت فِي باقي الليل، أخذت العادل فِي مِحَفَّة، ودخلتُ به القاهرة، ولما دخلنا القاهرة بعثتُ إليه بعشرين أَلْف دينار، فعادت إليَّ مع غِلْماني. [وذكر قول الناصر له: بُسْ يدي ورجلي. فقلت: ما أظنه يبدو منه هذا، وهو رجل عاقل. فأقسم بالله إن هذا وقع منه. فصل: وفيها أخذ بدر الدين لؤلؤ سنجار من الجواد بموافقة من أهلها لسوء سيرته، فإنَّه صادرهم، وأخذ أموالهم، وخرج يتصيد، ولجَّجَ فِي البرية، فبعثوا إِلَى بدر الدين، فجاء، ففتحوا له الأبواب، ومضى الجواد إِلَى عانة، فأقام بها، ثم باعها للخليفة. وفي ربيع الأول ذكر الرفيع القاضي الدرس فِي مدرسة ست الشَّام، واسم الرفيع عبد العزيز بن عبد الواحد الجيلي، وكنيته أبو حامد. وفي ربيع الأول أُنزل الكامل من القلعة إِلَى تربته بجامع دمشق. وولي الخطابة العز عبد العزيز بن عبد السلام بجامع دمشق فِي ربيع الآخر. وخطب الصالح إسماعيل لصاحب الروم بجامع دمشق وغيره. وفيها تُوفِّي القاضي شمس الدين الخُوَيي (¬1) واسمه أَحْمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى، أبو العباس. كان فاضلًا فِي كل فن، فقيهًا، مناظرًا، عالمًا بعلم الكلام وغيره، وكان لطيفًا، حسن العشرة، كريم الأخلاق، طيب النفس، عفيفًا، وكانت وفاته يوم السبت سابع شعبان، ودفن بقاسيون، وكان قد تيقن الموت لأنه علق به مرض السل، وكان متواضعًا، يمضي إِلَى جامع دمشق، ويجلس بين يدي محمود الضَّرير عند مقصورة الخطابة، فيقرأ عليه القرآن، ومات مديونًا. ¬

_ (¬1) له ترجمة فِي "التكملة": للمنذري 3/ 537، و"المذيل على الروضتين": 2/ 52 - 53، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

أرتق

ثم ولي الرَّفيع بعده قضاء القضاة، والتدريس بالعادلية.] (¬1) أُرْتُق (¬2) ناصر الدين، صاحب ماردين، [قد ذكرنا قتله للنظام ولؤلؤ، واستيلاءه على ماردين، وطلوع المعظم إليه، واتفاقه معه، ومصاهرته إياه، و] (1) كان المعظَّم قد تزوَّج أُخته، وهي التي بنت المدرسة والتربة عند الجسر الأبيض بقاسيون، ولم يقدَّر لها أن تدفن بها، لأنها انتقلت لما مات المعظم إِلَى ماردين، فتوفيت بها. وكان ناصر الدين شجاعًا، شهمًا، جَوَادًا، ما قصده قاصد وخيَّبه، وقصده الأشرف غير مرة ولم يلتفت، وكانت وفاته بماردين؛ قتله ولده خنقًا وهو سكران، ثم بعث إِلَى أَبيه (¬3) وكان محبوسًا، فجاء إِلَى مارِدِين، فملكها. شيركوه بن محمد (¬4) ابن [أسد الدين] (1) شيركوه بن شاذي، الملك المجاهد، أسد الدين، صاحب حمص. أعطاه صلاح الدِّين -رحمه الله- حمص عند موت والده محمَّد سنة إحدى وثمانين [وخمس مئة] (1)، وأقام بها إِلَى هذه السنة [ستًّا وخمسين سنة، وكان شجاعًا شهمًا مقدامًا، يباشر الحرب بنفسه، ] (1) وحفظ المسلمين من الفرنج والعرب. أما من [ناحية] (1) الفرنج، فإنَّه بنى الأبراج على مخائض العاصي، وركز فيها ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "الحوادث الجامعة": 61 - 62، و"تاريخ الإِسلام": (وفيات سنة 636 هـ)، و"سير أعلام النبلاء": 23/ 46، و"العبر": 5/ 148 - 149، و"شذرات الذهب": 5/ 180، وعندهم وفاته سنة (636 هـ)، ثم أعاد الذهبي ترجمته فِي "تاريخ الإِسلام" (وفيات سنة 637 هـ) وكذلك ذكره فِي السنتين ابن تغري بردي فِي "النجوم الزاهرة": 6/ 314، 315. (¬3) كذا قال، وعبارة الذهبي فِي "السير": 23/ 46 أوضح، فقد قال: "قتله غلمانه بمواطأة ابن ابنه ألبي بن غازي بن أرتق ... فلما قتلوه أخرجوا غازيًا وملكوه". (¬4) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 535 - 536، و"المذيل على الروضتين": 2/ 51 - 52، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

يعقوب الخياط

الرِّجال والطُّيور، فكان الفرنج إذا خرجوا أطلق الرِّجالُ الطيورَ، فيخرج بنفسه فيسبق الفرنج إِلَى المخاضة، فيقتل ويأسر، ويردُّ القافلة، وما أخذوا منها [شيئًا] (¬1)، وكذا كان يفعل بالعرب من ناحية البرية، ويركب بنفسه ويقاتل، ولم يزل كذلك إِلَى أن تُوفِّي [وكانت بلاده طاهرة من الخمور والخواطئ والمكوس، فكانت تعبر على بلده قوافل الدنيا، فلا يتعرض لها، وكان بنو أَيُّوب يخافونه، لأن كان يرى أنَّه أحق بالملك منهم لأجل جده أسد الدين، وفتحه مصر. وكان الكامل قد استوحش منه، واتهمه بأنه هو الذي أوقع بينه وبين الأشرف، فلما ملك الكامل دمشق، ونزل جوسق أَبيه اجتمعنا، فقال لي: ما أفسد أحوالنا إلَّا صاحب حمص، ووالله لأمحونَّ آثاره. فقلت: ابن عم وقريب، وهو خير من الغريب. وطلب منه مالًا عظيمًا، فبعث أسد الدِّين نساءه إِلَى دمشق، يسألن الكامل فيه، فما أجاب، وقال: لا بد من المال. وأيقن أسد الدين بوزن المال، فحكى لي جماعة أنَّه كان فِي قلعة حمص قاعدًا يزن المال، ويعبيه في الأكياس، وإذا بطاقة من دمشق قد وصلت على جناح طائر، فأخذها البراج، ودخل بها يقرؤها، وفيها وفاة الكامل، فردَّ المال إِلَى الخزائن، وجاء بعد ذلك إِلَى دمشق، وجلس عند قبر الكامل، وتصرف فِي أمواله وخيله ودولته. وكان أسد الدين ديِّنًا، عاقلًا، يعاشر العلماء والفقهاء، جوادًا، متصدِّقًا، قالوا: إلَّا أنَّه كان إذا حبس إنسانًا أقام مدة محبوسًا، وكان قد منع النساء أن يخرجن من باب حمص أيام ولايته، وكانت وفاته، (1) بحمص يوم الثُّلاثاء العشرين من رجب، ودفن بها. يعقوب الخياط (¬2) كان يسكن مغارة الجوع بقاسيون، وكان شيخًا صالحًا، لقي المشايخ، وعاشر الرِّجال، وعادل خُضْر بن صلاح الدين لما سافر إِلَى الحج، ورَدُّوه من الصَّفراء إِلَى دمشق، ورجع يعقوب [معه] (1)، ولم يَحُجَّ. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "النجوم الزاهرة": 6/ 316.

السنة الثامنة والثلاثون وست مئة

ومات ليعقوب ولدٌ اسمه صالح قد بلغ خمسًا وعشرين سنة، وكان ولدًا حسنًا، فخرج يعقوب فِي جِنازته، ولم يبكِ عليه، [والناس يبكون، وهو صابرٌ محتسب، ] (¬1) وكان يحكي [لي] (1) عن مغارة الجوع العجائب، وأنه يرى فيها الرجال في الليل، وأن باب المغارة يفتح ويخرج منه أشخاصٌ عجيبة، وكانت وفاته بقاسيون، ودفن عند المغارة. السنة الثامنة والثلاثون وست مئة فيها سَلَّم الصَّالح إسماعيل الشَّقيف لصاحب صيدا، وعزل ابن عبد السَّلام من الخطابة وحبسه، وحبس أَيضًا أَبا عمرو بن الحاجب، لأنَّهما أنكرا عليه فِعْلَه، فحبسهما مُدَّة، ثم أطلقهما، وأمرهما بملازمة بيوتهما، وولَّى العمادَ ابنَ خطيب بيت الآبار الخطابة. وفيها سَلَّم الحافظ قلعة جَعْبر إِلَى الحلبيين، وعوَّضوه أعزاز، وكان قد ضربه الفالج، وكان ولده قد مضى إِلَى الخُوارَزْمية يطلب منهم عسكرًا ليحاصره، فخاف، وجاء إِلَى حلب. وفيها ظهر بالرُّوم رجلٌ تركماني يقال له: البابا، وادَّعى النُّبوة، وكان يقول: قولوا: لا إله إلَّا الله، البابا وليُّ الله. واجتمع إليه خَلْقٌ عظيم، فجهَّز إليهم صاحب الرُّوم جيشًا، والتقوا، فقتل منهم أربعة آلاف، وقتلوا البابا. وفيها وصل رسول خاقان ملك التَّتر إِلَى شهاب الدين غازي بميَّافارِقِين، ومعه كتابٌ إليه وإلى ملوك الإِسلام يأمرهم بالدُّخول فِي طاعته، وكان فِي عنوان الكتاب: من نائبِ رَبِّ السَّماء، ماسح وَجْه الأرض، ملك الشَّرْق والغرب قاقان، وقال لشهاب الدِّين: وقد جعلك سلحداره، وأمرك أن تخرب أسوار بلادك جميعها. فقال له شهاب الدين: أنا من جُمْلة الملوك، وبلادي حقيرة بالنسبة إِلَى الرُّوم والشَّام ومِصْر، فتوجَّه إليهم، فمهما فعلوه فعلته. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

وكان هذا الرَّسول شيخًا، لطيفًا، مُسْلمًا، من أهل أَصبهان، حكى لشهاب الدِّين عجائب، منها: أنَّه قال: بالقرب من بلاد قاقان، قريبًا من بلد يأجوج ومأجوج على البحر المحيط أقوام، ليس لهم رؤوس، وأعينهم فِي مناكبهم وأفمامهم، وإذا رأوا النَّاس هربوا، وعيشهم من السَّمك. ومنها: أَنَّ هناك طائفة تزرع فِي الأرض بزرًا، فيتولَّد منه غنم كما يتولَّد دود القز، ولا يعيش الخروف أكثر من شهرين أو ثلاثة مثل بقاء النَّبات فِي الأرض، وهذا الغنم لايتناسل. ومنها: ذكر أَنَّ بمازَنْدران عين ماء يطلع منها فِي كلِّ ستة وثلاثين سنة حَيَّة عظيمة مثل المنارة، فتقيم طول النَّهار، فإذا غربت الشَّمس غاصت فِي العين، فلا تُرى إِلَى مثل ذلك الوقت، وقيل: إنَّ بعضَ ملوك العجم جاء بنفسه إليها فِي مثل ذلك اليوم، وربطها بسلاسل وحِلَق عِظام إِلَى أساطين حولها، واستوثق منها، فلما جاء وقت الغروب قطعتِ السلاسل، وغارت فِي العين، وهي إِلَى الآن إذا طلعت رأوا السلاسل فِي وسطها (¬1). وفيها جاء عسكر حلب إِلَى حَرَّان، ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص، والتقوا، فانكسرتِ الخُوارَزْمية، وأنكى فيهم الحلبيون قَتْلًا وأَسْرًا، وهرب بركة خان إِلَى الخابور، وأخذ المنصور حَرَّان، وعصت عليه القلعة. وفيها اختلف عسكرُ مِصْر على الصَّالح أَيُّوب، فقبض على جماعة. وفيها تسلَّم الرُّوم آمِد بعد حصارٍ شديد، فيقال: إنَّهم اشتروها بثلاثين أَلْف دينار. [وفِي هذه السنة -وهي سنة ثمان وثلاثين وست مئة - قدمت دمشق من القدس، فأشار السامري وزير إسماعيل الصَّالح عليه بإخراجي من دمشق، وكان لما قدمنا دسّ السامري صبيًّا يقال له يوسف بن يعقوب المؤذن، وكان جامكية أَبيه عندنا بمدرسة شبل الدولة شيئًا يسيرًا، فالتجأ يوسف إِلَى السامري، وصار صاحب خبر له، فتقدَّم عنده، ¬

_ (¬1) هذه أخبار لا تصح عند من له أثارة من علم وعقل.

أحمد بن محمد

وصار مدرسًا بالشِّبْلية، فلما قدمت دمشق حضر إِلَى عندي يوسف، وجرى حديث إخراج نجم الدين أَيُّوب، وأنه لما خرج من الحبس بالكرك اجتمعنا بالقدس، وجرى بيننا مفاوضات، فمضى يوسف إِلَى السامري، وكذَّب، وقال: ما أخرج نجم الدين من الحبس إلَّا فلان. عني، فأخرجونا فِي حر شديد إِلَى حماة، فصعد بخار عظيم إِلَى رأسي، وأتلف عيني، وكادت تذهب، وما حكم أحد بسلامتها، فمنَّ الله بالعافية، وعدت إِلَى دمشق على رغم أنف السامري، وأحياني الله حتَّى رأيت يوسف بن يعقوب فِي باب الحبس الصغير، حبسه الملك الناصر صاحب حلب، وأقام شهورًا ومات، وشنق السامري عدو الله، وعجل الله بروحه إِلَى عذاب السعير، وذهب الخمير والفطير] (¬1). وفيها كانت الوقعة بين الحلبيين والخُوارَزْمية، وكان الجواد والصَّالح ابن صاحب حمص مع الخُوارَزْمية، فقصدوا حلب، ونزلوا على باب بُزَاغة فِي خمسة آلاف، فخرج إليهم عسكر حلب فِي أَلْف وخمس مئة، فكسروهم كسرةً عظيمة، وأسروا أمراءهم، ونهبوا أثقالهم، وساقوا إِلَى حَيلان، وقطعوا الماء عن حلب، وضايقوها، ثم عادوا إِلَى مَنْبج، فنهبوها، وقتلوا أهلها، وفضحوا نساءها، وعادوا إِلَى حَرَّان، وكان المنصور صاحب حمص نازلًا على شَيزَر، فاستدعاه الحلبيون، فجاء إِلَى حلب، ونزل بظاهرها، ومعه عسكر حمص ودمشق. وفيها تُوفِّي أَحْمد بن محمَّد (¬2) ابن خلف بن راجح، المقدسيّ. القاضي نجم الدين الحنبلي، ثم انتقل إِلَى مذهب الشَّافعي، وولي القضاء بدمشق نيابةً، وكان فقيهًا، صالحًا، فاضلًا، مات فِي شوَّال، ودفن بقاسيون. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "التكملة" للمنذري: 3/ 563، و"المذيل على الروضتين": 2/ 55 - 56، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

محمد بن عربي

مُحَمَّد بن عربي (¬1) الشيخ المشهور. كان فاضلًا فِي علوم الحقائق، وله المصنَّفات الكثيرة، و [حُكي لي أنَّه] (2) كان يقول: أعرف الاسم الأعظم، وأعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكتب، وكانت وفاته بدمشق فِي دار القاضي محيي الدين [بن زكي الدين] (¬2)، وغسله الجمال بن عبد الخالق، ومحيي الدِّين (¬3)، وكان العماد بن النحاس يصُبُّ [الماء عليه] (2)، وحمل إِلَى قاسيون، فدفن بتربة القاضي محيي الدِّين. [فصل: وفيها تُوفِّي نور الدولة بن القواس وكان عدلًا، خيِّرًا، غزير المروءة، واحتاط الصالح إسماعيل على تركته] (2). السنة التاسعة والثَّلاثون وست مئة فيها قَصَدَ الجوادُ ديارَ مِصْر ملتجئًا إِلَى الصَّالح أَيُّوب، ومهاجرًا إِلَى بابه، فعبر الرمل، فخاف أَيُّوب منه، وعَزَمَ على قَبْضه، فرجع إِلَى النَّاصر داود، والتجأ إليه، وجاء كمال الدِّين بن شيخ الشيوخ، فنزل غَزَّة، وكان النَّاصر بالقدس، فجاء إليه الجواد، واتفقا، وأقام النَّاصر بالقدس، وجَهَّز العسكر مع الجواد، وجاء الكمال، والتقوا على مكانٍ يقال له: بيت فوريك، فكسره الجواد، وأخذ الكمال [بن الشيخ] (2) أسيرًا، فجيء به إِلَى النَّاصر فوبَّخه، فقال له الجواد: لا توبخه. وأقام الجواد عند النَّاصر، فتخيَّل منه، فاعتقله، وبعث به إِلَى بغداد فِي البرية تحت الحوطة، فنزل قريبًا من الأزرق، فعرفه بطن من العرب، فأطلقوه، فعاد إِلَى دمشق، وأقام فِي خدمة ¬

_ (¬1) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 555، و"المذيل على الروضتين": 2/ 54 - 55، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) محيي الدين هذا هو ابن محمَّد بن عليّ، ووالده محمَّد بن عليّ يلقب كذلك بمحيي الدين، وكان قاضيًا، وتوفي سنة (589 هـ)، وقد ولي محيي الدين هذا القضاء كذلك كما سيأتي ص 381 من هذا الجزء.

السنة الأربعون وست مئة

الصَّالح إسماعيل، ثم أتى إِلَى الفرنج، وأقام معهم مُدَّة، وعاد إِلَى دمشق، واعتقله الصَّالح فِي عزَّتا، ثم هلك فِي سنة إحدى وأربعين [وست مئة] (¬1). وسار المنصور صاحب حمص وعسكر حلب إِلَى حَرَّان، فالتقوا مع الخُوارَزْمية، فكسروا الخوارزمية، ومزَّقوهم كل ممزَّق. وفيها شَرَعَ الصالح أَيُّوب فِي عمارة المدارس بين القَصْرين، وقلعة الجزيرة، وأخذ أملاك النَّاس، وأخرب نيفًا وثلاثين مسجدًا، وقطع أَلْف نخلة، وغَرِمَ عليها دَخْلَ مِصْر سنين كثيرة، فأخربها الترك سنة إحدى وخمسين وست مئة. وفيها تخلَّص الصَّفي إبراهيم بن مرزوق من حبس حمص بعد اليأس منه، وكان الجواد وأسد الدين قد اتَّفقا عليه، وأخذا منه أربع مئة أَلْف دينار، وبقي محبوسًا ثلاث سنين. وفيها اتَّفق شهابُ الدِّين غازي مع الخُوارَزْمية، ومضوا إِلَى ميَّافارِقِين، ونزلوا بها، وجاءه عسكر حلب، ونزل الجزيرة بالخوارزمية، فنهبوا وقتلوا، وجرت حروبٌ كثيرة مع المواصلة، وصاحب مارِدِين. السنة الأربعون وست مئة فيها عَزَمَ الصَّالح أَيُّوب على التوجُّه إِلَى الشَّام، فقيل له: البلاد مختلفة، والعساكر مختلفة. فجهَّزَ العساكر، وأقام [أيامًا، ولم يتهيأ له سفر] (1). وفيها كانت وقعة عظيمةٌ بين الحلبيين والخُوارَزْمية، وكان غازي صاحب مَيَّافارقين مع الخوارزمية، وقد أخربوا بلاد المَوْصِل، ومارِدِين، وحلفوا لغازي وحلف لهم، ووافقهم صاحبُ ماردين، وجمع غازي الخانات، وشاورهم، فقالوا: لا بُدَّ من اللقاء. فقال: المصلحة أن نمضي ونخرب بلد الموصل. فلم يلتفتوا إليه، فلما كان ثامن وعشرين المحرم ركبوا، وطلبوا (¬2) من جبل ماردين إِلَى الخابور، وساقوا إِلَى المَجْدَل، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) أي أغاروا، انظر "تكملة المعاجم العربية" لدوزي (الترجمة العربية): 7/ 62.

كمال الدين، أحمد

ووقف الخانات ميمنةً وميسرةً، وغازي فِي القلب، واقتتلوا، فصدمهم عسكر حلب صدمةَ رجلٍ واحد، فانهزموا لا يلوون على شيء، وتبعهم الحلبيون يقتلون ويأسرون، وأُخذت أثقال غازي وعسكره وأغنام التركمان وخيلهم ونساؤهم، وكانوا خلقًا عظيمًا، وبِيعَ الفرس بخمسة دراهم، ورأس الغنم بدِرْهم، ونُهبت نَصِيبين، وسُبي نساؤها، وكانت قد نهبت مرارًا مقدار سبع عشرة مرة من المواصلة والخوارزمية وعسكر ميافارقين وماردين، وعاد غازي إِلَى مَيَّافارقين، وتفرقت الخوارزمية، ثم اجتمعوا على نَصِيبين، ثم رحلوا، فنزلوا رأس عين، فقتلوا أهلها ونهبوا الأموال وسبوا النِّساء، وفعلوا بالخابور كذلك، ونهبوا أغنام التركمان. وفيها جاء إِلَى غازي منشور بخِلاط وأعمالها مع شمس الدِّين النَّائب بالرُّوم، فتسلَّم غازي خِلاط وما فيها. وفيها تُوفِّي كمال الدِّين، أَحْمد (¬1) ابن صدر الدين شيخ الشيوخ بغَزَّة فِي صفر عن ستٍّ وخمسين سنة، وبنى عليه أخوه معين الدين قُبَّة على جانب الطَّريق، وكان قد كسره الجواد بعسكر النَّاصر داود، وقيل: إنه سُمَّ، وكتب إِلَى ابنِ عمه سعد الدين: [من البسيط] لو أنَّ فِي الأرض جنَّاتٍ مزخرفةً ... تحُفُّ أركانَها الولْدان والخَدَمُ ولم تكن رَأْيَ عَيني فالوجودُ بها ... إذْ لا أراكَ وجودٌ كلُّه عَدَمُ الإِمام المستنصر بالله (¬2) أبو جعفر منصور بن محمَّد الظَّاهر. ¬

_ (¬1) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 598، و"المذيل على الروضتين": 2/ 60، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 607، و"سير أعلام النبلاء": 23/ 155 - 167، و"المذيل على الروضتين" 2/ 60، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

كان جَوَادًا، سَمْحًا، عادلًا، قريبًا من النَّاس، رحوم القلب، متصدِّقًا سرًّا وجهرًا، عمر المدرسة الشَّاطئية (¬1)، ووقفها على المذاهب الأربعة، ووقف عليها الأوقاف الكثيرة، ونَقَلَ إليها المخطوط المنسوبة بخطِّ ابنِ البواب، وابن مُقْلة وغيرهما، ورتَّب للفقهاء جميع ما يحتاجون إليه من الأطعمة والأشربة والجامكيات والفواكه فِي حينها، حتَّى المارَسْتان والحمام فيها، ولم يكن عنده تعصُّب على مذهب، وليس فِي الدنيا مثل هذه المدرسة، ولا بني مثلها [فِي سالف الأعوام، فهي] (¬2) فِي العراق كجامع دمشق وقُبَّة الصخرة بالشَّام، وبنى المساجد والمشاهد، وعمر الخانات فِي الطُّرقات، وكان يزور الصَّالحين ويبرهم، ويحسن إليهم، ويتفقدهم، ويزور المشهدين: مشهد علي والحسين -رضي الله عنهما-، ويحسن إِلَى العلويين، ويُنْعم على المجاورين، ولم يكن للمال عنده قدر، [(¬3) ولما وردت بغداد فِي سنة أربع وأربعين وست مئة حكى لي الثِّقات عنه أَنَّ له الأحوال الجليلة؛ منها أنَّه] كان يزور الشيخ عبد العزيز النَّاسخ بالحريم الطَّاهري، ويغشاه كثيرًا، فقال له يومًا: أنا لا أثاب على ما أفعله. فقال له عبد العزيز: الله الله يَا مولانا، إذا لم تثاب (¬4) أَنْتَ مَنْ يثاب! فقال: لأَنَّ المال الذي أنفقه فِي أبواب البر ما له عندي قدر بل مثل التُّراب، والثواب إنما يكون على قدر المشقة. و[منها أنَّه] (2) كان يَمضي إِلَى العَلْث؛ قرية من دُجَيْل، بينها وبين بغداد مسيرة يومين حتَّى يزور إسحاق العَلْثي الحَنْبلي. و[منها أنَّه] (2) لما كان النَّاصر فِي الحياة كان قد بنى عنده فِي الدَّار بركة للمال، فكان يقول: ترى أعيش حتَّى أملأها ذهبًا؟ فلما ولي المستنصر وقف عليها، وقال: ترى أعيش حتَّى أفرغها؟ ¬

_ (¬1) بناها على دجلة من الجانب الشرقي، وربما لذلك سماها هنا الشاطئية، وقد عرفت فيما بعد بالمستنصرية، وما زالت آثارها قائمة إِلَى الآن. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) فِي (ت): وكان يزور، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬4) كذا.

الباب التاسع والثلاثون في خلافته، ولقبه المستعصم بالله

و [منها أنَّه] (¬1) ركب يومًا للصَّيد فِي رمضان، فاجتاز بين الحربية ودار القز -محلَّتين بالجانب الغربي من بغداد- فرأى شيخًا كبيرًا، معه قدحٌ فيه طبيخ قد أخذه من العتَّابيين، وهو يريد أن يدخل الحربية، وكان فِي كلِّ محلة دار مضيف [فِي رمضان، فقال له: يَا شيخ، ممن أَنْتَ؟ قال: من الحربية. قال: أما عندكم دار مضيف؟ قال: بلى] (1). قال: فلِمَ تأخذ من الموضعين؟ ! فبكى الشيخ، وقال: والله ما أخذتُ من المحلَّتين، وإنما أنا رجلٌ كان لله عليَّ نعمة، وكان لي مال كثير، فافتقرت، وذهب المال والولد وأستحيي من أهل محلَّتي أن آخذ من دار المضيف، فأنا أمضي إِلَى المحلَّة التي لا أعرف فيها، فآخذ الطَّعام فِي القدح، وآتي إِلَى باب الحربية، فإذا أذن المغرب، ودخل النَّاس فِي الصَّلاة دخلتُ بيتي ولا يراني أحد. فبكى الخليفة، وقال لنفسه: ويحك يَا منصور! ما جوابك غدًا إذا سألك الله عن هذا الفقير المحتاج؟ ثم أعطاه أَلْف دينار، وقال: إذا نفدت، فتعال إِلَى باب البَدْرية. فأخذ المال، ومن فرحته انشقَّ قلبه، فعاش عشرين يومًا، ومات، وطولع الخليفة، فقيل له: ما نقص منه غير دينار واحد، فقال: إن كان له ورثة، فادفعوه إليهم، وإلا فأذنت لكم أن تتصدَّقوا به فِي الحربية على الفقراء، فهذا مال أخرجناه لله فلا نرجع [فيه، ولا يدخل] (1) إلينا. وكانت وفاته [فِي هذه السنة]، وحمل إِلَى الرّصافة، وحزن عليه الخَلْقُ حُزْنًا عظيمًا لإحسانه إليهم، وعمل له العزاء ببغداد والبلاد كلها ثلاثة أيام، وولي ولده عبد الله. الباب التَّاسع والثلاثون فِي خلافته، ولقبه المستعصم بالله السنة الحادية والأربعون وست مئة فيها تردَّدت الرُّسُل بين الصَّالح أَيُّوب وعمه الصَّالح إسماعيل فِي الصُّلْح، وقدم الشَّرف بن التِّبْنِيني، والأصيل الإسعردي الخَطيب، وأُطلق المغيث بن الصالح أَيُّوب، وركب، وخُطِبَ للصَّالح أَيُّوب بدمشق، ولم يبق إلَّا أن يتوجَّه المغيث إِلَى مِصْر، ورضي الصَّالح أَيُّوب ببقاء دمشق على عَمِّه الصَّالح بعد أن يسلِّم إليه ولده عمر ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

المغيث، فأفسد [السامري] (¬1) وزير إسماعيل الحال، وقال له: هذا خاتم سليمان، لا تخرجه من يدك، فتعدم المُلْك. فتوقف الأمر، ولم ينتظم صلح، ومنع المغيث من الركوب، وحُبِسَ فِي بُرْج القلعة، وفسدت الأحوال. وكَتَبَ الصالح أَيُّوب إِلَى الخُوارَزْمية، فعبروا الفرات، وانقسموا قسمين: قسم جاؤوا على بقاع بعلبك، وقسم على غوطة دمشق، ونهبوا وسبوا وقتلوا، وسدَّ إسماعيلُ أبوابَ دمشق، ونزلوا غَزَّة. قال المصنف رحمه الله: وكنتُ حينئذٍ بديار مصر، فقدمت الإسكندرية فِي هذه السنة، فوجدتها كما قال الله تعالى: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] معمورة بالعلماء، مغمورة بالأولياء [الذين هم فِي الدنيا شامة] (1) كالشيخ محمَّد القَبَّارِي والشاطبي وابن أبي شامة، وهي أَوْلى بقول القَيسراني فِي وصف دمشق: [من البسيط] أرضٌ تَحُلُّ الأماني من أماكنها ... بحيثُ تجتمع الدُّنيا وتفتَرِقُ إذا شدا الطَّيْرُ فِي أغصانها وقفت ... على حدائقها الأسماعُ والحَدَقُ [قلتُ: ] (1) وسألوني الجلوس، فجلست بها مجلسين، تاب فيهما نحو من ألفين، فلما عزمت على العَوْد إِلَى القاهرة قام بعضُ أفاضلها، فأنشد: [من الطَّويل] ذَكَرْتُمْ فراقًا فاستهلَّتْ مدامعي ... وزادَ لهيبُ النَّارِ بين ضلوعي وأصبحت مَيتًا من سماعِ فراقكُمْ ... أودُّ بأنِّي لم أكن بسميعِ فيا أهلَ هذا الثَّغْر ترضون غَيبَةً ... لشمسِ علوم آنستْ بطُلوعِ قفي شَمْسَنا قبل الفراقِ هُنَيَّةً ... فلَسْنا على علمٍ بوقتِ رجوعِ فقد وقفتْ شمسُ السَّماء ليوشع ... وما ذاك من أفعالها بشنيعِ فنحن ضيوف والقَراءُ ثلاثةٌ ... وَجُودك يَا مولى الأنامِ شفيعي فكان البيت الأخير هو الباعث على أن عزَّزْتُ لهم بمجلس ثالث، ولم أقدر أنْ أُسافر عنهم إلَّا ليلًا، لأنهم وجدوا بي ولا كوَجْد المجنون بليلى، يَا هل لليلاتٍ بجَمْع عودةٌ (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) هو صدر بيتٍ، عجزه: أم هل على وادي منى من نظرةِ. سلف فِي ترجمة ابن الجوزي ص 114 من هذا الجزء. وهو لمهيار الدَّيلَمي فِي "ديوانه" ج 1/ 154 طبعة دار الكتب المصرية سنة 1925 م.

النجم خليل بن علي بن الحسين

وفيها صالح صاحب الرُّوم التَّتر على أن يدفع إليهم كلَّ يوم أَلْف دينار، وفرسًا، ومملوكًا، وجارية، وكلب صيد، وهذا هو ابنُ علاء الدين، وكان ناقصَ العقل، فاتكًا، يلعب بالكلاب والسِّباع، ويسلِّطها على النَّاس، فعضَّه سَبُع، فمات. وفيها تُوفِّي النجم خليل بن عليّ بن الحسين (¬1) الحموي، الحنفي. قدم دمشق، وتفقه بها [على مذهب أبي حنيفة] (¬2) وخَدَمَ المعظَّم، وأرسله ابنُ شُكْر إِلَى بغداد، ودرس فِي الرَّيحانية بدمشق، وناب عن الرَّفيع فِي القضاء، وتوفي فِي ربيع الأول، ودفن بقاسيون. محمَّد بن عَقِيل بن كَرَوَّس (¬3) الجمال، محتسب دمشق. كان رجلًا كَيِّسًا، متواضعًا جَلْدًا، وتوفي فِي شوال، ودفن بداره بدمشق. يونس بن ممدود (¬4) ابن أبي بكر بن أَيُّوب، الجواد، مظفر الدين. كان قد جاء إِلَى المعظَّم لما وقع بينه وبين الكامل، فأحسن إليه، ثم عاد إِلَى مِصْر، ولما مات الأشرف جاء مع الكامل إِلَى دمشق، وأقام [بها] (2) حتَّى مات الكامل، وملَّكوه دمشق، وكان جَوَادًا كما سمي، يحب الصَّالحين، ويحسن الظَّنَّ بالفقراء، إلَّا أَنَّه كان حوله من ينهب النَّاس، ويظلم، وينسب ذلك إليه، وقد ذكرنا تقلُّبَ الأحوال به ¬

_ (¬1) له ترجمة فِي "الوافي بالوفيات": 13/ 397، و"الجواهر المضية": 2/ 180 - 182، و"الدارس": 1/ 523 - 524، و"الطبقات السنية": 3/ 220. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري": 3/ 630، و"الوافِي بالوفيات": 4/ 98، و"شذرات الذهب": 5/ 213. (¬4) له ترجمة فِي "سير أعلام النبلاء": 23/ 184، و"العبر": 5/ 171، و"الوافي بالوفيات": 29/ 402 - 403، و"النجوم الزاهرة": 6/ 348.

أبو بكر الشعيبي

وأَنَّ أهله لم يقبلوه، فقصد الفرنج، فقبلوه، وخدموه، وحَضَرَ معهم نوبة قلنسوة؛ ضيعة من أعمال نابُلُس، قتلوا فيها أَلْف مسلم وهو نائم لم يتكلَّم كلمةً، وخاف منه الصَّالح إسماعيل، فبعث إليه ناصر الدين يغمور ليحتال عليه، ويحمله إِلَى دمشق، فقال: إنهما اتَّفقا على الصَّالح. ثم احتال الصَّالح على الجواد حتَّى قبضه وحبسه فِي عزَّتا وابن يغمور فِي قلعة دمشق، وكان الوزير [السامري] (¬1) قد قصده، وطلب الفرنجُ الجوادَ، وقالوا: لا بُدَّ لنا منه، فأظهر أَنَّه قد مات، وأهله يقولون: إنه خنقه، والله أعلم، وكان ذلك فِي شوال، ودفن بقاسيون فِي تُرْبة المعظم. وأما ابن يغمور، فأقام محبوسًا بقلعة دمشق حتَّى مَلَكها الصَّالح أَيُّوب، وبَعَثَ به ابنُ شيخ الشيوخ إِلَى مِصْر، فحبسه الصَّالح أَيُّوب فِي الجُبّ، ثم شنق بعد مدَّة هو وأمين الدَّوْلة على قلعة القاهرة، [وسنذكرهما] (1). أبو بكر الشعيبي (¬2) من أهل مَيَّافارِقِين. كان صالحًا زاهدًا، بعث إليه غازي مرارًا يسأله الإذن [فِي زيارته] (1)، فلم يأذن له، وقيل له: هل تطرق البلادَ التترُ؟ فرفع رأسه إِلَى السَّماء، وأنشد: [من الطَّويل] وما كلُّ أسرار القلوب مباحةٌ ... ولا كلُّ ما حَلَّ الفؤادَ يُقالُ وخرج إِلَى الشعيبة قريته، وقال: احفروا لي ها هنا، فبعد يومين أموت. فماتَ بعد يومين. السَّنة الثَّانية والأربعون وست مئة فيها عُزل القاضي الرَّفيع، وسببه أَنَّه كَتَبَ إِلَى الصَّالح إسماعيل يقول: قد حملتُ إِلَى خزانتك من أموال النَّاس أَلْف أَلْف دينار. فقال الصالح: ولا أَلْف أَلْف دِرْهم. وأوقف وزيره [السامري] (1) على ورقته -وكان الله قد سَخَّر الصَّالح إسماعيل لوزيره، فلو قال له: مت. لقال لداعي الموت: أهلًا ومرحبًا- وأنكر الوزير، فقال الرَّفيع: أنا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "النجوم الزاهرة": 6/ 349.

أقابله. فقال الوزير للصَّالح: هذا الرفيع قد أكل البلاد، وأقام علينا الشناعات، والمصلحة عزله ليتحقَّق النَّاسُ أنك ما أمرته بهذه الأشياء. فَعُزِلَ عن القضاء أول السنة، وأخذت [منه] (¬1) مدارسه، وفوّض أمرها إِلَى ابن الصَّلاح، فأعطى العادلية للكمال التفليسي صهر الخويي، والشَّامية للتَّقي الحموي، والعذراوية لمحيي الدين بن الزكي، والأمينية لابن عبد الكافي، وغُيِّب الرفيع، واستقلَّ محيي الدين بالقضاء، واستناب الصَّدْر ابن سنين الدولة، وحكم محيي الدين بإسقاط شهادات أصحاب الرَّفيع: العز بن القطَّان، والزين الحموي، والجمال بن سيدة، [والنصير ابن قاضي بعلبك] (1)، والموفق الواسطيّ، وسالم المقدسيّ، [وابنه محمَّد لما فعلوا بالمسلمين، وأكلهم أموالهم بالباطل، ] (1) وكان المحنة العظمى [والطامة الكبرى] (1) الواسطيّ [الملقب بالموفق] (1)، فإنَّه أهلك الحرث والنسل، [فأهلك الله ذلك النسل] (1). وفيها ورد كتاب بدر الدين لؤلؤ صاحب المَوْصل يقول: إنني قد قررت على أهل الشَّام [قطيعة] (1) فِي كلِّ سنة، على الغني عشرة دراهم، وعلى الوسط خمسة، وعلى الفقير درهم، وقرأ محيي الدين بن الزكي الكتاب على النَّاس، وشرعوا فِي الجباية. وفيها كانت الوقعة العظيمة بين الخُوارَزْمية والفرنج. لما نزل الخوارزمية غَزَّة بَعَثَ إليهم الصَّالح أَيُّوب الأموال والخِلَع والخيل والأقمشة والعساكر، وأمرهم بالنُّزول على دمشق، فاتَّفق الصَّالح إسماعيل والنَّاصر داود والمنصور صاحب حِمْص مع الفرنج على الخُوارَزْمية وعسكر مصر، وكان الصَّالح [إسماعيل] (1) قد أعطاهم الشَّقيف بعد أن عَذَّب واليه، واستأصله حيث امتنع من تسليمه، وخرج إسماعيل بنفسه [من دمشق، ومضى إِلَى الشقيف] (1)، وسلَّمه إليهم، وكان عامرًا، وسلَّم إليهم صفد وبلاد المسلمين، وكانت صفد خرابًا، ولما اتَّفقوا مع الفرنج خرج صاحب حمص من دمشق بعسكر حمص إِلَى بلد الفرنج، وجهَّز النَّاصر عسكره من نابُلُس مع الظَّهير بن سُنْقُر الحلبي والوزيري، واجتمعوا بأسْرهم على يافا، والخُوارَزْمية وعسكر مصر على غَزَّة، وساق صاحب حمص وعسكر دمشق تحت أعلام الفرنج، وعلى رؤوسهم الصُّلْبان، والأقساء فِي الأطلاب يصلِّبون على ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

شهاب الدين، أحمد بن الناقد

المسلمين ويقسقسون عليهم، وبأيديهم كاساتُ الخمر والهنابات يسقونهم، وساقت الخُوارَزْمية وعسكر مصر، والتقوا على مكانٍ يقال له: قريبًا (¬1)، وكانت الفرنج فِي الميمنة، وعسكر النَّاصر فِي الميسرة، وصاحب حمص فِي القلب، فأوَّل من انكسرت الميسرة، وهرب الوزيري، وأُسِرَ الظَّهير بن سُنْقُر، وجرح فِي عينه، وأخذ جميع ماله، وأصبح فقيرًا، وانهزم صاحب حمص، ومالت الميمنة بالفرنج، فرأوا القلب والميسرة قد انكسروا، فخذلوا، وأحاطت بهم الخوارزمية، [وكان عسكر مصر قد انهزموا إِلَى قريب العريش، ورموا كوساتهم وأثقالهم، وثبتت الخوارزمية] (¬2)، وكان الفرنج ألفًا وخمس مئة فارس من المُصَلا عليهم، والكنود الكبار، وعشرة آلاف راجل، وما كانت إلَّا ساعة حتَّى حصدتهم الخوارزمية بالسُّيوف حصدًا، وأسروا منهم ثمان مئة أسير، وكان يومًا عظيمًا لم يجر مثله فِي زمن نور الدين وصلاح الدين، رحمهما الله تعالى. قال المصنِّف رحمه الله: وكنتُ يومئذٍ بالقُدْس، فأصبحت ثاني يوم الكسرة إِلَى غَزَّة، فوجدتُ النَّاس يعدون القتلى بالقصب، فقالوا: هم زيادة على ثلاثين ألفًا. وبعثت الخوارزمية بالأسارى والرُّؤوس إِلَى مِصْر، والظَّهير بن سُنْقُر وجماعة من المسلمين فِي الجملة، وأما صاحب حمص، فما وصل دمشق إلَّا فِي نفرٍ يسير، ونُهبت خزائنه وخَيلُه وسلاحه، وقُتِلَ أصحابه، ولقد بلغني أَنَّه طلب شاش علم يتعمَّم به، فما وجده، وجعل يبكي، ويقول: قد علمت أَنَّا لما سِرْنا تحت صُلْبان الفرنج أننا لا نفلح. ووصل الأسارى إِلَى مِصْر، والظَّهير معهم، وعلقت الرؤوس على أبواب القاهرة، وامتلأتِ الحبوسُ من الأسارى، وجَهَّز الصَّالح أَيُّوب معين الدِّين بن الشيخ لحصار دمشق. وفيها تُوفِّي شهاب الدِّين، أَحْمد بن النَّاقد (¬3) وزير الخليفة. وكان أبوه وكيل أُمِّ الخليفة النَّاصر، ولما مات أبوه فِي أيام النَّاصر تشعثت أحوال أولاده، وصودروا، واستؤصلوا، وذهب جاههم، وأقاموا مدَّة إِلَى أن ¬

_ (¬1) كذا فِي (ت) و (ش)، ولم أقف عليها. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة فِي "سير أعلام النبلاء": 23/ 108 - 109، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

الحسن بن سالم بن سلام

ولي المستنصر، فاستوزر أَحْمد، ولقبه مؤيَّد الدِّين، وكان رجلًا صالحًا، فاضلًا عفيفًا، دَيِّنًا، قارئًا للقرآن، [وتولى خالي محيي الدين أستاذ داره بعده] (¬1). الحسن بن سالم بن سلَّام (¬2) نجم الدين. كان أبوه من أكابر عدول دمشق يدعى بالشيخ الأمين، ونشأ نجمُ الدِّين على ما كان عليه أبوه، وكان ذا مروءة وعصبية، جَوَادًا [سمحًا] (1) سخيًّا، كريم الأخلاق، حسن العِشْرة، يحبُّ الصَّالحين، ويزورهم، ويبرهم، وله فِي رمضان ضيافة لا يمنع منها أحدًا، وتغيَّرت أحواله فِي آخر عمره، فإنَّه دخل فِي أشياء لا تليق بأبناء جنسه طمعًا فِي الدنيا، [وحكى لي] (¬3) معين الدين بن الشيخ [قال: ] (1) آخر ما أوصاني الصَّالح أَيُّوب أنني إذا فتحت دمشق [أن] (1) أعلق ابنَ سَلَّام بيده على بابه، لأَنَّ الذهب الذي بعثه إسماعيل إِلَى مقدَّمي دمشق فِي داره فُرِّق. وكانت وفاته فِي ذي الحِجَّة، ودُفِنَ بقاسيون، ومات ولده، وتمزَّقت أمواله، [(¬4) ودثرت أحواله، وبلغني أن ولده خلف ثلاث مئة أَلْف درهم وأكثر، فتفرقت أيدي سبأ، فرحمه الله على كل حال، لقد كان محط الرِّحال، وكعبة الآمال {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وبلغني أنَّه صودر بمال كثير مع أنَّه كان من أكبر الدماشقة وأنفسهم]. عبد الله بن عمر (¬5) ابن محمَّد بن حَمُّوية، أبو محمَّد، تاج الدين بن شيخ الشيوخ. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "سير أعلام النبلاء": 23/ 111 - 112، وترجم له أبو شامة فِي "المذيل على الروضتين" (وفيات سنة 643 هـ): 2/ 75 - 76، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) فِي (ت): قال معين الدين بن الشيخ: آخر ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬4) فِي (ت): وخلف ثلاث مئة أَلْف درهم وأكثر، فتفرقت أيدي سبأ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬5) له ترجمة فِي "التكملة" للمنذري: 3/ 637 - 638، و"المذيل على الروضتين": 2/ 64، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

كان فاضلًا، نَزِهًا، عفيفًا، شريفَ النَّفْس، عالي الهمة، قليلَ الطَّمع، لا يلتفتُ إِلَى أحدٍ من خَلْق الله [تعالى] (¬1) لأجل الدُّنْيا لا إِلَى أهله ولا إِلَى غيرهم، وصنف التَّاريخ وغيره، [(¬2) وكان صديقي، وكان -رحمه الله تعالى- يزورني ويحضر مجالسي، وقد أنشدني لنفسه، فقال]: [من البسيط] لم ألقَ مستكبرًا إلا تحوَّلَ لي ... عند اللِّقاءِ له الكِبْرُ الذي فيهِ ولا حلا لي من الدُّنيا ولذَّتِها ... إلا مقابلتي للتِّيه بالتِّيهِ وكانت وفاتُه فِي يوم الأربعاء سادس عشر صفر، وصُلِّي عليه بجامع دمشق، ودُفِنَ بمقابر الصُّوفية عند المُنَيبع، [سمع أباه عمر بن محمَّد، والحافظ ابن عساكر، وشُهدة الكاتبة، وغيرهم] (1)، وكان ولي مشيخة الخوانك بعد وفاةِ أخيه صَدْر الدِّين. قال المصنف رحمه الله: ونقلتُ من خَطِّ ولده سعد الدين مسعود، قال: وُلدَ والدي تاج الدين يوم الأحد رابع عشر شوال سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة (¬3)، وكان مفنّنًا [فِي العلوم، عارفًا] (1) فِي الأصولين والفروع والتَّرسُّل [والتواريخ] (1)، والهندسة والطب، وسمع الحديث الكثير، [وله مقاطع شعر جيدة] (1)، وصنَّف الكُتُب منها "المؤنس فِي أصول الأشياء" ثماني مجلدات، و"كتاب السِّياسة الملوكية" للكامل صاحب مِصْر، و"المسالك والممالك" و"عطف الذيل" فِي التاريخ، وأمالي وتواريخ كثيرة، وسافر إِلَى المغرب سنة ثلاثٍ وتسعين، ووصل مَرَّاكُش، واتصل بالملك المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، فأحسن إليه، وقدَّمه على جماعةٍ، وهذه عادتهم [فِي الغرب] (1) يولون الحرب العلماء والفضلاء، وجعله برسم من يقصد المغرب من الشَّام، يعرف به، ليحسن يعقوب إِلَى من يقصده، وأقام فِي خِدْمته إِلَى أن مات يعقوب، وخدم ولده محمدًا، وعاد [تاج الدين] (1) إِلَى الشَّام سنة ستِّ مئة، وحَجَّ سنة أربع وست مئة مع أخيه صدر الدين وأولاده [وهي أول حجة حججتها من بغداد، وكان أمير حاج الشَّام دلدرم، وحج معنا شبل الدولة ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) فِي (ت): وصنف التاريخ وغيره، وأنشد ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) فِي التكملة: سأله المنذري عن مولده فقال: فِي يوم الأحد الرابع عشر من شوال سنة ست وستين وخمس مئة بدمشق.

عبد العزيز بن عبد الواحد بن إسماعيل

الحسامي، ووقفنا يوم الأربعاء بعرفة، وكانت سنة مشهورة، كثيرة الخيرات، عظيمة البركات، ] (¬1) وأقام بالرُّها مدة عند الأشرف. [ذكر أولاده] (1): سعد الدين مسعود، ولد ليلة الأحد سادس عشر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة. وشرف الدين أبو بكر، ولد فِي المحرَّم سنة ثمانٍ وست مئة. [وقال ولده سعد الدين: تُوفِّي يوم الأربعاء سادس عشر صفر، ودفن يوم الخميس على والده شيخ الشيوخ عن خمس وسبعين سنة، وكان مرضه بالسعال والإسهال] (1). عبد العزيز بن عبد الواحد بن إسماعيل (¬2) أبو حامد، القاضي الملقب بالرَّفيع [(¬3) الذي فعل بأهل دمشق تلك الأفاعيل، ففعل الله تعالى به وبأصحابه كما فعل بأصحاب الفيل، وأرسل عليهم من العذاب طيرًا أبابيل. وحكى جماعة من أعيان دمشق] أنَّه كان فاسدَ العقيدة، دهريًّا، مستهترًا بأمور الشريعة، يخرج إِلَى الجمعة سكرانًا، وكذا كان يجلس فِي مجلس الحكم، وكانت داره مثل الحانات، [النِّساء بالرِّجال مختلطات، وكل هذه الأشياء شهد بها عندي جماعة من العدول الذين ما عن شهادتهم عدول] (1). ذِكْرُ مقتله: [(¬4) حكى لي جماعةٌ ممن أثق بهم أَنَّ السَّامري بعث به] فِي الليل إِلَى قلعة بَعْلَبَك على بَغْلٍ ببرذعة لبعض النَّصارى، فاعتقله، واستأصله، ثم بعث به إِلَى مغارة [يقال لها ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة فِي "سير أعلام النبلاء": 23/ 109 - 111، و"المذيل على الروضتين": 2/ 64، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) فِي (ت): وقيل إنه ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬4) فِي (ت): بعث به أمين الدولة [السَّامري] فِي الليل ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

الملك المغيث عمر بن الصالح أيوب

مغارة] (¬1) أفقّه فِي جبل لبنان من ناحية السَّاحل، وبعث إليه عدلين من عدول بَعْلَبَك شهدا عليه ببيع أملاكه، فحكى [لي] (1) أحدهما، قال: رأيته وعليه قندورة صغيرة، وعلى رأسه تخفيفة، فبكى، وقال: معكم شيء آكل؟ فلي ثلاثةُ أيام ما أكلت شيئًا. قال: فأطعمناه من زادنا، وشهدنا عليه ببيع أملاكه لأمين الدولة، ونزلنا من عنده، فبلغنا أَنَّ داود النَّصْراني [سيف النقمة] (1) جاء إليه، وقال: قد أُمرنا بحملك إِلَى بَعْلَبَك. فأيقن بالهلاك، وخرج معهم، وقال: دعوني أُصلِّي ركعتين. فقال داود: صَلِّ. فقام يصلي، [فصلى ركعتين] (1)، فأطال، فرفسه داود من رأس شقيف مطلٍّ على نهر إبراهيم، فوقع، فما وصل إِلَى الماء إلَّا وقد تقطَّع. وحكى [لي آخر] (1) أنَّه تعلَّق ذيله بسنِّ الجبل، فما زال داود يضربه بالحجارة حتَّى قتله. وأما الموفق الواسطيّ [(¬2) وكان ضد اسمه، فحكى لي أعيان الدماشقة أنَّه كان أساس البلايا، ومعدن المصائب والرزايا، فتح أبواب المظالم، وأوقع المسلمين فِي المغارم، وجسَّر الرفيع على خوض جهنم، وكان يقال إنه من ظلمه تعلَّم، وأخذ أموال النَّاس لنفسه على ما بلغني، وهي نحو ست مئة أَلْف درهم، وأنه فِي آخر عمره عذب عذابًا ما عذبه أحد من العالمين، وكسرت ساقاه، وصار عبرة للناظرين، ومات تحت الضرب، وألقي فِي مقابر اليهود والنصارى، ولم يجد له من دون الله أنصارًا، وأكلت لحمه الكلاب، وصار عبرة لأولي الألباب، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] وما هي من الظالمين ببعيد]. وسُرَّ النَّاس به. الملك المغيث عمر بن الصالح أَيُّوب (¬3) كان ولدًا حسنًا، عاقلًا، دَيِّنًا، أسره الصَّالح إسماعيل سنة ثمانٍ وثلاثين، وحبسه فِي بعض أبراج قلعة دمشق، وكان عاقلًا جَوَادًا، لم يحفظ عنه كلمة فحش، ولا كسَرَ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) فِي (ت): وأما الموفق الواسطيّ فهو كان أساس البلايا، أخذ من أموال النَّاس لنفسه ست مئة أَلْف درهم، وآخر أمره أنَّه عذب عذابًا عظيمًا، وكسرت ساقاه ومات تحت الضرب، وألقي فِي مقابر اليهود والنصارى، وأكلت الكلاب لحمه .. ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "مفرج الكروب": 5/ 346، و"الوافي بالوفيات": 22/ 439، و"النجوم الزاهرة": 6/ 351.

الملك السعيد عمر بن شهاب الدين غازي

قلب أحد، وتخلَّى عنه أبوه بعدما بالغ واجتهد فِي خلاصه، فلم يقدر، [وما كان سبب وفاته إلَّا السَّامري، فإنَّه ضيَّق عليه] (¬1) وآذاه، فمات غمًا وغبنًا ليلة الجمعة ثاني عشرين ربيع الآخر فِي محبسه، وحمل إِلَى تُرْبة جده الكامل، فدفن بها، رحمه الله تعالى. [ولقد صبر صبر الكرام، وسار إِلَى دار السلام، وآل مآل السامري إِلَى الدرك الأسفل من النَّار، فلا رحم الله تلك العظام] (¬2). الملك السَّعيد عمر بن شهاب الدِّين غازي [صاحبِ ميافارقين] (2). كان شابًّا، حسن الأخلاق، مليحَ الصُّورة، جَوَادًا، شجاعًا، وكان التَّتر قد استولوا على ديار بكر، وأخذوا خِلاط، فخرج غازي من مَيَّافارقين هاربًا منهم ليستنجد عليهم الخليفة والملوك، وخرج معه ولده عمر، وأمير حسن بن تاج الملوك أخي غازي، فوصلوا إِلَى الهرماس لوداع غازي، فقال غازي لولده عمر: يَا ولدي، المصلحة أَنْ ترجع إِلَى ميَّافارقين تحفظ المسلمين من التتر، وأنا أروح إما إِلَى بغداد وإما إِلَى مِصْر أستنجد الملوك، فقال: والله ما أفارقك، وجاء حسن بن تاج الملوك فجلس إِلَى جانبه، وأخرج سكِّينًا، وضرب عمر فِي خاصرته، وهرب ليرمي بنفسه فِي العين [ليغرقها] (2)، فصاح [غازي] (2): أمسكوه، فقد قتل عمر ولدي. وقام غازي ليقتله، فقصده حسن ليقتله، فرمى عمر بنفسه على غازي، وقال لحسن: يَا عدوَّ الله، قتلتني، وتقتل والدي. فضربه حسن بالسَّيف فقطع خاصرته، فوقع إِلَى الأرض، وأمر غازي بحسن فَقُطِّع قِطَعًا، وحُمِلَ عمر إِلَى الحِصْن، فدفن به، وحَزِنَ عليه والده حُزْنًا عظيمًا. السنة الثالثة والأربعون وستّ مئة فيها حَصَرَ معينُ الدِّين ابنُ الشيخ والخُوارَزْمية دمشق، وضايقوها، وقطعت الخُوارَزْمية على النَّاس الطُّرق، وزحفوا على البلد من كلِّ ناحية، وفي يوم الاثنين ¬

_ (¬1) فِي (ت): وضيق أمين الدولة عليه وآذاه، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

ثامن المحرَّم بَعَثَ الصَّالح إسماعيل إِلَى معين الدِّين سجادة وإبريق وعكّاز، وقال: اشتغالك بهذا أَوْلى من اشتغالك بقتال الملوك. فبعث إليه ابنُ الشيخ بجنك وزمر وغلالة حريري أحمر وأصفر، وقال: السجادة تصلح لي، وأنت أَوْلى بهذا. وأصبح، فركب فِي العساكر، وزحفوا من كلِّ ناحية، ورموا النِّيران فِي قَصْر حجاج، فضربوا بالمجانيق، وكان يومًا عظيمًا، وبعث إسماعيل الزَّرَّاقين يوم الثلاثاء تاسع المحرم، فأحرقوا جوسق العادل، ومنه إِلَى زقاق الرمان [و] العقيبة بأسْرها، ونهبت أموالُ النَّاس، ورموا على الطرق، واحترق بعضهم، [وحكي لي أن رجلًا كان له عشر بنات أبكار، فقال لهن: أخرجن. فقلن: لا والله، الحريق أولى من الفضيحة. فاحترقت الدار، واحترقن، ولم يخرجن] (¬1)، وجرى على النَّاس ما لم يجر فِي بلدٍ آخر. وفي ربيع الآخر خرج المنصور صاحب حِمْص من دمشق [إِلَى ظاهرها، واجتمع ببركة خان، واستبشر النَّاس باجتماعهما، وعاد المنصور إِلَى دمشق] (1). وفي جُمادى الأولى فُتحت دمشق؛ بَعَثَ أمين الدَّوْلة إِلَى ابنِ الشيخ يطلب منه شيئًا من ملبوسه، فبعث له فَرَجيةً وعِمامة وقميصًا ومنديلًا، فلبس ذلك، وخرج إِلَى ابنِ الشيخ بعد العشاء الآخرة، فتحدَّث معه ساعة، ثم عاد إِلَى دمشق، ثم خرج مرة أخرى، فوفق الحال، وخرج إسماعيل وصاحب حِمْص فِي الليل إِلَى بَعْلَبَك، ودخل ابنُ الشيخ دمشق، فنزل فِي دار سامة، ودخل الشِّهاب رشيد إِلَى القلعة، وولى ابنُ الشيخ الجمال هارون المدينة، وصَدْرَ الدين بنَ سني الدولة قضاء القضاة، فاستنابَ العزيزَ السِّنْجاري والكمال التفليسي، وعَزَلَ محيي الدِّين بنَ الزكي. ووصل سيف الدين بن قليج من عجلون إِلَى دمشق تاسع عشرين جمادى الأولى منفصلًا عن النَّاصر داود، وأوصى بعجلون وماله للصَّالح أَيُّوب، ونزل بدار فلوس. وجهَّز ابنُ الشيخ أمين الدولة [السامري] (1) إِلَى مِصْر تحت الحوطة. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

وأما الخُوارَزْمية فإنهم لم يحضروا الصُّلْح، ولم يعلموا به، فلما علموا رحلوا إِلَى داريا، فنهبوها، وأتلفوا ما كان عليها، ثم رحلوا نحو الشَّرْق، وكاتبوا الصَّالح إسماعيل، واتفقوا معه على أَيُّوب، وانتقض الصُّلْح الذي قرَّره أمينُ الدولة. ووصل [ابن خالي] (1) عبد الرحمن بن محيي الدين بن الجوزي، وابن سُنْقُر من بغداد بخِلَع السَّلْطنة للصَّالح أَيُّوب؛ وهي عِمامةٌ سوداء، وفَرَجية مُذْهبة، وتُرْس ذهب، وسنان محلاة، وغلامان، وطوق ذهب، وحصان بسرج، ولجام، وخِلَع لأصحابه، ومنشور، ومضيا إِلَى مِصْر، فالتقاهما، ولبسها على العَبَّاسة. وعادت الخُوارَزْمية، فحصرت دمشق، وجاءهم إسماعيل من بَعْلَبك فِي ثالث [عشرين] (1) ذي القَعْدة، وضيَّقوا على دمشق، فبلغت الغِرارة ألفًا وست مئة دِرْهم، والقنطار الدقيق تسع مئة درهم، والخبر أوقيتين الأربع بدرهم، والرطل اللحم بسبعة دراهم، وعَدِمَتِ الأقوات، وبِيع العَقَار بالدَّقيق، وأكلت الميتات والجِيف والدم والقطاط والكلاب، ومات النَّاس على الطُّرُق، ونتُنَتِ الدُّنيا، [فكان الإنسان إذا مَرَّ بالجبل وشَمَّ روائح النَّاس مرض ومات] (1)، وضجر النَّاس من الغَسْل والتكفين، فكان النَّاس يخرجون، فيحفرون الآبار، ويرمون النَّاس بعضهم على بعض، ومع هذا كانت الخمور دائرة، والفِسْق ظاهر، والمكوس بحالها. ولما علم الصَّالح أَيُّوب بأنَّ إسماعيل قد اتَّفق مع الخُوارَزْمية شَرَعَ يقطع عنه المنصور صاحب حمص، ويستميله ويمنِّيه، فأجابه. [وفيها قدمتُ من مصر إِلَى قاسيون، ومرضت، فخرجت إِلَى العراق فِي السنة الآتية، فقدمت بغداد فِي رمضان] (¬1). وفيها وصلت الكُرْجية بنت إيواني زوجة الملك الأشرف التي أخذها الخوارزمي إِلَى خِلاط، ومعها منشور خاقان بخِلاط وأعمالها، وراسلت شهاب الدين غازي تقول: إنِّي كنت زوجة أخيك الأشرف، وخاقان هذا أقطعني خِلاط، فإنْ تزوَّجْتَ بي فالبلاد لك. فما أجابها، فأقامت بخِلاط، وكانت غاراتها تصل إِلَى مَيَّافارقين. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

أحمد بن عبد الخالق

وفيها بعث الصَّالح [نجم الدين] (1) أيوب حسامَ الدين بنَ بهرام إلى الحِصْن ليحضر المعظَم تورانشاه إلى مِصْر، وبعث بدرُ الدِّين لؤلؤ إلى المعظم الخيام والمماليك والخيل، وكذا فعل شهاب الدين غازي، وكتب أيوب إلى ولده مع [ابن] (1) بهرام: الولد تقدم [على] (¬1) خيرة الله، وتصل إلى بالس، وتعدِّي عندها، فقد اتفقنا نحن مع الحلبيين، وقد ذكروا أنهم يجرِّدون ألف فارس في خِدْمتك، واعبر ببلد مارِدِين ليلًا، فما نحن وإياهم متفقين. فلما قرأ الكتاب كَرِهَ ذلك، وما كان يؤثر الخروج من الحِصْن، وقال لابن بهرام: يكونُ الإنسان مالك رأسه يصبح مملوكًا محكومًا عليه! ولم يجبه. قال المصنف رحمه الله: وحكى لي حسام الدِّين بنُ أبي علي أَنَّ الصَّالح أيوب كان يكره مجيء ابنه المعظم إليه، وكنا إذا قلنا له: أنفذ أحضره. ينفضُ يديه، ويغضب، ويقول: أجيبه أقتله! وفيها أخرج الصَّالح أيوب فخر الدين بنَ الشيخ من الحبس بعد أَنْ أقام مُدَّة ثلاث سنين، ولاقى شدائد من الضيق والضر والقمل. [ولقد بلغني أن القمل ما كان يمكِّنه من النوم، وفرَّج الله عنه، وأقام في الحبس ثلاث سنين، وقصته مشهورة. وفيها توفي أحمد بن عبد الخالق (¬2) ويعرف بابن أبي هشام، المحدِّث، إمام مسجد الفسقار، وكان يقرأ به الحديث، وكانت وفاته في المحرم، ودفن بالباب الصغير] (1). وفيها توفي الفلك بن المسيري بمصر (¬3)، وعز الدين بن أبي عصرون بالقدس. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ذكره الذهبي في "السير": 23/ 145. (¬3) هو عبد الرحمن بن هبة الله المسيري، له ترجمة في "نزهة الأنام" لابن دقماق: ص 166، و"الوافي بالوفيات": 18/ 294 - 295، و"شذرات الذهب": 5/ 221.

معين الدين، الحسن بن [صدر الدين] شيخ الشيوخ

وفيها توفي معين الدِّين (¬1)، الحسن بن [صدر الدين] (¬2) شيخ الشيوخ أبو علي، وزير الصَّالح أيوب. وهو الذي حَصَرَ دمشق، وكان مرضُه بالإسهال والدم، ونزع يومًا وليلة، ومات ليلة الأحد الثاني والعشرين من شهر رمضان عن ستٍّ وخمسين سنة، وصُلِّي عليه بجامع دمشق، ودفن بقاسيون إلى جانب أخيه عماد الدين، فكان بين بلوغ أُمْنيَّته وحلول منيَّتِهِ أربعة أشهر وخمسة عشر يومًا. ربيعة خاتون بنت أيوب (¬3) أخت صلاح الدين والعادل، تزوَّجها أولًا سعد الدين مسعود بن معين الدين أُنَر، وكان صلاح الدِّين قد تزوج أُخته، ثم مات سعدُ الدين، فزوجها صلاحُ الدين مظفَّرَ الدِّين بنَ زين الدين، فأقامت بإربل، ثم قدمت دمشق فأقامت بها، وخدمتها أَمَةُ اللطيف العالمة بنت النَّاصح بن الحَنْبلي، وأقامت في خِدْمتها مُدَّة، فحصل لها منها أموالٌ عظيمة، وبنت للحنابلة بقاسيون مدرسةً، وأوقفت عليها الأوقاف، وتوفيت ربيعة بدمشق بدار العقيقي، ودفنت بقاسيون، وقد جاوزت ثمانين سنة. [لأن أباها أيوب مات في سنة ثمان وستين وخمس مئة، وتوفيت في هذه السنة، بينهما ست وسبعون سنة، وكانت لربيعة خاتون محارم كثيرة وقد ذكرناهم في ترجمة أختها ستّ الشام] (2). وأما أَمَةُ اللَّطيف، فإنها لاقت بعد ربيعة خاتون الشَّدائد والأهوال، من الحبس والمصادرة [وأخذ المال] (2)، وأقامت محبوسة ثلاث سنين بقلعة دمشق. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 23/ 100، و"المذيل على الروضتين": 2/ 76 - 77، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) لها ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 76، وفيه تتمة مصادر ترجمتها.

عبد المحسن بن حمود بن المحسن

قال المصنف رحمه الله: ودخلتُ مع نواب الصَّالح في قضيتها، وبالغتُ [في أمرها] (1)، فأطلقت من الحبس، وتزوَّجت بالأشرف ابن صاحب حمص، وسافر بها إلى الرَّحْبة وتل باشر، فتوفيت في سنة ثلاث وخمسين [غريبة عن الأهل والعشائر] (1)، وظهر لها بدمشق من المال [والذخائر] (1) والجواهر واليواقيت ما يساوي ست مئة ألف دِرْهم على ما قيل غير الأوقاف والأملاك، [فإن الدنيا تكون عاقبتها الهلاك,] (1) ومع هذا كانت فاضلةً، صالحة، دَيِّنة، عفيفة، ولها تصانيف ومجاميع [، وتآليف] (¬1). عبد المحسن بن حمود بن المُحَسِّن (¬2) أبو الفضل، أمين الدِّين، الحلبي. كان كاتبًا لعزِّ الدِّين أيبك المعظَّمي، وكان فاضلًا، بارعًا، دَيِّنًا، صالحًا، حسن الخَطِّ، ذا مروءة وفضائل جَمَّة، وله تصانيفُ كثيرة، [وأنشدني لما نزل الفرنج على الطور في سنة أربع عشرة وست مئة: [من البسيط] قُلْ للخليفة لا زالت عساكره ... بها إلى النصر إصدار وإيرادُ إنَّ الفرنج بحصن الطور قد نزلوا ... لا تغفلن فإنَّ الطورَ بغدادُ] (1) ومن شِعْره في إجازة: [من الوافر] أجزتُ لهم روايةَ ما أرادوا ... على شرط يجانِبُهُ الفسادُ بريًّا من كلام فيه سهو ... ونَقْلٍ لا يوافِقُهُ السَّدادُ وقال: [من الخفيف] قد أجزتُ الذينَ فيها إلى ما الـ ... ـتمسوه من الإجازةِ مني فلهم بعدها رواية ما صحَّ ... لديهمْ من الرِّواية عنِّي وكانت وفاته في رجب، ودُفِنَ بباب قوما. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 23/ 215 - 216، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان

عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان (¬1) أبو عمرو، تقيُّ الدِّين بن الصَّلاح، الفقيه، المحدِّث. كان مقيمًا بالقُدْس، ثم قَدِمَ دمشق لما خرب، وأقام بها، ودرَّس، وسمع الحديث، وأسمعه، وولاه الأشرف دار الحديث المجاورة للقلعة، وكان يفتي ويناظر، [وحضر دروسي في مدرسة شبل الدولة في سنة ثلاث وعشرين وست مئة، وتقلَّبت به الأحوال حتى] (¬2) توفي ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر، وصُلي عليه بجامع دمشق، ودُفِنَ بمقابر الصوفية عند المُنَيبع. [(¬3) وكان قد سافر إلى البلاد، فسمع بنيسابور منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمَّد بن الفضل الفراوي، وكان ابن الصلاح يقول: للفراوي ثلاث كنى: أبو الفتح وأبو القاسم وأبو بكر. وسمع أيضًا المؤيد محمَّد بن علي الطوسي، وأبا بكر القاسم بن عبد الله بن عمر الصَّفَّار، وأبا المظفر عبد الرحيم بن أبي سعيد بن عبد الكريم بن محمَّد بن السمعاني. وسمع من مشايخنا عمر بن طبرزد وغيره، وزارني يومًا بتربة حسن على ثورا في أيام المعظم، وقال: تسأله أن يعطيني مدرسة. وكان المعظم يكرهه، فما زلت به حتى استصلحته له، فأخذ ينشدني في ذلك اليوم، لغيره]: [من مجزوء الكامل] احذرْ من الواواتِ أر ... بعةً فهنَّ من الحتوفِ واوَ الوصيةِ والوكا ... لةِ والوديعةِ والوقوفِ عليُّ بنُ محمَّد بن عبد الصمد (¬4) أبو الحسن، علم الدِّين، السخاوي. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 3/ 243 - 245، و"المذيل على الروضتين": 2/ 68 - 69، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ت): ودفن بمقابر الصوفية عند المنيبع، قال المصنف رحمه الله: أنشدني لغيره، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬4) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 3/ 340 - 341، و"سير أعلام النبلاء": 23/ 122 - 124، و"المذيل على الروضتين": 2/ 73 - 74، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

قرأ القرآن [بالروايات] (¬1) على الشَّاطبي، وشرح قصيدته، وشرح "المفصل" للزمخشري، وله تصانيف، وقصائد في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -، [منها هذه الأبيات: [من الكامل] قف بالمدينة زائرًا ومسلِّمًا ... واشكُرْ صنيعَ الدَّمع فيها إن همى فهي المنازلُ لم تزل تشتاقها ... أبدًا وكنت بها المعنَّى المغرما والزقْ بتربتها الفؤاد فكم شفتْ ... داءً دفينًا قد أذابَ وأسقما عجبًا لصبٍّ عاينته عَينُه ... فرعى الحوادثَ واستطاع تكلُّما هذا هو الحرمُ الشريف فقفْ به ... واقرا السَّلامَ على الرَّسول متمِّما يا خاتم الرُّسُلِ الكرام ومَنْ له الـ ... آياتُ تحكي في السماء الأنجما وله انشقاق البدر والجذع الذي ... أبدى حنينًا والجماد تكلّما والماء ينبع في أنامل مَنْ دعا ... زُمرًا إلى الزَّاد اليسير فأطعما ودعا بأشجار الفلاة فأقبلت ... وأتى على حجرٍ أصمَّ فسلَّما وعلا على متن البراق مشرَّفًا ... وسرى إلى أعلى السَّماء معظَّما صلّى عليه الله ما انهلَّ الحيا ... وكسا الرِّياضَ ملونًا ومنمنما من أبيات] (1). وكان إمامًا، فاضلًا، مُفْتيًا، زاهدًا، عابدًا، ورعًا، مقتنعًا من الدُّنيا باليسير، وكانت له حَلْقةٌ بجامع دمشق، يقرأ عليه فيها القرآن والعربية والحديث، فإذا خرج من الجامع إلى قاسيون ركب حمارًا والطَّلبة يقرؤون عليه القرآن في الطَّريق، وختَم ألوفًا من الناس، ونفع خَلْقًا كثيرًا، وكانت وفاته ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الآخرة بدمشق، ودُفِنَ بقاسيون. [سمع الحافظ السِّلَفي، وأبا القاسم هبة الله البوصيري، وأبا الطاهر بن عوف، وأبا الفضل محمَّد بن يوسف الغَزْنوي، وغيرهم. وفيها مات صاحب الروم، وكان صبيًّا لعابًا، وقد ذكرناه] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

محمد بن عمر بن عبد الكريم

محمَّد بن عمر بن عبد الكريم (¬1) أبو عبد الله، فخر الدِّين بن المالكي، الحِمْيَري. كان منقطعًا بجامع دمشق بالمئذنة، متصدِّيًا لقضاء حوائج المسلمين [عند الولاة والسَّلاطين] (¬2)، ذا مروءة، وكَرَمٍ، ودين، وفتوة، وزُهْدٍ في الدُّنيا، وتوفي ليلة الاثنين ثامن عشر شعبان، ودفن بمقابر الصُّوفية عند المُنَيبع. النَّاصح الفارسي كان شيخًا مُسْرفًا على نفسه، لم يفارق الخمر [ساعة واحدة] (2) بدمشق، وحُمِلَ إلى حلب. [وفيها توفي نور الدين علي بن عقيل كان شابًّا، عاقلًا، دَيِّنًا، صالحًا، وكان صهر الغرز الخليل على ابنته، رحمه الله تعالى] (1). السنة الرَّابعة والأربعون وست مئة فيها في ثامن المحرم كُسِرَتْ الخُوارَزْمية على بحيرة حِمْص لما أمال الصالح أيوب إليه المنصور صاحب حمص، واقتطعه عن الصَّالح إسماعيل، كتب إلى الحلبيين يقول: هؤلاء الخُوارَزْمية قد أخربوا البلاد، والمصلحة أن نتفق عليهم. فأجابوه، وخرج شمس الدين لؤلؤ بالعساكر من حلب، وجمع صاحب حمص العرب والتركمان، وخرج إليهم عسكر دمشق، واجتمع كلهم على حمص، واتَّفق الصَّالح إسماعيل والخُوارَزْمية والنَّاصر داود وعِزُّ الدين أيبك، واجتمعوا على مرج الصُّفَّر، ولم ينزل النَّاصر من الكرك، وإنما بعث عسكره، وبلغهم أَنَّ صاحب حمص يريد ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 75، و"الوافي بالوفيات": 4/ 261. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

قصدهم، فقال بركة خان: دمشق ما تفوتنا، والمصلحة أن نسير إليهم. فساروا، والتقوا على بحيرة حمص يوم الجمعة سابع المحرَّم أو ثامنه، فكانتِ الدَّائرةُ عليهم؛ قُتِلَ بركة خان، وهَرَبَ الصَّالح إسماعيل وعِزُّ الدين أيبك، ومن سَلِمَ من العسكر عرايا جياعًا على فرس، ونُهبت أموالهم، ووصلوا إلى حوران، وساق صاحب حمص إلى بَعْلَبَك، وأخذ الربض، وسلَّمه إلى ناصر الدِّين القيمري وجمال الدين هارون، وعاد إلى حمص، وودَّع الحلبيين، وساروا إلى حلب، وجاء المنصور إلى دمشق في خدمة الصَّالح أيوب، فنزل ببستان سامة، ومضت طائفة من الخوارزمية إلى البلقاء، ونزل إليهم النَّاصر من الكَرَك، وصاهرهم، واستخدمهم، وأطلع عائلتهم إلى الصَّلْت، وكذا فعل عز الدين أيبك، وساروا، فنزلوا نابُلُس، واستولوا عليها. ومرض صاحبُ حمص بدمشق، فتوفي بالنَّيرب، وحُمِلَ إلى حمص. وجَهَز الصَّالح أيوب فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى الشَّام، فلما وصل غَزَّة عاد مَنْ كان بنابُلُس من الخُوارَزْمية إلى الصَّلْت، فقصدهم ابنُ الشيخ، وقاتلهم، فكسرهم، وبدَّد شملهم، وكان النَّاصر معهم، فسار إلى الكرك، وتبعه الخوارزمية، فلم يمكنهم من صعود القلعة ولا الرَّبض، وأحرق ابنُ الشيخ الصَّلْت وساق، فنزل على الكرك، وطلع عز الدين -وكان مع النَّاصر- إلى صَرْخد، فتحصن بها، وكانت كسرةُ ابنِ الشيخ للخوارزمية على الصَّلْت سابع عشر ربيع الآخر، ونزل ابنُ الشيخ على وادي الكَرَك وقاتل الناصر، وكَتَبَ إليه النَّاصر يقول: [من الطويل] غَدَوْتُ على قيسٍ لخفر جواره ... لأمنعَ عِرْضي إنَّ عِرْضي ممنَّعُ وكان عند النَّاصر صبيٌّ أمرد مُسْتحسن من الخُوارَزْمية، يقال له: طاش بورك بن خان، فطلبه ابنُ الشيخ، فقال النَّاصر: هذا صوته طَيب، قد أخذته ليقرأ عندي القرآن. فكَتَبَ إليه ابنُ الشيخ كتابًا غليظًا شنيعًا، وذكَّره غدره وأيمانه وحنثه، وأنشده: لأبذل عِرْضي إنَّ عِرْضي مُقَطَّعُ وقال: لا بُدَّ من الصَّبيِّ الخُوارَزْمي. فبعث به إليه، وكان ابنُ الشيخ قد قال: أنا أبعث لك بشيخٍ أعمى يقرأ أَطْيب منه، فقال: ما أريده.

وكان حسام الدين بن أبي علي بدمشق، فسار إلى بَعْلَبَك، وتسلَّم قلعتها باتِّفاقٍ من الشاماتي؛ مملوك إسماعيل، وكان حاكمًا عليها، وبَعَثَ أولاد إسماعيل وعياله إلى مِصْر، وتسلَّم نواب الصالح أيوب بُصْرى، وكان بها الشهاب غازي واليًا، فأعطوه حَرَسْتا القَنْطرة. [فصل: وفي رمضان قدمنا بغداد، ومعي ابني إبراهيم، ومملوكيّ بلبان وسالم، فأنزلنا خالي أبو محمَّد في داره بدار الخليفة، وخدمنا، غير أن ما ربحناه في سورة يوسف خسرناه في سورة النور، وجرى لنا عجائب، وما زلت مع وزير الخليفة -أدام الله تعالى سعده- حتى خرجنا من بغداد في صفر سنة خمس وأربعين وست مئة، ووصلنا إلى حلب، وتوفي ابني إبراهيم في ربيع الآخر، ونقلته إلى قاسيون في هذه السنة، فدفنته بالتربة عند أمه وأخيه] (¬1). وفي ربيع الآخر [لما كنا بحلب] (1) قَدِمَ الصَّالح إسماعيل حلب في طائفةٍ من الخُوارَزْمية منهم كشلوخان، وكانوا هاربين من الصَّالح أيوب، ولم يبق لإسماعيل في الشَّام مكان يأوي إليه، فتلقاهم النَّاصر صاحب حلب، وأنزل الصَّالح في دار جمال الدَّوْلة الخادم، وقبض على كشلوخان والخوارزمية، وملأ منهم الحبوس، [(¬2) وبلغني أن الناصر لما التقى إسماعيل قال شمس الدين لؤلؤ للنَّاصر: أَبْصِرْ عواقبَ الظُّلْم [كيف صارت] (1). وفيها وصلتِ الأخبار من البحر صحبة مركبٍ وَصَلَ من صِقِلِّية إلى الإسكندرية أَنَّ البابا غَضِبَ على الإنبرور، وعامل خواصَّه الملازمين له على قَتْله، وقال: قد خرج الإنبرور عن دين النَّصْرانية، ومال إلى المسلمين، فاقْتُلوه، وخُذُوا بلاده لكم. وأقطع كلَّ واحدٍ مملكة، [فأعطى واحدًا صقلية، والآخر تصافية، والآخر توليه، وهذه محال الإنبرور] (1)، وكَتَبَ أصحابُ الأخبار إلى الإنبرور بذلك، فعمد إلى مملوكٍ له، فجعله مكانه في التخت، وأظهر أَنَّه قد شرب دواء، وأرسل إلى الثَّلاثة فجاؤوا، والمملوك نائم على التخت، فظنوه الإنبرور، وقد اختبأ الإنبرور في مجلس، ومعه مئةُ فارس، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ت): ولما التقى الناصر الصالح قال شمس الدين ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

فلما دخلوا على المملوك مالوا عليه بالسَّكاكين، فقتلوه، فخرج عليهم الإنبرور، فذبحهم بيده، وسلخهم، وحشا جلودهم تبنًا، وعلَّقهم على باب القَصْر، وبلغ البابا [ذلك] (¬1)، فبعث إلى قتاله جيشًا، والخُلْفُ واقعٌ بينهم، وهذا الإنبرور هو الذي أعطاه الكامل القُدْس. ذِكْرُ ألقابه: الملك الكبير، الأَجَلّ الخطير، الأعز الأثير، قيصر المعظَّم، إنبراطور فردليك ابن الإنبراطور هونكه، المقتدر بقدرة الله تعالى، المستعلي بعِزَّته، مالك اللمانية، والإبيردية، وبسفايه، وأبليوود، وصقلية، حافظ بيت المقدس، معزّ أيام رومية، مالك ملوك النَّصْرانية، حامي الممالك الفرنجية، قائد الجيوش الصّليبية. وفيها قَبَضَ الملك النَّاصر داود على عماد الدين بن موسك في الكَرَك، واحتاط على موجوده، وكان له في صندوق نيف وخمسون ألف دِرْهم. وفي يوم الخميس تاسع عشر ذي القَعْدة قَدِمَ الصَّالح أيوب دمشق، فأحسنَ إلى أهلها، وتصدَّق على المدارس والرُّبُط وأرباب البيوت بأربعين ألف دِرْهم، وببَعْلَبَك بعشرين ألفًا، وببُصْرى بعشرين ألفًا، وخَلَعَ على أعيان الدماشقة الخلع السَّنية، ومضى إلى بَعْلَبَك، وعاد منها، ومشى ناصر الدين القَيمري وابن مطروح بين الصَّالح وعز الدين أيبك في الصُّلْح بواسطة شمس الدِّين بن العميد، وخرج الصَّالح من دمشق، ومضى إلى بُصْرى، وصَعِدَ إلى صَرْخد، ونزل إليه عِزُّ الدين برأي ابنِ العميد، وتسلَّم الصَّالح صرخد، وأقام عِز الدين أيبك في مَيدَانها أيامًا، وقدم دمشق في ذي الحجة، فنزل بالنَّيْرب، وكَتَبَ له منشورًا بقرقيسيا والمجدل وضياعًا في الخابور، فلم يحصل له منها شيء، وتوجَّه الصالح أيوب إلى مصر، وتصدَّق في القُدْس بألفي دينار مِصْرية، وأمر بعمارة سور القُدْس، فَذُرعَ، فكان ستة آلاف ذراع بالهاشمي، فقال: اصرفوا مغلّ القُدْس في عِمارته، وإنِ احتاجَ إلى شيء نفَذتُ من مِصْر. [وكنت لما أطلقه الناصر من الحبس، وجاء إلى القدس أخذتُ يده على ذلك] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

إبراهيم بن شيركوه

وفيها توفي إبراهيم بن شيركوه (¬1) الملك المنصور، صاحب حمص. كان شجاعًا، مِقْدامًا، موافقًا للصَّالح إسماعيل، ومصاهرًا له، ثم أَلْفَتَهُ عنه الصَّالحُ أيوب، وقدم دمشق، فنزل ببستان سامة، وأحدثني جماعة من الدماشقة أنه] (¬2) عامل على دمشق، ولو عاش أيامًا لأخذها، فمرض، وحُمِلَ إلى النَّيرب، فنزل ببستان الأشرف، فتوفي به يوم الأربعاء حادي عشر صفر، وحمل في تابوت إلى حِمْص، فكانت ولايتُه بعد وفاة [أبيه] (2) عشر سنين، وقام بعده ولده الأشرف موسى، وأقام بها سنتين وشهورًا، وأُخذت منه. بركة خان الخُوارَزمي (¬3) أحد الخانات الأربعة، كان أصلحهم في الميل إلى الخير والرِّفْق بالنَّاس، وكان الصَّالح أيوب قد صاهره، وأحسن إليه، وجرى منه عليه ما جرى، ولما قُتِلَ انحلَّ نظام الخوارزمية، [(¬4) وأمنت البلاد والعباد. وحكى لي شمس الدين لؤلؤ لما أخذوا دمشق في سنة ثمان وأربعين وست مئة، وكان يزورني، زارني يومًا، فحكى لي حديث بركة خان، قال: ] لما التقينا على حِمْص رأيتُ الخُوارَزْمية خَلْقًا عظيمًا، وكُنَّا بالنسبة إليهم كالشَّامة السَّوداء في الثور الأبيض، فقال لي غِلْماني: أيُّما أحبُّ إليك: نأخذ بركة خان أسيرًا، أو نحمل رأسه إليك؟ [قال] (2) فقلتُ: رأسه. كأَنَّ الله أنطقني، والتقينا، فلما كان بعد ساعةٍ، وإذا بواحدٍ من ¬

_ (¬1) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 2/ 481، و"المذيل على الروضتين": 2/ 79، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "نزهة الأنام" لابن دقماق: ص 171 - 172، و"النجوم الزاهرة": 6/ 356 - 357. (¬4) في (ت): وقال شمس الدين لؤلؤ: لما التقينا، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

زينب بنت أبي القاسم قاضي حماة

أصحابنا يحمل رأسًا مليحَ الصُّورة، وليس في وجهه سوى شعيراتٍ يسيرة، ولم يعرفه ولا نحن، وانهزموا، وجيء بطائفةٍ منهم أسارى، فلما رأوا الرأس رموا نفوسهم من خيولهم، وحثوا التراب على رؤوسهم، وبكوا، فعلمنا حينئذٍ أَنَّه رأسه، فبعثنا به إلى حلب. [وفيها توفيت زينب بنت أبي القاسم قاضي حماة زوجتي، وأمها خطلخ خاتون بنت سودكين، وتعرف ببنت العكبري. كانت صالحة، دينة، متفقهة، تعمل ألوان الطبايخ والحلاوات، وكان الملوك يرغبون في صنعتها، ويعجبهم طعامها، وحجت، وتصدقت، وكانت كريمة، ضيعت أموالًا عظيمة، وتوفيت بدمشق ونحن ببغداد، ودفنت بتربتي عند ولدها علي. سمعت الحديث من البهاء الحنبلي، وابن صَصْرى، وغيرهما، والله أعلم] (¬1). عماد الدين داود بن موسك (¬2) كان فخر الدين بن الشيخ قد شفع فيه إلى النَّاصر، فأخرجه من الحبس، وكان قد خرج في حَلْقِهِ خُراج عظيمٌ، فَبُطَّ بغير اختياره، وحُشي الدَّواء الهالك، فمات بالكرك، وحمل إلى مسجد جعفر [بن أبي طالب] (1)، فدفن هناك، فرحمة الله عليه، لقد كان جمع بين الأصالة والجلالة، والفتوة والمروءة، والعصبية والنفس الطاهرة الزَّكية، فكم أعان ملهوفًا، وكم أغاث مكروبًا، وكان النَّاصر قد اتَّهمه بالرَّواح إلى مِصْر، ووالله لقد برأك الله من الغدر والخيانة يا عماد الدين، [كما بُرِّئت عائشة أم المؤمنين] (1)، وخَتَمَ الله أعماله بأَنْ مات فقيرًا من فقراء المُسْلمين. هيهات أَنْ يأتي الزَّمانُ بمِثْلِهِ ... إنَّ الزَّمانَ بمثله لبخيلُ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 13/ 497 - 498، و"نزهة الأنام" لابن دقماق: ص 172.

الركن الهيجاوي

الركن الهيجاوي مات بمِصْر في الحبس، وكان قد قفز إلى دمشق من غير عادة، وكان الصَّالح أيوب قد أحسن إليه، وقدَّمه على العساكر. السنة الخامسة والأربعون وست مئة فيها تسلم نواب الصَّالح أيوب قلعة الصُّبَيبَة من نواب [الملك السَّعيد بن] (¬1) العزيز، وأقطعه بمصر إقطاعًا، وأعطاه مئة ألف درهم، وخمس مئة قطعة قُماش، وخبزًا لمئة وخمسين فارسًا. ونازل فخر الدين بن الشيخ طبرية ففتحها عَنْوَة، وحاصر عَسْقلان، وقاتل عليها قتالًا عظيمًا، وفتحها في جمادى الآخرة. وتسلم نواب الصالح قلعة شميميش من ابن صاحب حمص، [فحصَّنها] (¬2)، وبعث إليها الخزائن، ونزل عسكر حلب على حمص، وأخذها في السنة الآتية. قال المصنف رحمه الله: وفيها فوض إليَّ الأمير عِزُّ الدين أيبك النَّظر في أوقافه ومدارسه وأبواب البر، [على كره مني وحياء منه] (2). وفيها قدم تاجُ الدِّين بن مهاجر من مِصْر إلى دمشق، ومعه المبارز نَسِيبُه، ومعهما تذكرة فيها أسامي جماعة من الدماشقة بأن يحملوا إلى مِصْر، فَحُملوا، وهم القاضي محيي الدين بن التركي وابن الحَصِيري، وابن العماد الكاتب، وبنو صَصْرى الأربعة وشرف الدين بن المعتمد، وابن الخطيب العَقْرباني، والتَّاج [الإسكندراني] (2) الملقب بالشُّحرور، وأبو الشَّامات [مملوك إسماعيل] (2) والحكيمي مملوك إسماعيل، وغازي والي بُصْرى، وابن الهادي المحتسب، وأخرج العماد ابن خطيب بيت الآبار من جامع دمشق [إلى بيت الآبار] (2)، وولَّى العماد [بن] (2) الحرستاني [القاضي] (2) الخطابة [بجامع دمشق] (2) في رجب. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من "المذيل على الروضتين": 2/ 82، وقد ذكر ذلك في حوادث سنة (644 هـ)، وذكر المقريزي هذا الخبر في "السلوك": ج 1 / ق 2/ 329 في حوادث سنة (645 هـ) كما ذكره المصنف. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

وسَبَبُ حمل الجماعة المذكورين إلى مصر أَنَّه نُقِلَ إلى الصَّالح أيوب أنهم خواصُّ الصَّالح إسماعيل، فخاف أن يجري ما جرى في النَّوْبة الأولى من أَخْذِ دمشق، ولما وصلوا إلى مِصْر أقاموا بحسب اختيارهم، وخَلَعَ على بعضهم، ومات ابنُ الهادي، وعاد الباقون بعد وفاة أيوب إلى دمشق. وفي ثالث عشر ذي القَعْدة اعتُقِلَ عِزُّ الدين أيبك في دار فَرُّخْشاه بتواطؤ من ابن مطروح وغيره، ووضعوا مترجَمًا (¬1) جاءه من حلب من عند إسماعيل، فكتبوا إلى الصَّالح أيوب وأخبروه، فأمر أن يحمل إلى القاهرة تحت الحوطة، فأنزل دار صواب، فاعتقل فيها، وكان إبراهيم ابن جاريته المنتحل إليه قد مضى إلى الصالح أيوب، ووشى به. قال المصنف رحمه الله: بلغني أَنه قال لأيوب: أموالُ أبي قد بَعَثَ بها إلى الحلبيين، وأول ما نزل بها من صرخد كانت ثمانين خرجًا، فأودعها عند فلان. عني. وقال: وبلغ عز الدين اجتماعه بأيوب، فمرض، ووقع إلى الأرض، وقال: هذا آخر عهدي. ولم يتكلَّم بعدها حتى مات، ودفن بباب النَّصْر، فيا ليته عاش حتى رأى في أعدائه العِبَر، أما ابن مطروح فرأى الذُّلَّ والهوان، [ولعب به القدر] (¬2)، ولم يمت حتى ذهب بصره. وأما غيره، فانتثر لحمه عن عظامه، [وارتحل بآثامه] (2). ولما سعى إبراهيم بعز الدين سعى بحاشيته، وقال: عندهم أمواله مثل البرهان [كاتبه] (2)، وابن المَوْصلي صاحب ديوانه، والبَدْر الخادم، ومسرور، وغيرهم، فأمر أيوب بحملهم إلى مِصْر، فأما البرهان فمن خوفه يوم أخرج ليتوجَّه إلى مِصْر مات بمسجد النارنج، والباقون حُملوا إلى مِصْر، ولم يظهر عليهم مما قيل دِرْهم، ورجعوا إلى دمشق بعد وفاة أيوب وقد لاقوا الشدائد، وختم للأمير عز الدين بالشَّهادة، [كما عاش في دنياه تحت تلك السعادة] (2)، وكنتُ قد عزمت على نَقْله إلى دمشق، ودَفْنه في تُرْبته، فأتاح الله بعضَ مماليكه فحمله في تابوتٍ، ودفناه في قبَّته، [بين العلماء والفقهاء والمحدثين والقراء، وأعطاه الله في آخرته ما كان يتمناه في دنياه، وأناله أرفع ¬

_ (¬1) في "عيون التواريخ": 20/ 12 كتابًا. قلت: وكأنه بمعناه. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

شهاب الدين غازي

الدَّرجات، والأعمال بالنيّات] (¬1)، ولقد كان كثيرَ الصَّدقات، عظيم الصِّلات، اشتراه المعظَّم سنة سبع وست مئة [ونحن على الطور] (1)، وفوَّض إليه أُستاذداريته، وظَهَرَ منه من العقل والسَّداد ما أوجب تقديمه على الأولاد، وأعطاه قلعة صَرْخد، وأقام بها يضاهي الملوك، [ولا فرق عنده بين الغني والصعلوك] (1)، وقيل: إنه مات سنة سبع وأربعين [وست مئة، السنة التي مات فيها أيوب، رحمة الله عليهما] (1). شهاب الدين غازي (¬2) قد ذكرناه في عِدَة أماكن، وكان شجاعًا شهمًا [جَوَادًا] (1) حُفَظَةً، لطيفًا، ينشد الأشعار، ويحكي الحكايات، وقد ذكرنا حَجَّه على العراق. قال المصنف رحمه الله: اجتمعتُ به في الرُّها سنة اثنتي عشرة وست مئة، وأنا قاصِدٌ إلى خِلاط، فحضر مجلسي بجامع الرُّها، [وكان يومًا مشهودًا] (1)، وأحسن إليَّ، وخدمني، ومما حكاه لسعد الدِّين مسعود بن تاج الدين شيخ الشيوخ، قال: قَطَعَ الكامل الفرات سنة اثنتين وثلاثين وست مئة بعسكرٍ لم يجتمع لصلاح الدين مثله، [قال] (1): فدخلتُ عليه يومًا، وعنده النَّاصر داود، فقال: تروح تخرب حصن منصور وتنهبه. فقلتُ له: يا خوند، ما يحل لي أن أقاتل المسلمين وأنهبهم، أنفذ غيري. فاغتاظ، وقال: والله إنَّ شُرْبَنا الخمر وفسقنا أجودُ من زُهْدك وذوكرتك، مثل ما رحت خلصت نهب الفرادى من أصحابنا وتمزهدت، ولو وقع لك ظُلْم ظلمتَ، وهذا الآخر -عن الناصر- يوافقك في الخساف. قال: فقمتُ وخرجت، فلحقني الصَّلاح الإِرْبلي، وقال: قال لك السُّلْطان: لا تروح إلى حصن منصور، نحن نبعث غيرك. فقلتُ له: قُلْ له: والله ما أروح، ولو رسمت عليَّ، فلا حاجة إلى قولك. قال سعد الدين: وأنشدني شهاب الدِّين: [من الطويل] ومن عجبِ الأَيَّامِ أَنَّك جالِسٌ ... على الأرض في الدُّنيا وأنتَ تسيرُ فَسَيرُكَ يا هذا كَسَيْرِ سفينةٍ ... بقومٍ جلوسٍ والقِلاعُ تطير ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "نزهة الأنام": 179 - 180، و"سير أعلام النبلاء": 22/ 133 - 134، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

السنة السادسة والأربعون وست مئة

وأنشد لأُسامة بن منقذ: [من الطويل] ولما التقينا بَعْدَ بُعْدٍ تحدَّرت ... دُموعي إلى أن كدتُ بالدَّمْعِ أغرقُ فقلتُ لها يا عينُ هذا لقاؤنا ... فقالتْ ألسنا بعده نتفرَّقُ وكَتَبَ على تقويم: [من البسيط] إذا أردت اختيارَ السَّعْدِ فيه فقلْ ... على الذي في يديه السَّعْدُ اتَّكِلُ سَلِّمْ إلى الله فيما أنتَ فاعِلُهُ ... فما إلى النَّجْمِ لا قَوْلٌ ولا عَمَلُ ورثاه سعد الدِّين مسعود، فقال: [من الوافر] ألا روَّى الإله ترابَ قَبْرٍ ... حَلَلْتَ به شهابَ الدِّين غازي وأَسْكنكَ المليكُ جِنانَ عَدْنٍ ... وكان لك المكافئ والمجازي فَضَلْتَ النَّاسَ مكرمةً وجودًا ... فما لك في البَرِيةِ مِنْ موازي وكنتَ الفارسَ البطلَ المُفَدى ... مبيدَ القِرْن في يوم البِرازِ تُجَنْدِلُهُ بأبيضَ مَشْرَفي ... وتطعَنُهُ بأسمرَ ذي اهتزازِ السنة السادسة والأربعون وست مئة فيها قايضَ الأشرف موسى صاحب حمص تل باشر بحمص مع الملك الناصر يوسف [بن الملك العزيز] (¬1) صاحب حلب. وخرج الصَّالح أيوب من مصر إلى دمشق، وجهَّز العساكر مع فخر الدين بن الشيخ إلى حمص، وسخَّر الفلاحين لحمل المجانيق إلى حمص، فكانوا يحملون عودًا قيمته عشرون درهمًا إلى حمص، فيغرم عليه ألف درهم، فخرب الشَّام، وهرب أهله، ونصبوا المجانيق على حمص، وخرج عسكر حلب إلى لقائهم على حمص، وكان الشيخ نجم الدين الباذرائي بالشَّام، فدخل بين الفريقين، ورَدَّ الحلبيين إلى حلب والدِّمَشْقيين إلى دمشق، وعاد الصَّالح أيوب إلى مِصْر مريضًا في مِحَفَّة. وفيها ولَّى جمالُ الدين بن يغمور فتحَ الدِّين بنَ العدل حِسْبة دمشق، وعَزَلَ النجم بنَ الشِّيرجي. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

والضياء محاسن

وتسمى هذه السنة (¬1) سنة الفقهاء، مات فيها أكثر الحنابلة، منهم التقي بن العِز، و [اسمه] (¬2) أحمد بن محمَّد بن عبد الغني الحافظ المقدسي (¬3). كان فقيهًا فاضلًا، مات شابًّا. وشرف الدين عبد الله بن أبي عمر (¬4)، خطيب الجبل، كان صالحًا، سليم الصدر، فقيهًا فاضلًا. والضِّياء محمَّد بن عبد الواحد بن أحمد (¬5)، أبو عبد الله الحَنْبلي، المَقْدِسي، أخو الشَّمْس البخاري. كان فاضلًا، صالحًا، عابدًا، زاهدًا، عمر دار الحديث بالجبل عند الجامع، ووَقَفَ بها الكُتُب، وجمع وألَّف، وسمع الحديث الكثير، وكانت وفاته في جُمادى الأولى، ودُفِنَ بقاسيون. والضياء محاسن (¬6) كان فاضلًا، فقيهًا، زاهدًا، عابدًا، [ورعًا] (2)، عارفًا بجميع المذاهب، يقرُّ بها ولا يتعصب على مذهب، وما زاحم أحدًا في منصب ولا دُنْيا, ولا أكل من الأوقاف [شيئًا] (2)، وكان يتقوَّت من شكارةٍ تُزْرَعُ له (¬7) في حوران، وما آذى مُسْلمًا قط، ولا ¬

_ (¬1) كذا قال: وهو وهم، لعله من المصنف أو المختصر، والصواب أنها سنة (643 هـ). فن ذكرهم من بعد توفوا فيها. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 69، (وفيات سنة 643 هـ)، وهو الصحيح في تاريخ وفاته، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬4) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 74، وفيات سنة (643 هـ)، وهو الصحيح في تاريخ وفاته، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬5) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 74، وفمات سنة (643 هـ)، وهو الصحيح في تاريخ وفاته، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬6) له ترجمة في "ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 234، وقد ذكره أبو شامة في "المذيل على الروضتين": 2/ 74 - 75، والذهبي في "سير أعلام النبلاء": 23/ 147 في وفيات سنة (643 هـ)، وهو الصحيح في تاريخ وفاته. (¬7) الشكارة أن تزرع في أرض غيرك، دون أن يتقاضى صاحب الأرض على ذلك أجرًا، بل يكون منه حيًّا وتفضلًا. انظر "تكملة المعاجم العربية" لدوزي (الترجمة العربية): 6/ 339، و"معجم متن اللغة": 3/ 355.

الصلاح موسى بن الشهاب

دخل حمامًا ولا تنعَّم، وكان له ثوب وعِمامة لبسهما طول عمره، وكان على خيرٍ كثير قَلَّ أَنْ كان بالشام من يماثله في سيرته، أو يعادله في طريقته. نور الدين رسول صاحب اليمن، قتله مماليكه. الصَّلاح موسى بن الشِّهاب (¬1) كان خَيِّرًا، فاضلًا، يحبُّ الفقراء، ويخدم المشايخ، ويمشي في حوائج النَّاس، ويشتري الأسارى، وكان الصَّالح أيوب قد حبسه في مصر [فخلصته من يده بعد اللتيا والتي، وجعلت خلاصه من الصالح ضيافتي وفائدتي,] (¬2) وكان فطنًا يقول الشعر، [وقد رثى العماد الحنبلي]. أبو بكر، الملقب بالعادل بن الكامل [أخو الصَّالح نجم الدين أيوب، ذكر] (3)، سَعْد الدِّين مسعود [بن تاج الدين شيخ الشيوخ] (3) ابن حَمُّوية [قال] (3): وفي خامس شوَّال سنة ست وأربعين [وست مئة] (¬3) جهَّز الصَّالحُ أخاه أبا بكر العادل، ونفاه إلى الشَّوْبك، وبعث إليه الخادم محسن، فدخل عليه الحبس، وقال: السُّلْطان يقول لك: لا بُد من رواحك إلى الشَّوبك. فقال: إنْ أردتم أن تقتلوني في الشَّوْبك، فها هنا أَوْلى، ولا أروح أبدًا، فعذله محسن، فرماه بدواةٍ كانت عنده، فخرج، وعرَّف الصَّالح أيوب بقوله، فقال: دَبِّرْ أمره. فأخذ ثلاثة مماليك، ودخلوا عليه ليلة الاثنين ثاني عشر شوال، وخنقوه بشيش علمه، وعلقوه به، وأظهروا أَنَّه شنق نفسه، وأخرجوا جِنازته مثل بعض الغرباء، ولم يتجاسر أحدٌ أن يترحَّم عليه، أو يبكي حول نعشه، ودفن بتربة شمس الدولة. قال المصنف رحمه الله: سبحان الله الحكَم العَدْل، الذي لا يحيف في قضائه، ولا يحكم عليه أحدٌ في أمرٍ لو قدَّره وقضى به، فإنه لم يطل مدَّة أيوب، لأَنَّه توفي في ¬

_ (¬1) له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 23/ 76، و"ذيل طبقات الحنابلة": 2/ 235، و"المقصد الأرشد": 3/ 10، و"المنهج الأحمد": 4/ 251، وقد سلفت ترجمة أبيه في وفيات سنة (618 هـ). (¬2) في (ت): ثم خلص، وكان فطنًا، والمثبت ما بين حاصرتين من (مشن). (¬3) ما بين حاصرتين من (ش).

السنة السابعة والأربعون وست مئة

نصف شعبان سنة سبعٍ وأربعين، وقُتِلَ أخوه في شوال سنة ست وأربعين، بينهما عشرة أشهر، رأى في نفسه [فيها] (¬1) العِبَر، وما نفعه الاحتراز والحذر، بعد أن أذاقه الموتُ كؤوسَ حتوفه، قَتَلَ مماليكُه ولدَه تورانشاه بسيوفه. السنة السابعة والأربعون وست مئة فيها توجه الصَّالح أيوب من دمشق إلى مِصْر في المِحَفَّة مريضًا مُدْنفًا في رابع المحرَّم، ونادى في الناس: مَنْ كان له عندنا شيءٌ فليحضرْ، ويأخذ ما له. فطلع النَّاس إلى القلعة، وأخذوا ما كان لهم. و[حدثني من شهد الواقعة قال] (1): بينا الصَّالح في مرج الصُّفَّر في المِحَفَّة استغاث إليه رجلٌ على المخلص المغيثي، وقال: اشترى مني غنمًا، ولم يعطني شيئًا، فقال: نكسْه من بغلته وخُذْها، فنكَّسه، وأخذ البغلة، فباعها بسبع مئة درهم، واستوفى ماله. وفيها حُمِلَ عِزُّ الدين أيبك المُعَظَّمي إلى القاهرة تحت الحوطة، وقيل: في سنة ست وأربعين وست مئة. وفيها احترقت المئذنة الشَّرْقية بجامع دمشق، وراح للفقراء والمشايخ فيها ودائع وصناديق وأموال كثيرة، وكتبوا إلى الصَّالح أيوب، فأمر بعمارتها. وفيها توجه النَّاصر داود من الكَرَك إلى حلب. وورد كتابُ الصَّالح أيوب إلى جمال الدِّين بن يَغْمور بخراب دارِ سامة، وقَطْعِ شجر بستان القَصْر بالقابون، وخراب القَصْر، فتوقَّف ابنُ يغمور، فجاءته كُتُبٌ عِدَّة، فأخرب الدَّار، والقَصْر، وقَطَعَ الشجر. وفيها مضى الأمجد حسن بن النَّاصر من الكَرَك إلى مِصْر، وسلَّم الكَرَك إلى الصَّالح أيوب في جمادى الآخرة، وأعطاهم مالًا، وأخرج منه عيال المعظم وأولاده وبناته وأُمَّ النَّاصر، وجميعَ مَنْ كان فيه، وبعث إليه ألف ألف دينار، وجواهر، وذخائر، وأسلحة، وشيئًا كثيرًا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

وفيها هَجَمَ الفرنجُ دمياطَ في ربيع الأول، وكان فيها فخر الدين بن الشيخ والعساكر، فخرجوا منها، وخَرَجَ أهلها، وكان الصَّالح على المنصورة، فشنق من أعيان أهلها ستين نفسًا، فلما أمر بشنقهم، قالوا: ما ذنبنا؟ إذا كان عساكره وأمراؤه قد هربوا وأحرقوا الزردخاناه، فأيش نعمل نحن؟ ! وكان في الذين شُنِقُوا رجلٌ كتابي محتشم، وله ولد من أحسن النَّاس صورةً، فقال أبوه: بالله اشنقوني قَبْله. وبلغ الصَّالح، فقال: لا، اشنقوا الابن قبله. ففعلوا، وقامت على العسكر القيامة، ودعوا على أيوب، وأراد مماليكُه قَتْلَه، فقال لهم ابن الشيخ: اصبروا عليه، فهو على شفى، فإن مات فقد استرحتم منه، وإلا فهو بين أيديكم، وقُتِلَ نجمُ الدين ابن شيخ الإِسلام. [وقال الصالح أيوب لابن الشيخ والعسكر: أما قدرتم تقفوا ساعة بين يدي الإفرنج! ولا قتل من العسكر إلا هذا الضعيف. يعني ابن شيخ الإِسلام. وكان قد قفز من الكرك إلى مصر، وأسرَّها الصالح في نفسه، ولو عاش لأهلك ابن الشيخ وغيره. ولما أن هجمها الفرنج من باب، وخرج ابن الشيخ من باب، فظنوا أنها مكيدة، فتوقفوا، ثم تيقنوا عجز المسلمين، وخرج أهل دمياط حفاة عراة عطاشًا جياعًا، فقراء حيارى النساء والأطفال، وكان قد سَلِمَ لهم ما يعيشون فيه، فنهبهم في طريق القاهرة. وفي ليلة النصف من شعبان مات الصالح أيوب بالمنصورة، وكانت أم خليل عنده، وهي المدبرة للأمور، فلم تغيِّر شيئًا من الدهليز بحاله، والسماط كل يوم يُمَدّ، والأمراء في الخدمة، وهي تقول: السلطان مريض ما يصل أحد إليه. وبعثوا إلى الملك المعظم تورانشاه بن الصالح أيوب إلى حصن كيفا أقطايا مملوك الصالح أيوب، فخرج به من حصن كيفا، وسلك البرية، وخاطر بنفسه، وكاد يهلك من العطش، ووصل إلى دمشق في آخر رمضان، وخلع على الدماشقة، وأعطاهم الأموال، وأحسن إليهم، وما سئل شيئًا فقال: لا. وبلغني أنه كان في قلعة دمشق ثلاث مئة ألف دينار، فأخرجها، واستدعى من الكرك مالًا أنفقه. وفي ذي القعدة كانت وقعة عظيمة على المنصورة، ووصل الفرنج إلى الدهليز، وخرج فخر الدين، فقاتل، فقتل، وانهزمت العساكر من بين أيديهم، ثم استحيا المسلمون، فعادوا على الفرنج، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة.

الملك الصالح، نجم الدين أيوب بن الكامل محمد

وسار المعظم تورانشاه إلى مصر بعد أن أقام بدمشق سبعة وعشرين يومًا، وقيل: دخلها في العشرين من رمضان، وخرج منها في سابع عشر شوال إلا أنه ما وصل إلى مصر إلا في آخر السنة، فكان في عزمه الفتك بابن الشيخ لأنه بلغه أنه يريد الملك، والناس كلهم يريدونه، فاستشهد واستراح، رحمة الله تعالى عليه] (¬1). وفيها توفي الملك الصَّالح، نجم الدين أيوب بن الكامل محمد (¬2) ولد سنة ثلاثٍ وستِّ مئة بالقاهرة، ونشأ بها, ولقبه نجم الدين، واستخلفه أبوه بها لما نزل إلى الشَّرْق، فأقام مع صواب لا أَمْرَ له ولا نهي، ثم أعطاه حِصْن كيفا، وجرى له ما ذكرناه. ولما ملك مِصْر اجتهد في خلاص ولده المغيث، فلم يقدر، وكان مهيبًا هيبةً عظيمة، جَبَّارًا، أباد الأشرفية وغيرهم، [(¬3) وقد حكى لي جماعة من أمرائه قالوا]: والله ما نقعد على بابه إلا ونقول: مِنْ ها هنا نحمل إلى الجباب. وكان إذا حَبَسَ إنسانًا نسيه، ولا يتجاسر أحدٌ أن يخاطبه فيه، [وبنى قبابًا في تِنِّيس للحبس] (1)، وكان يحلف أنه ما قَتَلَ نَفْسًا بغير حقٍّ، وهذه مكابرةٌ ظاهرة، فإنَّ خواصَّ أصحابه حكوا أنه لا يمكن إحصاء من قتل من الأشرفية وغيرهم، ولو لم يكن إلا قتل أخيه العادل، وكانت أم خليل عتيقته تكتب خطًّا يشبه خَطَّه، فكانت تعلِّم على التَّواقيع، وكان قد نَسَرَ مخرجه، وامتدَّ إلى فخذه اليمنى ورِجْله، ونحل جسمه، وعملت له مِحَفَّة يركب فيها، وكان يتجلَّد، ولا يطلع أحدًا على حاله، ثم حمل تابوته إلى الجزيرة، فعُلِّق بسلاسل حتى قُبِرَ في تُرْبته إلى جانب مدرسته بالقاهرة، وكان فخر الدين قد أشار بتحليف العساكر للمعظَّم تورانشاه، فحلفوا له، وأخفوا موتَ السُّلْطان مُدَّة، وكانت الأمور على حالها، وأطلق فخر الدين السُّكَّر والكتان إلى الشَّام، وقد ذكرنا واقعاته في السنين إلى أن توفي ليلة النِّصْف من شعبان. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 92، وفيه تتمة مصادر ترجمته. و"سير أعلام النبلاء": 23/ 187 - 193. (¬3) في (ت): وقال جماعة من أمرائه، والمثيت ما بين حاصرتين من (ش).

فخر الدين، يوسف بن شيخ الشيوخ

فخر الدين، يوسف بن شيخ الشيوخ (¬1) كان عاقلًا، جَوَادًا، مُدَبِّرًا، خليقًا بالمُلْك، محبوبًا إلى النَّاس، ولما توفي الصَّالح نُدِبَ إلى الملك، فامتنع، ولو أجاب لما خالفوه. وكان لما قدم دمشق [(¬2) حَضَرَ إلى عندي، وسألني الجلوس، فجلستُ بجامع دمشق، وكان ساكنًا] في دار سامة، فدخل عليه العماد بن النَّحَّاس، وقال له: يا فخرَ الدِّين، إلى كم! ما بقي بعد هذا اليوم شيء. فقال له: يا عماد الدين، والله لأسبقنَّك إلى الجَنَّة. فكان كما قال، استُشْهد فخر الدين في سنة سبعٍ وأربعين [وست مئة] (¬3)، وتوفي العماد في صفر سنة أربعٍ وخمسين، بينهما ثماني سنين. وكان قد قام بأمر الملك أحسن قيام، وأحسن إلى النَّاس، وبعث أقطايا وجماعةً إلى الحِصْن يحضرون تورانشاه، وحَسَدَ الجُند فخرَ الدين، وعزموا على قَتْله، ونهبوا داره، فاستدعى الأمراءَ والأكابر، وقال: أنا ما لي طمعٌ في المُلْك، وإنما أحفظُ بيتَ أُستاذي حتى يجيء ولده، ويتسلَّم البلاد. فحلفوا، واعتذروا، وكان المتَّهم بذلك الخادم محسن وجماعة. وجَهزَ جماعةً من مماليك الصَّالح إلى دمشق لما وصلها المُعَظَّم يستعجله في الحضور إلى مِصْر، فأوهمه بعضُ المماليك الواصلين إليه أَنَّ فخر الدِّين قد حلَّف العسكر لنفسه، ومتى وصلت قتلك. فتوقَّف، وأنفق أموال دمشق في العساكر ليستميل بها عسكر مِصْر، وحلَّف المماليك الذين بعثهم فخر الدين إليه على قَتْلِ فخر الدين. واتَّفق مجيءُ الفرنج إلى عسكر المسلمين، وعبورهم الخنادق والبحر، واندفاع المسلمين من بين أيديهم، فركب فخر الدين وقت السَّحَر ليكشف الخبر، وكان اليوم العظيم، وأنفذ إلى الحلقة والأمراء ليركبوا، وساق جريدةً، ومعه بعضُ مماليكه وأجناده، فالتقى طُلْب الدَّاوية مصادفةً، فحملوا عليه، فهرب مَنْ كان معه، فطعنوه في ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 92، وفيه تتمة مصادر ترجمته، و"سير أعلام النبلاء": 23/ 100 - 102. (¬2) في (ت): وكان لما قدم دمشق سكن في ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) ما بين حاصرتين من (ش).

جَنْبه، فوقع عن الفرس، وضربوه في وجهه بالسَّيف عرضًا وطولًا ضربتين، فقتلوه، وجاء مماليكه إلى داره، فكسروا صناديقه، ونهبوا أكثر ما فيها، ونهبت أمواله وخيله، وأخذ الجولاني قدور حَمَّامه، والدِّمياطي أبواب داره، وما نفعه تربيته مماليكه وإحسانه إليهم، وكان قبل ذلك بأيام قد رأى والدته في المنام، وهي تقول: قد أوحشتني. وحَمَلَتْه على كتفها، فاستشعر، فقُتِلَ بعد ذلك بأيام، ثم حُمِلَ من المعركة بقميصٍ واحد، وجُعِلَ في حرَّاقة إلى القاهرة [(¬1) وخربت داره كلُّها كأنها لم تكن بالأمس، أخربها] الأمراء الذين كانوا كلَّ يوم يركبون إلى خِدْمته، ويقفون على بابه، وهم أكثرُ مِنْ سبعين أميرًا بسناجقهم، [كانوا] (¬2) يتمنون أن ينظر إلى أحدٍ منهم نظرة، أخربوا داره بأيديهم، وحمل من المقياس إلى الشَّافعي، فدُفِنَ عند والدته، وكان يومًا مشهودًا، وحُمِلَ على الأصابع، وبكى عليه النَّاس، وعُمِلَ له العزاء العظيم، وكان له يوم مات ستٌّ وستون سنة. ولما وصل تورانشاه إلى العسكر أخذ مماليكَ فخرِ الدين الصِّغار، وبعض قُماشه بنصف القيمة، ولم يعطهم دِرْهمًا، ولا عوَّض الورثة بشيء، وكان الثمن خمسة وعشرين ألف دينار، وكان إذا جلس جعل حسنات فخر الدين سيئات، يقول: أطلق الكتان والسكر، وأنفق الأموال، وأطلق المحابيس، فأيش ترك لي أنا؟ فكان حِفْظُه الملك وسياسةُ العسكر، ومقاتلة الفرنج من أكبر ذنوبه. [(¬3) ولفخر الدين أشعار، منها]: [من الطويل] عَصَيتُ هوى نَفْسي صغيرًا فعندما ... رمتني اللَّيالي بالمشيبِ وبالكبرِ أطعتُ الهوى عكس القضيةِ ليتني ... خُلِقْتُ كبيرًا وانتقلتُ إلى الصغر وله أيضًا: [من البسيط] إذا تحقَّقْتُمْ ما عند صاحبكُمْ ... من الغَرَامِ فذاكَ القَدْرُ يكفيهِ أنتمْ سكنْتُمْ فؤادي وهو منزلكُمْ ... وصاحبُ البيتِ أَدرى بالذي فيهِ ¬

_ (¬1) في (ت): وأخرب داره الأمراء ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ت): ومن شعر فخر الدين، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

السنة الثامنة والأربعون وست مئة

وله في مملوكٍ له توفي: لا رغبة في الحياة من بعدك لي ... يا من ببعادك تدانى أجلي إن مت ولم أمت أسىً واخجلتي ... من عَتْبك لي في يوم عرض العمل وفيها توفي شهاب الدين قاضي دارا، [الذي كان] (¬1) إلى ظلمه المنتهى. السنة الثَّامنة والأربعون وست مئة فيها في أَوَّل ليلة منها كان المصافُّ بين الفرنج والمسلمين على المنصورة، بعد وصول المعظم تورانشاه إلى المخيَّم مسك الإفرنسيس، وَقَتَل من الفرنج مئة ألف، ووصل كتاب المعظم إلى جمال الدين بن يغمور يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] {وَمَا النَّصْرُ إلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4، 5] {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11] {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. نبشِّر المجلس السَّامي الجمالي، بل نبشِّر الإِسلام كافَّة بما مَنَّ الله به على المُسْلمين من الظَّفر بعدوِّ الدِّين، فإنَّه كان قد استفحل أمره، واستحكم شَرُّه، ويئس العبادُ من البلاد والأهل والأولاد، فنودوا {وَلَا تَيأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} الآية [يوسف: 87] ولما كان يوم الأربعاء مستهلّ السنة المباركة تَمَّم الله على الإِسلام بركتها، فتحنا الخزائن، وبذلنا الأموال، وفرَّقنا السِّلاح، وجمعنا العُرْبان والمطاوعة، واجتمع خَلْق [عظيم] (1)، لا يحصيهم إلا الله تعالى، وجاؤوا من كل فجٍّ عميق، ومن كلِّ مكانٍ بعيد سحيق، ولما رأى العدو ذلك أرسل يطلب الصُّلْح على ما وقع الاتِّفاق بينهم وبين الملك الكامل، فأَبَينا, ولما كان في الليل تركوا خيامهم وأثقالهم وأموالهم، وقصدوا دِمياط هاربين، فسِرْنا في آثارهم طالبين، وما زال السيف يعمل فيهم عامَّة الليل، وقد حلَّ بهم الخِزْي والوَيل، فلما أصبحنا نهار الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفًا غير من ألقى نفسه في اللُّجج، وأما الأسرى فحدِّث عن البحر ولا حَرَج، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

والتجأ الإفرنسيس إلى المُنْية، وطلب الأمان، فأمَّناه، وأخذناه وأكرمناه، وتسلَّمنا دمياط بعون الله وقوَّته، وجلاله وعظمته. وذكر كلامًا طويلًا. وفي ثامن وعشرين محرَّم قُتِلَ المعظَّم تورانشاه. وفيها وصل [ابن] (1) العزيز صاحب بانياس منهزمًا من مِصْر، نفاه تورانشاه، فلما دخل دمشق أُطلع إلى عزَّتا، فاعتقل فيها. [وفي مستهل ربيع الآخر وصل الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز صاحب حلب إلى قارا يريد دمشق، فأرسل جمال الدين بن يغمور والقيمرية إلى عزَّتا، فأنزلوا ابن الملك العزيز إلى دمشق، وأسكنوه دار فرخشاه، وجاء عسكر حلب، فنزل القصير، وانتقلوا إلى داريا يوم السبت سابع ربيع الآخر، وزحفوا يوم الأحد ثامن ربيع الآخر إلى باب الصغير, وكان مسلمًا إلى ناصر الدين القصري، وكان المجاهد إبراهيم في القلعة، فلما وصلوا إلى البابين كسرت الأقفال من الداخل، وفتحت الأبواب، فدخلوا، ونهبوا دار جمال الدين بن يغمور، وسيف الدين بن المسند، وعسكر مصر ودمشق، وأُخذت خيولهم من إصطبلاتهم، وأموالهم وأثاثهم من دورهم، ودخل ابن يغمور القلعة، ثم نودي بالأمان، وانقضت أيام الصالح أيوب بدمشق، وكانت مملكته الأخيرة لها خمس سنين إلا أيامًا، ثم دخل الملك الناصر القلعة، وطيب قلوب الناس، ولم يغير على أحد شيئًا. وكان الملك الناصر داود نازلًا بالعقيبة، فجاءه ابن الملك العزيز فبات عنده تلك الليلة، وهرب ابن العزيز إلى الصُّبَيْبة، وكان بها خادم من خدامه قد كاتبه، فوصلها، ففتح له، فدخلها. وتسلم الملك الناصر بعلبك من الحميدي، وبُصْرى وصرخد، وغيرهما] (¬1). وفي ليلة الأحد ثاني شعبان كان النَّاصر داود في قصر القابون، والملك النَّاصر يوسف نازلًا في المِزة مريضًا، فبعث ناصرَ الدِّين القيمريّ ونظام الدِّين إلى داود، فأحضراه إلى المِزَّة، وضربوا له خيمةً، واعتقلوه فيها، واختلفوا في سبب اعتقاله على ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

أقوال: أحدها: أَنَّه طلب دستورًا إلى بغداد، فأعطوه أربعين ألف دِرْهم، فأنفقها في الجُنْد، وعَزَمَ على قَصْدِ مصر، والثَّاني: أَنَّ الصَّالح إسماعيل جاءه كتاب من مِصْر، فأوقف شمسَ الدِّين لؤلؤ عليه، وأخبر حامله أَنَّه أوصل إلى النَّاصر داود كُتُبًا، فسألوه فأنكر، والثالث: أَنَّ الصَّالح أشار عليهم بقَبْضه وقال: أنتم ما تعرفوه، نحن نعرفه، وأنتم على قَصْدِ مصر، وما هو مصلحة يبقى خلفنا, ولا يكون معنا. فقبضوه، وأقام في المِزَّة معتقلًا أيامًا، ثم بعثوا به إلى قلعة حمص، فاعتقل بها، وأسكن أهله ووالدته وأولاده في خانكاه الصُّوفية التي بناها شِبْلُ الدولة الحُسامي عند ثورا. وفيها سار الملك النَّاصر يوسف بالعساكر إلى المِزَّة يريد الديار المِصْرية بإشارة شمس الدين لؤلؤ، فإنَّه لجَّ لجاجًا كان سببًا لحضور منيته، وكان يستهزئ بالعساكر المِصْرية، ويقول: آخذها بمئتي قِناع (¬1). وكانت تأتيه كتب مِنْ مصر فيظنّها من الأعيان، وكانت من الرَّعاع، فدخلوا الرمْل، وقربوا من البلاد، وتقدم عسكر الشَّام، ومعهم جمالُ الدين بن يغمور، وسيف الدين بن المشد، وجماعة، وانفرد الشمس لؤلؤ وضياء الدين القيمري والتقوا، فانهزم المصريون، ونهبت أثقالهم، ووصلت طائفة من البحرية إلى الصَّعيد، وكانوا قد أساؤوا إلى المِصْريين، فنهبوهم، وارتكبوا كل قبيح، وخُطِبَ في ذلك النهار في القاهرة والقلعة ومصر للملك النَّاصر، وفي جميع البلاد، وبات جمال الدين بن يغمور بالعباسة، وأحمى الحمام للملك النَّاصر، وهيأ له الإقامة. هذا والملك النَّاصر على ظاب كراع ما عنده خبر، وهو واقفٌ بسناجقه وخزائنه وأصحابه، ولما وقعت الهزيمة على المِصْريين ساق عِز الدين أيبك التركماني وأقطايا في ثلاث مئة فارس طالبين الشَّام هاربين، فعثروا في طريقهم بالشمس لؤلؤ والضياء القيمري، فساق شمس الدين [لؤلؤ] (¬2) عليهم، فحملوا عليه، فأسروه، وقتلوا ضياء الدين القيمري، وجيء بشمس الدين لؤلؤ إلى بين يدي عز الدين، [فبلغني أن] (¬3) حسام الدين بنَ أبي علي [قال: ] (2) لا تقتله لنأخذ به الشَّام، فقال أقطايا: هذا الذي ¬

_ (¬1) القناع كان يلبسه المخانيث، وبذلك سيفسر ص 415، من هذا الجزء. (¬2) ما بين حاصرتين من (ش). (¬3) في (ت): فقال .. ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

يأخذ مصر بمئتي قِناع؛ جَعَلَنا مخانيث. فضربوا عُنُقَه، واعترضوا طُلْب السُّلْطان، فخامر بعضُ العزيزية مماليكُ أبيه عليه، وجاء منهم جماعةٌ إلى عز الدين وأقطايا، وقالوا: إلى أين، هذا السلطان واقف؟ فعطفوا على الطُّلْب، وكسرتِ العزيزيةُ سناجقَ السُّلْطان، وكسروا صناديقه، ونهبوا ماله، ورموه بالنُّشَّاب، فأخذه نوفل البدوي وجماعةٌ من مماليكه وأصحابه، وساروا به إلى الشَّام، وعطف المِصْريون على المعظَّم ابنِ صلاح الدين، فأسروه بعد أن جرحوه، وجرحوا ولده تاج الملوك، وأخذوا أخاه النُّصرة، والأشرف ابن صاحب حمص، والزَّاهر عمه، والصَّالح إسماعيل، وأعيان الحلبيين، ومات تاجُ الملوك بن المعظم من جراحةٍ كانت به، فحمل إلى القُدْس ميتًا، وجُرِحَ حسام الدين القَيمري، فحمل إلى القُدْس، فمات به، وضُرب الشَّريف المرتضى في وَجْهه بالسَّيف ضربةً هائلة عَرْضًا، وأرادوا قَتْلَه، فقال: أنا رجلٌ شريف، ابنُ عَمِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فتركوه، فقال الشريف: بقيتُ في الرمل يومًا وليلة ملقى رأسي ناحيةً، ووجهي ناحية، والدِّماء تفيض، ولولا أَنَّ الله مَنَّ عليَّ بالملك الصَّالح ابن صاحب حمص هلكت، حملني، وخيَّط وجهي بمسال، وعاينت الموت مرارًا، وتمزَّق النَّاس كلَّ ممزَّق، ومشوا في الرِّمال أيامًا. وأما المِصْريون فإنهم دخلوا إلى القاهرة بالأسارى، والسناجق المقلبة، والطبول المشقَّقة، والخيول والأموال والعُدَد، ولما وصلوا إلى تُرْبة نجم الدِّين أيوب أخذوا بالصَّالح إسماعيل، وصاحوا: يا خوند، أين عينك ترى عدوك؟ ورموا الأسارى في الجباب، وجمعوا بين الصَّالح وبين أولاده أيامًا، ثم غَيَّبوه وإلى هَلُمَّ جرا, ولم يصحَّ عنه خبر إلا ما تتحدَّث العوام بتلافه. وأما المماليك، فمالوا على المِصْريين قَتْلًا ونَهْبًا، ونهبوا أموالهم، وسَبَوْا حريمهم، وفعلوا بهم ما لا يفعل الفرنج بالمُسْلمين. وكان وزير الصَّالح إسماعيل معتقلًا في جُبٍّ بالقلعة هو وناصر الدِّين يغمور وسيف الدين القيمري والخُوَارزْمي صهر الملك يوسف، فخرجوا من الجُبّ، وعصوا في القلعة، ولم يوافقهم سيف الدين القيمري، بل جاء فقعد على باب الدَّار التي فيها عيال التركماني، وحماها، فلم يدع أحدًا يقربها، وأما الباقون فصاحوا: الملك النَّاصر يا

أرغوان الحافظية، عتيقة العادل

منصور. وجاء التُّرْك، ففتحوا باب القلعة، ودخلوا، فشنقوا وزير الصَّالح، وابن يغمور والخُوارَزْمي متقابلين، وشنقوا المجير بن حمدان، وكان شابًّا حسنًا، قالوا: تعدى على بعض المماليك، ونهب خيله. ووصل الملك النَّاصر إلى غَزَّة، وأقام ينتظر أصحابه، فوصل إليه منهم مَنْ سَلِمَ من عسكر الشام، وابن صاحب المَوْصل. وفيها توفيت أرغوان الحافظية، عتيقة العادل (¬1) وإنما سميت الحافظية؛ لأنها رَبَّتِ الحافظ صاحب قلعة جَعْبر، وكانت امرأةً عاقلة، مدبِّرةً، صالحة، وكانت مُدَّة حبس المغيث بن الصَّالح أيوب في قلعة دمشق تهيئ له الأطعمة والأشربة، وتبعث له الثِّياب، فحقَدَ عليها الصَّالح إسماعيل، فصادرها، وأخذ منها أموالًا عظيمة، وكانت الحافظية قد عمرت زمنًا طويلًا، وكان بنو أيوب يحترمونها، ووقفت دارها بدمشق على خُدَّامها، وبنت بالجبل تُرْبة تحت ثورا على طريق عين الكرش، كانت بُسْتانًا للنجيب غلام التَّاج الكندي، فاشترته، وبنت فيه تُرْبة ومسجدًا، ووقفت عليهما وقفًا. تورانشاه بن الصَّالح أيوب، ويلقب بالمعظَّم (¬2) قد ذكرنا مجيئه إلى الشَّام، وذهابَه إلى مِصْر، واتَّفق كسرةُ الفرنج عند قدومه، فتيمَّن الناس بطَلْعته، [واستبشروا بمشاهدته] (¬3)، غير أَنَّه بَدَتْ منه أسباب نَفَرت القلوبَ عنه، فاتَّفقوا على قَتْله، وكان فيه نوع خِفَّة، فكان يجلس على السِّماط، فإذا سمِعَ فقيهًا يذكر مسألةً وهو بعيدٌ عنه يصيح هو: لا نُسَلِّم، واحتجب عن النَّاس أكثر من أبيه، وكان إذا سَكِرَ يجمع الشموعَ، ويضرب رؤوسها بالسيف فيقطعها، ويقول: كذا أفعل بالبحرية. ¬

_ (¬1) لها ترجمة في "الوافي بالوفيات": 8/ 351، و "عيون التواريخ": 20/ 46، و"نزهة الأنام" لابن دقماق: 202، و"النجوم الزاهرة": 7/ 21، و"شذرات الذهب": 5/ 240 - 241. (¬2) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 95، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) ما بين حاصرتين من (ش).

ويسمِّي مماليك أبيه بأسمائهم، وأهانهم، وقدَّم الأراذل وأبعد الأماثل، ووعد أقطايا أنه يؤمِّره، ولم يفِ له، فاستوحش منه. وكانت أُمُّ خليل لما وصل إلى القُدْس مضت إلى القاهرة، فبعث يهدِّدها، ويطلب المال والجواهر، فخافت منه، وكاتبتْ فيه. ذِكْرُ مَقْتله: لما كان يوم الاثنين سابع عشرين محرَّم جلس على السِّماط، فضربه بعض المماليك البحرية بالسَّيف، فتلقَّاه بيده، فقطع بعض أصابعه، وقام، فدخل البُرْج وصاح: مَنْ جرحني؟ قالوا: الحشيشية. قال: لا والله، إلا البحرية، والله لا أبقيت منهم بقيَّة. واستدعى المزيِّن، فخيَّط يده، وهو يتوعَّدهم، فقال بعضُهم لبعض: تمموه وإلا أبادكم. فدخلوا عليه، فانهزم إلى أعلى البُرْج، فأوقدوا النيران حول البرج، ورموه بالنُّشَّاب، فرمى بنفسه، وهرب نحو البحر، وهو يقول: ما أريد ملك! دعوني أرجع بنفسي إلى الحِصْن، يا مسلمين، ما فيكم مَنْ يصطنعني ويجيرني؟ والعساكر واقفة فما أجابه أحدٌ، والنُّشَّاب يأخذه، وكذا لما صَعِدَ إلى البرج رموه بالنُّشَّاب، فتعلَّق بذيل أقطايا، فما أجاره، فقطَّعوه قِطَعًا، وبقي على جانب البحر ثلاثة أيام منتفخًا ما يتجاسر أحدٌ أن يدفنه حتى شَفَعَ فيه رسولُ الخليفة، فحُمِلَ إلى ذاك الجانب، فدفن. ولما قتلوه دخلوا على الإفرنسيس الخيمة بالسُّيوف، فقالوا: نريد المال، فقال: نَعَمْ. وأطلقوه، وسار إلى عكا على ما اتَّفقوا عليه معه. وكان الذي باشر قَتْلَه أربعة، [قال سعد بن مسعود بن تاج الدين شيخ الشيوخ: حكى لي رجل صادق أنَّ] (¬1) أباه الصَّالح أيوب قال لمحسن الخادم: اذهب إلى أخي العادل إلى الحبس، وخُذْ معك من المماليك من يخنقه، فعرض محسن ذلك على جميع المماليك، فامتنعوا إلا هؤلاء الأربعة، فإنَّهم مضوا معه، وخنقوه، فسلَّطهم الله على ولده، فقتلوه أقبح قِتْلة، ومَثَّلوا به أعظم مُثْلة لما فعل بأخيه. [وحكى لي الأمير] (1) حسام الدين بن أبي علي [قال] (1): كان تورانشاه متخلِّفًا، لا يصلح للملك، كُنَّا نقول للصَّالح نجم الدين: ما تنفذ تحضره إلى ها بها. فيقول: دعونا من هذا. فلحَّينا عليه يومًا، فقال: أجيبه إلى ها هنا أقتله! ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

شمس الدين لؤلؤ بن عبد الله، مقدم عسكر حلب

[وحكى] (1) عماد الدين بن دِرْباس [قال] (¬1): رأى بعضُ أصحابنا الصَّالح أيوب في المنام وهو يقول: [من مجزوء الرمل] قتلوه شَرَّ قِتْلَهْ ... صار للعالم مُثْلَهْ لم يراعوا فيه إلًّا ... لا ولا من كان قَبْلَهْ ستراهُمْ عن قليلٍ ... لأقل النَّاس أُكْلَهْ وكانوا قد جمعوا في قَتْله ثلاثة أشياء: السيف والنار والماء، وخُطِبَ لأُمِّ خليل على المنابر بالقاهرة ومِصْر. شمس الدين لؤلؤ بن عبد الله، مقدَّم عسكر حلب (¬2) كان أميرًا حسنًا، صالحًا عابدًا، زاهدًا، مدبرًا، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، [وقد كان يحكي واقعات جرت له، منها قوله عن بركة خان: أريد رأسه، فكان كما قال. وحكى لي أنه] (1) لما كان على حمص جاء، ومعه جماعة من أصحابه إلى البحيرة، ومعهم مقلى وزيت يصيدوا سمكًا، فرموا الشبكة، فلم يصعد فيها شيء، قال: وكنتُ واقفًا على ظهر فرسي، فقلتُ: نرجع بغير شيء! وإذا بسمكةٍ كبيرة قد خرجت من الماء، وجاءت فوقعت بين يدي فرسي. [وبلغني أنه قال: أنا سجدت سجدة في حلب أخذت دمشق، وأسجد أخرى في دمشق آخذ مصر. ومن هذا الجنس شيئًا كثيرًا، وما كان يدعي ذلك كرامات، وإنما كان يخبر عن نفسه، وما به بأس أبدًا، قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11] إلا أنه، (1) قتل -رحمه الله- قتلة شنيعة، وبقي مدة لا يوارى، وكان قد لجَّ في الدُّخول إلى مِصْر [لجاجًا لا يداري، فغفر الله تعالى ذنبه، فإنه لم يزل غفارًا] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 24/ 407، و"النجوم الزاهرة": 7/ 21.

أبو الحسن المتطبب [السامري]

أبو الحسن المتطبِّب [السَّامري] (¬1) (¬2) وزير الصَّالح إسماعيل. وهو الذي كان سببًا لزوال دولته، وإخماد جمرته، وقد ذكرنا أخباره متفرِّقة في السنين، فسبحان مَنْ أراح منه المسلمين، وما كان مسلمًا، ولا سامريًّا، بل كان يتستَّر بالإِسلام، ويبالغ في هَدْم شريعة المصطفى عليه الصلاة والسلام. قال له الشيخ إسماعيل الكوراني -رحمه الله- يومًا وقد زاره: لو بقيت على دينك كان أصلح [لك] (1) لأنك تتمسك بدين في الجُمْلة، وأما الآن فأنت مذبذب، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. [وقد ذكره محمَّد بن سَعْد في قصيدته التي ذكرناها في سنة خمسين وست مئة] (1)، وقد ذكرنا أَنَّه شُنِقَ، وعَجَّل الله بروحه إلى أسفل الدَّركات، وما كان شَنْقُه علوًا في الحياة، بل خفضًا ولعنة في الممات، ولقد ظَهَرَ له من الأموال واليواقيت والجواهر والتحف والذخائر ما لا يوجد في خزائن الخلفاء ولا السَّلاطين، وأقاموا ينقلونه مدة سنين، [فبلغني أن] (1) قيمة ما ظهر ثلاثة آلاف ألف دينار غير الودائع التي كانت له عند أصدقائه والتجار، ووجدوا له عشرة آلاف مجلد من الكُتُب النَّفيسة والخطوط المنسوبة، فتمزَّق الجميع في زمنٍ يسير، وأذهبه الله في نهابير (¬3). السنة التاسعة والأربعون وست مئة فيها عاد الملك النَّاصر [صلاح الدين] (1) من غَزَّة إلى دمشق، وجاء عسكر مِصْر، فنزل غَزة والسَّاحل ونابُلُس، وحكموا على البلاد إلى الشَّريعة (¬4)، وجَهَّز الملك النَّا صر عسكره، وجاءته النَّجدة، وساروا إلى غَزَّة، وعاد التُّرْك إلى مِصْر، وأقام العسكر على غزة مدة سنتين وشهور، وتردَّدت الرَّسائل بينهم، وخرجت السنة والتي بعدها على هذا. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "عيون الأنباء": 723 - 728، و"عيون التواريخ": 20/ 47، و"نزهة الأنام": 201، و"النجوم الزاهرة": 7/ 21 - 22. (¬3) النهابير: المهالك. (¬4) الشريعة: نهر الأردن.

الفقيه بهاء الدين علي بن هبة الله بن سلامة، ابن الجميزي

وفيها أخذ ابنُ العادل الكرك والشَّوبك، أعطاه إياها الخادم، وخرج أقطايا من القاهرة في ألف فارس، فنزل غَزَّة. وفيها نقلوا تابوت الصَّالح إلى تُرْبته بالقاهرة، ولبس الأمراء ثياب العزاء، وناحوا عليه بين القَصْرين، وحزنوا وبكوا، وتصدَّقت أُمُّ خليل بمالٍ عظيم. وفيها أخرجه التُّرْك دِمياط، وحملوا آلاتها إلى مِصْر، وأخربوا الجزيرة، وقيل: أخلوها، وعَزَلوا العماد بن القُطب الحموي عن قضاء مصر، وأضافوها إلى القاضي بدر الدِّين. [وفيها تزوج الملك المعز أيبك التركماني الصالحين بأم خليل، وتسمى شجرة الدر بحضور القاضي بدر الدين والعدول. وفيها توفي شهاب الدين بن فرج بدمشق، وخلف مالًا عظيمًا، وأمر منه بصدقة، واسمه سليمان.] (¬1) وفيها توفي الفقيه بهاء الدِّين علي بن هبة الله بن سلامة، ابن الجُميزِي (¬2) وكان إمامًا، فاضلًا، عارفًا بمذهب الشافعي، دَيِّنًا، وكان يخالط الملوك، فاتفق أَنَّه حَجَّ في آخر عمره، فاهدى له صاحب اليمن بمكة هدية، فقَبِلَها، فأعرض عنه الصَّالح أيوب، ولم يرض عنه، وكان قد [(¬3) أخذ الفقه عن محمَّد الطوسي وعن محمَّد بن يحيى] , وسمع الحديث الكثير، ورواه، وترسَّل من الكامل إلى الأشرف وبغداد، وكان قد سافر في عنفوان شبابه إلى العراق، وسمع شُهْدة وأقرانها، والحافظ السِّلَفي بمِصْر، وكان خطيب القاهرة، وكان دَمِثَ الأخلاق، كريم النَّفس، قلَّ أن يدخل عليه أحد إلا ويطعمه، [وكنت اجتمع به بين القاهرة ومصر، ويقف معي، ويباسطني، ويدعو لي ويشكرني، وعمر لأنَّ] (1) مولده سنة تسعٍ وخمسين [وخمس مئة] (1)، وهو سِبْط ابن الجُمَّيزي. وحكى [لي] (1) عن محمَّد بن السَّمَّاك الواعظ، قال: رأى الحق سبحانه في منامه، فقال له: يا مشعث، إلى متى تدعو النَّاس إلى بابي ولا تحضر بنفسك؟ وعِزَّتي، لولا ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": 23/ 253 - 254، و "المذيل على الروضتين": 2/ 100، وفيه تتمة مصادر ترجمته. (¬3) في (ت): وكان قد تفقه، وسمع الحديث ... ، والمثبت ما بين حاصرتين من (ش).

السنة الخمسون وست مئة

أَنَّه حضر مجلسك بعضُ الأولياء، فسألني فيك فشفَّعته لعذَّبتك. قال: فعاش أيامًا، ومات. وكانت وفاة بهاء الذين ليلة الخميس رابع وعشرين ذي الحجة، ودُفِنَ يوم الخميس بالقرافة، [وحملت جنازته على الأصابع، ودفن] (¬1) قريبًا من روزبهان. السنة الخمسون وست مئة فيها وصل التَّتر إلى الجزيرة، ونهبوا ديار بكر ومَيَّافارِقِين، وجاؤوا إلى رأس عين وسَرُوج وغيرها، وقتلوا زيادةً على عشرة آلاف، وصادفوا قافلةً خرجت من حَرَّان تقصد بغداد بين رأس عين وحَرَّان، فأخذوا منها أموالًا عظيمة، منها ستّ مئة حِمْل سُكَّر ومعمول مصر، وست مئة ألف دينار، وقتلوا الشّيوخ والعجائز، وساقوا من النساء والصبيان ما أرادوا، ورجعوا إلى خِلاط، وقَطَعَ أهلُ الشرق الفرات، وخاض الناس في القتلى من دُنَيْسر إلى الفرات، [وحكى لي] (1) بعضُ التجار [قال] (1): عددت على جسرٍ بين حَرَّان ورأس عين في مكانٍ واحد ثلاث مئة وثمانين قتيلا. وحجَّ النَّاس من بغداد بعد عشر سنين بَطَلَ الحج فيها؛ منذ مات المستنصر وإلى هذه السنة. وفيها توفي شمس الدين محمَّد بن سَعْد، الكاتب المقدسي (¬2) نشأ بقاسيون على الخير والصلاح، وقرأ القرآن والنحو والعربية، وسمع الحديث الكثير، وكان مكينًا دَيِّنًا، وبَرَعَ في علم الأدب، وحُسْن الخَطِّ، وكتب للصَّالح إسماعيل والنَّاصر داود، وكان دَيِّنًا، فاضلًا شاعرًا، [(¬3) وأنشدني قصيدة، وكتبها لي بخطه لما تفاقم ظلم السامري ونوابه، وكتب بها إلى الصالح إسماعيل، ولو كتبت بماء الذهب على الأحداق لكان ذلك أقل من القليل، وهي هذه الأبيات]: [من البسيط] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 3/ 91 - 92، و"عيون التواريخ": 2/ 67، و"فوات الوفيات": 3/ 358، و"نزهة الأنام": 214 - 215، و"النجوم الزاهرة": 7/ 26 - 27، و"شذرات الذهب": 5/ 253. (¬3) في (ت): ومن شعره وكتب بها إلى الصالح إسماعيل، وما بين حاصرتين من (ش).

جمال الدين بن مطروح

يا مالكًا لم أجدْ لي من نصيحته ... بُدًّا وفيها دمي أخشاه منسفكا اسمعْ نصيحة مَنْ أَوْلَيتَه نِعَمًا ... يخافُ كُفْرانَها إن كُفَّ أو تُركا والله ما امتدَّ مُلكٌ مَدَّ مالِكُهُ ... على رعيَّته مِنْ ظُلْمِهِ شَبَكا ترى الحسودَ به مُسْتبشرًا فَرِحًا ... مستغربًا من بوادي أمره ضحكا وزيره ابن غزال والرَّفيع به ... قاضي القضاة ووالي حربه ابن بكا وثعلب وفُضيل مَنْ هما وهما ... أهل المشورة فيها ضاق أو ضَنُكا جماعة بهم الآفاتُ قد نُشِرَتْ ... والشَّرْعُ قد ماتَ والإِسلامُ قد هلكا ما راقبوا الله في سرٍّ وفي عَلَنٍ .. وإنما يرقبون النَّجْمَ والفلكا وإنما قلد الملك الخصيص به ... من همه عزله عنه ومن فركا ومن عداوته أصلية وله ... من البطانة فيما يبتغي شُركا والآن قد حكموا واستوثقوا حلفًا ... وصيَّروك لهم في صيدهم شَركا إن كان خيرًا ورزقًا واسعًا فلهم ... أو كان شرًّا وأمرًا سيئًا فلكا وقد نصحتُ فَقُمْ واقبل نصيحة مَنْ ... ما مَان في قوله خُرْقًا ولا أَفَكَا واستدرك الأمر واستر ما جنوه بهم ... تلقَ الرَّشادَ وإن أصررت منهمكا فعن قريبٍ ترى آثار فعلهمُ ... فيهمْ وفيك إذا ما سِتْرهم هُتكا [قلت: يرحم الله قائلها، فقد كان ينظر من ستر رفيع، وهذا من جملة التوفيق، وأما ابن غزال فهو السامري، و] (¬1) ثعلب وفضيل منجمان كانا قد استوليا على الصَّالح إسماعيل [، وحسَّنا له كل فعل قبيح شنيع رذيل، فما نفعتهم النجوم، وأبادهم الحيُّ القيوم، وكانت وفاته] (1) في صفر، ودفن بقاسيون قريبًا من الشيخ أبي عمر. جمال الدِّين بن مطروح (¬2) كان فاضلًا، كَيِّسًا، شاعرًا، ومن شعره لما فتح النَّاصر داود بُرْج داود بالقُدْس وأخرجه، وأخرج الفرنج منه: [من السريع] ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) له ترجمة في "وفيات الأعيان": 6/ 258 - 266، و"سير أعلام النبلاء": 23/ 273 - 274، وعندهما وفاته سنة (649 هـ)، وهو الصحيح في وفاته؛ لأن ابن خلكان شهد جنازته، انظر تتمة مصادر ترجمته في "المذيل على الروضتين": 2/ 101.

السنة الحادية والخمسون وست مئة

المسجد الأقصى له عادةٌ ... سارتْ فصارتْ مَثَلًا سائرا إذا غدا للكُفْر مستوطَنًا ... أن يبعث الله له ناصرا فناصرٌ طهَّره أَوَّلًا ... وناصر طهَّره آخرا [ومن شعر أيضًا - رضي الله عنه -: لا عاش الغزال ولا بقي وهو شعر ركيك] (¬1). وتوفي في شعبان بمصر، ودُفِنَ بسارية في القرافة، وكانت له جِنازةٌ عظيمة، وكان قد دَخَلَ بين الخوارزمية والصَّالح أيوب، واستنابه أيوب بالشَّام، ولبس ثياب الجُنْد، وما كانت تليق به، وغَضِبَ عليه، ودحضه، وأعرض عنه إلى أن مات. ولما وصل تورانشاه [إلى ديار مصر] (1) أعرض عنه بالكُلِّية، فأقام خاملًا إلى أن مات، فرحمه الله، لقد كان جَوَادًا، ذا مروءة، متعصِّبًا، سَمْحًا حليمًا، حسنَ النظر بالفقراء، عارفًا بفَضْل العلماء. السنة الحادية والخمسون وست مئة فيها دخل نجمُ الدِّين الباذرائي بين العَسْكرين، وتولى إصلاح الفريقين، وكانت الحرب قد ضَرَّسَتِ الجمعين، [وخصوصًا عسكر الشام، والله تعالى يؤيد الإِسلام، ويجري أموره على أحسن نظام] (1)، وقَدِمَ ابنُ الباذرائي والنَّظام بن المولى القاهرة، وحلَّفوا الملك والأمراء، وخلَّصوا المعظم، وأخاه النصرة، وابن صاحب حمص، والأمراء وغيرهم، وبنت الأشرف، وأولاد الصَّالح إسماعيل. [وفيها توفي القاضي صدر الدين الحنفي؛ قاضي آمد كان فاضلًا، عارفًا بالمذاهب، كيِّسًا، لطيفًا، متعصبًا، ذا مروءة، حسن الوجه، بشوشًا، وكانت وفاته في صفر بالقاهرة] (1). ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش).

سعد الدين محمد بن المؤيد بن حموية

وفيها ورد الخبر بوفاة سعد الدين محمَّد بن المُؤَيَّد بن حَمُّوية (¬1) ابنُ عَم صدر الدين شيخ الشيوخ بخراسان. كان زاهدًا، عابدًا، ورعًا لطيفًا، يتكلم في الحقيقة، وله مجاهداتٌ ورياضات، وقدم مِصْر، وحَجَّ، وسكن الشَّام، فأقام بقاسيون مُدَّة في زاويةٍ يتعبد، ومعه جماعة من أصحابه، وبلغ به الفقر إلى حالٍ شديدة، ومع ذلك فلم يكن يترددُ إلى أحدٍ من أبناء الدُّنيا, ولا إلى بني عمه ولا يلتفت، ولما ضاق به الحال توجَّه إلى خراسان، واجتمع بملوك التتر، فأحسنوا به الظن، وأعطوه مالًا كثيرًا، وأسْلَمَ على يده خَلْق كثير منهم، وبنى بآمل خانكاه وتربة إلى جانبها، وأقام يتعبَّد، وله قَبُول عظيمٌ هناك، فقال في بعض الأيام: أريد أَنْ أزور جدي محمَّد بن حَمُّوية ببُحَيراباذ، فمضى إليه وزاره، وأقام عنده أسبوعًا، فمات، ودفن إلى جانبه، وقيل: إنه مات سنة خمسين وستّ مئة. السنة الثانية والخمسون وست مئة فيها وصلتِ الأخبارُ من مكة بأنَّ نارًا ظَهَرَتْ في أرض عدن في بعض جبالها، بحيث يطير شَرَرُها إلى البحر في اللَّيل، ويصعد منها دُخان عظيم في النَّهار، فما شكوا أَنَّها النار التي ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تظهر في آخر الزَّمان، فتاب النَّاس، وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والفساد، وشرعوا في أفعال الخير والصَّدقات. [وفيها أقطع الملك [المعزّ] إيدغدي العزيزي دمياط زيادة على خبزه، وتعمل ثلاثين ألف دينار. فصل: وفيها توفي شهاب الدين كوجيا، بات وهو يشرب الخمر، فأصبح سكرانًا نائمًا ميتًا. واتفق الصلح بأن يكون ابن أقسيس، ويلقب بالأشرف هو السلطان، وخطب لهما بمكة، وضربت السكة باسمهما. وأخذت مدرسة الصَّالح من القاضي بدر الدين، ودفعت إلى ابن عبد السلام. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الوافي بالوفيات": 5/ 151، و "نزهة الأنام": 217 - 218، و "النجوم الزاهرة": 7/ 31.

وفيها قدم أقطاي من الصعيد بالمسلمين أسارى، ونهب أموالهم، وأسر ابن عم الشريف بن ثعلب، وشنق تحت القلعة] (¬1). وفيها وصلتِ الأخبار من المغرب باستيلاءِ إنسانٍ على إفريقية، وادَّعى الخلافة، وتلقب بالمستنصر، وخُطِبَ له في تلك النواحي، وأظهر العدل [والإنصاف، وبنى له] (1) برجًا، وأجلس الوزير والقاضي والمحتسب [والوالي] (1) بين يديه، يحكمون بين الناس. وفيها وصل الشَّريف المرتضى من الرُّوم، ومعه بنتُ علاء الدين صاحب الرُّوم من بنت العادل، تزوَّجها الملك النَّاصر يوسف بن محمَّد، فَزُفَّت إليه بدمشق، واحتفل لها احتفالًا عظيمًا، وأظهر تجمُّلًا كثيرًا لم يُرَ مثله، وتلقاها قضاة البلاد والولاة والنواب بالهدايا والإقامات من الرُّوم إلى دمشق. [وفيها] (1) حج القاضي بدر الدين قاضي مصر في البحر، وعاد في البر. وفيها مات الواسطي العماد الواعظ بمصر، وكان قد قال على المنبر: إن الله خلق آدم بيديه، وأومأ إلى يد نفسه. فعزر، وعزموا على قتله. وكان يعظ في الأعزية، فحصل له منها مال كثير، فأخذه الحشوية، وهذا المذكور كان بدمشق لا يُلتفت إليه، ويستثقل، فلما فارقت دمشق بعد موت الأشرف، تعصّب له السَّامري، وكان يحضر مجلسه، ويمدحه الواعظ بما ليس فيه، وكان قصد السامري أن يقيمه موضعي، وتعصب له النجم بن سلام والجماعة، وظهر في تلك الأيام من النفاق ما كان يبدو من المنافقين في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وردّ الله كيدهم في نحورهم، وانعكست عليهم الأمور. وكان الدماشقة إذا جلس في الجامع يصيحون من جوانب الجامع: لا عاش المشبهون. ليسَ التَّكَحُّلُ في العَينَينِ كالكَحَلِ (¬2) وترك الوعظ، فلما أخذت دمشق هرب هذا الواعظ إلى مصر، ومات بها. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) هذا عجز بيت للمتنبي، صدره: لأن حِلْمَكَ حِلْمٌ لا تكلَّفه من قصيدة مطلعها: أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلباه قبل الركب والإبلِ وهي في "ديوانه": 198 - 212.

عبد الحميد الخسروشاهي

وفيها مات أقطاي بمصر قتلة شنيعة، وكان قد طغا وبغى وتكبر وتجبر، بحيث إنه كان إذا ركب من داره بالقاهرة إلى القلعة يقتل جماعة ولا يلتفت إلى الملك، وهو الذي قتل المعظم وباشره، وأكب عليه، وصاهر أصحاب حماة، واختلفوا في جهاز العروس، وحملوها إلى دمشق في محمل عظيم، وعجب الناس من بنت الكامل كيف سمحت لذلك العبد بالمصاهرة مع عدم الكفاية، فإنها كريمة الطرفين من ناحية الأب والأم، ولما لم يغر أحد لها غار الله، فسلّط على أقطايا من قتله أقبح قتلة، ومثل به أعظم مُثْلة، وكان قد طلب من الملك القلعة ليسكن العروس فيها، فاتفق مع شجرة الدر على قتله، واستدعاه، فقتله بالقلعة، وهربت البحرية إلى الشام. عبد الحميد الخسروشاهي (¬1) كان إمامًا، فاضلًا في فنون [شتى] (¬2)، وصحب الفَخْر الرَّازي ابن خطيب الرّي، وأقام عند الملك النَّاصر داود سنين كثيرة بدمشق والكَرَك، وكان متواضعًا، كبيرَ القَدْر، كَيِّسًا، محضر خير، لم يُنقل عنه أنه آذى أحدًا، وإن قدر على نفع وإلا سكت، توفي بدمشق، ودفن بقاسيون على باب تُرْبة المعظم، رحمه الله. السنة الثالثة والخمسون وست مئة فيها عاد النَّاصر داود من الأنبار إلى دمشق بعد أن حبسه الملك النَّاصر يوسف بقلعة حمص ثلاث سنين، وبعث به إلى بغداد، ثم عاد إلى دمشق، فأقام بها، ثم عاد في سنة ثلاثٍ وخمسين إلى العراق، وحَجَّ، وعاد، فأقام بالحِلة، وكان قد جرى بين الحج العراقي وأصحاب مكة فتنة، فأصلح بينهم. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 104، وفيه تتمة مصادر ترجمته، وانظر ترجمة الفخر الرازي في وفيات سنة (606 هـ). (¬2) ما بين حاصرتين من (ش).

السنة الرابعة والخمسون وست مئة

السنة الرابعة والخمسون وست مئة فيها فتح الملك النَّاصر يوسف مدرسته التي أنشأها بدمشق بباب الفراديس، وحَضَرَ النَّاصر والأمراء والقضاة والفقهاء، [ولم يتخلف أحدٌ غيري، وبعث إليَّ الملك الناصر، وسألني الحضور، فامتنعت بسبب تشويش مزاج عرض لي] (¬1). وفيها غَرِقَتْ بغداد الغرق الشَّنيع الذي لم يُعهد مثله، بحيث انتقل الخليفة إلى دار المسناة، ودخل الماء إلى دار الوزير، ودار الخليفة، وخرج [خالي] (1) محيي الدين بن الجوزي من دار الخليفة، وضرب خيمة على تلٍّ عالٍ، وجلس بأهله فيها، وغرقت خزائن الخليفة [والذخائر] (1)، وجرى شيءٌ لم يجرِ مثله، وكان ذلك في شهر ربيع الأول. وفي جمادى الآخرة (¬2) قَدِمَ الصريمي الخارج على صاحب مِصْر إلى دمشق منهزمًا قد نهب ماله بالصعيد، وقُتلَ رجاله، فأنزلوه في مدرسة عز الدين على الشرف، فقال للفقهاء: اعذروني، فإنهم يخلوا لي الجوسق الذي على الميدان، وما انتقل إليه إلا على طالع. وأحضر المنجم، وأخذ له الطَّالع، وانتقل إلى الجوسق. وفيها شَرَعَ الملك النَّاصر يوسف في عمارة تُرْبةٍ غربيِّ قاسيون. وفيها توفي الشيخ عماد الدين عبد الله بن النحاس (¬3) الزَّاهد، العابد، الورع، المجاهد، خَدَمَ الملوك، ووزر بالعجم، وانقطع في آخر عمره بقاسيون بزاويته، فأقام ثلاثين سنة صائمًا [قائمًا] (1)، مشغولًا بالله تعالى، وبقضاء الحوائج للنَّاس بنفسه وماله، ودفن بقاسيون [وهو الذي قال له ابن شيخ الشيوخ فخر الدين لما لامه: والله لأسبقنك إلى الجنة بمدة، وسبقه فخر الدين] (1)، رحمه الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين من (ش). (¬2) في (ش): ومن العجائب أن الصريمي الخارج عن صاحب مصر قدم دمشق في جمادى الآخرة. (¬3) له ترجمة في "المذيل على الروضتين": 2/ 106، وفيه تتمة مصادر ترجمته.

جاء في آخر نسخة (ت) ما نصه: "آخر ما ألفه المصنف -رحمه الله- من هذا التاريخ المشار إليه، وأدركته المنية في هذه السنة، وهي سنة أربع وخمسين وست مئة، توفي ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي الحجة بمنزله بجبل قاسيون، ودفن به، وحضر جنازته خلق عظام، سلطان البلد، فمن دونه، وهو الشيخ شمس الدين أبو المظفر يوسف بن حسام الدين قَزأوغْلي بن عبد الله، سبط الشيخ جمال الدين بن أبي الفرج بن الجوزي، رحمه الله تعالى، ونفع بعلومه، بمحمد وآله (¬1) ". ¬

_ (¬1) وقد كان الفراغ من تحقيق (سنوات 500 هـ - 654) من "مرآة الزمان"، والتعليق عليها مع غروب يوم الأربعاء غرَّة جمادى الآخرة من عام ألف وأربع مئة وأربع وعشرين من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، الموافق للثلاثين من شهر تموز من عام ألفين وثلاثة للميلاد، والحمد لله على فضله وتوفيقه، وكتبه إبراهيم عمر الزيبق، عفا الله عنه بمنه وكرمه.

§1/1